الشرح الكبير على المقنع ت التركي

المقدسي، عبد الرحمن

المُقنع لموفَّق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (541 - 620 هـ) الشرح الكبير لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي (597 - 682 هـ) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان بن أحمد المَرْداوي (817 - 885 هـ) تحقيق الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي الدكتور: عبد الفتاح محمد الحلو

_ في المطبوع، قد وُضِع «المقنعُ» في أعلى الصفحات، ويليه «الشرح الكبير»، ويليه «الإنصاف»، مفصولًا بين كل منهم بفاصل، وقد اقتصرنا في هذه النسخة (الإلكترونية) على «المقنع» و «الشرح» فقط.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق 1 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد، فقد شهد آخر القرن السادس، والقرن السابع، حركة علمية مباركة، في خدمة مذهب الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشَّيباني، رضي الله عنه، رفع لواءها المقادسة من آل قدامة، حيث يسر الله لمُوَفَّق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الجَمَّاعِيليّ الدمشقيّ الصالحيّ الحنبلي، المتوفى سنة عشرين وستمائة (¬1)، أن يفرغ إلى «مختصر» أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخِرَقيّ، المتوفى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة (¬2)، فيشرحه شرحًا قَرَّت به عيونُ الفقهاء، وجمع فهه آراء الائمة وحُجَجَهم، وأقوال الصحابة والتابعين، وجعله ميدانًا رحبًا للفقه المقارن، وسمَّى كتابه «المغني»، الذي قال فيه رفيقه، وخليفتُه في رياسة المذهب بعده، ناصح الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد الوهَّاب بن عبد الواحد الأنصاريّ ابن الحنبلي، المتوفى سنة أربع وثلاثين وستمائة، على ما نقلَه ابنُ رجب: بلَغ الأملَ في إتمامِه، وهو كتاب بليغ في المذهب عشر مجلدات، تَعِب عليه، وأجاد فيه، وجمَّل به المذهبَ. ونقل ابن رجب عن الحافظ ابن الدُّبَيثي، أن الشيخ عزَّ الدين اين عبد السلام كان يسْتعير «المُحَلَّى»، و «المُجَلَّى» لابن حَزْم، ويقول: ما رأيتُ في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى والمجلى وكتاب «المغني» للشيخ مُوَفَّق الدين ابن قدامة، في جودتها، وتحقيق ما فيها. كما نقَل عنه قوله: لم تَطبْ نفسى بالفُتْيا حتى صار عندى نسخةُ المغني. وكان شرحُ مُوَفَّق الدين لـ «مختصر الخرقى» تجربة علمية مفيدة، جعلته يدقق ¬

(¬1) انظر: الترجمة الحافلة التي صدرنا بها تحقيقنا لكتاب «المغني». (¬2) انظر: ترجمته في المغني 1/ 6 وما بعدها.

[2 - الشرح الكبير لابن أبي عمر]

ألفاظه، ويحرِّرُ أحكامه، وهَدَتْه آخرَ الأمر إلى تأليف مختصر في الفقه، رتَّبه تَرْتيبًا جديدًا، وحرَّره تحريرًا فائقًا، وسماه «المُقْنع» بلغ فيه الغاية، وانصرف إليه العلماء بعده بالشرح والتعليق، بل واعتمدوه «المتن» الذي يُحفظ في فقه الحنابلة. وكان من أسْبَق الفقهاء إلى العناية بـ «المقنع» شمس الدين ابن قدامة، ابن أخي الموفق، المعروف بابن أبي عمر، فقد عرَض عليه كتاب «المقنع» وشرحه عليه، وأذن له في إقرائه، وإصلاح ما يرى أنه يحْتاج إلى إصلاح فيه، ثم شرَحه بعد ذلك في مجلَّدات، واسْتمدَّ فيه من «المغني» لعمِّه. 2 وهو شمس الدين، أبو محمد وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المَقْدِسي الجَمَّاعِيلِيّ الصالحيّ الحنبليّ الخطيب الحاكم قاضي القضاة، ابن أبي عمر (*). ولد في المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، بالدَّير المبارك، الذي أقامه والده بسَفْح قاسِيُون، الجبل المشرف على دمشق. بدأ مسيرته العلمية بالقراءة على والده أبي عمر، وبالتفقه على عمه موفق الدين ابن قدامة، وعنى بالحديث، وكتب بخطه الأجزاء والطباق، وأخذ الأصول عن السيف الآمدي، ودرَّس، وأفتى، وأقرأ العلم زمنا طويلا، وانتفع به الناس، وانتهت إليه رياسة المذهب في عصره، بل رياسة العلم في زمانه. وله مشيخة حافلة تتمثل في: 1 - شمس الدين أبو العباس أحمد بن عبد الواحد بن أحمد المَقْدِسِيّ البُخارِيّ الحنْبليّ الأصوليّ، المتوفى سنة ثلاث وعشرين وستمائة (¬1). أجاز له. ¬

_ (*) ترجمة شمس الدين ابن قدامة، في: ذيل مرآة الزمان، لليونيني 4/ 186 - 191، العبر، للذهبي 5/ 338، 339، تذكرة الحفاظ، للذهبي 4/ 1492، البداية والنهاية، لابن كثير 13/ 302، مرآة الجنان، لليافعي 4/ 197، 198، فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي 2/ 291، 292، ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب 2/ 304 - 310، النجوم الزاهرة، لابن تغرى بردى 7/ 358، شذرات الذهب، لابن العماد الحنبل 5/ 376 - 379، التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، للقنوجي 252، 253، كشف الظنون 2/ 1809، 691: Brock GI: 399, SI: 691 (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 168 - 170، سير أعلام النبلاء 22/ 255، 256.

2 - وحيد الدين أبو المعالي أسعد بن المُنَجَّى بن بركات بن المؤمّل التَّنُوخِيّ المعَرِّيّ الدمشقيّ الحنبليّ، شيخُهم، المتوفى سنة ست وستمائة (¬1). أجاز له. 3 - أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله بن جعفر الهَمْدَاني الإِسْكندراني المقرئ المجود المحدِّث المُسْنِد الفقيه المالكيّ، المتوفى بدمشق سنة ست وثلاثين وستمائة (¬2). قرأ عليه. 4 - سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد البغداديّ البابَصْرِيّ الحنبليّ المسند، مدرِّس مدرسة الوزير عون الدين بن هُبَيرة، المتوفى سنة إحدى وثلاثين وستمائة (¬3). قرأ عليه. 5 - أبو علي حَنْبل بن عبد الله بن فرج بن سعادة الواسطيّ راوى «المسند»، البغداديّ المُكَبِّر، المتوفى سنة أربع وستمائة ببغداد (¬4). سمع منه. 6 - ربيب الدين أبو البركات داود بن أحمد بن محمد البغداديّ الأزَجِيّ الوكيل عن القضاة الْمُسنِد ابن مُلاعِب، المتوفى سنة ست عشرة وستمائة، ودفن بسفح قاسِيُون (¬5). سمع منه. 7 - تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْديّ البغداديّ المقرئ النحويّ اللُّغَويّ الحنفيّ، المتوفى سنة ثلاث عشرة وستمائة (¬6). سمع منه. 8 - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، ابن الجَوْزِيّ، شيخ الإسلام، المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة (¬7). أجاز له. 9 - جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحَرَسْتاني ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 49، 50، سير أعلام النبلاء 21/ 436، 437. (¬2) طبقات القراء 1/ 193، سير أعلام النبلاء 23/ 36 - 39. (¬3) سير أعلام النبلاء 22/ 357 - 359. (¬4) التكملة لوفيات النفلة 2/ 125، سير أعلام النبلاء 21/ 431 - 433. (¬5) سير أعلام النبلاء 22/ 90، 91. (¬6) الجواهر المضية 2/ 216، 217، سير أعلام النبلاء 22/ 34 - 41. (¬7) انظر مقدمة تحقيق المغني صفحة 12.

الدمشقيّ الشافعيّ، مُسْنِد الشام، المفتي، قاضي القضاة، المتوفى سنة أربع عشرة وستمائة (¬1). سمع منه. 10 - مُوَفَّق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيّ الجَمَّاعيليّ الدمشقيّ الصَّالحيّ الحنبلي، عمُّه، المتوفى سنة عشرين وستمائة (¬2). تفقَّه عليه، وعرَض عليه كتاب «المقنع»، وشَرَحه عليه، وأذِن له في إقْرائه، وإصْلاحِ ما يرى أنه يحتاج إلى إصلاح فيه، ثم شرحه بعده في عشر مجلدات، واسْتمدَّ فيه من «المغني». 11 - أبو المُنَجَّى عبد الله بن عمر بن علي، ابن اللَّتّيّ، البغداديّ الحَرِيميّ الطَّاهِريّ، المُسْنِد المُعَمَّر، المتوفى سنة خمس وثلاثين وستمائة (¬3). قرأ للناس عليه. 12 - حُجَّة الدين أبو طالب عبد المحسن بن أبي العَمِيد الخَفِيفيّ الأبهَريّ الشافعيّ الصوفيّ، المتوفى سنة أربع وعشرين وستمائة بمكة (¬4). سمع منه بالمدينة. 13 - سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التَّغْلِبِي الحنبلي ثم الشافعيّ، فارس علم الكلام، الأصوليّ، المتوفى سنة إحدي وثلاثين وستمائة (¬5). أخذ عنه الأصول. 14 - أبو الحسن علي بن أبي الفتح المبارك بن الحسن الواسِطيّ البَرْجوني المقرئ، الفقيه الشافعيّ، المعروف بابن باسُويَة، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة (¬6). سمع منه بمكة. 15 - أبو حفص عمر بن محمد بن معمر البغداديّ الدَّارَقَزِّيّ المُؤدِّب، المعروف ¬

(¬1) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 196 - 199. سير أعلام النبلاء 22/ 80 - 84. (¬2) انظر: مقدمة تحقيقنا لكتاب المغني. (¬3) سير أعلام النبلاء 23/ 15 - 17. (¬4) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 314، سير أعلام النبلاء 22/ 259، 260. (¬5) وفيات الأعيان 3/ 293، 394، سير أعلام النبلاء 22/ 364. (¬6) التكملة لوفيات النقلة 3/ 394، 395.

بابن طَبَرْزَد، المُسْنِد الكبير، المتوفى سنة سبع وستمائة (¬1). سمع منه بإفادة أبيه وعمِّه. 16 - أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسيّ الجَمَّاعِيليّ الحنبليّ الزَّاهد المقرئ المحدِّث، شيخ الإسلام، والده، المتوفى سنة سبع وستمائة (¬2). سمع منه. 17 - أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني الأصْبهاني المُسنِد المُعَمَّر، سِبْط حسين بن مَنْدَه، المتوفى سنة ثلاث وستمائة (¬3). أجاز له. 18 - مجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين بن أبي المكارم الصوفيّ القَزْوينيّ الجَوَّال القاضي المحدِّث، المتوفى سنة اثنتين وعشرين وستمائة (¬4). سمع منه بمكة. 19 - ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسيّ الجَمَّاعِيليّ الصَّالحيّ، الحنبليّ الحافظ القدوة، صاجب التصانيف، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة (¬5). قرأ عليه. 20 - كمال الدين أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك الجَلْجَليّ البغداديّ المقْرئ الرئيس، المتوفى سنة اثنتي عشرة وستمائة (¬6). 21 - فخر الدين أبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن عَمْروك التيميّ البكْري النيسابُورِيّ الصوفيّ الزاهد، المتوفى سنة خمس عشرة وستمائة (¬7). 22 - نور الدين أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي عبد الله بن مَوْهوب البغداديّ الصوفيّ، المحدِّث، البنَّاء، المتوفى سنة اثنتى عشرة وستمائة (¬8). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 21/ 507 - 512. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 52 - 61، سير أعلام النبلاء 22/ 5 - 9. (¬3) سير أعلام النبلاء 21/ 430، 431. (¬4) التكملة لوفيات النقلة 3/ 159، سير أعلام النبلاء 22/ 249، 250. (¬5) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 236 - 240، سير أعلام النبلاء 23/ 126 - 130. (¬6) ذيل الروضتين 99، سير أعلام النبلاء 22/ 52. (¬7) التكملة لوفيات النقلة 2/ 431، سير أعلام النبلاء 22/ 89، 90. (¬8) التكملة لوفيات النقلة 2/ 340، سير أعلام النبلاء 22/ 58، 59.

23 - محمد بن هبة الله بن كامل البغداديّ الوكيل المُسْنِد الفقيه المُعَمَّر، المتوفى سنة سبع وستمائة (¬1). سمع منه. 24 - ست الكتبة نعمة بنت علي بن يحيى بن علي بن الطرَّاح، سمعتْ من جدِّها عِدَّة كتب، كما سمعتْ من غيره، وتوفيت سنة أربع وستمائة (¬2). سمع منها. وقد سمع شمس الدين بن قدامة نفسه من أصحاب السِّلَفِيّ، كما سمع من كثيرين في عصره. والناظر في مشيخة شمس الدين ابن قدامة يلْحَظُ أن كثيرا من مشايخه سمع عليهم في سِنٍّ مُبَكرة، بل إن سماعَه من بعضهم لا يتحقَّق إلا بواسطة غيره، فسماعه من الإمام أبي الفرج ابن الجَوْزيّ لا يكون إلا بإفادة عمه موفق الدين ابنِ قدامة، حيث تُوفِّي أبو الفرج في السنة التي ولد فها شمس الدين ابن قدامة، وكان موفق الدين عند ابن الجوزيّ حيث أقام، وأفاد منه (¬3). * * * واشْتغل شمس الدين ابن قدامة بالفتيا والقضاء والتدريس، وليَ قضاء القضاة في جمادى الأولى سنة أربع وستين وستمائة، على كُرْهٍ منه، وكان رحمة على المسلمين، ولولا توفيق الله له لراحت أملاك الناس لمَّا تعرَّض إليها السلطان، فقام فيها قيام المؤمنين، وأثبتها لهم، وعاداه جماعة الحكام، وعملوا في حقه المجهود، وتحدَّثوا فيه بما لا يليق، ونصره الله بحسن نيته. وزادت مدته في القضاء على اثنتى عشرة سنة، ولم يتناول معلوما، ثم عزل نفسه في آخر عمره. وذكر الذهبي أنه حدَّث نحوا من ستين سنة، وأول ما ولىَ مشيخة دار الحديث الأشرفية بالجبل، كما ولى الخطابة فيه. وكانت له اليد الطولى في معرفة الحديث ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 22/ 10، 11. (¬2) سير أعلام النبلاء 21/ 434، 435. (¬3) انظر مقدمة تحقيقنا لكتاب المغني صفحة 12.

والأصول والنحو وغير ذلك من العلوم الشرعية، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والمحدثين وأهل الدين، وتلمذ عليه كثيرون، نذكر منهم: 1 - زكيّ الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى اللَّوزي المالكيّ، سكن دمشق، وقرأ الفقه، وتقدم في الحديث، توفي سنة سبع وثمانين وستمائة (¬1). ونقل الذهبي عنه مدحه لشيخه، وذكره لصفاته الجليلة (¬2). 2 - برهان الدين أبو إسحاق بن عماد الدين عبد الحافظ بن عبد الحميد، قاضي القدس الحنبليّ، سمع منه الذهبي قصيدته التي رثى بها شيخه شمس الدين، وتوفي برهان الدين سنة ثمان عشرة وسبعمائة (¬3). 3 - تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيميَّة الحرَّاني الدمشقيّ الحنبليّ، شيخ الإسلام، المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (¬4). وقد نقل عنه الذهبيُّ وفاة الشيخ شمس الدين بخطه، وفيها: توفي شيخنا الإمام، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، وحيد الزمان حقا حقا، وفريد العصر صدقا صدقا، الجامع لأنواع المحاسن، والمعافى البرئ عن جميع النقائِص والمساوئ، القارِن بين خلَّتى العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والخَلْق والخُلُق، ذو الأخلاق الزكية، والأعمال المرضيَّة، مع سلامة الصدر والطبع، واللطف والرفق، وحُسن النيَّة وطيب الطَّويَّة، حتى إن كان المتعنِّتُ ليطلب له عيبًا فيُعْوزُه. . . . إلى أن قال: وبكت عليه العيونُ بأسْرِها، وعمَّ مصابه جميع الطوائف وسائر الفرق، فأيُّ دمع ما انْسَجَم، وأى أصل ما جُذِم، وأيّ ركن ما هُدم، وأيُّ فضل ما عُدِم!! يا له من خطب ما أعظمه، وأجل ما أقدره، ومصاب ما أفخمه (¬5). ¬

(¬1) شذرات الذهب 5/ 400. (¬2) انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 306. (¬3) ذبل طبقات الحنابلة 2/ 372، 373. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 387 - 408. (¬5) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 308.

4 - زين الدين أبو بكر أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسيّ الصَّالحيّ الحنبليّ، المتوفي سنة تسع عشرة وسبعمائة (¬1). 5 - نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم بن الخبَّاز، يقول الذهبيّ: كتب عن مَن دَبَّ ودرَج، وجمع وكتب الكثير، توفي سنة ثلاث وسبعمائة (¬2). وجمع ابن الخبَّاز ترجمة شيخه شمس الدين وأخباره في مائة وخمسين جزءًا، وبالغ، وبقىَ كلما أثنى عليه بنعت من الفقه أو الزهد أو التواضع، سرد ما ورد في ذلك بأسانيده الطويلة الثقيلة. ثم تحوَّل إلى ذكر شيوخه فترْجمهم، ثم إلى ذكر الإمام أحمد فأورد سيرته ومحنته كلها. كما أوردها ابن الجوزيّ. ثم أورد السيرة النبوية لكونه من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ الذهبي: ما رأيت سيرة أطول منها أبدا (¬3). 6 - مجد الدين أبو الفدا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحَرَّافيّ الدمشقيّ الحنبليّ، الإمام الزاهد، شيخ المذهب، المتوفى سنة تسع وعشرين وسبعمائة (¬4). وكان يقول: ما رأت عيني مثله. 7 - أبو بكر المناوي. ذكر ابن شاكر الكُتْبِي، أنه روَى عنه (¬5). 8 - تقي الدين أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن قدامة المقدسيّ الحنبليّ، الفقيه الإمام المحدِّث، المتوفى سنة خمس عشرة وسبعمائة (¬6). لازمه وأخذ عنه الفقه والفرائض وغير ذلك. 9 - فخر الدين عبد الرحمن بن محمد بن الفخر البَعْلَبكيّ الدمشقيّ الحنبليّ الفقيه، ¬

(¬1) ملحق ذيل طبقات الحنابلة 2/ 470. (¬2) ذيل العبر، للذهبي 24. (¬3) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 304، 305. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 408 - 410. (¬5) فوات الوفيات 2/ 292. (¬6) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 364 - 366.

المحدِّث، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (¬1). قال فخر الدين عن شيخه شمس الدين: إنه منذ عرفه ما رآه غضب. وعرَفه نحو خمسين سنة (¬2). 10 - علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود، ابن العطَّار الشافعيّ المحدث، المتوفى سنة أربع وعشرين وسبعمائة (¬3). روى عنه. 11 - أبو الفتح ابن الحاجب. ذكر الذهبيّ، في «معجم شيوخه» أنه كتب عن شمس الدين ابن أبي عمر، ونقله عنه ابن رجب (¬4). 12 - علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البِرْزاليّ الدمشقي الشافعيّ، محدِّث الشام ومؤرخه، المتوفى سنة تسمع وثلاثين وسبعمائة (¬5). 13 - سعد الدين أبو محمد مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي البغداديّ المصريّ الحنبليّ، الفقيه المحدِّث، المتوفى سنة إحدى عشرة وسبعمائة (¬6). تفقَّه عليه وروى عنه، وخرَّج له مشيخة، وحدَّث بها (¬7). 14 - محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الشافعيّ الإِمام، شيخ الإِسلام، المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة (¬8). روَى عنه في كتابه «الرخصة في القيام» له. وقال: حدثنا الشيخ الإِمام العالم المتفق على إمامته وفضله وجلالته. . . . (¬9). ¬

(¬1) ذيل العبر، للذهبي 175، 176، ذيل طبقات الحنابلة 9/ 412. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 306. (¬3) طبقات الشافعية الكبرى 10/ 130. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 305. (¬5) طبقات الشافعية الكبرى 10/ 381 - 383. (¬6) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 362 - 364، ذيل العبر، للذهبي 64. (¬7) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 306. (¬8) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 395 - 400. (¬9) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 305.

[3 - الإنصاف للمرداوي]

15 - جمال الدين أبو الحجَّاج يوسف بن الزَّكيّ عبد الرحمن بن يوسف المِزِّيّ الدمشقي الشافعي، حافظ الزمان، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة (¬1). حدَّث عنه. وفي الجملة، فقد قرأ عليه كثيرون في عصره، وخرَّج له أبو الحسن ابن اللَّبَّان «مشيخة» في أحد عشر جزءًا (¬2)، ووُصِف، رضي الله عنه، بالتَّواضع مع عظمته في الصدور، وحجَّ ثلاث مرات، وحضر الفتوحات، وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كريم النفس، كثير الذكر والقيام بالليل، محافظا على صلاة الضحى، ويؤثر بما يأتيه من صلة الملوك وغيرهم. وكان معظما عند الملوك، وأوقع الله محبته في قلوب الخلق، وكان كثير الاهتمام بالناس، لا يكاد يعلم بمريض إلا افتقده، ولا مات أحدٌ من أهل الجبل إلا شيَّعه. توفي شمس الدين ابن قدامة ليلة الثلاثاء، سلخ ربيع الآخر، سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن من الغد عند والده بسفح قاسيون، وكانت جنازته مشهودة. ورثاه نحو من ثلاثين شاعرا، كان من بينهم شمس الدين الصائغ، وعلاء الدين بن غانم، وتقيّ الدين ابن تمام، وشهاب الدين محمود، ومطلع قصيدة الشهاب محمود كاتب الدرج بدمشق (¬3): ما للوُجودِ وقد عَلاه ظلامُ … أعَراه خَطْبٌ أم عَراه مَرَامُ 3 وكما شغل «المقنع» لموفَّق الدين ابن قدامة، ابن أخيه شمس الدين ابن قدامة، فشرَحه في موسوعته التي عرفت بالشرح الكبير، شغل أيضًا علاء الدين المَرْداويّ (*)، فوضع عليه كتابًا له أهَمِّيَّة خاصة، هو «الإنصاف، في معرفة الراجح منِ الخلاف». ¬

(¬1) طبقات الشافعية الكبرى 10/ 395 - 430. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2/ 308. (¬3) ذيل مرآة الزمان 4/ 181، فوات الوفيات 2/ 292، ذيل طبقات الحنابلة 2/ 309. (*) لعلاء الدين المرداوي ترجمة في: الضوء اللامع، للسخاوي 5/ 225 - 227، شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي 7/ 340 - 342، البدر الطالع، للشوكاني 1/ 446، كشف الظنون 1/ 357، إيضاح المكنون 1/ 134، 331، 2/ 389، 450، 514، هدية العارفين 736، 130: Brock.S.II

ولد علاء الدين علي بن سليمان بن أحمد المَرْداويّ الدمشقيّ الصَّالحْيّ الحنبليّ، قريبًا من سنة عشرين وثمانمائة على ما يذكر السَّخاويّ، ويقطع ابن العماد الحنبليّ بأنه ولد سنة سبع عشرة، ببلدته مَرْدا (¬1). ونشأ بها، فحفظ القرآن، وابتدأ رحلته العلمية منها، حيث أخذ بها الفقه على فقيهها الشهاب أحمد بن يوسف، وانتقل في شبيبته إلى مدينة سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام، فأقام بزاوية الشيخ عمر المجوِّد، رحمه الله، وقرأ بها القرآن. وفي سنة ثمان وثلاثين -كما يظن السخاويّ- تحوَّل منها إلى دمشق، فنزل مدرسة أبي عمر، فجوَّد القرآن، بل يقال: إنه قرأ بالروايات، وقرأ «المقنع» تصحيحا، وحفظ غيره كالألفية، وأدْمَن الاشتغال، وتجرَّع تقلُّلا، أي أنه صبر على الفقر، ورضىَ بالقليل في عيشه، كما رحل إلى الحرمين، وحج مرتين، وجاور فيهما، وأخذ عن شيوخهما، ورحل إلى مصر أيضًا، فأخذ عن علمائها، وقرأوا عليه، وتكوَّنتْ له بذلك مشيخة كبيرة، نورد ما أمكننا التهدِّى إليه منها على حروف المعجم: 1 - البرهان أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مَفْلِح المقدسيّ الدمشقيّ الحنبليّ القاضي، الفقيه، الأصوليّ، صاحب المصنَّفات، المتوفى سنة أربع وثمانين وثمانمائة (¬2). حضر درسَه، وناب عنه حين جاوَر بمكة. 2 - عزُّ الدين أبو البركات أحمد بن إبراهيم بن نصر الله الكِنانيّ العسْقلاني القاهريّ الحنبليّ، قاضي القاهرة المشهور، المعروف بالعِزّ الكناني، صاحب العلم والفضل، المتوفى سنة ست وسبعين وثمانمائة (¬3)، أذن له حين قدم القاهرة في سماع الدعوى، وأكرمه، وأخذ عنه فضلاء أصحابه بإشارته، بل وحضّهم على تحصيل «الإنصاف» وغيره من تصانيفه، وأذن لمن شاء منهم، وحضر دروس القاضي، ونقل عنه في تصانيفه، واصفًا له بشيخنا. 3 - الشِّهاب أحمد بن حسن بن أحمد، ابن عبد الهادي المقدسيّ الصَّالحيّ الحنبليّ، ¬

(¬1) مردا: قرية قرب نابلس. معجم البلدان (بيروت) 5/ 104. (¬2) الضوء اللامع 1/ 152، شذرات الذهب 7/ 338، 339. (¬3) ذيل رفع الإصر 12 - 62، الضوء اللامع 1/ 205 - 207.

المتوفى بدمشق سنة ست وخمسين وثمانمائة (¬1). سمع منه. 4 - الشهاب أحمد بن عبد الله بن محمد السَّجِينيّ القاهريّ الأزهريّ الشافعيّ الفَرَضِيّ، المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة، بمنزله ببولاق (¬2). قرأ عليه في الفرائض والحساب يسيرا. 5 - تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد الشُّمُنِّيّ القُسَنْطِينيّ الحنفيّ، شارح «المغني» لابن هشام، العلامة المفسِّر المحذث المتكلم النحويّ، المتوفى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة (¬3). قرأ عليه حين حضر إلى القاهرة «المختصر» بتمامه. 6 - الشِّهاب أحمد بن يوسف المرْدَاويّ الدمشقيّ الحنبليّ الفقيه النحويّ الحافظ لفروعِ مذهبه، المتوفى سنة خمسين وثمانمائة (¬4). أخذ عنه الفقه ببلده مَرْدَا. 7 - تقيّ الدين أبو الصدق أبو بكر بن إبراهيم بن يوسف بن قُنْدس البَعْلي الحنبليّ، الإمام العلامة ذو الفنون، المتوفى سنة إحدى وستين أو اثنتين وستين وثمانمائة (¬5). لازمه في الفقه وأصوله، والعربية وغيرها، حتى كان جُلُّ انتفاعه به، وكان مما قرأه عليه بحثا وتحقيقا «المقنع» في الفقه، و «مختصر الطُّوفي» في الأصول، و «ألفية ابن مالك». 8 - الحسن بن إبراهيم الصَّفَديّ ثم الدمشقي الخَيَّاط الحنبلي. قال السَّخاويّ: قرأ عليه العلامة المَرْداويّ، ووصفه بالإمام المحدِّث المفسِّر الزاهد (¬6). أخذ عنه العربية والصرف وغيرهما. ¬

(¬1) الضوء اللامع 1/ 272، 273. (¬2) الضوء اللامع 1/ 376، 377. (¬3) شذرات الذهب 7/ 313، 314. (¬4) الضوء اللامع 2/ 252. (¬5) شذرات الذهب 7/ 300. (¬6) الضوء اللامع 3/ 92.

9 - الحِصْنيّ. قال السَّخاويّ: قرأ عليه حين حضر إلى القاهرة «المختصر» بتمامه (¬1). 10 - الزَّين ابن الطَّحَّان. قال السَّخاويّ: سمع منه (¬2). 11 - زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن إبراهيم، ابن الحَبَّال الطرَّابُلُسِيّ الحنبليّ، سكن صالحيَّة دمشق يُقْرِئ بها القرآن والعلم، وتوفي سنة أربع وسبعين وثمانمائة (¬3). قرأ عليه «المقنع» تصحيحا، في مدرسة أبي عمر بدمشق. 12 - الزَّين أبو الفرج عهد الرحمن بن سليمان بن أبي الكرم الصالحيّ الدمشقيّ الحنبليّ الإِمام الحافظ، علَّامة الزمان، وترجان القرآن، وهو عبد الرحمن أبو شعر، المتوفى سنة أربع وأربعين وثمانمائة (¬4). أخذ عنه الفقه والنحو، وسمع منه «التفسير» للبَغَويّ، وقرأ عليه في سنة ثمان وثلاثين من «شرح ألفية العراقيّ» إلى الشَّاذّ. 13 - الشِّهاب عبد القادر بن أبي القاسم بن أبي العباس أحمد بن محمد المحْيويّ الحسَنيّ الفاسِيّ الأنصاريّ المالكيّ، قاضي الحرمين، المتوفى سنة ثمانين وثمانمائة (¬5). أخذ عنه في مجاورته بمكة. 14 - أبو الرّوح عيسى البغداديّ الفلوجيّ الحنفي، نزيل دمشق. أخذ عنه العربيَّة والصرف وغرهما. قال السَّخاويّ: وممَّن أخذ عنه العلاء المَرْداويّ، ووصفه بالعلامة الفقيه الفرضيّ الأصوليّ النحويّ الصرفيّ، المُحرِّر المُتْقِن، وإنه كان حسن التعليم، ناصحا للمتعلِّم (¬6). 15 - أبو عبد الله محمد بن أحمد الكركيّ الحنبليّ. قال السَّخاويّ: قرأ عليه ¬

(¬1) الضوء اللامع 5/ 226. (¬2) الضوء اللامع 5/ 226. (¬3) شذرات الذهب 7/ 318. (¬4) الضوء اللامع 4/ 82، 83. (¬5) الضوء اللامع 4/ 283 - 285. (¬6) الضوء اللامع 6/ 158.

«البخاريّ» وغيره (¬1). 16 - أبو الفتح محمد بن أبي بكر بن الحسين المراغيّ المدنيّ الشافعيّ، المتوفى شهيدا سنة تسع وخمسين وثمانمائة (¬2). سمع عليه حين حَجَّ مرَّتين، وجاوَر فيهما. 17 - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله القَيسِيّ الدمشقيّ الشافعيّ، المحدِّث المؤرِّخ الحافظ الناظم، المعروف بابن ناصر الدين، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة (¬3). أخذ عنه علوم الحديث، سمع عليه «منظومته» وشرحها بقراءة شيخه التقيّ. 18 - الشمس محمد بن محمد السِّيليّ الحنبليّ الفرضيّ، خازن الضِّيائيّة، المتوفى سنة تسع وسبعين وثمانمائة (¬4). أخذ عنه الفرائض والوصايا والحساب، وانتفع به في ذلك جدا، ولازمه أكثر من عشرين سنة، وقرأ عليه «المقنع» في الفقه بتمامه بحثا. 19 - أبو القاسم محمد بن محمد بن محمد النّوَيريّ القاهريّ المالكيّ، علَّامة وقته، المتوفى بمكة سنة أربع وخمسين وثمانمائة (¬5). أخذ عنه الأصول حين لَقِيه بمكة فقرأ عليه قطعة من «كتاب ابن مفلح» فيه. بل وسمع في العَضُد عليه. وقد أخلص علاء الدين وجهته لله، وتفرغ للعلم، فوفقه الله، واجتمع بالمشايخ وجدَّ في الاشتغال، ولم يقف به الطلب عند أجل بعينه، فرغم دخوله مصر بأخرة، فإنه كما ذكرنا من قبل تلمذ لقاضيها عز الدين الكنانيّ وقرأ على الحِصْنِيّ والشُّمُنِّي. وقد نصح عز الدين الكناني تلامذته بالأخذ عنه، فقرأوا عليه الإنصاف وغيره من كتبه، وكان من أعظم تلامذته بدر الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن أبي بكر ¬

(¬1) الضوء اللامع 5/ 226. (¬2) الضوء اللامع 7/ 162 - 165. (¬3) شذرات الذهب 7/ 243 - 245. (¬4) شذرات الذهب 7/ 328. (¬5) شذرات الذهب 7/ 292.

ابن خالد السَّعْدِيّ المصريّ الحنبليّ، قاضي القضاة، شيخ الإِسلام، العلامة الرُّحَلة، المتوفى سنة تسعمائة. يقول ابن العماد الحنبليّ: وقرأ على القاضي علاء الدين المرداويّ لمَّا توجَّه إلى القاهرة كتابَه «الإنصاف» وغيره، ولازمه، فشهد بفضله، وأذن له بالإفتاء والتدريس أيضًا (¬1). وقد يسَّر الله لعلاء الدين، وفتح عليه في التصنيف، فصنف كتبا في أنواع العلوم، وأعانه على ذلك، وخاصة في المذهب، ما اجتمع عنده من لكتب ما لعلَّه انْفَرد به مِلْكا ووَقْفًا. كما يقول السَّخاويّ (¬2). وقد تعرَّفْنا من كتبه إلى: 1 - الإنْصاف، في معرفة الرَّاجح من الخلاف. ذكره السَّخاويّ، وابن العماد الحنبليّ، والشَّوكاني، والبغداديّ. وهو هذا الكتاب الذي نقدم له. قال السَّخاويّ: عمله تصحيحا للمقنع، وتوسَّع فيه حتى صار أربع مجلَّدات، تعب فيه. وقال ابن العماد الحنبليّ: أربع مجلَّدات ضخمة على «المقنع»، وهو من كتب الإِسلام؛ فإنه سلك فيه مسلكا لم يُسْبَق إليه، بيَّن فيه الصحيحَ من المذهب، وأطال فيه الكلام، وذكر في كل مسألة ما نُقِل فيها من الكتب وكلام الأصحاب، فهو دليل على تَبَحُّرِ مصنِّفه، وسَعَة علمه، وقوّة فهمه، وكثرة اطلاعِه. 2 - التَّحْبير، في شرح التَّحرير. أي تحرير المنقول في تهذيب أو تمهيد علم الأصول. ذكره السَّخاويّ، والشَّوْكاني. وقالا: في مجلَّدين. 3 - تحرير المنقول، في تهذيب أو تمهيد علم الأصول. أي أصول الفقه. ¬

(¬1) شذرات الذهب 7/ 366، 367. (¬2) الضوء اللامع 5/ 227.

ذكره السَّخاويّ، وابن العماد الحنبليّ، والشَّوكاني، وحاجي خليفة، وبروكلمان. قال السَّخاويّ: في مجلَّد لطف. وقال ابن العماد الحنبليّ: ذكر فيه المذاهب الأربعة وغيرها، وشرَحه. تصحيح كتاب الفروع، لابن مفلح = الدُّرُّ المُنْتقَى. 4 - التنقيح المُشْبع، في تحرير أحكام المُقْنِع. ذكره السَّخاويّ، وابن العماد الحنبليّ، والبغداديّ، وبروكلمان، وهو مختصر «الإِنصاف» كما ذكر السَّخاويّ، وابن العماد. وذكره البغدادي باسم: التنقيح، في شرح إنصاف التصحيح، في الفروع. الحصون المُعَدَّة الواقية = الكنوز أو الحصون. . . . 5 - الدُّرُّ المُنْتَقَى والجوهر المجموع، في معرفة الرَّاجح من الخلاف المطلق في «الفروع»، لابن مفلح. قال السَّخاويّ: في مجلد ضخم. وطبع باسم «تصحيح الفروع» مع كتاب «الفروع». 6 - شرح الآداب. ذكره ابن العماد الحنبليّ. شرح تحرير المنقول = التحبير في شرح التحرير. 7 - شَرْح قطعة من «مختصر الطُّوفيّ» في الأصول. هكذا ذكره السَّخاويّ. 8 - فِهْرِسْت القواعد الأصوليَّة. قال السَّخاويّ: في كرَّاسة. 9 - الكُنوز أو الحصون المُعَدَّة، الواقية من كل شِدَّة، في عمَل اليوم والليلة. قال السَّخاويّ: جمع فيه قريبا من ستمائة حديث؛ الأحاديث الواردة في اسم الله الأعظم، والأدعية المطلقة المأثورة. قال: إنه جمع فيها فوق مائة حديث. مختصر الإنصاف = التنقيح المشبع.

10 - مختصر «الفروع». قال السَّخاويّ: اختصر «الفروع» مع زيادة عليها، في مجلد كبير. وذكر ابن العماد الحنبليّ أن له تصحيح الفروع. وانظر ما سبق باسم «الدر المنتقى». 11 - المنهل العَذْب الغزير، في مولد الهادي البشير النذير. ذكره السَّخاويّ. وهكذا بارك الله لعلاء الدين المرداويِّ في مكتبته وعلمه، فأمَدَّ العالم الإسلاميَّ بهذه المؤلَّفات القَيِّمة، وحرص العلماء في عصره على روايتها، وقراءتها عليه، وانتشرت في حياته، وبعد وفاته، وانتفع بها الناس. وكانت كتابته على الفتوى غاية، وخطه حسن، وانتهت إليه رئاسة المذهب، وباشر نيابة الحكم دهرا طويلا، فحَسُنَتْ سيرتُه، وعَظُم أمرُه، وتنَزَّه عن مباشرة القضاء في أواخر عمره، وصار قوله حُجَّة في المذهب، يُعَوَّل عليه في الفتوى والأحكام، في جميع مملكة الإسلام. كما يقول ابن العماد الحنبليّ. يقول ابن العماد أيضًا: ما صَحِبه أحدٌ إلَّا وحصل له الخير، وكان لا يتردَّد إلى أحد من أهل الدنيا، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان الأكابر والأعيان يقصدونه لزيارته والاستفادة منه. وحَجَّ، وزار بيت المقدس مرارًا (¬1). وقال السَّخاويّ: كان فقيها حافظا لفروع المذهب، مشاركا في الأصول، بارعا في الكتابة، مديما للاشتغال والإِشْغال، مذكورا بتعفف وورع وإيثار في الأحيان للطلبة، متنزِّها عن الدخول في كثير من القضايا، بل ربما يروم الترك أصلا، فلا يُمَكِّنُه القاضي، متواضعا مصنفا، لا يأنف ممَّن يُبَيِّن له الصواب (¬2). توفي بصالحيَّة دمشق، يوم الجمعة، سادس جمادى الأولى، سنة خمس وثمانين وثمانمائة، ودفن بسفح قاسيون، قرب الروضة. * * * ¬

(¬1) شذرات الذهب 7/ 341. (¬2) الضوء اللامع 5/ 227.

[4 - تحقيق الكتب الثلاثة]

4 وإذا كان كتاب «المقنع» لموفق الدين ابن قدامة قد اعتُمد في المذهب متنا يحفظه الطلاب، ويشرحه الشارحون، ويعكف عليه الدارسون، فقد ظهر سعده منذ ألفه مؤلفه، ولذلك انصرف إليه ابن أخيه شمس الدين ابن قدامة؛ قراءة وتصحيحًا وشرحًا، واستفاد في شرحه هذا من كتاب عمه موفق الدين العلم في المذهب المسمى «المغني»، ولو أتيح لموفق الدين نفسه أن يشرح «المقنع» لكان شرحه قريبا من عمل ابن أخيه، ولذلك حظى كتاب الشرح الكبير بتقدير بالغ من علماء المذهب، ولم يسمه مؤلفه في مقدمة الكتاب كما يصنع المؤلفون عادة، وإنما وجدنا اسم الكتاب في بعض المصادر، وفي بعض مخطوطاته «الشافي»، وفي بعضها «تسهيل المطلب في تحصيل المذهب»، لكن الاسم الذي سار للكتاب وانتشر به هو «الشرح الكبير». وكان صنيع علاء الدين المرداويّ مع المقنع إكمالا وتتميما لعمل شمس الدين ابن قدامة، حيث اهتم بمواضع الخلاف في المذهب، واستطاع عن طريق مكتبته الحافلة أن يبين رأى كل مؤلف أو إمام، والمنقول عن الإمام أحمد، والمنصوص عليه، وماذا يرجح كل مصنف أو مؤلف مع ذكر كتابه، وكان عمله هذا توثيقا للمذهب، وجمعا لأقوال علمائه، وحشدا لما في مصنفاته، وبذلك استغنى مقتنيه عن الرجوع إلى مصادر كثيرة، ومراجعة مؤلفات عدة، ولذلك فإنه من تمام الفائدة أن يلحق الإنصاف بالشرح الكبير، وأن يجمع بينهما في قرَنٍ، وبذلك يجتمع نص المقنع المضبوط المحقق، إلى الشرح الكبير المحرر المدقق، إلى الإنصاف الموثق، فيصبح لدى مقتنيه ما يستطيع به أن يستغنى عن الرجوع إلى مكتبة فقهية حافلة، إلا إذا أراد التوسع والاستزادة.

[مخطوطات المقنع]

وقد اجتهدنا في تحصيل ما يوجد من مخطوطات الكتب الثلاثة (المقنع والشرح الكبير والإِنصاف)، وتيسر لنا نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم [20358 ب] لكتاب المقنع، تقع في مجلدة واحدة مجزأة إلى خمسة أجزاء؛ يبدأ الجزء الأول منها بأول الكتاب وينتهي بآخر كتاب الجنائز في الورقة 42، ويبدأ الثاني بأول كتاب الزكاة وينتهي بآخر باب أحكام الذمة في ورقة 90، وييدأ الثالث بكتاب البيع وينتهي بآخر كتاب العارية في ورقة 137، ويبدأ الرابع بكتاب الغصب وينتهي بآخر باب ميراث الغرقى ومن عمى موتهم من كتاب الفرائض، ويبدأ الجزء الخامس بباب ميراث أهل الملل إلى آخر المجلدة. وعلى الورقة، الأولى وقف نصه: أوقف وحبس وسبل وتصدق بهذا الكتاب لوجه الله سبحانه، وقف لا يباع ولا يشرى ولا يوهب كله، الفقير إليه محمد الزواوي ابن المرحوم إسماعيل بن أحمد بن علي، دونه فيه برواق حنابلي بالجامع الأزهر بمصر المحروسة محررا في يوم الخميس المبارك، لثمانية خلت من شهر صفر سنة ألف وثمانية وعشرون. وفي الورقة الأخيرة منها: تم الكتاب بحمد الله ومنه وحسن توفيقه، وكان الفراغ من نسخه يوم الثلاثاء ثاني يوم من شهر رمضان المفضل سنة أربع وستون وتسعمائة، كتبه موسى بن سليمان بن أحمد بن موسى بن علي الحنبلي. والمجلدة تقع في 363 ورقة من القطع المتوسط ومسطرتها 15 سطرا كتبت بقلم معتاد واضح. وقد قابلنا عليها النسخة المطبوعة بمطابع الدجوى في القاهرة سنة 1400 هـ والتي تقع في أربعة مجلدات كبيرة وعليها حاشية منقولة من خط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وهي من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض. وكذلك النسخة المطبوعة بمتن كتاب المبدع لابن مفلح، وهي من منشورات المكتب الإسلامي ببيروت وتقع في عشر مجلدات من القطع المتوسط، وقد ذكر الناشر في مقدمتها أنه اعتمد على أكثر من نسخة خطية منها نسخة المؤلف وقابلها

[مخطوطات الشرح الكبير]

على المصادر المتيسرة التي أخذ عنها المؤلف. * * * وقد طبع الشرح الكبير لأول مرة مقترنا بالمغنى، ومرتبا على أبوابه، في مطبعة المنار سنة 1341 هـ، ثم طبع مفردا بعد ذلك على ترتيب المغني أيضًا، ثم صور بعد ذلك مرات عدة. وكان طبيعيا أننا حين نرجع إلى الكتاب لتحقيقه أن نعيد ترتيبه حسب الترتيب الأصلي في المخطوطات وحسب ترتيب المقنع الذي هو شرح عليه. وقد رزقنا الله من مصورات مخطوطات كتاب الشرح الكبير: في مكتبة أحمد الثالث: نسخة محفوظة برقم 1134 فقه حنبلي، وفيها: الجزء الأول، من أول الكتاب إلى آخر مسألة ويستحب للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها. . . . في أثناء صلاة الجماعة. على الورقة الأولى منه: الجزء الأول من شرح المقنع، وتحته: هذا ملك العبد الفقير الذليل الراجي عفو ربه وثوابه الجزيل، ملكه بالبيع الشرعي، وهو جميع شرح المقنع وهو ثمان مجلدات عمر بن محمد بن أحمد الحنبلي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين أجمعين. وتحته بخط دقيق: ثم انتقل إلى ملك مالكه أولًا علي بن سليمان المرداوي عفا الله عنه. وفي آخره: آخر الجزء الأول، يتلوه في الثاني إن شاء الله تعالى مسألة: ويستحب تطويل الأولى. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما ووافق الفراغ من نسخه في يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول من شهور سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على يد الفقير إلى الله عبد الله بن عيسى بن إبراهيم المقدسي غفر الله له آمين. كتب الجزء بقلم جيد ويقع في 278 ورقة، ومسطرته 25 سطرا. الجزء السادس، يبتدئ بكتاب العتق وينتهي بآخر باب الاستثناء في الطلاق. وعلى جانب الغلاف: الحمد لله وحده، طالع في هذا الجزء إلى باب عشرة النساء

وانتفع به أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي عفا الله عنهم بكرمه. وفي آخره: يتلوه في السابعِ باب الطلاق في الماضي والمستقبل الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم، علقه لنفسه عبد الله بن عيسى بن إبراهيم المقدسي غفر الله له ولوالديه آمين يا رب العالمين. ويقع الجزء في 267 ورقة ومسطرته 23 سطرا. الجزء السابع، ويبتدئ بباب الطلاق في الماضي والمستقبل من كتاب الطلاق وينتهي بمسألة: وإن سرق وقتل في المحاربة. . . . من كتاب الحدود، وعلى الورقة الأولى تملك نصه: ملكه العبد الفقير الحقير الذليل الراجي عفو ربه الجزيل ملكه بالبيع الشرعي وهو جميع شرح المقنع وهو ثمان مجلدات عمر بن محمد بن أحمد المرداوي الحنبلي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين أجمعين آمين. وتحته بخط أصغر: ثم ملكه من باعه للكاتب أعلاه بعد وفاته كاتبه علي بن سليمان المرداوي. عامله الله تعالى بألطافه الخفية بمنه وكرمه. وآخره: تم السابع من شرح المقنع بحمد الله تعالى وعونه، ويتلوه في الثامن فصل: ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا عمد وآله وصحبه وسلم تسليما دائما إلى يوم الدين وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. وذلك على يد أفقر عباد الله تعالى عبد الله بن عيسى بن إبراهيم بن محمد المقدسي الحنبلي عفا الله عنه وعن والديه آمين. ويقع الجزء في 297 ورقة ومسطرته 23 سطرًا بخط جيد. الجزء الثامن، يبدأ بفصل: ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم. . . . من كتاب الحدود. وينتهي بآخر كتاب الإقرار. وفي آخره: آخر المجلد الثامن من شرح المقنع والحمد لله كثيرا. على يسار الورقة الأولى من أعلى: يستعين بالله العظيم العلى مالكه علي بن سليمان الحنبلي. وتحته: هذا ملك العبد الفقير الحقير الذليل الراجي عفو ربه الجزيل مالكه بالبيع الشرعي وهو جميع شرح المقنع وهو ثمان مجلدات علي بن سليمان بن أحمد المرداوي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين أجمعين، آمين يا رب العالمين. وتحته: ملكه من بعده بالبيع الشرعي العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير عمر بن محمد بن أحمد المرداوي الحنبلي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين أجمعين آمين آمين. وتحته: ثم ملكه من بعده بالبيع الشرعي العبد الفقير الذليل علي بن سليمان المرداوي

الذي كان مالكه أولًا وذلك بعد وفاة المرحوم زين الدين عمر المذكور. . . . في أواخر جمادى الآخر سنة سبع وسبعين وثمانمائة. وفي الورقة الأخيرة: وافق الفراغ من نسخه يوم الخميس حين أذان العصر ثالث شهر شعبان المبارك سنة سبع وسبعين وسبعمائة من الهجرة النبوية - عليه السلام -. وذلك بسفح جبل قاسيون على يد أفقر عباد الله وأحوجهم عبد الله بن عيسى بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمود المقدسي الحنبلي المرداوي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين يا رب العالمين. ويقع الجزء في 279 ورقة ومسطرته 23 سطرا. الجزء الرابع من نسخة أخرى، أوله فصل: قال الشيخ رحمه الله: ومن باع نخلا مؤبرا. . . . في أثناء كتاب السلم، وآخره آخر كتاب الغصب. وعلى غلافه: المجلد الرابع من شرح المقنع في الفقه وهو تسهيل المطلب في تحصيل المذهب. وتحت العنوان: انتقل بالبيع الصحيح الشرعي لمالكه العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عبد القادر بن عثمان الجزري الحنبلي نفع الله تعالى به بتاريخ شهر جمادى الآخرة سنة خمس وستين وسبعمائة. وبجانبه: انتقل بالبيع الشرعي إلى ملك كاتبه العبد الفقير الحقير الذليل الراجي عفو ربه الجزيل علي بن سليمان المرداوي الحنبلي المقدسي عفا الله عنه وعن جميع المسلمين بتاريخ شهر جمادى الأول سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وكان البيع المذكور أعلاه في مدرسة شيخ الإسلام أبي عمر رضي الله عنه وأرضاه. وفي آخر كتاب السبق ورقة 258: كتبه أفقر عباد الله تعالى عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد غفر الله له ولجميع المسلمين. وكان الفراغ يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول سنة تسعين وستمائة والحمد لله. ومن أول كتاب العارية في ورقة 258 كتب بخط نفيس مشكول. وآخره: آخر المجلد الرابع من شرح المقنع والحمد لله وحده. والجزء يقع في 301 ورقة ومسطرته 25 سطرًا. وهذه النسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية برقم 2 فقه حنبلي. وقد اعتمدنا ما وجدناه من هذه النسخة أصلا، وأكملنا الناقص منها من النسخ التالية، وتجد أرقام الأوراق على جانبي صفحات تحقيقنا.

مكتبة لَيدن بأيرلندة: نسخة تشستر بيتي رقم 33554 MS ومنها: الجزء الأول من أول الكتاب ينقص عدد أربع ورقات من أوله يبدأ بقوله: الأمرين والله أعلم. فصل: إذا انغمس الجنب أو المحدث في ما دون القلتين. . . . وينتهي بآخر صلاة أهل الأعذار من كتاب الصلاة. كتب عليه العنوان الجزء الأول من شرح المقنع وعلى يسار العنوان: ملك إسحاق بن الشيخ داود. . . . الحنبلي المقدسي عفا الله عنه. وتحته: انتقل من ملك إسحاق بالبيع إلى ملك داود. ملك الشيخ داود اللبدي الحنبلي عفا الله عنه. وتحته: ملك الشيخ داود بن يوسف بن الغريز اللبدي المقدسي. وتحته: انتقل بالبيع الصحيح الشرعي إلى ملك مالكه محمد بن عبد الغني بن جوهر المقدسي الحنبلي. وكتب علي طرف الورقة الأخيرة من أسفل باب صلاة الجمعة إشارة إلى أن الجزء التالي يبدأ بها. والجزء يقع في 283 ورقة ومسطرته 25 سطرا كتب بقلم نسخي حسن من القرن الثامن تقديرا نقلت من أصل المصنف وقوبلت عليه ففي أعلى يسار الورقة 114 ما نصه: إلى هنا كتبته من أصل المصنف رحمه الله تعالى. وفي الورقة 74: كذا وجدته في خط المصنف رضي الله عنه. الجزء الخامس، يبدأ بباب الإِجارة، وينتهى بآخر باب الهبة والعطية. وبأعلى الورقة الأولى: الجزء الخامس من شرح المقنع في الفقه، وعليه بيان الأبواب والكتب التي يشملها الجزء وتحته تملك غير واضح. وفي آخر ورقة: آخر الجزء الخامس يتلوه في السادس كتاب الوصايا. فرغ من تعليقه العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن محمد المقدسي في السادس عشر من شهر جادى الأولى سنة ثمان عشرة وسبعمائة. ويقع الجزء في 268 ورقة ومسطرته 23 سطرا بخط نسخب جميل غير منقوط أحيانا. الجزء السابع، يبدأ بأول كتاب الإيلاء، وينتهي بآخر باب القطع في السرقة، من كتاب الحدود. على الورقة الأولى منه: الجزء السابع من شرح المقنع في الفقه وتحته بيان بالكتب التي يشتمل عليها الجزء وفي آخر الورقة الأخيرة: آخر المجلد

السابع، ويتلوه في الثامن باب حد المحاربين إن شاء الله تعالى والحمد لله رب العالمين. كتبه لنفسه الفقير إلى ربه المعترف بذنبه الراجي عفو ربه إبراهيم بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن سالم المرداوي الحنبلي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وجميع المسلمين. والجزء يقع في 281 ورقة، مسطرته 25 سطرا. وقد أشرنا إلى هذه النسخة بالرمز «تش». في المكتبة العامة السعودية بالرياض: نسخة محفوظة برقم 86 منها: الجزء الثالث، يبدأ بأول كتاب المناسك، وينتهي بآخر مسألة: وإن كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة. . . .، من كتاب البيع. وعلى الورقة الأولى: المجلد الثالث من شرح المقنع في الفقه وهو تسهيل المطلب في تحصيل المذهب. وتحته اسم المؤلف وبيان الكتب التي يضمها الجزء. وفي آخر ورقة: آخر الجزء الثالث من شرح المقنع للعلامة شمس الدين بن أبي عمر. . . . ويتلوه في الجزء الرابع: فصل قال: ومن باع نخلا مؤبرا وهو ما تشقق طلعه. وبعده تملكات ومقابلات غير واضحة والورقة الأولى بها تآكل في أطرافها. والجزء يقع في 316 ورقة ومسطرته 23 سطرا ومجلد بجلدة قديمة ومكتوب بخط نسخ قديم. الجزء الرابع، يبدأ بفصل ومن باع نخلا مؤبرا من كتاب البيع، وينتهي بآخر كتاب الغصب وتحت العنوان: الجزء الخامس من البيع في شرح المقنع وهو السابع والثلاثون. وفي الورقة الأخيرة بيان مقابلة على أصل مصنفه وبقيته: حسب الإمكان والطاقة بأصل المصنف رحمه الله تعالى. وآخره: آخر المجلد الرابع من شرح المقنع وكان الفراغ منه في مستهل شوال المبارك من سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. والجزء يقع في 221 ورقة ومسطرته 25 سطرًا. الجزء الثامن، ويبدأ بمسألة: ومتى امتنع السيد من الواجب عليه فطلب العبد البيع. . . . من كتاب النفقات على الأقارب، وينتهي بآخر مسألة: وهي تجمع تخييرا وترتيبا. . . . ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة. . . . من كتاب الأيمان. وعلى صفحة العنوان

المجلد الثامن من شرح المقنع في الفقه وتحته اسم المؤلف وبيان بالكتب التي يشتمل عليها وتملكات غير واضحة. ويقع الجزء في 222 ورقة، ومسطرته 25 سطرا، وخطه ردئ تصعب قراءته في أحيان كثيرة. ونرمز لهذه النسخة بالرمز «ر». الجزء الخامس من نسخة أخرى، ويبدأ بأول كتاب البيع وينتهي بباب الهبة والعطية من كتاب الوقف. وعلى الورقة الأولى: المجلد الخامس من شرح المقنع وهو تسهيل المطلب في تحصيل المذهب. وتحته اسم المؤلف. والجزء يقع في 288 ورقة مفقود من آخره بعض ورقات. ومسطرته 28 سطرًا كتبت بخط غير واضح. وقد أشرنا إلى هذه النسخة بالرمز «ر 1». الجزء الخامس من نسخة أخرى، ويبدأ بكتاب الغصب، وينتهي بآخر كتاب العتق. وعلى الورقة الأولى منه: الخامس من شرح المقنع وهو تسهيل المطلب في تحصيل المذهب. وتحته تملك غير واضح التاريخ بخط موسى بن أحمد الحجازي. والجزء يقع في 329 ورقة، ومسطرته 23 سطرا. وقد أشرنا إلى هذه النسخة بالرمز «ر 2». مكتبة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: نسخة مصورة عليها ختم الشيخ الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، إذ حصلنا عليها بواسطته، منها: الجزء الثاني، يبدأ بأول كتاب البيع، وينتهي بفصل: إذا غصب أرضا فحكمها في جواز دخول غيره إليها. . . . من كتاب الغصب. وعلى الورقة الأولى: المجلد الثاني من شرح المقنع في الفقه. وتحته اسم المؤلف وبجانبه تملكات ترجع إلى القرن الثالث

عشر. وليس في آخره ما يدل على انتهاء الجزء. وبه آثار رطوبة وتمزيق وفي الأوراق الأخيرة بياض في بعض السطور. ويقع الجزء في 221 ورقة ومسطرته ما بين 35 سطرا و 39 سطرا بقلم معتاد لعله من القرن الثالث عشر. الجزء السابع، ويبدأ بفصل: وإن لم يستطع إطعام ستين مسكينا مسلما حرًّا. . . . من كتاب الظهار، وينتهي بآخر باب ديات الأعضاء ومنافعها من كتاب الحدود. وعلى الورقة الأولى: السابع من شرح المقنع للشيخ شمس الدين بن أبي عمر. وفي آخره: آخر الجزء السابع من شرح المقنع والحمد لله وصلى الله على محمد وآله يتلوه إن شاء الله تعالى في الثامن باب حد المحاربين. بلغ العرض بأصل المصنف رحمه الله والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين. ويقع الجزء في 280 ورقة ومسطرته 23 سطرا كتب بخط نسخي جميل غير منقوط أحيانا. الجزء العاشر، ويبدأ بأول كتاب الصيد، وينتهي بباب الإِقرار بالمجمل، من كتاب الإقرار. وعلى الورقة الأولى: الجزء العاشر من شرح المقنع. وتحته اسم المؤلف وبيان بالكتب التي يشملها الجزء. وتاريخ يظهر منه: سبعمائة ببعلبك. وفي آخره: تم الكتاب بعون الملك الوهاب والحمد لله رب العالمين. . . . كتبه لنفسه العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن بردس بن نصر البعلبكي الحنبلي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين. وافق الفراغ من نسخه عشية السبت عاشر شهر جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ببعلبك حرسها الله تعالى. والجزء يقع في 265 ورقة، ومسطرته 21 سطرا، كتب بخط نسخي جميل. الجزء الثاني عشر، ويبدأ بمسألة: وإن وقف عليه حنث. . . .، من باب جامع الأيمان، وينتهي بباب الإقرار بالمجمل، من كتاب الإقرار، والموجود منه إلى أثناء باب القسمة. وعلى الورقة الأولى منه: الجزء الثاني عشر من كتاب الشافي في شرح المقنع. وتحته اسم المؤلف، وعلى يمين العنوان: ملكه أفقر عباد الله وأحوجهم إليه

أحمد بن محمد بن جمعة. . . . بن مانع عفا الله عنه الحنبلي مذهبا. . . . وتحته بيان بالكتب والأبواب التي يشتمل عليها. والقدر الموجود من الجزء يقع في 92 ورقة، ومسطرته 19 سطرا، كتب بخط نسخي جميل. ونشير إلى هذه النسخة بالرمز «ق». نسخة من مكتبة محمد بن فيصل آل سعود، ومنها: الجزء الثاني، يبدأ بباب صفة الصلاة، وينتهي يقول: وأما الحديث فقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل. في فصل: وإن نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد. . . . ولا يوجد في آخرها ما يدل على انتهاء الجزء. وعلى الورقة الأولى منه: المجلد الثاني من شرح المقنع الكبير. وتحته اسم المؤلف، وتحته: هذا المجلد مما رقمه الفقير إلى الله تعالى، عبده سعد بن نبهان الحنبلي. وعلى حاشية الورقة الأولى: أول الجزء التاسع. وتحته: ملكه من فضل ربه الودود محمد بن فيصل آل سعود غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين آمين 1287 وتحته شهادة على الوقف باسم عبد العزيز بن صالح بن مرشد. وإبراهيم الفوزاني وعبد العزيز بن صالح الصيرامي سنة 1287. وعلى حاشية الورقة الأخيرة: بلغ جميعه مقابلة على أصله بقراءة محمد بن راشد الغنيمي بين يدي شيخنا محمد بن إبراهيم بن عجلان في غرة ربيع الثاني. والسنة غير واضحة وبأعلى الورقة: المجلد ثمانية وعشرون كراس. والجزء يقع في 230 ورقة من القطع الكبير ومسطرته 31 سطرا كتبت بخط جيد. ويوجد منه نسخة مصورة محفوظة بالمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 8859 / ح فقه حنبلي. الجزء العاشر من نسخة أخرى، ويبدأ بباب ديات الأعضاء ومنافعها، من كتاب الديات، وينتهي بآخر فصل: ويستحب إجابة من يحلف بالله. . . .، من

كتاب الأيمان. وعلى الورقة الأولى منه: الجزء العاشر من كتاب الشافي في شرح المقنع. وتحته اسم المؤلف، وبيان بالكتب والأبواب التي يشتمل عليها، وآخره: آخر المجلد العاشر، يتلوه في الحادي عشر إن شاء الله تعالى باب جامع الأيمان، وكان الفراغ من نسخه بعد العصر من يوم عاشوراء من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة بمدينة بعلبك المحروسة على يد الفقير الضعيف المعترف بالتقصير محمد بن إسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان الحنبلي. وفي أسفل الورقة الأخيرة: هذا الكتاب ملكه محمد بن ربيعة الحنبلي، ثم وقفه على أولاده الذكور، ويختص به الطالب منهم للعلم. . . . والجزء يقع في 264 ورقة، ومسطرته 21 سطرا، كتب بخط نسخي جميل، ويوجد منه نسخة مصورة محفوظة بالمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 8857 / ح فقه حنبلي. وأشرنا إلى هذه النسخة بالرمز «ص». وقد وقفنا على نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 8 فقه حنبلي، جاء في فهارس الدار أنها من الشرح الكبير للمؤلف، وعند النظر فيها وجدنا على الورقة الأولى منها: الثاني من شرح المقنع لأبي البركات بن المنجى رحمه الله. ومضروب عليها بخطوط ومكتوب تحتها: كتاب شرح المقنع للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الحنبلي وجد اسم هذا المؤلف بكشف الظنون. وتحته: شرح المقنع جدنا شيخ الإسلام برهان الدين بن مفلح الحنبلي المترجم بالمبدع في شرح المقنع وهو. . . . بخط مؤلفه الجد المشار إليه. . . . وكلام غير واضح. وفي اخرها: آخر الجزء الثاني من شرح المقنع والحمد لله. . . . أنهاه كتابةً العبد الفقير إلى فضل ربه القدير محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل. . . . محمد بن أبي البركات البعلي الحنبلي عفا الله عنه في مدة آخرها ليلة الاثنين السادس من محرم سنة سبع وسبعين وستمائة بمدرسة شرف الإسلام بن الحنبلي عفا الله عنه لنفسه. وقد ذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة من تصانيف المنجَّى بن عثمان بن أسعد

[مخطوطات الإنصاف]

التنوخي المتوفى سنة 695 هـ «شرح المقنع» في أربع مجلدات (¬1). والذي نرجحه أن هذا الجزء منه. ونظرًا لاتساع أطراف الكتاب فإننا لم نجد منه نسخة خطبة متكاملة نَعْتَدُّها أصلا، ولذلك فقد لفقنا من نسخه الموثوقة ما يستقيم به نص الكتاب، ونبهنا في كل موضع على بدايات النسخ في حواشي الصفحات، ليستوثق منها من يريد المراجعة. ومن مخطوطات كتاب الإنصاف: في مكتبة أحمد الثالث باستنبول: نسخة محفوظة برقم 849، ومنها: الجزء الأول، يبدأ بأول الكتاب، وينتهي بآخر باب صيد الحرم ونباته، من كتاب المناسك. وبأعلى الورقة الأولى منه: الأول من الإنصاف. وبعده بيان الكتب والأبواب التي يشتمل علجها الجزء. واخره: آخر الجزء الأول يتلوه في الجزء الثاني باب ذكر دخول مكة. ويقع الجزء في 196 ورقة، ومسطرته 33 سطرا، كتب بخط واضح بقلم نفيس من القرن التاسع. الجزء الثاني من النسخة نفسها، بيدأ بباب ذكر دخول مكة، من كتاب المناسك، وينتهي بباب أحكام أمهات الأولاد، من كتاب العتق. وعلى الورقة الأولى بيان بالكتب والأبواب التي يشتمل عليها الجزء. والجزء يقع في 309 ورقة، ومسطرته 33 سطرا. الجزء الثالث من النسخة نفسها، ويبدأ بكتاب النكاح، وينتهى بآخر باب الإقرار بالمجمل، من كتاب الإقرار. وينتهي في منتصف الورقة 235 حيث قال المؤلف: وهذا آخر ما تيسر جمعه وتصحيحه والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم نافعا للناظر فيه مصلحا ما فيه من سقم. وقد ألحق به المصنف قاعدة في صفة ¬

(¬1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 332، 333.

روايات المذهب. وقال في آخره: تم هذا الجزء المبارك، وهو آخر هذا الكتاب على يد الفقير إلى الله تعالى. . . . محمد بن أحمد البدماصي الحنبلي. . . . والحمد لله رب العالمين. ويقع الجزء في 276 ورقة، ومسطرته 33 سطرا. وقد اعتمدنا هذه النسخة أصلا وتجد أرقام الأوراق على جانبي صفحات تحقيقنا. ويوجد منها نسخة مصورة محفوظة برقم 10، 11، 12 اختلاف فقهاء في معهد المخطوطات العربية. في دار الكتب المصرية: نسخة محفوظة برقم 19 فقه حنبلي (طلعت)، ومنها: الجزء الأول، بيدأ بأول الكتاب، وينتهي بباب زكاة الخارج من الأرض، من كتاب الزكاة. وعلى الورقة الأولى منه: الجزء الأول من كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. وتحته اسم المؤلف، وعلى يساره: ملكه من فضل الله تعالى وكرمه محمد بن محمد بن محمد الجعدي الحنبلي، لطف الله تعالى به سنة 951. وتحته: توفي الشيخ عبد القادر مولانا شيخ الإسلام والمسلمين شهاب الدين أحمد العسكري، نهار الاثنين الخامس عشر من جمادى الآخرة، سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، ودفن بالقرب من قبر قطب الأولين الشيخ أبي عمر. . . . وفي آخره: تم الجزء الأول من تجزئة أربعة أجزاء، من كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. . . . وكان الفراغ منه يوم الثلاثاء السادس من ربيع الأول من شهور سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، على يد أضعف عباد الله وأحوجهم إلى عفوه ومغفرته حسن بن علي بن عبيد. . . . المرداوي المقدسي الحنبلي. . . . ويتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني باب زكاة الأثمان. وتوجد على بعض الصفحات أثر رطوبة وتآكل في أطرافها. والجزء يقع في 200 ورقة، ومسطرته 29 سطرا، كتب بخط واضح.

الجزء الثاني، ويبدأ بأثناء باب زكاة العروض، عند قوله: تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه سواء اتفق حولاهما أولًا. . . .، وينتهي بقوله: فائدة: لا تجوز إجارة أرض وشجر لحملها، من باب المساقاة. وينقص قدر خمس ورقات من أوله، والورقة الأخيرة منه. ويقع الجزء في 286 ورقة، ومسطرته 31 سطرا. الجزء الثالث، ويبدأ بأول باب الإجارة، وينتهي بآخر باب صريح الطلاق وكنايته، من كتاب الطلاق. وعلى الورقة الأولى منه: الجزء الثالث من كتاب الإِنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. وتحته اسم المؤلف، وتملك نصه: ملكه من فضل الله تعالى وكرمه محمد بن محمد بن محمد الجعدي الحنبلي لطف الله تعالى به سنة 951. وفي آخر الورقة الأخيرة: آخر الجزء الثالث من تجزئة أربعة أجزاء من كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. . . . كان الفراغ منه في سادس شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثلاثة وسبعين وثمانمائة، بصالحية دمشق المحروسة، من نسخة المصنف أبقاه الله تعالى، على يد العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن علي بن عبيد بن أحمد بن عبيد المرداوي المقدسي الحنبلي. . . . يتلوه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى: باب ما يختلف به عدد الطلاق. والجزء يقع في 235 ورقة، ومسطرته 29 سطرا. الجزء الرابع، ويبدأ بباب ما يختلف به عدد الطلاق، وينتهي بآخر الكتاب، وعلى الورقة الأولى منه رقم الجزء واسم الكتاب واسم المؤلف والتملك السابق. وفي آخره: كان الفراغ من هذه النسخة في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، من شهور سنة أربع وسبعين وثمانمائة، وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن علي بن عبيد بن أحمد بن عبيد بن إبراهيم المرداوي المقدسي الحنبلي. . . . بصالحية دمشق المحروسة، عن نسخة شيخنا المصنف أبقاه الله تعالى. ونشير إلى هذه النسخة بالرمز (ط). وقد طبع كتاب الإنصاف لأول مرة بمكتبة السنة المحمدية في اثني عشر مجلدا سنة 1375 هـ = 1956 م بتصحيح وتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، وقد

[منهج التحقيق]

ذكر في مقدمته أنه اعتمد على نسختين إحداهما النسخة المشار إليها سابقًا، وأنه اعتمدها أصلا للطبع، ويبدو أنه قد أكثر التصرف في النسخة؛ نظرا لكثرة الفروق بين المطبوعة والمخطوطة بالنقص والزيادة والأخير أكثر. وقد أهملنا بعض هذه الزيادات التي وجدناها مقحمة على النص أو هي كالشرح لبعض الكلمات أو النصوص. والثانية نسخة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله رئيس القضاة بالمملكة العربية السعودية، وقد وضع زيادات هذه النسخة بين معقوفين. وقد أشرنا إلى النسخة المطبوعة بالرمز «ا» وإلى زيادات نسخة الشيخ عبد الله بن حسن بالرمز «ش». وقد فرغنا إلى الكتب الثلاثة فدرسنا مخطوطاتها على النحو الذي يكشف عنه وصفنا السابق لها، ثم عمدنا إلى تحرير النص وضبطه ضبطا يفيد الشادى والمتعلم، بل وضبطنا نص المقنع ضبطا كاملًا، ورقمنا مسائله الواردة في الشرح الكبير مع وضعها بين قوسين، وكذلك ما أدرجه في سياق الشرح وضعناه بين قوسين ليتميز عن بقية الكلام، واجتهدنا في تنسيق الكتب الثلاثة (*) لتأتي المسائل والموضوعات متناسقة متوازية ليسهل على المطلع فيها الاستفادة منها مجتمعة، ومضينا على سبيل عملنا السابق في كتاب المغني، واستفدنا من كل ما جاء فيه، فخرجنا أحاديثها معتمدين الكتب الستة وموطأ الإمام مالك، ومسند الإِمام أحمد، وسنن الدارمي، ثم سنن الدارقطني، والسنن الكبرى للبيهقي في بعض المواطن، ووثقنا ما أورده صاحب الشرح الكبير من نصوص، بالرجوع إلى المصادر التي نقل عنها، ما أتيح لنا منها ويسَّر الله الرجوع إليه، وبمراجعة ما لم يشر إليه مما هُدِينا إليه، وكذلك قمنا بتعريف ما يحتاج إلى تعريف من كلامه. وما كان لهذه الموسوعة الفقهية العظيمة أن تصدر وتوزع على طلاب العلم لولا توفيق الله سبحانه وتعالى، وعونه، ثم اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، والذي ما أن عُرضت عليه فكرة إخراج هذه الكتب في كتاب واحد، تيسيرًا على طلاب العلم، وتوزيعها عليهم، إلا وسارع -كعادته حفظه الله- بالتوجيه بذلك، وتحمل ما يترتب على ذلك من نفقات، خدمة للعلم وطلابه، والذي ما فتئت المملكة العربية السعودية،

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وقد اقتصرنا في هذه النسخة (الإلكترونية) على «المقنع» و «الشرح» فقط

وقادتها الأماجد تسير عليه؛ إشاعة للعلوم الإِسلامية، باعتبارها الدولة الإسلامية التي قامت على كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وطبقت أحكامهما، وأقامت مؤسساتها التعليمية والثقافية على منهجهما. فجزى الله خادم الحرمين الشريفين أحسن الجزاء، ووفق هذه الدولة المباركة وحكامها إلى الاستمرار في هذا المنهج السليم. ولا يفوتنا ونحن نقدم لهذه الكتب أن نذكر بالثناء والتقدير ما قام به صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وعضو هيئة التدريس في كلية الشريعة وأصول الدين فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية في القصيم من جهد في هذا السبيل، حيث بدأت الفكرة منه -وفقه الله- وأرسل لنا نموذجًا لما ينبغي أن يخرج عليه الكتاب. وكتب إلى خادم الحرمين الشريفين بذلك، واطلع على نماذج من الكتاب في تجاربه الأولى، ووجه إلى ما ينبغي عمله فيه. نسأل الله أن يجزيه خيرًا، ويوفقه إلى الاستمرار في خدمة العلم وطلابه، والتعاون مع العاملين في هذا الميدان. ونسأل الله أن يمدنا بعونه ويقوى عزائمنا لنتم هذا العمل الجليل، ونختمه بفهارس فنية شاملة، تتيح لكل طالب أن يجد بغيته فيه ويصل إلى مقصوده، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. غرة شعبان 1414 هـ 13 ديسمبر 1993 م عبد الله عبد المحسن التركي عبد الفتاح محمد الحلو

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأعِنْ قَال الشيخُ الإمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الأوْحَدُ، شَرَف الإسْلَام، قُدوَةُ الأنَامِ، مُفْتِي الْفِرَقِ، أوحَدُ الزَّمَانِ، مُوَفَّقُ الدِّينِ، أبو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ أحمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ: الْحمدُ لله الْمَحمُودِ عَلَى كُلِّ حَال، الدَّائِمِ الْبَاقي بِلَا زَوَال، الْمُوجِدِ خَلْقَهُ عَلَى غَيرِ مِثَال، الْعَالِم بِعَدَدِ الْقَطر وَأموَاجِ الْبَحرِ وَذَرَّاتِ الرِّمَال، لَا يَعزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأرضِ وَلَا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخُ الإمامُ العالم العاملُ، شيخُ الإسلام، قُدوةُ الأنام، بَقِيَّةُ السَّلفِ الكرام، شمسُ الدين أبو الفرج عبدُ الرحمن ابن الشيخ الإِمام العالم العامل الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن قُدامَةَ المَقْدِسِيُّ، قَدَّسَ اللهُ رُوحَه، ونوَّر ضَرِيحَهُ، آمين، إنَّه جواد كريم: الحمدُ لله العليِّ الأعظم،

السَّمَاءِ، وَلَا تَحْتَ أطبَاقِ الْجِبَال {عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬1)، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمُصطَفَى، وآلِهِ خَيرِ آلٍ، صَلَاةً دَائِمَةَ بِالْغُدُوِّ وَالآصَال. أمَّا بَعْدُ؛ فَهذَا كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهبِ الإمَامِ أبي عَبْدِ اللهِ أحمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، رَضِىَ اللهُ عَنْهُ، اجْتهدتُ فِي جَمعِهِ وَتَرتِيبِهِ، وَإيجَازِهِ وَتَقْرِيبِهِ، وَسَطًا بَينَ الْقَصِيرِ وَالطَّويلِ، وَجَامِعًا لِأكْثَرِ الْأحكَامِ، عَرِيَّةً عَنٍ الدَّلِيلِ وَالتَّعلِيلِ؛ لِيَكْثُرَ عِلْمُهُ، وَيَقِلَّ حَجْمُهُ، وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ وفهمُهُ، وَيَكُونَ مُقْنِعًا لِحَافِظِيهِ، نَافِعًا لِلنَّاظِرِ فِيهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ المَسْئُولُ أنْ يُبَلِّغَنَا أمَلَنَا، وَيُصلِحَ قَوْلَنَا وَعَمَلَنَا، وَيَجْعَلَ سَعيَنَا مُقَرِّبًا إِلَيهِ، وَنَافِعًا لَدَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَوَادِ الأكرم، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬2)، فَرَضَ طَلَبَ العِلْمِ على عبادِهِ المؤمِنين، وأمَرَهُم به في الكِتابِ المُبِين، فقال وهو أصْدَقُ القائِلِين: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي ¬

(¬1) سورة الرعد 9. (¬2) سورة العلق 4، 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّينِ} (¬1). أحمَدُه على نِعَم جَلَّلها، وَقِسَمٍ أجزَلَها، وأشْهدُ أن لَا إِله إلَّا اللهُ وَحده لا شَرِيكَ له، شَهادَةً لا يَضِلُّ مَن شَهِدَ بها ولا يَشْقَى، وكلمةً أسْتَمسِكُ بها، ومَن يُؤمن بِالله فقدِ استمسكَ بِالعُروةِ الوُثقَى (¬2). وَأشْهدُ أنَّ محمدًا عَبْدهُ ورسولُه أرسَلَه {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (¬3). صلَّى اللهُ عليه وعلى اله وسلَّم تَسْلِيمًا كثيرًا. هذا كتابٌ جَمَعتُه في شرح «كتاب المُقْنِع»، تأليف شَيخنا الشيخِ الإِمام العالم العلَّامة، مُوَفَّقِ الدِّين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدامَةَ المَقْدِسيِّ، رَضِي اللهُ عَنه، اغتَمَنتُ في جَمعِهِ على كتابه «المُغْنِي»، وَذَكَرتُ فيه من غَيرِهٍ ما لم أجدهُ فيه من الفُروعِ والوُجوهِ والرِّواياتِ، ولم أتركْ من كتاب «المغني» إلا شيئًا يسيرًا من الأدلَّةِ، وَعَزَوْتُ من الأحاديثِ ما لم يَعزُ، مِمَّا أمكَنَنِي عَزْوهُ، واللهُ المسئولُ أن يَجْعَلنا مِمَّنْ رَسَخَتْ في العلم قَدَمُه، وجُبِلَ على اتباعِ الكتابِ والسُّنَّةِ لَحمُهُ ودَمُه، إِنَّه على كل شيءٍ قَدِير، وهو بالإجابَةِ جدِير، وهو حَسْبُنا ونِعمَ الوَكِيلُ. ¬

(¬1) سورة التوبة 122. (¬2) اقتباس من قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. (¬3) سورة الأحزاب: 46.

كتاب الطهارة

كِتَابُ الطَّهارة ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الطَّهارة الطَّهارةُ في اللغةِ: الوَضاءةُ والنَّزاهةُ عن الأقْذار. وهي في الشَّرْعِ: رَفْعُ ما يَمنَعُ مِن الصلاةِ مِن حدَثٍ أو نجاسةٍ بالماءِ، أو رَفْعُ حُكْمِه بالتُّرابِ أو غيرِه. فعندَ إِطْلاقِ [لفظ الطهارة في] (¬1) لفظِ الشارِعِ أو في كلام الفقهاء، إنَّما ينْصرِفُ إلى المَوْضوعِ (¬2) الشَّرعِيِّ دونَ اللُّغَويِّ، وكذلك كلُّ ما لَه موضوعٌ شَرْعيٌّ ولُغَويٌّ كالوُضوءِ، والصلاةِ، والصَّوْمِ، والحَجِّ، والزَّكاةِ، ونحوه، إنما ينصرفُ المُطْلَق منه إلى الموضوع الشَّرعِيّ؛ لأن الظَّاهرَ مِن الشارِع التَّكَلُّمُ بمَوْضُوعاتِه، وكلامُ الفقهاء مَبْنِيٌّ عليه. ¬

(¬1) ساقط من: م. (¬2) في م: «الوضوء».

باب المياه

بَابُ الْمِيَاهِ وَهِىَ ثَلَاثَة أَقْسَامٍ؛ مَاءٌ طَهورٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المياه (وهي ثلاثة أقسام؛ ماءٌ طَهُورٌ) وهو الطّاهِرُ في نفسِه، الذي يجوز رَفْعُ الأحْداثِ والنَّجاساتِ به، والطُّهور، بضَمِّ الطّاء، المصدرُ، قاله اليَزِيدِيُّ (¬1)، وبالفَتْح ما ذَكَرْناه، وهو من الأسماء المُتَعَدِّيَةِ، مثل ¬

(¬1) أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي النحوي اللغوي المقرئ, مؤذب الخليفة المأمون، توفي سنة اثنتين ومئتين. تاريخ العلماء النحويين 113 - 120.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَسُولِ. وقال بعضُ الحنفيَّة: هو لازِمٌ، بمعنى الطاهر؛ لأنَّ العَرَبَ لا تُفَرِّق بين الفاعل والفَعُول في اللُّزُوم والتَّعَدِّى، بدليلِ قاعِد وقَعُود. وهذا إن أُرِيدَ به أن الماءَ مُخْتَصٌّ بالطَّهوريَّة،؛ سيأتي في مَوْضِعِه، إن شاء اللهُ، وإلَّا فالنِّزاع في هذه المسألة لَفْظِيٌّ، والْأشْبَهُ قولُ أصحابِنا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولو أراد به الطّاهِرَ لم يَكُنْ له مَزِيَّةٌ على غيره؛ لأنَّه طاهِر في حَقِّ غيرِه. ولمَّا سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوُضُوءِ بماءِ البحر، قال: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيتَتُهُ» (¬2). ولو لم يكُنِ الطَّهُورُ مُتَعَدِّيًا، بمعنى المُطَهِّر، لم يَكُنْ ذلك جوابًا للقَوْمِ، حيثُ سألوه عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: أول باب من كتاب التيمم، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 91، 92، 119. ومسلم، في: مواضع الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 370، 371. والنسائي، في: باب التيمم بالصعيد، من كتاب الغسل والتيمم، المجتبى من السنن 1/ 172. والدارمي، في: باب الأرض كلها طهور ما خلا المقبرة والحمام، من كتاب الصلاة، وباب الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا، من كتاب السير، سنن الدارمي 1/ 322، 323، 2/ 224 - والترمذي في: باب ما جاء في الغنيمة، من أبواب السير، عارضة الأحوذي 42/ 7. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 98، 301، 351، 2/ 222، 412، 501، 3/ 304، 4/ 416، 5/ 145، 148، 161، 162، 248، 256. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء بماء البحر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 19. والترمذي، في: باب ما جاء في البحر أنه طهور، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 88. والنسائي، في: باب ماء البحر، من كتاب الطهارة، وفي: باب الوضوء بماء البحر، من كتاب المياه، وفي باب: ميتة البحر، من كتاب الصيد. المجتبى 1/ 44، 143، 7/ 183. وابن ماجه، في: باب الوضوء بماء البحر، من كتاب الطهارة، وفي: باب. الطافي من صيد البحر، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 1/ 136، 137، 2/ 1081. والدارمي، في: باب الوضوء من ماء البحر، من كتاب الصلاة والطهارة، وفي: باب في صيد البحر، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 1/ 186، 2/ 91. والإمام مالك، في: باب الطهور للوضوء، من كتاب الطهارة، وفي: باب ما جاء في صيد البحر، من كتاب الصيد. الموطأ 1/ 22، 2/ 495. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 237، 361، 378، 393، 3/ 373، 5/ 365.

1 - مسألة؛ قال: (وهو الباقي على أصل خلقته)

وَهُوَ الْباقِي عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِه، ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّعَدِّي، إذ ليس كلُّ طاهرٍ مُطَهِّرًا، والعربُ قد فرَّقتْ بين فاعلٍ وفَعُول، قالت فاعل لمن وُجِدَ منه مَرَّةً، وفَعُولٌ لمن تكرَّر منه، فَيَنْبَغِي أَن يُفَرَّقَ بينهما هاهنا، وليس إلا مِن حيثُ التَّعَدِّى واللُّزُوم. 1 - مسألة؛ قال: (وهو الباقي على أصْلِ خِلْقَته) وجملة ذلك، أن كلَّ صِفَةٍ خَلَق اللهُ عليها الماءَ؛ من حرارةٍ، أو برودةٍ، أو عُذوبةٍ، أو مُلوحةٍ، أو غيرها، سواءٌ نَزَل من السماءِ، أو نَبَع من الأرضِ، وبَقِي على أصلِ خِلْقَتِه، فهو طَهُورٌ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬1). وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِى بالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ». رَوَاه مسلمٌ (¬2). وَرَوَى جابرٌ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه ¬

(¬1) سورة الأنفال: 11. (¬2) في: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب الصلاة، وباب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة، وباب التعوذ من شر الفتن وغيرها، من كتاب الذكر. صحيح مسلم 1/ 346، 347، 419، 4/ 2078، 2079. أخرجه البخاري، في: باب ما يقول بعد التكبير، من كتاب الأذان، وباب التعوذ من المأثم والمغرم، وباب الاستعاذة من أرذل العمر، وباب التعوذ من فتنة القبر، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 1/ 189، 8/ 98، 100. وأبو داود، في: باب السكتة عند الافتتاح، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180. والترمذي، في: باب حدثنا الأنصاري، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 29/ 13. والنسائي، في: باب الوضوء بماء الثلج والبرد، من كتاب الطهارة، ومن كتاب المياه، وباب الاغتسال بالثلج والبرد، وباب الاغتسال بالماء البارد، من كتاب الغسل والتيمم، وباب الدعاء بين التكبيرة والقراءة، من كتاب الافتتاح، وباب الاستعاذة من شر فتنة القبر، وباب الاستعاذة من شر فتنة الغنى، من كتاب الاستعاذة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال في البَحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ». رَواه الإِمامُ أحمد (¬1). وقولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (¬2). وهذا قولُ أهلِ العِلْم من الصحابة، ومَن بَعْدَهم، إلَّا أنَّه رُوىَ عن ابن عمرو، أنَّه قال في ماءِ البحر: لا يُجْزِئُ من الوضوءِ، ولا من الجنابةِ، والتَّيّمُّمُ أعجَبُ إليَّ منه. ورُويَ ذلك عن عبد الله بن عمر، والأوَّل أوْلَى؛ لقولِ الله تِعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3). وهذا واجدٌ للماءِ، فلا يجوز له التَّيَمُّمُ، ولحديثِ جابرٍ الذي ذكرْناه في البحرِ، ورُوىَ عن عمرَ أنَّه قال: مَن لم يُطَهِّرْه ماءُ البحرِ، فلا طَهَّرَه الله (¬4). ولأنَّه ماءٌ بَقِى على أصل خِلْقَتِه، أشْبَهَ العَذْبَ. ¬

= المجتبى 1/ 45، 46، 143، 144، 163، 2/ 100، 8/ 230، 234، وابن ماجه، في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة، وباب ما تعوذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 1/ 265، 2/ 1262. والدارمي، في: باب في السكتتين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 283. والإمام أحمد، في المسند 2/ 231، 494، 4/ 354، 381، 6/ 57، 207. (¬1) المسند: 3/ 373. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في بئر بضاعة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 16. والترمذي، في: باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 83. والنسائي، في: الباب الأول، وباب ذكر بئر بضاعة، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 141، 142. وابن ماجه، في: باب الحياض، من كتاب الطهارة، سنن ابن ماجه 1/ 173، 174. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 234، 308، 3/ 16، 31، 86، 6/ 172، 330. (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) كذا ورد هنا. وفي المغني 1/ 16، معزوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. سنن الدارقطني 1/ 35، 36، وسنن البيهقي 1/ 4. ورواه الدارقطني عن ابن عباس. وانظر كنز العمال 9/ 396.

2 - مسألة؛ قال: (وما تغير بمكثه)

وَمَا تَغَيَّرَ بِمُكْثِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2 - مسألة؛ قال: (وما تَغَيَّر بمُكْثِه) الماءُ المُتَغَيِّرُ بطُولِ المُكْثِ باقٍ على إطْلاقِه. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْم، على أنَّ الوُضوءَ بالماءِ المُتَغَيِّرِ الآجن (¬2) مِن غير نجاسةٍ حَلَّتْ فيه جائزٌ، سِوَى ابنِ سِيرينَ (¬3)، فإِنَّه كَرِه ذلك. ولَنا، أنَّه تَغَيَّرَ مِن غيرِ مُخالطةٍ، أَشْبَهَ التَّغَيُّر عن مُجاوَرةٍ، وقد رُوىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه تَوَضَّأ مِن بِئْرٍ كأنَّ ماءَه نُقاعَةُ الحِنّاءِ (¬4). ¬

(¬1) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الشافعي، نزيل مكة، وأحد أعلام هذه الأمة، توفي سنة تسع أو عشرة وثلاثمائة، كذا قال أبو إسحاق الشيرازي، وذكر الذهبي أن محمد بن يحيى بن عمار لقيه سنة ست عشرة وثلاثمائة. طبقات الشافعية الكبرى 3/ 102 - 108. (¬2) هو الذي يتغير بطول مكثه في المكان، من غير مخالطة شيء يغيره. المغني 1/ 23. (¬3) أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري، كان فطنا، حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب، ورعا، أديبا، توفي سنة عشر ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 606 - 622. (¬4) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني. عند كلامه على حديث بئر بضاعة: قوله: وكان ماء هذه البئر كنقاعة الحناء. هذا الوصف لهذه البئر لم أجد له أصلًا. قلت: ذكره ابن المنذر، فقال: ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئرٍ كأن ماءه نقاعة الحناء. فلعل هذا معتمد الرافعي، وقد ذكر ابن الجوزي في تلقينه أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من غدير ماؤه كنقاعة الحناء. وكذا ذكره ابن دقيق العيد فيما علقه على فروع ابن الحاجب. انظر: التلخيص الحبير 1/ 13 - 14.

3 - مسألة؛ قال: (أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالطحلب وورق الشجر)

أَوْ بِطَاهِرٍ لَا يُمْكِنُ صَوْنُهُ عَنْهُ؛ كَالطُّحْلُبِ، وَوَرَقِ الشَّجَرِ، أَوْ لَا يُخَالِطُهُ، كَالْعُودِ، وَالْكَافُورِ، وَالدُّهْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3 - مسألة؛ قال: (أو بطاهِرٍ لا يمكن صونُه عنه كالطُّحْلُب وورق الشَّجرِ) وجُمْلَتُه أنَّ الماءَ المُتَغيِّر بِالطُّحْلُبِ ووَرَقِ الشجر والخَزِّ وسائرِ ما ينْبُت في الماءِ، أو يَجْرِي عليه الماءُ، أو تَحْمِله الرِّيحُ أو السُّيُولُ من التِّبْنِ والعِيدانِ، أو ما يَمُرُّ عليه الماءُ من الكِبْرِيت والْقارِ ونحوه، أو كان في الأرضِ التيِ يَقِفُ فيها الماءُ، وكذلك ما يتغيَّرُ في آنيةِ الأَدَمِ والنُّحاس ونحوه، يُعْفى عن ذلك كلِّه، ولا يخْرُجُ به الماءُ عن إطْلاقِه؛ لأنَّه يشُقُّ التَّحَرُّزُ منه. فإن أُخِذَ شيءٌ من ذلك، وأُلْقِىَ في الماء، كان حكمُه حكمَ ما أمْكَن التَّحَرُّزُ منه، على ما يأتي، وكذلك ما تغيَّر بالسَّمَكِ ونحوه من دَوابِّ البحرِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه، فأَشْبَهَ ما ذكرْناه. 4 - مسألة؛ قال: (أو لا يخالِطُه، كالعُود والكافُورِ والدُّهْن) على اخْتلافِ أنْواعِه، وكالعَنْبَرِ إذا لم يُسْتَهْلَكْ في الماءِ، ولم يَتَحَلَّلْ فيه، لا يخْرُجُ به الماءُ عن إطْلاقِه؛ لأنَّه تغيَّر عن مُجاوَرَةٍ، أَشْبَهَ ما لو تَرَوَّحَ برِيحِ شيءٍ إلى جانِبه. وفي معناه ما تغيَّر بالقَطِرانِ والزِّفْتِ والشَّمْعِ؛ لأنَّ فيه دُهْنِيَّةً يَتَغَيَّر بها الماءُ.

5 - مسألة؛ قال: (أو ما أصله الماء، كالملح البحري)

أَوْ مَا أَصْلُهُ الْمَاءُ، كَالْمِلْحِ الْبَحْرِيِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 5 - مسألة؛ قال: (أو ما أصْلُه الماءُ، كالمِلْح البَحْريِّ) لأنَّ أصلَه الماءُ، فهو كالثَّلْجِ والبَرَدِ، فإن كان مَعْدِنِيًّا فهو كالزَّعْفَرانِ. وكذلك الماءُ المُتَغَيِّر بالتُّرابِ؛ لأنَّه يُوافِق الماءَ في صِفَتَيه، أشْبَهَ المِلْحَ.

6 - مسألة؛ قال: (أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه)

أَوْ مَا تَرَوَّحَ بِرِيحِ مَيتَةٍ إِلَى جَانِبِهِ، أَوْ سُخِّنَ بِالشَّمْسِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 6 - مسألة؛ قال: (أو ما تروَّح بِرِيحِ مَيتَةٍ إلى جانبه) لا نَعْلَم في ذلك خلافًا. (أو سُخِّن بالشمس) لأنَّه سُخِّنَ بطَاهِرٍ، فلم تُكْرَهِ الطهارةُ به، لو سُخِّنَ بالحَطَبِ. وقال الشافعيُّ. تُكْرَهُ الطَّهارةُ بماءٍ قُصِدَ تَشْمِيسُه؛ لما رُويَ عن عائشة، قالت: دخَل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد سَخَّنْتُ له ماءً في الشمسِ، فقاك: «لا تَفْعَلِى يَا حُمَيراءُ؛ فَإنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ» (¬1). ولَنا ما ذكرْنا من القياسِ، والحديث روَاه الدَّارَقُطْنِيُّ، وقال: يَرْويهِ خالدُ بنُ إسماعيل، وهو مَتْروكُ الحديثِ، وعمرو بن محمد الأعْسَمُ، وهو مُنْكَرُ الحديث. ولأنَّه لو كُرِهَ لأجْلِ الضَّرَرِ لَما اخْتلَف بقَصْدِ التَّشْمِيسِ وعَدَمِه. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب الماء المسخن، من كتاب الطهارة، سنن الدارقطني 1/ 38، وقال: غريب جدا. والبيهقي، في: باب كراهة التطهير بالماء المشمس، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 6 وقال: وهذا، يصح. وانظر: نصب الراية 1/ 102، وإرواء الغليل 1/ 50.

7 - مسألة؛ قال: (أو بطاهر)

أَوْ بِطَاهِرٍ، فَهَذَا كُلُّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، يَرْفَعُ الْأَحْدَاثَ, وَيُزِيلُ الْأَنْجَاسَ، غَيرُ مَكْرُوهِ الاسْتِعْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 7 - مسألة؛ قال: (أو بطاهرٍ) كالحَطَبِ ونحوه، فلا تُكْرَهُ الطَّهارةُ به، لا نعْلَم فيه خلافًا، إلا ما رُوىَ عن مُجاهِدٍ (¬1)، أنَّهُ كَرِهَ الوضوءَ بالماءِ المُسَخَّنِ. وقولُ الجُمْهُورِ أوْلَى؛ لما رُوىَ عن الأسْلَعِ بنِ شَرِيك رَحّالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: أجْنَبْتُ وأنا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجمَعْتُ حَطبًا، فأحْمَيتُ الماءَ، فاغتسلتُ، فأخبرتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينْكِرْه عَلَيَّ. رواه الطَّبَرَانِيُّ بمَعْناه (¬2). ولأنَّه صِفَةٌ خُلِقَ عليها الماءُ، أَشْبَهَ ما لو بَرَّدَه. (فَهَذَا كُلُّهُ طَاهِرٌ، مُطَهِّرٌ، يَرْفَعُ الأحْداثَ، ويُزِيلُ الأنْجاسَ، غَيرُ مَكْرُوهِ الاسْتِعْمالِ) لِما ذَكرْنا. ¬

(¬1) أبو الحجّاج مجاهد بن جبر، مولى بني مخزوم، من فقهاء التابعين بمكة، وكأن أعلمهم بالتفسير، ذكر الذهبي أنه توفي سنة ثلاث ومائة. طبقات الفقهاء 69، العبر 1/ 125. (¬2) في الكبير 1/ 277، وذكره في مجمع الزوائد 1/ 262، وأخرجه البيقهي، في: باب التطهير بالماء المسخن، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 5 , 6.

8 - مسألة؛ قال: (وإن سخن بنجاسة، فهل يكره استعماله، على روايتين)

وَإِنْ سُخِّنَ بِنَجَاسَةٍ فَهَلْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ؛ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 8 - مسألة؛ قال: (وإن سُخِّن بنجاسةٍ، فهل يُكرَه استعمالُه، على رِوايَتَين) الماءُ المُسَخَّنُ بالنَّجاسة يَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقسام؛ أحدُها، أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَحَقَّقَ وُصولُها إليه، فهذا نَجِسٌ إن كان يَسِيرًا؛ لما يأتي. الثاني، إن غَلَبَ على الظَّنِّ أنَّها لا تصلُ إليه، فهو طاهرٌ بالأصل، ولا يُكْرَهُ اسْتِعْمالُه في أحَدِ الوَجْهين. اخْتاره الشَّريفُ أبو جعفر، وابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ احْتمال وُصُولِ النَّجاسةِ إليه يَبْعُدُ، أشْبَهَ غيرَ المُسَخَّنِ. والثاني يُكْرَه؛ لاحْتمال وصولِ (¬1) النَّجاسةِ. اختارَه القاضي. الثالث ما عدا ذلك، ففيه روايتان؛ إحداهما يُكْرَهُ، وهو طاهرُ المذهبِ؛ لأجلِ النجاسة. والثانية، لا يُكْرَهُ، كالتي قبلها، وكالماءِ إذا شُكَّ في نجاستِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وذَكَر أبو الخَطّابِ في الماءِ المُسَخَّنِ بالنَّجاسةِ روايتَين على الإِطْلاق. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ: ولا يُكْرَهُ الوُضوءُ والغُسْلُ بماءِ زَمْزَمَ؛ لما رَوَى عَلِيٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَف بعَرَفةَ وهو مُرْدِفٌ (¬1) أُسامَةَ بنِ زيدٍ. فَذَكَر الحديث. وفيه: ثم أفاض رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بسَجْلٍ من ماءِ زمزمَ، فشَرِبَ منه، وتوضَّأ. رَواه عبدُ الله بن أحمد، في «المسند» (¬2) عن غير أبيه. وعنه: يُكْرَهُ؛ لقولِ العبّاسِ: لا أُحِلُّها للمُغْتَسِلِ. ولأنَّه أزال به مانِعًا من الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو أزال (¬3) به النَّجاسةَ. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لما ذكرْنا، وكَوْنُهُ مُبارَكًا لا يَمْنَعُ الوضوءَ به، كالماءِ الذي وَضَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَه فيه. ¬

(¬1) في م: «مردوف». (¬2) 1/ 76. (¬3) في الأصل: «غسل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا خالطَ الماءَ طاهرٌ لم يُغَيِّره، لم يَمْنَعِ الطهارَةَ. قال شيخُنا (¬1): لا نعْلَمُ فيه خلافًا. وحُكِىَ عن أمِّ هانِئٍ، والزُّهْرِيِّ (¬2)، في كِسَرٍ بُلَّتْ في ماءٍ، غيَّرتْ لَوْنَه، أو لم تُغَيِّرْه، لا يجوزُ الوُضوءُ به (¬3). والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه طاهرٌ لم يُغَيِّرْ صِفَةَ الماءِ، فلم يَمْنَعْ كبَقِيَّةِ الطّاهِراتِ، وقد اغْتَسَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو وزوجتُه من قَصْعَةٍ فيها أثَرُ العَجِين. رَواه النَّسائِىُّ (¬4). فصل: إذا وَقَع في الماءِ ماءٌ مُسْتَعْمَلٌ، عُفِىَ عن يَسِيرِه. رَواه إسحاقُ ابن منصور (¬5)، عن أحمدَ. وهذا ظاهرُ حالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابِه؛ لأنَّهم كانوا يتَوَضَّئُون من الأقْداحِ، ويغْتَسِلُون مِن الجِفانِ، وقد اغْتَسل هو وعائشةُ من إِناءٍ واحد، تخْتَلِفُ أيدِيهما فيه، كلُّ واحدٍ منهما يقولُ لصاحبِه: «أبْقِ لِي» (¬6). ومثلُ هذا لا يَسلَمُ مِن رَشاشٍ يقَع في الماءِ، ¬

(¬1) المغني 1/ 25. (¬2) أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله، ابن شهاب الزهري، الإمام العالم، حافظ زمانه، توفي سنة أربع وعشرين ومائة. سير أعلاء النبلاء 5/ 326 - 350. (¬3) أخرجه الدارقطني، في: باب الماء يبل فيه الخبز، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 39. (¬4) في: باب الاغتسال في القصعة التي يعجن فيها، من كتاب الطهارة، وفي: باب الاغتسال في قصعة فيها أثر العجين، من كتاب الغسل والتيمم. المجتبى 1/ 108، 166. (¬5) أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج المروزى، العالم الفقيه، وهو الذي دوَّن عن الإمام أحمد المسائل في الفقه، وتوفي سنة إحدى وخمسين ومائتين، بنيسابور. طبقات الحنابلة 1/ 113 - 115، العبر 2/ 1. (¬6) أخرجه الإمام أحمد، في المسند 6/ 91. وبنحوه أخرجه البخاري، في: باب هل يدخل الجنب يده في الإناء، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 74. ومسلم، في: باب القدر المستحب من الماء في الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 256، 257. وأبو داود، في: باب الوضوء بفضل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كثُر الواقِعُ فيه وتَفاحَشَ، مَنَع، في إحْدَى الرِّوايتَين. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن كان الأكْثَرُ المُسْتَعْملَ، مَنَع، وإلَّا فلا. وقال ابنُ عَقِيل: إن كان الواقِعُ بحيثُ لو كان خَلًّا غَيَّرَ الماءَ، مَنَع، وإلَّا فلا. وما ذكَرْنا من الخَبرِ وظاهرِ حالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْنَع مِن اعْتبارِه بالْخَلِّ، لسُرْعةِ نُفُوذِه وسِرايَتِه، فيُوثِّرُ قليلُه في الماءِ، والحديثُ دَلَّ على العَفْو عن الْيَسِيرِ مُطْلَقًا، فَيَنْبَغِي أن يُرْجَعَ في ذلك إلى العُرْفِ، فما عُدَّ كثيرًا، مَنَع (¬1)، وإلَّا فلا. وإن شَكَّ في كَثْرَتِه، لم يَمْنَعْ، عَمَلًا بالأصْلِ. فصل: فإن كان معه ماءٌ لا يَكْفِيه لطَهارته، فكَمَّلَه بمائِعٍ آخَرَ لم يغَيَره؛ جاز الوُضُوءُ به، فىَ إحْدَى الرِّوايَتَين؛ لأنَّه طاهرٌ لم يُغَيِّرِ الماءَ، فلم يَمْنَعْ؛ لو كان الماءُ قَدْرًا يَكْفِيه لطَهارته. والثانية: لا يجُوزُ؛ لأنَّا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ غَسْلِ بعضِ أعْضائِه بالمائِعِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ المائِعَ اسْتُهلِكَ في الماءِ، فسَقَطَ حُكْمُه، أشْبَهَ ما لو كان الماءُ يَكْفِيه لطَهارتِه، فزادَه مائِعًا آخَرَ، وتَوَضَّأ منه، وبَقِي قَدْرُ المائِعِ. ¬

= المرأة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 18، والنسائي، في: باب الرخصة في الاغتسال بفضل الجنب، من كتاب الطهارة، وفي: باب اغتسال الرجل والمرأة من نسائه من إناء واحد، وباب الرخصة في ذلك، من كتاب الغسل والتيمم. المجتبى 1/ 108، 166. وابن ماجه، في: باب الرجل والمرأة يغتسلان من إناء واحد، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 133. (¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، مَاء طَاهرٌ غَيرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ مَا خَالطَهُ طَاهِرٌ، فغَيَّرَ اسْمَهُ، أَوْ غَلَبَ عَلَى أَجْزَائِهِ، أَوْ طُبِخَ فِيهِ، فَغَيَّرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رحمه الله: (القِسْمُ الثَّانِي، ماءٌ طاهِرٌ غيرُ مُطَهِّرٍ، وهو ما خالطَهُ طاهِرٌ فغَيَّرَ اسْمَه، أو غَلَب على أجْزائِه، أو طُبِخَ فيه فغَيَّرَه (1)). وجُمْلَتُه أَنَّ كلَّ ماءٍ خالطَه طاهِرٌ فغَيَّرَ اسْمَهْ حتَّى صار صِبْغًا، أو خَلًّا، أو غَلَبَ على أجْزائِه فصَيَّرَه حِبْرًا، أو طُبِخَ فيه فصار يُسَمَّى (¬1) مَرَقًا، وتَغَيَّر بذلك، فهذِه (¬2) الأنْواعُ الثَّلاثةُ لا يَجُوزُ الغُسْلُ ولا الوُضُوءُ بها، لا نَعْلَمُ فيهِ خلافًا، إلَّا أنَّه حُكِىَ عن أصحابِ الشافعيِّ وَجْهٌ في ماءِ الباقِلَّا المَغْلِيّ، أنَّه يجُوزُ الوُضُوءُ به، وحُكِىَ عن ابنِ أبي لَيلَى (¬3) والأصَمِّ (¬4)، جوازُ (¬5) الوضوءِ والغُسْلِ بالمِياهِ المُعْتَصَرَةِ. وسائِرُ أهلِ العِلْمِ على خلافِهم، لأنَّ الطهارةَ إنَّما تجُوزُ بالماءِ، لقولِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬6). وهذا لا يَقَعُ عليه اسمُ الماءِ. ¬

(¬1) سقطت من: «م». (¬2) بياض في: م. (¬3) أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، مفتى الكوفة وقاضيها، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 310 - 316. (¬4) أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف الأصم النيسابوري، المحدث، مستد العصر، المتوفي سنة ست وأربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 452 - 460. (¬5) في م: «أنَّه يجوز». (¬6) سورة المائدة 6.

9 - مسألة: (فإن غير أحد أوصافه، لونه أو طعمه أو ريحه)

فَإِنْ غَيَّرَ أحَدَ أَوْصَافِهِ؛ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 9 - مسألة: (فإن غَيَّرَ أَحَدَ أوْصافه، لَوْنَه أو طَعْمَه أو رِيحَه) ففيه رِوايَتان إحْداهما: أنَّه غيرُ مُطَهِّرٍ، وهو قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ وإسحاقَ (¬1)، واخْتِيارُ القاضي، قال: وهي المَنْصُورَةُ عندَ أصحابِنا؛ لأنَّه ماءٌ تَغَيَّر بمُخالطَةِ ما ليس بطَهُورٍ يُمْكِنُ الاحْتِرازُ عنه، أشْبَهَ ماءَ الباقِلَّا المَغْلِيَّ. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّ أصحابَنا لا يُفرِّقُون بينَ المَذْرُورِ كالزَّعْفَرانِ والأُشْنانِ (¬2)، وبينَ الحُبُوبِ مِن الباقِلّا والحِمَّصِ، والثَّمَرِ؛ كالتَّمْرِ (¬3) والزَّبِيبِ، والوَرَقِ ونَحْوه. وقال الشَّافعيَّةُ: ما كان مَذْرُورًا مَنَعَ إذا غَيَّر، وما عَداه لا يَمْنَعُ، إلَّا أن يَنْحَلَّ في الماء، فإن غَيَّر ولم يَنْحَلَّ لم يَسْلُبِ الطَّهُورِيَّة، كما لو تَغَيَّر بالكافُورِ. ووافَقَهُم أصحابُنا في الخَشَبِ والعِيدانِ، [وخالفُوهم في سائِرِ ما] (¬4) ذَكَرْنا، لأنَّ تَغَيُّرَ الماءِ به إنَّما كان لانْفِصالِ (¬5) أجْزاءٍ منه، وانْحِلالِها فيه، فوَجَبَ أن يَمْنَعَ كالمَذْرُورِ، وكما لو أُغْلِيَ فيه. ¬

(¬1) أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي المروزي، ابن راهويه، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 109، سير أعلام النبلاء 1/ 358 - 383. (¬2) الاثنان، والاثنان من الحمض معروف، الَّذي يغسل به الأيدي. اللسان. (¬3) ساقطة من: الأصل. (¬4) في ا: «وخالفوا فيما». (¬5) في ا: «لاتصال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولم يُفَرِّقْ أصحابُنا في التِّغْيِيرِ بينَ اللَّوْنِ والطَّعْمِ والرَّائِحَةِ، بل سَوَّوْا بينَهم، قياسًا لبَعْضِها على بعضٍ، وشَرَط الخِرَقِيُّ (¬1) الكَثْرَةَ في الرّائحةِ دونَ اللَّوْنِ والطَّعْمِ؛ لسُرْعَةِ سِرايَتِها، ونُفُوذِها، ولكَوْنِها تَحْصُل تارَةً عن مُجاوَرَةٍ، وتارةً عن مُخالطَةٍ، فاعْتُبِرَتِ الكَثْرَةُ ليُعْلَمَ أنَّها عن مُخالطَةٍ. والرِّوايةُ الثانيةُ، أنَّه باقٍ على طَهُورِيَّتِه، نَقَلَه عن أحمدَ جماعةٌ مِن أصْحابه (¬2)؛ أبو الحارِث (¬3)، والمَيمُونِيُّ (¬4)، وإسحاقُ بنُ منصورٍ، وهو ¬

(¬1) عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، أبو القاسم. صاحب «المختصر» المشهور في المذهب، وكان علامة ذا دين وورع. توفي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 75 - 118؛ تاريخ بغداد 11/ 234، المنتظم 6/ 346. وانظر: المغني، لابن قدامة 1/ 6، 7. (¬2) في م: «أصحابنا». (¬3) أبو الحارث أحمد بن محمد الصائغ، روى عن الإِمام أحمد مسائل كثيرة، بضعة عشر جزءًا، وجوَّد الرواية عنه. طبقات الحنابلة 1/ 4، 75. (¬4) أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي، كان إماما جليل القدر، صحب الإِمام أحمد من سنة خمس ومائتين إلي سنة سبع وعشرين، وعنده عنه مسائل في ستة عشر جزءًا، وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 212 - 216، العبر 2/ 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مذهبُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، لأنَّ الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وهذا عامٌّ في كلِّ ماءٍ؛ لأنَّه نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْىِ، والنكرةُ في سِياقِ النَّفْي تَعُمُّ (¬2)، فلا يَجوزُ التَّيَمُّمُ مع وُجودِه، وكذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» (¬3). [وهذا ماءٌ؛ لأنَّه لم يَسْلُبْه اسمَه] (¬4)، ولا رِقَّتَه، ولا جَرَيانَه، أشْبَهَ المُتَغَيَّرَ بالدُّهْنِ، فإن تَغَيَّر وَصْفان من أوْصافِه أو ثلاثةٌ، وبَقِيَتْ رقَّتُه وجَرَيانُه، فذَكَر القاضي أيضًا فيه رِوايتَين؛ إحداهما، يَجُوزُ الوضوءُ به؛ لما ذكرْنا، [فأشْبَهَ المُتَغَيِّرَ بالمُجاوَرَةِ] (¬5)، ولأنَّ الصَّحابةَ، رضي الله عنهم، كانوا يُسافرون وغالِبُ أسْقِيَتَهم الأَدَمُ (¬6)، وهي تُغَيِّرُ أوْصافَ الماءِ عادَةً، ولم يكونُوا يَتَيَمَّمُون معها. والثانيةُ، لا يجوزُ، لأنَّه غَلَب على الماءِ، أشْبَهَ ما لو زال (¬7) ¬

(¬1) سورة المائدة 6. (¬2) في م: «تفيد العموم». (¬3) أخرجه السيوطي في الجامع الكبير 2/ 641 بلفظ قريب مما هنا في قصة طويلة، من حديث أبي ذر، وفيه: «الصعيد الطيب كاف ما لم تجد الماء». (¬4) في م: «وهذا ماء ولأنه ماء لم يسلبه اسمه». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) بفتحتين، وبضمتين. (¬7) في الأصل: «أزال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسمُه أو طبِخ فيه، وقال ابنُ أبي مُوسى، في الَّذي تَغَيَّرَتْ إحدى صِفاتِه بطاهرٍ: يجوزُ التَّوَضُّؤُ به عند عَدَمِ الماءِ المُطْلَقِ في إحدى الرِّوايتَين، ولا يجوزُ مع وُجودِه.

10 - مسألة، قال: (أو استعمل في رفع حدث، أو طهارة مشروعة، كالتجديد، وغسل الجمعة)

أَو اسْتُعْمِلَ في رَفْعِ حَدَثٍ، أَوْ طَهَارَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَالتَّجْدِيدِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 10 - مسألة، قال: (أو استُعمِلَ في رفْعِ حَدَثٍ، أو طَهارةٍ مَشرْوعةٍ، كالتَّجْديدِ، وغُسْلِ الجمعةِ) اخْتَلَفَ المذهبُ في المُنْفَصِلِ مِن المُتَوَضِّئ عن الحَدَثِ، والمُغْتَسِلِ مِنَ الجَنابَةِ، فرُوىَ أنَّه طاهرٌ غيرُ مُطَهِّرٍ، وهو المشهورُ مِن مذهبِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، وإحدى الرِّوايتَين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن مالك، لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ». رَواه أبو داود (¬1). ولَوْلا أنَّه يُفِيد مَنْعًا لم يَنهَ عنه، ولأنّه أزال به مانِعًا مِن الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو غَسَل به النَّجاسَةَ والرِّوايةُ الثانيةُ: أنَّه مُطَهِّرٌ، وهو قولُ الحسنِ (¬2)، وعَطاءٍ (¬3)، ¬

(¬1) في: باب البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17، وأخرجه أيضًا البخاري، في: باب الماء الدائم، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 69. والنسائي، في: باب النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وباب النهي عن البول في الماء الراكد والاغتسال منه، من كتاب الطهارة، وباب ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، من كتاب الغسل والتيمم. المجتبى 1/ 103، 104، 162. والإمام أحمد، في المسند 2/ 433. وبنحوه أخرجه مسلم، في: باب النهي عن البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 235، والترمذي، في: باب كراهية البول في الماء الراكد، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 86. والنسائي، في: باب الماء الدائم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 44. وابن ماجة، في: باب النهي عن البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة 1/ 124. والدارمي، في: باب الوضوء من الماء الراكد، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 186. والإمام أحمد، في المسند 2/ 259، 265، 288، 316، 346، 362، 394، 464، 295، 3/ 341، 350. (¬2) أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، العالم العابد الناسك، توفي سنة عشر ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 563 - 588. (¬3) أبو محمد عطاء بن أبي رباح، من فقهاء التابعين بمكة، من أجلائهم، توفي سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائة. طبقات الفقهاء 69، العبر 1/ 141، 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِيِّ (¬1)، وأهلِ الظّاهِرِ، والرِّوايةُ الأُخْرى عن مالكٍ، والقولُ الثاني للشافعيِّ، وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ. ويُرْوَى عن عليٍّ، وابنِ عُمَرَ، في مَن نَسِيَ مَسْحَ رأْسِه، إذا وَجَد بَلَلًا في لِحْيَيه أجْزَأَه أن يَمْسَحَ رَأْسَه بذلك البَللِ، ولما (¬2) رُوىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الْمَاءُ لا يُجْنِبُ» (¬3). وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - اغْتَسَل مِن الجَنابةِ، فرأى لُمْعَةً لم يُصِبْها الماءُ، فعَصَر شَعَرَه عليها. رَواهما الإِمامُ أحمدُ (¬4)، ولأنَّه ماءٌ طاهِرٌ غَسَل به عُضوًا طاهِرًا، أشْبَهَ ما لو تَبَرَّد به أو غَسَل به الثَّوْبَ، أو نقوَل: أدَّى به فَرْضًا، فجاز أن يُؤدِّيَ به غيرَه كالثَّوْبِ يُصَلِّي فيه مِرارًا. وقال أبو يوسفَ (¬5): هو نَجِسٌ. وهو رِوايةٌ عن أبي حنيفةَ، وذكَرَه ابنُ عَقِيلٍ قولًا لأحمدَ، لأنَّ ¬

(¬1) أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي، فقيه العراق، توفي سنة ست وتسعين. طبقات الفقهاء، للشيرازي 82. وقال الذهبي: توفي سنة خمس وتسعين. العبر 1/ 113. (¬2) سقطت الواو من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في باب الماء لا يجنب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17. والترمذي، في: باب الرخصة في فضل طهور المرأة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 82. وابن ماجة، في: باب الرخصة بفضل طهور المرأة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 132. (¬4) الأول في: المسند 6/ 330. والثاني في: المسند 1/ 243. (¬5) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري صاحب الإمام أبي حنيفة، كان إليه تولية القضاة في الآفاق من الشرق إلى الغرب في زمانه، وتوفي ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة. الجواهر المضية 3/ 611 - 613.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنِ الغُسْلِ. في الماءِ الرّاكِدِ، كنَهْيِه عن البَوْلِ فيه، فاقْتَضَى أنَّ الغُسْلَ فيه كالبَوْلِ، وكما لو غُسِلَ به نجاسةٌ، ولأنَّه يُسَمَّى طهارةً، والطهارةُ لا تُعْقَلُ إلَّا عن نجاسةٍ، لأنَّ تَطْهِيرَ الطاهرِ مُحال، ووَجْهُ طهارتِه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَبَّ على جابرٍ مِن وَضُوئِه، إذ كان مريضًا. وكان إذا تَوَضَّأَ يكادُون يَقْتَتِلُون على وَضُوئِه. رواهُما البخاري (¬1). ولو كان نَجِسًا لم يَجُزْ فِعْلُ ذلك. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه ونِساءَه كانوا يَغْتَسِلُون مِن الجِفانِ، ويَتوضَّئُونَ مِن الأقْداحِ، ومِثْلُ هذا لا يَسْلَم مِن رَشاشٍ يَقَعُ في الماءِ مِن الْمُسْتَعْمَل، ولو كان نَجِسًا لتَنَجَّسَ به الماءُ، ولأنَّه ماءٌ طاهرٌ لاقَى عُضوًا طاهرًا، أشْبَهَ ما لو تُبُرِّد به، والدَّلِيلُ على طهارة أعضاءِ المُحْدِثِ ¬

(¬1) في: باب استعمال فضل وضوء الناس، من كتاب الطهارة، وباب الشروط في الجهاد، من كتاب الشروط، وباب وضوء العائد للمريض، من كتاب المرضى. صحيح البخاري 1/ 95، 3/ 254، 7/ 157. والإمام أحمد في المسند 4/ 329، 330.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المُؤمِنَ لَا يَنْجُسُ». مُتَّفَقٌ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأنَّه لو مَسَّ شيئًا رَطْبًا لم يُنَجِّسْه، ولو حمَلَه مُصَلٍّ لم تَبْطُلْ صلاتُه. وقولُهم: إنَّه نَهَى عن الغُسْلِ فِيهِ كنَهْيِه عن البَوْلِ فيه. قلنا: يكْفِي اشْتِراكُهما في أصلِ المَنْعِ مِن التَّطْهِيرِ (¬2) به، ولا يَلْزَمُ اشتراكُهما في التَّنْجِيسِ (¬3)، وإنَّما سُمِّيَ الوُضوءُ والغُسْلُ طهارةً لكَوْنِه يُطَهِّرُ مِن الذُّنُوبِ والآثامِ، كما جاء في الأخْبارِ، لما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، وجميعُ الأحْداثِ سَواءٌ فيما ذكرْنا، الغُسلُ، والوُضوءٌ، والحيضُ، والنِّفاس. وكذلك المُنْفَصِلُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس، وباب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 79، 80. ومسلم، في: باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 282. وأبو داود، في: باب في الجنب يصافح، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 52.والترمذي، في: باب ما جاء في مصافحة الجنب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 184، 185، والنسائي، في: باب مماسة الجنب ومجالسته، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 119، وابن ماجة، في: باب مصافحة الجنب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 178. والإمام أحمد، في المسند 2/ 235، 382، 471، 5/ 384، 402. (¬2) في م: «التطهر». (¬3) في م: «التنجس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غَسْلِ الميِّتِ إذا قُلْنا بطهارتِه، فأما المُنْفَصِلُ مِن غُسْلِ الذِّمِّيَّة مِن الحيضِ، فرُوىَ أنَّه مُطَهِّرٌ؛ لأنّه لم يُزِلْ مانِعًا مِن الصلاةَ، أشْبَهَ التَّبَرُّدَ (¬1)، ورُوىَ أنّه غيرُ مُطَهِّرٍ، لأنّه زال به المانِعُ مِن وَطْءِ الزَّوجِ، فأمَّا ما اغْتَسَلتْ به مِن الجنابةِ فهو مُطَهِّرٌ وَجْهًا واحدًا، لأنه لم يُؤثِّرْ شيئًا، ويَحْتَمِلُ أنْ يُمْنَعَ اسْتعمالُه كالمُسْلِمَةِ قبلَها (¬2). فصل: فأمّا المُسْتَعْمَلُ في طهارةٍ مَشْرُوعةٍ، كالتَّجْدِيدِ، وغُسْلِ الجُمعةِ، والإِحْرامِ، وسائرِ الاغْتِسالاتِ المُسْتحَبَّةِ، والغَسْلَةِ الثانيةِ والثالثةِ، في الوُضُوءِ (¬3)، ففيه روايتان: أظْهَرُهما طَهُورِيَّته، لأنّه لمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، ولم يُزِلْ نَجَسًا، أشْبَهَ التَّبَرُّدَ. والثانيةُ، تُسْلَبُ طَهوريَّتُه، لأنَّه اسْتُعْمِل في طهارةٍ مشروعةٍ، أشْبَهَ المُسْتَعْمَلَ في رَفْعِ الحَدَثِ، فإنْ لم تَكُن الطهارةُ مشروعة لم يُؤثِّرْ في إناءِ اسْتِعْمالُه فيها شيئًا، كالتَّبَرُّدَ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في المُستعمَلِ في التبردِ والتَّنْظِيفِ، لأنه باقٍ على إطْلاقِه. ¬

(¬1) في م: «المتبرد». (¬2) سقط من: «م». (¬3) في م: «والوضوء».

11 - مسألة؛ قال: (أو غمس فيه يده قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثا، فهل يسلبه طهوريته؟ على روايتين)

أَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ قَائِمٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيلِ قَبْلَ غَسْلِهَا ثَلَاثًا، فَهَلْ يُسْلَبُ طَهُورِيَّتَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 11 - مسألة؛ قال: (أو غَمَس فيه يدَه قائمٌ مِن نومِ اللَّيلِ قبلَ غَسْلِها ثلاثًا، فهل يَسْلُبُه طَهُورِيَّتَه؟ على روايتَينِ) المرادُ باليدِ ها هنا اليَدُ إلى الكُوعِ، لما نَذْكُره في التَّيَمُّمِ، فمتى غَمَس القائمُ مِن نومِ اللَّيلِ يَدَه في الماءِ اليسيرِ قبلَ غَسْلِها ثلاثًا، ففيه روايتان: إحداهما، لا يُسْلَبُ الطَّهورِيَّةَ، وهو الصحيحُ، إن شاءَ الله تعالى، لأنَّ الماءَ قبلَ الغَمْسِ كمان طَهُورًا، فيَبْقَى على الأصْلِ، ونَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن غَمْسِ اليَدِ إنْ (¬1) كان لِوَهْمِ النَّجاسَةِ، فالوهمُ لا يُزِيلُ الطَّهوريَّةَ، كما لم يُزِلِ الطهارةَ، وإنْ كان تَعَبُّدًا اقْتَصَر على مَوْرِدِ النَّصِّ، وهو مَشْرُوعِيَّةُ الغُسْلِ. والروايةُ الثانيةُ، أنْ يُسْلَبَ الطَّهُوريَّةَ، لقَولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اسْتَيقَظَ أَحَدُكُمْ مِن نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا الإِنَاءَ ثلَاثّا، فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَينَ بَاتَتْ يَدُهُ». رَواه مسلمٌ، ورَواه البُخارِيّ، ولم يَذْكُر «ثلاثًا» (¬2). فلولا أنَّه ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الاستجمار وترا، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 52. ومسلم، في: باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا ثلاثًا، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُفِيدُ منعًا لم يَنْهَ عنه ظاهرًا، وعلى [قِياسِه المُستعمَلُ في غَسْلِ الذَّكَرِ والأُنثيَينِ مِن المَذْي؛ لكَوْنِه في مَعْناه. ورُويَ عن أحمدَ روايةٌ ثالثةٌ، أنَّه] (¬1) قال: أحَبُّ إليَّ أن يُرِيقَه إذا غَمَس يَدَه فيه. وهو قولُ الحسنِ؛ ¬

= من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 233. وأبو داود، في: باب الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 23، 24. والترمذي، في: باب إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتَّى يغسلها، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 41، 42. والنسائي، في: باب تأويل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، وباب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة، وباب الأمر بالوضوء من النوم، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 12، 83، 176. وابن ماجة، في: باب الرجل يستيقظ من منامه هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 138، 139. والدارمي، في: باب إذا استيقظ أحدكم من منامه، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 196. والإمام مالك، في: باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 21. والإمام أحمد، في المسند 2/ 241، 253، 259، 265، 284، 316، 348، 382، 403، 455، 465، 471، 500، 507. (¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك لما روَى أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ (¬1) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإنْ أَدْخَلَهُمَا قَبْلَ الغَسْلِ أَراقَ الماءَ» (¬2). فيَحْتَمِلُ وجوبَ إراقَتِه، فلا يجوزُ استعمالُه، لأنَّه مَأمُورٌ بإراقَتِه، أشْبَهَ الخَمْرَ، ويَحتملُ أن لا تَجِبَ إراقَتُه، ويكونُ طاهرًا غيرَ مُطَهِّرٍ كالمُستعمَلِ في رَفْعِ الحَدَثِ. والأوَّل اخْتيارُ ابنِ عَقِيلٍ، [وهو قَوْلُ الحسنِ. والذي يَقْتضِيه القياسُ، أَنَّا إن قُلْنا: إنَّ غَسْلَهما واجبٌ، فهو كالمُستعمَلِ في رَفْعِ الحَدَثِ، وإن قُلنا باسْتحبابِه، فهو كالمُستعمَلِ في طهارةٍ مَسنُونَةٍ، وقد ذَكَرْناه] (¬3). وهل يكون غَمْسُ بعضِ اليدِ كغَمْسِ الجميعِ؟ فيه وجهان؛ أحدُهما، لا ¬

(¬1) هو أبو حفص عمر بن إبراهيم بن عبد الله العكبرى الحنبلي، يعرف بابن المسلم، معرفته بالمذهب المعرفة العالية، وله التصانيف السائرة، توفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 163 - 166. (¬2) روى هذه الزيادة ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2372، وقال: منكر لا يحفظ. (¬3) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُون، وهو قولُ الحسنِ، لأنَّ الحديثَ وَرَد في غَمْسِ جميعِ اليدِ، وهو تَعَبُّدٌ، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْن الشيءِ مانِعًا كَوْنُ بَعْضِه مانعًا، كما لا يلزمُ مِن كونِ الشيءِ سَبَبًا كونُ بَعْضِهِ سببًا، واللهُ أعلمُ. والثاني، حُكْمُ البَعْضِ حُكْمُ الكلِّ، لأنَّ ما تَعَلَّق المَنْعُ بجمِيعِه تعلقَ ببعضِه، كالحَدَثِ والنجاسةِ، وغَمْسُها بعدَ غَسْلِها دُونَ الثلاثِ كغمسِها قبلَ غسلِها، سَبَبًا لبَقاء النَّهْي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ يَدِ النائِمِ مُطْلَقَةً، أو مَشْدُودَةً في جِرابٍ، أو مَكْتُوفًا؛ لعُمُومِ الأخبارِ، ولأنَّ الحُكْمَ إِذَا عُلِّق على المَظِنَّةِ لم يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ الحِكْمةِ، كالعِدَّةِ الواجِبَةِ لاسْتِبْراءِ الرَّحِمِ في حَقِّ الصَّغِيرَةِ والآيِسَةِ، ورُبَّما تكونُ يَدُه نَجِسَةً قبلَ نَوْمِه، فَيَنْسَى نَجاسَتَها لطُولِ نَومِه، على أنَّ الظاهِرَ عندَ مَن أَوجَب الغَسْلَ أنَّه تَعَبُّدٌ، لا لعِلَّةِ التَّنْجِيسِ، ولهذا لم نَحْكُمْ بنَجاسةِ اليَدِ، فَيعُمُّ الوُجُوبُ كلَّ مَن تَناوَلَه الخَبَرُ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَجِبُ الغَسْلُ إذا كَان مَكْتُوفًا، أو كانت يدُه في جِرابٍ؛ لزَوالِ احْتِمالِ النَّجاسةِ الَّذي لأجْلِه شُرِعَ الغَسْلُ. والأولُ أَولَى؛ لما ذَكَرْنا. ولا يَجِبُ غَسْلُ اليَدِ عندَ القيامِ مِن نَوْم النَّهارِ، رِوايةً واحدةً. وَسَوَّى الحسنُ بينَ نَوْم الليلِ والنَّهارِ. ولَنا، أَنَّ في الخَبَرِ ما يَدُلُّ على تَخْصِيصِه بنومِ اللَّيلِ، وهو قَوْلُه: «فإنَّ أحدَكُمْ لا يَدْرِي أينَ بَاتَتْ يَدُهُ». والمَبِيتُ يكونُ في اللَّيلِ خاصَّةً، ولا يَصِحُّ قِياسُ نومِ النهارِ على نومِ اللَّيلِ؛ لوَجْهَين: أحدُهما، أنَّ الغَسْلَ وَجَب تَعَبُّدًا، فلا يُقاسُ عليه. الثاني، أنَّ نومَ الليلِ يَطُولُ، فيكُونُ احْتِمالُ إصابةِ يَدِه للنَّجاسةِ فيه أكثَرَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفُوا في النَّوْم الَّذي يَتَعَلَّقُ به هذا الحُكْمُ، فَذَكَر القاضي أنَّه النومُ الَّذي يَنْقضُ الوُضوءَ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: هو ما زادَ على نِصْفِ اللَّيلِ، لأنه لا يكونُ بائِتًا إلَّا بذلك، بدَلِيلِ أنَّ مَن دَفَع مِن مُزْدَلِقَةَ قبلَ نصفِ الليلِ فعَلَيه دَمٌ، بخِلَافِ مَن دَفَع بعدَه. وما قاله يَبْطُل بمَن وافاها بعدَ نصفِ الليلِ، فإنَّه لا يَجِبُ عليه دَم، مع كَوْنِه أقَلَّ مِن نصْف الليلِ. وتَجِبُ النِّيَّةُ للغَسْلِ في أَحَدِ الوَجْهَين عندَ مَن أوْجَبَه لأنَّه طهارَةُ تعَبُّدٍ، أشْبَهَ الوُضوءَ والغُسْلَ. والثاني، لا يَفْتَقِرُ، لأنَّه عُلِّل بوَهْمِ النَّجاسةِ، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُعْتَبَرُ في حَقِيقَتِها النِّيَّةُ، فالوَهْمُ أَوْلَى. ولأنَّه أَتَى بما أُمِرَ به وهو الغَسْلُ، وفِعْل المأمُورِ به يَقْتَضِي الإِجْزاءَ، ولا يَفْتَقِرُ الغَسْلُ إلى تَسْمِيَةٍ. وقال أبو الخَطّاب: يَفْتَقِرُ، قِياسًا على الوُضوءِ. وهو بَعِيدٌ، لأنَّ التَّسْمِيةَ إن وَجَبَتْ في الوُضوءِ وجبتْ تَعَبُّدًا، فلا يُقاسُ عليه، لأنَّ مِن شَرْط صِحَّةِ القِياسِ كَوْنَ المَعْنَى معقولًا، يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ الحُكْمِ. والله أعلمُ. قال ابنُ عَقِيلٍ: ويُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ اليُمْنَى على اليُسْرَى في غَسْلِ اليَدَينِ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ التَيّمَّنَ في طُهُورِه، وفي شأنِه كلِّه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التيمن في الوضوء والغسل، من كتاب الوضوء، وفي: باب التيمن في دخول المسجد وغيره، من كتاب الصلاة، وفي: باب التيمن في الأكل وغيره، من كتاب الأطعمة، وفي: باب يبدأ النعل باليمنى، وباب الترجيل، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 1/ 35، 116، 7/ 89، 198، 199، 211. ومسلم، في: باب التيمن في الطهور وغيره، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 226. وأبو داود، في باب في الانتعال، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 390. والترمذي، في: باب ما يستحب من التيمن في الطهور، من أبواب الجمعة وما يليه من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 3/ 86. والنسائي، في: باب بأي الرجلين يبدأ بالغسل، وباب التيمن في الطهور، من كتاب الطهارة، وفي: باب التيامن في الترجل، من كتاب الزينة. المجتبى 1/ 67، 168، 8/ 161. وابن ماجة، في: باب التيمن في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 141. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 94، 130، 147، 187، 188، 202، 210.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان القائمُ مِن نَوْمِ الليلِ صَبِيًّا أو مَجْنُونًا أو كافرًا، ففيه وَجْهان، أحدُهما، هو كالمُسْلِمِ البالِغِ العاقِلِ، لأنه لا يَدْرِي أينَ باتَتْ يَدُه. والثاني، لا يُؤثِّرُ، لأنَّ الغَسْلَ وَجَب بالخِطابِ تَعَبُّدًا، ولا خِطابَ في حَقِّ هؤلاءِ، ولا تَعَبُّدَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا وَجَدَ ماءً قَلِيلًا، وَيَداه نَجِسَتان وليس معه ما يَغْتَرِفُ به، فإن أمْكَنَه أنْ يَأْخُذَ بفِيه ويَصُبَّ على يَدَيه، أو يَغْمِسَ خِرْقَةً أو غيرَها ويَصُبَّ على يَدَيه، فَعَلَ. وإن لم يُمْكِنْه، تَيَمَّمَ؛ كَيلَا يَنْجُسَ الماءُ ويَتَنَجَّسَ به. فإن كان لم يَغْسِلْ يَدَيه مِن نومِ الليلِ، فمَن قال: إنَّ غَمْسَهما لا يُؤَثِّر. قال: يَتوضَّأُ. وَمَنْ جعلَه مُؤثِّرًا، قال: يَتَوضَّأُ ويَتيمَّمُ معه. ولو اسْتَيقَظ المَحْبُوسُ مِن نَوْمِه فلم يَدْرِ؛ أَهو مِن نومِ النهارِ أو الليلِ، لم يَلْزَمْه غَسْلُ يَدَيه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدئم الوجْوبِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَوَضَّأ القائِمُ مِن نومِ الليلِ مِن ماءٍ كَثِيرٍ، أو اغْتَسَل منه بغَمْسِ أعْضائِه فيه، ولم يَنْو غَسْلَ اليَدِ مِن نومِ الليل، فعندَ مَن أوْجَب النِّيَّةَ لا يَرْتَفِعُ حَدَثُه، ولا يُجْزِئُه مِن غَسْلِ اليدِ مِنَ النومِ، لأنَّه لم يَنْوه، لأنَّ غَسْلَها إمّا أنَّه وَجَب تَعَبُّدًا أو لوَهْمِ النَّجاسةِ، وبَقاءُ النَّجاسةِ على العُضْو لا تَمْنَعُه مِن ارْتِفاعِ الحَدَثِ، بِدَلِيلِ أنَّه لو غَسَل يَدَه أو أنْفَه في الوُضوءِ، وهو نَجسٌ، لارْتَفَع حَدَثُه. وكذلك بَقاءُ حدثٍ لا يَمْنَعُ مِن ارْتِفاعِ حدثٍ آَخَرَ، بِدَليلِ ما لو تَوضَّأ الجُنُبُ يَنْوى رَفْعَ الحدثِ الأصْغَرِ، أو اغْتَسَل يَنْوي الطهارةَ (¬1) الكُبْرَى وَحْدَها، فإنَّه يَرْتَفِعُ أحَدُ الحَدَثَينِ دُونَ الآخَرِ، وهذا لا يَخْرُجُ عن شَبَهِه بأحدِ الأَمْرَينِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا انْغَمَس الجُنُبُ أو المُحْدِثُ في ماءٍ دونَ القُلَّتَين يَنْوى رَفْعَ الحَدَثِ صار مُسْتعمَلًا، ولم يَرْتَفِعْ حَدَثُه. وقال الشافعىُّ: يصير مُسْتعَملًا ويَرتفعُ حدَثُه؛ لأنّه إنّما يصيرُ مستعمَلًا بارتفاعِ حدَثِه فيه. ولَنا، قولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» (¬1). والنَّهْيُ يَقْتَضِى فسادَ المَنْهيِّ عنه، ولأنَّه بأوَّلِ جزءٍ انْفَصَل عنه صار مُسْتعمَلًا، فلم يَرتَفِع الحَدَثُ عن سائِرِ البَدَنِ، كما لو اغْتَسَل به شخصٌ آخَرُ. فإن كان الماءُ قُلَّتَين فصاعِدًا، ارْتفَعَ الحَدَثُ، والماءُ باقٍ على إطْلاقِه؛ لأنَّه لا يَحْمِلُ الخَبَثَ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 236. والنسائي، في: باب النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 103. وابن ماجة، في: باب الجنب ينغمس في الماء الدائم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اجْتَمَع ماءٌ مُسْتعمَلٌ إلى قُلَّتَين مُطَهِّرَتَين صار الكلُّ طَهُورًا، لأن المُسْتعمَلَ لو كان نَجِسًا لم يُوثِّرْ في القُلَّتَين، فالمستعمَلُ أَولَى. وإن انْضَمَّ إلى ما دونَ القُلَّتَين، فلم يَبْلُغ الجميعُ قُلَّتَين، فقد ذكَرْناه. وإن بَلَغ قلَّتَين باجْتِماعِه، فكذلك. ويَحْتمِلُ أن يَزُولَ المَنْعُ لحديثِ القُلَّتَين. وإنِ انْضَمَّ مُسْتعمَلٌ إلى مُسْتعمَلٍ وَلم يَبْلُغ القلَّتَين، فالجميعُ مُستعمَلٌ، وإن بَلَغ قُلَّتَين ففِيه احْتِمالان، لما ذَكَرْنا.

12 - مسألة؛ قال: (وإن أزيلت به النجاسة، فانفصل متغيرا، أو قبل زوالها، فهو نجس)

وَإنْ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ، فَانْفَصَلَ مُتَغَيِّرًا، أَوْ قَبْلَ زَوَالِهَا، فَهُوَ نَجِسٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 12 - مسألة؛ قال: (وإن أُزِيلَتْ به النَّجاسَةُ، فانفَصَلَ مُتغَيِّرًا، أو قبلَ زَوالِها، فهو نَجِسٌ) أمَّا إذا انْفَصَل مُتَغَيِّرًا بالنجاسةِ فلا خِلافَ في نجاسَتِه، وأما إذا انْفَصَل غيرَ مُتَغَيِّرٍ مع بقاءِ النَّجاسةِ، فهو مَبْنِيٌّ على تَنَجُّسِ الماءِ القليل لمُجَرَّدِ مُلاقاةِ النجاسةِ مِن غيرِ تَغْيِير، وسيَأتِي حُكْمُه، إن شاء اللهُ تعالى.

13 - مسألة؛ قال: (وإن انفصل غير متغير بعد زوالها، فهو طاهر)

وَإنِ انْفَصَلَ غَيرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَالِهَا، فَهُوَ طَاهِرٌ إِنْ كانَ الْمَحَلُّ أَرْضًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 13 - مسألة؛ قال: (وإن انْفَصَلَ غير مُتغيِّرٍ بعدَ زَوالِها، فهو طاهرٌ) روايةً واحدةً (إن كان المَحَلُّ أرْضًا). وقال أبو بكرٍ: إنما يُحْكَمُ بطهارتِه إذا كانتْ قد نَشِفَتْ أعْيانُ البَوْلِ، فإن كانتْ أعْيانُها باقِيَةً (¬1)، فجَرَى الماءُ عليها، طَهَّرَها (¬2). وفي المُنْفَصِل رِوايتان، كغيرِ الأرضٍ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِ الأعْرَابِيِّ ذَنُوبًا مِن ماءٍ» مُتَّفقٌ ¬

(¬1) في م: «قائمة». (¬2) في م: «فطهرها».

14 - مسألة؛ قال: (وإن كان غير الأرض، فهو طاهر، في أصح الوجهين)

وَإنْ كانَ غَيرَ الْأَرْضِ، فَهُوَ طَاهِرٌ في أَصَحِّ الْوَجْهَينِ، وَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا؟ عَلَىَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). أَمَرَ بذلك لتَطْهِيرِ مكانِ البولِ، فلو كان المُنْفَصِلُ نَجسًا لكان تَكْثِيرًا للنَّجاسةِ، ولم يُفَرِّقْ بينَ نِشافِه (¬2) وعَدَمِه، والظاهِرُ أنَّه إنّما أمَرَ عَقِيبَ البولَ. 14 - مسألة؛ قال: (وإن كان غَيرَ الأرْضِ، فهو طاهرٌ، في أصَحِّ الوَجهَين) وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه انْفَصَل عن مَحَلٍّ محْكُومٍ بطهارَتِه، أشْبَهَ المُنْفَصِلَ مِن الأرضِ. ولأنَّ المنفصلَ بعضُ المُتَّصِلِ، والمتصلُ طاهرٌ بالإِجماعِ، كذلك المنفصلُ. والوَجْهُ الثاني، أنَّه نَجِسٌ، وهو قوُل أبي حنيفَةَ، واخَتِيارُ ابنِ حامدٍ؛ لأنَّه لاقَى نَجاسَةً، أشْبَهَ ما لو انْفَصَلَ قبل زوالِها، أو وَرَدَتْ عليه. (وهل يَكُونُ طَهُورًا؟ على وَجْهَين) بناءً على المُسْتَعْمَلِ في رَفْع الحَدَثِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب يهريق الماء على البول، من كتاب الوضوء، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسروا ولا وتعسروا، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 65، 8/ 37. ومسلم، في: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 236، 237. كما أخرجه أبو داود، في: باب الأرض يصيبها البول، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 90، 91. والترمذي، في: باب ما جاء في البول يصيب الأرض، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 243،، 244 والإمام مالك، في: باب ما جاء في البول قائمًا وغيره، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 64، 65. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 239، 282، 3/ 110، 111، 167. (¬2) كذا. وصوابه «نَشْفِه». والنِّشاف، بكسر النون جمع.

15 - مسألة؛ قال: (وإن خلت بالطهارة منه امرأة، فهو طهور)

وَإنْ خَلَتْ بِالطَّهَارَةِ مِنْهُ امْرَأَةٌ، فَهُوَ طَهُورٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الطَّهَارَةُ بِهِ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 15 - مسألة؛ قال: (وإنْ خَلَتْ بالطَّهارةِ مِنْه امرأةٌ، فهو طَهورٌ) بالأصْلِ؛ لأنَّه يَجُوزُ لها أنْ تَتَوَضَّأ به، ولغيرِها مِنَ النِّساء، أشْبَهَ الَّذي لم تَخْلُ به (ولا يجوزُ للرجلِ الطهارةُ به، في ظاهرِ المذهبِ) لما رَوَى الحَكَمُ بنُ عَمْرٍو الغِفارِيُّ (¬1)، قال: نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَتوضَّأ الرجلُ بفَضْلِ ¬

(¬1) الحكم بن عمرو بن مجدع، الغفاري، أبو عمرو، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتَّى مات ثم نزل البصرة، وتوفي سنة خمس وأربعين للهجرة. الإصابة 1/ 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَهُورِ المرأةِ. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. قال أحمدُ: جماعةٌ كَرِهُوه، منهم عبدُ الله بنُ عَمْرٍو، وعبدُ الله بنُ سَرْجِس (¬2)، وخَصَصْناه بالخَلْوَةِ، لقولِ عبدِ الله بن سَرْجِس: تَوَضَّأ أَنت ها هُنا، وهي ها هُنا، فأمّا إذا خَلَتْ به، فلا تَقْرَبَنَّه. ومعنى الخَلْوَةِ أن لا يُشاهِدَها إنْسانٌ تَخْرُجُ بحُضُورِه عن الخَلْوةِ في النِّكاحِ. وذكر القاضي أنَّها لا تَخرجُ عن الخلوةِ، ما لم يُشاهِدْها رجلٌ مُسلِمٌ. وذكر ابنُ عَقِيل في معنى الخلوةِ أن لا يُشارِكَها أحدٌ في الاسْتِعْمالِ. وفيه روايةٌ أُخْرَى، أنَّه يجوزُ للرجلِ أن يَتَطَهَّرَ به، لما رَوَتْ مَيمُونَةُ، قال: أجْنَبْتُ، فاغْتَسَلْتُ مِن جَفْنَةٍ، فَفَضَلَتْ فيها فَضْلَةٌ، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليَغْتَسِلَ منه، فقلتُ: إنِّي ¬

(¬1) في: باب في كراهية فضل طهور المرأة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 82. كما أخرجه أبو داود، في: باب النهي عن الوضوء بفضل المرأة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 19. والنسائي، في: باب النهي عن فضل وضوء المرأة، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 146. وابن ماجه، في: باب النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 132. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 213، 5/ 66. (¬2) عبد الله بن سرجس المزني، صحابي سكن البصرة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة. تهذيب التهذيب 5/ 232، 233.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اغْتَسَلْتُ منه. فقال: «الماءُ لَيسَ عَلَيهِ جَنَابَةٌ». رواه أبو داودَ (¬1). والظاهرُ خُلُوُّها به؛ لأنَّ العادةَ أنّ الإِنسانَ يُفَضِّلُ (¬2) الخَلْوةَ في غُسْلِ الجَنابَةِ، وهذا أَقْيَسُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فإن خَلَتْ به في إزالةِ النَّجاسةِ، فقال ابنُ حامدٍ: فيه وَجْهان؛ أظْهَرُهما، جوازُ الوُضوءِ به؛ لأنَّ الأصْلَ الجوازُ. وإن خلتْ بالطَّهارةِ في بعضِ أعْضائِها، أو في تَجْدِيدِ طهارةٍ أو اسْتِنْجاءٍ (¬3)، ففيه وجهان، أحدُهما، المَنْعُ، قياسًا على الوُضوءِ. ¬

(¬1) في: باب الماء لا يجنب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17. كما أخرجه الترمذي، في: باب الرخصة في فضل طهور المرأة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 82. وابن ماجه، في: باب الرخصة بفضل طهور المرأة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 132. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 330. والدارقطني، في: باب استعمال الرجل فضل وضوء المرأة، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 52. (¬2) في م: «يقصد». (¬3) في م: «واستنجاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني، لا يَمْنَعُ؛ لأنّ الطهارةَ المُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلى طهارةِ الحَدَثِ الكامِلَةِ. فإن خلتْ به الذِّمِّيَّةُ في غُسْلِ الحَيضِ، ففيه وجهان، أحدُهما، المنعُ كالمُسْلِمَةِ؛ لأنَّها أدْنَى منها، وأبعدُ مِن الطَّهارَةِ، وقد تَعَلَّق به إباحَةُ وَطْئِها. والثاني، الجَوازُ؛ لأنّ طَهارَتَها لا تَصِحُّ، وكذلك النِّفاسُ والجَنابَةُ. وَيَحْتَمِلُ التَّفْرِقَةَ بين الحيضِ والنفاسِ، وبينَ الجنابةِ؛ لأن الجنابةَ لم تُفِدْ إباحَةً، ولم تَصبِحَّ، فهي كالتَبّرَّدِ، واللهُ أعلمُ، وإنَّما تُؤَثِّرُ خَلْوَتُها في الماءِ اليَسِيرِ؛ لأنّ النَّجاسَةَ لا تُوثر في الماء الكثيرِ، فهذا أوْلَى، ويجوزُ غَسْلُ النَّجاسَةِ به. وذَكَرَ القاضي وجهًا، أنَّه لا يجوزُ للرجلِ غَسْلُ النجاسةِ به؛ لأنّ ما لا يجوزُ الوُضُوءُ به، لا يجوزُ غَسْلُ النَّجاسةِ به، كالخَلِّ، ويُمْكِنُ القولُ بمُوجَبِه، فإنَّ هذا يجوزُ للمرأةِ الطهارةُ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجوزُ للرجلِ والمرأةِ أن يَغْتَسِلا ويَتَوَضَّئَا مِن إناءٍ واحِدٍ، مِن غيرِ كَراهَةٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَغْتَسِلُ هو وزَوْجَتُه مِن إناءٍ واحِدٍ، يَغتَرِفان مِنه جَميعًا. رواه البُخارِيُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يجوزُ رَفْعُ الحَدَثِ إلا بالماءِ، ولا يَحْصُلُ بمائِعٍ سِواه، وبهذا قال مالك، والشافعيُّ. ورُوىَ عن عليٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، وليس بثابِتٍ أنّه كان لا يَرَى بَأسًا بالوُضُوءِ بالنَّبِيذِ. وبه قال الحسنُ. وقال عِكْرِمَةُ (¬1): النَّبِيذُ وَضُوءُ مَن لم يَجِدِ الماءَ. وقال إسحاقُ: النَّبِيذُ حُلوًا أعجبُ لي مِن التَّيمُّمِ، وجَمْعُهما أحبُّ إليَّ. وعن أبي حنيفةَ كقولِ عكرمةَ، وقِيل عنه: يجوزُ الوُضُوءُ بنَبِيذِ التَّمْرِ، إذا طُبِخَ واشْتَدَّ عندَ عَدَمِ الماءِ في السَّفَرِ، لما رَوَى ابنُ مسعودٍ، أنَّه كان مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الجِنِّ، فأرادَ أن يُصَلِّيَ صلاةَ الفَجْرِ، فقال: «أَمعَكَ وَضُوءٌ»؟ قال: لا، معي إدَاوَةٌ فيها نَبِيذٌ. فقال: «ثَمَرَةٌ طيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» (¬2). ولَنا، قولُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3). أوْجَب الانْتِقال إلى ¬

(¬1) هو عكرمة مولى ابن عباس، وأصله من بربر، روى أن ابن عباس قال له: انطلق فأفت الناس. توفي سنة سبع ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 70. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء بالنبيذ، من كتاب الوضوء. سنن أبي داود 1/ 20. والترمذي، في: باب الوضوء من النبيذ، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 127. وابن ماجه، في: باب الوضوء بالنبيذ، من كتاب الوضوء. سنن ابن ماجه 1/ 135، 136. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 398، 402، 449، 450، 457، 458. (¬3) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّيمُّمِ عندَ عدمِ الماءِ. ولأنّه لا يجوزُ الوُضُوءُ به في الحَضَرِ، ولا مع وجودِ الماءِ، فأشْبَهَ الخَلَّ والمَرَقَ. وحَدِيثُهم لا يَثْبُتُ؛ لأَنَّ راويَه أبو زَيدٍ، وهو مجهُولٌ عندَ أهلِ الحديثِ، لا يُعْرَفُ له غيرُ هذا الحديثِ، ولا يُعرفُ بصُحْبَةِ عبدِ الله. قاله التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وابنُ المُنْذِرِ. ورَوَى مسلمٌ بإسْنادِه، عن عبدِ اللهِ بنِ مسمعودٍ، قال: لم أكُنْ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الجِنِّ، ووَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ معه (¬2). فأمّا غيرُ النَّبِيذِ، فلا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا أنّه لا يجوزُ به وُضُوءٌ ولا غُسْلٌ غيرَ ما ذَكَرْناه في الماءِ المُعْتَصَرِ فيما مضى. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب الوضوء من النبيذ، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 128. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 332، 333.

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَاءٌ نَجسٌ، وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالطَةِ النَّجَاسَةِ، فإِنْ لَمْ يَتَغَيَّر وَهُوَ يَسِيرٌ، فَهَلْ يَنْجُسُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رضي اللهُ عنه: (القسْمُ الثالثُ، ماءٌ نَجِسٌّ، وهو ما تَغَيَّر بمُخالطَةِ النَّجاسةِ) كلُّ ماءٍ تَغَيَّر بمُخالطَةِ النجاسةِ فهو نَجِسٌ بالإِجْماعِ. حكاه ابنُ المُنْذِرِ. (فإن لم يَتَغَيَّر، وهو يَسِيرٌ فهل يَنْجُسُ؟ على رِوايَتَين)، إحداهما، يَنْجُسُ. وهو ظاهرُ المذهبِ، رُوىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وهو قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ، لما رَوَى ابنُ عُمَرَ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُسْألُ عن الماءِ يكونُ بالفَلاةِ مِن الأرضِ، وما يَنُوبُه مِن الدَّوابِّ، والسِّباعِ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَينِ [لم يُنَجِّسْه شَيءٌ». وفي رِوايةِ:] (¬1) «لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ». رَواه الإِمامُ أحَمدُ وأبو داودَ والتِّرمِذِيُّ (¬2). وتَحْدِيدُه القُلَّتَين يَدُلُّ على تَنْجِيسِ ما ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما ينجس من الماء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 15. والترمذي، في: باب من أن الماء لا ينجسه شيء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 85. والنسائي، في: باب التوقيت في الماء، من كتاب الطهارة، ومن كتاب المياه. المجتبى 1/ 42، 142. وابن ماجه، في: باب مقدار الماء الذي لا ينجس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 172. والإمام أحمد، في المسند 2/ 12، 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَهما، وإلَّا لِم يَكُنِ التَّحْدِيدُ مُفيدًا. وصحَّ نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - القائِمَ مِن نَوْمِ الليلِ عن غمْسِ يَدِه في الماءِ قبلَ غَسْلِها (¬1)، فدَلَّ على أنَّه يُفِيدُ منعًا. وأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بغَسْلِ الإِناءِ مِن وُلُوغَ الكلبِ، وإراقَةِ سُؤْرِه (¬2)، ولم يُفَرِّق بينَ ما تَغَيَّرَ وبينَ ما لم يَتَغَيَّرْ، مع أنَّ الظاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ. والروايةُ ¬

(¬1) تقدم في صفحة 66. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الماء الذي يغسل به شعر الإِنسان إلخ، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 54. ومسلم في: باب حكم ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 234، 235. وأبو داود، في: باب الوضوء بسؤر الكلب، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 17، 18. والترمذي، في: باب ما جاء في سؤر الكلب، من أبواب الطهارة عارضة الأحوذي 1/ 133. والنسائي، في: باب سؤر الكلب، وفي: باب الأمر بإراقة ما في الإناء إذا ولغ الكلب فيه، وفي: باب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب، من كتاب الطهارة، وفي: باب سؤر الكلب، وفي: باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 46، 47، 144، 145. وابن ماجه، في: باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 130. والدارمي، في: باب في ولوغ الكلب، من كتاب الصلاة والطهارة. سنن الدارمي 1/ 188. والإمام مالك، في: باب جامع الوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 34. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 245، 253، 265، 271، 314، 360، 398، 424، 427، 460، 480، 482، 508، 86/ 4، 5/ 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانيةُ: أنَّ الماءَ لا يَنْجُسُ إلا بالتَّغَيّرِ، ورُوى ذلك عن حُذَيفَةَ، وأبي هريرةَ، وابنِ عبّاسِ، والحسنِ، وهو مذهبُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ (¬1)، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوىَ أيضًا عن الشّافعيِّ، لما رَوَى أبو أُمامَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المَاءُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وطَعْمِهِ ولَوْنِهِ». رَواه ابنُ ماجَه (¬2)، والدَّارَقُطْنِيُّ (¬3). ورَوَى أبو سعيدٍ، قال: قِيل يا رسولَ اللهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِن بِئْرِ بُضاعَةَ؟ وهي بِئْرٌ يُلْقَى فيها الحِيَض، ولحومُ الكِلابِ والنَّتْنُ. قال: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وصَحَّحَه الإِمامُ أحمدُ. ¬

(¬1) أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، إمام الحفاظ، وسيد العلماء العاملين في زمانه، توفي سنة إحدى وستين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 229 - 279. (¬2) في: باب الحياض، من كتاب الطهارة وسننها. سنن ابن ماجه 1/ 174. (¬3) في سننه، باب الماء المتغير، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 28 - 30. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في بئر بضاعة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 16. والترمذي، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 83. والنسائي، في: ذكر بئر بضاعة، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 141، 142. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 15، 16، 31، 86.

16 - مسألة؛ قال: (وإن كان كثيرا، فهو طاهر)

وَإنْ كانَ كَثِيرًا، فَهُوَ طَاهِرٌ، إلا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ بَوْلًا، أَوْ عَذِرَة مَائِعَةً، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا، لَا يَنْجُسُ، وَالأخْرَى يَنْجُسُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 16 - مسألة؛ قال: (وإن كان كثيرًا، فهو طاهرٌ) ما لم تكُنِ النَّجاسةُ بَوْلًا أو عَذِرَةً مائِعةً (¬1)، بغيرِ خِلافٍ في المذهبِ، رُوى ذلك عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ (¬2). وهو قولُ الشافعيِّ. ورُوىَ عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا كان الماءُ ذَنُوبَين، لم يَحْمِلِ الخَبَثَ. وقال عِكْرِمَةُ: ذَنُوبًا، أو ذَنُوبَين. وذهب أبو حنيفةَ، وأصْحابُه إلى أنَّ الماءَ الكثيرَ يَتَنَجَّسُ بالنجاسةِ مِن غيرِ تَغَيُّرٍ (¬3)، إلَّا أنْ يَبْلُغَ حدًّا يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ النجاسةَ لا تَصِلُ ¬

(¬1) ساقطة من: «م». (¬2) في الأصل: «عمرو». (¬3) في م: «تغيير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه، واخْتَلَفُوا في حَدِّه، فقال بعضُهم: ما إذا حُرِّك أحَدُ طَرَفَيه لم يَتَحَرَّكِ الآخَرُ. وقال بعضُهم: ما بَلَغ عَشَرَةَ أذْرُعٍ في مثلِها، وما دونَ ذلك قليلٌ، وإن بَلَغ ألفَ قُلَّةٍ، لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). نَهَى عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الماء الدائم، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 69. ومسلم، في: باب النهي عن البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 235. كما أخرجه أبو داود، في: باب البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17. والنسائي، في: باب النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وباب النهي عن البول في الماء الراكد والاغتسال فيه، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 103، 104، 162. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 433.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاغْتِسالِ مِن الماءِ الرَّاكِدِ بعدَ البَوْلِ فيه، ولم يُفَرِّقْ بينَ قليله وكَثيرِه. ولأنَّه ماءٌ حَلَّتْ فيه نجاسةٌ لا يُؤْمَنُ انْتِشارُها إليه، أشْبَهَ اليَسِيرَ. ولَنا، خَبَرُ القُلَّتَين، وبئرِ بُضاعةَ، اللَّذان ذكرْناهُما، معَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أُخْبِرَ أنَّ بِئرَ بُضاعةَ يُلْقَى فيه الحِيَضُ والنَّتَنَ ولحومُ الكلابِ، مع أنَّ بِئْرَ بُضاعَةَ لا يَبْلُغُ الحَدَّ الذي ذَكَرُوه. قال أبو داودَ: قَدَّرْتُ بئرَ بُضاعةَ فوجَدْتُها سِتَّةَ أذْرُع، وسألْتُ الذي فَتَح لي بابَ البُسْتانِ: هل غُيِّرَ بِناؤُها؟ قال: لا. وسألتُ قَيِّمَها عن عُمْقِها، فقلتُ: أكْثَرُ ما يكون فيها الماءُ؟ فقال: إلى العانَةِ. قلت: فإذا نَقَص. قال: دُونَ العَوْرَةِ. ولأنَّه ماءٌ يبلغُ القُلَّتَين، فأشْبَهَ الزائدَ على عشرةِ أذْرُعٍ، وحديثُهم عامٌّ، وحديثُنا خاصٌّ، فيَجِبُ تَخْصِيصُه به، وحديثُهم لابُدَّ مِن تَخْصِيصِه بما زادَ على الحدِّ الذي ذَكَرُوه، فيكونُ تخصيصُه بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى مِن تَخْصِيصِه بالرَّأْىِ والتَّحكُّمِ مِن غيرِ أصلٍ، ومَا ذكروه مِن الحَدِّ تقديرٌ مِن غيرِ تَوْقِيفٍ، ولا يُصارُ إليه بغيرِ نصٍّ ولا إجماعٍ، ثم إنَّ حديثَهم خاصٌّ في البَوْلِ، وهو قَوْلُنا في إحْدَى الرِّوايَتَين، جمعًا بين الحَدِيثَين، فَنَقْصُرُ الحُكْمَ على ما تناولَه النَّصُّ، وهو البولُ؛ لأنَّ له مِن التَّأْكِيدِ والانْتِشارِ ما ليس لغيرِه.

17 - مسألة؛ قال: (إلا أن تكون النجاسة بولا، أو عذرة مائعة، ففيه روايتان؛ إحداهما، لا ينجس)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 17 - مسألة؛ قال: (إلَّا أن تكونَ النَّجاسةُ بَوْلًا، أو عَذِرَةً مائِعةً، ففيه روايَتان؛ إحْداهما، لا يَنْجُسُ) وهو كسائِرِ النَّجاساتِ، وهو اختيارُ أبي الخَطّابِ، وابنِ عَقِيلٍ، ومذهبُ الشافعيِّ، وأكثرِ أهلِ العلمِ، لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَينِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ». رَواه الإِمامُ أحمد (¬1). ولأنَّ نجاسةَ بَوْلِ الآدَمِيِّ لا تَزِيدُ على نجاسةِ بولِ ¬

(¬1) تقدم صفحة 94.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلبِ، وهو لا يُنَجِّسُ القُلَّتَين، فهذا أَوْلَى. وحديثُ النَّهْي عن البولِ في الماءِ الدَّائِمِ لابُدَّ مِن تَخْصِيصِه بما لا يُمْكِن نَزْحُه إجْماعًا، فيكونُ تخصيصُه بخبرِ القُلَّتَين أَوْلَى مِن تخصيصِه بالرَّأْي والتَّحَكُّمِ، ولو تَعارَضا تَرَجَّحَ حديثُ القُلَّتَين؛ لِمُوافَقَتِه القِياسَ. (والرِّوايةُ الأُخْرَى، يَنْجُسُ) يُرْوى نحوُ ذلك عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فَرَوَى الخَلَّالُ بإسْنادِه أنَّ عَلِيًّا، رَضِي اللهُ عنه، سُئل عن صَبِيٍّ بال في بِئرٍ، فأَمَرَهم بنَزْحِها. وهو قولُ الحسنِ، لما رَوَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في المَاء الدَّائِمِ الَّذِى لَا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). وهذا يَتَناوَلُ القليلَ والكثيرَ، وهو خاصٌّ في البولِ، فيُجْمَعُ بينه وبينَ حديثِ القُلَّتَين بحَمْلِ هذا على البولِ، وحملِ حديثِ القُلَّتَين على سائرِ النَّجاساتِ، والعَذِرَةُ المائِعَةُ في معنى البوْلِ؛ لأنَّ أجْزاءَها تَتَفَرَّقُ في الماءِ وتَنْتَشِرُ، فهي في مَعْنى البولِ، وهي أفْحَشُ. منه. وقال ابنُ أبي مُوسى: حُكمُ الرَّطْبَةِ حكمُ المائعةِ قياسًا عليها، والأوْلَى التَّفْرِيقُ بينَهما، لما ذَكَرْنا مِن المعنى. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 101.

18 - مسألة؛ قال: (إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته، فلا ينجس)

إلا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ لِكَثْرَتِهِ، فَلَا يَنْجُسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 18 - مسألة؛ قال: (إلَّا أن يكونَ مِمّا لا يُمْكِنُ نَزْحُه لكَثْرتِه، فلا يَنْجُسُ) لا نعلمُ خِلافًا أنَّ الماءَ الذي لا يُمْكِنُ نَزْحُه إلَّا بمَشَقَّةٍ عظيمةٍ، مِثْلَ المصانِعِ التي جُعِلتْ مَوْرِدًا للْحاجِّ، بطريقِ مكةَ، يَصْدُرُون عنها، ولا يَنْفَدُ ما فيها، أنَّها لا تَنْجُسُ إلا بالتَّغْيِيرِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجمعَ كلُّ مَن نحفظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ الماءَ الكثيرَ، كالرِّجْلِ (¬1) مِن البحرِ، ونحوه، إِذا وقعتْ فيه نجاسةٌ، فلم تُغَيِّر له لَوْنًا، ولا طَعْمًا، ولا رِيحًا، أنّه بحاله يُتَطَهَّرُ منه. ¬

(¬1) الرجل من البحر: خليجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فرقَ بينَ قليلِ البولِ وكثيرِه، قال مُهَنَّا (¬1): سألتُ أحمدَ عن بِئْرٍ غَزِيرَةٍ، وقعتْ فيها خِرْقَةٌ أصابَها بولٌ. قال: تُنْزَحُ؛ لأنَّ النَّجاساتِ لا فرقَ بينَ قليلها وكثيرِها، كذلك البولُ. فصل: إِذا كانتْ بئْرُ الماءِ مُلاصِقَةً لبئرٍ فيها بولٌ، أو غيرُه مِن النَّجاساتِ، وشَكّ في وُصُولِه إلى الماءِ، فالماءُ طَاهِرٌ بالأصلِ. وإن أحبَّ عِلْمَ حقيقةِ ذلك، فَلْيَطرحْ في البِئْرِ النَّجِسَةِ نِفْطًا، فإن وَجَد رائِحَتَه في الماءِ عَلِمَ وُصُولَه إليه، وإلا فَلا، وإن وَجَده مُتَغَيِّرًا تغيُّرًا يَصْلُحُ أن يكونَ منها، ولم يعلمْ له سَبَبًا آخَرَ فهو نَجِس؛ لأنَّ المُلاصَقَةَ سببٌ، فيُحالُ الحُكْمُ عليه، والأصلُ عَدَمُ ما سِواه. ولو وَجَد ماءً مُتَغَيِّرًا في غيرِ هذه الصُّورَةِ، ولم يعلمْ سببَ تَغَيُّرِه، فهو طاهرٌ وإن غلبَ على ظَنِّه نجاستُه؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ. وإن وقعتْ في الماءِ نجاسةٌ، فوجدَه متغيِّرًا تغيُّرًا يصلُحُ أن يكونَ منها، فهو نَجِسٌ؛ لأنَّ الظَّاهرَ كَوْنُه منها، والأصلُ عدمُ ما سِواه، فيُحالُ الحكمُ عليه، وإن كان التَّغَيُّرُ لا يصلحُ أن يكونَ منها، لكَثْرَةِ الماءِ وقِلَّتِها، أو لمُخالفَتِه لونَها، أو طعْمَها، فهو طاهِرٌ؛ لأنَّ النجاسةَ لا تصلُحُ أن تكونَ سببًا ها هنا، أشْبَهَ ما لو لم يقعْ فيه شيءٌ. ¬

(¬1) أبو عبد الله مهنا بن يحيى الشامي السلمي، من كبار أصحاب الإمام أحمد، روى عنه من المسائل ما فخر به، كتب عنه عبد الله بن أحمد مسائل كثيرة، بضعة عشر جزءًا، من رجال القرن الثالث. طبقات الحنابلة 1/ 345 - 381.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن توضَّأ مِن الماءِ القليلِ وصلَّى، ثم وجدَ فيه نجاسةً، أو توضَّأَ مِن ماءٍ كثيرٍ، ثم وجدَه مُتغيِّرَا بنجاسَةٍ، و (¬1) شَكَّ هل كان قبلَ وُضُوئِه، أو بعدَه، فالأصلُ صحَّةُ طهارتِه وصلاتِه، وإن عَلِم أنَّ ذلك قبلَ وُضوئِه بأمارَةٍ، أعادَ، وإن عَلِم أنَّ النجاسةَ قبلَ وُضوئِه، ولم يَعلمْ أكان دونَ القُلَّتَين، أو كان قُلَّتَين فنَقَص بالاسْتِعْمالِ، أعادَ؛ لأنَّ الأصلَ نَقْصُ الماء. فصل: إذا وَقَعتْ في الماءِ نجاسةٌ، فغَيَّرتْ بعضَه، فالمُتَغيَرُ نَجِسٌ، وما لم يَتَغَيَّرْ إن بَلَغ قُلَّتَين، فهو طاهرٌ، وإلَّا فهو نَجِسٌ؛ لأنَّ الماءَ اليَسِيرَ يَنْجُسُ بمُجَرَّدِ المُلاقاةِ، لما ذكرْنا. وقال ابنُ عَقِيلٍ، وبعضُ الشافعيَّةِ: يكونُ نَجِسًا وإنْ كَثُرَ، كما لو كان يسيرًا، ولأنّ المُتَغَيِّر نَجِسٌ، فينجسُ ما يُلاقِيه، وما يُلاقِي ما يُلاقيه، حتى يَنْجُسَ جميعُه، فإنِ اضْطَرَب فزال تَغَيُّرُه، طَهُرَ لزَوالِ عِلَّةِ النجاسةِ، وهي التَّغيُّرُ. ولَنا، قولُ ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا بلَغَ المَاءُ قُلَّتَين لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» (¬1). وغيرُ المُتغيِّرِ كثيرٌ، فيَدخلُ في عُمُومِ الحديثِ، ولأنَّه (¬2) ماءٌ كثيرٌ لم يَتَغَيَّر بالنجاسةِ الواقعةِ فيه، فلم يَنْجُسْ، كما لو لم يتغيَّرْ مِنه شيءٌ، ولا يصحُّ القياسُ على اليَسيرِ؛ لأنَّه لا يَدْفعُ النجاسةَ عن نفسِه. وقولهم: إنَّ المُلاصِقَ للمُتَغيِّرِ يَنْجُسُ. مَمْنوعٌ، كالمُلاصِقِ للنجاسةِ الجامدةِ، وعلى قولهم يَنْبغِي أن يَنْجُسَ البحرُ إذا تَغَيَّر جانِبُه، والماءُ الجارِي، ولا قائلَ به. فصل: قال ابنُ عَقِيل: مَن ضَرَب حيوانًا مأكُولًا، فوَقَع في ماءٍ، ثم وجَدَه مَيَتًّا، ولم يَعْلَمْ، هل مات مِن الجِراحَةِ، أو بالماءِ، فالماءُ على أصلِه في الطهارةِ، والحيوانُ على أصلِه في الحَظرِ، إلّا أن تكونَ الجراحةُ مُوجِبةً، فيكونَ الحيوانُ أيضًا مُباحًا؛ لأنّ الظاهِرَ مَوْتُه بالجَرْحِ، والماءُ طاهِر، إلّا أن يقعَ فيه دمٌ. ¬

(¬1) تقدم صفحة 94. (¬2) في م: «لكنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كان الماءُ قُلَّتَين، وفيه نجاسةٌ، فغَرَف منه بإنَاءٍ، فالذي في الإِناء طاهرٌ، والباقي نَجِسٌ إن قُلْنا: القُلَّتان تَحديدٌ. لأنَّه ماءٌ يسيرٌ، فيه نجاسَةٌ، وإن قلنا بالتَّقْريبِ، لم يَنْجُسْ، إلَّا أن يكونَ الإِناءُ كبيرًا يُخْرِجُه عن التَّقْرِيبِ. وإنِ ارْتَفعتِ النجاسةُ في الدَّلْو، فالماءُ الذي في الإِناءِ نَجِسٌ، والباقي طاهرٌ. ذكرها ابنُ عَقِيلٍ. فصل: وإذا اجتمعَ ماءٌ نَجِسٌ إلى ماءٍ نجسٍ، ولم يَبْلُغِ القُلَّتَين، فالجميعُ نَجِسٌ، وإن بَلَغ القُلَّتَين، فكذلك؛ لأنَّه كان نَجِسًا قبلَ الاتّصالِ، والأصلُ بقاءُ النجاسةِ. ولأنَّ اجتماعَ النَّجِس إلى النجسِ لا يُولِّدُ بينَهما طاهرًا، كما في سائرِ المَواضِعِ. ويَتَخَرَّجُ أن يَطْهُرَ إذا بَلَغ قُلَّتَين، وزال تَغَيُّرُه، وهو مذهبُ الشافعيِّ، لزوالِ علَّةِ التَّنْجِيسِ. والغَدِيران إذا كانت بينهما ساقِيَةٌ فيها ماء مُتَّصِلٌ بهما، فهما كالغدير الواحدِ، قَلَّ الماءُ أو كَثُر، فمتى تَنَجَّسَ أحدُهما، ولم يَبْلُغا القُلتَين [تنجَّسَ الآخَرُ، وإنْ بَلَغَا القُلَّتَينِ] (¬1)، لم يَتَنَجَّسْ واحدٌ منهما، إلّا أن يَتغَيَر بالنجاسةِ، كما قُلْنا في الواحدِ. ¬

(¬1) سقط من: «م».

19 - مسألة؛ قال: (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير، طهره إن لم يبق فيه تغير، وإن كان الماء النجس كثيرا، فزال تغيره بنفسه، أو بنزح بقي بعده كثير، طهر)

وَإذَا انْضَمَّ إِلَى الْمَاءِ النَّجِسِ مَاءٌ طَاهِرٌ كَثِيرٌ طَهَّرَهُ، إِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ تَغَيُّرٌ. وَإنْ كَانَ الْمَاءُ النَّجِسُ كَثِيرًا، فَزَال تَغَيرهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحٍ، بَقِيَ بَعْدَهُ كَثِيرٌ، طَهُرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 19 - مسألة؛ قال: (وإذا انْضَمَّ إلى الماءِ النَّجِسِ ماءٌ طاهرٌ كَثِيرٌ، طَهَّرَه إن لم يَبْقَ فيه تَغَيُّرٌ، وإنْ كان الماءُ النَّجِسُ كثيرًا، فزال تَغَيره بنَفْسِه، أو بنَزْحٍ بَقِيَ بعدَه كثيرٌ، طَهُرَ) وجملةُ ذلك أنَّ تَطْهيرَ الماءِ النَّجِسِ ينقسِمُ ثلاثةَ أقسامٍ، أحدُها، أن يكونَ الماءُ النجسُ دونَ القُلَّتَين، فتطهيرُه بالمُكاثَرَةِ بقُلَّتَين طاهرَتَين، إمَّا أن يَنْبُعَ فيه، أو يُصَبَّ فيه، أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجرىَ إليها مِنْ سَاقِيةٍ، أوْ نحو ذلك، فيزولَ بهما تَغيُّرهْ إن كانْ مُتَغَيِّرًا فيَطْهُرَ، وإن لم يكنْ متغيِّرًا طَهُرَ بمُجرَّدِ المُكاثَرَةِ؛ لأنَّ القُلَّتَين تَدْفَعُ النجاسةَ عن نفسِها وعمّا اتَّصَل بها، ولا تَنْجُسُ إلَّا بالتَّغَيُّرِ إذا وَرَدَتْ عليها النجاسةُ، فكذلك إذا كانت وارِدَةً، ومِن ضرورةِ الحُكْمِ بطَهارَتِهِما، طَهارةُ ما اخْتَلَط بهما. القسمُ الثاني، أن يكونَ قُلَّتَين، فإن لم يكنْ متغيرًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنجاسةِ، فتطهيرُه بالمُكاثَرَةِ المذكورةِ، وإن كان متغيِّرًا بها فتطهيرُه بالمكاثرةِ المذكورةِ إذا أزالتِ التَّغَيُّرَ، وبزَوالِ تغيُّرِه بنفسه؛ لأنَّ عِلَّةَ التَّنجِيسِ زالت، وهي التَّغيُّرُ، أشْبَهَ الخَمْرَةَ إذا انْقَلَبَتْ بنفسها خَلًّا. وقال ابنُ عَقِيل: يَحتمِلُ أن لا يَطْهُرَ إذا زال تغيُّرُه بنفسِه، بناءً على أنَّ النجاسةَ لا تَطْهُرُ بالاسْتِحالةِ. القسمُ الثالث، الزائدُ على القُلَّتَين، فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان غيرَ متغيِّرٍ فتطهيره بالمُكاثَرَةِ لا غيرُ، كان كان متغيَرا، فتطهيرُه بما ذَكَرنا مِن الأمرَينِ، وبأمرٍ ثالثٍ، وهو أن يُنْزَحَ منه حتى يَزُولَ التغير، ويَبْقَى بعدَ النزحِ قُلَّتانِ، فإن نَقَص عن القُلَّتَين قبل زوالِ تغيّرِه، ثم زال تَغيره، لم يَطْهُر؛ لأنّ عِلَّةَ التَّنْجِيسِ في [ما دُونَ القُلَّتَينِ] (¬1) مُجرَّدُ ملاقاةِ النجاسةِ، فلم تَزُلِ العلة بزوالِ التغييرِ، ولا يُعتَبرُ في المُكاثرةِ صَبُّ الماءِ دَفْعَةً واحدةً؛ لأنَّه لا يُمكِن ذلك، لكنْ يُوصلُه على حَسَبِ الإِمْكان في المُتابعةِ، على ما ذكرنا. ¬

(¬1) في م: «القليل».

20 - مسألة؛ قال: (فإن كوثر بماء يسير، أو بغير الماء كالتراب ونحوه، فأزال التغير، لم يطهر)

وَإنْ كُوثِرَ بمَاءٍ يَسِيرٍ، أَوْ بِغَيرِ الْمَاءِ، فَأزال التَّغْيِيَر، لَمْ يَطْهُرْ، وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يَطْهُرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 20 - مسألة؛ قال: (فإن كُوثِرَ بماءٍ يَسِيرٍ، أو بغير الماءِ كالتُّرابِ ونَحوه، فأزال التَّغَيُّر، لم يَطْهُر) في أحدِ الوَجْهين؛ لأَنَّ هذا لا يَدفَعُ النجاسةَ عن نفسه، فعن غيرِه أولَى. والثاني، يَطْهُرُ؛ لأنَّ عِلَّةَ النجاسةِ زالتْ، وهو التغَير، أشْبَه ما لو زال تَغيَّره بنفسه. ولأن الماءَ اليَسِيرَ إذا لم يُؤثِّر فلا أقلَّ مِن أن يكونَ وجودُه كعدَمِه، ويَحتَمِلُ التفْرِقةَ بينَ المُكاثَرَةِ بالماءِ اليَسِيرِ وغيرِه، فإذا كُوثِرَ بالماء اليَسِيرِ طَهُرَ؛ لما ذكزنا، وإذا كُوثر بالتُّرابِ، أو غيرِه، لم يَطْهُرْ؛ لأنَّ ذلك رُبّما سَتَر التغيُّرَ الحادِثَ مِن النجاسةِ، فَيُظنُّ أنه قد زال، ولم يَزُلْ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الماء الذي يقعُ فيه بول الآدَمِيِّ، إذا قُلنا بنَجاسَتِه، فلا يَطْهُرُ بالمُكاثَرَةِ بقُلَّتَين، لأنَّ القُلَّتَين بالنِّسْبَةِ إلى البولِ، كما دونَهما بالنسبةِ إلى غيرِه، لكن يَطْهُرُ بأحدِ ثلأثةِ أشياءَ، أحدُها (¬1) المُكاثرةُ بما لا يُمكِن نَزْحُه. الثاني، أن يُنْزَحَ منه حتى يزُولَ تَغَيره، وَيَبْقَى ما لا يُمكِن نَزْحُه. الثالث، أن يَزُولَ تَغَيُره بنفسِه إن كان كذلك. ذكره ابنُ عَقِيلِ. فصل: فأمّا غيرُ الماءِ مِن المَائِعاتِ إِذا وقعت فيه نجاسةٌ، ففيه ثلاثُ روايات: إحداهُنَّ، أنه يَتَنَجَّسُ وإن كَثُر، وهو الصحيحُ، إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الفَأرَةِ تموتُ في السمنِ، فقال: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَألْقُوها وما حَوْلَها، وإنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوه». رواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في: المسند 2/ 233، 265، 490. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الفأرة تقع في السمن، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 328. والترمذي، في: باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 303. والنسائي، في: باب الفأرة تقع في السمن، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونهى عنه، ولم يفرِّقْ بين قليله وكثيرِه. ولأنَّها لا تُطَهِّرُ غيرَها، فلا تدفعُ النجاسةَ عن نفسِها كاليسيرِ. والثانية، أنَّها كالماءِ، لا يَنْجُسُ منها ما بَلَغ قُلَّتَين إلا بالتَّغَيُّرِ، قياسًا على الماءِ، قال حَرب (¬1): سألتُ أحمدَ، قلتُ: كلبٌ وَلَغ في سَمنٍ وزَيتٍ؟ قال: إذا كان في آنِيَةٍ كبيرةٍ، مِثلَ حُبٍّ (¬2) أو نحوه، رَجَوْتُ أن لا يكونَ به بَأسٌ، يُوكَلُ، وإن كان في آنيةٍ صغيرةٍ فَلا يُعجِبُنِي. والثالثة، أنَّ ما أصله الماءُ، كالخَلِّ التَّمرِيِّ يَدفَعُ النجاسةَ؛ لأنَّ الغالِبَ فيه الماءُ، وما لا فلا. فصل: وإِذا قُلنا: إنَّ غيرَ الماءِ مِن المائِعاتِ، كالخَلِّ ونحوه يُزِيلُ النجاسةَ، انبنَى على ذلك أنَّ الكثيرَ منه لا يَنْجُسُ إلا بالتَّغْيِيرِ، لكونِ حُكْمِه في دفع النجاسةِ حكمَ الماءِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، رجل جليل، كان يكتب بخطه مسائل سمعها من الإمام أحمد، وهو من رجال القرن الثالث. طبقات الحنابلة 1/ 145، 146. (¬2) الحُبّ: الجَرَّة أو الضخمة منها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الماء المستعمَل في رَفْعِ الحدثِ، وما كان طاهِرًا غير مطَهِّرٍ، ففيه احتِمالان، أحدُهُما، أنه يَدفَع النجاسةَ عن نفْسِه إذا كَثر؛ لحديثِ القلَّتَين. والثاني، أنه يَنْجس، لأنَّه لا يَطْهر، أشْبَه الخَلَّ. فصل: ولا فَرقَ بينَ يسيرِ النجاسةِ وكثيرِها، ما أدرَكَه الطرفُ وما لم يدرِكْه، إلا أنَّ ما يعفَى عن يسيرِه كالدَّمِ، حكْمُ الماءِ الذي يَتَنَجس به حكمه في العَفْو عن يسيرِه. وكذلك كلُّ نجاسةٍ نَجّسَتِ الماءَ، حكمه حكمُها، لأنَّ نجاسةَ الماءِ ناشِئة عن نجاسةِ الواقعِ، وفَرعٌ عليها، في الفرع يَثْبت له حكم أصلِه. ورُوى عن الشافعيِّ أنَّ ما لا يدرِكُه الطرف مِن النجاسةِ مَعفوٌّ عنه؛ للمَشَقَّةِ الَّلاحقةِ به. ونَصَّ في موضعٍ أن الذّبابَ إذا وَقَع على خلاءٍ رَقِيقٍ، أو بول، ثم وقع على الثَّوْبِ، غُسِلَ مَوْضِعه، ونجاسة الذُّبابِ مما لا يُدركها الطرف. ولَنا، أنّ دليلَ التنجِيسِ لا يفَرِّقُ بينَ قليلِ النجاسةِ وكثيرِها، ولا بين ما يُدركه الطرفُ وما لا يدركه، فالتَّفْرِيق تَحَكم، وما ذكروه مِن المَشَقَّةِ ممنوع؛ لأنّا إنَّما نحكم بالنجاسةِ إذا عَلِمنا وصولَها، ومع العلمِ لا يفتَرِقُ القليلُ والكثيرُ في المشقَّةِ، ثم إن المشقَّةَ بمُجرَّدِها حِكْمَةٌ لا يجوز تَعَلُّق الحكْمِ بها بمجرَّدِها، وجَعلُ ما لا يدركُه الطرَّفُ ضابطًا لها إنَّما يصحُّ بالتَّوْقِيفِ، أو باعتبارِ الشّرعِ له في مَوْضِعٍ، ولم يُوجَد واحدٌ منهما.

21 - مسألة؛ قال: (والكثير ما بلغ قلتين، واليسير ما دونهما)

وَالْكَثِيرُ مَا بَلَغَ قُلَّتَينِ، وَالْيَسِيرُ مَا دُونَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 21 - مسألة؛ قال: (والكثيرُ ما بلَغَ قُلَّتَين، واليَسِيرُ ما دُونَهما) القُلَّةُ: الجَرَّةُ، سُمِّيتْ قُلَّةً لأنَّها تُقَل بالأيدي، والمراد فهنا بالقُلَّةِ قِلالُ هجَرَ (¬1)؛ لما يأتي، وإنّما جعلْنا القُلَّتَين حدًّا للكثيرِ؛ لأنَّ حديثَ ¬

(¬1) هجر: مدينة، وهي قاعدة البحرين، وقال أبو الحسن الماوردي: الذي جاء في الحديث ذكر القلال الهجرية، قيل: إنها كانت تجلب من هجر إلى المدينة، ثم انقطع ذلك فعدمت. وقيل: هجر قرية قرب المدينة، وقيل: بل عملت بالمدينة على مثل قلال هجر. معجم البلدان 4/ 953. وذكر ياقوت مواضع أخرى سميت بهجر.

22 - مسألة؛ قال: (وهما خمسمائة رطل بالعراقي)

وَهُمَا خمسُمِائَةِ رَطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ. وَعَنْهُ، أَربَعُمِائةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ القُلَّتَين دَلَّ على نجاسةِ ما لم يَبْلُغْهُما بطريق المفْهومِ، وعلى دَفْعِهما للنجاسةِ عن أنفُسِهما، فلذلك جَعَلْناهُما حدًّا للكثيرِ، فمتى جاء لفظُ الكثيرِ هاهُنا فالمرادُ به القُلَّتانِ. واللهُ أعلمُ. 22 - مسألة؛ قال: (وهما خَمسُمِائَةِ رَطْلٍ بالعِراقِيِّ) في ظاهرِ المذهبِ، وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه رُوىَ عن ابنِ جُرَيجٍ (¬1) أَنّه قال: رأيتُ قِلال هجَر، فرأيتُ القُلَّةَ تَسَعُ قربَتَين أو قربتين وشيئًا. والقِربَةُ مائةُ رِطْل بالعِراقِيِّ باتِّفاقِ القائلين بتحديدِ الماءِ بالقِربِ، والاحتياطُ أن يُجْعَلَ الشيءُ نصفًا، فكانت القُلَّتانِ بما (¬2) ذكرنا خَمسَمائةِ رِطْلٍ. ورُوى عن أحمدَ أنَّ القُلَّتَين أربَعُمائةِ رَطلٍ بالعِراقِي. رَواه عنه الأثْرَمُ، وإسماعيلُ بنُ ¬

(¬1) في م «جرير». وهو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي، فقيه الحرم المكي، وإمام أهل الحجاز في عصره، مولده سنة ثمانين روفاته سنة خمسين ومائة. تاريخ بغداد 10/ 400، العبر 1/ 213، 214. (¬2) في الأصل: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سعيدٍ (¬1). وحكاه ابنُ المُنْذِرِ؛ لما رَوَى الجُوزجانِي (¬2)، بإسْنادِه عن يحيى بن عُقَيلِ (¬3)، قال: رأيتُ قِلال هجَرَ، وأظنُّ كلَّ قُلَّةٍ تأخذ قِربَتَين. ورُوى نحوُ ذلك عن ابنِ جُرَيج. وإنما خَصَصنا القُلَّةَ بقلالِ هجرَ؛ لوجْهين، أحدهما، ما روَى الخَطابِي (¬4) بإسنادِه إلى ابنِ جُرَيجٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرسَلًا: «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَين بِقِلالِ هجر» (¬5). والثاني، أنّ قلال هجرَ أكبرُ ما يكونُ مِنَ القلالِ، وأشْهرُها في عَصر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ذَكَره الخَطّابِيّ، فقال: هي مشهورةُ الصنعَةِ، معلومةُ المِقْدارِ، لا تَخْتَلِفُ كما لا تختلفُ الصِّيعانُ والمَكايِيلُ. فلذلك حَمَلْنا الحديثَ عليها، وعَمِلْنا بالاحتياطِ، فإذا قُلْنا: هما خَمسُمائةِ رطلٍ بالعِراقِيِّ، فذلك بالرطلِ الدِّمَشْقِيِّ، الذي هو سِتُّمائة درهمٍ، مَائة وسَبْعَةُ أرطالٍ وسُبْعُ رطلِ. ¬

(¬1) أبو إسحاق إسماعيل بن سعيد الشالنجي، روى الكثير عن الإمام أحمد، وكان عالما بالرأي كبير القدر عند الحنفية، توفي سنة ثلاثين ومائين، وقيل: سنة ست وأربعيين ومائتين. الجواهر المضية 1/ 406، 407، طبقات الحنابلة 1/ 104، 105. (¬2) أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عنده عن الإمام أحمد جزءان مسائل، وكان الإمام أحمد يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا، وهو من رجال القرن الثالث. طبقات الحنابلة 1/ 98، 99. (¬3) يحيى بن عقيل (بالتصغير) الخزاعي البصري نزيل مرو، يروى عن أنس بن مالك وغيره. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 259. (¬4) أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي، الفقيه المحدث الأديب، توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. يتيمة الدهر 4/ 334 - 336، وفيات الأعيان 4/ 212 - 216، العبر 3/ 39. (¬5) معالم السنن 9، وانظر نصب الراية 1/ 110 - 112.

23 - مسألة؛ قال: (وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين)

وَهلْ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ أَوْ تَحدِيدٌ؟ عَلَى وَجهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 23 - مسألة؛ قال: (وهل ذلك تَقْرِيبٌ أو تَحدِيدٌ؟ على وجْهين)، أحدُهما، أنَّه تحديدٌ، وهو اختيارُ أَبي الحسنِ الآمِدِيِّ، وظاهرُ قولِ القاضي، وأحدُ الوجْهين لأصحابِ الشافعيِّ، لأنَّ اعتبارَ ذلك احتياطٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما اعتُبِرَ احتياطًا كان واجبًا، كغَسْلِ جُزءٍ مِنَ الرأسِ مع الوجهِ. ولأنّه قدر يَنفَعُ النجاسةَ [عن نفْسِه] (¬1)، فاعتُبرَ تحقيقُه كالعَدَدِ في الغَسَلاتِ. والثاني، هو تقريب، وهو الصحيحُ، لأنَّ الذين نَقَلُوا تقديرَ القِلالِ لم يَضْبِطُوها بحدٍّ، إنَّما قال ابنُ جُرَيجٍ: القُلَّةُ تَسَعُ قربَتَينِ، أو قربتينِ وشيئًا. ويحيى بنُ عُقَيلٍ قال: أظنُّها تسعُ قربتينِ. وهذا لا تحديدَ فيه، وتقديرُ القِربَةِ بمائةِ رطلٍ تقريبٌ. ولأنّ الزائدَ على القُلَّتَين، وهو الشيءُ، مَشْكوكٌ فيه (¬2)، والظاهرُ اسْتِعمالُه فيما دونَ النِّصفِ، والقِرَبُ تَخْتلِف غالبًا. وكذلك لو اشْتَرى شيئًا، أو أسْلَم في شيءٍ، وقدَّرَه بها، لم يَصِح، وقد عَلِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الناسَ لا يَكِيلُونَ الماءَ، ولا يَزِنُونَه، فالظاهرُ أنَّه رَدَّهم إلى التقرِيبِ، فعلى هذا مَن وَجَد نجاسةً في ماءٍ فغَلَب على ظنِّه أنه مُقارِبٌ للقُلَّتَين تَوَضَّأ منه، وإلَّا فَلا. وفائدةُ الخلافِ أنَّ مَنِ اعتَبَر التحديدَ، قال: لو نَقَص الماءُ نَقْصًا يسيرًا، لم يُعفَ عنه. والقائِلون بالتقريبِ يَعفُون عن النَّقْصِ اليَسِيرِ. كان شَكَّ في بُلُوغِ الماءِ قَدرًا يَنفَعُ النجاسةَ، ففيه وجهان؛ أحدُهما، يُحكَمُ بطهازتِه؛ لأنَّ طهارتَه مُتَيَقَّنة قبلَ وقوعِ النجاسةِ فيه، فلا يَزُولُ عن اليقينِ بالشَّكِّ. والثاني، هو نَجِسٌ؛ لأنَّ الأصلَ قِلَّةُ الماءِ، فَيُبْنَى عليه، ويَلْزمُ مِن ذلك النجاسةُ. ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في الماء الجارِي: نُقِلَ عن أحمدَ ما يدُلّ على التَّفرقةِ بينَه وبينَ الواقِفِ؛ فإنَّه قال في حَوضِ الحَمّامِ: قد قِيل: إنّه بمَنْزِلَةِ الماءِ الجارِى. وقال في البئرِ يكونُ لها مادَّةٌ وهو واقِفٌ: ليس هو بمنزلةِ الماء الجارِي. فعلى هذا لا يَتَنَجَّسُ الجاري إلّا بالتَّغْيِيرِ؛ لأنَّ الأصل طهارتُه، ولم نعلم في تَنْجِيسِه نَصًّا ولا إجْماعًا، فبَقِيَ على الأصلِ، وقال عليه السَّلامُ: «المَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ» (¬1). وقال: «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَينِ لَمْ يَحمِلِ الخَبَثَ» (¬2). وهذا يدلُّ على أنَّه لا يَنْجُسُ؛ لأنّه بِمَجْمُوعِه يزيدُ على القُلَّتَين، فإن قِيل: فالجِريَةُ منه لا تَبْلُغُ قُلَّتَين، فَتَنْجُسُ؛ لحديثِ القُلَّتَين. قُلنا: تَخْصيصُ الجِريَةِ بهذا التقدير تَحَكُّمٌ، و (¬3) لأنَّه لا يصحُّ قياسُه على الرّاكِدِ، لقُوَّتِه بجَرَيانِه وَاتِّصالِه بمادَّتِه. وهذا اختيارُ شيخِنا (¬4)، وهو الصحيحُ، إن شاءَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 96. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 94. (¬3) سقطت الواو من: «م». (¬4) انظر المغني 1/ 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ تعالى. وقال القاضي وأصحابُه: كلُّ جِزيةٍ مِن الماءِ الجارِى مُعتبَرةٌ بنفسِها، فإذا كانت النجاسةُ جاريةً مع الماءِ، فما أمامَها طاهر؛ لأنَّها لم تَصِلْ إليه، وما وراءَها طاهِر؛ لأنَّه لم يصل إليها، والجِرْيَةُ إن بَلَغَتْ قُلتَين، ولم تتغير، فهي طاهرةٌ، وإلَّا فهي نَجسة، كان كانتِ النجاسةُ واقفةً في النَّهْرِ، فكل جِريَةٍ تَمُرُّ عليها إن بلغتْ قُلتَين فهي طاهرة، وإلَّا فلا. قالوا: والجِريَةُ هي الماءُ الذي فيه النجاسةُ، وما قَرُبَ مِنها مِن خَلْفِها وأمامِها، ممّا العادةُ انْتِشارُها إليه، إن كانتْ مِمّا تَنْتَشِرُ، مع ما يُحاذِى ذلك فيما بينَ طَرَفَي النَّهْرِ، فإن كانتِ النجاسةُ مُمتَدَّةً، فيَنْبَغِي أن يكونَ لكلِّ جُزْءٍ منها مثلُ تلك الجِرية المُعتبَرَةِ للنجاسةِ القليلةِ؛ لأنّا لو جَعَلْنا جيعَ ما حاذَى النجاسةَ الكثيرةَ جريَةً، أفْضَى إلى تَنْجِيس النَّهْر الكبيرِ بالنجاسةِ القليلةِ، دونَ الكثيرةِ، لأنَّ ما يُحاذِي القليلةَ قليل، فيَنْجُسُ، وما يُحاذِي الكثيرةَ كثير، فلا يَنْجُسُ، وهذا ظاهرُ الفسادِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ كان في جانب النَّهْرِ، أو في وَهدَةٍ منه ماءٌ واقِفٌ مائِلٌ عن سَنَنِ الماءِ، مُتّصِل بالجارِي، وكان ذلك مع الجِريَة المُقابِلَةِ له دونَ القُلَّتَين، فالجميعُ نَجسٌ؛ لأنّه ماء يسير مُتَّصِل، فيَنْجُسُ بالنجاسةِ، كالراكِدِ. فإن كان أحدُهما قُلَّتَين، لم يَنْجُس واحدٌ منهما، ما داما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَلاقِيَين إلَّا بالتَّغيُّرِ. فإن كانتِ النجاسةُ في الجارِي، وهو قُلَّتان، فهو طاهرٌ بكل حالٍ، وكذلك الواقِفُ. وإن كان الواقفُ قُلَّتَين، والجاري دونَ القُلَّتَين والنجاسةُ فيه، فهو نَجِس قبلَ مُلاقاتِه للواقفِ، وبعدَ مُفارقَتِه له، وطاهر في حال اتِّصالِه به. وإن كانت في الواقفِ، وهو قُلَّتان، لم يَنْجُس بحالٍ هو ولا الجاري. وإن كان دونَ القُلَّتَينِ والجاري كذلك، إلَّا أنهما بمَجْمُوعِهما قُلَّتان فصاعِدًا، وكانتِ النجاسةُ في الواقفِ، لم ينْجُسْ واحدٌ منهما، لأنّ الماءَ الذي فيه النجاسةُ مع ما يُلاقِيه لا يَزالُ كثيرًا. وإن كانت في الجارِي، فقياسُ قولِ أصحابِنا أنَّ الجميعَ نَجِسن، لأنّ الجارِيَ يَنْجُسُ قبلَ مُلاقاتِه للواقفِ، ومَرَّ على الواقفِ وهو يسِير فنَجَّسَه؛ لأنَّ الواقفَ لا يدفَعُ بن نفسِه، فعن غيرِه أولَى. ويَحتَمِلُ أن يُحكَمَ بطهارةِ الجارِي حال مُلاقاتِه للواقفِ. ولا يَتَنَجَّسُ به الواقفُ؛ لحديثِ القُلتَين،

24 - مسألة؛ قال: (وإذا شك في نجاسة الماء، أو كان نجسا فشك في طهارته، بنى على اليقين)

وإذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ، أَوْ كَانَ نَجِسًا، فَشَكَّ فِي طَهارَتِهِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مذهبُ الشافعيِّ. هذا كلُّه إذا لم يَتغير، فإن تَغيَّر فهو نَجِس، فإن كان الجارِي مُتغيَرًا، والواقف كثيرًا، فهو طاهرٌ إن لم يَتغير، فإن تَغيَّر تَنَجّس. وكذلك الحكمُ في الجارِي إن كان الواقفُ مُتغيِّرًا. وإنْ كان بعضُ الواقفِ متغيِّرًا، وبعضُه غيرَ متغيِّر، وكان غيرُ المتغيِّر مع الجِرية المُلاقِيَةِ له قُلَّتين، لم يَنْجُس. وإن كان المُتغيِّر من الواقفِ يلي الجارِيَ، وغيرُ المتغيِّر لا يليه ولا يَتَّصِلُ به أصلًا، وكان كلُّ واحدٍ مِنهما يَسِيرًا، فيَنْبَغِي أن يكونَ الكلّ نَجِسًا؛ لأنَّ كلَّ ما يُلاقِي الماءَ النَّجِسَ يسير. وإنِ اتَّصَل به مِن ناحيةٍ، فكلّ ما لم يَتغير طاهرٌ إذا كان كثيرًا، كالغَدِيرَين إذا كان بينَهما ماء مُتَّصِلٌ بهما، فإن شَكَّ في ذلك فالماءُ طاهرٌ بالأصلِ، ويَحتملُ أن يكونَ نَجسًا. وإن كان في الماءِ قُلَّتان طاهِرتان مُتَّصِلة سابِقَة أو لاحِقَةٌ، فالمُجتمِعُ كَلّه طاهرٌ، ما لم يَتغير بالنجاسةِ؛ لأنَّ القُلَّتَين تَدفَعُ النجاسةَ عن نفسِها وعمّا اجْتَمَع إليها، وإلَّا فالجميعُ نَجِس في ظاهرِ المذهبِ. واللهُ أعلم. 24 - مسألة؛ قال: (وإذا شَكَّ في نَجاسَةِ الماءِ، أو كان نجسًا فشَكَّ في طَهارتِه، بَنَى على اليَقِينِ) إذا شَكَّ في نجاسةِ الماءِ فهو طاهِرٌ؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ، فلا تَزُولُ بالشَّكِّ، كان وجَده متغيِّرًا؛ لأنَّ التَّغيُر يَحتَمِلُ أن يكونَ بمُكْثِه، أو بما لا يَمنَعُ، فلا تَزُولُ بالشَّكِّ. وإن تيَقَّنَ نجاسَتَه، وَشَكَّ في طهارتِه، فهو نَجِسٌ؛ لما ذكرنا. وإن أخْبَره بنجاسَتِه صَبِيٌّ، أو كافرٌ، أو فاسِقٌ، لم يَلْزمه قَبُولُ خَبَرِه؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ

25 - مسألة؛ قال: (وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس، لم يتحر

وإنِ اشْتَبَه الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ، لَمْ يَتَحَرَّ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهبِ، وَيَتَيَمَّمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّهادَةِ ولا الرِّواية، أشْبَه الطفلَ، والمجنونَ. وإن كان بالِغًا عاقِلا مُسْلِمًا مستورَ الحالِ، وعَيَّن سببَ النجاسةِ، لَزِم قَبُولُ خبرِه، رجلًا كان أو امرأةً،، حرًّا أو عبدًا، بَصِيرًا أبي صرِيرًا، لأنَّ للأعمَى طريقًا إلى العلمِ بالحِسِّ والخَبَرِ، كما لو أخْبَر بدُخُولِ وقتِ الصّلاةِ؛ وإن لم يُعَيِّنْ سَبَبَها، فقال القاضي: لا يَلْزَمُ قَبُولُ خبرِه، لاحتِمالِ اعتِقادِه نجاسةَ الماءِ بسببٍ لا يَعتَقِده المُخْبَرُ، كمَوْتِ ذُبابَةٍ عندَ الشافعيِّ، والحَنَفِيُّ يَرَى نجاسةَ الماء الكثيرِ وإن لم يَتغير، والمُوَسْوسُ يَعتَقِدُ نجاسَتَه بما لا يُنَجِّسُه، ويَحتَمِلُ أَن يَلْزَمَ قَبُولُ خَبَرِه إذا انتفَتْ هذه الاحتمالاتُ في حقه. فصل: فإن أخْبَره أنَّ كلبًا وَلَغَ في هذا الإِناءِ، ولم يَلَغْ في هذا. وقال آخَرُ: إنّما وَلَغ في هذا. حُكِمَ بنَجاسَتِهما، لأنَّه يُمكِن صِدقُهما، لكَوْنِهما في وَقْتَين، أو كانا كَلْبَين، فخَفِيَ على كلِّ واحدٍ منهما ما ظهرَ للآخَرِ. كان عَيَّنا كلبًا ووقتًا يَضِيقُ الوقتُ فيه عن شُربِه منهما، تَعارَضَ قَوْلُهما، ولم يَنْجُسْ واحدٌ منهما. كان قال أحدُهما: وَلَغ في هذا الإِناءِ. وقال الآخَرُ: نزلَ ولم يَشْرَب. قُدِّمَ قولُ المُثْبتِ، إلَّا أن يكونَ المثبِتُ. لم يَتَحَقَّقْ شُربَه، مثلَ الضَّرِيرِ الذي يُخْبِرُ عن حِسٍّ، فيُقَدَّمُ قولُ البَصِيرِ عليه. 25 - مسألة؛ قال: (وإنِ اشْتَبَه الماءُ الطَّاهِرُ بالنَّجِسِ، لم يَتَحَرَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيهما، على الصَّحيحِ مِنَ المَذهبِ، ويَتَيَمَّمُ) وجملتُه أنَّه إذا اشْتَبهتِ الآَنِيَةُ الطاهرةُ بالنَّجِسَةِ، لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحدُهما، أن يَسْتَوىَ عددُ الطاهرِ والنَّجِسِ، فلا يَجوزُ التَّحَرِّي، بغير خِلافٍ في المذهبِ فيما عَلِمنا. الثاني، أن يَكْثُرَ عَدَدُ الطاهر، فقال أبو علي النَّجَّادُ (¬1)، مِن أصحابِنا: يجوزُ التَّحَرِّي فيها. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الظاهرَ إصابة الطاهرِ. ولأنَّ جِهةَ الإباحَةِ تَرَجَّحَتْ، أشْبَه ما لو اشْتَبَهتْ عليه أخْتُه في نِساءِ بلدٍ. وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يجوزُ التَّحرِّي فيها بحالٍ، وهو قولُ ¬

(¬1) الحسين بن عبد الله النجاد الصغير البغدادي، أبو علي، كان فقيها معظما، إماما في أصول الدين وفروعه. توفي سنة ستين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 140 - 142، العبر 2/ 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثرِ الأصحابِ، وقولُ المُزَنِي (¬1)، وأبي ثَوْرٍ (¬2). وقال الشافعيُّ: يَتحَرَّى في الحالين؛ لأنَّه شَرطٌ للصلاةِ، فجازَ التَّحرِّي فيه، كما لو اشْتَبَهتِ القِبْلَةُ والثِّيابُ. ولأنَّ الطهارةَ تُؤَدَّى باليقينِ تارةً، وبالظنِّ أخْرَى، كما قلنا بجوازِ الوُضُوءِ بالماءِ المُتَغَيِّر الذي لا يُعلَمُ سببُ تغيُّرِه (¬3). وقال ابنُ الماجِشُونَ (¬4): يتَوضّأ مِن كل واحدٍ منهما وُضوءًا ويُصلِّي به. وبه قال محمدُ بن مَسْلَمَةَ (¬5)، إلا أَنه قال بغَسْلِ ما أصابَه مِنَ الأوَّلِ، لأنَّه ¬

(¬1) أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، صاحب الإمام الشافعي، وناصر مذهبه، وصاحب المختصر توفي سنة أربع وستين ومائتين. طبقات الشافعية الكبرى 2/ 93 - 109. (¬2) أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي الفقيه، ذكر الذهبي أنه برع في العلم ولم يقلد أحدا وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين. طبقات الشافعية الكبرى 2/ 74 - 80، العبر 1/ 431. (¬3) في الأصل: «تغييره». (¬4) أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله التميمي، مولاهم، الفقيه المالكي، كان عليه مدار الفتوى في زمانه، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين. الدبياج المذهب 2/ 6، 7. (¬5) أبو هشام محمد بن مسلمة بن محمد، أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، ثقة مأمون حجة في العلم توفي سنة ست ومائتين. الديباج المذهب 2/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمكَنَه أداءُ فَرضِه بيقين، أشْبَهَ مَنْ فاتَتْه صلاةٌ مِن يومٍ ولا يَعلَمُ عَينَها، وكما لو اشْتَبَهتِ الثِّيابُ. ولَنا، أنه اشْتَبَه المُباع بالمحظُورِ فيما لا تُبِيحُه الضَّرورَةُ، فلم يَجُزِ التَّحرِّي، كما لو اشْتَبهت أخْتُه بأجْنَبِيّاتٍ، أو كما لو اسْتوَى العددُ عندَ أبي حنيفةَ، أو كان أحدُ الإِناءَين بَوْلًا عندَ الشافعيِّ، واعتَذَر أصحابُه بأنَّ البولَ لا أصلَ له في الطهارةِ. قُلنا: وهذا الماءُ قد زال عنه أصلُ (¬1) الطّهارةِ، وعلى أنَّ البولَ قد كان ماءً، فله أصلٌ في الطهارةِ، فهو كالماءِ النَّجِسِ. وقولهم: إذا كَثُرَ عددُ الطاهرِ تَرَجَّحَتِ الإِباحةُ (¬2). يَبْطُل بما لو اشْتَبَهتْ أخْتُه بمائةِ أجْنَبِيَّةٍ، وأمّا إذا اشتبهتْ أخْتُه في ¬

(¬1) في الأصل: «اسم». (¬2) في م: «الطهارة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِساءِ مِصْرٍ، فإنه يَشُقُّ اجْتِنابُهُنَّ جميعًا، ولذلك يَجوزُ له النِّكاحُ مِن غيرِ تَحَرٍّ، بخلافِ هذا. وأما القِبْلَةُ فيُباحُ تَركُها للضَّرورةِ، وفي صلاةِ النّافلةِ، بخلافِ مسألَتِنا. وأمّا الثِّيابُ فلا يَجوزُ التَّحرِّى فيها عندَنا، على ما يأتي. وأما المُتغير فيجوزُ الوُضوءُ به، اسْتِنادًا إلى أصلِ الطهارةِ، ولا يَحتاجُ إلى تَحَرٍّ. وفي مسألتِنا عارضَ يقينُ الطهارةِ يقينَ النجاسةِ، فلم يَبْقَ له حُكْمٌ، ولهذا احتاجَ إلى التَّحرِّى، وما قاله ابنُ الماجِشُون باطِلٌ؛ لأنّه يَتَنَجَّسُ يَقِينًا، وما قاله ابنُ مَسْلَمَةَ ففيه حَرَجٌ، وَيبْطُلُ بالقِبلَةِ حيث لم يُوجِبا الصلاةَ إلى أربَعِ جِهاتٍ. واللهُ أعلمُ.

26 - مسألة؛ قال: (وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان)

وَهلْ يشْتَرَطُ إِرَاقَتُهُمَا، أوْ خَلْطُهُمَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 26 - مسألة؛ قال: (وهل يُشْتَرَطُ إراقَتُهُما أو خَلْطُهُما؟ فيه رِوايَتانِ) إحداهُما، يُشْتَرَطُ، ذَكَرَه الخِرَقِيّ، لأنَّ معه ماءً طاهرًا بيقين، فلم يَجُزْ له التَّيَمُّم مع وجودِه، فإذا خَلَطَهُما أو أراقَهُما جازَ له التَّيَمُّم، لأَنَّه لم يَبْقَ معه ماءٌ طاهر. والثانية، يَجوزُ التَّيَمُّم قبلَ ذلك، اخْتاره أبو بكرٍ، وهو الصحيحُ، لأنَّه غيرُ قادرٍ على اسْتِعمالِ الطاهرِ، أشْبَه ما لو كان في بِئْرٍ لا يمكِنُه الوصولُ إليه، فإنِ احتاجَ إليهما للشُّربِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَجِبْ إراقَتُهُما، بغيرِ خلافٍ، لأنّه يجوزُ له التَّيَمُّم لو كانا طاهِرَين، فههُنا أولَى، فإذا أرادَ الشُّربَ تَحرَّى وشَرِب مِن الذي يَظنُّ طهارتَه، فإن لم يَغْلِبْ على ظنِّه شيء، شَرِب مِن أحدِهِما، لأنّه حالُ ضرورَةٍ، فإذا شرِبَ مِن أحدِهما، أو أكلَ مِن المُشْتَبِهةِ بالمَيتَةِ، فهل يَلْزَمُه غَسْلُ فِيهِ؟ يَحتَمِلُ وجهين، أحدُهما، لا يَلزَمُه، لأنَّ الأصلَ الطهارةُ. والثاني، يَلزَمُه، لأنَّه مَحَلّ مُنِعَ مِن اسْتِعمالِه لأجلِ النجاسةِ، فلَزِمَه غسلُ أثَرِه، كالمُتَيَقِّنِ. فإن عَلِم عينَ النَّجِسِ اسْتُحِبَّ إراقَتُه ليُزيلَ الشَّكَّ. فإن احتاجَ إلى الشُّربِ شَرِب مِن الطاهرِ وتَيَمَّم. وإن خافَ العطشَ في ثاني الحالِ، فقال القاضي: يَتوَضَّأ بالطاهرِ، ويَحبِسُ النَّجِسَ، لأنَّه غيرُ محتاجٍ إلى شُربِه في الحالِ، فلم يَجُزِ التَّيَمُّم مع وُجودِه. قال شيخُنا: والصحيحُ، إن شاءَ اللهُ، أنه يَحبِسُ الطاهرَ ويَتيَمَّمُ، لأنّ وجودَ النَّجِسِ كعدَمِه عندَ الحاجةِ إلى الشُّربِ في الحالِ، فكذلك في المالِ، وخوفُ العطشِ في إباحةِ التَّيَمُّمِ كحقيقَتِه (¬1). ¬

(¬1) المغني 1/ 85.

27 - مسألة؛ قال: (وإن اشتبه طهور بطاهر، توضأ من كل واحد منهما وصلى صلاة واحدة)

وَإنِ اشْتَبَه طَاهِرٌ بِظَهُورٍ، تَوَضَّأَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَصَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 27 - مسألة؛ قال: (وإنِ اشْتَبَه طَهُورٌ بطاهِرٍ، تَوَضَّأَ مِن كلِّ واحدٍ مِنْهما وصَلَّى صلاةً واحدةً) لا نعلم فيه خِلافًا، لأنَّه أمكَنَه أداءُ فرضِه بيقين مِن غيرِ حَرَجٍ، فلَزِمَه (¬1) ذلك، كما لو كانا طَهُورَين فلم ¬

(¬1) في الأصل: «فلزم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكْفِه أحدُهما، فإنِ احتاجَ إلى أحدِ الإِناءَين للشُّربِ تَحرَّى وتَوضَّأ بالطَّهورِ عندَه، وتَيَمَّم ليَحصُلَ له اليقينُ، واللهُ أعلمُ.

28 - مسألة؛ قال: (وإن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة، صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس، وزاد صلاة)

وَإنِ اشْتَبَهتِ الثيابُ الطَّاهِرَةُ بِالنَّجِسَةِ، صَلَّى فِي كُلِّ ثَوْبٍ صَلَاةً، بِعَدَدِ النَّجِسِ، وَزَاد صَلَاةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 28 - مسألة؛ قال: (وإنِ اشْتَبهتْ ثِيابٌ طاهرة بنَجِسةٍ، صَلَّى في كلِّ ثَوْبٍ صلاةً بعَدَدِ النَّجسِ، وزادَ صلاةً) ولم يَجُزِ التَّحرِّي، وهذا قولُ ابنِ الماجِشُون؛ لأنّه أمكَنه أَداءُ فَرضِه بيقين مِن غيرِ حَرَجٍ فلَزِمَه، كما لو اشْتَبَه الطاهرُ بالطَّهُورِ، وكما لو فاتَتْه صلاةٌ مِن يوم لا يعلمُ عَينَها. وقال أبو ثَوْرٍ، والمُزَنِيّ: لا يُصَلِّي في شيءٍ منها. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: يَتحَرَّى. كقَوْلِهما في الأوانِي والقِبْلَةِ. والأوَّلُ أوْلَى. والفرقُ بينَ الثيابِ والأوانِي النَّجِسَةِ مِن وجْهين؛ أحدُهما، أنَّ اسْتعمال النَّجِسِ في الأواني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتنَجَّسُ به، ويَمنعُ صِحَّةَ صلاتِه في الحالِ والمَالِ، بخلافِ الثِّيابِ. الثاني، أنَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ يُباحُ له الصلاةُ فيه إذا لم يَجد غيرَه، بخلاف الماءِ النَّجِسِ، والفرقُ بينَه وبينَ القِبْلَةِ مِن ثلاثةِ أوْجُهٍ، أحدُها، أنَّ القِبلةَ يَكثُرُ فيها الاشْتِباهُ. الثاني، أنّ الاشْتِباة هاهُنا حَصَل بتَفْرِيطِه، لأنَّه كان يُمكِنُه تَعلِيمُ النَّجِسِ، بخلافِ القِبلةِ. الثالثُ، أنَّ القِبلةَ عليها أدِلَّة مِنَ النُّجومِ وغيرِها، فيَغلِبُ على الظنِّ مع الاجتهادِ فيها الإِصابَةُ، بحيث يَبْقَى احتمالُ الخطأ وَهْمًا ضعيفًا، بخلافِ الثيابِ. فصل: فإن لم يَعلم عددَ النَّجِسِ، صَلَّى حتى يَتَيقَّنَ أنَّه صلّى في ثوبٍ طاهرٍ، فإن كَثُرَ ذلك وشَقَّ، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَتحَرَّى في أصَحِّ الوجهين، دَفْعًا للمَشقَّةِ. والثاني، لا يَتحَرَّى، لأنَّ هذا يَنْدُرُ جِدًّا، فألحِقَ بالغالِبِ (¬1). ¬

(¬1) في م: «للغالب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن سَقَط على إنسانٍ مِن طريقٍ ماءٌ، لم يَلْزَمه السُّؤالُ عنه، قال صالح (¬1): سألتُ أبي عن الرجلِ يَمُرُّ بموضِعٍ فيَقْطر عليه قَطرة أو قَطرتان؟ فقال: إنْ كان مَخْرَجًا - يعني خَلاءً- فاغْسِلْه، وإن لم يكنْ ¬

(¬1) أبو الفضل صالح بن الإمام أحمد هو أكبر أولاده، وكان سخيا، سمع من أبيه مسائل كثيرة، وولي القضاء، مولده سنة ثلاث ومائتين، ووفاته سنة ست وستين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 173 - 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَخْرَجًا فلا تَسألْ عنه؛ فإنّ عُمَرَ، رَضِي الله عنه، مَرَّ هو وعمرُو بنُ العاصِ على حَوضٍ، فقال عمرٌو: يا صاحبَ الحوضِ، أتَرِدُ على حوضِكَ السِّباعُ؟ فقال عمرُ: يا صاحبَ الحوض لا تُخْبرنا، فإنّا نَرِدُ عليها، وتَرِدُ علينا. رواه مالِكٌ في «المُوطَّأ» (¬1). فإن سَأَلَ، فقال ابنُ عَقِيل: لا يَلْزَمُ المَسْئُولَ رَدُّ الجوابِ؛ لخَبَرِ عمرَ. قال شيخُنا: ويَحتَمِلُ أن يَلْزَمه؛ لأنَّه سُئل عن شرطِ الصلاةِ، فلَزِمَه الجوابُ، كما لو سُئل عن القِبْلَةِ. وخَبَرُ عُمَرَ يَدُلُّ على أنَّ سُؤرَ السِّباعِ طاهرٌ. واللهُ أعلمُ (¬2). ¬

(¬1) في باب الطهور للوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 23، 24، ورواه الدارقطني، في: باب الماء المتغير، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 32. (¬2) المغني 1/ 88.

باب الآنية

بَابُ الآنِيَةِ كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ يُبَاحُ اتِّخَاذُهُ وَاسْتعمَالُهُ، وَلَوْ كَانَ ثَمِينًا؛ كَالْجَوْهرِ، وَنَحوهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الآنيةِ قال، رحمه الله: (كلُّ إناءٍ طاهِرٍ يُباحُ اتِّخاذُه واسْتِعْمالُه. ولَو (¬1) كان ثَمِينًا، كالجَوْهرِ ونَحوه) وجملةُ ذلك أنَّ جميعَ الآنِيَةِ الطاهرةِ مُباح اتِّخاذُها واسْتِعمالُها، سواءٌ كان ثَمِينًا؛ كالبِلَّوْرِ (¬2) والياقوتِ والزُّمُرُّدِ، أوَ ليس بثَمِين، كالعَقِيقِ والخَشَبِ والخَزَفِ والحِجارَةِ والصُّفْر (¬3) والحديدِ والأدَمِ ونحوه، في قول عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا ¬

(¬1) سقطت الواو من: «م». (¬2) في البلور لغتان: كسر الباء مع فتح اللام مثل سنور، وفتع الباء مع ضم اللام وهي مشدودة فيهما مثل تنور. (¬3) الصفر: النحاس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه رُوى عن ابنِ عُمَرَ أنه كَرِه الوُضوءَ في الصُّفْرِ والنُّحاسِ والرَّصاصِ، وما أشْبَهَه. واختارَ ذلك أبو الفَرَجِ المَقْدِسِيُّ، لأنّ الماءَ يتغير فيها، وقال: ورُوى أن المَلائِكَةَ تَكرهُ رِيحَ النّحاسِ. وقال الشافعيُّ في أحدِ قولَيه: ما كان ثمينًا، لنَفِاسَةِ جَوْهَرِه، فهو مُحرَّم، لأنّ فيه سَرَفًا وخُيَلاءَ، وكسْرَ قلوبِ الفقراءِ، أشْبَهَ الأثْمانَ، ولأنَّ تَحرِيمَ آنيةِ الذَّهبِ والفضَّةِ تَنبِيهٌ على تحرِيمِ ما هو أنفَسُ منهما. ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ، قال: أتانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْرَجْنا له ماءً في تَوْرٍ (¬1) مِن صُفْرٍ فَتَوَضَّأ. رواه البُخارِيُّ (¬2). وعن عائشةَ قالتْ: كنتُ أغْتَسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تَوْرٍ مِن شَبَهٍ (¬3). رواه أبو داود (¬4). وأمَّا آنِيَةُ الجواهِرِ فلا يَصحُّ قياسُها على الأثْمانِ لوجهَين، أحدُهما، أنَّ هذا لا يَعِرفُه إلّا خَواصّ الناسِ، فلا تَنكَسِرُ قلوبُ الفقراءِ لكَوْنِهم لا يَعرِفونَه. الثاني، أنَّ هذه ¬

(¬1) التور: إناء يشرب فيه. (¬2) في: باب الغسل والوضوء في الخضب والقدح والخشب والحجارة، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 61. كما أخرجه مسلم، في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة، عن عبد الله بن زيد، ولم يذكر فيه تورا من صفر. صحيح مسلم 1/ 210 - ، 211. وأبو داود، في: باب الوضوء في آنية الصفر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 23. وابن ماجه، في: باب الوضوء بالصفر، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 159. (¬3) الشبه من المعادن: ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع الصفر. (¬4) في: باب الوضوء في آنية الصفر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 22.

29 - مسألة؛ قال: (إلا آنية الذهب والفضة، والمضبب بهما، فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها على الرجال والنساء)

إلا آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْمُضَبَّبَ بِهِمَا، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواهِرٍ لقِلَّتِها، لا يَحصُلُ اتِّخاذُ الآنيةِ منها إلَّا نادِرًا، ولو اتُّخِذَتْ كانت مَصُونَة، لا تُسْتَعْمَلُ ولا تَظهَرُ غالبًا، فلا تُفضِي إباحَتُها إلى اسْتِعْمالِها، بخلافِ آنيةِ الذَّهبِ والفضَّةِ، فإنَّها في مَظِنَّةِ الكَثْرَةِ، فكان التَّحريمُ مُتعلِّقًا بِالمَظِنَّةِ، فلم يَتجاوَزْه،؟ تَعَلَّقَ حكمُ التَّحريمِ في اللباس بالحريرِ، وجازَ استعمالُ القَصَبِ مِن الثيابِ وإن زادتْ قِيمَتُه على قيمةِ الحرِيرِ، ولو جعلَ فَصَّ خَاتَمِه جَوهَرةً ثَمِينة، جازَ، ولو جَعَلَه ذَهبًا، لم يَجُزْ. 29 - مسألة؛ قال: (إلَّا آنِيَةَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والمُضَبَّبَ بِهِما، فإنَّه يَحْرُمُ اتِّخاذُها واسْتِعْمالُها على الرِّجالِ والنِّساءِ) قال شيخُنا، رحمه الله (¬1): لا يَختَلِفُ المذهبُ، فيما عَلِمْنا، في تحريمِ اتِّخاذِ آنيةِ الذهبِ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والفضةِ، وحُكِي عن الشافعيِّ إباحَتُه؛ لتَخْصِيصِ النَّهْي بالاستعمالِ، ولأنّه لا يَلزَمُ مِن تحريمِ الاستعمالِ تحريمُ الاتِّخاذِ، كما لو اتَّخذَ الرجلُ ثيابَ الحريرِ، وذكَرَه بعضُ أصحابِنا وجهًا في المذهبِ. ولَنا، أنَّ ما حَرُمَ استِعمالُه مُطلقًا، حَرُمَ اتِّخاذُه على هَيئةِ الاستعمال كالمَلاهِي، وأمّا ثيابُ الحرِيرِ، فإنّها تُباحُ للنِّساءِ، وتُباحُ التِّجارةُ فيها، فحصَلَ الفرقُ، وأمّا تَحْرِيمُ استِعمالِها فهو قَولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وعن مُعاويةَ بنِ قُرَّةَ (¬1)، أسنه قال: لا بَأسَ بالشُّربِ مِن قَدَحِ فضَّةٍ. وعن الشافعيِّ قولٌ، أنه مَكرُوة غيرُ مُحرَّمٍ؛ لأنّ النَّهْيَ لما فيه مِن التَّشَبُّهِ بالأعاجِمِ، فلا يَقتَضِي التَّحْريمَ. وَلَنا، ما روَى حُذَيفَةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تَأكُلُوا في صِحَافِهَا، فإنَّها لَهُمْ فِي الدُّنيا وَلَكُمْ في الآخِرَةِ». وعن أمِّ سَلَمَةَ، قالت: قال ¬

(¬1) معاوية بن قرة بن إياس، المزني، البصري، أبو إياس. تابعي ثقة، توفي سنة ثلاث عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 216، 217.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الذِى يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ». متَّفَقٌ عليهما (¬1). فتَوَعد عليه بالنّارِ، فدَلَّ على تَحْرِيمِه. ولأنَّ في ذلك. سَرَفًا وخُيَلاءَ وكَسْرَ قلوبِ الفقراءِ. دَلَّ الحديثان على تحريمِ الأكلِ والشربِ، فكذلك الطهارَةُ وسائِرُ الاستعمالِ (¬2). ولأنه إذا حَرُمَ في غيرِ العبادةِ ففيها أولَى، ولا فَرْقَ في ذلك بينَ الرجالِ والنساءِ؛ لعُمُومِ النَّصِّ والمعنى فيهما، وإنَّما أبِيحَ التَّحَلِّي في حق المرأةِ لحاجَتِها إلى التَّزيُّنِ للزَّوجِ، وهذا يَخْتَصُّ الحَلْىَ، فاخْتَصَّتِ الإِباحَةُ به، وكذلك المُضَبَّبُ (¬3) بهما، فإن كان كثيرًا فهو مُحرَّم بكلِّ حالٍ، ذهبًا كان أو فِضَّةً، لحاجةٍ أو غيرِها. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: هو مُباح؛ لأنّه تابعٌ للمُباحِ، أشْبَهَ اليَسِيرَ. ولَنا ما روَى ابنُ ¬

(¬1) أخرجهما البخاري، في باب الأكل في إناء مفضض، من كتاب الأطعمة، وفي: باب الشرب في آنية الذهب، وباب آنية الفضة، من كتاب الأشربة، وفي: باب لبس الحرير وافتراشه للرجال، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 99، 146، 193. ومسلم، في: باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1634، 1635، والنسائي، في: باب النهي عن لبس الديباج، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 175. وابن ماجه، في: باب الشرب في آنية الفضة، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1130. والدارمي، في: باب الشرب في المفضض، من كتاب الأشربة. سنن الدارمي 2/ 121. والإمام مالك، في: باب النهي عن الشرب في آنية الفضة والنفخ في الشراب، من كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الموطأ 2/ 924، 925. والإمام أحمد، في: 1/ 321، 6/ 98، 301، 302، 304، 306. (¬2) في الأصل: «الأعمال». (¬3) المضبب: ما صنعت له ضبة من حديد أو صُفْر أو غيرهما يُشْعَب به.

30 - مسألة؛ قال: (فإن توضأ منهما أو اغتسل، فهل تصح طهارته؟ على وجهين)

فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهُمَا، فَهَلْ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، أوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِن ذلِكَ، فَإنمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ». رَواه الدَّارَقُطْنِي (¬1). ولأنَّ فيه سَرَفًا وخُيَلاءَ، أشْبَهَ الصُّفْرَ الخالِصَ، وفارَقَ اليسيرَ، فإنّه لا يُوجَدُ فيه المعنى المُحَرَّمُ. 30 - مسألة؛ قال: (فإنْ تَوَضَّأ منهما أو اغْتَسَلَ، فهل تَصِحُّ طَهارتُه؟ على وَجْهَين) أحدُهما، تَصِحُّ طهارَتُه، اخْتارَه الخِرَقِيّ، وهو قولُ أصْحابِ الرَّأي، والشَّافعِيِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ فِعْلَ الطَّهارَةِ وماءَها لا يَتَعَلَّقُ بشيءٍ مِن ذلك، أشْبَهَ الطهارةَ في الدَّارِ المَغْصُوبَةِ. والثاني، لا تَصِحُّ. اختارَه أبو بكرٍ، لأنَّه اسْتَعْمَل المُجَرَّمَ في العبادةِ، فلم تَصِحَّ، كما لو صَلَّى في دارٍ مَغْصُوبَةٍ. والأولُ أصحُّ. ويُفارِقُ هذا الصلاةَ في الدارِ المغصوبةِ؛ لأن القِيامَ والقُعُودَ والرُّكُوعَ والسُّجُودَ في الدار المغصوبةِ مُحَرَّم، وهي أفعالُ الصلاةِ، وأفعالُ الوُضُوءِ مِن الغَسْلِ ¬

(¬1) في: باب أواني الذهب والفضة، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 40.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَسْحِ ليس بمُحَرَّم؛ إذ ليس هو اسْتِعْمالًا للإِناء، وإنّما يَقعُ ذلك بعدَ رفع الماءِ مِن الإِناء وفَصْلِه عنه، فهو كما لو اغْتَرَفَ بإناءِ فِضَّةٍ في إناءٍ غيرِه وتَوَضأ منه. ولأنَّ المكانَ شَرْطٌ في الصلاةِ لا يُمكِنُ وُجُودُها إلَّا به، والإِناءُ ليس بشَرْطٍ، فهو كما لو صَلَّى وفي يَدِه خَاتَم ذَهَب. فإن جَعَل آنِيَةَ الذَّهَبِ مَصَبًّا لماءِ الوُضوءِ والغُسْلِ، يَقعُ فيه الماءُ المُنْفَصِلُ عن العُضْو، صحَّ الوُضوءُ؛ لأنَّ المُنفصِلَ الذي يَقعُ في الآنِيَةِ قد رَفَع الحَدَثَ، فلم يَبْطُلْ بوُقوعِه في الإِناءِ، ويَحْتَمِل أنْ تكونَ كالتي قبلَها، ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنّ الفَخْرَ والخُيَلاءَ وكَسْرَ قلوب الفقراءِ حاصِلٌ ههُنا، كحصُوله في التي قبلَها، بل هو ههُنا أبلَغُ، وفِعْلُ الطَّهارةِ يَحْصُلُ ههُنا قبلَ وصولِ الماءِ إلى الإِناءِ، وفي التي قبلَها بعدَ فَصْلِه عنه، فهي مِثْلُها في المعنى، وإن افْتَرَقا في الصُّورَةِ. فصل: فإن تَوَضَّأ بماءٍ مَغْصُوبٍ، فهو كما لو صَلَّى في ثوب مغْصُوبٍ، لا تَصِحُّ في أصَحِّ (¬1) الوَجْهَين، ووَجْهُه ما يأتي في بابِه. ¬

(¬1) في الأصل: «أحد».

31 - مسألة، قال: (إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة، كتشعيب القدح، فلا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال)

إلا أن تَكُونَ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً مِنَ الْفِضَّةِ؛ كَتَشْعِيبِ الْقَدَحِ، وَنَحْوهِ، فلا بَأسَ بِهَا، إِذَا لَمْ يُبَاشِرْهَا بِالاسْتِعْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 31 - مسألة، قال: (إلَّا أنْ تَكُونَ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً مِن الفِضَّةِ، كتَشْعِيبِ القَدَحِ، فلا بَأسَ بها إذا لم يُباشِرْها بالاسْتِعْمالِ) ومِمَّن رَخَّص في ضَبَّةِ الفِضَّةِ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ (¬1)، ومَيسَرَةُ (¬2)، وطاوُس (¬3)، والشافعيُّ، ¬

(¬1) أبو عبد الله سعيد بن جبير الوالبي، مولاهم، التابعي الفقيه المفسر، قتله الحجاج سنة خمس وتسعين. العبر 1/ 112. (¬2) أبو جميلة ميسرة بن يعقوب الطهوي الكوفي صاحب راية علي، ثقة. تهذيب التهذيب 10/ 387. (¬3) أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني الجندي، من فقهاء التابعين، وكان جليلا، توفي بمكة حاجا سنة ست ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 73، العبر 1/ 130، 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأي، وإسحاقُ، وقال: قد وضَع عمر بنُ عبد العزيزِ فاه بينَ ضبَتّينِ. وكان ابنُ عمرَ لا يشرَبُ مِن قَدَحٍ فيه فضَّةٌ ولا ضَبَّةٌ. وكَرِهَ الشُّربَ في الإِناءِ المُفَضَّض عليُّ بنُ الحسين (¬1)، وعطاءٌ، وسالِم (¬2)، والمُطَّلِبُ بنُ حَنْطَبٍ (¬3). ونَهَتْ عائشةُ أن يُضَبِّبَ ¬

(¬1) يعني علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، زين العابدين، روى عن أبيه وعمه الحسن، وأرسل عن جده - صلى الله عليه وسلم -. تهذيب التهذيب 7/ 305 - 307. (¬2) أبو عمر سالم عبد الله بن عمر بن الخطاب. من فقهاء التابعين في المدينة، كان إليه الأمر بعد سعيد بن المسيب، توفي سنة ست ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 62. (¬3) المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب المخزومي، تابعي. انظر الكلام في توثيقه في: تهذيب التهذيب 10/ 178، 179.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآنِيَةَ، أو يُحَلِّقَها بالفِضَّةِ، ونحوه قولُ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، ولعلَّهم كَرِهُوا ما قُصِدَ به الزينَةُ، أو كان كثيرًا، فيكونُ قولُهم وقولُ الأوَّلِينَ واحدًا، ولا يكونُ في المسألةِ خلافٌ. فأمّا اليَسِيرُ كتَشْعِيبِ القَدَحِ ونَحْوه، فلا بَأسَ به؛ لما روَى أنسُ بنُ مالِكٍ، أنَّ قَدَحَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَر، فاتَّخَذ مكانَ الشَّعبِ سِلْسِلَةً مِن فِضَّةٍ. رواه البُخارِيُّ (¬1). قال القاضي: يُباحُ يَسِيرُ الفِضَّةِ مع الحاجةِ وعَدَمِها. لما ذكرْنا، ولأنّه ليس فيه ¬

(¬1) في: باب ما ذكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصاه. . . إلخ، من كتاب الخمس. صحيح البخاري 4/ 101. وانظر: باب الشرب من قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وآنيته، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 7/ 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَرَفٌ ولا خُيَلاءُ، أشْبَهَ الصُّفْرَ، إلَّا أنه كَرِه الحَلْقَةَ، لأنّها تُسْتَعْمَلُ. وقال أبو الخَطَّابِ: لا تُباحُ إلّا لحاجَةٍ، لأنَّ الخَبَرَ إنَّما وَرَد في تَشْعِيبِ القَدَحِ، وهو للحاجةِ. ومعنى ذلك أن تَدْعُوَ الحاجةُ إلى فِعْلِه، وليس معناه أن لا يَنْدَفِعَ بغيره. ويُكْرهُ مُباشَرةُ مَوْضِع الفِضَّةِ (¬1) بالاستعمالِ؛ لِئَلَّا يكونَ مُسْتَعْمِلًا للفضةِ التي جاء الوعيدُ في اسْتِعْمالِها. ¬

(¬1) في الأصل: «الضبة».

32 - مسألة؛ قال: (وثياب الكفار وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال، ما لم تعلم نجاستها)

وَثِيَابُ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيهِمْ طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الاسْتِعْمَالِ، مَا لمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 32 - مسألة؛ قال: (وثِيابُ الكُفَّارِ وأوانِيهِم طاهِرَةٌ مُباحَةُ الاسْتِعْمالِ، ما لم تُعلَمْ نَجاسَتُها) والكُفّارُ على ضَرْبَين؛ أهلِ الكتابِ، وغيرِهم، فأمَّا أهلُ الكتابِ، فيُباحُ أكلُ طعامِهم وشرابِهم، واستعمالُ آنِيَتهم، ما لم تُعْلَمْ نَجاسَتُها. قال ابنُ عَقِيل: لا تَختَلِفُ الرِّوايةُ في أنه لا يَحرُمُ استعمالُ أوانيهم؛ لقَوْلِ الله تِعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1). وعن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ، قال: دُلِّيَ جِرابٌ مِن شَحْم يومَ ¬

(¬1) سورة المائدة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَيبَرَ، فالْتَزَمْتُه، وقلتُ: واللهِ لا أُعْطِي أحدًا منه شيئًا. فالْتَفَتُّ فإذا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَبَسَّمُ. روَاه مسلم (¬1). ورُويَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أضافَه يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وإهَالةٍ سَنِخَةٍ (¬2). من المُسْنَدِ (¬3). وتَوَضَّأ عمر مِن جَرَّةِ نَصْرانِيَّةٍ (¬4). وهل يُكْرَهُ استعمالُ أوانِيهم؟ على رِوايَتَين؛ إحداهما، لا ¬

(¬1) في: باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، من كتاب الجهاد 3/ 1393. وأخرجه البخاري بمعناه، في: باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب من كتاب الخمس، وفي: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم، من كتاب الذبائح. صحيح البخاري 6/ 114، 5/ 72، 7/ 120. وأخرجه أبو داود، في: باب إباحة الطعام في أرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 60. والنسائي، في: باب ذبائح اليهود، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 209. والدارمي، في: باب أكل الطعام قبل أن تقسم الغنيمة، من كتاب السير سنن الدارمي 2/ 238. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 86، 5/ 56. (¬2) الإهالة: الودك المذاب، والسنخة: المتغيرة الريح. (¬3) 3/ 211. (¬4) أخرجه الدارقطني، في: باب الوضوء بماء أهل الكتاب، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُكْرَه؛ لما ذكرْنا. والثانية، يُكْرَهُ؛ لما روَى أبو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا بأَرْضِ قوم أهلِ كتابٍ، أفنَأكُلُ في آنِيتِهم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ وَجَدْتُمْ غَيرَهَا فَلَا تَأكُلُوا فِيهَا، وإنْ لَمْ تَجِدُوا غَيرَهَا فَاغْسِلُوهَا وكُلُوا فِيهَا». متَّفَقٌ عليه (¬1) وأقَلُّ أحْوالِ النَّهْي الكَراهَةُ. ولأنَّهم لا يَتَوَرَّعُون عن النَّجاسةِ، ولا تَسْلَمُ آنِيَتُهم مِنها، وأدْنَى ما يُؤثر ذلك الكَراهَةُ. وأمَّا ثيابُهم فما لم يَسْتَعْمِلُوه، أو ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب صيد القوس، وباب ما جاء في التصيد، وباب آنية المجوس والميتة، من كتاب الذبائح. صحيح البخاري 7/ 111، 114، 117. ومسلم، في: باب الصيد بالكلاب المعلمة، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1532. وأبو داود، في: باب الأكل في آنية أهل الكتاب، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 327. والترمذي، في: باب ما جاء ما يؤكل من صيد الكلب. وما لا يؤكل، من أبواب الصيد، وفي: باب ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين، من أبواب السير، وفي: باب ما جاء في آنية الكفار، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 6/ 552، 7/ 51، 299. وابن ماجه، في: باب صيد الكلب، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1069، 1070. والدارمي، في: باب الشرب في آنية المشركين، من كتاب السير، سنن الدارمي 2/ 233، 234. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 184، 4/ 193، 195.

المقنع وعَنْهُ، مَا وَلِيَ عَوْرَاتِهِمْ؛ كَالسَّرَاويلِ وَنَحْوهِ، لا يُصَلَّى فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ علا منها، كالعِمامَةِ، والثوبِ الفَوْقانِيِّ، فهو طاهِرٌ لا بَأسَ بلُبْسِه، وما لاقَى عَوْراتِهم، كالسَّراويلِ، ونَحْوه، فرُوىَ عن أحمدَ أنه قال: أحَبُّ إليَّ أن يُعِيدَ إذا صَلَّى فيه. وهذا قولُ القاضي. وكَرِه أبو حنيفةَ والشافعيُّ لُبْسَ الأزُرِ والسَّراويلاتِ، وقال أبو الخَطَّابِ: لا يُعِيدُ؛ لأنّ الأصلَ الطهارةُ، فلا تَزُولُ (¬1) بالشَّكِّ. الضربُ الثاني، غيرُ أهلِ الكتابِ، وهم المَجُوسُ، وعَبَدَةُ الأوْثانِ، ونحوُهم، ومَن يَأكلُ لحمَ الخِنْزِيرِ مِن أهل الكتابِ في مَوْضِع يُمْكِنُهم أكْلُه، أو يَأكلُ المَيتَةَ، أو يَذْبَحُ بالسِّنِّ والظفْرِ، فحُكْمُ ثِيابِهم حُكْمُ ثيابِ أهلِ الذِّمَّةِ، عملًا بالأصلِ، وأمَّا أوانِيهِم، فقال أبو الخَطَّاب: حُكْمُها حكمُ أوانِي أهلِ الكتابِ، يُباحُ اسْتِعْمالُها ما لم يَتَحَقَّقْ نَجاسَتَها. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ. متَّفَق عليه (¬2). ولأنَّ الأصلَ الطهارةُ، فلا تَزُولُ بالشَّكِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «يزال». (¬2) انظر ما أخرجه البخاري، في: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، من كتاب الطهارة، وفي: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب؛ صحيح البخاري 1/ 93، 4/ 232. ومسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة. . . .، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 474. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 434، 435.

وَعَنْهُ، أَنَّ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ، لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْ آنِيَتهِمْ إلا بَعْدَ غَسْلِهِ، وَلَا يُؤكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إلا الْفاكِهَةُ وَنَحْوُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: هي نَجسَةٌ، لا يُسْتَعْمَل ما اسْتَعْمَلُوه منها إلَّا بعدَ غَسْلِه؛ لحديثِ أبي ثَعْلَبَةَ، ولأَنَّ أوانِيَهم لا تَخْلُو مِن أطْعِمَتِهِم، وذَبائِحُهُم مَيتَةٌ، فتَتَنَجَّسُ بها. وهذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ، فإنَّه قال في المَجُوسِ: لا يُؤكَلُ مِن طَعامِهِم إلَّا الفَاكِهَةُ؛ لأنَّ الظاهِرَ نجاسةُ آنِيتهم المستعْمَلَةِ في أطْعِمَتِهم. ومتى شَكَّ في الإِناءِ، هل اسْتَعمَلُوه، أم لا؟ فهو طاهِرٌ؛ لأنَّ الأصْلَ طهارتُه، ولا نعلم خلافًا بينَ أهلِ العلمِ في إباحَةِ لُبْس الثوبِ الذي نَسَجَه الكُفَّارُ، فإنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه إنَّما كان لِبَاسُهُم مِن نَسْجِ الكُفَّارِ، إلَّا أنَّ ابنَ أبي موسى ذكَر في «الإِرْشادِ» في وُجوبِ غَسْلِها قبلَ لُبْسِها رِوايَتَين؛ إحداهما، لا يَجِبُ، وهو الصحيحُ؛ لما ذكرْنا. والثانية، يَجِبُ؛ لتَيَقُّنِ (¬1) الطَّهارةِ. فأمَّا ثِيابُهم التي يَلْبَسُونها، فأباحَ الصلاةَ فيها الثَّوْرِيُّ، وأصْحابُ الرَّأيِ. وقال مالِكٌ في ثوبِ الكافرِ: إن صَلَّى فيه يُعيدُ، ما دامَ في الوقتِ. ولَنا، أنَّ الأصلَ الطهارةُ، ولم يَترَجَّحِ التنجِيس فيه، أشْبَهَ ما نَسَجَه الكُفَّارُ (¬2). ¬

(¬1) في م: «ليتيقن». (¬2) في الأصل: «الكافر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُباحُ الصلاةُ في ثيابِ الصِّبيانِ والمُربِّياتِ، وفي ثوبِ المرأةِ الذي تَحِيضُ فيه إذا لم تَتحَقَّقْ نَجاسَتَه، وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأي؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى وهو حامِل أُمامَةَ بنتَ أبي العاص بنِ الرَّبِيع. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فإذا سَجَد وَثب الحَسنُ على ظَهْرِه (¬2). قال أصحابُنا: والتَّوَقِّي لذلك أوْلَى، لاحْتِمالِ النجاسةِ فيه. وقد روَى أبو داودَ (¬3) عن عائشةَ، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلِّي في شُعُرِنا ولُحُفِنا. ولُعابُ الصبيَانِ طاهِر، وقد روَى أبو هُرَيرةَ، قال: رَأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حامِلَ الحُسَينِ بنِ علي على عاتِقِه، ولُعابُه يَسِيلُ عليه (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، من كتاب الصلاة، وفي: باب رحمة الولد وتقبيله، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 137، 8/ 8. ومسلم، في: باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 385. وأبو داود، في: باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة، سنن أبي داود 1/ 210، 211. والنسائي، في: باب حمل الصبايا في الصلاة ووضعهن في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 10. والإمام مالك، في: باب جامع الصلاة، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 170. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 304. (¬2) انظر: باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، من كتاب الصلاة، في سنن النسائي. المجتبى 2/ 182، والمسند، للإمام أحمد 3/ 494، 6/ 467. (¬3) في: باب الصلاة في شعر النساء، من كتاب الطهارة، وفي: باب الصلاة في شعر النساء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 88، 150. وأخرج نحوه الترمذي، في: باب كراهية الصلاة في لحف النساء، من أبواب الجمعة وبقية أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 3/ 80. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب اللعاب يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 216. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 279، 406، 467.

33 - مسألة، قال: (ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ)

وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْمَيتَةِ بِالدِّبَاغِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ غَسْلُ الثوبِ المَصْبُوغِ في حُبِّ الصَّبَاغِ (¬1)، مُسْلِمًا كان أو كِتابِيًّا، أو كافرًا (¬2). نَصَّ عليه أحمدُ، عَمَلًا بالأصلِ، فإن عُلِمَتْ نجاسَتُه طَهُرَ بالغَسْلِ، وإن بَقِيَ اللَّوْنُ، لقَوْلِه، عليه السَّلامُ، في الدَّمِ: «المَاءُ يَكْفِيكِ، وَلا يَضُرُّكِ أثرهُ». رَواه أبو داودَ (¬3). فصل: ويُستَحَبُّ تَخْمِيرُ الأوانِي وإيكاءُ الأسْقِيَة؛ لما روَى أبو هُريرَةَ، قال: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نُغَطيِّ الإِناءَ، ونُوكِيَ السِّقاءَ (¬4). 33 - مسألة، قال: (ولا يَطْهُرُ جِلْدُ المَيتَةِ بالدِّباغِ) هذا هو الصحيحُ مِن المذهبِ، وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن مالِكٍ، رُوى ذلك عن عُمَرَ وابنه، وعائشةَ، وعِمْرانَ بنِ حُصين، رَضِي اللهُ عنهم، لما روَى عبدُ اللهِ بنُ عُكَيم، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلى جُهَينَةَ: «إنِّي كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ المَيتَةِ، فإذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هذَا فَلا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيتَةِ بِإهَابٍ وَلا ¬

(¬1) حب الصباغ: الوعاء الذي يصبغ فيه. (¬2) سقط من: «م». (¬3) في: باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 88. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب تخمير الإناء، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1129. وورد الأمر بذلك من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه البخاري، في: باب تغطية الإناء، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 5/ 144. ومسلم، في: باب الأمر بتغطية الإناء. . . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1594 - 1596. وأبو داود، في: باب في إيكاء الآنية، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 304. وابن ماجه في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَصَبٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). [وليس في رِواية أبي داودَ: «كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكْمُ»] (¬2). والإِمامُ أحمدُ (¬3)، وقال: إسْنادٌ جَيِّدٌ، يَرْويه يحيى بنُ سعيدٍ، عن شُعْبَةَ، عن الحَكَم، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيلَى عنه. وفي لفظٍ: أتانا كتابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ وفاتِه بشَهْرٍ أو شَهْرَينِ (¬4). وهو ناسِخٌ لما قبلَه، لأنّه في آخِرِ عُمْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولفظُه دَالٌّ على سَبْقِ الرُّخْصَةِ، وأنَّه مُتأَخِّرٌ عنه، لقولِه: «كُنْتُ رَخَّصت لَكُمْ». وإنَّما يُؤخَذُ بالآخِرِ مِن أمرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإن قِيل: هذا مُرْسَلٌ، لأنَّه مِن كتابٍ لا يُعْرَفُ حامِلُه. قلنا: كتابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كلَفْظِه، ولذلك لَزِمَتِ ¬

(¬1) في: باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 387. وكذلك رواه الترمذي، في: باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 234، 235. والنسائي، في: باب ما يدبغ به جلود الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة المجتبى 7/ 155. وابن ماجه، في: باب من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1194. (¬2) بعد هذا في حاشية ش: «ولا عند أحمد؛ بل ذلك من رواية الطبراني والدارقطني». وهذا كله في الأصل بعد قوله: «عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه». (¬3) في المسند: 4/ 310، 311. (¬4) انظر ما مر في تخرج الحديث السابق. قال الترمذي: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث؛ لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: هذا آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده؛ حيث روى بعضهم فقال عن عبد الله بن حكيم عن أشياخ لهم من جهينة. عارضة الأحوذي 7/ 235، 236.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُجَّةُ مَن كَتَب إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وحَصَل له البَلاغُ؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ حُجَّةً، لم تَلْزَمْهُم الإِجابَةُ، ولكان لهم عُذْرٌ في تَرْكِ الإِجابةِ؛ لِجَهْلِهم بحامِلِ الكتابِ، والأمْرُ بخلافِ ذلك. ورَوَى أبو بكرٍ الشافعيّ، بإسْنادِه، عن أبي الزُّبَيرِ، عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيتَةِ بِشَيْءٍ» (¬1). وإسْنادُه حسنٌ، ولأنَّه جُزْءٌ مِن المَيتَةِ، فحَرُمَ الانْتِفاعُ به كَسائِرِها، ولقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ} (¬2). ¬

(¬1) جمع الجوامع، للسيوطي 1/ 907. (¬2) سورة المائدة 3.

34 - مسألة؛ قال: (وهل يجوز استعماله في اليابسات بعد الدبغ؟ على روايتين)

وَهَل يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي اليابِسَاتِ بَعْدَ الدَّبْغِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 34 - مسألة؛ قال: (وهل يجوز اسْتِعْمالُه في اليابِسات بعدَ الدَّبْغِ؟ على رِوايَتَينِ) إحْداهما، لا يجوزُ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُكَيم. والثانية، يجوز الانْتِفاعُ بِجِلْدِ ما كان طاهِرًا حال الحَياةِ إذا دُبِغ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَد شَاةً مَيِّتةً أعْطِيَتهَا (¬1) مَوْلاةٌ لِمَيمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في الأصل: «أعطتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «ألَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ». رواه مسلمٌ (¬1) ولأنَّ الصَّحابةَ، رَضِي اللهُ عنهم، لَمّا فتَحُوا فارِسَ، انْتَفَعُوا بسُرُوجِهم وأسْلِحَتهم، وذبائحُهم مَيتَةٌ، ونَجاسَتُه لا تَمنَعُ الانْتِفاعَ به، كالاصْطِيادِ بالكلبِ، وركوبِ البَغْلِ والحِمارِ. ¬

(¬1) في: باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 276، 277.كما أخرجه البخاري، في: باب الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الزكاة، وفي: باب جلود الميتة قبل أن تدبغ، من كتاب البيوع، وفي: باب جلود الميتة، من كتاب الذبائح. صحيح البخاري 2/ 158، 3/ 107، 7/ 124. وأبو داود، في: باب في أهب الميتة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 386، 387. والترمذي، في: باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 234. والنسائي، في: باب جلود الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 151، 152. وابن ماجه، في: باب لبس جلود الميتة إذا دبغت، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 3/ 1193. والدارمي، في: باب الاستمتاع بجلود الميتة، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 86. والإمام مالك، في: باب ما جاء في جلود الميتة، من كتاب الصيد. الموطأ 2/ 498. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 262، 327، 330، 365، 366، 6/ 329. وانظره أيضًا في: 1/ 227، 277، 327، 372، 6/ 334.

35 - مسألة؛ قال: (وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهرا حال الحياة)

وَعَنْهُ، يَطْهُرُ مِنْهَا جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 35 - مسألة؛ قال: (وعنه: يَطهُرُ مِنْها جِلْدُ ما كان طاهِرًا حال الحياةِ) نصَّ أحمد على ذلك، قال بعضُ أصحابِنا: إنَّما يَطْهُرُ جِلْدُ ما كان مأكُولَ اللَّحْمِ. وهو مذهبُ الأوْزاعِي (¬1)، وأبي ثَوْرٍ، وإسحاقَ؛ لأنَّه رُويَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذَكَاةُ الأدِيمَ دِبَاغُهُ». رواه الإِمامُ ¬

(¬1) أبو عمرو عبد الرحمن بن عمر بن يحمد الأوزاعي، إمام الشاميين وفقيههم، وأحد الزهاد والكتاب المترسلين، توفي سنة سبع وخمسن ومائة. وفيات الأعيان 3/ 127، 128، العبر 1/ 227.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). فَشَبَّهَ الدِّباغَ بالذَّكاةِ، والذَّكاةُ إنّما تَعْمَلُ في مأكولِ اللَّحمِ، ولأنَّه أحدُ المُطَهِّرين للجِلْدِ، فلم يُوثِّرْ في غيرِ مَأكُولٍ كالذَّبْحِ. والأوَّلُ ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ لعُمُومِ لفظِه في ذلك، ولأنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا إِهَابٍ دُبغ فَقَدْ طَهُرَ» (¬2). يَتَناوَلُ المَأكُولَ وغيرَه، وخَرَجَ مِنه ما كان نَجِسًا في الحياةِ، لكَوْنِ الدَّبْغ إنَّما يُوثِّرُ في رَفْعِ نجاسةٍ حادِثةٍ بالموتِ، فتَبْقَى فيما عَداه على قَضِيَّةِ العُمُومِ. وحديثُهم يَحْتَمِلُ أنه أرادَ بالذَّكاةِ التَّطْيِيبَ، مِن قَوْلِهم: رائِحة ذَكِيَّةٌ. أي: طيَبة. ويَحتَمِلُ أنه أرادَ بالذَّكاةِ الطهارةَ، فعلى هذَين التأويلَين يكون اللَّفْظُ عامًّا في كلِّ جِلْدٍ، فيَتَناولُ ما اختَلَفْنا فيه، ويَدُلُّ على التَّأويلِ الذي ذكرْنا، أنه لو أرادَ بالذَّكاةِ الذَّبْحَ لأضافَه إلى الحيوانِ كلِّه، لا إلي الجِلْدِ. فصل: فأمَّا جُلُودُ السِّباعِ، فقال القاضي: لا يجوزُ الانْتِفاعُ بها قبلَ الدِّباغِ ولا بعدَه. وبذلك قال الاوزاعِيُّ، وابنُ المُبارَكِ (¬3)، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. ورُوىَ عن عُمَر وعلي، رَضِي اللهُ عنهما، كَراهَة ¬

(¬1) لم يخرجه بهذا اللفظ إلا الإمام أحمد في: المسند 3/ 476، 5/ 6. وأخرجه النسائي بنحوه، في: باب جلود الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 153، 154. (¬2) رواه الترمذي، في: باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، من أبواب اللباس، عارضة الأحوذي 7/ 232، 233. والنسائي، في: باب جلود الميته، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 153. والدارمي، في: باب الاستمتاع بجلود الميتة، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 85. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 219، 270، 343. (¬3) أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك المروزي الحنظلي، الإمام الزاهد، جمع العلم والفقه والأدب، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة. الجواهر المضية 2/ 324 - 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ في جُلُودِ الثَّعالِبِ. [وأباحَ الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، وأصحابُ الرَّأي الصلاةَ في جُلُودِ الثَّعالِب؛ لأنَّ الثَّعالبَ تُفْدَى في الإِحْرامِ، فكانت مُباحَةً، ولما ثبَتَ مِنَ الدَّليلِ على طهارة جُلُود المَيتَةِ بالدِّباغِ. وجُلودُ الثَّعالبِ يُبْنَى حُكمُها على حِلِّها، وفيها رِوَايتانِ، فكذلك يُخَرَّجُ في جُلُودها، فإنْ قُلْنا بتَحرِيمها، فحُكمُ جُلُودِها حُكمُ بَقيَّةِ جُلُودِ السِّباعِ، وكذلكَ السَّنانيرُ البَرِّيَّةُ، فأمَّا الأهلِيَّةُ فمُحرَّمَةٌ. وهل تَطْهُرُ جُلودُها بالدِّباغِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَينِ] (¬1). ورَخَّص في جلودِ السباعِ جابِرٌ. ورُوى عن ابنِ سِيرِينَ، وعُرْوَةَ (¬2)، [أنَّهما رَخَّصا] (¬3) في الرُّكوبِ على جُلُودِ النُّمُورِ. ومذهبُ الشّافعيِّ طهارةُ جلودِ الحيواناتِ كلها إلَّا الكلبَ والخِنْزِيرَ؛ لأنّه يَرى طهارَتَها في حالِ الحياةِ، وله في جِلْدِ الآدَمِيِّ وَجْهان. وقال أبو حنيفةَ: يَطْهُرُ كلُّ جلدٍ إلَّا جلدَ الخِنْزِيرِ. وحُكِي عن أبي يوسفَ طهارةُ كلِّ جلدٍ. وهو روايةٌ عن مالكٍ. ومذهبُ مَن حَكَم بطهارةِ جلُودِ (¬4) الحيواناتِ كلها؛ لعُمُومِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيمَا إِهَابٍ دُبغ فَقَدْ طَهُرَ». مُتَّفَق عليه. ولَنا، ما روَى أبو رَيحانَةَ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ركُوبِ النُّمورِ. رواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬5). وعن ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام، من فقهاء التابعين بالمدينة، توفي سنة أربع وتسعين. طبقات الفقهاء للشيرازي 58، 59. (¬3) في الأصل، م: «أنهم رخصوا». (¬4) سقط من: «م». (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في جلود النمور والسباع، من كتاب اللباس، وفي: باب ما جاء في الذهب للنساء، من كتاب الخاتم. سنن أبي داود 2/ 388، 410. والنسائي، في: باب النتف، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 123. وابن ماجه، في: باب ركوب النمور، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجة 2/ 1205. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعاويةَ، والمِقْدامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ جُلودِ السِّباعِ (¬1) والرُّكوبِ عليها. روَاه أبو داودَ، والنَّسائِي (¬2). مع [ما ذَكَرْنا من نَهْي النبيِّ] (¬3) - صلى الله عليه وسلم - عن الانْتفاعِ بشيءٍ من المَيتَةِ، فجَمعْنا بينَ هذه الأحاديثِ، وبينَ الأحاديثِ الدَّالَّةِ على طهارةِ جُلُودِ المَيتَةِ بحَمْلِها على ما كان طاهِرًا حال الحياةِ، وحَمْلِ الأحاديثِ النَّهْي على ما لم يَكُنْ طاهِرًا، لأنّه متى أمْكَن الجَمْعُ بينَ الأحاديثِ ولو مِن وجه، كان أَوْلَى مِن التَّعارُضِ بينَها، يُحقِّقُ ذلك أنَّ الدَّبْغَ إنّما يُزيلُ النجاسةَ الحادِثةَ بالموتِ، ويَرُدُّ الجلدَ إلى ما كان عليه حال الحياةِ، فإذا كان في الحياةِ نَجِسًا لم يُؤَثِّرْ فيه الدِّباغُ شيئًا، واللهُ أعلمُ. فصل: وإذا قُلْنا بطهارةِ الجِلْدِ بالدِّباغِ، لم يَحِلَّ أكْلُه، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، وحُكِي عن ابنِ حامدٍ أنَّه يَحِلُّ. وهو وجهٌ لأصحابِ الشافعيِّ، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «ذَكَاةُ الأدِيمَ دِبَاغُهُ». ولأنّه معنًى يفيدُ الطهارةَ في الجِلْدِ، أشْبَهَ الذَّبْحَ. وظاهرُ قولِ الشافعيِّ، أنه إنْ كان مِن حيوانٍ مأْكُول، جازَ أكْلُه، لأنَّ الدِّباغَ بمَنْزِلَةِ الذَّكاةِ، وإلّا لم يَجُزْ؛ لأنَّ ¬

= والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 92، 93، 99، 134. (¬1) في الأصل: «نهى عن افتراش جلود السباع». (¬2) في: باب في جلود النمور والسباع، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 388.كما رواه النسائي، في: باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 156. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 101. (¬3) في الأصل، م: «ذكرناه، ونهى النبي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذَّكاةَ لا تُبِيحُه، فالدِّباغُ أوْلَى. والأوَّلُ أصحُّ؛ لقَوْلِه عزَّ وجلَّ: {حُرِّمَت عَلَيكُمُ الْمَيتَة} (¬1). والجِلْدُ مِنها. ولقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيتَةِ أكْلُهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولا يَلزَمُ مِن الطهارةِ إباحَةُ الأكل؛ بدليلِ تحرِيمِ الخبائثِ مِمّا لا يَنْجُسُ بالموتِ، وقِياسُهم لا يُقْبَلُ مع مُعارَضةِ الكتابِ والسُّنَّةِ. فصل: ويجوز بَيعُه، وإجارَتُه، والانْتِفاعُ به في كلِّ ما يُمْكِنُ، سِوَى الأكْلِ، وهو قولُ الشافعيِّ في الجَدِيدِ. ولا يجوز بَيعُه قبلَ الدَّبْغ، لا نَعلَمُ فيه خلافًا؛ لأنَّه مُتَّفَقٌ على نجاسَتِه، أشْبَهَ الخِنزِيرَ، ويَفتَقِرُ ما يُدبَغُ به إلى أن يكونَ مُنَشِّفًا للرُّطُوبةِ، مُنَقِّيًا للخَبَثِ، كالشَّبِّ (¬3) والقَرَظِ (¬4). قال ابنُ عَقِيل: يُشْتَرَطُ أن يكونَ طاهرًا؛ لأنَّها طهارةٌ مِن نجاسةٍ، فلم ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الزكاة، وفي: باب جلود الميتة قبل أن تدبغ، من كتاب البيوع، وفي: باب جلود الميتة، من كتاب الذبائح. البخاري 2/ 158، 3/ 107، 7/ 124. ومسلم، في: باب طهارة جلود الميتة بالدباع، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 277، 276. وأبو داود، في: باب في أهب الميتة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 386، 387. والترمذي، في: باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 234. والنسائي، في: باب جلود الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 151، 152. وابن ماجه، في: باب ليس جلود الميتة إذا دبغت، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1193 والدارمي، في: باب الاستمتاع بجلود الميتة، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 86. والإمام مالك، في: باب ما جاء في جلود الميتة، من كتاب الصيد. الموطأ 2/ 468. والإمام أحمد، في المسند: 1/ 262، 327، 330، 365، 366، 6/ 329. وانظره أيضًا في: 1/ 227، 277، 327، 372، 6/ 334. (¬3) الشب: من الجواهر التي أنبتها الله تعالى في الأرض، يدبغ به، يشبه الزاج. (¬4) القرظ: حب يخرج في غلف كالعدس من شجر العضاه، يدبغ به.

36 - مسألة؛ قال: (ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة)

وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ غَيرِ الْمَأكُولِ بِالذَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطْهُرْ بِنَجِسٍ، كالاسْتِجْمارِ. وهل يَطْهُرُ الجِلْدُ بمُجَرَّدِ الدَّبْغِ قبلَ غَسله بالماءِ؟ فيه وجهان؛ أحدُهما، لا يَحصُلُ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يُطَهِّرُهَا الماءُ والقَرَظُ». رواه أبو داود (¬1). ولأنَّ ما يُدبَغُ به نَجُس بمُلاقاةِ الجِلْد، فإذا انْدبغَ الجلدُ بَقِيَتِ الآلة نَجِسَةً، فَتَبْقَى نجاسةُ الجلدِ لملاقَاتِها له، فلا تَزُولُ إلَّا بالغَسْلِ. والثاني، يَطْهُرُ، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «أيما إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ». ولأنّه طَهُرَ بانْقِلابِه، فلم يَفتَقِر إلي استعمال المِاءِ، كالخَمْرَةِ إذا انْقَلَبَتْ. وروَتْ عائشةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «طَهُورُ كُل أَدِيم دِبَاغُه» (¬2). قال شيخُنا: والأوَّلُ أَوْلَى، فإنَّ المعنى والخبرَ إنّما يَدُلّانِ على طهارةِ عَينه، وذلك لا يَمنَعُ مِن وُجُوبِ غَسْلِه مِن نجاسةٍ تُلاقِيه، كما لو أصابَتْه نجاسةٌ سِوَى آلةِ الدَّبْغِ، أو أصابَتْه آلةُ الدَّبْغ بعدَ فَصْلِه عنها (¬3). ولأصْحابِ الشافعي وجهان كهذَين. فصل: ولا يفْتَقِرُ الدَّبْغُ إلى فِعْلٍ، فلو وَقَع جلدٌ في مَدْبَغَةٍ فانْدَبَغ، طَهُرَ؛ لأنَّها إزالةُ نجاسةٍ، فهو كالمَطَرِ يُطَهِّرُ الأرضَ النَّجِسَةَ. 36 - مسألة؛ قال: (ولا يَطْهُرُ جِلْدُ غَيرِ المَأْكُولِ بالذَّكاةِ) وهذا ¬

(¬1) في: باب في أهب الميتة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 387.كما رواه النسائي، في: باب ما يدبغ به من جلود الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 154. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 334. (¬2) أورده صاحب كنز العمال وعزاه إلى أبي بكر في الغيلانيات. كنز العمال 9/ 418. وأخرجه البيهقي بلفظ: «طهور كل إهاب دباغه». السنن الكبرى 1/ 21. (¬3) انظر: المغني 1/ 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشافعي. وقال أبو حنيفةَ، ومالِك: يَطْهُرُ، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَكَاةٌ الأدِيمِ دِبَاغُهُ» (¬1). شَبَّه الدَّبْغَ بالذَّكاةِ، والدَّبْغُ يُطَهِّرُ الجِلْدَ على ما مَضَى، كذلك الذَّكاةُ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن افْتِراشِ جُلُودِ ¬

(¬1) تقدم صفحة 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّباع وركوبِ النُّمورِ، وهو عامٌّ في المُذَكَّى وغيرِه. ولأنَّه ذَبْحٌ لا يُبِيحُ اللَّحْمَ، فلم يُطَهِّرِ الجِلْدَ، كذبحِ المَجُوسِيِّ، والخبرُ قد أجَبْنا عنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما مَضَى. وأما قِياسُ الذّكاةِ على الدَّبغِ فلا يصِحُّ، فإن الدَّبْغَ أقْوى؛ لأنَّه يُزيلُ الخَبَثَ والرُّطُوباتِ كلَّها، ويُطَيِّبُ الجلدَ، على وجهٍ يَتَهَيَّأُ به

37 - مسألة؛ قال: (وابن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس فتنجس به، وكذلك إنفحتها في ظاهر المذهب)

وَلَبَنُ الْمَيتَةِ وَإنْفَحَتُهَا نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ للبقاءِ على وجهٍ لا يَتَغَيَّرُ، والذَّكاةُ لا يَحصُلُ بها ذلك، ولا يُسْتَغْنى بها عن الدَّبْغِ، فدَلَّ على أنَّه أقْوَى. 37 - مسألة؛ قال: (وابَنُ المَيتَةِ نَجِسٌ؛ لأنَّه مائِعٌ في وعاءٍ نَجِسٍ فتَنَجَّسَ به، وكذلك إنْفَحَتُها في ظاهِرِ المذهبِ)؛ لما ذَكَرْنا وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. ورُوي أنَّها طاهرةٌ، وهو قولُ أبي حنيفةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وداودَ؛ لأنَّ الصحابةَ، رضي اللهُ عنهم، أكَلُوا الجُبْنَ لمّا دَخَلُوا المَدائِنَ (¬1)، وهو يُعْمَلُ بالإنْفَحَةِ (¬2)، وذَبائِحُهم مَيتَةٌ؛ لأنَّهم مَجُوسٌ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه مائِعٌ في وعاءٍ (¬3) نَجِسٍ، أشْبَهَ ما لو حُلِبَ في إناءٍ نَجِسٍ. وأمّا المَجُوسُ فقد قِيل: إنَّهم ما كانوا يَذْبَحُون بأنْفُسِهم، وكان جَزّارُوهم اليهودَ والنَّصارَى، ولو لم يُنْقَلْ ذلك عنهم، كان الاحْتِمالُ باقِيًا (¬4)، فإنَّه قد كان فيهم اليهودُ والنَّصارَى، والأصلُ الحِلُّ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ، وقد رُوي أنّ الصحابةَ، رَضِي اللهُ عنهم، لَمّا قَدِمُوا العراقَ كَسَرُوا جيشًا مِن أهلِ فارِسَ، بعدَ أن وَضَعُوا طَعامَهم ليأكُلُوه، فلما فَرَغَ المُسْلِمون منهم جَلَسُوا فأكَلُوا الطَّعامَ، وهو لا يَخْلُو مِن اللَّحْمِ ظاهرًا، فلو حُكِمَ بنجاسَةِ ما ذُبِحَ في بلدِهم لَما أكَلُوا مِن لَحْمِهم، وإذا حَكَمْنا بطهارةِ اللحمِ، فالجُبنُ أوْلَى، وعلى هذا لو دخلَ الإنسانُ أرضًا فيها مَجُوسٌ وأهلُ كتابٍ، كان له أكْلُ جُبْنِهم ولَحْمِهم؛ لما ذكرْنا. ¬

(¬1) المدائن: مدن مجتمعة بناها الفرس بين الفرات ودجلة، توسطوا بها مصب الفرات في دجلة، ثم تحول عنها الناس إلى الكوفة والبصرة وواسط وبغداد، وذكر ياقوت أن المسمى بهذا الاسم في زمانه بليدة شبيهة بالقرية، بينها وبين بغداد ستة فراسخ. معجم البلدان 4/ 445 - 447. (¬2) الإنفحة، بكسر الهمزة وفتح الفاء وتثقيل الحاء أكثر من تخفيفها. وهي لكل ذي كرش شيء يستخرج من بطنه أصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن. المصباح المنير. (¬3) في م: «إناء». (¬4) في م: «كافيا».

38 - مسألة؛ قال: (وعظمها وقرنها وظفرها نجس)

وَعَظْمُهَا وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا نَجِسٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ماتَتِ الدَّجاجَةُ، وفيها بَيضَةٌ قد صَلُبَ قِشْرُها، فهي طاهِرَةٌ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وبعضِ الشّافِعِيَّة، وابنِ المُنْذِرِ. وكَرِهَها عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عُمَرَ، ومالكٌ، واللَّيثُ (¬1)، وبعضُ الشافعيةِ؛ لأنَّها جُزءٌ مِن المَيتَةِ. ولَنا، أنَّها بيضةٌ صُلْبَةُ القِشْرَةِ، مُنْفَصِلَةٌ عن المَيتَةِ، أشْبَهَتِ الوَلَدَ إذا خَرَج حيًّا مِن المَيتَةِ، وكَراهِيَةُ الصحابةِ مَحْمُولَةٌ على التَّنْزِيهِ، اسْتِقْذارًا لها. وإن لم تَكْمُلِ البَيضَةُ، فقال بعضُ أصحابِنا: ما كان قِشْرُها أبْيَضَ فهو طاهِرٌ، وما لم يَبْيَضَّ فهو نَجِسٌ؛ لأنَّه ليس عليه حائِلٌ حَصِينٌ. واختارَ ابنُ عَقِيلٍ أنَّها لا تَتَنَجَّسُ؛ لأنَّ البَيضَةَ عليها غاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ، كالجلْدِ، وهو القِشْرُ قبلَ أن يَقْوَى، فلا يَتَنَجَّسُ منها إلَّا ما لَاقَى النجاسةَ، كالسَّمْنِ الجامِدِ إذا ماتتْ فيه فأْرةٌ، إلَّا أنَّ هذه تَطْهُر إذا غُسِلتْ؛ لأنَّ لها مِن القُوَّةِ ما يَمْنَعُ دُخولَ أجْزاءِ النجاسةِ فيها، بخلافِ السَّمْنِ. واللهُ أعلمُ. 38 - مسألة؛ قال: (وعَظْمُها وقَرْنُها وظُفرُها نَجِسٌ) عِظامُ المَيتَةِ النَّجِسَةِ نَجِسَةٌ، مأكُولَةَ اللّحْمِ، أو غَيرِها كالفِيَلَةِ، لا تَطْهُرُ ¬

(¬1) أبو الحارث الليث بن سعد الفهمي، شيخ الديار المصرية وعالمها، الإمام الثقة الحجة، المتوفي سنة خمس وسبعين ومائة. وفيات الأعيان 4/ 127، 128، العبر 1/ 266، 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِحالٍ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. ورَخَّص في الانْتِفاعِ بعظامِ الفِيَلَةِ محمدُ بن سِيرِينَ، وابنُ جُرَيجٍ؛ لِما رَوَى أبو داودَ (¬1) [بإسْنادِه عن ثوْبَانَ] (¬2)، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -[قال: «اشْتَرِ] (¬3) لفَاطِمَةَ قِلَادَةً مِنْ عَصَبٍ (¬4) وَسِوَارَينِ مِنْ عَاجٍ». وقال مالكٌ: إنَّ الفِيلَ إنْ ذُكِّيَ فعَظْمُه طاهِرٌ، وإلَّا فهو نَجِسٌ. لأنَّ الفِيلَ مأْكُولٌ عندَه. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: عِظامُ المَيتاتِ طاهِرَة؛ لأنَّ الموت لا يُحِلُّها، فلا تَنْجُسُ به، كالشَّعَرِ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ}. والعَظْمُ مِن جُمْلَتِها، فيَكُونُ مُحَرَّمًا، والفِيلُ لا يُؤْكَلُ لحمُه، فيكونُ نَجِسًا على كلِّ حالٍ، والدَّلِيلُ على تَحرِيمِه نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن كلِّ ذِى نابٍ مِن السِّباعِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬5)، والفِيلُ أعْظَمُها نابًا. وحديثُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الانتفاع بالعاج، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 404، 405. ورواه أيضًا الإمام أحمد، في: المسند 5/ 275. (¬2) سقط من: «م». (¬3) في الأصل، م: «اشترى». (¬4) ذكرها ابن الأثير بسكون الصاد، ثم نقل عن الخطابي في المعالم قوله: إن لم تكن الثياب اليمانية فلا أدري ما هي، وما أرى أن القلادة تكون منها. ونقل عن أبي موسى: يحتمل عندي أن الرواية إنما هي العصب، بفتح الصاد، وهي أطناب مفاصل الحيوانات، وهو شيء مدور، فيحتمل أنهم كانو يأخذون عصب بعض الحيوانات الطاهرة فيقطعونه ويجعلونه شبه الخرز، فإذا يبس يتخذون منه القلائد. ونقل عنه أيضًا، عن بعض أهل اليمن، أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون، يتخذ منها الخرز وغير الخرز نصاب سكين وغيره، ويكون أبيض. النهاية 3/ 245. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب ألبان الأتن، من كتاب الطب. صحيح البخاري 7/ 181، مسلم، في: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1533. وأبو داود، في: باب النهي عن أكل السباع، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 319، 320. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة، من أبواب الصيد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَوْبَانَ، قال الخَطّابِيُّ، عن الأصْمَعِيُّ (¬1): العاج: الذَّبْلُ (¬2). ويقال: هو عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفاةِ البَحْريِّةِ (¬3). وقولُهم: إنَّ العِظامَ لا يُحِلُّها الموتُ. مَمْنُوعٌ، لأنَّ الحياةَ تُحِلُّها، وكلُّ ما تُحِلُّه الحياةُ يُحِلُّه الموتُ؛ بدَلِيلِ قولِه تعالى: {قَال مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (¬4). ولأنَّ دليلَ الحياةِ الإحساسُ والأَلَمُ، وهو في العَظْمِ أشَدُّ مِنه في اللَّحمِ، والضِّرْسُ يأْلَمُ، ويَلْحَقُه الضَّرَسُ (¬5)، ويُحِسُّ ببَرْدِ الماءِ وحَرارتِه، وما يُحِلُّه الموتُ يَنْجُسُ، والقَرْنُ والظُّفْرُ والحافِرُ كالعَظْمِ؛ إن أُخِذَ مِن مُذَكَّى فهو طاهرٌ، وإن أُخِذ مِن حَيٍّ فهو نَجِسٌ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُقْطعُ مِنَ البَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ ¬

= وفي: باب ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين، من أبواب السير، وفي: باب ما جاء في الأكل في آنية الكفار، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 6/ 266، 7/ 50، 298. والنسائي، في: باب تحريم أكل السباع، وباب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وباب إباحة أكل لحوم الدجاج، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 177، 181، 182. وابن ماجه، في: باب أكل كل ذي ناب من السباع، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1077. والدارمي، في: باب ما لا يؤكل من السباع، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمي 2/ 85. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 147، 4/ 193، 194. (¬1) أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الأصمعي، الراوية، اللغوي، كان الرشيد يسميه شيطان الشعر، توفي سنة ست عشرة ومائتين. تاريخ العلماء النحويين 218 - 224. (¬2) في القاموس: والذبل: جلد السلحفاة البحرية أو البرية، أو عظام ظهر دابة بحرية تتخذ منها الأسورة والأمشاط. (¬3) معالم السنن 4/ 212. وفيه بعد هذا: «وأما العاج الذي تعرفه العامة فهو عظم أنياب الفيلة، وهو ميتة لا يجوز استعماله». (¬4) سورة يس 78، 79. (¬5) الضِّرس، بالتحريك: خور وكلال يصيب الضرس أو السن عند أكل الشيء الحامض. (اللسان).

39 - مسألة؛ قال: (وصوفها وشعرها وريشها طاهر)

وَصُوفُهَا وَشَعَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَيتَة». رواه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وكذلك ما يَتَساقَطُ مِن قُرُونِ الوُعُولِ في حياتِها، ويَحْتَمِلُ أنَّ هذا طاهرٌ؛ لأنَّه طاهرٌ مُتَّصِلًا مع عَدَمِ الحياةِ فيه، فلم يَنْجُسْ بفَصْلِه مِن الحيوان كالشَّعَرِ. والخَبَرُ أُرِيدَ به ما يُقْطعُ مِن البَهِيمَةِ مِمّا فيه حياةٌ فيَمُوتُ بفَصْلِه، بدليلِ الشَّعَرِ، فأمّا ما لا يَنْجُسُ بالموتِ كالسَّمَكِ، فلا بأْسَ بعِظامِه؛ لأنَّه (¬2) لا يَنْجُسُ بالموتِ، فهو كالمُذَكَّى. 39 - مسألة؛ قال: (وصُوفُها وشَعَرُها ورِيشُها طاهِرٌ) يعني: شَعَرَ ما كان طاهرًا في حياتِه وصُوفَه. رُوى ذلك عن الحسنِ، وابنِ ¬

(¬1) في: باب ما قطع من الحي فهو ميت، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 273. وكذلك رواه أبو داود، في: باب في صيد قطع منه قطعة، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 100. وابن ماجه، في: باب ما قطع من البهيمة وهي حية، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1072، والدارمي، في: باب في الصيد يبين منه العضو، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 93. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 218. (¬2) في م: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ. وبه قال مالكٌ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأْي. ورُوى عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه نَجِسٌ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه يَنْمِي مِن الحيوانِ، فنَجُسَ بمَوْتِه، كأعْضائِه. ولَنا، ما رُوىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا بَأْسَ بِمَسْكِ (¬1) الْمَيتَةِ إذَا دُبغَ، وَصُوفِهَا وَشَعَرِهَا إذَا غُسِلَ». رواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬2)، وقال: لم يأْتِ به إلَّا يوسُفُ بنُ السَّفْرِ، وهو ضَعِيفٌ. ولأنَّه لا تَفتَقِرُ طهارةُ مُنْفَصِلِه إلى ذَكاةِ أصْلِه، فلم يَنْجُسْ بمَوْتِه، كأجْزاءِ السَّمَكِ والجَرادِ. ولأنَّه لا حياةَ فيه، وما لا تُحِلُّه الحياةُ لا يموتُ، والدَّلِيلُ على أنَّه لا حياةَ فيه، أنَّه لو كان فيه حياةٌ لَنَجُسِ بفَصْلِه مِن الحيوانِ، في حالِ حَياتِه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فهُوَ مَيِّتٌ». رواه أبو داودَ (¬3) بمعناه. وما ذكَرُوه يَنْتقِضُ بالبَيضِ، ويُفارِقُ الأعضاءَ؛ لأنَّ فيها حياةً، ولذلكَ (¬4) تَنْجُسُ بفَصْلِها مِن الحيوانِ حال حياتِه، والنُّمُوُّ لا يَدُلُّ على الحياةِ، بدليلِ نُمُوِّ الشَّجَرِ، والرِّيشُ كالشَّعَرِ؛ لأنَّه في مَعْناه، فأمّا أصُولُ الرِّيشِ والشَّعَرِ، إذا نُتِفَ مِن المَيتَةِ وهو رَطْبٌ، فهو نَجِسٌ برُطُوبةِ المَيتَةِ، وهل يَطْهُرُ بالغَسْلِ؟ على ¬

(¬1) المَسْك: الجلد أو خاص بالسَّخلَة. (القاموس). (¬2) في: باب الدباغ، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 47. (¬3) انظر ما تقدم في صفحة 179، 180. (¬4) في الأصل: «وكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين؛ أحدُهما، يَطهُرُ كرُءُوسِ الشَّعَرِ إذا تَنَجَّس. والثاني، لا يَطهُرُ؛ لأنَّه جُزْءٌ مِن اللَّحْمِ لم يَكمُلْ شعرًا ولاريشًا. فصل: وشَعَرُ الآدَمِيّ طاهرٌ؛ مُنْفَصِلًا ومُتَّصِلًا، في الحياةِ والموتِ. وقال الشافعيُّ في أحدِ قوْلَيه: يَنْجُسُ بفَصْلِهِ. [ولهم في شَعَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجْهانِ؛ أحَدُهما، هو نَجِسٌ كعُضْوه] (¬1). ولَنا، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّق شَعَرَه بينَ أصحابِه، قال أنَسٌ: لَمّا رَمَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ونَحَر نُسُكَه، ناوَلَ الحالِقَ شِقَّه الأيمَنَ، فحَلَقَه، ثم دَعا أبا طَلْحَةَ الأْنصارِيَّ، فأعطاهُ إيَّاهُ، ثم ناوَلَه الشِّقَّ الأيسَرَ، فقال: «احْلِقْ». فحَلَقَه، وأعطاه أبا طَلْحَةَ، فقال: «اقْسِمْهُ بَينَ النَّاسِ». رواه مسلم (¬2). ورُوىَ أنَّ مُعاويةَ أوْصَى ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في: باب بيان أن السنة يوم النحر. . . . إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 3/ 948. وأبو داود، في: باب الحلق والتقصير، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 457. والترمذي، في: باب ما جاء بأي جانب الرأس يبدأ الخلق، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يُجْعَلَ نَصِيبُه منه في فِيه إذا ماتَ. وكان في قَلَنْسُوَةِ خالدٍ شَعَراتٌ مِن شَعرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان نَجِسًا لَما ساغَ ذلك، ولَما فَرَّقَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد عَلِم أنَّهم يأْخُذُونَه يَتَبَرَّكُون به (¬1)، وما كان طاهرًا مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان طاهرًا مِمَّن سِواه، كسائِرِه. ولأنَّه شَعَرٌ مُتَّصِلُه طاهرٌ، فكذلك مُنْفَصِلُه، كشعرِ الحيواناتِ الطاهرةِ، وكذلك نَقُولُ في أعْضاءِ الآدَمِيِّ، وإن سَلَّمْنا نجاسَتَها، فإنَّها تَنْجُسُ مِن الحيواناتِ بفَصْلِها في الحياةِ، بخلافِ الشعرِ، فحَصَل الفَرْقُ. فصل: ولا يَجوزُ اسْتِعْمالُ شَعَرِ الآدَمِيِّ وإن كان طاهرًا؛ لحُرْمَتِه لا لنجاسَتِه، ذكرَه ابنُ عَقِيلٍ. فأما الصلاةُ فيه فصَحِيحةٌ. ¬

(¬1) هذا خاص بآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - المنفصلة من جسمه؛ كشعره، وماء وضوئه، وعرقه، ولا يجوز فعله مع غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز التبرك بآثار الصالحين، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ حيوانٍ فحُكمُ شَعَرِه حكمُ بَقِيَّةِ أجْزائِه في النجاسةِ والطهارةِ، لا فَرْقَ بينَ حالةِ الحياةِ والموتِ، إلَّا أنَّ الحيواناتِ التي حَكَمْنا بطَهارتِها لمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ، كالهِرِّ وما دونَها، فيها بعدَ الموتِ وَجْهان؛ أحدُهما، نجاسَتُها؛ لأنَّها كانت طاهرةً في الحياةِ، مع وجودِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ لمُعارِضٍ، وهو عَدَمُ إمكانِ التَّحَرُّزِ عنها، وقد زال ذلك بالموتِ، فَتَنْتَفِي الطهارةُ. والثاني، هي طاهرةٌ. وهو أصَحُّ؛ لأنَّها كانت طاهرةً في الحياةِ، والموتُ لا يقْتَضِي تَنْجِيسَها، فتَبْقَى طاهرةً. وما ذُكِر للوَجْهِ الأوَّلِ لا يَصِحُّ، ولا نُسَلِّمُ وجودَ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ، وإن سَلَّمْناه غيرَ أنَّ الشَّرْعَ ألغاهُ، ولم يَعْتَبِرْه في موضِعٍ، فليس لنا اعتبارُه بالتَّحَكُّمِ. فصل: وهل يَجُوزُ الخَرْزُ بشَعَرِ الخِنْزِيرِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، كَراهَتُه. حُكِي ذلك عن الحسنِ، وابنِ سِيرينَ، وإسحاقَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه استعمالٌ للعَينِ النَّجِسَةِ، ولا يَسلَمُ مِن التَّنْجِيسِ بها، فحَرُمَ الانْتِفاعُ بها، كجِلْدِه. والثانية، يجوزُ الخَرْزُ به. قال: وباللِّيفِ أحَبُّ إلينا. ورَخَّص فيه الحسنُ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ،. وأبو حنيفةَ؛ لأنَّ الحاجةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْعُو إليه. فإذا خَرَز به شيئًا رَطْبًا، أو كانت الشَّعْرَةُ رَطْبَةً نَجُسَ، وَيَطْهُرُ بالغَسْلِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وقد رُوِيَ عن أحمد، أنَّه لا بأْسَ به. ولَعَلَّه قال ذلك لأنَّه لا يَسلَمُ الناسُ مِنه، وفي تَكْلِيفِ غَسْلِه إتلافُ أموالِ الناسِ. قال شيخُنا: والظَّاهِرُ أنَّ أحمدَ إنَّما عَنَى: لا بأْسَ بالخَرْزِ. فأمّا الطهارةُ فلا بُدَّ مِنها (¬1). ¬

(¬1) انظر المغني 1/ 109.

باب الاستنجاء

بَابُ الاسْتِنْجَاءِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ، وَمِنَ الِّرجْسِ النَّجِسِ، الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الاستنجاء الاسْتِنْجاءُ اسْتِفْعالٌ، مِن نَجَوْتُ الشَّجرةَ، أي: قَطَعْتُها، فكَأَنَّه قَطَع الأذَى عنه. وقال ابنُ قُتَيبَةَ (¬1): هو مَأْخُوذٌ مِن النَّجْوَةِ، وهي ما ارْتَفَع مِن الأرضِ؛ لأنَّ مَنْ أرادَ قضاءَ الحاجةِ اسْتَتَر بها. فأمّا الاسْتِجْمارُ: فهو اسْتِفْعالٌ مِن الجِمار، وهي الحِجارَةُ الصِّغارُ؛ لأنَّه يَسْتَعْمِلُها في اسْتِجْمارِه. 40 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (يُسْتَحَبُّ لمَنْ أرادَ دُخُولَ الخَلاءِ، أنْ يقولَ: بِسْمِ اللهِ) لما روَى عليٌّ، رَضِي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَتْرُ مَا بَينَ الجِنِّ وعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ الكَنِيفَ أنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ». رواه ابنُ ماجَه والتِّرْمِذِيُّ (¬2). ويقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ (¬3)، ¬

(¬1) غريب الحديث، لابن قتيبة 1/ 159، 160. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، من كتاب الجمعة. عارضة الأحوذي 3/ 85. وابن ماجه، في باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 109. (¬3) في القاموس: أي من ذكور الشياطين وإناثها. ونقل السيوطي عن الخطابي، أن الخبث، بضم الباء جمع خبيث. قال: وعامة أهل الحديث يقولون: الخبث. ساكنة الباء، وهو غلط، والصواب: الخبث مضمومة الباء. قال: وأما الخبث بالسكون فهو الشر. ثم أورد السيوطي الرد عليه. زهر الربى 1/ 23. وانظر ما يأتي من قول المصنف بعد قليل.

41 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (ولا يدخله بشيء فيه ذكر الله

وَلَا يَدْخُلُهُ بِشَيْءٍ فِيهِ ذِكْرُ الله تِعَالى، إلا مِنْ ضَرُورَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِن الرِّجْسِ النَّجِسِ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ. لما روَى أنَسٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دَخَل الخَلاءَ قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ». مُتَّفَق عليه (¬1). وعن أبي أُمامَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَعْجِزُ أحَدُكم إذا دَخَلَ مِرْفَقَهُ أنْ يَقُولَ: اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ الخَبِيثِ المُخْبِثِ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ». رواه ابنُ ماجَه (¬2). قال أبو عُبَيدٍ (¬3): الخُبْثُ بسُكُون الباءِ: الشَّرُّ. والخُبُثُ، بضَمِّ الخاءِ والباءِ: جَمْعُ خَبِيثٍ. والخَبائِثُ: جمعُ خَبِيثةٍ. استعاذَ مِن ذُكْرانِ الشَّياطينِ وإنَاثِهم (¬4). 41 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (ولا يَدْخُله بشيءٍ فيه ذِكُر اللهِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يقول عند الخلاء، من كتاب الوضوء، وفي: باب الدعاء عند الخلاء، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 1/ 48، 8/ 88. ومسلم، في: باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 283. وأبو داود، في: باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 2. والترمذي، في: باب ما يقول إذا دخل الخلاء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 21. والنسائي، في: باب القول عند دخول الخلاء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 22. وابن ماجه، في: باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 109. والدارمي، في: باب ما يقول إذا دخل المخرج، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 99، 101، 282. (¬2) انظر رواية ابن ماجه للحديث قبل السابق. (¬3) أبو عبيد القاسم بن سلام الخزاعي اللغوي صاحب المصنفات في فنون شتى، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين. تاريخ العلماء النحويين 197 - 200. وانظر حواشيه. (¬4) غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى) لما روَى أنسٌ، قال: كان رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَل الخَلاءَ وَضَعَ خاتَمَه. رواه ابن ماجَه، والترمِذِي (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وقِيل: إنَّما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَضَعُه؛ لأنَّ فيه: «محمدٌ رسولُ اللهِ». فإنِ احْتَفَظ بما معه مِمّا فيه ذِكْر اللهِ، واحْتَرَز عليه مِن السُّقُوطِ، وأدارَ فَصَّ الخاتَمِ إلى كَفِّه، فلا بأسَ. قال أحمدُ: الخاتَمُ إذا كان فيه اسمُ اللهِ يجْعَلُه في باطِنِ كَفِّه، ويَدخُلُ الخَلاءَ. وبه قال إسحاق، ورَخَّص فيه ابنُ المُسَيَّبِ (¬2)، والحسن، وابنُ سِيرِينَ. قال أحمدُ في الرجلِ يَدخُلُ الخَلاءَ ومعه الدَّراهِمُ: أرْجُو أن لا يكونَ به بأْسٌ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ذكر الله عزَّ وجلَّ على الخلاء والخاتم في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 110. والترمذي، في: كتاب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 250. كما أخرجه أبو داود، في: باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 5. والنسائي، في: باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 155. (¬2) أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي المدني الفقيه، أحد الأعلام، توفي سنة أربع وتسعين. طبقات الفقهاء، للشيرازي 57، 58، العبر 1/ 110.

42 - مسألة؛ قال: (ويقدم رجله اليسرى في الدخول، واليمنى في الخروج)

وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى في الدُّخُولِ، وَالْيُمْنَى في الْخُرُوجِ، وَلَا يَرْفَع ثوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 42 - مسألة؛ قال: (ويُقَدِّمُ رِجْلَه اليُسْرَى في الدُّخُولِ، واليُمْنَى في الخُرُوجِ) لأنَّ اليُسْرِى للأذَى، واليُمْنَى لِما سِواه. (ولا يَرْفَعُ ثوبَه حتى يَدْنُوَ مِن الأرضِ)؛ لما روَى أبو داود (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا أرادَ الحاجَةَ لا يَرْفَعُ ثَوْبَه حتى يَدْنُوَ مِن الأرْضِ. ولأنَّ ذلك أسْتَرُ له. ¬

(¬1) في: باب كيف التكشف عند الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 4. وأخرجه أيضًا الترمذي، في: باب في الاستتار عند الحاجة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 31.

43 - مسألة: (ويعتمد على رجله اليسرى)

وَيَعْتَمِدُ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَلَا يَتَكَلَّمُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 43 - مسألة: (ويَعْتَمِدُ على رِجْلِه اليُسْرَى) لِمَا روَى سُراقَةُ بنُ مالِكٍ، قال: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نَتَوَكَّأ على اليُسْرَى، وأنْ نَنْصِبَ اليُمْنَى. رواه الطَّبرانِيُّ في «المُعْجَمِ» (¬1). 44 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (ولا يتَكَلَّمُ) لما روَى عبدُ الله بنُ عُمَرَ، قال: مَرَّ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجل، فسلَّمَ عليه، وهو يَبُولُ، فلم يَرُدَّ عليه. رواه مسلم (¬2). ولا يذْكُرُ اللهَ تعالى على حاجَتِه بلِسَانِه. رُوِي كَراهَةُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ. وقال ابنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِيُّ: لا ¬

(¬1) المعجم الكبير 7/ 161. (¬2) في: باب التيمم، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 281. كما أخرجه أبو داود، في: باب أيرد السلام وهو يبول، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 4. والترمذي، في: باب في كراهة رد السلام غير متوضئ، من أبواب الطهارة. وفي: باب كراهية التسليم على من يبول، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذي 1/ 132، 10/ 187، 188. والنسائي، في: باب السلام على من يبول، من أبواب الطهارة. المجتبى 1/ 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأْسَ به. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرُدَّ السَّلامَ الذي يجِبُ رَدُّه، فذِكْرُ الله أوْلَى. فإن عَطَس حَمِد الله بَقَلْبِه، ولم يَتَكلَّمْ. وقال ابنُ عَقِيل: فيه روايةٌ أخْرَى، أن يَحْمَدَ اللهَ بلِسَانِه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لما ذكرْناه. ورَوَى أبو سعيد الخُدْرِيُّ، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَخْرُجُ الرَّجُلانِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِما يَتَحَدَّثَانِ، فإنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ». رواه أبو داودَ (¬1)، وابنُ ماجَه (¬2). ¬

(¬1) في: باب كراهية الكلام عند الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 4. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 36. (¬2) في: باب النهي عن الاجتماع على الخلاء والحديث عنده، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 123.

45 - مسألة؛ قال: (ولا يلبث فوق حاجته)

وَلَا يَلْبَثُ فَوْقَ حَاجَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 45 - مسألة؛ قال: (ولا يَلْبَثُ فَوْقَ حاجَتِه) لأنَّه يُقال: إنَّ ذلك يُؤذِي (¬1) الكَبِدَ، ويأْخُذُ مِنه الباسُورُ. ¬

(¬1) في م: «يدمى».

46 - مسألة؛ قال: (فإذا خرج قال: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)

وَإذَا خَرَجَ قَال: غُفْرَانَكَ، الْحَمْدُ لِله الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى، وَعَافَانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 46 - مسألة؛ قال: (فإذا خَرَجَ قال: غفْرَانَكَ، الحَمْدُ لِلّهِ الذي أذْهَبَ عَنِّي الأذَى وعافانِي) لما روتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا خَرَج مِن الخَلاءِ قال: «غُفْرَانَكَ». رواه التِّرمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديث حسنٌ. وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ مِن الخَلاءِ قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذى أذْهَبَ عَنِّي الأذَى وَعَافَانِي». رواه ابنُ ماجَه (¬2). فصل: ويُستَحَبُّ أن يُغَطِّيَ رأسَه، لما رَوَت عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَلَ الخَلاءَ غَطَّى رأْسَه، وإذا أَتى أهْلَه غطى رأْسَه. رواه البَيهَقِيُّ (¬3) مِن رواية محمدِ بنِ يُونُسَ الكُدَيمِيِّ، وكان يُتَّهَمُ بوضعِ الحديثِ. ولا بأْسَ أن يبُولَ في الإِناءِ، قالت [أُمَيمَةُ بنتُ رُقَيقَةَ] (¬4): كان ¬

(¬1) في: باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 21. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 7. وابن ماجه، في: باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 110. والدارمي، في: باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 174. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 155. (¬2) في: باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 110. (¬3) في: باب تغطية الرأس عند دخول الخلاء، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 24. (¬4) في م: «أمية بنت رقية».

47 - مسألة؛ قال: (وإن كان في الفضاء أبعد)

وَإنْ كَانَ في الْفَضَاءِ أَبعَدَ، وَاسْتَتَرَ، وَارْتَادَ مَكَانًا رِخْوًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَحٌ مِن عَيدَانٍ (¬1) يَبُولُ فيه، ويَضَعُه تحتَ السَّرِيرِ. رواه أبو داودَ، والنَّسائِي (¬2). 47 - مسألة؛ قال: (وإنْ كان في الفَضاءِ أبْعَدَ) لما روَى جابِرٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إِذا أرادَ البَرازَ (¬3) انْطَلَقَ حتى لا يَراه أحدٌ. رواه أبو داودَ (¬4). 48 - مسألة؛ قال: (واسَتتَرَ وارْتادَ مكانًا رِخْوًا) لما روَى أبو هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَتى الغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجدْ إلَّا أن يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْه، فإنَّ الشَّيطانَ يَلْعَبُ بِمَقاعِدِ بَنِي آَدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ، ومَنْ لا فَلا حَرَجَ». رواه أبو داودَ (¬5). ويَرْتادُ مكانًا رِخوًا؛ لما روَى أبو موسى، قال: كنتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ، فأرادَ أن يَبُولَ، فأتَى دَمَثًا (¬6) في أصْلِ جِدارٍ، فبال.، ثم قال: «إذَا أرَادَ ¬

(¬1) عيدان، بفتح العين: جمع عيدانة، بفتح العين، وهي النخلة الطويلة المتجردة. وبكسر العين: جمع عود. ونقل السيوطي عن كتاب تثقيف اللسان: من كسر العين فقد أخطأ. يعني لأنه أراد جمع عود، وإذا اجتمعت العيدان لا يتأتى منها قدح يحفظ الماء، بخلاف من فتح العين فإنه يريد قدحا من خشب هذه صفته ينقر ليحفظ ما يجعل فيه. زهر الربى 1/ 31. ولم نجد هذا في تثقيف اللسان المطبوع. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يبول بالليل في الإناء، ثم يضعه عنده، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 6. والنسائي، في: باب البول في الإناء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 31. (¬3) البراز: الموضع البارز؛ سمى قضاء الحاجة به لأنها تقضي فيه. (¬4) في: باب التخلي عند قضاء الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 1. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب التباعد للبراز في الفضاء. سنن ابن ماجه 1/ 121. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب الاستتار في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 8. وابن ماجه، في: باب الارتياد للغائط والبول، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 122. والدارمي، في: باب التستر عند الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 170. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 371. (¬6) الدمث: السهل اللين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُكمْ أنْ يَبُولَ، فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ». رواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1) مِن رِواية أبي التَّيَّاحِ، عن رجلٍ كان يَصْحَبُ ابنَ عباسٍ، لم يُسَمِّه، عن أبي مُوسى. ولِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عليه البولُ. ويُستَحَبُّ أن يَبولَ قاعِدًا، لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عليه، ولأنّه أسْتَرُ وأحسَنُ. قال بنُ مسعودٍ: مِن الجَفاءِ أن تَبُولَ وأنتَ قائِمٌ. قالت عائشةُ: مَنْ حَدَّثَكُم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَبُولُ قائِمًا فَلا تُصَدِّقُوه، ما كان يَبُولُ إلَّا قاعِدًا (¬2). قال الترمِذِيُّ: هذا أصحُّ شيءٍ في الباب. وقد رُويَتِ الرُّخْصَةُ فيه عن عُمَرَ، وعلى، وابنِ عُمَرَ، وزَيدِ بنِ ثَابتٍ، لما روَى حُذَيفَةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتىَ سُبَاطَةَ قوم، فبال قائِمًا. رواه البُخَارِيُّ، ومسلم (¬3). والأوَّلُ أوْلَى؛ لما روَى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، قال: رآنِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبُولُ قائِمًا، فقال: «يا عُمَرُ، لا تَبُلْ قائِمًا». فما بُلْتُ قائمًا بعدُ. رواه ابنُ ماجَه (¬4). وعن جابرٍ، قال: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يتبوأ لبوله، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 1. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 396، 399. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب النهي عن البول قائما، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 27. والنسائي، في: باب البول في البيت جالسا، من كتاب الطهارة. المجتبى من السنن 1/ 27. وابن ماجه، في: باب في البول قاعدا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 136، 192، 213. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب البول قائما وقاعدا، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 66. ومسلم، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 228. وأبو داود، في: باب البول قائما، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 6. والترمذي، في: باب الرخصة في البول قائما، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 30. والنسائي، في: باب الرخصة في الاقتراب عند الحاجة، وباب الرخصة في البول في الصحراء قائما، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 21، 26. وابن ماجه، في: باب ما جاء في البول قائما، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 111. والدارمي، في: باب في البول قائما، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 382، 402. (¬4) في: باب في البول قاعدا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 112.

49 - مسألة؛ قال: (ولا يبول في شق، ولا سرب، ولا طريق، ولا ظل نافع، ولا تحت شجرة مثمرة)

وَلَا يَبُولُ فِىِ شَقٍّ، وَلَا سَرَبٍ، وَلَا طَرِيقٍ، وَلَا ظِلٍّ نَافِعٍ، وَلَا تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَبُولَ قائمًا. رواه ابنُ ماجَه (¬1). وأمَّا حديثُ حُذَيفَةَ، فلَعَلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك ليُبَيِّنَ الجَوازَ، أو كان في موضِعٍ لا يتمكَّنُ مِن الجلوسِ فيه. وقيل: فعَلَ ذلك لعِلَّةٍ كانت بمَأْبِضِه ليَسْتَشفِىَ به. والمَأْبِضُ ما تحتَ الرُّكبَةِ مِن كل حيوانٍ. 49 - مسألة؛ قال: (ولا يَبُولُ في شَقٍّ، ولا سَرَبٍ، ولا طَرِيقٍ، ولا ظِلٍّ نافِعٍ، ولا تحتَ شجرةٍ مُثْمِرةٍ) البَولُ في هذه المواضِعِ كلِّها مكروهٌ مَنهِيٌّ عنه، ومثلُها موارِدُ الماءِ، لما روَى عبدُ اللهِ بنُ سَرْجِسَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أن يُبال في الجُحْرِ. رواه أبو داودَ (¬2). قالوا لقَتادَةَ (¬3): ما يُكْرَه مِن البولِ في الجُحْرِ؟ قال: كان يُقالُ: إنّها مَساكِنُ الجِنِّ. روَاه الإمامُ أحمدُ (¬4). وقد حُكِيَ عن سعدِ بنِ عُبادَة (¬5) أنه بال في جُحْرٍ، ثم اسْتَلْقَى مَيِّتًا، فسُمِعَتِ الجِنُّ تَقولُ: ¬

(¬1) في: باب في البول قاعدا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 112. (¬2) في: باب النهي عن البول في الجحر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 7. وأخرجه النسائي، في: باب كراهية البول في الجحر، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 32. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 82. (¬3) أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، توفي سنة سبع عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 269 - 283. (¬4) في: المسند 5/ 82. (¬5) ذكر القصة الهيثمي، في: باب البول قائما، من كتاب الطهارة. مجمع الزوائد 1/ 206، وعزاها إلى الطبراني في الكبير، وهي فيه 6/ 19. كما ذكرها ابن حجر، في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. المطالب العالية 1/ 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَحْنُ قَتَلْنا سَيِّدَ الـ … ــــــخَزْرَجِ سَعْدَ بنَ عُبادَهْ ورَمَيناه بِسَهْمَيـ … ـــــــنِ فلم نُخْطِ فُؤادَهْ ولأنَّه لا يَأْمَنُ أن يكُونَ فيه حيوانٌ يَلْسَعُه. وروَى مُعاذٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتَّقُوا المَلاعِنَ الثَّلاثَةَ، البَرَازَ في المَوَارِدِ، وقَارِعَةِ الطرَّيقِ، والظِّلِّ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬1). والبَولُ تحتَ الشَّجرةِ المُثْمِرَةِ يُنَجِّسُ الثَّمَرَةَ، فتُؤْذِي (¬2) مَن يأْكُلُها. فصل: ويُكْرَهُ البَولُ في الماءِ الرّاكِدِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن البولِ في الماءِ الرّاكِدِ. متَّفَقٌ عليه (¬3). فأما الجارى فلا يجُوزُ التَّغَوُّطُ فيه؛ لأنَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب المواضع التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول فيها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 6. وابن ماجه، في: باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 119. وروى الإمام أحمد نحوه عن ابن عباس. انظر: المسند 1/ 229. (¬2) في م: «فيؤذى». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الماء الدائم، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 69. ومسلم، في: باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 235، 236. كما أخرجه أبو داود، في: باب البول في الماء الراكد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17. والنسائي، في: باب النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وباب النهي عن البول في الراكد والاغتسال منه، من كتاب الطهارة، وباب ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، من كتاب الغسل والتيمم. المجتبى 1/ 103، 104، 162. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 433.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤذِي مَنْ مَرَّ به، فأمّا البولُ فيه، وهو كثيرٌ، فلا بأْسَ به؛ لأنَّ تَخْصِيصَ النَّهْي بالماءِ الرّاكِدِ دليلٌ على أنَّ الجارِىَ بخِلافِه. ولا يبُولُ في المُغْتَسَلِ؛ لما روَى الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1)، عن رجل صَحِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَمْتَشِطَ أحدُنا كلَّ يومٍ، أو يَبُولَ في مُغْتَسَلِه. وقد رُوى أنَّ عامَّةَ الوَسْواسِ منه. رواه أبو داود، وابنُ ماجَه (¬2)، وقال (¬3): سَمِعتُ عليَّ بنَ محمدٍ (¬4)، يقولُ: إنما هذا في الحَفِيرَةِ، فأمّا اليومَ فمُغْتَسَلاتُهُم الجِصُّ والصّارُوج والقِيرُ (¬5)، فإذا ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في: المسند 4/ 111. وأبو داود، في: باب في البول في المستحم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 7. (¬2) رواه أبو داود، في: باب البول في المستحم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 7. وابن ماجة، في: باب كراهية البول في المغتسل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 111. كما رواه الترمذي، في: باب ما جاء في كراهية البول في المغتسل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 38. والنسائي، في: باب كراهية البول في المستحم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 33. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 56. (¬3) أي: ابن ماجه. (¬4) أي: الطنافسي. (¬5) الجص: ما تطلى به البيوت من الكلس. والصاروج: النورة وأخلاطها التي تصرج بها الحياض والحمامات. والقير: الزفت، وهو مادة سوداء تطلى بها السفن والإبل وغيرها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بال وأرْسَل عليه الماءَ، فلا بأسَ به، وقال الإمامُ أحمدُ: إن صَبَّ عليه الماءَ، وجَرَى في البالُوعَةِ، فلا بأسَ. وقد قِيل: إنَّ البُصاقَ على البولِ يُورِثُ الوَسْواسَ، وإنَّ البَولَ على النّارِ يُورِثُ السُّقْمَ. ويُكْرَه أن يَتوَضَّأ على موضع بَوْلِه، أو يَستَنْجِيَ عليه؛ لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ به. وتَوَقِّي ذلك كلِّه أوْلَى.

50 - مسألة؛ قال: (ولا يستقبل الشمس، ولا القمر)

وَلَا يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ وَلَا الْقَمَرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 50 - مسألة؛ قال: (ولا يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ، ولا القمرَ) لما فيهما مِن نُورِ اللهِ، وقد رُوى أنَّ معهُما مَلائكَةً، فإنِ استتَر عنهما بشيءٍ، فلا بأْسَ. ولا يَستَقْبِلُ الريحَ؛ لِئلَّا يَتنَجَّسَ بالبولِ.

51 - مسألة؛ قال: (ولا يجوز أن يستقبل القبلة في الفضاء)

وَلَا يَجُوزُ أنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ في الْفَضَاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ 51 - مسألة؛ قال: (ولا يجوزُ أن يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ في الفَضاء) وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لما روَى أبو أيُّوبَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أتُيتُمُ الغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، ولا تَستدْبِرُوها بِبَوْلٍ ولا غائِطٍ، ولَكِنْ شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا». قال أبو أيُّوبَ: فقَدِمْنا الشّامَ فَوَجَدْنا مَراحِيضَ قد بنييَتْ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فنَنْحَرِفُ عنها، ونَسْتَغْفِرُ اللهَ. مُتَّفق عليه (¬1). ولم يَقُلْ البُخَارِيُّ: «ببولٍ ولا غائِطٍ». وعن أبي هُريرَةَ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا جَلَسَ أحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ، فَلَا يَستقْبِلِ القِبْلَةَ، وَلا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، من كتاب الوضوء، وفي: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في المشرق ولا المغرب قبلة، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 48، 109. ومسلم، في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 224. وأبو داود، في: باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 3. والترمذي، في: باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 23. والنسائي، في: باب النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، وباب النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 23، 24. وابن ماجه، في: باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 115. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 421.

52 - مسألة: (وفي: استدبارها فيه، واستقبالها في البنيان، روايتان)

وَفِي اسْتِدْبَارِها فِيهِ، وَاسْتِقْبَالِهَا فِي الْبُنْيَانِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَدْبِرْهَا». رواه مسلمٌ (¬1). وقال عُرْوَةُ، وداودُ، ورَبِيعَةُ (¬2): يجوزُ اسْتِقْبالُها واسْتِدْبارُها؛ لما روَى جابرٌ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نَستقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فرأيتُه قبلَ أن يُقْبَضَ بعامٍ يَسْتَقْبِلُها (¬3). قال التِّرمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وهذا دليل على النَّسْخِ. ولَنا، أحادِيثُ النَّهْي، وهي صحِيحة، وحديثُ جابرٍ يَحتَمِلُ أنَّه رآه في البُنْيانِ، أو مُستتِرًا بشيءٍ، فلا يَثْبُتُ النَّسْخُ بالاحتمالِ، ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه على ما ذَكَرْنا، ليكونَ مُوافِقًا لما ذُكِر مِن الأحادِيثِ. 52 - مسألة: (وفي: اسْتِدْبارِها فيه، واسْتِقْبالِها في البُنْيانِ، رِوايَتانِ) وجملةُ ذلك أن اسْتِدْبارَ الكَعْبَةِ بالبَولِ والغائِطِ، فيه ثلاثُ رواياتٍ؛ إحْداها، يجُوزُ في الفَضاءِ والبُنْيانِ جميعًا؛ لما رَوَى ابنُ عمرَ، قال: رَقَيتُ يومًا على بيتِ حَفْصَةَ، فرأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجَتِه، ¬

(¬1) في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 224. (¬2) أبو عثمان ربيعة بن فروخ (أبي عبد الرحمن) المدني، ربيعة الرأي، أدرك الصحابة، وعنه أخذ مالك بن أنس، وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة طبقات الفقهاء للشيرازي 65، العبر 1/ 183. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 3. والترمذي، في: باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 26. وابن ماجه، في: باب الرخصة في استقبال القبلة في الكنيف، وإباحتة دون الصحارى، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 117.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُستَدْبِرَ الكَعْبةَ. متَّفَق عليه (¬1). والثانية، لا يجوزُ ذلك فيهما؛ لحديثِ أبي أيُّوبَ، ولما رَوَى أبو هُرَيرةَ، عن رسولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: «إذا جَلَسَ أحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِه، فَلا يَسْتقْبِلِ القِبْلَةَ، وَلا يَسْتَدْبِرْهَا». رواه مسلم (¬2). والثالثة، يجُوزُ ذلك في البُنْيانِ، ولا يجوزُ في الفَضاءِ، وهو الصَّحيحُ. رُوِي جوازُ اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ واسْتِدْبارِها في البُنيانِ عن ابنِ عباسٍ، وابن عمرَ، رَضِي اللهُ عنهم. وبه قال مالكٍ، والشافعيُّ، وابن المُنْذِرِ؛ لحديثِ جابرٍ، ولما روَتْ عائشةُ، أن رسولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - ذُكِر له أنَّ قومًا يَكْرَهُون اسْتِقْبال القِبْلَةِ بفُرُوجِهم، قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: «أوَ قَدْ ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب التبرز في البيوت، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 49. ومسلم، في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 225.كما أخرجه التِّرمذيُّ، في: باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 26. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 13. (¬2) تقدم في صفحة 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَلُوهَا؟ اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي القِبْلَةَ». رواه أصحابُ السُّنَن (¬1). قال أبو عبدِ اللهِ: أحْسَنُ ما رُويَ في الرُّخْصَةِ حديثُ عائشةَ؛ فإنَّ كان مُرْسَلًا؛ فإنَّ مَخْرَجه حَسَنٌ. إنَّما سَمّاه أبو عبدِ اللهِ مُرْسَلًا؛ لأنَّ عِراكَ بنَ مالكٍ رواه عن عائشةَ. قال أحمدُ: ولم يَسمَعْ منها. وروَى مَرْوانُ الأصْفَرُ، قال: رأيتُ ابنَ عمرَ أناخَ راحِلَتَه مُستَقْبِلَ القِبْلَةِ، ثم جَلَسَ يَبُولُ إليها. فقلتُ: أبا عبدِ الرحمنِ، أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى إنَّما نُهِي عن هذا في الفَضَاءِ، أمّا إذا كان بينَك وبينَ القِبْلَةِ شيء يسْتُرُك، فلا بأسَ. رواه أبو داودَ (¬2). وهذا تَفسِيرٌ لنَهْي رسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - العامِّ، وفيه جَمْعٌ بينَ الأحاديثِ بحَمْلِ أحاديثِ النَّهْي على الفَضاءِ، وأحاديثِ الرُّخْصَةِ على البُنْيَانِ، فيَتَعَيَّنُ المَصِيرُ إليه. وأمّا اسْتِقْبالُها في البُنيانِ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، يجُوزُ؛ لما ذكرْنا. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. والثانية، لا يجوزُ. وهو قولُ الثّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ؛ لعُمُومِ أحاديث النَّهْي. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب الرخصة في استقبال القبلة في الكنيف، وإباحته دون الصحارى، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 117. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 137، 227، 239. (¬2) في باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 3.

53 - مسألة؛ قال: (فإذا فرغ مسح بيده اليسرى من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثا)

فَإِذَا فَرَغَ، مَسَحَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ أصْلِ ذَكَرِهِ إلَى رَأسِهِ، ثُمّ يَنْتُرُه ثَلَاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 53 - مسألة؛ قال: (فإذا فَرَغَ مَسَحَ بيَدِه اليُسرى مِن أصْلِ ذَكَرِه إلى رَأسِه، ثم يَنْتره ثلاثًا) فيَجعَل يَدَه على أصلِ الذكَرِ مِن تحتِ الأنثيَينِ، ثم يَسْلِته إلى رأسِه فيَنْتره (¬1) ثلاثًا برفق؛ لما روَى يَزْدَاد اليَمانِيُّ، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: «إذا بَال أحَدكمْ، فَلْيَنْتر ذَكَره ثَلاثَ مَراتٍ». رواه أحمد (¬2). ¬

(¬1) في م: «فينتر ذكره». (¬2) في: المسند 4/ 347.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الاستبراء بعد البول، من كتاب الطهارة سنن ابن ماجه 1/ 118.

54 - مسألة؛ قال: (ولا يمس ذكره بيمينه، ولا يستجمر بها)

وَلَا يَمَسُّ فَرْجَهُ بِيَمِينهِ، وَلَا يَسْتَجْمِرُ بِهَا، فَإن فَعَلَ اجْزَأهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 54 - مسألة؛ قال: (ولا يَمَسُّ ذَكَرَه بيَمِينه، ولا يَسْتَجْمِرُ بها) لما روَى أبو قَتادَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يُمْسِكَنَّ أحَدُكمْ ذَكَرَه بِيَمِينهِ وَهُوَ يَبول، وَلا يَتَمَسَّحُ مِنَ الخَلاءِ بِيَمِينهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فإنَّ ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 50. ومسلم، في: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 225. كما أخرجه أبو داود، في: باب كراهية مسّ الذكر باليمين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 8. والترمذي، في: باب في الاستنجاء باليمين، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 32. والنسائي، في: باب النهي عن مسّ الذكر باليمين عند الحاجة، وباب النهي عن الاستنجاء باليمين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 26، 39، 40. وابن ماجه، في: باب كراهية مسّ الذكر باليمين والاستنجاء باليمين، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 113. والدارمي، في: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، من كتاب الطهارة. سنن الدَّارميِّ 1/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 295، 296، 300، 310، 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يَستَجْمِرُ مِن غائِطٍ أخَذَ الحَجَرَ بيَسارِه، فمَسَحَ به. وإن كان مِن البَولِ أمْسَكَ ذَكَرَه بشِمالِه، ومَسَحَه على الحَجَرِ، فإنَّ كان الحجرُ صغيرًا، وَضَعَه بينَ عَقِبَيه أو بينَ أصابعِه ومسحَ عليه إن أمكَنَه، وإلَّا أمْسَكَ الحَجَرَ بيمينه ومسحَ بيَسارِه الذَّكَرَ عليه. وقيل: يُمْسِكُ الذَّكَرَ بيمينه ويَمْسَحُه بيَسارِه (¬1). والأولُ أوْلَى؛ لما ذكرْنا مِن الحديث، ولأنه ¬

(¬1) في ش بعد هذا: «وهو مذهب الشَّافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أمْسَكَ الحَجَرَ بيمينه، ومَسَحَ بيسارِه، لم يكنْ ماسِحًا بيمينه، ولا ممْسِكًا للذَّكَرِ بها. فإنَّ كان أقْطَعَ اليسرى أو بها مَرَض، اسْتَجْمَر بيمينه للحاجَةِ. فأمّا الاسْتِعانَة بها في الماءِ، فلا يكرَه؛ لأنَّ الحاجةَ داعِيَة إليه، فإنَّ اسْتَجْمَر بيمينه لغيرِ حاجةٍ أجْزأه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، وحُكِي عن بعض أهلِ الظّاهِرِ، أنَّه لا يجْزِئه؛ لأنه مَنْهِيٌّ عنه، أشْبَهَ ما لو اسْتَنْجَى

55 - مسألة: (ثم يتحول عن موضعه؛ لئلا يتنجس بالخارج منه، ثم يستجمر، ثم يستنجي بالماء)

ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَسْتَجْمِرُ، ثُمَّ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرَّوْثِ والرِّمَّة. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الرَّوْثَ آلةُ الاسْتِجْمارِ المُباشِرَةِ للمَحَلِّ وشَرْطه، فلم يَجُزِ استعمالُ الالةِ المَنْهِيِّ عنها فيه، واليدُ ليستِ المُباشِرَةَ للمَحَلِّ، ولا شَرْطًا فيه، إنَّما يَتَناوَلُ بها الحَجَرَ المُلاقِيَ للمَحَلِّ، فصارَ النَّهْيُ عنها نَهْيَ تَأدِيب لا يَمنَعُ الإِجْزاءَ. 55 - مسألة: (ثم يَتَحَوَّلُ عن موضِعِه؛ لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بالخارِجِ مِنه، ثم يَسْتَجْمِرُ، ثم يَستَنْجِي بالماءِ) الجَمْعُ بينَ الحَجَرِ والماءِ أفضَلُ؛ لأنَّ الحجرَ يُزيلُ ما غَلُظ مِن النَّجاسةِ، فلا تُباشِرُها يدُه، والماءُ يُزِيلُ ما بَقِيَ، قال أحمدُ: إن جمَعهما فهو أحَبُّ إليَّ؛ لما رُوى عن عائشةَ، أنَّها قالت للنِّساء: مُرْنَ أزْوَاجَكُنَّ أنْ يُتْبِعُوا الحِجارَةَ الماءَ مِن أثَرِ الغائِطِ والبَوْلِ، فإنِّي أستَحْيِيهِمْ (¬1)، وإنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يَفْعَلُه (¬2). قال الترمِذِي: هذا حديثٌ صحيحٌ. ¬

(¬1) في م: «استحبهما». (¬2) أخرجه التِّرمذيُّ، في: باب الاستنجاء بالماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 37. والنَّسائيُّ، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 39.

56 - مسألة؛ قال: (ويجزئه أحدهما)

وَيجزئه أحَدهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ 56 - مسألة؛ قال: (ويُجْزِئُه أحَدُهما) في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِيَ عن سعدِ بنِ أبي وَقاص، وابنِ الزُّبَيرِ (¬1)، أنهما أنكَرا الاسْتِنْجاءَ بالماءِ. قال سعيدُ بن المُسَيَّبِ: وهل يَفعَلُ ذلك إلَّا النِّساءُ؟ وقال عطاء: غَسْلُ الدُّبُرِ محْدَثٌ. والأول أوْلَى؛ لما روَى أنس، قال: ¬

(¬1) عبد الله بن الزُّبير بن العوام القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصِّديق، ولد عام الهجرة، أحد العبادلة، وأحد شجعان الصّحابة، بويع بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، وقتله الحجاج سنة ثلاث وسبعين. الإصابة 4/ 89 - 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان النبي - صَلَّى الله عليه وسلم - يَدخُلُ الخَلاءَ فأحْمِلُ أنا وغلامٌ نَحْوي إدَاوَةً (¬1) مِن ماءٍ وعَنَزَةً (¬2)، فيَسْتَنْجِي بالماءِ. متَّفَقٌ عليه (¬3). ولما ذكرْنا مِن حديثِ عائشةَ. ورَوى أبو هُرَيرَةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَزَلَتْ هذه الآيَةُ في أهْلِ قُباءَ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬4). قال: كانوا يَسْتَنْجُونَ بالماءِ فَنَزَلَتْ فِيهِم هذه الآيةُ». رواه أبو داودَ (¬5). ورُوى عن ابنِ (¬6) عمرَ أنّه كان لا يَفْعَلُه، ثم فَعَلَه، وقال لنافِع: إنَّا جَرَّبْناه فوَجَدْناه صالِحًا. ولأنه يُطَهِّرُ النجاسةَ في غيرِ مَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ، فجازَ في محَلِّ الاستنجاءِ قِياسًا عليه. فأمّا الاقْتِصارُ على الاسْتِجْمارِ، فهو جائِز بغيرِ خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ؛ لما يُذْكَرُ مِن الأخْبارِ، وهو إجْماعُ الصحابةِ، رَضِي اللهُ عنهم. ومتى أرادَ الاقْتِصارَ على أحَدِهما فالماءُ أفضَلُ؛ لما روَينا مِن الأحاديثِ، ولأنه يُزِيلُ العينَ والأثَرَ، ويُطَهِّرُ المَحَلَّ، وأبلَغُ في التنظيفِ. ¬

(¬1) الإداوة: المطهرة. (¬2) العنزة؛ بالتحريك: عصا طويلة في أسفلها زج، ويقال رمح صغير. (¬3) أخرجه البُخاريّ، في: باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 50. ومسلم، في: باب الاستنجاء بالماء من التبرز، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 227.كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 39. والدارمي، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. سنن الدَّارميِّ 1/ 173. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 171، 203. (¬4) سورة التوبة 108. (¬5) في: باب في الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 11.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 128. (¬6) سقط من: «الأصل».

57 - مسألة، قال: (إلا أن يعدو الخارج موضع العادة، فلا يجزئ إلا الماء)

إلا أنْ يَعْدُوَ الْخَارِجُ مَوْضِعَ الْعَادَةِ، فَلَا يُجْزِئُ إلا الْمَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 57 - مسألة، قال: (إلا أن يَعْدُوَ الخارِجُ موضعَ العَادَةِ، فلا يُجْزِئُ إلا الماءُ) مِثْلُ أنْ ينْتَشِرَ إلى الصَّفْحَتَينِ، أو يَمْتَدَّ في الحَشَفَةِ كثيرًا. وبهذا قال الشَّافعي، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ الاسْتِجْمارَ في المَحَلِّ المُعْتادِ رُخْصَةٌ لأجْلِ المَشَقَّةِ في غَسْلِه، لتَكَرُّرِ النجاسةِ فيه، فما لا يَتكَرَّرُ لا يُجْزِئُ فيه إلَّا الماءُ كَساقِه، ولذلك قال عليٌّ، رَضِي الله عُنه: إنَّكُم كُنتُم تَبْعَرُونَ بَعْرًا، وأنتم اليومَ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا، فأتْبِعُوا الماءَ الأحْجارَ (¬1). فأمّا قولُه، - عليه السلام -: «يَكْفِي أحَدَكُمْ ثَلاثةُ أحْجَارٍ» (¬2). يُحمَلُ على ما إذا لم يَتجاوَزْ موضعَ العادةِ؛ لما ذكرْنا. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث 1/ 220. ولفظه فيها: «كانوا يبعرون بعرا، وأنتم تثلطون ثلطا». أي كانوا يتغوطون يابسًا كالبعر؛ لأنهم كانوا قليلي الأكل والمآكل، وأنتم تثلطون رقيقًا، وهي إشارة إلى كثرة المآكل وتنوعها. (¬2) أخرج معناه أبو داود، في: باب الاستنجاء بالأحجار، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 10. والنسائي، في: باب الاجتزاء في الاستطابة كالحجارة دون غيرها، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 38. والدارمي، في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة سنن الدَّارميِّ 1/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 133.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمرأةُ البِكْرُ كالرجلِ؛ لأنَّ عُذْرَتَها تمنعُ انْتِشارَ البَولِ. فأمّا الثَّيِّبُ، فإنَّ خَرَج البَولُ بحِدَّةٍ ولم يَنْتَشِرْ، فكذلك، وإنْ تَعَدَّى إلى مَخْرَجِ الحَيض، فقال أصحابُنا: يجِبُ غَسْلُه؛ لأنَّ مَخرَجَ الحَيض غير مَخْرَجِ البولِ. قال شيخنا: ويَحتَمِلُ أن لا يجبَ؛ لأنَّ هذا عادَةٌ في حقِّها، فكَفَى فيه الاستِجْمارُ، كالمُعْتادِ في غيرِها، ولأنَّ الغَسْلَ لو لَزِمَها لبَينَّهَ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لأزْواجِه؛ لكَوْنِه مِمّا يُحْتاجُ إلى مَعْرِفَتِه. وإن شَكَّ في انْتِشارِ الخارِجِ لم يجبِ الغَسْلُ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُه، والأوْلَى الغَسْلُ احْتِياطًا (¬1). ¬

(¬1) المغني 1/ 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأقْلَف إن كانت بَشَرَتُه لا تَخْرج مِن قلْفَتِه فهو كالمُخْتَتِنِ، وإن كان يُمْكِنُه كَشفُها كَشَفَها، فإذا بال واسْتَجْمَر أعادَها، وإن تَنَجَّسَتْ بالبَولِ لَزِمَه غَسْلُها، لو انتشر إلى مُعْظَمِ الحَشفَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ انْسَدَّ المَخرَجُ المُعْتادُ وانْفَتَح آخرُ، لم يَجُزْ فيه الاسْتِجْمارُ، وحُكِي عن بعضِ أصحابِنا، أنَّه يُجْزِئُه؛ لأنَّه صار مُعتادًا. ولَنا، أنَّ هذا نادِرٌ بالنِّسْبَةِ إلى سائرِ الناس، فلم يَثْبُتْ فيه أحكام الفَرْجِ، ولأنَّ لَمْسَه لا يَنقُض الوضوءَ، ولا يَتَعَلَّق بالإيلاجِ فيه شيءٌ مِن أحكامِ الوَطْءِ، أشْبَهَ سائِرَ البَدَنِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأوْلَى أن يَبدَأ الرجلُ بالاسْتِنْجاءِ في القُبُلِ؛ لِئَلَّا تَتلَوَّثَ يدُه إذا شَرَع في الدُّبُرِ، لأنَّ قُبُلَه بارِز. فأمّا المرأةُ فهي مُخَيَّرة في البِدايه بأيهما شاءت؛ لعَدَمِ ذلك فيها. وإذا اسْتَنْجَى بالماء ثم فرَغ، استُحِبَّ له دَلْكُ يدِه بالأرض؛ لما روتْ مَيمُونَةُ، أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك. رواه البُخارِيّ (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يَمْكُثَ قليلًا قبلَ الاستِنْجاءِ، حَتَّى ينْقَطِعَ أثر البَولِ، فإنِ اسْتَنْجَى عَقِيبَ انقِطاعِه جازَ؛ لأنَّ الظاهِرَ انقِطاعُه، وقد ¬

(¬1) في: باب الغسل مرَّة واحدة، وباب المضمضة والاستنشاق في الجنابة، وباب مسح اليد بالتُّراب ليكون أنقى، من كتاب الغسل. صحيح البُخاريّ 1/ 73، 74.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: إنَّ الماءَ يَقْطَعُ البولَ، ولذلك سُمِّيَ الاسْتِنْجاءُ انْتِقاصَ (¬1) الماءِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَنْضَحَ على فَرْجه وسَراويله بعدَ الاسْتِنْجاء، ليُزِيلَ عنه الوَسْواسَ. قال حَنْبَلٌ: سأَلتُ أحمدَ، قلتُ: أتوَضَّأ وأسْتَبْرِيء، وأجدُ في نَفْسِي أني قد أحْدَثْتُ بَعدُ؟ قال: إذا تَوَضَّأتَ فاسْتَبرِئ، ثم خُذْ كَفًّا مِن ماءٍ، فرُشَّه في فَرُجِك لا (¬2) تَلْتَفِتْ إليه، فإنَّه يَذْهَبِ إن شاءَ اللهُ. وقد روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقال: يا مُحَمَّدُ، إذا تَوَضَّأتَ فَانتضِحْ». حديث غريبٌ (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «استنقاص». (¬2) في الأصل: «ولا». (¬3) أخرجه التِّرمذيُّ، في: باب في النضح بعد الوضوء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 65. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النضح بعد الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وَإذا اسْتَنْجَى بالماء لم يَحْتَجْ إلى التُّرابِ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه استَعْمَلَ الترابَ مع الماءِ في الاسْتِنْجاءِ، ولا أمَرَ به.

58 - مسألة؛ قال: (ويجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي، كالحجر، ونحوه الخشب والخرق)

وَيَجُوزُ الاسْتِجمَارُ بِكُلِّ طَاهِرٍ يُنْقِي؛ كَالْحَجَرِ، وَالْخَشَبِ، وَالْخِرَقِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 58 - مسألة؛ قال: (ويجوزُ الاسْتِجْمارُ بكلِّ طاهرٍ يُنْقِي، كَالحَجَرِ، ونَحْوه الخَشبُ والْخِرَقُ) أمّا الاسْتِجْمارُ بالأحْجارِ، فلا خلافَ فيه، فيما علمنا، وذلك لما رُوى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ذَهَبَ أحَدُكُم إلى الغَائِطِ، فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاثةِ أحْجَارٍ، فَإنَّها تُجْزِئ عَنْه». رواه أبو داودَ (¬1) أ. فأمَّا الاسْتِجْمارُ بما سِواها، كالخَشَبِ والخِرَقِ وما في معناها مِمَّا يُنْقِي، فهو جائِزٌ في الصَّحيحِ مِن المذهب، وقولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وعنه، لا يُجْزِئُ إلَّا الأحْجارُ. اخْتارَها أَبو بكرٍ، وهو مذهبُ داودَ؛ لأنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بالأحْجارِ، وأمْرُه يَقْتَضِي الوُجُوبَ. ولأنَّه مَوْضِعُ رُخْصَةٍ، وردَ الشرعُ فيها بآلةٍ مَخصُوصَةٍ، فوَجَبَ الاقْتِصارُ عليها، كالترابِ في التَّيَمُّمِ، وقِياسًا على رَمْي الجِمارِ. ¬

(¬1) في: باب الاستنجاء بالأحجار، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 10. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 38. والدارمي، في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 133.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما روَى طاوُسٌ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أتى أحَدُكُمُ البَرَازَ، فَلْيُنَزِّه قِبْلَةَ اللهِ، فَلا يَسْتَقْبِلْهَا وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، ولْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أحْجَارٍ، أو ثَلَاثَةِ أَعْوادٍ، أو ثَلَاثِ حَثَياتٍ مِنْ تُرابٍ». رواه الدَّارَقُطْنِي (¬1)، قال: وقد رُوِيَ عن ابن عباس مرفوعًا، والصحيحُ أنه مُرسَلٌ. وفي حديثِ سَلْمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّه لَيَنْهانا أن نَسْتَنْجِيَ بأقلَّ مِن ثَلَاثَةِ أحْجارٍ، وأن نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أو عَظْم. رواه مسلمٌ (¬2). وتَخْصِيصُ هذين بالنَّهْي يدُلُّ على أنه أرادَ الحِجَارَةَ وما قام مَقامَها، وَإلَّا لم يكنْ بتَخْصِيصِ هذين بالنَّهْي معنًى. ولأنَّه متى وَرَدَ النَّصُّ بشيءٍ لمعنًى معقول، وَجَب تَعْدِيَتُه إلى ما وُجِدَ فيه المعنى، والمعنى ههُنا إزالةُ عينِ النجاسةِ، وهذا يحصُلُ بغيرِ الأحْجارِ كحُصُولِه بها، فأمّا التَّيَمُّم فإنَّه غيرُ معقول. فصل: ويُشتَرطُ فيما يُسْتَجْمَرُ به أن يكونَ طاهِرًا، كما ذكر، فإنَّ كان نَجِسًا لم يُجْزِئْه الاسْتِجْمارُ به. وبهذا قال الشَّافعي. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه؛ لأنَّه يُجَفِّفُه كالطاهِرِ. وَلَنا، أنَّ ابنَ مسعودٍ جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحَجَرَين ورَوْثَةٍ ليَسْتَجْمِرَ بها، فأخذَ الحَجَرَين (¬3) وألْقَى الرَّوْثَةَ، ¬

(¬1) في: باب الاستنجاء، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 57. (¬2) في: باب الاستطابة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 223. (¬3) في م: «الحجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: «هَذَا رِكْسٌ». يعني نَجِسًا. رواه الترمِذِي (¬1). وهذا تعليل مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَجِبُ المصيرُ إليه. ولأنَّه إزالةُ نجاسةٍ، فلا تَحْصُلُ بالنجِس كالغَسْلِ. فإنَّ اسْتَجْمَر بنَجِس، احْتَمَل أن لا يُجْزِئَه الاسْتِجْمارُ بعدَه؛ لأنَّها نَجاسة مِن خارجٍ، فلم يَجُز فيها غيرُ الماءِ، كما لو تَنَجَّسَ المَحَلُّ بها ابتداءً، ويَحتَمِلُ أن يُجْزِئَه؛ لأنَّ هذه النجاسةَ تابِعة لنجاسةِ المَحَلِّ، فزالتْ بِزَوالِها. ويُشترطُ أن يكونَ ممَّا يُنْقِي؛ لأنَّ الإِنْقَاءَ شرط في الاسْتِنْجاءِ، فإنَّ كان زَلِجًا، كالزُّجاجِ والفَحْمِ الرِّخْو وشِبْهِهما مِمَّا (¬2) لا يُنْقِي أو نَدِيًّا (¬3)، لم يَجُز في الاسْتِجْمارِ؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ به المقصودُ. ¬

(¬1) في: باب الاستنجاء بالحجرين، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 34.كما أخرجه البُخاريّ، في: باب لا يستنجى بروث، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 51. والنَّسائيُّ، في: باب الرخصة في الاستطابة بحجرين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 34، 338، 427، 450. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أو نديا لا ينقى».

59 - مسألة؛ قال: (إلا الروث والعظام والطعام، وما له حرمة، وما يتصل بحيوان)

إلا الرَّوْثَ، وَالْعِظَامَ، وَالطَّعَامَ، وَمَالهُ حُرْمَةٌ، وَمَا يَتَّصِلُ بِحَيَوَانٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 59 - مسألة؛ قال: (إلا الرَّوْثَ والعِظامَ والطُّعامَ، وما له حُرمَةٌ، وما يَتَّصِلُ بحَيَوانٍ) وجملةُ ذلك أنه لا يجُوزُ الاسْتِجْمارُ بالرَّوْثِ ولا العِظامِ ولا يُجْزِئُ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وبهذا قال الثَّوْرِيّ، والشافعيّ، وإسحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ الاسْتِجْمارُ (¬1) بهما؛ لأنَّهما يُجَفِّفان النَّجاسةَ، ويُنْقِيان المَحَلَّ، فهما كالحَجَرِ. وأباحَ مالكٌ الاستنْجاءَ بالطَّاهِرِ منهما. ولَنا، ما روَى مسلمٌ (¬2)، عن ابنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلا بالعِظَام؛ فإنَّه زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنَ الجِنِّ». ورَوَى الدَّارَقُطْنِي (¬3) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُسْتَنْجَى برَوْثٍ أو عَظْم، وقال: «إنَّهُما لا يُطَهِّرانِ». وقال: إسنادٌ صحيح. ورَوَى أبو داوُد (¬4)، عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لرُوَيفِع. بنِ ثابِتٍ: «أخْبِرِ النَّاسَ، أنه مَنِ اسْتَنْجَى برَجِيع أو عَظْم، فهُوَ بَرِئٌ مِنْ مُحَمَّدٍ». وهذا عام في الطَّاهِرِ مِنْهما وغيرِه، والنَّهْيُ يَقْتَضِي الفَسادَ ¬

(¬1) في الأصل: «الاستنجاء». (¬2) بنحوه، في: باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، من كتاب الصَّلاة. صحيح مسلم 1/ 332. وبلفظه، أخرجه التِّرمذيُّ، في: باب كراهية ما يستنجى به، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 36، 12/ 143. (¬3) في: باب الاستنجاء، من كتاب الطهارة سنن الدارقطني 1/ 56. (¬4) في: باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، من كتاب الطهارة سنن أبي داود 1/ 9. وأخرجه الإمام أحمد، في المسند 4/ 108، 109.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَدَمَ الإجْزاء. وكذلك الطعامُ يَحْرُمُ الاسْتِنْجاءُ به بطريقِ التنبِيهِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّلَ النَّهْيَ عن الرَّوْثِ والرِّمَّةِ بكَوْنِه زادَ الجِنِّ، فَزادُنا أولَى، لكوْنِه أعْظَمَ حُرْمَةً. فإنَّ قِيل: فقد نَهَى عن الاسْتِجْمارِ باليَمِينِ، كنَهْيِه عن الاستجمارِ بهذينِ، ولم يَمْنَعْ ذلك الإِجْزاءَ. فعنه جوابان؛ أحدُهما، إنّه قد بيَّن في الحديث أنهما لا يُطَهِّران. الثاني، الفرقُ بينَهما، وهو أنَّ النَّهْيَ ههُنا لمعنًى في شَرْطِ الفِعلِ، فمَنَعَ صِحَّتَه، كالنَّهْي عن الوُضوءِ بالماءِ النَّجِس، وثَمَّ لمعنًى في آلةِ الشرط، فلم يَمْنَعْ، كالوُضوءِ مِن إناءٍ مُحَرَّم. وكذلك ما لَهُ حُرْمَةٌ؛ مِثْلُ كُتُبِ الفِقْهِ والحدِيثِ؛ لما فيه مِن هَتْكِ الشَّريعةِ والاسْتِخْفافِ بِحُرْمَتِها، فهو في الحُرْمَةِ أعْظَمُ مِن الرَّوْثِ والرِّمَّةِ، وكذلك ما يَتَّصِلُ بحيوانٍ كعَقِبِه ويَدِه وذَنَبِ البَهِيمةِ وصُوفِها المُتَّصِلِ بها؛ لأنَّ له حُرْمَةً، فهو كالطَّعامِ [وقد يُنَجِّس الغَيرَ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: «م».

60 - مسألة: (ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات، إما بحجر ذي شعب أو بثلاثة)

وَلَا يُجْزِيء أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ مَسَحَاتٍ، إِمَّا بِحَجَرٍ ذِى شُعَبٍ، أَوْ بِثَلَاثَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 60 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ أقلُّ مِن ثلاثِ مَسَحاتٍ، إمّا بحَجَر ذي شُعَبٍ أو بثلاثةٍ) أما الاسْتِجْمارُ بثلاثةِ أحْجارٍ، فيُجْزِئ إذا حَصَل بها الإِنْقاءُ، بغيرِ خلافٍ علمْناه، لما ذكرْنا مِن النَّصِّ والإجماعِ. فأمّا الحَجَرُ الذي له ثلاثُ شُعَبٍ، فيُجْزِئ (¬1) الاسْتِجْمارُ به في ظاهِرِ المذهبِ. وهو اختيارُ الخِرَقِيِّ، ومذهبُ الشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْر. وعن أحمدَ رواية أخرَى، لا يُجْزِئ أقَلُّ مِن ثلاثةِ أحْجارٍ. وهو قولُ أبي بكرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَسْتَنْجِ أحَدُكُمْ بدُونِ ثَلاثَةِ أحْجَارٍ». رواه مسلم (¬2) و «لا يَكْفِي أحدَكُمْ دُون ثَلاثَةِ أحْجارٍ» (¬3). ولأنَّه إذا اسْتَجْمَر بالحَجَرِ تَنَجَّس، فلم يَجُزِ الاسْتِجْمارُ به ثانيًا، كالصَّغِيرِ. ولَنا، أنه اسْتَجْمَرَ ثلاثًا مُنْقِيَةً بما وُجِدَ فيه شُرُوطُ الاسْتِجْمارِ، فأجْزَأه، كما لو فَصَلَه ثلاثةَ أحجارٍ، واسْتَجْمَرَ بها، فإنَّه لا فرقَ بينَهما إلَّا فَصْلُه، ولا أثَرَ لذلك ¬

(¬1) في م: «فيجوز». (¬2) تقدم في صفحة 222 بنحوه. (¬3) تقدم في صفحة 214 بمعناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في التَّطهيرِ، والحديثُ يَقْتَضِي ثلاثَ مَسَحاتٍ بحَجَرٍ، كما يُقال: ضَرَبْته ثلاثةَ أسْواطٍ. أي ثلاثَ ضَرَباتٍ بسَوْطٍ، وذلك لأنَّ معناه معقولٌ، ومُرادَه معلومٌ، والحاصلُ مِن ثلاثةِ أحْجارٍ حاصِلٌ مِن ثلاثِ شُعَبٍ، ومِن مَسْحِه ذَكره في صَخْرَةٍ عَظِيمةٍ، بثَلاثةِ مَواضِعَ مِنها، فلا معنى للجُمُودِ على اللَّفْظِ مع وُجُودِ ما يُساويه. وقولُهم: إنَّ الحَجَرَ يَتَنَجَّس. قُلْنا: إنَّما يَمْسَحُ بالموضع الطاهِرِ، أشْبَهَ ما لو تَنَجَّسَ جانِبُه بغيرِ الاسْتِجْمارِ. ولأنَّه لو اسْتَجْمَرَ به ثلاثة، لحَصَلَ لكلِّ واحدٍ مِنهم مَسْحَةٌ، وقام مَقامَ ثلاثةِ أحْجارٍ، فكذلك إذا اسْتَجْمَرَ به الواحِدُ. فصل: ولو اسْتَجْمَرَ ثلاثةٌ بثلاثةِ أحْجارٍ، لكلِّ حَجَرٍ ثلاثُ شُعَبٍ، اسْتَجْمَرَ كلُّ واحدٍ بشُعْبَةٍ مِن كُلِّ (¬1) حَجَرِ، أو اسْتَجْمَرَ بحَجَر ثم غَسَلَه، أو (¬2) كَسَر ما تَنَجَّسَ منه، ثم اسْتَجْمَرَ به ثانيًا، ثم فعل ذلك واسْتَجْمَر به ثلاثًا، أجْزأه؛ لحُصُولِ المعنى والإِنْقَاءِ. ويَحْتَمِلُ على قولِ أبي بكرٍ أن لا يُجْزئَه، جُمُودًا على اللَّفْظِ، وهو بعيدٌ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ للاسْتِجْمارِ الإِنْقاءُ، وكمالُ العَدَدِ. ومعنى الإِنْقاء في الاسْتِجْمارِ: إزالةُ عينِ النجاسةِ وبَلَلِها، بحيث [يَرْجِعُ الحَجَرُ] (¬1) نَقِيًّا، ليس عليه أثر إلَّا شيئًا يَسِيرًا. ومعنى الإِنْقاءِ في الاسْتِنْجاءِ ذَهابُ لُزُوجَةِ النَّجاسَةِ وآثارِها. فإنَّ وُجِدَ الإِنقاءُ، ولم يَكْمُلِ العَدَدُ، لم يُجْزِئ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال مالكٌ: يُجْزِئ. وبه قال داوُد؛ لحُصُولِ المقْصُودِ، وهو الإِنْقاءُ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَن فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ» (¬2). ولَنا، قَوْلُ سلْمانَ: لقد نَهانا -يعني النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نَسْتَجْمِرَ بأقَلَّ مِن ثلاثةِ أحْجارٍ (¬3). فأمّا قوله: «فَلا حَرَجَ». في حديثهم، يعني في تَرْكِ الوتْرِ، لا في تركِ العَدَدِ؛ لأنَّ المأمُورَ به في الخَبَرِ الوترُ، فيَعُودُ نَفْيُ الحَرجِ إليه. ¬

(¬1) في م: «يخرج». (¬2) رواه أبو داود، في: باب الاستتار في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 8. كما أخرج نحوه في الاستجمار وترا البُخاريّ، في: باب الاستنثار في الوضوء، وباب الاستجمار وترا، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 52. والترمذي، في: باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 44. والنَّسائيُّ، في: باب الرخصة في الاستطابة بحجر واحد، وباب الأمر بالاستنثار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 38، 57. وابن ماجه، في: باب الاستنجاء بالحجارة، وباب الارتياد للبول والغائط، وباب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 114، 115، 121، 142، 143. والدارمي، في: باب التستر عند الحاجة، وباب في الاستنشاق والاستجمار، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 169، 178. والإمام مالك، في: باب العمل في الوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 19. والإمام أحمد، في: المسند 236/ 2، 254، 277، 278، 308، 351، 356، 371، 387، 401، 463، 4/ 313، 339، 340. (¬3) تقدم صفحة 222.

61 - مسألة؛ قال: (فإن لم ينق بها، زاد حتى ينقى)

فَإِنْ لَمْ يُنْقِ بِهَا، زَادَ حَتَّى يُنْقِىَ. وَيَقْطَعُ عَلَى وتْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 61 - مسألة؛ قال: (فإنَّ لم يُنْقِ بها، زادَ حتَّى يُنْقِىَ) لأنَّ المقصودَ إزالةُ آثارِ النجاسةِ، فإذا لم يُنْقِ لم يَحْصُلْ مقصودُ الاسْتِجْمارِ. 62 - مسألة؛ قال: (ويَقْطعُ على وتْرٍ) لما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ». متَّفَقٌ عليه (¬1). وهو مُسْتَحَب غيرُ واجبٍ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَل فقد أحْسَنَ، ومَنْ لا فَلا حَرَجَ». رواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داوُدَ. فَيَسْتَجْمِرُ (¬2) ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، فإنَّ أنقَى بشَفْع أجْزأ؛ لما ذكرنا. فصل: وكَيفَما حَصَل الإِنْقاءُ في الاسْتِجْمارِ أجْزأ، وذَكَر القاضي أنَّ المُسْتَحَبَّ أن يُمِرَّ الحَجَرَ الأوَّلَ، مِنْ مُقَدَّمِ صَفْحَتِه اليُمْنَى إلى مُوخَّرِها، ثم يُدِيرَه على اليُسْرَى، حتَّى يَصِلَ به إلى الموضِع الذي بَدَأ مِنه، ثم يُمِرَّ الثانِىَ مِن مُقَدَّمِ صَفْحَتِه اليُسْرَى كذلك، ثُمَّ يُمِرَّ الثالثَ على المَسْرَبَةِ والصَّفْحَتَينِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أوَلا يَجِدُ أحَدُكُمْ حَجَرَينِ للصفْحَتَينِ، وَحَجَرًا للمَسْرَبةِ». روَاه الدّارَقُطْنِي (¬3)، وقال: إسناد حسن. وذكر الشَّرِيفُ أبو جعفرٍ، وابنُ عَقِيل، أنَّه يَنْبَغِي أن يَعُمَّ المَحَلَّ ¬

(¬1) تقدم في المسألة قبل السابقة. (¬2) في م: «فليستجمر». (¬3) في: باب الاستنجاء، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكلِّ واحدٍ مِن الأحْجارِ؛ لأنَّه إذا لم يَعُمَّ به (¬1) كان تَلْفِيقًا، وتَكُونُ (¬2) مَسْحَةً واحدَة. وقالا: معنى الحديثِ البدايةُ بهذه المواضِعِ. قال شيخُنا: ويَحْتَمِلُ أنْ يُجْزِئَه لكُلِّ جِهَةٍ مَسْحَةٌ؛ لظاهِرِ الخَبَرِ. واللهُ أعلمُ (¬3). فصل: ويُجْزِئ الاسْتِجْمارُ في النّادِرِ، كإجْزائِه في المُعْتادِ. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْه، أنَّه لا يُجْزِئُ في النّادِرِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): يَحْتَمِلُ أن يكونَ قولَ مالكٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بغَسْلِ الذَّكَرِ مِن المَذْىِ، وظاهرُ الأمْرِ الوجوبُ، ولأنَّ النّادِرَ لا يَتَكَرَّرُ، فلا يَشُقُّ اعْتِبارُ الماءِ فيه، فوَجَبَ كغيرِ هذا المَحَلِّ. ولَنا، أنَّ الخَبَرَ عام في الكُلِّ. ولأنّ الاسْتِجْمارَ في النّادرِ إنَّما وَجَب لما صَحِبَه مِن بِلَّةِ المُعْتادِ، ثم إنْ لم يَشُقَّ فهو في مَحَلِّ المَشَقَّةِ، فيُعْتَبَرُ مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ دونَ حَقِيقَتِها، كما جازَ الاسْتِجْمارُ على نَهْرٍ جارٍ. وأمّا المَذْىُ فمُعْتادٌ كثيرٌ، ورُبَّما كان في بعض النَّاسِ أكثرَ مِن البَوْلِ، ولهذا أوْجَبَ مالِكٌ مِنه الوُضُوءَ، وهو لا يُوجِبُه مِن النّادِرِ، فيُجْزِئ فيه الاسْتِجْمارُ قياسًا على سائِرِ المُعْتادِ، والأمْرُ مَحْمُولٌ على الاسْتِجْبابِ، جَمْعًا بينَه وبينَ ما ذكرْنا. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) ساقطة من: «م». (¬2) في م: «فيكون». (¬3) المغني 1/ 210. (¬4) أبو عمر يوسف بن عبد البر بن عبد الله النمري القرطبي، شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها في وقته، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. الديباج المذهب 2/ 367 - 370.

63 - مسألة؛ قال: (ويجب الاستنجاء من كل خارج إلا الريح)

وَيَجِبُ الاسْتِنْجَاء مِنْ كُلِّ خَارِجٍ، إلا الرِّيحَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 63 - مسألة؛ قال: (ويَجِبُ الاسْتِنْجاءُ مِن كل خارِج إلا الرِّيحَ) سَواءٌ كان معْتادًا، كالبَوْلِ والغائِطِ، أو نادِرًا كالحَصَا والدُّودِ والشَّعَرِ، رَطْبًا كان أو يابِسًا، فلو وَطِئ امْرَأتَه دونَ الفَرْجِ، فدَبَّ مَاؤه إلى فَرْجِها، ثم خَرَجَ منه، فعَلَيها (¬1) الاسْتِنْجاءُ. هذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وصَرَّحَ به القاضي وغيرُه. ولو أدْخَلَ المِيلَ في ذَكَرِه ثم أخْرَجَه، لَزِمَه الاسْتِنْجاءُ؛ لأنّه خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، فأشْبَهَ الغائِطَ المُسْتَحْجِرَ. والقياسُ أن لا يَجبَ الاسْتِنْجاء مِن ناشِفٍ لا ينَجِّسُ المَحَلَّ، وهو قول الشافعيِّ. وهَكذا (¬2) الحكْم في الطّاهِرِ، وهو المَنِيّ إذا حكَمْنا بطَهارَتِه، لأنَّ الاسْتِنْجاءَ إنَّما شُرِعَ لإزالةِ النَّجاسَةِ، ولا نَجاسَةَ ها هنا، ولأنَّه لم يَرِدْ به نَص، ولا هو في معنى المَنْصوصِ. والقولُ بوجوبِ الاسْتِنْجَاء في الجملةِ قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. وحُكِيَ عن ابنِ سِيرِينَ، في مَن صَلَّى بقَوْم ولم يَسْتَنْجِ: لا أعلمُ به بَأسًا. وهذا يَحْتَمِلُ أن يكونَ في مَن لم يَلْزَمْه الاسْتِنْجاءُ، كمَنْ تَوَضَّأ مِن نَوْم أو خُروجِ ¬

(¬1) في م: «وجب عليهما». (¬2) في م: «وهذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِيح، ويَحْتَمِلُ أنَّه لم يَرَ وجوبَ الاسْتِنْجاءِ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ». رواه أبو داوُدَ (¬1). ولأنَّها نَجاسَةٌ يُجْزِئ المَسْحُ فيها، فلم يَجِبْ إزالتُها كيَسِيرِ الدَّمِ. ووَجْهُ الأوَّلِ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ذهب أحَدُكُمْ إلى الغَائِطِ، فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاثةِ أحْجَارٍ، فإنَّها تُجْزِيء عَنْهُ». رواه أبو داوُدَ (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَسْتَنْجِ أحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلاثَةِ أحْجَارٍ» روَاه مُسلِمٌ (¬3). أمْرٌ، والأمْرُ يَقْتَضِى الوُجُوبَ. وقال: «فإنَّها تُجْزِيء عنه». والإجْزاءُ إنَّما يُسْتَعْمَلُ في الواجِبِ، ونَهَى عن الاقْتِصارِ على أقَلَّ مِن ثلاثةِ أَحْجارٍ، والنَّهىُ يَقْتَضِى التَّحْرِيمَ. وإذا حَرُمَ تَرْكُ بعضِ النَّجاسَةِ، فالجميعُ أوْلَى، فأمَّا قولُه: «لا حَرَجَ». يَعنى في تَرْكِ الوتْرِ، وقد ذكرْناه. وأمَّا الاجْتِزاءُ بالمَسْحِ فيه، فلمَشَقَّةِ الغَسْلِ؛ لتَكَرُّرِ النجاسةِ في مَحَل الاسْتِنْجاءِ. فأمّا الرِّيحُ فلا يَجِبُ لها اسْتِنْجاءٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. قال أبو عبدِ اللهِ: ليس في الرِّيح اسْتِنْجاء في كتابِ اللهِ، ولا في سُنَّةِ رسولِه، وقد رُوى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَال: «مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيح فَلَيسَ مِنَّا». رواه الطَّبرانِيُّ، في «المُعْجَمِ الصَّغِيرِ» (¬4). وعن زَيدِ بن ¬

(¬1) تقدم في صفحة 229. (¬2) تقدم في صفحة 222 من حديث سلمان. (¬3) تقدم في صفحة 222. (¬4) انظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي 4/ 1352.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْلَمَ (¬1)، في قولِه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}: إذا قُمْتُمْ مِن النَّوْمِ (¬2). ولم يأمُرْ بغيرِه، فَدَلَّ على أنَّه لا يَجِبُ، ولأنَّ الوُجُوبَ مِن الشَّرعِ، ولم يَرِدْ فيه نَصٌّ، ولا هو في مَعْنى المَنْصُوص. ولأنَّها ليست نَجِسَةً، ولا تَصْحَبُها نَجاسَةٌ، فلا يَجِبُ غَسْلُ المَحَلِّ مِنها، كسائِرِ المَحالِّ الطّاهِرَةِ. ¬

(¬1) أبو عبد الله في زيد بن أسلم العدوي العمرى مولاهم، كان له حلقة للعلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله «تفسير». توفي سنة ست وثلاثين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 316. (¬2) انظر. تفسير الطبرى 6/ 112، تفسير القرطبي 6/ 82.

64 - مسألة؛ قال: (فإن توضأ قبله، فهل يصح وضوءه؟ على روايتين)

فَإِنْ تَوَضَّأ قَبْلَهُ فَهَلْ يَصِحُّ وُضُوءُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 64 - مسألة؛ قال: (فإن تَوَضَّأ قبلَه، فهل يَصِحُّ وُضُوءُه؟ على رِوايَتَين) يَعني: إن تَوَضَّأ قبل الاسْتِنْجَاءِ؛ إحْداهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّها طَهارَةٌ يُبْطِلُها الحَدَثُ، فاشْتُرِطَ تَقْدِيمُ الاسْتِنْجاءِ عليها، كالتَّيِمُّمِ.

وَإنْ تَيَمَّمَ قَبْلَهُ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَينِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، يصِحُّ. وهي أصَحُّ، وهي مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنها إزالةُ نَجاسَةٍ، فلم تُشترَطْ لصِحَّةِ الطهارَةِ، كالتي على غيرِ الفَرْجِ. فعلى هذه الرِّواية إن قَدَّمَ التيَّمِّمَ خُرِّجَ على الرِّوايَتَين؛ إحْداهما، يَصِحُّ، قياسًا على الوُضُوءِ. والثانيةُ، لا يَصِحُّ؛ لأنه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، وإنَّما تُسْتَباحُ به الصَّلاةُ، فلا (¬1) تُباحُ مع قِيامِ المانِع، كما لو تَيَمَّمَ قبلَ الوَقْتِ، ¬

(¬1) في م: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل في التَّيَمُّمِ: لا يَصِحُّ. وَجْهًا واحدًا؛ لما ذَكَرْنا. وإن كانت النجاسةُ على غيرِ الفَرْجِ، فهو كما لو كانت على الفرجِ، ذَكَرَها ابنُ عَقِيلٍ؛ لِما ذكرْنا مِن العِلَّةِ. قال شيخُنا: والأشْبَهُ التَّفْرِيقُ بينَهما، كما افْتَرَقا في طَهارَةِ الماءِ، ولأنَّ نجاسةَ الفَرْجِ سَبَبُ وجوبِ التَّيَمُّمِ، فجازَ أن يكونَ بَقاؤُها مانِعًا مِنه، بخلافِ سائِرِ النَّجاساتِ (¬1). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) المغني 1/ 156.

باب السواك، وسنة الوضوء

بَابُ السِّوَاكِ، وَسنَّةِ الْوُضُوءِ السِّوَاكُ مَسْنُونٌ فِي جَمِيعِ الأوْقَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السِّواك وسُنَّة الوضوء 65 - مسألة؛ قال: (والسِّواكُ مَسْنُونٌ في جميع الأوقاتِ) لا نَعْلَمُ خلافًا في استحْبابِه وتَأكُّدِه، وذلك لما رُوى عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِي اللهُ عنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «السِّواكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬1). وعن عائشةَ، قالت: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَلَ بَيتَه بَدَأ بالسِّواكِ. رواه مسلم (¬2). ورَوَى ابنُ ماجَه (¬3)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه قال: «إنِّي لأسْتَاكُ، حَتَّى لَقَدْ خَشِيتُ أنْ أُحْفِىَ مَقَادِمَ فَمِي». ¬

(¬1) في: المسند 1/ 3, 10. (¬2) في: باب السواك، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 220. وأخرجه النسائي، في: باب السواك في كل حين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 17. وابن ماجه، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 106. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 41، 42, 110، 182، 188، 192، 237. (¬3) في: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 106. وروى الإمام أحمد نحوه، في: المسند 5/ 263.

66 - مسألة؛ قال: (إلا للصائم بعد الزوال، فلا يستحب)

إلا لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 66 - مسألة؛ قال: (إلَّا للصَّائِمِ بعدَ الزَّوالِ، فلا يُسْتَحَبُّ) قال ابن عَقِيل: لا يَخْتَلِف المذهبُ، أنّه لا يُسْتَحَبُّ للصّائِمِ السِّواك بعدَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوَالِ؛ لما نَذْكُرُه. وهل يُكْرَهُ؟ على رِوايتَين؛ إحْداهما، يُكْرَه. وهو قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ؛ لما رُوى عن عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنه، أنه قال: يَسْتاكُ ما بَينَه وبينَ الظُّهْر، ولا يَسْتاكُ بعدَ ذلك. ولأنَّ السِّواكَ إنَّما اسْتُحِبَّ لإزالةِ رائِحَةِ الفَمِ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَخُلوف فَم الصَّائِمِ أطْعَبُ عِندَ الله مِنْ رِيحِ المِسْكِ». رواه الترمِذِيُّ (¬1)، وقال: ¬

(¬1) في: باب ما جاء في فضل الصوم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذي 3/ 294. كما أخرجه البخاري، في: باب فضل الصوم، وباب هل يقول إني صائم إذا شتم، من كتاب الصوم، وفي: باب ما يذكر في المسك، من كتاب اللباس، وفي: باب قوله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} وباب حدثني محمد بن عبد الرحيم، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 3/ 31, 34، 7/ 211، 8/ 175، 192. ومسلم، في: باب فضل الصيام، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 806، 807. وأبو داود، في: باب في فضل الصيام، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 2/ 24. والنسائي، في: باب فضل الصيام، وباب الاختلاف على أبي صالح، وباب الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 132، 134 - 136، 139. وابن ماجه، في: باب ما جاء في فضل الصيام، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 525. والدارمي، في: باب في فضل الصيام، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 24. والإمام مالك، في: باب جامع الصيام، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 310. والإمام أحمد، في المسنذ 1/ 446، 2/ 232، 234، 257، 266، 273، 281, 292، 306، 307, 313, 347, 393, 395, 407, 411, 414, 443, 457, 458, 461, 465, 467, 475, 477, 480, 485, 501, 504, 505, 516, 532, 3/ 5, 40, 4/ 130, 202, 6/ 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث حسنٌ. وإزالةُ المُسْتَطابِ عندَ الله مَكْرُوهٌ، كدَمِ الشُّهَدَاءِ وشَعَثِ الإِحْرامِ. والثانية، لا يُكْرَهُ. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، وابنِ سِيرِينَ، وعُرْوَةَ، ومالِكٍ، وأصحاب الرَّأىِ. ورُوِي ذلك عن عمرَ، وابنِ عباسٍ، وعائشة، رَضِي اللَّهُ عنهم؛ لعُمُومِ الأحادِيثِ المَرْويَّة في السِّواكِ، ولقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ خَيرِ خِصَالِ الصَّائِم السِّوَاكُ». رواه ابنُ ماجَه (¬1). وقال عامِرُ بنُ رَبِيعَةَ: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - , ما لا أُحْصي، يَتَسَوَّكُ وهو صَائِمٌ. رواه الترمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. فصل: أكثرُ أهلِ العِلْمِ يروْن السِّواكَ سُنَّةً، غيرَ واجبٍ، ولا نَعْلَمُ أحدًا قال بوُجُوبِه إلَّا إسحاقَ، وداوُدَ؛ لأنّه مأمُورٌ به، والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ. ورَوَى أبو داوُد، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بالوُضُوءِ عندَ كلِّ صلاةٍ، طَاهِرًا وغيرَ طاهِرٍ، فلَمّا شَقَّ ذلك عليه، أُمِرَ بالسِّوَاكِ عندَ كلِّ صَلاةٍ (¬3). ووَجْهُ الأوَّلِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ¬

(¬1) في: باب ما جاء في السواك والكحل للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 536. (¬2) في: باب ما جاء في السواك للصائم، من أبواب الصيام. عارضة الأحوذي 3/ 255. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك للصائم، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 552. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 445. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب السواك، بن كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 12. والدارمي، في: باب قوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 168، 169. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأمَرْتُهُم بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ». متَّفَقٌ عليه (¬1). ورَوَى الإمامُ أحمدُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْلا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْتُ عَلَيهِمُ السِّوَاكَ، كما فَرَضْت عَلَيهِمُ الوُضُوءَ» (¬2). وهذان الحدِيثان يَدُلّان على أنّه غيرُ واجبٍ؛ لأن المَشَقَّةَ إنّما تَلْحَقُ بالواجب، ويَدُلُّ على أنَّ الأمْرَ في حَدِيثهِم أمرُ نَدْبٍ واسْتِحْبابٍ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ ذلك واجِبًا في حَقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، على الخُصُوص، جَمْعًا بينَ الخَبَرَين. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب السواك يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفي: باب سواك الرطب واليابس للصائم، من كتاب الصيام. وفي: باب ما يجوز من اللَّوْ، من كتاب التمني. صحيح البخاري 2/ 5، 40، 9/ 106. وليس في الموضع الأخير: «عند كل صلاة». ومسلم، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 220. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 11. والترمذي، في: باب ما جاء في السواك، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 38، 39. والنسائي، في: باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 16. وابن ماجه، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 105. والدارمي، في: باب السواك، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 174. والإمام مالك، في: باب ما جاء في السواك، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 66. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 80، 120، 2/ 245، 250، 259, 287، 399، 400، 429، 433، 460، 509, 517، 531، 4/ 114، 116, 5/ 193، 410، 6/ 325, 429. (¬2) المسند 1/ 214, 3/ 442.

67 - مسألة؛ قال: (ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع؛ عند الصلاة)

وَيَتَأكَّدُ اسْتِحْبَابهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَالانْتِبَاهَ مِنَ النَّوْمَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 67 - مسألة؛ قال: (ويَتَأكَّدُ اسْتِحْبابُه في ثلاثةِ مَواضِعَ؛ عندَ الصلاةِ) للخَبَرِ الأوَّلِ، ولما روَى زيدُ بنُ خالدٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ عَلَى أُمتِي لأمرْتُهُم بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬1). قال: فكانَ خَالدٌ يَضَعُ السِّواك مَوْضِعَ القَلَمِ مِن أُذُنِ الكاتِبِ، كُلَّما قامَ إلى الصّلَاةِ اسْتاكَ. رواه الترمِذِيُّ، وقال: حديثٌ حَسَنٌ (¬2) صحيحٌ. (وعندَ القِيامِ مِن النَّوْم) لما روَى حُذَيفَةُ، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ مِن اللَّيلِ يَشُوصُ فاهُ بالسِّوَاكِ. متَّفَقٌ عليه (¬3). يَعنى: يَغْسِلُه، يقال: ¬

(¬1) تقدم في المسألة السابقة. (¬2) سقط من: الأصل، م. وأخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في السواك، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 40. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك، من كتاب الطهارة 1/ 11. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 114، 5/ 193. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب السواك، من كتاب الوضوء، وفي: باب السواك يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفي: باب طول القيام في صلاة الليل، من كتاب التهجد. صحيح البخاري 1/ 70، 2/ 5، 64. ومسلم، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 220، 221. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك لمن قام من الليل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 14. والنسائي، في: باب السواك إذا قام من الليل، من كتاب الطهارة، وفي: باب ما يفعل إذا قام من الليل من السواك، من كتاب قيام الليل. المجتبى 1/ 13، 3/ 172. وابن ماجه، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 105، والدارمي، في باب السواك عند التهجد، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 382، 390، 397، 402، 407.

وَتَغَيُّرِ رَائِحَةِ الْفَمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَاصَه، وماصَه: إذا غَسَلَه. وعن عائشةَ، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرْقُدُ مِن لَيلٍ أو نَهارٍ، فيَسْتَيقِظُ إلَّا تَسَوَّكَ قبلَ أن يَتَوَضَّأ. رواه الإمامُ أحمدُ (¬1). ولأنَّه إذا نامَ يَنْطَبِقُ فُوه فَتَتَغَيَّر رائِحَتُه. (وعندَ تَغَيُّرِ رائِحَةِ الفَمِ) بمَأكُولٍ أو غيرِه؛ لأنَّ السِّواكَ مَشْرُوع لتَطْيِيبِ الفَمِ، وإزالةِ رائِحَتِه. وقال الشيخُ أبو الفَرَجِ المَقْدِسِيُّ (¬2): يَتَأكَّدُ اسْتِحْبابُه عندَ قِراءَة القرآنِ، والانْتِباهِ مِن النَّوْمِ، وتَغَيُّرِ رائِحَةِ الفَمِ. فصل: ويَسْتاكُ على أسنانِه ولِسانِه. قال أبو مُوسى: أتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتُه يَسْتاكُ على لِسانِه. متَّفَق عليه (¬3). ¬

(¬1) في: المسند 6/ 121، 160. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك لمن قام بالليل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 14. (¬2) سقط من: «م». (¬3) بهذا اللفظ أخرجه أبو داود، في: باب كيف يستاك، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 12. وبنحوه أخرجه مسلم، في باب السواك، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 220. والنسائي، في: باب كيف يستاك، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 14. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 417. أما المتفق عليه، فهو حديث أبي موسى: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدتُه يَسْتَنُّ بسواكٍ بيدِه يقولُ أع أع، والسِّواكُ في فِيهِ كأنَّه يتهوَّعُ. حيث أخرجه البخاري، في: باب السواك, من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 70. ومسلم، في: باب السواك، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 220.

68 - مسألة: (ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه، ولا يضره، ولا يتفتت فيه)

وَيَسْتَاكُ بِعُودٍ ليِّن يُنْقِي الْفَمَ وَلَا يَجْرَحُهُ وَلَا يَضُرُّهُ وَلَا يَتَفَتَّتُ فِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 68 - مسألة: (ويَسْتاكُ بعُودٍ لين يُنْقي الفَمَ، ولا يجْرَحُه، ولا يَضُرُّه، ولا يَتَفَتَّتُ فيه) كالأرَاكِ والعُرْجُونِ؛ لما رُوى عن ابن مسعودٍ، قال: كنتُ أجْتَنِي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سِوَاكًا مِن أراكٍ. رواه أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ (¬1). وقد رواه الإمامُ أحمدُ (¬2)، عن ابنِ مسعودٍ، أنه كان يَجْتَنِى سِواكًا مِن الأرَاكِ. ولا يَسْتَاكُ بِعُودِ الرُّمَّانِ، ولا الآس، ولا الأعوادِ الذَّكِيَّةِ؛ لأنَّه رُوى عن قَبِيصَةَ بنِ ذؤيبٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَخَلّلُوا بعُودِ الريحانِ، ولا الرُّمَّانِ؛ فإنَّهُمَا يُحَرِّكانِ عِرْقَ الجُذَامِ». رَواه محمدُ بنُ الحُسينِ الأزْدِيُّ الحافظُ بإسنادِه (¬3)؛ وقِيل: السِّواكُ بعُودِ الرَّيحانِ يَضُرُّ بلَحْمِ الفَمِ. ¬

(¬1) مسند أبي يعلى 9/ 209، 210. وانظر: كشف الأستار عن زوائد البزار 3/ 248. (¬2) في: المسند 1/ 420. (¬3) أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الموصلي، نزل بغداد، وحدث بها، وكان حافظا، صنف كتبا في علوم الحديث، في حديثه غرائب ومناكير. توفي سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقيل: سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بالموصل. تاريخ بغداد 2/ 243، 244، تذكرة الحفاظ 3/ 967، العبر 2/ 367، 368. والحديث أورده ابن عساكر في تاريخه. انظر تهذيب تاريخ دمشق 2/ 247.

69 - مسألة: (فإن استاك بأصبعه، أو خرقة، فهل يصيب السنة؟ على وجهين)

فإِنِ اسْتَاكَ بِأُصْبُعِهِ أوْ خِرْقَةٍ، فَهَلْ يُصِيبُ السنةَ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 69 - مسألة: (فإنِ اسْتاكَ بأُصْبُعِه، أو خِرْقَةٍ، فهل يُصِيبُ السنةَ؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، لا يُصيبُ السنةَ؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ الْإنْقاءُ به حُصُولَه بالعُودِ. والثاني، يُصِيبُ مِن السنةِ بقَدْرِ ما يَحْصُلُ مِن الإنْقاءِ. ولا يُتركُ القَلِيلُ مِن السنةِ للعَجْزِ عن كثِيرِها. وهو الصحيحُ؛ لما رَوَى أنسُ بنُ مالِكٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُجْزِيء مِنَ السوَاكِ الأصَابعُ». رواه البَيهَقِيُّ (¬1)، قال الحافظُ محمدُ بنُ عبد الواحدِ المَقْدِسِيُّ: هذا إسْناد لا أرى به بَأسًا. ¬

(¬1) في: باب الاستياك بالأصابع، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 40، 41.

70 - مسألة: (ويستاك عرضا، ويدهن غبا، ويكتحل وترا)

وَيَسْتَاكُ عَرْضًا، وَيَدَّهِنُ غِبًّا، وَيَكْتَحِلُ وتْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 70 - مسألة: (ويَسْتاكُ عَرْضًا، ويَدَّهِنُ غِبًّا، ويَكْتَحِلُ وترًا) لما رُوى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَاكُوا عَرْضًا، وادَّهِنُوا غِبًّا، واكْتَحِلُوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وترًا» (¬1). ولأن السِّواكَ طُولًا رُبَّما أدْمَى اللِّثَةَ وأفْسَدَ الأسْنانَ. ورَوَى الطَّبَرانِيُّ (¬2) بإسْنادِه، عن بَهْزٍ، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتاكُ عَرْضًا. فإنِ اسْتاكَ على لِسانِه أو حَلْقِه، فلا بأْسَ أنْ يَسْتاكَ طُولًا؛ لما روَى أبو موسى، قال: دَخَلْت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يَسْتاكُ، وهو واضِعٌ طَرَفَ ¬

(¬1) قال الزرقاني: لا أصل له بهذا اللفظ. نعم ورد معناه في أحاديث. مختصر المقاصد الحسنة 56. وقال ابن الدبيع: قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجد له أصلا، ولا ذكر له في شيء من كتب الحديث، والجملة الأولى منه رواها أبو نعيم في كتاب السؤال، من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسْتاك عَرْضًا، ولا يستاك طولًا. وفي مسنده، عبد الله بن حكيم، وهو متروك، والجملة الثانية صححها الترمذي وابن حبان، من حديث عبد الله بن مغفل، قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الترجل إلا غبا. والجملة الثانية عن أبي داود، عن أبي هريرة، رفعه: «مَن اكتحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أحْسَن، ومَنْ لَا فَلَا حَرَجَ». تمييز الطيب من الخبيث 22. وقد مرت أحاديث السواك. وانظر للترجل غبًّا ما أخرجه أبو داود، في: أول كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 394. والترمذي، في: باب ما جاء عن النهي عن الترجل إلا غبا، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 258. والنسائي، في: باب الترجل غبا، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 114. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 86. وعن الاكتحال وترا، ما أخرجه أبو داود، في: باب الاستتار في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 8. وابن ماجه، في: باب الارتياد للبول والغائط، من كتاب الطهارة، وفي: باب من اكتحل وترا، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 1/ 122، 2/ 1157. والدارمي، في: باب التستر عند الحاجة، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 169. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 356، 371، 4/ 156. (¬2) المعجم الكبير 1/ 47، 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّواكِ على لِسانِه، يَسْتَنُّ إلى فَوْقَ. فوَصَفَ حَمّادٌ كأَنه يَرْفَعُ سِواكَه، قال حَمّادٌ: ووَصَفَه لَنا غَيلانُ، قال: كأنه يَسْتاكُ طُولًا. رواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). وروَى الخَلّالُ بإسْنادِه، عن عبدِ الله بنِ مُغَفَّل، قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجُّلِ إلا غِبًّا (¬2). قال أحمدُ: مَعْناه، يَدَّهِنُ يَوْمًا ويوْمًا. وروَى جابرُ بنُ عبدِ الله، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيكُمْ ¬

(¬1) في المسند 4/ 417. (¬2) أخرجه أبو داود، في: أول كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 394. والترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن الترجل إلا غبا، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 258. والنسائي، في: باب الترجل غبا، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 114. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإثْمِدِ، فإنَّه يَجْلُو البَصَرَ, وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» (¬1). وروَى أبو داودَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ» (¬2). والوتر ثَلاثٌ في كلِّ عَين، وقِيل: ثلاثٌ في اليُمْنَى، واثنانِ في اليُسرى؛ ليَكُونَ الوتر حاصِلًا في العَينَين معًا. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب الكحل بالإثمد، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1156. وذكره الترمذي، في: باب ما جاء في الاكتحال، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 259. ومثله عن ابن عمر، أخرجه ابن ماجه، في: باب الكحل بالإثمد، من كتاب الطب 2/ 1156. وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن خَير أكحالِكم الإثْمِدُ، يَجلُو البَصَرَ، وينبِتُ الشعَرَ». أخرجه أبو داود، في: باب في الأمر بالكحل، من كتاب الطب، وفي: باب في البياض، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 336، 373. والترمذي، في: باب ما جاء في الاكتحال، من أبواب اللباس، وفي: باب ما جاء في السعوط، من أبواب الطب. عارضة الأحوذي 7/ 259، 8/ 205. والنسائي، في: باب الكحل، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 129. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 231، 247، 274، 328، 363. وفيه أيضًا عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، نحوه، أخرجه أبو داود، في: باب الكحل عند النوم للصائم، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 554. والدارمي، في: باب الكحل للصائم، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 15. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 476, 500. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الاستتار في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 8. وابن ماجه، في: باب الارتياد للغائط والبول، من كتاب الطهارة، وفي: باب من اكتحل وترا، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 1/ 121، 2/ 1157. والدارمي، في: باب التستر عند الحاجة، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 169، 170. وأخرج صدره الإمام أحمد، في: المسند 1/ 351، 356. ونحوه في: 4/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصولٌ في الفِطْرَةِ: روَى أبو هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الفِطْرَةُ خَمْسٌ؛ الخِتَان، والاسْتِحْدَادُ، وقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيم الأظْفَارِ، وَنَتْفُ الإبط». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى عبدُ الله بنُ الزُّبَيرِ، عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَشْر مِنَ الفِطرةِ؛ قَصُّ الشَّارِبِ، وإعْفَاءُ اللِّحْيَة، والسِّوَاكُ، واسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وقَصُّ الأظْفَارِ، وغَسْلُ البَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإبط، وَحَلْقُ العَانَةِ، وانْتِقَاصُ المَاءِ». قال بعضُ الرُّواةِ: ونَسِيتُ العاشرةَ، إلَّا أن تكونَ المَضْمَضةَ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قص الشارب، وباب تقليم الأظفار، من كتاب اللباس، وفي: باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط، من كتاب الاستئذان. صحيح البخاري 7/ 206، 8/ 81. ومسلم، في: باب خصال الفطرة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 221، 222. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أخذ الشارب، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 402. والترمذي، في: باب ما جاء في تقليم الأظفار، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 215. والنسائي، في: باب ذكر الفطرة، الاختتان، تقليم الأظفار، نتف الإبط، من كتاب الطهارة، وفي: باب من السنن الفطرة، وباب ذكر الفطرة، من كتاب الزينة. المجتبى 1/ 17، 18، 8/ 111، 158. وابن ماجه، في: باب الفطرة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 107. والإمام مالك، في: باب ما جاء في السنة من الفطرة، من كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الموطأ 2/ 921. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 229، 239، 283، 410، 489. وانظره أيضًا في 2/ 118، 4/ 264.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال وَكِيعٌ: انْتِقاصُ الماءِ يَعني الاسْتِنْجاءَ. رواه مسلم (¬1). الاسْتِحْدادُ: حَلْقُ العانَةِ، وهو مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّه مِن الفِطْرَةِ، ويَفْحُشُ بتَرْكِه، وبأيِّ شيءٍ أزاله فلا بَأسَ، لأنَّ المَقْصُودَ إزالته. قِيل لأبي عبدِ الله: تَرَى أن يَأخُذَ الرجلُ سِفْلَتَه بالمِقْراض، وإن لم يَسْتَقْص؟ قال: أرْجُو أن يُجْزِئ إن شاءَ اللهُ. قيل له (¬2): ما تقولُ في الرجلِ إذا نَتَفَ عانَتَه؟ قال: وهل يَقْوَى على هذا أحَدٌ؟ وإن اطَّلَى بالنُّورَةِ (¬3) فلا بَأسَ، ولا يَدَعُ أحدًا يلي عَوْرَتَه، إلَّا مَن يَحِلُّ له الاطِّلاعُ عليها؛ لما روَى الخَلّالُ بإسْنادِه عن نافعٍ، قال: كنتُ أطْلِي ابنَ عُمَرَ، فإذا بَلَغَ عانَتَه نَوَّرَها هو بيَدِه. وقد رُوِي ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). والحَلْقُ أفْضَلُ؛ لمُوافَقَتِه الحديث الصحيحَ. ¬

(¬1) في: باب خصال الفطرة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 223. كما أخرجه أبو داود، في: باب السواك من الفطرة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 13. والنسائي، في: باب من السنن الفطرة، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 109، 110. والترمذي، في: باب ما جاء في تقليم الأظفار، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 216. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 137. (¬2) ساقطة من: م. (¬3) النورة: حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس مَن زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الإطلاء بالنورة، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 111. وأبو داود الطيالسي 1/ 360.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ونَتْفُ الإبطِ سُنَّةٌ؛ لأنَّه مِن الفِطرةِ، ويَفْحُشُ بتَرْكِه. وإن أزال الشَّعَرَ بالنُّورَةِ أو الحَلْقِ، جازَ، والنتفُ أفْضَلُ؛ لمُوافَقَتِهِ الخَبَر. فصل: ويُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الأظْفارِ؛ لما ذكرْنا، ولأنَّها تَتَفاحَشُ بتَرْكِها، ورُبَّما [حَكَّ بها] (¬1) الوَسَخَ، فيجْتَمِعُ تَحْتَها مِن المَواضِع المُنْتِنَةِ، فيَصِيرُ رائِحَةُ ذلك في رُءُوس أصابِعِه، ورُبَّما مَنَعَ وصولَ الماءِ في الطَّهارةِ إلى ما تَحْتَه. ويُسْتَحَبُّ أن يُقَلِّمَها يومَ الخميس؛ لما رَوَى عليٌّ رَضِي الله عنه، قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَلِّمُ أظْفارَه يومَ الخَميسِ، ثم قال: «يا عَلِيُّ، قَصُّ الظُّفْرِ وَنَتْفُ الإبطِ وَحَلقُ العَانَةِ يَوْمَ الخَمِيسِ، والغُسْلُ والطِّيبُ واللِّبَاسُ يَوْمَ الجُمُعَة» (¬2). ورُوىَ في حَدِيثٍ: «مَن قَصَّ أظْفارَه مُخالِفًا، لَمْ يَرَ في عَينَيهِ رَمَدًا» (¬3). وفَسَّرَه أبو عبدِ الله ابنُ بَطَّةَ بأنْ يَبْدأ بخِنْصَرِه اليُمْنَى ثم الوُسْطى ثم الإبهام ثم البِنْصِرِ ثم السبابة، ثم بإبْهامِ اليُسْرَى ثم الوُسْطى ثم الخِنْصَرِ ثم السبابةِ ثم البنْصِرِ. ويُستحَبُّ غَسْلُ رُءُوس الأصابع بعدَ قَصِّ الأظْفارِ؛ لأنَّه قِيل: إنَّ الحَكَّ ¬

(¬1) في م: «مكث». (¬2) كنز العمال 6/ 658، 681. ونسبه للديلمي. وهو في: كتاب فردوس الأخيار، للديلمي 5/ 415. (¬3) انظر: تمييز الطيب من الخبيث 211، 212.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأظْفارِ قبلَ غَسْلِها يَضُرُّ بالجَسَدِ. ويُسْتَحَبُّ دَفْنُ ما قَلَّمَ مِن أظْفارِه أو أزال مِن شَعَرِه؛ لما رَوَى الخَلّالُ بإسْنادِه عَن مِيلَ (¬1) بنتِ مِشْرَحٍ الأشْعَريَّة، قالت: رأْيتُ أبي يُقَلِّمُ أظْفارَه، ويَدْفِنُها، ويقولُ: رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ ذلك (¬2). وعن ابنِ جُرَيجٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كان يُعْجبُه دَفْنُ الدَّمِ. قال مُهَنّا: سألتُ أحمدَ، عن الرجلِ يَأخُذ مِن شَعَرِه وأظْفارِه، أيدْفِنُه أو يُلْقِيه؟ قال: يَدْفِنُه. قلتُ: بَلَغَك فيه شيءٌ؟ قال: كان ابنُ عُمَرَ يَدْفِنُه. فصل: ويُسْتَحَبُّ قَصُّ الشّارِب؛ لأنَّه مِن الفِطْرَةِ، ويَفْحُشُ إذا طال، ولما رَوَى زَيدُ بن أرْقَمَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لم يَأخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيسَ مِنَّا». رواه الترمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديث صحيح. ويُسْتَحَبُّ إعْفاءُ اللِّحْيَةِ؛ لما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، وهل يُكْرَهُ أخْذُ ما زادَ ¬

(¬1) في م: «ثميل». وانظر: الإكمال لابن ماكولا 7/ 79، 252. (¬2) بعد هذا في م: «وخرجه عنها البزار والطبراني والبيهقي في الشعر كذلك والحكيم الترمذي والبيهقي عن عبد الله بن بسر. وأخرجه البيهقي وابن عدي عن ابن عمر، يعني مشروعية الدفن». وانظر: مجمع الزوائد 5/ 168. والمعجم الكبير، للطبراني 20/ 222. والكامل لابن عدي 6/ 2214. (¬3) في: باب ما جاء في قص الشارب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 219.كما أخرجه النسائي، في: باب قص الشارب، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 19 الإمام أحمد، في: المسند 4/ 366، 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على القَبْضَةِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما: يُكْرَهُ. لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ؛ أحْفُوا الشَّوَارِبَ، وأعْفُوا (¬1) اللِّحَى». مُتَّفَق عليه (¬2). والثاني، لا يُكرَه. يروَى ذلك عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ. فروى (¬3) البخاريُّ، قال: كان عبدُ الله بنُ عُمَر، إذا حَجّ أو اعْتَمَرَ، قَبَضَ على لِحْيَته، فما فَضَلَ أخَذَه (¬4). ولا يَنْبَغِي أن يَتْرُكَها أكْثَرَ مِن أرْبَعِين يومًا؛ لما روَى أنسُ بنُ مالكٍ، قال: [وُقِّتَ لَنا] (¬5) في قَصِّ الشّارِبِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، ونَتْف الإبطِ، وحَلْقِ العانَةِ، أن لا تُتْرَكَ أكثَرَ مِن أربَعِين. رواه مسلم (¬6). ¬

(¬1) في الأصل: «وأوفوا». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب تقليم الأظفار، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 206. ومسلم، في: باب خصال الفطرة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 221. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في إعفاء اللحية، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 221. والنسائي، في: باب إحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى، من كتاب الطهارة. وفي: باب إحفاء الشارب، وباب إحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية، من كتاب الزينة. المجتبى 1/ 19، 8/ 112، 158. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 16، 52، 156. (¬3) في م: «وروى». (¬4) في: باب تقليم الأظفار، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 206. (¬5) في الأصل: «وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». (¬6) في: باب خصال الفطرة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 222.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واتخاذُ الشَّعَرِ أفْضَلُ مِن إزَالتِه. قال إسحاقُ: سُئِلَ أبو عبد الله، عنِ الرجلِ يَتَّخِذُ الشَّعَرَ، قال: سُنَّة حَسَنَةٌ، لو أمْكَنَنا اتِّخاذُهُ وقال: كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُمَّةٌ (¬1). وقال في بعض الحديثِ: إنَّ شَعَرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان إلى شَحْمَةِ أُذُنَيه (¬2). وفي بعضِ الحديثِ: إلى مَنْكِبَيه. ورَوَى البَرَاءُ بنُ عازِبٍ، قال: ما رأيتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ، في حُلَّةٍ حَمْراءَ، أحْسَنَ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له شَعَرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيهِ. مُتَّفَق عليه (¬3). ويُستحَبُّ أن ¬

(¬1) انظر: باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1818. و: باب اتخاذ الشعر، وباب اتخاذ الجمة، من كتاب الزينة. المجتبى من السنن، للنسائي 8/ 115، 159. والمسند، للإمام أحمد 4/ 281، 295. (¬2) وورد أيضًا: «إلى أنصاف أذنيه»، و «لا يجاوز أذنيه» و «لا يجاوز شعره شحمة أذنيه». انظر: باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناقب، وباب الجعد، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 4/ 228، 7/ 207. وباب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1818. وباب الرخصة في الحلة الحمراء، من كتاب اللباس، وباب ما جاء في الشعر, من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 374، 399. وباب اتخاذ الشعر، وباب اتخاذ الجمة، من كتاب الزينة. المجتبى من السنن، للنسائي 8/ 158 - 160. والمسند 3/ 113، 135، 157، 203، 249. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الجعد، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 207، 208. ومسلم، في: باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وباب صفة شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1818، 1819. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 399. والنسائي، في باب اتخاذ الشعر، وباب اتخاذ الجمة، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 115، 116، 160. والترمذي، في باب ما جاء في الرخصة في الثوب الأحمر للرجال، من أبواب اللباس، وفي: باب ما جاء في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب المناقب. عارضه الأحوذي 7/ 228، 13/ 116. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 290، 300. وفي الباب عن أنس رضي الله عنه، أخرجه البخاري، في: باب الجعد، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 207، 208. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 118، 125، 245، 269.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونَ شَعَرُ الإنْسانِ على صِفَةِ شَعَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذا طال فإلى المَنْكِبِ، وإذا قَصُرَ فإلى شَحْمَةِ الأذُنِ، وإن طَوَّلَه، فَلا بَأسَ، نَصَّ عليه أحمدُ. وقال أبو عُبَيدَةَ (¬1): كان له عَقِيصَتان (¬2)، وعُثْمان كان له عَقِيصَتان. ويُسْتَحَبُّ تَرْجِيلُ الشَّعَرِ وإكرامُه؛ لما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَان لَهُ شَعَرٌ فَلْيُكرِمْهُ». رواه أبو داودَ (¬3). ويُسْتَحَبُّ فَرْقُه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَقَ شَعَرَه، وذَكَرَه في الفِطرةِ (¬4). فصل: وهل يُكْرَهُ حَلْقُ الرّأس في غيرِ الحَجِّ والعُمْرَةِ؟ فيه رِوايتان؛ إحْداهما، يُكرَه؛ لما رُوى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال في الخَوارجِ: ¬

(¬1) أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري النحوي، أوسع الناس علما بأخبار العرب وأيامها، له تصنيف كثير، توفي سنة عشر ومائتين ويقال إحدى عشرة. إنباه الرواة 3/ 276 - 287، تاريخ العلماء النحوين 211 - 213. (¬2) العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللي، وإدخال أطراف الشعر في أصوله. النهاية 3/ 275. (¬3) في: باب إصلاح الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 395. (¬4) أخرج ذلك أبو داود، من حديث ابن عباس، في: باب السواك من الفطرة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «سِيماهُمُ التَّحْلِيقُ» (¬1). وقال عُمَرُ لصَبِيغٍ (¬2): لو وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا، لضَرَبْتُ الذي فيه عَينَاكَ بالسَّيفِ (¬3). ورُوى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لا تُوضَعُ النَّوَاصِي إلَّا في حَج أو عُمْرَةٍ». أخْرَجَه الدّارَقُطْنِيُّ في «الأفْرادِ» (¬4). والثانية، لا يُكْرَهُ لكنَّ ترْكَه أفْضلُ. قال حَنْبَلٌ: كنتُ أنا وأبي نَحْلِقُ رُءُوسَنا في حياةِ أبي عبدِ الله، فَيرانا ونحن نَحْلِقُ فلا يَنْهانا. وذلك لما رُوِي عن عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - , لَمَّا جاءَ نَعِيُّ جعفرٍ، أمْهَلَ آل جعفرٍ ثلاثًا أنْ يَأتِيَهم، ثم أتاهُم، قال: «لا تَبْكُوا عَلَى أخِي بَعْدَ اليَوْم». ثم قال: «ادْعُوا بني أخِي». فجِئَ بِنا، قال: «ادْعُوا ليَ الحَلَّاقَ». فأمَر بِنَا فَحَلَقَ رُءُوسَنا. رَواه أبو داودَ (¬5). ورَوَى ابنُ عُمَرَ، أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن القَزَعِ، وقال: «احْلِقْهُ كُلَّهُ، أوْ دَعْهُ كُلَّهُ». رواه مسلم وأبو داوُدَ (¬6). ولأنّه لا يُكْرَه اسْتِئْصالُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 9/ 198. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 544. والنسائي، في: باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 110. وابن ماجه، في: باب في ذكر الخوارج، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 62. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 5، 64، 197، 224، 4/ 422، 425، 5/ 176. (¬2) هو صبيغ بن عِسْل، ويقال ابن سهل الحنظلي، له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة. قال أبو أحمد العسكري: اتهمه عمر برأي الخوارج. الإصابة: 3/ 458 - 460. (¬3) انظر: تاريخ ابن عساكر 8/ 223 (مخطوط). (¬4) أي: «الفوائد الأفراد». انظر: تاريخ التراث العربي 1/ 1 / 422. (¬5) في الأصل، م: «أبو داود الطيالسي». وفي ش: «مسلم وأبو داود». وأخرجه أبو داود، في: باب في حلق الرأس، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 401. (¬6) أخرج مسلم النهي عن القزع، في: باب كراهة القزع، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1675. وأخرج بقيته أبو داود، في: باب الذؤابة، من كتاب الترجل. سنن أبو داود 2/ 401. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 88. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّعَرِ بالمِقْراض، وهذا في معناه، قال ابنُ عبدِ البَر: أجْمَعَ العلماءُ في حميع الأمْصارِ على إباحَةِ الحَلْقِ، وكَفَى بهذَا حُجَّةً. فأمّا أخْذُه بالمِقْراض واسْتِئْصالُه فغيرُ مَكْرُوهٍ، رِوايةً واحدةً. قال أحمدُ: إنَّما كَرِهُوا الحَلْقَ بالمُوسَى، وأمّا بالمِقْراض فليس به بَأسٌ؛ لأنَّ أدِلَّةَ الكَراهَةِ تَخْتَصُّ الحَلْقَ. فصل: وحَلْقُ المرأةِ رأسَها مَكْرُوهٌ، رِوايةً واحدةً، مِن غيرِ ضَرُورَةٍ؛ لِما رَوَى الخَلَّالُ بإسْنادِه، عن قَتادَةَ، عن عِكْرِمَةَ، قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَحْلِقَ المَرأةُ رأسَها (¬1). فإن كان لضَرُورَةٍ، جازَ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ الله، يُسأل عن المرأة تَعْجِزُ عن شَعَرِها، وعن مُعالجَتِه، أتأخُذُه على حديثِ مَيمُونَةَ؟ فقال: لأيِّ شيءٍ تَأخُذُه؟ قيل له: لا تَقْدِر على الدَّهْن وما يُصْلِحُه، تَقَعُ فيه الدَّوابُّ. فقال: إذا كان لضَرُورَةٍ، فأرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأسٌ. فصل: ويُكْرَهُ نَتْف الشيبِ، لما رَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن نَتْفِ الشَّيبِ، وقال: «إنَّهُ ¬

= وفي الباب أحاديث أخرجها البخاري، في: باب القزع، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 210. ومسلم، في: باب كراهة القزع، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1675. والنسائي، في: باب النهي عن القزع، وباب النهي عن أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، من كتاب الزينة. المجتبي 8/ 113، 159. وابن ماجه، في: النهي عن القزع، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1201. والإمام أحمد، في المسند: 2/ 4، 39، 55, 67, 82, 83, 101, 118, 137, 143, 154. (¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء، من أبواب الحج. عارضه الأحوذي 4/ 147. والنسائي، في: باب النهي عن حلق المرأة رأسها، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 112، 113.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نُورُ الإِسْلامِ» (¬1). رواه الخَلّالُ في «جامِعِه». فصل: ويُكْرَه حَلْقُ القَفا، لمَن لم يَحْلِقْ رَأسَه ولم يَحْتَجْ إليه. قال المَرُّوذِيُّ (¬2): سألتُ أبا عبدِ الله عن حَلْقِ القَفا. قال: هوَ مِن فِعْلِ المَجُوسِ، ومَن تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فهو مِنْهم. وقال: لا بَأسَ أن يَحْلِقَ قَفاه في الحِجامَةِ. فأما حَفُّ الوَجْهِ، فقال أحمدُ: ليس به بَأسٌ للنِّساءِ، وأكرَهُهُ للرِّجال. فصل: ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه لَعَنَ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والنّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَةَ، والواشِرَةَ والمُسْتَوْشِرَةَ (¬3). فهذه الخِصالُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب نتف الشيب، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 402. والترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 260، 261. والنسائي، في: باب النهي عن نتف الشيب، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 118. وابن ماجه، في: باب نتف الشيب، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1226. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179، 206، 207، 210، 212. (¬2) أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي، كان من أجل أصحاب الإمام أحمد، وهو الذي تولى إغماضه لما مات وغسله، وروى عنه مسائل كثيرة، توفي سنة خمس وسبعين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 56 - 63، العبر 2/ 54. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب المتفلجات للحسن وباب المتنمصات، وباب الوصل في الشعر، وباب الموصولة، وباب المستوشمة، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 212 - 214. ومسلم، في: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1676 - 1678. وأبو داود، في: باب في صلة الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 396. والترمذي، في: باب ما جاء في مواصلة الشعر، من أبواب اللباس، وفي: باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 7/ 262، 10/ 233. والنسائي، في: باب الواصلة، وباب المستوصلة، وباب المتنمصات، وباب الواشمات، وباب المتفلجات، وباب لعن الواصلة والمستوصلة، وباب لعن الواشمة والموتشمة، وباب لعن المتنمصات والمتفلجات، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 125 - 128، 163، 164. وابن ماجه، في: باب الواصلة والواشمة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 639، 640. والدارمي، في: باب في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَرَّمَةٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ فاعِلَها، وفاعِلُ المُبَاحِ لا تَجُوزُ لَعْنَتُه. والواصِلَةُ: هي التي تَصِلُ شَعَرَها، أو شَعَرَ غيرِها بغيرِه. والمُسْتَوْصِلَةُ: المَوْصولُ شَعَرُها بإذْنِها (¬1). فوَصْلُه بالشَّعَر مُحَرَّمٌ؛ لما ذكرْنا. فأمَا وَصْلُه بغيرِ الشَّعَرِ، فإن كان بقَدْرِ ما تَشُدُّ به رَأسَها، فلا بَأسَ؛ للحاجَةِ، وإن كان أكثرَ مِن ذلك، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، أنه مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّم؛ لما رُوِيَ عن مُعاويةَ، أنه أخْرَجَ كُبَّةً (¬2) مِن شَعَرٍ، وقال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن مِثْلِ هذا، وقال: «إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذَا نِساوهُمْ» (¬3). فخَصَّ التي تَصِلُه بالشَّعَرِ، فيُمْكِن جَعْلُ ذلك تَفْسِيرًا للَّفْظِ العامِّ في الحديثِ الذي ذَكَرْناه. ولأنَّ وَصْلَه بالشَّعَرِ فيه تَدْلِيسٌ، بخلافِ غيرِه. والثانية، أنَّه قال: لا تَصِلُ المرأةُ برَأسِها الشَّعَرَ ولا القَرَامِلَ (¬4) ولا الصُّوفَ، وذلك لما روَى الإِمامُ أحمدُ في ¬

= الواصلة والمستوصلة، من كتاب الاسئتذان، سنن الدارمي 2/ 279، 280. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 415، 417، 434، 443، 454، 465، 2/ 339، 6/ 111، 228، 250، 257، 345، 346، 353. (¬1) في م: «بأمرها». (¬2) الكبة من الشعر: ما جُمع منه. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الوصل في الشعر، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 212، 213. ومسلم، في: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة. صحيح مسلم 3/ 1679. وأبو داود، في: باب في صلة الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 395، 396 والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية اتخاذ القصة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 232. والنسائي، في: باب الوصل في الشعر، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 162. والإمام مالك، في: باب السنة في الشعر، من كتاب الشعر. الموطأ 2/ 947. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 98. (¬4) القَرَامِلُ: ضفائر من شعر أو صوف أو إبريسم، تصل به المرأة شعرها. النهاية 4/ 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مُسْنَدِه» (¬1)، عن جابِرٍ، قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَصِلَ المْرأَةُ برَأسِها شيئًا. قال شيخُنا: والظّاهِرُ أنَّ المُحَرَّمَ إنَّما هو وَصْلُ الشَّعَرِ بالشَّعَرِ؛ لما فيه مِن التَّدْلِيسِ واسْتِعْمالِ الشَّعَرِ المُخْتَلَفِ في نَجاسَتِه، وغيرُ ذلك لا يَحْرُمُ؛ لعَدَمِ ذلك فيه، وحُصُولِ المَصْلَحَةِ مِن تَحْسِين المرأةِ لزَوْجِها مِن غيرِ مَضَرَّةٍ (¬2). وتُحْمَلُ أحاديثُ النَّهْي على الكَراهَةِ. واللهُ أعلمُ. فأمّا النّامِصَةُ: فهي التي تَنْتِفُ الشَّعَرَ مِن الوَجْهِ. والمُتَنَمِّصَةُ: المَنْتُوفُ شَعَرُها بأمْرِها. فلا يَجُوزُ؛ للخَبَرِ. وإن حُلِقَ الشَعَرُ فلا بأسَ؛ لأنَّ الخَبَرَ وَرَد في النتفِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وأمّا الواشِرَةُ: فهي التي تَبْرُدُ الأسْنانَ، لتُحَدِّدَها وتُفَلِّجَها وتُحَسَنها. والمُسْتَوْشِرَةُ: المَفْعُولُ بها ذلك بإذْنِها. وفي خَبَرٍ. آخَرَ: «لَعَنَ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ» (¬3). ¬

(¬1) 3/ 296. كما أخرجه مسلم، في: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1679. (¬2) المغني 1/ 131. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب ثمن الكلب، من كتاب البيوع، وفي: تفسير سورة الحشر، من كتاب التفسير، وفي: باب مهر البغي والنكاح الفاسد، من كتاب الطلاق، وفي: باب المتفلجات للحسن، وباب الوصل في الشعر، وباب المتنمصات، وباب الموصولة، وباب الواشمة، وباب المستوشمة، وباب من لعن المصور، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 3/ 111، 6/ 184، 7/ 79، 212 - 214، 217. ومسلم، في: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1677. وأبو داود، في: باب صلة الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 396. والترمذي، في: باب ما جاء في مواصلة الشعر، من أبواب اللباس، وفي: باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 7/ 262، 10/ 233. والنسائي، في: باب إحلال المطلقة ثلاثا وما فيه من التغليظ، من كتاب الطلاق، وفي: باب الواصلة، وباب المستوصلة، وباب الموتشمات، وباب لعن الواشمة والموتشمة، من كتاب الزينة. المجتبى 6/ 121، 8/ 125 - 127، 164. وابن ماجه، في: باب الواصلة والواشمة، من كتاب النكاح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والواشِمةُ: التي تَغْرِزُ جِلْدَها أو جِلْدَ غيرِها بإبْرَةٍ، ثم تَحْشُوه كُحْلًا. والمُسْتَوْشِمَةُ: التي يُفْعَلُ بها ذلك بإذْنِها. فصل: ويُسْتَحَبُّ التَّطيُّبُ (¬1)؛ لأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُعْجِبُه الطِّيبُ، ويَتَطَيَّبُ كثيرًا. ويُسْتَحَبُّ النَّظَرُ في المِرْآةِ، قال حَنْبَلٌ: رأيتُ أبا عبدِ اللهِ، وكانت له صِينيَّةٌ فيها مِرْآةٌ ومُكْحُلَةٌ ومِشْطٌ، فإذا فَرَغ مِن قراءَةِ حِزْبِه، نَظَرَ في المِرْآةِ واكْتَحَلَ وامْتَشَطَ. ورَوَى أبو أيُّوبَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: في: «أرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ؛ الحِنَّاءُ (¬2)، والتَّعَطُّرُ، والسِّوَاكُ، والنِّكَاحُ». رواه الإمامُ أحمدُ (¬3). فصل: ويُسْتَحَبُّ خِضَابُ الشَّيبِ بغيرِ السَّوادِ، قال أحمدُ: إنِّي لأرَى الشَّيخَ المَخْضُوبَ فأَفْرَحُ به. وذلك لما رُوى أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ جاءَ بأبيه إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورَأسُه ولِحْيَتُه كالثَّغَامَةِ (¬4) بَياضًا، فقال رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «غَيِّرُوهُمَا وجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» (¬5). ويُسْتَحَبُّ بالحِنَّاءِ ¬

= سنن ابن ماجة 1/ 639. والدارمي، في: باب الواصلة والمستوصلة، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمي 2/ 279، 280. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 83، 87، 107، 121، 133، 150، 158، 409، 415، 434، 443، 448، 454، 462، 465، 2/ 339، 9/ 304، 6/ 250. (¬1) في م: «الطيب». (¬2) في م، والمسند: «الحياء». (¬3) في: المسند 5/ 421. (¬4) الثغامة: شجرة بيضاء الثمر والزهر، تنبت بالجبال غالبا. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب استحباب خضاب الشيء بصفرة أو حمرة وتحريمه السواد، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1663. وأبو داود، في: كتاب في الخضاب، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 403. والنسائي، في: باب النهي عن الخضاب بالسواد، من كتاب الزينة. المجتبي 8/ 119. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 160، 316، 322، 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكَتَمِ (¬1)؛ لما رَوَى الخَلَّالُ، وابنُ ماجَه، بإسْنادِهِما، عن تَمِيمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَوْهَب، قال: دَخَلْتُ على أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ إلينا شَعَرًا مِن شَعَرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، مَخْضُوبًا بالحِنَّاءِ والكَتَمِ (¬2). وخَضَبَ أبو بكرٍ، رَضِي اللهُ عنه، بالحِنَّاءِ والكَتَمِ. ولا بَأْسَ بالوَرْس والزَّعْفَرانِ؛ لأنَّ أبا مالِكٍ الأشْجَعِيَّ قال: كان خِضَابَنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الوَرْسُ (¬3) والزَّعْفَرانُ (¬4). ويُكرهُ الخِضابُ بالسَّوادِ. قِيل لأبي عبدِ اللهِ: تَكْرَهُ الخِضابَ بالسَّوادِ؟ قال: إي واللهِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وجَنِّبُوهُ السَّوَادَ». في حديثِ أبي بكرٍ، ولما روَى ابنُ عبّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَكُونُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُون بالسَّوادِ كَحَواصِلِ (¬5) الحَمامِ، لا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» (¬6). ورَخَّصَ فيه إسحاقُ بنُ رَاهُويَه للمرأةِ، تَتَزَيَّنُ به لزَوْجِها. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) الكتم. نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة. ويختضب به للسواد. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب ما يذكر من الشيب، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 207، ووقف به عند قولها: «مخضوبا». وابن ماجة، في: باب الخضاب بالحناء، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجة 2/ 1196، 1197. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 296، 319، 322. (¬3) الورس: نبت أصفر، يزرع باليمن، ويصبغ به. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 472. (¬5) حواصل الحمام: صدورها. ويغلب عليها السواد، وفي مسند أحمد أن قوله «كحواصل الحمام» من لفظ حسين بن محمد بن بهرام، أحد رجال المسند. (¬6) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في خضاب السواد، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 404. والنسائي، في: باب النهي عن الخضاب بالسواد، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 119. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 273.

71 - مسألة: (ويكره القزع، وهو حلق بعض الرأس)

وَيَجِبُ الْخِتَانُ مَا لمْ يَخَفْه عَلَى نَفْسِهِ. وَيُكْرَهُ الْقَزَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 71 - مسألة: (ويُكْرَهُ القَزَعُ، وهو حَلْقُ بعضِ الرَّأْسِ) لما رَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن القَزَعِ، وقال: «احْلِقْهُ كُلَّهُ، أو دَعْهُ كُلَّهُ». رواه أبو داوُدَ (¬1). وفي شُرُوطِ عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنه، على أهلِ الذِّمَّةِ، أن يَحْلِقُوا مَقادِمَ رُءُوسِهم؛ ليَتَمَيَّزُوا عن المسلِمين. فمَنْ فَعَلَ ذلك فقد تَشَبَّه بهم، وقد نُهِيَ عن التَّشَبُّهِ بهم. 72 - مسألة؛ قال: (ويَجِبُ الخِتانُ، ما لم يَخَفْه على نَفْسِه) وجملةُ ذلك أنَّ الخِتانَ واجِبٌ على الرِّجالِ، ومَكْرُمَةٌ للنِّساءِ، وليس بواجبٍ عَلَيهِنَّ. وهذا قولُ كثيرٍ مِن أهلِ العلم. قال أحمدُ: والرجلُ أشَدُّ؛ وذلك أنَّه إذا لم يَخْتَتِنْ، فتلك الجِلْدَةُ مُدَلَّاةَ على الكَمَرَةِ، فلا يُنَقَّى ما ثَمَّ، والمرأةُ أهْوَن. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يَجِبُ على المرأَةِ كالرجلِ. قال أبو عبدِ اللهِ: وكان ابنُ عباسٍ يُشَدِّدُ في أمْرِه، ورُوِيَ عنه، لا حَجَّ له، ولا صلاةَ. يَعني: إذا لم يَخْتَتِنْ. ورَخَّص الحسنُ في تَرْكِه، وقال: ¬

(¬1) تقدم في صفحة 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد أسْلَمَ الناسُ؛ الأسْوَدُ، والأَبْيَضُ، ولم يُفَتَّشْ أحدٌ مِنهم، ولم يَختَتِنُوا. والدَّليلُ على وُجُوبِه ما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ أسْلَمَ: «ألْقِ عَنْكَ شَعَرَ الكُفْرِ واخْتَتِنْ». رواه أبو داوُدَ (¬1). وفي الحديثِ: «اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمنِ بَعْدَمَا أَتَتْ عليه ثَمانُونَ سَنَةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬2)، واللَّفْظُ للبخاريِّ. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (¬3). ولأنَّه مِن شِعارِ (¬4) المسلِمِين، فكانَ واجبًا، كسائِرِ شَعائِرِهم. ولأنَّه يَجُوزُ كَشْفُ العَوْرَةِ والنَّظَرُ إليها (¬5) لأَجْلهِ [لغيرِ التَّداوي] (¬6)، ولو لم يَكُنْ واجبًا، لما جازَ النَّظَرُ إلى العَوْرَةِ مِن أجْلِه، وهذا يَنْتَقِضُ بالمرأَةِ إذا قُلنا: لا يَجب عليها. فإنَّه ليس واجبًا عليها، ويجوزُ كَشْفُ عَوْرَتِها مِن أجْلِه. فَأمّا إن خافَ على نَفْسِه مِنه، سَقَط؛ لأنَّ الغُسْلَ والوُضوءَ، وما هو آكَدُ مِنه يَسْقُطُ بذلك. فهذا أوْلَى. ¬

(¬1) في: باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 86. والإمام أحمد، في: 3/ 415. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط، من كتاب الاستئذان. صحيح البخاري 4/ 170، 8/ 81، مسلم، في: باب فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1839.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 322، 418، 435. (¬3) سورة النحل: 123. (¬4) في م: «شعائر». (¬5) في م: «إليهم» (¬6) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْرَعُ الخِتانُ في حَقِّ النِّساءِ، لأنّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الغُسْلُ» (¬1). فيه بَيانُ أنَّ النِّساءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ. ورَوَى الخَلّالُ بإسْنادِه، عن شَدّادِ بنِ أوْسٍ، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الخِتَانُ سُنَّةٌ للرِّجَالِ، وَمَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا التقى الختانان، من كتاب الغسل، صحيح البخاري 1/ 80. ومسلم، في: باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 271، 272. وأبو داود، في: باب في الإكسال، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 49. والترمذي، في: باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 164، 165. والنسائي، في: باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 92. وابن ماجة، في: باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان. سنن ابن ماجة 1/ 199. والإِمام مالك، في: باب واجب الغسل إذا التقى الختانان، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 45 - 47. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 178، 5/ 115، 6/ 47، 97، 112، 123، 135، 161، 227، 239، 265. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 75. وانظر: الجامع الكبير للسيوطي 1/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: اخْتَلَف العلماءُ في وقتِ الخِتانِ، فقال مالكٌ: يُخْتَنُ يومَ أُسْبُوعِه. وهو قولُ الحسنِ. وقال أحمدُ: لم أسْمَعْ في ذلك شيئًا. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّيثُ: الخِتانُ للغُلامِ ما بينَ سَبْع سِنِينَ إلى العَشْرَةِ. ورَوَى مَكْحُولٌ، وغيرُه، أنَّ إبراهيمَ، عليه السَّلامُ، خَتَنَ إسحاقَ لسَبْعَةِ أيامٍ، وإسماعيلَ لثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. ورُوى عن أبي جعفرٍ أنَّ فاطمةَ، عليها السَّلامُ، كانتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْتِنُ وَلَدَها يومَ السَّابعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ليس في بابِ الخِتانِ خَبَرٌ حتَّى يُرْجَعَ إليه، ولا سُنَّةٌ تُتبَّعَ، والأشياءُ على الإِباحَةِ. قلتُ: ولا يَثْبُتُ في

73 - مسألة: (ويتيامن في سواكه وطهوره وانتعاله، ودخوله المسجد)

وَيَتَيَامَنُ في سِوَاكِهِ وَطُهُورِهِ وَانْتِعَالِهِ وَدُخُولِهِ الْمَسْجِدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك تَوْقِيتٌ، فمتى خَتَنَ قبلَ البُلوغِ كان مُصِيبًا. واللهُ أعلمُ. [وإنْ أخَّرَه حتَّى يُدْرِكَ، جازَ؛ لقول ابن عبَّاس: وكانوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حتَّى يُدْرِكَ. رواه البُخاريُّ] (¬1). 73 - مسألة: (ويَتَيامَنُ في سِواكِه وطُهُورِه وانْتِعالِه، ودُخُولِه المسجِدَ) لما رَوَت عائشةُ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَان يُحبُّ التَّيَمُّنَ في تَنَعُّلِه، ¬

(¬1) سقط من: م. وأخرجه البخاري، في: باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط، من كتاب الاستئذان. صحيج البخاري 8/ 81.

74 - مسألة: (وسنن الوضوء عشر؛ السواك)

وَسُنَنُ الْوُضُوءِ عَشْرٌ؛ السِّوَاكُ، وَالتَّسْميَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَرَجُّلِه، وطُهُورِه، وفي شَأنِه كُلِّه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا انْتَعَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِاليُمْنَى، وإذَ خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُسْرَى». رواه الطَّبَرانِيُّ في «المُعْجَمِ الصَّغِيرِ» (¬2)، [وروَاه البخاريُّ بمعناه] (¬3). ولأنَّ عُثمانَ وعَلِيًّا وَصَفا وُضوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَدَأَ باليُمْنَى قبلَ اليُسْرَى. رواه أبو داوُدَ (¬4). 74 - مسألة: (وسُنَنُ الوُضُوء عَشْرٌ؛ السِّواكُ) لما روَى أبو هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ ¬

(¬1) تقدم في صفحة 72. (¬2) 2/ 25. (¬3) سقط من: «م». أخرجه البخاري. في: باب ينزع نعله اليسرى من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 199. (¬4) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 24 - 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعَ كُلِّ وُضُوءِ بِسِوَاكٍ». رواه الإمامُ أحمدُ (¬1). (والتَّسْمِيَةُ، وعنه أنَّها واجِبَةٌ مع الذِّكْرِ) وجملتُه أنَّ التَّسْمِيَةَ فيها رِوايتان؛ إِحْداهما، أنَّها واجِبةٌ في طَهاراتِ الحَدَثِ كُلِّها؛ الغُسْلِ، والوُضُوءِ، والتَّيَمِّمِ. وهذا اخْتِيارُ أبي بكرٍ، ومذهبُ الحسنِ، وإسحاقَ؛ لما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ». رواه أبو داودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬2). ورَواه عن النبيِّ جماعةٌ مِن أصحابِه؛ مِنهم أبو سعيدٍ. قال أحمدُ: حديثُ أبي سعيدٍ أحسنُ حديثٍ في الباب. وهذا نَفْيٌ في نَكِرَةٍ، يَقْتَضِي أن لا يَصِحَّ وُضُوءُه بدُونِ التَّسْمِيَةِ. وَالثانيةُ، أنَّها سُنَّة. وهذا ظاهِرُ المذهبِ. قال الخَلَّالُ: الَّذي اسْتَقَرَّتِ الرِّواياتُ عليه، أنَّه لا بَأْسَ به. يَعني: إذا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، ¬

(¬1) في: المسند 2/ 250، 433. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في التسمية على الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 23. والترمذي، في: باب في التسمية عند الوضوء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 43. كما أخرجه ابن ماجة، في: باب ما جاء في التسمية في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 140. والدارمي، في: باب التسمية في الوضوء، من باب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 176. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 418، 3/ 41، 4/ 70، 5/ 382، 6/ 382.

وَعَنْهُ، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٍ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأي. واخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، لأنَّها طَهارَةٌ فلا تَفْتَقِرُ إلى التَّسْمِيَةِ، كالطَّهارَةِ مِن النَّجاسَةِ، أو عِبادَةٌ، فلا تَجِبُ فيها التَّسْمِيَةُ كسائِرِ العِباداتِ. والأحاديثُ، قال أحمدُ: ليس يَثْبُتُ في هذا حديثٌ، ولا أعْلَمُ فيها حديثًا له إسْنادٌ جَيِّدٌ. وإن صحَّ ذلك فيُحْمَلُ على تَأكِيدِ الاسْتِحْبابِ، ونَفْي الكَمالِ بدُونِها، كقَوْلِه: «لا صَلاةَ لِجَارِ المَسْجِدِ إلَّا في المَسْجِدِ» (¬1). فصل: فإذا قُلْنا بوُجُوبِها فتَرَكَها عَمْدًا، لم تَصِحَّ طَهارَتُه، قياسًا على سائِرِ الواجِبِاتِ. وإن نَسِيَها، فقال بعضُ أصحابِنا: لا تَسْقُطُ، قياسًا لها ¬

(¬1) يأتي في باب الإمامة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على سائِرِ الواجِباتِ. والصَّحيحُ أَنَّها تَسْقُطُ بالسَّهْو. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ أبي داودَ، فإنَّه قال: سألتُ أحمدَ: إذا نَسِيَ التَّسْمِيةَ في الوُضُوءِ؟ قال: أرْجُو أن لا يَكُونَ عليه شيءٌ. وهذا قولُ إسحاقَ. ووَجْهُ ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأمَّتِي عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ» (¬1). ولأنّ الوُضُوءَ عِبادَةٌ تَتَغايُر أفْعَالُها، فكانَ في واجِباتِها ما يَسْقُطُ بالسَّهْو كالصلاةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على سائِرِ واجِباتِ الطَّهارَةِ، لتَأَكُّدِ وُجُوبِها، بخلافِ التَّسْمِيَةِ. فعلى هذا إذا ذَكَرَها في أثْناءِ طَهارَتِه، سَمَّى حيثُ ذَكَرَ، لأنَّه إذا عُفِىَ عنها مع السَّهْو في جُمْلَةِ الوُضُوءِ، ففي البَعْضِ أَوْلَى. وإن تَرَكَها عَمْدًا حتَّى غَسَل عُضْوًا لم يُعْتَدَّ بغَسْلِه، لأنَّه لم يَذْكُرِ اسمَ اللهِ عليه. وقال الشيخُ أَبو الفَرَجِ: إذا سَمَّى في أثناءِ الوُضُوءِ أجْزَأَه. يَعني على كُلِّ حالٍ، لأنّه قد ذَكَرَ اسمَ اللهِ على وُضُوئِه. والتَّسْمِيَةُ قولُ «بِسْمِ اللهِ»، لا يَقُومُ غيرُها مَقامَها، كالتَّسْمِيَةِ المَشْرُوعَةِ على الذَّبِيحَةِ، وعندَ الأَكْلِ والشُّرْب، ومَوْضِعُها بعدَ النِّيَّةِ، لتَكُونَ شامِلَةً لجميعِ أفعالِ الوُضُوءِ، ولتكونَ. النِّيَّةُ شامِلَةً لها، كما يُسَمِّي على الذَّبِيحَةِ قبلَ ذَبْحِها. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة، في: باب طلاق المكره والناسي»، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجة 1/ 659. وقد بين الزيلعي طرقه، ومن أخرجه، بتفصيل واف، في: نصب الراية 2/ 64 - 66.

75 - مسألة، قال: (وغسل الكفين، إلا أن يكون قائما من نوم الليل، ففي وجوبه روايتان)

وَغَسْلُ الْكَفَّينِ، إلا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مِنْ نَوْمِ اللَّيلِ، فَفِي وُجُوبِهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 75 - مسألة، قال: (وغَسْلُ الكَفَّين، إلا أن يَكُونَ قائِمًا مِن نومِ اللَّيلِ، ففي وجوبِه رِوايَتان) وجملةُ ذلك أنَّ غَسْلَ اليَدَين إلى الكُوعَين سُنَّةٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوُضُوءِ، سَواءٌ قامَ مِن [نَوْمِ اللَّيلِ] (¬1) أو لم يَقُمْ، لأنَّ عُثمانَ وعَلِيًّا، وعبدَ اللهِ بنَ زيدٍ وَصَفُوا وُضُوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَرُوا أنَّه غَسَلَ كَفَّيه ثَلاثًا. ولأنَّهما آلةُ نَقْلِ الماءِ إِلى الأعْضاءِ، ففي غَسْلِهما احْتِياطٌ لجَمِيعِ الوُضُوءِ. وليس بواجِبٍ إذا لم يَقُمْ مِن النَّوْمِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، فأمّا عندَ القِيامِ مِن نَوْمِ اللَّيلِ فاخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في وُجُوبِه، فرُويَ عنه وُجُوبُه، وهو الظَّاهِرُ عنهْ، واخْتِيارُ أبي بكرٍ. وهو مذهبُ ابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيرَةَ والحسنِ، لقَول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اسْتَيقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَيهِ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا الإِنَاءَ ثَلاثًا، فَإنَّ أحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أينَ بَاتَتْ يَدُهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2) والأمْرُ يَقْتَضِي ¬

(¬1) في م: «النوم». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الاستجمار وترا، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 52. ومسلم، في: باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا ثلاثًا، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 233.كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 23، 24. والترمذي، في: باب إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتَّى يغسلها، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 41، 42. والنسائي، في: باب تأويل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، وباب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة، وباب الأمر بالوضوء من النوم، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 12: 83، 176. وابن ماجة، في: باب الرجل يستيقظ من منامه هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 138، 139. والدارمي، في: باب إذا استيقط أحدكم من منامه، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 196. والإمام مالك، في: باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 21. والإمام أحمد، في المسند 2/ 241، 253، 259، 265، 284، 316، 348، 382، 403، 455، 465، 471، 500، 507.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُجُوبَ. ورُوِيَ عنه أنَّ ذلك مُسْتَحَبٌّ، وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، وقولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ، لأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية (¬1). وقال زيدُ بن أسْلَمَ في تَفْسِيرِها: إذا قُمْتُمْ مِن نَوْمٍ (¬2). أمَرَ بغَسْلِ الوَجْهِ عَقِيبَ القِيامِ إلى الوُضُوءِ، ولم يَذْكُرْ غَسْلَ الكَفَّين، والأمْرُ بالشيءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الإِجْزَاءِ به. ولأنّه قائِمٌ مِن نومٍ، أشْبَهَ القِيامَ (¬3) مِن نومِ النَّهارِ، والحديثُ مَحْمُولٌ على الاسْتِحْبابِ، لأنَّه عَلَّلَ بِوَهْمِ النَّجاسَةِ، وطَرَيانُ الشَّكِّ على يقينِ الطهارةِ لا يُؤَثِّرُ فيها، كما لو تَيَقَّنَ الطهارَةَ وشَكَّ في الحَدَثِ. وهذا هو الصحيحُ إن شاءَ اللهُ تعالى. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) تقدم في صفحة 234. (¬3) في: م «القائم».

76 - مسألة؛ قال: (والبداية بالمضمضة والاستنشاق، والمبالغة فيهما، إلا أن يكون صائما)

وَالْبِدَايَةُ بِالْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ، وَالْمُبَالغَةُ فِيهِمَا، إلا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 76 - مسألة؛ قال: (والبِدايةُ بالمَضْمَضَةِ والاسْتِنْشاقِ، والمُبالغَةُ فيهما، إلَّا أن يَكُونَ صائِمًا) البدايةُ بالمَضْمَضَةِ والاسْتِنْشاقِ قبلَ غَسْلِ الوجْهِ مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّ عُثمانَ وعَلِيًّا وعبدَ اللهِ بنَ زيدٍ ذَكَرُوا ذلك في صِفَةِ وُضُوءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمُبالغَةُ فِيهما سُنَّةٌ، والمُبالغَةُ في المَضْمَضَةِ: إدارَةُ الماءِ في أعماقِ الفَمِ وأقاصِيه، ولا يَجْعَلُه وَجُورًا (¬1) ثم يَمُجُّه، وإن ابْتَلَعَه جازَ؛ لأنّ الغَسْلَ قد حَصَل. ومعنى المُبالغَةِ في الاسْتِنْشاقِ: اجْتِذابُ الماءِ بالنَّفَسِ إلى أقْصَى الأنْفِ، ولا يَجْعَلُه سَعُوطًا (¬2)، وذلك لما روَى لَقِيطُ بنُ صَبِرَةَ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ¬

(¬1) الوجور: الدواء يوجر في الفم. (¬2) السَّعُوط: اسم الدواء يُصَبَّ في الأنف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْبِرْنِي عن الوُضُوءِ. قال: «أسْبغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَينَ الأصَابِعِ، وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إلَّا أنْ تكُونَ صَائِمًا». رواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسن صحيحٌ. ثَبَتَ بذلك اسْتِحْبابُ المُبالغةِ في الاسْتِنْشاقِ، وقِسْنا عليه المَضْمَضَةَ، ولأنّه مِن جُمْلَةِ إسْباغِ الوُضُوءِ المأْمُورِ به. وقال أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ: هي واجِبَةٌ في الاسْتِنْشاقِ على غيرِ الصّائِمِ؛ للحديثِ المَذْكُورِ. فأمّا الصّائِمُ فلا يُسْتَحَبُّ له المُبالغَةُ فيهما، لا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لما ذكرْناه مِن الحديثِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الاستنثار، من كتاب الطهارة، وفي باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 31، 552. والترمذي، في: باب في تخليل الأصابع، من أبواب الطهارة، وفي: باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذي 1/ 56، 3/ 312. كما أخرجه النسائي، في: باب المبالغة في الاستنشاق، وباب الأمر بتخليل الأصابع، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 57، 67. وابن ماجة، في: باب المبالغة في الاستنثاق والاستنثار، وباب تخليل الأصابع، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 142، 153. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 33، 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ المُبالغةُ في غَسْلِ سائِرِ الأعْضاءِ بالتَّخْلِيلِ، ودَلْكِ المَواضِعِ التي يَنْبُو عنها الماءُ، ويُسْتَحَبُّ مُجاوَزَةُ مَوْضِعِ الوُجُوبِ بالغَسْلِ، لما رَوَى نُعَيمٌ المُجْمِرُ، أنَّه رَأَى أبا هُرَيرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيه حتَّى كادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَين، ثم غَسَلَ رِجْلَيه حتَّى رَفَعَ إلى السَّاقَين، ثم قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ أُمَّتِي يَأْتُون يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوءِ، فَمَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولمُسْلِمٍ (¬2) عنه، سمعتُ خَلِيلي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ». ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 46. ومسلم، في: باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 216. (¬2) في: باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 219. كما أخرجه النسائي، في: باب حلية الوضوء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 79. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 371.

77 - مسألة؛ قال: (وتخليل اللحية، وهو سنة)

وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ الْكَثَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 77 - مسألة؛ قال: (وتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ، وهو سُنَّةٌ) ومِمَّن رُوِيَ عنه أنَّه كان يُخلِّلُ لِحْيَتَه ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباس. ووَجْهُه ما رَوَى عثمانُ عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يُخَلِّلُ لِحْيَتَه. رواه ابنُ ماجَه، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، أنّ النبيَّ كان إذَا تَوَضَّأَ، أَخَذَ كَفًّا مِن ماءٍ، فَجَعَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ وَخَلَّلَ بِه لِحْيَتَه، وقال: «هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي». رواه أبو داوُدَ (¬2). وصِفَةُ التَّخْلِيلِ أنْ يُشَبِّكَ لِحْيَتَه بأصابِعِه ويَعْرُكَها، ولِمَا (¬3) رَوَى ابنُ عمرَ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا تَوَضَّأَ عَرَكَ عارِضَيهِ بَعْضَ العَرْكِ، ثم شَبَكَ لِحْيَتَه بأصابِعِهِ مِن تَحْتِها. رواه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬4)، وقال: الصَّوابُ أنَّه مَوْقُوفٌ على ابنِ عمرَ. قال يعقوبُ: سأَلْتُ أحمدَ عن التَّخْلِيلِ، فأَرَانِي مِنْ تحت لِحْيَتِه، فخَلَّلَ بالأصابِعِ. وقال حَنْبَلٌ: مِنْ تحتِ ذَقَنِه مِنْ أَسْفَلٍ الذَّقَنِ، يُخَلَّلُ جانِبَيْ لِحْيَتِه جميعًا بالماءِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَتَعَهَّدَ بَقِيَّةَ شُعُورِ وَجْهِه، ويَمْسَحَ مَآقِيَهُ؛ لِمَا روَى أبو داوُدَ (¬5)، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ المَأْقَينِ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في تخليل اللحية، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 49. وابن ماجة، في: باب ما جاء في تخليل اللحية، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 148. (¬2) في: باب تخليل اللحية، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32. (¬3) في م: «كما». (¬4) في: باب في الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 152.كما أخرجه ابن ماجة، في: باب ما جاء في تخليل اللحية، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 149. (¬5) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 29.

78 - مسألة: (وتخليل الأصابع)

وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 78 - مسألة: (وتَخْلِيلُ الأصابِعِ) تَخْلِيلُ أصابِعِ اليَدَين والرِّجْلَين في الوُضُوءِ مَسْنُونٌ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للَقِيطِ بنِ صَبِرَةَ: «وَخَلِّلْ بَينَ الأصابِعِ» (¬1). وهو في الرِّجْلَين آكَدُ. قال المُسْتَوْرِدُ بنُ شَدّادٍ: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا تَوَضَّأ دَلَكَ أصابِعَ رِجْلَيهِ بخِنْصَرِه. رواه أبو داوُد (¬2). ويَبْدأْ في تَخْلِيلِ اليُمْنَى مِن خِنْصَرِها إلى إبْهامِها، وفي اليُسْرَى مِن إبْهامِها إلى خِنْصَرِها؛ ليَحْصُلَ له التَّيامُنُ في التَّخْلِيلِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ، في اسْتِحْبابِ تَخْلِيلِ أصابِعِ اليَدَين رِوايَتَين؛ إحداهما، يُسْتَحَبُّ؛ لما ذكرْناه، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَوَضَّأتَ فَخَلِّلْ أصَابِعَ يَدَيكَ وَرِجْلَيكَ». رواه التِّرْمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسنٌ. والثانية، لا يُسْتَحَبُّ؛ لأنَّ تَفْرِيقَها يُغْنِي عن التَّخْلِيلِ، والأولَى أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 281، 282. (¬2) في: باب غسل الرجلين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32. كما أخرجه الترمذي، في: باب في تخليل الأصابع، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 57. وابن ماجة، في: باب تخليل الأصابع، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 152. (¬3) في: باب في تخليل الأصابع، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 57.

79 - مسألة؛ قال: (والتيامن)

وَالتَّيَامُنُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 79 - مسألة؛ قال: (والتَّيامُنُ) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ، فيما عَلِمْنا، في اسْتِحْبابِ البِدايَةِ باليُمْنَى، وأجْمَعُوا على أنّه لا إعادَةَ على مَن بَدَأَ بيَسارِه قبلَ يَمِينِه. ووَجْهُ اسْتِحْبابِه حديثُ عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُعْجِبُه التَّيامُنُ في تَنَعُّلِه، وتَرَجُّلِه وطُهُورِه، وفي شَأنِه كُلِّه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1) وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا تَوَضّأْتُمْ فابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ». رواه ابنُ ماجَه (¬2). ¬

(¬1) تقدم في صفحة 72، 273. (¬2) في: باب التيمن في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 141. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الانتعال، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 390.

80 - مسألة؛ قال: (وأخذ ماء جديد للأذنين)

وَأَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلأُذُنَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 80 - مسألة؛ قال: (وأخْذُ ماءٍ جَدِيدٍ لِلأُذُنَينِ) يَعنى أنَّه مُسْتَحَبٌّ، قال أحْمدُ: أنا أسْتَحِبُّ أن يَأْخُذَ لأُذُنِه ماءً جَدِيدًا. يروَى ذلك عن ابنِ عمرَ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: ليس بمَسْنُونٍ. وحَكاه أبو الخَطّابِ رِوايةً عن أحمدَ؛ لأنَّ الَّذي قالُوه غيرُ مَوْجُودٍ في الأخْبارِ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ». رواه ابنُ ماجَة (¬1). ورَوَتِ الرُّبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ، والمِقْدامُ بنُ مَعْدِ يكَرِبَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ برَأْسِه وأُذُنَيه مَرَّةً واحِدَةً. رواه أبو داودَ (¬2). ووَجْهُ الأوَّلِ ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ. وقد ذهَب الزُّهْرِيُّ إلى أنَّهما مِن الوَجْهِ. ¬

(¬1) في: باب الأذنان من الرأس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 152 كما أخرجه من حديث أبي أمامة أبو داود، في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 29. والترمذي، في: باب ما جاء أن الأذنين من الرأس، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 54. (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 27 - 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشَّعْبِيُّ (¬1): ما أقْبَلَ مِنهما مِن الوَجْهِ، وظاهِرُهُما مِن الرَّأْسِ. وقال الشافعيُّ وأبو ثَوْر: لَيسَتَا مِن الرَّأْسِ، ولا مِن الوَجْهِ. ففي إفْرادِهِما بماءٍ جَدِيدٍ خُرُوجٌ مِن الخِلافِ، فكانَ أوْلَى. فإنْ مَسَحَهُما بماءِ الرَّأْسِ أجْزأه؛ لما ذكرْناه مِن الحديثِ. ¬

(¬1) أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي الحبر العلامة، وكان صاحب آثار، توفي سنة أربع ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 294 - 319.

81 - مسألة؛ قال: (والغسلة الثانية والثالثة)

وَالْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 81 - مسألة؛ قال: (والغسْلَةُ الثّانيةُ والثّالثةُ) وذلك لما روَى عليٌّ، رَضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثَلاثًا ثَلاثًا. رواه الإمامُ أحمدُ، والتِّرمِذِيُّ (¬1)، وقال: هذا أحسنُ شيءٍ في البابِ وأصحُّ. وليس ذلك ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 114 - 116. والترمذي، في: باب ما جاء في الوضوء ثلاثًا ثلاثا، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 61. كما أخرجه ابن ماجة، في: باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بواجب؛ لما روَى ابنُ عباسٍ، قال: تَوَضَّأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةً. رواه البُخارِيُّ (¬1). وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بماءٍ، فتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرّةً، فقال: «هَذا وَظِيفَةُ الوُضُوءِ». أو قال: «وُضُوءٌ، مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأهُ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلاةً». ثم تَوَضَّأ مَرّتَينِ مَرَّتَينِ، ثم قال: «هَذَا وُضُوءٌ، مَنْ تَوَضَّأَهُ أعْطَاهُ اللهُ كِفْلَينِ مِنَ الأجْرِ». ثم تَوَضّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، فقال: «هذا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ المُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِي». رواه ابنُ ماجَه (¬2). ¬

(¬1) حديث ابن عباس أخرجه البخاري، في: باب الوضوء مرة مرة، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 51. والترمذي، في: باب ما جاء في الوضوء مرة مرة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 59. وأبو داود، في: باب الوضوء مرة مرة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 30. والنسائي، في: باب الوضوء مرة مرة، وباب مسح الأذنين، وباب مسح الأذنين مع الرأس، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 54، 63. وابن ماجة، في: باب ما جاء في الوضوء مرة مرة. سنن ابن ماجة 1/ 59. والدارمي، في: باب الوضوء مرة مرة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 177. والإمام أحمد في المسند 2/ 28، 39. (¬2) في: باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 145، 146.

باب فرض الوضوء، وصفته

بَابُ فَرْضِ الْوُضُوءِ، وَصِفَتِهِ وَفُروضُهُ سِتَّةٌ؛ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْهُ، وَغَسْلُ الْيَدَينِ. وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَغَسْل الرِّجْلَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ فَرْضِ الوُضُوءِ وصِفَتِه (وفُرُوضُه سِتَّةٌ؛ غَسْلُ الوَجْهِ)، وهو فَرْضٌ بالإِجْماعِ، والأَصلُ فيه قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية (¬1). 82 - مسألة؛ قال: (والفَمُ والأَنْفُ مِنه) لدُخُولِهِما في حَدِّه على ما يَأْتِي. 83 - مسألة؛ قال: (وغَسْلُ اليَدَينِ) -وهو الفرضُ الثاني؛ لقولِه تعالى: {وَأَيدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1). 84 - مسألة؛ قال: (ومَسْحُ الرَّأْسِ) وهو الفرضُ الثالثُ. (وغَسْلُ الرِّجْلَينِ) وهو الفرضُ الرابعُ؛ لقولِه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (1). لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ العلماء في وُجُوبِ غَسْلِ الوَجْهِ واليَدَين؛ لما ذكرْنا مِن النَّصِّ، وكذلك مَسْحُ الرَّأْسِ واجِبٌ بالإِجماعِ في الجُمْلَةِ، مع اخْتِلافِ الناس في قَدْرِ الواجِبِ مِنه. فأمّا غَسْل الرِّجْلَينِ، فهو فَرْضٌ في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. قال ¬

(¬1) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيلَى (¬1): أجْمَعَ (¬2) أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على غَسْلِ القَدَمَينِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، أنَّه مَسَحَ على نَعْلَيه وقَدَمَيه، ثم دَخَلَ المَسْجِدَ، ثم خَلَعَ نَعْلَيه، ثم صَلَّى. وحُكِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: ما أجِدُ في كتابِ الله إلَّا غَسْلَتَينِ ومَسبْحَتَين. وحُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ، أنَّه قال: الوُضُوءُ مَمْسُوحان ومَغْسُولان؛ فالْمَمْسُوحان يَسْقُطان في التَّيَمُّمِ. وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، أنَّه ذُكِرَ له قولُ الحَجّاجِ: اغْسِلُوا القَدَمَين ظاهِرَهُما وباطِنَهُما، وخَلِّلُوا ما (¬3) بينَ الأصابعِ، فإنَّه ليس شيءٌ مِن ابنِ آدَمَ أقربَ إلى الخَبَثِ مِن قَدَمَيه. فقال أنَسٌ: صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ الحَجّاجُ. وتَلا هذه الآيةَ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} وحُكِيَ عن ابنِ جَرِيرٍ (¬4)، أنَّه قال: هو مُخَيَّرٌ بينَ المَسْحِ والغَسْلِ (¬5). ولم نَعْلَمْ أحدًا مِن ¬

(¬1) أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الإمام الحافظ، كان أصحابه يعظمونه كأنه أمير، توفي سنة اثنتين وثمانين وقيل سنة ثلاث. سير أعلام النبلاء 4/ 262 - 267. (¬2) في م: «اجتمع». (¬3) سقطت من: «م». (¬4) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المفسر المؤرخ، كان من أفراد الدهر؛ علما، وذكاء، وكثرة تصانيف، وكان من كبار أئمة الاجتهاد، توفي سنة عشر وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 267 - 282. (¬5) نص عبارة الطبري: «فإذا كان المسح المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد، أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح، فبَيِّن صواب قرأة القراءتين جميعا، أعني النصب في الأرجل والخفض؛ لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسُحهما، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما. تفسير الطبري (شاكر) 10/ 63. ولعل نقل المؤلف عن ابن جرير في القسم المفقود من كتابه اختلاف الفقهاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ قال بجَوازِ مَسْحِ الرِّجْلَين غيرَ مَنْ ذَكَرْنا، واحْتَجُّوا بظاهِرِ الآيَةِ، وبما روَى ابنُ عباسٍ، قال: تَوَضَّأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأدْخَلَ يَدَه في الإِناءِ، فتَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مَرَّةً واحدةً، ثم أدْخَلَ يَدَه، فصَبَّ على وَجْهِه مَرَّةً واحِدَةً، وصَبَّ على يَدَيه مَرَّةً مَرَّةً، ومَسَحَ برَأْسِه وأُذُنَيه مَرَّةً، ثم أَخَذَ كَفًّا مِن ماءٍ، فرَشَّ على قَدَمَيه وهو مُنْتَعِلٌ (¬1). رواه سعيدٌ. ورَوَى سعيدٌ، عن هُشَيمٍ، أنبأنا يَعْلَى بنُ عَطاءٍ، عن أبيه، قال: أخْبَرَني أَوْسُ بنُ أوسٍ الثَّقَفِيُّ، أنَّه رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتَى كِظامَةَ قومٍ (¬2) بالطَّائِفِ، فتَوَضَّأَ ومَسَحَ على قَدَمَيه (¬3). قال هُشَيم: كان هذا في أوَّلِ الإِسْلامِ. ولَنا، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ زيدٍ وعثمانَ وَصَفا وُضُوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقالا: فغَسَلَ قَدَمَيه. وفي حديثِ عثمانَ: ثم غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيه ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهما (¬4). وحَكَى عليٌّ وُضُوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ثم غَسَلَ ¬

(¬1) ذكر السيوطي في أول مسند ابن عباس حديثًا مقاربا لهذا يختلف معه في بعض ألفاظه. الجامع الكبير 2/ 444، وذكر أنَّ ابن أبي شيبة أخرجه، وهو عنده في: باب في الوضوء كم هو مرة، من كتاب الطهارات 1/ 9. وانظر: باب مسح الأذنين مع الرأس إلخ، من كتاب الطهارة. المجتبى من سنن النسائي 1/ 63. وأخرج الحديث بنحو مما ورد هنا أبو داود، في: باب الوضوء مرتين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 30. (¬2) الكظامة: الميضأة، وفم الوادي، وبئر بجنب بئر بينهما مجرى ببطْن الأرض. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب حدثنا مسدد وعباد بن موسى، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 36. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 8. (¬4) حديث عبد الله بن زيد برواياته، أخرجه البخاري، في: باب مسح الرأس كله، وباب غسل الرجلين إلى الكعبين، وباب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، وباب مسح الرأس مرة واحدة، وباب الغسل والوضوء في المخضب إلخ، وباب الوضوء من التور، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 58 - 61. ومسلم، في: باب في وضوء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 210، 211. وأبو داود، في: باب صفة وضوء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود، 1/ 27. والترمذي، في: باب المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 46، 47. والنسائي، في: باب حد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِجْلَيه إلى الكَعْبَين، ثَلاثًا ثَلاثًا (¬1). وعن عمرَ، - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ، فتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِن قَدَمِه، فأَبْصَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ». فرَجَعَ ثم صَلَّى. رواه مسلم (¬2). وعن عبد اللهِ بن عَمْرٍو، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى قومًا يَتَوَضَّئُونَ وأعْقَابُهُمْ تَلُوحُ (¬3)، فقال: «وَيلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». رواه مسلم (¬4). وقد ¬

= الغسل، وباب صفة مسح الرأس، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 61. وابن ماجه، في: باب المضمضة والاستنشاق من كف واحد، وباب ما جاء في مسح الرأس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 149، 150. والدارمي، في: باب الوضوء مرتين، وباب ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ لرأسه ماءً جديدا، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 180. والإمام مالك، في: باب العمل في الوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 18. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 38، 39، 41، 42. وحديث عثمان أخرجه البخاري، في: باب الوضوء ثلاثا، وباب المضمضة في الوضوء، من كتاب الوضوء. وفي: باب سواك الرطب واليابس للصائم، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 1/ 51 - 53، 3/ 40. ومسلم، في: باب صفة الوضوء وكماله، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 204، 205. والنسائي، في: باب المضمضة والاستنشاق، وباب حد الغسل، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 56، 57، 68. وابن ماجه، في: باب ثواب الطهور، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 105. والدارمي، في: باب الوضوء ثلاثا، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 176. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 58 - 61، 67، 68، 74. (¬1) أخرجه النسائي، في: باب صفة الوضوء، من كتاب الطهارة 1/ 60. والإمام أحمد، في المسند: 1/ 110. (¬2) في: باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 215. كما أخرجه أبو داود، في: باب تفريق الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 39. وابن ماجه، في: باب من توضأ فترك موضعا لم يصبه الماء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 218. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 21، 23. كما أخرجه أبو داود وابن ماجه، عن أنس، في الموضعين السابقين. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 146. (¬3) تلوح: أي تلمع. (¬4) في: باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 214. كما أخرجه البخاري، في: باب رفع صوته بالعلم، وباب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم، من كتاب العلم، وفي: باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 35، 52. وأبو داود، في: باب في إسباغ الوضوء، من كتاب الطهارة، سنن أبي داود 1/ 22 والنسائي، في: باب إيجاب غسل الرجلين، من كتاب الطهارة المجتبى 1/ 66. وابن ماجه، في: باب غسل العراقيب، من كتاب الطهارة. سنن ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا أمْرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّخْلِيلِ، وأنَّه كان يَعْرُكُ أصابِعَه بِخِنْصَرِه بَعْضَ العَرْكِ، وهذا كلُّه يَدُلُّ على وُجُوبِ الغَسْلِ؛ لأنَّ المَمْسُوحَ لا يَحْتاجُ إلى الاسْتِيعابِ والعَرْكِ. وأمّا الآيةُ، فقد رَوَى عِكْرِمَةُ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّه كان يَقْرأُ. {وَأَرْجُلَكُمْ} (¬1). قال: عادَ إلى الغَسْلِ (¬2). ورُوِيَ عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ والشَّعْبِيِّ قِراءَتُها كذلك. وهي قِراءةُ ابنِ عامِرٍ، فتَكُونُ مَعْطُوفةً على اليَدَينِ، ومَن قَرَأَ بالجَرِّ فللمُجاوَرَةِ، كقولِه تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (¬3). جَرَّ أَلِيمًا، وهو صِفَةٌ للعَذابِ على المُجاوَرَةِ. وقولِ الشّاعرِ (¬4): فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَينِ مُنْضِجٍ … صَفِيفَ شِوَاءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ فجَرَّ قَدِيرًا مع العَطْفِ للمُجاوَرَةِ. وإذا احْتَمَلَ الأمْرَين وجَبَ الرُّجُوعُ إلى فِعْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه مُبَيِّنٌ، يُبَيِّنُ بفِعْلِه تارَةً، وبقَوْلِه أُخْرَى. ويَدُلُّ على صِحَّةِ هذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديث عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ (¬5): «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ» (¬6) فثَبَتَ بهذا أنَّ الله تعالى إنَّما أمَرَه ¬

= ماجه 1/ 154. والدارمي، في: باب ويل للأعقاب من النار، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 179. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 193، 201، 205، 211، 226. (¬1) بعد هذا في حاشية الأصل: «بالنصب». (¬2) أي عاد الأمر إلى الغسل. انظر: تفسير الطبري. 10/ 55. (¬3) سورة هود 26. (¬4) البيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة، وهو في ديوانه 22. وهو من الشواهد النحوية. انظر: معجم شواهد العربية للأستاذ عبد السلام هارون 1/ 305. (¬5) عمرو بن عَبَسَةَ بن عامر السلمي، أبو نجيح، أسلم قديما بمكة، وكان أخا أبي ذر لأمه، توفي في أواخر خلافة عثمان. تهذيب التهذيب 8/ 69. (¬6) ذكر الحديث بطوله السيوطي، في الجامع الكبير 2/ 582. وقال: «أخرجه سعيد بن منصور.

85 - مسألة؛ قال: (والترتيب على ما ذكر الله تعالى)

وَتَرتِيبُهُ، عَلَى مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالى، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالغَسْلِ، لا بالمَسْحِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بالمَسْحِ الغَسْلَ الخَفِيفَ. قال أبُو عَليٍّ الفارِسِيُّ (¬1): العَرَبُ تُسَمِّي خَفِيفَ الغَسْلِ مَسْحًا، فيَقُولُون: تَمَسَّحْتُ للصَّلاةِ. أي تَوَضَّأْتُ. فإن قِيل: فعَطْفُه على الرَّأْسِ يَدُلُّ على أنَّه أرادَ حَقِيقَةَ المَسْحِ. قُلْنا: قد افْتَرَقا مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ المَمْسُوحَ في الرَّأْسِ شَعَرٌ يَشُقُّ غَسْلُه، والرِّجْلان بخِلافِ ذلك، فَهُما أشْبَهُ بالمَغْسُولاتِ. الثاني، أنَّهما مَحْدُودانِ بحَدٍّ يَنْتَهِي إليه، أَشْبَها اليَدَين. الثالثُ، أنَّهما مُعَرَّضَتان للخَبَثِ، لكَوْنِهما يُوطَأ بِهما على الأرضِ. وأمّا حَدِيثُ أوْسِ بنِ أوس فيُحْمَلُ على أنّه أرادَ الغَسْلَ الخَفِيفَ، وكذلك حديثُ ابنِ عباسٍ، وكذلك قال: أخَذَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ ماءٍ، فرَشَّ على قَدَمَيه. والمَسْحُ يكونُ بالبَلَلِ لا برشِّ الماءِ. واللهُ أعلمُ. 85 - مسألة؛ قال: (والتَّرْتِيبُ على ما ذَكَرَ اللهُ تعالى) وهو الفرضُ الخامسُ، وجملةُ ذلك أنَّ التَّرْتِيبَ في الوُضُوءِ، كما ذكر اللهُ تعالى، واجبٌ ¬

(¬1) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، أبو علي. عالم العربية، صاحب التصانيف، المتوفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. إنباه الرواة 1/ 273، وفيات الأعيان 2/ 80 - 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قولِ أحمدَ. قال شيخُنا: لم أَرَ عنه فيه اخْتِلافًا. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأبي عُبَيدٍ، وإسحاقَ (¬1). وحَكَى أبو الخَطَّابِ، عن أحمدَ روايةً أُخْرَى، أنَّه غيرُ واجبٍ. وهو مذهَبُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنّ الله تعالى أمَرَ بغَسْلِ الأعْضاءِ، وعَطَف بَعْضَها على بعضٍ بواو الجَمْعِ، وهي لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فكَيفَما غَسَل كان مُمْتَثِلًا، ورُوي عن عليٍّ، أنَّه قال: ما أُبَالِي إذا أَتْمَمْتُ وُضُوئِي بأَيِّ أَعْضائِي بَدأْتُ (2). وعن ابنِ مسعودٍ: لا بَأْسَ أنْ تَبْدَأَ برِجْلَيكَ قَبْلَ يَدَيك في الوُضُوءِ (¬2). ووجْهُ الأوَّلِ أنَّ في الآيةِ قَرِينَةً تَدُلُّ على التَّرْتِيبِ، فإنَّه أدْخَلَ مَمْسُوحًا بينَ مَغْسُولَين، وقَطَع النَّظِيرَ عن نَظِيرِه، والعربُ لا تَفْعلُ ذلك إلَّا لفائِدَةٍ، والفائِدَةُ هي التَّرْتِيبُ. فإن قِيل: فائِدَتُه اسْتِحْبابُ التَّرْتِيبِ. قُلْنا: الآيةُ ما سِيقَتْ إلَّا لبَيان الواجِبِ، ¬

(¬1) المغني 1/ 189، 190. ولم يرد «وإسحاق» في المغني. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يتوضأ يبدأ برجليه قبل يديه، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا لم تُذْكَرِ السُّنَنُ فيها، ولأنّه متى اقْتَضَى اللَّفْظُ التَّرتِيبَ، كان مَأمُورًا به. ولأنَّ كلَّ من حَكَى وُضُوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَكاه مُرَتَّبًا، وهو مُفَسِّرٌ لِما في كتابِ الله تِعالى، وتَوَضَّأَ مُرَتِّبًا، وقال: «هذا وُضُوءٌ، لا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاةَ إلَّا بِهِ» (¬1). أي: بمِثْلِه. وقولُهم: إنَّ الواو لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. مَمْنُوعٌ، فقد اقْتَضَتِ التَّرْتِيبَ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬2). وما رُوِيَ عن عليٍّ، قال أحمدُ: إنَّما عَنَى به اليُسْرَى قبلَ اليُمْنَى؛ لأنَّ مَخْرَجَهُما في الكتابِ واحِدٌ. ورَوَى الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه، أنَّ عليًّا سُئِلَ، فقِيل له: أحدُنا يَسْتعجِلُ، فيَغْسِلُ شيئًا قبلَ شيءٍ؟ فقال: لا. حَتى يكونَ كما أمَرَ اللهُ تعالى. وروايَتُه (¬3) عن ابن مسعودٍ لا نَعْرِفُ لها أصلًا، فأمَّا تَرْتِيبُ اليُمْنَى على اليُسْرَى، فلا يَجِبُ بِالإِجماع. حكناه ابنُ الْمُنْذِرِ، لأنَّ اللهَ تعالى ذَكرَ مَخْرَجَهُما (¬4) واحدًا، فقال: {وَأيدِيَكُمْ}، {وَأرْجُلَكُمْ}، وكذلك التَّرْتِيبُ بينَ المَضْمَضَةِ، والاسْتِنْشاقِ، والفُقهَاءُ يَعُدُّون اليَدَينِ عُضْوًا، والرِّجْلَينِ عُضوًا، ولا يجبُ التَّرْتِيبُ بينَ العُضْو الواحِدِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، من كتاب الطهارة، عن ابن عمر، قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة، فقال: «هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به». . . . إلخ. سنن ابن ماجه 1/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 98. (¬2) سورة الحج: 77. (¬3) في م: «وروايتهم». (¬4) في م: «مخرجة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَكَّسَ وُضُوءَه، فَبَدأ بشيءٍ مِنْ أَعْضائِه قبلَ وَجْهِه، لم يُحْتَسَبْ بما غَسَلَه قبلَه. وإن بَدَأ برِجْلَيه، وخَتَم بوَجْهِه، لم يَصِحَّ إلَّا غَسْلُ وَجْهِه. وإن تَوَضَّأ مُنَكِّسًا أربعَ مَرّاتٍ، صَحَّ وُضُوؤه إذا كان مُتَقارِبًا، يَحْصُلُ له مِنْ كلِّ مَرَّةٍ غَسْلُ عُضْوٍ. ومذهبُ الشافعيِّ يُجَوِّزُ (¬1) هَذا. ولو غَسَل أعْضاءَه دَفْعَةً واحِدَةً، لم يَصِحَّ إلَّا غَسْلُ وَجْهِه. وإنِ انْغَمَس في ماءٍ جارٍ، فلم يَمُرَّ على أعْضائِه إلَّا جَرْيَةٌ واحدةٌ، فكذلِك. وإن مَرَّ عليه أرْبعُ جَرَيَاتٍ، وقلنا: الغَسْلُ يُجْزِئُ عن المَسْحِ. أجْزأه، كما لو توَضَّأ أربعَ مَرَّاتٍ. وإنْ كان الماءُ راكِدًا، فقال بَعْضُ أصحابِنا: إذا أخْرَجِ وَجْهَه ثم يَدَيهِ، ثم مَسَح رَأسَه، ثم خَرَج مِن الماءِ، أجْزأه؛ لأنَّ الحَدَثَ إنَّما يَرْتَفِعُ بانْفِصالِ الماءِ عن العُضْو. ونَصَّ أحمدُ، في رجلٍ أرادَ الوُضُوءَ فاغْتَمَس في الماءِ، ثم خرجَ مِن الماءِ، فعليه مَسْحُ رَأْسِه وغَسْلُ رِجْلَيهِ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ الماءَ إذا كان جَاريًا، فمَرَّتْ عليه جَرْيَةٌ واحدةٌ، أنَّه يُجْزِئُه مَسْحُ رَأْسِه، ثم يَغْسِلُ رِجْلَيه. وإنِ اجْتَمَع الحَدَثانِ، سَقَطَ التَّرْتِيبُ والمُوالاةُ، على ما سَنَذْكُرُه [في مَوْضِعِه] (¬2)، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في م: «نحو». (¬2) سقط من: «م».

86 - مسألة؛ قال: (والموالاة على إحدى الروايتين)

وَالْمُوَالاةُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 86 - مسألة؛ قال: (والمُوالاةُ على إحْدَى الرِّوايَتَين) المُوالاةُ هي الشرطُ السادسُ، وفيها رِوايتان؛ إحْداهما، هي واجِبَةٌ. نَصَّ عليها أحمدُ في مَواضِعَ. وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وقَتَادَةَ، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. قال القاضي: وفيها رِوايَةٌ أُخْرَى؛ أنَّها غيرُ واجِبَةٍ. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، والحسنِ، والثَّوْريِّ، وأصحابِ الرَّأْي، والقولُ الثاني للشافعيِّ، واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ المَأْمُورَ به غَسْلُ الأعْضاءِ، فكَيفَما غَسَل فقد أتَى بِالمَأَمُورِ به، وقد ثَبَت أنَّ ابنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ بالسُّوقِ فغَسَلَ وَجْهَه ويَدَيه، ومَسَح رَأْسَه، ثم دُعِيَ لجِنازَةٍ، فمَسَح على خُفَّيه، ثم صَلَّى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها (¬1). ولأنَّها إحْدَى الطَّهارَتَين، فلم تَجِبْ فيها المُوالاةُ كالكُبْرَى. وقال مالكٌ: إن تَعَمَّد التَّفْرِيقَ بَطَل، وإلَّا فلا. ووَجْهُ الأُولى ما رَوَى عُمَرُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رجُلًا يُصَلِّي، وفي ظَهْرِ قَدَمِه لُمْعَةٌ لم يُصِبْها ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب تفريق الوضوء، من كتاب الطهارة، وفيه: ثم دخل المسجد فمسح على خفيه بعدما. جف وضوءه وصلى. السنن الكبرى 1/ 84.

87 - مسألة؛ قال: (وهو أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)

وَهِيَ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حَتَّى يَنْشَفَ الَّذِى قَبْلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الماءُ، فأمَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُعِيدَ الوُضُوءَ والصلاةَ. رواه أبو داودَ (¬1). ولو لم تَجِبِ المُوالاةُ لأجْزأَه غَسْلُ اللُّمْعَةِ حَسْبُ. ولأنَّها عِبادَةٌ يُفْسِدُها الحَدَثُ، فاشْتُرِطَتْ لها المُوالاةُ كالصلاةِ، والآيةُ دَلَّتْ على وُجُوبِ الغَسْلِ، وبَيَّن النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَيفيَّتَه بفِعْلِه، فإنَّه لم يُنْقَلْ عنه أنَّه تَوَضَّأَ إلَّا مُتَوالِيًا، وغُسْلُ الجَنابَةِ بمَنْزِلَةِ الْغُضْو الواحدِ. وحَكَى بعضُ أصحابِنا فيه مَنْعًا. ذَكَره الشيخُ أبو الفَرَجِ. وفِعْلُ ابنِ عُمَرَ ليس فيه دَلِيلٌ على أنّه أخَلَّ بالمُوالاةِ المُشْتَرَطَةِ. 87 - مسألة؛ قال: (وهو أَن لا يُؤَخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتى يَنْشَفَ الذي قبلَه) في الزَّمانِ المُعْتَدِلِ، ولا اعْتِبارَ بالزَّمَنِ الحارِّ الذي يُسْرِعُ فيه النِّشافُ، ولا بالزَّمَنِ البارِدِ الذي يُبْطِئُ فيه، ولا يُعْتَبَرُ ذلك فيما بينَ طَرَفَي الطهارةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: التَّفْرِيقُ المُبْطِلُ في إحْدَى الرِّوايَتَين ما يَفْحُشُ في العادةِ؛ لأنَّه لم يُحَدَّ في الشَّرْعِ، فرُجِعَ فيه إلى العادةِ، كالإحْرازِ والتَّفَرُّقِ في البَيعِ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 296. وهو عند أبي داود عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَشِفَتْ أَعْضاؤه؛ لاشْتِغَالِه بفَرْضٍ في الطهارةِ أو سُنَّةٍ، لم يَبْطُلْ، كما لو طَوَّل أرْكانَ الصلاةِ. وإن كان لوَسْوَسَةٍ تَلْحَقُه فكذلك، ويَحْتَمِل أنَّ يَبْطُلَ الوُضوءُ؛ لأنّه غيرُ مَفْرُوضٍ ولا مَسْنُونٍ، وإن كان ذلك لعَبَثٍ أو شيءٍ زائِدٍ على المسنونِ وأشْباهِه، عُدَّ تَفْرِيقًا.

88 - مسألة؛ قال: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها)

وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ كُلِّهَا؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ 88 - مسألة؛ قال: (والنِّيَّةُ شَرْطٌ لطهارةِ الحَدَثِ كلِّها) الغُسْلِ، والوُضوءِ، والتَّيَمُّمِ. والنِّيَّةُ هي القَصْدُ. يُقال: نَواك اللهُ بِخَيرٍ. أي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَصَدَك. ومَحَلُّها القَلْبُ؛ لأنَّ مَحَلَّ القَصْدِ القلبُ، فمتى اعْتَقَد بقلبِه أجْزَأ، وإنْ لم يَلْفِظْ بلِسانِه. وإن لَفَظ بلِسانِه ولم يَقْصِدْ بقلبِه، لم يُجْزِئْه. ولو سَبَق لِسانُه إلى غيرِ ما اعْتَقَده، لم يَمْنَعْ صِحَّةَ ما قَصَدَه بقَلْبِه. ولا خِلافَ في المذهبِ في اشْتِراطِ النِّيَّةِكما لِما ذَكَرْنا. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ - رضي الله عنه -. وهو قولُ مالكٍ، ورَبِيعَةَ، واللَّيثِ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ: تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في التَّيَمُّمِ دُونَ طهارةِ الماءِ؛ لأنَّ الله تَعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1). الآيةُ، ولم يَذْكُرِ النِّيَّةَ، ولو كانَتْ شَرْطًا لَذَكَرَها. ولأنَّ مُقْتَضَى الأمْرِ حُصُولُ الإجْزاءِ بفِعْلِ المَأمُورِ به ¬

(¬1) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَقْتَضِي الآيةُ حُصُولَ الإِجْزاءِ بما تَضَمَّنَتْه. ولأنَّها طهارةٌ بالماءِ، فلم تَفْتَقِرْ إلى النِّيَّةِ كغَسْلِ النَّجاسَةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». مُتَّفَق عليه (¬1). فنَفَى أن يكونَ له عَمَلٌ شَرْعِيٌّ بدونِ النَّيِّةِ. ولأنَّها طهارةٌ مِن الحَدَثِ، فلم تَصِحَّ بغيرِ نِيَّةٍ كالتَّيَمُّمِ، فأمّا الآيةُ فهي حُجَّةٌ لَنَا؛ فإن قولَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. أي: للصلاةِ، كما يُقالُ: إذا لَقِيت الأمِيرَ فتَرَجَّلْ. أي له. وقولُهم: لو كانتِ النِّيَّةُ شَرْطًا لَذكَرَها. قُلنا: إنَّما ذَكَر الأرْكانَ، ولم يَذْكُرِ الشَّرائِطَ كآيةِ التَّيَمُّمِ. وقولُهم: مُقْتَضَى الأمْرِ حُصُولُ الإِجْزاء به. قُلْنا: بلْ مُقْتَضاه وُجوبُ الفِعْلِ، ولا يَمْنَعُ أنَّ يُشْتَرَطَ له شرطٌ آخَرُ كآية التَّيَمُّمِ. وقَوْلُهم: إنَّها طهارةٌ. قُلنا: إلَّا أنَّها عِبادَةٌ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي: باب الخطأ والنسيان، من كتاب العتق، وفي: باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، من كتاب مناقب الأنصار، وفي: باب من هاجر أو عمل خير التزويج امرأة فله ما نوى، من كتاب النكاح، وفي: باب الطلاق في الإغلاق إلخ (الترجمة)، من كتاب الطلاق، وفي: باب النية في الأيمان، من كتاب الأيمان، وفي، كتاب الإكراه (الترجمة)؛ وفي: باب في ترك الحيل. صحيح البخاري 1/ 2، 3/ 191، 5/ 72، 7/ 4، 58/ 175، 9/ 25، 29. ومسلم. في: باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنية، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1515، 1516. كما أخرجه أبو داود، في: باب فيما عنى به الطلاق والنيات، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 510. والنسائي، في: باب النية في الوضوء، من كتاب الطهارة، وفي: باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه، من كتاب الطلاق، وفي: باب النية في اليمين، من كتاب الأيمان، المجتبى 1/ 51، 6/ 129، 17/ 12، 13. وابن ماجه، في: باب النية، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1413. والترمذي، في: باب ما جاء في من يقاتل رياء وللدنيا، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 151، 152. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 25، 43.

89 - مسألة؛ قال: (وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)

وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَو الطَّهَارَةَ لِمَا لا يُبَاحُ إلا بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعبادةُ لا تكونُ إلَّا مَنْويَّةً، كالصلاةِ؛ لأنَّها قُرْبَةٌ إلى الله تِعالى، وطاعةٌ، وامْتِثالُ أمْرٍ، ولا يَحْصُلُ ذلك بغيرِ نيَّةٍ. 89 - مسألة؛ قال: (وهي أنْ يَقْصِدَ رَفْعَ الْحَدَثِ أو الطهارةَ لِما لا يُباحُ إلَّا بها) متى قَصَد بطهارتِه رَفْعَ الحَدَثِ، وهو إزالةُ المانِعِ مِمّا يَفْتَقِرُ إلى الطَّهارةِ، أو قَصَد بطَهارتِه الصلاةَ، والطَّوافَ، ومَسَّ المصحفِ، أو قصَد الجُنُبُ بالغُسْلِ اللُّبْثَ في المسجدِ، صَحَّتْ طهارتُه عندَ القائلِين باشْتِراطِ النِّيَّةِ، لا نَعْلَمُ بينَهم فيه اخْتِلافًا. فإنْ نَوَى التَّبَرُّدَ وما لا تُشْرَعُ الطهارةُ له؛ كالأكْلِ والبَيعِ، ولم يَنْو الطهارةَ الشَّرْعِيَّةَ (¬1) ¬

(¬1) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَرْتَفِعْ حَدَثُه؛ لأنَّه لم يَنْو الطَّهارةَ، ولا ما يَتَضَمَّنُ نِيَتَّهَا، فأشْبَهَ مَن لم يَقْصِدْ شيئًا. وإن نَوَى الطهارةَ مع ذلك، صَحَّتِ الطهارةُ؛ لأنّه نَوَى الطهارةَ، وضَمَّ إليها ما لا يُنافِيه، فلم يُؤَثِّرْ، كما لو نَوَى بالصلاةِ الطّاعَةَ والخَلاصَ مِن خَصْمِه.

90 - مسألة؛ قال: (فإن نوى ما تسن له الطهارة، أو التجديد، فهل يرتفع حدثه؟ على روايتين)

فإِنْ نَوَى مَا تُسَنُّ لَهُ الطَّهَارَةُ أَو التَّجْدِيدَ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 90 - مسألة؛ قال: (فإنْ نَوَى ما تُسَنُّ لَهُ الطهارَةٌ، أو التَّجْدِيدَ، فهل يَرْتَفِعُ حَدَثُه؟ على رِوايَتَينِ) وجملتُه أنَّه نَوَى ما تُشْرَعُ له الطهارَةُ ولا تُشْتَرَطُ؛ كقِراءَةِ القرآنِ والأذانِ والنَّوْمِ، أو نَوَى التَّجْدِيدَ ثم بانَ أنَّه كان مُحْدِثًا، ففيه رِوايتانِ؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ طَهارتُه؛ لأنَّه لم يَنْو رَفْعَ الحَدَثِ، ولا ما يَتَضَمَّنُه، أشْبَهَ ما لو نَوَى التَّبَرُّدَ. والثَانيةُ، تَصِحُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طهارتُهْ، وهي أصَحُّ؛ لأنَّه نَوَى طهْارةً شَرْعِيَّةً، فيَنْبَغِي أن تَحْصُلَ له؛ للخبَرِ، ولأنَّه يُشْرَعُ له فِعْلُ هذا وهو غيرُ مُحْدِثٍ، وقد نَوَى ذلك، فيَنْبَغِي أنَّ يَحْصُلَ. ولأنَّه نَوَى شَيئًا مِن ضَرُورَتِه صِحَّةُ الطهارةِ، وهو الفضيلةُ الحاصِلَةُ لِمَن فَعَل ذلك على طهارةٍ. فإن قيلَ: يَبْطُلُ بما إذا نَوَى بطهارتِه ما لا تُشْرَعُ له الطهارةُ. قُلنا: إنْ نَوَى طهارةً شَرْعِيَّةٍ، مِثْلَ مَن قَصَد الأكْلَ، وهو على طهارةٍ شَرْعِيَّةٍ، أو قَصَد، أن لا يَزال على وُضوءٍ، فهي كَمسْألتِنا، تَصِحُّ طهارتُه. وإن قَصَد نَظافَةَ أَعْضائِه مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَسَخٍ أو غيرِه، لم تَصِحَّ طهارتُه؛ لأنَّه لم يَقْصِدْها وإنْ نَوَى وُضُوءًا مُطْلَقًا أو طهارةً مُطْلَقَةً، ففيه وَجْهَان، أحدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّ الوُضُوءَ والطهارةَ، عندَ الإطْلاقِ، يَنْصَرِفانِ إلى المَشْرُوعِ، فيكونُ ناويًا لطهارةٍ شَرْعِيَّةٍ. والوَجْهُ الثاني، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه قَصَد ما يُباحُ [بغيرِ الطهارةِ] (¬1)، ¬

(¬1) في م: «بدون طهارة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ قَصْدَ الأكْلِ، ولأنَّ الطهارةَ تَنْقَسِمُ إلى مَشْرُوعٍ وغيرِه، فلم تَصِحَّ مع التَّرَدُّدِ، والطهارةُ المُطْلَقَةُ مِنها ما لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، كالطهارةِ مِن النَّجاسَةِ.

91 - مسألة: (وإن نوى غسلا مسنونا، فهل يجزئ عن الواجب؟ على وجهين)

وَإِنْ نَوَى غُسْلًا مَسْنُونًا، فَهَلْ يُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 91 - مسألة: (وإنْ نَوَى غُسْلًا مَسْنُونًا، فهل يُجْزِئُ عن الواجِبِ؟ على وَجْهَينِ) مَضَى تَوْجِيهُهُما (¬1). ¬

(¬1) في صفحة 311.

92 - مسألة: (وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل، فنوى بطهارته أحدها، فهل يرتفع سائرها؟ على وجهين)

وَإِنِ اجْتَمَعَتْ أَحْدَاثٌ تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَو الْغُسْلَ، فَنَوَى بِطَهَارَتِهِ أَحَدَهَا، فَهَلْ ترْتَفِعُ سَائِرُهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 92 - مسألة: (وإنِ اجْتَمَعَتْ أَحْداثٌ تُوجِبُ الوُضُوءَ أو الغُسْلَ، فنَوَى بِطهارتِهِ أحَدَها، فهل يَرْتَفِعُ سائِرُها؟ على وَجْهَينِ) أحدُهما، لا يَرْتَفِعُ إلَّا ما نَواه. قاله أبو بكرٍ؛ لأنَّه لم يَنْوه، أشْبَهَ إذا لِم يَنْو شيئًا. وقال القاضي: يَرْتَفِعُ؛ لأن الأحْداثَ تَتَداخَلُ؛ فإذا ارْتَفَع بعضُها ارْتَفَع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعُها، كما لو نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ. وإنْ نَوَى صلاةً واحدةً نَفْلًا أو فَرْضًا لا يُصَلِّي غيرَها، ارْتَفَع حَدَثُه، ويُصَلِّي ما شاء؛ لأنَّ الحَدَثَ إذا ارْتَفَع لم يَعُدْ إلَّا بسَبَبٍ جَدِيدٍ، ونِيَّةُ الصلاةِ تَضَمَّنَتْ رَفْعَ الحَدَثِ.

93 - مسألة: (ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة)

وَيَجِبُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى أَوَّلِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 93 - مسألة: (ويَجِبُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ على أوَّلِ واجِباتِ الطَّهارَةِ) لأنَّها شَرْطٌ لها، فيُعْتَبَرُ وُجُودُها في جميعِها، وأوَّلُ واجِباتِها، المَضْمَضَةُ أو

94 - مسألة: (واستصحاب ذكرها في جميعها، وإن استصحب حكمها أجزأه)

وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَسْنُونَاتِهَا، وَاسْتِصْحَابُ ذِكْرِهَا فِي جَمِيعِهَا، وَإِنِ اسْتَصحَبَ حُكْمَهَا أجْزأهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّسْمِيَةُ، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. فإن وُجِدَ شيءٌ مِن واجِباتِ الطهارةِ قبلَ النِّيَّةِ لم يُعْتَدَّ به. فإن غَسَل الكَفَّينِ بغيرِ نِيَّةٍ فهو كمَن لم يَغْسِلْهُما. (ويُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُها على مَسْنُوناتِها) فيُقَدِّمُها على غَسْلِ الكَفَّين، لتَشْمَلَ مَفْرُوضَ الوُضُوءِ ومَسْنُونَه، فإن غَسَل الكَفَّينِ بغيرِ نِيَّةٍ، فهو كمَن لم يَغْسِلْهُما. 94 - مسألة: (واسْتِصْحابُ ذِكرِها في جَمِيعِها، وإنِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَها أجْزأه) وجُمْلَتُه، أنَّه يُسْتَحَبُّ اسْتِصْحابُ ذِكْرِ النِّيَّةِ إلى آخِرِ طهارتِه؛ لتكونَ أَفْعالُه مُقْتَرِنَةً بالنِّيَّةِ، فإنِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَها أجْزأَه. ومَعْنَى اسْتِصْحابِ حُكْمِها: أنْ لا يَنْوىَ قَطْعَها. فإنْ عَزَبَتْ عن خاطِرِه، لم يُؤثِّرْ في قَطْعِها، كالصلاةِ والصيامِ. ويَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ على الطهارةِ بالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، قِياسًا على الصلاةِ. فإن قَطَع النِّيَّةَ في أثْناءِ طهارتِه وفَسَخَها، مِثْل أنْ يَنْويَ أن لا يُتِمَّ طهارتَه، فقال ابنُ عَقِيل: تَبْطُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طهارتُه (¬1) مِن أصْلِها؛ لأنَّها تَبْطُلُ بالمُبْطِلاتِ، أشْبَهتِ الصلاةَ. وقال شَيخُنا: لا يَبْطُلُ ما مَضَى مِن طهارتِه؛ لأنَّه وَقَع صَحِيحًا، أشْبَهَ ما لو نَوَى قَطْعَها بعدَ الفَراغِ مِنَ الوُضُوءِ، وما غَسَلَه مِن أعْضائِه بعدَ قَطْعِ النِّيَّةِ لا يُعْتَدُّ به. فإن أعادَ غَسْلَه بنِيَّةٍ أُخْرَى قبلَ طُولِ الفَصْلِ، صَحَّتْ طهارتُه. وإنْ طال الفَصْلُ، انْبَنَى على وُجُوبِ المُوالاةِ. فأمّا إنْ غَسَل بَعْضَ أعْضائِهِ بنِيَّةِ الوُضُوءِ، وبَعْضَها بنِيَّةِ التَّبَرُّدِ، ثم أعاد غَسْلَ ما نَوَى به التَّبَرُّدَ بنِيَّةِ الوُضوءِ قبلَ طُولِ الفَصْلِ، أَجزأه، وإلَّا انْبَنَى على وُجُوبِ الموالاةِ، وَجْهًا واحدًا (¬2). فإنْ فَسَخَ النِّيَّةَ بعدَ الفَراغِ منها، لم تَبْطُلْ كالصلاةِ. ويَحْتَمِلُ أنْ تَبْطُل؛ لأنَّ الطهارةَ تَبْطُلُ بالحَدَثِ بعدَ فَراغِها، بِخلافِ الصلاةِ. ¬

(¬1) في م: «الطهارة». (¬2) المغني 1/ 159، 160.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا شَكَّ في النِّيَّةِ في أثْناءِ الطهارةِ لَزِمَه اسْتِئْنافُها، كما لو شَكَّ في نِيَّةِ الصلاةِ وهو فيها؛ لأنّ النِّيَّةَ هي القَصْدُ، فمتى عَلِمَ أنَّه جاء ليَتَوَضَّأ، أو أرادَ فِعْلَ الوُضوءِ مُقارِنًا له، أو سابقًا عليه قَرِيبًا مِنه، فقد وُجِدَتِ النِّيَّةُ، ومَن شَكَّ في وُجُودِ ذلك في أثْناءِ طهارتِه، لم يَصِحَّ ما مضي منها. وهكذا إنْ شَكَّ في غَسْلِ عُضْوٍ، أو مَسْحِ رَأْسِه، حُكْمُه حُكْمُ مَن لم يَأْتِ به، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه، إلَّا أنَّ يكون وَهْمًا كالوَسْواسِ، فلا يَلْتَفِتُ إليه. وإن شَكَّ في شَيءٍ مِن ذلك بعدَ فَراغِه مِن الطَّهارةِ، لم يَلْتَفِتْ إليهِ؛ لأَنه شَكَّ في العِبادَةِ بعدَ فَراغِه منها، أشْبَهَ الشَّكَّ في شَرْطِ الصلاةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ تَبْطُل؛ لأنَّ حُكْمَها باقٍ، بدَلِيلِ أنَّها تَبْطُلُ بمُبْطِلاتِها بخِلافِ الصلاةِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّها كانتْ مَحْكُومًا بصِحَّتِها، فلا يَزُولُ ذلك بالشَّكِّ، كما لو شَكَّ في وُجُودِ الحَدَثِ. واللهُ أعلمُ.

فَصْلُ: وَصِفَةُ الْوُضُوءِ، أنْ يَنْويَ، ثُمَّ يُسَمِّيَ، وَيَغْسِلَ يَدَيهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَإنْ شَاءَ مِنْ سِتٍّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ وَضَّأَه غيرُه أو يَمَّمَه اعْتُبِرَتِ النِّيَّةُ مِن المُتَوَضِّئ، دُونَ المُوَضِّئ؛ لأنَّه المُخاطَبُ بالوُضوءِ، والمُوَضِّئ آلةٌ له، فهو كحامِلِ الماءِ إليه. وإن تَوَضَّأ وصَلَّى صلاةً، ثم أَحْدَث وتَوضَّأ وصَلَّى أُخْرَى، ثم عَلِمَ أنَّه تَرَك واجِبًا في أحَدِ الوُضوءَينِ، لزِمَه إعادَةُ الوُضوءِ والصلاتينِ. فصل: (وصِفَةُ الوُضُوءِ أنْ يَنْوىَ، ثم يُسَمِّيَ، ثم يَغْسِلَ يَدَيه ثَلاثًا). هذه صِفَةُ الوُضوءِ الكامِلِ، ووَجْهُه ما ذَكَرْنا. (ثم يَتَمَضْمضَ ويَسْتَنْشِقَ ثلاثًا مِنْ غَرْفَةٍ، وإنْ شاءَ مِن ثلاثٍ، وَإن شاءَ مِن سِتٍّ). المَضْمَضَةُ: إدارَةُ الماءِ في الفَمِ. والاسْتِنْشاقُ: اجْتِذابُ الماءِ بالنَّفَسِ إلى باطِن الأنْفِ. والاسْتِنْثارُ مسْتَحَبٌّ، وهو: إخْراجُ الماءِ مِن الأنْفِ وقد يُعَبَّرُ بالاسْتِنْثارِ عن الاسْتِنْشاقِ؛ لكَوْنِه مِن لَوازِمِه. ولا تَجِبُ إدارةُ الماءِ في جَمِيعِ الفَمِ، ولا إيصالُ الماءِ إلى جميعِ باطِنِ الأنْفِ، وإنَّما ذلك مُبالغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وقد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْناها. فإن جَعَلَ الماءَ في فِيه يَنْوى رَفْعَ الحَدَثِ الأصْغَرِ، ثم ذَكَرَ أنَّه جُنُبٌ، فنَوَى رَفْعَ الحَدَثَين، ارْتَفَعا؛ لأنَّ الماءَ إنَّما يَثْبُتُ له حُكْمُ الاسْتِعْمالِ بعدَ الانْفِصالِ. ولو لَبِثَ الماءُ في فِيه حتى تَغَيَّرَ بما يَتَحَلَّلُ مِن رِيقِه، لم يَمْنَعْ؛ لأنَّ التَّغَيُّرَ في مَحَلِّ الإزالةِ لا يَمْنَعُ، كما لو تَغَيَّرَ الماءُ على عُضْوه بعَجِينٍ عليه. فصل: ويُسْتَحَبُّ أنْ يَتَمَضْمَضَ ويَسْتَنْشِقَ بيَمِينِه، ثم يَسْتَنْثِرَ بيَسارِه؛ لما رُوِيَ عن عثمانَ، أنَّه تَوَضَّأ، فدَعا بماءٍ فغَسَلَ يَدَيه، ثم غَرَف بيَمِينِه، ثم رَفَعَها إلى فِيه، فتَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ بكَفٍّ واحدةٍ، واسْتَنْثرَ بيَسارٍ، فَعَلَ ذلك ثلاثًا، ثم ذَكَرَ سائِرَ الوُضُوءِ، ثم قال: إنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ لَنا كما تَوَضَّأْت لكم. رواه سعيدٌ (¬1). وهو مُخَيَّرٌ بينَ أن ¬

(¬1) أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني الحافظ، صاحب «السنن»، المتوفي سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 586 - 590.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَمَضْمَضَ ويَسْتَنْشِقَ بغَرْفةٍ،، أو بثلاثٍ، أو بست؛ لما ذَكَرْنا مِن حديثِ عثمان. وقال الأثْرَمُ: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْأل: أيُّما أحَبُّ إليك، المَضْمَضَةُ والاسْتِنْشاقُ بغَرْفَةٍ واحدةٍ، أو كلُّ واحِدَةٍ منهما على حِدَةٍ؟ قال: بغَرفَةٍ واحدةٍ. وفي حديثِ عبدِ الله بِن زيدٍ: تَمَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثلاثا مِنْ غَرْفَةٍ واحِدَةٍ. رَواه البُخارِيُّ (¬1). وعن عليٍّ رضي اللهُ عنه، أنَّه تَوَضَّأ فمَضْمَضَ (¬2) ثلاثًا، واسْتَنْشَقَ ثلاثًا مِن كَفّ واحدةٍ، وقال: هذا وُضُوءُ نَبِيِّكم - صلى الله عليه وسلم -. مِنَ «المُسْنَدِ» (¬3). وفي لفظٍ: أنَّه تَمَضْمَضَ (¬4) واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثلًاثًا، بثلاثِ غَرَفاتٍ. مُتَّفق عليه (¬5). وفي حديثِ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، [عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬6) أنَّه فَصَل بينَ المَضْمَضَةِ ¬

(¬1) سبق تخريجه في صفحة 295. (¬2) في م: «فتمضمض». (¬3) المسند: 1/ 78، 82، 83، 110، 113، 123 - 125، 127، 135، 141، 154، 157.كما أخرجه أبو داود، في: باب في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 25، 26. والترمذي، في: باب ما جاء في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف كان، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 64. والنسائي، في: باب بأى اليدين يستنار، وباب غسل الوجه، وباب عدد غسل الوجه، وباب غسل اليدين، وباب عدد غسل الرجلين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 58 - 60، 68. (¬4) في م: «مضمض». (¬5) هذا من حديث عبد الله بن زيد المتقدم تخريجه صفحة 295. (¬6) سقط من: م.

95 - مسألة؛ قال: (وهما واجبان في الطهارتين. وعنه: أن

وَهُمَا وَاجِبَانِ فِي الطَّهَارَتَينِ. وَعَنْهُ، أَنَّ الاسْتِنْشَاقَ وَحْدهُ وَاجِبٌ فِيهِمَا. وَعَنْهُ، أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ فِي الْكُبْرَى دُونَ الصُّغْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ والاسْتِنْشاقِ. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ الكَيفيَّةَ في الغَسْلِ غيُر واجبةٍ. ولا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بينَ المَضْمَضَةِ والاسْتِنْشاقِ، وبينَ الوَجْهِ؛ لأَنَّهما مِن جُمْلَتِه، لكنْ يُسْتَحَبُّ أن يَبْدأ بهما؛ لأنَّ الذين وَصَفُوا وُضوءَ النبيٍّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَكَرُوا أَنَّه بَدأَ بهما إلَّا شيئًا نادِرًا. وهل يَجِبُ التَّرْتِيبُ بينَهما وبينَ سائرِ الأعْضاء؟ على رِوايَتَين؛ إِحْداهُما، يَجِبُ؛ لأنَّهما مِن الوَجْهِ، فوَجَبَ غَسْلُهما قبلَ اليَدَينِ، كسائِرِه. والثانيةُ، لا يَجِبُ، بل لو تَرَكَهما وصَلَّى، تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وأعادَ الصلاةَ، ولم يُعِدِ الوُضُوءَ؛ لما رَوَى المِقْدامُ بنُ مَعْدِ يكَرِبَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بوَضُوءٍ، فغَسَلَ كَفَّيه ثلاثًا، ثم غَسَل وَجهه ثلاثًا، ثم غَسَل ذِراعَيه ثلاثًا، ثم تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ. رَواه أبو داودَ (¬2). قال أصحابُنا: وهل يُسَمَّيانِ فَرْضًا، إذا قُلنا بوُجُوبِهما؟ على رِوايَتَينِ. وهو مَبْنيٌّ على اخْتِلافِ الرِّوايَتَينِ في الواجِبِ، هل يُسَمَّى فَرْضًا أم لا؟ والصحيحُ: تَسْمِيَتُه فَرْضًا، فيُسَمَّيانِ فرضًا. واللهُ أعلمُ. 95 - مسألة؛ قال: (وهما واجِبانِ في الطهارَتَينِ. وعنه: أنَّ ¬

(¬1) في: باب في الفرق بين المضمضة والاستنشاق، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 30. (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 27. ووضع قوله «ثم تمضمض واستنشق ثلاثا» بين معقوفين، وجاء بعد قوله: «فغسل كفيه ثلاثا». ولعله تصرف من الناشر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِنْشاقَ وَحدَه واجبٌ. وعنه: أنَّهُما واجِبانِ في الكُبْرَى دُونَ الصُّغْرَى) وجُمْلَة ذلك أن المَضْمَضَةَ والاسْتِنْشاقَ واجبانِ في الطَّهارَتَينِ، الغُسْلِ والوُضُوءِ جميعًا؛ لأنَّ غَسْلَ الوَجْهِ فيهما وَاجِبٌ، وهما مِن الوَجْهِ. هذا المشهورُ في المذهب، وهو قول ابن المُبارَكِ، وابن أبي لَيلَى، وإسحاقَ. ورُوِيَ عن أحمدَ أن الاسْتِنْشاقَ وَحده واجِبٌ في الطَّهارَتَينِ. ذَكَر القاضي ذلك في «المُجَرَّدِ»، رِوايةً واحِدةً. وبه قال أبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابن المُنذِرِ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَلْيَجْعَلْ في أنْفِهِ (¬1) ثُمَّ لْيَنْثُرْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولمسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِق» (¬3). أمْرٌ، والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، ولأنَّ الأنْفَ لا يَزالُ مفتوحًا، وليس له غِطاءٌ يَسْتُرُه، بخِلاف الفَمِ. وقال غيرُ القاضي مِن أصحابِنا، عن أحمد رِوايَةً أُخْرَى: أنَّهما واجِبانِ في الكُبْرَى، دُونَ الصُّغْرَى. وهذا مذهبُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ الكُبْرَى يَجِبُ فيها غَسْلُ ما تحتَ الشُّعُورِ الكَثِيفَةِ، ولا يَمْسَحُ فيها على الخُفَّينِ، فوَجَبا ¬

(¬1) في حاشية الأصل بعده «ماء». وما هنا موافق لما في صحيح البخاري، على حذف المفعول، وانظر حاشية الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الاستجمار وترا، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 52. ومسلم، في: باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 212.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الاستنثار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 31. والنسائي، في: باب اتخاذ الاستنشاق، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 57. والإمام مالك، في: باب العمل في الوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 19. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 242، 278. والذي، ورد: «ثم لْيَنْثِرْ» و «ثم لْيَنْتِثرْ» و: «ثم لْيَسْتَنثِرْ». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 212.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، بخِلافِ الصُّغْرَى. وقال مالكٌ، والشافعيٌّ: هما مَسْنُونانِ في الطَّهارَتَينَ. ورُوِيَ ذلك عن الحسن، في الحَكَمِ (¬1)، ورَبِيعَةَ، واللَّيثِ، والأوْزاعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرةِ». وذَكَرَ مِنها المَضْمَضَةَ والاسْتِنْشاقَ (¬2). والفِطْرةُ: السُّنَّةُ. وذِكْرُه لَهُما مِنَ الفطرة يَدُلُّ على مُخالفَتِهما لسائِرِ (¬3) الوُضُوءِ. ولأنَّهما عُضْوانِ باطِنانِ، فلم يَجِبْ غَسْلُهما، كباطِنِ اللِّحَيِة وداخِلِ العَينَينِ. ولأنَّ الوَجْهَ ما تَحصُلُ به المُواجَهةُ، ولا تَحْصُلُ المُواجهَةُ بِهِما. ولَنا، ما رَوَتْ عائِشةُ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المَضْمَضَةُ والاسْتِنْشاقُ مِنَ الوُضُوء الَّذِى لَابُدَّ مِنْهُ». رَواه أبو بكرٍ فِي «الشّافِي». وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: أَمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمَضْمَضَةِ والاسْتِنْشاقِ. وفي حديثِ لَقِيطِ بنِ صَبِرة (¬4): «إذَا تَوَضَّأَتَ فَتَمَضْمَضْ». رَواه أبو داود (¬5)، وأخْرَجَهما الدَّارَقُطْنِي (¬6). ولأنَّ كل مَن وَصَف وُضوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْصًى، ذَكَر أنَّه تَمَضْمَض ¬

(¬1) أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي الفقيه، صاحب أبي حنيفة، المتوفي سنة تسع وتسعين ومائة. الجواهر المضية 4/ 87. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 253. (¬3) في حاشية الأصل بعد هذا: «أعضاء». (¬4) لقِيط بن صَبِرة بن عبد الله بن المُنْتَفِق العامري، أبو عاصم، عداده في أهل الحجاز روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه، ابنه عاصم. أسد الغابة 4/ 522، 523، الإصابة 5/ 685. (¬5) في: باب في الاستنثار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32. وفيه: «فمضمض». (¬6) في م: «وأخرجه». وهو. يعني حديث عائشة الذي رواه أبو بكر في «الشافي»، وحديث أبي هريرة، والأول أخرجه الدارقطني، في: باب ما روى في الحث على المضمضة والاستنشاق والبداءة بهما أول الوضوء، من كتاب الطهارة. والثاني أخرجه الدارقطني في: باب ما روى في المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 84، 116.

96 - مسألة؛ قال: (ويغسل وجهه ثلاثا

ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا مِنْ مَنَابِتِ شَعَرِ الرّأْسِ إِلَى مَا انْحَدَرَ مِنَ اللّحْيَينِ وَالذَّقَنِ طُولًا، مَعَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللّحْيَةِ، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الأذُنِ عَرْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ واسْتَنْشَقَ، ومُداوَمَتُه عليهما تَدُلُّ على وُجوبِهما؛ لأنَّ فِعْلَه يَصْلُحُ أن يكونَ بَيانًا لأمْرِ الله تِعالى. ولأنَّهما عُضْوان مِن الوَجْهِ في حُكْمِ الظّاهِرِ، لا يَشُقُّ غَسْلُهما فوَجَبَ؛ لقَوْلِه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1). والدليلُ. على أنَّهما في حُكْمِ الظّاهِرِ، أنَّ الصّائِمَ لا يُفْطِرُ بوَضْعِ الطعامِ فيهما، ويُفْطِرُ بوُصُولِ القَيْء إليهما، ولا يَجِبُ الحَدُّ بتَرْكِ الخَمْرِ فيهما، ويَجِبُ غَسْلُ النَّجاسَةِ فيهما. فأمّا كَوْنُهما مِن الفِطْرَةِ فلا يَنْفِي وُجُوبَهما؛ لأنَّه ذَكَر الخِتانَ في الفِطْرَةِ وهو واجِبٌ. فأمّا غَسْلُ داخِلِ العَينَين، فلنا فيه مَنْعٌ، وباطِنُ اللِّحْيَةِ يَشُقُّ غَسْلُه؛ فلذلك لم يَجِبْ في الوُضُوءِ، ويَجِبُ في الطهارةِ الكُبْرَى. والله أعلمُ. 96 - مسألة؛ قال: (ويَغْسِلُ وَجْهَه ثَلَاثًا (¬2)، مِن مَنابِتِ شَعَرِ الرَّأَسِ إلى ما انْحَدَرَ مِن اللَّحْيَينِ والذَّقَنِ طُولًا، مع ما اسْتَرْسَلَ مِن اللّحْيَةِ ومِنْ الأذُنِ إلى الأذُنِ عَرْضًا) غَسْلُ الوَجْهِ ثلاثًا مُسْتَحَبٌّ؛ لِما ¬

(¬1) سورة المائده: 6. (¬2) بعد هذا في زيادة: «وحَدُّه». وليست في «المقنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكرنا مِن حديثِ عليٍّ (¬1) وغيرِه، وغَسْلُه مَرَّةً واجِبٌ بالنَّصِّ والإجماعِ، وقد ذَكرْناه. وقولُه في حَدِّه: مِنْ مَنابِتِ شَعَرِ الرَّأْسِ. يَعْنَى في غالِبَ النّاسِ، ولا اعْتِبارَ بالأصْلَعِ الذي يَنْحَسِرُ شَعَرُه عن مُقدَّمِ رَأَسِه، ولا بالأفْرعِ (¬2) الذي يَنْزِلُ شَعَرُه إلى وَجْههِ، بل بغالِبِ الناسِ، فالأصْلَعُ يَغْسِلُ إلى حَدِّ مَنابِتِ الشَّعَرِ فِي غالِبِ النّاسِ، والأفْرَعُ (¬3) يَغْسِلُ الشَّعَرَ الذيِ يَنْزِلُ عن حَدِّ (¬4) الوَجْهِ فِي الغالِبِ. وقال الزُّهْرِيُّ: الأُذُنُ مِن الوَجْهِ؛ لقَولِه - صلى الله عليه وسلم -: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرهُ». رَواه مسلمٌ (¬5). أضافَ السَّمْعَ إلى الوَجْهِ،، كما أضافَ البَصَرَ. وقال مالكٍ: ما بينَ اللِّحْيَةِ [إلى الأُذُنِ] (¬6) ليس مِن الوَجْهِ، ولا يَجِبُ غَسْلُه؛ لأنَّ الوَجْهَ ما تحْصُلُ به المُواجَهَةُ، وهذا لا يُواجَهُ به. ¬

(¬1) سبق تخريجه في صفحة 290. (¬2) في م: «بالأقرع». (¬3) في م: «والأقرع». (¬4) سقط من: «م». (¬5) في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب المسافرين وقصرها. صحيح مسلم 1/ 535.كما أخرجه الترمذي، في: باب ما يقول في سجود القرآن من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 3/ 60. والنسائيُّ، في: باب نوع آخر من الدعاء في السجود، من التطبيق. المجتبى 2/ 175، 176. وابن ماجه، في: باب سجود القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 335. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 30، 31، 217. (¬6) في م: «والأذن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عبدِ الْبَرِّ: لا أعْلَمُ أحدًا مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ قال بقَوْلِ مالكٍ هذا. ولَنا على الزُّهْرِيِّ، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأذُنَانِ مِنَ الرَّأَسِ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولم يحْكِ أحَدٌ أنَّه غَسَلَهما مع الوَجْهِ، وإنَّما أضافَهُما إلى الوَجْهِ للمُجاوَرَةِ. وعلى مالكٍ، أنَّ هذا مِن الوَجْهِ في حَقِّ مَن لا لِحْيَةَ له، فكذلك مَن له لِحْيَةٌ كسائِرِ الوَجْهِ. وهذا تَحْصُلُ به المُواجَهَةُ مِن الغُلامِ. ويُسْتْحَبُّ تَّعاهُدُ المَفْصِلِ بالغَسْلِ؛ وهو ما بينَ اللِّحْيَةِ والأذُنِ. نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ. ويَدْخُلُ فِي الوَجْهِ العِذارُ، وهو الشَّعَرُ الذيِ على العَظْمِ النّاتِئ، سَمْتَ صِماخِ الأذُنِ. والعارِضُ الذي تحتَ العِذارِ، وهو الشَّعَرُ النّابتُ على الخَدِّ واللَّحْيَين. قال الأصمَعِيُّ: ما جاوَرَ وَتِدَ الُأذُنِ عارِضٌ، والذَّقَنُ: الشَّعَرُ الذي على مَجْمَعِ اللَّحْيَين. فهذه الشُّعُورُ الثلاثةُ مِن الوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُها معه. وكذلك الحاجِبان، وأهْدابُ العَينَين، ¬

(¬1) في: باب الأذنان من الرأس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 152.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشّارِبُ، والعَنْفَقَةُ. فأمّا الصُّدْغُ، وهو الذي فوقَ العِذارِ، وهو يُحاذِي رَأْسَ الُأذُنِ، ويَنْزِلُ عن رَأْسِها قليلًا، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، هو مِن الوَجْهِ. اخْتاره ابنُ عَقِيلٍ؛ لحُصُولِ المُواجَهَةِ به واتِّصالِه بالعِذارِ. والثاني، أنَّه مِن الرَّأْسِ، وهو الصحيحُ؛ لأنَّ في حديثِ الرُّبَيِّعِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح برَأسِه، وصُدْغَيه، وأُذُنَيه، مَرَّةً واحدةً. رَواه أبو داودَ (¬1). ولم يَنْقُلْ أحدٌ أنَّه غَسَلَه مع الوَجْهِ. ولأنَّه شَعَرٌ يَتَّصِلُ بشَعَرِ الرَّأُس، ويَنْبُتُ معه في حَقِّ الصَّغِيرِ، بخِلافِ العِذارِ. فأمّا التَّحْذِيف، وهو الشَّعَرُ الدّاخِلُ في الوَجْهِ ما بينَ انْتِهاءِ العِذارِ والنزعَةِ، فقال ابنُ حامدٍ: هو مِن الوَجْهِ؛ لأنَّه شَعَرٌ بينَ بَياضِ الوَجْهِ، أشْبَه العِذارَ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أنَّه مِن الرَّأْسِ؛ لأنَّه شَعَرٌ مُتَّصِلٌ به، لم يَخْرُجْ عن حَدِّه، أشْبَهَ الصُّدْغَ. قال شيخُنا: والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنّ مَحَلَّه لوْ لم يَكُنْ عليه شَعَرٌ، كان مِن الوَجْهِ، فكذلك إذا كان عليه شَعَرٌ، كسائِرِ الوَجْهِ (¬2). وأمّا النَّزعَتان؛ وهما ما انْحَسَرَ عنه الشَّعَرُ مِن الرّأْسِ مُتَصاعِدًا في جانِبَي الرَّأْسِ، فقال ابنُ عَقِيل: هما مِن الوَجْهِ؛ لقولِ الشّاعرِ (¬3): فلا تَنْكِحي إن فَرَّقَ الله بَينَنا … أغَمَّ القَفا والوَجْهٍ ليس بأنْزَعا ¬

(¬1) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 28. (¬2) انظر: المغني 1/ 163. (¬3) هو هُدْبَة بن خُشْرُم بن كُرز، شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، يروى للحطيئة، قتل قصاصا، والبيت من قطعة له قبل قتله يخاطب امرأته، وكانت جميلة. انظر خبره في: الأغاني 21/ 264، وما بعدها، وخزانة الأدب 9/ 334، وعيون الأخبار 4/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضِي، وشيخُنا: هما مِن الرأْسِ (¬1). وهو الصحيحُ، لأنَّه لا تحْصُلُ بهما المُواجَهَةُ، ولدُخولِهما في حَدِّ الرأْس، لِأنّه ما تَرَأَسِ وعَلا. وذكر ابنُ عَقِيلٍ في الشَّعَرِ المُسامِتِ للنَّزَعتَين هل هو مِن الوَجْهِ أم لا؟ على وَجْهَين. ويَجِبُ غَسْلُ ما اسْتَرْسَل مِن اللِّحيَةِ، في ظاهِر ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 163.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المذهبِ. وكذلك ما خَرَج عن حَدِّ الوَجْهِ عَرْضًا. وهذا ظاهرُ مذهبِ الشافعيِّ؛ لأنَّها مِن الوَجْهِ، بدليلِ ما رُوِيَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا قد غَطَّى لِحْيَتَه في الصلاةِ، فقال: «اكْشِفْ لِحْيَتَكَ، فَإنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ» (¬1). ولأَنّه نابِتٌ في مَحَلِّ الفَرْضِ، أشْبَه اليَدَ الزّائِدَةَ، ولأنَّها تحْصُلُ بها المُواجَهَةُ، أَشْبَهَتْ سائِرَ الوَجْهِ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَجِبُ غَسْلُ ما نَزَل مِنها عَنْ حَدِّ الوَجْهِ طُولًا، ولا ما خَرَج عَرْضًا؛ لأنه شَعَرٌ خارِجٌ عن مَحَلِّ الفَرْضِ، أشْبَه ما نَزَل مِن شَعَرِ الرّأْسِ. ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّه لا يَجِبُ غَسْلُ اللّحْيَةِ الكَثِيفَةِ، وما تحتَها مِن بَشَرَةِ الوَجْهِ؛ لأنَّ الوَجْه اسْمٌ للبَشَرَةِ التي تحْصُلُ بها المُواجَهَةُ، ¬

(¬1) حديث ضعيف، وله إسناد مظلم. انظر تلخيص الحبير لابن حجر 1/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُوجد ذلك في واحدةٍ مِنْهما. وقال الخَلّالُ: الذي ثَبَت عن أبي عبدِ اللهِ في اللِّحْيَةِ، أنَّه لا يَغْسِلُها، وليستْ مِن الوَجْهِ. وظاهِرُ هذا كمذهبِ أبي حنيفةَ، فيما ذُكِرَ عنه آخِرًا، والمشهورُ عن أبي حنيفةَ وُجوبُ غَسْلِ رُبْع اللِّحْيَةِ، كقَوْلِه فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. والقولُ الأوَّلُ هو المشهورُ في المذهبِ. وما رُوِيَ عن أحمدَ، يحْتَمِلُ أنَّه أرادَ ما خَرَج عن الوَجْهِ منها، كما ذَكَرْنا عن الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، فعلى هذا يَصِيرُ فيه رِوايَتان. ويحْتَمِلُ أنَّه أرادَ غَسْلَ باطِنِها، فيَكُونُ مُوافِقًا للقولِ الأوَّلِ، وهو الصحيحُ، إن شاءَ اللهُ. وقِياسُهم على النّازلِ مِن شَعَرِ الرَّأسِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَدخُلُ. في اسْمِ الرّأْس، وهذا يَدْخُلُ في اسمِ الوَجْهِ؛ لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ، [ولحُصولِ المُواجَهَةِ به. واللهُ أعلمُ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: «م».

97 - مسألة: (فإن كان فيه شعر خفيف يصف البشرة، وجب غسلها معه. وإن كان يسترها، أجزأه غسل ظاهره. ويستحب تخليله)

فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَعَرٌ خَفِيفٌ يَصِفُ الْبَشَرةَ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَهُ، وَإنْ كَانَ يَسْتُرُهَا أَجْزأَهُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ. وَيُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 97 - مسألة: (فإن كان فيه شَعَرٌ خَفِيفٌ يَصِفُ البَشَرَةَ، وَجَبَ غَسْلُها معه. وإن كان يَسْتُرُها، أَجزأَه غَسْلُ ظاهِرِه. ويُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُه) أمّا إذا كانت الشُّعُورُ التي (¬1) في الوَجْهِ تَصِفُ البَشَرَةَ، وَجَب غَسْلُ البَشَرَةِ والشَّعَرِ؛ لأنَّ البَشَرَةَ ظاهِرَةٌ تَحْصُلُ بها المُواجَهَةُ، فوَجَبَ غَسْلُها كالتي لا شَعَرَ عليها، ويَجِبُ غَسْلُ الشَّعَرِ؛ لأنَّه نابِتٌ في مَحَلَ الفَرْضِ، تَبَعٌ له. وإن كان كثِيفًا يَسْتُرُ البَشَرَةَ، أجْزأَه غَسْلُ ظاهِرِه، ¬

(¬1) سقطت من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحُصولِ المُواجَهةِ به، ولم يَجِبْ غَسْلُ ما تحتَه؛ لأنَّه مَسْتور، أَشْبَه باطِنَ الأنْفِ. ويُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُه، وقد ذَكَرْنا ذلك في سُنَّةِ الوُضُوء، ولا يَجِبُ التَّخْلِيلُ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا في المذهبِ، وهو مذهبُ أكْثَرِ أَهلِ العلمِ؛ لأنّ الله تعالى أَمر بالغَسْلِ ولم يَذْكُرِ التَّخْلِيلَ. ولأنَّ أَكثرَ مَن حَكَى وُضُوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَحْكِه، ولو كان واجبًا لَما أخَلَّ به، ولو فَعَلَه لنَقَلَه الذين نَقَلُوا وُضوءَه أو أكْثَرُهم. وتركُه لذلك يَدُلُّ على أنَّ غَسْلَ ما تحتَ الشَّعَرِ الكَثِيفِ ليس بواجِبٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان كَثِيفَ اللِّحْيَةِ، فلا يَبْلُغُ الماءُ إلى ما تحتَ شَعَرِها إلا بالتَّخْلِيلِ، وفعْلُه للتَّخْلِيلِ في بعض أَحْيانِه يَدُلُّ على اسْتِحبابِه. وقال إسحاقُ: إذا تَرَك تَخلِيلَ لِحْيَتِه عامِدًا، أعادَ الوُضوءَ؛ لِما رَوَى أنَسٌ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تَوَضَّأ أَخذ كَفَّا مِن ماء، فأدْخَلَه تحتَ حَنَكِه، وخَلَّلَ به لِحْيَتَه، وقال: «هكَذَا أَمرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولِما ذَكرْنا مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ. وقال عَطاءٌ، وأبو ثَوْرٍ: يَجِبُ غَسْلُ ما تحتَ الشُّعورِ الكَثِيفَةِ في الوُضوءِ، قِياسًا على الجَنابَةِ. ونَحوه قولُ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ. وقولُ الجمهورِ أوْلَى. والفَرْقُ بينَ الوُضوءِ والغُسْلِ، أنَّ غَسْلَ باطِنِ الشَّعَرِ الكَثِيفِ، يَشُقُّ في الوُضُوءِ؛ لتَكَرُّرِه، بخِلافِ الغُسْلِ. فإن كان بعضُ الشَّعَرِ كَثِيفًا، وبَعْضُه خَفِيفًا، وَجَب غَسْلُ بَشَرَةِ الخَفِيفِ معه، وظاهِرِ الكَثِيفِ. وجميعُ شُعُورِ الوَجْه ¬

(¬1) في: باب تخليل اللحية، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذلك سَواءٌ، وذَكَر بعضُ أصحابِنا في الشّارِبِ، والعَنْفَقَةِ، والحاجِبَين، وأهْدابِ العَينَين، ولِحْيَةِ المرأةِ إذا كانت كَثِيفَةً، وَجْهَين؛ أحدُهما، يَجِبُ غَسْلُ باطِنِها؛ لأنها لا تَسْتُرُ عادَةً، وإن وُجِدَ ذلك فهو نادِرٌ، يَنْبَغِي أن لا يَتَعَلَّقَ به حُكْمٌ، وهو مذهبُ الشافعيِّ. والثاني، لا يَجِبُ، قِياسًا على لِحْيَةِ الرجلِ، ودَعْوَى النُّدْرَةِ في غيرِ الأهْداب مَمْنُوعٌ. واللهُ أعلمُ. فصل: ولا يَجبُ غَسْلُ داخِلِ العَينَين، لا يُسَتَحَبُّ في وُضُوءٍ، ولا غُسْل؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَفْعَلْه. ولا أَمَر به، وفيه ضَرَرٌ. وذَكَر القاضي في «المُجَرَّدِ» في وُجُوبِه، رِوايَتَين عن بعضِ الأصحابِ. قال ابنُ عَقِيل: إنَّما الرِّوايتان في وُجُوبِه في الغُسْلِ؛ فأمَّا في الوُضوءِ فلا يَجِبُ، رِوايَةً واحدة، وذَكَر أنَّ أحمدَ نَصَّ على اسْتحْبابِه في الغُسْلِ؛ لأنَّه يَعُمُّ جميعَ البَدَنِ، ويجبُ فيه غَسْلُ ما تحتَ الشُّعُورِ الكثِيفَةِ. وذَكَره القاضي وأبو الخَطّاب مِن سُنَنِ الوُضوءِ؛ لأنَّه رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه عَمِيَ مِن كَثْرَةِ إدخالِ الماءِ في عَينَيه. ولأنَّهما مِن جُمْلَةِ الوَجْهِ. والأوَّلُ أوْلَى، وهو اختيارُ شيخِنا (¬1)، وما ذُكِرَ عن ابنِ عُمَرَ فهو دَلِيلٌ على كراهتِه؛ لكَوْنِه ذَهَب ببَصَرِه، وفَعَل ما يُخافُ مِنه ذَهابُ البَصَر، إذ لم يَردْ به الشَّرْعُ ولم يَكُنْ مُحَرَّمًا، فلا أقَلَّ مِن الكَراهَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 152.

98 - مسألة: (ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ويدخل المرفقين في الغسل)

ثُمَّ يَغسِلُ يَدَيهِ إِلَى الْمِرْفَقَينِ ثَلَاثًا، وَيدْخِلُ الْمرْفَقَينِ فِي الْغَسْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ التَّكْثِيرُ في ماءِ الوَجْهِ؛ لأنَّ فيه غُضُونًا وشُعُورًا ودَواخِلَ وخَوارِاجَ، ليَصِلَ الماءُ إلى جَمِيعِه، وقد روَى عليٌّ، رَضِي اللهُ عنه، في صِفَةِ وُضُوءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم أدْخَلَ يَدَيه في الإِناءِ جَمِيعًا، فأخَذَ بهما حَفْنَةً مِن ماءٍ، فضَرَبَ بهما على وَجْهِه، ثم الثانيةَ، ثم الثالثةَ مثلَ ذلك، ثم أَخَذ بكَفِّه اليُمْنَى قَبْضَةً مِن ماءٍ، فتَركَها تَسْتَنُّ (¬1) على وَجْهِه. رَواه أبو داودَ (¬2). يعني: تَسِيلُ وتَنْصَبُّ. قال محمدُ بنُ الحَكَمِ: كَرِه أبو عبدِ اللهِ أن يأُخُذَ الماءَ، ثم يَصُبَّه، ثم يَغْسِلَ وجهه، وقال: هذا مَسْحٌ، ولَكِنَّه يَغْسِلُ غَسْلًا. واللهُ أعلمُ. 98 - مسألة: (ثم يَغْسِلُ يَدَيه إلى المِرْفَقَين ثلاثًا، ويُدْخِلُ المرْفَقَين في الغَسْلِ) غَسْلُ اليَدَينِ واجِبٌ بالإِجماعِ؛ لقولِ الله تِعالى: {وَأَيدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3). ويَجِبُ إدخالُ المِرْفَقَين في الغَسْلِ، في قَوْلِ أكثر ¬

(¬1) في الأصل: «تسيل». (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 26. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 82، 83. والبيهقي، في: باب التكرار في غسل الوجه، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 3/ 53، 54. (¬3) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَهْلِ العلمِ، مِنهم عَطاءٌ، ومالكٌ (¬1)، والشافعيّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْيِ. وقال ابنُ داودَ (¬2) وبَعْضُ المالِكِيَّةِ: لا يَجِبُ. وحُكِيَ ذلك عن زُفَرَ؛ لأنَّ الله تعالى أَمرَ بالغَسْلِ إلى [المَرافِقِ، وجَعَلَها] (¬3) غايَةً بحرفِ {إِلَى}، وهو لانْتِهاءِ الغاية، فلا يدخُلُ المَذْكورُ بعدَه فيه، كقولِ الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} (¬4). ولَنا، ما روَى جابرٌ قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا تَوَضَّأ أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيه. أخرجَه الدّارَقُطْنِيُّ (¬5). وهذا بَيان للغَسْلِ المَأمُورِ به في الآية. وقولُهما: إنَّ {إِلَى} لانْتِهاء الغاية. قُلنا: قد تُسْتعمَلُ بمَعْنَى «مع». كقولِه تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬6)، {يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬7) {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬8). أي: مع أموالِكم. وقال ¬

(¬1) سقط من: م. وانظر: المغني 1/ 172. (¬2) أبو بكر محمد بن داود بن علي الظاهري، الفقيه، أحد أذكياء العالم، المتوفى سنة سبع وتسعين ومائتين. طبقات الفقهاء، للشيرازي 175، 176، العبر 2/ 108. (¬3) في الأصل: «المرفقين وجعلهما». (¬4) سورة البقرة 187. (¬5) في: باب وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 83. (¬6) سورة الصف 14. (¬7) سورة هود 52. (¬8) سورة النساء 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُبَرِّدُ (¬1): إذا كان الحَدُّ مِن جِنْسِ المَحْدُودِ دَخَل فيه، كقوْلِهم: بِعْتُ الثَّوْبَ مِن هذا الطَّرَفِ إلى هذا الطَّرَفِ. فصل: ويَجِبُ غَسْلُ أظْفارِه وإن طالتْ، والإِصْبَعِ، واليَدِ الزّائِدَةِ، والسِّلْعَةِ (¬2)، لأنَّ ذلِك مِن يَدِه، كالثُّؤْلُولِ (¬3). وإن كانت نابِتَةً في غيرِ مَحَلِّ الفرْضِ، كالعَضُدِ، لم يَجِبْ غَسْلُها، طويلةً كانت أو قصيرةً، لأنَّها في غيرِ مَحَلِّ الفرْضِ، فهي كالقَصِيرَةِ. وهذا قولُ ابنِ حامدٍ وابنِ عَقِيلٍ، وقال القاضي: يَجِبُ غَسْلُ ما حاذَى مَحَلَّ الفرضِ منهما. والصحيحُ الأوَّلُ. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ في ذلك، نَحْوَ ما ذَكَرْنا. وإن كانتا مُتَساويَتَينِ، ولم تُعْلَمِ الأصْلِيَّةُ منهما، غَسَلَهما جَمِيعًا، ليَخْرُجَ عن العُهْدَةِ بيَقِينٍ، كما لو تَنَجَّسَتْ إِحْدَى يَدَيه غيرَ مُعَيَنةٍ. وإن انْقَلَعَتْ (¬4) جِلْدَةٌ مِن الذِّراعِ، فتَدَلَّتْ مِن العَضُدِ، لم يجبْ غَسْلُها؛ ¬

(¬1) أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر العالم الشهير بالنحو واللغة والأدب، صاحب «المقتضب»، و «الكامل»، المتوفى سنة ست وثمانين ومائتين. تاريخ العلماء النحويين 53 - 65. (¬2) السلعة: خراج كهيئة الغدة، تتحرك بالتحريك. (¬3) الثؤلول: حَلَمَة الثدى، وبَثْر صغير صلب مستدير. (¬4) في م: «تعلقت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها صارتْ في غيرِ مَحَل الفَرْضِ. وإن كانت بالعَكْسِ وَجَب غسلُها؛ لأنَّها صارَتْ في مَحَلِّ الفَرْضِ، أشْبَهَتِ الإِصْبَعَ الزّائِدةَ. وإن انْقَلَعَتْ مِن أحَدِ المَحَلَّينِ، فالْتَحَم رأسُها في الآخَر، وبَقِيَ وَسَطُها مُتَجافِيًا، وَجَب غَسْلُ ما حاذَى مَحَلَّ الفَرْضِ مِن ظاهِرِها وباطِنِها، وما تحتَها. فصل: إذا كان تحتَ أظفارِه وَسَخٌ يَمْنَعُ وُصُولَ الماءِ إلى ما تحتَه، فقال ابنُ عَقِيلِ: لا تَصِحُّ طهارتُه حتى يُزِيلَه؛ كما لو كان على يَدِه شَمْعٌ. قال شيخُنا: ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ ذلك، لأنَّ هذا يَسْتَتِرُ عادَةً، فلو كان غَسْلُه واجِبًا لبَيَّنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لا يَجُوزُ تأْخِيرُ البَيانِ عن وقتِ الحاجَةِ، وقد عاب النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عليهم كَوْنَهُم يدْخُلُون عليه قُلْحًا (¬1)، ورُفْغُ (¬2) أحدِهِم بينَ أُنْمُلَتِه وظُفْرِه (¬3). يعني أنَّ وَسَخَ أَرْفاغِهِم تحتَ أَظْفارِهِم، يَصِلُ إليه رائِحَةُ نَتْنِها، ولم يَعِبْ بُطْلانَ طهارَتِهِم، ولو كان مُبْطِلًا للطهارةِ، لكان ذلك أهَمَّ مِن نَتْنِ الرِّيحِ (¬4). ¬

(¬1) القلح، بالتحريك: صفرة تعلو الأسنان، ووسخ يركبها. والرجل أقلح، والجمع قُلْح. النهاية 4/ 99. (¬2) أراد بالرفغ هنا: وسخ الظفر. وأصل الرفغ بالضم والفتح: واحد الأرفاغ، وهي أصول المغابن كالآباط والحوالب، وغيرها من مطاوى الأعضاء وما يجتمع فيه من الوسخ والعرق. النهاية 2/ 244. (¬3) قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني إن شاء الله. مجمع الزوائد 5/ 168. (¬4) المغني 1/ 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن كان يَتَوَضَّأ مِن ماءٍ يَسِيرٍ يَغْتَرِفُ منه، فاغتَرَف (¬1) مِنه بيَدَيه عندَ غَسْلِ يَدَيه، لم يُؤثِّرْ ذلك في الماءِ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يَصِيرُ الماءُ مُسْتَعْمَلًا بغَرْفِه منه؛ لأنَّه مَوْضِعُ غَسْلِ اليَدِ، وهو ناوٍ للوُضُوءِ ولغَسْلِها، أَشْبَهَ ما لو غَمَسَها في الماء يَنْوى غَسْلَها فيه. ولَنا، أنَّ في حديثِ عثمانَ: ثم غَرَف بيَده اليُمْنَى على ذِراعِه اليُمْنَى، فغَسَلَها إِلى المِرْفَقَين ثلاثًا، ثم غَرَفَ بيَمِينه، فغَسَلَ يَده اليُسْرَى. رواه سعيدٌ (¬2). وفي حديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ: ثم أدْخَلَ يَدَه في الإناءِ، فغَسَلَ يَدَيه إلى المِرْفَقَين ¬

(¬1) في م: «فغرف». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 296.

99 - مسألة: (ثم يمسح رأسه)

ثم يمسح رأْسَه، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَرَّتَين. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولو كان هذا يُفْسِدُ الوُضُوءَ، لكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحَقَّ بمَعْرِفَتِه، ولبَيَّنّه لكَوْنِ الحاجَةِ ماسَّةً إليه، إذْ كان لا يُعْرَفُ بدُونِ البَيانِ، ولا يَتَوَقّاه إلَّا مُتَحَذْلِقٌ، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ المُغْتَرِفَ لم يَقْصِدْ بغَرفِه إلَّا الاغْتِرافَ دُونَ الغَسْلِ، فأشْبَه مَن يَغُوصُ في البِئْرِ لترقِيَةِ الدّلْو، وهو جُنُبٌ لا يَنوى الغُسْلَ، ونِيَّةُ الاغْتِرافِ صَرَفَتْ نِيَّةَ الطهارةِ. والله أعلمُ. 99 - مسألة: (ثم يَمْسَحُ رأْسَه) ومَسْحُ الرَّأْس فَرْضٌ بالإجماعِ؛ لقولِ الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2). وهو ما يَنْبُتُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 295. (¬2) سورة المائدة 6.

100 - مسألة: (فيبدأ بيديه من [مقدم رأسه]

فَيَبْدَأُ بِيَدَيهِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ يُمِرُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى مُقدَّمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الشَّعَرُ في حَقِّ الصَّبِيِّ، ويَنْبَغِي أن يُعْتَبَرَ غالِبُ الناس، فلا يُعْتَبَرُ الأفْرَعُ (¬1)، ولا الأجْلَحُ، كما قُلنا في حَدِّ الوَجْهِ. والنزَّعتان مِن الرأْس، وكذلك الصُّدْغان، وقد ذَكَرْنا ذلك في الوَجْهِ. 100 - مسألة: (فيَبْدأْ بيَدَيه مِن [مُقَدَّم رأْسِه] (¬2)، ثم يُمِرُّهُما إلى قَفاه، ثم يَرُدُّهما إلى مُقَدَّمه) وجُمْلَتُه أنَّ المُسْتَحَبَّ في مَسْحِ الرَّأْس أن ¬

(¬1) في م: «الأقرع». (¬2) في م: «مقدمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبُلَّ يَدَيه، ثم يَضَعَ طَرَفَ إحدَى سَبَّابَتَيه على طَرَفِ الأخْرَى، ويَضَعَهما على مُقَدَّمِ رَأْسِه، ويَضَعَ الإِبهامَين على الصُّدْغَين، ثم يُمِرَّ يَدَيه إلى قَفاه، ثم يَرُدَّهُما إلى المَوْضِع الذي بَدَأ منه؛ لِما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ في وَصْفِ وُضُوءِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فمَسَحَ رأْسَه بيَدَيه، فأقْبَلَ بِهِما وأدْبَرَ. وفي لفظٍ: بَدَأ بمُقَدَّمِ رَأْسِه حتى ذَهبَ بِهِما إلى قَفاه، ثم رَدَّهُما إلى المَكان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي بَدَأ منه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فإن كان ذا شَعَرٍ يَخافُ أن يَنْتَفِش بِرَدِّ يَدَيه، لم يَرُدَّهُما. نصَّ عليه الإمامُ أحمدُ؛ لَأنَّه قد رُوِيَ عن الرُّبِّيعِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ عندَها، فمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّه، مِن فرْقِ الشَّعَرِ، كُلَّ ناحِيةٍ لمَصَبِّ الشَّعَرِ، لا يُحَرِّكُ الشَّعَرَ عن هيئَتِه. رَواه أبو داود (¬2). وسُئِل أحمدُ: كيف تَمْسَحُ المرأة؟ فقال: هكذا. ووَضَع يَده على وَسَطِ رَأَسِه، ثم جَرَّها إلى مُقَدَّمِه، ثم رَفَعَها فوَضَعَها حيث منه بَدَأ، ثم جَرَّها إلى مُؤخَّرِه. وكيفَ مَسَح بعدَ اسْتِيعابِ قَدْرِ الواجبِ أَجْزَأه، ولا يَحْتاجُ إلى ماء جَدِيدٍ في رَدِّ يَدَيه على رَأْسِه. قال القاضي: وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه يَأْخُذُ للرَّدَّة ماءً جديدًا، وليس بصَحِيحٍ. قاله القاضي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 295. (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 28.

101 - مسألة: (ويجب مسح جميعه مع الأذنين، وعنه: يجزئ مسح أكثره)

وَيَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ مَعَ الْأُذُنَينِ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُ مَسْحُ أَكْثَرهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 101 - مسألة: (ويَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِه مع الأذُنَين، وعنه: يُجْزئُ مَسْحُ أكْثَرِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَن أحمدَ في قَدْرِ الواجِبِ؛ فرُوِيَ عنه أنَّه يجبُ (¬1) مَسْحُ جَمِيعِه في حَقِّ كلِّ أحَدٍ. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ، ومذهبُ مالكٍ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2). الباءُ للإلْصاقِ، فكأنَّه قال: وامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. وصار كقَوْلِه سبحانه في التَّيَمُّمِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ} (¬2). قال ابنُ بَرْهَانٍ (¬3): مَن زَعَمَ أنَّ الباءَ للتَّبعِيضِ، فقد جاءَ أهلَ اللُّغَةِ بما لا يَعْرِفُونَه (¬4). ولأنَّ الذين وَصَفُوا وُضُوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا أنَّه مَسَح رَأسَه كلَّه، وقد ذَكَرْنا حديثَ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ، وحديثَ الرُّبَيِّع، وهذا ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) سورة المائدة 60. (¬3) أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان العكبرى النحوي اللغوي، المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة. إنباه الرواة 2/ 213 - 215. (¬4) انظر: البحر المحيط 3/ 436، وإملاء ما مَنَّ به الرحمن 1/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يصْلُحَ أن يكون بيانًا للمَسْحِ المَأْمُورِ به. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِه. نَقَلَها عنه أبو الحارِثِ. ونُقِلَ عن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، أنّه كان يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رأْسِه (¬1)، وابنُ عُمَرَ مَسَح اليافُوخَ (¬2). ومِمَّن قال بمَسْحِ البَعْضِ الحسنُ، والثَّوْريُّ، والأوْزاعيُّ، والشافيُّ، وأصحابُ الرّأْيِ، وابنُ المُنْذِرِ. قال شيخُنا: إلَّا أنَّ الظّاهِرَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في الرجلِ وُجُوبُ الاسْتِيعابِ، وأنَّ المرأةَ يُجْزِئُها مَسْحُ مُقدَّمِ رَأْسِها (¬3). قال الخَلّالُ: العَمَلُ في مذهبِ أبي عبدِ اللهِ، أنَّها إن مَسَحَتْ مُقدَّمَ رأسِها أَجْزَأها؛ لأنَّ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، كانت تمْسَحُ مُقَدَّم ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في مسح الرأس كيف هو، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 16. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في مسح الرأس كم هو مرة، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 15. وعبد الرزاق، في: باب المسح بالأذنين، من كتاب الطهارة. المصنف 1/ 12، 13. (¬3) المغني 1/ 175، 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأْسِها (¬1). واحْتَجَّ مَن أجازَ مَسْحَ البعضِ، بما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: رَأَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فمَسَحَ بناصِيَتِه وعلى العِمامَةِ والخُفَّين. رَواه مسلمٌ (¬2). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وعليه عِمامَةٌ قِطريَّةٌ، فأدْخَلَ يَدَه مِن تحتِ العِمامَةِ، فمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِه، ولم ينْقُضِ العِمامَةَ. رَواه أبو داودَ (¬3). واحْتجُّوا بأنَّ مَن مَسَح بعضَ الرأسِ، يُقالُ: مَسَح برَأْسِه. كما يقال: مَسَح برأْسِ اليَتِيمِ. وإذا قُلنا بجَوازِ مَسْحِ البعضِ، فأيَّ مَوْضِعٍ مَسَح أجْزَأه، إلَّا أنَّه لا يُجْزئُ مَسْحُ الأُذُنَين عن الرَّأْسِ، لأنَّهما تَبَعٌ، ولا يُجزئُ مَسْحُهما عن الأصلِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يحْتَمِلُ أن لا يُجزِئَ إلَّا مَسْحُ النّاصِيَةِ؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - مَسَح ¬

(¬1) انظر: باب مسح المرأة رأسها، من كتاب الطهارة. المجتبى من سنن النسائي 1/ 62. (¬2) في: باب المسح على الناصية والعمامة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 230، 231.كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المسح على الجوربين والعمامة، من كتاب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 150، والنسائي، في: باب صفة الوضوء - غسل الكفين، وباب المسح على العمامة مع الناصية، وباب كيف المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 55، 65، 66. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 244، 248، 250، 255. (¬3) في: باب المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32. والقطرية: تتخذ من نوع من البرود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بناصِيَتِه، فوَجَبَ الاقْتِداءُ به. واخْتَلَف العلماءُ في قدرِ البعضِ المُجْزِئَ، فقال القاضي: قدرُ النّاصِيَةِ؛ لحديثِ المُغِيرَةِ. وحَكَى أبو الخَطّابِ، وبعضُ الشافعيَّةِ: أنّه لا يُجْزِئُه إلَّا مَسْحُ الأكْثَرِ؛ لأنّه يَنْطَلِقُ عليه اسمُ الجَمِيع. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه مَسْحُ رُبْعِه. ورُوِيَ عنه، أنَّه لا يُجْزِئُه أقلُّ مِن ثُلُثهِ. وهو قولُ زُفَرَ. وقال الشافعيُّ: يُجْزِئُ ما يَقَعُ عليه [اسمُ المَسْحِ] (¬1). حُكِيَ عنه: ثَلاثُ شَعَراتٍ. وحُكِى عنه: لو مَسَح شَعرَةً، أجْزَأه، لوُقُوع اسمِ البعضِ عليه. ¬

(¬1) في م: «الاسم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ مَسْحُ الأذُنَين معه، لأنَّهما منه؛ بدليلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الأذُنَانِ مِنَ الرأسِ» (¬1). ورُوِيَ عن أحمدَ: أنَّه لا يَجِبُ مَسْحُهما. وهو ظاهِرُ المذهبِ. قال الخَلّالُ: كلهم حَكَوْا عن أبي عبد اللهِ في مَن تَرَكَ مَسْحَ أُذُنَيه عامِدًا، أو ساهِيًا، أنَّه يُجْزِئُه. وظاهرُ هذا أنه لا يَجِبُ، سَواءٌ قلنا بوُجُوبِ الاسْتِيعابِ أولًا؛ لأنّهما مِن الرّأْسٍ على وَجْهِ التَّبَعِ، ولا يُفْهمُ مِن إطْلاقِ اسمِ الرأسِ دُخُولُهما فيه، ولا يُشْبِهان أجْزاءَ الرَّأس، ولذلك لا يُجْزِئُ مَسْحُهما عنه عندَ مَن اجْتَزَأَ بمَسْحِ البعضِ، وهو اختيارُ شيخِنا (¬2). والأوْلَى مَسْحُهما، [فرَوَى ابنُ عباسِ أنَّ] (¬3) النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح برَأْسِه وأُذُنَيه ظاهِرِهما وباطِنِهما. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬4). ورَوَت الرُّبَيِّعُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ عندَها، فَرَأته مَسَح ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 331. (¬2) انظر المغني 1/ 183. (¬3) في م: «لأن». (¬4) حديث ابن عباس في مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه في المسند 4/ 132. وأما حديثه في مسح الأذنين، فقد أخرجه الترمذي عنه، في: باب ما جاء في مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 54. وحديث ابن عباس بتمامه أخرجه ابن حبان، في: باب ذكر إباحة المضمضة والاستنثساق بغرفة واحدة للمتوضئ وفي: باب استحباب مسح المتوضئ طاهر أذنيه في وضوئه. . . .، من كتاب الطهارة. الإحسان 3/ 360، 367، وانظر: تلخيص الحبير 1/ 89، 90.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على رأسِه مُحاذِيَ الشَّعَرِ ما أَقْبَلَ منه وما أَدبَرَ، ومَسَح صُدْغَيه وأُذُنَيه ظاهِرَهُما وباطِنَهُما. رَواهما التِّرْمِذِي وأبو داودَ (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يُدْخِلَ سَبّابَتَيه في صِماخَيْ أُذُنَيه، ويَمْسَحَ ظاهِرَهما بإبْهامَيه، لأنَّ في بعْضِ ألفاظِ حديثِ الرُّبَيِّعِ: فأدْخَلَ أُصبُعَيه في جُحرَى أُذُنَيه. رَواه أبو داودَ (¬2). ولا يَجِبُ مَسْحُ ما اسْتَتَر بالغَضارِيفِ، لأنّ الرأْسَ الذي هو الأصلُ لا يجِبُ مَسْحُ ما اسْتَتَر منه بالشَّعَرِ، فالأذُنُ أوْلَى. والله أعلمُ. فصل: ولا يَجِبُ مَسْحُ ما نَزَل عن الرَّأْسِ مِن الشَّعَرِ، ولا يُجْزئ مَسْحُه عن الرأْسِ، سَواءٌ رَدَّه فعَقَدَه فوقَ رَأْسِه، أو لم يَرُدَّه؛ لأنَّ الرأْسَ ما تَرَأَّس وعَلا. فإنَّ نَزَل الشَّعَرُ عن مَنْبِتِه، ولم يَنْزِلْ عن مَحَلِّ الفَرْضِ فمَسَحَ عليه، أجْزَأه، لأنَّه شَعَرٌ على مَحَلِّ الفَرْضِ، أشْبَه القائِمَ على مَحَلِّه. ولأنَّ هذا لا يُمكِنُ الاحتِرازُ منه، وإن خَضَب رَأْسَه بما يَسْتُرُه، لم يُجْزِئْه المَسْحُ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ في الخِضابِ، لأنَّه لم يَمْسَحْ على مَحَلِّ الفَرْضِ، أَشْبَه ما لو مَسَح على خِرْقَةٍ فوقَ رَأْسِه. ولو أَدْخَلَ يَده تحتَ الشَّعَرِ، فمَسَحَ البَشَرَةَ دُونَ الظّاهِرِ، لم يُجْزِئْه، لأنَّ الحكْمَ تَعَلَّق بالشَّعَرِ، ¬

(¬1) حديث الربيع تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُجْزِئْه مَسْحُ غيرِه، كما لو أوْصَلَ الماءَ إلى باطِنِ اللِّحْيَةِ، ولم يَغْسِلْ ظاهِرَها. فأمّا إن مَسَح رَأْسَه ثم حَلَقَه، أو غَسَل عُضْوًا، ثم قَطَع منه جُزْءًا أو جِلْدَةً، لم يُؤَثِّرْ في طهارتِه؛ لأنَّه ليس بَدَلًا عَمّا تحتَه. وإن أحْدَث بعدَ ذلك، غَسَل ما ظَهَر؛ لأنَّه صار ظاهِرًا، فتَعَلَّق الحُكْمُ به، ولو حَصَل في بعضِ أعْضائِه شَقٌّ أو ثَقْبٌ، لَزِمَه غَسْلُه؛ لأنّه صار ظاهِرًا. فصل: ويَمْسَحُ رَأْسَه بماءٍ جَدِيدٍ غيرِ ما فَضَل عن ذِراعَيه. وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، والعَمَلُ عليه عندَ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. قاله التِّرْمِذِيُّ (¬1). وجَوَّزَ الحسنُ، وعُرْوَةُ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ المُنْذِرِ مَسْحَه بفَضْلِ ماءِ (¬2) ذِراعَيه؛ لِمارُوىَ عن عثمانَ، أنّه مَسَح مُقَدَّمَ رَأْسِه بيَدِه مرَّةً واحدةً، ولم يَسْتَأْنِفْ له ماءً جديدًا، حين حَكَى وُضُوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه سعيدٌ (¬3). ويَتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك إذا قُلنا: إنَّ المُسْتَعْمَلَ طَهُورٌ، لا سِيّما الغَسْلَةُ الثّانيةُ والثالثةُ. ووَجْهُ الأوَّلِ، ما روَى عبدُ اللهِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماء جديدا، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 54. (¬2) سقط من: «م». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 296.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ زيدٍ، قال: ومَسَح رَأْسَه بماءٍ غيرِ فَضْلِ يَدَيه. رَواه مسلمٌ (¬1). وفي حديثِه المُتَّفَقِ عليه: ثم أدْخَلَ يَدَه في الإناءِ، فمَسَح برَأْسِه. وكذلك حُكِيَ عن (¬2) عليٍّ في روايةِ أبي داودَ (¬3). ولأَنَّ البَلَلَ في يَدِه مُسْتَعْمَلٌ، فلا يُجْزِئُ به المَسْحُ، كما لو فَصَلَه في إناءٍ، ثم اسْتَعْمَلَه. فصل: فإن غَسَل رَأْسَهْ بَدَلَ مَسْحِه، فعلى وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ اللهَ تعالى أَمَر بالمَسْحِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح. ولأنَّه أحَدُ نَوْعَيِ الطهارةِ، فلم يُجْزِئْ عن الآخَرِ، كالمَسْحِ عن الغَسْلِ. والثّاني، يُجْزِئُ، لأنَّه لو كان جُنُبًا فانْغَمَسَ في ماءٍ يَنْوى. الطّهارَتَين، أجْزأه، مع أنَّه لم يَمْسَحْ، فكذلك في الحَدَثِ الأصْغَرِ وَحْدَه. ولأنَّ في صِفَةِ غَسْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه غَسَل يَدَيه ووَجْهَه، ثم أفْرَغَ على رَأْسِه، ولم يَذْكُرْ مَسْحًا. ولأنَّ الغَسْلَ أبْلَغُ مِن المَسْحِ، فإذا أتَى به يَنْبَغِي أن يُجْزِئَه، وهذا فيما إذا لم يُمِرَّ يَدَه عليه. فأمّا إن أمَرَّ يَدَه على رَأْسِه، مع الغَسْلِ أو بعدَه، أجْزأه، لأنَّه قد أتَى بالمَسْحِ، وذلك لِما رُويَ عن المُغِيرةِ (¬4)، أنَّه تَوَضَّأ للنّاسِ كما رَأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ، فلَمّا بَلَغ رَأْسَه غَرَف غُرْفَةً من ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 295. (¬2) سقط من: «م». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 324. (¬4) في م: «معاوية» خطأ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ماءٍ، فتَلَقّاه بشِمالِه، حتى وَضَعَها على وَسَطِ رَأْسِه، حتى قَطرَ الماءُ أو كادَ يَقْطرٌ، ثم مَسَح مِن مُقَدَّمِه إلى مُؤخَّرِه، ومِن مُؤخَّرِه إلى مُقَدَّمِه. رَواه أبو داودَ (¬1). ولو حَصَل على رَأْسِه ماءُ المَطرَ، أو صَبَّ عليه إنْسانٌ، ثم مَسَح عليه، يَقْصِدُ بذلك الطهارةَ، أو كان قد صَمَد للمَطرَ، أجْزأه. وإن حَصَل الماءُ على رَأْسِه مِن غيرِ قَصْدٍ، أجْزأه أيضًا؛ لأنَّ حُصُولَ الماءِ على رَأْسِه بغيرِ قَصْدٍ، لم يُؤَثِّرْ في الماءِ، فمتى وَضَع يَدَه على ذلك البَلَلِ ومَسَح به، فقد مَسَح بماءٍ غيرِ مُسْتَعْمَلٍ، فصَحَّتْ طهارتُه، كما لو حَصَل بقَصْدِه. وقد نَقَل أبو داودَ عن أحمدَ: إذا أصابَ رَأْسَه (¬2) ماءُ السَّماءِ، فمَسَحَه بيَدِه، لم يُجْزِه؛ وذلك لأنَّه لم يُوجَدْ مِنه نِيَّةٌ لذلك. ذَكَرَه القاضي في «المُجَرَّدِ». وهذا يَدُلُّ على أنَّه يَشْتَرِطُ أن يَقْصِدَ حُصُولَ الماءِ على رَأْسِه. قال ابنُ عَقِيلٍ في هذه المسألة: تَحْقِيقُ المذهبِ، أنَّه متى صَمَد للمَطرَ ومَسَح، أجْزأه، ومتى أصابَه المطرُ مِن غيرِ قَصدٍ ولا نِيَّةٍ، لم يُجْزِئْه. وكذلك إن كان يَتَوَضَّأ، فصَبَّ إنسانٌ على رَأْسِه ماءً وهو لا يَقْصِدُ، فمَسَحَ رَأْسَه به (¬3)، فإنَّه لا يُجْزِئُه، فأمّا إن حَصَل الماءُ على رَأْسِه بغيرِ قَصْدٍ، ولن يَمْسَحْ بيَدِه، لم يُجْزِئْه، سَواءٌ قُلْنا: إنَّ الغَسْلَ يَقُومُ مَقامَ المَسْحِ، أو لا. وإن قَصَد وجَرَى الماءُ على رَأْسِه أجْزأه، إذا قُلْنا: يُجْزِئُ الغَسْل. وإلَّا فلا. ¬

(¬1) في: باب صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 28. (¬2) في م: «برأسه». (¬3) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مَسَح رَأْسَه بخِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ أو خَشَبَةٍ، أجْزأه في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بالمَسْحِ، وقد مَسَح، أشْبَهَ ما لو مَسَح بيَدِه. ولأنَّ مَسْحَه بيدِه غيرُ مُشْتَرَطٍ، بدَلِيلِ ما لو مَسَح بيَدِ غيرِه. والثاني، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح بيَدِه، وقال: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» (¬1). وإن وَضَع على رَأْسِه خِرْقَةً مَبْلُولَةً، فابْتَلَّ رَأْسُه بها، أو وَضَع خِرْقةً، ثم بَلَّها حتى ابْتَلَّ شَعَرُه، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ ذلك ليس بمَسْحٍ، ولا غَسْلٍ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزئَه؛ لأنَّه بَلَّ شَعَرَه قاصِدًا للوُضُوءِ، فأجْزأه، كما لو غَسَلَه. وإن مَسَحَ بأُصْبُعٍ أو أُصْبُعَين، أجْزأه إذا مَسَح بهما ما يَجبُ مَسْحُه كلَّه. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ. ونَقَل بكرُ بنُ محمدٍ (¬2)، عن أحمدَ: لا يُجْزِئُه المَسْحُ بأُصْبُعٍ. قال القاضي: هذا مَحْمُولٌ على الرِّوايَةِ التي تُوجِبُ الاسْتِيعابَ, لأنَّه لا يَحْصُلُ بأُصْبُعٍ واحِدَةٍ. وإن حَلَق بعضَ رَأْسِه، وقُلْنا بوُجُوبِ الاسْتِيعابِ، مَسَح المَحْلُوقَ والشَّعَرَ. وإن قُلْنا بإجْزاءِ مَسْحِ البعضِ، أجْزأه مَسْحُ أحَدِهِما. فصل: وهل يُسْتَحَبُّ مَسْحُ العُنُقِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يُسْتَحَبُّ، لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه مَسَح رَأْسَه حتى بَلَغ ¬

(¬1) لا أصل له بهذا السياق، انظر: تلخيص الحبير 1/ 82. إرواء الغليل 1/ 125. (¬2) أبو أحمد بكر بن محمد النسائي البغدادي، كان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه، وعنده مسائل كثيرة سمعها منه، وبعضها عن أبيه. انظر: طبقات الحنابلة 1/ 119، 120.

102 - مسألة: (ولا يستحب تكراره، وعنه، يستحب)

وَلَا يُستَحَبُّ تَكْرَارُهُ وَعَنْهُ، يُسْتَحَبُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القَذَال (¬1)، وما يَلِيه مِن مُقَدَّمِ العُنُقِ. رَواه أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬2)، من رِوايةِ لَيثِ بنِ أبي سُلَيمٍ، وهو مُتَكَلَّمٌ فيه (¬3). ولِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «امْسَحُوا أعْنَاقَكُمْ مَخَافَةَ الغُلِّ» (¬4). ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ في «الفُصُولِ». والثانيةُ، لا يُسْتَحَبُّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَأْمُرْ به. ولأنَّ الذين حَكَوْا وُضُوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عثمانُ، وعليٌّ، وعبدُ اللهِ بنُ زيدٍ، وابنُ عباسٍ، لم يَذْكُرُوه، ولم يَثْبُتْ فيه حديثٌ. 102 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ تَكْرارُه، وعنه، يُسْتَحَبُّ) الصحيحُ مِن المذهبِ، أنَّه لا يُسْتَحَبُّ التَّكْرارُ في مَسْحِ الرَّأْسِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. ويُرْوَى عن ابنِ عُمَرَ، وابْنِه سالِمٍ، والحَسَنِ، ¬

(¬1) القذال: جماع مؤخر الرأس. (¬2) المسند 3/ 481. كما أخرجه أبو داود، في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 29. قال ابن حجر: إسناده ضعيف. انظر تلخيص الحبير 1/ 92. (¬3) انظر: الجرح والتعديل 3/ 2 / 177 - 179. (¬4) حديث موضوع لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر تلخيص الحبير 1/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُجاهِدٍ. قال التِّرمِذِيُّ (¬1): والعَمَلُ عليه عندَ أكثرِ أَهلِ العلمِ مِن أصحابِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومَن بعدَهم. وعن أحمدَ، أنَّه يُسْتَحَبُّ. يُرْوَى ذلك عن أنَسٍ، وعطاءٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لِما رَوَى أبو داودَ (¬2)، عن شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ، قال: رَأَيتُ عثمانَ غَسَل ذِراعَيه ثلاثًا، ومَسَح برَأْسِه ثلاثًا، ثم قال: رَأْيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل مِثْلَ هذا. ورُوِيَ مثلُ ذلك عن غيرِ واحِدٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ورَوَى عليٌّ، وابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيرَةَ، وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وغيرُهم، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثلاثًا ثلاثًا (¬3). وفي حديثِ أُبَيٍّ، قال: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ المُرْسَلِينَ قَبْلِي». رَواه ابنُ ماجه (¬4) وقِياسًا على سائِرِ الأعْضاءَ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأولَى، أنَّ عبدَ الله بنِ زيدٍ وَصَف وُضوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: مَسَح برَأْسِه مَرَّةً واحِدَةً. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وكذلك رَوَى عليٌّ، وقال: هذا وُضوءُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَن أحَبَّ أن يَنْظرُ إلى طُهُورِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلْيَنْظُرْ إلى هذا. قال التِّرمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬6). وكذلك وَصَف عبدُ اللهِ بنُ أبي أَوْفَى، وابنُ عباسٍ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء أن مسح الرأس مرة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 52، 53. (¬2) في: باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 25. وانظر: باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 144. (¬3) أحاديث علي وابن عمر وأبي هريرة؛ أخرجها ابن ماجه، في: باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، من كتاب الطهارة وسننها. أما حديث أبي، فقد أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، من كتاب الطهارة وسننها. سنن ابن ماجه 1/ 144 - 146. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 291. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 295. (¬6) عارضة الأحوذي 1/ 65.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ، والرُّبَيِّعُ (¬1)، كلُّهم قالوا: ومَسَح برَأْسِه مَرَّةً واحِدَةً. وحِكايَتُهُم لوُضوءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إخْبارٌ عن الدَّوامِ، ولا يُداومُ إلَّا على الأفْضَلِ. وحِكايَةُ ابنِ عباسٍ وُضُوءَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في اللَّيلِ حال خَلْوَتِه، ولا يَفْعَلُ في تلك الحالِ إلَّا الأفْضَلَ. ولأنَّه مَسْح في طهارةٍ، فلم يُسَنَّ تَكْرارُه، كالمَسْحِ على الجَبِيرَةِ والخُفَّين، وأحادِيثُهم لا يَصِحُّ مِنها شيءٌ صَرِيحٌ. قال أبو داودَ (¬2): أحاديثُ عثمانَ الصِّحاحُ كلُّها، تَدُلُّ على أنَّ مَسْحَ الرَّأسِ مَرَّةٌ، فإنَّهُم ذَكَرُوا الوُضُوءَ ثلاثًا ثلاثًا، وقالُوا فيها: ومَسَح رَأْسَه. ولم يَذْكُرُوا عَدَدًا. والحديثُ الذي ذَكَر فيه: مَسَح رَأْسَه ثلاثًا. رَواه يَحْيَى بنُ آدَم (¬3)، وخالفَه وَكيعٌ (¬4)، فقال: تَوَضَّأ ثلاثًا فَقَطْ. والصحيحُ المُتَّفَقُ عليه عن عثمانَ، أنَّه لم يَذْكُرْ في مَسْحِ الرَّأْسِ عَدَدًا. ومَن رُوِيَ عنه ذلك سِوَى عثمانَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّهم الذين رَوَوْا أحادِيثَنا، وهي صحيحةٌ، فيَلْزَمُ مِن ذلك ضَعْفُ ما خالفَها، والأحاديثُ التي ذَكَرُوا فيها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، أرادُوا بها سِوَى المَسْحِ؛ لأنَّهم حينَ فَصَّلُوا قالُوا: ومَسَح برَأْسِه مَرَّةً واحِدَةً (¬5). والتَّفْصِيلُ يُحْكَمُ به على الإِجمالِ، ويَكُونُ تَفْسِيرًا له (¬6)، ولا يُعارِضُه، كالخاصِّ ¬

(¬1) أحاديث ابن عباس وسلمة بن الأكوع والربيع، سبق تخريجها على التوالي في صفحات 49، 57، 60. (¬2) في: باب صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 24/ 1، 25. (¬3) يحيى بن آدم الكوفي المقرئ الحافظ الفقيه، المتوفي سنة ثلاث ومائتين. العبر 1/ 343. (¬4) وكيع بن الجراح بن مَلِيح، الرُّؤاسي، أبو سفيان الكوفي الحافظ. توفي سنة ست وتسعين ومائة، وقيل: سنة سبع وتسعين ومائة. تهذيب التهذيب 11/ 123 - 131. (¬5) في م زيادة: «قالوا». (¬6) سقطت من: «م».

103 - مسألة: (ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا، ويدخلهما في الغسل)

ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيهِ ثَلَاثًا إِلَى الْكَعْبَينِ، وَيُدْخِلُهُمَا فِي الْغَسْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مع العامِّ، وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالتَّيَمُّمِ. فإن قِيل: يَجُوزُ أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح مَرَّةً ليُبَيِّنَ الجَوازَ، ومَسَح ثلاثًا ليُبَيِّنَ الأفْضَلَ، كما فَعَل في الغَسْلِ، فنُقِلَ الأمْران مِن غيرِ تَعارُضٍ. قُلْنا: قولُ الرّاوي: هذا طُهورُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. يَدُلُّ على أنَّه كان يَفْعَلُه على الدَّوامِ، لأنَّ الصحابةَ، رَضِي اللهُ عنهم، إنَّما وَصَفُوا وُضوءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ليُعَرِّفُوا مَن سألَهُم وحَضَرَهُم صِفةَ وُضوئِه في دَوامِه، فلو شاهَدُوا وُضوءَه على صِفَةٍ أُخْرَى، لم يُطْلِقُوا هذا الإِطْلاقَ، الذي يُفْهَمُ مِنه أنَّهُم لم يُشاهِدُوا سِواه، لأنَّه يكونُ تَدْلِيسًا، وإيهامًا لغيرِ الصَّوابِ، فلا يُظنُّ ذلك بهم، ويُحْمَلُ حالُ الرّاوي لغيرِ الصَّحيحِ على الغَلَطِ لا غيرُ. ولأنَّ الحُفّاظَ إذا رَوَوْا حديثًا واحِدًا عن شَخْصٍ واحدٍ على صِفَةٍ، وخالفَهُم فيها واحدٌ، حَكَمُوا عليه بالغَلَطِ وإن كان ثِقَةً حافِظًا، فكيف إذا لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بذلك. واللهُ أعلمُ. 103 - مسألة: (ثم يَغْسِلُ رِجْلَيه إلى الكَعْبَين ثلاثًا، ويُدْخِلُهُما في الغَسْلِ) وقد ذَكَرْنا اخْتِلافَ العلماءِ في غَسْلِ الرِّجْلَين، ويُسْتَحَبُّ غَسْلُهما ثلاثًا؛ لأنَّ في حديثِ عثمانَ: ثم غَسَل كِلْتا رِجْلَيه ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثلاثًا ثلاثًا. رَواه التِّرْمِذِيُّ، وقال: هذا أحْسَنُ شيءٍ في البابِ وأصَحُّ (¬2). ويُدْخِلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 296. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 290.

104 - مسألة (ويخلل أصابعهما)

وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَهُ, ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَعْبَين في الغَسْلِ، قِياسًا على المِرْفَقَين. والكَعْبان هما العَظْمان النّاتِئان اللَّذان في أسْفَلِ السّاقِ مِن جانِبَيِ القَدَمِ، وحُكِيَ عن محمدِ بنِ الحسنِ (¬1)، أنَّه قال: هُما في مُشْطِ القَدَم، وهو مَعْقِدُ الشِّراكِ مِن الرِّجْلِ، بدَليلِ أنَّه قال: {إِلَى الْكَعْبَينِ} (¬2). فدَلَّ على أنَّ في الرِّجْلِ كَعْبَين لا غيرُ، ولو أرادَ ما ذَكَرْتُمْ، كانت كِعابُ الرِّجْلَين أرْبَعَةً. ولَنا، أنَّ الكِعابَ المَشْهُورَةَ هي التي ذَكَرْنا، قال أبو عُبَيدٍ: الكَعْبُ هذا الذي في أصْلِ القَدمِ، مُنْتَهَى السّاقِ إليه، بمَنْزِلَةِ كِعابِ الْقَنا. ورُوِيَ عن النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ، قالْ: كان أحَدُنا يُلْزِقُ كَعْبَه بكَعْبِ صاحِبِه في الصلاةِ. رَواء الخَلَّالُ (¬3). وقوله: {إِلَى الْكَعْبَينِ}. حُجَّةٌ لَنا، فإنَّه أرادَ كلَّ رِجْلٍ تُغْسَلُ إلى الكَعْبَين، ولو أرادَ كِعابَ جَمِيعِ الأرْجُلِ، لَذَكَرَه بلَفْظِ الجَمْعِ، قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ}. 104 - مسألة (ويُخَلِّلُ أصابِعَهُما) (¬4)؛ لِما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صاحب الإِمام أبي حنيفة، وناشر علمه، صاحب المؤلفات الفائقة، توفي سنة سبع وثمانين ومائة. الجواهر المضية 3/ 122 - 127. (¬2) سورة المائدة 6. (¬3) وأخرجه أبو داود، في: باب تسوية الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 153. والدارقطني، في: باب الحث على استواء الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 282، 283. والبيهقي، في: باب إقامة الصفوف وتسويتها، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 100، 101. (¬4) كذا بالأصل، وفي متن المقنع: «أصابعه».

105 - مسألة: (فإن كان أقطع، غسل ما بقي من محل الفرض)

فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ، غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سَقَطَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 105 - مسألة: (فإن كان أقْطَعَ، غَسَل ما بَقِيَ مِن مَحَلِّ الفَرْضِ) وسَواءٌ في ذلك [اليَدان والرِّجْلان] (¬1)؛ لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬2). 106 - مسألة: (فإن لم يَبْقَ شيءٌ، سَقَط) وُجُوبُ الغَسْلِ؛ لعَدَمِ مَحَلِّه. ويُسْتَحَبُّ أن يَمَسَّ مَحَلَّ القَطْعِ بالماءِ؛ لئَلّا يَخْلُوَ العُضْوُ مِن ¬

(¬1) في م: «اليدين والرجلين». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 9/ 117. وأخرجه مسلم، في: باب فرض الحج مرة في العمر، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 975. والنسائي، في: باب وجوب الحج، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 83. وابن ماجه، في: باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 1. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 247، 258، 313، 314، 355، 448, 457، 467، 482، 459, 508.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طهارةٍ: فإن كان أَقْطَعَ اليَدَين، فوجَدَ مَن يُوَضِّئُه مُتَبَرِّعًا، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّه قادِرٌ عليه، وإن لم يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُه إلَّا بأجْرٍ يَقْدِرُ عليه، لَزِمَه، كما يلْزَمُه شِراءُ الماءِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه، كما لو عَجَز عن

107 - مسألة: (ثم يرفع نظره إلى السماء، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)

ثُمَّ يَرْفَعُ نَظرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلا إللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القِيامِ في الصلاةِ، لم (¬1) يَلْزَمْه اسْتِئجارُ مَن يُقِيمُه ويَعْتَمِدُ عليه. وإن عَجَز في الأجْرِ، أو لم يَجِدْ مَن يَسْتَأْجِرُه، صلَّى على حَسَبِ حالِه، كعادِمِ الماءِ والتُّرابِ. وإن وَجَد مَن يُيَمِّمُه، ولم يَجِدْ مَن يُوضِّئُه، لَزِمَه التَّيَمُّمُ، كعادِم الماءِ إذا وَجَد التُّرابَ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. 107 - مسألة: (ثم يَرْفَعُ نَظَرَه إلى السَّماءِ، ويَقُولُ: أشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورَسُولُه) لِما روَى عُمَرُ بنُ الخَطابِ, رَضِي اللهُ عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أو فيُسْبغُ- الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. إلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ». رَواه ¬

(¬1) في م «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ (¬1). ورَواه التِّرمِذِيُّ، وزادَ فيه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» (¬2). ورَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3)، وأبو داودَ (¬4)، وفي بعضِ رواياتِه: «فَأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظرهُ إلَى السَّمَاءِ». وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: مَن تَوَضَّأَ، ففَرَغَ مِن وُضُوئِه، وقال: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، أسْتَغْفِرُك وأتوبُ إِلَيكَ طُبعَ عليها بطابَعٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ العَرْشِ، فَلَمْ تُكْسَرْ إلى يَوْمِ الْقِيامَة. رَواه النَّسائِيُّ (¬5). فصل: والوُضُوءُ مَرَّةً مَرَّةً يُجْزِئُ، والثَّلاثُ أفْضَلُ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: تَوَضَّأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةً. رَواه البخاريُّ (¬6). وروَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعا بماءٍ، فتَوَضَّأ مَرَّةً مرَّةً، ثم قال: «هَذَا وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ، وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللهُ لَهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ». ثم تَحَدَّثَ ساعَةً، ثم دَعا بوَضُوءٍ، فتَوَضَّأَ مَرَّتَين مَرَّتَين، فقال: «هَذَا وُضُوءٌ، مَنْ تَوَضَّأَهُ، ¬

(¬1) في: باب الذكر المستحب عقب الوضوء، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 210. وأخرجه أيضًا: أبو داود، في: باب ما يقول الرجل إذا توضأ، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 38. والنسائي، في: باب القول بعد الفراغ من الوضوء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 78. وابن ماجه، في: باب ما يقال بعد الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 195. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 146، 153. (¬2) انظر: باب ما يقال بعد الوضوء، من أبواب الطهارة، عند الترمذي. عارضة الأحوذي 1/ 71. (¬3) في: المسند 4/ 146، 153. (¬4) لم يرد في الأصل. وانظر تخرج حديث مسلم السابق. (¬5) في: باب ما يقول إذا فرغ من وضوئه، من كتاب عمل اليوم والليلة. السنن الكبرى 6/ 25. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَاعَفَ اللهُ لَهُ الْأجْرَ مَرَّتَينِ». ثم تَحَدَّثَ ساعَةً، ثم دَعا بماءٍ، فتَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا، فقال: «هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي». رَواه سعيدٌ (¬1). وقد ذَكَرْنا حديثَ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ بنَحْو هذا. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّ مالِكًا لم يُوَقِّتْ مَرَّةً ولا ثَلاثًا. قال: إنَّما قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). وقال الأوْزاعِيُّ، وسعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ (¬3): الوُضُوءُ ثلاثًا ثلاثًا، إلَّا غَسْلَ الرِّجْلَين، فإنَّه يُنَقِّيهِما. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ، وقد ذَكَرْنا اخْتِلافَهُم في تَكْرارِ مَسْحِ الرَّأْسِ. واللهُ أعلمُ. وإن غَسَل بعضَ أَعْضائِه أكْثَرَ مِن بعضٍ، فحَسَنٌ؛ لأنَّ في حديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فغَسَلَ وَجْهَه ثَلاثًا، ثم غَسَل يَدَيه مَرَّتَين إلى المِرْفَقَين، ومَسَح برَأْسِه مَرَّةً. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). فصل: وتُكرهُ الزِّيادَةُ على الثَّلاثِ، قال أحمدُ، رَحِمَه الله: لا يَزِيدُ على الثَّلاثِ إلَّا رجلٌ مُبْتَلًى. وذلك لِما رُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوُضُوءِ، فأراه ثَلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ (¬5) عَلَى هَذَا فَقَدْ أسَاءَ وظَلَمَ» (¬6). رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ ¬

(¬1) وأخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 98. (¬2) سورة المائدة 6. (¬3) أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فقيه الشام بعد الأوزاعي، وكان صالحا قانتا، توفي سنة سبع وستين ومائة. العبر 1/ 250. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 295. (¬5) عند أبي داود زيادة: «أو نقص». (¬6) عند النسائي زيادة: «وتعدى». وعند ابن ماجه: «فقد أساء أو تعدى أو ظلم».

108 - مسألة: (وتباح معونته)

وَتَبَاحُ مَعُونَتُهُ في الوضوءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجه (¬1). ويُكْرَهُ الإِسْرافُ في الماءِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بسَعْدٍ وهو يَتَوَضَّأُ، فقال: «لَا تُسْرِف». فقال: يا رسولَ اللهِ، في الماءِ إسْرافٌ؟ قال: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). 108 - مسألة: (وتُباحُ مَعُونَتُه) لِما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، أنَّه أفْرَغَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في وُضُوئِه. رَواه مسلمٌ (¬3). وعن صَفْوانَ بنِ عَسّالٍ، قال: صَبَبْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الماءَ في الحَضَرِ، والسَّفَرِ. رَواه ابنُ ماجه (¬4). وروَى أنَسٌ، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْطَلِقُ لحاجَتِه، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء ثلاثا، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 30. والنسائي، في: باب الاعتداء في الوضوء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 75. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه، من باب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 146. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 180. (¬2) في: باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدى فيه، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 147. (¬3) في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 229. كما أخرجه النسائي، في: باب صفة الوضوء - غسل الكفين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 55. والإمام أحمد، في: المسند. 4/ 244، 250، 255. (¬4) في: باب الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 138.

109 - مسألة؛ قال: (ويباح تنشيف أعضائه، ولا يستحب)

وَتَنْشِيفُ أَعْضَائِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأحْمِلُ أنا وغُلامٌ نَحْوي إداوَةً (¬1) مِن ماءٍ، وعَنَزَةً (¬2)، فيَسْتَنْجِي بالماءِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولا يُسْتَحَبُّ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: كان رسوُل اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَكِلُ طُهُورَه إلى أحَدٍ، ولا صَدَقَتَه التي يَتَصَدَّقُ بها، يَكُونُ هو الذي يَتَوَلّاها بنَفْسِه. رَواه ابنُ ماجَه (¬4). ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال: ما أُحِبُّ ان يُعِينَنِي على وُضُوئِي أحَدٌ؛ لأنَّ عُمَرَ قال ذلك (¬5). 109 - مسألة؛ قال: (ويُباحُ تَنشِيفُ أعْضائِه، ولا يُسْتَحَبُّ) قال الخَلَّالُ: المَنْقُولُ عن أحمدَ، أنَّه لا بَأْسَ بالتَّنشِيفِ بعدَ الوُضُوءِ. ¬

(¬1) الإداوة: المطهرة. (¬2) العنزة؛ بالتحريك: عصا طويلة في أسفلها زج، ويقال رمح صغير. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 50. ومسلم، في: باب الاستنجاء بالماء من التبرز؛ من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 227. كما أخرجه النسائي، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 39. والدارمي، في: باب الاستنجاء بالماء، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 173. والإمام أحمد, في: المسند 3/ 171، 203. (¬4) في: باب تغطية الإناء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 129. (¬5) انظر ما أورده الهيثمي، في: باب في الاستعانة على الوضوء، من كتاب الطهارة. مجمع الزوائد 1/ 232.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِمَّن رُوِيَ عنه أخْذُ المِنْدِيلِ بعدَ الوُضُوءِ، عثمانُ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ، وأنَسٌ، وكَثِيرٌ مِن أهلِ العلمِ. ومِمَّن رَخَّصَ فيه الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. وهو ظاهِرُ قولِ أحمدَ؛ لِما روَى سَلْمانُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ، ثم قَلَب جُبَّةً كانتْ عليه، فمَسَحَ بها وَجْهَه. رَواه ابنُ ماجَه، والطَّبَرانِيُّ في «المُعْجَمِ الصَّغِيرِ» (¬1). وذَكَر ابنُ حامِدٍ في كراهَتِه رِوايَتَين؛ إحْداهُما، لا يُكْرَهُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثّانيةُ، يُكْرَهُ. رُوِيَ ذلك عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وابنِ أبي لَيلَى، وسعيدِ بنِ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب المنديل بعد الوضوء، وبعد الغسل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 158. والطبراني في المعجم الصغير 1/ 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِيِّ، ومُجاهِدٍ؛ وذلك لِما رَوَتْ مَيمُونَة، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اغْتَسَلَ، قالت: فأتَيتُه بالمِنْدِيلِ، فلم يُرِدْها، وجَعَلَ يَنْفُضُ الماءَ بيَدَيه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوي عن ابنِ عباسٍ أَنَّه كَرِهَه في الوُضُوءِ، ولم يَكْرَهْه في الجَنابَةِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الأصْلَ الإِباحَةُ، فتَرْكُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَدُلُّ على الكَراهَةِ، فإنَّه قد يَتْرُكُ المُباحَ. وهذه قَضِيَّةٌ في عَينٍ، يَحْتَمِلُ أنَّه تَرَك تلك المِنْدِيلَ لأمْرٍ يَخْتَصُّ بها. ولأنَّه إزالةٌ للماءِ عن بَدَنِه، أشْبَهَ نَفضَه بيَدَيه، ولا يُكْرَهُ نَفْضُ الماءِ عن بَدَنِه بيَدَيه؛ لحديثِ مَيمُونَةَ، ويُكْرَهُ نَفْضُ يَدَيه. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب نفض اليدين من الغسل عن الجنابة، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 77. ومسلم، في: باب صفة غسل الجنابة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 254. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 56. والنسائي، في: باب غسل الرجلين في غير المكان الذي يغتسل فيه، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 113.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الوُضُوءِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ موسى بنِ عيسى (¬1)، وذلك لِما روَى أنَسٌ، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ عندَ كلِّ صلاةٍ. قلتُ: وكيف كُنْتُم تَصْنَعُون؟ قال: يُجْزِئُ أحَدَنا الوُضُوءُ، ما لم يُحْدِثْ. رَواه البخارِيُّ (¬2). وقد نَقَل عليُّ بنُ سعيدٍ (¬3) عن أحمدَ، أنَّه لا فَضْلَ فيه. والأوَّل أصَحُّ. ولا بأْسَ أن يُصَلِّيَ الصَّلواتِ (¬4) ¬

(¬1) موسى بن عيسى الجصاص البغدادي، كان لا يحدث إلا بمسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وشيء سمعه من أبي سليمان الداراني في الزهد والورع، وكانت عنده مسائل كثيرة عن الإمام أحمد. تاريخ بغداد 13/ 42، طبقات الحنابلة 1/ 333، 334. (¬2) في: باب الوضوء من غير حدث، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 64. كما أخرجه أبو داود، بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة، وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. في: باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 38. والترمذي، في: باب الوضوء لكل صلاة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 77. والنسائي، في: باب الوضوء لكل صلاة، من كتاب الطهارة. المجتبى من السنن 1/ 73. وابن ماجه، في: باب الوضوء لكل صلاة، والصلوات كلها بوضوء واحد، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 170. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 132، 194، 260. (¬3) أبو الحسن علي بن سعيد بن جرير النسوي، كبير القدر، صاحب حديث، كان يناظر الإمام أحمد مناظرة شافية، روى عنه جزأين مسائل. طبقات الحنابلة 1/ 224، 225. (¬4) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالوُضوءِ الواحِدِ ما لم يُحْدِثْ، لا نَعَلْمُ فيه خِلافًا؛ لحديثِ أنَسٍ، ولِما روَى بُرَيدَةُ، قال: صَلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْحِ خَمْسَ صَلَواتٍ بوُضُوءٍ واحِدٍ، ومَسَح على خُفَّيه، فقال له عُمَرُ: إنِّي رَأيتُك صَنَعْتَ شَيئًا لم تَكُنْ تَصْنَعُه. فقال: «عَمْدًا صَنَعْتُهُ». رَواه مسلمٌ (¬1). ¬

(¬1) في: باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 232. وأخرجه أيضًا أبو داود، في: باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 39. والترمذي، في: باب ما جاء أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد. من كتاب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 79. والنسائي، في: باب الوضوء لكل صلاة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 173. وابن ماجه، في: باب الوضوء لكل صلاة، والصلوات كلها بوضوء واحد. سنن ابن ماجه 1/ 170. والدارمي، في: باب قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 169. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 351 , 358.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بالوُضُوءِ في المسجدِ إذا لم يُؤْذِ أحَدًا بوُضُوئِه، ولم يُؤْذِ المسجدَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أباحَ ذلك كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن علماءِ الأمْصارِ. وذلك لِما روَى أبو العالِيَةِ عن رجلٍ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: حَفِظْتُ لك أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ في المسجدِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). ورُوي عن أحمدَ أنَّه كَرِهَه؛ صِيانَةً للمسجدِ عن البُصاقِ وما يَخْرُجُ مِن فَضَلاتٍ الوُضُوءِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: المسند 5/ 364.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَفْرُوضُ مِن ذلك بغيرِ خِلافٍ في المذهبِ (¬1) خَمْسَةٌ؛ النِّيَّةُ، وغَسْلُ الوَجْهِ، وغَسْلُ اليَدَين، ومَسْحُ الرأْسِ، وغَسْلُ الرِّجْلَين. وخمسةٌ فيها رِوايتان؛ المَضْمَضَةُ، والاسْتِنْشاقُ، والتَّسْمِيَةُ، والتَّرتِيبُ، والمُوالاةُ. وقد ذَكَرْنا عَدَدَ المَسْنُونِ فيما مَضَى. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «المذاهب».

باب المسح على الخفين

بابُ المَسْحِ على الخُفَّين ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْحُ على الخُفَّين جائِزٌ عندَ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُبارَكِ: ليس في المَسْحِ على الخُفَّين اخْتِلافٌ أنَّه جائِزٌ. وعن الحسنِ قال: حَدَّثَنِي سَبْعُون مِن أصحابِ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح علي الخُفَّين. والأصلُ فيه ما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: كنتُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فأهْوَيتُ لأنْزِعَ خُفَّيه، فقال: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتينِ». فمَسَحَ عليهما. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم تَوَضَّأَ، ومَسَح على خُفَّيه. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، من كتاب الوضوء، وفي: باب جبة الصوف في الغزو، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 1/ 62، 7/ 186. ومسلم، في: ياب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 230. كما أخرجه أبو داود، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 33. والدارمي، في: باب في المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 181. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 245، 251، 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). قال إبراهيمُ: كان يُعْجِبُهم هذا الحديثُ؛ لأنَّ إسلامَ جَرِيرٍ كان بعدَ نُزُولِ المائِدَةِ. قال الإِمامُ أحمدُ: ليس في قَلْبِي مِن المَسْحِ شَيءٌ، فيه أربعون حديثًا عن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصلاة في الخفاف، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 108. ومسلم، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 228. كما أخرجه أبو داود، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 24. والترمذي، في: باب المسح على الخفين، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 139. والنسائي، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة، وفي: باب الصلاة في الخفين، من كتاب القبلة. المجتبى 1/ 79، 2/ 57. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 180، 181. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 358، 361، 363، 364.

110 - مسألة: (يجوز المسح على الخفين)

يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّينِ، وَالْجُرْمُوقَينِ، وَالْجَوْرَبَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال: المَسْحُ أفْضَلُ مِن الغَسْلِ. لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه إنَّما طَلَبُوا الفَضْلَ. وهذا مذهبُ الشَّعْبِيِّ، والحَكَمِ، وإسحاقَ؛ لأنَّه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ» (¬1). ولأنَّ فيه مُخالفَةَ أهلِ البِدَعِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ فيه رِوايَتَين؛ إحْداهُما، المَسْحُ أفْضَلُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثّانيةُ، الغَسْلُ أفْضَلُ؛ لأنَّه المَفْرُوضُ في كِتابِ اللهِ تعالى، والمَسْحُ رُخْصَةٌ. وروَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ أنَّه قال: كلُّه جائِزٌ، المَسْحُ والغَسْلُ، ما في قَلْبِي مِن المَسْحِ شيءٌ، ولا مِن الغَسْلِ. وهذا قول ابنِ المُنْذِرِ. وروى عن عمر، أنَّه أمَرَهم أن يَمْسَحُوا على أخْفافِهِم، وخَلَع هوْ خُفَّيه، وتَوَضَّأَ، وقال: حُبِّبَ إليَّ الوُضُوءُ. وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: إنِّي لَمُولَعٌ بغَسْلِ قَدَمَيَّ، فلا تَقْتَدُوا بي (¬2). 110 - مسألة: (يَجُوزُ المَسْحُ على الخُفَّين) لِما ذكرْنا. (و) يَجُوز على (الجُرْمُوقَين). الجُرْمُوقُ مِثالُ الخُفِّ، إلَّا أَنَّه يُلْبَسُ فوقَ الخُفِّ في البلادِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 786. والنسائي، في: باب العلة التي من أجلها قيل: ما يكره في الصيام في السفر، وذكر الاختلاف، وباب ذكر الاختلاف على علي بن المبارك في ما يكره في الصيام في السفر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 147. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 71، 108، 4/ 158. (¬2) روى البيهقي نحوه عن أبي أيوب، في: باب جواز نزع الخف وغسل الرجل إذا لم يكن فيه رغبة عن السنة، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البارِدَةِ، فيَجُوزُ المَسْحُ عليه، قِياسًا على الخُفِّ. ومِمَّن قال بجَوازِ المَسْحِ عليه إذا كان فوقَ الخُفِّ، الحسنُ بنُ صالحٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ في الجَدِيدِ: لا يَمْسَحُ عليه. وسَنَذْكُرُ ذلك إن شاءَ اللهُ، فيما إذا لَبِس خُفًّا فوقَ خُفٍّ آخَرَ. واللهُ أعلمُ. (والجَوْرَبَين) قال ابنُ المُنْذِرِ: يُرْوَى إباحَةُ المَسْحِ على الجَوْرَبَين عن تسعةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ عليٍّ، وعَمّارٍ، وابنِ مسعودٍ، وأنَسٍ، وابنِ عُمَرَ، والبَرَاءِ، وبِلالٍ، وابنِ أبي أوْفَى، وسَهْلِ بنِ سعدٍ. وهو قولُ عَطاءٍ، والحسنِ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ المُبارَكِ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، ومحمدٍ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وغيرُهم: لا يَجُوزُ المَسْحُ عليهما، إلَّا أن يُنْعَلا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيهما، فهُما كالرَّقِيقَين. ولَنا، ما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح على الجَوْرَبَين والنَّعْلَين. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ (¬1). وهذا يَدُلُّ على أنَّهُما لم يَكُونا مَنْعُولَين؛ لأنَّه لو كان كذلك، لم يَذْكُرِ النَّعْلَين، فإنَّه لا يُقالُ مَسَحْتُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب المسح على الجوربين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 35. والترمذي، في: باب في المسح على الجوربين والنعلين، من كتاب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 148. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 185. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 252.

111 - مسألة؛ قال: (والعمامة والجبائر)

وَالْعِمَامَةِ، وَالْجَبَائِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الخُفِّ ونَعْلِه. ولأنَّ الصحابةَ، رَضِي اللهُ عنهم، مَسَحُوا على الجَوارِبِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهِم. والجَوْرَبُ في مَعْنَى الخُفِّ، لأنَّه مَلْبُوسٌ ساتِرٌ لمَحَلِّ الفَرْضِ، يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه، أشْبَهَ الخُفَّ. وقَوْلُهم: لا يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيهما. قُلْنا: إنَّما يَجُوزُ المَسْحُ عليهما إذا ثَبَت بنَفْسِه، وأمْكَن مُتابَعَةُ المَشْي فيه، وإلَّا فلا. فأمّا الرَّقِيقُ فليس بساتِرٍ. فصل: وسُئل أحمدُ عن جَوْرَبٍ انْخَرَقَ، فكَرِهَ المَسْحَ عليه، ولَعَلَّه إنَّما كَرِهَه؛ لأنَّ الغالِبَ فيه الخِفَّةُ، وأنَّه لا يَثْبُتُ بنَفْسِه. فإن كان مثلَ جَوْرَبِ الصُّوفِ في الصَّفاقَةِ، فلا فَرْقَ. فإن كان لا يَثْبُتُ إلَّا بالنَّعْلِ، أُبِيحَ المَسْحُ عليه، ما دامَ النَّعْلُ عليه؛ لحديثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ. فإن خَلَع النَّعْلَ انْتَقَضَتِ الطهارةُ؛ لأنَّ ثُبُوتَ الجَوْرَب أحَدُ شَرْطَيْ جَوازِ المَسْحِ، وإنَّما حَصَل بالنَّعْلِ، فإذا خَلَعَها، زال الشَّرْطُ المُبِيحُ للمَسْحِ، فبَطلَتِ الطهارةُ، كما لو ظَهَر القَدَمُ. قال القاضي: يَمْسَحُ على الجَوْرَبِ والنَّعْلِ، كما جاءَ في الحديثِ. والظّاهِرُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، إنَّما مَسَح على سُيُورِ النَّعْلِ التي على ظاهِرِ القَدَمِ، فأمّا أسْفَلُه وعَقِبُه، فلا يُسَنُّ مَسْحُه مِن الخُفِّ، فكذلك مِن النَّعْلِ. 111 - مسألة؛ قال: (والعِمامَةِ والجَبائِرِ) ومِمَّن قال بجَوازِ المَسْحِ على العِمامَةِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، رضي الله عنه. وبه قال عُمَرُ بنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَطَّابِ، وأنَسٌ، وأبو أُمامَةَ. ورُوِيَ عن سعدِ (¬1) بنِ مالكٍ، وأبي الدَّرْداءِ، رَضِي اللهُ عنهم. وهو قَوْلُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والحسنِ، وقَتادَةَ، وابنِ المُنْذِرِ، وغَيرِهم. وقال عُرْوَة، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والقاسِمُ (¬2)، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي: لا يَمْسَحُ عليها؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬3). ولأنَّه لا تَلْحَقُه المَشَقَّةُ بنَزْعِها، أَشْبَهَتِ الكُمَّين. ولَنا، ما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: تَوَضَّأَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , ومَسَح على الخُفَّين، والعِمامَةِ (¬4) قال التِّرمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وروَى مسلمٌ (¬5)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح على الخُفَّين والخِمارِ. وعن عَمْرِو بنِ ¬

(¬1) في الأصل: «سعيد». وهو سعد بن مالك بن أُهيب ابن أبي وقّاص، القرشي الزهري، أبو إسحاق، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى. الإصابة 3/ 73 - 77. (¬2) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، القرشي التيمي، أحد الفقهاء السبعة. كان عالما ورعا كثير الحديث ثقة. توفي سنة ست ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 53 - 60. (¬3) سورة المائدة 6. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب المسح على الناصية والعمامة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 230، 231. وأبو داود، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 33 - والترمذي، في: باب ما جاء في المسح على الجوربين والعمامة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 150: النسائي، في: باب المسح على العمامة مع الناصية، وباب كيف المسح، من كتاب الطهارة. المجتبي 1/ 65، 66. وعن غير المغيرة بن شعبة أخرجه البخاري، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 62. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 186. والدارمي، في: باب المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 180. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 179، 5/ 281، 288، 439، 440. (¬5) في: باب المسح على الناصية والعمامة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 231. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المسح على الجوربين والعمامة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 151. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَيَّةَ، قال: رَأَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح على عِمامَتِه وخُفَّيه. رَواه البخاريُّ (¬1). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصّحابةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهِم. ولأنَّه عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُه في التَّيَمُّمِ، فجازَ المَسْحُ علي حائِلِه، كالقَدَمَين. والآيةُ تَنْفِي ما ذَكَرْناه؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنٌ لكلام اللهِ، وقد مَسَح على العِمامَةِ، وأمَرَ بالمَسْحِ عليها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ بالآية المَسْحُ على الرَّأْسِ وحائِلِه. ومِمّا يُبَيِّنُ ذلك، أنَّ المَسْحَ في الغالِبِ إنَّما يَكُونُ على الشَّعَرِ، ولا يُصِيبُ الرَّأْسَ وهو حائِلٌ، كذلك العِمامَةُ، فإنَّهُ يقالُ لِمَن لَمَس (¬2) عِمامَةَ إنسانٍ أو قَبَّلها: قَبَّلَ رَأْسَه. واللهُ أعلمُ. فصل: [ويَجُوزُ المَسْحُ] (¬3) على الجَبائِرِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صاحِبِ الشَّجَّةِ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ [أو يَعْصِرَ] (¬4) عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، وَيَمْسَحَ عَلَيهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ». رَواه أبو داودَ (¬5). ولِما روَى عليٌّ، رَضِي اللهُ عنه، قال: انكَسَرَتْ إحْدَى ¬

= والنسائي، في: باب مسح العمامة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 64. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 281، 288، 439، 440، 6/ 12 - 15. (¬1) في: باب المسح على الخفين، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 62. كما أخرجه النسائي، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 69. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 139، 179. (¬2) في م: «مسح». (¬3) في م: «والمسح». (¬4) سقط من: الأصل. وسياق أبي داود: «ويعصر أو يعصب». (¬5) في: باب [في] المجروح يتيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 82.

112 - مسألة: (وفي المسح على القلانس، وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن، روايتان)

وَفِي الْمَسْحِ عَلَى الْقَلَانِسِ، وَخُمُرِ النِّسَاءِ الْمُدَارَةِ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زَنْدَيَّ (¬1)، فأمَرَني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن أمْسَحَ على الجَبائِرِ. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وهذا قولُ الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، ومالكٍ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيه: يُعِيدُ كل صلاةٍ صَلّاها؛ لأنَّ اللهَ تعالى أَمَر بالغَسْلِ، ولم يَأْتِ به. ووَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْنا. ولأنَّه مَسَح على حائِلٍ أُبِيحَ له المسْحُ عليه، فلم تَجِبْ معه الإِعادَةُ كالخُفِّ. 112 - مسألة: (وفي المَسْحِ على القَلانِسِ، وخُمُرِ النِّساءِ المُدارَةِ تحتَ حُلُوقِهِنَّ، رِوايَتان) أرادَ القَلانِسَ المُبَطَّناتِ، كدَنِّيَّاتِ (¬3) القُضاةِ، والنّومياتِ (¬4) فأمّا الكَلتةُ (¬5) فلا يَجُوزُ المَسْحُ عليها، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّها لا تَسْتُرُ جميعَ الرَّأسِ عادةً، ولا تَدُومُ عليه، فأمّا القَلانِسُ ¬

(¬1) في الأصل: «يدي». (¬2) في: باب المسح على الجبائر، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 215. (¬3) دنية القاضي: قلنسوته، شبهت بالدن. (¬4) في م: «والمنومنات» ولم نعرف «النوميات» أيضًا. ولعل الصواب «النونيات» تشبيها للعمامة برسم النون. (¬5) الكلتة أو الكلوتة: غطاء للرأس، ولها كلاليب بغير عمامة فوقها، يلبسها السلطان والأمراء وسائر العساكر. معجم دوزى 387.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التي ذَكَرْناها، ففيها رِوايتان؛ إحْداهُما، لا يَجُوزُ المَسْحُ عليها. رَواه عنه إسحاقُ بنُ إبراهيمَ. وهو قولُ الأوْزاعِيِّ، وسعيدِ بن عبدِ العزيزِ، ومالكٍ، والشافعيِّ، والنُّعْمانِ (¬1)، وإسحاقَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلمُ أحَدًا قال به، إلَّا أنَّه يُرْوَى عن أنَسٍ أنَّه مسَح على قُلَنْسِيَتِه (¬2). لأنَّها لا يَشُقُّ نَزْعُها، أَشْبَهَتِ الكَلتةَ، ولأنَّ العِمامَةَ التي ليست مُحَنَّكَةً ولا ذُؤابَةَ لها، لا يَجُوزُ المَسْحُ عليها، [وهذه أدْنَى منها. والرِّوايةُ الثّانِيَةُ، يجوزُ المَسْحُ عليها] (¬3). وهو اختيارُ الخَلّالِ. قال: لأنَّه قد رُوِيَ عن رَجُلَين مِن أصحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأسانِيدَ صِحاحٍ، فرَوَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن عُمَرَ، أنَّه قال: إن شاءَ حَسَر عن ¬

(¬1) أي: أبو حنيفة. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المسح على القلنسوة، من كتاب الطهارة. المصنف 1/ 190. وابن أبي شيبة، في: باب المسح على الجوربين، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 188، 189. والبيهقي، في: باب ما ورد في الجوربين والنعلين، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 285. (¬3) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأْسِه، وإن شاءَ مَسَح على قُلَنْسِيَتِه وعِمامَتِه. وروَى بإسْنادِه عن أبي موسى، أنَّه خَرَج مِن الخَلاءِ، فمَسَحَ على القَلَنْسُوَةِ. ولأنَّه مَلْبُوسٌ مُعْتادٌ يَسْتُرُ الرَّأْسَ، أَشْبَهَ العِمامَةَ المُحَنَّكَةَ، وفارَقَ العِمامَةَ التي قَاسُوا عليها؛ لأنَّها مَنْهِيٌّ عنها. واللهُ أعلمُ. وفي مَسْحِ المرأةِ على خِمارِها رِوايَتان، إحْداهُما، يَجُوزُ. يُرْوَى ذلك عن أُمِّ سَلَمَةَ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ولأنَّه مَلْبُوسٌ للرَّأْسِ يَشُقُّ نَزْعُه، أشْبَهَ العِمامَةَ. والثانيةُ، لا يَجُوزُ. وهو قولُ نافِع، والنَّخَعِيِّ، وحَمّادٍ، والأوْزاعِيِّ، ومالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّه مَلْبُوسٌ يَخْتَصُّ المرأةَ، أشْبَهَ الوقايَةَ، ولا يُجْزِئٌ (¬1) المَسْحُ على الوقايَةِ، رِوايَةً واحِدَةً. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّها لا يَشُقُّ نَزْعُها، فهي كطاقِيَّةِ الرَّجُلِ. ¬

(¬1) في م: «يجوز».

113 - مسألة؛ قال: (ومن شرطه أن يلبس الجميع بعد كمال الطهارة)

وَمِن شَرْطِهِ أَنْ يَلْبَسَ الْجَمِيعَ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 113 - مسألة؛ قال: (ومِن شَرْطِه أن يَلْبَسَ الجَمِيعَ بعدَ كَمالِ الطهارةِ) لا نَعْلَمُ في اشْتِراطِ تَقَدُّمِ الطهارة لكُلِّ ما يَجُوزُ المَسْحُ عليه خِلافًا، إلَّا الجَبِيرَةَ، ووَجْهُه ما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: كنتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فأهْوَيتُ لأنْزِعَ خُفَّيه، فقال: «دَعْهُمَا فَإنِّي أَدخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَينِ». فمَسَحَ عليهما. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعنه قال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في أول الباب صفحة 377.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيَمْسَحُ أحَدُنا على خُفَّيه. فقال: «نَعَمْ، إذَا أَدخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ». رَواه الدّارَقطْنِيُّ (¬1). فأمّا إن غَسَل إحْدَى رِجْلَيه، ثم لَبِس الخُفَّ، ثم غَسَل الأخْرَى وأدْخَلَها الخُفَّ، لم يَجُزِ المَسْحُ أيضًا. وهو قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ. ونَحْوُه عن مالكٍ. وعنه، أنَّه يَجُوزُ، رَواها أبو طالِبٍ عنه. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّه أحْدَثَ بعدَ كَمالِ الطهارةِ واللُّبْسِ، فجازَ، كما لو نَزَع الخُفَّ الأوَّلَ ثم لَبِسَه. وكذلك الحُكْمُ في مَن مَسَح رَأْسَه ولَبِس العِمامَةَ، ثم غَسَل رِجْلَيه، قِياسًا على الخفِّ. وقد قِيلَ، في مَن غَسَل رِجْلَيه ولَبِس خُفَّيه، ثم غَسَل بَقِيَّةَ أعْضائِه: إذا قُلْنا: إنَّ التَّرْتِيبَ ليس بشَرْطٍ. جازَ له المَسْحُ. ووَجْهُ الأولَى، ما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَين، وهو يَدُلُّ على وُجُودِ الطهارةِ فيهما جَمِيعًا وَقْتَ إدْخالِهِما، ولم يُوجَدْ ذلك وقتَ لُبْسِ الأولَى. ولأنَّ ما اعْتُبِرَ له الطهارةُ اعْتُبرَ له جَمِيعُها، كالصلاةِ. وفارَقَ ما إذا نَزَع الخُفَّ الأوَّلَ، ثم لَبِسَه؛ لأَنَّه لَبِسَه بعدَ كَمالِ الطهارةِ. ¬

(¬1) في: باب الرخصة في المسح على الخفين. .، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 194.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: كَرِهِ أحمدُ لُبْسَ الخُفِّ، وهو يُدافِعُ أحَدَ الأخْبَثَين؛ لأنَّ الصلاةَ مَكْرُوهَةٌ بهذه الطهارةِ، فكذلِكَ (¬1) اللُّبْسُ الذي يُرادُ للصلاةِ. والأوْلَى، أن لا يُكْرَهَ. ورُوِيَ عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ، أنَّه كان إذا أرادَ أن يَبُولَ، لَبِس خُفَّيه. ولأنَّها طهارةٌ كامِلَةٌ، أشْبَهَ ما لو لَبِسَهُما عندَ غَلَبَةِ النُّعاسِ. والصلاةُ إنَّما كُرِهَتْ للحاقِنِ؛ لأنَّ اشْتِغال قَلْبِه بمُدافَعَةِ الأخْبَثَين، يَذْهَبُ بخُشُوعِ الصلاةِ، ويَمْنَعُ الإِتْيانَ بها على الكَمالِ، ويَحْمِلُه على العَجَلَةِ، ولا يَضُرُّ ذلك في اللبْسِ. فصل: فإن تَطَهَّر، ثم لَبِس الخُفَّ، فأحْدَثَ قبلَ بُلُوغِ الرِّجْلِ قَدَمَ الخُفِّ، لم يَجُزْ له المَسْحُ؛ لأنَّ الرِّجْلَ حَصَلَتْا في مَقَرِّها وهو مُحْدِثٌ، فصارَ كما لو بَدَأ اللُّبْسَ وهو مُحْدِثٌ. ¬

(¬1) في م: «وكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَيَمَّمَ، ثم لَبِس الخُفَّ، لم يَكُنْ له المَسْحُ؛ لأنَّه لَبِسَه على طهارةٍ غيرِ كامِلَةٍ. ولأنَّها طهارةُ ضَرُورَةٍ، بَطَلَتْ مِن أصْلِها، فصارَ كاللّابِسِ له على غيرِ طهارةٍ. ولأنَّ التَّيَمُّمَ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، فقد لَبِسَه وهو مُحْدِث. فأمّا إن تَطَهَّرَتِ المُسْتَحاضَةُ، ومَن به سَلَسُ البَوْلِ، وشِبْهُهُما، ولَبسُوا خِفافًا، فلهم المَسْحُ عليها. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ طَهارَتَهُم كامِلَةٌ في حَقِّهم. قال ابنُ عَقِيل: لأنَّها مُضْطَرَّةٌ إلى التَّرَخُّصِ، وأحَقُّ مَن يَتَرَخَّصُ المُضْطرُّ. فإنِ انْقَطعَ الدَّمُ، أو زالتِ (¬1) الضَّرُورَةُ، بَطَلَتِ الطهارةُ مِن أصْلِها، ولم يَكُنْ لهما المَسْحُ، كالمُتَيَمِّمِ إذا وَجَد الماءَ. وإن لَبِسَ الخُفَّ بعدَ طهارةٍ مَسَح فيها على العِمامَةِ، أو العِمامَةَ بعدَ ¬

(¬1) في م: «وزالت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طهارةٍ مَسَح فيها على الخُفِّ، فقال بَعْضُ أصحابنا: ظاهِرُ كلام أحمدَ أنَّه لا يَجُوزُ المَسْح؛ لأنَّه لبِس على طهارةٍ مَمْسُوحٍ فيها على بَدَلٍ، فلم يُسْتَبَحِ المَسْحُ باللُّبْسِ فيها، كما لو لَبِس خُفًّا على طهارةٍ مَسَح فيها على خُفٍّ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ جَوازَ المَسْحِ؛ لأنَّها طهارة كامِلَة، وكل واحِدٍ منهما ليس ببَدَلٍ عن الآخَرِ، بخِلَافِ الخُفِّ المَلْبُوسِ على خُفٍّ مَمْسُوحٍ عليه. فصل: فإن لَبِس الجَبِيرَةَ على طهارةٍ مَسَح فيها على خُفٍّ أو عِمامَةٍ، وقُلْنا: ليس مِن شَرْطِها الطهارةُ. جاز المَسْحُ عليها. وإنِ اشْتَرَطْنا الطهارةَ، احْتَمَلَ أن يَكُونَ كالعِمامَةِ المَلْبُوسَةِ على طهارةٍ مَسَح فيها على الخُفِّ، واحْتَمَلَ جَواز المَسْحِ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ مَسْحَها عَزِيمَة. وإن لَبِس الخُفَّ على طهارةٍ مَسَح فيها على الجَبِيرَةِ، جازَ المَسْحُ عليه؛ لأنَّها عَزِيمَة، ولأنَّها إن كانت ناقِصَةً (¬1)، فهو لنَقْصٍ لم يَزَلْ، فلم يَمْنَعْ كطهارةِ (¬2) المُسْتَحاضَةِ. وإن لَبِس الجَبِيرَةَ على طهارةٍ مَسَح فيها على الجَبِيرَةِ، جازَ المَسْحُ؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في م: «نافعة». (¬2) في م «طهارة».

114 - مسألة؛ قال: (إلا الجبيرة، على إحدى الروايتين)

إلَّا الجَبِيرَةَ على إحْدَىْ الرِّوايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 114 - مسألة؛ قال: (إلَّا الجَبِيرَةَ، على إحْدَىْ الرِّوايَتَينِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أبي عبدِ اللهِ، رَحِمَه اللهُ، في الجَبِيرَةِ، فرُوِي أنَّه لا يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ الطهارَةِ لها. اخْتارَه الخَلّالُ، وذلك لِما ذكَرْنا مِن حديثِ جابِرٍ في الذي أصابَتْه، الشَّجَّةُ، فإَّنه قال: «إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُه أنْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ويَمْسَحَ عَليها». ولم يَذْكُرِ الطهارةَ. وكذلك حديثُ عليٍّ، لم يَأْمُرْه بالطهارةِ (¬1). ولأنَّ اشْتِراطَ الطهارةِ لها، يَغْلُظُ على النّاسِ، ويَشُقُّ عليهم. ولأنَّ المَسْحَ عليها إنَّما جازَ لمَشَقةِ نَزْعِها، وهو مَوْجُودٌ إذا لَبِسَها على غيرِ طهارةٍ. ويَحْتَمِلُ أن يُشْتَرَطَ له التَّيمُّمُ عندَ العَجْزِ عن الطهارةِ، فإنَّ في حديثِ جابرٍ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ، أوْ يَعْصِرَ عَلَى جُرْحِهِ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَليهَا». ولأنَّها عِبادَةٌ اشْتُرِطَتْ لها الطهارةُ، فقامَ التَّيَمَّمُ مَقامَها عندَ العَجْزِ عنها (¬2) كالصلاةِ. ¬

(¬1) تقدما في صفحة 383، 384. (¬2) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ عنه أنَّه يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ الطهارةِ عليها، وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه حائِلٌ يُمْسَحُ عليه، فاشْتُرِطَ تَقَدَّمُ الطهارةِ على لُبْسِه، كسائِرِ المَمْسُوحاتِ. فعلى هذا، إذا لَبِسَها على غيرِ طهارةٍ، ثم خاف مِن نَزْعِها، تَيَمَّمَ لها؛ لأنَّه مَوْضِعٌ يَخافُ الضَّرَرَ باسْتِعْمالِ الماءِ فيه، أشْبَهَ الجُرْحَ. فصل: ولا يَحْتاجُ مع مَسْحِها إلى تَيَمُّمٍ. قال شيخُنا: ويَحْتَمِلُ أن يَتَيَمَّمَ مع مَسْحِها فيما إذا تَجاوَزَ بها مَوْضِعَ الحاجَةِ؛ لأنَّ ما على مَوْضِع الحاجَةِ يَقْتَضِي المَسْحَ، والزّائِدُ يَقْتَضِي التَّيَمُّمَ، وكذلك فيما إذا شَدَّها على غيرِ طهارةٍ؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ في جَوازِ المَسْحِ عليها، فإذا جَمَع بينَهما، خَرَج مِن الخِلافِ. وللشافعيِّ في الجَمْعِ بينَهما قولانِ في الجُمْلَةِ، لحديثِ صاحبِ الشَّجَّةِ. ولَنا، أنَّه مَحَلٌّ واحِدٌ، فلا يَجْمَعُ فيه بينَ بَدَلَين، كالخُفِّ (¬1). ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 357.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الشَّدِّ على كَسْرٍ أو جُرْحٍ، لحديثِ صاحبِ الشَّجَّةِ، فإنَّها جُرْحُ الرَّأسِ، وقِياسًا على الكَسْرِ. وكذلك إن وَضَع على جُرْحِه دَواءً، وخاف مِن نَزْعِه، مَسَح عليه. نَصَّ عليه في رِوايةِ الأثرَمِ، وذلك لِما روَى الأثْرَمُ بإسنْادِه، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه خَرَجَتْ بإبْهامِه قُرْحَةٌ، فألْقَمَها مَرارَةً، وكان يَتَوَضَّأُ، ويَمْسَحُ عليها. ولو انْقَلَعَ ظُفْرُ إنسانٍ، أو كان بأْصْبُعِه جُرْحٌ يَخافُ إن أصابَه الماءُ أن يَزرَقَّ الجُرْحُ، جازَ المَسْحُ عليه في المَنْصُوصِ. وقال القاضي، في اللُّصُوقِ على الجُرُوحِ: إن لم يَكُنْ في نَزعِه ضَرَرٌ، نَزَعَه وغَسَل الصَّحِيحَ، وتَيَمَّمَ للجَرِيحِ، ويَمْسَحُ على مَوْضِع الجُرْحِ، وإن كان في نَزْعِه ضَرَر مَسَح عليه، كالجَبِيرَةِ. فإن كان في رِجْلِه شَقٌّ، فجَعَلَ فيه قِيرًا، فقال أحمدُ: يَنْزِعُه ولا يَمْسَحُ عليه، هذا أهْوَنُ، هذا لا يُخافُ منه. فقيلَ له: متى يَسَعُ صاحِبَ الجُرْحِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَمْسَحَ عليه؟ قال: إذا خَشِيَ أن يَزْدادَ وَجَعًا، أو شِدَّةً. وتعليلُ أحمدَ في القِيرِ بسُهُولَتِه، يَقْتَضِي أنَّه متى كان يُخافُ منه، جاز المَسْحُ عليه، كالأُصْبُعِ المَجْرُوحَةِ إذا ألْقَمَها مَرارَةً أو عَصَبَها. قال مالكٌ، في الظُّفْرِ يَسْقطُ: يَكْسُوه مَصْطَكَا (¬1)، ويَمْسَحُ عليه وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي. ¬

(¬1) المصطكا: علك رومي.

115 - مسألة؛ قال: (ويمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن)

وَيَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَكُنْ على الجرْحِ عِصابٌ، غَسَل الصَّحِيحَ، وتَيَمَّمَ للجَرِيحِ، ولم يَمْسحْ (¬1). وقد روَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ، في المَجْرُوحِ والمَجْدُورِ يُخافُ عليه: يَمْسَحُ مَوْضِعَ الجُرْحِ، ويَغْسِلُ ما حَوْلَه. يَعْنِي: يَمْسَحُ، إذا لم يَكُنْ عِصابٌ. واللهُ أعلمُ. 115 - مسألة؛ قال: (ويَمْسَحُ المُقِيمُ يومًا ولَيلَةً، والمُسافِرُ ثلاثةَ أيامٍ ولَيالِيَهُنَّ) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا في المذهبِ. وهو قولُ عُمَرَ، وعليٍّ، ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، رَضِي اللهُ عنهم. وبه قال شُرَيحٌ (¬1)، وعطاءٌ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأي. وهو ظاهِرُ قولِ الشافعيِّ. وقال اللَّيثُ: يَمْسَحُ ما بَدا له. وهو قولُ أكثرِ أصحابِ مالكٍ. وكذلك قولُ مالكٍ في المُسافرِ. وعنه في المُقِيمِ رِوايتان، وذلك لِما روَى أُبَيُّ بنُ عِمارَةَ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنَمْسَحُ (¬2) على الخُفَّين؟ قال: «نَعَمْ». قلتُ: يَوْمًا؟ قال: «وَيَوْمَينِ». قلتُ: وثلاثةً؟ قال: «وَمَا شِئْتَ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّه مَسْحٌ في طهارةٍ، فلم يَتَوَقَّتْ، كمَسْحِ الرَّأْسِ والجَبِيرَةِ. ولَنا، ما روَى عليٌّ قال: جَعَل رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيّامٍ ولَيالِيَهُنَّ للمُسافِرِ، ويومًا ولَيلَةً للمُقِيم. رَواه مسلمٌ (¬4). وعن عَوْفِ بنِ مالكٍ الأشْجَعِي، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمَسْحِ على الخُفَّينِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثلاثةَ أيّام ولَيالِيَهُنَّ للمُسافِرِ، ويومًا ¬

(¬1) أبو أمية شريح بن الحارث القاضي، استقضاه عمر رضي الله عنه على الكوفة، وبقي في القضاء خمسا وسبعين سنة، ثم استعفى الحجاج فأعفاه، وتوفي سنة اثنتين وثمانين، عن مائة وعشرين سنة. طبقات الفقهاء للشيرازي 80. (¬2) في م: «نمسح». وفي سنن أبي داود: «أمسح». (¬3) في: باب التوقيت في المسح، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 35. (¬4) في: باب التوقيت في المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 232. كما أخرجه النسائي، في: باب التوقيت في المسح على الخفين للمقيم، من كتاب الطهار. المجتبى 1/ 72. والدارمي، في: باب التوقيت في المسح، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 181. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 96، 100، 120، 133، 134، 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَيلَةً للمُقِيمِ. رواه الإِمام أحمدُ، والدّارَقُطْنِيُّ (¬1). قال الإمامُ أحمدُ: هذا أجْوَدُ حديثٍ في المَسْحِ؛ لأنَّه في غَزْوَةِ تَبُوكَ، آخِرِ غَزْوَةٍ غَزاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وحَدِيثُهم ليس بالقَويِّ، وقد اخْتُلِفَ في إسنادِه. قاله (¬2) أبو داودَ (¬3). ويَحْتَمِلُ أنَّه، قال: «وَمَا شِئْتَ» مِنَ الْيَوْمِ واليَوْمَين والثَّلاثَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه يَمْسَحُ ما شاءَ، إذا نَزَعَها عندَ انْتِهاء مُدَّتِه، ثم لَبِسَها. وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالتَّيَمُّمِ، ومَسْحُ الجَبِيرَةِ عِندَنا مُوَقَّتٌ بإمْكانِ نَزْعِها. واللهُ أعلمُ. فصل: وسَفَرُ المَعْصِيَةِ كالحَضَرِ في مُدَّةِ المَسْحِ؛ لأنَّ ما زادَ على اليومِ واللَّيلَةِ رُخصَةٌ، والرُّخَصُ لا تُسْتَباحُ بِالمَعْصِيَةِ. واللهُ أعلمُ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن لا يُباحَ له المَسْحُ أصْلًا، لكَوْنِه رُخصَةً. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في: المسند 6/ 27. والدارقطني، في: باب الرخصة في المسح على الخفين. . .، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 197. (¬2) في الأصل: «قال». (¬3) في: باب التوقيت في المسح، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 35.

116 - مسألة؛ قال: (إلا الجبيرة، فإنه يمسح عليها إلى حلها)

إلا الْجَبِيرَةَ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيهَا إِلَى حَلِّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 116 - مسألة؛ قال: (إلَّا الجَبِيرَةَ، فإنَّه يَمْسَحُ عليها إلى حَلِّها) لأنَّ مَسْحَها للضَّرُورَةِ فيُقَدَّرُ بقَدْرِها، والضَّرُورَةُ تَدْعُو إلى مَسْحِها إلى حَلِّها، بخِلافِ غيرِها. فصل: ويُفارِقُ مَسْحُ الجَبِيرَةِ الخُفَّ مِن خَمْسَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ والثاني، أنَّه لا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الطهارةِ لها، ولا يَتَقَدَّرُ مَسْحُها بمُدَّةٍ. وقد ذَكَرناهما. الثالثُ، أنَّه يَجِبُ اسْتِيعابُها بالمَسْحِ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في تَعْمِيمِها، بخِلافِ الخُفِّ. الرابعُ، أنَّه لا يَجُوزُ المَسْحُ عليها إلَّا عندَ خَوْفِ الضَّرَرِ بنَزْعِها. الخامسُ، أنَّه يَمْسَحُ عليها في الطهارةِ الكُبْرَى؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بنَزْعِها فيها، بخِلافِ الخُفِّ.

117 - مسألة: (وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس. وعنه، من المسح بعده)

وَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَعَنْهُ، مِنَ الْمَسْحِ بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 117 - مسألة: (وابْتداءُ المُدَّةِ مِن الحَدَثِ بعدَ اللُّبْسِ. وعنه، مِن المَسْحِ بعدَه) يَعْنِي: بعدَ الحَدَثِ. ظاهِرُ المذهبِ، أنَّ ابْتِداءَ المُدَّةِ مِن الحَدَثِ بعدَ اللُّبْسِ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ ابْتِداءَها مِن المَسْحِ بعدَ الحَدَثِ. يُرْوَى ذلك عن عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنه. وهو اخْتِيارُ ابنِ المُنْذِرِ، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ» (¬1). وقال الشَّعْبِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ: يَمْسَحُ المُقِيمُ خَمْس صَلَواتٍ، لا يَزِيدُ عليها. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى، ما نَقَلَه القاسِمُ بنُ زَكَرِيّا المُطَرِّزُ (¬2)، في حديثِ صَفْوانَ: «مِنَ الْحَدَثِ إلَى الْحَدَثِ». ولأنَّها عِبادَة مُؤقَّتَة، فاعْتُبِرَ أوَّلُ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في: المسند 5/ 213. (¬2) أبو بكر القاسم بن زكريا بن يحيى البغدادي المطرز المقرئ المحدث الثقة، صنف المسند والأبواب، وتصدر للإِقراء، وتوفي منة خمس وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 149، 150.

118 - مسألة؛ قال: (ومن مسح مسافرا، ثم أقام، أتم مسح مقيم)

وَمَنْ مَسَحَ مُسَافِرًا، ثُمَّ أَقَامَ، أَتَمَّ مَسْحَ مُقِيمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقْتِها مِن حينِ جَوازِ فِعْلِها، كالصلاةِ. ويَجُوزُ أن يَكونَ أرادَ بالخَبَرِ اسْتِباحَةَ المَسْحِ، دُونَ فِعْلِه. وأمّا تَقْدِيرُه بخَمْسِ صَلَواتٍ، فلا يَصِحُّ، لكَوْنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَّرَه بالوَقْتِ دُونَ الفِعْلِ، فعلى هذا يُمْكِنُ المُقِيمُ أن يُصَلِّيَ بالمَسْحِ سِتَّ صَلواتٍ، يُؤخِّرُ الصلاةَ، ثم يَمْسَحُ في اليومِ [الأوَّلِ ويُصَلِّيها في اليومِ] (¬1) الثّاني في أوَّلِ وَقْتِها قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، وإن كان له عُذْرٌ يُبِيحُ الجَمْعَ مِن مَرَضٍ أو غيرِه، أمْكَنَه أن يُصَلِّيَ سَبْعَ صَلَواتٍ، ويمكنُ المُسافِرُ أن يُصَلِّيَ سِتَّ عَشْرَةَ صلاةً، إن لم يَجْمَعْ، وسَبْعَ عَشرةَ صلاةً إن جَمَعَ، على ما فَصَّلْناه. واللهُ أعلمُ. 118 - مسألة؛ قال: (ومَن مَسَح مُسافِرًا، ثم أقامَ، أتَمَّ مَسْحَ مُقِيمٍ) وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه صارَ مُقِيمًا، فلم يَجُزْ له أن يَمْسَحَ مَسْحَ المُسافِرِ. ولأنَّها عِبادَة تَخْتَلِفُ بالحَضَرِ والسَّفَرِ، فإذا ابْتَدأها في السَّفَرِ، ثم حَضَر في أثْنائِها، غَلَب حُكْمُ ¬

(¬1) سقط من: «م».

119 - مسألة: (وإن مسح مقيما، ثم سافر أوشك في ابتدائه، أتم مسح مقيم. وعنه، يتم مسح مسافر)

وَإنْ مَسَحَ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ، أوْ شَكَّ فِي ابْتِدَائِهِ، أَتَمَّ مَسْحَ مُقِيمٍ. وَعَنْهُ، يُتِمُّ مَسْحَ مُسَافِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَضَرِ، كالصلاةِ. فإن كان قد مَسَح يومًا ولَيلَةً، ثم أقامَ أو قَدِم، خَلَع. وإن كان مَسَح أقَلَّ مِن يوم ولَيلَةٍ ثم أقامَ أو قَدِمَ، أتَمَّ يومًا ولَيلَةً، لِما ذَكَرْنا. ولو مَسَح في السَّفَرِ أكثرَ مِن يوم ولَيلَةٍ، ثم دَخَل في الصلاةِ، فنَوَى الإقامَةَ في أثْنائِها، بَطَلَتْ؛ لأنَّ المَسْحَ بَطَل فبَطَلَتِ الطهارةُ التي هي شَرْطٌ لصِحَّةِ الصلاةِ. ولو تَلَبَّسَ بالصلاةِ في سَفِينَةٍ، فدَخَلَتِ البَلْدَةَ في أثنائِها، بَطَلَتْ صلاتُه لذلك. واللهُ أعلمُ. 119 - مسألة: (وإن مَسَح مُقِيمًا، ثم سافَرَ أوشَكَّ في ابتِدائِه، أتَمَّ مَسْحَ مُقِيم. وعنه، يُتِمُّ مَسْحَ مُسافِرٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، في هذه المسألةِ، فرُوِيَ عنه أنَّه يُتِمُّ مَسْحَ مُقِيمٍ. اخْتارَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيُّ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ؛ لأنَّها عِبادةٌ تَخْتَلِفُ بالحَضَرِ والسَّفَرِ، فإذا وُجِدَ أحَدُ طَرَفَيها في الحَضَرِ، غَلَب حُكْمُه، كالصلاةِ. ورُوِيَ عنه، أنه يُتِمُّ مَسْحَ مُسافِرٍ، سَواءٌ مَسَح في الحَضَرِ لصلاةٍ أو أكثرَ منها بعدَ أن لا تَنْقَضِيَ مُدَّةُ المَسْحِ، وهو حاضِر. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «يَمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أيَّام وَلَيَالِيَهُنَّ» (¬1). وهذا مُسافِر، ولأنَّه سافَرَ قبلَ انْقِضاءِ مُدَّةِ المَسْحِ، أشْبَهَ مَن سافَرَ بعدَ الحَدَثِ وقبلَ المَسْحِ. وهذا اختيارُ الخَلّالِ، وصاحِبِه. قال الخَلّالُ: رَجَع أحمدُ عن قَوْلِه الأوَّلِ إلى هذا. وإن شَكَّ، هل ابتَدَأ المَسْحَ في الحَضَرِ أو السَّفَرِ؟ بَنَى على مَسْحِ حاضِرٍ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ المَسْحُ مع الشَّكِّ في إباحَتِه، ولأنَّ الأصلَ الغَسْلُ، والمَسْحُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 397.

120 - مسألة: (وإن أحدث، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر)

وَمَنْ أَحْدَثَ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ الْمَسْحِ، أَتَمَّ مَسْحَ مُسَافِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُخْصَةٌ، فإذا شَكَكْنا في شَرْطِها، رَجَعْنا إلى الأصلِ. فإن ذَكَر بعدُ، أنَّه كان قد ابْتَدَأ المَسْحَ في السَّفرِ، جاز البِناءُ على مَسْحِ مُسافِرٍ. وإن كان قد صَلَّى بعدَ اليَوْمِ واللَّيلَةِ مع الشَّكِّ، ثم تَيَقَّنَ، فعليه إعادَةُ ما صَلَّى مع الشَّكِّ؛ لأنَّه صَلَّى بطهارةٍ لم يَكُنْ له أن يُصَلِّيَ بها، فهو كما لو صَلَّى يَعْتَقِدُ أنَّه مُحْدِثٌ، ثم ذَكَر أنَّه مُتَطَهِّرٌ، فإنَّ وُضُوءَه صَحِيحٌ، ويَلْزَمُه إعادَةُ الصلاةِ. وهذا التَّفرِيعُ على الرِّوايةِ الأُولَى. ومتى شَكَّ الماسِحُ في الحَدَثِ، بَنَى على الأحْوَطِ عندَه؛ لأنَّ الأصْلَ غَسْلُ الرِّجْلِ. فصل: فإن لَبِث وأحْدَثَ، وصَلَّى الظُّهْرَ، ثم شَكَّ هل مَسَحَ قبلَ الظُّهْرِ أو بعدَها، وقُلْنا: ابتِداءُ المُدَّةِ مِن حينِ المَسْحِ. بَنى الأمْرَ في المَسْحِ على أنَّه قبلَ الظُّهْرِ، وفي الصلاةِ على أنَّه مَسَحَ بعدَها؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ الصلاةِ في ذِمَّتِه، ووُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلِ، فرَدَدْنا كلَّ واحِدٍ منهما إلى أصْلِه. واللهُ أعلمُ. 120 - مسألة: (وإن أحْدَثَ، ثم سافَرَ قبلَ المَسْحِ، أتَمَّ مَسْحَ مُسافِرٍ) لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في ذلك، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمْسَحُ

121 - مسألة؛ قال: (ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض، ويثبت بنفسه)

وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلا عَلَى مَا يَسْتُرُ محَلَّ الْفَرْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمُسافِرُ ثَلاثَةَ أيَّامِ وَلَيَالِيَهُنَّ». وهذا حال ابْتِداء المَسْحِ كان مُسافِرًا. 121 - مسألة؛ قال: (ولا يَجُوزُ المَسْحُ إلَّا على ما يَسْتُرُ مَحَلَّ الفَرْضِ، ويَثْبُتُ بنَفْسِه) متى كان الخُفُّ ساتِرًا لمَحَلِّ الفَرْضِ، لا يُرَى منه الكَعْبان، لكَوْنِه ضَيِّقًا أو مَشْدُودًا، جاز المَسْحُ عليه. فأمّا المَقْطُوعُ مِن دونِ الكَعْبَين، فلا يَجُوزُ المَسْحُ عليه، وهذا قولُ الشافعيِّ وأبي ثَوْرٍ، وهو الصَّحِيحُ عن مالكٍ. وحُكيَ عن الأوْزاعِيِّ ومالكٍ، جَوازُ المَسْحِ عليه؛ لأنَّه خُفٌّ يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه، أشْبَهَ السّاتِرَ. ولَنا، أنَّه لا يَسْتُرُ مَحَلَّ الفَرْض، أشْبَهَ اللّالكةَ (¬1) والنَّعْلَين، ولأنَّ حُكْمَ ما ظَهَر الغَسْلُ، وحُكْمَ ما اسْتَتَرَ المَسْحُ، ولا سَبِيلَ إلى الجَمْع مِن غيرِ ¬

(¬1) كذا أورده المؤلف كما يرد في النسبة، فيقال «اللالكائي» نسبة إلى بيع اللوالك التي تلبس في الأرجل على غير قياس. ولعله المفرد. انظر: اللباب في تهذيب الأنساب 3/ 300، وتاج العروس 7/ 174.

122 - مسألة؛ قال: (ويثبت بنفسه)

ويثبتُ بِنَفْسِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَرُورَةٍ، فغلَب الغَسْلُ، كما لو ظَهَرَتْ إحْدَى الرِّجْلَين، ولو كان للخُفِّ قَدَمٌ، وله شَرَجٌ (¬1) إذا شَدَّه يَسْتُرُ مَحَل الفَرضِ، جاز المَسْحُ عليه. وقال أبو الحسنِ الآمِدِي: لا يَجُوزُ المَسْحُ عليه كاللَّفائِفِ. ولَنا، أنَّه خُفٌّ ساتِرٌ يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه، أشْبَهَ غيرَ ذي الشَّرَجِ. فصل: فإن كان الخُفُّ مُحَرمًا، [كالغَصْبِ والحَريرِ] (¬2)، لم يَجُزِ المَسْحُ عليه في الصَّحِيحِ مِن المذهبِ؛ لأنَّ المَسْحَ رُخْصَةٌ، فلا تُسْتَباحُ بالمَعْصِيَة، كما لا يَسْتَبِيحُ المُسافِرُ الرُّخَصَ بسَفَرِ المَعْصِيَة. فصل: ويَجُوزُ المَسْحُ على كلِّ خُفٍّ ساتِر لمَحَلِّ الفَرضِ، سَواءٌ كان مِن جُلُودٍ، أو لُبُودٍ، وما أشْبَهَهما (¬3) فإن كان خَشَبًا أو حَدِيدًا وما أشْبَهَهُما، جازَ المَسْحُ عليها. وهذا قولُ أبي الخَطّابِ. قال القاضي: وهو قِياسُ المذهبِ؛ لأنه خُف يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه، ساتِر لمَحَلِّ الفَرض، أشْبَهَ الجُلُودَ. وقال بَعْضُ أصحابِنا: لا يَجُوزُ المَسْحُ عليها؛ لأنَّ الرُّخصَةَ وَرَدَتْ في الخِفافِ المُتَعارَفَةِ للحاجَةِ، ولا تَدْعُو الحاجَة إلى المَسْحِ على هذه في الغالِبِ. 122 - مسألة؛ قال: (ويَثْبُتُ بنَفْسِه) فإن كان لا يَثْبُتُ بنَفْسِه، بحيث يَسْقُطُ مِن القَدَمِ إذا مَشَى فيه، لم يَجُزِ المَسْحُ عليه؛ لأنَّ الذي ¬

(¬1) الشرج: عُرَى العَيبة، أي محل الربط منه. (¬2) في م: «كالقصب الحرير». (¬3) في م: «أشبهها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْعُو الحاجَةُ إلى لُبْسِه، هو الذي يُمكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه. فأمّا ما يَسْقُطُ إذا مَشَى فيه، فلا يَشُقُّ نَزْعُه، ولا يَحْتاجُ إلى المَسْحِ عليه.

123 - مسألة: (فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم،

فَإِنْ كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 123 - مسألة: (فإن كان فيه خَرْقٌ يَبْدُو منه بعضُ القَدَمِ،

أوْ كَانَ وَاسِعًا يُرَى مِنْهُ الْكَعْبُ، أو الْجَوْرَبُ خَفِيفًا يَصِفُ الْقَدَمَ، أوْ يَسْقُطُ مِنْهُ إذَا مَشَى، أوْ شَدَّ لَفَائفَ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كان واسِعًا يُرَى منه الكَعْبُ، أو الجَوْرَبُ خَفِيفًا يَصِفُ القَدَمَ، أو يَسْقُطُ منه [إذا مَشَى] (¬1) أوْ شَدَّ لَفائِفَ، لم يَجُزِ المَسْحُ عليه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إنَّما يَجُوزُ المَسْحُ على الخُفِّ ونَحْوه، إذا كان ساتِرًا لمَحَلِّ الفرْضِ، لِما ذَكَرْنا. فإن كان فيه خَرْقٌ يَبْدُو منه بَعْضُ القَدَمِ، أو كان واسِعًا يُرَى منه الكَعْبُ، لم يَجُزِ المَسْحُ، سَواءٌ كان الخَرقُ كَبِيرًا أو صَغِيرًا، مِن مَوْضِع الخَرْزِ أوْ مِن غيرِه. فأمَّا إن كان الشَّقُّ يَنْضَمُّ، فلا يَبْدُو منه القَدَمُ، ¬

(¬1) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَمْنَعْ جَوازَ المسْحِ. نَصَّ عليه. وهو مذهبُ مَعْمَرٍ (¬1)، وأحَدُ قَوْلَيِ الشافعيِّ. وقال الثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ: يَجُوزُ المَسْحُ على كلِّ خُفٍّ. وقال الأوْزاعِيُّ: يَمْسَحُ على الخُفِّ المَخرُوقِ، وعلى ما ظَهَر مِن رِجْلِه. وقال أبو حنيفةَ: إن كان أقَلَّ مِن ثلاثِ أصابعَ، جاز المَسحُ عليه، وإلَّا لم يَجُزْ. وقال مالكٌ: إن كَثُرَ وتَفاحَشَ، لم يَجُزْ، وإلَّا جازَ. وتَعَلَّقُوا بعُمُومِ الحديثِ، وبأنَّه خُفٌّ يُمْكِنُ مُتابَعَةُ المَشْي فيه، أشْبَهَ الصَّحِيحَ. ولأنَّ الغالِبَ علي خِفافِ العَرَبِ، كَوْنُها مُخَرَّقَة، وقد أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلُبْسِها مِن غيرِ تَفصِيلٍ، فيَنْصَرِفُ إلى الخِفافِ المَلْبُوسَةِ عندَهُم غالِبًا. ولَنا، أنَّه غيرُ ساتِر للقَدَمِ، فلم يَجُزِ المَسْحُ عليه، كما لو كَثُرَ وتَفاحَشَ. ولأنَّ حُكمَ ما ظَهَر الغَسْلُ، وحُكمَ ما اسْتَتَرَ المسْحُ، فإذا اجْتَمَعا، غَلَب الغَسْلُ، كما لو ظَهَرَتْ إحْدَى الرِّجْلَين. ¬

(¬1) أبو عروة معمر بن راشد الأزدي البصري، سكن اليمن، وهو من أقران سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، توفي سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 243 - 246.

124 - مسألة: (وإن لبس خفا، فلم يحدث حتى لبس عليه آخر، جاز المسح عليه)

وَإنْ لَبِسَ خُفًّا فَلَمْ يُحْدِثْ حَتَّى لَبِسَ عَلَيهِ آخَرَ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك إن كان الجَوْرَبُ خَفِيفًا، يَصِفُ القَدَمَ، لم يَجُزِ المَسْحُ عليه؛ لأنَّه غيرُ ساتِرٍ لمَحَلِّ الفَرْضِ، أشْبَهَ النَّعْلَ. وكذلك إن كان يَسْقط مِن القَدَمِ، ولا يَثْبُتُ فيه؛ لِما ذَكَرْنا. ولا يَجُوزُ المَسْحُ على اللَّفائِفِ والخِرَقِ. نَصَّ عليه أحمدٌ؛ لأنَّها لا تَثْبُتُ بنَفْسِها، إنَّما تَثْبُتُ بشَدِّها، ولا نَعْلَم في هذا خِلافًا. 124 - مسألة: (وإن لَبِس خُفًّا، فلم يُحْدِثْ حتى لَبِس عليه آخَرَ، جاز المَسْحُ عليه) يَعْنِي على الفَوْقانِي، سَواء كان التَّحْتانِيُّ صَحِيحًا أو مُخرَّقًا. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ومَنَع منه مالك والشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيهِما؛ لأَن الحاجَةَ لا تَدْعُو إلى لُبْسِه في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغالِبِ، فلم تَتَعَلَّقْ به رُخْصَةٌ عامَّةٌ كالجَبِيرَةَ. ولَنا، أنَّه خُفٌّ ساتِرٌ يَثْبُتُ بنَفْسِه، أشْبَهَ المُنْفَرِدَ. وقولُه: الحاجَةُ لا تَدْعُو إليه. مَمْنُوعٌ، فإنَّ البِلادَ البارِدَةَ لا يَكْفِي فيها خُف واحِدٌ غالِبًا، ولو سَلَّمْنا ذلك، لكنَّ الحاجَةَ مُعْتَبَرَة بدَلِيلِها، وهو الإِقْدامُ على اللُّبْسِ، لا بنَفْسِها، فهو كالخُفِّ الواحِدِ. إذا ثَبَت ذلك، فمتى نَزَع الفَوْقانِيَّ قبلَ مَسْحِه، لم يُؤثِّرْ فيه. وإن نَزَعَه بعدَ مَسْحِه، بَطَلَتِ الطهارةُ، ووَجَبَ نَزْعُ الخُفَّين وغَسْلُ الرِّجْلَين، لزَوالِ مَحَلِّ المَسْحِ. ونَزْعُ أحَدِ الخُفَّين، كنَزْعِهما؛ لأنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بهما، فصارَ كانْكِشافِ القَدَمِ. ولو أدْخَلَ يَدَه مِن تحتِ الفَوْقانِيِّ، ومَسَح الذي تحتَه، جاز؛ لأن كل واحِدٍ منهما مَحَلٌّ للمَسْحِ، فجازَ المَسْحُ عليه، كما يَجُوزُ غَسْل قَدَمَيه في الخُف، مع جَوازِ المَسْحِ عليه. ولو لَبِس أحَدَ الجُرْمُوقَين في إحْدَى الرِّجْلَين دونَ الأُخْرَى، جاز المَسْحُ عليه وعلى الخُفِّ الذي في الرِّجْلِ الأُخْرَى؛ [لأنَّ الحُكْمَ تَعَلَّقَ به وبالخُفِّ في الرِّجْلِ الأخْرَى] (¬1)، فهو كما لو لم يَكُنْ تحتَه شيءٌ. ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن لَبِس مُخَرَّقًا فوقَ صَحِيحٍ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ، جَوازُ المَسْحِ عليه. رَواها عنه حَرْبٌ؛ لأنَّ القَدَمَ مَسْتُورٌ بخُفٍّ صَحِيحٍ، فجازَ المَسْحُ عليه، كما لو كان مَكْشُوفًا. وقال القاضي وأصحابُه: لا يَجُوزُ المَسْحُ إلَّا على التَّحْتانِيِّ؛ لأنَّ الفَوْقانِيَّ لا يجوزُ المَسْحُ عليه مُنْفَرِدًا، أشْبَهَ ما لو كان تحتَه لِفافَةٌ. فأمّا إن لَبِسَ مُخَرَّقًا فوقَ لِفافَةٍ، لم يَجُزِ المَسْحُ عليه؛ لأنَّ القَدَمَ غيرُ مَسْتُورٍ بخُفٍّ صَحِيحٍ. وإن لَبِسَ مُخَرَّقًا فوقَ مُخَرَّقٍ، فاسْتَتَرَ القَدَمُ بهما، احْتَمَلَ أن لا يَجُوزَ المَسْحُ لذلك، واحْتَمَل جَوازَ المَسْحِ؛ لأنَّ القَدَمَ اسْتَتَرَ بهما، أشْبَهَ ما لو كان أحَدُهُما مُخَرَّقًا، والآخَرُ صَحِيحًا. فصل: فأمّا إن لَبِس الفَوْقانِيَّ بعدَ أن أحْدَثَ، لم يَجُزِ المَسْحُ؛ لأنَّه لَبِسه على غيرِ طهارةٍ، وكذلك إن مَسَح على الأوَّلِ، ثم لَبِس الثّانيَ. وقال بَعْضُ أصحابِ الشافعيِّ: يَجُوزُ؛ لأنَّ المَسْحَ قام مَقامَ الغَسْلِ. ولَنا، أنَّ المَسْحَ على الخُفِّ، لم يُزِلِ الحَدَثَ عن الرِّجْلِ، فلم تَكْمُلِ الطهارةُ، أشْبَهَ التَّيَمُّمَ. ولأنَّ الخُفَّ المَمْسُوحَ عليه بَدَلٌ، والبَدَلُ لا يَكُونُ له بَدَلٌ آخَرُ. واللهُ أعلمُ.

125 - مسألة: (ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يده على الأصابع، ثم يمسح إلى ساقه)

وَيَمْسَحُ أَعْلَى الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ وَعَقِبِهِ، فَيَضَعُ يَدَيهِ عَلَى الْأَصَابعِ، ثُمَّ يَمْسَحُ إِلَى سَاقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 125 - مسألة: (ويَمْسَحُ أعْلَى الخُفِّ دونَ أسْفَلِه وعَقِبِه، فيَضَعُ يَدَه على الأصابعِ، ثم يَمْسَحُ إلى ساقِه) هذه السُّنَّةُ في مَسْحِ الخُفِّ. فإن عَكَس فمَسَحَ مِن ساقِه إلى أسْفَلَ، جاز، والمَسْنُونُ الأوَّلُ؛ لِما روَى الخَلّالُ بإسنادِهِ عن المُغِيرَةِ، فذَكَرَ وُضُوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم تَوَضَّأ ومَسَحَ على الخُفَّين، فوَضَعَ يَدَه اليُمْنَى على خُفِّه الأيمَنِ، ووَضَع يَدَه اليُسْرَى على خُفِّه الأيسَرِ، ثم مَسَح أعْلاهُما مَسْحَةً واحِدَةً، حتى كأنِّي أنْظُرُ إلى أثَرِ أصابِعِه على الخُفَّين. قال ابنُ عَقِيلٍ: سُنَّةُ المَسْحِ هكذا؛ أن يَمْسَحَ خُفَّيه بيَدَيه؛ باليُمْنَى اليُمْنَى، وباليُسْرَى اليُسْرَى. وقال أحمدُ: كَيفَما فَعَلْتَ فهو جائِزٌ؛ باليَدِ الواحِدَةِ، أو باليَدَين. وإن مَسَح بأُصْبُعٍ أو أُصْبُعَين، أجْزأه إذا كَرَّرَ المَسْحَ بها حتى يَصِيرَ مِثْلَ المَسْحِ بأصابِعِه. ولا يُسَنُّ مَسْحُ أسْفَلِه، ولا عَقِبِه. وهذا قولُ عُرْوَةَ، وعَطاءٍ، والحسنِ، والثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِيَ مَسْحُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِ الخُفَّين وباطِنِهما عن سعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ، وابنِ عُمَرَ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وابنِ المُبارَكِ، ومالكٍ، والشافعيِّ؛ لِما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: وَضَّأْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فمَسَحَ أعْلَى الخُفِّ وأسْفَلَه. رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). ولأنَّه يُحاذِي مَحَلَّ الفَرْضِ، أشْبَهَ ظاهِرَه. ولَنا، قولُ عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه: لو كان الدِّينُ بالرَّأْي، لكان أسْفَلُ الخُفِّ أوْلَى بالمَسْحِ مِن ظاهِرِه، وقد رَأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ ظاهِرَ خُفَّيه. رواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬2). وعن عُمَرَ قال: رَأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بالمَسْحِ على ظاهِرِ الخُفَّين، إذا لَبِسَهُما وهما طاهِرَتان. رَواه الخَلّالُ (¬3). ولأنَّ مَسْحَه غيرُ واجِبٍ، ولا يَكادُ يَسْلَمُ مِن مُباشَرَةِ أذًى فيه، تَتَنَجَّسُ به يَدُه، فكان تَرْكُه أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب كيف المسح، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 37. والترمذي، في: باب في المسح على الخفين أعلاه وأسفله، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 146.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في المسح أعلى الخف وأسفله، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 183، بنحوه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 95، 114، 124، 148. وأبو داود، في: باب كيف المسح، من كتاب الطهارد. سنن أبي داود 1/ 36، 37. (¬3) أخرجه عبد الرزاق موقوفًا عن عمر في باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة في المصنف 1/ 196. والبيهقي، في: باب رخصة المسح لمن لبس الخفين على الطهارة، من كتاب الطهارة، السنن الكبرى 1/ 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَدِيثُهم مَعْلُولٌ. قاله التِّرمِذِيُّ. وقال: وسَألْتُ أبا زُرْعَةَ (¬1) ومحمدًا (¬2) عنه، فقال: ليس بصحيحٍ (¬3). وقال أحمدُ: هذا مِن وَجْهٍ ضَعِيفٍ. وأسْفَلُ الخُفِّ ليس بمَحَلٍّ لفَرْضِ المَسْحِ، بخِلافِ أعْلاه. فصل: فإن مَسَح أسْفَلَه أو عَقِبَه دُونَ أعْلاه، لم يُجْزِه، في قولِ أكثرِ العُلَماءِ. قال شيخُنا: لا نَعْلَمُ أحَدًا قال: يُجْزِئُه مَسْحُ أسْفَلِ الخُفِّ. إلَّا أشْهَبَ (¬4) مِن أصحابِ مالكٍ، وبَعْضَ الشّافِعِيَّةِ؛ لأنَّه مَسَحَ بَعْضَ ما يُحاذِي مَحَلَّ الفَرْضِ، فأجْزأه، كما لو مَسَحَ ظاهِرَه (¬5). ومَنْصُوصُ الشافعيِّ، كمذهبِ الجُمْهُورِ؛ لِما ذَكَرْنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما مَسَح ظاهِرَ الخُفِّ، ولا خِلافَ في أنَّه يُجْزِئُ الاقْتِصارُ على مَسْحِ ظاهِرِ الخُفِّ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن صفوان البصري الدمشقي، حافظ، عالم بالحديث والرجال، سمع من الإمام أحمد مسائل مشبعة محكمة، وتوفي سنة ثمانين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 205، 206. (¬2) هو البخاري. (¬3) انظر: عارضة الأحوذي 1/ 146، 147. (¬4) أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي، من أهل مصر، من الطبقة الوسطى من أصحاب مالك، وأشهب لقب له واسمه مسكين توفي بمصر سنة أربع ومائتين. الديباج المذهب 1/ 307، 308. (¬5) انظر المغني: 1/ 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقَدْرُ المُجْزِئُ في المَسْحِ، أن يَمْسَحَ أكْثَرَ مُقَدَّمِ ظاهِرِه خِطَطًا (¬1) بالأصابِعِ. قاله القاضي؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ المُغِيرَةِ. وقال الشافعيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ القَلِيلُ منه؛ لأنَّه أطْلَقَ لَفْظَ المَسْحِ، ولم يُنْقَلْ فيه تَقْدِيرٌ، فرَجَعَ إلى ما تَناوَلَه الاسمُ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: يُجْزِئُه قَدْرُ ثلاثِ أصابِعَ. وهو قولُ الأوْزاعِيِّ. وقال إسحاقُ: لا يُجْزِئُ حتى يَمْسَحَ بكَفَّيه. ولَنا، أنَّ لَفْظَ المَسْحِ وَرَد مُطْلَقًا، وفَسَّرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفِعْلِه، كما ذَكَرْنا في حديثِ المُغِيرَةِ، ولا يُسْتَحَبُّ تَكْرارُ مَسْحِه؛ لأنَّ في حديثِ المُغِيرَةِ: «مَسْحَةً وَاحِدَةً». رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ. وقال عطاءٌ: يَمْسَحُ ثلاثًا. فصل: فإن مَسَح بخِرْقَةٍ أو خَشَبَةٍ، احْتَمَلَ الإِجْزاءَ؛ لحُصُولِ المَسْحِ، واحْتَمَل المَنْعَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح بيَدِه. فإن غَسَل الخُفَّ لم يُجْزِه. وهذا قولُ مالكٍ، واختيارُ القاضي. قال ابنُ المُنْذِرِ: وهو ¬

(¬1) في م: «خطوطا».

126 - مسألة: (ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه)

وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ إِذَا كَانَتْ سَاتِرَةً لِجَمِيعِ الرَّأَسِ، إلا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أقْيَسُ. لأنَّه أُمِرَ بالمَسْحِ، فلم يَفْعَلْه، فلم يُجْزِه، كما لو طَرَح التُّرابَ على وَجْهِه ويَدَيه في التَّيَمُّمِ، لكن إن أمَرَّ يَدَيه على الخُفَّين في حالِ الغَسْلِ أو بعدَه، أجْزأه؛ لوُجُودِ المَسْحِ. وقال ابنُ حامِدٍ: يُجْزِئُه. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه أبْلَغُ مِن المَسْحِ، والاقْتِداءُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوْلَى. والمُسْتَحَبُّ أن يَفْرِجَ أصابِعَه إذا مَسَح. قال الحسنُ: خُطوطًا بالأصابعِ. ووَضَع الثَّوْرِيُّ أصابِعَه على مُقَدَّم خُفَّيه، وفَرَج بينَهما، ثم مَسَح على أصْلِ السّاقِ. ورُويَ عن عُمَرَ، أنَّه مَسَح حتى رُئِىَ آثارُ أصابِعِه على خُفَّيه خُطُوطًا. 126 - مسألة: (ويَجُوزُ المَسْحُ على العِمامَةِ المُحَنَّكَةِ إذا كانت ساتِرَةً لجَمِيعِ الرَّأْسِ، إلَّا ما جَرَتِ العادَةُ بِكَشْفِه) قد ذَكَرْنا دليلَ جَوازِ المَسْحِ على العِمامَةِ، ومِن شُرُوطِ جَوازِ المَسْحِ عليها، أن تَكُون ساتِرَةً لجَمِيعِ الرَّأْسِ، إلَّا ما جَرَتِ العادَةُ بكَشْفِه، كمُقَدَّمِ الرَّأْسِ والأُذُنَينِ، وجَوانِبِ الرَّأْسِ، فإنَّه يُعْفَى عنه، بخِلافِ خَرْقِ الخُفِّ، فإنَّه لا (¬1) ¬

(¬1) سقط من: «م».

127 - مسألة؛ قال: (ولا يجوز على غير المحنكة، إلا أن تكون ذات ذؤابة، فيجوز في أحد الوجهين)

وَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيرِ الْمُحَنَّكَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ ذُؤَابَةٍ، فَيَجُوزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْفَى عنه؛ لأنَّ هذا جَرَتِ العادَةُ به، ويَشُقُّ التَّحَرُّزُ عنه، وإن ظَهَر بَعْضُ القَلَنْسُوَةِ مِن تحتِ العِمامَةِ، فالظّاهِرُ جَوازُ المَسْحِ عليهما؛ لأنَّهُما صارا كالعِمامَةِ الواحِدَةِ. ومتى كانت مُحَنَّكَةً جاز المَسْحُ عليها، رِوايَةً واحِدَةً، سَواءٌ كان لها ذُؤابَةٌ أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ هذه عَمائِمُ العَرَبِ، وهي أكثرُ سَتْرًا، ويَشُقُّ نَزْعُها. قاله القاضي. وسَواءٌ كانت صَغِيرَةً أو كَبِيرَةً. ولأنَّها مَأْمُورٌ بها، وتُفارِقُ عَمائِمَ أهلِ الكِتابِ. 127 - مسألة؛ قال: (ولا يَجُوزُ على غيرِ المُحَنَّكَةِ، إلَّا أن تَكونَ ذاتَ ذُؤابَةٍ، فيَجُوزُ في أحَدِ الوَجْهَين) أمّا إذا لم يَكُنْ لها حَنَكٌ ولا ذُؤابَةٌ، فلا يَجُوزُ المَسْحُ عليها؛ لأنَّها على صِفَةِ عَمائِمِ أهلِ الذِّمَّةِ، وقد نُهِيَ عن التَّشَبُّهِ بهم، ولأنَّها لا يَشُقُّ نَزْعُها. وإن كان لها ذُؤابَةٌ ولا حَنَكَ لها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، جَوازُه؛ لأنَّها لا تُشْبِهُ عَمائِمَ أهلِ الذِّمَّةِ، إذ ليس مِن عادَتِهِم الذُّؤابَةُ. والثّاني، لا يَجُوزُ، وهو الأظْهَرُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّلَحِّي، ونَهَى عن الاقْتِعاطِ. رَواه أبو عُبَيدٍ (¬1). قال: والاقْتِعاطُ أن لا يَكُونَ تحتَ الحَنَكِ منها شيءٌ. ورُوي أنَّ عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنه، رَأى رجلًا ليس بمُحَنَّكٍ بعِمامَتِه، فحَنَّكَه بكَوْرٍ (¬2) منها، وقال: ما هذه الفاسِقِيَّةُ؟ ولأنَّها لا يَشُقُّ نَزْعُها، فلم يَجُزِ المَسْحُ عليها (¬3)، كالتي لا ذُؤابَةَ لها ولا حَنَكَ. فصل: وما جَرَتِ العادَةُ بكَشْفِه مِن الرَّأْسِ، اسْتُحِبَّ أن يَمْسَحَ عليه مع العِمامَةِ. نَصَّ عليه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَح بناصِيَتِه، وعِمامَتِه، في حديثِ المُغِيرَةِ، وهو صحيحٌ. وهل يَجِبُ الجَمْعُ بينَهما، إذا قُلْنا بُوجُوبِ اسْتِيعابِ مَسْحِ الرَّأْسِ؛ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَجِبُ؛ للخَبَرِ، ولأنَّ العِمامَةَ نابَتْ عَمّا اسْتَتَرَ، فوَجَبَ مَسْحُ الباقِي، كما لو ظَهَر سائِرُ رَأْسِه. والثّاني، لا يجِبُ؛ لأنَّ العِمامَةَ نابَتْ عن الرَّأْسِ، فانْتَقَلَ الفَرْضُ إليها، وتَعَلَّقَ الحُكْمُ بها، فلم يَبْقَ لِما ظَهَر حُكْمٌ, ولأنَّ الجَمْعَ بينَهما يُفْضِي إلى الجَمْعِ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ في عُضْوٍ واحدٍ، فلم يَجُزْ مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، كالخُفِّ. ولا يَجِبُ مَسْحُ الأُذُنَين مع العِمامَةِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ، ولَيسَتا مِن الرَّأْسِ، إلَّا على وَجْهِ التَّبَعِ. ¬

(¬1) في: غريب الحديث 3/ 120. (¬2) يسمى كل دور من العمامة كورا. (¬3) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُها في التَّوْقِيتِ واشْتِراطِ تَقَدُّمِ الطهارةِ لها، حُكْمُ الخُفِّ؛ قِياسًا عليه. فإن كانتِ العِمامَةُ مُحَرَّمَةَ اللُّبْسِ، كالحَرِيرِ والمَغْصُوبَةِ، لم يَجُزِ المَسْحُ عليها في الصَّحِيحِ؛ لِما ذَكَرْنا في الخُفِّ. فإن لَبِسَتِ المرأةُ عِمامَةً، لم يَجُزِ المَسْحُ عليها؛ لأنَّها مَنْهِيَّةٌ عن التَّشَبُّهِ بالرِّجالِ، فكانت مُحَرَّمَةً في حَقِّها، وإن كان لها عُذْرٌ، فهذا نادِرٌ. فلا يُفْرَدُ بحُكْمٍ.

128 - مسألة: (ويجزئ مسح أكثرها، وقيل: لا يجزئ إلا مسح جميعها)

ويُجْزِئُهُ مَسْحُ أَكْثَرِهَا، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ إلا مَسْحُ جَمِيعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 128 - مسألة: (ويُجْزِئُ مَسْحُ أكْثَرِها، وقِيل: لا يُجْزِئُ إلَّا مَسْحُ جَمِيعِها) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في وُجُوبِ اسْتِيعابِ العِمامَةِ بالمَسْحِ، فرُوِيَ ما يَدُلُّ على أنَّه يُجْزِئُ مَسْحُ أكْثَرِها؛ لأنَّها أحَدُ المَمْسُوحِينَ على وَجْهِ البَدَلِ، فأجْزأ مَسْحُ بَعْضِه، كالخُفِّ. ورُوي عنه، أنَّه يَلْزَمُ اسْتِيعابُها، قِياسًا على مَسْحِ الرَّأسِ. والفَرْقُ بينَهما أنَّ البَدَلَ ههُنا مِن جِنْسِ المُبْدَلِ، فيُقَدَّرُ بقَدْرِه، كمَن عَجَز عن قِراءَةِ الفاتِحَةِ، وقَدَر على قِراءَةِ غيرِها مِن القُرْآنِ، يَجِبُ أن يَكُونَ بقَدْرِها، ولو كان البَدَلُ تَسْبِيحًا، لم يَتَقَدَّرْ بقَدْرِها؛ لكَوْنِه ليس مِن جِنْسِها. والخُفُّ بَدَلٌ مِن غيرِ الجِنْسِ؛ لكَوْنِه بَدَلًا عن الغَسْلِ، فلم يَتَقَدَّرْ بقَدْرِه، كالتَّسْبِيحِ بَدَلًا عن القُرْآنِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ قِياسًا على الخُفِّ، وما ذُكِر للرِّوايَةِ الثانيةِ يَنْتَقِضُ بمَسْحِ الجَبِيرَةِ، فإنَّه بَدَلٌ عن الغَسْلِ، وهو مِن غيرِ جِنْسِ المُبْدَلِ، ويجِبُ فيه

129 - مسألة: (ويمسح على جميع الجبيرة، إذا لم تتجاوز قدر الحاجة)

وَيَمْسَحُ عَلَى جَمِيعِ الْجَبِيرَةِ إِذَا لَمْ تَتَجَاوَزْ قَدْرَ الْحَاجَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِيعابُ. وقال القاضي: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِها، كالخُفِّ، ويَخْتَصُّ ذلك بأكْوارِها دُونَ وَسَطِها، فإن مَسَح وَسَطَها وَحْدَه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُجْزِئُه، كما يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ دَوائِرِها. والثّاني، لا يُجْزِئُه، كما لو مَسَح أسْفَلَ الخُفِّ وَحْدَه (¬1). 129 - مسألة: (ويَمْسَحُ على جَمِيعِ الجَبِيرَةِ، إذا لم تَتَجاوَزْ قَدْرَ الحاجَةِ) لأنَّه لا يَشُقُّ المَسْحُ عليها كلِّها، بخِلافِ الخُفِّ، فإنَّه يشُقُّ تَعْمِيمُ جَمِيعِه، ويُتْلِفُه المَسْحُ، ولأنَّه مَسْحٌ للضَّرُورَةِ، أشْبَهَ التَّيَمُّمَ. وإن كان بَعْضُها في مَحَلِّ الفَرْضِ وبَعْضُها في غيرِه، مَسَح ما حاذَى مَحَلَّ الفَرْضِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وإنَّما يَجُوزُ المَسْحُ عليها، إذا لم يَتَعَدَّ بها مَوْضِعَ الكَسْرِ، إلَّا بما لا بُدَّ مِن وَضْعِ الجَبِيرَةِ عليه؛ فإنَّها لا بُدَّ أن تُوضَعَ على طَرَفَيِ الصَّحِيحِ، ليَرْجِعَ الكَسْرُ. فإن شَدَّها على مَكانٍ يَسْتَغْنِى عن شَدِّها عليه، ¬

(¬1) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان تارِكًا لغَسْلِ ما يُمْكِنُه غَسْلُه، مِن غيرِ ضَرَرٍ، فلم يَجُزْ، كما لو شَدَّها على ما لا كَسْرَ فيه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سَهَّلَ في ذلك في مَسْألَةِ المَيمُونِيِّ، والمَرُّوذِيِّ (¬1)؛ لأنَّ هذا مِمّا لا يَنْضَبِطُ، وهو شَدِيدٌ جِدًّا. فعلى هذا، لا بَأْسَ بالمَسْحِ على العَصائِبِ كيفَ شَدَّها. والأوَّلُ أوْلَىَ؛ لِما ذَكَرْنا. فعلى هذا، إذا تَجاوَزَ بها مَوْضِعَ الحاجَةِ، لَزِمَه نَزْعُها، إن لم يَخَفِ الضَّرَرَ، وإن خافَ مِن نَزْعِها، تَيَمَّمَ لها؛ لأنَّه مَوْضِعٌ يَخافُ الضَّرَرَ باسْتِعْمالِ الماءِ فيه، فجازَ التَّيَمُّمُ له (¬2)، كالجُرْحِ. ¬

(¬1) أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي، كان أجل أصحاب الإمام أحمد، وهو الذي تولى إغماضه لما مات وغسله، وروى عنه مسائل كثيرة، توفي سنة خمس وسبعين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 56 - 63، العبر 2/ 54. (¬2) سقطت من: «الأصل».

130 - مسألة؛ قال: (ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه، أو انقضت مدة المسح، استأنف الطهارة)

وَمَتَى ظَهَرَ قَدَمُ الْمَاسِحِ أَوْ رَأْسُهُ أَو انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ، اسْتَأْنَفَ الطَّهَارَةَ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ مَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ قَدَمَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 130 - مسألة؛ قال: (ومتى ظَهَر قَدَمُ الماسِحِ أو رَأْسُه، أو انْقَضَتْ مُدَّةُ المَسْحِ، اسْتَأْنَفَ الطهارةَ) لأنَّ المَسْحَ بَدَلٌ عن الغَسْلِ، فمتى ظَهَر القَدَمُ وَجَب غَسْلُه؛ لزَوالِ حُكْمِ البَدَلِ، كالمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الماءَ (وعنه: يُجْزِئُه مَسْحُ رَأْسِه، وغَسْلُ قَدَمَيه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى ظَهَر قَدَمُ الماسِحِ بعدَ الحَدَثِ والمَسْحِ، وقبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، فقد اخْتَلَفَ العلماءُ فيه؛ فالمَشْهُورُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّه يُعِيدُ الوُضوءَ. وبه قال النَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، ومَكْحُولٌ (¬1)، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخرَى، أنَّه يُجْزِئُه غَسْل قَدَمَيه. وهو قولُ ¬

(¬1) أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الهذلي مولاهم الشامي الحافظ، فقيه الشام في عصره، اختلف في وفاته بين سنوات اثنتي عشرة وأربع عشرة وست عشرة وثماني عشرة ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 75، وفيات الأعيان 5/ 280 - 283، تذكرة الحفاظ 1/ 107، 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، والمُزَنِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي، والقولُ الثّاني للشافعيِّ؛ لأنَّ مَسْحَ الخُفَّين نابَ عن غَسْلِ (¬1) الرِّجْلَين خاصَّةً، فظُهُورُهما يُبْطِلُ ما نابَ عنه، كالتَّيَمُّمِ إذا بَطَل برُؤْيَةِ الماءِ، بَطَل ما نابَ عنه. وهذا الاخْتِلافُ مَبْنِيٌّ على وُجُوبِ المُوالاةِ، فمَن لم يُوجِبْها في الوُضُوءِ جَوَّز غَسْلَ القَدَمَينِ؛ لأنَّ سائِرَ أعْضائِه سِواهُما مَغْسُولَةٌ، ومَن أوْجَبَ المُوالاةَ أبْطَلَ الوُضوءَ؛ لفَواتِ المُوالاةِ. فعلى هذا، لو خَلَع الخُفَّين قبلَ جَفافِ الماءِ عن بَدَنِه (¬2)، أجْزأه غَسْلُ قَدَمَيه، وصار كأنَّه خَلَعَهُما قبلَ مَسْحِه عليهما. وقال الحسنُ، وقَتادَةُ: لا يَتَوَضَّأُ، ولا يَغْسِلُ ¬

(¬1) سقطت من: «م». (¬2) في الأصل: «يديه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدَمَيه. واخْتارَه ابنُ المُنْذِر؛ لأنَّه أزال المَمْسُوحَ عليه بعدَ كَمالِ الطهارَةِ، أشْبَهَ ما لو حَلَق رَأْسَه بعد مَسْحِه. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى؛ أنَّ الوُضُوءَ بَطَل في بعضِ الأعْضاءِ، فبَطَلَ في جَمِيعِها، كما لو أحْدَثَ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بنَزْعِ أحَدِ الخُفَّين، فإنَّه يَلْزَمُه غَسْلُهما، وإنَّما ناب مَسْحُه عن إحْداهُما. وأمّا التَّيَمُّمُ عن بعضِ الأعْضاءِ فسَيَأْتِي الكَلامُ عليه في بابِه، إن شاءَ اللهُ. وقال مالكٌ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ: إن غَسَل رِجْلَيه مَكانَه، صَحَّتْ طهارتُه. فإن تَطاوَلَ أعادَ الوُضُوءَ؛ لأنَّ الطهارةَ كانت صَحِيحَةً إلى حينِ نَزْعِ الخُفَّين، أو انْقِضاءِ المُدَّةِ، وإنَّما بَطَلَتْ في القَدَمَين خاصَّةً، فإذا غَسَلَهما عَقِيبَ النَّزْعِ، حَصَلَتِ المُوالاةُ، بخِلافِ ما إذا تَطاوَلَ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ المَسْحَ بَطَل حُكْمُه، وصار الآن يُضِيفُ الغَسْلَ إلى الغَسْلِ، فلم يَبْقَ للمَسْحِ حُكْمٌ، ولأنَّ الاعْتِبارَ في المُوالاةِ، إنَّما هو بقُرْبِ الغَسْلِ مِن الغَسْلِ، لا مِن حُكْمِه، فإنَّه متى زال حُكْمُ الغَسْلِ بَطَلَتِ (¬1) الطهارةِ، ولم يَنْفَعْ قُرْبُ الغَسْلِ مِن الخَلْعِ شَيئًا؛ لكَوْنِ الحُكْمِ لا يَعُودُ بعدَ زَوالِه إلَّا بسَبَبٍ جَدِيدٍ. اللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «بطل حكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ خَلْعِ العِمامَةِ بعدَ المَسْحِ عليها، عندَ القائِلِين بجَوازِ المَسْحِ عليها، حُكْمُ الخُفِّ؛ لأنَّها في مَعْناه، إلَّا أنَّه ها هنا يَلْزَمُه مَسْحُ رَأْسِه وغَسْلُ قَدَمَيه، إذا قُلْنا بوُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وكذلك الحُكْمُ لو نَزَع الجَبِيرَةَ بعدَ المَسْحِ عليها، قِياسًا على الخُفِّ والعِمامَةِ، إلَّا أنَّه إن كان مَسَح عليها في الجَنابَةِ، لم يَحْتَجْ إلى إعادَةِ غُسْلٍ، ولا وُضُوءٍ؛ لأنَّ التَّرْتِيبَ والمُوالاةَ ساقِطانِ فيه. فصل: وإذا انْقَضَتْ مُدَّةُ المَسْحِ، بَطَلَتْ طهارتُه أيضًا، ولَزِمَه خَلْعُ الخُفَّين والعِمامَةِ وإعادَةُ الوُضُوءِ، على الرِّوايَةِ الأُولَى. وعلى الثّانيةِ، يُجْزِئُه مَسْحُ رَأْسِه وغَسْلُ قَدَمَيه، وقد ذَكَرْنا وَجْهَ الرِّوايَتَين. ومتى أمْكَنَه نَزْعُ الجَبِيرَةِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فهو كما لو انْقَضَتْ مُدَّةُ المَسْحِ، قِياسًا عليه. وقال الحسنُ: لا يَبْطُلُ الوُضوءُ، ويُصَلِّي حتى يُحْدِثَ. ونَحْوُه قولُ داودَ، فإنَّه قال: يَنْزِعُ خُفَّيه، ويُصَلِّي حتى يُحْدِثَ؛ لأنَّ الطهارَةَ لا تَبْطُلُ إلَّا بالحَدَثِ، والخَلْعُ ليس بحَدَثٍ. ولَنا، أنَّ غَسْلَ الرِّجْلَين شَرْطٌ للصلاةِ، وإنَّما قامَ المَسْحُ مَقامَه في المُدَّةِ، فإذا انْقَضَتْ لم يَجُزْ أن يَقُومَ مَقامَه إلَّا بدَلِيلٍ، ولأنَّها طهارةٌ لا يَجُوزُ ابْتِداؤها، فيُمْنَعُ مِن اسْتِدامَتِها، كالتَّيَمُّمِ (¬1) عندَ رُؤْيَةِ الماءِ. ¬

(¬1) في م: «كالمتيمم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ونَزْعُ أحَدِ الخُفَّين كَنْزعِهِما، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ويَلْزَمُه نَزْعُ الآخَرِ. وقال الزُّهْرِيُّ، وأبو ثوْرٍ: يَغْسِلُ القَدَمَ الذي نَزَع منه الخُفَّ، ويَمْسَحُ الآخَرَ، لأنَّهما عُضْوان، فأشْبَها الرَّأْسَ والقَدَمَ. ولَنا، أنَّهما في الحُكْمِ كعُضْوٍ واحِدٍ؛ ولهذا لا يَجِبُ تَرْتِيبُ أحَدِهِما على الآخَرِ، فيَبْطُلُ مَسْحُ أحَدِهِما بظُهُورِ الآخَرِ، كالرِّجْلِ الواحِدَةِ، وبهذَا فارَقَ الرَّأْسَ والقَدَمَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وانْكِشافُ بعضِ القَدَمِ مِن خَرقٍ كنَزْعِ الخُفِّ. فإنِ انْكَشَطَتِ الظِّهارَة دُونَ البِطانَةِ، وكانتِ البِطانَةُ ساتِرَةً لمَحَلِّ الفَرْضِ تَثْبُتُ بنَفْسِها، جاز المَسْحُ، كما لو لم تَنْكَشِطْ. وإن أخْرَجَ قَدَمَه إلى ساقِ الخُفِّ، فهو كخَلْعِه. وهذا قولُ إسحاقَ وأصحابِ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: لا يَتَبَيَّنُ لي أنَّ عليه الوُضُوءَ، إلَّا أن يَظْهَرَ بَعْضُها؛ لأنَّ القَدَمَ مَسْتُورٌ بالخُفِّ. وحَكَى أبو الخَطّابِ في رُءُوسِ المسائلِ، عن أحمدَ، نَحْوَ ذلك. ولَنا، أنَّ اسْتِقْرارَ الرِّجْلِ في الخُفِّ، شَرْطُ جَوازِ المَسْحِ؛ بدَلِيلِ ما لو أدْخَلَ رِجْلَه الخُفَّ، فأحْدَثَ قبلَ اسْتِقْرارِها فيه، لم يَكُنْ له المَسْحُ. فإذا تَغَيَّرَ الاسْتِقْرارُ، زال شَرْطُ جَوازِ المَسْحِ فبَطَلَ، كما لو ظَهَر. وإن كان إخْراجُ القَدَمِ إلى ما دُونَ ذلك لم يَبْطُلِ المَسْحُ؛ لأنَّها لم تَزُلْ عن مُسْتَقَرِّها. وقال مالكٌ: إذا أخْرَجَ قَدَمَه مِن مَوْضِعِ المَسْحِ خُرُوجًا بَيِّنًا، غَسَل قَدَمَيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن نَزَع العِمامَةَ بعدَ المَسْحِ عليها، بَطَلَتِ الطهارةُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك إنِ انْكَشَفَ رَأْسُه، إلَّا أن يَكُونَ يَسِيرًا، مِثْلَ أن حَكَّ رَأْسَه، أو (¬1) رَفَعَها لِأجْلِ الوُضُوءِ. قال أحمدُ: إذا زالتِ العِمامَةُ عن هامَتِه، لا بَأْسَ، ما لم يَنْقُضْها أو يَفْحُشْ ذلك؛ لأنَّ هذا مِمّا جَرَتِ العادَةُ بِه، فيَشُقُّ التَّحَرُّرُ عنه. وإنِ انْتَقَضَتْ بعدَ مَسْحِها، فهو كنَزْعِها؛ لأنَّه في مَعْناه. وإنِ انْتَقَضَ بَعْضُها، ففيه رِوايتان؛ إحْداهُما، لا تَبْطُلُ طهارتُه؛ لأنَّه زال بعضُ المَمْسُوحِ عليه مع بقاءِ العُضْو مَسْتُورًا، فهو ككَشْطِ الخُفِّ مع بقاءِ البِطانَةِ. والثّانيةُ، تَبْطُلُ. قال القاضي: لو انْتَقَضَ منها كَوْرٌ واحِدٌ بَطَلَتْ؛ لأنَّه زال المَمْسُوحُ عليه، أشْبَهَ نَزْعَ الخُفِّ. ¬

(¬1) في م: «و».

131 - مسألة؛ قال: (ولا مدخل لحائل في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة)

وَلَا مَدْخَلَ لِحَائِلٍ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، إلا الْجَبِيرَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 131 - مسألة؛ قال: (ولا مَدْخَلَ لحائِلٍ في الطهارةِ الكُبْرَى إلَّا الجَبِيرَةَ) لا يَجُوزُ المَسْحُ على غيرِ الجَبِيرَةِ في الطهارَةِ الكُبْرَى؛ لِما روَى صَفْوانُ بنُ عَسّالٍ، قال: أمَرَنا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا كُنَّا مُسافِرِين أو سَفْرًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا نَنْزِعَ خِفافَنا ثلاثةَ أيّامٍ ولَيالِيَهُنَّ، إلَّا مِن جَنابَةٍ. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. فأمّا الجَبِيرَةُ، فيَجُوزُ المَسْحُ عليها في الطهارةِ الكُبْرَى؛ لحديثِ صاحِبِ الشَّجَّةِ، ولأنَّه مَسْحٌ أُبِيحَ للضَّرُوَةِ (¬2)، أشْبَهَ التَّيَمُّمَ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في المسح على الخفين للمسافر والمقيم، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 142. كما أخرجه النسائي، في: باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر, من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 71. وابن ماجه، في: باب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 161. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 239، 240. (¬2) في م: «للضرر».

آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني، وأوله: باب نواقض الوضوء والْحَمْدُ للهِ حَقَّ حمْدِهِ

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب نواقض الوضوء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ؛ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَينِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، نَادِرًا أَوْ مُعْتَادًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ نَواقِضِ الوُضُوء (وهي ثمانيةٌ؛ الخارِجُ مِن السَّبِيلَين، قَلِيلًا كان أَو كَثيِرًا، نادِرًا أو مُعْتادًا) وجُمْلَةُ ذَلِك، أنَّ الخارِجَ مِن السَّبِيلَين على ضَرْبَين؛ مُعْتادٍ، كالبَوْلِ، والغائِطِ، والمَذْي، والوَدْي، والرِّيحِ، فهذا يَنْقُضُ الوُضوءَ إجماعًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حكاه ابنُ المُنْذِرِ. ودَمُ الاسْتِحاضَةِ يَنْقُضُ الطهارةَ في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا في قولِ رَبِيعَةَ. الضَّرْبُ الثاني، نادِرٌ، كالدَّمِ، والدُّودِ، والحَصَى، والشَّعَرِ، فيَنْقُضُ الوُضُوءَ أيضًا. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال قَتادَةُ، ومالكٌ: ليس في الدُّودِ يَخْرُجُ مِن الدُّبُرِ الوُضُوءُ. ورُوي عن مالكٍ، أنَّه لم يُوجِبِ الوُضُوءَ مِن هذا الضَّرْبِ؛ لأنَّه نادِرٌ، أشْبَهَ الخارِجَ مِن غيرِ السَّبِيلِ. ولَنا، أنَّه خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، أشْبَهَ المَذْيَ، ولأنَّه لا يَخْلُو مِن بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ به، وقد أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُسْتَحاضَةَ بالوُضُوءِ لكلِّ صلاةٍ، ودَمُها غيرُ مُعْتادٍ. فصل: فإن خَرَجَتِ الرِّيحُ مِن قُبُلِ المرأةِ، وذَكَرِ الرجلِ، فقال القاضي: يَنْقُضُ الوُضُوءَ. ونَقَل صالحٌ عن أبيه، في المرأةِ يَخْرُجُ مِن فَرْجِها الرِّيحُ: ما خَرَج مِن السَّبيلَين، ففيه الوُضوءُ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ الأَشْبَهُ بمَذْهَبِنا في الرِّيحِ الخارِجِ مِن الذَّكَرِ، أن لا يَنْقُضَ؛ لأنَّ المَثانَةَ ليس لها مَنْفَذٌ إلى الجَوْفِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا جَعَلَها أصحابُنا جَوْفًا، ولم يُبْطِلُوا الصَّوْمَ بالحُقْنَةِ فيه. قال شيخُنا (¬1): ولا نَعْلَمُ لهذا وجودًا في حَقِّ أحَدٍ. وقد قِيلَ: إنَّه يُعْلَمُ بأن يُحِسَّ الإِنسانُ في ذَكَرِه دَبيبًا. وهذا لا يَصِحُّ، لكَوْنِه لا يَحْصُلُ به اليَقِينُ، والطهارةُ لا تَبْطُلُ بالشَّكِّ. فإن وُجِدَ ذلك يَقِينًا، نَقَض الطهارةَ، قِياسًا على سائِرِ الخارِجِ مِن السَّبِيلَين. فصل: فإن قَطَّرَ في إحْلِييه دُهْنًا، ثم عادَ فخَرَجَ، نَقَض الوُضُوءَ، لأنَّه خارِجٌ مِن السَّبِيلَين، لا يَخْلُو مِن بِلَّةٍ نَجِسَةٍ تَصْحَبُه، فيَنْتَقِضَ بها الوُضُوءُ كما لو خَرَجَت مُنْفَرِدَةً. وقال القاضي: لا يَنْقُضُ؛ لأَنَّه ليس بينَ الإِحْلِيلِ والمَثانَةِ مَنْفَذٌ، وإنَّما يَخْرُجُ البَوْلُ رَشْحًا، فإذا كان كذلك، لم يَصِلِ الدُّهْنُ إلى مَوْضِعٍ نَجِسِ، فإذا خَرَج فهو طاهِرٌ، فلم يَنْقُضْ، ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ الطّاهِراتِ إذا خَرَجَتْ مِن البَدَنِ. والأوَّلُ أولَى. وقَوْلُه: لا يَصِلُ الدُّهْنُ إلى مَوْضِعٍ نَجِسٍ. مَمْنُوعٌ، فإنَّ باطِنَ الذَكَرِ نَجِسٌ مِن آثارِ البَوْلِ، والماءُ لا يَصِلُ إليه فيُطَهِّرُه، فيَتَنَجَّسُ به الدُّهْنُ. ولو احْتَشَى قُطْنًا في ذَكَرِه، ثم أخْرَجَه وعليه بَلَلٌ، نَقَض الوُضُوءَ أَيضًا، كما لو خَرَج البَلَلُ مُنْفَرِدًا. وإن خَرَج ناشِفًا، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يَنْقُضُ، لأنَّه خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، أشْبَهَ سائِرَ الخارِجِ. والثاني، لا يَنْقُضُ، لأنَّه ليس بينَ المَثانَةِ والجَوْفِ مَنْفَذٌ، ولم تَصْحَبْه نَجاسَةٌ، فلم يَنْقُضْ، كسائِرِ الطَّاهِراتِ. ونَقَل القاضي في «المُجَرَّدِ» عن أحمدَ، في رِوايَةِ عبدِ اللهِ: إذا احْتَشَى القُطْنَ في ذَكَرِه وصَلَّى، ثم أخْرَجَه ووَجَد بَلَلًا، فلا بَأْسَ ما لم يَظْهَرْ. يَعْنِي: جارِيًا. وهذا يَدُلُّ على أنَّ نَفْسَ البَلَلِ لا يَنْقُضُ. ولو احْتَقَنَ في دُبُرِه، فرَجَعَتْ أجْزاءٌ مِن الحُقْنَةِ، فخَرَجَتْ مِن الفَرْجِ، نَقَضَتِ الوُضُوءَ. وهكذا لو وَطِئَ امْرَأْتَه دُونَ الفَرْجِ، فدَبَّ ماؤُه فدَخَلَ الفَرْجَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم خَرَج، نَقَض الوُضُوءَ، وعليها (¬1) الاسْتِنْجاءُ؛ لأنَّه خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، لا يَخْلُو مِن بِلَّةٍ تَصْحَبُه مِن الفَرْجِ. فإن لم يَعْلَمْ خُرُوجَ شيءٍ منه، احْتَمَلَ وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، النَّقْضُ فيهما؛ لأنَّ الغالِب أَنَّه لا يَنْفَكُّ عن الخُرُوجِ، فنَقَضَ كالنَّوْمِ. والثاني، لا يَنْقُضُ، عَمَلًا بالأصْلِ. لكنْ إن كان المُحْتَقِنُ قد أدْخَلَ رَأْسَ الزَّرَّاقَةِ ثم أخْرَجَه، نَقَض الوُضُوءَ، وكذلك إن أدْخَلَ فيه مِيلًا أو غيرَه ثم خَرَج؛ لأنَّه خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، فنَقَضَ كسائِرِ الخارِجِ. ¬

(¬1) في م: «وعليهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أبو الحارِثِ: سَألْتُ أحمدَ عن رجلٍ به عِلَّةٌ، رُبَّما ظَهَرَتْ مَقْعَدَتُه؟ قال: إن عَلِمَ أنَّه يَظْهَرُ معها نَدًى تَوَضَّأَ، وإن لم يَعْلَمْ فلا شيءَ عليه. قال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللهُ: يحْتَمِلُ أنَّه إنَّما أرادَ نَدًى يَنْفَصِلُ عنها، فأمّا الرُّطُوبَةُ اللّازِمَةُ لها فلا تَنْقُضُ، لأنَّها لا تَنْفَكُّ عن رُطُوبَةٍ، فلو نَقَضَتْ لنَقَضَ خُرُوجُها على كلِّ حالٍ، وذلك لأنَّه شيءٌ لم ينْفَصِلْ عنها، فلم يَنْقُضْ كسائِرِ أجْزائِها، وقد قالوا في مَن أخْرَجَ لِسانَه وهو صائِمٌ، وعليه بَلَلٌ، ثم أدْخَلَه وابْتَلَعَ ذلك البَلَلَ: لم يُفْطِرْ، لأنَّه لم يَثْبُتْ له حُكْمُ الانْفِصالِ. واللهُ أعلمُ. فصل: والمَذْيُ ما يَخْرُجُ عَقِيبَ الشَّهْوَةِ زَلِجًا مُتَسَبْسِبًا، فيَكُونُ على رَأسِ الذَّكَرِ، يَنْقُضُ الوُضُوءَ إجماعًا، وهل يَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ والأُنْثَيَين منه؟ فيه رِوايتان؛ إحْداهُما، يُوجِبُ ذلك؛ لما رُوِيَ أنَّ عليًّا، رَضِي اللهُ عنه، قال: كُنتُ رجلًا مَذّاءً، فاسْتَحَيَتُ أن أسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لمَكانِ ابْنَتِه، فأمَرْتُ المِقْدادَ بنَ الأسْوَدِ فسألَه، فقال: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيهِ، وَيَتَوَضَّأُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وفي لفظٍ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 232. (¬2) في: باب في المذي، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 47، 48. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 124، 126، 145.

132 - مسألة: (الثاني، خروج النجاسات من سائر البدن، فإن

الثَّانِي، خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أو بَوْلًا نَقَضَ قَلِيلُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرْجَكَ». رَواه مسلمٌ (¬1). والأمْرُ للوُجُوبِ، ولأنَّه خارِجٌ بسَبَبِ الشَّهْوَةِ، فأوْجَبَ غَسْلًا زائِدًا على مُوجَبِ البَوْلِ كالمَنِيِّ، فعلى هذا يُجْزِئُه غَسْلَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ المَأْمُورَ به غَسْلٌ مُطْلَقٌ، فيَكْفِي ما يَقَعُ عليه الاسمُ، وقد بَيَّنَه قولُه في اللَّفْظِ الآخَرِ: «وَانْضَحْ فَرْجَكَ». وسَواءٌ غَسْلُه قبلَ الوُضُوءِ أو بعدَه؛ لأنَّه غَسْلٌ غيرُ مُرْتَبِطٍ بالوُضُوءِ، أشْبَهَ غَسْلَ النجاسةِ. والثانيةُ، لا يُوجبُ إلَّا الاسْتِنْجاءَ والوُضوءَ. رُوِيَ ذلك عنْ ابنِ عباسِ، وهو قولُ أكثرِ أَهلِ العلمِ؛ لما روَى سَهْلُ بنُ حُنَيفٍ، قال: كُنْتُ ألْقَى مِن المَذْيِ شِدَّةً وعَناءً، وكنتُ أُكْثِرُ منه الاغْتِسالَ، فذَكَرْتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إنَّمَا يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّه خارِجٌ لا يُوجِبُ الغُسْلَ، أشْبَهَ الوَدْيَ، والأمْرُ بالنَّضْحِ والغَسْلِ في حديثِ عليٍّ مَحْمُولٌ على الاسْتِحْبابِ. وقولُه: «إنَّمَا يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ». صَرِيحٌ في حُصُولِ الإِجْزاءِ به. والوَدْيُ ماءٌ أَبْيَضُ، يَخْرُجُ عَقِيبَ البَوْلِ، ليس فيه وفي بَقِيَّةِ الخارِجِ إلَّا الوُضوءُ، سِوَى المَنِيِّ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عباسٍ. واللهُ أعلمُ. 132 - مسألة: (الثاني، خُرُوجُ النَّجاساتِ مِن سائِرِ البَدَنِ، فإن ¬

(¬1) في: باب في المذي، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 247 كما أخرجه النسائي، في: باب الوضوء من المذي، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 174 - 176. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 104. (¬2) في: باب في المذي يصيب الثوب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 175، 176 كما أخرجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتْ غائِطًا أو بَوْلًا، نَقَضَ قَلِيلُها) لا يَخْتَلِفُ المذهبُ في نَقضِ الوُضُوءِ بخُرُوجِ الغائِطِ والبَوْلِ؛ سَواءٌ كان مِن مَخْرَجِهِما، أو مِن غيرِه، ويَسْتَوِي قَلِيلُهما وكَثِيرُهما في ذلك، سَواءٌ كان السَّبِيلان مُنْسَدَّين أو مَفْتُوحَين، مِن فوقِ المَعِدَةِ أو مِن تحتِها. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إنِ انْسَدَّ المَخْرَجُ، وانْفَتَحَ آخَرُ دُونَ المَعِدَةِ، لَزِم الوُضُوءُ بالخارِجِ منه، قولًا واحدًا. وإنِ انْفَتَح فوقَ المَعِدَةِ، ففيه قَوْلان. وإن كان المَخْرَجُ مَفْتُوحًا، فالمَشْهُورُ أَنَّه لا يُنْقَضُ الوُضوءُ بالخارِجِ مِن غيرِه، وبَناه على أصْلِه في أنَّ الخارِجَ مِن غيرِ السَّبِيلَين لا يَنْقُضُ. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {أوْ جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} (¬1). وقولُ صَفْوانَ بنِ عَسّالٍ: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا كُنّا مُسافِرِين، أو سَفْرًا، أن لا نَنْزِعَ خِفافَنا ثلاثَةَ أَيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ، إلَّا مِن جَنابَةٍ، لكنْ مِن غائِطٍ وَبَوْلٌ ونَوْمٍ (¬2). هذا حديثٌ صحيحٌ. قاله التِّرْمِذِيُّ. ولأنَّه غائِطٌ وبَوْلٌ خارِجٌ مِن البَدَنِ، فنَقَضَ، كالخارِجِ مِن السَّبِيلَين. ¬

= أبو داود، في: باب في المذي، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 48. (¬1) سورة المائدة 6. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 142. والنسائي، في باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 71. وابن ماجة، في: باب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 161 الإمام أحمد، في: المسند 4/ 239، 240.

133 - مسألة؛ قال: (وإن كانت غيرهما، لم ينقض إلا كثيرها، وهو ما فحش في النفس، وحكي عنه أن قليلها ينقض)

وَإنْ كَانَتْ غَيرَهُمَا لَمْ يَنْقُضْ إلا كَثِيرُهَا، وَهُوَ مَا فَحُشَ في النَّفْسِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ قَلِيلَهَا يَنْقُضُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 133 - مسألة؛ قال: (وإن كَانَتْ غيرَهما، لم يَنْقُض إلَّا كَثِيرُها، وهو ما فَحُش في النَّفْسِ، وحُكِيَ عنه أنَّ قَلِيلَها يَنْقُضُ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الخارِجَ النَّجِسَ مِن غيرِ السَّبِيلَين، غيرَ البَوْلِ والغائِطِ، يَنْقُض كثيرُه بغيرِ خِلافٍ في المذهبِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعطاءٍ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال مالكٌ، والشافعيّ، ويَحْيى الأنْصارِيُّ (¬1) وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لا وُضُوءَ فيه، لأنَّه خارِجٌ مِن غيرِ المَخْرَجِ مع بقاءِ المَخْرَج، فلم يَنْقُضْ، ¬

(¬1) أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الفقيه، روى عن أنس بن مالك وخلق، وولى قضاء المنصور، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. طبقات الفقهاء للشيرازي 66. العبر 1/ 195، 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالبُصاقِ. ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الخارِجِ مِن السَّبِيلِ؛ لكَوْنِ الحُكْمِ فيه غيرَ مُعَلَّلٍ. ولأنَّ الخارِجَ مِن السَّبِيلِ لا فَرْقَ بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه، وطاهِرِه ونَجسِه، وههُنا بخِلافِه، فامْتَنَعَ القِياسُ. ولَنا، ما روَى أبو الدَّرْدَاءِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قاءَ فتَوَضَّأْ. قال ثَوْبانُ: صَدَقَ، أنا سَكَبْتُ له وَضُوءَه. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: هذا أصَحُّ شيءٍ في البابِ. قِيلَ لأحمدَ: حديثُ ثَوْبانَ ثَبَتَ عِنْدَك؟ قال: نعم. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطِمَةَ: «إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، فَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2). عَلَّلَ بكَوْنِه دَمَ عِرْقٍ وهذا كذلك. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم. ولأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ، فنَقَضَ، كالخارِجِ مِن السَّبِيلَين. وقِياسُهُم مَنْقُوضٌ بِما إذا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ دُونَ المَعِدَةِ، والبُصاق طاهِرٌ، بخِلافِ هذا. ¬

(¬1) في: باب الوضوء من القيء والرعاف، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 126. (¬2) في: باب في المستحاضة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 197 كما أخرجه البخاري، في: باب غسل الدم، من كتاب الوضوء، وفي: باب الاستحاضة، وباب إقبال المحيض وإدباره، وباب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 66، 84، 87، 89، 90. ومسلم، في: باب المستحاضة وغسلها وصَلاتها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 262. وأبو داود، في: باب في المرأة تستحاض ومن قال لا تدع الصلاة. . . .، وباب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 63 - 65. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، وباب ذكر الأقراء، وباب الفروق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الطهارة، وفي: باب ذكر الاستحاضة وإقبال الدم وإدباره، وباب ذكر الأقراء، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 96، 97، 101 - 103، 148، 150، 152. وابن ماجة، في: باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 203، 204. والإمام مالك، في: باب المستحاضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 464. والدارمي، في: باب في غسل المستحاضة من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا القَلِيلُ، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَنْقُضُ الوُضُوءَ. حَكاه القاضي رِوايَةً واحِدَةً. وقال بَعْضُ أصْحابِنا: فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القَلِيلَ يَنْقُضُ، قِياسًا على الخارِجِ المُعْتادِ. رُوِيَ ذلك عن مُجاهِدٍ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ، وسعيدِ بن جُبَيرٍ، فيما إذا سالَ الدَّمُ. قال: وإن وَقَف على رَأْسِ الجُرْحِ، لم يَجِبْ؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاءَ أوْ رَعَفَ في صَلَاتِهِ، فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬1). ووَجْهُ الرِّواية الأُولَى، أَنَّه قد رُوِيَ ذلك عن جَماعَةٍ مِن الصَّحابَةِ، قال أبو عبدِ اللهِ: عِدَّةٌ مِن الصَّحابَةِ تَكَلَّمُوا فيه، وأبو هُرَيرَةَ كان يُدْخِلُ أصابِعَه في أنْفِه، وابنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً، فخَرَجَ دَمٌ، فصَلَّى ولم يَتَوَضَّأَ، وابنُ أبي أوْفَى (¬2) عَصَرَ دُمَّلًا، وابنُ عباسٍ قال: إذا كان فاحِشًا فعليه الإِعادَةُ. وجابرٌ أدْخَلَ أصابِعَه في أنْفِه. ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم فكانَ إجماعًا وحَدِيثُهم لا نَعْرِفُ صِحَّتَه، ولم يَذْكُرْه أصحابُ السُّنَّنَ، وقد تَرَكُوا العَمَلَ به، فقالوا: إذا كان دُونَ مِلْءِ الفَمِ، لم يَجِبْ منه الوُضُوءُ. ¬

(¬1) أخرج نحوه ابن ماجة، في: باب ما جاء في البناء على الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة وسننها 1/ 386. والدارقطني، في: باب الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 153 - 156. وانظر: نصب الراية 1/ 38. (¬2) أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي الصحابي، شهد بيعة الرضوان، وهو آخر من بقي بالكوفة من الصحابة، توفي سنة ست وثمانين. أسد الغابة 3/ 183.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ الكَثِيرَ الَّذي يَنْقُضُ الوُضوءَ، لا حَدَّ له إلَّا أنْ يَكُونَ فاحِشًا. قيلَ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما قَدْرُ الفاحِشِ؟ قال: ما فَحُشَ في قَلْبِك. ورُوي نَحْوُ ذلك عن ابنِ عباسٍ. قال الخَلّالُ: الَّذي اسْتَقَرَّتْ عليه الرِّوايَةُ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّ الفاحِشَ ما يَسْتَفْحِشُه كلُّ إنْسانِ في نِفْسِه. لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لا يَرِيبُكَ» (¬1). وقال ابنُ عَقِيلٍ: إنَّما يُعْتَبَرُ ما يَفْحُشُ في نُفُوسِ أوْساطِ الناسِ، لا المُتَبَذِّلِينَ، ولا المُوَسْوسِينَ كما رَجَعْنا في يَسِيرِ اللُّقَطَةِ إلى ما لا تَتْبَعُه نُفُوسُ أوْساطِ الناسِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن الكَثِيرِ، فقال: شِبْرٌ في شِبْرٍ. وفي مَوْضِعٍ قال: قَدْرُ الكَفِّ فاحِشٌ. وقال في موضعٍ: إذا كان مِقدارَ ما يَرْفَعُه الإِنْسانُ بأصابِعِه الخَمْسِ من القَيحِ، والصَّدِيدِ، وَالقَىْءِ، فلا بأْسَ به. قيلَ له: فعَشْرُ أصابِعَ. فرآه كَثِيرًا. وقال قَتادَةُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا عمرو بن علي، من أبواب القيامة. عارضة الأحوذي 9/ 320، 321. والنسائي، في: باب الحث على ترك الشبهات، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 294.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَوْضِعٍ: الدِّرْهَمُ فاحِشٌ. وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وأصحاب الرَّأي؛ لأنه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمَ مِنَ الدَّمِ» (¬1). والصَّحِيحُ أنَّ ذلك إنَّما يُرْجَعُ فيه إلى العُرْفِ، فإنَّه لا حَدَّ له في الشَّرْعِ، وما رَوَوْه فلا يَصِحُّ، قال الحافِظُ المَقْدِسِيُّ (¬2): هو مَوْضُوعٌ (¬3). وقال القاضي: إذا كان الدَّمُ قَطرةً أو قَطْرَتَين، لم يَنْقُضْ، وإن كان قَدْرُه إذا انْفَرَشَ شِبْرًا في شِبْرٍ، نَقَضَ، وما كان بَينَهما ففيه رِوايتان. وقال في القَىْءِ: إن كان مِلْءَ الفَمِ نَقَض، وإن كان مِثْلَ الحِمَّصَةِ والنَّواةِ، لم يَنْقضْ، رِوايةً واحدةً فيهما، وما بيَنْهَما على رِوايَتَين، وما نَقَلَه الخَلّالُ عنه أوْلَى، لما ذَكَرْنا، ولأنَّ اعْتِبارَ حالِ الإِنْسانِ بما يَسْتَفْحِشُه غيرُه حَرَجٌ، فيَكُونُ مَنْفِيًّا. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب قدر النجاسة التي تبطل الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 401. (¬2) أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي، ابن القيسراني، الحافظ، له مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه، وجودة معرفته، توفي سنة سبع وخمسمائة. وفيات الأعيان 4/ 287. (¬3) اللآلئ المصنوعة، للسيوطي 2/ 4، تذكرة الموضوعات 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقَيحُ والصَّدِيدُ كالدَّمِ فيما ذَكَرْنا. قال أحمدُ: هما أخَفُّ حُكْمًا مِن الدَّمِ. لوُقُوعِ الخِلافِ فيهما، فإنَّه رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ والحَسَنِ [أنَّهم لم يَرَوا] (¬1) القَيحَ والصَّدِيدَ كالدَّمِ. وقال إسحاقُ: كلُّ ما سِوَى الدَّمِ لا يُوجِبُ وُضُوءًا. وقال مُجاهِدٌ، وعطاءٌ، وعُرْوَةُ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ: هو بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ. واخْتِيارُ أبي عبدِ اللهِ مع ذلك إلْحاقُه بالدَّمِ وإثْباتُ مِثْلِ حُكْمِه فيه، قِياسًا عليه، لأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ، أشْبَهَ الدَّمَ، لكن الَّذي يَفْحُشُ منه يَكُونُ أكثَرَ مِن الَّذي يَفْحُشُ مِن الدَّمِ. والقَلْسُ كالدَّمِ، يَنْقُضُ الوُضُوءَ منه ما فَحُشَ. قال الخَلّالُ: الَّذي أجْمَعَ عليه أصحابُ أبي عبدِ اللهِ، أنَّه إذا كان فاحِشًا أعادَ الوُضُوءَ. وقد حُكِى عنه، إذا كان مِلْءَ الفَمِ نَقَض، وإن كان أقلَّ مِن نِصْفِ الفَمِ لا يَتَوَضَّأُ. ومِمَّن كان يَأْمُرُ بالوُضُوءِ مِن القَىْءِ؛ عليٌّ، وابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيرَةَ، ¬

(¬1) في م: «أنهما لم يريا».

134 - مسألة؛ قال: (الثالث، زوال العقل، إلا النوم اليسير

الثَّالِثُ، زَوَالُ الْعَقْلِ إلا النَّوْمَ الْيَسِيرَ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا. وَعَنْهُ، أَنَّ نَوْمَ الرَّاكِعِ وَالْسَّاجِدِ لَا يَنْقُضُ يسِيرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. والمذهبُ إلْحاقُه بالدَّمِ؛ لأنَّه في مَعْناه. وهذا قَوْلُ حَمّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ (¬1). وكذلك الحُكْمُ في الدُّودِ الخارِجِ مِن الجُرُوحِ، لأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ، أشْبَهَ الدَّمَ. فأمّا الجُشاءُ والبُصاق، فلا وُضُوءَ فيه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك النُّخامَةُ، سَواءٌ خَرَجَتْ مِن الرَّأْسِ أو مِن الصَّدْرِ، لأنَّه لا نَصَّ فيها، ولا هي في مَعْنَى المَنْصُوصِ، ولأنَّها طاهِرَةٌ، أشْبَهَتِ البُصاقَ. واللهُ أعلمُ. 134 - مسألة؛ قال: (الثَّالِثُ، زَوالُ العَقْلِ، إلَّا النَّوْمَ اليَسِيرَ ¬

(¬1) أبو إسماعيل حماد بن مسلم بن أبي سليمان الكوفي، أحد أئمة الفقهاء، وشيخ أبي حنيفة، توفي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جالسًا أو قائِمًا. وعنه، أنَّ نَوْمَ الرّاكِعِ والسّاجِدِ لا يَنْقُضُ يَسِيرُه) زَوالُ العَقْلِ على ضَرْبَينِ؛ نَوْمٍ، وغيرِه. فأمّا غيرُ النَّوْمِ، وهو الجُنُونُ والإِغْماءُ والسُّكْرُ، ونَحْوُه مِمّا يُزِيلُ العَقْلَ، فيَنْقُضُ الوُضُوءَ يَسِيرُه وكَثِيرُه إجْماعًا، ولأنَّ في إيجابِ الوُضُوءِ على النّائِمِ تَنْبِيهًا على وُجُوبِه بِما هو آكَدُ مِنه. الضَّربُ الثاني، النَّوْمُ، وهو ناقِضٌ للوُضُوءِ في الجُمْلَةِ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا ما حُكِي عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ وأبي مِجْلَزٍ (¬1)، أنَّه لا يَنْقُضُ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه كان يَنامُ مِرارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصلاةَ، ثم يُصَلِّي ولا يُعِيدُ الوُضُوءَ. ولَعَلَّهم ذَهَبُوا إلى أنَّ النومَ ليس بحَدَثٍ في نَفْسِه، والحَدَثُ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «العَينُ وكَاءُ السَّهِ (¬2)، فمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ». رَواهُ الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجَة (¬3). وقولُ ¬

= سنة عشرين ومائة. الجواهر المضية 2/ 150 - 152. (¬1) أبو مجلز لاحق بن حميد بن سعيد البصري، تابعي، ثقة، له أحاديث، توفي منة مائة، أو بعد المائة. تهذيب التهذيب 11/ 171، 172. (¬2) الوكاء: ما تشد به رأس القربة ونحوها. والسه: من أسماء الدبر. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 46. وابن ماجة، في: باب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 161. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَفْوانَ بنِ عَسّالٍ: لكنْ مِن غائطٍ وبَولٍ ونَوْمٍ. حديثٌ صحيحٌ (¬1). ولأنَّ النومَ مَظِنَّةُ الحَدَثِ، فأُقِيم مُقامَه، كالْتِقاءِ الخِتانَين في وُجُوبِ الغُسْلِ، أُقِيم مُقامَ الإِنْزالِ. إذا ثَبَت هذا، فالنَّوْمُ يَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقْسامٍ: أحَدُها، نَوْمُ المُضْطَجِعِ، فيَنْقُضُ يَسِيرُه وكَثِيرُه، عندَ جَمِيعِ القائِلِين بنَقضِ الوُضُوءِ بالنَّوْمِ. الثاني، نَوْمُ القاعِدِ، فإن كان كثيرًا نَقَض، رِوايَةً واحِدَةً، وإن كان يسيرًا لَم يَنْقُضْ. وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال قَوْمٌ: متى خالطَ النَّوْمُ القَلْبَ نَقَض بكلِّ حالٍ. وهذا قولُ الحسنِ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ. ورُوي مَعْنى ذلك عن أبي هُرَيرَةَ، وابنِ عباسٍ، وأنَسٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لعُمُوم الأحاديث الدَّالَّةِ على أنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ. ولَنا، ما روَى مسلمٌ (¬2)، عن أنَسٍ، قال: كان أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنامُون، ثم يُصَلُّون ولا يَتَوَضَّئُون. وعنه قال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 12. (¬2) في: باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 284. كما أخرجه الترمذي، في: باب الوضوء من النوم، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أصحابُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عَهْدِ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْتَظِرُون العِشاءَ الآخِرَةَ حتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُم، ثم يُصَلُّون ولا يَتَوَضَّؤُن. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ النَّوْمَ يَكْثُرُ مِن مُنْتَظِرِى الصلاةِ، فعُفِي عنه لمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عنه. وقال الشافعيُّ: لا يَنْقُضُ وإن كَثُرَ، إذا كان القاعِدُ مُتَمَكِّنًا مُفْضِيًا بمَحَلِّ الحَدَثِ إلى الأرضِ، لحَدِيثَيْ أنسٍ، وبهما يَتَخَصَّصُ عُمُومُ الحَدِيثَينِ الأوَّلَين، ولأنَّه مُتَحَفِّظٌ عن خُرُوجِ الحَدَثِ، فلم يَنْقضْ، كاليَسِيرِ. ولَنا، عُمُومُ الحديثَين الأوَّلَين، خَصَّصْناهُما بحديثِ أنسٍ، وليس فيه بَيانُ كَثْرَةٍ ولا قِلَّةٍ، فحَمَلْناه على القَلِيلِ، لأنَّه اليَقِينُ، وما زادَ عليه مُحْتَمِلٌ لا يُتْرَكُ له العُمُومُ المُتَيَقَّنُ، ولأنَّ نَقْضَ الوُضُوءِ بالنَّوْمِ مُعَلَّلٌ بإِفْضائِه إلى الحَدَثِ، ومع الكَثْرَةِ والغَلَبَةِ لا يُحِسُّ بما يَخْرُجُ منه، بخِلافِ اليَسِيرِ، وبهذا فارَقَ اليَسِيرُ الكَثِيرَ، فلا يَصِحُّ قياسُه عليه. الثالثُ، ما عدا ذلك، وهو نَوْمُ القائِمِ والرَّاكِعِ والسّاجِدِ، ففيه رِوايتَان؛ إحْداهما، يَنْقُضُ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ، لأنَّه لم يَرِدْ فيه نَصٌّ، ¬

(¬1) في: باب في الوضوء من النرم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 45.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ، لكَوْنِ القاعِدِ مُتَحَفِّظًا مُعْتَمِدًا (¬1) بمَحَلِّ الحَدَثِ على الأرضِ، فهو أبْعَدُ مِن خُرُوجِ الخارِجِ، بخِلافِ غيرِه. والثانيةُ، حُكْمُه حُكْمُ الجالِسِ قِياسًا عليه، ولأنَّه على حالةٍ مِن أحْوالِ الصلاةِ، أشْبَهَ الجالِسَ. والظّاهِرُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، التَّسْويَة بينَ نَوْمِ القائِمِ والجالِسِ. وهذا قولُ الحَكَمِ، وسُفْيانَ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لما روَى ابنُ عباسٍ، قال: بِتُّ لَيلَةً عندَ خالتِي مَيمُونَةَ، فقُلتُ لها: إذا قامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأيقِظِيني. فقامَ - صلى الله عليه وسلم -، فقُمْتُ إلى جَنْبِه الأيسَرِ، فأخَذَ بيَدِي فجَعَلَنِى في شِقِّه الأيمَنِ، فجَعَلْتُ إذا أغْفَيتُ يَأْخُذُ بشَحْمَةِ أُذُنِي. رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّهما يَشْتَبِهان في الانْخِفاضِ واجْتِماعِ المَخْرَجِ، ورُبَّما كان القائِمُ أبْعَدَ مِن الحَدَثِ، لكَوْنِه لو اسْتَثْقَل في النَّوْمِ سَقَط، ¬

(¬1) في م: «متعمدًا». (¬2) في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 528.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا الراكِعُ والسّاجدُ فالطاهِرُ إلْحاقُهُما بالمُضْطَجِعِ؛ لأنَّه يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الحَدَثِ، فلا يَتَحَفَّظُ، فهو كالمُضْطَجعِ. ويَحْتَمِلُ التَّفْرِقَةَ بينَ الرّاكِعِ والسّاجِدِ، فيُلْحَقُ الرّاكِعُ بالقائِمِ؛ لَكَوْنِه لا يَسْتَثْقِلُ في النَّوْمِ، إذْ لو اسْتَثْقَل سَقَط، فالظّاهِرُ أنَّه يُحِسُّ بما يَخْرُجُ منه، بخِلافِ السَّاجِدِ، فإنَّه يَعْتَمِدُ بأعْضائِه على الأرضِ ويَسْتَثْقِلُ في النَّوْم، فيُشْبِهُ المُضْطجِعَ، فلا يُحِسُّ بما يَخْرُجُ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ روايةً عن أَحمدَ، أنَّه لا يَنْقُضُ إلَّا نَوْمُ السّاجِدِ وَحْدَه. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، في القاعِدِ المُسْتَنِدِ والمُحْتَبِي، فعنه: لا يَنْقُضُ يَسِيرُه، كالقاعِدِ الَّذي ليس بمُسْتَنِدٍ. وعنه: يَنْقُضُ بكلِّ حالٍ. وهو ظاهِرُ المذهبِ. قال القاضي: متى نامَ مُضْطَجِعًا أو مُسْتَنِدًا، أو مُتَّكِئًا إلى شيءٍ، متى أُزِيلَ عنه سَقَط، نَقَض الوُضُوءَ قَلِيلُه وكَثِيرُه؛ لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعْتَمِدٌ على شيءٍ، فهو كالمُضْطَجِعِ. وعنه ما يَدُلُّ على التَّفْرِقَةِ بَينَ المُحْتَبِي والمُسْتَنِدِ، فإنَّه قال في روايَةِ أبي داودَ: المُتَسانِدُ كأنَّه أشَدُّ. يَعْنِي مِن المُحْتَبِي. قال شَيخُنا (¬1): والأوْلَى أنَّه متى كان مُعْتَمِدًا بمَحَلِّ الحَدَثِ على الأرضِ، أن لا يَنْقُضَ منه إلَّا الكثيرُ؛ لأنَّ دَلِيلَ انْتِفاءِ النَّقْضِ في القاعِدِ لا تَفْرِيقَ فيه، فيُسَوَّى بينَ أحْوالِه. فصل: واخْتَلَفَ أصحابُنا في حَدِّ اليَسِيرِ مِن النَّوْمِ الَّذي لا يَنْقُضُ، فقال القاضي: ليس للقَلِيلِ حَدٌّ يُرْجَعُ إليه، فعلى هذا يُرْجَعُ إلى العُرْفِ. وقِيلَ: حَدُّ الكَثِيرِ ما يَتَغَيَّرُ به النّائِمُ عن هَيئَتِه، مِثْلَ أن يَسْقُطَ على الأرضِ، أو يَرَى حُلْمًا. قال شَيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه لا حَدَّ له؛ لأنَّ التَّحْدِيدَ إنَّما يُعْلَمُ بالتَّوْقِيفِ، ولا تَوْقِيفَ، فمتى وُجِدَ ما يَدُلُّ على الكَثْرَةِ، مِثْلَ سُقُوطِ المُتَمَكِّنِ، انتَقَض وُضُوءُه، وإلَّا فلا، وإن شَكَّ في كَثْرَتِه لم يَنْتَقِضْ؛ لأنَّ الأصْلَ الطهارةُ، فلا تَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 237. (¬2) انظر: المغني 1/ 237.

135 - مسألة: (الرابع، مس الذكر بيده، ببطن كفه أو بظهره)

الرَّابِعُ، مَسُّ الذَّكَرِ بِيَدِهِ، بِبَطنِ كَفِّهِ، أَوْ بِظَهْرِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والنَّوْمُ الغَلَبَةُ علي العَقْلِ، فمَنْ لم يُغْلَبْ على عَقْلِه فلا وضوءَ عليه. وقال بَعْضُ أهلِ اللُّغَةِ، في قولِهِ تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬1). السِّنَةُ ابْتِداءُ النُّعاسِ في الرَّأْسِ، فإذا وَصَل إلى القَلْبِ صارَ نَوْمًا، قال الشاعرُ (¬2): وَسْنانُ أقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ … في عَينِه سِنَةٌ وليس بنائِمِ ولأنَّ النّاقِضَ زَوالُ العَقْلِ، فمتى كان العقلُ ثابِتًا وحِسُّه غيرَ زائِلٍ، مِثْلَ مَن يَسْمَعُ ما يُقالُ عندَه ويَفْهَمُه، لم يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ. وإن شَكَّ في النَّوْمِ، أو خَطرَ ببالِه شيءٌ لا يَدْرِي أرُؤْيا أو حَدِيثُ نَفْسٍ، فلا وُضُوءَ عليه. 135 - مسألة: (الرابعُ، مَسُّ الذَّكَرِ بيَدِه، ببَطنِ كَفِّه أو بظَهْرِه) ¬

(¬1) سورة البقرة 255. (¬2) البيت لعدي بن الرقاع، وهو في تفسير الطبري (شاكر) 5/ 255. وانظر لتخريجه وشرحه حاشيته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، في مَسِّ الذَّكَرِ على ثلاثِ رِواياتٍ، إحْداها، لا يَنْقُضُ بحالٍ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وعَمّارٍ، وابنِ مسعودٍ، وحُذَيفَةَ (¬1)، وعِمْرانَ بنِ حُصَينٍ (¬2)، وأبي الدَّرْداءِ (¬3). وهو قولُ رَبِيعَةَ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحاب الرَّأْي؛ لما روَى قَيسُ بنُ طَلْقٍ، عن أبيه، قال: كُنتُ جالِسًا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجلٌ: مَسَسْتُ ذَكَرِي -أو- الرجلُ يَمَسُّ ذَكَرَه في الصلاةِ، عليه وُضُوءٌ؟ قال: «لَا، إنَّمَا هُوَ ¬

(¬1) أبو عبد الله حذيفة بن اليمان (حسل) بن جابر العبسي الصحابي، من أعيان المهاجرين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أسر إليه أسماء المنافقين، فسمى صاحب السر، توفي بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه. سير أعلام النبلاء 2/ 361 - 369. (¬2) أبو نجيد عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي الصحابي، وكان ممن اعتزل الفتنة، ولم يحارب مع على رضي الله عنه، توفي سنة اثنتين وخمسين. سير أعلام النبلاء 2/ 508 - 512. (¬3) أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، حكيم الأمة، وسيد القراء بدمشق، توفي سنة اثنتين وثلاثين. سير أعلام النبلاء 2/ 335 - 353.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَضْعَةٌ مِنْكَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ (¬1). ولأنَّه عُضْوٌ منه (¬2)، فلم يَنْقضْ، كسائِرِ أعضائِه (¬3). والرِّوايَةُ الثانيةُ، يَنْقُضُ الوُضُوءَ بكلِّ حالٍ. وهي ظاهِرُ المذهبِ. وهو مذهبُ ابنِ عُمَرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، وعُرْوَةَ، وسُلَيمانَ بنِ يَسارٍ (¬4)، والزُّهْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وهو المَشْهُورُ عن مالكٍ؛ لما رَوَتْ بُسْرَةُ بنتُ صَفْوانَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَسَّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في مس الذكر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 411. والنسائي، في: باب ترك الوضوء من مس الذكر، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 84. والترمذي، في: باب ترك الوضوء من مس الذكر، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 116. وابن ماجة، في: باب الرخصة في مس الذكر، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 163. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 22، 23. (¬2) ساقطة من: «م». (¬3) في م: «الأعضاء». (¬4) أبو أيوب سليمان بن يسار الهلالي المدني، مولى ميمونة، ويقال كان مكاتبا لأم سلمة، كان من علماء الناس بعد ابن المسيب ومن فقهاء المدينة، مات سنة سبع ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 228 - 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ». وعن جابرٍ مِثْلُ ذلك. رَواهُما ابنُ ماجَه (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: حديثُ بُسْرَةَ حسنٌ صحيحٌ. وقال البُخارِيُّ: أصَحُّ شيءٍ في هذا البابِ حديثُ بُسْرَةَ. وصَحَّحَه الإِمامُ أحمدُ. فأمّا حديثُ قَيس، فقال أبو زُرْعةَ وأبو حاتِمٍ (¬2): قَيسٌ مِمَّن لا تَقُومُ برِوايَتِه حُجَّةٌ. ووَهَّناه. ولم يُثْبِتاه. ثم إنَّ حَدِيثَنا مُتأخِّرٌ، لأنَّ أبا هُرَيرَةَ قد رَواه (¬3)، وهو مُتأخِّرُ الإِسلام، إنَّما صَحِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أربعَ سِنِينَ، وكان قُدُومُ طَلْقٍ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهم يُؤْسِّسُونَ المسجدَ، فيَكُونُ حَدِيثُنا ناسِخًا له. وقياسُ الذَّكَرِ على سائِرِ البَدَنِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَتَعَلَّقُ به أحكامٌ يَنْفَرِدُ بها؛ مِن وُجُوبِ الغُسْلِ بإيلاجِه والحَدِّ والمَهْرِ، وغيرِ ذلك. والرِّوايَةُ الثالثةُ، لا يَنْقُضُ إلَّا أن يَقْصِدَ مَسَّه، قال أحمدُ بنُ الحُسينِ (¬4): قِيلَ ¬

(¬1) في: باب الوضوء من مس الذكر، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 162 كما أخرج حديث بسرة أبو داود، في: باب الوضوء من مس الذكر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 41. والترمذي، في: باب الوضوء من مس الذكر، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 114. والنسائي، في: باب الوضوء من مس الذكر، من كتابي الطهارة والغسل. المجتبى 1/ 83، 84، 177. والدارمي، في: باب الوضوء من مس الذكر، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 184، 185. والإمام مالك، في: باب الوضوء من مس الفرج، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 42. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 406، 407. (¬2) محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الرازي، أبو حاتم. الإمام الحافظ الكبير الحجة، أحد الأئمة الأعلام. توفي سنة سبع وسبعين ومائتين. مقدمة الجرح والتعديل، تهذيب التهذيب 9/ 31 - 34. (¬3) أخرجه الدارقطني، في: باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر والحكم في ذلك، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 147. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 333. (¬4) أحمد بن الحسين بن حسان، من أهل سر من رأى صحب الإمام أحمد، وروى عنه أشياء. طبقات الحنابلة 1/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأحمدَ: الوُضُوءُ مِن مَسِّ الذَّكَرِ؛ فقال: هكذا. وقَبَض على يَدِه. يَعْنِي إذا قَبَض عليه. وهو قولُ مَكْحُولٍ. وقال طاوُسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وحُمَيدٌ الطَّويل (¬1): إن مَسَّه يُرِيدُ وُضُوءًا، وإلَّا فلا شيءَ عليه، لأنَّه لَمْسٌ، فلا يَنْقُضُ الوُضُوءَ لغيرِ قَصْدٍ كلَمْسِ النِّساءِ. وسَواءٌ مَسُّه ببَطنِ كَفِّه أو بظَهْرِه. وهذا قولُ عَطاءٍ، والأوْزاعِيِّ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ: لا يَنْقُضُ مَسُّه بظاهِرِ الكَفِّ. وحَكاه أبو الخَطابِ رِوايَةً عن أحمدَ؛ لأنَّه ليس بآلَةٍ للْمَسِّ، فأشْبَهَ ما لو مَسَّه (¬2) بفَخِذِه. ولَنا، قَوْلُ ¬

(¬1) أبو عبيدة حميد بن أبي حميد الطويل الخزاعي، مولاهم، بصري ثقة، توفي سنة اثنتين وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 38 - 40. (¬2) في م: «مسحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أفْضَى بِيَدِهِ إلَى ذَكَرِهِ، لَيسَ دُونَه سِتْرٌ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيهِ الْوُضُوءُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، والدّارَقُطْنِيُّ (¬1). وظاهِرُ كَفِّه مِن يَدِه، وإلإِفْضاءُ اللَّمْسُ مِن غيرِ حائِلٍ. ولأنَّه جُزْءٌ مِن يَدِه أشْبَهَ باطِنَ الكَفِّ. وإنَّما يَنْتَقِضُ وُضُوءُه إذا لَمَسَه مِن غيرِ حَائِلٍ؛ لِما ذَكَرْنا. وذَكَر القاضي عن أحمدَ رِوايَةً، أنَّه لا يَنْقُضُ إلَّا مَسُّ الثَّقْبِ الَّذي في رَأْسِ الذَّكَرِ، ولا يَنْقُضُ لَمْسُ غيرِه. قال: والأوَّلُ أصَحُّ؛ لعُمُوم الأحادِيثِ الدّالَّةِ على النَّقْضِ، وذكر أبو الخَطّابِ رِوايَةً عن أحمدَ (¬2)، أنَّه لا يَنْقُضُ إلَّا لَمْسُ الحَشَفَةِ خاصَّةً. والأوَّلُ أصَحُّ، لعُمُومِ النَّصِّ. ¬

(¬1) انظر تخريج حديث أبي هريرة المتقدم قبل قليل. (¬2) سقط من: «م».

136 - مسألة؛ قال: (ولا ينقض مسه بذراعه)

وَلَا يَنْقُضُ مَسُّهُ بِذِرَاعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 136 - مسألة؛ قال: (ولا يَنْقُضُ مَسُّه بذِراعِه). وعنه، يَنْقُضُ؛ لأنَّه مِن يَدِه، وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ، لأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ على مُطْلَقِ اليَدِ في الشَّرْعِ إنَّما يَنْصَرِف إلى الكُوعِ، بدَلِيلِ قَطْعِ السّارِقِ وغَسْلِ اليَدِ مِن نَوْمِ اللَّيلِ، ولأنَّه ليس بآلةٍ لِلْمَسِّ، أشْبَهَ العَضُدَ، وقِياسُهُم يَبْطُلُ بالعَضُدِ، فإنَّه لا خِلافَ بينَ العُلَماءِ فيه. فصل: ولا فَرْقَ بينَ ذَكَرِه وذَكَرِ غيرِه، خِلافًا لداودَ، قال: لأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد في ذَكَرِه. ولَنا، أنَّه إذا نَقَض الوُضُوءَ مَسُّ ذَكَرِه مع كَوْنِ الحاجَةِ تَدْعُو إلى مَسِّه، وهو جائِزٌ، فَلَأنْ يَنْتَقِضَ بمَسِّ ذَكَرِ غيرِه مع كَوْنِه مَعْصِيَة أَولَى، ولأنَّ نَصَّه على نَقْضِ الوُضوءِ بمَسِّ ذَكَرِه مع أنِّه لم يَهْتِكْ حُرْمَةً، تَنْبِيهٌ على نَقْضِه بِمَسِّ ذَكَرِ غيرِه. ولأنَّ في بَعْضِ ألْفاظِ خَبَرِ بُسْرَةَ: «مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ فَلْيَتَوَضَّأْ». وحُكْمُ ذَكَرِ الكِبيرِ والصَّغِيرِ واحِدٌ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال الزُّهْرِيُّ والأوْزاعِيُّ: لا يَنْقُضُ مَسُّ ذَكَرِ الصَّغِيرِ، لأنَّه يَجُوزُ مَسُّه، والنَّظر إليه، بخِلافِ الكبيرِ، ولما رُوِيَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مَسَّ زُبَيبَةَ الحَسَنِ ولم يَتَوَضَّأْ (¬1). وذَكَرَه الآمِدِىُّ رِوايَةً عن أحمدَ. ولَنا، عُمُومُ الأحاديثِ، وخَبَرُهم ليس بثابِتٍ، ثم ليس فيه ¬

(¬1) أخرج البيهقي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قبل زبيبة الحسن. السنن الكبرى 1/ 137. وانظر: تلخيص الحبير 1/ 127.

137 - مسألة: (وفي مس الذكر المقطوع وجهان)

وَفِي مَسِّ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه صَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لم يَتَوَضَّأْ في مَجْلِسِه ذلك، وجَوازُ مَسِّه والنَّظرِ إليه يَبْطُلُ بذَكَرِ نَفْسِه. وذَكَرُ المَيِّتِ كذَكَرِ الحَيِّ؛ لبَقاءِ الاسمِ والحُرْمَةِ، وهو قولُ الشافعيِّ. وقال إسحاقُ: لا وُضُوءَ عليه. وهو قَوْلُ بَعْضِ أصحابِنا، كالمرأةِ المَيِّتَةِ. 137 - مسألة: (وفي مَسِّ الذَّكَرِ المَقْطُوع وَجْهانِ) أحَدُهما، ينْقُضُ، لبَقاءِ اسم الذَّكَرِ. والثاني، لا يَنْقُضُ، لذَهابِ الحُرْمَةِ، فهو كيَدِ المرأةِ المَقْطُوعَةِ. ولو مَسَّ القُلْفةَ التي تُقْطعُ في الخِتانِ قبلَ قَطْعِها، انْتَقَضَ وُضُوءُه، لأنَّها مِن جُمْلَةِ الذَّكَرِ، وإن مَسَّها بعدَ القَطْعِ، فلا وُضُوءَ عليه، لزَوالِ الاسمِ والحُرْمَةِ، وإنِ انْسَدَّ المَخْرَجُ وانْفَتَحَ غيرُه، لم يَنْقُضْ مَسُّه، لأنَّه ليس بفَرْجٍ.

138 - مسألة: (وإذا لمس قبل الخنثى المشكل وذكره، انتقض وضوءه. وإن مس أحدهما، لم ينتقض، إلا أن يمس الرجل ذكره لشهوة)

وَإذَا لَمَسَ قُبُلَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ وَذَكَرَهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، فَإِنْ مَسَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَنْتَقِضْ، إلا أن يَمَسَّ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ لِشَهْوَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 138 - مسألة: (وإذا لَمَسَ قُبُلَ الخُنْثَى المُشْكِلِ وذَكَرَه، انْتَقَضَ وُضُوءُه. وإن مَسَّ أحَدَهُما، لم يَنْتَقِضْ، إلَّا أن يَمَسَّ الرَّجلُ ذَكَرَه لشَهْوَةٍ) لَمْسُ الخُنْثَى المُشْكِلِ يَنْقَسِمُ أربعةَ أقسامٍ، أحَدُها، أن يَمَسَّ فَرْجِ نَفْسِه، فمتى لَمَس أحَدَ فَرْجَيه لم ينْتَقِضْ وُضُوءُه؛ لِجَوَازِ أن يَكُونَ خِلْقَةَ زائِدَةً. وإن لَمَسَهُما جميعًا، انْتَقَض وُضوءُه إن قُلْنا: إنَّ مَسَّ المرأةِ فَرْجَها يَنْقُضُ الوُضوءَ. لأنَّ أحَدَهما فَرْجٌ بيَقِينٍ، وإلَّا فلا. الثاني، أن يَكُونَ اللّامِسُ رجلًا، فإن مَمسَّهُما جميعًا لغيرِ شَهْوَةٍ، فهي كالتي قَبْلَها. وإن مَسَّهُما لشهوةٍ، انْتَقَض وُضُوءُه في ظاهِرِ المذهبِ، لأنَّه إن كان رجلًا فقد مَسَّ ذَكَرَه، وإن كان أُنْثَى فقد مَسَّها لشهوةٍ، وكذلك الحُكْمُ إذا لَمَس ذَكَرَه لشَهْوَةٍ، لما ذَكَرْنا. فأمّا إن مَسَّ القُبُلَ وَحْدَه، أو مَسَّ الذَّكَرَ لغيرِ شهوةٍ، لم يَنْتَقِضْ؛ لجَوازِ أن يَكُونَ خِلْقَةً زائِدَةً، إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ المُلامَسَةَ تَنْقُضُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُضُوءَ بكلِّ حالٍ. فإنَّه يَنْتَقِضُ بلَمْسِ الذَّكَرِ وَحْدَه؛ لأنَّه إن كان رجلًا فقد مَسَّ ذَكَرَه، وإن كانت أُنْثَى فقد مَسَّها. الثالثُ، أن تكونَ امرأةً، فإن مَسَّتْهُما جميعًا انْتَقَضَ وُضُوءُها، إن قُلْنا: إنَّ مَسَّ فَرْجِ المرأةِ يَنْقُضُ الوُضوءَ. وإلَّا فلا. وإن مَسَّتْ أحَدَهُما لغيرِ شَهْوَةٍ لم يَنْتَقِضْ وُضُوءُها. وكذلك إن مَسَّتِ الذَّكَرَ لشهوةٍ؛ لجَوازِ أن يَكُونَ خِلْقَةً زائِدَةَ مِن امرأةٍ. وإن مَسَّتِ الفَرْجَ لشَهْوَةٍ، انْتَقَضَ وُضُوءُها في ظاهِرِ المَذْهَبِ، لأنَّه إن كان رجلًا فقد مَسَّتْه لشهوةٍ، وإن كانت أُنْثَى فقد مَسَّتْ فَرْجَها. الرابعُ، أن يكونَ اللّامِسُ خُنْثَى مُشْكِلًا، فإن مَسَّ أحَدَهُما لم يَنْتَقِضْ، سَواءٌ كان لشَهْوَةٍ أوْ لا. وإن مَسَّهما جَمِيعًا انتقَضَ وُضُوءُه، إذا قُلْنا: إنَّ مَسَّ الفَرْجِ يَنْقُضُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوْضوءَ. وإن مَسَّ أحَدُ الخُنْثَيين ذَكَرَ الآخَرِ، ومَسَّ الآخَرُ فَرْجَه، وكان اللَّمْسُ لشَهْوَةٍ، انْتَقَض وُضوءُ أحَدِهِما قَطْعًا، لأنَّهما إن كانا ذَكَرَين فقد وُجِدَ بَينَهُما لمسُ ذَكَرٍ، وإن كانا أُنْثَيَين فقد وُجِد بينَهما مَسُّ فَرْجِ امرأة، وإن كانا ذَكَرًا وأُنْثَى فقد وُجِدَتْ بَينَهما مُلامَسَةٌ لشهْوَةٍ، ولا يُحْكَمُ بنَقْضِ وُضوءِ واحِدٍ منهما؛ لأنَّه مُتَيَقِّنُ الطهارةِ، شَاكٌّ في الحَدَثِ. وإن كان لغيرِ شَهْوَةٍ لِم يَنْتَقضْ؛ لجَوازِ أن يَكُونَ المَمْسُوسُ ذَكَرُه امرأةً، والمَمْسُوسُ فَرْجُه رجلًا. وإن مَسَّ كلُّ واحِدٍ منهما ذَكَرَ الآخَرِ أو قُبُلَه لم يَنْتَقِضْ؛ لاحْتِمالِ أن يَكُونا امرَأتَين في الأولَى ورَجُلَين في الثّانِيَةِ. واللهُ أعلم.

139 - مسألة: (وفي مس الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان)

وَفِي مَسِّ الدُّبُرِ وَمَسِّ الْمَرْأةِ فْرْجهَا رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 139 - مسألة: (وفي مَسِّ الدُّبُرِ، ومَسِّ المرأةِ فَرْجَها رِوايَتان) إحْداهُما، يَنْقُضُ الوُضُوءَ؛ لعُمُومِ قَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأ». رواه ابنُ ماجَه عن أُمِّ حَبِيبَةَ (¬1). قال أحمدُ، وأبو زُرْعَةَ: حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ صَحِيحٌ. وبه قال الشافعيّ في مَسِّ الدُّبُرِ. ولأنَّه أحَدُ الفَرْجَين، أشْبَه الذَّكَرَ. والثانيةُ، لا يَنْقُضُ. قال الخَلّالُ: العَمَلُ والأشْيَعُ في قولِه، أنَّه لا يَتَوَضَّأ مِن مَسِّ الدُّبُرِ. وكذلك روَى المَرُّوذيُّ، أنَّه قِيل لأحمدَ، في الجارِيِةَ إذا مسَّتْ فَرْجَها: عليها وُضُوء؟ قال: لم أسْمَعْ في هذا بشيء. لأنَّ الحديثَ المَشْهُورَ إنَّما هو في مَسِّ الذَّكَرِ، وهذا ليس في مَعْناه؛ لأنَّه لا يَقْصِدُ مَسَّه، ولا يُفْضِي إلى خُرُوجِ خارِجٍ، فلم يَنْقُضْ، كلَمْسِ الأَنْثَيَين. ¬

(¬1) في: باب الوضوء من مس الفرج، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 162.

140 - مسألة؛ قال: (وعنه: لا ينقض مس الفرج بحال)

وَعَنْهُ، لَا يَنْقُضُ مَسُّ الْفَرْجِ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 140 - مسألة؛ قال: (وعنه: لا يَنْقُضُ مَسُّ الفَرْجِ بحال) لحَدِيثِ قَيسِ بن طَلْقٍ (¬1)، وقِياسًا على سائِرِ الأعْضاءِ. فصل: ولا يَنْتَقِضُ (¬2) الوُضُوءُ بِمَسِّ غيرِ الفرْجَين مِن البَدَنِ في قَوْلِ الأَكْثَرين، إلَّا أنَّه رُوِيَ عن عُرْوَةَ الوُضوءُ مِن مَسِّ الأنْثَيَين. وقال عِكْرِمَةُ: مَن مَسَّ ما بينَ الفَرْجَين فليَتَوَضَّأ. وقولُ الجُمْهُورِ أوْلَى؛ لأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعْنى المَنْصُوصِ. ولا يَنْتَقِضُ وُضوءُ المَلْمُوسِ فَرْجُه أيضًا؛ لأنَّ السُّنَّةَ إنَّما وَرَدَتْ في اللّامِسِ. ولا يَنْتَقِضُ بمَسِّ فَرْجِ البَهِيمَةِ. وقال اللَّيثُ بنُ سعدٍ: عليه الوُضُوءُ. وما عليه الجُمْهُورُ أَوْلَى؛ لأنَّه ليس بمَنْصُوصِ، ولا هو (¬3) في مَعْناه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬2) في م: «ينقض». (¬3) زيادة من: «م».

141 - مسألة: (الخامس، أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة. وعنه: لا ينقض. وعنه: ينقض لمسها بكل حال)

الْخَامِسُ، أَنْ تَمَسَّ بَشَرَتُهُ بَشَرَةَ أنْثَى لِشَهْوَةٍ. وَعَنْهُ، لَا يَنْقُضُ. وَعَنْهُ، يَنْقُضُ لَمْسُهَا بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 141 - مسألة: (الخامسُ، أن تَمَسَّ بَشَرَتُه بَشَرَةَ أُنْثَى لشَهْوَةٍ. وعنه: لا يَنْقُضُ. وعنه: يَنْقُضُ لمْسُها بكلِّ حالٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رحمه الله، في المُلامَسَةِ، فرُوىَ عنه أنَّها تَنْقُضُ الوُضُوءَ بكلِّ حالٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ويُرْوَى إيجابُ الوُضُوءِ مِن القُبْلَةِ مُطْلَقًا عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، والزُّهْرِيِّ، وعَطاءٍ، والشّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وسعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، والأوْزاعِيِّ، لعُمُومِ قَوْلِه تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1). قال ابنُ مسعودٍ: القُبْلَةُ مِن اللمْسِ وفِيها ¬

(¬1) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُضُوءُ. رَواه الأثْرَمُ. وروى عن أحمدَ رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه لا يَنْقُضُ بحالٍ. يُروَى ذلك. عن ابنِ عباسٍ. وهو قولُ طاوسٍ، والحسنِ، ومَسْرُوقٍ (¬1). وبه قال أبو حَنِيفَةَ وصاحِباه. وقال قَوْمٌ: مَن قَبَّلَ حَلالًا فلا وُضُوءَ عليه، ومَن قَبَّل حَرامًا فعليه الوُضوءُ. وهو قولُ عَطاءٍ. فإن باشَرَ لشَهْوَةٍ وليس بينهما ثَوْبٌ، وانْتَشَرَ، فعليه الوُضُوءُ في قَوْلِ أبي حنيفةَ، ويعقوبَ. وقال محمدٌ: لا وُضُوءَ عليه، إلَّا أن يَخْرُجَ منه شيءٌ؛ لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَ عائِشَةَ، وصَلَّى ولم يَتَوَضَّأ. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيّ (¬2) مِن رِواية التَّيمِيِّ (¬3)، وقالا: لم يَسْمَعْ مِن عائشةَ. وقال ¬

(¬1) أبو عائشة مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي التابعي الفقيه العابد، توفي سنة ثلاث وستين. طبقات الفقهاء للشيرازي 79، تهذيب التهذيب 20/ 109 - 111. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء من القبلة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 40. والترمذي، في: باب ترك الوضوء من القبلة، من كتاب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 124. والنسائي، في: باب ترك الوضوء من القبلة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 86، 87. (¬3) أبو أسماء إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي الكوفي، كان من العباد، مات ولم يبلغ أربعين سنة، توفي سنة اثنتين وتسعين. تهذيب التهذيب 1/ 176، 177.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّسائِيّ: ليس في هذا البابِ شيءٌ أحْسَنُ من هذا الحديثِ، وإن كان مُرسَلًا. وعن عائشةَ، رَضِي اللهُ عنها، قالت: فَقَدْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةً منِ الفِراش فالْتَمَسْتُه، فوَقَعَتْ يَدِي على بَطنِ قَدَمِه وهو في المسجدِ، وهما مَنْصُوبَتانِ. رَواه مسلمٌ (¬1). وعنها، قالت: كُنتُ أنامُ بينَ يَدَي ¬

(¬1) في: باب ما يقال في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 352.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الدعاء في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 203. والترمذي، في: باب في دعاء الوتر، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذي 1/ 72. والنسائي، في: باب ترك الوضوء من مسِّ الرجل امرأته من غير شهوة، من كتاب الطهارة، وفي: باب نصب القدمين في السجود، وباب نوع آخر من باب الدعاء في السجود، من كتاب التطبيق، وفي: باب الاستعاذة برضاء الله من سخط الله تعالى، من كتاب الاستعاذة. المجتبى 1/ 85، 2/ 166، 176، 8/ 250. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة، وفي: باب ما استعاذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 1/ 373، 2/ 1263. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الدعاء، من كتاب مسّ القرآن. الموطأ 1/ 214. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 58، 201. وفي الباب عن علي، رضي الله عنه، في ذكر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أخرجه أبو داود، في: باب القنوت في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 329. والنسائي، في: باب الدعاء في الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 206. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 96، 118، 150.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورِجْلايَ في قِبْلَتِه، فإذا سَجَد غَمَزَنِي فقَبَضْتُ رِجْلَيَّ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وللنَّسائِيِّ: مَسَّنِي برِجْلِه (¬2). والآَيةُ أُرِيدَ بها الجِماعُ، قاله ابنُ عباسِ. ولأنَّ المُرادَ بالمَسِّ الجِماعُ، فكذلك اللَّمْسُ. ولأنَّه ذَكَره بلَفْظِ المُفاعَلَةِ، والمُفاعَلَةُ لا تَكُونُ مِن أقَلَّ مِن اثْنَين. والرِّوايَةُ الثالثةُ وهي ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّه يَنْقُضُ إذا كان لشَهْوةٍ ولا يَنْقُضُ لغَيرِها، جمْعًا بينَ الآية والأخبارِ. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى وهو حامِلٌ أُمامَةَ بنتَ أبي العاصِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصلاة على الفراش، وباب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد، وباب التطوع خلف المرأة، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما يجوز من العمل في الصلاة، من أبواب العمل في الصلاة. صحيح البخاري 1/ 107، 136، 138، 2/ 81. ومسلم، في: باب الاعتراض بين يدي المصلي، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال: المرأة لا تقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 163. والنسائي، في: باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 85. وابن ماجه، في: باب من صلى وبينه وبين القبلة شيء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 307. والدارمي، في: باب المرأة تكون بين يدي المصلي، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 328. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صلاة الليل، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 117. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 37، 55، 126، 134، 200، 225، 255، 260، 275. (¬2) انظر التخريج السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ الرَّبِيعِ، إذا سَجَد وَضَعَها، وإذا قامَ حَمَلَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والظّاهِرُ أنَّه لا يَسْلَمُ مِن مَسِّها. ولأنَّ اللَّمْسَ ليس بحَدَثٍ في نَفْسِه، وإنَّما هو داعٍ إلى الحَدَثِ، فاعْتُبِرَتِ الحالةُ التي يَدْعُو فيها إلى الحَدَثِ، وهي حالةُ الشَّهْوَةِ. ولأنَّه لَمْسٌ لغيرِ شهوةٍ فلم يَنْقُضْ، كلَمْسِ ذَواتِ المَحارِمِ. وهذا مذهبُ الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والحَكَمِ، وحَمّادٍ، ومالكٍ، والثَّوْرِيّ، وإسحاقَ. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ، وذَواتِ المَحارِمِ وغَيرِهِنَّ. وقال الشافعيُّ في أحَدِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 137. ومسلم، في: باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، من كتاب المساجد ومواقع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 385، 386.كما أخرجه أبو داود، في: باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 211. والنسائي، في: باب حمل الصبايا في الصلاة ووضعهن في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 10. والإمام مالك، في: باب جامع الصلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلَيه: لا يَنْقُضُ لمْسُ ذاتِ المَحْرَمِ، ولا الصَّغِيرَة؛ لأنَّ لَمْسهَما لا يُفْضِي إلى خُرُوجِ خارِج، أشْبَه لَمْسَ الرجلِ. ولَنا، عُمُومُ النَّصِّ، واللَّمْسُ النّاقِضُ مُعْتَبَرٌ بالشَّهْوَةِ، فمتى وُجِدَتْ فلا فَرْقَ بينَ الجَمِيعِ. فأمّا لَمْسُ المرأةِ المَيِّتةِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَنْقُضُ. اخْتارَه القاضي؛ لعُمُومِ الآيةِ، وكما يَجِبُ الغُسْلُ بوَطْئِها. والثاني، لا يَنْقُضُ. اخْتارَه الشرَّيفُ أبو جَعفَرٍ، وابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّها ليست مَحَلًّا للشَّهْوَةِ، فهي كالرجلِ. فصل: ولا يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النّاقِضُ باليَدِ، بل أيُّ شيءٍ منه لاقَى شيئًا مِن بَشَرَتِها مع الشَّهْوَةِ، انْتَقَضَ الوُضُوءُ به، سَواءٌ كان عُضْوًا أصْلِيًّا، أو زائِدًا. وحُكِي عن الأوْزاعِي، لا يَنْقُضُ اللّمْسُ إلَّا بأحَدِ أعْضاءِ الوُضوءِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لعُمُومِ النُّصُوصِ، والتَّخْصِيصُ بغيِر دَلِيلٍ تَحَكُّمٌ، فلا يُصارُ إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لَمَسَها مِن وراءِ حائِلٍ، لم يَنْتَقِضْ وُضُوءُه. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال مالكٌ واللَّيثُ: يَنْقُضُ إذا كان ثَوْبًا رَقِيقًا. وكذلك قال رَبِيعَةُ: إذا غَمَزَها مِن وراءِ ثَوْبٍ رَقِيقٍ لشَهْوَةٍ، وذلك لأنَّ الشهوةَ مَوْجُودَةٌ. ولَنا، أنَّه لَمْسٌ، فلم يَنْقُضْ مِن وراءِ حائِل، كلَمسِ الذَّكَرِ، ولأنَّه لم يَلْمِسْ جِسْمَ المرأةِ، أشْبَه ما لو لَمَس ثِيابَها لشَهْوَةٍ، والشهوةُ لا تُوجِبُ الوُضُوءَ بمُجَرَّدِها، كما لو وُجِدَتِ الشَّهْوَةُ بغيرِ لَمْسٍ. فصل: فإن لَمَسَتِ المرأةُ رجلًا لشَهْوَةٍ، انْتَقَض وُضُوءُها في إحدَى الرِّوايَتَين، وهو ظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِيِّ. وقد سُئِل أحمدُ عن المرأةِ إذا مَسَّتْ زَوْجَها؟ قال: ما سَمِعْتُ فيه شَيئًا، ولكنْ هي شَقِيقَةُ الرجلِ، يُعْجِبُنِي أن تَتَوَضَّأَ؛ لأنَّها مُلامَسَةٌ تَنْقُضُ الوُضوءَ، فاسْتَوَى فيها الرجلُ والمرأةُ، كالجِماعِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يَنْتَقِضُ وُضُوءُها. وللشافعيِّ قَوْلان كالرِّوايَتَين؛ لأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد في الرِّجالِ، ولا يَصِحُّ قِياسها عليه؛ لأنَّ اللَّمْس مِن الرجلِ مع الشَّهْوَةِ مَظِنَّةٌ لخُرُوجِ المَذي النّاقِضِ، فأُقِيمَ مَقامَه، ولا يُوجَدُ ذلك في حَقِّ المرأةِ، وإذا لم يَكُنْ نَصٌّ ولا قِياسٌ فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ.

142 - مسألة: (ولا ينقض لمس الشعر والسن والظفر)

وَلَا يَنْقُضُ لَمْسُ الشَّعَرِ وَالسِّنِّ وَالظُفْرِ وَالأْمْرَدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 142 - مسألة: (ولا يَنْقُضُ لَمْسُ الشَّعَرِ والسِّنِّ والظّفْرِ) وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ، وكذلك لَمْسُها بشَعَرِه وسِنِّه وظُفْرِه؛ لأنَّ ذلك مِمّا لا يَقَعُ عليه الطَّلاقُ بإيقاعِه عليه ولا الظِّهارُ، فأشْبَة الثَّوْبَ. ويَتَخَرَّجُ أن يَنْقُضَ لَمْسُ السِّنِّ والشَعَرِ والظُّفْرِ والأمْرَدِ؛ إذا كان لشَهْوَةٍ، ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ لمْسَ المرأةِ إنَّما نَقَض لوُجُودِ الشَّهْوَةِ الدّاعِيَةِ إلى خُرُوجِ المَذْي، ولا يَنْقض لمْسُ الأمْرَدِ، ولا لَمْسُ الرجلِ، ولا لَمْسُ المرأةِ المرأةَ؛ لأنَّه ليس بداخِلٍ في الآَيَة، ولا في مَعْناه؛ لكَوْنِه ليس مَحَلًّا لشَهْوَةِ الآخَرِ شَرْعًا. وقال القاضي في «المُجَرَّدِ»: إذا لَمَسَ الرجلُ الرجلَ، أو المرأةُ المرأةَ، [وكان بَينَهما شهوةٌ] (¬1) انتقَض وُضُوءُه في قِياسِ المَذْهبِ. والأوَّلُ أَولَى؛ لِما ذَكَرنا. ولا يَنْتَقِضُ الوُضوءُ بلَمسِ ¬

(¬1) في م: «بشهوة».

143 - مسألة: (وفي نقض وضوء الملموس روايتان)

وَفِي نَقْضِ وُضوءِ الْمَلْمُوس رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَهِيمَةِ؛ لِما ذَكَرنا، ولا بمَس خُنْثَى مُشْكِل؛ لأنَّه لا يَعلَمُ كَوْنَه رجلًا ولا امرأةً. ولا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الخُنْثَى بمسَ امرأةٍ ولا رجلٍ؛ لأنَّه مُتَيَقِّن بالطهارةِ، شاكٌّ في الحَدَثِ، قال شَيخُنا: ولا أعلَمُ في هذا كله خِلافًا (¬1). كان مَس عُضْوَ امرأةٍ مَقْطُوعًا لم يَنْتَقِضْ وُضهوءُه؛ لأنَّه لا يَقَعُ عليه اسمُ المرأةِ، ولا هو مَحَلّ للشَّهْوَةِ. 143 - مسألة: (وفي نَقْضِ وُضُوءِ المَلْمُوسِ رِوايَتان)، إحداهُما، يَنْتَقِض، لأنَّ ما يَنْتَقض الْتِقاءِ البَشَرَتَين يَسْتَوى فيه اللّامِسُ والمَلْمُوسُ، كالجِماعِ. والثانيةُ، لا يَنْتَقِضُ؛ لأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد بالنَّقْضِ في اللّامِسِ، فاخْتَصَّ به، كلَمس الذَّكَرِ، ولأنَّ الشَّهْوَةَ مِن اللّامِسِ أشَدُّ منها في المَلْمُوسِ فامتَنَعَ القِياسُ. وللشافعيِّ قَوْلان كهذَينِ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 262.

144 - مسألة: (السادس، غسل الميت)

السَّادِسُ، غُسْل الْمَيِّت. ـــــــــــــــــــــــــــــ 144 - مسألة: (السّادِسُ، غُسْلُ المَيِّتِ) وهو ناقِضٌ للوُضُوءِ في قولِ أكْثَرِ الأصحابِ، سَواء كان المَغْسُولُ صغيرًا أو كبيرًا، ذَكَرًا أو أُنْثَى، مُسْلِمًا أو كافِرًا. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، وإسحاقَ، لأنَّ ابنَ عُمَرَ، وابنَ عباس، كانا يَأمُرانِ غاسِلَ المَيِّتِ بالوُضُوءِ. وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: أقَلّ ما فيه الوُضوءُ. ولا نَعلَمُ لهم مُخالِفًا في الصَّحابَةِ، فكان إجْماعًا، ولأنَّ الغاسِلَ لا يَسْلَمُ مِن مَسِّ عَوْرَةِ المَيِّتِ غالِبًا، فأقِيمَ مُقامَه؛ كالنَّوْم مع الحَدَثِ. وقال أبو الحسنِ التَّمِيمِيّ: لا يَنْقُضُ. وهو قولُ أكثرِ العُلَماءِ. قال شيخُنا: وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّه لم يَرِدْ فيه نَصٌّ

145 - مسألة: (السابع، أكل لحم الجزور)

السَّابعُ، أكْلُ لَحمِ الْجَزُورِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ». ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيحٌ، ولا هو في مَعنَى المَنْصُوص عليه، ولأنَّه غُسْلُ آدَمِي، أشْبَه غُسْلَ الحَيِّ (¬1). وكلامُ أحمدَ يَدُلّ على أنه مُسْتَحَبٌّ غيرُ واجِب؛ فإنَّه قال: أحَبُّ إليَّ أن يَتَوَضَّأ. وعَلَّلَ نَفْيَ وُجُوبِ الغُسْلِ مِن غُسْلِ المَيِّتِ، بكَوْنِ الخَبَرِ الوارِدِ فيه مَوْقُوفًا على أبي هُرَيرَةَ، فإذا لم يُوجِبِ الغُسْلَ بقَوْلِ أبي هُرَيرَةَ، مع احتِمالِ أن يكُونَ مَرفُوعًا، فلَأنْ لا يُوجِبَ الوُضُوءَ بقَوْلِه، مع عَدَمِ هذا الاحتِمالِ أوْلَى، ولأنَّ الأصلَ عَدَمُ وُجُوبِه، فيَبْقَى على الأصلِ. 145 - مسألة: (السّابع، أكْلُ لَحمِ الجَزُورِ) وجُملَةُ ذلك أنَّ أكْلَ لَحْمِ الإِبِلِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ، سَواءٌ أنْ لَه عالِمًا أو جاهِلًا، نَيِّئًا أو ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 256.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَطْبُوخًا، في ظاهِرِ المَذْهبِ. وهو قولُ جابِرِ بنِ سَمُرَةَ (¬1)، ومحمدِ بنِ إسحاقَ (¬2)، وأبي خَيثَمَةَ (¬3)، ويَحيَى بن يَحيَى (¬4)، وابنِ المُنْذِرِ، وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. قال الخَطّابِيُّ: ذَهب إلى هذا عامَّةُ أصحابِ الحديثِ. ورُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ أنَّه قال: إن كان لا يَعلَمُ، فليس عليه وُضُوءٌ، وإن كان قد عَلِمَ وسَمِعَ؛ عليه الوُضوءُ واجِبٌ، ليس هو كمَنْ لا يَعلَمُ. قال الخَلّالُ: وعلى هذا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أبي عبدِ اللهِ. وقال الثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأيِ: لا وُضُوءَ عليه بحالٍ. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ روايةً عن أحمدَ؛ لما روَى ابنُ عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «الْوُضُوءُ ¬

(¬1) أبو خالد جابر بن عشرة بن جنادة السوائي، له صحبة مشهورة، ورواية أحاديث، توفي سنة ست وسبعين. سير أعلام النبلاء 3/ 186 - 188. (¬2) أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني، صاحب السيرة النبوية، توفي سنة خمسين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 33 - 55. (¬3) أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حُدَيج الجعفي الكوفي، كان حافظا متقنا، توفي سنة اثنتين وقيل ثلاث وسبعين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 351 - 353. (¬4) أبو زكريا يحيى بن يحيى بن بكر التميمي النيسابوري الحافظ، شيخ الاسلام، توفي سنة ست وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 512 - 519. وهو غير أبي محمد يحيى بن يحيى بن كثير البربري الأندلسي، صاحب الإمام مالك، كان كبير الشأن، وافر الجلالة، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 519 - 525.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِمَّا يَخْرُجُ لَا مِمَّا يَدخُلُ» (¬1). وقال جابِرٌ: كان آخِرَ الأمرَين مِن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَركُ الوُضُوءِ مِمّا مسَّتِ النّارُ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه مَأكُولٌ فلم يَنْقضْ، كسائِرِ المَأكُولاتِ. ولنَا، ما روَى البَراءُ بنُ عازِبٍ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: أنَتَؤَضَّأ مِن لُحُوم الإِبِلِ؟ قال: «نَعم». قال: أفنَتَوَضّأ مِن لُحُوم الغَنَمِ؟ قال: «لَا». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجَه، والترمِذِيُّ (¬3). ورَوى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَه. أخْرَجَه مسلمٌ (¬4). قال أحمدُ: فيه حَدِيثان صَحِيحان؛ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 151. والبيهقي، في: باب التوضيء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 9/ 159. والهيثمي، في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. مجمع الزوائد 1/ 252. وذكر أن الطبراني أخرجه في الكبير. (¬2) في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 43.كما أخرجه الترمذي، في: باب في ترك الوضوء مما غيرت النار، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 112. والنسائي، في: باب ترك الوضوء مما غيرت النار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 90. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 41. والترمذي، في: باب الوضوء من لحوم الابل، في أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 112. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 288، 303. (¬4) في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 275.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 86، 88، 92، 93، 97، 98، 100 - 102، 105، 106، 108، أخرجه عن ذي الغرة، في: المسند 4/ 67، 5/ 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثُ البَراءِ، وجابِرِ بنِ سَمُرَةَ. فأمّا حديثُ ابنِ عباسٍ، فإنَّما هو مِن قَوْلِه، مَوْقُوفٌ عليه، ولو صَحَّ لوَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنا عليه، لكَوْنِه أصَحَّ وأخَص، والخاصُّ يُقَدَّمُ على العامِّ. وحديثُ جابِرٍ لا يُعارِضُ حَدِيثَنا أيضًا، لصِحَّتِه وخُصُوصِه. فإن قِيلَ: فحَدِيثُ جابِرٍ مُتأخِّرٌ، فيَكُونُ ناسِخًا. قُلْنا: لا يَصِحُّ أن يكُونَ ناسِخًا، لوُجُوهٍ أربعةٍ؛ أحَدُها، أنَّ الأمرَ بالوُضُوءِ مِن لُحُومِ الإِبِلِ مُتأخِّرٌ عن نَسْخِ الوُضوءِ مِمّا مَسَّتِ النّارُ، أو مُقارِن له، بدَلِيلِ أنه قَرَن الأمرَ بالوُضُوءِ مِن لُحُوم الإِبِلِ بالنَّهْي عن الوُضُوء مِن لُحُومِ الغَنَمِ، وهي مِمّا مَسَّتِ النَّارُ، فإمّا أن يَكُونَ النَّسْخُ حَصَل بهذا النَّهْي، أو بشيءٍ قبلَه، [فإن كان حَصَل به، كان الأمرُ بالوُضُوءِ مِن لحومِ الإِبِلِ مُقارِنًا لنَسْخِ الوُضوءِ مِمّا مَسَّتِ النّارُ، فلا] (¬1) يَكُونُ ناسِخًا له، إذ مِن شُرُوطِ النَّسْخِ تأخُّرُ النّاسِخِ، وكذلك إن كان بما قبلَه؛ لأنَّ الشيءَ لا يُنْسَخُ بما قبلَه. الثاني، أنَّ النَّقْضَ بلُحُومِ الإِبِلِ يَتَناوَلُ ما مَسَّتِ النّارُ وغيرَه، ونَسخُ إحدَى الجِهاتِ لا يَثْبُتُ به نَسْخُ الأخْرَى، كما لو حُرِّمتِ المرأة بالرَّضاعِ، وبكَوْنِها رَبِيبَةً، فنَسْخُ تَحرِيمِ الرَّضاعِ لم يَكُنْ نَسْخا لتَحرِيمِ الرَّبِيبَةِ. الثالثُ، أنَّ خَبرهم عامٌّ، وخَبَرُنا خاصٌّ، فالجَمعُ بَينَهما مُمكِنٌ بحَملِ خَبَرِهِم على ما سِوَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، ومِن شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرُ الجَمع بينَ النَّصينِ. الرابعُ، أنَّ خَبَرَنا أصَحُّ مِن خَبَرِهِم وأخصُ، والنّاسِخُ لا بدَّ أن يَكُونَ مُساويًا للمَنْسُوخِ، أو راجِحًا عليه. فإن قِيلَ: الأمرُ بالوُضُوءِ في خَبَرِكُم يَحتَمِلُ الاسْتِحبابَ، ويَحتَمِل ¬

(¬1) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أرادَ بالوُضُوءِ غَسْلَ اليَدِ، لأنَّ إضافَتَه إلى الطَّعامِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على ذلك، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بالوُضُوءِ قبلَ الطَّعام وبعدَه، وخُصَّ ذلك بلَحمَ الإِبِلِ؛ لأنَّ فيه مِن الحَرارَةِ والزُّهُومَةِ (¬1) مَا ليس في غيرِه. قُلْنا: أمّا الأوَّل فمُخالِفٌ للظّاهِرِ، مِن وجُوهٍ، أحَدُها، أنَّ مُقْتَضَى الأمرِ الوُجُوبُ. الثاني، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن حُكْمَ هذا اللّحمَ، فأجابَ بالأمرِ بالوُضُوء منه، فلو حُمِل على غيرِ الوُجُوبِ كان تَلْبِيسًا لا جَوابًا. الثالثُ، أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قَرَنَه بالنَّهْي عن الوُضُوءِ مِن لُحُومِ الغَنَمِ، والمُرَادُ بالنَّهْي ههُنا نَفْيُ الإِيجابِ لا التَّحريمُ، فتَعَيَّنَ حَملُ الأمرِ على الإِيجابِ؛ ليَحصُلَ الفَرقُ. وأمّا الثاني، فلا يَصِحُّ؛ لوُجُوهٍ أربعةٍ؛ أحَدُها، أنَّه يَلْزَمُ منه حَملُ الأمرِ على الاسْتِحباب؛ لكَوْنِ غَسْلِ اليَدِ بمُفْرَدِها غيرَ واجِبٍ، وقد بَيَّنّا فَسادَه. الثاني، أنَّ الوُضُوءَ في لِسانِ الشّارِعِ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى المَوْضُوعِ الشَّرعِيِّ، إذ الظّاهِرُ منه التَّكَلُّمُ بمَوْضُوعاتِه. الثالثُ، أنَّه خَرَج جَوابًا للسُّؤالِ عن حُكْمِ الوُضُوءِ مِن لُحُومِها، والصلاةِ في مَبارِكِها، فلا يُفهمُ مِن ذلك سِوَى الوُضُوءِ المُراد للصلاةِ ظاهِرًا. الرابعُ، أنَّه لو أراد غَسْلَ اليَدِ لَما فَرَّقَ بينَه وبينَ لَحمِ الغَنَمِ؛ فإنَّ غَسْلَ اليَدِ منهما مُسْتَحَبٌّ، وما ذَكَرُوه مِن زِيادَةِ الزُّهُومَةِ مَمنُوعٌ، كان ثَبَت فهو أمرٌ يَسيرٌ، لا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، وصَرفُ اللَّفْظِ عن ظاهِره إنَّما يكُونُ بدَلِيلٍ قَوي بقَدرِ قُوَّةِ الظَّواهِرِ المَتْرُوكَةِ، وأقْوَى منها، فأمّا قِياسُهم فهو طَردِيٌّ لا مَعْنَى فيه، وانْتِفاء الحُكْمِ في سائِرِ المَأْكُولاتِ؛ لانْتِفاءِ المُقْتَضِي، لا لكَوْنِه ¬

(¬1) الزهومة: ريح لحم سمين منتن.

146 - مسألة: (فإن شرب من لبنها، فعلى روايتين)

فَإِنْ شَرِبَ مِنْ لَبَنِها، فَعَلَى رِوَايَتَين، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَأْكُولًا. ومِن العَجَبِ أنَّ مُخالِفِينا في هذه المَسْأَلَةِ أوْجَبُوا الوُضُوءَ بأحادِيثَ ضَعِيفَةٍ تُخالِف الأصُولَ، فأبو حَنِيفَةَ أوْجَبَه بالقَهْقهةِ في الصلاةِ دُونَ خارِجِها، بحَدِيثٍ مُرسَلٍ من مَراسِيلِ أبي العالِيَةِ، ومالكٌ والشافعيُّ أوْجَباه بمَسِّ الذَّكَرِ، بحَدِيثٍ مُخْتَلَفٍ فيه، مُعارَضِ بمِثْلِه، دُونَ مَسِّ سائِرِ الأعضاءِ، وتَرَكُوا هذا الحديثَ الصَّحِيحَ الذي لا مُعارِضَ له، مع بُعدِه عن التَّأْويلِ وقوَّةِ دَلالتِه، لقِياس طَردِي لا مَعْنَى فيه. 146 - مسألة: (فإن شَرِبَ مِن لَبَنِها، فعلى رِوايَتَين) إحداهُما، يَنْقُضُ الوُضُوءَ، لِما روَى أسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئُل عن ألبانِ الإِبِلِ، فقال: «تَوَضَّئُوا مِنْ ألْبَانها». وسئُل عن ألبانِ الغَنَمِ، فقال:

147 - مسألة: (وإن أكل من كبدها أو طحالها، فعلى وجهين)

وَإنْ أكلَ مِنْ كَبِدِها أو طِحَالِها، فَعَلَى وَجْهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَا تَتَوضَّئُوا مِنْ ألْبَانِها». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وابنُ ماجه (¬1). وروَى عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ نَحوَه (¬2). والثانيةُ، لا وُضُوءَ فيه، لأنَّ الحديثَ الصَّحِيحَ إنَّما وَرَد في اللَّحمِ. وحديثُ أسَيدِ بنِ حُضَيرٍ في طَرِيقه الحَجّاجُ بنُ أرطَاةَ، قال الإِمامُ أحمدُ والدّارَقُطْنِيُّ: لا يُحتَجُّ به. وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَواه ابنُ ماجَه مِن رِواية عَطاء بنِ السّائِبِ، وقد قِيلَ: عطاءٌ اخْتَلَطَ في آخِرِ عمرِه. قال أحمدُ: مَن سَمِع منه قَدِيمًا فهو صَحِيحٌ، ومَن سَمِع منه حَدِيثًا لم يَكُنْ بشيءٍ. والحُكْمُ في اللَّحمِ غيرُ مَعقُول، فيَجِبُ الاقْتِصارُ عليه. 147 - مسألة: (وإن أكَلَ مِنْ كَبِدِها أو طِحالِها، فعلى وَجْهين) أحَدُهُما، لا يَنْقُضُ، لأنَّ النَّصَّ لم يَتَناوَلْه. والثاني، يَنْقُضُ؛ لأنَّه مِن ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 352. (¬2) انظر: ابن ماجه في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جملَةِ الجَزُورِ، واللَّحمُ يُعَبَّرُ به عن جُملَةِ الحَيَوانِ، فإنَّ تَحرِيمَ لَحم الخِنْزِيرِ يَتَناوَلُ جُملَتَه، كذلك ها هنا، وحُكْمُ سائِرِ أجْزائِه غيرِ اللَّحمِ؛ كالسَّنامِ، والكَرِشِ، والدُّهْنِ، والمَرَقِ؛ والمُصرانِ، والجِلْدِ، حُكْمُ الكَبِدِ والطِّحالِ؛ لِما ذَكَرنا. فصل: ولا يَنْتَقِضُ الوُضُوءُ بِما سِوَى لَحمِ الجَزُورِ مِن الأطْعِمَةِ. وهذا قَوْلُ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ، رَضِي اللهُ عنهم، ولا نَعلَمُ اليَوْمَ فيه خِلافًا. وحَكَى ابنُ عَقِيلٍ، عن أحمدَ، رِوايَةً في نَقْضِ الوُضوءِ بأَكْلِ لَحم الخِنْزِيرِ، والصَّحِيحُ عنه الأوَّلُ؛ لأنَّ الوُجُوبَ مِن الشرعِ، ولم يَرِدْ. وقد ذَهب حماعةُ مِن الصحابَةِ ومَن بَعدَهم إلى إيجابِ الوُضُوءِ مِمّا غَيَّرَتِ النّارُ؛ منهم ابنُ عُمَرَ، وزَيدُ بنُ ثابِتٍ، وأبو موسى، وأبو هُرَيرَةِ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والحسنُ، والزُّهرِي، وغَيرُهم؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ وعائِشَةُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ». رَواهُما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ (¬1). ولَنا، قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَتَوَضّأ مِنْ لُحُوم الغَنَمَ». وحديثُ جابِرٍ: كان آخِرُ الأمرَين مِن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَركَ الوُضُوءِ مِمّا مسَّتِ النّارُ. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬2). وثَبَت أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أكَلَ مِن كَتِفِ شاةٍ، وصَلَّى ولم يَتَوَضَّأ. مُتَّفَق عليه (¬3). ¬

(¬1) في: باب الوضوء مما مست النار، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 272، 273. وحديث أبي هريرة أخرجه أبو داود، في: باب التشديد في الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 44. والترمذي، في: باب الوضوء مما غيرت النار، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 108. والنسائي، في: باب الوضوء مما غيرت النار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 87. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 265، 271، 427، 458، 470، 479، 503، 529. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 55. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 63. ومسلم، في: باب نسخ الوضوء مما مست النار، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 273. كما أخرجه أبو داود، في: باب في ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 43. والإمام مالك، في: باب ترك الوضوء مما مسته النار، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 25. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 281، 366.

148 - مسألة: (الثامن، الردة عن الإسلام)

الثَّامِنُ، الرِّدَّة عَنِ الإسْلَامَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 148 - مسألة: (الثامنُ، الرِّدَّةُ عن الإِسلام) الرِّدَّةُ عن الإِسلام يَبْطُلُ بها الوُضُوءُ والتَّيَمُّمُ، وهي الإِتْيانُ بما يَخْرُجُ به عَن الإِسلامِ؛ نُطْقًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو اعتِقادًا، أو شَكًّا، فمتى عاوَدَ الإِسلامَ لم يُصلِّ كلِّ حتى يَتَوَضَّأَ. وهذا قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ. وقال أبو حَنِيفةَ، ومالك، والشافعي: لا يَبْطُلُ الوُضُوءُ بذلك. وللشافعيِّ في بُطْلانِ التَّيَمُّمِ به قَوْلان، لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (¬1). ولأنَّها طهارة، فلم تَبْطُلُ بالرِّدَّةِ، كالطهارةِ الكُبْرَى. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ} (¬2). والطهارةُ عَمَلٌ، وحكْمُها باقٍ، فيَجِب أن يَحْبَطَ بالآية، ولأنَّها عِبادَة يُفْسِدُها الحَدَثُ، فبَطَلَتْ بالشركِ، كالصلاةِ. ولأنَّ الرِّدَّةَ حَدَث، لِما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَدَثُ حَدَثَانِ، حَدَثُ الْفَرجِ، وَحَدَثُ اللِّسَانِ. [وَحَدَثُ اللِّسَانِ] (¬3) أشَدُّ مِنْ حَدَثِ الفَرجِ، وَفِيهِمَا الوُضُوءُ». رَوَاه الشيخُ أبو الفَرَجِ ابنُ الجَوْزِيِّ في كتاب «التّحقِيقِ». وتَكَلَّمَ فيه وقال: بَقِيَّةُ يُدَلَسُ (¬4). وما ذَكَرُوه تَمَسُّك بالمَفْهُومِ، والمَنْطُوقُ راجِحٌ عليه. وأمّا غُسْلُ الجَنابَةِ فقد زال حُكْمُه، وعندَنا يَجِبُ الغُسْلُ على مَن أسْلَمَ أيضًا. ¬

(¬1) سورة البقرة 217. (¬2) سورة الزمر 65. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر: العلل المتناهية 1/ 365.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَنْقُضُ الوُضُوءَ ما عدا الرِّدَّةَ مِن الكَذِبِ، والغِيبَةِ، والرَّفَثِ، والقَذفِ، ونَحوها. نَصَّ عليه أحمدُ. قال ابنُ المنذِرِ: أجْمَعَ مَن نَحْفَظُ قَوْلَه مِن علماءِ الأمصارِ على أنَّ القَذْفَ، وقَوْلَ الزُّورِ، والكَذِبَ، والغِيبَةَ، لا يُوجِبُ طهارةً ولا يَنْقُضُ وُضُوءًا. وقد رَوَينا عن غيرِ واحِدٍ مِن الأوائِلِ، أنَّهم أمَرُوا بالوضوءِ مِن الكلامِ الخَبِيثِ، وذلك اسْتِحبابٌ عندَنا مِمَّن أمَرَ به، ولا نَعلَمُ حُجَّة تُوجِبُ وُضُوءًا في شيءٍ مِن الكلام، وقد ثَبَت أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال.: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ: لَا إلَه إلَّا اللهُ». ولم يَأمُر في ذلك بوُضُوءٍ. رَواه البُخارِي (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب {أفرأيتم اللات والعزى}، في تفسر سورة والنجم، من كتاب التفسير، وفي: باب من لم ير إكفار من كفر أخاه متأولا أو جاهلا، من كتاب الأدب، وفي: باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله، من كتاب الاستئذان، وفي: باب لا يُحْلَف باللات والعزى ولا بالطواغيت، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 6/ 176، 8/ 32، 82، 165.كما أخرجه مسلم، في: باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1267، 1268. وأبو داود، في: باب الحلف بالأنداد، من كتاب الأيمان. سنن أبي داود 2/ 198، 199. والترمذي، في: باب حدثنا إسحاق بن منصور، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 29، 30. والنسائي، في: باب الحلف باللات، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 7، 8. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 309. وانظر: جمع الجوامع 1/ 773.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقَهْقَهةُ لا تَنْقُضُ الوُضُوءَ بحالٍ. رُوِيَ ذلك عن عُروَة؛ وعَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ،. ومالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وابن المُنْذِرِ. وذهب الثَّوْريُّ، والحسنُ، وأصحابُ الرَّأْي، إلى أنَّها تُبْطِلُ الوُضُوءَ داخِلَ الصلاةِ دُونَ خارِجها؛ لِما روَى أسامَةُ، عن أبيه، قال: بَينا نحن نُصَلِّي خلفَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذ أقْبَلَ رجلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ، فتَرَدَّى في حُفْرَةٍ، فضَحِكْنا منه، فأمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادَةِ الوُضُوءِ كامِلًا، وإعادَةِ الصلاةِ مِن أوَّلِها. رَواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬1) مِن طُرُقٍ كثيرةٍ، وضَعَّفَها وقال: إنَّما رُوِيَ هذا الحديثُ عن أبي العالِيَةِ (¬2) مُرسَلًا. وقال نَحوَ ذلك الإِمامُ أحمدُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ (¬3). ولَنا، أنَّه مَعْنًى لا يُبْطِل ¬

(¬1) في: باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 162 - 164. (¬2) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم، البصري، المقريء المفسر، توفي سنة ثلاث وتسعين. العبر 1/ 108، تهذيب التهذيب 3/ 284 - 286. (¬3) أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي البصري اللؤلؤى الحافظ، أحد أركان الحديث بالعراق، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 192 - 209.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُضُوءَ خارِج الصلاةِ، فلم يُبْطِلْه داخِلَها كالكلامِ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا في شيءٍ يُقاسُ عليه، وحَدِيثُهم قد ذَكَرنا الكلامَ عليه. قال ابنُ سِيرِينَ: لا تَأخُذُوا بمَراسِيلِ الحسنِ وأبي العالِيَةِ؛ فإنَّهما لا يُبالِيان، عمَّن أخَذا. والقَهْقَهةُ أن يَضْحَكَ حتى يَتَحَصَلَ مِن ضَحِكِه حَرْفان. ذَكَره ابنُ عَقِيلٍ.

149 - مسألة: (ومن تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة، بنى على اليقين)

وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهارَةِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 149 - مسألة: (ومَن تَيَقَّنَ الطهارةَ، وشَكَّ في الحَدَثِ، أو تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطهارةِ، بَنَى على اليَقِينِ) أنها إذا تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطهارةِ، فهو مُحْدِثٌ يُلْغِي الشكَّ ويَبْنِي على اليَقِينِ. لا نعلَمُ في ذلك خِلافًا. فإن تَيَقَّنَ أنَّه تَوَضَّأ، وشَكَّ هل أحدَثَ أوْ لا، بَنَى على أنَّه مُتَطَهِّرٌ. وبهذا قال عامَّةُ أهلِ العلمِ. وقال الحسنُ: إن شَكَّ وهو في الصلاةِ، مَضَى فيها، وإن كان قبلَ الدُّخُولِ فيها، تَوَضَّأ. وقال مالكٌ: إذا شَكَّ في الحَدَثِ إن كان يَلْحَقُه كثيرًا، فهو على وُضُوئِه، وإن كان لا يَلْحَقُه كثيرًا، تَوَضَّأَ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه (¬1) لا يَدخُلُ في الصلاةِ مع الشَّكِّ. ولَنا، ما روَى عبدُ الله بنُ زَيدٍ، قال: شُكِي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، الرجلُ يُخَيَّلُ إليه وهو (1) في الصلاةِ أنَّه يَجِدُ الشيءَ، فقال: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أوْ يَجدَ رِيحًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وَجَدَ (¬3) ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، وباب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، من كتاب الوضوء، وفي: باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشتبهات، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 1/ 46، 55، 3/ 71. ومسلم، في: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث. فله أن يصلي بطهارته تلك، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 276. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا شك في الحدث، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 39. والترمذي، في: باب في الوضوء من الريح، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 98. والنسائي، في: باب الوضوء من الربح، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 83. وابن ماجه، في: باب لا وضوء إلامن حدث، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 40. (¬3) في م: «أوجر».

150 - مسألة: (فإن تيقنهما، وشك في السابق منهما، نظر في حاله قبلهما؛ فإن كان متطهرا، فهو محدث، وإن كان محدثا، فهو متطهر)

فَإِنْ تَيَقَّنَهُمَا، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا، نَظرَ فِي حَالِهِ قَبْلَهُمَا؛ فَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا فَهُوَ مُحدِثٌ، وَإنْ كَانَ مُحدِثًا فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُكُم فِي بَطْنِهِ شَيئًا فَأشْكَلَ عَلَيهِ، أخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أم لَا (¬1)، فَلَا يَخْرُجُ (¬2) مِنَ الْمَسجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أوْ يَجِدَ رِيحًا». رَواه مسلمٌ (¬3). ولأنَّه إذا شَكَّ تَعارَضَ عندَه الأمرانِ، فيَجِبُ سُقُوطُهُما، كالبَيَنتَينِ إذا تَعارَضَتا، ويَرجِعُ إلى اليَقِينِ، ولا فَرقَ بينَ أن يَغْلِبَ على ظَنِّه أحَدُهما، أو يَتَساوَى الأمرانِ، لأنَّ غَلَبَةَ الظنِّ إذا لم تَكُنْ مَضْبُوطَةً بضابطٍ شَرعِيٍّ، لم يُلْتَفَتْ إليها، كما لا يَلْتَفِتُ الحاكِمُ إلى قَوْلَ أحَدِ المُتَداعِيَين إذا غَلَب على ظَنِّه صِدقُه بغيرِ دَلِيلٍ. 150 - مسألة: (فإن تَيَقَّنَهما، وشَكَّ في السّابِقِ منهما، نَظرَ في حالِه قَبْلَهما؛ فإن كان مُتَطَهِّرًا، فهو مُحْدِثٌ، وإن كان مُحدِثًا، فهو مُتَطَهِّرٌ) مِثالُه أن يَتَيَقَّنَ أنَّه كان في وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً، ومُحدِثًا ¬

(¬1) في م: «لم يخرج» والمثبت في: الأصل، وصحيح مسلم. (¬2) في صحيح مسلم: «يخرجن». (¬3) في: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْرَى، ولا يَعلَم أيهما كان قبلَ الآخَرِ، فإنَّه يَنْظرُ في حالِه قبلَ الزَّوالِ، فإن كان متَطَهِّرًا، فهو الآنَ مُحدِثٌ، لأنَّه تَيَقَّنَ زَوال تلك الطهارةِ بحَدَثٍ، ولم يَتَيَقَّنْ زَوال ذلك الحَدَثِ بطهارةٍ أخْرَى، لاحتِمالِ أن تَكُونَ الطهارةُ التي يَتَيَقَّنُها بعدَ الزَّوالِ هي التي كانت قبلَه، فلم يَزُلْ يَقِينُ الحَدَثِ بالشَّكِّ. وإن كات مُحدِثًا قبلَ الزَّوالِ، فهو الآن مُتَطَهِّرٌ، لِما ذَكرنا في التي قَبلها. فصل: فإن تَيَقَّنَ أنَّه نَقَض طَهارَتَه وتَوَضَّأ عن حَدَثٍ، في وَقْتٍ واحِدٍ، وشَكَّ في السّابِقِ مكما، نَظرَ في حالِه قَبْلَهُما، فإن كان مُتَطَهِّرًا، فهو الآنَ مُتَطَهِّرٌ، لأنَّه تَيَقَّنَ أنَّه نَقَض تلك الطهارةَ، ثم تَوَضَّأَ، إذ لا يُمكِنُ أن يَتَوَضَّأَ عن حَدَثِ مع بَقاءِ تلك الطهارةِ، ونَقْضُ هذه الطهارةِ الثّانِيَةِ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ. وإن كان مُحدِثًا، فهِو الآنَ مُحدِثٌ، لأنَّه تَيَقَّنَ أنَّه انْتَقَلَ عنه إلى طهارةٍ ثم أحدَثَ منها، ولم يَتَيَقنْ بعدَ الحَدَثِ الثّاني طهارةً. واللهُ أعلمُ. فهذه جَمِيعُ نَواقِضِ الطهارةِ، ولا يَنْتَقِضُ بغَيرِها في قَوْلِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّه قد حُكِي عن مُجاهِدٍ، والحَكَمِ، وحَمّادٍ، في قَصِّ الشّارِبِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، ونَتْفِ الإِبطِ، الوُضُوءُ. وقَوْلُ جُمهُورِ العُلَماءِ بخِلافِهِم، وهو أوْلَى، ولا نَعلَمُ لهم فيما يَقُولُونَ حُجَّةً. واللهُ أعلمُ.

151 - مسألة؛ قال: (ومن أحدث حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف)

وَمَنْ أحدَثَ حَرُمَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ، وَالطَّوَافُ، وَمَسُّ الْمُصحَف. ـــــــــــــــــــــــــــــ 151 - مسألة؛ قال: (ومَن أحدَثَ حَرُم عليه الصلاةُ والطَّوافُ ومَسُّ المصحفِ) أنها الصلاةُ؛ فلقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقبَلُ اللهُ صَلَاةَ مَنْ أحدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والطَّواف؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّوَاف بِالْبَيتِ صَلَاةٌ، إلّا أنَّ الله أباحَ فِيهِ الْكَلَامَ». رَواه الشافعيُّ في مسنده (¬2). ومسُّ المصحفِ، رُوِيَ هذا عن ابن عمَرَ، والحسنِ، وعَطاءٍ، وطاوُسِ، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعي (¬3)، وأصحابِ الرَّأي. وقال داودُ: يُباحُ مَسُّه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب في كتابِه إلى قَيصَرَ آيَةً مِن القرآنِ. وأباحَ الحَكَم، وحَمّادٌ مَسَّه بظاهِرِ الكَفِّ؛ لأنَّ آلةَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب لا تقبل صلاة بغير طهور، من كتاب الوضوء، وفي: باب في الصلاة، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 1/ 46، 9/ 29. ومسلم، في: باب وجوب للطهارة للصلاة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 204. كما أخرجه أبو داود، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 14. والترمذي، في: باب في الوضوء من الريح، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 102. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 308، 318. (¬2) موقوفًا على ابن عمر وابن عباس بمعناه. مسند الشافعي 75. وقد روى نحوه الترمذي مرفوعًا، في: باب ما جاء في الكلام في الطواف، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 182. والدارمي، في: باب الكلام في الطواف، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 44. وانظر: إرواء الغليل 1/ 154. (¬3) ساقطة من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّمسِ باطِنُ اليَدِ، فيَنْصَرِفُ إليه النَّهْيُ دُونَ غيرِه. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1). وفي كتابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعَمرِو بنِ حَزْمٍ (¬2): «أنْ لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا وَأنتَ طَاهِرٌ». رواه الأثْرَمُ (¬3). فأمّا الآيَة التي كَتَب بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّما قَصَد بها المُراسلَةَ، والآيَةُ في الرِّسالةِ أو في كتابِ فِقْهٍ ونَحوه لا تَمنَعُ مَسَّه، ولا يَصِيرُ بها الكتابُ مصحفًا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يَجُوزُ مَسُّه بشيءٍ مِن جَسَده قِياسًا على اليَدِ. قَوْلُهم: إنَّ المَسَّ يَخْتَصُّ باطِنَ اليَدِ. مَمنُوعٌ، بل كلّ شيءٍ لاقَى شَيئًا فقد مَسَّه. ¬

(¬1) سورة الواقعة 79. (¬2) عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، أبو الضحاك. شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا كتبه له، فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك. مات بعد الخمسين من الهجرة. الإصابة 4/ 621. (¬3) أخرجه الدارمي، في: باب لا طلاق قبل نكاح، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 161. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوضوء لمن مسَّ لقرآن، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ حَمْلُه بعِلاقَتِه. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ. ورُوي ذلك عن الحسنِ، وعَطاءٍ، والشَّعبِيِّ، وحَمّادٍ. ومَنَع منه الأوزاعِيّ، ومالكٌ، والشافعيُ؛ تَعظِيمًا للقرآنِ. ولأنَّه مكَلَّف مُحدِثٌ قاصِدٌ لحَملِ المصحفِ، فهو كما لو حَمَلَه مع مَسِّه. ولَنا، أنَّه غيرُ ماسٍّ، فلم يُمنَع، كما لو حَمَلَه في رَحلِه، ولأنَّ النَّهْيَ إنَّما تَناوَلَ المَسَّ، والحَملُ ليس بمَسٍّ، وقِياسُهُم لا يَصِحُّ، لأنَّ العِلَّةَ في الأصلِ مَسُّه، وهو غيرُ مَوْجُودٍ في الفَرعِ، والحَملُ لا أثَرَ له، فلا يَصِحُّ التَّعلِيلُ به. وعلى هذا لو حَمَلَه بحائِلٍ بَينَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينَه مِما لا يَتْبَعُ في البَيعِ، جازَ، وعِنْدَهم لا يَجُوزُ. ويجُوزُ تقْلِيبُه بعُودٍ ومَسُّه به، وكَتْبُ المصحفِ بيَدِه مِن غيرِ أن يَمَسَّه، وذَكر ابنُ عَقِيلٍ في ذلك كلِّه، وفي حَملِه بعِلاقَتِه رِوايَتَين. وفي مَسِّه بكُمِّه رِوايَتان، ووَجْهُهُما ما تَقَدَّمَ. والصَّحِيحُ في ذلك كلِّه الجَوازُ، قاله شَيخُنا؛ لأنَّ النَّهْيَ إنَّما تَناوَلَ مَسَّه، وهذا ليس بمَسٍّ (¬1). ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ مَس كُتُب الفِقْهِ والتَّفْسِيرِ، والرَّسائِلِ، وإن كان فيها آيات مِن القرآنِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب إلى قَيصَرَ كِتابًا فيه آيَةٌ، ولأنَّها لا يَقَعُ عليها اسْمُ المُصحَفِ، ولا يَثْبُتُ لها حُرمَتُه. وكذلك إن مَس ثَوْبًا مُطرًّزًا بآيةِ مِن القرآنِ. وفي مَسِّ الصِّبْيانِ ألْواحَهُم التي فيها القُرآنُ وَجْهان؛ أحَدهما، الجَوازُ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ، فلو اشْتَرَطْنا الطهارةَ أدَّى إلى تَنْفِيرِهم عن حِفْظِه. والثاني، المَنْعُ؛ لعُمُومِ النَّصِّ. وفي الدَّراهِم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَكْتُوب عليها القُرآنُ وَجْهان؛ أحَدُهما، المَنْعُ، وهو مَذْهبُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ القُرآنَ مَكْتُوبٌ عليها، أشبهتِ الوَرَقَ. والثاني، الجَوازُ؛ لأنَّها لا يَقَعُ عليها اسْمُ المُصحَفِ، أشْبَهتْ كُتُبَ الفِقْهِ، ولأنَّ في الاحتِرازِ منها مَشَقَّةٌ، أشْبَهتْ ألْواحَ الصِّبْيانِ. ومَن كانْ مُتَطَهِّرًا، وبَعْضُ أعضائِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَجِسٌ، فمَسَّ المصحفَ بالعُضْو الطّاهِرِ، جازَ؛ لأنَّ حُكْمَ النَّجاسَةِ لا يَتَعَدَّى مَحَلَّها، بخِلافِ الحَدَثِ. وإنِ احتاجَ المُحْدِثُ إلى مَسِّ المصحف عندَ عَدَمِ الماءِ، تَيَمَّمَ ومَسَّه؛ لأنَّه يَقُومُ مَقامَ الماءِ. ولو غَسَل المُحدِثُ بعضَ أعضاءِ الوُضُوءِ، لم يَجُز لهْ مَسُّه به قبلَ إتْمامِ وُضُوئِه؛ لأنَّه لا يَكونُ مُتَطَهِّرًا إلَّا بغَسْلِ الجَمِيعِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ المُسافَرَةُ بالمصحفِ إلى دارِ الحَربِ؛ لما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقرآنِ إلَى أرضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أنْ تَنَالهُ أيدِيهم» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 4/ 68. ومسلم، في: باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1490، 1491. وأبو دواد، في: باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 35. وابن ماجه، في: باب الهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. سنن ابن ماجه 2/ 961. والإمام مالك، في: باب النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. الموطأ 2/ 446. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 7، 10، 55، 63، 76، 128.

باب الغسل

بَابُ الْغسْلِ وَمُوجِبَاتُهُ سَبْعَةٌ؛ خُرُوجُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ بِلَذَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الغُسْلِ (ومُوجباتُه سبعَةٌ) غَسْلُ الجنابَة، بفتح الغَين. ذَكَره ابنُ بَرِّيٍّ (¬1). والغُسل بالضَّمِّ: الماءُ الذي يُغْتَسَلُ به. قاله ابنُ السكِّيتِ (¬2). والغِسْلُ ما غُسِل به الرّأسُ. أحَدُها (خُرُوجُ المَنِيِّ الدّافِقِ بلَذَّةٍ) وهو مُوجِبٌ للغُسْلِ من الرجلِ والمرأةِ، في اليَقَظَةِ والنَّوْمِ. وهذا قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ حَكاه الترمِذِيُّ (¬3). ولا نَعلَم فيه خِلافًا، وذلك لِما رُوِيَ أنَّ أمَّ سُلَيمٍ قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الله لا يَسْتحيِي مِن الحَقِّ، هل على المرأةِ مِن غُسْلٍ إذا هي احتَلَمَتْ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَعم، إذَا رَأتِ ¬

(¬1) أبو محمد عبد الله بن برى بن عبد الجبار المصري النحوي اللغوي، المتوفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. إنباه الرواة 2/ 110، وفيات الأعيان 3/ 108، 109. (¬2) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، ابن السكيت، اللغوي النحوي، كتبه جيدة نافعة، قتل سنة أربع وأربعين ومائتين. تاريخ العلماء النحويين 201 - 203. وقوله في إصلاح المنطق 33. (¬3) انظر: عارضة الأحوذي 1/ 188.

152 - مسألة: (فإن خرج لغير ذلك لم يوجب)

فَإِنْ خَرَجَ لِغَيرِ ذلِكَ لَمْ يُوجِبْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمَاءَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وماءُ الرجلِ غَلِيظٌ أبيَضُ، وماءُ المرأةِ رَقِيقٌ أصفَرُ؛ لأنَّ في حَدِيثِ أُمِّ سُلَيمٍ، في بَعضِ رِواياتِه: فقالت: وهل يكُون هذا؟ فقال نبيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَم، فَمِن أينَ يَكُونُ الشَّبّه! إنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظ أبيض، وَمَاءُ الْمرأةِ رَقِيق أصفَرُ، فَمِنْ أيِّهِمَا عَلَا أوْ سَبَقَ، يَكُون مِنْهُ الشَّبّه». رَواه مسلمٌ (¬2). 152 - مسألة: (فإن خَرَجَ لغَيرِ ذلك لم يُوجِبْ) يَعنِي إذا خَرجَ شَبِيهُ المَنِيِّ؛ لمَرَضٍ أو إِبْرَدَةٍ (¬3)، مِن غيرِ شَهْوَةٍ. وهذا قولُ أبي حَنِيفة ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الحياء في العلم، من كتاب العلم، وفي: باب إذا احتلمت المرأة، من كتاب الغسل، وفي: باب ما لا يستحيى من الحق للتفقه في الدين، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 44، 79، 8/ 36. ومسلم، في: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 251.كما أخرجه النسائي، في: باب غسل المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 94. وابن ماجه، في: باب المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 197. والدارمي، في: باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 195. والإمام مالك، في: باب غسل المرأة إذا رأت في المنام مثلما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 51. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 90، 6/ 292، 302، 306. (¬2) في: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 250. كما أخرجه النسائي، في: باب غسل المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 94. وابن ماجه، في: باب المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 197. والإمام مالك، في: باب غسل المرأة إذا رأت في المنام مثلما يرى الرجل، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 51. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 121، 199، 282. (¬3) في م: «برد». والإبردة، بالكسر: برد في الجوف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٍ. وقال الشافعيّ: يَجِبُ. ويَحتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ، وذلك لقَوْلِه - عليه السلام -: «نعم، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ». وقَوْلِه: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» (¬1). ولأنَّه منيٌّ خارِجٌ فأوْجَبَ الغُسْلَ، كما لو خَرَج حال الإِغْماءِ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَف المَنِيَّ المُوجِبَ بأنَّه غَلِيظٌ أبْيَضُ، وقال لعَلِيٍّ «إذا فَضَخْتَ الْمَاءَ (¬2) فَاغْتَسِلْ». رَواه أبو داودَ (¬3). والفَضْخُ خُرُوجُه على وَجْهِ الشِّدَّةِ. وقال إبراهيمُ الحربِيّ (¬4): بالعجَلَةِ. وقَوْلُه - عليه السلام -: «إذَا رَأتِ الْمَاءَ». يَعنِي في الاحتِلام، وإنَّما يَخْرُجُ في الاحتِلامِ لشَهوَةٍ، والحَدِيثُ الآخَرُ مَنْسُوخٌ، ويُمكِنُ مَنْعُ كَوْنِ هذا مَنِيًّا؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَف المَنِيَّ بصِفَةٍ غيرِ مَوْجُودَةٍ في هذا. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب إنما الماء من الماء، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 269. وأبو داود، في: باب في الإكسال، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 49. والترمذي، في: باب ما جاء أن الماء من الماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 168. والنسائي، في: باب الذي يحتلم ولا يرى الماء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 96. وابن ماجه، في: باب الماء من الماء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 199. والدارمي، في: باب الماء من الماء، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 194. والإمام أحمد، في: السند 3/ 29، 5/ 416، 421. (¬2) في م: «المني». (¬3) في: باب في المذي، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 47. كما أخرجه النسائي، في: باب الغسل من المني، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 93. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 109. (¬4) أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي الحنبلي الحافظ، تفقه على الإمام أحمد، وبرع، وصنف التصانيف الكثيرة. توفي سنة خمس وثمانين ومائتين. العبر 2/ 74، طبقات الحنابلة 1/ 86 - 93.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأى أنَّه قد احتَلَمَ، ولم يَرَ بَللًا، فلا غُسْلَ عليه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ؛ لأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعم، إذَا رَأتِ الْمَاءَ». يَدُلُّ بمَفْهُومِه (¬1) على أنَّه لم يَجِبْ إذا لم تَرَه، ورَوَتْ عائِشَةُ، قالت: سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجلِ يَجِدُ البَلَلَ، ولا يَذْكُرُ احتِلامًا، قال: «يَغْتَسِلُ». وعن الرجلِ يَرَى أن قد احتَلَمَ، ولم يَجِدِ البلَلَ، قال:. «لَا غُسْلَ عَلَيهِ». قالت أمُّ سُلَيمٍ: المرأةُ تَرَى ذلك، أعليها غُسْلٌ؟ قال: «نَعَم، إنَّما النِّسَاءُ شَقَائِقُ ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّجَالِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). وذَكَر ابنُ أبي موسى في مَن احتَلَمَ ووَجَدَ لذَّة الإِنْزالِ، ولم يَرَ بَلَلًا، رِوايَةً في وُجُوبِ الغُسْلِ عليه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما ذَكَرنا مِن النَّصِّ والإِجماعِ، لكن إن مَشَى فخَرَجَ منه المَنِيُّ، أو خَرَج بعدَ اسْتِيقاظِه، فعليه الغُسْلُ. نَصَّ عليه أحمدُ، لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه كان انْتَقَل، وتَخَلَّف خُرُوجُه إلى ما بعدَ الاسْتِيقاظِ، وإن انْتَبَه فرَأى مَنِيًّا، ولم يَذْكُرِ احتِلامًا، فعليه الغُسْلُ، قال شيخُنا: لا نَعلَمُ فيه خِلافًا (¬2). ورُوي نحوُ ذلك عن عُمَرَ، وعثمانَ. وبه قال ابنُ عباسِ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والشَّعبِي، والحسنُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاق؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ خُرُوجَه كان لاحتِلامٍ نَسِيَه؛ وذلك لِما ذَكَرنا مِن حديثِ عائشةَ. ¬

(¬1) في: المسند 6/ 256. وأبو داود، في: باب الرجل يجد البلة في منامه، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 54.كما أخرجه الترمذي، في: باب في من يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر احتلاما، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 172. وابن ماجه، في: باب من احتلم ولم ير بللا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 200. والدارمي، في: باب من يرى بللا ولا يذكر احتلاما، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 19. (¬2) انظر: المغني 1/ 269.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ انْتَبَه مِن النَّوْمِ فوَجَدَ بَلَلًا، لا يَعلمُ هل هو مَنِيٌّ أو غيرُه، فقال أحمدُ: إذا وَجَد بِلَّةً اغْتَسَلَ، إلَّا أن يَكُونَ به إِبرِدَةٌ، أو لاعَبَ أهْلَه؛ فإنَّه رُبَّما خَرَج منه المَذْيُ، فأرجُو أن لا يكُون به بَأسٌ. وكذلك إن كان انْتَشَرَ مِن أوَّلِ اللَّيلِ بتَذَكُّرٍ أو رُؤيَةٍ. وهو قَوْلُ الحسنِ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه مَذْيٌ، لوُجُودِ سَبَبِه، فلا يَجِبُ الغُسْلُ بالاحتِمالِ. وإن لم يَكُنْ وَجَد ذلك، فعليه الغُسْلُ؛ لحَدِيثِ عائِشَةَ. وقد تَوَقَّف أحمدُ في هذه المَسْأَلَةِ. وقال مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: لا غُسْلَ عليه حتى يُوقِنَ بالماءِ الدّافِقِ. وهذا هو القِياس، والأوْلَى الاغْتِسالُ؛ لمُوافَقَةِ الخَبَرِ، وعَمَلًا بالاحتِياطِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأى في ثَوْبِه مَنِيًّا، وكان لا يَنامُ فيه غيرُه، وهو مِمَّن يمكنُ أن يَحتَلِمَ، كابنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فعليه الغُسْلُ، وإلَّا فَلا؛ لأنَّ عُمَرَ وعثمانَ اغْتَسَلا حينَ رأياه في ثوبيهما، ولأنَّ الظّاهِرَ أنَّه مَنِيُّه (¬1)، ويَلْزَمُه إعادَةُ الصلاةِ مِن أحدَث نَوْمَةٍ نامَها فيه، إلَّا أن يَرَى أمارَةً تَدُلُّ على أنَّه قَبْلَها، فيُعِيدَ مِن أدنَى نَوْمَةٍ يَحتَمِلُ أنَّه منها. فأمّا إن كان يَنامُ فيه هو وغيرُه مِمَّن يَحتَلِمُ، فلا غُسْلَ على واحِدٍ منهما؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا (¬2) شاكٌّ فيما يُوجِبُ الغُسْلَ، والأصلُ عَدَمُ وُجْوبِه، وليس لأحَدِهما الائْتِمامُ بالآخَرِ؛ لأنَّ أحَدَهما جُنُبٌ يَقِينًا. فصل: فإن وَطِئَ امرأته دُونَ الفَرجِ، فدَبَّ ماؤه إلى فَرجِها ثم خَرَج، أو وَطِئَها في الفَرجِ، فاغْتَسَلَتْ ثم خَرَج ماؤه مِن فَرجِها، فلا غُسْلَ عليها. وبه قال قَتادَةُ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاق. وقال الحسنُ: تَغْتَسِلُ؛ لأنَّه مَنِيٌّ خارِجٌ، فأشْبَه ماءَها. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّه ليس مَنِيَّها، أشْبَه غيرَ المَنِيِّ؛ ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعنى المَنْصُوصِ. ¬

(¬1) في م: «منه». (¬2) في م: «مفرد».

153 - مسألة: (فإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره، فلم يخرج، فعلى روايتين)

وَإِنْ أحسَّ بِانْتِقَالِهِ فَأمسَكَ ذَكَرهُ، فَلَم يَخْرُجْ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 153 - مسألة: (فإنْ أحَسَّ بانْتِقالِه فأمسَكَ ذَكَرَه، فلم يَخْرُج، فعلى رِوايَتَين) إحداهما، يَجِبُ عليه الغُسْل، وهو المَشْهُورُ عن أحمدَ، وأنْكَرَ أن يكُونَ الماءُ يَرجِعُ. اخْتاره ابنُ عَقِيلٍ، والقاضي، ولم يَذْكُر فيه خِلافًا، قال: لأنَّ الجَنابَةَ تَباعُدُ الماءِ عن مَحَلِّه، وقد وُجِد، فتَكُونُ الجَنابَةُ مَوجُودَةً، فيَجِبُ بها الغُسْلُ. ولأنَّ الغُسْلَ تُراعَى فيه الشَّهْوَةُ، وقد حَصَلَتْ بانْتِقالِه، أشْبَه ما لو ظَهر. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا غُسْلَ عليه، وهو ظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِي، وقَوْلُ أكثَرِ الفقهاءِ، وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّقَ الاغْتِسال على رُؤيةِ الماءِ بقَوْلِه: «إذَا رَأتِ الْمَاءَ». وقَوْلِه: «إذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ». فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ بدُونِه، وما ذَكَرُوه مِن الاشتِقاقِ مَمنُوعٌ؛ لأنَّه يَجُوزُ أن يُسَمَّي جُنُبًا لمُجانَبَتِه الماءَ، ولا يَحصُلُ إلَّا بخُرُوجِه، أو لمُجانَبَتِه الصلاةَ أو المسجدَ، وإذا سُمِّيَ بذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع الخُرُوجِ لم يَلْزَم وُجُودُ التَّسْمِيَةِ مِن غيرِ خُرُوجٍ، فإنَّ الاشْتقاقَ لا يَلْزَمُ منه الاطِّرادُ، ومُراعاةُ الشَّهْوَةِ في الحُكْمَ لا يَلْزَمُ منه اسْتِقْلالُها به، فإنَّ أحَدَ وَصفَي العِلَّةِ وشَرطَ الحُكْمِ مُراعًى له، ولا يَسْتَقِلُّ بالحُكْمِ، ثم يَبْطُلُ ذلك [بلَمسِ النِّساء] (¬1)، وبما لو وُجِدَتِ الشَّهْوَةُ مِن غيرِ انْتِقالٍ، فإنَّها لا تَسْتَقِلّ بالحُكْمِ، وكلامُ أحمدَ إنَّما يَدُلُّ على أنَّ الماءَ إذا انْتَقَلَ، لَزِم منه الخُرُوجُ، وإنَّما يَتأخَّرُ، وكذلك يَتأخَّرُ الغُسْلُ إلى حينِ خُرُوجِه. ¬

(¬1) سقط من: «م».

154 - مسألة: (فإن خرج بعد الغسل)

فَإِنْ خَرَجَ بعدَ الْغُسْلِ، أَوْ خَرَجت بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ. وعَنْهُ، يَجِبُ. وعَنْهُ، يَجِبُ إِذَا خَرَجَ قَبْلَ الْبَوْلِ، دُونَ مَا بَعدهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 154 - مسألة: (فإنْ خَرَجَ بعدَ الغُسْلِ) وقُلْنَا: لا يَجِبُ الغُسْلُ بالانْتِقالِ. لَزِمَه الغُسْلُ؛ لأنَّه مَنِيٌّ خَرَج بسَبَبِ الشهْوَةِ، فأوْجَبَ الغُسْلَ؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ». ولحَدِيثِ أمِّ سُلَيمٍ، وكما لو خَرَج حال انْتِقالِه، وقد قال أحمدُ، في الرجلِ يُجامِعُ ولم يُنْزِلْ، فيَغْتَسِلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يَخْرُجُ منه المَنِيُّ: عليه الغُسْلُ. ولأنَّه لو لم يَجِبِ الغُسْلُ على هذه الرِّواية، أفْضَى إلى نَفْي الوُجوبِ عنه بالكُلِّيَّةِ، مع انْتِقالِ المَنِيِّ بشَهْوَةٍ وخُرُوجِه. وإن قُلْنا: يَجِبُ الغُسْلُ بالانْتِقالِ. لم يَجِبْ بالخُرُوجِ؛ لأنَّه تَعَلَّق بانْتِقالِه، وقد اغْتسل له، فلم يَجِبْ له غُسْل ثانٍ، كبَقِيَّةِ المَنِيِّ إذا خَرَجَتْ بعدَ الغُسْلِ. وهكذا الحُكْمُ في بَقِيَّةِ المَنِيِّ إذا خَرَج بعدَ الغُسْلِ. هذا هو المَشْهُورُ عن أحمدَ. قال الخَلَّالُ: تَواتَرَتِ الرِّواياتُ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّه ليس عليه إلَّا الوُضوءُ، بال أو لم يَبُلْ. رُويَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عباسِ، وعَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، واللَّيثِ، والثَّوْري. ولأنَّه مَنِيٌّ خَرَج على غيرِ وَجْهِ الدَّفْقِ واللَّذَّةِ، أشْبَه الخارِجَ في المَرَضِ. ولأنَّه جَنابَة واحِدَة، فلم يَجِبْ به غُسْلان، كما لو خَرَج دَفْعَةً واحِدَةً. وفيه رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه يَجِبُ بكلِّ حالٍ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الاعتِبارَ بخُرُوجِه كسائِرِ الأحداثِ. قال شَيخُنا: وهذا هو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ الخُرُوجَ يَصلُحُ مُوجِبًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للغُسْلِ (¬1). قَوْلُهم: إنَّه جَنابَةٌ واحِدَة، فلم يَجبْ به غُسْلان. يَبطُلُ بما إذا جامَعَ فلم يُنْزِلْ، فاغْتَسَلَ، ثم أنزَلَ، فإنَّ أَحمدَ قد نَصَّ على وُجُوبِ الغُسْلِ عليه بالإِنْزالِ مع وُجُوبِه بالْتِقاءِ الخِتانَين. واخْتارَ القاضي الرِّوايَةَ الأُولَى، وحَمَل كلامَ أحمدَ في هذه المَسْأَلَةِ على أن تكُونَ قارَنتْه شَهْوَة حال خُرُوجِه، قال: فإن لم تُقارِنه شَهْوَةٌ فهو كبَقِيَّةِ المَنِيِّ إذا خَرَجَتْ. وفيه رِوايَةٌ ثالثةٌ، أنَّه إن خَرَج قبلَ البَوْلِ، اغْتَسَل، وإن خَرَج بعدَه، لم يَغْتَسِلْ. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ، ونُقِل عن الحسنِ؛ لأنَّه قبلَ البَوْلِ بَقِيَّةُ ما خَرَج بالدَّفْقِ والشَّهْوَةِ، فأوْجَبَ الغُسلَ كالأوَّلِ، وبعدَ البَوْلِ لا يَعلَمُ أنَّه بَقِيَّةُ الأوَّلِ، لأنَّه لو كان بَقِيَّةَ الأوَّلِ لَما تَخَلَّفَ بعدَ البَوْلِ، وقد خَرَج بغيرِ دَفْقٍ وشَهْوَةٍ. وذَكَر القاضي [في «المُجَرَّدِ»] (¬2) في هاتَين المَسْألَتَين؛ أنَّه إن خَرَج، بعدَ البَوْلِ لم يَجِبِ الغُسْلُ، رِوايَةً واحِدَةً، وإن خَرَج قبلَه، فعلى رِوايَتَين. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 269. (¬2) سقط من: «م».

155 - مسألة: (الثاني: التقاء الختانين، وهو تغييب الحشفة في الفرج، قبلا كان أو دبرا، من آدمي أو بهيمة، حي أو ميت)

الثَّانِي، الْتِقَاءُ الْخِتَانَينِ؛ وَهُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفرجِ، قُبُلًا كَانَ أَوْ دُبُرًا، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، حَيٍّ أو مَيِّتٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 155 - مسألة: (الثّانِي: الْتِقاءُ الخِتانَيْن، وهو تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرجِ، قُبُلًا كان أو دُبُرًا، مِن آدَمِيٍّ أو بَهيمَةٍ، حَيٍّ أو مَيِّتٍ) معنَى الْتِقاءِ الخِتانَين: تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرجِ. كما ذَكَر، سَواءٌ كانا مُخْتَتِنين أوْ لا، وسواءٌ مَسَّ خِتانُه خِتانَها أو لا، فهو مُوجِبٌ للغُسلِ، ولو مَسَّ الخِتانُ الخِتانَ مِن غيرِ إيلاجٍ، لم يَجبِ الغُسْلُ إجْماعًا. واتَّفَقَ العُلَماءُ على وُجُوبِ الغُسْلِ في هذه المَسْأَلَةِ. وقال داودُ: لا يَجِبُ؛ لقوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» (¬1). رُوِيَ نَحوُ ذلك عن جماعةٍ مِن الصَّحابَةِ. ورُوي في ذلك أحادِيثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكانت رُخْصَةً أرخَصَ فيها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم أمَرَ بالغُسلِ، فرُوي عن أُبَي بنِ كَعبٍ، قال: إنَّ الفُتْيا التي كانوا يَقُولُون: إنَّ «الماءَ مِن الماءِ» رُخْصَة، كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فيها في أوَّلِ الإِسلامِ، ثم أمَرَ بالاغْتِسالِ بَعدَها. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 81.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والترمِذِيُّ (¬1)، وقال: حسنٌ صحيحٌ. وروَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا جَلَسَ بَينَ شُعَبها الْأَربَعَ، ثمَّ جَهدها، فَقد وَجَبَ الغُسْلُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). زادَ مسلمٌ: «وَإنْ لَمْ يُنْزِلْ». وحَدِيثُهم مَنسُوخٌ بحَدِيثِ أبَيِّ بنِ كَعبٍ. فصل: ويَجِبُ الغُسْلُ على كُلِّ واطِئ ومَوْطُوءٍ، إذا كان مِن أهلِ الغُسْلِ، سَواءٌ كان في الفرجِ، قُبُلًا أو دُبُرًا، مِن آدَمِيٍّ أو بَهِيمَةٍ، حَيٍّ أو مَيِّتٍ، طائِعًا أو مُكْرَهًا، نائِمًا أو يَقْظانَ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَجبُ الغُسْلُ بوَطْءِ المَيِّتَةِ ولا البَهِيمَةِ، لأنَّه ليس بمَقْصُودٍ، ولأنَّه ليس بمَنْصُوصٍ، ولا في مَعْناه. ولَنا، أنَّه إيلاجٌ في فَرجٍ، فوَجَبَ به الغُسْلُ، كوَطْءِ الآدَمِيَّةِ في حَياتِها، ووَطْءُ الآدَمِيةِ داخِلٌ في عُمُوم الأحادِيثِ، ما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالعَجُوزِ والشَّوْهاءِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الإكسال، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 49، والترمذي، في: باب ما جاء في أن الماء من الماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 167. وابن ماجه، في: باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 200. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 115، 116. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إذا التقى الختانان، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 80. ومسلم، في: باب نسخ «الماء من الماء»، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 271. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإكسال، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 49. والنسائي، في: باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 92. والدارمي، في: باب في مسِّ الختان الختان، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 194. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 234، 347، 393، 471، 520.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أوْلَجَ بَعْضَ الحَشَفَةِ، أو وَطِيء دُونَ الفرجِ، ولم يُنْزِلْ، فلا غُسْلَ عليه؛ لأنَّه لم يُوجَدِ الْتِقاءُ الخِتانَين ولا ما في مَعناه. وإن انْقَطَعَتِ الحَشَفَةُ، فأوْلَجَ الباقِيَ مِن ذَكَرِه، وكان بقَدرِ الحَشَفَةِ، وَجَب الغُسْلُ، وتَعَلَّقَتْ به أحكامُ الوَطْءِ؛ مِن المَهْرِ وغيرِه. وإن كان أقَلَّ مِن ذلك، لم يَجِبْ شيءٌ. فصل: فإنْ أوْلَجَ في قُبُلِ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أو أوْلَجَ الخُنْثَى ذَكَره في فَرجِ امرأةٍ، أو وَطِئَ أحَدُهما أو كلُّ واحِدٍ منهما الآخَرَ، لم يَجِبِ الغُسْلُ على واحِدٍ منهما؛ لاحتِمالِ أن يكُونَ خِلْقَةً زائِدَةً. فإن أنْزَل الواطِيءُ أو أنْزَل المَوْطُوءُ مِن قُبُلِه، فعلى مَن أنزل الغُسْلُ. ويَثْبُتُ لمَن أنزَل مِن ذَكَرِه حُكْمُ الرِّجالِ، ولمَن أنْزَل مِن فَرجِه حُكْمُ النِّساءِ؛ لأنَّ الله تعالى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْرَى العادَةَ بذلك في حَقِّ الرجالِ والنِّساءِ. وذَكَر القاضي في مَوْضِعٍ، أنَّه لا يُحْكَمُ له بالذُّكُورِية بالإِنْزالِ مِن ذَكَرِه، ولا بالأُنُوثِيَّةِ بالحَيضِ مِن فَرجِه، ولا بالبُلُوغِ بهذا. ولَنا، أنَّه أمرٌ خَصَّ اللهُ تعالى به أحَدَ الصِّنْفَينِ، فكان دَلِيلًا عليه، كالبَوْلِ مِن ذَكَرِه أو مِن قُبُلِه. ولأنَّه أنزَل الماءَ الدّافِقَ لشَهْوَةٍ، فوَجَبَ الغُسْلُ؛ لقَوْلِه عليه السّلامُ: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الواطِئ أو المَوْطُوءَة صَغِيرًا، فقال أحمدُ: يَجِبُ عليهما الغُسْلُ. وقال: إذا أتى على الصَّبِيَّةِ تِسْعُ سِنِينَ، ومِثْلُها يُوطأ، وَجَب عليها الغُسْلُ. وسُئِل عن الغُلامِ يُجامِعُ مِثْلُه ولم يَبْلُغْ، فجامَعَ المرأةَ، يَكُونُ عليهما الغُسل؟ قال: نعم. قِيل له: أنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ؟ قال: نعم. وقال: تُرَى عائِشَةَ حيث كان يَطَؤها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم تَكُنْ تغْتَسِلُ! ويروَى عنها: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» (¬1). وحَمَل القاضي كلامَ أحمدَ على الاسْتحبابِ. وهو قَوْلُ أصحابِ الرَّأي، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ الصَّغِيرَ لا يَتَعَلَّقُ به المَأْثَمُ، ولا هو مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ، ولا تَجِبُ عليه الصلاةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 268.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التي تَجبُ لها الطهارةُ، فأشْبَهتِ الحائِضَ. قال شَيخنا: ولا يَصِحُّ حَملُ كلام أَحمدَ على الاسْتِحبابِ، لتَصرِيحِه بالوُجُوبِ، وذَمِّه قَول أصحابِ الرأي بقَوْلِه: هو قَوْلُ سَوْءٍ. واحتَجَّ بفِعلِ عائشةَ، ورِوايَتها للحَدِيثِ العامِّ في حَقِّ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، ولأنَّها أجابَتْ بفِعلِها وفِعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بقَوْلِها: فَعَلْتُه أنا ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاغْتَسَلْنا. فكَيفَ تَكُونُ خارِجَةً منه! وليس مَعنى وُجُوبِ الغُسْلِ في حَقِّ الصَّغِيرِ التَّأثِيمَ بتركِه، بل مَعناه أنَّه شَرطٌ لصِحَّةِ الصلاةِ، والطَّوافِ، وإباحَةِ قراءةِ القُرآنِ، وإنَّما يَأثَمُ البالِغُ بتأخِيرِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَوضِعٍ يَتأخَّرُ الواجِبُ بتَرْكِه، ولذلك لو أخَّره في غيرِ وَقْتِ الصلاةِ لم يَأْثَمْ، والصَّبِيُّ لا صلاةَ عليه، فلم يَأثَمْ بالتَّأْخِيرِ، وبَقِيَ في حَقِّه شَرْطًا، كما في حَقِّ الكَبِيرِ، فإذا بَلَغ كان حُكْمُ الحَدَثِ في حَقِّه باقِيًا، كالحَدَثِ الأصْغَرِ، يَنْقُضُ الطهارةَ في حَقِّ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ. واللهُ أعلمُ (¬1). ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 274.

156 - مسألة: (الثالث: إسلام الكافر، أصليا كان أو مرتدا. وقال أبو بكر: لا غسل عليه)

الثَّالِثُ، إسْلَام الْكَافِرِ، أصْلِيًّا كَانَ أو مُرْتَدًّا. وَقَال أبو بَكْرٍ: لَا غسْلَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 156 - مسألة: (الثالِثُ: إسلامُ الكافِرِ، أصْلِيًّا كانَ أو مُرتَدًّا. وقال أبو بَكْرٍ: لَا غُسْلَ عليه) وجُمْلَتُه أنَّ الكافِرَ إذا أسْلَم وَجَب عليه الغُسْلُ، أصْلِيًّا كان أو مُرْتَدًّا، سَواءٌ اغْتَسَل قبلَ إسلامِه أو لا، وُجدَ منه في زَمَنِ الكُفْرِ ما يُوجِبُ الغُسلَ أو لم يُوجَدْ. وهو قولُ مالكٍ، وأَبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو بكرٍ: يُسْتَحَبُّ ولا يَجِبُ، إلَّا أن يكُونَ قد وُجِدَت منه جَنابَةٌ زَمَنَ كُفْرِه، فعليه الغُسْلُ إذا أسْلَم، وإن اغْتَسل قبلَ الإِسلامِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبوْ حَنِيفَةَ: لا يجِبُ عليه الغُسل بحالٍ؛ لأنَّ العَدَدَ الكَثِيرَ والجَمَّ الغَفِيرَ أسْلَمُوا، فلو أُمِرَ كلُّ مَن أسْلِم بالغُسْلِ، لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَواتِرًا أو ظاهِرًا، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ بَعَث مُعاذًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى اليَمَنِ (¬1) لم يَذْكُرْ له الغُسْل، ولو كان واجِبًا لأمَرَهم به؛ لأنه أوَّلُ واجِباتِ الإِسلام. ولنا، ما روَى قَيس بنُ عاصِمٍ (¬2)، أنَّه أسْلَم، فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَغتَسِلَ بماءٍ وسِدرٍ (¬3). رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ، والترمِذِيّ (¬4)، وقال: حديث حسنٌ. والأمْرُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب وجوب الزكاة، وباب أخذ الصدقة من الأغناء وترد في الفقراء حيث كانوا، من كتاب الزكاة، وفي: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، من كتاب المغازي، وفي: باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 2/ 130، 158، 5/ 204، 9/ 140. ومسلم، في: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 50 ,51. وأبو داود، في: باب زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 366. والنسائي، في: باب وجوب الزكاة، وباب إخراج الزكاة من بلد إلى بلد، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 3، 41. وابن ماجه، في: باب فرض الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 568. والدارمي، في: باب في فضل الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمي 1/ 379. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 233. (¬2) قيس بن عاصم بن سنان التميمي المِنْقَرِي، أبو علي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني تميم فأسلم، كان سيدًا جوادًا، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. توفي سنة اثنتين وثلاثين. انظر: الإصابة 5/ 483 - 486، تهذيب التهذيب 8/ 399، 400. (¬3) السدرة: شجرة النبق. . . . وإذا أطلق السدر في الغسل فالمراد الورق المطحون. المصباح المنير. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 86. والترمذي، في: باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 3/ 84. والنسائي، في: باب ذكر ما يوجب الغسل وما لا يوجبه غسل الكافر إذا أسلم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للوُجُوبِ، وما ذَكَرُوه مِن قِلَّةِ النَّقْلِ، فلا يَصِحُّ مِمَّن أَوْجَبَ الغُسْلَ على مَن أسْلمَ بعدَ الجَنابَةِ في كُفْرِه؛ لأنَّ الظاهِرَ أن البالِغَ لا يَسْلَمُ منها، على أنَّ الخَبَرَ إذا صَحَّ كان حُجَّةً مِن غيرِ اعْتِبارِ شَرْطٍ آخَرَ. وقد رُوِيَ أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيرٍ وسعدَ بنَ مُعاذ، حينَ أرادا الإِسلامَ، سألا مُصْعَبَ بنَ عُمَيرٍ: كيف تَصْنَعُونَ إذا دَخَلْتُم في هذا الأمْرِ؟ قال: نَغْتَسِلُ ونَشْهَدُ شَهادَةَ الحَقِّ (¬1). وهذا يَدُلُّ على أنَّه كان مُسْتَفِيضًا. ولأنَّ الكافِرَ لا يَسْلَمُ غالِبًا مِن جَنابَةٍ تَلْحَقُه، ونَجاسَةٍ تُصحبُه، وهو لا يَصِحُّ غُسْلُه، فأقِيمَتِ المَظِنَّةُ مَقامَ حَقِيقَةِ الحَدَثِ، كما أُقِيمَ النَّومُ مَقامَ الحَدَثِ. ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية، لابن هشام 2/ 436.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أجْنَبَ الكافِرُ، ثم أسْلَمَ، لم يَلزَمْه غُسْلُ الجَنابَةِ، سَواءٌ اغْتَسَل في كُفْرِه أو لم يَغْتَسِلْ. وهذا قَوْلُ مَن أوْجب غُسْلَ الإِسلام، وقولُ أبي حَنِيفَةَ. وقال الشافعيّ: عليه الغُسْلُ. وهو قَولُ أبي بكرٍ؛ لَأنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ الغُسْلِ، كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، واغْتِسالُه في كُفْرِه لا يَرْفَعُ حَدَثَه، قِياسًا على الحَدَثِ الأصْغَرِ. وحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ، وأحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ، أنَّه يَرْتَفِعُ حَدَثُه؛ لأنَّه أصَحُّ نِيَّةً مِن الصَّبِيِّ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطهارةَ عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فلم تَصِحَّ مِن الكافِرِ، كالصلاةِ. ووجْه الأولَ أنه لم يُنْقَلْ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أحَدًا مِمَّن أسْلَم بغُسْلِ الجَنابَةِ، مح كَثْرَةِ مَن أسْلَمَ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ البالِغِين المُتَزَوِّجِين، ولأنَّ المظِنَّةَ أُقِيمَتْ مَقامَ حَقِيقَةِ الحَدَثِ، فسَقَطَ حُكمُ الحَدَثِ، كالسَّفَرِ مع المَشَقَّةِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَغْتَسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ , كما في حَدِيثِ قَيسٍ. ويُسْتَحَبُّ إزالةُ شَعَرِه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ أسْلَم: «ألْقِ عَنْكَ شَعَرَ الْكُفْرِ وَاختَتِنْ». رواه أبو داودَ (¬1). ¬

(¬1) في: باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 86. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 415.

157 - مسألة: (الرابع، الموت. الخامس، الحيض. السادس، النفاس)

الرابع، الموت. والخامس، الحيض. السادس، النِّفاسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 157 - مسألة: (الرّابِعُ، المَوْتُ. الخامِسُ، الحَيضُ. السّادِسُ، النِّفاسُ). وسيُذْكَرُ ذلك في مَواضِعه إن شاءَ اللهُ تعالى.

158 - مسألة؛ قال: (وفي الولادة وجهان)

وفي الولادَةِ العارية عن الدَّمِ وَجْهان. ـــــــــــــــــــــــــــــ 158 - مسألة؛ قال: (وفي الولادَةِ وَجْهان) يَعْنِي إذا عَرِيَتْ عن الدَّمِ، أحَدُهما، يَجِبُ الغُسْلُ، لأنَّها مَظِنَّةُ النِّفاسِ المُوجِبِ، فأُقِيمَتْ مُقامَه، كالْتِقاءِ الخِتانَين، ولأنَّه يَحْصُلُ بها بَراءَةُ الرَّحِمِ، أشْبَهَتِ الحَيضَ. ولأصحاب الشافعيِّ فيها وَجْهان. والثاني، لا يَجِبُ. وهو ظاهِرُ قَوْلَ الخِرَقِي؛ لأنَّ الوُجُوبَ مِن الشرع، ولم يَرِدْ بالغُسْلِ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ. قَوْلُهم: إنَّ ذلك مَظِنَّةٌ. قلْنا: إنَّما يُعْلَمُ جَعْلُها مَظِنَّةً بنَصٍّ أو إجماعٍ ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما، والقِياسُ الآخَرُ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لا مَعْنَى تَحْتَه، ثم قد اخْتَلَفا في كَثِيرِ مِن الأحْكامِ، فليس تَشْبِيهُه في هذا الحُكْمِ أوْلَى مِن مُخالفَتِه في غيرِه. وهذا الوَجْهُ أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان على الحائِضِ جَنابَةٌ، فليس عليها أن تَغْتَسِلَ حتى يَنْقَطِعَ حَيضُها في المَنْصُوصِ. وهو قَوْلُ إسحاقَ؛ لأنَّ الغُسْلَ لا يفيدُ شيئًا مِن الأحْكامِ. وعنه، أن عليها الغُسْلَ قبلَ الطُّهْرِ. ذَكَرَها ابنُ أبي موسى، والصَّحِيحُ الأوَّلُ، لما ذَكَرْناه. فإنِ اغْتَسَلَتْ للجَنابَةِ في زَمَنِ حَيضِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ غُسْلُها، وزال حُكْمُ الجَنابَةِ، وبَقِي حُكْمُ الحَيضِ لا يزُولُ حتى يَنْقَطِعَ الدَّمُ. نَصَّ عليه أحمدُ، قال: ولا أعْلَمُ أحَدًا قال: لا تَغتَسِلُ. إلَّا عَطاءً، ثم رَجَع عنه. وهذا لأنَّ بَقاءَ أحَدِ الحَدَثَين لا يَمْنَعُ ارْتِفاعَ الآخر، كما لو اغْتَسَل المُحْدِثُ الحَدَثَ الأصْغَرَ.

159 - مسألة؛ قال: (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة آية فصاعدا، وفي بعض آية روايتان)

ومَن لَزِمَه الغُسْلُ حَرُمَ عليه قِراءَةُ آيَةٍ فصاعِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 159 - مسألة؛ قال: (ومَن لَزِمَه الغُسْلُ حَرُم عليه قِراءَةُ آيَةٍ فصاعِدًا، وفي بَعْضِ آيةٍ رِوايَتانِ) رُويَتِ الكَراهَةُ لذلك عن عُمَرَ، وعليٍّ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرأي. وقال الأوْزاعِيُّ: لا يَقْرأ إلَّا آيَةَ الرُّكُوبِ والنزول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (¬1). {وَقُل ربِّ أنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬2). وقال ابنُ عباسٍ: ¬

(¬1) سورة الزخرف 13. (¬2) سورة المؤمنون 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْرَأُ ورْدَه. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: يَقْرَأ القُرْآنَ، ألَيسَ هو في جَوْفِه! وحُكِي عن مالكٍ جَوازُ القِراءَةِ للحائِضِ دُونَ الجُنُبِ؛ لأنَّ إيامَها تَطُولُ، فلو مَنَعْناها مِن القُرْآنِ نَسِيَتْ. ولَنا، ما روَى عليٌّ، رَضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يَحْجُبُه، أو قال: يَحْجُزُه، عن قِراءَةِ القُرْآنِ شيءٌ، ليس الجَنابَةَ. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيّ، وابنُ ماجه، والتِّرمِذِي (¬1) بمَعْناه، وقال: حسن صحيح. وعن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَقْرأ الْحَائِضُ ولا النُّفَسَاءُ شَيئًا مِنَ الْقُرْآنِ». رواه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الجنب يقرأ القرآن، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 52. والنسائي، في: باب حجب الجنب من قراءة القرآن، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 118. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 195. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 243. ولفظه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جنبا. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 84 , 107 ,124. (¬2) في: باب في النهي للجنب والحائض عن قراءة القرآن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 121.

وفي بعضِ آيةٍ روايتان. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْرُمُ عليه قِراءَةُ آية فصاعِدًا، لِما ذَكَرْنا، فأمّا بَعْضُ الآية؛ فإن كان مِمّا لا يَتَمَيَّز به القُرْآنُ عن غيرِه؛ كالتَّسْمِيَةِ، والحَمْدِ للهِ، وسائِرِ الذِّكْرِ، فإن لم يَقْصِدْ به القُرْآنَ، فهو جائِزٌ، فإنَّه لا خِلافَ في أنَّ لهم ذِكْرَ اللهِ تعالى، ولأنَّهم يَحْتاجُون إلى التَّسْمِيَةِ عندَ اغْتِسالِهم، وقد رَوَتْ عائِشَةُ، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الله على كلِّ أحْيانِه. رَواه مسلم (¬1). وإن قَصَدُوا به القِراءَةَ، أو كان ما قَرَءُوه يتَمَيَّزُ به القرآنُ عن غيرِه، ففيه رِوايَتان؛ أظْهَرُهما أنه لا يَجُوزُ؛ لعُمومِ النَّهْي، ولِما رُوِيَ ¬

(¬1) في: باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 282. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يذكر الله تعالى على غير طهور، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 5. وابن ماجة، في: باب ذكر الله عزَّ وجلَّ على الخلاء والخاتم في الخلاء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 110. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 70، 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ عليًّا، رَضِي الله عنه، سُئِل عن الجُنُبِ يَقْرأ القرآنَ؟ فقال: لا، ولا حَرْفًا (¬1). وهذا مذهبُ الشافعي. ولأنَّه قُرْآنٌ، فمُنِعَ منه كالآية. والثانيةُ، لا يُمْنَعُ. وهو قولُ أبي حَنِيفةَ؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ به الإِعْجازُ، ولا يُجْزِئ في الخُطْبَةِ، أشْبَهَ الذِّكْرَ، ولأنَّه يَجُوزُ إذا لم يَقْصِدْ به القُرْآنَ، فكذلك إذا قَصَد. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب هل تذكر الله الحائض والجنب؟ من كتاب الطهارة. المصنف 1/ 336.

160 - مسألة: (ويجوز له العبور في المسجد، ويحرم عليه اللبث فيه، إلا أن يتوضأ)

ويَجُوزُ له العُبُورُ في المسجدِ، ويَحْرُمُ عليه اللّبْثُ فيه، إلَّا أن يَتَوَضَّأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 160 - مسألة: (ويَجُوزُ له العُبُورُ في المسجدِ، ويَحْرُمُ عليه اللّبْثُ فيه، إلَّا أن يَتَوَضَّأ) يَحْرُمُ عليه اللّبْثُ في المسجدِ؛ لقولِ الله تِعالى: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1). ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِض وَلَا جُنُبٍ». رَواه أبو داودَ (¬2). فإن خاف على نَفْسِه أو مالِه، أو لم يُمْكِنْه الخُرُوجُ أو الغُسْلُ والوُضُوءُ، تَيَمَّمَ وأقامَ في المسجدِ؛ لأنَّه رُويَ عن عليٍّ وابنِ عباس، في قَوْلِه تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ}: يَعْنِي مُسافِرِين لا يَجِدُونْ ماءً، فيَتَيَمَّمُون. وقال بَعْضُ ¬

(¬1) سورة النساء 43. (¬2) في: باب في الجنب يدخل المسجد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابنا: يَلْبثُ بغَيرِ تَيَمُّمٍ؛ لأنَّه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ. وهو غيرُ صحيحٍ؛ لمُخالفَتِه قَوْلَ الصَّحابَةِ، ولأنَّه أمْرٌ تُشْتَرَطُ له الطهارةُ، فوَجَبَ له التَّيَمُّم عندَ العَجْزِ عنه، كسائِرِ ما تُشْتَرَطُ له الطهارةُ. ويُباحُ له العُبُورُ في المسجدِ، للآية، وإنَّما يُباحُ العُبُورُ للحاجَةِ؛ مِن أخْذِ شيءٍ أو تَرْكِه في المسجدِ، أو كوْنِ الطرَّيقِ فيه، فأمّا لغَيرِ ذلك فلا. ومِمَّن رُويَتْ عنه الرُّخْصَةُ في العُبُورِ ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسِ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ومالكٌ، والشافعيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ وإسحاقُ: لا يَمُرُّ في المسجدِ إلَّا أن لا يَجِدَ بُدًّا، فيَتَيَمَّمَ. وهو قوْلُ أصحابِ الرَّأي؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»، رَواه أبو داودَ. ولنا، قَوْلُ الله تِعالى: {إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}. والاسْتِثناءُ مِن النَّهْي إباحَةٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوَتْ عائِشَةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَاولِيني الْخُمْرَةَ (¬1) مِنَ الْمَسْجدِ». قالت: إنِّي حائِضٌ. قال: «إنَّ حَيضَتَكِ لَيسَتْ فِي يَدِكِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن زَيدِ بنِ أسْلَمَ، قال: كانْ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمْشُون في المسجدِ وهم جُنُبٌ. رَواه ابنُ المُنْذِرِ. وهذا إشارَةٌ إلى ¬

(¬1) الخمرة: هي السجادة، وهي ما يضع عليه الرجل جزء وجهه في سجوده؛ من حصير أو نسيجة من خوص، وسميت خمرة؛ لأنها تخمر الوجه، أي تغطيه. (¬2) في: باب جواز غسل الحائض لرأس زوجها. . . . إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 245. كما أخرجه أبو داود، في: باب الحائض تناول من المسجد، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 60. والترمذي، في: باب ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 216. والنسائي، في: باب استخدام الحائض، من كتاب الطهارة، وفي: باب استخدام الحائض، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 120، 158. وابن ماجه، في: باب الحائض، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 207. والدارمي، في: باب الحائض تبسط الخمرة، وفي: باب الحائض تمشط زوجها، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 197، 247. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 70، 6/ 45، 101، 106، 110، 112، 114، 173، 179، 214، 229 , 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعِهم، فيَكُونُ إجْماعًا. فإن تَوَضَّأ الجُنُبُ فله اللّبْثُ في المسجدِ عندَ أصحابِنا. وهو قوْلُ إسحاقَ. وقال الأكْثَرُون: لا يَجُوز؛ للآية والخَبَرِ. ووَجْهُ الأوَّلَ ما روَى زيدُ بنُ أسْلَمَ، قال: كان أصحابُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَدَّثُون في المسجدِ على غيرِ وُضُوءٍ، وكان الرجلُ يَكُونُ جُنُبًا فيَتَوَضَّأ، ثم يَدْخُلُ فيَتَحَدَّثُ. وهذا إشارَة إلى جَمِيعِهم، فيَخُصُّ عُمُومَ الحَدِيثِ. وعن عَطاءِ بنِ يَسارٍ قال: رَأيتُ رِجالًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُونَ في المسجدِ وهم مُجْنِبُون؛ إذا تَوضَّئُوا وُضُوءَ الصلاةِ. رَواه سعيدُ بنُ منصورٍ والأثْرَمُ. وحُكْمُ الحائِض إذا انْقَطَعَ حَيضُها حُكْمُ الجُنُبِ، فأمّا في حالِ حَيضِها فلا يُباحُ لها اللّبْثُ؛ لأنَّ وُضُوءَها لا يَصِحُّ.

فصل: والأغْسالُ المُسْتَحَبَّةُ ثلاثةَ عَشَرَ غُسْلًا؛ لِلجُمُعَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا المُستَحاضَةُ، ومَن به سَلَسُ البَوْلِ، فلهم العُبُورُ في المسجدِ واللُّبْثُ فيه، إذا أمِنُوا تَلْويثَه؛ لما رَوَتْ عائِشَةُ، أنَّ امرأةً مِن أزْواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَتْ معه وهي مُسْتَحاضَةٌ، فكانَتْ تَرَى الحُمْرَةَ والصُّفْرَةَ، ورُبَّما وَضَعْنا الطَّسْتَ تَحْتَها وهي تُصَلِّي. رَواه البُخارِي (¬1). فأمّا إن خاف تَلْويثَ المسجدِ، أو خَشِيَتِ الحائِضُ ذلك بالعُبُورِ فيه، حَرُم عليهما؛ لأنَّ المسجدَ يُصانُ عن هذا، كما يصانُ عن البَوْلِ فيه. فصل: (والأغْسالُ المسْتَحَبَّةُ ثَلاثَةَ عَشَرَ غُسْلًا) أحَدها، غُسْلُ ¬

(¬1) في: باب الاعتكاف للمستحاضة، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 85. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المستحاضة تعتكف، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 576. وابن ماجه، في: باب المستحاضة تعتكف، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 566. والدارمي، في: باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 217. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجُمُعَةِ، وهو مُسْتَحَب بغير خِلافٍ، و «فيه آثارٌ كَثِيرة صحيحةٌ؛ منها ما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أتى مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى سَلْمانُ الفارِسِيُّ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أوْ يَمسُّ مِنْ طِيبِ بَيتهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفرِّق بَينَ اثْنَينِ، وَيُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ، إلَّا غُفِرَ لَهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب فضل الغسل يوم الجمعة. . . . إلخ، وباب حدثنا أبو نعيم. . . إلخ، وباب هل على من لم يشهد الجمعة غسل، وباب الخطبة على المنبر، من كتاب الجمعة. صحيح البخاري 2/ 2، 4، 6، 12. ومسلم، في: أول كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 579، 580. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 83. والترمذي، في: باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 2/ 278. والنسائي، في: باب الأمر بالغسل يوم الجمعة، وباب حض الإمام في خطبته على الغسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 76، 86. وابن ماجة، في: باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 246. والدارمي، في: باب الغسل يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 361. والإمام مالك، في: باب العمل في غسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 102. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 15، 46، 2/ 3، 9، 35، 37، 41، 42، 48، 53، 55، 57، 64، 77، 78، 101، 105، 115، 120، 141، 145، 149.

والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، ومِنْ غُسْلِ الميت، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَا بَينَهُ وَبَينَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى». رَواه البُخارِي (¬1). وليس ذلك بواجِبٍ في قَوْلِ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وقد قِيل: إنَّه إجْماعٌ. حكاه ابنُ عبدِ البَرِّ، وسيُذْكَرُ ذلك في مَوْضِعِه بأبسَطَ مِن هذا، إن شاء الله تعالى. الثاني، غُسْلُ العِيدَين، مُسْتَحَب؛ لما روَى ابنُ عباس والفاكِهُ بنُ سعدٍ (¬2)، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَغْتَسِلُ يومَ الفِطر والأضْحَى. رَواه ابنُ ماجَه (¬3). الثالثُ، الاسْتِسْقاء؛ لأنَّها عِبادَةٌ يَجْتَمِعُ لها النّاس، فاسْتُحِبَّ لها الغُسْلُ، كالجُمُعَةِ. الرابعُ، الكُسُوف؛ لأنَّه كالاسْتِسْقاءِ. الخامسُ، الغُسْلُ مِن غُسْلِ المَيِّتِ، وهو مُسْتَحَبٌّ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في: باب الدهن للجمعة، وباب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح البخاري 2/ 4، 9. كما أخرجه الدارمي، في: باب في فضل الجمعة والغسل والطيب فيها، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 362. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 438، 440. (¬2) الفاكه بن سعد بن جبير الأنصاري الأوسي الصحابي، شهد صفين مع علي، وقتل بها. أسد الغابة 4/ 349. (¬3) أخرجه ابن ماجه عنهما، في: باب ما جاء في الاغتسال في العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 417. والإمام أحمد عن الفاكه، في: المسند 4/ 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «مَنْ غَسَّل مَيَّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ» (¬1). قال الترمِذِيُّ: هذا حديث حسنٌ. وليس بواجِبٍ، يروَى ذلك عن ابنِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الغسل من غسل الميت، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 2/ 179. والترمذي، في: باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 4/ 214. وابن ماجه، في: باب ما جاء في غسل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 470. والإمام أحمد، في المسند 1/ 103، 130، 2/ 280، 433، 454، 472، 4/ 246.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس، وابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، والحسنِ، والنَّخَعِي، والشافعي، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأي. ورُوي عن عليٍّ، وأبي هُرَيرَةَ، أنَّهما قالا: مَن غَسَّلَ مَيِّتًا فليَغْتَسِلْ. وبه قال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، وابنُ سِيرِينَ، والزُّهْرِيُّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. وذَكر أصحابُنا في وُجُوبِ الغُسْلِ مِن غُسْلِ المَيِّتِ الكافِرِ رِوايَتَين؛ إحداهما، لا يَجِبُ، كالمُسْلِمِ. والثانيةُ، يَجِبُ؛ لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر عليًّا أن يَغْتَسِلَ حينَ غَسَّلَ أباه (¬1). ولَنا، قَوْلُ صَفْوانَ بنِ عَسّالٍ: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذا كُنَّا مُسافِرِين، أن لا نَنْزِعَ خِفافَنا ثلاثةَ أيام ولَيالِيَهُنَّ، إلَّا مِن جَنابَةٍ (¬2). حديث حسنٌ. ولأنَّه غسْلُ آدَمِي، فلم يُوجِبِ الغُسْلَ، كغُسْلِ الحَيِّ. وحَدِيثُهم مَوْقُوفٌ على أبي هُرَيرَةَ، قاله أحمدُ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: ليس في هذا حديث يَثْبُتُ، ولذلك لم يُعْمَلْ به في وُجُوبِ الوُضُوءِ على حامِلِه، لا نَعْلَمُ به قائِلًا. وأمّا حديثُ عليٍّ، فقال أبو إسحاقَ الجُوزجانِيّ: ليس فيه أنَّه غَسَّل أبا طالِبٍ، إنَّما قال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في: المسند 1/ 103، 130. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 12.

والمَجْنُونُ، والمُغْمَى عليه، إذا أفاقا مِن غَيرِ احْتِلامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ «اذْهَبْ فَوَارِه، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيئًا حَتَّى تَأْتِيَني». قال: فأتَيتُه فأخْبَرْتُه، فأمَرَنِي فاغْتَسَلْتُ. وذَكَر بَعْضُ أصحابِنا رِوايَةً في وُجُوبِ الغُسْلِ مِن غُسْلِ الحَيِّ الكافِرِ، قِياسًا على المَيِّتِ، والصَّحِيحُ أنَّه لا يَجِبُ؛ لأنَّ الوُجُوبَ مِن الشمرعِ، ولم يَرِدْ به، وقِياسُه على المَيِّتِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُسْلِمَ المَيِّتَ يَجبُ مِن غُسْلِه الوُضُوءُ، بخِلافِ الحَيِّ، وهذا يَدُلُّ على افْتِراقِ حالِ المَيِّتِ والحَيِّ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا قال به مِن العُلَماءِ. السادسُ، الغُسْلُ مِن الإِغْماءِ والجُنُونِ، إذا أفاقا مِن غيرِ احْتِلامٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه اغْتَسَل للإِغْماءِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه لا يُؤمَنُ أن يَكُونَ قد احْتَلَمَ ولم يَشْعُرْ، والجُنُونُ في مَعْناه، بل أوْلَى؛ لأنَّ مُدَّتَه تَطُولُ، فيَكُونُ وُجودُ الاحْتِلامِ فيه أكْثَرَ، ولا يجِبُ الغُسْلُ لذلك. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. وذَكَر أبو الخَطّابِ فيه رِوايَتَين؛ إحْداهما، يجِب؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه. والثانيةُ، لا يجبُ، وهي أصَحُّ؛ لأنَّ زَوال العَقْلِ بنَفْسِه ليس مُوجبًا للغُسْلِ، والإِنْزالُ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَزُولُ عن اليقِينِ بالشَّكِّ، فإن تُيُقِّنَ منهما الإِنْزالُ، فعَلَيهِما الغُسْلُ؛ لأنَّه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 176. ومسلم، في: باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 311. كما أخرجه النسائي، في: باب الائتمام بالإمام يصلي قاعدا، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 78. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 52، 6/ 251.

وغُسْلُ المُسْتَحاضَةِ لكلِّ صلاةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جُمْلَةِ المُوجِباتِ (¬1). السابعُ، غُسْلُ المُسْتَحاضَةِ لكلِّ صلاةٍ، مُستحَبٌّ؛ لما روَى أبو داودَ، أنَّ امرأةً كانت تُهَرَاقُ الدَّمَ على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَها أن تَغْتَسلَ عندَ كلِّ صلاةٍ (¬2). وقد ذَهَب بعضُ أهلِ العلمِ إلى وُجُوبِه؛ لما ذَكَرْنا مِن ألحدِيثِ، وسنَذْكُرُه في مَوْضِعِه، إن شاء الله. وذَكَر ابنُ أبي موسى أنَّ انْقِطاعَ دَمِ الاسْتِحاضَةِ يُوجِبُ الغُسْلَ. ¬

(¬1) في م: «الواجبات». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض. . . . إلخ، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 62. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، من كتاب الطهارة، وفي: باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 99، 149. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المستحاضة. . . .، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 204. وأخرجه أيضًا: الدارمي، في: باب في غسل المستحاضة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 199، 200. والامام مالك، في: باب المستحاضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 62. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 293، 304، 320، 323.

والغسل للإحرام، ودُخُول مَكَّةَ، والوُقُوف بعَرَفَةَ. والمَبِيت بمُزْدَلِفَةَ، ورمي الجمار، والطواف. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثامنُ، الغُسْلُ للإِحْرامِ، وهو مُسْتَحَبٌّ، لِما روَىْ زَيدُ بنُ ثابِتٍ، أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإِهْلَالِهِ واغْتَسَل. رَواه الترمِذِي (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. التاسعُ، دُخُول مَكَّةَ. العاشرُ، الوُقُوف بعَرَفَةَ. الحادِي عَشرَ، المَبِيت بمُزْدَلِفَةَ. الثانِي عَشر، رَمْي الجِمارِ. الثالثَ عَشر، الطَّواف. وسنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه، إن شاء الله تعالى، وقد روَى البُخاري عن ابنِ عُمَرَ، أنه كان يَغْتَسِلُ، ثم يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهارًا، ويَذْكُرُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 48. كما أخرجه الدارمي، في: باب الاغتسال في الإحرام، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فَعَلَه (¬1). ورُوي الغُسْلُ للوُقُوفِ بعَرَفَةَ عن علي، وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، واسْتَحَبَّه الشافعيُّ. ورُوي عن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان يَغْتَسِلُ لإِحْرامِهِ قبلَ أن يُحْرِمَ، ولدُخُولِه مَكَّةَ، ولوُقُوفِه عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. رَواه مالكٌ في «المُوَطَّأ» (¬2). ولأنَّها أنْساكٌ تَجْتَمِعُ لها النّاس، فاسْتُحِبَّ لها الغُسْلُ، كالإِحْرامِ، ودُخُولِ مَكَّةَ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من نزل بذي طوى. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخاري 2/ 222. ومسلم، في: باب استحباب المبيت بذي طوى. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 919. كما أخرجه أبو داود، في: باب دخول مكة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 432. والنسائي، في: باب دخول مكة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 157. والدارمي، في: باب دخول البيت نهارًا، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 14، 157. والبيهقي، في: باب الغسل لدخول مكة، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 71. (¬2) في: باب الغسل للإهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُسْتَحَبُّ الغُسْلُ مِن الحِجامَةِ، وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ في اسْتِحْبابِه رِوايَتَينِ؛ إحْداهُما، يُسْتَحَبُّ؛ لأنَّه يُرْوَى عن علي، وابنِ عباس، ومُجاهِدٍ، أنَّهم كانوا يَفْعَلُون ذلك. والثانيةُ، لا يُسْتَحَبُّ؛ لأنَّه دَمٌ خارِجٌ، أشْبَهَ الرُّعافَ، واللهُ أعلمُ.

فصل في صفة الغسل

فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْغسْلِ وَهُوَ ضَرْبَانِ؛ كَامِلٌ يأتي فِيهِ بِعَشرةِ أشيَاءَ، النيةِ، والتسمِيَةِ، وَغَسْل يَدَيه ثَلَاثًا، وغَسْلِ مَا بِهِ مِنْ أذى، وَالْوُضُوءِ، ويَحْثِي عَلَى رَأسِهِ ثَلَاثًا، يُرَوِّى بِهَا أصُولَ الشَّعَرِ، وَيفيض الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِه ثَلاثًا، وَيَبْدَأ بِشِقِّهِ الْأيمَنِ، وَيَدْلُكُ بَدَنَهُ بيَدَيهِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَيَغْسِلُ قَدَمَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في صِفَةِ الغُسْلِ: (وهو ضَرْبان؛ كامِلٌ) ومُجْزِئٌ، فالكامِلُ (يأتي فيه بعَشَرَةِ أشْياءَ؛ النِّيَّةِ، والتسْمِيَةِ، وغَسْلِ يَدَيه. ثلاثًا، وغَسْلِ ما به مِن أذًى) وقد ذَكَرْنا الدلِيلَ على ذلك (والوُضُوءِ، ويَحْثِي على رَأسِه ثلاثًا، يُرَوِّي بها أصُولَ الشَّعَرِ، ويفيضُ الماءَ على سائِرِ جَسَدِه ثلاثًا، ويَبْدَأ بشِقِّه الأيمَنِ، ويَدْلُكُ بَدَنَه بيَدَيه، ويَنْتَقِلُ مِن مَوْضِعِ غُسْلِه فيَغْسِلُ قَدَمَيه) ويُسْتَحَبُّ أن يُخَلِّلَ أصُولَ شَعَرِ رأسه ولِحْيتِه بماء قبلَ إفاضَتِه عليه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ ذلك ما روَتْ عائِشَةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اغْتَسَلَ مِن الجَنابَةِ، غَسَل يَدَيه ثلاثًا، وتَوَضَّأ وُضُوءَه للصلاةِ، ثم يُخَلِّلُ شَعَرَه بيَدَيه (¬1)، حتى إذا ظَنَّ أنَّه قد أرْوَى بَشَرَتَه، أفاضَ عليه الماءَ ثلاثَ مَرّاتٍ، ثم غَسَل سائِرَ جَسَدِه. مُتَّفقٌ عليه (¬2). وقالت مَيمُونَةُ. وَضَع رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الجَنابَةِ فأفْرَغَ على يَدَيه فغَسَلَهُما مَرَّتَين أو ثلاثًا، ثم أفْرَغَ بيَمِينه على شِمالِه، فغَسَلَ مَذاكِيرَه، ثم ضرَب بيده الأرضَ أو ¬

(¬1) في م: «بيده». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الوضوء قبل الغسل، وباب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل، وباب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة، من كتاب الغسل. صحيح البخاري. 1/ 72 - 74، 76. ومسلم، في: باب صفة غسل الجنابة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 253 - 255. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 55. والنسائي، في: باب ذكر غسل الجنب يديه قبل أن يدخلهما الإناء؛ وباب ذكر وضوء الجنب قبل الغسل، من كتاب الطهارة، وفي: باب الابتداء بالوضوء في غسل الجنابة، وباب ترك مسح الرأس في الوضوء من الجنابة، وباب استبراء البشرة في الغسل من الجنابة، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 109، 111، 168، 169. والإمام مالك؛ في: باب العمل في غسل الجنابة، عن كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 44. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 115، 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحائِطَ مَرَّتَين أو ثلاثًا، ثم تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ، وغَسَل وَجْهَه وذِراعَيه، ثم أفاضَ على رأسه، ثم غَسَل جَسَدَه، فأتَيتُه بالمنْدِيلِ فلم يُرِدْها، وجَعَل يَنْفُضُ الماءَ بيَدَيه. مُتَّفقٌ عليه (¬1). وفي رِواية للبخارِيِّ: ثم تَنَحَّى فغَسَلَ قَدَمَيه. ففي هَذَين الحَدِيثَين كَثِيرٌ مِن الخِصالِ المُسَمّاةِ. والبدايَةُ بشِقِّه الأْيمَنِ؛ لأنَّه قد رُوِيَ في حَدِيثٍ عن عائِشَةَ؛ كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اغْتَسَل مِن الجَنابَةِ، دَعا بشيءٍ نَحْوَ الحِلابِ (¬2) فأخَذَ بكَفَّيه، بَدَأ بشِقِّ رأسه الأْيمَنِ، ثم الأْيسَرِ، ثم أخَذَ بكَفَّيه، فقال بهما على رأسه. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من توضأ في الجنابة، ثم غسل سائر جسده ولم يعد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى، وباب نفض اليدين من الغسل عن الجنابة، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 77. ومسلم، في: باب صفة غسل الجنابة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 254. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الغسل من الجنابة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 311. والنسائي، في: باب غسل الرجلين في غير المكان الذي يغتسل فيه، من كتاب الطهارة، وفي: باب مسح اليد بالأرض بعد غسل الفرج، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 113، 168. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الغسل من الجنابة، من باب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 190. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 335. (¬2) الحلاب: إناء يحلب فيه، يسع قدر حلبة الناقة.

161 - مسألة؛ قال: (ومجزئ وهو أن يغسل ما به من أذى، وينوي، ويعم بدنه بالغسل)

وَمُجْزِئ؛ وَهُوَ أنْ يَغْسِلَ مَا بِهِ مِنْ أذًى، وَيَنْوِي، وَيَعُمَّ بَدَنَهُ بِالْغَسْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وقد اخْتَلَفَ (¬2) عن أحمدَ في غَسْلِ الرِّجْلَين، فقال في رِوايةٍ: بَعْدَ الوُضُوءِ على حَدِيثِ مَيمُونَةَ. وقال في رواية: العَمَلُ على حديثِ عائِشَةَ. وفيه أنَّه تَوَضَّأ للصلاةِ قبلَ اغْتِسالِه. وقال في مَوْضِعِ: غَسْلُ رِجْلَيه في مَوْضِعِه وبعده وقبلَه، سَواءٌ. ولَعَلَّه ذَهَب إلى أنَّ اخْتِلافَ الأحادِيثِ فيه يَدُلُّ على أنَّ مَوْضِعَ الغَسْلِ ليس بمَقْصُودٍ، وإنَّما المَقْصودُ أصْلُ الغَسْلِ. 161 - مسألة؛ قال: (ومُجْزِئ وهو أن يَغْسِلَ ما به مِن أذًى، ويَنْوِي، ويَعُمَّ بَدَنَه بالغَسْلِ) مثلَ أن يَنْغَمِسَ في ماء راكِدٍ، أو جارٍ غامِر، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 73، 74. ومسلم، في: باب صفة غسل الجنابة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 255. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 55. والنسائي، في: باب استبراء البشرة في الغسل من الجنابة، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 169. والإمام مالك، في: باب الحمل في غسل الجنابة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 44. (¬2) أي النقل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يَقِفَ تحتَ صَوْب المَطرَ، أو مِيزابٍ، حتى يَعُمَّ الماءُ جَمِيعَ جَسَدِه، فيُجْزِئَه؛ لقَولِه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وقَوْلِه: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). وقد حَصَلَ الغُسْلُ، فتُباحُ له الصلاةُ؛ لأنَّ الله تعالى جَعَل الغُسْلَ غايةً للمَنْعِ مِن الصلاةِ، فيَقْتَضِي أن لا يُمْنَعَ منها بعدَ الاغْتِسال. فصل: ويُسْتَحَبُّ إمْرارُ يَدِه على جَسَدِه في الغُسْلِ والوُضُوءِ، ولا يجِبُ إذا تَيَقَّنَ أو غَلَب على ظنِّه وُصُولُ الماءِ إلى جَمِيعِ جَسَدِه. وهذا قولُ الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيّ، والثَّوْرِيِّ، والشافعي، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأي. وقال مالكٌ: إمْرارُ يده على بَدَنِه إلى حيث تَنالُ واجِبٌ. ونَحْوَه قال أبو العالِيَةِ. قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. ولا يُقالُ: اغتَسَل. إلَّا لمَن دَلَك نَفْسَه، ولأنَّها طهارة عن حَدَثٍ، فوَجَبَ فيها إمْرارُ اليَدِ، كالتَّيَمُّمِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأمِّ سَلَمَةَ في ¬

(¬1) سورة المائدة 6. (¬2) سورة النساء 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غُسْلِ الجَنابَةِ: «إنَّمَا يَكْفِيكِ أنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ. ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيكِ الْماءَ فَتَطْهُرِينَ». رَواه مسلم (¬1). ولأنَّه غُسْلٌ واجِبٌ فلم يَجِبْ فيه إمْرارُ اليَدِ، كغَسْلِ النَّجاسَةِ، وما ذَكَرُوه مَمْنُوع، فإنَّه يُقالُ: غَسَل الإِناءَ. وإن لم يَدْلُكْه. والتَّيَمُّمُ أمِرْنا فيه بالمَسْحِ؛ لأنّها طهارة بالتُّرابِ، ويتَعَذَّرُ في الغالِبِ إمْرارُ التُّرابِ إلَّا باليَدِ. فصل: ولا يَجِبُ الترتِيبُ في غُسْلِ الجَنابَةِ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}. وقال: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. فكَيفَما اغتَسَل فقد حَصَل التَّطَهُّرُ (¬2) ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ولا يَجِبُ فيه مُوالاةٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. ¬

(¬1) في: باب حكم ضفائر المغتسلة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 259. كما أخرجه أبو داود، في: باب المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل، من كتاب الطهارة. سننن أبي داود 1/ 58. والترمذي، في: باب هل تنقض المرأة شعرها عند الغسل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 158. والنسائي، في: باب ذكر ترك المرأة نقض ضفر رأسها عند اغتسالها من جنابة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 108. (¬2) في م: «التطهير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال حَنْبَلٌ: سألتُ أحمدَ عَمَّن اغْتَسَل وعليه خاتَمٌ ضَيِّقٌ؟ قال: يَغْسِلُ مَوْضِعَ الخاتَمِ. قلتُ: فإن جَفَّ غُسْلُه؛ قال: يَغْسِلُه، ليس هو بمَنْزِلَةِ الوُضُوءِ. قلتُ: فإن صَلَّى، ثم ذَكَر؛ قال: يَغْسِلُ مَوْضِعَه، ثم يُعِيدُ الصلاةَ. وهذا قَوْلُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال رَبِيعَةُ: مَن تَعَمَّدَ ذلك أعادَ الغُسْلَ. وهو قولُ اللَّيثِ. واخْتَلَفَ فيه عن مالكٍ. وفيه وَجْهٌ لأصحابِ الشافعيِّ قِياسًا على الوُضُوءِ. وذَكَر الشيخُ أبو الفَرَجِ في «الإِيضاحِ»، أنَّه شَرْطٌ. والأوْلَى قولُ الجُمْهُور؛ لأنَّها طهارةٌ لا تَرْتيِبَ فيها، فلم تَجِبْ فيها مُوالاةٌ، كغَسْلِ النَّجاسَةِ. فعلى هذا تَكُونُ واجِباتُ الغُسْلِ شَيئَين؛ النيةَ، وتَعْمِيمَ البَدَنِ بالغَسْلِ، وقد ذَكَرْنا الاخْتِلافَ في التَّسْمِيَةِ فيما مَضَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اجْتَمَع شَيئان يُوجِبان الغُسْلَ؛ كالحَيضِ والجَنابَةِ، والْتِقاءِ الخِتانَين والإِنْزالِ، فنَواهُما بغُسْلِه، أجْزأه عنهما. وهو قَوْلُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي. ورُوي عن الحسنِ والنَّخَعِيِّ، في الحائِضِ الجُنُبِ (¬1): تَغْتَسِلُ غُسْلَين. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يَغْتَسِلُ مِن الجِماعَ إلَّا اغْتِسالًا (¬2) واحِدًا، وهو يَتَضَمَّنُ الْتِقاءَ الخِتانَين والإِنْزال غالِبًا، ولأنَّهما سَبَبان يُوجبان الغُسْلَ، فأجْزَأ الغُسْلُ الواحِدُ عنهما، كالحَدَثِ والنَّجاسَةِ. وهكَذا الحُكْمُ إِنِ اجْتَمَعَتْ أحْداثٌ تُوجِبُ الطهارةَ الصُّغْرَى؛ كالنَّوْمِ واللَّمْسِ وخُرُوجِ النَّجاسَةِ، فنَواها بطَهارَتِه. وإن نَوَى أحَدَها ففيه وَجْهان، مَضَى ذِكْرُهما. ¬

(¬1) في م: «والجنب». (¬2) ساقطة من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا بَقِيَتْ لُمْعَةٌ مِن جَسَدِه لم يُصِبْها الماءُ، فمَسَحَها بيَدِه أو بشَعَرِه، أو عَصَر شَعَرَه عليها، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ فيه عن أحمدَ؛ فرُوِيَ أنَّه سُئِل عن حديثِ العَلاءِ بنِ زِيادٍ (¬1)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اغْتَسَلَ، فرَأى لُمْعَةً لم يُصِبْها الماءُ فدَلَكَها بشَعَرِه. قال: نعم، آخُذُ به (¬2). [ورُوي عن علي] (¬3)، قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي اغْتَسَلْتُ مِن الجَنابَةِ، وصَلَّيتُ الفَجْرَ، ثم أصْبَحْتُ فرَأيتُ قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفْرِ لم يُصِبْه ماءٌ. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت مَسَحْتَ عَلَيهِ بِيَدِكَ، أجْزَأكَ». رَواه ابنُ ماجه (¬4). ورُوي عن أحمدَ أنَّه قال: يَأخُذُ لها ماءً جَدِيدًا، فيه حَدِيثٌ لا يَثْبُتُ بعَصْرِ شَعَرِه. وذُكِرَ له حديثُ ابنِ عباس؛ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَصَر لِمَّتَه على لُمْعَةٍ كانت في جَسَدِه (¬5). فضَعَّفَه، ولم يُصَحِّحْه. قال ¬

(¬1) أبو نصر العلاء بن زياد بن مطر العدوي البصري، أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان من عُبَّاد أهل البصرة وقرائهم، توفي سنة أربع وتسعين. تهذيب التهذيب 8/ 181، 182. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من اغتسل من الجنابة فبقى من جسده لمعة لم يصبها الماء كيف يصنع؛ من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 217. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 243. (¬3) في م: «وروى على». (¬4) في الموضع السابق، 1/ 218. (¬5) أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق، 1/ 217.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَيْخُنا: والصحِيحُ أنَّ ذلك يُجْزِئُه إذا كان مِن بَلَلِ الغَسْلَةِ الثانيةِ أو الثالثةِ، وجَرَى ماؤُه (¬1) على اللُّمْعَةِ؛ لأنَّه كغَسْلِها بماءٍ جديدٍ، على ما فيه مِن الأحاديثِ (¬2). فإن لم يَجْرِ الماءُ، فالأوْلَى غَسْلُها بماءٍ جَدِيدٍ. ويُمْكِنُ حَمْلُ المَسْحِ على الغَسْلِ الخَفِيفِ في الحَدِيثِ، فإنَّ الغَسْلَ الخَفِيفَ يُسَمَّى مَسْحًا. وإن عَصَر شَعَرَه في الغَسْلَةِ الأولَى، انْبَنَى على المُسْتَعْمَلِ في رَفْعِ الحَدَثِ، على ما مَضَى. ¬

(¬1) في م: «ماؤها». (¬2) انظر: المغني 1/ 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ على المرأةِ نَقْضُ شَعَرِها لغُسْلِها مِن الجَنابَةِ، رِوايَةً واحِدَةً، إذا رَوَّتْ أصُولَه. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا، إلَّا أنَّه رُوِيَ عن ابنِ عَمْرٍو، أنه كان يَأمُرُ النِّساءَ بذلك. وهو قَوْلُ النَّخَعِي. ولا نَعْلَمُ أحدًا وافَقَهُما على ذلك. ووَجْهُ الأوَّلِ ما رَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، أنَّها قالت: يا رسولَ الله، إنِّي امرأةٌ أشُدُّ ضَفْرَ رَأسِي، أفأنْقُضُه للجَنابَةِ؟ قال: «لَا، إنَّمَا يكفيك أنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ (¬2)، قال: بَلَغ عائشَةَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو يَأمُرُ النِّساءَ إذا اغْتَسَلْنَ أن يَنْقُضْنَ رُوُّوسَهُنَّ. فقالت: ¬

(¬1) تقدم في صفحة 132. (¬2) أبو عاصم عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، قاصّ أهل مكة، مكي، تابعي، ثقة، من كبار التابعين، توفي سنة ثمان وستين. تهذيب التهذيب 6/ 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يا عَجَبِي لابنِ عَمْرٍو هذا، يَأْمُرُ النِّساءَ إذا اغْتَسَلْنَ أن يَنْقُضْنَ رُووسَهُنَّ، أفلا يَأْمُرُهُنَّ أن يَحْلِقْنَ رُؤوسَهُنَّ، لقد كنتُ أغْتَسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن إِناءٍ واحِدٍ، وما أزِيدُ على أن أفْرِغَ على رَأسِي ثلاثَ إفْراغاتٍ. رَواه مسلم (¬1). إلَّا أن يَكُونَ في رأس المرأةِ حَشْوٌ أو سِدْرٌ يَمْنَعُ وُصُولَ الماءِ إلى ما تحتَه، فتجِبُ إزالتُه، وإن كان خَفِيفًا لا يَمْنَعُ، لم تَجِبْ. فصل: فأمّا غُسْلُ الحَيضِ، فنَصَّ أحمدُ على أنها تَنْقُضُ شَعَرَها فيه. قال مُهَنّا: سَألْتُ أحمدَ عن المرأةِ، تَنْقُضُ شَعَرَها مِن الحَيضِ؟ قال: نعم. فقُلْتُ له: كيف تَنْقُضُه مِن الحَيض، ولا تَنْقُضُه مِن الجَنابَةِ؟ فقال: حَدِيثُ أسماءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «تَنْقُضُهُ» (¬2). واخْتَلَفَ فيه ¬

(¬1) في: باب حكم ضفائر المغتسلة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 260. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في غسل النساء من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 198. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 43. (¬2) ليس في حديث أسماء ذكر نقض الشعر أو عدم نقضه، وإنما ورد الأمر بالنقض في حديث عائشة الذي أورده المصنف بعد قليل. ويأتي تخريج حديث أسماء بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُنا؛ فمنهم مَن أوْجَبَه، وهو قَوْلُ الحسنِ وطاوُس؛ لِما رُوِيَ عن عائِشَةَ، رَضِي الله عنها، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها، إذْ كانت حائِضًا: «خُذِي مَاءَكِ وَسِدْرَكِ وامْتَشِطِي» (¬1). ولا يَكُونُ المَشْطُ إلَّا في شَعَرٍ غيرِ مَضْفُورٍ. وللبُخارِي (¬2): «انْقُضِي رَأسَكِ وَامْتَشِطِي». ولأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعَرِ، ليُتَيَقَّنَ وُصُولُ الماء إلى ما تحتَه، فعُفِىَ عنه في غُسْلِ الجَنابَةِ؛ لأنَّه يَكْثُرُ، فيَشُقُّ ذلك، بخِلافِ الحَيض. وقال بَعْضُ أصحابِنا: هو مُسْتَحَب غيرُ واجِبٍ. رُوِيَ ذلك عن عائِشَةَ، وأمِّ سَلَمة. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي، وأكْثَرِ العلماءِ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ في بَعْضِ ألفاظِ حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أفأنْقُضُه للحَيضَةِ ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، في: باب في غسل المستحاضة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 197، بلفظ: «خذي ماءك وسدرك ثم اغتسلي وأنقي، ثم صبي على رأسك حتى تبلغي شئون الرأس». (¬2) في: باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض، وباب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، وباب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، من كتاب الحيض، وفي: باب كيف تهل الحائض والنفساء إلخ، من كتاب الحج، وفي: باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها، وباب الاعتمار بعد الحج بدون هدى، من كتاب العمرة، وفي: باب حجة الوداع، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 1/ 86، 87، 2/ 172، 3/ 4، 5، 5/ 221.كما أخرجه مسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 870 - 872. وأبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب الحج. سنن أبي داود 1/ 412. والنسائي، في: باب ذكر الأمر بنقض ضفر الرأس عند الاغتسال للإحرام، من كتاب الطهارة. وفي: باب في المهلة بالعمرة تحيض وتخاف فوت الحج، من كتاب الحج. المجتبى 1/ 109، 5/ 129. وابن ماجه، في: باب العمرة من التنعيم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 998. والإمام مالك، في: باب دخول الحائض مكة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 410، 411. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 164، 177، 191، 246. وهو طرف من الحديث الآتي؛ «دعي عمرتك. . . .».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجَنابَةِ؟ قال: «لَا». رَواه مسلمٌ (¬1). وهذه زِيادَةٌ يَجِبُ قَبُولُها. وهذا صَرِيحٌ في نَفْي الوُجُوبِ، فأمّا حديثُ عائشةَ الذي رَواه البُخارِيُّ، فليس فيه أمْرٌ بالغُسْلِ، ولو كان فيه أمْر لم يَكُنْ فيه حُجَّةٌ؛ لأنَّ ذلك ليس هو غُسْلَ الحَيضِ، إنَّما أمِرَتْ بالغُسْلِ في حالِ الحَيضِ للإِحْرامِ بالحَجِّ. ولو ثَبَت الأمْرُ بالغُسْلِ، حُمِل على الاسْتِحبابِ؛ جَمْعًا بينَ الحَدِيثَين، ولأنَّ فيه ما يَدُلُّ على الاسْتِحْبابِ، وهو المَشْطُ والسِّدْرُ، وليس بواجِبٍ، فما هو مِن ضَرُورَتِه أوْلَى. فصل: ويَجِبُ غَسْلُ بَشَرَةِ الرَّأْسِ، كَثِيفًا كان الشَّعَرُ أو خَفِيفًا، وكذلك كلُّ ما تحتَ الشَّعَرِ، كجِلْدِ اللِّحْيَةِ؛ لِما رَوَتْ أسماءُ، قالت: سألْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غُسْلِ الجَنابَةِ، فقال: «تَأخُذُ مَاءً فَتَطهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى يَبْلُغَ شُوونَ رَأسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيهِ الْمَاءَ». رَواه مسلمٌ. وعن عليٍّ، رَضِي الله عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «مَنْ تَركَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فُعِلَ بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا». قال عليٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عادَيتُ شَعَرِي. قال: وكان يَجُزُّ شَعَرَه. رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) في الموضع السابق. (¬2) في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 57. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب تحت كل شعرة جنابة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا غَسْلُ ما اسْتَرْسَلَ مِن الشَّعَرِ، وبَلُّ ما على الجَسَدِ منه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَجِبُ. وهو ظاهِرُ قَوْلِ أصحابنا، ومَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةٌ فَبِلُّوا الشَّعَرَ، وَأنْقُوا الْبَشَرَةَ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه شَعَرٌ نابِتٌ في مَحَلِّ الفَرْضِ، فوَجَبَ غَسْلُه، كشَعَرِ الحاجبَين. والثاني، لا يَجِبُ. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكْفِيكِ أنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ». مع إخْبارِها إيّاه بشَدِّ ضَفْرِ رَأسِها، ومِثْلُ هذا لا يَبُلُّ الشَّعَرَ المَشْدُودَ ضَفْرُه في العادَةِ، ولو وَجَب غَسْلُه لوَجَبَ نَقْضُه؛ ليُعْلَمَ أنَّ الماءَ قد وَصَل إليه، ولأنَّ الشَّعَرَ ليس مِن الحَيَوانِ؛ بدَلِيلِ أنَّه لا يَنْقُضُ مَسُّه مِن المرأةِ، ولا تَطْلُقُ بإيقاعِ الطَّلاقِ عليه، فلم يَجِبْ غَسْلُه كثَوْبِها. وأمّا حَدِيثُ: «بِلُّوا الشَّعَرَ». فيَرْويه الحارِثُ بنُ وَجيهٍ (¬2) وَحْدَه، وهو ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 57. والترمذي، في: باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 161. وابن ماجه، في: باب تحت كل شعرة جنابة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 196. (¬2) أبو محمد الحارث بن وجيه الراسبي البصري. انظر تضعيفه في تهذيب التهذيب 2/ 162. وانظر قول الترمذي فيه، في موضعه من التخريج السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَعِيفُ الحَدِيثِ، عن مالكِ بنِ دِينارٍ (¬1). والحاجِبانِ إنَّما وَجَبَ غَسْلُهما مِن ضَرُورَةِ غَسْلِ بَشَرَتِهما، وكذلك كلُّ شَعَرٍ لا يُمْكِنُ غَسْلُ بَشَرَتِه إلَّا بغَسْلِه، لأنَّه مِن قَبِيلِ ما لا يَتمُّ الواجِبُ إلَّا به. فإن قُلْنا بوُجُوبِ غَسْلِه، فتَرَكَ غَسْلَ شيءٍ منه، لم يَتمَّ غُسْلُه. فإن قَطَع المَتْرُوكَ، ثم غَسَلَه، أجْزأه؛ لأنَّه لم يَبْقَ في بَدَنِه شيءٌ غيرُ مَغْسُول. ولو غَسَلَه، ثم تَقَطعَ، لم يَجِبْ غَسْلُ مَوْضِعِ القَطْعِ، كما لو قَصَّ أظْفارَه بعدَ الوُضُوءِ. فصل: وغُسْلُ الحيض كغُسْلٍ الجَنابَةِ، إلَّا أنَّه يُسْتَحَبُّ أن تَغْتَسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ، وتَأخُذَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فتَتَّبعَ بها مَجْرَى الدَّمِ، والمَوْضِعَ الذي يَصِلُ إليه الماءُ مِن فَرْجِها؛ ليَزُولَ عنها زُفُورَةُ الدَّمِ، فإن لم تَجِدْ مِسْكًا فَغَيرُه مِن الطِّيبِ، فإن لم تَجِدْ فالماءُ كافٍ؛ لأنَّ في حديثِ أسماءَ: «تَأخُذُ إحْدَاكُنَّ سِدْرَتَهَا وَمَاءَهَا فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، [ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤونَ رَأسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيهِ الْمَاءَ، ثُمَّ تَأخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا»] (¬2). قالت أسماءُ: وكيف ¬

(¬1) مالك بن دينار السامي البصري الزاهد، أبو يحيى، ثقة، قليل الحديث. توفي سنة 130 هـ. تهذيب التهذيب 10/ 14، 15. (¬2) سقط من: «الأصل».

162 - مسألة؛ قال: (ويتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فإن أسبغ بدونهما أجزأه)

ويتوضأ بالمد , ويغتسل بالصاع , فإن أسبغ بدونهما أجزأه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطَهَّرُ بها؟ فقال: «سُبْحَانَ الله، تَطَهَّرِينَ بِهَا». فقالت عائِشَةُ: تَتَبَّعِينَ بها أثَرَ الدَّمِ. رَواه مسلمٌ (¬1). الفِرْصَةُ: هي القِطْعَةُ مِن كلِّ شيءٍ. والمِسْكُ: الأذْفَرُ الخالِصُ. 162 - مسألة؛ قال: (ويَتَوَضَّأ بالمُدِّ، ويَغْتَسِلُ بالصّاعِ، فإن أسْبَغَ بدُونِهما أجْزأه) المُدُّ رَطْلٌ وثُلُثٌ بالعِراقِيِّ، والصّاعُ أربعةُ أمْدادٍ، ¬

(¬1) في: باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 261. كما أخرجه أبو داود، في: باب الاغتسال من الحيض، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 75. وابن ماجه، في: باب في الحائض كيف تغتسل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 210. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 147، 148. وشؤون الرأس: موصل قبائلها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو خمسةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ، وهو بالرَّطْلِ الدِّمَشقِيِّ، الذي هو سِتُّمائَةِ دِرْهَمٍ، رَطل وسُبْعٌ، والمُدُّ رُبْعُه، وهو ثلاثُ أواقٍ، وثلاثةُ أسْباع أوقِيَّةٍ. والرَّطْلُ العِراقِيّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وثمانيةٌ وعِشْرُون دِرْهَمًا وأربعةُ أسْباعِ دِرْهَم، وذلك تِسْعُون مِثْقالًا. والمِثْقالُ دِرْهَمٌ وثلاثةُ أسباع دِرْهَم (¬1). ولا خِلافَ في حُصُولِ الإِجْزاءِ بالمُدِّ في الوُضُوءِ، والصّاعِ في الغُسْلِ، في ما عَلِمْنا؛ وذلك لِما روَى أنسٌ، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ بالمُدِّ، ويَغْتَسِلُ بالصّاعِ إلى خمسةِ أمْدادٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن سَفِينَةَ، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُغَسِّلُه الصّاعُ [مِن الماءِ] (¬3) مِن الجَنابَةِ، ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الوضوء بالمد، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 62. ومسلم، في: باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 258. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 22. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 179. وبلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بمَكوك، ويغتسل بخمسة مَكاكِئ. أخرجه مسلم، في الموضع السابق 1/ 257. والنسائي، في: باب القدر الذي يكتفى به الإنسان من الماء للوضوء والغسل، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 147. والدارمي، في: باب كم يكفي في الوضوء من الماء، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 175. (¬3) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُوَضِّئُه المُدُّ. رَواه مسلمٌ (¬1). وفي حديثِ جابِرٍ، أنه سُئِل عن غُسْلِ الجَنابَةِ، فقال: يَكْفِيك صاعٌ. فقال رجلٌ: ما يَكْفِيني. فقال جابرٌ: كان يَكْفِي مَن هو أوْفَى منك شَعَرًا، وخيرٌ منك. يَعْنِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والصّاعُ والمُدُّ ما ذَكَرْنا. وهذا قوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاق، وأبي عُبَيدٍ، وأبي يُوسُفَ. وقال أبو حَنِيفَةَ: الصّاعُ ثمانيةُ أرْطالٍ، والمُدُّ رَطْلان؛ لأنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ بالمُدِّ. وهو رَطْلانِ. ويَغْتَسِلُ بالصّاعِ. ولَنا، ما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ (¬3): «أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ. فَرَقًا مِنْ طَعَام». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). قال أبو عُبَيدٍ: لا اخْتِلافَ بينَ النَّاسِ أعْلَمُه في أنَّ الفَرَقَ ¬

(¬1) في: باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد، وغسل أحدهما بفضل الآخر، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 258. كما أخرجه الترمذي، في: باب الوضوء بالمد، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 75. والدارمي، في: باب كم يكفي في الوضوء من الماء، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 222. كما أخرجه، عن صفية بنت شيبة، أبو داود، في: باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 21. والنسائي، في: باب القدر الذي يكتفي به الإنسان من الماء للوضوء والغسل، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 147. وابن ماجه، في: باب ما جاء في مقدار الماء للوضوء والغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 99. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 121، 219، 234، 239، 249، 280. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الغسل بالصاع ونحوه، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 72. ومسلم، في: باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 259. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 289. (¬3) كعب بن عجرة بن أمية بن عدي البلوى، أبو محمد. مدني له صحبة، شهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية. توفي سنة ثلاث وخمسين. الإصابة 5/ 599، 600. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 1/ 164. ومسلم، في: باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 861. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المحرم يحلق رأسه في إحرامه ما عليه، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 177. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 242 - 244.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةُ آصُعٍ، والفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، فثَبَتَ أنَّ الصّاعَ خمسةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ. ورُوي أنَّ أبا يُوسُفَ دَخَل المَدِينَةَ، فسألَهُم عن الصّاعِ، فقالوا،: خمسةُ أرْطالٍ وثُلُث. فطالبَهم بالحُجَّةِ، فقالُوا: غَدًا. فجاءَ مِن الغَدِ سَبْعُون شَيخًا، كلٌّ منهم آخِذ صاعًا تحتَ رِدائِه، فقال: صاعِي وَرِثتُه مِن أبي، عن جَدِّي، حتى انْتَهَوْا به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فرَجَعَ أبو يُوسُفَ عن قَوْلِه. وهذا تَواتُرٌ يَحْصُلُ به القَطْعُ، وقد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أهْلِ الْمَدِينَةِ» (¬1). وحَدِيثُهم تَفَرَّدَ به موسى بنُ نَصْر، وهو ضَعِيف الحَدِيثِ. قاله الدّارَقُطْنِي (¬2). فصل: فإن أسْبَغ بدُونِهما أجْزأه. مَعْنَى الإِسْباغِ، أن يَعُمَّ جَمِيعَ الأعْضاءِ بالماءِ بحيث يَجْرِي عليها؛ لأَنَّ هذا هو الغُسْلُ، وقد أُمِرْنا بالغَسْلِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ وأكثَرِ أهلِ العلمِ. وقد قِيل: لا يُجْزِئ في الغُسْلِ دُونَ الصّاعِ، ولا في الوُضُوءِ دونَ المُدِّ. وحُكِي ذلك عن أبي حنيفةَ؛ لأَنَّ جابرًا، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُجْزِئ مِنَ الْوُضُوءِ مُدٌّ، وَمِنَ الْجَنَابَةِ صَاعٌ» (¬3). والتَّقْدِيرُ بهذا يَدُلُّ على أنه لا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: المكيال مكيال المدينة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 220. والنسائي، في: باب كم الصاع، من كتاب الزكاة، وفي: باب الرجحان في الوزن، من كتاب البيوع. المجتبى 5/ 40، 7/ 250. (¬2) في: باب ما يستحب للمتوضئ والمغتسل أن يستعمله من الماء، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 94. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 21. وابن ماجه، في: باب ما جاء في مقدار الماء للوضوء والغسل من الجنابة. سنن ابن ماجه 1/ 99. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْصُلُ الإِجْزاءُ بدُونِه. ولَنا، أنَّ الله تعالى أمَرَ بالغسْلِ، وقد أتى به، وقد رُوِيَ عن عائِشةَ، أنها كانت تَغْتَسِلُ هي والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مِن إناءٍ واحِدٍ، يَسَعُ ثلاثةَ أمْدادٍ، أو قَرِيبًا مِن ذلك. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عبدِ الله بنِ زَيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ بثُلُثَيْ مُدٍّ (¬2). وحَدِيثُهم إنَّما يَدُلّ بمَفْهُومِه، وهم لا يَقُولُون به، وإن ذَكَرُوه على وَجْهِ الإِلْزام فما ذَكَرْناه مَنْطُوقٌ، وهو راجِحٌ عليه. وقد رُوِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: إنَّ لِي رَكْوَةً (¬3) أو قَدَحًا، ما يَسَعُ إلَّا نِصْفَ المُدِّ أو نَحْوَه، ثم أبولُ، ثم أتوَضَّأ، وأفْضُل منه فَضْلًا. قال عبدُ الرحمنِ (¬4): فذَكَرْتُ هذا الحديثَ لسُلَيمانَ بنِ يَسارٍ، فقال سُلَيمَانُ: وأنا يَكْفِيني مِثْلُ ذلك. فذَكَرْتُ ذلك لأبي عُبَيدَةَ بنِ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ (¬5)، فقال أبو عُبَيدَةَ: وهكذا سَمِعْنا مِن أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: إنِّي لأتوَضَّأ مِن كُوزِ الحُبِّ مَرَّتَين. فصل: فإذا زاد على المُدِّ في الوُضُوءِ، وعلى الصّاعِ في الغُسْلِ، جاز؛ فإِنَّ عائِشَةَ قالت: كنتُ أغْتَسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن إناءٍ واحِدٍ، مِن ¬

(¬1) في: باب القدر المستحب من الماء إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 256. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب جواز النقصان عن المد في الوضوء والصاع في الغسل، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 196. وأخرجه، عن أم عمارة أبو داود، في: باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 22. والنسائي، في: باب القدر الذي يكتفى به الرجل من الماء للوضوء، من كتاب، الطهارة. المجتبى 1/ 50. (¬3) الركوة: دلو صغير. (¬4) أبو محمد، عبد الرحمن بن عطاء القرشي، مولاهم، ثقة، قليل، الحديث، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب 6/ 230، 231. (¬5) أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر العنسب، أخو سلمة بن محمد، وقيل: هما واحد. وثقه ابن معين. تهذيب التهذيب 12/ 160، 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدَحٍ يُقالُ له الفَرَق (¬1). والفَرَقُ ثلاثةُ آصُعٍ. وقال أنسٌ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ بالصّاعِ إلى خمسةِ أمْدادٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أنس قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ بإناءٍ (¬3) يَسَعُ رَطْلَين. رَواه أبو داودَ (¬4). ويكره الإِسْرافُ في الماءِ، والزِّيادَةُ الكَثيرَةُ فيه؛ لِما رَوينا مِن الآثارِ. وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بسَعْدٍ، وهو يَتَوَضَّأ، فقال: «مَا هَذَا السَّرَفُ»؟ فقال: أفي الوُضُوءِ إسْرافٌ؟ قال: «نَعَمْ، وَإنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ». رَواه ابنُ ماجه (¬5). وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، قال: قال ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب غسل الرجل مع امرأته، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 72. ومسلم، في: باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 255. وأبو داود، في: باب مقدار الماء الذي يجزئ في الغسل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 55. والنسائي، في: باب ذكر القدر الذي يكتفى به الرجل من الماء للغسل، وباب ذكر الدلالة على أنه لا وقت في ذلك، من كتاب الطهارة، وفي: باب الدليل على أنه لا توقيت في الماء الذي يغتسل فيه، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 105، 106، 165. والدارمي، في: باب الرجل والمرأة يغتسلان من إناء واحد، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 192. والإمام مالك، في: باب العمل في غسل الجنابة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 45. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 37، 199. (¬2) تقدم في صفحة 144. (¬3) في م: «بالماء». (¬4) في: باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 21. وبنحوه أخرجه البخاري، في: باب الوضوء بالمد، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 62. ومسلم، في: باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة. . . .، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 257، 258. والنسائي، في: باب القدر الذي يكتفى به الرجل من الماء للوضوء، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 50. (¬5) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: سقط هذا الهامش من المطبوع والحديث أخرجه ابن ماجه في باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 147 (425)

163 - مسألة: (وإذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما. وعنه: لا يجزئه حتى يتوضأ)

وَإذَا اغْتَسلَ يَنْوي الطَّهَارَتَينِ أجزأ عَنْهُمَا. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَوَضَّأ عَنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ للْوُضُوءِ شَيطَانًا، يُقَالُ لهُ وَلَهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ». رَواه أحمدُ وابنُ ماجَه (¬1). 163 - مسألة: (وإذا اغْتَسَلَ يَنْوي الطَّهارَتَين أجْزأ عنهما. وعنه: لا يُجْزِئُه حتى يَتَوَضَّأ) ظاهِرُ المذهبِ أنه يُجْزِئُه الغُسْلُ عن الطَّهارَتَين إذا نَواهُما. نَصَّ عليه أحمدُ. وعنه: لا يُجْزِئُه حتى يَتَوَضَّأَ قبلَ الغُسْلِ، أو بعدَه، وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك، ولأنَّ الجَنابَةَ والحَدَثَ وُجِدا منه، فوَجَبَ لهما الطَّهارَتان , كما لو كانا مُنْفَرِدَين. ووَجْهُ الأولَى قَوْلُه تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}. إلى قَوْلِه: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). جَعَل الغُسْلَ غايَةً للمنْعِ مِن الصلاةِ، فإِذا اغْتَسَلَ يَجِبُ أن لا يُمْنَعَ منها، ولأنَّهُما عِبادَتان مِن جِنْسٍ، فدَخَلَتِ الصُّغْرَى في الكُبْرَى، في الأفعالِ دُونَ النيةِ؛ كالحَجِّ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 136. كما أخرجه الترمذي، في: باب كراهية الإسراف في الماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 76. (¬2) سورة النساء 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعُمْرَةِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): المُغْتَسِلُ [مِن الجَنابَةِ إِذا لم يَتَوَضَّأ، وعَمَّ جَمِيعَ بَدَنِه، فقد أدَّى ما عليه؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما افْتَرَضَ على الجُنُبِ الغُسْلَ] (¬2) مِن الجَنابَةِ، دونَ الوُضُوءِ، بقولِه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3). وهو إجْماعٌ لا خِلافَ فيه بينَ العلماء، إلَّا أنَّهُم أجْمَعُوا على اسْتِحْبابِ الوُضُوءِ قبلَ الغُسْلِ تَأسِّيًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رَوَتْ عائِشَةُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَتَوَضَّأ بعدَ الغُسْلِ مِن الجَنابَةِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ والترمِذِي (¬4). ¬

(¬1) انظر: الاستذكار 1/ 327، 328. (¬2) سقط من: «الأصل». (¬3) سورة المائدة 6. (¬4) أخرجه الترمذي، في: باب في الوضوء بعد الغسل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 162. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 68، 192، 253، 258. كما أخرجه النسائي، في: باب ترك الوضوء من بعد الغسل، من كتاب الطهارة، وفي الباب نفسه، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 113، 171. وابن ماجه، في: باب في الوضوء بعد الغسل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 191.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن لم يَنْو الوُضُوءَ، لم يُجْزِه إلَّا عنْ الغُسْلِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). فإن نَواهُما، ثم أحْدَثَ في أثْناءِ غُسْلِه، أتمَّ غُسْلَه، ثم يَتَوَضَّأ. وقال الحسنُ: يَسْتَأْنِفُ الغُسْلَ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الحَدَثَ الأصْغَرَ لا يُنافِي الغُسْلَ، فلا يُؤَثرُ وُجُودُه فيه، كغير الحَدَثِ. فصل: ويَسْقُطُ الترتِيبُ والمُوالاةُ في أعْضاءِ الوُضُوءِ، إِذا قُلْنا: الغُسْلُ يُجْزء عنهما. لأنَّهما عِبادَتان دَخَلَتْ إِحْداهُما في الأخْرَى، فسَقَطَ حُكْمُ الصُّغْرَى، كالعُمْرَةِ مع الحَجِّ. نَصَّ عليه أحمدُ. فلو اغْتَسَلَ إلَّا أعْضاءَ الوُضُوءِ، لم يَجِبِ الترتِيبُ فيها؛ لأنَّ حُكْمَ الجَنابَةِ باقٍ. وقال ابنُ عَقِيلٍ والآمِدِيُّ، في مَن غَسَل جَمِيعَ بَدَنِه إلا رِجْلَيه، ثم أحْدَثَ: يَجبُ الترتِيبُ في الأعْضاءِ الثلاثةِ؛ لانْفِرادِها في الحَدَثِ الأصْغَرِ دُونَ الرِّجْلَين؛ لاجْتمِاعِ الحَدَثَين فيهما. ويُعايَى بها، فيُقالُ: طهارةٌ يَجِبُ الترتِيبُ في بَعْضِها، ولا يَجِبُ في البَعْضِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308.

164 - مسألة: (ويستحب للجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطء ثانيا، أن يغسل فرجه ويتوضأ)

وَيُسْتَحَبُّ لِلْجُنُب إِذَا أرَادَ النَّوْمَ، أو الْأكْلَ، أو الْوَطْءَ ثَانِيًا أَن يَغْسِلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 164 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ للجُنُبِ إِذا أرادَ النَّوْمَ أو الأكْلَ أو الوَطْءَ ثانيًا، أن يَغْسِلَ فَرْجَه ويَتَوَضَّأَ) ورُوي ذلك عن علي، وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو (¬1). وكان ابنُ عُمَرَ يَتَوَضَّأ إلَّا غَسْلَ قَدَمَيه. وقال ابنُ ¬

(¬1) في م: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ: إذا أرادَ أن يَأكلَ، يَغْسِلُ كَفَّيه، ويَتَمَضْمَضُ. وحُكِى نَحْوُه عن إمامِنا، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال مُجاهِدٌ: يَغْسِلُ كَفَّيه؛ لِما رُوِيَ عن عائِشَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أنْ يَأكل وهو جُنُبٌ , غَسَلَ يَدَيه. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيّ، وابنُ ماجه (¬1). وقال مالك: يَغْسِلُ يَدَيه إن كان أصابَهُما أذًى. وقال ابنُ المُسَيَّبِ، وأصحابُ الرَّأي: يَنامُ، ولا يمس ماءً؛ لِما رَوَتْ عائِشَةُ، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يَنامُ وهو جُنُبٌ، ولَا يَمسُّ ماءً. رَواه أبو داودَ وابنُ ماجه (¬2). ولَنا، أنَّ عُمَرَ سَأل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الجنب يأكل، وباب من قال: الجنب يتوضأ، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 50، 51. والنسائي، في: باب اقتصار الجنب على غسل يديه إذا أراد أن يأكل، وباب اقتصار الجنب على غسل يديه إذا أراد أن يأكل أو يشرب، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 114. وابن ماجه، في: باب من قال يجزئه غسل يديه، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 195. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 102، 119، 192، 279. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب [في] الجنب يؤخر الغسل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 52. وابن ماجه، في: باب في الجنب ينام كهيئته لا يمس ماء، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 192. كما أخرجه الترمذي، في: باب في الجنب ينام قبل أن يغتسل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 181. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 111، 146، 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيرْقُدُ أحَدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: «نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَرْقُدْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتَى أَحَدُكُمْ أهْلَهُ، ثُمَّ أرَادَ أنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن عائِشَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذَا أراد أن يَأْكُلَ، أو يَنامَ، تَوَضَّأ. يَعْنِي وهو جُنُبٌ. رَواه أبو داودَ (¬3). فأمّا أحادِيثُهم؛ فأحادِيثُنا أصَحُّ، ويُمْكِنُ الجمْعُ بَينَها بحَمْلِها على الجَوازِ وحَمْلِ أحادِيثنا على الاسْتِحْبابِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب نوم الجنب، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 80. ومسلم، في: باب جواز نوم الجنب إلخ , من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 248، 249. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الجنب ينام، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 50. والترمذي، في: باب في الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 183. والنسائي، في: باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 115. وابن ماجه، في: باب من قال لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 193. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 17، 46، 79، 102، 112، 392. (¬2) في: باب جواز نوم الجنب إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 249. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء إذا أراد أن يعود توضأ، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 233. وابن ماجه، في: باب في الجنب إذا أراد العود توضأ، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 193. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 28. (¬3) في: باب من قال: الجنب يتوضأ، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا غَمَسَتِ الحائِض، أو الجُنُبُ، أو الكافِرُ، أيدِيَهُم في الماءِ، فهو طاهِرٌ ما لم يَكُنْ على أيدِيهِم نَجاسَةٌ؛ لأنَّ أبدانَهُم طاهِرَةٌ، وهذه الأحْداثُ لا تَقْتَضِي تَنْجِيسَ الماءِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ أهلِ العلمِ على أنَّ عَرَقَ الجُنُبِ طاهِرٌ. يُرْوَى ذلك عن عائشةَ، وابنِ عباس، وابنِ عُمَرَ. وهو قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ، ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافًا. وقد روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَه في بعضِ طُرُقِ المَدِينَةِ، قال: فانْخَنَسْت منه، فذَهَبْتُ فاغْتَسَلْتُ، ثم جِئْتُ، فقال: «أينَ كُنْتَ يَا أبا هُرَيرَةَ»؟ قال: يا رسولَ الله، كُنْتُ جُنُبًا، فكَرِهْتُ أن أجالِسَك وأنا على غيرِ طهارةٍ، فقال: «سُبْحَانَ الله، إِنَّ الْمُؤمِنَ لَا يَنْجُسُ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). ورُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَّمَتْ إليه امرأةٌ مِن نِسائِه قَصْعَةً ليتَوَضَّأَ منها، فقالتِ امرأةٌ: إنِّي غَمَسْتُ يَدَىَ فيها وأنا جُنُبٌ. فقال: «الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ» (¬2). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَشْرَبُ مِن سُورِ عائشةَ وهي حائِضٌ. وتَوَضَّأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن مَزادَةِ مُشْرِكَةٍ. مُتَّفَقٌ عليه. وأجاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 64. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَهُودِيًّا أضافَه بخُبْزٍ وإهالةٍ سَنِخَةٍ (¬1). قال شَيخُنا (¬2): ويَتَخَرَّجُ التَّفْرِيقُ بينَ الكِتابِيِّ الذي لا يَأكُلُ المَيتَةَ والخِنْزِيرَ، وبينَ غيرِه مِمَّن يَأكُلُ ذلك، ومَن لا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهم، كقَوْلِنا في آنِيَتهِم، وقد ذَكَرْناه (¬3). فصل: فأمّا طُهُورِيَّةُ الماءِ، فإِنَّ الحائِضَ والكافِرَ لا يُؤثِّرُ غَمْسهما أيدِيَهما في الماءِ؛ لأنَّ حَدَثَهما لا يَرْتَفِعُ، وأمّا الجُنُبُ، فإن لم يَنْو بغَمْسِ. يَدِه في الماءِ رَفْعَ الحَدَثِ عنها، فكَذلِك، بدَلِيلِ حَدِيثِ المرأةِ التي قالت: غَمَسْتُ يَدَيَّ في الماءِ وأنا جُنُبٌ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ». ولأنَّ الحَدَثَ لا يَرْتَفِعُ مِن غيرِ نِيَّةٍ، أشْبَهَ غَمْسَ الحائِض. وإن نَوَتْ رَفْعَ حَدَثِها، فحُكْمُ الماءِ حُكْمُ ما لو اغْتَسَلَ الجُنُبُ فيه للجَنابَةِ، كذا ذَكَرَه شَيخُنا (¬4). وفي هذا نَظر؛ فإنَّهم قد قالوا: إنَّ الماءَ المُسْتَعْمَلَ إذا اخْتَلَطَ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في الجزء الأول صفحات 156، 158. (¬2) انظر: المغني 1/ 281. (¬3) انظر الجزء الأول صفحة 155. (¬4) في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالماءِ الطَّهُورِ، إنَّما يُؤَثِّرُ فيه إِذا كان بحيث لوْ كان مائِعًا آخَرَ غَيَّرَه، والمُنْفَصِلُ عن اليَدِ ها هنا يَسِيرٌ، فيَنْبَغِي إِذا كان الماءُ كَثِيرًا، بحيث لا يُؤَثِّرُ فيه المُنْفَصِلُ عن غَسْلِ اليَدِ لو غُسِلَتْ مُنْفَرِدَةً بماءٍ، ثم صُبَّ فيه، أن لا يُؤثِّرَ ها هنا؛ لأنَّه في مَعْناه. وإن كان الماءُ يَسِيرًا، بحيث يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ قَدْرَ المُنْفَصِلِ عن اليَدِ يُؤَثِّرُ فيه لو غُسِلَتْ مُنْفَرِدَةً، ثم صُبَّ فيه، أثَّرَ ها هنا. وقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على هذا؛ فإنَّه سُئِل عن جُنُبٍ، وُضِع له ماءٌ، فأدْخَلَ يَدَه يَنْظرٌ حَرَّه مِن بَرْدِه، قال: إن كان أُصْبُعًا فأرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأْسٌ، وإن كانتِ اليَدَ أجْمَعَ. فكأنَّه كَرِهَه. فصل: قال بَعْضُ أصحابِنا: إِذا نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ، ثم غَمَس يَدَه في الماءِ؛ ليَغْرِفَ بها، صار الماءُ مُسْتَعْمَلًا. قال شَيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، أنَّ ذلك لا يُؤَثِّرُ؛ لأنَّ قَصْدَ الاغْتِرافِ مَنَع قَصْدَ غَسْلِها، ¬

(¬1) في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما بَيَّنّاه في المُتَوَضِّئِ إِذا اغْتَرَفَ مِن الإِناءِ لغَسْلِ يَدَيه بعدَ وَجْهِه. وإنِ انْقَطَع حَيضُ المرأةِ فهي قبلَ الغُسْلِ كالجُنُبِ في ما ذَكَرْنا مِن التَّفْصِيلِ. وقد اخْتَلَف (¬1) عن أحمدَ في هذا؛ فقال في مَوْضِعٍ، في الجُنُبِ والحائِضِ يَغْمِسُ يَدَيه في الإِناءِ: إذا كانا نَظِيفَين، فلا بَأْسَ به. وقال في مَوضِع: كُنْتُ لا أرَى به بَأْسًا، ثم حُدِّثْتُ عن شُعْبَةَ، عن مُحارِبِ بنِ دِثارٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وكأنِّي تَهَيَّبْتُه. وسُئِل عن جُنُبٍ وُضِعَ له ماءٌ، فوَضَعَ يَدَه فيه يَنْظُرُ حَرَّه مِن بَرْدِه، فقال: إن كان أُصْبُعًا فأرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأْسٌ، وإن كانتِ اليَدَ أجْمَعَ. فكأنَّه كَرِهَه. وسُئِل عن الرجل يَدْخُلُ الحَمّامَ، وليس معه ما يَصُبُّ به الماءَ على يَدِه، تَرَى له أن يَأْخُذَ بفِيه؟ فقال: لا، يَدُه وفَمُه واحِدٌ. وقِياسُ المذْهبِ ما ذَكَرْنا، وكَلامُ أحمدَ مَحْمُولٌ على الكَراهَةِ؛ لِما فيه مِن الخِلافِ. وقال أبو يُوسُفَ: إن أدْخَلَ الجُنُبُ يَدَه في الماءِ لم يَفْسُدْ، وإن أدْخَلَ رِجْلَه فَسَد؛ لأنَّ الجُنُبَ نَجِسٌ، ¬

(¬1) أبي: النّقْلُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعُفِيَ عن يَدِه؛ لمَوْضِعِ الحاجَةِ. وكَرِهَ النَّخَعِيُّ الوُضُوءَ بسُؤْرِ الحائِضِ. وأكْثَرُ أهلِ العلمِ لا يَرَوْنَ به بَأْسًا؛ منهم الحسنُ، ومُجاهِدٌ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ. وقد دَلَّلْنا على طهارةِ الجُنُبِ والحائِضِ، والتَّفْرِيقُ بينَ اليَدِ والرِّجْلِ لا يَصِحُّ؛ لاسْتِوائِهما فيما إذا أصابَتْهما نَجاسَةٌ، كذلك في الجَنابَةِ. قال شَيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن نَقُولَ به؛ لأنَّ اليَدَ يُرادُ بها الاغْتِرافُ، وقَصْدُه هو المانِعُ مِن جَعْلِ الماءِ مُسْتَعْمَلًا، وهذا لا يُوجَدُ في الرِّجْلِ، فيُؤثِّرَ غَمْسُها في الماءِ. واللهُ أعلمُ. فُصُولٌ في الحَمّامِ: بناءُ الحَمّامِ، وكِراؤُه، وبَيعُه، وشِراؤُه، مَكْرُوهٌ عندَ أبي عبدِ اللهِ؛ فإِنَّه قال في الذي يَبْنِي حَمّامًا للنِّساءِ: ليس بعَدْلٍ. وإنَّما كَرِهَه؛ لِما فيه مِن كَشْفِ العَوْرَةِ، والنَّظرَ إِليها، ودُخُولِ النِّساء إليه. فصل: فأمّا دُخُولُ الحَمّام، فإِن دَخَل رجلٌ، وكان يَسْلَمُ مِن النَّظرَ إِلى عَوْراتِ النّاسِ، ونَظرَهِم إِلىَ عَوْرَتِه، فلا بَأْسَ به؛ فإنَّه يُرْوَى أنَّ ابنَ عباسٍ دَخَل حَمّامًا بالجُحْفَةِ. ويُرْوَى ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكان الحسنُ وابنُ سِيرِينَ يَدْخُلان الحَمّامَ. رَواه الخَلّالُ. وإن خَشِيَ أن لا يَسْلَمَ مِن ذلك، كُرِهَ له؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ وُقُوعَه في المَحْظُورِ، وهو النَّظرُ إِلى عَوْراتِ النّاسِ، ونَظرُهم إلى عَوْرَتِه، وهو مُحَرَّمٌ؛ بدَلِيلِ قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْظرٌ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنْظرٌ الْمَرْأةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأةِ». وقَوْلِه - عليه السلام - «لَا تَمْشُوا عُرَاةً». رَواهما مسلمٌ (¬1). قال أحمدُ: إن عَلِمْتَ أنَّ كلَّ مَن في الحَمّام عليه إزارٌ فادْخُلْه، وإلَّا فلا تَدْخُلْ. فصل: فأمّا النِّساءُ فليس لَهُنَّ دُخُولُه، مع ما ذَكَرْنا مِن السِّتْرِ، إلَّا لعُذْرٍ؛ مِن حَيضٍ، أو نِفاسٍ، أو مَرَضٍ، أو حاجَةٍ إلى الغُسْلِ، ولا يُمْكِنُها أن تَغْتَسِلَ في بَيتها، لتَعَذُّرِ ذلك عليها، أو خَوْفِها مِن مَرَضٍ، أو ضَرَرٍ، فيُباحُ لها إذا سَتَرَتْ عَوْرَتَها، وغَضَّتْ بَصَرَها. ولا يَجُوزُ مِن غيرِ عُذْرٍ، لِما رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَتُفْتَحُ أرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامَنْعُوا نِسَاءَكُمْ، إلَّا حَائِضًا أوْ نُفَساءَ». ورُوي أنَّ عائِشَةَ دَخَل عليها نِساءٌ مِن أهْلِ حِمْصَ، فقالت: لَعَلَّكُنَّ مِن النِّساءِ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الحَمّاماتِ، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الْمَرْأةَ إذَا خَلَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيرِ بَيتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ سِتْرَهَا بَينَهَا وَبَينَ اللهِ تَعَالى». رَواهما ابنُ ماجه (¬2). ¬

(¬1) الأول أخرجه مسلم، في: باب تحريم النظر إلى العورات، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 226. كما أخرجه أبو داود، في: باب [ما جاء] في التعري، من كتاب الحمام. سنن أبي داود 2/ 364. والترمذي، في: باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة المرأة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 238. وابن ماجه، في: باب النهي أن يرى عورة أخيه، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 217. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 63. والثاني أخرجه مسلم، في: باب الاعتناء بحفظ العورة، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 268. كما أخرجه داود، في الموضع السابق. (¬2) في: باب دخول الحمام، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1233.كما أخرجهما أبو داود، في: باب النهي عن التعري، من كتاب الحمام. سنن أبي داود 2/ 363. وأخرج الثاني الترمذي، في: باب ما جاء في دخول الحمام، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 246. والدارمي، في: باب في النهي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن اغْتَسَلَ عُرْيانًا بينَ النّاسِ لم يَجُزْ؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كان وَحْدَه جاز؛ لأنَّ موسى، - عليه السلام -، اغْتَسَلَ عُرْيانًا، وأيُّوبَ اغْتَسَلَ عُرْيانًا. رَواهما البُخارِيُّ (¬1). وإن سَتَرَه إنسانٌ بثَوْبٍ، فلا بَأْسَ، فقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَتِرُ بثَوْبٍ، ويَغْتَسِلُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ويُسْتَحَبُّ التَّسَتُّرُ وإِن كان خالِيًا، لقَوْلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَاللهُ أحَقُّ أنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» (¬3). وقد قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنِي أنْ يَدْخُلَ الماءَ إلَّا ¬

= عن دخول المرأة الحمام، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمي 2/ 281. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 41. 173، 199، 267. (¬1) في: باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة، من كتاب الغسل. وأخرج الأول في باب حدثني إسحاق بن نصر، من كتاب الأنبياء. والثاني في: باب قول الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 1/ 78، 4/ 184، 190، 9/ 175. كما أخرج الأول الترمذي في: تفسير سورة الأحزاب، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 12/ 96، 97. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 514، 515. وأخرج الثاني النسائي، في: باب الاستتار عند الاغتسال، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 165. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 314. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل، وباب نفض اليدين من الغسل عن الجنابة، وباب التستر في الغسل عند الناس، من كتاب الغسل، وفي: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب الصلاة، وفي: باب أمان النساء وجوارهن، من كتاب الجزية، وفي: باب ما جاء في زعموا، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 75، 77، 78، 100، 4/ 122، 8/ 46. ومسلم، في: باب تستر المغتسل بثوب ونحوه، من كتاب الحيض، وفي: باب استحباب صلاة الضحى إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 265، 266، 498. كما أخرجه النسائي، في: باب ذكر الاستتار عند الاغتسال، من كتاب الطهارة، وفي: باب الاغتسال في قصعة بها أثر العجين، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 105، 166. والترمذي، في: باب ما جاء في مرحبا، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذي 10/ 194. وابن ماجه، في: باب المنديل بعد الوضوء وبعد الغسل، وباب ما جاء في الاستتار عند الغسل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 158، 201. والدارمي، في: باب صلاة الضحى، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 339. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 155، 171، 421، 6/ 336. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب [ما جاء] في التعري، من كتاب الحمام. سنن أبي داود 2/ 364. والترمذي، في: باب ما جاء في حفظ العورة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 223، 238. وابن ماجه، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَتِرًا، إِنَّ للماءِ سُكّانًا. لأنَّه يُرْوَى عن الحسنِ، والحُسَينِ، أنَّهما دَخَلا الماءَ وعليهما بُرْدان، فقِيلَ لهما في ذلك، فقالا: إنَّ للماءِ سُكّانًا. ولأنَّ الماءَ لا يَسْتُرُ فتَبْدُوَ عَوْرَةُ مَن دَخَلَه عُرْيانًا. واللهُ أعلمُ. فصل: ويُجْزِئُه الوُضُوءُ والغُسْلُ مِن ماءِ الحَمّامِ. قال أحمدُ: لا بَأْسَ بالوُضُوءِ مِن ماءِ الحَمّام؛ وذلك لأنَّ الأصْلَ الطهارةُ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال: لا بَأْسَ أن يَأخُذَ مِن الأُنْبُوبَةِ. وهذا على سَبِيلِ الاحْتِياطِ، ولو لم يَفْعَلْه جاز؛ لأنَّ الأَصلَ الطهارةُ. وقد قال أحمدُ: ماءٌ الحَمّامِ عِنْدِي طاهِرٌ، وهو بمَنْزِلَةِ الماءِ الجارِي. وهل يُكْرَهُ اسْتِعْمالُه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُكْرَهُ، لأنَّه يُباشِرُه مَن يَتَحَرَّى ومَن لا يَتَحَرَّى. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ رِوايَةً عن أحمدَ. وقد روَى الأثْرَمُ عن أحمدَ، قال: منهم مَن يُشَدِّدُ فيه، ومنهم مَن يقولُ: هو بمَنْزِلَةِ الماءِ الجارِي. والثاني، لا يُكْرَهُ؛ لكَوْنِ الأصلِ طَهارَتَه، فهو كالماءِ الذي شَكَكْنا في نَجاسَتِه. واللهُ أعلمُ. قال شيخُنا (¬1): وقَوْلُه: هو بمَنْزِلَةِ الماءِ الجارِي. فيه دَلِيلٌ على أنَّ الماءَ الجارِيَ لا يَنْجُسُ إلا بالتَّغْيِيرِ؛ لأنَّه لو تَنَجَّسَ بمُجَرَّدِ المُلاقاةِ لم يكُنْ لكَوْنِه جاريًا أثَرٌ، وإنَّما جَعَلَه بمَنْزِلَةِ الماءِ الجارِي إذا كان الماءُ لفيضُ مِن الحَوْضِ ويَخْرُجُ، فإنَّ الذي يَأْتِي أخِيرًا يَدْفَعُ ما في الحَوْضِ، ويَثْبُتُ مَكانَه؛ بدَلِيلِ أنَّه لو كان ما في الحَوْضِ كَدِرًا، وتتابَعَتْ عليه دُفَعٌ مِن الماءِ صافِيًا، لزالتْ كُدُورَتُه. ¬

= باب التستر عند النكاح. من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 618. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 3، 4. وروى البخاري طرفه «الله أحق أن يستحيى منه من الناس». في: باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل، من كتاب الغسل (الترجمة). صحيح البخاري 1/ 78. (¬1) انظر: المغني 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بذِكْرِ اللهِ في الحَمّامِ؛ فإنَّ ذِكْرَه سبحانه حَسَنٌ في كلِّ مَكانٍ، ما لم يَرِدِ المَنْعُ منه، وقد رُوِيَ أنَّ أبا هُرَيرَةَ دَخَل الحَمّام، فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ. ورَوَتْ عائشةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَذْكُرُ اللهَ على كلِّ أحْيانِه. رَواه مسلمٌ (¬1). فأمّا قِراءَةُ القُرْآنِ فيه، فكَرِهَها أبو وائِلٍ (¬2)، والشَّعْبِيُّ، والحسنُ، ومَكْحُولٌ. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ عن عليٍّ وابنِ عُمَرَ؛ لأنَّه مَحَلٌّ للتَّكَشُّفِ، ويُفْعَلُ فيه ما لا يَحْسُنُ في غيرِه، فاسْتُحِبَّ صِيانَةُ القُرْآنِ عنه. ولم يَكْرَهْه النَّخَعِيُّ، ومالكٌ، لأنّا لا نَعْلَمُ حُجَّةً تُوجِبُ الكَراهَةَ، فأمّا رَدُّ السَّلامِ، فقال أحمدُ: ما سَمِعْتُ فيه شَيئًا. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ. والأوْلَى جَوازُه مِن غيرِ كَراهَةٍ؛ لعُمُومِ قَوْلِه - عليه السلام -: «أفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ» (¬3). ولأنَّه لم يَرِدْ فيه نَصٌّ، والأشْياءُ على الإِباحَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 110. (¬2) أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يره، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخلق من الصحابة والتابعين، ثقة، قال خليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين. وقال الواقدي: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. تهذيب التهذيب 4/ 361 - 363. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 74. والترمذي، في: باب ما جاء في فضل إطعام الطعام، من أبواب الأطعمة، وفي: باب حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، من أبواب صفة القيامة: عارضة الأحوذي 8/ 44، 45، 9/ 315. وابن ماجه، في: باب في الإيمان، من المقدمة، وباب ما جاء في قيام الليل، من كتاب الإقامة، وباب إطعام الطعام، من كتاب الأطعمة، وباب إفشاء السلام، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 1/ 26، 423، 2/ 1083، 1217. والدارمي، في: باب فضل صلاة الليل، من كتاب الصلاة، وفي: باب في إطعام الطعام، من كتاب الأطعمة، وفي: باب في إفشاء السلام، وباب في النهي عن الجلوس في الطرقات، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمي 1/ 341، 2/ 109، 275، 282. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 165، 167، 2/ 156، 170، 196, 391، 442، 495، 512.

باب التيمم

بَابُ التَّيَمُّمِ وَهُوَ بَدَلٌ لَا يَجُوزُ إلا بِشَرْطَينِ؛ أَحَدُهُمَا، دُخُولُ الْوَقْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ التَّيَمُّمِ التَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ: القَصْدُ. قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). وقال امْرُؤُ القَيسِ (¬2): تَيَمَّمَتِ العَينَ التي عندَ ضارِجٍ … يَفِئُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِى (¬3) وقولُ اللهِ تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬4). أي: اقْصِدُوه. ثم نُقِلَ في عُرْفِ الفُقَهاءِ إلى مَسْحِ الوَجْهِ واليَدَين بشيءٍ مِن الصَّعِيدِ، والأصْلُ فيه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقوْلُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ}. وأمّا السُّنَّةُ، فحَدِيثُ عَمّارٍ وغيرِه (¬5)، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ على جَواز التَّيمُّمِ في الجُمْلَةِ، وله شُرُوطٌ، وفَرائِضُ، وسُنَنٌ، ومُبْطِلاتٌ، تَأْتِي في أثْناءِ البابِ، إن شاء اللهُ تعالى. 165 - مسألة؛ قال: (وهو بَدَلٌ، لا يَجُوزُ إلا بشَرطَين؛ ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) ديوانه 476، في الشعر المنسوب إليه مما لم يرد في المخطوطات، وهو أيضًا في: اللسان (ض ر ج، ع ر م ض) 2/ 315، 7/ 187، ومعجم البلدان 3/ 460. (¬3) ضارج: مكان في الطريق من اليمن إلى المدينة. والعرمض: الطحلب الذي يعلو الماء. وطام: عال. (¬4) سورة المائدة 6. (¬5) تأتي هذه الأحاديث في المسألة 190، وانظر لها أيضًا: نصب الراية 1/ 148 وما بعدها.

فَلَا يَجُوزُ لِفَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَا لِنَفْلٍ فِي وَقْتِ النَّهْي عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، دُخُولُ الوَقْتِ، فلا يجوزُ لفَرْضٍ قبلَ وَقْتِه، ولا لنَفْلٍ في وَقْتِ النَّهْي عنه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الماءِ، إنَّما يَجُوزُ عندَ تَعَذُّرِ الطهارةِ بالماءِ؛ لعَدَمِه، أو مَرَضٍ، أو خَوْفٍ، أو نَحْوه؛ لقَوْلِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التُّرَابُ كَافِيكَ ما لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» (¬1). ولحَدِيثِ صاحِبِ الشَّجَّةِ (¬2)، وحديثِ عَمْرِو بنِ العاصِ (¬3)، وغيرِ ذلك. ويُشْتَرَطُ له ثلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، دُخُولُ الوَقْتِ، فلا يَجُوزُ لصلاةٍ مَفْرُوضَةٍ قبلَ دُخُولِ وَقْتِها، ولا لنافِلَةٍ في وَقتِ النَّهْي عنها؛ لأَنَّه ليس بوَقْتٍ لها، ولأَنَّه مُسْتَغْنٍ عن التَّيمُّمِ فيه، فأشْبَهَ ما لو تَيَمَّمَ عندَ وُجُودِ الماءِ، وإن كانت فائِتَةً، جازَ التَّيَمُّمُ لها في كلِّ وقتٍ؛ لجَوازِ فِعْلِها فيه. وهذا قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ التَّيَمُّم قبلَ وقتِ الصلاةِ؛ لأنَّها طهارةٌ مُشْتَرَطَةٌ للصلاةِ، فأُبِيحَ تَقْدِيمُها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 57. (¬2) يأتي تخريجه في صفحة 187. (¬3) يأتي تخريجه في صفحة 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الوَقْتِ، كسائِرِ الطَّهاراتِ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال: القِياسُ أنَّ التَّيَمُّمَ بمَنْزِلَةِ الطهارةِ حتى يَجدَ الماءَ، أو يُحْدِثَ. فعلى هذا يَجُوزُ قبلَ دُخُولِ الوَقْتِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّها طهارةُ ضَرُورَةٍ، فلم تَجُزْ قبلَ الوَقتِ، كطهارةِ المُسْتَحاضَةِ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بطهارةِ المُسْتَحاضَة، ويُفَارِقُ التَّيَمُّمُ سائِرَ الطَّهاراتِ؛ لكَوْنِها ليست لضَرُورَةٍ.

الثَّانِي، الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِعَدَمِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطُ (الثاني، العَجْزُ عن اسْتِعْمالِ الماءِ لعَدَمِه) لِما ذَكَرْنا. وعَدَمُ الماءِ إِنَّما يُشْتَرَطُ لمَن تَيَمَّمَ لعُذْرِ عَدَمِ الماءِ، دُونَ مَن تَيَمَّمَ لغيرِه مِن الأعْذارِ. الشَّرْطُ الثالثُ، طَلَبُ الماءِ، وفيه خِلافٌ نَذْكُرُه، إن شاء اللهُ. فصل: وعَدَمُ الماءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ في السَّفَرِ الطَّويلِ والقَصِيرِ. والطَّويلُ ما يُبِيحُ القَصْرَ، والقَصِيرُ ما دُونَه، مِثْلَ أن يَكُونَ بينَ قَرْيَتَين مُتَباعِدَتَين أو مُتَقارِبَتَين. قال القاضي: لو خَرَج إلى ضَيعَةٍ له تُفارِقُ البُنْيانَ والمنازِلَ، ولو بخمْسِين خُطْوَةً، جاز له التَّيَمُّمُ، والصلاةُ على الرّاحِلَةِ، وأكْلُ المَيتَةِ للضَّرُورَةِ. وهذا قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ. وقال قَوْمٌ: لا يُباحُ إلَّا في الطَّويلِ، قِياسًا على سائِرِ رُخَصِ السَّفَرِ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}. إلى قَوْلِه: {فَتَيَمَّمُوا} (¬1). فإِنَّه يَدُلُّ بمُطْلَقِه على إباحَةِ التَّيَمُّمِ في كلِّ سَفَرٍ، ولأنَّ السفرَ القَصِيرَ يَكْثُرُ، فيكثُرُ عَدَمُ الماءِ ¬

(¬1) سورة المائدة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فيُحْتاجُ إِلى التَّيَمُّمِ فيه، فيَنْبَغِي أن يَسْقُطَ به الفَرْضُ، كالطَّويلِ. والقِياسُ على رُخَصِ السَّفَرِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ يُباحُ في الحَضَرِ، على ما يَأْتِي، ولأنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، لا يَجُوزُ تَرْكُه، بخِلافِ سائِرِ الرُّخَصِ، [ولا فرْقَ بينَ سَفَرِ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، لا يَجُوزُ تَرْكُه، بخِلافِ بَقِيَّةِ الرُّخَصِ] (¬1). فإن تَيَمَّمَ وصَلَّى، فهل يُعِيدُ؟ ذَكَر القاضي فيه احْتِمالين؛ أَوْلاهُما، لا يُعِيدُ؛ لأنَّه عَزِيمَةٌ. فصل: فإن عَدِمَ الماءَ في الحَضَرِ، بأن انْقَطَع عنهم الماءُ، أو حُبِس وعَدِم الماءَ، تَيَمَّمَ وصَلَّى. وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفةَ، في رِوايَةٍ عنه: لا يُصَلِّي؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَطَ السَّفَرَ لجَوازِ التَّيَمُّمِ، فلا يَجُوزُ في غيرِه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن رجلٍ حُبِسَ في دارٍ، أو أُغْلِقَ (¬2) عليه البابُ [بمَنْزِلِ المُضِيفِ] (¬3)، ¬

(¬1) سقط من: «الأصل». (¬2) في الأصل: «واغلق». (¬3) في الأصل: «بمنزلة الضيف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيتَيَمَّمُ؟ قاك: لا. ولَنا، ما روَى أبو ذَرٍّ، أنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيرٌ» (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وهذا عامٌّ في السَّفَرِ وغيرِه، ولأنَّه عادِمٌ للماءِ، أشْبَهَ المُسافِرَ. فأمَّا الآيَةُ، فلَعَلَّ ذِكْرَ السَّفَرِ فيها خَرَج مَخْرَجَ الغالِبِ؛ لكَوْنِ الغالِبِ أنَّ الماءَ إنَّما يُعْدَمُ فيه, كما ذُكِر السَّفَرُ، وعَدَمُ وُجُودِ الكاتِبِ في الرَّهْنِ، ولَيسا شَرْطَين فيه، ثم إنَّ الآيةَ إنَّما تَدُلُّ على ذلك بدَلِيلِ الخِطابِ، وأبو حَنِيفَةَ لا يَقُولُ به، ولو كان حُجَّةً فالمَنْطُوقُ راجِحٌ عليه. فعلى هذا إذا تَيَمَّمَ في الحَضَرِ لعَدَمِ الماءِ، وصَلَّى، فهل يُعِيدُ إذا قَدَر على الماءِ؟ على رِوايَتَين؛ إحْداهُما، يُعِيدُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه عُذْرٌ نادِرٌ، فلا يَسْقُطُ به القَضاءُ، كالحَيضِ في الصَّوْمِ. والثانيةُ، لا يُعيدُ. وهو مذهبُ مالكٍ، لأنَّه أَتَى بما أُمِرَ به، فخَرَجَ عن العُهْدَةِ، ولأنَّه صَلَّى بالتَّيَمُّمِ المَشْرُوعِ على الوَجْهِ المشروعِ، فأشْبَهَ المَرِيضَ والمُسافِرَ، مع أنَّ عُمُومَ الخَبَرِ يَدُلُّ عليه. وقال أبو الخَطّابِ: إِن حُبِسَ في المِصْرِ صَلَّى. ولم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الجنب يتيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 80. والترمذي، في: باب التيمم للجنب إذا لم يجد ماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 192. والنسائي، في: باب الصلوات بتيمم واحد، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 139. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 146، 147، 155، 180.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَذْكرْ إعادَةً. وذَكَر الرِّوايَتَين في غيرِه. قال شَيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان عَدِمَ الماءَ لعُذْرٍ نادِرٍ، أو يَزُولُ قَرِيبًا، كرجلٍ أُغْلِقَ عليه البابُ، مِثْلَ الضَّيفِ وما أشْبَهَ هذا، فعليه الإِعادَةُ؛ لأنَّ هذا بمَنْزِلَةِ المُتَشاغِلِ بطَلَبِ الماءِ وتَحْصِيلِه. وإن كان عُذْرًا مُمْتَدًّا ويُوجَدُ كَثِيرًا؛ كالمَحْبُوسِ، ومَن انْقَطَعَ الماءُ مِن قَرْيَتِه، واحْتاجَ إلى اسْتِقاءِ الماءِ مِن مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ، فله التَّيَمُّمُ، ولا إعادَةَ عليه؛ لأنَّ هذا عادِمٌ للماءِ بِعُذْرٍ مُتَطاولٍ مُعْتادٍ، فهو كالمُسافِرِ، ولأنَّ عَدَمَ هذا للماءِ (¬2) أكْثَرُ مِن عَدَمِ المُسافِرِ له، فالنَّصُّ على التَّيَمُّمِ للمسافِرِ تَنْبِيهٌ على التَّيَمُّمِ ههُنا. وما قاله صحيحٌ. واللهُ تعالى أعلمُ. فصل: ومَن خَرَج مِن المِصْرِ إلى أرْضٍ مِن أعْمالِه؛ كالحَرّاثِ، والحَصّادِ، والحَطّابِ، وأشْباهِهم مِمَّن لا يُمْكِنُه حَمْلُ الماءِ معه لوُضُوئِه، فحَضَرَتِ الصلاةُ ولا ماءَ معه، ولا يُمْكِنُه الرُّجُوعُ ليَتَوَضَّأَ إلَّا بتَفْويتِ حاجَتِه، فله أن يُصَلِّيَ بالتَّيَمُّمِ، ولا إعادَةَ عليه؛ لأنَّه مُسافِرٌ، أشْبَهَ الخارِجَ إلى قَرْيَةٍ أُخْرَى. ويَحْتَمِلُ أن تَلْزَمَه الإِعادَةُ؛ لكَوْنِه في أرْضٍ مِن عَمَلِ المِصْرِ، أشْبَهَ المُقِيمَ فيه. فإن كانتِ الأرضُ التي خَرَج إليها مِن غيرِ أرْضِ قَرْيَتِه (¬3)، فلا إعادةَ عليه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه مُسافِرٌ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 312. (¬2) في م: «الماء». (¬3) في الأصل، م: «قريبة».

166 - مسألة؛ قال: (أو لضرر في استعماله؛ من جرح، أو برد شديد، أو مرض يخشى زيادته أو تطاوله)

أوْ لِضَرَرٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ، مِنْ جُرْحٍ، أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ، أَوْ مَرَضٍ يَخْشَى زِيَادَتَهُ أَوْ تَطَاوُلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَجِدْ إلَّا ماءً وَلَغَ فيه بَغْلٌ أو حِمارٌ، فرُوى عن أحمدَ، أنَّه قال: إِذا لم يَجِدْ غيرَ سُؤْرِهما تَيَمَّمَ معه، فيُقَدِّمُ الوُضُوءَ، ثم يَتَيَمَّمُ. نَصَّ عليه أحمدُ، ليَكُونَ عادِمًا للماءِ بيَقِينٍ. قال ابنُ عَقِيلٍ: ويَحْتَمِلُ في المَذْهَبِ أن يُصَلِّيَ بكلِّ واحِدٍ منهما، ليَحْصُلَ له تَأْدِيَةُ فَرْضِه بيَقِينٍ. فعلى هذا يُقَدِّمُ التَّيَمُّمَ، ويُصَلِّي ثم يَتَوَضَّأُ، لجَوازِ أن يكُونَ الماءُ نَجِسًا، ولا يَضُرُّ ههُنا تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ مع كَوْنِه مُسْقِطًا للفَرْضِ، كما إِذا اشْتَبَهَتِ الثِّيابُ. فإن أراد أن يُصَلِّيَ صلاةً أُخْرَى في وَقْتٍ واحِدٍ، لم يَحْتَجْ إِلى إعادَةِ الوُضُوءِ إذا لم يُحْدِثْ، لأنَّ الماءَ إن كان طاهِرًا، فالوُضُوءُ بحالِه، وإن كان نَجِسًا، فلا حاجَةَ إلى تَكْرارِ الوُضُوءِ بماءٍ نَجسٍ، ولا يَحْتاجُ في الصلاةِ الثانيةِ إِلى أن يَفْعَلَها مَرَّتَين؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ له تأْدِيَة فَرْضِه بيَقِينٍ؛ لأنَّ أعْضاءَه قد تَنَجَّسَتْ بالماءِ على تَقْدِيرِ نَجاسَتِه، هذا إذا كان مُسْتَدِيمًا للطهارةِ الأُولَى. ذَكَره ابنُ عَقِيلٍ، قال: ويُمْكِنُ تَأْدِيَتُه بيَقِين، بأن يَتَيَمَّمَ للحَدَثِ والنَّجاسَةِ، ويُصَلِّيَ؛ لأنَّه إن كان الماءُ طاهِرًا، فقد صَحَّتْ صَلاُته، وإن كان نَجِسًا، فقد تَيَمَّمَ للنَّجاسَةِ لي الحَدَثِ، فتَصِحُّ صلاتُه. 166 - مسألة؛ قال: (أو لضَرَرٍ في اسْتِعْمالِه؛ مِن جُرْحٍ، أو بَرْدٍ شَدِيدٍ، أو مَرَضٍ يَخْشَى زِيادَتَه أو تَطاوُلَه) هذه تَشْتَمِلُ على مَسائِلَ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، التَّيَمُّمُ لخَوْفِ البَرْدِ، متى أمْكَنَه تَسْخِينُ الماءِ، أو اسْتِعْمالُه على وجْهٍ يَأْمَنُ الضَّرَرَ، مثْلَ أنْ يَغْسِلَ عُضْوًا عضوًا، كُلَّما غَسَل شيئًا سَتَره، لَزِمَه ذلك. وإن لم يَقْدِرْ، تَيَمَّمَ وصَلَّى، في قَوْلِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال عَطاءٌ والحسنُ: يَغْتَسِلُ وإن مات. ومُقْتَضَى قَوْلِ ابنِ مسعودٍ نَحْوُ ذلك. ووَجْهُ الأوَّلِ قَوْلُه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1). ولِما روَى عَمْرُو بنُ العاصِ، قال: احْتَلَمْتُ في لَيلَةٍ بارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذاتِ السَّلاسِلِ، فَأشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أن أهْلِكَ، فتَيَمَّمْتُ، ثم صَلَّيتُ بأصحابِي الصُّبْحَ، فذَكَرُوا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يَا عَمْرُو، صَلَّيتَ بِأصْحَابِكَ، وَأنْتَ جُنُبٌ»؛ فأخْبَرْتُه بالذي مَنَعَنِي مِن الاغْتِسالِ، وقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ اللهَ عزَّ وجَلَّ يقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. فضَحِكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَقُلْ شيئًا. رَواه الخَلّالُ، وأبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء 29. (¬2) في: باب إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 81. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 203. وأخرجه البخاري في ترجمة باب إذا خاف على نفسه المرض إلخ، من كتاب التيمم. صحيح البخاري 1/ 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسُكُوتُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدُلُّ على الجَوازِ؛ لأنَّه لا يُقِرُّ على الخَطَأ. ولأنَّه خائِفٌ على نَفْسِه، أشْبَهَ المَرِيضَ. وهل تَلْزَمُه الإِعادَةُ، إذا قَدَر على اسْتِعْمالِ الماءِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا تَلْزَمُه، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، وأبي حَنِيفَةَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لحديثِ عَمْرٍو، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَأْمُرْه بإعادَةٍ، ولو وَجَبَتْ لَأمَرَه بها، فإنَّه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ. ولأنَّه خائِفٌ على نَفْسِه، أشْبَهَ المَرِيضَ. والثانيةُ، تَلْزَمُه الإِعادَةُ في الحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، لمحمدٍ؛ لأنَّه عُذْرٌ نادِرٌ غيرُ مُتَّصِلٍ، فلم يَمْنَعِ الإِعادَةَ، كنِسْيانِ الطهارةِ. قال الشيخُ (¬1): والأوَّلُ أصَحُّ. ويُفارِقُ نسْيانَ الطهارةِ، فإنَّه لم يَأْتِ بما أُمِرَ به، وإنما ظَنَّ أنَّه أتَي به، بخِلافِ مَسْأَلَتِنا. وقال الشافعيُّ: يُعِيدُ الحاضِرُ. لِما ذَكَرْنا، وفي المُسافِرِ قَوْلان. فصل: الثاني، الجَرِيحُ والمَرِيضٌ إذا خاف على نَفْسِه مِن اسْتِعْمالِ الماءِ، فله التَّيَمُّمُ. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ عباسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وطاوُسٌ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ, ومالكٌ، والشافعيُّ. وقال عَطاءٌ والحسنُ: لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا عندَ عَدَمِ الماءِ. ولَنا، قَوْلُ الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وحديثُ عَمْرِو بنِ العاصِ حينَ تَيَمَّمَ مِن خَوْفِ البَرْدِ. وحَدِيثُ صاحِبِ الشَّجَّةِ (¬2). ولأنَّه يُباحُ له التَّيَمُّمُ إذا خاف العَطَشَ، أو خاف مِن سَبُعٍ، فكذلك ههُنا؛ لأنَّ الخَوْفَ لا يَخْتَلِفُ، ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 340. (¬2) يأتي تخريجه في صفحة 187.

167 - مسألة: (أو عطش يخافه على نفسه، أو رفيقه، أو

أْو عَطَشٍ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ رَفِيقِهِ، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما اخْتَلَفَتْ جِهاتُه. واخْتَلَفُوا في الخَوْفِ المُبِيحِ للتَّيَمُّمِ؛ فرُويَ عن أحمدَ: لا يُبِيحُه إلَّا خَوْفُ التَّلَفِ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والصَّحِيحُ مِن لمَذْهَبِ، أنَّه يُباحُ له التَّيَمُّمُ إذا خاف زِيادَةَ المَرَضِ، أو تَباطُؤَ البُرْء، أو خاف شَيئًا فاحِشًا، أو ألَمًا غيرَ مُحْتَمَلٍ. وهذا مذهبُ أَبي حَنِيفَةَ، والقَوْلُ الثاني للشافعيِّ؛ لعُمُومِ قَوْلِه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} (¬1). ولأنَّه يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ إذا خاف ذهابَ شيءٍ مِن مالِه، أو ضَرَرًا في نَفْسِه؛ مِن لِصٍّ، أو سَبُعٍ، أو لم يَجِدِ الماءَ إلَّا بزِيادَةٍ كَثِيرَةٍ على ثَمَنِ مِثْلِه، فلَأن يَجُوزَ ههُنا أوْلَى. ولأنَّ تَرْكَ القِيامِ في الصلاةِ، وتَأْخِيرَ الصومِ في المَرَضِ، لا يَنْحَصِرُ في خَوْفِ التَّلَفِ، فكذا ههُنا. فأمّا المَرِيضُ والجَرِيحُ. الذي لا يَخافُ الضَّررَ باسْتِعْمالِ الماءِ، مِثْلُ مَن به الصُّداعُ والحُمَّى الحارَّةُ، وأمْكَنَه اسْتِعْمالُ الماءِ الحارِّ (¬2)، ولا ضَرَرَ عليه فيه، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّ إباحَةَ التَّيَمُّمِ لنَفْي الضَّرَرِ، ولا ضَرَرَ عليه. وحُكِيَ عن مالكٍ وداودَ، إباحَةُ التَّيَمُّمِ للمَرِيضِ مُطْلَقًا؛ لظاهِرِ الآيَةِ. ولَنا، أنَّه قادِرٌ على اسْتِعْمالِ الماءِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فأشْبَهَ الصَّحِيحَ، والآيَةُ اشْتُرِطَ فيها عَدَمُ الماءِ، فلم يَتَناوَلْ مَحَلَّ النِّزاعِ، على أنَّه لابُدَّ مِن إضْمارِ الضَّرُورَةِ، والضَّرورَةُ إنَّما تكُون عندَ الضَّرَرِ. 167 - مسألة: (أو عَطَشٍ يَخافُه على نَفْسِه، أو رَفِيقِه، أو ¬

(¬1) سورة المائدة 6. (¬2) في م: «الجاري».

بَهِيمَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَهيمَتِه) متى خاف العَطَشَ على نَفْسِه، جازَ له التَّيَمُّمُ، ولا إعادَةَ عليه إجْماعًا، قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ المُسافِرَ إذا كان معه ماءٌ، وخَشِيَ العَطَشَ، أنَّه يُبْقِي الماءَ للشُّرْبِ، ويَتَيَمَّمُ، منهم عليٌّ، وابنُ عباسٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهُم. وإن خاف على رَفِيقِه، أو رَقِيقِه، أو بَهائِمِه، فهو كما لو خاف على نَفْسِه؛ لأنَّ حُرْمَةَ رَفِيقِه كحُرْمَةِ نَفْسِه، والخائِفُ على بَهائِمِه خائِفٌ مِن ضَياعِ مالِه، وعليه ضَرَرٌ فيه، فجازَ له التَّيَمُّمُ، كالمَرِيضِ. وإن وَجَد عَطْشانَ يَخافُ تَلَفَه، لَزِمَه سَقْيُه، ويَتَيَمَّمُ. قِيلَ لأحمدَ: رجلٌ معه إداوَةٌ مِن ماءٍ للوُضُوءِ، فيَرَى قَوْمًا عِطاشًا، أحَبُّ إليك أن يَسْقِيَهُم، أو يَتَوَضَّأَ؟ قال: لا، بل يَسْقِيهِم. ثم ذَكَر عِدَّةً مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَيَمَّمُون، ويَحْبِسُون الماءَ لشِفاهِهم. وقال أبو بكرٍ والقاضي: لا يَلْزَمُه بَذْلُه، لأنَّه مُحْتاجٌ إليه. ولَنا، أنَّ حُرْمَةَ الآدَمِيِّ تُقَدَّمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الصلاةِ؛ بدَلِيلِ ما لو رأى حَرِيقًا، أو غَرِيقًا، عندَ ضِيقِ وَقْتِ الصلاةِ، لَزِمَه تَرْكُ الصلاةِ، والخُرُوجُ لإِنْقاذِه، فلَأَن يُقَدِّمَها على الطهارةِ بالماءِ أوْلَى، وقد رُويَ في حديثِ البَغِيِّ أنَّ اللهَ غَفَر لها بسَقْي الكَلْبِ عندَ العَطَشِ (¬1)، فإذا كان في سَقْي الكَلْبِ فالآدَمِيُّ أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب حدثنا أبو اليمان، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 4/ 211. ومسلم، في: باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1761. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 507.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا وَجَد الخائِفُ مِن العَطَشِ ماءً طاهِرًا، وماءً نَجِسًا، يَكْفِيه أحَدُهما لشُرْبِه، فإنَّه يَحْبِسُ الطّاهِرَ لشُرْبِه، ويُرِيقُ النَّجِسَ إنِ اسْتَغْنَى عنه. وقال القاضي: يَتَوَضَّأُ بالطّاهِرِ، ويَحْبِسُ النَّجسَ لشُرْبِه؛ لأنَّه وَجَدَ ماءً طاهِرًا يَسْتَغْنِي عن شُرْبِه، أشْبَهَ ما لو كان الكلَّ طاهِرًا. ولنا، أنَّه لا يَقْدِرُ على ما يَجُوزُ شُرْبُه والوُضُوءُ به إلَّا الطّاهِرَ، فجازَ له حَبْسُه لشُرْبِه، كما لو انْفَرَدَ. وإن وَجَدهُما وهو عَطْشانُ، شَرِب الطّاهِرَ، وأراقَ النَّجِسَ إذا اسْتَغْنَى عنه، سَواءٌ كان في الوَقْتِ أو قبلَه. وقال بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ: إن كان في الوَقْتِ شَرِب النَّجسَ؛ لأنَّ الطّاهِرَ مُسْتَحِقٌّ للطهارةِ، فهو كالمَعْدُومِ. ولا يَصِحُّ، لَأنَّ شُرْبَ النَّجِسِ حَرامٌ، وإنَّما يَصِيرُ الطّاهِرُ مُسْتَحِقًّا. للطهارةِ إذا اسْتَغْنَى عن شُرْبِه، وهذا غَيرُ مُسْتَغْنٍ عن شُرْبِه، فوُجُودُ النَّجِسِ كعَدَمِه.

168 - مسألة؛ قال: (أو خشية على [نفسه أو]

أَوْ خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ فِي طَلَبِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 168 - مسألة؛ قال: (أو خَشْيَةً على [نَفْسِه أو] (¬1) مالِه في طَلَبِه) متى خاف على نَفْسِه، أو مالِه في طَلَبِ الماءِ، كمَن بينَه وبينَ الماءِ سَبُعٌ أو عَدُوٌّ، أو حَرِيقٌ، أو لِصٌّ، فهو كالعادِمِ؛ لأنَّه خائِفٌ للضَّرَرِ باسْتِعْمالِه أو التَّلَفِ، فهو كالمَرِيضِ. ولو كان الماءُ بمَجْمَعِ الفُسّاقِ، تَخافُ المرأةُ على نَفْسِها منهم، فهي كالعادِمَةِ. وقد تَوَقَّفَ أحمدُ عن هذه المسألةِ. وقال ابنُ أبي موسى: تَتَيَمَّمُ، ولا إعادَةَ عليها في أصَحِّ الوَجْهَين. قال شَيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ جَوازُ التَّيَمُّمِ لها، وَجْهًا واحِدًا، ولا إعادَةَ ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) انظر: المغني 1/ 316.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، بل لا يَحِلُّ لها الخُرُوجُ إلى الماء؛ لِما فيه من التَّعَرُّضِ للزِّنَى، وهَتْكِ نَفْسِها وعِرضها، وتَنْكِيسِ رُؤُوسِ أَهْلِها، ورُبَّما أفْضَى إلى قَتْلِها، وقد أُبِيحَ لها التَّيَمُّمُ حِفْظًا للقَلِيلِ مِن مالِها المُباحِ لها بَذْلُه، وحِفْظَ نَفْسِها مِن زِيادَةِ مَرَضٍ، أو تباطُؤِ بُرْءٍ، فههُنا أوْلَى. وكذلك إن كان يَخافُ إذا ذَهَب إلى الماءِ شُرُودَ دابَّتِه، أو سَرِقَتَها، أو يَخافُ على أهْلِه لِصًّا، أو سَبُعًا، فهو كالعادِمِ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن كان خَوْفُه جُبْنًا، لا عن سَبَبٍ يُخافُ مِن مِثْلِه، كالذي يَخافُ باللَّيلِ وليس شيءٌ يُخافُ منه، لم يَجُزْ له التَّيَمُّمُ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال شَيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يُباحَ له التَّيَمُّمُ ويُعِيدَ، إِذا اشْتَدَّ خَوْفُه؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ الخائِفِ لسَبَب. ومَن كان خَوْفُه لسَبَبٍ ظَنَّه، مِثْلَ مَن رَأى سَوادًا ظَنَّه عَدُوًّا، فتَبَيَّنَ أنَّه ليس بعَدُوٍّ، أو رَأى كَلْبًا فظَنَّه نَمِرًا، فتَيَمَّمَ وصَلَّى، فبانَ خِلافُه، فهل تَلْزَمُه الإِعادَةُ؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا تَلْزَمُه الإِعادَةُ؛ لأنَّه أتَى بما أُمِرَ به، فخَرَجَ عن عُهْدَتِه. والثاني، تَلْزَمُه؛ لأنَّه تَيَمَّمَ مِن غيرِ سَبَبٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، أشْبَهَ مَن نَسِيَ الماءَ بمَوْضِعٍ يُمْكِنُه اسْتِعْمالُه. ¬

(¬1) في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن كان مَرِيضًا لا يَقدِرُ على الحَرَكَةِ، ولا يَجِدُ مَن يُناولُه الماءَ، فهو كالعادِمِ. قاله ابنُ أبي موسى. وهو قولُ الحسنِ؛ لأنَّه لا سَبِيلَ له إلى الماءِ، أَشْبَهَ مَن وَجَدَه في بِئرٍ ليس له ما يَسْتَقِى به [منها. وإن وَجَد مَن يُناولُه قبلَ خُرُوجِ الوَقْتِ، فهو كالواجِدِ في الحالِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ مَن يَجِدُ ما يَسْتَقِي به] (¬1) في الوَقْتِ. وإن خاف خُرُوجَ الوَقْتِ قبلَ مَجِيئِه، فقال ابنُ أبي موسى والحسنُ: له التَّيَمُّمُ، ولا إعادةَ عليه. لأنَّه عادِمٌ في الوَقْتِ، أشْبَهَ العادِمَ مُطْلَقًا، ويَحْتَمِلُ أن يَنْتَظِرَ مَجِئَ مَن يُناولُه؛ لأنَّه حاضِرٌ يَنْتَظِرُ حُصُولَ الماءِ، أَشْبَهَ المُشْتَغِلَ باسْتِقاءِ الماءِ وتَحْصِيلِه. ¬

(¬1) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَجَد بِئْرًا، وقَدَر على النُّزُولِ إلى مائِها مِن غيرِ ضَرَرٍ، أو الاغْتِرافِ بشيءٍ أو ثَوْبٍ يَبُلُّه ثم يَعْصِرُه، لَزِمَه ذلك وإن خاف فَوْتَ الوَقْتِ؛ لأنَّ الاشْتِغال به كالاشْتِغالِ بالوُضُوءِ. وحُكْمُ مَن في السَّفِينَةِ في الماءِ، كحُكْمِ واجِدِ البِئْرِ، إن لم يُمْكِنْه الوُصُولُ إلى الماءِ إلَّا بمَشَقَّةٍ، أو تَغْرِيرٍ بالنَّفْسِ، فهو كالعادِمِ. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ. [وإذا كان الماءُ مَوْجُودًا، إلَّا أنَّه إنِ اشْتَغَلَ بتَحْصِيله واسْتِعْمالِه فات الوَقْتُ، لم يُبَحْ له التَّيَمُّمُ، سَواءٌ كان حاضِرًا أو مُسافِرًا، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن الأوْزاعِيِّ والثَّوْرِيِّ، أنَّه يَتَيَمَّمُ. رَواه عنهما الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ (¬1). ورُوي عن مالكٍ وابنِ أبي ذِئْبٍ (¬2)، كقَوْلِ الجُمْهُورِ؛ لقولِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3). وهذا واجِدٌ، ولقَوْلِه، عليه السَّلامُ: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» (¬4). ولأنَّه قادِرٌ على الماءِ، فلم يَجُزْ له التَّيَمُّمُ، كما لو لم يَخَفْ فَوْتَ الوَقْتِ] (¬5). ¬

(¬1) أبو العباس الوليد بن مسلم، محدث الشام، صنف التصانيف، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائة. العبر 1/ 319. (¬2) أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة القرشي، ابن أبي ذئب، من فقهاء التابعين بالمدينة، توفي سنة تسع وخمسين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 67. (¬3) من الآية 43 من سورة النساء، والآية 6 من سورة المائدة. (¬4) تقدم تخريجه في 1/ 57. (¬5) زيادة من: «م».

169 - مسألة؛ قال: (أو تعذره إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله، أو ثمن يعجز عن أدائه)

أَوْ تَعَذُّرِهِ إلا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ ثَمَنٍ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 169 - مسألة؛ قال: (أو تَعَذُّرِه إلَّا بزِيادَةٍ كَثِيرَةٍ على ثَمَنِ مِثْلِه، أو ثَمَنٍ يَعْجِزُ عن أدائِه) وجُمْلَتُه، أنَّه متى وَجَد ماءً بثَمَنِ مِثْلِه في مَوْضِعِه، لَزِمَه شِراؤُه إذا قَدَر على الثَّمَنِ مع اسْتِغْنائِه عنه، لقُوتِه ومُؤْنَةِ سَفَرِه؛ لأنَّه قادِرٌ على اسْتِعْمالِه مِن غيرِ ضَرَرٍ. وكذلك إن كانتِ الزِّيادَةُ يَسِيرةً لا تُجْحِفُ بمالِه. ذَكَرَه أبو الخَطّاب؛ لِما ذَكَرْنا. وقال الشافعيُّ: لا يَلْزَمُه شِراوُّه مع الزِّيادَةِ، قَلِيلَةً كانت أَو كَثِيرَةً؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في الزِّيادَةِ، أشْبَهَ ما لو خاف لِصًّا يَأْخُذُ مِن مالِه ذلك المِقْدارَ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. وهذا واجِدٌ، فإِنَّ القُدْرَةَ على ثَمَنِ العَينِ كالْقُدْرَةِ على العينِ، في المَنْعِ مِن الانْتِقالِ إلى البَدَلِ، كما لو بِيعَتْ بثَمَنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِها؛ لأنَّ ضَرَرَ المالِ دُونَ ضَرَرِ النَّفْسِ، وقد قالوا في المَرِيضِ: يَلْزَمُه الغُسْلُ ما لم يَخَفِ التَّلَفَ. فتَحَمُّلُ الضَّرَرِ اليَسِيرِ في المالِ أحْرَى. وما ذَكَرُوه مِن الدَّلِيلِ يَبْطُلُ بما إذا كان بثَمَنِ المِثْلِ، فإن كان عاجِزًا عن الثَّمَنِ، فهو كالعادِمِ؛ [لأنَّهْ عاجِزٌ عن اسْتِعْمالِ الماءِ. وإن بُذِلَ له ثَمَنُه، لم يَلْزَمْه قَبُولُه؛ لأَنَّ فيه مِنَّةً. فأمّا إن وُهِبَ له ماءٌ، لَزِمَه قَبُولُه] (¬1)، لأنَّه قادِرٌ على اسْتِعمالِ الماءِ، ولا مِنَّةَ في ذلك في العادَةِ. فأمّا إن كانتِ الزِّيادَةُ كَثِيرَةً تُجْحِفُ بمالِه، لم يَلْزَمْه شِراؤُه، لأنَّ عليه ضَرَرًا كَثِيرًا، وإن كانت كثيرةً لا تُجْحِفُ يمالِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه شِراؤُه، لأنَّه واجِدٌ للماءِ، قادِرٌ عليه مِن غيرِ إجْحافٍ بمالِه، فلَزِمَه اسْتِعْمالُه، للآيَةِ، وكما لو كانتِ الزِّيادَةُ يَسِيرَةً. والثاني، لا يَلْزَمُه، لأنَّ فيه ضَرَرًا، ولِما ذَكَرْنا في الزِّيادَةِ اليَسِيرَةِ. ¬

(¬1) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن بُذِلَ له بثَمَنِ في الذِّمَّةِ يَقْدِرُ على أدائِه في بَلَدِه، فقال القاضي: يَلْزَمُه شِراؤُه، لأنَّه قادِرٌ على أخْذِه بما لا مَضَرَّةَ فيه. وقال الآمِدِيُّ: لا يَلْزَمُه، لأنَّ عليه ضَرَرًا في بَقاءِ الدَّينِ في ذِمَّتِه، ورُبَّما تَلِفَ مالُه قبلَ أدَائِه. وهو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى. وإن لم يَكُنْ له في بَلَدِه ما يُؤدِّي ثَمَنَه، لم يَلْزَمْه شِراؤُه، لأنَّ عليه ضَرَرًا. وإن لم يَبْذُلْه له، وكان فاضِلًا عن حاجَتِه، لم يَجُزْ له أخْذُه منه قَهْرًا؛ لأنَّ الضَّرُورَةَ لا تَدْعُو إليه، ولأنَّ هذا له بَدَلٌ، وهو التَّيَمُّمُ، بخِلافِ الطَّعامِ في المَجاعَةِ.

170 - مسألة: (فإن كان بعض بدنه جريحا، تيمم له وغسل الباقي)

فَإِنْ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ جَرِيحًا تَيَمَّمَ لَهُ وَغَسَلَ الْبَاقِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 170 - مسألة: (فإن كان بَعْضُ بَدَنِه جَرِيحًا، تَيَمَّمَ له وغَسَل الباقِيَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الجَرِيحَ والمَرِيضَ إذا أمْكَنَه غَسْلُ بَعْضِ بَدَنِه دُونَ بعضٍ، لَزِمه غَسْلُ ما أمْكَنَه غَسْلُه، وتَيَمَّمَ للباقِي. وهو قَوْلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ ومالكٌ: إن كان أكثَرُ بَدَنِه صَحِيحًا، غَسَلَه ولا يَتَيَمَّمُ، وإن كان أكثرُه جَرِيحًا، تَيَمَّمَ ولا غُسْلَ عليه؛ لأنَّ الجَمْعَ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ لا يَجِبُ، كالصِّيامِ والإِطْعامِ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ، قال: خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصابَ رَجُلًا مِنّا شَجَّةٌ في وَجْهِه، ثم احْتَلَمَ، فسأل أصْحابَه: هل تَجِدُونَ لي رُخْصَةً في التَّيَمُّمِ؟ قالوا: ما نَجِدُ لك رُخْصَةً، وأنت تَقْدِرُ على الماءِ. فاغْتَسَلَ، فمات، فلَمّا قَدِمْنا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بذلك، فقال: «قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمُ اللهُ، ألَّا سَألُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فإنَّمَا شِفَاءُ الْعيِّ السُّؤّالُ، إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصبَ عَلَى جُرْحِهِ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيهِ، ثُمَّ يَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّها شَرْطٌ مِن شَرائِطِ الصلاةِ، فالعَجْزُ عن بَعْضِها لا يُسْقِطُ جَمِيعَها، كالسِّتارَةِ، وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالمَسْحِ على الخُفَّين مع غَسْلِ بَقِيَّةِ الأعْضاءِ. فأمّا الذي قاسُوا عليه، فإنَّه جَمْعٌ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ في مَحلِّ ¬

(¬1) في: باب في المجروح يتيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ، بخِلافِ مَسْألَتِنا، فإنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَمّا لم يُصِبْه الماءُ (¬1). وكلُّ ما لا يُمْكِنُ غَسْلُه مِن الصَّحِيحِ إلَّا بانْتِشارِ الماءِ إلى [الجَرِيحِ، حُكْمُه حُكْمُ الجَرِيحِ، فإِن لم يُمْكِنْه ضَبْطُه، وقَدَر أن يَسْتَنِيبَ مَن يَضْبِطُه، لَزِمَه ذلك، فإن] (¬2) عَجَز تَيَمَّم، وصَلَّى، وأجْزأه، لأنَّه عَجَز عن غَسْلِه، فأجْزأه التَّيَمُّم عنه، كالجَرِيحِ. فصل: ولا يَلْزَمُه أن يَمْسَحَ على الجُرْحِ بالماءِ إذا أمْكَنَه ذلك، سَواءٌ كان مَعْصُوبًا أوْ لا. هذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. وقال ابنُ عَقِيل: نَصَّ أحمدُ في رِوايَةِ صالِحٍ، في المَجْرُوحِ إذا خاف: مَسَح مَوْضِعَ الجُرْحِ، وغَسَلَ ما حَوْلَه. لقَوْلِه - عليه السلام -: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬3). لأنَّه عَجَز عن غَسْلِهَ، وقَدَر على مَسْحِه، وهو بَعْضُ ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) سقط من: «الأصل». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 9/ 117. ومسلم، في: باب فرض الحج مرة في العمر، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 975. والنسائي، في: باب وجوب الحج، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 83. وابن ماجه، في: باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 1. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 247، 258، 313، 314، 355، 448، 457، 467، 482، 495، 508.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَسْلِ، فوَجَبَ الإِتْيانُ بما قَدَر عليه، كمَن عَجَز عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقَدَر على الإِيماءِ. ووَجْهُ القوْلِ الأوَّلِ؛ أنَّه مَحَلٌّ واحِدٌ، فلا يَجْمَعُ فيه بينَ المَسْحِ والتَّيَمُّمِ، كالجَبِيرَةِ، فإذا قُلْنا: يَجِبُ المَسْحُ على مَوْضِعِ الجُرْحِ، فهل يَتَيَمَّمُ معه؟ على رِوايَتَين؛ إحْداهُما، لا يَتَيَمَّمُ، كالجُرْحِ المَعْصُوبِ عليه، والجَبِيرَةِ على الكَسْرِ. والثانيةُ، عليه التَّيَمُّمُ؛ لأنَّ المَسْحَ بَعْضُ الغَسْلِ، فيَجِبُ أن يَتَيَمَّمَ للباقِي. ويُفارِقُ هذا الجَبِيرَةَ؛ لأنَّ الفَرْضَ فيها انْتَقَلَ إلى الحائِلِ، فهي كالخُفَّينِ. فصل: فإن كانت جميعُ أعْضاءِ الوُضُوءِ قَرِيحَةً، تَيَمَّمَ لها، فإن لم يُمْكِنْه التَّيَمُّمُ، صَلَّى على حَسَبِ حالِه، وفي الإِعادةِ رِوايَتان، كمَن عَدِمَ الماءَ والتُّرابَ، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاء اللهُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كان الجَرِيحُ جُنُبًا فهو مُخَيِّرٌ، إن شاء قَدَّمَ التَّيَمُّمَ على الغُسْلِ، وإن شاء أخَّرَه، بخِلافِ ما إذا كان التَّيَمُّمُ لعَدَمِ ما يَكْفِيه لطَهارَتِه، فإنَّه يَلْزَمُه اسْتِعْمالُ الماءِ أوَّلًا، لأنَّ التَّيَمُّمَ للعَدَم، ولا يَتَحَقَّقُ مع وُجُودِ الماءِ، وههُنا التَّيَمُّمُ للعَجْزِ، وهو مُتَحَقِّقٌ على كلِّ حالٍ. ولأنَّ الجَرِيحَ يَعْلَمُ أنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن غَسْلِ الجُرْحِ، والعادِمُ لا يَعْلَمُ القَدْرَ الذي يَتَيَمَّمُ له إلَّا بعدَ اسْتِعْمالِ الماءِ، فلَزِمَه تَقْدِيمُ اسْتِعْمالِه. وإن كان الجَرِيحُ يَتَطَهَّرُ للحَدَثِ الأصْغَرِ، فذَكَرَ القاضي أنَّه يَلْزَمُه الترتِيبُ، فيَجْعَلُ التَّيَمُّمَ في مَكانِ الغَسْلِ الذي يَتَيَمَّمُ بَدَلًا عنه. فإن كان الجُرْحُ في الوَجْهِ، بحيث لا يُمْكِنُه غَسْلُ شيءٍ منه، تَيَمَّمَ أوَّلًا، ثم أتمَّ الوُضُوءَ. وإن كان في بَعْضِ وَجْهِه خُيِّر بينَ غَسْلِ الصَّحِيحِ مِنه ثم يَتَيَمَّمُ وبينَ التَّيَمُّمِ، ثم يَغْسِلُ صَحِيحَ وَجْهِه ويُتِمُّ الوُضُوءَ. وإن كان الجُرْحُ في عُضْوٍ آخَرَ، لَزِمَه غَسْلُ ما قَبْلَه، ثم كان فيه على ما ذَكَرْنا في الوَجْهِ. وإن كان في وَجْهِه ويَدَيه ورِجْلَيه، احْتاجَ في كلِّ عُضْوٍ إلى تَيَمُّمٍ في مَحَلِّ غَسْلِه، ليَحْصُلَ التَّرتِيبُ، ولو غَسَل صَحِيحَ وَجْهِه، ثم تَيَمَّم له وليَدَيه تَيَمُّمًا واحِدًا، لم يُجْزِه؛ لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤَدِّي إلى سُقُوطِ الفَرْضِ عن جُزْءٍ مِن الوَجْهِ واليَدَين في حالٍ واحِدَةٍ. فإن قِيل: هذا يَبْطُلُ بالتَّيَمُّمِ عن جُمْلَةِ الطهارةِ، [حيث يَسْقُطُ الفَرْضُ عن جميعِ الأعْضاءِ جُمْلَة واحِدَةً. قُلْنا: إذا كان عن جُمْلَةِ الطهارةِ] (¬1)، فالحُكْمُ له دُونَها، وإن كان عن بَعْضِها، نابَ عن ذلك البَعْضِ، فاعْتُبِر فيه ما يُعْتَبَرُ فيما يَنُوبُ عنه مِن الترتِيب. قال شَيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ هذا التَّرتِيبُ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ طهارة مُفْرَدَة، فلا يَجِبُ الترتِيبُ بينَها وبينَ الطهارةِ الأُخْرَى،؛ لو كان الجَرِيحُ جُنُبًا، ولأنَّه تَيَمَّمَ عن الحَدَثِ الأصْغَرِ، فلم (¬3) يَجِبْ أن يَتَيَمَّمَ عن كلِّ عُضْوٍ في مَوْضِع غَسْلِه، كما لو تَيَمَّمَ عن جُمْلَةِ الوُضُوءِ، ولأنَّ فيه حَرَجًا، فيَنْدَفِعُ بقَوْلِه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬4). وحَكَى الماوَرْدِيُّ (¬5)، عن مَذْهَبِ الشافعيِّ مِثْلَ هذه، وحَكَى ابنُ الصَّبّاغِ (¬6) عنه مِثْلَ القَوْلِ الأوَّلِ. والله تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: «الأصل». (¬2) انظر: المغني 1/ 338. (¬3) في م: «فلا». (¬4) سورة الحج 78. (¬5) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي، إمام جليل الشأن، وهو صاحب «الحاوي» و «أدب الدنيا والدين» و «الأحكام السلطانية»، توفي سنة خمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 267 - 285. (¬6) أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد، ابن الصباغ، الشافعي، صاحب «الشامل» في فقه الشافعية، و «الكامل» في الخلاف بين الشافعية والحنفية، توفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 122 - 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن تَيَمَّمَ الجَرِيحُ لجُرْحٍ في بعضِ أعْضائِه، ثم خَرَج الوَقْتُ، بَطَل تَيَمُّمُه، ولم تَبْطُلْ طَهارَتُه بالماءِ إن كان غُسْلًا للجَنابَةِ أو نَحْوها؛ لأنَّ الترتِيبَ والمُوالاةَ غيرُ واجِبَين فيها. وإن كانت وُضُوءًا، وكان الجُرْحُ في وَجْهِه، فإن قُلْنا: يَجِبُ التَّرْتِيبُ بينَ التَّيَمُّمِ والوُضُوءِ. بَطَل الوُضوءُ ههُنا؛ لأنَّ طهارةَ العُضْو الذي نابَ التَّيَمُّمُ عنه بَطَلَتْ، فلو لم يَبْطُلْ [ما بعدَه لتَقَدَّمَتْ طهارةُ ما بعدَه عليه، فيَفُوتُ التَّرتِيبُ. فإن قُلْنا: لا يَجِبُ التَّرتِيبُ. لم يَبْطُلِ] (¬1) الوُضُوءُ، ويجوزُ (¬2) له التَّيَمُّمُ لا غيرُ. وإن كان الجُرْحُ في رِجْلَيه، فعلى قَوْلِنا: لا يَجِبُ التَّرْتِيبُ. لا تَجِبُ المُوالاةُ بينَهما أيضًا، وعليه التَّيَمُّمُ وَحْدَه. وإن قُلْنا: يَجِسبُ التَّرْتِيبُ. فيَنْبَغِي أن يُخَرَّجَ وُجُوبُ المُوالاةِ ههُنا على وُجُوبِها في الوُضُوءِ، وفيها رِوايَتان؛ فإن قُلْنا: تَجِبُ في الوُضُوءِ. بَطَل الوُضُوءُ ههُنا؛ لفَواتِها، وإن قُلْنا: لا تَجِبُ. كَفاه التَّيَمُّمُ وَحْدَه، قال شَيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ المُوالاةُ بينَ الوُضُوءِ والتَّيَمُّمِ وَجْهًا واحِدًا، لأنَّهُما. طَهارَتان، فلم تَجِبِ المُوالاةُ بَينَهما، كسائِرِ الطَّهاراتِ، ولأنَّ في إيجابِها حَرَجًا، فيَنْتَفِي بقَوْلِه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ¬

(¬1) سقط من: «الأصل». (¬2) في م: «جوز». (¬3) انظر: المغني 1/ 338.

171 - مسألة؛ قال: (وإن وجد فاء يكفي بعض بدنه، لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا. وإن كان محدثا، فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين)

وَإنْ وَجَدَ مَاءً يَكْفِي بَعْضَ بَدَنِهِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَتَيَمَّمَ لِلْبَاقِي إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 171 - مسألة؛ قال: (وإن وَجَدَ فاءً يَكْفِي بَعْضَ بَدَنِه، لَزِمَه اسْتِعْمالُه، وتَيَمَّمَ للباقِي إنْ كان جُنُبًا. وإن كان مُحْدِثًا، فهل يَلْزَمُه اسْتِعْمالُه؟ على وَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه إذا وَجَد الجُنُبُ ماءً يَكْفِي بَعْضَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَدَنِه، لَزِمَه اسْتِعْمالُه، وتَيَمَّمَ للباقِي. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن وَجَد ماءً يَكْفِيه لوُضُوئِه وهو جُنُبٌ، قال: يَتَوَضَّأُ، ويَتَيَمَّمُ. وهذا قَوْلُ عَطاءٍ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال الحسنُ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذرِ،. والقَوْلُ الثاني للشافعي: يَتَيَمَّمُ ويَتْرُكُهُ، لأنَّ هذا الماءَ لا يُطَهِّرُه، فلم يَلْزَمْه اسْتِعْمالُه، كالمُسْتَعْمَلِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. وخَبَرُ أبي ذَرٍّ (¬1)، شَرَط في التَّيَمُّمِ عَدَمَ الماءِ. وقَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أمَرتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». رَواه البُخارِيُّ (¬2). ولأنَّه وَجَد ما يُمْكِنُه اسْتِعْمالُه في بَعْضِ جَسَدِه، أشْبَهَ ما لو كان أكثَرُ جَسَدِه صَحِيحًا وباقِيه جَرِيحًا؛ ولأنَّه قَدَر على بَعْضِ الشَّرْطِ، فلَزِمَه؛ كالسُّتْرَةِ، وإزالةِ النَّجاسَةِ، والحُكْمُ الذي ذَكَرُوه في المُسْتَعْمَلِ مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّم؛ فلأنَّه لا يُطَهِّرُ شيئًا منه، بخِلافِ هذا. ويجِبُ عليه اسْتِعْمالُ الماءِ قبلَ التَّيَمُّم؛ ليَتَحَقَّقَ العَدَمُ، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 166، 182. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَجَدَه المُحْدِثُ الحَدَثَ الأصْغَرَ، فهل يَلْزَمُه استعمالُه؟ على وَجْهَين، أحَدُهما، يَلْزَمُه اسْتِعْمالُه. اخْتارَه القاضي، لِما ذَكَرْنا في الجُنُبِ، وكما لو كان بَعْضُ بَدَنِه صَحِيحًا، وبَعْضُه جَرِيحًا. والثاني، لا يَلْزَمُه، لأنَّ المُوالاةَ شَرْطٌ فيه، فإذا غَسَل بَعْضَ الأعْضاءِ دُونَ بعضٍ، لم يُفِدْ، بخِلافِ الجَنابَةِ. وكذلك لو وَجَد الماءَ في الجَنابَةِ، أجْزأه غَسْلُ ما لم يَغْسِلْه فقط، وفي الحَدَثِ الأصْغَرِ يَلْزَمُه اسْتِئْنافُ الطهارةِ، وفارَقَ ما إذا كان بَعْضُ أعْضائِه صَحِيحًا وبعْضُه جَرِيحًا، لأنَّ العَجْزَ ببعضِ البَدَنِ يُخالِفُ العَجْزَ ببعضِ الواجِبِ، لأنَّ مَن بَعْضُه حُرٌّ إذا مَلَك بجُزْئِه الحُرِّ رَقَبَةً لَزِمَه إعْتاقُها في كَفَّارَتِه، ولو مَلَك الحُرُّ بَعْضَ رَقَبَةٍ لم يَلْزَمْه إعْتاقُه. وللشافعيِّ قَوْلان كَهذَين. والصَّحِيح أنَّه يَلْزَمُه اسْتِعْمالُه، لِما ذَكَرْنا مِن

172 - مسألة، قال: (ومن عدم الماء لزمه طلبه في رحله، وما

ومَن عَدِم الماءَ لَزِمَه طَلَبُه في رَحْلِه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأدِلَّةِ فيما إذا كان جُنُبًا قِياسًا عليه، وكما لو كان بَعْضُ أعْضائِه صَحِيحًا، وما ذَكَرُوه؛ مِن أنَّ العَجْزَ ببَعْضِ الواجِبِ يُخالِفُ العَجْزَ ببعضِ البَدَنِ، يَبْطُل بالجُنُبِ. وقَوْلُهم: إنَّه إذا وَجَد الماءَ في الحَدَثِ الأصْغَرِ، يَلْزَمُه اسْتِئْنافُ الطهارةِ. قُلْنا: هذا لا يَمْنَعُ وُجُوبَ اسْتِعْمالِ الماءِ، كالجَرِيحِ. وإن مَنَعُوا ذلك ثَمَّ، فهذا في مَعْناه. واللهُ أعلمُ. وإن قُلْنا: لا تَجِبُ المُوالاةُ في الوُضُوءِ. فهو كالجُنُبِ سَواءٌ. 172 - مسألة، قال: (ومَن عَدِم الماءَ لَزِمَه طَلَبُه في رَحْلِه، وما

وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، فَإِنْ دُلَّ عَلَيهِ قَرِيبًا لَزِمَهُ قَصْدُهُ. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ الطَّلَبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَرُبَ منه، فَإِنْ دُلَّ عليه قَرِيبًا، لَزِمَه قَصْدُه. وعَنْه، لا يَجِبُ الطَّلَبُ) المَشْهُورُ عن أحمدَ، رَحِمه اللهُ، اشْتِراطُ طَلَبِ الماء؛ لصِحَّةِ التَّيَمُّمِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ورُوي عنه: لا يُشْتَرَطُ الطَّلَبُ. وهو مذهبُ أَبي حنيفةَ؛ لقَوْلِه، عليه السَّلامُ: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» (¬1). ولأنَّه غيرُ واجِدٍ للماءِ قبلَ الطَّلَبِ، أشْبَهَ مَن طَلَب فلم يَجِدْ، ووَجْهُ الأولَى قَوْلُه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقالُ: لم يجدْ. إلَّا لمَن طَلَب؛ لجَوازِ أن يكُونَ بقُرْبِه ماءٌ لا يَعْلَمُه، ولأنَّه بَدَلٌ فلم يَجُزِ العُدُولُ إليه قبلَ طَلَبِ المُبْدَلِ، كالصيامِ في الظِّهارِ، ولأنَّه سَبَبٌ للصلاةِ (¬1) مُخْتَصٌّ بها، فلَزِمَه الاجْتِهادُ في طَلَبِه عندَ الإِعْوازِ، كالقِبْلَةِ. إذا ثَبَت هذا فصِفَةُ الطَّلَبِ أن يَطْلُبَ في رَحْلِه، وما قَرُب منه، وإن رَأى خُضْرَةً أو شَيئًا يَدُلُّ على الماءِ قَصَده فاسْتَبْرَأه، وإن كان بقُرْبِه رَبْوَةٌ أو شيءٌ قائِمٌ أتاه فطَلَبَ عندَه، ويَنْظرٌ وراءَه وأمامَه، وعن يَمِينِه وشِمالِه، وإن كانت له رُفْقَةٌ يُدِلُّ عليهم طَلَب منهم، وإن وَجَد مَن له خِبْرَةٌ بالمَكانِ سَألَه، فإن لم يَجِدْ تَيَمَّمَ، فإن دُلَّ على ماءٍ قَرِيبٍ لَزِمَه قَصْدُه، ما لم يَخَفْ على نَفْسِه أو مالِه، أو يَخْشَى فَواتَ رُفْقَتِه، ولم يَفتِ الوَقْتُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في م: «في الصلاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما يكونُ الطَّلَبُ بعدَ الوَقْتِ، فإن طَلَب قبلَه، لَزِمَه إعادَةُ الطَّلَبِ بعدَه. ذَكَره ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّه طَلَب قبلَ المُخاطَبَةِ بالتَّيمُّمِ، فلم يَسْقُطْ فَرْضُه، كالشَّفِيعِ إذا طَلَب الشُّفْعَةَ قبلَ البَيعِ. وإن طَلَب بعدَ الوَقْتِ، ولم يَتَيَمَّمْ عَقِيبَه، جاز التَّيَمُّمُ بعدَ ذلك مِن غيرِ تجْدِيدِ طَلَبٍ. فصل: إذا كان معه ماءٌ فأراقَه قبلَ الوَقْتِ، أو مَرَّ بماءٍ قبلَ الوقتِ، فتَجاوَزَه، وعَدِم الماءَ في الوَقْتِ، صَلَّى بالتَّيمُّمِ مِن غيرِ إعادَةٍ. وهو قَوْلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ. وقال الأوْزاعِيُّ: إن ظَنَّ أنَّه يُدْرِكُ الماءَ في الوَقْت، كقَوْلِنا (¬1)، وإلَّا صَلَّى بالتَّيَمُّمِ (¬2) وعليه الإِعادَةُ؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ. ولَنا، أنَّه لم يَجِبْ عليه اسْتِعْمالُه، أشْبَهَ ما لو ظَنَّ أنَّه يُدْرِكُ الماءَ في الوَقْتِ. فأمّا إن أراقَ الماءَ في الوَقْتِ، أو مَرَّ به في الوَقْتِ فلم يَسْتَعْمِلْه، ثم عَدِم الماءَ، تَيَمَّمَ وصَلَّى. وفي الإِعادَةِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُعِيدُ؛ لأنَّه صَلَّى بتَيَمُّمٍ صَحِيحٍ، فهو كما لو أراقَه قبلَ الوَقْتِ. والثاني، يُعِيدُ؛ لأنَّه وَجَبَتْ عليه الصلاةُ بوُضُوءٍ، وهو فَوَّتَ القُدْرَةَ على نَفْسِه، فبَقِيَ في عُهْدَةِ الواجِبِ، ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) بعده في م: «من غير إعادة كقولنا وإلا صلى بالتيمم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن وَهَبَه بعدَ دُخولِ الوَقْتِ لم تَصِحَّ الهِبَةُ. ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّه تَعَلَّقَ به حَقُّ الله تِعالى، فلم تَصِحَّ هِبَتُه، كالأُضْحِيَةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ. والأوَّلُ أوْلَى. فإن تَيَمَّمَ مع بَقاءِ الماءِ لم يَصِحَّ تَيَمُّمُه، لأنَّه واجِدٌ للماءِ، وإن تَصَرَّفَ فيه المَوْهُوبُ له (¬1)، فهو كما لو أراقَه، إلَّا أن يَهَبَه لمُحْتاجٍ إلى شُرْبِه مِن العَطَشٍ، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) سقطت من: الأصل.

173 - مسألة: (وإن نسى الماء بموضع يمكنه استعماله، وتيمم، لم يجزئه)

وَإِنْ نَسِي الْمَاءَ بِموْضِعٍ يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ وَتَيَمَّمَ لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 173 - مسألة: (وإن نَسِىَ الماءَ بمَوْضِعٍ يُمْكِنُه اسْتِعْمالُه، وتَيَمَّمَ، لم يُجْزِئْه) نَصَّ عليه أحمدُ، وقَطعَ أنَّه لا يُجْزِئُه، وقال: هذا واجِدٌ للماءِ. ورُوي عنه التَّوَقُّفُ في هذه المسأَلةِ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. وهو آخِرُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ وابنُ المُنْذِرِ: يُجْزِئه. وعن مالكٍ كالمَذْهَبين. وعنه، أنَّه يُعِيدُ ما دام في الوَقْتِ؛ لأنَّه مع النِّسْيانِ غيرُ قادِرٍ على اسْتِعْمالِ الماءِ، أشْبَهَ العادِمَ. ولنا، أنَّها طهارةٌ تَجِبُ مع الذِّكْرِ، فلم تَسْقُطْ بالنِّسْيانِ، كما لو صَلَّى ناسِيًا لحَدَثِه، ثم ذَكر، أو صَلَّى الماسِحُ، ثم بان له انْقِضاءُ مُدَّةِ المَسْحِ قبلَ الصلاةِ، ويُفارِقُ ما قاسُوا عليه؛ فإنَّه غيرُ مُفَرِّطٍ، وههُنا هو (¬1) مُفَرِّطٌ بتَرْكِ الطَّلَبِ. ¬

(¬1) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ضَلَّ عن رَحْلِه الذي فيه الماءُ، أو كان يَعْرِفُ بِئْرًا فضاعَتْ عنه، ثم وَجَدَها، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن يكُونَ كالنَّاسِي. والصَّحِيحُ أنَّه لا إعادَةَ عليه. وهو قولُ الشافعيِّ، لأنَّه ليس بواجدٍ للماءِ، فيَدْخُل في عُمُومِ قولِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ولأنَّه غيرُ مُفَرِّطٍ، بخِلافِ النّاسِي. وإن كان الماءُ مع عَبْدِه، فنَسِيَه العبدُ حتى صَلَّى سَيِّدُه، احْتَمَلَ أن يكونَ كالنّاسِي، واحْتَمَل أن لا يُعِيدَ، لأنَّ التَّفْرِيطَ مِن غيرِه. فإن صَلَّى، ثم بأن أنَّه كان بقُرْبِه بِئْرٌ أو ماءٌ، فإن كانت أعْلامُه ظاهِرَةً، فعليه الإِعادَةُ، لأنَّه مُفَرِّطٌ، وإن كانت خَفِيَّةً، وطَلَب فلم يَجِدْها، فلا إعادَةَ عليه؛ لعَدَمِ التَّفْرِيطِ. واللهُ أعلمُ.

174 - مسألة: (ويجوز التيمم لجميع الأحداث، وللنجاسة على جرح تضره إزالتها)

وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ لجَمِيعِ الْأَحدَاثِ، وَلِلنَّجَاسَةِ عَلَى جُرْحٍ تَضُرُّهُ إِزَالتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 174 - مسألة: (ويَجُوزُ التَّيَمُّمُ لجَميعِ الأحْداثِ، وللنَّجاسَةِ على جُرْحٍ تَضُرُّه إزالتُها) يجُوزُ التَّيَمُّمُ للحَدَثِ الأصْغَرِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، إذا وُجِدَتِ الشَّرائِطُ، لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ. ويَجُوزُ للجَنابَةِ، في قَوْلِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عليٌّ، وابنُ عباسٍ، وعَمْرُو بنُ العاصِ، وأبو موسى الأشْعَرِيُّ، وعَمّارٌ. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي. وكان ابنُ مسعودٍ لا يَرَى التَّيَمُّمَ للجُنُبِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ نَحْوُه عن عُمَرَ (¬1)، رَضِي اللهُ عنهما. والدَّلِيلُ على إباحَتِه ما رَوَى عِمْرانُ بنُ حُصَينٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا مُعْتَزِلًا، لم يُصَلِّ مع القَوْمِ، فقال: «يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ»؟ فقال: أصابَتْنِي جَنابَةٌ، ولا ماءَ. فقال: «عَلَيكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وحَدِيثُ أبي ذَرٍّ (¬3)، وعَمْرِو بنِ العاصِ (¬4)، وحديث صاحِبِ الشَّجَّةِ (¬5)، ولأنَّه حَدَثٌ أشْبَهَ الحَدَثَ الأصْغَرَ. وحُكْمُ الحائِضِ إذا انْقَطع دَمُها حُكْمُ الجُنُبِ. فصل: ويَجُوزُ التَّيَمُّمُ للنَّجاسَةِ على بَدَنِه إذا عَجَز عن غَسْلِها؛ لخَوْفِ الضَّرَرِ، أو لعَدَمِ (¬6) الماءِ، قال أحمدُ: هو بمنزِلَةِ الجُنُبِ، يَتَيَمَّمُ. رُوِيَ نَحْوُ ذلك عن الحسنِ. وقال الأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ: يَمْسَحُها بالتُّرابِ ويُصَلِّي، لأنَّ طهارةَ النَّجاسَةِ إنَّما تكُونُ في مَحَلِّ النَّجاسةِ دُونَ غيره. وقال أكثرُ الفُقَهاءِ: لا يَتَيَمَّمُ للنَّجاسَةِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما وَرَد بالتَّيَمُّمِ للحَدَثِ، وغَسْلُ النَّجاسَةِ ليس في مَعْناه؛ لأنَّ الغَسْلَ إنَّما يكونُ ¬

(¬1) في الأصل: «ابن عمر». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، وباب حدثنا عبدان، من كتاب التيمم. صحيح البخاري 1/ 93، 96. ومسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 474. كما أخرجه النسائيُّ، في: باب التيمم بالصعيد، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 139. والدارمي، أي: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 190. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 434. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 166. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 173. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 187. (¬6) في م: «عدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَحَلِّ النَّجاسَةِ دُون غيرِه، ولأنَّ مَقْصُودَ الغَسْلِ إزالةُ النَّجاسَةِ، ولا يَحْصُلُ ذلك بالتَّيَمُّمِ. ووجْهُ الأوَّلِ، قَوْلُه عليه السَّلامُ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» (¬1). وقَوْلُه: «جُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» (¬2). ولأنَّها طهارةٌ في البَدَنِ تُرادُ للصلاةِ، فجاز لها التَّيَمُّمُ قِياسًا على الحَدَثِ. ويُفارِقُ الغَسْلُ التَّيَمُّمَ؛ فإنَّه في طهارةِ الحَدَثِ يُؤْتَى به في غيرِ مَحَلِّه، فيما إذا تَيَمَّمَ لجُرْحٍ في رِجْلِه، بخِلافِ الغَسْلِ. قَوْلُهم: لم يَرِدْ به الشَّرْعُ. قُلْنا: هو داخِلٌ في عُمُومِ الأخْبارِ. إذا ثَبَت هذا، فتَيَمَّمَ وصَلَّى، فهل تَلْزَمُهْ الإِعادَةُ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا تجِبُ عليه الإِعادَةُ؛ لأنَّه أتَى بما أُمِرَ به. والثانيةُ، تجبُ عليه؛ لأنَّه صلَّى مع النَّجاسَةِ، أشْبَهَ إذا لم يَتَيَمَّمْ. واخْتارَ أبو الخَطّابِ وُجوب الإِعادةِ فِيما إذا تَيَمَّمَ لعَدَمِ الماءِ، بخِلافِ ما إذا كانتِ النَّجاسَةُ على جُرْحٍ؛ لأنَّه خائِفٌ للضَّرَرِ باسْتِعْمالِ الماءِ، أشْبَهَ المَرِيضَ. وقال أصحابُنا: لا تَلْزَمُه الإِعادَةُ فيهما؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «التُّرَابُ كَافيكَ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ». وقِياسًا على طهارةِ الحَدَثِ، وكما لو تَيَمَّمَ للنَّجاسَةِ على الجُرْحِ عندَ أبي الخَطّابِ. فأمّا إن كانتِ النَّجاسَةُ على ثَوْبِه، لو يَتَيَمَّمْ لها؛ لأنَّ التَيّمَّمَ طهارةٌ في البَدَنِ، فلا تَنُوبُ عن غيرِ البَدَنِ، كالغَسْلِ. فصل: إذا ثبت أنه تيمم للنجاسة، فقال القاضي: يحتمل أن لا يحتاج ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 192. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 180. وانظر المغني 1/ 19. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 34.

وَإنْ تَيَمَّمَ لِلنَّجَاسَةِ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَصَلَّى، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيهِ، إلا عِنْدَ أَبي الْخَطَّابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى نِيَّةٍ، لأنَّ غَسْلَها لا يَفْتَقِرُ إلى نِيَّةٍ، كذلك التَّيَمُّمُ لها، وقِياسًا على الاسْتِجْمارِ. قال ابنُ عَقِيل: ويَحْتَمِلُ أنْ يُشْتَرَطَ، لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). ولأنَّ التَّيَمُّمَ طهارةٌ حُكْمِيَّةٌ، وغَسْلُ النَّجاسَةِ بالماءِ طهارةٌ عَينِيَّةٌ، فجاز أن تُشْتَرَطَ النِّيَّةُ في الحُكْمِيَّةِ دُونَ العَينِيَّةِ؛ لِما بَينَهما مِن الاخْتِلافِ. فصل: وإن اجْتَمَعَ عليه نَجاسَةٌ وحَدَثٌ، ومعه ماءٌ يَكْفِي أحَدَهما حَسْبُ، قَدَّمَ غَسْلَ النَّجاسَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ، ورُوي عن سُفْيانَ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لأنَّ التَّيَمُّمَ للحَدَثِ ثابِتٌ بالإِجْماعِ، والتَّيَمُّمُ للنَّجاسَةِ مُخْتَلَفٌ فيه. وإن كانتِ النَّجاسَةُ على ثَوْبِه، قَدَّمَ غَسْلَها، وتَيَمَّمَ للحَدَثِ. وحُكِي عن أحمدَ، أنَّه يَدَعُ الثَّوْبَ ويَتَوَضَّأُ، لأنَّه واجِدٌ للماءِ، والوُضوءُ أشَدُّ مِن الثَّوْبِ. وحَكاه أبو حنيفةَ، عن حَمّادٍ في الدَّم. والأوَّلُ أوْلَى؛ لما ذَكَرْنا، ولأنَّه إذا قُدِّمَتْ نَجاسَةُ البَدَنِ مع أنَّ للتَّيَمُّمِ فيها مَدْخَلًا، فتَقْدِيمُ طهارةِ الثَّوْبِ وليس له فيها مَدْخَلٌ أوْلَى. وإنِ اجْتَمَعَ نَجاسَةٌ على الثَّوْبِ، ونجاسةٌ على البَدَنٍ، غَسَل الثَّوْبَ، وتَيَمَّمَ لنَجاسَةِ البدنِ، لأنَّ للتَّيَمُّمِ فيها مَدْخَلًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 151.

175 - مسألة: (وإن تيمم في الحضر خوفا من البرد وصلى، ففي وجوب الإعادة روايتان)

وَإنْ تَيَمَّمَ في الْحَضَرِ خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ وَصَلَّى، فَفِي وُجُوبِ الإعَادَةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 175 - مسألة: (وإن تَيَمَّم في الحَضَرِ خَوْفًا مِن البَرْدِ وصَلَّى، ففي وُجُوبِ الإِعادَةِ رِوايَتان) إحْداهُما؛ تجبُ عليه الإِعادَةُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الحَضَرَ مَظِنَّةُ إسْخانِ الماءِ، ودُخُولِ الحَمّاماتِ، فهو عُذْرٌ نادِرٌ، بخِلافِ السَّفَرِ. والثانيةُ، لا إعادَةَ عليه، لأنَّه خائِفٌ، أشْبَهَ المَرِيضَ والمُسافِرَ.

176 - مسألة: (فإن عدم الماء والتراب، صلى على حسب حاله)

وَلَوْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرابَ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 176 - مسألة: (فإن عَدِم الماءَ والتُّرابَ، صَلَّى على حَسَبِ حالِه) في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه لا يُصَلِّي حتى يَقْدِرَ على أحَدِهما. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والْأوزاعِيِّ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّها عِبادَة لا تُسْقِطُ القَضاءَ، فلم تَجِبْ، كصِيامِ الحائِضِ. وقال مالكٌ: لا يُصَلِّي، ولا يَقْضِي؛ لأنَّه عَجَز عن الطهارةِ، فلم تَجِبْ عليه الصلاةُ، كالحائِضِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذه رِوايَة مُنْكَرَةٌ عن مالكٍ. وذَكَر عن أصحابِه قَوْلَين؛ أحَدُهما كقَوْلِ أبي حنيفةَ. والثّاني، يُصَلِّي

وَفِي الإعَادَةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُعِيدُ. ولَنا، ما روَى مسلمٌ في «صَحِيحِه» (¬1)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَث أُناسًا لطَلَب قِلادَةٍ أضَلَّتْها عائشةُ، فحَضَرتِ الصلاةُ، فصَلَّوْا بغيرِ وُضُوءٍ، فأتَوْا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذَكَرُوا ذلك له، فنَزَلَتْ آيةُ التَّيَمُّم، ولم يُنْكِرِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولا أمَرَهم بإعادَةٍ، فدَلَّ على أنَّها غيرُ واجِبَةٍ. ولأنَّ الطهارةَ شَرْطٌ فلم تُوخَّرِ الصلاةُ عندَ عَدَمِه، كالسُّتْرَةِ. إذا ثَبَت هذا، فصَلَّى، ثم وَجَد الماءَ أو (¬2) التُّرابَ، لم تَجِبْ عليه الإِعادَةُ في أصَحِّ الرِّوايَتَين؛ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ، ولأنَّه أتَى بما أُمِرَ، فوَجَب أن يَخْرُجَ عن العُهْدَةِ، ولأنَّه أحَدُ شُرُوطِ الصلاةِ، فسَقَطَ عندَ العَجْزِ، كسائِرِ شُرُوطِها. والثانيةُ، تجبُ عليه الإِعادَةُ. وهو مذهبُ الشافعيُّ؛ لأنَّه فَقَد شَرْطَ الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو صَلَّى بالنَّجاسَةِ. والأولَى أوْلَى؛ لما ذَكَرْنا، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. ¬

(¬1) في: باب التيمم، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 279. وأخرجه أيضًا البخاري، في: باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا، من كتاب التيمم، وفي: باب فضل عائشة، رضي الله عنها، من كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي: باب تفسير سورة النساء، من كتاب التفسير، وفي: باب استعارة الثياب للعروس وغيرها، من كتاب النكاح، وفي: باب استعارة القلائد، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 1/ 92، 5/ 37، 6/ 57، 7/ 29، 204. وأبو داود، في: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 76. والنسائي، في: باب في من لم يجد الماء ولا الصعيد، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 140. وابن ماجه، في: باب ما جاء في السبب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 188. والدارمي، في: باب التيمم مرة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 190، 191. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 57. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا قِياسُ أبي حنيفةَ على الحائِضِ في تَأْخِيرِ الصيامِ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الصومَ يَدْخُلُه التَّأْخِيرُ، بخِلافِ الصلاةِ؛ لأنَّ المُسافِرَ يُؤخِّرُ الصومَ دُونَ الصلاةِ. ولأنَّ عَدَمَ الماءِ لو قام مُقامَ الحَيضِ لأسْقَطَ الصلاةَ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّ قِياسَ الصلاةِ على جِنْسِها أوْلَى مِن قِياسِها على الصومِ، وقِياسُ مالكٍ لا يَصِحُّ؛ لمُخالفَتِه لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). ولأنَّ قِياسَ الطهارةِ على شَرائِطِ الصلاةِ أوْلَى مِن قِياسِه على الحائِضِ، والحَيضُ عُذْرٌ مُعْتادٌ يَتَكَرَّرُ، والعَجْزُ ههُنا عُذْرٌ نادِرٌ، فلا يَصِحُّ إلْحاقُه بالحَيضِ؛ لأنَّ النّادِرَ لا يَشُقُّ إيجابُ القَضاءِ فيه، بخِلافِ المُعْتادِ، ولأنَّه عُذْرٌ نادِرٌ فلم يُسْقِطِ الفَرْض، كنِسْيانِ الصلاةِ وفَقْدِ سائِرِ الشُّرُوطِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 188.

177 - مسألة: (ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد)

وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلا بِتُرَابٍ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِاليَدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 177 - مسألة: (ولا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا بتُرابٍ طاهِرٍ له غُبارٌ يَعْلَقُ باليَدِ) لأنَّ الله تعالى قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ}. قال ابنُ عباسٍ: الصَّعِيدُ: تُرابُ الحَرْثِ، والطَّيِّبُ: الطّاهِرُ. وقال سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ}. وما لا غُبارَ له،. لا يُمْسَحُ بشيءٍ منه. وبه قال الشافعيِّ، وإسْحاقُ، وأبو يُوسُفَ، وداودُ. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: يَجُوزُ بكلِّ ما كان مِن جِنْسِ الأرْضِ، كالنُّورَةِ، والزِّرْنِيخَ (¬1)، والحِجارَةِ. وقال الأوْزاعِيُّ: الرَّمْلُ مِن الصَّعِيدِ. وقال حَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ: لا بَأْسَ أن يَتَيَمَّمَ بالرُّخامِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». رَواه البخاري (¬2). ولأنَّه مِن جِنْسِ الأرْضِ، فجاز التَّيَمُّمُ به، كالتُّرابِ. ولَنا، أنَّ الله تعالى أمَر بالصَّعيدِ، وهو التُّرابُ، وقال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ}. ولا يَحْصُلُ المَسْحُ بشيءٍ منه، إلَّا أن يكُونَ ذا غُبارٍ يَعْلَقُ باليَدِ، وعن عليٍّ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ أنْبِيَاءِ اللهِ؛ جُعِلَ لِيَ التُّرَابُ طَهُورًا». وذَكر الحَدِيثَ، رَواه الشافعيُّ في «مُسْنَدِه» (¬3). ولو كان غيرُ التُّرابِ ¬

(¬1) الزرنيخ: حجر، منه ألوان عدة، يستعمله النقاشون والصيادلة. انظر: الجامع لمفردات الأدوية 2/ 160. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 206. (¬3) لم نجده في مسند الشافعي المطبوع بحاشية الجزء السادس من الأم، ولا في ترتيب مسند الشافعي للسندي. وهو في مسند الإمام أحمد 1/ 98، 158. وأخرجه البيهقي في: باب الدليل على أن الصعيد الطيب هو التراب، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 213. وانظر: التلخيص الحبير 1/ 148، نصب الراية 1/ 158، الفتح الرباني 2/ 188، والمغني 1/ 325 حاشية 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَهُورًا، ذَكَرَه فيما مَنَّ اللهُ به عليه. ولأنَّ الطهارةَ اخْتَصَّتْ بأعَمِّ المائِعاتِ وُجُودًا، وهو الماءُ، فَتخْتَصُّ بأعَمِّ الجامِداتِ وُجودًا، وهو التُّرابُ، وحَدِيثُهم نَخُصُّه بحَدِيثنا. فصل: فأمّا السَّبَخةُ، فعن أحمدَ، أنَّه يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بها. رَواها عنه أبو الحارِثِ، أنَّه قال: أرْضُ الحَرْثِ أحَبُّ إليَّ، وإن تَيَمَّمَ مِن أرْضِ السَّبَخةِ أجْزأه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، والأوْزاعِيِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقوْلِه عليه السلامُ: «وَجُعِلَتْ تربَتُهَا طَهُورًا» (¬1). وعن أحمدَ، في الرَّمْلِ، والنُّورَةِ، والجِصِّ، نَحْوُ ذلك. وحَمَل القاضي قولَ أحمدَ، في جَوازِ التَّيَمُّم بذلك إذا كان له غُبارٌ، والمَوْضِع الذي مَنَع إذا لم يَكُنْ لها غُبارٌ. وعنه قولٌ ثالِثٌ، أنه يجوزُ ذلك مع الاضْطِرارِ خاصَّةً. رَواه عنه ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب مواضع الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِنْدِيٌّ (¬1). وقال الخَلّالُ: إنَّما سَهَّل أحمدُ فيها مع الاضْطِرارِ، إذا كانت غبَرَةً كالتُّرابِ، فأمّا إذا كانت قَحْلَةً (¬2) كالمِلْحِ، فلا يَتَيَمَّمُ بها أصْلًا. وقال ابنُ أبي موسى: يَتَيَمَّمُ عندَ عَدَم التُّرابِ بكلِّ طاهِرٍ تَصاعَدَ على وَجْهِ الأرْضِ، مِثْلَ الرَّمْلِ والسَّبَخَةِ والنُّورَةِ والكُحْلِ، وما في مَعْنَى ذلك، ويُصَلِّي، وهل يُعِيدُ؟ على رِوايَتَين. فصل: وإن دُقَّ الخَزَفُ أو الطِّينُ المُحْرَقُ لم يَجُزِ التَّيَمُّم به، لأنَّ الطَّبْخَ أخْرَجَه عن أن يَقَعَ عليه اسمُ التُّرابِ، وكذا إن نُحِت المَرْمَرُ والكذّانُ (¬3) حتى صار غُبارًا، لم يَجُزِ التَّيَمُّم به، لأنَّه غيرُ تُرابٍ. وإن دُقَّ الطِّينُ الصُّلْبُ كالأرْمَنِيِّ، جازَ التَّيَمُّم (¬4) به، لأنَّه تُرابٌ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يُخَرَّجُ عندِي فيه وَجْهان، لشَبَهِه بالمَعادِنِ، فهو كالنُّورَةِ. وإن ضَرَب بيَدِه على لِبْدٍ، أو ثَوْبٍ، أو في شَعِيرٍ، أو نَحْوه، فعَلِقَ بيَدَيه غُبارٌ، فتَيَمَّمَ به، جازَ. نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك لو ضَرَب بيَدِه على صَخْرَةٍ ¬

(¬1) سندي هو أبو بكر الخواتيمي البغدادي، سمع من الإمام أحمد مسائل صالحة. وهو من جوار أبي الحارث، الذي تقدم ذكره منذ قليل، مع أبي عبد الله أحمد بن حنبل. طبقات الحنابلة 1/ 170، 171. (¬2) القحل: اليبس. (¬3) المرمر: نوع من الرخام. والكذان، ككتان: حجارة رخوة كالمدر. (¬4) في م: «تيممه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو حائِطٍ أو حَيَوانٍ، أو أيِّ شيءٍ كان، فصارَ على يَدَيه غُبارٌ، بدَلِيلِ ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَب يَدَيه على الحائِطِ، ومَسَح بهما وَجْهَه، ثم ضَرَب ضَرْبَةً أخْرَى، فمَسَحَ ذِراعَيه. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ المَقْصُودَ التُّرابُ الذي يَمْسَحُ به وَجْهَه ويَدَيه، وقد رُوِيَ عن مالكٍ وأبي حنيفةَ، التَّيَمُّم بصَخْرَةٍ لا غُبارَ عليها، وتُرابٍ نَدِء لا يَعْلَقُ باليَدِ منه غُبار. وأجازَ مالك التَّيَمُّمَ بالثَّلْجِ والحَشِيش، وكلِّ ما تَصاعَدَ على وَجْهِ الأرْضِ، ومَنَع مِن التَّيَمُّمِ بغُبارِ اللِّبْدِ والثَّوْبِ، قال: لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا ضَرب بيَدَيه نَفَخَهُما. ولَنا، قولُه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيدِيكُم مِنْهُ}. و «مِنْ» للتبعِيضِ، فيَحْتاجُ أن يَمْسَحَ بجُزْءٍ منه، والنَّفْخُ لا يُزِيل الغُبارَ المُلاصِقَ، وذلك يَكْفِي. وروَى الأثرَمُ، عن عُمَرَ أنَّه قال: لا يَتَيَمَّمُ بالثَّلْجِ، فإنْ لم يَجِدْ فضَفَّةُ (¬2) فرَسِه أو مَعْرَفَةُ (¬3) دابَّتِه. ¬

(¬1) في: باب التيمم في الحضر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 79. (¬2) في م: «فصفحة». وضفة الشيء: جانبه. (¬3) معرفة دابته: منبت عرفها من رقبتها. النهاية 3/ 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا التُّرابُ النَّجِسُ فلا يجُوزُ التَّيَمُّم به، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا أنَّ الأوْزاعِيَّ قال: إن تَيَمَّمَ بتُرابِ المَقْبَرَةِ وصَلَّى، مَضَتْ صَلاتُه. ولَنا، قولُه تعالى: {فتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًّا}. والنَّجِسُ ليس بطَيِّبٍ. ولأنَّ التَّيَمُّمَ طهارةٌ، فلم تَجُزْ بغيرِ طاهرٍ، كالوُضُوءِ، فأمّا المَقْبَرةُ، فإن كانت لم تُنْبَشْ، فتُرابُها طاهِرٌ، وإن تَكَرَّرَ نَبْشُها والدَّفْنُ فيها، لم يَجُزِ التَّيَمُّم بتُرابِها، لاخْتِلاطِه بصَدِيدِ المَوْتَى ولُحُومِهم. ذَكَر ذلك شَيخُنا (¬1). وقال ابنُ عَقِيلٍ، في التُّربَةِ المَنْبُوشَةِ: لا يجُوزُ التَّيَمُّم منها، سَواءٌ تَكَرَّرَ النبشُ، أم لا. وإن شَكَّ في ذلك، أو في نَجاسَةِ التُّرابِ الذي يَتَيَمَّمُ به، جاز التَّيَمُّم به، لأنَّ الأصْلَ الطهارةُ، فهو كما لو شَكَّ في نَجاسَةِ الماءِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ، فيما إذا لم يَعْلَمْ حال المَقْبَرَةِ، وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَجُوزُ، لِما ذَكَرْنا. والثاني، لا يجوزُ، لأنَّ الظّاهِرَ مِن الدَّفْنِ فيها حُصُولُ النَّجاسة في بَعْضِها، فيَشْتَبِهُ بغيرِه، والمُشْتَبِهُ لا تَجُوزُ الطهارةُ به، كالأوانِي. قال ابنُ عَقِيلٍ: ويُكْرَهُ الوُضوءُ مِن البِئْرِ التي في المَقْبَرَةِ، وأكْلُ البَقْلِ وثَمَرِ الشَّجَرِ الذي فيها، كالزُّرُوعِ التي تُسَمَّدُ بالنَّجاسَةِ، وكالجَلالةِ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 334.

178 - مسألة: (فإن خالطه ذو غبار لا يجوز التيمم به، كالجص ونحوه، فهو كالماء إذا خالطته الطاهرات)

فإِنْ خَالطَهُ ذُو غُبَارٍ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّم بِهِ، كَالْجَصِّ وَنَحْوهِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ إذَا خَالطَتْهُ الطَّاهِرَاتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أن يَتَيَمَّمَ جماعة مِن مَوْضِعِ واحدٍ، بغيرِ خِلافٍ، كما يجوزُ أن يَتَوَضَّئُوا مِن حَوْض واحدٍ، فأمّا التُّرابُ الذي يَتَناثر مِن الوَجْهِ واليَدَين بعدَ مَسْحِهِما به، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يَجُوزُ التَّيَمُّم به؛ لأنَّه لم يَرْفَع الحَدَثَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. والثاني، لا يَجُوزُ، لأنَّه مُسْتَعْمَلٌ في طهارةٍ أباحَتِ الصلاةَ، أشْبَهَ الماءَ المُسْتَعْمَلَ في الطهارةِ. وللشافعيِّ وَجْهَان كهَذَين. وكذلك التُّرابُ الذي بَقِي على وَجْهِ المُتَيَمِّمِ ويَدَيه، إذا مَسَح غيرُه به أعْضاءَ تَيَمُّمِه، كالماءِ المُسْتَعْمَلِ. 178 - مسألة: (فإن خالطَه ذُو غُبارٍ لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ به، كالجَصِّ ونَحْوه، فهو كالماءِ إذا خالطَتْه الطاهِراتُ) إن كانتِ الغَلَبَةُ للتُّرابِ جازَ، وإن كانت للمُخَالِطِ لم يَجُزْ. ذَكَره القاضي وأبو الخَطّابِ، قِياسًا على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الماءِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَمْنَعُ التَّيَمُّمَ به، وإن كان قَلِيلًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه رُبَّما حَصَل في العُضْو، فمَنَعَ وُصُولَ التُّرابِ إليه، بخِلافِ الماءِ، فإنَّ المائِعَ يُسْتَهْلَكُ فيه، فلا يَجْرِى على العُضْو إلَّا ومعه جزْءٌ مِن الماءِ. فأمّا إن كان المُخالِطُ لا يَعْلَقُ باليَدِ، لم يَمْنَعْ؛ لأنَّ أحمدَ قد نَصَّ على جَوازِ التَّيَمُّمِ مِن الشَّعِيرِ، وذلك لأنَّه لا يَحْصُلُ على اليَدِ مِنه ما يَحُولُ بينَ الغُبارِ وبينَها. فصل: فإن خالطَه نَجاسَةٌ، فقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يجُوزُ التَّيَمُّم به، وإن كَثُر التُّرابُ، لأنَّ الترابَ لا يَدْفَعُ النَّجاسَةَ عن نَفْسِه، فهو كالمائِعاتِ، تَتَنَجَّسُ بالنَّجاسَةِ وإن كَثُرَتْ. فصل: وإن كان في طِين لا يَجِدُ تُرابًا، فحُكِيَ عن ابنِ عباس أنَّه يَأخُذُ الطِّينَ، فيَطْلِي به جَسَدَه، فإذا جَفَّ تَيَمَّمَ به. وإن خاف فَواتَ الوَقْتِ قبلَ جَفافِه، فهو كالعادَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان يَجِفُّ قَرِيبًا، انتظَرَ جَفافَه وإن فاتَ الوَقْتُ، كالمُشْتَغِلِ بتَحْصِيلِ الماءِ مِن بِئْرٍ ونَحْوه. وإن لَطَخ وَجْهَه بطِينٍ، لم يُجْزِه، لأنَّه لا يَقَعُ عليه اسمُ الصَّعِيدِ، ولأنَّه لا غُبارَ فيه، أشْبَهَ التُّرابَ النَّدِي.

فَصْلٌ: وَفَرَائِضُ التَّيَمُّمِ أرْبَعَةٌ؛ مَسْحُ جَمِيعِ وَجْهِهِ، وَيَدَيهِ إِلَى كُوعَيهِ، والترتِيبُ، وَالمُوَالاةُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وفَرائِضُ التَّيَمُّمِ أربعةٌ، مَسْحُ جَمِيعِ وَجْهِه، ويَدَيه إلى كُوعَيه، والترتِيبُ، والمُوالاةُ على إحْدَى الرِّوايَتَين) لا خِلافَ في وُجُوبِ مَسْحِ الوَجْهِ والكَفَّين في التَّيَمُّمِ، لقَوْلِه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُم منْهُ}. ويَجِبُ اسْتِيعابُ الوَجْهِ والكَفَّين بالمَسْحِ، فيَمْسَحُ ما يَأتِي عليه الماءُ، إلَّا المَضْمَضَةَ والاسْتِنْشاقَ، وما تحتَ الشُّعُور

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَفِيفَةِ. وهذا قولُ الشافعي. وقال سُلَيمانُ بنُ داودَ (¬1): يُجْزِئُه إذا لم يُصِبْ إلا بَعْضَ (1) وَجْهِه وبعضَ كَفَّيه. ولَنا، قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُم}. والباءُ للإِلْصاقِ، فصار كأنَّه قال: فامْسَحُوا وُجُوهكم وأيدِيَكُم. فيَجِبُ تَعْمِيمُهما، كما وَجَب تَعْمِيمُهما بالغَسْلِ؛ لقَوْلِه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ}. فإن بَقِي مِن مَحَلِّ الفَرْضِ شيءٌ لم يَصِلْه التُّرابُ، أمَرَّ يَدَه عليه ما لم يَفْصِلْ راحَتَه، فإن فَصَل راحَتَه، وكان قد بَقِى عليها غُبارٌ، جاز أن يَمْسَحَ بها، وإن لم يَبْقَ عليها غُبارٌ، احْتاجَ إلى ضَرْبَةٍ أخْرَى. وإن كان المَتْرُوكُ مِن الوَجْهِ، مَسَحَه وأعاد مَسْحَ يَدَيه؛ ليَحْصُلَ الترتِيبُ. وإن تَطاوَلَ الفَصْلُ بَينَهما، وقُلْنا بوُجُوبِ المُوالاةِ، اسْتَأنَفَ التَّيَمُّمَ. ويُرْجَعُ في طُولِ الفَصْلِ وقِصَرِه ¬

(¬1) يعني الإمام أبا داود الطيالسي الحافظ، كان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث، توفي سنة أربع ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 378 - 384.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى القَدْرِ الذي ذَكَرْناه في الطهارةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ فَرْعٌ عليها. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في وُجوبِ الترتِيبِ والمُوالاةِ في الوُضُوءِ، وذَكَرْنا الدَّلِيلَ بما يُغْنِي عن إعادَتِه، والتَّيَمُّمُ مَبْنيٌّ عليه؛ لأنَّه بَدَلٌ عنه، ومَقِيسٌ عليه، وظاهِرُ المَذْهَبِ وُجُوبُهما في الوُضوءِ، كذلك ههُنا. والحُكْمُ في التَّسْميَةِ ها هنا كالحُكْمِ في التسميةِ في الوُضوءِ، علي ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ فيه. فصل: ويَجِبُ مَسْحُ اليَدَين إلى المَوْضِعِ الذي يُقْطَعُ منه السّارِقُ. أوْمَأ إليه أحمدُ، وقال: قال اللهُ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيدِيَهمَا} (¬1) مِن أين تُقْطَع (¬2) يَدُ السّارِقِ؟ ألَيسَ مِن ههُنا؟ وأشارَ إلى الرُّسْغ. وقد رَوَينا عن ابنِ عباس نَحْوَ هذا. وقال الشافعيّ: يجِبُ المَسْحُ إلى المِرْفَقَين، كالوُضُوءِ. وسنَذْكر ذلك إن شاء الله تعالى. فإن كان أقْطَعَ مِن فوقِ الرُّسْغِ سَقَط مَسْحُ اليَدَين، وإن كان مِن دُونِه مَسَح ما بَقِيَ، وإن كان مِن المَفْصِلِ، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَمْسَحُ مَوْضِعَ القَطْع ¬

(¬1) سورة المائدة 38. (¬2) في م: «تقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال (¬1): ونَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ الرُّسْغَين في التَّيَمُّمِ كالمِرْفَقَين في الوُضوءِ، فكما أنَّه إذا قُطِع مِن المِرْفَقَين في الوُضُوءِ غَسَل ما بَقِيَ، كذلك ههُنا يَمسحُ العَظْمَ الباقِيَ. وقال القاضي: يَسْقُطُ الفَرْضُ؛ لأنَّ مَحَلَّه الكَفُّ الذي يُوخَد في السَّرِقَةِ، وقد ذَهَب، لكنْ يُسْتَحَبُّ إمْرارُ التُّرابِ عليه. ومَسْحُ العَظْمِ الباقِي مع بَقاءِ اليَدِ، إنَّماكان ضَرُورَةَ اسْتِيعابِ الواجِبِ، لأنَّ الواجِبَ لا يتمُّ إلَّا به، فإذا زال الأصْلُ سَقَطَ ما هو مِن ضَرُورَتِه، كمَن سَقَط عنه غَسْلُ الوَجْه، لا يَجِبُ عليه غَسْلُ جُزْءٍ مِن الرَأسِ. فصل: وإن أوْصَلَ التُّرابَ إلى مَحَلِّ الفَرْض بخِرْقَةٍ أو خَشَبَةٍ، فقال القاضي: يُجْزِئُه، لأنَّ اللهَ تعالى أمَر بالمَسْحِ، ولم يُعَيِّنْ آلتَه. وقال ابنُ عَقِيل: فيه وَجْهان، بِناءً على مَسْحِ الرَّأسِ بخِرْقَةٍ رَطْبَةٍ. وإن مَسَح مَحَلَّ الفَرْض بيَدٍ واحِدَةٍ، أو ببَعْضِ يَده، أجْزأه. وإن يَمَّمَه غيرُه جاز، كما لو وَضَّأه، وتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ في المُتَيَمِّمِ دُونَ المُيَمِّمِ، لأنَّه الذي يَتَعَلَّقُ به الإِجْزاءُ والمَنْعُ. ¬

(¬1) سقط من: «م».

179 - مسألة: (ويجب تعيين النية لما يتيمم له، من حدث أو غيره)

وَيَجِبُ تَعْيِينُ النيةِ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ مِنْ حَدَثٍ أوْ غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 179 - مسألة: (ويَجِبُ تَعْيِينُ النيةِ لِما يَتَيَمَّمُ له، مِن حَدَثٍ أو غيرِه) وجُمْلته أنَّ النيةَ شَرْطٌ للتَّيَمُّمِ، وهو قولُ أكثَر أهلِ العلمِ؛ منهم اللَّيثُ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، والشافعيّ، وأصحابُ الرَّأي، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم، إلَّا ما حُكِي عن الأوْزاعِيِّ والحسنِ بنِ صالحٍ، أنه يَصِحُّ بغيرِ نِيَّةٍ. وقد ذَكَرْنا قولَ القاضي في التَّيَمُّمِ للنَّجاسَةِ. وسائِرُ أهلِ العلمِ على خِلافِهم؛ لقَوْلِه - عليه السلام -: «وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى». ويَنْوى به اسْتِباحَةَ الصلاةِ. فإن نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ لم يَصِحَّ تَيَمُّمُه؛ لأنَّه لا يَرْفَعُ الحَدَثَ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): أجْمَعَ العلماءُ على أنَّ طهارةَ التَّيَمُّمِ لا تَرْفَعُ الحَدَثَ إذا وَجَد الماءَ. بل إذا وَجَدَه أعادَ الطهارةَ، جُنُبًا كان أو مُحْدِثًا. وهذا مذهبُ مالكٍ والشافعي، وغيرِهما. وحُكِي ¬

(¬1) انظر: الاستذكار 2/ 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي حنيفةَ أنَّه يَرْفَعُ الحَدَثَ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على ذلك؛ لأنَّها طهارةٌ عن حَدَثٍ تُبِيحُ الصلاةَ، فرَفَعَتِ الحَدَثَ، كطَهارَةِ الماءِ. ولنا، أنه لو وَجَد الماءَ لَزِمَه اسْتِعْمالُه لرَفْعِ، الحَدَثِ الذي كان قبلَ التَّيَمُّمِ، إن (¬1) كان جُنُبًا، أو (¬2) مُحْدِثًا، أو امرأةً حائِضًا، ولو رَفَع الحَدَثَ لَاسْتَوَى الجَمِيعُ، لاسْتِوائِهم في الوجْدانِ، ولأنَّها طهارةُ ضَرُورَةٍ، فلم تَرْفَعِ الحَدَث، كطَهارَةِ المُسْتَحاضَةِ، وبهذا فارَقَ الماءَ. فصل: ويَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِما يَتَيَمَّمُ له مِن الحَدَثِ الأصْغَرِ، والجَنابَةِ، والحَيضِ، والنَّجاسَةِ، وإن كان التَّيَمُّم عن جُرْحٍ في عُضْوٍ مِن أعْضائِه، نَوَى التَّيَمُّمَ عن غَسْلِ ذلك العضْو، لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنياتِ، وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى». ¬

(¬1) في م: «أن». (¬2) في الأصل: «وأن كان».

180 - مسألة: (فإن نوى جميعها، جاز)

فَإنْ نَوَى جَمِيعَهَا جازَ، وَإنْ نَوَى أحدَهَا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 180 - مسألة: (فإن نَوى جَمِيعَها، جاز) لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى». ولأنَّ فِعْلَه واحِدٌ، أشْبَهَ ما لو كانت عليه أحْداثٌ تُوجِبُ الوُضُوءَ أو الغُسْلَ، فنَواها. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إذا كان عليه حَدَثٌ ونَجاسَةٌ، هل يَكْتَفِي بتَيَمُّمٍ واحِدٍ؟ يُبْنَى على تَداخُلِ الطَّهارَتَين في الغُسْلِ، فإن قُلنا: لا يَتَداخَلان ثَمَّ. فأوْلَى أن لا يَتَداخَلا ههُنا؛ لكَوْنِهما مِن جِنْسَين، وإن قُلْنا: يَتَداخَلان. فقال القاضي ههُنا كذلك قِياسًا عليه. فعلى هذا يَتَيَمَّمُ لهما تَيَمُّمًا واحِدًا. قال: والأشْبَهُ عِنْدِي أنهما لا يَتَداخَلان، كالكَفّاراتِ، والحُدُودِ، إذا (¬1) كانت مِن جِنْسَين. والأوَّلُ أصَحُّ. 181 - مسألة؛ قال: (وإن نَوَى أحَدَها، لم يُجْزِئْه عن الآخَرِ) وبهذا قال مالكٌ وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حَنيفَةَ والشافعي: يُجْزِئه، لأنَّ ¬

(¬1) في م: «وإذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَهارَتَهما واحِدَةٌ، فسَقَطَتْ إحْداهما بفِعْلِ الأخْرَى، كالبَوْلِ والغائِطِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإنَّما لِامْرِئٍ مَا نَوَى». فيَدُلُّ على أنه لا يَحْصُلُ له ما لم يَنْوه، ولأنَّها أسْبابٌ مُخْتَلِفَةٌ، فلم تُجْزِيء نِيَّةُ بَعْضِها عن الآخَرِ، كالحجِّ والعُمْرَةِ. وهذا يُفارِقُ ما قاسُوا عليه؛ فإنَّ حُكْمَهما واحِدٌ وهو الحَدَثُ الأصْغَرُ، ولهذا تُجْزِيء نِيَّةُ أحَدِهما عن نِيَّةِ الآخَرِ في طهارةِ الماءِ. فصل: إذا تَيَمَّمَ للجَنابَةِ دُونَ الحَدَثِ الأصْغَرِ، أبِيحَ له ما يُباحُ للمُحْدِثِ، مِن قِراءةِ القرآنِ، واللُّبْثِ في المسجدِ، ولم تُبَحْ له الصلاةُ، والطَّوافُ، ومَس المُصْحَفِ. فإن أحْدَثَ لم يُؤثِّرْ ذلك في تَيَمُّمِه، كما لا يُؤثر في الغُسْلِ. وإن تَيَمَّمَ للْجَنابَةِ والحَدَثِ، ثم أحْدَثَ، بَطَل تَيَمُّمُه للْحَدَثِ، وبقِيَ تَيَمُّمُ الجَنابَةِ بحالِه. ولو تَيَمَّمَتِ المرأةُ بعدَ طُهْرِها مِن حَيضِها للحَيضِ، ثم أجْنَبَتْ، لم يَحْرُمْ وَطْؤها، لأنَّ حُكْمَ تَيَمُّمِ الحَيضِ باقٍ، ولا يَبْطُلُ بالوطْءِ، لأنَّه إنَّما يُوجِبُ حَدَثَ الجَنابَةِ. وقال ابنُ عَقِيل: إن قُلْنا: كلُّ صلاةٍ تَحْتاجُ إلى تَيَمُّمٍ. احْتاجَ كلُّ وَطْء إلى تَيَمُّمٍ يَخُصُّه. والأوَّلُ أصَحُّ.

182 - مسألة: (وإن نوى نفلا، أو أطلق النية للصلاة، لم يصل إلا نفلا)

وَإِن نَوَى نَفْلًا، أوْ أطْلَقَ النِّيَّةَ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُصَل إلا نَفْلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 182 - مسألة: (وإن نَوَى نَفْلًا، أو أطْلَقَ النيةَ للصلاةِ، لم يُصَلِّ إلَّا نَفْلًا) وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفةَ: له أن يُصَلِّيَ بها ما شاء. ويَتَخَرَّجُ لنا مِثْلُ ذلك إذا قُلْنا: إنَّ التَّيَمُّمَ لا يَبْطُلُ بخُرُوجِ الوَقْتِ. فيَكُونُ

183 - مسألة؛ قال: (وإن نوى فرضا فله فعله، والجمع بين الصلاتين، وقضاء الفوائت، والتنفل إلى آخر الوقت)

وَإنْ نَوَى فَرْضًا فَلَهُ فِعْلُهُ، وَالْجَمْعُ بَينَ الصَّلَاتَينِ، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ، وَالتَّنفُّلُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمُه حُكْمَ طهارةِ الماءِ؛ لأنَّها طهارةٌ يَصِحُّ بها النَّفْلُ، فأشْبَهَتْ طهارةَ الماءِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنياتِ، وإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى». وهذا ما نَوَى الفَرْضَ، فلا يَحْصُلُ له، وفارَقَ طهارةَ الماءِ؛ لأنَّها تَرْفَعُ الحَدَثَ المانِعَ مِن فِعْلِ الصلاةِ، فيُباحُ له جَمِيعُ ما يَمْنَعُه الحَدَثُ، ولا يَلْزَمُه اسْتِباحَةُ النَّفْلِ بنِيَّةِ الفَرْض؛ لأنَّ الفَرْضَ أعْلَى ما في البابِ، فنِيَّتُه تَضَمَّنَتْ نِيَّةَ ما دُونَه، فإذا استباحَه استباحَ ما دُونَه تَبَعًا. 183 - مسألة؛ قال: (وإن نَوَى فَرْضًا فله فِعْلُه، والجَمْعُ بينَ الصَّلاتين، وقَضاءُ الفَوائِتِ، والتَّنَفُّلُ إلى آخِرِ الوَقْتِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنه متى نَوَى بتيَمُّمه فَريضةً، سَواء كانت مُعَيَّنَّةَ أو مُطْلَقَةً، فله أن يُصَلِّيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما شاء مِن الصَّلَواتِ؛ فيُصَلِّيَ الحاضِرَةَ، ويَجْمَعَ بينَ الصلاتَين، ويَقْضِيَ فَوائِتَ إن كانت عليه، ويَتَطَوَّعَ قبلَ الصلاةِ وبعدَها، إلى آخِرِ الوَقْتِ. هذا قولُ أبي ثَوْرٍ. وقال مالكٌ والشافعي: لا يُصَلِّي به فَرْضَين. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنه قال: لا يُصَلِّي بالتَّيَمُّم إلَّا صلاةً واحِدَةً، ثم يَتَيَمَّمُ للأخْرَى. وهذا يَحْتَمِلُ أن يكُونَ مِثْلَ قَوْلِهما؛ لِما رُوِيَ عن (¬1) ابنِ عباس، أنه قال: مِن السنةِ أن لا يُصَلِّيَ بالتَّيَمُّم إلَّا صَلاةً واحِدَةً، ثم يَتَيَمَّمُ للأخْرَى. وهذا مُقْتَضَى سُنَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنَّها طهارةُ ضَرُورَةٍ فلا يَجْمَعُ فيها بينَ فَرِيضتين، كما لو كانا في وَقْتَين. ولنا، أنها طهارة ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحَةٌ أباحَتْ فَرْضًا، فأباحَتْ فَرْضَين، كطَهارَةِ الماءِ، ولأنَّه بعدَ الفَرْضِ الأوَّلِ تَيَمُّمٌ صحيحٌ مُبِيحٌ للتَّطَوُّعِ نَوَى به المَكْتُوبَةَ، فكانَ له أن يُصَلِّيَ به فَرْضًا، كحالةِ ابْتِدائِه. ولأنَّ الطهارةَ في الأصُولِ إنَّما تَتَقَيَّدُ بالوَقْتِ دُونَ الفِعْلِ، كطَهارَةِ الماسِحِ على الخُفِّ، وهذه في النَّوافِلِ، وطهارةِ المُسْتَحاضَةِ. ولأنَّ كلَّ تَيَمُّم أباحَ صلاةً أباحَ ما هو مِن نَوْعِها، بدَلِيلِ النَّوافِلِ. وأمّا حديثُ ابنِ عباس، فيَرْويه الحسنُ بنُ عُمارَةَ (¬1)، وهو ضَعِيفٌ، ثم يَحْتَمِلُ أنه أرادَ أن لا يُصَلِّيَ به صَلاتَين في وَقْتَين؛ بدَلِيلِ أنَّه يَجُوزُ أن يُصلِّيَ به صلواتٍ (¬2) مِن التَّطَوُّعِ، وإنَّما امْتَنَعَ أن يُصَلِّيَ به فَرْضَين في وَقْتَين؛ لبُطْلانِ التَّيَمُّمِ بخُرُوجِ الوَقْتِ، ولذلك لا تَصِحُّ به نافِلة، بخِلافِ هذا. ¬

(¬1) الحسن بن عمارة الكوفي الفقيه، مولى بجيلة، قال ابن عيينة: كان له فضل، وغيره أحفظ منه. جرحه سفيان وشعبة، توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة. ميزان الاعتدال 1/ 513 - 515. (¬2) في م: «صلاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا تَيَمَّمَتِ الحائِضُ عندَ انْقِطاعِ دَمِها، وقُلْنا: إنَّ التَّيَمُّمَ لا يَبْطُلُ إلَّا بالحَدَثِ. جاز له وَطْؤها ما لم تَحِضْ، وإن قُلنا: يَبْطُلُ بخُرُوجٍ الوقتِ. فمتى خَرَج احْتاجَتْ إلى تَيَمُّمٍ للوَطْءِ، وإن قلنا: يَتَيَمَّمُ لكلِّ فرِيضَةٍ. احْتاجَ كلُّ وَطْءٍ إلى تَيَمُّم. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ. فصل: إذا نَوَى الفَرْضَ اسْتَباحَ كلَّ ما يُباحُ بالتَّيَمُّمِ؛ مِن النَّفْلِ قبلَ الفَرْضِ وبعدَه، وقِراءَةِ القرآنِ، ومَسِّ المُصْحَفِ، واللُّبْثِ في المَسْجِدِ. وهذا قولُ الشافعي، وأصحابِ الرَّأي. وقال مالكٌ: لا يَتطَوَّعُ قبلَ الفَرِيضَةِ بصلاةٍ غيرِ راتِبَةٍ. ورُوي ذلك عن أحمدَ؛ لأنَّ النَّفْلَ تَبَع للفَرْضِ، فلا يَتَقَدَّمُ المَتْبُوعَ. ولَنا، أنه تَطَوُّعٌ، فأبِيحَ له فِعْلُه إذا نَوَى الفَرْضَ، كالسننِ الرّاتِبَةِ وكما بعدَ الفَرْض. وقَوْلُه: إنَّه تَبَع. قُلْنا: إنَّما هو تَبَع في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِباحَةِ، لا في الفِعْلِ، كالسُّنَنَ الرّاتِبَةِ، وقِراءَةِ القُرْآنِ، وغيرِهما. وإن نَوَى نافِلَةً، أُبِيحَ له قِراءَةُ القرآنِ، ومَسُّ المُصْحَفِ، والطَّوافُ؛ لأنَّ النّافِلَةَ آكَدُ مِن ذلك كلِّه؛ لكَوْنِ الطهارةِ مُشْتَرَطَةً لها بالإِجْماعِ، وفيما سِواها خِلافٌ، فدَخَلَ في نِيَّتها كدُخُولِ النّافِلَةِ في الفَرِيضَةِ، ولأنَّ النّافِلَةَ تَشْتَمِلُ على قِراءَةِ القُرْآنِ. وإن نَوَى شَيئًا مِن ذلك، لم تُبَحْ له النّافِلَةُ؛ لأنَّها أعْلَى منه؛ لِما بَيَّنا. وإن نَوَى الطَّوافَ، أبِيحَ له قِراءَةُ القرآنِ، واللُّبْثُ في المَسْجِدِ؛ لأنَّه أعْلَى منهما؛ فإنَّه صلاة، وله نَفْل وفَرْضٌ، ويَدْخُلُ في ضِمْنِه اللُّبْثُ في المسجدِ؛ لأنَّه إنَّما يكُونُ في المسجدِ. وإن نَوَى أحَدَهما لم يَسْتَبِحِ الطَّوافَ؛ لأنَّه أعْلَى منهما. وإن نَوَى فَرْضَ الطَّوافِ، اسْتَباحَ نَفْلَه، ولا يَسْتَبِيحُ الفَرْضَ منه بنيَّةِ النَّفْلِ كالصلاةِ. وإن نَوَى قِراءَةَ القرآنِ لكَوْنِهِ جُنُبًا، أو مَسَّ المُصْحَفِ، أو اللُّبْثَ في المَسْجِدِ، لم يَسْتَبِحْ غيرَ ما نَواه، لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن تَيَمَّمَ الصَّبِيُّ لإِحْدَى الصَّلَواتِ الخَمْسِ، ثم بَلَغ، لم يَسْتَبِحْ بتَيَمُّمِه فَرْضًا؛ لأنَّ ما نَواه كان نَفْلًا، ويُباحُ له أن يتَنَفَّلَ به، كما لو (¬1) نَوَى به البالِغُ النَّفْلَ. فأمّا إن تَوَضَّأ قبلَ البُلُوغِ، ثم بلَغ، فله أن يُصَلِّيَ به فَرْضًا ونَفْلًا؛ لأنَّ الوُضُوءَ للنَّفْلِ يُبِيحُ فِعْل الفَرْضِ. ¬

(¬1) ساقطة من: «م».

184 - مسألة: (ويبطل التيمم بخروج الوقت، ووجود الماء، ومبطلات الوضوء)

وَيَبْطُلُ التَّيَمُّم بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَوُجُودِ الْمَاءِ، وَمُبْطِلَاتِ الْوُضُوءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قُلْنا: يَجُوزُ أن يُصَلِّيَ بالتَّيَمُّمِ فَرائِضَ إلى آخِرِ الوَقْتِ. جاز أن يَطُوفَ طَوافَيْ فَرْض، وطَوافَيْ فَرْض ونَذْرٍ، وأن يُصَلِّيَ على جَنائِزَ إذا تَعَيَنَّتْ عليه. وإن فاتَته صلاةٌ لا يَعْلَمُ عَينَها، كَفاه تَيَمُّمٌ واحِدٌ، يُصَلِّي به خَمْسَ صَلَواتٍ، وإن قُلْنا: لا يُصَلِّي به إلَّا فَرْضًا واحِدًا. فيَنْبَغِي أن يَحْتاجَ كلُّ واحِدٍ مِمّا ذَكَرْنا إلى تَيَمُّمٍ، قِياسًا عليه. 184 - مسألة: (ويَبْطُلُ التَّيَمُّم بخُرُوجِ الوَقْتِ، ووُجُودِ الماءِ، ومُبْطِلاتِ الوُضُوءِ) مُبْطِلاتُ التَّيَمُّمِ ثَلاثَةٌ، كما ذَكَر، وزاد بَعْض أصحابِنا ظَنَّ وُجُودِ الماءِ، على ما يَأتِي ذِكْرُه. وخُرُوجُ الوقتِ مُبْطل للتَّيَمُّمِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ، فلا يَجوزُ أن يُصَلِّيَ بالتَّيَمُّمِ صَلاتَين في وَقتَين. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباس، رَضِي اللهُ عنهم. وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والشافعي، وإسحاقَ. وروَى المَيمُونِي عن أحمدَ، أنه قال في المُتَيَمِّمِ: إنَّه ليُعْجِبُنِي أن يَتَيَمَّمَ لكلِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاةٍ، ولكنَّ القِياسَ أنَّه بمَنْزِلَةِ الطهارةِ حتى يَجدَ الماءَ أو يُحْدِثَ؛ لحَدِيثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الجُنُبِ، يَعْنِي قَوْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذَرٍّ، الصَّعِيد الطيبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، وَإذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأمِسَّهُ بَشَرَتَكَ» (¬1). وهذا مذهبُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، والزُّهْرِى، والثَّوْرِي، وأصحابِ الرَّأي. ورُوي عن ابنِ عباس؛ لِما (¬2) ذَكرنا، ولأنَّها طهارة تُبِيحُ الصلاةَ، فلم تَتَقَدَّرْ بالوَقتِ، كطَهارةِ الماء. ولَنا أنه رُوِيَ عن علي وابنِ عُمَرَ أنه قال: يَتَيَمَّمُ لكلِّ صلاةٍ ولأنَّها طهارةُ ضرُورَةٍ، لتَقَيَّدَتْ بالوَقْتِ، كطَهارَةِ المُسْتَحاضةِ، وطهارةُ الماءِ لَيسَتْ للضرورَةِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. والحديثُ أرادَ به أنه يُشبِهُ الوُضُوءَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 206. (¬2) في م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في إباحَةِ الصلاةِ، ولا يَلْزَمُ التَّساوي في سائِرِ الأحكامِ. الثاني، وُجُود الماءِ المَقْدُورِ على اسْتِعْمالِه مِن غيرِ ضَرَرٍ، على ما مَرَّ في مَوْضِعِه، وهو مُبْطل للتَّيَمُّمِ خارجَ الصلاةِ إجْماعًا، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ، وإن وَجَدَه في الصلاةِ، ففيه اخْتِلافٌ نَذْكُرُه في مَوْضِعِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن شاء اللهُ تعالى. الثالثُ، مُبْطِلاتُ الوُضُوءِ، وهو مُبْطِلٌ للتَّيَمُّمِ عن الحَدَثِ الأصْغَرِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عنه، فإذا أبطَلَ الأصْلَ أبطَلَ البَدَلَ، بطرَيقِ الأوْلَى. فأمّا التَّيَمُّمُ عن الجَنابَةِ، فلا يَبْطُل إلَّا بخُرُوجِ الوَقْتِ، ووُجُودِ الماءِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُوجِباتِ الغُسْلِ، وكذلك التَّيَمُّم لحَدَثِ الحَيض النِّفاسِ لا يَزُولُ حُكْمُه إلَّا بحَدَثِهما، أو بأحَدِ الأمْرَين.

185 - مسألة: (فإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خلعه، لم يبطل تيممه. وقال أصحابنا: يبطل)

قال الشيخ رحمه الله: فَإِنْ تَيَمَّمَ وَعَلَيهِ مَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيهِ، ثُمَّ خَلَعَهُ، لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ. وَقَال أصْحَابُنَا: يَبْطُلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 185 - مسألة: (فإن تَيَمَّمَ وعليه ما يَجُوزُ المَسْحُ عليه، ثم خَلَعَه، لم يَبْطُلْ تَيَمُّمُه. وقال أصحابُنا: يَبْطُلُ) إذا تَيَمَّمَ وعليه خُفٌّ أو عِمامَةٌ يَجُوزُ المَسْحُ عليها، ثم خَلَعَها، أو خَلَع الخُفَّ، لم يَبْطُلْ تَيَمُّمُه في اخْتِيارِ شيخِنا (¬1). وقال أصحابُنا: يَبْطُلُ. قال بَعْضُهم: نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه مُبْطِل للوُضُوءِ، فأبطَلَ التَّيَمُّمَ كسائِرِ مُبْطِلاتِه، وهذا يَخْتَص التَّيَمُّمَ عن الحَدَثِ الأصْغَرِ على ما ذَكَرْنا. والصحيحُ ما اخْتارَه شيخُنا، ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 350.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَحِمَه الله. وهو قولُ سائِرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ طهارةٌ لم يَمْسَحْ فيها عليه، فلا يَبْطُل بنَزْعِه، كطَهارَةِ الماءِ، وكما لو كان المَلْبُوسُ مِمّا لا يَجُوزُ المَسْحُ عليه، ولا يَصِحُّ قَوْلُهم: إنَّه مُبْطِل للوُضُوءِ. لأنَّ مُبْطِل الوُضوءِ نَزْعُ ما هو مَمْسُوحٌ عليه فيه، ولم يُوجَدْ ها هنا، ولأنَّ إباحَةَ المَسْحِ لا يَصِيرُ بها ماسِحًا، ولا بمَنْزِلَةِ الماسِحِ، كما لو لَبِس عِمامَةً يجُوزُ المَسْحُ عليها، ومَسَح على رَاسِه مِن تَحْتِها، فإنَّ الطهارةَ لا تَبْطُلُ بنَزْعِها، كذلك هذا. فصل: ويَجُوزُ التَّيَمُّمُ لكلِّ ما يُتَطَهَّرُ له مِن نافِلةٍ، أو مَسِّ مُصْحَفٍ، أو قِراءَةِ قُرْآن، أو سُجُودِ تِلاوَةٍ أو شُكْرٍ، أو لُبْثٍ في مَسْجد. قال أحمدُ: يَتَيَمَّمُ ويَقْرأ جزْأه. يَعْنِي الجُنُبَ. وبذلك قال عطاءٌ، ومَكْحُول، والزُّهْرِي، ومالكٌ، والشافعي، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأي. وقال أبو مِجْلَزٍ: لا يَتَيَمَّمُ إلَّا لمَكْتُوبَةٍ. وكَرِه الأوْزاعِي أن يَمَسَّ المتَيمِّمُ المُصْحَفَ. ولَنا، حديثُ أبي ذَرٍّ، وقولُه عليه السَّلامُ: «جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» (¬1). ولأنَّه يُسْتَباحُ بطهارَةِ الماءِ، فيُسْتَباحُ بالتَّيَمُّمِ، كالمَكْتُوبَة. فصل: فإن تَيَمَّمَ، ثم رَأى رَكْبًا يَظنُّ أنَّ معه ماءً، أو خُضْرَةً، أو ما يَدُل على الماءِ، وقُلْنا بوُجُوبِ الطَّلَب، بَطَل تَيَمُّمُه. وكذلك إن رَأى سَرابًا ظَنَّه ماءً. وهو قَوْلُ الشافعي؛ لأَنَّه لَمّا وَجَب الطَّلَبُ بَطَل التَّيَمُّم. ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 206.

186 - مسألة: (وإن وجد الماء بعد الصلاة، لم تجب إعادتها)

وإنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَواءٌ تَبَيَّنَ له خِلافُ ظنِّه أوْ لا، قال شَيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يَبْطُلَ تَيَمُّمُه؛ لأنَّ الطهارةَ المُتَيَقَّنَةَ لا تَبْطُلُ بالشَّكِّ، كطَهارَةِ الماءِ، ووُجوبُ الطَّلَبِ لا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ؛ لأنَّ كَوْنَه مُبْطِلًا إنَّما ثَبَت بدَلِيل شَرْعِي، وليس ها هنا نَصٌّ، ولا مَعْنَى نَصٍّ، فَيَنْتَفِىَ الدَّلِيلُ. 186 - مسألة: (وإن وَجَد الماءَ بعدَ الصلاةِ، لم تَجِبْ إعادتُها) وجُمْلَتُه أنَّ العادِمَ للماءِ في السَّفَرِ إذا وَجَد الماءَ بعدَ خُروجِ الوَقْتِ، وكان قد صَلَّى بالتَّيَمُّمِ، لم تَجِبْ عليه إعادَةُ الصلاةِ إجْماعًا. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. وإن وَجَد في الوَقْتِ لم يَلْزَمْه أيضًا إعادَةٌ، سَواءٌ يئس مِن وُجُودِ الماءِ في الوقتِ، أو ظَنَّ وُجودَه فيه. وهذا قوْلُ أبي سَلَمَةَ (¬2)، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، والشافعي، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأي. وقال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والقاسِمُ بنُ محمدٍ، وابنُ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 350. (¬2) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من فقهاء التابعين في المدينة، قال يحيى بن معين: مات أبو سلمة سنة أربع وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 61.

187 - مسألة: (وإن وجده فيها، بطلت. وعنه، لا تبطل)

وَإنْ وَجَدَهُ فِيهَا بَطَلَتْ. وَعَنْهُ، لَا تَبْطُلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، والزُّهْرِيُّ: يُعِيدُ الصلاةَ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ، عن أبي سعيدٍ، أنَّ رَجُلَين خَرَجا في سَفرٍ، فحَضَرَتِ الصلاةُ وليس معهما ماءٌ، فتَيَمَّما صَعِيدًا، فصَلَّيا، ثم وَجَدا الماءَ في الوَقْتِ، فأعادَ أحَدُهما الوُضُوءَ والصلاةَ، ولم يُعِدِ الآخَرُ، ثم أتيا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرا له ذلك، فقال للذي لم يُعِدْ: «أصبْتَ السُّنَّةَ (¬1)، وَأجْزأتكَ صَلَاتُكَ». وقال للذي أعادَ: «لَكَ الْأجْرُ مَرَّتَين» (¬2). واحْتَجَّ أحمدُ بأنَّ ابنَ عُمَرَ تَيَمَّمَ وهو يَرَى بُيُوتَ المَدينَةِ، فصَلَّى العَصْرَ، ثم دَخَل المدينةَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، فلم يُعِدْ. ولأنَّه أدَّى فَرْضَه؛ كما أمِرَ، فلم تَلْزَمْه الإِعادَةُ، كما لو وَجَدَه بعدَ الوَقْتِ، ولأنَّ عَدَمَ الماءِ عُذْرٌ مُعْتادٌ، فإذا تَيَمَّمَ معه يَجِبُ أنْ يُسْقِطَ فَرْضَ الصلاة كالمَرَيض، وكما لو وَجَدَه بعدَ الوَقْتِ. 187 - مسألة: (وإن وَجَدَه فيها، بَطَلَتْ. وعنه، لا تَبْطُل) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ المُتَيَمِّمَ إذا قَدَر على اسْتِعْمالِ الماءِ وهو في الصلاةِ، بَطَل ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 82. والنسائي، في: باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة، من كتاب الغسل. المجتبى 1/ 174. والدارمي، في: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَيَمُّمُه وبَطَلَتْ صَلاتُه، لبُطْلانِ طَهارَتِه، فيَتَوَضَّأُ إن كان مُحْدِثًا، ويَغْتَسِلُ إن كان جُنُبًا، ويَسْتَقْبِلُ الصلاةَ. ويَتَخَرَّجُ أن يَبْنِىَ على ما مَضَى مِن صَلاتِه، كمَن سَبَقَه الحَدَثُ، وفيه رِوايَتان؛ أصَحُّهما أنَّه يَسْتَقْبِلُ الصلاةَ. وههُنا أوْلَى؛ لأنَّ ما مَضَى مِن صَلاتِه انْبَنَى على طهارةٍ ضَعِيفَةٍ، فلم يَكُنْ له البِناءُ عليه، كطهارةِ المُسْتَحاضَةِ، بخِلافِ مَن سَبَقَه الحَدَثُ. والقَوْلُ ببُطْلانِ الصلاةِ قولُ الثَّوْرِيِّ وأبي حَنِيفَةَ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لا تَبْطُلُ الصلاةُ. ورُوِيَ عن أحمدَ نَحْوُ ذلك. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: كنتُ أقول يَمْضِي، تم تَدَبَّرْتُ فإذا أكْثَرُ الأحادِيثِ على أنَّه يَخْرُجُ. وهذا يَدُلُّ على رُجُوعِه عن هذه الرِّوايَةِ. واحْتَجُّوا بأنَّه وَجَد المُبْدَلَ بعدَ تَلبُّسِه بمَقْصُودِ البَدَلِ، فلم يَلْزَمْه الخُرُوجُ، لو وَجَد الرَّقَبَةَ بعدَ التَّلَبُّسِ بالصيامِ، ولأنَّه غيرُ قادِرٍ على اسْتِعْمالِ الماءِ؛ لأنَّ قُدْرَتَه تَتَوَقَّفُ على إبْطالِ الصلاةِ، وهو مَنْهِيٌّ عن إبْطالِها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَوْلِه تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ} (¬1). ولَنا، قَوْلُه عليه السَّلامُ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ». أخْرَجَه أبو داودَ والنَّسائِيُّ (¬2). دَلَّ بمَفْهُومِه على أنَّه لا يَكُونُ طَهُورًا عندَ وُجُودِ الماءِ، وبمَنْطُوقِه على وُجوبِ اسْتِعْمالِه عندَ وُجودِه. ولأنَّه قَدَر على اسْتِعْمالِ الماءِ فبَطَلَ تَيَمُّمُه، كالخارِجِ مِن الصلاةِ، ولأنَّ التَّيَمَّمَ طهارةُ ضَرُورَةٍ، فبَطَلَتْ بزَوالِ الضَّرُورَةِ كطَهارَةِ المُسْتَحاضَةِ إذا انْقَطعَ دَمُها. وقِياسُهم لا يَصِحُّ، فإنَّ الصومَ هو البَدَلُ نَفْسُه، فنَظِيرُه إذا قَدَر على الماءِ بعدَ تَيَمُّمِه، ولا خِلافَ في بُطْلانِه. ثم الفَرْقُ بَينَهما أنَّ مُدَّةَ الصيامِ تَطُولُ، فيَشُقُّ الخُرُوجُ منه؛ لِما فيه مِن الجَمْعِ بينَ فَرْضَين شَاقَّين، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وقَوْله: هو غيرُ قادِرٍ. غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ الماءَ قَرِيبٌ، وآلتَهُ (¬3) صَحِيحَةٌ، والمَوانِعَ مُنْتَفِيَةٌ. قَوْلُهم: إنَّه مَنْهِيٌّ عن إبْطالِ الصلاةِ. قُلْنا: لم يُبْطِلْها، وإنَّما هي بَطَلَتْ بزَوالِ الطهارةِ، كما في نَظائِرِها. ¬

(¬1) سورة محمد 33. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 206. (¬3) في الأصل: «والنية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَجَد ماءً قد وَلَغ فيه بَغْلٌ أو حِمارٌ، أو شيءٌ مِن سِباعِ البَهائِمِ، وقُلْنا: إنَّه مَشْكُوكٌ فيه. لم يَلْزَمْه الخُرُوجُ؛ لأنَّه دَخَل في الصلاةِ بطهارةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فلم يَخْرُجْ بأمْرٍ مَشْكُوكٍ فيه. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ، قال: ويَحْتَمِلُ أن يَخْرُجَ, كما لو وَجَد ماءً طاهِرًا. والأوَّلُ أوْلَى. وكذلك إن رَأى رَكْبًا، أو خُضْرةً، أو ما يَدُلُّ على الماءِ في الصلاةِ، لم تَبْطُلْ صَلاتُه ولا تَيَمُّمُه؛ لأنَّه دَخَل فيها بطَهارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فلا تَزُولُ بالشَّكِّ. فصل: والمُصَلِّي على حَسَبِ حالِه بغيرِ وُضُوءٍ، ولا تَيَمُّمٍ، إذا وَجَد ماءً في الصلاةِ أو تُرابًا، خَرَج مِنها بكلِّ حالٍ، لأنَّها صلاةٌ بغيرِ طهارةٌ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَخْرُجَ مِنها إذا قُلْنا: لا تَلْزَمُه الإِعادَةُ. كما في المُتَيَمِّمِ إذا وَجَد الماءَ في الصلاةِ، ولأنَّ الطهارةَ شَرْطٌ سَقَط اعْتِبارُه، فأشْبَهَتِ السُّتْرَةَ إذا عَجَز عنها، فصَلَّى عُرْيانًا، ثم وَجَد السُّتْرَةَ في أثْناءِ الصلاةِ قَرِيبًا منه. وكلُّ صلاةٍ تَلْزَمُه إعادَتُها، فإنَّه يَلْزَمُه الخُرُوجُ منها إذا زال العُذْرُ فيها، ويَلْزَمُه اسْتِقْبالُها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو يَمَّمَ المَيِّتَ، ثم قَدَر على الماءِ في أثْناءِ الصلاةِ عليه، لَزِمَه الخُرُوجُ؛ لأنَّ غُسْلَ المَيِّتِ مُمْكِنٌ غيرُ مُتَوَقِّفٍ على إبْطالِ المُصَلِّي صَلاته، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ويَحْتَمِلُ أن يكُونَ كمَسْألَتِنا؛ لأنَّ الماءَ وُجِد بعدَ الدُّخُولِ في الصلاةِ. فصل: وإذا قُلْنا: لا يَلْزَمُ المُصَلِّيَ الخُرُوجُ لرُؤْيَةِ الماءِ، فهل يَجُوزُ له الخُرُوجُ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له ذلك؛ لأنَّه شَرَع في مَقْصُودِ البَدَلِ، فجازَ له الُّرجُوعُ إلى المُبْدَلِ، كمَن شَرَع في صَوْمِ الكَفّارَةِ، يَجُوزُ له الانْتِقالُ إلى العِتْقِ. والثاني، لا يجُوزُ له الخُرُوجُ. وهو أوْلَى؛ لأنَّ ما لا يُوجِبُ الخُرُوجَ مِن الصلاةِ لا يُبِيحُه، كسائِرِ الأشياءِ، ولأنَّ فيه إبْطالًا للعَمَلِ (¬1)، فلم يَجُزْ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ}. ولأصحابِ الشافعيَّ وَجْهان كهذَين. فصل: إذا رَأى ماءً في الصلاةِ، ثم انْدَفَقَ (¬2) قبلَ اسْتِعْمالِه، بَطَل تَيَمُّمُه وصَلاتُه إن قُلْنا: يَلْزَمُه الخُرُوجُ منها. ويَلْزَمُه اسْتِئْنافُ التَّيَمُّمِ والصلاةِ. وإن قُلْنا: لا يَبْطُلُ. وانْدَفقَ وهو في الصلاةِ، فقال ابْنُ عَقِيلٍ: ليس له أن يُصَلِّيَ بذلك التَّيَمُّمِ صلاةً أُخْرَى. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ ¬

(¬1) في م: «للغسل». (¬2) في م: «انقلب».

188 - مسألة: (ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت، لمن يرجو وجود الماء)

وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّيَمُّمِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لِمَنْ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُؤْيَةَ الماءِ حَرَّمَتْ عليه افْتِتاحَ صلاةٍ أُخْرَى. ولو تَلَبَّسَ بنافِلَةٍ ثم رأى ماءً، فإن كان نَوَى عَدَدًا، أتَى به، وإن لم يَكُنْ نَوَى عَدَدًا، لم يكنْ له أن يَزِيدَ على رَكْعتَين؛ لأنَّه أقَلُّ الصلاةِ على ظاهِرِ المذهبِ، قال شيخُنا (¬1): ويَقْوَى عِنْدِي أنَّنا إذا قُلْنا: لا تَبْطُل الصلاةُ برُؤْيَةِ الماءِ. فله افْتِتاحُ صلاةٍ أُخْرَى؛ لأنَّ رُؤْيَةَ الماءِ لم تُبْطِلِ التَّيَمُّمَ في الصلاةِ، ولا وُجِد بعدَها ما يُبْطِلُه، فأشْبَهَ ما لو رَآه وبينَه وبينَه سَبُعٌ، ثم انْدَفَقَ قبلَ زَوالِ المانِعِ، فعلى هذا له أن يُصَلِّيَ ما يَشاءُ, لو لم يَرَ (¬2) الماءَ. واللهُ أعْلَمُ. فصل: وإن خَرَج الوَقْتُ وهو في الصلاةِ، بَطَل تَيَمُّمُه وصَلاتُه؛ لأنَّ طَهارَتَه انْتَهَتْ بانْتِهاءِ وَقْتِها، فبَطَلَتْ, كما لو انْقَضَتْ مُدَّةُ المَسْحِ وهو في الصلاةِ. 188 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّيَمُّمِ إلى آخِرِ الوَقْتِ، لمَن يَرْجُو وُجُودَ الماءِ) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وإن يَئس مِن وُجودِه، اسْتُحِبَّ تَقدِيمُه. وهذا مذهبُ مالكٍ. وقال الشافعيُّ في أحدِ قَوْلَيه: التَّقْدِيمُ أفْضَلُ، إلَّا أن يكُونَ واثِقًا بوُجودِ الماءِ في الوَقْتِ؛ لأنَّ أوَّلَ الوَقْتِ فَضِيلَةٌ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 350. (¬2) في م: «رأى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَيَقَّنَةٌ، فلا تُتْرَكُ لأمْرٍ مَظْنُونٍ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ اسْتِحْبابُ تَأْخِيرِ التَّيَمُّمِ بكلِّ حالٍ، وهو قولُ القاضي. نَصَّ عليه أحمدُ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وعَطاءٍ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأصحاب الرَّأْي؛ لقولِ عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، في الجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ (¬1) ما بينَه وبينَ آخِرِ الوَقْتِ، فإن وَجَد المَاءَ، وإلَّا تَيَمَّمَ. ولأنَّه يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الصلاةِ إلى بعدِ العشاءِ وقَضاءِ الحاجةِ كَيلا يَذْهَبَ خُشُوعُها وحُضُورُ القَلْبِ فيها، ويُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُها لإِدْراكِ الجَماعَةِ، فتَأْخِيرُها لإِدْراكِ الطهارةِ المشْتَرَطَةِ أوْلَى. ¬

(¬1) تلوَّم في الأمر: تمكث وانتظر.

189 - مسألة: (فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه)

وَإنْ تَيَمَّمَ وصَلَّى في أَوَّلِ الْوَقْتِ أَجْزأَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 189 - مسألة: (فإن تَيَمَّمَ في أوَّلِ الوَقْتِ وصَلَّى أجْزأه) ولا تَجِبُ عليه الإعادَةُ، سَواءٌ وَجَد الماءَ في الوَقْتِ، أو لم يَجِدْ، وقد ذَكَرْنا ذلك. ولأنَّه أتَى بما أُمِرَ به (¬1) في حالِ العُذْرِ، فلم تَجِبْ عليه الإِعادَةُ بزَوالِ العُذْرِ، كمَن صَلَّى عُرْيانًا، ثم قَدَر على السُّتْرَةِ، وكمَن صَلَّى جالِسًا لمَرَضٍ، ثم بَرَأ في الوَقْتِ. واللهُ أعلم. ¬

(¬1) سقط من: م.

190 - مسألة: (والسنة في التيمم أن ينوي ويسمي ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه)

وَالسُّنَّةُ فِي التَّيَمُّمِ أَن يَنْويَ، وَيُسَمِّيَ، وَيَضْرِبَ بِيَدَيهِ مُفَرَّجَتَيِ الأَصَابعِ عَلَى التُّرَابِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَمْسَحَ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ أَصَابِعِهِ، وَكَفَّيهِ بِرَاحَتَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 190 - مسألة: (والسُّنَّةُ في التَّيَمُّمِ أن يَنْويَ ويُسَمِّيَ ويَضْرِبَ بيَدَيه مُفَرَّجَتَيِ الأصابعِ على التُّرابِ ضَرْبَةً واحِدَةً، فيَمْسَحَ وَجْهَه بباطِنِ أصابِعِه وكَفَّيْه براحَتَيه) المَسْنُونُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، التَّيَمُّمُ بضَرْبَةٍ واحِدَةٍ، قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ؟ فقال: نعم، للوَجْهِ والكَفَّين، ومَن قال: ضَرْبَتَين. فإنَّما هو شيءٌ زادَه. قال التِّرمِذِيُّ (¬1): وهو قَوْلُ غيرِ واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم؛ منهم عليٌّ، وعَمّارٌ، وابنُ عباسٍ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ومالكٌ، وإسحاقُ. وقال الشافعيُّ: لا يُجْزِيء التَّيَمُّمُ إلَّا بضَرْبَتَين؛ للوَجْهِ واليَدَين إلى المِرْفَقَين. ورُوي ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِه سالمٍ، والحسنِ، ¬

(¬1) عارضة الأحوذي 1/ 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لِما روَى ابنُ الصِّمَّةِ (¬1)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَيَمَّمَ، فمَسَحَ وَجْهَه وذِراعَيه (¬2). وروَى ابنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وأبو أُمامَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَة لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَينِ إِلَى المِرْفَقَينِ» (¬3). ولأنَّه بَدَلٌ يُؤْتَى به في مَحَلِّ مُبْدَلِه، فكان حَدُّه فيهما واحِدًا كالوَجْهِ. ولَنا، ما روَى عَمّارٌ، قال: بَعَثَنِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجَةٍ، ¬

(¬1) هو أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري الصحابي، وكان أبوه من كبار الصحابة. أسد الغابة 6/ 59، 60. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، من كتاب التيمم. صحيح البخاري 1/ 92. ومسلم، في: باب التيمم، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 281. وأبو داود، في: باب في التيمم في الحضر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 79. والدارقطني، في: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 176، 177. والبيهقي، في: باب كيف التيمم، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 205. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 169. (¬3) حديث ابن عمر أخرجه الحاكم في: باب أحكام التيمم، من كتاب الطهارة. المستدرك 1/ 179، 180 والدارقطني، في: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 180 - 182. والبيهقي، في: باب كيف التيمم، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 207. وكذلك أخرج الثلاثة السابقون حديث جابر، في المواضع السابقة: المستدرك 1/ 180، وسنن الدارقطني 1/ 181، 182، والسنن الكبرى 1/ 207 كما أخرجه الدارقطني عن علي أيضًا: «ضربة للوجه وضربة للذراعين». سنن الدارقطني 1/ 182. وحديث أبي أمامة أخرجه الطبراني في الكبير ولفظه: «التيمم ضربة للوجه وضربة للكفين». المعجم الكبير 8/ 292، 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأَجْنَبْتُ، فلم أجِدِ الماءَ، فتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كما تَمَرَّغُ الدّابَّةُ، ثم أتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذَكَرْتُ ذلك له، فقال.: «إنَّمَا يَكْفِيكَ أنْ تَقولَ بِيَدَيكَ هَكَذَا». ثم ضَرَب بيَدَيه الأرْضَ ضَرْبَةً واحِدَةً، ثم مَسَح الشِّمال على اليَمِينِ، وظاهِرَ كَفَّيه ووَجْهَه. مُتِّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه حُكْمٌ عُلِّقَ على مُطْلَقِ اليَدَين، فلم يَدْخُلْ فيه الذِّراعُ، كقَطْعِ السّارِقِ، ومَسِّ الفَرْجِ، وقد احْتَجَّ ابنُ عباسٍ بهذا. وأمّا أحادِيثُهم فضَعِيفَةٌ، قال الخَلّالُ: الأحادِيثُ في ذلك ضِعافٌ جِدًّا، ولم يَرْو أصحابُ السُّنَنِ منها إلَّا حديثَ ابنِ عُمَرَ. وقال أحمدُ: ليس بصَحِيحٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو عندَهم حديثٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التيمم للوجه والكفين، من كتاب التيمم. صحيح البخاري 1/ 93. ومسلم، في: باب التيمم، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 280. كما أخرجه أبو داود، في: باب التيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 77. والنسائي، في: باب التيمم في الحضر، وباب نوع آخر من التيمم، وباب تيمم الجنب، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 35، 138، 139. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التيمم بضربة واحدة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 188. وانظر: باب ما جاء في التيمم، من أبواب الطهارة، من سنن الترمذي. عارضة الأحوذي 1/ 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُنْكَرٌ. قال الخَطَّابِيُّ (¬1): يَرْويه محمدُ بنُ ثابتٍ، وهو ضَعِيفٌ (¬2). وحديثُ ابنِ الصِّمَّةِ صَحِيحٌ، لكنْ إنَّما جاء في المُتَّفَقِ عليه: فمَسَحَ وَجْهَه ويَدَيه. فيَكُونُ حُجَّةً لَنا؛ لأنَّ ما عَلِق على مُطْلَقِ اليَدَين لا يَتَناوَلُ الذِّراعَين. ثم أحادِيثُهم لا تُعارِضُ حَدِيثنا؛ لأنَّها تَدُلُّ على جَوازِ التَّيَمُّمِ بضَرْبَتَين، ولا يَنْفِي ذلك جَوازَ التَّيَمُّمِ بضَرْبَةٍ، كما أنَّ وُضُوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا لا يَنْفِي الإِجْزاءَ بمَرَّةٍ. فإن قِيل: فقد رُوِيَ في حديثِ عَمّارٍ: «إلى المِرْفَقَينِ». فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بالكَفَّين اليَدَين إلى المِرْفَقَين. قُلْنا: حديثُ: «إلى المِرْفَقَينِ»، لا يُعَوَّلُ عليه، إنَّما رَواه سَلَمَةُ (¬3)، وشَكَّ فيه. ذَكَر ذلك النَّسائِيُّ (¬4). فلا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ، مع أنَّه قد أُنْكِر عليه، ¬

(¬1) معالم السنن 1/ 101. (¬2) العبارة في معالم السنن: قالوا: وحديث ابن عمر لا يصح؛ لأن محمد بن ثابت العبدي ضعيف جدا، لا يحتج بحديثه. (¬3) أي: سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي، أبو يحيى، متقن للحديث، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 155 - 157. (¬4) في: نوع آخر من التيمم، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخالفَ به سائِرَ الرُّواةِ الثِّقاتِ، فكيف يُلْتَفَتُ إلى مِثْلِ هذا؟ وأمّا التَّأْويلُ فباطِلٌ، لأمُورٍ: أحَدُها، أنَّ عَمَّارًا الرّاويَ له الحاكِيَ فِعْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أفْتَى بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التَّيَمُّمِ للوَجْهِ والكَفَّين، عَمَلًا بالحديثِ. وقد شاهَدَ فِعْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والفِعْلُ لا احْتِمال فيه. الثاني, أنَّه قال: ضَرْبَةً واحِدَةً. وهم يقولون: ضَرْبَتان. الثالثُ، أنّا لا نَعْرِفُ في اللُّغَةِ التَّعْبِيرَ بالكَفَّين عن الذِّراعَين. الرابعُ، أنَّ الجَمْعَ بينَ الخَبَرَين بما ذَكَرْناه، مِن أنَّ كلَّ واحِدٍ من الفِعْلَين جائِزٌ، أقْرَبُ مِن تَأْويلِهم وأسْهَلُ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالتَّيَمُّم عن الغُسْلِ الواجِبِ، فإنَّه يَنْقُضُ عن المُبْدَلِ، وكذلك في الوُضُوءِ، فإنَّه في عُضْوَين، وكذا في الوَجْهِ، فإنَّه [لا يَجِبُ] (¬1) مَسْحُ ما تحتَ الشُّعُورِ الخَفِيفَةِ. واللهُ أعلمُ. فصل: ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ بضَرْبَةٍ واحِدَةٍ وبضَرْبَتَين، وإن تَيَمَّمَ بأكْثَرَ مِن ضَرْبَتَين جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ إيصالُ التُّرابِ إلى مَحَلِّ الفَرْضِ، فكَيفَما حَصَل جاز، كالوُضُوءِ. فإن تَيَمَّمَ ¬

(¬1) في الأصل: «يجب».

وَقَال الْقَاضِي: الْمَسْنُونُ ضَرْبَتَانِ، يَمْسَحُ بإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ، وَبِالأُخْرَى يَدَيهِ إِلَى الْمِرْفَقَينِ، فَيَضَعُ بُطُونَ أصَابِعِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ أصَابِعِ الْيُمْنَى، وَيُمِرُّهَا إِلَى مِرْفَقِهِ، ثُمَّ يُدِيرُ بَطْنَ كَفِّهِ إلَى بَطنِ الذِّرَاعِ ويُمِرُّهَا عَلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بضَرْبَةٍ، فإنَّه يَمْسَحُ وَجْهَه بباطِنِ أصابِعِه، وظاهِرَ كَفَّيهِ إلى الكُوعَين بباطِنِ راحَتَيه، ويُسْتَحَبُّ أنْ يَمْسَحَ إحْدَى الرّاحَتَين بالأُخْرَى، ولا يَجبُ ذلك؛ لأنَّ فَرْضَ الرَّاحَتَين قد سَقَط بإمْرارِ كلِّ واحدَةٍ على ظَهْرِ الكَفِّ. ويُفَرِّقُ أصابِعَه عندَ الضَّربِ؛ ليَدْخُلَ الغُبارُ فيما بَينَها. وإن كان التُّرابُ ناعِمًا، فوَضَعَ اليَدَين عليه وَضْعًا، أجْزأَة. وإن مَسَح بضَرْبَتَين، مَسَح بإحْداهما وَجْهَه، وبالأُخْرَى يَدَيه. قال ابنُ عَقِيلٍ: رَأيتُ التَّيَمُّمَ بضَرْبَةٍ واحِدَةٍ قد أسْقَطَ تَرْتِيبًا مُسْتَحَقًّا في الوُضُوءِ، وهو أنَّه يَعْتَدُّ بمَسْحِ باطِنِ أَصابِعِه مع مَسْحِ وَجْهِه، وكَيفَما مَسَح بعدَ أن يَسْتَوْعِبَ مَحَلَّ الفَرْضِ أَجْزأه. فصل: والمَسْنُونُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، التَّيَمُّمُ بضَرْبَةٍ كما وَصَفْنا. نَصَّ عليه. (وقال القاضِي): التَّيَمُّمُ بضَرْبَةٍ إلى الكُوعَين صِفَةُ الإِجْزاءِ و (المَسْنُونُ ضَرْبَتان؛ يَمْسَحُ بأُولاهُما وَجْهَه، وبالأُخْرَى يَدَيه إلى المِرْفَقَين، فيَضَعُ بُطُونَ أَصابعِ اليُسْرَى على ظَهْرِ أصابِعِ اليُمْنَى ثم يُمِرُّها إلى مِرْفَقِه، ثم يُدِيرُ بَطنَ كَفِّه إلى بَطنِ الذِّراعِ، ويمِرُّها عليه،

ويُمِرُّ إِبْهَامَ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِ الْيُمْنَى، وَيَمْسَحُ الْيُسْرَى بالْيُمْنَى كَذَلِكَ، وَيَمْسَحُ إِحْدَى الرَّاحَتَينِ بِالأخْرَى، وَيُخَلِّلُ الأصَابِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُمِرُّ إبْهامَ اليُسْرَى على ظَهْرِ إبهامِ اليُمْنَى، ثم يَمْسَحُ يَدَه اليُسْرَى بيَدِه اليُمْنَى كذلك، ويَمْسَحُ إحْدَى الرّاحَتَين بالأُخْرَى) ويُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُ الأصابِعِ قِياسًا على الوُضُوء، وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أَنَّه قد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه تَيَمَّمَ بضَرْبَتَين إلى المرْفقَين، وأقلُّ أحْوالِ فِعْلِه إذا يَدُلَّ على الإِيجابِ الاسْتِحْبابُ. الثاني، أنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ. وإنَّما اخْتارَ الإِمامُ أحمدُ الأوَّلَ؛ لأنَّ الأحادِيثَ الصَّحِيحةَ إنَّما جاء فيها المَسْحُ إلى الكُوعَين. فصل: وإذا وَصَل التُّرابُ إلى وَجْهِه ويَدَيه بغيرِ ضَرْبٍ، نَحْوَ أنْ نَسَفَتِ الرِّيحُ عليه غُبارًا، فإن لم يَكُنْ قَصَد الرِّيحَ ولا صَمَد لها، فمَسَحَ وَجْهَه بما عليه لم يُجْزِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَر بقَصْدِ الصَّعِيدِ، ولم يُوجَدْ، وإن مَسَح وَجْهَه بغيرِ ما عليه أجْزأه؛ لأنَّه قد أخَذَ التُّرابَ لوَجْهِه، فلا فرْقَ بينَ أن يَأْخُذَه مِن ثِيابِه، أو مِن الأرْضِ، وإن كان صَمَد للرِّيحِ، وأحْضَرَ النِّيَّةَ، فقال القاضي والشَّرِيفُ أبُو جَعْفَرٍ: يُجْزِئُه كما لو صَمَد للمَطرَ حتى جَرَى على أعْضائِه. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّه لا يُجْزِئُه. وهو اخْتِيارُ ابنِ عَقِيل؛ لأنَّه لم يَمْسَحْ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى بالمَسْحِ. فعلى هذا، إن مَسَح وَجْهَه بما عليه أجْزأه؛ لحُصُولِ المَسْحِ، ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 324.

191 - مسألة: (ومن حبس في المصر صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه)

وَمَنْ حُبِسَ فِي الْمِصْرِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بقَصْدِ الصَّعِيدِ والمَسْحِ به. واللهُ أعلمُ. فصل: وإذا عَلا على يَدَيه تُرابٌ كَثِيرٌ، لم يُكرَهْ نَفْخُه؛ لأنَّ في حَدِيثِ عَمّارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَب بيَدَيه الأرْضَ، ونَفَخ فيهما. قال أحمدُ: لا يَضُرُّه، فَعَل أو لم يَفْعَلْ. وهذا قولُ ابنِ المُنْذِرِ. ومِمَّن لم يَكْرَهْ نَفْخَ اليَدَين ونَفْضَهما الشَّعْبِيُّ. وقال مالكٌ: نَفْضًا خَفِيفًا. وقال الشافيُّ: لا بَأْس به إذا بَقِي على يَدَيه غُبارٌ. وهو قولُ إسحاقَ. وقال أصحابُ الرَّأْي: يَنْفُضُهما. وكان ابنُ عُمَرَ لا يَنْفُضُ يَدَيه. وذَكَر القاضي وابنُ عَقِيلٍ رِوايَةً، أنَّه يُكْرَهُ, كما يُكْرَهُ نَفْضُ الماءِ عن اليَدَين في الوُضوءِ. فإن كان التُّرابُ خَفِيفًا، فقال أصحابُنا: يُكْرَهُ نَفْخُه، روايةً واحِدَةً. فإن ذَهَب ما عليهما بالنَّفْخِ، أعاد الضَّرْبَ؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بالمَسْحِ بشيءٍ مِن الصَّعِيدِ. 191 - مسألة: (ومَن حُبِس في المِصْرِ صَلَّى بالتَّيَمُّمِ، ولا إعادَةَ عليه) قد ذَكَرْنا أنَّ مَن صَلَّى بالتَّيَمُّمِ في الحَضَرِ لعَدَمِ الماءِ،

192 - مسألة: (ولا يجوز لواجد الماء التيمم خوفا من فوات المكتوبة، ولا الجنازة. وعنه، يجوز للجنازة)

وَلَا يَجُوزُ لِوَاجِدِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَا الْجِنَازَةِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ لِلْجِنَازَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هل تَجِبُ عليه الإِعادَةُ؟ فيه رِوايَتان على الإِطْلاقِ؛ إحْداهما، لا تَجِبُ عليه الإِعادَةُ. وهو مذهبُ مالكٍ، قِياسًا على السَّفَرِ. والثانيةُ، تَجِبُ عليه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه عُذْرٌ نادِرٌ، فلا يُلْحَقُ بالغالِبِ. وعنه، لا يُصَلِّي حتى يَجِدَ الماءَ، أو يُسافِرَ. ذَكَره في «المُحَرَّرِ» (¬1). وقال أبو الخَطّابِ: لا تَجِبُ عليه الإِعادَةُ في هذه المَسْألَةِ. وهو الصحيحُ، إن شاء اللهُ تعالى، وذَكَر في غيرِها رِوايَتَين. ووَجْهُ قولِ أبي الخَطّابِ أنَّ هذا عادِمٌ للماءِ بعُذْرٍ مُتَطاولٍ مُعْتادٍ، أشْبَهَ المُسافِرَ. 192 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لواجِدِ الماءِ التَّيَمُّمُ خَوْفًا مِن فَواتِ المَكْتُوبَةِ، ولا الجِنازَةِ. وعنه، يَجُوزُ للجِنازَةِ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه إذا كان الماءُ مَوْجُودًا، إلَّا أنَّه إن اشْتَغَلَ بتَحْصِيلِه واسْتِعْمالِه فات الوَقْتُ، لم يُبَحْ له التَّيَمُّمُ، سَواءٌ كان حاضِرًا أو مُسافِرًا، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشافيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن الأوزْاعِيِّ، ¬

(¬1) في م: «المجرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ: له التَّيَمُّمُ. ورُوي عن مالكٍ، وسعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، نَحْوُ القَوْلِ الأوَّلِ؛ لقَوْلِ الله تِعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. وحَدِيثِ أبي ذَرٍّ، وهذا واجِدٌ للماءِ، ولأنَّه قادِرٌ على الماءِ، فلم يَجُزْ له التَّيَمُّمُ, لو لم يَخَفْ فوْتَ الوَقْتِ. ولأنَّ الطهارةَ شَرْطٌ، فلم يُبَحْ تَرْكُها خِيفةَ فَوْتِ وَقْتِها، كسائِرِ شَرْائِطِها. وإن خاف فَوْتَ العِيدِ فكذلك. وقال الأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي: له التَّيَمُّمُ؛ لأنَّه يَخافُ فَوْتَها بالكُلِّيَّةِ، فأشْبَهَ العادِمَ. ووَجْهُ الأوَّلَ، ما ذَكَرْنا مِن الآيَة، والمَعْنَى. فأمّا إن خاف فَوْتَ الجِنازَةِ، ففيه رِوايَتان؛ أظْهَرُهما، لا يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ؛ لِما ذَكَرْنا. وهو قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. والثانيةُ، يَجُوزُ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ عباسٍ. وبه قال النَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، والحسنُ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِدْراكُها بالوُضُوءِ، أشْبَهَ العادِمَ. وقال الشَّعْبِيُّ: يُصَلِّي عليها مِن غيرِ وُضُوءٍ ولا تَيَمُّمٍ؛ لأنَّه لا رُكُوعَ فيها ولا سُجُودَ، أشْبَهَتِ الدُّعاءَ في غيرِ الصلاةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيرِ طَهُورٍ» (¬1). ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. الآيةُ، ثم أباحَ تَرْكَ الغَسْلِ مَشْرُوطًا بعَدَمِ الماءِ، بقولِه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. ليَبْقَى فيما عَداه على قَضِيَّةِ العُمُومِ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب وجوب الطهارة للصلاة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 204. وأبو داود، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 14. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 8. والنسائي، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة، وفي: باب الصدقة من غلول، من كتاب الزكاة. المجتبى 1/ 75، 5/ 42. وابن ماجه، في: باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 100. والدارمي، في: باب لا تقبل الصلاة بغير طهور، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 20، 39، 51، 57، 73، 5/ 74، 75.

193 - مسألة: (وإن اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض، فبذل ماء يكفي أحدهم، لأولاهم به، فهو للميت. وعنه، أنه للحي. وأيهما يقدم؟ فيه وجهان)

وَإنِ اجْتَمَعَ جُنُبٌ، وَمَيِّتٌ، وَمِنْ عَلَيهَا غُسْلُ حَيضٍ، فَبُذِلَ مَاءٌ يَكْفِي أَحَدَهُمْ لأَوْلَاهُمْ بِهِ، فهُوَ لِلْمَيِّتِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ لِلْحَيِّ. وَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 193 - مسألة: (وإنِ اجْتَمَعَ جُنُبٌ ومَيِّتٌ ومَن عليها غُسْلُ حَيضٍ، فبُذِلَ ماءٌ يَكْفِي أحَدَهم، لأوْلاهُم به، فهو للمَيِّتِ. وعنه، أنَّه للحَيِّ. وأيُّهما يُقدّمُ؟ فيه وَجْهان) وجُمْلَتُه، أنَّه إذا اجْتَمَعَ جُنُبٌ ومَيِّت ومَن عليها غُسْلُ حَيضٍ، ومعهم ماءٌ لا يَكْفِي إلَّا أحَدَهم؛ فإن كان مِلْكًا لأحَدِهم، فهو أحَقُّ به؛ لأنَّه مُحْتاج إليه لنَفْسِه، ولا يَجُوزُ له بَذْلُه لغيرِه. وإن كان الماءُ لغيرِهم، فأرادَ أن يَجُودَ به على أوْلاهُم به، ففيه رِوايَتان؛ أُولاهُما، أنَّ المَيِّتَ أحَقُّ به؛ لأنَّ غُسْلَه خاتِمَة طَهارَتِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاحِباه يَرْجِعان إلى الماءِ فيَغْتَسِلان، ولأنَّ القَصْدَ بغُسْلِ المَيِّتِ تَنْظِيفُه، ولا يَحْصُلُ بالتَّيَمُّمِ، والحَيُّ يُقْصَدُ بغُسْلِه إباحَةُ الصلاةِ، وذلك يَحْصُلُ بالتُّرابِ. والثانيةُ، الحَيُّ أوْلَى؛ لأنَّه مُتَعَبِّدٌ بالغُسْلِ مع وُجُودِ الماءِ، والمَيِّتُ قد سَقَط الفَرْضُ عنه بالمَوْتِ، ولأنَّ الحَيَّ يَسْتَفِيدُ ما لا يَستَفِيدُ المَيِّتُ؛ مِن قِراءَةِ القرآنِ، ومَسِّ المُصْحَفِ، والوَطْءِ. اخْتارَها الخَلّالُ. وهل يُقَدَّمُ الجُنُبُ أو الحائِضُ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الحائِضُ، لأنَّها تَقْضِي حَقَّ اللهِ تعالى، وحَقَّ زَوْجِها في إباحَةِ وَطْئِها. والثاني، الجُنُبُ أحَقُّ إذا كان رجلًا؛ لأنَّه يَصْلُحُ إمامًا لها، ولا تَصْلُحُ لإِمامَتِه. وإن كان على أحَدِهم نَجاسَةٌ فهو أوْلَى؛ لأنَّ طهارةَ الحَدَثِ لها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَدَلٌ مُجْمَعٌ عليه، بخِلافِ النَّجاسَةِ. وإن وَجَدُوا الماءَ في مَكانٍ، فهو للأحْياءِ؛ لأنَّه لا وجْدانَ للمَيِّتِ. وإن كان للمَيِّتِ ففَضَلَتْ منه فَضْلَةٌ، فهو لوَرَثَتِه، فإن لم يَكُنْ له وارِثٌ حاضِرٌ، فللحَيِّ أخْذُه بقِيمَتِه؛ لأنَّ في تَرْكِه إتْلافَه. وقال بَعْضُ أصحابِنا: ليس له أخْذُه؛ لأنَّ مالِكَه لم يَأْذَنْ فيه، إلَّا أن يَحْتاجَ إليه للعَطَشِ، فيَأخُذَه بشَرْطِ الضَّمانِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اجْتَمَع جُنُبٌ ومُحْدِثٌ، وكان الماءُ لا يَكْفِي الجُنُبَ، فهو أوْلَى؛ لأنَّه يَسْتَفِيدُ به ما لا يَسْتَفِيدُه المُحْدِث. وإن كان فوقَ حاجَةِ المُحْدِثِ فهو أوْلَى به؛ لأنَّه يَسْتَفِيدُ به طهارةً كامِلَةً. وإن كان لا يَكْفِي واحِدًا منهما، فالجُنُبُ أوْلَى به، لأنَّه يَسْتَفِيدُ به تَطْهِيرَ بَعْضِ أعْضائِه. وإن كان يَفْضُلُ عن كلِّ واحدٍ منهما فَضْلَةٌ لا تَكْفِي صاحِبَه، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، يُقَدَّمُ الجُنُبُ؛ لأنَّه يَسْتَفِيدُ بغُسْلِه ما لا يَسْتَفِيدُه المُحْدِثُ. والثاني، يُقَدَّمُ المُحْدِثُ؛ لأنَّ فَضْلَتَه يَلْزَمُ الجُنُبَ اسْتِعْمالُها، رِوايةً واحِدَةً. والثالثُ، التَّسْويَةُ؛ لأنَّه تَقابَلَ التَّرْجِيحان فتَساوَيا، فيُدْفَعُ إلى أحَدِهما، أو يُقْرَعُ بينَهما، وإذا تَغَلَّبَ مَن غيرُه أوْلَى منه على الماءِ، فاسْتَعْمَلَه، كان مُسِيئًا، وأجْزأه، لأنَّ الآخَرَ لم يَمْلِكْه، وإنَّما رَجَح لشِدَّةِ حاجَتِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل يُكْرَهُ للعادِمِ جِماعُ زَوْجَتِه إذا لم يَخَفِ العَنَتَ؟ فيه رِوايَتان: إحْداهما، يُكْرَهُ. يُرْوَى نَحْوُه عن مالكٍ؛ لأنَّه يُفَوِّتُ على نَفْسِه طهارةً مُمْكِنًا بَقاؤُها. والثانية، لا يُكْرَهُ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ مسعودٍ، رَضِي اللهُ عنهم. وهو قولُ الزُّهْرِيِّ، وجابرِ بنِ زيدٍ (¬1)، والحسنِ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ. وحُكِي عن عَطاءٍ: إن كان بينَه وبينَ الماءِ أرْبَعُ لَيالٍ فأَكْثَرُ فليُصِبْ أهْلَه، وإن كان ثلاث لَيالٍ فما دُونَها، فلا يُصِبْها. وقال الزُّهْرِيُّ: إن كان في سَفَرٍ فلا يَقْرَبْها حتى يَأْتِيَ الماءَ، وإن كان الماءُ مُعْزِبًا فلا بَأْسَ أن يُصِيبَها. والأوْلَى جَوازُ وَطْئِها مُطْلَقًا ¬

(¬1) أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي الفقيه بالبصرة، توفي سنة ثلاث مائة، وقيل: سنة ثلاث وتسعين. طبقات الفقهاء، للشيرازي 88، العبر 1/ 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ كَراهَةٍ؛ لأنَّ أبا ذَرٍّ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي أعْزُبُ عن الماءِ ومعي أهْلِي، فتُصِيبُنِي الجَنابَةُ، فأُصَلِّي بغيرِ طَهُورٍ؟ فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورٌ». رَواه أبو داودَ والنَّسائِيُّ (¬1). وأصاب ابنُ عباسٍ جارِيَةً له رُومِيَّةً، وهو عادِمٌ للماءِ، وصَلَّى بأصحابِه وفيهم عَمّارٌ، فلم يُنْكِرْه (¬2). قال إسحاقُ بنُ راهُويَه: هو سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أبي ذَرٍّ وعَمّارٍ وغيرِهما. فإذا فَعَلا ووَجَدا مِن الماءِ ما يَغْسِلان به فَرْجَيهِما، غَسَلاهما ثم تَيَمَّما، وإن لم يَجدا تَيَمَّما للجَنابَةِ والحَدَثِ الأصْغَرِ والنَّجاسَةِ، وصَلَّيا. ويَجُوزُ للمُتَيَمِّمِ أَن يُصَلِّيَ بالمُتَوَضِّئِين، لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ عَمْرِو بنِ العاصِ، رَضِي اللهُ عنه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 206. (¬2) في م: «ينكروه».

باب إزالة النجاسة

بَابُ إِزَالةِ النَّجَاسَةِ لَا تَجُوزُ إِزَالتهَا بِغَيرِ الْمَاء. وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهَا تُزَالُ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيل؛ كَالْخَلِّ، وَنَحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ إزالةِ النَّجاسَةِ (لا تَجُوزُ إزالتُها بغيرِ الماءِ) في المَشْهُورِ مِن المَذْهَبِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، وزُفَرُ. ورُوِيَ عن أحمدَ (ما يَدُلُّ على أنَّها تُزالُ بكلِّ مائِعٍ طاهِرٍ مُزِيلٍ) للعَينِ والأثَرِ، (كالخَلِّ، ونَحْوه) وماءِ الوَرْدِ، وماءِ الشَّجَرِ ونَحْوه. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِناءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان إلخ، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 54. ومسلم في: باب حكم ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 234، 235. كما أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء بسؤر الكلب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17، 18. والترمذي، في: باب ما جاء في سؤر الكلب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 133. والنسائي، في: باب سؤر الكلب، وفي: باب الأمر بإراقة ما في الإناء إذا ولغ الكلب فيه، وفي: باب تعقير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب، من كتاب الطهارة، وفي: باب سؤر الكلب، وفي: باب تحفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 46، 47، 144، 145. وابن ماجه، في: باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 130. والدارمي، في: باب في ولوغ الكلب، في كتاب الصلاة والطهارة، سنن الدارمي 1/ 188. والإمام مالك، في: باب جامع الوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 34. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 245، 253، 265، 271، 314، 360، 398، 424، 427، 460، 480، 482، 508، 4/ 86، 5/ 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أطْلَقَ الغَسْلَ فتَقْيِيدُه بالماءِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، ولأنَّه مائِعٌ طاهِرٌ مُزِيلٌ، فجازَتْ إزالةُ النَّجاسةِ به، كالماءِ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسماءَ (¬1): «إِذَا أصَابَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّ بِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أنَسِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بذنُوبٍ مِن ماءٍ فأُهْرِيقَ على بَوْلِ الأعْرابِيِّ (¬3). وهذا أمْرٌ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، ¬

(¬1) إنما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لامرأة جاءت تسأله، وروت هذا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب غسل الدم، من كتاب الوضوء؛ وفي: باب غسل دم الحيض، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 66، 84. ومسلم، في: باب نجاسة الدم وكيفية غسله، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 240. كما أخرجه أبو داود، في: باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، من كتاب الطهارة. . . سنن أبي داود 1/ 87. والترمذي، في: باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب. من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 219. والنسائي، في: باب دم الحيض يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. وفي: باب دم الحيض يصيب الثوب، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 126، 127، 160، 161 وابن ماجه، في: باب ما جاء في دم الحيض يصيب الثوب، من كتاب الطهارة 1/ 206. والدارمي، في: باب في دم الحيض يصيب الثوب، من كتاب الصلاة والطهارة. سنن الدارمي 1/ 197. والإمام مالك، في: باب جامع الحيضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 60، 61. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 345، 346، 353. وجاء «فلتقرضه» عند الإمام أحمد، وورد: «فلتقْرُصْه» و «ثم اقْرُصيه». و «ثم تقرصُه» في بقية المواضع. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب يهريق الماء على البول، من كتاب الوضوء، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسروا ولا تعسروا، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 65، 8/ 37. ومسلم، في: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 236، 237. كما أخرجه أبو داود، في: باب الأرض يصيبها البول، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 90، 91. والترمذي، في: باب ما جاء في البول يصيب الأرض، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 243، 244. والإمام مالك، في: باب ما جاء في البول قائمًا وغيره، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 64، 65. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 239، 282، 3/ 110، 111، 167.

194 - مسألة: (ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير سبعا، إحداهن بالتراب)

وَيَجِبُ غَسْلُ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ سَبْعًا، إحدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها إحدَى الطَّهارَتَين المُشْتَرَطَةُ للصلاةِ، فأشْبهتْ طهارةَ الحَدَثِ، ومُطْلَقُ حَدِيثهم مُقَيَّدٌ بحَدِيثنا، والماءُ مُخْتَصٌّ بإحْدَى الطَّهارَتَين، فكذلك الأخْرَى، فأمّا ما لا يُزِيلُ كالمَرَقِ واللَّبَنِ والدُّهْنِ ونَحوه، فلا خِلافَ في أنَّ النَّجاسَةَ لا تَزُولُ (¬1) به. واللهُ أعلمُ. 194 - مسألة: (ويَجِبُ غَسْلُ نَجاسَةِ الكَلْبِ والخِنْزِيرِ سَبْعًا، إحداهُنَّ بالتُّرابِ) لا يَخْتَلِف المَذْهبُ في نَجاسَةِ الكلبِ والخِنْزِيرِ وما تَوَلَّد منهما، أنَّه نَجِسٌ، عَينُه وسُورُه وعَرَقُه، وكلُّ ما خَرَج منه. رُوِيَ ذلك عن عُرْوَةَ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ، وأبي عُبَيدَةَ. وبه قال أبو حَنِيفةَ في السُّورِ. وقال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وداودُ: سُورُهما طاهِرٌ، يَتَوَضَّأُ منه، وإن وَلَغا في طعامٍ لم يحرُم أكْلُه. وقال الزُّهْرِيُّ: يَتَوَضّأ منه إذا لم يَجِد ¬

(¬1) في م: «تزال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرَه. وقال عَبْدَةُ بنُ أبي لُبَابَةَ (¬1)، والثَّوْرِيُّ، وابنُ الماجِشُون: يَتَوَضّأ، ويَتَيَمَّمُ. قال مالك: ويَغْسِلُ الإِناءَ الذي وَلَغ فيه الكلبُ، تَعَبُّدًا. في احْتَجَّ بَعضُهم على طَهارَتِه، بأنَّ الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} (¬2). ولم يَأمر بغَسْلِ أثَرِ فَمِه. وروَى أبو سعيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الحِياضِ التي بينَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، تَرِدُها السِّباعُ والكلابُ والحُمُرُ، وعن الطهارةِ بها، فقال: «لَها مَا حَمَلَتْ فِي بُطونِها، وَلَنا مَا غَبَرَ طَهُورٌ». رَواه ابنُ ماجَه (¬3). ولأنَّه حَيَوانٌ يَجُوزُ اقْتِناؤه، ويَشُقُّ الاحتِرازُ منه، فكان طاهِرًا كالهِرِّ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أحَدِكُم فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا». مُتَّفَقٌ عليه. ولمسلم: «فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ». ولو كان سُؤرُه طاهرًا لم ¬

(¬1) أبو القاسم عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغضائري، مولاهم، كوفيّ ثقة، نزل دمشق، وروى عن ابن عمر وابن عمرو وغيرهما. تهذيب التهذيب 6/ 461، 462. (¬2) سورة المائدة 4. (¬3) في: باب الحياض، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجُزْ إراقَتُه، ولا وَجَب غَسْلُه. فإن قالوا: إنَّما وَجَب غَسْلُه تَعَبُّدًا، كما تُغْسَلُ أعضاءُ الوُضوءِ، وتُغْسَلُ اليَدُ مِن نَوْمِ اللَّيلِ. قُلْنا: الأصلُ وُجوبُ الغَسْلِ عن النَّجاسَةِ، كما في سائِرِ الغَسْلِ، ثم لو كان تَعَبُّدًا لَما أمَرَ بإراقَةِ الماءِ، ولَما اخْتَصَّ للغَسْلَ بمَوْضِع الوُلُوغِ؛ لعُمُومِ اللَّفْظِ في الإِناءِ كله، وأمّا غَسْلُ اليَدِ مِن نَوْمِ اللَّيلِ، فإنَّما أمَرَ به للاختِياطِ؛ لاحتِمالِ النَّجاسَةِ، والوُضُوءُ شُرِع للوَضاءَةِ والنَّظافَةِ؛ ليَكُونَ العَبْدُ في حالِ قِيامِه بينَ يَدَيِ الله تِعالى على أحسَنِ حالٍ وأكْمَلِها، ثم إن سَلّمنا ذلك، فإنَّما عَهِدنا التَّعَبُّدَ في غَسْلِ البَدَنِ أنها الآنِيَةُ والثِّيابُ فإنَّما يَجِبُ غَسْلُها مِن النَّجاساتِ، وقد رُوِيَ في لَفْظٍ: «طَهُورُ إنَاءِ أحدِكُم إِذَا، وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا». أخْرَجَه أبو داودَ (¬1). ولا يَكُونُ الطَّهُورُ إلَّا في مَحَلِّ الطَّهارَةِ. وقَولُهم: إنَّ الله تعالى أمَرَ بأكْلِ ما أمسَكَه الكلبُ قبلَ غَسْلِه. قُلْنا: اللهُ تعالى أمَر بأكْلِه، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِغَسْلِه، فيُعمَلُ بأمرِهما. وإن سَلَّفنا أنه لا يجبُ غَسْلُه، فلأنَّه يَشُقُّ، فعُفِيَ عنه، وحَدِيثُهم قَضِيَّة في عَين؛ يَحْتَمِلُ أنَّ الماءَ المَسْئُولَ عنه كان كَثِيرًا، ولذلك قال في مَوْضِعٍ آخَرَ، ¬

(¬1) في: باب الوضوء بسؤر الكلب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17، 18، وتقدم تخريجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَ سُئِل عن الماءِ، وما يَنُوبُه مِن السِّباعِ فقال: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَينِ لَمْ يَحمِلِ الْخَبَثَ» (¬1). ولأنَّ لَنا رِوايَةً أنَّ الماءَ لا يَنْجُسُ إلَّا بالتَّغَيُّرِ (¬2)، فلذلك (¬3) لا يُنَجِّسُ الماءَ شُربُها منه، وقِياسُهم على الهِرِّ في مُعارَضة النَّصِّ لا يَصِحُّ، والفَرقُ بينَهما، أنَّ الكلبَ يَأكُلُ النَّجاساتِ عادَةً، بخِلافِ الهِرِّ. واللهُ أعلم. وإذا ثَبَتَتْ نَجاسَةُ الكلبِ، ثَبَتَتْ نَجاسَةُ الخِنْزِيرِ بطرِيقِ التنبِيهِ؛ لأنَّه شَرٌّ منه، وقد نَصَّ الشّارِعُ على تَحرِيمِه، فكان تَنْجِيسُه أوْلَى. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَجِبُ غَسْلُها إذا كانت على غيرِ الأرض سَبْعًا إحداهُنَّ بالتُّرابِ، ومِمَّن قال: يُغْسَلُ سَبْعَ مَرّاتٍ. أبو هُرَيرَةَ، وابنُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما ينجس من الماء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 15. والترمذي، في: باب من أن الماء لا ينجسه شيء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 85. والنسائي، في: باب التوقيت في الماء، من كتاب الطهارة، ومن كتاب المياه. المجتبى 1/ 42، 142. وابن ماجه، في: باب مقدار الماء الذي لا ينجس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 12، 38. هو عند ابن ماجه والإمام أحمد في المسند 2/ 23، 27. 107: «إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء». (¬2) في م: «بالتغيير». (¬3) في الأصل: «فكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباسٍ، وعُروَةُ، وطاوُسٌ، وعَمرُو بنُ دِينارٍ (¬1)، والأوْزاعِيُّ، والشافعيّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الزُّهْري: يُغْسَلُ ثلاثَ مَرّاتٍ. وقال عَطاءٌ: كلٌّ قد سَمِعْتُ، ثَلاثًا، وخَمْسًا، وسَبْعًا. وعن أحمدَ، أنه يَجِبُ غَسْلُها ثَمانِيًا، إحداهُنَّ بالتُّرابِ. وهو رِوايَةٌ عن الحسنِ، لأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإنَاءِ، فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتراب». رَواه مسلمٌ (¬2). ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأولَى، ما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي ¬

(¬1) أبو محمد عمرو بن دينار، من فقهاء التابعين بمكة، توفي سنة ست وعشرين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 70. (¬2) في: باب حكم ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 235. وكذلك أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء بسؤر الكلب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 18. والنسائي، في: باب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 47. وابن ماجه، في: باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 130. والدارمي، في: باب في ولوغ الكلب، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 188. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 86، 5/ 56. وبلفظ «أولاهن بالتراب» أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في سؤر الكلب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 133. والنسائي، في: باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه. المجتبى من السنن 1/ 144، 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَاءِ أحَدِكم فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا، أُولاهُنَّ بِالترابِ». رَواه مسلم. وهذه الرِّوايَةُ أصَحُّ. ويُحمَلُ هذا الحَدِيثُ على أنه عَدَّ التُّرابَ ثامِنَةً؛ لكَوْنِه جِنْسًا آخَرَ، جَمعًا بينَ الخَبَرَين. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ العَدَدُ في شيءٍ مِن النَّجاساتِ، إنَّما يُغْسَلُ حتى يَغْلِبَ على الظنِّ نَقاؤه من النَّجاسَة، لأنَّه رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال في الكلبِ يَلَغُ في الإِناءِ: «يُغْسَلُ ثَلَاثًا، أو خَمسًا، أو سَبْعًا» (¬1). فلم يُعَيِّنْ عَدَدًا، ولأنَّها نَجاسَة فلم يَجِبْ فيها العَدَدُ،؛ لو كانت على الأرضِ. ولَنا، ما ذَكَرنا مِن الحَدِيثَين، وحَدِيثُهم يَرويه عبدُ الوَهّابِ بنُ الضَّحّاكِ (¬2)، وهو ضَعِيفٌ، فلا يُعارِضُ حَدِيثَنا. وقد روَى غيرُه مِن الثقاتِ: «فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا». وعلى أنَّه يَحتَمِلُ الشَّكَّ مِن الرّاوي، فيَنْبغي أن يُتَوَقَّفَ فيه، والأرضُ سُومِحَ في غَسْلِها للمَشَقَّةِ، بخِلافِ غيرِها. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب ولوغ الكلب في الإناء، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 65. (¬2) هو عبد الوهاب بن الضحاك بن أبان السلمي العرضي الحمصي. انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال 2/ 679، 680، وتهذيب التهذيب 6/ 446 - 448.

195 - مسألة: (فإن جعل مكانه أشنانا أو نحوه، فعلى وجهين)

فَإِنْ جَعَلَ مَكَانَهُ أُشنَانًا أَوْ نحوَهُ، فَعَلَى وجهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 195 - مسألة: (فإن جَعَل مَكانَه أُشْنانًا أو نَحوَه، فعلى وَجْهين) يَعنِي إن جَعَل مكانَ التُّرابِ، في غَسْلِ نَجاسَةِ الكَلْبِ، غيره مِن الأشْنانِ والصّابُونِ والنُّخالةِ (¬1)، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، لا يُجْزِئُه، لأنَّه طهارةٌ أُمِر فيها بالتُّرابِ، فلم يَقُم غيرُه مَقامَه، كالتَّيَمُّمِ، ولأن الأمرَ به تَعَبُّدٌ، فلا يُقاسُ عليه، والثاني، يُجْزِئُه، لأنَّ هذه الأشْياءَ أبلَغُ مِن التُّرابِ في الإزالةِ، فنَصُّه على التُّرابِ تَنْبِيهٌ عليها، ولأنَّه جامِدٌ أُمِر به في إزالةِ النَّجاسَةِ، فألحِقَ به ما يُمَاثِلُه، كالحَجَرِ في الاستِجْمارِ. وقال ابنُ حامِدٍ: إنَّما يَجُوزُ العُدُولُ إلى غيرِ التُّرابِ عندَ عَدَمِه، أو فَسادِ المَحَلِّ المَغْسُولِ به، فأمّا ¬

(¬1) النخالة: قشر الحب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع وُجُودِه، وعَدَمِ الضَّرَرِ فلا. فإن جَعَل مَكانَه غَسْلَةً ثامِنَةً، فقال بَعْضُ أصحابِنا: فيه وَجْهان. والصحيحُ أنها لا تَقومُ مُقامَ التُّرابِ، لأنَّه إن كان القَصدُ به تَقْويةَ الماءِ في الإِزالةِ، فذلك لا يَحصُلُ مِن الثّامِنَةِ، وإن وَجَب تَعَبُّدًا، امتَنَع إبْدالُه، والقِياسُ عليه. والله أعلمُ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). فصل: ولا فَرقَ بينَ غَسْلِ النَّجاسةِ مِن وُلُوغِ الكَلْبِ، أو يَده أو رِجْلِه، أو شَعَرِه، أو غيرِ ذلك مِن أجْزائِه، قِياسًا على السُّؤرِ، ولأنَّ ذلك حُكْمُ غيرِه مِن الحيواناتِ، فكذلك الكلبُ. وحُكْمُ الخِنْزِيرِ في سُورِه، وسائِرِ أجْزائِه، حُكْمُ الكلبِ، على ما فَصَّلْنا، لأنَّه شَرٌّ منه، وقد نَصَّ الشّارِعُ على تَحْرِيمهِ، وأجْمَعَ المُسْلِمون عليه، ولا يُباحُ اقْتِناؤه بحَالٍ، فثَبَتَ الحُكْمُ فيه بطرَيِقِ الأوْلَى. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَلَغ في الإِناءِ كِلابٌ، أو أصاب المَحَلَّ نَجاساتٌ مُتَساويَةٌ في الحُكْمِ، فهي كنَجاسَةٍ واحِدَةٍ، وإن كان بَعضُها أغْلَظَ، كالوُلُوغِ مع غيرِه، فالحُكْمُ لأغْلَظِها، ويَدْخُلُ فيه ما دُونَه. ولو غَسَل الإناءَ دُونَ السبع، ثم وُلِغَ فيه مَرَّةً أخْرَى، فغَسَلَه سَبْعًا أجْزأ؛ لأنَّه إذا أَجْزأ عَمّا يُماثِلُ، فعَمّا دُونَه أوْلَى. فصل: والمُسْتَحَبُّ أن يَجْعَلَ التُّرابَ في الغَسْلَةِ الأولَى؛ لمُوافَقَةِ لَفْظِ الخَبَرِ، وليَأتِيَ الماءُ بعدَه فيُنَظِّفَه، ومتي غَسَل به أجْزأه، لأنه رُوِيَ في حديثٍ: «إحدَاهُنَّ». وفي حديثٍ: «أولاهُنَّ». وفي حديثٍ: «في الثَّامِنَةِ». فيَدُلُّ على أنَّ مَحَلَّ التُّرابِ مِن الغَسَلاتِ غيرُ مَقْصُودٍ. فصل: وإذا غَسَل مَحَلَّ الوُلُوغِ، فأصابَ ماءُ بَعْضِ الغَسَلاتِ مَحَلًّا آخَرَ قبلَ إتْمامِ السَّبْعِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَجبُ غَسْلُه سَبْعًا. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِي، واخْتِيارُ ابنِ حامد؛ لَأنَّها نَجاسَةٌ، فلا يُراعَى فيها حُكْمُ المَحَلِّ الذي انْفَصَلَتْ عنه، كنَجاسَةِ الأرضِ، ومَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ. والثاني، يجبُ غَسْلُه مِن الأولَى سِتًّا، ومِن

196 - مسألة: (وفي سائر النجاسات ثلاث روايات؛ إحداهن،

وَفِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إِحدَاهُنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانية خمسًا، كذلك إلى آخِرِه؛ لأنَّها (¬1) نَجاسَة تَطْهُرُ في مَحلها بدونِ السبعِ، فطَهُرتْ به في مِثْلِه قِياسًا عليه، وكالنَّجاسَةِ على الأرضِ. وتُفارِق المُنْفَصِلَ عن الأرض ومَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ؛ لأنَّ العِلَّةَ في خِفَّتِها المَحَلُّ، وقد زالتْ عنه، فزال التَّخْفِيفُ، والعِلَّةُ في تَخْفِيفِها ههُنا قُصُورُ حُكْمِها بما مَرَّ عليها مِن الغَسْلِ، وهذا لازِمٌ لها حَيثُما كانت. ثم إن كانت قد انْفَصَلَتْ عن مَحَل غُسِل (¬2) بالتُّرابِ، غُسِل مَحَلُّها بغيرِ تُرابٍ، وإن كانت الأولَى بغيرِ تُرابٍ، غُسِلَتْ هذه بالتُّرابِ. وهذا اخْتِيارُ القاضي، وهو أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى. 196 - مسألة: (وفي سائِرِ النَّجاساتِ ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحداهُنَّ، ¬

(¬1) في الأصل: «ولأنها». (¬2) في م: «الغسل».

يَجبُ غَسْلُها سَبْعًا. وهلْ يُشْتَرَطُ التُّرَابُ؟ عَلَى وَجْهينِ. وَالثَّانِيَةُ، ثَلَاثًا. والثَّالِثَةُ، تُكَاثر بِالْمَاءِ مِنْ غَيرِ عَدَدٍ، كَالنَّجَاسَاتِ كلها إِذَا كَانَتْ عَلَى الأرضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ غَسْلُها سَبْعًا، وهل يُشْتَرَطُ التُّرابُ؟ على وَجْهين. والثانيةُ، ثلاثًا. والثالثةُ، تُكاثر بالماءِ مِن غيرِ عَدَدٍ، كالنجاساتِ كلِّها إذا كانت على الأرضِ) وجُملَةُ ذلك، أنَّ في سائِرِ النَّجاساتِ، غيرَ نَجاسَةِ الكلبِ والخِنْزِيرِ، إذا كانت على غيرِ الأزضِ ثلاثَ رِواياتٍ، إحداهُنَّ، يَجِبُ غَسْلها سَبْعًا، قِياسًا على نَجاسَةِ الكلبِ والخِنْزِيرِ، ولِما (¬1) رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه قال: أُمِرْنا بغَسْلِ الأنْجاسِ سَبْعًا. فيَنْصَرِفُ إلى أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في م: «لما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، هل يُشْتَرَطُ التُّرابُ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، يَجبُ قِياسًا على الوُلُوغِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. والثاني، لا يُشْتَرَطُ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بالغَسْلِ للدَّمِ وغيرِه، ولم يَأمُر بالتُّرابِ، إلَّا في نَجاسَةِ الكلبِ، فوَجَبَ أن يُقْتَصَرَ عليه، ولأنَّ الأمرَ بالتُّرابِ إن كان تَعَبُّدًا وَجَب قَصرُه على مَحَلِّه، وإن كان لمَعْنًى في نَجاسَةِ الوُلُوغِ مِن اللزوجَةِ التي لا تَنْقَلِعُ إلَّا بالتُّرابِ، فذلك (¬1) لا يُوجَدُ في غيرِه. وفي هذا الدَّلِيلِ نَظرٌ؛ لأنَّه غيرُ مَوْجُودٍ في نَجاسَةِ الكلبِ غيرُ الوُلُوغِ، وقد قالوا بُوجُوبِ التُّرابِ فيه. والرِّوايَةُ الثانيةُ، يَجِبُ غَسْلُها ثلاثًا؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا قامَ أحَدُكْمُ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمس يَدَهُ فِي الإنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَها ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدرِى أينَ بَاتَتْ يَدُه». ¬

(¬1) في م: «فلذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مسلمٌ (¬1). أمَرَ بغَسْلِها ثَلاثًا؛ ليَرتَفِعَ وَهْمُ النَّجاسَةِ، ولا يَرفَعُ وَهْمَ النَّجاسَةِ إلَّا ما يرفَعُ الحَقِيقَةَ. والثالثةُ، تُكاثر بالماءِ مِن غيرِ عَدَدٍ، حتى تَزُولَ عَينُ النَّجاسَةِ. وهذا مَذْهبُ الشافعي؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: كان [الغُسْلُ مِن الجَنابَةِ سَبْعَ مَرّاتٍ، و] (¬2) غَسْلُ الثَّوْبِ مِن البَوْلِ سَبْعٍ مَرّاتٍ، فلم يَزَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْألُ حتى جعِل [الغُسْلُ مِن الجَنابَةِ مَرَّة، و] (2) غَسْلُ الثَّوْبِ مِن البَوْلِ مَرَّةً. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬3). إلَّا أنَّ في رُواتِه أيوبَ بنَ جابرٍ، وهو ضَعِيف. ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماءَ في الدَّمِ: «اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» (¬4). ولم يَذْكُر عَدَدًا، ولأنَّها نَجاسَةٌ، فلم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 276. (¬2) سقط من: «م». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل من الجنابة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 57. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 109. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبْ فيها العَدَدُ، كنَجاسَةِ الأرضِ. وقد رُوِيَ أنَّ النجاسَةَ في مَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ تَطْهُرُ بثَلاثٍ، وفي غيرِه بسَبْعٍ، لأنَّ مَحَلَّ الاسْتِنْجاءِ تَتَكَرَّرُ النَّجاسَةُ فيه، فاقْتَضَى ذلك التَّخْفِيفَ، ولأنَّه قد اجْتُزِيَ فيها بثَلاثَةِ أحْجارٍ، فأوْلَى أن يُجْتَزَا فيها بثَلاثِ غَسَلاتٍ، لأنَّ الماءَ أبلَغُ مِن الأحْجارِ. وفيه رِوايَة خامسةٌ، أنَّ العَدَدَ لا يَجِبُ في نَجاسَةِ البَدَنِ، ويَجِبُ في غيرِها، لأنَّ الأبدانَ تَعُمُّ البَلْوَى فيها بمُلاقاةِ النَّجاسَةِ، تارَةً مِنها، وتارةً مِن غيرِها، فخُفِّفَ أمرُها لأجْلِ المَشَقَّةِ. ذَكَرَها ابنُ عَقِيلٍ. وذَكَر القاضي رِوايَةً، أنَّ العَدَدَ لا يُعْتَبَرُ في غيرِ مَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ مِن البَدَنِ، ويَجِبُ في مَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بعَدَدِ الحْجارِ فيه، ولا (¬1) يَجِبُ في سائِرِ المَحالِّ. وقال الخَلّالُ: هذه الروايَةُ وَهْمٌ. ولمَ يُثْبِتْها. ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أصابَتِ النَّجاسَةُ الأجْسامَ الصَّقِيلَةَ، كالمِرآةِ ونَحْوها، وَجَب غَسْلُه، ولم يَطْهُرُ بالمسحِ؛ لأنَّه مَحَلٌّ لا تَتَكَرَّرُ (¬1) فيه النَّجاسَةُ، فلم يَجُزْ فيه المَسْحُ، كالأوانِي. فصل: وغَسْلُ النَّجاسَةِ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ مَحَلِّها؛ فإِن كان جِسْمًا لا يَتَشرَّبُ النَّجاسَةَ كالآِيَةِ، فغَسْلُه بإمرارِ الماءِ عليه كلَّ مرَّةٍ غَسْلَةٌ، سَواءٌ كان بفِعلِ الآدَمِيِّ أوْ لا، مِثْلَ أن يَنْزِلَ عليه ماءُ المَطرَ، أو يَجْرِيَ عليه الماءُ، فكلُّ جِرية تَمُرُّ عليه غَسْلَةٌ؛ لأنَّ القَصدَ غيرُ مُعْتَبَرٍ، أشْبَه ما لو صَبَّه آدَمِيٌّ بغيرِ قَصدٍ، كان وَقَع في ماءٍ راكِدٍ قَلِيلٍ، نَجَّسَه ولم يَطْهُر، وإن كان كثِيرًا اعتُبرَ وَضْعُه فيه ومُرُورُ الماءِ على أجْزائِه غَسْلَةً، وإن حَرَّكَه في الماء بحيث تَمَرُّ عليه أجْزاءٌ غيرُ التي كانت مُلاقِيَةً له، احتُسِبَ بذلك غَسْلَةً ثانيةً، كما لو مَرَّتْ عليه جِرْياتٌ مِن الماءِ الجارِي. وإن كان المَغْسُولُ إناءً، فطُرِحَ فيه الماءُ، لم يُحتَسَبْ به غَسْلَةً حتى يُفْرِغَه منه؛ لأنَّه العادَةُ في ¬

(¬1) في م: «تنكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَسْلِه. فإن كان الإِناءُ يَسَعُ قُلَّتَين فَصاعِدًا فمَلَأه، احتَمَلَ أنَّ إدارَةَ الماءِ فيه تُجْرَى مُجْرَى الغَسَلاتِ؛ لأنَّ أجْزاءَه تَمُرُّ عليها جِرْياتٌ مِن الماءِ غيرُ التي كانت مُلاقِيَةً لها، أشْبَه ما لو مَرَّتْ عليه جِزياتٌ مِن الماءِ الجارِي. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَكُونُ غَسْلَةً إلَّا بتَفْرِيغِه أيضًا. وإن كان المَغْسُولُ جسْمًا تَدْخُلُ فيه أجْزاءُ النَّجاسَةِ، كالثَّوْبِ، لم يُحتَسَبْ برَفْعِه مِن الماءِ غَسْلَةٌ حتى يَعصِرَه، وعَصْرُ كلِّ شيءٍ بحَسَبه؛ فإن كان بِساطًا ثَقِيلًا، أو نَحوَه، فعَصرُه بتَقْلِيبِه ودَّقه حتى يَذْهبَ أكْثَرُ ما فيه مِن الماءِ. واللهُ أعلمُ. فصل: إذا أصاب ثوْبَ المرأةِ دَمُ حَيضِها، اسْتُحِبَّ أن تَحُتَّه بظُفْرِها؛ لتَذْهبَ خُشُونَتُه، ثم تَقْرُصَه برِيقها لَيلينَ للغَسْلِ، ثم تَغْسِلَه بالماءِ؛ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسْماء في دَمِ الحَيضِ: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» (¬1). وإن اقْتَصَرَتْ على الماء جاز، وإن لم يَزُلْ لَوْنُه، وكانت إزالته تَشُقُّ أو تُتْلِف الثَّوْبَ، أو تَضُرُّه؛ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا يَضُرُّكِ أثرهُ». رواه أبو داودَ (¬2). وإن اسْتَعمَلَتْ في إِزالتِه شيئًا يُزِيلُه، كالمِلْحِ وغيرِه، فحَسَنٌ؛ لِما روَى [الإِمامُ أحمدُ و] (¬3) أبو داودَ (¬4)، عن امرأةً مِن غِفارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أردَفَها على حَقِيبَةِ رَحلِه (¬5) فحاضَتْ، قالت: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 276. (¬2) في: باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 88. (¬3) سقط من: «م». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب الاغتسال من الحيض، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 74، 75. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 380. (¬5) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَنَزَلْتُ فإذا بها دَمٌ مِنِّي، فقال: «مَا لكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ»؟ قالت: نعم. قال: «فَأصلِحِي مِنْ نَفْسِكِ، ثُمّ خُذِي إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا، ثُمَّ اغْسِلِي مَا أصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنَ الدَّمِ». قال الخَطّابيُّ (¬1): فيه مِن الفِقْهِ جَوازُ اسْتعمالِ المِلْحِ وهو مَطْعُوم في غَسْلِ الثَّوْبِ، وتنقِيَته مِن الدَّمِ، فعلى هذا يَجُوزُ غَسْلُ الثِّيابِ بالعَسَلِ إذا كان الصّابُونُ يُفْسِدُه، وبالخَل إذا أصابَه الحِبْرُ، والتَّدَلُّكُ بالنُّخالةِ، وغَسْلُ الأيدِي بها، وبالبِطِّيخِ ودَقِيقِ الباقِلّاءِ، وغيرِها مِن الأشْياءِ التي لها قُوَّةُ الجِلاءِ. ¬

(¬1) في: معالم السنن 1/ 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان في الإِناءِ خَمرٌ أو شِبْهُه مِن النَّجاساتِ التي يَتَشَرَّبُها الإِناءُ، ثم متى جُعِل فيها مائِعٌ سِواه، ظَهَر فيه طَعمُ النَّجاسَةِ أو لَوْنُها، لم يَطْهُرُ بالغَسْلِ، لأنَّ الغَسْلَ لا يَسْتأصِلُ أجْزاءَ النَّجاسَةِ مِن جِسْمِ الإِناءِ، فلم يُطَهِّره، كالسِّمسِمِ الذي ابْتَلَّ بالنَّجاسَةِ. قال الشيخُ أبو الفَرَجِ المَقْدِسِيُّ في «المُبْهِجِ» (¬1): آنِيَةُ الخَمْرِ منها المُزَفَّتُ، فيَطْهُرُ بالغَسْلِ؛ لأنَّ الزِّفتَ يَمنَعُ وُصُولَ النَّجاسَةِ إلى جِسْمِ الإِناءِ، ومنها ما ليس بمُزَفَّتٍ فيَتَشَرَّبُ أجْزاءَ النَّجاسَةِ، فلا يَطْهُرُ بالتَّطْهِيرِ، فإنَّه متى تُرِك فيه مائِعٌ، ظَهر فيه طَعمُه أو لَوْنُه. ¬

(¬1) ذكر البغدادي أنه في فروع الحنابلة. إيضاح المكنون 2/ 425.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في تطهيرِ النَّجاسَةِ على الأرضِ: متى تَنَجَّسَتِ الأرضُ بنَجاسَةٍ مائِعَةٍ، أي نَجاسَةٍ كانت؛ كالبَوْلِ والخَمرِ ونَحوهما، فطُهُورُها أن يَغْمُرَها بالماءِ، بحيث يَذْهبُ لَوْنُ النَّجاسَةِ ورِيحُها، فإن لم يَذْهبا، لم تَطْهُرْ؛ لأنَّ بَقاءَهما دَلِيلُ بَقاءِ النَّجاسَةِ. فإن كانت مِمّا لا يزولُ لَوْنُها أو رائِحَتُها إلَّا بمَشَقَّةٍ، سَقَط ذلك كما قُلْنا في الثَّوْبِ. والدَّلِيلُ على أنَّ الأرضَ تَطْهُرُ بذلك، ما روَى أنسٌ قال: جاء أعرابِي فبال في طائِفةٍ مِن المسجدِ، فزَجَرَه النّاسُ، فنَهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قَضَى بولَه، أمَر بذَنُوبٍ مِن ماءٍ فأهْرِقَ عليه. متَّفَقٌ عليه (¬1). ولا نَعلَمُ في ذلك خِلافًا. فصل: إذا أصابَ الأرضَ ماءُ المَطرَ، أو السيولُ، فغَمَرَها وجَرَى عليها، فهو كما لو صُبَّ عليها؛ لأنَّ تَطْهِيرَ النَّجاسَةِ لا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فيه، فاسْتَوَى ما صَبَّه الآدَمي وغيرُه. قال أحمدُ، في البَوْلِ يكونُ في الأرض فتُمطِرُ عليه السَّماءُ: إذا أصابَه مِن المَطرَ بقَدرِ ما يكونُ ذَنُوبًا، كما أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصَبَّ على البَوْلِ، فقد طَهُرَ. وقال المَرُّوذِيُّ: سُئِل أبو عبدِ اللهِ عن ماءِ المَطرَ يَخْتَلِطُ بالبَوْلِ، فقال: ماء المَطرَ عِنْدِي لا يُخالِطُ شيئًا إلَّا طَهَّرَه، إلَّا العَذِرَةَ فَإِنَّها تَنْقَطِعُ. وسُئِلَ عن ماءِ المَطرَ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فلم يَرَ به بأسًا، إلَّا أن يكُونَ بِيلَ فيه بعدَ المَطرَ، وقال: كلُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَنْزِلُ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ فهو نَظِيفٌ، داسَتْه الدَّوابُّ أو لم تَدُسْه. وقال في المِيزابِ: إذا كان في المَوْضِعِ النَّظِيفِ، فلا بأسَ بما قَطرَ عليك مِن المَطرَ إذا لم تَعلم. قِيل له: فأسْألُ عنه؟ قال: لا، وما دَعاك إلى السُّؤالِ؟ واحتَجَّ في طهارةِ طِينِ المَطرَ بحديثِ الأعرابِي، وبأنَّ أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - والتّابِعِين كانوا يَخُوضُون المَطرَ في الطرقاتِ، فلا يَغْسِلُون أرجُلَهم. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعليٍّ، رَضِي اللهُ عنهما. قال ابنُ مسعودٍ: كُنّا لا نَتَوَضّأ مِن مَوْطئٍ. ونَحوُه عن ابنِ عباس. وهذا قَوْلُ عَوامِّ أهلِ العلمِ؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ، فلا تَزُولُ بالشَّكِ. فصل: فإن كانتِ النَّجاسَةُ ذاتَ أجْزاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، كالرَّمِيمِ، والدَّمِ إذا جَفَّ (¬1)، والرَّوْثِ، فاخْتَلَطَتْ بأجْزاءِ الأرضين، لم تَطْهُر بالغَسْلِ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «خف».

197 - مسألة: (ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح)

وَلَا تَطْهُرُ الأرضُ النَّجِسَةُ بِشَمس وَلَا رِيحٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ عَينَها لا تَنْقَلِبُ، ولا تَطْهُرُ إلَّا بإزالةِ أجْزاءِ المَكانِ، بحيثُ يُتَيَقَّنُ زَوالُ أجْزاءِ النَّجاسَةِ. ولو بادَرَ البَوْلَ وهو رَطْبٌ، فقَلَعَ التُّرابَ الذي عليه أثره، فالباقي طاهِرٌ؛ لأنَّ النَّجِسَ كان رَطْبًا، وقد زال؛ وإن جَفَّ فأزال ما وَجَد عليه الأثَرَ، لم يَطْهُرْ؛ لأنَّ الأثَرَ إنَّما يَبِينُ على ظاهِرِ الأرضِ، لكنْ إن قَلَع ما تَيَقَّنَ به زَوال ما أصابَه البَوْلُ، فالباقي طاهِرٌ. 197 - مسألة: (ولا تَطْهُرُ الأرضُ النَّجِسَةُ بشمس ولا رِيح) (¬1) ومِمَّن رُوِيَ عنه ذلك أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، والشافعي في أحدِ قَوْلَيه. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: تَطْهُرُ إذا ذَهب أثر النَّجاسَةِ. وقال أبو قِلابَةَ (¬2): جَفاف الأرضِ طَهُورُها؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ روَى أنَّ الكِلابَ كانت تَبُولُ، وتُقْبِلُ وتُدبِرُ في المَسْجِدِ، فلم يَكُونُوا يَرُشُّون شيئًا مِن ¬

(¬1) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الأرض النجسة تطهر بهذه الأشياء. قال: وهو الصحيح في الدليل. انظر: الفتاوى 21/ 479 - 482، 510. (¬2) أبو قلابة عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي البصري، من فقهاء التابعين، ثقة، توفي سنة ست أو سبع ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 89، تهذيب التهذيب 5/ 224 - 226. وقول أبي قلابة أورده الدارقطني، في: باب ذكر بيان المواقيت، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. رَواه أبو داودَ (¬1). ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُبّوا عَلَى بَوْلِ الأعرَابِيِّ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ» (¬2). والأمرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، ولأنَّه مَحَلٌّ نَجِسٌ، فلم يَطْهُر بغيرِ الغَسْلِ، كالثِّيابِ. فأمّا حديثُ ابنِ عُمَرَ، فرَواه البُخاري (¬3)، وليس فيه ذِكْرُ البَوْلِ. ويَحتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّها كانت تَبُولُ، ثم تُقْبِلُ وتدبِرُ في المَسْجِدِ، فيكونُ إقْبَالُها وإدبارُها فيه بعدَ بَوْلِها. ¬

(¬1) في: باب في طهور الأرض إذا يبست، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 91. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 276. (¬3) في: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 54. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 71.

198 - مسألة: (ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها)

وَلَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ بِالاسْتِحَالةِ، إلا الْخمرَةَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِها، ـــــــــــــــــــــــــــــ 198 - مسألة: (ولا يَطْهُرُ شَيءٌ مِن النَّجاساتِ بالاسْتِحالةِ، إلَّا الخمرَةَ إذا انْقَلَبَتْ بنَفْسِها) فلو أُحْرِقَ السِّرجِينُ (¬1) فصار رَمادًا، أو وَقَع كلبٌ في مَلّاحَةٍ فصارَ مِلْحًا، لم يَطْهُرْ (¬2)، كالدَّمِ إذا اسْتَحال قَيحًا أو صَدِيدًا. ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن أكْلِ لَحمِ (¬3) الجَلّالةِ وألْبانِها؛ لأكْلِها النَّجاسَةَ، فلو كانتِ النجاسةُ تَطْهُرُ بالاسْتِحالةِ، لم يُؤثِّر أكلُها النَّجاسَةَ، لأنَّها تَسْتَحِيلُ. ويَتَخَرَّجُ أن تَطْهُرَ النَّجاساتُ كلّها بالاسْتِحالةِ قِياسًا على الخَمرَةِ إذا انْقَلَبَتْ، وجُلُودِ المَيتَةِ إذا دُبِغَتْ، والجَلّالةِ إذا حُبِست. ¬

(¬1) السرجين: الزّبْل. (¬2) ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النجاسة تطهر بالاستحالة. انظر: الفتاوى 20/ 522، 21/ 70 - 72، 481، 482، 610، 611. (¬3) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ودُخانُ النَّجاسَةِ وغُبارُها نَجِسٌ، فإنِ اجْتَمَعَ منه شيءٌ، أو لاقَى جِسْمًا صَقِيلًا، فصارَ ماءً، فهو نَجِسٌ، إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ النَّجاسَةَ تَطْهُرُ بالاسْتِحالةِ. وما أصابَ الإِنْسانَ مِن دُخانِ النَّجاسَةِ وغُبارِها فلم يَجْتَمِع منه شيءٌ، ولا ظَهرَتْ له صِفَةٌ، فهو طاهِرٌ؛ لعَدَمِ إمكانِ التَّحَرُّزِ منه. فأمّا الخَمرَةُ إذا انْقَلَبَتْ بنَفْسِها خَلًّا فإنَّها تَطْهُرُ، لا نعلَمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّ نَجاسَتَها لشِدَّتِها المُسكِرَةِ الحادِثَةِ لها، وقد زال ذلك مِن غير

199 - مسألة: (فإن خللت لم تطهر)

فَإِنْ خُلِّلَتْ لَمْ تَطْهُر. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَجاسَةٍ خَلَّفَتْها، فوَجَب أن تَطهرَ، كالماءِ الذي تَنَجَّسَ (¬1) بالتَّغْيِيرِ إذا زال تَغَيُّره (¬2) بنَفْسِه، ولا يَلْزَمُ عليه سائِرُ النَّجاساتِ؛ لكَوْنِها لا تَطْهُرُ بالاستِحالةِ، لأنَّ نَجاسَتَها لعَينها، والخمرُ نَجاسَتُها لأمرٍ زال بالانْقِلابِ. 199 - مسألة: (فإن خُلِّلَتْ لم تَطْهُر) في ظاهِرِ المذهبِ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وهو قَوْلُ مالكٍ. وقال الشافعي: إن أُلقِي فيها شيءٌ كالمِلْحِ فتَخَلَّلَتْ، لم تَطْهُرْ، وإن نُقِلَتْ مِن شمس إلى ظِلٍّ أو بالعَكْسِ فتَخَلَّلتْ، ففي إباحَتِها قوْلان. ويُخَرَّجُ لنا أيضًا فيها احتِمالان؛ أحَدُهما، تَطهُرُ، كما لو نَقَلها لغيرِ قَصدِ التَّخْلِيلِ فتَخَلَّلتْ، فإنه لا فَرقَ بينَهما سوى النيةِ. والثاني، لا تَطْهُرُ، كما لو وُضِعَ فيها شيء فتَخَلَّلتْ؛ لِما رُوِيَ أنَّ ¬

(¬1) في م: «يتنجس». (¬2) في م: «تغييره».

وَقِيلَ: تَطْهُرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبا طَلْحَةَ سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام وَرِثُوا خَمرًا، فقال: «أهْرِقْها». قال: أفلا أُخَلِّلُها؟ قال: «لَا». مِن «المُسْنَدِ»، رَواه الترمِذِيُّ (¬1). ولو جاز التَّخْلِيلُ، لم يَنْهَ عنه، ولم تُبَحْ إراقَتُه. (وقِيل: تَطْهُرُ) لأنَّ عِلَّةَ التحرِيمِ زالتْ، أشْبَه ما لو تَخَلَّلَتْ بنَفْسِها، ولأنَّ التَّطْهِيرَ لا فَرقَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 293. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 119، 180، 260.كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الخمر تخلل، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 292، 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه بينَ ما حَصَل بفِعلِ اللهِ تعالى وفعلِ العَبْدِ، كتَطْهِيرِ الثَّوْبِ والأرضِ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ. ورُوي نَحوه عن عَطاء، وعَمرِو بن دينارٍ، والحارثِ العُكْلِيِّ (¬1). ¬

(¬1) الحارث بن يزيد العكلي التيمي، روى عن الشعبي والنخعي، وغيرهما، وهو ثقة فقيه. تهذيب التهذيب 2/ 163، 164.

200 - مسألة: (ولا تطهر الأدهان النجسة)

وَلَا تَطْهُرُ الأدهانُ، النَّجِسَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 200 - مسألة: (ولا تَطْهُرُ الأدهانُ النَّجِسَةُ) بالغَسْلِ في ظاهِرِ المَذْهبِ، اخْتارَه القاضي وابنُ عَقِيل. قال ابنُ عَقِيلٍ: إلَّا الزِّئبَقَ، فإنَّه

وَقَال أبو الْخَطَّابِ: يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مِنْها مَا يَتَأتَّي غَسْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لقُوَّتِه وتَمَاسُكِه يُجْرَى مُجْرَى الجامِدِ. (وقال أبو الخَطّابِ: يَطْهُرُ بالغَسْلِ منها ما يَتَأتَّى غَسْلُه) كالزَّيتِ ونَحوه؛ لأنَّه يمكِنُ غَسْلُه بالماءِ، فطَهُرَ به كالجامِدِ. وطَرِيقُ تَطْهِيرِه أن يُجْعَلَ في ماء كَثِيرٍ، ويُحَرَّكَ حتى يُصِيبَ الماءُ جَمِيع أجْزائِه، ثم يُتركَ حتى يَعلُوَ على الماءِ، فيُؤخَذَ، وإن تَرَكَه في جَرَّةٍ، وصَبَّ عليه ماءً وحَرَّكَه فيه، وجَعَل لها بُزَالًا (¬1) يَخْرُجُ منه الماءُ، جاز. ووَجْهُ القَوْلِ الأوَّلِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن السَّمْنِ إذا وَقَعَتْ فيه الفَأرَةُ؟ فقال: «إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولو كان يُمكِنُ تَطْهِيره لم يأمُر بإراقَتِه. ومَن نَصَر قَوْلَ أبي الخَطّابِ. قال: الخَبَرُ وَرَد في السَّمنِ، ولَعَلَّه لا يمكِنُ تَطْهِيرُه؛ لأنَّه يَجْمُدُ، ويَحْتَمِلُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك الأمرَ بغَسْلِه، لمَشَقَّةِ ذلك، وقِلَّةِ وُقُوعِه. ¬

(¬1) البزال: الموضع المثقوب في الإناء. (¬2) في: باب في الفأرة تقع في السمن، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 328. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 303. والنسائي، في: باب الفأرة تقع في السمن، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 157. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 233، 265، 490.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وقَعَتِ النَّجاسَةُ في غيرِ الماءِ وكان مائِعًا، نَجُسَ. وقد ذَكَرنا الخِلافَ فيه. وإن كان جامِدًا كالسَّمنِ الجامِدِ، أُخِذَتِ النَّجاسَةُ فما حَوْلَها فأُلقِيَتْ، والباقي طاهِرٌ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الفَأرَةِ تَمُوتُ في السَّمنِ، فقال: «إنْ كَانَ جَامِدًا فألقُوها وَمَا حَوْلها، وَإنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ». مِن «المُسْنَدِ» (¬1). وإسْنادُه على شَرطِ الصَّحِيحَين: وحَدُّ الجامِدِ؛ الذي لا تَسْرِي النَّجاسَةُ إلى جَمِيعِه، الذي يَكُونُ فيه قُوَّةٌ تمنَعُ انْتِقال أجْزاءِ النَّجاسَةِ مِن المَوْضِعِ الذي وَقَعتْ فيه النَّجاسَةُ إلى ما سِواه. وقال ابنُ عَقِيل: الجامِدُ؛ الذي إذا فُتِح وعاؤه، لم تَسِلْ أجْزاؤه. والظّاهِرُ خِلافُ هذا؛ لأنَّ سَمنَ الحِجازِ لا يَكادُ يَبْلُغُه، ولأنَّ المَقْصُودَ بالجُمُودِ أن لا تَسْرِي أجْزاءُ النَّجاسَةِ، وهذا حاصِلٌ بما ذَكَرناه، فنَقْتَصِرُ عليه. ¬

(¬1) انظر تخريج الحديث السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَنَجَّسَ العَجِينُ ونَحْوُه، لم يَطْهُرْ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ غَسْلُه، وكذلك إن نُقِعَ شيءٌ مِن الحُبُوبِ في الماءِ النَّجِسِ، حتى انْتفَخَ وابْتَلَّ. نَصَّ عليه أحمدُ، أنَّه لا يَطْهُرُ، وإن غُسِل مِرارًا. إذا ثَبَت ذلك، فقال أحمدُ في العَجِينِ: يُطْعَمُ النَّواضِحَ (¬1). وقال الشافعيُّ: يُطْعَمُ البَهائِمَ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ: يُطْعَمُ الدَّجاجَ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا يُطْعَمُ شيئًا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن شُحُوم. المَيتَةِ تُطْلَى بها السُّفُن، ويَسْتَصْبِحُ بها النّاسُ، قال: «لَا، هو حَرَامٌ» (¬2). وهذا في مَعْناه. ولَنا، ما روَى أحمدُ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِن آبارِ الذين مُسِخُوا، فقال عليه السلامُ: «اعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ» (¬3). وقال في كَسْبِ الحَجّامِ: «اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ أو رَقِيقكَ» (¬4). احْتَجَّ به أحمدُ، وقال: ليس هذا بمَيتَةٍ، والنَّهْيُ إنَّما تَناوَلَ المَيتَةَ. ولأنَّ اسْتِعْمال شُحُومِ المَيتَةِ فيما سُئِل عنه النبيُّ ¬

(¬1) الناضح: البعير، سمى بذلك لأنه ينضح الماء، أي يحمله من نهر أو بئر لسقي الزرع، ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب بيع الميتة والأصنام، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 110. ومسلم، في: باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1207. وأبو داود، في: باب في ثمن الخمر، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 251. والترمذي، في: باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 300. والنسائي، في: باب بيع الخنزير، من كتاب البيوع، وباب النهي عن الانتفاع بشحوم الميتة، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 273، 7/ 156. وابن ماجه، في: باب ما لا يحل بيعه، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 732. والإمام أحمد، في المسند 2/ 213، 3/ 324، وبنحوه في 2/ 362، 512، 3/ 326. (¬3) أخرجه بمعناه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 117. كما أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا}، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 4/ 181. ومسلم، في: باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا. . . . إلخ، من كتاب الزهد 4/ 2286. (¬4) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في كسب الحجام، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي =

201 - مسألة: (وإذا خفيت النجاسة، لزمه غسل ما يتيقن به إزالتها)

وَإِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ لَزِمَهُ غَسْلُ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ إزَالتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - يُفْضِي إلى تَعَدِّي نَجاسَتِها، وهذا لا يَتَعدَّى أكْلَه. قال أحمدُ: ولا يُطْعَمُ لشئٍ يُؤْكَلُ في الحال،؟ ولا يُحْلَبُ لَبَنُهُ؛ لِئَلّا يَتَنَجَّسَ به، ويَصِيرَ كالجلّالةِ. 201 - مسألة: (وإذا خَفِيَتِ النَّجاسَةُ، لَزِمَه غَسْلُ ما يَتَيَقَّنُ به إزالتَها) متى خَفِيَتِ النَّجاسَةُ في بَدَنٍ، أو ثَوْبٍ، وأراد الصلاةَ فيه، لم يَجُزْ له حتى يَتَيَقَّنَ زَوالها، وإنَّما يَتَيَقَّنُ ذلك بغَسْلِ كلِّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ أنَّ النَّجاسَةَ أصابَتْه، فإن لم يَعْلَمْ جِهَتَها مِن [الثَّوْبِ، غَسَلَه كُلَّه] (¬1)، وإن ¬

= 5/ 277، 278. وابن ماجه، في: باب كسب الحجام، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 732. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الحجامة وأجرة الحجام، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 974. والإمام أحمد، في المسند 3/ 307، 381، 4/ 141، 5/ 435، 436. (¬1) في م: «ثوب غسله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلِمَها في أحَدِ الكُمَّين غَسَلَهما، وإن رآها في بَدَنِه، أو ثَوْبِه الذي عليه، غَسَل كلَّ ما يُدْرِكُه بَصَرُه منه. وبذلك قال النَّخَعيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ شُبْرُمَةَ (¬1): يَتَحَرَّى مكانَ النَّجاسَةِ فيَغْسِلُه. وقال عَطاءٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ: إذا خَفِيَتِ النَّجاسَةُ في الثَّوْبِ نَضَحَه كلَّه؛ وذلك لحديثِ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَذْي، قال: قُلْت: يا رسولَ اللهِ، فكيف بما أصاب ثَوْبِي منه؟ قال: «يُجْزِئُكَ أنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَتَنْضَحَ بِهِ حَيثُ تَرَى أنَّه أَصابَ مِنْهُ» (¬2). فأمَرَ بالتَّحَرِّي والنَّضْحِ. ولَنا، أنَّه تَيَقَّنَ المانِعَ مِن الصلاةِ، فلم تُبَحْ له الصلاةُ إلا بيَقِينِ زَوالِه، كمَن تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطهارةِ. والنَّضْحُ لا يُزِيلُ النَّجاسَةَ، وحديثُ سَهْلٍ مَخْصُوصٌ بالمَذْي دُونَ غيرِه؛ لأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، فلا يَتَعَدَّى حُكْمُه إلى غيرِه؛ لأنَّ أحْكامَ النَّجاساتِ تَخْتَلِفُ. وقَوْلُه: «حَيثُ تَرَى أنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ». مَحْمُولٌ على مَن ظَنَّ أنَّه أصاب ناحِيَةً مِن ثَوْبِه، مِن غيرِ يَقينٍ، فيُجْزِئُه نَضْحُ المكانِ، أو غَسْلُه. فصل: فإن خَفِيَتِ النَّجاسَةُ [في فَضاءٍ] (¬3) واسِعٍ، صَلَّى حيثُ شاء، ¬

(¬1) أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن حسان الضبي الكوفي القاضي، من فقهاء التابعين، توفي سنة أربع وأربعين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 84، تهذيب التهذيب 5/ 250، 251. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المذي، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 48. والترمذي، في: باب في المذي يصيب الثوب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 175، 176. (¬3) في م: «في موضع فضاء».

202 - مسألة: (ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، النضح)

وَيُجْزِئُ فِي بَوْلِ الْغلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ النَّضْحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِه؛ لأنَّ ذلك يَشُقُّ، فلو مُنِع مِن الصلاةِ، أفْضَى إلى أن لا يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فيه. فإن كان المَوْضِعُ صغيرًا، كالبَيتِ ونَحْوه، غَسَلَه كلَّه، كالثَّوْبِ. 202 - مسألة: (ويُجْزِئُ في بَوْلِ الغُلامِ الذي لم يَأكُلِ الطَّعامَ، النَّضْحُ) معنى النَّضْحِ أن يَغْمُرَه بالماءِ، وإن لم يَنْزِلْ عنه، ولا يَحْتاجُ إلى مَرْسٍ (¬1) وعَصْرٍ. فأمّا بَوْلُ الجارِيَةِ، فيُغْسَلُ وإن لم تَأْكُلْ. وهذا قَوْلُ عليٍّ، رضي اللهُ عنه، وبه قال عَطاءٌ، والحسنُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. وحُكِي عن الحسنِ، أنَّ بَوْلَ الجارِيَةِ يُنْضَحُ ما لم تَطْعَمْ، كالصَّبِيِّ. قال القاضي: رأيتُ لأبي إسحاقَ بنِ شَاقْلا كلامًا يَدُلُّ على طهارةِ بَوْلِ الغُلامِ؛ لأنَّه لو كان نَجِسًا لوَجَبَ غَسْلُه، كسائِرِ النَّجاساتِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حَنِيفَةَ: يُغْسَلُ بَوْلُ الغُلامِ، كبَوْلِ الجارِيَةِ، بالقِياسِ عليه، ولأنَّه ¬

(¬1) المرس: الدَّلك الشديد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بالنَّجاسَةِ، فاسْتَوَى فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، كسائِر أحْكامِها. ولَنا، ما رَوَتْ أُمُّ قَيسٍ بنتُ مِحْصَنٍ، أنَّها أتَتْ بابنٍ لها صَغِيرٍ، لم يَأْكُلِ الطَّعامَ، إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأجْلَسَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حِجْره، فَبال على ثَوْبِه، فدَعا بماءٍ، فنَضَحَه، ولم يَغْسِلْه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن لُبابَةَ بنتِ الحارِثِ، قالت: كان الحُسَينُ بنُ عليٍّ في حِجْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فبال عليه، فقلتُ: الْبَسْ ثَوْبًا آخَرَ، وأعْطِنِي إزارَكَ حتى أغْسِلَه. قال: «إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَوْلُ الْغُلَامِ يُنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ». قال قَتادَةُ: هذا ما لم يَطْعَما الطَّعامَ، فإذا طَعِما غُسِل بَوْلُهما. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). وهذه نُصُوصٌ صحيحةٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فاتِّباعُها أوْلَى مِن القِياسِ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَدَّمٌ على مَن خالفَه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بول الصبيان، من كتاب الوضوء، وفي: باب السعوط. . . . إلخ، من كتاب الطب. صحيح البخاري 1/ 66، 7/ 161. ومسلم، في: باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، من كتاب الطهارة، وفي: باب التداوي بالعود الهندي، من كتاب السلام. صحيح مسلم 1/ 238، 4/ 1734، 1735.كما أخرجه أبو داود، في: باب بول الصبي يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 89. والترمذي، في: باب نضح بول الغلام قبل أن يطعم، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 92، 93. والنسائي، في: باب بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 128. وابن ماجه، في: باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 174. والدارمي، في: باب بول الغلام الذي لم يطعم، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 189. والإمام مالك، في: باب ما جاء في بول الصبي، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 64. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 356. (¬2) في: باب بول الصبي يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 90. (¬3) في: المسند 1/ 76، 97، 137. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، من =

203 - مسألة: (وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء، وجب غسله. وعنه: يجزيء دلكه بالأرض. وعنه: يغسل من البول والغائط، ويدلك من غيرهما)

وَإِذَا تَنَجَّسَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَو الْحِذَاءِ وَجَبَ غَسْلُهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالْأَرْضِ. وَعَنْهُ، يُغْسَلُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَيُدْلَكُ مِنْ غَيرِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: الصَّبِيُّ إذا طَعِم الطعامَ، وأرادَه واشْتَهاه، غُسِل بَوْلُه. وليس إذا أُطْعِمَ (¬1)؛ لأنَّه قد يُلْعَقُ العَسَلَ ساعَةَ يُولَدُ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّكَ بالتَّمْرِ (¬2). فعلى هذا، ما يُسْقاه الصَّبِيُّ أو يُلْعَقُه للتَّداوي، لا يُعَدُّ طَعامًا يُوْجِبُ الغَسْلَ، وما يَطْعَمُه لغذائِه، وهو يُرِيدُه ويَشْتَهِيه، يُوجِبُ الغَسْلَ. واللهُ أعلمُ. 203 - مسألة: (وإذا تَنَجَّسَ أسْفَلُ الخُفِّ أو الحِذاءِ، وَجَب غَسْلُه. وعنه: يُجْزِيءُ دَلْكُه بالأرضِ. وعنه: يُغْسَلُ مِن البَوْلِ والغائِطِ، ويُدْلَكُ مِن غيرِهما) وجُمْلَتُه، أنَّه إذا تَنَجَّسَ أسْفَلُ الخُفِّ أو ¬

= أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 3/ 88. وأبو داود، في: باب بول الصبي يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 90. (¬1) في م: «طعم». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، من كتاب مناقب الأنصار، وفي: باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق وتحنيكه، من كتاب العقيقة، وفي: باب من سمى بأسماء الأنبياء، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 5/ 79، 7/ 108، 8/ 54. ومسلم، في: باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته. . . . إلخ، من كتاب الأدب. صحيح مسلم 3/ 1690، 1691. والترمذي، في: باب مناقب عبد الله بن الزبير، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 222. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 399، 6/ 93، 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِذاءِ (¬1)، ففيه ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، يَجِبُ غَسْلُه؛ قِياسًا على الثَّوْبِ والرِّجْلِ وغَيرِهما (¬2). وهو قولُ الشافعيِّ ومحمدِ بنِ الحسنِ (¬3). والثانية، يُجْزىِءُ دَلْكُه بالأرضِ حتى تَزُولَ عَينُ النَّجاسَةِ، وتُباحُ الصلاةُ فيه. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا وَطِئَ (¬4) أحَدُكُمُ الْأَذى بخُفَّيهِ، فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ». وفي لفظٍ: «إِذَا وَطِئَ أحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذى، فَإنَّ التُّرابَ لَهُ طَهُورٌ». وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأى فِي نَعْلَيهِ قَذَرًا أوْ أذًى، فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا». روَى هذه الأحادِيثَ أبو ¬

(¬1) في م: «والحذاء». (¬2) في م: «غيرها». (¬3) في الأصل: «الحسين». (¬4) في م: «أوطئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه كانوا يُصَلُّون في نِعالِهم، والظّاهِرُ أنَّ النَّعْلَ لا تَخْلُو مِن نَجاسَةٍ تُصِيبُها، فلو لم يَجُزْ دَلْكُها، لم تَصِحَّ الصلاةُ فيها. والثالثةُ، يُغْسَلُ مِن البَوْلِ والغائِطِ؛ لفُحْشِهما وتَغْلِيظِ نَجاسَتهما، ويُدْلَكُ مِن غيرِهما؛ لِما ذَكَرْنا. وهو قَوْلُ إسحاقَ. والأوْلَى أنَّه يُجْزِئُ فيه الدَّلْكُ مُطْلَقًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ. فإن قِيل: فقَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في نَعْلَيهَ، وأنَّ (¬2) فيهما قَذَرًا (¬3). يَدُلُّ على أنَّه لا يُجْزِئُ دَلْكُهما، ولم يَزُلِ القَذَرُ منهما. قُلْنا: لا دَلالةَ في هذا؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ أنَّه دَلَكَهما، والظّاهِرُ أنَّه لم يَدْلُكْهُما؛ لأنَّه لم يَعْلمْ بالقَذَرِ فيهما، حتى أخْبَرَه جِبرِيُل عليه السلامُ. ¬

(¬1) الأول في: باب في الأذى يصيب النعل، من كتاب الطهارة. والثاني، في: باب الصلاة في النعل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 92، 151. (¬2) في م: «أن». (¬3) رواه أبو داود، في: باب الصلاة في النعل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 151. والدارمي، في: باب الصلاة في النعلين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 320. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا ثَبَت أنَّه يُجْزِئُ الدَّلْكُ، فهل يُحْكَمُ بطَهارَتِهما، ويُحْكَمُ (¬1) بطهارةِ مَحَلِّ الاسْتِجْمارِ بعدَ الإِنْقاءِ واسْتِيفاءِ العَدَدِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُحْكَمُ بطَهارَتِه. اخْتارَه ابنُ حامدٍ؛ لظاهِرِ الأخْبارِ التي ذَكَرْناها، وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ فإنَّه قال في المُسْتَجْمِرِ يَعْرَقُ في سَراويِله: لا بَأْسَ به؛ لأنَّ قَوْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الرَّوْثِ والرِّمَّةِ: «إنَّهُمَا لا يُطَهِّرَانِ» (¬2). مَفْهُومُه أنَّ غيرَهما يُطَهِّرُ، ولأنَّه مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ النَّجاسَةِ، فطَهَّرَها كالماءِ. وقال أصحابُنا المُتَأخِّرُون: لا يَطْهُرُ المَحَلُّ. ¬

(¬1) في م: «أو يحكم». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 2، 3. والنسائي، في: باب ينهى عن الاستطابة بالروث، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 35، 36. وابن ماجه، في: باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 114. والدارمي، في: باب الاستنجاء بالأحجار، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 172، 173. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 247، 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو قَعَد المُسْتَجْمِرُ في ماءٍ يَسيرٍ نَجَّسَه، ولو عَرِق كان عَرَقُه نَجِسًا؛ لأنَّ المَسْحَ لا يُزِيلُ أجْزاءَ النَّجاسَةِ كلَّها، فالباقي منها نَجِسٌ، لأنَّه عَيْنُ النَّجاسَةِ، فأشْبَهَ ما لو وُجِد في المَحَلِّ وَحْدَه. وقال القاضي في الخُفَّين: إنَّما يُجْزِئُ دَلْكُهما بعدَ جَفافِ نَجاسَتِهما؛ لأنَّه لا يَبْقَى لها أثَرٌ، ولا يُجْزِئُ قبلَ الجَفافِ. وبه قال أبو حنيفةَ في الرَّوْثِ، والعَذِرَةِ، والدَّمِ، والمَنِيِّ. وقال في البَوْلِ: لا يُجْزِئُه حتى يُغْسَلَ وإن يَبِس؛ لأنَّ رُطُوبَةَ النَّجاسَةِ باقِيَةٌ، فلَا يُعْفَى عنها. وظاهِرُ الأخْبارِ لا فَرْقَ (¬1) بينَ رَطْبٍ ولا جافٍّ، ولأنَّه مَحَلٌّ اجْتُزِئَ فيه بالمَسْحِ؛ فجاز (¬2) مع رُطُوبَةِ الممسُوحِ، كمَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ، ولأنَّ رُطُوبَةَ المَحَلِّ مَعْفُوٌّ عَنها إذا جَفَّتْ قبلَ الدَّلْكِ، فعُفِيَ عنها إذا جَفَّتْ به، كالاسْتِجْمارِ. ¬

(¬1) في م: «يفرق». (¬2) في م: «فجاز له».

204 - مسألة؛ قال: (ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات، إلا الدم، وما تولد منه من القيح والصديد، وأثر الاستنجاء)

وَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ إلا الدَّمَ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ؛ مِنَ الْقَيحِ، وَالصَّدِيدِ، وَأَثَرَ الاسْتِنْجَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 204 - مسألة؛ قال: (ولا يُعْفَى عن يَسِيرِ شيءٍ مِن النَّجاساتِ، إلَّا الدَّمَ، وما تَوَلَّد منه مِن القَيحِ والصَّدِيدِ، وأثَرَ الاسْتِنْجاءِ) أراد أثَرَ الاسْتِجْمارِ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في العَفْو عنه بعدَ الإِنْقاءِ واسْتِيفاءِ العَدَدِ، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في طَهارتِه. فصل: فأمّا الدَّمُ والقَيحُ، فأكْثَرُ أهلِ العلمِ يَرَوْن العَفْوَ عن يَسِيرِه، ومِمَّن رُوِيَ عنه ذلك ابنُ عباسٍ، وأبو هُرَيرَةَ، وجابرٌ، وابنُ أبي أوْفَى، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وابنُ جُبَيرٍ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، وعُرْوَةُ، والنَّخَعِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَنْصَرِفُ مِن قَلِيلِه وكَثِيرِه. ونَحْوُه عن الحسنِ، وسُلَيمانَ التَّيمِيِّ (¬1)؛ لأنَّه نَجِسٌ، أشْبَهَ البَوْلَ. ولَنا، ما رُوِيَ عن عائشةَ، قالت: قد يكُونُ ¬

(¬1) سليمان بن طرخان التيمي البصري، أبو المعتمر. روى عن أنس. تابعي ثقة. توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 201 - 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِحْدانا الدِّرْعُ، فيه تَحِيضُ، وفيه تُصِيبُها الجَنابَةُ، ثم تَرَى فيه قَطرةً مِن دَمٍ فتَقْصَعُه (¬1) برِيقِها. وفي رِوايَةٍ: بَلَّتْه برِيقِها، ثم قَصَعَتْه بظُفْرِها. رَواه أبو داودَ (¬2). وهذا يَدُلُّ على العَفْو عنه؛ لأنَّ الرِّيقَ لا يُطَهِّرُه، ويَتَنَجَّسُ به ظُفْرُها، وهو إخْبارٌ عن دَوامِ الفِعْلِ، ومِثْلُ هذا لا يَخْفَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَصْدُرُ إلَّا عن أمْرِه، ولأنَّه قَوْلُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابَةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ. وما رُويَ عن ابنِ عُمَرَ فقد رُويَ عنه خِلافُه، فرَوَى عنه الأثْرَمُ بإسْنادِه، أنَّه كان يَسْجُدُ فيُخْرجُ يَدَيه، فيَضَعُهما بالأرضِ وهما يَقْطرُان دَمًا مِن شُقاقٍ (¬3) كان في يَدَيه، وعَصَر بَثْرَةً فخَرَجَ منها دَمٌ، فمَسَحَه بيَدِه، وصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ. وانْصِرافُه عنه في بَعْضِ الحالاتِ لا يُنافِي ما رَوَيناه عنه، فقد يَتَوَرَّعُ الإِنسانُ عن بعضِ ما يَرَى جَوازَه، ولأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه فعُفِيَ عنه، كأثَرِ الاسْتِجْمارِ. وحَدُّ اليَسِيرِ المَعْفُوِّ عنه، هو الذي لا يَنْقُضُ الطهارةَ، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه في نَواقِضِ الوُضُوءِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقصعه: تدلكه. (¬2) في: باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 86.كما أخرجه البخاري، في: باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه، من كتاب الغسل. صحيح البخاري 1/ 85. (¬3) الشقاق: تشقق الجلد من بَرْدٍ أو غيره في اليدين والوجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقَيحُ والصَّدِيدُ مِثْلُه، إلا أنَّ أحمدَ قال: هو أسْهَلُ مِن الدَّمِ؛ لأنَّه رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ والحسنِ أنَّهما لم يَرَياه كالدَّمِ. قال أبو مِجْلَزٍ، في الصَّدِيدِ: إنَّما ذَكَر الله الدَّمَ المَسْفُوحَ. وقال أُمَيُّ بنُ رَبيِعَةَ (¬1): رَأيتُ طاوُسًا كأنَّ إزارَه نِطْعٌ (¬2) مِن قُرُوحٍ كانت برِجْلَيه. ونَحْوُه عن مُجاهِدٍ. وقال إبراهيمُ، في الذي يَكُونُ به الحُبُونُ (¬3): يُصَلِّي، ولا يَغْسِلُه، فإذا بَرَأ غَسَلَه. ونَحْوُه قَوْلُ عُرْوَةَ. فعلى هذا يُعْفَى منه عن أكْثَرَ مِمّا يُعْفَى عن مِثْلِه مِن الدَّمِ؛ لأنَّ هذا لا نَصَّ فيه، وإنَّما ثَبَتَتْ نَجاسَتُه لاسْتِحالتِه مِن الدَّمَ. ¬

(¬1) أبو عبد الرحمن أمي بن ربيعة المرادى الكوفي، ثقة، روى عن عطاء بن أبي رباح، وطاوس، وغيرهما، روى عنه شريك، وسفيان بن عيينة. تهذيب التهذيب 1/ 369، 370. (¬2) النطع: بساط من أديم، يوضع على الأرض تحت ما يذبح. (¬3) في م: «الحبور». والحِبْن، بالكسر: خراج كالدمل، وما يعترى في الجسد فيقيح ويرم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الدَّمِ مُجْتَمِعًا أو مُتَفَرِّقًا فإذا (¬1) جُمِع بَلَغ هذا القَدْرَ. ولو كانتِ النَّجاسَةُ في شيءٍ صَفِيقٍ (¬2) قد نَفَذَتْ منه (¬3) مِن الجانِبَينِ، فاتَّصَلَتْ، فهي نَجاسَةٌ واحِدَةٌ، وإن لم تَتَّصِلْ، بل كان بينَهما شيءٌ لم يُصِبْه الدَّمُ فهما نَجاسَتان، إذا بَلَغَا لو جُمِعا قَدْرًا لا يُعْفَى عنه، لم يُعْفَ عنهما (¬4)، كجانِبَيِ الثَّوْبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «إذا». (¬2) في الأصل: «ضيق». والصفيق: المتين. (¬3) سقطت من: «م». (¬4) في الأصل: «عنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ودَمُ الحَيضِ في العَفْو عنه كغيرِه؛ لحديثِ عائشةَ الذي ذَكَرْناه، وكذلك سائِرُ فِي دِماءِ الحَيَواناتِ الطّاهِراتِ. فأمّا دَمُ الكلبِ والخِنْزِيرِ، وما تَوَلَّدَ منهما، أو مِنِ أَحَدِهما، فلا يُعْفَى عن يَسِيرِه؛ لأنَّ رُطُوباتِه الطّاهِرَةَ مِن غيرِه، لا يُعْفى عن يَسِيرِها، فدَمُه أوْلَى. فأمّا دَمُ البَغْلِ، والحِمارِ، وسِباعِ البَهائِمِ، والطَّيرِ، إن قُلْنا بطَهارَتِها، عُفِي عن يَسِيرِ دِمائِها، كسائِرِ الحيواناتِ الطّاهِراتِ، وإن قُلْنا بنَجاسَتِها، وقُلْنا: لا يُعْفَى عن يَسِيرِ شيءٍ مِن رُطُوباتِها، كالرِّيقِ، والعَرَقِ. فأَوْلَى أن لا يُعْفَى عن دَمِها، كدَمِ الكلبِ والخِنْزِيرِ. ولأنَّ دَمَها لابُدَّ أن يُصِيبَ جِسْمَها، فلم يُعْفَ عنه، كالماءِ، وهكذا حُكْمُ كلِّ دَم أصاب نَجاسَةً غيرَ مَعْفُوٍّ عنها، لم يُعْفَ عن شيءٍ منه؛ لذلك (¬1). وإن قُلْنا: يُعْفَى عن يَسِيرِ رِيقِها، وعَرَقِها. احْتَمَلَ أن يُعْفَى عن يَسِيرِ دَمِها، قِياسًا عليه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في تش: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ودَمُ ما لا نَفْسَ له سائِلَةً؛ كالبَقِّ، والبَراغِيثِ، والذُّبابِ، ونَحْوه، طاهِرٌ في ظاهِرِ المذهبِ. ومِمَّن رَخَّصَ في دَمِ البَراغِيثِ؛ عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّه لو كان نَجِسًا لنَجَّسَ الماءَ اليَسِيرَ إذا مات فيه، فإنَّه إذا مَكَث في الماءِ، لا يَسْلَمُ مِن خُرُوجِ فَضْلَةٍ منه، ولأنَّه ليس بدَمٍ مَسْفُوحٍ، وإنَّما حَرَّمَ اللهُ سبحانه الدَّمَ المَسْفُوحَ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال في دَمِ البَراغِيثِ: إنِّي لأفْزَعُ منه إذا كَثُر. وقال النَّخَعِيُّ: اغْسِلْ ما اسْتَطَعْتَ. وقال مالكٌ، في دَمِ البَراغِيثِ: إذا كَثُر وانْتَشَرَ، فإنِّي أرَى أن يُغْسَلَ. والأوَّلُ أظْهَرُ. وقولُ أحمدَ ليس فيه تَصْرِيحٌ بنَجاسَتِه، بل هو دلِيلُ التَّوَقُّفِ، ولأنَّ المَنْسُوبَ إلى دَمِ البَراغِيثِ إنَّما هو بَوْلُها في الظّاهِرِ، وبَوْلُ هذه الحَشَراتِ ليس بنَجِسٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا دَمُ السَّمَكِ، فقال أبو الخَطّابِ: هو طاهِرٌ. وهذا قَوْلُ الحسنِ (¬1)؛ لأنَّ إباحَتَه لا تَقِفُ على سَفْحِه، ولو كان نَجِسًا، لوَقَفَتِ الإِباحَةُ على إراقَتِه بالذَّبْحِ، كحَيَوانِ البَرِّ، ولأنَّه إذا تُرِك اسْتَحال ماءً. وقال أبو ثَوْرٍ: هو نَجِسٌ؛ لأنَّه مَسْفُوحٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ الآيةِ. والعَلَقَةُ نَجِسَةٌ؛ لأنَّها دَمٌ خارِجٌ مِن الفَرْجِ، أشْبَهَ دَمَ الحَيضِ. وعنه، أنَّها طاهِرَةٌ؛ لأنَّه بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، أشْبَهَتِ المَنِيَّ. قال شَيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ نَجاسَتُها؛ لأنَّها دَمٌ، أشْبَهَتْ سائِرَ الدِّماءِ، ولأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ فيها بطَهارَةٍ، فتَدْخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ. وما يَبْقَى في اللَّحْمِ مِن الدَّمِ مَعْفُوٌ عنه، ولو عَلَتْ (¬3) حُمْرَةُ الدَّمِ في القِدْرِ، لم يَكُنْ نَجِسًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. وإذا أصابَ الأجْسامَ الصَّقِيلَةَ، كالسَّيفِ والمِرْآةِ، نَجاسَةٌ يُعْفَى عن يَسِيرِها، كالدَّمِ، عُفِى عن كَثِيرِها بالمَسْحِ؛ لأنَّ الباقِي بعدَ المَسْحِ يَسِيرٌ. وإن كَثُر مَحَلُّه؛ يُعْفَى (¬4) عنه، كيَسِيرِ غيرِه. ¬

(¬1) في م: «أبي الحسن». (¬2) انظر: المغني 2/ 499. (¬3) في الأصل: «غلب». (¬4) في الأصل، م: «فعفى». والمثبت من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما يُعْفَى عن يَسِيرِ الدَّمِ في غيرِ المائِعاتِ، فلو وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِن دَمٍ في مائِعٍ يَسِيرٍ تَنَجَّسَ، وصار حُكْمُه حُكْمَ الدَّمِ في العَفْو عن يَسِيرِه؛ لأنَّه فَرْعٌ عليه.

205 - مسألة: (وعنه، في المذي، والقئ، وريق البغل، والحمار، وسباع البهائم، والطير، وعرقها، وبول الخفاش، والنبيذ، والمني؛ أنه كالدم. وعنه، في المذي؛ أنه يجزئ فيه النضح)

وَعَنْهُ، فِي الْمَذْي، وَالْقَىْءِ، وَرِيقِ الْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَالطَّيرِ، وَعَرَقِهَا، وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ، وَالنَّبِيذِ، وَالْمَنِيِّ، أَنَّهُ كَالدَّمِ. وَعَنْهُ، فِي الْمَذْي، أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ النَّضْحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 205 - مسألة: (وعنه، في المَذْي، والقَىْءِ، ورِيقِ البَغْلِ، والحِمارِ، وسِباعِ البَهائِمِ، والطَّيرِ، وعَرَقِها، وبَوْلِ الخُفّاشِ، والنَّبِيذِ، والمَنِيِّ؛ أنَّه كالدَّمِ. وعنه، في المَذْي؛ أنَّه يُجْزِئُ فيه النَّضْحُ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رحَمِه اللهُ، في ذلك، فرُوِي عنه في المَذْي، أنَّه قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُغْسَلُ ما أصابَ الثَّوْبَ منه، إلَّا أن يكُونَ يَسِيرًا. وروَى الخَلّالُ بإسْنادِه، قال: سُئِل سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحْمنِ، وسُلَيمانُ بنُ يَسارٍ عن المَذْي، فكلُّهم قال: إنَّه بمَنْزِلَةِ القُرْحَةِ؛ فما عَلِمْتَ منه فاغْسِلْه، وما غَلَبَك (¬1) منه فدَعْه. ولأنَّه (¬2) يَخْرُجُ مِن [الشّبابَ كَثِيرًا] (¬3) فيَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، فعُفِيَ عن يَسِيرِه كالدَّمِ. وعن أحمدَ، أنَّه كالمَنِيِّ؛ لأنَّه خارِجٌ بسَبَبِ الشَّهْوَةِ، أشْبَهَ المَنِيَّ. وعنه، أنَّه يُجْزىِءُ فيه النَّضْحُ؛ لأنَّ في حديثِ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، فكَيفَ بما أصابَ ثَوْبِي منه؟ قال: «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فتَنْضَحَ بِهِ حَيثُ تَرَى أَنَّهُ أَصابَ مِنْهُ» (¬4). قال التِّرمِذِيُّ: حديثٌ صحيحٌ. والرِّوايَةُ الأُخْرَى، يَجِبُ غَسْلُه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر بغَسْلِ الذَّكَرِ منه (¬5). ولأنَّه نَجاسَةٌ خارِجَةٌ مِن الذَّكَر، أشْبَهَ البَوْلَ. يُرْوَى ذلك عن عُمَرَ، وابنِ عباسٍ. وهو مذهَبُ ¬

(¬1) في الأصل: «لم تعلم ما عليك». (¬2) في م: «لأنه». (¬3) في تش: «أسباب كثيرة». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 10، 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ، وإسحاقَ، وكثيرٍ مِن أهلِ العلمِ. وكذلك المَنِيُّ إذا قُلْنا بنَجاسَتِه؛ لِما ذَكَرْنا في المَذْي. فأمّا الوَدْيُ، فهو نَجِسٌ لا يُعْفَى عنه في الصحيح؛ لأنَّه خارِجٌ مِن مَخْرَجِ (¬1) البَوْلِ، فهو كالبولِ. وعن أحمدَ أنَّه كالمَذْي. وأمّا القَيْءُ، فرُوىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: هو عندِي بمَنْزِلَةِ الدَّمِ، لَأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ مِن غيرِ السَّبيلِ، أشْبَهَ الدَّمَ. ورُوي عن أحمدَ في رِيقِ البَغْلِ والحِمارِ، وعَرَقِهما، أنَّه يُعْفَى عنه إذا كان يَسِيرًا، وهو الظّاهِرُ عن أحمدَ. قال الخَلّالُ: وعليه مذهبُ أبي عبدِ اللهِ، لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «مجرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَشُق التَّحَرُّزُ منه. قال أحمدُ: مَن يَسْلَمُ مِن هذا مِمَّن يَرْكَبُ الحَمِيرَ؟ إلَّا أنِّي أرْجُو أن يكُونَ ما خَفَّ (¬1) منه أسْهَلَ. قال القاضي: وكذلك ما كان في مَعْناهما مِن سِباعِ البَهائِمِ، سوى الكلبِ والخِنْزِيرِ. وكذلك الحُكْمُ في أرْواثِها. وكذلك الحُكْمُ في سِباعِ الطَّيرِ؛ لأنَّها في مَعْنَى سِباعِ البَهائِمِ، وبَوْلِ الخُفّاشِ. قال الشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، وحَبِيبُ بنُ أبي ثابِتٍ (¬2): [لا بَأسَ ببَوْلِ الخُفّاشِ] (¬3)، والخُطّافِ؛ لأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، فإنَّه في المَساجِدِ كَثِيرٌ، فلو لم يُعْفَ عن يَسِيرِه، لم يُقَرَّ في المَساجِدِ. ¬

(¬1) في م: «جف». (¬2) أبو يحيى حبيب بن أبي ثابت، من فقهاء التابعين بالكوفة، توفي سنة سبع عشرة ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 83. (¬3) في م: «لا بأس ببول الخفافيش وكذلك الخفاش».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك النَّبيذُ، لوُقُوعِ الخِلافِ في نَجاسَتِه. وكذلك بَوْلُ ما يُؤْكَلُ لَحْمُه، إذا قُلْنا بنَجاسَتِه؛ لأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، لكَثْرَتِه. وعن أحمدَ، لا يُعْفَى عن يَسِيرِ شيءٍ مِن ذلك؛ لأنَّ الأصْلَ أن لا يُعْفَى عن شيءٍ مِن النَّجاسَةِ، خُولِفَ في الدَّمَ وما تَوَلَّدَ منه، فيَبْقَى ما عَداه على الأصْلِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُعْفَى عن يَسِيرِ شيءٍ مِن النَّجاساتِ غيرَ ما ذَكَرْنا، ومِمَّن قال: لا يُعْفَى عن يَسِيرِ البَوْلِ. مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ: يعْفَى عن يَسِيرِ جَمِيعِ النَّجاساتِ؛ لأنَّها يُكْتَفَى فيها بالمَسْحِ في مَحَلِّ الاسْتِنْجاءِ، فلوْ لم يُعْف عن يَسِيرِها، لم يَكْفِ فيها المَسْحُ، ولأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَشُقُّ التَّحَرُّز منه، أشْبَهَ الدَّمَ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ، فَإنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» (¬2). ولأنَّها نَجاسَةٌ لا تَشُقُّ إزالتُها، فوَجَبَتْ كالكَثِيرِ، وأمّا ¬

(¬1) سورة المدثر 4. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، من كتاب الطهارة، عن أنس، وقال: المحفوظ مرسل. سنن الدارقطني 1/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّمُ فإنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، فإنَّ الإِنْسانَ لا يكادُ يَخْلُو مِن بَثْرَةٍ، أو حَكَّةٍ، أو دُمَّلٍ، ويَخْرُجُ مِن أنْفِه وغيرِه، فيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِن يَسِيرِه أكْثَرَ مِن كَثِيرِه، ولهذا فُرِّقَ في الوُضُوءِ بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه.

206 - مسألة: (ولا ينجس الآدمي بالموت، ولا ما لا نفس له سائلة، كالذباب وغيره)

وَلَا يَنْجُسُ الآدمي بالْمَوْتِ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً؛ كَالذُّبَاب وَغَيرِه ـــــــــــــــــــــــــــــ 206 - مسألة: (ولا يَنْجُسُ الآدمي بالمَوْتِ، ولا ما لا نَفْسَ له سائِلَةً، كالذُّبابِ وغيرِه) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ الآدَمِيّ طاهِرٌ حَيًّا ومَيتًا؛ لقَوْلِ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: «الْمُؤمِنُ لَا يَنْجُسُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن أحمدَ، أنه سُئِل عن بِئْرٍ وَقَع فيها إنْسان، فماتَ، فقال: تُنْزَحُ حتَّى تَغْلِبَهمْ. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، قال: ينجس، ويَطْهُرُ بالغَسْلِ؛ لأنَّه حَيَوانٌ له نَفسٌ سائِلَة، فنَجُس بالمَوْتِ، كسائِرِ الحيواناتِ. وللشافعي قَوْلان، كالرِّوايَتَين. والصحيحُ الأوَّلُ؛ للخَبَرِ، ولأنَّه آدَمِيٌّ، فلم يَنْجُسْ بالمَوْتِ، كالشَّهِيدِ، ولأنَّه لو نَجُسَ بالمَوتِ، لم يَطْهُرْ بالغَسْلِ، كالحيواناتِ التي تَنْجُسُ بالموتِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولم يُفَرِّقْ أصحابُنا بينَ المسلمِ والكافرِ؛ لاسْتِوائِهما في حالِ الحياةِ، قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَنْجُسَ الكافِرُ بموتِه؛ لأنَّ الخَبَرَ إنَّما وَرَد في المسلم، ولا يُقاسُ الكافرُ عليه؛ لأنَّه لا يُصَلَّى عليه، ولا حُرْمَةَ له كالمسلمَ. فصل: وحُكْمُ أجزاءِ الآدَمِي وأُبعاضِه حُكْمُ جُمْلَتِه، سَواء انْفَصَلَتْ في حَياتِه أو بعدَ مَوْتِه؛ لأنَّها أجْزاءٌ مِن جُمْلَةٍ (¬2)، فكانَ حُكْمُها [كحُكْمِها، كسائِرِ] (¬3) الحيواناتِ الطّاهِرَةِ والنَّجِسَةِ. وذَكَر القاضي أنها نَجِسَة، رِوايَةً واحِدةً؛ لأنَّه لا حُرمَةَ لها، بدَلِيلِ أنها لا يُصَلَّى عليها. وما ذكره مَمْنُوع؛ لأنَّ (¬4) لها حُرْمَة؛ فإن كَسْرَ عَظْمِ المَيِّتِ ككَسْرِه وهو حَيٌّ، ولأنَّه يُصَلَّى عليها إذا وُجِدَتْ مِن المَيِّتِ، ثم يَبْطُلُ بشَهِيدِ المَعْرَكَةِ، فإنَّه لا يُصَلَّى عليه، وهو طاهِرٌ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 63. (¬2) في الأصل: «جملته». (¬3) في الأصل: «كحكم». (¬4) في م: «فإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما لا نَفْسَ له سائِلَةً، لا يَنْجُسُ بالمَوتِ، والمُرادُ بالنَّفْسِ الدَّمُ، فإن العَرَبَ تُسَمِّي الدَّمَ نَفْسًا، قال الشاعر (¬1): نُبِّئْتُ أنَّ بني سُحَيم أدْخَلُوا … أبياتَهُمْ تامُورَ نَفْس المُنْذِرِ أي دَمِه (¬2). ومِنه قِيل للمرأةِ: نُفَساءُ؛ لسيلانِ دَمِها عندَ الولادَةِ، ويقال: نَفِسَتِ (¬3) المرأةُ. إذا حاضَتْ. فكلُّ ما ليس له دَمٌ سائِلٌ مِن حَيَوانِ البَرِّ والبَحْرِ، مِن العَلَقِ، والدِّيدانِ، والسَّرَطانِ، ونَحْوها، لا ¬

(¬1) هو أوس بن حجر، والبيت في ديوانه 47. (¬2) التامور: دم القلب، وعم بعضهم به كل دم. وقال الأصمعيُّ: أي مهجة نفسه، وكانوا قتلوه. اللسان (ت م ر). (¬3) من باب تعب. ونقل عن الأصمعيِّ «نُفِست» بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بمشهور في الكتب. المصباح المنير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْجُسُ بالمَوْتِ، ولا يُنَجِّسُ الماءَ إذا ماتَ فيه، في قَوْلِ عامَّةِ العلماءِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ في ذلك خِلافًا، إلَّا ما كان مِن أحدِ قَوْلَي الشافعيِّ، فإن عندَه في تَنْجِيسِ الماءِ إذا ماتَ فيه قَوْلَين. فأمّا الحَيَوانُ في نَفسِه، فهو عندَه نَجِسٌ، قولًا واحِدًا؛ لأنَّه حيوانٌ لا يُؤكَلُ، لا لحُرْمَتِه، فنَجُس بالمَوْتِ، كالبَغْلِ والحِمارِ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أحَدِكُمْ، فَلْيَمْقُلْهُ، فَإِنَّ فِي أحَدِ جَنَاحَيهِ دَاءً، وَفِي الآخَرِ شِفَاءً». رَواه البُخارِيُّ. وفي لَفْظٍ: «فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لْيَطرحْهُ» (¬1). وقال الشافعي: مَقْلُه ليس بقَتْلِه (¬2). قُلْنا: اللَّفْظُ عام في كل شَرابٍ بارِدٍ، أو حار، أو دُهْن، مِمّا يَمُوتُ بغَمْسِه فيه، فلو كان يُنَجِّسُ الشَّرابَ كان أمْرًا بإفْسادِه، وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسَلْمانَ: «يَا سَلْمَانُ، ¬

(¬1) بلفظ «فليمقله» أو «فامقلوه» أخرجه أبو داود، في: باب الذباب يقع في الطَّعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 328. وابن ماجه، في: باب يقع الذباب في الإِناء، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1159. والنَّسائيُّ، في: باب الذباب يقع في الإناء، من كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 158. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 24، 67. وبلفظ: «فليغمسه» أخرجه البُخاريّ، في: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم. . . . إلخ، من كتاب بدء الخلق، وفي: باب إذا وقع الذباب في الإناء، من كتاب الطب. صحيح البخاري 4/ 158، 7/ 181. وابن ماجه، في: باب يقع الذباب في الإناء، من كتاب الطب سنن ابن ماجه 2/ 1159. والدارمي، في: باب الذباب يقع في الطَّعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدَّارميّ 2/ 99. والإمام أحمد، في المسند 2/ 229، 230، 246، 263، 340، 355، 388، 398، 443. (¬2) في م: «يقتله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيُّمَا طَعَام أَوْ شَرَابٍ مَاتَتْ فيهِ دَابَّةٌ، لَيسَ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَة، فَهُوَ الْحَلَالُ؛ أكْلُهُ، وشُرْبُه، وَوُضُوءُهُ» (¬1). وهذا صَرِيحٌ. أخْرَجَه الدّارقُطْنِي (¬2). قال الترمِذِيُّ: يَرْويه بَقِيَّةُ (¬3)، وهو يُدَلِّسُ، فإذا روَى عن الثِّقاتِ جَوَّدَ. ولأنَّه لا نَفْس له سائِلَةً، أشْبَهَ دُودَ الخَلِّ إذا مات فيه، فإنَّهم سَلَّمُوا أنَّ ذلك لا يُنَجِّسُ إلَّا أن يُؤخَذَ ويُطرحَ فيه، أو يَشُقَّ الاحْتِرازُ منه، أشْبَهَ ما ذَكَرْنا، وإذا ثَبَت أنه لا يُنَجِّسُ الماءَ، لَزِمَ أن لا يكُونَ نَجِسًا، وإلَّا لنَجَّسَ الماءَ كسائِرِ النَّجاساتِ. فصل: فأمّا إن كان مُتَوَلِّدًا مِن النَّجاساتِ كدُودِ الحُشِّ (¬4)، وصَراصِرِه، فهو نَجِسٌ حيًّا ومَيتًا. [إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ النَّجاسَةَ تَطْهُرُ بالاسْتِحالةِ] (¬5)؛ لأنَّه مُتَوَلِّدٌ مِن النَّجاسَةِ، فكان نَجِسًا، كالمُتَوَلِّدِ مِن الكلبِ والخِنْزِيرِ. قال المَرُّوذِيُّ: قال أحمدُ: صَراصِرُ الكَنِيفِ والبالُوعَةِ إذا وَقَعِ في الإِناءِ صُبَّ، وصَراصِرُ البِئْرِ ليس هي بقَذِرَةٍ؛ لأنَّها لا تَأكلُ العَذِرَة. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 253. والدارقطني، في: باب كل طعام وقعت فيه دابة ليس لها دم، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 37. (¬2) بعده بالأصل: «والترمذي». ولم نجده في سنن التِّرمذيِّ. وانظر: نصب الراية 1/ 115. (¬3) أي: ابن الوليد بن صائد. انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال 1/ 331. (¬4) أصل الحش: البستان، الفتح أكثر من الضم، وبيت الحش مجاز؛ لأنَّ العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، فلما اتخذوا الكنف وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم. المصباح المنير. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما له نَفْسٌ سائِلَةٌ مِن الحَيَوانِ غيرَ الآدَمِيِّ، يَنْقَسِمُ قِسْمَين؛ أحَدُهما، [ما مَيتَتُه] (¬1). طاهِرَةٌ، وهو السَّمَكُ وسائِرُ حيوانِ البَحْرِ الذي لا يَعِيشُ إلَّا في الماءِ، فهو طاهِرٌ حَيًّا ومَيِّتًا، لأنَّه لو كان نَجِسًا لم يُبَح أكلُه. القِسْمُ الثاني، ما لا تُباحُ مَيتَتُه غيرَ الآدَمِيِّ؛ كحَيَوانِ البَرِّ المَأكُولِ، وغيرِه، وحيوانِ البَحْرِ الذي يَعِيشُ في البَرِّ، كالضُّفْدَعِ، والحَيَّةِ، والتِّمْساحِ، ونَحْوه، فكلُّ ذلك يَنْجُسُ بالمَوْتِ، ويُنَجِّسُ الماءَ القَلِيلَ إذا مات فيه، والكَثِيرَ إذا غَيَّرَه. وهذا قَوْلُ ابنِ المُبارَكِ، والشافعيِّ، وأبي يوسفَ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، في الضُّفْدَعِ: لا تُفْسِدُ الماءَ إذا ماتَتْ فيه؛ لأنَّها تَعِيشُ في الماءِ، أشْبَهَتِ السَّمَكَ. ولَنا، أنَّها تُنَجِّسُ غيرَ الماءِ، فنَجَّسَتِ الماءَ، كحَيَوانِ البَرِّ، ولأنَّه حيوانٌ له نَفْسٌ سائِلَةٌ لا تُباحُ مَيتَتُه (¬2)، أشْبَهَ طَيرَ الماءِ، وبهذا فارَقَ السَّمَكَ. ¬

(¬1) في الأصل: «ما ميتة». وفي م: «ميتة». (¬2) في الأصل: «ميتة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي الوَزَغِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَنْجُسُ بالمَوْتِ؛ لأنَّه لا نَفْسَ له سائِلَةً، أشْبَهَ العَقْرَبَ. والثاني، أنَّه نَجِسٌ؛ لأنَّ عَلِيًّا، رَضِي الله عنه، كان يقولُ: إن ماتَتِ الوَزَغَةُ أو الفَأْرَةُ في الحُبِّ (¬1) يُصَبُّ ما فيه، وإن ماتَتْ في بِئْرٍ فانْتَزِحْها (¬2) حتَّى تَغْلِبَكَ. فصل: [وإذا ماتَ الحَيَوانُ في ماءٍ لا نَعْلَمُ] (¬3)، هل يَنْجُسُ بالمَوْت أم لا؟ فالماءُ طاهِرٌ، لأنَّ الأصْلَ طَهارَتُه، والنَّجاسَةُ مَشْكُوكٌ فيها. وكذلك إن شَرِب مِنه حَيَوانٌ يُشَكُّ في نَجاسَةِ سُؤرِه وطَهارَتِه، لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في الأصل: «الجب». (¬2) في الأصل: «فانتزعها». (¬3) في م: «إذا مات في الماء ما لا يعلم».

207 - مسألة: (وبول ما يؤكل لحمه، وروثه، ومنيه طاهر. وعنه، أنه نجس)

وَبَوْلُ مَا يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُهُ، وَمَنِيُّهُ طَاهِرٌ. وَعَنْهُ، إنَّهُ نَجِسٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 207 - مسألة: (وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُه، ورَوْثُه، ومَنِيُّه طاهِرٌ. وعنه، أنَّه نَجسٌ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في بَوْلِ ما يُؤكَلُ لَحْمُه، ورَوْثِه، فرُوِي عن أحمدَ، أَنَّه طاهِرٌ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، ومالكٍ. ورَخَّصَ في أبوال الغَنَمِ الزُّهْرِيُّ، ويَحْيى الأنْصارِيُّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمٍ على إباحَةِ الصلاةِ في مَرابِض الغَنَمِ، إلَّا الشافعيِّ، فإنَّه اشْتَرَطَ أن تكُون سَلِيمَةً مِن أبعارِها وأبوالِها. ورَخَّص في ذرْقِ (¬1) الطّائِرِ الحَكَمُ، وحَمّادٌ، وأبو حنيفةَ. وعن أحمدَ، أنَّ ذلك نَجِسٌ. وهو قَوْل الشافعيِّ، ¬

(¬1) الذرق من الطائر، كالتغوط من الإِنسان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبي ثَوْرٍ. ونَحْوُه عن الحسنِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلَ» (¬1). ولأنَّه رَجِيعٌ، فأشْبَهَ رَجِيعَ الآدَمِيِّ. ولَنا؛ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر العُرَنِيِّينَ أن يَشربُوا مِن أبْوالِ الإِبِلِ (¬2). والنَّجِسُ لا يُباحُ شُرْبُه، ولو ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب نجاسة البول. . . .، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 127. (¬2) أخرجه البُخاريّ، في: باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، من كتاب الوضوء، وفي: باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل، من كتاب الزكاة، وفي: باب إذا حرَّق المشرك المسلم هل يحرق، من كتاب الجهاد، وفي: باب قصة عكل وعرينة، من كتاب المغازي، وفي: باب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، في تفسير سورة المائدة، من كتاب التفسير، وفي: باب الدراء بأبوال الإِبل، وباب من خرج من أرض لا تلائمه، من كتاب الطب، وفي أول كتاب المحاربين، وفي: باب القسامة، من كتاب الديات. صحيح البُخاريّ 1/ 67، 68، 2/ 160، 4/ 75، 5/ 164، 165، 6/ 65، 7/ 160، 167، 168، 8/ 201، 202، 9/ 12. ومسلم، في: باب حكم المحاربين والمرتدين، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1296، 1297. وأبو داود، في: باب ما جاء في المحاربة، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 443، 444، والترمذي، في: باب ما جاء في شرب أبوال الإبل، من أبواب الأطعمة، وفي الباب نفسه، من أبواب، الطب. عارضة الأحوذي 8/ 35، 197. والنَّسائيُّ، في: باب بول ما يؤكل لحمه، من كتاب الطهارة، وفي: باب تأويل قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وباب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حميد، وباب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف. . . . إلخ، من كتاب تحريم الدّم. المجتبي 1/ 129 - 131، 7/ 86 - 92. وابن ماجه، في: باب من حارب وسعى في الأرض فسادًا، من كتاب الحدود، وفي: باب أبوال الإبل، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 861، 1158. والإمام أحمد، في: المسند 7/ 103، 163، 170، 177، 186، 198، 205، 233، 287، 290.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُبِيحَ للضَّرورَة لأمَرَهم بغَسْلِ أثَرِه إذا أرادُوا الصلاةَ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ، وأمَرَ بالصلاةِ فيها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وصَلَّى أبو موسى في مَوْضِعٍ فيه أبعارُ الغَنَمِ، فقِيلَ له: لو تَقَدَّمْتَ إلى ههُنا؟ فقال: هذا وذاك واحِدٌ. ولم يكن للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه ما يُصَلُّون عليه مِن الأوْطِئَةِ والمُصَلَّياتِ، وإنَّما كانوا يُصَلُّون على الأرضِ. ومَرابِضُ الغَنَمِ لا تَخْلُو مِن أبعارِها وأبوالها، فدَلَّ على أنَّهم كانوا يُباشِرُونها في صَلاتِهم، ولأنَّه لو كان نَجِسًا لتَنَجَّسَتِ الحُبُوبُ التي تَدُوسُها البَقَرُ، فإنَّها لا تَسْلَمُ مِن أبوالِها، فيَتَنَجَّسُ بَعْضُها، فيَخْتَلِطُ النَّجسُ بالطّاهِرِ، فيَصِيرُ حُكْمُ الجَمِيع حُكْمَ النَّجِسِ. وحُكْمُ قَيئِه ومَنِيِّهَ حُكْمُ بَوْلِه، لأنَّه في مَعْناه. ¬

(¬1) المتفق عليه هو حكاية فعله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري، في: باب أبوال الإبل الدواب والغنم ومرابضها، من كتاب الوضوء، وفي: باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، وباب الصَّلاة في مرابض الغنم، من كتاب الصَّلاة. صحيح البُخاريّ 1/ 68، 117. ومسلم، في: باب ابتناء مسجد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 373، 374. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بناء المساجد، من كتاب الصَّلاة، سنن أبي داود 7/ 101. والترمذي، في: باب ما جاء في الصَّلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذي 2/ 146. والنسائي، في: باب نبش القبور واتخاذ أرضها مسجدًا، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 32. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 123، 131، 194، 212، 244. وأمَّا الأمر بالصلاة فيها، فأخرجه التِّرمذيُّ في الموضع السابق. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 352.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: في الخارِجِ مِن الحَيَوانِ الذي لا يُؤكَلُ لَحْمُه، وهو أرْبعةُ أقْسامٍ؛ أحَدُها، الآدَمِيُّ، فالخارِجُ منه ثلاثةُ أنواعٍ، أحدُها، رِيقُه وعَرَقُه ودَمْعُه ومُخاطُه ونُخامَتُه، فهو طاهِرٌ، لأنَّه جاءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في يَوْمِ الحُدَيبِيَةِ، أنَّه ما تَنَخَّمَ نُخامَةً إلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رجلٍ منهم، فدَلَكَ بها وَجْهَه. رَواه البُخارِيُّ (¬1). وفي حديثِ أبي هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى نُخامَةً في قِبْلَةِ المسجدِ، فأقْبَلَ على النّاس، فقال: «مَا بَالُ أحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ، فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإذَا تَنَخَّعَ أحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ، أوْ تَحْتَ قَدَمِه، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا». ووَصَف القاسِمُ، فتَفَلَ في ثَوْبِه، ثم مَسَح بَعْضَه ببَعْضٍ. رَواه مسلمٌ (¬2). ولو كانت نَجِسَةً لَما أمَرَ بمَسْحِها في ثَوْبه وهو في الصلاةِ، ولا تحتَ قَدَمِه. وسَواءٌ في ذلك البَلْغَمُ الخارِجُ مِن الرَّأسِ والصَّدْرِ. ذَكَره القاضي. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ. وقال أبو الخَطّابِ: البَلْغَمُ نَجسٌ، لأنَّه اسْتَحال في المَعِدَةِ، أشْبَهَ القَيءَ. ولَنا، عُمُومُ الخَبَرَين، ولأنَّه أحَدُ نَوْعَي النُّخامَةِ، أشْبَهَ الآخَرَ، ولأنَّه لو كان نَجِسًا، لنَجَّسَ الفَمَ ونَقَضَ الوُضُوءَ، ولم يُنْقَلْ عن الصَّحابَةِ، ¬

(¬1) في: باب البزاق والمخاط ونحوه، من كتاب الوضوء، وفي: باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، من كتاب الشروط. صحيح البُخاريّ 1/ 69، 70، 3/ 254. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 329، 330. (¬2) في: باب النهي عن البصاق في المسجد في الصَّلاة وغيرها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 389، 390.كما أخرجه البُخاريّ، في: باب لا يبصق عن يمينه في الصَّلاة، وباب كفارة البزاق في المسجد، من كتاب الصَّلاة. صحيح البُخاريّ 1/ 112، 113. وأبو داود، في: باب في كراهية البزاق في المسجد، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 111، 112. وابن ماجه، في: باب المصلى يتنخم، من كتاب إقامة الصَّلاة سنن ابن ماجه 1/ 326. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 250، 415.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِي اللهُ عنهم، فيما عَلِمْنا، شيءٌ مِن ذلك، مع عُمُومِ البَلْوَى به. وقَوْلُهم: إنَّه طعامٌ اسْتَحال في المَعِدَةِ. مَمْنُوعٌ، إنَّما هو مُنْعَقِدٌ مِن الأبخِرَةِ، فهو كالمُخاطِ. ولأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنه، أشْبَهَ المُخاطَ. النَّوْعُ الثاني، قَيؤُه ودَمُه، و (¬1) ما تَوَلَّدَ منه مِن القَيحِ والصَّدِيدِ، فهو نَجِسٌ، وقد ذَكَرْنا حُكْمَه فيما مَضَى. النَّوْعُ الثالث، الخارِجُ مِن السَّبِيلَين؛ مِن البَوْلِ، والغائِطِ، والمَذْي، والوَدْي، والدَّمِ، وغيرِه، فلا نَعْلَمُ في نَجاسَتِه خِلافًا، إلَّا ما ذَكَرْنا في المَذْي (¬2)، وسيَأتِي حُكْمُ المَنِي، إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: القِسْمُ الثاني، البَغْلُ والحِمارُ، وسِباعُ البَهائِم، والطَّيرِ؛ فإن قُلْنا بطَهارَتِها، فحُكْمُها حُكْمُ الآدَمِيِّ، على ما بَيَّنّا، إلَّا في مَنِيِّها، فإن حُكْمَه حُكْمُ بَوْلِها. وإن قُلْنا بنَجاسَتِها، فجَمِيعُ أجْزائِها وفَضَلاتِها نَجسَةٌ، إلَّا السِّنَّوْرَ وما دُونَها في الخِلْقَةِ، وسيَأتِي بَيانُ حُكْمِها، إن شاءَ اللهُ تعالى. القِسْمُ الثالثُ، الكلبُ والخِنْزِيرُ وما تَوَلَّدَ مِنهما، أو مِن أحَدِهما، فهو نَجِسٌ بجَمِيِع أجْزائِه وفَضَلاتِه، وما يَنْفَصِلُ عنه. القِسْمُ الرابعُ، ما لا نَفْسَ له سائِلَةً، فهو طاهِرٌ بجَمِيع أجْزائِه وفَضَلاتِه المُتَّصِلَةِ والمُنْفَصِلَةِ، إلَّا أن يكُونَ مُتَوَلِّدًا مِن النَّجاسَةِ، وقد ذكَرْناه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «المني والمذي». وتقدم كلامه في المذي في صفحة 10، 11، 326.

208 - مسألة: (ومني الآدمي طاهر. وعنه، أنه نجس، ويجزئ فرك يابسه)

وَمَنِيُّ الآدَمِيِّ طَاهِرٌ. وَعَنْهُ، إنَّهُ نَجِسٌ. وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 208 - مسألة: (ومَنِيُّ الآدَمِيِّ طاهِرٌ. وعنه، أنَّه نَجِسٌ، وَيُجْزِئُ فَرْكُ يابِسِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في المَنِيِّ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، فرُوِيَ عنه أنَّه طاهِرٌ، وهو ظاهِرُ المذهبِ. ورُوي عنه، أنَّه كالدَّمِ نَجسٌ، يُعْفَى عن يسِيرِه. ورُوي عنه، أنَّه كالبَوْلِ، ويُجْزِئُ فَرْكُ يابِسِه بَكلِّ حالٍ؛ لحديثِ عائشةَ، والرِّوايَةُ الأولَى المَشْهُورَةُ في المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ سعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ. ونَحْوُه قَوْلُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وهو مذهبُ الشَّافعي، وأبي ثوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أصْحابُ الرَّأْي: هو نَجِسٌ، ويُجْزِئُ فَرْكُ يابِسِه. وقال مالكٍ: غَسْلُ الاحْتِلامِ أمْرٌ واجِبٌ. وهو مذهبُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، أنَّها كانت تَغْسِلُ المَنِيَّ مِن ثَوْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهو ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة، وباب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره، من كتاب الوضوء. صحيح البُخاريّ 1/ 67. ومسلم، في: باب حكم المني، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 239. وأبو داود، في: باب المني يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 89. والترمذي، في: باب غسل المني من الثوب، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 180. وابن ماجه، في: باب المني يصيب الثوب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 178. وانظر: مسند الإمام أحمد 6/ 47، 142، 162.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّه خارِجٌ مُعْتادٌ مِن السَّبِيلِ، أشْبَهَ البَوْلَ. ولَنا، ما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كُنْتُ أفْرُكُ المَنِيَّ مِن ثَوْبِ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْكًا، فيُصَلِّي فيه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: امْسَحْه عنك بإذْخِرَة أو خِرْقَةٍ، ولا تَغْسِلْه، إنَّما هو كالبُزاقِ. رَواه (¬2) الدّارَقُطْنِيّ مَرْفوعًا (¬3)، [ورَواه الإِمامُ أحمدُ بمَعْناه] (¬4). ولأنَّه لا يَجبُ غَسْلُه إذا جَفَّ، فأشْبَهَ المُخاطَ، ولأنَّه بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، أشْبَهَ الطِّينَ. وبهذا فارَقَ البَوْلَ. فصل: وإن خَفِيَ مَوْضِعُ المَنِي، فَرَكَ الثَّوْبَ كلَّه، إن قُلْنا بنَجاسَتِه. وإن قُلنا بطَهارَتِه، اسْتُحِبَّ فرْكُه، وإن صَلَّى مِن غَيرِ فَرْكٍ أجْزأه. وهو قَوْلُ الشافعيِّ، ومَن قال بالطهارةِ. وقال ابنُ عباسِ، وعائِشَةُ، وعَطاءٌ: يَنْضَحُ الثَّوْبَ كلَّه. وقال ابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيرَةَ، والحسنُ: يَغْسِلُه كلَّه. ولَنا، أنَّ فَرْكَه يُجْزِيء إذا عُلِم مَكانُه، فكذلك إذا خَفِيَ، وأمّا النَّضْحُ فلا يفِيدُ؛ لأنَّه لا يُطَهِّرُه إذا عُلِم مَكانُه، فكذلك إذا خَفِيَ. قال أحمد: إنَّما يُفْرَك مَنِيُّ الرجلِ خاصَّةً؛ لأنَّ الذي للرجلِ ثخِينٌ، والذي للمرأةِ. ¬

(¬1) ليس عند البُخاريّ. وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي في المواضع السابقة. وابن ماجه، في: باب في فرك المني من الثوب، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 179. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 125، 132، 213، 239، 263. وانظر تلخيص الحبير 1/ 32. وإرواء الغليل 1/ 196. (¬2) في م: «ورواه». (¬3) في: باب ما ورد في طهارة المني وحكمه رطبا ويابسا، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 124. (¬4) سقط من: «م» وهو في المسند 6/ 243.

209 - مسألة: (وفي رطوبة فرج المرأة روايتان)

وَفِي رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَقِيقٌ. والمعنى في هذا أنَّ الفَرْكَ يُرادُ للتَّخْفِيفِ، والرقيقُ لا يَبْقَى له جِسْمٌ بعدَ جَفافِه، فلا يفيدُ (¬1) فيه الفَرْكُ. فعلى هذا، إن قُلْنا بنَجاسَتِه، فلا بُدَّ مِن غَسْلِه رَطْبًا كان أو يابِسًا، كالبَوْلِ. وإن قُلنا بطَهارَتِه، اسْتُحِبَّ غَسْلُه، كما يُسْتَحَبُّ فَرْكُ مَنِيِّ الرجلِ. فأمَّا الطهارةُ والنَّجاسَةُ فلا يَفْتَرِقان فيه؛ لأنَّه مَنِيٌّ خارجٌ مِن السَّبِيلِ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. فصل: ومَن أمْنَى وعلي فَرْجِه نَجاسَةٌ، نَجُسَ مَنِيُّه؛ لإِصابَتِه النَّجاسَةَ. وذَكَر القاضي في المَنِيِّ مِن الجِماعِ أنَّه نَجِسٌ؛ لأنَّه لا يَسْلَمُ مِن المَذْي. وهذا فاسِدٌ، فإن مَنِيَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان مِن جِماعٍ؛ لأنَّ الأنْبِياءَ لا يَحْتَلِمُون. وهو الذي وَرَدَتِ الأخْبارُ بفَرْكِه، والطهارةُ لغيرِه فَرْعٌ عليه. واللهُ أعلمُ. 209 - مسألة: (وفي رُطُوبَةِ فَرْجَ المرأةِ رِوايَتان) إحْداهما، نَجاسَتُه؛ لأنَّه بلَلٌ في الفَرْجِ لا يُخْلَقُ منه الوَلَدُ، أشْبَهَ المَذْيَ. والثانيةُ، ¬

(¬1) في الأصل: «يقبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَهارَتُه؛ لأنَّ المَنِيَّ طاهِرٌ؛ لِما بَيَّنّا، وإذا كان مِن جِماعٍ، فلابُدَّ أن يُصِيبَ رُطُوبَةَ الفَرْجِ، ولأنَّنا لو حَكَمْنا بنَجاسَتِه لحَكَمْنا بنَجاسَةِ مَنِيِّها؛ لأنَّه يَتَنَجَّسُ برُطُوبَةِ فَرْجِها؛ لخُرُوجِه منه. وقال القاضي: ما أصابَ منه في حالِ الجِماعِ، فهو نَجِسٌ؛ لأنَّه لا يَسْلَمُ مِن المَذْي. وهذا مَمْنُوعٌ؛ فإن الشهْوَةَ إذا اشْتَدَّتْ، خَرَج المَنِيُّ دُونَ المَذْي، كحالةِ الاحتِلامَ.

210 - مسألة: (وسباع البهائم والطير، والبغل، والحمار الأهلي، نجسة. وعنه، أنها طاهرة)

وَسِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَالطَّيرِ، وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ الأهْلِي نَجسَةٌ. وَعَنْهُ، أنَّهَا طَاهِرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 210 - مسألة: (وسِباعُ البَهائِمِ والطَّيرِ، والبَغْلُ، والحِمارُ الأهْلِيّ، نَجِسَةٌ. وعنه، أنَّها طاهِرَةٌ) رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَة اللهُ، في سِباعِ البهائمِ وجَوارِحِ الطَّيرِ، ما خَلا الكَلْبَ، والخِنْزِيرَ، والسِّنَّوْرَ، وما دُونَها في الخِلْقَةِ، رِوايَتان؛ إحْداهُما، أنَّ سُورَها وعَرَقَها نَجِسٌ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لِما رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه سُئِل عن الماءِ وما يَنُوبُه مِن السِّباعِ؛ فقال: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَينِ، لَمْ يَنْجُس» (¬1). ولو كانت طاهِرَةً لم يُحَدَّ بالقُلَّتَين، ولأنَّه حَيَوانٌ حَرُمَ أكلُه، لا لحُرْمَتِه، يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه غالِبًا، أشْبَهَ الكلبَ، ولأنَّ الغالِبَ عليها أكْلُ المَيتاتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّجاساتِ، فيَنْبَغِي أن يُقْضَى بنَجاسَتِها، كالكلابِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، أنَّها طاهِرَة. رَواها عنه إسماعيلُ بنُ سعيدٍ. يُرْوَى ذلك عن الحسنِ، وعَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، والشافعي، وابنِ المُنْذِرِ؛ لمِا روَى أبو سعيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الحِياضِ التي بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، تَرِدُها السِّباعُ والكِلابُ والحُمُرُ، وعن الطهارةِ بها؟ فقال: «لَهَا مَا أخذَتْ في أفْوَاهِهَا، وَلَنا مَا غَبَرَ طَهُورٌ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ومَرَّ عُمَرُ وعَمْرُو بنُ العاص بحَوْض، فقال عَمْرُو: يا صاحِبَ الحَوْضِ، تَرِدُ على حَوْضِكَ السِّباعُ؟ فقأل عُمَرُ: يا صاحِبَ الحَوْضِ، لا تُخْبِرْنا، فإنّا نَرِدُ عليها وتَرِدُ علينا. رَواه مالكٌ (¬2) في «المُوَطَّأ». ولأنَّه حيوانٌ يَجُوزُ بَيعُه، فكان طاهِرًا، كبَهِيمَةِ الأنْعامِ. ¬

(¬1) في: باب الحياض، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 173. (¬2) في: باب الطهور للوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي البَغْلِ والحِمارِ ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداها، أنَّها نَجِسَةٌ. تروَى كَراهَتُها عن ابنِ عُمَرَ. وهو قَوْلُ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وإسحاقَ؛ لِما ذَكَرْنا في السِّباعِ، ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّها رِجْسٌ» (¬1). والثانية، أنَّه مَشْكُوك فيها؛ لأنَّ أحمدَ قال في البَغْلِ والحِمارِ: إذا لم يَجِدْ غيرَ سُورِهما، تَيَمَّمَ معه. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، والثَّوْرِي؛ لأنَّه تَرَدَّدَ بينَ أمارَةِ تَنْجِيسِه وأمارَةِ تَطْهِيرِه. فأمارَةُ تَنْجِيسِه، إنّه محرّمٌ، أشبهَ الكلب. وأمارَةُ تَطْهيره، أنَّه ذُو حافِر يَجُوزُ بيعُه، أشْبهَ الفَرَسَ. والثالثةُ، أنَّه طاهِرٌ، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: النهي عن لحوم الحمر الإنسية فقط، وفي: باب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح، وفي: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي. صحيح البُخاريّ 7/ 123، 124، 5/ 167. ومسلم، في: باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1540. والنسائي، في: باب سؤر الحمار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 49. وابن ماجه، في: باب لحوم الحمر الوحشية، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1066. والدارمي، في: باب لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا اخْتِيارُ شَيخِنا (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَرْكَبُهما وتُرْكَبُ في زَمَنِه، ولو كان نَجِسًا لبَيَّنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك، ولأنَّهما لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منهما لمُقتنيهِما، فأشْبَها السنوْرَ، فأمّا قَوْلُه - صلى الله عليه وسلم - «إنَّهَا رِجْس». أراد به التَّحْرِيمَ، كقَوْلِ اللهِ تعالى في الأنْصابِ والأزْلامِ إنَّها {رِجْسٌ} (¬2). ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد لَحْمَها الذي كان في قُدُورِهم، فإنَّه نَجِس؛ لأنَّ ذَبْحَ ما لا يُباحُ أكْلُه لا يُطَهِّرُه. فصل: وفي الجَلّالةِ رِوايَتان؛ إحْداهما، نَجاسَتُها؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن رُكُوبِ الجَلّالةِ وألْبانِها. رواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّها تَنَجَّسَتْ بالنَّجاسَةِ، والرِّيقُ لا يَطْهُرُ. والثانيةُ، أنَّها طاهِرَة؛ لأنَّ الهِرَّ والضبعَ يَأكلان النَّجاسَةَ، وهما طاهِران، وحُكْمُ أجْزاء الحيوانِ؛ مِن شَعَرِه ورِيشِه وجِلْدِه ودَمْعِه وعَرَقه، حُكْمُ سورِه؛ لأَنَّه (¬4) مِن أجْزائِه، فأشْبَهَ السُّؤرَ (¬5) في الطهارةِ والنَّجاسَةِ؛ لأنَّه في مَعْناه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 68. (¬2) سورة المائدة 90. (¬3) في: باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 316. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 18. وابن ماجه، في: باب النهي عن لحوم الجلالة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1064. (¬4) في م: «ولأنه». (¬5) في م: «السنور».

211 - مسألة: (وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر)

وَسُؤرُ الْهِرَّةِ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ طَاهِرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 211 - مسألة: (وسُؤرُ الهِرَّةِ وما دُونَها في الخِلْقَةِ طاهِرٌ) سُؤرُ الهِرَّةِ وما دُونَها في الخِلْقَةِ؛ كابنِ عِرْس (¬1) والفَأرَةِ، ونَحْو ذلك مِن حَشَراتِ الأرضِ طاهِرٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا في المَذْهَبِ، أنَّه يَجُوزُ شُرْبُه والوُضُوءُ به، ولا يُكْرَهُ. هذا قَوْلُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ مِن الصَّحابَةِ، والتَّابِعِين، ومَن بعدَهم، إلَّا أبا حنيفةَ، فإنَّه كَرِه الوُضُوءَ بسُؤرِ الهِرِّ، فإن فَعَل أجْزأه، ورُويَتْ كَراهَتُه عن ابنِ عُمَرَ، ويَحْيَى الأنْصارِيِّ، وابنِ أبي لَيلَى. وقال أبو هُرَيرَةَ: يُغْسَلُ مَرَّةً أو مَرَّتَين. وهو قولُ ابنِ المُسَيَّبِ. ¬

(¬1) ابن عرس، بالكسر: دويبة تشبه الفأرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَحْوُه قَوْلُ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ؛ لِما روَى أبو داودَ (¬1)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إِذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرُّ (¬2) يُغْسَلُ مَرَّةً». وقال طاوُسٌ: يُغْسَلُ سَبْعًا، كالكَلْبِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن كَبْشَةَ بنتِ كَعْبِ بنِ مالكٍ، أنَّ أبا قَتادةَ دَخَل عليها، فسَكَبَتْ له وَضُوءًا، قالت: فجاءَتْ هِرَّةٌ فأصغَى لها الإِناءَ (¬3) حتَّى شَرِبَتْ، قالت كَبْشَةُ: فرآنِي أنظرٌ إليه، قال: أتعْجَبِين يا ابْنَةَ أخِي؟ فقُلتُ: نعم. فقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّها لَيسَتْ بِنَجَس، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ». ¬

(¬1) في: باب الوضوء بسؤر الكلب، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 17.كما أخرجه التِّرمذيُّ، في: باب ما جاء في سؤر الكلب، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذي 1/ 133. (¬2) في الأصل: «الهرة». (¬3) أصغى لها الإناء: أماله.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْرَجَه أبو داودَ، والنَّسائِيّ، والترمِذِيّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. دَلَّ بلَفْظِه علي نَفْىِ الكَراهَةِ عن سُؤرِ الهِرِّ، وبتَعْلِيله علي نَفْي الكراهةِ عَمّا دُونَها مِمّا يَطُوفُ علينا. وعن عائشةَ، أنها قالت: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّها لَيسَتْ بِنَجَس، إنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيكُمْ». وقد رَأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ بفَضْلِها. رَواه أبو داودَ (¬2). وحَدِيثُهم ليس فيه تَصْرِيحٌ بنَجاسَتِها مع صِحَّةِ حَدِيثنا واشْتِهارِه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب سؤر الهرة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 18. والترمذي، في: باب ما جاء في سؤر الهرة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 137. والنَّسائيُّ، في: باب سؤر الهرة، من كتاب الطهارة، وفي: باب سؤر الهرة، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 48، 145.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 131. والدارمي، في: باب الهرة إذا ولغت في الإناء، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 187، 188. والإمام مالك، في: باب الطهور للوضوء، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 23. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 296، 303، 309. (¬2) في الموضع السابق من سنن أبي داود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أكَلَتِ الهِرَّةُ نَجاسَةً، ثم شَرِبَتْ مِن مائِعِ بعدَ الغَيبَةِ، فهو طاهِرٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَى عنها النَّجاسَةَ، وتَوَضَّأ بفَضْلِها، مع عِلْمه بأكْلِها النَّجاساتِ. وإن شَرِبَتْ قبلَ الغَيبَةِ، فقال القاضي، وابنُ عَقِيلٍ: يَنْجُسُ؛ لأنَّه مائِعٌ وَرَدَتْ عليه نَجاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ. وقال أبو الحسنِ الآمِدِيُّ: ظاهِرُ قَوْلِ أصحابِنا طَهارَتُه؛ لأنَّ الخَبَرَ دَلَّ على العَفْو عنها مُطْلَقًا، وعَلَّل بعَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ عنها، ولأنَّنا حَكَمْنا بطَهارَتِها بعدَ الغَيبَةِ في مَكانٍ لا يَحْتَمِلُ وُرُودَها على ماءٍ كَثِيرٍ يُطَهِّرُ فاها، ولو احْتَمَل ذلك فهو شَكّ لا يُزِيلُ يَقِينَ النَّجاسَةِ، فوجَبَ إحالةُ الطهارةِ على العَفْو عنها، وهو شامِلٌ لِما قبلَ الغَيبَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخَمْرُ نَجسٌ؛ لقَوْلِه تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ}. إلى قولِه: {رِجْسٌ} (¬1). ولأنَّه يَحْرُمُ تَناوُلُه مِن غيرِ ضَرَرٍ، أشْبَهَ الدَّمَ. وكذلك النَّبِيذُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَام». رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّه شَراب فيه شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، أشْبَهَ الخَمْرَ. واللهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) سورة المائدة 90. (¬2) في: باب بيان أن كل مسكر خمر. . . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1588. كما أخرجه أبو داود، في: باب النهي عن المسكر، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 293. والترمذي، في: باب ما جاء في شارب الخمر، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذي 8/ 48. والنَّسائيُّ، في: باب إثبات اسم الخمر لكل مسكر من الأشربة، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 264. وابن ماجه، في: باب كل مسكر حرام، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1124. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 16، 29، 31.

باب الحيض

باب الحيض وهو دمُ طبيعةٍ وجِبِلَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الحيض 212 - مسألة؛ قال: (وهو دَمُ طَبِيعَةٍ وجِبِلَّةٍ) الحَيضُ: دَمٌ يُرْخِيه الرَّحِمُ إذا بَلَغَتِ المرأةُ، في أوقاتٍ مُعْتادَةٍ. وهو دَمٌ طَبَع اللهُ النساءِ وجَبَلَهُنَّ عليه، وليس بدَمِ فسادٍ، بل خَلقَه الله تعالى لحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الوَلَدِ، فإذا حَمَلَتِ المرأةُ، انْصَرَفَ ذلك بإذنِ اللهِ تعالى إلى غِذائِه؛ ولذلك لا تَحِيضُ الحامِلُ، فإذا وَضَعَتِ الوَلَدَ قَلَبَه اللهُ بحِكْمَتِه لَبَنًا، ولذلك قَلَّما تَحِيضُ المُرْضِعُ، فإذا خَلَتِ المرأةُ مِن الحَمْلِ والرَّضاعِ، بَقِى الدَّمُ لا مَصْرِفَ له، فيَسْتَقِرُّ في مكانٍ، ثم يَخْرُجُ في الغالِبِ في كلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيامٍ أو سبْعَةً، وقد يَزِيدُ على ذلك، ويَقِلُّ ويَطُولُ شَهْرُ المرأةِ ويَقْصُرُ، على حَسَبِ ما رَكَّبَه اللهُ تعالى في الطباعِ. وسُمِّيَ حَيضًا، مِن قَوْلِهم: حاضَ الوادِي. إذا سالَ. وتقولُ العَرَبُ: حاضَتِ الشجرةُ. إذا سال مِنها الصَّمْغُ الأحْمَرُ، وهو مِن السَّيَلَانِ. والأصْلُ فيه قولُه تعالى: {وَيَسْئلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). وقال أحمدُ، رَحِمه اللهُ: الحَيضُ يَدُورُ على ثلاثةِ أحاديثَ؛ حديثِ فاطِمَةَ، وأمِّ حَبِيبَةَ، وحَمْنَةَ. وفي رِوايةِ: وحديثِ أم سَلَمَةَ. مكانَ حديثِ أم حَبِيبَةَ. وسنَذْكُرُ هذه الأحاديثَ في مَواضِعِها، إن شاء اللهُ. فصل: واخْتَلَفَ النّاسُ في المَحِيض، فقال قَوْمٌ: المَحِيضُ والحَيضُ واحِدٌ مَصْدَران، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}. والأذَى إنَّما هو الدَّمُ، وهو الحَيضُ، وكذلك قولُه تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬2). وإنَّما يَئسْنَ مِن الحيضِ. وقال ابنُ ¬

(¬1) سورة البقرة 222. (¬2) سورة الطلاق 4.

213 - مسألة: (ويمنع عشرة أشياء)

وَيَمْنَعُ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ؛ فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيلٍ: المَحِيضُ مَكانُ الحَيضِ، كالمَقِيلِ والمَبِيتِ، مكانُ القَيلُولَةِ والبيتُوتَةِ، وما جاء في القرآنِ يُحْمَلُ على المَجازِ. وفائِدَةُ الخِلافِ أنا إذا قُلْنا: المَحِيضُ اسْمٌ لمَكانِ الحَيضِ. اخْتَصَّ التَّحْرِيمُ به، وإذا قُلْنا: اسْمٌ للدَّم. جاز أن يَنْصَرِفَ إلى ما عَداه لأجْلِه. 213 - مسألة: (ويَمْنَعُ عَشَرَةَ أشْياءَ)؛ أحَدُها، (فِعْلُ الصلاةِ). والثاني، (وُجُوبها) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع أهلُ العلمِ على إسْقاطِ فَرْضِ الصلاةِ عن الحائِضِ في أيامِ حَيضِها، وعلى أنَّ قَضاءَ ما تَرَكَتْ من الصلاةِ في أيامِ حَيضِها غيرُ واجبٍ؛ وذلك لقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ فاطمةَ بنتِ أبي حُبَيش: «إذا أقبَلَتِ الْحَيضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ». مُتَّفَقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). ولما رَوَت مُعاذَةُ، قالت: سَألْتُ عائشةَ: ما بالُ الحائِضِ تَقْضِي الصومَ ولا تقضي الصلاةَ؟ فقالت: أحَرُورِيَّةٌ (¬2) أنتِ؟ فقُلتُ: لَسْتُ بحَرُورِيةٍ، ولَكِنِّي أسأل. فقالت: كُنّا نَحِيضُ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فنُؤمَرُ بقَضاءِ الصومِ، ولا نُؤمَرُ بقضاءِ الصلاةِ. مُتَّفقٌ عليه (¬3). إنَّما قالت لها عائشةُ ذلك؛ لأنَّ الخَوارِجَ يَرَوْنَ على الحائِض ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب غسل الدّم، من كتاب الوضوء، وفي: باب الاستحاضة، وباب إقبال المحيض وإدباره، وباب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، من كتاب الحيض. صحيح البُخاريّ 1/ 66، 84، 87، 89، 90. ومسلم، في: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 262.كما أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض ومن قال لا تدع الصَّلاة. . . .، وباب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصَّلاة، وباب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصَّلاة، وباب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، وباب من قال: توضأ لكل صلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 63 - 73. والترمذي، في: باب في المستحاضة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 197. والنَّسائيُّ، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، وباب ذكر الأقراء، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الطهارة، وفي: باب ذكر الاستحاضة وإقبال الدّم وإدباره، وباب ذكر الأقراء، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 96، 97، 101 - 103، 148، 150، 152. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيَّام أقرائها قبل أن يستمر بها الدّم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 203، 204. والدارمي، في: باب في غسل المستحاضة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 198. والإمام مالك، في: باب المستحاضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 464. (¬2) نسبة إلى حروراء، وهو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه. اللباب 1/ 294. (¬3) أخرجه البُخاريّ، في: باب لا تقضي الحائض الصَّلاة، من كتاب الحيض. صحيح البُخاريّ 1/ 88. ومسلم، في: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها،. من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 262.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الحائض لا تقضي الصَّلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 60. والترمذي، في: باب ما جاء في قضاء الحائض الصيام دون الصَّلاة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 2/ 311. والنسائي، في: باب سقوط الصَّلاة عن الحائض، من كتاب الحيض، وفي: باب وضع الصيام عن الحائض، من كتاب الصيام. المجتبى 1/ 157، 4/ 162. وابن ماجه، في: باب الحائض لا تقضي الصَّلاة، من كتاب الطهارة، وفي: باب =

وَفِعْلَ الصِّيامِ، وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَمَسَّ الْمُصْحَفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قَضاءَ الصلاةِ. الثالثُ، (فِعْلُ الصِّيامِ) ولا يُسْقِطُ وُجُوبَه؛ لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألَيسَتْ إحْدَاكُنَّ إِذا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟». قُلْنَ: بَلَى. رَواه البُخارِيُّ (¬1). وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ أنَّ الحائِضَ عليها قضاءُ الصوم إجْماعًا. الرابع، (قراءةُ القرآنِ)؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقْرَإِ الحَائِضُ وَلَا الجُنُبُ شَيئًا مِنَ القُرْآنِ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬2). والخامسُ، (مَسُّ المُصْحَفِ) لقَوْلِه تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬3). ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كتابِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا وَأنْتَ طَاهِرٌ». ¬

= ما جاء في قضاء رمضان، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 207، 533. والدارمي، في: باب في الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، من كتاب الوضوء. سنن الدارمي 1/ 233. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 143، 232. (¬1) في: باب ترك الحائض الصوم، من كتاب الحيض، وفي: باب الحائض تترك الصوم والصلاة، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 1/ 83، 3/ 45 كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 374. واللفظ له. (¬2) لم يخرجه أبو داود. وأخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الحائض والجنب أنهما لا يقرآن القرآن، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 212. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة. سنن ابن ماجه 1/ 196. وانظر: تلخيص الحبير 1/ 138. (¬3) سورة الواقعة 79.

واللُّبْثَ في الْمَسْجِدِ، وَالطَّوَافَ، وَالْوَطْءَ في الْفَرْجِ، وَسُنَّةَ الطَّلاقِ، وَالاعْتِدَادَ بِالْأشْهُرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه الأَثْرَمُ (¬1). والسادسُ، (اللُّبْثُ في المَسْجدِ) لِما ذَكَرْنا في بابِ الغُسْلِ. والسابعُ، (الطَّوافُ) لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ إذ حاضَتْ: «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيرَ أنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيتِ حَتَّى تَطْهُرِي». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والثامنُ، (الوَطْءُ في الفَرْجِ) لقَوْلِه تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬3). التاسعُ، (سُنَّةُ الطَّلاقِ) يَعْنِي أنَّ طَلاقَ الحائِضِ مُحَرَّم، وهو طلاقُ بِدْعَةٍ؛ لِما نَذْكُرُه في مَوْضِعه. العاشِرُ، (الاعْتِدادُ بالأشْهُرِ) لقَوْلِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4). فأوْجَبَ العِدَّةَ بالقُرُوءِ، وقَوْلِه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬5). شَرَط في العِدَّةِ بالأشْهُرِ عَدَمَ الحَيضِ. ويَمْنَعُ أيضًا صِحَّةَ الطهارةِ؛ لأنَّ خُرُوجَ الدَّمِ يُوجِبُ الحَدَثَ، فمَنَعَ اسْتِمْرارُه صِحَّةَ الطهارةِ، كالبَوْلِ. ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، في: باب لا طلاق قبل نكاح، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 161. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوضوء لمن مسَّ القرآن، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 199. (¬2) يأتي تخريجه في صفحة 440. (¬3) سورة البقرة 222. (¬4) سورة البقرة 228. (¬5) سورة الطلاق 4.

214 - مسألة: (ويوجب الغسل)

وَيُوجِبُ الْغُسْلَ، والْبُلُوغَ، وَالاعْتِدَادَ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 214 - مسألة: (ويُوجِبُ الغُسْل) عندَ انْقِطاعِه؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسلِي وَصَلِّي». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويُوجِبُ (البُلُوغَ) لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بِخِمَارٍ» (¬2). ويُوجِبُ (الاعْتِدادَ به) لِما ذَكَرْنا. وأكْثَرُ هذه الأحْكامِ مُجْمَعٌ عليها. ¬

(¬1) انظر تخريج حديث فاطمة بنت أبي جحش المتقدم في صفحة 366. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب المرأة تصلي بغير خمار، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 149. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 169. وابن ماجه، في: باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 215. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 150، 218، 259.

215 - مسألة: (والنفاس مثله إلا في الاعتداد)

وَالنِّفَاسُ مِثْلُهُ إلا في الاعْتِدادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 215 - مسألة: (والنِّفاسُ مِثْلُه إلَّا في الاعْتِدادِ) يَعْنِي أنَّ حُكْمَ النِّفاس حكمُ الحَيضِ فيما يَجِبُ به ويَحْرُمُ، وما يَسْقُطُ عنها، لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. والخِلافُ في وُجُوبِ الكَفّارَةِ بوَطْئِها كالحائِضِ، وكذلك إباحَةُ الاسْتِمْتاعِ فيما دُونَ الفَرْجِ؛ لأنَّه دَمُ. الحَيضِ احْتَبَسَ لأجْلِ الحَمْلِ، ثم خَرَج، فثَبَتَ حُكْمُه، إلَّا في الاعْتِدادِ، لأنَّ الاعْتِدادَ بالقُرُوءِ، والنِّفاسُ ليس بقُرُوءٍ، ولأنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بالحَمْلِ. ويُفارِقُه أيضًا في كَوْنِه لا يَدُلُّ على البُلُوغِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ؛ لحُصُولِه (¬1) بالحَمْلِ قبلَه. ¬

(¬1) في الأصل: «البلوغ بحصوله».

216 - مسألة: (فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصيام، والطلاق، ولم يبح غيرهما حتى تغتسل)

وَإذَا انْقَطَعَ الدَّمُ أُبِيحَ فِعْلُ الصِّيَام وَالطَلاقُ، وَلَمْ يُبَحْ غَيرُهُمَا حَتَّى تَغْتَسِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 216 - مسألة: (فإذا انْقَطعَ الدَّمُ أُبِيحَ فِعْلُ الصيامِ، والطَّلاقُ، ولم يُبَحْ غيرُهما حتى تَغْتَسِلَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى انْقَطَعَ دَمُ الحائِضِ ولَمّا تَغْتَسِلْ، زال مِن الأحْكام المُتَعَلِّقَةِ بالحَيضِ أرْبَعَةُ أحْكامٍ؛ أحَدُها، سُقُوطُ فَرْضِ الصلاةِ، لأَنَّ سُقُوطَه بالحَيضِ، وقد زال. الثاني، مَنْعُ صِحَّةِ الطهارةِ لذلك. الثالثُ، تَحْرِيمُ الصِّيامِ؛ لأنَّ وُجُوبَ الغُسْلِ لا يَمْنَعُ فِعْلَه، كالجَنابَةِ. الرابعُ، إِباحَةُ الطَّلاقِ؛ لأنَّ تَحْرِيمَه لتَطْويل العِدَّةِ، أو لأجْلِ الحَيضِ، وقد زال ذلك. وسائِرُ المُحَرَّماتِ باقِيَةٌ؛ لأنَّها تَحْرُمُ على الجُنُبِ، فَهاهُنا أوْلَى. فصل: فأمّا الوَطْءُ قبلَ الغُسْلِ، فهو حَرامٌ في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذرِ: هذا كالإِجماعِ. وقال أبو حنيفةَ: إنِ انْقَطعَ الدَّمُ لأكْثَرِ الحَيضِ، حَلَّ وَطْؤُها، وإلَّا لم يُبَحْ حتى تَغتسِلَ، أو تَتَيَمَّمَ، أو يَمْضِيَ عليها وَقْتُ صلاةٍ، لأن وُجُوبَ الغُسْلِ لا يَمْنَعُ الوَطْءَ، كالجَنابَةِ. ولَنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (¬1). قال مُجاهدٌ: حتى يَغْتَسِلْنَ. وقال ابنُ عباسٍ: فإذا اغْتَسَلْنَ. ولأنَّه قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}. والتَّطَهُّرُ تَفَعُّلٌ، والتَّفَعُّلُ إِذا أُضِيفَ إلى مَن يَصِحُّ منه الفِعْلُ اقْتَضَى إيجادَ الفِعْلِ منه، كما في النَّظائِرِ، وانْقِطاعُ الدَّمِ غيرُ مَنْسُوبٍ إليها، ولأنَّ الله سُبحانه وتعالى شَرَط لحِلِّ الوَطْء شَرْطَين؛ انْقِطاعَ الدَّمِ، والغُسْلَ، فلا يُباحُ بدُونِهما. ولأنَّها مَمْنُوعَةٌ مِن الصلاةِ؛ لحَدَثِ (¬2) الحَيضِ، فمُنِعَ وَطْؤُها، كما لو انْقَطَعَ لأقَلِّ الحَيضِ. وبهذا يَنْتَقِضُ قِياسُهم، وحَدَثُ الحَيضِ آكَدُ مِن حَدَثِ الجَنَابَةِ، فلا يَصِحُّ الإِلْحَاقُ. فصل: وانْقِطاعُ الدَّمِ الذي تَتَعَلَّقُ به هذه الأحْكامُ، الانْقِطاعُ الكَثِيرُ، الذي يُوجِبُ عليها الغُسْلَ والصلاةَ؛ فأمّا الانقطاعُ اليَسِيرُ في أثناءِ الحَيضِ، فلا حُكْمَ له؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الدَّمَ يَنْقَطِعُ تارَةً، ويَجْرِي أُخْرى، وسنَذْكُرُ ذلك، إن شاءَ اللهُ. ¬

(¬1) سورة البقرة 222. (¬2) في م: «لحديث».

217 - مسألة: (ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج)

وَيَجُوزُ أنْ يَسْتَمْتِعَ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 217 - مسألة: (ويجُوزُ الاسْتِمْتاعُ مِن الحَائِضِ بما دُونَ الفَرْجِ) الاسْتِمْتاعُ مِن الحائِضِ بما فوقَ السُّرَّةِ وتحتَ الرُّكْبَةِ جائِزٌ بالإِجْماعِ والنَّصِّ، والوَطْءُ في الفَرْجِ مُحَرَّمٌ بهما. والاخْتِلافُ في الاسْتِمْتاعِ بما بَينَهما؛ فذَهَبَ (¬1) إمامُنا، رحَمِه اللهُ، إلى جَوازِه. وهو قولُ عِكْرِمَةَ، ¬

(¬1) في م: «مذهب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ: لا يُباحُ؛ لأنَّ عائشةَ، رَضِي اللهُ عنها، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنِي فأتَّزِرُ، فيُباشِرُنِي وَأنَا حائِضٌ. رَواه البُخارِيُّ، ومسلمٌ بمَعْناه (¬1). وعن عبدِ اللهِ بنِ سعدٍ الأنْصارِيِّ، أنَّه سأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا يَحِلُّ لِي مِن امْرَأتِي وهي حائِضٌ؟ قال: «مَا فَوْقَ الإزَارِ». رَواه البَيهَقِيُّ (¬2) ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. وهو اسمٌ لمَكانِ الحَيضِ، كالمَقِيلِ والمَبِيتِ، فتَخْصِيصُه مَوْضِعَ الدَّمِ بالمَنْع يَدُلُّ على إباحَتِه فيما عَداه. فإن قِيل: بل المَحِيضُ الحَيضُ، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}. والأذَى: هو الحَيضُ. وقولِه تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ}. وإنَّما يئسْنَ من الحَيضِ. قُلْنا: يُمْكِنُ حَمْلُه على ما ذَكَرْنا، وهو أوْلَى؛ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب مباشرة الحائض، من كتاب الحيض، وفي: باب في غسل المعتكف، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 1/ 82، 3/ 63. ومسلم في: باب مباشرة الحائض فوق الإزار، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 242. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 61. والترمذي، في: باب ما جاء في مباشرة الحائض، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 214 وابن ماجه، في: باب ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 208. والدارمي، في: باب مباشرة الحائض، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 244. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 55، 134، 143، 170، 174، 182، 209، 235. (¬2) في: باب مباشرة الحائض فيما فوق الإزار، من كتاب الحيض. السنن الكبرى 1/ 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّه لو أرادَ الحَيضَ لكان أمْرًا باعْتِزالِ النِّساء في مدَّةِ الحَيْضِ بالكُلِّيَّةِ، ولا قائِلَ به. الثاني، أنَّ سَبَبَ نزولِ الآية، أنَّ اليَهُودَ كانوا إذا حاضَتِ المرأةُ اعْتَزَلُوها، فلم يُؤاكِلُوها ولم يُشارِبُوها، ولم يَجْتَمِعوا معها في البَيتِ، فسأل أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ غَيرَ النِّكَاحِ». رَواه مسلمٌ (¬1). وهذا تَفْسِير لمُرادِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لا تَتَحَقَّق مُخالفَةُ اليهودِ بإرادَةِ الحَيضِ؛ لأنَّه يكُونُ مُوافِقًا لهم، ومِن السُّنَّةِ هذا الحديثُ. وعن عِكْرِمَةَ، عن بعْضِ أزواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا أرادَ مِن الحائِضِ شَيئًا أَلْقَى على فرْجِها خِرقَةً. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه وَطْءٌ مُنِع للأذَى، فاخْتَصَّ بمَحَلِّه كالدُّبُرِ، وحديثُ عائِشَةَ ليس فيه دَلِيلٌ على تَحْرِيمِ ما تحتَ الإِزارِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد يَتْرُكُ بعضَ المُباحِ تَقَذُّرًا، كتَرْكِه أكْلَ الضَّبِّ، والحديثُ الآخَر يَدُلُّ بالمَفْهُومِ، والمَنْطُوقُ راجِحٌ عليه. ¬

(¬1) في: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها. . . . إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 246 - كما أخرجه أبو داود، في: باب [في] مؤاكلة الحائض ومجامعتها، من كتاب الطهارة، وفي: باب في إتيان الحائض ومباشرتها، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 59، 499. وابن ماجه، في: باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 211. (¬2) في: باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 61.

218 - مسألة: (فإن وطئها في الفرج، فعليه نصف دينار كفارة. وعنه، ليس عليه إلا التوبة)

فَإِنْ وَطِئَهَا في الْفَرْجِ فَعَلَيهِ نِصْف دِينَارٍ كَفَّارَةً. وعَنْهُ، لَيسَ عَلَيهِ إلا التَّوْبَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 218 - مسألة: (فإن وَطِئَها في الفَرْجِ، فعليه نِصْفُ دِينارٍ كَفّارَةً. وعنه، ليس عليه إلَّا التَّوْبَةُ) اخْتَلَفَتِ الروايَةُ في وُجُوبِ الكَفَّارَةِ بوَطْءِ الحائِضِ في الفَرْجِ؛ فرُويَ عنه، أنّ عليه الكَفّارَةَ. وهو المَشْهُورُ في المذهبِ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذي يَأْتِي امْرَاتُه وهي حائِضٌ، قال: «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أوْ نِصْفِ دِينَارٍ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ والنّسائِيُّ (¬1). والثانيةُ، لا كَفّارَةَ عليه. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفة، وأكْثَرِ أهلِ العلمِ. وللشافعيِّ قَوْلان ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إتيان الحائض، من كتاب الطهارة، وفي: باب كفارة من أتى حائضا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 60، 500. والترمذي، في: باب ما جاء في كفارة إتيان الحائض، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 218. والنسائي، في: باب ما يجب على من أن حليلته في حال حيضها مع علمه. . .، من كتاب الطهارة والحيض. المجتبى 1/ 125، 154. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 245.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في كفارة من أتي حائضا، وباب من وقع على امرأته وهي حائض، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 210، 213. والدارمي، في: باب من قال عليه كفارة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 254.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَذْهَبَين؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتى حَائِضًا أو امْرَأَةً في دُبُرِهَا، أو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ولم يَذْكُرْ كَفّارَةً، إلَّا أنَّ البُخارِي ضَعَّفَ هذا الحديثَ. حَكاه التِّرْمِذِيُّ (¬2). ولأنَّه وَطْءٌ نُهِيَ عنه لأجْلِ الأذَى، أشْبَهَ الوَطْءَ في الدُّبُرِ. وحديثُ الكَفّارَةِ مَدارُه على عبدِ الحميدِ بنِ زَيدِ بنِ الخَطّابِ، وقد قِيلَ لأحمدَ: في نَفْسِك منه شيءٌ؟ قال: نعم. وقال: لو صَحَّ ذلك الحديثُ كُنّا نَرَى عليه الكَفّارَةَ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إن كانت له مَقْدِرَةٌ تَصَدَّقَ بما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكَلامُه هذا يَدُلُّ على أنَّ المُعْسِرَ لا شيءَ عليه. قال أبو عبدِ اللهِ بنُ حامِدٍ: كَفّارَةُ وَطْءِ الحائِضِ تَسْقُطُ بالعَجْزِ عنها، أو عن بَعْضِها، ككَفَّارَةِ الوَطْءِ في رمضانَ. ¬

(¬1) في: باب النهي عن إتيان الحائض، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 209. كمن أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء كراهية إتيان الحائض، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 217. والدارمي، في: باب من أتى امرأته في دبرها، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 259. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 408، 429، 476. (¬2) انظر: عارضة الأحوذي 1/ 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وظاهِرُ المذهبِ في الكَفَّارَةِ، أنَّها دِينارٌ، أو نِصْفُ دينارٍ، على وَجْهِ التَّخْيِيرِ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عباسٍ؛ لظاهِرِ الحديثِ. قال أبو داودَ: هكذا الرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ. قال: دِينارٌ أو نصفُ (¬1) دينارٍ. ولأنَّه مَعْنًى تَجِبُ الكَفّارَةُ بالوَطْءِ فيه، فاسْتَوَى الحالُ فيه بينَ إقْبالِه وإدْبارِه، كالإِحْرامِ. وعنه: إن كان الدَّمُ أحْمَرَ فدِينارُ، وإنْ كان أصفرَ فنِصْفُ دينارٍ. وهو قولُ إسحاقَ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إنْ كَانَ دَمًا أحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإنْ كَانَ دَمًا أصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ». رواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬2). إلَّا أنَّ أبا داودَ قال: هو مَوْقُوف مِن قولِ ابنِ عباسٍ (¬3). والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا، فإن قِيل: فكيفَ يُخَيَّرُ بينَ شيءٍ ونِصْفِه؟ قُلْنا: كما خُير المُسافِرُ بينَ القَصْرِ والإتْمامِ. ¬

(¬1) في الأصل: «ونصف». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في إتيان الحائض، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 60. بمعناه. والترمذي، في: باب ما جاء في الكفارة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 218. كما أخرجه الدارمي، في: باب من قال عليه كفارة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 255. (¬3) انظر: سنن أبي داود 1/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَطِئَها بعدَ الطُّهْرِ، قبلَ الغُسْلِ، فلا كَفّارَةَ عليه. وقال قَتادَةُ، والأوْزاعِيُّ: عليه نِصْفُ دِينارٍ؛ لأنَّه حُكْمٌ تَعَلَّقَ بالوَطْء في الحَيضِ، فلم يَزُلْ إلا بالغُسْلِ، كالتَّحْرِيمِ. ولَنا، أنَّ وُجوبَ الكَفَّارَةِ مِن الشِّرْعِ، ولم يَرِدْ بذلك إلَّا في الحائِضِ، وقِياسُهم يَبْطُل بما لو حَلَف لا يَطَأُ حائِضًا، فإنَّه يَحْنَثُ بالوَطْءِ في الحَيضِ، ولا يَحْنَثُ بالوَطْءِ قبلَ الغُسْلِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل تَجِبُ الكَفّارَةُ على الجاهِلِ والنّاسِي؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، تَجِبُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، وقِياسًا على الوَطْء في الإحْرامِ. والثاني، لا تَجِبُ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَأ والنِّسْيانِ» (¬1). ولأنَّها وَجَبَتْ لمَحْو الإِثْمِ، فأشْبَهَتْ كَفّارَةَ اليَمِينِ. فإن وَطِئ طاهِرًا، فحاضَتْ في أثْناءِ وَطْئِه، لم تَجِبْ عليه الكَفَّارَةُ على الوَجْهِ الثاني، وتَجِبُ على الأوَّلِ، وهو قولُ ابنِ حامِدٍ. وإن وَطِئ الصَّبِيُّ لَزِمَتْه الكَفّارَةُ عندَ ابنِ حامِدٍ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، وكالوَطْءِ في الإحْرامِ. قال شَيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه؛ لأنَّها مِن فُرُوعِ التَّكْلِيفِ، وهو غيرُه مُكَلَّفٍ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة، في: باب طلاق المكره والناسي، من كتاب الطلاق، بلفظ مقارب. سنن ابن ماجه 1/ 659. وانظر: إرواء الغليل 1/ 123. (¬2) انظر: المغني 1/ 418.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَجِبُ الكَفّارَةُ على المرأةِ في المَنْصُوصِ؛ لأنَّه وَطْءٌ يُوجِبُ الكَفّارَةَ، فأوْجَبَها على المرأةِ، كالوَطْءِ في الإِحْرامِ. وقال القاضي: فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تَجِبُ؛ لأنَّ الوُجُوبَ مِن الشَّرْعِ، ولم يَرِدْ. فإن كانت مُكْرَهَةً أو غيرَ عالِمَةٍ، فلا كَفّارَةَ عليها، لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأمَّتِي عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ». وحُكْمُ النُّفَساءِ حُكْمُ الحائِضِ في ذلك؛ لأنَّها في مَعْناها. ويُجْزِيء نِصْفُ دِينارٍ مِن أيِّ ذَهَبٍ كان، إذا كان صافِيًا، ويَسْتَوى التِّبْرُ والمَضْرُوبُ؛ لوُقُوعِ الاسْمِ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُجْزِئُّ إخْراجُ القِيمَةِ في أحَدِ الوَجْهَين، لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ بها، فجازَ مِن أيِّ مالٍ كان، كالخَراجِ. والثاني، لا يَجُوزُ، لأنَّه كَفّارَةٌ، فاخْتَصَّ ببَعْضِ الأنواعِ، كسائِرِ الكَفّاراتِ. فعلى هذا الوَجْهِ هل يَجُوزُ إخْراجُ الدَّراهِمِ؟ يَنْبَنِى على جَوازِه في الزَّكاةِ، والصَّحِيحُ جوازُه، لِما ذَكَرْنا، واخْتارَه شَيخُنا (¬1). ومَصْرِفُها إلى المَساكِينِ، كسائِرِ الكَفّاراتِ، واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 419.

219 - مسألة: (وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين)

وَأَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 219 - مسألة: (وأقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ له المرأةُ تِسْعُ سِنِينَ) هذه المسألةُ تَشْتَمِلُ على أمْرَين؛ أحَدُهما، أنَّ الصَّغِيرَةَ إذا رَأَتْ دَمًا لدُونِ تِسْعِ سِنِينَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فليس بحَيضٍ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا في المذهبِ؛ لأنَّ الصغيرةَ لا تَحِيضُ، لقَوْلِه سبحانه: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}. ولأنَّ المَرْجِعَ فيه إلى الوُجُودِ، ولم يُوجَدْ مِن النِّساءِ مَن تَحِيضُ عادَةً فيما دُونَ هذه السِّنِّ، ولأنَّ الله سبحانَه خَلَق دَمَ الحَيضِ لحِكْمَةِ تَرْبِيَةِ الوَلَدِ، وهذه لا تَصْلُحُ للحَمْلِ، فلا تُوجَدُ فيها حِكْمَتُه، فيَنْتَفِيَ لانْتِفاءِ حِكْمَتِه. الأمْرُ الثاني، أنَّها إذا رَأتْ دَمًا يَصْلُحُ أن يكُونَ حَيضًا، ولها تِسْعُ سِنِينَ، حُكِمَ بكَوْنِه حَيضًا، وحُكِم ببُلُوغِها، وثَبَت في حَقِّها أحْكامُ الحَيضِ كلُّها؛ لأنَّه رُوِيَ عن عائشةَ، أنَّها قالت: إذا بَلَغَتِ الجارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فهي امرأةٌ (¬1). ورُوي ذلك مَرْفُوعًا مِن رِوايَةِ ابنِ عُمَرَ. والمُرادُ به؛ حُكْمُها حُكْمُ المرأةِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ، أنَّ نِساءَ تِهامَةَ يَحِضْنَ لتِسْعِ سِنِينَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقد حُكِي عنه، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 29.

220 - مسألة؛ قال: (وأكثره خمسون سنة. وعنه: ستون في نساء العرب)

وَأَكْثَرُهُ خَمْسُونَ سَنَةً. وَعَنْهُ، سِتُّونَ في نِسَاءِ الْعَرَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: رَأَيتُ جَدَّةً بنْتَ إحْدَى وعشْرينَ سَنَةً. وهذا يَدُلُّ على أنَّها حَمَلَتْ لدُونِ عَشْرِ سنينَ، وكذلك بنتُها. وحكَى المَيمُونِيُّ، عن أحمدَ، في بنتِ عَشْرٍ رَأَت الدَّمَ، قال ليس بحَيضٍ. قال القاضي: فيَجِبُ على هذا أن يُقال: أوَّل زَمَنٍ يَصِحُّ فيه وُجُودُ الحَيضِ عَشْرَةَ سنةً، لأنَّه الزَّمانُ الذي يَصِحُّ فيه بُلُوغُ الغُلامِ. والأوَّلُ أصَحُّ. 220 - مسألة؛ قال: (وأكثَرُه خَمْسُونَ سَنَةً. وعنه: سِتُّونَ في نِساءِ العَرَبِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في حَدِّ السِّنِّ الذي تَيأسُ فيه المرأةُ مِن الحَيضِ؛ فرُوِي عنه أنَّه خَمْسُونَ سَنَةً. وهذا قولُ إسحاقَ. ويكُونُ حُكْمُها فيما تَراه مِن الدَّمِ بعدَ الخَمْسِينَ حُكْمَ المُسْتَحاضَةِ، لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائِشَةَ، رَضِي الله عنها، قالت: إذا بَلَغَتْ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِن حَدِّ الحَيضِ. ورُوي عنها أنَّها قالت: لن تَرَى المرأةُ في بَطْنِها ولدًا بعدَ الخَمْسِين. ورُوي عنه (¬1)، أنَّها لا تَيأسُ مِن الحَيضِ يَقِينًا إلى سِتِّينَ سَنَةً، وما تَراه فيما بينَ الخَمْسِين والستِّيِّن حَيضٌ مَشْكُوكٌ فيه، لا تَتْرُكُ الصلاةَ ولا الصومَ؛ لأنَّ وُجُوبَهما مُتَيَقَّنٌ، فلا يَسْقُطُ بالشَّكِّ. وتَقْضِي الصومَ المَفْرُوض احْتِياطًا؛ لأنَّه واجبٌ في ذِمَّتِها بيَقِينٍ، فلا يَسْقُطُ بأمْرٍ مَشْكُوكٍ فيه. هكذا رَواه الخِرَقِيُّ. ورُوي عنه، أنَّ نِساءَ العَجَمِ تَيأسُ في خَمْسِين، ونساءَ قُرَيشٍ وغيرِهم مِن العَرَبِ إلى سِتِّين. وهذا قولُ أهلِ المَدِينَةِ؛ لأنَّهُنَّ أقْوَى جبلَّةً. وروَى الزُّبَيرُ بنُ بَكّارٍ (¬2)، في كتابِ «النَّسَبِ» عن بعضِهم، أَنَّه قال: لا تَلِدُ لخَمْسِين سَنَةً إلَّا عَرَبِيَّةٌ، ولا تَلِدُ لسِتِّين إلَّا قُرَشِيَّةٌ. وقال: إنَّ هِنْدَ بِنْتَ أبي عُبَيدَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ زَمْعَةَ، ¬

(¬1) أي: عن الإمام أحمد. (¬2) أبو عبد الله الزبير بن بكار بن عبد الله الزبيري، الحافظ النسّابة، قاضي مكة وعالمها، توفي سنة ست وخمسين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 311 - 315.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَدَتْ موسى بنَ عبدِ اللهِ بنِ حسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، ولها سِتُّونَ. قال أحمدُ، في امرأةٍ مِن العَرَبِ رَأتِ الدَّمَ بعدَ الخَمْسِين: إن عاوَدَها مَرَّتَين أو ثلاثًا فهو حَيضٌ. وذلك لأنَّ المَرْجِعَ في ذلك إلى الوُجُودِ، وقد وُجِدَ حَيضٌ مِن نِساءٍ ثِقاتٍ أخْبَرْنَ عن أنْفُسِهِنَّ بعدَ الخَمْسِين، فأشْبَهَ ما قبلَ الخَمْسين؛ لأنَّ الكَلامَ فيما إذا وُجِدَ مِن المرأةِ دَمٌ في زَمَنِ عادَتِها بعدَ الخَمْسِين، كما كانت تَراه قبْلَها. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّه لا فَرْقَ بينَ نِساءِ العَرَبِ وغيرِهِنَّ؛ لأنَّهُنَّ سَواء في سائِرِ أحْكامِ الحَيضِ، كذلك هذا، وما ذُكِر عن عائشةَ لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّ الحَيضَ أمْرٌ حَقِيقِيٌّ، المَرْجِعُ فيه إلى الوُجُودِ، وقد وُجِدَ بخِلافِ ما قالت، على ما حَكاه الزُّبَيرُ بنُ بَكّارٍ. وإن قِيلَ: هذا الدَّمُ ليس بحَيضٍ. مع كَوْنِه على صِفَته وفي وَقْتِه وعادَتِه، بغيرِ نَصٍّ، فهو تَحَكُّمٌ. فأمّا بعدَ السِّتِّين، فلا خِلافَ في المذهبِ أنَّه ليس بحَيضٍ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ، وقد عُلِم أنَّ للمرأةِ حالًا تَيأسُ فيه مِن الحَيضِ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ}. قال أحمدُ في المرأةِ ¬

(¬1) في: المغني 1/ 446.

221 - مسألة: (والحامل لا تحيض)

وَالحَامِلُ لَا تَحِيضُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبيرةِ تَرَى الدَّمَ: هو بمَنْزِلَةِ الجُرْحِ. وقال عَطاءٌ: هي بمَنْزِلَةِ المُسْتَحاضَةِ. وذلك لأنَّ هذا الدَّمَ إذا لم يَكُنْ حَيضًا، فهو دَمُ فَسادٍ، حُكْمُه حُكْمُ دَمِ الاسْتِحاضَةِ ومَن به سَلَسُ البَوْلِ، وسنَذْكُرُه فيما بعدُ، إن شاء اللهُ تعالى. 221 - مسألة: (والحامِلُ لا تَحِيضُ) فإن رَأتْ دَمًا، فهو دَمُ فَسادٍ. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والحسنِ، وعِكْرِمَةَ، والشَّعْبِيِّ، وحَمّادٍ، والثَّوْرِي، والأوْزاعِي، وأبي حنيفةَ، وابنِ المُنْذِرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبي عُبَيدٍ. ورُوي عن عائِشةَ. والصحيحُ عنها، أنَّها إذا رَأتِ الدَّمَ لا تُصَلِّي. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، واللَّيثُ: ما تَراه مِن الدَّمِ حَيضٌ إذا أمْكَن. ورُوي ذلك عن الزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، وإسحاقَ؛ لأنَّه دَمٌ صادَفَ العادَةَ فكان حَيضًا كغيرِ الحامِلِ. ولَنا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ (¬1) حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيضَةٍ» (¬2). جَعَل وُجُودَ الحَيضِ عَلَمًا على بَراءَةِ الرَّحِمِ، فدَلَّ على أنَّه لا يَجْتَمِعُ معه. ولأنَّ ابنَ عُمَرَ لَمّا طَلَّقَ امْرَأتَه وهي حائِضٌ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُطَلِّقْهَا ¬

(¬1) الحائل: التي لم تحمل. (¬2) خرجه أبو داود، في: باب في وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 2/ 497. والدارمي، في: باب في استبراء الأمة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 28، 62، 87، 361. وانظر: عارضة الأحوذي 7/ 59.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَاهِرًا أوْ حَامِلًا» (¬1). فَجَعَلَ الحَمْلَ عَلَمًا على عَدَمِ الخيضِ، كالطُّهْرِ. احْتَجَّ بذلك أحمدُ. ولأنَّه زَمَنٌ لا تَرَى الدَّمَ فيه غالِبًا، فلم يَكُنْ ما تَراه حَيضًا، كالآيسَةِ. قال أحمدُ: إنَّما يَعْرِفُ النِّساءُ الحَمْلَ بانْقِطاعِ الدَّمِ. وقولُ عاثشةَ يُحْمَلُ على التي قارَبَتِ الوَضْعَ، جَمْعًا بينَ قَوْلَيها. فصل: فإن رَأتْه قبلَ ولادَتِها قَرِيبًا مِنها فهو نِفاسٌ، تَدَعُ الصلاةَ والصومَ. قال يعقوبُ بنُ بختانَ (¬2): سألتُ أحمدَ، عن المرأةِ إذا ضَرَبَها المَخَاضُ قبلَ الولادَةِ بيَوْم أوْ يَوْمَينِ، تُعِيدُ الصلاةَ؟ قال: لا. وهذا قولُ إسحاقَ. وقال الحسنُ: إذا رَأتِ الدَّمَ على الوَلَدِ، أمْسَكَتْ عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: أول تفسير سورة الطلاق، في كتاب التفسير، وفي: باب قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، وباب إذا طلقت الحائض يعتد بذلك الطلاق، وباب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، وباب وبعولتهن أحق بردهن في العدة، وباب مراجعة الحائض، من كتاب الطلاق، وفي: باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 6/ 193، 7/ 52، 54، 75، 76، 9/ 82. ومسلم، في: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها إلخ، في كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1093، 1095. وأبو داود، في: باب في طلاق السنة، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 500، والترمذي، في: باب ما جاء في طلاق السنة، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 123، 124. والنسائي، في: باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله عزَّ وجلَّ أن تطلق لها النساء، وباب ما يفعل إذا طلق تطليقة وهي حائض، وباب الطلاق لغير العدة وما يحتسب منه على المطلق. المجتبى 6/ 112، 114، 115. وابن ماجه، في: باب طلاق السنة، وباب الحامل كيف تطلق، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 651، 652. والدارمي، في: باب السنة في الطلاق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 160. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 576. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 26، 43، 51، 54، 58، 59، 61، 81، 124، 130. (¬2) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن بختان، كان جار الإمام أحمد وصديقه، وروى عنه مسائل صالحة كثيرة. طبقات الحنابلة 1/ 415، 416.

222 - مسألة: (وأقل الحيض يوم وليلة. وعنه: يوم. وأكثره خمسة عشر يوما. وعنه: سبعة عشر)

وَأَقلُّ الْحَيضٍ يَوْمٌ وليلَةٌ. وَعَنْه، يَوْمٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَعَنْهُ، سَبْعَة عَشَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ. وقال النَّخَعِيُّ: إذا ضَرَبَها المَخاضُ فَرَأت الدَّمَ. قال: هو حَيضٌ. وهذا قولُ أهلِ المدينةِ، والشافعيِّ. وقال عَطاءٌ: تُصَلِّي، ولا تَعُدُّه حَيضًا ولا نِفاسًا. ولَنا، أنَّه دَمٌ خَرَج بسَبَبِ الولادَةِ، فكان نِفاسًا، كالخارجَ بعدَه. فصل: وإنَّما يُعْلَمُ أنَّه بسَبَبِ الولادَةِ إذا كان قَرِيبًا منها، ويُعْلَمُ ذلك برُؤْيَةِ أمارَتِها في وَقْتِه، فأمّا إن رَأتِ الدَّمَ مِن غيرِ عَلامَةٍ على قُرْبِ الوَضْع، لم تَتْرُكْ له العِبادَةَ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه دَمُ فَسادٍ، فإن تَبَيَّنَ كَوْنُه قَرِيبًا مِن الوَضْع؛ لوَضْعِها بعدَه بيوم أو يَوْمَين، أعادَتِ الصومَ المَفْرُوضَ الذي صامَتْه فيه، وإن رَأتْه عندَ العَلامَةِ، تَرَكَتِ العِبادَةَ، فإن تَبَيَّنَ بُعْدُه غنها، أعادَتْ ما تَرَكَتْه مِن العِباداتِ الواجِبَةِ؛ لأنَّه تَبَيَّنَ أنَّه ليس بحَيضٍ ولا نِفاسٍ. واللهُ أعلمُ. 222 - مسألة: (وَأقَلُّ الحَيضِ يَوْم وَلَيلَةٌ. وعنه: يَوْمٌ. وأكْثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وعنه: سَبْعَةَ عَشَرَ) المَشْهُورُ في المذهبِ، أنَّ أقلَّ الحَيضِ يَوْمٌ ولَيلَة، وأكْثَرَه خَمْسَةَ عَشَرَ يومًا. هذا قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، وأبي ثَوْرٍ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّ أقَلَّه يومٌ، وأنَّ أكْثَرَه سَبْعَةَ عَشَرَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: بَلَغَنِي أنَّ نِساءَ آلِ الماجِشُون كُنَّ يَحِضْنَ سَبْعَةَ عَشَرَ يومًا. قال الخَلّالُ: مذهبُ أبي عبدِ اللهِ، لا اخْتِلافَ فيه أنَّ أقَلَّ الحَيضِ يومٌ، وأكْثَرَه خَمْسَةَ عَشَرَ. ومذهبُ الشافعيِّ نَحْوُ هذا في أقَلِّه وأكْثَرِه. وقال الثَّوْرِيُّ، والنُّعْمانُ، وصاحِباه: أقَله ثلاثةُ أيَّامٍ، وأكثَرُه عَشَرَةٌ؛ لِما روَى واثِلَةُ بن الأسْقَعِ، أنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَقَلُّ الحَيضِ ثَلَاثَةُ أيَّامٍ وَأكْثَرُهُ عَشَرَةٌ» (¬1). وقال أنَسٌ: قُرْءُ المرأةِ ثَلاثٌ، أرْبَعٌ، خَمْسٌ، سِتٌّ، سَبْغ، ثَمانٍ، تِسْعٌ، عَشْرٌ. ولا يَقُولُ ذلك إلَّا تَوْقِيفًا. وقال مالكٌ: ليس لأقَلِّه حَدٌّ، ولو كان لأقَلِّه حَدٌّ، لكانَتِ المرأةُ لا تَدَعُ الصلاةَ حتى يَمْضِي ذلك، الحَدُّ. ولَنا، أنَّ ذِكْرَ الحَيضِ وَرَد في الشَّرْعِ مُطْلَقًا مِن غيرِ تَحْدِيدٍ، ولا حَدَّ له في اللُّغَةِ، فَرُجِعَ فيه إلى العُرْفِ والعادَةِ، كالقَبْضِ والإِحْرازِ والتَّفَرُّقِ، وقد وُجِدَ حَيضٌ مُعْتاد أقَلُّ مِن ثَلاثَةٍ وأَكْثَرُ مِن عَشَرَةٍ. قال عَطاءٌ: رَأيتُ مِن النِّساء مَن تَحِيضُ يَوْمًا، وتَحيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ. وقال شَرِيكٌ (¬2): عِنْدَنا امرأةٌ تَحِيضُ كلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَيضًا مُسْتَقِيمًا. وقال أبو عبدِ اللهِ الزُّبَيرِيُّ: كان في نِسائِنا مَن تَحِيضُ يَوْمًا، وتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ يومًا. وقال الشافعيُّ: رَأْيتُ امرأةً ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الحيض. سنن الدارقطني 1/ 219. (¬2) شريك بن عبد الله بن أبي شريك، النخعي، أبو عبد الله القاضي، أحد الأعلام على لين ما في حديثه. ولد سنة تسعين، وتوفي سنة سبع وسبعين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 178، تهذيب التهذيب 4/ 333.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُثْبِتَ لي عنها أنَّها لم تَزَلْ تَحِيضُ يَوْمًا، لا تَزِيدُ عليه، وأثْبِتَ لي عن نِساءٍ، أَنَّهُنَّ لم يَزَلْنَ يَحِضْنَ أقَلَّ مِن ثلاثةِ أيَّامٍ. وقَوْلُهُنَّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إليه، لقَوْلِه تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬1). فلولا أنَّه مَقْبُولٌ. ما حَرَّمَ عليهِنَّ الكِتْمانَ، وجَرَى ذلك مَجْرَى الشَّهادَةِ. ولم يُوجَدْ حَيضٌ مُعْتادٌ أقَلّ مِن ذلك في عَصْرٍ مِن الأعْصارِ، فلا يكُونُ حَيضًا بحالٍ. وحديثُ واثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ يَرْويه محمدُ بنُ أحمدَ الشّامِيُّ، وهو ضَعِيفٌ، عن حَمّادِ بنِ المِنْهالِ، وهو مَجْهُولٌ، وحديثُ أنَسٍ رَواه الجَلْدُ بنُ أيُّوبَ، وهو ضَعِيفٌ. قال ابنُ عُيَينَةَ: هو مُحَدِّثٌ لا أصْلَ له. وقال يَزِيدُ بنُ زُرَيع: ذاك أبو حنيفةَ، لم يَحْتَجَّ إلَّا بالجَلْدِ بنِ أيُّوبَ. وحديثُ الجَلْدِ، ولو صَحَّ، فقد رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، ما يُعارِضُه، فإنَّه قال: ما زادَ على خَمْسَ عَشْرَةَ اسْتِحاضَةٌ، وأقَلُّ الحَيضِ يَوْمٌ ولَيلَةٌ. ¬

(¬1) سورة البقرة 228.

223 - مسألة: (وغالبه ست أو سبع)

وَغَالِبُهُ سِتٌّ أوْ سَبْعٌ. وأقَلُّ الطُّهْرِ بَينَ الْحَيضَتَينِ ثَلَاثَةَ عَشرً يَوْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 223 - مسألة: (وغالِبُه سِتٌّ أو سَبْعٌ) لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لحَمْنَةَ: «تَحَيَّضِي في عِلْمِ اللهِ سِتَّةَ أيَّامٍ، أوْ سَبْعَةَ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وصَلِّي أرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، كَمَا تَحِيضُ النِّساءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ، لِمِيقَاتِ حَيضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ» (¬1). حديثٌ حسنٌ. 224 - مسألة: (وأَقَلُّ الطُّهْرِ بينَ الحَيضَتَينِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا) لأنَّ كَلامَ أحمدَ لا يَخْتَلِفُ أنَّ العِدَّةَ يَصِحُّ أن تَنْقَضِيَ في شَهْرٍ إذا قامَتْ به البَيِّنةُ. قال إسحاقُ: تَوْقِيتُ هؤلاء بالخَمْسَةَ عَشَرَ باطِلٌ. وقال أبو بَكْرٍ: أقَلُّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 67. والترمذي، في: باب في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 201. وابن ماجه، في: باب ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 205. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 439.

وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَا حَدَّ لأكْثَرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطُّهْرِ مَبْنِيٌّ على أكْثَرِ الحَيضِ، فإن قُلْنا: أكْثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ. فأقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وإن قُلْنا: أكْثَرُه سَبْعَةَ عَشَرَ. فأقَلُّ، الطّهْرِ ثلاثةَ عَشَرَ. وهذا بَناه على أنَّ شَهْرَ المرأةِ لا يَزِيدُ على ثَلاثِين يَوْمًا، يَجتَمِعُ فيه حَيضٌ وطُهْرٌ، وأمّا إذا زاد شَهْرُها على ذلك، فلا يَلْزَمُ ما قال. وقال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ: أقَلّه خَمْسَةَ عَشَرَ (¬1). وعن أحمدَ نَحْوُ ذلك، لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ شَطر عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي» (¬2). ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ، عن عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، أنَّ امرأةً جاءَتْه، وقد طَلَّقَها زَوْجُها، فزَعَمَتْ أنَّها حاضَتْ في شَهْرٍ ثلاثَ حِيَضٍ، طَهُرَتْ عندَ كلِّ قُرْءٍ وصَلَّتْ، فقال عليٌّ لشُرَيحٍ: قُلْ فيها. فقال شُرَيحٌ: إن جاءت ببَيِّنةٍ مِن بِطانَةِ أهْلِها مِمَّن يرضَى دِينُه وأمانَتُه، فشَهِدَتْ بذلك، وإلَّا فهي كاذِبَةٌ. فقال عليٌّ: قَالُون. يَعْنِي: جَيِّدٌ، بالرُّومِيَّةِ. ولا يقُولُ مِثْلَ هذا إلَّا تَوْقِيفًا، ولأنَّه قولُ صَحابِيٍّ انْتَشَرَ، ولم يُعْلَمْ خِلافُه، ¬

(¬1) بعده في م: «وعن أحمد عشرة». (¬2) لا أصل له بهذا اللفظ. انظر تلخيص الحبير 1/ 162.

225 - مسألة: (والمبتدأة تجلس يوما وليلة ثم تغتسل وتصلي، فإن انقطع دمها لأكثره فما دون، اغتسلت عند انقطاعه، وتفعل ذلك ثلاثا. فإن كان في الثلاث على قدر واحد، صار عادة وانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض فيه. وعنه: يصير عادة بمرتين)

فَصْلٌ: وَالْمُبْتَدَأَةُ تَجْلِسُ يَوْمًا وَلَيلَةً، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لأكْثَرِهِ فَمَا دُونَ، اغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، وَتَفْعَل ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَإنْ كَانَ في الثَّلَاثِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ صَارَ عَادَةً، وَانْتَقَلَتْ إِلَيهِ، وَأَعَادَتْ مَا صَامَتْهُ مِنَ الْفَرْضِ فِيهِ. وَعَنْهُ، يَصِيرُ عَادَةً بِمَرَّتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُتَصَوَّرُ إلَّا على قَوْلِنا: أقَلُّه ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وأقَلُّ الحَيضِ يومٌ. وهذا في الطُّهْرِ بينَ الحَيضَتَين، فأَمَّا الطُّهْرُ بينَ الحَيضَةِ فسيَأْتِي حُكْمُه. وغالبُ الطُّهْرِ أربعةٌ وعِشْرُون، أو ثلاثةٌ وعِشْرُون، لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لحَمْنَةَ: «ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي أرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، كَمَا يَحِيضُ النِّساءُ، وَكَمَا يَطْهُرْنَ». ولا حَدَّ لأَكْثَرِه، لأنَّ التَّحْدِيدَ مِن الشَّرْعِ ولم يَرِدْ به، ولا نَعْلَمُ له دَلِيلًا. واللهُ أعلمُ. 225 - مسألة: (والمُبْتَدَأَةُ تَجْلِسُ يَوْمًا ولَيَلَةً ثم تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي، فإنِ انْقَطَعَ دَمُها لأكْثَرِه فما دُونَ، اغْتَسَلَتْ عندَ انْقِطاعِه، وتَفْعَلُ ذلك ثلاثًا. فإن كان في الثَّلاثِ على قَدْرٍ واحِدٍ، صار عادَةً وانتقَلَتْ إليه، وأعادَتْ ما صامَتْه مِن الفَرضِ فيه. وعنه: يَصِيرُ عادَةً بمَرَّتَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُبْتَدَأةَ أوَّلَ ما تَرَى الحَيضَ ولم تَكُنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حاضَتْ قبلَه، إذا كان في وَقْتٍ يُمْكِنُ حَيضُها وهي التي لها تِسْعُ سِنِينَ فصاعِدًا، إذا انْقَطَعَ لأقَلَّ مِن يَوْم ولَيلَةٍ، فهو دَمُ فَسادٍ، وإن كان يَوْمًا ولَيلَةً فما زادَ، فإنَّها تَدَعُ الصومَ والصلاةَ، لأنَّ دَمَ الحَيضِ جِبِلَّةٌ وعادَةٌ، ودَمُ الاسْتِحاضَةِ لعارِضٍ، الأصْلُ عَدَمُه. وظاهِرُ المذهبِ أنَّها تَجْلِسُ يَوْمًا ولَيلَةً، ثم تَغْتَسِلُ وتَتَوَضَّأُ لوَقْتِ كلِّ صلاةٍ، وتُصَلِّي، وتَصُومُ. فإذا انْقَطعَ دَمُها لأكْثَرِ الحَيضِ فما دُونَ، اغْتَسَلَتْ غُسْلًا ثانِيًا عندَ انْقِطاعِه، ثم تَفْعَلُ ذلك في الشَّهْرِ الثاني والثالثِ، فإن كان في الأشْهُرِ الثَّلاثَةِ مُتَساويًا، صارَ ذلك عادَةً، وعَلِمْنا أنَّها كانت حَيضًا، فيَجِبُ عليها قَضاءُ ما صامَتْه مِن الفَرْضِ فيه، لأنَّنا تَبَيَّنَا أنَّها صامَتْهْ في زَمَنِ الحَيضِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. قال القاضي: المذهبُ عِنْدِي في هذا رِوايَةٌ واحِدَةٌ. وذلك لأنَّ العِبادَةَ واجِبَةٌ في ذِمَّتِها بيَقِينٍ، فلا تَسْقُط بأمْرٍ مَشْكُوكٍ فيه أوَّلَ مَرَّةٍ، كالمُعْتَدَّةِ لا نَحْكُمُ ببَراءَةِ ذِمُّتِها مِن العِدَّةِ بأوَّلِ حَيضَةٍ، ولا يَلْزَمُ عليه اليَوْمُ واللَّيلَةُ، لأنَّها اليَقِينُ، فلو لم نُجْلِسْها ذلك أدَّى إلى أنْ لا نُجْلِسَها أصْلًا، وقد نُقِل عن أحمدَ فيها ثَلاثُ رِواياتٍ أُخَرُ، إحْداها، أنَّها تَجْلِسُ سِتًّا أو سَبْعًا: نَقَلَها عنه صالِحٌ على حديثِ حَمْنَةَ، لأنَّه أكثَرُ ما تَجْلِسُه النِّساءُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، تَجْلِسُ عادَةَ نِسائِها، كأَنَّها وأُخْتِها وعَمَّتِها وخالتِها. وهذا قول عَطاءٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّها تُشْبِهُهُنَّ في ذلك. وهو قولُ إسحاقَ. غيرَ أنَّه قال: فإِن لم تَعْرِفِ الأُمَّ والخالةَ أو العَمَّةَ، فإنَّها تَجْلِسُ سِتَّةَ أَيَّامٍ، أو سَبْعَةً، كما في حديثِ حَمْنَةَ. والثالثةُ، أنَّها تَجْلِسُ ما تَراه مِن الدَّم، ما لم يُجَاوزْ أكْثَرَ الحَيضِ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ. اخْتارها شَيخُنا (¬1). فإنِ انْقَطَعَ لأكْثَرِه [فما دُونَ] (¬2)، فالجمِيعُ حَيضٌ، لأنَّنا حَكَمْنا بأنَّ ابْتِداءَ الدَّمِ حَيضٌ، مع جَوازِ أن يكُونَ اسْتِحاضَةً، فكذلك باقِيه. ولأنَّ دَمَ الحَيضِ دَمُ جِبِلَّةٍ، والاسْتِحاضَةُ دَمٌ عارِضٌ، والأصْلُ فيها الصِّحَّةُ والسَّلامَةُ. ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 409. (¬2) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: لا يَخْتَلِفُ المذهبُ أنَّ العادَةَ لا تَثْبُتُ بمَرَّةٍ، وظاهِرُ مذهب الشافعي أنها تَثْبُتُ بمَرَّةٍ؛ لأنَّ المرأةَ التي اسْتَفْتَتْ لها أمُّ سَلَمَةَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّها إلى الشَّهْرِ الَّذي يَلي شهرَ الاسْتِحاضَةِ؛ لأنَّ ذلك أقْرَبُ إليها، فوَجَبَ رَدُّها إليه. ولَنا، أنَّ العادَةَ مأخُوذَةٌ مِن المُعاوَدَةِ، ولا تَحْصُلُ بمَرَّةٍ، والحديثُ حُجَّةٌ لَنا؛ لأنَّه قال: «لِتَنْظر عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أصَابَهَا» (¬1). و «كان» يُخْبَرُ بها عن دَوامِ الفِعْلِ وتَكْرارِه، ولا يُقالُ لمَن فَعَل شيئًا مَرَّةً: كان يَفْعَلُ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ؛ هل تَثْبُتُ العادَةُ بمَرَّتَين، أو ثلاثٍ؟ فعنه، أنَّها تَثْبُتُ بمَرَّتَين؛ لأنَّها مَأْخُوذَةٌ مِن المُعاوَدَةِ، وقد عاوَدَتْها في المَرَّةِ الثانيةِ. وعنه، لا تَثْبُتُ إلَّا بثَلاثٍ. وهو ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض. . . .، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 62. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، من كتاب الطهارة. وفي: باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر»، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 99، 149. والدارمي، في: باب في غسل المستحاضة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 199، 149. والإمام مالك، في: باب المستحاضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 62. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 293، 304، 320، 323.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَشْهُورُ في المذهبِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أيَّامَ أقْرَائِهَا» (¬1). والأقْراءُ جَمْعٌ، وأقَلُّه ثلاثةٌ، ولأنَّ العادَةَ إنَّما تُطْلَقُ على ما كَثُرَ، ولأنَّ ما اعْتُبِرَ له التَّكْرارُ اعْتُبِرَ ثَلاثًا، كخِيارِ المُصرِّاةِ. فإن قُلْنا بهذه الرِّواية، لم تَنْتَقِلْ عن اليَقِينِ في الشَّهْرِ الثالثِ. وإن قُلْنا بالرِّوايَةِ الأُولَى، انْتَقَلَتْ إليه في الشَّهْرِ الثالثِ. وعلى قَوْلِنا: إنَّها تَجْلِسُ أقَلَّ الحَيضِ أو غالِبَه أو عادَةَ نِسائِها، إذا انْقطَعَ الدَّمُ لأكْثَرِ الحَيضِ فما دُونَ، وكان في الأشْهُرِ الثَّلاثَةِ. على قَدْرٍ واحِدٍ، أو في شَهْرَين، على اخْتِلافِ الرِّوايَتَين. انتقَلَتْ إليه وعَمِلَتْ عليه، وأعادَتْ ما صامَتْه مِن الفَرْضِ فيه؛ لأنَّنا (¬2) تَبَيَّنَا أنَّها صامَتْه في حَيضِها. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض. . . .، وباب من قال تغتسل من طهر إلى طهر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 64، 70. والترمذي، في: باب ما جاء في أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 199. وابن ماجة، في: باب ما جاء في المستحاضة. . . .، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 204 كلهم من حديث عدي بن ثابت. (¬2) في الأصل: «ولأننا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى أجْلَسْناها يَوْمًا ولَيلَةً، أو سِتًّا، أو سَبْعًا، أو عادَةَ نِسائِها، فرَأتِ الدَّمَ أكْثَرَ مِن ذلك، لم يَحِلَّ لزَوْجِها وَطْؤُها حتَّى يَنْقَطِعَ، أو يُجاوزَ أكْثَرَ الحَيضِ، لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه حَيضٌ، وإنَّما أمَرْناها بالعبادَةِ فيه احْتِياطًا لبَراءَةِ ذِمَّتِها، فيَجِبُ تَرْكُ وَطْئِها احْتِياطًا أيضًا. وإنِ انْقَطَعَ الدَّمُ، واغْتَسَلَتْ، حَلَّ وَطْؤُها، ولم يُكْرَهْ، لأنَّها رَأتِ النَّقاءَ الخالِصَ. وعنه، يُكْرَهُ، لأنَّا لا نَأْمَنُ مُعاوَدَةَ الدَّمِ، فكُرِهَ وَطْؤُها، كالنُّفَساءِ إذا انْقَطَعَ دَمُها لأقَلَّ مِن أرْبَعِين يَوْمًا.

226 - مسألة: (فإن جاوز أكثر الحيض، فهي مستحاضة)

وَإنْ جَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيضِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، فَإِنْ كَانَ دَمُهَا مُتَمَيِّزًا؛ بَعْضُهُ ثَخِينٌ أسْوَدُ مُنْتِنٌ، وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ أَحمَرُ، فَحَيضُهَا زَمَنَ الدَّمِ الأسْوَدِ، وَمَا عَدَاهُ اسْتِحَاضَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 226 - مسألة: (فإن جاوَزَ أكْثَرَ الحَيضِ، فهي مُسْتَحاضَةٌ) لأنَّ الدَّمَ كلَّه لا يَصْلُحُ أن يكُونَ حَيضًا. 227 - مسألة: (فإن كان دَمُها مُتَمَيِّزًا؛ بعضُه أسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وبعضُه رَقِيقٌ أَحْمَرُ، فحَيضُها زَمَنَ الدَّمِ الأسْوَدِ، وما عَداه اسْتِحاضَةٌ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُبْتَدَأةَ إذا جاوَزَ دَمُها أكْثَرَ الحَيضِ، لم تَخْلُ مِنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالَيْن؛ أحَدُهما، أن تكُونَ مُمَيِّزةً، وهي أن يكُونَ بَعْضُ دَمِها أسْوَدَ ثَخِينًا مُنْتِنًا، وبَعْضُه أحْمَرَ رَقِيقًا، أو أصْفَرَ لا رائِحةَ له، ويكُونَ الدَّمُ الأسْوَدُ أو الثَّخِينُ لا يَزِيدُ على أكثَرِ الحَيضِ، ولا يَنْقُصُ عن أقَلِّه، فحُكْمُ هذه أنَّ حَيضَها زَمَنَ الدَّمِ الأسْوَدِ والثَّخِينِ، فإذا انْقَطعَ فهي مُسْتَحاضَةٌ وتَغْتَسِلُ للحَيضِ، وتَتَوَضَّأْ لكلِّ صلاةٍ، وتُصَلِّي. وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ؛ لِما رَوَتْ عائِشةُ، قالت: جاءت فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيشٍ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنِّي اسْتَحاضُ. فلا أطْهُرُ، أفأدَعُ الصلاةَ؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيسَ بِالْحَيضَةِ، فَإذَا أقْبَلَتِ الْحَيضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإذَا أدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وللنَّسائِيِّ وأبي داودَ (¬2): «إذَا كَانَ دَمُ الحَيضِ فَإنَّه أسْوَدُ يُعْرَفُ، فَأمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي فَإنَّمَا هُوَ عِرْقٌ». وقال ابنُ عباسٍ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 366. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من قال تتوضأ لكل صلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 73. والنسائي، في: باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتابي الطهارة والحيض. المجتبى 1/ 102، 151.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمّا ما رَأتِ الدَّمَ البَحْرانِيَّ (¬1) فإنَّها تَدَعُ الصلاةَ، إنَّها واللهِ لن تَرَى الدَّمَ بعدَ أيَّامِ مَحِيضِها إلَّا كغُسالَةِ ماءِ اللَّحْمِ. ولأنَّه خارِجٌ مِن الفَرْجِ يُوجِبُ الغُسْلَ؛ فرُجِعَ إلى صِفَتِه عندَ الاشْتِباهِ، كالمَنِيِّ والمَذْي. فصل: وظاهِرُ كلامِ شَيخِنا (¬2)، رَحِمه اللهُ، ها هنا، أنَّ المُمَيِّزةَ إذا عَرَفَتِ التَّمْيِيزَ جَلَسَتْه مِن غيرِ تَكْرارٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، والخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ ابنِ عَقِيلٍ؛ لأنَّ مَعْنَى التَّمْيِيزِ أن يَتَمَيَّزَ أحَدُ الدَّمَين عن الآخَرِ في الصِّفَةِ، وهذا يُوجَدُ بأوَّلِ مَرَّةٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال القاضي، وأبو الحسنِ الآمِدِيُّ: إنَّما تَجْلِسُ المُمَيِّزَةُ مِن التَّمْيِيزِ ما تَكَرَّرَ مَرَّتَين أو ثلاثًا، بِناءً على الرِّوايَتَين، فيما تَثْبُتُ به العادَةُ. ولَنا، قولُ النبيِّ: - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أقْبَلَتِ الْحَيضَةُ فَاتْركِي الصَّلَاةَ، فَإذَا أدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي». أمَرَها بتَرْكِ الصلاةِ إذا أقْبَلَتِ الحَيضَةُ، مِن غيرِ اعْتِبارِ أمْرٍ آخَرَ، ثم مَدَّه إلى حينِ إدْبارِه؛ ولأنَّ (¬3) التَّمْيِيزَ أمارَةٌ بمُجَرَّدِه، فلم يَحْتَجْ إلى ¬

(¬1) دم بحراني: شديد الحمرة، كأنه نسب إلى البحر وهو اسم قعر الرحم، وزادوه في النسب ألفا ونونا للمبالغة. النهاية 1/ 99. (¬2) انظر: المغني 1/ 393. (¬3) في م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمِّ غيرِه إليه، كالعادَةِ. وعندَ القاضي: لا تَجْلِسُ مِن التَّمْيِيزِ إلّا ما تَكَرَّرَ. فعلى هذا، إذا رَأتْ في كلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً أحْمَرَ، ثم خَمْسَةً أسْوَدَ، ثم أحْمَرَ، واتَّصَلَ، جَلَسَت زَمانَ الأسْوَدِ، فكان حَيضَها، والباقي اسْتِحاضَةً. وهل تَجْلِسُ الأسْوَدَ في الشَّهْرِ الثاني أو الثالثِ أو الرابعِ؟ يُخَرَّجُ ذلك على الرِّواياتِ الثَّلاثِ. وكذلك لو رَأتْ عَشَرَةً أحْمَرَ، ثم خَمْسَةً أسْوَدَ، ثم أحْمَرَ، فإنِ اتَّصَلَ الأسْوَدُ وعَبَر أكْثَرَ الحَيضِ، فليس لها تَمْيِيزٌ وحَيضُها (¬1) مِن الأسْوَدِ؛ لأنَّه أشْبَهُ بدَمِ الحَيضِ. ولو رَأتْ أقَلَّ مِن يَوْمٍ ولَيلَةٍ أشودَ، فلا تَمْييزَ لها؛ لأنَّه لا يَصْلُحُ حَيضًا. وإن رَأتْ في الشَّهْرِ الأولِ أحْمَرَ كلَّه، وفي الثاني والثالثِ والرابع خَمْسَةً أسْوَدَ، وفي الخامِسِ كلِّه أحْمَرَ، فإنّها تَجْلِسُ في الأشْهُرِ الثَّلَاثَةِ اليَقِينَ، على قَوْلِنا: يُعْتَبَرُ التَّكْرارُ في المُمَيِّزَةِ. وفي الرابعِ أيَّامَ الدَّمِ الأسودِ في قَوْلِ شَيخِنا (¬2)، وفي الخامِسِ تَجْلِسُ خَمْسَةً أيضًا. وقال القاضي: لا تَجْلِسُ ¬

(¬1) في م: «نحيضها». (¬2) انظر: المغني 1/ 412.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الرابع إلَّا اليَقِينَ، إلَّا أن نقُولَ: تَثْبُتُ العادَةُ بمَرَّتَين. قال شيخُنا: وفيه نَظرٌ، فإنَّ أكْثَرَ ما يُقَدَّرُ فيها أنَّها لا عادةَ لها ولا تَمْيِيزَ، ولو كانت كذلك لجَلَسَتْ سِتًّا أوْ سَبْعًا، في أصَحِّ الرِّواياتِ. فكذا ههُنا. قُلتُ: فيَنْبَغِي على هذا أن لا تَجْلِسَ بالتَّمْيِيزِ، وإنَّما تَجْلِسُ غالِبَ الحَيضِ؛ لِما ذَكَرَه. ومَن لم يَعْتَبِرِ التَّكْرارَ في التَّمْيِيزِ فهذه مُمَيِّزَةٌ، ومَن قال: إنها تَجْلِسُ بالتَّمْيِيزِ في الشَّهْرِ الثاني، قال: إنَّها تَجْلِسُ الدَّمَ الأسْوَدَ في الشَّهْرِ الثالثِ؛

وَإنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا قَعَدَتْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ غَالِبَ الْحَيضِ، وَعَنْهُ، أَقَلَّهُ. وَعَنْهُ، أكْثَرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها لا تَعْلَمُ أنَّها مُمَيِّزَةٌ قَبْلَه. الحالُ الثاني، أن لا يكونَ دَمُها مُتَمَيِّزًا على ما مَضى، ففيها أربعُ رِواياتٍ، إحْداها، أنَّها تَجْلِسُ غالِبَ الحَيضِ مِن كلِّ شَهْرٍ، وذلك سِتَّةُ أَيَّام أو سَبْعَةٌ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه غالِبُ عَاداتِ النِّساءِ، فيَجِبُ رَدُّها إليه، كرَدِّها في الوَقْتِ إلى حَيضِها في كلِّ شَهْرٍ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، أنَّها تَجْلِسُ أقَلَّ الحَيضِ لأنَّه اليَقِينُ. وللشافعيِّ قَوْلان كهاتَين الرِّوايَتَين. والثالثةُ، أنَّها تَجْلِسُ أكْثَرَ الحَيضِ. وهو قَوْلُ أبي

وَعَنْهُ، عَادَةَ نِسَائِهَا؛ كَأُمِّهَا، وَأُخْتِهَا، وَعَمَّتِهَا، وَخَالتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ؛ لأنَّه زَمَانُ الحَيضِ، فإذا رَأتِ الدَّمَ فيه جَلَسَتْه كالمُعْتادَةِ. والرابعةُ أنَّها تَجْلِسُ عادَةَ نِسائِها كَأُمِّهَا، وَأُخْتِهَا، وَعَمَّتِهَا وخالتِها. وهو قولُ عَطاء، والثَّوْرِي، والأوْزاعِي؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أسنَها تُشْبِهُهُنَّ في ذلك. والأوَّلى أصَحُّ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِحَمْنَةَ: «تَحَيَّضِي في عِلْمِ اللهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أوْ سَبْعَةً، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي أرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، كما يَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْن، لِمِيقَاتِ حَيضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ» (¬1). حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. رَدَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، ولم يَرُدَّها إلى غيرِه مِمّا ذَكَرُوا (¬2)، ولأنَّ هذه تُرَدُّ إلى غالِبِ عاداتِ النِّساءِ في وَقْتِها، بمَعْنَى أنَّها تَجْلِسُ في كلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فكذلك في عَدَدِ أيَّامِها، وبهذا يَبطُلُ ما ذُكِر؛ لليَقِينِ، ولعادَةِ نِسائِها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395. (¬2) في م: «ذكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل تُرَدُّ إلى ذلك إذا اسْتَمَرَّ بها الدَّمُ في الشَّهْرِ الرابعِ أو الثاني؟ المَنْصُوصُ أنَّها لا تُرَدُّ إلى سِتٍّ أو سَبْعٍ إلَّا في الشَّهْرِ الرابعِ؛ لأنّا لا نُحَيِّضُها أكْثَرَ مِن ذلك إذا لم تَكُنْ مُسْتَحاضَةً، فأوْلَى أن نَفْعَلَ ذلك إذا كانت مُسْتَحاضَةً. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن تَنْتَقِلَ إليها في أيَّامِ الشَّهْرِ الثاني بغيرِ تَكْرارٍ؛ لأنّا قد عَلِمْنا اسْتِحاضَتَها، فلا مَعْنَى للتَّكْرارِ في حَقِّها. وهو أصَحُّ إن شاء اللهُ؛ لظاهِرِ حديثِ حَمْنَةَ.

228 - مسألة: (وذكر أبو الخطاب في المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات الأربع)

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، في الْمُبْتَدَأة أَوَّلَ مَا تَرَى الدَّمَ الرِّوَايَاتِ الْأَرْبَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 228 - مسألة: (وذَكَر أبو الخَطَّابِ في المُبْتَدَأةِ أوَّلَ ما تَرَى الدَّمَ الرِّواياتِ الأربعَ) إحْداها، تَجْلِسُ أقَلَّ الحَيضِ؛ لأنَّه اليَقِينُ. والثانيةُ، تَجْلِسُ [سِتًّا أو سَبْعًا] (¬1)؛ لأنَّه الغالِبُ. والثالثةُ، تَجْلِسُ عادَةَ نِسائِها؛ لأنَّ الظَّاهِرَ شِبْهُها بِهِنَّ. والرابعةُ، تَجْلِسُ ما تَراه مِن الدَّمِ، ما لم يُجاوزْ أكْثَرَ الحَيضِ، قِياسًا على اليَوْمِ واللَّيلَةِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. ¬

(¬1) في م: «غالب الحيض».

229 - مسألة: (وإن استحيضت المعتادة، رجعت إلى عادتها وإن كانت مميزة. وعنه: يقدم التمييز. وهو اختيار الخرقي)

وَإنِ اسْتُحِيضَتِ الْمُعْتَادَةُ رَجَعَتْ إِلَى عَادَتِهَا، وَإنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً. وَعَنْهُ، يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 229 - مسألة: (وإنِ اسْتُحِيضَتِ المُعْتادَةُ، رَجَعَتْ إلى عادَتِها وإن كانت مُمَيِّزَةً. وعنه: يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ) وإن نَسِيَتِ العادَةَ عَمِلَتْ بالتَّمْيِيزِ، فإن لم يَكُنْ لها تَمْيِيزٌ جَلَسَتْ غالِبَ الحَيضِ مِن كلِّ شَهْرٍ. وعنه، أقَلَّه. وقِيلَ فيها الرِّواياتُ الأرْبَعُ وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُعْتادَةَ إذا اسْتُحِيضَتْ لم تَخْلُ مِن أربعةِ أقْسام؛ أحَدُها، أن تكُونَ مُعْتادَةً ولا تَمْيِيزَ لها؛ لكَوْنِ دَمِها على صِفَةٍ لا يَخْتَلِفُ ولا يَتَمَيَّزُ بَعْضُه مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضٍ، أو بأن يكُونَ الدَّمُ الَّذي يَصْفحُ للحَيضِ يَنْقُصُ عن أقَلِّ الحَيضِ أو يَزِيدُ على أكْثَرِه، فهذه تَجْلِسُ أيَّامَ عادَتِها، ثم تَغْتَسِلُ عندَ انْقِضائِها، وتَتَوَضَّأُ بعدَ ذلك لوَقْتِ كلِّ صلاةٍ وتُصَلِّي. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وقال مالكٌ: لا اعْتِبارَ بالعادَةِ، إنَّما الاعْتِبارُ بالتَّمْيِيزِ، فإن لم تَكُنْ مُمَيِّزَةً اسْتَطْهَرَتْ بعدَ زَمانِ عادَتِها بثلاثَةِ أيَّام، إن لم تُجاوزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثم هي بعدَ ذلك مُسْتَحاضَةٌ. واحْتَجَّ بحديثِ فاطمةَ الَّذي ذَكَرْناه. ولَنا، ما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أنَّ امرأةً كانت تُهَرَاقُ الدِّماءَ على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لِتَنْظر عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ قَبْلَ أنْ يُصِيِبَهَا الَّذِي أصَابَها، فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ لْتُصَلِّ» (¬1). رواه أبو داودَ، والنَّسائِيُّ. وقد روى في حديث فاطمةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ودَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَصَلِّي». مُتَّفَق عليه (¬1). ورَوَتْ أُمُّ حَبيبَةَ، أَنَّها سألَتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الدَّمِ، فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي». رَواه مسلمٌ (¬2). ولا حُجَّةَ له في الحديثِ على تَرْكِ العادَةِ في حَقِّ مَن لا تَمْيِيزَ لها. فصل: لا يَخْتَلِفُ المذهبُ أنَّ العادَةَ لا تَثْبُتُ بمَرَّةٍ؛ لأنَّها مَأْخُوذَةٌ مِن المُعاوَدَة. وهل تَثْبُتُ بمَرَّتَين أو بثَلاثٍ؟ على رِوايَتَين، وقد ذَكَرْناه. وتَثْبُتُ العادَةُ بالتَّمْيِيزِ، فإذا رَأتْ دَمًا أسْوَدَ خَمْسَةَ أيَّام في ثلاثةِ أشْهُرٍ أو شَهْرَين، على إحْدَى الرِّوايَتَين، ثم صار أحْمَرَ، واتَّصَلَ، ثم صار في سائِرِ الأشْهُرِ دَمًا مُبْهَمًا، كانت على عادَتِها زَمَنَ الدَّمِ الأسْوَدِ. فصل: والعادَةُ على ضَرْبَين؛ مُتَّفِقَةٍ، ومُخْتَلِفَةٍ، فالمُتَّفِقَةُ أن تكُونَ أيَّامًا مُتَساويةً، كخَمْسَةٍ في كلِّ شَهْرٍ، فإذا اسْتُحِيضَتْ جَلَسَتْها فقط. وأمّا المُخْتَلِفَةُ فإن كانت على تَرتِيبٍ، مثلَ أن تَرَى في شَهْرٍ ثلاثةً، وفي الثاني أربعةً، وفي الثالثِ خَمْسَةً، ثم تَعُودَ إلى ثلاثةٍ، ثم إلى أربعةٍ، ثم إلى خمسةٍ على ما كانت، فهذه إذا اسْتُحِيضَتْ في شَهْرٍ، فعَرَفَتْ نَوْبَتَه عَمِلَتْ ¬

(¬1) تقدم في صفحة 366. (¬2) في: باب المستحاضة وغسلها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 264 كما أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض. . . . إلخ، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 63. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، وباب المرأة يكون لها أيام معدودة، وباب ذكر الأقراء، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 99، 148، 150. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 222.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، ثم علي الَّذي بعدَه، [وعلى الَّذي] (¬1) بعدَه على العادَةِ. وإن نَسِيَتْ نَوْبَتَه حَيَّضْناها على اليَقِينِ، وهو ثلاثةُ أيَّام، ثم تَغْتَسِلُ، وتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ. وإن عَلِمَتْ أنَّه غيرُ الأوَّلِ، وشَكَّتْ؛ هل هو الثاني أو الثالثُ؟ جَلَسَتْ أربعةً؛ لأنَّها اليَقِينُ، ثم تَجْلِسُ مِن الشَّهْرَين الآخَرَين ثلاثَةً ثلاثةً، وتَجْلِسُ في الرابعِ أربعةً، ثم تَعْودُ إلى الثلاثةِ كذلك أبدًا، ويُجْزِئُها غُسْلٌ واحِدٌ عندَ انْقِضاءِ المُدَّةِ التي جَلَسَتْها، كالنّاسِيَةِ إذا جَلَسَتْ أقَلَّ الحَيضِ؛ لأنَّ ما زاد على اليَقِينِ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَجبٌ عليها الغسْلُ بالشَّكِّ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ وُجوبَ الغُسْلِ عليها أَيضًا عندَ مُضِيِّ أكْثَرَ عادَتِها؛ لأنَّ يَقينَ الحَيضِ ثابِتٌ، وحُصولَ الطهارةِ بالغسْلِ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ، ولأنَّ هذه مُتَيَقِّنَةٌ وُجوبَ الغُسْلِ عليسا في أحَدِ الأيَّامِ الثلاثةِ في اليومِ الخامِسِ، وقد اشْتَبَه عليها، وصِحَّة صَلا تها تَقِفُ على الغسْلِ، فيَجِبُ عليها؛ لتَخْرُجَ عن العُهْدَةِ بيَقِين. وهذا الوَجْهُ أصَحُّ لذلك. وتُفارِقُ هذه النَّاسِيَةَ؛ لأنَّها لا تَعْلَمُ لها حَيضًا زائِدًا على ما جَلَسَتْه، وهذه تَعْلَم لها حَيضًا زائِدًا تَقِفُ صِحَّةُ صَلاتها على غُسْلِها منه، فوَجَبَ ذلك، فعلى هذا يَلْزَمُها غُسْلٌ ثانٍ، عَقِيبَ اليَوْمِ الخامِسِ في كلِّ شَهْرٍ. وإن جَلَسَتْ في رمضانَ ثلاثَةَ أيَّام، قَضَتْ خَمْسَةَ أيَّام؛ لأنَّ الصومَ كان ذِمَّتِها، ولا تَعْلَم أنَّ اليَوْمَين اللَّذَين صامَتْهما أسْقَطا الفَرْضَ مِن ذِمَّتِها، ويَحْتَمِلُ أنَّه يَلْزَمُها في كلِّ شَهْرٍ ثلالةُ أغْسالٍ؛ غسْلٌ عَقِيبَ ¬

(¬1) في م: «والذي». (¬2) في المغني 1/ 398.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَوْمِ الثالثِ والرابع، والخامس؛ لأنَّ عليها عَقِيبَ الرابعِ غسْلًا في بَعْضِ الأشْهُرِ، وكلُّ شَهْرٍ يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ هو الشهرَ الَّذي يَجِبُ الغُسْلُ فيه بعدَ الرابع، فيَلْزَمُها ذلك؛ قُلْنا في الخامِسِ. فصل: وإن كان الاخْتِلافُ على غيرِ تَرْتِيبٍ، مِثْلَ أن تَحِيضَ مِن شَهْرٍ ثلاثَةً، ومِن الثاني خَمْسَةً، ومِن الثالثِ أربعةً، وأشْباهَ ذلك، فإن أمْكَنَ ضَبْطُه بحيث لا يَخْتَلِفُ، فهي كالتي قَبْلَها، وإن لم يُمْكِنْ ضَبْطُه، جَلَسَتِ الأقَلَّ مِن كلِّ شَهْرٍ، واغْتَسَلَتْ عَقِيبَه. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ في هذا الفَصْلِ، أنَّ قِياسَ المذهبِ أن تَجْلِسَ أكْثَرَ عادَتِها في كلِّ شَهْرٍ، كالنّاسِيَةِ للعَدَدِ، تَجْلِسُ أكْثَرَ الحَيضِ في إحْدَى الرِّواياتِ. قال شيخُنا (¬1): وهذا لا يَصِحُّ، إذ فيه أمْرُها بتَرْكِ الصلاةِ، وإسْقاطُها عنها مع يَقينِ وُجُوبِها عليها فإنَّنا متى أجْلَسْناها خَمْسًا مِن كلِّ شَهْرٍ، ونحن نَعْلَمُ وُجُوبَ الصلاةِ عليها يَوْمَين منها في شَهْرٍ، ويَوْمًا في شَهْرٍ آخَرَ، فقد أمَرْناها بتَرْكِ الصلاةِ الواجِبَةِ يقينًا، [وذلك لا يَحِلُّ؛ فإنَّ الصلاةَ لا تَسْقُطُ بالاشْتِباهِ، كمَن نَسِيَ صلاةً لا يَعْلَمُ عَينَها، وهذه بخِلافِ النَّاسِيَةِ، فإنّا لا نَعْلَمُ عليها صلاةً واجِبَةً يَقينًا] (¬2)، والأصْلُ بَقاءُ الحَيضِ، فتَبْقَى عليه. فصل: ولا تكُونُ المرأةُ مُعْتادَةً حتَّى تَعْرِفَ شَهْرَها، وتَعْرِفَ وَقْتَ حَيضِها منه وطُهْرِها. وشَهْرُ المرأةِ عِبارَةٌ عن المُدَّةِ التي لها فيها حَيضٌ وطُهْرٌ، وأقَلُّ ذلك أربْعَةَ عَشرً يَوْمًا، أو سِتَّةَ عَشَرَ يومًا، إن قُلْنا: أقَلُّ ¬

(¬1) في المغني 1/ 399. (¬2) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطُّهْرِ خَمْسَ عَشَرَ. ولا حَدَّ لأكْثَرِه؛ لأنَّ أكْثَرَ الطهْرِ لا حَدَّ له، وغالِبُه الشَّهْرُ المَعْرُوفُ بينَ النّاس، فإذا عَرَفَتْ أنَّ شَهْرَها ثَلاثُون يَوْمًا، وأنَّ حَيضَها منه خَمْسَةُ أيَّام، وأنَّ طُهْرَها خمسةٌ وعِشْرُون يومًا، وعَرَفتْ أوَّلَه، فهي مُعْتادَةٌ، وإن عَرَفَتْ أيَّامَ حَيضِها، وأيَّامَ طُهْرِها، فقد عَرَفَتْ شَهْرَها، وإن عَرَفَتْ أيَّامَ حَيضِها، ولم تَعْرِفْ أيَّامَ طُهْرِها، أو بالعَكْسِ، فلَيسَتْ مُعْتادَةً، لكنَّها متى جَهِلَتْ شَهْرَها رَدَدْناها إلى الغالِبِ، فحَيَّضْناها مِن كلِّ شَهْرٍ حَيضَةً؛ رَدَدْناها في عَدَدِ أيَّام الحَيضِ إلى الغالِبِ. فصل: القِسْمُ الثاني؛ أن يكونَ لها عادَةٌ وتَمْيِيزٌ، فإن كان الدَّمُ الَّذي يَصْلُحُ للحَيضِ في زَمَنِ العادَةِ، فقد اتَّفَقَتِ العادَةُ والتَّمْيِيزُ في الدَّلالةِ، فتَعْمَلُ بهما، وإن كان أكْثَرَ مِن العادَةِ أو أقَلَّ، ولم يَنْقُصْ عن أقَلِّ الحَيضِ ولا زاد على أكْثَرِه، ففيه رِوايتان، إحْداهما، يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، وظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ؛ لِما ذَكَرْناه مِن الأدِلَّةِ، ولأنَّ صِفَةَ الدَّمِ أمارَةٌ قائِمَةٌ به، والعادَةُ زَمانٌ مُنْقَضٍ، ولأنَّه خارِجٌ يُوجِبُ الغُسْلَ، فرَجَعَ إلى صِفَتِه عندَ الاشْتِباهِ، كالمَنِيِّ. والثانيةُ، تُقَدَّمُ العادَةُ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، وقولُ أكْثَرِ الأصْحابِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، والمرأةَ التي اسْتَفْتَتْ لها أُمُّ سَلَمَةَ إلى العادَةِ، ولم يَسْتَفْصِلْ عن كَوْنِها مُمَيِّزةً أو غيرَها، وحديثُ فاطمةَ قد رُوِيَ عنه (¬1) فيه رَدُّها إلى العادَةِ أيضًا، فتَعارَضَتْ رِوايَتاه (¬2)، وبَقِيَتْ أحادِيثُنا خالِيَةً عن مُعارِضٍ. على ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في م: «روايتان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ حديثَ فاطمةَ قَضِيَّةٌ في عَينٍ، يَحْتَمِلُ أنَّها أخْبَرَتْه أن لا عادَةَ لها، أو عَلِم ذلك مِن غيرِها، وحديثُ عَدِيِّ بنِ ثابِتٍ عامٌّ في كلِّ مُسْتَحاضَةٍ، فيَكُونُ أوْلَى، ولأنَّ العادَةَ أقْوَى؛ لكَوْنِها لا تَبْطُلُ دَلالتُها، واللَّوْنُ إذا زاد على أكْثَرَ الحَيضِ، بَطَلَتْ دَلالتُه، فما لا تَبْطُلُ دَلالتُه أوْلَى. فصل: ومَن كان حَيضُها خَمْسَةَ أيَّامَ مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ، فاسْتُحِيضَتْ، وصارَتْ تَرَى ثلاثَةً دَمًا أسْوَدَ في أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ، فمَن قَدَّمَ العادَةَ، قال: تَجْلِسُ في كلِّ شَهْير خَمْسَةً، كما كانت قبلَ الاسْتِحاضَةِ. ومَن قَدَّمَ التَّمْييزَ، جَعَل حَيضَها الثَّلَاثَةَ التي فيها الأسْوَدُ، إلَّا أَنَّها إنَّما تَجْلِسُ الثلاثةَ في الشَّهْرِ الثاني؛ لأنّا لا نَعْلَمُ أَنَّها مُسْتَحاضَة إلُّا بتَجاوُزِ الدَّمِ أكُثَرَ الحَيضِ، ولا نَعْلَمُ ذلك في الشَّهْرِ الأوَّلِ. فإن رَأتْ في كلِّ شَهْر عَشَرَةً دَمًا أسْوَدَ، ثم صار أحْمَرَ واتَّصَل، فمَن قال: إنَّها لا تَلْتَفِتْ إلى ما زاد على العادَةِ حتَّى يَتَكَرَّرَ. لم يُحَيِّضْها في الشَّهْرَين الأوَّلَين أو الثلاثةِ على اخْتِلافِ الرِّوايَتَين إلَّا خَمْسَةً، قَدْرَ عادَتِها. ومَن قال: إنَّها إذا زادَتْ على العادَةِ جَلَسَتْه بأوَّلِ مَرَّةٍ. أجْلَسَها في الشَّهْرِ الأوَّلِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثم تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي، وفي الثاني تَجْلِسُ أيَّامَ العادَةِ، وهي الخمسةُ الأُولَى مِن الشَّهْرِ عندَ مَن يُقَدِّمُ العادَةَ على التَّمْيِيزِ، ومَن قَدَّمَ التِّمْيِيزَ ولم يَعْتَبِرْ فيه التِّكْرارَ، أجْلَسَها العَشَرَةَ كلَّها. فإذا تَكَررَ ثَلَاثَةَ أشْهُرٍ على هذا الوَصْفِ، فقال القاضي: تَجْلِسُ العَشَرَةَ في الشَّهْرِ الرابع، على الرِّوايَتَين جَمِيعًا؛ لأنَّ الزِّيادَةَ على العادَةِ ثَبَتَتْ بتَكْرارِ الأسْوَدِ. وقال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ ¬

(¬1) في المغني 1/ 401، 402.

230 - مسألة؛ قال: (وإن نسيت العادة عملت بالتمييز)

وَإنْ نَسِيَتِ الْعَادَةَ عَمِلَتْ بِالتَّمْيِيزِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا تَجْلِسَ زِيادَةً على عادَتِها عندَ مَن يُقَدِّمُ العادَةَ؛ لأَنَّنَا لو جَعَلْنا الزّائِدَ على العادَةِ مِن التَّمْيِيزِ حَيضًا بتَكَرُّرِه، لَجَعَلْنا النّاقِصَ عنها اسْتِحاضَةً بتَكَرُّرِه، فكانت لا تَجْلِسُ فيما إذا رَأتْ ثلاثةً أسْوَدَ ثم صار أحْمَرَ، أكْثَرَ مِن الثَّلَاثةِ، والأمْرُ بخِلافِ ذلك. فصل: فإن كان حَيضُها خَمْسًا مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ فاسْتُحِيضَتْ، فصارَتْ تَرَى خَمْسَةً أسْوَدَ، ثم يَصِيرُ أحْمَرَ، ويَتَّصِلُ، فالأسْوَدُ حَيضٌ بالاتِّفاقِ؛ لمُوافَقَتِه زَمَنَ العادَةِ والتَّمْييزَ، وإن رَأتْ مكانَ الأسْوَدِ أحْمَرَ، ثم صار أسودَ، وعَبَر، سَقَط حُكْمُ الأسْوَدِ، لعُبُورِه أكْثَرَ الحَيضِ، وكان حَيضُها الأحْمَرَ؛ لمُوافَقَتِه زَمَنَ العادَةِ. وإن رَأتْ مكانَ العادَةِ أحْمَرَ، ثم رَأتْ خَمْسَةً أسْوَدَ، ثم صار أحْمَرَ واتَّصَلَ، فمَن قَدَّمَ العادَةَ أجْلَسَها أيَّامَها. وإذا تَكَرَّرَ الأسْوَدُ، فَقال القاضي: يَصِيرُ حَيضًا. ومَن قَدَّمَ التَّمْيِيزَ، جَعَل الأسْوَدَ وَحْدَه حَيضًا. 230 - مسألة؛ قال: (وإن نَسِيَتِ العادَةَ عَمِلَتْ بالتَّمْيِيزِ). وهذا القِسْمُ الثالثُ مِن أقْسامِ المُسْتحاضَةِ، وهي التي لها تَمْيِيزٌ وقد نَسِيَتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العادَةَ. ومَعْنى التَّمْيِيزِ، أن يَتَمَيَّزَ بَعْضُ دَمِها عن بعضٍ؛ فيَكُونَ بَعْضُه أسْوَدَ ثَخِينًا مُنْتِنًا، وبَعْضُه أحْمَرَ رَقِيقًا، أو أصْفَرَ ولا رائِحَةَ له، ويكُونَ الأسْوَدُ أو الثَّخِينُ لا يَزِيدُ على أكْثَرِ الحَيضِ ولا يَنْقُصُ عن أقَلِّه. فحُكْمُ هذه أنَّ حَيضَها زَمَنَ الأسْوَدِ الثَّخِين أو المُنْتِنِ، فإذا انْقَطَعَ فهي مُسْتَحاضةٌ، تَغْتَسِلُ للحَيضِ وتَتَوَضَّأْ لوَقْتِ كلِّ صلاةٍ بعدَ ذلك، وتُصَلِّي. وذَكَر أحمدُ المُسْتَحاضَةَ، فقال: لها سُنَنٌ. فذَكَرَ المُعْتادَةَ، ثم قال: وسُنَّةٌ أُخْرَى، إذا جاءَتْ فزَعَمَتْ أنَّها تُسْتَحاضُ فلا تَطْهُرُ، قِيل لها: أنتِ الآنَ ليس لك أيَّامٌ مَعْلُومَةٌ فتَجْلِسِينَها، ولكنِ انْظُرِي إلى إقْبالِ الدَّمِ وإدْبارِه، فإذا أقْبَلَتِ الحَيضَةُ، وإقْبالُها أن تَرَىْ دَمًا أسْوَدَ يُعْرَفُ، فإذا تَغَيَّرَ دَمُها وكان إلى الصُّفْرَةِ والرِّقَّةِ، فذلك دَمُ اسْتِحاضَةٍ، فاغْتَسِلِي، وصَلِّي. وهذا مذهبُ مالكٍ، والشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا اعْتِبارَ بالتَّمْيِيزِ، إنَّما الاعْتِبارُ بالعادَةِ خاصَّةً؛ لِما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أنَّ امرأةً كانت تُهَرَاقُ الدَّمَ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لِتَنْظر عِدَّةَ الأيَّامِ وَاللَّيَالِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ قَبْلَ أن يُصِيبَهَا الَّذِى أصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثمَّ لْتُصَلِّ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬1). وهذا أحَدُ الأحاديثِ الثلاثةِ التي قال الإِمامُ أحمدُ: إنَّ الحَيضَ يَدُورُ عليها. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ بنتِ أبي حُبَيشٍ: «فَإذَا أقْبَلَتِ الْحَيضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أدْبَرَتْ فَاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّي». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأبي داودَ والنَّسائِيِّ (¬3): «إذَا كَانَ دَمُ الحَيضَةُ فَإنَّهُ دَمٌ أسْوَدُ يُعْرفُ، فأمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَّوَضَّئِي، فَإنَّما هُوَ عِرْقٌ». وحديثُ أُمِّ سَلَمَةَ يَدُلُّ على اعْتِبارِ العادَةِ، ولا نِزاعَ فيه، وهذه لا عادَةَ لها. فصل: وقد اخْتَلَفُوا؛ هل يُعْتَبَرُ للتَّمْيِيزِ التَّكْرارُ، أم لا؟ فظاهِرُ كلامِ شَيخِنا ههُنا (¬4)، أنَّه لا يُعْتَبَرُ له التَّكْرارُ، بل متى عَرَفَتِ التَّمْيِيزَ جَلَسَتْه. وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، والخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ ابنِ عَقِيلٍ، وهو مَذْهَب الشافعيِّ. وقال القاضي، والآمِديُّ: يُعْتَبَرُ له التَّكْرارُ مَرَّتَين أو ثلَاثًا، على اخْتِلافِ الرِّوايَتَين فيما تَثْبُتُ به العادَةُ. وقد ذَكَرْنا ذلك في المُبْتَدَأةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 366. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 404. (¬4) انظر: المغني 1/ 393.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَكنِ الأسْوَدُ مُخْتَلِفًا، مِثْلَ أن تَرَى في كلِّ شَهْرٍ ثَلَاثةً أسْوَدَ، ثم يَصِير أحْمَرَ، ويَعْبُرُ أكْثَرَ الحَيضِ، فالأسْوَدُ حَيضٌ وَحْدَه. وإن كان مُخْتَلِفًا، مِثْلَ أن تَرَى في الشَّهْرِ الأوَّلِ خَمْسَةً أسْوَدَ، وفي الثاني أربعةً، وفي الثالثِ ثَلاثَةً، أو في الأوَّلَ خمسةً، وفي الثاني سِتًّا، وفي الثالثِ سَبْعَةً، أو غيرَ ذلك مِن الاخْتِلافِ؛ فعلى قولِ شَيخِنا، الأسْوَدُ حَيضٌ في كلِّ حالٍ. وعلى قولِ القاضي، الأسْوَدُ حَيضٌ فيما تَكَرَّر، وهو ثَلاثٌ في الأولَى، وخَمْسٌ في الثّانِيَة، وما زاد عليه يكونُ حَيضًا إذا تَكَرَّرَ، وإلَّا فلا. ولا تَجْلِسُ عندَ القاضي في الشَّهْرِ الأوَّلِ والثاني إلَّا اليَقِينَ الَّذي تَجْلِسُه مَن لا تَمْيِيزَ لها. وإن كانت مُبْتَدَأةً، لم تَجْلِسْ إلَّا يومًا ولَيلَةً. وهل تَجْلِسُ الَّذي يَتَكَرَّرُ في الشَّهْرِ الثالثِ أو الرَّابعِ؟ يَنْبَنِي على الرِّوايَتَين فيما تَثْبُتُ به العادَة، ويكُونُ حُكْمُها حُكْمَ المُبْتَدَأةِ التي تَرَى (¬1) دَمًا لا يَعْبُرُ أكْثَرَ الحَيضِ؛ الأسْوَدُ كالدَّمِ، والأحْمَرُ (¬2) كالطُّهْرِ هناك. فإن كانت ناسِيَةً، وكان الأسْوَدُ في أثْناءِ الشَّهْرِ، وقلْنا: إنَّ النَّاسِيَةَ تَجْلِسُ مِن أوَّلِ الشَّهْرِ. جَلَسَتْ هاهنا مِن أوَّلِ الشَّهْرِ ما تَجْلِسُه النّاسِيَة، ولا تَنْتَقِل إلى الأسْوَدِ حتَّى يَتَكَرَّرَ فتَنْتَقِلَ إليه، وتَعْلَمَ أنَّه حَيضٌ، فتَقْضِيَ ما صامَتْه مِن الفَرْضِ فيه، كما ذُكِر في المُبْتَدَأةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «لا ترى». (¬2) سقطت الواو من الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأتْ أسْوَدَ بينَ أحْمَرَين، أو أحْمَرَ بينَ أسْوَدَين، وانْقَطَعَ لدُونِ أكُثَرِ الحَيضِ، فالجَمِيعُ حَيضٌ إذا تَكَرَّرَ؛ لأنَّ الأحْمَرَ أشْبَهُ بالحَيضِ مِن الطُّهْرِ. وإن عَبَر أكْثَرَ الحَيضِ، وكان الأسْوَدُ بمُفْرَدِه يَصْلُحُ أن يكُونَ حَيضًا، فهو حَيضٌ، والأحْمَرُ كلُّه اسْتِحاضَةٌ، لأنَّ الأحْمَرَ الأوَّلَ أشْبَهُ بالأحمرِ الثاني الَّذي حَكَمْنا بأنَّه اسْتِحاضَة؛ وتُلَفِّقُ الأسْوَدَ إلى الأسودِ، فيَكُونُ حَيضًا. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الأسْوَدِ قليلًا أو كثيرًا إذا كان بانْضِمامِه إلى بَقِيَّةِ الأسودِ يَبْلُغُ أقَلَّ الحَيضِ، ولا يَزِيدُ على أكْثَرِه، ولا يكُونُ بينَ طَرَفَيهِما زَمَنٌ يَزِيدُ (¬1) على أكْثَرِ الحَيضِ. وكذلك لا فَرْقَ بينَ أن يكونَ الأحْمَرُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا إذا كان زَمَنُه يَصْلُحُ أن يكُونَ طُهْرًا، فأمّا إن كان زَمَنُه لا يَصْلُحُ أن يكُونَ طُهْرًا، مِثْلَ الشئِ اليَسِيرِ أو ما دُونَ اليَوْمِ، على إحْدَى الرِّوايَتَين، فإنَّه يُلْحَقُ بالدَّمَين الَّذي (¬2) هو بَينَهما؛ لأنَّه لو كان الدَّمُ مُنْقَطِعًا، لم يُحْكَمْ بكَوْنِه طُهْرًا، فإذا كان الدَّمُ جارِيًا كان أوْلَى، فلو رَأتْ يومًا دَمًا أسْوَدَ، ثم رَأتِ الثانيَ أحْمَرَ، ثم رأتِ الثّالِثَ أسودَ، ثم صار أحمرَ وعَبَر، لَفَّقَتِ الأسْوَدَ إلى الأسودِ، فصار حَيضًا، وباقي الدَّمِ اسْتِحاضَةٌ. وإن رَأتْ نِصْفَ يومٍ أسْوَدَ، ثم صار أحمرَ، ثم رَأتِ الثّانِيَ كذلك، ثم رأتِ الثّالِثَ كلَّه أسْوَدَ، ثم صار أحْمَرَ وعَبَر، فإن قُلْنا: إنَّ ¬

(¬1) في م: «يكون». (¬2) في م: «اللذين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطُّهْرَ يكُونُ أقَلَّ مِن يَوْم. لَفَّقَتِ الأسْوَدَ إلى الأسودِ فصار حَيضُها يَوْمَين، وإن قُلْنا: لا يكُونُ أقَلَّ مِنِ يومٍ. فحَيضُها الأيَّامُ الثَّلاثَةُ الأُوَلُ، والباقي اسْتِحاضَةٌ. ولو رَأتْ نِصْف يَوْمٍ أسْوَدَ، ثم صار أحْمَرَ إلى العاشِرِ، ثم (¬1) رَأْتْه كُلَّه أسودَ، ثم صار أحمرَ، وعَبَر، فالأسْوَدُ كلُّه حَيضٌ، الثّانِي والأوَّلُ. ولو رَأتْ بينَ الأسْوَدِ والأحْمَرِ نَقاءً يَوْمًا أو أكْثَرَ، لم يَتَغَيَّرِ الحُكْمُ الَّذي ذَكَرْناه، لأنَّ الأحمرَ مَحْكُومٌ بأنَّه اسْتِحاضَةٌ، مع اتِّصالِه بالأسودِ، فمع انْفِصالِه عنه أوْلَى. فصل: إذا رَأتْ في شَهْرٍ خَمْسَةً أسْوَدَ، ثمْ صار أحْمَرَ، واتَّصَل، وفي الثّانِي كذلك، ثم صار الثّالِثُ كلُّه أحْمَرَ، ورَأتْ في الرّابِعِ كالأوَّلِ، ثم رأتْ في الخامِسِ خَمْسَةً أحْمَرَ، ثمْ صار أسْوَدَ، واتَّصَلَ، فحَيضُها الأسْوَدُ مِن الأوَّلِ والثّانِي والرّابِعِ، وأمّا الثّالِثُ والخامِسُ فلا تَمْيِيزَ لها فيهما؛ لأنَّ حُكْمَ الأسْوَدِ في الخامسِ سَقَط لعُبُورِه. فإن قُلْنا: العادَةُ تَثْبُتُ بمَرَّتَين. جَلَسَتْ ذلك مِن الثّالثِ والرابعِ والخامِسِ، وإن قُلْنا: لا تَثْبُتُ إلَّا بثَلَاثةٍ. جَلَسَتْه مِن الخامسِ؛ لأنَّها قد رَأتْ ذلك في ثلاثةِ أشْهُرٍ، وتَجْلِسُ في الثّالِثِ ما تَجْلِسُه مَن لا عادَةَ لها، ولا تَمْييزَ (¬2) وقِيلَ: لا تَثْبُتُ لها عادَةٌ، وتَجْلِسُ ما تَجْلِسُه مِن الخامِس مِن الدَّمِ الأسْوَدِ؛ لأنَّه أشْبَهُ بدَمِ الحَيضِ. ¬

(¬1) سقط من: «الأصل». (¬2) بعده في الأصل: «يخرج فيها الروايات الأربع».

231 - مسألة: (فإن لم يكن لها تمييز جلست غالب الحيض من كل شهر. وعنه: أقله. وقيل: فيها الروايات الأربع)

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، جَلَسَتْ غَالِبَ الْحَيضِ في كُلِّ شَهْرٍ. وَعَنْهُ أقَلَّهُ. وَقِيلَ: فِيهِ الرِّوَايَاتُ الْأرْبَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 231 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ لها تَمْيِيزٌ جَلَسَتْ غالِبَ الحَيضِ مِن كلِّ شَهْرٍ. وعنه: أقَلَّه. وقِيل: فيها الرِّواياتُ الأرْبَعُ) وهذا القِسْمُ الرَّابِعُ مِن أقْسامِ المُسْتَحاضَةِ، وهي مَن لا عادَةَ لها ولا تَمْيِيزَ، ولها ثَلاثةُ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن تكُونَ ناسِيَةً لوَقْتِها وعَدَدِها، وهذه تُسَمَّى المُتَحَيِّرَةَ، وحُكْمُها أنَّها تَجْلِسُ في كلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أيَّامٍ أو سَبْعَةً، في ظاهِرِ المَذْهَب، وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، فإن كانَتْ تَعْرِفُ شَهْرَها، جَلَسَتْ ذلك منه؛ لأنَّه عادَتُها فتُرَدُّ إليه؛ تُرَدُّ المُعْتادَةُ إلى عادَتِها، إلَّا أنَّه متى كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهْرها أقَلَّ مِن عِشْرِين (¬1) يَوْمًا لم تَجْلِسْ منه أكْثَرَ مِن الفاضِلِ عن ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أو خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِئَلّا يَنْقصَ الطُّهْرُ عن أقَلِّه، ولا سَبِيلَ إليه. وإن لم تَعْرِفْ شَهْرَها جَلَسَتْ مِن الشَّهْرِ المُعْتادَ؛ لِما رَوَتْ حَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ، قالت: كُنتُ أُسْتَحاضُ حَيضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً، فأتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسْتَفْتِيه، فوَجَدْتُه في بَيتِ أُخْتِي، فقلْت: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أُسْتَحاضُ حَيضَةً كَبيرَةً شَدِيدَةً، فما تَأْمُرُنِي فيها؟ قد مَنَعَتْنِي الصيامَ والصلاةَ، فقال: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ، فَإَّنه يُذْهِبُ الدَّمَ». قلت: هو أكْثَرُ من ذلك، إنَّما أثُجُّ ثَجًّا. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أيَّامٍ، أوْ سَبْعَةَ أيَّامٍ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإذَا رَأيتِ أنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأتِ فَصَلِّي أرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيلَةً، أوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيلَةً وَأيَّامَهَا، وَصُومِي، فَإنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي، كَمَا يَحِيضُ النِّسَاءُ، وَكَمَا يَطْهُرْنَ، لمِيقَاتِ حَيضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ» (¬2). رَواه أبو داودَ، ¬

(¬1) في الأصل: «شهرين». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتِّرْمِذِيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال الشافعيُّ في هذه: لا حَيضَ لها بيَقِين، وجَمِيعُ زَمَنِها مَشْكُوكٌ فيه، تَغْتَسِلُ لكلِّ صلاةٍ، وتُصَلِّي وتَصُومُ، ولا يَأْتِيها زَوْجُها. وله قَوْلٌ: إنَّها تَجْلِسُ اليَقِينَ. وقال بَعْضُ أصْحابِه: الأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ هذه لها أيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ، ولا يُمْكِنُ رَدُّها إلى غيرِها، فجَمِيعُ زمانِها مَشْكُوكٌ فيه، وقد رَوَتْ عائِشَةُ، أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فسألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ صَلِّي». فكانت تَغْتَسِلُ عندَ كلِّ صلاةٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب عرق الاستحاضة، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 89، 90 ومسلم، في: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 263. كما أخرجه أبو داود، في: باب [من قال] إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، وباب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 66، 68. والترمذي، في: باب ما جاء في المستحاضة أنها تغتسل عند كل صلاة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 207. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، وباب ذكر الأقراء، من كتاب الطهارة، وفي: باب ذكر الأقراء، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 98، 100، 149. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المستحاضة إذا اختلط عليها الدم، فلم تقف على أيام حيضها، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 205. والدارمي، في: باب غسل المستحاضة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 200. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 82، 83، 141، 187، 434.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حديثِ حَمْنَةَ، وهو بظاهِرِه يُثْبِتُ الحُكْمَ في حَقِّ النّاسِيَةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْها، هل هي مُبْتَدَأةٌ، أو ناسِيَةٌ؟ ولو افْتَرَقَ الحالُ لاسْتَفْصَلَ. واحْتِمالُ أن تكُونَ ناسِيَةً أكْثَرُ، فإنَّ حَمْنَةَ امرأةٌ كَبِيرَةٌ، كذلك قال أحمدُ. ولم يَسْألْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن تَمْيِيزِها؛ لأنَّه قد جَرَى مِن كلامِها مِن تَكْثِيرِ الدَّمِ وصِفَتِه ما أغْنَى عن السُّؤالِ عنه، ولم يَسْألْها، هل لها عادَةٌ فيَرُدُّها إليها؟ لاسْتِغْنائِه عن ذلك بعِلْمِه إيّاه، إذ كان مُشْتَهِرًا، وقد أمَرَ به أُخْتَها أُمَّ حَبِيبَةَ، فلم يَبْقَ إلَّا أن تَكُونَ ناسِيَةً، ولأنَّها لا عادَةَ لها ولا تَمْيِيزَ، أشْبَهَتِ المُبْتَدَأةَ. قَوْلُهم: لها أيّامٌ مَعْرُوفَةٌ. قُلْنا: قد زالتِ المَعْرِفَةُ، فصار وُجُودُها كعَدَمِها. وأمّا أُمُّ حَبِيبَةَ فكانت مُعْتادَةً رَدَّها إلى عادَتِها؛ لأنَّه قد روَى مسلمٌ، أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ شَكَتْ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبسُكِ حَيضَتُكِ، ثم اغْتَسِلِي» (¬1). فكانت تَغْتَسِلُ عندَ كلِّ صلاةٍ، فيَدَلُّ على أنَّها إنَّما كانت تَغْتَسِلُ لكلِّ صلاةٍ في غيرِ وَقْتِ الحَيضِ، وأمّا وُجُوبُ غُسْلِ المُسْتَحاضَةِ لكلِّ صلاةٍ، فسيُذْكَرُ في المُسْتَحاضَةِ، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: قَوْلُه: سِتًّا أو سَبْعًا. الظّاهِرُ أنَّه رَدَّها إلى اجْتِهادِها، فيما يَغْلِبُ على ظَنَّها أنَّه عادَتُها، أو ما يُشْبِهُ أن يكُونَ حَيضًا. ذَكَرَه القاضي، وذَكَر في مَوْضِع آخَرَ أنَّه على وَجْهِ التَّخْيِيرِ بينَ السِّتِّ والسَّبْعِ، كما خَيَّرَ واطِئَ الحَيضِ في التَّكْفِيرِ بدِينارٍ أو نِصْفِ دِينارٍ؛ لأنَّ حَرْفَ «أو» للتَّخْيِيرِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 414.

232 - مسألة: (وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها،

وَإنْ عَلِمَتْ عَدَدَ أيَّامِهَا، وَنَسِيَتْ مَوْضِعَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شَيخُنا (¬1): والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّنا لو خَيَّرْناها، أَفْضَى إلى أن نُخَيِّرَها في اليَوْمِ السّابعِ بينَ كَوْنِ الصلاةِ عليها مُحَرَّمَةً أو واجِبَةً، وليس لها في ذلك خِيَرَةٌ بحالٍ. وأمّا التَّكْفِيرُ ففِعْلٌ اخْتِيارِيٌّ، فأمّا «أو» فقد تكُونُ للاجْتِهادِ، كقَوْله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬2). و «إمّا» كـ «أوْ» في وَضْعِها، وليس للإِمامِ إلَّا فِعْلُ ما يُؤدِّيه إليه اجْتِهادُه أنَّه الأصْلَحُ. واللهُ أعلمُ. فصل: وهل تَجْلِسُ أيّامَ حَيضِها مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ أو بالتَّحَرِّي؟ فيه وَجْهان، أوْجَهُهما ما يَأتِي. وعنه، أنَّها تَجْلِسُ أقَلَّ الحَيضِ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشافعيِّ؛ لأنَّه اليَقِينُ، وما زاد عليه مَشْكُوكٌ فيه، فلا تَدَعُ العِبادَةَ لأجْلِه. وعنه رِوايَةٌ ثالثةٌ، أنَّها تَجْلِسُ عادَةَ نِسائِها؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّها تُشْبِهُهُنَّ. وعنه، تَجْلِسُ أكْثَرَ الحَيضِ؛ لأنَّه يُمْكِنُ أن يكُونَ حَيضًا، أشْبَهَ ما قَبْلَه. والأوَّلُ أصَحُّ؟ لحديثِ حَمْنَةَ. واللهُ أعلمُ. 232 - مسألة: (وإن عَلِمَتْ عَدَدَ أيّامِها ونَسِيَتْ مَوْضِعَها، ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 405. (¬2) سورة محمد 4.

جَلَسَتْهَا مِنْ أوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَفِي الآخَرِ تَجْلِسُهَا بِالتَّحَرِّي. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَلَسَتْها مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، تَجْلِسُها بِالتَّحَرِّي) وهذا الحالُ الثاني مِن أحوالِ النّاسِيَةِ وهي تَتَنَوَّعُ نَوْعَين، النَّوْعُ الأوَّلُ، أن لا تَعْلَمَ لها وَقْتًا أصْلًا، مِثْلَ أن تَعْلَمَ أنَّ حَيضَها خَمْسَةُ أيّامٍ، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، تَجْلِسُه مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ إذا كان يَحْتَمِلُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لحَمْنَةَ: «تَحَيَّضِي سِتَّةَ أيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةَ أيَّامٍ، في عِلْمِ اللهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي أرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيلَةً، أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيلَةً وَأيَّامَهَا، وَصُومِي» (¬1). فقَدَّمَ حَيضَها على الطُّهْرِ، ثم أمَرَها بالصلاةِ والصومِ في بَقِيَّةِ الشَّهْرِ، ولأنَّ المُبْتَدَأةَ تَجْلِسُ مِن أوَّلِ الشَّهْرِ، مع أنَّها لا عادَةَ لها، فكذلك النّاسِيَةُ، ولأنَّ دَمَ الحَيضِ دَمُ جِبِلَّةٍ، والاسْتِحاضَةُ عارِضَةٌ، فإذا رَأتِ الدَّمَ، وَجَب تَغْلِيبُ دَم الحَيضِ الثاني، أنَّها تَجْلِسُ بالتَّحَرِّي والاجْتِهادِ. اخْتارَه أبو بكرٍ، وابنُ أبي موسى؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّها إلى اجْتِهادِها في القَدْرِ، فكذلك في الوَقْتِ، ولأنَّ للتَّحَرِّي مَدْخَلًا في الحَيضِ؛ لأنَّ المُمَيزةَ تَرْجِعُ إلى صِفَةِ الدَّم، فكذلك في زَمَنِه، فإن لم يَغْلِبْ على ظَنِّها شيءٌ، تَعَيَّنَ إجْلاسُها مِن أوَّلِ الشَّهْرِ، لعَدَمِ الدَّلِيلِ فيما سِواه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395.

233 - مسألة: (وكذلك الحكم في موضع حيض من لا عادة لها ولا تمييز)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعِ حَيضِ مَنْ لَا عَادَةَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ. وَإنْ عَلِمَتْ أَيَّامَهَا فِي وَقْتٍ مِنَ الشَّهْرِ، كَنِصْفِهِ الْأوَّلِ، جَلَسَتْهَا فِيهِ إِمَّا مِنْ أوَّلِهِ، أوْ بِالتَّحَرِّي، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 233 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ في مَوْضِع حَيضِ مَن لا عادَةَ لها ولا تَمْيِيزَ) يَعْنِي أنَّ فيه الوَجْهَين اللَّذَين ذَكَرَهما، وَجْهُهما ما تَقَدَّمَ. 234 - مسألة: (وإن عَلِمَتْ أيّامَها في وَقْتٍ مِن الشَّهْرِ، كنِصْفِه الأوَّلِ، جَلَسَتْها فيه؛ إمّا مِن أوَّلِه، أو بالتَّحَرِّي، على اخْتِلافِ الوَجْهَين)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا النَّوْعُ الثاني، وهو أن تَعْلَمَ أنَّها كانَتْ تَحِيضُ أيّامًا مَعْلُومَةً مِن العَشْرِ الأُوَلِ، فإنَّها تَجْلِسُ عَدَدَ أيّامِها مِن ذلك الوَقْتِ دُونَ غيرِه، إمّا مِن أوَّلِه، أو بالتَّحَرِّي فيه، ثم لا يَخْلُو عَدَدُ أيّامِها، إمّا أن يكُونَ زائِدًا على نِصْفِ ذلك الوَقْتِ، أوْلا، فإن كان زائِدًا على نِصْفِه، مِثْلَ أن تَعْلَمَ أنَّ حَيضَها سِتَّةُ أيّامٍ مِن العَشْرِ الأُوَلِ، أضْعَفْنا الزّائِدَ، فجَعَلْناه حَيضًا بيَقِينٍ، وتَجْلِسُ بَقِيَّةَ أيّامِها مِن أوَّلِ العَشْرِ في أحَدِ الوَجْهَين، وفي الآخَرِ بالتَّحَرِّي. ففي هذه المسألةِ، الزّائِدُ يَوْمٌ وهو السّادِسُ فنُضَعِّفُه، ويكُون الخامِسُ والسّادِسُ حَيضًا بيَقِينٍ، يَبْقَى لها أرْبَعَةُ أيّامٍ، فإن جَلَسَتْها مِن الأوَّلِ، كان حَيضُها مِن أوَّلِ العَشْرِ إلى آخِرِ السّادِسِ، منها يَوْمان حَيضٌ بيَقِينٍ، والأرْبَعَةُ حَيضٌ مَشْكُوكٌ فيه، والأربعةُ الباقِيَةُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فيه. وإن جَلَسَتْها بالتَّحَرِّي، فأدّاها اجْتِهادُها إلى أنَّها مِن أوَّلِ العَشْرِ، فهي كالتي قَبْلَها. وإن جَلَسَتِ الأرْبَعَةَ مِن آخِرِ العَشْرِ (¬1)، فهي عَكْسُ التي قَبْلَها، وعلى هذا فقِسْ. وسائِرُ الشَّهْرِ طُهْرٌ غيرُ مَشْكُوكٍ فيه. وحُكْمُ الحَيضِ المَشْكُوكِ فيه حُكْمُ المُتَيَقَّنِ، في تَرْكِ العِباداتِ. وحُكْمُ الطُّهْرِ المَشْكُوكِ فيه حُكْمُ الطُّهْرِ المُتَيَقَّنِ، في وُجُوبِ العِباداتِ. وإن كان حَيضُها نِصْفَ الوَقْتِ فما دُونَ، فليس لها حَيضٌ بيَقِين؛ لأنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «الشهر».

235 - مسألة: (وإن علمت موضع حيضها ونسيت عدده، جلست فيه غالب الحيض أو أقله، على اختلاف الروايتين)

وَإنْ عَلِمَتْ مَوْضِعَ حَيضِهَا وَنَسِيَتْ عَدَدَهُ، جَلَسَتْ فِيهِ غَالِبَ الْحَيضِ، أَوْ أَقَلَّهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ متى كانَتْ تَحِيضُ خَمْسَةَ الأيَّامِ مِن العَشْرِ، احْتَمَلَ أن تكُونَ الخَمْسَةَ الأولَى، واحْتَمَلَ أن تكُونَ الثّانِيَةَ، واحْتَمَل أن يكُونَ بعضُها مِن الأولَى وبعضُها مِن الثانيةِ، فتَجْلِسُ بالتَّحَرِّي، أو مِن أوَّلِه على اخْتِلافِ الوَجْهَين. ولا يُعْتَبَرُ التَّكْرارُ في النّاسِيَةِ؛ لأنَّها عَرَفَتِ اسْتِحاضَتَها في الشَّهْرِ الأوَّلِ، فلا مَعْنَى للتَّكْرارِ. 235 - مسألة: (وإن عَلِمَتْ مَوْضِعَ حَيضِها ونَسِيَتْ عَدَدَه، جَلَسَتْ فيه غالِبَ الحَيضِ أو أقَلَّه، على اخْتِلافِ الرِّوايَتَين) هذا الحالُ الثالثُ مِن أحْوالِ النّاسِيَةِ، وهي أن تَعْلَمَ أنَّ حَيضَها في العَشْرِ الأوَلِ، ولا تَعْلَمُ عَدَدَها، فحُكْمُها في قَدْرِ ما تَجْلِسُه حُكْمُ المُتَحَيِّرةِ. الصَّحِيحُ أنَّها تَجْلِسُ سِتًّا أو سَبْعًا، ويُخَرَّجُ فيها الرِّواياتُ الأرْبَعُ، إلَّا أنَّها تَجْلِسُها مِن العَشْرِ دُونَ غيرِها، وهل تَجْلِسُها مِن أوَّلِه أو بالتَّحَرِّي؟ على الوَجْهَين. وإن قالت: أعْلَمُ أنَّنِي كُنْتُ أوَّلَ الشَّهْرِ حائِضًا، ولا أعْلَمُ آخِرَه. أو أَنَّنِي كُنْتُ آخِرَ الشَّهْرِ حائِضًا، ولا أعْلَمُ أوَّلَه. أوْ لا أعْلَمُ هل كان ذلك أوَّلَ

236 - مسألة: (وإن تغيرت العادة، بزيادة أو تقدم أو تأخر أو انتقال، فالمذهب أنها لا تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثا أو مرتين، على الاختلاف)

وَإنْ تَغَيَّرَتِ الْعَادَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ تَقَدُّمٍ، أَوْ تَأَخُّرٍ، أَو انْتِقَالٍ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إِلَى ما خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَينِ، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَيضِي أو آخِرَه؟ حَيَّضْناها الذي عَلِمَتْه، وأتَمَّتْ بَقِيَّةَ حَيضِها مِمّا بعدَه في الصُّورَةِ الأُولَى، ومِمّا قَبْلَه في الثانيةِ، وبالتَّحَرِّي في الثالثةِ، أو مِمّا يَلِي أوَّلَ الشَّهْرِ، على اخْتِلافِ الوَجْهَين. فصل: وإذا ذَكَرَتِ النّاسِيَةُ عادَتَها بعدَ جُلُوسِها في غيرِها، رَجَعَتْ إلى عادَتِها؛ لأنَّ تَرْكَها لعارِضِ النِّسْيانِ، وإذا زال العارِضُ عادَتْ إلى الأصْلِ. وإن تَبَيَّنَ أنَّها كانت تَرَكَتِ الصلاةَ في غيرِ عادَتِها، لَزِمَها إعادَتُها وقَضاءُ ما صامَتْه مِن الفَرْضِ في عادَتِها، فلو كانت عادَتُها خَمْسَةً مِن آخِرِ العَشْرِ الأُوَلِ، فجَلَسَتْ سَبْعًا مِن أوَّلِه مُدَّةً، ثم ذَكَرَتْ، لَزِمَها قَضاءُ ما ترَكَتْ مِن الصلاةِ والصيامِ المَفْرُوضِ في الخَمْسَةِ الأُولَى، وقَضاءُ ما صامَتْ مِن الفَرْضِ في الثلاثةِ الأيّامِ الأخِيرَةِ؛ لأنَّها صامَتْه في زَمَنِ حَيضِها. 236 - مسألة: (وإن تَغَيَّرَتِ العادَةُ، بزيادَةٍ أو تَقَدُّم أو تَأخُّرٍ أو انْتِقالٍ، فالمَذْهَبُ أنَّها لا تَلْتَفِتُ إِلى ما خَرَج عن العادة حتى يَتَكَرَّرَ ثلاثًا أو مَرَّتَين، على الاخْتِلافِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا كانت لها عادَةٌ مُسْتَقِرَّة في الحَيضِ، فرَأتِ الدَّمَ في غيرِ عادَتِها، لم تَلْتَفِتْ إليه حتى يَتَكَرَّرَ، فتَنْتَقِلُ إليه، وتَصِيرُ عادَةً لها، وتَتْرُكُ العادَةَ الأُولَى، إلَّا أنَّها إذا رَأتْه زائِدًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عادَتِها، تَغْتَسِلُ غُسْلًا ثانِيًا عندَ انْقِطاعِه، لجَوازِ أن يكُونَ حَيضًا (¬1)، كما قُلْنا في المُبْتَدَأةِ، وكذلك ما تَقَدَّم عن العادَةِ. ويَجِبُ عليها قَضاءُ ما صامَتْه مِن الفَرْضِ في المَرّاتِ التي أمَرْناها بالصيامِ فيها؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّها صامَتْه في حَيضٍ، ولا تَقْضِي الصلاةَ؛ لأنَّ الحائِضَ لا تَقْضِي الصلاةَ. قال أبو عبدِ اللهِ: لا يُعْجِبُنِى أن يَأْتِيَها زَوْجُها في الأيّامِ التي تُصَلِّي فيها، مع رُؤْيَةِ الدَّمِ قبلَ أن تَنْتَقِلَ إليها، لاحْتِمالِ أن يكونَ حَيضًا، فيَجِب تركُ وَطْئِها احْتِياطًا، كما وَجَبَتِ الصلاةُ احْتِياطًا للعِبادَةِ. وفي قَدْرِ التَّكْرارِ رِوايَتان، أشْهَرُهُما، أنَّه ثَلاثٌ، فعلى هذه الرِّوايَةِ لا تَنْتَقِلُ إليه إلَّا في الشَّهْرِ الرّابعِ. والثانيةُ، أنَّه اثْنَتان، فتَنْتَقِلُ في الشَّهْرِ الثّالِثِ. نَقَل الفَضْلُ بنُ زِيادٍ (¬2) عنه هاتَين الرِّوايَتَين، وقد ذَكَرْنا وَجْهَهما في المُبْتَدَأةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «حيضها». (¬2) أبو العباس الفضل بن زياد القطان البغدادي، كان من المتقدمين عند الإمام أحمد، وكان الإمام يعرف قدره ويكرمه، فوقع له عنه مسائل كثيرة جياد. طبقات الحنابلة 1/ 251 - 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَقَل حَنْبَلٌ عنه، في امرأةٍ لها أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ، فتَقَدَّمَتِ الحَيضَةُ قبلَ أيَّامِها، لم تَلْتَفِتْ إليها، تَصُومُ وتُصَلِّي، فإن عاوَدَها مِثْلُ ذلك في الثانيةِ، فإنَّه دَمُ حَيضٍ مُنْتَقلٌ. فيَحْتَمِلُ أنَّها تَنْتَقِلُ إليه في المَرَّةِ الثانيةِ، وتَحْسُبُه مِن حَيضِها، والرِّوايَةُ الأولَى أشْهَرُ. مِثالُ ذلك، امرأة لها عادَةٌ، ثلاثةُ أيّامٍ مِن أوَّلِ كلِّ شَهْرٍ، فرَأتْ خَمْسَةً في أوَّلِ الشَّهْرِ، أو رَأتْ (¬1) يَوْمَين مِن آخِرِ الشَّهْرِ الذي قبلَه، ويَوْمًا مِن شَهْرِها، أو طَهُرَتِ اليَوْمَ الأوَّلَ ورَأتِ الثَّلاثَةَ بعدَه، أو طَهُرَتِ الثلاثةَ الأُوَلَ، وَرأَتْ ثَلاثَةً بعدَها أو أكْثَرَ، وما أشْبَهَ ذلك، فإنَّها لا تَجْلِسُ في جَمِيعِ ذلك إلَّا وَقْتَ الدَّمِ الذي تَراه في الثَّلاثَةِ الأوَلِ حتى يَتَكَرَّرَ، لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «امْكُثِى قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيضَتُكِ» (¬2). رَواه مسلمٌ. ولأنَّ لها عادَةً، فرُدَّتْ إليها، كالمُسْتَحاضَةِ. وقال أبو حنيفةَ: إن رَأتْه قبلَ العادَةِ فليس بحَيضٍ، حتى ¬

(¬1) في م: «ورأت». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 414 من حديث أم حبيبة.

وَعِنْدِي أنَّهَا تَصِيرُ إِلَيهِ مِنْ غَيرِ تَكْرَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَكَرَّرَ مَرَّتَين، وإن رَأتْه بعدَها فهو حَيضٌ. قال شيخُنا (¬1)، رحِمَه اللهُ: (وعِندِي أنَّها تَصِيرُ إليه مِن غيرِ تَكرارٍ). وبه قال الشافعيُّ؛ لأنَّ النِّساءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ إلى عائشةَ بالدِّرَجَةِ فيها الصُّفْرَةُ والكُدْرَةُ، فتَقُولُ: لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَينَ القَصَّةَ البَيضاءَ (¬2). مَعْناه: لا تَعْجبْنَ بالغُسْلِ. ولو لم تَعُدَّ الزِّيادَةَ حَيضًا، لَلَزِمَها الغُسْلُ عندَ انْقِضاءِ العادَةِ وإن لم تَرَ القَصَّةَ. ومعنى القَصَّةِ أن تُدْخِلَ القُطْنَةَ في فَرْجِها فتَخْرُجَ بَيضاءَ نَقِيَّةً. ولأنَّ الشّارِعَ عَلَّقَ على الحَيضِ أحْكامًا، ولم يَحُدَّه، فعُلِمَ أنَّه رَدَّ النّاسَ فيه إلى عُرْفِهم، والعُرْفُ بينَ النِّساءِ أنَّ المرأةَ متى رَأتْ دَمًا يَصْلُحُ أن يكُونَ حَيضًا، اعْتَقَدَتْه حَيضًا. ولو كان عُرْفُهُنَّ اعْتِبارَ العادَةِ على الوَجْهِ المَذْكُورِ لنُقِلَ ظاهِرًا، ولذلك لَمّا كان بَعْضُ أزْواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الخَمِيلَةِ، فجاءَها الدَّمُ، فانْسَلَّتْ مِن الخمِيلَةِ، فقال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَك؟ أَنَفِسْتِ» (¬3)؟ قالت: نعم. فأمَرَها أن تَأْتَزِرَ (¬4). ولم يَسْألْها: هل وافَقَ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 434. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إقبال المحيض وإدباره، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 87. والإمام مالك، في: باب طهر الحائض، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 59. (¬3) بفتح النون وضمها، أي: أحِضْتِ. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب من سمى النفاس حيضا، وباب النوم مع الحائض في ثيابها، وباب من أخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر، من كتاب الحيض، وفي: باب القبلة للصائم، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العادَةَ أو خالفَها؟ ولا هي سَأَلَتْ عن ذلك، وإنَّما اسْتَدَلَّتْ على ذلك بخُرُوجِ الدَّمِ، فأقَرَّها عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذك حينَ حاضَتْ عائشةُ في عُمْرَتِها في حَجَّةِ الوَداعِ (¬1)، إنَّما عَرَفَتِ الحَيضَةَ برُؤْيَةِ الدَّمِ لا غيرُ، والظَّاهِرُ أنَّه لم يَأْتِ في العادَةِ؛ لأنَّها اسْتَنْكَرَتْه، وبَكَتْ حينَ رَأتْه، وقالت: وَدَدْتُ أنِّي لم أكُنْ حَجَجْتُ العامَ. ولو كانت لها عادَةٌ تَعْلَمُ مَجِيئَه فيها، لَما أنْكَرَتْه، ولا شَقَّ عليها. ولأنَّ العادَةَ لو كانت مُعْتَبَرَةً على المَذْكُورِ ¬

= الصوم. وفي: باب من ذبح ضحية غيره، من كتاب الأضاحي. صحيح البخاري 1/ 83، 88، 3/ 39، 132. ومسلم، في: باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 243. والنسائي، في: باب مضاجعة الحائض، من كتاب الطهارة، وفي: باب مضاجعة الحائض في ثياب حيضها، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 123، 154. وابن ماجه، في: باب ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 209. والدارمي، في: باب مباشرة الحائض، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 243. والإمام مالك، في: باب ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 58. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 294، 300، 318. (¬1) أخرجه البخاري، في: باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض، وباب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، وباب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، من كتاب الحيض، وفي: باب كيف تهل الحائض والنفساء إلخ، من كتاب الحج، وفي: باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها، وباب الاعتمار بعد الحج بدون هدي، من كتاب العمرة، وفي: باب حجة الوداع، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 1/ 86، 87، 2/ 172، 3/ 4، 5، 5/ 221. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 870 - 872. وأبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 412. والنسائي، في: باب ذكر الأمر بنقض ضفر الرأس عند الاغتسال للإحرام، من كتاب الطهارة، وفي: باب في المهلة بالعمرة تحيض وتخاف فوت الحج، من كتاب الحج. المجتبى 1/ 109، 5/ 139. وابن ماجه، في: باب العمرة من التنعيم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 998. والإمام مالك، في: باب دخول الحائض مكة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 410، 411، والإمام أحمد، في: المسند 6/ 164، 177، 191، 246.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المَذْهَب، لبَيَّنَهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُمَّتِه، ولَما وَسِعَه تَأْخِيرُ بَيانِه؛ لأنَّ حاجَةَ النِّساءِ داعِيَةٌ إليه في كلِّ وَقْتٍ، ولا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِه. والظّاهِرُ أنَّهُنَّ جَرَينَ على العُرْفِ في اعْتِقادِ ما يَرَينَه مِن الدَّمِ حَيضًا، ولم يَأْتِ مِن الشّرْعِ تَغْيِيرُه، ولذلك أجْلَسْنا المُبْتَدَأةَ مِن غيرِ تَقَدُّمِ عادَةٍ، ورَجَعْنا في أكْثَرِ أحْكامِ الحَيضِ إلى العُرْفِ، والعُرْفُ أنَّ الحَيضَةَ تَتَقَدَّمُ وتَتَأخَّرُ، وتَزِيدُ وتَنْقُصُ، ولم يُنْقَلْ عَنْهُنَّ، ولا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذِكْرُ العادَةِ، ولا بَيانُها، إلَّا في حَقِّ المُسْتَحاضَةِ، وأمّا امرأةٌ طاهِرٌ تَرَى الدَّمَ في وَقْتٍ يُمْكِنُ أن يكُونَ حَيضًا، ثم يَنْقَطِعُ عنها، فلم يَذْكُرْ في حَقِّها عادَةً أصْلًا. وفي اعْتِبارِ العادَةِ على هذا الوَجْهِ إخْلاءُ بَعْضِ المُنْتَقِلاتِ عن الحَيضِ بالكُلِّيَّةِ، مع رُؤْيَتِهِنَّ الدَّمَ في زَمَن الحَيضِ، وصَلاحِيَتِه له، وهذا لا سَبِيلَ إليه، كامرأةٍ رَأتِ الدَّمَ في غيرِ أيّامِ عادَتِها، وطَهُرَتْ أيّامَ عادَتِها ثَلاثَةَ أشْهُرٍ، فإنَّها لا تَدَعُ الصلاةَ، فإذا انْتَقَلَتْ في الشَّهْرِ الرّابعِ إلى أيّام أُخَرَ، لم نُحَيِّضْها أيضًا ثلاثةَ أشْهُرٍ، وكذلك أبَدًا. فعلى هذا تَجْلِسُ (¬1) ما تَراه مِن الدَّمِ قبلَ العادَةِ وبعدَها، ما لم يُجاوزْ أكْثَرَ الحَيضِ، فإن جاوَزَ أكثرَ الحَيضِ، عَلِمْنا اسْتِحاضَتَها، فتَرْجِعُ إلى عادَتِها وتَقضِي ما تَرَكَتْه مِن الصلاةِ والصيامِ فيما سوى العادَةِ؛ لأنَّنَا تَبَيَّنّا أنَّه اسْتِحاضَةٌ. فصل: فإن كانت عادَتُها ثَلاثَةً مِن كلِّ شَهْرٍ، فرَأتْ في شَهْرٍ خَمْسَةَ ¬

(¬1) في م: «تجعل».

237 - مسألة: (وإن طهرت في أثناء عادتها، اغتسلت وصلت. فإن عاودها الدم في العادة، فهل تلتفت إليه؟ على روايتين)

وَإنْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ عَادَتِهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي الْعَادَةِ فَهَلْ تَلْتَفِتُ إِلَيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيّام، ثم اسْتُحِيضَتْ في الشَّهْرِ الآخَرِ، فإنَّها لا تَجْلِسُ مِمّا بعدَه مِن الشُّهُورِ إلَّا ثَلاثَة ثلاثةً. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وقال الشافعيُّ: تَجْلِسُ خَمْسًا مِن كلِّ شَهْرٍ. وهذا مَبْنِيٌّ على أنَّ العادَةَ تَثْبُتُ بمَرَّةٍ. وإن رَأتْ خَمْسَةً في شَهْرَين، خُرِّجَ على الرِّوايَتَين فيما تَثْبُتُ به العادَةُ. وإن رَأتْها في ثلاثةِ أشْهُرٍ، ثم اسْتُحِيضَتْ، انتقَلَتْ إليها، وجَلَسَتْ مِن كلِّ شَهْرٍ خَمْسَةً، بغيرِ خِلافٍ بَينَهم. واللهُ أعلمُ. 237 - مسألة: (وإن طَهُرَتْ في أثْناءِ عادَتِها، اغْتَسَلَتْ وصَلَّتْ. فإن عاوَدَها الدَّمُ في العادَةِ، فهل تَلْتَفِتُ إليه؟ على رِوايَتَين) هذه المسألةُ تَشْتَمِلُ على فَصْلَين، أحَدُهما، في حُكْمِ الطُّهْرِ في زَمَنِ العادَةِ. والثاني،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حُكْمِ الدَّمِ العائِدِ بعدَه. فمتى رَأتِ الطُّهْرَ فهي طاهِرٌ، تَغْتَسِلُ، وتُصَلِّي وتَصُومُ. ولم يُفَرِّقْ أصْحابُنا بينَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وكَثِيرِه، لقَوْلِ ابنِ عباسٍ: أمّا ما رَأتِ الطُّهْرَ ساعَةً فلتَغْتَسِلْ. فأمّا إن كان النَّقاءُ أقَلَّ مِن ساعَةٍ، فالظّاهِرُ أنَّه ليسن بطهْرٍ؛ لأن الدَّمَ يَجْرِي تارَةً ويَنْقطِعُ أُخْرَى، وقد قالت عائِشَةُ: لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَينَ القَصَّةَ البَيضاءَ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ النُّفَساءَ إذا رَأتِ النَّقاءَ دُونَ يَوْمٍ، لا تَثْبُتُ لها أحْكامُ الطّاهِراتِ. فيُخَرَّجُ ها هُنا مِثْلُه، قال شَيخُنا (¬1): وهو الصَّحِيحُ إن شاء اللهُ تعالى؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الدَّمَ يَجْرِى تارَةً ويَنْقَطِعُ أُخْرَى، وفي إيجابِ الغُسْلِ على مَن تَطْهُرُ ساعَةً بعدَ ساعةٍ حَرَجٌ مَنْفِيٌّ بقَوْلِه تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). ولأنَّنا لو جَعَلْنا انْقِطاعَ الدَّمِ ساعَةً طُهْرًا، ولا تَلْتَفِتُ إلى الدَّمِ بَعْدَه أفْضَى إلى أن لا يَسْتَقِرَّ لها حَيضٌ (¬3)، فعلى هذا لا يكُونُ انْقِطاعُ ¬

(¬1) انظر: المغني 1/ 437. (¬2) سورة الحج 78. (¬3) في الأصل: «عادة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّمِ دُونَ يَوْمٍ طُهْرًا، إلَّا أن تَرَى ما يَدُلُّ عليه، مِثْلَ أن يكونَ انْقِطاعُه في آخِرِ عادَتِها، أو تَرَى القَصَّةَ البَيضاءَ، وهو شيءٌ يَتْبَعُ الحَيضَ أبْيَضُ، يُسَمَّى التَّرِيَّةَ. رُوِيَ ذلك عن إمامِنا. وهو قَوْلُ مالكٍ. ورُوي عنه، أنَّ القَصَّةَ البَيضاءَ هي القُطْنَةُ التي تَحْشُوها المرأةُ، إذا خَرَجَتْ بَيضاءَ كما دَخَلَتْ لا تَغَيُّرَ عَليها. حُكِي ذلك عن الزُّهْرِيِّ. وقال أبو حَنِيفةَ: ليس النَّقاءُ بينَ الدَّمَينِ طُهْرًا، بل لو صامَتْ فيه فَرْضًا لم يَصِحَّ، ولا تَجبُ عليها فيه صلاة، ولا يَأْتِيها زَوْجُها. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ الدَّمَ يَسِيلُ تارَةً ويَنْقَطِعُ أُخْرَى، ولأنَّه لو لم يَكُنْ مِن الحَيضِ لم يُحْتَسَبْ مِن مُدَّتِه. ولَنا، قولُه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬1). وَصَف الحَيضَ بكَوْنِه أذًى، فإذا ذَهَب الأذَى وَجَب زَوالُ الحَيضِ. وقال ابنُ عباسٍ: إذا رَأتِ الطُّهْرَ ساعَةً فلْتَغْتَسِلْ. وقالت عائشةُ: لَا تَعْجَلْنَ حتى تَرَينَ القَصَّةَ البَيضاءَ. ولأنَّها صامَتْ وهي طاهِرٌ، فلم يَلْزَمْها القَضاءُ، كما لو لم يَعُدِ الدَّمُ. فأمّا قَوْلُهم: إنَّ الدَّمَ يَجْرِي تارَةً ويَنْقَطِعُ أُخْرَى. قُلْنا: لا عِبْرَةَ بالانْقِطاعِ اليَسِيرِ، وإنَّمَا إذا وُجِد انْقِطاع كَثِيرٌ ¬

(¬1) سورة البقرة 222.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُمْكِنُ فيه الصلاةُ والصيامُ، وتَتَأدَّى العِبادَةُ فيه، وَجَبَتْ عليها، لعَدَمِ المانِع مِن وُجُوبِها. الفصلُ الثاني، إذا عاوَدَها الدَّمُ، فإن عاوَدَها في العادَةِ ولم يَتَجاوَزْها، ففيه رِوايَتان، إحْداهما، أنَّه مِن حَيضِها؛ لأنَّه صادَفَ زَمَنَ العادَةِ، فأشْبَهَ ما لو لم يَنْقَطِعْ. وهذا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. والثانيةُ، ليس بحَيضٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ ابنِ أبي موسى؛ لأنَّه عاد بعدَ طُهْرٍ صَحِيح، أَشْبَهَ ما لو عاد بعدَ العادَةِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ يكُونُ حُكْمُه حُكْمَ ما لو عاد بعدَ العادَةِ، على ما يَأْتِي. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّها تَصُومُ وتُصَلي، وتَقْضِي الصومَ المَفْرُوضَ على سَبِيلِ الاحْتِياطِ، كدَمِ النُّفَساءِ العائِدِ في مُدَّةِ النِّفاسِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأتْه في العادَةِ، وتَجاوَزَ العادَةَ، فإن عَبَر أكثَرٍ الحَيضِ، فليس بحَيضٍ؛ لأنَّ بَعْضَه ليس بحَيضٍ، فيكُونُ كلُّه اسْتِحاضَةً، لاتِّصالِه به وانْفِصالِه عن الحَيضِ، فكان إلْحاقُه بالاسْتِحاضَةِ أوْلَى. وإن إنْقَطع لأكْثَرِه فما دُونَ، فمَن قال: إنَّ ما لم يَعْبُرِ العادَةَ ليس بحَيضٍ. فها هُنا أوْلَى، ومَن قال: هو حَيضٌ. ففي هذا على قَوْلِه ثلاثةُ أوْجُهٍ، أحَدُها، أنَّ جَمِيعَه حَيضٌ، لِما ذَكَرْنا في أنَّ الزّائِدَ على العادَةِ حَيضٌ، ما لم يَعْبُرْ أكْثَرَ الحَيضِ. والثّانِي، أنَّ ما وافَقَ [العادَةَ حَيضٌ] (¬1)؛ لمُوافَقَتِه العادَةَ، وما زاد عليها ليس بحَيضٍ، لخُرُوجِه عنها. والثالثُ، أنَّ الجَمِيعَ ليس بحَيضٍ، لاخْتلاطِه بما ليس بحَيضٍ. فإن تَكَرَّرَ فهو حَيضٌ، على الرِّوايَتَين جميعًا. ¬

(¬1) في م: «الحيض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأتْه بعدَ العادَةِ ولم يُمْكِنْ أن يَكُونَ حَيضًا، لعُبُوره أكْثَرَ الحَيضِ، وأنَّه ليس بَينَه وبينَ الدَّمِ الأوَّلِ أقَلُّ الطُّهْرِ، فهو اسْتِحاضَةٌ، سَواءٌ تَكَرَّرَ أولًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ جَعْلُ جَمِيعِه حَيضًا، فكان كلُّه اسْتِحاضَةً؛ لأنَّ إلْحاقَ بَعْضِه ببعضٍ أوْلَى مِن إلْحاقِه بغيرِه. فصل: وإن أمْكَنَ كَوْنُه حَيضًا، وذلك يُتَصَوَّرُ في حالين، أحَدُهما، أن يكُونَ بضَمِّه إلى الدَّمِ الأوَّلِ، لا يكُونُ بينَ طَرَفَيهِما أكثَرُ مِن خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فإذا تَكَرَّر جَعَلْناهما حَيضَةً واحِدَةً، ويُلَفَّقُ أحَدُهما إلى الآخَرِ، ويكُونُ الطُّهْرُ الذي بَينَهما طُهْرًا في خِلالِ الحَيضَةِ. الحالُ الثاني، أن يكُونَ بَينَهما أقَلُّ مِن الطُّهْرِ، ويكُونُ كلُّ واحِدٍ مِن الدَّمَين يَصْلُحُ أن يكُونَ حَيضًا بمُفْرَدِه، بأن يكونَ يَوْمًا ولَيلَةً، فصاعِدًا، فهذا إذا تَكَرَّر كان الدَّمان حَيضَتَين، وإن نَقَص أحَدُهما عن أقَلِّ الحَيضِ، فهو دَمُ فَسادٍ، إذا لم يُمْكِنْ ضَمُّه إلى ما بعدَه. ومِثالُ ذلك، ما لو كانت عادَتُها عَشَرَةً مِن أوَّلِ الشَّهْرِ، فرَأتْ خَمْسَةً منها دَمًا، وطَهُرَتْ خمسةً، ثم رأتْ خمسةً دَمًا، وتَكَرَّر ذلك، فالخَمْسَةُ الأولَى والثانيةُ حَيضَةٌ واحِدة تُلَفِّقُ الدَّمَ الثّانيَ إلى الأوَّلِ. وإن رَأتِ الثانيَ سِتَّةً أو أكْثَرَ، لم يُمْكِنْ أن يكُونَ الدَّمان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَيضَةً؛ لأنَّ بينَ طَرَفَيهما أكْثَرَ مِن خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ولا حَيضَتَين؛ لأنَّه ليس بَينَهما أقَلُّ الطَّهْرِ. وإن رَأتْ يَوْمًا دَمًا وثَلاثَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثم رأتْ يومًا دَمًا، وَتَكَرَّرَ ذلك، كانا حَيضَتَين، وصار شَهْرُها أرْبَعَةَ عَشَرَ يومًا. وكذلك إن رَأتْ يَوْمَين دَمًا وثَلاثةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثم رَأتْ يَوْمَين دَمًا، وتَكَرَّرَ، ويكونُ شَهْرها خَمْسَةَ عَشَرَ. وإن كان الطُّهْرُ بَينَهما أحدَ عَشَرَ يومًا فما دُونَ، وتَكَرَّرَ، فهما حَيضَةٌ واحِدَةٌ؛ لأنَّه ليس بينَ طَرَفَيهِما أكْثَر مِن خَمْسَةَ عَشَرَ (¬1)، ولا بَينَهما أقَلُّ الطُّهْرِ. وإن كان بينَهما اثْنا عَشَرَ يومًا، لم يُمْكِنْ كَوْنهما جَمِيعًا حَيضَةً، لزِيادَتِهما بما بَينَهما مِن الطُّهْرِ على خَمْسَةَ عَشَرَ، ولا يُمكِنُ جَعْلُهما حَيضَتَين؛ لأنَّه ليس بَينَهما أقَلُّ الطُّهْرِ. فعلى هذا يكونُ حَيضُها منهما ما وافَقَ العادَةَ، والآخَر اسْتِحاضَةً. وعلى هذا كلُّ ما يَتَفَرَّغ مِن المَسائِلِ، إلَّا أنَّها لا تَلْتَفِت إلى ما رَأتْه بعدَ الطُّهْرِ فيما خَرَج عن العادَةِ حتى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَين أو ثلاثًا، فإن تَكَرَّرَ، وأمْكَنَ جَعلُه حَيضًا، فهو حَيضٌ، وإلَّا فلا. ¬

(¬1) سقطت من: «م».

238 - مسألة، قال: (والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض)

وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيضِ، مِنَ الْحَيضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 238 - مسألة، قال: (والصُّفْرَةُ والكُدْرَةُ في أيّامِ الحَيضِ مِن الحَيضِ) متى رَأتْ في أيّامِ عادَتِها صُفْرَةً أو كُدْرَةً، فهو حَيضٌ، وإن رَأتْه بعدَ أيّامِ حَيضِها، لم تَعْتَدَّ به. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو مذهبُ الثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، والشافعيِّ. وقال أبو يُوسُفَ، وأبو ثَوْرٍ: لا يَكُونُ حَيضًا، إلَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَتَقَدَّمَه دَمٌ أسْوَدُ؛ لأنَّ أَمَّ عَطِيَّةَ قالت: كُنّا لا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ بعدَ الطُّهْرِ (¬1) شيئًا. رَواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3). وهذا يَتَناولُ الصُّفْرَةَ والكُدْرَةَ، ولأنَّ النِّساءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ إلى عائشةَ بالدِّرَجَةِ (¬4) فيها الصُّفْرَةُ والكُدْرَةُ، فتَقُولُ: لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَينَ القَصَّةَ البَيضاءَ. تُرِيدُ بذلك الطُّهْرَ مِن الحَيضَةِ. وحديثُ أُمِّ عَطِيَّةَ إنَّما يَتَناوَلُ ما بعدَ الطُّهْرِ والاغْتِسالِ، ونحن نَقُولُ به، ويَدُلُّ عليه قَوْلُ عائشةَ: ما كُنّا نَعُدُّ الكُدْرَةَ والصُّفْرَةَ حَيضًا (¬5). مع قَوْلِها المُتَقَدِّمَ. ¬

(¬1) في م: «الغسل». (¬2) في: باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 73. كما أخرجه البخاري، في: باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 89. والنسائي، في: باب الصفرة والكدرة، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 153. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الحائض ترى بعد الطهر الصفرة والكدرة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 212. والدارمي، في: باب الطهر كيف هو، وباب الكدرة إذا كانت بعد الحيض، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 214، 215. ورواية غير أبي داود ليس فيها قولها: بعد الطهر. (¬3) سورة البقرة 222. (¬4) بكسر الدال وفتح الراء: جمع دُرْج، وهو كالسّفَط الصغير، تضع فيه المرأة خِفّ متاعها وطِيبها. النهاية. 2/ 111. (¬5) أخرجه البيهقي، في: باب الصفرة والكدرة تراهما بعد الطهر، من كتاب الحيض. السنن الكبرى 1/ 337.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُها حُكْمُ الدَّمِ العَبِيطِ (¬1) في أنَّها في أيّامِ الحَيضِ حَيضٌ، وتَجْلِسُ مِنها المُبْتَدَأةُ كما تَجْلِسُ مِن غيرِها. وإن رَأتها بعدَ العادَةٍ مُتَّصِلَةً بها، فهو كما لو رَأتْ غيرَها، على ما بَيَّنا. وإن طَهُرَتْ ثم رَأتْ كُدْرَة أو صُفْرَةً، لم تَلْتَفِتْ إليها، لحديثِ أمِّ عَطِيَّةَ وعائشةَ، وقد روَى النَّجّادُ (¬2) بإسْنادِه، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن فاطمَةَ، عن أسْماءَ، قالتْ: كُنّا في حِجْرِها مع بَناتِ بِنْتِها (¬3)، فكانت إحْدانا تَطهُرُ ثم تُصَلِّي، ثم تُنْكَسُ بالصُّفْرَةِ اليَسِيرَةِ، فنَسْألها، فتَقُولُ: اعْتَزِلْنَ الصلاةَ حتى لا تَرَينَ إلَّا البَياضَ خالِصًا (¬4). والأوَّلُ أوْلَى، لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أُمِّ عَطِيَّةَ وعائشةَ، وهو أوْلَى مِن قولِ أسْماءَ. وقال القاضي: مَعْنَى هذا أنَّها لا تَلْتَفِتُ إليه قبلَ التَّكْرارِ، وقَوْلُ أسْماءَ فيما إذا تَكَرَّرَ، فجَمَعَ بينَ الأخْبارِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) دم عبيط: طري خالص لا خلط له. (¬2) أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن النجاد الفقيه الحنبلي، كان مكثرا من الحديث، توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. اللباب 3/ 213، 214، طبقات الحنابلة 2/ 7 - 12. (¬3) عند البيهقي: «أخيها». (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 336.

239 - مسألة: (ومن كانت ترى يوما دما ويوما طهرا، فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضا، والباقي طهرا، إلا أن يجاوز أكثر الحيض فتكون مستحاضة)

وَمَنْ كَانتْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، فَإِنَّهَا تَضُمُّ الدَّمَ إِلى الدَّمِ فَيَكُونُ حَيضًا، وَالْبَاقِي طُهْرًا، إلا أَنْ يُجَاوزَ أَكْثَرَ الْحَيضِ، فَتَكُونَ مُسْتَحَاضَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 239 - مسألة: (ومن كانت تَرَى يَوْمًا دَمًا ويومًا طُهْرًا، فإنَّها تَضُمُّ الدَّمَ إلى الدَّمِ فيكونُ حَيضًا، والباقِي طُهْرًا، إلَّا أن يُجاوزَ أكْثَرَ الحَيضِ فتكونَ مُسْتَحاضَةً) قد ذَكَرْنا أنَّ الطُّهْرَ في أثناءِ الحَيضَةِ طُهْرٌ صَحِيحٌ، فإذا رَأتْ يَوْمًا دَمًا ويومًا طُهْرًا، فإنَّها تَضُمُّ الدَّمَ إلى الدَّمِ، فيكونُ حَيضًا، وما بَينَهما مِن النَّقاءِ طُهْرٌ، على ما ذَكَرْنا. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ زَمَنِ الدَّمِ أكثَرَ مِن زمنِ الطُّهْرِ، أو مِثْلَه، أو أقَلَّ منه، فإنَّ جَمِيعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّمِ حَيضٌ إذا تَكَرَّرَ ولم يُجاوزْ أكْثَرَ الحيضِ. فإن كان الدَّمُ أقلَّ مِن يَوْمٍ، مِثْلَ أن تَرَى نِصْفَ يوم دَمًا ونِصْفًا طُهْرًا، أو ساعَةً وساعةً، فقال أصحابُنا: هو كالأيّامِ، تَضُمُّ الدَّمَ إلى الدَّمِ، فيَكُونُ حَيضًا، وما بَينَهما طُهْرٌ، إذا بَلَغ المُجْتَمِعُ مِنه أقلَّ الحَيضِ، فإن لم يَبْلُغْ ذلك فهو دَمُ فَسادٍ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا يكونُ الدَّمُ حَيضًا، إلَّا أن يَتَقَدَّمَه حَيضٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ. وهذا كُلُّه مذهبُ الشافعيِّ. وله قَوْلٌ آخَرُ (¬1): إنَّ النَّقاءَ بينَ الدَّمَين حَيضٌ. وقد ذَكَرْناه، وذكرْنا أيضًا لنا وَجْهًا في أنَّ النَّقاءَ إذا نَقَص عن يَوْم، لم يَكُنْ طُهْرًا. فعلى هذا، متى نَقَصَ عنه، كان الدَّمُ (¬2) وما بعدَه حَيضًا كلُّه. ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في م: «كالدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جاوَزَ أكثَرَ الحَيضِ، مثلَ أن تَرَى يومًا دَمًا ويومًا طُهْرًا إلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ، فهي مُسْتَحاضَةٌ، تُرَدُّ إلى عادَتِها إن كانت مُعْتادَةً. فإن كانت عادَتُها سَبْعَةَ أيّامٍ مِن أوَّلِ الشَّهْرِ، فإنَّها تَجْلِسُ أَوَّلَ يَوْمٍ تَرَى الدَّمَ فيه في العادَةِ، وتَغْتَسِلُ، وما بعدَه مَبْنِيٌّ على الرِّوايَتَين في الدَّمِ الذي تَراه بعدَ الطُّهْرِ في أثناءِ الحَيضَةِ، فإن قُلْنا: ليس بحَيضٍ. فحَيضُها اليَوْمُ الأوَّلُ خاصَّةً، وما بعدَه اسْتِحاضَةٌ. وإن قُلْنا: إنَّه حَيضٌ. فحَيضُها اليَوْمُ الأوَّلُ، والثّالِثُ، والخامِسُ، والسّابعُ، فيَحْصُلُ لها مِن عادَتِها أرْبَعَةُ أيّام، والباقِي اسْتِحاضَةٌ. وإن لم تَرَ الدَّمَ إلَّا في اليَوْمِ الثّانِي جَلَسَتْه والرّابع والسّادِسَ، فيَحْصُلُ لها ثلاثة أيّامٍ، وفيه وَجهٌ آخَرُ، أنَّه تُلَفِّقُ لها السَّبْعَةَ مِن أيّام الدَّم جَمِيعِها، فتَجْلِسُ التاسِعَ (¬1)، والحادِيَ عشَرَ والرّابع عَشَرَ. وَالصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ هذه الأيامَ ليس مِن عادَتِها، فلم تَجْلِسْها، كغيرِ المُلَفِّقَةِ. وإن كانت ناسِيَةً فأجْلَسْناها سبعةَ أيّامٍ، فكذلك. وإن كانت مُمَيِّزَةً جَلَسَتْ زَمانَ الدَّمِ الأسْوَدِ، والباقي اسْتِحاضَةٌ، وإن كانت مُبْتَدَأةً جَلَسَتِ اليَقِينَ في ثلاثةِ أشْهُرٍ، أو في (¬2) شَهْرَين مِن أوَّلِ دَمٍ تَراه، ثم تَنْتَقِلُ بعدَ ذلكَ إلى غالِبِ الحَيضِ. وهل تُلَفِّقُ لها السَّبْعَةَ مِن خَمْسَةَ ¬

(¬1) في الأصل: «السابع». (¬2) في م: «وفي».

فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَاضَةُ تَغْسِلُ فَرْجَهَا وَتَعْصِبُهُ، وَتَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عَشَرَ يَوْمًا، أو تَجْلِسُ أرْبَعَةً مِن سَبْعَةٍ؟ على وَجْهَين، كالمُعْتادَةِ. وقال القاضي في المُعْتادَةِ كما ذَكَرْنا. وفي غيرِها: ما عَبَر الخَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحاضَة، وأيّامُ الدَّمِ مِن الخمسةَ عشرَ كلُّها حَيضٌ إذا تَكَرَّرَ، فإن كان يَوْمًا ويومًا، فلها ثَمانِيَةُ أيّامٍ حَيضًا، وإن كانت أنْصافًا، فلها سَبْعَةٌ ونِصْفٌ حَيضًا ومِثْلُها طُهْرًا؛ لأنَّ الطُّهْرَ في اليَوْمِ السّادِسَ عَشَرَ يَفْصِلُ بينَ الحَيضِ وما بعدَه؛ لأنَّها فيما بعدَه في حُكْمِ الطّاهِراتِ، تَصُومُ وتُصَلِّي. فصل؛ قال: (والمُسْتَحاضَةُ تَغْسِلُ فَرْجَها وتَعْصِبُه، وتَتَوَضَّأُ لوَقْتِ

كُلِّ صَلَاةٍ، وَتُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَكَذَلِكَ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَالْمَذْيُ، وَالرِّيحُ، وَالْجَرِيحُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ دَمُهُ، وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّ صلاةٍ، وتُصَلِّي ما شاءَتْ مِن الصَّلَواتِ، وكذلك مَن به سَلَسُ البَوْلِ والمَذْيُ والرِّيحُ، والجَرِيحُ الذي لا يَرْقَأُ دَمُه، والرُّعافُ الدّائِمُ) المُسْتَحاضَةُ التي تَرَى دَمًا لا يَصْلُحُ أن يكونَ حَيضًا ولا نِفاسًا، حُكْمُها حُكْمُ الطّاهِراتِ في وُجُوبِ العِباداتِ وفِعْلِها؛ لأنَّها نَجاسَةٌ غيرُ مُعْتادَةٍ، أشْبَهَ سَلَسَ البولِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ المُسْتَحاضَةَ، ومَن في مَعْناها مِمَّن ذَكَرْنا، وهو مَن لا يُمْكِنُه حِفْظُ طَهارَتِه، لاسْتِمْرارِ الحَدَثِ، يَجِبُ عليه غَسْلُ مَحَلِّ الحَدَثِ، والتَّحَرُّزُ مِن خُروجِ الحَدَثِ بما أمْكَنَه، فالمُسْتَحاضَةُ تَحْشُوه بالقُطنِ وما أشْبَهَه، فإن لم يَرُدَّ الدَّمَ، اسْتَثْفَرَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِرْقَةٍ مَشْقُوقَةِ الطَّرَفَين، تَشُدُّهما على جَنْبَيها، ووَسَطَها على الفَرْجِ؛ لأنَّ في حَديثِ أمِّ سَلَمَةَ: «لتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ» (¬1). وقال لحَمْنَةَ، حينَ شَكَتْ إليه كَثْرَةَ الدَّمِ: «أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ» يَعْنِي القُطنَ تَحْشِينَ بِهِ المكانَ. قالت: إنَّه أكثر مِن ذلك. قال: «تَلَجَّمِي» (¬2). فإذا فَعَلَتْ ذلك، وتَوَضَّأتْ، ثم خَرَج الدَّمُ لرَخاوَةِ الشَّدِّ، فعليها إعادَةُ الشَّدِّ والوُضُوءِ، وإن كان لغَلَبَةِ الخارِجِ وقوَّتِه، لم تَبْطُلِ الطهارةُ، لعَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه، قالت عائشةُ: اعتَكَفَتْ مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - امرأة مِن أزْواجِه، فكانت تَرَى الدَّمَ والصُّفرَةَ، والطَّسْتُ تحتَها وهي تُصَلِّي. رَواه البُخارِي (¬3). وفي لفظٍ (¬4): «صَلِّي، وَإنْ قَطرَ الدَّمُ عَلَى الحَصِيرِ». والمُبْتَلَى بسَلَسِ البَوْلِ، أو كَثْرَةِ المَذْي، يَعْصِبُ ¬

(¬1) تقدم في صفحة 400. (¬2) تقدم في صفحة 395. (¬3) في: باب الاعتكاف للمستحاضة، من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 85. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المستحاضة تعتكف، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 576. وابن ماجه، في: باب المستحاضة تعتكف، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 566. والدارمي، في: باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 217. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 131. (¬4) لحديث فاطمة بنت أبي حبيش المتقدم تخريجه في صفحة 14. وأخرج هذا اللفظ النسائي، في: باب ترك الوضوء من القبلة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 87. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 42، 137، 204، 262.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأسَ ذَكَرِه بخِرْقَةٍ، ويَحْتَرِسُ حَسْبَما أمكَنَه، وكذلك مَن به جُرْحٌ أو رِيحٌ، أو نَحْوُه مِن الأحْداثِ، فإن كانَ مِمَّا لا يُمْكِنُ عَصْبُه، كالجرْحِ الذي لا يُمْكِنُ شَدُّه، أو مَن به باسُورٌ أو ناصُور لا يُمْكِنُ عَصْبُه، صَلَّى على حَسَبِ حالِه، لأنَّ عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنه، صَلَّى وجُرْحُه يَثْعَبُ (¬1) دَمًا. فصل: ويَجِبُ على كلِّ واحِدٍ مِن هؤلاء الوُضُوءُ لوَقْتِ كلِّ صلاةٍ، إلَّا أن لا يَخْرُجَ منه شَئٌ. وهو قَوْلُ الشافعي، وأصحابِ الرَّأي. وقال مالكٌ: لا يَجِبُ الوُضُوءُ على المُسْتَحاضَةِ. ورُوي ذلك عن عِكْرِمَةَ، ورَبِيعَةَ. واسْتَحَبَّ مالك لمَن به سَلَسُ البَوْلِ أن يَتَوَضَّأ لكلِّ صلاةٍ، إلَّا أن يُؤذِيَه البَرْدُ، فإن آذاه فأرْجُو أن لا يكونَ عليه ضيقٌ. واحْتَجُّوا بأنَّ في حديثِ هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال ¬

(¬1) ثعب الماءَ والدم؛ كمنع: فجره، فانثعب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لفاطمةَ بنتِ أبي حُبَيش: «فَاغْتَسِلِى وَصَلِّي» (¬1). فلم يَأمُرْها بالوُضُوءِ. ولأنَّ ليس بمَنْصُوص عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ؛ لأنَّه غيرُ مُعْتادٍ. ولَنا، ما روَى عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، [عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) في المستحاضَةِ: «تَدَعُ الصلَاةَ أيامَ أقرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬3). رَواه أبو داودَ، والترمِذِيُّ. وعن عائشةَ، قالت: جاءَتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَتْ خَبَرَها، ثم قال: «وَتَوَضئِى لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِئَ ذَلِكَ الْوَقْتُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمِذِي (¬4)، وقال: حديثٌ حسن صحيحٌ. وهذه زِيادَةٌ يَجِبُ قَبُولُها.، ولأنَّه حَدَث خارِجٌ مِن السَّبِيلِ، فنَقَضَ الوُضُوءَ، كالمَذْيِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ طهارةَ هؤلاء مُقَيَّدَةٌ بالوَقْتِ؛ لقَوْلِه: «تَتَوَضَّأ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ». وقولِه: «ثمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». ولأنَّها طهارةُ عُذْرٍ وضَرُورَةٍ، فقُيِّدَتْ بالوَقْتِ، كالتيمم. فعلى هذا، إذا تَوَضَّأ أحَدُ هؤلاء قبلَ الوَقْتِ، ثم دَخَل الوقتُ. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 14. (¬2) سقط من: «م». (¬3) تقدم في صفحة 400. (¬4) لم نجده عند أبي داود ولا الإمام أحمد بهذا اللفظ. أخرجه الترمذي، في: باب المستحاضة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 197.كما أخرجه البخاري، في: باب غسل الدم، من كتاب الوضوء. صحيح البخاري 1/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَطَلَتْ طهارتُه؛ لأنَّ دُخُولَه يَخْرُجُ به الوَقْتُ الذي تَوَضَّأ فيه. وكذلك إن خَرَج منه شيءٌ؛ لأنَّ الحَدَثَ مُبْطل للطهارةِ، وإنَّما عُفِي عنه مع الحاجَةِ إلى الطهارةِ، ولا حاجَةَ قبلَ الوَقْتِ. وإن تَوَضَّأ بعدَ الوَقتِ، صَحَّ وُضُوءُه، ولم يُؤثرْ فيه ما يَتَجَدَّدُ مِن الحَدَثِ الذي لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه؛ لِما ذَكَرْنا. فإن صَلَّى عَقِيبَ الطهارةِ، أو أخَّرَها لِما يَتَعَلَّقُ بمَصْلَحَةِ الصلاةِ؛ كلُبْسِ الثِّيابِ، وانتظارِ الجَماعَةِ، أو لم يَعْلَمْ أنه خَرَج منه شيءٌ، جازَ. وإن أخَّرَها لغيرِ ذلك، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الجَوازُ، قِياسًا على طهارةِ التَّيَمُّمِ. والثاني، لا يَجوزُ؛ لأنَّه إنَّما أبِيحَ له الصلاةُ بهذه الطهارةِ مع وُجُودِ الحَدَثِ للضرورَةِ، ولا ضَرُورَةَ ههُنا. وإن خَرَج الوَقْتُ بعدَ أن خَرَج منها شيءٌ، أو إحدَثَ حَدَثًا غيرَ هذا الخارِجِ، بَطَلَتِ الطهارةُ (¬1). ¬

(¬1) في الأصل: «طهارته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ للمُسْتَحاضَةِ ومَن في مَعْناها الجَمْعُ بينَ الصَّلاتين، وقَضاءُ الفَوائِت، والتَّنَفُّلُ إلى خُرُوجِ الوَقْتِ، قال أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ القاسِمِ: إنَّما آمُرُها أن تَتَوَضَّأ لكلِّ صلاةٍ، فتُصَلِّيَ بذلك الوُضُوءِ النّافِلَةَ والصلاةَ الفائتَةَ، حتى يَدْخُلَ وَقْتُ الصلاةِ الأخْرَى، فتَتَوضَّأ أيضًا. وهذا يَقْتَضِي إلحاقَها بالتَّيَمُّمِ. وقال الشافعي في المُسْتَحاضَةِ: لا تَجْمَعُ بينَ فَرْضَين بطهارةٍ واحِدَةٍ، ولا تَقْضِي به فَوائِتَ. كقَوْلِه في التَّيَمُّمِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». ولَنا، أنه قد رُوِيَ في بَعْضِ ألْفاظِ حديثِ فاطمةَ: «تَوَضَّئِى لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬1). وحَدِيثُهم مَحْمُول على الوَقْتِ، كقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «أينَمَا أدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ» (¬2). أي وَقْتُها. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ حَمْنَةَ بالجَمْع بينَ الصَّلاتين بغُسْلٍ واحدٍ، وأمَرَ به سَهْلَةَ بنتَ سُهَيلٍ (¬3)، ولم يَأمُرْها بوُضُوءٍ، لأنَّ الظّاهِرَ أنه لو أمَرَها بالوُضُوءِ بَينَهما لنُقِلَ، ولأنَّ هذا مِمّا يَخْفَى ويَحْتاجُ إلى بَيانٍ، فلا يَجُوزُ تَأخِيرُه عن وَقْتِ الحاجَةِ، وغيرُ المُسْتَحاضَةِ مِن أهْلِ الأعْذارِ مَقِيسٌ عليها. ¬

(¬1) لا أصل له بهذا اللفظ. انظر: نصب الراية 1/ 204. (¬2) تقدم في حديث: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي» 1/ 34. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَوَضَّأتِ المُسْتَحاضَةُ، ثم انْقَطَعَ دَمُها، فإنِ اتَّصَلَ الانْقِطاعُ، بَطَل وُضُوءُها بانْقِطاعِه؛ لأنَّ الحَدَثَ الخارِجَ منها مُبْطلٌ للطهارةِ عُفِي عنه للعُذْرِ، فإذا زال العُذْرُ، ظَهَر حُكْمُ الحَدَثِ. وإن عاد الدَّمُ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا عِبْرَةَ بهذا الانْقِطاعِ. قال أحمدُ بنُ القاسِمِ: سَألتُ أبا عبدِ اللهِ، فقُلْتُ: إنَّ هؤلاء يَتَكَلَّمُون بكَلامٍ كَثِيرٍ، ويُوَقِّتُون بوَقْتٍ، يَقُولُون: إذا تَوَضَّأتْ للصلاةِ، وقد انْقَطَعَ الدَّمُ، ثم سال بعدَ ذلك قبلَ أن تَدْخُلَ في الصلاةِ، تُعِيدُ الوُضُوءَ. ويَقُولُون، إذا تَطَهَّرَتْ (¬1) والدَّمُ سائِلٌ، ثم انْقَطَعَ الدَّمُ، قَوْلًا آخَرَ. قال: لَسْتُ أنظرٌ في انْقِطاعِه حينَ تَوَضَّأتْ سال أم لم يَسِلْ، إنَّما آمُرُها أن تَتَوَضَّأ لكلِّ صلاةٍ، فتُصَلِّيَ بذلك الوُضُوءِ النّافِلَةَ والفائتةَ، حتى يَدْخُلَ وَقْتُ الصلاةِ الأخْرَى. وقال القاضي، وابنُ عَقِيلٍ: إن تَطَهَّرَتْ ¬

(¬1) في الأصل: «طهرت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حال جَرَيانِ الدَّمِ، ثم انْقَطعَ قبلَ دُخُولِها في الصلاةِ، ولم يَكُنْ لها عادَةٌ بانْقِطاعِه، لم يكنْ لها الدُّخُولُ في الصلاةِ حتى تَتَوَضَّأ؛ لأنَّها طهارة عُفِيَ عن الحَدَثِ فيها للضرورَةِ، فإذا زالتْ ظَهَر حُكْمُ الحَدَثِ، كالمُتَيَمِّمِ إذا وَجَد الماءَ. فإن دَخَلَتْ في الصلاةِ، فاتَّصَلَ الانْقِطاعُ بحيثُ يَتَّسِعُ للوُضُوءِ والصلاةِ، فالصلاةُ باطِلَةٌ؛ لأنَّنا تَبَينا بُطْلانَ الطهارةِ بانْقِطاعِه، وإلَّا فطَهارَتُها صَحِيحَة؛ لأنَّنا تَبَينا عَدَمَ الانْقِطاعِ المُبْطِلِ، أشْبَهَ ما لو ظَنَّ أنه أحْدَثَ، ثم بانَ بخِلافِه. وفي صِحَّةِ الصلاةِ وَجْهَان؛ أحَدُهما، تَصِحُّ؛ بِناءً على صِحَّةِ الطهارةِ؛ لبَقاءِ الاستحاضَةِ. والثاني، لا تَصِحُّ؛ لأنَّها صَلَّتْ بطهارةٍ لم يَكُنْ لها [أن تُصَلِّيَ بها، فلم تَصِحَّ،؛ لو تَيَقنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطهارةِ وصَلَّى، ثم تَبَيَّنَ أنَّه كان مُتَطَهِّرًا. وإن عاوَدَها] (¬1) الدَّمُ قبلَ دُخُولِها في الصلاةِ لمُدَّةٍ تَتَّسِعُ للطهارةِ والصلاةِ، بَطَلَتِ الطهارةُ، وإن كانت لا تَتَّسِعُ، لم تَبْطُلْ؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كان انْقِطاعُه في الصلاةِ واتَّصَلَ، انْبَنَى على المُتَيَمِّمِ يَجِدُ الماءَ في الصلاةِ. ذَكَرَه ¬

(¬1) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ حامِدٍ. وإن عاوَدَها الدَّمُ، فهو كما لو انْقَطعَ خارِجَ الصلاةِ، على ما مَضَى. وإن تَوَضَّأتْ وهو مُنْقَطِع، ثم عاد قبلَ الصلاةِ أو فيها، وكانت مُدَّةُ انْقِطاعِه تَتَّسِعُ للطهارةِ والصلاةِ، بَطَلَتْ طَهارَتُها (¬1) بعَوْدِه؛ لأنَّها صارَتْ بهذا الانْقِطاعِ في حُكْمِ الطّاهِراتِ، فصارَ عَوْدُ الدَّمِ كسَبْقِ الحَدَثِ. وإن لم يَتَّسِعْ، لم يُوثِّرْ هذا الانْقِطاعُ. وهذا قَوْلُ الشافعي (¬2). وقد ذَكَرْنا أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه الله، أنه لا عِبْرَةَ بهذا الانْقِطاعِ، بل متى كانت مُسْتَحاضَةً، أو مَن في مَعْناها، فتَحَرَّزَتْ وتَطَهَّرَتْ، فطَهارَتُها صَحِيحَةٌ، ما لم تَبْرأ أو يَخْرُجِ الوَقْتُ، أو تُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ، وهو أوْلَى؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ المُسْتَحاضَةَ بالوُضُوءِ لكلِّ صلاةٍ مِن غيرِ تَفْصِيلٍ، فالتَّفْصِيلُ يُخالِفُ مُقْتَضَى الخَبَرِ، ولأنَّ هذا لم يَرِدِ الشَّرعُ به، ولا سأل عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسْتَحاضَةَ التي اسْتَفْتَتْه، ولم يُنْقَلْ عنه، ولا عن أحَدٍ مِن أصحابِه هذا التَّفْصِيلُ، وذلك يَدُلُّ ظاهِرًا على عَدَمِ اعْتِبارِه، ولأنَّ اعْتِبارَ هذا يَشُقُّ، والعادَةُ في المُسْتَحاضَةِ ونَحْوها أنَّ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «بانقطاعه زمنا يتسع للصلاة والطهارة». (¬2) في م: «للشافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخارِجَ يَجْرِي ويَنْقَطِعُ، واعْتِبارُ مُدَّةِ الانْقِطاعِ بما يُمْكِنُ فيه فِعْلُ العِبادة يَشُقُّ، وإيجابُ الوُضُوءِ به حَرَجٌ مَنْفِيٌّ بقَوْلِه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). وكذلك فيما إذا كان لها عادَةٌ بانْقِطاعِهِ زَمَنًا لا يَتَّسِعُ للطهارةِ والصلاةِ، على ما مَضَى مِن الخِلافِ فيه. فصل: فإن كان للمُسْتَحاضَةِ عادَةٌ بانْقِطاعِ الدَّمِ زَمَنًا لا يَتَّسِعُ للطهارةِ والصلاةِ، فتَوَضَّأتْ، [ثم انْقَطَعَ] (¬2)، لم يُحْكَمْ ببُطْلانِ طَهارَتِها، ولا صَلاتِها، إن كانت فيها، لأنَّ هذا الانْقِطاعَ لا يَحْصُلُ به المَقْصُود. وإنِ اتَّصَلَ الانْقِطاعُ وبَرَأتْ، وكان قد جَرَى مِنها دَمٌ بعدَ الوُضُوءِ، بَطَلَتِ الطهارةُ والصلاةُ، لأنّا تَبَينا أنها صارَتْ في حُكْمِ الطّاهِراتِ بالانْقِطاعِ. وإنِ اتَّصَلَ زَمَنًا يَتَّسِعُ للطهارةِ والصلاةِ، فالحُكْمُ فيه كالتي لم تَجْرِ لها عادةٌ بانْقِطاعِه، على ما ذَكَرْنا. وإن كانت لها عادَةٌ بانْقِطاعِه زَمَنًا يَتَّسِعُ للصلاةِ والطهارةِ، لم تُصَلِّ حال جَرَيانِ الدمِ، وتَنْتَظِرُ انْقطاعَه، إلَّا أن تَخْشَى خُرُوجَ الوَقْتِ، فتَتَوَضَّأ وتُصَلِّيَ. فإن شَرَعَتْ في الصلاةِ في آخِرِ الوَقْتِ ¬

(¬1) سورة الحج، الآية الأخيرة. (¬2) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذه الطهارةِ، فأمْسَكَ الدَّمُ عَنها، بَطَلَتْ طَهارَتُها؛ لأنَّها أمْكَنَتْها الصلاةُ بطَهارَةٍ صَحِيحَةٍ، أشْبَهَتْ غيرَ المُسْتَحاضَةِ. وإن كان زَمَنُ إمْساكِه يَخْتَلِفُ، فتارَةً يَتَّسِعُ، وتارَةً لا يَتَّسِعُ، فهي كالتي قبلَها، إلَّا أن تَعْلَمَ أنَّ هذا الانْقِطاعَ لا يَتَّسِعُ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّها إذا شَرَعَتْ في الصلاةِ، ثم انْقَطَعَ الدَّمُ، لم تَبْطُلْ صَلاتُها، لأنَّها شَرَعَتْ فيها بطهارةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، وانْقِطاعُ الدَّمِ يَحْتَمِلُ أن يكُونَ مُتَّسِعًا، فتَبْطُلَ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ ضَيِّقًا، فلا تَبْطُلَ، فلا تَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ. وإنِ اتَّصَلَ الانْقِطاعُ، تَبَينا أنَّه كان مُبْطِلًا، فبَطَلَتِ الصلاةُ. فصل: ويُسْتَحَبُّ للمُسْتَحاضَةِ أن تَغْتَسِلَ لكلِّ صلاةٍ. وذَهَب بَعْضُ العلماءِ إلى وُجُوبِه، رُوِيَ ذلك عن علي، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسِ، وابنِ الزُّبَيرِ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ في المُتَحَيِّرةِ، لأنَّ أمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِين، فأمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانت تَغْتَسِلُ عندَ كلِّ صلاةٍ (¬2). ¬

(¬1) في المغني 1/ 426، 427. (¬2) تقدم في صفحة 414.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى أبو داودَ (¬1)، أنَّ امرأةً كانت تُهَرَاقُ الدِّماءَ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَها أن تَغْتَسِلَ عندَ كلِّ صلاةٍ. وقال بَعْضُهم: تَغْتَسِلُ كلَّ يَوْمٍ غُسْلًا. رُوِيَ ذلك عن عائشةَ، وابنِ عُمَرَ، وأنس. وقال بعضُهم: تَجْمَعُ بينَ كلِّ صَلاتَي جَمع بغُسْلٍ واحِدٍ، وتَغْتَسِلُ للصُّبْحِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لحَمْنَةَ (¬2): «فَإنْ قَويتِ أنْ تُؤخِّرِى الظّهْرَ، وتُعَجِّلِي العَصْرَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وتَجْمَعِينَ بَينَ الصَّلَاتَينِ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ حِينَ تَطْهُرِينَ، وتُصَلِّينَ الظّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤخِّرِينَ الْمَغْرِبَ، وتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَينَ الصَّلَاتَينِ، وَتَغْتَسلِينَ لِلصبحِ، فَافْعَلِي، وَصُومِي إنْ قَويتِ عَلَى ذَلِكَ». فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَهُوَ أعْجَبُ الْأَمْرَينِ إِلَيَّ». وأمَرَ به سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيلٍ (¬3). وبه قال عَطاءٌ، والنَّخَعي. وأكْثَرُ أهلِ العلم على أنَّها تَغْتَسِلُ عندَ انْقِضاءِ الحَيضِ، ثم عليها الوُضُوءُ لكلِّ صلاةٍ؛ لقَوْلِ النبيِّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 461. من حديث سهلة بنت سهيل. (¬2) تقدم حديثها في صفحة 495. (¬3) تقدم في صفحة 461.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيسَتْ بالْحَيضَةِ، فَإِذَا أقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإذَا أدبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» (¬1). وقد ذَكَرْنا حديثَ عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ (¬2)، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الغُسْلَ المَأمُورَ به أمْرُ اسْتِحْبابٍ جَمْعًا بينَ الأحادِيثِ، والغُسْلُ لكلِّ صلاةٍ أفْضَلُ، لأنَّه أحْوَطُ، وفيه خُرُوج مِن الخِلافِ، ويَليه في الفَضْلِ الجَمْعُ بينَ الظُّهْرِ والعصْرِ بغُسْلٍ (¬3)، والمَغْرِب والعِشاءِ بغُسْلٍ، والغُسْلُ للصبحِ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَينِ إلَيَّ». ويَليه الغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، ثم بعدَه الغُسْلُ عندَ انْقِطاعِ الدَّمِ، والوُضُوءُ لكلِّ صلاةٍ، وذلك مُجْزِئ إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 14 من حديث فاطمة بنت أبي حبيش. (¬2) تقدم في صفحة 401. (¬3) سقطت من: «م».

240 - مسألة: (وهل يباح وطء المستحاضة في الفرج من غير خوف العنت؟ على روايتين)

وَهَلْ يُبَاحُ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي الْفَرْجِ مِنْ غَيرِ خَوْفِ الْعَنَتِ؛ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 240 - مسألة: (وهل يُباحُ وَطْءُ المُسْتَحاضَةِ في الفَرْجِ مِن غيرِ خَوْفِ العَنَتِ؟ على رِوايَتَين) إحْداهُما، لا يُباحُ إلَّا أن يَخافَ على نَفسِه الوُقُوعَ في المَحْظُورِ. وهو مذهبُ ابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ؛ لأن عائشةَ يُرْوَى عنها أنها قالت: المُسْتَحاضَةُ لا يَغْشاها زَوْجُها (¬1). ولأنَّ بها أذى، فيَحْرُمُ وَطْؤها كالحُيَّضِ (¬2)؛ لأنَّ الأذَى عِلَّة لتَحْرِيمِ الوَطْءِ؛ لأنَّ الشّارِعَ ذَكَرَه عَقِيبَه بفاءِ التَّعْقِيبِ، فكان عِلَّةً له، كقَوْلِه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (¬3). والأذَى مَوْجُودٌ في المُستحاضَةِ (¬4)، فمُنِعَ وَطْؤها، كالحائِضِ. والثانيةُ، يُباحُ وَطْؤها ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب صلاة المستحاضة واعتكافها. . . . إلخ، من كتاب الحيض. السنن الكبرى 1/ 329. (¬2) في الأصل: «كالحياض». (¬3) سورة المائدة 38. (¬4) في م: «الاستحاضة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُطْلَقًا. وهو قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ، لِما روَى أبو داودَ (¬1)، عن عِكْرِمَةَ، عن حَمْنَةَ بنتِ جَحْش، أنَّها كانَتْ مُسْتَحاضَةً، وكان زَوْجُها يُجامِعُها. وقال (¬2): إنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ كانت تُسْتَحاضُ، وكان زَوْجُها يَغْشاها. وقد كانت حَمْنَةُ تحتَ طَلْحَةَ، وأمُّ حَبِيبَةَ تحتَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، وقد سَألَتا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أحْكامِ المُسْتَحاضَةِ، فلو كان حَرامًا لبَيَّنَه لهما. فأمّا إن خاف على نَفْسِه العَنَتِ، أُبِيحَ على الرِّوايَتَين، لأنَّ حُكْمَه أخَفُّ مِن حُكْمِ الحَيضِ، ومُدَّتَه تَطُولُ، فإن وَطِئَها لغيرِ ذلك، وقُلْنا بالتَّحْرِيمِ، لم يَكُنْ عليه كَفّارَةٌ؛ لأنَّ الشرعَ لم يَرِدْ بها، وقد فَرَّقْنا بينَه وبينَ الحَيْضِ. فإنِ انْقَطَع دَمُها أُبِيحَ وَطْؤها قبلَ الغُسْلِ، لأنَّه غيرُ واجِبٍ عليها، أشْبَهَ سَلَسَ البَوْلِ. فصل: قال أحمدُ: لا بَأْسَ أن تَشْرَبَ المرأةُ دَواءً يَقْطَعُ عنها الحَيضَ، إذا كان دَواءً مَعْرُوفًا. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب المستحاضة يعشاها زوجها، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 74. (¬2) انظر الموضع السابق من سنن أبي داود.

فَصل: وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ أربَعُونَ يَوْمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال: (وأكثرُ النِّفاسِ أرْبَعُون يَوْمًا) هذا قولُ أكثَرِ أهلِ العلمِ، رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعلى، وابنِ عباس، وعثمانَ بنِ أبي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العاص (¬1)، وعائِذِ بنِ عَمْرٍو (¬2)، وأنس، وأمِّ سَلَمَةَ، رَضِي اللهُ عنهم. وبه قال الثَّوْرِي، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأي. وقال الحسنُ البَصْرِي: النُّفَساءُ لا تكادُ تُجاوزُ الأرْبَعِين، فإن جاوَزَتِ الخَمْسِين، فهي مُسْتَحاضَةٌ. وقال مالكٌ والشافعيّ: أكْثَرُه سِتُّون. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ رِوايَةَ عن أحمدَ؛ لأنه رُوِيَ عن الأوزاعِي أنه قال: عِنْدَنا امرأةٌ تَرَى النِّفاسَ شَهْرَين. ورُوي نَحْوُ ذلك عن عَطاءٍ، والمَرْجِعُ في ذلك إلى الوُجُودِ. قال الشافعيّ: وغالِبُه أرْبَعُون يَوْمًا. ولَنا، ما روَى أبو داودَ والترمِذِي، عن مُسَّةَ الأَزْدِية، عن أمِّ سَلَمَةَ، رَضِي اللهُ عنها، قالت: كانَتْ النُّفَساءُ تَجْلِسُ على عَهْدِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم أرْبَعِين يومًا (¬3). قال الترمِذِيُّ. لا نَعْرِفُ هذا الحَدِيثَ إلَّا مِن حديثِ أبي سَهْلٍ، وهو ثِقَةٌ. قال الخَطّابِيُّ: أثْنَى محمدُ بنُ إسماعيلَ على هذا الحديثِ (¬4). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيناه مِن الصَّحابَةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِف في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا. قال ¬

(¬1) أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فأسلم، واستعمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الطائف، وعاش إلى خلافة عمان رضي الله عنه. أسد الغابة 3/ 579، 580. (¬2) أبو هبيرة عائذ بن عمرو بن هلال المزني، كان ممن بايع بيعة الرضوان، وتوفي في إمارة عبد الله بن زياد، أيام يزيد بن معاوية. أسد الغابة 3/ 147، 148. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في وقت النفساء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 74. والترمذي، في: باب ما جاء في كم تمكث النفساء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 228. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب النفساء كم تجلس، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 213. والدارمي، في: باب في المرأة الحائض تصلي في ثوبها إذا طهرت، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 229. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 300، 304، 309. (¬4) لم يرد هذا في معالم السنن المطبوع. وانظر: سنن الترمذي، الموضع السابق.

241 - مسألة؛ قال: (ولا حد لأقله)

وَلا حَدَّ لِأقَلِّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الترمِذِيُّ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدَهم على أنَّ النُّفَساءَ تَدَعُ الصلاةَ أرْبَعين يومًا، إلَّا أن تَرَى الطُّهْرَ قبلَ ذلك، فتَغْتَسِلَ وتُصَلِّيَ. قال أبو عُبَيدٍ: وعلى هذا جَماعَةُ النّاسِ. وما حَكَوْه عن الأوْزاعِيِّ يَحْتَمِلُ أنَّ الزِّيادَةَ كانَتْ حَيضًا أو اسْتِحاضَةً، كما لو زاد دَمُها على الستين، فعلى هذا إن زاد دَمُ النُّفَساءِ على أرْبَعِين، وصادَفَ عادَةَ الحَيض، فهو حَيض، وإلَّا فهو اسْتِحاضَةٌ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه لا يَخْلُو مِن أحَدِهما. واللهُ أعلمُ. 241 - مسألة؛ قال: (ولا حَدَّ لأقَلِّه) وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ. وقال أبو الخَطّابِ: أَقَلُّه قَطرةٌ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ، وأبو ثَوْرٍ: أقَلُّه ساعَةٌ. وقال أبو عُبَيدٍ: أقَلُّه خَمْسَةٌ وعِشْرُون يومًا. وقال يَعْقوبُ (¬1): أدْناه أحَدَ عَشَرَ يومًا. ولَنا، أنَّه لم يَرِدْ في الشرعَ تَحْدِيدُه، فيُرْجَعُ فيه إلى الوُجُودِ، وقد وُجِدَ قليلًا وكثيرًا، وقد رُوِيَ أنَّ امرأةً وَلَدَتْ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم تَرَ دَمًا، فسُمِّيَتْ ذاتَ الجُفُوفِ. ولأنَّ اليَسِيرَ دَمٌ وُجِد عَقِيبَ سَبَبِه، فكان نِفاسًا، كالكَثِيرِ. ¬

(¬1) لعله أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن كثير العبدي الدورقي، جالس الإِمام أحمد، وسأله عن أشياء رواها عنه، وتوفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 414، 415.

242 - مسألة: (أي وقت رأت الطهر، فهي طاهر، تغتسل وتصلي)

أَيَّ وَقْتٍ رَأَتِ الطُّهْرَ فَهِيَ طاهرٌ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 242 - مسألة: (أيَّ وَقْتٍ رَأتِ الطُّهْرَ، فهي طاهِرٌ، تَغْتَسِلُ وتُصلِّي) إذا كان الطّهْرُ أقَلَّ مِن ساعَةٍ، فيَنْبَغِي أن لا تَلْتَفِتَ إليه، لِما ذَكَرْنا مِن قولِ ابنِ عباسِ في الحَيضِ. وإن (¬1) كان أكثَرَ مِن ذلك، فظاهِرُ قَوْلِه ههُنا أنَّها تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي، لقولِ (¬2) ابنِ عباسِ. وهذا قولُ أكْثَرِ أصحابِنا (¬3)، لقولِ علي، رَضِي اللهُ عنه: لا يَحِلُّ للنُّفَساءِ إذا رَأتِ الطّهْرَ إلَّا أن تُصَلِّيَ (¬4). وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّها إذا رَأتِ النَّقاءَ أقَلَّ مِن يَوْمٍ (¬5) لا يَثْبُتُ لها أحْكامُ الطّاهِراتِ. رَواه يعقوبُ عنه. فعلى هذا لا يَثْبُتُ لها حُكْمُ الطّاهِراتِ إلَّا أن تَرَى الطُّهْرَ يومًا كامِلًا، لأنَّ الدَّمَ يَجْرِى تارَةً، ويَنْقَطِعُ اخْرَى، فلم يُمْكِنِ اعْتِبارُ مُجَرَّدِ الانْقِطاعِ، فلا بُدَّ مِن ضابِطٍ للانقِطاعِ المَعْدُودِ طُهْرًا، واليَوْمُ يَصْلُحُ أن يكُونَ ضابِطًا، فتَعَلَّق (¬6) الحُكْمُ به. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «فلو». (¬2) في الأصل، م: «لحديث». (¬3) بعده في الأصل: «وفيه رواية أخرى أنها لا تلتفت إليه إذا كان أقل من يوم وقد ذكرناه». (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب النفاس، من كتاب الحيض. السنن الكبرى 1/ 342. (¬5) في م: «يومين». (¬6) في الأصل: «فيتعلق».

243 - مسألة: (ويستحب أن لا يقربها في الفرج حتى تتم الأربعين)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فِي الْفَرْجِ حَتَّى تُتِمَّ الْأَرْبَعِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 243 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن لا يَقْرَبَها في الفَرْجِ حتى تُتمَّ الأرْبَعِين) متى طَهُرَتِ النُّفَساءُ في مُدَّةِ الأرْبَعِين أكثَرَ مِن يَومٍ، لَزِمَها الصومُ والصلاةُ بعدَ أن تَغْتَسِلَ. وإن كان أقَلَّ مِن يومٍ فقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه. ويُسْتَحَبُّ لزَوْجِها أن لا يَطَأها في الفَرْجِ وهي طاهِرَةٌ، حتى تُتِمَّ الأرْبَعِين. قال أحمدُ: ما يُعْجبُنِي أن يَأتِيَها زَوْجُها، على حَدِيثِ عثمانَ بنِ أبي العاصِ، أنها أتتْه قبلَ الأُرْبَعِين، فقال: لا تَقْرَبِيني. ولأنَّه لا يَأمَنُ عَوْدَ الدَّمِ في زَمَنِ الوَطْءِ، فيكُونُ واطِئًا في نِفاس، ولا يَحْرُمُ وَطْؤها، لأنَّها في حُكْمِ الطّاهِراتِ، ولذلك تَجِبُ عليها العِباداتُ. وذَكَر القاضي في تَحْرِيمِه رِوايَتَين في «المُجَرَّدِ». والصَّحِيحُ أنَّه لا يَحْرُمُ، لِما ذَكَرْنا.

244 - مسألة: (فإن انقطع دمها في مدة الأربعين، ثم عاد فيها فهو نفاس. وعنه، أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم المفروض)

وَإذَا انْقَطعَ دَمُهَا فِي مُدَّةِ الْأرْبَعِينَ، ثُمَّ عَادَ فِيهَا فَهُوَ نِفَاسٌ. وَعَنْهُ، أنَّهُ مَشكُوكٌ فِيهِ، تَصُومُ، وَتُصَلِّي، وَتَقْضِي الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 244 - مسألة: (فإنِ انْقَطع دَمُها في مُدَّةِ الأرْبَعِين، ثم عاد فيها فهو نِفاسٌ. وعنه، أنه مَشْكُوكٌ فيه، تَصُومُ وتُصَلِّي وتَقْضِي الصومَ المَفْرُوضَ) متى انْقَطع دَمُها في مُدةِ الأرْبَعِين انْقِطاعًا تَجِبُ عليها فيه العِباداتُ، ثم عادَ في مُدَّةِ الأرْبَعِين، ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، هو نِفاسٌ، تَدَعُ له الصومَ والصلاةَ. نَقَلَها عنه أحمدُ بنُ القاسِمِ. وهذا قولُ عَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ؛ لأنَّه دَمٌ في مُدَّةِ النِّفاس، أشْبَهَ ما لو اتَّصَلَ. والثانيةُ، هو مَشكُوكٌ فيه. وهي أشْهَرُ، نَقَلَها عنه الأثْرَمُ وغيرُه، فعلى هذا تَصُومُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتُصَلِّي، لأنَّ سَبَط العِبادَةِ مُتَيَقَّنٌ، وسُقُوطَها بهذا الدَّمِ مَشْكُوكٌ فيه. ويَجِبُ عليها قَضاءُ الصوم احْتِياطًا، لأنَّ الصومَ واجِبٌ عليها بيَقِينٍ، وسُقُوطَه بهذا الفِغلِ مَشْكُوكٌ فيه. ولا يَقْرَبُها زَوْجُها احْتِياطًا، بخِلافِ النّاسيَةِ إذا جَلَسَتْ سِتًّا أو سَبْعًا، فإنَّه لا يَجِبُ عليها قَضاءُ الصومِ الذي صَامَتْه مع (¬1) الشكِّ فيه. والفَرْقُ بَينَهما أنَّ الغالِبَ منِ عاداتِ النِّساءِ سِتٌّ أو سَبْعٌ، وما زاد عليه نادِرٌ، بخِلافِ النِّفاسِ، ولأن الحَيضَ يَتَكَرَّرُ، فيَشُقُّ ذلك فيه، وكذلك الدَّمُ الزّائِدُ عن العادَةِ في الحَيضِ. وقال مالكٌ: إن رَأتِ الدَّمَ بعدَ يَوْمَين أو ثلاثةٍ، فهو نِفاسٌ، وإن تَباعَدَ، فهو حَيضٌ. ولأصحابِ الشافعي فيما إذا رَأتِ الدَّمَ يومًا وليلةً بعدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، هل هو حَيضٌ أو نِفاسٌ؟ قَوْلان. وقال القاضي: إن رَأتِ الدَّمَ أقَلَّ مِن يَوْم ولَيلَةٍ بعدَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يومًا (1)، فهو دَمُ فَسادٍ، تَصُومُ وتُصَلِّي، ولا تَقْضِي. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ. وإن كان الدَّمُ ¬

(¬1) سقط من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثّانِي يومًا وليلةً، فهو مَشْكُوك فيه، ذَكَرْنا حُكْمَه. ولَنا، أنَّه دَمٌ صادَفَ زَمَنَ النِّفاسِ، فكان نِفاسًا، كما لو اسْتَمَرَّ أو رَأتْه قبلَ مُضِي يَوْمَين، ويَنْبَغِي أن لا يُفَرَّقَ بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه، لِما ذَكَرْنا، ومَن قال: هو حَيض. فهو نِزاع في عِبارَةٍ، لاسْتِواء حُكْمِ الحَيضِ والنِّفاسِ، فأمّا ما صامَتْه في زَمَنِ الطّهْرِ، فلا يَجِبُ قَضاؤه، لأنَّه صَوْمٌ صَحِيحٌ. فصل: إذا رَأتِ المرأةُ الدَّمَ بعدَ وَضْع شيءٍ يَتَبَيَّنُ فيه شيءٌ مِن خَلْقِ الإِنْسانِ، فهو نِفاسٌ (¬1). نَصَّ عليه. وإن رَأتْه بعدَ إلْقاءِ نُطْفَةٍ أو عَلَقَةٍ (¬2)، فليس بنِفاسٍ. وإن كان جِسْمًا لا يَتَبَيَّنُ فيه شيء مِن خَلْق الإِنْسانِ، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، هو نِفاسٌ، لأنَّه بَدْءُ خَلْقِ آدَمِي، أشْبَهَ ما لو تَبَيَّنَ. والثاني، ليس بنِفاسٍ؛ لأنَّه لم يَتَبَيَّنْ، أشْبَهَ النُّطْفَةَ والعَلَقَةَ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «فإن قلنا إنه حيض اعتبر فيه أن يبلغ أقل الحيض». (¬2) النطفة: ماء الرجل والمرأة. والعلقة: المني ينتقل بعد طوره فيصير دما غليظا متجمدا.

245 - مسألة: (وإن ولدت توأمين، فأول النفاس من الأول، وآخره منه. وعنه، أنه من الأخير. والأول أصح)

وَإنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَينِ فَأولُ النِّفَاسِ مِن الأوَّلِ، وَآخِرُهُ مِنْهُ. وَعَنْهُ، أنَّهُ مِنَ الْأَخِيرِ. وَالْأَوَّلُ أصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 245 - مسألة: (وإنْ وَلَدَتْ تَوْأمَين، فأوَّلُ النِّفاسِ مِن الأوَّلِ، وآخِرُه منه. وعنه، أنه مِن الأخِيرِ. والأوَّلُ أصَحُّ) ذَكَر أصحابُنا عن أحمدَ، رَحِمه اللهُ، في هذه المسألةِ رِوايَتَين، إحْداهما، أنَّ أوَّلَ النِّفاسِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وآخِرَه مِن الأوَّلِ. وهذا قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ. فعلى هذا متى انْقَضتْ مُدَّةُ النِّفاس مِن حينِ وَضْعِ الأوَّلِ، لم يَكُنْ ما بعدَه نِفاسًا، لأنَّ ما بعدَ الأوَّلِ دَمٌ بعدَ الولادَة، أشْبَهَ المُنْفَرِدَ، وإذا كان أوَّلُه منه، كان آخِرُه منه، كالمُنْفَرِدِ. والرِّوايَةَ الثانيةُ، اخْتَلَف فيها أصحابُنا، فقال الشَّرِيفُ أبو جعفرٍ، وأبو الخَطّابِ في «رُؤوس المَسائِلِ»: هي أنَّ أوَّلَه مِن الأوَّلِ وآخِرَه (¬1) مِن الثّانِي. وذَكَرَه القاضي، في كتابِ «الرِّوايَتَين»، لأنَّ الثّانِيَ وُلِد، فلا تَنْقَضِي مُدَّةُ النفاسِ قبلَ انْتِهائِها منه، ¬

(¬1) سقطت من: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُنْفَرِدِ، فعلى هذا تَزيدُ مُدَّة النفاس على الأرْبَعِين في حَقِّ مَنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَين. وقال القاضي أبو الحسينِ، وأبو الخَطّابِ في «الهِدايَة»: هي أنَّ أوَّلَ النِّفاسِ وآخِرَه مِن الثّانِي حَسْبُ. وهذا قولُ زُفَرَ؛ لأنَّ مُدَّةَ النِّفاسِ تَتَعَلَّقُ بالولادَةِ، فكان ابْتِداؤها وانْتِهاؤها مِن الثاني، كمُدَّةِ العِدَّةِ. فعلى هذا ما تَراه مِن الدَّمِ قبلَ ولادَةِ الثاني لا يكونُ نِفاسًا. ولأصحابِ الشافعي ثلاثةُ أوْجُهٍ، كالأقْوالِ الثلاثةِ. وقال القاضي في «المُجَرَّدِ»: النِّفاسُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهما، رِوايَةً واحِدَةً (¬1)، وإنَّما الروايَتان في وَقْتِ الابتداءِ، هل هو عَقِيبَ انْفِصالِ الأوَّلِ أو الثاني؟ قال شيخُنا (¬2): وهذا ظاهِرُه إنْكار لروايَة مَن روَى أنَّ آخِرَه مِن الأوَّلِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقطت من: «م». (¬2) انظر: المغني 1/ 432.

آخر الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله: كتاب الصلاة والْحَمْدُ لله حِقَّ حَمْده

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الصلاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتابُ الصَّلَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الصَّلاةِ الصَّلاةُ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عن الدُّعاء، قال اللهُ تعالى: {وَصَلِّ عَلَيهِمْ} (¬1). أي ادْعُ لهم , وقال - صلى الله عليه وسلم - «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإنْ كَان مُفْطِرًا فلْيَطعَمْ، وَإنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» (¬2). وفي الشَّرْعِ عِبارَةٌ عن الأفْعالِ المَعْلُومَةِ، فإذا وَرَد في الشَّرْعِ أمْرٌ بصَلاةٍ، أو حُكْمٌ مُعَلَّقٌ ¬

(¬1) سورة التوبة 103. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعي إلى الدعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1054. وأبو داود، في: باب في الصائم يدعى إلى وليمة، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 573. والترمذي، في: باب ما جاء في إجابة الصائم الدعوة، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذي 1/ 308. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 279، 489، 507.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، انْصَرَف إلى الصلاةِ الشَّرْعِيَّةِ في الظّاهِرِ. والأصْلُ في وُجُوبِها الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكتابُ فقَوْلُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬1). ومِن السُّنَّةِ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِىَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ , وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيهِ سَبِيلًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والأخْبارُ في ذلك كَثِيرَةٌ، وأجْمَع المُسْلِمُون على وُجُوبِ خَمْسِ صَلَواتٍ في اليَوْمِ واللَّيلَةِ. ¬

(¬1) سورة البينة 5. (¬2) أخرجه البخاري، في: أول كتاب الإيمان، وفي: باب دعاؤكم إيمانكم، من كتاب الإيمان، وفي باب سورة البقرة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} من كتاب التفسير. صحيح البخاري 1/ 8، 9، 6/ 32. ومسلم، في: باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 45. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء بني الإسلام على خمس، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 10/ 74. والنسائي، في: باب على كم بني الإِسلام، من كتاب الإيمان. المجتبى 8/ 95. وابن ماجه، في: باب في الإيمان، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 24. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 26، 120، 143.

246 - مسألة: (وهي واجبة على كل مسلم بالغ عاقل، إلا الحائض والنفساء)

وَهيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، بَالِغٍ عَاقِلٍ، إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 246 - مسألة: (وهي واجِبَةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ بالِغٍ عاقِلٍ، إلَّا الحائِضَ والنُّفَساءَ) لِما ذَكَرْنا، ولقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1). فأمّا الحائِضُ والنُّفَساءُ فلا تَجِبُ عليهما الصلاةُ؛ لِما ذَكَرْنا في بابِ الحَيضِ. ¬

(¬1) سورة النساء 103.

247 - مسألة؛ قال: (وتجب على النائم، ومن زال عقله بسكر أو إغماء أو شرب دواء)

وَتَجِبُ عَلَى النَّائِمِ، وَمَنْ زَال عَقْلُهُ بِسُكْرٍ، أَوْ إِغْمَاءٍ، أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 247 - مسألة؛ قال: (وتَجِبُ على النّائِمِ، ومَن زال عَقْلُه بسُكْرٍ أو إغماءٍ أو شُرْبِ دَواءٍ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ الصلاةِ على النّائِمِ , بمَعْنَى أنَّه يَجِبُ عليه قَضاؤُها إذا اسْتَيقَظ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها». رَواه مسلمٌ (¬1) بمَعْناه. ولو لم تَجِبْ عليه في حالِ نَوْمِه، لَما وَجَب عليه قَضاؤُها، كالمَجْنُونِ. وكذلك السَّكْرانُ ومَن شَرِب مُحَرَّمًا يُزِيلُ عَقْلَه؛ لأنَّه إذا وَجَب بالنَّوْمِ المُباحِ، فبالمُحَرَّمِ بطَرِيقِ الأوْلَى. وحُكْمُ المُغْمَى عليه حُكْمُ النّائِمِ في وُجُوبِ قَضاء العِباداتِ عليه؛ مِن الصلاةِ والصومِ، يُرْوَى ذلك عن عَمّارٍ، وعِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، وسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ (¬2). ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، وطاوُسٍ، والحسنِ، والزُّهْرِيِّ، قالوا: لا يَقْضِي الصلاةَ. وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يَلْزَمُه قَضاءُ الصلاةِ، إلَّا أن يُفِيقَ في ¬

(¬1) في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 477. (¬2) سَمُرة بن جندب بن هلال، الفزاري، أبو سليمان، كان غلامًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات سنة ثمان وقيل سنة تسع وخمسين. الإصابة 3/ 178 ,179.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُزْءٍ مِن وَقْتِها؛ لأنَّه يُرْوَى أنَّ عائشةَ سألت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الرجلِ يُغْمَى عليه، فيَتْرُكُ الصلاةَ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيسَ مِنْ ذَلِكَ قَضْاءٌ، إلَّا أنْ يُغْمَى عَلَيهِ، فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا، فَيُصَلِّيَهَا» (¬1). وقال أصحابُ الرَّأْي: إن أُغْمِيَ عليه أكْثَرَ مِن خَمْسِ صَلَواتٍ لم يَقْضِ شَيئًا، وإلَّا قَضَى الجَمِيعَ؛ لأنَّ ذلك يَدْخُلُ في التَّكْرارِ، فأسْقَطَ القَضاءَ، كالجُنُونِ. ولَنا، أنَّ الإِغْماءَ لا يُسْقِطُ فَرْضَ الصيِّامِ، ولا يُؤَثِّرُ في ثُبُوتِ الولايةِ، ولا تَطُولُ مُدَّتُه غالِبًا، أشْبَهَ النَّوْمَ، وحَدِيثُهم يَرْويه الحَكَمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ سعدٍ (¬2)، وقد نَهَى أحمدُ عن حَدِيثِه. وقال البُخارِيُّ: تَرَكُوه. وقِياسُه على المَجْنُونِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه تَطُولُ مُدَّتُه غالِبًا، وتَثْبُتُ عليه الولايَةُ، ويَسْقُطُ عنه الصومُ، ولا يَجُوزُ على الأنبياءِ، عليهم السَّلامُ، بخِلافِ الإِغْماءِ، ولأنَّ ما لا يُؤَثِّرُ في إسْقاطِ الخُمْسِ لا يُؤَثِّرُ في إسْقاطِ الزّائِد عليها، كالنَّوْمِ. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب الرجل يغمى عليه وقد جاء وقت الصلاة، هل يقضي أم لا، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 2/ 81. والبيهقي، في: باب المغمى عليه يفيق بعد ذهاب الوقتين فلا يكون عليه قضاؤهما، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 388. (¬2) الحكم بن عبد الله بن سعد الأيلي، أبو عبد الله. قال أحمد: أحاديثه كلها موضوعة. ميزان الاعتدال 1/ 572 - 574.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا شُرْبُ الدَّواءِ المُباحِ الذي يُزِيلُ العَقْلَ، فإن كان لا يَدُومُ كثيرًا، فهو كالإِغْماءِ، وإن تَطاوَلَ، فهو كالجُنُونِ (¬1). وأمّا ما فيه السُّمُومُ مِن الأدْويَةِ، فإن كان الغالِبُ مِن اسْتِعْمالِه الهَلاكَ أو الجُنُونَ، لم يَجُزْ، وإن كان الغالِبُ منه السَّلامَةَ ويُرْجَى نَفْعُه، أُبِيح شُرْبُه في الظّاهِرِ؛ لدَفْعِ ما هو أخْطَرُ منه، كغيرِه مِن الأدْويَةِ، ويَحْتَمِلُ أن يَحْرُمَ؛ لأنَّ فيه تَعَرُّضًا للهَلاكِ، أشْبَهَ ما لو لم يُرِدْ به التَّداويَ. والأوَّلُ أصَحُّ، فإن قُلنْا: يَحْرُمُ شُرْبُه. فهو كالمُحَرَّماتِ مِن الخَمْرِ ونَحْوه، وإن قُلْنا: يُباحُ. فهو كالمُباحاتِ فيما ذَكَرْنا. واللهُ أَعلمُ. ¬

(¬1) في م: «كالمجنون».

248 - مسألة: (ولا تجب على كافر ولا مجنون، ولا تصح منهما)

وَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 248 - مسألة: (ولا تَجِبُ على كافِرٍ ولا مَجْنُونٍ، ولا تَصِحُّ منهما) اخْتَلَف أهلُ العلمِ في خِطابِ الكُفّارِ بفُرُوعِ الإِسلامِ، وحُكِيَ عن أحمدَ، رَحِمه اللهُ، فيه رِوايَتان، مع إجْماعِهم على أنَّها لا تَصِحُّ منه في حالِ كُفْرِه، ولا يَجِبُ عليه قَضاؤُها بعدَ إسْلامِه إذا كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصْلِيًّا، وقد قال اللهُ تَعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). ولأنَّه قد أسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبعدَه، فلم [يُؤْمَرْ أَحَدٌ] (¬2) بقَضاءٍ، ولأنَّ في إيجابِ القَضاءِ عليه تَنْفِيرًا عن الإِسلامِ، فعُفِيَ عنه. وأمّا المُرْتَدُّ، فذَكَر أبو إسحاقَ ابنُ شاقْلا في وُجُوبِ القَضاءِ عليه رِوايَتَين؛ إحْداهما، لا يَلْزَمُه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، فعلى هذا لا يَلْزَمُه قَضاءُ ما تَرَك في حالِ كُفْرِه، ولا في حالِ إسْلامِه قبلَ رِدَّتِه. وإن كان قد حَجَّ لَزِمَه اسْتِئْنافُه؛ لأنَّ عَمَلَه قد حَبِط بكُفْرِه؛ بدَلِيلِ قَوْلِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3). فصار كالكافِرِ الأصْلِيِّ في جَمِيعِ أحْكامِه. والثانيةُ، يَلْزَمُه قَضاءُ ما تَرَك مِن ¬

(¬1) سورة الأنفال 38. (¬2) في م: «يأمر أحدًا». (¬3) سورة الزمر 65.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِباداتِ في حالِ كُفْرِه، وإسْلامِه قبلَ رِدَّتِه، ولا يَجِبُ عليه إعادَةُ الحَجِّ؛ لأنَّ العَمَلَ إنَّما يَحْبَطُ بالإِشْراكِ مع المَوْتِ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (¬1). وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ (¬2) المُرْتَدَّ أقَرَّ بوُجُوبِ العِباداتِ عليه، واعْتَقَد ذلك وقَدَر على التَّسَبُّبِ إلى أدائِها، فلَزِمَه، كالمُحْدِثِ. وذَكَر القاضي ¬

(¬1) سورة البقرة 217. (¬2) في م: «ولأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَةً ثالثةً، أنَّه لا قَضاءَ عليه لِما تَرَك في حالِ رِدَّتِه، وعليه قَضاءُ ما تَرَك في إسْلامِه قبلَ الرِّدَّةِ؛ لأنَّه كان واجِبًا عليه قبلَ الرِّدَّةِ فبَقِيَ الوُجُوبُ. قال: وهذا المَذْهَبُ. وهو (¬1) اخْتيارُ ابنِ حامدٍ، وعلى هذا لا يَلْزَمُه اسْتِئْنافُ الحَجِّ؛ لأنَّ ذِمَّتَه بَرِئَتْ منه بفِعْلِه قبلَ الرِّدَّةِ، فلم تَشْتَغِلْ به بعدَ ذلك، كالصلاةِ، ولأنَّ الرِّدَّةَ لو أبْطَلَتْ حَجَّه، أبْطَلَتْ سائِرَ عِباداتِه المَفْعُولَةِ قبلَ رِدَّتِه. وهذا أوْلَى إن شاء الله تعالى. فأمّا المَجْنُونُ فلا تَصِحُّ منه الصلاةُ؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ التَّكْلِيفِ، أشْبَهَ الطِّفْلَ، ولا تَجِبُ عليه في ¬

(¬1) سقطت الواو في: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالِ جُنُونِه، ولا يَلْزَمُه قَضاؤُها إلَّا أن يُفِيقَ في وَقْتِ الصلاةِ، لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 451 - 453. والترمذي، في: باب ما جاء في من لا يجب عليه الحد، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 195. كما أخرجه البخاري، في: باب الطلاق في الإغلاق. . . .، من كتاب الطلاق، وفي: باب لا يرجم المجنون والمجنونة، من كتاب الحدود. صحيح البخاري 7/ 59، 8/ 204. والنسائي، في: باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 127. وابن ماجه، في: باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 658. والدارمي، في: باب رفع القلم عن ثلاثة، من كتاب الحدود. سنن الدارمي 2/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 116، 118، 140، 155، 158، 6/ 100، 101.

249 - مسألة: (وإذا صلى الكافر حكم بإسلامه)

وَإذَا صَلَّى الْكَافِرُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 249 - مسألة: (وإذا صَلَّى الكافِرُ حُكِم بإسْلامِه) لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ صَلَّى صَلَاتنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيهِ مَا عَلَينَا» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلَاةُ» (¬2). فجَعَلَ الصلاةَ حَدًّا، فمَن أتَى بها ¬

(¬1) أخرجه بنحوه البخاري، في: باب فضل استقبال القبلة، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 108، 109. والنسائي، في: باب صفة المسلم، من كتاب الإيمان. المجتبى 8/ 93. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 10/ 90. والنسائي، في: باب الحكم في تارك الصلاة، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 187. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 341، والإمام أحمد، في: المسند 5/ 346، 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْبَغِي أن يَدْخُلَ في حَدِّ الإِسلامِ، ولأنَّها أحَدُ مَبانِي الإِسلامِ المُخْتَصَّةِ به (¬1)، فإذا فَعَلَها حُكِمَ بإسلامِه، كالشَّهادَتَين. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

250 - مسألة: (ولا تجب على صبي. وعنه، تجب على من بلغ عشرا)

وَلَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ. وَعَنْهُ، تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 250 - مسألة: (ولا تَجِبُ على صَبِيٍّ. وعنه، تَجِبُ على مَن بَلَغ عَشْرًا) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ الصلاةَ لا تجِبُ على الصَّبِيِّ حتى يَبلُغَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وفيه رِوايةً أُخْرى، أنَّها تَجِبُ على مَن بَلَغ عَشْرًا؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ لِسَبْع سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَينَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ». رَواه أبو داودَ (¬1). أمَرَ بعُقُوبَتِه، ولا تُشْرَعُ العُقُوبَةُ إلَّا لتَرْكِ الواجِبِ، ولأنَّ حَدَّ الواجِبِ ما عُوقِبَ على ¬

(¬1) في: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 115. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 198. والدارمي، في: باب متى يؤمر الصبي بالصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 332.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرْكِه. والأوَّلُ أصَحُّ؟ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ». ولأنَّه صَبِيٌّ فلم تَجِبْ عليه، كالصَّغِيرِ، ولأنَّ الصَّبِيَّ ضَعِيفُ العَقْلِ والبِنْيَةِ، ولا بُدُّ مِن ضابِطٍ يَضْبُطُ الحَدَّ الذي تَتَكامَلُ فيه بِنْيَتُه وعَقْلُه، فإنَّه يَتَزايَدُ تَزايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ، فلا يُعْلَمُ بنَفْسِه، والبُلُوغُ ضابِطٌ لذلك، ولهذا تَجِبُ به الحُدُودُ، ويَتَعَلَّقُ به أكْثَرُ أحْكامِ التَّكْلِيفِ، فكذلك الصلاةُ. فأمّا التَّأْدِيبُ ههُنا فهو كالتَّأْدِيبِ على تَعَلُّمِ الخَطِّ والقُرْآنِ والصِّناعَةِ؛ ليَعْتادَها ويَتَمَرَّنَ عليها. ولا فَرْقَ بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى فيما ذَكَرْنا، ولا خِلافَ في أنَّها تَصِحُّ مِن الصَّبِيِّ العاقِلِ، ويُشْتَرَطُ لصِحَّةِ صلاتِه ما يُشْتَرَطُ لصحةِ صلاةِ الكَبِيرِ، إلَّا في السُّتْرَةِ، فإنَّ قَوْلَه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بِخِمَارٍ» (¬1). يَدُلُّ على صِحَّتِها بدُونِ الخِمارِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في: باب المرأة تصلي بغير خمار، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 149. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 169. وابن ماجه، في: باب إذا حاضت الجارية لم تصلّ إلا بخمار، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 215. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 150، 218، 259.

251 - مسألة: (ويؤمر بها لسبع، ويضرب على تركها لعشر)

وَيُؤْمَرُ بِهَا لِسَبْعٍ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 251 - مسألة: (ويُؤْمَرُ بها لسَبْعٍ، ويُضْرَبُ على تَرْكِها لعَشْرٍ) وهذا قَوْلُ مَكْحُولٍ، والأوْزاعِيِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ للخَبَرِ. وقال ابنُ عُمَرَ، وابنُ سِيرِينَ: إذا عَرَف يَمِينَه مِن يَسارِه. لأنَّه يُرْوَى عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِل عن ذلك فقال: «إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ فَمُرُوهُ

252 - مسألة: (فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها، لزمه إعادتها)

فَإنْ بَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا، أوْ بَعْدَهَا فِي وَقْتِهَا لَزِمَهُ إِعَادَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِالصَّلَاةِ». رَواه أبو داودَ (¬1). وقال مالكٌ والنَّخَعِيُّ: يُؤْمَرُ إذا ثُغِرَ (¬2). وقال عُرْوَةُ: إذا عَقِل. قال القاضي: يَجِبُ على وَلِيِّ الصَّبِيِّ تَعْلِيمُه الطهارةَ والصلاةَ، وأمْرُه بها إذا بَلَغ سَبْعَ سِنِين، وتَأْدِيبُه عليها إذا بَلَغ عَشْرَ سِنِين؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر بذلك، وظاهِرُ الأمْرِ الوُجوبُ. وهذا الأمْرُ والتَّأْدِيبُ في حَقِّ الصَّبِيِّ لتمْرِينِه عليها، كي يَأْلَفَها ويَعْتادَها فلا يَتْرُكَها عندَ البُلُوغِ. 252 - مسألة: (فإن بَلَغَ في أثْنائِها أو بعدَها في وَقْتِها، لَزِمَه إعادَتُها) وهذا قَوْلُ أَبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَلْزَمُه في المَوْضِعَين؛ ¬

(¬1) في: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 115. (¬2) ثُغِرَ الغلام: سقطت أسنانه الرواضع.

253 - مسألة: (ولا يجوز لمن وجبت عليه الصلاة تأخيرها عن وقتها، إلا لمن ينوي الجمع، أو لمشتغل بشرطها)

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيهِ الصَّلَاةُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، إلا لِمَنْ يَنْوي الْجَمْعَ، أَوْ لمُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه أدَّى وَظِيفَةَ الوَقْتِ، فلم يَلْزَمْه إعادَتُها، كالبالِغِ. ولَنا، أنَّه صَلَّاها قبلَ وُجُوبِها وسَبَبِه، فلم تُجْزِئْه عَمّا وُجِد سَبَبُ وُجُوبِها، كما لو صَلَّى قبلَ الوَقْتِ، ولأنَّها نافِلَةٌ في حَقِّه، فلم تُجْزِئْه، كما لو نَواها نَفْلًا، ولأنَّه بَلَغ في وَقْتِ العِبادَةِ وبعدَ فِعْلِها، فلَزِمَه إعادَتُها، كالحَجِّ. 253 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لمَن وَجَبَتْ عليه الصلاةُ تَأْخِيرُها عن وَقْتِها، إلَّا لمَن يَنْوي الجَمْعَ، أو لمُشْتَغِلٍ بشَرْطِها) وذلك لِما رَوَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبوْ قَتادَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «أَمَا إنَّهُ لَيسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إنَّما التَّفْريطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِئَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى». أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). فسَمّاه تَفْرِيطًا. وعن سعدٍ أنَّه قال: سُئِل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬2). قال: «إضَاعَةُ الوَقْتِ» (¬3). تَوَعَّدَهم على ذلك، فدَلَّ على وُجُوبِه، هذا إذا كان ذاكِرًا لها، قادِرًا على فِعْلِها. فأمّا مَن نَوَى الجَمْعَ لعُذْرٍ، جاز له تَأْخِيرُ الأُولَى ¬

(¬1) في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 472 - 474. كما أخرجه أبو داود، في: باب من نام عن الصلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 104. والنسائي، في: باب من نام عن الصلاة، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 237. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 398. (¬2) سورة الماعون 5. (¬3) انظر: تفسير الطبري 30/ 311 - 313، حيث أورده بمعناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى وَقْتِ الثّانِيَةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه، وكذلك المُشْتَغِلُ بشَرْطِها لا يَأْثَمُ؛ لأنَّ الصلاةَ لا تَصِحُّ بدُونِه إذا قَدَر عليه، فمتى كان شَرْطًا مَقْدُورًا عليه، وَجَب عليه الاشْتِغالُ بتَحْصِيلِه، ولم يَأْثَمْ بالتَّأْخِيرِ في مُدَّةِ تَحْصِيلِه، كالمُشْتَغِلِ بالوُضُوءِ والغُسْلِ.

254 - مسألة: (ومن جحد وجوبها كفر)

وَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا كَفَرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 254 - مسألة: (ومن جَحَد وُجُوبَها كَفَر) متى جَحَد وُجوبَ الصلاةِ، نَظَرْنا، فإن كان جاهِلًا به، وهو مِمَّن يَجْهَلُ مِثْلُه ذلك، كحَدِيثِ الإِسلامِ، والنّاشِيءِ ببادِيَةٍ، عُرِّفَ وُجُوبَها، ولم يُحْكَمْ بكُفْرِه؛ لأنَّه مَعْذُورٌ. وإن كان مِمَّن لا يَجْهَلُ ذلك، كالنّاشِيءِ بينَ المُسْلِمِين في الأمْصارِ، لم يُقْبَلْ منه ادِّعاءُ الجَهْلِ، وحُكِم بكفْرِه؛ لأنَّ أدِلَّةَ الوُجوبِ ظاهِرَةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والمُسْلِمُون يَفْعَلُونها على الدَّوامِ، فلا يَخْفَى وُجُوبُها عليه، فلا يَجْحَدُها إلَّا تَكْذِيبًا للهِ ورسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وإجْماعِ الأُمَّةِ، فهذا يَصِير مُرَتَدًّا، [حُكْمُه حُكمُ سائِرِ المُرْتَدِّين عن الإِسْلامِ. قال شيخُنا (¬1): ولا أعْلَمُ في هذا خِلافًا. وإن تَرَكَها] (¬2) لمَرَضٍ، أو عَجْزٍ عن أرْكانِها، أُعْلِمَ أنَّ ذلك لا يُسْقِطُ الصلاةَ، وأنَّه يَجِبُ عليه أن يُصَلِّيَ على حَسَبِ طاقَتِه. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 351. (¬2) سقط من: الأصل.

255 - مسألة: (فإن تركها تهاونا لا جحودا، دعي إلى فعلها، فإن أبى حتى تضايق وقت التي بعدها، وجب قتله. وعنه: لا يجب حتى يترك ثلاثا، ويضيق وقت الرابعة)

فَإِنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا، لَا جُحُودًا، دُعِيَ إلى فِعْلِهَا، فَإنْ أَبَى حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَجَب قَتْلُهُ. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ حَتَّى يَتْرُكَ ثَلَاثًا، وَيَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 255 - مسألة: (فإن تَرَكَها تَهاوُنًا لا جُحُودًا، دُعِي إلى فِعْلِها، فإن أبَى حتى تَضايَقَ وَقْتُ التي بَعْدَها، وَجَب قَتْلُه. وعنه: لا يَجِبُ حتى يَتْرُكَ ثَلاثًا، ويَضِيقَ وَقْتُ الرّابِعَةِ) وجُمْلَتُه، أنَّ مَن تَرَك الصلاةَ تَهاوُنًا وكَسَلًا، مع اعْتِقادِ وُجُوبِها، دُعِي إلى فِعْلِها، وهُدِّد، فقِيلَ له: صَلِّ وإلَّا قَتَلْناك. فإن لم يُصَلِّ حتى تَضايَقَ وَقْتُ التي بعدَها، وَجَب قَتْلُه، في إحْدَى الرّوايَتَين، واختيارِ ابن عَقِيلٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه إذا تَرَك الصلاةَ (¬1) الأُولَى لم نَعْلَمْ (¬2) أنَّه عَزَم على تَرْكِها إلَّا بخُرُوجِ الوَقْتِ، فإذا خَرَج، عَلِمْنا أنَّه تَرَكَها، ولا يَجِبُ قَتْلُه بها؛ لأنَّها فائِتَةٌ، فإذا ضاق وَقْتُ الثّانِيَةِ، وَجَب قَتْلُه. وقال أبو إسحاقَ ابنُ شاقْلا: إن كان التَّرْكُ للصلاةِ إلى صلاةٍ لا تُجْمَعُ معها، كالفَجْرِ إلى الظُّهْرِ، والعَصْرِ إلى المَغْرِبِ، وَجَب قَتْلُه، وإن كانت تُجْمَعُ معها، كالظُّهْرِ إلى العَصْرِ، والمَغْرِبِ إلى العِشاءِ، فلا يُقْتَلُ، لأن وَقْتَهما وَقْتٌ واحِدٌ في حالِ العُذْرِ، ولأنَّ الوَقْتَينِ كالوقتِ الواحدِ عندَ بعضِ العُلَماءِ. قال شيخُنا (¬3): وهذا قَوْلٌ حَسَنٌ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يُقْتَلُ حتى يَتْرُكَ ثلاثَ صَلَواتٍ، ويَضِيقَ وَقْتُ الرّابِعَةِ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: لِئَلا تكُونَ شُبْهَةٌ، لأنَّه قد يَتْرُكُ الصلاةَ والصَّلاتَين والثَّلاثَ لشُبْهَةٍ، فإذا رَأْيناه تَرَك الرّابِعَةَ، عَلِمْنا أنَّه عَزَم على تَرْكِها، وانْتَفَتِ الشُّبْهَةُ، فيَجِبُ قَتْلُه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. وقد نَصَّ أحمدُ في من تَرَك صلاةَ الفَجْرِ عامِدًا، حتى وَجَبَتْ عليه أُخْرى، يُسْتَتابُ، فإن تاب وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُه؛ لأنَّه قد وُجِد التَّرْكُ، وليس تَقْدِيرُها بثَلاثٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يعلم». (¬3) في: المغني 3/ 354.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى مِن تَقْدِيرِها بأرْبَعٍ وخَمْسٍ. و [القَوْلُ بقَتْلِ تارِكِ الصلاةِ] (¬1) هو مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعيِّ. وقال الزُّهْرِيُّ: يُسْجَنُ ويُضْرَبُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْتَلُ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإحْدَى ثَلَاثٍ؛ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيرِ حَقٍّ». ولم يُوجَدْ مِن هذا أحَدُ الثَّلاثةِ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولُوا لَا إلَهَ إلَّا الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ إلَّا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِحَقِّهَا». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولأنَّه أحَدُ الفُرُوعِ، فلا يُقْتَلُ بتَرْكِه (¬2)، كالحَجِّ، ولأنَّ الأصْلَ تَحْرِيمُ الدَّمِ، فلا تَثْبُتُ الإِباحَةُ إلَّا بنَصٍّ أو ¬

(¬1) الأول أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. . .}، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 6. ومسلم، في: باب ما يباح به دم المسلم، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1302، 1303. كما أخرجه أبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدرد. سنن أبي داود 2/ 440. والترمذي، في: باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 2. والنسائي، في: باب ذكر ما يحل به دم المسلم، وباب الصلب، وباب الحكم في المرتد، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 84، 93، 94، 95. والدارمي، في: باب لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 218. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 61، 63، 65، 70، 163، 382، 428، 444، 465، 6/ 181، 214. والثاني أخرجه البخاري، في: باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة. . . .، من كتاب الإيمان، وفي: باب فضل استقبال القبلة. . . .، من كتاب الصلاة، وفي: باب وجوب الزكاة، من كتاب الزكاة، وفي: باب قتل من أبى قبول الفرائض، من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين. . . .، وفي باب الاقتداء بسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وباب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ}. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 1/ 13، 109، 2/ 131، 9/ 19، 115، 138. ومسلم، في: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا. . . .، من كتاب الإيمان، وفي: باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 1/ 51، 52، 53، 4/ 1871، 1872. كما أخرجه أبو داود، في: باب الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 356. والترمذي، في: باب ما جاء أمرت أن أقاتل. . . .، وباب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من أبواب الإيمان، وفي: تفسير سورة الغاشية، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 10/ 68، 69، 71، 72، 12/ 243. والنسائي، في: باب مانع الزكاة، من كتاب الزكاة، وفي: كتاب وجوب الجهاد، من كتاب الجهاد، وفي: باب تحريم الدم، من كتاب التحريم، وفي: باب على ما يقاتل الناس، من كتاب الإيمان. المجتبى 5/ 10، 11، 6/ 5، 7، 71، 73، 8/ 96. وابن ماجه، في: باب في الإيمان، من المقدمة، وفي: باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 1/ 27، 2/ 1295. والدارمي، في: باب في القتال على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 218. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 11، 19، 35، 36، 2/ 314، 345، 337، 423، 439، 475، 482، 502، 527، 528، 3/ 199، 224، 224، 295، 300، 332، 339، 394، 4/ 8، 9، 5، 246. (¬2) في الأصل: «تاركه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْنًى (¬1)، والأصْلُ عَدَمُه. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. إلى قولِه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬2). فأباح قَتْلَهُم حتى يَتُوبُوا مِن الكُفْرِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فمتى تَرَك الصلاةَ، لم يَأْتِ بشَرْطِ التَّخْلِيَةِ، فَتَبْقَى إباحَةُ القَتْلِ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬3). وهذا يَدُلُّ على إباحةِ قَتْلِه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بَينَ الْعَبْدِ وَبَينَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ». رَواه مسلمٌ (¬4). وقال: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» (¬5). ولأنَّها رُكْنٌ مِن أرْكانِ الإسلامِ لا تَدْخُلُه النِّيابَةُ، فوَجَب أن يُقْتَلَ تارِكُه، كالشَّهادَةِ، وحَدِيثُهم حُجَّةٌ لنا؛ لأنَّ الخَبَرَ الذي رَوَيناه يَدُلُّ على أنَّ تَرْكَها كُفْرٌ، والحديثُ الآخَرُ اسْتَثْنَى منه: «إلَّا بِحَقِّهَا»، والصلاةُ مِن حَقِّها، ثم إنَّ أحادِيثَنا خاصَّةٌ، تَخُصُّ عُمُومَ ما ذَكَرُوه، وقِياسُهم على الحَجِّ لا يَصِحُّ؛ لاخْتِلافِ النّاسِ في جَوازِ تَأْخِيرِه. ¬

(¬1) في م: «معناه». (¬2) سورة التوبة 5. (¬3) في: المسند 6/ 421. (¬4) في: باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 88. كما أخرجه أبو دارد، في: باب في رد الإرجاء، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 522. والترمذي، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 10/ 89. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من ترك الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 342. والدارمي، في: باب من ترك الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 280. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 370، 389. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب الحكم في المخنثين، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 580.

256 - مسألة: (ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل بالسيف)

وَلا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا، فَإنْ تَابَ وَإلَّا قُتِلَ بِالسَّيفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 256 - مسألة: (ولا يُقْتَلُ حتى يُسْتَتابَ ثلاثًا، فإن تاب وإلَّا قُتِل بالسَّيفِ) لا يُقْتَلُ تارِكُ الصلاةِ حتى يُسْتَتابَ ثلاثةَ أيّامٍ، ويُضَيَّقَ عليه، ويُدْعَى في وَقْتِ كلِّ صلاةٍ إلى فِعْلِها؛ لأنَّه قَتْلٌ لتَرْكِ واجبٍ، فتَقَدَّمَتْه الاسْتِتابَةُ، كقَتْل المُرْتَدِّ، ويُقْتَلُ بالسَّيفِ؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» (¬1). الحديث. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1548. وأبو داود، في: باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 90. والترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن المثلة، من أبواب الديات. عارضة الأحوذي 6/ 179. والنسائي، في: باب الأمر بإحداد الشفرة، وباب ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها، وباب حسن الذبح، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 200 - 202. وابن ماجه، في: باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1058. والدارمي، في: باب في حسن الذبيحة، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 82. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 123 - 125.

257 - مسألة: (وهل يقتل حدا أو لكفره؟ على روايتين)

وَهَلْ يُقْتَلُ حَدًا أَوْ لِكُفْرِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 257 - مسألة: (وهل يُقْتَلُ حَدًا أو لكفْرِه؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، يُقْتَلُ لكُفْرِه، كالمُرْتَدِّ، فلا يُغَسَّلُ، ولا يُكَفَّنُ، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يُدْفَنُ بينَ المُسْلِمِين. اخْتارَها أبو إسحاقَ بنُ شاقْلا، وابنُ عَقِيلٍ، وابنُ حامِدٍ. وبه قال الحسنُ، والنِّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ المُبارَكِ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ الحسنِ؛ لقَوْلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَينَ الْعَبْدِ وَبَينَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصِّلاةِ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن بُرَيدَةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَهْدُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفَرَ». رَواه الإمامُ أحمدُ، والنَّسائِيُّ، والترمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديث حسن صحيحٌ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِن دِينكُمُ الأمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاة» (¬2). قال أحمدُ: كلُّ شيء ذَهَب آخِرُه، لم يَبقَ منه شيءٌ. وقال عُمَرُ، رَضي الله عنه، لا حَظَّ في الإسلامِ لمَن ترَكَ الصلاة. وقال علي، رَضِي اللهُ عنه: مَن لم يُصَلِّ فهو كافِرٌ. قال عبدُ الله بنُ شَقِيقٍ (¬3): لم يَكُنْ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَرَوْن شَيئًا مِن الأعْمالِ، تركُه كُفْر، غيرَ الصلاةِ (¬4). ولأنها عِبادَةٌ يَدْخُلُ بفِعْلِها في الإسلامِ، فيَخْرُجُ بتَرْكِها مِنه، كالشَّهادَةِ. والروايَةُ الثانيةُ، يُقْتَلُ حَدًّا، مع الحُكْمِ بإسلامِه، كالزّانِي المُحْصَن. وهذا اخْتِيارُ أبي عبدِ الله بن بَطَّةَ، وأنكَرَ قوْلَ من قال: إنَّه يَكْفرُ. وذَكَر أن المَذْهَبَ على هذا، لم يَجِدْ في المَذْهَبِ خِلافًا فيه. وهو قوْلُ أكْثَرِ الفُقَهاء؛ منهم أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قال: لَا إلَه إلَّا الله. يَبْتَغِي بذَلِكَ وَجْهَ الله». وعن عُبادَةَ بنِ الصامِتِ، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ شَهِدَ أنْ لَا إلَهَ إلا الله، وَأنَّ مُحَمدًا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من أبواب الإيمان. عارضه الأحوذي 10/ 90. والنسائي، في: باب الحكم في تارك الصلاة، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 187. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 346.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. سنن ابن ماجه 1/ 342. (¬2) عزاه الهيثمي إلى الطبراني، بنحوه عن ابن مسعود. مجمع الزوائد 7/ 329. وروى الطبراني أوله عن شداد بن النوس. المعجم الكبير 7/ 354. (¬3) عبد الله بن شقيق العقيلي البصري، سمع من عمر الكبار، وتوفي بعد المائة. العبر 1/ 122. (¬4) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ترك الصلاة، من أبواب الإيمان. عارضه الأحوذي 10/ 90.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأنَّ عِيسى عَبْدُ الله وكلِمتُهُ ألْقاها إلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأنَّ الجَنَّة حَقٌّ، وأن النَّارَ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ على مَا كَانَ مِنْ عَمَل». وعن أنسٍ، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَال: لَا إلهَ إلا الله، وَكَانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخَيرِ ما يَزن برَّةً». مُتَّفَقٌ عَلَيهِنَّ (¬1). وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَه، وَإنِّي اخْتَبَأتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ، إنْ شاءَ الله، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمتِي لَا يُشْرِكُ ¬

(¬1) الأول: أخرجه البخاري، في: باب المساجد في البيوت، من كتاب الصلاة، وفي: باب صلاة النوافل جماعة، من كتاب التهجد، وفي: باب الخزيرة، من الأطعمة، وفي: باب العمل الذي يبتغى به وجه الله، من كتاب الرقاق. صحيح البخاري 1/ 115، 2/ 74، 75، 7/ 94، 8/ 111، 112. ومسلم، في: باب الرخصة في التخلف عن الجماعة يعذر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 455. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 44. والثاني: أخرجه البخاري، في: باب قوله تعالى: {لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ. . . .}، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 201/ 4. ومسلم، في: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 57.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 313، 314. والثالث: أخرجه البخاري، في: باب زيادة الإيمان ونقصانه، من كتاب الإيمان، وفي: باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 1/ 17، 9/ 149، 150. ومسلم، في: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 182. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء أن للنار نفسين. . . . الخ، من أبواب جنهم. عارضة الآحوذى 10/ 60، 61. وابن ماجه، في: باب ذكر الشفاعة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1442، 1443. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 116، 173، 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِاللهِ شَيئًا». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عُبادَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله عَلَى الْعَبْدِ في اليَوْمِ وَاللَّيلَةِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيهِنَّ كانَ لَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ؛ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإنْ شَاءَ أدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» (¬2). ولو كان كافِرًا، لم يُدْخِلْه في المَشِيئَةِ. ورُوِيَ عن حُذَيفَةَ، أنَّه قال: يَأْتِي على النّاسِ زَمانٌ لا يَبْقَى معهم مِن الإسلامِ إلَّا قولُ: لا إلَهَ إلَّا الله. فقِيلَ له: وما يَنْفَعُهُم؟ ¬

(¬1) في: باب اختباء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة الشفاعة لأمته، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 188. كما أخرجه الترمذي، في: باب فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذي 13/ 91. وابن ماجه، في: باب ذكر الشفاعة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1440. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 426. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المحافظة على وقت الصلوات، من كتاب الصلاة، وفي: باب فيمن لم يوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 100، 328. والنسائي، في: باب المحافظة على الصلوات الخمس، من كتاب الصلاة. المجتبى من السنن 1/ 186. وابن ماجه، في: باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 448، 449. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 370. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 123. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 316، 317، 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: تُنْجِيهِمْ مِن النّارِ، لا أبالَكَ (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال: لَا إلَهَ إلا الله» (¬2). رَواه الخَلَالُ. ولأنَّ ذلك إجماعُ المُسْلِمِين، فإَّننا لا نَعْلَمُ في عَصْرٍ مِن الأعْصارِ أحَدًا مِن تارِكِي الصلاةِ تُرِك تَغْسِيلُه، والصلاةُ عليه، ولا مُنِع ميراثُ مَوْرُوثِه منه (¬3)، ولا فُرِّق بينَ الزَّوْجَين لتَرْكِ الصلاةِ مِن أحَدِهِما، معَ كثْرةِ تارِكِي الصلاةِ، ولو كَفَر لثَبَتَتْ هذه الأحْكامُ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ المُسْلِمِين أنِّ تارِكَ الصلاةِ يجِبُ عليه قَضاؤُها، مع اخْتِلافِهم في المُرْتَدِّ (¬4). وأمّا الأحادِيثُ المُتَقَدِّمَةُ فهي على وَجْهِ التَّغْلِيظِ، والتَّشْبِيهِ بالكُفَارِ، لا على الحَقِيقَةِ، كقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (¬5). وقَوْلِه: ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: كتاب ذهاب القرآن والعلم، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1344، 1345. والحاكم، في: باب يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب، من كتاب الفتن. المستدرك 4/ 473، 474. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: باب صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 2/ 56. (¬3) سقطت من: «م». (¬4) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، أن من لا يصلي يؤمر بالصلاة، فإن امتنع عوقب حتى يصلي، بإجماع العلماء، ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهل يقتل كافرا أو مرتدا أو فاسقا؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره، وهذا مع الإقرار بالوجوب. مجموعة الفتاوى 28/ 359، 360. وانظر الفهارس 37/ 48. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، من كتاب الإيمان، وفي: باب ما ينهى عن السباب واللعن، من كتاب الأدب، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، من كتاب الفتن. صحيح البخاري 1/ 19، 8/ 18، 9/ 63. ومسلم، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 81. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ قَال لِأخِيهِ: يا كَافِرُ. فقَدْ بَاءَ بِهَا أحَدُهُمَا» (¬1). وقولِه: «مَنْ حَلَفَ بِغيرِ اللهِ فَقَدْ أشْرَكَ» (¬2). وقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «كُفْرٌ بِاللهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ، وإنْ دَقَّ» (¬3). وأشْبَاهِ هذا مِمْا أرِيدَ به التَّشْدِيدُ في الوَعِيدِ. قال شيخُنا، رَحِمَه الله: وهذا أصْوَبُ القَوْلَين، واللهُ أعلمُ (¬4). ¬

= والترمذي، في: باب ما جاء في الشتم، من أبواب البر والصلة، وفي: باب ما جاء في سباب المؤمن فسوق، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 8/ 152، 10/ 102. والنسائي، في: باب قتال المسلم، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 111. وابن ماجه، في: باب في الإيمان، من المقدمة، وفي: باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 1/ 27، 2/ 1299. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 176، 178، 385، 411، 417، 433، 439، 446، 454، 460. (¬1) أخرجه البخاري، في: باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، من كتاب الإيمان. صحيح البخاري 8/ 32. ومسلم، في: باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 79. والإمام مالك، في: باب ما يكره من الكلام، من كتاب الكلام. الموطأ 2/ 984. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 18، 44، 60، 105، 113. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا قتيبة، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 18. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 125. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب من أنكر ولده، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 916. والدارمي، في: باب من ادعى إلى غير أبيه، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 343. (¬4) في المغني 3/ 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن تَرَك شَرْطًا مُجْمَعًا عليه، أو رُكْنًا؛ كالطهارَةِ، والرُّكُوعِ، والسُّجُودِ، فهو كتارِكِها، حُكْمُه حُكْمُه؛ لأنَّ الصلاةَ مع ذلك، وُجُودُها كعَدَمِها. فأمّا الأرْكانُ المُخْتَلَفُ فيها؛ كإزالةِ النَّجاسَةِ وقِراءَةِ الفاتِحَةِ، والاعْتِدالِ عن الرُّكُوعِ، فإن تَرَكَه مُعْتَقِدًا جَوازَه، فلا شيءَ عليه، وإلَّا لَزِمَتْه الإعادَةُ، ولا يُقْتَلُ بحالٍ؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ فيه، فلم يَتَعَلَّقْ به حَدٌّ، كالمُتَزَوِّجِ بغيرِ ولِيٍّ، وسارِقِ مالٍ (¬1) فيه شُبْهَةٌ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا بَأْسَ بوُجُوبِ قَتْلِه. [كما نَحُدُّه بفعِلِ] (¬2) ما يُوجِبُ الحَدَّ على مَذْهَبِه. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ماله». (¬2) في الأصل: «نجده يفعل».

باب الأذان والإقامة

بابُ الأذانِ والإقامَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الأذانِ والإقامَةِ أصْلُ الأذانِ في اللغَةِ الإعْلامُ. قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1). أي: إعْلام. وقال الشّاعِرُ (¬2): * آذَنَتْنا ببَينها أسْماءُ * أي: أعْلَمتْنا. والأذانُ للصلاةِ إعْلام بوَقْتِها، والأذانُ الشَّرعِيُّ هو اللفْظُ المَعْلُومُ المَشْروعُ في أوْقاتِ الصلَوات. ¬

(¬1) سورة التوبة 3. (¬2) هو الحارث بن حِلّزة اليشكري، أحد شعراء المعلقات، والشطر صدر البيت الأول في معلقته. انظر: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات 433.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفيه فَضْل عَظِيم، لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يَعْلَمُ الناسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأولِ، ثُم لَمْ يَجِدُوا إلَّا أنْ يَستهمُوا عَلَيهِ، لَاسْتَهَمُوا عَلَيهِ». مُتَّفَق عليه (¬1). وعن مُعاويَةَ بنِ أبي سُفْيانَ، قال: سَمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «الْمُؤذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أذنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا، كتبَ الله لَهُ بَرَاءَة مِنَ النَّارِ». رَواه ابنُ ماجَه (¬3). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُل أمَّ قوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُل يُؤذِّنُ في كُل يَوْم خَمْسَ صَلَواتٍ، وَعَبْدٌ أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَق مَوَالِيهِ». رَواه ¬

(¬1) أخرجه البخاري؛ في: باب الاستهام في الأذان، وباب فضل التهجير الظهر، من كتاب الأذان، وفي: باب القرعة في المشكلات، من كتاب الشهادات. صحيح البخاري 1/ 159، 160، 167، 3/ 238. ومسلم، في: باب تسوية الصفوف وإقامتها. . . . الخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 325. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في فضل الصف الأول، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذي 2/ 24. والنسائي، في: باب الرخصة في أن يقال للعشاء العتمة، من كتاب المواقيت، وفي: باب الاستهام على التأذين، من كتاب الأذان. المجتبى 1/ 216، 2/ 19، 20. والإمام مالك، في: باب ما جاء في النداء للصلاة، من كتاب النداء، وباب ما جاء في العتمة والصبح، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 68، 131. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 278، 303، 374، 533. (¬2) في: باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 290. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب فضل الأذان وثواب المؤذنين، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجة 1/ 240. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 95، 98. (¬3) في: باب في فضل الأذان وثواب المؤذنين، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 240. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في فضل الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، والترمِذِيُّ (¬1). وعن البراءِ بنِ عازِبٍ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ اللهَ وَمَلَائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّف الْمُقَدَّمِ، وَالْمُؤذِّنُ يُغْفرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِس، وَلَهُ مِثْلُ أجْرِ مَنْ صَلى مَعَهُ». رَواه الإمامُ أحمدُ والنَّسائِيُّ (¬2). فصل: قال القاضي: الأذانُ أفْضَلُ مِن الإمامَةِ. وهذا إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، وهو اخْتِيارُ ابنِ أبي موسى، وجَماعَةٍ مِن أصحابِنا. [وهذا مَذْهَبُ] (¬3) الشافعيِّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأخْبارِ في فَضِيلَتِه، ولِما روَى أبو هريرة، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإمَامُ ضَامنٌ، وَالمُوذِّن مُوتمنٌ اللَّهُمَّ أرشِدِ الأئمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُوذنِينَ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمِذِيُّ (¬4). والأمانَةُ أعْلَى مِن الضَّمانِ، والمَغْفِرَةُ أعلى مِن الإرْشادِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، الإمامَةُ (¬5) أفْضَل؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَلّاها بنَفْسِه، وخُلَفاؤه مِن بعدِه، ولا يَخْتارُون إلَّا الأفضلَ، ولأنَّ الإمامَةَ يُخْتارُ لها مَن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في فضل المملوك الصالح، من أبواب البر، وفي: باب حدثنا أبو كريب، من أبواب صفة الجنة. عارضة الأحوذي 8/ 154، 10/ 38. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 26. (¬2) أخرجه النسائي، في: رفع الصوت بالأذان، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 284. (¬3) في الأصل: «وهو أحد قولي». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 123. والترمذي، في باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 8. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 232، 284، 378، 382، 419، 424، 461، 472، 514، ورواه الإمام أحمد أيضًا عن عائشة، رضي الله عنها، في: المسند 6/ 65. (¬5) في الأصل: «الإمام».

258 - مسألة: (وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها، للرجال دون النساء)

وَهُمَا مَشْرُوعَانِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ دُونَ غَيرِهَا، لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو أكْمَلُ حالًا وأفْضَلُ، واعْتِبارُ فضِيلَتِه دَلِيلٌ على فضيلةِ مَنْزِلَتِه. ومَن نَصَر الروايَةَ الأُولَى قال: إنَّما لم يَتَوَلَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وخُلَفاؤُه؛ لضِيقِ وَقْتِهم عنه، ولهذا قال عُمَرُ: لولا الخِلِّيفَي (¬1) لأذَّنْتُ (¬2). والله أعلمُ. 258 - مسألة: (وهما مَشْرُوعان للصَّلَواتِ الخَمْسِ دُونَ غيرِها، للرِّجالِ دونَ النِّساءِ) أجْمَعَتِ الأمةُ على أنَّ الأذانَ والإقامَةَ مَشْرُوعان للصَّلَواتِ الخَمسِ، ولا يُشرعان لغيرِ الصَّلَواتِ الخَمسِ، لأنَّ المَقْصُودَ منه الإعْلامُ بوَقْتِ المفْرُوضَةِ على الأعْيانِ، وهذا لا يُوجَدُ في غيرِها. والأصْلُ في الأذانِ ما رُوِيَ عن أنس بنِ مالكٍ، رَضِي اللهُ عنه، قال: لَمّا كثُر النّاسُ ذَكَرُوا أن يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلاةِ بشيءٍ يَعْرِفُونَه، فذَكَرُوا أن يُورُوا نارًا، أو يَضْرِبُوا ناقُوسًا، فأُمِرَ بِلالٌ اُن يَشْفَعَ الأذانَ ويُوتر الإقامَةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ بن عبدِ رَبِّه، رَضِي اللهُ ¬

(¬1) الخِلِّيفَي: مبالغة في الخلافة. (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق، في: باب فضل الأذان، من كتاب الصلاة. المصنف 1/ 486. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الأذان مثنى مثنى، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 158. ومسلم، في: باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، قال: لَما أمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالنّاقُوس يُعْمَلُ ليُضْرَبَ به [للنّاسِ لجَمْعِ الصلاة] (¬1)، طاف بِي وأنا نائمٌ رجلٌ يَحْمِلُ ناقوسًا في يَدِه، فقلتُ: يا عبدَ اللهِ، أتَبِيعُ النّاقُوسَ؟ قال: وما تَصْنَعُ به؟ قلتُ: نَدْعُو به إلى الصلاةِ. قال: أفلا أدُلُّكَ على ما هو خَير مِن ذلك؟ فقلت: بلى. قال: فقال: تقولُ: الله أكبرُ، الله أكبرُ، الله أكبرُ، الله أكبرُ، أشْهَدُ أن لا إِلَهَ إلا الله، أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ، أشْهدُ أن محمدًا رسولُ الله، أشهدُ أن محمدًا رسولُ اللهِ، حَيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الصلاةِ، حَيَّ على الفَلاح، حيَّ على الفلاحِ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلَهَ إلا الله. ثم اسْتَأخَرَ عنِّي غيرَ بَعِيدٍ، ثم قال: ثم تَقُولُ إذا أقَمْتَ (¬2) الصلاةَ: اللهُ أكبرُ الله أكبرُ، أشْهدُ أن لا إلَهَ إلَّا الله، أشْهَدُ أن محمدًا رسولُ الله، حَيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الفَلاحِ، قد قامتَ الصلاةُ، قد قامتِ الصلاةُ، الله أكبرُ الله أكبرُ، لا إلَهَ إلَّا اللهُ. فلَمّا أصْبَحْتُ أتَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخْبرتُه بما رَأيتُ، فقال: «إنَّهَا لرؤيَا حَقٍّ، إنْ شَاءَ الله، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فألْقِ عَلَيةِ مَا رَأيتَ، فَلْيُؤذِّنْ بهِ، فَإَّنهُ أندَى صَوْتًا مِنْكَ». فقُمْتُ مع بِلالٍ، فجَعَلْتُ أُلقِيه عليه ويُؤذِّنُ به. قال: فَسَمِعَ ذلك (¬3) عُمَرُ بنُ الخطابِ، ¬

(¬1) في م: «لجمع الناس للصلاة». (¬2) في الأصل: «قمت إلى». (¬3) سقطت من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِي الله عنه، وهو في بَيته، فخرَجَ يَجُرُّ رِداءَه، يقولُ: والذي بَعَثَك بالحَقِّ يا رسولَ الله، لقد رَأيتُ مثلَ الذي رَأى. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلِلَّهِ الْحَمدُ». أخْرَجَه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وهذا لَفْظُه، وابنُ ماجَه (¬1)، وأخْرَج الترِّمِذِيُّ بعْضَه (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. فصل: وليسَ على النِّساءِ أذانٌ ولا إقامَةٌ. كذلكَ قال ابنُ عُمَرَ، وأنَسٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وابنُ سِيرينَ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم. واخْتَلَفُوا، هل يُسَنُّ لَهُنَّ ذلك؟ فرُوىَ عن أحمدَ، إن فَعَلْنَ فلا بَأْسَ، وإن لم يَفْعَلْنَ. فجائِزٌ. وقال القاضي: هل تُسْتَحَبُّ لها الإقامَةُ؟ على رِوايَتَين. وعن جابِرٍ، أنَّها تُقِيمُ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والأوْزاعِيُّ. وقال الشافعيُّ: إن أذَّنَّ وأقَمْنَ فلا بَأْسَ. وعن عائشةَ، أنَّها ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب كيف الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 116، 117. وابن ماجه، في: باب بدء الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 232، 233. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 43، 5/ 246. كما أخرجه الدارمي، في: باب بدء الأذان، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 268، 269. (¬2) في: باب ما جاء في بدء الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 305.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانَتْ تُؤَذِّنُ وتُقِيمُ. وبه قال إسحاقُ. وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ لأُمِّ وَرَقَةَ أن يُؤذَّنَ لها ويُقامَ، وتَؤُمَّ نِساءَ أهْلِ دارِها (¬1). إلَّا أنَّ هذا الحديثَ يَرويه الوَلِيِدُ بنُ جُمَيعٍ (¬2)، وقد قال ابنُ حِبّانَ: لا يُحْتَجُّ بحَدِيثِه. ووَثَّقَه يَحْيى بنُ مَعِينِ. ورُوي عنه، لا يُشْرَعُ لها ذلك، لِما روَى النَّجَادُ، بإسنادِه، عن أسماءَ بنتِ يَزِيدَ، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَيسَ عَلَى النِّسَاءِ أذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ» (¬3). ولأنَّ الأذانَ يُشْرَعُ له رَفْعُ الصَّوْتِ، ولا يُشْرَعُ لها، ولا تُشْرَعُ لها الإقامَةُ؛ لأنَّ مَن لا يُشْرَعُ له الأذانُ، لا تُشْرَعُ له الإقامَةُ، كغيرِ المُصَلِّي وكالمَسْبُوقِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب إمامة النساء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 139. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 405. (¬2) هو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري. انظر الضعفاء الكبير، للعقيلي 4/ 317. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب ليس على النساء أذان ولا إقامة، من كتاب الصلاة. سنن البيهقي 1/ 408.

259 - مسألة؛ قال: (وهما فرض على الكفاية، إن اتفق أهل بلد كل تركهما قائلهم الإمام)

وَهُمَا فَرْضٌ عَلَى الْكفَايةِ، إنِ اتَفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِمَا قَائلَهُمُ الْإمَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 259 - مسألة؛ قال: (وهما فَرْضٌ على الكِفايَة، إن اتفَق أهلُ بَلَدٍ كل تركِهما قائَلَهُم الإمامُ) كذلك ذَكَرَه أبو بكر عبدُ العزيزِ (¬1)، وهو قولُ أكْثَرِ الأصحابِ، وبعض أصحابِ مالكٍ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهدٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: الأذانُ والإقامةُ واجِبان كل كلِّ جماعةٍ، في الحَضَرِ والسَّفرِ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ به مالكَ بنَ الحُوَيرِثِ (¬2) وصاحِبَه، والأمْرُ يَقْتَضي الوُجُوبَ، وداوَم عليه هو وخُلَفاؤه وأصحابُه. ولأنَّه مِن ¬

(¬1) في م: «أبو بكر بن عبد العزيز»، وهو خطأ. وهو غلام الخلال، تقدمت ترجمته في 1/ 16. (¬2) مالك بن الحُوَيرث: بن أشيم، الليثي، أبو سليمان. من أهل البصرة، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيبة من قومه فعلمهم الصلاة وأمرهم بتعليم قومهم. توفي سنة أربع وتسعين. أسد الغابة 5/ 20، 21.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شعائِرِ الإسلامِ الظّاهِرَةِ، فكان فَرْضًا، كالجهادِ. فعلى هذا إذا قام به مَن تَحْصُلُ به الكِفايَةُ سَقَط عن الباقِين، كسائِرِ فُرُوض الكِفاياتِ، وإن اتَّفَقُوا على تَرْكِه أثِمُوا كلُّهم. ولأن بِلالًا كان يُؤذِّنُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيَكتَفِي به. وإنِ اتَّفَق أهلُ البَلَدِ على تركِه، قاتَلَهُم الإمامُ عليه؛ لأنَّه مِن شعائِرِ الإسلامِ الظّاهِرَةِ، فقُوتِلُوا عليه، كصَلاةِ العِيدَين. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أن الأذانَ سُنَّةٌ غيرُ واجِب؛ لأنه قال: فإن صَلَّى بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، كَرِهْنا له ذلك. فجَعَلَه مَكْرُوهًا، وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ لأنَّه دُعاءٌ إلى الصلاةِ، فأشْبَهَ قَوْلَه: الصَّلاةَ جامِعَةً. وقال ابنُ أبي موسى: الأذانُ سُنةٌ في إحْدَى الروايَتَين، إلَّا أذانَ الجُمُعَةِ حين يَصْعَدُ الإمامُ، فإنَّه واجِبٌ. وعلى كِلا القَوْلَين إذا صَلى بغيرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ، كُرِه له ذلك، لِما ذَكَرْنا، وصَحَّتْ صَلاتُه؛ لِما رُوِيَ عن عَلْقَعَةَ (¬1) والأسْوَدِ (¬2)، أنَّهما قالا: دَخَلْنا على عبدِ اللهِ فصَلَّى بنا، بلا أذانٍ ولا إقامَةٍ. رَواه الأثْرَمُ. قال شيخُنا (¬3): ولا أعْلَمُ أحدًا خالفَ في ذلك إلَّا عَطَاءً، قال: ¬

(¬1) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي، أبو شبل ولد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وروى عن عمر وعثمان وغيرهم. مات سنة إحدى وسنين. تهذيب التهذيب 276 - 278. (¬2) أبو عمرو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، سمع من معاذ بن جبل في اليمن قبل أن يهاجر، توفي سنة أربع، وقيل خمس وسبعين. تهذيب التهذيب 1/ 342، 343. (¬3) في: المغني 2/ 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن نَسِي الإقامَةَ يُعِيدُ. ونَحْوُه عن الأوْزاعِيِّ. والصَّحِيحُ، إن شاء الله، قَوْلُ الجُمْهُورِ؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ الإقامَةَ أحَدُ الأذانَين، فلم يُفْسِدْ تَرْكُها، كالآخَرِ. فصل: ومَن أوْجَبَ الأذانَ مِن أصحابِنا إنَّما أوْجَبَه على أهلِ المِصْرِ، فأمّا غيرُ أهلِ المِصْرِ مِن المُسافِرِين فلا يَجِبُ عليهم. كذلك ذَكَره القاضي. وقال مالكٌ: إنَّما يَجِبُ النِّداءُ في مَساجِدِ الجَماعَةِ التي يُجْمَعُ (¬1) فيها للصلاةِ؛ وذلك لأنَّ الأذانَ إنَّما شُرِعَ (¬2) في الأصْلِ للإعْلامِ بالوَقْتِ، ليَجْتَمِعَ (¬3) النَّاسُ إلى الصلاةِ، ويُدْرِكُوا الجَماعَةَ. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ في السَّفَرِ للجَماعَةِ، وهو قَوْلُ ابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ به بلالًا في السَّفَرِ، وقال لمالكِ بنِ الحُوَيرِثِ، ولابنِ عَمٍّ له: «إذَا سَافَرْتُمَا فَأذِّنَا وَأقِيمَا ولْيَؤُمَّكُمَا أكْبَرُكُمَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وهذا ظاهِرٌ في ¬

(¬1) في م: «يجتمع». (¬2) في الأصل: «يشرع». (¬3) في الأصل: «ليجمع». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وباب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، وباب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، وباب المكث بين السجدتين، من كتاب الأذان، وفي: باب سفر الاثنين، من كتاب الجهاد، وفي: باب رحمة الناس والبهائم، من كتاب الأدب، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. . . .، من كتاب الآحاد. صحيح البخاري 1/ 162، 175، 207، 208، 4/ 33، 8/ 11، 1/ 107. ومسلم، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 465، 466.كما أخرجه النسائي، في: باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 8، 9. وابن ماجه، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 313. والدارمي، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 286. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 436، 5/ 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُوبِه. ويَكْفِي مُؤَّذِّنٌ في المِصْرِ، إذا كان يُسْمِعُهم ويَجْتَزئُ بَقِيَّتُهم بالإقامَةِ. قال أحمدُ، في الذي يُصَلِّي في بَيتِه: يُجْزِئُه أذانُ المِصْرِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، وقال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ: تَكْفِيهِ الإقامَةُ. وقال الحسنٌ، وابنُ سِيرِينَ: إن شاء أقام. لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للذي عَلَّمَه الصلاةَ: «إذَا أردْتَ الصَّلَاةَ فَأحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ» (1). وفي لفطٍ رَواه النَّسائِيُّ: «فَأقِمْ ثُمَّ كَبِّرْ (¬1). وقد ذَكَرْنا حديثَ ابنِ مسعودٍ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، من كتاب الأذان، وفي: باب من رد فقال: عليك السلام، من كتاب الاستئذان، وفي: باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 1/ 201، 8/ 69، 169. ومسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 298. والنسائي، في: باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع، من كتاب التطبيق، وفي: باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 151، 3/ 50. وابن ماجه، في: باب إتمام الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 336، 337. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 116، 4/ 340. (¬2) المتقدم قبل قليل من رواية علقمة والأسود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأفْضَلُ لكلِّ مُصَلٍّ أن يُؤذِّنَ ويُقِيمَ، إلَّا أنه إن (¬1) كان يُصَلِّي قَضاءً أو في غيرِ وَقْتِ الأذانِ، لم يَجْهَرْ به، وإن كان في الوقت في بادِيةٍ أو نَحْوها، اسْتُحبَّ له الجَهْرُ بالأذانِ؛ لقَوْلِ أبي سعيدِ: «إذا كُنْتَ في غَنَمِكَ أوْ بَادِيتكَ فَأذنْتَ بالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالندَاءِ، فَإنَّه لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمؤذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قال أبو سعيدٍ: سَمعْتُه عِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رَواه البخاريُّ (¬2). وعن أنسٍ، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُغِيرُ إذا طَلَع الفَجْرُ، وكان إذا سَمِع أذانًا أمْسَك، وإلَّا أغار، فسَمِعَ رجلًا يقولُ: الله أكبرُ ¬

(¬1) سقطت من: الأصل. (¬2) في: باب رفع الصوت بالنداء، من كتاب الأذان، وفي: باب ذكر الجن وثوابهم وعقابه، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخاري 1/ 158، 4/ 154. كما أخرجه النسائي، في: باب رفع الصوت بالأذان، من كتاب الأذان. المجتبي 2/ 11. وابن ماجه، في: باب فضل الأذان وثواب المؤذنين، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 239، 240. والإمام مالك، في: باب ما جاء في النداء للصلاة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 69. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 6، 35، 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الله أكبرُ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى الْفِطْرَةِ». فقال: أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ، [أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا الله] (¬1). فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَرجْتَ مِنَ النَّارِ». فَنَظروا فإذا صاحبُ مِعْزًى (¬2). رَواه مسلمٌ (¬3). فصل: ويُسْتَحَبُّ الأذانُ في السَّفَرِ، وللراعِي (¬4) وأشْباهِه في قوْلِ أكثَرِ أهلِ العلم، وكان ابنُ عُمَرَ يُقيمُ لكلِّ صلاةٍ إقامَة، إلَّا الصُّبحَ، فإنَّه يُؤذِّنُ لها ويُقيمُ، وكان يقولُ: إنَّما الأذانُ على الإمام والأميرِ الذي يَجْمَعُ النّاسَ. وعنه، أنَّه كان لا يُقِيمُ الصلاةَ في أرضٍ تُقامُ فيها الصلاةُ. وعن علي، رَضِي الله عنه: إن شاء أذَّنَ وأقام، وإن شاء أقام. وبه قال الثَّوْرِيُّ. وقال الحسنُ: تُجْزِئُه الإقامَةُ. وقال إبراهيمُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسخ: «معزٍ». والمثبت من صحيح مسلم. (¬3) في: باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 288. كما أخرجه البخاري، في: باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام. . . . إلخ، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 4/ 58. والترمذي، في: باب ما جاء في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتال، من أبواب السير. عارضة الأحوذي 7/ 120. والدارمي، في: باب الإغارة على العدو، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 217. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 132، 159، 205، 206، 229، 236، 253. (¬4) في الأصل: «المراعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المُسافِرِين: إذا كانوا رِفَاقًا أذَّنُوا وأقامُوا، وإن كان وَحْدَه أقام الصلاةَ. ولَنا، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤذنُ له في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وأمَرَ به مالكَ بنَ الحُوَيرِثِ وصاحِبَه، وما نُقِل عن السَّلَفِ في هذا، فالظّاهِرُ أنَّهم أرادُوا وَحْدَه، كما قال إبراهيمُ النخعِيُّ في كَلامِه، والأذانُ مع ذلكَ أفضل؛ لِما ذَكْرنا مِن حديثِ أبي سعيدٍ، وحديثِ أنسٍ، وروَى عُقبَةُ بنُ عامِرٍ، قال: سَمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنمٍ في رَأس الشَّظِيَّة (¬1) لِلْجَبَلِ، يُؤذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُول الله عَز وَجَلَّ: انْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا، يُؤذِّنُ وَيُقيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ منِّي، قدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ». رَواه النَّسائِيُّ (¬2). والصَّلَواتُ في الأذانِ على أرْبَعةِ أضرُب؛ ما يُشرَعُ لها الأذانُ والإقامَةُ، وهي الفَرْضُ المُؤدَّاةُ مِن الصَّلَواتِ الخمْسِ، وصَلاة يُقيمُ لها ولا يؤذِّنُ، وهي الثّانِيَة مِن صَلاتَّي الجَمْعِ، وما بعدَ الأولَى في الفَوائِتِ، وصلاة لا يُؤذِّنُ لها ولا يُقِيمُ، لكن يُنادِي لها: الصلاةَ جامِعَة. وهي العِيدان والكُسُوفُ والاسْتِسْقاءُ، وصلاة: لا يُوْذِّنُ لها أصْلًا وهي صلاةُ الجِنازَةِ. ¬

(¬1) الشظية: قطعة من رأس الجبل، وقيل: هي الصخرة العظيمة الخارجة من الجبل كأنها أنف الجبل. عون المعبود 1/ 467. (¬2) في: باب الأذان لمن يصلي وحده. من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 17. كما أخرجه أبو داود، في: باب الأذان في السفر، من كتاب السفر. سنن أبي داود 1/ 275. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 145، 157، 158.

260 - مسألة: (ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما في أظهر الروايتين)

وَلَا يجُوزُ أخذُ الأُجْرَةِ عَلَيهِمَا في أظْهرِ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 260 - مسألة: (ولا يَجُوز أخْذُ الأجْرَةِ عليهما في أظْهَرِ الرِّوايَتَين). وهو قَوْلُ ابنِ المُنْذِرِ، وكَرِهَه القاسِمُ بنُ عبدِ الرحمنِ (¬1)، والأوْزاعيُّ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمانَ بن أبي العاص: «وَاتَّخِذْ مُؤذِّنًا لَا يَأخُذُ عَلَى أذَانِه أجْرًا». رَواه أبو داودَ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجَه، والتِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ولأنه قُرْبَةٌ لفاعِلِه، لا يَصِحُّ إلى مِن مسلم، فلم يَجُزْ أخْذُ الأجْرَةِ عليه، كالإمامَةِ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال: يَجُوزُ أخْذُ الأُجْرَةِ عليه. ورَخصَ فيه مالكٌ، وقال: لا بَأسَ به، لأنَّه عَمَل مَعْلُومٌ يجُوزُ أخْذُ الرِّزْقِ عليه، أشْبهَ سائِرَ الأعْمالِ. ¬

(¬1) هو أبو عبد الله القاسم بن معن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، كان رجلا نبيلا، قاضيا بالكوفة، لا يأخذ أجرا، أحد من قال له أبو حنيفة في نفر: أنتم مسار قلبي، وجلاء حزني، توفي سنة خمس وسبعين ومائة. الجواهر المضية 2/ 708 - 710. (¬2) أخرجه أبو داود، في: كتاب أخذ الأجر على التأذين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 126. والترمذي،: في باب ما جاء في كراهية أن يأخذ على الأذان أجرا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 11. والنسائي، في: باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرا، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 20. =

261 - مسألة: (فإن لم يوجد متطوع بهما رزق الإمام من بيت المال من يقوم بهما)

فَإنْ لَمْ يُوجَدْ مُتَطوِّع بِهِمَا رَزَقَ الْإمَامُ مِنْ بَيتِ الْمَالِ مَنْ يَقُومُ بِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 261 - مسألة: (فإن لم يُوجَدْ مُتَطَوِّع بهما رَزَق الإمامُ مِن بَيتِ المالِ مَن يَقُومُ بهما) لا نَعْلَمُ خِلافًا في جَوازِ أخْذِ الرِّزقِ عليه، وهو قَولُ الأوْزاعِي، والشافعيِّ؛ و (¬1) لأنَّ بالمُسْلِمِين إليه حاجَة، وقد لا يُوجَدُ مُتَطوِّعٌ به، فإذا لم يُدْفَع الرِّزْقُ فيه تَعَطَّل، ويَرْزُقُه الإمامُ مِن الفَىْءِ؛ لأنَّه المُعَدُّ للمَصالِحِ، فهو كأرْزاقِ القُضاةِ والغُزاةِ، وقال الشافعيُّ: لا يُرْزَقُ المُؤذِّنُ إلَّا مِن خُمُسٍ الخُمُس، سَهْمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. حَكاهُ ابنُ المُنْذِر. فأمّا إن وُجِد مُتَطَوِّع به، لم يرزَقْ غيرُه؛ لعَدَم الحاجَةِ إليه (¬2). والله أعلمُ. ¬

= وابن ماجه، في: كتاب السنة في الأذان، من كتاب الأذان والسنة فيها، وفي: كتاب من أم قوما فيخفف، من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. سنن ابن ماجة 1/ 336، 316. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 217. والبيهقي، في: باب التطوع بالأذان، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 429. (¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

262 - مسألة: (وينبغي أن يكون المؤذن صيتا أمينا عالما بالأوقات)

وَيَنْبَغِي أنْ يكونَ الْمُوذنُ صَيِّتًا أمِينًا عَالِمًا بِالْأوْقَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 262 - مسألة: (ويَنْبَغِي أن يَكُونَ المُؤذِّنُ صيتًا أمِينًا عالِمًا بالأوْقاتِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يُسْتَحبُّ أن يكونَ المُؤذنُ صَيِّتًا (¬1)، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ: «ألقِهِ عَلَى بلَالٍ، فَإنَّه أنْدَى صَوْتًا مِنْكَ» (¬2). واخْتارَ أبا مَحْذُورَةَ للأذانِ، لكَوْنِه صَيتًا، ولأنه أبْلَغُ في الإعْلامِ المَقْصُودِ بالأذانِ، قال شيخُنا (¬3): ويُستَحَبُّ أن يكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ؛ لأنَّه أُرقُّ لسامِعه. ويَنْبَغِي أن يكُونَ عدْلًا أمِينًا؛ لأنَّه مُؤتَمَنٌ يُرجَعُ إليه في الصلاةِ والصيامِ، فلا يُؤمَنُ أن يَغُرَّهم بأذانه إذا لم يَكُن كذلك. وقد رُوِيَ عن أبي مَحْذُورَةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَنَاءُ النَّاس عَلَى صَلاتهِمْ وَسُحُورِهِمُ الْمُؤذِّنُونَ». رَواه البَيهَقِيُّ (¬4) مِن رِوايِةِ يَحْيَى بن عبدِ الحميدِ، وفيه كلامٌ. ولأنَّه يُؤذِّنُ على مَوْضِعٍ عالٍ، فلا يُؤمَنُ منه النَّظَرُ إلى العَوْراتِ. وأن يكونَ عالِمًا بالأوْقاتِ؛ ليَتَحَراها، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «أمينًا». (¬2) تقدم في صفحه 48. (¬3) في: المغني 2/ 70. (¬4) في: باب لا يؤذن إلا عدل ثقة. . . .، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 426.

263 - مسألة: (فإن تشاح فيه نفسان قدم أفضلهما في ذلك، ثم أفضلهما في دينه وعقله)

فَإنْ تَشَاحَّ فِيهِ نفْسَانِ قُدِّمَ أفْضَلُهُمَا في ذَلِكَ، ثُمَّ أفْضَلُهُما في دِينهِ وَعَقْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُؤذِّنَ في أوَّلِها، ولأنَّه إذا لم يَكُنْ عالِمًا لا يُؤمَنُ منه الغلَطُ والخطَأُ. ويُستحَبُّ أن يكُونَ بَصِيرًا؛ لأن الأعْمَى لا يَعْرِفُ الوَقْتَ، فرُبَّما غَلِط. وكَرِه أذانَ الأعْمَى ابنُ مسعودٍ، وابنُ الزُّبَير. وعن ابن عباس، أنَّه كَرِه إقامَتَه. وإن أذَّنَ، صَحَّ أذانُه؛ لأن ابنَ أمِّ مَكْتُوم كان يُؤذنُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال ابنُ عُمَرَ: وكان رجلًا أعْمَى لا يُنادِي حتىِ يُقال له: أصبحْتَ أصبحتَ. رَواه البخاري (¬1). ويُستحَبُّ أن يكون معه بَصِيرٌ كما كان ابنُ أُمِّ مَكتُوم يُؤذِّنُ بعدَ بِلَالٍ. وإن أذَّنَ الجاهِلُ أيضًا، صَحَّ؛ لأنَّه إذا صَحَّ أذانُ الأعْمَى فالجاهِلُ أوْلَى. 263 - مسألة: (فإن تشاحَّ فيه نفْسان قُدِّمَ أفْضَلُهما في ذلك، ثم أفْضَلُهما في دِينه وعَقْلِه) متى تشاحَّ نَفْسان في الأذانِ، قُدِّمَ أفْضَلُهما ¬

(¬1) في: باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 160. أخرجه الإمام مالك، في: باب قدر السحور من النداء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 74، 75. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 123.

ثُمَّ مَنْ يَخْتَارُهُ الْجِيرَانُ، فَإذَا اسْتَوَيَا أُقْرِعَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الخِصالِ المَذْكُورَةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدم بِلالًا على عبدِ الله بنِ زَيدٍ؛ لكَوْنِه أنْدَى صَوْتًا منه، وقدَّم أبا مَحْذُورَةَ لصَوْته، وقِسْنا عليه سائِرَ الخِصالِ، فإنِ استويا في هذه الخِصالِ قُدِّم أفْضَلُهما في دِينه وعَقْلِه؛ لِما روَى ابنُ عباس، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليُؤذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ، وَليؤُمَّكُمْ أقْرَؤُكُمْ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬1). فإنِ اسْتَوَيا، قُدِّم (مَن يَخْتارُه الجِيرانُ) لأنَّ الأذانَ لإعْلامِهِم، فكان لرِضاهم أثرٌ في التَّقْدِيمِ، ولأنَّهم أعْلَمُ بمَن يَبلُغُهم صَوْتُه ومَن هو أعَفُّ عن النَّظَرِ، (فإن تَساوَيا) مِن جَمِيع الجِهاتِ (أُقْرِع بَينهما) لقَوْل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ والصَّفِّ الأوَّلِ، ثُم لَمْ يَجِدُوا إلَّا أنْ يَستهِمُوا عَلَيهِ، لَاسْتهَمُوا» (¬2). ولَمّا تَشاحَّ النّاسُ في الأذانِ يومَ القادِسِيَّةِ أقْرَع بَينهم سعدٌ (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 139. وابن ماجه، في: باب فضل الأذان وثواب المؤذنين، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 240. (¬2) سبق تخريجه في صفحة 4. (¬3) انظر: باب الاستهام في الأذان، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 152. والباب نفسه، من كتاب الصلاة عند البيهقي. السنن الكبرى 1/ 429.

264 - مسألة: (والأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه)

وَالْأذَان خَمس عَشْرَةَ كَلِمَةً لَا ترجِيعَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 264 - مسألة: (والأذانُ خَمْسَ عَشرةَ كَلِمَة، لا تَرجيِع فيه) هذا اختيارُ أبي عبدِ اللهِ، رَحِمَه الله، كما جاء في حديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ الذي رَوَيناه. وبهذا قال الثوْرِي، وأصحابُ الرَّأي، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالك، والشافعي، ومَن تَبِعَهما مِن أهلِ الحِجازِ: الأذانُ المَسْنونُ أذانُ أبي مَخذُورَةَ. وهو كَما وَصَفْنا في حديثِ عبدِ الله بنِ زيدِ، ويزيدُ فيه الترجِيعَ، وهو أن يَذْكُرَ الشهادَتين مَرتين مَرتَين، يَخْفِضُ بذلك صَوْته (¬1) ثم يُعيدُهما رافِعًا بهما صَوْتَه، إلَّا أن مالكًا قال: التكبِيرُ في أوّله مَرتان حَسْبُ. فيَكُونُ الأذانُ عندَه سَبْعَ عَشْرَةَ كلمة، وعندَ الشافعي تسْعَ عَشرةَ كلمة. واحتَجوا بما روَى أبو مَحذُورَةَ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَقَّنَه الأذانَ، وألْقاه عليه، فقال له: «تقُولُ: أشْهدُ أن لَا إله إلَّا الله، أشْهدُ أن لَا إله إلَّا اللهُ، أشهد أن مُحَمدا رَسُولُ الله، أشهد أن مُحَمدا رَسُولُ الله. تَخْفِضُ بِها صَوْتَكَ، ثُم ترفَعُ صوْتَكَ بِالشهادَةِ: أشْهدُ أن لَا إله إلَّا الله، أشْهدُ أن لَا إله إلا، الله، أشْهدُ أن مُحَمدا رَسُولُ اللْهِ، أشهد أن مُحَمدًا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَسُولُ اللهِ». ثم ذَكَر سائِرَ الأذانِ. أخرجَه مسلمٌ (¬1). واحْتَج مالك، قال: كان الأذانُ الذي يُؤذنُ به أبو مَحذُورَةَ، الله أكبرُ الله أكبرُ، أشْهدُ أن لَا إله إلَّا الله. رَواه مسلمٌ (¬2). ولَنا، ما ذَكَرنا مِن حديثِ عبدِ الله بن زيدٍ، وهو أوْلَى؛ لأن بِلال كان يؤذِّنُ به مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَضرا وسَفَرًا، وأقَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بعدَ أذانِ أبي مَحذُورَةَ. قال الأثْرَمُ: سمعت أبا عبدِ اللهِ يُسْأل: إلى أي الأذانِ تذْهب؟ قال: إلى أذانِ بِلالٍ. قِيلَ له: ألَيسَ حديثُ أبي مَحذُورَةَ بعدَ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيد، لأن حديثَ أبي مَحذُورَةَ بعدَ فَتْحِ مَكةَ؟ فقال: أليس قد رَجَع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينةِ فأقَر بِلالا على أذانِ عبدِ الله بنِ زيدٍ؟ ويَحتَمِلُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ¬

(¬1) في: باب صفة الأذان، من كتاب الأذان. صحيح مسلم 1/ 287. كما أخرجه أبو داود في: باب كيف الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 117 - 119. والنسائي، في: باب خفض الصوت في الترجيع في الأذان، من كتاب الأذان، وباب كيف الأذان، وباب الأذان في السفر من كتاب الأذان المجتبي 2/ 4 - 7. وابن ماجه، في: باب الترجيع في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 234، 235. والدارمي، في: باب الترجيع في الأذان، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 271 والإمام أحمد في: المسند 3/ 408، 409. (¬2) في الموضع السابق. وانظر: الاستذكار، لابن عبد البر 2/ 80، 81.

265 - مسألة: (والإقامة إحدى عشرة كلمة، فإن رجع في الأذان أو ثنى في الإقامة، فلا بأس)

وَالْإقَامَةُ إحدَى عَشْرَةَ كَلِمَةً. فإن رَجَّعَ فِي الْأذَانِ أوثَنَّى الْإقَامَةَ فَلا بَأسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَرَ أبا مَحذُورَةَ بذِكْرِ الشَّهادَتين سِرًّا؛ ليَحصُلَ له الإخْلاصُ بهما، فإنّه في الإسْرارِ أبَلَغُ، وخص أبا مَحذُورَةَ بذلك؛ لأنه لم يَكنْ مُقِرًّا بهما حِينَئِذٍ، فإن في (¬1) الخبَرِ أنْه كان مُسْتَهْزِئًا يَحكِي أذانَ مُؤذِّنِ رسولِ االله - صلى الله عليه وسلم - فسَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صَوْته، فدَعاه، فأمَره بالأذانِ، قال: ولا شيء على أبغَضُ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا مِمّا يأمُرني به. فقَصَدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نُطْقَه بِالشهادَتَين سِرًّا ليُسْلِمَ بذلك، وهذا لا يُوجَدُ في غيرِه، ودَلِيلُ هذا الاحتِمال كَوْنُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَأمر به بِلالا، ولا غيره ممن هو ثابِث الإسْلام. 265 - مسألة: (والإقامَةُ إحدَى عَشرةَ كَلِمَةً، فإن رَجعَ في الأذانِ أو ثنَّى في الإقامَةِ، فلا بَأسَ) وجملَةُ ذلك، أنَّ الإقامَةَ المُختارَةَ عندَ إمامِنا، رَحِمَه الله، إقامَةُ بلال التي ذَكَرنا في حديثِ عبدِ الله بن زَيدٍ، ¬

(¬1) سقطت من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي: الله أكبرُ، الله أكبرُ، أشْهدُ أن لا إله إلَّا الله، أشهدُ أن مُحَمدا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ كل الصلاةِ، حتى كل الفَلاح، قد قامَتِ الصلاةُ، قد قامتِ الصلاةُ، الله أكبُر، الله أكبرُ، لا إله إلا الله. وبهذا قال الأوْزاعِي، وأهلُ الشامِ، ويحيىَ بنُ يحيى، وأبو ثَوْر، وإسحاقُ، والشافعي وأصحابُه، وأهلُ مَكةَ. وقال الثوْري، وأصحابُ الرأي (¬1): الإقامَةُ مِثْلُ الأذانِ ويزيدُ: قد قامَتِ الصلاةُ. مَرتين. لِما رُوِيَ في عبدِ اللهِ بن زيدٍ، قال: كان أذانُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَفْعًا شَفعا، في الأذانِ والإقامَةِ. رَواه الترمِذِي (¬2). وعن أبي مَحذورَةَ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَه الأذانَ تِسْعَ عَشرةَ كَلِمَةً، والإقامَةَ سَبْعَ عَشرةَ كلمةً. رَواه أبو داودَ، والترمِذِي (¬3)، وقال: حديث حسن صحيح. وقال مالكٌ: الإقامَةُ عَشر كَلِماتٍ، يقولُ: قد قامتِ الصلاةُ. مَرَّةً واحِدَةً. لقَوْلِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وأبو حنيفة». (¬2) في: باب ما جاء أن الإقامة مثنى مثنى، عن أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 9/ 310. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب كيف الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 118. والترمذي، في: باب ما جاء في الترجيع في الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 308. كما أخرجه النسائي، في: باب كم الأذان من كلمة، من كتاب الأذان. المحتبي 2/ 5. وابن ماجه، في: باب الترجيع في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 235. والدارمي، في: باب الترجيع في الأذان، من كتاب الصلاة سنن الدارمي 1/ 271. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 409، 6/ 401.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنس: أمَرَ بِلالًا أن يَشْفَعَ الأذانَ، ويُوتِرَ الإقامَةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولَنا، ما رُوِيَ عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ، رَضِي اللهُ عنهما، أنَّه قال: إنَّما كان الأذانُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرتَين مَرتَين، والإقامَةُ مَرةً مَرَّةً، إلَّا أنَّه يقولُ: قد قامتِ الصلاةُ، قد قامتِ الصلاةُ. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬2). وفي حديثِ عبدِ الله بنِ زَيدٍ، أنّه وَصَف الإقامَةَ كما ذَكَرنا. والحديثُ الذي احتجوا به مِن حديثِ عبدِ الله بن زَيدٍ، رَواه عنه عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلَى، وقد قال الترمِذِي: عبدُ الرحمنِ لم يَسمع مِن عبدِ الله بن زيدٍ. وقال: الصَّحِيحُ مثل (¬3) ما رَوَينْا. والذي احْتَجَّ به مالكٌ حُجَّةٌ لَنا؛ لنه ذَكره مُجْمَلًا، وقد فسَّرَه عبدُ اللهِ بنُ عُمَر في حدِيثِه وبَيَّنَه، فكان الأخْذُ به أوْلَى، وخَبَرُ أبي مَحْذُورةَ مَتْرُوك بالإجْماعِ، لأنَّ الشافعيَّ لا يَعمَلُ به في الإقامَةِ، وأبو حنيفةَ لا يَعْمَلُ به في الأذانِ، فكان الأخْذ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بدء الأذان، وباب الأذان مثنى مثنى، وباب الإقامة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة، من كتاب الأذان، وفي: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 1/ 157، 158، 286، 4/ 206. ومسلم، في: باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 286.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإقامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 121. والترمذي، في: باب ما جاء في إفراد الإقامة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 309. والنسائي، في: باب تثنية الأذان، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 4. وابن ماجه، في: باب إفراد الإقامة، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 241 والدارمي، في: باب الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 270، 271. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 103، 189. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الإقامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 122. والنسائي، في: باب تثنية الأذان، وباب كيف الإقامة، من كتاب الأذان، المجتبى 2/ 4، 11. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 85، 87. كما أخرجه الدارمي، في: باب الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 270. (¬3) سقطت من: م.

266 - مسألة: (ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم. مرتين)

وَيَقُولُ فِي أذَانِ الصبحِ: الصلَاةُ خَيرٌ مِنَ النوْمِ. مَرتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحديثِ عدِ الله بنِ زَيدٍ أوْلَى، ولأنَّا قد بَيَّنا تَرجِيحَه في الأذانِ، كذا في الإقامَةِ. والاخْتِلافُ ههُنا في الأفْضَليةِ مع جَوازِ كل واحد مِن الأمرَين. نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ. وبه قال إسحاقُ، لكَوْنِ كلِّ واحدٍ مِن الأمرَين قد صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 266 - مسألة: (ويقُولُ فِي أذانِ الصبحِ: الصلاة خَير مِن النوْمِ. مَرَّتَين) وهذا مُسْتَحَب في صلاةِ الصبحِ، خاصَّةً بعدَ قَوْلِه: حيَّ كل الفَلاحِ. ويُسَمَّى هذا التثويبَ. وبه قال ابنُ عمَرَ، والحسنُ، ومالكٌ، والثَّوري، وإسحاقُ، والشافعي الصحيحِ عنه. وقال أبو حنيفةَ: التثويبُ بينَ الأذانِ والإقامة في الفَجْرِ، أن يقُولَ: حَيَّ على الصلاةِ. مَرَّتَين، و: حَيَّ على الفَلاحَ. . مَرَّتَين. ولَنا، ما روَى النَّسائِيُّ، وأبو داودَ، عن أبِي مَحْذورَةَ: فإن كان صلاةُ الصُّبحَ، قلتَ: الصلاةُ خَير مِن النَّوْمِ، الصلاةُ خَير مِن النوْمِ، الله أكبرُ الله أكبرُ، لا إله إلا الله (¬1). وما ذَكَرُوه، قال إسحاقُ: هذا شيءٌ أحدَثَه النّاسُ. وقال الترمِذِيُّ: هذا (¬2) التثويبُ الذي كَرِهه أهلُ العلمِ (¬3). ويُكْرهُ التثويبُ في ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب كيف الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 117. والنسائي في: باب الأذان في السفر، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 7. (¬2) في م: «وهو». (¬3) قول إسحاق والترمذي، في: باب ما جاء في التثويب في الفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 314، 315.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ الفَجْرِ، سواءٌ ثَوَّبَ في الأذانِ أو بعدَه، لِما رُوِيَ بن بِلالٍ، قال: أمَرَنِي رسولُ اللهِ أنْ أن أثوِّبَ في الفجرِ، ونَهانِي أن أثوِّبَ في العِشاءِ. رَواه الإمام أحمدُ، وابنُ ماجَه (¬1). ودَخَل ابنُ عُمَرَ مسجدًا يُصَلي فيه، فسَمِعَ رجلًا يُثَوِّبُ في أذانِ الظُّهْرِ، فخَرَجَ، فقِيلَ له: إلى أين؟ فقال: أخْرَجَتْنِي البِدعَةُ (¬2). ولأن صلاةَ الفَجْرِ وَقْت يَنامُ فيه عامةُ النّاسِ، فاخْتَص بالتثويبِ لاخْتِصاصِه بالحاجَةِ إليه. فصل: ولا يجُوزُ الخُرُوجُ مِن السجدِ بعدَ الأذانِ إلَّا لعُذر. قال الترمِذِيُّ (¬3): وعلى هذا العَمَلُ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومَن بَعدَهم، أن لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِن المسجدِ بعدَ الأذانِ إلا مِن عُذْرٍ. قال أبو الشعثَاءِ (¬4): كُنّا قُعُودًا مع أبي هُرَيْرَةَ في المسجِدِ، فأذنَ المُؤذِّنُ، فقام ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 237. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 15. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الثتويب بالفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 315. (¬3) انظر: عارضة الأحوزي 2/ 6. (¬4) سليم بن أسود بن حنظلة الكوفي المحاربي، أبو الشعثاء، تابعي ثقة. توفي سنة خمس وثمانين. تهذيب التهذيب 4/ 165.

267 - مسألة: (ويستحب أن يترسل في الأذان، ويحدر الإقامة)

وَيُسْتَحَبُّ أنْ يَتَرَسَّلَ فِي الأذَانِ، وَيحدُرَ الإقَامَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلٌ مِن المسجدِ يَمشِي، فأتْبَعَه أبو هُرَيرَةَ بَصَره حتى خَرَج مِن المسجدِ فقال أبو هُرَيرَةَ: أما هذا فقد عَصَى أبا القاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ، والترمِذِي (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. وعن عثمانَ بنِ عفانَ، رَضِي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدرَكَهُ الإذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرجَ، لَمْ يَخْرُجْ لِحاجَةٍ وَهُوَ لا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافق». رَواه ابنُ ماجه (¬2). فأما إن خَرَج لعُذْرٍ، كفِعلِ ابنِ عُمَرَ حين سَمِع التثويبَ فجائِزٌ، وكذلك مَن نَوَى الرَّجْعَةَ؛ لحديثِ عثمانَ. والله أعلمُ. 267 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَتَرَسَلَ في الأذانِ، ويحدُرَ الإقامَةَ) التَّرسُّلُ: التَّمَهُّلُ والتَّأنِّي. مِن قَوْلِهم: جاء فُلانٌ على رِسْلِه. والحَدرُ: ضِدُّ ذلك، وهو الإسراعُ. وهو بن آدابِ الأذانِ ومُسْتَحباتِه. وهذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 453، 454، أبو داود، في: باب الخروج من المسجد بعد الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 127. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 6. كما أخرجه النسائي، في: باب التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 24. وابن ماجه، في: باب إذا أذن وأنت في المسجد فلا تخرج، من كتاب الأذان والسنة فيها. سنن اين ماجه 1/ 242. (¬2) في: باب إذا أذن وأنت في المسجد فلا تخرج، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَذْهبُ ابنِ عُمَرَ، وبه قال الثوْريُّ والشافعي، وإسحاقُ، وأبو ثَور، وأبو حنيفةَ، وصاحِباه، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نعلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم؛ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لبِلالٍ: «إذَا أذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وإذَا أقمتَ فَاحْدُر». رَواه الترمِذيُّ (¬1)، وقال: إسْناده مَجْهُول. وروَى أبو عُبَيدٍ، بإسْنادِه، عن عُمَرَ، رَضِي الله عنه، أنَّه قال للْمُؤدنِ: إذَا أذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وإذا أقَمتَ فاحْذِم (¬2). وأصلُ الحَذْمِ (¬3) في المَشْي: الإسْراعُ. ولأنّه يَحصُلُ به الفَرق بينَ الأذانِ والإقامَةِ، فاسْتُحِبَّ، كالإفْرادِ، ولأن الأذانَ إعلامُ الغائِبِين، فالتَّثبُّتُ فيه أبلَغُ في الإعلام، والإقامَة إعلام الحاضِرِين، فلا حاجَة إليه فيها. وذَكَر أبو عبد الله بن بَطَّةَ، أنَّه في الأذانِ والإقامَةِ لا يَصِلُ الكلامَ بعضَه ببعض مُعرِبًا، بل جَزْمًا. وحَكاهُ ابنُ الأنْبارِي (¬4) عن أهلِ ¬

(¬1) في: باب جاء في الترسل في الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 311، 312. (¬2) في الأصل: «فاحدر». وهو في غريب الحديث 3/ 244، 245. (¬3) في الأصل: «الحدر». (¬4) في م: «الأعرابي». وهو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري، صاحب المصنفات، سمع عالما من الأئمة في زمانه، وروى عنه مثل ذلك. توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وقيل: سنة سبع. إنباه الرواه 3/ 201 - 208.

268 - مسألة: (ويؤذن قائما متطهرا على موضع عال مستقبل القبلة)

وَيُؤذِّنَ قَائِمًا مُتَطَهِّرًا عَلَى مَوْضِع عَالٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ اللُّغَةِ، ورُوي عن إبراهيمَ النَّخَعِي، أنَّه قال: شيئان مَجْزُومان كانوا لا يُعرِبونَهما؛ الأذان والإقامَة. وهذا إشارَة إلى جَميعِهم. 268 - مسألة: (ويُؤذنَ قائِمًا مُتَطَهِّرًا على مَوْضع عالٍ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَة) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كل مَن نَحفط عنه مِن أهلِ العلمِ، على أن مِن السُّنةِ أن يُؤذن المُوذن قائِمًا. ورُوِي في حديثِ أبي قَتادَةَ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلالٍ: «قم فَأذِّنْ» (¬1). وكان مؤذنُو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤذنُونَ قياما. فإن أذَّن قاعِدًا لعُذْرٍ فلا بَأسَ. قال الحسن العَبْدي (¬2): رأيت أبا زيدٍ صاحِبَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤذنُ قاعِدًا، وكانت رِجْلُه أصِيبَتْ في سَبِيلِ الله. رَواه الأثْرَمُ (¬3). وإن فَعَلَه لغيرِ عُذْرٍ، فقد كرِهه أهلُ العلمِ، ويَصِحُّ؛ لأنه ليس آكدَ مِن الخُطْبَةِ، وتَصِحُّ مِن القاعِدِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التكبير بالصلاة في يوم غيم، من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البخاري 1/ 154. وأبو داود، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 104. (¬2) الحسن بن محمد العبدي، روى عن أبي زيد الأنصاري، روى عنه علي بن المبارك الهنائي. التاريخ الكبير 1/ 2 / 306. (¬3) وأخرجه البيهقي، في: باب الأذان راكبا وجالسا، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 392.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ الأذانُ على الراحِلَةِ، قال الأثْرَمُ: سَمعت أبا عبدِ الله يسأل عن الأذانِ على الرّاحِلَةِ، فسَهلَ فيه. وقال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت أن ابنَ عُمَرَ كان يُؤذِّن على البَعِيرِ، ويَنْزِل فيُقِيم (¬1). ولأنَّه إذا جاز التَّنَفُّل على الرّاحِلَةِ، فالأذانُ أوْلَى. [وبه قال] (¬2) سالِمُ بنُ عبدِ الله، وربْعِيُّ بنُ حِراش (¬3)، ومالك، والأوْزاعِي، والثوْري، وأصحابُ الرأي، إلَّا أن مالكًا قال: لا يُقيمُ وهو راكبٌ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الموضع السابق. (¬2) دم: «به قاله». (¬3) ربعِي بن حراش بن جحش بن عمرو أبو مريم الكوفي تابعي ثقة من خيار الناس لم يكذب كذبة قط، روى عن جمع من الصحابة. مات سنة إحدى ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 236، 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُؤذِّنَ مُتَطَهِّرًا مِن الحَدَثَين الأصغَرِ والأكْبَرِ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يُؤذنُ إلا متَوَضِّئٌ». رَواه التِّرمِذِيُّ (¬1). ورُوي موقُوفا على أبي هُرَيرَةَ، والمَوقوف أصَحُّ. فإن أذَّن مُحدِثا جاز (¬2)؛ لأنَّه لا يَزِيدُ على قِراءَةِ القُرآنِ، والطهارةُ لا تُشْتَرَطُ لها. وهو قَوْل الشافعيِّ، والثوْري، وأبي حنيفةَ. ويُكرهُ له ذلك، رُويَتْ كَراهتُه عن عَطاء، ومُجاهِدٍ، والْأوزاعِي، والشافعي، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. ورَخَّصَ فيه النخَعِيُّ، والحسنُ البصرِيُّ، وقَتادَةُ، وحَمّادٌ. وقال مالك: يُؤذِّنُ على غيرِ وُضوءٍ، ولا يُقِيمُ إلَّا على وُضوءٍ. ¬

(¬1) في: باب جاء في كراهية الأذان بغير وضوء، من أبواب الصلاة عارضة الأحوذي 2/ 2. (¬2) في الأصل: «صح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أذَّنَ جُنُبًا، ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، لا يُعتَدُّ به. اخْتارَه الخِرَقي، وهو قولُ إسحاقَ؛ لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ، ولأنه ذِكْر مشروعٌ للصلاةِ، أشبه القِراءَةَ والخُطبةَ. والثانيةُ، يُعتَدُّ به. قال الآمِديُّ: وهو المَنْصُوصُ عن أحمدَ. وهو قولُ أكْثرِ أهلِ العلمِ، لأنه أحدُ الحَدَثَين، فلم يمنع صحَّتَه كالآَخَرِ. ويُسْتَحَبُّ أن يُؤذِّنَ على مَوْضِعٍ عالٍ؛ لأنه أبلَغ في الإعلام، ورُوِيَ عن امرأة مِن بني النجّارِ، قالت: كان بيتِي مِن أطْوَلِ بَيتٍ (¬1) حَوْلَ المسجِدِ، وكان بِلال يُؤذنُ عليه الفَجْرَ، فيَأتِي بسَحَر، فيَجْلِسُ على البَيتِ يَنْظر إلى الفجرِ فإذا رَآه تَمَطَّى، ثم قال: اللهُمَّ إني أستعِينُكَ وأسْتعديكَ على قُرَيشٍ، أن يقِيمُوا دِينَك. قالت: ثُم يُؤذنُ. رَواه أبو داودَ (¬2). ويُؤذنُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، ولا نَعلَمُ خِلافًا في استِحبابِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أن مِن السُّنةِ أن يَستقْبِلَ القِبْلَةَ بالأذانِ؛ وذلك لأنَّ مُؤذنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - كانُوا يُؤذِّنُون مُسْتَقْبِلي القِبْلَةِ، فإن أخَلَّ باسْتِقْبالِ القِبْلَةِ، كُره له ذلك، وصَحَّ. ¬

(¬1) في م: «البيوت». (¬2) في: باب الأذان فوق المنارة من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 123.

269 - مسألة: (فإذا بلغ الحيعلة التفت يمينا وشمالا، ولم يستدر)

فَإذَا بَلَغَ الْحَيعَلَةَ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلم يَسْتَدِرْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن مشَى في أذانِه، لم يَبْطُلْ به (¬1)؛ لأنَّ الخُطبةَ لا تَبْطُلُ به، وهي آكَدُ منه، ولأنه لا يُخِلُّ بالإعلامِ المَقْصُودِ مِن الأذانِ. وسُئِل أحمدُ عن الرجلِ، يُؤذِّنُ وهو يَمشِي؟ قال: نعم، أمرُ الأذانِ عِنْدِي سَهْل. وسُئِل عن المؤذنِ يَمشِي وهو يقيمُ؟ فقال: يُعجِبُنِي أن يَفْرُغَ ثم يمشِي. وقال في رِوايِة حَرب، في المُسافِرِ: أحَب إليَّ أن يُؤذِّنَ ووَجْهُه إلى القِبْلَةِ، وأرجُو أن يُجْزيء. 269 - مسألة: (فإذا بَلَغ الحيعَلَةَ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمالًا، ولم يَستَدِرْ) الحَيعَلَةُ قَولُه: حَيَّ على الصلاةِ، حي على الفَلاحِ. ويُسْتحَبُّ للمُؤذنِ أن يَلْتَفِتَ يَمِينًا إذا قال: حَيَّ على الصلاةِ. ويَسارًا إذا قال: حَى ¬

(¬1) سقطت من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الفلاحِ. ولا يزِيلُ قدَمَيه. وهذا ظاهِرُ كلام الخِرَقي. وهو قولُ النخعِي، والثوْرِي، والأوْزاعِي، وأبي حنيفةَ وصَاحِبَيه، والشافعي؛ لِما روَى أبو جُحَيفَةَ، قال: رَأيتُ بِلالًا يُؤذِّنُ، فجَعَلْتُ أتتَبَّعُ فاه ههُنا وههُنا، يَقُولُ يَمِينًا وشِمالًا، يقولُ: حَي على الصلاةِ، حَي على الفَلاحِ. مُتفَق عليه (¬1). وفي لفظٍ قال: أتيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو في قُبَّةٍ حَمراءَ مِن أدَم، فخرَجَ بلالٌ فأذَّنَ، فلَمّا بَلَغ؛ حَيَّ على الصلاةِ حَيَّ على الفَلاحِ، لَوَّى عُنُقَه يَمِينًا وشِمالًا، ولم يَستدِر. رَواه أبو داودَ (¬2). وذَكَر أصحابُنا، عن أحمدَ في مَن أذَّنَ في المَنارَةِ روايَتَين، إحداهما، لا يَدُورُ؛ للخَبَرِ، وكما لو كان على وَجْهِ الأرض. والثانية، يَدُورُ، لأنَّه لا يَحصُلُ بدونِه، وتحصِيل (¬3) المَقْصُودِ مع الإخْلالِ بالأدَبِ أوْلَى مِن العَكْس. وهذا قول إسحاقَ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: كتاب هل يتتبع المؤذن فاه ها هنا وههنا وهل يلتفت في الأذان، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 163. ومسلم، في: باب سترة المصلي، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 360. كما أخرجه الترمذي، واللفظ له؛ في: باب ما جاء في إدخال الإصبع الأذن محمد الأذان. من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 312. وابن ماجه، في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 236. والدارمي، في: باب في الاستدارة، في الأذان، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 271، 272. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 308، 309. (¬2) في: باب في المؤذن يستدير في أذانه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 124. (¬3) في الأصل: «يحصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَب رَفْعُ الصوْتِ بالأذان لأنه أبلَغُ في الإعلام، وأعظَمُ للأجْرِ؛ لِما ذَكَرنا في خَبَرِ أبي سعيدٍ (¬1)، ولا يُجْهِدُ نَفْسَه زِيادَةً على طاقَتِه؛ كيلا يُضِرَّ بنَفْسِه، ويَنْقَطِعَ صَوْتُه. قال القاضي: ويَرفَعُ نَظَرَه إلى السَّماءِ؛ لأن فيه حَقِيقَةَ التوْحِيدِ، ومتى أذّن لعامَّةِ النّاس جَهر بجَمِيع الأذانِ، ولا يَجْهرُ بالبَعضِ ويُخافِتُ بالبَعض؛ لأَنه يُخِلُّ بمَقْصُودِ الأذانِ، وإن أذَّن لنَفْسِه، أو لجَماعَةٍ خاصةٍ حاضِرِينَ، فلَه أن يُخافِتَ ويَجْهرَ، وأن يَجْهرَ بالبعض ويُخافِتَ بالبعض، إلَّا أن يكونَ في غيرِ وَقتِ الأذانِ، فلا يَجْهرُ بشيءٍ مِنه؛ لئلا يَغُرَّ الناس. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 54.

270 - مسألة: (ويجعل إصبعيه في أذنيه)

وَيَجْعَلَ إصبَعَيهِ في أُذُنَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 270 - مسألة: (ويَجعَلَ إصبَعَيه في أُذُنَيْه) وذلك مُسْتَحب، وهو المَشْهُورُ عن أحمدَ، وعليه العَمَلُ عندَ أهلِ العلمِ. كذلك قال الترمِذِي؛ لِما روَى أبو جُحَيفَةَ، أن بِلالًا وَضَع إصبَعَيه في أذُنيه. رَواه الإمامُ أحمدُ، والترمِذي (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. وعن سعدٍ القَرَظِ (¬2)، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِلالا أن يَجْعَلَ إصبَعَيه في أذُنَيه، وقال: «إنهُ أرفَعُ لِصَوْتِكَ». رَواه ابنُ ماجَه (¬3). وقال الخِرَقي: يَجْعَل أصابعَه (¬4) مَضْمُومَةً على أذُنَيه. رَواه أبو طالب عن أحمدَ، أنه قال: أحَبُّ إلى أن يَجْعَلَ يَدَيه على أذنيه، على حديثِ أبي مَحذُورَةَ. واحتَج لذلك ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في إدخال الإصبع الأذن عند الأذان. من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 312. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 308، 309. (¬2) هو سعد بن عائذ المؤذن، مولى عمار بن ياسر، المعروف بسعد القَرظ، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يتَّجر فيه، ومسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، وبرَّك عليه، وجعله مؤذن مسجد قباء، وخليفة بلال إذا غاب وعاش أيام الحجاج بن يوسف الثقفي. أسد الغابة 2/ 355، 356. والقرظ: حبّ يخرج في غُلُف، كالعدس، من شجر العِضَاه، والعضاه من شجر الشوك. (¬3) في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 236. (¬4) في م: «إصبعيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي بما روَى أبو حَفْصٍ، بإسْنادِه عن ابنِ عُمَرَ، رَضِي الله عنهما، أنّه كان إذا بَعَث مُؤذنًا يقُولُ له: اضْمُم أصابِعَك مع كَفَّيك، واجْعَلْها مَضْمُومَةً على أذُنيك. وبما روَى الإمامُ أحمدُ، عن أبي مَحذُورَةَ، أنَّه كان يَضُمُّ أصابِعَه. والأولُ أصَحُّ؛ لصِحَّةِ الحديثِ وشُهْرَتِه، وعَمَلِ أهلِ العلمِ به، وأيَّهما فَعَل فحَسَنٌ، وإن تَرَك الكل فلا بأسَ.

271 - مسألة: (ويتولاهما معا)

وَيتَوَلَّاهُمَا مَعًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 271 - مسألة: (ويَتَوَلَّاهما معًا) يُسْتَحبُّ أن يَتَوَلَّى الإقامَةَ مَن يَتَوَلَّى الأذانَ. وهو قولُ الشافعي. وقال أبو حنيفةَ، ومالك: لا فَرقَ بينَه وبينَ غيرِه؛ لِما روَى أبو داودَ (¬1)، في حديثِ عبدِ الله بنِ زَيدٍ، حينَ رَأى الأذانَ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألْقِهِ عَلَى بلَالٍ؛ فَإنهُ أنْدَى صَوتا مِنْكَ» فَألْقاهُ عليه، فأذَّنَ بِلال، فقال عبدُ الله: أنا رَأيتُه، وأنا كُنْتُ أرِيدُه. قال ماله: «أقم أنْتَ». ولأنه يَحصُلُ المَقْصُودُ منه، أشْبَه ما لو تَوَلاهُما معًا. ولَنا، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ زِيادِ بنِ الحارِثِ الصُّدائِي: «إن أخَا صُدَاءَ (¬2) أذَّنَ، وَمَنْ أذَّنَ فَهُوَ يقيمُ» (¬3). ولأَنهما ذِكْران يتَقَدَّمان الصلاةَ، فيُسَنُّ أن يتَوَلاهما واحِدٌ، كالخُطبتَين، وما ذكَرُوه يَدُل على الجَوازِ، وهذا على الاسْتحبابِ. فصل: فإن سُبِق المؤذنُ بالأذانِ، فأراد المؤذِّن أن يُقِيمَ، فقال أحمدُ: لو أعادَ الأذانَ كما صَنَع أبو مَحذُورَةَ. فرَوَى عبدُ العزيزِ بنُ ¬

(¬1) في: باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، من كتاب الصلاة سنن أبي داود 1/ 122. (¬2) صداء: قبيلة من اليمن. الأنساب 8/ 39. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، من كتاب الصلاة سنن أبي داود 1/ 122. والترمذي، في: باب جاء أن من أذن فهو يقيم، من أبواب الصلاة عارضة الأحوذي 1/ 315. وابن ماجه، في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان سنن ابن ماجه 1/ 237. والإمام أحمد في: المسند 4/ 169.

272 - مسألة: (و)

وَيقيمَ فِي مَوْضِعِ أذَانِهِ، إلَّا أنْ يَشُقَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُفَيعٍ (¬1)، قال: رأيتُ رجلًا أذَّنَ قبلَ أبي مَحذُورَةَ، قال: فجاء أبو مَحذُورَةَ، فأذنَ، ثم أقامَ. أخْرَجَه الأثْرَمُ. فإن أقام بغيرِ إعادَةٍ، فلا بَأسَ. وبه قال مالكٌ، والشافعي، وأصحابُ الرَّأي، لِما ذَكَرنا مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ. 272 - مسألة: (و) يُستحَب للمُؤذنِ أن (يقيمَ في مَوْضِع أذانِه، إلَا أن يَشُقَّ عليه) يَعنِي يقيمُ الصلاةَ في المَوْضِع الذي يُؤذن فيه. كذلك رُوِيَ عن أحمدَ، قال: أحَب إلى أن يقِيمَ في مَكانِه، ولم يَبْلُغْنِي فيه شيءٌ إلَا حديثُ بِلال: «لَا تَسْبِقْنِي بآمِينَ» (¬2)،. يَعنِي لو كان يُقِيمُ في المسجدِ، لَما خاف أن يَسْبِقَه بالتَّأمِينِ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يُكَبِّر بعدَ فَراغِ بِلالٍ مِن الإقامَةِ، ولأن الإقامَةَ شُرِعَتْ للإعلامِ، بدَلِيلِ قولِ ابنِ عُمرَ: كُنّا إذا سمعنا الإقامَةَ تَوَضَّأنا ثم خَرَجْنا إلى الصلاةِ (¬3). فيَنْبَغِي أن تكُونَ في مَوْضع الأذانِ؛ لكَوْنِه أْبلَغ في الإعلامِ، فأمّا إن شق عليه ¬

(¬1) أبو عبد الله الأسدي المكي، تابعي، ثفة، توفي سنة ثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 6/ 337، 338. (¬2) أخرجه أبو داود، في: كتاب التأمين وراء الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 215. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 12، 15. (¬3) أخرجه أبو داود، في: كتاب الإقامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 122. والنسائي: باب كيف الإقامة، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 18. والبيهقي، في: باب تثنية قوله: قد قامت الصلاة، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 413.

273 - مسألة: (ولا يصح الأذان إلا مرتبا مواليا، فإن نكسه، أو فرق بينه بسكوت طويل، أو كلام كثير، أو محرم، لم يعتد به)

وَلَا يَصِحُّ الأذَانُ إلَّا مُرَتبًا مُتَوَالِيًا، فَإنْ نَكَّسَهُ أوْ فَرَّقَ بَيْنَهُ بِسُكُوتٍ طَوِيلٍ، أوْ كَلَامٍ كَثِيرٍ، أوْ محَرَّم، لَمْ يُعتَدَّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، بحيث يُؤذنُ (¬1) في المنارَةِ أو [في مكانٍ] (¬2) بَعِيدٍ مِن المسجدِ، فيُقِيمُ في غيرِ مَوْضِعِه؛ لئلا يَفُوتهَ بعضُ الصلاةِ. فصل: ولا يُقِيمُ إلّا بإذْنِ الإِمامِ، فإنَّ بلالًا كان يَسْتَأذِنُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وفى حديثِ زيادِ بنِ الحارثِ الصُّدائِيِّ، أنَّه قال: فجَعلْتُ أقولُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أقِيمُ أقِيمُ (¬3)؟ وروَى أبو حَفْص، بإسنادِه، عن عليٍّ، قال: المُؤذَّنُ أملَكُ بالأذانِ، والإمامُ أملَكُ بالإقامَةِ. ورَواه البَيهقِيُّ (¬4)، قال: وقد رُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ مَرفُوعًا، وليس بمَحفوظٍ. 273 - مسألة: (ولا يَصِحُّ الأذانُ إلّا مُرَتبًا مُوالِيًا، فإن نَكَّسَه، أو فَرَّق بينَه بسُكُوت طَوِيل، أو كلام كَثِير، أو مُحَرم، لم يُعتَدَّ به) وجُملَةُ ذلك، أن مِن شَرطِ صِحَّةِ الأذانِ أن يكُونَ مُرَتبًا تُوالِيًا؛ لأنَّه لا يُعلَمُ أنه أذان بدُونِهما، ولأنَّه شُرِع في الأصلِ كذلك، وعَلَمَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا مَحْذُورَةَ مُرَتبًا، فإن نكَّسَه، لم يَصِحَّ؛ لِما ذَكَرنا. ¬

(¬1) في الأصل: «يكون». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 82. (¬4) في: باب لا يقيم المؤذن حتى يخرج الإمام، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُسْتَحَبُّ أن يَتَكَلَّمَ في أَثْناءِ الأذانِ، وكَرِهه طائِفَة مِن أهلِ العلمِ؛ منهم النَّخَعيُّ، وابنُ سِيرِينَ. قال الأوْزاعِيُّ: لم نَعلَم أحدًا يُقْتَدَى به فَعَل ذلك. ورَخَّصَ فيه الحسنُ، وعَطاء، وعُروَةُ، وسُلَيْمانُ بنُ صُرَدٍ (¬1). فإن لم يَطُلِ الكلامُ جاز، وإن طال الكلامُ بَطل الأذانُ؛ لإِخْلالِه بالمُوالاةِ المُشْتَرَطَةِ فيه. وكذلك لو سَكَت سُكُوتًا طَوِيلًا، أو تام نَوْمًا طويلًا، أو أغْمِىَ عليه طويلًا (¬2)، أو أصابَه جُنُون يَقْطَعُ المُوالاةَ، بَطل أذانُه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن كان يَسِيرا مُحَرَّمًا [كالسَّبِّ ونَحوِه] (¬3)، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَبْطُلُ؛ لأنَّه لا يُخِلُّ بالمَقْصُودِ، أشْبَة المُباحَ. والثاني، يَبْطُلُ الأذانُ؛ لأنَّه فَعَل فيه (¬4) مُحَرمًا، أشبهَ الرِّدَّةَ. فإن ارتدَّ في أثْناءِ الأذانِ، بَطُلُ؛ لقَوْلِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬5). وإن ارتَدَّ بعدَه، فقال القاضى: يَبْطُلُ، قِياسًا على الطهارة. قال شَيْخنا (¬6): والصحيحُ أنه لا يَبْطُلُ، لأنَّها ¬

(¬1) أبو مطرف سليمان بن صرد بن الجون الخزاعى الكوفي، له صحبة، كان خيرا فاضلا، قتل سنة خمس وستين. تهذيب التهذيب 4/ 200، 201. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) سورة الزمر 65. (¬6) في: المغنى 2/ 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجِدَتْ بعدَ فَراغِه، وانْقِضاءِ حُكْمِه، فأشْبَهَ سائِرَ العِباداتِ. فأمَّا الطهارةُ فحُكْمُها باقٍ؛ بدَلِيلِ أنها تَبْطُلُ بمُبْطِلاِتِها، فأمَّا الإقامَةُ فلا يَنْبَغِى أن يَتَكَلَّمَ فيها؛ لأنه يُستحَبُّ حَدرُها. قال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: الرجل يَتَكَلَّمُ في أذانِه؟ قال: نعم. فقِيلَ له: يَتَكلمُ في الإقامَةِ؟ قال: لا. وقد رُوِىَ عن الزُّهْرِي، أنه إذا تَكلَّم في الإقامَةِ أعادَها. وأكثرُ أهلِ العلمَ على أنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجزِئُه قِياساً على الأذانِ. وليس للرجلِ أنْ يَبْنىَ علىْ أذانِ غيرِهْ؛ لأنَّها عِبادَةْ بَدَنِيَّة، فلا تَصِحُّ مِن شَخْصَيْن، كالصلاةِ. فأمّا الكلامُ بينَ الأذانِ والإقامَةِ فجائِز، وكذلك بعدَ الإقامَةِ قبلَ الدُّخُولِ في الصلاةِ؛ لأنَّه روِى عُمر، أنَّه كان يُكَلِّم الرَّجُلَ بعدَ ما تُقامُ (¬1) الصلاةُ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «أقام».

274 - مسألة: (ولا يصح إلا بعد دخول الوقت، إلا الفجر، فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل)

ولَا يَجُوزُ إلَّا بَعدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إلَّا الْفَجْرَ، فَإنَّهُ يُؤذنُ لَها بعدَ نِصفِ اللَّيْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 274 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلّا بعدَ دُخُولِ الوَقْتِ، إلاَّ الفَجْرَ، فإنه يُؤذنُ لها بعدَ نِصفِ الليْلِ) أما الأذانُ لغيرِ الفَجْرِ قبلَ الوَقْتِ، فلا يُجْزِىُّ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع أهلُ العلم على أن مِن السنةِ أن يُؤذن للصلَواتِ بعدَ دُخولِ وَقْتِها، إلَّا الفَجْرَ. ولأنَ الأذانَ شُرِعَ للإعلامِ بالوَقْتِ، فلا يُشْرَعُ قبلَ الوقتِ؛ لعَدَمِ حُصُولِ المَقْصُودِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأمّا الفَجْرُ، فيشْرَعُ لها الأذان قبلَ الوَقْتِ. وهو قولُ مالكٍ، والأوْزاعِى، والشافعىَّ، وإسحاقَ. وقال الثَّوْرِى، وأبو حنيفةَ، ومحمد: لا يَجُوزُ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أن بِلالًا أذَّن قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فأمَره النبيُّ أن يَرجِعَ فيُنادِىَ: «ألَا إنَّ العَبْدَ نَامَ». فرَجعَ فنادَى: ألا إن العَبْدَ نامَ. وعن بِلالٍ أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «لَا تُؤْذِّن حَتَّى يَسْتَبِين لَكَ الْفَجْرُ هكَذَا». ومَدَّ يَدَيْه عَرضًا. رَواهُما أبو داود (¬1). وقال طائِفَة مِن أهلِ الحديثِ: إذا كان له مُؤذِّنان، يُؤذنُ أحَدُهُما قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ والآخَرُ بعدَه، فلا بَأسَ وإلَّا فلا؛ لأنّ الأذانَ قبلَ طُلُوعِ (¬2) الفَجْرِ يُفَوِّتُ المَقْصُودَ مِن الإعلامِ بالوَقْتِ، فلم يَجُزْ، كبَقِيةِ الصَّلَواتِ، فأمّا إذا كان له مُؤذِّنان يَحصُلُ إعلامُ الوقتِ بأحَدِهما كما كان للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، جاز. ولَنا، قَوْلُ النبى - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ بِلَالًا يُؤذنُ بِلَيْلٍ، فَكلُوا وَاشربُوا حَتَّى ¬

(¬1) في: باب في الأذان قبل دخول الوقت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 126، 127. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤذِّنَ ابْنُ أمِّ مَكتُومٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا يَدُلُّ على دَوامِ ذلك منه، وقد أقَره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ولم يَنْهه، فدَلَّ على جَوازِه. وروَى زيادُ بنُ الحارِثِ الصُّدائِىُّ، قال: لَما كان أذانُ الصبحِ أمَرَنِى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذنْتُ، فجَعلْتُ أقولُ: أُقِيمُ، أُقِيمُ يا رسولَ الله؟ فجَعَلَ يَنْظُرُ إلى ناحِيَةِ المَشْرِقِ، فيقولُ: «لَا». حتى إذا طَلَع الفَجْرُ نَزَل، فبَرَزَ، ثم انْصَرَف إليَّ وقد تَلاحَقَ أصحابُه، فتَوَضأ، فأراد بِلال أن يقيمُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخَا صُدَاءَ قَدْ أذَّنَ، وَمَنْ أذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ». قال: فأقمتُ. رَواه أبو داودَ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، وباب الأذان قبل الفجر، من كتاب الأذان، وفي: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال»، من كتاب الصوم، وفى: باب شهادة الأعمي. . . . إلخ، من كتاب الشهادات، وفى: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة. . . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البخارى 1/ 160، 161، 3/ 37، 225، 9/ 107، 108. مسلم، في: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. . . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 1/ 768، 769. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الأذان بالليل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 4، 5. والنسائي، في: باب المؤذنان للمسجد الواحد، وباب هل يؤذنان جميعا أو فرادى. المجتبى 2/ 9، 10، الدارمي، في: باب في وقت أذان الفجر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 269، 270. والإمام مالك، في: باب قدر السحور من النداء، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 74. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 9، 57، 62، 64، 73؛ 79، 107، 123، 6/ 44، 54، 185، 186، 433.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والترمِذِى (¬1). وهذا قد أمَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذانِ قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وهو حُجَّة على مَن قال: إنَّما يَجُوزُ ذلك إذا كانَ معه مُؤذِّنان. فإن زِيادًا أذَّنَ وَحدَه، و (¬2) حديثُ ابنِ عُمَرَ الذى احتَجُّوا به، لم يَروه كذلك إلّا [حمادُ بنُ سلمة. رَواه حمادُ بنُ زيدٍ] (¬3) والدَّراوَردِيُّ (¬4)، فقالا: كان مُؤذِّنٌ لعُمَرَ، يُقالُ له: مسعود. وقال (¬5): هذا أصَح. وقال الترمِذِى (¬6) في هذا الحديثِ: إنَّه غيرُ مَحفُوظٍ. وكذلك قال على (¬7) ابنُ المَدِيني. والحديثُ الآخَرُ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬8): لا تَقُومُ بمِثْلِهِ حجّة؛ لضَعفِه وانْقِطاعِه. وإنما اخْتَصَّتِ الفَجْرُ بذلك دُونَ سائِرِ الصَّلَواتِ؛ لأنه وَقْتُ النوْمِ، ليَتَأهَّبَ النّاسُ للخُرُوجِ إلى الصلاةِ، ويَنْتَبِهُوا، ولا يُوجَدُ ذلك في غيرِها، وقد رُوِىَ في بعض الأحاديِث: «إنَّ بِلَالًا يؤذنُ بِلَيْل؛ لِيَنْتَبِهَ نائِمُكم وَيرجِعَ قَائِمُكُم». رَواه أبو داود (¬9). ولا يَنْبَغِى أن يَتَقَدَّمَ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 82. (¬2) في م: «في» (¬3) في الأصل: «حماد بن زيد». وفي دم: «حماد بن زيد رواه أحمد بن زيد». والصواب ما أثبتناه. وانظر: سنن أبي داود 1/ 127. (¬4) هو أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبيد، من أهل المدينة، توفى سنة ست وثمانين، مائة. الأنساب 5/ 295. (¬5) أى أبو داود. وانظر قوله في الموضع السابق. (¬6) في: باب ما جاء في الأذان، بالليل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 4/ 2. وقول ابن المدينيّ فيه 2/ 5. (¬7) في م: «عمر». وهو على بن عبد الله بن جعفر ابن المدينى البصرى، أبو الحسن الإمام المشهور صاحب التصانيف. مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. تهذيب التهذيب 7/ 349 - 357. (¬8) التمهيد 10/ 59. (¬9) تأتي رواية أبي داود لهذا الحديث في «فصل نص أحمد على أنه يكره الأذان للفجر في رمضان». ورواه بهذا اللفظ النسائي، في: باب الأذان في غير وقت الصلاة، من كتاب الأذان، وفى: باب كيف الفجر، من كتاب الصيام. المجتبي 2/ 10، 4/ 121، 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَقْتِ كثيرًا، إذا كان المَعْنَى فيه ما ذَكَرنا. وقد رُوِى أن بِلالًا كان بينَ أذانِه وأذانِ ابنِ أم مَكتُوم أن ينْزِلَ بهذا ويَصعَدَ هذا (¬1). وقال بَعضُ أصحابِنا: ويَجُوزُ أن يُؤذن لها بعدَ نِصفِ اللَّيْلِ. وهو مذهبُ الشافعى؛ لأنَّ بذلك يَخْرُجُ وَقْتُ العِشاءِ المُخْتارُ، ويدخُلُ وقتُ الدَّفْع مِن مُزْدَلِفَةَ، ورَمىِ جَمرَةِ العَقَبَةِ، وطَوافِ الزِّيارَةِ. وروَى الأثْرَمُ، قال: كان مُؤذِّنُ دِمَشْقَ يُؤذن لصلاةِ الصبحِ في السَّحَرِ بقَدرِ ما يَسِيرُ الرّاكِبُ سِتَّةَ أمْيالٍ، فلا يُنْكِرُ ذلك مَكْحُولْ ولا يقولُ شيئًا. فصل: ويُستحَبُّ أن لا يُؤذِّنَ قبلَ الفَجْرِ، إلَّا أن يكُونَ معه مُؤذن آخَرُ يُؤذنُ إذا أصبَحَ، كِبلالٍ وابنِ أمِّ مَكْتُومٍ، ولأنَّه إذا لم يَكُنْ كذلك، لم يَحصُلِ الإِعلامُ بالوَقْتِ المَقْصُودِ بالأذانِ. ويَنْبَغِى لمَن يُؤذنُ قبلَ الوقتِ أن يَجْعَلَ أذانَه في وَقْت واحِدٍ في الليالِى كلِّها؛ ليَعرِفَ الناسُ ذلك مِن عادَتِه، فلا يَغْتَرُّوا بأذانِه، ولا يُؤذِّنُ في الوَقْتِ تارةً وقبلَه أُخْرَى، فيَلْتَبِس على النّاس، ويَغْتَرون به، فربما صَلى بعضُ مَن سَمِعَه الصُّبحَ قبلَ وَقْتِها، ويَمْتَنِعُ مِن سَحُورِه، والمُتَنَفِّلُ مِن تَنَفلِه إذا لم يَعلم حالَه، ومَن عَلِم حالَه لا يَسْتَفِيدُ بأذانِه، لتَرَدُّدِه بينَ الاحتِمالَيْن. فصل: نَصَّ أحمدُ على أنه يكْرهُ الأذانُ للفَجْرِ في رمضانَ قبلَ وَقْتِها؛ لئلَّا يَغْتَرَّ النّاسُ به، فيَتْرُكُوا سَحُورَهُم. والصَّحِيحُ أنَّه لا يُكْرهُ في حَقِّ مَن عُرِفَتْ عادَتُه في الأَذانِ بالليْلِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ بلال، ولقَوْلِه ¬

(¬1) انظر تخريج حديث «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» المتقدم.

275 - مسألة: (ويستحب أن يجلس بعد أذان المغرب جلسة خفيفة، ثم يقيم)

وَيُسْتَحَبُّ أنْ يَجْلِسَ بَعدَ أذَانِ الْمَغْرِبِ جَلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يقيمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَمنَعنكُم مِنْ سَحُورِكُم أذَانُ بِلَالٍ؛ فَإنَّهُ يُؤذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيَنْتَبِهَ نَائِمُكُم وَيَرجِعَ قَائِمُكُم». رَواه أبو داودَ (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يُؤذنَ في أوَّلِ الوَقتِ؛ ليَتَأهَبَ النّاسُ للصلاةِ، وقد روَى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، قال: كان بِلالٌ لا يُؤخِّرُ (¬2) الأذانَ عن الوَقتِ، ورُبَّما أخَّرَ الإقامَةَ شيئًا. رَواه ابن ماجه (¬3). وفى رِواية: كان بِلال يُؤذِّنُ إذا مالَتِ الشمسُ، لا يَخْرِمُ (¬4). 275 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَجْلِسَ بعدَ أَذانِ المَغرِبِ جَلْسَةً خَفِيفَةً، ثم يُقيمَ) لِما روَى تَمّامٌ (¬5) في فَوائِده، بإسْنادِه، عن أبى ¬

(¬1) في: باب في وقت السحور من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 548. كما أخرجه البخارى، في: باب الأذان قبل الفجر، من كتاب الأذان، وفى: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال» (في ترجمة الباب)، من كتاب الصوم، وفي: باب الإشارة في الطلاق، من كتاب الطلاق، وفي: باب جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق. . . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البخارى 1/ 160، 161، 2/ 37، 7/ 67، 9/ 102. ومسلم، في: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. . . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 768. وابن ماجه، في: باب ما جاء في تأخير السحور، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 541. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 386، 392، 435. (¬2) في الأصول: «يخرم»؛ والمثبت من ابن ماجه. (¬3) في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 236. (¬4) أخرجها أحمد، في: المسند 5/ 91. (¬5) أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله الرازى، المحدث الثقة، المتوفى سنة أربع عشرة وأربعمائة، وكتابه الفوائد مخطوط. تذكرة الحفاظ 3/ 1056 - 1058.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «جُلُوِسُ الْمُؤذِّنِ بَيْنَ الأذَانِ وَالْإقَامَةِ في الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ» (¬1). وحُكِى عن أبى حنيفةَ والشافعىِّ، أنَّه لا يُسَنُّ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، وقد روَى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ (¬2)، بإسْنادِه، عن أبَىٍّ بنِ كَعْبٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا بِلَالُ، اجْعَلْ بَيْنَ أَذانِكَ وَإقَامَتِكَ نَفَسًا، يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِى مَهَلٍ، وَيَقضِى الْمُتَوَضِّئُ (¬3) حاجَتَهُ فِى مَهَلٍ». ولأنَّ الأذانَ شُرِع للإعْلامِ، فيُسَنُّ تَأْخِيرُ الإقامَةِ؛ ليُدْرِكَ النّاسُ الصلاةَ في المَغْربِ كسائِرِ الصَّلَواتِ. ¬

(¬1) أخرجه الديلمى، في: كتاب فردوس الأخيار 2/ 175. وانظر: الجامع الكبير، للسيوطى 3/ 728. (¬2) في: المسند 5/ 143. (¬3) سقطت من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَفْصِلَ بينَ الأذانِ والإقامَةِ بقَدْر الوُضُوءِ وصلاةِ رَكْعَتَيْن؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ولِما روَى جابرٌ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبِلالٍ: «اجْعَلْ بَيْنَ أذَانِكَ وَإقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ (¬1) إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ». رَواه أبو داودَ، والتِّرمِذِىُّ (¬2). فصل: قال إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ: رَأيْتُ أحمدَ خَرَج عندَ المَغْرِبِ، فحِينَ انْتَهَى إلى مَوْضِعِ الصَّفِّ أخَذَ المُؤَذِّنُ في الإِقامَةِ، فجَلَسَ. قال أحمدُ: يَقْعُدُ الرجلُ مِقْدارَ الرَّكْعَتَيْن إذا أذَّنَ المَغْرِبُ. قِيل: مِن أين؟ قال: مِن حديثِ أنَسٍ وغيرِه: كان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ ابْتَدَرُوا السَّوارِىَ وَصَلَّوْا رَكْعَتَيْن (¬3). وروَى الخَلّالُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبى لَيْلَى، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءَ وبِلالٌ في الإقامةِ، فقَعَدُ. ¬

(¬1) المعتصر: من يقضى حاجته. من اعتصر بمعنى استخرج. (¬2) لم نجده عند أبى داود. وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الترسل في الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 311، 312. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة إلى الأسطوانة، من كتاب الصلاة، وفى: باب كم بين الأذان والإقامة من كتاب الأذان. صحيح البخارى 1/ 134، 161. ومسلم، في: باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 573. والنسائى, في: باب الصلاة بين الأذان والإقامة، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 24. والدرامى، في: باب الركعتين قبل المغرب، من كتاب الصلاة سنن الدرامى 1/ 336. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 280.

276 - مسألة: (ومن جمع بين صلاتين، أو قضى فوائت، أذن وأقام للأولى، ثم أقام لكل صلاة بعدها)

وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، أوْ قَضَى فَوَائِتَ، أَذَّنَ وَأقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 276 - مسألة: (ومَن جَمَع بينَ صَلاَتَيْن، أو قَضَى فَوائِتَ، أذَّنَ وأقام للأُولَى، ثُمُّ أقَامَ لكلِّ صلاةٍ بعدَها) متى جَمَع بينَ صَلاتَيْن، أذَّنَ وأقام للأُولَى، ثُمَّ أقَامَ للثانِيَةِ، سَواءٌ كان الجَمْعُ في وَقْتِ الأُولَى أو الثانيةِ؛ لما روَى جابِرٌ، أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَع بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ بعَرَفَةَ، وبينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ بمُزْدَلِفَةَ، بأذانٍ وإقامَتَيْن. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: جَمَع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ المَغْرِبِ والعِشاء بجَمْعٍ، كلُّ واحِدَةٍ ¬

(¬1) في: باب حجة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 860، 891. كما أخرجه أبو داود، في: باب صفة حجة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 442. والنسائى، في: باب الأذان لمن جمع بين الصلاتين بعد ذهاب وقت الأولى منهما، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 14. وابن ماجه، في: باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1026. والدارامى، في: باب في سنة الحج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما بإقامَةٍ. رَواه البُخارىُّ (¬1). إلاَّ أنَّه إذا جَمَع في وَقتِ الأُولَى، كان الأذانُ لها آكَدَ؛ لأنَّها مَفْعُولَةٌ في وَقْتِها، أشْبَهَ ما لو لم يَجْمَعْ، وإن كان في وَقْتِ الثانيةِ، فلم يُؤَذِّنْ، أو جَمَع بَيْنَهما بإقامَةٍ واحِدَةٍ، فلا بَأْسَ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: جَمَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ بجَمْعٍ، صَلَّى المَغْرِبَ ثلاثًا والعِشاءَ رَكْعَتَيْن، بإقامَةٍ واحِدَةٍ. رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّ الأُولَى مَفْعُولَةٌ في غيرِ وَقْتِها، فهى كالفَائِتَةِ، والثَّانِيَةَ مَسْبُوقَةٌ بصلاةٍ، فلم يُشْرَعْ لها الأذان، كالثانيةِ مِن الفَوائِتِ. وقال مالِكٌ: يُؤذِّنُ للأُولَى والثّانِيَةِ، ويُقِيمُ؛ لأنَّ الثانيةَ منهما صلاةٌ يُشْرَعُ لها الأذانُ لو لم تُجْمَعْ، فكذلك إذا جُمِعَتْ (¬3)، وهو مُخالِفٌ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ الصَّحِيحَةِ. ¬

(¬1) في: باب من جمع بينها ولم يتطوع، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 201. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 448. والنسائى، في: باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 209. (¬2) في: باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 937.كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بجمع من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 448. والترمذى، في: باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 123. والنسائى، في: باب الإقامة لمن جمع بين الصلاتين، من كتاب الأذان، وفى: باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، عن كتاب المناسك. المجتبى 2/ 14، 15، 5/ 210. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 18، 33، 34، 56، 59، 62، 78، 152. (¬3) في الأصل: «اجتمعت مع أخرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا قَضاءُ الفَوائِتِ، فإن كانتِ الفائِتَةُ واحِدَةً أذَّنَ لها وأقام؛ لِما روَى عَمْرُو بنُ أمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ، قال: كُنَّا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أسْفارِه، فنام عن الصُّبْحِ حتى طَلَعَتِ الشَّمْسُ, فاستَيْقَظَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «تَنَحُّوا عَنْ هَذَا الْمَكَانِ». قال: ثم أمَرَ بِلالًا، فأذَّنَ، ثم تَوَضَّئُوا وصَلَّوْا رَكْعَتَىِ الفَجْرِ، ثم أمر بِلالًا فأقام الصلاةَ، فصَلَّى بهم صلاةَ الصُّبْحِ. رَواه أبو داودَ (¬1). وإن كَثُرَتِ الفَوائِتُ أذَّنَ وأقام للأُولَى، ثم أقام لكلِّ صلاةٍ بعدَها؛ لِما روَى أبو عُبَيْدَةَ، عن أبيه عبدِ الله بِنِ مسعودٍ، أنَّ المُشْيركِين شَغَلُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أرْبَعِ صَلَواتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ، حتى ذَهَب مِن اللَّيْلِ ما شاء الله، فأمَرَ بِلَالًا، فأذَّنَ ثم أقام، فصَلَّى الظهْرَ، ثم أقام، فَصَلَّى العَصْر، ثم أقام، فصَلَّى المَغْرِبَ، ثم أقام، فصَلَّى العِشاءَ. رَواه الإِمامُ أحمدُ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حديثُ عبدِ اللهِ ليس بإسْنادِه بَأْسٍ، إلَّا أنَّ أبا عُبَيْدَةَ لم يَسْمَع مِن عبيد اللهِ. وإن لم يُؤذِّنْ فلا بَأْسَ، وهذا في الجماعةِ. فإن كان وَحْدَه، كان اسْتِحْبابُ ذلك أدْنَى في حَقِّه؛ لأنَّ الأذانَ والإقامَةَ للإعْلامِ، ولا حاجَةَ إلى الإعْلامِ ¬

(¬1) في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 103. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهنّ يبدأ، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 291. والنسائى، في: باب الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد، وإقامة لكل واحدة منها, من كتاب الأذان. المجتبى 3/ 15. والإمام أحمد, في: المسند 1/ 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هاهُنا، وقد رُوِىَ عن أحمدَ في مَن فاتَتْه صَلَواتٌ فقَضاها، فأذَّن وأقام مَرَّةً واحِدَةً، فسَهلَ في ذلك، ورَآه حَسَنًا. ورُوِىَ ذلك عن الشافعىِّ، وله قَوْلان آخَران؛ أحَدُهما، أنَّه يُقِيمُ ولا يُؤَذِّنُ. وهو قولُ مالكٍ؛ لِما روَى، أبو سعيدٍ، قال: حُبِسْنا يَوْمَ الخَنْدَقِ عن الصلاةِ، حتى كان بعدَ المَغْرِبِ بهَوىٍّ (¬1) مِن اللَّيْلِ. قال: فدَعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلالًا، فأمَرَه فأقام الظهْرَ، فصَلّاها، ثم أمَرَه فأقام العَصْرَ، فصَلّاها (¬2). ولأنَّ الأذانَ للإعْلام بالوَقْتِ، وقد فات. والقَوْل الثانى للشافعىِّ: إن رُجِىَ اجْتِماعُ النّاسِ أذَّنَ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه لا حاجَةَ إليه. وقال أبو حَنِيفَةَ: يُؤذِّنُ لكلِّ صلاةٍ ويُقِيمُ؛ لأنَّ ما سُنَّ للصلاةِ في أدائِها سُنَّ في قَضائِها، كسائِرِ المَسْنُوناتِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لحديثِ ابنِ مسعودٍ، وهو مُتَضَمِّنٌ للزِّيادَةِ، والزِّيادَةُ مِن الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وما قال أبو حنيفةَ مُخالِفٌ لحديثِ ابنِ مسعودٍ وأبى سعيدٍ، ولأنَّ الثّانِيَةَ مِن الفَوائِتِ صلاةٌ قد أُذِّنَ لِما قبلَها، أشْبَهَتِ الثّانِيَةَ مِن المَجْمُوعَتَيْن، وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بهذا. والله أعلمُ. فصل: ومَن دَخَل مسجدًا قد صُلِّىَ فيه، فإن شاء أذَّنَ وأقام. نَصَّ عليه؛ لأنَّه رُوِى عن أنَسٍ، أنَّه دَخَل مسجدًا قد صَلَّوْا فيه، فأمَرَ رجلًا ¬

(¬1) الهوى من الليل: ساعة. (¬2) أخرجه النسائى، في: باب الأذان للفائت من الصلوات، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 15. والدارمى، في: باب الحبس عن الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 358. والإمام أحمد, في: المسند 3/ 25، 49, 67, 68.

277 - مسألة: (وهل يجزئ أذان المميز للبالغين؟ على روايتين)

وَهَلْ يُجْزِئُ أَذَانُ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِينَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأذَّنَ وأقام، فصَلَّى بهم في جَماعَةٍ. رَواه الأثْرَمُ (¬1). وإن شاء صَلَّى مِن غيرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ، قال عُرْوَةُ: إذا انْتَهَيْتَ إلى مَسْجِدٍ قد صَلَّى فيه ناسٌ أذَّنُوا وأقامُوا، فإنَّ أذانَهم وإقامَتَهم تُجْزِىُّ عَمَّن جاء بعدَهم. وهذا قولُ الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، إلّا أنَّ الحسنَ قال: كان أحَبَّ إليهم أن يُقِيمَ. وإن أذَّنَ أخْفَى ذلك؛ لئلًا يَغُرَّ النّاسَ. فصل: وإن أذَّنَ المُؤَذِّنُ وأقام، لم يُسْتَحَبَّ لسائِرِ النّاسِ أن يُؤَذِّنَ كلُّ إنْسانٍ في نَفْسِه ويُقيمَ، بعدَ فَراغِ المُؤَذِّنِ، لكنْ يقُولُ كما يقولُ المُؤَذِّنُ؛ لأنَّ السُّنَّةَ إنَّما وَرَدَتْ بِهذا. 277 - مسألة: (وهل يُجْزِئُ أذانُ المُمَيِّزِ للبالِغِين؟ على رِوايَتَيْن) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الأذانَ لا يَصِحُّ إلَّا من مُسْلِمٍ عاقِلٍ ذَكَرٍ، فأمَّا الكافِرُ والمَجْنُونُ والطِّفْل، فلا يَصِحُّ أذانُهُم؛ لأنَّهم لَيْسُوا مِن أهلِ العِباداتِ. ولا يُعْتَدُّ بأذانِ المرأةِ؛ لأنَّه لا يُشْرَعُ لها الأذانُ، أشْبَهَتِ المَجْنُونَ، ولأنَّ رَفْعَ صَوْتِها مَنْهِىٌّ عنه، وإذا كان كذلك خَرَج عن كَوْنِه قُرْبَةً، فلم يَصِحَّ، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة, في: باب الرجل يجئ المسجد وقد صلوا أيؤذن، ويقيم، من كتاب الأذان والإقامة. مصنف ابن أبى شيبة 1/ 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحِكايَةِ، ولا أذانِ الخُنْثَى المُشْكِلِ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كَوْنُه رجلًا. وهذا كلُّه مذهبُ الشافعىِّ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويَصِحُّ أذانُ العَبْدِ؛ لأنَّ إمامَتَه تَصِحُّ، فأذانُه أوْلَى. وهل يصِحُّ أذانُ الصَّبِىِّ؟ فيه رِوايَتان؛ أولاهُما، صِحَّةُ أذانِه. وهذا قَوْلُ عَطاءٍ، والشَّعْبِىِّ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وذَكَر القاضى أنَّ المُراهِقَ يَصِحُّ أذانُهْ، رِوايَةً واحِدَةً. وقد روَى ابنُ المُنْذِرِ

278 - مسألة: (وهل [يعتد بأذان]

وَهَلْ يُعْتَدُّ بِأذَانِ الْفَاسِق، وَالأذَانِ الْمُلَحَّنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه عن عبدِ اللهِ بنِ أبى بكرِ بنِ أنسٍ، قال: كان عُمُومَتِى يَأْمُرُونَنِى أن أُؤذِّنَ لهم وأنا غُلامٌ لم أحْتَلِمْ، وأنَسُ بنُ مالكٍ شاهِدٌ لم يُنْكرْ ذلك. وهذا مِمّا يَظْهَرُ ولا يَخْفَى، ولم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، ولأنَّه ذَكَرٌ تَصِحُّ صَلاتُه، فصَحَّ أذانُهُ، كالبالِغَ. والثانيةُ، لا يَصِحُّ؛ لأن الأذانَ شُرِع للإعْلامِ، ولا يَحْصُلُ الإعْلامُ بقَوْلِه؛ لأنَّه لا يُقْبَلُ خَبَرُه ولا رِوايَتُه. 278 - مسألة: (وهل [يُعْتَدُّ بأذانِ] (¬1) الفاسِقِ، والأذانِ المُلَحَّنِ؟ على وَجْهَيْن) ذَكَر أصحابُنا في صِحَّةِ أذانِ الفاسِقِ وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنا في الصَّبِىِّ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَهُم ¬

(¬1) في م: «يصح أذان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأمانَةِ، والفاسِقُ غيرُ أمِين. والثانى، يَصِحُّ؛ لأنَّه ذَكرٌ تَصِحُّ صَلاتُه، فصَحَّ أذانُه، كالعَدْلِ. وهذا قوْلُ الشافعىِّ. وهذا الخِلافُ في مَنْ هو ظاهِرُ الفِسْقِ، فأمّا مَسْتُورُ الحالِ، فيَصِحُّ أذانُه بخيِر خِلافٍ عَلِمْناه. وفى الأذان المُلَحَّنِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: كان للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ (¬1)، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْأَذَانَ سَمْحٌ سَهْلٌ، فَإِنْ كَانَ أذَانُكَ سَمْحًا سَهْلًا، وإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ». رواه الدَارَقطْنِىَ (¬2). والثانى، يَصِحُّ. وهو أصَحُّ؛ لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ به، فهو كغيرِ المُلَحَّنِ، والحديث ذَكرَه ابنُ الجَوْزِىِّ في المَوْضُوعاتِ (¬3). فصل: ويُكرَهُ اللَّحْنُ في الأذانِ؛ فإنَّه رُبَّما غَيَّر المَعْنَى، فإنَّ مَن نَصَب لامَ «رَسُولُ» أخْرَجَه عن كَوْنِه خبَرًا، ولا يَمُدُّ لَفْظَة «أكْبَرُ»؛ لأنَّه يَجْعَلُ فيها ألِفًا، فيَصِيرُ جَمْعَ «كَبَرٍ» وهو الطَّبْلُ، ولا يُسْقطُ الهاءَ مِن اسْمَ «الله» واسمِ «الصلاةِ»، والحاءَ مِن «الفَلاحِ»؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُؤَذِّنْ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الْهَاءَ». ¬

(¬1) التطريب: التَّغَنِّى. (¬2) في: باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها, من كتاب الصلاة. سنن الدارقطنى 1/ 239. (¬3) 2/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْنَا: وكيف يَقُولُ؟ قال: «يَقُولُ: أشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللَّا (¬1)، أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّا». أخْرَجَه الدَارَقُطْنِىُّ في الأفْرادِ. فأمّا إن كان ألْثَغَ لُثْغَةً فاحِشَةً، كُرِهَ أذانُه، وإن كانت لا تَتَفاحَشُ، فلا بَأْسَ، فقد رُوِىَ أنَّ بِلالًا كان يَجْعَلُ الشِّينَ سِينًا. والفَصِيحُ أحْسَنُ وأكْمَلُ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) مع حذف الهاء في النطق وأورده ابن الجوزى في الموضوعات 2/ 87.

279 - مسألة: (ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول، إلا فى الحيعلة، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله [العلى العظيم]

وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ، إلَّا فِى الْحَيْعَلَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِىِّ الْعَظِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 279 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ لمَن سَمِع المُؤَذِّنَ أن يقُولَ كما يقولُ، إلَّا في الحَيْعَلَةِ، فإنَّه يقولُ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ [العَلِىِّ العَظِيمِ]) (¬1) وهذا مُسْتَحَبٌّ، لا نَعْلَمُ في اسْتِحْبابِه خِلافًا؛ لِما روَى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، رَضِى اللهُ عنه، أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا قَالَ المُؤَذِّنُ: اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ. فَقَالَ أحَدُكُمْ: اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَن لَا إلهَ إلَّا اللهُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَال: حَىَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ. ثُمَّ قَالَ: حَىَّ عَلَى الفَلَاحِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ. قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ. مِنْ قَلْبهِ، دَخَلَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْجَنَّةَ». رَواه مسلمٌ (¬1). قال الأثْرَمُ: هذا مِن الأحادِيثِ الجيادِ. وعن أبى رافِعٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سَمِع النِّداءَ، قال مثلَ ما يقُولُ المُؤذِّنُ، فإذا بَلَغ حَىَّ على الصلاةِ، قالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ». رَواه الأثْرَمُ (¬2). ويسْتَحَبُّ لمَن سَمِع الإقامَةَ أن يقولَ مِثْلَ ما يقولُ، ويقولَ عندَ كلمةِ الإقامَةِ: أقامَها اللهُ وأدامَها. لِما روَى أبو داودَ (¬3) بإسْنادِه، عن بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ بلالًا أخَذَ في الإقامَةِ، فلَمّا أن قال: قد قامَتِ الصلاةُ. قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أقَامَهَا اللهُ وَأدَامَهَا». وقال في سائِرِ الإقامَةِ كنَحْوِ حديثِ عُمَرَ في الأذانِ. ¬

(¬1) في: باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 289. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا سمع المؤذن، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 125. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 9. (¬3) في: باب ما يقول إذا سمع الإقامة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: روَى سعدُ بنُ أبى وَقّاصٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «مَنْ قَالَ حِينَ يسْمَعُ النِّدَاءَ: وأنَا أَشْهَدُ أن لَا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَّا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولًا. غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن أُمِّ سَلَمَةَ، قالت: عَلَّمَنِى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن أقُولَ عندَ أذانِ المَغْرِبِ: «اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْ لِى». رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) في: باب استحباب القول مثل قول المؤذن. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 290. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا سمع المؤذن، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 125. والنسائى، في: باب الدعاء عند الأذان، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 22. والترمذى، في، باب ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 11، 12. وابن ماجه في: باب ما يقال إذا أذن المؤذن، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 238، 239. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 181. (¬2) في: باب ما يقول عند أذان المغرب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 126. في الأصل «دعائك»، والمثبت من أبى داود.

280 - مسألة: (ثم يقول بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة [والدرجة الرفيعة]

وَيَقولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِى وَعَدْتَهُ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 280 - مسألة: (ثم يقُولَ بَعْدَ فَراغِه: اللَّهُمَّ رَبَّ هذه الدَّعْوَةِ التّامَّةِ والصلاةِ القائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ [والدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ] (¬1)، وابْعَثْه [مَقامًا مَحْمُودًا] (¬2) الذى وَعَدْتَه، إنَّك لا تُخْلِفُ المِيعادَ) لِما روَى جابِرٌ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ والْفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِى» رَواه البخارىُّ (¬3). ¬

(¬1) سقطت من: م. (¬2) في م: «المقام المحمود». (¬3) في: باب الدعاء عند النداء، من كتاب الأذان، وفى: باب {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 1/ 159، 6/ 108. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الدعاء عند الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 126. والترمذى، في: باب آخر في ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 12. والنسائى، في: باب الدعاء عند الأذان، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 22. وابن ماجه، في: باب ما يقال إذا أذن المؤذن، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 239. والإمام أحمد, في: المسند 3/ 345، 354، 383.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُصَلِّىَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ويَدْعُوَ؛ لِما روَى جابِرُ ابنُ عبدِ اللهِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ حِين يُنَادِى المُنَادِى: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ (¬1) والصَّلَاةِ النَّافِعَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَارْضَ عَنْهُ رِضًا لَا سَخَطَ بَعْدَهُ. اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ دَعْوَتَهُ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). وروَى أنَسٌ، قال: قال رسولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: «الدعَاءُ لَا يُرَدُّ بيْنَ الأذَانِ وَالْإقَامَةِ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتَّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: حديث حسنٌ. وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، أنَّه سَمع النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلّىَّ؛ فَإنَّه مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلَاةً، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِىَ الْوَسِيلَةَ، فَإنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِى الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِى إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وأرْجُو أنْ أكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَألَ لِىَ الْوَسِيلَةَ، حَلَّتْ لَهُ (¬4) الشَّفَاعَةُ». رَواه مسلمٌ (¬5). ¬

(¬1) في م: «القائمة». (¬2) في: المسند 3/ 337. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 124. والترمذى، في: باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة، من أبواب الصلاة، وفى: باب في العفو والعافية، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 2/ 13، 13/ 86. والنسائى، في: باب الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة، من كتاب عمل اليوم والليلة. السنن الكبرى 6/ 22. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 115، 119، 225، 254. (¬4) في الأصل، م: «عليه». والمثبت من صحيح مسلم. (¬5) في: باب استحباب القول ما يقول المؤذن. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 288. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا سمع المؤذن، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 124. والترمذى، في: باب في فضل النبى - صلى الله عليه وسلم -، في أول أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 102. والنسائى، في: باب الصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان. من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 22. والإمام أحمد, في: المسند 2/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن سَمِع الأذانَ وهو يَقْرأُ، قَطَع القِراءَةَ ليَقُولَ مِثْلَه؛ لأنَّه يَفُوتُ، والقِراءَة لا تَفُوتُ. فإن سَمِعَه وهو يُصَلِّى، لم يَقُلْ كقَوْلِه؛ لِئَلّا يَشْتَغِلَ عن الصلاةِ بما ليس مِنها. وإن قالَها ما عدَا الحَيْعَلَةَ (¬1) لم تَبْطُلِ الصلاةُ؛ لأنه ذِكْرٌ، وإن قال الدُّعاءَ فِيها، بَطَلَتْ؛ لأنَّه خِطابٌ لآدَمِىٍّ. فصل: ورُوِى عن أحمدَ، أنَّه كان إذا أذَّن، فقال كَلِمَةً مِن الأذانِ، قال مِثْلَها سِرًّا. فظاهِرُه أنَّه رَأى ذلك مُسْتَحَبًّا، ليَكونَ ما يُظْهِره أذانًا، وما يُسِرُّه ذِكْرًا للهِ تِعالى، فيَكُونَ بمَنْزِلَةِ مَن سَمِع الأذانَ. وقد رَواه القاضى عن أحمدَ، أنه قال: اسْتُحِبَّ للمُؤَذِّنِ أيضًا أن يقُولَ مِثْلَ ما يقولُ في خُفْيَةٍ. فصل: قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن الرجلِ يقُومُ حينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ مُبادِرًا، يَرْكَعُ؟ فقال: يُسْتَحَبُّ أن يَكُونَ رُكُوعُه بعدَ ما يَفْرُغُ الُمؤذِّنُ، أو يَقْرُبُ مِن الفَراغِ؛ لأنَّه يُقالُ: إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ حينَ يسْمَعُ الأذان، فلا يَنْبَغِى أن يُبادِرَ للقِيام. وإن دَخَل المسجدَ فسَمِعَ المُؤذِّنَ، اسْتُحِبَّ له انْتِظارُه ليَفْرُغَ، ويقُولُ مثلَ ما يقولُ، ليَجْمَعَ بينَ الفَضِيلَتَيْن. وإن لم يَقُلْ كقَوْلِه وافْتَتَحَ الصلاةَ، فلا بَأسَ. نَصَّ عليه أحمدُ. ¬

(¬1) يعنى قوله: حى على الصلاة، حى على الفلاح.

[وَالْأذَانُ أَفْضَلُ مِنَ الْإقَامَةِ. وَعَنْهُ، هِىَ أفْضَلُ] (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُسْتَحَبُّ الزِّيادَةُ على مُؤذِّنَيْن، كما رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان له بِلالٌ، وابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، إلَّا أن تَدْعُوَ الحاجَةُ، فيَجُوزَ، فإنَّه قد رُوِىَ عن عثمانَ، رَضىَ اللهُ عَنه، أنَّه اتَّخَذَ أرْبَعَةَ مُؤذِّنِين، وإذا كانُوا أكْثَرَ من واحِدٍ، [وكان الواحِدُ] (¬2) يُسْمِعُ النَّاسَ، فالْمُسْتَحَبُّ أن يُؤذِّنَ واحِدٌ بعدَ واحِدٍ؛ كما رُوِىَ عن مُؤذِّنِى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان الإعْلامُ لا يَحْصُلُ بواحِدٍ، أذَّنُوا على حَسَبِ الحاجَةِ؛ إما أن يُؤَذِّنَ كلُّ واحِدٍ في ناحِيَةٍ، أو دَفعَةً واحِدَةً في مَوْضِعٍ. واحِدٍ. فصل: ولا يُؤذَّنُ قبلَ المُؤذنِ الرَّاتِبِ، إلّا أن يَتَأخَّرَ، أو يُخافَ فَواتُ وَقْتِ التَّأذِينِ، فيُؤذِّنَ غيرُه، كما رُوِى أنَّ زِيادَ بنَ الحارِثِ أذَّنَ للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ غاب بِلالٌ (¬3)، فأمّا مع حُضُورِه فلا؛ فإنَّ مُؤذنِى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكنْ غيرُهم يَسْبِقُهم بالأذانِ. ¬

(¬1) هكذا في الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم حديثه في صفحة 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أذَّنَ في الوَقَّتِ كُرِه له أن يَخْرُجَ مِن المسجدِ إلاَّ لحاجَةٍ، ثم يَعُودَ؛ لأنَّه رُبَّما احْتِيجَ إلى الإقامَةِ فلا يُوجَدُ. وإن أذَّن قبلَ الوقتِ للفَجْرِ، فلا بَأسَ بذَهابِه؛ لأنَّه لا يُحْتاجُ إلى حُضُورِه قبلَ الوَقتِ: قال أحمدُ، في الرجلِ يُؤذِّنُ في اللَّيْلِ، على غيرِ وُضُوءٍ، فيَدْخُلُ المَنْزِلَ، وَيَدَعُ المَسْجدَ: أرْجُو أن يكُونَ مُوَسَّعًا عليه، ولكن إذا أذَّن وهو مُتَوَضِّئٌ في وَقْتِ الصلاةِ، فلا أرَى له أن يَخْرُجَ مِن المسجدِ حتى يُصَلِّىَ، إلاّ أن يكُونَ لحاجَةٍ. فصل: إذا أذَّن في بَيْتِه، وكان قَريِبًا مِن المسجدِ، فلا بَأْسَ، وإن كان بَعِيدًا كُرِه له ذلك؛ لأنَّ القَرِيبَ مِن المَسجدِ يُسْمَعُ أذانُه عندَ المَسجِدِ، فيَأْتُون إلى المسجدِ، والبَعِيدَ قد يَسْمَعُه مَن لا يَعْرِفُ المسجدَ، فيَغْتَرُّ به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَقْصِدُه، فيَضِيعُ عن المسجدِ، فإنَّه قد رُوِىَ عن أحمدَ، في الذى يُؤَذِّنُ في بَيْتِه، وبينَه وبينَ المسجدِ طَرِيقٌ يسْمِعُ (¬1) النَّاسَ: أرْجُو أن لا يَكُونُ به بَأْسٌ. وقال، في رِوايَةِ إبراهيمَ الحَرْبِىِّ، في مَن يُؤَذِّنُ في بَيْتِه على سَطْحٍ: معاذَ اللهِ، ما سَمِعْنا أن أحدًا يَفْعَلُ هذا. فحُمِلَ الأوَّلُ على القَرِيبِ، والثانى على البَعِيدِ، وقد رُوِىَ أنَّ بِلالًا كان يُؤَذِّنُ على سَطْحِ امرأةٍ مِن الأنْصارِ. واللهُ أعلمُ. فصولٌ في المَساجِدِ فَصلٌ في فَضْلِ المَساجِدِ وبِنائِها، وغيرِ ذلك: عن عثمانَ بنِ عَفَّانَ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا» قال بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أنَّه قال: «يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللهِ، بَنَى الله له بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن جابِرِ بين عبدِ اللهِ، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ بَنَى للهِ [مَسْجِدًا، وَلَوْ] (¬3) كَمَفحَصِ قَطَاةٍ، أوْ أصْغَرَ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِى ¬

(¬1) في الأصل: «يسع». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من بنى مسجدًا، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 122. ومسلم، في: باب فضل بناء المساجد والحث عليها، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 378. كما أخرجه الترمذى، في: باب فضل بنيان المسجد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 115. والنسائى، في: باب الفضل في بناء المساجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 26. وابن ماجه, في: باب من بنى مسجدًا، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 243. والدارمى، في: باب من بنى لله مسجدًا، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 323. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 61، 70. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْجَنَّةِ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). وعن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُها، وَأَبغَضُ الْبِلادِ إِلى اللهِ أسْوَاقُهَا». رَواه مسلمٌ (¬2). ويُسْتَحَبُّ اتِّخاذُ المَساجِدِ في الدُّورِ، وتَنْظِيفُها [وتَطْيِيبُها؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: أمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ببِاءِ المَساجِدِ في الدُّورِ] (¬3)، وأن تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ. رواه الإِمامُ أحمدُ (¬4). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَىَّ أْجُورُ أُمَّتِى، حَتَّى القَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ». رواه أبو داودَ (¬5). وعن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أخْرَجَ أذًى مِنَ الْمَسْجِدِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ» (¬6). فصل: ويُسْتَحَبُّ تَخْلِيقُ (¬7) المسجدِ، وأن يُسْرَجَ فيه؛ لِما رُوِىَ ¬

(¬1) في: باب من بنى لله مسجدًا، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 244. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 246. (¬2) في: باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح. وفضل المساجد، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 464. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في المسند: 6/ 279. كما أخرجه أبو داود، في: باب اتخاذ المساجد في الدُّور، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 108. والترمذى، في: باب ما ذكر في تطييب المساجد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 76. وابن ماجه، في: باب تطهير المساجد وتطييبها، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 250. (¬5) في: باب في كنس المسجد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 109. كما أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا عبد الوهاب بن الحكم. . . .، من أبواب فضائل القرآن. عارضة الأحوذى 11/ 37, 38. (¬6) رواه ابن ماجه، في: باب تطهير المساجد وتطييبها، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 250. (¬7) التخليق: التطييب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخامَةً في قِبْلَةِ المسجدِ، فغَضِبَ حتى احْمَرَّ وَجْهُه، فجاءَتْه امرأةٌ مِن الأنْصارِ، فحَكَّتْها وجَعَلَتْ مَكانَها خَلُوقًا، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أحْسَنَ هَذَا». رَواه النَّسائِىُّ، وابنُ ماجَه (¬1)، وعن مَيْمُونَةَ مَوْلاةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّها قالت: يا رسولَ اللهِ، أفْتِنا في بَيْتِ المَقْدِسِ. فقال: «ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ». وكانتِ البِلادُ إذ ذاك حَرْبًا (¬2)، قال: «فإنْ لَمْ تَأْتُوهُ وَتُصَلُّوا فِيهِ، فَابعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِى قَنَادِيِلِهِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬3). وفى رِوايةِ الإِمام أحمدَ «ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فإنَّ [صلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ] (¬4) صلَاةٍ». قالت: أرأيْتَ مَن لم يُطِقْ أن يَتَحَمَّلَ إليه، أو يَأْتِيَه؟ قال: «فَلْيُهْدِ إلَيْهِ زَيْتًا يُسْرجُ فِيهِ، فإن مَنْ أهْدَى لَهُ، كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ». فصلٌ فيما يُباحُ في المَسْجدِ: يُباحُ النَّوْمُ فيه؛ لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ أنَّه كان يَنامُ، وهو شابٌّ عَزَبٌ لا أهْلَ له في مسجدِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتفَقٌ عليه (¬5). وكان أهلُ الصُّفَّةِ يَنامُون في المسجدِ. ويُباحُ للمَرِيضِ أن ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب تخليق المساجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 41. وابن ماجه, في: باب كراهية النخامة في المسجد، من كتاب المساجد والجماعات 1/ 251. (¬2) في الأصل: «خربا». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في السُّرْج في المساجد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 108. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 451. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 463. (¬4) في الأصل:. الصلاة فيه بألف». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب نوم الرجال في المسجد، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 120. ولم نجده عند مسلم. كما أخرجه النسائى، في: باب النوم في المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكُونَ في المسجدِ، وأن تكُونَ فيه خَيْمَةٌ. قالت عائشةُ: أُصِيب سعدٌ (¬1) يومَ الخَنْدَقِ في الأكْحَلِ، فضَرَبَ عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً في المسجِدِ؛ يَعُودُه مِن قرِيبٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ويُباحُ دُخُولُ البَعِيرِ المسجدَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طاف في حَجَّةِ الوَداعِ على بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ (¬3). مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ولا بَأْسَ بالاجْتِماعِ في المسجدِ، والأكْلِ فيه، والاسْتِلْقاءِ فيه؛ لِما روَى أبو واقِدٍ اللَّيْثِيُّ، قال: بَيْنَما رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ إذ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنانِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وذَهَب واحِدٌ، فأمَّا أحَدُهما فرَأى فُرْجَةً، فجَلَسَ، وأمّا الآخَرُ فجَلَسَ خَلْفَهُم، فلمّا فَرَغ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ؛ أمَّا أحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ ¬

(¬1) في الأصل: «سعيد». وهو سعد بن معاذ بن النعمان الأنصارى الأشهلى، سيّد الأوس. شهد بدرًا باتفاق ورُمِى بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهرًا، حتى حكم في بنى قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، ثم انتقض جرحه، فمات وذلك سنة خمس. الإصابة 3/ 84. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، من كتاب الصلاة، وفى: باب مرجع النبى - صلى الله عليه وسلم - الأحزاب. . . . إلخ، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 1/ 125، 5/ 143، 144. ومسلم، في: باب جواز قتال من نقض العهد. . . . إلخ، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1389. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العيادة مرارًا، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 165. والنسائى، في: باب ضرب الخباء في المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 35. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 56. (¬3) المِحْجنُ: عصا معوجة الرأس، يتناول بها الراكب ما سقط له. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب استلام الركن كالمحجن، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 185. ومسلم، في: باب جواز الطواف على بعير وغيره. . . . إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 926. كما أخرجه أبو داود، في: باب الطواف الواجب، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 434. والنسائى، في: باب إدخال البعير المسجد, من كتاب المساجد، وباب الإشارة إلى الركن، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 2/ 37، 5/ 186. وابن ماجه، في: باب من استلم الركن بمحجن، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 983.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَاسْتحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَض اللهُ عَنْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). عن عبدِ اللهِ بنِ الحارِثِ، قال: كُنَّا نَأْكُلُ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المسجدِ الخُبْزَ واللَّحْمَ. رَواه ابنُ ماجَه (¬2). وعن عَبَادِ بنِ تَمِيمٍ، عن عَمِّه عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ، أنَّه رَأى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتلْقِيًا في المسجدِ، واضِعًا إحْدَى رِجْلَيْه على الأْخرَى. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ويَجُوزُ السُّؤالُ في المسجدِ؛ لِما روَى عبدُ الرحمنِ بنُ أبى بَكْرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مِنْكُمْ أحَدٌ أطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟». وذَكَر الحديثَ. رَواه أبو داودَ (¬4). ويَجُوز إنْشادُ الشِّعْرِ، واللِّعانُ في المسجدِ؛ لِما رُوِى عن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ عُمَرَ مَرَّ بحَسَّانَ، وهو يُنْشِدُ الشِّعْرَ في المسجدِ، فلَحَظَ. إليه، فقال: قد كنْتُ أُنْشِدُ فيه، وفيه [مَنْ هُو] (¬5) خَيْرٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس. . . . إلخ، من كتاب العلم. صحيح البخارى 1/ 26. ومسلم، في: بابي من أتى فوجد فرجة. . . . إلخ. من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1713. كما رواه الترمذى، في: باب حدثنا الأنصارى، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذى 10/ 189. والإمام مالك، في: باب جامع السلام، من كتاب السلام. الموطأ 2/ 960. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 219. (¬2) في: باب الأكل في المسجد، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1097. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الاستلقاء في المسجد، من كتاب الصلاة, وفى: باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى، من كتاب اللباس, وفى: باب الاستلقاء، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 1/ 128، 7/ 219، 8/ 79. ومسلم، في: باب إباحة الاستلقاء. . . . إلخ، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1662. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 565. والترمذى، في: باب ما جاء في وضع إحدى الرجلين. . . . إلخ، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 221. والنسائى، في: باب الاستلقاء في المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 39. والإمام أحمد, في: المسند 4/ 38, 39. (¬4) في: باب المسألة في المساجد، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 388. (¬5) سقطت من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منك. ثم الْتفَتَ إلى أبى هُرَيْرةَ، فقال: أنْشُدُكَ اللهَ، أسَمِعْتَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «أَجِبْ عَنِّى، اللَّهُمَّ أيِّدهُ بِرُوحِ الْقدُسِ»؟ قال: نعم. مُتَّفَقٌ عليه (¬1) -. وعن جابِرِ بنِ سَمُرَة، قال: شَهِدْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أكْثَرَ مِن مِائةِ مَرَّةٍ في المسجدِ، وأصحابُه يَتَذاكرُون الشِّعْرَ وأشْياءَ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، فرُبَّما تَبَسَّم معهم. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). وفى حديثِ سَهْلِ ابنِ سعدٍ ذَكر حديثَ اللِّعانِ، قال: فتَلاعَنا في المسجدِ، وأنا شاهِدٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فصلٌ فيما يُكْرَه في المَسْجِدِ: يُكْرَهُ إنْشادُ الضّالَّةِ في المسجدِ؛ لما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِى الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ (¬4). إنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ذكر الملائكة، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخارى 4/ 136. ومسلم, في: باب فضائل حسان بن ثابت، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1932, 1933. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 599. والنسائى، في: باب الرخصة في إنشاد الشعر. . . . إلخ من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 37. والإمام أحمد, في: المسند 5/ 333. (¬2) في: المسند 5/ 91. كما رواه الترمذى، في: باب ما جاء في إنشاد الشعر، من أبواب الأدب: عارضة الأحوذى 10/ 291. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب التلاعن في المسجد، من كتاب الطلاق، وفى: باب من قضى ولاعن في المسجد، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 7/ 70، 9/ 85. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1130. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 533. والنسائى، في: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 116. وليس عنده ذكر المسجد. وابن ماجه, في: باب اللعان، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 666. (¬4) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِهَذَا». رَواه مسلمٌ (¬1). عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن البَيْعِ والابْتِياعِ، وعن تَناشُدِ الأشْعارِ في المَساجِدِ. رواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ويُكْرَهُ تَجْصِيصُ المَساجِدِ وزَخْرَفَتُها؛ لِما رُوِىَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجدَهُمْ». رَواه ابن مْاجه (¬3). وعن ابنِ عباس، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُمِرْت بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ». قال ابنُ عباسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زَخْرَفَتِ اليَهُودُ والنَّصارَى. رَواه أبو داودَ (¬4). وعن واثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَنَا صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينكُمْ، وَشِراكمْ وبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أصْوَاتِكمْ، وَإقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبوَابِهَا ¬

(¬1) في: باب النهى عن نشد الضالة في المسجد. . . . إلخ، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 367. كما رواه أبو داود, في: باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد، م كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 111. وابن ماجه، في: باب النهى عن إنشاد الضوال في المسجد، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 252. والدارامى، في: باب النهى عن استنشاد الضالة في المسجد. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 326. والإمام أحمد, في: المسند 2/ 349، 420. (¬2) أخرجه بنحوه أبو داود، في: باب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 248. والترمذى, في: باب ما جاء في كراهية البيع والشراء. . . . إلخ» من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 118. والنسائى، في: باب البيع والشراء في المسجد. . . . إلخ، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179، 212. كما أخرجه بلفظه ابن ماجه، في: باب المواضع التى تكره فيها الصلاة، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 247. (¬3) في: باب تشييد المساجد، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 244، 245. (¬4) في: باب في بناء المساجد, من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 106. كما أخرج البخارى قول ابن عباس في: باب ينيان المسجد، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 121.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِى الجُمَعِ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1) مِن رِوايَةِ الحارِثِ ابنِ نَبْهانَ، قال فيه يحيى بنُ مَعِينٍ: لا يُكْتَبُ حَدِيثُه، ليس بشئٍ. ويُكْرَهُ أن يَكتُبَ على حِيطانِ المسجدِ قُرآنًا أو غيرَه؛ لأنَّه يُلْهِى المُصَلِّىَ ويَشْغَلُه، وهو يُشْبِهُ الزَّخْرَفَةَ وقد نُهِىَ عنها. والبُصاقُ في المسجدِ خَطِيئَةٌ، ويُسْتَحَبُّ تَخْلِيقُها؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وهل يُكْرَهُ الوُضُوءُ في المسجدِ؟ على رِوايَتيْن، ذكَرَهما ابنُ عَقِيلٍ، إلَّا ابنَ عَقِيلٍ قال: إن قُلْنا بنَجاسَةِ الماءِ الْمُسْتَعْمَلِ في رَفْعِ الحَدَثِ، حَرُم ذلك في المسجدِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب ما يكره في المساجد، من كتاب المساجد والجماعات. سنن ابن ماجه 1/ 247.

باب شروط الصلاة

بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَهِىَ مَا يَجِبُ لَهَا قَبْلَهَا، وَهِىَ سِتٌّ؛ أَوَّلُهَا، دُخُولُ الْوَقْتِ. وَالثَّانِى، الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ شُرُوطِ الصَّلاةِ 281 - مسألة؛ قال: (وهى ما يَجِبُ لها قبلها، وهى سِتٌّ؛ أوَّلُها دُخُولُ الوَقْتِ، والثانى، الطهارةُ مِن الحَدَثِ) أمّا الطهارةُ مِن الحَدَثِ، فقد مَضَى ذِكْرُها، وهى شَرْطٌ لصِحَّةِ الصلاةِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا (¬1) يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أحَدِكُمْ إذَا أَحدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

(¬1) في م: «ولا». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب لا تقبل صلاة بغير ظهور، من كتاب الوضوء, وفى: باب في الصلاة، من كتاب الحيل. صحيح البخارى 1/ 46، 9/ 29. ومسلم، في باب وجوب الطهارة للصلاة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 204. كما أخرجه أبو داود، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 14، الترمذى، في: باب في الوضوء من الريح، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 102. الإمام أحمد، في: المسند 2/ 308، 318.

282 - مسألة؛ قال: (والصلوات المفروضات خمس)

وَالصَّلَوَاتُ المَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَا يقْبَلُ اللهُ صَلَاةً (¬1) بغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ». رَواه مسلمٌ (¬2). 282 - مسألة؛ قال: (والصَّلَواتُ المَفْروضاتُ خَمْسٌ) أجْمِعَ المُسْلِمُون على أن الصلَواتِ الخَمْس في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ مَفْرُوضاتٌ، لا خِلاف بينَ المُسْلِمِين في ذلك، وأن غيرَها لا يَجبُ إلَّا لعارِضٍ مِن نَذْرٍ أو نَحْوِه، إلَّا أَنَّهم اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الوِتْرِ، وسنَذْكُرُه في مَوْضِعِه، إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في م: «صلاة أحدكم». (¬2) في: باب وجوب الطهارة للصلاة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 204.كما أخرجه أبو داود، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 14. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 8. والنسائي، في: باب فرض الوضوء، من كتاب الطهارة، وفي: باب الصدقة من غلول، من كتاب الزكاة. المجتبى 1/ 75، 5/ 42. وابن ماجه، في: باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، من كتاب الطهارة. سننِ ابن ماجه 1/ 100. والدارمي، في: باب لا تقبل الصَّلاة بغير طهور، من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 20، 39، 51، 57، 73، 5/ 74، 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأصْلُ في ذلك ما روَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «خَمْسُ صلَوَاتٍ كَتَبَهُن اللهُ عَلَى الْعَبْدِ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِن كَانَ لَهُ عَهدٌ عِنْدَ اللهِ أن يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عليهنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذبَهُ، وَإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» (¬1). ورُوِىَ أن أعْرابِيًّا أتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ اللهِ، ماذا فَرَض اللهُ (¬2) عَليَّ مِن الصلاةِ؟ قال: «خَمسُ صلوات». قال: فهل عليَّ غيرُها؟ قال: «لَا، إلَّا أن تَطَوَّعَ شَيْئًا». فقال الرجلُ: والذى بَعَثَك بالحَقِّ لا أزيدُ عليها، ولا أنْقصُ منها. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْلَحَ الرجُلُ (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في:، باب في من لم يوتر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 328: والنسَّائي، في: باب المحافظة على الصلوات الخمس، من كتاب الصَّلاة. المجتبى 1/ 186. وابن ماجه، في: ما جاء في فرض الصلوات. . . . إلخ، من كتاب إقامة الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 448. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 123. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

283 - مسألة؛ قال: (الظهر، وهى الأولى، ووقتها من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شئ مثله، بعد الذي زالت عليه الشمس)

الظُّهْرُ، وَهِىَ الأولَى، وَوَقْتُهَا مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، بَعْدَ الَّذِى زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْ صَدَقَ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). وأجْمَعُوا على أنَّ الصَّلوات الخَمْس مُؤقَّتات بمَواقِيتَ مَعْلُومَةٍ محْدُودَةٍ، وقد ورَد ذلك في أحادِيثَ صِحاح يأتي أكثرها، إن شاء اللهُ تعالى. 283 - مسألة؛ قال: (الظُّهْرُ، وهى الأولَى، ووَقْتُها مِن زَوالِ الشَّمْسِ إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شئٍ مِثْله، بعدَ الذي زالَتْ عليه الشَّمْسُ) أجمعَ أهلُ العلمِ على أن أوَّلَ وَقْتِ الظهرِ، إذا زالَتِ الشَّمْسُ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ. وتُسَمَّى الهَجيرَ، والأولَى، والظُّهْرَ؛ لأنَّ في حديث أبي برْزَةَ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّى الهَجيرَ التى ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الزكاة من الإسلام، من كتاب الإيمان وفى: باب وجوب صوم رمضان، من كتاب الصوم، وفى: باب كيف يستحلف، من كتاب الشهادات، وفى: باب في الزكاة، وأن لا فرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق؛ خشية الصدقة، من كتاب الحيل. صحيح البخارى 1/ 18، 3/ 30، 235، 9/ 29. ومسلم، في باب: بيان الصلوات التى هي أحد أركان الإسلام، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 41. كما أخرجه أبو داود، في: باب حدّثنا عبد الله بن مسلمة، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 93. والنسائي، في: باب كم فرضت في اليوم والليلة، من كتاب الصَّلاة، وفي: باب وجوب الصيام، من كتاب الصيام، وفى: باب الزكاة، من كتاب الإيمان. المجتبى 1/ 184، 4/ 97، 8/ 104. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 370. والإمام مالك، في: باب جامع الترغيب في الصَّلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 175.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْعُونَها الأُولَى حينَ تَدْحَضُ الشَّمسُ. مُتفَّقٌ عليه (¬1). وإنَّما بَدَأ بذكْرِها، لأنَّ جِبْريل بَدَأ بها حينِ أمَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ عباسٍ، وجابِرٍ، وبَدَأ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين عَلَمَ أصحابَه مَواقِيتَ الصلاةِ، في حديثِ بُرَيْدَةَ وغيرِه، فرَوَى ابنُ عباسٍ، عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أمَّنِى جِبْرِيلُ، عَليْهِ السَّلَامُ، عِندَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِىَ الظُّهْرَ فِى الأولَى مِنْهُما، حين كَان الْفَىْءُ مِثْلَ الشِّراكِ (¬2)، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كاد ظِلُّ كُل شَئٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمس (¬3) وَأَفطر الصَّائِمُ، ثمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ علَى الصَّائِمِ. وصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَىْءٍ مِثْلَهُ لوقْتِ الْعَصْرِ بِالأمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ (¬4) ظِلُّ كل شَىْءٍ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب وقت العصر، وباب ما يكره من السمر بعد العشاء، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 144، 155. أما مسلم فقد أخرجه عن أبي برزة بلفظ: وكان يصلى الظهر حين تزول الشمس في: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 447. وأخرجه عن جابر بن سمرة، بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى الظهر إذا دحضت الشمس. في: باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 432. كما أخرجه النسائي، في: باب كراهية النوم بعد صلاة المغرب، وباب ما يستحب من تأخير العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبي 1/ 210، 213. وابن ماجه، في: باب وقت صلاة الظهر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 321. والدارمي، في: باب قدر القراءة في الفجر، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 298. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 420، 423. (¬2) شراك النعل: سيرها الذي كل ظهر القدم، وصار مثل الشراك: يعنى استبان الفئ في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال فصار في رؤية العين كقدر الشراك، وهذا أقل ما يعلم به الزوال، وليس تحديدا. المصباح المنير. (¬3) أى غابت. (¬4) سقطت من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلَيْهِ (¬1)، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقتهِ الْأوَّلِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشاء الْآخِرَةَ (¬2) حينَ ذَهب ثلُث اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حين أسْفَرَتِ الْأرْضُ، ثُمَّ الْتفتَ جِبْريلُ فقَالَ: يا محمَّد، هَذَا وَقْتُ الأنْبِيَاءِ قَبلَكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْن». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمِذِىُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسنٌ (¬4). وروَى جابِرٌ نَحْوَه ولم يَذْكُرْ فيه: «لِوَقتِ الْعَصْرِ بِالأمْسِ» (¬5). قال البُخاريُّ: أصَحُّ حديثٍ في المَواقِيتِ حديث جابر. وروَى بريْدَةُ، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّ رجلًا سألَه عن وَقتِ الصلاةِ، فقال: «صلِّ مَعَنَا هَذيْنِ الْيوْمَيْنِ» (¬6). فلَمّا زالَتِ الشَّمْسُ أمَر بِلالًا فأذَّنَ، ثم أمَرَه فَأقام الظُّهْرَ، ثم أمَرَه فأقامَ العَصْرَ، والشَّمْسُ مُرْتَفِعَة بَيْضاءُ نقِيَّةٌ، لم يُخالِطْها صُفْرَةٌ، ثم أمَرَه فأقامَ المَغْرِبَ حينَ غابَتِ الشَّمْسُ، ثم أمرَه فأقامَ العِشاءَ حينَ غاب الشَّفَقُ، ثم أمَرَه فَأقامَ الفَجْرَ حينَ طَلَع الفَجْرُ، فلَمَّا كان اليَوْمُ الثاني أمَرَه فأبْرَدَ بالظُّهرِ، فأنْعَمَ أن يُبْرِدَ بها، وصَلى العصر والشَّمسُ بَيْضاءُ مُرْتَفعَة، آخِرُها فوق الذي كان، وصَلَّى الْمَغْرِبَ حينَ غاب ¬

(¬1) في م: «مثله». (¬2) في م: «الأخيرة». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب المواقيت، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 93. والترمذي، في: باب ما جاء في مواقيت الصَّلاة». من أبواب الصَّلاة. عارضه الأحوذي 1/ 248، 249. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 333، 354. كما أخرجه ابن ماجه بنحوه عن ابن مسعود، في: أبواب مواقيت الصَّلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 220. (¬4) في سنن الترمذي زيادة: «غريب». (¬5) هذا قول الترمذي، وما يأتي أيضًا قوله. عارضة الأحوذى 1/ 249، 250. وأخرج الترمذي حديث جابر، في هذا الموضع. (¬6) في صحيح مسلم:. «صل معنا هذين» يعني اليومين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّفَقُ، وصَلَّى العِشاءَ حيَنَ (¬1) ذَهَب ثُلثُ اللَّيلِ، وصَلَّى الفَجْرَ فأسْفرَ بها، ثم قال: «أينَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟» فقال الرجلُ: أنا يا رسولَ الله. فقال: «وَقْتُ صَلَاِتِكُمْ بَيْنَ ما رَأيتُمْ». رَواه مسلمٌ (¬2). ومَعْنَى زوالِ الشَّمس، مَيْلُها في وَسَطِ السَّماء، وإنَّما يُعرَفُ ذلك بطُولِ الظِّلِّ بعدَ تَناهِى قِصَره؛ لأنَّ الشَّمْسَ حين تَطلُعُ يكونُ الظِّلُّ طَويلًا، وكلَّما ارْتَفَعَتْ قَصُرَ، فإذا مالَتْ عن كَبِدِ السَّماءِ، شَرَع في الطولِ، فذلك زَوالُ الشَّمس، فمَن أرادَ معرِفَةَ ذلك فلْيُقَدِّرْ ظِلَّ شيءٍ، ثم يَصْبِرْ قَلِيلاً، ثم يُقدِّره ثانيًا، فإن نَقَص لم يَتَحَقَّقِ الزَّوالُ، وإن زاد فقد زالتْ، وكذلك إن لم يَنْقص؛ لأنَّ الظل لا يَقِفُ فيَكُونُ قد نَقص ثم زاد. وأمّا مَعْرِفَةُ قدْر ما تَزُولُ عليه الشَّمْسُ بالأقدامِ فيَخْتَلِفُ باخْتلافِ الشُّهُورِ والبلْدانِ، فكلما طال النَّهارُ، قَصر الظِّلُّ، وإذا قَصر طال الظِّل. وقد ذَكَر أبو العَبّاس السِّنجىُّ (¬3)، رحِمه اللهُ، ذلك تَقْرِيبًا، قال: إن الشَّمسَ تزُولُ في نِصْفِ حَزِيران على قدَمٍ وثلثٍ، وهو أقل ما تَزُولُ عليه الشَّمْسُ، وفي نِصْفِ تمُّوزَ وأيارَ على قدم ونِصْفٍ وثُلُثٍ، ونصف آبَ ونَيْسانَ على ثلاثة أقدام، وفي نصفِ آذارَ وأيلولَ على أربَعَةِ أقدام ونصفٍ، وفى ¬

(¬1) في صحيح مسلم: «بعد ما». (¬2) في: باب أوقات الصلوات الخمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 428، 429.كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في مواقيت الصَّلاة، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذى 1/ 252. والنسائي، في: أول وقت المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 207. وابن ماجه، في: أبواب مواقيت الصَّلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 219. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 349. (¬3) لعله أبو العباس بن محمد بن سراج السنجى الطحان، راوى كتاب أبي عيسى الترمذي عن أبى العباس المحبوبي، مات بعد الأربعمائة. الأنساب 7/ 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نصفِ شُباطٍ وتَشرِينَ الأوَّلِ على سِتةِ أقدامِ، وفي نِصْفِ كانُونَ الثانى وتَشرِينَ الثانى على تِسْعَةِ أقدام، وفي نصفِ كانُونَ الأوَّلِ على عَشْرَةِ أقْدامٍ وسُدْسٍ، وهو أكْثَرُ ما تَزُولُ عليه [الشَّمْسُ في] (¬1) إقلِيمِ الشَّامِ والعِراقِ وما سامَتَهُما، فإذا أرَدْتَ مَعْرفةَ ذلك، فقِفْ على مُسْتَوٍ مِن الأرضِ، وعَلِّمِ المَوْضِعَ الذي انتهَى إليه ظِلُّك، ثم ضَعْ قدَمك اليُمنَى بينَ يَدَي قدَمِك اليُسْرَى، وألْصِقْ عَقِبَك بإبْهامِك، فإذا بَلَغَتْ مِساحَتُه هذا القدْرَ بعدَ انْتِهاءِ النَّقْصِ فهو وَقْتُ زَوالِ الشَّمس، وتجِبُ به الظُّهْرُ. واللهُ أعلمُ. فصل: وتَجِبُ الصلاةُ بدُخُولِ أوَّلِ وَقْتِها في حَقّ مَن هو مِن أهْلِ الوُجُوبِ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: تَجِبُ بآخِرِ وَقْتِها إذا بَقِىَ منه ما لا يَتّسِعُ لأكْثَرَ منها؛ لأَنَّه في أوَّلِ الوَقْتِ يَتَخَيَّر بينَ فِعْلِها وتركِها، فلم تَكُنْ واجبَة كالنَّافلَةِ. ولَنا، أنَّه مَأمُورٌ بها في أوَّلِ وَقْتِها بقَوْلِه تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬2). والأمْرُ [يَقْتَضِى الوُجُوبَ] (¬3) على الفَوْرِ، ولأنَّ دُخُولَ الوَقْتِ سَبَبٌ للوجُوبِ (¬4) فتَرَتَّبَ عليه حُكْمُه عندَ وُجُودِه، ولأنَّها تشترَطُ لها نِيَّةُ (¬5) الفَرْض، ولو كانت نَفْلًا لأجزأتْ بنيَّةِ النَّفْلِ، كالنَّافِلَةِ، وتُفارِقُ النَّافِلَةَ مِن حيثُ إن النافِلَةَ يَجُوزُ تركُها لا إلى بَدَلٍ، وهذه إنَّما يَجُوزُ تَرْكُها مع العَزْمِ على فِعْلِها، كما تُؤخَّرُ صلاةُ المَغْرِبِ ¬

(¬1) في م: «وفي». (¬2) سورة الإسراء 78. (¬3) في م: «للوجوب». (¬4) في الأصل، م: «للوجود». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَيْلَةَ المُزْدَلفَةِ عن وَقْتِها، وكما تُؤخَّرُ سائر الصَّلَواتِ عن وَقْتها لمن هو مشتغل بشَرْطِها. فصل: وآخِرُ وقْتِها إذا زاد على القَدْرِ الذي زالَتْ عليه الشَّمسُ قَدْرَ طُولِ الشَّخْصِ. قال الأثْرَمُ: قيل لأبي عبدِ الله: وأى شيء آخِرُ وَقْتِ الظهْرِ؟ قال: أن يَصِيرَ الظل مِثْلَه. قيل له: فمتى يكُونُ الظل مِثْلَه؟ قال: إذا زالتِ الشَّمس فكان الظل بعدَ الزَّوالِ مِثْله. ومَعْرِفَة ذلك أن يَضْبُطَ ما زالتْ عليه الشمسُ، ثم يَنظرَ (¬1) الزيادَة عليه، فإن بَلَغَتْ قَدْر الشَّخْصِ، فقد انْتَهَى وَقْتُ الظُّهْرِ، وقدْرُ شَخْص الإنْسانِ سِتَّةُ أقْدام ونِصْف وسُدْس بقَدَمِه، تقْرِيبًا، فإذا أرَدْتَ اعْتِبار الزيادَةِ بقَدَمك مَسَحْتَها على ما ذَكَرْناه في الزَّوالَ، ثم أسْقَطْتَ منه القَدْرَ الذي زالَتْ عليه الشمس فإذا بَلَغ الباقى سِتَّةَ أقدام وثُلُثَيْن، فهو آخِر وَقْتِ الظهْرِ وأولُ وقْتِ العَصْر، فيَكُونُ ظِلُّ الإنْسانِ في نِصْفِ حَزيرانَ، على ما ذَكَرْنا في آخِرِ وَقْتِ الظهْرِ وأوَلِ (¬2) وَقْتِ العَصْرِ، ثَمانِيَةَ أقدام بقَدَمِه، وفى بَقِيَّةِ الشُّهُورِ كما بَيَّنَّا. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ والثَّوْرِىّ والشْافعىِّ والأوْزاعِى. ونَحْوه قول أبي يُوسفَ ومحمدٍ، وغيرِهم. وقال عَطاء: لا تَفْرِيطَ للظهر حتَّى تَدْخُلَ الشمَّس صُفْرَة. وقال طاوُس: وَقْتُ الظهْر والعَصْرِ إلى اللَّيْلِ. وحُكِىَ عن مالكٍ: وَقْت الاخْتِيار إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شئٍ مِثْلَهُ (¬3)، ووَقْتُ ¬

(¬1) في الأصل: «ينظر إلى». (¬2) في الأصل: «وفى أول». (¬3) في الأصول: «مثليه». وانظر: الشرح الصغير 1/ 317. والكافى 1/ 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأداء إلى أن يبْقَى من غُرُوبِ الشمس قَدْر ما يُؤدى فيه العَصْرُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَع بينَ الظهر والعَصْرِ في الحَضَرِ. وقال أبو حَنِيفَةَ: آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذا صار ظِل كل شئٍ مثلَيْه؛ لأنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مَثَلُكُمْ وَمَثَل أهْل الْكِتَابَيْنِ، كَمثَلِ رجل استأجَرَ أجَرَاءَ (¬1) فَقَالَ: منْ يَعْملُ لِى مِنْ غُدْوَة إلَى نِصْفِ النهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهود، ثمَّ قَال: مَنْ يَعْمَلُ لِي من نِصْفِ النهارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاط؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثم قالَ: مَنْ يَعْمَل لِى مِنَ الْعَصْرِ إلى غرُوبِ الشَّمس عَلَى قِيراطَيْنِ؟ فأنْتمْ همْ. فَغَضبتِ الْيَهود والنصارَى، وقَالُوا: مَا لَنَا أكثَر عَمَلاً وَأقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هلْ نَقَصْتُكُمْ (¬2) منْ حَقِّكُمْ؟ قالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِك فَصلِى أوتِيهِ مَنْ أشَاءُ». أخْرجه البُخارِى (¬3). وهذا يَدُل على أنَّ ما بين الظُّهْر والعَصْرِ أَكْثَرُ مِن العَصْرِ إلى المغْرِبِ. ولَنا، حديث بُرَيْدَةَ وابنِ عباس، وفيه قوْلُ جبْرِيلَ فيه: «الْوَقْت مَا بَيْنَ هَذَيْن» (¬4). وحديث مالك مَحْمولْ على العُذْرِ بمَطَرٍ أو مَرَضٍ. وما ¬

(¬1) في الأصل: «أجيرا». (¬2) في م: «نقصتم». (¬3) في: باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، من كتاب المواقيت، وفى: باب الإجارة إلى نصف النهار، وباب الإجارة إلى صلاة العصر، وباب الإجارة من العصر إلى الليل، من كتاب الإجارة، وفى: باب فضل القرآن على سائر الكلام، من كتاب فضائل القرآن، وفى: باب قول الله تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}، من كتاب التوحيد. صحيح البُخاريّ 1/ 146، 3/ 117، 118، 6/ 235، 9/ 191.كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 1/ 321. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 111، 121، 129. (¬4) تقدم تخريجه، في صفحه 128.

284 - مسألة: (وتعجيلها أفضل، إلا في شدة الحر والغيم لمن يصلى جماعة

وَالْأفْضَلُ تَعْجِيلُهَا، إلَّا فِى شِدَّةِ الحَرِّ وَالْغَيْمِ لِمَنْ يُصَلى جَمَاعَة، ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتَجَّ به أبو حَنِيفَةَ فليس فيه حُجَّة؛ لأنَّه قال: «إلَى صلَاةِ الْعَصْرِ». وفعْلُها يكون بعدَ دُخُولِ الوقْت وتَكامُلِ الْشروطِ، على أنَّ الأخْذَ بأحادِيثنا أوْلَى؛ لأنَّه قُصِد بها بَيانُ الوقتِ، وخَبَرُهم قُصِد به ضَرْبُ المثَلِ، فكانت أحادِيثنا أولَى. قال ابنُ عبدِ البَر: خالَفَ أبو حنيفةَ في هذا (¬1) الآثارَ والنّاس، وخالَفَه أصْحابُه. 284 - مسألة: (وتَعْجيلُها أفْضَلُ، إلَّا في شدةِ الحَرِّ والغَيْمِ لمَن يصَلِّى جَماعَةً) (¬2) وجُمْلَة ذلك، أنَّ تَعْجيلَ الظهْرِ في غيرِ الحُرّ والغَيْمِ مُسْتَحَب، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال الترمِذى: وهو الذي اخْتارَه أهلُ العلمِ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدَهم (¬3). لِما روَى أبو بَرْزَةَ قال: كان رسولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - يُصَلِّى الهَجِير التى تَدْعُونَها الأولَى حينَ تَدْحَضُ (¬4) الشَّمْسُ. وقال جابِر: كان النبىّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى الظُّهْر ¬

(¬1) في م: «هذه». (¬2) في م: «الجماعة». (¬3) في: باب ما جاء في التعجيل بالظهر، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذى 1/ 265. (¬4) تدحض الشمس: تنزل عن كبد السماء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالهاجرةِ. مُتَّفَق عليهما (¬1). وروَى الأمَوِىُّ (¬2) في «المَغازِى» بإسْنادِه، عن معاذِ بنِ جَبَل، قال: لَمّا بَعَثنِى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ قال: «أظْهِرْ كبِيرَ الْإسلَامِ وَصَغِيرَه، وَلْيَكُنْ مِنْ أكْبَرِهَا الصَّلَاة، فَإنَّها رَأسُ الْإسْلَامِ ¬

(¬1) الأول أخرجه البخارى، في: باب وقت الظهر عند الزوال، وباب ما يكره من السمر بعد العشاء، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 143، 155. ومسلم، في: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 447. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة النبى - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان يصليها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 96. والنسائي، في: باب كراهية النوم بعد صلاة المغرب، وباب ما يستحب من تأخير العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 210، 212. وابن ماجه، في: باب وقت الظهر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 221. والدارمي، في: باب قدر القراءة في الفجر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 298. والإمام أحمد، في: المسند، 4/ 420، 423. والثاني أخرجه البخارى، في: باب وقت الظهر عند الزوال (الترجمة)، باب وقت المغرب، وباب وقت العشاء إذا اجتمع النَّاس أو تأخروا، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 143، 147، 148. ومسلم في: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 446. كما أخرجه أبو داود، في: باب وقت صلاة النبى - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان يصليها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 95. والنسائي، في: باب تعجيل العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 212. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 469. (¬2) أبو أيوب يحيى بن سعيد بن أبان الأموى الكوفي، صاحب كتاب المغازى، المتوفى سنة أربع وتسعين ومائة. وتوجد نقول من كتابه هذا في بعض الكتب. انظر: تاريخ التراث العربى 1/ 2/ 97، 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْدَ الإِقرَارِ بِالدِّينِ، إذا كانَ الشتاءُ فَصَل صَلَاةَ (¬1) الفَجْرِ فِى أوَّل الْفجْرِ، ثُمَّ أطِلِ الْقِرَاءَةَ عَلَى قَدْرِ ما تُطِيقُ وَلَا تمِلَّهُمْ وَتُكَرِّه إلَيهِمْ أمْرَ اللهِ، ثم عَجِّلِ الصَّلَاةَ الأولى بَعْدَ أنْ تَمِيلَ الشمْسُ، وَصَلِّ الْعَصْرَ وَالْمغْرِبَ فِى الشتاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ؛ الْعَصْرَ وَالشمْسُ بَيْضَاءُ مرْتَفِعَة، وَالْمَغْرِبَ حِينَ تَغِيبُ الشمْسُ، وَتَتَوَارَى بالْحِجَابِ، وَصَلِّ الْعِشَاءَ فَأعتِمْ بهَا؛ فَإنَّ اللَّيْلَ طَوِيلٌ، فإذَا كَانَ الصيف (¬2) فَأسْفِرْ بِالصُّبْحِ؛ فَإنَّ اللَّيْلَ قصِيرٌ، وَإنَّ النَّاسَ يَنَامُونَ، فأمْهِلْهُمْ حتَّى يُدْرِكُوهَا، وَصَلِّ الظُّهْرَ بَعْدَ أنْ يَنْقصَ الظل وتَحَرَّكَ الريح؛ فَإن النَّاسَ يقِيلُونَ، فَأمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوها، وَصَلِّ الْعَتَمَةَ فَلَا تُعْتِمْ بِهَا، وَلَا تُصَلِّهَا حَتَّى يَغِيبَ الشفَق». وقالت عائشة: ما رَأيت أحَدًا [كان] (¬3) أشَدَّ تَعْجِيلاً للظهر مِن رسولِ اللَه - صلى الله عليه وسلم - ولا مِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «في الصيف». (¬3) تكملة من سنن الترمذى. عارضة الأحوذى 1/ 264. وانظر لحديث عائشة أيضاً المسند، للإمام أحمد 6/ 135، 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكرٍ ولا مِن عُمَرَ. حديث حسن. فأمَّا في شدَّةِ الحَرِّ فيُستَحَبُّ تأخِيرها مطْلَقًا في ظاهِرِ كلام أحمدَ، والخِرَقِىّ. حَكاه عنه الأثْرَم. وهو قول إسحاقَ، وأصحابِ الرأىِ، وابنِ المنْذِرِ. وهو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى؛ لعمومِ قولِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اشْتدّ الْحَرُّ فَأبْرِدوا بِالظهْرِ؛ فَإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيحِ جَهَنَّمَ». متَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) من حديث أبي ذر، وأبي هريرة. وحديث أبي ذر أخرجه البخارى، في: باب الإبراد بالظهر من شدة الحر، وباب الإبراد بالظهر في السفر، من كتاب المواقيت، وفي: باب صفة النَّار وأنها مخلوقة غساقا، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخارى 1/ 142، 4/ 146. ومسلم، في: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر إلخ، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 43.كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة الظهر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 96. والترمذى، في: باب ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذى 1/ 269. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 155، 162، 176. وحديث أبي هريرة أخرجه البخارى، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 142. ومسلم، في: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر إلخ، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 430 - 432. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة الظهر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 96. والترمذى، في: باب ما جاء في تأخير الظهر في شده الحر، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذى 1/ 266. والنسائي، في: باب الإبراد بالظهر إذا اشتد الحر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 199، 200. وابن ماجه، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 222. والدارمى، في: باب الإبراد بالظهر، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 274. والإمام مالك، في: باب النهى عن الصَّلاة بالهاجرة، من كتاب وقوله الصَّلاة. الموطأ 1/ 16. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 229، 238، 256، 266، 285، 318، 348، 377، 393، 394، 400، 411، 462، 501، 507. وأخرج الحديث عن ابن عمر البخارى، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 142. وابن ماجه، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 223. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ كلامِ شَيْخِنا هاهُنا أنَّه إنَّما يُسْتَحبُّ تَأخيرها لمَن يُصَلِّى جَماعةً. قال القاضي في «المُجَردِ»: إنَّما يُستَحَبُّ الإبرادُ بها بثَلاثِ شَرائطَ؛ شِدةِ الحَر، وأن يكُون في البُلْدانِ الحارة، ومَساجِد الجماعات، فأما مَن صَلَاها في بَيْته أو في مَسجِدٍ بفِناءِ بَيتِه، فالأفضَلُ تَعجِيلُها. وهذا مذهبُ الشَّافعي؛ لأنَّ التَّأخِيرَ إنَّما اسْتُحِبَّ لينكَسِرَ الحرُّ، ويتَّسع فَىْء الحِيطانِ فيكْثُرَ السَّعىُ إلى الجَماعات، ومَن لا يُصَلِّى في جَماعَةٍ لا حاجَةَ به إلى التَّأخيرِ. وقال في «الجامِع» (¬1): لا فَرْقَ بين الْبلدانِ الحارَّة وغيرِها، ولا بين كَوْن المسجدِ يَنْتابه النّاسُ (¬2) أوّلا؛ لأنَّ أحمد، رَحِمَه اللهُ، كان يُؤخِّرُها في (2) مَسْجدِه، ولم يَكُنْ بهذه الصِّفَةِ. ويُؤخرها حتَّى يتَّسِعَ فَىْءُ الحيطانِ؛ فإنَّ في حديثِ أبي ذَرٍّ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال للمُؤذن: ¬

= وأخرج الحديث، عن أبي سعيد الخدرى البُخاريّ، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 143. وابن ماجه، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 9، 52، 53، 59. وأخرجه، عن المغيرة بن شعبة، ابن ماجه، في: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 250. وأخرجه، عن أبي موسى يرفعه، النسائي، في: باب الإبراد بالظهر إذا اشتد الحر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 200. وأخرجه، عن صفوان الزهرى، الإمام أحمد، في: المسند 4/ 262. وأخرجه، عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -، في: المسند 5/ 368. (¬1) ذكر ابن أبى يعلى من مصنفات والده القاضى محمد بن الحسين «قطعة من الجامع الكبير» فيها الطهارة وبعض الصَّلاة والنكاح والصداق والخلع والوليمة والطلاق، و «الجامع الصغير». طبقات الحنابلة 2/ 205، 206. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «أبرِدْ». حتَّى رَأينا فَئَ التُّلُولَ (¬1). ولا يؤخِّرُها إلى آخِرِ وَقْتِها، بل يُصَليها في وقتٍ [إذا فَرَغَ يكُونُ] (¬2) بينَه وبينَ آخِرِ الوَقتِ فَصْلٌ. فأمّا الجُمُعَةُ فيُسَنُّ تَعْجِيلُها في كل وَقْتٍ بعدَ الزَّوالِ؛ لأنَّ سَلَمَةَ بن الأكْوَعِ قال: كُنّا نُجمِّعُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا زالَتِ الشَّمْس. متفق عليه (¬3). ولم يُنْقَلْ أنه أخَّرَها، بل كان يُعَجلُها حتَّى قال سهْل بنُ سعد: ¬

(¬1) انظر تخريج حديث: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر. . . .». المتقدم. (¬2) في م: «يكون إذا فرغ». (¬3) أخرجه البخارى، في: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 159. ومسلم، في: باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 589. كما أخرجه النسائي في: باب وقْت الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 81. وابن ماجه، في: باب ما جاء في وقت الجمعة، من كتاب إقامة الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 350. والدارمى، في: باب في وقت الجمعه، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 363. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 64. ولفظ الحديث: كنا نصلِّى مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظلّ نستظلُّ فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما كُنّا نَقِيل ولا نَتَغَدَّى إلَّا (¬1) بعدَ الجُمعَةِ. أخرَجَه البُخارِىُّ (¬2). ولأنَّ التَّبكِيرَ إليها سُنة فيَتَأذَى النّاسُ بتَأخِيرِها. ويُسْتَحبُّ تَأخِيرُها في الغَيْمِ، [وتَعْجيلُ العَصْرِ والعِشاءِ] (¬3) أيضًا لمَن يُصَلِّى جماعَةً. ذكَره الْقَاضى فقال: يُسْتَحَبُّ تَأخِيرُ الظُّهرِ والمَغْرِبِ في الغَيْمِ، وتَعْجِيل العَصْرِ والعِشاء. قال: ونَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ المروذي وجَماعَةٍ. وعلَّل القاضي ذلك بأَنَّه وَقت يُخافُ منه العَوارِضُ؛ من المَطَرِ، والرِّيحِ والبَرْدِ، فيَشُقُّ الخُرُوجُ لكلِّ صلاةٍ، فيُؤخِّرُ الأولَى مِن صَلاَتىِ الجَمْع، ويُعَجِّلُ الثَّانِيَةَ، ويَخْرُج إليهما خُرُوجًا واحِدًا، فيَحْصُلُ له الرِّفْقُ بذلك كما يَحْصُلُ بالجَمْعِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والأوْزاعِىُّ. ورُوِى عن عُمَرَ ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) في: باب قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ. . . .}، وباب القائلة بعد الجمعة، عن كتاب الجمعة، وفي: باب ما جاء في الغرس، من كتاب الحرث، وفي: باب السلق والشعير، من كتاب الأطعمة، وفى: باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، وباب القائلة بعد الجمعة، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 2/ 17، 3/ 144، 7/ 95، 8/ 68، 77. كما أخرجه مسلم، في: باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 588. وأبو داود، في: باب في وقت الجمعة، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 249. والترمذى، في. باب ما جاء في القائلة بعد الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 315. وابن ماجه، في: باب ما جاء في وقت الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 350. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 336. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللهُ عنه، مثْلُ ذلك في الظُّهْرِ والعَصْرِ. وعن ابنِ مسعودٍ: يُعَجِّلُ الظُهْرَ والعَصْرَ، ويُؤخرُ المَغْرِبَ. وقال الحسنُ: يُؤخِّر الظُّهْرَ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه يُسَنُّ تَعْجِيل الظّهْرِ في غيرِ الحَرِّ إذا غَلَب على ظَنِّه دخُول الوَقْتِ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيث. وما رُوِىَ عن أحمدَ، فيُحْمَل على أنَّه أرادَ بالتَّأْخِيرِ؛ ليَتَيَقَّنَ دُخُول الوقت، ولا يُصلِّىَ مع الشَّكِّ، فقد نقل أبو طالِبٍ عنه ما يَدُلُّ على هذا، أنَّه قال: يَوْمَ الغَيْمِ يُؤخِّر الظُّهْرَ حتَّى لا يشُك أنَّها قد حانَتْ، ويُعَجِّلُ العَصْرَ، والمَغْرِبُ يؤخرها حتَّى يَعْلَم أنّه سَوادُ اللَّيْلِ، ويُعَجلُ العِشاءَ.

285 - مسألة؛ قال: (ثم العصر، وهى الوسطى، ووقتها من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس. وعنه، إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه. ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس)

ثُمَّ الْعَصْرُ، وَهِىَ الْوُسْطى، وَوَقْتُهَا مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ، إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْس. وعَنْهُ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَىْء مِثْلَيْهِ. ثُمَّ يَذْهَبُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَيَبْقَى وَقْتُ الضَّرورَةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 285 - مسألة؛ قال: (ثم العَصْرُ، وهى الوُسْطَى، ووَقْتُها مِن خُرُوجِ وَقتِ الظُّهرِ إلى اصفِرارِ الشَّمْسِ. وعنه، إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلّ شيء مِثْلَيْه. ثم يَذْهَبُ وقتُ الاخْتِيارِ، ويَبْقَى وقتُ الضَّرُورَةِ إلى غرُوبِ الشَّمْسِ) الصلاةُ الوُسْطَى صلاةُ العَصْرِ في قوْلِ أكثر أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم؛ منهم عليّ، وأبو هُرَيْرَةَ، وأبو سعيد، وأبو أيوبَ، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباس، رَضِى الله عنهم. وهو قولُ عَبِيَدَةَ السَّلْمانِى (¬1)، والحسنِ، والضحَّاكِ (¬2)، وأبي حنيفةَ، وأصْحابِه، ¬

(¬1) أبو مسلم عبيدة بن عمرو السلماني، أسلم قبل وفاة النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بسنتين ولم يره، وتوفى سنة اثنتين وسبعين، وكان من أعلم النَّاس بالفرائض. طبقات الفقهاء 80، العبر 1/ 79. (¬2) أبو القاسم الضحّاك بن مزاحم الهلالي، روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم. وقيل لم يثبت له سماع من أحد من الصحابة، توفي سنة ست ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 453، 454.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن المنذر. ورُوِى عن ابنِ عُمَرَ، وزيد، وعائشةَ، وعبدِ الله بنِ شَدّادٍ (¬1)، أنَّها صلاةُ الظُّهْرِ؛ لِما رُوِى عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: كان رسولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلى الظُّهْرَ بالهاجِرَةِ، ولم يَكُنْ يُصَلى صلاةً أشَدَّ على أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منها، فنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬2). رَواه أبو داودَ (¬3). ورَوَتْ عائشةُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قَرَأ: (حافِظُوا على الصَّلواتِ والصَّلاةِ الوسْطىَ وصَلاةِ العَصْر). رَواه ¬

(¬1) عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، لقى كبار الصحابة، وقتل سنة إحدى وثمانين. العبر 1/ 94. (¬2) سورة البقرة 238. (¬3) في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ، والترمذيُّ (¬1)، وقال: صَحِيحٌ. وقال طاوُسٌ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والشافعي: هي الصُّبحُ. ورُوِى أيضًا عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباس؛ لقَوْلِه تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. والقنُوت طُولُ القِيامِ، وهو مخْتصٌّ بالصُّبحِ، ولأنُّها من أثْقَلِ الصلاةِ على المُنافِقِين، فلذلك اخْتَصَّتْ بالوَّصِيَّةِ بالمُحافَظَةِ عليها، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يَعْلَمون مَا في الْعَتَمَةِ وَالصُّبح لَأتوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» متَّفَقٌ عليه (¬2). وقال قوم: هي المَغْرِبُ؛ لأنَّ الأولَى الظُّهْرُ، فتَكون المَغْرِبُ الوُسْطَى، لأنَّها الثَّالِثَة مِن الخَمس، ولأنَّها الوُسْطَى في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، وخُصَّتْ مِن بينِ الصَّلَواتِ بأنَّها وِتْرٌ، واللهُ وِتر يُجبُّ الوِترَ، ولأنَّها تُصَلَّى في أوَّل وَقْتِها في جَمِيع الأمْصارِ والأعْصارِ، ويُكْرَهُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 98. والترمذى، في: باب في تفسير سورة البقرة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 105. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الاستهام في الأذان، وباب فضل التهجير إلى الظهر، وباب الصف الأول، من كتاب الأذان، وفى: باب القرعة في المشكلات، من كتاب الشهادات. صحيح البُخاريّ 1/ 160، 167، 3/ 238. مسلم، في: باب تسوية الصفوف وإقامتها من كتاب الصَّلاة، وفى: باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 325، 451، 452. كما أخرجه أبو داود، في: باب في فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصَّلاة سنن أبي داود 1/ 131. والنسائي، في: باب الرخصة في أن يقال للعشاء العتمة، من كتاب المواقيت، وفى باب الاستهام على التأذين، من كتاب الأذان. المجتبى 1/ 216، 2/ 9. وابن ماجه، في: باب صلاة العشاء والفجر في جماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 261. والدارمى، في: باب أى الصلاتين على المنافقين أثقل، وباب فيمن تخلف عن الصَّلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 291، 292. والإمام مالك في: باب ما جاء في النداء للصلاة، من كتاب النداء، وفي: باب ما جاء في العتمة والصبح، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 68، 131. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 278، 303، 375، 376، 424، 466، 472، 479، 531، 533.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَأخِيرُها عنه، وكذلك (¬1) صَلّاها جبْرِيلُ بالنبى - صلى الله عليه وسلم - في اليَوميْن لوَقْتٍ واحِدٍ، وقد قال - صَلَّى الله عليه وسلم -: «لَا تَزَالُ أمُّتِى بِخَيْرٍ مَا لمْ يُؤخرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» (¬2). وهذا كلُّه يَدُل على تَأكِيدِها وفَضِيلَتِها. وقِيلَ: هي العِشاءُ. لِما ذَكَرْنا في الصُّبحِ، ولِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: مكَثْنا لَيْلةً نَنْتَظِرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخِرَةِ، فخَرَجَ إلينا حينَ (¬3) ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أو بعدَه، فقال: «إنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أهْل دِين غَيْرُكمْ، وَلوْلا أنْ أشُقَّ عَلَى أمتِى لَصَلَّيْتُ بهِمْ هَذِهِ السَّاعَة». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ولَنا، قول النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأحزاب: ¬

(¬1) في م: «ولذلك». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في وقت المغرب، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 99. وابن ماجة، في: باب وقت صلاة المغرب، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 22. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 147، 5/ 417، 422. (¬3) في الأصل: «عندما». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب النوم قبل العشاء لمن غلب، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 149. ومسلم، في: باب وقت العشاء وتأخيرها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 442. كما أخرجه أبو داود، في: باب [في] وقت العشاء الآخرة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 99. والنسائي، في: باب آخر وقت العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 215.كما روى عن عائشة رضى الله عنها أخرجه البخارى، في الباب الذى سبق ذكره، وفي: باب فضل العشاء، من كتاب المواقيت، وفي: باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، من كتاب الأذان. صحيح البخارى 1/ 148، 219. ومسلم، في الباب السابق ذكره. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 199، 215، 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الوسطى صَلَاةِ الْعَصْرِ». متفق عليه (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ (¬2) وسَمرَةَ (¬3)، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ الْوُسطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ». قال الترمِذِي: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نَصٌّ لا يَجوزُ خلافُه، وما رَوَتْه عائِشَةُ، فيَجُوزُ أن تكونَ «الواوُ» فيه زائدَة، ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ. في: باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، من كتاب الجهاد، وفي: باب غزوة الخندق، من كتاب المغازى، وفي: باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} في تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير، وفى: باب الدعاء على المشركين، من كتاب الدعوات. صحيح البُخاريّ 4/ 52، 5/ 141، 6/ 37، 8/ 105. ومسلم، في: باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، وباب الدليل لمن قال الصَّلاة الوسطى هي صلاة العصر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 436، 437. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 97. والترمذي، في: باب حدّثنا هناد حدّثنا عبدة عن سعيد، في تفسير سورة البقرة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 11/ 106. والنسائي، في: باب المحافظة على صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. المجتبى 1/ 190. وابن ماجه، في: باب المحافظة على صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 224. والدارمى، قى: باب في الصَّلاة الوسطى، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 0280، الإمام أحمد، في: المسند 1/ 71، 81، 113، 122، 126، 135، 137، 144، 146، 150 - 154. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في صلاة الوسطى أنَّها العصر، من أبواب المواقيت، وفي: باب حدّثنا محمود بن غيلان، في تفسير سورة البقرة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 1/ 214، 11/ 106. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذى 1/ 294. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 12، 13، 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كقَوْلِه: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (¬1). وقولِه: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2). وقَوْلُه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3). فقد قِيلَ: [قانِتين أى] (¬4) مُطِيعين. وقِيل: القُنُوت السُّكوتُ. ولذلك قال زيدُ بنُ أرْقَمَ: كنّا نَتَكَلَّمُ حتى نَزَل قَوْلُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. فأمرنا بالسُّكُوت، ونُهينا عن الكَلام (¬5). فصل: وأوُّلُ وَقْتِ العَصْرِ مِن خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وهو إذا صار ظِل كل شئٍ مِثْله بعدُ القَدْرِ الذي زالتْ عليه الشَّمس، [فبخُرُوح وقتِ الظُّهْرِ يَدْخُلُ] (¬6) وقتُ العَصْرِ، ليس بينهما فصْل. وهو قول الشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: أوّل وَقْتِها إذا زاد على المِثْلَيْن. لِما تَقَدَّمَ من ¬

(¬1) سورة الأنعام 75. (¬2) سورة الأحزاب 40. (¬3) سورة البقرة 238. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب ما ينهى من الكلام في الصَّلاة، من كتاب العمل في الصَّلاة، وفى: باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 78، 6/ 38. ومسلم، في: باب تحريم الكلام في الصَّلاة ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 383. والترمذي، في: باب ما جاء في نسخ الكلام في الصَّلاة، من أبواب الصَّلاة، وفى: باب حدّثنا أحمد بن منيع، في تفسير سورة البقرة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 2/ 195، 11/ 107. وأبو داود، في: باب النهى عن الكلام في الصَّلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 218. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 368. (¬6) في الأصل: «فيخرج وقت الظهر بدخول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديثِ الذي ذَكَرْناه لأبي حنيفةَ في بَيانِ آخِرِ وقْتِ الظُّهْرِ (¬1)، ولقَوْلِه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} (¬2). وعلى قَوْلِكم تكُونُ وَسَطَ النَّهارِ. وحُكِىَ عن ربيعَةَ، أن وَقْتَ الظُّهْرِ والعَصْرِ إذا زالَتِ الشَّمسُ. وقال إسحاقُ: آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ أوَّلُ وقتِ العَصْرِ، يَشْتَرِكان في قَدْرِ الصَّلاة، فلو أنَّ رَجُلَيْن صَلَّيا معًا، أحَدُهما يُصَلِّى الظُّهرَ والآخرُ يُصَلِّى (¬3) العَصْرَ، حين صار ظِلُّ كلِّ شئٍ مِثْلَه، لكانا مُصَليَيْن الصَّلاتَيْن في وَقْتِهما. وحُكِىَ عن ابنِ المُبارَكِ، لقَوْلِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابن عباس: «وَصَلَّى فِى الْمَرَّةِ الثانية الظُّهْرَ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بالأمْسِ» (¬4). ولَنا، ما تَقَدَّم من حديثِ جِبْرِيلَ، فأمَّا قوْله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}. فإنَّ الطَّرَف ما تَراخَى عن الوَسَطِ، فلا ينْفى ما قلْنا. وقَولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لِوقْتِ الْعَصْرِ بالأمس». أرادَ مُقارَبَةَ الوَقْتِ، يَعْنِى أنَّ ابْتِداءَ صلاةِ العَصْرِ مُتَصِل بآخِر صلاةِ الظهر في اليَوْمِ الثانى، وقد بَيَنَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد اللهِ بنِ عَمْرٍو: «وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ». رَواه مسلمٌ (¬5). وفى حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ ¬

(¬1) حديث: «إنَّما مثلكم ومثل أهل الكتاب. . . .» تقدم في صفحة 132. (¬2) سورة هود 114. (¬3) سقطت من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في ص 127. (¬5) في: باب أوقات الصلوات الخمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 427. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 95. والنسائى، في: باب آخر وقت المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 208. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 210، 213، 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الصَّلَاةِ أوَّلًا وآخِرًا، وإنَّ أوَّلَ وقْتِ الظُّهرِ حِينَ تَزُولُ الشمس، وَآخِرَ: وقتِهَا يَحْيَى يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ». رَواه التِّرمِذِيُّ (¬1). وآخِرُ وَقْتِها اخْتَلَفَتِ الروايَةُ فيه، فرُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ آخِرَ وقتِ الاخْتِيارِ إذا صار ظِلُّ كل شئٍ مِثْلَيْه. وهو قولُ مالك، والثَّوْرِي، والشافعيِّ؛ لقوْلِه في حديث ابنِ عباس: «الْوَقتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ». ورُوِى عنه، أنَّ آخِرَه ما لم تَصْفَرَّ الشَّمْسُ. وهى أصَحُّ، حَكاها عنه جَماعَة، منهما الأثْرمُ. وهذا قولُ أبي يُوسُف ومحمدٍ، ونَحْوُه عن الأوْزاعِىِّ؛ لِما روى عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفرَّ الشَّمْسُ». رَواه مسلم (¬2). وفى حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: «وَإنَّ آخِرَ وَقْتِها حِينَ تصْفر الشَّمس» (¬3). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: اجْمَعَ العلماءُ على أنَّ مَن صَلَّى العَصر والشَّمْسُ بَيْضاءُ نقيَّة، فقد صَلّاها في وَقْتِها. وفى هذا دلِيلٌ على أن مُراعاةَ المِثْلَيْن عندَهم استحبابٌ، ولَعَلَّهما متَقارِبان يُوجَدُ أحَدُهما قَرِيبًا مِن الآخَرِ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في مواقيت الصَّلاة، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذي 1/ 250. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 332. (¬2) في: باب أوقات الصلوات الخمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 427. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب الصَّلاة سنن أبي داود 1/ 95. والنسائي، في: باب آخر وقت المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 208. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 210، 213، 223. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في مواقيت الصَّلاة، من باب الصَّلاة. عارضة الأحوذى 1/ 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأوْقاتُ ثلاثةُ أضْرُب؛ وَقْتُ فَضِيلَةٍ، ووقتُ اخْتِيار، ووقتُ ضَرُورَة. وقد ذَكَرْنا وَقْتَ الفَضِيلَةِ. ومعنى وقتِ الاخْتِيارِ، هو الذي يَجُوزُ تأخير الصلاةِ إلى آخِرِه مِن غيرِ عُذرٍ. ووقتُ الضَّرورَةِ، [هو الذي] (¬1) إنّما يُباحُ تَأخِيرُ الصلاةِ إليه مع العُذْرِ. فإن أخَّرَها لغيرِ عُذر أثِمَ، ومتى فَعَلَها فيه فهو مُدْرِك لها أداءً في وَقتِها، سَواءٌ كان لعُذْرٍ أو غيرِه؛ لقَولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمس فَقَدْ أدْرَكَ الْعَصْرَ». متفق عليه (¬2). ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك حُكمُ سائِرِ الصَّلوات إذا أدْرَكَ مِن وَقْتِها رَكْعَةً، وإن أدْرَكَ أقلَّ مِن ذلك، فسيَأتى بَيانُه إن شاء الله. ومتى أخَّرَ العَصْرَ عن وقتِ الاخْتِيارِ، على ما فيه مِن الخِلافِ، أثِمَ إذا كان لغيرِ عُذْرٍ، لِما تَقَدَّم مِن الأخْبارِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، وباب من أدرك من الفجر ركعة، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 146، 151. ومسلم في: باب من أدرك ركعة من الصَّلاة فقد أدرك تلك الصَّلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 424، 425. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 98. والترمذي، في: باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذي 1/ 301. والنسائي، في: باب من أدرك ركعتين من العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 206. وابن ماجه، في: باب وقت الصَّلاة في العذر والضرورة، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 229. والدارمى، في: باب من أدرك ركعة من صلاة فقد أدرك، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارمي 1/ 278. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 254، 260، 275، 282، 306، 347، 348، 362، 389، 395، 399، 427، 459، 462، 489، 49، 507، 521، 6/ 78.

286 - مسألة: (وتعجيلها أفضل بكل حال)

وَتَعْجِيلُهَا أفْضَلُ بكل حَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولِما روَى أنس بنُ مالكٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ (1)، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِين (¬1)، يَجْلِسُ أحَدُهُمْ، حَتَّى إذا اصْفَرَّتِ الشَّمسُ، فَكَانَتْ بَيْنَ قرْنَي شَيْطَانٍ، أوْ عَلَى قرْنَي شَيْطَانٍ، قَامَ فنقَرَ أربَعًا، لَا يَذْكُرُ الله فِيهَا إلَّا قَلِيلاً». رَواه مسلمٌ (¬2). ولو أُبِيحَ تأخِيرُها لَما ذَمَّه عليه (¬3)، وجَعَلَه عَلامَةَ النفاق. 286 - مسألة: (وتَعجِيلُها أفْضَلُ بكلِّ حالٍ) رُوِى ذلك عن عُمَرَ (¬4)، وابنِ مسعودٍ، وعائشة، وأنس، وابنِ المُبارَكِ، وأهلِ المدِينَةِ، والأوزاعِى، والشّافعيّ، وإسحاق. ورُوِىَ عن أبي هُرَيْرَةَ وابنِ مسعودِ، أنَّهما كانا يُؤخِّران العَصر. ورُوِىَ عن أبي قلابَةَ وابنِ شُبْرُمَةَ، أنَّهما قالا: إنَّما سُمِّيَتِ العَصر لتُعْصَرَ. وقال أصحابُ الرَّأي: الأفْضَلُ ¬

(¬1) في م: «المنافق». (¬2) في: باب استحباب التبكير بالعصر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 434.كما أخرجه أبي داود، في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 98. والترمذي، في: باب ما جاء في تعجيل العصر، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذى 1/ 271. والنسائي، في: باب التشديد في تأخير العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 203. والإمام مالك، في: باب النهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 220. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 103، 149، 185، 247. (¬3) في م: «عليها». (¬4) في الأصل: «ابن عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِعْلُها في آخِر وَقْتِها المُخْتارِ؛ لِما روَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ (¬1)، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَأمُرُ بتَأخِيرِ العَصْرِ (¬2). وعن عليّ بنِ شَيْبان (¬3)، قال: قَدِمْنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يُؤخِّرُ العصر ما دامَتِ الشَّمْسُ (¬4) بَيْضاءَ نَقِيَّة (¬5). ولأنَّها آخِرُ صلاَتي جَمْع، فاسْتُحِبَّ تَأخِيرُها كالعِشاءِ. ولَنا، ما روَى أبو بَرْزَةَ، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّىِ العَصرَ، ثم يَرْجِعُ أحَدُنا إلى رَحْلِه في أقصَى المدِينَةِ والشمس حَيَّةٌ. مُتَّفق عليه (¬6). وقال رافِعُ بنُ خَدِيجٍ: كُنّا نُصَلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العصر، ثم نَنْحَرُ الجَزُورَ، فيُقْسَمُ عشرة أجْزاء، ثم نطْبُخُ فنَأكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قبلَ غُرُوبِ الشمس. مُتَّفَق عليه (¬7). وعن أبي أمامَةَ بنِ سَهْل، قال: صَليْنا مع عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز الظُّهْرَ، ثم خَرَجْنا حتَّى دَخَلْنا على أنس بنِ مالكٍ، فوَجَدْناه يُصَلِّى العَصْرَ، فقُلْنا: يا أبا حَمْزَةَ، ما هذه الصلاةُ التى صَلَّيْتَ؟ ¬

(¬1) هو رافع بن خديج بن رافع الأنصاري، عرض نفسه يوم بدر، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه استصغره. توفى سنة أربع وسبعين. أسد الغابة 2/ 190، 191. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 463. (¬3) أبو يحيى، على بن شيبان بن محرز الحنفى اليمامى، كان أحد الوفد من بنى حنيفة الذين قدموا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وسكن اليمامة. تهذيب التهذيب 7/ 332. (¬4) سقط من: م. (¬5) رواه أبو داود، في: باب وقت صلاة العصر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 97. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 134. (¬7) أخرجه البخارى، في: باب الشركة في الطعام والنهد، من كتاب الشركة. صحيح البخارى 3/ 180. ومسلم، في: باب استحباب التبكير بالعصر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 435. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 141 - 143.

287 - مسألة: (ثم المغرب وهى الوتر، ووقتها من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر)

ثُمَّ الْمَغْرِبُ، وَهِىَ الْوِترُ، وَوَقتُهَا مِنْ مَغِيبِ الشَّمْس إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأحْمَرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: العَصْرُ، وهذه صلاةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التى كُنَّا نُصَلِّيها معه. مُتفَق عليه (¬1). وروَى الترمِذِى (¬2)، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قالْ: «الْوَقْتُ الْأولُ مِنَ الصلَاةِ رِضْوَانُ اللهِ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ الله». وحديثُ رافِع لا يَصِحُّ. قاله الترمِذِى. وقال الدّارَقطنى (¬3): يَرْوِيه عبدُ الواحِدِ بنُ نافِع، وليس بالقَوِى، ولا يَصح عن رافِعٍ ولا عن غيرِه مِن الصحابَةِ، والصحيح عنهم تعجِيلُ صلاةِ العَصْرِ والتبكيرُ بها. قال ابنُ المُنْذِرِ: الأخْبارُ الثّابِتَةُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنَّ أفْضَلَ الأمْرَيْن تَعْجِيلُ العَصْرِ في أولِ وَقتِها. 287 - مسألة: (ثم المَغْرِبُ وهى الوتر، ووَقتُها مِن مَغِيبِ الشَّمْس إلى مغيبِ الشَّفَقِ الأحْمَرِ) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في دُخُولِ وَقْتِ المَغْرِبِ بغروبِ الشمس، والأحادِيثُ تَدُل عليه، وآخِرُه إذا غاب ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب وقت العصر، من كتاب المواقيت. صحيح البُخاريّ 1/ 144، 145. ومسلم، في: باب استحباب التبكير بالعصر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 434.كما أخرجه النسائى، في: باب تعجيل العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 203. (¬2) في: باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، من أبواب الصَّلاة، عارضة الأحوذي 1/ 282. (¬3) في: باب ذكر بيان المواقيت واختلاف الروايات في ذلك، من كتاب الصَّلاة. سنن الدارقطني 1/ 251، 252

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشفَقُ. وهو قولُ الثورِى، وإسحاق، وأبي ثَوْر، وأصحابِ الرَّأىِ. وقال مالكٌ، والأوْزاعِى، والشافعى في أحَدِ قَوْلَيْه: ليس لها إلَّا وَقت واحِد؛ لأن جِبْرِيلَ عليه السلامُ، صَلّاها بالنبى - صلى الله عليه وسلم - في اليَومَيْن لوَقتٍ واحِدٍ، في بَيانِ مَواقِيتِ الصلاةِ (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَزَالُ أمتِى بِخَيْر مَا لَمْ يُؤخِّرُوا الْمغرِبَ إلَى أنْ تشتَبِكَ النجُومُ» (¬2). وعن طاوُس: لا تَفُوتُ المَغْرِبُ والعِشاءُ حتَّى الفَجْرِ. وعن عَطاء: لا تَفُوتُ المَغْرِبُ والعِشاءُ حتَّى النَّهارِ. ولَنا، حديث بُرَيْدَةَ، وفيه أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى المَغْربَ في اليَوم الثانى حينَ غاب الشفَقُ. وروَى أبو موسى، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخرَ المَغْربَ في اليَومِ الثانى حتَّى كان عندَ سُقوطِ الشفَقِ. رَواهما مسلمٌ (¬3). وعن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَقتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفقُ». رَواه مسلمٌ (¬4). وهذه نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ، لا يَجُوزُ مُخالفَتُها بشئ مُحْتَمل، ولأنَّ ما قبل مَغِيبِ الشَّفقِ وقتٌ لاستِدامَتِها، فكان وَقتاً لابتدائِها، كأوَّلِ وقتها. وأحادِيثُهم مَحْمُولَة على الاسْتِحْبابِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 128 (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 144. (¬3) حديث بريدة تقدم في صفحة 128. وحديث أبى موسى أخرجه مسلم، في: باب أوقات الصلوات الخمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 429. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في مواقيت الصَّلاة، من أبواب الصَّلاة. عارضة الأحوذي 1/ 252. والنسائي، في: أول وقت المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 207. وابن ماجه، في: أبواب مواقيت الصَّلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن ابن ماجه 1/ 219. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 349. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 148.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاخْتِيارِ، وتَأكِيدِ فِعْلِها في أوَّلِ وَقْتِها، جَمْعًا بَيْنَها وبينَ أحادِثِنَا، ولو تَعارَضت وَجَب حَمْلُ أحادِيثِهم على أنَّها مَنْسُوخَةٌ؛ لأنَّهَا في أوَّلِ فَرْضِ الصلاةِ بمَكَّةَ، وأحادِيثُنا بعدَها بالمَدِينَةِ، فتَكُونُ ناسِخَةً لِما قَبْلَها مِمّا يُخالِفُها. واللهُ أعلمُ. فصل: والشَّفَقُ الحُمْرَةُ. هذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، ومحمدٍ. وعن أنَسٍ وأبى هُرَيْرَةَ، ما يَدُلُّ على أنَّ الشَّفَقَ البَياضُ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والأوْزاعِىِّ، وأبى حنيفةَ. وهو اخْتِيارُ ابنِ المُنْذِرِ، ورُوىَ عن ابن عباسٍ أيضًا، لأنَّ بخُرُوجِ وَقْتِها يَدْخُلُ وقتُ العِشاءِ (¬1)، الآخِرَةِ. وأوَّلُ وقتِ العِشاءِ إذا غاب البَياضُ، لأنَّ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ قال: أنا أعْلَمُ النَّاسِ بوَقْتِ هذه الصلاةِ، كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّها لسُقُوطِ القمَرِ لثالِثَةٍ (¬2). رَواه ¬

(¬1) في م: «عشاء». (¬2) أي ليلة ثالثة من الشهر. عون المعبود 1/ 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ (¬1). ورُوِىَ عن أبى مسعودٍ (¬2)، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيها حينَ يَسْوَدُّ الأُفُقُ (¬3). ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ فَوْرُ الشَّفَقِ». رَواه أبو داودَ (¬4). ورُوِىَ: «ثوْرُ الشَّفَقِ» (¬5). وفَوْرُ الشَّفَقِ: فَوَرانُه وسُطُوعُه. وثَوْرُه: ثَوَرانُ حُمْرَتِه. وروَى ابنُ عُمَرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتِ الْعِشَاءُ». رَواه الدّارَقُطْنِىُّ (¬6). وما رَوَوْه ليس فيه بَيانُ أنَّه أوَّلُ الوَقْتِ؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤخِّرُ الصلاةَ عن أوَّلِ الوقتِ قَلِيلًا، ولهذا رُوِىَ عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال لبِلالٍ: «اجْعَلْ بَيْنَ أذَانِكَ وإقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفرُغُ الْآكِلُ مِنْ أكْلِهِ، وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ وُضُوئِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ» (¬7). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في وقت العشاء الآخرة: من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 99. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 270، 272، 274. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 276. والنسائي، في: باب الشفق، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 212. والدارمى، في: باب وقت العشاء، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 275. (¬2) في الأصل: «ابن مسعود». وهو أبو مسعود الأنصاري البدرى، عقبة بن عمرو بن ثعلبة، توفى سنة إحدى أو اثنين وأربعين. أسد الغابة 6/ 286، 287. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب المواقيت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 94. (¬4) في: باب في المواقيت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 95. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب أوقات الصلوات الخمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 427. والنسائي، في: باب آخر وقت المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 208. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 213. (¬6) في: باب صفة المغرب والصبح، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 269. (¬7) أخرجه الترمذى، عن جابر بن عبد الله، في: باب ما جاء في الترسل في الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 312. والإمام أحمد، عن أبي بن كعب، في: المسند 5/ 143.

288 - مسألة: (وتعجيلها أفضل، إلا ليلة جمع لمن قصدها)

وَالأفْضَلُ تَعْجِيلُهَا، لَيْلَةَ جَمْعٍ لِمَنْ قَصَدَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 288 - مسألة: (وَتَعْجِيلُها أفْضَلُ، إلَّا لَيْلَةَ جَمْعٍ لمَن قَصَدَها) لا نَعْلَمُ خِلافًا في اسْتِحْبابِ تَعْجِيلِ المَغْرِبِ، في غيرِ حالِ العُذْرِ، إلَّا ما ذَكَرْنا مِن اخْتِلافِهم في الغَيْمِ. وهو قولُ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعْدَهم. قاله التِّرمِذِيُّ (¬1). وذلك لِما روَى جابِرٌ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّى المَغْرِبَ إذا وَجَبَتْ. وعن رافِعِ بنِ خَدِيجٍ، قال: كُنَّا نُصَلِّى المَغْرِبَ مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيَنْصَرِفُ أحَدُنا وإنَّه لَيُبْصِرُ مَواقِعَ نَبْلِه. مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). وعن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى المَغْرِبَ ساعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، إذا غاب حاجِبُها. رَواه أبو داودَ، واللَّفْظُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في وقت المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 274. (¬2) الأول أخرجه البخارى، في: باب وقت الظهر عند الزوال (الترجمة)، وباب، وقت المغرب، وباب وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا، من كتاب المواقيت. صحيح البخاري 1/ 143، 147، 148. ومسلم في: باب استجاب التبكير بالصبح في أول وقتها، من كتاب المساجد. صحيح البخارى 1/ 446 كما أخرجه أبو داود، في: باب وقت صلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وكيف كان يصليها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 95. والنسائي، في: باب تعجل العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 212. الإمام أحمد، في: المسند 3/ 469. والثاني أخرجه البخارى، في: باب وقت المغرب، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 147. ومسلم، في: باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 441. كما أخرجه ابن ماجة، في باب وقت صلاة المغرب، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 224. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له (¬1)، ورَواه التِّرمِذِيُّ (¬2) وقال: حديث (¬3) حسنٌ صَحِيحٌ. وفِعْلُ جِبْرِيلَ عليه السَّلامُ لها في اليَوْمَيْن في وَقْتٍ واحِدٍ دَلِيلٌ على تَأكِيدِ (¬4) اسْتِحْبابِها؛ ولأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ فكان أوْلَى. واللهُ أعلمُ. فأمَّا لَيْلَةُ جَمْعٍ، وهي لَيْلَةُ المُزْدَلِفَةِ، فيُسْتَحَبُّ تَأخِيرُها؛ ليُصَلِّيَها مع العِشاءِ الآخِرَةِ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك (¬5)، والإجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على ذلك. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب وقت المغرب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 99. (¬2) في باب ما جاء في وقت المغرب، من أبواب الصلاة عارضة الأحوذى 1/ 273. ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. كما أخرجه الدارمي، في: باب وقت المغرب، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 275. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «تأكد». (¬5) يأتى في الحج.

289 - مسألة: (ثم العشاء، ووقتها من مغيب الشفق الأحمر إلى ثلث الليل الأول

ثُمَّ الْعِشَاءُ، وَوَقْتُهَا مِنْ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأحْمَرِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأوَّلِ. وَعَنْهُ، نِصْفِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 289 - مسألة: (ثم العِشاءُ، ووَقْتُها مِن مَغِيبِ الشَّفَقِ الأحْمَرِ إلى ثُلثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ (¬1). وعنه، نِصْفِه) لا خِلافَ بينَ النَّاسِ في دُخُولِ وقتِ العِشاءِ الآخِرَةِ بغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في الشَّفَقِ، وقد ذَكَرْناه، فمتى غاب الشَّفَقُ الأحْمَرُ، دَخَل وقتُ العِشاءِ، إن كان في مكانٍ يَظْهَرُ له الأُفُقُ، وإن كان في مكانٍ يَسْتَتِرُ عنه الأُفُقُ بالجِبالِ أو نَحْوِها، اسْتَظْهَرَ حتَّى يَغِيبَ البَياضُ، فيَسْتَدِلَّ به على غَيْبُوبَةِ الحُمْرَةِ، لا لنَفْسِه. ¬

(¬1) ليست في: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في آخِرِ وَقْتِ الاخْتِيارِ، فرُوِى عنه، أنَّه ثُلُثُ اللَّيْلِ. نَصَّ عليه في رِوايَةِ الجَماعَةِ، اخْتارَها الخِرَقِيُّ. وهو قولُ عُمَرَ، وأبى هُرَيْرَةَ، وعُمَرَ بن عبدِ العزيزِ، والشافعىِّ أحَدِ قَوْلَيْه؛ لأنَّ في حديثِ جِبْرِيلَ، أنَّه صَلَّى بالنبىِّ -صلى الله عليه وسلم- في المَرَّةِ الثّانِيَةِ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وقال: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذيْنِ» (¬1). وفى حديثِ بُرَيْدَةَ، أنَّه صَلاها في اليَوْمِ الثاني حينَ ذَهَب ثُلُثُ اللَّيْلِ. رَواه مسلمٌ (¬2). وقال النَّخَعيُّ: آخِرُ وَقْتِها إلى رُبْع اللَّيْلِ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: آخِرُ وَقْتِها إلى طُلُوعِ الفَجْرِ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ آخِرَ وَقْتِها إلى نِصْفِ اللَّيْلِ. وهو قولُ ابنِ المُبارَكِ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحاب الرَّأى، وأحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ؛ لِما روَى أنَسٌ، قال: أخَّرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العِشاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثم صَلَّى، ثم قال: «صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أمَا إنَّكُمْ في صَلَاةٍ مَا انتظَرْتُمُوهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو، عن النبيِّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 128. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 129. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب وقت الظهر عند الزوال، وباب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعًا، وباب وقت العشاء إلي نصف الليل، من كتاب المواقيت، وفى: باب من جلس في المسجد كتاب الصلاة وفضل المساجد، وباب يستقبل الإمام الناس من إذا سلم، من كتاب الأذان؛ وفي: باب فص الخاتم، من كتاب اللباس. صحح البخاري 1/ 143، 147، 150، 168، 214، 7/ 201. وسلم، في باب وقت العشاء وتأخيرها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 443. كما أخرجه النسائي، في: باب آخر وقت العشاء، من كتاب المواقيت، وفى: باب صفة خاتم النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الزينة. المجتبى 1/ 215، 8/ 152. وابن ماجة، في: باب وقت صلاة العشاء، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 226. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 5.

290 - مسألة: (ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثانى، وهر البياض المعترض في المشرق، ولا ظلمة بعده، وتأخيرها أفضل ما لم يشق)

ثُمَّ يَذْهَبُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَيَبْقَى وَقْتُ الضَّرُورَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِى، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ في الْمَشْرِقِ، وَلَا ظُلْمَةَ بَعْدَهُ، وَتَأْخِيُرهَا أفْضَلُ مَا لَمْ يَشُقَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ». رَواه مسلمٌ وأبو داودَ (¬1). والأوْلَى أن لا تُؤَخَّرَ عن ثُلُثِ اللَّيْلِ، لأنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَجْمَعُ الرِّواياتِ، والزِّياداتُ تَعارَضَتْ فيها الأخْبارُ، وإن أخَّرَها جاز؛ لِما ذَكَرْنا. 290 - مسألة: (ثم يَذْهَبُ وَقْتُ الاخْتِيارِ، ويَبْقَى وقتُ الضَّرُورَةِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ الثانى، وهر البَياضُ المُعْتَرِضُ في المَشْرِقِ، ولا ظُلْمَةَ بعدَه، وتأْخِيرُها أفْضَلُ ما لم يَشُقَّ) متى ذَهب نِصْفُ اللَّيْلِ أو ثُلُثُه، على الخِلافِ فيه، خَرَج وَقْتُ الاخْتِيارِ، وما بعدَه وَقْتُ ضَرُورَةٍ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ الثاني، والحُكْمُ فيه حُكمُ الضَّرُورَةِ في وقتِ العَصْرِ، على ما بَيَّنَا. وتَأخِيرُها أفْضَلُ إلى آخِرِ وَقْتِها إذا لم يَشُقَّ. وهو اخْتِيارُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتَّابِعِين. كذلك قال التِّرْمِذِيُّ (¬1). وحُكِىَ عن الشافعيِّ أنَّ الأفْضَلَ تَقدِيمُها؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «الْوَقْتُ الْأوَّلُ رِضْوَانُ اللهِ، والْوَقْتُ الآخِرُ عَفْو اللهِ». رَواه التِّرْمَذِيُّ (¬2). وعن القاسِمِ بنِ غَنَّامٍ، عن أُمَّهاتِه، عن أُمِّ فَرْوَةَ، أنَّها سَمِعَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألَه رجلٌ عن أفْضَل الأعْمالِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يُؤخِّرُها، وإنَّما أخَّرَها لَيْلَةٌ واحِدَةٌ. ولَنا، قولُ أبى بَرْزَةَ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْتَحِبُّ أن يُؤْخِّرَ مِن العِشاءِ التي تَدْعُونَها العَتَمَةَ (¬4). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لَأمَرْتُهُمْ أنْ يُؤْخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 338. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 152. (¬3) في: باب المحافظة على وقت الصلوات، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 100، 101 كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 281. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْ نِصْفِهِ». رواه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ صحيحٌ. وعن جابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قال: كان رسولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يُؤخِّرُ عِشاءَ الآخِرَةِ. رَواه مسلمٌ (¬2). وأحادِيثُهم ضَعِيفَةٌ. أمّا خَبَرُ: «أوَّلُ الْوَقْتِ رضْوَانُ اللهِ» (¬3)، فيَرْوِيه عبدُ (¬4) اللهِ العُمَرِيُّ، وهو ضَعِيفٌ، وحديثُ أُمِّ فَرْوَةَ رُواتُه مَجاهِيلُ، وقال فيه التِّرمِذِيُّ أيضًا (¬5): لا يُرْوَى إلَّا مِن حديثِ العُمَرِيِّ، وليس بالقَوِيُّ في الحدثِ. قال أحمدُ: لا أعْرِفُ ثَبَت في أوْقاتِ الصلاةِ: أوَّلُها كذا، وأوْسَطُها كذا، وآخِرُها كذا. ولو ثَبَت كان الأخْذُ بأحادِيثِنا أوْلَى؛ لأنَّها خاصَّةٌ، وأخْبارَهم عامَّةٌ. وإنَّما يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُها للمُنْفَرِدِ ولجَماعَةٍ راضِين بالتَّأخِيرِ، فأمّا مع المَشَقُّةِ بالمَأمُومِين أو بَعْضِهم فلا يُسْتَحَبُّ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ الأثْرَم؛ قال: قُلْتُ لأبى عبدِ اللهِ: كم قَدْرُ تَأْخِيرِ العِشاء؟ فقال: يُؤخِّرُها بعدَ أن لا يشُقَّ على المَأمُومِين. وقد تَرَك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأمْرَ بتَأخِيرِها كَراهِيَةَ المَشَقَّةِ، ورُوِىَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في تأخير العشاء الآخرة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 278 كما أخرجه النسائي، في باب ما يستحب من تأخير العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 214. وابن ماجة، في باب وقت صلاة العشاء، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 226. والإمام أحمد، في المسند 2/ 345، انظر: باب السواك، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 11. وباب ما جاء في السواك، من أبواب الطهارة، من سنن الترمذى. عارضة الأحوذى 1/ 40. (¬2) في: باب وقت العشاء وتأخيرها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 445. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 152. (¬4) في الأصول: «عبيد». وهو عبد الله بن عمر بن حفص أبو عبد الرحمن المصرى، من آل عمر بن الخطاب، مختلف في توثيقه. توفي بالمدينة في خلافة: هارون الرشيد سنة إحدى وسبعين ومائة. تهذيب التهذيب 5/ 326 - 328. (¬5) انظر: عارضة الأحوذى 1/ 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه: «مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِى شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ» (¬1). وروَى جابِرٌ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّى العِشاءَ أحيانًا وأحيانًا؛ إذا رآهم اجْتَمَعُوا عَجَّل، وإذا رآهم أبْطَئُوا أخَّر (¬2). وهذا يَدُلُّ على مُراعاةِ حالِ المَأمُومِين. وقد روَى النُّعْمانُ بنُ بَشِيرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّيها لسُقوطِ القَمَرِ لثالِثَةٍ (¬3). ¬

(¬1) لم نجده بهذا اللفظ، وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنَ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِىَ مِنَ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهْمْ فَارْفُقَ بِهِ». أخرجه مسلم، في: باب فضيلة الإمام العادل، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1458. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 62، 93، 257، 258، 760. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 134. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن أبى مسعودٍ، قال: رَأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى هذه الصلاةَ حينَ يَسْوَدُّ الأُفُقُ (¬1). فيُسْتَحَبُّ الاقْتِداءُ بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - إحْدَى هاتَيْن الحالَتَيْن، ولا يَشُقُّ على المَأْمُومِين؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَأمُرُ بالتَّخْفِيفِ رِفْقًا بالمَأمُومِين. واللهُ أعلمُ. فصل: ولا يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ هذه الصلاةِ العَتَمَةَ، وكان ابنُ عُمَر إذا سَمِعِ رجلًا يقُول: العَتَمَةُ. صاح وغَضِب، وقال: إنَّما هي العِشَاءُ (¬2). ورُوىَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، ألَا إنَّها الْعِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ (¬3) بِالإبِلِ». رَواه مسلمٌ (¬4). وإن سَمّاها جاز؛ لقَوْلِ مُعاذٍ: بَقَيْنا (¬5) رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صلاةِ العَتَمَةِ. رَواه أبو داودَ (¬6). وفى المُتَّفَقِ عليه (¬7)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 55. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب اسم العشاء الآخرة، من كتاب الصلاة. المصنف 1/ 665. (¬3) يعتمون بالإبل: يؤخرون حلابها إلى وقت العتمة. (¬4) في: باب وقت العشاء وتأخيرها؛ من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 445.كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة العتمة، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 592. والنسائي في: باب الكراهية في أن قال للعشاء العتمة، من كتاب المواقيت، المجتبي 1/ 216، 217. وابن ماجة، في: باب النهي أن يقال صلاة العتمة، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 230. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 10، 19، 49، 144. (¬5) في م: «لقينا». وبقينا عل وزن رمينا، أى انتظرناه. انظر: عون المعبود 1/ 161. (¬6) في: باب وقت العشاء الآخرة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 99. (¬7) تقدم تخريجه في صفحة 143.

291 - مسألة: (ثم الفجر، ووقتها من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس)

ثُمَّ الْفَجْرُ، وَوَقْتُهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِى إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 291 - مسألة: (ثم الفَجْرُ، ووَقْتُها مِن طُلُوعِ الفَجْرِ الثاني إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ وَقْتَ الفَجْرِ يَدْخُلُ بطُلُوعِ الفَجْرِ الثاني إجْماعًا، وقد دَلَّتْ عليه الأخْبارُ التي ذَكَرْناها، وهو البَياضُ المُعْتَرِضُ في المَشْرِقِ، المُسْتَطِيرُ في الأُفُقِ، ويُسَمَّى الفَجْرَ الصَّادِقَ؛ لأنَّه صَدَقَك عن الصُّبْحِ، والصُّبْحُ ما جَمَع بَياضًا وحُمْرَة ولا ظُلْمَةَ بعدَه، فأمّا الفَجْرُ الأوَّلُ، فهو البَياضُ المُسْتَدِقُّ المُسْتَطِيلُ صُعُدًا مِن غيرِ اعْتِراضٍ، فلا يَتَعَلَّقُ به حُكْمٌ. وآخِرُ وَقْتِها طُلُوعُ الشَّمْسِ؛ لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُع

292 - مسألة: (وتعجيلها أفضل. وعنه، إن أسفر المأمومون، فالأفضل الإسفار)

وَتَعْجِيلُهَا أفْضَلُ. وَعَنْهُ، إِنْ أسْفَرَ الْمَأمُومُونَ فَالْأفْضَلُ الْإسْفَارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّمْسُ» رَواه مسلمٌ (¬1). 292 - مسألة: (وتَعْجِيلُها أفْضَلُ. وعنه، إن أسْفَرَ المَأمُومُون، فالأفْضَلُ الإسْفارُ) التَّغْلِيسُ بالفَجْرِ أفْضَلُ. رُوِىَ عن أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وابنِ مسعودٍ، وأبي موسى، وابنِ (¬2) الزُّبَيْرِ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، ما يَدُلُّ على ذلك. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 147. (¬2) في م: «أبي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): صَحَّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبى بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، أنَّهم كانوا يُغلِّسُون (¬2)، ومُحالٌ أن يَتْرُكوا الأفْضَلَ، وهم النِّهايَةُ في إتْيان ¬

(¬1) في: التمهيد 4/ 340. (¬2) غلَّس في الصلاة: صلاها بغلس، وهو ظلام آخر الليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَضائِلِ. ورُوِى عن أحمدَ، أنَّ الاعْتِبارَ بحالِ المَأمُومِين، فإن أسْفَرُوا فالأفْضَلُ الإسْفارُ؛ لأنَّ جابِرًا روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَفْعَلُ ذلك في العِشاءِ (¬1)، فيَنْبَغِى أن يكُونَ كذلك في الفجْرِ. وقال الثَّوْرِىُّ وأصحابُ الرَّأىِ: الأفْضَلُ الإسْفارُ؛ لِما روَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «أسْفِرُوا بِالْفَجْرِ؛ فَإنَّهُ أعْظَمُ لِلأجْرِ». رَواه التِّرمِذِىُّ (¬2)، وقال: حسنٌ صحيحٌ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ قال: والصُّبْحُ كان النبيُّ يُصَلِّيها بغَلَسٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفى حديثِ أبى بَرْزَةَ: وكان يَنْفَتِلُ مِن صلاةِ الغداةِ حينَ يَعْرِفُ الرَّجلُ جَلِيسَه. وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى الصُّبْحَ، فيَنْصَرِفُ النِّساءُ مُتَلَفّعاتٍ بمُرُوطِهِنَّ، ما يُعْرَفْنَ مِن الغَلَسِ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 134. (¬2) في: باب ما جاء في الإسفار بالفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 262. (¬3) انظر حديث جابر المتقدم في صفحة 134. (¬4) حديث أبى برزة تقدم تخريجه في صفحة 134. أما حديت عائشة فأخرجه البخارى، في باب في كم تصلى المرأة في الثياب، من كتاب الصلاة، وفى: باب وقت الفجر، من كتاب المواقيت، وفى: باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، وباب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 104، 151، 219، 220. ومسلم، في: باب استحباب التكبير بالصبح، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 445، 446 كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت الصبح، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 100 والترمذى، في: باب ما جاء في التغليس، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذي 1/ 260. والنسائي، في: التغليس في الحضر، من كتاب المواقيت، وفي باب الوقت الَّذي ينصرف فيه النساء من الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 1/ 217، 3/ 69. وابن ماجة، في: باب وقت صلاة الفجر، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 22. والدارمى، في: باب التغليس في الفجر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 277. والإمام مالك، في: باب وقوت الصلاة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 5. والإمام أحمد، في المسند 6/ 33، 37، 179، 248، 358، 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن أبى مسعودٍ الأنْصَارِيِّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غلَّسَ بالصُّبحِ، ثم أسْفَرَ مَرَّةً، ثم لم يَعُدْ إلى الإسْفارِ حتَّى قَبَضَه اللهُ. رَواه أبو داودَ (¬1). فأمّا الإسْفارُ في حَدِيثِهم، فالمُرادُ به أن يَتَبَيَّن ضَوْءُ الصُّبْحِ ويَنْكَشِفَ (¬2) ويَكْثُرَ، مِن قوْلِهم: أسْفَرَتِ المرأةُ عن وَجْهِها. إذا كَشَفَتْه. فصل: ولا يَأْثَمْ بتَعْجيلِ الصلاةِ المُسْتَحَبِّ تَأْخِيرُها، ولا [بتَأخِيرِ ما يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُه] (¬3)، إذا أَخَّرَه عازِمًا على فِعْلِه، ما لم يَضِقِ الوَقْتُ عن فِعْلِ جَمِيع العِبادَةِ؛ لأنَّ جِبْرِيلَ (¬4) صَلّاها بالنبىِّ في آخِرِ الوَقتِ وأوَّلِه، وصَلَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك أيضًا، وقال: «الْوَقتُ مَا بَيْن هَذَيْنِ» (¬5). ولأنَّ الوُجُوبَ مُوَسَّعٌ، فهو كالتَّكْفِيرِ مُوسُّعٌ في الأعْيانِ، فإن أخَّرَها غيرَ عازِمٍ على الفِعْلِ، أو أخَّرَها بحيث يَضِيقُ الوَقتُ عن فِعْلِ جَمِيعِها فيه، أثِمَ؛ لأنَّ الرَّكْعَةَ الأخِيرَةَ مِن الصلاةِ، فلم يَجُزْ تَأخِيرُها عن الوقتِ، كالأُولَى. ومتى أخَّرَ الصلاةَ عن أوَّلِ وَقْتِها عازِمًا على الفِعْلِ، فمات قبلَ فِعْلِها، لم يَمُتْ عاصِيًا، لأنَّه فَعَل ما يَجُوزُ له، وليس المَوْتُ مِن فِعْلِه، فلم يَأثَمْ به (¬6). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب في المواقيت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 94. (¬2) سقطت من: م. (¬3) في الأصل: «بتأخر ما استحب تعجيلها». (¬4) ق م: «جبرائيل». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 128. (¬6) سقط من: الأصل.

293 - مسألة: (ومن أدرك تكبيرة الإحرام من صلاة في وقتها فقد أدركها)

وَمَنْ أدْرَكَ تَكبِيرَة الْإحْرَامِ مِنْ صَلَاةٍ في وَقْتِهَا، فَقدْ أدْرَكَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 293 - مسألة: (ومَن أدْرَكَ تَكبِيرَةَ الإحْرام مِن صلاةٍ في وَقْتِها فقد أدْرَكَها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن أدْرَكَ ركْعَةً مِن الصلاةِ قبلَ خُرُوجِ وَقْتِها، فقد أدْرَك الصلاةَ، سَواء أخَّرَها لعُذْرٍ، كحائِضٍ تَطْهُرُ، أو مَجْنُونٍ يُفِيقُ، أو لغيرِ عُذْرٍ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أدْركَ الصَّلَاةَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفى رِوايَةِ: «مَنْ أدْرَك ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من أدرك ركعة من الصلاة، من كتاب المواقيت. صحيح البخاري 1/ 151. ومسلم، في: باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، من كتاب المساجد مسلم 1/ 423. كما أخرجه أبو داود، في: باب من أدرك من الجمعة ركعة، من كتاب الصلاة. داود 1/ 257. والترمذى، في: باب ما جاء في من أدرك من الجمعة ركعة، من أبواب الجمعة الأحوذى 2/ 314. والنسائي، في: باب من أدرك ركعة من الصلاة، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 220. ابن ماجة، في: باب ما جاء في من أدرك من الجمعة ركعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجة والدارمي، في: باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك، من كتاب الصلاة. سنن الدارامي والإمام أحمد، في المسند 2/ 241، 265، 271، 280، 376.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكْعَة مِنَ الْعَصْرِ قبْل أنْ تَغْرُبَ الشَّمْس فَقَدْ أدْرَكَ الْعَصْرَ» (¬1). وجَمِيعُ الصَّلَواتِ في ذلك سَواءٌ. وقال أصحابُ الرَّأىِ في مَن طلَعَتِ الشَّمْسُ وقد صَلَّى ركعة: تَفْسُدُ صَلاتُه، لاُنَّه قد صار في وَقْتٍ نُهِىَ عن الصلاةِ فيه. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبحِ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ الصُّبحَ». وفى رِوايَةِ: «مَنْ أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْل أنْ تَطْلعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه أدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصلاةِ في وَقْتِها، فكان مُدْرِكًا لها كبَقِيَّةِ الصَّلَواتِ، وإنَّما نُهِى عن النَّافِلَةِ، فأمَّا الفَرائِضُ فتُصَلَّى في كلِّ وقتٍ؛ بدَلِيلِ ما قبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فإنَّه وقتُ نَهْى، ولا يُمْنَعُ مِن فِعْلِ الفَرْضِ فيه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، وباب من أدرك من الفجر ركعة، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 146، 151. ومسلم في: باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 424، 425. وأبو داود، في: باب في وقت صلاة العصر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 98. والترمذى، في باب ما جاء في من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، وباب من أدرك ركعة من صلاة الصبح، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 301. والنسائي، في: باب من أدرك ركعتين من العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 206، 219. وابن ماجة، في كتاب وقت الصلاة في العذر والضرورة، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 229. الدارمي، في باب من أدرك ركعة من صلاة فقد أدرك، من كتاب الصلاة 1/ 278. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 254، 260، 275، 282، 306، 347، 348، 362، 389، 395، 399، 427، 459، 462، 489، 495، 507، 521، 6/ 78. (¬2) انظر الحاشية السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل يُدْرِكُ الصلاةَ بإدْراكِ ما دُونَ الرَّكْعَة؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، لا يُدْرِكها. وهو ظاهِر كلام الخِرَقِيِّ، ومذهبُ مالكٍ؛ لظاهِرِ الخَبَرِ الَّذي رَوَيْناه، فإنَّ تَخْصِيصَهَ برَكعَةٍ يَدُلُّ عِلى أنَّ الإدْراكَ لا يَحْصُلُ بدُونِها، ولأنَّه إدْراكٌ للصلاةِ، فلا يَحْصُلُ بأقَلَّ مِن رَكْعَةٍ، كإدْراكِ الجُمُعَةِ. والثانيةُ، يُدْرِكُها بإدْراكِ جُزْءٍ منها، أىَّ جُزْءٍ كان. قال القاضي: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، واخْتِيارُ أبى الخَطَّابِ في مَن أدْرَكَ تَكْبِيرَةَ الإحْرامٍ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، وللشافعىِّ قَوْلان كالمَذْهَبَيْن؛ لأنَّ أبا هُرَيَرةَ روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وللنَّسائِىِّ: «فَقَدْ أدْرَكَهَا» (¬2). ولأن الإدْراكَ إذا تَعَلَّقَ به حُكْمْ في الصلاةِ اسْتَوَى فيه من الرَّكْعَةُ وما دُونَها، كإدْراكِ الجَماعَةِ، وإدْراكِ المُسافِرِ صلاةَ المُقِيمِ، والقِياسُ يَبْطُلُ بإدْراكِ الرَّكْعَةِ دُونَ تَشَهُّدِها. والله أعلمُ. ¬

(¬1) هو المتقدم قبله. (¬2) في: باب من أدرك ركعة من صلاة الصبح، من باب المواقيت. المجتبى 1/ 219.

294 - مسألة: (ومن شك في الوقت، لم يصل حتى يغلب على ظنه [دخوله)

وَمَنْ شَكَّ في الْوَقْتِ، لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 294 - مسألة: (ومَن شَكَّ في الوَقْتِ، لم يُصَلِّ حتى يَغْلِبَ على ظَنِّهِ [دُخُولُه) متى شَكَّ في دُخُولِ وقتِ الصلاةِ، لم يُصَلِّ حتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَه، أو يَغْلِبَ على ظَنِّهِ] (¬1) ذلك، مِثْلَ مَن له صَنْعَةٌ جَرَتْ عادَتُه بعَمَلِ شيءِ مُقَدَّرٍ إلى وَقْتِ الصلاةِ، أو قارِئْ جَرَتْ عادَتُه بقراءةِ شيءٍ فقرَأه، وأشْباهِ هذا، فمتى فَعَل ذلك، وغَلَب على ظَنِّهِ دُخُولُ الوقتِ، أُبِيحَ له فِعْلُ (¬2) الصلاةِ، والأوْلَى تَأخِيرُها قليلًا احْتِياطًا، إلَّا أن يَخْشَى خُرُوجَ الوقتِ، أو تكُونَ صلاةُ العَصْرِ في وقتِ الغَيْمِ، فإنَّه (¬3) يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ بها، لِما روَى بُرَيْدَةُ، قال: كُنّا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ، فقال: «بَكرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ في اليَوْمَ الغَيْمَ؛ فَإنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ (¬4) عَمَلُهُ». رَواه البُخارِيُّ (¬5). قال شَيْخُنا (¬6): ومَعْناه، واللهُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقطت من: م. (¬3) في م: «فإنها». (¬4) حبط عمله: فسد وهدر. (¬5) في: باب من ترك العصر، في باب التبكير بالصلاة في يوم الغيم، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 145، 154. كما أخرجه النسائى، في: باب من ترك صلاة العصر، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 191. وابن ماجة في: باب ميقات الصلاة في الغيم، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 227. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 349، 350، 357، 360، 361. (¬6) في: المغنى 2/ 331.

295 - مسألة: (فإن أخبره بذلك مخبر في يقين قبل قوله، وإن كان عن ظن يقبله)

فَإنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مُخْبِرٌ عَنْ يَقِينٍ قَبِلَ قَوْلَهُ، وِانْ كَانَ عَنْ ظَنٍّ لَمْ يَقْبَلْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلمُ، التَّبكِيرُ بها إذا حَلَّ فِعْلُها ليَقِينٍ، أو غَلَبَةِ ظَنٍّ، وذلك لأنَّ وَقْتَها (¬1) المُخْتارَ في زَمَنِ الشِّتاءِ ضَيِّقٌ، فيُخْشَى خُرُوجُه. 295 - مسألة: (فإن أخْبَرَهُ بذلك مُخْبِرٌ في يَقِينٍ قَبِل قولَه، وإن كان عن ظَنٍّ يَقْبَلْه) متى أخْبَرَه بدُخُولِ الوَقْتِ ثِقَةٌ عن عِلُمٍ، لَزِمَه قَبُولُ خَبَرِه؛ لأنَّه خَبَرٌ دِينىٌّ، فقُبِلَ فيه تولُ الواحِدِ كالرِّوايَةِ، فأمّا إن أخْبَرَه عن ظَنٍّ، لم يُقَلِّدْه، واجْتَهَدَ لنَفْسِه؛ لأنَّه يَقْدِرُ على الصلاةِ باجْتِهادِ نَفْسِه، فلم يَجُزْ له تَقْلِيدُ غيرِه، كحالَةِ اشْتِباهِ القِبْلَةِ. والبَصِيرُ ¬

(¬1) في م: «فعلها في وقتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعْمَى والمَطْمُورُ القادِرُ على التَّوَصُّلِ إلى الاسْتِدْلالِ سَواءٌ؛ لاسْتِوائِهم في إمْكانِ التَّقْدِيرِ بمُرُورِ الزَّمانِ كما بَيَّنَا. فصل: وإذا سَمِع الأذانَ مِن ثِقَةٍ عالِمٍ بالوَقْتِ، فله تَقْلِيدُه؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لا يُؤَذِّنُ إلَّا بعدَ دُخولِ الوقتِ، فجَرَى مَجْرَى خَبَرِه، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُؤْذِّنُ مُؤتَمَنٌ» (¬1). ولولا أنَّه يُقَلَّدُ ويُرْجَعُ إليه ما كان مؤتَمَنًا، وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَصْلَتَانِ مُعَلَّقَتَانِ في أعْنَاقِ المُؤذِّنِينَ للْمُسْلِمِينَ؛ صَلَاتُهُمْ، وَصِيَامُهُمْ». رَواه ابنُ ماجَة (¬2). ولأنَّ الأذانَ شُرِع للإعْلامِ بالوَقْتِ، فلو لم يَجُزْ تَقْلِيدُ المُؤذِّنِ لم تَحْصُلِ الحِكْمَةُ التي شُرِع الأذانُ لها، ولم يَزَلِ النَّاسُ يَجْتَمِعُون للصلاةِ في مَساجِدِهم، فإذا سَمِعُوا الأذانَ قامُوا إلى الصلاةِ، وبَنَوْا على قولِ المُؤذِّنِ، مِن غيرِ مُشاهَدَةٍ للوقتِ، ولا اجْتِهادٍ فيه، مِن غيرِ نَكِير، فكان إجْماعًا. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في. باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 123. والترمذى، في: باب ما جاء أن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 8، والإمام أحمد، في: المسند 2/ 232، 284، 378، 382، 419، 424، 461، 472، 514. (¬2) في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان، سنن ابن ماجة 1/ 236.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن صَلَّى قبلَ الوَقْتِ، لم تُجْزئْه صَلاتُه، في قولَ أكْثَرِ أهلِ العلمِ، سَواءٌ فَعَل ذلك عَمْدًا أو خَطأً، كلَّ الصلاةِ أو بَعْضَها. وبه قال الزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْى، والشافعيُّ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ وأبى موسى، أنَّهما أعادا الفَجْرَ؛ لأَنَّهما صَلَّياها قبلَ الوَقتِ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، في مُسافِر صَلَّى الظُّهْرَ قبلَ الزَّوالِ: يُجْزِئُه. ونَحْوُه قولُ الحسن والشُّعْبى. وعن مالك كقَوْلِنا. وعنه، في مَن صَلَّى العِشاءَ قبلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ جاهِلًا أو ناسِيًا: يُعِيدُ ما كان في الوَقْتِ، فإذا ذَهَب الوقتُ قبلَ عِلْمِه أو ذِكْرِه، فلا شئَ عليه. ولَنا، أنَّ الخِطابَ بالصلاةِ يَتَوَجَّهُ إلى المُكَلَّفِ عندَ دُخُولِ وَقْتِها، وما وُجِد بعدَ ذلك ما يُزِيلُه ويُبْرِئُ الذِّمَّةَ منه، فَيَبْقى بحالِه.

296 - مسألة: (ومتى اجتهد وصلى، فبان أنه وافق الوقت أو ما بعده، أجزأه)

وَمَتَى اجْتَهَدَ وَصَلَّى، فَبَانَ أنَّهُ وَافَقَ الْوَقْتَ، أَوْ مَا، بَعْدَهُ أجْزَأهُ، وَإنْ وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، ثُمْ جُنَّ، أوْ حَاضَتِ الْمَرْأةُ، لزِمَهُمُ الْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 296 - مسألة: (ومتى اجْتَهَد وصَلَّى، فبان أنَّه وافَقَ الوَقْتَ أو ما بعدَه، أجْزأه) لأنَّه أدَّى (¬1) ما خوطِبَ بأدائِه وفُرِض عليه. (وإن وافَقَ قبلَه لم تجْزِئْه) لأنَّ المُخاطَبَةَ بالصلاةِ وسَبَبَ الوُجُوبِ وُجِدا بعدَ فِعْلِه، فلم يَسْقُطْ حُكْمُه بما وُجِد قبلَه. فصل: وإن صَلَّى مِن غيرِ دَلِيل مع الشَّكِّ، لم تجْزِئْه صَلاتُه، سَواءٌ أصاب أو أخْطَأ؛ لأنَّه صلَّى مع الشَّكِّ في شَرْطِ الصلاةِ مِن غيرِ دَلِيلٍ، فلم تَصِحَّ، كمَن اشْتَبَهَتْ عليه القِبْلَةُ فصَلَّى مِن غيرِ اجْتِهادٍ. 297 - مسألة: (ومَن أدْرَكَ مِن الوَقْتِ قَدْرَ تَكبيرَةٍ، ثم جُنَّ، أو حاضَتِ المرأةُ، لَزِمَهم القَضاءُ) لأنَّ الصلاةَ تَجبُ بأوَّلِ الوقتِ، وقد ذَكَرْناه، ويَسْتَقِرُّ وُجُوبُها بذلك، فمتى أدْرَكَ جُزْءًا مِن أوَّلَ الوقت، ثم ¬

(¬1) في الأصل: «ما أدرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُنَّ، أو حاضَتِ المرأةُ، لَزِمَهم (¬1) القَضاءُ كما ذَكَر، إذا أمْكَنَهما. وقال الشافعيُّ إسحاق: لا يَسْتَقِرُّ إلَّا بمُضِىِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِعْلُها فيه، ولا (¬2) يَجِبُ القَضاءُ بما دُونَه. واخْتارَه أبو عبدِ اللهِ ابنُ بَطَّةَ؛ لأنَّه لم يُدْرِكْ مِن الوقتِ ما يُمْكِنُه الصلاةُ فيه، أشْبَهَ ما لو لم يُدْرِكْ شيئًا. ولَنا، أنَّها صلاة وَجَبَتْ عليه، فوَجَبَ قَضاؤُها إذا فاتَتْه، كالتى أمْكَنَ أداؤها، فأمَّا التي لم يُدْرِكْ شيئًا مِن وَقْتِها، فإنَّها لم تَجِبْ (¬3)، وقِياسُ الواجِبِ على ما لم يَجبْ لا يَصِحُّ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل:. «لزمه». (¬2) في م: «فلا». (¬3) بعده في الأصل: «عليه فوجب قضاؤها إذا فاتته». وهو نقل نظر.

298 - مسألة: «وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو طهرت حائض، قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة، لزمهم الصبح، وإن كان قبل غروب الشمس، لزمهم الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر، لزمهم المغرب والعشاء) وجملة ذلك، أنه متى أدرك أحد هؤلاء جزءا من آخر وقت الصلاة، لزمه قضاؤها، لأنها وجبت عليه، فلزمه القضاء كما لو أدرك وقتا يتسع لها. وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافا. قال شيخنا

وَإنْ بَلَغَ صَبِىٌّ، أو أسْلَمَ كَافِرٌ، أو أفَاقَ مَجْنُونٌ، أوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ، لَزِمَهُمُ الصَّبْحُ، وَإنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَزِمَهُمُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَإنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَزِمَهُمُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 298 - مسألة: «وَإِنْ بَلَغ صَبِيٌّ، أو أسْلَمَ كافرٌ، أو أفاق مَجْنُونٌ، أو طَهُرَتْ حائِضٌ، قَبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بقَدْرِ تَكبِيرَةٍ، لَزِمَهم الصُّبْحُ، وإن كان قبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَزِمَهم الظُّهْرُ والعَصْرُ، وإن كان قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، لَزِمَهم المَغْرِبُ والعِشاءُ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى أدْرَكَ أحَدُ هؤلاء جُزْءًا مِن آخِر وقتِ الصلاةِ، لَزِمَه قَضاؤُها، لأنَّها وَجَبَتْ عليه، فلَزِمَه القَضاءُ كما لو أدْرَكَ وقْتًا يَتَّسِع لها. وهذا مذهب الشافعيِّ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. قال شيخُنا (¬1): وأقَلُّ ذلك تَكْبِيرَةُ الإحْرامِ، لأنَّها أقَلُّ ما يَتَلَبَّسُ بالصلاةِ بها. وقد أطْلَقَ أصحابُنا القَوْلَ فيه. وقال القاضي: إن أدْرَكَ رَكْعَةً، كان مُدْرِكًا لها، وإن أدْرَكَ أقَلَّ مِن ركعةٍ، كان مُدْرِكًا لها في ظاهِرِ ¬

(¬1) انظر: المغنى 2/ 47.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَلامِه (¬1). فإن أدْرَكَ جُزْءًا مِن آخِرِ وَقْتِ العَصْرِ قبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أو جُزْءًا مِن آخِرِ اللَّيْلِ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ، لَزِمَتْه الظُّهْرُ والعَصْرُ في الأُولَى، والمَغْرِبُ والعِشاءُ في الآخِرَةِ. رُوِىَ هذا في الحائِضِ عن عبدِ الرحمن بنِ عَوْفٍ، وابنِ عباسٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. قال الإمامُ أحمدُ: عامَّةُ التَّابِعِين، إلَّا الحسنَ وَحْدَه قال: لا تَجِبُ إلَّا الصلاةُ التي طَهُرَتْ في وَقْتِها وَحْدَها. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ وأصحاب الرَّأىِ؛ لأنَّ وقتَ الأُولَى خَرَج في حالِ العُذْرِ، أشْبَهَ ما لو لم يُدْرِكْ شيئًا مِن وقتِ الثانية. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّه إن أدْرَك قَدْرَ خَمْسِ رَكَعاتٍ مِن وقتِ الثانيةِ، وَجَبَتِ الأُولَى، لأنَّ قَدْرَ الرَّكْعَةِ الأُولى مِن الخمْسِ وقتٌ للصلاةِ الأولَى في حالِ العُذْرِ، فوَجَبَتْ بإدراكِه؛ كما لو أدْرَك ذلك مِن وَقْتِها المُخْتارِ، بخِلافِ ما لو أدْرَك دُون ذلك. ولَنا، ما روَى الأثرَمُ، وابنُ المُنْذِرِ، وغيرُهما، بالإسْنادِ عن عبدِ الرحمن بنِ عَوْفٍ وابنِ عباسٍ، أنَّهمَا قالا، في الحائِضِ تَطْهُرُ قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ برَكْعَةٍ: تُصَلِّى المَغرِبَ والعِشاءَ، فإذا طَهُرَتْ قبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، صَلَّتِ الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعًا (¬2). ولأنَّ وَقْتَ الثانيةِ وقتٌ للأُولَى حالَ العُذْرِ، فإذا أدْرَكَه المَعْذُورُ لَزِمَه فَرْضُها، كما يَلْزَمُه فَرْضُ ¬

(¬1) أي الإمام أحمد. (¬2) أخرجه عنهما البيهقى، في: باب قضاء الظهر والعصر بإدراك وقت العصر. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 387.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانيةِ. والقَدْرُ الَّذي يَتَعَلَّقُ به الوُجُوبُ قَدْرُ تَكبِيرَةِ الإحْرامِ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ. وقال الشافعيُّ: قَدْرُ رَكْعَةٍ، لأنَّه الَّذي رُوِىَ عن عبدِ الرحمنِ وابنِ عباسٍ في الحائِضِ، ولأنَّه إدْراك تَعَلَّقَ به إدْراكُ الصلاةِ، فلم يَحْصُلْ بأقَلَّ مِن رَكْعَةٍ، كإدْراكِ الجُمُعَةِ. وقد ذكَرْنا قولَ مالكٍ. ولَنا، أنَّ ما دُونَ الرَّكْعَةِ تَجِبُ به الثانيةُ، فوَجَبَتْ به الأُولَى، كالرَّكْعَةِ والخَمْسِ عندَ مالكٍ، ولأَنَّه إدْراكٌ فاسْتَوَى فيه القليلُ والكثيرُ، كإدْراكِ المُسافِرِ صلاةَ المُقِيمِ، فأمَّا الجُمُعَةُ فإنَّما اعْتُبِرَتِ الرَّكْعَةُ فيها بكمالِها؛ لأنَّ الجَماعَةَ شَرْطٌ لصِحَّتِها، فاعْتُبِرَ إدْراكُ ركعةٍ لِئَلَّا يَفُوتَه الشَّرْطُ في مُعْظَمِها، بخِلافِ مَسْأَلَتِنا. فصل: فإن أدْرَكَ مِن وَقْتِ الأولَى مِن صَلَاتىِ الجَمْعَ قَدْرًا تَجِبُ به، ثم طَرَأ عليه العُذْرُ، ثم زال العُذْرُ بعدَ خُرُوجِ وَقْتِهما، وَجَبَتِ الأُولَى، وهل يَجِبُ قَضاءُ الثانيةِ؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، يجِبُ ويَلْزَمُ قَضاؤُها؛ لأَنَّها إحْدَى صَلَاتِىِ الجَمْع، فوَجَبَتْ بإدْراكِ جُزْءٍ مِن وَقْتِ الأُخْرَى، كالأُولَى. والثانيةُ، لا يَجِبُ. اخْتارَها ابنُ حامِدٍ، لأنَّه لم يُدْرِكْ جُزْءًا مِن وَقْتِها، ولا مِن وقتِ تَبَعِها، فلم يَجِبْ كما لو لم يُدْرِكْ مِن وَقْتِ الأُولَى شيئًا، وفارَقَ مُدْرِكَ وقتِ الثانيةِ، فإنه أدْرَكَ وَقْتَ تَبَع الأُولَى؛ لأنَّ الأُولَى تُفْعَلُ في وقتِ الثانية مَتْبُوعَةً مَقْصُودَةً، ولأنَّ مَن لا يُجَوِّزُ الجَمْعَ في وَقْتِ الأُولَى، ليس وَقْتُ الأُولَى عندَه وقتًا للثانيةِ بحالٍ، ومَن جَوُّز الجَمْعَ

299 - مسألة: (ومن فاتته صلاة، لزمه قضاؤها على الفور مرتبا؛ قلت أو كثرت)

وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ مُرَتَّبًا، قَلَّتْ أوْ كَثُرَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في وَقتِ الأُولى، فإنَّه يُجَوِّزُ تقْديم الثانية رُخْصَةً، ويَحْتاجُ إلى نِيَّةِ التَّقْدِيم، وتَرْكِ التَّفْرِيقِ، بخِلافِ الأُولَى إذا أخَّرَها إلى الثانيةِ، فلا يَصِحُّ قِياسُ الثانيةِ على الأُولَى. والأصْلُ أن لا تَجِبَ صلاةٌ إلا بإدْراكِ وَقْتِها فأمَّا إن أدْرَكَ وَقْتَ الفَجْرِ لم تَجِبْ عليه العِشَاءُ، ولا تَجِبُ العَصْرُ بإدْراكِ وَقْتِ المَغْرِبِ، لأنَّه لم يُدْرِكْ وَقْتَها، ولا تُجْمَعُ معها في حالٍ، ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 299 - مسألة: (ومَن فاتَتْه صلاةٌ، لَزِمَه قَضاؤُها على الفَوْرِ مُرَتَّبًا؛ قَلَّتْ أو كَثُرَتْ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن فاتَتْه صلاةٌ، لَزِمَه قَضاؤُها على الفوْرِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكَرَهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وإن فاتَتْه صَلَواتٌ، لَزِمَه قَضاؤُهُنَّ مُرَتَّباتٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَواضِعَ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ ما يَدُلُّ على وُجُوبِ التَّرتِيبِ. ونَحْوُه عن الزُّهْرِىِّ، والنَّخَعِىِّ ومالكٍ، واللَّيْثِ (¬2)، وأبى حنيفة، وإسحاقَ. وقال الشافعيُّ: لا يَجِبُ، لأنَّه قَضاءٌ لفَرِيضَةٍ فاتَتْه، فلا يَجبُ فيه التَّرْتيبُ، كالصِّيامِ (¬3). ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاتَتْه أرْبَعُ صَلَواتٍ، فقَضاهُنَّ مُرَتَّبات. رواه الإمامُ أحمدُ، والتِّرمِذِيُّ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، من كتاب المواقيت. صحيح البخارى 1/ 154، 155. ومسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 471، 477. كما أخرجه أبو داود، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن أبو داود 1/ 103. والترمذى، في: باب ما جاء في النوم عن الصلاة، وباب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 288 - 290. والنسائى، في: باب في من نسى صلاة، وباب في من نام عن صلاة، وباب إعادة من نام عن الصلاة لوقتها من الغد، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 236 - 239. وابن ماجة، في: باب من نام عن الصلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 227، 228. والدارمى، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 280. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 267، 269، 282. (¬2) سقطت من: م. (¬3) في م: «كالقيام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّسائِى (¬1). وقال: «صَلُّوا كما رأيتُمُونِى أُصَلِّى» (¬2). وعن أبى جُمُعَةَ حَبِيبِ بنِ سِباعٍ، وله صُحبَةٌ، قال: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الأحزابِ صَلى المَغْرِب، فلَما فَرَغ قال: «هلْ عَلِمَ أحَد مِنْكُم أنِّىِ صلَّيْت الْعصرَ»؟ قالُوا: يا رسولَ الله، ما صَلَّيْتَها. فأمَرَ المُؤذِّن، فأقام الصلاةَ، فصَلَّى العصرَ، ثم أعادَ المَغْرِبَ. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬3). ولأنهما صَلاتان مؤقتتان، فوجَبَ الترتِيبُ بَيْنَهما كالمجْمُوعتين. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَجبُ الترتِيبُ فيها وإن كثُرتْ. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يَجِبُ التَّرتِيبُ في أكْثَرَ مِن صلاةِ يَوْم وليْلَةٍ؛ لأن اعتِباره فيما زاد يَشُقُّ، ويُفْضِى -إلى الدخُولِ في التَكْرارِ، فسَقط، كالتَّرتيبِ في قَضاءِ رمضانَ. ولَنا، أنَّها صلوات واجِبات، تُفعل [في وَقْتٍ] (¬4) يَتَّسِعُ لها، فوَجَبَ فيها التَّرَتِيبُ كالخمس، وإفْضاؤُه إلى التَّكْرارِ لا يَمنَعُ وُجُوبَه، كتَرْتِيبِ الرُّكُوعَ على السجودِ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهن بيدأ، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 291، والنسائي، في: باب كيف يقضى الفائت من الصلاة، من كتاب المواقيت، وفى: باب الأذان للفائت الصلوات، وباب الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد؛ من كتاب الأذان. المجتبي 1/ 240. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب رحمة الناس والبهائم، من كتاب الأدب، وفى: باب ما جاء في إجارة خبر الواحد الصدوق. . . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البخارى 1/ 162، 163، 8/ 11، 9/ 107. والدامي، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 286. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 53. (¬3) في: المسند 4/ 106. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهذا التَّرْتِيبُ شَرط لصِحةِ الصلاةِ، فلو أخَلَّ به، لم تَصحَّ صلاتُه؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن والمَعنَى، ولأنَّه ترتِيبٌ في الصلاةِ، فكان شَرطًا، كالرُّكُوعَ والسجُودِ. فصل: فإن ذَكَر أن عليه صلاةً، وهو في أخْرَى، والوَقْتُ متسِعٌ، أتمَّها، وقَضَى الفائِتَةَ، ثم أعادَ الصلاةَ التى كان فيها، إمامًا كان أو مَأمُومًا أو مُنْفَردًا. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِى وأبي بكرٍ. وهو قولُ ابنِ عُمَرَ، ومالكٍ، والليْثِ، وإسحاقَ، في المَأمُومِ. وهو الذى نَقَلَه الجَماعَةُ عن أحمدَ في المَأمُومِ. ونُقِل عنه في المأمُومِ (¬1)، أنَّه يَقْطَعُ الصلاةَ. ونُقِل عنه في المُنْفَردِ روايَتان؛ إحداهما، يَقْطَعُ الصلاةَ ويَقْضى الفائتةَ. وهو قولُ النخَعى، والزُّهْري، ويَحيى الأنْصارِى. والثانية، إنّه يتِمُّ الصلاةَ. وإن كان إمامًا، فقال القاضى: يَقْطَعُ الصلاةَ إذا كان الوَقْتُ واسِعًا، ويَسْتَأنِفُ المَأمُومُون. نقَلَها عنه حَرب. ولم يَذْكُرِ القاضى غيرَ هذه الروايَةِ، فصار في الجَمِيع رِوايَتان، إحداهما، يَقْطَعُها ويَقْضى الفائِتَةَ. [والأخْرَى، يُتِمُّها ويَقْضى الفائتَةَ] (¬2)، ويُعيدُ التى كان ¬

(¬1) في م: «الإمام». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها. والدَّلِيلُ على وُجُوبِ الإعادَةِ، ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ نسِىَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرها إلا وَهُوَ مَعَ الْإمَامِ، فَإذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاِتهِ فَلْيُعِدِ الصَلَاةَ الَّتِى نَسِىَ، ثُمَّ لْيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِى صَلاها مَعَ الإمَامِ». رَواه أبو يَعلَى المَوْصِلِى بإسْنادٍ حسن (¬1). ولحديث أبى جُمُعَةَ الذى ذَكرناه. قال شبخُنا (¬2): والأوْلَى أنَّه لا يَقْطَعُ الصلاةَ لقَوْلِ الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوأ أَعمَلَكُم} (¬3). ولحديثِ ابن عُمَرَ. قال أبو بكر: لا يَخْتَلِفُ كلامُ أحمدَ في المَأمُومِ، أنَّه يَمضِى، واخْتَلَف قَوْلُه في المُنْفَرِدِ، والذى أقُولُ (¬4): إنَّه يمضِى. فصل: فإن مَضَى الإمامُ في صَلاِته بعدَ ذِكْرِه، فهل تَصحُّ صلاةُ المَأمُومِين؟ يَنْبَنِى على ائتمامِ الْمُفْتَرِضِ بالمُتَنَفلِ. وإنِ انْصَرَف، فالمَنْصُوصُ أنَّهم يَسْتَأنِفُون الصلاةَ. قال شيخُنا (2): ويَتَخرج أن يَبْنُوا كما لو سَبَقَه الحَدَثُ، وكلُّ مَوْضِع قُلْنا: يَمْضِى في صَلاتِه. فإنَّه مُسْتَحَبٌّ غيرُ واجِبٍ، لأنَّها صلاة لا يُعتَدُّ بها، فلم يَلْزمه إتْمامُها، كالتَّطوعِ. ¬

(¬1) لم نجد في مسند أبي يعلى الموصلي. واقتصر الهيثمى على عزوه إلى الطبرانى في الأوسط. انظر: مجمع الزوائد 1/ 324. والحديث أخرجه البيهقى مرفوعا، في: باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 221. وأخرجه موقوفا على ابن عمر، الإمام مالك، في: باب العمل في جامع الصلاة، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 168. والدارقطني، في: باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطنى 1/ 421. (¬2) في: المغني 2/ 239. (¬3) سورة محمد 33. (¬4) من كلام أبي بكر.

300 - مسألة: (فإن خشى فوات الحاضرة، أو نسى الترتيب، سقط وجوبه)

فَإنْ خَشِىَ فَوَاتَ الْحَاضِرَةِ، أو نَسِىَ الترتِيبَ، سَقَطَ وُجُوبهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 300 - مسألة: (فإن خَشِىَ فَواتَ الحاضِرَةِ، أو نسِىَ التَّرتِيبَ، سَقَط وُجوبُه) متى خَشِىَ فَواتَ الحاضِرَةِ، سَقَط وُجوبُ الترتِيبِ، مِثْلَ أن يَشرعَ في صلاة حاضِرَةٍ، فيَذْكُرَ فائِتَة والوَقْتُ ضيِّقٌ، أو لم يَكنْ في صلاةٍ، لكنْ لم يَبْقَ مِن وَقْتِ الحاضِرَةِ ما يَتَّسعُ لهما جَمِيعًا، فإنَّه يُقَدِّمُ الحاضِرَة، ويُسْقِطُ الترتِيبَ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهبِ. وهذا قولُ سعيدِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ المُسيَّبِ، والحسنِ، والثوْرى، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأىِ. وعن أحمدَ، أن الترتِيبَ واجب بكل حالٍ، اخْتارَها الخلالُ. وهى مذهبُ عَطاءٍ، والزُّهْرِى، والليْثِ، ومالك. ولا فَرقَ بينَ كَوْنِ الحاضِرَةِ جُمُعَة أو غيرَها؛ لقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نامَ عَنْ صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا، فَلْيُصَلها إذَا ذَكَرها» (¬1). ولأنَّه تَرتِيب، فلم يَسْقُطْ بضِيقِ الوقْتِ، كتَرتِيبِ الركوعِ والسجُودِ. ولأَنَّه قد رُوِىَ: «لَا صَلَاةَ لمَنْ عَلَيْهِ صَلَاة» (¬2). والروايَةُ الأولَى هى المَشْهُورَةُ. قال القاضى: عِنْدِى أنَّ المسألةَ رِوايَة واحِدَة، وأنَّ التَّرتِيبَ يَسْقُط. وقال أبو حَفْصِ عن الروايةِ الثَّانِيَةِ: هذه الرِّوايَةُ تُخالِفُ ما نَقَلَه الجَماعَةُ؛ فإمّا أن تَكُون غَلَطًا، أو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 183. (¬2) لا أصل له. انظر: العلل المتناهية، لابن الجوزى 1/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلا قَدِيمًا لأبي عبدِ الله. ووَجهها أن الحاضِرَةَ صلاة ضاق وَقتها عن آكَدَ منها، فلم يَجُزْ تأخِيرُها،؛ لو لم يكنْ عليه فائتَة، ولأن الصلاةَ رُكْن مِن أركانِ الإسْلامِ،. فلم يجُزْ تَقدِيمُ فائتَةٍ على حاضِرَةٍ عندَ خَوْفِ فَوْتِها، كالصِّيامِ. يُحَقِّقُه أنه لو أخَّرَ الحاضِرَ صار فائتًا، ورُبما كثُرتِ الفَوائِتُ، فيفْضى إلى أن لا يُصَلىَ صلاةً في وَقْتِها، ولا تَلْزَمَه عُقُوبَة بتَرْكِها، ولا يُصَلَّىَ جَماعَةً أصلًا، وهذا لا يَرِدُ الشرعُ به. وتَعَلقُهم بالأمرِ بالقَضاءِ مُعارَضٌ بالأمْرِ بفِعلِ الحاضِرَةِ، والحاضِرَةُ آكَدُ؛ بدَلِيلِ أنَّه يُقْتَلُ بتَركِها، ويجْرُمُ عليه تأخِيرُها، بخِلافِ الفائتَةِ، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما نام عن صلاةِ الفجْرِ أخرَها شيئًا، وأمَرَهم فاقتادوا رَواحِلَهم حتى خَرَجُوا مِن الوادِى (¬1). والحديثُ الذى ذَكَرُوه، قال أحمدُ: ليس هذا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعل هذه الرواية، يَبْدَأ فيَفْضِى الفَوائِتَ على الترتِيبِ، حتى ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة. . . . إلخ، من كتاب المساجد. صحيح سلم 1/ 471. وأبو داود، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 103. والنسائي، في: باب كيف يقضى الفائت من الصلاة، من كتاب المواقيت. المجتبي 1/ 240. وابن ماجه، في: باب من نام عن صلاة أو نسبيها من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 228.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا خاف فَواتَ الحاضِرَةِ صَلّاها، ثم عاد إلى الفَوائِتِ. نَص عليه أحمدُ. فإن حَضَرَتْ جَماعَة في صلاةِ الحاضِرَةِ، فقال أحمدُ، في رِوايةِ أبى داودَ، في مَن عليه صَلَوات (¬1) فائتَةٌ، فأدرَكَتْه الظهْرُ ولم يفْرُغْ مِن الصلَواتِ: يُصَلى مع الإمامِ الظهْرَ ويَحسُبُها مِن الفَوائِتِ، ويُصَلِّى الظهْرَ في آخِرِ الوَقْتِ. وفيه رِوايَةً ثالِثَةٌ، إذا كَثُرَتِ الفَوائِتُ، بحيث لا يَتسِعُ لها وقتُ الحاضِرَةِ، أنه يُصَلى الحاضِرَةَ في أوَّلِ وَقْتِها. نقَلَها عنه ابنُ منصورٍ. وهذا اخْتِيارُ أبى حَفْص؛ لأن الوَقتَ لا يتسِعُ لقَضاءِ ما في الذمةِ وفِعل الحاضِرَةِ، فسَقَطَ الترتِيبُ، كما لو فَاتتْه صلاةٌ وقد بَقِىَ مِن وَقتِ الأخْرَى قَدرُ خَمس رَكَعاتِ، ولأنه إذا لم يكُنْ بُد مِن الإخْلالِ بالترتِيبِ، ففِعلُها في أوَّلِ الوقتِ؛ ليُحَصلَ فضِيلَةَ الوَقتِ والجَماعَةِ أوْلَى، ولأنَّ فيه مَشَقةً، فإنه يَتَعَذرُ مَعرفَةُ آخِرِ الوقتِ في حَقّ أكْثَرِ النّاس. وذَكَر ابنُ عَقِيل، في مَن عليه فائتَة، وخَشِىَ، فَوَاتَ الجَماعَةِ، رِوايَتَيْن؛ إحداهما، يَسْقُطُ الترتِيبُ؛ لأنه اجْتَمَع واجِبان، ولابدَّ مِن تفْوِيتِ أحَدِهما، فكان مُخيرا فيهما. والثانيةُ، لا يَسْقُط؛ لِما ذَكَرْنا. قال شيخُنا (¬2): وهذه الروايَةُ أحسَنُ وأصَح، إن شاء الله تعالى. واللْهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «صلاة». (¬2) في: المغني 2/ 344.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا ترَك ظُهْرًا وعصرًا مِن يَوْمَيْن، لا يَدرِى أيتهما الأولَى، ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، أنَّه يَتَحَرَّى أيتهما نَسِىَ أولًا، فيَقْضِيها، ثم يَقْضِى الأخْرَى. نَقَلَها عنه الأثْرَمُ. وهذا قول أقوله يُوسُفَ ومحمد، لأنَّ الترتِيبَ مِمّا تُبيحُ الضرورَةُ تركَه، فيما إذا ضاق وَقْتُ الحاضِرَةِ، أو نَسِىَ الترتِيبَ، فيَدخُلُه التحَرى كالقِبْلَةِ. والثانيةُ، أنه يصلي الظهْرَ ثم العَصرَ مِن غيرِ تحَرٍّ. نقَلَها عنه (¬1) مُهنَّا؛ لأنَّ التحَرِّى فيما فيه أمارَة، وهذا لا أمارَةَ فيه يرجَعُ إليها، فرَجَعَ إلى تَرتِيبِ الشرعِ. قال شيخُنا (¬2): والقِياسُ أنَّه يَلْزَمُه ثلاثُ صَلَوات؛ ظُهْر ثم عَصر ثم ظُهْر، أو بالعَكس؛ لأنه أمكَنَه أداءُ فَرضِه بيَقِين، أشْبَهُ ما إذا نَسِىَ صلاةً لا يَعلَمُ عَيْنَها. وقد نَقَل أبو داودَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على هذا. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. فصل: ولا يُعذَرُ في تَركِ الترتِيبِ بالجَهْلِ بِوُجُوبِه. وقال زُفَر: يُعذَرُ كالناسِى. ولَنا، أنَّه ترتِيبْ واحِبْ في الصلاةِ، فلم يَسْقُطْ بالجَهْلِ، كالمَجْمُوعَتَيْن، ولأنَّ الجَهْل بأحكامِ الشرعِ مع التمَكنِ مِن العِلْمِ لا يُسْقِطُها، كالجَهلِ بتَحرِيمِ الأكْلِ في الصوْمِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغنى 2/ 345، 346.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ عليه قَضاءُ الفَوائِتِ على الفَوْرِ وإن كَثرتْ، ما لم يَلْحَقْه مَشَقة في بَدَنِه، بضَعفٍ، أو خَوْفِ مَرَض أو نَصَبٍ او إعْياء، أو مالِه، بفَواتِ شئ منه، أو ضَرَرٍ فيه، أو قَطْع عن مَعيشَتِه. نَص أحمدُ على نَخو هذا. فإن جهِل الفَوائِتَ فلم يَعلم قدرَها، قَضَى حتى يَتَيَقنَ بَراءَةَ ذِمتِه. ويَقْتَصِرُ على الفَرائِض، ولا يَتَنَفلُ بَيْنَها، ولا يُصَلِّى سننَها (¬1)؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قضَى الصلَواتِ الفائتُةَ يَوْمَ الخنْدَقِ، لم يُنْقَلْ أنه صَلى بَينها سُنَّةً؛ ولأن الفَرْضَ أهمُّ، فالاشْتِغالُ به أوْلَى. فإن كانت صلاةً أو نَحوَها، فلا بَأسَ بقَضاءِ سُنَّتِها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فاتَتْه الفَجْرُ، صَلى سُنتها قَبْلَها. وهذا قولُ الشافعى. وقال مالك: يَبدَأ بالمَكتُوبَةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ. وهذا اخْتِيارُ ابنِ المُنْذر. فصل: ومَن فاتَته صلاة مِن يَوم لا يَعلَمُ عَيْنَها، أعاد صلاةَ اليَوْمِ جَمِيعِه، يَنْوى بكلِّ واحِدة أنها الفائتَةُ. نصَّ عليه. وهو قولُ أكثر أهلِ العلمِ؛ لأنَّ التعيِينَ شرط في صِحَّةِ الصلاةِ المَكتُوبَةِ، ولا يُتَوَصَّلُ إليه إلاَّ بذلك، فلَزِمَه. وقال الثَّوْرِى: يُصَلِّى الفَجْرَ ثم المَغْرِبَ؛ ثم يُصَلى أربعا، يَنْوِى إن كان الظهْرَ أو العَصر أو العِشاءَ. وقال الأوْزاعي: يُصَلى أربعا بإقامَةٍ. ¬

(¬1) في م «سنتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا نام في مَنْزِل في السَّفَرِ، فاسْتَيْقَظَ بعد خُرُوجِ وَقتِ الصلاةِ، استُحِبَّ له أن يَنْتَقِلَ عن ذلك المنْزِلِ، فيُصَلِّىَ في غيرِه. نَصَّ عليه؛ لِما روَى أبو هريرةَ، قال: عَرَّسْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نَسْتَيْقِظْ حتى طَلَعَتِ الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِيأخُذْ كُل رَجُل مِنْكم بِرأس رَاحِلَتِهِ؛ فَإن هذَا مَنْزِل حَضَرَ فِيهِ الشيطَانُ». قال: ففَعَلْنا، ثم دعا بالماءِ فتَوَضَّأ، ثم سَجَد سَجْدَتَيْن، ثم أقِيمَتِ الصلاةُ، فصَلى الغَداةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويُسْتحَبُّ أن يُصَلِّىَ الفائتَةَ جَماعَةً إذا أمكَنَ؛ لهذا الخَبَرِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى الصَّلَواتِ الفائتَةَ يَوْمَ الخَنْدَقِ في جماعةٍ. ولا يَلْزَمُ القَضاءُ أكْثَرَ مِن مَرَّةٍ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقْض أكثَرَ مِن مَرة، وقد روَى عِمرانُ بنُ حُصَيْن، حينَ نامُوا عن صلاةِ الفَجْر، قال: فقُلْنا: يا رسولَ الله، ألا نُصَلِّى هذه الصلاةَ لوَقْتِها؟ قال: «[لَا] (¬2)، لَا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكم». رَواه الأثْرَمُ (¬3). واحتج به أحمدُ. ¬

(¬1) لم يخرجه البخارى. وأخرجه مسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 471.كما أخرجه النسائي، في: باب كيف يقضى الفائت من الصلاة، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 231. (¬2) سقطت من: م. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من نسى صلاة أو نام عنها، من كتاب الصلاة. المصنف 1/ 589.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أخَّرَ الصَّلاةَ لنَوْم أو غيرِه، حتم خَشِى خُرُوجَ الوَقْت إن تَشاغَلَ بالسنَةِ، بَدَأ بالفَرض. نَصَ عليه؛ لأن الحاضِرَةَ إدا قُدمت على الفائتَةِ الواجِبَةِ، مُراعاةً للوقتِ، فعلى السنةِ أوْلَى. وهكذا إذا اسْتَيْقَظ وشَكَّ في طُلُوعِ الشمس، بَدَأ بالفَريضَةِ. نَصَ عليه، لأن الأصلَ بَقاء الوقتِ. فصل: ومَن أسْلَمَ في دارِ الحَربِ فتَرَكَ صلواتٍ، أو صِيامًا لا يَعلَمُ وُجُوبَه، لَزِمَه قَضاؤه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُه. ولَنا، أنها عِبادَة تَلْزَمُه مع العِلْمِ، فلَزِمَتْه مع الجهلِ، كما لو كان في دارِ الإسلام.

301 - مسألة: (وإن نسى الترتيب، سقط وجوبه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 301 - مسألة: (وإن نَسِىَ الترتِيبَ، سَقط وُجُوبُه) متى (¬1) صَلَّى الحاضِرَةَ ناسِيًا للفائتَةِ، ولم يَذْكُرها حتى فَرَغ، فليس عليه إعادَة. نصَّ عليه أحمد في رِوايَةٍ الجماعَةِ. وقال مالك: يَجِبُ الترتيبُ مع النسْيانِ كالمَجْمُوعَتَيْن، والركُوعِ والسُّجُودِ، ولحديثِ أبى جُمُعَةَ (¬2). ولَنا، قوْلُه - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِىَ لِأمَّتِى عَنِ الْخَطأِ وَالنسْيَانِ» (¬3). ولأنَّه المنسيةَ ليس علها أمارَة، فجاز أن يُؤثرَ فيها النسْيانُ، كالصيامِ، فأمّا حديثُ أبى جُمُعَةَ، فمِن رِواية ابنِ لَهِيعَةَ، وهو ضَعِيف، ويَحتَمِلُ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَها وهو في الصلاةِ، جَمعًا بينَه وبينَ ما ذَكرنا مِن الدلِيلِ. وإنَّما يُعْذَر في المَجْمُوعَتَيْن بالنسْيانِ؛ لأنه لا يَتَحَققُ، إذ لابدَّ فيهما ¬

(¬1) في م: «حتى لو». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن نِية الجمع بَيْنهما، ولا يُمكنُ ذلك مع نِسْيانِ إحداهما، ولأنَّ اجْتِماعَ الجَماعَةِ يَمنَعُ النسْيانَ، إذ لا يَكادُون كلهم يَنْسَوْن الأولَى. ولا فَرقَ بينَ أن يكُون سَبَق منه ذِكْرُ الفائتَةِ ثم نَسِيَها، أو لم يَسْبِقْ. نَصَّ عليه؛ لِما ذَكَرْنا. واللهُ أعلمُ.

باب ستر العورة

بَابُ ستر الْعَوْرَةِ وَهُوَ الشرطُ الثَّالثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ستر العَوْرَةِ (وهو الشرطُ الثالِثُ) سَتْرُ العَوْرَةِ شرط لصحَّةِ الصلاةِ، في قَوْلِ أكثرَ أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ عبدِ الَبر: أجْمَعُوا على فَسادِ صلاةِ مَن تَرَك ثَوْبَه وهو قادِرٌ على الاسْتِتارِ به، وصَلَّى عُريانًا. وهو قولُ الشافعى وأصحابِ الرأىِ. وقال إسحاقٌ وبَعضُ أصحابِ مالكٍ: هو شَرطْ مع الذِّكْرِ. وقال بَعضُهم: هو واجِب وليس بشَرطٍ؛ لأنّ وُجُوبَه غيرُ مُخْتص بالصلاةِ، فلم يكُنْ شَرطًا فيها، كقَضاءِ الديْنِ. ولَنا، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ الله صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بخِمَار». وعن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، قال: قُلتُ يا رسولَ اللهِ، إنى أكوَنُ في الصَّيْدِ، فأصَلِّى في القَمِيص الواحِدِ؟ قال: «نَعم، وازْرُرْه وَلَوْ بِشَوكةٍ». رَواهما ابنُ ماجَه، والترمذي (¬1)، وقال ¬

(¬1) الأول، أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 169. وابن ماجه، في: باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 215. كما أخرجه أبو داود، في: باب المرأة تصلى بغير خمار، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 149. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 150، 218، 259. والثاني لم نجده عند ابن ماجه ولا الترمذى. وأخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يصلى في قميص واحد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 147. والنسائي، في: باب الصلاة في قميص واحد، من كتاب الصلاة. المجتبي 2/ 55.

302 - مسألة: (وسترها عن النظر بما لا يصف البشرة واجب)

وَسَتْرُهَا عَنِ النظرَ بِمَا لَا يَصِف الْبَشَرَةَ وَاجبٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيهما: حسنٌ. 302 - مسألة: (وسَتْرُها عن النَّظَرِ بما لا يَصِف البَشَرَةَ واجِبٌ) لأن السترَ إنّما يَحصُلُ بذلك، فإن كان خَفِيفًا يَصِفُ لَوْنَ البَشَرَةِ، فيَبينُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من وَرائِه بَياضُ الجِلْدِ وحُمرَتُه، لم تَجزِ الصلاةُ فيه. وإن كان يَسْتُرُ اللَّوْنَ ويَصِف الخِلْقَةَ، جازَتِ الصلاةُ فيه؛ لأن البَشَرَةَ مَسْتُورَةٌ، وهذا لا يُمكِنُ التحَرُّزُ منه، وإن كان السّاتِرُ صَفِيقًا.

303 - مسألة: (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة. وعنه، أنها الفرجان)

وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ وَالْأمَةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَعَنْهُ، أنَّها الْفَرجَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 303 - مسألة: (وعَوْرَةُ الرجلِ والأمَةِ ما بينَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ. وعنه، أنَّها الفَرجان) عَوْرَةُ الرجلِ ما بينَ الله حرةِ والرُّكْبَةِ، في ظاهِرِ المَذْهبِ. نَصَّ عليه أحمدُ (¬1) في روايَةِ الجَماعَةِ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعي، وأصحابِ الرأىِ، وأكْثَرِ العلماءِ. ورُوِيَ عنه أنَّها الفَرجان. نَقَلَها عنه، مُهنَّا. وهو قولُ ابنِ أبى ذِئْبٍ؛ لِما روَى أنسٌ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ حَسَر الإزارَ عن فَخِذِه. رَواه البُخارِىُّ، ومسلمٌ (¬2). وعن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سقطت من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يذكر في الفخذ، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 103، 104. ومسلم، في: باب فضيلة إعتاقة أمة ثم يتزوجها، من كتاب النكاح، وفي: باب غزوة خيبر، من كتاب الجهاد. صحيح 2/ 1043، 1044، 3/ 1426. كما أخرجه النسائي، في: باب الماء في السفر، من كتاب النكاح. المجتنى 6/ 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «إذَا زَوَّجَ أحَدُكُم عَبْدهُ؛ أمَتَهُ أوْ أجيرَهُ، فَلَا يَنْظر إلى شَىْء مِنْ عَوْرَتهِ، فَإن مَا تحتَ السُّرَّةِ إلَى رُكْبَتِهِ عَوْرَةَ». يُرِيدُ الأمَةَ. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). وعن عائشة، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته كاشِفًا عن فَخِذَيْه، فاستأذَنَ أبو بكر، فأذِنَ له وهو على ذلك، ثم استأذَنَ عُمَرُ، فأذِنَ له وهو على ذلك. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). ولأنه ليس بمَخْرَجٍ، فلم يَكُنْ عَوْرَةً، كالسَّاقِ. ووَجْهُ الأولَى ما روَى جَرهدٌ الأسْلَمِى، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «غطَّ فَخِذَكَ؛ فَإن الفَخِذَ مِن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة، وفي: باب في قوله: {غير أولى الإربة}، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 1/ 115، 2/ 384. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 187. (¬2) في: المسند 6/ 62. كما أخرجه مسلم، في: باب من فضائل عثمان بن عفان رضى الله عنه، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1866.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْعَوْرَةِ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذي] (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وعن علىِّ بنِ أبى طالِب، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تبرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُر إلَى فَخِذِ حَىٍّ وَلَا ميتٍ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن ابنِ عباس، قال: مَرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل، وفَخِذُه خارِجَة، فقال: «غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإن فَخِذَ الرجُلِ مِنْ عَوْرَتِه». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬3). قال البُخاريُّ (¬4): حديثُ أَنس أسْنَدُ، وحديثُ جرهدٍ أحوَطُ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود: باب النهى عن التعري، من كتاب الحمام. سنن أبى داود 363/ 2. والترمذي في: باب ما جاء أن الفخذ عورة، من أبواب الاستئذان والآداب. عارضة الأحوذى 10/ 239 والإمام أحمد، في: المسند 3/ 478، 479، كما أخرجه الدارقطنى، في: باب في بيان العورة والفخذ من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 224. (¬2) في: باب النهى عن التعرى، من كتاب الحمام. سنن أبي داود 2/ 343، 364. كما أخرجه ابن ماجه في: باب ما جاء في غسل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 469. (¬3) في: المسند 1/ 275. (¬4) في: باب ما يذكر في الفخذ، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والسُّرَّةُ والرُّكْبَتان ليست مِن العَوْرَةِ، وهو قول مالك، والشافعى. وقال أبو حنيفةَ: الرُّكْبَةُ هِن العَوْرَةِ؛ لأنَّه رُوِىَ أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ» (¬1). ولَنا، ما روَى أبو أيوبَ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسْفَلُ السرةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَة». رَواه أبو بكر (¬2). وحديثُ عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ، ولأنَّ الرُّكْبَةَ حَدُّ العورةِ، فلم تَكنْ منها، كالسُّرَّةِ. والعَبْدُ والحُرُّ في ذلك سَواءْ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ فيهما، وحَدِيثُهم يَرويه أبو الجنُوبِ (¬3) ولا يُثْبِتُه أهْلُ النَّقْلِ. ¬

(¬1) أخرجه الداقطنى، في: باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التى يجب سترها، من كتاب الصلاة. سنن الدرقطنى 1/ 231. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب الأمر بتعليم الصلوات. . . . إلخ، عن كتاب الصلاة. سنن الدارقطنى 1/ 231. والبيهقى، في: باب عورة الرجل، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 229. (¬3) هو عقبة في علقمة اليشكرى الكوفي، روى عن على رضى الله عنه، وشهد معه الجمل، ضعيف الحديث، بين الضعف. تهذيب التهذيب 7/ 247.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأمّا الأمَةُ، فقال ابنُ حامِدٍ: عَوْرَتُها كعَوْرَةِ الرجلِ؛ ما بَيْنَ السرةِ والركْبَةِ. حَكاه القاضى في «المُجَردِ» وابنُ عَقِيل. قال القاضى: وقد لَوَّحَ إليه أحمدُ. وهو ظاهِرُ مَذْهبِ الشافعىَّ؛ لحديثِ عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ، والمُرادُ به الأمَةُ، فإن الأجيرَ والعبدَ لا تَخْتَلِفُ حالُه بالتزوِيجِ وعَدَمِه. وقال القاضى في «الجامِعِ»: عَوْرَةُ الأمَةِ ما عَدا الرأسَ واليَدَيْن إلى المِرفَقَيْن، والرجْلَيْن إلى الركبتين. وهو قولُ بَعضِ الشَّافِعِية؛ لأنّ هذا يَظْهرُ عادَةً عندَ التقْلِيبِ والخِدمَةِ، فهو كالرأْس، وما سواه لا يَظْهرُ غالبًا، ولا تَدعُو الحاجَةُ إلى كَشْفِه، أشْبَهُ ما بينَ السُّرَّةِ والركبة والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكرنا، ولأن مَن لم يكنْ رَأسُه عَوْرَة، لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُنْ صدرُه عَوْرَةً، كالرجلِ. وقال الحسنُ في الأمَةِ، إذا تَزَوجَتْ أو اتَّخَذَها الرجلُ لنَفْسِه: يَجِب عليها الخِمارُ. ولَنا، أن عُمَرَ كان يَنْهى الإماءَ عن التقَنُّع، وقال: إنَّما القِناعُ للحَرائِرِ. واشْتَهرَ ذلك ولم يُنْكر، فكان إجْماعا، ولأنَّها أمَةٌ، أشْبَهتِ التى لم تَتَزَوجْ. وفيه رِوايَة ثالِثَة، أنَّ عَوْرَتَها الفرجان، كالرجلِ. ذَكَرَها أبو الخَطابِ، وشَيْخُنا في الكِتاب المَشْرُوحِ (¬1). والصحيحُ خِلافها، إن شاء اللهُ تعالى. والمُكاتَبَةُ والمُدبَّرَةُ والمُعَلقُ عِتْقُها بصِفةٍ، كالأمَةِ القِنّ فيما ذَكَرنا؛ لأنهنَّ إماءٌ يَجُوزُ بَيْعُهُنَّ وعِتْقُهُنَّ، أشْبهنَ القِنَّ. وقال ابنُ البَنا: هُنَّ كأُم الوَلَدِ. ¬

(¬1) انظر: المغنى 2/ 332.

304 - مسألة: (والحرة كلها عورة إلا الوجه، وفى الكفين روايتان)

وَالْحُرَّةُ كُلُّهَا عَوْرَة إِلَّا الْوَجْهَ، وَفِى الْكفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 304 - مسألة: (والحُرَّةُ كلُّها عَوْرَةٌ إلاَّ الوَجْهَ، وفى الكَفَّيْن رِوايَتان) أمَا وَجْهُ الحُرَّةِ فإنَّه يَجُوزُ للمرأةِ كَشفُه في الصلاةِ، بغيرِ خِلافٍ نَعلَمُه، واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الكَفَّيْن، فرُوِىَ عنه جَواز كَشْفِهما. وهو قولُ مالكٍ والشافعىِّ؛ لأنَّه رُوِىَ عن ابن عباس، وعائشةَ، في قوله تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1). قال: الوَجْهَ والكَفيْن. ولأنه يَحرُمُ على المُحْرِمَةِ سَترهما بالقُفّازَيْن، كما يحرُمُ سَتْرُ الوَجْهِ [بالنِّقَابِ، ويَظْهَران غالبًا، وتَدعُو الحاجَةُ إلى كشْفِهما للبَيْعِ والشِّراءِ، فأشْبَها الوَجْهَ] (¬2). ورُوِىَ عنه أنَّهما مِن العَوْرَةِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقى. قال القاضى: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ لأنه رُوِىَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنْه قال: «الْمرأة عَوْرَة». رَواه الترمِذى، وقال: حديث حسن صحِيح (¬3). وهذا عام في جَمِيعِها، تُرِكَ في الوَجْهِ للحاجَةِ، فيَبْقَى فيما عَداه. وقولُ ابنِ عباسٍ وعائشةَ قد خالَفَهما ابنُ مسعودٍ، فقال: الثِّياب. ولأن الحاجَةَ لا تَدعُو إلى كَشْفِهما وظُهُورهما، كالحاجَةِ الى كَشْفِ الوجْهِ، فلا يَصِح القِياسُ، ثم يبطل قِياسُهم بالقَدَمَيْن؛ فإنَّهما يَظْهران عادَةً، وسَترهما واجِبٌ، وهما بالرِّجْلَيْن أشْبَهُ مِن الوَجْهِ، فقِياسُهما عليهما أوْلَى. ¬

(¬1) سورة النور 31. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب حدثنا محمد بن بشار، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما سِوَى الوَجْهِ والكَفَّيْن، فيَجِبُ ستْرُه في الصلاةِ، رِوايَةً واحِدَةً. وهو قول مالكٍ، والشافعى، والأوْزاعِىِّ. وقال أبو حنيفةَ: القَدَمان لَيْسا مِن العَوْرَةِ، لأنَّهُما يَظْهران عادَة، ويُغْسَلان في الوُضُوءِ، أشْبَها، الوَجْهَ والكفَّيْن. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. وما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أنها سَألَتِ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -: أتصلى المرأةُ في دِرْع وخِمارٍ؟ قال: «نَعم، إذَا كَانَ الدرْعُ سَابِغًا يُغَطِّى ظُهُورَ قَدَمَيها». رَواه أبو داودَ (¬1). والخَبَرُ الذى رَوَيْناه في أنَّ المرأةَ عَوْرَة، خَرَج منه الوَجْهُ، فيَبْقَى فيما عَداه على قَضِيةِ الدَّلِيلِ، وأمَّا ما عَدا الوَجْهَ والكَفَّيْن والقَدَمَيْن، فهو عَوْرَة بالإجْماعِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافاً؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائضٍ إلَّا بِخِمَار». حديث حسن صحيحٌ (¬2). ¬

(¬1) في: باب كم تصلى المرأة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 149. (¬2) تقدم تخريجه في صفحه 20، 197.

305 - مسألة: (وأم الولد، والمعتق بعضها: كالأمة. وعنه، كالحرة)

وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمعتَقُ بَعضُها كَالأمَةِ. وَعَنْهُ، كَالْحُرَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 305 - مسألة: (وأُم الوَلَدِ، والمُعتَقُ بَعضُها: كالأمَةِ. وعنه، كالحُرَّةِ) نُقِل عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في المُعتَقِ بعضُها رِوايَتان؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهُما، أنها كالحُرَّةِ؛ لأن فيها حُرّيَّة تَقْتَضِى السَّترَ، فوَجَبَ، كما يَجِبُ على الخُنْثى المُشْكِلِ سَتْرُ فَرْجَيْه معًا؛ لوُجوبِ سَتْير أحَدِهما. والثانِيَةُ، هى كالأمَةِ القِنِّ؛ لأنَّ المُقْتَضِىَ للسترِ بالإجْماعِ الحُريةُ الكامِلَةُ، ولم تُوجَد، فتَبْقَى على الأصلِ. وهذا قولُ ابنِ المُنْذِرِ. فصل: وحُكْمُ أم الوَلَدِ حُكْمُ الأمَةِ في صَلاِتها وسُترتِها. وهو قولُ النخَعِىِّ، والشافعى، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، أَنَّها كالحُرَّةِ تُغَطِّى شَعَرَها وقَدَمَيْها. نَقَلَها عنه الأثْرَمُ؛ لأنَّها لا تُباعُ، ولا يُنْقَلُ المِلْكُ فيها، أشبَهتِ الحُرَّةَ. وهو قولُ الحسنِ وابن سِيرينَ في تَغطيَةِ الرأس، حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ووَجْهُ الأُولَى أنَّها أمَةٌ، حُكمُها حُكْمُ الإماءِ، وكَوْنُها لا يَنْتَقِلُ المِلْكُ فيها، لا يُخْرِجُها عن حُكْمِ الأمَةِ، كالمَوْقُوفَةِ، وانْعقادُ سَبَبِ الحُرّيةِ فيها لا يُؤثِّر أيضًا؛ بدَلِيلِ المُكاتَبَةِ والمُدَبَّرَةِ، لكنْ يُستحَبُّ لها ستْرُ رَأْسِها، لتخْرُجَ مِن الخِلافِ وتأخُذَ بالاحتِياطِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وعَوْرَةُ الخُنْثَى المُشْكِلِ كعَوْرَةِ الرجلِ الأنه اليَقِينُ، والأنُوثَةُ مَشْكُوك فيها، فلا نُوجبُ عليه سَتْرَ مَحَلٍّ مَشْكُوكٍ في وُجُوبِه، كما لم نُوجِبْ نَقْضَ الوُضُوءِ بمَسى أحَدِ فرجَيْه، ولا الغُسْلَ بإيلاجِه، لكنْ يَجِبُ عليه سَتْر فرجَيْه إذا قُلْنا: العَوْرَةُ الفرجان. لأن أحَدَهما فَرْج حَقِيقىٌّ، ولا يَتَحَققُ سَتْره إلَّا بسَتْرِهما، فوَجَبَ عليه، كسَتْرِ ما قَرب مِن العَوْرَةِ لأجْلِ سَتْرِها. وعنه، حُكمُه حُكْمُ المرأةِ. ذكَره في «المُسْتَوْعِبِ»، لأنه يَحتَمِلُ أن يكونَ امرأةً، فوَجَبَ ذلك احْتِياطاً.

306 - مسألة: (ويستحب للرجل أن يصلى فى ثوبين)

وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أن يُصَلِّىَ فِى ثَوْبَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عَتقَتِ الأمَةُ في أثْناءِ صَلاتِها وهى مَكْشُوفَةُ الرَّأس، ووَجَدَتْ سُترة، فهى كالعُريانِ يَجدُ السترَةَ في أثْناءِ صَلاِته، وسيأتِى إن شاء الله. وإن لم تعلم بالعِتْقِ حتى أتمتْ صَلاَتها، أو عَلِمَتْ به ولم تَعلَم بوُجُوبِ السترِ، فصَلاُتها باطِلَةٌ؛ لأن شروطَ الصلاةِ لا يُعْذَرُ فيها بالجَهْلِ، فأمَّا إن عَتَقَتْ ولم تَقْدر كل سُترةٍ، أتمَّتْ صَلاتَها ولا إعادَةَ عليها؛ لأنَّها عاجِزَة عن السترَةِ، فهى كالحُرةِ الأصلِيَةِ إذا عَجَزَتْ. 306 - مسألة: (ويُسْتَحب للرجلِ أن يُصَلِّىَ في ثَوْبَيْن) لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال عُمَرُ: «إذَا كَانَ لِأحَدِكُم ثَوْبَانِ فَلْيُصَل فِيهِمَا، فَإنْ لَمْ يَكُن لَهُ إلا ثَوْب وَاحِد فَلْيَتَّزِر بِهِ». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن عُمَرَ، أنه قال: إذا أوْسعَ الله فأوْسِعُوا، جَمَع رجلْ عليه ثِيابَه، صَلَّى رجلٌ في إزار ورِداء، في إزارٍ وقمِيص، في إزار وقَباءٍ، في سَراوِيلَ ورداءٍ، في سَراوِيلَ وقمِيص، في سَراويلَ وقَباء، في تُبان (¬2) وقَمِيص (¬3). قال القاضى: وذلك في الإمامِ آكَدُ؛ لأنّه بينَ يَدَىِ ¬

(¬1) في: باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148. (¬2) التبان: على هيئة السراويل إلا أنه ليس له رجلان. والقباء: ما يضم ويجمع أطرافه من الثياب. من قبا الشئ، أى جمعه وضمه. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 102.

307 - مسألة: (فإن اقتصر على ستر العورة أجزأه، إذا كان على عاتقه شئ من اللباس)

فَإنِ اقْتَصَرَ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ أجْزَأهُ، إذَا كَانَ عَلَى عَاتِقِهِ شَئٌ مِنَ اللِّبَاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَأمُومِين، وتَتَعَلقُ صَلاُتهم بصَلاتِه. فإن لم يَكُنْ إلَّا ثَوبْ واحِدٌ فالقَمِيصُ أوْلَى، لأنه أبلَغُ في السترِ، ثم الرداءُ، ثُم المِئْزَرُ أو السَّراوِيلُ. 307 - مسألة: (فإنِ اقْتَصَر على سَتْرِ العَوْرَةِ أجْزأه، إذا كان على عاتِقِه شئٍ مِن اللباس) وجُملَةُ ذلك، أن الرجلَ متى سَتَر عَوْرَتَه في الصلاةِ صَحَّتْ صَلاُته، إذا كان على عاتِقِه شئ مِن اللباس، سَواءٌ كان مِن الثَّوْبِ الذى سَتَر عَوْرَتَه، أو مِن غيرِه، إذا كان قادِرًا على ذلك؛ لِما روَى عُمَرُ ابنُ أبى سَلمَةَ، أنه رَأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثَوْب واحِدٍ في بَيْتِ أم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَلَمَةَ، قد ألْقَى طَرَفَيه على عاتِقَيْه (¬1). وعن أبي هُرَيرةَ، أنَّ سائِلا سَأَل رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الصلاةِ في الثَّوْبِ الوَاحِدِ، قال: «أوَ لِكُلِّكُم ثَوْبَانِ؟». مُتفَقٌ عليهما (¬2). وعن جابِر أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا كَان ¬

(¬1) في م: «عاتقه». (¬2) الأول أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 100. ومسلم، في: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 368. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 54. وابن ماجه، في: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 333. والإمام مالك، في: باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 140. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 26، 27. والثاني أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، وباب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 100، 102. ومسلم، في: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 367، 368. كما أخرجه أبي داود، في: باب جماع أثواب ما يصلي به، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 146. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 54. وابن ماجه، في: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 333. والإمام مالك، في: باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 140. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 266، 285، 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْبُ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ». وفي لَفْظٍ: «فَاتَّزِرْ بِهِ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). فصل: ولا يُجْزِئُ مِن ذلك إلَّا ما سَتَر العَوْرَةَ عن غيرِه ونَفْسِه فلو كان القَمِيصُ واسِعَ الجَيْبِ، يَرَى عَوْرَتَه إذا رَكَع أو سَجَد، أو كانت بحيث يراها، لم تَصِحَّ صَلَاتُه، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لسَلَمَةَ ابن الأكْوَعِ: «وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» (¬2). فإن كان ذا لِحْيَةٍ كَبِيرَةٍ، تُغَطِّي الجَيْبَ فتَسْتُرُ عَوْرَتَه، صَحَّتْ صَلَاتُه. نصَّ عليه؛ لأنَّ عَوْرَتَه مَسْتُورَةٌ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا كان الثوب ضيقا، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 101. ومسلم، في: باب حديث جابر الطَّويل وقصة أبي اليسر، من كتاب الزهد. صحيح مسلم 4/ 2307، 2308. وأبو داود، في: باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 335. والحقو: موضع شد الإزار، وهو الخاصرة. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجبُ عليه أن يَضَعَ على عاتِقِه شيئًا مِن اللِّباسِ مع القُدْرَةِ. اخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ، وأكثَرُ العُلَمَاءِ على خِلافِه؛ لأنَّهما لَيْسا مِن العَوْرَةِ، أشْبَها بَقِيةَ البَدَنِ. ولنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْب الْوَاحِدِ لَيْس عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن بُرَيْدَةَ، قال: نَهَى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يُصَلِّيَ في لِحافٍ ولا يَتَوَشَّحُ به، وأن يُصَلِّيَ في سَراوِيلَ، ليس عليه رِداءٌ. رَواه أبو داودَ (¬2). وهو شرْطٌ لصِحَّةِ الصلاةِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ، واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النَّهْىَ يَقْتَضِي فَسادَ المَنْهِي عنه، ولأنَّ سَتْرَه واجِبٌ في الصلاةِ، فالإخْلالُ به يُفْسِدُها، كالعَوْرَةِ. وذَكَر القاضي وابنُ عَقِيل، أنَّه نُقِل عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه ليس بشَرْط، فإنَّه قال في رِوايَةِ مُثَنَّى بن جامِعٍ (¬3)، في مَن صَلَّى وثَوْبُه على إحْدَى عاتِقَسْه، والأُخْرَى مَكشُوفَةٌ: ¬

(¬1) في: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 368. كما رواه البُخَارِسْ، في: باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِسْ 1/ 101. وأبو داود، في: باب جماع ما يصلي فيه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 146. والنَّسائسْ، في: باب صلاة الرَّجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 56 - والدارمي، في: باب الصلاة في الثوب الواحد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارمسْ 1/ 318. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 243، 464. (¬2) في: باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148. (¬3) هو أبو الحسن مثنى بن جامع الأنباري، كان ورعًا، جليل القدر. نقل عن الإمام أَحْمد مسائل حسانًا. طبقات الحنابلة 1/ 336، 337.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُكْرَهُ. قِيل له: يُؤمَرُ أن يُعِيدَ؟ فلم يَرَ عليه إعادَةً. قال شيخُنا (¬1): وليس هذا رِوايَةٌ أُخْرَى، إنَّما يَدُلُّ على أنَّه لا يَجِبُ سَتْرُ المَنْكِبَيْن [في الصلاةِ] (2) جَمِيعًا؛ لأنَّ الخَبَرَ لا يَقْتَضِي سَترَهما. فعلى هذا لا يَجِبُ سَتْرُهما جميعًا، بل يُجْزِئُه وَضْعُ ثَوْبٍ على أحَدِ عاتِقَيْه وإن كان يَصِفُ البَشَرَةَ؛ لأن وُجُوبَ ذلك بالخَبَرِ، ولَفْظُه: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ». وهذا يَقَعُ على ما يَعُمُّ المَنْكِبَيْن، وما لا يَعُمُّ، [وعلى ما يَسْتُرُ البَشَرَةَ، وما لا يَسْتُرُ] (¬2). وقال القاضي، وأبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ سَتْرُ المَنْكِبَيْن، لقولِ النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طرَفَسْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» (¬3). صحيحٌ. فصل: فإن طَرَح على كَتِفَيْه حَبْلًا أو نَحْوَه، لم يُجْزِئه في اخْتِيارِ الخِرَقِي والقاضى. وقال بعضُ أصحابِنا: يُجْزِئُه. قالوا: لأنَّ هذا شئٌ فيَتَناوَلُه الخَبَرُ. قال بَعْضُهم: وقد رُوِيَ عن جابرٍ، أنَّه صَلَّى في ثَوْبٍ واحِدٍ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 290. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البُخَارِسْ، في: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، وباب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِسْ 1/ 100، 101. ومسلم، في: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة له، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 368، 369. أبو داود، في: باب جُمَّاع أثواب ما يصلَّى فيه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 146. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 255، 266، 319، 427، 520.

وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَوَشِّحًا به، كأنِّي أنظُرُ إليه، كأنَّ على عاتِقِه ذَنَبَ فَأْرَةٍ (¬1). وعن إبراهيمَ، قال: كان أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يَجِدْ أحَدُهم ثَوْبًا ألْقَي على عاتِقِه عِقالًا وصَلَّى. وقال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه لا يُجْزِئُ؛ لأن ذلك لا يُسَمَّى سُترةً، ولا لِباسًا، ولأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذَا صلَّى أحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ». صحيحٌ رَواه أبو داودَ. والأمْرُ بوَضْعِه على العاتِقيْن للسَّترِ، ولا يَحْصُلُ ذلك بوَضْع خَيْطٍ ولا حَبْلٍ، وما رُوِيَ عن جابِرٍ لا يَصِحُّ، وما رُوِيَ عن (¬3) الصَّحابَةِ إن صحَّ، فلعَدَمِ ما سِواه؛ لقَوْلِه «إذَا لَمْ يَجِدْ». وفي هذا دَلِيلٌ على أنَّه لا يُجْزِئُ مع وُجُودِ الثَّوْبِ. واللهُ أعلمُ. فصل: (وقال القاضي: يُجْزِئُه سَتْرُ العَوْرَةِ في النَّفْلِ دُونَ الفَرْضِ) يَعْنِي إذا اقْتَصَر على سَتْرِ العَوْرَةِ دُونَ المَنْكِبَيْن أجْزأه في النَّفلِ دُونَ الفَرْضِ. نصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، قال: يُجْزِئُه أن يَأْتَزِرَ بالثَّوْبِ الواحِدِ ليس ¬

(¬1) أخرج أوله مسلم، في: باب الصلاة في ثوب واحد، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 368. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 294، 328، 385، 387. ولم نجد الرواية بتمامها كما أوردها المصنف. (¬2) في: المغني 2/ 291. (¬3) سقط من: م.

308 - مسألة: (ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة، فإن اقتصرت على ستر العورة أجزأها)

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأة أَنْ تُصَلِّيَ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَمِلْحَفَةٍ، فَإنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهَا أَجْزَأَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على عاتِقِه منه شئٌ، في التُّطوُّعِ؛ لأنَّ مَبْناه على التَّخْفِيفِ، ولذلك يُسامَحُ فيه بتَرْكِ القِيام والاسْتِقْبالِ في حالِ سَيْره مع القُدْرَةِ، فسُومِحٍ فيه بهذا القَدْرِ، واسْتَدَلَّ أبو بكر بقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ». قال: هذا في التَّطَوُّعِ، وحديثُ أبي هُرَيَرةَ في الفَرْضِ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ التَّسْوِيَةُ بينَهما؛ لأنَّ ما اشْتُرِطَ للفَرْضِ اشْتُرِطَ للنَّفْلِ، كالطهارةِ، ولأنَّ الخَبَرَ عامٌّ فيهما، وهذا ظاهِرُ كلامِ شَيْخِنا (¬1)، رَحِمَه اللهُ. واللهُ أعلمُ. 308 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ للمرأةِ أن تُصَلِّيَ في دِرْع وخِمارٍ ومِلْحَفَةٍ، فإنِ اقْتَصَرَتْ على سَتْرِ العَوْرَةِ أجْزأها) رُوِيَ نَحْوُ ذلك عن عُمَرَ، وابنِه، وعائشةَ. وهو قولُ الشافعيِّ، وذلك لأنَّه أسْتَرُ وأحْسَنُ، فإنَّه إذا كان عليها جِلْبابٌ تُجافِي عنها راكِعَةً وساجِدَةً، فلا يَصِفُها، ولا تَبِينُ عَجيزَتُها ومَواضِعُ العَوْرَةِ المُغَلَّظَةِ. ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ سِيرِينَ، ونافِعٍ، قالوا: تُصَلِّي المرأةُ في أَرْبَعَةِ أثْوابٍ؛ لذلك. وهذا على وَجْهِ الاسْتِحْبابِ، فإنِ اقْتَصَرَتْ على سَتْرِ عَوْرَتِها أجْزأها. قال أحمدُ: قد اتَّفَقَ عامَّتُهم على الدِّرْعِ والخِمارِ، وما زاد فهو خَيْرٌ وأسْتَرُ. وقد دَلَّ ¬

(¬1) انظر: المغني 2/ 291، 292.

309 - مسألة: (وإذا انكشف من العورة يسير لا يفحش في النظر، لم تبطل صلاته)

وَإذَا انْكَشَفَ مِنَ الْعَوْرَةِ يَسِيرٌ لا يَفْحُشُ فِي النَّظرِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلاتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه حديثُ أُمِّ سَلَمَةَ حينَ قالت: يَا رسولَ اللهِ، أتُصَلِّي المرأةُ في دِرْعٍ وخِمارٍ؟ قال: «نَعَمْ، إذا كَانَ سَابِعًا يُغَطِّي ظُهُورَ قدَمَيْهَا» (¬1) ورُوِيَ عن عائشةَ، ومَيْمُونَةَ، وأُمِّ سَلَمَةَ، أزواجِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّهُنَّ كُنَّ يَرَيْنَ الصلاة في دِرْعٍ وخِمارٍ (¬2). حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ولأنَّها سَتَرَتْ ما يَجِبُ عليها سَتْرُه، أشْبَهَتِ الرجلَ. فصل: ويُكْرهُ للمرأةِ النِّقابُ وهي تُصَلِّى. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعُوا على أنَّ على المرأةِ أن تَكْشِفَ وَجْهَها في الصلاةِ والإحْرام. ولأنَّ ذلك يُخِلُّ بمُباشَرَةِ المُصَلَّى بالجَبْهَةِ والأنْفِ، ويُغَطِّي الفَمَ، وقد نَهَى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الرجلَ عنه (¬3). 309 - مسألة: (وإذا انْكشَفَ مِن العَوْرَةِ يَسِيرٌ لا يَفْحْشُ في النَّظَرِ، لم تَبْطُلْ صَلاتُه) نَصَّ عليه أحمدُ، وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: كتاب في كم تصلى المرأة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 149. عن أم سلمة. وأخرجه الإمام مالك، في: باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار، من كتاب صلاة الجماعة. الموطأ 1/ 142. عن أم سلمة وميمونة. (¬2) انظر الموضع السابق من أبي داود، وفيه عن أم سلمة فقط. وأخرجه الإمام مالك في الموضع السابق، الموطأ 1/ 148، 149. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في السدل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 150. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية السدل في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 170. والدارمي، في: باب النهي عن السدل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 320. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 295، 341، 345، 348.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تبْطُلُ؛ لأنَّه حُكْمٌ يَتَعَلَّق بالعَوْرَةِ، فاسْتَوَى قَلِيلُه وكَثِيرُه، كالنَّظَرِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ سَلِمَةَ الجَرْمِيِّ، قال: انْطَلَقَ أبي وافِدًا إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في نَفرٍ مِن قَوْمِه، فعَلَّمَهم الصلاةَ، وقال: «يَؤُمُّكُمْ أقْرَؤُكُمْ». فكنت أقْرَأهم، فقَدَّمُونِي، فكُنْتُ أؤُمُّهم وعليَّ بُرْدَةٌ لى (¬1) صَفْراءُ صغيرةٌ، فكنتُ إذا سَجَدْتُ انْكَشَفَتْ عنَّى، فقالتِ امرأةٌ مِن النَّساءِ: وارُوا عنّا عَوْرَةَ قارِئِكم. فاشْتَرَوْا لى قَمِيصًا عُمانِيًّا، فما فَرِحْتُ بعدَ الإِسلامِ فَرَحِي به. وفي لَفْظٍ: فكنتُ أؤُمُّهم في بُرْدَةٍ مُوَصَّلَةٍ فيها فَتْقٌ، فكنتُ إذا سَجَدْتُ فيها خَرَجَتِ اسْتِي. رَواه أبو داودَ والنَّسائِيُّ (¬2). وهذا يَنْتَشِرُ ولم يُنْكَرْ، ولم يَبْلُغْنا أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنْكَرَه ولا أحدٌ مِن أصحابِه، ولأنَّ ما صَحَّتِ الصلاةُ مع كَثِيرِه حالَ العُذْرِ، فُرِّقَ بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه في غيرِ حالِ العُذْرِ، كالمَشْيِ، ولأنَّ اليَسِيرَ يَشُقُّ الاحْتِرازُ منه، فعُفِيَ عنه كيَسِيرِ الدَّمِ. وحَدُّ اليَسِير ما لا يَفْحُشُ في النَّظرَ عادَةً، ولا فَرْق في ذلك بينَ الفَرْجَيْن وغيرِهما، إلَّا أنَّ العَوْرَةَ المُغَلَّظَةَ يَفْحُشُ منها ما لا يَفحُشُ مِن غيرِها، فيُعْتَبَرُ ذلك، وسَواءٌ في ذلك الرجلُ والمرأةُ. وقال أبو حنيفةَ: إنِ انْكَشَفَ مِن المُغلَّظَةِ قَدْرُ ¬

(¬1) سقطت من: م. (¬2) أخرجه أبو داود في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 138. والنَّسائيّ، في: باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر، من كتاب الأذان، وفي: باب إمامة الغلام قبل أن يحتلم، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 9، 62، 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّرْهَمِ، أو مِن غيرِها أقَلُّ مِن رُبْعِها، لم تَبْطُلِ الصلاةُ، وإن كان أكْثَرَ، بَطَلَتْ. ولَنا، أنَّ هذا تَقْدِيرٌ لم يَردِ الشَّرْعُ به، فلا يَجُوزُ المَصِيرُ إليه، وما لم يَرِدِ الشَّرْعُ فيه بالتَّقْدِيرِ، يُرَدُّ إلى العُرْفِ، كالكثِيرِ مِن العَمَلِ في الصلاةِ، والتَّفَرقِ والاحْتِرازِ (¬1). فإنِ انْكشَفَتْ عَوْرَتُه مِن غيرِ عَمْدٍ، فسَتَرَها في الحالِ، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّه يسِيرٌ في الزَّمَنِ، أشْبَهَ اليَسِيرَ في القَدْرِ. وقال التَّمِيمِيُّ: إن بَدَتْ عوْرَتُه وَقْتًا واسْتَتَرَتْ وَقْتًا، لم يُعِدْ، لحديثِ عَمْرِو بنِ سَلِمَةَ، فلم يَشْتَرِطِ اليَسِيرَ. قال شيخُنا (¬2): ولابُدَّ مِن اشْتِراطِه؛ لأنَّه يَفْحُشُ، ويُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ الكَثِيرَ في القَدْرِ. ¬

(¬1) في تش: «والإحراز». (¬2) في: المغني 2/ 288، 289.

310 - مسألة: (وإن فحش بطلت)

وَإِنْ فَحُشَ بَطَلَتْ. وَمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ، أَوْ مَغْصُوُبٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَعَنْهُ، تَصِحُّ مَعَ التَّحْرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 310 - مسألة: (وإن فَحُش بَطَلَتْ) يَعْنِي ما فَحُش في النَّظَرِ عادَةً وعُرْفًا، لِما ذَكَرْنا؛ لأنَّ التَّحَرُّزَ منه مُمْكِنٌ مِن غيرِ مَشَقَّةٍ، أشْبَهَ سائِرَ العَوْرَةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعُوا على أنَّ المرأةَ الحُرَّةَ إذا صَلَّتْ، وجَمِيعُ رَأْسِها مَكشُوف، أنَّ عليها الإعادَةَ؛ لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ سترِ جَمِيع (¬1) العَوْرَةِ، وعُفِيَ عنه في اليَسِيرِ؛ لمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ منه، يَبْقَى فيما عَداه كل قَضِيَّة الدَّلِيلِ. 311 - مسألة: (ومَن صَلَّى في ثَوْبٍ حَرِيرٍ أو مَغْصُوب، لم تَصِحَّ صَلاتُه. وعنه، تَصِحُّ مع التَّحْرِيمِ) لُبْسُ المَغْصُوبِ والصلاةُ فيه حَرامٌ على الرِّجالِ والنَّساءِ، وَجْهًا واحِدًا، فإن صَلَّى فيه، فهل تَصِحُّ صَلاتُه؟ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على رِوايَتَيْن، أظْهَرُهما، لا تَصِحُّ إذا كان هو السّاتِرَ للعَوْرَةِ؛ لأنَّه اسْتَعْمَل المُحَرمَ في شَرْطِ الصلاةِ، فلم تَصِحَّ، كا لو كان نَجِسًا، ولأنَّ الصلاةَ قُرْبَةٌ وطاعَةٌ، وقِيامُ هذا وقُعُودُه في هذا الثَّوْبِ مَنْهِيٌّ عنه، فكيف يكُونُ مُتَقَربًا بما هو عاصٍ به، مَأمُورًا بما هو مَنْهِيٌّ عنه. وقال ابنُ عُمَرَ: مَن اشْتَرَى ثَوْبًا بعَشْرَةِ دَراهِم، وفيها دِرْهَمٌ حَرامٌ، لم تُقْبَلْ له صلاة ما دام عليه. ثم أدْخَل أُصْبُعَيْه في أُذُنَيْه وقال: صُمَّتا إن لم يَكُنِ النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَمِعْتُه يَقُولُه. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬1)، وفي إسْنادِه رجلٌ غيرُ مَعْرُوفٍ. والثّانِيَةُ، تَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ والشافعي؛ لأنِّ النَّهْىَ لا يَعُودُ إلى الصلاةِ، ولا يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بها، فهو كما لو صَلَّى في عِمامَةٍ مَغْصُوبَة، أو غَسَل ثَوْبَه مِن النَّجاسَةِ بماءٍ مَغْصُوبٍ. فإن تَرَك الثَّوْبَ المَغْصُوبَ في كُمِّه، أو صَلَّى في عِمامَةٍ مَغْصُوبَةٍ، أو في يَدِه خاتَمٌ مَغْصُوبٌ، صَحَّتْ صَلَاتُه؛ لأنَّ النَّهْىَ لا يَعُودُ إلى شَرْطِ الصلاةِ، فلم يُؤثِّرْ فيها، كما لو كان في جَيْبِه دِرْهَمٌ مَغْصُوبٌ. والفَرْضُ والنَّفْلُ في ذلك سَواءٌ؛ لأنَّ ما كانَ شَرْطًا للفَرْضِ فهو شَرْطٌ للنَّفْلِ. ¬

(¬1) في: المسند 2/ 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن صَلَّى وعليه سُتْرَتان؛ إحْداهما مَغْصُوبَةٌ، ففيه الرِّوايَتان، سَواءٌ كان المَغْصُوبُ (¬1) الفَوْقانِيَّ أو التَّحْتِانِيَّ؛ لأنَّ السَّتْرَ لا يَتَعَيَّنُ بأحَدِهما، والمَغْصُوبَ مِن جِنْس ما يَسْتَتِرُ به، فصار (1) بمثابَةِ ما زاد على المَشْرُوطِ مِن اللَّفائِفِ في حَقِّ المَيِّتِ، فإنَّه يُجْرَى جراه في وُجُوبِ القَطْعِ. فإن صَلَّى في قَمِيصٍ بَعْضُه حَلالٌ وبعضُه حَرامٌ، لم تَصِح صَلاتُه على الرِّوايَةِ الأُولَى، سَواءٌ كان المَغْصُوبُ هو الذى سَتَر العَوْرَةَ أو بالعَكسِ؛ لأنَّ القَمِيصَ يَتبعُ بَعْضُه بَعْضًا، فلا يَتَميَّزُ، بدَلِيلِ دُخُولِه في مُطلقِ البَيْعِ. ذَكَر هذا الفَصْلَ ابنُ عَقِيلٍ. فصل: وإن صَلَّى الرجلُ في ثَوْبٍ حَرِيرٍ، لم يَجُزْ له، والحُكمُ في صِحَّةِ الصلاةِ فيه كالحُكْم في الثَّوْبِ المَغْصُوب على ما بَيَّنَّا؛ لأنَّه في مَعْناه. وتَصِحُّ صلاةُ المرأةِ فيه؛ لأنَّه مُباحٌ لها، وكذلك صلاةُ الرجلِ فيه في حالِ العُذْرِ إذا قُلْنا بإباحَتِه له. ¬

(¬1) سقط من: م.

312 - مسألة: (ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه)

وَمَنْ لمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا، صَلَّى فِيهِ وَأعَادَ عَلَى الْمَنْصُوصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 312 - مسألة: (ومَن لم يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا صَلَّى فيه) وذلك لأنَّ سَتر العَوْرَةِ آكَدُ مِن إزالَةِ النَّجاسَةِ؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ الآدَمِيِّ به في سَتْرِ عَوْرَتِه، ووُجُوبه في الصلاةِ وغيرِها، فكان تَقْدِيمُه أوْلَى. وهذا قَوْلُ مالكٍ. وقال الشافعيُّ: يُصَلِّي عُرْيانا، ولا يُعِيدُ. وقال أبو حنيفةَ في النَّجِسَةِ (¬1) كلِّها: يُخَيَّرُ في الفِعْلَيْن؛ لأنَّه لابُدَّ مِن تركِ واجِبٍ في كلا الفِعْلَيْن. وقد ذَكَرنا أنَّ السَّتْرَ آكَدُ، فوَجَبَ تَقْدِيمُه، ولأنَّه قَدَر على سَتْرِ عَوْرَته، فلَزِمَه، كما لو وَجَد ثَوْبًا طاهِرًا. 313 - مسألة: (وتَلْزَمُه الإعادَةُ على المَنْصُوص) لأنَّه أخَلَّ بشَرْطِ ¬

(¬1) في م: «النجاسة».

وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يُعِيدَ، بِنَاءً عَلَى مَنْ صَلَّى فِي مَوْضِع نَجِسٍ، لَا يُمْكنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَإنَّهُ قَالَ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ مع القُدْرَةِ عليه، أشْبَهَ ما لو صلَّى مُحْدِثًا. (ويَتَخَرَّجُ أن لا يُعِيدَ، بِناءً على مَن صلَّى في مَوْضعٍ نَجِسٍ، لا يُمْكِنُه الخُرُوجُ منه، فإَّنه قال: لا إعادَةَ عليه). وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1)؛ لأنَّ الشَّرْعَ مَنَعَه نَزْعَه، أشْبَهَ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 316.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما إذا لم يُمْكِنْه. وهو مذهبُ مالكٍ، والأوْزاعِيِّ. ولأنَّ التَّحَرُّزَ مِن النَّجاسَةِ شَرْطٌ عَجَز عنه، فسَقَطَ، كالعَجْزِ عن السُّتْرَةِ، فإن لم يَجِدْ إلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ صَلَّى فيه، ولا إعادَةَ عليه؛ لأنَّ تَحْرِيمَ لُبْسِه يَزُولُ بالحاجَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه. وذَكَر ابنُ عَقِيل أنَّه يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَيْن في السُّتْرَةِ النَّجِسَةِ. فإن لم يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مَغْصُوبًا، صَلَّى عُرْيانًا؛ لأنَّ تَحْرِيمَه لحَقِّ آدَمِيٍّ، أشْبَهَ مَن لم يَجِدْ إلَّا مَغْصُوبًا. وذَكَر ابن عَقِيل في وُجُوبِ الإعادَة كل مَن صَلَّى في الثَّوْب النَّجِسِ رِوايَتَيْن، إحْداهما يُعِيدُ، لما ذَكَرْنا. وَالثانيةُ، لا يُعيدُ؛ لأنَّه أتَى بما أُمِر به، أشْبَهَ ما لو لم تَكنْ عليه نَجاسَةٌ.

314 - مسألة: (فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها)

وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ سَتَرَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 314 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ إلَّا ما يَسْتُرُ عَوْرَتَه سَتَرَها) إذا لم يَجِدْ إلَّا ما يَسْتُرُ عَوْرتَه حسْبُ، بَدَأ بها وتَرَك مَنْكبَيْه؛ لأنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ مُتَّفَقٌ على وُجُوبِه، وسَتْرَ المَنْكبَيْن مُخْتَلَفٌ فيه، ولأن سَتْرَ العَوْرَةِ واجِبٌ في غيرِ الصلاةِ، ففيها أوْلَى. وقد روَى حَنْبَلٌ، عن أحمدَ، في مَن معه ثَوْبٌ واحِدٌ لَطِيفٌ، إن سَتَر عَوْرَتَه انْكَشَفَ مَنْكِباه، فقال: يُصَلِّي جالِسًا، ويُرْسِلُه مِن وَرائِه على مَنْكبَيْه وعَجِيزَتِه. واحْتَجَّ لذلك بأن سَتْرَ المَنْكِبَيْن، الحديثُ فيه أَصَحُّ مِن سَتْرِ الفَخِذَيْن، والقِيامَ يَسْقُطُ في حَقِّ العُرْيانِ، وله بَدَلٌ، فإذا صَلَّى جالِسًا، حَصَل سَتْرُ العَجيزَةِ والمَنْكِبَيْن بالثَّوْبِ، وسَتْرُ العَوْرَةِ بالجُلُوسِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، اخْتارَهْ

315 - مسألة: (فإن لم يكف جميعها، ستر الفرجين)

فَإنْ لَمْ يَكْفِ جَمِيعَهَا سَتَرَ الْفَرْجَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ شيخُنا (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا، ولِما روَى جابِرٌ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَخالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ». رَواه أبو داودَ (¬2). وروَى ابنُ عُمَرَ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «مَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ، فَلْيَأْتَزِرْ وَلْيَرْتَدِ، وَمَنْ لَمْ يَكنْ لَهُ ثَوْبَانِ، فَلْيَأْتَزِرْ ثُمَّ لْيُصَلِّ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬3). ولأنَّ القِيامَ مُتَّفَقٌ على وُجُوبِه، فلا يُتْرَكُ لأمْرٍ مُختَلَفٍ فيه. واللهُ أعلمُ. 315 - مسألة: (فإن لم يَكْفِ جَمِيعَها، سَتَر الفَرْجَيْن) لأنَّهما أفْحَشُ، وهما عَوْرَةْ بغيرِ خِلافٍ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 317. (¬2) في: باب إذا كان الثوب ضيقًا يتزر به، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا كان الثوب ضيقًا، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 101. ومسلم، في: باب حديث جابر الطَّويل وقصة أبي اليسر، من كتاب الزهد. صحيح مسلم 4/ 2305، 2306. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 335. (¬3) في: المسند 2/ 148.

316 - مسألة: (فإن لم يكفهما جميعا، ستر أيهما شاء)

فَإِنْ لَمْ يَكْفِهمَا جَمِيعًا سَتَرَ أَيُّهُمَا شَاءَ، وَالْأَوْلَى سَتْرُ الدُّبُرِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقِيلَ: الْقُبُلُ أوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 316 - مسألة: (فإن لم يَكفِهما جَمِيعًا، سَتَر أيُّهما شاء) لاسْتِوائِهما (والأوْلَى سَتْرُ الدُّبُرِ على ظاهرِ كلامِه) لأنَّه أفْحَشُ ويَنْفَرِجُ (¬1) في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. (وقِيل: القُبُلُ أوْلَى) لأنَّ به يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، والدُّبُرَ مَسْتُورْ بالأليَتَيْن. ¬

(¬1) في الأصل: «ويتفرج»

317 - مسألة: (وإن بذلت له سترة، لزمه قبولها، إذا كانت عارية)

وَإِنْ بُذِلَتْ لَهُ سُتْرَةٌ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا، إذَا كَانَتْ عَارِيَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 317 - مسألة: (وإن بُذِلَتْ له سُترَةٌ، لَزِمَه قَبُولُها، إذا كانت عارِيَّةً) لأنَّ المِنَّةَ لا تَكثُرُ في العارِيَّة، فيَكُونُ قادِرًا على سَتْرِ عَوْرَتِه بما لا ضَرَرَ فيه. وإن كانت هِبَةً، لم يَلْزَمْه قَبُولُها؛ لأنَّ المِنةَ تَكْثُرُ فيها. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لأنَّ العارَ في كَشْفِ عَوْرَته أكْثرُ مِن الضَّررِ فيما يَلْحَقُه مِن المِنَّةِ. وإن وَجَد مَن يَبِيعُه سُتْرَةً، أو يُؤَجِّرُه بِثَمَنِ المِثْلِ، أو زِيادَةٍ يَسِيرَةٍ، وَقَدَر على العِوَضِ، لَزِمَه، وإن كانت كَثِيرَةً لا تُجْحِفُ بمالِه، فهو كما لو قَدَر على شِراءِ الماءِ بذلك، وفيه وَجْهان، مَضَى تَوْجِيهُهما. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 315.

318 - مسألة: (فإن عدم بكل حال صلى جالسا يومئ إيماء، وإن صلى قائما جاز. وعنه، أنه يصلي قائما ويسجد بالأرض)

فَإنْ عَدِمَ بِكُلِّ حَالٍ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ إيمَاءً، فَإنْ صَلَّى قَائمًا جَازَ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَيَسْجُدُ بِالأرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 318 - مسألة: (فإن عَدِم بكلِّ حالٍ صَلَّى جالِسًا يُومِئُ إيماءً، وإن صَلَّى قائِمًا جاز. وعنه، أنَّه يُصَلِّي قائِمًا ويَسْجُدُ بالأرْضِ) لا تَسْقُطُ الصلاةُ عن العُرْيانِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّه شَرْطٌ عَجَز عنه فلم تَسْقُطِ الصلاةُ بعَجْزِه عنه، كالاسْتِقْبالِ، ويُصَلِّي جالِسًا، يُومِئُ بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وابن المُنْذِرِ: يُصَلِّي قائِمًا كغيرِ العُرْيانِ، لقَوْلِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلِّ قَائِمًا، فَإنْ لَمْ تَستطِعْ فَقَاعِدًا». رَواه البُخارِيُّ (¬1). ولأنَّه قادِرٌ على القِيامِ ¬

(¬1) في: باب إذا لم يطق قاعد صلى على جنب، عن كتاب التقصير. صحيح البُخَارِيّ 2/ 59، 60. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، عن كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 218. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 166. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة المريض، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 386. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 426.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فلم يَجُزْ له تَرْكُه، كالقادِرِ على السَّتْرِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ قَوْمًا انْكسَرَتْ بهم مَراكِبُهم، فخرَجُوا عُراةً، قال: يُصَلُّون جُلُوسًا، يُومِئُون إيماءً برُؤُوسِهم. ولم يُنْقَلْ خِلافُه، ولأنَّ السَّترَ آكدُ مِن القِيامِ لأمْرَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه لا يَسْقُطُ مع القدْرَةِ بحالٍ، والقِيامُ يَسْقُطُ في النَّافِلَةِ. والثاني، أنَّ السَّتْرَ لا يَخْتَصُّ الصلاةَ، بخِلافِ القِيامِ، فإذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن تركِ (¬1) أحَدِهما، فتَرْكُ الأخَفِّ أوْلَى. فإن قِيل: فلا يَحْصُلُ السَّتْرُ كلُّه مع فَواتِ ثلاثةِ أرْكانٍ، القِيامِ، والرُّكُوعِ، والسُّجُودِ. فالجَوابُ، أنّا إذا قُلْنا: العَوْرَةُ الفَرْجان. فقد حَصَل سَتْرُهما، وإن قُلْنا: هما بَعْضُ العَوْرَةِ. فهما آكَدُها وُجُوبًا، وأفْحَشُها في النَّظَرِ، فكان سَتْرُهما أوْلَى. ولا تَجِبُ عليه إعادَة؛ لأنَّه صَلَّى كما أُمِر، أشْبَهَ ما لو صَلَّى إلى غيرِ القِبْلَةِ عندَ العَجْزِ. فإن صَلَّى قائِمًا جاز، لِما ذَكَرْنا. وقد رُوِيَ عنه، أنَّه يُصَلِّي جالِسًا ويَسْجُدُ بالأرْضِ؛ لأنَّ السُّجُودَ آكَدُ مِن القِيامِ، لكَوْنِه مَقْصُودًا في نَفْسِه، ولا يَسْقُطُ فيما يَسْقُطُ فيه القِيامُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو النَّفْلُ. والأوْلَى الإِيماءُ بالسُّجُودِ؛ لأنَّ القِيامَ سَقَط عنهم لحِفْظِ العَوْرَةِ، وهي في حالِ السُّجُودِ أفْحَشُ، فكان سُقُوطُه أوْلَى. وإن صَلَّى قائِمًا، ورَكع وسَجَد بالأرْضِ، جاز في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأيِ؛ لأنَّه لابُدَّ مِن تَرْكِ أحَدِ الواجِبَيْن، فأيَّهما تَرَك فقد أتَى بالآخَرِ. وعلى أيِّ حالٍ صَلَّى فإنَّه يَتَضامُّ ولا يَتَجافَى، قِيل لأبي عبدِ الله: يَتَضامُّون أم يَتَرَبَّعُون؟ قال: بل يَتَضامُّون. وقد قيل: إنهم يَتَرَبَّعُون في حالِ القيامَ، كصلاةِ النّافِلَةِ قاعِدًا. والأوَّلُ أوْلَى. فصل: فإذا وَجَد العُرْيانُ جِلْدًا طاهِرًا، أو وَرَقًا يُمْكِنُ خَصْفُه عليه، أو حَشِيشًا يُمْكِنُ رَبْطُه عليه، فيَسْتُرُ، لَزِمَه؛ لأنِّه قادِرٌ على سَتْرِ عَوْرَتِه بطاهِرٍ لا يَضُرُّه، وقد سَتَر النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رِجْلَيْ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ بالإذْخِرِ لمّا لم يَجدْ سُتْرَةً وإن وَجَد طِينًا يَطْلِي به جَسَدَه، لم يَلْزَمْه؛ لأنَّه يَتَناثر إذا جَفَّ، وفيه مَشَقَّةٌ، ولا يُغَيِّبُ الخِلْقَةَ، وقال ابنُ عَقِيلٍ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُه؛ لأنَّه يَسْتُرُ، وما تَناثَرَ سَقَط حُكْمُه، واسْتَتَرَ بما بَقِيَ. وهو قولُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وإن وَجَد ماءً، لم يَلْزَمْه النُّزُولُ فيه وإن كان كَدِرًا؛ لأنَّ عليه فيه مَشَقَّة وضَرَرًا، [ولا يَحْصُل به السَّتْرُ] (¬1). وإن وَجَد حُفْرَةً لم يلْزَمْه النُّزُولُ فيها؛ لأَنَّها لا تَلْصَقُ بجَسَدِه، فهي كالجِدارِ. وإن وَجَد سُتْرَةً تُضِرُّ به، كبارِيَّةٍ (¬2) ونَحْوِها، لم يَلْزَمْه الاسْتِتارُ بها، لِما فيها مِن الضَّرَرِ والمَنْع مِن إكْمالِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. ¬

(¬1) في م: «لا يحتمل». (¬2) البارية: الحصير المنسوج.

319 - مسألة: (وإن وجد السترة قريبة عنه في أثناء الصلاة، ستر وبنى، وإن كانت بعيدة، ستر وابتدأ)

وَإنْ وَجَدَ السُّتْرَةَ قَرِيبَة مِنْهُ فِي أثْنَاءِ الصَّلَاةِ سَتَرَ وَبَنَى، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدةً سَتَرَ وَابْتَدَأَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 319 - مسألة: (وإن وَجَد السُّتْرَةَ قَرِيبَةً عنه في أثْناءِ الصلاةِ، سَتَر وبَنَى، وإن كانت بَعِيدَةً، سَتَر وابْتَدَأ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ العُرْيانَ متى قَدَر على السُّتْرَةِ في أثْناءِ الصلاةِ، وأمْكَنَه مِن غيرِ زمَنٍ طَوِيلٍ ولا عَمَلٍ كَثِيرٍ، سَتَر وبَنَى على ما مَضَى مِن الصلاةِ، كأهْلِ قُباءَ لَمَّا عَلِمُوا بتَحْوِيلِ القِبْلَةِ، اسْتَدارُوا إليها وأتَمُّوا صَلَاتَهم. وإن لم يُمْكِنِ السَّتْرُ إلَّا بعَمَلٍ كثيرٍ، أو زَمَنٍ طويلٍ، بَطَلَتِ الصلاةُ؛ لأنَّه لا يُمْكنُه المُضِيُّ فيها إلَّا بما يُنافِيها مِن العملِ الكثير، أو فِعْلِها بدُونِ شَرْطِها، والمَرْجِعُ في ذلك إلى العُرْفِ، لأنَّه لا تَقْدِيرَ فيه تَوْقِيفًا. وذَكَر القاضي [في الأمَةِ إذا عَتَقَتْ في أَثْنَاء الصلاةِ، وهي مَكْشُوفَةُ الرَّأسِ، ووَجَدَتِ] (¬1) السُّتْرَةَ احْتِمالًا، أنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَاتها لا تَبْطلُ بانْتِظارِها وإن طال؛ لأنَّه انْتِظارُ واجِدٍ (¬1). ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنهَّا صَلَّتْ في زَمَنٍ طويلٍ عارِيةً، مع إمْكانِ السَّتْرِ، فلم تَصِحَّ، كالصلاةِ كلِّها. وما ذَكَروه يَبْطُلُ بما لو أتَمَّتْ صلاتها حالَ (¬2) انْتِظارِها أو انْتَظَرَتْ من يَأتِي فيُناوِلُها، وقِياسُ الكثيرِ على اليَسِيرِ فاسِدٌ، لما ثَبَت في الشَّرْعِ مِن العَفْوِ عن اليَسِيرِ دُونَ الكَثِير في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ. فصل: فإن صَلَّى عُرْيانًا، ثم بأن معه سِتارَةٌ أُنْسِيَها، أعاد؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ، كما قُلْنا في الماءِ. ¬

(¬1) في م: «واجب». (¬2) في م: «في حال».

320 - مسألة: (وتصلي العراة جماعة، وإمامهم في وسطهم)

وَتُصَلِّي الْعُرَاةُ جَمَاعَةً، وَإمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 320 - مسألة: (وتُصَلِّي العُراةُ جَماعَةً، وإمامُهم في وَسَطِهم) الجَماعَةُ تُشْرَعُ للعُراةِ كغيرِهم، لقول النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلَاةُ الرِّجُلِ فِي الْجَمِيعِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاِته وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا قولُ قتادَة. وقال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّون فُرادَى. قال مالكٌ: ويَتَباعَدُ بَعْضُهما مِن بعض. وإن كانوا في ظُلْمَةٍ صَلَّوْا جَماعَةً، ويَتقدَّمُهم إمامُهما. وبه قال الشافعيُّ في القَدِيمِ، وقال في مَوْضِعٍ: الجَماعَةُ والإفْرادُ سَواءٌ؛ لأنَّ في الجَماعَةِ الإخْلالَ بسُنَّةِ المَوْقِفِ، وفي الانْفِرادِ الإخْلالَ بفَضِيلَةِ الجَماعَةِ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب فضل صلاة الجماعة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 165، 166. ومسلم، في: باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 450. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في فضل الجماعة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 15. والنَّسائيّ: باب فضل الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 80. وابن ماجه، في: باب فضل الصلاة في جماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 259. والإمام مالك، في: باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووافَقَنا أنَّ إمامَهم يَقُومُ وَسَطَهم، وعلى مَشْرُوعِيَّةِ الجَماعَةِ للنِّساءِ العُراةِ؛ لأنَّ إمامَتَهُنَّ تَقُومُ في وَسَطِهِنَّ، فلا يَحْصُلُ الإخْلالُ في حَقِّهِنَّ بفَضِيلَةِ المَوْقِفِ. ولَنا، الحدِيثُ الذى ذَكَرْنا، ولأنَّهم قَدَرُوا على الجَماعَةِ مِن غيرِ عُذْرٍ، أشْبَهُوا المُسْتَتِرِين، ولا تَسْقُطُ الجَماعَةُ لفَواتِ السُّنَّةِ في المَوْقِفِ، كما لو كانوا في ضِيقٍ ولا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ أحَدِهم. وإذا شُرِعَتِ الجَماعَة حالَ الخَوْفِ مع تَعَذُّرِ الاقْتِداءِ بالإمامِ في بَعْضِ الصلاةِ، والحاجَةِ إلى مُفارَقتِه، وفِعْلِ ما يُبطِلُ الصلاةَ في غيرِ تلك الحالِ، فأوْلَى أن تُشْرَعَ

321 - مسألة: (وإن كانوا رجالا ونساء، صلى كل نوع لأنفسهم)

وإنْ كَانُوا رجَالًا وَنِسَاءً، صَلَّى كُلُّ نَوْعٍ لأنْفُسِهِمْ، وَإنْ كَانُوا فِي ضِيقٍ، صَلَّى الرِّجَالُ وَاسْتَدْبَرَهُمُ النِّسَاءُ، ثمَّ صَلَّى النَّساءُ وَاسْتَدْبَرَهنَّ الرِّجَالُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هاهُنا. إذا ثَبَت هذا، فإن إمامَهم يكُون في وَسَطِهم، ويُصَلون صفًّا واحِدًا؛ لأنه أستَرُ لهم، فإن لم يَسَعْهم صَفٌّ واحدٌ، وَقَفُوا صُفُوفا وغَضُّوا أبصارَهم، وإن صلَّى كل صَف جَماعَةً، فهو أحْسَنُ. 321 - مسألة: (وإن كانوا رِجالًا ونِساءً، صَلَّى كل نَوْعٍ لأنْفُسِهم) لئَلا يَرَى بَعْضُهم عَوْراتِ بعض، (وإن كانوا في ضِيقٍ، صَلى الرجالُ واستَدْبَرَهم النساءُ، ثم صَلَّى النساءُ واستدبَرَهُنَّ الرِّجالُ) لئلا يَنْظُرَ بَعْضُهم إلى بَعْض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان مع العُراةِ واحِدٌ له سترةٌ، لَزِمَه الصلاةُ فيها، فإن أعارَها وصَلَّى عُرْيانًا، لم تَصِحَّ؛ لأنه قادِر على السُّترةِ، وإذا صَلَّى فيه اسْتُحِبَّ له أن يُعيِرَه؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬1) ولا يَجبُ ذلك، بخلافِ ما لو كان معه طَعامٌ فاضِلٌ عن حاجَتِه، ووَجَد مُضْطَرا، فإنَّه يَلْزَمُه إعْطاؤه، وإذا بَذَلَه لهم صَلَّى فيه واحِدٌ بعدَ واحِدٍ، ولم يَجُزْ لهم الصلاةُ عُراةً؛ لقُدْرَتهم على السترِ، إلَّا أن يَخافُوا ضِيقَ الوَقْتِ، فيُصَلوا (¬2) عُراةً جَماعةً؛ لأنَّهم لو كانوا في سَفِينَةٍ لا يُمْكن جَميِعُهم الصلاةَ قِيامًا، صَلَّى واحِدٌ بعدَ واحِدٍ، إلَّا أن يَخافُوا فواتَ الوَقْتِ، فيُصلىَ واحِدٌ قَائِمًا والباقُون قعُودًا، كذلك هذا، ولأنَّ هذا يَحْصُلُ به إدْراكُ الوَقتِ والجَماعَةِ، وذاك إنما يَحْصُل به السترُ خاصَّةً. ويَحْتَمِلُ أن يَنْتَظِرُوا الثوْبَ وإن فات الوَقْتُ؛ لأنه قَدَر على شَرْطِ الصلاةِ، فلم تَصِحَّ صَلاتُه بدُونِه، كواجِدِ الماءِ لا يَتَيَمَّمُ وإن خاف فَواتَ الوَقْتِ. قال شيخُنا (¬3): وهذا أقْيَسُ عندِي. فإنِ امْتَنَعَ صاحِبُ الثَّوْبِ مِن إعارَته، فالمُسْتَحَبُّ أن يَؤمَّهم، ويَقف بينَ أيدِيهم، فإن كان أُمِّيًّا وهم قرّاءٌ، صَلى العُراةُ جَماعَة وصاحبُ الثوْب وَحْدَه؛ لأنه لا يَجُوزُ أن يَؤمَّهم؛ لكَوْنِه أُمِّيًّا، ولا يَأتَمَّ بهم؛ لكوْنِهم عُراةً وهو مُسْتَتِر. وإن صلَّى وبَقِيَ وَقْتُ صلاةٍ واحِدَةٍ، اسْتُحِبُّ أن يُعِيرَه لمن يَصْلُحُ لإمامَتِهم، وإن ¬

(¬1) سورة المائدة 2. (¬2) في م: «فيصلون». (¬3) في: المغني 2/ 322.

322 - مسألة: (ويكره في الصلاة السدل؛ وهو أن يطرح على كتفيه ثوبا ولا يرد أخد طرفيه على الكتف الأخرى)

ويُكْرَه فِي الصَّلاةِ السَّدْلُ؛ وَهُوَ أنْ يَطْرَحَ عَلى كَتِفَيْهِ ثَوْبًا وَلَا يَرُدَّ أحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الكَتِفِ الأخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعارَه لغيرِه، جاز، وصار حُكْمُه حُكْم صاحِبِ الثَّوْبِ، فإنِ اسْتوَوْا، ولم يكنِ الثوْبُ لواحِدٍ منهم، أقرعَ بينَهم، فيَكُونُ مَن تَقعُ له القُرْعَة أحَقَّ به، وإلا قدِّم مَن تُسْتحَبُّ البِدايَةُ بعارِيته. وإن كانُوا رِجالًا ونِساءً، فالنساءُ أحَق؛ لأنَّ عَوْرَتهُنَّ أفْحَش, وسَترَها آكَدُ. وإذا صَلَّيْن فيه أخَذَه الرجالُ. 322 - مسألة: (ويُكْرَه في الصلاةِ السدْلُ؛ وهو أن يَطْرَحَ على كَتِفَيْه ثَوْبًا ولا يَرُدَّ أخدَ طرَفَيْه على الكَتِفِ الأخْرَى) وهذا قول ابنِ مسعودٍ، والثوْرِيِّ، والشافعيِّ؛ لِما روَى أبو هُريرة، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نهَى عن السدْلِ في الصلاةِ. رَواه أبو داود (¬1). فإن فَعَل، فلا إعادةَ عليه. وقال ابنُ أبي موسى: يُعِيدُ الصلاةَ في إحْدَى الروايَتَيْن؛ للنهْيِ عنه. فأمّا إن ردَّ أحَدَ طَرفَيْه على الكَتِفِ الأخْرَى، أو ضَمَّ طَرَفَيْه بيَديْه، لم يُكْرهْ؛ لزَوالِ السَّدْلِ. وقد رُوِيَ عن جابِرٍ (¬2)، وابنِ عُمر (¬3) الرخْصَة في السدْلِ. قال ¬

(¬1) في: باب ما جاء في السدل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 150. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية السدل في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 170. والدارمي، في: باب النهي عن السدل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 320. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 295، 341، 345، 348. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب كراهية السدل في الصلاة وتغطية الفم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 243. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في باب من كره السدل في الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ فيه حديثًا يَثْبُت. وحَكاه الترمِذي (¬1)، عن أحمدَ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية السدل في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 171. ولفظه: وقال بعضهم: إنما كُره السدل إذا لم يكن عليه إلَّا ثوب واحد، فأما إذا سدل على القميص فلا بأس. وهو قول أَحْمد.

323 - مسألة: (و)

وَاشْتِمَالُ الصَّمَّاء؛ وَهُوَ أنْ يَضْطبعَ بثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 323 - مسألة: (و) يُكرَه (اشْتِمالُ الصَّمّاءِ؛ وهو أن يضطَبعَ بثَوْبٍ ليس عليه غيرُه) لِما روَى أبو هُرَيرة، وأبو سعيدٍ، أن النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نهَى عن لُبْسَتَيْن؛ اشْتِمالِ الصَّمّاءِ، وأن يَحْتَبِيَ الرجلُ بثَوْبٍ ليس بينَ فَرْجَيْه وبينَ السماءِ شيء. أخْرَجَه البُخارِي (¬1). ومَعْنَى الاضْطِباعِ: أن يَجْعَلَ وَسَطَ الرِّداءِ تحتَ عاتِقِه الأيمَنِ، وطَرَفَيْه على عاتِقِه الأيسرِ، كلُبْسَةِ ¬

(¬1) في: باب ما يستر العورة، من كتاب الصلاة، وفي: باب الصلاة بعد الفجر حتَّى ترتفع الشَّمس، من كتاب المواقيت، وفي: باب صوم يوم الفطر، من كتاب الصوم، وفي: باب بيع الملامسة، من كتاب البيوع، وفي: باب اشتمال الصماء، وباب الاحتباء في ثوب واحد، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 1/ 102، 103، 152، 3/ 55، 91، 7/ 190، 191. كما أخرجه أبو داود، في: باب صوم العيدين, من كتاب الصوم، وفي. باب في بيع الغرر، من كتاب البيوع، وفي: باب في لبسة الصماء، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 1/ 563، 2/ 228، 337. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في الثوب الواحد، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 261. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن اشتمال الصماء، من كتاب الزينة. المجتبي 8/ 185. ابن ماجه، في: باب ما نهى عنه من اللباس، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1179. والدارمي، في: باب النهي عن اشتمال الصماء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 319. والإمام مالك، في: باب ما جاء في لبس الثياب، من كتاب اللباس. الموطأ 2/ 917. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 319، 380، 419، 432، 464، 475, 478، 491، 496، 503، 510، 529، 3/ 6، 13، 46، 66، 59, 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحْرِمِ، وهذا هو اشْتِمالُ الصمّاءِ. ذَكَرَه بعضُ أصحابنا، وجاء مُفَسْرًا في حديثِ أبي سعيدٍ بذلك، مِن رِوايَة إسحاقَ، عن عبدِ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِي، أظنه عن عطاءِ بنِ يزيدَ، عن أبي سعيدٍ (¬1). وإنما كُرِه؛ لأنه إذا فَعَل ذلك وليس عليه ثَوْبْ غيرُه، بَدَتْ عَوْرَتُه كذلك. رَواه حَنْبَل، عن أحمدَ. أمّا إذا كان عليه غيرُه، فتلك لُبْسَةُ المُحْرِمِ، وقد فَعَلَها النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وعلى هذا يَنبغِي أن يكونَ اشْتِمالُ الصَّمّاءِ مُحَرَّمًا؛ لإفْضائِه إلى كَشْفِ العَوْرَةِ، وروَى أبو بكر بإسنادِه، عن ابنِ مسعود، قال: نَهَى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يَلْبَسَ الرجلُ ثَوْبًا واحِدًا، يَأخُذُ بجَوانِبِه على مَنْكبَيْه، فتُدْعَى تلك الصماءَ. وقال بَعْضُ أصحابِ الشَّافعيّ: اشْتِمالُ الصَّمّاءِ: أن يَلْتَحِفَ بالثوْبِ، ثم يُخْرِجَ يَدَيْه مِن قِبَلِ صَدْرِه، فتَبْدُوَ عَوْرَتُه. وهو في مَعْنَى تَفْسِيرِ أصحابِنا. وقال أبو عُبيَدٍ (¬2): اشْتمالُ الصَّمّاءِ عندَ العَرَبِ: أن يَشتَمِلَ الرجلُ بثَوْبٍ يُجَلِّل به جَسَدَه كلَّه، ولا يَرْفَعُ مِنه جانِبًا يُخْرِجُ مِنه يَدَه. كأنه يَذْهَبُ به إلى أنَّه لَعلَّه يُصِيبُه شئٌ يرِيدُ الاحْتِرازَ (¬3) منه، فلا يَقْدِرُ عليه. قال شيخنا (¬4): والفُقَهاءُ أعلمُ ¬

(¬1) انظر: باب في بيع الغرر، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 228. (¬2) في: غريب الحديث 2/ 118، 119. نقلا عن الأصمعيّ. (¬3) في م: «الاحتراس». (¬4) في: المغني 7/ 297.

324 - مسألة: (ويكره تغطية الوجه والتلثم على الفم والأنف)

وَعَنْهُ، أنَّهُ يُكْرَه وإنْ كَانَ عَلَيْهِ غيره. وَيُكْرَه تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ، وَالتَّلثُّمُ عَلَى الْفَمَ وَالْأَنْفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّأوِيلِ. (وعنه، يُكْرَه، وإن كان عليه غيرُه) رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه الله, كَراهَةُ ذلك مُطلَقًا؛ لعُمُومِ النهْيِ، ولأنَّ كلَّ ما نُهِيَ عنه مِن اللباس في الصلاةِ لم يُفَرقْ بينَ أن يكُونَ عليه ثَوْب غيرُه، أو لم يَكُنْ، كالسَّدْلِ والإسْبالِ. واللهُ أعلمُ. 324 - مسألة: (ويُكْرَه تَغْطِيَةُ الوَجْهِ والتَّلثُّمُ على الفمِ والأنْفِ) لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نهي أن يُغَطِّيَ الرجلُ فاه. رَواه أبو

325 - مسألة: (و)

ولَفُّ الكمِّ, ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1)، ففي (¬2) هذا تَنْبِيهٌ على كَراهِيَّة تَغْطِيَةِ الوَجْهِ؛ لاشْتِمالِه على تَغْطِيَة الفَمِ، ويُكْرَه تَغْطِيَةُ الأنفِ قِياسًا على الفَمِ. رُوي ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وفيه رِوايَةٌ أخرى، لا يُكْرَه؛ لأنَّ تَخْصِيصَ الفَمِ بالنَّهْيِ يَدُلُ على إباحَةِ غيرِه. 325 - مسألة: (و) يكرهُ (لَفُّ الكُمِّ) لقول النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظم، وَلَا أكُفّ (¬3) شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا». مُتفَق عليه (¬4). ¬

(¬1) انظر حديث. «نهى عن السدل في الصلاة». المتقدم في صفحة 246. (¬2) في الأصل: «وفي». (¬3) في الأصل: «أَلْف». (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب السجود على سبعة أعظم، وباب السجود على الأنف, وباب لا يكف شعرًا، وباب لا يكف ثوبًا، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 206، 207. ومسلم، في: باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة. من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 354. كما أخرجه أبو داود، في: باب أعضاء السجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 205. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في السجود على سبعة أعضاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 73. والنَّسائيّ، في: باب السجود على الأنف، وباب على كم السجود، وباب السجود على اليدين، باب السجود على الركبتين، وباب النهي عن كف الشعر في السجود، وباب النهي عن كف الثياب في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 164، 165, 170. وابن ماجه، في باب السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 286. والدارمي، في: باب السجود على سبعة أعظم وكيف العمل في السجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 221، 222، 225, 270, 279, 280, 285, 286, 292, 305, 324.

326 - مسألة: (ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار

وَشَدُّ الْوَسَطِ بِمَا يُشْبِهُ شَدَّ الزنَّارِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 326 - مسألة: (ويُكْرَه شَدُّ الوَسَطِ بما يُشْبِهُ شدَّ الزُّنّارِ (¬1) لِما فيه مِن التشبهِ بأهل الكِتابِ، وقد نهَى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن التشَبُّهِ بهم، فقال: «لَا تَشْتَمِلُوا اشْتِمَالَ الْيَهُودِ». رَواه أبو داودَ (¬2). فأمَّا شَدُّ الوَسَطِ بمِئْزَرٍ أو حَبْل، أو نَحْوِهما (¬3) مِمّا لا يُشْبِهُ شَدَّ الزُّنارِ، فلا يُكْرَه. قال أحمدُ: لا بأسَ به، أليس قد رُوِيَ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «لَا يُصَلِّي ¬

(¬1) الزُّنْار: ما يشده الذمى على وسطه. (¬2) في: باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148. (¬3) في الأصل: «نحوه».

327 - مسألة: (و)

وإسْبَالُ شَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهِ خُيَلَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ محْتَزِم» (¬1). وقال أبو طالِبٍ: سأَلتُ أحمدَ عن الرجلِ يُصَلِّي وعليه القَمِيصُ، يَأتَزِرُ بالمِنْدِيلِ فَوقه؟ قال: نَعَمْ، فَعَل ذلك ابنُ عُمَرَ. وعن الشَّعْبِيِّ، قال: كان يُقالُ: شُدَّ حَقْوَكَ في الصلاةِ ولو بعِقالٍ. رَواه الخَلّالُ، وعن يزيدَ بنِ الأصَمِّ (¬2) مِثْلُه. 327 - مسألة: (و) يُكْرَه (إسْبالُ شيء مِن ثِيابه خُيَلاءَ) يُكْرَه إسْبالُ القَمِيص والإزارِ مُطْلقًا، وكذلك السَّراوِيلُ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ برَفْع الإزارِ، فإن فَعَلَه خُيَلاءَ فهو حَرامٌ؛ لقولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 227 والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 387، 458، 472، بلفظ: نهى أن يصلي الرَّجل بغير حزام. (¬2) يزيد بن الأصم العامري، ابن خالة عبد الله بن عباس، نزل الرقة، وتوفي سنة ثلاث ومائة. العبر 1/ 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ ينظرِ الله إلَيْهِ». مُتفَق عليه (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «مَنْ أسْبَلَ إزَارَه في صَلَاتِهِ خُيلَاءَ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، وباب من جر إزاره من غير خيلاء، وباب من جر ثوبه من خيلاء، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 182، 183، 184. ومسلم, في: باب تحريم جر الثوب خيلاء. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1651، 1652, 1653. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في إسبال الإزار، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 378. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية جرّ الإزار، وباب ما جاء في جر ذيول النساء, من أبواب اللباس. عارفة الأحوذى 7/ 236، 239. وابن ماجه، في: باب من جر ثوبه من الخيلاء، وباب طول القميص كم هو، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1181، 1148. والإمام مالك, في: باب ما جاء في إسبال الرَّجل ثوبه, من كتاب اللبس. الموطأ 2/ 914. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 5, 33, 42, 44, 46, 55, 56, 60, 67, 74, 76, 81, 101, 103, 104, 128, 131, 136, 156, 2/ 10, 65, 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَلَيْس مِنَ الله، جَلَّ ذِكْرُه، فِي حِل وَلَا حَرَامٍ». رواه أبو داودَ (¬1). ¬

(¬1) في: باب الإسبال في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 148

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حيَوَانٍ، فِي أحدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ولا يَجُوزُ لُبْسُ ما فيه صُورَةُ حَيَوانٍ، في أحَدِ الوَجْهَيْن). اخْتارَه أبو الخَطّابِ؛ لقولِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولَا صُورَة». مُتُّفَقٌ عليه (¬1). والثاني، لا يَحْرُمُ. قاله ابنُ عَقِيل؛ لقَوْلِ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ, في: باب إذا قال أحدكم آمين. . . . إلخ، وباب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم. . . . إلخ، من كتاب بدء الحلق، وفي: باب حَدَّثني خليفة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الأَنْصَارِيّ، من كتاب المغازي، وفي: باب التصاوير، باب من كره القعود على الصورة، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 4/ 138، 158، 5/ 103، 7/ 214، 215، 216. ومسلم؛ في: باب تحريم صورة الحيوان. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1665، 1666. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصور، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 392 والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 247، 248. والنَّسائيّ، في: باب امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب، من كتاب الصيد, وفي: باب التصاوير، من كتاب الزينة. المجتبى 7/ 164، 8/ 187. وابن ماجه، في: باب الصور في البيت, من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1203. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 28 - 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في آخِرِ الخَبَرِ: «إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ». مُتَّفَق عليه. ولأنه يُباحُ إذا كان مَفْرُوشًا أو يُتَّكَأ عليه، فكذلك إذا كان يُلْبَس. واللهُ أعلمُ. ويُكْرَه التَّصْلِيب في الثَّوبِ؛ لقَوْلِ عائشةَ، رَضِي الله عنها: إن رسولَ اللهِ

328 - مسألة: (ولا يجوز للرجل لبس ثياب الحرير، ولا ما غالبه الحرير، ولا افتراشه إلا من ضرورة)

وَلا يَجُوزُ لِلرجُلِ لُبسُ ثِيَابِ الْحَرِيرِ، وَلَا مَا غَالِبُهُ الْحَرِير، وَلَا افْتِرَاشُهُ إِلَّا مِنْ ضَرُورةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان لا يَتْرُكُ في بَيْتِه شَيْئًا فيه تَصْلِيبٌ إلَّا قَضَبَه (¬1). رَواه أبو داودَ (¬2). 328 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للرجلِ لُبْسُ ثِيابِ الحَرِيرِ، ولا ما غالِبُه الحَرِيرُ، ولا افْتِراشُه إلَّا مِن ضَرُورَةٍ) يَحْرُمُ على الرجلِ لُبْسُ ثِيابِ الحرِيرِ في الصلاةِ وغيرِها، في غير حالِ العُذْرِ إجْماعًا. حكاه ابنُ عبدِ البَرِّ؛ لِما روى أبو موسى، أنَّ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «حُرمَ لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذهَبِ ¬

(¬1) يعني: قطعه. (¬2) في: باب في الصليب في الثوب، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 391. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب نقض الصور، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 215. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 52، 237, 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَى ذُكُورِ أمَّتِي وَأحِلَّ لإنَاثِهِمْ». أخْرَجَه أبو داودَ، والترمِذِي (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. وعن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ؛ فإنَّه مَنْ لَبِسَه فِي الدنيا لَمْ يَلْبَسْهُ في الْآخِرَة». مُتَّفَق عليه (¬2). والافْتِراش كاللُّبْسِ؛ لِما روَى حذَيْفَةُ، قال: نَهانا النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن نَشربَ في آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأن نأكلَ فيها، وأن نَلْبَسَ الحَرِيرَ والدِّيباجَ، وأن نجْلِسَ عليه. رَواه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب والحرير للنساء، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 372. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الحرير والمذهب، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 220. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب تحريم الذهب على الرجال، من كتاب الزينة. المحتبى 8/ 139. وابن ماجه، في: باب ليس الحرير والذهب للنساء، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1189. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 193. ومسلم، في: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة. . . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1641، 1642. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية الحرير والديباج، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 258. وابن ماجه، في: باب كراهية لبس الحرير، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1187، 1188، والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 20، 36، 37، 39.

329 - مسألة: (فإن استوى هو وما نسج معه، فعلى وجهين)

فَإِنِ اسْتَوَى هُوَ وَمَا نُسِجَ مَعَهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البُخارِيُّ (¬1). فأمَّا المَنْسُوجُ مِن الحريرِ وغيره، فإن كان الأغْلَبُ الحَرِيرَ، حُرمَ لعُمُومِ الخَبَرِ، وإن كان الأغْلَبُ غيرَه، حَلَّ؛ لأنَ [الحُكْمَ للأغْلبِ] (¬2)، والقلِيلُ مُسْتَهَلكٌ فيه، أشْبَه الضَّبَّة (¬3) من الفِضَّةِ، والعَلَمَ في الثَّوْب. وقال ابنُ عبدِ البَر: مَذْهَبُ ابنِ عباس، وجَماعَةٍ مِن أهل العِلْم، أن المُحَرَّمَ الحَريرُ الصّافِي، الذى لا يُخالِطُه غيرُه. قال ابنُ عباس: إنما نَهَى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الثوْبِ المُصْمَتِ مِن الحَرِيرِ، أمّا العَلَمُ وسَدَى الثَّوْب، فليس به بَأسٌ. رَواه أبو داودَ، والأثرَمُ (¬4). 329 - مسألة: (فإنِ اسْتَوَى هو وما نُسِج معه، فعلى وَجْهَيْن) ¬

(¬1) في: باب الأكل في إناء مفضض، وباب الشرب في آنية الذهب، وباب آنية الفضة، من كتاب الأشربة، وفي: باب افتراش الحرير، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 99، 146، 149. كما أخرجه مسلم، في: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1636, 1637. وأبو داود، في: باب في الشراب في آنية الذهب والفضة, من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 303. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية الشرب في آنية الذهب والفضة، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 70، 71. والنَّسائيّ، في: باب ذكر النهي عن لبس الديباج، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 175. وابن ماجه, في: باب كراهية لبس الحرير، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1187. والدارمي، في: باب الشرب في المفضض، من كتاب الأشربة. سنن الدَّارميّ 2/ 121. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 385، 390 , 396، 397 , 400، 404، 408. (¬2) في الأصل: «حكم الأغلب». (¬3) الضبة من حديد أو صفر أو فضة يشعب بها الإناء. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في العلم وخيط الحرير، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، يُباحُ؛ لحديثِ ابنِ عباس، ولأنَّ الحَرِيرَ ليس بأغْلَبَ، أشْبَهَ الأقل (¬1). والثاني، يَحْرُمُ. قال ابنُ عَقِيل: هو الأشْبَهُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ. ¬

(¬1) في تش: «الأول».

330 - مسألة: (ويحرم لبس المنسوج بالذهب والمموه به)

وَيَحْرُمُ لُبْسُ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ وَالْمُمَوَّهِ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 330 - مسألة: (ويَحْرُمُ لُبْسُ المَنْسُوجِ بالذهَبِ والمُمَوَّهِ به)

فَإن اسْتَحَالَ لَوْنُهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي موسى (¬1). (فإنِ اسْتَحالَ لَوْنُه، فعلى وَجْهَيْن) أحَدُهما، يَحْرُمُ؛ للحديثِ. والثاني، يباحُ؛ لزَوالِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ مِن السَّرفَ والخُيَلاءِ، وكَسْر قُلُوبِ الفُقَراء. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 259.

331 - مسألة: (وإن لبس الحرير لمرض أو حكة، أو في الحرب، أو ألبسه الصبي، فعلى روايتين)

وَإنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ لِمَرَضٍ، أو حِكَّةٍ، أو فِي الْحَرْبِ، أوْ ألبَسَهُ لِلصَّبِيِّ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 331 - مسألة: (وإن لبِس الحَرِيرَ لمَرَضٍ أو حِكَّةٍ، أو في الحَرْبِ، أو ألبَسَه الصَّبِيِّ، فعلى رِوايَتَيْن) متى احْتاجَ إلى لُبْس الحَرِيرِ؛ لمَرَضٍ أو حِكَّةٍ أو مِن أجْلِ القَمْلِ، جاز في ظاهِرِ المذْهَب؛ لأنَّ أنسًا روَى أن عبدَ الرحمنِ بنَ عَوْفٍ والزُّبَيْرَ، شَكَوا إلى النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- القَمْلَ، فرَخَّصَ لهما في قَمِيص الحَرِيرِ في غَزاةٍ لهما. وفي رِوايةٍ، شَكيا (¬1) إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- القمْلَ، فرَخَّصَ لهما في قَمِيصِ الحرِيرِ، ورَأيتُه عليهما. ¬

(¬1) في الأصل: «شكوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وما ثَبَت في حَقِّ صَحابي يَثْبُتُ في حقِّ غيرِه، ما لم يَقُمْ على اخْتِصاصِه به (¬2) دَلِيلٌ، فثَبَتَ بالحديثِ في القَمْلِ، وقِسْنا عليه غيرَه مما يَنْفَعُ فيه لُبْسُ الحَرِيرِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أخْرَى، لا يباحُ. وهو قولُ مالكٍ؛ لعُمومِ الخَبَرِ المُحَرِّمِ، والرخْصَةُ يَحْتَمِلُ أنْ تكون خاصةً لهما. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الحرير في الحرب، من كتاب الجهاد، وفي: باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 4/ 50، 7/ 195. ومسلم، في: باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1646.كما أخرجه أبو داود، في: باب في لبس الحرير لعذر، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 372. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرخصة في لبس الحرير في الحرب، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 226. وابن ماجه، في: باب من رخّص له في لبس الحرير، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1188. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 122, 127, 180, 192, 210، 252، 255، 273. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي لُبْسِه في الحَرْبِ لغيرِ حاجَةٍ رِوايَتان؛ إحْداهما، الإباحةُ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. قال الأثْرَمُ: سَمعْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن لُبْس الحَرِيرِ في الحَرْب؟ فقال: أرْجُو أن لا يكُونَ به بأسٌ. وهو قولُ عُرْوَة وعَطاءٍ. وكان لعرْوةَ يَلْمَقُ (¬1) مِن دِيباجٍ، بِطانَتُه بن سُنْدُس مَحْشُوٍّ قَزًّا، يَلْبَسُه في الحَرْبِ. ولأن المنْعَ مِن لبْسِه لِما فيه مِن الخُيَلاءِ، وذلك غيرُ مَذْمُوم في الحربِ، فقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حينَ رَأى بعْضَ أصْحابِه يَمْشِي بينَ الصَّفيْن [يَخْتالُ في مشيتِه] (¬2) قال: «إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا الله إلَّا فِي هَذَا الْموْطِنِ» (¬3). والثانية، يَحْرُمُ؛ لعمُومِ الخَبَرِ. فأمّا إنِ احْتاجَ إليه، مِثْلَ أن يكُونَ بِطانَة لبَيْضَةٍ أو دِرْعٍ أو نَحْوِه، أُبِيحَ. قال بَعْضُ أَصْحابِنا: يَجُوزُ مِثْلُ ذلك مِن الذَّهبِ؛ كدِرْعٍ مُمَوهٍ مِن الذَّهَبِ لا يَسْتَغْنِي عن لُبْسِه، وهو مُحْتاج إليه. ¬

(¬1) في م: «يملق». واليلمق: القباء. (¬2) سقط من: م. (¬3) عزاه الهيثمى، للطبراني، في: باب في وقعه أحد، من كتاب المغازي والسير. مجمع الزوائد 6/ 109.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل يجوزُ لوَلِيِّ الصبيِّ أن يُلْبسَه الحرِيرَ؟ على روايَتَيْن؛ إحْداهما، تَحْرِيمه؛ لعُمُومِ قَوْلِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمتِي» (¬1). وعن جابر، قال: كُنّا نَنْزِعُه عن الغِلْمان، ونَتْرُكُه على الجَوارِي. رَواه أبو داودَ (¬2). وقَدِم حُذَيْفَة مِن سَفَرٍ، فوَجَدَ على صِبْيانِه قمُصًا مِن حَرِير، فمَزَّقَها عن الصبيان، وتَرَكها على الجَوارِي. رَواه الأثْرَمُ. ورُوِيَ نَحْو ذلك عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ. والثانيةُ، يباحُ؛ لأنَّهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 259 من حديث أبي موسى. (¬2) في: باب في الحرير للنساء, من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 373.

332 - مسألة: (ويباح حشو الجباب والفرش به، ويحتمل أن يحرم)

وَيُبَاحُ حَشْوُ الْجِبَابِ وَالْفُرُش بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَحْرُمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ مُكَلَّفِين، أشْبَهوا البَهائمَ، ولأنهم مَحل للزِّينَةِ أشْبَهوا النساءَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لظاهِرِ الخَبَرِ، وفِعْل الصَّحابَةِ. ويَتعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بالمُكَلَّفِين بتَمْكِينهم مِن الحَرامِ، كتَمْكِينِهم مِن شُرْبِ الخَمْر، وغيرِه مِن المُحَرَّماتِ. وكَوْنُهم مَحَلَّ الزِّينَة مع تَحْرِيمِ الاسْتِمْتاعِ أبلَغُ (¬1) في التحْرِيمِ، ولذلك حَرُم على النِّساء التبرُّجُ بالزينَةِ للأجانِبِ. 332 - مسألة: (ويُباحُ حَشْوُ الجِبابِ والفُرُش به، ويَحْتَمِلُ أن يَحْرُمَ) ذَكَرَه القاضي. وهو مَذْهبُ الشَّافعيّ؛ لأنَّه لا خُيَلاءَ فيه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يَحرُمَ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأن فيه سَرَفًا، أشْبَهَ ما لو جَعَل البِطانَةَ حَرِيرًا. فصل: ولا بَأسَ بلُبْس الخَزِّ. نصَّ عليه. وقد رُوِيَ عن عِمْرانَ بنِ حُصَين، والحسنِ بنِ علي، وأنس بنِ مالِك، وأبي هُرَيْرَةَ، وابنِ عباس، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، وغيرِهم، أنَهم لَبسُوا الخَزَّ (¬1). وعن عبدِ اللهِ ابنِ سعدٍ، عن أَبيه سعدٍ، قال: رَأيتُ رجلًا ببُخارَى على بَغْلَةٍ بَيْضاءَ، عليه عِمامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ، فقال: كَسانِيها رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. رَواه أبو داودَ (¬2). وقال ابن عَقِيل في الخَزِّ: إن كان فيه وَبَرٌ، وكان الوَبَرُ أكْثَرَ من القَزِّ، صحَّتِ الصلاةُ فيه، وإن كان أكْثَرُه القَزَّ، لم تَصِحَّ الصلاةُ فيه في الصُّحِيح، وإنِ اسْتَوَيا احْتَمَل وَجْهَيْن. فجَعَله كغيرِه مِن الثيابِ المَنسُوجَةِ مِن الحرِيرِ وغيرِه. ¬

(¬1) خرج بعض هذه الآثار عبد الرَّزَّاق، في: باب الخز والمعصفر، من كتاب اللباس. المصنف 11/ 76، 77. (¬2) في: باب ما جاء في الخز، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 369. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ومن سورة الحاقة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 220.

333 - مسألة: (ويباح العلم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون)

وَيُبَاحُ الْعَلَمُ الْحَرِيرُ فِي الثوْبِ، إذا كَانَ أرْبَعَ أصَابعَ فَمَا دُونَ. وَقَالَ أبو بَكْرٍ: يُبَاحُ وإِنْ كَانَ مُذَهَّبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 333 - مسألة: (ويُباحُ العَلَمُ الحرِيرُ في الثَّوْبِ إذا كان أرْبَعَ أصابعَ فما دُونَ) لِما روَى عُمَرُ بنُ الخَطابِ، رَضِيَ الله عنه، قال: نَهَى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْن أو ثَلاث أو أرْبَع. رَواه مسلمٌ (¬1). (وقال أبو بكر) في «التنبِيهِ»: (يُباحُ وإن كان مُذَهبًا) لأنه يَسِير (¬2)، ¬

(¬1) في: باب تحريم الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1643. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في لبس الحرير، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 369، 370. والتِّرمذيّ, في: باب ما جاء في الحرير والذهب، من أبواب اللباس. عارضه الأحوذى 7/ 225. (¬2) في الأصل: «يستر».

334 - مسألة: (ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر)

وَكَذَلِك الرِّقَاعُ، وَلِبْنَةُ الْجَيْبِ، وَسَجْفُ الْفِرَاءِ. وَيُكْرَه لِلرَجُل لُبْسُ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ الحَرِيرَ ويَسِيرَ الفِضَّةِ (وكذلك الرقاعُ، ولِبْنَةُ الجَيْبِ (¬1)، وسجْفُ (¬2) الفِراءِ) لدُخُولِه فيما اسْتَثْناه في الحَدِيثِ. 334 - مسألة: (ويُكْرَهُ للرجلِ لُبْسُ المُزَعْفَرِ والمُعَصْفَرِ) لِما ¬

(¬1) لينة الجيب: الزيق يخاط في جيب القميص، تثبت فيه الأزرار. (¬2) السجف. أحد السترين المقرونين بينهما فرجة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِيَ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَهَى الرِّجالَ عن التَّزَعْفُرِ. مُتَّفَق عليه (¬1). وعن عليٍّ قال: نَهانِي النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن لِباس المُعَصْفَرِ. رَواه مسلمٌ (¬2). ولا بَأسَ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التزعفر للرجال، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 197. ومسلم، في: باب نهى الرَّجل عن التزعفر، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1662، 1663. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الخلوق للرجال، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 398. والنَّسائيّ، في: باب التزعفر، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 165. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية التزعفر والخلوق للرجال، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 257. (¬2) في: باب النهي عن لبس الرَّجل الثوب المعصفر، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1648. كما أخرجه أبو داود، في: باب من كره لبس الحرير، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 370. والتِّرمذيّ, في: باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوع، من أبواب الصلاة، في: باب ما جاء في كراهية المعصفر للرجال، وباب ما جاء في كراهية خاتم الذهب، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 2/ 65، 7/ 228، 244, 245. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن القراءة في الركوع، وباب النهي عن القراءة في السجود، من كتاب التطبيق، وفي: باب خاتم الذهب، وباب النهي عن لبس خاتم الذهب، وباب ذكر النهي عن لبس المعصفر، من كتاب الزينة. المجتبى 2/ 147، 171، 7/ 147، 167، 179. وابن ماجه، في: باب كراهية المعصفر للرجال، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1191. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 81، 92، 105، 114، 123، 126، 132.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بلُبْسِه للنّساءِ؛ لأن تَخْصِيصَ النَّهيِ بالرجالِ دَلِيلٌ على إباحَته للنساءِ. فصل: فأمَّا لبْس الأحْمَرِ غيرِ المُعَصْفَرِ (¬1) فقال أصحابُنا: يُكْرَه. وهو مَذْهَبُ ابنِ عُمَرَ، فرُوِي عنه أنَه اشْتَرَى ثَوْبًا، فرَأى فيه خَيْطًا أحْمَرَ فردَّه ورُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قال: مَرَّ على النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رجل عليه بُرْدان أحْمَران، فسَلَّمَ، فلم يَرُدَّ النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عليه (¬2). وعن رافِع ابنِ خَدِيج، قال: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في سَفَرٍ، فرَأى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على رَواحِلِنا أكْسِيَةً فيها خُيُوطُ عِهْن حُمْرٌ، فقال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «ألَا أرَى هَذِه الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ». فقُمْنا سِراعًا لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حتَّى نَفر بَعْضُ إبِلِنا، وأخَذْنا الأكْسِيَةَ، فنَزَعْناها عنها. رَواهُما أبو داودَ (¬3). والصَّحِيحُ أنَّه لا بَأسَ بها؛ لِما روَى أبو جُحَيْفَةَ، قال: خَرَج النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حُلّةٍ حَمْراءَ. الحديثُ. وقال البَراءُ: ما رَأيتُ مِن ذِي لِمَّةٍ ¬

(¬1) في م: «المزعفر». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الحمرة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 375. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسى، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 250، 251. (¬3) في: باب في الحمرة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 375. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 463.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حُلَّةٍ حَمراءَ أحْسنَ مِن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. مُتِّفَق عليهما (¬1). وعن هِلالِ ابنِ عامِرٍ، قال: رأيت النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على بَغْلَةٍ وعليه بُرْدٌ أحْمَرُ. رَواه أبو داودَ (¬2). وقال أَنسٌ: كان أَحَبُّ اللِّباسِ إلى رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ¬

(¬1) الأول أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة في الثوب الأحمر، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 105. ومسلم، في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 360. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الرخصة في لبس الحمرة للرجال، عن جابر بن سمرة، وقال: وفي باب عن البراء وأبي جحيفة، من أبواب الأدب، عارضة الأحوذى 10/ 253، 254، والنَّسائيّ، في: باب الصلاة في الثياب الحمر، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 57. والثاني أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الثوب الأحمر, وفي: باب الجعد، من كتاب اللباس 7/ 197، 207. ومسلم، في: باب في صفة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1818. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرخصة في ذلك، من كتاب اللباس، وفي: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 375، 399. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرخصة في الثوب الأحمر، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 227، 228. والنَّسائيّ، في: باب اتخاذ الشعر، وباب اتخاذ الجنة، وباب لبس الحمرة، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 115، 159، 179. وابن ماجه، في: باب لبس الأحمر للرجال. من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1190. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 290، 295 , 300، 303، 308. (¬2) في: باب في الرخصة في ذلك، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 375، 376. كما رواه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 477.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِبَرَةَ (¬1). مُتَّفَق عليه (¬2). وهي التى فيها حُمْرَةٌ وبَياضٌ. ورُوِي أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بَيْنا هو يَخْطب إذ رَأى الحسنَ والحُسَيْنَ عليهما قَمِيصان أحْمَران، يَمشِيان ويَعْثُران، فنَزَلَ النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فأخَذَهما، ولم يُنْكِرْ ذلك (¬3). ولأنَّها لَوْنٌ، أشْبَهَتْ سائِرَ الألوانِ. فأمّا أحادِيثُهمِ؛ فحديث رافِع في إسْنادِه رجلٌ مَجْهُولٌ، ويَحْتمِلُ (¬4) أنها كانت مُعَصْفرَةً؛ فلذلك ¬

(¬1) الحبرة، وزان عنبة: ثوب يماني من قطن أو كتان مخطط. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب البرود والحبرة والشملة، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 7/ 189. ومسلم، في: باب فضل لباس الحبرة، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1648.كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في أحب الثياب إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 280. والنَّسائيّ, في: باب لبس الحبرة، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 179. والإمام أَحْمد, في: المسند 3/ 134، 184 , 251 , 291. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 254. والتِّرمذيّ، في: باب مناقب الحسن والحسين عليهم السلام, من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 194. والنَّسائيّ، في: باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، من كتاب الجمعة، وفي: نزول الإمام عن المنبر، من كتاب صلاة العيدين. المجتبى 3/ 88، 89، 156. وابن ماجه، في: باب لبس الأحمر للرجال، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1190. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 354. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَرِهَها، ولو قُدِّرَ التَّعارُضُ كانت أحادِيثُ الإباحَةِ أصَحَّ وأثْبَتَ، فهي أوْلَى. فصل: فأمّا غيرُ الحُمْرَةِ مِن الألوانِ فلا يُكْرَهُ، فقد قال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكمُ الْبَيَاضَ؛ فإنَّها منْ خَيْرِ ثِيَابكمْ، وَكَفنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ». وعن ابن عُمَرَ، أنَّه قِيل له: لِمَ تَصْبُغُ بالصُّفْرَةِ؟ فقال: إنِّي رَأيتُ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَصْبُغُ بها. رَواهما أبو داودَ (¬1). وعن ¬

(¬1) الأول، في: باب في الأمر بالكحل، من كتاب الطِّيب، وفي: باب في البياض، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 335، 336، 373. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما يستحب من الأكفان، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذي 4/ 215. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ما يستحب من الكفن، من كتاب الجنائز، وفي: باب البياض من الثياب، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 1/ 473، 2/ 1181. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 247، 274، 328، 355، 363. والثاني, في: باب في وقت الإحرام، من كتاب المناسك، وفي: باب في المصبوغ بالصفرة، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 1/ 410، 411، 2/ 374. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين، من كتاب الوضوء. صحيح البُخَارِيّ 1/ 53. ومسلم، في: باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 844. والنَّسائيّ، في: باب الخضاب بالصفرة، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 121. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 110.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي رمْثَةَ، قال: انْطَلَقْتُ مع أبي نَحْوَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فرَأيتُ عليه بُرْدَين أخْضَرَيْن. ودَخَل النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مَكَةَ يَوْم الفَتْحِ وعليه عِمامَة سَوْداءُ. مُتَّفَق عليهما (¬1). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) الأول: لم نجده عند البُخَارِيّ ولا مسلم. وأخرجه أبو داود، في: باب في الخضرة، من كتاب اللباس، وفي: باب في الخضاب، من كتاب الترجل. سنن أبي داود 2/ 374، 403. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الثوب الأخضر، من أبواب الأدب. عارضه الأحوذى 10/ 254، 255. والنَّسائيّ، في: باب الزينة للخطبة للعيدين، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 151. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 227، 228، 4/ 163. والثاني: لم نجده عد البُخَارِيّ، وأخرجه مسلم، في: باب جواز دخول مكة بغير إحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 990. كما أخرجه أبو داود, في: باب في العمائم، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 376. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الألوية، من أبواب الجهاد، وفي: باب ما جاء في العمامة السوداء، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 177، 243. والنَّسائيّ، في: باب دخول مكة بغير إحرام، من كتاب المناسك، وفي: باب لبس العمائم السود، من كتاب الزينة. المجتبى 5/ 159، 8/ 187. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة، وفي: باب لبس العمائم في الحرب، من كتاب الجهاد، وفي: باب العمامة السوداء، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 1/ 351، 2/ 942 , 1186. والدارمي، في: باب دخول مكة بغير إحرام حج ولا عمرة، من كتاب المناسك. سنن الدَّارميّ 2/ 74. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 363، 387، 4/ 307.

باب اجتناب النجاسات

بَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ وَهُوَ الشرطُ الرَّابع، فَمَتَى لَاقَى بِبَدَنِهِ أوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، أوْ حَمَلَهَا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اجْتنابِ النَّجاساتِ (وهو الشرطُ الرابعُ، فمتى لاقى ببَدَنِه أو ثَوْبِه نَجاسة غيرَ مَعْفُوٍّ عنها، أو حَملَها، لم تَصِحَّ صَلاتُه) وجُمْلَة ذلك، أن الطهارةَ مِن النَّجاسَةِ في بدَنِ المُصَلِّي وثَوْبِه شَرْطٌ لصِحَّةِ الصلاة في قَوْلِ أكثر أهْلِ العلمِ. منهم ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ المُسَيبِ، وقتادَةُ، ومالك، والشافعي، وأصحابُ الرأيِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباس أنَّه قال: ليس على ثَوْبٍ جَنابَة (¬1). ونَحْوُه عن أبي مِجْلَزٍ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيْر، والنَّخَعِيِّ. وقال الحارِثُ العُلِكيُّ، وابنُ أبي لَيْلَى: ليس في ثَوْب إعادَة. وسُئِل سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن الرجلِ يرَى في ثَوْبِه الأَذَى، وقد صَلَّى، قال: اقْرَأ عليَّ الآيَةَ التى فيها غَسْلُ الثِّيابِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬2). ¬

(¬1) أخرجه بنحوه البيهقي، في: باب المني يصيب الثوب، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 106. (¬2) سورة المدثر 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ سِيرِينَ: هو الغَسْل بالماءِ، وعن أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ الصِّديقِ، قالت: سُئِل رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن دَمِ الحَيْض يَكُون في الثَّوْبِ، قال: «اقْرُصِيهِ، وَصَلِّي فِيه» (¬1). وفي لَفْظٍ قالتْ: سمِعْتُ امرأةً تَسْألُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: كيف تَصْنَعُ إحْدانا بثَوْبِها إذا رَأتِ (¬2) الطُّهْرَ، أتصَلِّي فيه؟ قال: «تنْظر فِيهِ، فَإنْ رَأتْ فِيهِ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ (¬3) بِشَيْءٍ مِنَ المَاءِ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ ترَ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ». رَواه أبو داودَ (¬4). وحديثُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حينَ مَرَّ بالقَبْرَيْن، فقال: «إنهُمَا ليعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذبَانِ فِي كَبِير؛ أمَّا أحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ». مُتِّفَق عليه. وفي رِواية: «لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ» (¬5). ولأنَّها إحْدَى الطَّهارَتَيْن، فكانت شرطًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 202. (¬2) في تش: «أرادت». (¬3) في م: «فلتقزحه». (¬4) تقدم تخريجه في 2/ 202. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، وباب ما جاء في غسل البول، من كتاب الوضوء، وفي: باب الجريد على القبر، وباب عذاب القبر من الغيبة والبول، من كتاب الجنائز، وفي: باب الغيبة، وباب النميمة من الكبائر، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 1/ 64، 65، 2/ 119، 120، 124، 8/ 20، 21. ومسلم، في: باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 240، 241. كما أخرجه أبو داود، في: باب الاستبراء من البول، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 5. والتِّرمذيّ، في: باب الشديد في البول، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 90. والنَّسائيّ، في: باب التنزه عن البول، من كتاب الطهارة. وفي: باب وضع الجريدة على القبر، من كتاب الجنائز. المجتبى 1/ 29، 4/ 87، 88. وابن ماجه، في: باب التشديد في البول، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 125. والدارمي، في: باب الاتقاء من البول، من كتاب الطهارة. سنن الدَّارميّ 1/ 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصلاةِ، كطَهارَة الحدثِ. فصل: ويُشْتَرَطُ لهَا (¬1) طهارة [مَوْضِع الصلاةِ أَيضًا، وهو الموْضِعُ الذى تَقَعُ عليه ثِيابُه وأعْضاؤه التى عليه، قِياسًا على طهارةِ] (¬2) البَدَنِ والثيابِ. فلو كان على رأسِه طَرَفُ عِمامَةٍ، وطَرَفُها الآخرُ يَقَعُ (¬3) على نجاسَةٍ، لم تَصِحَّ صَلاتُه، كما لو وقع عليها شئٌ من بَدنِه. وذَكَر ابنُ عَقِيل احْتِمالًا فيما يَقَعُ عليه ثِيابُه خاصَّة، أنَّه لا تُشْتَرط طَهارَتُه؛ لأنه يُباشِرُها بما هو مُنْفَصِلٌ عن ذاتِه، أشْبَهَ ما لو كان [إلى جانِبِه] (¬4) إنْسان نَجِسُ الثوْبِ، فالْتَصَقَ به ثوْبُه. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لأن سُتْرتَه تابِعَة له، فهي كأعْضاءِ سُجُودِه، فأمّا إذا كان ثَوْبه يَمَسُّ شيئًا نَجِسًا، كثَوْبِ مَن يُصَلِّي [إلى جانِبِه، و] (¬5) حائِطٍ لا يَسْتَنِدُ إليه، فقال (¬6) ابن عَقِيل: لا تَفْسُدُ صَلاته بذلك؛ لأنه ليس بمَحَلٍّ لبَدَنِه ولا سترتِه. ويَحْتَمِلُ أن تَفْسُدَ؛ لأنَّ ستْرَتَه ملاقِيَةٌ لنَجاسَةٍ، أشْبَهَ ما لو وَقَعَتْ عليها. وإن كانتِ ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «وقع». (¬4) في م: «بجانبه». (¬5) في م: «وبجانبه». (¬6) في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النجاسَةُ مُحاذِيَةً لجِسْمِه في حالِ سُجُودِه، بحيث لا يَلْتَصقُ (¬1) بها شيءٌ مِن بَدَنِه ولا ثِيابِه، لم تَبْطُلِ الصلاةُ؛ لأنه لم يُباشِرِ النَّجاسَة، أشبَهَ ما لو خرجتْ عن مُحاذاتِه. وذَكَر ابنُ عَقِيل وَجْهًا، أنها تَبْطُل، كما لو باشَرَتْها (¬2) أعْضاؤه. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ. فصل: وإن حَمَل النَّجاسَةَ في الصلاةِ، لم تَصِحَّ صَلاتُه، كما لو كانت على بَدَنِه أو ثَوْبه. فإن حَمَل حَيَوانًا طاهِرًا أو صبِيًّا، لم تبْطُلْ صلاتُه؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى وهو حامِلٌ أمامَةَ بنتَ أبي العاص. مُتِّفَق عليه (¬3). ولأن ما في الحَيَوانِ مِن النَّجاسَةِ في مَعْدِنِها (¬4)، فهي كالنَّجاسَةِ في جَوْفِ المُصَلِّي. ولو حَمَل قارُورَةً مسْدُودَةً فيها نَجاسَةٌ، لم تَصِحَّ صَلاتُه. وقال بَعْضُ أصحابِ الشافعيّ: تَصِحُّ؛ لأن النَّجاسَةَ لا تَخْرُجُ منها، فهي ¬

(¬1) والأصل: «يلصق». (¬2) في م: «باشر بها». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، وفي: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، من كتاب الصلاة، وفي: باب رحمة الولد وتقبيله، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 1/ 137، 8/ 8. ومسلم، في: باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 385. كما أخرجه أبو داود، في: باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة، سنن أبي داود 1/ 210، 211. والنَّسائيّ، في: باب حمل الصبايا في الصلاة ووضعهن في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 10. والإمام مالك, في: باب جامع الصلاة، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 170. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 304. (¬4) أي في غير موطنها الأصلي، مثل المعدة للحيوان.

335 - مسألة: (وإن طين الأرض النجسة، أو بسط عليها شيئا طاهرا، صحت الصلاة عليها مع الكراهة)

وإنْ طيَّنَ الْأَرْضَ النَّجِسَةَ، أوْ بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْئًا طَاهِرًا، صَحَّتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحَيَوانِ. وليس بصَحِيح؛ لأنَّه حامِلٌ نَجاسَة غيرَ معْفُوٍّ عنها في غيرِ مَعْدِنِها، أشْبَهَ حَمْلَها في كُمِّه. 335 - مسألة: (وإن طيْنَ الأرْضَ النَّجِسَةَ، أو بَسَط عليها شَيْئًا طاهِرًا، صَحَّتِ الصلاةُ عليها مع الكَراهَةِ) هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ رَحِمَه الله. وهو قول مالكٍ، والأوْزاعِي، والشافعيِّ، وإسحاقَ. وذكَر أصحابُنا رِوايةً أخْرَى، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه مَدْفَنٌ للنَّجاسَةِ، أشْبَهَ المَقْبَرَةَ، ولأنَّه مُعْتَمِدٌ على النَّجاسة، أشْبَهَ ملاقاتها. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الطهارةَ إنما تُشْتَرَطُ في بَدَنِ المُصَلِّي وِثَوْبِه، وموْضِعِ صَلاِته، وقد وُجِد ذلك كله، والعِلَّةُ في الأصْلِ غيرُ مُسَلَمَةٍ، بدَلِيلِ عَدَمِ صِحَّةِ الصلاةِ بينَ القُبُورِ، وليس مَدْفَنًا للنجاسَةِ. وقال ابنُ أبي موسى: إن كانتِ النجاسَةُ المَبْسُوطُ عليها رَطْبَة، لم تَصِحَّ الصلاةُ، وإلّا صَحَّتْ. فصل: ويُكْرَه تطْيِينُ المَسْجِدِ بطِين نَجِسٍ، وبناؤُه بلَبِنِ نَجِسٍ، أو تَطبيقُه بطَوابيقَ نَجِسةٍ، فإن فَعَل، وباشَرَ النجاسَةَ، لم تَصِحَ صَلاتُه. فأمّا الآجُرُّ المَعْجُونُ بالنجاسَةِ، فهو نَجِسٌ؛ لأن النّارَ لا تُطَهرُ، لكنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا غُسِل طَهُر ظاهِرُه؛ لأنَّ النّارَ أكَلَتْ أجْزاءَ النجاسَةِ الظّاهِرَةَ، وبَقِيَ الأثر، فطَهُرَ بالغَسْلِ، كالأرْض النَّجِسَةِ، ويَبْقَى الباطِنُ نَجِسًا؛ لأنَّ الماءَ لا يَصِل إليه، فإن صَلَّى عليه بعدَ الغَسْلِ، فهي كالمَسْأَلَةِ قَبْلَها. وكذلك الحُكْمُ في البِساطِ الذى باطِنُه نَجِسٌ وظاهِرُه طاهِرٌ. ومتى انْكَسَرَ مِن الآجُرِّ النجِس قِطعةٌ، فظهَرَ بَعْضُ باطِنِه، فهو نَجِسٌ لا تَصِحُّ الصلاةُ عليه. فصل: ولا بأسَ بالصلاةِ على الحَصِيرِ والبُسُطِ بن الصُّوفِ والشعَرِ والوَبَرِ، والثيابِ مِن القُطْنِ والكَتَانِ وسائِرِ الطّاهِراتِ، في قولِ عَوامِّ أهلِ العلمِ. فرُوِيَ عن عُمَرَ (¬1)، أنَّه صَلَّى على عَبْقَرِي (¬2)، وابنُ عباسٍ على طِنْفِسَةٍ (¬3)، وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ على حَصِيرٍ، وابن عباسٍ، وعلى، وابنُ مسعودٍ، وأنسٌ على المنْسُوج (¬4). ورُوِيَ عن جابِرٍ، أنَّه كَرِه الصلاةَ على كلِّ شئٍ مِن الحَيَوانِ، واسْتَحَبَّ الصلاةَ على كل شئٍ مِن نَبات ¬

(¬1) في م: «ابن عمر». (¬2) العبقرى: ضرب من البسط. (¬3) الطنفسة: البساط، والنمرقة فوق الرحل. (¬4) في م: المسوح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرْضِ (¬1). ونَحْوُه عن مالكٍ، إلَّا أنَّه قال في بِساطِ الصُّوفِ والشَّعَرِ: إذا كان سُجُودُه على الأرْض، لم أرَ بالقِيام عليه بأسًا. والصَّحِيحُ قولُ الجُمْهُورِ، فقد صَلِّى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على حَصِيرٍ في بيْتِ أنس، وعِتْبانَ بنِ مالكٍ. مُتِّفَق عليه (¬2). وِروَى عنه المُغِيرةُ بنُ شُعْبَةَ، أنَّه كان يُصَلى على الحُصُر والفَرْوَةِ المَدْبُوغةِ (¬3). وروَى ابنُ ماجَه (¬4)، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى مُلْتَفا بكساءٍ، يَضَعُ يَدَيْه عليه إذا سَجَد. ولأنَّ ما لم تُكْرَه الصلاةُ فيه، لم تُكْرَه الصلاةُ عليه كالكَتّانِ والخُوصِ. ¬

(¬1) انظر: ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من كره الصلاة على الطنافس وعلى شيء دون الأرض، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 1/ 401. (¬2) حديث عتبان أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا دخل بيتنا يصلي حيث شاء. . . . إلخ، وباب المساجد في البيوت، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 115، 116. ومسلم، في: باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 455 - 457. والنَّسائيّ، في: باب الجماعة للنافلة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 81، 82. وابن ماجه، في: باب المساجد في الدور، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 249. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 44 , 5/ 449 , 450. وحديث أنس يأتي تخريجه في المسألة 548. (¬3) أخرجه أبو داود, في: باب الصلاة على الحصير، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 153. (¬4) في: باب السجود على الثياب في الحَر والبرد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 329.

وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَصِحُّ الصلاةُ على ظَهْير الحَيَوانِ، إذا أمْكَنَه اسْتِيفاءُ الأرْكانِ عليه، والنَّافِلَةُ في السَّفَرِ. وإن كان الحيوانُ نَجسًا، وعليه بِساط طاهِرٌ، كالحِمارِ، صَحَّتِ الصلاةُ عليه، في أصَحِّ الروايَتَيْن؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى على حِمارٍ (¬1). والثانيةُ، (لا تَصِحُّ) كالأرضِ النجسَةِ إذا بَسَط عليها شيئًا طاهِرًا. وتَصِحُّ على العَجَلَةِ (¬2) إذا أمْكَنَه ذلك؛ لأَنَّه مَحَل تَسْتَقِرُّ عليه أعْضاؤه، فهي كغيرِها. وقال ابنُ عَقِيل: لا تَصِحُّ؛ لأن ذلك ليس بمُسْتَقرٍّ عليه، فهي كالصلاةِ في الأرْجُوحَةِ. فصل: ولا تَصِحُّ صَلاةُ المُعَلَّق في الهواءِ، إلَّا أن يكونَ مُضْطرًّا، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب صلاة التطوع على الحمار، من كتاب تقصير الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 56. ومسلم، في: باب جواز صلاة النافلة على الدابة حيث توجهت، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 487. وأبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر, من كتاب السفر. سنن أبي داود 1/ 279. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة على الحمار، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 47. والإمام مالك، في: باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والصلاة على الدابة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 151. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 7، 49 , 57 , 83 , 128 , 3/ 495. (¬2) العجلة: خُشُبٌ على بَكَرات.

336 - مسألة: (وإن صلى على مكان طاهر من بساط، طرفه نجس، صحت صلاته، إلا أن يكون متعلقا

وإنْ صَلَّى عَلَى مَكانٍ طَاهِر منْ بِسَاط طَرَفُهُ نَجِسٌ، صَحَّتْ صَلَاُتهُ، إلَّا أنْ يَكُونَ مُتَعَلقًا بِهِ، بِحَيْثُ يَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى، فَلَا تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَصْلُوبِ. وكذلك الأرجُوحَة؛ لأنَّه ليس بمُسْتَقِر القَدَمَيْن على الأرضِ، فلم تَصِحَ صَلاتُه، كما لو سَجَد على بَعْض أعْضاءِ السجُودِ وتَرَك الباقِيَ معَلَّقًا. ذَكَره ابنُ عَقِيل. 336 - مسألة: (وإن صَلَّى على مَكانٍ طاهر مِن بِساطٍ، طرَفُه نَجِسٌ، صَحَّتْ صَلَاتُه، إلَّا أن يَكُونَ مُتَعلِّقًا (¬1) به، بحيث يَنْجَرُّ معه إذا مَشى، فلا تَصحُّ) متى صَلّى على مندِيل، طرَفُه نجِسٌ، أو ¬

(¬1) في تش: «معلقًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان تحتَ قَدَمِه حَبْل مَشْدُودٌ في نجاسَةٍ، وما يُصَلِّي عليه طاهِرٌ، فضلاُته صَحِيحَةٌ، سَواءٌ تَحركَ النَّجَسُ بحَرَكَتِه، أو لم يَتَحَركْ؛ لأنَّه ليس بحامِلٍ للنَّجاسَةِ، ولا مُصَلٍّ عليها، وإنما اتَّصَلَ مُصَلاه بها، أشْبَهَ إذا صَلَّى على أرْضٍ طاهِرَةٍ مُتَّصِلَةٍ بأرض نَجِسَةٍ. وقال بَعْضُ أصحابِنا: إذا كان النجَسُ يَتَحَركُ بحَرَكَتِه، لم تَصِحَّ صَلاتُه. قال شيخُنا (¬1): والصحيِحُ ما ذَكَرْنا. فأما إن كان الحَبْلُ أو المِنْدِيلُ مُتَعَلِّقًا به، يَنْجرُّ معه إذا مَشَى، لم تَصِحَّ؛ لأنَّه مُسْتتْبعٌ لها، فهو كحامِلِها. ولو كان في يَدِه أو وَسَطِه حَبْلٌ مَشْدُودٌ في نَجاسَةٍ، أو حَيَوانٍ نَجِسٍ، أو سَفِينَةٍ صَغِيرةٍ فيها نَجاسَة تَنْجَرُّ معه إذا مَشَى، لم تَصِحَّ صَلَاتُه؛ لأنَّه مُسْتَتْبعٌ لها. وإن كانتِ السَّفِينَةُ أو الحيوانُ كَبِيرًا لا يَقْدِرُ على جَرِّه، إذا اسْتَعْصَى عليه، صَحَّتْ؛ لأنه ليس ¬

(¬1) في: المغني 2/ 467.

337 - مسألة: (ومتى وجد عليه نجاسة، لا يعلم هل كانت في الصلاة أولا؛ فصلاته صحيحة)

وَمَتَى وَجَدَ عَلَيْهِ نَجَاسَةً، لَا يَعْلَمُ هَلْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ أوْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإنْ عَلِمَ أنهَا كَانَتْ فِي الصلَاةِ، لَكِنْ جَهِلَهَا أوْ نَسِيَهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمُسْتَتْبع لها. قال القاضي: هذا إذا كان الشَّدُّ في مَوْضِع طاهِر، فإن كان في مَوْضِع نَجِس، فَسَدَتْ صَلاتُه؛ لأنَّه حامِلٌ لِما هو مُلاقٍ للنجاسَةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنه لا يَقْدِرُ على استِتْباعِ المُلاقِي للنجاسَةِ، أشْبَهَ ما لو أمسكَ غُصْنًا مِن شَجَرَةٍ [عليها نَجاسَةٌ] (¬1)، أو سَفِينَة عَظيمَة فيها نَجاسَةٌ. 337 - مسألة: (ومتى وَجَد عليه نَجاسَةً، لَا يَعْلَمُ هل كانت في الصلاةِ أولا؛ فصَلاتُه صَحِيحَةٌ) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُها في الصلاةِ (وإن عَلِم أنها كانت في الصلاةِ، لكنَّه جَهلَها أو نَسِيَها، فعلى رِوايَتَيْن) متى صلَّى وعليه نجاسَة لا يعَلَمُ بها، حتَّى فَرَغ مِن صَلاِته، ففيها رِوايتان؛ إحْداهما، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَفْسُدُ صَلاتُه. اخْتارَها شيخُنا (¬1). وهذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وعَطاءٍ، وسعيد بنِ المُسَيبِ، ومُجاهِدٍ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. والثانية، يُعِيدُ. وهو قولُ أبي قلابَةَ، والشافعي، لأنها طهارة مُشْتَرَطَةً للصلاةِ، فلم تَسْقُطْ بالجهلِ، كطَهارَةِ الحَدَثِ. وقال رَبِيعَةُ، ومالِك: يعيدُ ما دام في الوَقتِ. ووَجْهُ الأولَى، ما روَى أبو سعيد، قال: بَيْنا رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى بأصْحابِه، إذ خلَع نَعْلَيْه، فوَضَعَهما عن يَسارِه، فخلَعَ النَّاسُ نِعالَهم، فلَمَّا قَضَى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلاتَه قال: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكمْ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 466.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِعَالَكُمْ»؟ قالوا: رَأيْناك (¬1) ألقَيْتَ نَعْلَيْكَ (¬2)، فألْقَيْنا نِعالَنا. قال: «إنَّ جِبْرِيلَ أتانِي، فأخْبَرَنى أن فِيهِمَا قَذَرًا». رَواه أبو داودَ (¬3). ولو كانت الطهارةُ شرطًا، مع عدَمِ العِلْمِ بها، لَزِمَه اسْتئنافُ الصلاةِ، ويُفارِقُ طهارةَ الحَدَثِ؛ لأنها آكَد؛ لكَوْنِها لا يُعْفى عن يَسِيرها. فأمَّا إن كان قد عَلِم بالنجاسَةِ ثم أُنْسِيَها، فقال القاضي: حَكَى أصحابُنا في المَسألتَيْن روايَتَيْن. وذَكَر هو في مسألةِ (¬4) النسْيانِ أن الصلاةَ باطِلَةٌ؛ لأنَّه مَنْسُوبٌ إلى التفْرِيطِ، بخِلافِ الجاهِلِ. وقال الآمِدِيُّ: يُعِيدُ إذا كان قد تَوانَى، رِوايَة واحِدَة. قال شيخُنا (¬5): والصَّحِيحُ التسْوِيَةُ بينَهما؛ لأنَّ ما عُذِر فيه بالجَهْلِ عُذِر فيه بالنسْيانِ، بل النسْيانُ أوْلَى لوُرُودِ النصِّ بالعَفْوِ عنه ¬

(¬1) في م: «إنَّا رأيناك». (¬2) في م: «نعالك». (¬3) في: باب الصلاة في النعل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 151. كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب الصلاة في النعلين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 320. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 92. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في: المغني 2/ 466.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عَلِم بالنَّجاسةِ في أثْناءِ الصلاةِ، فإن قُلْنا: لا يُعْذَرُ بالجَهْلِ والنِّسْيان. فصَلاته باطِلَةٌ. وإن قُلْنَا: يُعْذَرُ. فهي صَحِيحَةٌ. ثم إن أمْكَنَه إزالَةُ النجاسَةِ مِن غير زَمَن طَوِيل، ولا عَمَل كِثير، أزالَها، وبَنَى، كما خَلع النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَعْلَيْه. وإنِ احْتاجَ إلى أحَدِ هَذَيْن، بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لإفضائِه إلى أحَدِ أمْرَيْن؛ إمَّا اسْتِصْحابِ النَّجاسَةِ في الصلاةِ زَمنًا طَوِيلًا، أو أن يَعْمَلَ فيها عَمَلًا كَثِيرًا، فصار كالعُرْيانِ يَجِدُ السُّترَةَ بَعِيدَةً منه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا سقَطَتْ عليه نجاسَةٌ، ثم زالَتْ عنه، أو أزالَها في الحالِ، لم تَبْطُلْ صلاتُه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي سعيدٍ، ولأن النجاسَةَ يُعْفَى عن يَسِيرها، فعُفِيَ عن يَسِيرِ زَمَنِها، ككَشْفِ العَوْرَةِ. وهذا مَذهَبُ الشافعيِّ.

338 - مسألة: (وإذا جبر ساقه بعظم نجس فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر، وتصح صلاته)

وإذَا جَبَرَ سَاقَهُ بِعَظْمٍ نَجِس فَجَبَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إذَا خَافَ الضَّرر، وَأجْزأته صَلَاُتهُ، وإنْ لَمْ يَخَفْ لَزِمَهُ قَلْعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 338 - مسألة: (وإذا جَبَر ساقَه بعَظْم نَجِسٍ فجَبَرَ، لم يَلْزَمْه قلْعُه إذا خاف الضَّررَ، وتَصِحُّ صَلَاتُه) لأنه يُباحُ له تركُ الطَّهارةِ مِن الحَدَثِ بذلك، وهي آكَدُ (وإن لم يَخفْ، لَزمَه قَلْعُه) فإن صَلَّى معه، لم تَصِحَّ صَلَاتُه، لأنه صَلَّى مع النجاسَةِ وهو قادِرٌ على إزالَتِها مِن غيرِ ضَرَرٍ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه قَلْعُه إذا لم يَخفِ التَّلَفَ؛ لأنه غيرُ خائفٍ للتَّلَفِ، أشْبَهَ إذا لم يَخفِ الضرر. والأولُ أوْلَى.

339 - مسألة

وَإنْ سَقَطَتْ سِنُّهُ، فَأعَادَهَا بِحَرَارَتهَا فَثَبَتَتْ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ. وَعَنْهُ، أنَّهَا نَجِسَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ العظمِ النَّجِس إذَا جَبَرَ بِهِ سَاقَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 339 - مسألة (¬1): (وإن سَقَطَتْ سِنُّهُ (¬2) فأعادَها بحَرارَتِها، فثَبَتَتْ، فهي طاهِرَةٌ) لأن (¬3) حُكْمَ أبعاض الآدَمِي حُكْمُ جُمْلَتِه، سَواءٌ انْفَصَلَتْ في حَياتِه أو بعدَ مَوْتِه؛ لأنها أجْزاءٌ مِن جُمْلَةٍ. فَكان حُكْمُها كسائِرِ الحَيَواناتِ الطاهِرَةِ والنَّجِسَةِ. (وعنه، أنها نَجِسَةٌ) اخْتارَه القاضي؛ لأنها لا حُرْمَةَ لها، بدَلِيلِ أنَّه لا يُصَلَّى عليها. فعلى هذا يَكُونُ (حُكمُها حُكْمَ العَظْمَ النجِسِ) على ما بَيَّنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «سنة». (¬3) في م: «ولأن».

340 - مسألة: (ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل التى تقيم فيها وتأوي إليها والموضع المغصوب. وعنه، تصح مع التحريم)

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَالْحَمامِ، وَالْحُشِّ، وَأعطانِ الإبِلِ الَّتِي تُقِيمُ فِيهَا وَتَأوِي إلَيْها، وَالْمَوْضِع الْمَغْصُوب. وَعَنْهُ، تَصِحُّ مَعَ التحْرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 340 - مسألة: (ولا تصِحُّ الصلاةُ في المَقْبَرة والحَمّامِ والحُشِّ وأعْطانِ الإبِلِ التى تُقِيمُ فيها وتَأوِي إليها والمَوْضِع المَغْصُوبِ. وعنه، تَصِحُّ مع التحْرِيمِ) اخْتَلَفَتِ الروايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في الصلاةِ في هذه المَواضِع؛ فرُوِيَ عنه أن الصلاةَ لا تَصِح فيها بحالٍ. رُوِيَتْ كَراهَةُ الصلاةِ في المَقْبَرَةِ عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وعَطاءٍ، والنخَعِي، وابنِ المُنْذِرِ. ومِمن قال: لا يُصَلى في مَبارِكِ الإبِلِ. ابنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ، وجابِرُ بنُ سَمرَةَ، والحسنُ، ومالكٌ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وعن أحمدَ، أنَّ الصلاةَ في هذه صَحِيحَة، ما لم تَكنْ نَجِسَةً. وهو مَذْهَبُ الشَّافعيّ، وأبي حنيفةَ؛ لقولِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». وفي لَفْظٍ: «فَحَيْثُمَا أدْرَكَتْكَ الصلَاة فَصَلِّ؛ فَإنهُ مَسْجِدٌ». مُتِّفَق عليه (¬1). ولأنه مَوْضِع طاهِرٌ، فصَحَّتِ الصَّلاةُ فيه، كالصحْراءِ. والأوْلَى ظاهِر المَذْهَبِ؛ لقَوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «الأرْضُ كُلهَا مَسْجدٌ إلَّا الحَمَّامَ والمَقْبَرَةَ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن جابِرِ بنِ سَمرَةَ، أن رجلًا سال رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: أنصَلِّي في مَرابِض الغنَمِ؟ قال: «نَعَمْ». قال: أنصَلى في مَباركِ الإبِلِ؟ قال: «لَا». رَواه مسلم (¬3). وهذه الأحادِيث خاصةٌ مُقَدَّمَةٌ على عُمُوم أحادِيثِهم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 34. (¬2) في: باب في المواضع التى لا تجوز فيها الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 114. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام, من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 113، 114. وابن ماجه، في: باب المواضع التى تكره فيها الصلاة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 246. والدارمي، في: باب الأرض كلها طهور ما خلا المقبرة والحمام, من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 323. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 83، 96. (¬3) في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 275. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 93 , 98 , 100, 106، 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الحُشُّ فثَبَتَ الحُكْمُ فيه بالتنبِيهِ؛ لأنه إذا مُنِع مِن الصلاةِ في هذه المَواضِعِ، لكَوْنِها مَظانَّ النجاسَةِ، فالحُشُّ أوْلَى، لكَوْنِه مُعدًّا للنَّجاسَةِ ومَقْصُودًا لها، ولأنه قد مُنِع مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى والكلامِ فيه، فمَنْعُ الصلاةِ فيه أوْلَى. قال شيخُنا (¬1): ولا أعْلَمُ فيه نَصًّا. وقال بَعْضُ أصحابِنا: إن كان المُصَلِّي عالِمًا بالنَّهْىٍ، لم تَصِح صَلَاتُه فيها؛ لأنه عاصٍ بالصلاةِ فيها، والمَعْصِيَةُ لا تكونُ قُرْبَة ولا طاعَةً. وإن كان جاهِلًا، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ؛ لأنَّها لا تَصِحُّ مع العِلْمِ، فلم تَصِحَّ مع الجَهْلِ، كالصلاة في مَحَل نَجِسٍ. والثانيةُ، تَصِحُّ؛ لأنه مَعْذُورٌ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 471.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ذَكَر القاضي أنَّ المَنْعَ مِن الصلاةِ في هذه المَواضِع تَعَبُّدٌ، فعلى هذا يَتَناوَلُ النَّهْىُ كل ما يَقع عليه الاسْمُ، فلا فرْقَ في المَقبَرَةِ بينَ الحَدِيثَةِ والقَدِيمَة، وما تَقَلَّبَتْ أترِبتها أو لم تتَقلِّبْ. فأمَّا إن كان فيها قَبْرٌ أو قبْران، لم يُمْنعْ مِن الصلاةِ فيها، لأنه لا يَتَناوَلها الاسْمُ. [ويَحْتَمِل إلْحاقُها بما فيها أكْثَرُ مِن قَبْرَيْن؛ لأنها إنَّما سُمِّيَتْ مَقْبَرَةً لكَوْنِها قد قُبِر فيها، وهذا مَوْجُودٌ في القبريْن، ولأن قَوْلَ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِمْ مسَاجِد» (¬1). يَتَناوَلُ ما فيه قبْرٌ واحدٌ، كذلك هذا. وعلى هذا، لو حَلَف لا يَدْخُلُ مَقْبَرةً، حَنِث بدُخُولِ ما فيه قبْران. والله أعلمُ] (¬2). وإن نُقِلَتِ القُبُورُ ما، حازَت الصلاةُ فيها؛ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب هل تنبش قبور مشركى الجاهلية. . . . إلخ، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، وباب ما جاء في قبر النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن كتاب الجنائز، وفي: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، من كتاب الأنبياء، وفي: باب مرض النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ووفاته, من كتاب المغازي، وفي: باب الأكسية والخصائص، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 1/ 116، 2/ 111 , 128 , 4/ 206 , 6/ 13 , 7/ 190. ومسلم، في: باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 376، 377. وأبو داود، في: باب في البناء على القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 194. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد، من كتاب المساجد، وفي: باب اتخاذ القبور مساجد، من كتاب الجنائز. المجتبى 2/ 32، 4/ 78. والدارمي، في: باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 326، والإمام مالك، في: باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة، من كتاب الجامع. الموطأ 2/ 892. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 246 , 284 , 285، 366، 396، 454، 518، 5/ 184، 186 , 204، 6/ 80، 121، 229، 255، 275. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لزَوالِ الاسْمِ، ولأن مَسْجِدَ رسوِلِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانت فيه قبُورُ المُشْرِكِين، فنُبِشَتْ. مُتَّفَق عليه (¬1). ولا فرْقَ في الحَمامِ بينَ مَكانِ الغَسْلِ، والمَسْلَخِ، والأتُونِ، وكل ما يُغْلَقُ عليه بابُ الحَمّامِ؛ لتَناوُلِ الاسْمِ له. وأعْطانُ الإبِلِ هي التى تُقِيمُ فيها وتأوِي إليها. وقيل: هي المَواضِعُ التى تُناخُ فيها إذا وَرَدَتْ. والأولُ أجْوَدُ؛ لأنه جَعَلَه في مُقابَلَةِ مُراحِ الغنَمِ. والحُشُّ الذى يُتَّخَذ للغائِطِ والبَوْلِ. فيُمْنَعُ مِن الصلاةِ فيما هو داخِلُ بابِه. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أنَّ المنْعَ مِن الصلاةِ في هذه المَواضِع مُعَلل بكَوْنِها مَظان للنجاساتِ؛ فإن المَقْبَرَةَ تُنبَشُ، ويَظْهَرُ التُّرابُ الذى فيه دِماءُ المَوْتَى وصَدِيدهم، ومَعاطِنُ الإبِلِ يُبالُ فيها، فإنَّ البَعِيرَ البارِكَ كالجِدار؛ يستتِرُ به ويَبول، كما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، ولا يَتَحَقِّقُ هذا في غيرِها. والحَمّامُ مَوْضِعُ الأوْساخِ والبَوْلِ. فنُهِيَ عن الصلاةِ فيها لذلك وإن كانت طاهِرَةً؛ لأن المَظنَّة يَتَعَلَّقُ الحُكْمُ بها وإن خَفِيَتِ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، من كتاب الصلاة، وفي: باب حرم المدينة، من كتاب فضائل المدينة, وفي: باب مقدم النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصحابه المدينة، من كتاب مناقب الْأَنصار. صحيح البُخَارِيّ 1/ 117، 3/ 25 , 26 , 5/ 86، 87. ومسلم, في: باب ابتناء مسجد النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 373، 374. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بناء المساجد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 107. والنَّسائيّ, في: باب نبش القبور واتخاذ أرضها مساجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 32. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 123 , 212، 244. (¬2) في: المغني 2/ 471.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِكْمَةُ، ومتى أمْكَنَ تَعْلِيلُ الحُكْمِ، كان أوْلَى مِن قَهْرِ التَّعَبدِ. ويَدُلُّ على هذا تَعْدِيَةُ الحُكْمِ إلى الحُشِّ المسْكوتِ عنه بالتَّنْبِيه، ولابدَّ في التنبِيهِ مِن وُجُودِ مَعْنَى المَنْطوقِ، وإلَّا لم يَكُن تَنْبِيهًا. فعلى هذا يُمْكِنُ قَصْرُ الحُكْمِ على ما هو مَظِنة منها. فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ في مَوْضِع المَسْلَخِ مِن الحَمّامِ، ولا في سَطْحِه؛ لعَدَمِ المَظنةِ فيه، وكذلك ما أشْبَهَه. والله أعلمُ. فصل: ولا تَصِحُّ الصلاةُ في المَوْضِع المَغْصُوبِ في أظْهِرِ الروايَتَيْن، وأحَدِ قَوْلَى الشافعيّ. والروايَةُ الثانيةُ، تَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والقولُ الثاني للشافعي؛ لأن النهْىَ لا يَعُودُ إلى الصلاةِ، فلم يَمْنع صِحتَها، كما لو صَلَّى وهو يَرَى غَرِيقًا يُمْكنُه إنْقاذُه، فلم يُنْقِذْه، أو مَطَل غريمَه الذى يُمْكنُه إيفاؤه وصَلَّى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الأولَى، أنَّ الصلاةَ عِبادَةٌ، أتى بهِا على الوَجْهِ المَنْهِيِّ عنه، فلم تَصِحَّ، كصلاةِ الحائض؛ فإنْ حَرَكاتِه مِن القِيامِ والركُوعِ والسجُودِ أفْعالٌ اخْتِيارِية، هو مَنْهِي عنها عاص بها، فكيف يكُونُ مُطِيعًا بما هو عاص به. فأمّا مَن رَأى الغَرِيقَ فليس بمَنْهي عن الصلاةِ، إنما هو مَأمُورٌ بالصلاةِ وإنْقاذِ الغرِيقِ، وأحَدُهما آكَدُ مِن الآخَرِ. أمَّا في مسألتِنا، فإن أفْعالَ الصلاةِ في نَفْسِها مَنْهِيّ عنها. إذا ثَبَت هذا, فلا فَرْقَ بينَ غَصْبِه لرَقبة الأرْض، أو دَعْواه (¬1) مِلْكيتها، وبينَ غَصْبِه مَنافِعَها، بأن يَدعِيَ إجارَتَها ظُلْمًا (¬2)، أو يَضَعَ يَدَه عليها مُدة ويُخْرِجَ ساباطًا (¬3) في مَوْضع لا يَحِل له، أو يَغْضبِ راحِلَةً ويُصَلىَ عليها، أو سَفِينَة ويصلِّيَ فيها، أو لَوْحًا فيَجْعَلَه سَفِينَةً ويُصَلِّيَ عليه، كل ذلك حُكمُه في الصلاةِ حُكْمُ الدار المَغْصُوبَةِ على ما بَيَّناه. ¬

(¬1) في م: «ودعواه». (¬2) في الأصل, م: «ظالمًا». (¬3) الساباط: سقيفة تحتها ممر نافذ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: يُصَلى الجُمُعَةَ في مَوْضِعِ الغَصْبِ. يَعْنِي إذا كان الجامع أو بَعْضُه مَغْصُوبًا، صَحتِ الصلاةُ فيه؛ لأنَّ الجُمُعَةَ تَخْتَصُّ ببُقْعَةٍ، فإذا صَلّاها الإمامُ في المَوْضِعِ المَغْصُوبِ، فامْتَنَع النّاسُ مِن الصلاةِ فيه، فاتَتْهم الجُمُعَةُ، وكذلك مَن امْتَنَع فاتَتْه، ولذلك أبِيحَتْ خلفَ الخَوارِجِ والمُبْتَدِعَةِ، وصَحَّتْ في الطُّرقِ لدُعاءِ الحاجَةِ إليها، وكذلك الأعْيادُ والجِنازَةُ. فصل: وتُكْرَه في مَوْضِعَ الخَسْفِ. قالَه أحمدُ: لأنه مَوْ ضِعٌ مَسْخوطٌ عليه، وقد قال النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لأصحابِه يومَ مَرَّ بالحِجْرِ (¬1): «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤلَاءِ المُعَذبِينَ، إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أصَابَهُمْ» (¬2). ¬

(¬1) الحجر: اسم ديار ثمود بوادى القرى، بين المدينة والشَّام. معجم البلدان 2/ 208. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، من كتاب الصلاة، وفي: باب قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب نزول النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الحجر، من كتاب المغازي، وفي: باب {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين}، في تفسير سورة الحجر، من كتاب التفسير. صحيح البُخَارِيّ 1/ 118، 4/ 181 , 5/ 9 , 6/ 101. ومسلم، في: باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلَّا أن تكونوا باكين، من كتاب الزهد. صحيح مسلم 4/ 2285، 2286. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 9 , 58 , 66 , 72 , 74 , 91 , 96 , 113 , 117 , 137.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بَأسَ بالصلاةِ في الكَنِيسَةِ النظِيفَةِ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وأبي موسى؛ وهو قول الحسنِ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والشعْبِي، والأوْزاعِي. وكَرِه ابنُ عباس ومالكٌ الكنائِسَ؛ لأجْلِ الصُّوَرِ. وقال ابنُ عَقِيل: تُكْره الصلاةُ فيها؛ لأنه كالتَّعْظِيمِ والتبجِيلِ لها، وقِيل: لأنه يُضِر بهم. ولَنا، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى في الكَعْبَةِ وفيها صُوَر (¬1)، ثم قد دَخَلتْ في عُمُومِ قولِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَأيْنَمَا أدْرَكتكَ (¬2) المملَاةُ فَصَل، فَإنهُ مَسْجِدٌ». مُتَّفق عليه (¬3). ¬

(¬1) أخرج أبو داود، من حديث جابر، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حتَّى محيت كل صورة فيها. في باب في الصورة: من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 393. قال ابن قيم الجوزية: وفي القصة [أي قصة فتح مكة] أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- دخل البيت وصلى فيه، ولم يدخله حتى محيت الصور منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور. زاد المعاد 3/ 458. (¬2) في الأصل: «أدركت». (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 34.

341 - مسألة: (وقال بعض أصحابنا: حكم المجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق وأسطحتها، كذلك)

وَقَالَ بَعْضُ أصْحَابنَا: حُكْمُ الْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَقَارِعَةِ الطرِيقِ، وَأَسْطِحَتِها كَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 341 - مسألة: (وقال بَعْضُ أصحابِنا: حُكْمُ المَجْزَرَةِ، والمَزْبَلَةِ، وقارِعَةِ الطريقِ وأسْطِحَتِها، كذلك) لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيها، الصلَاةُ؛ ظَهْرُ بَيْتِ الله، وَالْمَقْبَرَةُ، وَالْمَزْبَلَةُ، وَالمَجْزَرَةُ، وَالْحَمَّامُ، وعَطنُ (¬1) الإبِلِ، وَمَحَجَّةُ الطريقِ». رَواه ابن ماجَه (¬2). وقالوا (¬3): الحُكْمُ في هذه المَواضِع الثلاثة كالحُكْمِ في الأرْبعةِ. ولأن هذه المَواضِعَ مَظَانُّ ¬

(¬1) في الأصل: «أعطان». (¬2) في: باب المواضع التى تكره فيها الصلاة، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 246. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية ما يصلي إليه وفيه، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 144. (¬3) أي الأصحاب. وفي م: «وقال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للنَّجاساتِ، فعُلق الحُكْمُ عليها وإن لم تُوجَدِ الحَقِيقَة، كما انتقَضتَ (¬1) الطهارة بالنوْمِ، ووَجَب الغُسْلُ بالْتِقاءِ الخِتانَيْن. قال شيخُنا (¬2): والصحِيحُ جَواز الصلاةِ فيها. وهو قول أكثر أهل العلمِ، ويَحْتَمِلُه اخْتِيارُ الخِرَقِيّ؛ لأنّه لم يَذْكرْها، لعُمُومَ قَولِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا». مُتَّفَق عليه (¬3). واسْتثنِيَ منه المَقْبَرَةُ، والحَمَّامُ، ومَعاطِنُ الإبِلِ، بأحادِيثَ صَحِيحَةٍ، ففيما عَدا ذلك يَبْقَى على العُمُومِ. وحديث ابنِ عُمَرَ يَرْويه العُمَرِي، وزَيْدُ بنُ جَبِيرَةَ (¬4)؛ وقد تكلِّمَ فيهما مِن قِبَلِ حِفْظِهما، فلا يُتْرَكُ به الحديثُ الصحِيحُ. وأكثر أصحابنا على القَوْلِ الأولِ. ومَعنَى مَحَجَّةِ الطرِيقِ، الجادةُ المَسْلُوكَةُ في السفر. وقارِعَة ¬

(¬1) في تش: «نقضت». (¬2) في: المغني 2/ 473. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 34. (¬4) زيد بن جبيرة، المدنِيُّ، قال البُخَارِيّ: منكر الحديث، وقال ابن عبد البر: أجمعوا علي أنَّه ضعيف. تهذيب التهذيب 1/ 401.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّريقِ، التى تَقْرَعُها الأقْدامُ، مِثْلَ الأسْواقِ والمشارِعِ (¬1). ولا بَأسَ بالصلاةِ فيما عَلا منها يَمنةً ويَسْرَةً، وكذلك الصلاةُ في الطرِيقِ التى يقِل سالِكُها، كطَرِيقِ الأبياتِ اليَسِيرَةِ. فإن بني مَسْجد في طَرِيق، وكان الطرِيقُ ضَيقًا بحيث يَسْتَضِرُّ المارةُ ببِنائه، لم يَجُزْ بِناؤُه، ولا الصَّلاةُ فيه، وإن كان واسِعًا لا يُضِرُّ بالمارةِ، جاز. وهل يُشترَطُ إذْنُ الإمامِ؟ على رِوايَتَيْن. ذَكَرَه القاضي. والمَجزَرَةُ: التى يَذبَحُ فيها النَّاسُ، المُعَدةُ لذلك، ولا فَرْقَ في هذه المَواضِع بينَ الطاهِرِ والنجِس، ولا في المَعاطِنِ بينَ أن يكُونَ فيها إبلٌ في ذاك الوَقتِ أولا، فأما المواضِعُ التى تبِيتُ فيها الإبِلُ في مَسِيرِها، أو تُناخُ فها لِعلْفِها أو وُرُودِها، فلا تُمْنَعُ الصلاةُ فيها. قال الأثرَمُ: سُئِل أبو عبدِ الله عِن الصلاةِ في مَوْضِع فيه أبعارُ الإبِلِ، فرخَّصَ فيه، ثم قال: إذا لم تَكُنْ مِن مَعاطِنِ الإبِلِ، التى نُهِيَ عن الصلاةِ فيها، التى تَأوِي إليها. ¬

(¬1) جمع مَشرَعة، وهي مورد الماء الذى يُستقى منه بلا رِشاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما أسْطِحَةُ هذه المَواضِع، فقال القاضي، وابنُ عَقِيل: حُكْمُها حُكْمُ السفْلِ؛ لأنَّ الهواءَ تابعٌ للقَرار، ولذلك لو حَلف لا يَدْخُلُ دارًا، فدَخَلَ سَطْحَها، حَنِث. والصَّحِيحُ، إن شاء الله، قَصْرُ النهْي على ما تَناوَلَه النَّص، وأنَّ الحُكْمَ لا يُعَدى إلى غيرِه. ذَكَرَه شيخُنا (¬1)؛ لأن الحُكْمَ إن كان تَعَبُّدًا، لم يُقَسْ عليه، وإن عُلل فإنَّما يُعَلل بمظنةِ النجاسَةِ، ولا يُتَخيلُ (¬2) هذا في أسْطِحَتِها. فأما إن بَنَى على طَرِيقٍ ساباطًا أو جَناحًا وكان ذلك مُباحًا له، مِثْلَ أن يكون في دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ بإذْنِ أَهْلِه، أو مُسْتَحَقًّا له، فلاْ بَأسَ بالصلاةِ عليه. وإن كان على طَرِيقٍ نافِذٍ فالمُصَلى فيه كالمُصَلَّى في المَوْضِع المَغْصُوبِ. وإن كان الساباطُ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 474. (¬2) في تش: «يتحلل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَهْرٍ، تَجْرِي فيه السُّفُنُ، فهو كالسَاباطِ على الطَّرِيقِ. وهذا فيما إذا كان السطْحُ حادِثًا على مَوْضِع النهْيِ، فإن كان المَسْجِدُ سابِقًا، فحَدَثَ تحته طَرِيق، أو عَطَنٌ، أو غيرُهما مِن مَواضَع النهْيِ، أو حَدَثَتِ المقْبَرَةُ حَوْلَه، لم تُمْنَع الصلاةُ فيه، بغيرِ خِلاف؛ لأنه لم (¬1) يتْبَعْ ما حَدَث بعدَه (¬2). وذَكَر القاضي فيما إذا حَدَث تحتَ المَسْجِدِ طَرِيق وَجْهًا في كَراهَةِ (1) الصلاةِ فيه. والأولُ أوْلَى. فأما إن بُنِىَ مَسْجِدٌ في مقبَرَةٍ بينَ القُبُورِ، فحُكمُه حُكْمُها؛ لأنَّه لا يَخْرُجُ بذلك عن أن يكُونَ في المَقْبَرَةِ، وقد روَى قَتادَةُ أنَّ أنَسًا مَرّ على مَقْبَرة، وهم يبْنُونَ فيها مَسْجِدًا، فقال: كان يُكْرَهُ أن يُبْنَى مسجدٌ في وَسَطِ القبُورِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «عنده».

342 - مسألة: (وتصح الصلاة إليها، إلا المقبرة والحش، في قول ابن حامد)

وَتَصِحُّ الصلَاةُ إلَيْهَا، إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحُشَّ، فِي قوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 342 - مسألة: (وتَصِحُّ الصلاة إليها، إلَّا المَقْبَرةَ والحُشَّ، في قَوْلِ ابنِ حامدٍ) تُكره الصلاةُ إلى هذه المَواضِع، فإن فَعَل صَحتْ صَلَاتُه. نَصَّ عليه أحمدُ في رِواية أبي طالِبٍ. وقال أبو بكرٍ: يَتَوَجَّهُ في الإعادِةِ قَوْلان؛ أحَدُهما، يُعِيدُ؛ لموْضِع النَّهْيِ، وبه أقُولُ. والثاني، يَصحُّ؛ لعدَمِ تَناوُلِ النهْيِ له. قال ابنُ حامدٍ: إن صَلَّى إلى المَقْبَرَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُشِّ، فهو كالمُصَلى فيهما إذا لم يَكُنْ بينَه وبَيْنَهما حائِلٌ، لِما روي أبو مَرْثَد الغنَوِيُّ، أنَّه سَمِع رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «لَا تُصَلُّوا إلي القبُورِ (¬1) وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا (¬2)». مُتَّفَق عليه (¬3). قال القاضي: وفي هذا تَنْبِيه على المواضِعِ التى نُهىَ عن الصلاةِ فيها. وذَكر القاضي في «المُجَرَّدِ»، قال: إن صَلَّى إلى العَطَنِ فصَلاتُه صَحِيحَة، بخِلافِ ما ¬

(¬1) في الأصل: «المقبرة». (¬2) في الأصل: إليها. (¬3) كذا ذكر ابن قدامة، ولم يخرجه البُخَارِيّ. انظر: تحفة الأشراف 8/ 329. وأخرجه مسلم، في: باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 668. كما أخرجه أبو داود باب في كراهية القعود علي القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبو داود 1/ 194.والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية الوطء على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذي في 4/ 270. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن الصلاة إلى القبر، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 53. الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 135.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْناه في الصلاةِ إلى المقْبَرَةِ والحُشِّ. قال شخُنا (¬1): والصحِيحُ أنَّه لا بَأسَ بالصلاةِ إلى شيء مِنْ هذه المواضِعِ إلَّا المقْبَرَةَ، لوُرُودِ النَّهْيِ فيها، وذلك العمُومِ قولِه عليه السلامُ: «جُعِلَتْ لِي الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورا» (¬2). فإنَّه يَتَناولُ الذى يُصَلى فيه إلى هذه المَواضِع، وقياسُ ذلك على المقْبَرَةِ لا يصحُّ إن كان النَّهْىُ عن الصلاةِ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 473. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 34.

343 - مسألة: (ولا تصح الفريضة في الكعبة، ولا على ظهرها)

وَلَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكعْبَةِ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إليها تَعَبُّدًا، وكذلك إن كان لمَعْنًى اخْتَص بها، وهو اتخاذُ القُبُور مَسْجِدًا، تَشَبُّهًا بمَن يُعَظمُها، وكذلك قال عليه السلامُ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». يُحَذِّرُ مِثْلَ ما صَنَعُوا. مُتَّفَق عليه (¬1). واللهُ أعلمُ. 343 - مسألة: (ولا تَصِحُّ الفَريضَةُ في الكعْبَةِ، ولا على ظَهْرِها) وقال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ: تَصِحُّ؛ لأنه مَسْجِد، ولأنه مَحَلٌّ لصلاةِ النفْلِ، فكان مَحَلًّا للفَرْض، كخارِجها. ولَنا، قولُه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوُّلواْ وُجُوهَكمْ شَطْرَه} (¬2). والمصَلَّى فيها أو على سَطحِها غيرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 299. (¬2) سورة البقرة 144.

344 - مسألة: (وتصح النافلة إذا كان بين يديه شيء منها)

وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَقْبِل لجِهَتِها، فأمّا النّافِلَةُ فمَبْناها على التَّخْفِيفِ والمُسامَحَةِ؛ بدَلِيلِ صِحَّتِها قاعِدًا، وإلى غيرِ القِبْلَةِ في السفَرِ على الراحِلَةِ. 344 - مسألة: (وتَصِحُّ النَّافِلَةُ إذا كان بينَ يَدَيْه شيء منها) لا نَعْلمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في البيْتِ ركْعَتَيْن (¬1). إلَّا أنَّه إن توجَّه إلي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة في الكعبة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 467. والإمام أَحْمد، في المسند 2/ 46، 6/ 15. وعن الصلاة في البيت انظر: ما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 134. ومسلم، في: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها. . . . إلخ من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 966. والنَّسائيّ، في: باب مقدار ذلك، من كتاب القبلة المجتبى 2/ 49. والإمام مالك، في: باب الصلاة في البيت وقصر الصلاة وتعجيل الخطبة بعرفة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 398. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 113، 138، 6/ 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البابِ أو على ظَهْرِها، وكان (¬1) بينَ يَدَيْه شيءٌ مِن بِناءِ (¬2) الكعْبَةِ مُتَّصِل بها صحَّتْ صَلاتُه، وإن لم يَكُنْ بينَ يَدَيْه شيء شاخِص منها، أو كان بينَ يَدَيْه آخر مُعَبًّا غيرُ مَبْنِيٍّ، أو خَشَب غيرُ مسمَّر فيها (2)، فقال أصحابُنا: لا ¬

(¬1) في م: «أو كان». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَصِحُّ صَلَاتُه، لأنه غيرُ مُسْتَقْبِل لشئٍ منها. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى أنَّه لا يُشْتَرَطُ كَوْنُ شئٍ منها بينَ يَدَيْه؛ لأن الواجِبَ اسْتِقْبالُ مَوْضِعِها ¬

(¬1) في: المغني 7/ 476.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَهوائِها، دُونَ حِيطانِها؛ بدَلِيل ما لو انْهَدَمَتْ، وكذلك لو صلَّى على جَبَلٍ عالٍ يَخْرُجُ عن مُسامَتَةِ البُنْيانِ، صَحتْ صَلاتُه إلى هَوائِها، كذلك هاهُنا.

باب استقبال القبلة

بَابُ استِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ الشرطُ الْخَامس لِصِحَّةِ الصَّلاة، إلَّا فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اسْتِقْبالِ القبْلَةِ (وهو الشرطُ الخامِس لصِحةِ الصلاةِ) لقَوْلِ الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1). أي نحْوَه. وقال عليٌّ، رَضىَ الله عنه: شَطْره قِبَلَه. ورُوِيَ عن البَراء، قال: قَدِم رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فصَلى نَحْوَ بيتِ المَقْدِس ستَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثم إنه وُجهَ إلى الكَعبَةِ، فمَر رجلٌ صَلَّى مع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على قوم من الأنْصارِ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد وُجِّهَ إلى الكعبَةِ. فانْحَرَفُوا إلى الكعبةِ. أخْرَجَه النَّسائِيُّ (¬2). 345 - مسألة؛ قال: (إلَّا في حالِ العَجْزِ عنه، ¬

(¬1) سورة البقرة 144. (¬2) في: باب القبلة، من كتاب الصلاة، وفي باب استقبال القبلة، من كتاب المجتبى 1/ 196، 2/ 47. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التوجه نحو القبة حيث كان، كتاب الصلاة، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق. . . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 110، 9/ 108. ومسلم، في: باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 374. والتِّرمذيّ، في: باب حَدَّثَنَا هناد حَدَّثَنَا وكيع عن إسرائيل، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 85. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 304.

وَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السفَرِ الطوِيلِ وَالْقَصِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنّافِلَةِ على الراحِلَةِ في السفَرِ الطَّوِيلِ والقَصِيرِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الاسْتِقْبالَ يَسْقُطُ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ؛ أحَدُها، في حالِ العَجْزِ عنه، لكَوْنه مَرْبوطا إلى غيرِ القبْلَةِ، ونَحْوَه، فيُصَلى على حَسَب حالِه؛ لأنه شَرْط لصِحةِ الصلاةِ عَجَز عنه، أشْبَهَ القيامَ. الثاني، إذا اشْتَد الخَوْفُ، كحال الْتِحامِ الحَرْبِ، وسنَذْكُرُه في مَوْضِعِه، إن شاء الله. الثالث، في النّافِلةِ على الرّاحِلةِ، ولا نَعْلَمُ في إباحَةِ التطوُّعِ على الرّاحِلَةِ إلى غيرِ القبْلَةِ في السفَرِ الطوِيلِ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. قال ابنُ عبدِ البَرّ: أجْمَعُوا على أنَّه جائِزٌ لكل مَن سافَرَ سَفَرا تُقْصَرُ فيه الصلاةُ أن يَتَطَوعَ على دابتِه حَيْثُما تَوَجهَتْ به، يُومِئُ بالركُوعِ والسجُودِ، ويَجْعَلُ السُّجُودَ أخْفَضَ مِن الرُّكُوع. وحُكْمُ (¬1) السفَرِ القَصِيرِ حُكْمُ الطَّوِيلِ في ذلك. وهو قولُ الأوْزاعيِّ، ¬

(¬1) في م: «وهل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ، وأصحابِ الرأيِ. وقال مالك: لا يُباحُ؛ لأنَّه رُخْصَةُ سَفَرٍ، فاخْتَصَّ بالطَّوِيلِ كالقَصْرِ (¬1). ولَنا، قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬2). قال ابنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ هذه الآيَةُ في التَّطَوُّعِ خاصة، حيثُ تَوَجَّهَ بك بَعِيرُك (¬3). وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُسَبِّحُ على ظَهْرِ راحِلَتِه حيث كان وَجْهه، يُومِئُ ¬

(¬1) في م: «لا القصير». (¬2) سورة البقرة 115. (¬3) تفسير الطبري 2/ 530. وانظر تخريجه في حاشيته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِرأسه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وللبُخارِي: إلَّا الفَرائِضَ (¬2). ولم يُفَرقْ بينَ قصِيرٍ السفَرِ وطَوِيله، ولأن إباحَةَ التطَوعِ على الرّاحِلَةِ تَخْفِيف (¬3)، كَيْلا يُؤدِّى إلى تَقْلِيله وقَطْعِه، وهذا يَسْتَوِي فيه الطوِيلُ والقَصِيرُ، والفِطْرُ والقَصْرُ تُراعَى فيه المَشَقةُ، وإنما تُوجَدُ غالِبًا في الطَّوِيلِ. قال القاضي: الأحْكامُ التى يَسْتَوِي فيها السَّفَرُ الطَّوِيلُ والقَصِيرُ ثَلاثة؛ التيمُّمُ، وأكلُ المَيتةِ في المخْمَصَةِ، والتَّطَوعُ على الراحِلَةِ، وبَقِيةُ الرُّخَص تَخْتَصُّ الطَّوِيلَ؛ وهي القَصر (¬4)، والجَمْعُ، والمسْحُ ثلاثًا. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ينزل للمكتوبة، وباب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة؛ من كتاب تقصير الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 56، 57. ومسلم، في: باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. صحيح مسلم 1/ 484. كما أخرجه النَّسائيّ في: باب الحال التى يجوز فيها استقبال غير القبلة، من كتاب الصلاة والقبلة. المجتبى 1/ 196، 197، 2/ 48، والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 132. وبرواية عامر بن ربيعة، أخرجه الدَّارميّ، في. باب الصلاة في الراحلة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 356. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 446. وبلفظ «كان يوتر على بعيره» أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الوتر على الدابة، من كتاب الوتر. صحيح البُخَارِيّ 2/ 31، 32. ومسلم، في: باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 487. كما أخرجه أبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر. سنن أبي داود 1/ 279. والنَّسائيّ، في: باب الوتر على الراحلة، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 190. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر على الراحلة، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 379. والدارمي، في: باب الوتر على الراحلة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 373. والإمام أَحْمد، في: باب الأمر بالوتر، من كتاب صلاة الليل، الموطأ 1/ 124 والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 7، 57، 138. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الوتر في السفر، من كتاب الوتر. صحيح البُخَارِيّ 2/ 32. (¬3) في الأصل: «تخفيفها». (¬4) في الأصل: «القصير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجْعَلُ سُجُودَه أخْفَضَ مِن رُكُوعِه. قال جابِر: بَعَثَنِي رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حاجَةٍ، فجِئْت وهو يُصَلى على راحِلَتِه نَحْوَ المَشْرِقِ، والسجُودُ أخْفضُ عِن الركُوعِ. رَواه أبو داودَ (¬1). و [يجوزُ أن] (¬2) يُصَلىَ على البَعِيرِ والحِمارِ وغيرِهما. قال ابنُ عُمَرَ: رَأيتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى على حِمار، وهو مُتَوَجِّه إلى خَيْبَرَ. رَواه أبو داودَ، والنَّسائيُّ (¬3). لكن إذا قُلْنا بنَجاسةِ الحِمارِ، فلا بُدَّ أن يكُونَ تحتَه سُترة طاهِرَةٌ. فصل (¬4): فإن كان على الرّاحِلَةِ في مَكانٍ واسِع، كالمُنْفَرِدِ في العَمَّاريَّة يَدُورُ فيها كيف شاء، ويَتَمكَّنُ مِن الصلاةِ إلى القِبْلَةِ والرُّكُوعِ والسجُودِ بالأرْض، لَزِمَه ذلك، كراكِب السفِينَةِ. وإن قَدَر على الاستِقْبالِ دُونَ الرُّكُوعِ والسجُودِ، لَزِمَه الاستِقْبالُ، وأوْمَأَ بهما. نصَّ عليه. وقال أبو الحسنِ الآمِدِي: يَحتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه شئٌ مِن ذلك، كغيرِه؛ لأن الرُّخْصَةَ العامَّةَ يَسْتَوِي فيها مَن وُجِدَتْ فيه المَشَقَّةُ وغيرُه، ¬

(¬1) في: باب التطوع على الراحلة والوتر؛ من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 279. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الصلاة على الدابة حيثما توجهت به، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 146، 147. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 300، 308، 330، 332، 334، 379، 389. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 279. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة على الحمار، من كتاب المساجد المجتبى 2/ 47. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل والصلاة على الدابة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 150، 151. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 7، 49، 57؛ 75، 83، 128. (¬4) سقط من: م.

346 - مسألة: (وهل يجوز للماشي؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ التَنَفُّلُ لِلْمَاشِي؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقَصْرِ والجَمْعِ. وإن عَجَز عن ذلك، سَقَط بغيرِ خِلافٍ. فصل: وقبْلَةُ هذا المصلى حيث كانت وِجْهته، فإن عَدَل عنها إلى جِهَةِ الكعْبَةِ، جاز؛ لأَنها الأصْلُ، وإنَّما سَقَط للعُذْرِ، وإن عَدل إلى غيرِها عَمْدًا، فَسَدَتْ صَلَاتُه؛ لأنه تَرَك قِبْلَتَه عَمْدًا. وإن كان مغْلُوبًا، أو نائِمًا، أو ظَنا منه أنَّها جِهَةُ سَيْرِه، فهو كل صَلاتِه، ويَرْجِعُ إلى جِهَةِ سَيْرِه إذا أمْكنَه. فإن تَمادَى به ذلك بعدَ زَوالِ عُذْرِه، فسدَتْ صَلَاتُه؛ لترْكِه الاستِقْبالَ عمْدًا. ولا فَرْقَ بينَ جَمِيعِ التَّطَوعاتِ في هذا؛ النَّوافِلِ المُطْلَقَةِ، والسنن الرواتِب، والوِتْرِ، وسُجُودِ التلاوَةِ، وقد كان النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُوتِرُ على بَعِيرِه. مُتَّفَق عليه (¬1). 346 - مسألة: (وهل يَجُوزُ للماشِي؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، لا يَجُوزُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقيِّ، ومَذْهَبُ أبِي حنيفةَ؛ لعُمُوم قَوْلِه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَولُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. والنَّصُّ إنما وَرَد ¬

(¬1) انظر تخريج حديث ابن عمر المتقدم في صفحة 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الرّاكِبِ، ولا يَصِحُّ قياس الماشِي عليه؛ لأنه يَحْتاجُ إلي عمَل كَثِيرٍ، ومَشْى مُتَتابع يُنافِي الصلاةَ، فلم يصِح الإلْحاقُ. والثانية، يَجُوزُ ذلك للماشِي. نَقَلَها عنه المُثَنَّى بنُ جامِع (¬1)، واخْتارَه القاضي. فعلى هذا يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ لافْتِتاحِ الصلاةِ، ثم يَنْحَرِفُ إلى جِهَةِ سَيْرِه، ويَقْرأ وهو ماشٍ، ويَرْكَعُ ثم يَسْجُد بالأرض. وهذا قول عَطاء، والشافعي؛ لأن الرّكُوعَ والسُّجُودَ مُمْكِن مِن غيرِ انْقِطاعِه عن جِهَةِ (¬2) سيْرِه، فلَزِمَه، كالواقِفِ. وقال الآمدى: يُومِئُ بالركُوعِ والسجُودِ، كالراكِبِ، قِياسًا عليه. ووَجْهُ هذه الرواية أن الصلاةَ أبِيحَتْ للراكِبِ كَيْلا يَنْقَطِعَ عن القافِلَةِ في السفَرِ، وهو مَوْجُودٌ في الماشِي، ولأنها إحْدَى حالتيِ السفَرِ، أشبَهَ الراكِبَ. ¬

(¬1) في تش: «حامد». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا دَخَل المصَلى بَلدًا ناويًا الإقامَةَ (¬1) فيه، لم يصَلِّ بعدَ دخوله إليه إلَّا صلاةَ المُقِيمِ. وإن كان مُجْتازًا غيرَ ناوٍ للإقامَةِ، أو نَوَى الإقامَةَ مُدةً لا يَلْزمُه فيها إتْمامُ الصلاةِ، اسْتَدامَ (¬2) الصلاةَ ما دامَ سائِرا، فإذا نزل فيه، صَلى إلى القِبْلَةِ، وبَنَى على ما مَضَى مِن صَلَاتِه، كالخائِفِ إذا أمِن في أثْناءِ صَلاتِه. ولو ابْتَدَأها (¬3)، وهو نازِل إلى القِبْلَةِ، ثم أراد الركوبَ، أتمَّ صَلاتَه، ثم يَرْكَبُ. وقِيل: يَرْكَبُ في الصلاة، ويتمُّها إلى جِهةِ سَيْرِه، كالآمِنِ إذا خاف في صَلاتِه، والأولُ أوْلَى. والفَرْقُ بينَهما أنَّ حالَةَ الخَوْفِ حالَةُ ضَرُورَةٍ، أبِيحَ فيها ما يَحْتاجُ إليه مِن العَمَلِ، وهذه رُخْصَة مِن غيرِ ضَرورَةٍ (¬4)، فلا يُباحُ فيها غير ما نُقِل، ولم يَرِدْ بإباحَةِ الرُّكُوبِ الذى يَحْتاجُ إلى عَمَل وتَوَجُّهٍ إلى غيرِ جِهَةِ القِبْلَةِ ولا جِهَةِ سَيْرِهِ سُنَّة، فيَبْقَى على الأصْلِ. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

(¬1) في م: «للإقامة». (¬2) في الأصل: «واستدام». (¬3) في الأصل: «ابتدأ». (¬4) في الأصل: «ضرر».

347 - مسألة: (فإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة، فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين)

فَإنْ أمكَنَهُ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ، فَهَلْ يلزمه ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 347 - مسألة: (فإن أمْكنه افْتِتاحُ الصلاةِ إلى القِبْلَةِ، فهل يَلْزَمُه ذلك؟ على رِوايَتَيْن) متى عَجَز عن اسْتقْبالِ القِبْلَةِ في ابْتِداءِ صَلاِته، كراكِبِ راحِلَةٍ لا تُطِيعُه، أو جَمَل مقْطُورٍ (¬1)، لم يَلْزَمْه؛ لأنه عاجِزٌ عنه، أشْبَهَ الخائِفَ إذا عَجَز عن ذلك. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه. وإن أمكنه ذلك كراكِبِ راحِلَةٍ مُنْفَرِدَةٍ تُطيعُه، فهل يَلْزَمُه افْتِتاحُ الصلاةِ ¬

(¬1) أي: يسير في قطار، وهو العدد على نسق واحد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى القِبْلَةِ؟ على روِايَتَيْن إحداهما، يَلْزَمُه؛ لِما روَى أنَس، أن رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا سافر، فأراد أن يتَطَوَّعَ، اسْتَقْبَلَ بناقَته (¬1) القِبْلَة، فكبر، ثم صَلى حيث كان وِجْهَةُ رِكابِه. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬2). ولأنه أمْكَنَه ابتداءُ الصلاةِ إلى القِبْلَةِ فلَزِمَه، كالصلاةِ كُلها. وهذا اخْتِيارُ ¬

(¬1) في تش: «بناقته». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 279 والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِي. والثانيةُ، لا يَلْزَمُه، لحدِيثِ ابنِ عُمَرَ (¬1). اخْتارَه أبو بكرٍ. ولأنَّه جُزْء مِن أجْزاءِ الصلاةِ، أشْبهَ بَقِيَّةَ أجْزائِها، ولأنَّ ذلك لا يَخْلُو مِن مَشَقَّةٍ، فسَقَطَ، وخبرُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُحْمَلُ على الفَضِيلَةِ والندْبِ. والله أعلم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 322.

348 - مسألة: (والفرض في القبلة إصابة العين لمن قرب منها، إصابة، الجهة لمن بعد عنها الناس في القبلة على ضربين؛ أحدهما، [من تلزمه]

وَالْفَرْضُ فِي الْقِبْلَةِ إِصَابَةُ الْعَيْنِ لِمَنْ قرُبَ مِنْهَا، وإصَابَةُ الْجِهَةِ لِمَنْ بَعُدَ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 348 - مسألة: (والفَرْضُ في القِبْلَةِ إصابةُ العَيْنِ لمن قَرب منها، إصابة، الجِهةِ لمن بَعُد عنها النَّاسُ في القِبْلَةِ على ضَرْبَيْن؛ أحَدُهما، [مَن تَلْزَمُه] (¬1) إصابَةُ عَيْنِ الكعبةِ، وهو مَن كان مُعايِنًا لها، ومَن كان يُمْكِنُه مِن أهلِها، أو نَشأ فيها، أو أكْثَرُ مُقامِه فيها، أو كان قَريبًا منها ¬

(¬1) في م: «يلزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن وراءِ حائِل مُحْدث (¬1) كالحِيطانِ والبُيوتِ، ففَرْضُه التَّوَجُّه إلى عَيْنِ الكَعْبَةِ. وهكذا إن كان بمَسْجِدِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لأنه مُتَيَقِّن صِحَّةَ قِبْلَتِه، فإن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لا يُقَرُّ على الخَطَأ، وقد روَى أسامَةُ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَكَع رَكعَتَيْن قُبُل القِبْلَةِ، وقال: «هَذِهِ الْقِبْلةُ» (¬2). كذلك ذَكَرَه أصحابُنا. وفي ذلك نَظر؛ لأنه صلاة الصَّف المسْتَطِيلِ في مسجدِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صحِيحَة مع خُرُوجِ بَعضِهم عن استقبالِ عَيْنِ الكعْبَةِ، لكَوْنِ (¬3) الصَّفِّ أطْولَ منها. وقولُهم: إنه عليه السلامُ لا يُقَرُّ على الخطَأِ. ¬

(¬1) في م: «يحدث». (¬2) أخرجه مسلم في: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. . . . إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 968. والنَّسائيّ، في: باب، وضع الصدر والوجه على ما استقبل من دبر الكعبة؛ من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 174. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 201، 208، 209، 210. (¬3) في م: «لكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ، لكنْ إنَّما الواجِبُ عليه اسْتِقْبالُ الجِهَةِ، وقد فعَلَه، وهذا الجَوابُ عن الخبَرِ المَذْكُورِ. وإن كان أعْمَى مِن أهلِ مَكَةَ، أو كان غَرِيبًا، وهو غائِب عن الكَعْبَةِ، ففَرضُه الخَبَرُ عن يقينٍ أو شُاهَدَةٍ، مِثْلَ أن يكونَ مِن وَراءِ حائِل وعلى الحائِلِ مَن يُخْبِرُه، أو أخْبَرَه أهلُ الدارِ أنَّه مُتَوَجِّهٌ إلى عَيْنِ (¬1) الكَعْبَةِ، فيَلْزَمُه الرجُوعُ إلى قَوْلِهم، وليس له الاجْتِهادُ، كالحاكِمِ إذا وَجَد الثمنَ. قال ابنُ عَقِيلٍ: لو خَرَج ببَعْض بَدَنِه (¬2) عن مُسامَتَةِ الكَعْبَةِ، لم تَصِح صَلاتُه. الثاني، مَن فَرْضُه إصابَةُ الجِهَةِ، وهو البَعِيدُ عن الكَعْبَةِ. فليس عليه إصابَةُ العَيْنِ. قال أحمدُ: ما بينَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ قِبْلةٌ، فإنِ انْحَرَفَ عن القِبْلَةِ قلِيلا ¬

(¬1) في الأصل: «غير». (¬2) في الأصل: «يديه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُعِدْ، ولكنْ يَتَحَرى الوَسَطَ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وأحَدُ قَوْليِ الشَّافعيِّ، وقال في الآخَرِ: تَلزَمُه إصابَةُ العَيْنِ؛ لقولِ الله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وقِياسًا على القَرِيبِ، وقد رُوِيَ ذلك عن أحمدَ، وهو اخْتِيارُ أبي الخَطابِ. ولَنا، قولُه عليه السلامُ: «مَا بَيْن الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قبْلَة». رَواه الترمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. ولأنا أجْمَعْنا على صِحةِ صلاةِ الاثنَيْن المُتَباعِدَيْن يَسْتَقْبِلان قبْلَةً واحِدة، وعلى صِحةِ صَلاةِ الصَّف الطَّوِيل على خَطٍّ مُسْتَوٍ لا يُمْكِنُ أن يُصِيبَ عَيْنَ الكَعْبَةِ إلَّا مَن كان بِقَدْرِها. فإن قِيل: مع البُعْدِ يَتَّسِع المحاذِي (¬2). قُلْنا: إنّما يَتَسِعُ مع التَّقوُّسِ، وأمّا مع عَدَمِه فلا. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء أن بين المشرق والمغرب قبلة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 4/ 137 - 143. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب القبلة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 323. والإمام مالك، عن عمر بن الخَطَّاب يرفعه، في: باب ما جاء في القبلة، من كتاب القبلة. الموطأ 1/ 196. (¬2) في الأصل: «التحاذى».

349 - مسألة: (فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين، لزمه العمل به، وإن وجد محاريب لا يعلم؛ هل هي للمسلمين، أولا؟ لم يلتفت إليها)

فَإنْ أمْكَنَهُ ذلِكَ بِخَبَرِ ثِقَةٍ عَنْ يَقِينٍ أوِ اسْتِدْلَالٍ بِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ، لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ. وَإنْ وَجَدَ مَحَارِيبَ لَا يَعْلَمُ هَل هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ أوْ لَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 349 - مسألة: (فإن أمْكَنَه ذلك بخَبَرِ ثِقَةٍ عن يَقِينٍ أو اسْتِدْلالٍ بمَحاريبِ المُسْلِمِين، لَزِمَه العَمَلُ به، وإن وَجَد مَحاريبَ لا يَعْلَم؛ هل هي للمُسْلِمِين، أولا؟ لم يَلْتَفِتْ إليها) متى أخْبَرَه ثقَة عن يَقِينٍ، لَزِمَه قَبُولُ خبَرِه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن كان في مِصْرٍ، أو قَرْيَةٍ مِن قُرَى المُسْلِمِين، ففَرْضُه التِّوَجُّهُ إلى مَحارِيبِهم؛ لأنَّ هذه القِبْلَةَ يَنْصِبُها أهلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِبْرَةِ والمَعْرِفَةِ، [فجَرَى ذلك مَجْرَى الخَبَرِ، فأغْنَى عن الاجْتِهادِ، وإن أخْبَرَهُ مُخْبِرٌ مِن أهلِ المَعْرِفَةِ] (¬1) بالقِبْلَةِ مِن أهل البَلَدِ، أو مِن غيرِه، صار إلى خَبَرِه، وليس له الاجْتِهادُ، كالحاكِمِ يَقْبَلُ النَّصَّ مِن الثِّقَةِ، ولا يَجْتَهِدُ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إنَّما يَلْزَمُه الرُّجُوعُ إلى الخَبَرِ وإلى المَحَارِيبِ في حَقِّ القَرِيبِ الَّذي يُخْبَرُ عن التَّوَجُّهِ إلى عَيْنِ الكَعْبَةِ، أمّا في حَقِّ مَن يَلْزَمُه قَصْدُ الجِهَةِ، فإن كان أعْمَى، أو مَن فَرْضُه التَّقْلِيدُ، لَزِمَه الرُّجُوعُ إلى ذلك، وإن كان مُجْتَهِدًا، جاز له الرُّجُوعُ؛ [لِما ذَكَرْنا، كما يَجُوزُ له الرُّجُوعُ] (1)، في الوَقْتِ إلى قَوْلِ المُؤذِّنِ، ولا يَلْزَمُه ذلك، بل يَجُوزُ له الاجْتِهادُ، إن شاء، إذا كانتِ الأدِلَّةُ على القِبْلَةِ ظاهِرَةً، لأنَّ المُخْبرَ والذي نَصَب المَحارِيبَ إِنما يَبْنِي على الأدِلَّةِ. وقد ذَكَر ابنُ الزّاغُونِيِّ في كتابِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «الإِقْناعِ»، قال: إذا دَخَل رجلٌ إلى مَسْجِدٍ قَدِيم مَشْهُورٍ في بَلَدٍ مَعْرُوفٍ، كبَغْدادَ، فهل يَلْزَمُه الاجْتِهادُ، أم يُجْزِئُه التَّوَجُّهُ إلى القِبْلَةِ؛ فيه رِوايَتان عن أحمدَ؛ إحْداهما، يَلْزَمُه الاجْتِهادُ؛ لأنَّ المُجْتَهِدَ لا يَجُوزُ له أن يُقَلِّدَ في مَسائِلِ الفِقْهِ. والثانيةُ، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ اتِّفاقَهم عليها مع تَكرُّرِ الأعْصارِ إجْماعٌ عليها، ولا يَجُوزُ مُخالَفَتُها باجْتِهادِه. فإذا قُلْنا: يَجِبُ الاجْتِهادُ في سائِرِ البلادِ. ففي مَدِينَة النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رِوايَتان؛ إحْداهما، يَتَوجَّهُ إليها بلا اجْتِهادٍ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يُداوِمُ عليها إلَّا وهي مَقْطوعٌ بصِحَّتِها، فهو كما لو كان مُشاهِدًا للبَيْتِ. والثانية، هي كسائِرِ البِلادِ، يلْزَمُه الاجْتِهادُ فيها؛ لأنَّها نازِحَةٌ عن مَكَّةَ، فهي كغيرِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ له (¬1) الاسْتِدْلالُ بمَحارِيبِ الكُفّارِ، لأنَّ قَوْلَهم لا يجُوزُ الرُّجُوعُ إليه، فمَحارِيبُهم أوْلَى، إلَّا أن نَعْلَمَ قِبْلَتَهم، كالنَّصارَى، فإذا رَأى مَحارِيبَهم في كَنائِسِهم عَلِم (¬2) أنَّها مُسْتَقْبِلَةٌ المَشْرِقَ. فإن وَجَد مَحارِيبَ لا يَعْلَمُ هل هي للمُسْلِمِين أو للكُفَّارِ، لم يَجُزِ الاسْتِدْلالُ بها؛ لكوْنِها لا دَلالَةَ فيها، وكذلك لو رَأى على المِحْرابِ آثارَ الإسلامِ؛ لجَوازِ أن يكُونَ البانِي مُشْرِكًا، عَمِلَه ليَغُرَّ به المُسْلِمِين، إلَّا أن يكونَ مِمّا لا يَتَطرَّقُ إليه هذا الاحْتِمالُ، ويَحْصُلَ له العِلْمُ أنَّه مِن (¬3) مَحارِيب المُسْلِمِين فيَسْتَقْبِلَه. فصل: وإذا صَلَّى على مَوْضِع عالٍ يَخْرُجُ عن مُسامَتَةِ الكَعْبَةِ، أو في مكانٍ يَنْزِلُ عن مُسامَتَتِها، صَحَّتْ صَلاتُه؛ لأنَّ الواجِبَ اسْتِقْبالُها وما حاذاها مِن فَوْقِها وتَحْتِها؛ لأنَّها لو زالَتْ صَحَّتِ الصلاةُ إلى مَوْضِع جِدارِها. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «على». (¬3) سقط من: م.

350 - مسألة: (وإن اشتبهت عليه في السفر، اجتهد في طلبها بالدلائل، وأثبتها القطب؛ إذا جعله وراء ظهره كان مستقبلا القبلة

وَإنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ في السَّفَرِ، اجْتَهَدَ في طَلَبِهَا بِالدَّلَائِلِ، وَأثْبَتُهَا الْقُطْبُ اذَا جَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 350 - مسألة: (وإِنِ اشْتَبَهَتْ عليه في السَّفَرِ، اجْتَهَدَ في طَلَبِها بالدَّلائِلِ، وأثْبَتُها القُطْبُ؛ إذا جَعَلَه وراءَ ظَهْرِه كانَ مُسْتَقْبِلًا القِبْلَةَ (¬1) متى اشتَبَهَتِ القِبْلَةُ في السَّفَرِ، وكان مُجْتَهِدًا، وَجَب عليه الاجْتِهادُ في طَلَبِها بالأدِلَّةِ؛ لأنَّ ما وَجَبَ عليه اتِّباعُه عندَ وُجُودِه، وَجَب الاسْتِدْلالُ عليه عندَ خَفائِه، كالحُكْمِ في الحادِثَةِ. والمُجْتَهِدُ هو العالِمُ بأدِلَّةِ القِبْلَةِ وإن جَهِل أحْكامَ الشَّرْعِ؛ لأنَّ كلَّ مَن عَلِم أدِلَّةَ شئٍ، كان مُجْتهِدًا فيه؛ لأنَّه يَتَمَكَّنُ مِن اسْتِقْبالِها بدَلِيلِه. والجاهِلُ الَّذي لا يَعْرِفُ أدِلَّةَ القِبْلَةِ وإن كان فَقِيهًا، وكذلك الأعْمَى، فهذان فَرْضُهما التَّقْلِيدُ. وأوثَقُ أدِلَّتِها النُّجُومُ؛ قال اللهُ تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬2). وقال: {لِتَهْتَدُوا بِهَا في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬3). وآكَدُها القُطْبُ، وهو نَجْمٌ خَفِيٌّ شَمالِيٌّ، ¬

(¬1) في م: «الكعبة». (¬2) سورة النحل 16. (¬3) سورة الأنعام 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَوْلَه أنْجُمٌ دائِرَةٌ، في أحَدِ طَرَفَيها الجَدْىُ، وفي الآخَرِ الفَرْقدان، وبين ذلك ثَلاثَةُ أنْجُم مِن فَوْقَ وثَلاثَةٌ مِن أسْفَلَ، تدُورُ هذه الفَراشَةُ حَوْلَ الفطْبِ كدَورانِ الرَّحا حولَ سَفُّودِها (¬1)، في كلِّ يومٍ ولَيْلَةٍ، دَوْرَةً، وقَرِيبٌ منها بَناتُ نَعْشٍ مِمَّا يَلِي الفرْقَدَيْن تَدُورُ حَوْلَهما (¬2)، والقُطْبُ لا يَتَغَيَّرُ مِن مَكانِه في جَمِيع الأزْمانِ، وقِيل: إنَّه يَتَغَيَّرُ تَغيُّرًا يَسِيرًا لا يُؤثِّرُ. وهو خَفِيٌّ يَظْهَرُ لحَدِيدِ النَّظَرِ في غيرِ لَيالِي القَمَرِ، متى اسْتَدْبَرْتَه في الأرْضِ الشَّامِيَّةِ، كُنْتَ مُسْتَقْبِلًا للكَعْبَةِ. وقِيلَ: إنَّه يَنْحَرفُ في دِمَشْقَ وما قارَبَها إلى المَشْرِقِ قَلِيلًا، وكُلَّما قَرُب إلى المَغْرِبِ كان انْحِرافُه أكْثَرَ. وإن كان بحَرّانَ (¬3) أو قَرِيبًا منها جَعَل القُطْبَ خَلْفَ ظَهْرِه مُعْتَدِلًا، وإن كان بالعِراقي جَعَل القُطْبَ حِذاءَ أُذُنِه اليُمْنَى على عُلُوِّها، ومتى اسْتَدْبَرَ الفَرْقَدَيْن أو الجَدْىَ (¬4)، في حالِ عُلُوِّ أحَدِهما ونُزُولِ الآخَرِ، على ¬

(¬1) سفَّود الرحى: الحديدة وسطها. وفراشة الرحى: حجرها. انظر اللسان (ف ر ش). (¬2) في م: «حولها». (¬3) حران: مدينة مشهورة، بينها وبين الرها يوم، وبين الرقة يومان، على طريق الموصل والشَّام والروم. معجم البلدان 2/ 231. (¬4) في م: «والجدى».

351 - مسألة

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَمَنَازِلُهُمَا، وَمَا يَقْتَرِنُ بهِمَا وَيُقَارِبُهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاعْتِدالِ، فهو كاسْتِدْبارِ القُطْبِ، وإنِ اسْتَدْبَره في غيرِ هذه الحالِ، كان مُسْتَقْبِلًا للجِهَةِ، فإنِ اسْتَدْبَرَ الغَرْبِيَّ، كان مُنْحَرِفًا إلى الشِّرْقِ، وبالعَكْسِ، وإنِ اسْتَدْبَرَ بَناتَ نَعْشٍ، فكذلك، إلَّا أنَّ انْحِرافَه أكْثَرُ. 351 - مسألة (¬1): (والشَّمْسِ والقَمَرُ ومَنازِلُهما) وهي ثمانِيَةٌ وعِشْرُون مَنْزِلًا، السَّرَطانُ، والبُطَيْنُ، والثُّرَيَّا، والدَّبَرانُ، والهَقْعَةُ، والهَنْعَة، والذَّراعُ، والنَّثرَةُ، والطَّرْفُ، والجَبْهَةُ، والزُّبْرَةُ، والصَّرْفَةُ، والعَوّاءُ، والسِّماكُ، والغَفْرُ، والزُّبانَى، والإِكْلِيلُ، والقَلْبُ، والشَّوْلَةُ، والنَّعائِمُ، والبَلْدَة، وسَعْدُ الذّابِحِ، وسعذ بُلَعْ، وسعدُ السُّعودِ، وسعدُ الأحْبِيَةِ، والفَرْعُ المُقَدَّمُ، والفَرْغ المُؤخَّرُ، وبَطْنُ الحُوتِ. منها أرْبَعَةَ عَشَرَ شامِيَّةً تطْلُعُ مِن وَسَط المَشْرِقِ، مائِلَةً عنه (¬2) إِلى الشمالِ قليلًا، أوَّلُها السَّرَطانُ، وآخِرُها السِّماكُ. والباقِي يَمانِيَةٌ تَطلُعُ مِن المَشْرِقِ مائِلَةً إلى التَّيامُنِ (¬3)، أوَّلُها الغَفْرُ، وآخِرُها بَطْنُ الحُوتِ. ويَنْزِل القَمَرُ كلَّ لَيْلَةٍ بمَنْزِلٍ منه (2) أو قَرِيبًا منه، ثم ينْتَقِلُ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ إلى ¬

(¬1) في م: «فصل». (¬2) سقط من: م. (¬3) في تش: «اليمن».

كُلُّهَا تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ في الْمَغْرِبِ عَنْ يَمِينِ المُصَلَّى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الَّذي يَلِيه. والشَّمْسِ تَنْزِلُ بكلِّ مَنْزِلٍ منها ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فيَكُونُ عَوْدُها إلى المَنْزِلِ الَّذي نَزلَتْ به عندَ تَمامِ سَنَةٍ شَمْسِيةٍ. وهذه المَنازِلُ يكون منها فيها بينَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها أرْبَعَةَ عَشَرَ مَنْزِلًا، ومِثْلُها مِن غُرُوبِها إلى طُلُوعِهِا (¬1)، وَقْتُ الفَجْرِ منها مَنْزِلان، ووقْتُ المَغْرِبِ مَنْزِلٌ، وهو نِصْفُ سُدْسِ سَوادِ اللَّيْلِ، و (كلُّها تَطْلُعُ مِنِ المَشْرِقِ) عن يُسْرَةِ المُصَلِّي (وتَغْرُبُ عن يَمِينِه في المَغْرِبِ) إلَّا أنَّ أوائِلَ الشَّامِيَّةِ وأواخِرَ اليَمانِيَّةِ، وأوَّلَ اليَمانِيَّةِ وآخِرَ الشَّامِيَّةِ، تَطْلُعُ مِن وَسَطِ المَشْرِقِ أو قَرِيبًا منه، بحيث إذا جَعَل الطَّالِعَ منها مجاذِيًا لكَتِفِه الأيْسَرِ كان مُسْتَقْبِلا للكَعْبَةِ. والمُتَوَسِّطُ مِن الشَّامِيَّةِ، وهو الذِّراعُ وما يَلِيه مِن الجانِبَيْن يَمِيلُ (¬2) مَطْلَعُه إلى ناحِيَة الشَّمالِ، والمُتَوَسِّطُ مِن اليَمانِيَّةِ كالبَلْدَةِ وما هو مِن جانِبَيْها يَمِيلُ مَطْلَعُه إلى التَّيامُنِ، فاليَمانِيُّ منها يَجْعَلُه أمامَ كَتِفِه اليُسْرَى، والشَّامِيُّ يَجْعَلُه خَلْف كَتِفِه، وكذلك الغاربُ عندَ الكتِفِ الأيمَنِ. وإن عَرَف المُتَوَسِّطَ منها بأن يَرَى بينَه وبينَ أُفُقِ السماءِ سَبْعَةً مِن الجانِبَيْن اسْتَقْبَلَه (2)، ولكلِّ نَجْمٍ مِن هذه المَنازِلِ نُجُومٌ تُقارِبُه وتُقارِنُه، حُكمُها حُكْمُه، ويُسْتَدَلُّ بها عليه، كالنَّسْرَيْن، والشَّعْرَيَيْن، والسِّماكِ الرَّامِحِ، وغيرِ ذلك. وسُهَيْلٌ نَجْمٌ كبيرٌ، [من نَحْوِ] (¬3) مَهَبِّ الجَنُوبِ، ثم يَسِيرُ ¬

(¬1) في م: «طلوع». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «نحوًا من».

352 - مسألة: (والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى، مارة إلى يمينه)

وَالرِّيَاحُ الْجَنُوبُ تَهُبُّ مُسْتَقْبِلَةً لِبَطنِ كَتِفِ الْمُصَلِّي الْيُسْرَى، مَارَّةً إِلَى يَمِينِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حتَّى يَصِيرَ في قِبْلَةِ المُصَلِّي، ويَتَجاوَزها، ثم يَغْرُبُ قَرِيبًا مِن مَهَبِّ الدَّبُورِ، والنَّاقَةُ تَطْلُعُ في المَجَرَّةِ (¬1) مِن مَهَبِّ الصَّبا، وتَغِيبُ في مَهَبِّ الشَّمَالِ. فصل: والشَّمْسُ تَخْتَلِفُ مَطالِعُها ومَغارِبُها، على حَسَبِ اخْتِلافِ مَنازِلها، تَطْلُعُ مِن المَشْرِقِ، وتَغْرُبُ في المَغْرِبِ. والقَمَرُ يَبْدَأ أوَّلَ لَيْلَةٍ في المَغْرِبِ، ثم يَتَأخَّرُ كل لَيْلَةٍ مَنْزِلًا، حتَّى يكُونَ في السَّابِعِ وَقْتَ المَغْرِبِ في قِبْلَةِ المُصَلِّي، مائِلًا عنها قَلِيلًا إلى الغَرْبِ، ثم يَطْلُعُ لَيْلَةَ الرَّابعَ عَشَرَ مِن المَشْرِقِ، وليلةَ إحْدَى وعِشرِين يكُونُ في قِبْلَةِ المُصَلَّى، أو قَرِيبًا مِنها، وَقْتَ الفَجْرِ، وتَخْتَلِفُ مَطالِعُه باخْتِلافِ مَنازِلِه. 352 - مسألة: (والرِّياحُ الجَنُوبُ تَهُبُّ مُسْتَقبِلَةٌ لبَطْنِ كتِفِ المُصَلِّي اليُسْرَى، مارَّةٌ إلى يَمِينِه) مِن الزَّاوِيَةِ التي بينَ القِبْلَةِ والمَشْرِقِ ¬

(¬1) في م: «المحرم».

والشَّمَالُ مُقَابِلَتُهَا تَهُبُّ إلَى مَهَبِّ الْجَنُوبِ، وَالدَّبُورُ تَهُبُّ مُسْتَقْبِلَةٌ شَطر وَجْهِ الْمُصَلِّي الْأَيْمَنَ، وَالصَّبَا مُقَابِلَتُهَا تَهُبُّ إلَى مَهَبِّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والشَّمال مُقابِلَتُها، تَهُبُّ إلى مَهَبِّ الجَنُوبِ. والدَّبُورُ تَهُبُّ) مِن الزَّاوِيَةِ التي بينَ القِبْلَةِ والمَغْرِبِ، (مُسْتَقْبلَةً شَطْرَ وَجْهِ المُصَلِّي الأيمَن، والصَّبا مُقابِلَتُها تَهُبُّ إلى مَهَبِّها) فهذه الرِّياحُ التي يُسْتَدَلُّ بها، وتُعْرَف بصِفاتِها وخَصائِصِها، ورُبَّما هَبَّتْ هذه الرِّياحُ بينَ الحِيطانِ والجِبالِ فتَدُورُ، فلا اعْتِبار بها. وبينَ كلِّ رِيحَيْن منها رِيحٌ تُسَمَّى النَّكباءَ؛ لتَنَكُّبِها طَرِيقَ الرِّياحِ المَعْرُوفَةِ، فهذا أَصَحُّ ما يُسْتَدَلُّ به على القِبْلَةِ. وقد يَسْتَدِلُّ (¬1) أهل كلِّ بَلْدَةٍ على القِبْلَةِ بأدِلَّةٍ تَخْتَصُّ بها؛ مِن جِبالِها ¬

(¬1) في م: «يهتدى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنْهارِها، وغيرِ ذلك. وذَكَر أصحابُنا الاسْتِدْلالَ بالأنْهارِ الكِبارِ، وقالوا: كلُّها تَجْرِى عن يَمْنَةِ المُصَلِّى إلى يَسْرَتِه، على انْحَرافٍ قَلِيلٍ، كَدِجْلةَ والفُراتِ والنَّهْروانِ، ولا اعْتِبار بالأنْهارِ الصِّغارِ ولا المُحْدَثَةِ؛ لأنَّها تَحْدُثُ (¬1) بحَسَبِ الحاجاتِ ما خلا نَهْرَيْن؛ أحَدُهما، العاصِى بالشّامِ. والآخَرُ، سَيْحُونُ بالمَشْرِقِ. قال شيخُنا (¬2): وهذا لا يَنْضَبط؛ فإنَّ الأرْدُنَّ بالشَّامِ يجْرى (1) نَحْوَ القِبْلَةِ، وكَثِيرٌ ما يَجْرِى نَحْوَ البَحرِ، يَصُبُّ فيه. واللهُ أعلمُ. فصل: فإن خَفِيَتِ الأدِلَّةُ على المُجْتَهِدِ؛ لغَيْم أو ظُلْمَةٍ، تَحَرَّى وصَلَّى، وصَحَّتْ صَلاتُه، لأَنَّه بَذَل وُسْعَه في مَعْرِفَةِ الحَقِّ، مع عِلْمِه بأدلَّتِه، أشْبَهَ الحاكِمَ إذا خَفِيَتْ عليه عِلَّةُ (1) النُّصُوصِ. وقد روَى عبدُ أدلَّةِ بنُ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ، عن أبِيه، قال: كُنّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَير في لَيْلَةٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغنى 2/ 106.

353 - مسألة: (وإذا اختلف اجتهاد رجلين، لم يتبع أحدهما صاحبه. ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه)

وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، لَمْ يَتْبَعْ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَيَتْبَعُ الْجَاهِلُ وَالْأَعْمَى أوْثَقَهُمَا في نَفْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُظْلِمَةٍ، فلم نَدْرِ أين القِبْلَة، فصَلَّى كلُّ (¬1) رجلٍ منَّا حِيالَه، فلَمَّا أصْبَحْنا ذَكَرْنا ذلك للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فنَزَلَ: {فَأيْنَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬2). رواه ابنُ ماجَه، والتِّرمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسنٌ، إلَّا أنَّه مِن حديثِ أشْعَثَ السَّمَّانِ (¬4)، وفيه ضَعْفٌ. 353 - مسألة: (وإذا اختَلَفَ اجْتِهادُ رَجُلَيْن، لم يتْبَعْ أحَدُهما صاحِبَه. ويَتْبَعُ الجاهِلُ والأَعْمَى أوْثَقَهما في نَفْسِه) متى اخْتَلَفَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 115. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 326. والتِّرمذيّ؛ في: باب ما جاء في الرَّجل يصلي لغير القبلة، من أبواب الصلاة، وفي: باب حَدَّثَنَا محمود بن غيلان، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 2/ 143، 11/ 79. (¬4) في الأصل: «السماك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُجْتهِدان، ففَرْضُ كلِّ واحِدٍ منهما الصلاةُ إلى الجِهَةِ التي يُؤدِّيه إليها اجْتِهادُه، فلا يَسَعُه تَرْكُها، ولا تَقْلِيدُ صاحِبه، وإن كان أعْلَمَ منه، كالعالِمَيْن يَخْتَلِفان في الحادِثَةِ. فإنِ اجْتَهَدَ أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، لم يَجُزْ له تَقْلِيدُ مَن اجْتَهَدَ، حتَّى يَجْتَهِدَ بنَفْسِه وإن ضاقْ الوَقْتُ، كالحاكِم لا يَسَعُه تَقْلِيدُ غيرِه. وقال القاضي: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ في المُجْتَهِدِ، أنَّه يَسَعُه تَقْلِيدُ غيرِه إذا ضاق الوَقْتُ عن اجْتِهادِه. قال: لأنَّ أحمدَ قال، في مَن هو في مَدِينَةٍ، فتَحَرَّى، فصَلَّى لغيرِ القِبْلَةِ في بَيْتٍ: يُعِيدُ؛ لأنَّ عليه أن يَسْألَ. قال شيْخُنا (¬1): وما اسْتَدَلَّ به لا دَلِيلَ فيه، وكَلامُ أحمدَ إنَّما دَلَّ على أنَّه ليس لمَن في المِصْيرِ الاجْتِهادُ، لأنِّه يُمْكِنُه التَّوَصُّلُ إلى مَعْرِفَةِ القِبْلَةِ بالخَبرِ، وكذلك (¬2) لم يُفرِّقْ بينَ ضِيق الوَقْتُ وسَعَتِه، مع الاتِّفاقِ على أنَّه لا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مع سَعَة الوَقْتِ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 108. (¬2) في تش: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى اخْتَلَفَ اجْتِهادُهما، لم يَجُزْ لأحَدِهما أن يَؤْمَّ صاحِبَه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَعْتَقِدُ خَطَأ الآخرِ، فلم يَجُزْ له الائْتِمامُ به؛ لو خَرَجَتْ مِن أحَدِهما رِيحٌ، واعْتَقَدَ كلُّ واحِدٍ منهما أنَّها مِن الآخَرِ. قال شَيْخُنا (¬1): وقِياسُ المَذْهَبِ جَوازُ ذلك. وهو مَذْهَبُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صلاةِ الآخَرِ، وأنَّ فَرْضَه التَّوَجُّهُ إلى ما تَوَجَّهَ إليه، فلم يَمْنَعْ الاقْتِداءَ به اخْتِلافُ الجِهَةِ، كالمُصَلِّين حَوْلَ الكَعْبَةِ. وقد نَصَّ أحمدُ على صِحَّةِ الصلاةِ خلفَ المُصَلِّي في جُلُودِ الثَّعالِبِ، إذا كان يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الصلاةِ فيها، وفارَق ما إذا اعْتَقَدَ كلُّ واحِدٍ منهما حَدَثَ صاحِبِه، لأنَّه يَعْتَقِدُ بُطْلانَ صَلاِته، بحيث لو بأن له يَقِينًا حَدَثُ نَفْسِه، أعاد الصلاةَ، بخِلافِ هذا. وهذا هو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى. فأمّا إن مال أحَدُهما يَمِينًا، والآخَرُ شِمالًا، مع اتِّفاقِهما في الجِهَةِ، فلا يَخلِفُ المَذْهَبُ في صِحَّةِ ائْتِمامِ أحَدِهما بالآخَرِ، لاتِّفاقِهما في الجهَةِ الواجِبِ اسْتِقْبالُها. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 109.

354 - مسألة: (ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 354 - مسألة: (ويَتْبَعُ الجاهِلُ والأعْمَى أوْثَقَهما في نَفْسِه) (¬1) متى اخْتَلَفَ مُجْتَهِدان، وكان معهما أعْمى، أو جاهِلٌ لا يَقْدِرُ على تَعَلُّمِ الأدِلَّةِ قَبلَ خُروجِ الوَقْتِ، ففَرْضُه تَقْلِيدُ أوْثَقِهما في نَفْسِه، وأعْلَمِهما، وأكْثَرِهُما تَحَرِّيًا؛ لأنَّ الصَّوابَ إليه أقْرَبُ. فإن قَلَّدَ المَفْضُولَ، فظاهِرُ كلامِه هاهنا، أنَّه لا تَصِحُّ صَلاتُه؛ لأنَّه ترَك ما يَغْلِبُ على ظَنِّه أنَّه الصَّوابُ، فلم يَجُزْ له ذلك، كالمُجْتَهِدِ يَتْرُكُ اجْتِهادَه. والأوْلَى صِحَّتُها، وهو مَذْهَب الشافعيِّ؛ لأنَّه أَخَذَ بدَلِيلٍ له الأخْذُ به لو انْفرَدَ، فكذلك إذا كان معه غيرُه، كما لو اسْتوَيا، ولا عِبْرَة بِظَنِّه، فإنَّه لو غَلَب على ظَنِّه إصابَة المَفْضُولِ، لم يَمْنعْ ذلك تقليدَ الأفْضَل. فإنِ اسْتَوَيا قَلَّدَ مَن شاء منهما، كالعامِّيِّ مع العُلمَاءِ في بَقِيَّةِ الأحْكامِ. ¬

(¬1) هذه المسألة جزء من مسألة 353.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُقَلدُ مَن لا يُمْكِنه الصلاةُ باجْتِهادِ نَفْسِه؛ إمّا لعَدَمِ بَصَره أو بَصِيرَتِه، بحيث لا يُمْكِنُه التَّعَلُّمُ قبلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصلاةِ، فإن أمْكنَه التَّعلُّمُ قبل خروجِ الوَقْتِ لَزِمَه، فإن صَلَّى قبلَ ذلك لم يَصِحَّ؛ لأنَّه قَدَر على الصلاةِ باجْتِهادِه، فلم يَجُزْ له التَّقْلِيد، كالمُجْتَهِدِ. ولا يلْزَمُ [هذا على] (¬1) العامِّيِّ؛ حيث لم يَلْزَمْه تَعَلُّمُ الفِقْهِ لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ الفِقْهَ ليس بشَرْطٍ في صحةِ الصلاةِ. الثاني، أنَّه يَشُقُّ، ومُدِّتُه تَطولُ. فإن أخَّرَ هذا التَّعَلُّمَ والصلاةَ حتَّى، ضاق الوَقْتُ عن التَّعَلُّمِ والاجْتِهادِ، أو عن أحدُهما، صَحَّتْ صَلاتُه بالتَّقْلِيدِ، كالذى يَقْدِرُ على تَعَلُّمِ الفاتِحَةِ، فيَضِيقُ الوَقْتُ عن تَعَلُّمِها. وإن كان بالمُجْتَهِدِ ما يَمْنَعُه رُويَةَ الأدِلَّةَ؛ كالرَّمَدِ، والمَحْبُوسِ في مكانٍ لا يَرَى فيه الأدِلَّةَ، ولا يَجِدُ مُخْبِرًا إلَّا مُجْتهِدًا، فهو كالأعْمَى في جَوازِ تَقْلِيدِه. فصل: فإذا شَرَع في الصلاةِ بتَقْييدِ مُجْتَهِدٍ، فقال له قائِلٌ: قد أخْطَأْتَ القِبْلَةَ. وكان يُخْبِرُ عن يَقِينٍ، كمَن يقُول: قد رَأَيتُ الشَّمْسَ، ونَحْوَها، وتَيَقَنْتُ خَطَأك. لَزِمَه الرُّجُوعُ إلى قَوْلِه، لأنَّه لو أخْبَرَ بذلك المُجْتَهِدَ الَّذي قَلَّدَه الأعْمى، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِه، فالأعْمَى أوْلَى، وإن أخْبَرَه عن ¬

(¬1) في الأصل: «على هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اجْتِهادِه، [أو لم يُبَيِّنْ له، ولم] (¬1) يَكُنْ في نَفْسِه أوْثَقَ مِن الأوَّلِ، مَضَى على ما هو عليه؛ لأنَّه شَرَع في الصلاةِ بدَلِيل يَقِينًا، فلا يَزُول عنه بالشَّكِّ. وإن كان أوْثَقَ مِن الأوَّلِ في نَفْسِه، وقلْنا: لا يَلْزَمُه تَقْلِيدُ الأفْضَلِ. فكذلك، وإلَّا رجَع إلى قَوْلِه، كالمُجْتَهِدِ إذا تَغَيَّرَ اجْتِهادُه في أثْناءِ صَلاتِه. فصل: ولو شَرَع مُجتَهِدٌ في الصلاةِ باجْتِهادِه، فعَمِيَ فيها، بَنَى على ما مَضَى مِن صَلاتِه، لأنَّه إنَّما (¬2) يُمْكنُه البِناءُ على اجْتِهادِ غيرِه، فاجْتِهادُ نَفْسِه أوْلَى، فإنِ اسْتَدارَ عن تلك الجِهَةِ، بَطَلَتْ صَلاتُه. وإن أخْبَرَه مُخْبِرٌ بخَطَئِه عن يَقين، رَجَع إليه. وإن كان عن اجْتِهادِه (¬3) لم يَرْجِعْ إليه؛ لِما ذكَرْنا. وإن شَرَع فيها وهو أعْمَى، فأبصَرَ في أثْنائِها، فشاهَدَ ما يَسْتَدِلُّ به على صَوابِ نفْسِه مِن العَلاماتِ، مَضَى عليه، لأنَّ الاجْتِهادَيْن قد اتِّفقَا. وإن بان له خَطَؤُه، اسْتَدارَ إلى الجِهَةِ التي أدَّاه اجْتِهادُه إليها، وبَنَى كالمُجْتَهِدِ إذا تَغيَّر اجْتِهادُه في أثْناءِ الصلاةِ. وإن لم يَتَبَيَّنْ له صَوابٌ ولا خطَأٌ، بَطَلَتْ صَلاتُه، واجْتهَدَ؛ لأنَّ فَرْضَه الاجْتِهادُ، فلم يَجُزْ له أداءُ فَرْضِه بالتَّقْلِيدِ؛ كما لو كان بَصِيرًا في ابْتِدائِها. وإن كان مُقَلِّدًا، مَضَى في صَلاتِه؛ لأنَّه ليس في وَسْعِه إلَّا الدَّلِيلُ الَّذي بَدَأ به فيها (¬4). ¬

(¬1) في الأصل: «ولم يبين له لم». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «اجتهاد». (¬4) في تش: «فيه».

355 - مسألة: (وإذا صلى البصير في حضير، فأخطأ، أو صلى الأعمى بلا دليل، أعادا

وَإذَا صَلَّى الْبَصِيرُ في حَضَرٍ فَأخْطَأ، أوْ صلَّى الْأَعْمَى بِلَا دَلِيل، أَعادَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 355 - مسألة: (وإذا صَلَّى البَصِيرُ في حَضَير، فأخْطَأ، أو صَلَّى الأعْمَى بلا دَلِيلٍ، أعادا (¬1) متى صَلَّى البَصِيرُ في الحَضَرِ، ثم بان له الخَطَأُ، أعاد، سَواءٌ صَلَّى باجْتِهادِه أو غيرِه؛ لأنَّ الخضَرَ ليس بمَحَلٍّ للاجْتِهادِ، لقُدْرَةِ مَن فيه على الاسْتِدْلالِ بالمَحارِيبِ ونَحْوِها، ولأنَّه يَجِدُ مَن يُخْبِرُه في يَقِين غالِبًا، فلم يَكُنْ له الاجْتِهادُ، كواجِدِ النَّصِّ في سائِرِ الأحْكامِ. وإنْ صَلَّى مِن غيرِ دَلِيلٍ أخْطَأ؛ لتَفْرِيطه، وإن أخْبَرَه مُخْبِر، فأخْطَأ، فقد تَبَيَّنَ أنَّ خَبَرَه ليس بدَلِيلٍ. فإن كان مَحْبُوسًا، لا يَجدُ مَن يُخْبِرُه، فقال أبو الحسنِ التَّمِيمِيُّ: يُصَلِّي بالتَّحَرِّي ولا يُعِيدُ؛ لأَنَّه عاجِزٌ عن الاسْتِدْلالِ بالخَبرِ والمَحارِيبِ، [أشْبَهَ المُسافِرَ. وأمّا الأعْمَى، فهو في الحَضَرِ كالبَصِيرِ بقُدْرَته على الاسْتِدْلالِ بالخَبَرِ والمَحارِيبِ] (¬2) فإنَّه يَعْرِفُ المِحْرابَ باللَّمْسِ، وذلك يَعْلَمُ أنَّ بابَ المَسْجِدِ إلى الشَّمالِ أو غيرِها، فيُمْكِنُه الاستدْلالُ به، فمتى أخْطَأ أعاد، وكذلك حُكْمُ المُقَلِّدِ في هذا. ¬

(¬1) في م: «أعاد». (¬2) سقط من: الأصل.

356 - مسألة: (فإن لم يجد الأعمى من يقلده، صلى، وفي الإعادة روايتان. وقال ابن حامد: إن أخطأ، أعاد، وإن أصاب، فعلى وجهين)

فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْأَعْمَى مَنْ يُقَلِّدُهُ، صَلَّى، وَفِي الْإعَادَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 356 - مسألة: (فإن لم يَجدِ الأعْمَى مَن يُقَلِّدُه، صَلَّى، وفي الإِعادَةِ رِوايَتان. وقال ابنُ حامِدٍ: إن أَخْطَأ، أعاد، وإن أصاب، فعلى وَجْهَيْن) وإذا كان الأعْمَى أو المُقَلِّدُ في السَّفَرِ، ولم يجِدْ مُخْبِرًا ولا مُجْتَهِدًا يُقَلِّدُه، فقال أبو بكرٍ: يُصَلِّي على حَسَبِ حالِه. وفي الإعادَةِ رِوايَتان؛ إحْداهما، يُعِيدُ بكلِّ حالٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه صَلَّى مِن غيرِ دَلِيلٍ،

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ أخْطَأ أعَادَ، وَإِنْ أصَابَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَزِمَته الإِعادَةُ وإن أصاب، كالمُجْتَهِدِ إذا صَلَّى بغيرِ اجْتِهادٍ. والثانيةُ، [لا إعادَةَ] (¬1) عليه؛ لأنَّه أتَى بما أُمِرَ به، أشْبَهَ المُجْتَهِدَ، ولأنَّه عاجِزٌ عن غيرِ ما أتَى به، فَسَقَطَ عنه، كسائِرِ العاجِزِين عن الاسْتِقْبالِ، ولأنَّه عادِمٌ للدَّلِيلِ، أشْبَهَ المُجْتَهِدَ في الغَيْمِ. وقال ابنُ حامِدٍ: (إن أخْطَأ أعاد)؛ لفَواتِ. الشَّرْطِ، (وإن أصاب فعلى وَجْهَيْن) وَجْهُهما مَا (¬2) ذَكَرْنا. [وقد ذَكَرْنا] (¬3) أنَّ هذا حُكْمُ المُقَلِّدِ، فأمّا إن وَجَد مَن يُخْبِرُه أو يُقلِّدُه فلم يَفْعَلْ، أو خالَفَ المُخْبرَ أو المجْتَهِدَ وصَلَّى، بَطَلَتْ صَلاتُه بكلِّ حالٍ. وكذلك المجْتَهِدُ إذا صَلِّى بن غيرِ اجْتِهادٍ، أو أدّاه (¬4) اجْتِهادُه إلى جِهَةٍ فخالَفَها؛ لأنَّه تَرَك ما أُمِرَ به، أشْبَهَ تارِك التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ مع عِلْمِه بها. ¬

(¬1) في م: «الإعادة». (¬2) في م: «كما». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «وأداه».

357 - مسألة: (ومن صلى بالاجتهاد [إلى جهة]

وَمَنْ صَلَّى بالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ عَلِمَ أنَّهُ أخْطَأَ الْقِبْلَةَ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 357 - مسألة: (ومَن صَلَّى بالاجْتِهادِ [إلى جِهَةٍ] (¬1)، ثم عَلِم أنَّه أخْطَأ القِبْلَةَ، فلا إعادَةَ عليه) وكذلك حُكمُ المُقَلِّدِ الَّذي صَلَّى بتقْلِيدِه. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيْه، وقال في الآخَرِ: تَلْزَمُه الإعادَةُ، لأنَّه أخْطَأ في شَرْطٍ مِن شُرُوطِ الصلاةِ، فلَزِمَتْه الإِعادَةُ، كما لو صَلَّى ثم بان أنَّه أخْطأ في الوَقْتِ، أو بغيرِ طهارةٍ. ولَنَا، حديثُ عامِرِ بنِ رَبِيعةَ (¬2) الَّذي ذَكَرْناه، [ولأنَّه أتَى بما أُمِرَ، فخَرَجَ عن العُهْدَةِ، كالمُصِيبِ، ولأنَّه صَلَّى إلى غيرِ الكَعْبَةِ للعُذْرِ، أشْبَهَ الخائِفَ] (1)، ولأَنَّه شَرْطٌ عَجَز عنه، أشْبهَ سائِرَ الشُّرُوطِ. وأمَّا المُصَلِّي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الوَقْتِ. فإنَّه لم يَأتِ بما أُمِرَ به، إنما أُمِرَ بالصلاةِ في الوقتِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا، فإنَّه مَأمُورٌ بالصلاةِ بغيرِ شَكٍّ، ولم يُؤْمَرْ إلَّا بهذه الصلاةِ، لأنَّ غيرَها مُحَرَّمَة عليه إجْماعًا، وسائِرُ الشُّروطِ إذا عَجَز عنها سَقَطتْ، كذا هاهنا. ولا فَرْقَ بينَ كوْنِ الأدِلَّةِ. ظاهِرَةً فاشْتَبهتْ عليه، أو مَسْتُورَةً بِغَيْمٍ أو ما يَسْتُرُها عنه؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، فإنَّ الأدِلَّةَ اسْتَتَرَتْ عنهم بالغَيْمِ، ولأنَّه أتَى بما أُمِرَ به (¬1) في الحالَيْن، وعَجَز عن اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ في المَوْضِعَيْن، فاسْتَوَيا في عَدَمِ الإعادَةِ. فصل: وإن بان له يَقِينُ الخَطَأِ وهو في الصلاةِ، اسْتَدارَ إلى جِهَةِ الكَعْبَةِ، وبَنَى على ما مَضَى مِن صَلاتِه؛ لأنَّ ما مَضَى منها (¬2) كان صَحِيحًا، فجازَ البِناءُ عليه؛ لو لم يَبِنْ له الخَطَأ. وإن كانوا جَماعَةٌ، قد قَدَّمُوا أحَدَهم، ثم بان لهم الخَطَأ في حالٍ واحِدَةٍ، اسْتَدارُوا إلى الجِهَةِ التي بان لهم فيها الصَّوابُ، لأنَّ أهْلَ قُبَاءَ بلَغهم (¬3) تَحْوِيلُ القِبْلَةِ وهم في الصلاةِ، فاسْتَدارُوا إلى جهَةِ الكَعْبَةِ، وأتَمُّوا صَلَاتَهم. وإن بان للإِمامِ وَحْدَه، أو للمَأمُومِين، أَو لبَعْضِهم، اسْتَدارَ مَن بان له الصَّوابُ، ونَوَى بَعْضُهم مُفارَقَةَ بعضٍ، إلَّا على الوَجْهِ الَّذي قُلْنا، إنَّ لبَعْضِهم الائْتِمامَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «من صلاته». (¬3) في م: «بان لهم».

358 - مسألة: (فإن أراد صلاة أخرى، اجتهد لها، فإن تغير اجتهاده عمل بالثاني، ولم يعد ما صلى بالأول)

وَإنْ أرَادَ صَلَاةً أُخْرَى اجْتَهَدَ لَهَا، فَإنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ عَمِلَ بِالثَّانِي، وَلَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ببَعْضٍ، مع اخْتِلافِ الجِهَةِ. وإن كان فيهم مُقلِّدٌ، تَبع مَن قَلَّدَه، وانْحَرَفَ بانْحِرافِه. وإن قَلَّدَ الجَمِيعَ، لم يَنْحَرِفْ إلَّا بانْحِرافِ الجميعِ؛ لأنَّه شَرَع بدَلِيلٍ يَقِينِيٍّ، فلا يَنْحَرِفُ بالشَّكِّ إلَّا مَن يَلْزَمُه تَقْلِيدُ الأوْثَقِ، فإنَّه يَنْحَرِفُ بانْحِرافِه. 358 - مسألة: (فإن أراد صلاةً أُخْرَى، اجْتَهَدَ لها، فإن تَغَيَّرَ اجْتِهادُه عَمِل بالثاني، ولم يُعِدْ ما صَلَّى بالأَوَّلِ) وجُمْلَتُه أنَّ المُجْتَهِدَ متى صَلَّى بالاجْتهادِ التي جِهَةٍ صلاةً، ثم أراد صلاةً أُخْرَى، اجْتَهَدَ لها، كالحاكِمِ إذا اجْتَهَدَ في حادِثَه، ثم حَدَث مِثْلُها. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تَغَيَّرَ اجْتِهادُه، عَمِلَ بالثاني، ولم يُعِدْ ما صَلَّى بالأوَّلِ، كالحاكِمِ، لو تَغَيَّرَ اجْتهادُه في الحادِثَةِ الثانِيةِ عَمِل به، ولم يَنْقُضْ حُكْمَه الأوَّلَ. وهذا لا نَعْلَمُ فيه خلافًا. فإن تَغَيَّرَ اجْتِهادُه في الصلاةِ، اسْتَدارَ، وبَنَى على ما مَضَى. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال ابنُ أبي موسى والآمِدِيُّ: لا يَنْتَقِل؛ لِئَلَّا يَنْقضَ الاجْتِهادُ بالاجْتِهادِ. ولَنا، أنَّه مُجْتَهِدٌ أدَّاهُ اجْتِهادُه إلى جِهَةٍ، فلم تَجُزْ له الصلاة إلى غيرِها، كما لو أراد صلاةً أُخْرَى، وليس هذا نَقْضًا للاجْتِهادِ، إنَّما عَمِل به في المُسْتَقْبَلِ كما في الصلاةِ الأُخْرَى، وإنَّما يكونُ نَقْضًا للاجْتِهادِ إذا ألْزَمْناه إعادَةَ ما مَضَى مِن صلاتِه، فإن لم يَبْقَ اجْتِهادُه وظَنُّه إلى الجهَةِ الأُولَى، ولم يُؤْدِّه اجْتِهادُه إلى جِهَةٍ أُخْرَى، بَنَى على ما مَضَى؛ لأنَّه لم يَظهَرْ له جِهَةً أُخْرَى يتَوَجهُ إليها. وإن شَكَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في اجْتِهادِه، لم يَزُلْ عن (¬1) جِهَتِه؛ لأنَّ الاجْتِهادَ ظاهِرٌ، فلا يَزُولُ عنه بالشَّكِّ. وإن بان له الخَطَأُ، ولم يَعْرِفْ جِهَة القِبْلَةِ، كمَن كان يُصَلِّي إلى جِهَةٍ، فرَأى بعضَ مَنازِلِ القَمَرِ في قِبْلَتِه، ولم يَدْرِ أهو الشَّرْقِ أم في الغَرْبِ، واحْتاجَ إلى الاجْتِهاد، بَطَلَتْ صَلاتُه؛ لأنَّه لا يُمْكنُه اسْتِدامَتُها إلى غيرِ القِبْلَةِ، وليست له جِهَةٌ يَتَوَجَّهُ إليها، فبَطَلَتْ؛ لتَعَذُّرِ إتْمامِها. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «على».

باب النية

بَابُ النِّيَّةِ وَهِيَ الشَّرْطُ السَّادِسُ لِلصَّلَاةِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ النِّيَّةِ (وهي الشَّرْطُ السَّادِسُ للصلاةِ، على كلِّ حالٍ) النِّيَّةُ هي القَصْدُ. يُقال: نَواكَ (¬1) اللهُ بَخَيْرِ. أي: قَصَدَك. ومَحَلُّها القَلْبُ، فإن لَفَظ بما نَواه كان تَأَكِيدًا، وإن سَبَقَ لِسانُه إلى غيرِ ما نَواه، لم تَفْسُدْ صلاتُه، وإن لم يَنْطِقْ بلِسانِه أجْزأ. وهي واجبَةٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، ولا تَنْعَقِدُ الصلاةُ إلَّا بها، ولا تسْقطُ بحالٍ، لقوْلِ الله تَعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). والإخْلاصُ عَملُ القَلْب، وهو أن يَقْصِدَ بعَمَلِه اللهَ تعالى وَحْدَه دُون غيرِه؛ ولقولِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نوَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «نوانى». (¬2) سورة البينة 5. (¬3) تقدم في 1/ 308.

359 - مسألة: (ويجب أن ينوي الصلاة بعينها إن كانت معينة، وإلا أجزأته نية الصلاة.)

وَيَجِبُ أنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ بعَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً، وَإِلَّا أجْزَأتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 359 - مسألة: (وَيَجِبُ أنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ بعَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً، وَإِلَّا أجْزَأتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ.) متى كانتِ الصلاةُ مُعَيَّنَةَ، لَزِمَه شَيْئانِ؛ نِيَّةُ الفِعلِ، والتَّعْيِينُ، فإن كانت فَرْضًا؛ ظُهْرًا أو عَصْرًا أو غيرَهما، لَزِمَه تَعْيِينُها. وكذلك إن كانت نَفْلًا مُعَيَّنةَ؛ كالوَتْرِ وصلاةِ الكُسُوفِ والاسْتِسْقاءِ والسُّنَنِ الرَّواتِب، لَزِمَه التَّعْيينُ أَيضًا؛ لعُمُومِ الحديثِ، وإن كانت نافِلةً مُطْلَقةً، كصلاةِ اللَّيْلِ أجْزَأتْه نِيَّةُ مُطْلَقِ الصلاةِ لا غيرُ، لعَدَمِ التَّعيِينِ فيها.

360 - مسألة: (وهل تشترط نية القضاء في الفائتة، ونية الفرضية في الفرض؟ على وجهين)

وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ في الْفَائِتَةِ، وَنِيِّةُ الْفَرْضِيَّةِ في الْفَرْضِ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 360 - مسألة: (وهل تُشْتَرَط نِيَّةُ القَضاءِ في الفائِتَةِ، ونِيَّةُ الفرْضِيَّةِ في الفَرْضِ؟ على وَجْهَيْن) اخْتَلَف أصحابُنا في نِيَّةِ الفَرْضِيَّة في الفرْضِ؛ فقال بعضُهم: لا تجِبُ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ يُغْنِي عنها؛ لكَوْنِ الظُّهْرِ لا تكُونُ مِن المُكَلَّفِ إلَّا فَرْضًا. وقال ابنُ حامِدٍ: لابُدَّ منها؛ لأنَّ المُعَيَّنَةَ قد تكُونُ نَفْلًا، كظُهْرِ الصَّبِيِّ والمُعادَةِ، فعلى هذا يحْتاجُ إلى نِيَّةِ الفِعْلِ والتَّعْيِينِ والفَرْضِيَّةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَنْوِي الأداءَ في الحاضِرَة والقضاءَ في الفائِتَةِ، وهل يجِبُ ذلك؟ على وَجْهَيْن، أحَدُهما، يَجِبُ؛ لقولِه: «وَإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى». والثاني، لا يَجِبُ. وهو أوْلَى؛ لأنَّه لا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه لو صَلَّى يَنْوِيها أداءً، فبان أنَّ وَقْتَها قد خَرَج، أنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، وتَقَعُ قَضاءً. وكذلك لو نَواها قَضاءٌ ظَنًّا أن الوَقْت قد خَرَج، فبانَ فِعْلُها في وَقْتِهَا، وقَعَتْ أداءً مِن غيرِ نِيَّتِه، كالأسِيرِ إذا تَحَرَّى وصام، فبان أنَّه وافَقَ الشَّهْرَ، أو ما بعدَه، أجْزأه. فأمّا إن ظَنَّ أنَّ عليه ظُهْرًا فائِتَة، فقَضاها في وَقتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظُهْر اليَوْم، ثم بان أنَّه لا قَضاءَ عليه، أجْزأتْه في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنِّ الصلاةَ مُعَيَّنَةٌ، وإنما أخْطَأُ في نِيَّةِ الوَقْتِ، فلم يُوثِّرْ كما إذا اعْتَقَدَ أنَّ الوَقْتَ قد خَرَج، فبان أنَّه لم يَخْرُجْ، أو كما لو نَوَى ظُهْرَ أمس، وعليه ظُهرُ يَوْمٍ قبلَه. والثاني، لا يُجْزِئُه، لأنَّه لم يَنْوِ عَيْنَ الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو نَوَى قَضاءَ

361 - مسألة: (ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام)

وَيَأتِي بِالنِّيَّةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإحْرَامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَصْرٍ، فإنَّها لا تُجْزِئُه عن الظُّهْرِ. ولو نَوَى ظُهْرَ اليَوْم في وَقتِها، وعليه فائِتَةٌ، لم تُجْزِئْه عنها، ويَتَخَرَّجُ فيها كالتى قبلَها. فأَمَّا إن كانت عليه فَوائِتُ، فنَوَى صلاةً غيرَ مُعَيَّنَةٍ، لم تجْزِئْه عن واحِدَةٍ منها؛ لعَدَمِ التَّعْيِينِ. 361 - مسألة: (وَيَأتِي بِالنِّيَّةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإحْرَامِ) لأَنَّه أوَّلُ الصلاةِ، لتكونَ النِّيَّةُ مُقارِنَةً (¬1) للعِبادَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «مقاربة».

362 - مسألة: (فإن تقدمت قبل ذلك بالزمن اليسير جاز)

فَإن تَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 362 - مسألة: (فَإن تَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ جَازَ) ذَكَرَه أصحابُنا، ما لم يَفْسَخْها. واشْترَطَ الخَرقِيُّ أن يكونَ بعدَ دُخُولِ الوَقْتُ، فإن قَطَع النِّيَّةَ، أو طال الفَصْلُ، لم يُجْزِئْه. وهذا مَذْهبُ أبي حنيفةَ. وقال الشَّافعيُّ، وابنُ المُنْذِر: تُشْتَرَط مُقارَنَةُ النِّيَّةِ للتَّكبِيرِ، لقَوْلِه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. فقَوْلُه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {مُخْلِصِينَ}. حالٌ لهم في وَقْتِ العِبادَةِ، أي: مُخْلِصِين حالَ العِبادَةِ. والإخْلاصُ هو النِّيَّةُ، ولأنَّ النِّيَّةَ شرْطٌ، فلم يَجُزْ أن تَخْلُوَ العِبادَةُ عنها، كسائِرِ شُرُوطِها. ولَنا، أَنَّها عِبادَةٌ، فجار تَقْدِيمُ نِيَّتِها عليها، كالصومِ، وتَقْدِيمُ (¬1) النِّيَّةِ على الفِعْلِ لا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مَنْوِيًّا، ولا يُخْرجُ الفاعِلَ عن كَوْنِه مُخْلِصًا، كالصومِ، ولأنَّه جُزْءٌ مِن الصلاةِ، أشْبَهَ سائِر أجْزائِها. ¬

(¬1) في م: «وتقدم».

363 - مسألة: (ويجب أن يستصحب حكمها إلى آخر الصلاة)

وَيَجِبُ أنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَهَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 363 - مسألة: (وَيَجِبُ أنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَهَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ) مَعْنَى اسْتِصْحابِ حُكمِها، أن لا يَقْطَعَها، فلو ذَهَل عنها أو عَزَبَتْ عنه في أثْناءِ الصلاةِ، لم يُبْطِلْها؛ لأنَّ التَّحَرُّزَ مِن هذا غيرُ مُمْكِن، وقِياسًا على الصومِ وغيرِه، وقد روَى مالكٌ في «المُوَطَّإِ» (¬1)، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، أدْبَرَ الشَّيْطانُ وله حُصَاصٌ (¬2)، فإذَا قُضِيَ التَّثوِيبُ أقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كذا. حَتَّى يَظلَّ أحَدُكُمْ أنّ يَدْرِي كَمْ صَلَّى». ورُوِي أنَّ عُمَرَ صَلَّى صلاةً لم يَقْرَأْ فيها، فقِيلَ له: إنَّك لم تَقْرَأ. فقال: إنِّي جَهَّزْتُ جَيْشًا للمُسْلِمِين، حتَّى بَلَغْت بهم وادِي القُرَى (¬3). وإن أمْكَنَه اسْتِصْحابُ ذِكْرِها، فهو أفْضَلُ، لأنَّه أبْلغُ في الإخْلاصِ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في نداء الصلاة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 69، 70. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب فضل التأذين، من كتاب الأذان وفي باب يفكر الرَّجل الشيء في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة، وفي: باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثًا أو أربعًا سجد سجدتين وهو جالس، وباب السهو في الفرض والتطوع، من كتاب السهو، وفي: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق. صحيح البُخَارِيّ 1/ 158، 2/ 84، 85، 87، 4/ 151. ومسلم، في: باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، من كتاب الصلاة، وفي: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 291، 292، 398، 399. وأبو داود، في: باب رفع الصوت في الأذان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 123. والنَّسائيّ، في: باب فضل التأذين، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 19. والدارمي، في: باب الشيطان إذا سمع النداء فرَّ، وباب الرَّجل لا يدري أثلاثًا على أم أربعًا، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 273، 350، 351. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 313، 460، 483، 503، 504، 522. (¬2) الخصائص: الضراط. (¬3) وادى القرى: واد بين المدينة والشَّام، من أعمال المدينة، كثير القرى. معجم البلدان 4/ 878.

364 - مسألة: (فإن قطعها في أثنائها، بطلت الصلاة، وإن تردد في قطعها، فعلى وجهين)

فَإنْ قَطَعَهَا في أثْنَائِهَا، بَطَلَتِ الصَّلَاةُ، وَإنْ تَرَددَ في قَطْعِهَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 364 - مسألة: (فَإنْ قَطَعَهَا في أثْنَائِهَا، بَطَلَتِ الصَّلَاةُ، وَإنْ تَرَدَّدَ في قَطْعِهَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يُشْتَرَطُ أن يدْخُلَ في الصلاةِ بِنِيَّةٍ: جازِمَةٍ، فإن دَخَل بنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ مِنَ إتْمامِها وقَطْعِها، لم تَصِحَّ؛ لأنَّ النِّيَّةَ عَزْمٌ جازِمٌ، ولا يَحْصُلُ (¬1) ذلك مع التِّردُّد. فإن تَلبَّسَ بها بنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، ثم نَوَى قطْعَها أو الخُرُوجَ منها، بَطَلَتْ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَبْطُلُ بذلك؛ لأنَّها عِبادَةٌ دَخَلَها بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فلم تَفْسُدْ بنِيَّةِ الخُرُوجِ منها، كالحَجِّ. ولَنا، أنَّه تَطَع حُكْمَ النِّيَّةِ قبلَ إتْمام صَلاِته ففَسَدَتْ، كما لو سَلَّمَ يَنْوِي الخُرُوجَ منها، ولأن النِّيَّةَ شَرْطٌ في جَمِيع ¬

(¬1) في الأصل: «يجعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ، وقد قَطَعَها، ففَسَدَتْ، لذَهابِ شَرْطِها. وفارَق الحَجَّ؛ فإنَّه لا يَخْرُجُ منه بمَحْظُوراتِه، بخِلافِ الصلاةِ. فأمَّا إن تَرَدَّدَ في قَطعِها، فقال ابنُ حامِدٍ: لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه دَخَلَ فيها بِنِيَّةٍ مُتيَقَّنَةٍ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ والتَّردُّدِ، كسائِرِ العِباداتِ. وقال القاضي: يَحْتَمِل أن تبْطلَ. وهو مَذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ اسْتِدامَةَ النِّيَّةِ شرْطٌ، ومع التَّردُّدِ لا يَبْقَى مُسْتَدِيمًا لها، أشْبَهَ إذا نَوَى قَطعَها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَكَّ في أثْنَاء الصلاةِ في النِّيَّةِ، أو في تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ، اسْتَأنَفَها، لأنَّ الأَصْل عَدَمُها، فإن ذَكَر أنَّه كان قد نَوَى أو كَبَّرَ قبل قَطْعِها، أو شَرَع في عَمَل، فله البِناءُ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ مُبْطِلٌ لها. وإن عَمِل فيها عَمَلًا مع الشَّكِّ، بَطَلَتْ. ذَكرَه القاضي. وهو مَذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ هذا العَمَلَ عَرِيَ عن النِّيَّةِ وحُكْمِها؛ لأنَّ اسْتصْحابَ حُكْمِها مع الشَّكِّ لا يُوجَدُ. وقال ابن حامدٍ: لا تَبْطُلُ، ويَبْنِي؛ لأنَّ الشَّكَّ لا يُزِيلُ حُكْمَ النِّيَّةِ، فجاز له البِناءُ، كما لو لم يُحْدِثْ عَمَلًا؛ لأنَّه لو أزال حُكْمَ النِّيَّةِ لبَطَلَتْ كما لو نَوَى قَطْعَها. وإن شَكَّ هل نَوَى فَرْضًا أو نَفْلًا؟ أتَمَّها نَفْلًا، إلَّا أن يَذْكُرَ أنَّه نَوَى الفَرْضَ قبلَ أن يُحْدِثَ عَمَلًا،

365 - مسألة: (وإن أحرم بفرض، فبان قبل وقته، انقلب نفلا)

وَإِنْ أحْرَمَ بِفَرْضٍ، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ، انْقَلَبَ نَفْلًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُتمَّها فَرْضًا. وإن كان ذَكَرَه بعدَ أن أحْدَثَ عَمَلًا، خُرِّجَ فْيه الوَجْهان. فإن شَكَّ، هل أحْرمَ بظُهْرٍ أو عَصْرٍ؟ فحُكْمُه حُكْمُ ما لو شَكَّ النِّيَّةِ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، ويَحْتَمِلُ أن يُتِمَّها نَفْلًا كما لو أحْرَمَ بفَرْضٍ، فبان قبلَ وقْتِه. 365 - مسألة: (وَإِنْ أحْرَمَ بِفَرْضٍ، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ، انْقَلَبَ نَفْلًا) لأنَّ نِيَّةَ الفَرْضِ تَشْتَمِلُ على نِيَّةِ النَّفْلِ، فإذا بَطَلَتْ نِيَّةُ الفَرْضِيَّةِ بَقِيَتْ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصلاةِ.

366 - مسألة: (وإن أحرم به في وقته ثم قلبه نفلا، جاز، ويحتمل أن لا يجوز إلا لعذر، مثل أن يحرم منفردا، ثم

وَإِنْ أحْرَمَ بِهِ في وَقْتِهِ ثُمَّ قَلَبَهُ نَفْلًا، جَازَ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَجُوزَ إلَّا لِعُذْرٍ، مِثْلَ أن يُحْرِمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ يُرِيدَ الصَّلَاةَ في جَمَاعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 366 - مسألة: (وَإِنْ أحْرَمَ بِهِ في وَقْتِهِ ثُمَّ قَلَبَهُ نَفْلًا، جَازَ، وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَجُوزَ إلَّا لِعُذْرٍ، مِثْلَ أن يُحْرِمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ (¬1) يُرِيدَ الصَّلَاةَ في جَمَاعَةٍ) متى أحْرَمَ بفَرْض في وَقْتِه، ثم قَلَبَه نَفْلًا، فإن كان لغيرِ غَرَضٍ، ¬

(¬1) سقط ش: م.

367 - مسألة: (وإن انتقل من فرض إلى فرض بطلت الصلاتان (تبطل الأولى؛ لأنه قطع نيتها، ولا تصح الثانية؛ لأنه لم ينوها من أولها.

وَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ بَطَلَتِ الصَّلَاتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كرِه وصَحَّ؛ لأنَّ النَّفْلَ يَدْخُلُ في نِيَّةِ الفَرْضِ، أشْبَهَ ما لو أحْرمَ بفَرْضٍ، فبان قبلَ وَقْتِه، وكما لو قَلَبَها لغَرَضٍ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ. ويُكْرَهُ ذلك؛ لأنَّه أَبْطَلَ عَمَله. وقال القاضي في مَوْضِعٍ: لا يَصِحُّ، رِوايَةً واحِدَةً، كما لو انْتَقَلَ مِن فَرضٍ إلى فَرْضٍ. وقال في «الجامِعَ»: يُخَرَّجُ على رِوايتيْن؛ إحْداهما، يَصِحُّ، لِما ذَكَرْنا. والثَّانِيَةُ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه أبْطَل عَقلَه لغيرِ سَبَبٍ ولا فائِدَةٍ. وللشافعيِّ قَوْلان كالوَجْهَيْن. وإن كان لغَرَضٍ صَحِيحٍ؛ مِثْلَ مَن أحْرَمَ مُنْفَرِدًا، فحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، فقَلَبَها نَفْلًا، لتَحْصُل فضِيلَةُ الجَماعَةِ، صَحَّ مِن غيرِ كَراهَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا. وقال القاضي: فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، لا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنا. والثَّانِيَةُ، يَصِحُّ؛ لتَحْصُلَ له مُضاعَفَةُ الثَّوابِ. 367 - مسألة: (وَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ بَطَلَتِ الصَّلَاتَانِ (تَبْطُلُ الأولَى؛ لأنَّه قَطَع نِيَّتهَا، ولا تَصِحُّ الثَّانِيَة؛ لأنَّه لم يَنْوِها مِن أوَّلِها.

368 - مسألة: (ومن شرط الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهم)

وَمِنْ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإمَامُ وَالْمَأمُومُ حَالَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 368 - مسألة: (وَمِنْ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ أنْ يَنْوِيَ الْإمَامُ وَالْمَأمُومُ حَالَهُمَ) يُشْتَرَطُ أن يَنْوِيَ الإمامُ أنَّه إمامٌ، والمَأمُومُ أنَّه مَأمُومٌ؛ لأنَّ الجَماعَةَ يَتَعَلَّقُ بها أحْكامُ وُجُوبِ الاتِّباعِ، وسُقُوطِ السَّهْوِ عن المَأمُومِ، وفَسادِ صلاتِه بفَسادِ صلاةِ إمامِه، وإنَّما يَتَمَيَّزُ الإمامُ عن المَأمُومِ بالنِّيَّةِ، فكانت شَرْطًا. فإن نَوَى أحَدُهما دُونَ صاحِبِه، لم يَصِحَّ، ولأنَّ الجَمَاعَةَ إنَّما تَنْعَقِدُ بالنِّيَّةِ فاعْتُبِرَتْ منها قِياسًا لأحَدِهما على الآخَرِ. فإن صَلَّى رَجُلان، يَنْوِي كلُّ واحِدٍ منها أنَّه إمامُ صاحِبِه، أو مَأمُومٌ له، فصَلاتُهما فاسِدَةٌ. نَصَّ عليهما؛ لأنَّه ائْتَمَّ بمَن ليس بإمام في الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وأمَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من لم يَأتَمَّ به في الأُولَى. ولو رَأى رَجُلَيْن يُصَلِّيان، فنَوَى الائْتِمامَ بالمَأمُومِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ائْتَمَّ بمَن ليس بإمامٍ. وإن نوى الائْتِمَامَ بأحَدِهما، لا يعَينِه، لم يَصِحَّ حتَّى يُعَيِّنَ الإمامَ، لأنَّ تَعْيينَه شَرْطٌ. وإن نَوَى الائْتِمامَ بهما معًا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ائْتَمَّ بمَن ليس بإمامٍ، ولأنَّه لا يَجُوزُ الائْتِمامُ بأكْثَرَ مِن واحِدٍ. ولو نَوَى الائْتِمامِ بإمامَيْن، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اتِّباعُهما معًا.

369 - مسألة: (فإن أحرم منفردا، ثم نوى الائتمام، لم يصح، في أصح الروايتين)

فَإنْ أحْرَمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ نَوَى الِائْتِمَامَ، لَمْ يَصِحَّ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 369 - مسألة: (فَإنْ أحْرَمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ نَوَى الِائْتِمَامَ، لَمْ يَصِحَّ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) متى أحْرَمَ منْفرِدًا، ثم نَوَى جَعْلَ نَفْسِه مَأمُومًا؛ بأن تَحْضُرَ جَماعَةٌ، فيَنْوِي الدُّخُولَ معهم في صَلاتِهم، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَجُوز، سَواءٌ كان [في أوَّلِ الصلاةِ] (¬1) أو في أثْنائِها؛ لأنَّه نَقَل نَفْسَه إلى الجَماعَةِ، فجاز؛ لو نَوَى الإمامَةَ. والثانية، لا يَجُوز. وهي أَصَحُّ؛ لأنَّه نَقَل نَفْسَه مؤتَمًا، فلم يَجُزْ، كالإمامِ. وفارَقَ نَقْلَه إلى الإمامَةِ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه. قال أحمدُ، في رجلٍ دَخَل المَسْجِدَ، فصَلَّى رَكْعَتَيْن أو ثَلاثًا، يَنْوِي الظهْرَ، ثم جاء المؤذِّن فأقام الصلاة: سَلَّمَ مِن هذه، وتَصيرُ له تَطَوُّعًا، ويَدْخُلُ معهم. قِيل له: فإن دَخَل في الصلاةِ مع القَوْمِ واحْتَسَب بِه. قال: لا يُجْزئُه حتَّى يَنْوِيَ بها الصلاة مع الإمامِ في ابْتِداءِ الفَرْضِ. ¬

(¬1) في م: «أول صلاته».

370 - مسألة: (وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض. ويحتمل أن يصح، وهو أصح عندي)

وَإنْ نَوَى الْإمَامَةَ صَحَّ في النَّفْلِ وَلَمْ يَصِحَّ في الْفَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَصِحَّ، وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 370 - مسألة: (وَإنْ نَوَى الْإمَامَةَ صَحَّ في النَّفْلِ وَلَمْ يَصِحَّ في الْفَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَصِحَّ، وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي) إذا أحْرَمَ مُنْفرِدًا، ثم انتقَلَ إلى نِيَّةِ الإمامَةِ في النَّفْلِ، صَحَّ. نَصَّ عليه (¬1) أحمدُ، لِما روى ابنُ عباسٍ، قال: بتُّ عندَ خالَتِي مَيْمُونَةَ، فقام النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِن اللَّيْلِ، فقام إلى القِرْبَةِ، فتَوَضَّأ، فصَلَّى، فقام، فَقُمْتُ لَمّا رَأيتُه صَنَع ذلك، فتوَضَّأتُ مِن القِرْبَةِ، ثم قُمْتُ إلى شِقِّه الأيمَنِ، فأخَذَ بيَدِي مِن وراءِ ظَهْرِه يَعْدِلُنى كذلك إلى الشِّقِّ الأيْمَنِ. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) في م: «عليها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). واللَّفْظُ لمسلم. ورَوَتْ عائشة، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ، وجِدارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فرَأى النَّاسُ شَخْصَ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقام النّاسُ يُصَلُّون بصَلاِته (¬2). فصل: فأمَّا في الفَرِيضَةِ، فإن كان يَنْتَظِرُ أحَدًا، كَإمامِ المَسْجدِ يُحْرِمُ وحْدَه، ويَنْتَظِرُ مَن يَأتِي فيُصَلِّي معه، جاز ذلك. نَصَّ عليه؛ لأَنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أحْرَمَ وَحْدَه، فجاء جابِرٌ، وجَبّارٌ، فصَلَّى بهما. رَواه أبو داودَ (¬3). والظَّاهِر أنَّها كانت مَفْروضَةً، لأنَّهم كانوا مُسافِرِين. وإن لم ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب السمر في العلم، من كتاب العلم، في: باب التخفيف في الوضوء، من كتاب الوضوء، وفي: باب يقوم عن يمين الإمام. . . . إلخ، وباب إذا قام الرَّجل. . . . إلخ، وباب إذا لم ينو الإمام. . . . إلخ، وباب إذا قام الرَّجل عن يسار. . . . إلخ، وباب ميمنة المسجد والإمام، وباب وضوء الصبيان. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب الذوائب، من كتاب اللباس، وفي: باب الدعاء إذا انتبه بالليل، من كتاب الدعوات. صحيح البُخَارِيّ 1/ 40، 47، 138، 179، 185، 217، 7/ 209، 210، 8/ 86. ومسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل، وقيامه، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 525 - 531. وكذلك أخرجه أبو داود، في: باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان، من كتاب الصلاة، في باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 143، 313 - والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يصلي ومعه رجل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 30. والنَّسائيّ، في: باب الأمر بالوضوء من النَّوم، من كتاب الغسل، وفي: باب الجماعة إذا كانوا اثنين، من كتاب الإمامة. المجتبي 1/ 176، 2/ 81. وابن ماجه، في: باب الاثنان جماعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 312. والدارمي، في: باب مقام من يصلي مع الإمام إذا كان وحده، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 286. والإمام أَحْمد، في المسند 1/ 341، 343، 347. (¬2) رواه البُخَارِيّ، في: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 186. (¬3) في: باب إذا كان ثوبًا ضيقًا يتزر به من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 147، 148 وروايته مطولة. وأخرجه مسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه من كتاب المسافرين، وفي: باب حديث جابر الطَّويل. . . . إلخ؛ من كتاب الزهد. صحيح مسلم 1/ 532، 4/ 2305.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُنْ كذلك لم يَصِحَّ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأيِ، في الفَرْضِ والنَّفْلِ جَمِيعًا؛ لأنَّه لم يَنْوِ الإمامَةَ في ابْتِداءِ الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو ائتَمَّ بمَأمُومٍ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ (¬1)، وقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ عليه. وهو مَذهَبُ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬2): وهو الصَّحِيح إن شاء اللهَ؛ لأنَّه قد ثَبَت في النَّفْلِ بحديثِ ابنِ عباسٍ، وعائشةَ. والأصْل مُساواةُ ¬

(¬1) في م: «يصلى». (¬2) في: المغني 3/ 74.

371 - مسألة: (وإن أحرم مأموما، ثم نوى الانفراد لعذر، جاز)

فَإنْ أحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ نَوَى الِانفِرَادَ لِعُذْرٍ جَازَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرْضِ للنَّفْلِ في النِّيَّةِ، ومِمَا يُقَوِّي ذلك حديثُ جابِرٍ وجَبَّارٍ في الفَرْضِ، ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، فصَحِّ كحالَةِ الاسْتِخْلافِ، وبَيانُها أنَّ المُنْفَرِدَ إذا جاء قوْمٌ فأحْرَمُوا معه، فإن قَطَع الصلاةَ وأخْبَرَهم بحالِه، قَبُحَ؛ لِما فِيه مِن إبْطالِ العَمَلِ، وإن أتَمَّ الصلاةَ، ثم أخْبَرَهم بفَسادِ صَلاِتِهم، فهو أقْبَحُ وأشَقُّ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بحالَةِ الاسْتِخْلافِ. واللهُ أعلمُ. 371 - مسألة: (وَإنْ أحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ نَوَى الِانفِرَادَ لِعُذْرٍ، جَازَ) لِمَا روَى جابِرٌ، قال: صلَّى مُعاذٌ بقَوْمِه فقَرأ سُورَةَ البَقَرَةِ، فتَأخَّرَ رجلٌ فصَلَّى وَحْدَه، فقِيلَ له: نافَقْتَ. قال: ما نافَقتُ، ولكن لآتِينَّ رسولَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فأخْبِرُه. فأتَى النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فذَكَرَ له ذلك، فقال: «أفَتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذُ»؛ مَرَّتَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولم يأمُرِ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- الرجلَ بالإعادَةِ. والأعْذارُ التي يَخْرجُ لأجْلِها؛ مِثْلُ هذا، والمَرَضُ، وخَشْيَة غَلَبَةِ النُّعاسِ، أو شئٌ يُفْسِدُ صَلَاتَه، أو خَوْفُ فَواتِ مالٍ، أو تَلَفِه، أو فَوْتِ رِفْقَتِه، أو مَن يَخْرُجُ مِن الصَّفِّ ولا يجِدُ مَن يَقِفُ معه، ونَحْوُ ذلك. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا طوَّل الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، وباب من شكا إمامه إذا طوّل، من كتاب الأذان، وفي: باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 1/ 179، 180، 8/ 32. ومسلم، في: باب القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 339، 340. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التَّخفيف في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 182، 183. والنَّسائيّ، في: باب خروج الرَّجل من صلاة الإمام وفراغه من صلاته في ناحية المسجد، وباب اختلاف نية الإمام والمأموم، من كتاب الإمامة، وفي: باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 76، 77، 79، 130، 134. وابن ماجه، في: باب من أمّ قومًا فليخفف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 315. والدارمي، في: باب قدر القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 297. والإمام أَحْمد: المسند 3/ 299، 300، 308، 369.

372 - مسألة: (وإن كان لغير عذر لم يجز، في إحدى الروايتين)

وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 372 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) لأنَّه تَرَك مُتابَعَةَ إمامِه لغيرِ عُذْرٍ، أشْبَهَ ما لو تَرَكَها مِن غيرِ نِيَّةِ المُفارَقَةِ. والثانيةُ، تَصِحُّ كما إذا نَوَى المُنْفَرِدُ الإمامَةَ، بل هاهُنا أوْلَى، فإنَّ المَأمُومَ قد يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بغيرِ نِيَّةٍ، وهو المَسْبُوق إذا سَلَّمَ إمامُه، والمُنْفَرِدُ لا يَصِيرُ مأمُومًا بغيرِ نِيَّةٍ بحالٍ.

373 - مسألة: (وإن نوى الإمامة لاستخلاف الإمام له إذا سبقه الحدث، صح في ظاهر المذهب)

وَإنْ نَوَى الْإمَامَةَ لِاسْتِخْلَافِ الإِمَامِ لَهُ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ، صَحَّ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 373 - مسألة: (وَإنْ نَوَى الْإمَامَةَ لِاسْتِخْلَافِ الإِمَامِ لَهُ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ، صَحَّ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا سَبَق الإمامَ الحَدَثْ، فله أن يَسْتَخْلِفَ مَن يُتِمُّ بهم الصلاةَ. رُوِيّ ذلك عن عُمَرَ، وعليٍّ. وهو قولُ الثَّوْريِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأصْحاب الرَّأيِ. وحُكِيَ عن أحمدَ رِوايةَ أُخرى، أنَّ صلاةَ المَأمُومِين تَبْطلُ. وقال أَبو بكرٍ: تَبْطل صَلاتُهم، رِوايةً واحِدَةً؛ لأنَّه فُقِد شَرْطُ صِحَّةِ الصلاةِ في حَقِّ الإمامِ، فبَطَلَتْ صلاةُ المأمُومِ، كما لو تَعَمَّدَ الحَدَثَ. ولَنا، أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، لَمّا طُعِن أخَذَ بيَدِ عبدِ الرحْمنِ بنِ عَوْفٍ، فقَدَّمَه، فأتَمَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بهم الصلاة (¬1)، ولم يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا. فإن لم يَسْتَخْلِفِ الإمامُ، فقَدَّمَ المَأمُومُون رَجُلًا فأتَمَّ بِهم، جاز، وإن صَلَّوْا وُحْدانًا، جاز. قال الزُّهْرِيُّ في إمام يَنُوبُه الدَّمُ، أو يَرْعُفُ: يَنْصَرِفُ وليَقُلْ أتِمُّوا صَلاتَكم. وإن قَدَّمَتْ كلُّ طائِفَةٍ مِن المَأْمُومِين إمامًا، فصَلَّى بهم، فقِياسُ المَذْهَب جَوازُه. وقال أصحابُ الرَّأيِ: تَفْسُدُ صَلاتُهم. ولَنا، أنَّ لهم أن يُصَلُّوا وُحْدانًا، فجاز لهم أن يُقَدِّمُوا رجلًا، كحالَةِ ابتِداءِ الصلاةِ. وإن قَدَّمَ بَعْضُهم رجلًا وصَلَّى الباقُون وُحدانًا، جاز. فصل: فأمَّا إن فَعَل ما يُبْطُل صَلَاتُه عَمْدًا، فَسَدَتْ صلاةُ الجَمِيعِ، وإن كان عن غيرِ عَمْدٍ، لم تَفْسُدْ صلاةُ المَأمُومِين. نَصَّ عليه أحمدُ في الضَّحِكِ. ورُوِيَ عن أحمدَ، في مَن سَبَقَه الحَدَثُ، الرِّوايَتان، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه، من كتاب فضائل أصحاب النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. صحيح البُخَارِيّ 5/ 19 - 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الإمامُ الَّذي سَبَقَه الحَدَثُ، فتَبْطُلُ صَلاتُه ويَلْزَمُه اسْتِئْنافُها. قال أَحْمد: يُعْجِبُنى أن يَتَوَضَّأ ويَسْتَأنِفَ. وهذا قولُ الحسنِ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، لِما روَى عليّ بنُ طَلْقٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا فَسَا أحَدُكُمْ في صَلَاتِه، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه فَقَد شَرْطَ الصلاةِ في أثْنائِها على وَجْهٍ لا يَعُودُ إلَّا بعدَ زمَنٍ طَوِيلٍ وعَمَلٍ كَثيرٍ، ففَسَدَتْ صَلاتُه كما لو تَنَجَّسَ بنَجاسَةٍ يَحْتاجُ في إزالَتِها إلى مِثْلِ ذلك. وفيه رِوايَة ثانية، أنَّه يَتَوَضَّأْ ¬

(¬1) في: باب في من يحدث في الصلاة، من كتاب الطهارة، وفي: باب إذا أحدث في صلاته يستقبل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 47، 230. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب كراهية إتيان النساء في أدبارهن، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 111، 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَبْنِي. رُوِي ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ؛ لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ قَاءَ أوْ رَعَفَ في صَلَاتِه، فَلْيَنْصَرِف، فَلْيَتَوَضَّأْ وَليَبْنِ عَلَى مَا قضَى مِنْ صَلَاِتهِ» (¬1). وعنه رِوايَةٌ ثالثةٌ، إن كان الحَدَث مِن السَّبِيلَيْن ابْتَدَأ، وإن كان مِن غيرِهما بَنَى؛ لأنَّ حُكْمَ نَجاسَةِ السَّبِيلِ أغْلَظُ، والأثَرُ إنَّما وَرَد في غيرها. والأُولَى أوْلَى، وحَدِيثُهم ضَعِيفٌ. فصل: قال أصحابُنا: يجُوزُ اسْتِخْلافُ مَن سُبِق ببَعْضِ الصلاةِ، ولمَن جاء بعدَ حَدَثِ الإمامِ، فيَبْنِي على ما مَضَى مِن صلاةِ الإمامِ؛ مِن قراءَةٍ، أو رَكْعَةٍ، أو سَجْدَةٍ. وإذا اسْتُخْلِفَ مَن جاء بعدَ حَدَثِ الإمامِ، فيَنْبغِي أن تَجِبَ عليه قراءَةُ الفاتِحَةِ، ولا يَبْنِي على قِراءَةِ الإمامِ؛ لأنَّ الإمامَ لم يَتَحَمَّلْ عنه القِراءَةَ هاهُنا، ويَقْضِي بعدَ فَراغِ صلاةِ المَأمُومِين. حُكِيَ هذا القَوْلُ عن عُمَرَ، وعليٍّ، وأكثرِ مَن قال بالاسْتِخْلافِ. وفيه رِوايةٌ أُخْرْى، أنَّه مخيَّرٌ بينَ أن يَبْنِي أو يَبْتَدِئَ. قال مالكٌ: يُصَلِّي لنَفْسِه صلاةً تامَّةٌ، فإذا فَرَغُوا مِن صَلاتِهم قَعَدُوا وانْتَظَرُوه حتَّى يُتِمِّ ويُسَلِّمَ بهم؛ لأنَّ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في البناء، على الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 385، 386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اتِّباعَ المَأمُومِين للإمام أوْلى مِن اتِّباعِه لهم. وكذلك على الرِّوايَةِ الأُولَى يَنْظِرونَه حتَّى يَقْضِيَ مَا فاتَه ويُسَلِّمَ بهم؛ لأنِّ الإمامَ يَنْتظِرُ المَأمُومِين في صلاةِ الخوْفِ، فانْتِظارُهم له أوْلَي. وإن سَلَّمُوا ولم ينْتَظِرُوه، جاز. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَسْتَخْلِفُ مَن يُسَلِّمُ بهم، والأوْلَى انتِظارُه. وإنَّهم إن سَلَّمُوا لم يَحْتاجُوا إلى خَلِيفَةٍ؛ لأنَّه لم يَبْقَ مِن الصلاةِ إلَّا السَّلامُ، فلا حاجَةَ إلى الاستِخْلافِ فيه. قال شَيْخُنا (¬1): ويَقْوَى عِنْدِي أنَّه لا يَصِحُّ الاسْتِخْلافُ في هذه الصُّورَةِ؛ لأنَّه إذ بَنَى جَلَس في غيرِ مَوْضِع جُلُوسِه، وصار تابِعًا للمَأمُومِين، وإنِ ابْتَدَأ جَلَس المَأمُومُون في غيرِ مَوْضعٍ جُلُوسِهم، ولم يَرِدِ الشَّرعُ بهذا، وإنَّما ثَبَت الاسْتِخْلافُ في مَوضِع الإِجْمَاعِ، حيث لم يَحْتَجْ إلى شيءٍ مِن هذا، فلا يُلْحَقُ به ما ليس في مَعْناه. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 509، 510.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن سَبَق المأْمُومَ الحَدَثُ، في، فَسادِ صَلاتِه الرِّواياتُ الثَّلاثُ. فإن كان مع الإمامِ مَن تَنْعَقِدُ به صَلاتُه غيرُه، وإلَّا فحُكْمُه كحُكْم الإِمامِ معه، فيما فَصَّلْناه في قِياسِ المَذْهَبِ. وإن فَعَلَه عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلاتُه وصلاةُ الإمام؛ لأنَّ ارْتباطَ صلاةِ الإمام بالمَأمُوم كارْتباطِ صلاةِ المَأمُومِ بالإمامِ، فما فَسَد ثَمَّ، فَسَد هاهُنا، وما صَحَّ ثَمَّ، صَحَّ هاهُنا.

374 - مسألة: (وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين)

وَإنْ سُبِقَ اثْنَانِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، فَائْتَمَّ أحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ في قَضَاءِ مَا فَاتَهُمَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 374 - مسألة: (وَإنْ سُبِقَ اثْنَانِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، فَائْتَمَّ أحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ في قَضَاءِ مَا فَاتَهُمَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ) أحَدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّه انْتِقالٌ مِن جَماعَةٍ إلى جماعةٍ لعُذْرٍ فجاز، كالاسْتِخْلافِ، ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- جاء

375 - مسألة: (وإن كان لغير عذر، لم يصح)

وَإنْ كَانَ لِغيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو بكرٍ في الصلاةِ، فتَأخَّرَ أبو بكرٍ، وتَقَدَّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فأتمَّ بهم الصلاةَ (¬1). والثَّانِي، لا يَصِحُّ؛ بِناءٌ على عَدَمِ جَوازِ الاسْتِخْلافِ. 375 - مسألة: (وإن كان لغيرِ عُذْرٍ، لم يَصِحَّ) يَعْنِي إذا انْتَقَلَ عن إمامِه إلى إمامٍ آخَرَ، فَائْتَمَّ به، أو صار المَأمُومُ إمامًا لغيرِه مِن غيرِ عُذْرٍ، ¬

(¬1) انظر تخريج حديث سهل بن سعد الآتي.

376 - مسألة: (إن أحرم إماما لغيبة إمام الحي، ثم حضر في أثناء الصلاة، فأحرم بهم وبنى على صلاة خليفته، وصار الإمام مأموما، فهل يصح؟ على وجهين)

إنْ أحْرَمَ إمَامًا لِغَيْبَةِ إمَامِ الْحَيِّ، ثُمَّ حَضَرَ في أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَأحرْمَ بِهِمْ وَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، وَصَارَ الإِمَامُ مَأمُومًا، فَهَلْ يَصحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إنَّما ثَبَت جَوازُ ذلك في مَحَل العُذْرِ بقَضِيِّةِ عُمَرَ (¬1)، رَضِيَ الله عنه، وغيرُ حالِ العُذْرِ لا يُقاسُ عليه. 376 - مسألة: (إنْ أحْرَمَ إمَامًا لِغَيْبَةِ إمَامِ الْحَيِّ، ثُمَّ حَضَرَ في أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَأحرْمَ بِهِمْ وَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، وَصَارَ الإِمَامُ مَأمُومًا، فَهَلْ يَصحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ) [رُوِيَ عن أحمدَ في هذه المَسْألَةِ ثلاث رِواياتٍ] (¬2)؛ أحَدُها، يَصِحُّ؛ لِما روَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ، قال: ¬

(¬1) تقدمت في صفحة 383، 384. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَهَب رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ؛ ليُصْلِحَ بَيْنهم، فجانَتِ

فصول في أدب المشي إلى الصلاة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ، فصَلَّى أبو بكرٍ، فجاء رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والنَّاسُ في الصلاةِ، فخَلَصَ حتَّى وَقَف في الصَّفِّ، فاسْتأْخَرَ أبو بكرٍ حتَّى اسْتَوَى في الصَّفِّ، وتَقَدَّمَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فصَلَّى، ثم انْصَرَفَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). [وما فَعَلَه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان جائِزًا لأُمَّتِه، ما لم يَقُمْ دَلِيلُ الاخْتِصاصِ. والرِّوايَةُ الثَّانِيَةُ، أنَّ ذلكَ يَجُوزُ للخَلِيفةِ دُونَ بَقِيَّةِ الأئِمَّةِ. نَصَّ عليه في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ؛ لأنَّ رُتْبَةَ الخِلافَةِ تَفْضُلُ رُتْبةَ سائِرِ الأئِمَّةِ، فلا يُلْحَقُ بها غيرُها] (¬2). والثَّالِثَةُ، لا يَصحُّ! لأنَّه لا حاجَة إليه، وفِعْلُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَحْتَمِلُ أن يكُون خَاصًّا به؛ لأَنَّ أحدًا لا يُساوِيه في الفَضْلِ، ولا يَنبَغِي أن يَتَقَدَّمَ عليه، بخِلافِ غيرِه، ولهذا قال أبو بكرٍ: ما كان لابنِ أبي قُحافَةَ أن يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَيّ رسولَ اللهَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. فصولٌ في أدَبِ المَشْيِ إلى الصلاةِ يُسْتَحَبُّ للرجلِ، إذا أقْبَلَ إلى الصلاةِ، أن يُقْبِلَ بخَوْفٍ ووَجَلٍ وخُشُوعٍ، وعليه السَّكِينَةُ، ويُقارِبَ بينَ خُطاه لتَكْثُرَ حَسَناتُه، فإنَّ كلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ له بها حَسَنَةٌ؛ لِما روَى زَيْدُ بنُ ثابِتٍ، قال: أُقِيمَتِ الصلاةُ، فخرَجَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَمْشِي وأنا معه، فقارَبَ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الإمام يأتي قومًا يصلح بينهم، من كتاب الأحكام. صحيح البُخَارِيّ 9/ 92. ومسلم، في: باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 316. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب حيث ما جاء في صلاة رسول الله في مرضه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 389 - 391. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 332، 338. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الخُطا، ثم قال: «أتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا في طَلَبِ الصَّلاةِ» (¬1). ويُكْرَهُ أن يُشَبِّكَ بينَ أصابِعِه؛ لِما روَى كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ، أن رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ فَأحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خرجَ عَامِدًا إلَى المَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكَن بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فإِنهُ في صَلَاةٍ». رَواه أبو داودَ (¬2). فصل: ويُسْتحَبُّ أن يقُولَ ما روَى ابنُ عباسٍ، أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَرَج إلى الصلاةِ وهو يقُولُ: «اللَّهُم اجْعَلْ في (¬3) قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ في بَصَرِي نُورًا، واجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، ومِنْ أمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَأعْطِنى نُورًا». أخْرَجَه مسلمٌ (¬4). وروَى أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ (¬5) قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَن خَرَجَ مِنْ بيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: ¬

(¬1) أخرجه عبد بن حميد في مسنده 1/ 240. (¬2) في: باب ما جاء في الهدى في المشي الصلاة من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 133. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 177. والدارمي، في: باب إلى عن الاشتباك إذا خرج إلى المسجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 326، 327. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 241 - 244. (¬3) في الأصل: «لى». (¬4) في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 525، 526، 528 - 530. كما أخرجه أبو داود، في باب صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 310، 311. والتِّرمذيّ، في: باب عصمة الذكر، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 12/ 303، 304. والنَّسائيّ. في: باب الدعاء في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبي 2/ 172، 173. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 284، 343، 352، 373. (¬5) سقط س: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ (¬1) بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَأسْألُكَ بِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا، فإنِّي لمْ أخْرُجْ أشَرًا (¬2) وَلَا بَطرًا (¬3)، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَة، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، فَأسْألُكَ أنْ تُنْقِذَنِي مِن النَّارِ، وَأنْ تَغْفِرَ لى ذُنُوبِي، إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوب إلَّا أَنْتَ. أقْبَلَ اللهُ إلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ له سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجَه (¬4). فصل: فإن سَمِع الإقامَةَ لم يَسْعَ إليها، لِما روَى أبو هُرَيْرةَ، عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «إذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَة فَامْشُوا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا». وعن أبي قَتادَةَ، قال: بَيْنا نحن نُصَلِّي مع رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذ سَمِع جَلَبَةَ رِجالٍ، فلَمَّا صَلَّى قال: «مَا شَأْنُكُمْ»؛ قالوا: اسْتَعْجَلْنا إلى الصلاةِ. فقال: «لَا تَفْعَلُوا، إذا أتَيْتُمُ الصَّلاةَ، فَعَلَيْكُمُ السَّكينَةَ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا». متَّفَقٌ عليهما (¬5). قال الإمامُ أحمدُ: فإِن طَمِع أن يُدْرِكَ التكْبِيرَةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) الأشر: كفر النعمة والافتخار. (¬3) البطر: الطغيان عند النعمة. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب المشي إلى الصلاة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 256. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 21. (¬5) الأول أخرجه البُخَارِيّ، في: باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب المشي إلى الجمعة، من كتاب الجمعة صحيح البُخَارِيّ 1/ 164، 2/ 9. ومسلم، في: باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 430، 421، كما أخرجه أبو داود، في: باب السعى إلى الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 135. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في المشي إلى المسجد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 123. والنَّسائيّ، في: باب السعى إلى الصلاة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 88. وابن ماجه، في: باب المشي إلى الصلاة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى (¬1)، فلا بَأْسَ أن يُسْرِعَ شيئًا (¬2)، ما لم يَكُنْ عَجَلَةً تَقْبُحُ، جاء الحديثُ عن أصحابِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّهم كانُوا يُعَجِّلُون شيئًا إذا تَخَوَّفُوا فَواتَ التَّكْبِيرةِ الأُولَى. فصل: فإذا دَخَل المَسْجِدَ قدَّمَ رِجْلَه اليُمْنَى، وإذا خَرَج قَدَّم اليُسْرَى. ويقُولُ ما روَى مسلمٌ (¬3) بإسْنادِه، عن أبي حمُيْدٍ، أو أبي أُسَيّدٍ (¬4)، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الْمَسْجدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ مِنْ فَضْلِكَ». وعن فاطِمَة بنتِ رسوِل الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قالت: كان ¬

= 1/ 255. والدارمي، في: باب كيف يمشى إلى الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 294. والإمام مالك، في: باب ما جاء في النداء للصلاة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 68، 69. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 237، 238، 239، 270، 318، 382، 452، 460، 472، 489، 529، 532، 533. والثاني أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قول الرَّجل فاتتنا الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 163. ومسلم، في: الباب السابق. صحيح مسلم 2/ 422. والدارمي، والباب السابق. (¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مشيا». (¬3) في: باب ما يقول إِذا دخل المسجد، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 494، 495. وأخرجه أَيضًا: أبو داود، في: باب فيما يقوله الرَّجل عند دخوله المسجد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 109. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول عد دخول المسجد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 111. والنَّسائيّ، في: باب القول عند دخول المسجد وعند الخروج منه، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 41. وابن ماجه (عن ابن حميد فحسب)، في: باب الدعاء عند دخول المسجد، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 254. والدارمي، في: باب القول عند دخول المسجد، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج، من كتاب الاستئذان. سنن الدَّارميّ 1/ 324، 2/ 293. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 497، 5/ 425. (¬4) جاء في صحيح مسلم، قال بعد أن أورد: «أو أبي أسيد»: سمعت يحيى بن يحيى يقول. كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحماني، يقول: وأبي أسد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا دَخَل المَسْجِدَ صَلَّى على محمدٍ وسَلَّمَ (¬1)، وقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أبْوَابَ رَحْمَتِكَ». وإذا خَرَج صَلَّى على محمدٍ وسلم، وقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وافْتَحْ لِي أبْوَابَ فَضْلِكَ» (¬2). فإذا دَخَل لم يَجْلِسْ حتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْن؛ لِما روَى أبو قَتادَةَ، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ ركْعَتَيْنِ». مُتَّفقٌ عليه (¬3). ثم يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فإِنه قد رُوِيَ: «خَيْرُ الْمَنَازِلِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» (¬4). ويَشْتَغِلُ بذِكْرِ اللهِ تعالى، أو قِراءَةِ القُرْآنِ، أو يَسْكُتُ. ولا يُشَبِّكُ أصابِعَه؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، عن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «إذَا كان أحَدُكُمْ في الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَن؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما يقول عند دخول المسجد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 111. وابن ماجه، في: باب الدعاء عند دخول المسجد، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 253، 254. والإمام أَحْمد، في. المسند 6/ 282، 283. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 120، 121، 2/ 70. ومسلم، في: باب استحباب تحية المسجد بركعتين. . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 495. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ:، في باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 112. والنَّسائيّ، في: باب الأمر بالصلاة قبل الجلوس فيه، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 42. والدارمي، في: باب الركعتين إذا دخل المسجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 323، 324. والإمام مالك، في: باب انتظار الصلاة، والمشي إليها؛ من كتاب السفر. الموطأ 1/ 162. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 295، 296، 303، 305، 311. (¬4) أخرجه البيهقي في: باب ما جاء في تستير المنازل، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 272. والطبراني في المعجم الكبير 10/ 389 بنحوه، وانظر كنز العمال 9/ 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإنَّ أحَدَكُمْ لَا يَزَالُ في صَلَاةٍ مَا كَانَ في الْمَسْجِدِ، حَتَى يَخْرُجَ مِنْهُ». رَواه الإمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬1). ¬

(¬1) 3/ 43، 54.

باب صفة الصلاة

بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ [روَى محمدُ بنُ عَمْرِو بنِ عَطاءٍ] (¬1)، قال: سَمِعْتُ أَبا حُمَيْدٍ السّاعِدِيَّ في عَشَرَةٍ مِن أصحابِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، منهم أبو قَتادَةَ، فقال أبو حُمَيْدٍ: أنا أعْلَمُكم بصلاةِ رسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قالُوا: فاعْرِضْ (¬2). قال: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قام إلى الصلاةِ يَرْفَعُ يَدَيْه، حتَّى يُحاذِيَ بهما مَنْكبَيْه، ثم يُكَبِّرُ (¬3)، حتَّى يَقَرَّ (¬4) كلُّ عَظْمٍ في مَوْضِعِه مُعْتَدِلًا، ثم يَقْرأُ، ثم يُكَبِّرُ، فيرْفَعُ يَدَيْه حتَّى يُحاذِيَ بهما مَنْكبَيْه، ثم يَرْكَعُ (¬5) ويَضِعُ راحَتَيْه على رُكْبَتَيْه، ثم يَعْتَدِلُ، فلا يُصَوبُ رَأْسَه ولا يُقْنِعُه (¬6)، ثم وَيَرْفعُ رَأْسَه، ويقُولُ: سَمِع اللهُ لمَن حَمِدَه. ثم يَرْفَعُ يَدَيْه حتَّى يُحاذِيَ بهما مَنْكبَيْه مُعْتَدِلًا، ثم يقُول: اللهُ أكْبَرُ. ثم (¬7) يَهْوِي إلى الأرْضِ، فيُجافِي يَدَيْه عن جَنبَيْه، ثم يَرْفَعُ رَأْسَه، ويَثْنِي رِجْلَه اليُسْرَى فيَقْعُدُ عليها، ويَفْتَحُ أصابعَ رِجْلَيْه إذا سَجَد، ويَسْجُدُ، ثم يقولُ: اللهُ أكبرُ. ويَرْفَعُ ¬

(¬1) في الأصل: «روى عن مُحَمَّد بن عطاء». (¬2) من العرض، بمعنى الإظهار. (¬3) في الأصل: «يركع». (¬4) يقر: من القرار. (¬5) في م: «يرفع». (¬6) ولا يقنعه: ولا يرفعه، وهو من الأضداد، يطلع على الرفع والخفض. (¬7) سقطت من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَثْنِي رِجْلَه اليُسْرى، فيَقْعُدُ عليها، حتَّى يَرْجِعَ كل عَظْم إلى مَوْضِعِه، ثم يَصْنَعُ في الأخْرى مِثْلَ ذلك، ثم إذا قام (¬1) مِن الرَّكْعَةِ كَبَّرَ (¬2) فرَفَعَ (¬3) يَدَيْه حتَّى يُحاذِيَ بهما مَنْكبَيْه، كما كَبَّرَ عندَ افْتِتاحِ الصلاةِ، ثم يَفْعَلُ ذلك في بَقِّيةِ صَلاِته، حتَّى إذا كانتِ السَّجْدَةُ التى فيها التَّسْلِيمُ، أخَّرَ (¬4) رِجْلَه اليُسْرَى، وقَعَد مُتوَرِّكًا على شِقِّه الأيْسَرِ. قالُوا: صَدَقتَ، هكذا كان يُصَلِّي رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. رَواه مالكٌ في «المُوَطَّإِ» (¬5)، وأبو داودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬6)، وقال: حديث حسن صحِيح. وفي لَفْظٍ رَواه البُخارِيُّ (¬7)، قال: فإذا رَكَع أمْكَنَ يَدَيْه مِن رُكْبَتَيْه، ثم هَصَرَ (¬8) ظَهْرَه، فإذا رَفَع رَأْسَه، اسْتَوَى قائمًا حتَّى يَعُودَ كلُّ فَقارٍ (¬9) إلى مَكانِه، فإذا سَجَد، سَجَد غيرَ مُفْتَرِشٍ، ولا قابِضِهما، واسْتَقْبَلَ بأطْرافِ أصابع رِجْلَيْه القِبْلَةَ، ¬

(¬1) في م: «أقام» (¬2) سقطت من: م. (¬3) في م: «فيرفع» (¬4) في الأصل: «أخرج». (¬5) لم نجده في نسخة الموطأ التى بين أيدينا. (¬6) أخرجه أبو داود، في: باب افتتاح الصلاة، وباب ذكر التورك في الرابعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 168، 220. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أنَّه يجافي يديه عن جنبه في الركوع، وباب ما جاء في وصف الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 69، 98 - 100. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الاعتدال في الركوع، من كتاب التطبيق. المجتبي 2/ 146. وابن ماجه، في: باب إتمام الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 337، 338. والدارمي، في: باب التجافي في الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 299، 300. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 424. (¬7) في: باب سنة الجلوس في التشهد. . . إلخ، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 210. (¬8) الهصر: الجذب. يعني شد ظهره. (¬9) في الأصل: «قفاز».

377 - مسألة: (يستحب أن يقوم إلى الصلاة إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة)

السُّنَّةُ أنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ إذَا قَالَ الْمُؤذِّنُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا جَلَس في الرَّكْعَتَيْن جَلَس على اليُسْرى، ونَصبَ الأُخْرَى، فإذا كانتِ السَّجْدَةُ التى فيها التَّسْلِيمُ، أخَّرَ رِجْلَه اليُسْرَى، وجَلَس (¬1) مُتَوَرِّكًا على شِقِّه الأيْسَرِ، وقَعَد كل مَقْعَدَتِه. 377 - مسألة: (يُسْتَحَبُّ أن يَقُومَ إلى الصلاةِ إذا قال المُؤَذِّنُ: قد قامَتِ الصلاةُ) قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): على هذا أهلُ الحَرَمَيْن. وقال الشافعيُّ: يَقُومُ إذا فَرَغ المُؤذِّنُ مِن الإقامَةِ. وكان عُمَر بنُ عبدِ العزيزِ، ومحمدُ بنُ كعبٍ (¬3)، وسالِمٌ، والزُّهْريُّ يَقُومُون في أوَّلِ بَدْوَةٍ مِن الإِقَامَةِ. وقال أبو حنيفةَ: يَقُومُ إذا قال: حَيَّ على الصلاةِ. فإذا قال: قد قامَتِ الصلاةُ. كَبَّرَ. وكان أصحابُ عبدِ الله يُكَبِّرُوُن كذلك. وبه قال النَّخَعيُّ. بقَوْلِ بلالٍ: لا تَسْبِقْنِي بآمِينَ (¬4). فدَلَّ على أنَّه كان يُكَبْرُ قبلَ فَراغِه. وعندَنا لا يُسْتَحَبُّ أن يُكَبِّر إلَّا بعدَ فَراغِه مِن الإقامَةِ. وهو قولُ الحسنِ، وأبي يُوسُفَ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وعليه جُلُّ الأئِمَّةِ ¬

(¬1) في الأصل: «جلس عليها». (¬2) في م: «ابن عبد البر». (¬3) أبو حمزة مُحَمَّد بن كعب القرظي، كان ثِقَة عالمًا كثير الحديث ورعا، من أفاضل أهل المدينة على وقفها، مات سنة ثماني عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 9/ 420 - 422. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأمْصارِ. وإنَّما قُلْنا: إنَّه (¬1) يَقُومُ عندَ قَوْلِه (¬2): قَدْ قامَتِ الصلاةُ. لأنَّ هذا خَبَرٌ بمَعْنَى الأمْرِ، ومَقْصُودَه (¬3) الإعْلامُ ليَقُومُوا، فيُسْتَحَبُّ المُبادَرَةُ إلى القِيامِ امْتثالًا للأمْرِ. وإنَّما قُلْنا: إِنَّه لا يُكَبِّرُ حتَّى يَفْرُغ المُؤَذِّنُ. لأن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إنَّما كان يُكَبِّرُ بعدَ فَراغِه، يَدُلُّ عليه ما رُوِيَ عنه، أنَّه كان يُعَدِّلُ الصُّفُوفَ بعدَ إقامَةِ الصلاةِ، فرَوَى أنَسٌ، قال: أُقَيمَتِ الصلاةُ، فأقْبَل علينا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بوَجْهِه، فقال: «سَوُّوا صُفُوفَكم، وَتَرَاصُّوا، فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي». رَواه البُخارِيُّ (¬4). ويَقولُ في الإقامَةِ مِثْلَ قَوْلِ المُؤذِّنِ، فرَوَى أبو داود (¬5)، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «قول المؤذن». (¬3) في الأصل: «والمقصود منه». (¬4) في: باب قرية الصفوف، باب إقبال الإمام على النَّاس عند تسوية الصفوف، وباب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 184، 185.، وروى نحوه عن أبي هريرة، في: باب عظة الإمام النَّاس، في إتمام الصلاة وذكر القبلة، من كتاب الصلاة، في: باب الخشوع في الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 189. كما أخرجه النَّسائيّ في: باب حث الإمام على رصّ الصفوف والمقاربة بينها، وباب الجماعة للفائت من الصلاة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 71، 86. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 103، 125، 154، 182، 229، 263، 283، 286. (¬5) في: باب ما يقول إذا سمع الإقامة، من كتاب الإقامة. سنن أبي داود 1/ 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن بعضِ أصحاب رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّ بلالًا أخَذَ في الإقامَةِ، فلَمَّا أن قالَ: قد قامَتِ الصلاةُ. قال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أقَامَهَا اللهُ وَأدَامَهَا». وقال في سائِرِ الإقامَةِ كنَحْوِ حديثِ عُمَرَ في الأَذانِ. فأمّا حَدِيثُهم، فإنَّ بِلالًا كان يُقِيمُ في مَوْضِع أذانِه، وإلَّا فليس بينَ لَفْظِ الإقامَةِ والفَراغِ منها ما يُفَوِّتُ بِلَالًا «آمِينَ»، مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. إذا ثَبَت هذا، فإنَّما يَقُومُ المَأَمُومُون إذا كان الإمامُ في المَسْجِدِ أو قَرِيبًا منه. قال أحمدُ: يَنْبَغِي أن تقامَ الصُّفُوفُ قبلَ أن يَدْخُلَ الإمامُ. لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: كانتِ الصلاةُ تُقامُ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيَأخُذُ النَّاسُ مَصافَّهم قبلَ أن يَقُومَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مَقامَه. رَواه مسلمٌ (¬1). فأمَّا إن أُقِيمَتِ الصلاةُ والإمامُ في غيرِ المَسْجِدِ، ولم يَعْلمُوا قُرْبَه، لم يَقُومُوا؛ لِما روَى أبو قتادَةَ، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا أُقِيمتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَى تَرَوْى قَدْ خرَجْتُ». رَواه مسلمٌ (¬2). ¬

(¬1) في: باب متى يقوم النَّاس للصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 423. وبمعناه أخرجه البُخَارِيّ في: باب هل يخرج من المسجد لعلة: وباب إذا قال الإمام مكانكم حتَّى رجع انتظروه، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 164. (¬2) في: باب متى يقوم النَّاس للصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 422. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب متى يقوم النَّاس إذا رأوا الإمام عند الإقامة، وباب لا يسعى إلى الصلاة مستعجلًا. . . .، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 164. وأبو داود، في: باب في الصلاة تقام ولم يأت الإمام. . . .، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 128 والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الكلام بعد نزول الإمام من المنبر، وباب كراهية أن ينتظر النَّاس الإمام. . .، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 2/ 307، 3/ 74. والنَّسائيّ، في: باب إقامة المؤذن عند خروج الإمام، من كتاب الأذان، وباب قيام النَّاس إذا رأوا الإمام، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 25، 63، الدَّارميّ، في: باب متى يقوم النَّاس. إذا أقيمت الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 289، الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 304، 305، 307، 308، 310.

378 - مسألة: (ثم يسوي الإمام الصفوف)

ثُمَّ يُسَوِّي الْإمَامُ الصُّفُوفَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 378 - مسألة: (ثم يُسَوِّي الإمامُ الصُّفُوفَ) وذلك مُسْتَحَبٌّ، يَلْتَفِتُ عن يَمِيِنِه، فيَقُولُ: اسْتَوُوا، رَحِمكم اللهُ. وعن يَسارِه كذلك؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ، ولِما روَى محمدُ بنُ مُسْلِمٍ، قال: صَلَّيْتُ إلى جَنْب أنسٍ بنِ مالكٍ يَوْمًا، فقال: هل تَدْرِي لم صُنِع هذا العُودُ؟ قلْتُ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا والله. فقال: إنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا قام إلى الصلاةِ أخَذَه بيَميِنِه، فقال: «اعْتَدِلُوا، وسَوُّوا صُفُوفَكمْ». ثم أخذَه بيسارِه، وقال: «اعْتَدِلُوا، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ». رَواه أبو داودَ (¬1). وعنه قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ من تَمَامِ الصَّلاةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) في: باب تسوية الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 155. كما أخرجه الإمام أَحْمد في المسند 3/ 254. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إقامة الصف من تمام الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 184، 185. ومسلم، في: باب تسوية الصفوف وإقامتها. . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 324. كما أخرجه أبو داود، في: باب تسوية الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 155، ابن ماجه، في باب إقامة الصفوف، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 317. والدارمي، في: باب إقامة الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 289. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 177، 254، 274، 279، 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قِيلَ لأحمدَ: قبلَ التَّكْبِيرِ تقُول شيئًا؛ قال: لا. يَعْنِي ليس قبله دُعاءٌ مَسْنُونٌ، إذ لم يُنْقَلْ عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا عن أصحابِه، ولأنَّ الدُّعاءَ يكون بعدَ العِبادَةِ؛ لقَوْلِه تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الشرح 7، 8.

379 - مسألة: (ويقول: الله أكبر. لا يجزئه غيرها)

ثُمَّ يَقُولُ: الله أَكْبَرُ. لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا» ـــــــــــــــــــــــــــــ 379 - مسألة: (وَيقُولُ: الله أكبَرُ. لا يُجْزِئُه غيرُها) لا تَنْعَقِدُ الصلاة إلَّا بقَوْلِ: الله أكْبَرُ. وهو قولُ مالكٍ. وكان ابنُ مسعودٍ، والثَّوريُّ، والشافعيُّ يَقُولُون: افْتِتاحُ الصلاةِ التَّكْبِيرُ. وعليه عَوامُّ أهلِ العِلْمِ (¬1) قديمًا وحديثًا، إلَّا أنَّ الشافعيِّ قال: تَنْعَقِدُ بقَوْلِه: الله الأَكْبَرُ. لأنَّ الألِفَ واللَّامَ لم تُغَيِّره عن بِنْيَتِه ومَعْناه، وإنَّما أفادَت التَّعْرِيفَ. وقال أبو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ بكل اسْم لله تعالى على وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كقَوْلِه: الله عَظِيمٌ. أو كَبِيرٌ. أو جَلِيلٌ. وسُبْحانَ الله. والحَمْدُ للهِ. ولا إلهَ إلَّا الله. ونَحْوُه قولُ: الحَكَمِ (¬2)؛ لأنَّه ذِكْرٌ لله على وَجْهِ التَّعْظِيم، أشْبَهَ قولَه: اللهُ أكبَرُ. ولأنَّ الخُطْبَةَ لا يَتَعَيَّنُ في أوَّلِها لَفْظٌ، كذلك هذا. ولنا، قَوْلُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «تَحْرِيمهَا التَّكْبِيرُ». رَواه أبو داودَ (¬3). وقولُه للمسِيءِ في ¬

(¬1) في م: «الحديث». (¬2) في م: «الحاكم». (¬3) في: باب فرض الوضوء، وباب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر ركعة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 15، 145. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، من أبواب الطهارة، وفي: باب ما جاء في تحريم الصلاة وتحليلها، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 15، 2/ 37. وابن ماجه، في: باب مفتاح الصلاة الطهور، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 101. والدارمي، في: باب مفتاح الصلاة الطهور، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 175. الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 123، 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلاِته: «إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فكَبِّرْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفي حديثِ رِفاعَةَ، أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطهُورَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللهُ أكْبَرُ». رواه أبو داودَ (¬2) وكان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَفْتَتِحُ الصلاةَ بقوْلِه: «اللهُ أكْبَرُ». لم يُنْقَلْ عنه عُدُولٌ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم. . إلخ، وباب حَدَّثَنَا مسدد، من كتاب الأذان، وفي: باب من رد فقال عليك السلام، من كتاب الاستئذان، وفي: باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، من كتاب الأيمان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 192، 193، 200، 201، 8/ 69، 169. ومسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 298. كما أخرجه أبو داود، في: باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 197. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في وصف الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 97. والنَّسائيّ، في: باب فرض التكبيرة الأولى، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 96. وابن ماجه: باب إتمام الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 336. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 437. (¬2) في: باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 198. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب وصف الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 95، 96. والدارمي، في: باب الذى لا يتم الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 305. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ذلك حتَّى فارَقَ الدُّنْيا، وقِياسُهُم يَبْطُلُ بقَوْلِه (¬1): اللَّهُمَّ اغْفِرْ لى. ولا يَصِحُّ القِياسُ على الخُطْبَةِ؛ لأنَّه لم يَرِدْ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيها لَفْظْ بعَينِه في جَميعِ خُطْبَتِه (¬2)، ولا أمَرَ به، ولأنه يَجُوزُ فيها الكلامُ بخِلافِ الصلاةِ. وما قالَه الشافيُّ عُدُول عن المَنْصُوصِ، فأشبهَ ما لو قال: اللهُ العَظِيمُ. وقَوْلُهم: لم يُغَيِّرْ (¬3) بِنْيَتَه ولا مَعْناه. مَمْنُوعٌ؛ لأنَّ التَّنكِيرَ (¬4) مُتَضَمِّنٌ لإضْمارٍ أو تَقْدِير، بخِلافِ التَّعْرِيفِ، فإنَّ مَعْنَى قولِه: «اللهُ أكْبَرُ». أي: مِن كل شئٍ. ولأنَّ ذلك لم يَرِدْ في كَلام الله تعالى، ولا في كلام رسولِه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا في المُتَعارَفِ مِن كلام الفُصَحَاء إلَّا كما ذَكَرْنا، فإطْلاقُ لَفظِ التَّكبِير يَنْصَرِف إليها دُونَ غيرِهُ، [كما أنَّ إِطلاقَ لَفْظِ التَّسْمِيَةِ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى قولِه: «بِسْمِ اللهِ» دُونَ غيرِه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ غيرَها] (¬5) لا يُساوِيها. فصل: والتَّكْبيرُ رُكْنٌ لا تَنْعَقِدُ الصلاةُ إلَّا به، لا يَسْقُطُ في عَمْدٍ ولا سَهْوٍ، وهو قَوْل مالكٍ، والشافعيِّ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ¬

(¬1) أي بقول المصلى. (¬2) في م: «الخطبة». (¬3) أي زيادة الألف واللام. (¬4) في الأصل: «الكبير». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ: مَن نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الافْتِتاحِ، أجْزَأتْه تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «تَحْرِيمُهَا التَّبكْيرُ». فدَلَّ على أنَّه لا يَدْخُلُ في الصلاةِ بدُونِه. فصل: ولا يصِحُّ إلَّا مُرَتبًا، فإن نَكَّسَه لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يكُونُ تَكْبِيرًا. ويَجِبُ على المُصَلِّي أن يُسْمِعَه نَفْسَه، إمامًا كان أو غَيرَه، إلَّا أن يكُونَ به عارِضٌ مِن طَرَشٍ، أو ما يَمْنَعُ السَّماعَ، فيَأْتِيَ به بحيث لو كان سَمِيعًا أو لا عارِضَ به سَمعَه؛ لأنَّه ذِكْر مَحَلُّه اللِّسانُ، فلا يكُونُ كامِلًا. بدُونِ الصَّوْتِ، والصَّوْتُ ما يَتَأَتْى سَماعُه، وأقْرَبُ السّامِعِين إليه نَفْسُه، فمتى لم يَسْمَعْه، لم يَعْلَمْ أنَّه أُتَى بالقَوْلِ. والرجلُ والمرأة سَواءٌ فيما ذكَرْنا. فصل: ويُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ، ولا يَمُدُّ في غيرِ مَوضِع المَدِّ، فإن فَعَل بحيث لم يُغَيِّرِ المَعْنَى، مِثْلَ أن يَمُدَّ الهَمْزَةَ الأولَى في اسْمِ الله تعالى، فيَقُولُ: آللهُ. فيَصِيرَ اسْتِفْهامًا، أو يَمدُّ أكْبرُ (¬1). فيَصِيرَ ألِفًا، فيَبْقَى جَمْعَ كُبَرٍ، وهو الطَّبْلُ، لم يَجُزْ؛ لتَّغَيُّرِ المعْنَى. وإن قال: اللهُ أكْبَرُ وأعْظَمُ. ونَحْوَه، لم يُسْتَحَبَّ. نَصَّ عليه (¬2). وانْعَقَدَتْ به الصلاةُ. ¬

(¬1) في الأصل: «كبار». (¬2) أي: الإمام أَحْمد.

380 - مسألة: (فإن لم يحسنها لزمه تعلمها، فإن خشي فوات الوقت كبر بلغته)

فَإنْ لَمْ يُحْسِنْهَا لَزِمَهُ تَعَلُّمُهَا، فَإنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ كَبَّر بِلُغَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 380 - مسألة: (فإِن لم يُحْسِنْها لَزِمَه تَعَلُّمُها، فإن خَشِيَ فوات الوَقْتِ كَبَّر بلُغَتِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه لا يْجْزِئُه التَّكبِيرُ بغيرِ العَرَبِيَّةِ مع قُدْرَته عليها. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه؛ لقَوْلِ الله تِعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1). وهذا قد ذَكَر اسْمَ رَبَّه. ولَنا، ما تَقَدَّمَ مِن النُّصُوصِ، وهي تَخُصُّ ما ذَكَرُوه. فإن لم يُحْسِنِ العَرَبِيَّةَ، لَزِمَه تَعَلمُ التكبِيرِ بها؛ لأنَّه ذِكْر واجِبٌ في الصلاةِ لا تَصِح بدُونِه، فلَزِمَه تَعَلمُه، كالقِراءَةِ. فإن خَشِيَ فَواتَ الوَقْتِ، كَبَّرَ بِلُغَتِه في أظْهَرِ الوَجْهَيْن. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه ذِكْرٌ عَجَز عنه بالعربِيةِ، فلَزِمَه الإتْيانُ به (¬2) بغيرِها، كلَفْظِ النَّكاحِ، ولأنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى يَحْصُلُ بكلِّ لِسانٍ. والثاني، لا يَصِحُّ. ذَكَرَه القاضي في «الجامِع» (¬3). ويَكُونُ حُكْمُه حُكْمَ الأخْرَسِ؛ لأنَّه ذِكْر تَنْعَقِدُ به الصلاةُ، فلم يَجُزِ التَّعْبِيرُ عنه بغيرِ العَرَبِيَّةِ كالقُرْآنِ (¬4)، فإن عَجَز عن بَعْضِ اللَّفْظِ، أو بعضِ الحُرُوفِ، أتى بما يُمْكنُه، كمَن عَجَز عن بعضِ الفاتِحَةِ. ¬

(¬1) سورة الأعلى 15. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أي الصغير: انظر: طبقات الحنابلة 2/ 205، 216. (¬4) في م: «كالقراءة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان أخْرَسَ أو عاجِزًا عن التَّكْبِيرِ بكلِّ لسانٍ، سَقَط عنه. وعليه تَحْرِيكُ لِسانِه. ذَكَره القاضي في «المُجَرَّدِ» (¬1)؛ لأنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُه النُّطْقُ بتَحْرِيكِ لِسانِه، فإذا عَجَز عن أحَدِهما لزِمَه ¬

(¬1) ذكر حاجى خليفة أن المجرد في الأصول. وذكر ابن أبي يعلى أن المجرد في المذهب. انظر: كشف الظنون 1593، وطبقات الحنابلة 2/ 205.

381 - مسألة: (ويجهر الإمام بالتكبير كله)

وَيَجْهَرُ الْإمَامُ بِالتَّكْبِيرِ كُلِّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرُ. قال شيخُنا (¬1): وهذا غيرُ صَحيحٍ؛ لأنَّه قولٌ عَجَز عنه، فلم يلْزَمْه تَحْرِيكُ لِسانِه في مَوْضِعِه كالقِراءَةِ، وإنَّما لَزِمَه تَحْرِيكُ لِسانِه مع التَّكبِيرِ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ التَّكبِيرِ عليه، فإِذا سَقَط التَّكبِيرُ سَقَط ما هو مِن ضَرُورَته، كمَن سَقَط عنه القِيامُ، سَقَط عنه النُّهُوضُ إليه وإن قَدَر عليه. ولأنَّ (¬2) تَحْرِيكَ لِسانِه بغيرِ النُّطْقِ مُجَرَّدُ عَبَثٍ، فلم يَرِدِ الشَّرْعُ به، كالعَبَثِ بسائِرِ جَوارِحِه. 381 - مسألة: (ويَجْهَرُ الإِمامُ بالتَّكْبِيرِ كُلِّه) ليَسْمَعَ المَأمُومُون ¬

(¬1) في: المغني 2/ 130. (¬2) في الأصل: «لأن». بدون الواو.

382 - مسألة: (ويسر غيره به وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه)

وَيُسِرُّ غَيْرُهُ بِهِ وَبِالْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُكَبِّروا بتَكْبيرِه، فإن لم يُمْكِنْه إسْماعُهم، جَهَر بعضُ المَأْمُومِين ليُسْمْعَهم، أَو يُسْمِعَ مَن لَا يُسْمِعُه الإمامُ؛ لِما روَى جابِر، قال: صَلَّى بنا رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأبو بكرٍ خَلْفَه، فإذا كَبَر رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كَبَّرَ أبو بكرٍ ليُسْمِعَنا. متَّفَقٌ عليه (¬1). 382 - مسألة: (ويُسِرُّ غيرُه به وبالقِراءَةِ بقَدْرِ ما يُسْمِعُ نَفْسَه) لا يُسْتَحَبُّ لغيرِ الإمامِ الجَهْرُ بالتَّكْبِيرِ؛ لأنَّه لا حاجَةَ إليه، ورُبَّما لَبَسَ على المَأمُومِين، إِلَّا أن يَحْتاجَ إلى الجَهْرِ بالتَّكْبِيرِ؛ ليُسْمِعَ المَأْمُومِين، كما ذَكَرْنا. ويَجِبُ عليه أن يُكَبِّرْ بحيث يُسْمِعُ نَفْسَه، وكذلك القِراءةُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى كلامًا بدُونِ ذلك، وقد ذَكَرْناه قبلَ هذا. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، باب ائتمام الإمام بالمأموم، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 309. ولم نجده عند البُخَارِيّ، وأخرجه أيضًا النَّسائيّ، في: باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، من كتاب الإمامة المجتبى 2/ 66. وبنحوه عن عائشة، أخرجه البُخَارِيّ، في؛ باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وباب الرَّجل يأتم بالإمام ويأتم النَّاس بالمأموم، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1 ا 169، 182، 183. ومسلم، في: باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 331 - 315. والتِّرمذيّ في: باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 157، 158. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في مرضه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 389 - 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وعليه أن يَأْتِيَ بالتَّكْبِير قائمًا، فإنِ انْحَنَى إلى الرُّكُوعِ بحيث يَصِيرُ راكِعًا قبلَ إنْهاءِ التكْبِيرِ، لم تَنْعَقِدْ صَلاتُه إن كانت فَرْضًا، لأن القِيامَ فيها واجِبٌ ولم يَأْتِ به، وإِن كانت نافِلَةً فظاهرُ قَوْلِ القاضي أنَّها تَنْعَقِدُ، فإِنَّه قال (¬1): إِن كَبَّر في الفَرِيضَةِ في حالِ انْحِنائِه إلى الرُّكُوعِ، انْعَقَدَتْ نَفْلًا؛ لسُقُوطِ القِيامِ فيه، فإِذا تَعَذَّرَ الفَرْضُ، وَقَعَتْ نفْلًا، كمَن أحْرِمَ بفَرِيضَةٍ فبان قبلَ وَقْتِها. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا تَنْعَقِدَ النَّافِلَةُ إلَّا أن يُكبِّرَ في حالِ قِيامِه أَيضًا، لأنَّ صِفَةَ الرُّكوعِ غيرُ صِفَةِ القُعُودِ، ولم يَأْتِ بالتَّكْبِيرِ قائِمًا ولا قاعِدًا، ولأنَّ عليه الإتْيانَ بالتَّكْبِيرِ قبلَ وُجُودِ الرُّكُوعَ منه. فصل: ولا يُكَبِّرُ المَأمُومُ حتَّى يَفْرُغ إمامُه مِن التَّكْبِيرِ. وقال أبو حنيفةَ: يُكبِّرُ معه، كما يَرْكَعُ معه. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّمَا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغني 2/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُعِلَ الْإمَامُ لِيُؤْتمَّ بهِ، فَإذَا كَبَّر فَكبِّرُوا». مُتَّفَقُ عليه (¬1). والرُّكُوعُ مِثْلُ ذلك، إلَّا أنَّه لا تَفْسُدُ صَلاتُه بالرُّكُوعِ معه، لأنَّه قد دَخَل في الصلاةِ، هاهُنا بخِلافِه. فإن كَبَّر قبلَ إِمامِه، لم تنْعَقِدْ صَلاتُه، وعليه إعادَة التَّكْبِيرِ بعدَ تَكْبِيرِ الإمامِ. فصل: والتَّكْبيرُ مِن الصلاةِ، خِلافًا لأصحابِ أبي حنيفةَ في قوْلِهم: ليس منها. لأنَّه أَضافَه إِليها في قولِه: «تحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» (¬2). ولا يُضافُ الشيءُ إلى نَفْسِه. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الصلاةِ: «إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». رَواه مسلمٌ (¬3). وما ذَكَرُوه لا ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، من كتاب الصلاة، وفي: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، وباب إقامة الصف من تمام الصلاة، وباب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، وباب يهوى بالتكبير حين يسجد، من كتاب الأذان، وفي: باب صلاة القاعد، من كتاب تقصير الصلاة، وفي: الإشارة في الصلاة، من كتاب السهو، وفي: باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة، من كتاب المرضى. صحيح البُخَارِيّ 1/ 106، 176، 184، 187، 203، 2/ 59، 89، 7/ 152. ومسلم، في: باب ائتمام المأموم بالإمام، وباب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 308 - 311. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يصلي من قعود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 141، 142. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 155، 156. والنَّسائيّ، في: باب الائتمام بالإمام، وباب الائتمام بالإمام يصلي قاعدًا، من كتاب الإمامة، وفي: باب {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} من كتاب الافتتاح، في: باب ما يقول الإمام، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 65، 77، 109، 153، 154. وابن ماجه، في: باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، وباب ما جاء في إنما جعل الإمام ليؤتم به، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 276، 392. والدارمي، في: باب القول بعد رفع الرأس من الركوع، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 300 والإمام مالك، في: باب صلاة الإمام وهو جالس، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 135. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 230، 314، 341، 376، 387، 411، 420، 438، 440، 452، 459، 475، 3/ 110، 154، 162، 200، 217، 4/ 401، 405، 6/ 51، 58، 68، 148، 194. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 407. (¬3) في: باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم =

383 - مسألة: (ثم يرفع يديه مع ابتداء التكبير ممدودة الأصابع مضموما بعضها إلى بعض إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه)

وَيَرْفَعُ يَدَيْه مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ مَمْدُودَةَ الْأَصَابعِ، مَضْمُومَةً بَعْضُهَا إلى بَعْض، إلى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أوْ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ، فإنَّ أجْزاءَ الشئِ تُضافُ إليه، كيَدِ الإنْسانِ وسائِرِ أطْرافِه، واللهُ أعلمُ. 383 - مسألة: (ثم يَرْفَعُ يدَيْه مع ابْتِداءِ التَّكْبِيرِ مَمْدُودَةَ الأصابعِ مَضْمُومًا بَعْضُها إلى بعض إلى حَذْوِ مَنْكِبَيْه أو إلى فُرُوعِ أُذُنَيْه) رَفْعُ اليَدَيْنِ عندَ افْتتاحِ الصلاةِ مُسْتَحَبٌّ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: لم (¬1) يَخْتَلِفْ أهلُ العِلْمِ في أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَرْفَعُ يَدَيْه إذا افْتتح الصلاةَ. فرَوَى ابنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا افْتَتَحَ الصلاةَ رَفع يَدَيْه حتَّى يُحاِذىَ بهما مَنْكِبَيْه، وإذا أراد أن يَرْكَعَ، وبعدَ ¬

= 381، 382. كما أخرجه أبو داود، في: تشميت العاطس في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 213. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 447، 448. (¬1) في م: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَرْفَعُ رَأْسَه مِن الركُوعِ، ولا يرفَعُ بينَ السَّجْدَتَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهو مُخَيَّرٌ في رَفْعِهما إلى حَذْوِ مَنْكِبَيْه أو إلى (¬2) فُرُوعِ أُذُنَيْه، يَعْنِي أنَّه يَبْلُغُ بأطْرافِ أصابِعِه ذلك المَوْضِعَ؛ لأن كلا الأمْرَيْن قد رُوِيَ عن رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فالرفْعُ إلى المَنْكِبَيْن قد رُوِيَ في حديثِ ابنِ عُمَرَ، ورَواه عليّ، وأبو هُرَيْرةَ. وهو قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ. والرَّفْعُ إلى حَذْوِ الأذُنَيْن رَواهُ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وباب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، وباب إلى أين يرفع يديه، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 187، 188. ومسلم، في: باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام. . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 292. كما أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة، وباب من ذكر أنَّه يرفع يديه إذا قام من الثنتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 166، 171، 172. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، وباب ما جاء في وصف الصلاة من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 56، 98 - 100. والنَّسائيّ، في: باب العمل في افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع اليدين حذو المنكبين، من كتاب افتتاح الصلاة، وفي: باب رفع اليدين حذو المنكبين عند الرفع من الركوع، من كتاب التطبيق، وفي: باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين حذو المنكبين، من كتاب السهو. المجتبي 2/ 93، 94، 152، 153، 3/ 4. وابن ماجه، في: باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 279. والدارمي، في: باب رفع اليدين من الركوع والسجود، باب القول بعد رفع الرأس من الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 285، 300. والإمام مالك، في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 75 - 77. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 8، 18، 100، 106، 132، 134، 147. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وائلُ بنُ حُجْرٍ، ومالكُ بنُ الحُوَيْرِث مِن رِوايَةِ مسلم (¬1)، وقال به ناسٌ مِن أهلِ العِلْمِ، إلَّا أنَّ مَيْلَ أبي عبدِ الله إلى الأوَّلِ أكْثَرُ؛ لكثرةِ رُواتِه وقُرْبهم مِن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وجَوَّزَ الآخَرَ؛ لصِحَّةِ رِوايَتِه، فدَلَّ على أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَفْعَلُ هذا وهذا. ويُسْتَحَبُّ أن يَمُدَّ أصابعَه وَقْتَ الرَّفْع، ويَضُمَّ بَعْضَها إلى بعضٍ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا دَخَل في الصلاةِ رَفَع يَدَيْه مَدًّا (¬2). ¬

(¬1) حديث وائل بن حجر، أخرجه مسلم، في: باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام. . .، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 301. كما أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 166، 167. والنَّسائيّ، في: باب موضع الإبهامين عند الرفع، وباب رفع اليدين مدا، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 95. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 316. وحديث مالك بن الحويرث، أخرجه مسلم، في: باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين. . .، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 293. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب رفع اليدين حيال الأذنين، من كتاب الإمامة، وفي: أول كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 94، 95. وابن ماجه، في: باب رفع اليدين إذا ركع، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 11/ 279. الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 436، 437، 5/ 53. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 173. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 39. والنَّسائيّ، في: باب رفع اليدين مدا، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبي 2/ 95. وابن ماجه، في: باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 279، 280. والدارمي، في: باب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ أَحْمد، في: المسند 2/ 375، 434، 500.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعيُّ: السُّنَّةُ أن يُفَرِّقَ أصابِعَه. وقد رُوِيَ ذلك عن أحمدَ؛ لما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَنْشُرُ أصابِعَه للتَّكْبِيرِ (¬1). ولَنا، ما رَوَيْناه. وحَدِيثُهم خَطَأٌ، قالَه التِّرْمذيُّ (¬2). ثم لو صَحَّ كان مَعْناه المَدَّ. قال أحمدُ: أهْلُ العَرَبيَّة قالوُا: هذا الضَّمُّ. وضمَّ أصابِعَه. وهذا النَّشْرُ. ومَدَّ أصابِعَه. وهذا التَّفْرِيقُ. وفَرقَ أصابِعَه. ولأن النَّشْرَ لا يَقْتَضِي التَّفْرِيق، كنَشْرِ الثَّوْبِ. فصل: ويكونُ ابْتِداءُ الرفع مع ابْتداءِ التَّكْبِيرِ، وانْتِهاؤُه مع انْتِهائِه، فإذا انْقَضَى التَّكْبيرُ حَطَّ يَدَيْه؛ لأنَّ الرفْعَ للتَّكْبِيرِ، فكان معه. فإن نَسِيَ رَفْعَ اليَدَيْن حتَّى فَرَغ مِن التَّكْبِيرِ، لم يَرْفَعْهما؛ لأنَّه سُنَّةٌ فات مَحَلُّها. وإن ذَكَرَه في أثْناء التَّكْبِيرِ رَفَعَهما؛ لبَقاءِ مَحَلِّه، فإن لم يُمْكِنْه رَفْعُ اليَدَيْن إلى المَنْكِبَيْن رَفَعَهما قَدْرَ الإمْكانِ. وإن أمْكَنَه رَفْعُ إحْداهما حَسْبُ، ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 39. (¬2) عارضة التِّرْمِذِيّ عقب إيراده حديث «رفع يديه مدا»: وهذا أصح من حديث يحيى بن يمان [يعنى: ينشر أصابعه]، وحديث يحيى بن يمان خطأ.

384 - مسألة: (ثم يضع كف يده اليمنى على كوع اليسرى،

ثُمَّ يَضَعُ كَفَّ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ رَفَعَها؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطعتُمْ» (¬1). فإن لم يُمْكِنْه رَفْعُهما إلَّا بالزِّيادَةِ على المسْنُونِ، رَفَعَهما؛ لأنَّه يَأتِي بالسُنَّةِ وزِيادةٍ مَغْلُوبٍ عليها. وهذا كلّه قول الشافعيِّ. وإن كانت يَداه في ثَوْبِه، رَفَعَهما بحيث يُمْكِنُ؛ لِما روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: أَتَيْتُ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الشِّتاء، فرَأيْتُ أصحابَه يَرْفَعُون أيْدِيَهُم في ثِيابِهم في الصلاةِ. وفي رِوايَةٍ، قال: ثم جِئْتُ في زَمانٍ فيه برْدٌ شَدِيدٌ، فرَأيْتُ النّاسَ عليهم جُلُّ الثِّيابِ، تَتَحَركُ أيَدِيهم تحتَ الثِّيابِ. رَواهما أبو داودَ (¬2). وفيه: فرَأيْتُهم يَرْفَعُون أيدِيَهُم إلى صُدُورِهم (¬3). ولا فَرْقَ في ذلك بينَ النّافِلَةِ والفَرِيضَةِ، والإمامِ والمَأمُومِ والمُنْفَرِدِ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ. والله أعلمُ. 384 - مسألة: (ثم يَضَعُ كَفَّ يَدِه اليُمْنَى على كُوعِ اليُسْرَى، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 363. (¬2) في: باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 167، 168 كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 318. (¬3) في باب رفع اليدين السابق، صفحة 167.

ويَجْعَلُهما تحتَ سُرَّتِه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجْعَلُهما تحتَ سُرَّتِه) وَضْعُ اليُمْنَى على اليُسْرى في الصلاةِ مَسْنُونٌ، رُوِيَ عن عليٍّ، وأبي هُرَيْرَةَ، والنَّخَعِيِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والثوْرِيِّ، والشافعي، وأصحابِ الرَّأي. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن مالكٍ، والذى عليه أصحابُه إرْسالُ اليَدَيْنِ. رُوِي ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ، والحسين. ولَنا، ما روى قَبِيصَةُ بنُ هُلْبٍ (¬1)، عن أَبيه، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَؤُمُّنا فيَأْخُذُ شِمالَه بيَمِينِه. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديث حسنٌ، وعليه العَمَلُ عندَ أهلِ العِلْمِ مِن أصحاب النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- والتّابِعين، ومَن بعدَهم. وعن غُطيْفٍ (¬3)، قال: ما نَسِيتُ مِن الأشْياءِ فلم أنْسَ أنِّي رَأيْتُ ¬

(¬1) قبيصة بن الهلب يزيد بن عدي بن قنافة الطَّائيّ روى عن أَبيه، ولم يرو عنه غير سماك بن حرب. تهذيب التهذيب 8/ 350. (¬2) في: باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة. من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 53. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 266. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 236، 227. (¬3) غطيف، ويقال: غضيف بن الحارث بن زُنيم، السُّكُونى، الكندي، الثُّمالى، أبو أسماء الحمصي. مختلف في صحبته. مات في زمن مروان بن الحكم في فتنته. تهذيب التهذيب 8/ 348، 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، واضِعًا يَمِينَه على شِمالِه في الصلاةِ. مِن «المُسْنَدِ» (¬1). ويَضَعُهما على كُوعِه، أو قَرِيبًا منه؛ لِما روَى وائِلُ بن حُجْرٍ، أنَّه وَصَف صلاة رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقال في وَصْفِه: ثم وَضَع يَدَه اليُمْنى على ظَهْرِ كَفِّه اليُسْرَى والرُّسْغِ، والسّاعِدِ (¬2). فصل: ويَجْعَلُهما تحتَ سُرَّتِه. رَوِيَ ذلك عن عليٍّ، وأبي هُرَيْرَةَ، والثوْرِيِّ وإسحاقَ. قال على، رَضىَ اللهُ عنه: مِن السُنَّةِ وَضْعُ اليَمِينِ على الشِّمالِ تحتَ السُّرَّةِ. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬3). وعن أحمدَ، أنَّه يَضَعُهما فَوْقَ السُّرَّةِ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والشافعيِّ؛ لِما روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى، فوَضَعَ يَدَيْه على صَدْرِه، إحْداهما على (¬4) الأُخْرَى (¬5). وعنه روايَةٌ ثالثةٌ، أنَّه مُخيَّرٌ في ذلك؛ لأنَّ الجَمِيعَ مَرْوِيٌ، والأمْرُ في ذلك واسِعٌ. ¬

(¬1) 4/ 105، 5/ 290. (¬2) أخرجه النَّسائيّ في: باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 1/ 98. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 174. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 110. (¬4) في م: «إلى». (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 167.

385 - مسألة: (وينظر إلى موضع سجوده)

وَيَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 385 - مسألة: (ويَنْظُرُ إلى مَوْضِعِ سُجُودِه) وذلك مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّه أخْشَعُ للمُصَلِّي، وأكَفُّ لنَظَرِه. قال محمدُ بنُ سِيرِينَ وغيرُه (¬1)، في قَوْلِه تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬2). هو أن لا يَرْفَعَ بَصَرَه عن مَوْضِع سُجُودِه. قال أبو هُرَيْرَةَ: كان أصحابُ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَرْفَعُون أبْصارَهم إلى السَّماءِ في الصلاةِ، فلَمَّا نَزَل: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}. رَمَوْا بأبْصارِهم إلى مَوْضِعِ السُّجُودِ (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «وعروة». (¬2) سورة المؤمنون 2. (¬3) انظر: تفسير الطبري 18/ 2.

386 - مسألة: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)

ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 386 - مسألة: (ثم يَقُولُ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمْدِكَ، وتَبارَكَ اسْمُكَ، وتَعالَى جَدُّكَ، ولا إلهَ غَيْرُكَ) الاسْتِفْتاحُ مِن سُنَنِ الصلاةِ، في قَوْلِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ، وكان مالكٌ لا يَراه، بل يُكَبِّرُ ويَقْرَأُ؛ لِما روَى أنَسٌ، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأبو بكرٍ وعُمَرُ (¬1) يَفْتَتِحُون الصلاةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَسْتَفْتِحُ بما سنَذْكُرُه، وعَمِل به الصَّحابَةُ، رضِيَ اللهُ عنهم، فكان (¬3) عُمَرُ يَسْتَفْتِحُ به صَلَاته، يَجْهَرُ به ليَسْمَعَه النّاسُ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ. وحديثُ أنَسٍ أراد به القِراءَةَ، كما روَى أبو هُرَيْرَةَ: يَقولُ الله تعالى: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما يقول بعد التكبير، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 189. ومسلم، في: باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 299. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 45. والنَّسائيّ، في: باب ترك الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 104. وابن ماجه، في: باب افتتاح القراءة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 267. والدارمي، في: باب كراهية الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 283. والإمام مالك، في: باب العمل في القراءة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 8. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 101، 111، 114، 168، 177، 183، 203، 205، 233، 255، 273، 286، 289. (¬3) في الأصل: «وكان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» (¬1). وفَسَّرَه بالفاتحةِ، مِثْلَ قَوْلِ عائشةَ: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَفْتَتِحُ الصلاةَ بالتَّكْبِيرِ، والقِراءَةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه على هذا؛ لِما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ عُمَرَ، وهو مِمَّن روَى عنه أنَسٌ. فصل: ومَذْهَبُ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، الاسْتِفْتاحُ الذى ذَكَرْنا، وقال: لو أنَّ رجلًا اسْتَفْتَحَ ببَعْضِ ما رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِن الاسْتِفْتاحِ، كان حَسَنًا. والذى ذَهَب إليه أحمدُ قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ، منهم عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، وابنُ مسعودٍ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْيِ. قال التِّرمِذِيُّ: وعليه العَمَلُ عندَ أهلِ العلمِ مِن التّابِعِين وغيرِهم. وذَهَب الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ إلى الاسْتِفْتاحِ بما رُوِيَ عن عليٍّ، قال: كان رسول اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قام إلى الصلاةِ كَبَّرَ، ثم قال: «وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتي وَنُسُكِي ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 296، 397. وأبو داود، في: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 188. والتِّرمذيّ، في: باب فضل فاتحة الكتاب، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 69، 70. والنَّسائيّ، في: باب ترك قراءة بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم في فاتحة الكتاب، من باب الافتتاح. المجتبى 2/ 105. وابن ماجه، في: باب ثواب القرآن، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1243. والإمام مالك، في: باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 84، 85. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 341، 285، 460. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357، 358. وأبو داود، في: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180، 181. وابن ماجه، في: باب افتتاح القراءة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 267. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31، 171، 194، 281.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إنَّه لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِني لِأحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، أنَا بِكَ وَإلَيْكَ، تَبارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إلَيْكَ». رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬1). وعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذَا كَبَّر [في الصَّلاةِ أسْكَتَ] (¬2) إسْكاتَةً. حَسِبْتُه (¬3) قال: هُنَيْهَةً. بينَ التَّكْبِيرِ والقِراءَةِ، فقُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ، أرَأيْتَ إسْكاتَك بينَ التَّكْبِيرِ والقِراءَةِ، ما تَقُولُ؟ قال: «أقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَاىَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَاىَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 534 - 536. وأبو داود، في: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 175. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب عصمة الذكر، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 12/ 305، 306. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 100، 101. والدارمي، في: باب ما يقال بعد افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 282. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 94، 102، 103. (¬2) في م: «سكت». (¬3) في م: «حسنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَاىَ بِالثَّلْج وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وإنَّما اخْتارَ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، الاسْتِفْتاحَ الأوَّلَ؛ لمِا رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا اسْتَفْتَحَ الصلاةَ، قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلهَ غَيْرُكَ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه، والتِّرْمِذِيُّ (¬2). وروَى أبو سعيدٍ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِثْلَه، مِن رِوايَةِ النَّسائِيِّ والتِّرْمِذِيِّ (¬3). ورَواه أنَسٌ أَيضًا (¬4). وعَمِل به عُمَرُ بينَ يَدَيْ أصحابِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬5). فلذلك اخْتارَه ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِي، في: باب ما يقول بعد التكبير، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 189. ومسلم، في: باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 419. أخرجه أبو داود، في: باب السكتة عند الافتتاح، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180. والنَّسائيّ، في: باب الوضوء بالثلج، من كتاب الطهارة، وفي: باب الوضوء بماء الثلج، من كتاب المياه، وفي باب سكوت الإمام بعد افتتاحه الصلاة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 1/ 45، 143، 2/ 99. وابن ماجه، في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 264، 265. والدارمي، في: باب في السكتتين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 284. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 231، 494، 3/ 357، 4/ 381، 5/ 11، 6/ 23، 28، 57، 207. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهمَّ وبحمدك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 179. وابن ماجه، في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 265. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 41، 42. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 230، 254. (¬3) أخرجه النَّسائيّ، في: باب نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 102. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 41. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهمَّ وبحمدك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 179. (¬4) أخرجه الدارقطني، في: باب دعاء الاستفتاح بعد التكبير، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 300. (¬5) انظر الباب السابق في سنن الدارقطني 1/ 299، 300.

387 - مسألة: (ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ (¬1)، وجَوَّزَ الاسْتِفْتاحَ بغيره؛ لكَوْنِه قد صَحَّ، إلَّا أنَّه قال في [حَدِيثِ عليٍّ] (¬2): بَعْضُهم يقُولُ: في صلاةِ اللَّيْلِ. ولأنَّ العَمَل به مَتْرُوكٌ، فإنَّا لا نَعْلَمُ أحدًا يَسْتَفْتِحُ به كلِّه، وإنَّما يَسْتَفْتِحُون بأوَّلِه. فصل: قال أحمدُ: ولا يَجْهَرُ الإمامُ بالاسْتِفْتاحِ. وعليه عامَّةُ أهلِ العِلْمِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَجْهَرْ به، وإنَّما جَهَر به عُمَرُ؛ ليُعَلِّمَ النّاسَ. فإن نَسِيَه، أو تَرَكَه عَمْدًا حتَّى شَرَع في الاسْتِعاذةِ، لم يَعُدْ إليه، لأنَّه سُنَّةٌ فات مَحَلُّها. وكذلك إن نَسِيَ التَّعَوُّذَ حتَّى شَرَع في القِراءَةِ، لم يَعُدْ إليه؛ لذلك. 387 - مسألة: (ثم يَقُولُ: أعُوذُ باللهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الاسْتِعاذَةُ قبلَ القِراءَةِ في الصلاةِ سُنَّةٌ، في قَوْلِ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «حديثهم».

388 - مسألة: (ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم)

ثُمَّ يَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ (¬1)، وأصحابِ الرَّأْيِ؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2). وعن [أبي سعيدٍ] (¬3)، عن رسولِ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه كان إذا قام إلى الصلاةِ اسْتَفْتَحَ، ثم يَقُولُ: «أَعُوذُ باللهِ السَّمِيع الْعَلِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، ونَفْثِهِ» (¬4). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا أشْهَرُ حديثٍ في البابِ. وقال مالكٌ: لا يَسْتَعِيذُ؛ لحديثِ أنَسٍ (¬5). وقد مَضَى جَوابُه. وصِفَتُها كما ذَكَرْنا. وهذا قولُ أَبى حنيفةَ والشافعيِّ؛ للآيةِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: جاء عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه كان يقُولُ قبلَ القِراءَةِ: «أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ». وعن أحمدَ أنَّه يقُولُ: أعُوذُ بِاللهِ السَّمِيع العَلِيمِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ؛ لحديثِ أبي سَعِيدٍ؛ فإنَّه مُتضَمِّنٌ للزِّيادَةِ. ونَقَل حَنْبَلٌ عنه، أنَّه يَزيدُ بعدَ ذلك: إنَّ اللهَ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ. وهذا كلُّه واسِعٌ. وكَيْفَما اسْتَعاذَ فحَسَنٌ. 388 - مسألة: (ثم يَقْرأُ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قِراءَةُ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النحل 98. (¬3) في م: «ابن مسعود». (¬4) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما يقال عند افتتاح الصلاة، من أبواب الصلاة، عارضة الأحوذى 2/ 40، 41. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما رأى الاستفتاح بسبحانك اللهمَّ وبحمدك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 179. والدارمي، في: باب ما يقال بعد افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 282. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 50. (¬5) تقدم تخريجه في الصفحة قبل السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» مَشْرُوعَةٌ في الصلاةِ، في أوَّلِ الفاتِحَةِ، وأوَّلِ كلِّ سُورَةٍ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال مالكٌ، والأَوْزاعِيُّ: لا يَقْرَؤُها في أوَّلِ الفاتِحَةِ، لحديثِ أنَسٍ. وعن ابنِ (¬1) عبدِ اللهِ بنِ المُغَفَّلِ، قال: سَمِعَنِي أَبى، وأنا أقُولُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقال: أيّ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ! إيّاكَ والحَدَثَ. قال: ولم أرَ أحَدًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان أبْغَضَ إليه الحَدَثُ في الإِسْلامِ. يَعْنِي منه. فإنِّي صَلَّيْتُ مع النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ومع أبي بكرٍ، ومع عُمَرَ، ومع عثمانَ، فلم أسْمَعْ أحَدًا منهم يَقُولُها، فلا تَقُلْها، إذا صَلَّيْتَ فقُلْ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. أخرجه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ولَنا، ما رُوِيَ عن نُعَيْمٍ المُجْمِرِ، أنَّه قال: صَلَّيْت وراءَ أَبى هُرَيْرَةَ، فقَرَأ: بِسْمِ الله اِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثم قَرَأ بأُمِّ القُرْآنِ، وقال: والذى نَفْسِي بيَدِه، إنِّي لأشْبَهُكم صلاةٌ برسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. رَواه النَّسائِيُّ (¬3). وروَى ابنُ المُنْذِرِ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في الصلاةِ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب ما جاء في ترك الجهر ببسم الرَّحْمَن الرَّحِيم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 43. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب ترك الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. المجتبى 2/ 104 وابن ماجه، في: باب افتتاح القراءة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 267، 268. (¬3) في: باب قراءة بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وباب التكبير للركوع، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 103، 104، 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّحِيمِ (¬1). وعن أُمِّ سَلَمَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في الصلاةِ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وعَدَّها آيَةً، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، آيَتَيْن (¬2). فأَمّا حديثُ أنَس، فقد سَبَق جَوابُه. ثم يُحْمَلُ على أنَّ الذى كان يُسْمَعُ منهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقد جاء مُصَرَّحًا به. فرَوَى شُعْبَةُ، وشَيْبان، عن قَتادَة، قال: سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالكٍ، قال: صَلَّيْتُ خلفَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وأبي بكرٍ، وعُمَرَ، فلم أسْمَعْ أحَدًا منهم يَجْهَرُ بـ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وفي لَفْظٍ: فكلُّهم يُخْفِي «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وفي لَفْظٍ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُسِرُّ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وأبا بكرٍ وعُمَرَ (¬3). رَواه ابنُ شاهِينَ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الجهر ببسم الرَّحْمَن الرَّحِيم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 44. والدارقطني، في: باب وجوب قراءة بسم الرَّحْمَن الرَّحِيم في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 302 - 304. والبيهقي، في: باب افتتاح القراءة في الصلاة ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 46. (¬2) أخرجه أبو داود، في: أول كتاب الحروف والقراءات. سنن أبي داود 2/ 361. والتِّرمذيّ، في: باب فاتحة الكتاب، من أبواب القراءات. عارضة الأحوذى 11/ 48، 49. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 302. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما يقول بعد التكبير، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 189. ومسلم، في: باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 299. والنَّسائيّ، في: باب ترك الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 104. (¬4) أبو حفص عمر بن أَحْمد بن عثمان، ابن شاهين البغدادي الحافظ، محدث العراق، صاحب التصانيف، المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 3/ 987 - 989.

389 - مسألة: (وليست من الفاتحة. وعنه، أنها منها. ولا بجهر بشئ من ذلك)

وَلَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا مِنْهَا. وَلَا يَجْهَرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ المُغَفَّلِ مَحْمُولٌ على هذا أَيضًا، جَمْعًا بينَ الأخْبارِ. ولأنَّ مالِكًا قد سَلَّمَ أنَّه يُسْتَفْتَحُ بها غيرُ (¬1) الفاتِحَةِ، فالفاتِحَةُ أوْلَى؛ لأنَّها أوَّلُ القُرْآنِ وفاتِحَتُه. 389 - مسألة: (وليست مِن الفاتِحَةِ. وعنه، أنَّها منها. ولا بجْهَرُ بشئٍ مِن ذلكَ) قد مَضَى ذِكْرُ الاسْتِفْتاحِ، ولا نَعْلَمُ خلافًا في أنَّه لا يَجْهَرُ بالاسْتِعاذةِ، فأمَّا «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فالجَهْرُ بها غيرُ مَسْنُونٍ عندَ أحمدَ، رَحِمَه الله، لا اخْتِلافَ عنه فيه. قال ¬

(¬1) في م: «في غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِيُّ (¬1): وعليه العَمَلُ عندَ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ مِن أصحابِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ومَن بعدَهم مِن التَّابِعِين؛ منهم أبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعثمانُ، وعليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وذكَرَه ابنُ المُنْذِرِ عن ابنِ مسعودٍ، وعَمّارٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ. وهو قولُ الحَكَمِ، وحَمّادٍ، والأوْزاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ المُبارَكِ، وأصحابِ الرَّأْيِ. ويُرْوَى الجَهْرُ بها عن عَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لحديثِ أَبى هُرَيْرَةَ، أنَّه قَرَأ بها في الصلاةِ، وقد قال: ما أسْمَعَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أسْمَعْناكم، وما أخْفَى عَنّا أخْفَيْنا عنكم. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أُنَسٍ، أنَّه صَلَّى وجَهَر بـ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وقال: أقْتَدِي بصلاةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬3). ولِما تَقَدَّمَ مِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ، ولأنَّها آيةٌ مِن الفاتِحَةِ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ترك الجهر ببسم الرَّحْمَن الرَّحِيم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 44. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب القراءة في الفجر، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 195. ومسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 297. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 184. والنَّسائيّ، في: باب قراءة النهار، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 126. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 258، 273، 285، 301، 343، 348، 411، 416، 435، 446، 487. (¬3) أخرجه الدارقطني، في: باب وجوب قراءة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة والجهر بها، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَجْهَرُ بها الإِمامُ في صلاةِ الجَهْرِ، كسائِرِ آياتِها. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حديثِ أنَسٍ، وعبدِ اللهِ بنِ المُغَفَّلِ. وعن عائشةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَفْتَتِحُ الصلاةَ بالتَّكْبِيرِ، والقِراءَةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وحديثُ أَبى هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «قالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ». لم يَذْكُرْ فيه «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» يَدُلُّ على أنَّه لم يَذْكُرْ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وأمّا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ الذى احْتَجُّوا به، فليس فيه أنَّه جَهَر بها، ولا يَمْتَنِعُ أن يُسْمَعَ منه حالَ الإسْرارِ، كما سُمِع الاسْتِفْتاحُ والاسْتِعاذَةُ مِن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، مع إسْرارِه بهما، فقد رُوِيَ أنَّه كان يُسْمِعُهم الآيَةَ أحْيانًا في صلاةِ الظُّهْرِ. مِن رِوايَةِ أَبى قَتادَةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وكذلك حديثُ أُمِّ سَلَمَةَ ¬

(¬1) كذا ذكر المؤلف. والحديث أخرجه مسلم، في: باب ما يجمع صفة الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180. وابن ماجه، في: باب افتتاح القراءة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 267. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31، 171، 194، 281. وانظر: تحفة الأشراف 11/ 386. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب القراءة في الظهر، وباب القراءة في العصر، وباب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، وباب إذا سمع الإمام الآية، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 193، 197. ومسلم، في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 333. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب تطويل القيام في الركعة الأولى من صلاة الظهر، وباب إسماع الإمام الآية في الظهر، وباب تقصير القيام في الركعة الثَّانية من الظهر، وباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر، وباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 127، 128. وابن ماجه، في: باب الجهر بالآية أحيانًا في صلاة الظهر والعصر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 271. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 295، 297، 300، 301، 305، 307، 309 - 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس فيه ذِكْرُ الجَهْرِ، وباقِي أخْبارِ الجَهْرِ ضَعِيفَةٌ؛ لأنَّ رُواتَها هم رُواةُ الإخْفاءِ، بإسْنادٍ صَحِيحٍ ثابِتٍ لا يُخْتَلَفُ فيه، فدَلَّ على ضَعْفِ ما يُخالِفُه، وقد بَلَغَنا أنَّ الدّارَقُطْنِيَّ قال: لم يصِحَّ في الجَهْرِ حديثٌ (¬1). فصل: وليست مِن الفاتِحَةِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ. وهي المَنْصُورَةُ عندَ أصحابِنا، وهو قولُ أَبى حنيفةَ، ومالكٍ، والأوْزاعِيِّ. ثم اخْتَلَفَ (¬2) عن أحمدَ فيها، فقِيلَ عنه (¬3): هي آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، كانت تَنْزِلُ بينَ كلِّ سُوَرَتَيْن فَصْلًا بينَ السُّوَرِ. وقِيلَ عنه: إنَّما هي بَعْضُ آيَة مِن سُوَرةِ النَّمْلِ. [وقال عبدُ اللهِ بنُ مَعْبَدٍ الزِّمّانِيُّ (¬4) والأوْزاعِيُّ: ما أنْزَلَ اللهُ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم» إلَّا في سُورَةِ النَّمْل] (¬5): {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬6). والرِّوايَةُ الثّانِيَة، أنَّها آيةٌ مِن الفاتِحَةِ خاصَّةً، تَجِبُ قِراءَتُها في الصلاةِ أوَّلًا. اخْتارَها أبو عبدِ اللهِ ابنُ بَطَّةَ، وأبو حَفْصٍ. وهو قولُ ابنِ المُبارَكِ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيْدٍ. قال عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ: مَن تَرَك «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فقد تَرَك مِائةً وثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً. وكذلك قال الشَّافِعِيُّ؛ ¬

(¬1) انظر: نصب الراية للزيلعي 1/ 358، 359. (¬2) أي النقل. (¬3) سقط من: م. (¬4) عبد الله بن معبد الزماني، بصري تابعي ثِقَة. والزماني نسبة إلى زِمَّان بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، من ربيعة. الأنساب 6/ 296. تهذيب التهذيب 6/ 40. (¬5) سقط من: م. (¬6) سورة النمل 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحديثِ أُمِّ سَلَمَةَ. وروَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال. «إذَا قَرَأْتُمْ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَاقْرَءُوا: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَإنَّها أُمُّ الْكِتَابِ، وَإنَّهَا السَّبْعُ المَثَانِي، و {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية مِنْهَا» (¬1). ولأنَّ الصَّحابَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم، أثْبَتُوها في المَصاحِفِ، ولم يُثْبِتُوا بينَ الدَّفَّتَيْن سِوَى القُرْآنِ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: سَمِعْتُ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَألَ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ (¬2): {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قَالَ اللهُ: حَمَدَنِي عَبْدِي. فَإذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. قَالَ اللهُ: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإذَا قَالَ: {مَالِكٍ يَوْمِ الدِّينِ}. قَالَ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَإذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. قَالَ اللهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». رَواه مسلمٌ (¬3). فلو كانت {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب وجوب قراءة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 312. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 426.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّحِيمِ} آيةً لعَدَّهَا، وبَدَأ بها، ولم يَتَحَقَّقِ التَّنْصِيفُ. فإن قِيلَ: فقد روَى عبدُ اللهِ بنُ زِيادِ بنِ سَمْعَانَ (¬1): «يَقُولُ عَبْدِي إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي». قُلْنا: ابنُ سَمْعانَ مَتْرُوكُ الحديثِ، لا يُحْتَجُّ به. قالَه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬2). ورُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «سُورَةٌ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لِقَارِئِهَا، ألَا وَهِيَ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» (¬3). وهي ثَلاُثون آيَةً سِوَى «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». ولأنَّ مَواضِعَ الآيِ كالآيِ، في أنَّها لا تَثْبُتُ إلَّا بالتَّواتُرِ، ولا تَواتُرَ في هذا. فأمَّا حديثُ أُمِّ سَلَمَةَ فلَعَلَّه مِن رَأْيِها. أو نقولُ: هم آيَةٌ مُفْرَدَةٌ للفَصْلِ بينَ السُّوَرِ. وحديثُ أَبى هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ عليه، فإنَّ راوِيَه أبو بكرٍ الحَنَفِيُّ، عن عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفَرٍ، عن نُوحِ ابن أبي بِلالٍ، قال أبو بكرٍ: رَاجَعْتُ فيه نُوحًا، فوَقَفَه. وأمّا إثْباتُها بينَ السُّوَرِ، فللفَصْلِ بينَها، ولذلك كُتِبَتْ سَطْرًا على حِدَتِها. والله أعلمُ. ¬

(¬1) أي عن أبي هريرة، وهو الحديث السابق. وأخرجه الدارقطني بهذا اللفظ في: باب وجوب قراءة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. إلخ من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 312. (¬2) في الموضع السابق في التعليق السابق. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في عدد الآي، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 324. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في فضل سورة الملك، من أبواب ثواب القرآن. عارضة الأحوذى 11/ 20، 21. وابن ماجه، في: باب ثواب القرآن، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1244. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 299، وأخرجه النَّسائيّ، في: باب الفضل في قراءة تبارك الذي بيده الملك، من كتاب عمل اليوم الليلة، وفي. باب سورة الملك، من كتاب التفسير. السنن الكبرى 6/ 178، 179، 496.

390 - مسألة: (ثم يقرأ الفاتحة، وفيها إحدى عشرة تشديدة)

ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ، وَفِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً». ـــــــــــــــــــــــــــــ 390 - مسألة: (ثم يَقْرَأُ الفاتِحَةَ، وفيها إحْدَى عَشَرةَ تَشْدِيدَةً) قِراءَةُ الفاتِحَةِ رُكْنٌ مِن أرْكانِ الصلاةِ، لا تَصِحُّ إلَّا به، في المَشْهُورِ عن أحمدَ. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. ورُوِيَ عن عُمَرَ، وعثمانَ بنِ أبي العاصِ، وخَوّاتِ بنِ جُبَيْرٍ (¬1)، رَضِيَ اللهُ عنهم، أنَّهم قالُوا: لا صلاةَ إلَّا بقِراءَةِ فاتِحَةِ الكِتابِ. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّها لا تَتَعَيَّنُ، ويُجْزِئُ قِراءَةُ آيَةٍ مِن القُرْآنِ، أيَّ آيةٍ كانت. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للمُسِيءِ في صَلاِته: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» (¬2). وقولِ اللهِ تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬3). ولأنَّ الفاتِحَةَ وسائِرَ القُرآنِ سَواءٌ في سائِرِ الأحْكامِ، كذلك في الصلاةِ. ولَنا، ما روَى عُبادَةُ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «لَا ¬

(¬1) أبو عبد الله خوات بن جبير بن النُّعمان الأَنْصَارِيّ الأوسي الصحابي، تُوفِّي بالمدينة سنة أربعين، وعمره أربع وتسعون سنة. أسد الغابة 2/ 148، 149. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من رد فقال عليك السلام، من كتاب الاستئذان، وفي: باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، من كتاب الأيمان. صحيح البُخَارِيّ 8/ 69، 169. ومسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 298. وأبو داود، في: باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 197. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في وصف الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 97. والنَّسائيّ، في: باب فرض التكبيرة الأولى، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 96. وابن ماجه، في: باب إتمام الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 336. والإمام أَحْمد، في المسند 2/ 427. (¬3) سورة المزمل 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكتَابِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ القِراءَةَ رُكْنٌ في الصلاةِ، فكانت مُعَيَّنَةَ، كالرُّكُوعِ والسُّجُودِ. فأمّا خَبَرُهم، فقد روَى الشافعيُّ (¬2) بإسْنادِه، عن رِفاعَةَ بنِ رافِعٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال للأعْرابِيِّ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَقْرَأَ». ثم يُحْمَلُ على الفاتِحَةِ وما تَيَسَّرَ معها، ويَحْتَمِلُ أنَّه لم (¬3) يَكُنْ يُحْسِنُ الفاتِحَةَ، وكذلك نقُولُ في الآيَةِ: يَجُوزُ أن يكُونَ أراد الفاتِحَةَ وما تَيَسَّرَ، ويَحْتَمِلُ أنَّها نَزَلَتْ قبلَ نُزُولِ الفاتِحَةِ. والمَعْنَى الذى ذَكَرُوه أجْمَعْنا على خِلافِه؛ فإنَّ مَن تَرَكَ الفاتِحَةَ، كان مُسِيئًا، بخِلافِ بَقِيَّةِ السُّوَرِ. وتَشْدِيداتُ الفاتِحَةِ إحْدَى عَشْرَةَ، بغيرِ خِلافٍ؛ أوُّلُها اللَّامُ في {لِلَّهِ}، والباءُ في {رَبِّ}، والراءُ في {الرَّحْمَنِ}، وفي {الرَّحِيمِ}، والدَّالُ في {الدِّينِ}، وفي {إِيَّاكَ}، و {إِيَّاكَ} تَشْدِيدَتان، وفي {الصِّرَاطَ}، على الصَّادِ، وعلى اللّامِ في {الَّذِينَ}، وفي {الضَّالِّينَ} تَشْدِيدَتان، في الضّادِ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم. . . . إلخ، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 192. ومسلم، في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 295. كما أخرجه أبو داود، في: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 189. والتِّرمذيّ، في: باب لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب، وباب في القراءة خلف الإمام، وباب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 46، 107، 110. والنَّسائيّ: باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 106. وابن ماجه، في: باب القراءة خلف الإمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 273. والدارمي، في: باب لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 283. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 314، 316، 321، 322. (¬2) ترتيب مسند الشَّافعيّ 1/ 71. (¬3) في م: «إن لم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللّامِ. وإذا قُلْنا: البَسْمَلَةُ مِنها. صار فيها أرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً؛ [لأنَّ في البَسْمَلَةِ ثَلاثًا] (¬1). فصل: وتَجِبُ قِراءَةُ الفاتِحَةِ في كلِّ رَكْعَةٍ، في حَقِّ الإِمامِ والمُنْفَرِدِ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. وهو قولُ مالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّها لا تَجِبُ إلَّا (¬2) في رَكْعَتَيْن مِن الصلاةِ. ونَحْوُه يُرْوَى عن النَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ. ونَحْوُه عن الأوْزاعِيِّ أَيضًا؛ لِما رُوىَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: اقْرَأْ في الأُولَيَيْن، وسَبِّحْ في الأُخْرَيَيْن. ولأنَّ القِراءَةَ لو وَجَبَتْ في بَقِيَّةِ الرَّكَعاتِ، لسُنَّ الجَهْرُ بها في بَعْضِ الصَّلَواتِ، كالأُولَيَيْن. وعن الحسنِ: أنَّه إن قَرَأ في رَكْعَةٍ واحِدَةٍ أجْزَأ. وقالت طائِفَةٌ: إن تَرَك قِراءَةَ القُرْآنِ في رَكْعَةٍ واحِدَةٍ، سَجَد للسَّهْوِ، إلَّا في الصُّبْحِ، فإنَّه يُعِيدُ. رُوِيَ هذا عن مالكٍ. ورُوِيَ عن إسحاقَ، أنَّه قال: إذا قَرَأ في ثَلاثِ رَكَعاتٍ، إمامًا أو مُنْفَرِدًا، فصَلاتُه جائِزَةٌ؛ وذلك لقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (¬3). ولَنا، ما روَى أبو قَتادَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرَأْ في الظُّهْرِ في الأُولَيَيْن بأُمِّ الكتابِ وسُورَتَيْن، ويُطَوِّلُ في الأُولَى، ويُقَصِّرُ في الثّانِيَةِ، ويُسْمِعُ الآيَةَ أحْيانًا، وفي الرَّكْعَتَيْن الأُخْريَيْن بأُمِّ الكِتابِ. وقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيّتُمُونِي أُصَلِّي». مُتَّفَقٌ عليهما (¬4). وروَى أبَو سعيدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة المزمل 20. (¬4) الأول، أخرجه البُخَارِيّ، في: باب القراءة في الظهر، وباب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، وباب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (¬1). وعنه، وعن عُبادَةَ بنِ الصّامِتٍ، قالا: أمَرَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن نَقْرَأ بفاتِحَةِ الكتابِ، في كلِّ رَكْعَةٍ (¬2). رَواهما إسماعيلُ بنُ سعيدٍ الشَّالَنْجِيُّ. ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عَلَّمَ المُسِيءَ في صَلاِته كيف يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الأُولَى، ثم قال: «وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلُّهَا» (¬3). فيَتَناوَل الأمرَ بالقِراءَةِ. وحديثُ عليٍّ يَرْوِيه الحَارِثُ الأعْوَرُ، قال الشَّعْبِيُّ: كان كَذَّابًا. ولو صَحَّ، فقد خالَفَه عُمَرُ، وجابِرٌ. والإسْرارُ بها لا يَنْفِي وُجُوبَها، كالأُولَيَيْن في الظُّهْرِ. فصل: وأقَلُّ ما يُجْزِئُ قِراءَةٌ مَسْمُوعَةٌ يُسْمِعُها نَفْسَه، أو يكُونُ بحيث يَسْمَعُها لو كان سَمِيعًا، إلَّا أن يكونَ ثَمَّ ما يَمْنَعُ السَّماعَ، كقَوْلِنا في ¬

= إذا سمع الإمام الآية، وباب يطوّل في الركعة الأولى، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 193، 197، 198. ومسلم، في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 333. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 184. والنَّسائيّ، في: باب تقصير القيام في الركعة الثَّانية من الظهر، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 128. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 295، 301، 311. والثاني، أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب رحمة النَّاس والبهائم، من كتاب الأدب، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق. . . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 162، 163، 8/ 11، 9/ 107. والدارمي، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 286. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 53. وهذا اللفظ لم يخرجه مسلم. (¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب القراءة خلف الإمام، من كتاب إقامة الصلاة، بلفظ: «لا صلاة لمن لم يقرأْ في كل ركعةٍ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، وسورة، في فريضة أو غيرِها». سنن ابن ماجه 1/ 274. (¬2) أخرجه بنحوه من حديث أبي سعيد ابن ماجه، في: باب القراءة خلف الإمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 274. انظر التلخيص الحبير 1/ 232. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّكْبِيرِ، فإنَّ ما دُونَ ذلك ليس بقِراءَةٍ. والمُسْتَحَبُّ أن يَأْتِيَ بها مَرَتَّلَةً (¬1) مُعْرَبَةً، يَقِفُ فيها عندَ كلِّ آيَةٍ، ويُمَكِّنُ حُرُوفَ المَدِّ واللِّينِ، ما لم يُخْرِجْه ذلك إلى التَّمْطِيطِ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬2). ورُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ، أنَّها سُئِلَتْ عن قِراءَةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قالت: كان يُقَطِّعُ قِراءَتَه آيَةً آيَةً: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكٍ يَوْمِ الدِّينِ}. مِن المُسْنَدِ (¬3). وعن أنَسٍ، قال: كانت قِراءَةُ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مَدًّا. ثم قَرَأ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. يَمُدُّ {بِسْمِ اللهِ}، ويَمُدُّ {الرَّحْمَنِ} ويَمُدُّ {الرَّحِيمِ}. أخْرَجَه البُخارِيُّ (¬4). فإن أخْرَجَه ذلك إلى التَّمْطِيطِ والتَّلْحِينِ كان مَكْرُوهًا؛ لأنَّه رُبَّما جَعَل الحَرَكاتِ حُرُوفًا. قال أحمدُ: يُعْجِبُنِي مِن قِراءَةِ القرآنِ السَّهْلَةُ. وقال: قَوْلُه: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأصْوَاتِكُمْ» (¬5). قال: يُحَسِّنُه بصَوْتِه مِن غيرِ ¬

(¬1) في م: «مرتبة». (¬2) سورة المزمل 4. (¬3) 6/ 302. وتقدم بلفظ آخر في صفحة 432. (¬4) في: باب مد القراءة، من كتاب فضائل القرآن. صحيح البُخَارِيّ 6/ 240، 241. كما أخرجه أبو داود، في: باب استحباب الترتيل في القراءة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 338. والنَّسائيّ، في: باب مد الصوت بالقراءة، من كتاب الصلاة. المجتبى 2/ 139. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قول النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، وزينو القرآن بأصواتكم (الترجمة)، من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 9/ 193. وأبو داود، في: باب استحباب الترتيل في القراءة، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 338. والنَّسائيّ، في: باب تزيين القرآن بالصوت، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 139. وابن ماجه، في: باب في حسن الصوت بالقرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 426. والدارمي، في: باب التغني بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ =

391 - مسألة: (فإن ترك ترتيبها، أو تشديدة منها، أو قطعها بذكر كثير، أو سكوت طويل، لزمه استئنافها)

فَإِنْ تَرَكَ تَرْتِيبَهَا أَوْ تَشْدِيدَة مِنْهَا، أَوْ قَطَعَهَا بِذِكْرٍ كَثِيرٍ، أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكَلُّفٍ. وقد رُوِيَ في خَبَرٍ: «أحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً مَنْ إذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأيْتَ أنَّهُ يَخْشَى اللهَ» (¬1). ورُوِيَ: «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ» (¬2). 391 - مسألة: (فإن تَرَك تَرْتِيبَها، أو تَشْدِيدَةً منها، أو قَطَعَها بذِكْرٍ كَثِيرٍ، أو سُكُوتٍ طَوِيلٍ، لَزِمَه اسْتِئْنافُها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يَلْزَمُه أن يَأْتِيَ بقِراءَةِ الفاتِحَةِ مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً، غيرَ مَلْحُونٍ فيها لَحْنًا يُحِيلُ المَعْنى، مِثْلَ أن يَكسِرَ كافَ {إِيَّاكَ}، أو يَضُمَّ تاءَ {أَنْعَمْتَ}، أو يَفْتَحَ ألِفَ الوَصْلِ في {اهْدِنَا}، فإن أخَلَّ بالتَّرْتِيبِ، أو لَحَن فيها لَحْنًا يُحِيلُ المَعْنَى، لم يُعْتَدَّ بها، لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرَؤُها مُرَتَّبَةَ، وقد قال: «صَلُّوا ¬

= 2/ 474. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 283، 285، 296، 304. (¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب في حسن الصوت بالقرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 425. والدارمي، في: باب التغنى بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 2/ 471، 472. وفي سنن الدَّارميّ: «أُرِيتَ أنَّه يخشى الله». (¬2) أخرجه بنحوه ابن ماجه، في: باب حسن الصوت بالقرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 424. وبلفظه، عزاه السيوطى لابن مردويه عن ابن عباس. انظر: كنز العمال 1/ 609.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). إلَّا أن يَعْجِزَ عن غيرِ هذا، وكذلك إن أخَلَّ بتَشْدِيدَةٍ منها. ذَكَر القاضي نَحْوَ هذا في «المُجَرَّدِ». وهو قولُ الشافعيِّ. وذَكَر في «الجامِعِ»: لا تَبْطُلُ بتَرْكِ شَدَّةٍ؛ لأنَّها غيرُ ثابِتَةٍ في خَطِّ المُصْحَفِ، وإنَّما هي صِفَةٌ للحَرْفِ، ويُسَمَّى تارِكُها قارِئًا. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الحَرْفَ المُشَدَّدَ أُقِيمَ مُقامَ حَرْفَيْن، بدَلِيلِ أنَّ شَدَّةَ راءِ {الرَّحْمَنِ} أُقِيمَتْ مُقامَ اللّامِ، وكذلك شَدَّةُ دالِ {الدِّينِ}، فإذا أخَلَّ بها، أخَلَّ بالحَرْفِ وغَيَّرَ المَعْنَى، إلَّا أن يُرِيدَ أنَّه أظْهَرَ المُدْغَمَ، مِثْلَ أن يُظْهِرَ لامَ {الرَّحْمَنِ}، فهذا يَصِحُّ؛ لأنَّه إنَّما تَرَك الإِدْغامَ، وهو لَحْنٌ لا يُحِيلُ المَعْنَى. قال القاضي: ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه إذا لَيَّنَها، ولم يُخَفِّفْها على الكَمالِ، أنَّه لا يُعِيدُ الصلاةَ؛ لأنَّ ذلك لا يُحِيلُ المَعْنَى، ويَخْتَلِفُ باخْتِلافِ النَّاسِ. ولَعَلَّه أراد في «الجامِعِ» هذا، فيَكُونُ قَوْلُه مُتَّفِقًا. ولا تُسْتَحَبُّ المُبالَغَةُ في التَّشْدِيدِ بحيث يَزِيدُ على حَرْفٍ ساكِنٍ؛ لأنَّها أُقِيمَتْ مُقامَه، فإذا زادَها عن ذلك، زادَها عمّا أُقِيمَتْ مُقامَه، فيُكْرَهُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَطَع قِراءَةَ الفاتِحَةِ بذِكْرٍ، أو دُعاءٍ، أو قِراءَةٍ، أو سُكُوتٍ، وكان يَسِيرًا، أو فرَغ الإِمامُ مِن الفاتِحَةِ في أثْناءِ قِراءَةِ المَأْمُومِ، فقال: آمِينَ. لم تَنْقَطِعْ قِراءَتُه؛ لقولِ أحمدَ: إذا مَرَّتْ به آيَةُ رَحْمَةٍ سأل، وإذا مَرَّتْ به آيَةُ عَدْابٍ اسْتَعاذَ. لأنَّه يَسِيرٌ فعُفِيَ عنه. وإن كَثُر ذلك، اسْتَأْنَفَ قِراءَتَها؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرَؤُها مُتَوالِيَةٌ. فإن كان السُّكُوتُ مَأْمُورًا به، كالمَأْمُومِ يَشْرَعُ في قِراءَةِ الفاتِحَةِ، ثم يَسْمَعُ قراءةَ الإِمام، فيُنْصِتُ له، فإذا سَكَت الإِمامُ، أتَمَّ قِراءَتَه، أجْزأه. أوْمَأ إليه أحمدُ. وكذلك إن سَكت نِسْيانًا، أو نَوْمًا، أو لانْتِقالِه إلى غيرِها غَلَطًا، ومتى ما ذَكَر، أتَى بما بَقِيَ منها. فإن تَمادَى فيما هو فيه بعدَ ذِكْرِه، لَزِمَه اسْتِئْنافُها، كما لو ابْتَدَأ ذلك. فإن نَوَى قَطْعَ قِراءَتِها مِن غيرِ أن يَقْطَعَها، لم تَنْقَطِعْ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالفِعْلِ لا بالنِّيَّةِ. وكذا إن سَكَت مع النِّيَّةِ سُكُوتًا يَسِيرًا؛ لِما ذَكَرْناه مِن أنَّ النِّيَّةَ لا عِبْرَةَ بها. ذَكَرَه القاضي في «المُجَرَّدِ». وذَكَر في «الجامِعِ» أنَّه متى سَكَت مع النِّيَّةِ، أبْطَلَها، وأنَّه متى عَدَل إلى قِراءَةِ غيرِها عَمْدًا، أو دُعاءٍ غيرِ مَأْمُورٍ به، بَطَلَتْ قِراءَتُه. ولم يُفَرِّقْ بينَ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ. وإن قَدَّمَ آيَةً منها في غيرِ مَوْضِعِها عَمْدًا، أبْطَلَهَا. وإن كان

392 - مسألة: (فإذا قال: {ولا الضالين}. قال: آمين)

فَإذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غلَطًا، رَجَع فأتَمَّها. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى، إن شاء اللهُ، ما ذَكَرْناه؛ لأنَّ المُعْتَبَرَ في القِراءَةِ وُجُودُها، لا نِيَّتُها، فمتى قَرَأها مُتَواصِلَةً تَواصُلًا قَرِيبًا، صَحَّتْ، كما لو كان ذلك عن غَلَطٍ. واللهُ أعلمُ. 392 - مسألة: (فإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ) التَّأْمِينُ عندَ الفَراغِ مِن قراءَةِ الفاتِحَةِ سُنَّةٌ للإمامِ والمَأْمُومِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ الزُّبَيْرِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وعَطاءٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْيِ. وقال أصحابُ مالكٍ: لا يُسَنُّ التَّأْمِينُ للإِمامِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. فقُولُوا: آمِينَ. فَإنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، [غُفِرَ لَهُ] (¬2)». رَواه مالكٌ] (¬3). وهذا دَلِيلٌ على أنَّه لا ¬

(¬1) في: المغني 2/ 156. (¬2) سقط من: الأصل. وفي الموطأ وغيره زيادة: «ما تقدم من ذنبه». (¬3) في: باب ما جاء في التأمين خلف الإمام، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 87. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب جهر المأموم بالتأمين، وباب جهر الإمام بالتأمين، من كتاب الأذان، وفي: باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقُولُها. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن وائِلِ بنِ حُجْرٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}. قال: «آمِينَ». ورَفَع بها صَوْتَه. رَواه أبو داودَ (¬2) وحَدِيثُهم لا حُجَّةَ لهم فيه، وإنَّما قُصِد به تَعْرِيفُهم مَوْضِعَ تَأْمِينِهم، وهو مَوْضِعُ تَأْمِينِ الإِمامِ، ليكونَ تَأْمِينُ الإِمامِ والمَأْمُومِين مُوافِقًا لتَأْمِينِ المَلَائِكَةِ، وقد جاء هذا مُصَرَّحًا به، فرَوَى الإِمامُ أحمدُ، عن أَبى هُرَيْرَةَ، ¬

= الضَّالِّينَ}، من كتاب التفسير. صحيح البُخَارِيّ 1/ 198، 6/ 21. ومسلم، في: باب التسميع والتحميد والتأمين، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 307. وأبو داود، في: باب التأمين وراء الإِمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 214، 215. والنَّسائيّ، في: باب جهر الإمام بآمين، وباب الأمر بالتأمين خلف الإمام، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 111. وابن ماجه، في: باب الجهر بآمين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 278. والدارمي، في: باب في فضل التأمين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 284. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 233، 238، 271، 449، 450. (¬1) انظر التخريج السابق، عدا سنن الدَّارميّ، والمسند، في: 2/ 449، 450. ويضاف إلى ما سبق: أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في فضل التأمين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 50، والنَّسائيّ، في: باب جهر الإمام بآمين، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 110. (¬2) في: باب التأمين وراء الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 214. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب رفع اليدين حيال الأذنين، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 94. والدارمي، في: باب الجهر بالتأمين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 284 =

393 - مسألة: (يجهر بها الإمام والمأموم في صلاة الجهر)

يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {وَلَا الضَّالِّينَ}. فقُولُوا: آمِينَ. فَإنَّ المَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ. وَالْإِمَامُ يَقولُ: آمِينَ. فمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» (¬1). وقَوْلُه في اللَّفْظِ الآخَرِ: «إذَا أمَّنَ الْإِمَامُ». يَعْنِي إذا شَرَع في التَّأْمِينِ. 393 - مسألة: (يَجْهَر بها الإمامُ والمَأْمُومُ في صلاةِ الجَهْرِ) الجَهْرُ بـ «آمِين» للإمامَ والمَأْمُومِ سُنَّةٌ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عنه (¬2): يُسَنُّ إخْفاؤُها؛ لأنَّه دُعاءٌ، أشْبَهَ دُعاءَ التَّشَهُّدِ. ولَنا، حديثُ وائِلِ بنِ حُجْرٍ الذى ذَكَرْناه. وقال عَطاءٌ: إنَّ ابنَ الزُّبَيْرِ كان يُؤَمِّنُ ويُؤَمِّنُون حتَّى إنَّ للمسجدِ لَلَجَّةً (¬3). رَواه الشافعيُّ في مُسْنَدِه (¬4). وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بآخِرِ الفاتِحَةِ؛ فإنَّه دُعاءٌ، ويُسَنُّ الجَهْرُ به. وفي «آمِينَ» لُغَتان؛ قَصْرُ الألِفِ، ومَدُّها، مع التَّخْفِيفِ فيهما، قال الشَّاعِرُ: تَباعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ إذْ دَعَوْتُه … أمِينَ فزاد اللهُ ما بَيْنَنا بُعْدَا (¬5) ¬

(¬1) انظر تخريج حديث أبي هريرة السابق. (¬2) سقط من: م. (¬3) اللَّجَّة: الأصوات والجَلَبَة. (¬4) انظر: ترتيب مسند الشَّافعيّ 1/ 82. (¬5) البيت من الشواهد النحوية، وهو لجبير الأضبط، في تهذيب إصلاح المنطق 2/ 42. وبلا نسبة في: شرح المفصل، لابن يعيش 4/ 34، واللسان (أم ن) 13/ 27، وشذور الذهب 117، 118، وشرح الأشموني على الألفية 3/ 197.

394 - مسألة: (فإن لم يحسن الفاتحة، وضاق الوقت عن تعلمها، قرأ قدرها في عدد الحروف، وقيل في عدد الآيات من غيرها، فإن لم يحسن إلا آية كررها بقدرها)

فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْفَاتِحَةَ، وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ تَعَلُّمِهَا قَرَأَ قَدْرَهَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ. وَقِيلَ: فِي عَدَدِ الْآيَاتِ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا آيَةً وَاحِدَةً كَرَّرَهَا بِقَدْرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنْشَدَ في المَدِّ: يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبَدًا … ويَرْحَمُ اللهُ عَبْدًا قالَ آمِينَا (¬1) ومَعْناها: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. قالَه الحسنُ. وقِيلَ. هو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. ولا يُشَدِّدُ المِيمَ؛ لأنَّه يُخِلُّ بالمَعْنَى، فيَصِيرُ بمَعْنَى: قاصِدِين. فصل: فإن نَسِيَ الإِمامُ التَّأْمِينَ أمَّنَ المَأْمُومُ، ورَفَع بها صَوْتَه؛ ليُذَكِّرَ الإِمامَ؛ لأنَّه مِن سُنَنِ الأقْوالِ، فإذا تَرَكَها الإمامُ، أتى بها المَأْمُومُ، كالاسْتِعاذَةِ، وإن أخْفاها الإمامُ جَهَر بها المَأْمُومُ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن تَرَك التَّأْمِينَ حتَّى شَرَع في قِراءَةِ السبُّورَةِ، لم يَعُدْ إليه؛ لأنَّه سُنَّةٌ فات مَحَلُّها. 394 - مسألة: (فإن لم يُحْسِنِ الفاتِحَةَ، وضاق الوَقْتُ عن تَعَلُّمِها، قَرَأ قَدْرَها في عَدَدِ الحُرُوفِ، وقِيلَ في عَدَدِ الآياتِ مِن غيرِها، فإن لم يُحْسِنْ إلَّا آيَةً كَرَّرَها بقَدْرِها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن لم يُحْسِنِ ¬

(¬1) البيت أَيضًا من الشواهد النحوية، وعجزه في أمالي ابن الشجرى 1/ 259، 375، وشرح الأشموني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفاتحةَ، يَلْزَمُه تَعَلُّمُها؛ لأنَّه واجِبٌ في الصلاةِ، فلَزِمَه تَحْصِيلُه إذا أمْكَنَه، كشُرُوطِها، فإن لم يَفْعَلْ مع القُدْرَةِ عليه، لم تَصِحَّ صَلاتُه، فإن لم يَقْدِرْ أو خَشِيَ فَواتَ الوَقْتِ، سَقَط، فإن كان يُحْسِنُ منها آيَةً أو أكثَرَ، كرَّرَها بقَدْرِها، لا يُجْزِئُه غيرُ ذلك. ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّ ذلك أقْرَبُ إليها مِن غيرِها. وقال ابنُ أَبى موسى: لا يُكرِّرُها. وكذلك إن لم يُحْسِنْ مِن القُرْآنِ إلَّا آيَةً. ويَحْتَمِلُ أن يَأْتِيَ ببَقِيَّةِ الآيِ مِن غيرِها، كمَن وَجَد بعضَ الماءِ، فإنَّه يَغْسِلُ به، ويَعْدِلُ إلى التَّيَمُّمِ. ذَكَر القاضي هذا الاحْتِمالَ في «الجامِعِ» ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهَذَيْن. فأمّا إن عَرَف بعضَ آيَةٍ، لم يُكَرِّرْها، وعَدَل إلى غيرِها؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَ ¬

_ = 3/ 197، وهو في: شرح المفضل، لابن يعيش 4/ 34، واللسان (أمن) 13/ 27، وشذور الذهب 116. ونسبه صاحب اللسان إلى عمر بن أبي ربيعة، وليس في ديوانه، ونبه على ذلك الشيخ محيي الدين عبد الحميد في حاشية شرح شذور الذهب، وذكر أن قومًا نسبوه إلى قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى. وهو في ديوانه 283، وانظر تخريجه في حاشية صفحة 283، وفي بعض مصادر التخريج هذه أنَّه ليزيد بن سلمة بن سمرة المعروف بابن الطارية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى لا يُحْسِنُ الفاتِحَةَ أن يقُولَ: الْحَمْدُ للهِ. وغيرَها (¬1). وهي بَعْضُ آيَةٍ، ولم يَأْمُرْه بتَكْرارِها. فإن لم يُحْسِنْ شيئًا منها، وأحْسَنَ غَيْرها مِن القرآنِ، قَرَأَ منه بقَدْرِها إن قَدَر عليه، لا يُجْزِئُه غيرُ ذلك؛ لِما روَى أبو داودَ (¬2)، عن رِفاعَةَ بنِ رافِعٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَإن كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فاقْرَأْ بِهِ، وَإلَّا فَاحْمَدِ اللهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ». ويَجِبُ أن يَقْرَأَ بعَدَدِ آياتِها. وهل يُعْتَبَرُ أن يكُونَ بعَدَدِ حُرُوفِها؟ فيه وَجْهان؛ أظْهَرُهما اعْتِبارُ ذلك. اخْتارَه القاضى، وابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ الحَرْفَ مَقْصُودٌ؛ بدَلِيلِ تَقْدِيرِ الحَسَناتِ به، فاعْتُبرَ، كالآىِ. والثاني، تُعْتَبَرُ الآياتُ، ولا يُعْتَبَرُ عَدَدٌ الحُرُوفِ؛ بدَلِيلِ أنَّه لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكْفِي عَدَدُ الحَرُوفِ دُونَها، فأشْبَهَ مَن فاتَه صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ، لا يُعْتَبَرُ في القَضاءِ صومُ يوْمٍ طَوِيلٍ مِثْلِه. وفيه وَجْهٌ ثالِثٌ، أنَّه يَكْفِيه أن يَقْرَأ بعَدَدِ الحُرُوفِ، ولا يَعْتَبِرُ عَدَدَ الآياتِ. وهو ظاهِرُ كلامِ شيخِنا هاهُنا (¬1)؛ لأنَّ الثَّوابَ مُقَدَّرٌ بالحُرُوفِ، فكَفَى اعْتِبارُها (¬2)، فإن لم يُحْسِنْ إلَّا آيَةً، كَرَّرَها بقَدْرِها، فكان بمَثابَةِ مَن قَرَأها؛ لأنَّها مِن جِنْسِ الواجِبِ. ¬

(¬1) انظر: المغني 2/ 159. (¬2) بعده في الأصل: «وقال ابن عقيل: يكون ما يأتي به على قدر حروف الفاتحة، كما قلنا قيما إذا قرأ من غيرها». وسيأتي في المسألة التي بعد هذه.

395 - مسألة: (فإن لم يحسن شيئا من القرآن، لم يجز أن يترجم عنه بلغة أخرى، ولزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)

فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 395 - مسألة: (فإن لم يُحْسِنُ شيئًا مِن القُرْآنِ، لم يَجُزْ أن يُتَرْجِمَ عنه بلُغَةٍ أُخْرَى، ولَزِمَه أن يَقُولَ: سبحانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ) لا يَجُوزُ له القِراءَةُ بغيرِ العَرَبِيَّةِ سَواءٌ أحْسَنَ قِراءَتَها بالعربيةِ، أو لم يُحْسِنْ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقولُ أَبى يوسفَ ومحمدٍ، إذا كان لا يُحْسِنُ. وبه قال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ ذلك؛ لقولِه تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (¬1). وإنَّما يُنْذَرُ كلُّ قَوْمٍ، بلِسانِهِم. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬2). وقولُه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬3). ولأنَّ القرآنَ؛ لَفْظَه ومَعْناه، مُعْجِزَةٌ، فإذا غُيِّرَ خَرَج عن نَظْمِه، ولم يَكُنْ قُرْآنًا ولا مِثْلَه، وإنَّما يكُونُ تَفْسِيرًا له، ولو كان تَفْسِيرُه مِثْلَه لَمّا عجَزُوا عنه، إذ تَحَدَّاهم بالإِتْيانِ بسُورَةٍ مِن مِثْلِه، أمّا الإِنْذارُ، فإذا فَسَّرَه لهم، حَصَل بالمُفَسَّرِ لا بالتَّفْسِيرِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يقُولُ: سُبْحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلَه إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ. لِما روَى أبو داودَ (¬4)، قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال: إنِّي لا أسْتَطِيعُ أن آخُذَ شيئًا مِن القُرْآنِ، فعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي منه. فقال: «تقولُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَاللهُ أكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ». قال: هذا للهِ، فما لىَ؟ قال: «تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ¬

(¬1) سورة الأنعام 19. (¬2) سورة الزمر 28. (¬3) سورة الشعراء 195. (¬4) انظر الحديث المتقدم تخريجه في حاشية 1 صفحة 452.

396 - مسألة: (فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره)

فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا بَعْضَ ذَلِكَ، كَرَّرَهُ بِقَدْرِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لِي، وَارْحمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي». ولا تَلْزَمُه الزِّيادَةُ على الخَمْسِ الأُوَلِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- اقْتَصَرَ عليها، وإنَّما زادَه عليها حينَ طَلَب الزِّيادَةَ. وذَكَر بعضُ أصحابِ الشافعيِّ، أنَّه يَزِيدُ على الخمْسِ كَلِمَتَيْن، حتَّى يكُونَ مَقامَ سَبْعِ آياتٍ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يكُونُ ما أتَى به على قَدْرِ حُرُوفِ الفاتِحَةِ، كما قُلْنا فيما إذا قَرَأ مِن غيرِها. والحديثُ يَدُلُّ على أنَّ الخَمْسَ المَذْكُورَةَ مُجْزِيَّةٌ، ولا يَلْزَمُ عليه القِراءَةُ مِن غيرِ الفاتِحَةِ، حيث لَزِم أن يكُونَ بعَدَدِ آياتِها؛ لأنَّ هذا بَدَلٌ مِن غيرِ الجِنْسِ، أشْبَهَ التَّيَمُّمَ. 396 - مسألة: (فإن لم يُحْسِنْ إلَّا بعضَ ذلك، كَرَّرَه بقَدْرِه) كما قُلْنا في مَن يُحْسِنُ بَعْضَ الفاتِحَةِ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يُجْزئَه ¬

(¬1) في: المغني 2/ 160.

397 - مسألة: (فإن لم يحسن شيئا من الذكر، وقف بقدر القراءة)

فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ، وَقَفَ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمْدُ والتَّهْلِيلُ والتَّكبِيرُ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: فَإنْ كانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإلَّا فَاحْمَدِ اللهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ». رَواه أبو داودَ. 397 - مسألة: (فإن لَمْ يُحْسِنْ شيئًا مِن الذِّكْرِ، وَقَف بقَدْرِ القِراءَةِ) لأنَّ الوقُوفَ كان واجِبًا مع القِراءَةِ، فإذا عَجَز عن أحدِ الواجِبَيْن، بَقِيَ الآخَرُ على وُجُوبِه، ولأنَّ القِيامَ رُكْنٌ، فلم يَسْقُطْ بالعَجْزِ عن غيرِه، كسائِرِ الأرْكانِ.

398 - مسألة: (ثم يقرأ [بعد الفاتحة] (3)

ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورَةً، تَكُونُ فِي الصُّبْحِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْمَغْرِبِ مِنْ قِصَارِهِ، وَفِي الْبَاقِي مِنْ أَوْسَاطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَسْكُتَ الإِمامُ عَقِيبَ قِراءَةِ الفاتِحَةَ سَكْتَةً يَسْتَرِيحُ فيها ويَقْرَأُ فيها مَن خَلْفَه الفاتِحَةَ، كَيْلا يُنازَعَ فيها. وهذا قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ. وكَرِهَه مالكٌ، وأصحابُ الرَّأْيِ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1)، أنَّ سَمُرَةَ، حَدَّثَ، أنَّه حَفِظ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَكْتَتَيْن؛ سَكْتَةً إذا كَبَّرَ، وسَكْتَةً إذا فَرَغ مِن قِراءَةِ (¬2): {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. فأنْكَرَ عليه عِمْرانُ، فكَتَبا [في ذلك] (¬3) إلى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، فكان في كتابه إليهما، أنَّ سَمُرَةَ قد حَفِظ. 398 - مسألة: (ثم يَقْرَأُ [بعدَ الفاتِحَةِ] (3) سُورَةً تَكُونُ في الصُّبْحِ مِن طِوالِ المُفَصَّلِ، وفِي المَغْرِبِ مِن قِصارِه، وفي الباقِي مِن أوْساطِه) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب السكتة عند الافتتاح، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180. وابن ماجه في: باب في سكتتي الإِمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 51، 52. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في السكتتين في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 51، 52. والدارمي، في: باب في السكتتين. من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 283. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 7، 11، 15، 20، 21، 23. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِراءَةُ السُّورَةِ بعدَ الفاتِحَةِ في الرَّكْعَتَيْن الأُولَيَيْن مِن كلِّ صلاةٍ مُسْتَحَبٌّ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وقد صَحَّ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ أَبى قَتادَةَ (¬1)، وفي حديثِ أبي بَرْزَةَ (¬2)، واشْتَهَرَ ذلك في صلاةِ الجَهْرِ، ونُقِل نَقْلًا مُتَواتِرًا، وأمَرَ به مُعاذًا، فقال: «اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا». الحديثُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ويُسَنُّ أن يَفْتَتِحَ السُّورَةَ بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقد وافَقَ مالكٌ على ذلك. ويُسِرُّ بها في السُّورَةِ كما يُسِرُّ بها في أوَّلِ الفاتِحَةِ، والخِلافُ هاهُنا كالخِلافِ ثَمَّ، [وقد سَبَق القَوْلُ فيه] (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 134. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من لم ير إكفار أخيه بغير تأويل، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 8/ 32، 33. ومسلم، في: باب القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 340. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تخفيف الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 182، 183. والنَّسائيّ، في: باب اختلاف نية الإمام والمأموم، من كتاب الإمامة، وفي: باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بسبح اسم ربك الأعلى، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 79، 130، 134. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 124، 299، 308، 369. (¬4) سقط من: م. وانظر الكلام في ذلك صفحة 433 من هذا الجزء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن [تَكُونَ القِراءَةُ] (¬1) على الصِّفةِ التى ذَكَر؛ لِما روَى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، أنَّ النبىَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرَأُ في الفَجْرِ بقاف والقُرْآنِ المَجِيدِ ونَحْوِها، وكانت صَلاتُه بعدُ إلى التَّخْفِيفِ. رَواه مسلمٌ (¬2). وعن عَمْرِو بن حُرَيْثٍ، قال: كأنِّي أسْمَعُ صَوْتَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في صلاةِ الغَداةِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} (¬3). رَواه ابن ماجه (¬4). وعن جابرِ بنِ سَمُرَةَ، قال: كان رسولُ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في الظُّهْرِ والعَصْرِ بالسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، وشَبَهِهما. أخْرَجَه أبو داودَ (¬5). وعنه، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في الظُّهْرِ باللَّيلِ إذا يَغْشَى، وفي العَصْرِ نَحْوَ ذلك، وفي الصُّبْحِ أطْوَلَ مِن ¬

(¬1) في الأصل: «يكون القرآن». (¬2) في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 337. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 91، 103، 105. (¬3) سورة التكوير 15، 16. (¬4) في: باب القراءة في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 268. كما أخرجه مسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 336. وأبو داود، في: باب القراءة في الفجر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 187، 188. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في الصبح بإذا الشَّمس كورت، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 121. (¬5) في: باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 185. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر. عارضة الأحوذى 2/ 102، 103. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. أخْرَجَه مسلمٌ (¬1)، وروَى البَراءُ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في العِشاءِ بالتِّينِ وَالزَّيّتُونِ فِي السَّفَرِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. أخْرَجَه ابنُ ماجه (¬3). وروَى مسلمٌ (¬4). أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لمُعاذٍ: «أفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ يَكْفِيكَ أنْ تَقْرَأَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، ¬

(¬1) في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 337. كما أخرجه أبو داود، في: باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 185، 186. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 102، 103 - والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 86، 88، 101، 103، 106، 108. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجهر في العشاء، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 194. ومسلم، في: باب القراءة في العشاء. صحيح مسلم 1/ 339. كما أخرجه الإِمام مالك، في: باب القراءة في المغرب والعشاء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 79، 80. (¬3) في: باب القراءة في صلاة المغرب، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 272. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب القراءة في الركعتين بعد المغرب من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 132. (¬4) في: باب القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 339، 340. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا طوّل الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، وباب من شكا إمامه إذا طوَّل، من كتاب الأذان، وفي: باب من لم ير إكْفارَ من قال ذلك متأولا أو جاهلًا، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 1/ 179، 180، 8/ 32، 33. وأبو داود، في: باب في التَّخفيف في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 182، 183. والنَّسائيّ، في: باب خروج الرَّجل من صلاة الإمام وفراغه من صلاته في ناحية المسجد، وباب اختلاف نية الإمام والمأموم، من كتاب الإمامة، وفي: باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 76، 77، 79، 130، 134. وابن ماجه، في: باب من أمَّ قومًا فليخفف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 315، الدَّارميّ، في: باب قدر القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 297. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 299، 300، 308، 369.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى». وكَتَب عُمَرُ إلى أَبى موسى، أنِ اقْرَأْ في الصُّبْحِ بطِوالِ المُفَصَّلِ، واقْرَأْ في الظُّهْرِ بأوْساطِ المُفَصَّلِ، واقْرَأْ في المَغْرِبِ بقِصارِ المُفَصَّلِ. رَواه أبو حَفْصٍ بإسْنادِه (¬1). فصل: وإن قَرَأ على خِلافِ ذلك، فلا بَأْسَ، فإنَّ الأمْرَ في ذلك واسِعٌ، فقد رُوِيَ أنَّه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرَأُ في الصُّبْحِ بالسِّتِّين إلى المائةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورُوِيَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في الفَجرِ بالرُّوم. أخْرَجَه النَّسائِيُّ (¬3). وعن عبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ، قال: قَرَأ النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في صلاةِ الصُّبْحِ بالمُؤْمِنِينَ، فلَمَا أتَى على ذِكْرِ عيسى أصابَتْه شَرْقَةٌ (¬4)، فرَكَعَ. ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ مُفَرَّقًا، في: باب ما جاء في قراءة الصبح، وباب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر، وباب ما جاء في القراءة في المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 102، 103، 104. وعبد الرَّزّاق، في: باب ما يقرأ في الصلاة، من أبواب القراءة في الصلاة. المصنف 2/ 104. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب القراءة في الفجر، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 195. ومسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 338. كما أخرجه النَّسائيّ في: باب القراءة في الصبح بالستين إلى المائة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 121. وابن ماجه، في: باب القراءة في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 268. (¬3) في: باب القراءة في الصبح بالروم، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 120، 121. كما رواه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 472. (¬4) في سنن ابن ماجه: «أي سعلة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه ابنُ ماجه (¬1). وثَبَت أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في المَغْرِبِ بالمُرْسَلاتِ (¬2). وعن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، أنَّه سَمِع النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وروَى زَيْدُ بنُ ثابِتٍ، أنَّه قَرَأ فيها بالأعْرافِ. وعن رجلٍ مِن جُهَيْنَةَ، أنَّه سَمِح النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في الصُّبْحِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهما، فلا أدْرِي أنَسِيَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أم فعَل ذلك عَمْدًا. رَواهما ¬

(¬1) في: باب القراءة في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 269. كما أخرجه البُخَارِيّ تعليقًا، في: باب الجمع بين السورتين في الركعة. . . . إلخ، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ، 1/ 196. ومسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 336. وأبو داود، في: باب الصلاة في النعل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 151. والنَّسائيّ، في: باب قراءة بعض السورة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 137. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 411. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب مرض النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ووفاته، من كتاب المغازي. صحيح البُخَارِيّ 6/ 11. ومسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 338. والنَّسائيّ، في: باب في قدر القراءة في المغرب بالمرسلات، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 130، 131. والدارمي، في: باب في قدر القراءة في المغرب، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 296. والإمام مالك، في: باب القراءة في المغرب والعشاء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 78. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 340. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجهر في المغرب، من كتاب الأذان، وفي: باب فداء المشركين، من كتاب الجهاد، وفي: باب حَدَّثَنَا الحميدي حَدَّثَنَا سفيان، من كتاب التفسير (تفسير سورة الطور). صحيح البُخَارِيّ 1/ 194، 4/ 84، 6/ 175. ومسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 338. كما أخرجه أبو داود، في: باب قدر القراءة في المغرب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 186. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في القراءة في المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 104. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في المغرب بالطور، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 131. والدارمي، في: باب في قدر القراءة في المغرب، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 296. والإمام مالك، في: باب في القراءة في المغرب والعشاء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 78، الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 80، 84، 85.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1). وعنه (¬2) أنَّه قَرَأ في الصُّبْحِ بالمُعَوِّذَتَيْن. وكان -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُطِيلُ تارَةً، ويُقَصِّرُ أُخْرَى (¬3) على حَسَبِ الأحْوالِ. وقال الخِرَقِيُّ: يَقْرَأُ في الظُّهْرِ في الأُولَى بنَحْوِ الثَّلاثِين آيَةً، وفي الثَّانِيَةِ بأيْسَرَ مِن ذلك، وفي العَصْرِ على النِّصْفِ مِن ذلك. لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: اجْتَمَعَ ثَلاثون (¬4) مِن أصحابِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقالُوا: تَعَالَوْا حتَّى نَقِيسَ قِراءَةَ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيما لم يَجْهَرْ فيه مِن الصلاةِ، فما اخْتَلَفَ منهم (¬5) رَجُلان، فقاسُوا قِراءَتَه في الرَّكْعَةِ الأُولَى مِن الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلاثِين آيَةً، وفي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِن ذلك، وقاسُوا ذلك في صلاةِ العَصْرِ على قَدْرِ النِّصْفِ مِن الرَّكْعَتَيْن الأُخْرَيَيْن مِن الظُّهْرِ. رَواه ابنُ ماجه (¬6). ¬

(¬1) في: باب قدر القراءة في المغرب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 187. كما أخرج الأول البُخَارِيّ، بلفظ: «بطول الطوليين» ولم يذكر الأعراف، في: باب القراءة في المغرب، من كتاب المواقيت. صحيح البُخَارِيّ 1/ 194. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في المغرب بـ المص، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 131، 132. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 418. وانظر: باب ما جاء في القراءة في المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 104. والثاني، أخرجه في الباب السابق. (¬2) في: باب في المعوذتين، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 337. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الاستعاذة. المجتبى 8/ 221. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 144، 150. (¬3) في م: «بالأخرى». (¬4) في سنن ابن ماجه زيادة: «بدريا». (¬5) سقط من: م. (¬6) في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 271. كما أخرجه بنحوه مسلم، في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 334. وأبو داود، في: باب تخفيف الأخريين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 185. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بقِراءَةِ السُّورَةِ في الرَّكْعَتَيْن. قاله أحمدُ في رِوايَةِ أَبى طالبٍ، وإسحاقَ بنِ إبراهيمَ؛ لِما روَى زَيْدُ بنُ ثابِتٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ في المَغْرِبِ بالأعْرافِ في الرَّكْعَتَيْن كِلْتَيْهما. رَواه سعيدٌ (¬1). وعن عائشة، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُقَسِّمُ البَقَرَةَ في الرَّكْعَتَيْنِ. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وسُئِل أحمدُ، عن الرجلِ يَقْرَأُ بسُورَةٍ، ثم يَقُومُ فيَقْرَأُ بها في الرَّكْعَةِ الأُخْرَى، فقال: وما بَأْسٌ بذلك (¬3). لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ الجُهَنِيِّ. رَواه أبو داودَ. قال حَرْبٌ: قُلْتُ لأحمدَ: الرجلُ يَقْرَأُ على التَّأْلِيفِ في الصلاةِ (¬4)؛ اليَوْمَ سُورةً (¬5)، وغدًا التى تَلِيها؛ قال: ليس في هذا شئٌ. إلَّا أنَّه رُوِيَ عن عثمانَ، أنَّه فَعَل ذلك في المُفَصَّلِ وَحْدَه. وقال مُهَنّا: سَألْتُ أحمدَ عن الرجلِ يَقْرَأُ في الصلاة حيث يَنْتَهِي جُزْؤُه؟ قال: لا بَأْسَ به في الفَرائِضِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن خزيمة، في: باب ذكر الدليل على أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إنما كان يقرأ بطولى الطوليين في الركعتين الأوليين من المغرب. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح ابن خزيمة 1/ 260. وأخرجه النَّسائيّ، عن عائشة، في: باب القراءة في المغرب بـ المص، من كتاب الصلاة. المجتبى 2/ 132. (¬2) لم نجده في ابن ماجه. وعزاه الهيثمي لأبي يعلى. مجمع الزوائد 2/ 274. (¬3) في الأصل: «وذلك». (¬4) في الأصل: «صلاة». (¬5) في م: «السورة».

399 - مسألة: (ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء)

وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَالأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 399 - مسألة: (ويَجْهَرُ الإمامُ بالِقراءَةِ في الصُّبْحِ، والأُولَيَيْن مِن المَغْرِبِ والعِشاءِ) الجَهْرُ في هذه المَواضِعِ مُجْمَعٌ على اسْتِحْبابِه، ولم يَخْتَلِفِ المُسْلِمُون في مَواضِعِه. والأصْلُ فيه فِعْلُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقد ثَبَت ذلك بنَقْلِ الخَلَفِ عن السَّلَفِ. فإن جَهر في مَوْضِعِ الإِسْرارِ، وأسَرَّ في مَوْضِع الجَهْرِ، تَرَك السُّنَّةَ، وأجْزَأه. وقال القاضي: إن فَعَل ذلك عامِدًا صَحَّتْ صَلاتُه، في ظاهِرِ كَلامِه. ومِن أصحابِنا مَن قال: تَبْطُلُ. وإن فَعَلَه ناسِيًا، لم تَبْطُلْ، إلَّا أنَّه إذا جَهَر في مَوْضِعِ الإِسْرارِ ناسِيًا، ثم ذَكَر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أثْناءِ قِراءَتِه، بَنَى على قِراءَتِه، وإن نَسِيَ فأسَرَّ في مَوْضِعِ الجَهْرِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَمْضِي في قِراءَتِهْ، كالتى قَبْلَها. والثانيةُ، يَسْتَأْنِفُ القِراءَةَ جَهْرًا على سَبِيلِ الاخْتِيارِ لا الوُجُوبِ، والفَرْقُ بينَهما أنَّ الجَهْرَ زِيادَةٌ، قد حَصَل بها المَقْصُودُ وزِيادَة، فلا حاجَةَ إلى إعادَتِه، والإِسْرارُ نَقْصٌ، فاتَتْ به سُنَّةٌ تَتَضَمَّنُ مَقْصُودًا، وهو إسْماعُ (¬1) المَأْمُومِين القِراءَةَ، وقد أمْكنَه الإِتْيانُ بها، فيَنْبَغِي أن يَأْتِيَ بها. فصل: ولا يُشْرَعُ الجَهْرُ للمَأمُومِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه مَأمُورٌ بالاسْتِماعِ للإِمام والإِنْصاتِ له، ولا يُقْصَدُ منه إسْماعُ (¬2) أحَدٍ. فأمّا المُنفَرِدُ، فهو مُخَيَّرٌ في ظاهِرِ كَلامِه. وكذلك مَن فاتَه بَعْضُ الصلاةِ مع الإمامِ، فقامَ ليَقْضِيَه. [روَى ذلك عنه] (¬3) الأثْرَمُ، قال: إن شاء جَهَر، ¬

(¬1) في م: «سماع». (¬2) في الأصل: «استماع». (¬3) في م: «فروى ذلك عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن شاء خافَتَ، إنَّما الجَهْرُ للجَماعَةِ. وكذلك قال طاوُسٌ، والأوْزاعِيُّ في مَن فاتَه بعضُ الصلاةِ. ولا فَرْقَ بينَ القَضاءِ والأداءِ. وقال الشافعيُّ: يُسَنُّ للمُنْفَرِدِ؛ لأنَّه غيرُ مَأْمُورٍ بالإنْصاتِ، أشْبَهَ الإِمامَ. ولَنا، أنَّه لا يُرادُ منه إسْماعُ غيرِه، أشْبَهَ المَأْمُومَ في سَكَتاتِ الإِمامِ، بخِلافِ الإِمامِ، فإنَّه يَقْصِدُ (¬1) إسْماعَ المَأْمُومِين، فقد تَوَسَّطَ المُنْفَرِدُ بينَ الإِمامِ والمَأْمُومِ، ولذلك كان مُخَيَّرًا في الحالَيْن. فصل: فإن قَضَى الصلاةَ في جَماعَةٍ، وكانت صلاةَ نَهارٍ، أَسَرَّ، سَواءٌ قَضاها لَيْلًا أو نَهارًا، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّها صلاةُ نَهارٍ، وإن كانت صلاةَ لَيْلٍ فقَضاها لَيْلًا، جَهَر في ظاهِرِ كَلامِه؛ لأنَّها صلاةُ لَيْلٍ فَعَلَها لَيلًا فيَجْهَرُ فيها، كالمُؤَدّاةِ، وإن قَضاها نَهارًا احْتَمَلَ أن لا يَجْهَرَ، وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، والأوزاعِيِّ (¬2)؛ لأنَّها مَفْعُولَةٌ في النَّهارِ، وصلاةُ النَّهارِ عَجْماءُ، وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالبَعْزِ». رَواه أبو حَفْصٍ ¬

(¬1) في الأصل زيادة: «منه». (¬2) سقط من: الأصل.

400 - مسألة: (وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان، لم تصح صلاته. وعنه، تصح)

وَإنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةٍ تخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَعَنْهُ، تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنَادِه. واحْتَمَلَ أن يَجْهَرَ فيها، وهو قولُ أَبى حنيفةَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبي ثَوْرٍ؛ ليَكُونَ (¬1) القَضاءُ كالأداءِ، ولا فَرْقَ عندَ هؤلاءِ بينَ الإِمامِ والمُنْفرِدِ، وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ الأمْرَيْن. 400 - مسألة: (وإن قَرَأ بقِراءَةٍ تَخْرُجُ عن مُصْحَفِ عثمانَ، لم تَصِحُّ صَلاتُه. وعنه، تَصِحُّ) لا يُسْتَحَبُّ له أن يَقْرَأَ بغيرِ (¬2) ما في مُصْحَفِ عثمانَ. ونُقِل عن أحمدَ، أنَّه كان يَخْتارُ قِراءَةَ نافِعٍ مِن طَرِيقِ ¬

(¬1) في الأصل: «فيكون». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إسماعيلَ بنِ جَعْفَرٍ، فإن لم يَكُنْ فقِراءَةُ عاصِمٍ مِن طَرِيقِ أَبى بكرِ بنِ عَيّاشٍ. وأثْنَى على قِراءَة أَبى عَمْرٍو، ولم يَكْرَهْ قراءةَ أحَدٍ مِن العَشَرَةِ، إلَّا قِراءَةَ حَمْزَةَ والكَسائِيِّ؛ لِما فيها مِن الكَسْرِ، والإِدْغامِ، والتَّكَلُّفِ، وزِيادَةِ المَدِّ. وقد رُوِي عن زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، قال: نَزَل القُرْآنُ بالتَّفْخِيمِ والتَّثْقِيلِ، نَحْوَ الجُمُعَةِ، وأشْباهِ ذلك. ولأنَّها تَتَضَمَّنُ الإِدْغامَ الفاحِشَ، ¬

(¬1) ذكره السيوطى، في الجامع الكبير 1/ 155، عن ابن الأنباري في الوقف، والحاكم، في: المستدرك، قال: وتُعُقِّب، والبيهقي، في: شعب الإيمان. وهو في المستدرك، باب قراءات النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب التفسير. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وعقَّب الذهبي بقوله. لا والله، والعوفي [يعنى مُحَمَّد بن عبد العزيز ابن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عوف] مجمع على ضعفه، وبكار [بن عبد الله] ليس بعمدة، والحديث، واهٍ منكر. المستدرك 2/ 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه إذْهابُ حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ مِن كِتابِ اللهِ تعالى، يَنْقُصُ (¬1) بإدْغامِ كلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ. ورُوِيَتْ كَراهَتُها، والتَّشْدِيدُ فيها عن جَماعَةٍ مِن السَّلَفِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، وابنُ مَهْدِيٍّ، ويزِيدُ بنُ هارُونَ (¬2)، وسُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، فرُوِيَ عنه، أنَّه قال: لو صَلَّيْتُ خلفَ إنْسانٍ يَقْرَأُ قِراءَةَ حَمْزَةَ لأعَدْتُ صَلاَتى. وقال أبو بكرِ بنُ عَيّاشٍ: قِراءَةُ حَمْزَةَ بِدْعَةٌ. وقال ابنُ إدْرِيسَ (¬3): ما أسْتَجْرِئُ (¬4) أنْ أقولَ لمَن (¬5) يَقْرَأُ بقِراءَةِ حَمْزَةَ: إنَّه صاحِبُ سُنَّةٍ. وقال بِشْرُ بنُ الحارِثِ (¬6): يُعِيدُ إذا صَلَّى خلفَ إمامٍ يَقْرَأُ بها. ورُوِيَ عن أحمدَ التَّسْهِيلُ في ذلك. قال الأثْرَمُ: قلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: إمامٌ يُصَلِّي بقِراءَةِ حَمْزَةَ، أُصَلِّي خَلْفَه؟ قال: لا تبْلُغْ [به هذا] (¬7) كلَّه، ولكنَّها لا تُعْجبُنِي. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أبو خالد يزيد بن هارون بن وادى الواسطيّ، أحد الأعلام الحفاظ، كان متعبدا حسن الصلاة. توفى سنة ست ومائتين. العبر 1/ 350. تهذيب التهذيب 11/ 366. (¬3) أبو مُحَمَّد عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودى، الحافظ المقرئ، كان من أئمة الدين. توفى سنة اثنتين وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 42 - 48. (¬4) في م: «أستخير». (¬5) سقط من: م. (¬6) أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرَّحْمَن المروزي، المشهور بالحافي، الإمام العالم الزَّاهد. تُوفِّي سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 469 - 477. (¬7) في م: «بهذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَرَأ بقِراءَةٍ تَخْرُجُ عن مُصْحَفِ عثمانَ، كقِراءَةِ ابنِ مسعودٍ: (فَصِيَامُ ثَلَاثةِ أَيَّام مُتَتَابِعَاتٍ) وغيرِها، كُرِهَ له ذلك؛ لأنَّ القُرْآنَ يَثْبُتُ بطَرِيقِ التَّواتُرِ، ولا تَواتُرَ فيها، ولا يَثْبُتُ كَونُها قُرْآنًا. وهل تَصِحُّ صَلاتُه إذا كان مِمّا صَحَّتْ به الرِّوايَةُ واتَّصَلَ إسْنادُها؛ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ صَلاتُه، لذلك. والثَّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لأنَّ الصَّحابَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم، كانوا يُصَلُّون بقِراءَتِهم في عَصْرِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وبعدَه، وكانت صَلاتُهم صَحِيحَةً، وقد صَحَّ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ أحَبَّ أنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ» (¬1). وكان الصَّحابَةُ، رَضِيَ اللهُ عنهم، يُصَلُّون بقِراءاتٍ لم يُثْبِتْها عثمانُ في المُصْحَفِ، لا يَرَى أحَدٌ منهمِ تَحْرِيمَ ذلك، ولا بُطلانَ صَلاتِهِم به. فصل: فإذا فَرَغ مِن القِراءَةِ، ثَبَت قائِمًا، وسَكَت حتَّى يَرْجِعَ إليه نَفَسُه قبلَ أن يَرْكَعَ، ولا يَصِلُ قِراءَته بتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ. قاله أحمدُ؛ لأنَّ في حديثِ سَمُرَةَ، في بَعْضِ رِواياتِه: «فَإذَا فَرَغ مِنَ الْقِرَاءَةِ سَكَتَ». رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب في فضائل أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 49. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 7، 26، 38، 445، 454. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 458.

401 - مسألة: (ثم يرفع يديه، ويركع مكبرا، فيضع يديه على ركبتيه، ويمد ظهره مستويا، ويجعل رأسه حيال ظهره، ولا يرفعه ولا يخفضه)

ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَرْكَعُ مُكَبِّرًا، فَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ مُسْتَوِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 401 - مسألة: (ثم يَرْفَعُ يَدَيْه، ويَرْكَعُ مُكَبِّرًا، فيَضَعُ يَدَيْه على رُكْبَتَيْه، ويَمُدُّ ظَهْرَه مُسْتَوِيًا، ويَجْعَلُ رَأْسَه حِيالَ ظَهْرِه، ولا يَرْفَعُه ولا يَخْفِضُه) الكَلامُ في هذه المسألةِ في ثلاثةِ أُمُورٍ، أحَدُها، في رَفْعِ اليَدَيْن، ورَفْعُهما في تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ مُسْتَحَبٌّ، ويَرْفَعُهما إلى فرُوعِ أُذُنَيْه، ويكون ابْتِداءُ الرَّفْعِ مع ابْتِداءِ التَّكْبِيرِ، وانْتِهاؤُه مع انْتِهائِه، كما قُلْنا في ابْتِداءِ الصلاةِ. وهذا قَوْلُ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وجابِرٍ، وأبي هُرَيْرَةَ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وأنَسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، وابنُ المبارَكِ، والشافعيُّ، ومالِكٌ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، والنَّخَعِيُّ: لا يَرْفَعُهما؛ لِما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، أنَّه قال: ألا أُصَلِّي بكم صلاةَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. فصَلَّى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَرْفَعْ يَدَيْه (¬1) إلَّا في أوَّلِ مَرَّةٍ (¬2). حديثٌ حسنٌ. وروَى يَزِيدُ بنُ أبي زِيادٍ، عن ابنِ أَبى لَيْلَى، عن البَراءِ بنِ عازِبٍ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَرْفعُ يَدَيْه إذا افْتَتَحَ الصلاةَ، ثم لا يَعُودُ. رَواه أحمدُ بمَعْناه (¬3). قالُوا: والعَمَل بهذيْن (¬4) الحَدِيثَيْن (¬5) أوْلَى؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ كان فَقِيهًا، مُلازِمًا لرسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، عالِمًا بأحْوالِه، فتُقَدَّمُ رِوايَتُه على غيرِه. ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا افْتَتَحَ الصلاةَ رَفَع يَدَيْه حتَّى يُحاذِي مَنْكِبَيْه، وإذا أراد أن ¬

(¬1) في الأصل: «يده». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من لم يذكر الرفع عند الوضوء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 173، التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 58. والنَّسائيّ، في: باب التجافي في الركوع، وباب الرخصة في ترك رفع اليدين. . . . إلخ، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 146، 153. الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 388. (¬3) في: المسند 4/ 282، 301. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 173. (¬4) في م: «في هذين». (¬5) في م زيادة: «الأولين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْكَعَ، وبعدَ ما يَرْفَعُ رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقد ذَكَرْنا حديثَ أبي حُمَيْدٍ (¬2)، وفيه الرَّفْعُ، رَواه في عَشَرَةٍ مِن الصَّحابَةِ، منهم أبو قَتادَةَ، فصَدَّقُوه. ورَواه عُمَرُ، وعليٌّ، ووائِلُ بنُ حُجْرٍ، ومالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ، وأنَسٌ، وأبو هُرَيْرَةَ، وأبو أُسَيْدٍ، وسَهْلُ بنُ سعدٍ، ومحمدُ ابنُ مَسْلَمَةَ، وأبو موسى، فصار كالمُتَواتِرِ الذى لا يَتَطَرَّقُ إليه شَكٌّ بصِحَّةِ سَنَدِه، وكَثْرَةِ رُواتِه، وعَمِل به الصَّحابَةُ والتّابِعُون، وأنْكَرُوا على مَن تَرَكَه، فرُوِيَ أنَّ ابنَ عُمَرَ كان إذا رَأى مَن لا يَرْفَعُ، حَصَبَه (¬3)، وأمَرَه ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وباب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، وباب إلى أين يرفع يديه، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 187، 188. ومسلم، في: باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 292. كما أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 166، 171. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 56. والنَّسائيّ، في: باب العمل في افتتاح الصلاة، وباب رفع اليدين قبل التكبير، وباب رفع اليدين حذو المنكبين، وباب رفع اليدين للركوع حذاء المنكبين، من كتاب افتتاح الصلاة. وفي: باب رفع اليدين حذو المنكبين عند الرفع من الركوع، وباب ما يقول الإمام إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب التطبيق، وفي: باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين خذو المنكب، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 93، 94، 142، 152، 153، 3/ 4. وابن ماجه، في: باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه الركوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 279. والدارمي، في: باب رفع اليدين في الركوع والسجود، وباب القول بعد رفع الرأس من الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 285، 300. والإمام مالك، في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 75، 76، 77. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 8، 18، 62، 100، 106، 131، 134، 147. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬3) حصبه: رماه بالحَصَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَرْفَعَ. وحَدِيثاهم ضَعِيفان؛ فحديثُ ابنِ مسعودٍ، قال ابنُ المُبارَكِ: لم يَثْبُتْ. وحديثُ البَراءِ، قال أبو داودَ: هذا حديثٌ ليس بصَحِيحٍ. ولو صَحّا، كان التَّرْجِيحُ لأحادِيثِنا؛ لأنَّها أَصَحُّ إسْنَادًا، وأكْثَرُ رُواةً، ولأنَّهم مُثْبِتُون، والمُثْبِتُ يُقَدَّمُ على النّافِي، ولأنَّه قد عَمِل بها (¬1) السَّلَفُ مِن الصَّحابَةِ والتّابِعِين. وقَوْلُهم: إنَّ ابنَ مسعودٍ إمامٌ. قُلْنا: لا نُنْكِرُ فَضْلَه وإمامَتَه، أمّا بحيث يُقَدَّمُ على عُمَرَ وعليٍّ فلا، ولا يُساوِي واحِدًا منهما، فكيف تُقَدَّمُ رِوايَتُه؛ الأمْرُ الثاني، الرُّكُوعُ، وهو واجِبٌ في الصلاةِ بالنَّصِّ والإِجْماعِ، قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬2). وأجْمَعُوا على وُجُوبِ الرُّكُوعِ على القادِرِ عليه. الأمْرُ الثَّالِثُ، التَّكْبِيرُ فيه، وهو مَشْرُوعٌ في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وأبو هُرَيْرَةَ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْيِ، وعَوامٌ علماءِ الأمْصارِ. ورُوِيَ عن عُمَرَ (¬3) بنِ عبدِ العزيزِ، وسالِمٍ، والقاسِمِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أنَّهم كانوا لا يُتِمُّون التَّكْبِيرَ؛ لِما روَى عبدُ الرَّحْمنِ بن أبْزَى (¬4)، أنَّه صلَّى مع النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان لا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ. يَعْنِي إذا خَفَض وإذا رَفَع. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬5). ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ¬

(¬1) في م: «به». (¬2) سورة الحج 77. (¬3) في الأصل: «ابن عمر». (¬4) في م: «أبي». (¬5) في: المسند 3/ 406، 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قام إلى الصلاةِ يُكَبِّرُ حينَ يَقُومُ، ثم يُكَبِّرُ حين (¬1) يَرْكَعُ، ثم يَقُولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». حينَ يَرْفَعُ صُلْبَه مِن الرُّكُوعِ، ثم يَقُولُ وهو قائِمٌ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». ثم يُكَبِّرُ حينَ يَهْوِي ساجِدًا، ثم يُكَبِّرُ حينَ يَرْفَعُ رَأْسَه، [ثم يُكَبِّرُ حينَ يَسْجُدُ، ثم يُكَبِّرُ حينَ يَرْفَعُ رَأْسَه، ثم يَفْعَلُ ذلك في الصلاةِ كلِّها حتَّى] (¬2) يَقْضِيَها. ويُكَبِّرُ حينَ يَقُومُ مِن الثِّنْتَيْن بعدَ الجُلُوسِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن ابنِ مسعودٍ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُكَبِّرُ في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ، وقِيامِ وقُعُودٍ، وأبو بكرٍ وعُمَرُ. رَواه الإِمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ (¬4)، وقال: حسنٌ صحيحٌ. وقال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬5). وقال: «إنَّمَا ¬

(¬1) في الأصل: «ثم». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التكبير إذا قام من السجود، وباب يهوى بالتكبير حين يسجد، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 199، 200، 202، 203. ومسلم، في: باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 293، 294. كما أخرجه أبو داود، في: باب تمام التكبير، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 192، 193. والنَّسائيّ، في: باب التكبير للسجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 185. والدارمي، في: باب التكبير عند كل خفض ورفع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 285. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 454. (¬4) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب في التكبير عند الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 54، 55. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 386، 442، 443. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب التكبير للسجود، وباب التكبير عند الرفع من السجود، وباب التكبير للسجود (آخر)، من كتاب التطبيق، وفي: باب التكبير إذا قام من الركعتين، وباب كيف السلام على اليمين، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 161، 182، 185، 313، 52. والدارمي، في: باب التكبير عند كل خفض ورفع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 285. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه شُرُوعٌ في رُكْنٍ، فشُرِع فيه التَّكْبِيرُ، كحالَةِ الابتِداءِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَضَعَ يَدَيْه على رُكْبَتَيْه. ثَبَت ذلك عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ. وذَهَب قَوْمٌ بن السَّلَفِ إلى التَّطْبِيقِ؛ وهو أن يَجْعَلَ المُصَلِّي إحْدَى كَفَّيْه على الأُخْرَى، ثم يَجْعَلَهما بينَ رُكْبَتَيْه إذا رَكَع. وهذا كان في أوَّلِ الإِسلامِ، ثم نُسِخ. قال مُصْعَبُ بنُ سَعْدٍ: رَكَعْتُ، فجَعَلْتُ يَدَيَّ بينَ رُكْبَتَيَّ، فنَهانِي أبِي، وقال: إنّا كُنّا نَفْعَلُ هذا، فنُهِينا عنه، وأُمِرْنا أن نَضَعَ أيْدِيَنا على الرُّكَبِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفي حديثِ أَبى حُمَيْدٍ (¬3): رَأَيْتُه إذا رَكَع أمْكَنَ يَدَيْه مِن رُكْبَتَيْه. ويُسْتَحَبُّ أن يُفَرِّجَ أصابِعَه؛ لِما روى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا رَكَع، فَرَّجَ أصابِعَه. رَواه البَيْهَقِيُّ (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 416. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب وضع الأكف على الركب في الركوع، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 200. ومسلم، في: باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 380. كما أخرجه أبو داود، في: باب تقريع أبواب الركوع والسجود ووضع اليدين على الركبتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 200. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 59. والنَّسائيّ، في: باب نسخ التطبيق، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 144. وابن ماجه، في: باب وضع اليدين على الركبتين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 283. والدارمي، في: باب العمل في الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 218، 299. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬4) في: باب بضم أصابع يديه في السجود. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 112.

402 - مسألة: (ويجعل رأسه حيال ظهره، ولا يرفعه ولا يخفضه)

وَيَجْعَلُ رأْسَهُ حِيَالَ ظَهْرِهِ، لَا يَرْفَعُهُ وَلَا يَخْفِضُهُ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَقَدْرُ الْإِجْزَاءِ الِانْحِنَاءُ بِحَيّثُ يُمْكنُهُ مَسُّ رُكْبَتَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 402 - مسألة: (ويَجْعَلُ رَأْسَه حِيالَ ظَهْرِه، ولا يَرْفَعُه ولا يَخْفِضُه) لأنَّ في حديثِ أَبى حُمَيْدٍ، في صِفَةِ الرُّكُوعِ: ثم هَصَرَ ظَهْرَه. وفي لفظٍ: ثم اعْتَدَلَ، فلم يُصَوِّب (¬1) رَأْسَه ولم يُقنِعْ (¬2). وقالت عائشةُ، رَضِيَ الله عنها: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا رَكَع لم يَرْفَعْ رَأْسَه ولم يُصَوِّبْه، ولكنْ بينَ ذلك. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وجاء في الحديثِ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه كان إذا رَكَع، لو كان قَدَحُ ماءٍ على ظَهْرِه ما تَحَرَّكَ (¬4). وذلك لاسْتِواءِ ظَهْرِه. (و) يُسْتَحَبُّ أن (يُجافِيَ عَضُدَيْه عن جَنْبَيْه) فإنَّ في حديثِ أَبى حُمَيْدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَضَع يَدَيْه على رُكْبَتَيْه، كأنَّه قابِضٌ عليهما، ووَثَّرَ يَدَيْه، فنَحَّاهُما عن جَنْبَيْه. صَحِيحٌ. 403 - مسألة: (وقَدْرُ الإِجْزاءِ الانْحِناءُ، بحيث يُمْكِنُه مَسُّ رُكْبَتَيْه بيَدَيْه) لأنَّه لا يَخْرُجُ عن حَدِّ القِيامِ إلى الرُّكُوعِ إلَّا به، ولا ¬

(¬1) لم يصوب: لم يخفض خفضًا بليغًا. (¬2) لم يقنع: لم يرفع حتَّى يكون أعلى من ظهره. (¬3) الحديث لم يخرجه البُخَارِيّ، وأخرجه مسلم، في: باب ما يجمع سنة الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم يجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180، 181. وابن ماجه، في: باب الركوع في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 282. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31، 194. (¬4) أخرجه الإمام أَحْمد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. المسند 1/ 123.

404 - مسألة: (ثم يقول: سبحان ربي العظيم. ثلاثا. وهو أدنى الكمال)

ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ. ثَلَاثًا، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَالِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُه وَضْعُ يَدَيْه على رُكْبَتَيْه، بل ذلك مُسْتَحَبٌّ، فإن كانتا عَلِيلَتَيْن، لا يُمْكنُه وَضْعُهما، تَرَكَهما، وإن قَدَر على وَضْعِ إحْداهُما، وَضَعَها. فصل: وإذا رَفَع رَأْسَه، وشَكَّ هل رَكَعَ أوْ لا، أو هل أتَى بقَدْرِ الإجْزاءِ أوْ لا؟ لَزِمَه أن يَعُودَ فيَرْكَعَ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ما شَكَّ فيه، إلَّا، أن يكُونَ وَسْواسًا، فلا يَلْتَفِتُ إليه. وكذلك حُكْمُ سائِرِ الأرْكانِ. 404 - مسألة: (ثم يقُولُ: سُبْحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ. ثَلاثًا. وهو أدْنَى الكمالِ) قَوْلُ: سُبْحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ. مَشْرُوعٌ في الرُّكُوعِ. وبه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ. وقال مالكٌ: ليس عندَنا في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ شئٌ مَحْدُودٌ، وقد سَمِعْتُ أنَّ التَّسْبِيحَ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. ولَنا، ما روَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، قال: لَمّا نَزَلتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬1). قال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ». وروَى ابنُ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذا رَكَعَ أحَدُكُمْ فَلْيَقلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ أدْنَاهُ». أخْرَجَهما أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬2). وأدْنَى الكَمالِ ثَلاثٌ؛ لِما ذَكَرْنا. وتُجْزِئُ تَسْبِيحَةٌ واحِدَةٌ؛ ¬

(¬1) سورة الواقعة 74، 96. (¬2) الأول أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل في ركوعه وسجوده، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 200، 201. وابن ماجه، في: باب التسبيح في الركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 287. كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب ما يقال في الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 299. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 155. والثاني أخرجه أبو داود، في: باب مقدار الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 204. وابن ماجه، في الباب السابق. سنن ابن ماجه 1/ 287، 288. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 62. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 232، 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَذْكُرْ عَدَدًا في حديثِ عُقْبَةَ، ولأنَّه ذِكْر مُكَرَّرٌ، فأجْزَأتْ واحِدَةٌ، كسائِرِ الأذْكارِ. قال أحمدُ: جاء الحديثُ عن الحسنِ البَصْرِيِّ، أنَّه قال: التَّسْبِيحُ التّامُّ سَبْعٌ، والوَسَطُ خَمْسٌ، وأدْناه ثلاثٌ. وقال القاضي: الكامِلُ في التَّسْبِيحِ، إن كان مُنْفَرِدًا، ما لا يُخْرِجُه إلى السَّهْوِ، وفي حَقِّ الإمامِ [ما لا يَشُقُّ] (¬1) على المَأْمُومِين، ويَحْتَمِلُ أن يكُونَ الكَمالُ (¬2) عَشْرَ تَسْبِيحاتٍ؛ لأنَّ أنَسًا روَى، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي كصلاةِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ. فَحَزَرُوا (¬3) ذلكَ بعَشْرِ تَسْبيحَاتٍ (¬4). وقال المَيْمُونِيُّ: صَلَّيْتُ خلفَ أبي عبدِ اللهِ، فكُنْتُ أُسَبِّحُ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ عَشْرَ تَسْبِيحاتٍ وأكْثَرَ. وقال بَعْضُ أصحابنا: الكَمالُ أن يُسَبِّحَ مِثْلَ قِيامِه؛ لِما روَى البَراءُ، قال: رَمَقْتُ محمدًا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصَلِّي، فوَجَدْتُ قِيامَه، فرَكْعَتَه، فاعْتِدالَه بعدَ رُكُوعِه، فسَجْدَتَه، فجَلْسَتَه [ما بينَ السَّجْدَتَيْنِ، فسَجْدَتَه، فجَلْسَتَه] (¬5) ما بينَ التَّسْلِيمِ والانْصِرافِ، قَرِيبًا ¬

(¬1) في الأصل: «ما يشق». (¬2) في م: «الكامل». (¬3) حزروا: قَدَّروا وخَمَّنوا. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب مقدار الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 305. والنَّسائيّ، في: باب عدد التسبيح في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 183. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 163. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن السَّواءِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فصل: إلَّا أنَّ الأوْلَى للإمامِ عَدَمُ التَّطْوِيلِ؛ لِيَّلَّا يَشُقَّ على المَأْمُومِين، إلَّا أن تكُونَ الجَماعَةُ يَرْضَوْن بذلك، فيُسْتَحَبُ له التَّسْبِيحُ الكامِلُ، على ما ذَكَرْنا. وإن قال: سُبْحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ وبحَمْدِه. فلا بَأْسَ، فإنَّه قد جاء عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه كان إذا رَكَع قال: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ». ثَلاثًا، وإذا سَجَد، قال: «[سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ». ثَلاثًا. رَواه أبو داودَ (¬2). قال أحمدُ بنُ نَصْرٍ (¬3): رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل: تَسْبِيحُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ] (¬4)؛ «سُبْحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ وبحَمْدِهِ» أعْجَبُ إليك، أو «سُبْحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ»؟ فقال: قد جاء هذا، وجاء هذا. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: أمّا أنا فلا أقُولُ: ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 200. ومسلم، في: باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 343. كما أخرجه أبو داود، في: باب طول القيام من الركوع وبين السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 196. والنَّسائيّ، في: باب جلسة الإمام بين التسليم والانصراف، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 56. والدارمي، في: باب قدر كم كان يمكث النَّبِيّ بعدما يرفع رأسه، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 307. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 294. (¬2) في: باب ما قول الرَّجل في ركوعه وسجوده، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 201. (¬3) أبو حامد أَحْمد بن نصر الخفّاف. ذكره أبو بكر الخلال، فقال: كان عنده جزء فيه مسائل حسان، أغرب فيها. انظر: طبقات الحنابلة 1/ 82. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبحَمْدِه. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن الشافعيِّ وأصحابِ الرَّأْيِ، لأنَّ هذه الزِّيادَةَ، قال أبو داودَ: نَخافُ أن لا تكونَ مَحْفُوظَةً. والروايَةُ بدُونِها أكَثرُ. فصل: يُكْرَهُ أن يَقْرَأ في الرُّكوعِ والسُّجُودِ؛ لِما روَى عليٌّ -رضي الله عنه -، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه نَهى عن قِراءَةِ القُرْآنِ في الركُوعِ والسُّجودِ (¬1) قال التِّرمِذِي: هذا حديث صَحِيحٌ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود من كتاب الصلاة، وفي: باب النهي عن لبس الرَّجل ثوبه المعصفر، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 1/ 349، 3/ 1648. التِّرْمِذِيّ في: باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوع، من أبواب الصلاة، وفي: باب ما جاء في كراهية خاتم الذهب. من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 2/ 64، 7/ 244، 245 - والإمام مالك، في: باب العمل في القراءة، من أبواب النداء. الموطأ 1/ 80.

405 - مسألة: (ثم يرفع رأسه قائلا: سمع الله لمن حمده. ويرفع يديه)

ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَائِلًا: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 405 - مسألة: (ثم يَرْفعُ رَأْسَه قائِلًا: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه. ويَرْفَعُ يَدَيْه) إذا فَرَغ مِن الركُوعِ، رَفَع رَأْسَه قائِلًا: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه. ويكُونُ انْتِهاؤُه عندَ انْتِهاءِ رَفْعِه، ويَرْفَعُ يَدَيْه؛ لِما رَوَيْنا مِن الأخْبارِ. وفي مَوْضِع الرَّفْعِ رِوايتان؛ إحْداهما، بعدَ اعْتِدالِه قائِمًا. حَكاه أحمدُ بنُ الحسينِ؛ أنَّه رَأى أحمدَ يَفْعَلُه؛ لأنَّ في بعْضِ ألْفاظِ حديثِ ابنِ عُمَرَ (¬1): رَأيتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا افْتَتَحَ الصلاةَ رفَعَ يَدَيْه، وإذا رَكَع، وبعدَ ما يَرْفَعُ رَأسَه مِن الرُّكُوعِ. والثانِيَةُ، يَبْتَدِئُه حينَ يَبْتَدِئُ رَفْعَ رَأسِه؛ لأنَّ أَبا حُمَيْدٍ قال في صِفةِ صلاةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ثم قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه». ورَفَع يَدَيْه (¬2). وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ في الرَّفْعِ: وإذا رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكوعِ، رَفَعَهما كذلك، ويقُولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه». وظاهِرُه أنَّه رَفَع يَدَيْه حينَ أخَذَ في رَفْعِ رَأسِه، كقَوْلِه «إذا كَبَّرَ». أي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 418. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخَذَ (¬1) في التَّكْبِير. ولأنَّه مَحَلُّ رَفْع المَأْمُومِ فكان مَحَلَّ رَفْع الإمامِ كالرُّكُوعِ، فإنَّ الرِّوايَةَ لا تَخْتَلِف في أنَّ المَأمُومَ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ عندَ (¬2) رَفْعِ رَأسِه، لأنَّه ليس في حَقِّه ذِكْرٌ بعدَ الاعْتِدالِ، والرَّفْعُ إنَّما جُعِلَ هَيئة للذِّكْرِ، وقَوْلُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». مَشْرُوع في حَق الإمامِ والمُنْفَرِدِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافا في المَذْهَبِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي حُمَيْدٍ، وحديثِ ابنِ عُمَرَ. ورُوِيَ أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال لبُريْدَةَ: «يَا بُرَيْدَةُ، إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقُلْ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». رَواه الدَّارَاقُطنِيُّ (¬3). ويَعْتَدِلُ قَائِمًا حتَّى يَرْجِعَ كلُّ عُضْوٍ إلى مَوْضِعِه، ويَطْمَئِنَّ، لقول أَبى حُمَيْدٍ في صِفَةِ صلاةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: وإذا رَفَع رَأْسَه اسْتَوَى قَائِمًا حتَّى يَعُودَ كلُّ فَقارٍ إلى مَكانِه. مُتَّفق عليه (¬4). وقالت عائشةُ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: فكان إذا رَفَع رَأسَه مِن ¬

(¬1) في م: «إذا أخذ». (¬2) في الأصل: «عنده». (¬3) في: باب ذكر نسخ التطبيق والأمر بالأخذ بالركب، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 339. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّكُوعِ، لم يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قائِمًا. رَواه مسلمٌ (¬1). فصل: وهذا الرَّفْعُ والاعْتِدالُ عنه واجِبٌ، وبه قال الشافعيُّ وقال أبو حنيفةَ وبَعْضُ أصحابِ مالكٍ: لا يَجِبُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَأمرْ به، وإنَّما أمَرَ بالرُّكوعِ والسُّجُودِ والقِيامِ، فلا يَجبُ غيرُه. وَلَنا، قَوْلُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للمُسِيءِ في صَلاِته: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتى تَعْتَدِلَ قَائِمًا». مُتفَقٌ عليه (¬2). وداوَمَ على فِعْلِه، وقد قال: «صَلوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬3). وقَوْلُهم: لم يَأمُرْ به. قُلْنا: قد أَمَرَ بالقِيامِ، وهذا قِيامٌ، وقد أمَرَ به النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وأمْرُه يَجبُ امْتِثالُه. ويُسَن الجَهْرُ بالتسْمِيع للإمامِ، كما يُسَنُّ له الجَهْرُ بالتَّكْبِيَرِ قِياسًا عليه. واللهُ أعلمُ. فصل: وإذا قال مَكانَ «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»: مَن حَمِدَ الله سَمِعَ له. لم يُجْزِئْه. وقال أصحابُ (¬4) الشافعيِّ: يُجْزِئُه، لإتْيانِه باللَّفْظِ والمَعْنَى. ولَنا، أنَّه عَكَس اللفْظَ المَشْرُوعَ، أشْبَهَ ما لو قال في التَّكْبِيرِ: الأكْبَرُ اللهُ. ولا نُسَلِّمُ أنَّ المَعْنَى لم يَتغَير، فإنَّ قَوْلَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». صِيغةُ خَبَرٍ (4) تَصْلُحُ للدُّعاءِ، واللفْظُ الآخَرُ صيغةُ شَرْطٍ ¬

(¬1) في باب ما جاء في صفة الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357، 358. كما أخرجه أبو داود، في باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180، 181. وابن ماجه في: باب الجلوس بين السجدتين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 288، والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31، 194. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 408. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442. (¬4) سقط من: م.

406 - مسألة: (فإذا اعتدل قائما، قال: ربنا ولك الحمد، ملء السماء

فَإذَا قَامَ قَالَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السّمَاءِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَزاءٍ، لا يَصْلُحُ لذلك (¬1)، فاخْتَلَفا. 406 - مسألة: (فَإذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا، قال: رَبَّنا ولك الحَمْدُ، مِلْءَ السَّماءِ (¬2) ومِلْءَ الأرْضِ، ومِلْءَ ما شِئْتَ مِن شيء بعدُ) قولُ: «رَبَّنا ولكَ الحَمْدُ». مَشْرُوعٌ في حَقِّ كلِّ مُصَلٍّ، في المَشْهُورِ عنه. وهو قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ مسعودِ، وابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيْرَةَ، والشِّعْبِيُّ، ¬

(¬1) في م: «للذكر». (¬2) في م: «السماوات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ: لا يَقُولُه المُنْفَرِدُ. فإنَّه قال في رِوايِةِ إسحاقَ، في الرجلِ يُصَلى وَحْدَه، فإذا قال: «سَمِعَ اللهُ لِمن حَمِدَهُ». قال: «رَبَّنا ولك الحَمْدُ»؟ فقال: إنَّما هذا للإمامِ جَمْعُها، وليس هذا لأحَدٍ سِوَى الإمامِ. لأنَّ الخَبَرَ لم يَرِدْ به في حَقِّه، فلم يُشْرَعْ له، كقَوْلِ: «سَمِع اللهُ لمَن حَمِدَهُ» في حَق المَأْمُومِ. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: لا يُشْرعُ هذا في حَق الإمامِ ولا المُنْفَرِدِ؛ لقوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنا وَلَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكةِ، غُفِرَ لَهُ». مُتَّفَق عليه (¬1). ولنَا، أنَّ أَبا هُرَيْرَةَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقُولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». حينَ يرفَعُ صُلْبَه مِنَ الرُّكُوعِ، ثم يقُولُ وهو قائِمٌ: ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما يقول الإمام ومن خلفه. . . . الخ، من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 201. ومسلم، في: باب التسميع والتحميد والتأمين، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 306. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يصلي من قعود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 142. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول الرَّجل إذا رفع رأسه من الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 68. والنَّسائيّ، في: باب الائتمام كالإمام، وباب الائتمام بالإمام يصلي قاعدًا، من كتاب الإمامة، وباب تأويل قوله عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، من كتاب الافتتاح. المجتبى 1/ 65، 77، 109. وابن ماجه في: باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 276. والدارمي، في: باب القول بعد رفع الرأس من الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 300. والإمام مالك، في: باب ما جاء في التأمين خلف الإمام، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 88.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». مُتفَق عليه (¬1). وعن أَبى سعيدٍ، وابنِ أبي أوْفَى، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ، قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُم رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَواتِ وَمِلْءَ الأرضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» رَواه مسلمٌ (¬2). وما ذَكَرُوه لا حُجةَ لهم فيه؛ فإنّه إن تَرَك ذِكْرَه في حَديثِهمِ، فقد ذكَرَه في أحادِيثنا. ثم يقُولُ الإمامُ: مِلْءَ السمَواتِ وَمِلْءَ الأرْضِ، ومِلْءَ ما شِئْتَ مِن شئٍ بَعْدُ. لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ. والصَّحِيحُ أنَّ المُنْفَرِدَ يقُولُ كما يقولُ الإمامُ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال لبُريْدَةَ: «يَا بُرَيْدَةُ، إذَا رَفَعْتَ رَأسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقُلْ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأرضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِن شَيْءٍ بَعْدُ». رَواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬3). وهذا ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التكبير إذا قام من السجود، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 200. ومسلم، في باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع. . . . الخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 293، 294. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب التكبير للسجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 185. (¬2) في: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 346، 347. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 195، والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول الرَّجل إذا رفع رأسه من الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 67. والنَّسائيّ، في: باب ما يقول في قيامه ذلك، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 156. وابن ماجه، في: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 284. والدارمي، في: باب القول بعد رفع الرأس من، الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 301. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 87. (¬3) في: باب ذكر نسخ التطبيق والأمر بالأخذ بالركب، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 339.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عامٌ، وقد صَحَّ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يقولُ ذلك. رَواه عنه عليٌّ، وأبو هُرَيرَةَ، وأبو سعيدٍ، وغيرُهم (¬1)، ولم يُفَرِّقُوا بينَ كَوْنِه إمامًا أو مُنْفَرِدًا، ولأنَّه ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ (¬2) للإمامِ، فشُرِعَ للمنْفَرِدِ كسائِرِ الأذْكارِ (¬3). وذَكَر القاضي في المُنْفَرِدِ رِوايَةً، أنَّه يقُولُ: «سَمِع اللهُ لمَن حَمِدَهُ، رَبَّنا ولك الحَمْدُ». لا يَزِيدُ عليه. قال: والصحِيحُ أنَّه يقُولُ مِثْلَ الإمامِ. فصل: ويقُولُ: «ربَّنَا ولك الحمْدُ» بواوٍ، نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ الأثْرَم، قال: سَمِعْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُثْبِتُ أمْرَ الواوِ، وقال: روَى فيه الزُّهْرِي ثلاثةَ أحادِيثَ؛ عن أنَسٍ، وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ، وعن سالِم عن أَبيه. وهو قَوْلُ مالكٍ. ونَقَل ابنُ منصورٍ، عن أحمدَ، إذا رَفَع رَأسَه مِن الرُّكُوعِ قال: «اللَّهُمَ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ». رَواه ¬

(¬1) انظر: باب صفة ما يقول المصلى عند ركوعه وسجوده، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 342. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل «الأركان».

407 - مسألة: (فإن كان مأموما لم يزد على: ربنا ولك الحمد.

فَإنْ كَانَ مَأمُومًا لَمْ يَزِدْ عَلَى: رَبَنا وَلَكَ الْحَمْدُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو سعيدٍ، وابنُ أبي أوْفَى. فاسْتَحِبَّ الاقْتِداءُ به في القَوْلَيْن. وقال الشافعيُّ: السُّنَّةُ قَوْلُ: رَبَّنا لك الحَمْدُ. لأنَّ الواوَ للعَطْفِ، وليس هاهُنا شيء يُعْطَفُ عليه. ولَنا، أنَّ السُّنَّةَ الاقْتِداءُ بالنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وقد، صَحَّ عنه ذلك، ولأنَّ إثْباتَ الواوِ أكْثَرُ حُرُوفًا، ويَتَضَمِّنُ الحَمْدَ مُقَدِّرًا ومُظْهَرًا، إذِ التَّقْدِيرُ: رَبَّنا حَمِدْناك ولك الحَمْدُ: فإنَّها لَمَّا كانت للعَطْفِ ولا شئَ هاهُنا تَعْطِفُ عليه، دَلَّتْ على التَّقْدِيرِ الذى ذَكَرْناه (¬1)، كقَوْله: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ». أي وبحَمْدِك سُبْحانَك، وكَيْفَما قَال كان حَسَنًا؛ لأَنَّ السُّنَّةَ قد وَرَدَتْ به. 407 - مسألة: (فإن كان مَأمُومًا لم يَزِدْ على: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

إلَّا عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا عندَ أبي الخَطَّابِ) قال شيخُنا (¬1): لا أعْلَمُ خِلافًا في المَذْهَبِ أنَّه لا يُشْرَعُ للمَأَمُومِ قَوْلُ: سَمِع اللهُ لمَن حَمِدَه. وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيْرَةَ، ومالكٍ، وأصحابِ الرَّأيِ. وقال يعقوبُ، ومحمدٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ: يقُولُ ذلك كالإمامِ؛ لحديثِ بُرَيْدَةَ، وقِياسًا على الإمامِ في سائِرِ الأذْكار. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا قَالَ الْإمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» (¬2). وهذا يقْتَضِي أن يكُونَ قوْلُهم: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. عَقِيبَ تَسْمِيع الإمامِ بلا فَصْلٍ؛ لِأنَّ الفاءَ للتَّعْقِيبِ، وهذا ظاهرٌ يَجِبُ تَقْدِيمُه على القِياسِ، وعلى حديثِ بُرَيْدَةَ؛ لأنَّه (¬3) خاصٌّ بالمَأمُومِ، وذلك عامٌ ولو تَعارَضا كان حَدِيثُنا أوْلَى؛ لأئَّه صَحِيحٌ، وحديث بُرَيْدَةَ فيه جابِرٌ الجُعْفِيُّ (¬4). فأمّا قولُ: «مِلْءَ السَّماءِ». وما بعدَه، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه لا يُسَنُّ للمَأمُومِ. اخْتارَه الخِرَقِي، ونَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبي داودَ وغيرِه، ¬

(¬1) في: المغني 2/ 189. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 489. (¬3) في م: «ولأنه». (¬4) أبو عبد الله جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكُوفيّ، اختلف أهل الحديث فيه، فقالوا: صدوق في الحديث. وقالوا: كذاب، توفى سنة ثمان، وعشرين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 2/ 46 - 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واخْتارَه أكْثَرُ أصحابِه؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- اقْتَصَر على أمْرِهم بقَوْلِ: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». فدَلَّ على أنَّه لا يُشْرَعُ لهم سِواه. ونَقَل الأثْرَمُ عنه ما يَدُلُّ على أنَّه مَسْنُون، وهو أنَّه قال: ليس يَسْقُطُ خلفَ الإمامِ عنه غيرُ: سَمِع اللهُ لمَن حَمِدَهُ. اخْتارَه أبو الخَطَّابِ، وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه ذِكرٌ مَشْرُوعٌ في الصلاةِ، أشْبَهَ سائِرَ الأَذْكارِ. فصل: ومَوْضِعُ قولَ: رَبَّنا ولك الحَمْدُ في حَق الإمامَ والمُنْفَرِدِ بعدَ القِيامِ مِن الرُّكُوعِ، لأَنَّه في حالِ رفْعِه (¬1) يقُولُ: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه. [فأمّا المَأمُومُ ففي حالِ رَفْعِه؛ لأنَّ قَوْلَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ] (¬2). فَقُولُوا (¬3): رَبَّنا وَلَكَ الحَمْدُ». يَقْتَضى تعْقِيبَ قَوْلِ الإمامِ قولَ المَأمُومِ، والمَأمُومُ يَأخُذُ في الرفْعِ عَقِيبَ قولِ الإمامِ: سَمِعَ اللهُ لَمَن حَمِدَهُ. فَيَكُونُ قَوْلُه: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. حِينَئذٍ، وَاللهُ أعلمُ. فصل: وإن زاد على قَوْلِ: [رَبَّنا ولك الحَمْدُ] (¬4)، مِلءَ السَّماءِ (¬5)، ومِلْءَ الأرْضِ، ومِلءَ ما شِئْتَ مِن شيء بعدُ. فقد اخْتَلَفَ عن أحمدَ فيه؛ فَرُوِيَ عنه، أنَّه قِيلَ له: أتَزِيدُ على هذا، فَتقُولُ: أهلَ الثَّناءِ ¬

(¬1) في م: «قيامه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فقوله قولوا». (¬4) سقط من الأصل. (¬5) في م: «السموات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَجْدِ؟ فقال: قد رُوِيَ ذلك، وأمّا أنا فأقُولُ هذا إلى: ما شِئْتَ مِن شيء بعدُ، فظاهِرُ هذا أنَّه لا يُسْتَحَبُّ ذلك في الفرِيضَةِ اتِّباعًا لأكْثَرِ الأحادِيثِ الصحِيحَةِ. ونَقَل عنه أبو الحارثِ، أَنَّه قال: وأنا أقُولُ ذلك. يَعْنِي، أهْلَ الثَّناءِ والمَجْدِ. فظاهِرُه أنَّه يُسْتَحَبُّ، اخْتارَه أبو حَفصٍ، وهو الصَّحِيحُ؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ، قال: «اللَّهُمَّ رَبَّنا لَكَ (¬1) الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ (¬2) وَمِلْءَ الْأَرْض، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ [مِنْ شَيْءٍ] (¬3) بَعْدُ، أهْلَ الثناءِ والْمَجْدِ (¬4)، أحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهُم لَا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». وروَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ قال: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ (2) وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْء بَعْدُ، أهْلَ الثناءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ، مِنْكَ الْجَدُّ». وروَى عبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى بعدَ قولِه: «وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ»: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ ¬

(¬1) في م: «ولك». (¬2) في الأصل: «السماء». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «وأهل المجد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطايَا كَمَا يُنقَّى الثُّوْبُ الأبيَضُ مِنَ الدَّنَسِ» (¬1). رَواهُنَّ مسلمٌ (¬2). وقد كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُطِيلُ القِيامَ بينَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، قال أَنَسٌ: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». قام حتَّى نقُولَ: قد أوْهَمَ (¬3). ثم يَسْجُدُ ويَقْعُدُ بينَ السَّجْدَتَيْن حتَّى نقُولَ: قد أوْهَمَ. رَواه مسلمٌ (¬4). وليست حالَةَ سُكوتٍ، فنَعْلَمَ (¬5) أَنَّه عليه السَّلامُ كان يَزِيدُ على هذه الكلِماتِ، لكَوْنِها لا تَسْتَغْرِقُ هذا القِيامَ كلَه. ¬

(¬1) في الأصل: «الوسخ». (¬2) في: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 346، 347. وتقدم تخريج حديت أبي سعيد في صفحة 490. كما أخرج حديث ابن أبي أوفى التِّرْمِذِيّ، في: باب دعاء النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 13/ 63. والنَّسائيّ، في: باب الاغتسال بالثلج والبرد، وباب الاغتسال بالماء البارد، من كتاب الغسل والتيمم. المجتبى 1/ 163. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 354، 381. (¬3) أوهم: أسقط ما بعده. (¬4) في: باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 344. كما أخرجه أبو داود، في: باب طول القيام من الركوع، وبين السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 196. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 203، 247. (¬5) في تش: «فيعلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا رَفَع رَأسَه مِن الرُّكوعِ، فعَطسَ، فقال: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. يَنْوِي بذلك للعَطْسَةِ والرفْعِ، فرُوِيَ عنه: لا يُجْزِئُه. لأنَّه لم يُخْلِصْه للرَّفعِ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّه يُجْزِئُه؛ لأنَّه ذِكْرٌ لا تُعْتَبَرُ له النيةُ، وقد أتَى به فأجْزَأه، كما لو قاله ذاهِلًا، ويُحْمَلُ قولُ أحمدَ على الاسْتِحْباب، لا على نَفْيِ الإجْزاءِ حَقِيقَةً. فصل: وإذا أتَى بقَدْرِ الإجْزاءِ من الرُّكُوعِ، فاعْتَرَضَتْه عِلَّةٌ مَنَعَتْه القِيامَ، سَقَط عنه الرَّفْعُ؛ لتَعَذرِه، ويَسْجُدُ عن الرُّكُوعِ. فإن زالَتِ العِلَّةُ قبلَ سُجُودِه، فعليه القِيامُ. وإن زالَتْ بعدَ سُجُودِه إلى الأرضِ، سَقَط القِيامُ؛ لأن السُّجُودَ قد صَحَّ وأجْزَأ، فسَقطَ (¬2) ما قبلَه. فإن قام مِن سُجُودِه عالِمًا بتَحْرِيمِ ذلك، بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لأنَّه زاد في الصلاةِ فِعْلًا. وإن كان جاهِلًا أو ناسِيًا، لم تَبْطُلْ، ويَعُودُ إلى جَلْسَةِ الفَصْلِ، ويَسْجُدُ للسَّهْوِ. فصل: وإن أراد الرُّكُوعَ، فوَقَعَ إلى الأرضِ، فإنَّه يَقومُ فيَرْكعُ. وكذلك إن رَكَع فسَقَطَ قبلَ [طمَأْنِينَتِه، بَطَل الرُّكُوعُ] (¬3)؛ لأنَّه لم يَأتِ بما يُسْقِطُ الفَرْضَ. فإن رَكَع فاطْمَأنَّ، ثُمْ سَقط، فإنَّه يقُومُ مُنْتَصِبًا، ولا يُعيدُ الرُّكوعَ؛ لأنَّ (¬4) فَرْضَه قد سَقَط، والاعْتدالُ عنه قد سَقَط بقِيامِه. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 191. (¬2) في الأصل: «فأسقط». (¬3) في م: «طمأنينة الركوع». (¬4) في م: «فإن».

408 - مسألة: (ثم يكبر ويخر ساجدا، ولا يرفع يديه)

ثُمَّ يُكَبِّر وَيَخِرُّ سَاجِدًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا رَفَع رَأسَه مِن الركُوعِ، فذَكَرَ أنَّه لم يُسَبِّحْ في ركُوعِه، لم يَعُدْ إلى الرُّكُوعِ، سَواءً ذَكَرَه بعدَ اعْتِدالِه قائِمًا أو قبلَه؛ لأن التَّسْبِيحَ قد سَقَط برَفْعِه، والركُوعَ (¬1) قد وَقَع صَحِيحًا مُجْزِئًا، فلو عاد إليه، زاد رُكُوعًا في الصلاةِ غيرَ مَشْرُوع، فإن فَعَلَه عَمْدًا، أبْطَلَ الصلاةَ، وإن فَعَلَه ناسِيًا أو جاهِلًا، لم تَبْطُلِ الصلاةُ، كما لو ظَنَّ أنَّه لم يَرْكَعْ، ويَسْجُدُ للسَّهْوِ. فإن أدْرَكَ المَأمُومُ الإمامَ في هذا الركُوعِ، لم يُدْركِ الركْعَةَ؛ لأنَّه ليس بمَشْرُوعٍ في حَقِّه، ولأنَّه لم يُدْرِكْ رُكوعَ الرَّكْعَةِ، فأشْبَهَ ما لو لم يُدْرِكْه راكِعًا. ذَكَرَه شيخُنا (¬2). وقال القاضي في «المُجَردِ»: إن رَجَع الإمامُ، لم تَبْطُلْ صَلاُتَه، فَإن أدْرَكَه المَأمُومُ، فقِياسُ المَذْهَبِ أنَّه يُعْتَدُّ بها رَكْعَةً؛ لأنَّه رَجَع إلى واجِبٍ، غيرَ أنَّه سَقَط عنه بالنِّسْيانِ. 408 - مسألة: (ثم يُكَبِّرُ وَيَخِرُّ ساجِدًا، ولا يَرْفَعُ يَدَيْه) السُّجُودُ واجِبُ في الصلاةِ بالنَّصِّ والإجْماعِ، والطمَأنِينَةُ واجِبَة فيه؛ لقَوْلِ النبيِّ ¬

(¬1) في الأصل: «إلى الركوع». (¬2) في: المغني 2/ 192.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للمُسِيءِ في صَلاتِه: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِن سَاجِدًا» (¬1). والخِلافُ فيها كالخِلافِ في طُمَأنِينَةِ الرُّكُوعِ. ويَنْحَط إلى السُّجُودِ مُكَبِّرًا، لِما ذكرْنا من الأخْبارِ، ويكُونُ ابْتِداءُ تَكْبِيرِه مع ابْتِداءِ انْحِطاطِه، وانْتِهاؤه مع انْتِهائِه. ولا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يَدَيْه فيه (¬2)، في المَشْهُورِ مِن المَذْهَبِ: ونَقَل عنه (¬3) المَيْمُونِيُّ، أنَّه يَرْفَعُ يَدَيْه. وسُئِل عن رَفْع اليَدَيْن في الصلاةِ، فقال: يَرْفَعُ في كل خَفْضٍ ورَفْعٍ. وقال: فيه عن ابنِ عُمَرَ وأبي حُمَيْدٍ أحادِيثُ صِحاحٌ. ووَجْهُ الأوَّلِ حديثُ ابنِ عُمَرَ، قال: وكان لا يَفْعَلُ ذلك في السُّجُودِ. مُتفَق عليه (¬4). ولَمَّا وَصَف أبو حُمَيْدٍ صلاةَ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَذْكُرْ رَفْعَ الَيَدَيْن في السُّجُودِ (¬5). والأحادِيثُ العامَّةُ مُفَسَّرَةٌ بالأحادِيثِ المُفَصَّلَةِ التى رَوَيْناها، فلا يَبْقَى فيها اختِلافٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 408. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عن». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 418. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 400.

409 - مسألة: (فيضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويكون على أطراف أصابعه)

فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأنْفَهُ، وَيَكُونُ عَلَى أطْرَافِ أصَابِعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 409 - مسألة: (فيَضَعُ رُكْبَتَيْه، ثم يَدَيْه، ثم جَبْهَتَه وَأَنفَه، ويكونُ على أطْرافِ أصابِعِه) هذا المَشْهُورُ مِن المَذْهَبِ، رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ (¬1)، -رَضِيَ اللهُ عنه-. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَضَعُ يَدَيْه قَبْل رُكْبَتَيْه. وهو مذهبُ مالكٍ؛ لِما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ، قَال: قَال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا سَجَد يَضَعُ يَدَيْه قَبلَ رُكْبَتَيْه. رَواه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬3). ووَجْهُ الأولى ما روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: رَأيتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَجَد وَضَع رُكْبَتَيْه ¬

(¬1) في الأصل: «ابن عمر». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 193. والنَّسائيّ، في: باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 163. كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض إذا أراد أن يسجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 303. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 381. (¬3) في م: «رواه أبو داود والنَّسائيّ والدارقطني». ولم نجده في أبي داود والنَّسائيّ، وأخرجه الدارقطني، في: باب ذكر الركوع، السجود وما يجزى فيهما، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 344.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ يَدَيْه، وإذا نَهَض رَفَع يَدَيْه قبلَ رُكْبَتَيْه. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ ماجه، والترمِذِيُّ (¬1)، وقال: حسنٌ غريبٌ. قال الخَطَابِيُّ: هذا أَصَحُّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ (¬2). وقد روَى الأثْرَمُ حَدِيثَ أبي هُرَيْرَةَ: «إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْبَعِيرِ» (¬3). وعن سعدٍ، قال: كُنَّا نَضَعُ اليَدَيْن قبل الركْبَتَيْن، فأُمْرِنا بوَضْعِ الركْبَتَين ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 193. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 68، 69. والنَّسائيّ، في: باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، وباب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 163، 186. وابن ماجه، في: باب السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 286.كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض إذا أراد أن يسجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 303. (¬2) لفظ الخطابي في معالم السنن 1/ 208 بعد إيراده حديث أبي هريرة السابق: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الرَّجل إذا انحط إلى السجود أي شيء يقع منه قبل إلى الأرض، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 263. والبيهقي، في: باب من قال: يضع يديه قبل ركبتيه، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 100. قال البيهقي: وقد روى أن ذلك كان ثم نسخ، وصار الأمر إلى ما روينا عن وائل ابن حجر إلَّا أن الإسناد ضعيف. وأخرجه الطحاوي، في: باب ما يبدأ بوضعه في السجود، اليدين أو الركبتين، من كتاب الصلاة. شرح معاني الآثار 1/ 255. وانظر: فتح الباري 2/ 241.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ اليَدَيْن (¬1). وهذا (¬2) يَدُلُّ على أنَّه مَنْسُوخٌ. رَواه ابنُ خُزَيْمَةَ (¬3)، إلَّا أنَّه مِن رِوايَةِ يَحْيَى بنِ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْل، وقد تَكلمَ فيه البُخارِيُّ، وقال ابنُ مَعِين: ليس بشئٍ، لا يُكْتَبُ حَدِيثُه. وقال الدّارَقُطْنِيُّ (¬4) في حديثِ وائِلِ بنِ حُجْر: تَفَرَّدَ به شَرِيكٌ، عن عاصِمِ بن كُلَيْب، وشَرِيكٌ ليس بالقَوِيِّ فيما تَفَرّدَ به. ويُسْتَحَبُّ أن يكُونَ على أطْرافِ أصابِعِه، ويَثْنِيَها (¬5) إلى القِبْلَةِ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظمٍ» (¬6). ذَكَر منها أطْرافَ القَدَمَيْن. وروَى البخارِيُّ، أن النبيَّ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقَّاص، في: باب من قال يضع يديه قبل ركبتيه، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 100. (¬2) في م: «فهذا». (¬3) في: باب ذكر الديل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ، من كتاب الصلاة. صحيح ابن خزيمة 1/ 319. (¬4) في: باب ذكر الركوع والسجود وما يجزئُ فيهما من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 345. (¬5) في الأصل: «ويثبتها». (¬6) أخرجه البُخَارِيّ، في باب السجود على سبعة أعظم، وباب السجود على الأنف، وباب لا يكف شعرًا، وباب لا يكف ثوبًا من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 206، 207، ومسلم، في: باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة. من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 354. وأبو داود، في: باب أعضاء السجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 205. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في السجود على سبعة أعضاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 73. والنَّسائيّ، في: باب السجود على الأنف، وباب على كم السجود، وباب السجود على اليدين، وباب السجود على الركبتين، وباب النهي عن كف الشعر في السجود، وباب النهي عن كف الثوب في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 164، 165، 170 وابن ماجه، في: باب السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 286. والدارمي، في: باب السجود على سبعة أعظم وكيف العمل في السجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 221، 222، 225، 270، 279، 280، 285، 286، 292، 305، 324.

410 - مسألة: (والسجود على هذه الأعضاء واجب، إلا الأنف، على إحدى الروايتين)

وَالسُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَاجِبٌ، إلَّا الْأَنْفَ عَلَى إحْدَى الرَّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد غيرَ مُفْتَرِشٍ ولا قابضِهما، واسْتَقْبَلَ بأطْرافِ رِجْلَيْه القِبْلَةَ. وفي رِوايَةٍ: وفَتَح أصابعَ رِجْلَيْه (¬1). وهذا مَعْناه. 410 - مَسألة: (والسُّجُودُ على هذه الأعْضاءِ واجِبٌ، إلَّا الأنفَ، على إحْدَى الروايتين) السُّجُودُ على الأعْضاءِ السَّبْعَةِ واجِبٌ، في قَوْلِ طاوُسٍ، وإسحاقَ، والشافعيِّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال مالكٌ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ الآخَرِ: لا يَجِبُ السُّجُودُ على غيرِ الجَبْهَةِ. ورَواه الآمِدِيُّ، عن أحمدَ. وقال القاضي في «الجامِع»: هو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ فإنَّه قد نصَّ في المَرِيضِ يَرْفَعُ شيئًا يَسْجُدُ عليه، أنَّه يُجْزِئُه. ومَعْلُوم أنَّه قد أخَلَّ بالسُّجُودِ على يَدَيْه؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- «سَجَدَ وَجْهِي» (¬1). وهذا يَدُل على أنَّ السُّجُودَ على الوَجْهِ، ولأنَّ السَّاجِدَ على الوَجْهِ يُسَمى ساجدًا، ووَضْعَ غيرِه على الأرْضِ لا يُسَمى به ساجِدًا، فالأمْرُ بالسُّجُودِ يَنْصَرِفُ إلى ما يُسَمِّي به ساجِدًا دُونَ غيرِه، ولأنَّه لو وَجَب السُّجُودُ على هذه الأعْضاءِ، لوَجَبَ كَشْفُها، كالجَبْهَةِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباس، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُم؛ الْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَالْجَبْهَةِ». مُتَّفَق ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 534. وأبو داود، في: باب ما يقول إذا سجد، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 327. والتِّرمذى، في: باب ما يقول في سجود القرآن، من أبواب الجمعة، وفي: باب من الدعاء، وباب ما يقول في سجود القرآن. عارضة الأحوذى 3/ 60، 12/ 306، 307، 309، 310. والنَّسائيّ، في: نوع آخر من الدعاء، ونوع آخر منه، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 175، 176. وابن ماجه، في: باب سجود القرآن، من كتاب إقامة الصلاة سنن ابن ماجه 1/ 335. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 95، 102، 6/ 217.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ، قال: قال رسول اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وسُجُودُ الوَجْهِ لا يَنْفِي سُجُودَ ما عَداه، وسُقُوطُ الكَشْفِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ السُّجُودِ، [فإنَّا نَمْنَعُ] (¬2) في الجَبْهَةِ على رِوايَةٍ، ولو سُلِّمَ فالجَبْهَةُ هي الأصْلُ في السُّجُودِ، وهي مَكشُوفَةٌ (¬3) عادَةً، بخِلافِ غيرِها، فإن أخَلُّ بالسُّجُودِ على عُضْوٍ مِن هذه الأعْضاءِ، لم تَصِح صَلاُتَه عندَ مَن أوْجَبَه، وإن قَدَر على السُّجُودِ على الجَبْهَةِ، وعَجَز عن السُّجُودِ على بَعْضِ هذه الأعضاء، سَجَد على بَقِيَّتِها، وقَرَّبَ العُضْوَ المَرِيضَ مِن الأرْضِ غايَةَ ما يُمْكِنُه، ولا يَجِبُ عليه أن يَرْفَعَ إليه شيئًا؛ لأَنَّ السُّجُودِ هو الهُبُوطُ، ولا يَحْصُلُ بالرفْعِ، وإن سَقَط السُّجُودُ على (¬4) الجَبْهَةِ؛ لعارِضٍ مِن مَرَض أو غيرِه، سَقَط عنه السُّجُودُ على غيرِه، لأنَّه الأصْلُ، وغيرَه تَبَعٌ له، فإذا سَقَط الأصْلُ سَقَط التبعُ، ولهذا قال أحمدُ في المَرِيضِ يَرْفَعُ إلى جَبْهَتِه شيئًا يَسْجُدُ عليه: أنَّه يُجْزِئُه. ¬

(¬1) في: باب الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض. . . . الخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 356. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 283، 294. (¬2) في الأصل: «فإنما يمنع». (¬3) في الأصل: «تكشف». (¬4) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي الأنْفِ رِوايَتان؛ إحْداهما، يَجبُ السُّجودُ عليه. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وإسحاقَ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعةِ أعْظُمٍ، عَلَى (¬1) الْجَبْهَةِ». وأشار بيَدِه إلى أنفِه. «وَالْيَدَيْنِ، وَالركْبَتَيْنِ، وأطْرافِ الْقَدَمَيْن». مُتَّفَق عليه (¬2). وإشارَتُه إلى أنْفِه تَدُل على إرادَتِه. وللنَّسائِيِّ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ عَلَى (1) الجَبْهَةِ، وَالأنْفِ، وَالْيَديْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ» (¬3). والرِّوِايَةُ الثَّانِيَةُ، لا يَجبُ. وهو قولُ عَطاء، والحسنِ، والشافعيِّ، وأبي يُوسُف، ومحمدٍ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أمِرْتُ أن أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُم». ولم يَذْكُرِ الأنفَ فيها، ورُوِيَ أنَّ جابِرًا قال: رَأيتُ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد بأعْلى جَبْهَتِه على قُصاصِ الشَّعَرِ (¬4). رَواه تَمَّامٌ في «فَوائِدِ»، وغيرُه. وإذا سَجَد بأعْلَى الجَبْهَةِ لم يَسْجُدْ على الأنْفِ. ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ: إن سَجَد على [أنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهْ] (¬5)، أجْزَأه (1). ولَعَلَّه ذَهَب إلى أنَّ الجَبْهَةَ والأَنْفَ عُضْو واحِدٌ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 502. (¬3) انظر التخريج السابق. (¬4) قصاص الشعر: حيث تنتهى نِبْتته من مقدمه أو مؤخره والخبر أورده الهيثمى في المجمع 2/ 125، وعزاه لأبي يعلى والطبراني في الأوسط. (¬5) في م: «جبهته دون أنفه».

411 - مسألة: (ولا تجب عليه مباشرة المصلى بشئ منها، إلا الجبهة على إحدى الروايتين)

وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ المُصَلَّى بِشَيْء مِنْهَا، إلَّا الْجَبهَةَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لإشارَةِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إليه حينَ ذَكرَ الجَبْهَةَ. والسُّجُودُ على بعضِ العُضْوِ يُجْزِئُ. وهذا قَوْل يُخالِفُ الحديثَ الصَّحِيحَ والعُلَماءَ قبلَه. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ أحدًا سَبَقَه إلى هذا القَوْلِ. واللهُ أعلمُ. 411 - مسألة: (ولا تَجِبُ عليه مُباشَرَةُ المُصَلَى بشئٍ منها، إلَّا الجَبْهَةَ على إحْدَى الروايَتَيْن) لا تَجِبُ مُباشَرَةُ المُصَلَى بشئٍ مِن أعْضاءِ السُّجُودِ في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. قال القاضي في «المُجَرَّدِ»: إذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَجَد على كَوْرِ العِمامَةِ أو كُمِّه أو ذَيْلِه، فالصلاةُ صَحِيحَة رِوايَةً واحِدَةً. وهل يُكْرَهُ؟ على رِوايَتَيْن. وممَّن رَخَّصَ في السُّجُودِ على الثَّوْب في الحَرِّ والبَرْدِ عَطاءٌ، وطاوسٌ والشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، وإسحاقُ، وَأصحابُ الرَّأْيِ. وسَجَد شُرَيْحٌ على بُرْنُسِه (¬1). وفيه (¬2) رِوايَة أخْرَى، أنَّه يَجِبُ عليه (¬3) مُباشَرَةُ المُصَلَّى بالجَبْهَةِ. ذكَرَها أبو الخطَّابِ. وروَى الأثْرَمُ، قال: سَألْتُ أَبا عبدِ اللهِ عن السُّجُودِ على كوْرِ العِمامَةِ؟ فقال: لا تَسْجُدْ على كُورِها، ولكنْ تَحْسُرُ (¬4) العِمَامَةَ. وهو مذهبُ الشَّافعيّ؛ لِما روَى خَبّابٌ، قال: شَكوْنا إلى رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حَر الرَّمْضاءِ في جِباهِنا وأكُفِّنا، فلم يُشْكنا (¬5). رَواه البَيْهَقِي (¬6)، ورَواه مسلم (¬7). وليس فيه، جِباهُنا وأكُفُّنا. وعن عليٌّ، -رَضِيَ الله عَنْهُ-، قال: إذا كان أَحَدُكم يُصَلَّى فليَحْسُرِ العِمامَةَ عن جَبْهَتِه. رَواه البَيْهَقِيُّ (¬8). ولأنَّه سَجَد على ¬

(¬1) البرنس: قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه. (¬2) في الأصل: «وفي». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «يحصر». (¬5) لم يشكنا: لم يزل يشكوانا. (¬6) في: باب الكشف عن الجبهة في السجود، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 104، 105. (¬7) في: باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحُر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 433. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب أول وقت الظهر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 198. وابن ماجه، في باب وقت صلاة الظهر، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 222. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 108، 110. (¬8) في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما هو حامِلٌ له، أشْبَهَ ما إذا سَجَد (¬1) على يَدَيْه. ولَنا، ما روَى أنسٌ، قال: كُنّا نُصَلى مع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيَضَعُ أحَدُنا طَرَفَ الثَّوْبِ مِن شِدَّةِ الحَرِّ في مَكانِ السُّجُودِ. متَّفَق عليه (¬2). وعن ثابِتِ بنِ صامِتٍ، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى في بَنِي عَبْدِ (¬3) الأشْهَلِ، وعليه كِساءٌ مُلْتَفٌ به، يَضَعُ يَدَيْه عليه، يَقِيه بَرْدَ الحَصَى. رَواه ابنُ ماجه (¬4). وقال الحسن: كان أصْحابُ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَسْجُدون وأيْدِيهم في ثِيابِهم، ويَسْجُدُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب السُّجود على الثوب في شدة الحرّ، وباب الصلاة على الفراش، وصلى أنس على فراشه، من كتاب الصلاة، وفي: باب وقت الظهر بعد الزوال، من كتاب المواقيت. صحيح البُخَارِيّ 1/ 107، 108، 143. ومسلم، في: باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 433. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما ذكر من الرخصة في السجود على الثوب في الحر والبرد، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 67. والنَّسائيّ، في: باب السجود على الثياب، من كتاب التطبيق. المجتبى 1/ 171. وابن ماجه، في: باب السجود على الثياب في الحر والبرد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 529. والدارمي، في: باب الرخصة في السجود على الثوب في الحر والبرد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 308. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب السجود على الثياب في الحر والبرد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 329.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجلُ على عِمامَتِه. رَواه البَيْهَقِيُّ (¬1). ولأَنَّه عُضْوٌ مِن أعْضاءِ السُّجُودِ، فجاز السُّجُودُ على حائِلِه، كالقَدَمَيْن. فأمَّا حَدِيثُ خَبّابٍ، فالظّاهِرُ أنَّهم طَلَبُوا منه تَأخِيرَ الصلاةِ، أو تَسْقِيفَ المَسْجِدِ، أو نَحْوَ ذلك، مِمّا يُزِيلُ عنهم الضَّرَرَ الحاصِلَ مِن الحَر، أمَّا الرُّخْصَةُ في السُّجُودِ على العِمامَةِ والأكْمامِ، فالظّاهِرُ أنَّهم لم يَطْلُبُوه؛ لأنَّ ذلك إنَّما طَلَبَه الفُقَرَاءُ، ولم يَكُنْ لهم عَمائِمُ ولا أكمامْ طِوال يَتقُون بها، وإنِ احْتَمَلَ ذلك، لكنَّه لا يَتَعَين؛ لجَوازِ ما ذَكَرْنا، ولذلك لم يَعْمَلُوا به في الأكُفِّ. قال أبو إسحاقَ: المَنْصُوصُ عن الشافعيِّ، أنَّه لا يَجِبُ كَشْفُهُما. وقد قِيلَ فيه قَوْلٌ: إنه يَجِبُ. أمَّا إذا سَجَد على يَدَيْه قائِمًا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ السُّجُودَ عليهما يُفْضِي إلى تَداخُلِ أعْضاءِ السُّجُودِ، بخِلافِ مَسْألتِنا. وقال القاضي ¬

(¬1) في: باب من بسط ثوبًا فسجد عليه، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «الجامِع»: لم أجِدْ نَصًّا في هذه المسألةِ، ويَجِبُ أن تكُونَ مَبْنِيةً على السُّجُودِ على غيرِ الجَبْهَةِ؛ إن قُلْنا: لا يَجِبُ. جاز، كما لو سَجَد على العِمامَةِ. وإن قُلْنا: يَجبُ. لم يَجُزْ؛ لِيْلا يَتَداخَلَ مَحَلُّ السُّجُودِ بَعْضُه في بعض. والأوْلى مُباشَرَةُ المُصَلِّي بالجَبْهَةِ واليَدَيْنِ، ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ، ويَأْخُذَ بالعَزِيمَةِ. وذَكَرَ القاضي في كَراهِةِ سَتْرِ اليَدَيْن رِوايَتَيْن. قال أحمدُ، وإسحاق: لا يُعْجِبُنِي إلَّا في الحَر والبَرْدِ. وكان ابنُ عُمَرَ يَكْرهُ السُّجُودَ على كوْرِ العِمامَةِ (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الكشف عن الجبهة في السجود، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 105.

412 - مسألة: (ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، ويضع يديه حذو منكبيه، ويفرق بين ركبتيه)

وَيُجَافِي عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِدَيْهِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكبَيْهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 412 - مسألة: (ويُجافِي عَضُدَيْه عن جَنْبَيْه، وبَطْنَه عن فَخِذيْه، ويَضَعُ يَدَيْه حَذْوَ مَنْكِبَيْه، ويُفَرقُ بينَ رُكْبَتَيْه) التجافِي في السُّجُودِ للرجلِ مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّ في حَدِيثِ أبي حُمَيْدٍ (¬1)، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا سَجَد جافَى عَضُدَيْه عن جَنْبَيْه. وفيه: إذا سَجَد فَرَّجَ بينَ فَخذَيْه غيرَ حامِلٍ بَطنه على شيء مِن فَخِذيْه. ولأبى داودَ: ثم سَجَد فأمْكَنَ أنفَه وجَبْهَتَه، ونَحَّى يَدَيْه عن جَنْبَيْه، ووَضَع يَدَيْه حَذْوَ مَنْكِبَيْه. وعن مَيْمُونَةَ، قالَتْ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَجَد، لو شاءَتَ بَهْمَةٌ (¬2) أنْ تَمُر بينَ يَدَيْه لمَرَّتْ. رَواه مسلم (¬3). وعنِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَجَد جافى حتَّى يُرَى بَياضُ إبْطَيْه. رَواه الإمام أحمدُ (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬2) في م: «بهيمة». والبهيمة واحدة البَهْم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث. (¬3) في: باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. 1/ 357.كما أخرجه أبو داود، في: باب صفة السجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 206. والنَّسائيّ، في: باب التجافي في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 168. وابن ماجه، في: باب السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 285. والدارمي، في: باب التجافى في السجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 306. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 221. (¬4) في: المسند 3/ 294، 295.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَضَعَ راحَتَيْه على الأرْضِ مَبْسُوطَتَيْن مَضْمُومَتَى الأصابع، مُسْتَقْبِلًا بهما القِبْلَةَ، ويَضَعَهما حَذْوَ مَنْكِبَيْه؛ لِما ذَكَرْنا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ ولِما روَى وائِلُ بنُ حُجْر، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَجَد ضمَّ أصابِعَه. رَواه البَيْهَقِي (¬1). وروَى الأثْرَمُ، قال: [رَأيتُ أَبا عبدِ اللهِ] (¬2) سَجَد ويداه بحِذاءِ (¬3) أُذُنَيْه. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ؛ لِما روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد فجَعَلَ كَفَّيْه بحِذاءِ أُذُنَيْه. رَواه الأثْرَمُ، وأبو داودَ (¬4) بمَعْناه. والجَمِيعُ حسنٌ. فصل: والكَمالُ في السُّجُودِ أن يَضَعَ جَمِيعَ بَطْن كَفِّه وأصابِعِه على الأرْضِ، ويَرْفَعَ مِرْفَقَيْه؛ لِما روَى البَراءُ بنُ عازِبٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» (¬5). فإنِ اقْتَصَرَ ¬

(¬1) في: باب يضم أصابع يديه في السجود. . . . الخ، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 112. (¬2) في م: «رأيته». (¬3) في م: «حذو». (¬4) في: باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سن أبي داود 1/ 166، 170. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 505 من حديث البراء بن عازب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على [بَعْضِ باطِنها أجْزَأه. قال أحمدُ: إن وَضَع مِن اليَدَيْن بقَدْرِ الجَبْهَةِ أجْزَأه. وإن جَعَل ظُهُورَ كَفيْه إلى الأرض، أو سَجَد على] (¬1) [أَطْرافِ أصَابع يَدَيْه، فظاهِرُ الخَبَرِ أنَّه يُجْزِئُه؛ لأنَّه قد سَجد على يدَيْه، وهكذا لو سَجَد على ظهُورِ قَدَمَيْه، ولأنّه لا يَخْلُو مِن إصَابَةِ بَعْض] (¬2) أطرافِ قَدَمَيْه الأرْضَ، فيَكونَ ساجِدًا على أطْرافِ القَدَمَيْن، إلَّا أنّه يكُونُ تارِكًا للأفْضَلِ. فصل: وإذا أراد السّجُودَ، فسَقطَ على وَجْهِه، فماسَّتْ جَبْهَته (¬3) الأرْضَ، أجْزَأه ذلك، إلَّا أن يَقْطَعَ نِيَّةَ السجُودِ، [وإن سَقَط على جَنْبه، ثم انْقَلَبَ] (¬4) فماسَّتْ جَبْهَتُه الأرْضَ، لم يُجْزِئْه ذلك، إلَّا أن يَنْوِيَ السُّجودَ. والفَرْقُ بينَ المَسْألتَيْن، أنَّه هاهُنا خَرَج عن سننِ الصلاةِ وهَيّأتِها، ثم كان انْقِلابُه الثاني عائدًا إلى الصلاةِ، فافْتَقَرَ إلى تجْدِيد النيةِ، وفي التى قَبْلَها هو على هَيْئَةِ الصلاةِ وسَنَنِها، فاكتفِيَ باسْتِدامَةِ النية. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «فسقط على وجهه».

413 - مسألة: (ويقول: سبحان ربى الأعلى. ثلاثا)

وَيَقُولُ: سبحانَ رَبىَ الْأَعْلَى. ثَلاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 413 - مسألة: (ويَقُولُ: سُبْحانَ رَبىَ الأعْلَى. ثَلاثًا) الحُكمُ في هذا التَّسْبيحِ كالحُكمِ في تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، على ما شَرَحناه، والأصْلُ فيه حديثُ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لَمّا نَزَل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1)، قال: «اجْعَلُوها في سُجُودِكُمْ». وروَى ابنُ مسعودٍ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: سُبْحانَ رَبىَ الأعلَى. ثَلاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ». وعن حُذَيْفَةَ، أنَّه سَمِع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- إذا سَجَد قال: «سُبْحان رَبىَ الأعلَى. ثَلاثَ مَرّاتٍ». رَواهُنَّ ابنُ ¬

(¬1) سورة الأعلى 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجه، وأبو داودَ (¬1)، ولم يَقُلْ: «ثَلاثَ مَراتٍ». والحُكْمُ في عَدَدِه وتَطْوِيلِ السُّجُودِ، كما ذكرنا في الرُّكوعِ. فصل: وإن زاد دُعاءً مأثورًا، أو ذِكْرًا، مِثْلَ ما رُوى عن عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقُولُ في رُكُوعِه، وسُجُودِه: «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِر لِي». مُتفقٌ عليه (¬2). وعن أبي سعيدٍ (¬3)، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَا مُعاذُ، إذَا وَضَعْتَ وَجْهَكَ سَاجِدًا، فقُلْ: اللهُمُّ أعِنى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْركَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ» (¬4). وقال ¬

(¬1) حديث عقبة بن عامر وحديث ابن مسعود تقدم تخريجهما في صفحة 481. وحديث حذيفة أخرجه أبو داود، في: باب تفريع أبواب الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 201. وابن ماجه، في: باب التسبيح في الركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 287. كما أخرجه مسلم مطولًا، في: باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 537. والتِّرمذيّ، في باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 66، 63. والنَّسائيّ، في: باب الذكر في الركوع، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 149. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 382، 384، 389، 394، 397، 398، 400. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الدعاء في الركوع، وكتاب التسبيح والدعاء في السجود، من كتاب الأذان، وفي: باب حَدَّثني مُحَمَّد بن بشار، من كتاب المغازي، وفي: باب حَدَّثني عثمان بن أبي شيبة، من تفسير سورة النصر، من كتاب التفسير. صحيح البُخَارِيّ 1/ 201، 207، 5/ 189، 6/ 220. ومسلم، في: باب ما يقال في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 350. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الدعاء في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 202. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر من الذكر في الركوع، وباب نوع آخر من الدعاء في السجود، وباب نوع آخر منه، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 149، 173، 174. وابن ماجه، في: باب التسبيح في الركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 287. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 35، 43. (¬3) في الأصل: «أبي سويد». (¬4) لم نجده بهذا اللفظ، وسيرد بنحوه في صفحة 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليٌّ (¬1)، عليه السَّلامُ: أَحَبُّ الكَلامِ إلى الله أن يقُولَ العَبْدُ وهو ساجِدٌ: رَبِّ إنّى ظَلَمتُ نَفْسِي، فاغْفِر لِي (¬2). رَواهما سعيدٌ في «سُنَنِه». وعن أبي هُرَيْرَة، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يقُولُ في سُجُودِه: «اللهُمَّ اغْفِر لِي ذَنْبِي كُلهُ؛ دِقهُ وَجِلَّهُ، وَأوّلَهُ وآخِرَهُ، وسِرهُ وَعَلانِيَتَهُ». رَواه مسلم (¬3). فهو حَسَنٌ؛ لِما ذَكَرنا. وقد قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «وَأمَّا السُّجُود فَأكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعاءِ فَقَمِنٌ (¬4) أنْ يُستجابَ لَكمْ» (¬5). حديثٌ صحيحٌ. وقال القاضي: لا تُسْتَحَبُّ الزِّيادَة على «سُبْحانَ رَبِّيَ الأعْلَى» في الفَرْضِ، وفي التطوُّعِ رِوايَتان. قال شيخُنا (¬6): وقد ذَكَرنا هذه الأخْبارَ الصَّحيحَةَ، وسُنةُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أحَقُّ أن تُتبعَ، والأمْرُ بالتَّسْبِيحِ لا ينفى الأمْرَ بغيرِه، كما أنَّ الأمْرَ بالدُّعاءِ لم يَنْفِ الأُمْرَ بالتسْبِيحَ (¬7). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب القول في الركوع، السجود، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 155. (¬3) في: باب ما يقال في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 350. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الدعاء في الركوع، السجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 203. (¬4) أي حقيق وجدير. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 348، 349. وأبو داود، في: باب في الدعاء في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 202. والنَّسائيّ، في: باب تعظيم الرب في الركوع والسجود، وباب الأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 148، 172. والدارمي، في: باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 304. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 219، وأخرجه عن على رضي الله عنه، في: المسند 1/ 115. (¬6) في: المغني 2/ 204. (¬7) في م: «بغيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بأسَ بتَطْويلِ السُّجُودِ للعُذْرِ؛ لِما رُوى أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَرَج وهو حامِلٌ حَسَنًا أو حُسَيْنًا، في إحدَى صَلاتيِ العِشاءِ فوَضعَه، ثمَّ كَبَّرَ للصلاةِ فصَلَّى، فسَجَدَ بينَ ظَهرَى صَلاِته سَجْدَةً أطالَها، فلَمَّا قَضَى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الصلاة، قال النّاسُ: يَا رسول اللهِ، إنَّك سَجَدتَ بينَ ظَهرَى صَلاِتك سَجْدةً أطَلْتَها حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قد حَدَث أمْرٌ، أو أنَّه يُوحَى إليك. قال: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِن ابْنِي ارتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أن أُعجِّلَهُ حَتَّى يَقْضيِ حاجَتَهُ». رواه الإمامُ أحمدُ، والنَّسَائِيّ (¬1)، وهذا لَفْظُه. فصل: ولا بَأْسَ أن يضَعَ مرفَقَيْه على رُكبْتيْه إذا طال (¬2) السجُودُ؛ لِما روَى أبو هُرَيرةَ، قال: شَكا أصحابُ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مَشَقَّةَ السجُودِ عليهم، فقال: «اسْتَعِينُوا بِالركبِ». قال ابنُ عَجْلانَ: هو أن يَضَعَ مِرْفَقَيْه على رُكْبتيْه إذا طال (2) السُّجُودُ وأعْيىَ. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬3). وقال عُمَرُ، رضىَ اللهُ عنه: إنَّ الرُّكَبَ قد سُنَّتْ لكم، فخُذُوا بالرُّكَبِ. رَواه الترمِذِيُّ (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ¬

(¬1) أخرجه النَّسائيّ، في: باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 182. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 494، 6/ 467. (¬2) في م: «أطال». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 207. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 339. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الاعتماد والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 81. (¬4) في: باب ما جاء في وضع اليد على الركبة في الركوع، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 59.

414 - مسألة: (ثم يرفع رأسه مكبرا)

ثُمَّ يَرفَعُ رأسَهُ مُكَبرًا، وَيَجْلِسُ مُفْتَرِشًا، يَفْرِشُ رِجْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 414 - مسألة: (ثمَّ يرفَعُ رأسَه مُكبرًا) يَعْنِي إذا قَضَى [سُجُودَه، رَفَعَ] (¬1) رأسَه مُكبرًا وجَلَس، ويكونُ ابتداء تَكْبِيرِه مع ابتداءِ رفْعِه، وانْتِهاؤُه مع انْتِهائِه. وهذا الرفْعُ والاعْتِدالُ عنه واجبٌ. وهو قَوْل الشافعيِّ. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: ليس بواجِب. بل يَكْفِي عندَ أبي حنيفةَ أن يَرفَعَ رأسَه مِثْلَ حَدّ السَّيفِ؛ لأنَّ هذه جَلْسَةُ فَصل بينَ مُتَشاكِلَيْن، فلم تَكُنْ واجبَةً، كجَلْسَةِ التشَهّدِ الأوَّلِ (¬2). ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للمُسِيءِ في صَلاتِه: «ثُمّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنُّ جالِسًا». متفَقٌ عليه (¬3). ورَوَتْ عائشةُ، قالت: كان، تَعْنِي النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، إذا رَفَع رأسَه مِن السَّجْدَةِ، لم يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِي قاعِدًا. مُتَفَقٌ عليه (¬4). ولأنَّه رَفعٌ واجبٌ، فكان الاعْتِدالُ عنه واجِبًا، كالرفْع مِن السَّجْدَةِ الأخِيرَةِ، والتَّشَهدُ الأولُ واجِبٌ عندَنا في الصَّحِيحِ. 415 - مسألة، قال: «ويَجْلِسُ مُفْتَرِشًا، يَفْرِش (¬5) رِجْلَه ¬

(¬1) في م:. سجود ورفع». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 408. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 426. ولم يخرجه البُخَارِيّ. (¬5) في الأصل: «يجلس».

الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ عَلَيْها، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِر لِي. ثَلَاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ اليُسْرَى (¬1)، ويجْلِس عليها، ويَنْصِبُ اليُمْنَى ويَقُولُ: رَب اغْفِر لِي. ثَلاثًا) السنَةُ أن يَجْلِسَ بينَ السَّجْدَتَيْن مُفْتَرِشًا، يَفْرِشُ رِجْلَه اليُسْرَى فيَبْسُطُها، ويَجْلِس عليها، ويَنْصِبُ رِجْلَه (¬2) اليُمْنَى ويُخْرِجُها مِن تَحتِه، ويَجْعَلُ بُطونَ أصابعِها على الأرضِ مُعْتَمِدًا عليها؛ لتَكُونَ أطْرافُ أصابِعِها إلى القِبْلَةِ؛ لقَوْلَ أبَى حُمَيْدٍ، في صِفَةِ صلاةِ رسولَ اللَهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ثمَّ ثَنَى رِجْلَه اليُسْرَى، وقَعَد عليها، ثمَّ اعْتَدَلَ، حتَّى رَجَعَ كلُّ عَظْم في مَوْضِعِه، ثمَّ هَوَى ساجِدًا (¬3). وفي حديثِ عائشةَ: وكان يَفرِشُ رِجْلَه اليُسرى ويَنْصِبُ اليُمنَى. مُتُّفَقٌ عليه (¬4). قال الأثْرَمُ: تَفَقَّدْتُ أَبا عبدِ الله فرأَيتُه يَفْتَحُ أصابعَ رِجْلِه اليُمْنَى، فيَستقْبِلُ بها القِبْلَةَ. وروَى، بإسْنادِه، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يَزيدَ، قال: كُنا نُعَلَّمُ إذا جَلَسْنا في الصلاةِ أن يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ مِنّا قَدَمَه اليُسْرَى، ويَنْصِبَ قَدَمَه اليُمنَى على صَدرِ قَدَمِه، ¬

(¬1) في تش: «اليمنى». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 426. ولم يخرجه البُخَارِيّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانت إبْهامُ أحَدِنا لتَنْثَنِي، فيُدْخِل يَدَه حتَّى يَعْدِلَها. وعن ابنِ عُمَرَ، قال: مِن سُنةِ الصلاةِ أن يَنْصِبَ القَدَمَ اليُمْنَى، واستِقْبالُه بأصابِعِها القِبْلَةَ (¬1). فصل: والمُسْتَحَبُّ عندَ أبي عبدِ اللهِ أن يقُولَ: رَبِّ اغْفِر لِي. يُكَررُ ذلك، والواجِبُ منه مرَّةٌ، وأدْنَى الكمالَ ثلاثٌ، كقَوْلِنا في التَّسْبِيحِ. وفي وُجُوبِه رِوايَتان، نَذْكُرُهما فيما يأتِي، إن شاء الله. والأصلُ في هذا ما روَى حُذَيْفةُ، أنَّه صَلَّى مع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فكان يقُولُ بين السَّجْدَتَيْن: «رَبِّ اغْفر لي، [رَب اغفِر لِي] (¬2)». رَواه النسائِيُّ وابنُ ماجه (¬3). وإن قال: رَبّ اغْفِر لنا. أو: اللَّهُمَّ اغْفِر لنا. فلا بأس. ¬

(¬1) أخرجه النَّسائيّ، في: باب الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 187. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه النَّسائيّ، في: باب ما يقول في قيامه ذلك، وباب الدعاء بين السجدتين، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 175، 183. وابن ماجه، في باب ما يقول بين السجدتين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 289. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل في ركوعه وسجوده، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 202. والدارمي، في: باب ما يقول بين السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 303، 304.

416 - مسألة: (ثم يسجد الثانية كالأولى)

ثُمَّ يَسْجُدُ الثانِيَةَ كالأولَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 416 - مسألة: (ثمَّ يَسْجُدُ الثّانِيَةَ كالأولَى) وهذه السَّجْدَةُ واجِبَةٌ بالإجْماعِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَسْجُدُ سَجْدَتَيْن، لم يَخْتَلِفْ عنه (¬1) في ذلك. فصل: والمُسْتَحَبُّ أن يكُونَ شُرُوعُ المأمُومِ في أفْعالِ الصلاةِ؛ مِن الرفْع والوَضْع، بعدَ فَراغِ الإمام منه، ويُكْرَهُ فِعْلُه معه في قَوْلِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. واستحَبَّ مالك أن تكُوَنَ أفْعالُه مع أفْعالِ الإمامِ. ولَنا، ما روَى البَراءُ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ». لم نَزَلْ قِيامًا حتَّى نَراه قد وَضَعَ جَبْهَتَه بالأرضِ، ثمَّ نَتْبَعُه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو موسى، قال: خَطَبَنا رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فبَيَّنَ لنا سُنتَّنا، ¬

(¬1) أي أَحَد، أو بالبناء للمجهول. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب متى يسجد من خلف الإمام، وباب السجود على سبعة أعظم، من كتاب الأذان - صحيح البُخَارِيّ 1/ 177، 206. ومسلم، في: باب متابعة الإمام والعمل بعده، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 345. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يؤمر به من المأموم من اتباع الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 145. والتِّرمذيّ، في باب ما جاء في كراهية أن يبادر الإمام بالركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 77، 78. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 300، 304.

417 - مسألة: (ثم يرفع رأسه مكبرا، ويقوم على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه)

ثُمَّ يَرفَعُ رأسَهُ مُكَبرًا، وَيَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَلَّمَنا صَلاتَنا فقال: «إذا صَليْتُمْ فَأقِيمُوا صفُوفَكُمْ، وَليومكُمْ أحَدُكُمْ، فَإذا كَبر فَكَبروا». إلى قَوْلِه: «وَإذا رَكَعَ، فاركَعُوا، فَإنَّ الْإمامَ يركَعُ قَبْلَكُمْ، وَيرفَعُ قَبْلَكُمْ». فقال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَتِلْكَ بِتِلْكَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن أبي هُرَيرةَ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنّه قال: «إنما جُعِلَ الإمامُ لُيؤتَم بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فإذا كَبَّرَ فَكبروا، وَإذا رَكَعَ فاركَعُوا». إلى قَوْلِه: «وَإذا سَجَد فاسْجُدُوا». مُتَفَقٌ عليه (¬2). رَتَّبَه عليه بفاءِ التعْقِيبِ، فيَقْتَضِي أن يكُونَ بعدَه، كقَوْلِه: جاء زَيدٌ فعَمْرٌو. أي بَعْدَه. فإن وافَقَ إمامَه في الأفْعالِ، فرَكَعَ وسَجَد معه، أساء، وصحتْ صَلَاتُه. 417 - مسألة: (ثمَّ يَرفعُ رأسَه مُكَبرًا، ويَقُومُ على صُدُورِ قَدمَيْه مُعْتَمِدًا على رُكْبَتَيْه) وجُمْلَتُه أنَّه إذا قَضَى السجْدَة الثانِيَةَ نَهَضَ للقِيامِ ¬

(¬1) في: باب التشهد في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 303، 304. كما أخرجه أبو داود، في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 223. والنَّسائيّ، في: باب مبادرة الإمام، من كتاب الإمامة، وفي: باب قوله: ربنا ولك الحمد، وباب نوع آخر من التشهد، من كتاب التطبيق، وفي: باب نوع آخر من التشهد، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 75، 76، 154، 192، 3/ 36. والدارمي، في: باب القول بعد رفع الرأس من الركوع، وباب صفة صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 300، 301، 315، 316. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 409، 415. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 416.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُكَبرًا، والقِيامُ رُكْنٌ، وفي وُجُوبِ التَّكبِيرِ رِوايَتان، ذَكَرنا وَجْهَهما. ويَنْهَضُ على صُدُورِ قَدَمَيْه، مُعْتَمِدًا على رُكْبَتَيْه، ولا يَعْتَمِدُ على الأرضِ بيَدَيْه. قال القاضي: لا يَخْتَلِفُ قَوْلُه أنَّه لا يَعْتَمِدُ على الأرضِ، سَواءٌ قُلْنا: يَجْلِسُ للاسْتِراحَةِ أوْ لا. وقال مالكٌ والشافعيُّ: السُّنةُ أن يَعْتَمِدَ على يَدَيْه في النُّهُوضِ؛ لأنَّ مالكَ بنَ الحُوَيْرِثِ قال، في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: أنَّه لَمّا رَفَع رأسه مِن السَّجْدَةِ الثّانِيَةِ، اسْتَوَى قاعِدًا، ثمَّ اعْتَمَدَ على الأرضِ. رَواه النسائِيُّ (¬1). ولأنَّه أعْوَنُ للمُصَلِّي. ولَنا، ما روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: رَأيتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَجَد وَضَع رُكْبَتَيْه [قبلَ يَدَيْه، وإذا نَهَض رَفَع يَدَيْه قبلَ رُكْبَتَيْه. رَواه النَّسائِيُّ (¬2)، والأثْرَمُ. وفي لَفْظٍ: وإذا نَهَض، نَهَض على رُكْبَتَيه] (¬3)، واعْتَمَدَ على ¬

(¬1) في: باب الاعتماد على الأرض عند النهوض، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 186. (¬2) في: باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، وباب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 163، 186. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في رفع الركبتين قبل اليدين في السجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 69. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَخِذَيْه. وعن ابنِ عُمَرَ، قال: نَهَى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يعْتَمِدَ الرجلُ على يَدَيْه إذا نَهض في الصلاةِ. رَواهما أبو داودَ (¬1). وقال على، رَضِيَ اللهُ عنه: إن مِن السُّنةِ في الصلاةِ المَكْتُوبَةِ، إذا نَهَض الرجلُ في الركْعَتَيْن الأولَيَيْن، أن لا يَعْتمِدَ بيَدَيْه على الأرضِ، إلَّا أن يكُونَ شَيْخًا كبيرًا لا يَسْتَطِيعُ. رَواه الأثْرَمُ. ولأنه أشَقُّ فكان أفْضَلَ، كالتَّجافِي. وحديثُ مالكٌ مَحمُولٌ على أنَّه كان مِن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لمَشَقَةِ القِيامِ عليه (¬2)؛ لكبَرِه، فإنَّه قال، عليه السلامُ: «إنِّي قَدْ بَدَّنْتُ (¬3)، فَلا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلا بِالسُّجُودِ» (¬4). ¬

(¬1) الأول، في: باب افتتاح الصلاة، والثاني، في: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 170، 227. (¬2) سقط من: م. (¬3) قيل بالتشديد، أي كبرت. وأما بالتخفيف مع ضم الدال فلا يناسب لكونه من البدانة، بمعنى كثرة اللحم. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب ما يؤمر به المأموم من الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 145. وابن ماجه، في: باب النَّبِيّ أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن أبي ماجه 1/ 309 والدارمي، في: باب النهي عن مبادرة الأئمة بالركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 301، 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 92، 98.

418 - مسألة: (إلا أن يشق عليه فيعتمد بالأرض)

إلَّا أنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، فيَعْتَمِدَ بِالْأَرضِ. وَعَنْهُ، يَجْلِسُ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ عَلَى قَدَمَيْهِ وأَليَتَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 418 - مسألة: (إلَّا أن يشقَّ عليه فيَعْتَمدَ بالأرضِ) يَعْنِي إذا شَقَّ عليه النهُوضُ على الصحفَةِ المَذْكُورَةِ، فلا بأسَ باعْتِمادِه على الأرضِ بيَدَيْه. لا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ في هذا. وقد دَلَّ عليه حَدِيثُ مالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ، وقولُ عليّ، رَضِيَ اللهُ عنه: إلَّا أن يكُونَ شَيْخًا كبيرًا. والمَشَقةُ تكونُ لكبرٍ، أو ضَعْفٍ (¬1)، [أو مَرَض] (¬2)، أو سِمَن أو نَحوِه. 419 - مسألة: (وعنه، أنَّه يَجْلِسُ جَلْسَةِ الاستِراحَةِ على قَدَمَيْه وألْيَتَيْه) اخْتَلَفَتِ الروايَةُ عن أحمدَ في جلْسَةَ الاسْتِراحَةِ، فرُوِيَ عنه، لا يَجْلِسُ. اخْتارَه الخِرَقِيُّ. ورُوِي ذلك عن عُمَرَ، وعلى، وابنِ عُمَرَ، ¬

(¬1) في تش: «صغر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ وأصحابُ الرأيِ. قال أحمدُ: أكْثَرُ الأحادِيثِ على هذا. قال الترمِذِيُّ: وعليه العَمَلُ عندَ أهلِ العلمَ. قال أبو الزنادِ: تلك السُّنةُ. والثَّانِيَةُ، أنَّه يَجْلِسُ. اخْتارَها الخَلَّالُ. وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشافعيّ. قال الخَلّالُ: رَجع أبو عبدِ اللهِ عن قَوْلِه بتَركِ الجُلُوس. لِما روَى مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَجْلِسُ، إذا رَفَع رأسَه مِن السُّجُودِ، قبلَ أن يَنْهَضَ. مُتفَق عليه (¬1). وذكره أبو حُمَيْدٍ في صِفةِ صلاةِ رسولَ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬2)، وهو حديثٌ صحيحٌ، فيَتَعَيَّنُ العَمَلُ به. وقِيلَ: إن كان المُصَلِّي ضَعِيفًا، جَلَس للاسْتِراحَةِ؛ لحاجَتِه، وإن كان قَوِيًّا لم يَجْلِسْ، كما قُلْنا في الاعْتِمادِ بيَدَيْه على الأرضِ. وحُمِل جُلوسُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على أنَّه كان في آخِرِ عُمُرِه، عندَ كِبَرِه. قال شيخُنا (¬3): وفي هذا جَمْعٌ بينَ الأخْبارِ، وتَوَسُّطٌ بينَ ¬

(¬1) الحديث لم نجده في مسلم. وأخرجه البُخَارِيّ، في: باب من صلى بالنَّاس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وسننه، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 172. كما أخرجه أبو داود، في: باب النهوض في الفرض، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 194. والنَّسائيّ، في: باب الاستواء للجلوس عند الرفع بين السجدتين، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 185، 186. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬3) في: المغني 2/ 213.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَوْلَيْن. فإذا قُلْنا. يَجْلِسُ فإَّنه يَجْلِسُ: مُفْتَرِشًا، كالجُلُوس بينَ السَّجْدَتَيْن، وهو مَذْهَبُ الشافعيَّ؛ لقَوْلِ أبي حُمَيْدٍ في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ثمَّ ثَنَى رِجْلَه، وقَعَد عليها (¬1)، واعْتَدَلَ حتَّى رَجَع كلُّ عُضْو في مَوْضِعِه، ثمَّ نهَض. وهذا صَرِيحٌ، لا يَنْبَغِي العُدُولُ عنه. وقال الخَلالُ: روَى عن أحمدَ من لا أُحصِيه كَثرةً، أنَّه يَجْلِسُ على ألْيَتَيْه. قال القاضي: يَجْلِس على قَدَمَيْه وألْيَتَيْه، مُفْضِيًا بهما إلى الأرض؛ لأنه لو جَلَس مُفْتَرِشًا، لم يأمنِ السَهْوَ، فيَشكَّ هل جَلَس عن السَّجْدَةِ الأولَى أو الثانِيَةِ؛ وقال أبو الحسنِ الآمِدِي: لا يَخْتَلِفُ أصحابُنا، أنَّه لا يُلْصِقُ ألْيَتَيْه بالأرضِ في جَلْسَةِ الاسْتِراحَةِ، بل يَجْلِسُ مُعَلقًا عن الأرضِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يكُونَ ابْتداءُ تَكْبِيرِه مع ابْتداءِ رَفْع رأسِه مِن السُّجُودِ، وانْتِهاؤُه عندَ اعْتِدالِه قائِمًا؛ ليكُونَ مُسْتَوْعِبًا بالتكْبِيرِ جَمِيعَ الرُّكن، وعلى هذا بَقِيَّةُ التكبيراتِ، إلَّا مَن جَلَس جَلْسَةَ الاسْتِراحَةِ، فإنَّه يَنْتَهِي تكبِيرُه عندَ انْتِهاءِ جُلُوسِه، ثمَّ يَنْهَضُ بغيرِ تَكبِير. وقال أبو الخَطّابِ: يَنْهَضُ مُكبرًا. ولا يَصِحُّ؛ فإنَّه يُفْضِي إلى المُوالاةِ بينَ تَكبِيرتَيْن في رُكْن واحِدٍ، لم يَردِ الشرعُ بجَمْعِهما فيه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م.

420 - مسألة: (ثم ينهض، ثم يصلى الثانية كذلك، إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح، وفي الاستعاذة روايتان)

ثُمَّ يَنْهَضُ. ثُمَّ يُصَلى الثانِيَةَ كَذَلِكَ، إلَّا في تَكْبِيرَةِ الْإحرامَ والِاسْتِفتاحِ، وَفِي الِاسْتِعاذَةِ رِوايَتانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 420 - مسألة: (ثمَّ يَنْهَضُ، ثمَّ يُصَلى الثَّانِيَةَ كذلك، إلَّا في تَكْبيرَةِ الإحرام والاسْتِفْتاحِ، وفي الاسْتِعاذَةِ رِوايَتان) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يصنَعُ في الركْعَةِ الثانِيَةِ، كما صَنَع في الأولَى، على ما وَصفْنا؛ لأن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وصَف الركْعَةَ الأولَى للمُسئِ في صلاته، ثمَّ قال: «افْعَلْ ذَلِكَ في صلَاتك كُلها» (¬1). وهذا لا نَعْلم فيه خِلافًا، إلَّا أن الثّانِيَةَ تَنْقُصُ النِّيَّةَ وتَكْبِيرةَ الإحرام والاسْتِفْتاحَ؛ لأن ذلك يُرادُ لافْتِتاحَ الصلاةِ، ولا نَعْلَمُ في تَركِ هذه الأمُورِ الثَلَاثة خِلافًا، فيما عدا الرَّكْعَةَ الأولَى. فأمّا الاستِعاذَة، ففيها روايَتان؛ إحْداهما، تخْتَصُّ الركْعَة الأولَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والحسنِ، والثوْرِي؛ لِما روَى أبو هُرَيرةَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا نَهَض مِن الركْعَةِ الثانِيَةِ اسْتَفْتَحَ القِراءَةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولم يَسْكُتْ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه لم يَكُنْ يَسْتَعِيذُ. رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّ الصلاةَ جُمْلَة واحِدَةٌ، فالقِراءَةُ فيها كلها كالقراءةِ الواحِدَةِ، ولذلك اعْتَبرنا الترتِيبَ في القِراءَةِ في الرَّكْعَتَيْن، أشبهَ ما لو سَجَد للتلاوَةِ في أثْناءِ قِراءَتِه (¬2) فمتى أتَى بالاستِعاذَةِ في أوَّلِها كَفَى ذلك، كالاسْتِفْتاحِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، إذا تَرَك الاستِعاذةَ في الأولَى؛ لنِسْيانٍ ¬

(¬1) في: باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام، القراءة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 419. (¬2) في م: «صلاته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو غيرِه، أتَى بها في الثانِيَةِ، والاسْتِفْتاحُ بخِلافِ ذلك. نَصَّ عليه؛ لأنّه يُرادُ لافْتِتاحِ الصلاةِ، فإذا نَسِيَه في أوَّلِها، فات مَحَله، والاسْتِعاذَةُ للِقراءَةِ، وهو يَسْتَفْتِحها في الثّانِيةِ. والروايَة الثانيةُ، يَسْتَعِيذُ في كلّ رَكْعَةٍ. وهو قول ابنِ سِيرينَ، والشافعي؛ لقَوْلِه سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). فيَقْتَضِي ذلك تَكْرِيرَ الاسْتِعاذَةِ عندَ تَكْرِيرِ القِراءَةِ، ولأَنّها مَشْرُوعَة للقراءَةِ فَتتَكَرَّرُ بتَكرِيرِها، كما لو كانت في صَلَاتيْن. فصل: والمَسْبُوقُ إذا أدرَكَ الإمامَ فيما بعدَ الرَّكْعَةِ الأولَى لم يَسْتفتحْ، وأمّا الاسْتِعاذَةُ، فإن قُلْنا: تَخْتَصُّ بالركْعَةِ الأولى. لم يَسْتَعِذْ؛ لأنَّ ما يُدرِكُه المأمُومُ مع الإمامِ آخِرُ صَلاِته، فإذا قام للقَضاءِ اسْتَفْتَحَ واسْتَعاذَ. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن قُلْنا بالرِّوايَةِ الثَّانية، اسْتَعاذَ، وإذا أَرادَ المأمُومُ القِراءَةَ، اسْتَعاذَ؛ لقوْلِ الله تِعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. ¬

(¬1) سورة النحل 98.

421 - مسألة: (ثم يجلس مفترشا، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يقبض منها الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة في تشهده مرارا، ويبسط اليسرى على فخذه اليسرى)

ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا، وَيَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى؛ يَقْبِضُ مِنْها الْخِنْصِرَ والْبِنْصِرَ، وَيُحَلِّقُ الإبهامَ مَعَ الْوُسْطَى، وَيُشِيرُ بِالسبابَةِ في تَشَهُّدِهِ مِرارًا، وَيَبْسُطُ الْيُسْرَى عَلَى الْفَخِذِ الْيُسرى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 421 - مسألة: (ثمَّ يجْلِسُ مُفْتَرِشًا، ويَضَعُ يَدَه اليُمْنَى علَى فَخِذِه اليُمْنَى، يَقْبضُ منها الخِنْصِرَ والبِنْصِرَ، ويُحَلقُ الإبهامَ مع الوُسْطَى، ويُشِير بالسبابَةِ في تَشَهُدِه مِرارًا، ويَبْسُطُ اليُسْرَى على فَخِذِه اليُسرى) متى فَرَغ مِن الركْعَتَيْن، جَلَس للتشَهُّدِ، وهذا الجُلوسُ والتَّشهُّدُ فيه مشرُوعان بغيرِ خِلافٍ، نَقَلَه الخلفُ عن السّلَفِ، عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نقْلًا مُتَواتِرًا، فإن كانتِ الصلاةُ أكثر مِن رَكْعَتَيْن فهما واجِبان فيها، على إحْدَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوايَتَيْن. وسيأتي ذِكْرُه، إن شاء اللهُ تعالى. وصِفَةُ الجُلُوس لهذا التشهدِ كصِفَةِ الجُلُوسِ بينَ السجْدَتَيْن مُفْتَرشًا، كما وَصفْنا. وسَواءٌ كان آخِرَ صَلاِته أو لم يَكُنْ. وبهذا قال الثوْرِيُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرأيِ. وقال مالكٌ: يكُونُ متُوَركًا على كل حالٍ، لِما روَى ابنُ مسعودٍ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَجْلِسُ في وَسَطِ الصلاةِ وفي آخِرِها متوركًا (¬1). وقال الشافعيُّ، إن كان مُتَوَسطًا، كقَوْلنا، وإن كان آخِرَ صَلاِته، كقَوْلِ مالكٍ. ولَنا، حديثُ أبي حُمَيْدٍ (¬2)، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- جَلَس، يَعْنِي للتشَهُّدِ، فافترَشَ (¬3) رِجْلَه اليُسرى، وأقْبَلَ بصَدرِ اليُمْنَى على قِبْلَتِه. وفي لَفْظٍ: فإذا جَلَس في الركْعَتَيْن، جَلَس على اليُسرى ونَصَب الأخْرَى. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 459. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 400. (¬3) في تش: «ففرش».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ صحيحٌ. وهذا يُقَدَّمُ على حديثِ ابنِ مسعودٍ؛ فإنَّ أَبا حُمَيْدٍ ذَكَر حَدِيثَه في عَشَرَةٍ مِن الصَّحابَةِ فصَدّقُوه، وهو مُتَأخر عن ابنِ مسعودٍ، وإنما يُؤْخَذُ بالآخِرِ فالآخِرِ، ولأنَّ أَبا حُمَيْدٍ قد بَينَ في حديثه الفَرقَ بينَ التَّشَهُّدَيْن، والأخْذُ بالزيادَةِ واجِبٌ. ويُسْتَحَب أن يَضَعَ يَدَه اليُمْنَى على الفَخِذِ اليُمْنَى، ويَبْسُطَ اليُسْرَى على الفَخِذِ اليسْرَى، مَضْمُومَةَ الأصابعِ، مُستقْبلًا بأطْرافِ أصابِعِها القِبْلَةَ كما ذَكَرنا؛ لِما روَى وائلُ بنُ حُجْر، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَضَع مِرفَقَه الأيمَنَ على فَخِذِه اليُمْنَى، ثمَّ عَقَد مِن أصابِعِه الخِنْصِرَ والتي تَلِيها، وحَلَّقَ حَلْقَة بإصبِعِه الوُسْطى على الإبهامِ، ورَفَع السبابَةَ يُشيرُ بها (¬1). قال أبو الحسنِ الآمِدِيُّ: ورُوي عن أبي عبدِ الله، أنَّه يَجْمَعُ أصابِعَه الثلاثَ، ويَعْقِدُ الإبهامَ كعَقْدِ الخَمْسِين؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَضَع يَدَه اليُمْنَى على رُكْبَتِه اليُمْنَى، وعَقَد ثَلَاثًا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين للصلاة، وباب كيف الجلوس في التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 167، 219. التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء كيف الجلوس في التشهد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 21/ 78. والنَّسائيّ، في: باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، من كتاب افتتاح الصلاة، وفي: باب موضع الذراعين، وباب موضع المرفقين، وباب قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى. . . . إلخ، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 97، 98، 3/ 30، 31، 32. وابن ماجه، في: باب الإشارة في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 295. والدارمي، في، باب صفة صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 314، 315. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 316، 317، 318.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخَمسِين، وأشارَ بالسبابَةِ. رَواه مسلمٌ (¬1). وفي حديثِ وائِلِ بنِ حُجْرٍ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَضَع يَدَه [اليُسْرَى على فَخِذِه اليُسرى] (¬2). ويشيرُ بالسبابَةِ عندَ ذِكْرِ اللَهِ تعالى ولا يُحَركُها؛ لِما روَى ابنُ الزُّبير، أنَّ النبيَّ ¬

(¬1) في: باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 408. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ بنحوه، في: باب ما جاء في الإشارة في التشهد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 87. والنَّسائيّ، في: باب في بسط اليسرى على الركبة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 32. وابن ماجه، في: باب الإشارة في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 295. (¬2) في تش: «اليمنى على فخذه اليمنى».

422 - مسألة: (ثم يتشهد فيقول: التحيات لله، والصلوات

ثُمَّ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: التَّحِياتُ لِلهِ والصَلَواتُ والطيباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّها النّبيُّ وَرَحمَةُ اللَهِ وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبادِ اللهِ الصالِحِينَ، أَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُشِيرُ بإصبَعِه ولا يُحَرِّكُها. رَواه أبو داودَ (¬1). وفي لَفْظٍ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قَعَد يَدعُو، وَضَع يَدَه اليُمْنَى على فَخِذِه اليُمْنَى، ويَدَه اليُسرى على فَخِذِه اليُسْرَى، وأشارَ بإصبَعِه (¬2). وعنه، أنَّه يَبْسُطُ الخِنْصِرَ والبنْصِرَ [كذلك. والأولُ] (¬3) أوْلَى؛ لِما ذَكرنا مِن الأحادِيثِ. وتكُونُ إشارَتُه بالسبابَةِ عندَ ذِكْر اللهِ تعالى. 422 - مسألة: (ثمَّ يَتَشَهَّدُ فيَقُولُ: التَّحِياتُ للهِ، والصَلَواتُ ¬

(¬1) في: باب الإشارة في التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 227. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفيه وضع اليدين على الفخذين، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 408. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 3. (¬3) في م: «لذلك فالأول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والطيباتُ، السَّلامُ عليك أيُّها النَّبِيّ ورَحمَةُ الله وِبَرَكاتُه، السلامُ علينا وعلى عِبادِ الله الصالِحِين، أشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورَسُولُه) هذا التشهُّدُ هو المُختارُ عندَ إمامِنا، رَحِمَه اللهَ، وعليه أكثَرُ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ومَن بَعْدَهم مِن التابِعِين. [حَكاه الترمِذِي] (¬1). منهم الثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرأيِ، وكثِيرٌ مِن أهلِ المَشْرِقِ. وقال مالكٌ: أفْضَلُ التَّشَهُّدِ تَشَهُّدُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه: التحِيّاتُ للهِ، الزّاكِياتُ للهِ، [الصلَواتُ الطيباتُ لله] (¬2)، السَّلامُ عليك أيُّها النَّبِيّ ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُه (¬3). وسائِرُه كتَشَهُّدِ ابنِ مسعودٍ؛ لأنَّ عُمَرَ قاله على المِنْبَرِ بمَحضَر مِن الصحابَةِ وغيرِهم، فلم يُنْكَر، فكان إجْماعًا. وقال الشافعيُّ: أفْضَلُه ما روَى [ابنُ عباس] (¬4)، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعلّمُنا التشَهُّدَ كما يُعَلِّمُنا السُّورَةَ مِن القُرآنِ، فكان يقُولُ: «التحِيّاتُ الْمُبارَكاتُ، الصَّلَواتُ الطيباتُ لِلهِ، السَّلامُ عَليْكَ أيُّها النَّبِيُّ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبادِ الله الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». ¬

(¬1) سقط من: م. وانظر عارضة الأحوذى 2/ 84. (¬2) هكذا في الأصل وعند البيهقي. وفي الموطأ: «الطيبات الصلوات لله». وفي لفظ البيهقي: «الطيبات لله، الصلوات لله». وفي م: «الصلوات لله، الطيبات لله». (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب التشهد في الصلاة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 90. والبيهقي، في: باب من قدم كلمتى الشهادة على كلمتى التسليم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 144. (¬4) في م: «عن ابن عباس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مسلمٌ (¬1). وفي لَفْظٍ: «سَلامْ عَلَيْك»، «سَلام علَيْنا». رَواه الترمِذِي (¬2)، وفيه: «وَأشْهَدُ أن مُحَمدًا رَسولُ الله». ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، قال: عَلمَنِي رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- التشَهدَ، كَفِّي بينَ كَفَّيْه، كما يُعَلمُنِي السُّورَةَ مِن القُرآنِ: «التحِياتُ لِلهِ، والصلَوات والطَّيباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيّ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبادِ الله الصّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». وفي لَفْظٍ: «فَإذا صَلَّى أحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِياتُ لِله». وفيه (¬3): «فَإذا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلهِ صالحٍ في السماءِ والأرضِ». وفيه: «فَلْيَتَخَيَّر مِنَ الْمَسْألَةِ ما شاءَ». مُتفَق عليه (¬4) ¬

(¬1) في: باب التشهد في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 302، 303. كما أخرجه أبو داود، في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 224. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في التشهد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 85. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر من التشهد، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 193. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 291. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 292. (¬2) انظر: التخريج السابق. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التشهد في الآخرة، وباب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، من كتاب الأذان، وفي: باب من سمى قومًا أو سلم في الصلاة على غير مواجهة وهو لا يعلم، من كتاب العمل في الصلاة»، في باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، من كتاب الاستئذان، وفي: باب الأخذ باليدين، من كتاب الدعوات، وفي باب قوله تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ}، من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 211، 212، 2/ 79، 8/ 63، 64، 73، 9/ 142. ومسلم، في: باب التشهد في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 301، 302. كما أخرجه أبو داود، في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 221، 222. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في التشهد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 83، 84. والنَّسائيّ، في: باب كيف التشهد الأول، باب نوع آخر من التشهد، من كتاب التطبيق، وفي: باب إيجاب التشهد، وباب كيف التشهد، وباب تخيير الدعاء بعد الصلاة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الترمِذِيُّ (¬1): حديثُ ابنِ مسعودٍ قد رُوِي مِن غيرِ وَجْهٍ، وهو أصَحُّ حَدِيثٍ رُوىَ عن النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في التشَهُّدِ، وعليه أكْثَرُ أهلِ العلمِ. فكان الأخْذُ به أوْلَى. وقد رواه غيرُ (¬2) ابن مسعودٍ، ابنُ عُمَرَ (¬3)، وجابِرٌ، وأبو هُرَيرةَ، وعائشة. فأمّا حديثُ عُمَرَ، فإنَّما هو مِن قَوْلِه، وأكْثَرُ أهلِ العلمِ مِن الصَحابَةِ وغيرِهم على خِلافِه، فكيف يكُون إجْماعًا. على أنَّ الخِلافَ هاهُنا ليس في الإجزاِءِ، إنما الخِلافُ في الأفْضَلِ والأحسَنِ، وتَشَهُّدُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الذي عَلْمَه أصحابَه أوْلَى وأحسَنُ. وحَدِيثُ ابنِ عباس تَفَرُّدَ به، واخْتَلَفَ عنه (¬4) في بَعضِ ألْفاظِه، وحديثُ ابن مسعود أَصَحُّ وأكْثَرُ رُواةً، فكان أوْلَى. فصل: وبأيِّ تشَهُّدٍ تَشَهَّدَ به مِما صَح عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، جاز. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لَمّا عَلَّمَه الصَّحابَةَ مُخْتَلِفًا، دَلَّ على جَوازِ الجَمِيع، كالقِراءاتِ المُخْتلِفَةِ التي اشْتَمَلَ عليها المصحَفُ. قال القاضي: وهذا يَدُلُّ على أنَّه إذا أسْقَطَ لَفْظَة، هي ساقِطَةٌ في بَعض التشَهُّداتِ المَرويَّةِ، صَح تَشهدُه، فعلى هذا، أقَل ما يُجْزِئُ مِن التشَهدِ: ¬

= على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 189، 193، 3/ 34، 35، 43. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة، وفي: باب خطبة النكاح، سنن كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 290، 609 - والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 376، 382، 413، 414، 422، 423، 428، 431، 437، 439، 440، 450، 459، 464. (¬1) عارضة الأحوذى 2/ 84. (¬2) في م: «عن». (¬3) في م: «وابن عمر». (¬4) أي النقل.

423 - مسألة؛ قال: (هذا التشهد الأول)

هَذا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّحِيَّاتُ للهِ، السَّلامُ عليك أيُّها النَّبِيّ ورَحمَة اللهِ، السَّلامُ علينا وعلى عِبادِ الله الصالِحِين، أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا إلله، [وأشْهدُ أن] (¬1) محمدًا عَبْدُه وَرسُولُه، أو: أن محمدًا رسولُ اللهِ. قُلْتُ (¬2): وفي هذا القَوْلِ نَظرٌ؛ فإنَّه (¬3) يَجُوزُ أن يُجْزِئُ بَعْضُها عن بعض على سبِيلِ البَدَلِ، كقَوْلِنا في القِراءاتِ، ولا يَجُوزُ أن يُسْقِطَ ما في بَعْض الأحادِيثِ، إلَّا أن يأتِيَ بما في غيرِه مِن الأحاديثِ. ورُوِيَ عن أحمدَ، في رِوايَةِ أبي داودَ: إذا قال: «وأن مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». ولم يَذْكُر «أشْهَدُ»، أرجُو أن يُجْزِئُهُ. وقال ابنُ حامِدٍ: رأيتُ بَعْضَ أصحابِنا يقُولُ: لو تَرَك واوًا أو حَرفًا، أعادَ الصلاةَ قال شيخُنا (¬4): والأوَّلُ أصحُّ؛ لِما ذَكَرنا. وهو مذهبُ الشَّافعىِّ. 423 - مسألة؛ قال: (هذا التَّشهُّدُ الأوَّلُ) فلا تُسْتَحَبُّ الزِّيادَة على ما ذَكَرنا، ولا تَطْوِيلُه. وهو قولُ النّخَعِي والثَّوْرِي وإسحاقَ. وقال ¬

(¬1) في تش: «وأن». (¬2) في م: «فصل». (¬3) في تش: «في أنَّه». (¬4) في: المغني 2/ 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافعيُّ: لا بأسَ أن يُصلّىَ على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيه. وعن عُمَرَ (¬1): بِسْمِ الله خيْرِ الأسماء (¬2). وقال ابنُ عُمَرَ: زِدتُ فيه: وَحدَه لا شَرِيكَ له. وقد روَى جابِرٌ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يعَلمُنا التشَهد كما يُعَلمُنا السُّورَةَ مِن القُرْآن: «بِسْمِ الله وَباللهِ، التحِياتُ لِلهِ». وباقِيه كتَشَهُّدِ ابنِ مسعود، وبعدَه: «أسْأَل اللهَ الْجَنةَ، وَأعُوذُ بِالله مِنَ النَّار». رَواه النَّسائِيُّ، وابنُ ماجه (¬3). وسَمع ابنُ عباس رجلًا يقُولُ: بسمِ اللهِ. فانتهَرَه (¬4). وهو قَوْلُ مالك، وأهلِ المَدِينَةِ، وابنِ المُنْذِر، والشافعي. وهو الصَّحِيحُ؛ لِما رُوِي، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَجْلِسُ في الركْعَتَيْن الأولَيَيْن، كأَنَّه على الرَّضْفِ حتَّى يَقُومَ. رَواه أبو داودَ (¬5). ¬

(¬1) في م: «ابن عمر». (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب من قدم كلمتى الشهادة على كلمتى التسليم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 143. (¬3) أخرجه النَّسائيّ، في: باب نوع آخر من التشهد، من كتابي التطبيق والسهو. المجتبى 2/ 194، 3/ 37. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 292. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب من استحب أو أباح التسمية قبل التحية، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 143. وعبد الرَّزّاق، في: باب ما يقعد للتشهد، من أبواب القراءة. المصنف 2/ 198. (¬5) في: باب تخفيف القعود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 228. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في مقداد القعود في الركعتين الأوليين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 160، 161. والنَّسائيّ، في: باب التَّخفيف في التشهد الأول، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 194. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 386، 410، 428، 436، 460.

424 - مسألة: (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد،

ثُمَّ يَقُولُ: اللهُم صَلِّ عَلَى مُحمدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والرَّضْفُ: الحِجارَةُ المُحماةُ. يَعْنِي لِما يُخَففُه. ولأنَّ الصحِيحَ في التشهداتِ (¬1) ليس فيه التسميِةُ ولا شيء من هذه الزياداتِ، فيَقتَصِر عليها، ولم تَصِح التسْمِيَةُ عندَ أصحابِ الحديثِ، ولا غيرها مِما وَقَع الخِلافُ فيه، وإن فَعَلَه، جاز؛ لأنَّه ذِكْرٌ. فصل: وإذا أدْرَكَ بعضَ الصلاةِ مع الإمامِ، فجَلَسَ الإمامُ في آخِر صَلاِته، ولم يزدِ المأمُومُ على التّشَهدِ الأولِ، بل يكَرِّرُه. نَصَّ عليه أحمدُ في مَن أدرَكَ مع الإمام رَكْعَتَيْن، قال: يُكَرِّرُ التشهُدَ الأوَّلَ (¬2)، ولا يُصَلِّي على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا يَدعو بشئٍ مما يُدْعَى (¬3) به في التشهُّدِ الأخِيرِ؛ لأنَّ ذلك إنما يكُونُ في التَّشَهدِ الذي يُسَلّمُ عَلِيَه، وليس هذا كذلك. 424 - مسألة: (ثمَّ يقُولُ: اللهُم صَل على مُحَمَّد وعلى آلِ محمدٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «التشهد أن». (¬2) زيادة من: تش. (¬3) في م: «دعا».

كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيد مَجِيدٌ، وَبارِكْ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَما بارَكْتَ عَلَى آلِ إبراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَإنْ شاءَ قَالَ: كَما صَلَيْتَ عَلَى إبْراهِيمَ وَآلِ إبْراهِيمَ، و: كَما بارَكْتَ عَلَى إبْراهِيمَ وآلِ إبْراهِيمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما صَلُّيْتَ على آلِ (¬1) إبراهيمَ، إنّك حَمِيد مَجِيدٌ، وبارِكْ على مُحَمَّد وعلى آل محمدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وإن شاء قال: كما صَليْتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ. و: كما بارَكْتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ) يَعْنِي إذا جَلَس في آخِرِ صَلاِته، تَشَهدَ بالتَّشَهُّدِ الأولِ (1) الذي ذَكرناه. ثمَّ يُصَلى على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كما ذَكَرنا. وفي وجوبِ الصلاةِ على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رِوايَتان؛ أصَحُّهما وُجُوبُها. وهو قول الشَّافعيّ وإسحاقَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، أنَّها سُنَّةٌ. قال المَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: إن (¬1) ابنَ راهُويَه يقُولُ: لو أنَّ رجلًا تَرَك الصلاةَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- في التَّشَهُّد, بَطَلَتْ صَلَاتُه. فقال: ما أجْتَرِئُ أن أقُولَ هذا. وقال في مَوْضِعٍ: هذا شُذُوذٌ. وهو قَوْلُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْيِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هو قولُ جُمُلِ (¬2) أهلِ العلم إلَّا الشافعيَّ. وبه قال ابنُ المُنْذِرِ، قال: لأنِّي لا أجِدُ دَلِيلًا بوُجُوب (¬3) الإِعادَة على مَن تَرَكَها. واحْتَجُّوا بحديثِ ابنِ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، ثم قال: «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا، فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاُتكَ». وفي لَفْظٍ: «فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، فَإنْ شِئْتَ أنْ تَقُومَ فَقُمْ». رَواه أبو داودَ (¬4). وقال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «جل». وجمل، كصُحُف: الجماعة مِنًّا. (¬3) في م: «يوجب». (¬4) في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 221، 222. وتقدم الحديث في صفحة 538.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَشَهَّدَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذِ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ». رَواه مسلمٌ (¬1). أمَرَ بالاسْتِعاذَةِ عَقِيبَ التَّشَهُّدِ مِن غيرِ فَصْلٍ. ولأن الوُجُوبَ مِن الشَّرعِ، ولم يَرِدْ به. ولنا، ما روَى كَعْبُ بن عُجْرَةَ. قال: إنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَرَج علينا, فقُلْنا: يَا رسولَ اللهِ، قد عَلِمْنا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؛ قال: «قُولُوا: اللَّهُم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن فَضالَةَ ¬

(¬1) في: باب ما يستعاذ منه في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 412. كما أخرجه النَّسائيّ، في. باب نوع آخر من التعوذ في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 49. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 477. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، من كتاب الأنبياء، وفي: باب قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، من كتاب التفسير (سورة الأحزاب)، وفي: باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الدعوات. صحيح البُخَارِيّ 4/ 178، 6/ 151، 8/ 95. ومسلم، في: باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعد التشهد، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 305. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعد التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 224. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في صفة الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب الوتر، وفي: باب من سورة الأحزاب، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 2/ 368، 12/ 95. والنَّسائيّ، في، باب نوع آخر من كيفية الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 40. وابن ماجه، في باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 293. والدارمي، في: باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 309. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 341، 243، 344.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عُبَيْدٍ، قال: سَمِع رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رجلًا يَدْعُو في صَلاِته لم يَحْمَدِ (¬1) اللهَ، ولم يُصَلِّ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «عَجِلَ هَذَا». ثم دَعاه، فقال له [أو لغيرِه] (¬2) «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بتَحْمِيدِ (¬3) رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ثمَّ يَدْعُو بَعْدُ (¬4) بِمَا شَاءَ». رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ (¬5). وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن ابنِ مسعودٍ، عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال: «إذَا تَشَهَّدَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْت عَلَى إبْراهِيمَ وَعَلَى آلَ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». رَواه البَيْهَقِيُّ (¬6). فأمّا حديثُ ابنِ مسعودٍ، فقال الدّارَقُطْنِيُّ (¬7): الزِّيادَةُ فيه مِن كلامِ ابنِ مسعودٍ. ¬

(¬1) في م: «يمجد». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بتمجيد». (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب الدعاء، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 341. والتِّرمذيّ، في: باب جامع الدعوات عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 13/ 21. والنَّسائيّ، في: باب التمجيد، الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبي 3/ 38. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 18. (¬6) في: باب وجوب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 379. (¬7) انظر: باب صفة التشهد، ووجوبه واختلاف الروايات فيه، من كتاب الصلاة. سنن الداقطني 1/ 353.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وصِفَة الصلاةِ كما ذَكَرْنا؛ لحديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، وقد رَواه النَّسائِيُّ كذلك، وفيه: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ». [و: «كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ». وفي رِوايةٍ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». و: «كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ] (¬1)، إنكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». قال التِّرمِذِيُّ (¬2): هو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي حديثِ أبي حُمَيْدٍ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أزْوَاجِهِ وَذُرِّيَتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). واللَّفْظُ لمسلمٍ. والأوْلَى الإِتْيانُ بالصلاةِ كما في حديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ المُتَّفَقِ عليه، فإنَّه أَصَحُّ شئٍ رُوِيَ فيها، وعلى أيّ صِفَةٍ أتَى بالصلاةِ عليه مِمّا وَرَد (¬4) في الأخْبارِ، جاز، كقَوْلِنا في التشَهُّدِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: عارضة الأحوذى 2/ 269. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، من كتاب الأنبياء. صحيح البُخَارِيّ 4/ 178. ومسلم, في: باب الصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعد التشهد، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 306. (¬4) في م: «روى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُه أنَّه إذا أخَلَّ بلَفْظٍ ساقِطٍ في بعضِ الأخْبارِ، جاز؛ لأنَّه لو كان واجِبًا لَما أغْفَلَه النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. قال القاضي: ظاهِرُ كلام أحمدَ، أنَّ الصلاةَ واجِبَةٌ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حَسْبُ؛ لأنَّ أَبا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ حَكَى عن أحمدَ، أنَّه قال: كُنْتُ أتَهَيَّبُ ذلك، يَعْنِي القَوْلَ بوُجُوبِ الصلاةِ، ثم تَبَيَّنْتُ، فإذا الصلاةُ واجِبَةٌ. فذَكَرَ الصلاةَ حَسْبُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، ولهم (¬1) في وُجُوبِ الصلاةِ على آلِه وَجْهان. وقال بعضُ أصحابِنا: تَجِبُ الصلاةُ على ما في خَبَرِ كَعْبٍ؛ لأنَّه أمَرَ به، والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ. وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على خِلافِ قَوْلِهم، والنبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إنَّما أمَرَهم بهذا حينَ سَألُوه، ولم يَبْتَدِئهم به. ¬

(¬1) أي الشافعية. انظر المجموع شرح المهذب 3/ 465.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: آلُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أتْباعُه على دِينِه, كما قال تعالى: {آلُ فِرْعَوْنَ} (¬1). يَعْنِي أتْباعَه مِن اُهلِ دِينهِ. وقد جاء عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه سُئِل: مَن آلُ محمدٍ؛ قال: «كُلُّ تَقِيٍّ». أخْرَجَه تَمامٌ في «فَوائِدِه» (¬2). وقِيل: آلُه أهْلُه، الهاءُ مُنْقَلِبَةٌ عن الهَمْزَةِ, كما يُقالُ: أرَقْتُ الماءَ وهَرَقْتُه. فلو قال: على أهْلِ محمدٍ. مَكانَ: آلِ محمدٍ (¬3) أجْزَأهْ عندَ القاضي، وقال: مَعْناهما واحِدٌ، ولذلك لو صُغِّرَ، قِيل: أُهَيْلٌ. قال: ومَعْناهما جَمِيعًا: أهلُ دينهِ. وقال ابنُ حامِدٍ وأبو حَفْصٍ: لا يُجْزِئُ؛ لِما فيه مِن مُخالَفَةِ الأثَرِ، وتَغْيِيرِ المَعْنَى؛ فإنَّ الأهْلَ يُعَبَّرُ به عن القَرابَةِ، والآل عن الأتْباعِ في الدِّينِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سورة القصص 8. (¬2) عزاه السيوطيّ في الجامع الصغير إلى الطَّبْرَانِيّ في الأوسط، ورمز لضعفه بلفظ: «آل مُحَمَّد كل تقى». الجامع الصغير 4. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: في تَفْسِيرِ التَّحِيّاتِ: التَّحِيَّة العَظَمَةُ. قاله ابنُ عباسٍ. والصَّلَواتُ: الصلواتُ الخَمْسُ. والطَّيِّباتُ: الأعْمالُ الصَّالِحَةُ. وقال أبو عَمْرٍو: التَّحِيّاتُ المُلْكُ. وأنْشَدُوا (¬1): ولَكُلُّ ما نال الفَتَى … قد نِلْتُه إلَّا التَّحِيَّهْ وقِيل: التَّحِيّاتُ البَقاءُ. وقال ابنُ الأنْبارِيُّ: التَّحِيّاتُ السَّلامُ، والصَّلَواتُ الرَّحْمَةُ، والطَّيِّباتُ مِن الكَلامِ. فصل: والسُّنَّةُ إخْفاءُ التَّشَهُّدِ، لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. قال عبدُ اللهِ ابنُ مسعودٍ: مِن السُّنَّةِ إخْفاءُ التَّشَهُّدِ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه ذِكْرٌ غيرُ القِراءَةِ لا يَنْتَقِلُ به مِن رُكْنٍ إلى ركنٍ، فاسْتُحِبَّ إخْفاؤُه كالتَّسْبِيحَ. ¬

(¬1) البيت لزهير بن جناب الكلبى، والتحية: الملك. وقال ابن الأنباري والشريف المرتضى: هي البقاء. انظر: اللسان مادة (ح ى ى). وأمالى المرتضى 1/ 242. (¬2) في: باب إخفاء التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 226.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن قَدَر على التَّشَهُّدِ بالعَرَبِيَّةِ والصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَجُزْ بغيرِها، كالتَّكْبِيرِ. فإن عَجَز عن العَرَبِيَّةِ تَشَهَّدَ بلِسانِه، كقَوْلِنا في التَّكْبِيرِ، ويَجِيءُ على قَوْلِ القاضي، أن لا تشَهَّدَ، وحُكمُه حُكْمُ الأخْرَسِ. فإن قَدَر على تَعَلُّمِ التشَهُّدِ والصلاةِ لَزِمَه ذلك، كالقِراءَةِ. فإن صَلَّى قبلَ تَعَلُّمِه مع إمْكانِه، لم تَصِحَّ. فإن خاف فَواتَ الوَقْتِ، أو عَجَز عن تَعلُّمِه، أتَى بما يُمْكِنُه منه، وأجْزَأه للضَّرورَةِ. وإن لم يُحْسِنْ شيئًا منه، سَقَط.

425 - مسألة: (ويستحب أن يتعوذ، فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَوَّذُ فَيَقُولَ: أعُوذُ باللهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: السُّنَّةُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدِ وتَقْدِيمُه على الصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإن نَكَّسَه مِن غير تَغْيِيرِ شئٍ مِن مَعانِيه، ولا إخْلالٍ بشئٍ مِن الواجِبِ فيه، فعلى وَجْهين؛ أحَدُهما، يُجْزِئُه. ذَكَرَه القاضي. وهو قولُ الشافعيِّ، لأنَّ المَقْصُودَ المَعْنَى، وقد حَصَل، أشْبَهَ ما لو رَتَّبَه. والثاني، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه أخَلَّ بالتَّرتِيبِ في ذِكْرٍ وَرَد الشَّرْعُ به، فلم يَصِحُّ، كالأذانِ (¬1). 425 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَتَعَوَّذَ، فيَقُولَ: أعُوذُ باللهِ مِن عَذابِ جَهَنَّمَ، ومِن عَذابِ القَبْرِ، ومِن فِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ، ومِن فِتْنَةِ المَسِيحِ الدّجّالِ) لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَدْعُو: ¬

(¬1) في الأصل: «كالأول».

426 - مسألة: (وإن دعا بما ورد في الأخبار، فلا بأس [الدعاء في الصلاة بما وردت به الأخبار جائز]

وَإِنْ دَعَا بِمَا وَرَدَ فِي الْأَخبَارِ فَلَا بَأْسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولمسلمٍ: «إذَا تَشَهدَ أحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أرْبَعٍ». وذَكَرَه. 426 - مسألة: (وإن دَعا بما ورَد في الأَخْبارِ، فلا بَأْسَ [الدُّعاءُ في الصلاةِ بما وَرَدَتْ به الأخْبارُ جائِزٌ] (¬2). قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: إنَّ هؤلاء يَقولُون: لا يَدْعو في المَكْتُوبَةِ إلَّا بما في القُرْآنِ. فنَفَضَ يدَه كالمُغْضَبِ، وقال: من يَقِفُ على هذا! وقد تَواتَرَتِ الأحادِيثُ عن ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التعوذ من عذاب القبر، من كتاب الجنائز - صحيح البُخَارِيّ 2/ 124. ومسلم، في: باب ما يستعاذ منه في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. صحيح مسلم 1/ 412 - كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول بعد التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 226. والتِّرمذيّ، في: باب الاستعاذة، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 13/ 92. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر من التعوذ في الصلاة, من كتاب السهو، وفي: باب التعوذ من عذاب القبر، من كتاب الجنائز. وفي: باب الاستعاذة من عذاب جهنم وشر المسيح الدجال، وباب الاستعاذة من فتنة المحيا، وباب الاستعاذة من شر فتنة الممات، وباب الاستعاذة من عذاب القبر، وباب الاستعاذة من عذاب الله، وباب الاستعاذة من عذاب النَّار، من كتاب الاستعاذة. المجتبى 3/ 49، 8/ 242 - 245. وابن ماجه، في: باب ما يقال في التشهد والصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 294. والدارمي، في: باب الدعاء بعد التشهد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 310 - , والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 637، 288، 414، 416، 423, 467، 469, 477، 482، 522، 554. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بخِلافِ ما قالوا. قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: إذا جَلَس في الرّابعَةِ، يَدْعُو بعدَ التَّشَهُّدِ بما شاء؟ قال: بما شاء لا أدْرِي، ولكنْ يَدْعُو بما يَعْرِفُ وبما جاء. قُلْتُ: على حديثِ عمرِو بنِ سعدٍ، قال: سمِعْتُ عبدَ اللهِ (¬1) يقُولُ: إذا جَلَس أَحَدُكم في صَلاتِه، ذَكَر التَّشَهُّدَ، ثُم ليَقُلْ: اللَّهُم إنِّي أسْأْلُك مِن الخَيْرِ كلِّه، ما عَلِمْتُ منه وما لم أعْلَمْ، وأعُوذُ بك مِن الشَّرِّ كلَّه، ما عَلِمْتُ منه وما لم أعْلَمْ، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُك مِن خَيْرِ ما سَأَلك عِبادُك الصّالِحُون، وأعُوذُ بك مِن شَرِّ ما عاذ منه عِبادُك الصّالِحُون، رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وقِنا عَذابَ النَّارِ، رَبَّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا، وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا، وتَوَفَّنا مع الأبرارِ، رَبَّنا وآتِنا ما وَعَدْتَنا على رُسُلِك، ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ، إنَّك لا تُخْلِفُ المِيعادَ. رَواه الأثْرَمُ. واخْتارَه أحمدُ. ذَكَرَه القاضي، وقال: لا يُستَحَبُّ للإِمام الزِّيادَةُ على هذا؛ لِئَلَّا يُطِيلَ على المَأْمُومِين. فإن كان مُنْفرِدًا، فلا بَأْسَ بكَثْرةِ الدُّعاءِ، ¬

(¬1) هو: عبد الله بن عمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لم يُخرِجْه إلى السَّهْوِ، فقد روَى أبو داودَ (¬1)، عن عبدِ اللهِ، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعَلِّمُنا التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُنا السُّورَةَ مِن القُرْآنِ. قال: وعَلَّمَنا أن نقُولَ: «اللَّهُمَّ. أصْلِحْ ذَاتَ بَيْننَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أسْمَاعِنَا وَأبْصَارِنَا (¬2) وَقُلُوبِنَا وَأزْوَاجِنَا وَذُرَّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ, قَابِليهَا، وَأتِمَّهَا عَلَيْنَا». وعن أبي بكرٍ الصِّدِّقِ، أنَّه قال للنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: عَلِّمْنِي دُعاءً أدْعُو به في صَلاِتى. قال: «قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِر لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إنَّكَ أَنْتَ الْغفُورُ الرَّحِيمُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن أبي ¬

(¬1) في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 222. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ, في: باب الدعاء قبل السلام، من كتاب الأذان، وفي: باب الدعاء في الصلاة، من كتاب الدعوات، وفي: باب قوله تعالى: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 211، 8/ 89، 9/ 144. ومسلم, في: باب استحباب خفض الصوت بالذكر، من كتاب الذكر. صحيح مسلم 4/ 2078. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب حَدَّثَنَا قتيبة حَدَّثَنَا الليث عن يزيد، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 13/ 53. والنَّسائيّ؛ في: باب نوع آخر من الدعاء، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 45. وابن ماجه، في: باب دعاء رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 2/ 1261. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 4, 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لرجلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ»؟ قال: أتَشَهَّدُ، ثم أسْألُ اللهَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ به مِن النّارِ، أما واللهِ ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ (¬1) ولا دَنْدَنَةَ مُعاذٍ. فقال: «حَوْلَهَا نُدَنْدِن». رَواه أبو داودَ (¬2). وقَوْلُه: (بما وَرَد في الأخْبارِ) يَعْنِي أخْبارَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصحابِه والسَّلَفِ، رَحِمَهم اللهُ، فقد ذَهَب أحمدُ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ في الدُّعاءِ، وهو مَوْقُوفٌ عليه، قال عدُ اللهِ بنُ أحمدَ: سَمِعْتُ أبي يقُولُ في سُجُودِه: اللَّهُمَّ كما صُنْتَ وَجْهِي عن السُّجُودِ لغيرِك، فصُنْ وَجْهِي عن المَسْألَةِ لغيرِك. وقال: كان عبدُ الرحمنِ يقُولُه في سُجُودِه. وقال: سَمِعْتُ الثوْرِيَّ يقُولُه في سُجُودِه. ¬

(¬1) الدندنة: أن يتكلم الرَّجل بالكلام تسمع نغمته ولا يفهم. (¬2) في: باب في تخفيف الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 183. عن بعض أصحاب النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يقال في التشهد والصلاة على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب إقامة الصلاة، وفي: باب الجوامع الدعاء، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 1/ 265، 2/ 1264، عن أبي هريرة. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 474، عن بعض أصحاب النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وعن سليم من بني سلمة في: 5/ 74.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا ما يَقْصِدُ به مَلاذَّ الدُّنْيا وشَهَواتِها، كقَوْلِه: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جارِيَةً حَسْناءَ، وطَعامًا طَيِّبًا، ودارًا قَوْراءَ (¬1)، وبُسْتانًا أنِيقًا. ونَحْوَه، فلا يَجُوزُ الدُّعاءُ به في الصلاةِ. وقال الشافعيُّ: يَدْعُو بما أحَبَّ؛ لقَوْلِه، عليه السَّلامُ، في حديثِ ابنِ مسعودٍ: «ثُمَّ لْيَتَخَيَّر مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ». مُتفَقٌ عليه (¬2). ولمسلم-: «ثُمَّ لْيَتَخَيَّر بَعْدُ مِنَ الْمَسْألَةِ مَا شَاءَ». ولَنا قولُه عليه السَّلامُ: «إن صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ (¬3) فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَام النَّاس، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». رَواه مسلمٌ (¬4). وهَذا مِن كلامِ الآدَمِيِّين، ولأنَّه كلامُ آدَمِيٍّ يَتَخاطَبُ بمِثْلِه، أشْبَهَ رَدَّ السَّلامِ، وتَشْمِيتَ العاطسِ، والخَبَرُ مَحْمُولٌ على اُنه يَتَخَيَّرُ مِن الدُّعاءِ المَأْثُورَ. فصل: فأمّا الدُّعاءُ بما يَتَقَّربُ به إلى الله عِزَّ وجَلَّ، مِمّا ليس بمَأْثُورٍ ولا يقْصِدُ به مَلاذَّ الدُّنْيا، فقال جَماعَةٌ مِن أصحابِنا: لا يَجُوزُ. ويَحْتَمِلُه كلامُ أحمدَ؛ لقَوْله: يَدْعُو بما جاء وبما يَعْرِفُ. وحَكَى عنه ابنُ المُنْذِرِ، أنَّه قال: لا بَأْسَ أن يَدْعُوَ الرجلُ بجَمِيع حَوائِجِه؛ مِن حَوائِجِ دُنْياه ¬

(¬1) قوراء: واسعة. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 538، 539. (¬3) في الأصل: «يصح». (¬4) في: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 381، 382, كما أخرجه أبو داود، في: باب تشميت العاطس في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 213. والنَّسائيّ، في: باب الكلام في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 14. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 447, 448.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وآخِرَتِه. وهذا هو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى، اخْتارَه شيخُنا (¬1)؛ لظواهِرِ الأخْبارِ، فإنَّ في حديثِ أبي هُرَيرةَ: «ثُم يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ» (¬2). وعن أُنَسٍ، قال: جاءتْ أمُّ سُلَيْمٍ إلى النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقالت: يَا رسولَ اللهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أدْعُو به في صَلاتِي. فقال: «احْمَدِي اللهَ عَشْرًا، وَسَبِّحِي اللهَ عشْرًا، ثُمَّ سَلِي الله (¬3) مَا شِئْتِ، يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ». رَواه الأثْرَمُ. وقد قال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أمَّا السُّجُودُ فَأكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاء» (¬4). ولم يُعَيِّنْ لهم ما يَدْعُون به، فيَدُلُّ على أنَّه أباح لهم جَمِيعَ الدُّعاءِ, إلَّا ما خَرَج منه بالدَّلِيلِ في الفَصلِ الذى قَبْلَه، ولأنَّه دُعاءٌ يَتَقَرَّبُ به إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أشْبَهَ الدُّعاءَ المَأْثُورَ. فصل: فأمّا الدُّعاءُ لإِنْسانٍ بعَيْنِه في صَلاِته، ففي جَوازِه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَجُوزُ. قال المَيْمُونِيُّ: سَمِعْتُ أَبا عبدِ الله يِقُولُ لابنِ الشافعيِّ (¬5): أنا أدْعُو لقَوْمٍ مُنْذُ سِنِين في صَلاتِي، أبُوك أحَدُهم. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وأبي الدَّرْداءِ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في قُنُوتِه: «اللَّهُمَّ أنْجِ الْوَلِيدَ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 237. (¬2) أخرجه النَّسائيّ، في: باب نوع آخر، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 49. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 517. (¬5) أبو عثمان مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إدريس، الشَّافعيّ القاضي، المتوفى بالجزيرة بعد سنة أربعين ومائتين. طبقات الشافعية الكبرى 2/ 71 - 74. والخبر في ترجمته فيها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْن هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ» (¬1). ولأنَّه دُعاءٌ لبَعْضِ المُؤمِنِين، أشْبَهَ ما لو قال: ربِّ اغْفِرْ لِي ولوالِدَيَّ. والأُخْرَى، لا يَجُوزُ. كَرِهَه عَطاءٌ والنَّخَعِيُّ؛ لشَبَهِه بكَلامِ الآدَمِيِّين، ولأنَّه دُعاءٌ لمُعَيَّنٍ، أشْبَهَ تَشْمِيتَ العاطِسِ، وقد دَلَّ على المَنْعِ منه حديثُ مُعاوِيَةَ ابنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ (¬2). ويَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ بينَ الدُّعاءِ وتَشْمِيتِ العاطِسِ؛ لأنَّه مُخاطَبَةٌ لإنْسانٍ، لدُخُولِ كاف المُخاطَبِ فيه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب يهوى بالتكبير حين يسجد، من كتاب الأذان، وفي: باب دعاء النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من كتاب الاستسقاء، وفي: باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة؛ من كتاب الجهاد، وفي: باب قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}، من كتاب الأنبياء، وفي باب ليس لك من الأمر شيء، من كتاب التفسير، وفي: باب تسمية الوليد، من كتاب الأدب، وفي: باب الدعاء على المشركين، من كتاب الدعوات. وفي كتاب الإكراه (في الترجمة). صحيح البُخَارِيّ 1/ 203، 2/ 33، 4/ 53، 182، 6/ 48، 8/ 54، 55، 104، 9/ 25. ومسلم، في: باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 466، 468. والنَّسائيّ، في: باب القنوت في صلاة الفجر، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 158. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 394. والدارمي, في: باب القنوت بعبد الركوع، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 374. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 239، 255، 271, 396, 418, 470, 502, 521. (¬2) قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- , إذ عطَس رجلٌ من القوم، فقلتُ: يرحمُك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْل أُمَّياهُ، ما شأْنَكم تنظرون إليّ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصْمِّتوننى لكنِّي سَكتُّ، فلما صلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه فوالله ما كَهَرنِي [ما انتهرني] ولا ضربني ولا شتمنى، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس. . . .» إلخ الحديث، وتقدم في صفحة 557.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: ويُسْتَحَبُّ للإِمامِ تَرْتِيلُ القِراءَةِ والتَّسْبيحِ والتَّشَهُّدِ بقَدْرِ ما يَرَى أنَّ مَن خَلْفَه، مِمَّن يَثْقُلُ على (¬1) لِسانِه، قد أتَى عليه، والتَّمَكنُ في الركُوعِ والسُّجُودِ، حتَّى يَرَى أنَّ الكبيرَ والصَّغِيرَ والثَّقِيلَ قد أتَى عليه. فإن خالَفَ وأتَى بقدْرِ ما عليه، كُرِهَ وأَجْزَأه. ويُكْرَهُ له التَّطْوِيلُ كَثِيرًا؛ لِئَلَّا يَشُقَّ على مَن خَلْفَه. وأمّا المُنْفَرِدُ فله الإِطالَةُ (¬2) في ذلك كلِّه، ما لم يُخْرِجْه إلى حالٍ يَخافُ السهو، وقد رُوِيَ عن عَمّارٍ [رَضىَ الله عنه] (¬3)، أنَّه صَلَّى صلاةً أوْجَزَ فيها، فقِيلَ له في ذلك، فقال: إنِّي أُبادِرُ الوَسْواسَ. ويُسْتَحَبُّ للإمامِ إِذا عَرَض في الصلاةِ عارضٌ لبَعْضِ المَأْمُومِين، يَقْتَضِي خُرُوجَه، أن يُخَفِّفَ؛ لِما رُوِيَ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «إنِّي لَأقُومُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنا أُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا (¬4)، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأتَجَوَّزُ فِيهَا، مَخَافَةَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمِّهِ». رَواه أبو داودَ (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «التطويل». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «فيه». (¬5) في: باب تخيف الصلاة للأمر يحدث، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 182. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 181 وابن ماجه، في: باب الإمام يخفف الصلاة إذا حدث أمر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 316، 317، وانظر: المسند، للإمام أَحْمد 3/ 205.

427 - مسألة: (ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله. وعن يساره كذلك)

ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله. وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 427 - مسألة: (ثم يُسَلِّمُ عن يَمِينهِ: السَّلامُ عليكم ورَحْمَةُ اللهِ. وعن يَسارِه كذلك) التَّسْلِيمُ واجِبٌ في الصلاةِ، لا يَقُومُ غيرُه مَقامَه. وبه قال مالكٌ والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَتَعَيَّنُ السَّلامُ للخُرُوجِ مِن الصلاةِ، بل إذا خَرَج بما يُنافِي الصلاةَ؛ مِن عَمَلٍ، أو حَدَثٍ، أو غيرِ ذلك، جاز. فالسَّلامُ عندَهم مَسْنُونٌ غيرُ واجِبٍ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يُعَلّمْه المُسْيِءَ في صَلاتِه، ولو وَجَب لأمَرَه به؛ لأنَّه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، ولأنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْن غيرُ واجِبَةٍ، كذلك الأخْرَى. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التّسْلِيمُ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه أحَدُ طَرَفيِ الصلاةِ، فكان فيه [نُطْقٌ واجِبٌ] (¬2)، كالأوَّلِ، ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَلَه وداوَم عليه، [وقد قال] (¬3): «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬4). وحَدِيثُ الأعْرابِيِّ (¬5) أجَبْنا عنه. والتَّسْلِيمَةُ الثّانِيَة عندَنا واجِبَةٌ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 407. (¬2) في الأصل: «نطقا واجبًا». (¬3) في م: «فقال». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442. (¬5) أي المسئ في صلاته. وتقدم تخريج حديثه في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَشْرُوعُ أن يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْن عن يَمِينِه ويَسارِه. رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعليٍّ، وعَمّارٍ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وهو مذهبُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأْيِ. وقال [ابنُ عُمَرَ] (¬1)، وأنَسٌ، وسَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ (¬2)، وعائشةُ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وعُمَرُ بن عبدِ العزيزِ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً واحِدَةً. وقال عَمّارُ بنُ أبِي عَمّارٍ (¬3): كان مَسْجِدُ الأنْصارِ يُسَلِّمُون فيه تَسْلِيمَتَيْن، وكان مَسْجِدُ المُهاجِرِين يُسلِّمون فيه تَسْلِيمَةً واحِدَةً. ولِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً واحِدَةً تِلْقاءَ وَجْهِه. وعن سَلَمةَ بنِ الأكْوَعِ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى فسَلَّمَ مَرةً (¬4) واحِدَةً. رَواهما ابنُ ماجه (¬5). ولأنَّ التسْلِيمَةَ ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) أبو مسلم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي, صحابي جليل؛ شهد بيعة الرِّضوان، توفى سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة. طبقات ابن سعد 4/ 2/ 38 - 41، تهذيب التهذيب 4/ 150 - 152. (¬3) أبو عمرو عمار بن أبي عمار، مولي بنى هاشم، تابعي ثِقَة، توفى في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق (105 - 120 هـ). تهذيب التهذيب 7/ 404. (¬4) في م: «تسليمة». (¬5) في: باب من يسلم تسليمة واحدة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 297. كما أخرج التِّرْمِذِيّ حديث عائشة، رضي الله عنها، في: باب منه (ما جاء في التسليم في الصلاة)، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى قد خَرَج بها مِن الصلاةِ، فلم يُشْرَعْ ما بعدَها، كالثّالِثَةِ. ولَنا، ما روَى ابنُ مسعودٍ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُسَلِّمُ حتَّى يُرَى بَياضُ خدِّه، عن يمِيِنِه ويسارِه. وعن جابِرِ بنِ سَمُرَة، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إنَّمَا يَكْفِي أحَدَكمْ أنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وشِمَالِهِ». رَواهما مسلمٌ (¬1). وفي لفظٍ لحديثِ ابنِ مسعودٍ: أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُسَلِّمُ عن يَميِنِه: «السَّلَامُ عَلَيْكمْ وَرَحْمَةُ اللهِ». وعن يَسارِه: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ». قال التِّرمِذِيُّ (¬2): حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وحديثُ عائشةَ يَرْوِيه زُهَيْرُ ابنُ محمدٍ (¬3): [قال البُخارِيُّ] (¬4): يَرْوِي مَناكِيرَ (¬5). وقال أبو حاتِمٍ الرّازِيُّ: هذا حديثٌ مُنْكَرٌ. ويُمْكِنُ حَمْلُ حديثِ عائشةَ، على ¬

(¬1) الأول لم نجده عند مسلم، وأخرجه أبو داود، في: باب السلام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 228. والنَّسائيّ، في: باب التكبير عند الرفع من السجود، من كتاب التطبيق، وفي: باب كيف السلام على اليمين، وباب كيف السلام على الشمال، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 182، 3/ 52، 53. وابن ماجه، في: باب التسليم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 296. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 386، 390، 394، 406، 408, 414، 427، 438، 444، 448، 465. والثاني أخرجه مسلم، في: باب الأمر بالسكون في الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 322. كما أخرجه أبو داود، في الموضوع السابق 1/ 229. والنَّسائيّ، في: باب موضع اليدين عند السلام، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 52. (¬2) في: باب ما جاء في التسليم في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 88. (¬3) أبو المنذر زهير بن مُحَمَّد التَّمِيمِيّ العنبري الخُرَاسَانِيّ. (¬4) سقط من: م. (¬5) لفظ البُخَارِيّ: روى عنه أهل الشَّام أحاديث مناكير. التاريخ الكبير 2/ 1/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه كان يُسْمِعُهم تَسْلِيمَةً واحِدَةً، جَمْعًا بينَ الأحادِيثِ. على أنَّ أحادِيثَنا تَتَضَمَّن الزِّيادَةَ، والزِّيادَةُ مِن الثِّقَةِ مَقْبُولَة. ويَجُوزُ أن يكونَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَل الأمْرَيْن؛ ليُبَيِّنَ الجائِزَ والمَسْنُونَ، ولأنَّ الصلاةَ عِبادَة ذاتُ إحْرامٍ، فشُرِعَ لها تَحَلُّلان، كالحَجِّ. فصل: والتَّسْلِيمَةُ الأُولَى هي الواجِبَةُ، وهي رُكْنٌ مِن أرْكانِ الصلاةِ، والثّانِيَةُ سُنَّةٌ في الصَّحيحِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ من نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ صلاةَ مَن اقْتَصَرَ على تَسْلِيمَةٍ واحِدَةٍ جائِزَةٌ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرى، أنَّها واجِبَةٌ. ذَكَرَها القاضي، وأبو الخَطّابِ، قال القاضي: وهي أَصَحُّ، لحديثِ جابِرِ بنِ سَمُرةَ، ولأنَّها عِبادَةٌ لها تَحَلُّلان، فكانا واجِبَيْن، كتَحَلُّلَيِ الحَجِّ، ولأنَّها إحْدَى التَّسْلِيمتَيْن، أشْبَهَتِ الأُولَى. وعَدَّها أبو الخَطّابِ مِن أرْكانِ الصلاةِ؛ لِما ذَكَرْنا. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. اخْتارَه شيخُنا (¬1)؛ فإنَّه لا يَصِحُّ عن أحمدَ تَصْرِيحٌ بوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْن، إنَّما قال: التَّسْلِيمَتان أَصَحُّ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. فيَجُوزُ أن يَذْهَبَ (¬2) ¬

(¬1) في: المغني 2/ 243. (¬2) في م: «يكون ذهب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه في المَشْرُوعِيَّةِ لا الإيجابِ كغيرِه، وقد دَلَّ عليه قولُه، في رِوايَةِ مُهَنّا. أعْجَبُ إليَّ التَّسْلِيمَتان. لأنَّ عائشةَ، وسَلَمَةَ بنَ الأكْوَعِ، وسَهْلَ بنَ سعدٍ (¬1)، قد رَوَوْا، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً واحِدَةً. وكان المُهاجِرُون يُسَلِّمُون تَسْلِيمَةً واحِدَةً. ففيما ذَكَرْناه جَمْعٌ بينَ الأخْبارِ وأقْوالِ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، في كَوْنِ المَشْروعِ تَسْلِيمَتَيْن، والوْاجِبِ واحِدَةً، وقد دَلِّ على صِحَّةِ ذلك الإجْماعُ الذى حَكاه ابنُ المُنْذِرِ، وحديث جابِرِ بنِ سَمُرَةَ، يَعْنِي في إصابَةِ السُّنَّةِ، بدَلِيلِ أنَّ فيه: «يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ». وليس هو واجِبًا بالاتِّفاقِ، ولأنَّها صلاةٌ، فتُجْزِئُ فيها تَسْلِيمَةٌ واحِدَةٌ، كصلاةِ الجِنازَةِ، والنَّافِلَةِ، فإنَّ الخِلافَ إنَّما هو في المَفْرُوضَةِ، أمَا صلاةُ النّافِلَةِ، والجِنازَةِ، وسُجُودُ التِّلاوَةِ، فلا خِلافَ أَنَّه يَخْرُجُ منها بتَسْلِيمَةٍ واحِدَةٍ. قاله القاضي، ونَصَّ عليه أحمدُ في صلاةِ (¬2) الجِنازَةِ، وسُجُودِ التِّلاوَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريج حديثي عائشة ومسلمة في صفحة 562. وحديث سهل بن سعد أخرجه ابن ماجه، في: باب من يسلم تسليمة واحدة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 297. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 338. (¬2) سقط من: الأصل.

428 - مسألة: (فإن لم يقل: ورحمة الله. لم يجزئه. وقال القاضي: يجزئه. ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة)

فَإِنْ لَمْ يَقُلْ: وَرَحْمَةُ اللهِ. لَمْ يُجْزِئْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحمَدُ فِي صَلَاةِ الجِنَازَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 428 - مسألة: (فإن لم يَقلْ: ورَحْمَةُ اللهِ. لم يُجْزِئْه. وقال القاضي: يُجْزِئُه. ونَصَّ عليه أحمدُ في صلاةِ الجِنازَةِ) وجُمْلَةُ ذلك، أن الأفْضَلَ أن يقولَ: السَّلامُ عليكم ورَحْمَةُ اللهِ. لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ. وقد روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، قال: صَلَّيْتُ مع النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فكانَ يُسَلِّمُ عن يَمِينِه: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ». وعن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شِمالِه: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ». رَواه أبو داودَ (¬1). فإن قال كذلك، فحَسَنٌ، والأوَّلُ أحْسَنُ؛ لكَثْرَةِ رُواتِه، وصِحَّةِ طُرُقِه. فإن قال: السَّلامُ عليكم. حَسْبُ، فقال القاضي: يُجْزِئُه في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ، ونَصَّ عليه في صلاةِ الجِنازَةِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» (¬2). وهذا تَسْلِيمٌ (¬3). وعن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كان يُسَلِّمُ عن يَمِينِه، وعن يَسارِه: السَّلامُ عليكم، السَّلامُ عليكم. رَواه سعيدٌ (¬4). ولأنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ تَكْرِير للثَّناءِ، فلم يَجِبْ، كقولِه: «وبَرَكَاتُه». وقال ابنُ عَقِيلٍ: الأصَحُّ أنَّه لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ الصَّحيحَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه كان يقول: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ». ولأنَّه سَلامٌ في الصلاةِ وَرَد مَقْرُونًا بالرَّحْمَةِ، فلم يَجُزْ بدُونِها، كالسَّلامِ (¬5) على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في التَّشَهُّدِ. ¬

(¬1) في: باب في السلام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 229. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 407. (¬3) في م: «التسليم». (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب الاختيار في أن يسلم تسليمتين، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 178. (¬5) في م: «كالتسليم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَكَّسَ السَّلامَ، فقال: عليكمُ السَّلامُ. لم يُجْزِئْه. وقال القاضي: يُجْزِئُه في وَجْهٍ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لحُصُولِ المَعْنَى منه، وليس هو قُرْآنًا فيُعْتَبَرَ له النَّظْمُ. ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قالَه مُرَتَبًا، وأمَرَ به كذلك، ولأنَّه ذِكْرٌ يُؤْتَى به في أحَدِ طَرَفيِ الصلاةِ، فلم يَجُزْ مُنَكَّسًا، كالتِّكْبِيرِ. فصل: فإن قال: سَلامٌ عليكم. مُنَكَرًا مُنَوَّنًا، ففيه وَجْهان؛ أحَدُّهما، يُجْزِئُه. وهو مذهبُ (¬1) الشافعيِّ؛ لأن السَّلامَ الذى وَرَد في القُرْآنِ أكْثَرُه بغيرِ ألِفٍ ولامٍ، كقَوْلِه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} (¬2). ولأنَّا أجَزْنا التشَهُّدَ بتَشَهُّدِ ابنِ عباسٍ (¬3) وأبي موسى (¬4)، وفيهما: «سَلامٌ عَلَيْكَ» (¬5). والتَّسْلِيمَتان واحِدٌ. والآخَرُ، لا يُجْزِئُه، لأنَّه يُغَيِّرُ صِيغَةَ السَّلامِ الوارِدِ، ويُخِلُّ بحَرْفٍ يَقْتَضِي الاسْتغْراقَ، فلم يَجُزْ, لو أثْبَتَ اللَّامَ في التَّكْبِيرِ. وقال الآمِدِيُّ: لا فَرْقَ بينَ أن يُنَوِّنَ التَّسْلِيمَ أولا يُنَوِّنَه؛ لأنَّ حَذْفَ التَّنْوِينِ لا يُخِل بالمَعْنَى؛ بدَلِيلِ ما لو وَقَف عليه. ¬

(¬1) في م: «قول». (¬2) سورة الرعد 24. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 538. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب التشهد في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 303، 304. وأبو داود، في: باب التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 223. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر من التشهد، من كتاب السهو. المجتبى 2/ 192، 193. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التشهد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 291، 292. (¬5) في الأصل: «عليكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسَنُّ أن يَلْتَفِتَ عن يَمِيِنه في التَّسْلِيمَةِ الأُولَى، وعن يَسارِه في الثانيةِ, كما وَرَدَتِ السُّنَّةُ في حديثِ ابنِ مسعودٍ، وجابرٍ (¬1)، وغيرِهما. قال الإمامُ أحمدُ: ثَبَت عندَنا مِن غيرِ وَجْهٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُسَلِّمُ عن يَمِيِنه وعن يَسارِه حتَّى يُرَى بَياضُ خَدَّيْه. ويكُونُ. التِفاتُه في الثانيةِ أكْثَرَ؛ لِما رُوِيَ عن عَمّارٍ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه كان يُسَلِّمُ عن يَمِينِه حتَّى يُرَى بَياضُ خدِّه الأيْمَنِ، وإذا سَلَّمَ عن يَسارِه حتَّى (¬2) يُرَى بَياضُ خَدِّه الأيْمَنِ والأيْسَرِ. رَواه يَحْيَى بنُ محمدٍ بنِ صاعِدٍ بإسْنادِه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَبْتَدِئُ بقَوْلِه: السَّلامُ عليكم. إلى القِبْلَةِ، ثم يَلْتَفِتُ في يَمِينِه ويَسارِه في قَوْلِه: ورَحْمَةُ اللهِ. لقَوْلِ عائشةَ: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُسَلِّمُ تِلْقاءَ وَجْهِه (¬3). مَعْناه: ابْتِداؤُه بالتَّسْلِيمِ. جَمْعًا بينَ الأحاِديثِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 563. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 562.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: رُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّ التَّسْلِيمَةَ الأُولَى أرْفَعُ مِن الثانيةِ، اخْتارَ هذا أبو بكرٍ الخَلّالُ، وأبو حَفْصٍ العُكبَرِيُّ. وحَمَل أحمدُ حديثَ عائشةَ، أنَّه كان يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً واحِدَةً، على أنَّه كان يَجْهَرُ بواحِدَةٍ، فتُسْمَعُ منه. ذلك؛ لأنَّ الجَهْرَ في غيرِ القِراءَةِ إنَّما كان للإِعْلامِ بالاْنتِقالِ مِن رُكْنٍ إلى غيرِه، وقد حَصَل بالجَهْر بالأُولَى. واخْتارَ ابنُ حامِدٍ الجَهْرَ بالثّانِيةِ وإخْفاءَ الأُولَى؛ لِئَلَّا يُسابِقَه المَأْمُومُ في السَّلام. ويُسْتَحَبُّ حَذْف السّلامِ، لقَوْلِ أبي هُرَيْرَةَ: حَذْفُ السَّلامِ سُنَّةٌ. ورُوِي مَرْفُوعًا. رَواه التِّرمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ صحِيحٌ. قال أبو عبدِ اللهِ: هو أن لا يُطَوِّلَ به صَوْتَه. وقال ابنُ المُبارَكِ: مَعْناه: لا يَمُدُّ مَدًّا. قال إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، والسَّلامُ جَزْمٌ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء أن حذف السلام سنة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 91. كما أخرجه أبو داود، في: باب حذف السلام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 230. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 532.

429 - مسألة: (وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو، جاز. وقال ابن حامد: تبطل صلاته)

وَيَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِن لَمْ يَنْوِ، جَازَ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 429 - مسألة: (ويَنْوِي بسَلامِه الخُرُوجَ مِن الصلاةِ، فإن لم يَنْوِ، جاز. وقال ابنُ حامِدٍ: تَبْطُلُ صَلاتُه) الأوْلَى أن يَنْوِيَ بسَلامِه الخُرُوجَ مِن الصلاةِ، وإن نَوَى مع ذلك السَّلامَ (¬1) على المَلَكَيْن، وعلي مَن خَلْقه، إن كان إمامًا، أو الرَّدَّ على مَن معه إن كان مَأْمُومًا، فلا بَأْسَ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: يَنْوِي بسَلامِه الرَّدَّ على الإمامِ. وقال أَيضًا: يَنْوِي بسَلامِه الخُرُوجَ مِن الصلاةِ، فإن نَوَى المَلكين، ومَن خلْفَه فلا بَأْسَ، ¬

(¬1) في م: «الرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخُرُوجَ مِن الصلاةِ نَخْتارُ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن نَوَى في السلامِ الرَّدَّ على المَلَائِكَةِ، أو غيرِهم مِن النّاس مع نِيَّةِ الخُرُوجِ، فهل تَبْطُلُ صَلاتُه؛ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، تَبْطُلُ؛ لأنَّه نَوَى السَّلامَ على آدَمِيٍّ، أشْبَهَ ما لو سَلَّمَ على مَن لم يُصَلِّ معه. وقال أبو حَفْصٍ بنُ المُسْلِمِ (¬1): يَنْوِي بالتَّسْلِيمَةِ الأُولَى الخُرُوجَ، وبالثّانِيَةِ السَّلامَ على الحَفَظَةِ والمَأَمُومِين، إن كان إمامًا، والرَّدَّ على الإِمام والحَفَظَةِ، إن كان مَأْمُومًا. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حديثِ جابِرِ بنِ سَمُرَةَ: «إنَّمَا يَكْفِي أحَدَكُمْ أنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وفي لفظٍ: أمَرَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن نَرُدَّ على الإمامِ، وأنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنا على بعضٍ. رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّه يُسَنُّ التَّسْلِيمُ على مَن ¬

(¬1) في م: «مسلمة». (¬2) تقدم تخريجه وصفحة 563. (¬3) في: باب الرد على الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 229. وابن ماجه، في: باب رد السلام على الإمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معه، وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. فإن لم يَنْوِ الخُرُوجَ [مِن الصلاةِ] (¬1) ولا شَيْئًا غيرَه، صَحَّ. وقال ابنُ حامِدٍ: لا يَصِحُّ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ، لأنَّه ذِكْرٌ في أحَدِ طَرَفَيِ الصلاةِ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ, كالتَّكْبِيرِ. ولَنا، أنَّه جُزْءٌ مِن أجْزاءِ الصلاةِ، فلم يَحْتَجْ إلى نِيَّةٍ تَخُصُّه، كسائِرِ أجْزائِها، ولأن الصلاةَ عِبادَةٌ، فلم تَحْتَجْ إلى نِيَّةٍ للخُرُوجِ (¬2) منها، كالصومِ، وذلك لأنَّ النِّيَّةَ إذا وُجِدَتْ في أوَّلِ العِبادَةِ انْسَحَبَتْ على سائِرِ (¬3) أجْزائِها، واسْتُغْنِيَ عن ذِكْرِها، وقِياسُ الجُزْءِ الآخِرِ على الأوَّلِ [لا يَصِحُّ] (¬4)؛ لذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الخروج». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «يصح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللهِ تعالى، والدُّعاءُ عَقِيبَ الصلاةِ، والاسْتِغْفارُ, كما وَرَد في الأخْبارِ؛ فروَى المُغِيرَةُ، قال: كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقولُ في دُبُرِ كل صلاةٍ مَكتُوبَةٍ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال ثَوْبانُ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا انْصَرَفَ مِن صَلاِته اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا. وقال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكرَامِ». قال الأوْزاعِيُّ: يقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أسْتَغْفِرُ اللهَ. رَواه مسلمٌ (¬2). وقال أبو هُرَيْرَةَ: جاء الفُقَراءُ (¬3) إلى النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الذكر بعد الصلاة، من كتاب الأذان، وفي: باب الدعاء بعد الصلاة، من كتاب الدعوات، وفي: باب لا مانع لما أعطى الله، من كتاب القدر، وفي: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 214، 90/ 8، 157، 9/ 117، 118. ومسلم، في: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 415. كما أخرجه أبو داود, في: باب ما يقول الرَّجل إذا سلم، من كتاب الوتر. وفي: باب التكبير على كل شرف في المسير, من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 1/ 346، 2/ 79، 80. والنَّسائيّ: باب نوع آخر من القول عند انقضاء الصلاة، وباب كم مرة يقول ذلك، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 59، 60. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 245، 247، 250، 251، 254، 255. (¬2) في: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 414. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل إذا سلم, من كتاب الوتر. سنن أبي داود 7/ 347. والنَّسائيّ، في: باب الاستغفار بعد التسليم، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 58. وابن ماجه، في. باب ما يقال بعد التسليم من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 300. والدارمي، في: باب القول بعد السلام، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 311. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 275، 279، 280. (¬3) في م: «فقراء المهاجرين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالُوا: ذَهَب أهلُ الدُّثُورِ مِن الأمْوالِ بالدَّرَجات العُلَى والنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّون كما نُصَلِّي، ويَصُومُون كما نَصُومُ، ولهم فَضْلٌ مِن أمْوالٍ، يَحُجُّون بها ويَعْتَمِرُون، ويُجاهِدُون، وَيَتَصَدَّقُون. فقال: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهمْ، إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُون وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلاثًا وَثلَاثِينَ» [قال سُمَيٌّ] (¬1) فاخْتَلَفْنا بَيْنَنا. فقال بعضُنا: نُسَبِّحُ ثَلاثًا وثَلاِثين، ونَحْمَدُ ثَلاثًا وثَلاِثِين، ونُكَبِّرُ أرْبعًا وثَلَاثِين. [فرَجَعْتُ إليه، يَعْنِي إلى أبي صالِحٍ] (1)، فقال: يقول: سُبْحانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ واللهُ أكْبَرُ حتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلَّهِنَّ [ثَلاثٌ وثَلاثُون] (¬2). مُتَّفَقٌ عليه (¬3). واللَّفْظُ للبُخارِيِّ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي داودَ: يقُولُ (¬4) هكذا، ولا يَقْطَعُه: سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ لله، [ولا إلهَ إلَّا الله] (¬5)، واللهُ أكْبَرُ. وكان ابنُ الزُّبَيْر يقُولُ في دُبُر كل صلاةٍ: «لَا ¬

(¬1) من سياق مسلم دون البُخَارِيّ. (¬2) في الأصل: «ثلاثًا وثلاثين». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الذكر بعد الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 213. ومسلم، في: باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 416، 417, كما أخرجه أبو داود، في باب التسبيح بالحصى، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 345. والدارمي، في: باب التسبيح في دبر الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 312. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْل وَلَهُ (¬1) الثَّنَاءُ الحَسَنُ (¬2)، لَا إلهَ إلَّا اللهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ». وقال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُهَلِّلُ بهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ. رَواه مسلمٌ (¬3). وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أخَذَ بيَدِه، فقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنْ دُبُرَ كُل صَلَاةٍ تَقَولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬4). وعن أبي ذَرٍّ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ قَالَ في دُبُرِ صَلَاةِ الفَجْرِ، وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكلَّمَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الحسن الجميل». (¬3) في: باب استحباب الذكر بعد الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 415، 416. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل إذا سلم، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 346. والنَّسائيّ، في: باب التهليل بعد التسليم، وباب عدد التهليل والذكر بعد التسليم، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 59. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 4، 5. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الاستغفار، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 349. والنَّسائيّ, في: باب نوع آخر من الدعاء، من كتاب السهو. والمجتبى 3/ 45، 46. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 245, 247.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَه ذَلِكَ كلَّهُ في حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ للذَّنْبِ أنْ يُدْرِكَهُ في ذَلِكَ الْيَوْمِ، إلَّا الشِّرْكَ بِاللهِ». رَواه النسائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. وقال أبو مَعْبدٍ (¬2)، مَوْلى ابنِ عباسٍ: إنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بالذِّكْرِ حينَ يَنْصَرِفُ النّاسُ مِن المكْتُوبَةِ، كان على عَهْدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. قال ابنُ عباسٍ: كنتُ أعْلَمُ إذا انْصَرَفَ النّاسُ بذلك إذا سَمِعْتُه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فصل: رُوِي عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه كان يَقْعُدُ بعدَ صلاةِ الفَجْرِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا (¬4). رَواه مسلمٌ (¬5). فيُسْتَحَبُّ للإِنْسانِ أن يَفعَلَ ذلك، اقْتِداءً برسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب حَدَّثَنَا قتيبة. . . .، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 13/ 19. والنَّسائيّ، في: باب ثواب من قال في دبر صلاة الغداة. . . . إلخ، من كتاب عمل اليوم والليلة. السنن الكبرى 6/ 37. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 415، 6/ 298. (¬2) في الأصل: «أبو سعيد». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الذكر بعد الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 213. ومسلم، في: باب الذكر بعد الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 410. كما أخرجه أبو داود، في: باب التكبير بعد الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 238، 239. والنَّسائيّ، في: باب التكبير بعد تسليم الإمام، من كتاب السهو. المجتبي 3/ 57. (¬4) في م: «حسناء». وحسنا: أي طلوعًا حسنًا، أي مرتفعة. (¬5) في: باب فضل الجلوس في صلاه بعد الصبح وفضل المساجد، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 464. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرَّجل يجلس متربعًا، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 562. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 91، 97, 100 , 101، 105، 107.

430 - مسألة: (وإن كانت الصلاة مغربا، أو رباعية نهض مكبرا إذا فرغ من التشهد الأول، فصلى الثالثة والرابعة مثل الثانية، إلا أنه لا يجهر ولا يقرأ شيئا بعد الفاتحة)

وَإنْ كَانَ فِي مَغْرِبٍ أَوْ رُبَاعِيَّةٍ نَهَضَ مُكَبِّرا، إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَصَلَّى الثَّالِثَةَ والرَّابِعَةَ مِثْلَ الثَّانِيَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ، وَلَا يَقْرَأُ شَيْئًا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 430 - مسألة: (وإن كانَتِ الصلاة مَغْرِبًا، أو رُباعِيَّةً نَهَض مُكَبِّرًا إذا فَرَغ مِن التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، فصَلَّى الثّالِثَةَ والرّابِعَةَ مثلَ الثّانِيَةِ، إلَّا أنَّه لا يجْهَرُ ولا يَقْرَأُ شيئًا بعدَ الفاتِحَةِ) متى فَرَغ مِن التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ نَهَض مُكَبِّرًا، كنُهُوضِه مِن السُّجُودِ، قائِمًا على صُدُورِ قَدَمَيْه مُعْتَمِدًا على رُكْبَتَيْه، ولا يَعْتَمِدُ بالأرْضِ إلَّا أن يَشُقَّ عليه, كما ذَكَرْنا في النُّهُوضِ مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّجُودِ، ولا يُقَدِّم إحْدَى رِجْلَيْه عندَ النُّهوضِ. قاله ابنُ عباسٍ، وكَرِهَه إسحاقُ، ورُوِي عن ابنِ عباسٍ، أنَّه يَقْطَعُ الصلاةَ. ورَخَّصَ فيه مُجاهِدٌ. والأوْلَى تَرْكُه، لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقد كَرِهَه ابنُ عباسٍ، ولا تَبْطُلُ به الصلاةُ؛ لأنَّه عَمَلٌ يَسِيرٌ، ولم يُوجَدْ فيه ما يَقْتَضِي البُطْلانَ. فصل: ويُصَلِّي الثّالِثَةَ والرّابِعَةَ كالثّانِيَةِ (¬1)؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للمُسِيءِ في صَلاتِه، وقد وَصَف له الرَّكْعَةَ الْأولَى: «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صلَاتِكَ كُلِّهَا» (¬2) ولا يَجْهَرُ فيهما. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، وأكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ أنَّه لا تُسَنُّ الزِّيادَةُ على فاتِحَةِ الكِتابِ، في غيرِ الأُولَيَيْن مِن كلِّ صلاةٍ. قال ابنُ سِيرِينَ: لا أعْلَمُهم يَخْتَلِفُون في أنَّه يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْن الأُوليَيْن بفاتِحَةِ الكِتابِ، وسُورَةٍ، وفي الأُخْرَيَيْن بفاتحةِ الكِتابِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وأبي الدَّرْداءِ، وجابِرٍ، وأبي هُرَيْرَةَ، وعائشةَ. وهو قولُ مالكٍ، وأَصحاب الرَّأْيِ، وأحدُ قَوْلَيِ الشافعيِّ، وقال في ¬

(¬1) في الأصل: «مثل الثَّانية». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ: يُسَنُّ أن يَقْرَأَ سُورَةً مع الفاتِحَةِ في الأُخْرَيَيْن؛ لِما روَى الصُّنابِحِيُّ (¬1)، قال: صَلَّيْتُ خلفَ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللهُ عنه، المغربَ (¬2) فدَنَوْتُ منه، حتَّى إنَّ ثِيابِي تَكادُ أن تَمَسَّ ثِيابَه، فقَرَأ في الرَّكْعَةِ الأخِيرَةِ بأُمِّ الكِتابِ، وهذه الآيَةِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (¬3). رواه مالكٌ في «المُوَطَّإِ» (¬4). ولَنا، حديثُ أبي قَتادَةَ، أنَّ النبيَّ، فذكرَ الحديثَ إلى قَوْلِه: وفي الرَّكْعَتَيْن الأُخْرَيَيْن بأُمِّ الكِتَابِ. وكَتَب عُمَرُ إلى شُرَيْحٍ، أنِ اقْرَأْ في الرَّكْعَتَيْن الأُولَيَيْن بأُمِّ الكِتابِ وسورةٍ، وفي الأُخْرَيَيْن بأُمِّ الكِتابِ. وما فَعَلَه أبو بكر قَصَد به الدُّعاءَ لا القِراءَةَ، ولو ¬

(¬1) أبو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عُسَيْلة بن عسل الصُّنَابِحِيَّ، رحل إلى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فوجده قد مات قبله بخمس ليال أو ست، وكان ثِقَة, قيل الحديث، تُوفِّي ما بين السبعين والثمانين. تهذيب التهذيب 6/ 229، 230. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة آل عمران 8. (¬4) في: باب القراءة في المغرب والعشاء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 79.

431 - مسألة: (ثم يجلس في التشهد الثاني متوركا، يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه ويجعل أليتيه على الأرض)

ثُمَّ يَجْلِسُ فِي التَّشَّهُّدِ الثَّانِي مُتُوَرِّكًا؛ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، وَيُخْرِجُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَصَد القراءةَ لكان الاقْتِداءُ بالنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْلَى، مع أنَّ عُمَرَ وغيرَه مِن الصحابةِ قد خالَفُوه. فأمّا إن دَعا الإنسانُ في الرَّكْعَةِ الأخِيرَةِ بآيَةٍ, كما رُوِيَ عن الصِّدِّيقِ، فلا بَأْسَ؛ لأنَّه دُعاءٌ في الصلاةِ، أشْبَهَ دُعاءَ التَّشَهُّدِ. 431 - مسألة: (ثم يَجْلِسُ فِي التَّشَهُّدِ الثّانِي مُتَوَرِّكًا، يَفْرِشُ رِجْلَه اليُسْرَى، ويَنْصِبُ اليُمْنَى، ويُخْرِجُهما عن يَميِنِه ويَجْعَلُ ألْيَتَيْه على الأرْضِ). التَّوَرُّكُ في التَّشَهُّدِ الثّانِي سُنَّةٌ. وبه قال مالكٌ، والشافعِيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ: يَجْلِسُ فيه مُفْتَرِشًا، كالتَّشَهُّدِ الأوَّلِ؛ لِما ذَكَرْنا مِنْ حديثِ وائِلِ [بنِ حُجْرٍ] (¬1)، وأبي حُمَيْدٍ (¬2) في صِفَةِ جُلُوسِ ¬

(¬1) سقط من: م. وتقدم تخريجه في صفحة 534. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. ولَنا، أنَّ في حديثِ أبي حُمْيَدٍ: حتَّى إذا كانتِ الرَّكْعَةُ التى يَقْضِي فيها صلَاتَه، أخَّرَ رِجْلَه اليُسْرَى، وجَلَس مُتَوَرِّكًا على شِقِّه الأيْسَرِ. وهذا بَيانُ الفَرْقِ بينَ التَّشَهُّدَيْن، وزيادَةٌ يَجِبُ الأخْذُ بها والمَصِيرُ إليها، والذى احْتَجُّوا به في التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، ونحن نقولُ به. فأمّا صِفَةُ التَّوَرُّكِ فهو كما ذَكَر. قال الأثْرَمُ: رَأَيْتُ أَبا عبدِ الله يِتَوَرَّكُ في الرابِعَةِ في التَّشَهُّدِ، فيُدْخِلُ رِجْلَه اليُسْرَى، ويُخْرِجُها مِن تحتِ ساقِه الأيْمَنِ، ولا يَقْعُدُ على شئٍ منها، ويَنْصِبُ اليُمْنَى، ويَفْتَحُ أصابِعَه ويُنَحِّي عَجُزَه كله، ويَسْتَقْبِل بأصابعِه اليُمْنَى القِبْلَةَ، ورُكْبَتُه اليُمْنَى على الأرضِ مُلْزَقَةٌ، وهذا قولُ أبي الخَطَّابِ، وأصحابِ الشافعيِّ، فإنَّ أَبا حُمَيْدٍ، قال: فإذا كان في الرّابِعَةِ أفْضَى بوَرِكِه اليُسْرَى إلى الأرضِ، وأخْرَجَ قَدَمَيْه مِن ناحِيَةٍ واحِدَةٍ، رَواه أبو داودَ (¬1). وقال الخِرَقِيُّ والقاضى: يَنْصِبُ رِجْلَه اليُمْنَى، ويَجْعَلُ باطِنَ رِجْلِه اليُسْرَى تحتَ فَخِذِه اليُمْنَى، ويَجْعَلُ ألْيَتَيْه على الأرْضِ؛ لقولِ عبدِ الله بِنِ الزُّبَيْرِ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قَعَد في الصلاةِ جَعَل قَدَمَه اليُسْرَى ¬

(¬1) في: باب افتتاح الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 168، 169.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تحتَ فَخِذهِ وساقِه، وفَرَش قَدَمَه اليُمْنَى. رَواه مسلمٌ (¬1). وفي بعضِ ألْفاظِ حديثِ أبي حُمَيْدٍ نَحْوُ هذا، قال: جَعَل بَطنَ قَدَمِه عندَ مَأْبِضِ (¬2) اليُمْنَى، ونَصَب قدَمَه اليُمْنَى. وأيُّهما فَعَل فحَسَنٌ. فصل: وهذا التَّشَهُّدُ والجُلُوسُ له مِن أرْكانِ الصلاةِ، ومِمَّن قال بوُجُوبِه عُمَرُ، وابنُه، وأبو مسعودٍ البَدْرِيُّ، والحسنُ، والشافعيُّ. ولم يُوجِبْه مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وأوْجَبَ أبو حنيفةَ الجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يُعَلِّمْه الأعْرابِيَّ، فدَلَّ على أنَّه غيرُ واجِبٍ. ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَ به فقالَ: «قُولُوا: التَّحِيَّاتُ للهِ». وفَعَلَه، وداوَمَ عليه. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: كُنّا نقولُ قبلَ أنَّ يُفْرَضَ علينا التَّشَهُّدُ: السَّلامُ على اللهِ قبلَ عِبادِه، السلامُ على جِبْرِيلَ (¬3)، السلامُ على مِيكائِيلَ. فقال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَقولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ للهِ» إلى آخِرِه (¬4). وهذا يَدُلُّ على أنَّه فُرِضَ [بعدَ أنَّ لم يَكُنْ مَفْرُوضًا، وحديثُ الأعْرابِيِّ يحْتَمِلُ أنَّه كان قبلَ فَرْضِ] (¬5) التَّشَهُّدِ، ويَحْتَمِلُ أنَّه تَرَك تَعْلِيمَه؛ لأنَّه لم (¬6) يَتْرُكْه. ¬

(¬1) في: باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 408. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإشارة في التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 227. (¬2) المأبض: بطن الركبة. (¬3) في م: «جبرائيل». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 538. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَتَوَرَّك إلَّا في صلاةٍ فيها تَشَهُّدان في الأخِيرِ منهما. وقال الشافعيُّ: يُسَنُّ التَّوَرُّكُ في كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلِّمُ فيه، وإن لم يَكنْ ثانِيًا، كتَشَهُّدِ الصُّبحِ والجُمُعَةِ، لأنَّه تَشَهُّدٌ يُسَنُّ تَطْوِيلُه، فسُنَّ التَّوَرُّكُ فيه، كالثّانِي. ولَنا (¬1)، حديثُ وائلِ بنِ حُجْرٍ (¬2)، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لمّا جَلَس للتَّشَهُّدِ افْتَرَشَ رِجْلَه اليُسْرَى، ونَصَب رِجْلَه اليُمْنَى. ولم يُفَرِّقْ بينَ ما يُسَلَّمُ فيه ولا ما لا يُسَلَّمُ. وقالت عائشةُ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ في كلِّ رَكْعَتَيْن التَّحِيَّةَ، وكان يَفْرِشُ رِجْلَه اليُسْرَى ويَنْصِبُ اليُمْنَى. رَواه مسلمٌ (¬3). وهذان يَقْضِيان على كُلِّ تَشَهُّدٍ بالافْتِراش، إلَّا ما خَرَج منه بحديثِ أبي حُمَيْدٍ في التَّشَهُّدِ الثّانِي، فيَبْقَى فيما عَدَاه على قَضِيَّةِ الأصْلِ، ولأن هذا ليس بتَشَهُّدٍ ثانٍ، فلا يُتَوَرَّكُ فيه، كالأوَّلِ، وهذا لأنَّ التَّشَهُّدَ الثّانِيَ إنَّما تُوُرِّكَ فيه للفَرْقِ بينَ التَّشَهُّدَيْن، وما ليس فيه تَشَهُّدٌ ثانٍ لا يَحْتاجُ إلى الفَرْقِ، وما ذَكَرُوه مِن المَعْنَى، إن صَحَّ، فيُضَمُّ إليه هذا المَعْنَى الذى ذَكَرْناه، ويُعَلِّلُ بهما، والحُكْمُ إذا عُلِّلَ بمَعْنَيَيْن لم يَتَعَدَّ بدُونِهما. فصل: قِيلَ لأبي عبدِ اللهِ: ما تقولُ في تَشَهُّدِ سُجُودِ السَّهْوِ؟ قال: يُتَوَرَّكُ فيه أَيضًا، هو مِن بَقِيَّةِ الصلاةِ. يَعْنِي إذا كان مِن السَّهْوِ في صلاةٍ ¬

(¬1) في الأصل: «وأما». (¬2) يقدم تخريجه في صفحة 534. (¬3) في: باب ما يجمع صفة الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357، 358. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180، 181. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 194.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُباعِيَّة؛ لأنَّ تَشَهدَها يُتَوَرَّكُ فيه، وهذا تابعٌ له. وقال القاضي: يتوَرَّكُ في كلِّ تَشَهُّدٍ لسُجُودِ السَّهْوِ بعدَ السَّلامِ، في الرُّباعِيَّةِ وغيرِها؛ لأنَّه تَشَهُّدٌ ثانٍ في الصلاةِ يَحتاجُ إلى الفَرْقِ. وقال الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: الرجلُ يُدْرِكُ مع الإمامِ رَكْعَةً، فيَجْلِسُ الإِمامُ في الرّابعَةِ، أيتَوَرَّكُ معه الرجلُ المَسْبُوق في هذه الجَلْسَةِ؟ فقال: إن شاء تَوَرَّكَ. قُلْتُ: فإذا قام يَقْضِي، فيَجْلِسُ (¬1) في الرابعةِ هو (¬2)، فَيَنْبَغِي له أنَّ يَتَوَرَّكَ؟ فقال: نَعَمْ [يَنْبَغِي أن] (¬3) يَتَوَرَّكَ؛ لأنَّها هي (2) الرابِعَةُ، يَتَوَرَّكُ، ويُطِيلُ الجُلُوسَ في التَّشَهُّدِ الأخِير. قال القاضي: قولُه إن شاء تَوَرَّكَ. على سَبِيلِ الجَوازِ؛ لأنَّه (¬4) مَسْنُونٌ. وقد صَرَّحَ بذلك فِي رِوايَةِ مُهَنّا في مَن أدْرَكَ مِن صلاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْن، لا يَتَوَرَّكُ إلَّا في الأخِيرَتَيْن. ويَحْتَمِلُ أنَّ تكونَ هاتان رِوايَتَيْن. ¬

(¬1) في م: «يجلس». (¬2) سقط من: م. (¬3) زيادة من: م. (¬4) في م: «لا أنَّه».

432 - مسألة: (والمرأة كالرجل في ذلك كله، إلا أنها تجمع نفسها في الركوع والسجود، وتجلس متربعة، أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها. وهل يسن لها رفع اليدين؛ على روايتين)

وَالْمَرْأةُ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا أنَّهَا تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوع وَالسُّجُودِ، وَتَجْلِسُ مُتَرَبِّعَةً، أو تَسْدِلُ رِجْلَيْهَا فَتَجْعَلُهُمَا فِي جَانِبِ يَمِيِنهَا. وَهَلْ يُسَنُّ لَهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ؛ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 432 - مسألة: (والمرأةُ كالرجل في ذلك كلِّه، إلَّا أنَّها تَجْمَعُ نَفْسَها في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وتَجْلِسُ مُتَرَبِّعَةً، أوْ تَسْدِلُ رِجْلَيْها فتَجْعَلُهما فِي جانِبِ يَمِينِها. وهل يُسَنُّ لها رَفْعُ اليَدَيْن؛ على رِوايَتَيْن) الأصْلُ أنَّ يَثْبُتَ في حَقِّ المرأةِ مِن [أحكامِ الصلاةِ] (¬1) ما يَثْبُتُ في حَقِّ الرجلِ؛ لشُمُولِ الخِطابِ لهما، غيرَ أنَّها لا يُسَنُّ لها التَّجافِي؛ لأنَّها عَوْرَةٌ، فاسْتُحِبَّ لها جَمْعُ نَفْسِها، ليكونَ أسْتَرَ لها، فإنَّه لا يُؤْمَنُ أنَّ يَبْدُوَ منها شئٌ حالَ التَّجافِي، وكذلك في الافْتِراشِ. قال عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه: إذا صَلَّتِ المرأةُ فَلْتَحْتَفِزْ (¬2)، ولتَضُمَّ فَخِذَيْها. وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَأْمُرُ النِّساءَ أن يَتَرَبَّعْنَ في الصلاةِ. قال أحمدُ: السَّدْلُ أعْجَبُ إليَّ. واخْتارَه الخَلّالُ. ولا يُسَنُّ لها رَفْعُ اليَدَيْن في إحْدَى الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّه في مَعْنَى التَّجافِي. والرِّوايَةُ الأُخْرَى، يُشْرَعُ لها قِياسًا على الرجلِ، ولأنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، رَضىَ اللهُ عنها، كانت تَرْفَعُ يَدَيْها. ¬

(¬1)، في م: «الأحكام». (¬2) احتفز: تضامَّ في سجوده وجلوسه واستوى جالسًا على وركيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أنَّ يُفَرِّجَ بينَ قَدَمَيْه ويُراوِحَ بينَهما إذا طالَ قِيامُه، قال الأثْرمُ: رَأَيْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُفَرِّجُ بينَ قَدَمَيْه، وَرأيْتُه يُراوِحُ بينَهما. رُوِيَ هذا عن عَمْرِو مَيْمُونٍ (¬1)، والحسنِ، وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، عن أبي عُبَيْدَةَ، قال: رَأَى عبدُ الله رجلًا يُصَلِّي صافًّا بين قَدَمَيْه، فقال: لو راوَحَ هذا بينَ قَدَمَيْه كان أفْضَلَ. ورَواه النَّسائِيُّ (¬2)، وفيه قال: أخْطَأَ السُّنَةَ (¬3)، لو راوَحَ بينَهما كان أعْجَبَ إليَّ. ولا يُسْتَحَبُّ الإِكْثارُ منه؛ لِما رُوِيَ عن عَطاءٍ، قال: إنِّي لأُحِبُّ أنَّ يُقِلَّ التَّحْرِيكَ، وأن يَعْتَدِلَ قائِمًا على قَدَمَيْه، إلَّا أنَّ يكونَ إنسانًا كبيرًا لا يَسْتَطِيعُ ذلك. فأمّا التَّطوُعُ فإنَّه يَطُولُ على الإِنسانِ، فلا بُدَّ مِن التَّوَكُّؤِ على هذه مَرَّةً وعلى هذه مَرَّةً. وقد روى النَّجّادُ، بإسْنادِه، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا قَام أَحَدُكمْ فِي صَلَاتِه فَلْيُسْكِنْ أطْرَافَهُ، وَلَا يَمِيلُ مَيْلَ اليهُودِ» (¬4). ¬

(¬1) أبو عبد الله عمرو بن ميمون بن مهران الجزري الرقي، شيخ صدوق ثِقَة، تُوفِّي سنة خمس وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب 8/ 108، 109. (¬2) في: باب الصف بين القدمين في الصلاة، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 99. (¬3) في الأصل: «والسنة». (¬4) أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 620. انظر كنز العمال 7/ 525، 8/ 199. من حديث أبي بكر الصديق.

فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ويُكْرَهُ الالْتِفاتُ في الصلاةِ) لغيرِ حاجَةٍ؛ لِما رُوِي عن عائشةَ، قالت: سَأَلْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الالْتِفاتِ في الصلاةِ، فقال: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). وعن أبي ذَرٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا يَزَالُ اللهُ ¬

(¬1) في: باب الالتفات في الصلاة، من كتاب الأذان، وباب صفة إبليس وجنوده؛ من كتاب بدء الخلق. صحيح البُخَارِيّ 1/ 191، 2/ 152. كما أخرجه أبو داود، في: باب الالتفات في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 209. والتِّرمذيّ، في: باب ما ذكر من الالتفات في الصلاة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 72. والنَّسائيّ، في: باب التشديد في الالتفات في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 8. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 70، 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاِتهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإذَا صَرَفَ وَجْهَهُ، انْصَرَفَ عَنْهُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). وعن أنَسٍ قال: قال لي رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ، فَإنَّ الالْتِفَاتَ فِيْهَا هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ ففِي التَّطَوُّعِ، لَا فِي الفَرِيضَةِ». رَواه التِّرمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. فإن كان لحاجَةٍ لم يُكْرَهْ؛ لِما روَى سَهْلُ بنُ الحَنْظَليَّةِ، قال: ثُوِّبَ بالصَّلاةِ، فجَعَلَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي وهو يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ. رَواه أبو داودَ (¬3)، وقال: وكان أرْسَلَ فارِسًا إلى الشِّعْبِ يَحْرُسُ. وعن ابن عباسٍ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَلْتَفِتُ يَمِينًا وشِمالًا، ولا يَلْوِي عُنُقَهُ. رَواه النَّسائِيُّ (¬4). ولا تَبْطُلُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: الباب السابق. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 172. كما أخرجه النَّسائيّ في الباب السابق. والدارمي، في: باب كراهية الالتفات في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 331. (¬2) في: باب ما ذكر من الالتفات في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 3/ 70. (¬3) في: باب الرخصة في النظر في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 210. (¬4) في: باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يمينًا وشمالًا، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 9. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ, في: باب ما ذكر من الالتفات في الصلاة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 70، 71. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 275، 306.

433 - مسألة: (و)

وَرَفْعُ بَصَرِهَ إلى السَّمَاءِ، وَافْتِرَاشُ الذِّرَاعَيْنِ فِي السُّجُودِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ بالالْتِفاتِ، إلَّا أنَّ يَسْتَدِيرَ عن القِبْلَةِ بجُمْلَتِه، أو يَسْتَدْبِرَها. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: جُمْهُورُ الفُقَهاءِ على أنَّ الالْتِفاتَ لا يُفْسِدُ الصلاةَ إذا كان يَسِيرًا. 433 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (رَفْعُ بَصَرِه إلى السَّماءِ) لما روَى أنَسٌ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَا بَالُ أقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاِتهِمْ!». فاشْتَدَّ قولُه في ذلك، حتَّى قال: «لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أبْصَارُهُمْ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). ويُكْرَهُ الاسْتِنادُ إلى الجِدارِ ونَحْوِه في الصلاةِ؛ لأنَّه يُزِيلُ مَشَقَّةَ القِيامِ والتَّعَبُّدَ به. 434 - مسألة؛ قال: (وافْتِراشُ الذِّراعَيْنِ فِي السُّجُودِ) قال التِّرمِذِيُّ: أهلُ العِلْمِ يَخْتارُون الاعْتِدالَ في السُّجُودِ. ورُوِيَ عن جابِرٍ، ¬

(¬1) في: باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 190/ 1، 191. كما أخرجه أبو داود، في: باب النظر في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 9/ 209، 210. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن رفع البصر في السماء في الصلاة، من كتاب السهو. وابن ماجه، في: باب الخشوع في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 332. والدارمي، في: باب كراهية رفع البصر إلى السماء في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 298. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 109، 112، 115, 116، 140، 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ (¬1) ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ». رَواه التِّرمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي لَفْظٍ عن أنَسٍ (¬3)، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَسْجُدْ أحَدُكُمْ وَهُوَ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ كَالْكلْب». وهذا هو المَنْهِيُّ عنه، كَرِهَه أهلُ العلمِ، وفي حديثِ أبي حُمَيْدٍ (¬4): فإذا سَجَد سَجَد غيرَ مُفْتَرِشٍ ولا قابِضِهِما. ¬

(¬1) في الأصل: «يفرش». (¬2) في: باب ما جاء في الاعتدال في السجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 75. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الاعتدال في السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 288. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 305، 315، 389. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب المصلى يناجى ربه عز وجل، من كتاب المواقيت، وفي: باب لا يفترش زراعيه في السجود، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 141، 208. ومسلم، في: باب الاعتدال في السجود, ووضع الكفين على الأرض. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 355. وأبو داود, في: باب صفة السجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 206. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الركوع, في السجود، من كتاب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 75. والنَّسائيّ، في: باب الاعتدال في الركوع، من كتاب افتتاح الصلاة، وفي: باب النهي عن بسط الذراعين في السجود, وباب الاعتدال في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 143، 167، 169. وابن ماجه، في: باب الاعتدال في السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 288. والدارمي، في: باب النهي عن الافتراش ونقرة الغراب، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 303. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 109، 115، 177، 179, 191, 214, 274, 279, 291. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 400.

435 - مسألة: (و)

والإِقْعَاءُ فِي الْجُلُوسِ؛ وَهُوَ أَنْ يَفْرِشَ قدَمَيْهِ، وَيَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ سُنَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 435 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (الإِقْعاءُ في الجُلُوسِ، وهو أنَّ يَفْرِشَ قَدَمَيْه، ويَجْلِسَ على عَقِبَيْه. وعنه، أنَّه سُنَّةٌ) كذلك وَصَف أحمدُ الإِقْعاءَ، قال أبو عُبَيْدٍ (¬1): هذا قولُ أهْلِ الحديثِ، فأمّا عندَ العربِ، فهو جُلُوسُ الرجلِ على أَلْيَتَيْه ناصِبًا فَخِذَيْه، مثلَ إقْعاءِ الكَلْبِ. قال شيخُنا (¬2): ولا أعْلَمُ أحَدًا قال باسْتِحْبابِ الإِقْعاءِ على هذه الصِّفَةِ. فأمّا الأوَّلُ فكَرِهَه عليٌّ، وأبو هُرَيْرَةَ، وقتَادَةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ، وعليه العَمَلُ عندَ أكثرِ أهلِ العِلْمِ؛ لِما روَى الحارِثُ، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ». وعن أنسٍ، قال: قال لي (¬3) رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ ¬

(¬1) غريب الحديث 1/ 210. (¬2) في: المغني 2/ 206. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّجُودِ، فَلَا تُقْعِ كَمَا يُقْعِي الْكَلْبُ». رَواهما ابنُ ماجه (¬1). وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه سُنَّةُ. فروَي مُهَنّا، عن أحمدَ، أنَّه قال: لا أفْعَلُه، ولا أعِيبُ على مَن يَفْعَلُه، العَبادِلَةُ كانُوا يَفْعَلُونَه. قال طاوسٌ: رَأيتُ العَبادِلَةَ يَفْعَلُونَه؛ ابنَ عُمَرَ، وابنَ الزُّبَيْرِ، وابنَ عباسٍ. وقال طاوسٌ: قُلْنا لابنِ عباسٍ في الإِقْعَاءِ على القَدَمَيْن في السُّجُودِ (¬2)؛ فقال: هي السُّنَّةُ. قال قُلْنا: إنّا لنَراهُ جَفاءً بالرَّجُلِ. فقال: هي سُنَّةُ نَبِيِّك. رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬3). والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا، وقد قال ابنُ عُمَرَ حينَ فَعَلَه: لا تَقْتَدُوا بي، فإنِّي قد كَبِرْتُ. وفي حديثِ عائِشةَ، أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يَفْتَرِشُ رِجْلَه اليُسْرَى، ويَنْصِبُ اليُمْنَى، ويَنْهَى عن عُقبَةِ (¬4) الشَّيْطانِ (¬5). ¬

(¬1) في: باب الجلوس بين السجدتين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 289. كما أخرج الأول التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية الإقعاء في السجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 79. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 146. (¬2) في م: «الجلوس». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب جواز الإقعاء على العقبين، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 380، 381. وأبو داود، في: باب الإقعاء بين السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 194. (¬4) في م: «قعية». وعقبة الشيطان: هو الإقعاء المنهي عنه. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 357، 358. وأبو داود, في: باب من لم ير الجهر ببسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 180، 181. وابن ماجه، في: باب افتتاح القراءة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 267. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31, 171، 194، 281.

436 - مسألة: (ويكره أن يصلي وهو حاقن)

وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 436 - مسألة: (ويُكرَهُ أنَّ يُصَلِّيَ وهو حاقِنٌ) [متى كان الرجلُ حاقِنًا كُرِهَتْ له الصلاةُ] (¬1)، سَواءٌ خاف فَواتَ الجَماعَةِ أولا. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وصحابِ الرَّأْيِ؛ لِما رَوَتْ عائِشةُ، قالت: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ». رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّ ذلك يَشْغَلُه عن خشُوعِ الصلاةِ وحُضُورِ قَلْبِه فيها، فإن خالَفَ وفَعَل، صَحَّتْ صَلاتُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وقال ابنُ أبي مُوسى: إن كان به مِن مُدافَعَةِ الأخْبَثَيْن ما يُزْعِجُه ويَشْغَلُه عن الصلاةِ، أعادَ، في الظاهِرِ مِن قولِه. وقال مالكٌ: أَحَبُّ إليَّ أنَّ يُعِيدَ إذا شَغلَه ذلك؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله في الحال, وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 393. كما أخرجه أبو داود، في: باب أيصلي الرَّجل وهو حاقن، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 21. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 43، 54، 73.

437 - مسألة: (أو بحضرة طعام تتوق نفسه إليه)

أَوْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لظاهِرِ الخَبَرِ. ولَنا، أنَّه لو صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعامِ، أو وقَلْبُه مَشْغُولٌ بشئٍ مِن الدُّنْيَا، صَحَّتْ صلاتُه. كذا هاهنا. وخبرُ عائشةَ أُرِيدَ به الكَراهَةُ؛ بدَلِيلٍ ما لو صَلَّى بحَضْرةِ الطَّعامِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعُوا على أنَّه لو صَلَّى بحَضْرَةِ الطَّعامِ، فأكْمَلَ صلاتَه، أنَّ صَلاتَه تُجْزِيُّه، وكذلك إذا صَلَّى حاقِنًا. 437 - مسألة: (أو بحَضْرَةِ طَعام تَتُوقُ نَفْسُه إلَيه) وبهذا قال عُمَرُ، وابنُه. وتَعَشَّى ابنُ عُمَرَ وهو يَسْمَعُ قِراءَةَ الإمامِ (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: لا نَقُومُ إلى الصلاةِ وفي أنْفسِنا شئٌ. وبهذا قال الشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: يَبْدَأُ بالصلاةِ، إلَّا أنَّ يكونَ طَعامًا ¬

(¬1) انظر: باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، من كتاب الأطعمة، في صحيح البُخَارِيّ 7/ 107.

438 - مسألة: (ويكره العبث)

وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ, ـــــــــــــــــــــــــــــ خَفِيفًا. ولَنا، حديثُ عائِشةَ الذى ذَكَرْناه. وروَى ابنُ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا قُرِّبَ عشَاءُ أحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابدَءُوا بِالْعَشَاءِ، ولا يَعْجَلَنَّ (¬1) حَتى يَفْرُغَ مِنْهُ». رَواه مسلمٌ (¬2) وغيرُه. ولأنَّه إذا قَدَّمَ الصلاةَ على الطعامِ اشْتغَل قَلْبُه عن خُشُوعِها. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ أن يَخْشَى فَواتَ الجماعةِ أو لم يخْشَ؛ لعُمُومِ الحديِثَيْن. هذا إذا كانت نَفْسُه تَتُوقُ إليه، أو يَخْشَى فَواتَه، أو فواتَ بعضِه إن تَشاغَلَ بالصلاةِ، أو تكونُ حاجَتُه إلى البِدايةِ به، لوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ. فإن لم يَفْعَلْ وبَدَأ بالصلاةِ، صَحَّتْ، في قَوْلهم جمِيعًا. حكاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ؛ لأنَّ البِدايَةَ بالطَّعامِ رُخْصَةٌ، فإن لم يَفْعَلْها صَحَّتْ صَلاتُه، كسائِرِ الرُّخَصِ. 438 - مسألة: (ويُكْرَهُ العَبَثُ) في الصلاةِ؛ لِما رُوِي أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَأى رجلًا يَعْبَثُ في الصلاةِ، فقال: «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ ¬

(¬1) في الأصول: «تعجلوا». والمثبت من صحيح مسلم. (¬2) في: باب كراهية الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله في الحال. . . . إلخ، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 392. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، من كتاب الأذان، وباب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، من كتاب الأطعمة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 171, 7/ 107. وأبو داود، في: باب إذا حضرت الصلاة والعشاء، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 310. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 20، 103، 148.

439 - مسألة؛ قال: (والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها)

وَالتَّخَصُّرُ، وَالتَّرَوُّحُ، وَفَرْقَعَةُ الْأَصَابعِ وَتَشْبيكُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا، لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» (¬1). (و) يُكْرَهُ (التَّخَصُّرُ)، وهو أن يَضَعَ يَدَه على خاصِرَتِه، لِما روي أبو هُريْرَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَهَى أنَّ يُصَلِّيَ الرجلُ مُتَخَصِّرًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). 439 - مسألة؛ قال: (والتَّروُّحُ، وفَرْقَعَةُ الأصابِعِ، وتَشْبِيكُها) يُكْرَهُ التَّرَوُّحُ، إلَّا مِن غَمٍّ شَدِيدٍ، لأنَّه مِن العَبَثِ. وبذلك قال إسْحاقُ، وعَطاءٌ، وأبو عبدِ الرَّحْمنِ، ومالكٌ، ورَخَّصَ فيه ابنُ سِيرينَ، ومجاهِدٌ، والحسنُ. ويُكْرَهُ فَرْقَعَةُ الأصابعِ، وتشْبِيكُها في الصلاةِ؛ لِما روَى علىٌّ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا تُفَقِّعْ (¬3) أصَابعَكَ وَأنْتَ فِي الصَّلَاةِ» رَواه ابنُ ماجه (¬4). وعن كَعْبٍ بنِ عُجْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَأَى رَجُلًا قد ¬

(¬1) ذكره السيوطى، في الجامع الكبير 1/ 666، وعزاه للحكيم التِّرْمِذِيّ، عن أبي هريرة. وانظر: فيض القدير 5/ 319. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الخصر في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 84. ومسلم، في: باب كراهة الاختصار في الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 387. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرَّجل يصلي مختصرًا، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 217. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في النهي عن الاختصار في الصلاة, من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 175، 176. والنَّسائيّ، في: باب النهي عن التخصير في الصلاة، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 98. والدارمي، في: باب النهي عن الاختصار في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 332. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 232، 290، 295، 331، 399. (¬3) في تش: «تقعقع». (¬4) في: باب ما يكره في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَبَّكَ أصابِعَه في الصلاةِ، ففَرَّجَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بينَ أصابِعِه. رَواه التِّرمِذِيُّ، وابنُ ماجه (¬1). [وقال ابنُ عُمَر، في الذي يُصلِّي وهو مُشبِّكٌ: تلك صلاةُ المغْضُوبِ عليهم. رَواه ابنُ ماجه] (¬2). فصل: وإذا تَثاءَبَ في الصلاةِ اسْتُحِبَّ أنَّ يَكْظِمَ ما اسْتَطاعَ، فإن لم يقْدِرْ، وَضَع يَدَه على فيه؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا تَثَاءَبَ أحَدُكمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطاعَ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ». رَواه مسلمٌ (¬3). وللتِّرمِذِيِّ (¬4): «فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ». فصل: ومِمّا يُكْرَهُ في الصلاةِ أن يَنْظُرَ إلى ما يُلْهِيه، أو يَنْظُرَ في كتابٍ؛ لِما رُوِيَ عن عائِشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى في خَمِيصَةٍ لها أعْلامٌ، فقال: «شَغَلَتْنِي أعْلَامُ هَذِهِ، اذْهبُوا بِهَا إلى أَبِي جَهْمِ بنِ ¬

(¬1) لم نجده عند التِّرْمِذِيّ، وأخرجه ابن ماجه، في: باب ما يكره في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 310. (¬2) سقط من: م. ولم نجده في ابن ماجه؛ وأخرجه أبو داود, في: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 228. (¬3) في: باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، من كتاب الزهد. صحيح مسلم 4/ 2294. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في التثاؤب، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 601. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة، سنن أبواب الصلاة 2/ 164، 165. وابن ماجه، في: باب ما يكره في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 310، والدارمي، في: باب التثاؤب في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 321. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 317، 428، 517، 3/ 31، 37, 93, 97. (¬4) في: باب ما جاء إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 206.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُذيْفَةَ وَائْتُونِي بأنْبِجَانِيَّتهِ» (¬1). مُتِّفَقٌ عليه (¬2). وقال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لعائشةَ: «أمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ (¬3) هَذَا؛ فإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ (¬4) تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاِتِي». رَواه البخاريُّ (¬5). ويُكْرهُ أنَّ يُصَلِّيَ وهو مَعْقُوصٌ أو مَكْتُوفٌ، لِما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه رَأى عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ يُصَلِّي ورَأْسُه مَعْقوصٌ مِن وَرائِه، فقام إليه [فَجَعَلَ يَحُلُّه] (¬6)، فلمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ على ابنِ عباسٍ، فقال: مالَكَ وَرأْسِي؟ فقال (¬7): إنِّي سَمِعْتُ ¬

(¬1) هو كساء غليظ لا علم له. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، من كتاب الصلاة، وفي: باب الالتفات في الصلاة، من كتاب الأذان، وفي: باب الأكسية والخمائص، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 1/ 104، 105، 191، 7/ 190. ومسلم، في: باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 391. كما أخرجه أبو داود، في: باب النظر في الصلاة، من كتاب الصلاة، وفي: باب من كرهه (أي لبس الحرير)، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 1/ 210، 2/ 371. والنَّسائيّ، في: باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 56. وابن ماجه، في: باب لباس رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1176. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 37. (¬3) القرام: الستر الرقيق، وفيه رقم ونقوش. (¬4) في الأصل: «التصاوير». (¬5) في: باب إن صلى في ثوب مصلَّب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك، من كتاب الصلاة، وفي: باب كراهية الصلاة في التصاوير، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 1/ 105، 7/ 216 - كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 151، 283. (¬6) في م: «فحَلَّه». (¬7) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «إنَّمَا مَثَل هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ». رَواه مسلمٌ (¬1). ويُكْرَهُ أن يكُفَّ شَعَرَه أو ثِيابَه؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ، وَأنْ لَا أكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثوْبًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العِلْم في كَراهِيَةِ هذا كلِّه (¬3) خِلافًا، ونُقِلَتْ كَراهةُ بعضِه عن ابنِ عباسٍ، وعائشةَ. ويُكْرَهُ أن يُكْثِر الرجلُ مسْحَ جَبْهَتِه في الصلاةِ؛ لِما رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه قال: مِن ¬

(¬1) في: باب أعضاء السجود والنبى عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 355. كما أخرجه أبو داود, في: باب الرَّجل يصلي عاقصا شعره، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 150، 151. والنَّسائيّ، في: باب مثل الذى يصلي ورأسه معقوص، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 170. والدارمي، في: باب في عقص الشعر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 321. والإمام أَحْمد، في المسند 1/ 304, 316. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب السجود على سبعة أعظم، وباب السجود على الأنف, وباب لا يكف شعرًا، وباب لا يكف ثوبه في الصلاة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 216، 207. ومسلم، في: باب أعضاء السجود والنهى عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 354. كما أخرجه أبو داود، في: باب أعضاء السجود, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 205. والنَّسائيّ، في: باب على كم السجود، وفي: أبواب السجود على الأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين، وفي: باب النهي عن كف الشعر في السجود، وباب النهي عن كف الثوب في السجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 164 - 166، 170. وابن ماجه، في: باب في السجود، وباب كف الشعر والثوب، في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 286، 331. والدارمي، في: باب السجود على سبعة أعظم وكيف العمل في السجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 221، 222، 255، 270، 279، 280، 285، 286: 292، 305 , 324. (¬3) زيادة من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَفاءِ أن يُكْثِرَ الرِجلُ مَسْحَ جَبْهَتِه، قبل [أن يَفْرَغَ مِن الصلاةِ (¬1). ولِما روَى أبو هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إنَّ مِن الْجَفاءِ أنْ يُكْثِرَ الرَّجُلُ مَسْحَ جَبْهَتِهِ قَبْلَ] (¬2) الفَراغِ مِنْ صلاتِهِ». رَواه ابن ماجه (¬3). ويُكْرَهُ النَّفْخُ، وتَحْرِيكُ الحَصا؛ لِما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قالت: رَأَى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- غُلامًا لَنا، يُقال له أفْلَحُ، إذا سَجَد نَفَخ، فقال: «يَا أفْلَحُ تَرِّبْ وَجْهَكَ». رَواه التِّرمِذِيُّ (¬4). إلَّا أنَّ فيه مَقالًا. قال ابنُ عباسٍ: لا تَمْسَحْ جَبْهَتَك، ولا تَنْفُخْ، ولا تُحَرِّكِ الحَصا. ورَخَّصَ فيه مالكٌ، وأصحابُ الرَّأْيِ. ويُكْرَهُ مَسْحُ الحَصا؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذا قامَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَمْسَحِ الحَصا؛ فإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬5). ويُكْرَهُ أن يَعْتَمِدَ على يَدِه في الجُلُوسِ في الصلاةِ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يَجْلِسَ الرجلُ ¬

(¬1) أخرجه بمعناه البيهقي، في باب لا يمسح وجهه من التُّراب في الصلاة حتَّى يسلم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 285. (¬2) سقط من: الأصل، م. (¬3) في: باب ما يكره في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 309، 310. (¬4) في: باب ما جاء في كراهية النفخ في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 172. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في مسح الحصا في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 217. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية مسح الحصا في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 171. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب النهي عن مسح الحصا في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 7. وابن ماجه، في: باب مسح الحصا في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 328. والدارمي، في: باب النهي عن مسح الحصا، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 322. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 150، 163، 179.

440 - مسألة: (وله رد المار بين يديه)

وَلَهُ رَدُّ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الصلاةِ وهو مُعْتَمِدٌ على يَدِه. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). ويُكْرَهُ أن يُغْمِضَ عَيْنَيْه في الصلاةِ. نَصَّ عليه، وقال: هو مِن فِعْل اليَهُودِ. وهو قولُ سُفْيانَ، ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ، والأوْزاعِيِّ. ورُوِيَتِ الرُّخْصَة فيه مِن غير كَراهَةٍ عن الحسنِ، ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ». رواه الطَّبَرانِيُّ (¬2)، ويُكْرَهُ الرَّمْزُ بالعَيْنِ، والإِشارةُ لغيرِ حاجَةٍ؛ لأنَّه يَذهَبُ بخُشُوعِ الصلاةِ. ويُكْرَهُ إخْراجُ لِسانِه وفَتْحُ فَمِهِ، لأنَّه خُرُوجٌ عن هَيْئَةِ الخُشُوعِ. 440 - مسألة: (وله رَدُّ المارِّ بينَ يَدَيْه) ليس لأحَدٍ أن يَمُرَّ بينَ يَدَيِ المُصَلِّي، إذا لم يَكُنْ بينَ يَدَيْه سُتْرَةٌ، وإن كان له سُتْرَةٌ، فليس له المُرُورُ بينَه وبينَها، لِما روَى أبو جَهْمٍ الأنْصارِيُّ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود, في: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 227. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 147. (¬2) في: المعجم الكبير 11/ 34. والمعجم الصغير 1/ 17. وأورده الهيثمى في مجمع الزوائد 2/ 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْن يَدَيْهِ» (¬1). ولمسلمٍ (¬2): «لَأَنْ يَقِفَ أحَدُكمْ مِائَة عَامٍ، خَيْرٌ لَه مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي». ورُوِيَ عن يَزِيدَ (¬3)، قال: رَأَيْت رجلًا بتبُوكَ مُقْعدًا، فقال: مَررْتُ بينَ يَدَيْ رسُولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأنا على حِمارٍ، وهو يُصَلِّي فقال: «اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ». فما مَشَيْتُ عليها بعدُ. رواه أبو داودَ (¬4). وفي ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إثم المار بين يدى المصلي، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 136. ومسلم, في: باب منع المار في يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 363. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما ينهى عنه من المرور بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 161. والتِّرمذيّ, في: باب ما جاء في كراهية المرور بين يدى المصلي، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 131. والنَّسائيّ، في: باب التشديد في المرور بين يدى المصلى وسترته، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 52. وابن ماجه، في: باب المرور بين يدى المصلي، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 304. والدارمي، في: باب كراهية المرور بين يدى المصلي، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 330. والإمام مالك، في: باب التشديد في أن يمر أحد بين يدى المصلي، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 154. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 169. (¬2) ليس هذا عند مسلم؛ من حديث أبي جهم، وإنما أخرجه ابن ماجه، في: باب المرور بين يدى المصلى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 304. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 371، من حديث أبي هريرة. (¬3) هو يزيد بن نمران بن يزيد المذحجى، من الثِّقات. تهذيب التهذيب 11/ 365. (¬4) في: باب تفريع أبواب ما يقطع الصلاة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 162. كما رواه الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 64, 5/ 377.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظٍ قال: «قَطَعَ صَلَاتَنَا، قَطَعَ الله أَثَرَهُ». وإن أَرادَ [أحدٌ المرُورَ بين يدَيْه، فلَهُ مَنْعُه. يُرْوَى ذلك عن (¬1) ابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِه سالِمٍ. وهو قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْيِ. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافهم؛ لِما روى أبو سعيدٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «إذَا كَانَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي إلى سُتْرةٍ مِنَ النَّاسِ، فأرَادَ] (¬2) أحَدٌ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فإنْ أبَى فَلْيُقَاتلْهُ، فإنَّما هُوَ شَيْطَانٌ». [مُتَّفَقٌ علَيه (¬3). ولأبي داودَ (¬4): إذا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، ولْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنْ أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإنَّما هُوَ شَيْطَانٌ] (¬5). ومَعْناه، واللهُ أعْلَمُ، [أي ليَدْفَعْه] (¬6)، فإن ألَحَّ فلْيُقاتِلْه، أي يَعْنُفُ في دَفْعِه. وقولُه: «فَإنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». أي فِعْلُه فِعْلُ شَيْطانٍ، أو الشَّيْطانُ يَحْمِلُه ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب يرد المصلي من مر بين يديه، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 135، 136. ومسلم، في: باب منع المار بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 362، 363. وأبو داود، في: باب ما يؤمر المصلى أن يدرأ عن الممر بين يديه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 161. والنَّسائيّ، في: باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان 8/ 55، من كتاب القسامة. المجتبي 8/ 55، وابن ماجه، في: باب ادرأ ما استطعت، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 307. والدارمي، في: باب في دنو المصلى إلى السترة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 328. والإمام مالك، في: باب التشديد في أن يمر أحد بين يدى المصلى، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 154. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 34، 43، 44, 49، 57، 63. (¬4) في الباب السابق ذكره. (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «فيدفعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ذلك. وقِيلَ: مَعْناه، أنَّ معه شَيْطانًا. وأكْثَرُ الرواياتِ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّ المارَّ بينَ يَدَيِ المُصَلِّي إذا ألَحَّ في المُرُورِ، وأبَى الرُّجُوعَ، فللْمصَلِّي أن يَجْتَهِدَ في رَدِّه، ما لم يُخرِجْه ذلك إلى إفْسادِ صلاتِه بكَثْرَةِ العَمَلِ فيها. ورُوِيَ عنه، أنَّه قال: يَدْرَأُ (¬1) ما اسْتَطاعَ، وأكْرَهُ القِتالَ فيها. وذلك لما يُفْضِي إليه مِن الفِتْنَةِ وفَسادِ الصلاةِ، والنبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إنَّما أمَر برَدِّه حِفْظًا للصَّلاةِ عمَّا يَنْقصُها، فيُعْلَمُ أنَّه لم يُرِدْ ما يُفْسِدُها بالكُلِّيَّةِ، فيُحْمَلُ لَفْظُ المُقاتَلَةِ على ادَفع أبْلَغَ مِن الدَّفْعِ الأوَّلِ. واللهُ أعلمُ. ويُؤيِّدُ ذلك ما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قالت: كان رسولُ اللهِ يُصَلِّي في حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، فمَرَّ بينَ يَدَيْه عبدُ اللهِ، أو عُمَرُ (¬2) بنُ أبي سَلَمَةَ، فقال بيَدِه، فرَجَعَ، فمَرَّتْ زينبُ بنتُ أمِّ سَلَمَةَ، فقال بيَدِه هكذا، فَمَضَتْ، فلمَّا صَلَّى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «هُنَّ أغْلَبُ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يجْتَهِدْ في الدَّفْعِ. ¬

(¬1) في م: «يرد». (¬2) في م. «عمرو». (¬3) في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 3505. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 294.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَرُدَّ ما مَرَّ بينَ يَدَيْه مِن كَبِيرٍ وصَغِيرٍ، وبَهِيمَةٍ؛ لِما رَوَيْنا مِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ، ورَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أَبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى إلى جَدْرٍ (¬1)، فاتَّخَذَه قِبْلَةً، ونحن خَلْفَه، فجاءَتْ بَهْمَةٌ (¬2) تَمُرُّ بينَ يَدَيْه، فما زال يُدارِئُها حتَّى لَصِق بَطْنُه بالجَدْرِ، فمَرَّتْ مِن وَرائِه (¬3). ¬

(¬1) في م: «جدار». (¬2) في م: «بهيمة». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب سترة الإمام سترة من خلفه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 163. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مَرَّ بينَ يَدَيْه إنسانٌ فعَبَرَ، لم يُسْتَحَبَّ رَدُّه مِن حيثُ جاء. وهذا قولُ الشَّعْبِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ؛ وابنِ المُنْذِرِ، ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ، أنَّه يَرُدُّه مِن حيثُ جاء، وفَعَلَه سالِمُ بنُ عبدِ اللهِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَر برَدِّه، فيَتَناوَلُ العابِرَ. ولَنا، أنَّ هذا مُرُورٌ ثانٍ، فيَنْبَغِي أن لا يتَسَبَّبَ إليه كالأوَّلِ، ولأنَّ المارَّ لو أَرادَ أن يَعُودَ مِن حيثُ جاء لكان مَأْمُورًا بمَنْعِه (1)، ولم يَحِلَّ للعابِرِ العَوْدُ، والحديِثُ إنَّما يَتَناوَل مَن أَرادَ المُرُورَ؛ لقوْلِه: «فَأرَادَ أحَدٌ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ». وبعدَ العُبورِ فليس هو مُرِيدًا للاجْتِيازِ. فصل: ولا يَقْطَعُ المُرورُ الصلاةَ، بل يَنْقُصُها. نَصَّ عليه. ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعودٍ، أنَّ مَمَرَّ الرَّجُلِ لَيَضَعُ نِصْفَ الصلاةِ. قال القاضي: يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ نَقْصُ الصلاةِ على مَن أمْكنَه الرَّدُّ فلم يَفْعَلْه، أمّا إذا لم يُمْكِنْه الرَّدُّ فصلاتُه تَامَّة؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه ما يَنْقُصُ الصلاةَ، فلا يُؤَثِّرُ فيها ذَنْبُ غيرِه. واللهُ أعلمُ.

441 - مسألة: (و)

وَعَدُّ الْآيِ، وَالتَّسبِيحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 441 - مسألة: (و) له (عَدُّ الآيِ، والتَّسْبِيحِ) لا بَأْسَ بعَدِّ الآيِ في الصلاةِ. فأمّا التَّسْبِيحُ، فتَوَقَّفَ فيه أحمدُ، وقال أبو بكرٍ: هو في مَعْنَى عَدِّ الآيِ. [وقال ابنُ أبي مُوسى: لا يُكْرَهُ في أصَحِّ الوَجْهَيْن] (¬1). وهذا قولُ الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وطاوسٍ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ، وإسْحاقَ. وكَرِهَه أبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لأنَّه يَشْغَلُ عن خُشُوعِ الصلاةِ. ولَنا، إجماعُ التّابِعين؛ فإنَّه حُكِيَ عن مَن سَمَّيْنا، مِن غير خِلافٍ في عصرِهم، فكان إجْماعًا، وإنَّما كَرِهَ أحمدُ عَدَّ التَّسْبِيحِ دُونَ الآيِ؛ لأنَّ المَنْقُولَ عن السَّلَفِ إنَّما هو عَدُّ الآيِ. وكَرِهَ الحسنُ أن يَحْسِبَ شيئًا سِواه، ولأنَّ التَّسْبِيحَ يَتَوالَى لقِصَرِه. فيَتَوالى حِسَابُه، فيَصِيرُ فِعْلًا كَثِيرًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بالإشارَةِ في الصلاةِ باليَدِ والعَيْنِ، لِما روَى ابنُ عمرَ، وأنَسٌ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُشِيرُ في الصلاةِ. روَى الدّارَقُطنِيُّ حديثَ أنَسٍ بإسْنِادٍ صَحِيحٍ. ورَواه أبو داودَ (¬1). ورَوَى التِّرَمِذِيُّ (¬2) حديثَ ابنِ عُمَرَ، وقال: حسنٌ صَحِيحٌ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الإشارة في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 216. والدارقطني, في: باب الإِشارة في الصلاة، من كتاب الجنائز. سنن الدارقطني 2/ 84. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 138. (¬2) في: باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 162. كما أخرجه الدارقطني، انظر: الباب السابق.

442 - مسألة: (و)

وَقَتْلُ الْحَيَّة وَالْعَقْرَبِ وَالْقَمْلَةِ، وَلُبْسُ الثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ، مَا لَمْ يَطُلْ, ـــــــــــــــــــــــــــــ 442 - مسألة: (و) له (قَتْلُ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ والقَمْلَةِ، ولُبْسُ الثَّوْبِ والعِمامَةِ، ما لم يَطُلْ) وهو قولُ الحسنِ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأصحاب الرَّأْيِ. وكَرِهَه النَّخَعيُّ؛ لأنَّه يَشْغَلُ عن الصلاةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَر بقَتْل الأسْوَدَيْن في الصلاةِ؛ الحَيَّةِ والعَقْرَب. رَواه أبو داودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحِيحٌ. ولا بَأسَ بقَتْلِ القَمْلِ؛ لأنَّ عُمَرَ وأنَسًا كانا يَفْعَلانه. وقال القاضي: التَّغافُلُ عنه أوْلَى. وقال الأوْزاعِيُّ: تَرْكُه أَحَبُّ إليَّ؛ لأنَّ ذلك يَشْغَلُ عن الصلاةِ لأمْرٍ غيرِ مُهِمٍّ، يُمْكنُ اسْتِدْراكُه بعدَ الصلاةِ، ورُبَّما كَثُرَ فأبْطَلَها. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 211. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 181. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب قتل الحية والعقرب في الصلاة, من كتاب السهو. المجتبى 3/ 9، 10. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 394. والدارمي، في: باب قتل الحية والعقرب في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 354. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 233، 248، 255، 284، 473، 475، 490.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بالعَمَلِ اليَسِيرِ للحاجَةِ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي والبابُ عليه مُغْلَقٌ، فجِئْتُ (¬1) فاسْتَفْتَحْتُ، فمَشَى، ففَتَحَ لِي، ثم رَجَع إلى مُصَلَّاه. رَواه أبو داودَ (¬2)، ورَواه أحمدُ (¬3)، عن عائشةَ، وفيه: ووَصَفَتْ له البابَ في القِبْلَةِ. وروَى أبو قَتادَةَ، قال: رَأَيْتُ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَؤُمُّ النَّاسَ، وأُمامَةُ بنتُ زينبَ بنتِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على عاتِقِه، فإذا رَكَع وَضَعَها، وإذا رَفَع مِن السُّجُودِ رَدَّها. رَواه مسلمٌ (¬4). وصَلَّى أبو بَرْزَةَ ولِجامُ دابَّتِه في يَدِه، فجَعَلْتِ الدّابَّةُ تُنازِعُه، وجَعَل يَتْبَعُها، وجعل رجلٌ مِن الخَوارِجِ يقولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بهذا الشَّيْخِ. فلَمَّا انْصَرفَ، قال: إنِّي سَمِعْتُ قولَكم، وإنِّي غزَوْتُ مع رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سِتَّ غَزَواتٍ أو سَبْعَ غَزَواتٍ أو ثَمانٍ (¬5)، وشَهدْتُ مِن تَيسِيرِه أنِّي إن كُنْتُ أرجِعُ مع دابَّتِي أَحَبُّ إليَّ مِن أن تَرْجِعَ إلى مَأْلفِها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب العمل في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 211. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 81. (¬3) في: المسند 6/ 31. (¬4) تقدم تخريجه في 1/ 160. (¬5) انظر حاشية صحيح البُخَارِيّ 2/ 81.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَشُقَّ عليَّ. رَواه البُخَارِيّ (¬1). قال: لا بَأْسَ أن يَحْمِلَ الرجلُ وَلَدَه في صلاةِ الفَرِيضَةِ؛ لحديثِ أبي قَتادَةَ. ورُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه الْتَحَفَ بإزارِه وهو في الصلاةِ (¬2). فلا بَأْسَ إن سَقَط رِداءُ الرجلِ أن يَرْفَعَه لذلك، وإنِ انَحَلَّ إزارُه أن يَشُدَّه. وإن عَتَقَتِ الأمَةُ في الصلاةِ اخْتَمَرَتْ، وبَنَتْ على صلاِتها. وقال: مَن فَعَل كفِعْلِ أبي بَرْزَةَ، حينَ مَشَى إلى الدَّابَّةِ حينَ أفْلَتَتْ منه، فصلاتُه جائِزَةٌ. وهذا لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- هو المُشَرعُ، فما فَعَلَه وأمَرَ به، فلا بَأْسَ به؛ [لِما ذَكَرْنا] (¬3). وقد روَى سَهْلُ بنُ سعدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّى على مِنْبَرِه، فإذا أَرادَ أن يَسْجُدَ نَزَل عن المِنْبَرِ فسَجَدَ بالأرضِ، ثم رَجَع إلى المِنْبَرِ، كذلك حتَّى قَضَى صلاتَه (¬4). وفي حديثِ جابِرٍ، في صلاةِ الكُسوفِ، قال: ثم [تَأَخَّرَ و] (¬5) تَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَه (¬6)، حتى انْتَهَيْنَا إلى النِّساءِ، ثم تَقَدَّمَ وتَقَدَّمَ النّاسُ معه، حتَّى قام في مَقامِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬7) فكلُّ هذا ¬

(¬1) في: باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة، وفي: باب قول النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: يسروا ولا تعسروا، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 2/ 81، 82، 8/ 37. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 419 من حديث وائل بن حجر. (¬3) سقط: م. (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الخطبة على المنبر، من كتاب الجمعة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 11. ومسلم، في: باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 386، 387. كذلك أخرجه أبو داود، في: باب اتخاذ المنبر, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 248. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة على المنبر، من كتاب المساجد. المجتبي 2/ 45. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 339. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م. (¬7) حديث جابر لم يخرجه البُخَارِيّ، وأخرجه مسلم، في: باب ما عرض على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلاة الكسوف =

443 - مسألة: (وإن طال الفعل في الصلاة أبطلها، [عمدا كان أو سهوا]

فَإنْ طَالَ الْفِعْلُ فِي الصَّلَاةِ أبْطَلَهَا، عمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، إلَّا أنْ يَفْعَلَهُ مُتَفَرِّقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشْباهُه لا بَأْسَ به في الصلاةِ، ولا يُبْطِلُها، وإن فَعَلَه لغيرِ حاجَةٍ، كُرِهَ ولم يُبْطِلْها أَيضًا؛ لِما روَى عَمْرُو بنُ حُرَيْثٍ، قال: كان رسول اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رُبَّما يَضَعُ اليُمْنَى على اليُسْرَى في الصلاةِ، وربَّما مَسَح لِحْيَتَه وهو يُصَلِّي. رواه البَيْهَقِيُّ (¬1). فصل: ولا يَتَقَدَّرُ الجائِزُ مِن هذا بثَلاثٍ، ولا بغيرها مِن العَدَدِ؛ لأنَّ فِعْلَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الظاهِرُ منه في زيادَتُه على ثلاثٍ، كتَأَخُّرِه، حتَّى تَأَخَّرَ الرِّجالُ، فانْتَهَوْا إلى النِّساءِ، وكذلك مَشْىُ أبي بَرْزَةَ مع دابَّتِه، ولأنَّ التَّقْدِيرَ بابُه التَّوْقِيفُ، وهذا لا تَوْقِيفَ فيه، لكنْ يُرْجَعُ في الكثيرِ واليَسِيرِ إلي العُرْفِ فيما يُعَدُّ كثيرًا ويَسِيرًا، وما شابَهَ فِعْلَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فهو يَسِيرٌ. 443 - مسألة: (وإن طال الفِعْلُ في الصلاةِ أبْطَلَها، [عَمْدًا كان أو سَهْوًا] (¬2)، إلَّا أن يَفْعَلَه مُتَفرِّقًا) متى طال الفِعْلُ في الصلاةِ ¬

= من أمر الجنة والنار، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 623. كما أخرجه أبو داود, في: باب من قال: أربع ركعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبي داود 1/ 269. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 318، 5/ 137. (¬1) في: باب من مس لحيته في الصلاة من غير عبث، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 264. (¬2) في الأصل، م: «عمده وسهوه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وكَثُرَ، أبْطَلَ الصلاةَ] (¬1) إجماعًا، عَمْدًا كان أو سَهْوًا، إذا كان مِن غيرِ جِنْسِ الصلاةِ، إلَّا أن يكونَ لضَرُورَةٍ، فيكونَ حُكمُه حُكْمَ الخائِفِ، فلا تَبْطلُ الصلاةُ به، وإن فَعَلَه مُتَفَرِّقًا، لم تَبْطُلِ الصلاةُ أَيضًا إذا كان كُلُّ عَمَلٍ منها يَسِيرًا؛ بدَلِيلِ حَمْلِ النبيِّ أُمامَةَ، ووَضْعِها في كُلِّ رَكْعَةٍ، فإنَّ ذلك لو جُمِعَ كان كثيرًا، ولم تَبْطُلْ به؛ لتَفَرُّقِه، فإنِ احْتاجَ إلى الفِعْلِ الكثيرِ [في الصلاةِ] (¬2) لغيرِ ضَرُورَةِ [الصلاةِ قَطَع الصلاةَ وفَعَلَه] (¬3). قال أحمدُ: إذا رَأى صَبيَّيْن يَتَخَوَّفُ أن يُلْقِيَ أحَدُهُما صاحِبَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، م: «قطع الصلاة فعله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في البئْرِ، فإنَّه يَذْهَبُ إليهما، فيُخَلِّصُهُما ويَعُودُ في صلاِته. وقال: إذا لَزِم رَجُلٌ رجلًا، فدَخَلا المَسْجِدَ وقد أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فإذا سَجَد الإِمامُ خَرَج المَلْزُومُ، فإن الذى كان يَلْزَمُه يَخْرُجُ في طلَبِه. يَعْنِي: ويَبْتَدِئُ الصلاةَ. وهكذا لو رَأَى حَرِيقًا يُرِيدُ إطْفاءَه، أو غَرِيقًا يُرِيدُ إنْقاذَه خَرَج إليه، وابْتَدَأَ الصلاةَ (¬1). فإن خافَ على نَفْسِه مِن الحَرِيقِ ونَحْوِه في الصلاةِ، ففَرَّ منه، بَنَى على صلاتِه وأَتَمَّهَا صلاةَ خائِفٍ؛ لِما (¬2) ذَكَرْنا مِن قبلُ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «على ما».

444 - مسألة: (ويكره تكرار الفاتحة)

وَيُكْرَهُ تَكْرَارُ الْفَاتِحَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 444 - مسألة: (ويُكْرَهُ تَكْرارُ الفاتِحَةِ) لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ولا عن أصحابِه، [ولأنَّها في] (¬1) إبْطالِ الصلاةِ بتَكَرُّرِها خِلافٌ، فكُرِهَ لذلك. ¬

(¬1) في تش: «ولأنها ركن وفي».

445 - مسألة: (و)

وَالجَمْعُ بَيْنَ سُوَلي فِي الْفَرْضِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي النَّفْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 445 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (الجَمْعُ بينَ سُوَرٍ في الفَرْضِ، ولا يُكْرَهُ في النَّفْلِ) أمّا الجَمْعُ بينَ السُّوَرِ في النَّفْلِ فلا يُكْرَهُ. رِوايَةً واحِدَةً. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ فإنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قرَأ في رَكْعَةٍ سورةَ البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ والنِّساءِ (¬1). وقال ابنُ مسعودٍ: لقدْ عَرَفْتُ النَّظائِرَ التى كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ. فذَكَرَ عِشْرِين سُورَةً مِن المُفَصَّلِ، سُورَتَيْن في كلِّ (¬2) ¬

(¬1) ورد هذا في حديث حذيفة بن اليمان، قال: صلَّيْتُ مع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلت: يصلِّي بها في ركعة. فمضى، فقلت: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها. . . . أخرجه مسلم، في: باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 536، 537. وعن عائشة، رضي الله عنها. كنتُ أقوم مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الليل التام، يقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء. أخرجه البيهقي, في: باب الوقوف عند آية الرحمة وآية العذاب، من كتاب الصلاة السنن الكبرى 3/ 310. كما أخرج البيهقي، في الباب نفسه نحوه عن عوف بن مالك الأَشجعيّ، قال: قمت مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقام، فقرأ سورة البقرة. . . . ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكْعَةٍ. مُتِّفَقٌ عليه (¬1). وكان عثمانُ، رَضِيَ اللهُ عنه، يَخْتِمُ القُرْآنَ في رَكْعَةٍ (¬2). وأمّا الفَرِيضَةُ فيُسْتَحَبُّ أن يَقْتَصِرَ فيها على سُورَةٍ بعدَ الفاتِحَةِ، مِن غيرِ زِيادَةٍ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- هكذا كان يُصَلِّي أكْثَرَ صلاِته. وهل يُكْرَهُ الجَمْعُ بينَ السُّورَتَيْن فيها؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، يُكْرَهُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثَّانِيَةُ، لا يُكْرَهُ؛ لأنَّ حديثَ ابنِ مسعودٍ مُطْلَقٌ. ورُوِيَ أنَّ رَجلًا مِن الأنْصارِ كان يَؤُمُّهُم، وكان يَقْرأُ قبلَ كلِّ سُورَةٍ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. ثم يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى معها، فقال له النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟». فقال: إنِّي أُحِبُّها. فقال: «حُبُّكَ إيَّاهَا أدْخَلَكَ الجَنَّةَ». رَواه البخاريُّ تَعْلِيقًا، ورَواه التِّرمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديثٌ صحيحٌ غريبٌ. وروَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَقْرَأُ في المَكْتُوبَةِ بالسُّورَتَيْن في رَكْعَةٍ (2)، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجمع بين السورتين، من كتاب الأذان. وفي: باب تأليف القرآن، من كتاب فضائل القرآن. صحيح البُخَارِيّ 1/ 197، 6/ 229. ومسلم، في: باب ترتيل القرآن. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين 1/ 563 - 565. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تحزيب القرآن، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 322، 323. والنَّسائيّ، في: باب قراءة سورتين في ركعة، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 136. والبيهقي، في باب الجمع بين سورتين في ركعة واحدة، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 60. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 380، 417، 427، 436، 455. (¬2) في م: «كل ركعة». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجمع بين السورتين في الركعة. . . . إلخ؛ من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 196، 197. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في سورة الإخلاص، من أبواب فضائل القرآن. عارضة الأحوذى 11/ 26.

446 - مسألة: (ولا تكره قراءة أو أواخر السور وأوساطها. وعنه، تكره)

وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ أوَاخِرِ السُّوَرِ وَأوْسَاطِهَا. وَعَنْهُ، تُكْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مالكٌ. في «المُوطَّإِ» (¬1). فأمّا قِراءَةُ السُّورَةِ الواحِدَةِ في الرَّكْعَتَيْن يُعِيدُها، فلا بَأْسَ، وقد ذَكَرْناه. فصل: والمُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأُ في الثانِيةِ سُورَةً بعدَ السُّورَةِ التى قَرَأها في الرَّكْعَةِ الأولَى في النَّظْمِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ مُهَنَّا: أعْجَبُ إليَّ أن يَقْرَأَ مِن البَقَرَةِ إلى أسْفَل؛ لأنَّ ذلك المَنْقُولُ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه سُئِلَ عَمَّنْ يَقْرَأُ القرآنَ مَنْكُوسًا، فقال: ذلك مَنْكُوسُ القَلْبِ. وفَسرَّه أبو عُبَيْدٍ (¬2) بذلك، فإن قَرَأ كذلك، فلا بَأْسَ به؛ لأنَّ أحمدَ قال، حينَ سُئِلَ عن ذلك: لا بَأْس به، ألَيْسَ يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ على هذا؟. وقد رُوِيَ أنَّ الأحْنَفَ (¬3) قَرَأ الكَهْفَ في الأُولَى، وفي الثَّانية بيُوسُفَ. وذَكَر أنَّه صَلَّى مع عُمَرَ الصُّبْحَ بهما (¬4). اسْتَشْهَدَ به البخاريُّ (¬5). 446 - مسألة: (ولا تُكْرَهُ قِراءَةُ أو أواخِرِ السُّوَرِ وأوْساطِها. وعنه، تُكْرَهُ) المَشْهُورُ عن أحمدَ، أنَّه لا تُكْرَهُ قِراءَةُ أواخِرِ السُّوَرِ وأوْساطِها ¬

(¬1) في: باب القراءة في المغرب والعشاء، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 79. (¬2) في: غريب الحديث 4/ 103. (¬3) في الأصل: «الأخفش». (¬4) في م: «فقرأ بهما». (¬5) في: باب الجمع بين السورتين في الركعة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الصلاةِ. نَقَلَها عنه جَماعَةٌ؛ لقولَ اللهُ تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (¬1). ولأنَّ أَبا سعيدٍ قال: أُمِرْنا أن تَقْرَأَ فاتِحَةَ الكِتابِ وما تَيَسَّرَ رَواه أبو داودَ (¬2). وروَى الخَلّالُ، بإسْنادِه، أنَّ ابنَ مسعودٍ كان يَقْرأُ في الآخِرَةِ مِن صلاةِ الصُّبْحِ آخِرَ آلِ عِمْرانَ، وآخِرَ الفُرْقانِ. وقال أبو بَرْزَةَ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأَ بالسِّتِّين إلى المِائةِ (¬3). فيه دَلِيلٌ على أنَّه لم يَكن يَقْتَصِرُ على قِراءَة سُورَةٍ. ولأنَّ آخِرَها أحَدُ طَرَفَيِ السُّورَةِ، فلم يُكْرَهْ، كأوَّلِها. وعن أحَمدَ، أنَّه يُكْرَهُ في الفرْضِ. نَقَلَها عنه المَرُّوذِيُّ، قال: سُورَةٌ أعْجَبُ إليَّ. قال المَرُّوذِيُّ: وكان لأبِي عبدِ اللهِ قَرَابَةٌ يُصَلِّي به، فكان يَقْرَأُ في الثَّانِيَةِ مِن الفَجْر بآخِرِ السُّورَةِ، فلمّا أكْثَرَ، قال أبو عبدِ اللهِ: تَقَدَّمْ أنتَ فصَلِّ. فقُلْتُ له: هذا يُصَلِّي بكم منذُ كَم؟ ¬

(¬1) سورة المزمل 20. (¬2) في: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 188. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 3، 45، 97. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ, في: باب وقت الظهر عند الزوال، وباب ما يكره من السمر بعد العشاء، من كتاب المواقيت. صحيح البُخَارِيّ 1/ 143، 155. ومسلم، في: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 447. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وكيف كان يصليها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 96. والنَّسائيّ، في. باب كراهية النَّوم بعد صلاة المغرب، وباب ما يستحب من تأخير العشاء، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 210، 212. وابن ماجه، في: باب وقت الظهر، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 221. والدارمي، في: باب قدر القراءة في الفجر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 298. والإمام أَحْمد، في: المسند، 4/ 420، 423.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: دَعْنا منه، يَجِيءُ بآخِرِ السُّورِ. وكَرِهَه. قال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللهُ: ولَعَلَّ أحمدَ إنَّما أحَبَّ اتِّباعَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيما نُقِلَ عنه، وكَرِه المُداوَمَةَ على خِلافِ ذلك؛ فإنَّ المَنْقُولَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قِراءَةُ السُّورَةِ أو بعض السُّورَةِ مِن أوَّلِها. ونُقِلَ عنه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه يُكْرَهُ قِراءَةُ أوْسَطِ السُّورَةِ دونَ آخِرِها؛ لِما رَوَيْنا في آخِرِ السُّوَرِ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، ولم يُنْقَل مثلُ ذلك في وَسَطِها. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: الرَّجُلُ يَقْرَأُ آخِرَ السُّورَةِ في الرَّكْعَةِ؟ فقال: ألَيْس قد رُوِيَ في هذا رُخْصَةٌ عن عبدِ الرَّحْمَنِ ابنِ يَزِيدَ، وغيرِه؟ فصل: فأمّا قِراءَةُ أوائِلِ السُّوَرِ، فلا خِلافَ في أنَّه غيرُ مَكْرُوهٍ، فإنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ مِن سُورَةِ المُؤْمِنِين إلى ذِكْرِ موسى وهارونَ، ثم أخَذَتْه سَعْلَةٌ، فرَكَعَ (¬2). وقَرَأ سُورَةَ الأعْرافِ في المَغْرِبِ فَرَّقها مَرَّتَيْن. رَواه النَّسائِيُّ (¬3). ¬

(¬1) في: المغني 2/ 167. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجمع بين السورتين في الركعة (في الترجمة)، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 196. ومسلم، في: باب القراءة في الصبح، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 336. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة في النعل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 151. والنَّسائيّ، في: باب قراءة بعض السورة، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 137. وابن ماجه، في، باب القراءة في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 269. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 411. (¬3) في: باب القراءة في المغرب بـ المصّ، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 132.

447 - مسألة: (وله أن يفتح على الإمام إذا أرتج عليه)

وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى الإِمَامِ إِذَا أُرْتِجَ عَلَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 447 - مسألة: (وله أن يَفْتَحَ على الإِمامِ إذا أُرْتِجَ عليه) في الصلاةِ، وأن يَرُدَّ عليه إذا غَلِط لا بَأْسَ به في الفَرْضِ والنَّفْلِ. رُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وعليٍّ، وابنِ عُمَرَ، رَضىَ اللهُ عنهم، وهو قولُ جماعَةٍ مِن التّابِعِينَ. وكَرِهَه ابنُ مسعودٍ، وشُريْحٌ، والثَّوْرِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَبْطُلُ به الصلاةُ؛ لِما روَى الحَارِثُ، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَفْتَحْ عَلَى الإِمَامِ» (¬1). وقال ابنُ عَقِيل: إن كان في النَّفْلِ، جازَ ذلك، وإن كان في الفَرْضِ وأُرْتِجَ عليه في الفاتِحَةِ، فَتَح عليه وإلَّا فلا. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى صلاةً، فقَرَأَ فيها، فلُبِسَ (¬2) عليه، فلمّا انْصَرَفَ قال لأُبَيٍّ: «أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟» قال: نَعَمْ. قال: «فَمَا مَنَعَكَ؟». رَواه أبو داودَ (¬3). قال الخَطّابِيُّ (¬4): إسْنادُه جَيِّدٌ. وعن ابنِ عباسٍ، قال: تَرَدَّدَ رسولُ اللهِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب النهي عن التلقين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 208، 209. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 146. (¬2) ليس، بفتح اللام والباء، بمعني التبس واختلط، وبضم اللام، على البناء للمجهول. (¬3) في: باب في الفتح على الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 208. (¬4) في: معالم السنن 1/ 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلي الله عليه وسلم - في القِراءَةِ في صلاةِ الصُّبْحِ، فلم يَفْتَحُوا عليه، فلمَّا قَضَى الصلاةَ نَظَر في وُجُوهِ القَوْمِ، فقال: «أمَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَكُمْ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ؟». قالوا: لا. فرَأَى القَوْمُ إنَّما تفَقَّدَه لِيَفْتَحَ عليه (¬1). ورَوَى مُسَوَّرُ بنُ يَزِيدَ المالِكِيُّ (¬2)، قال: شَهِدْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأُ في الصلاةِ فَتَرَكَ آيةً مِن القرآنِ، فقيلَ: يَا رسولَ اللهِ، آيةَ كذا وكذا تَرَكْتَها. فقال: «فَهَلَّا أَذْكَرْتَنِيهَا؟». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّه تَنْبِيهٌ في الصلاةِ بما هو مَشْرُوعٌ فيها، أشْبَهَ التَّسْبِيحَ. وحديثُ عليٍّ يَرْوِيه الحارِثُ، قال الشَّعْبِيُّ: كان كذَّابًا. وقال أبو داودَ: لم يَسْمَعْ أبو (¬4) إسْحاقَ مِن الحارِثِ إلَّا أرْبَعَةَ أحادِيثَ، ليس هذا منها. فصل: فإن أُرْتِجَ على الإِمَامِ في الفاتِحَةِ، فعلى المَأْمُومِ أن يَفْتَحَ عليه، كما لو نَسِيَ سَجْدَةً لَزِمَهُم تَنْبِيهُه بالتَّسْبِيحِ. فإن عَجَز عن إتْمامِ الفاتحةِ فله أن يَسْتَخْلِفَ مَن يُصَلِّي بهم، وكذلك لو عَجَز في أثْناءِ الصلاةِ عن رُكْن يَمنَعُ الائْتِمامَ، كالرُّكُوعِ، فإنَّه يَسْتَخْلِفُ مَن يُتِمُّ بهم الصلاةَ (4) , كما لو ¬

(¬1) عزاه الهيثمى في مجمع الزوائد إلى البَزَّار والطبراني في الكبير والأوسط. مجمع الزوائد 2/ 69. (¬2) هو المسور بن يزيد المالكى الأسدي الكاهلى، نزل الكوفة، له صحبة. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد 6/ 32، 33. الإكمال، لابن ماكولا 7/ 225، تهذيب التهذيب 10/ 152. (¬3) في: باب الفتح على الإمام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 208. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَقَه الحَدَثُ، بل الاسْتِخْلافُ هاهُنا أَوْلَى؛ لأنَّ مَن سَبَقَه الحَدَثُ قد بَطَلَتْ صلاتُه، وهذا صلاتُه صَحِيحَةٌ. وإذا لم يَقْدِرْ على إتْمامِ الفاتحةِ، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَأْتِي بما يُحْسِنُ، ويَسْقُطُ عنه ما عَجَز عنه، وتَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّ القِراءَةَ رُكْنٌ مِن أرْكانِ الصلاةِ، فإذا عَجَز عنه في أثْناءِ الصلاةِ سَقَط، كالقِيامِ، فأمّا المَأمُومُ؛ فإن كان أُمِّيًّا، صَحَّتْ صلاتُه أَيضًا، وإن كان قارئًا نَوَى مُفارَقَتَه، وأتَمَّ (¬1) وَحْدَه، ولا يَصِحُّ له إتْمامُ الصلاةِ خَلْفَه؛ لأنَّ هذا قد صار في حُكْمِ الأُمِّيِّ. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه إذا لم يَقدِرْ على قِراءَةِ الفاتِحةِ تَفْسُدُ صلاتُه؛ لأنَّه قادِرٌ على الصلاةِ بقراءَتِها فلم تَصِحَّ صلاتُه؛ لعُمُومِ قولِه عليه السَّلامُ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» (¬3). ولا يَصِحُّ قِياسُ هذا على الأمِّيِّ؛ لأن الأُمِّيَّ لو قَدَر على تَعَلُّمِها قبل خُرُوجِ الوَقْتِ، لم تَصِحَّ صلاتُه بدُونِها، وهذا يُمْكِنُه أن يَخْرجَ فيَسْأَلَ عمَّا وَقَف فيه ويُصَلِّيَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على أرْكانِ الأفْعالِ؛ لأنَّ خُرُوجَه مِن الصلاةِ لا يُزِيلُ عَجْزَه عنها، بخِلافِ هذا. ¬

(¬1) في م: «وصلى». (¬2) في: المغني 2/ 315. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 440.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ أن يَفْتَحَ مَن هو في الصلاةِ على مَن هو في صلاةٍ أُخْرَى، أو على مَن ليس في صلاةٍ؛ لأنَّ ذلك يَشْغَلُه عن صلاِته، وقد قال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» (¬1). فإن فَعَل لم تَبْطُلْ صلاتُه؛ لأنَّه قُرآنٌ، إنَّما قَصَد قِراءَتَه دُونَ خِطاب الآدَمِيِّ لغيرِه (¬2)، أشْبَهَ ما لو رَدَّ على إمامِه. وقال ابنُ عَقِيل، في المُصلِّي إذا رَدَّ على مَن ليس في الصلاةِ: إن كان في النَّفْلِ فلا بَأْسَ، وإن كان في الفَرْضِ، [لم يَجُزْ. وهل تَبْطُلُ] (¬3)؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن. فأمّا غيرُ المُصَلِّي فلا بَأْسَ أن يَفْتَحَ على المُصَلِّي. وقد روَى النَّجّادُ بإسْنادِه، قال (¬4): كُنْتُ قاعِدًا بمَكَّةَ، فإذا رجلٌ عندَ المَقامِ يُصَلِّي، وإذا رَجُلٌ قاعِدٌ خَلْفَه يُلَقِّنُه، فإذا هو عثمانُ (¬5)، رَضِيَ اللهُ عنه (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، وباب لا يرد السلام في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة, وفي: باب هجرة الحبشة، من كتاب مناقب الْأَنصار. صحيح البُخَارِيّ 5/ 64. ومسلم، في: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 2/ 78، 83. وأبو داود، في: باب رد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 211. وابن ماجه, في: باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 325. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 376، 409. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فهل تبطل صلاته». (¬4) القلائل هو عبيدة بن ربيعة. (¬5) في م: «عمر». (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من رخص في الفتح على الإمام، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 77.

448 - مسألة: (وإذا نابه شيء، مثل سهو إمامه، أو استئذان إنسان عليه، سبح إن كان

وَإذَا نَابَهُ شَيْءٌ، مِثْلَ سَهْوِ إمَامِهِ، أو اسْتِئْذَانِ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ، سَبَّحَ إنْ كَانَ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً صَفَّحَتْ بِبَطْنِ كَفِّهَا عَلَى ظَهْرِ الأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 448 - مسألة: (وإذا نابَه شَيْءٌ، مِثْلَ سَهْوِ إمامِهِ، أو اسْتِئْذَانِ إنسانٍ عليه، سَبَّحَ إن كان (¬1) رجلًا، وإن كانَتِ امْرَأةً صَفَّحَتْ (¬2) بِبَطْنِ كفِّها على ظَهْرِ (¬3) الأُخْرَى) وجُمْلَتُهُ أنَّه إذا سَها الإِمامُ فأتَى بفِعْلٍ في غيرِ مَوْضِعِه، لَزِم المَأْمُومِين تَنْبِيهُه، فإن كانُوا رِجالًا سَبَّحُوا، وإن كانُوا نِساءً صَفَّقْنَ بِبُطونِ أكُفِّهِنَّ على ظُهُورِ الأُخْرَى، وبه قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: يُسَبِّحُ الرِّجالُ والنَّسَاءُ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «صفقت». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَاتِهِ، [فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ] (¬1)». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولَنا، ما رَوَى سَهْل بنُ سعدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاتِكُمْ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، وَلْيُصَفِّحِ النِّسَاءُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) في م: «فليسبح الرجال ولتصفح النساء». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من دخل ليؤم النَّاس. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، من كتاب العمل في الصلاة، وفي: باب الإشارة في الصلاة، من كتاب السهو, وفي: باب ما جاء في الإصلاح بين النَّاس، من كتاب الصلح. صحيح البُخَارِيّ 1/ 174، 175، 2/ 83، 84، 88، 89، 3/ 239. ومسلم، في: باب تقديم الجماعة من بصلي بهم. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 316، 317. كما أخرجه أبو داود، في: باب التصفيق في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 216. والنَّسائيّ, في: باب إذا تقدم الرَّجل من الرعية ثم جاء الوالي هل يتأخر، وباب استخلاف الإمام إذا غاب، من كتاب الإمامة، وفي: باب رفع اليدين وحمد الله والثناءِ عليه في الصلاة، من كتاب السهو، وفي: باب مصير الحاكم إلى رعيته للصلح بينهم، من كتاب القضاة. المجتبى 2/ 60، 61، 64، 65، 3/ 4، 5، 8/ 213. والدارمي، في: باب التسبيح للرجل والتصفيق للنساء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 317. والإمام مالك، في: باب الالتفات والتصفيق عند الحاجة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 163, 164. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 330، 332، 333. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم، من كتاب الأحكام. صحيح البُخَارِيّ 9/ 92. ومسلم في: باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 316، 317. كما أخرجه أبو داود، في: باب التصفيق في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 215، 216. والنَّسائيّ، في: باب استخلاف الإمام إذا غاب, من كتاب الإمامة، وفي. باب رفع اليدين وحمد الله والثناء عليه في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبي 2/ 64، 65، 3/ 4، 5. وابن ماجه، في الباب السابق. سنن ابن ماجه 1/ 330. والدارمي، في: الباب السابق. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 332، 333.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا سَبَّحَ لتَنْبِيهِ إمامِه، أو لاسْتِئْذانِ إنْسانٍ عليه، وهو في الصلاةِ، أو كَلَّمَه بشئٍ، أو نابَه أمْرٌ في صلاتِه فسَبَّحَ ليُعْلَم (¬1) أنَّه في صلاةٍ، أو خشِيَ على إنْسانٍ الوُقُوعَ في شئٍ فسَبَّحَ به، أو خَشِيَ أن يَتْلَفَ بشئٍ فسَبَّحَ به (¬2) لِيَتْرُكَه، أو تَرَكَ إمامُه ذِكْرًا فرَفَعَ صَوْتَه ليُذَكِّرَه، لم يُؤَثِّرْ في الصلاةِ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّ تَنْبِيهَ الآدَمِيِّ بالتَّسْبِيحِ، أو القُرآنِ، أو الإِشارَةِ يُبْطِلُ الصلاةَ؛ لأنَّ ذلك خِطابُ آدَمِيٍّ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ أحادِيثِ النَّهْيِ عن الكلامِ؛ لأنَّه قد رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «مَنْ أَشَارَ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْقَهُ أَو تُفهَمُ، فَقَدْ قَطَع الصَّلَاةَ» (¬3). ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ولِما ذَكَرْنا مِن ¬

(¬1) في م: «ليعلمه». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الإشارة في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 216، 217. ولفظه: «من أشار بيده في صلاته إشارة تُفْهَم عنه، فَلْيَعُدْ لها». (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التصفيق للنساء، من كتاب العمل في الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 79، 80. ومسلم، في: باب تسبيح الرَّجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة. صحيح مسلم 1/ 319. كما أخرجه أبو داود، في: باب التصفيق في الصلاة، وباب الإشارة في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 215 - 217. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء, من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 164. والنَّسائيّ، في: باب التصفيق في الصلاة، وباب التسبيح في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 11. وابن ماجه، في: باب التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 329. والدارمي، في: باب التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 317. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 241، 261، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثِ سَهْلِ بنِ سعدٍ. وعن ابنِ عُمَرَ، قال: قُلْتُ لبلالٍ: كيفَ كان النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَرُدُّ عليهم حينَ كانُوا يُسَلِّمُونَ عليه في الصلاةِ؟ قال: كان يُشِيرُ بيَدِه (¬1). وعن صُهَيْبٍ، قال: مَرَرْتُ برسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصَلِّي، فسَلَّمْتُ عليه (¬2) فَرَدَّ عليَّ إشارَةً (¬3). قال التِّرمِذِيُّ: كِلا الحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. وقد ذَكَرْنَا حديثَ أنَسٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُشِيرُ في الصلاةِ. رَواه أبو داودَ (¬4). وعن عليٍّ، قال: كُنْتُ إذا اسْتَأْذَنْتُ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فإن كان في صلاةٍ سَبَّحَ، وإن كان في غيرِ صلاةٍ أذِنَ (¬5). وحديثُ أبي حنيفةَ يَرْوِيه أبو غَطَفانَ وهو مَجْهُولٌ، فلا تُعارَضُ بِه الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فصل: فإن عَطَس في الصلاةِ، فقال: الحَمْدُ لِلهِ. أو لَسَعَه شئٌ، فقال: بِسْمِ اللهِ. أو سَمِعَ أو رَأَى ما يَغُمُّه، فيقولُ: إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ ¬

= 317, 376, 432, 440, 473, 479, 507, 529. (¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الإشارة, أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 162. والنَّسائيّ، في: باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 6. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب رد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 212. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 162، 163. والنَّسائيّ، في: باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 6. والدارمي، في: باب كيف يرد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 316. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 609. (¬5) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 77 , 79، 98، 103, 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَاجِعُونَ. أو رَأى ما يُعْجِبُه، فقال: سُبْحَانَ اللهِ. كُرِهَ له ذلك، ولم تَبْطُلِ الصلاةُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الجماعةِ، في مَن عَطَس فحَمِدَ اللهُ لم تَبْطُلْ صلاتُه. ونَقَل عنه مُهَنَّا في مَن قِيلَ له في الصلاةِ: وُلِدَ لك غُلامٌ. فقال: الحَمْدُ للهِ. أو قِيلَ: احْتَرَقَ دُكَّانُكَ. فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ. أو ذَهَبَ كِيسُكَ. فقال: لا حَوْلَ ولا قُوةَ إلَّا باللهِ. فقد مَضَتْ صلاتُه. وهذا قَوْلُ الشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ؛ لِما رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِي اللهُ عنه، أنَّه قال له رجلٌ مِن الخَوارِجِ وهو في صلاةِ الغَداةِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬1). الآيةُ، قال: فأنْصَتَ له حتَّى فَهِم، ثم أجابَه وهو في الصلاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} (¬2). الآيةُ. رواه النَّجَّادُ بإسْنادِه، واحْتَجَّ به أحمدُ. [وقال أبو حنيفةَ: تَفْسُدُ صلاتُه، لأنَّه كَلامُ آدَمِيٍّ. وقد رُوِيَ نَحْوُ ذلك عن أحمدَ] (¬3)، فإنَّه قال في مَن قِيلَ له: وُلِدَ لك غُلَامٌ. فقال: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. أو ذَكَر مُصِيبَةً، فقال: إنَّا للهِ وَإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قال: يُعِيدُ الصلاةَ. قال القاضي: هذا مَحْمُولٌ على مَن قَصَد خِطَابَ الآدَمِيِّ. ووَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْنا مِن حديثِ عليٍّ، ورَوَى عامِرُ بنُ رَبِيعَةَ، قال: عَطَس شَابٌّ ¬

(¬1) سورة الزمر 65. (¬2) سورة الروم 60. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الأنْصارِ خلفَ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وهو في الصلاةِ، فقال: الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيْبًا مُبارَكًا فيه، حتَّى يَرْضَى رَبُّنا، وبعدَ ما يَرْضَى مِن أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. فلمّا انْصَرَفَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «فَي الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ؟ فَإنَّهُ لم يَقُلْ بَأْسًا، مَا تَنَاهَتْ دُونَ الْعَرْشِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ ما لا يُبْطِلُ الصلاةَ ابْتِداءً لا يُبْطِلُها إذا أتَى به عَقِيبَ سَبَبٍ، كالتَّسْبِيِحِ لتَنْبِيهِ إمامِه. قال الخَلَّالُ: اتَّفَقُوا عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّ العاطِسَ لا يَرْفعُ صَوْتَه بالحمدِ، وإن رَفَع فلا بَأْسَ؛ لحديثِ الأنْصارِيِّ. قال أحمدُ، في الإِمامِ يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. فيَقولُ مَن خَلْفَه: لا إلهَ إلَّا اللهُ. يَرْفَعُونَ بها أصْواتَهم، قال: يَقُولُون، ولكنْ يُخْفُونَ (¬2). وإنَّما لم يَكْرَهْ أحمدُ ذلك, كما كَرِه القِراءَةَ خَلْفَ الإِمامِ؛ لأنَّه يَسِيرٌ لا يَمْنَعُ الإِنْصاتَ فَهُو (¬3) كالتَّأمِينِ. قيل لأحمدَ: فإن رَفَعُوا أَصْواتَهم بهذا؛ قال: أكْرَهُه. قِيلَ: فيَنْهاهم الإِمامُ؟ قال: لا. قال القاضي: إنَّما لم يَنهَهم؛ لأنَّه قد رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه كان يُسْمِعُهُم الآيَةَ أحْيانًا في صلاةِ الإِخفاءِ (¬4). ¬

(¬1) في: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 178. (¬2) في م: «يخفضون». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «الإخفات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قيل لأحمدَ: إذا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (¬1). هل يقولُ: «سُبْحَان رَبِّيَ الأعْلَى؟». قال: إن شاء قاله (¬2) فيما بينَه وبينَ نَفْسِه، ولا يَجْهَرُ به. وقد رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه قَرَأ في الصلاةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. فقال: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى. وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه قَرَأ. {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. فقال: سُبْحانَكَ, وبَلَى (¬3). وعن مُوسَي بنِ أبي عائشةَ، قال: كان رجلٌ يُصَلِّي فوقَ بَيْتِه، فكان إذا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. قال: سُبْحانَكَ، فبَلَى. فسَأَلُوه عن ذلك، فقال: سَمِعْتُه مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رَواه أبو داودَ (¬4). فصل: فإن قَرَأ القُرآنَ يَقْصِدُ به تَنْبِيهَ آدَمِيٍّ، مثلَ أن يُسْتَأْذَنَ عليه، فيقولَ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} (¬5). أو يقولَ (¬6) لرجُلٍ اسمُه يحيى. {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (¬7). فقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه ¬

(¬1) سورة القيامة 40. (¬2) في م: «وإلا». (¬3) في الأصل: «ربي». (¬4) في: باب الدعاء في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 204. (¬5) سورة الحجر 46. (¬6) في م: «يقولون». (¬7) سورة مريم 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُبْطِلُ الصلاةَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه خِطابُ آدَمِيٍّ، أشْبَهَ ما لو كَلَّمَه. ورُوِيَ عنه ما يَدُلُّ على أنَّها لا تَبْطُلُ؛ فإنَّه احْتَجَّ بحديثِ عليٍّ مع الخارِجِيِّ حِينَ (¬1) قال له: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} (¬2). ورُوِيَ نَحْوُ هذا عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ أبي لَيْلَى؛ فرَوَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه، عن عَطاءِ بنِ السّائِبِ، قال: اسْتَأْذَنَّا على عبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيْلَى، وهو يُصَلِّي، فقال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ} (¬3). ولأنَّه قُرآنٌ فلم يُفْسِدِ الصلاةَ، كما لو لم يَقْصِدْ به التَّنْبِيهَ. وقال القاضي: إن قَصَد التِّلاوَةَ حَسْبُ، لم تَفْسُدْ صلاتُه وإن حَصَل التَّنْبِيهُ، وإن قَصَد التَّنْبِيهَ حَسْبُ، فَسَدَتْ صلاتُه؛ لأنَّه خاطَبَ آدَمِيًّا، وإن قَصَدَهُما ففِيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تَفْسُدُ صلاتُه (¬4). وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الآثارِ والمَعْنَى. والثَّانِي، تَفْسُدُ صلاتُه؛ لأنَّه خاطَبَ آدَمِيًّا، أشْبَهَ ما لو لم يَقْصِدِ التِّلاوَةَ. فأمّا إن أتَي بما لا يَتَمَيَّزُ به القُرآنُ مِن غيرِه، كقولِه لرجلٍ اسْمُه إبراهيمُ: يَا إبراهيمُ. ونحوِه، فَسَدَتْ صلاتُه؛ لأنَّ هذا كَلامُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الروم 60. (¬3) سورة يوسف 99. (¬4) سقط من: م.

449 - مسألة: (وإن بدره البصاق بصق في ثوبه، وإن كان في غير المسجد جاز أن يبصق عن يساره، أو تحت قدمه)

وَإِنْ بَدَرَهُ الْبُصَاقُ، بَصَقَ فِي ثَوْبِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ جَازَ أَنْ يَبْصُقَ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسِ، ولم يَتَمَيَّزْ عن كَلامِهم بما يَتَمَيَّزُ به القرآنُ، أشْبَهَ ما لو جَمَع بينَ كلِمَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِن القُرآنِ، فقال: يَا إبراهيمُ خُذِ الكتابَ الكبيرَ. 449 - مسألة: (وإن بَدَرَه البُصاقُ بَصَق فِي ثَوْبِه، وإن كان فِي غَيرِ المَسْجدِ جاز أن يَبْصُقَ عن يَساره، أو تحتَ قَدَمِه) لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَأَى نُخامَةً في قِبْلَةِ المسجدِ فأقْبَلَ على النَّاس، فقال: «مَا بَالُ أحَدِكُمْ يَقُومُ مُستقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإذَا تَنَخَّعَ أحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُل هَكَذَا». ووَصَف القاسِمُ، فتَفَلَ في ثَوْبِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم مَسَح بعضَه على بعضٍ. وقال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «البُصَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفارَتُهَا دَفْنُهَا». رَواهما (¬1) مسلمٌ (¬2). ¬

(¬1) في الأصل، م: «رواه». (¬2) في: باب النَّبِيّ عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 389، 390. كما أخرج الأول البُخَارِيّ، في: باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، وباب دفن النخامة في المسجد، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 112، 113. وأبو داود، في: باب في كراهية البزاق في المسجد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 111. وابن ماجه، في: باب المصلى يتنخم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 326. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 250. وأخرج الثاني البُخَارِيّ، في: باب كفارة البزاق في المسجد، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 113. وأبو داود، في الباب السابق. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 173، 232.

450 - مسألة: (ويستحب أن يصلي إلى سترة مثل آخرة الرحل)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى سُتْرَة مِثْلِ آخِرَةِ الرَّحْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 450 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أَن يُصَلِّيَ إلى سُتْرَةٍ مِثْلِ آخِرَةِ الرَّحْلِ) يُستحَبُّ للمُصَلِّي الصلاةُ إلى سُتْرَةٍ، فإن كان في مسجدٍ أو بيتٍ صَلَّى إلى الحائِطِ أو إلى سارِيةِ، وإن كان في فَضاءٍ صَلَّى إلى شئٍ شاخِصٍ بينَ يَدَيْه، إمّا إلى حَرْبَةٍ أو عَصًا، أو يَعْرِضُ البَعِيرَ فيُصَلِّي إليه، لا نَعْلَمُ في اسْتِحْبابِ ذلك خِلَافًا، وسَواءٌ ذلك في الحَضَرِ والسَّفَرِ؛ لأن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانت تُرْكَزُ له الحَرْبَةُ فيُصَلِّي إليها (¬1)، ويُعْرَضُ البَعِيرُ فيُصَلِّي إليه (¬2). وفي حديثِ أبي جُحَيْفَةَ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رُكِزَتْ له عَنَزَةٌ (¬3)، فتَقَدَّمَ فصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بينَ يَدَيْهِ الحِمارُ والكَلْبُ، لا يُمْنَعُ. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب سترة الإمام سترة من خلفه، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 133. وأبو داود، في: باب ما يستر المصلى، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 158. والنَّسائيّ، في: باب سترة المصلى، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 49. (¬2) يأتي تخريجه بعد فصلين. (¬3) العنزة: رميح بين العصا والرمح فيه زج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وعن طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا وَضَعَ أحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ ولَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ ورَاءَ (¬2) ذَلِكَ». رَواه مسلمٌ (¬3). فصل: وقَدْرُ طُولِها ذِراعٌ أو نَحْوُه. يروَى ذلك عن عَطاءٍ، والثوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْيِ. وعنه أنَّها قَدْرُ عَظْمِ الذِّراعِ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. وهذا ظاهِرُه (¬4) التَّقْرِيبُ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَدَّرَها بمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ (¬5)، وهي تَخْتَلِفُ، فتارَةً تَكُونُ ذِراعًا، وتارةٌ تكونُ أقَلَّ، فما قارَبَ الذِّراعَ أجْزَأ الاسْتِتارُ به. فأمّا قَدْرُها في الغِلَظِ فلا نَعْلَمُ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب سترة الإمام سترة من خلفه، وباب الصلاة إلى العنزة، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 133. ومسلم، في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 360. وأبو داود، في: باب ما يستر الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 158. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في إدخال الإصبع الأذن عند الأذان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 312. والنَّسائيّ، في: باب الانتفاع بفضل الوضوء، من كتاب الطهارة، وفي باب الصلاة في الثياب الحمر، من كتاب القبلة. المجتبى 1/ 74، 2/ 57. والدارمي، في: باب الصلاة إلى سترة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 328. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 243. (¬2) في م: «من وراء». (¬3) في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 358. كما أخرجه أبو دواد، في: باب ما يستر المصلى، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 158. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في سترة المصلى، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 129. وابن ماجه، في: باب يستر المصلى، وباب ما يقطع الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 303، 306. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 161. (¬4) في م: «ظاهر». (¬5) أخرجه مسلم، في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 359. والنَّسائيّ، في: باب سترة المصلى، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له (¬1) حَدًّا، فقد تكونُ غَلِيظَةٌ، كالحائِطِ، ودَقِيقَةً، كالسَّهْمِ، فإنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَسْتَتِرُ بالعَنَزَةِ. وقال أبو سَعِيدٍ: [كنا نَسْتَتِرُ] (¬2) بالسَّهْمِ والحَجَرِ في الصلاةِ. إلَّا أنَّ أحمدَ قال: ما كان أعْرَضَ فهو أعْجَبُ إليَّ، لِما رُوِيَ عن سَبْرَةَ (¬3)، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «اسْتَتِرُوا فِي الصلاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ». رَواه الأثْرَمُ (¬4)، فقولُه: «وَلَوْ بِسَهْمٍ». يَدُلُّ على أنَّ غيرَه أوْلَى منه. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَدْنُوَ مِن سُتْرَتِه، لِما روَى سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ، يَرْفَعُه، أنَّه قال: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ». رَواه أبو داودَ (¬5). وعن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال: كان بينَ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وبينَ السُّتْرَةِ مَمَرُّ الشَّاةِ. رَواه البخارِيُّ (¬6). ولأنَّ قُرْبَه مِن السُّتْرَةِ أصْوَنُ لِصلاِته وأبْعَدُ مِن أن يَمُرَّ بينَه ¬

(¬1) في م: «فيه». (¬2) في م: «كان يستتر». (¬3) في الأصل: «سمرة». (¬4) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 404. (¬5) في: باب الدنو من السترة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 160. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الأمر بالدنو من السترة، من كتاب القبلة. المجتبى 3/ 49. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 2. (¬6) في: باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما ذكر النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. . . إلخ، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 133، 9/ 129. كما أخرجه مسلم، في: باب دنو المصلى من السترة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 364. أبو داود، في: باب الدنو من السترة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 160. . بلفظ: «ممر عنز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينَها شئٌ، ويَنْبَغِي أن يكونَ مِقْدارُ ذلك ثَلاثةَ أذْرُع فما دُونَ. قال أحمدُ: إن ابنَ عُمَرَ، قال: صَلَّى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الكَعْبَةِ، فكان بينَه وبينَ الحائِطِ ثلاثةُ أذْرُعٍ (¬1). وكان (¬2) عبدُ اللهِ بنُ مُغفَّل (¬3) يَجْعَلُ بينَه وبينَ سُترتِه سِتَّةَ أذْرُعٍ. وقال عَطاءٌ: أقَل ما يَكْفِيكَ ثلاثةُ أذْرُعٍ. وهو قولُ الشافعيِّ، لخبَرِ ابن عمرَ. وكلَّما دَنَا فهو أفْضَلُ، لِما ذَكَرْنا مِن الأخْبارِ والمَعْنَى. قال مُهَنّا: سَأَلْتُ أحمدَ عن الرجُلِ يُصَلِّي، كم يَنْبَغِي أن يكونَ بَيْنَه وبينَ القِبْلَةِ؟ قال: يَدْنُو مِن القِبْلَةِ ما اسْتَطاعَ. فصل: ولا بَأْسَ أن يَسْتَتِرَ ببَعِيرٍ أو حَيَوانٍ، فَعَلَه ابنُ عُمَرَ، وأنسٌ. وقال الشافعيُّ: لا يَسْتَتِرُ بدابَّةٍ. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى إلى بَعِيرٍ. رَواه البخاريُّ (¬4). وفي لَفْظٍ، قال: قُلْتُ: فإذا ذَهَب الرِّكابُ؟ قال: كان يَعْرِضُ الرَّحْلَ، ويُصَلِّي إلى آخِرَتِه. فإن اسْتَتَرَ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حَدَّثَنَا إبراهيم بن المنذر، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 134، 135. وأبو داود، في: باب الصلاة في الكعبة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 466، 467. والنَّسائيّ، في: باب مقدار ذلك، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 49. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 113، 138، 6/ 13. (¬2) في الأصل: «قال». (¬3) أبو سعيد، عبد الله بن مغفل بن عبد منهم المزني، من نقباء الصَّحَابَة، ومن أهل بيعة الرِّضوان، وأحد العشرة الذين بعثهم عمر يفقهون النَّاس، سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة. توفى سنة سبع وخمسين. تهذيب الكمال 16/ 173 - 175. (¬4) في: باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 135. كما أخرجه مسلم، في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 359 - 360. وأبو داود، في: باب الصلاة إلى الراحلة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 159. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الصلاة إلى الراحلة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 147. والدارمي، في: باب الصلاة إلى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإنْسانٍ فلا بَأْسَ؛ لأنَّه يَقُومُ مَقامَ (¬1) غيرِه (¬2). وقد رُوِيَ عن حُمَيْدِ بنِ هلالٍ، قال: رَأَى عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رجلًا يُصَلِّي، والنّاسُ يَمُرُّونَ بينَ يَدَيْه، فوَلّاهُ ظَهْرَه، وقال بثَوْبِه هكذا، وبَسَط يَدَيْه هكذا، وقال: صَلِّ، ولا تَعْجَلْ. وعن نافِعٍ قال: كان ابنُ عُمَرَ إذا لم يَجِدْ سَبِيلًا إلى سارِيَةٍ مِن سَوارِي المسجدِ، قال لنافِعٍ: وَلِّنِي ظَهْرَكَ. رَواهُما النَّجّادُ (¬3). فأمّا الصلاةُ إلى وَجْهِ الإنْسانِ فتُكْرَهُ؛ لأنَّ عُمَرَ (¬4) أدَّب على ذلك. وعن عائشةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي حِذاءَ وَسَطِ السَّرير، وأنا مُضْطَجِعَةٌ بينَه وبينَ القِبْلَةِ، تكونُ لىَ الحاجَةُ، فأكْرَهُ أن أقُومَ فأسْتَقْبِلَه، فأنْسَلُّ انْسِلالُا. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ¬

= الراحلة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 328. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 3، 14. (¬1) في م: «مقامه». (¬2) سقط من: م. (¬3) انظر ما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة إلى الأسطوانة، من كتاب الصلاة (أبواب سترة المصلى). صحيح البُخَارِيّ 1/ 134. وعبد الرَّزّاق، في: باب كم يكون بين الرَّجل وبين سترته، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 15. أما أثر ابن عمر فأخرجه ابن أبي شيبة، في: باب الرَّجل يستر الرَّجل إذا صلى إليه أم لا، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 1/ 279. (¬4) في الأصل: «ابن عمر». (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة إلى السرير، وباب استقبال الرَّجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، وباب من قال لا يقطع الصلاة شيء، من كتاب الصلاة، وفي: باب السرير، من كتاب الاستئذان صحيح البُخَارِيّ 1/ 135، 136، 137، 8/ 76. ومسلم، في: باب الاعتراض بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 125. ويأتي بلفظ آخر في صفحة 643.

451 - مسألة: (فإن لم يجد، خط خطا)

فَإنْ لَمْ يَجِدْ، خَطَّ خَطًّا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 451 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ، خَطَّ خَطًّا) [متى لم يَجِدْ سُتْرَةً يُصَلِّي إليها خَطَّ خَطًّا] (¬1)، وَصَلَّى إلَيْهِ، وقام ذلك مَقامَ السُّتْرَةِ، نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والأوْزاعِيُّ، وأَنْكَرَه مالكٌ، واللَّيْثُ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ بالخَطِّ، بالعِراقِ، وقال بمِصْرَ: لا يَخُطُّ المُصَلِّي خَطًّا، إلَّا أن يكونَ فيه سُنَّةٌ تُتَّبَعُ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقاءَ وَجْههِ شَيْئًا، فَإنْ لَمْ يَجَدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإن لم يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أمَامَهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وصِفَةُ الخَطِّ مثلُ الهِلالِ. قال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب الخط إذا لم يجد عصا، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 158. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يستر المصلى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 303. الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 249، 255، 266.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ غيرَ مَرَّةٍ، وسُئِلَ عن الخَطِّ. فقال: هكذا غَرْضًا مثلَ الهِلالِ. قال (¬1): وسَمِعْت مُسَدَّدًا (¬2)، قال: قال [ابنُ داودَ] (¬3): الخَطُّ بالطُّولِ. وقال، في رِوايَةِ الأثْرَم: قالُوا: طُولًا. وقالوا: عَرْضًا. وأمّا أنا فأخْتارُ هذا. ودَوَّرَ بإصْبَعِه مثَلَ القَنْطَرَةِ. وكَيْفَما خَطَّه أجْزَأَ؛ لأنَّ الحديثَ مُطلَقٌ فكَيْفَما أتَى به، فقد أتَى بالخَطِّ. واللهُ أعلمُ. فصل: فإن كان معه عَصًا لا يُمْكنُه نَصْبُها (¬4)، ألقاها بينَ يَدَيْه عَرْضًا. نَقَلَه الأثْرَمُ. وكذلك قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، والأوْزاعِيُّ. وكَرِهَه النَّخَعِيُّ. ولَنا، أنَّ هذا في مَعْنَى الخَطِّ الذى ثَبَت اسْتِحْبابُه بالحدِيثِ الذى رَوَيْناه. فصل: وإذا صَلَّى إلى عُودٍ أو عَمُودٍ أو نَحْوِه، اسْتُحِبَّ أن يَنْحَرِفَ عنه، ولا يَصْمُدَ له صَمْدًا (¬5)، لما روَى أبو داودَ (¬6)، عن المِقْدادِ بنِ الأسْوَدِ، قال: ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى إلى عُودٍ أو إلى عَمُودٍ ولا ¬

(¬1) أي أبو داود، في: باب الخط إذا لم يجد العصا، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 159. (¬2) أبو الحسن مسدد بن مسرهد بن مسربل البَصْرِيّ، محدث ثِقَة. توفى سنة ثمان وعشرين ومائتين. تهذيب الكمال 27/ 443 - 448. (¬3) في م: «ابن أبي داود». وهو أبو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن داود بن عامر الهمداني المعروف بالخُرَيْبِيّ نسبة إلى خُرَيْبَة وهي محله بالبصرة، كان ثِقَة عابدا ناسكًا. توفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين. تهذيب الكمال 14/ 458 - 467. (¬4) سقط من الأصل. (¬5) سقط من: م. (¬6) في: باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 159. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَجَرَةٍ، إلَّا جَعَلَه على حاجِبِه الأيْمَنِ مَنِ أو الأيْسَرِ، ولا يَصْمُدُ له صَمْدًا. أي لا يَسْتَقْبِلُه فيَجْعَلَه وَسَطًا. ومَعْنَى الصَّمْدِ: القَصْدُ. فصل: وتُكْرَهُ الصلاةُ إلى المُتَحَدِّثِين، لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بحَدِيثِهم. واخْتَلَفَ في الصلاةِ إلى النَّائِمِ، فرُوِيَ أنَّه يُكْرَهُ، رُوِي ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْر. وعنه، ما يَدُلُّ على أنَّه إنَّما يُكْرَهُ في الفَرِيضَةِ خاصَّةً؛ لأَنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ وعائشةُ مُعْتَرِضَةٌ بينَ يَدَيْه كاعْتِراض الجِنازَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَهَى عن الصلاةِ إلى النَّائِمِ والمُتَحَدِّثِ. رَواه أبو داودَ (¬2). وخَرَج التَّطَوُّعُ منه، لحديثِ عائشةَ، وبَقِيَ الفَرْضُ على مُقْتَضَى العُمُومِ. وقِيلَ: لا يُكْرَهُ فيهما؛ لأنَّ حَدِيثَ عائشةَ صَحِيحٌ، وحَدِيثَ النَّهْيِ ضَعِيفٌ. قاله الخَطّابِيُّ (¬3). وتَقْدِيمُ قِياس الخَبَرِ الصَّحِيحَ أَوْلَى مِنْ الضَّعِيفِ. ويُكْرَهُ أن يُصَلِّيَ إلى نارٍ. قال أحمدُ: إذا كان التَّنُّورُ في قِبْلَتِه لا يُصَلِّي إليه. وكَرِهَه ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة على الفراش، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 107. ومسلم، في: باب الاعتراض بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. وأبو داود، في: باب من قال المرأة لا تقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 163، والنَّسائيّ، في: باب من ترك الوضوء من مس الرَّجل امرأته من غير شهوة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 85. وابن ماجه، في: باب من صلى وبينه وبين القبلة شيء، من كتاب الإقامة، سنن ابن ماجه 1/ 307. والدارمي، في: باب المرأة تكون بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 328. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 37، 103، 126، 134، 199، 200، 231، 260، 275. (¬2) في: باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 160. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من صلى وبينه وبين القبلة شيء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 308. (¬3) في: معالم السنن 1/ 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ سيِرِينَ. قال أحمدُ، في السِّراجِ والقِنْدِيلِ يكونُ في القِبْلَةِ: أكْرَهُه. وإنَّما كُرِهَ ذلك؛ لأنَّ النّارَ تُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ، فالصلاةُ إليها [تُشْبِهُ الصلاةَ] (¬1) لها. وقال أحمدُ: لا تُصَلِّ إلى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ في وَجْهِكَ، وذلك لأنَّ الصُّورَةَ تُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ. وقد رُوِيَ عن عائشةَ، قالت: كان [لنا ثَوْبٌ] (¬2) فيه تَصاوِيرُ، فجَعَلْتُه بينَ يَدَيْ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصَلِّي، فنَهانِي. أو قالت: كَرِه ذلك. رَواه عبدُ الرحمنِ بنُ أبِي حاتِمٍ، بإسْنادِه. ولأنَّ المُصَلِّيَ يَشْتَغِلُ بها عن صلاِته. قال أحمدُ: يُكْرَهُ أن يكونَ في القِبْلَةِ شئٌ مُعَلَّقٌ، مُصْحَفٌ أو غيرُه. ولا بَأْسَ أن يكونَ مَوْضُوعًا بالأرض. ورَوَى مُجَاهِدٌ، قال: لم يَكُنِ ابنُ عُمَرَ يَدَعُ بينَه وبينَ القِبْلَةِ شيئًا إلَّا نَزَعَه، لا سَيْفًا ولا مُصْحَفًا. رَواه الخَلَّالُ. قال أحمدُ: ولا يُكْتَبُ في القِبْلَةِ شئٌ؛ لأنَّه يَشْغَلُ قَلْبَ المُصَلى، ورُبَّما اشْتَغلَ بقِراءَتِه عن الصلاةِ. وكذلك يُكْرَهُ التَّزْوِيقُ، وكلُّ ما يَشْغلُ المُصَلِّيَ عن صلاِته، فإنَّه رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال لعائشةَ: «أمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ (¬3)، فَإنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تُعْرِضُ لِي فِي صلَاتى». رَواه البخاريُّ (¬4). وإذا كان ¬

(¬1) في الأصل: «كالصلاة». (¬2) في م: «التابوت». (¬3) القرام: الستر الرقيق، وفيه رقم ونقوش. (¬4) في: باب إن صلى ثوب مصلَّب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك، من كتاب الصلاة، وفي: باب كراهية الصلاة في التصاوير، من كتاب اللباس. صحيح البُخَارِيّ 1/ 105، 7/ 216. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 151، 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيُّ، مع ما أيَّدَه الله به مِن العِصْمَةِ والخُشُوعِ، يَشْغلُه ذلك، فغَيْرُه مِن النّاسِ أوْلَى. ويُكْرَهُ أن يُصَلِّيَ وأمامَه امْرَأةْ تُصَلِّي، لقولِ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ الله» (¬1). وإن كانت عن يَمِينِه أو يَسارِه، لم يُكْرَه، وإن كانَتْ تُصَلِّي. وكَرِهَ أحمدُ أن يُصَلِّيَ وبينَ يَدَيْه كافِر. ورُوِيَ عن إسْحاقَ؛ لأنَّ المُشْرِكِين نَجَسٌ. فصل: ولا بَأس أن يُصَلِّيَ بمَكَّةَ إلى غيرِ سُتْرَةٍ، رُوِيَ ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ. وقال الأثْرَمُ: قِيل لأحمدَ: الرَّجُلُ يُصَلِّي بمَكَّةَ، ولا يَسْتَتِرُ بشئٍ؛ فقال: قد رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه صلَّى ثَمَّ ليسَ بينَه وبينَ الطُّوَّافِ سُتْرَةٌ. قال أحمدُ: لأنَّ مَكَّةَ ليستْ كغيرِها، لِما روَى الأثْرَمُ، بإسنادِهِ، عن المُطلِب، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا فَرَغ مِن سَبْعَةٍ، جاءَ حتَّى يُحاذِيَ الرُّكْنَ بينَه وبينَ السَّقِيفَةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْن (¬2) في حاشِيَةِ المَطافِ، وليس بينَه وبينَ الطَّوَّافِ أحَدٌ (¬3). وقال ¬

(¬1) أخرجه عبد الرَّزّاق موقوفًا على ابن مسعود، في: باب شهود النساء الجماعة، من كتاب الصلاة. مصنف عبد الرَّزّاق 3/ 149. (¬2) في م: «ركعته». (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب الركعتين بعد الطواف، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 986.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمّارُ [بنُ أبي عَمّارٍ] (¬1): رَأَيْتُ ابن الزُّبَيْرِ جاءَ يُصَلِّي والطُّوَّافُ بينَه وبينَ القِبْلَةِ، تَمُرُّ المَرْأةُ بينَ يَدَيْه، فيَنْتَظِرُها حتَّى تَمُرَّ، ثم يَضَعُ جَبْهَتَهُ في مَوْضِع قَدَمِها (¬2). رَواه حَنْبَلٌ، في كتاب «المَنَاسِكِ». قال المُعْتَمِرُ: قُلْتُ لطاوُسٍ: الرجلُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْن بمَكَّةَ، فيَمُرُّ بينَ يَدَيْه الرجلُ والمَرْأَةُ؛ فقال: أوَ لا تَرَى أنَّ النّاسَ يَبُكُّ (¬3) بَعْضُهُم بَعْضًا. وإذا هو يَرَى أن لهذا البَلَدِ حالًا ليس لغيرِه، وذلك لأنَّ النّاسَ يَكْثُرُونَ بها لأجْلِ قَضاءِ النُّسُكِ، ويَزْدَحِمُونَ فيها، [ولذلك سُمِّيَتْ بَكةَ؛ لأنَّ النَّاسَ يَتَباكُّونَ فيها، أي: يَزْدَحِمُونَ ويَدْفَعُ بَعْضُهم بعضًا] (¬4)، فلو مَنَع المُصَلِّي مَن يَجْتَاز بينَ يَدَيْه لضاقَ على النّاس. وحُكْمُ الحَرَمِ كلِّه حُكْمُ مَكَّةَ في هذا، بدَلِيلِ قولِ ابن عباسٍ: أقْبَلْتُ راكِبًا على حِمارٍ أتانٍ (¬5)، والنبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي بالنّاس بِمِنًى (¬6) إلى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه عبد الرَّزّاق عن ابن جريج عن أَبيه عن أبي عامر، في: باب لا يقطع الصلاة شيء بمكة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 35. (¬3) يبك: يزحم. (¬4) سقط من: الأصل، تش. (¬5) الأتان: الأنثى من جنس الحمير. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ جِدارٍ. مُتفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ الحَرَمَ كلَّه مَحَلُّ المَشاعِرِ والمَناسِكِ، فَجَرَى مَجْرَى مَكَّةَ في ذلك. فصل: فإن صَلَّى في غيرِ مَكَّةَ إلى غيرِ سُتْرَةٍ، فلا بأْسَ، لما روَى ابنُ عباسٍ، قال: صَلَّى النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في فَضاءٍ ليسَ بينَ يَدَيْه شئٌ. رَواه البخاريُّ (¬2). قال أحمدُ، في الرَّجُلِ يُصَلِّي في فَضَاءٍ، ليس بينَ يَدَيْه سُتْرَةٌ ولا خَطٌّ: صلاتُه جائِزَةٌ، وأحَبُّ إليَّ أن يَفْعَلَ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب متى يصح سماع الصغير، من كتاب العلم، وفي: باب سترة الإمام سترة من خلفه، من كتاب الصلاة، وفي: باب وضوء الصبيان إلخ، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 29، 132، 218. ومسلم، في: باب سترة المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 361، 362. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال الحمار لا يقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 164. والنَّسائيّ، في: باب ذكر ما يقطع الصلاة. . . إلخ، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 50. وابن ماجه، في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 305. والدارمي، في: باب لا يقطع الصلاة شيء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 329. والإمام مالك، في: باب الرخصة في المرور بين يدى المصلى، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 155، 156. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 219، 264، 327، 342، 365. (¬2) كذا ذكر المصنف، ولم نجده عند البُخَارِيّ. ولعله «التجاد»، وأخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 224. والبيهقي، في: باب من صلى إلى غير سترة، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 273.

452 - مسألة: (فإن مر من ورائها شيء، لم يكره)

فَإذا مَرَّ مِنْ وَرَائِهَا شَيْء لَمْ يُكْرَهْ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُترَةٌ، فَمَر بَيْنَ يَدَيْهِ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ، بَطَلَتْ صَلَاُتهُ، وَفِي الْمَرأَةِ وَالْحِمَارِ رِوَايتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 452 - مسألة: (فَإن مَرَّ مِن وَرَائِهَا شَيْءٌ، لم يُكْرَه) متى (¬1) صَلَّى إلى سُتْرَةٍ فمَرَّ مِن وَرائِها ما يَقْطَعُ الصلاةَ، لم تَنْقَطِعْ، وإن مَرَّ غيْرُ ذلك، لم يُكْرَه، لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ. وإن مَرَّ بَيْنَه وَبَيْنَها، قَطَعَها إن كان مِمَّا يَقْطَعُها، وكُرِهَ إن كان مِمَّا لا يَقْطَعُها، وسنذكرُ ذلك إن شاء الله. 453 - مسألة: (وإن لم تَكُنْ سُترةٌ، فَمَرَّ بينَ يَدَيْه الكَلْبُ الأسْوَدُ البَهيمُ، بَطَلَتْ صلاُتُه، وفي المَرْأْةِ والحِمارِ رِوايَتان) إذا مَرَّ الكلبُ الأسْوَدُ البَهِيمُ (¬2) بينَ يَدَيِ المُصَلِّي. قريبًا منه، قَطَع صلَاته، ¬

(¬1) في م: «حتَّى لو». (¬2) زيادة من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خِلافٍ في المَذْهَبِ، وهذا قولُ عائشةَ، ورُوِيَ عن مُعاذٍ، ومُجاهِدٍ. والبَهِيمُ الذى ليس في لَوْنِهِ شئٌ سِوَى السَّوادِ، لِما روَى أبو ذَرٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا قَامَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإنَّهُ يَسْتُرُهُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْه مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْمَرْأةُ، وَالْحِصَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ». قال عبدُ اللهِ بنُ الصَّامِتِ: يَا أَبا ذَرٍّ، ما بالُ الكَلْبِ الأسْوَدِ مِن الكلبِ الأحْمَرِ مِن الكلبِ الأصْفَرِ؛ فقال: يَا ابنَ أخِي، سَألتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كما سَألتَنِي، فقال: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ». رَواه مسلم، وأبو داودَ، وغيرُهما (¬1). وفي المَرْأَةِ والحِمارِ رِوايتانِ؛ إحْداهُما، لا يَقْطَعُ الصلاةَ إلَّا الكَلْبُ الأسْوَدُ. نَقَلَها عنه الجَماعَةُ، وهو قولُ عائشةَ، لِما روَى الفَصْلُ بنُ عباسٍ، قال: أتانا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ونحنُ في بادِيَةِ، فصَلَّى في صَحْرَاءَ ليس بينَ يَدَيْه سُتْرَةٌ، وحِمارَةٌ لَنا وكَلْبَةٌ تَعْبَثانِ بينَ يَدَيْه، فما بالَى ذلك. رَواه ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب قدر ما يستر المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 365. وأبو داود، في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 161. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء أنَّه لا يقطع الصلاة إلَّا الكلب والحمار والمرأة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 133، 134. والنَّسائيّ، في: باب ذكر ما يقطع الصلاة. . . إلخ، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 50. وابن ماجه، في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 306. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 15، 57، 149، 151، 156، 158، 160، 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، قال: أقْبَلْتُ راكِبًا على حِمارٍ أتانٍ، والنبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي بِمِنًى إلى غيرِ جِدارٍ، فمَرَرْتُ بينَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فنَزَلْتُ، وأرْسَلْتُ الأتانَ تَرْتَعُ، فدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فلم يُنْكِرْ عليَّ أحَدٌ. وقالت عائشةُ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي صلَاتَه مِن اللَّيْل كلَّها، وأنا مُعْتَرِضَةٌ بينَه وبين القِبْلَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقد ذَكَرْنا حديثَ زينبَ بنتِ أبي سَلَمَةَ، حينَ مَرَّتْ بينَ يَدَيِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلم تَقْطَعْ صلَاته. رَواه ابنُ ماجه (¬3). والثَّانِيَةُ، أنَّ المَرْأَةَ والحِمارَ يَقْطَعانِ الصلاةَ، لِما ذَكرنا مِن حديثِ أبي ذَرٍّ (¬4) وروَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ المَرأةُ، وَالحِمَارُ، وَالْكَلْبُ». رَواه مسلمٌ (¬5). فأمّا حديثُ عائشةَ، فقد قِيلَ: ليس بحُجَّةٍ؛ لأنَّ حُكْمَ الوُقُوفِ يُخالِفُ ¬

(¬1) في: باب من قال الكلب لا يقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 165. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب ذكر ما يقطع الصلاة. . . إلخ من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 51. والإمام أَحْمد، في المسند 1/ 212. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 643. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 605. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 649. (¬5) في: باب قدر ما يستر المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 305، 306. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 299، 425.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمَ المُرُورِ؛ بدَلِيلِ كَراهَةِ المُرُور بينَ يَدَيِ المُصَلِّي، بخِلافِ الاعْتِراضِ. وحديثُ ابنِ عباسٍ ليس فيه إلَّا أنَّه مَرَّ بينَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ. وسُتْرةُ الإِمامِ سُتْرَةٌ لمَن خَلْفَه. رُوِيَ هذا القولُ عن أَنسٍ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي إلى سُتْرَةٍ، ولم يُنْقَلْ أنَّه أمر أصْحابَه بنَصْبِ سُتْرَةٍ أُخْرَى. وحديثُ الفَضْلِ بنِ عباسٍ، في إسْنادِه مَقالٌ (¬1)، ويَجُوزُ أنْ يكونَا بَعِيدَينِ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِي، وأصحابُ الرَّأْى، والشافعيُّ: لا يَقْطَعُ الصلاةَ شئٌ، لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ، ولِما رَوَى أبو سعيدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا يَقْطَع الصَّلَاةَ شَئٌ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولَا، حديث أبي هُرَيْرَةَ، وأبي ذَرٍّ، وقد أجَبْنا عن الأحادِيثِ المُتَقَدِّمَةِ. وحديثُ أبي سعيدٍ يَرْوِيه مُجالِدٌ (¬3)، وهو ضَعِيف، فلا يُعارَضُ به الصَّحِيحُ، وهو عامٌّ، وأحادِيثُنا خاصَّةٌ، فيَجِبُ تَقْدِيمُها. ¬

(¬1) في الأصل: «مقاتل». (¬2) في: باب من قال لا يقطع الصلاة شيء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 165. (¬3) في الأصل: «مجاهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَقْطَعُ الصلاةَ (¬1) غيرُ ما ذَكَرْنا؛ لأنَّ تَخْصِيصَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لها بالذِّكْرِ يَدُل على عَدَمِه فيما سِواها. وقال ابنُ حامِدٍ: هل يَقْطَعُ الصلاةَ مُرُورُ الشَّيْطانِ؛ على وَجْهَيْن، أحَدُهما، يَقْطَعُ. وهو قولُ بعضِ أصحابِنا، لتَعْلِيلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَطْعَ الكَلْبِ الصلاةَ بكَوْنِه شَيْطانًا. والثَّانِي، لا يَقْطَعُ. اخْتارَه القاضي. ومتى كان في الكَلْبِ الأسْوَدِ لَوْن غيرُ السَّوادِ، لم يَقْطَع الصلاةَ، وليس ببَهِيمٍ، إلَّا أن يكونَ بينَ عَيْنَيْه نُكْتَتان تُخالِفان لَوْنَه، فلا يَخْرُجُ بهما عن اسْمِ البَهِيمِ وأحْكامِه في قَطْع (¬2) الصلاةِ، وتَحْرِيمِ صَيْدِه، وإباحَةِ قَتْلِه؛ لأنَّه قد رُوىَ في حديثٍ: «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهيمِ ذِي الْغُرَّتَيْنِ (¬3)، فَإنَّهُ شَيْطَانٌ» (¬4). وإنَّما خَصَصْنَا قَطْعَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «قطعه». (¬3) في م: «القرنين». (¬4) أخرجه مسلم، في: باب الأمر بقتل الكلاب. . . إلخ، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1200. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 333.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ بالأسْوَدِ البَهيم؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَمَّاه شَيْطانًا في حديثِ أبي ذَرٍّ، وقال عليه السَّلامُ: «لَوْلَا أنَّ الْكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أسْوَدَ بَهِيمٍ، فَإنَّهُ شَيْطَانٌ» (¬1). فبَيَّنَ (¬2) أنَّ الشَّيْطانَ هو الأسْوَدُ البَهِيمُ. فصل: ولا فَرْقَ بينَ الفَرْضِ والتَّطوُّعِ فيما ذَكَرْنا، لِعُمومِ الأدِلَّةِ، وقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على التَّسْهيلِ في التَّطوُّعِ. [والصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ؛ لأنَّ مُبْطِلاتِ الصلاةِ في غيرِ هذا يَتَساوَى فيها الفَرْضُ والتَّطَوُّعُ] (¬3). وقد قال أحمدُ: يَحْتَجُّونَ بحديثِ عائشةَ، بأنَّه في التَّطَوعِ، وما أعْلَمُ بينَ الفَرِيضةِ والتَّطوُّعِ فَرْقًا، إلَّا أنَّ التَّطَوُّعَ يُصَلَّى على الدَّابَّةِ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الأمر بقتل الكلاب. . . إلخ، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1200. وأبو داود، في: باب في اتخاذ الكلاب للصيد وغيره، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 97. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في قتل الكلاب، وفي: باب ما جاء في من أمسك كلبا ما ينقص من أجره، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذى 6/ 283، 284، 285. والنَّسائيّ، في: باب صفة الكلاب التى أمر بقتلهما، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 163. وابن ماجه، في: باب النهي عن اقتناء الكلب. . . إلخ، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1069. والدارمي، في: باب في قتل الكلاب، من كتاب الصيد. سنن الدَّارميّ 2/ 90. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 85، 5/ 54، 56، 57. وفي بعضها لم يرد: «فإنَّه شيطان». (¬2) في الأصل: «فتبين». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الكلبُ الأسْودُ البَهِيمُ واقِفًا بينَ يَدَيْه، أو نائِمًا، ولم يَمُرَّ ففيه رِوايَتان، إحْداهُما، تَبْطُل، قِياسًا على المُرُورِ؛ لأنَّ (¬1) النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَقْطَعُ الصَّلَاة المَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ» (¬2). ولم يَذْكُرْ مُرُورًا. وقد قالت عائشةُ: عَدَلْتُمُونَا بالكِلَابِ والحُمُرِ (¬3). وذَكَرَتْ في مُعارَضَةِ ذلك، ودَفْعِه أنَّها كانت تكونُ مُعْتَرِضَةً بينَ يَدَيْ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، كاعْتِراضِ الجِنارةِ (¬4). والثَّانيةُ، لا تَبْطُلُ به الصلاةُ؛ لأنَّ الوُقُوفَ والنَّوْمَ مُخالِف لحُكْمِ المُرُورِ، بدَلِيلِ أنَّ عائشةَ كانت تَنامُ بينَ يَدَيْ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلَا يَكْرَهُه، ولا يُنْكِرُه، وقد قال في المارِّ: «لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ، خَيْرًا لَهُ مِنْ أنْ يَمُر بَيْنَ يَدَيْهِ (¬5)» (¬6). وكان ابنُ عُمَرَ يقولُ لنافِعٍ: وَلِّنِي ظَهْرَك. ليَسْتَتِرَ به ممَّن يَمُرُّ بينَ يَدَيْه (¬7). ¬

(¬1) في م: «ولأنَّ». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 650. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب استقبال الرَّجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، وباب من قال لا يقطع الصلاة شيء، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 136، 137. ومسلم، في: باب الاعتراض بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب الاعتراض بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 366. (¬5) في الأصل: «يدى المصلى». (¬6) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب استقبال الرَّجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، وباب من قال لا يقطع الصلاة شيء، من كتاب الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 136، 137. ومسلم، في: باب منع المار بين يدى المصلى، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 363. (¬7) تقدم تخريجه في صفحة 640.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَعَد عمَرُ بينَ يديِ المُصَلى يَسْتُرُه مِن المُرُورِ (¬1). وإذا اخْتَلَفَ حُكْمُ الوُقُوفِ والمُرُورِ، فلا يُقاسُ عليه، وقولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ». لابُدَّ فيه مِن إضْمارِ المُرُورِ أو غيرِه، فإنَّه لا يَقْطَعُها إلَّا بفِعْلِه، وقد جاء في بَعْض الأخبارِ، فيَتَعَيَّنُ حَمْلُه عليه. فصل: والذى يَقْطَعُ الصلاةَ مُرُورُه، إنَّما يَقْطَعُها إذا مَرَّ قَرِيبًا، والذى لا يَقْطَعُ الصلاةَ إنَّما يُكْرَهُ له المُرُورُ إذا كان قَرِيبًا أَيضًا، فأمَّا البَعِيدُ فلا يَتَعَلَّقُ به حُكْمٌ. قال شيخُنا (¬2): ولا أُعْلَمُ أحَدًا مِن أهلِ العلمِ حَدَّ البَعِيدَ في ذلك ولا القَرِيبَ، إلَّا أن عِكْرِمَةَ، قال: إذا كان بَيْنَكَ وبينَ الذى يَقْطَعُ الصلاةَ قَذْفَةٌ بحَجَرٍ، لم يَقْطَع الصلاةَ. وروَى أبو داودَ، وعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أحْسَبُه عن رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ إلى غَيْرِ سُتْرَةٍ، فَإنَّهُ يَقْطَع صَلَاته الكلْبُ، وَالحِمَارُ، وَالخِنْزِيرُ، وَالمَجُوسيُّ، وَاليَهُودِيُّ، وَالمَرْأةُ، ويَجُزْئُ عَنْهُ إذَا مَرُّوا وبَيْنَ يَدَيْهِ قَذْفَةٌ بِحَجَرٍ» (¬3). هذا لَفْظ رِوايَةِ أبي داودَ. وفي رِوَايَةِ ¬

(¬1) تقَدم تخريجه في صفحة 640. (¬2) في: المغني 3/ 102. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما يقطع الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 162. وعبد بن حميد، في: المنتخب 2/ 504.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدٍ: «وَالنَّصْرانِيُّ، وَالْمَرأَةُ الْحَائِضُ». فلو ثَبَت هذا الحديثُ، تَعَيَّنَ المَصِيرُ إليه، غيرَ أنَّه لم يَجْزِمْ برَفْعِه، وفيه ما هو مَتْرُوكٌ بالإِجْماعِ، وهو ما عَدا الثَّلاثَةَ المَذْكُورَةَ. ولا يُمْكِنُ تَقْيِيدُ ذلك بمَوْضِع السُّجُودِ، كما قال بعضُهم، فإن قولَه عليه السَّلامُ: «إذَا لَم يَكُنْ بَيْنَ يَدَيه مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، قَطَعَ صَلَاتهُ الْكَلْبُ الأسْوَدُ» (¬1). يَدُلُّ على أنَّ ما هو أبْعَدُ مِن السُّتْرَةِ تَنْقَطِعُ الصلاةُ (¬2) فيه بِمُرُورِ الكلبِ، والسُّتْرَةُ تكونُ أبْعَدَ مِن مَوْضِع السُّجُودِ. قال شيخُنا (¬3): والصَّحِيحُ تَحْدِيدُ ذلك بما إذا مَشَى إليه المُصَلِّي، ودَفَع المارَّ بينَ يَدَيْه، لا تَبْطلُ صلاتُه؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَر بدَفْعِ المارِّ بينَ يَدَيْه، فتَقَيَّدَ بدَلالَةِ الإجْماعِ بما يَقْرُبُ منه، بحيث إذا مَشَى إليه لا تَبْطلُ صلاتُه، واللَّفْظُ في الحَدِيثَين واحِدٌ، وقد تَعَذَّر حَمْلُهُما على الإِطْلاقِ، وقد تَقَيَّدَ أحَدُهُما بالإِجْماعِ، فيَنْبَغِي أنْ يَتَقَيَّدَ الآخَر به. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 649. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 3/ 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا صَلَّى إلى سُتْرَةٍ مَغْصُوبَةٍ، فاجْتازَ وَراءَها ما يَقْطَعُ الصلاةَ، قَطَعَها في أحِد الوَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُما ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن نَصْبِها، والصلاةِ إليها، فوُجُودُها كَعَدَمِها. والثَّانِي، لا تَبْطُلُ، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- «يَقِي (¬1) ذلك مِثْل آخِرَةِ الرَّحْلِ» (¬2). وقد وُجِدَ. وأصْلُ (¬3) الوَجْهَيْن إذا صَلَّى في ثَوْب مَغْصُوبٍ، وفيه رِوايَتان. فصل: وسُتْرَةُ الإمامِ سُتْرَةٌ لِمَن خَلْفَه. نَصَّ عليه أحمدُ، ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ (¬4). قال الترمِذيُّ (¬5): قال أهلُ العلمِ: سُترةُ الإمامِ سُتْرَةٌ (¬6) لِمَن خَلْفَه. وهو قولُ الفُقَهاء السَّبْعَةِ، والنَّخَعِيِّ، ومالك، والشافعيِّ، وغيرِهم؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلى إلى سُتْرَةٍ، ولم يأْمر أصحابَه بنَصب سُتْرَةٍ أُخْرَى. وفي حديثِ ابنِ عباس، قال: أقْبَلْتُ رَاكِبًا (¬7) على حِمَارٍ أتانٍ، ¬

(¬1) في م: «كفى». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 637. (¬3) في الأصل: «وأحد». (¬4) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب سترة الإمام سترة لمن وراءه، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 18. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في: باب ما جاء سترة المصلى، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 130. (¬7) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصلِّي بالناسِ بِمِنًى إلى غيرِ جِدارٍ، فمَرَرْتُ بينَ يَدَى بَعْضِ الصَّفِّ، فنَزَلْتُ فأرْسَلْتُ الأتانَ تَرْتَعُ، ودَخَلْتُ في الصَّفِّ، فلم يُنْكِرْ عليَّ أحَدٌ. مُتَفَقٌ عليه (¬1). ومَعْنَى قَوْلِهم: سُتْرَةُ الإمامِ سُتْرَةٌ لِمَن خلْفَه. أنَّه متى لم يَحُلْ بينَ الإمامِ وسُتْرَتِه شيءٌ يَقْطَعُ الصلاةَ، لم يَضُرَّ المَأمُومِينَ مُرُورُ شئٍ بينَ أيْدِيهم في بَعْضِ الصَّفِّ، ولا فيما بينَهم وبينَ الإمامِ، وإن مَرَّ بينَ يَدَيِ الإمامِ ما يَقْطَعُ صلَاته قَطَع صلاتَهُم، وقد دَلَّ على ذلك ما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أَبيه، عن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 647.

454 - مسألة: (ويجوز له النظر في المصحف)

وَيَجُوزُ لَهُ النَّظر فِي الْمُصْحَفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ جَدِّه، قال: هبَطْنا مع النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِن ثَنِيَّةِ أذاخِرَ (¬1)، فحَضَرت الصلاةُ، يعنى إلى جَدْرٍ (¬2) فاتَّخَذَه قِبْلَة، ونحن خَلْفَه، فجاءت بَهْمَةٌ (¬3) تَمُرُّ بينَ يَدَيْه، فما زالَ يُدارِئُها حتَّى لَصِق بَطْنُه بالجِدارِ، فَمَرَّتْ مِن وَرائِه. رَواه أبو داودَ (¬4). فلَوْلا أنَّ سُتْرَتَه سُتْرَةٌ لهم، لم يَكُنْ بينَ مُرُورِها بينَ يَدَيْه وخَلْفَه فَرْقٌ. 454 - مسألة: (وَيَجُوزُ له النَّظر فِي المُصْحَفِ) يَجُوز له النَّظَرُ في المُصْحَفِ في صلاةِ التَّطَوُّعِ. قال أحمدُ: لا بَأسَ أن يُصَلِّيَ بالنّاسِ ¬

(¬1) أذاخر: موقع قرب مكة. (¬2) جدر: حائط. (¬3) البهمة: أولاد الضأن والمعز والبقر. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 606.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِيامَ وهو يَنْظُرُ (¬1) في المُصْحَفِ. قِيلَ له: الفَرِيضَة؟ قال: لم أسْمَعْ فيها بشئٍ. وسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عن رجلٍ يَقْرأُ في رمضانَ في المصحفِ، فقال: كان خِيارُنا يَقْرَءُون في المصاحِفِ. رُوِيَ ذلك عن عَطاءٍ، ويَحْيَى الأنْصارِيِّ. ورُوِيَتْ كَراهَتُه عن سعيدِ بين المُسَيَّبِ، والحسنِ، ومُجاهِدٍ، وإبراهيمَ؛ لأنَّه يَشْغَلُ عن الخُشُوعِ في الصلاةِ. وقال القاضي: لا بَأْسَ به في التَّطَوُّعِ إذا لم يَحْفَظْ، فإن كان حافِظًا كُرِهَ؛ لأنَّ أحمدَ سُئِلَ عن الإِمامَةِ في المُصْحَفِ في رمضانَ؟ قال: إذا اضْطُرَّ إلى ذلك. وقال أبو حنيفةَ: تَبْطُلُ الصلاةُ إذا لم يَكُنْ حافِظًا؛ لأنَّه عَمَلٌ طَوِيلٌ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، قال: نَهانا أميرُ المُؤْمِنِين أن نَؤُمَّ النّاسَ في المصاحِفِ. وأن يَؤُمَّنا إلَّا مُحْتَلِمٌ. رَواه أبو بكر بنُ أبي داودَ في كتابِ «المصاحف» (¬2). ولَنا، أنَّ عائشة كان يَؤُمُّها عَبْدٌ لها في المصحفِ. رَواه الأثْرَمُ (¬3). وقولُ الزُّهْرِيِّ، ولأنَّه نَظر إلى مَوْضِعٍ مُعَيِّن، فلم تَبْطُلِ الصلاةُ، كالحافِظِ وكالعلمِ (¬4). وأمّا فِعْلُه في الفَرْضِ، ففيه رِوايَتانِ، إحْداهما، يُكْرَهُ. اخْتارَه القاضي؛ لأنَّه يَشْغَلُ عن خُشُوعِ الصلاةِ، ولا يَحْتَاجُ إليه. والثانيةُ، لا يُكْرَهُ. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ. وقال القاضي في «المُجَردِ»: إن قَرَأ في التَّطَوُّعِ في المصحفِ لم تَبْطُلْ صلاتُه، وإن فَعَل ¬

(¬1) في م: «يقرأ». (¬2) صفحة 189. (¬3) أورده ابن أبي راود في كتاب المصاحف 192. (¬4) سقط من: م.

455 - مسألة: (وإذا مرت به آية رحمة أن يسألها، أو آية عذاب أن يستعيذ منها، وعنه، يكره ذلك في الفرض)

وَإذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ أنْ يَسْأَلهَا، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ أنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهَا. وَعَنْهُ، يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك في الفَرِيضَةِ، فهل يَجُوزُ؟ على رِوايَتَيْن. فصل: وإذا قَرَأ في كِتابٍ في نَفْسِه، ولم يَنْطِقْ بلِسانِه، فقد نَقَل المَرُّوذِيُّ، عن أحمدَ، أنَّه كان يُصَلِّي وهو يَنْظُرُ في الجُزْء إلى جانِبِه. فظاهِرُه أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ. وقال جماعةٌ مِن أصحابِنا: تَبْطُلُ الصلاةُ إذا تَطاوَلَ. وكان ابن حامِدٍ يقولُ: إذا طال عَمَلُ القَلْبِ بالنَّظَرِ (¬1) أبْطَلَ، كعَمَلِ البَدَنِ (¬2). والمذهَبُ أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ. ذَكَرَه القاضي. 455 - مسألة: (وإذا مَرَّتْ به آيَةُ رَحْمَةٍ أن يَسْأَلها، أو آيَةُ عَذابٍ أن يَسْتَعِيذَ منها، وعَنْهُ، يُكرَهُ ذلِك في الفَرْضِ) لا بَأْسَ بذلك في صلاةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «اليدين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّطَوُّعِ؛ لأنَّ حُذَيْفَةَ روَى أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَلَه (¬1). فأمّا الفَرِيضَةُ، فعنه إباحَتُه فيها، كالنّافِلَةِ؛ لأنَّه دُعاءٌ وخَيْرٌ. وعنه، الكَراهَةُ؛ لأنَّه إنما نُقِل عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في النّافِلَةِ، فيَنْبَغِي الاقْتِصارُ عليه. والله أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، من كتاب صلاة المسافرين صحيح مسلم 1/ 536، 537. وأبو داود، في: باب تفريع أبواب الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 201. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 63. والنَّسائيّ، في: باب نوع آخر، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 177، 178. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. سنن ابن ماجه 1/ 429.

456 - مسألة: قال رحمه الله: (أركان الصلاة اثنا عشر، القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأفعال، والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسليمة الأولى، والترتيب، من ترك منها شيئا عمدا بطلت صلاته)

فَصْلٌ: أَرْكَانُ الصَّلَاةِ اثْنَا عَشَرَ، الْقِيَامُ، وَتَكْبِيرَةُ الْإحْرَامَ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَالرُّكُوعُ، وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ، وَالسُّجُودُ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالطُّمأنِينَةُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَالتَّشَهُدُ الأخِيرُ، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالتَّسْلِيمَةُ الأولَى، وَالتَّرْتِيبُ. مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 456 - مسألة: قال رحمه الله: (أرْكان الصلاةِ اثْنا عَشَرَ، القِيامُ، وتَكبيرَة الإحْرامِ، وقِراءَة الفاتِحَةِ، والرُّكُوعُ، والاعْتِدالُ عنه، والسُّجُودُ، والجُلوسُ بينَ السَّجْدَتَيْن، والطُّمَأْنِينَة في هذه الأفْعالِ، والتَّشَهُّدُ الأخِيرُ، والجُلُوسُ له، والتَّسْلِيمَةُ الأُولَى، والتَّرْتِيبُ، مَن تَرَك منها شيئًا عَمْدًا بَطَلَتْ صلاتُه) المَشْروعُ في الصلاةِ قِسْمانِ، واجِبٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَسْنُونٌ، والواجِبُ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْن، أحَدُهُما، لا يَسْقُطُ في عَمْدٍ ولا سَهْوٍ، وهي الأرْكانُ التى ذَكَرَها المُصَنِّفُ، إلَّا أنَّ قِراءَةَ الفاتِحَةِ إنَّما تَجِبُ على الإمامِ والمُنْفَرِدِ، والقِيامُ يَسْقُطُ في النّافِلَةِ، وفي وُجُوب بعضِها اخْتِلافٌ ذَكَرْناه. وقد ذَكَرْنا أدِلَّتَها في أثْناءِ البابِ سِوَى التَّرتِيبِ، ويَدُلُّ عليه أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّاها مُرَتَّبَةً، وقال: «صَلُّواْ كَمَا رَأَيتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وقد دَلَّ على وُجُوب أكْثَرها ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- دَخَل المَسْجِدَ، فدَخَلَ رَجُلٌ فصَلَّى، ثم جاء فسَلَّمَ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». [فرَجَعَ فصَلَّى كما صَلَّى، ثم جاء فسَلَّمَ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»] (¬2)، ثَلاثًا. فقال: والذى بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أُحْسِنُ غيرَه، فعَلِّمْنِي. قال: «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبَّر، ثُم اقْرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِن رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، [ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا] (¬1)، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاِتكَ كُلِّهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وزاد مسلمٌ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأسْبغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ استقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّر». فدَلَّ ذلك على أنَّ هذه المُسَمّاةَ فِي الحديثِ لا تَسْقُط بحالٍ، فإنَّها لو سَقَطَتْ لسَقَطَتْ عن الأعرْابِيِّ لجَهْلِه بها، والجاهِلُ كالنّاسِي. فأمّا أحْكامُ تَرْكِها، فإن كان عَمْدًا بَطَلَتْ صلاتُه في الحالَ، وإن كان سَهْوًا، ثم ذَكَرَه في الصلاةِ أتَى به على ما سَنَذْكُرُه، إن شاء اللهُ. وإن لم يَذْكُره حتَّى سَلَّمَ وطال الفَصْلُ، بَطَلَتِ الصلاةُ، وإن لم يَطُلِ الفَصْلُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَنَى على ما مَضَى مِن صلاِته. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ جَماعَةٍ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال بعضُ أصحابِنا: متى لم يَذْكُرْه حتَّى سَلَّمَ، بَطَلَتْ صلاتُه. وقال الأوْزاعِيُّ في مَن نَسِيَ سَجْدَةً مِن صلاةِ الظُّهْرِ فذَكَرَها في صلاةِ العَصْرِ: يَمْضى في صلاِته، فإذا فَرَغ سَجَدَها. ولَنا على (¬1) أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ مع قُرْبِ الفَصْلِ، أنَّه لو تَرَك رَكْعَةً، أو أكْثَرَ (¬2)، وذَكَر قبلَ طُولَ الفَصْلِ، أتَى بما تَرَك ولم تَبْطُلُ صلاتُه إجماعًا. وقد دَلَّ على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك حديثُ ذى اليَدَيْن (¬1). فإذا تَرَك رُكْنًا واحِدًا، فَأوْلَى أنْ لا تَبْطلَ. والدَّلِيلُ على أنَّ الصلاةَ تَبْطُلُ بطُولِ الفَصْلِ، أنَّه أخَلَّ بالمُوالاةِ، فبَطَلَتْ صلاتُه، كما لو ذَكَرَ في يومٍ ثانٍ. والمَرْجِعُ في طُولِ الفَصْلِ إلى العُرْفِ. وبه قال بعضُ الشافعيَّةِ. وقال بَعْضُهم: الفَصْلُ الطوِيلُ قَدْرُ رَكْعَةٍ. وهو نَصُّ الشافعيِّ. وقال الخِرَقِيُّ، في سُجُودِ السَّهْوِ: إذا تَرَكَه، يَسْجُدُ ما ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، من كتاب الصلاة، وفي: باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول النَّاس، من كتاب الأذان، وفي: باب إذا سلم في ركعتين أو ثلاث. . . إلخ، وباب من لم يتشهد في سجدتى السهو، وباب من يكبر في سجدتى السهو، من كتاب السهو، وفي: باب ما يجوز من ذكر النَّاس، نحو قولهم الطَّويل والقصير، من كتاب الأدب، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الآحاد، من كتاب خبر الآحاد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 129، 130، 183، 2/ 85 - 87، 8/ 19، 20، 9/ 108. ومسلم، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد، صحيح مسلم 1/ 403، 404. كما أخرجه أبو داود، في: باب السهو في السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 231 والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 188، 189. والنَّسائيّ، في: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسيًا وتكلم، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 17، 18. وابن ماجه، في: باب في من سلم من ثنتين أو ثلاث ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 383. والدارمي، في: باب سجدة السهو من الزيادة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 351، 352. والإمام مالك، في: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 93، 94. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 234، 235، 423، 460.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان في المَسْجِدِ؛ لأنَّه مَحَلٌّ للصلاةِ، فيُحَدُّ قُرْبُ الفَصْلِ وبُعْدُه به. والأوْلَى حَدُّه بالعُرْفِ؛ لأنَّه لا حَدَّ له في الشَّرْعِ، فرُجِعَ فيه إلى العُرْفِ، كسائِرِ مالا حَدَّ له، ولا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بالتَّحَكُّمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى كان المَتْرُوكُ سَلامًا أتَى به فحَسْبُ، وإن كان تَشَهُّدًا أتَى به وبالسلامِ، وإن كان غيرَهما أتَى برَكْعَةٍ كامِلَةٍ. وقال الشافعيُّ: يَأْتِي بالرُّكْنِ وبما بعدَه لا غيرُ. ويَأتِي الكَلامُ عليه إن شاء اللهُ. وتَخْتَصُ تَكْبيرَةُ الإِحرامِ مِن بينِ سائِرِ الأرْكانِ، بأنَّ (¬1) الصلاةَ لا تَنْعَقِدُ بتَرْكِها؛ لأنَّهَا تَحْرِيمُها، فلا يَدْخُلُ في الصلاةِ بدونِها، ويَخْتَصُّ السَّلامُ بأنَّه إذا نَسِيَه أتى به وَحْدَه، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «لأن».

457 - مسألة: (وواجباتها تسعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع، وسؤال المغفرة بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في موضعها

وَوَاجِبَاتُهَا تِسْعَةٌ، التَّكْبِيرُ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَالتَّسْمِيعُ، وَالتَّحْمِيدُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الركُوعِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودُ مَرةً مَرَّةً، وَسُؤالُ الْمَغْفِرَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مَرَّةً، وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فِي مَوْضِعِهَا، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ فِي رِوَايَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 457 - مسألة: (وواجِباتُها تِسْعَةٌ: التَّكْبِيرُ غيرَ تَكبِيرَةِ الإحْرامِ، والتَّسْبِيحُ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ مَرَّة مَرَّة، والتَّسْمِيع والتحْمِيدُ في الرَّفْع مِن الرُّكُوعِ، وسُؤَالُ المَغْفِرَةِ بينَ السَّجْدَتَيْن مَرة، والتَّشَهُّدُ الأوَّلُ، والجُلُوسُ له، والصَّلاةُ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في مَوْضِعِها (¬1)، [والتَّسليمةُ الثَّانية] (¬2) في رِوايَةٍ) هذا هو القِسْمُ الثانِي من الواجِباتِ. وفي وُجُوبِها ¬

(¬1) في الأصل، م: «التشهد الأخير». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتانِ، إحْداهما، هي واجِبَةٌ. وهو قولُ إسحاقَ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، أنَّها غيرُ واجِبَةٍ. وهو قولُ أكثرَ الفُقَهاءِ، إلَّا أنَّ الشافعيَّ قال بوُجُوبِ الصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وجَعَلَها مِن الأرْكانِ. وهو رِوايَةٌ عن أحمدَ، لحدِيثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ (¬1). ودليلُ عَدَمِ وُجُوبِها أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعَلِّمْها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 545.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسئَ في صَلاِته، ولا يَجُوزُ تَأخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ. ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَلَه، وقال: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وقد روَى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 441، 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، عن عليٍّ بنِ يَحْيى بن خَلادٍ، عن عَمِّه، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لأَحَدٍ مِنَ النَّاس حَتَّى يَتَوَضَّأ، فَيَضَعَ الوُضُوءَ مَواضِعَه، ثُمَّ يُكَبر ويَحْمَدَ اللهَ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقُرآنِ، ثمَّ يَقُولَ: اللهُ أكْبَرُ. ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُم يقُولَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثمَّ يَقُولَ: اللهُ أكْبَرُ. ثُمَّ يَسْجُدَ ¬

(¬1) في: باب صلاة من يقيم صلبه الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 197، 198. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الرخصة في ترك الذكر في السجود، من كتاب التطبيق، وفي: باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة، في كتاب السهو. المجتبى 2/ 179، 3/ 50. والتِّرمذيّ، وفي: باب في وصف الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 94، 95. والدارمي، في: باب في الذى لا يتم الركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 305، 306. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ [يَقُولَ: اللهُ أكْبَرُ. وَيَرْفَعَ رَأسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولَ: اللهُ أكْبَرُ. ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ] (¬1)، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَيُكَبِّر، فَإذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ». وفي رِوايَةٍ: «لا تَتِمُّ صَلَاةُ أحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ». وهذا نَصٌّ في وُجُوبِ التَّكْبِيرِ. وقد ذَكَرْنا أمْرَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. ولأنَّ مَواضِعَ هذه الأرْكانِ (¬2) أرْكانٌ، فكان فيها ذِكْرٌ واجِبٌ، كالقِيامِ. وقد ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الأركان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشَرْنا إلى أدِلَّةِ الباقِي فيما مَضَى. فأمّا حدِيثُ المُسِيءِ في صَلاِته، فلم يَذْكُرْ فيه جَمِيعَ الواجِباتِ، بدَلِيلِ أنَّه لم يُعَلِّمْه التَّشَهُّدَ ولا السَّلامَ، فلَعَلَّه اقْتَصَرَ على تَعْلِيم ما أساء فيه. ولا يَلْزَمُ عِن التَّساوِي في الوُجُوبِ التَّساوِي في الأحْكام، بدَلِيلِ واجِباتِ الحَجِّ. وقد ذُكِر في الحديثِ الذى رَوَيْناه تَعْلِيمُ التَّكْبِيرَ، وهو زِيادَةٌ يَجِبُ قَبُولُها.

458 - مسألة؛ قال: (ومن ترك منها شيئا عمدا بطلت صلاته،

منْ تَرَكَ مِنْهَا شَيْئًا عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاُتهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَعَنْهُ، أنَّ هَذِهِ سُنَنٌ لا تَبْطُل الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 458 - مسألة؛ قال: (ومَن تَرَك منها شَيْئًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُه، ومَن تَرَكَه سَهْوًا سَجَد (¬1) للسَّهْوِ. وعنه، أنَّ هذه سُنَنٌ لا تَبْطُلُ الصلاةُ بتَرْكِها) وحُكْمُ هذه إذا قُلْنا بوُجُوبِها، أنَّه إن تَرَكَها عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لأنَّها واجِبَةٌ، أشْبَهَتِ الأرْكانَ. وإن تَرَكَها سَهْوًا جَبَرَها بسُجُودِ السَّهْوِ، لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لمّا قام إلى ثالِثَةٍ وتَرَك التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، سَجَد سَجْدَتَيْن [وهو جالِسٌ] (¬2) قبلَ أن يُسَلِّمَ، في حديثِ ابن بُحَيْنَةَ (¬3). ولَوْلا أنَّه سَقَط بالسَّهْوِ لرَجَعَ إليه، ولَوْلا أنَّه واجِبٌ لَما سَجَد لجَبْرِه؛ لأنَّه لا يَزِيدُ في ¬

(¬1) في م: «ترك». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من لم هي التشهد الأول واجبًا، من كتاب الأذان، وفي: باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، من كتاب السهو. صحيح البُخَارِيّ 1/ 210، 2/ 85. ومسلم، في: باب السهو الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 399. وأبو داود، في: باب من قام من ثنتين ولم يتشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود، 1/ 237. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في سجدتى السهو قبل السلام، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 185. والنَّسائيّ، في: باب ما يفعل من قام عن اثنتين ناسيًا لم يتشهد، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 17. وابن ماجه، في: باب في من قام من ثنتين ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 381.

459 - مسألة: (وسنن الأقوال اثنا عشر، الاستفتاح، والتعوذ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، [وقول: «آمين»]

وَسُنَنُ الْأَقْوَالِ اثْنَا عَشَرَ، الِاسْتِفْتَاحُ، وَالتَّعَوُّذُ، وَقِرَاءَةُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَوْلُ: آمِينَ. وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَالْجَهْرُ، وَالْإخْفَاتُ، وَقَوْلُ: مِلْءَ السَّمَاءِ. بَعْدَ التَّحْمِيدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ زِيادَةً مُحَرمَةً لِجَبْرِ ما ليس بواجِبٍ، وغيرُ التَّشَهُّدِ مِن الواجِباتِ مَقِيسٌ عليه، ولا يَمْتَنِعُ أن يكونَ للعِبادَةِ واجِبٌ يُجْبَر إذا تَرَكَه، وأرْكانٌ (¬1) لا تَصِحُّ إلَّا بها، كالحَج. ويَخْتَصُ التَّسمِيعُ بسُقوطِه عن المَأمُومِ. وذكَر ابنُ عَقِيل رِوايَةً في مَن تَرَك شيئًا مِن الواجِباتِ ساهِيًا، أنَّ صلَاتَه تَبْطُلُ كالأرْكانِ. قال: والأول أَصَحُّ، [وهو أنَّها] (¬2) تَنْجَبِرُ بسُجُودِ السَّهْوِ. 459 - مسألة: (وسُنَنُ الأقْوالِ اثْنا عَشَرَ، الاسْتِفْتاحُ، والتَّعَوُّذُ، وقِراءَةُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، [وقولُ: «آمِينَ»] (¬3). وقِراءَةُ السُّورَةِ، والجَهْر، والإخْفاتُ، وقولُ: «مِلْءَ السَّماءِ». بعدَ ¬

(¬1) في الأصل: «وإن كان». (¬2) في الأصل: «لأنها». (¬3) سقط من: الأصل.

وَمَا زَادَ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَلَى الْمَرَّةِ فِي سُؤالِ الْمَغْفِرَةِ، وَالتَّعَوُّذُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَالقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ. فَهَذِهِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا، وَلَا يَجِبُ السُّجُودُ لَهَا. وَهَلْ يُشْرَعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّحْمِيدِ، وما زادَ على التَّسْبِيحَةِ الواحِدَةِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وعلى المَرَّةِ في سُؤالِ المَغْفِرَةِ، والتَّعَوُّذُ في التَّشَهدِ الأخِير، والقُنُوتُ في الوِتْرِ. فهذه لا تَبْطُلُ الصلاةُ بتَرْكِها، ولا يَجِبُ السُّجُودُ لسَهْوِها) لأنَّ فِعْلَها غيرُ واجبٍ، فجَبْرُها أوْلَى (وهل يُشْرَعُ؛ على رِوايَتَين) إحْداهما، يُشْرَعُ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ في الإمامِ إذا تَرَك الجَهْرَ. وقال الحسنُ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ وأصحابُ الرَّأيِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسحاقُ: عليه سَجْدَتَى السَّهْوِ إذا تَرَك قُنُوتَ الوِتْرِ ناسِيًا، لقَولِه عليه السَّلامُ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» (¬1). والثَّانِيَةُ، لا يُشْرَعُ؛ لأنَّ تَرْكَها ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من نسى أن يشهد وهو جالس، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 239. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من سجدهما بعد السلام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 385. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 280.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمْدًا لا (¬1) يُبْطِلُ الصلاةَ، فلم يُشْرَعْ لسَهْوِها سُجُودٌ، كسُنَنِ الأفْعالِ. وهذا قَوْلُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) سقط من: م.

460 - مسألة: (وما سوى هذا من سنن الأفعال لا تبطل الصلاة بتركها، ولا يشرع السجود لها)

وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ لَا تَبْطُل الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 460 - مسألة: (وما سِوَى هذا مِن سُنَنِ الأفْعالِ لا تَبْطُلُ الصلاةُ بتَرْكِها، ولا يُشْرَعُ السُّجُودُ لها) فأمّا سُنَنُ الأفْعالِ، فهي: رَفْعُ اليَدَيْن عندَ الافْتِتاحِ، والرُّكُوعِ، والرَّفع منه، ووَضْعُ اليُمْنَى على اليُسْرَى، وجَعْلُهما تحتَ السُّرَّةِ، على ما ذَكَرْنا مِن الاخْتِلافِ فيه، والنَّظَرُ إلى مَوْضِعِ سُجُودِه، ووَضْعُ اليَدَيْن على الرُّكْبَتَيْن في الرُّكُوعِ، والتَّجافِي [فيه، و] (1) في السُّجُودِ، ومَدُّ ظَهْرِه مُعْتَدِلًا، وجَعْلُه حِيالَ رَأْسِه، والبُدَاءَةُ بوَضْع الرُّكْبَتَيْن قبلَ اليَدَيْن في السُّجُودِ [ورَفْعُ اليَدَيْن قبلَ الرُّكْبَتَيْن في القِيامِ مِن السُّجُودِ ومِن التَّشَهدِ الأوَّلِ، بحيث لا يَعْتَمِدُ بيَدَيْه على الأَرْض، والتَّفْرِيق بينَ رُكْبَتَيْه في السُّجُودِ] (¬1)، ووَضْعُ يَدَيْه حَذْوَ مَنْكِبَيْه وأُذُنَيْه فيه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَصْبُ قَدَمَيْه وفَتْحُ أصابِعِهما فيه، وفي الجُلُوسِ، والافْتِراشُ في الجُلُوسِ بينَ السَّجْدَتَيْن، وفي التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، والتَّوَرُّكُ في الثّانِي، ووَضْعُ اليَدِ اليُمْنَى على الفَخِذِ اليُمْنَى مَقْبُوضةً مُحَلَّقَةً، والإشارَةُ بالسَّبّابَةِ، ووَضْعُ اليَدِ اليُسرى على الفَخِذِ اليُسْرَى مبْسُوطَةً، والالِتفاتُ عن اليَمِينِ والشِّمالِ في التَّسْلِيمَتَيْن، والسُّجُودُ على الأنفِ، وجَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ، ونِيَّةُ الخُرُوجِ مِن الصلاةِ في سَلامِه، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ فيهِنَّ. فهذه لا تَبْطُلُ الصلاةُ بتَرْكِها عَمْدًا ولا سَهْوًا، ولا يُشْرَعُ السُّجُودُ لها بحالٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرزُ مِن تَرْكِها، فلو شُرِعَ السُّجُودُ لها لم تَخْلُ صلاةٌ مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُجُودٍ في الغالِبِ. وقال أبو الخَطّابِ: فيها روايَتان. وقال ابنُ عَقِيل: يُخَرَّجُ في مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ لسَهْوِها رِوايَتان بِناءٌ على سُنَنِ الأقْوالِ. والأولُ أوْلَى. القِسْمُ الثالثُ مِن السُّنَنِ، ما يَتَعَلَّقُ بالقَلْبِ، وهو الخُشُوعُ في الصلاةِ، ونِيَّةُ الخُرُوجِ. وقد ذَكَرْناه. واللهُ أعلمُ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب سجود السهو

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ سُجُودِ السَّهوِ وَلَا يُشرعُ فِي الْعَمْدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ سُجُودِ السَّهْوِ قال الإمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: تُحْفَظُ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَمْسَةُ أشْياءَ، سَلَّمَ مِن اثنَتَيْن فسَجَدَ، وسَلَّمَ مِن ثَلاثٍ فسَجَدَ، وفي الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، وقام مِن اثْنَتَيْن ولم يَتَشَهَّدْ. وقال الخَطّابِيُّ (¬1): المُعْتَمَدُ عندَ أهلِ العلمِ هذه الأِحِادِيثُ الخمْسَةُ، حَدِيثا ابنِ مسعودِ، وأبي سعيدٍ، وأبي هُرَيْرَةَ، وابنِ بُحَيْنَةَ. 461 - مسألة؛ قال: (ولا يُشْرَعُ في العَمْدِ) وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يَسجُدُ لتَرْكِ التَّشَهُّدِ والقُنُوتِ عَمْدًا؛ لأنَّ ما تَعَلَّقَ الجَبْرُ بسَهْوِه تَعَلَّقَ بحَمْدِه، كَجُبْراناتِ الحَجِّ. ولَنا، أنَّ السُّجُودَ يُضافُ إلى ¬

(¬1) معالم السنن 1/ 238، 239.

462 - مسألة: (ويشرع للسهو في زيادة، ونقص، وشك)

وَيُشرعُ لِلسَّهْوِ فِي زِيَادَة، وَنَقْص، وَشَكٍّ، لِلنَّافِلَةِ وَالْفَرْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّهْوِ، فدَلَّ على اخْتِصاصِه به. والشَّرْعُ إنَّما وَرَد به فيه، ولا يَلْزَمُ مِن انْجِبارِ السَّهْوِ به انْجِبارُ العَمْدِ، لوُجُودِ العُذْرِ في السَّهْوِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بزِيادَة رُكْنٍ أو رَكْعَةٍ، أو قِيام في مَوْضِعِ جُلُوسٍ. 462 - مسألة: (وَيُشْرَعُ للسَّهْوِ في زِيادَةٍ، ونَقْصٍ، وشَكٍّ) لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما وَرَد به في ذلك. فأمَّا حديثُ النَّفْسِ فلا يُشْرَعُ له السُّجُودُ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ به فيه (¬1)، ولأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، وهو مَعْفُوٌ عنه. 463 - مسألة: (للنّافِلَةِ والفَرْضِ) لا فَرْقَ بينَ النّافِلَةِ والفَرْضِ في سُجُودِ السَّهوِ، أنَّه يُشْرَعُ فيهما، في قولِ عَوامِّ أهلِ العلمِ. وقال ابنُ ¬

(¬1) زيادة من: تش.

464 - مسألة: (فمتى زاد فعلا من جنس الصلاة، قياما، أو

فَأمَّا الزِّيَادَةُ، فَمتَى زَادَ فِعْلًا مِنْ جِنْسِ الصَّلاةِ، قِيَامًا، أوْ قُعُودًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ: لا يُشْرَعُ في النّافِلَةِ. ولَنا، عُمُومُ قول النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا نَسِيَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ». وقَوْله: «إذَا نَسِيَ أحَدُكُمْ فَزَادَ أوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (¬1). ولأنَّها صلاةٌ ذاتُ رُكُوعٍ وسُجُودٍ، فشُرِع لها السُّجُودُ كالفَرِيضَةِ. فصل: ولا يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ في صلاةِ (¬2) الجِنازَةِ؛ لأَنَّها لا سُجُودَ في صُلْبِها، ففي جَبْرِها أوْلَى. ولا في سُجُودِ تِلاوَةٍ؛ لأنَّه لو شُرِع كان الجَبْرُ زائِدًا على الأصْلِ. ولا في سُجُودِ السَّهْوِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ولأنَّه إجْماعٌ، حَكاه إسحاقُ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى التَّسَلْسُلِ. ولو سَها بعدَ سُجُودِ السَّهْوِ لم يَسْجُدْ لذلك. والله أعلمُ. 464 - مسألة: (فمتى زاد فِعْلًا مِن جِنْسِ الصلاةِ، قيامًا، أو ¬

(¬1) انظر تخريج حديث ابن مسعود الآتي. (¬2) في الأصل: «الصلاة».

أوْ رُكُوعًا، أوْ سُجُودًا عَمْدًا، بَطَلَتِ الصَّلَاةُ، وَإنْ كَانَ سَهْوًا، سَجَدَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قُعُودًا، أو رُكُوعًا، أو سُجُودًا عَمْدًا، بَطَلَتِ الصلاةُ، وإن كان سَهْوًا سَجَد له) الزِّيادَةُ في الصلاةِ تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْن، زِيادَةُ أقْوالٍ، وزِيادَةُ أفْعالٍ. وزِيادَةُ الأفْعالِ تَتَنوَّعُ نَوْعَيْن، أحَدُهما، زِيادَة من جِنْسِ الصلاةِ، مِثْلَ أن يَقُومَ في مَوْضِع جُلُوسٍ، أو يَجْلِسَ في مَوْضِعِ قِيامٍ، أو يَزِيدَ رَكْعَةً أو رُكْنًا. فإن فَعَلَه عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاُتُه إجْماعًا، وإن كان سَهْوًا سَجَدَ له، قَلِيلًا كان أو كَثيرًا، لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ». رَواه مسلمٌ (¬1). ¬

(¬1) انظر حديث ابن مسعود الذى بعده.

465 - مسألة: (وإن زاد ركعة، فلم يعلم حتى فرغ منها، سجد لها)

وَإنْ زَادَ رَكْعَةً، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، سَجَدَ لَهَا، وَإِنْ عَلِمَ فِيها، جَلَسَ فِي الْحَالِ، فَتَشَهَّدَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ، وَسَجَدَ، وَسَلَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 465 - مسألة: (وإن زاد رَكْعَةً، فلم يَعْلَمْ حتَّى فَرَغ مِنها، سَجَد لها) لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، قال: صَلى بنا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَمسًا، فلمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ القَوْمُ بَيْنَهم، فقال: «مَا شَأنُكُمْ»؟ قالُوا: يَا رسولَ الله، هل زِيدَ في الصلاةِ؟ قال: «لَا». قالُوا: فإنَّك صَلَّيْتَ خَمسًا. فانْفَتَلَ، ثم سَجَد سَجْدَتَيْن، ثم سَلَّمَ، ثم قال: «إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإذَا نَسِيَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ [سَجْدَتَيْنِ». وفي رِوايةٍ، قال: «إنَّما أنا بَشَرٌ، أذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ، وَأنْسَى كَمَا تَنْسَونَ». ثم سَجَد] (¬1) سَجْدَتيِ السَّهْوِ. وفي روايَةٍ، قال: «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ». رَواه بطُرُقِه مسلمٌ (¬2). 466 - مسألة: (وإن عَلِم فيها، جَلَس في الحالِ، فتَشَهَّدَ إن لم يَكُنْ تَشَهَّدَ، وسَجَد، وسَلَّمَ) متى قام إلى خامِسَةٍ في الرُّباعِيَّةِ، أو إلى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 400 - 403. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التوجه نحو القبلة، من كتاب الصلاة. وفي: باب إذا صلى خمسًا، من كتاب السهو. وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. . . إلخ، من كتاب الآحاد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 111، 2/ 85، 9/ 107. وأبو داود، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 235. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في سجدتى السهو بعد السلام والكلام، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 184. والنَّسائيّ، في: باب التحرى، وباب ما يفعل من صلى خمسًا، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 24، 28. وابن ماجه، في: باب السهو في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 380. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 376، 409، 420، 428، 443، 448، 456، 463، 465.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رابِعَةٍ في المَغْرِب، أو إلى الثّالِثَةِ في الصُّبحِ، لَزِمَه الرُّجُوعُ متى ذَكَر، ويَجْلِسُ، فإن كان قد تَشَهَّدَ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ التى تَمتْ بها صَلاتُه، سَجَد للسَّهْو، ثم سَلَّمَ. وإن كان تَشَهَّدَ ولم يُصَلِّ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى عليه، ثم سَجَد للسُّهْو وسَلَّمَ. وِإن لم يَكُنْ تَشَهَّدَ، تَشَهَّدَ وسَجَد للسَّهْوِ، ثم سَلَّمَ. وإن لم يَذْكُرْ حتَّى فرَغ مِن الصلاةِ، سَجَد عَقِيبَ ذِكْرِه، وتَشَهَّدَ وسَلَّمَ، وصَحَّتْ صَلاتُه. وبهذا قال عَلْقَمَةُ، والحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، والنَّخعيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: إن ذَكَر قبل أن يَسْجُدَ، جَلَسَ للتَّشَهُّدِ، وإن ذَكَر بعدَ السُّجُودِ، وكان جَلَس عَقِيبَ الرابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، صَحَّتْ صَلاتُه، ويُضِيفُ إلى الزِّيادَةِ أُخْرَى، لتَكُونَ نافِلَةً. وإن لم يكُنْ جَلَس بَطَلَ فَرْضُه، وصارت صَلَاتُه نافِلَةٌ، ولَزِمَه إعادَةُ الصلاةِ. ونَحْوَه قال حَمّادُ بنُ أبي سُلَيْمانَ. وقال قَتادَة، والأوْزاعِيُّ، في مَن صَلَّى المَغْرِبَ أرْبَعًا: يُضِيفُ إليها أُخْرَى، فتكونُ الرَّكْعَتان تَطَوُّعًا، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حديثِ أبي سعيدٍ: «فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْن لَهُ صَلَاتَهُ». رَواه مسلمٌ (¬1). ولَنا، حديثُ عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، الذى تَقَدَّمَ. والظّاهِرُ منه ¬

(¬1) في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 400. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا شك في الثنتين والثلاث من قال: يلقى الشك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 235. والنَّسائيّ، في: باب إتمام المصلى على ما ذكر إذا شك، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 22، 23. وابن ماجه، في: باب ما جاء في شك في صلاته فرجع إلى اليقين، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 382. والدارمي، في: باب الرَّجل لا يدري أثلاثا صلى أم أربعًا، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 351. والإمام مالك، في: باب إتمام المصلى ما ذكر إذا شك في صلاته، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 95. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 72، 83، 84، 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَجلِسْ عَقِيبَ الرَّابِعَةِ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لو فَعَلَه لنُقِلَ، ولأنَّه لو (¬1) قام إلى الخامسةِ يَعْتَقِدُ أنَّه قام عن ثالِثَةٍ، لم تَبْطُلْ صَلَاتُه بذلك، ولم يُضِفْ إلى الخامِسَةِ أخْرَى. وحديثُ أبي سعيدٍ حُجَّةٌ عليهم أَيضًا؛ لأنَّه جَعَل الزِّيادَةَ نافِلَةً مِن غيرِ أن يَفْصِلَ بَيْنَها وبينَ التى قَبْلَها بجُلُوسٍ، وجَعَل السَّجْدَتَيْن يَشْفَعُها بها، ولم يَضُمَّ إليها رَكْعَةً أُخْرَى، وهذا كلُّه يُخالِفُ ما قالُوه، فقد خالَفُوا الخَبَرَيْن جَمِيعًا. فصل: ولو قام إلى ثالِثَةٍ في صلاةِ اللَّيْلِ، فهو كما لو قام إلى ثالِثَةٍ في صلاةِ (¬2) الفَجْرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال مالكٌ: يُتِمُّها أرْبَعًا، ويَسْجُدُ للسَّهْوِ في اللَّيْلِ والنَّهارِ. وهو قولُ الشافعيِّ بالعِراقِ. وقال الأوْزاعِيُّ في صلاةِ النَّهارِ، كقَوْلِه، وفي صلاةِ اللَّيْلِ إن ذَكر قبلَ رُكُوعِه في الثالِثَةِ، كقَوْلِنا، وإن ذَكَر بعدَ (¬3) رُكُوعِه، كقَوْلِ مالكٍ. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» (¬4). ولأنَّها صلاةٌ شُرِعَتْ رَكْعَتَيْن، أشْبَهَتْ صلاةَ الفَجْرِ، فأمّا صلاةُ النَّهارِ فيُتِمُّها أرْبَعًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في النسخ: «قبل». وما أثبتناه هو الصحيح. انظر المغني 2/ 443. (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الحلق والجلوس في المسجد، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما جاء في الوتر، وباب ساعات الوتر، من كتاب الوتر، وفي: باب كيف كان صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 127، 2/ 30، 31، 64. ومسلم، في: باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 516 - 519. وأبو داود، في: باب صلاة الليل مثنى مثنى، من كتاب التطوع، وفي: باب كم الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 305، 328. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى، من أبواب الصلاة، وفي: باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 226، 227، 3/ 78. والنَّسائيّ، في: =

467 - مسألة: (وإن سبح به اثنان، لزمه الرجوع)

وَإِنْ سَبَّحَ بِهِ اثْنَانِ، لَزِمَهُ الرُّجُوعُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا جَلَس للتَّشَهُّدِ في غيرِ مَوْضِعِه قَدْرَ جَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةِ، فقال القاضي: يَلْزَمُه السُّجُودُ، سَواءٌ قُلْنا باسْتِحْبابِ جَلْسَةِ الاسْتِراحَةِ، أو لم نَقُلْ؛ لأنَّه لم يُرِدْها بجُلُوسِه، إنَّما أراد التَّشَهُّدَ سَهْوًا. قال الشيخُ (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه؛ لأنَّه فِعْلٌ لا يُبْطِلُ عَمْدُه الصلاة، فلم يَسْجُدْ لسَهْوِه، كالعَمَلِ اليَسِيرِ مِن غيرِ جِنْس الصلاةِ. 467 - مسألة: (وإن سَبَّحَ به اثْنان، لَزِمَه الرُّجُوعُ) متى سَبَّحَ به اثْنان يَثِقُ بقَوْلِهما، لَزِمَه الرُّجُوعُ إليه، سَواءٌ غَلَب على ظَنِّه صَوابُ قَوْلِهما، أو خِلافُه. وقال الشافعيُّ: إن غَلَب على ظَنِّه خَطَوُّهما لم يَعْمَلْ ¬

= باب كيف صلاة الليل، وباب كيف الوتر بواحدة، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 185، 186، 191. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر بركعة، وباب ما جاء في صلاة الليل ركعتين، وباب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 371، 418، 419. والدارمي، في: باب صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وباب في صلاة الليل، وباب كم الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 340، 372. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صلاة الليل، وباب الأمر كالوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 117، 123. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 6، 7، 10، 26، 30، 33، 40، 44، 49، 51، 58، 66، 71، 76، 77، 79، 81، 83، 119، 133، 134، 141، 148، 155. وانظر: المسند 1/ 31، 45، 54. (¬1) في: المغني 2/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَوْلِهما. ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَجَع إلى قولِ أبي بكر، وعُمَرَ، في حديثِ ذى اليَدَيْن، حينَ سَألَهُما: «أحَقُّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْن؟». قالا: نَعَمْ (¬1). ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَ المَأْمُومِين بالتَّسْبِيحِ، ليُذَكِّرُوا الإمامَ، ¬

(¬1) يأتي بتمامه في صفحة 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَعْمَلَ بقَوْلِهم. وقال في حديثِ ابنِ مسعودٍ: «فَإذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» (¬1). فأمّا إن كان الإمامُ على يَقين مِن صَوابِ نَفْسِه، [لم يَجُزْ له مُتابَعَتُم. وقال أبو الخَطّابِ: يَلْزَمُه الرُّجُوعُ، كالحاكِمِ يَحْكُمُ بالشّاهِدَيْن ويَتْرُكُ يَمينَ نَفْسِه] (¬2). قال شيخُنا (¬3): وليس بصحيحٍ؛ لأنَّه يَعْلَمُ خَطأهم فلا يَتْبَعُهم في الخَطَإِ. وكذا نَقُولُ في الشّاهِدَيْن: متى عَلِم الحاكِمُ كَذِبَهما لم يَجُزْ له الحُكْمُ بقَوْلِهما، لعِلْمِه أنَّهما شاهِدا زُورٍ، ولا يَحِلُّ الحُكْمُ بقولِ الزُّورِ؛ لأنَّ العَدالَةَ اعْتُبِرتْ في الشَّهادَةِ، ليَغْلِبَ على الظَّنِّ صِدْقُ الشُّهُودِ، ورُدَّتْ شَهادةُ غيرِهم، لعَدَمِ ذلك، فمع يَقِينِ الكَذِبِ أوْلَى أن لا يَقْبَلَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: المغني 2/ 413.

468 - مسألة: (فإن لم يرجع، بطلت صلاته وصلاة من اتبعه عالما، وإن فارقه، أو كان جاهلا، لم تبطل)

فَإنْ لم يَرْجِعْ، بَطَلَتْ صَلَاُتهُ وَصَلَاةُ مَن اتَّبَعَهُ عَالِمًا، وَإنْ كَانَ فَارَقَة، أوْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ تَبْطُلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 468 - مسألة: (فإن لم يَرْجِعْ، بَطَلَتْ صَلاتُه وصلاة مَن اتَّبَعَه عالِمًا، وإن فارَقَه، أو كان جاهلًا، لم تَبْطُلْ) متى سَبَّحَ المأمُومون (¬1) بالإمامِ فلم يَرْجِعْ في مَوْضِعٍ يَلْزَمُه الرُّجُوعُ، بَطَلَتْ صلاتُه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه تَرَك الواجِبَ عَمْدًا، وليس للمَأْمومِين اتِّباعُه؛ لأنَّ صَلَاته ¬

(¬1) في م: «المأموم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باطِلَةٌ. فإنِ اتبعُوه عالِمِين بتَحْرِيم ذلك، بَطَلَتْ صَلَاتُهم؛ لأنَّهم تَرَكُوا الواجِبَ عمْدًا. وإن فارَقُوه وسَلَّمُوا صَحَّت. وهذا اخْتِيارُ الخَلّالِ، لأنَّهم فارَقُوه لعُذْرٍ، أشْبَهَ مَن فارَقَ إمامَه إذا سَبَقَه الحدثُ. وذكر القاضي روايَة ثانِيَةً، أنَّهمْ يَتَّبِعُونَه في القِيامِ اسْتِحْبابًا. وذَكَر رِوايَةً ثالِثَةً، أنَّهم يَنْتَظِرُونَه ليُسَلِّمَ بهم اخْتارَها ابنُ حامدٍ. والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّ الإمامَ مُخْطِئٌ في تَرْكِ متابَعَتِهم، فلا يَجُوزُ اتِّباعُه على الخَطَإِ. وإن كانوا جاهِلِين، فصَلاُتهم صَحِيحَة؛ لأنَّ أصحابَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- تابَعُوه في الخامسةِ في حديثِ ابنِ مسعودٍ، ولم تَبْطُلْ صَلاتُهم، وتابَعُوه أَيضًا في السَّلامِ في حديثِ ذى اليَدَيْن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن سَبَّحَ به واحِدٌ لم يَرْجِعْ إلى قَوْلِه، إلَّا أن يَغْلِبَ على ظَنِّه صِدْقُه (¬1)، فيَعْمَلَ بغلَبَةِ ظَنِّه، لا بتَسْبِيحِه؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَرْجِعْ إلى قول ذى اليَدَيْن وَحْدَهُ. وإن سَبَّحَ به فُسّاقٌ فكذلك؛ لأنَّ قَوْلَهم غيرُ مَقْبُول. وإنِ افْتَرَقَ المَأمُومُون طائِفَتَيْن، وافَقَه قَوْمٌ وخالفَه آخَرُون، سَقَط قَوْلُهم، كالبَيِّنَتَيْن إذا تَعارَضَتا، ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ إلى ما عِنْدَه؛ لأنَّه قد عَضَدَه قولُ اثْنَيْنِ، فتَرَجَّحَ. ذَكَرَه القاضي. ومتى لم يَرْجِعْ، وكان المَأمُومُون (¬2) على يَقِين مِن خَطَإِ الإمام لم يُتابعُوه؛ لأنَّهم إنَّما يُتابِعُونَه في أفْعالِ الصلاةِ، وليس هذا منها، إلَّا أنَّه يَنْبَغِي أن يَنْتَظِرُوه ها هُنا؛ لأنَّ صَلَاته صَحِيحَةٌ لم تَفْسُدْ بزِيادَتِه، فيَنْتَظِرُونَه، كما يَنْتَظِرُهم الإمامُ في صلاةِ الخَوْفِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «المأموم».

469 - مسألة: (والعمل المستكثر في العادة، من غير جنس الصلاة، يبطلها عمده وسهوه، ولا تبطل باليسير، ولا يشرع له سجود)

وَالْعَمَل الْمُسْتَكْثَرُ فِي الْعَادَةِ، مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ، يُبْطِلُهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، وَلَا تَبْطُلُ بِالْيَسِيرِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهُ سُجُودٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 469 - مسألة: (والعَمَلُ المُسْتَكثَرُ في العادَةِ، مِن غيرِ جِنْس الصلاةِ، يُبْطِلُها عَمْدُه وسَهْوُه، ولا تَبْطُلُ باليَسِيرِ، ولا يُشْرَعُ له سُجُودٌ) وجُمْلتَه أنَّ العَمَلَ يَنْقَسِمُ إلى، عَمَلٍ مِن جِنْسِ الصلاةِ، وقد ذَكَرْناه،

470 - مسألة: (وإن أكل أو شرب عمدا، بطلت صلاته، قل أو كثر، وإن كان سهوا، لم تبطل إذا كان يسيرا)

وإنْ أكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاُتهُ، قَلَّ أوْ كَثُرَ، وَإنْ كَانَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ إذَا كَانَ يَسِيرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَمَل مِن غيرِ جِنْسِ الصلاةِ، كالحَكِّ والمَشْيِ والتَّرَوُّحِ، فهذا تَبْطُلُ الصلاةُ بكثِيرِه، عَمْدًا كان أو سَهْوًا، بالإجْماعِ. وإن كان مُتَفَرِّقًا لم تَبْطُلْ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حَمَل أُمامَةَ في الصلاةِ، إذا قام حَمَلَها، وإذا سَجَد وَضَعَها (¬1). وهذا لو اجْتَمَعَ كان كَثِيرًا. وإن كان يَسيرًا، لم يُبْطِلْها، لِما ذَكَرْنا. والمَرْجِعُ في الكَثِيرِ واليَسِيرِ إلى العُرْفِ، وقد ذَكَرْناه فيما مَضَى. ولا يُشْرَعُ له سُجُودٌ؛ لأنَّه لا يكادُ تَخْلُو منه صلاةٌ، ويَشُقُّ التَّحَرُّرُ منه. 470 - مسألة: (وإن أكَلَ أو شَرِب عَمْدًا، بَطلَت صَلَاتُه، قَلَّ أو كَثُر، وإن كان سَهْوًا، لم تَبْطُلْ إذا كان يَسِيرًا) إذا أكَل أو شَرِب عامِدًا في الفَرْضِ، بَطَلَت صَلَاتُه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 160.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ، على أنَّ المُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِن الأكْلِ والشُّرْبِ، وأجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْم، على أنَّ مَن أكَل أو شَرِب في صلاةِ الفَرْضِ عامِدًا، أنَّ عليه الإِعادَةَ. وإن فَعَله في التَّطَوُّعِ أبْطَلَه، في الصَّحِيح مِن المذهبِ، وهو قولُ أكثَرِ الفقهاء؛ لأنَّ ما أبْطَلَ الفَرْضَ أبْطَلَ التَّطَوُّعَ، كسائِرِ المُبْطِلاتِ. وعن أحمدَ، أنَّه لا يُبْطِلُها. ويُرْوَى عن ابن الزُّبَيْرِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْر، أنَّهُما شَرِبا في التَّطَوُّعِ (¬1). وهذا قولُ إسحاقَ؛ لأنَّه عَمَلٌ يَسِيرٌ، أشْبَهَ غيرَ الأكْلِ. فأمّا إن كَثُر فإنَّه يُفسِدُها بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ غيرَ الأكْلِ مِن الأعْمالِ يُبْطِلُ الصلاةَ إذا كَثُر، فالأكْلُ والشُّرْبُ أوْلَى. فإن كان سَهْوًا وكَثُر (¬2) أبْطَلَ الصلاةَ أَيضًا بغيرِ خلافٍ، لِما ذَكَرْنا. وإن كان يَسِيرًا، لم يَبْطُلْ به الفَرْضُ ولا التَّطَوُّعُ، ¬

(¬1) انظر: مصنف عبد الرَّزّاق 2/ 333. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ عطاءٍ والشافعيِّ. وقال الأوْزاعِيُّ: يُبْطِلُ الصلاةَ؛ لأنَّه فِعْلٌ مِن غيرِ جِنْسِ الصلاةِ، يُبْطِلُ عَمْدُه، فأبْطَلَ سَهْوُه، كالعَمَلِ الكَثِيرِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ» (¬1). ولأنَّه يُسَوَّى بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه حالَ العَمْدِ، فعُفِيَ عنه في الصلاةِ إذا كان سَهْوًا، كالعَمَلِ مِن جِنْسِها. فصل: إذا تَرَك في فِيهِ ما يَذُوبُ كالسُّكَّرِ، فذاب منه شئٌ، فابْتَلَعَه، أفْسَدَ الصلاةَ؛ لأنَّه أكَل. وإن بَقِي بينَ أسْنانِه، أو في فِيهِ، مِن بَقايا الطَّعامِ يَسِيرٌ يَجْرِي به الرِّيقُ، فابْتَلَعَه، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّه يَشُقُّ الاحْتِراز منه. وإن تَرَك في فِيهِ لُقْمَةً ولم يَبْتَلِعْها، كُرِهَ؛ لأنَّه يَشْغَلُه عن خُشُوعِ الصلاةِ، وعن الذِّكْرِ والقِراءَةِ فيها، ولا يُبْطِلُها؛ لأنَّه عَمَلٌ يَسِيرٌ، فهو كما لو أمْسَكَ شيئًا في يَدِه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 276.

471 - مسألة: (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه، كالقراءة في السجود والقعود، والتشهد في القيام، وقراءة السورة في الأخريين، لم تبطل الصلاة بعمده)

وإنْ أتَى بِقَوْلٍ مَشْرُوعٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِه، كَالْقِرَاءَةِ فِي السُّجُودِ وَالْقُعُودِ، وَالتَّشَهُّدِ فِي الْقِيَامِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ بعَمْدِه، وَلَا يَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 471 - مسألة: (وإن أتَى بقولٍ مَشْرُوعٍ في غيرِ مَوْضِعِه، كالقِراءَةِ في السُّجُودِ والقُعُودِ، والتَّشَهُّدِ في القِيامِ، وقِراءَةِ السُّورَةِ في الأُخْرَيَيْن، لم تَبْطُلِ الصلاةُ بعَمْدِه) لأنَّه مَشْرُوعٌ في الصلاةِ (ولا يَجِبُ السُّجُودُ لسَهْوِه) لأنَّ عَمْدَه لا يُبْطِلُ الصلاةَ، فلم يَجِبِ السُّجُودُ لسَهْوِه، كسائِرِ

وَهَلْ يُشْرَعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لا يُبْطِلُ عَمْدُه الصلاةَ (وهل يُشْرَعُ؛ فيه رِوايَتان) إحْداهما، يُشْرَعُ، لعُمُومِ قَوْله عليه السَّلامُ: «إذا نَسِيَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ». رَواه مسلمٌ (¬1). والثانيةُ، لا يُشْرَعُ؛ لأنَّ عَمْدَه لا يُبْطِلُ الصلاةَ، فلم يُشْرَعِ السُّجُودُ لسَهْوِه، كتَرْكِ سُنَنِ الأفْعالِ. فصل: فإن أتَى فيها بذِكْرٍ أو دُعاءٍ لم يَرِدْ به الشَّرْعُ فيها، كقَوْلِه: آمِينَ رَبَّ العالَمِينْ. وقوله في التَّكْبيرِ: اللهُ أكْبَرُ كَبيرًا. ونحوِه. لم يُشْرَعْ له سُجُودُ؛ لأنَّه رُوِي عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه سَمِع رجَلًا، يَقُولُ في الصلاةِ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود في صفحة 9.

472 - مسألة: (وإن سلم قبل إتمام صلاته عمدا، أبطلها)

وَإنْ سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَام صَلَاِته عَمْدًا، أَبْطَلَهَا، وَإنْ كَانَ سَهْوًا، ثُمَّ ذَكَرَ قَرِيبًا، أتَمَّهَا وَسَجَدَ، فَإنْ طَالَ الْفَصْلُ، أَوْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، بَطَلَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا مُبارَكًا فيه، كما يُحِب رَبُّنا ويَرْضَى. فلم يَأْمُرْه بالسُّجُودِ (¬1). 472 - مسألة: (وإن سَلَّمَ قبلَ إتْمَامِ صَلاِته عَمْدًا، أبْطَلَها) لأنَّه تَكَلَّمَ فيها عامِدًا (وإن كان سَهْوًا، ثم ذَكَر قَرِيبًا، أتَمَّها وسَجَد، وإن طال الفَصْلُ، أو تَكَلَّمَ لغيرِ مَصْلَحَةِ الصلاةِ، بَطَلَت) وجُمْلته أنَّ مَن سَلَّمَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما يفتح به الصلاة من الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 176. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يعطس في الصلاة، من كتاب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 193، 194، والنَّسائيّ، في: باب قول المأموم إذا عطس خلف الإمام، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ إتْمامِ صَلاتِه ساهِيًا، ثم عَلِم قبلَ طُولِ الفَصْلِ، [ونَقْضِ وُضُوئِه] (¬1)، فصَلاتُه صَحِيحَة لا تَبْطُلُ بالسَّلامِ، وعليه أن يَأْتِيَ بما بَقِي منها، ثم يَتَشَهَّدُ ويُسَلِّمُ، ويَسْجُدُ سَجْدَتَيْن، ويَتَشَهَّدُ ويُسَلِّمُ. فإن لم يَذكُرْ حتَّى قام، فعليه أن يَجْلِسَ ليَنْهَضَ إلى الإتْيانِ بما بَقِيَ عن جُلُوسٍ؛ لأنَّ هذا القيامَ واجِبٌ للصلاةِ، ولم يَأْتِ به لها، فلَزِمَه الإتْيانُ به مع النِّيَّةِ. ولا نَعْلَمُ في جَوازِ الإِتْمامِ في حَقِّ مَن نَسِيَ رَكْعَةً فما زاد خِلافًا. والأصْلُ في هذا ما روَى ابنُ سِيرِينَ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: صَلَّى بنا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إحْدَى صَلَاتيِ العَشِيِّ، قال ابنُ سِيرِينَ: سَمّاها لنا أبو هُرَيْرَةَ، ولكنْ أنا نَسِيتُ، فصَلَّى رَكعَتَيْن، ثم سَلَّمَ، فقام إلى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ في المَسْجِدِ، فوَضَعَ يَدَه عليها، كأنَّه غَضْبانُ، وشَبَّكَ بينَ أصابِعِه، ووَضَع يَدَه اليُمْنَى على ظَهْرِ كَفه اليُسْرَى، وخَرَجَتِ السَّرْعَانُ مِن المَسْجِدِ، ¬

(¬1) في م: «ولم ينتقض وضوءه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالُوا: قُصِرَتِ الصَّلاةُ، وفي القَوْمِ أبو بكر وعُمَرُ، فهاباه أن يُكلِّماه، وفي القَوْمِ رجلٌ في يَدَيْه طُولٌ، يُقالُ له: ذو اليَدَيْن. فقال: يَا رسولَ اللهِ، أنسِيتَ أم قُصِرَتِ الصلاةُ؟ قال: «لَمْ أنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ»، فقال: «أكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟». قالوا: نَعَمْ. قال: فتَقَدَّمَ فَصَلَّى ما تَرَك مِن صلاتِه، ثم سَلَّمَ، ثم كبَّر وسَجَد مِثْلَ سُجُودِه أو أطْوَلَ، ثم رَفع رَأْسَه، فكَبَّرَ، وسَجَد مِثْلَ سُجُودِه أو أطْوَلَ، ثم رفَع رَأْسَه، فكَبَّرَ. قال: فرُبَّما سَألُوه: ثم سَلَّمَ قال: نُبِّئْتُ (¬1) أنَّ عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ قال: ثم سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2) ورَواه أبو داودَ (¬3). وزاد قال: قُلْتُ، فالتَّشَهُّدُ؟ قال: لم ¬

(¬1) في م: «ثبت». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، من كتاب الصلاة، وفي: باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول النَّاس، من كتاب الأذان، وفي: باب إذا سلم في ركعتين أو ثلاث. . . إلخ، وباب من لم يتشهد في سجدتى السهو، وباب من يكبر في سجدتى السهو، من كتاب السهو، وفي: باب ما يجوز من ذكر النَّاس، نحو قولهم الطَّويل والقصير، من كتاب الأدب، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الآحاد، من كتاب خبر الآحاد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 129، 130، 183، 2/ 85 - 87، 8/ 19، 20، 9/ 108. ومسلم، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 403، 404. كما أخرجه أبو داود، في: باب السهو في السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 231. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 188، 189، والنَّسائيّ، في: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسيًا وتكلم، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 17، 18. وابن ماجه، في: باب في من سلم من ثنتين أو ثلاث ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 383. والدارمي، في: باب سجدة السهو من الزيادة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 351، 352. والإمام مالك، في: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 93، 94. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 234، 235، 423، 460. (¬3) انظر التخريج السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْمَعْ في التَّشَهُّدِ، وأحَبُّ إلَيَّ أن يَتَشَهَّدَ. وروَى عِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ، قال: سَلَّمَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في ثَلاثِ رَكَعات [مِن العَصْرِ] (¬1)، ثم قام فدَخَلَ الحُجْرَةَ، فقام رجلٌ بَسِيطُ الْيَدَيْنِ، فقال: أقُصِرَتِ الصَّلاةُ يَا رسولَ اللهِ؟ فخَرَجَ مُغْضَبًّا، فصَلَّى الرَّكْعَةَ التى كان تَرَك، ثم سَلَّمَ، ثم سَجَد سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ثم سَلَّمَ. رَواه مسلمٌ (¬2). فصل: فأمّا إن طال الفَصْلُ، أو انْتَقَض وُضُوءُه، اسْتَأْنَفَ الصلاةَ. كذلك قال الشافعيُّ، إن (¬3) ذكَر قَرِيبًا، مِثْلَ فِعْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَوْمَ ذِي اليَدَيْن ونَحْوَه، بَنَى. وقال مالكٌ نَحْوَه. وقال اللَّيْثُ، ويحيى الأنْصارِيُّ، والأوْزاعِيُّ: يَبْنِي ما لم يَنْتَقِضْ وُضُوءُه. . ولَنا، أنَّها صلاةٌ واحِدَةٌ، فلم يَجُزْ بِناءُ بَعْضِها على بَعْضٍ مع طُولِ الفَصْلِ، كما لو انتقَضَ وُضُوءُه. والمَرْجِعُ في طُولِ الفَصْلِ وقِصَرِه إلى العادَةِ. ولأصحابِ الشافعيِّ في ذلك خلافٌ قد ذَكَرْناه فيما إذا تَرَك رُكْنًا، في البابِ قَبْلَه (¬4). والصحِيحُ أنَّه لا حَدَّ له، إذ (¬5) لم يَرِدْ بتَحْدِيدِه نَصٌّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 405. كما أخرجه أبو داود، في: باب السهو بين السجدتين، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 234. وابن ماجه، في: باب في من سلم من ثنتين أو ثلاث ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 384. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 431، 441. (¬3) في م: «وإن». (¬4) انظر الجزء الثالث صفحة 667. (¬5) في الأصل: «إذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُرْجَعُ فيه إلى العَادَةِ والمُقاربَةِ لمِثْلِ حالِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حديثِ ذى اليَدَيْن. فصل: فإن لم يَذْكُرْه حتَّى شَرَع في صلاةٍ أُخْرَى، فإن طال الفَصْلُ، بَطَلَتِ الأُولَى، لِما ذَكَرْنا. وإن لم يَطُلِ الفَصْلُ، عاد إلى الأُولَى فأتَمَّها. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال الشيخُ أبو الفَرَجِ، في «المُبْهِجِ»: يَجْعَلُ ما شَرَع فيه مِن الصلاةِ الثّانِيَةِ تَمامًا للأُولَى، فيَبْنِي إحْداهما على الأُخْرَى، ويصيرُ وُجُودُ السَّلامِ كعَدَمِه؛ لأنَّه سَهْوٌ مَعْذُورٌ فيه، وسَواءٌ كان ما شَرَع فيه نَفْلًا أو فَرْضًا. وقال الحسنُ، وحمادُ بنُ أبي سليمانَ: إنْ شَرَع في تَطَوُّعٍ بَطلَتِ المَكْتُوبَةُ. وقال مالكٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أن يَبْتَدِيَّها. ورُوِي عن أحمدَ، مِثْلُ قولِ الحسن، فإنَّه قال، في روايَةِ أبي الحارِثِ، إذا صَلَّى رَكْعَتَيْن مِن المَغْرِبِ وسَلَّمَ، ثم دَخَل في التَّطَوُّعِ (¬1): إنَّه بمَنْزِلَةِ الكَلامِ، يَسْتَأنِفُ الصَّلاةَ. ولَنا، أنَّه عَمِل (¬2) عَمَلًا مِن جنسِ الصلاةِ سَهْوًا، فلم تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كما لو زاد خامِسَةً. وأمّا إتْمامُ الأُولَى بالثّانِيَةِ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه قد خَرَج مِن الأُولَى بالسَّلامِ ونِيَّةِ الخُروجِ منها، ولم يَنْوِها بعدَ ذلك، ونِيَّةُ غيرِها لا تُجْزِئُ عن نِيَّتِها، كحالَةِ الابْتِداءِ. ¬

(¬1) في م: «التكلم». (¬2) في م: «أهمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَكَلَّمَ في هذه الحالِ، يَعْنِي إذا سَلَّمَ يَظُنُّ أنَّ صَلَاته قد تَمَّت، لغيرِ مَصْلَحَةِ الصلاةِ، كقَوْلِه: يَا غُلامُ اسْقِنِي ماءً. ونحوِه، بَطَلَت صَلاتُه. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ يُوسُفَ بن مُوسَى (¬1)، وجماعَةٍ سِواه، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن زيدِ بنِ أرْقَمَ، قال: كُنّا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ، يُكَلِّمُ أحَدُنا صاحِبَه وهو إلى جَنْبِه، حتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3). فأُمِرْنا بالسُّكوتِ ونُهِينا عن الكلامِ. رَواه مسلمٌ (¬4). وفيه روايةٌ ثانيةٌ، أنَّ الصَّلاةَ لا تَفْسُدُ بالكَلامِ في تلك الحالِ بحالٍ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، ¬

(¬1) يوسف بن موسى العطار الحربي، كان يهوديا، أسلم على يدى الإمام أَحْمد، وهو حدث، فحسن إسلامه، ولزم العلم، وروى عن الإمام أَحْمد أشياء. طبقات الحنابلة 1/ 420، 421. (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 559 من حديث معاوية بن الحكم السلمي. (¬3) سورة البقرة 238. (¬4) في: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 383. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، من كتاب الجمعة، وفي: باب وقوموا لله قانتين مطيعين، من كتاب التفسير. صحيح البُخَارِيّ 2/ 78، 79، 6/ 38. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في نسخ الكلام في الصلاة، من أبواب الصلاة، وفي: باب حَدَّثَنَا أَحْمد بن منيع، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 2/ 195، 196، 11/ 107. والنَّسائيّ، في: باب الكلام في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 16.

473 - مسألة: (وإن تكلم لمصلحتها، ففيه ثلاث روايات؛ إحداهن، لا تبطل. والثانية، تبطل. والثالثة، تبطل صلاة المأموم دون الإمام. اختارها الخرقي)

وَإِنْ تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَتِهَا، فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، إِحْدَاهُن، لا تَبْطُلُ. وَالثَّانِيَةُ، تَبْطُلُ. وَالثَّالِثَةُ، تَبْطُلُ صَلَاةُ المَأْمُومِ دُونَ الْإمَامِ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ؛ لأنَّه نَوْعٌ مِن النِّسْيانِ، ولذلك (¬1) تَكلَّمَ النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأَصْحابُه، وبَنَوْا على صَلاتِهم. 473 - مسألة: (وإن تَكَلَّمَ لمَصْلَحَتِها، ففيه ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، لا تَبْطُلُ. والثَّانِيَةُ، تَبْطُلُ. والثَّالِثَةُ، تَبْطُلُ صلاةُ المأْمُومِ دُونَ الإِمام. اخْتارَها الخِرَقِيُّ) وجُمْلَةُ ذلك أن مَن سَلَّمَ عن نَقْصٍ في صَلاتِه، كما ذَكَرْنا، ثم تَكلَّمَ لمَصْلَحَتِها، ففيه ثلاثُ رِواياتٍ، إِحْداهُنَّ، أنَّ الصلاةَ لا تَفْسُدُ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصْحابَه تَكَلَّمُوا في صَلاِتهم، في حَدِيثِ ذى اليَدَيْن، وبَنَوْا على صَلاِتهم. وفي رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لنا أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، ¬

(¬1) في الأصل: «وكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعيِّ، ونَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَة جَماعَةٍ مِن أصْحابِه. ومِمِّن رُوِيَ أنَّه تَكَلَّمَ بعدَ أن سَلَّمَ، وأتَمَّ صَلَاته، الزُّبَيْرُ، وابْناه، وصَوَّبَه ابنُ عباسٍ. وهو الصَّحيحُ، إن شاء اللهُ تعالى. والثّانِيَةُ، تَفْسُدُ صَلَاتُهم. وهو قولُ الخلّالِ [وصاحِبِه] (¬1)، وَمَذْهَبُ أصْحابِ الرّأْيِ، لعُمُومِ أحادِيثِ النَّهْيِ. والثّالِثَةُ، أنَّ صلاةَ الإمام لا تَفْسُدُ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إمامًا، فتَكَلَّمَ وبَنَى على صَلاتِه، وصلاةَ المَأْمُومِين تَفْسُدُ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ اقتِدَاؤهم بأبي بكرٍ وعُمَرَ؛ لأنَّهما تَكَلَّما مُجِيبَيْن للنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وإجابَتُه واجِبَةٌ عليهما، ولا بذى اليَدَيْن؛ لأنَّه تَكَلَّمَ سائِلًا عن نَقْصِ الصلاةِ في وَقْتٍ يُمْكِنُ ذلك فيها، وهذا غيرُ مَوجُودٍ في زَمانِنا. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. وإنَّما (¬2) خَصَصْناه بالكَلامِ في شَأْنِ الصلاةِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصحابَه إنَّما تَكَلمُوا في شَأْنِ الصلاةِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وربما».

474 - مسألة؛ قال: (وإن تكلم في صلب الصلاة بطلت. وعنه، لا تبطل إذا كان ساهيا، أو جاهلا، ويسجد له)

وَإنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ، بَطَلَتْ. وَعَنْهُ، لَا تَبْطُلُ إذَا كَانَ سَاهِيًا أوْ جَاهِلًا، وَيَسْجُدُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 474 - مسألة؛ قال: (وإن تَكلَّمَ في صُلْبِ الصلاةِ بَطَلَتْ. وعنه، لا تَبْطُلُ إذا كان ساهِيًا، أو جاهِلًا، ويَسْجُدُ له) متى تَكَلَّمَ عامِدًا عالِمًا أنَّه في الصلاةِ مع عِلْمِه بتَحْرِيمِ ذلك لغيرِ مَصْلَحَةِ الصلاةِ، ولا لأمْرٍ يُوجبُ الكلامَ، بَطَلَتْ صَلَاتُه إجْماعًا. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ». وعن زيدِ بن أرْقَمَ، قال: كُنّا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ، يُكَلِّمُ أحَدُنا صاحِبَه إلى جَنْبِه، حتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. فأُمِرْنا بالسُّكُوتِ، ونُهِينا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الكَلام. رَواهما مسلمٌ (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ، قال: كُنّا نُسَلِّمُ على النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو في الصلاةِ فيَرُدُّ علينا، فلمّا رَجَعْنا مِن عندِ النَّجاشِيِّ سَلَّمْنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا، فقُلْنا: يَا رسولَ اللهِ، كُنّا نُسَلِّمُ عليكَ في الصَّلاةِ (¬2) فتَرُدُّ علينا. قال: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأبى داودَ (¬4): «إنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَقَدْ أحْدَثَ أنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ». ¬

(¬1) تقدم الأول في 3/ 559، والثاني في صفحة 29 من هذا الجزء. (¬2) في م: «الصباح». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة، وفي: باب هجرة الحبشة، من كتاب مناقب الْأَنصار. صحيح البُخَارِيّ 2/ 78، 83، 5/ 64. ومسلم، في: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 2/ 78، 83. وأبو داود، في: باب رد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 211. وابن ماجه، في: باب المصلى يسلم عليه كيف يرد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 6/ 325. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 376، 409. (¬4) في الباب السابق 1/ 212، كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقوله تعالى: {لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 9/ 187. والنَّسائيّ، في: باب الكلام في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 16. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 377، 435، 463.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا إن تَكَلَّمَ جاهِلًا بتَحْرِيمِ الكلامِ (¬1) في الصلاةِ، فقال القاضي في «الجامِعِ»: لا أعْرِفُ عن أحمدَ نَصًّا في ذلك. وقد ذَكَر شَيْخُنا (¬2) فيه هاهُنا رِوَايَتَيْن، إحْداهما، تَبْطُلُ صَلَاتُه؛ لأنَّه ليس مِن جِنْسِ ما هو مَشْرُوعٌ في الصلاةِ، أشْبَهَ العمَلَ الكَثِيرَ، ولعُمُومِ أحاديثِ النَّهْيِ. والثّانِيَةُ، لا تَبْطُلُ، لِما روَى معاوِيَةُ بنُ الحَكمِ السُّلَمِيُّ، قال: بَيْنا أنا أُصَلِّي مع النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذ عَطَس رجلٌ مِن القَوْمِ، فقُلْتُ: يرحَمُك اللهُ. فرَمانِي القَوْمُ بأبْصارِهِم، فقُلْتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهُ، ما شَأنكمْ تَنْظُرُون إليَّ؛ فجَعَلُوا يَضْرِبون بأيْدِيهم على أفْخاذِهم، فلمّا رَأيْتُهم يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فلمّا صَلَّى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فبِأبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيتُ مُعَلِّمًا قَبْلَه ولا بعدَه أحسنَ تَعْلِيمًا منه، فوالله مِا كَهَرَنى، ولا ضَرَبَنِي ولا شَتَمَنِي، ¬

(¬1) في م: «ذلك». (¬2) في: المغني 2/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيْءُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ والتَّكبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». أو كما قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. رَواه مسلمٌ (¬1). فلم يَأْمُرْه بالإِعادَةِ، فدَلَّ على صِحَّتِها. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وفي كَلام النّاسى رِوايَتانِ، إحْداهما، لا تَبْطُلُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لَأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- تَكلَّمَ في حديثِ ذِي اليَدَيْن، وقد ذَكَرْنا حديثَ مُعاوِيَةَ، وما عُذِر فيه بالجَهْلِ عُذِر فيه بالنِّسْيانِ. والثَّانِيَةُ، تَفْسُدُ صَلاتُه. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْيِ، لعُمُومِ أحاديثِ المَنْع مِن الكلامِ. وإذا قُلْنا: إنَّه لا يُبْطِلُ الصلاةَ. سَجَد، لعُمومِ الأحادِيثِ، ولأنَّ عَمْدَه يُبْطِلُ الصلاةَ، فوَجَبَ السُّجُودُ لسَهْوِه، كتَرْكِ الواجِباتِ. واللهُ أعلمُ. فصل: فإن تَكَلَّمَ في صُلْبِ الصلاةِ لمَصْلَحَةِ الصلاةِ، مع عِلْمِه أنَّه في الصلاةِ، بَطَلتْ صَلَاتُه، لعُمُومِ الأحادِيثِ. وذَكَر القاضي في ذلك ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 559.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّواياتِ الثَّلاثَ التى ذَكَرْناها في المَسْألةِ التى قَبْلَها، ويَحْتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ، لعُمُوم لَفْظِه، وهو مَذْهَبُ الأوْزاعِيِّ، فإنَّه قال: لو أنَّ رجلًا قال للإمام، وقَد جَهَر بالِقراءَةِ في العَصْرِ (¬1): إنَّها العَصْرُ. لم تَفْسُدْ صَلَاتُه. وَلأنَّ الإمامَ [قد تَطْرُقُه] (¬2) حالٌ يَحْتاجُ إلى الكلامِ فيها، وهو ما لو نَسِيَ القِراءةَ في رَكْعَةٍ، فذَكَرَها في الثّانِيَةِ، فقد فَسَدَتْ عليه رَكْعَةٌ، فيَحْتاجُ أن يُبْدِلَها برَكْعَةٍ، هي في ظَنِّ المَأمُومِين خامِسَةٌ، ليس لهم مُوافَقَتُه فها، ولا سَبِيلَ إلى إعْلامِهم بغيرِ الكَلامِ، وقد يَشُكُّ في صَلاتِه، فيَحْتاجُ إلى السُّؤْالِ. قال شيخُنا (¬3): ولم أعْلَمْ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ولا عن صَحابَتِه، ولا عن الإمامِ نَصًّا في الكلامِ في غيرِ الحالِ التى سَلَّمَ مُعْتَقِدًا تَمامَ صَلاتِه، ثم تَكلَّمَ بعدَ السَّلام، وقِياسُ الكَلامِ في صُلْبِ الصلاةِ عالِمًا بها على هذه الحالِ مُمْتَنِع؛ لأنَّ هذه حالُ نِسْيانٍ. لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ من الكَلامِ فيها، وهي أَيضًا حالٌ يَتَطَرَّقُ الجَهْلُ إلى صاحِبِها بتَحْرِيمِ الكَلام فيها، فلا يَصِحُّ قِياسُ ما يُفارِقُها في هذين الأمْرَيْن عليها، وإذا عُدِم النَّصُّ والقِياسُ والإجْماعُ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الحُكْمِ؛ لأنَّه بغيرِ دَلِيل، ولا سَبِيلَ إليه. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «القراءة». (¬2) في م: «يطرقه». (¬3) في: المغني 2/ 450، 451.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَكَلَّمَ مَغْلُوبًا على الكلامِ، فهو ثَلاثَةُ أنْواعٍ، أحَدُها، أن تَخْرُجَ الحُرُوفُ مِن فِيهِ بغيرِ اخْتِيارِه، مِثْلَ أن يَتَثاءَبَ، فيَقُولَ: هاه. أو يَتَنَفَّسَ، فيَقُولَ: آه. أو يَسْعُلَ، فيَنْطِقَ بحَرْفَيْن. أو يَغْلَطَ في القُرْآنِ فيَأتِيَ بكلِمَةٍ مِن غيرِ القُرْآنِ، أو يَغْلِبَه البُكاءُ، فلا تَفْسُدُ صَلاتُه في المَنْصُوصِ عنه في مَن غَلَبَه البُكاءُ، وقد كان عُمَرُ يَبْكِي، حتَّى يُسْمَعَ له نَشِيجٌ. وقال مُهَنًا: صَلَّيْتُ إلى جَنْبِ أبي عبدِ اللهِ، فَتَثاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وسَمِعْتُ لتَثاؤُبِه: هاه هاه. وهذا لأنَّ الكَلامَ ها هُنا لا يُنْسَبُ إليه، ولا يَتَعَلقُ به حُكْمٌ مِن أحْكامِ الكَلام. وقال القاضي في مَن تَثاءَبَ، فقال: هاه: تَفْسُدُ صَلاتُه. وهذا مَحْمُولٌ على مَن فَعَل ذلك غيرَ مَغْلُوبٍ عليه، لِما ذَكَرْنا. وذَكَر ابنُ عَقِيل فيه احْتِمالَيْن، أحَدُهما، تَبْطُلُ صَلاتُه، لأنَّه لا يُشرَعُ جِنْسُه في الصلاةِ، أشْبَهَ الحَدَثَ (¬1). والثّانِي، لا تَبْطُلُ، لِما ذَكَرْنا. النَّوْعُ الثّانِي، أن يَنام فيَتَكلَّمَ، فقد تَوَقَّفَ أحمدُ عن الكَلامِ فيه. والأوْلَى إلْحاقُه بالفَصْلِ الذى قَبْلَه؛ لأنَّ القَلَمَ مَرْفُوعٌ عنه. وكذلك ليس لعِتْقِه ولا طَلاقِه حُكْمٌ. وقال ابنُ عَقِيل، في النّائِمِ إذا تَكَلَّمَ بكَلامِ الآدَمِيِّين: انْبَنَى على كَلامِ النّاسِي في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الحديث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّوْعُ الثّالِثُ، أن يُكْرَهَ على الكَلامِ، فيَحْتَمِلُ أن يَكُونَ ككَلامِ النّاسِي؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- جَمَع بَينَهما في العَفْوِ، بقَوْلِهِ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه» (¬1). قال القاضي: وهذا أوْلَى بالعَفْوِ، وصِحَّةِ الصلاةِ؛ لأنَّ الفِعْلَ غيرُ مَنْسُوبٍ إليه، ولهذا. لو أُكْرِهَ على إتْلافِ مالٍ لم يَضْمَنْه، والنّاسِي يَضْمَنُ ما أتْلَفَه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، أنَّ صَلَاته تَفْسُدُ؛ لأنَّه أتَى بما يُفْسِدُ الصلاةَ عَمْدًا، أشْبَهَ ما لو أُكْرِهَ على صلاةِ الفَجْرِ أرْبَعًا، وقِياسُه على النَّاسى لا يَصِحُّ لوَجْهَيْن، أحَدُهما، أنَّ النِّسْيانَ يَكْثُرُ، بخِلافِ الإكْراهِ. والثّانِي، أنَّه لو نَسِيَ، فزاد في الصلاةِ أو نَقَص، لم تَفْسُدْ صَلَاتُه، ولم يَثْبُتْ مِثْلُه في الإكْراهِ. والصَّحِيحُ عندَ أصحابِ الشافعِيِّ أن الصَّلاةَ لا تَبْطُلُ بشئٍ مِن هذه الأنْواعَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 276. (¬2) في: المغني 2/ 448.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَكَلَّمَ بكَلام واجِبٍ، كمَنْ خَشِيَ على ضَرِيرٍ أو صَبِيٍّ، أو رَأى حَيَّةً ونَحْوَها تَقْصِدُ غافِلًا، أو يَرَى نارًا يَخْافُ أن تَشْتَعِلَ في شئٍ، ونَحْوَ هذا، ولم يُمْكِنِ التَّنْبِيه بالتَّسْبِيحِ، فقال أصْحابُنا: تَبْطُلُ الصلاةُ. وهو قولُ بَعْضِ [أصْحابِ الشّافعيِّ] (¬1)، لِما ذَكَرْنا في كَلامِ المُكْرَهِ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا تَبْطُلَ الصلاةُ، وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ؛ لأنَّه قال في حَدِيثِ ذى اليَدَيْن: إنَّما كَلَّمَ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- القَوْمُ (¬3) حينَ كَلَّمَهم؛ لأنَّهم كان عليهم أن يُجِيبُوهْ. فعَلَّل صِحَّةَ صَلاِتهم بوُجُوبِ الكَلام عليهم. وهذا كذلك، وهذا ظاهِرُ مَذْهَب الشافعيِّ، والصَّحِيحُ عندَ أصْحابِه. ¬

(¬1) في الأصل: «الشافعية». (¬2) في: المغني 2/ 448. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ كَلامٍ حَكَمْنا بأنَّه لا يُفْسِدُ الصلاةَ فإنَّما هو اليَسِيرُ منه، فإن كَثُر وطال أفْسَدَ الصلاةَ. وهذا مَنْصُوصُ الشافعيِّ. قال القاضي، في «المُجَرَّدِ»: كَلامُ النّاسِي إذا طال يُفْسِدُ، رِوايَةً واحِدَةً. وقال، في «الجامِعِ»: لا فَرْقَ بينَ القَليلِ والكثِيرِ في ظاهِرِ كلام أحمدَ؛ لأنَّ ما عُفِيَ عنه بالنِّسْيانِ اسْتَوَى قَلِيلُه وكَثِيرُه، كالأكْلِ في الصيامِ. وهو قولُ بَعْضِ الشافعيَّةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ دَلالَةَ الأحَادِيثِ المانِعَةِ مِن الكَلامِ عامة، تُرِكَتْ في اليَسِيرِ [بما وَرَد فيه مِن الأخْبارِ، فتَبْقَى فيما عَداه على مُقْتَضَى العُمُوم، ولا يَصِحُّ قِياسُ الكثِيرِ عليه، لعَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ مِنَ اليَسِيرِ] (¬1)، ولأَنَّ اليَسِيرَ قد عُفِيَ عنه في العَمَلِ مِن غيرِ جِنْسِ الصلاةِ، بخِلافِ الكَثِيرِ. والكَلامُ المُبْطِلُ ما انْتَظَمَ حَرْفَيْن فصاعِدًا. هذا قولُ أَصْحابِنا، وأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الحَرْفَيْن يُكَوِّنان (¬2) كَلِمَةً، كقَوْلِه: أبٌ وأخٌ ويَدٌ ودَمٌ. وكذلك الأفْعالُ. والحُرُوفُ لا تَنْتَظِمُ كَلِمَةً مِن أقلَّ مِن حَرْفَيْن. ولو قال: لا. أفْسَدَ (¬3) صَلَاته؛ لأنَّها حَرْفان لامٌ وألِفٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «تكون». (¬3) في م: «فسدت».

475 - مسألة: (وإن قهقه، أو نفخ، أو انتحب، فبان حرفان فهو كالكلام، إلا ما كان من خشية الله تعالى. قال أصحابنا في النحنحة مثل ذلك. وقد روي عن أبي عبد الله، أنه كان يتنحنح في صلاته ولا يراها مبطلة للصلاة)

وَإِنْ قَهْقَهَ، أَوْ نَفَخَ، أَوِ انْتَحَبَ، فَبَانَ حَرْفَانِ فَهُوَ كَالْكَلَامِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ أَصْحَابُنَا فِي النَّحْنَحَةِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبى عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ كان يَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاِته، وَلَا يَرَاهَا مُبْطِلَةً لِلصَّلَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 475 - مسألة: (وإن قَهْقَهَ، أو نَفَخ، أو انْتَحَبَ، فبان حَرْفان فهو كالكلامِ، إلَّا ما كان مِن خَشْيَةِ اللهِ تعالى. قال أصحابُنا في النَّحْنَحَةِ مِثْلَ ذلك. وقد رُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ، أَنَّه كان يَتَنَحْنَحُ في صلاِته ولا يَراها مُبْطِلَةً للصلاةِ) إذا ضَحِك فبان حَرْفان، فَسَدَت صَلَاتُه. وكذلك إن قَهْقَهَ ولم يَتَبَيَّنْ حَرْفان. وهو قولُ الشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأْيِ. وكذلك ذَكَرَه شَيْخُنا في «المُغْنِي» (¬1). وقال القاضي، في «المُجَرَّدِ»: إن ¬

(¬1) في: المغني 2/ 451.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَهْقَهَ فبان حَرْفٌ واحِدٌ، لم تَبْطُلْ صلاتُه، فإن بان (¬1) حَرْفان، القافُ والهاءُ، فهو كالكلامِ، تَبْطُلُ إن كان عامِدًا. وإن كان ساهِيًا، أو جاهِلًا، خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن. وهو ظاهِرُ قولِ الشَّيْخِ في هذا الكِتابِ (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعُوا على أنَّ الضَّحِكَ يُفْسِدُ الصلاةَ، وأكْثَرُ أهلِ العِلْمِ على أنَّ التَّبَسُّمَ لا يُفْسِدُها. وقد روَى الدّارَقُطْنِيُّ (¬3) في سُنَنِه، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الوُضُوءَ». فصل: فأمَّا النَّفْخُ، فمتى انْتَظَمَ حَرْفَيْن أفْسَدَ الصلاة؛ لأنَّه كلام، وإلَّا لم يُفْسِدْها. وقد قال أحمدُ: النَّفْخُ عِنْدِي بمَنْزِلَةِ الكَلامِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: مَن نَفَخ في الصلاةِ فقد تَكَلَّمَ (¬4). ورُوِيَ عن ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) انظر: المغني 2/ 452. (¬3) في: باب أحاديث القهقهة في الصلاة ومحللها، من كتاب الطهارة سنن الدارقطني 1/ 173. (¬4) أخرجه عبد الرَّزَّاق، وابن أبي شيبة، في: باب النفخ في الصلاة، من كتاب الطهارة. مصنف عبد الرازق 2/ 189، ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 264.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي هُرَيْرَةَ. إلَّا أنَّ ابنَ المُنْذِرِ، قال: لا يَثْبُتُ عن ابنِ عباسٍ، ولا أبي هُرَيْرَةَ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: أكْرَهُه، ولا أقولُ: يَقْطَعُ الصلاةَ، ليس هو كَلامًا. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، وإسحاقَ. وجَمَع القاضي بينَ قَوْلَيْ أحمدَ، فقال: المَوْضِعُ الذى قال أحمدُ: يَقْطَعُ الصلاةَ. إذا انْتَظَمَ حَرْفيْن، والمَوْضعُ الذى قال: لا يَقْطَعُ الصلاةَ. إذا لم يَنْتَظِمْ منه حَرْفان. وقال أبو حنيفةَ: إن سُمِع فهو بمَنْزِلَةِ الكَلامِ، وإلَّا فلا يَضُرّ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أَّنه لا يَقْطَعُ الصلاةَ ما لم يَنْتَظِمْ منه حَرْفان؛ لِما روَى عبدُ الله ابنُ عمرِو (¬2)، قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. فذَكَرَ الحديثَ إلى أن قال: ثم نَفَخ [في آخِرِ سُجُودِ] (¬3) فقال: «أُفِّ أْفِّ» (¬4). وأما قولُ أبي حنيفةَ، فإن أراد ما لا يَسْمَعُه الإِنْسانُ مِنٍ نَفْسِه، فليس ذلك بنَفْخٍ، وإن أراد مالا يَسْمَعُه غيرُه فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ ما أبْطَلَ الصلاةَ إظْهَارُه أبْطَلَها إسْرارُه، كالكَلامِ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 254. (¬2) في الأصل: «ابن عمر». وانظر تحفة الأشراف 6/ 297. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب من قال ركع ركعتين، من كتاب الاستسقاء. سنن أبي داود 1/ 272، 273. والنَّسائيّ، في: باب القول في السجود في صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 112، 113.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا البُكاءُ والتّأوُّهُ والأنِينُ، فما كان مَغْلُوبًا عليه لم يُوَّثِّرْ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قَبْلُ. وما كان غيرَ ذلك؛ فإن كان لغيرِ خَشْيَةِ اللهِ أفْسَدَ الصلاةَ، وإن كان مِن خَشْيَةِ اللهِ، فقال القاضي، وأبو الخَطّاب: التَّأَوُّهُ والبُكاءُ لا يُفْسِدُ الصلاةَ، وكذلك الأَنِينُ. وقال القاضي: التَّأَوُّهُ ذِكْرٌ، مَدَح الله تعالى إبراهيمَ به، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1). والذِّكْرُ لا يُفْسِدُ الصلاةَ، ولأنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى مَدَح الباكِين، فقال: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬2). وروَى مُطَرِّفٌ، عن أَبِيه، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلّى ولِصَدْرِه أزِيزٌ كأزِيزِ المِرْجَلِ [مِن البُكاءِ] (¬3) (¬4). رَواه الخَلّالُ (¬5). وقال عبدُ اللهِ بنُ شَدّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وأنا في آخِرِ الصُّفُوفِ. وقال شيخُنا (¬6): لم أرَ عن أحمدَ في التَّأوُّهِ (¬7) ولا في الأنِينِ شَيْئًا، والأشْبَهُ بأَصُولِه، أنَّه متى فَعَلَه مُخْتارًا أفْسَدَ (¬8) صلَاته؛ ¬

(¬1) سورة التوبة 114. (¬2) سورة مريم 8. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب البكاء في الصلاة، من كتاب الصَّلاة. سنن أبي داود 1/ 207. والنَّسائيّ، في: باب البكاء في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 12. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 25، 26. (¬5) بعده في م: «قلت رواه أَحْمد وأبو داود». (¬6) في: المغني 2/ 453. (¬7) في م: «البكاء». (¬8) في م: «فسدت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه قال في رِوايَةِ مُهَنّا، في البُكاءِ الذى (¬1) لا يُفْسِدُ الصلاةَ: ما كان مِن غَلَبَةٍ. ولأنَّ الحُكْمَ لا يَثْبُتُ إلَّا بنَصٍّ، أو قِياسٍ، أو إجْماع. وعُمُومُ النُّصُوصِ تَمْنَعُ مِن الكَلامِ كُلِّه، ولم يَرِدْ في الأنِينِ والتَّأوُّهِ نَصٌّ خاصٌّ. والمَدْحُ على التَّأوُّهِ لا يُخَصِّصُه، كتَشْمِيتِ العاطِس، ورَدِّ السّلامِ، والكَلِمَةِ الطَّيَّبَةِ. فصل: فأمّا النَّحْنَحَةُ، فقال أصْحابُنا: هي كالنَّفْخِ، إن بان منها حَرْفان بَطَلَت صَلاتُه. وقد روَى المَرُّوذِيّ، قال: كُنْتُ آتِي أَبا عبدِ اللهِ فيتَنَحْنَحُ في صَلاتِه، لأعْلَمَ أنَّه يُصَلِّي. وقال مُهَنّا: رَأيْتُ أَبا عبدِ اللهِ يَتَنَحْنَحُ في الصلاةِ. قال أصْحابُنا: وهذا مَحْمُولٌ على أنَّه لم يَأتِ بحَرْفَيْن. قال شيخًا (¬2): وظاهِرُ حالِ أحمدَ أنَّه لم يَعْتَبِرْ ذلك؛ لأنَّها لا تُسَمَّى كَلامًا، وتَدْعُو الحاجَةُ إليها. وقد رُوِيَ عن عليٍّ، رَضىَ الله عنه، قال: كانت لى ساعَةٌ في السَّحَرِ، أدْخُلُ فيها على رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإن كان في صلاةٍ تَنَحْنَحَ، فكان ذلك إذْنِي. رَواه الخَلّالُ (¬3). واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ فِي كَراهِيَةِ تَنْبِيهِ المُصَلِّي بالنَّحْنَحَةِ، فقال في مَوْضِعٍ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغني 2/ 452. (¬3) أخرجه النَّسائيّ في: باب التنحنح في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 11، 12. وابن ماجه، في: باب الاستئذان من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1222. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَتَنَحْنَحُ في الصلاةِ، قال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاِتكُمْ. [فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، ولتُصَفِّقِ النِّسَاءُ] (¬1) (¬2). وقد روَى عنه الأثْرَمُ، أنَّه كان يَتَنَحْنَحُ؛ ليُعْلِمَه أنَّه يُصَلِّي. وحديثُ عليٍّ يَدُلُّ عليه، وهو خاصٌّ فيُقَدَّمُ على العامِّ. فصل: إذا سُلِّمَ على المُصَلِّي، لم يَكُنْ له رَدُّ السَّلامِ بالكَلامِ، فإن فَعَل ذلك بَطَلَت صَلَاتُه. رُوِيَ نَحْوُ ذلك عن أبي ذَرٍّ (¬3). وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. وكان سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وقَتادَةُ، لا يَرَوْن به بَأْسًا. ورُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّه أمَر بذلك (¬4). وقال إسحاقُ: إن فَعَلَه مُتَأوِّلًا، جازَت صَلاتُه. ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، قال: كُنّا نُسَلِّمُ على رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو في الصلاةِ فيَرُد علينا، فلمّا رَجَعْنا مِن عندِ النَّجاشِيِّ سَلَّمْنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا، فقُلْنا: يَا رسولَ اللهِ، كُنّا نُسَلِّمُ عليك في الصلاةِ فَتُردُّ علينا؟ قال: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ولأبى داودَ (¬6): «إن اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَقَدْ أحْدَثَ أنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ». وروَى جابِرٌ، قال: كُنّا مع رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ¬

(¬1) في م: «فالتسبيح للرجال، والتصفيق للنساء». (¬2) تقدم في صفحة 33. (¬3) أخرب ابن أبي شيبة، في: باب الرَّجل يسلم عيه في الصلاة، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 73. (¬4) انظر الموضع السابق 2/ 74. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 33. (¬6) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 628.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبَعَثَنِي في حاجَةٍ، فرَجَعْتُ وهو يُصَلِّي على راحِلَتِه، ووَجْهُه إلى غيرِ القِبْلَةِ، فسَلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، فلمّا انْصَرَفَ، قال: «أمَا إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أنْ أرُدَّ عَلَيْكَ إلَّا أنِّي كنْتُ أُصَلِّي» (¬1). ولأنَّه كَلامُ آدَمِيٍّ، فأشْبَهَ تَشْمِيتَ العاطِسِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَرُدُّ السَّلامَ بالإِشارَةِ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. ورُوِي عن ابنِ عباسٍ، أنَّ مُوسَى ابنَ جَمِيلٍ سَلَّمَ عليه وهو يُصَلِّي، فقَبَضَ ابنُ عباس على ذِراعِه (¬2). فكان ذلك رَدًّا مِن ابنِ عباسٍ، وذلك لِما روَى صُهَيْبٌ، قال: مَرَرْتُ بالنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصلِّي، فسَلَّمْتُ عليه، وكَلمْتُه، فرَدَّ عليَّ إشارَةً. وعن ابنِ عُمَرَ، قال: خَرَج رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى مسجدِ (3) قُباءَ فصَلّى فيه (¬3)، فجاءَتْه الأنْصارُ، فسَلَّمُوا عليه وهو يُصَلّى، قال: قُلْتُ لبلالٍ: كيف رَأيْتَ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَرُدُّ عليهم حينَ كانوا يُسَلِّمُون عليه وهو يُصَلِّي؟ قال: يَقُولُ هكذا. وبَسَط، يَعَنِي كَفَّه، وجَعَل بَطْنَه أسْفَلَ، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب لا يرد السلام في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 83. ومسلم، في: باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 384. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من كان يرد ويشير بيده أو برأسه، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 75. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظَهْرَه إلى فَوْقَ. رَواهما أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: كلا الحَدِيثَيْن صحيحٌ. وإن رَدَّ عليه بعدَ فَراغِه مِن الصلاةِ فحَسَنٌ، لأنَّ في حديثِ ابنِ مسعودٍ، قال: فقَدِمْتُ على رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصَلِّي، فسَلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، فأخَذَنِي ما قدُم وما حَدُث، فلمَّا قَضَى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الصلاةَ، قال: «إنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِن أمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَقَدْ أحْدَثَ أنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» [فرَدَّ عليَّ السَّلامَ] (¬2). فصل: وإذا دَخَل على قَوْم وهم يُصَلُّونَ، فلا بَأْسَ أن يُسَلِّمَ عليهم. قالَه أحمدُ. وروَى ابنُ المُنْذِرِ عنه، أنَّه سَلمَ على مُصَلٍّ. وفَعَل ذلك ابنُ عُمَرَ (¬3). وقال ابنُ عَقِيل: يُكْرَهُ. وكَرِهَه عطاءٌ، وأبو مِجْلَزٍ، والشَّعْبِيُّ، وإسحاقُ، لأنَّه رُبَّما غَلِطَ المُصَلَّى فَردَّ بالكَلامِ. ووَجْهُ تَجْوِيزِه قوْلُه تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (¬4): أي على أهلِ دِيِنكم، ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حينَ سَلمَ عليه أصْحابُه لم يُنكِرْ ذلك. ¬

(¬1) أخرجها أبو داود، في: باب رد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 212. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 162، 163. كما أخرج الأول النَّسائيّ، في: باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 6. والدارمي، في: باب كيف يرد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 316. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 336. (¬4) سورة النور 61.

476 - مسألة؛ قال رحمه الله: (وأما النقص، فمتى ترك ركنا، فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى، بطلت التى تركه منها. وإن ذكره قبل ذلك

فَصْلٌ: وَأَمَّا النَّقْصُ؛ فَمَتَى تَرَكَ رُكْنًا، فَذَكَرَهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ رَكْعَةٍ أُخْرَى، بَطَلَتِ الَّتِي تَرَكَهُ مِنْهَا، وَإِنْ ذَكرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، عَادَ فَأَتَى بهِ وَبِمَا بَعْدَهُ, فَإنْ لَمْ يَعُدْ، بُطَلَتْ صَلَاُتهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 476 - مسألة؛ قال رَحِمَه اللهُ: (وأمّا النَّقْصُ، فمتى تَرَك رُكْنًا، فذَكَرَه بعدَ شُرُوعِه في قِراءَةِ رَكْعَةٍ أُخْرَى، بَطَلَتِ التى تَرَكَه منها. وإن ذَكَرَهُ قبلَ ذلك (¬1)، عاد فأْتَى به وبما بَعْدَه، فإن لم يَعُدْ (¬2) بَطَلَت صَلَاتُه) وجُمْلَتُه أنَّه متى تَرَك رُكْنًا؛ سُجُودًا، أو رُكُوعًا، ساهِيًا، فلم يَذْكُرْهُ حتَّى شَرَع في قِراءَةِ الرَّكعَةِ التى تَلِيها، بَطَلَتِ (¬3) الرَّكْعَةُ التى تَرَك منها الرُّكْنَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يرجع». (¬3) في الأصل: «أبطل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصارتِ التى تَلِيها مَكانَها. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ جَماعَةٍ. قال الأثْرَمُ: سَألْتُ أَبا عبدِ اللهِ، عن رجلٍ صَلَّى ركعَةً، ثم قام ليُصَلِّيَ أُخْرَى، فذَكَرَ أنَّه إنَّما سَجَد للرَّكعَةِ الأُوْلَى سَجْدَةً واحِدَةً؟ فقال: إن كان أوَّلَ (¬1) ما قام قبلَ أن يُحْدِثَ عَمَلًا للأُخْرَى، فإنَّه يَنْحَطُّ ويَسْجُدُ، ويَعْتَدُّ بها، وإن كان قد أحْدَثَ عَمَلًا للأُخْرَى، ألْغَى الأُولَى (¬2)، وجَعَل هذه الأُولَى. قُلْتُ: فيَسْتَفْتِحُ أو يَجْتَزِئُ بالاسْتِفْتاحِ الأوَّلِ؟ قال: يُجْزِئُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الأخرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوَّلُ. قلتُ: فنَسِيَ سَجْدَتَيْن مِن رَكْعَتَيْن؟ قال: لا يَعْتَدُّ بتَيْنك (¬1) الرَّكْعَتَيْن. وهذا قولُ إسحاقَ. وقال الشافعيُّ: إن ذَكَر الرُّكْنَ المَتْرُوكَ قبلَ السُّجُودِ في الثانيةِ، فإنَّه يَعُودُ إلى سَجْدَةِ الأُولَى، وإن ذَكَرَه بعدَ سُجُودِه في الثانيةِ، وَقَعَتْ عن الأُولَى؛ لأنَّ الرَّكْعَةَ الأُولَى قد صَحَّت، وما فَعَلَه في الثّانيةِ سَهْوًا لا يُبْطِلُ الأُولى، كما لو ذَكَر قبلَ القِراءَةِ. وقد ذَكَرَ أحمدُ هذا القَوْل عن الشافِعِيِّ وَقَرَّ بِه، إلَّا أنَّه اخْتارَ الأوَّلَ. وقال مالكٌ: إن تَرَك سَجْدَةً فذَكَرَها قبلَ رَفْعِ رَأْسِه مِن رُكُوعِ الثانيةِ، [سَجَدَها، واعْتَدَّ بالرَّكْعَةِ الأُولَى، وإن ذَكَرَها بعدَ رَفْعِ رَأْسِه مِن رُكُوعِ الثّانِيَةِ] (¬2)، ألْغَى الأُولَى. وقال الحسنُ؛ والأوْزاعِيُّ: مَن نَسِيَ سَجْدَةً، ثم ذَكَرَها في الصَّلاةِ، سَجَدَها متى ذَكَرَها. وقال الأوْزاعِيُّ: ¬

(¬1) في الأصل: «بتلك». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْجِعُ إلى حيث كان مِن الصَّلاةِ وَقْتَ ذِكْرِها، فيَمْضِي فيها. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ نَحْوَ قولِ الحسنِ. ولَنا، أن المَزْحُومَ في الجُمُعَةِ، إذا زال الزِّحامُ والإمامُ راكِعٌ في الثانيةِ، فإنَّه يَتْبَعُه ويَسْجُدُ معه، ويكونُ السُّجُودُ مِن الثانيةِ دُونَ الأُولَى، كذَا هنا. وأمّا إذا ذكَرَها قبلَ ذلك، عاد فأتَى به وبما بعدَه؛ لأنه ذَكَرَه في موْضِعِه، فلَزِمَه الإتْيانُ به، كما لو تَرَك سَجْدَةٌ مِن الرَّكْعَةِ الأخِيرَةِ، فذَكَرَها قبلَ السَّلامِ، فإنَّه يَأْتِي بها في الحالِ.

وَإنْ عَلِمَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَهُوَ كَتَرْكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وَإنْ عَلِم بعدَ السَّلامِ، فهو كتَرْكِ رَكْعَةٍ كامِلَةٍ) إن طال الفَصْلُ، أو أحْدَثَ، ابْتَدَأَ الصلاةَ؛ لتَعَذُّرِ البِناءِ، وإن ذَكَر قَرِيبًا، أتَى برَكْعَةٍ كامِلةٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ الرَّكْعَةَ التى تَرَك الرُّكْنَ منها، بَطَلَت بالشُّرُوع في غيرِها.

477 - مسألة: (وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات،

وَإنْ نَسِيَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَربَع رَكَعَاتٍ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مَضَى في مَوْضِعٍ يَلْزَمُه الرُّجُوعُ، أو رَجع في مَوْضِعٍ يَلْزَمُه المُضِيُّ، عالِمًا بتحْرِيمِه، بَطَلَت صَلاتُه؛ لتَرْكِه الواجِبَ عَمْدًا. وإن فَعَلَه يَعْتَقِدْ جَوازَه، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّه تَرَكَه (¬1) غيرَ مُتَعَمِّدٍ، أشْبَهَ ما لو مَضَى قبل ذِكْرِ المَتْرُوكِ، لكنْ إذا مَضَى في مَوْضِعٍ يَلْزَمُه الرُّجُوعُ، فَسَدَتِ الرَّكْعَةُ التى تَرَك رُكْنَها، كما لو لم يَذْكُرْه إلَّا بعدَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ. وإن رَجَع في موْضِعِ المُضِيَّ لم يَعْتَدَّ بما يَفْعَلُه في الرَّكْعَةِ التى تَرَكَه منها؛ لأنَّها فَسَدَت بشُرُوعِه في قِراءَةِ غيرِها، فلم يَعُدْ إلى الصِّحَّةِ بحالٍ. 477 - مسألة: (وإن نَسِيَ أرْبَعَ سَجَداتٍ مِن أرْبَع ركَعاتٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «فعله».

وَذَكَرَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ، سَجَدَ سَجْدَةً فَصَحَّتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَيَأْتِي بثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. وَعَنْهُ، تَبْطُلُ صلَاُتهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر وهو في التَّشَهُّدِ، سَجَد سَجْدَةً، فصَحُّت له رَكْعَةٌ، ويَأْتِي بثَلاثِ رَكَعاتٍ (¬1). وعنه، تَبْطُلُ صَلاتُه) هذه المَسْأَلةُ مَبْنِيِّةٌ على المَسْأَلَةِ التى قَبْلَها، وهو أنَّه متى تَرَك رُكْنًا مِن رَكْعَةٍ، فلم يذْكُرْه حتَّى شَرَع في قِراءَةِ التى بَعْدَها، بَطَلَت. فهاهنا لمّا شَرَع في قِراءَةِ الثانِيَةِ بَطَلَتِ الأُولَى، فلمّا شَرَع في قِراءَةِ الثّالِثَةِ قبلَ إتْمام الثّانِيَةِ، بَطَلَتِ الثانيةُ. وكذلك الثالثةُ تَبْطُلُ بشُرُوعِه في الرّابِعَة، فبَقِيَتِ الرابعةُ، ولم يَسْجُدْ فيها إلَّا سَجْدَةً واحِدَةً، فيَسْجُدُ الثانيةَ حينَ يذْكُرُ، وتَتِمُّ له رَكْعَةٌ، ويَأْتِي بثَلاثِ رَكَعاتٍ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال مالكٌ، واللَّيْثُ. وفيه رِوايَةٌ، أنَّ صَلَاته تَبْطُلُ؛ لأنَّ هذا يُؤَدِّي إلى التَّلاعُبِ بالصلاةِ، ويُلْغِي عَمَلًا كثيرًا في الصلاةِ، وهو ما بينَ التَّحْرِيمَةِ والرَّكْعَةِ الرّابِعَةِ. وهذا قَوْلُ إسحاقَ. وقال الشافعيُّ: تَصِحُّ له رَكْعَتان. على ما ذَكَرْنا في المَسْأَلةِ التى قَبْلَها، وهو أنَّه إذا قام إلى الثّانِيَةِ سَهْوًا، قبل تَمامِ الأُولَى، كان عَمَلُه فيها لَغْوًا، فلمّا سَجَد فيها انْضَمَّت سَجْدَتُها إلى سَجْدَةِ الأُولَى، فكَمُلَت له رَكْعَةٌ، وهكِذا الحُكْمُ في الثالثةِ والرابعةِ. وحَكَى الإمامُ أحمدُ هذا القولَ عن الشافعيِّ، ثم قال: هو أشْبَهُ (¬1) مِن قَولِ أصْحابِ الرَّأْيِ. قال الأَثْرَمُ: فقلتُ له، فإنَّه إذا فَعَل لا يَسْتَقِيمُ؛ لأنَّه إنَّما نَوَى بهذه السَّجْدَةِ عن الثانيةِ. قال: فكذلك (¬2) أقولُ، إنَّه يَحْتاجُ أن يَسْجُدَ لكل رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْن. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن يكُونَ القَوْلُ المَحْكِيُّ عن الشافعيِّ هو الصَّحِيحَ، وأن يكُونَ قَوْلًا لأحمدَ؛ لأنَّه قد حَسَّنَه، واعْتَذَرَ عن المَصِيرِ إليه، بكَوْنِه إنَّما نَوَى بالسَّجْدَةِ الثانيةِ عن الثانِيَةِ، وهذا لا يَمْنَعُ جَعْلَها عن الأُولَى، [كما لو سَجَد في الرَّكْعَةِ الأُولَى يَحْسَبُ أنَّه في الثّانِيَةِ، أو في الثّانِيَةِ يَظُنُّ أنَّه في الأُولَى] (¬4). وقال الثَّوْرِيُّ، ¬

(¬1) في الأصل: «الأشبه». (¬2) في م: «فلذلك». (¬3) في: المغني 2/ 435. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأْيِ: يَسْجُدُ في الحالِ أرْبَعَ سَجَداتٍ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّ تَرْتِيبَ الصلاةِ شَرْطٌ لا يَسْقطُ بالسَّهْوِ، كما لو نَسِيَ فقَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ. فإن لم يَذْكُرْ حتَّى سَلَّمَ، ابْتَدَأ الصلاةَ؛ لأنَّ الرَّكْعَةَ الأخِيرَةَ بَطَلَتْ بسَلامِه، في مَنْصُوصِ أحمدَ، فحِينَئِذٍ يَسْتَأْنِفُ الصَّلاةَ. فصل: إذا تَرَك رُكْنًا، [ثم ذَكَرَه] (¬1)، ولم يَعْلَمْ مَوْضِعَه، بَنَى الأمْرَ فيه على أسْوَإِ الأحْوالِ؛ مِثْلَ أن يَتْرُكَ سَجْدَةً لا يَعْلَمُ أمِن الرابعةِ هي أم مِن غيرِها، يَجْعَلُها ممّا قبلَها؛ لأَنَّه يَلْزَمُه رَكْعَةٌ كامِلَةٌ، ولو جَعَلَها مِن الرَّابعةِ، أجْزَأه سَجْدَةٌ. فإن تَرَك سَجْدَتَيْن لا يَعْلَمُ أمِن رَكْعَتَيْن أم مِن رَكْعَةٍ، جَعَلَهما مِن رَكْعَتَيْن؛ ليَلْزَمَه رَكْعَتان. وإن تَرَك رُكْنًا مِن رَكْعَةٍ، وعَلِم وهو فيها، ولم يَعْلَمْ أرْكُوعٌ هو أم سُجُودٌ، جَعَلَه رُكُوعًا. وعلى قِياسِ هذا، يَأْتِي بما يَتَيَقَّنُ به إتْمامَ صَلاتِه؛ لئَلَا يَخْرُجَ فها وهو شاكٌّ فيها، فيَكُونَ مُغَرِّرًا (¬2) بها. وقد قال النبيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ». رَواه أبو داودَ (¬3). وقال الأثْرَمُ: سَألْتُ أَبا عبدِ اللهِ عن تَفْسِيرِ هذا الحدِيثِ. فقال: أمّا أنا فأرَى أن لا يَخْرُج منها إلَّا على يَقِينِ أنَّها قد تَمَّتْ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مغرورًا». (¬3) في باب رد السلام في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 212، 213. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 461.

478 - مسألة: (وإن نسي التشهد الأول ونهض، لزمه الرجوع، ما لم ينتصب قائما، فإن استتم قائما، لم يرجع، وإن رجع، جاز. وإن شرع في القراءة، لم يجز له الرجوع، وعليه السجود لذلك كله)

وَإنْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَنَهَضَ، لِزَمَهُ الرُّجُوعُ، مَا لَمْ يَنْتَصِبْ قَائِمًا، فَإِنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا، لَمْ يَرْجِعْ، وَإنْ رَجَعَ، جَازَ. وإنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ. وَعَلَيْهِ السُّجُودُ لِذَلِكَ كُلَّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 478 - مسألة: (وإن نَسِيَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ ونَهَض، لَزِمَه الرُّجُوعُ، ما لم يَنْتَصِبْ قائِمًا، فإنِ اسْتَتَمَّ قائِمًا، لم يَرْجِعْ، وإن رَجَع، جاز. وإن شَرَع في القِراءَةِ، لم يَجُزْ له الرُّجُوعُ، وعليه السُّجُودُ لذلك كلِّه) إذا تَرَك التَّشَهُّدَ الأوَّلَ ناسِيًا وقام، لم يَخْلُ مِن ثَلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يَذكرَه قبلَ أن يَعْتَدِلَ قائِمًا، فيَلْزَمُه الرُّجُوعُ للتَّشَهُّدِ. وممَّن قال: يَجْلِسُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلْقَمَةَ، والضَّحّاك (¬1)، وقَتادَةُ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: إن فارَقَتْ ألْيَتاهُ (¬2) الأرْضَ، لم يَرْجِعْ. وقال حَسّانُ بنُ عَطِيَّةَ (¬3): إذا تَجافَتْ رُكْبَتاه عن الأرْضِ مَضَى. ولَنا، ما روَى المُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ، عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا قَامَ أحَدُكُمْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَتمَّ قَائِمًا، فلْيَجْلِسْ، فإذا اسْتَتَمَّ (¬4) قَائِمًا، فَلَا يجْلِسْ، ويَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬5). الثّانِي، ذِكْره بعدَ اعْتِدالِه قائِمًا، وقبلَ شُرُوعِه في القِراءَةِ، فالأوْلَى أن لا يَرْجِعَ؛ لحديثِ المُغِيرَةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «كتفاه». (¬3) أبو بكر حسان بن عطية المحاربِيّ مولاهم الدِّمشقيّ، كان ثِقَة، متعبدا، ذكره البُخَارِيّ في من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 251. (¬4) في الأصل: «قام». (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب من نسى أن يتشهد وهو جالس، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 238. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من قام من اثنتين ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 381. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 160. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 253، 254.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رَجَع، جاز. نَصَّ عليه (¬1). كما لو (¬2) ذَكَرَه قبلَ الاعْتِدالِ. وقال النَّخَعِيُّ: يَلْزَمُه الرُّجُوعُ ما لم يَسْتَفْتِحِ القِراءَةَ. قال شيخنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ له الرُّجُوعُ ها هنا؛ لحديثِ المُغِيرَةِ، ولأنَّه شَرَع في رُكْنٍ، فلم يَجُزْ له الرُّجُوعُ، كما لو شَرَع في القِراءَةِ. الأمْرُ الثّالثُ، ذِكْرُه بعدَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ، فلا يَجُوزُ له الرُّجُوعُ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. ومِمَّن رُوِي عنه أنَّه لا يَرْجِعُ؛ عُمَرُ، وسعدٌ (¬4)، وابنُ مسعودٍ، والمُغِيرَةُ، بنُ شُعْبَةَ، والنُّعْماد بنُ بَشِيرٍ، وابنُ الزُّبَيْرِ، وغيرُهم. وقال الحسنُ: يَرْجِعُ ما لم يَرْكَعْ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لحديثِ المُغِيرَةِ، ولأنَّه شَرَع في رُكْنٍ مَقْصُودٍ، فلم يَجُزْ له الرُّجُوعُ، كما لو شَرَع في الرُّكُوعَ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَسْجُدُ للسَّهْوِ في جَمِيعِ هذه المَسائِلِ؛ لحديثِ المُغِيرَةِ، ولِما روَى عبدُ اللهِ بنُ مالكِ بنِ بُحَيْنَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى بهم الظُّهْرَ، فقام في الرَّكْعَتَيْن الأُولَيَيْن، ولم يَجْلِسْ، فقام النّاسُ معه، فلمّا قَضَى الصلاةَ وانْتَظَرَ (¬5) النّاسُ تَسْلِيمَه، كَبَّرَ وهو جالِسٌ، فسَجَدَ سَجْدَتَيْن قبلَ أن يُسَلِّمَ، [ثم سَلَّمَ] (¬6). مُتَّفَقٌ عليه (¬7). ¬

(¬1) أي: أَحْمد. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 2/ 419. (¬4) في الأصل: «سعيد». (¬5) في الأصل: «واقتصر». (¬6) في الأصل: «بهم». (¬7) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 676.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عَلِم المَأْمُومُون بتَرْكِه التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، قبلَ قِيامِهم، وبعدَ قِيام الإِمام، تابَعُوه في القِيامِ، ولم يَجْلِسُوا. حَكاه الآجُرِّيّ عن أحمدَ. وهوَ قولُ مَالكٍ، والشافعيِّ، وأهلِ العِراقِ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، لأنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لَمّا قام حينَ سَها عن التَّشَهُّدِ، قام النّاسُ معه. وفَعَلَه جَماعَةٌ مِن الصَّحابَةِ، فرَوَى الإمامُ أحمدُ، بإسْنادِه، عن زِيادِ (¬1) بن عِلاقَةَ (¬2)، قال: صَلَّى بنا المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، فلَمّا صَلَّى رَكْعَتَيْن، قام ولم يَجْلِسْ، فسَبَّحَ به مَن خَلْفَه، فأشارَ إليهم أنْ (¬3) قُومُوا، فلَمّا فَرَغ مِن صَلاتِه سَلَّمَ، وسَجَد سَجْدَتَيْن، ثم سَلَّمَ، ثم قال: هكذا صَنَع رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬4). رَواه الآجُرِّيُّ، عن عُقَبَةَ بن عامِرٍ (¬5)، وقال: إنِّي سَمِعْتُكم تَقُولُون: سبحانَ اللهِ، لكَيْما أجْلِسَ، وليست تلك السُّنَّةَ، إنَّما السُّنَّةُ التى صَنَعْتُ (¬6). فأمّا إن ¬

(¬1) في الأصل: «يزيد». (¬2) في م: «علاثة». وهو أبو مالك زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي الكُوفيّ، ثِقَة، صدوق الحديث، توفى سنه خمس وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 380، 1/ 381. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر تخريج حديث المغيرة بن شعبة المتقدم. (¬5) أبو حماد عقبة بن عامر بن عبس الجهني الصحابي، ولى مصر وسكنها، وتوفى بها سنة ثمان، وخمسين. أسد الغابة 4/ 53، 54. (¬6) أخرجه الحاكم، في: باب السهو. المستدرك 1/ 325.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [سَبَّحُوا به] (¬1) قبلَ قِيامِهِ ولم يَرْجِعْ، تَشَهَّدُوا لأنْفُسِهِم، ولم يُتابِعُوه؛ لأنَّه تَرَك واجِبًا عليه، فلم يَكُنْ لهم مُتابَعَتُه في تَرْكِه. ولو رَجَع إلى التَّشَهُّدِ بعدَ شُرُوعِه في القِرَاءَةِ، لم يُتابِعُوه أَيضًا؛ لأنَّه أخْطَأَ. فأمّا الإِمامُ، فإن فَعَل ذلك عالِمًا بتَحْرِيمِه، بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لأنَّه زاد في الصلاةِ مِن جِنْسِها عَمْدًا، أو تَرَك واجِبًا عَمْدًا. وإن فَعَلَه ناسِيًا أو جاهِلًا بالتَّحْرِيمِ، لم تَبْطُلْ، لأنَّه زادَه سَهْوًا. ومتى عَلِم بتَحْرِيم ذلك وهو في التَّشَهُّدِ، نَهَض ولم يُتِمَّ الجُلُوسَ. فصل: فإن ذَكَر الإمامُ التَّشَهُّدَ قبلَ انْتِصابِه، وبعدَ (¬2) قِيامِ المَأْمُومين، وشُرُوعِهم في القِراءَة، فرَجَعَ، لَزِمَهم الرُّجُوعُ؛ لأنَّه رجع إلى واجِبٍ، فلَزِمَهم مُتابَعَتُه، ولا اعْتِبارَ بقِيامِهم قَبْلَه. ¬

(¬1) في الأصل. «سجد». (¬2) في م: «وقبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن نَسِيَ التَّشَهُّدَ دُونَ الجُلُوسِ، فالحُكْمُ فيه كما لو نَسِيَهما؛ لأنَّ التَّشَهُّدَ هو المَقْصُودُ. فأمّا إن نَسِيَ شيئًا مِن الأذْكارِ (¬1) الواجِبَةِ غيرَ التَّشَهُّدِ؛ كَتسْبِيحِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقولِ: رَبِّ اغفِرْ لِي، بينَ السَّجْدَتَيْن، وقَوْلَ: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. فإنَّه لا يَرْجِعُ إليه بعدَ الخُرُوجِ مِن مَحَلِّه؛ لأنَّ مَحَلَّ الذِّكْرِ رُكْنٌ قد وَقَع مُجْزِئًا صحِيحًا. فلو رَجَع إليه لكان زِيادَةً في الصلاةِ، وتَكْرارًا لرُكْنٍ، ثم يَأْتِي بالذِّكْرِ في رُكْنٍ غيرِ مَشْرُوعٍ، بخِلافِ التَّشَهُّدِ، لكنْ يَمْضِي ويَسْجُدُ للسَّهْوِ، كتَرْكِ التَّشَهُّدِ. فصل: فإن قام مِن السَّجْدَةِ الأُولَى، ولم يَجْلِسْ جَلْسَةَ الفَصْلِ، فهذا قد تَرَك جَلْسَةَ الفَصْلِ، والسَّجْدَةَ الثانيةَ. ومتى ذَكَر قبلَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ، لَزِمَه الرُّجُوعُ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، فإذا رَجَع جَلَس جَلْسَةَ ¬

(¬1) في الأصل: «الأركان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَصْلِ، ثم سَجَد الثانيةَ. وقال بعضُ [أصحابِ الشافعيِّ] (¬1): لا يَحْتاجُ إلى الجُلُوسِ (¬2)؛ لأن الفَصْلَ قد حَصَل بالقِيامِ. ولا يصِحُّ؛ لأنَّ الجلْسَةَ واجِبَةٌ، فلم يَنُبْ عنها القِيامُ كما لو قَصَد ذلك. فأمّا إن كان قام بعدَ أن جَلَس للفَصْلِ، فإنَّه يَسْجُدُ، ولا يَلْزَمُه جُلُوسٌ. وقيل: يَلْزَمُه؛ ليَكُونَ سُجُودُه عن جُلُوسٍ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه قد أتَى بالجَلْسَةِ، فلم تَبْطُلْ بالسَّهْوِ بعدَها، كالسَّجْدَةِ الأُولَى. فإن كان يَظُنُّ أنَّه سَجَد سَجْدَتَيْن، وجَلَس للاسْتِراحَةِ، لم يُجْزِئْه عن جَلْسَةِ الفَصْلِ؛ لأنَّها سُنَّةٌ، فلا تَنُوبُ عن الواجِب، كما لو تَرَك سَجْدَةً مِن رَكْعَةٍ، ثم سَجَد للتِّلاوة، فإنَّها لا تُجْزِئُ عن سَجْدَةِ الصلاةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «الشافعية». (¬2) في الأصل: «الفصل».

فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّكُّ؛ فَمَتَى شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، بَنَى عَلَى اليَقِينِ. وَعَنْهُ، يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، وَالْإمَامُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وأمّا الشَّكُّ؛ فمتى شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، بَنَى على اليَقِينِ. وعنه، يَبْنِي على غالِبِ ظَنِّه. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ المُنْفَرِدَ يَبْنِي على اليَقِينِ، والإمامُ يَبْنِي (¬1) على غالِبِ ظَنِّه) متى شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، ففيه ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداها، أنَّه يَبْنِي على اليَقِينِ، إمامًا كان أو مُنْفَرِدًا. اخْتارَها أبو بكرٍ. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عَمْرٍو. وهو قولُ رَبِيعَةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا شَكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلَاِتهِ، فَلَمْ يَدْرِكَمْ صَلَّى، ثَلَاثًا أمْ أرْبَعًا؛ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ، فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتهُ، وَإنْ كَانَ صَلَّى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمَامَ الْأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عبدِ الرحمنِ ابنِ. عَوْفٍ، أنَّ رسولَ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا شَكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلَاِتهِ، فَلَمْ يَدْرِ أزَادَ أوْ نَقَصَ، فَإنْ كَانَ شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، فَإنْ لَمْ يَدْرِ اثْنَتَيْنِ صَلَّى أوْ ثَلَاثًا، فَلْيَجْعَلْهُمَا اثْنَتَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أوْ أرْبَعًا، فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، حَتَّى يَكُونَ الشَّكُ فِي الزِّيَادَةِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْل أنْ يُسَلِّمَ» (¬2). رَواه ابنُ ماجه، ¬

(¬1) في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 400. كما أخرجه أبو داود في: باب إذا شك في اثنتين والثلاث من قال: يُلقى الشك، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 235. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من شك في صلاته فرجع إلى اليقين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 382. والنسائى، في: باب إتمام المصلي على ما ذكر إذا شك، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 22، 23. والدارمي، في: باب الرَّجل لا يدري أثلاثا صلى أم أربعًا، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 351. والإمام مالك، في: باب إتمام المصلى ما ذكر إذا شك في صلاته، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 95. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 72، 83، 84، 87. (¬2) بعده في م: «ثم يسلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ما شَكَّ فيه، فيَبْنِي على عَدَمِه، كما لو شَكَّ في رُكُوعٍ أو سُجُودٍ. والثانيةُ، أنَّه يَبْنِي كل غالِب ظَنِّه، إمامًا كان أو مُنْفَرِدًا. نَقَلَها عنه الأثْرَمُ. رُوِيَ ذلك عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما، وهو قولُ النَّخَعِيِّ. وبه قال أصْحابُ الرَّأْيِ، إذا تَكَرَّرَ ذلك منه. وإن كان أوَّلَ ما أصابَه أعاد الصلاةَ (¬2)؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 188. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من شك في صلاته فرجع إلى اليقين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 381، 382. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 190، 193. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْلِيمٍ» (¬1). ووَجْهُ هذه الرِّوايَةِ ما روَى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا شَكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلَاِتهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وللبُخارِيِّ: «بَعْدَ التَّسْلِيمِ». وفي لفظٍ لمسلمٍ (¬3): «فَلْيَتَحَرَّ أقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَاب». ولأبى داودَ (¬4): «إذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَشَكَكْتَ فِي ثَلَاثٍ أو أرْبَعٍ، وَأكْثَرُ ظَنِّكَ عَلَى أرْبَعٍ، تَشَهَّدْتَ، ثُمَّ سَجَدْتَ سَجْدَتَيْنِ وَأنْتَ جَالِسٌ». ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 57. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التوجيه نحو القبلة حيث كان، من كتاب الصلاة، وفي: باب إذا حدث ناسيًا في الأيمان، من كتاب الأيمان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 111، 8/ 170. ومسلم، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 400. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا صلى خمسًا، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 234. والنَّسائيّ، في: باب التحرى، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 23. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من شك في صلاته فتحرى الصواب. من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 383. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 379، 438. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب من قال يتم على أكبر ظنه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 236. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 429.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [والروايةُ الثّالِثَةُ، أنَّ المُنْفرِدَ يَبْنِي على اليَقِينِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن والمَعْنَى] (¬1)، والإمامُ يَبْنِي على غالِبِ ظَنِّه؛ لحديثِ ابنِ مسعودٍ، جَمْعًا بينَ الأحاديثِ. وهذه المَشْهُورَةُ، عن أحمدَ، اخْتارَها الخِرَقِيُّ. وإنَّما خَصَصْنا الإمامَ بالبِناءِ على غالِبِ ظَنَّه؛ لأنَّ له مَن يُنَبِّهُه ويُذَكِّرُه إذا أخْطَأ، فيَتَأكَّدُ عندَه صَوابُ نَفْسِه، ولأنَّه إن أصاب أقَرَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

479 - مسألة (فإن استوى الأمران عنده، بنى على اليقين)

فَإنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَأمُومون، وإن أخْطَأ سَبَّحُوا به فرَجَعَ إليهمِ، فيَحْصُلُ له الصوابُ في الحالَيْن، بخِلافِ المُنْفَردِ، إذ ليس له مَن يُذكرُه، فَيَبْنِيَ على اليَقِينِ؛ ليَحْصُل له إتمامُ صَلاتِه. وما قالَه أصحابُ الرأيِ فيُخالِفُ السنةَ الثَّابِتَةَ عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقد روَى أبو هُرَيرةَ، أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إنَّ أحَدَكمْ إذَا قامَ يُصَلى، جَاءَهُ الشيطَان فَلَبَس عَلَيْهِ (¬1)، حَتى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلى؟ فَإذَا وَجَدَ ذَلِك أحَدُكُمْ، فليَسْجُدْ سَجْدَتيْن وَهُوَ جَالِس». مُتفَق عليه (¬2). وقولُه عليه السلامُ: «لَا غرَارَ فِي صَلَاة» (¬3). يَعْنِي لا ينْقصُ مِن صلَاته. ويَحْتَمِلُ أنَّه أَرادَ أنَّه لا يَخرجُ منها وهو شاكٌّ في إتمامِها، ومَن بنى على اليَقين لم يَخْرُجْ وهو شاكٌّ، وكذلك الإمامُ إذا بَنَى على غالِب ظنه فوافَقَه المأمُومون، أو رُدَّ عليه، فرَجَعَ إليهم. 479 - مسألة (فإنِ استوَى الأمْرانِ عندَه، بَنَى على اليَقِين) إمامًا كان أو مُنْفَرِدًا، وأتُى بما بَقِيَ عليه مِن صلَاته، وسَجَد للسَّهْوِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ، ولأن الأصْلَ البِناءُ على اليَقين، وإنما جاز تركُه في حَق الإمامِ، لمُعارَضةِ الظن الغالِبِ، فيَبْقَى فيما عَداه على الأصْلِ. ¬

(¬1) لبس عليه: خلط عليه أمر صلاته. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب السهو في الفرض والتطوع، من كتاب السهو. صحيح البُخَارِيّ 2/ 87. ومسلم، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 398. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال يتم على أكبر ظنه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 237 والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 187، 188. والنَّسائيّ في: باب التحرى، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 26. والإمام مالك، في: باب العمل في السهو، من كتاب السهو. الموطأ 1/ 100. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 241، 273، 284. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 57.

480 - مسألة: (ومن شك في ترك ركن فهو كتركه)

وَمَنْ شَكَّ في تَرْكَ رُكْنٍ، فَهُوَ تَرْكِهِ: وإنْ شَكَّ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ السُّجُود؟ عَلَى وَجْهيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 480 - مسألة: (ومَن شَكَّ في تَرْكِ رُكْن فهو كترْكِه) إذا شكَّ في تركِ رُكْن مِن أرْكانِ الصلاةِ وهو فيها، فحُكْمُه حُكمُ تركِه، إمامًا كان أو مُنْفَرِدًا؛ لأن الأَصْل عَدَمُه. (وإن شَك في تركِ واجِبٍ) يُوجِبُ تركه السُّجُودَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا سُجُودَ عليه. قاله ابنُ حامِدٍ؛ لأنه شَكَّ في سَبَبِه، فلم يَجِبِ السُّجودُ له، كما لو شَكَّ في الزيادَةِ. والثاني،

وإنْ شَك فِي زِيَادَةٍ لَمْ يَسْجُدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يسْجُدُ له. قالَه القاضي؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه. والصَّحِيحُ وُجُوبُ السُّجُودِ، إلَّا على الرِّوايةِ التى تَقُولُ: إن هذه سُنَن. فلا يَجِبُ. والله أعلمُ. (وإن شَك في زِيادَةٍ (تُوجِبُ السجودَ، فلا سُجُودَ عليه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُها، فلا يَجِبُ السجُودُ بالشك فيها. ولو شَك في عَدَدِ الركَعاتِ، أو في رُكْن، ثم ذَكَرَه في الصلاةِ لم يَسْجُدْ؛ لأنَّ السُّجُودَ لزِيادَةٍ أو نقص أو احْتِمالِ ذلك، ولم يُوجَدْ، وإنما يُؤثِّر الشك في الصلاةِ إذا وُجِد فيها. فإن شك بعدَ سَلامِها، لم يلْتَفِتْ إليه، لأن الظاهِرَ أنَّه أتى بها على الوَجْهِ المَشْرُوعِ، ولأن ذلك يَكْثُرُ فيَشُق الرُجُوعُ إليه، وهكذا الشك في سائِرِ العِباداتِ.

481 - مسألة: (وليس على المأموم سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه، فيسجد)

وَلَيْسَ عَلَى الْمَأمُومِ سُجُودُ سَهْوٍ، إلَّا أنْ يَسْهوَ إمَامُهُ، فَيَسْجُدَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 481 - مسألة: (وليس على المَأمُومِ سُجُودُ سَهْو، إلَّا أن يَسْهُوَ إمامُه، فيَسْجُدَ) وجُمْلته أن المَأمُومَ إذا سَها دُونَ إمامِه، لم يَلْزَمْه سُجودٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قوْلِ عامةِ أهْلِ العِلْم. وحُكِيَ عن مَكْحُولٍ أنَّه قام عن قعُودِ إمامه فسَجَدَ. ولَنا، أن مُعاوِيَةَ بنَ الحَكَم تَكَلَّمَ خلفَ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلم يَأمُرْه بسُجُودٍ (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَيْس عَلَى مَنْ خلفَ الإمَامِ سَهْوٌ، فَإنْ سَهَا إمَامهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَن خَلْفَهُ». رَواه الدَّارَقُطنِي (¬2). فأمَّا إذا سَها الإمامُ، فعلى المَأمومِ مُتابَعَتُه في السُّجُودِ، سَواء سَها معه، أو انْفرَدَ الإمامُ بالسهو، إجْماعًا، كذلك حَكاه إسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وسواء كان السجُودُ قبلَ السلامِ أو بعدَه، لحديثِ ابن عُمَرَ، ولقَوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيؤتَمَّ بِهِ، فَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» (¬3). فصل: وإذا كان المَأمُومُ مَسْبوقًا، فسَها الإمامُ فيما لم يدْرِكْه فيه، فعليه مُتابَعَتُه في السجودِ، سَواء كان قبلَ السلام أو بعدَه. رُوي هذا عن عطاءٍ، والحسين، والنخَعِي، وأصْحابِ الرأي. وقال ابنُ سِيرِينَ: يَقْضى ثم يَسْجُدُ. وقال مالك، والليْثُ، والأوزاعِي، والشافعي، في السجودِ قبلَ السَّلامِ، كقَوْلِنا، وكقوْلِ ابن سيرِينَ فيما بعدَه. ورُوِي ذلك عن أحمدَ؛ لأنه فِعل خارج في الصلاةِ، فلم يَتْبَع الإمامَ فيه، كصلاةٍ أخْرَى. وعن أحمدَ رِوايَة أخْرَى، أنَّه مخَير بينَ مُتابَعَةِ إمامه وتَأخِيرِ السجودِ إلى آخِر صَلاتِه. حَكاها ابنُ أبي مُوسى. ولَنا، قولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا». وقوْلُه في حديثِ ابنِ عُمَر: «فإن سَهَا إمَامُهُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 559. (¬2) في: باب ليس على المقتدى سهو وعليه سهو الإمام، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 377. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 416.

482 - مسألة: (فإن لم يسجد الإمام، فهل يسجد المأموم؟ على روايتين)

فَإنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإمَام، فَهَلْ يَسْجدُ الْمأمُومُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ». ولأن السُّجُودَ مِن تَمامِ الصلاة، فيُتابِعُه فيه، كالذى قبلَ السلامِ، وكغيرِ المسْبُوقِ، وفارَقَ صلاةً أخْرَى، فإنَّه غيرُ مُوتَم به فيها. إذا ثَبَت أنَّه يُتابع إمامَه، فإذا قَضَى ففي إعادَةِ السجُودِ رِوايتان؛ إحْداهما، يُعيدُه؛ لأَنه قد لَزِمَه حُكْمُ السهْوِ؛ وما فَعَلَه مِن السجُودِ مع الإمامِ كان مُتابَعةً له، فلا يَسْقُطُ به ما لَزِمَه، كالتشَهدِ الأخِيرِ. والثانِيَةُ، لا يَلْزَمُه السجُودُ؛ لأن سُجُودَ إمامِه قد كَمُلَتْ به الصلاةُ في حَقِّهما، وحَصَل به الجُبْرانُ، فلم يَحْتَجْ إلى سُجُودٍ ثانٍ، كالمَأمُومِ إذا سَها وَحْدَه. وللشافعى قوْلان كالروايَتَيْن. فإن نَسىَ الإمامُ (¬1) السجُودَ، سَجَد المسْبُوقُ في آخر صَلَاِته، رِوايَة واحِدَة؛ لأنه لم يُوجَدْ مِن الإمامِ ما يُكْمِلُ به صلاةَ المَأمُومِ، وكذلك إن لم يَسْجُدْ مع الإمام. وإذا سَها المَأمُومُ بعدَ مُفارَقَةِ إمامِه في القَضاء، سَجَد، رِوايَة واحِدَةً؛ لأنه قد صار مُنْفَرِدًا، فلم يَتَحَملْ عنه الإمامُ السُّجُودَ. وكذلك لو سها، فسلمَ مع إمامه، قام فأتم وسجد بعدَ السَّلامِ، كالمنْفَردِ. 482 - مسألة: (فإن لم يَسْجُدِ الإمامُ، فهل يَسْجُدُ المَأمُومُ؟ على رِوايَتَيْن) يُريدُ غيرَ المسْبُوقِ، إذا سَها إمامه فلم يَسْجُدْ، [فهل يَسْجُدُ (¬2) المَأمُومُ؛ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَسْجُدُ. اخْتارَها ابنُ ¬

(¬1) في تش: «المأموم». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيلٍ، وقال: هي أَصَحُّ؛ لأنَّ صلاةَ المَأمُومِ نَقَصَتْ بسَهْوِ إمامِه، ولم تَنْجبِرْ بسُجودِه، فيلْزَم المَأمومَ جَبْرها. وهذا مَذْهب ابنِ سيرِينَ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعي. والثانيةُ، لا يَسْجُدُ. رُوىَ ذلك عن عطاءٍ، والحسن، والقاسِمِ، وحمادِ بنِ أبي سُلَيْمانَ، والثوْرِي، وأصْحابِ الرأيِ؛ لأن المَأمُومَ إنَّما يَسْجُد تَبَعًا، فإذا لم يَسْجدِ الإمامُ لم يوجَدِ المُقْتَضِي لسجودِ المَأمُومِ. هذا إذا تَرَكَه الإمامُ لعُذْرٍ، فإن تَرَكَه قبلَ السلام عَمْدًا، وكان مِمن لا يَرَى وُجُوبه، فهو كتركِه سَهْوًا، وإن كان يَعْتقِد وجُوبَه، بَطَلَتْ صَلاتُه؛ لأنَّه تَرَك الواجِبَ عَمْدًا. وهل تَبْطُلُ صلاةُ المَأمومِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَبْطُلُ؛ لبُطْلانِ صلاةِ الإمَام، كما لو تَرَك التَّشهدَ الأوَّلَ. والثَّانِي، لا تَبْطلُ؛ لأنَّه لم يَبْقَ مِن الصلاةِ إلَّا السلامُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قام المَأمُوم لقضاءِ ما فَاتَه، فسَجَدَ إمامُه بعدَ السَّلامِ، وقلْنا: تَجِبُ عليه مُتابَعَةُ إمامه. فحُكْمُه حُكْم القائمِ عن التَّشهدِ الأولِ؛ إن (¬1) لم يسْتَتِمَّ قائِمًا لَزِمَه الرُّجُوعُ، وإنِ اسْتَتَمَّ قائِمًا لم يَرْجِعْ، وإن رَجَع جاز، وإن شَرَع في القِراءَة لم يَجُزْ له الرُّجُوعُ. نَصّ عليه أحمدُ، في روايةِ الأثرَم، لأَنه قام عن واجِب إلى رُكْن، أشْبَهَ القِيامَ عن التَّشَهُّدِ الأوَّلِ. وذَكَرَ ابنُ عَقِيل فيه ثلاثَ رِوايات؛ إحْداها، يَرْجِعُ؛ لأنَّ إمامَه بَعُدَ (¬2) في الأداءِ، ولأنه سجُود في الصلاةِ، أشبهَ سُجُودَ صُلْبها. والثّانِيَةُ، لا يَعُودُ؛ لأنه نَهَض إلى رُكْن. والثّالِثَةُ، هو مُخير؛ لأنَّ سُجُودَ السَّهوِ أخَذَ شَبَهًا مِن سُجُودِ صُلْبِ الصلاةِ، مِن حيث إنه سُجُود، وشَبَها مِن التشهدِ الأولِ؛ لكَوْنِه يَسْقطُ بالسهْوِ، فلذلك جُبِر. وما ذَكَرْناه أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «وإن». (¬2) في م: «نفذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس على المَسْبُوقِ ببعض الصلاةِ سُجُود لذلك، في قوْلِ أكثَرِ أهلِ العِلْمَ. ويروَى عن ابنِ عُمَر، وابنِ الزُّبَيْرِ، وأبي سعيدٍ، ومُجاهِدٍ، وإسحاقَ، في مَن أدرَكَ وَترا مِن صلاةِ إمامِه، سَجَد للسَّهْوِ؛ لأنه يَجْلِسُ للتَّشَهُّدِ في غيرِ مَوْضِع التَّشهدِ. ولَنا، قولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «وَما فَاتَكُمْ فَأتمُّوا» (¬1). ولم يَأمُرْ بسُجُودٍ. وقد فات النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بَعْضُ الصلاةِ مع عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ فقَضَى، ولم يَكُنْ لذلك سُجُود. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 395، 396.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديث مُتفق عليه (¬1). وقد جَلس في غيرِ مَوْضِعِ تَشَهُّدِه، ولأن السجُودَ إنما يشْرع للسهْوِ، ولا سَهْوَ ها هنا، ولأنَّ مُتابَعَةَ الإمام واجِبَة، فلم يَسْجدْ لفِعْلِها، كسائِرِ الواجِباتِ. ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم دون البُخَارِيّ، في: باب المسح على الناصية والعمامة، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 320، 231. كما أخرجه أبو داود، في: باب المسح على الحُسَيْن، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 32، 33. والنَّسائيّ، في باب كيف المسح على العمامة، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 77. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 244، 251.

فَصْلٌ: وَسُجُودُ السهو لِمَاُ يبطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِب، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه الله: (وسُجُودُ السَّهْوِ لِما يبطلُ عَمْده الصلاةَ واجب) في ظاهِر المَذْهَب. وعن أحمدَ، أنَّه غيرُ واجِب. قال شيخُنا (¬1): ولَعَل مَبْنَى هذه الروايةِ على أنَّ الواجبَاتِ التى شُرِع السُّجُودُ لجَبْرِها غيرُ واجِبَةٍ، فيَكُونُ جَبْرُها غيرَ واجِبٍ. وهذا قَوْلُ الشَّافعيّ، وأصْحابِ الرأيِ، لقَوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «كَانَتِ الركْعَة وَالسجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ» (¬2). ولَنا، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَ به في حديثِ ابنِ مسعود (¬3) وأبي سعيد (¬4)، وفَعَلَه. وقَوْله: «نَافِلَةً»: يَعْنِي أن له ثَوابًا فيه، كما سُميَتِ الرَّكْعَةُ أَيضًا نافِلَةً، وهي واجِبَة على الشَّاك بغيرِ خِلافٍ. فأمَا المَشْروعُ لِما لا يُبْطِلُ عَمْدُه الصلاةَ فغيرُ واجِبٍ. قال أحمدُ: إنَّما يَجِبُ السجُودُ فيما روِي عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. يَعْنِي وما كان في مَعْناه، فنَقِيسُ على زِيادَةِ خامِسَةٍ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 433. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 10 من حديث أبي سعيد الخُدرِيّ. وهو بهذا اللفظ عند أبي داود وابن ماجه. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 10.

483 - مسألة: (ومحله قبل السلام، إلا في السلام قبل إتمام صلاته، وفيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه. وعنه، أن الجميع قبل السلام. وعنه، ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قبله)

وَمَحَلُّهُ قَبْل السَّلَامِ، إلَّا فِي السلَامِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاِتهِ، وَفِيمَا إذَا بَنَى الْإمَامُ عَلَى غالِبِ ظَنه. وَعَنْهُ، أَن الْجَمِيِعَ قَبْلَ السَّلَامِ. وَعَنْهُ، مَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ فَهُوَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَمَا كَان مِنْ نقص كَانَ قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سائِرَ (¬1) زِياداتِ الأفْعالِ مِن جِنْس الصلاةِ، وعلى تركِ التشَهُّدِ الأوَّلِ تَرْكَ غيرِه مِن [الواجِباتِ، وعلى] (¬2) التَّسْلِيمِ مِن نُقْصان زِياداتِ الأقْوالِ المُبْطِلَةِ عَمْدًا. 483 - مسألة: (ومَحَله قبل السَّلام، إلَّا في السَّلامِ قبلَ إتْمامِ صَلاتِه، وفيما إذا بَنَى الإمامُ على غالب ظنه. وعنه، أنَّ الجَمِيعَ قبلَ السَّلامِ. وعنه، ما كان مِن زِيادَةٍ فهو بعدَ السلامِ، وما كان مِن نَقص كان قبلَه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ سجُودَ السَّهْوِ كله قبلَ السَّلامِ في ظاهِرِ قوْلِ ¬

(¬1) في الأصل: «سائر السجود». (¬2) في الأصل: «الواجبات على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، إلَّا في المَوْضِعَيْن المَذْكُورَيْن، وهما إذا سَلَّمَ عن نقْصٍ في صلَاته؛ لحديثِ ذى اليَدَيْن (¬1) وعِمْرانَ بنِ حصَين (¬2). والثاني، إذا بَنَى الإمامُ على غالِبِ ظنه، لحديثِ ابْنِ مسعود. نَص على ذلك في روايةِ الأثرَمِ، فقالَ: أنا أقولُ: كُل سَهْو جاء عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه سَجَد فيه بعدَ السلام، فإنَّه يَسْجُدُ فيه بعدَ السلامِ، وسائِرُ السهْوِ يَسْجُدُ فيه قبلَ السلامِ. وهو أَصَحُّ في المَعْنَى، لأنه مِن شأنِ الصلاةِ، فيَقْضِيه قبلَ التَّسْلِيمِ، كسُجُودِ صُلْبِها. وهذا قولُ سُلَيْمانَ بن داودَ (¬3)، وابنِ المُنْذِر. قال القاضي: لا يَختَلِفُ قولُ أحمدَ في هذين المَوْضِعَين، أنَّه يَسْجُدُ لهما بعدَ السلَامِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقى. والروايَتان الأخْرَيان ذَكَرَهما أبو الخَطابِ؛ إحْداهما، أن جَمِيعَ السُّجُودِ قبلَ السلامِ. رُوِيَ ذلك عن أبي هُرَيرةَ، والزهْرِي، والليْثِ، والأوْزاعِي. وهو مَذْهَبُ الشَّافعيّ؛ لحديثِ ابن بُحَيْنَة (¬4)، وأبي سعيدٍ. قال الزُّهْرِي: كان آخِرُ الأمْرَيْن السُّجُودَ قبلَ السلامِ. ولأنه تَمام للصلاةِ، فكان قبلَ سَلامِها، كسائِرِ أفعالِها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 26. (¬2) تقدم تخرجه في صفحة 27. (¬3) في م بعده: «وابن أبي خيثمة». (¬4) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 676.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّانِيَةُ، ما كان مِن زِيادَةٍ كان بعدَ السَّلامِ؛ لحديثِ ذى اليَدَيْن، وحديثِ ابنِ مسعودٍ، حينَ صَلى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- خمسًا. وما كان مِن نَقْص كان قَبْلَه؛ لحديثِ ابن بُحَيْنَةَ. وهذا مَذْهَبُ مالك، وأبي ثَوْر، والمُزَنِي (¬1). وقال أصحابُ الرأيِ: جَمِيعُ سُجُودِ السهْو بعدَ السلامِ، وله فِعلُهما (¬2) قبلَ السلامِ. رُوِي نحوُ ذلك عن على، وسعد، وابنِ مسعودٍ، وعَمار، وابنِ عباس، وابنِ الزُّبير، وأنس، والحسنِ، لحديثِ ذى اليَدَيْن، وابن مسعود. وروَى ثَوْبانُ، قال: قال رسولُ - الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لِكل سَهْو سجدتان بَعْدَ التسْلِيمِ». رَواه سعيد. وعن عبدِ الله بن جَعْفَر، قال: ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «فعله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاِتهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدتيْنِ بَعدَمَا يُسَلِّمُ». رَواهما أبو داودَ (¬1). ولَنا، أنَّه قد ثَبَت عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- السجُودُ قبلَ السلامِ وبعدَه في أحاديثَ صَحِيحَةٍ، وفيما ذَكَرْناه عَمَل (¬2) بالأحاديثِ كلِّها، وجمع (¬3) بينَها، وذلك واجِب مَهْما أمْكَنَ؛ فإنَّ خَبَرَ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حُجَّة يَجِبُ المَصِيرُ إليه، والعَمَلُ به، ولا يُتركُ إلَّا لمُعارِض مِثْلِه، أو أقْوَى منه، وليس في سُجُودِه في مَوْضِع ما يَنْفِي سُجُودَه في مَوْضِع آخَرَ، ودَعْوَى نسْخِ حديثِ ذى اليَدَيْن لا وَجْهَ له؛ لأنَّ راوِيَيْه (¬4) أبو هُرَيرةَ وعِمْرانُ بنُ حُصَيْن، وهِجْرَتُهما مُتَأخرَةَ. وقولُ الزُّهْرِيّ مُرْسَل، ثم لا يَقْتَضى نسخًا، فإنَّه يَجُوزُ أن يَكُونَ آخِرُ الأمْرَيْن سُجُودَه قبلَ السلامِ؛ لوُقُوعِ السَّهْوِ آخِرًا فيما يَسْجُدُ له قبلَ السلامِ. ¬

(¬1) الأول في: باب من نسى أن يستشهد وهو جالس، من كتاب الصلاة، والثاني، في: باب من قال بعد التسليم من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 237، 239. كما أخرج الأول ابن ماجه، في: باب ما جاء في من سجدهما بعد السلام، في كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 385. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 280. وأخرج الثاني النَّسائيّ، في؛ باب التحرى، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 25. (¬2) في م: «عملًا». (¬3) في م. «جمعًا» (¬4) في الأصل: «رواية».

484 - مسألة: (وإن نسيه قبل السلام قضاه، ما لم يطل الفصل، أو يخرج من المسجد. وعنه، أنه يسجد وإن بعد)

وإن نَسِيَهُ قَبْل السَّلام، قَضَاه، مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصلُ، أو يَخْرُجْ من المسْجِدِ. وَعَنهُ، أنهُ يَسْجُدُ وإنْ بَعُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديث ثَوْبانَ يَروِيه إسْماعِيلُ بن عَيّاش عن (¬1) زهيرِ بين سالِمٍ، وفي رِوايَتِه عن أهْلِ الحِجازِ ضَعْف. وحديث ابنِ جَعفر مِن رِوايةِ مُصْعَبِ ابنِ شَيْبَةَ. قال أَحْمد: يَروِي المناكيرَ. وقال النَّسائِيُّ: مُنْكرُ الحديث. وفيه ابنُ أبي لَيْلَى، وهو ضَعِيف. قال الأثْرَمُ: لا يَثبُتُ واحِد منهما. واللهُ أعْلَمُ. 484 - مسألة: (وإن نَسِيه قبلَ السلامِ قضاه، ما لم يَطُلِ الفَصْلُ، أو يخْرُجْ مِن المَسجِدِ. وعنه، أنَّه يَسجُدُ وإن بَعد) متى نَسي سُجُودَ السهوِ قبل السَّلام قضاه بعدَ السلامِ، ما لم يَطُلِ الفصلُ، ما دام في المَسجِدِ وإن تَكَلم. وبه قال مالك، والأوْزاعِيُّ، والشافعي، وأبو ثَوْرٍ. ¬

(¬1) في النسخ: «و». والتصويب من مصادر التخريج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ: إذا صرف وَجْهَه عن القِبْلَةِ، لم يَبْنِ، ولم يَسْجُدْ. وقال أبو حنيفةَ: إن تَكَلَّمَ بعدَ الصلاةِ، سَقَط عنه سُجُودُ السَّهْوِ، لأنه أتَى بما يُنافِيها، أشبهَ ما لو أحْدَثَ. ولَنا، ما روَى ابنُ مسعودٍ، (¬1) أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد بعدَ السلامِ والكَلام. رَواه مسلم (¬2). وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ أَيضًا] (1)، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلى خَمْسًا، فلما انْفَتَلَ تَوَشْوَش القَوْمُ فيما بينَهم، ثم سَجَد بعدَ انْصِرافِه عن القِبْلَةِ (¬3). ولأنه إذا جاز إتْمامُ الركْعَتَيْن مِن الصلاةِ بعدَ الكَلام والانْصِرافِ، كما جاء في حَدِيثِ ذِي اليَدَيْن، وعِمْرانَ بنِ حُصَيْن، فالسجُودُ أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: تش. (¬2) في: باب السهو في الصلاة، السجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 402. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في سجدتي السهو بعد السلام، الكلام، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 185. والنَّسائيّ، في: باب ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 21. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من سجدهما بعد السلام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 385. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما إن طال الفَصْلُ، أو خَرَج (¬1) مِن المسْجِدِ لم يَسْجُدْ. والمَرْجِعُ في طُولِ الفَصْلِ وقصَرِه إلى العادَةِ. وذَكَر القاضي، أنَّه يَسْجُدُ ما لم يَطُلِ الفَصْلُ، [وإن خَرَج] (¬2)؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَجَع إلى المسْجِدِ بعدَ خُرُوجه منه في حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْن (¬3)؛ لإتْمامِ الصلاةِ، فالسُّجُودُ أَوْلَى. وهذا قول للشافعي. وقال الخِرَقِي: يَسْجُدُ ما كان في المسْجدِ، فإن خَرَج لم يَسْجُدْ. وهو قولُ الحَكَمِ، وابنِ شبْرُمَةَ. وعنه، أنَّه يَسْجُدُ وإن بَعُد (¬4). وقد حَكاها ابنُ أبي مُوسي، عن أحمدَ. ¬

(¬1) في م: «وخرج». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬4) في م: «خرج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو أحدُ قَوْلَي الشَّافعيّ؛ لأنه جُبْران فأتَى به بعد طُول الفَصلِ والخرُوجِ، كجُبْراناتِ الحج. وهذا قول مالك، إذ كان لزيادَةٍ، وإن كان لنَقْصٍ أتي به ما لم يَطلِ الفَصْل؛ لأَنَّه لتَكْمِيلِ الصلاةِ. ووَجْهُ الأولى، أنَّه لتَكْمِيلِ الصلاةِ، فلا يَأتِي به بعدَ طُولِ الفَصْلِ، كَرُكن من أرْكانِها، وإنما ضَبَطْناه بالمسْجِدِ؛ لأنه محَل الصلاةِ، فاعْتُبِرَتْ فيه المُدةُ، كخِيارِ المَجْلِس. فصل: فإن نَسِيَه حتَّى شَرَع في صلاة أخْرَى، سجَد بعدَ فَراغِه منها، في ظاهِرِ (¬1) كلام الخِرَقِي، ما كان في المَسْجِدِ. وعلى قولِ غيره، إن طال الفصْلُ لم يَسجُدْ، وإلا سجَد. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

485 - مسألة: (ويكفي لجميع السهو سجدتان، إلا أن يختلف محلهما، ففيه وجهان)

وَيَكفِيهِ لجَمِيعِ السهْوِ سَجْدَتَانِ، إلَّا أنْ يَخْتَلِفَ مَحَلهُمَا، فَفيهِ وَجْهَانِ؛ أحَدُهُمَا، تُجْزِئُهُ سَجْدَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 485 - مسألة: (ويَكفِي لجَميعِ السَّهْوِ سَجْدَتان، إلَّا أن يَخْتَلِفَ مَحَلُّهما، ففيه وَجْهان) إذا سَها سَهْوَيْن أو أكثرَ مِن جِنْس، كَفاه سَجْدَتان، بغيرِ خِلاف عَلِمْناه. وإن كان السَّهْوُ مِن جِنْسَيْن، فكذلك. حَكاه ابن المُنْذِرِ، عن أَحْمد. وهو قولُ أكْثَرِ أهل العلمِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، ومالك، والشافعي، وأصحابُ الرأيِ. وذَكَر أبو بكرٍ فيه وَجْهَيْن؛

وَالْآخَرُ، يَسْجُدُ لِكُل سَهْو سَجْدَتيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، ما ذَكَرْناه. والثاني، يَسْجُدُ سُجُودَيْن. وهو قولُ الأوْزاعِيِّ، وابن أبي حازِم (¬1)، وعبدِ العزيز بن أبي سَلَحَةَ (¬2)، إذا كان أحَدُهما قبلَ السلامِ، والآخَرُ بعدَه؛ لقوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لِكُل سَهْو سَجْدَتَانِ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬3). وهذان سَهْوان. ولأنَّ كل سَهْو يَقْتضِي سُجُودًا، وإنما يَتَداخَلان في الجِنْس الواحِدِ. ولَنا، قولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا سَهَا أحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (¬4). وهذا يَتَناولُ السهْوَ في مَوْضِعين، ولأن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- سها فسَلمَ (¬5)، وتَكَلَّمَ بعدَ سَلَامِه، فسَجَدَ لهما سُجُودًا واحِدا، ولأنه شُرِع للجَبْرِ، فكَفَى فيه سُجُودٌ واحد، ما لو كان مِن جِنْس واحِد. وحَدِيثهم في إسْنادِه مَقالٌ. ثم إنَّ المُرادَ به، لكل سَهْو في صَلاة. والسَّهْوُ وإن كَثُر داخِلٌ في لَفْظِ السَّهْوِ؛ لأنه اسْمُ جنْس، فيَكونُ التَّقْدِيرُ، لكل صلاة فيها سَهْو سَجْدَتان. يدُلُّ على ذلك أنَّه قال: «لكُل سَهْوٍ سَجْدَتانِ بَعْدَ السلام» (¬6). كذا رِوايَةُ ¬

(¬1) في م: «حاتم». وهو أبو عبد الله عبد العزيز بن أبي حازم (سلمة) بن دينار الأعرج، الفقيه المالكى، المتوفى سنة خمس، وثمانين ومائة. طبقات الفقهاء 146، ترتيب المدارك 1/ 286 - 288. (¬2) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، أبو عبد الله، فقيه مالكى، ثِقَة صدوق، كثير الحديث. توفى سنة أربع وستين ومائة. تهذيب الكمال 6/ 343، 344، وانظر طبقات الفقهاء، للشيرازى 67. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 84. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 9 عن حديث ابن مسعود. (¬5) سقط عن: م. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي داودَ. ولا يَلْزَمُه بعدَ السلامِ سُجُودان. فصل: ومعنى اخْتِلافِ مَحَلِّهما أن يكونَ أحَدُهما قبلَ السَّلامِ، والآخَرُ بعدَه؛ لاخْتِلافِ سَبَبِهما وأحْكامِهما. وقال بعضُ أصحابِنا: هو أن يكون أحَدُهما مِن نَقْص، والآخَرُ مِن زِيادَةٍ. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أوْلى، إن شاء الله تعالى. فإذا قلْنا: يَسْجُدُ لهما سُجُودًا واحِدًا. سجده قبل السَّلامِ؛ لأنه أسْبَقُ وآكدُ؛ ولأن الذى قبلَ السَّلامِ قد وُجد سبَبُه، ولم يُوجَدْ قبْلَه ما يَمنَعُ (¬2) وُجُوبَه، ولا يَقُومُ مَقامَه، فلَزِمَه الإتْيانُ به، وإذا سجَد له، سَقَط الثّانِي؛ لإغْناء الأوَّلِ عنه. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 438. (¬2) في م: «يوجب منع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو أحْرَمَ مُنْفَرِدا، فصَلى ركْعَة، ثم نَوى مُتابَعَةَ الإمام، وقُلْنا بجَواز ذلك، فسها فيما انْفَرَدَ فيه، وسَها إمامه فيما تابَعَه فيه، فإن صَلَاته تَنْتَهِي قبلَ صلاةِ إمامِه. فعلى قَوْلِنا، هما مِن جِنْس واحِدٍ إن (¬1) كان مَحَلهما واحِدًا، وعلى قولِ مَن فَسَّرَ الجِنْسَيْن بالزيادَةِ والنَّقْص، يَحْتَملُ كوْنُهما ين جِنْسَيْن. وهكذا لو صَلى مِن الرباعِيةِ رَكْعَةً، ودَخَل مع مُسافِر، فنَوَى مُتابَعَتَه، فلمّا سَلمَ إمامُه، قام ليُتمَّ ما عليه، فقد حَصَل مَأمُومًا في وَسَطِ صَلاتِه، مُنْفرِدا في طَرَفَيْها. فإذا سَها في الوَسطِ والطَّرَفين جميعًا، فعلى قَوْلنا، إن كان مَحَل سُجُودِهما واحِدًا، فهي جِنْسٌ واحِدٌ. وإنِ اخْتَلَفَ مَحَل السُّجُودِ، فهي جِنْسان. وقال بعضُ أصْحابنا: هي جِنْسان. ولأصْحابِ الشافعية فيها وَجْهان كهَذَيْن، ووَجْه ثالِث، أنَّه يَسْجُدُ سِت سَجَداتٍ، لكلَّ سَهْو سَجْدَتان. ¬

(¬1) في الأصل: «وإن».

486 - مسألة: (ومتى سجد بعد السلام، جلس فتشهد، ثم سلم)

وَمَتَى سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، جَلَسَ فَتَشَهَّدَ، ثُم سَلَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 486 - مسألة: (ومتى سَجَد بعدَ السَّلامِ، جَلس فتَشَهَّدَ، ثم سَلَّمَ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه متى سجَد للسهْوِ، كَبر للسجودِ والرَّفْع منه، سَواءٌ كان قبلَ السلامِ أو بعدَه. فإن كان قبلَ السلامِ سَلمَ عَقِيبَه. وإن كان بعدَه، تَشَهد وسَلمَ، سَواء كان مَحَله بعدَ السلامِ، أو كان قبلَه فنَسِيَه إلى ما بعدَه. وبهذا قال ابنُ مسعودٍ، والنَّخَعِي، وقتادَةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَكمُ، والثوْرى، والأوْزاعِي، والشافعي، وأصْحابُ الرأيِ، في التشَهُّدِ والتَّسْلِيمِ. وقال أنس، والحسنُ، وعَطاء: ليس فيهما تَشَهُّد ولا تَسْلِيم. وقال ابنُ سِيرينَ، وابنُ المُنْذِرِ: فيهما تَسْلِيم بغير تَشَهُّد. وعن عَطاءٍ: إن شاء تَشَهدَ، وإن شاء تَرَك. ولَنا، على التكْبيرِ، قولُ ابنِ بُحَيْنَةَ: فلَما قَضَى الصلاةَ سَجَد سَجْدَتيْن، كَبر في كل سَجْدَةٍ وهو جالِس قبل أن يُسَلِّمَ (¬1). وقولُ أبي هُرَيْرَةَ: ثم كَبر وسَجَد مِثْلَ سُجُودِه أو أطْوَلَ، ثم رَفَع رَأسَه فكَبر (¬2). وأما التسلِيمُ، فقد ذَكَرَه عِمرانُ بنُ حُصيَن، في حديثه الذى رَواه مسلم (¬3)، قال فيه: سَجَد سَجْدَتَيِ السهْوِ، ثم سَلمَ. وفي حديثِ ابن مسعودٍ (¬4): ثم سَجَد سَجْدَتَيْن، ثم سلمَ. وأمّا التَّشَهُّدُ، فرَوى عِمرانُ بنُ حُصَيْن، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلى بهم فسَها، فسَجَدَ سَجْدَتين، ثم تشَهدَ، ثم سلمَ. رَواه أبو داودَ، والترمِذِي (¬5)، وقال: حديث حسن. ولأنه سُجُود له تَسْلِيم، فكان له تَشَهُّدٌ، كسُجُودِ صُلْب الصلاةِ. ويحتَمِلُ أن لا يَجبَ التشَهدُ؛ لأنَّ ظاهِرَ الحَدِيثيْن الأوليَن أنَّه سَلمَ مِن غيرِ تَشَهد، وهما أصحُّ مِن هذه الروايةِ، ولأنه سُجُود مُفرَد، أشْبَهَ سُجُودَ التلاوَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 676. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 26. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬5) انظر تخريج حديثه السابق:

487 - مسألة: (وإن ترك السجود الواجب قبل السلام عمدا، بطلت صلاته)

وَمَنْ تَرَكَ السُّجُودَ الْوَاجِبَ قبْلَ السلَامِ عَمْدًا، بَطلتِ الصلَاةُ، وإنْ تَرَكَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ السلَامِ، لَمْ تَبْطلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا نَسِيَ سُجُودَ السَّهْو حتَّى طال الفَصْلُ، لم تبْطُلْ صَلَاتُه. وهو قولُ الشَّافعيّ، وأصْحابِ الرأيِ. وعن أحمدَ، إن خَرَج مِن المَسْجِدِ أعاد الصلاةَ. وهو قولُ الحَكَمِ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وقولُ مالك، وأبي ثَور، في السُّجُودِ قبل السلامِ. ووَجْهُ الأولِ، أنَّه جابِر للعِبادَةِ بعدَها، فلم تَبْطُلْ بتَرْكِه، كجُبْراناتِ الحَج. 487 - مسألة: (وإن تَرَك السُّجُودَ الواجِبَ قبلَ السلامِ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلاتُه) لأنه تَرَك واجِبًا في الصلاةِ عمدًا. (وإن تَرَك المَشْرُوعَ (¬1) بعدَ السَّلامِ، لم تَبْطُلْ) لأنه جَبْرٌ للعِبادَةِ خارِجٌ مها، فلم ¬

(¬1) في الأصل: «الواجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبْطُلْ بتَرْكِه، كجُبْراناتِ الحَجِّ، وسَواء كان مَحَله بعدَ السلامِ أو كان قبلَه، فنَسِيَه، فصار بعدَه. وقد نُقِل عن أحمدَ ما يَدُل على بُطْلانِ الصلاةِ، ونُقِل عنه التوَقفُ، فإنَّه قال، في مَن نسِيَ سجُودَ السَّهْوِ: إن كان في سهو خَفِيف، فأرْجُو أن لا يَكُونَ عليه. قال الاُثْرَمُ: قلتُ [لأبي عبدِ اللهِ] (¬1): فإن كان فيما سَها فيه النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟ فقال: هاه. ولم يُجِبْ، فبَلَغَنِي عنه أنه يَسْتَحِب أن يُعِيدَ. فإذا كان هذا في السَّهْوِ، ففي العَمْدِ أوْلَى. والأولُ (¬2) ظاهِر المَذْهَبِ. فصل: ويقولُ في سُجُودِ السهْوِ ما يَقُولُ في سُجُودِ صُلْبِ الصلاةِ، قياسًا عليه. والله تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «وهذا».

باب صلاة التطوع

بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَهِيَ أفْضَلُ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صلاةِ التطَوُّعِ 488 - مسألة؛ قال: (وهي أفْضَلُ تَطوعِ البَدَنِ) لقَوْلِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَاعْلَمُوا أن خَير أعْمالِكُمُ الصلَاةُ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولأن فَرْضَها آكَدُ الفُرُوض، فتَطَوُّعُها آكَدُ التَّطَوعِ. ¬

(¬1) في: باب المحافظة على الوضوء، من كتاب الطهارة. من سنن ابن ماجه 1/ 101، 102.

489 - مسألة: (وآكدها صلاة الكسوف والاستسقاء)

وَآكَدُهَا صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالاسْتِسْقَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 489 - مسألة: (وآكَدُها صلاةُ الكُسُوفِ والاسْتِسْقاءِ) لأن النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَلَها وأمَرَ بصلاةِ الكُسُوفِ، في حديثِ أبي (¬1) مسعودٍ، فذَكَرَ الحديثَ إلى أن قال: «فَصَلوا وَادْعُوا حَتى يُكشَفَ مَا بِكُمْ». مُتَّفَق عليه (¬2)، وفي حَدِيثِ عائشةَ، مِن رِوايةِ أبي داودَ (¬3)، أمَرَ بمنْبَرٍ، فوُضعَ له، ووَعَد النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُون فيه، أي: في الاستِسْقاءِ. وهذا يَدُل ¬

(¬1) في: الأصل، م: «ابن». (¬2) يأتي تخريجه في باب صلاة الكسوف. (¬3) يأتي تخريجه في باب صلاة الاستسقاء.

490 - مسألة؛ قال: (ثم الوتر، وليس بواجب، ووقته ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة)

ثُمَّ الْوِتْرُ، وَلَيْس بِوَاجِبٍ، وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأقَلُّهُ رَكْعَة، وَأكْثَرُهُ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُوترُ بِرَكْعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الاعْتِناءِ بها، والمُحافَظَةِ عليها. 490 - مسألة؛ قال: (ثم الوِتر، وليس بواجِب، ووَقْتُه ما بينَ صلاةِ العِشاء وطُلُوعِ الفَجْرِ، وأقلُّه رَكْعَةٌ، وأكثرُه إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَة، يُسَلِّمُ مِن كل رَكْعَتَيْن، ويُوتِر برَكْعَةٍ) الوِترُ سُنةْ مُؤكدَة، في المَنْصُوص

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه. قال أحمدُ: مَن تَرَك الوِتْر عَمْدًا] (¬1) فهو رَجُلُ سوء، ولا يَنْبغى أن تُقْبَلَ له شَهادَة. أراد بذلك المُبالَغَةَ في تَأكيدِه، ولم يُرِدِ الوُجُوبَ؛ فإنَّه قد صَرحَ، في رِوايَةِ حَنبلٍ، فقال: الوِتر ليس بمَنْزِلَةِ الفَرْض، فإن شاء قضَى الوِتر، وإن شاء لم يقضه. وذلك لأنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يداوِمُ عليه حَضَرًا وسَفَرًا. وروَى أبو أيوبَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «الْوِتر حَقٌّ؛ فَمَنْ أَحَبُّ أن يُوتِرَ بِخمس فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَن أحَبَّ أنْ يُوترَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». رَواه أبو داودَ (¬2). فصل: واخْتَلفَ أصحابُنا في الوِتْرِ ورَكْعَتَيِ الفَجْرِ، فقال القاضي: رَكْعَتا الفَجْرِ آكَدُ؛ لاخْتِصاصِهما بعَدَدٍ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ. وقال غيرُه: الوِتر آكَدُ. وهو أَصَحُّ؛ لأنه مُخْتَلَف في وُجُوبِه، وفيه مِن الأخْبار ما لم يَأْتِ مِثْلُه في رَكْعَتَى الفَجْرِ، لكنْ رَكْعَتا الفَجْرِ تَلِيه في التَّأكِيدِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب كم الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 328. كما أخرجه النَّسائيّ في: باب الاختلاف على الزُّهْرِيّ، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 197 وابن ماجه، في باب ما جاء في الوتر ثلاث وخمس وسبع وتسع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 376.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس الوِتر واجِبًا. وبهذا قال مالك، والشافعي. وذَهَب أبو بكر إلى وجُوبِه. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ أبي أيُّوبَ، ولقَوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» (¬1). وعن بُرَيْدَةَ، قال: سَمعْتُ رسولَ اللهَ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «الوِتر حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنا». رَواه الإمامُ أَحْمد (¬2). وعن خارِجَةَ بنِ حُذافَةَ، قال: خَرَج علينا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذاتَ غَداةٍ، فقال: «إنَّ اللهَ قدْ أمَدكُمْ بِصَلَاة، وَهِيَ خَيْر لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الوِتر، فجَعلَها لَكمْ فِيما بَيْنَ العِشاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ». رَواه الإمام أحمدُ (¬3)، وأبو داودَ (¬4). وعن أبي بَصْرَةَ (¬5)، قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «إن اللهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، فَصَلوهَا مَا بَيْنَ العِشاءِ إلى صَلَاةِ الصبحِ». رَواه الأثْرَمُ (¬6). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 11، 12 في حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى». (¬2) في: المسند 5/ 357. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من لم يوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 328. (¬3) لم نجده عنده من حديث خارجة بن حذاقة. (¬4) في: باب استحباب الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 327. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في فضل الوتر، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 241. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 369. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 370. (¬5) في الأصل: «نضرة». (¬6) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولنا، قَوْلُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- للأعْرابِي، حينَ سَألَه عن ما فَرَض الله عليه مِن الصلاةِ في اليوم والليْلَةِ، قال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ». قال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ». فقال الأعْرَابي: والذى بَعَثَك بالحَقِّ لا أزِيدُ علها، ولا أنقُص منها. فقال: «أفْلَحَ الرجُلُ إنْ صَدَقَ». حديث صحيح (¬1). ورُوِي أن رجلًا مِن كِنانَةَ يُدْعَى المُخْدِجِيَّ (¬2)، سَمِع رَجُلًا مِن أهلِ الشامِ، يُدْعَى أَبا محمدٍ، يقولُ: إن الوِتر واجِبٌ. قال: فرُحْت إلى عُبادَةَ بنِ الصامِتِ، فأخْبَرْتُه، فقال عُبادَةُ: كذَب أبو محمدٍ، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الزكاة من الإسلام، من كتاب الإيمان، وفي: باب وجوب صوم رمضان، من كتاب الصوم، وفي: باب كيف يستحلف، من كتاب الشهادات، وفي: باب في الزكاة، وأن لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق؛ خشية الصدقة، من كتاب الحيل. صحيح البُخَارِيّ 1/ 18، 3/ 30، 235، 9/ 21. ومسلم، في: باب بيان الصلوات التى هي أحد أركان الإسلام، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 41. وأبو داود، في. باب حَدَّثَنَا عبد الله بن مسلمة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 93. والنَّسائيّ، في: باب كم فرضت في اليوم والليلة، من كتاب الصلاة، وفي: باب وجوب الصيام، من كتاب الصيام، وفي: باب الزكاة، من كتاب الإيمان. المجتبى 1/ 184، 4/ 97، 8/ 104. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصلاة 1/ 370. والإمام مالك، في: باب جامع الترغيب في الصلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 175. (¬2) هو أبو رفيع، وقيل: رفيع. انظر: ثقات ابن حبان 5/ 570، 571.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمعْتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «خَمس صَلَوَاتٍ كَتَبَهُن الله تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِن لَمْ يُضَيعْ مِنْ حَقِّهِن شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقهِنَّ، كان له عندَ الله عَهْد أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنةَ، وَمَنْ لم يَأتِ بِهن، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الله عهد، إنْ شَاءَ عَذبَه، وَإنْ شاءَ أدْخَلَهُ الجَنةَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، قال: الوِتر ليس بحَتْمٍ، ولكنَّ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْتَرَ، ثم قال: «يَا أهْلَ الْقُرْآنِ أوْتِرُوا، فَإنَّ الله يُحِبُّ الْوِتر». رَواه أحمدُ (¬2). ولأنه يَجُوزُ فِعْلُه على الراحِلَةِ مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، فلم يَكُنْ واجِبًا، كالسننِ، فرَوَى ابنُ عُمَرَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُوتِرُ على بَعيرِه. مُتفَق عليه (¬3). وفي لَفْظٍ: كان يُسَبحُ على الراحِلَةِ قِبَلَ أيِّ وَجْهٍ توَجهَ، ويُوتِرُ عليها، غيرَ أنَّه لا يُصَلِّي عليها المَكتُوبَةَ. رَواه مسلم (¬4). ¬

(¬1) هكذا في الأصول، ولم يخرجه مسلم. انظر: تلخيص الحبير 2/ 147. وأخرجه أبو داود، في: باب في المحافظة على الصلوات، من كتاب الصلاة، وفي: باب في من لم يوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 100/ 1، 328. والنَّسائيّ، في: باب المحافظة على الصلوات الخمس، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 186. وابن ماجه، في: باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 448، 449. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 370. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 123. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 316، 317، 322. (¬2) في: المسند 1/ 110، 143 - 145، 148.كما أخرجه أبو داود، في: باب استحباب الوتر». من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 327. والتِّرمذيّ؛ في: باب ما جاء أن الوتر ليس بختم، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 242. والنَّسائيّ في: باب الأمر بالوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 187. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 370. والدارمي، في: باب في الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 371. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 322. (¬4) انظر الموضع المشار إليه سابقًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحادِيثُهم قد تُكُلِّمَ فيها، ثم إنَّ المرادَ بها تَأكدُه وفَضِيلته، وذلك حَقٌّ، وزِيادَةُ الصلاةِ يَجُوزُ أن تكونَ سُنة، والتَوَعُّدُ للمبالَغَةِ، كقَوْلِه: «مَنْ أكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا» (¬1). والله أعلمُ. فصل: ووَقْتُه ما بينَ صلاةِ العشاءِ إلى طُلُوعِ الفَجرِ. كذلك ذَكَرَه شيخُنا في كتاب «المغْنِي» (¬2). وذَكَر في «الكَافِي» أنَّه إلى صلاةِ الصبح؛ لقولِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إن اللهَ زَادَكُمْ صَلَاة فَصَلوهَا مَا بينَ الْعِشَاءِ إلَى صَلاةِ الصبحِ». رَواه الإمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬3). ووَجْهُ الأولِ ما رُوِيَ عن مُعاذ، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «زَادَنِي رَبِّي صَلَاةً، وَهِيَ الْوِتر، وَوَقتها مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬4). فإن أوْترَ قبلَ العِشاءِ، لم يَصِحَّ وِتره. وهو قولُ مالك، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما جاء في الثوم، من كتاب الأذان، وفي: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 216، 217، 9/ 135. ومسلم. في: باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا ونحوهما عن حضور المسجد، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 393 - 395. وأبو داود، في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 324، 325. والنَّسائيّ، في: باب من يمنع من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 34. وابن ماجه، في: باب من أكل الثوم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 324، 325. الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 12، 4/ 19، 252، 5/ 26. (¬2) 2/ 595. (¬3) 6/ 7. (¬4) في: المسند 5/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ، ويَعْقُوبَ، ومحمَّد. وقال الثَّوْرِي، وأبو حنيفةَ: إن صَلَّاه قبلَ العشاءِ ناسِيًا، لم يُعدْ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن، ولأنه صَلاه قبل الوَقْتِ، أشْبهَ ما لو صَلاه نَهارًا. وإن أخَّرَه حتَّى طَلَع الصُّبْحُ، احْتمَلَ أن يكونَ أداءً؛ لحديثِ أبي بَصْرَةَ. وهو قولُ عليٍّ، وابن مسعودٍ، رَضىَ الله عنهما. قال شيخُنا (¬1): والصحِيحُ أن يَكُونَ قضاءً؛ لحديثِ مُعاذٍ، ولقوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإذَا خَشىَ أحَدُكُم الصبحَ صَلى رَكْعَة، فَأوْتَرَتْ لَه مَا قَدْ صَلَّى» (¬2). وقال: «وَاجْعلُوا آخِرَ صَلاتكمْ بِالليْلِ وِترا». متفق عليه (¬3). وقال: «أوْتِرُوا قَبلَ أنْ تُصْبحُوا». رَواه مسلمٌ (¬4). ¬

(¬1) انظر: المغني 2/ 596. (¬2) قطعة من حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى». وتقدم تخريجه في صفحة 11، 12. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ليجعل آخر صلاته وترًا، من كتاب الوتر. صحيح البُخَارِيّ 2/ 31. ومسلم، في: باب صلاة الليل مثنى مثنى، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 518. الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 30، 39، 102، 119، 135، 143. (¬4) في: باب صلاة الليل مثنى مثنى، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 519. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في مبادرة الصبح بالوتر من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 253، والنَّسائيّ، في: باب الأمر بالوتر قبل الصبح، من كتاب قام الليل. المجتبى 3/ 189. وابن ماجه، في: باب من نام عن وترٍ أو نسيه، من كتاب إقامة الصلاة سنن ابن ماجه 1/ 375. والدارمي باب ما جاء في وقت الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 372. والإمام أَحْمد، في المسند 2/ 150، 3/ 13، 35، 37، 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأفَضْلُ فِعلُه في آخِرِ اللَيْلِ؛ لقَوْلِ عائشةَ: مِن كلِّ الليْلِ قد أوْترَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فانتهَى وِتره إلى السَّحَرِ. مُتَّفَق عليه (¬1). وقال النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ خَافَ أنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِر الليْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أوَّلِه، وَمَنْ طَمعَ أنْ يَقُومَ آخِرَهُ، فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإنَّ صلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مشهُودَةٌ، وَذَلِكَ أفْضَلُ». رَواه مسلمٌ (¬2). وهذا صَريحٌ. فإذا كان له تَهَجُّر جَعَل الوِتر بعدَه؛ لأنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَل ذلك، وقال: «اجْعلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ باللَّيْلِ وِترًا». رَواه مسلم (¬3). فأما إن خاف أن لا يَقُوم آخِرَ اللَّيْلِ، اسْتُحب أن يُوتِرَ مِن أولِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ، ولأن ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في. باب ساعات الوتر، من كتاب الوتر. صحيح البُخَارِيّ 2/ 31. ومسلم، في: باب صلاة الليل. . . . إلخ؛ من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 152. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبو داود 1/ 332. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الوتر أول الليل وآخره، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 244. والنَّسائيّ، في: باب وقت الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 189. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر آخر الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 374. والدارمي، في: باب ما جاء في وقت الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 372. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 46، 100، 107، 129، 204، 205. (¬2) في: باب من حلف أن لا يقوم من آخر الليل، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 520. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كراهية النَّوم قبل الوتر، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 243. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر آخر الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 375. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 300، 315، 337، 348، 389. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْصَى به أَبا هُرَيرةَ (¬1)، وأبا ذَر (¬2)، وأبا الدرْداءِ (¬3)، وكلها أحادِيثُ صحاحٌ. وروَى أبو داودَ (¬4)، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لأبي بكرٍ: «مَتَى تُوتِرُ؟» قال: أوتِرُ مِن أولِ الليْلِ. وقال لعُمَرَ: «مَتَى تُوتِرُ؟» قال: آخِرَ الليْلِ. فقال لأبي بكر: «أخَذَ هَذَا بالْحَزْمِ، وَهَذَا بالْقُوةِ». وأيَّ وَقْتٍ أوْتَرَ مِن الليْلِ بعدَ العِشاءِ أجْزَأه، بغيرِ خِلافٍ. وقد دلَّتْ عليه الأخبارُ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب صلاة الضحى في الحضر، من كتاب التهجد، وفي: باب صيام أيام البيض. . . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح البُخَارِيّ 2/ 73، 3/ 53. ومسلم، في: باب استحباب صلاة الضحى. . . . إلخ، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 499، أبو داود، في: باب في الوتر قبل النَّوم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 331. والنَّسائيّ، في: باب الحث على الوتر قبل النَّوم، من كتاب قيام الليل، وفي: باب صوم ثلاثة أيام من الشهر، من كتاب الصيام. المجتبى 3/ 188، 4/ 187، 188، الدَّارميّ، في: باب صلاة الضحى، من كتاب الصلاة، وفي: باب في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. سنن الدَّارميّ 1/ 339، 2/ 18، 19. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 229، 233، 254، 258، 260، 265، 271، 277، 329، 347، 402، 459، 472، 484، 489، 497، 499، 505، 526. (¬2) أخرجه النَّسائيّ، في: باب صوم ثلاثة أيام من الشهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 187. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 173. (¬3) أحرجه مسلم، وأبو داود، في الموضع السابق. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 440. (¬4) في: باب في الوتر قبل النَّوم، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 331، 322. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر أول الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 379، 380، الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 309، 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن أوْتَرَ أولَ اللَّيْلِ، ثم قام للتهَجُّدِ، صَلَّى مَثْنَى مَثْنَى، ولم يَنْقُضْ وِتره. رُوِي ذلك عن أبي بكر الصِّديقِ، وعَمَّارٍ (¬1)، وسعدِ بنِ أبي وَقاصٍ، وابنِ عباس، وأبي هُرَيْرَةَ، وعائشةَ. وبه قال طاوس، والنخَعي، ومالك، والأوزاعِي، وأبو ثَوْرٍ. قيل لأحمدَ: ولا تَرَى نَقضَ الوِتْرِ؟ فقال: لا. ثم قال: وإن ذَهَب إليه ذاهِب فأرْجُو، قد فَعلَه جَمَاعَة. رُوِي [عن عُمرَ] (¬2)، وعلي، وأسامَةَ، وأبي هُرَيرةَ، وابنِ مسعود، وعُثْمانَ، وسعدٍ (¬3)، وابنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال إسْحاقُ. ومَعْناه أنَّه إذا قام للتهَجُّدِ. يُصَلِّى رَكْعَة تشْفَعُ الوِتر الأولَ، ثم يُصَلى مَثْنَى مَثْنَى، ثم يُوتِرُ في آخِرِ التَّهَجُّدِ. ولَعلَّهم ذَهَبُوا إلى قولِ النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاِتكُمْ بِالليْلِ وِترًا». ولَنا، قولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا وِترانِ فِي لَيْلَةٍ». رَواه أبو داودَ، والترمِذِي (¬4)، وقال: حديثٌ حسن صحيحٌ. ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «سعيد». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في نقض الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 332. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء لا وتران في ليلة، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 254.كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب نهى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الوترين في ليلة، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 188. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأقلُّه رَكْعَةٌ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي أيوبَ (¬1)، ولِما رُوِي أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «صَلَاة الليْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشيتَ الصبحَ فَأوْتِرْ بِوَاحِدَة» (¬2). وروَى ابن عمَرَ، وابنُ عباس، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «الْوِتر رَكْعَة مِنْ آخِرِ الليْلِ». رَواهما مسلمٌ (¬3). وأكْثرُه إحْدَى عَشرةَ رَكْعَة، يُسَلمُ مِن كل رَكْعتَيْن، ويُوترُ برَكْعَةٍ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى باللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوترُ منها بواحِدَةٍ. رَواه مسلم (¬4). وفي لَفْظٍ: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي، فيما بينَ أن يَفْرُغَ مِن صلاةِ العِشاءِ إلى الفَجْرِ، إحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً، يُسَلمُ مِن كُل رَكْعَتَيْن، ويُوتِرُ بواحِدَةٍ. وذَكَر القاضي، في «المُجَرَّدِ»، أنَّه إن صَلى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أو ما شاء منهن بسَلام واحِدٍ، أجْزَأه. والأوْلَى الاقْتِداءُ بالنبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 106. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 11، 12. (¬3) في: باب صلاة الليل مثنى مثنى، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 518. كما أخرجه أبو داود، في: باب كم الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 328. والنَّسائيّ, في: باب كم الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 191. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 33، 43، 45، 49، 59، 54، 81، 83، 100، 154. (¬4) في: باب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 508 - 510. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبو داود 1/ 307. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 165.

491 - مسألة: (وإن أوتر بتسع سرد ثمانيا، وجلس فتشهد

وإنْ أوْتَرَ بتسْع سَرَدَ ثَمَانِيًا، وَجَلَسَ فَتَشَهَّدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ، ثُم صَلَّى التاسِعَةَ وَتشَهَّدَ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ السبعُ. وإنْ أوْتَرَ بِخمْس، لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 491 - مسألة: (وإن أوْتَرَ بتسع سَرَد ثَمانِيًا، وجَلَس فتشهَّدَ (¬1) ولم يُسَلِّمْ، ثم صَلَّى التَّاسِعةَ وتَشَهدَ وسَلَّمَ، وكذلك السبعُ. وإن أوْتَرَ بخَمسْ، لم يَجلِسْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ) وجُملته أنَّه يَجُوزُ أن يُوتِرَ بواحِدَة، وثَلاث، وخَمس، وسَبْع، وتَسْع، وإحْدَى عَشْرَةَ. وقد ذَكَرْنا دَلِيلَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواحِدَةِ، والإحْدَى عَشْرَةَ، وسنَذْكرُ الثلاثَ، إن شاء الله تعالى. قال الثوْرِي، وإسْحاق: الوتر ثَلاث، وخَمْس وسبْع، وتِسْع، وإحْدَى عَشرةَ. وقال ابنُ عباسٍ: إنما هي واحِدَةٌ، أو خَمسٌ، أو سبْعٌ، أو أكْثرُ مِن ذلك، يُوتِرُ بما شاءَ. فظاهِرُ قَوْلِه، أنَّه لا بَأس أن يُوتِرَ بأكْثَرَ مِن إحْدَى عَشرةَ، ويَدُلُّ عليه ما روَى عبدُ الله بن قَيْسٍ، قال: قلتُ لعائشةَ: بكم كان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُوتِرُ؟ قالت: كان يُوترُ بأرْبَعٍ وثَلاثٍ، وسِت وثَلاثٍ، وثَمانٍ وثَلاثٍ، وعَشْرٍ وثَلاثٍ، ولم يَكنْ يُوتِرُ بأقل مِن سَبْعٍ، ولا بأكْثَرَ مِن ثَلاثَ عَشرةَ. رَواه أبو داودَ (¬1). وهذا صَرِيحٌ في أنَّه يَزِيدُ على إحْدَى عَشرةَ. ¬

(¬1) في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 313. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أوْتَرَ بتسْع سَرَد ثَمانِيًا، ثم جَلَس فتَشهَّدَ ولم يُسَلِّمْ، ثم صَلَّى التاسِعَةَ وتَشَهدَ وسَلَّمَ. ونَحْوَ هذا قال إسحاقُ. وذلك لِما روَى سعدُ (¬1) بنُ هِشام، قال: قلتُ، يعنى لعائشةَ: يَا أمَّ المُؤمِنين أنبِئِينِي عن وِتْرِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟ قالت: كنا نُعِد له سِواكَه وطَهُورَه، فيَبْعثُه الله ما شاء أن يَبْعَثَه، فيَتَسَوَّكُ ويَتَوَضَّأ ويُصَلِّي تِسْعَ رَكَعاتٍ، لا يَجْلِسُ فيها إلَّا في الثَّامِنَةِ، فيَذْكُرُ اللهَ ويَحْمَدُه، ويَدْعُوه، ثم يَنْهَضُ ولا يُسَلِّمُ، ثم يَقُومُ فيُصَلى التاسِعَةَ، ثم يَقْعدُ فيَذْكُرُ الله ويَحْمَده ويَدْعُوه، ثم يُسَلم تَسْلِيمًا يُسْمِعُنا، ثم يُصَلِّى رَكْعَتَيْن بعدَ ما يُسَلمُ وهو قاعِدٌ، فتلك إِحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً يَا بُنَي، فلَما أسَنَّ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأخَذَ اللَّحْمُ، أوْتَرَ بسَبْعٍ، وصَنَع في الركْعَتَيْن مثلَ صنِيعِه في الأولِ. قال: فانْطَلَقْتُ إلى ابنِ عباس، فحَدثتُه بحَدِيثها، فقال: صدَقتْ. رَواه مسلم (¬2). ¬

(¬1) في تش: «سعيد». (¬2) في: باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 513. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 309، 311. والنَّسائيّ، في: باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 51. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 376. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 54.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكْمُ السبعِ حُكْمُ التسْعِ؛ لأن في حَدِيثِ عائشةَ، من رِوايةِ أبي داودَ (¬1): أوْتَرَ بسَبْعٍ ولم يَجْلِسْ إلَّا في السادِسَةِ والسابِعَةِ، ولم يُسَلمْ إلَّا في السّابِعَةِ. وقال القاضي: لا يَجْلِسُ في السبع إلَّا في آخِرِهنُّ، كالخَمس؛ لِما روى ابنُ عباسٍ، عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: فتَوضأ ثم صَلى سَبْعًا أو خَمْسًا، أوْترَ بهن، لم يُسَلمْ إلَّا في آخِرِهِن. رَواه مسلم، وأبو داودَ (¬2). وليس في هذا الحَديثِ تَصْرِيح بأنه لم يَجْلِسْ عَقِيبَ السادِسَةِ، وحَدِيثُ عائشةَ حُجَّة عليه. وإن أوْتَرَ بخَمْسٍ، لم يَجْلِسْ إلَّا في آخِرِهن. رُوِيَ ذلك عن زيدِ (¬3) بنِ ثابِتٍ؛ لِما روَى عُرْوَةُ، عن عائشةَ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصَلِّى مِن الليْلِ ثَلاثَ عَشرةَ رَكْعَة، يُوتِرُ من ذلك ¬

(¬1) انظر التخريج السابق. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب السواك، من كتاب الطهارة، وفي: باب الدعاء في صلاة الليل، قيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 221، 526 - 531، أبو داود، في: باب السواك لمن قام من الليل، من كتاب الطهارة، وفي: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 14، 311 - 315. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، من كتاب الوضوء، في: باب ما جاء في الوتر، من كتاب الوتر، وفي: باب استعانة اليد في الصلاة. . . . إلخ، من كتاب العمل والصلاة، وفي: باب قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. . . .}، باب قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ}، من كتاب التفسير. صحيح البُخَارِيّ 6/ 51، 57، 2/ 30، 77، 78، 6/ 52، 53. والنَّسائيّ، في: باب ذكر ما يستفتح به القيام، وباب ذكر الاختلاف على حبيب بن أبي ثابت، من كتاب قيام الليل. المجتبي 3/ 171، 172، 195. وابن ماجه، في: باب ما جاء في يصلي بالليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 433، 434. والإمام مالك، في: باب صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 121، 122. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 220، 242، 275، 350، 373. (¬3) في الأصل: «يزيد».

492 - مسألة: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بتسليمتين)

وَأدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بخَمسٍ، لا يَجْلِسُ في شئٍ مِنها إلَّا في آخِرِها. مُتَّفَق عليه (¬1). 492 - مسألة: (وأدْنَى الكَمالِ ثَلاثُ رَكَعاتٍ بتَسْلِيمَتَيْن) كذلك ذَكَرَه أبو الخَطابِ. وممن رُوِيَ عنه أنَّه أوْتَرَ بثَلاثٍ؛ عُمَرُ، وعَليٌّ، وأُبَيٌّ، وأنسٌ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ، وأبو أمامةَ، وعُمَرُ ابنُ عبدِ العَزِيزِ. وبه قال أصْحابُ الرأيِ. وقد دَلَّ على ذلك حَدِيثُ أبي ¬

(¬1) لم يخرجه البُخَارِيّ، وإنما روي صدره عن عائشة، في: باب كيف كان صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وكم كان النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصلي من الليل، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 3/ 64. وأخرجه مسلم، في: باب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 508. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 307. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الوتر بخمس، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 246. والنَّسائيّ، في: باب كيف الوتر بخمس، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 198. والدارمي، في: باب كم الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيوبَ (¬1). وقال أبو موسى: ثَلاث أَحَبُّ إليَّ مِن واحِدَةٍ، وخَمس أَحَبُّ إليَّ مِن ثَلاثٍ، وسَبْع أَحَبُّ إليَّ مِن خَمْس، وتسْعٌ أَحَبُّ إلى مِن سبْع (¬2). إذا ثَبَت ذلك، فاخْتِيارُ أبي عبدِ اللهِ أن يَفْصِلَ بينَ الواحِدَةِ والثنتيْن بالتسْلِيمِ، قال: وإن أوْترَ بثلاث لم يُسَلمْ فيهن، لم يُضَيقْ عليه عندِي. وممن كان يُسَلّمُ مِن الركْعَتَيْن (¬3)، ابنُ عُمَرَ، حتَّى يَأمُرَ ببعض حاجَتِه. وهو مَذْهَبُ مُعاذٍ القارِئُ (¬4)، ومالك، والشافعي، وإسْحاقَ. وقال الأوْزاعِي: إن فَصَل فحَسَن، وإن لم يَفْصِلْ فحَسَن. وقال أبو حنيفةَ: لا يَفْصلُ بسَلام. واستَدَل بقَوْلِ عائشة، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُوتِرُ بأرْبَعٍ وثَلاثٍ، وسِتٍّ وثَلاثٍ، وثَمان وثَلاثٍ. وقوْلها: كان يُصَلِّي أرْبَعًا، فلا تَسْأل عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثم يُصَلِّي أربَعًا، فلا تَسْألْ عن حُسْنِهن وطُولِهنَّ، ثم يُصَلى ثَلَاثًا (¬5). فظاهِرُ هذا أنَّه كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 106. (¬2) انظر: مصنف عبد الرَّزّاق 2/ 19 - 25. (¬3) في م: «كل ركعتين». (¬4) أبو الحارث معاذ بن الحارث الأَنْصَارِيّ المدنِيُّ، المعروف بالقارئ، توفى بالحرة سنة ثلاث وستين، عن تسع وستين سنة. غاية النهاية 2/ 301، 302. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب قيام النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالليل في رمضان وغيره، من كتاب التهجد، وباب فضل من قام رمضان، من كتاب التراويح، وفي: باب كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه، من كتاب المناقب. صحيح البُخَارِيّ 2/ 66، 67، 3/ 59، 4/ 231، 332. ومسلم، في: باب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 508 - 510. وأبو داود، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُصلى الثَّلاثَ بتَسْلِيم واحِدٍ. ولَنا، ما رَوَتْ عائشةُ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلى، فيما بينَ أن يَفْرُغَ مِن صَلاةِ العِشاءِ إلى الفَجْرِ إحْدَى عَشرةَ رَكْعَة، يُسَلِّمُ ينَ كل رَكْعَتَيْن، ويوتِرُ بواحِدَة. رَواه مسلم (¬1). وعن نافِع، عن ابن عمَرَ، أن رجلًا سأل رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الوِتْرِ، فقال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «افْصِل بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثنتَيْن بالتَّسْلِيمِ». رَواه الأثْرَمُ. وعن ابن عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَفْصِلُ بينَ الشفْع والوِتْرِ بتَسْلِيمة يُسْمِعُناها. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). وهذا نَصٌّ. فأما حديث عائشةَ فليس ¬

= باب وصلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 307، 313. والنَّسائيّ، في: باب ما جاء في وصف صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 228، 229. والنَّسائيّ، في: باب إيذان المؤذنين الأئمة بالصلاة، من كتاب الأذان. وفي: باب السجود بعد الفراغ من الصلاة، من كتاب السهو، وفي: باب كيف الوتر بواحدة، وباب كيف الوتر بثلاث، وباب كيف الوتر بإحدى عشرة ركعة، وباب قدر السجدة بعد الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبي 2/ 24، 25، 3/ 55، 192، 201، 207. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كم يصلي من الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 432. والدارمي، في: باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، باب صفة صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وباب كم الوتر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 337، 344، 371. والإمام مالك، في: باب صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 120. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 35، 74، 83، 143، 182، 215. (¬1) في: من كتاب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 508. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 307. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في وصف صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كالليل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 229. والنَّسائيّ، في: باب إيذان المؤذنين الأئمة بالصلاة، من كتاب الأذان، وفي: باب السجود بعد الفراغ من الصلاة، من كتاب السهو، وفي: باب كيف الوتر بواحدة، وباب كيف الوتر بثلاث، وباب كيف الوتر بإحدى عشرة ركعة. المجتبي 2/ 24، 25، 3/ 55، 201. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كم يصلي بالليل، من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. سنن ابن ماجه 1/ 432. والدارمي، في: باب، الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وباب صفة صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. سنن الدَّارميّ 1/ 337، 344. والإمام مالك، في: باب صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 120. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 35، 74، 83، 143، 182، 215. (¬2) في: المسند 2/ 76.

493 - مسألة؛ قال: (يقرأ في الأولى بـ {سبح}، وفي الثانية {قل ياأيها الكافرون}، وفي الثالثة {قل هو الله أحد}. يستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث بذلك. وبه قال الثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: يقرأ في الثالثة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين. وروي نحوه عن أحمد. وهو قول مالك في الوتر. وقال في الشفع: لم يبلغني فيه شئ معلوم، لما روت عائشة، أن رسول الله الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الركعة الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الثانية {قل ياأيها الكافرون}، وفي الثالثة {قل هو الله أحد} والمعوذتين. رواه ابن ماجه

يَقْرأُ فِي الأولَى {سَبِّحِ}، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه تَصْرِيح بأنَّها بتَسْلِيم وِاحِدٍ. فإن صَلى خلفَ إمام يُصَلى الثلاثَ. بتَسْلِيم واحدٍ (¬1)، تابَعه؛ لئلَّا يُخالِفَ إمامَه. وهو قوُل مالكٍ. والله أعلمُ. 493 - مسألة؛ قال: (يَقْرَأ في الأولَى بـ {سَبِّح}، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. يُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأ في ركَعاتِ الوِتْرِ الثلاثِ بذلك. وبه قال الثَّوريّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرأيِ. وقال الشَّافعيّ: يَقْرأ في الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْن. ورُوِي نَحْوُه عن أحمدَ. وهو قولُ مالكٍ في الوتْرِ. وقال في الشفْع: لم يَبْلُغْنِي فيه شئٌ مَعْلُومٌ، لِما رَوَت عائشةُ، أنَّ رسول الله اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يقرأ في الرَّكْعَةِ الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانِيةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} والمُعَوذَتَيْن. رَواه ابنُ ماجه (¬2). ولَنا، ما روَى أبَى بنُ كَعْب، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يوتِرُ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. رَواه أبو داودَ، وابنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 371. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 329، والتِّرمذيّ، في: باب ما يقرأ في الوتر، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 250.

494 - مسألة؛ قال: (ويقنت فيها بعد الركوع)

وَيَقْنتُ فِيهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجه (¬1). وحدِيثُ عائشةَ في هذا لا يَثْبُتُ، يَرْوِيه يحيى بنُ أيوبَ، وهو ضَعِيفٌ. وقد أنكَرَ أحمدُ ويحيى (¬2) زِيادَة المُعَوِّذَتَيْن. 494 - مسألة؛ قال: (ويَقْنُتُ فيها بعدَ الرُّكوعِ) القُنُوتُ مَسْنُونٌ في الركْعَةِ الأخِيرَةِ مِن الوِتْرِ في جَمِيع السنةِ في المَنْصُورِ (¬3) عندَ أَصْحابِنا. وهو قولُ ابن مسعودٍ، وإبْراهِيمَ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرأيِ. وعنه، لا يَقْنُتُ فيه إلَّا في النِّصْفِ الأخِيرِ مِن رمضانَ. رُوِي ذلك عن عليٍّ، وأبيٍّ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعي، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 329. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 370، كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر أبيّ بن كعب في الوتر، وباب نوع آخر من القراءة في الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 193، 194، 202. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 123. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) في تش: «المنصوص». وفي الأصل: «المقصود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واخْتارَه الأثْرَمُ؛ لِما رُوى أنَّ عُمَرَ جَمَع النَّاسَ على أبي بنِ كَعْبٍ، فكان يُصَلى بهم عِشْرِين (¬1)، ولا يَقْنُتُ إلَّا في النصفِ الباقِي (¬2). رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا كالإجْماعِ. وقال قَتادَةُ: يَقْنُتُ في السَّنَةِ كلِّها إلَّا في النصْفِ الأوَّلِ مِن رمضان؛ لهذا الخَبَرِ. والرِّوايَةُ الأولَى هي المَشْهُورَةُ. قال أحمدُ، في رِواية المَرُّوذِي: كُنْتُ أذْهب إلى أنَّه في النِّصْفِ مِن شَهْرِ رمضانَ، ثم إنِّي قَنَتُّ (¬4)، هو دُعاءٌ وخَيْرٌ. وذلك لِما روَى أبَى، أن رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُوتِرُ، فيَقْنُتُ قبلَ الرُّكُوعِ (¬5). وحَدِيثُ عليٍّ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يقولُ في آخِرِ وِتْرِه: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ برضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ». الحديثُ (¬6). وكان للدوام، وفِعْلُ أبي يَدُل على أنَّه رَأْيُه (¬7). ونحن لا نُنكِرُ الاخْتِلاف في هذا، ولأنه وِتر، فيُشرعُ فيه القُنُوتُ، كالنِّصْفِ الأخِيرِ. ¬

(¬1) في الأصل: «عشرين ركعة». وفي أبي داود: «عشرين». (¬2) في م: «الثاني». (¬3) في: باب القنوت في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 339. (¬4) في تش: «قلت». (¬5) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 374. (¬6) في: باب ما جاء في فضل الوتر وحكمه. . . . منحة المعبود في ترتيب مسند الطَّيالِسيّ 1/ 118. (¬7) في م: «رآه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَقْنُتُ بعدَ الرُّكُوعِ. نَصَّ عليه أحمدُ. رُوى نَحْو ذلك عن أبي بكر، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، وعليٍّ، رَضِيَ الله عنهُم. وبه قال الشَّافعيُّ. وقد قال أحمدُ: أنا أذْهَبُ إلى أنَّه بعدَ الرُّكُوعِ، وإن قَنَت قَبْلَه فلا بَأسَ. ونَحْوَه قال أيوبُ السخْتِيانى (¬1)؛ لِما روَى حُمَيْد، قال: سُئِل أنس عن القُنُوتِ في صَلاةِ الصبح، فقال: كنا نَقْنُتُ قبلَ الركُوعِ وبعدَه. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وقال مالك، وأبو حنيفةَ: يَقْنُتُ (¬3) قبلَ الركُوعِ. ورُوِيَ ذلك عن أُبيٍّ، وابن مسعود، وأبي موسى، والبَراءِ، وابن عباس، وأنس، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيز؛ لأن في حديثِ أبَيٍّ: ويَقْنُتُ قبلَ الركوعِ (¬4). وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قنَت قبلَ الركوعِ (¬5). ولنا، ما روَى أبو هُرَيرةَ، وأنس أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَنَت بعدَ (¬6) الرُّكُوعِ. ¬

(¬1) في الأصل: «السجستاني». (¬2) في: باب ما جاء في القنوت في الركوع وبعده، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 374. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه النَّسائيّ، في: باب كيف الوتر بثلاث، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 193. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت في الركوع وبعده، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 374. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب القنوت في الركوع أو بعده، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 302. (¬6) في م: «قبل».

فَيَقُولُ: اللهمَّ، إنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَئسْتَغْفِرُكَ، وَنتُوبُ إلَيْك، وَنُؤمِنُ بكَ، وَنَتَوكَّلُ عَلَيْكَ، وَنثْنِي عَلَيْكَ الْخَير كُلَّهُ، ونَشكُرُكَ وَلَا نَكفُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِي مَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِي مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مسلمٌ (¬1). وحَدِيث ابنِ مسعودٍ يَرْوِيه أَبان بنُ أبِي عَيَّاش، وهو مَتْرُوكُ الحَدِيثِ. وحَدِيثُ أبي قد تكلمَ فيه أَيضًا. وقيل: ذِكْرُ القُنُوتِ فيه غيرُ صَحِيحٍ. والله أعلمُ. فصل: ويُسْتَحَبُّ أنَّ يقولَ في قُنُوتِ الوترِ ما روِيَ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصْحابِه، فروَى الحسنُ بن عليّ، قال: عَلَمَنِي رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كَلِماتٍ أقولهُنَّ في الوِتْرِ: («اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِي مَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي ¬

(¬1) في: باب استحباب القنوت في جميع الصلوات، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 467 - 469. كما أخرج حديث أنس البُخَارِيّ، في: باب القنوت قبل الركوع وبعده، من كتاب الوتر - صحيح البُخَارِيّ 2/ 32. والنَّسائيّ، في: باب القنوت بعبد الركوع، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 157.

عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِي مَنْ تَوَليْتَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيما أعْطَيْتَ، وَقِنَا شَر مَا قَضَيْتَ؛ فَإنَّكَ تَقْضى وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبنا وَتعَالَيْتَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا نُحْصِي ثَنَاء عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أثنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِي مَنْ عافَيْتَ، وَتَوَّلَّنِي فِي مَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قضَيْت، إنَّكَ تقضِى وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، إنَّه لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ ربنا وَتَعَاليْتَ»). رَواه أبو داودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬1)، وقال: هذا حديث حسن. ولا نَعْرفُ عن النبيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في القُنُوتِ شيئًا أحْسَنَ مِن هذا. وعن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقُولُ في آخِرِ وِترِه: («اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ وَأعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبتكَ، وَأعُوذُ بكَ منْكَ، لَا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسكَ») رَواه الطيالِسِيُّ (¬2). وعن عُمَرَ، رَضِي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب القنوت في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 329. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في القنوت في الوتر، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 250/ 1، 251. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الدعاء في الوتر من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 206. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت في الوتر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 372. والدارمي، في: باب الدعاء في القنوت، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 373، 374. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 199، 200. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عنه، أنَّه قنَت في صَلاةِ الفَجْرِ، فقال: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، (اللَّهم إنَّا نَسْتَعِينُك، ونَسْتَهْدِيك (¬1)، ونَسْتَغْفِرُك، ونُؤمِنُ بك، ونَتَوَكَّلُ عَلَيْك، ونُثنِي عَلَيْك الخَيْرَ كلَّه، ونَشْكُرُك، ولا نَكْفُرُك) بِسْم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم. (اللَّهُمَّ إيَّاك نَعْبُدُ، ولك نُصَلِّي ونَسْجُدُ، وإلَيْك نَسْعَى ونَحْفِدُ، نَرْجو رَحْمتَك، ونَخْشَى عَذابَك، إنَّ عَذابَك الجِد بالكفّارِ مُلْحِقٌ) اللهُمَّ عَذِّبْ كفَرَةَ أهلِ الكتابِ الذين يَصُدونَ عن سَبِيلك (¬2). وهاتان سُورَتان في مُصْحَفِ أبَيٍّ. وقال ابنُ سِيرِينَ: كَتَبَهما أبَيٌّ في مُصْحَفِه. يَعْنِي إلى قوْلِه: بالكُفارِ مُلْحِق. «نَحْفِدُ»: نبادِرُ. وأصْل الحَفْدِ: مُدارَكَةُ الخَطْوِ والإسْراع. و «الجِدُّ» بكَسْرِ الجِيمِ: الحَقُّ اللَّعِبُ. و «مُلْحِقٌ» بكَسْرِ الحاءِ: لاحِقٌ. هكذا يروَى هذا الحَرْفُ، يقال: لَحِقْتُ القَوْمَ وألْحَقْتُهم بمعنى واحِدٍ. ومَن فَتَح الحاءَ أراد أنَّ الله يُلْحِقُه إياه، وهو مَعْنى صحيح، غيرَ أن الرِّوايَةَ هي الأولَى. قال الخَلالُ: سَألْتُ ثعْلبًا عن مُلْحِقٍ وملحَقٍ، فقال: العربُ تَقُولُهما مَعًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب دعاء القنوت من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 311. وانظر: تلخيص الحبير 2/ 24، 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أخَذَ الإمام في القُنُوتِ، أمَّنَ مَن خَلْفَه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. قال القاضي: وإن دَعا معه فلا بَأسَ. فإن لم يَسْمعْ قُنُوتَ الإمامِ، دَعا. نَص عليه. ويرفَعُ يَدَيْه في حالِ القُنوتِ. قال الأثْرَمُ: كان أبو عبدِ الله يَرْفَعُ يَديْه في القُنوتِ إلى صَدْرِه. يروَى ذلك عن ابنِ مسعود (¬1)، وعُمَرَ، وابنِ عباس. وهو قولُ إسْحاقَ، وأصْحابِ الرأيِ. وأنكَرَه الأوْزاعِي، ومالكٌ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا دَعَوْتَ اللهَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفيْكَ، وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا، فَإذا فَرَغتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ». رَواه أبو داودَ، وابن ماجه (¬2). وروَى السائِبُ بنُ يزِيدَ، أن رسول اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا دَعا رَفع يَدَيْه، ومَسَح وَجْهَه بيَدَيْه. رَواه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) من هنا إلى بداية 1/ 248 ظ ساقط من الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود في: باب الدعاء، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 342. وابن ماجه في: باب من رفع يديه في الدعاء ومسح بها وجهه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 373. (¬3) في: باب الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 343. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 221.

495 - مسألة: (وهل يمسح وجهه بيديه؟ على روايتين)

وَهَل يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 495 - مسألة: (وهل يَمْسَحُ وَجْهَه بيَدَيْه؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، يَمْسَحُ. وهو قولُ الحسنِ، وهو الصحِيحُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن. والثانِيَة، لا يُسْتَحَبُّ؛ لأنه دُعاء في الصلاةِ، فلم يَمْسَحْ وَجْهَه فيه، كسائِرِ دُعائِها.

496 - مسألة: (ولا يقنت في غير الوتر)

وَلَا يَقْنُتُ فِي غيْرِ الْوِتْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 496 - مسألة: (ولا يَقْنُتُ في غيرِ الوِتْرِ) وبه قال الثَّوْرِيّ، وأبو حنيفةَ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وابن مسعودٍ، وأبي الدَّرْداءِ. وقال مالكٌ، والشافعي: يُسَنُّ القُنُوتُ في صلاةِ الصُّبْحِ، في جَمِيع الزمانِ؛ لأنَّ أنسًا قال: ما زال رسولُ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْنُتُ في الفَجْر حتَّى فارَقَ. الدُّنْيا. مِن «المُسْنَدِ» (¬1). ولأنَّ عُمَرَ كان يَقنُتُ في الصبحِ، بمَحْضَر مِن الصَّحابَةِ وغيرِهم (¬2). ولَنا، ما روَى مسلم في ¬

(¬1) المسند 3/ 962. وأخرجه أَيضًا الدارقطني، في: باب صفة القنوت وبيان موضعه؛ من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 2/ 39. (¬2) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب القنوت، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 109، 110.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيحِه (¬1)، عن أَنَسٍ، أن النبيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَنَت شَهرًا، يَدْعُو على حَيٍّ مِن أحْياءِ العَربِ، ثم تَرَكَه. وروَى أبو هُرَيْرَةَ (¬2)، وابنُ مسعود (¬3) نحوه مَرْفوعًا. وعن أبي مالكٍ الأشجَعِي، قال: قلتُ لأبي: يَا أبتِ إنّك قد صَلَّيْتَ خلف رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وأبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، وعليٍّ ها هنا بالكوفَةِ نَحْوَ خمس سِنِين، أكانوا يَقْنُتُون في الفجْرِ؟ قال: أيْ بُنَى مُحْدَثٌ. قال الترمِذِي: هذا حَدِيث حسنٌ صحيحٌ. ورَواه أحمدُ، وابنُ ماجه، والنَّسَائِيّ (¬4). والعَمَلُ عليه عندَ أكْثَرِ أهْلِ العلمِ. وعن أبي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان لا يَقْنُتُ في صلاةِ الفَجْرِ، إلَّا إذا دَعا لقَوْمٍ، أو دَعا على قَوْمٍ. رَواه سَعِيدٌ (¬5). وروَى سعيد أَيضًا، عن هُشَيم، عن عُرْوةَ الهَمْدانِيِّ، عن الشعْبِيِّ، قال: لَمّا قَنَت عليٌّ في صلاةِ الصبحِ، ¬

(¬1) في: باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 469. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان، من كتاب المعازي. صحيح البُخَارِيّ 5/ 134. وأبو داود، في: باب القنوت في الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 333. والنَّسائيّ، في: باب اللعن في القنوت، وباب ترك القنوت، من كتاب التطبيق. المجتبي 2/ 159، 160. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 493. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 109، 115، 162، 217، 255، 261، 282. (¬2) أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، في الأبواب السابقة، والمواضع السابقة عدا صحيح مسلم فهو في 1/ 467، 468. (¬3) في تش: «وأبو مسعود».وانظر: نصب الراية 2/ 127. (¬4) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في ترك القنوت، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 192 والنَّسائيّ، في: ترك القنوت، من كتاب التطبيق 2/ 160. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القوت في صلاة الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 393. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 472، 6/ 394. (¬5) عزاه ابن حجر إلى ابن حبان. تلخيص الحبير 1/ 246. ولم نجده في الإحسان.

497 - مسألة؛ قال: (إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، فللإمام خاصة القنوت في صلاة الفجر)

إلَّا أنْ تَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، فَلِلإِمَامِ خَاصَّةً الْقُنُوتُ فِي صلَاةِ الْفَجْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْكرَ ذلك النّاسُ. فقال عليٌّ: إنَّا إنَّما اسْتَنْصَرْنا على عَدُونا هذا. وحَدِيثُ أنس يَحْتَمِلُ أنَّه أراد طُولَ القِيامِ، فإنَّه يُسَمى قنُوتًا. ويَحْتَمِلُ أنَّه كان يَقْنُتُ إذا دَعا لقَوْم، أو دَعا على قَوْم؛ ليَكُونَ مُوافِقًا لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن. وقنُوتُ عُمَرَ يُحْمَلُ على أنَّه كان فِي أوْقاتِ النوازِل؛ فإنّ أكثَرَ الرواياتِ عنه أنَّه لم يَكُنْ يَقْنُتُ. وعن سعيدِ بنِ جُبَيْر. قال: أشْهدُ أنِّى سَمِعْتُ ابنَ عباس يَقُولُ: إن القُنُوتَ في صلاةِ الفَجْرِ بِدْعَة. رَواه الدّارَقُطْنِي (¬1). 497 - مسألة؛ قال: (إلَّا أن تَنْزِلَ بالمسلمين نازِلَة، فللإمام خاصةً القُنُوتُ في صلاةِ الفَجْرِ) متى نَزَل بالمسلمين نازِلَة، فلِلإمامِ أن يَقْنُتَ في صلاةِ الصبحِ. في المَنْصُوص عن أحمدَ، في رِواية الأثْرَمِ. وقال ¬

(¬1) في: باب صفة القنوت وبيان موضعه، من كتاب الوتر. سنن الدارقطني 2/ 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ سُئِل عن القُنُوتِ في الفَجْرِ؟ فقال: لو قنت أيامًا مَعْلُومَة، ثم تَرَك، كما فَعَل النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. وبه قال الثَّوْرِي، وأبو حنيفةَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ، وفِعْلِ علي حينَ قال: إنما استنْصَرْنا على عَدُونا هذا. ولا يَقْنتُ آحادُ الناسِ. وعنه، يَقْنُتُ. رَواها القاضي عن أحمدَ. والمَشْهُورُ في «رُؤوس المَسائِلِ» الأوَّلُ. ويقولُ في قُنُوتِه نَحْوًا مِمّا رُوِيَ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصْحابِه. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ، أنَّه كان يَقُولُ في القُنُوتِ: اللهُم اغْفِرْ لِلْمؤمِنِين والمؤمِناتِ، والمُسْلِمين والمسْلِماتِ، وألِّفْ بينَ قلُوبِهِم، وأصْلِحْ ذاتَ بَينهم، وانْصرهم على عَدُوِّك وعَدُوهم، اللهُم الْعَنْ كَفَرَة أهْلِ الكِتابِ، الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويُقاتِلُون أوْلِياءَك، اللَّهُمْ خالِفْ بينَ كَلِمَتِهم، وَزَلْزِلْ أقْدامَهم، وأنزِلْ بهم بَأْسَك الذى لا يُرَدُّ عن القَوْمِ المُجْرِمِين، بِسْمِ الله الرحْمَنِ الرحِيمِ، اللهُم إنّا نَسْتَعِينُك. رَواه أبو داودَ (¬1). ¬

(¬1) لم نجده في أبي داود، وأخرجه البيهقي، في: باب دعاء القنوت، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يقْنُتُ في غيرِ الفَجْرِ والوِتْرِ. وقيل: يَقْنُتُ في صَلَواتِ الجَهرِ كلِّها، قِياسًا على الفَجْرِ. وقال أبو الخطابِ: يَقْنُتُ في الفَجْرِ والمَغْرِبِ؛ لأنهما صَلاتا (¬1) جَهْرٍ، في طَرَفَيِ النهارِ. وعنه، يَقنُتُ في جَميعِ الصَّلواتِ. وهو مذْهَبُ الشافعيِّ. والأولُ أوْلَى؛ لأنه لم يُنْقَلْ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا عن أصحابِه، إلَّا في الفَجْرِ والوِتْرِ. فصل: قال أحمدُ: الأحاديثُ التى جاءَتْ أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْتَرَ برَكْعَةٍ، كان قبلَها صلاة مُتَقَدمَةٌ. قيل له: أوْتَرَ في السفَرِ بواحِدَة؟ قال: يُصَلِّى قبلَها رَكْعَتَيْن. فقيلَ له: رجلٌ تنَفلَ بعدَ عِشاءِ الآخِرَةِ ثم تَعَشَّى، ثم أراد أن يُوتِرَ، يُعْجِبُك أن يَرْكَعَ رَكْعَتَيْن (¬2) ثم يُوتِرُ؟ قال: نعم. ¬

(¬1) في م: «صلاتهما». (¬2) في الأصل بعده «ثم يسلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسُئِل عن مَن صَلى مِن اللَّيْلِ، ثم نام ولم يُوتِرْ؟ قال (¬1): يُعْجِبُنِي أن يَرْكَعَ رَكْعَتَيْن، ثم يُسَلمَ، ثم يُوتِرَ. وسئل عن رجل أصبحَ ولم يُوتِرْ؟ قال: لا يُوتِرُ برَكْعَةٍ، إلَّا أن يَخافَ طلُوعَ الشَّمْس. قيل له: فإذا لَحِق مع الإمام رَكْعَةَ الوِتْرِ؟ قال: إن كان الإمامُ يَفْصِلُ بينَهُن بسَلام أجْزأتْه الركْعَةُ، وإلا تَبِعَه، ويَقْضِي ما مَضَى (¬2) مثلَ ما صَلى، فإذا فَرَغ قام يَقْضى ولا يَقْنُتُ. قيل لأبي عبدِ الله: رجلٌ قام يَتَطَوعُ، ثم بَدا له، فجَعَلَ تلك الرَّكْعَةَ وِترًا؟ قال: لا، كيفَ يَكُونُ هذا؟ قد قَلَب نِيَّته. قيل له: أيبْتَدِئُ الوِتر؟ قال: نعم. قَال أبو عبدِ الله: إذا قنَت قبل الرُّكوعِ كَبَّر، ثم أخَذَ في القُنُوتِ. وقد رُوِي عن عُمَرَ، أنَّه كان إذا فَرَغ مِن القراءَةِ كَبَّر، ثم قنَت، ثم كَبَّر حينَ يَرْكَعُ. ورُوِيَ ذلك عن عليًّ، وابنِ مسعودٍ، والبَراءِ، وهو قولُ الثَّوْرِيِّ. ولا يعْلَمُ فيه مُخالِفًا. ¬

(¬1) في م: «فلا». (¬2) سقط من: الأصل.

498 - مسألة؛ قال: (ثم السنن الراتبة، وهي عشر ركعات؛ ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وهما آكدها، قال أبو الخطاب: وأربع قبل العصر)

ثُمَّ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَهِيَ عَشر رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعدَهَا، وَرَكْعتَانِ بَعدَ الْمَغرب، وَرَكْعتَانِ بَعدَ الْعشَاء، وَرَكْعتَانِ قبْلَ الْفَجْرِ، وَهُمَا آكَدُهَا. قَال أبو الْخَطَّابِ: وَأرْبَعٌ قبْلَ الْعَصْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا فَرَغ مِن وتْرِه، اسْتُحِب أن يَقُولَ: سبحان المَلِكِ القُدوس. ثلاثًا، ويَمُدُّ بها صَوْتَه في الثّالِثَةِ، لِما روَى عبدُ الرَّحْمنِ بنُ أبزَى، قال: كان النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُوتِرُ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وإذا أراد أن يَنْصَرِفَ مِن الوِتْرِ قال: «سبحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوس». ثَلاثَ مَرّات، ثم يَرْفَع صَوْتَه بها في الثالِثةِ. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬1). 498 - مسألة؛ قال: (ثم السننُ الرّاتِبَة، وهي عَشر رَكَعاتٍ؛ رَكْعَتان قبل الظهْرِ، ورَكْعَتان بَعْدَها، ورَكْعَتان بعدَ المَغْرِب، ورَكْعَتان بعدَ العِشاءِ، ورَكْعَتان قبلَ الفَجْرِ، وهما آكَدُها، قال أبو الخَطَّابِ: وأرْبَع قبلَ العَصْرِ) السننُ الرواتِبُ مع الفَرائِض عَشْرُ رَكَعات كما ذَكَر. وقال ¬

(¬1) المسند 3/ 406. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب التسبيح بعد الفراغ من الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافعيُّ: قبلَ الظهْرِ أَربَعٌ؛ لما روَى عبدُ الله بنُ شَقِيقٍ، قال: سأَلتُ عائشةَ عن صلاةِ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقالت: كان يُصَلِّي في بَيتِه قبلَ الظهْرِ أرْبَعًا، ثم يَخْرُجُ فيُصَلى بالنّاس، ثم يَدْخُلُ فيُصَلى رَكْعَتَيْن. رَواه مسلمٌ (¬1). وقال أبو الخَطَّاب: وأرْبَعٌ قبلَ العصْر؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- «رَحِمَ الله امْرَأ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أرْبَعًا». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، قال: كان النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى قبلَ العَصْرِ أرْبَعَ رَكَعاتٍ، يَفْصِلُ بينَهُن بالتَّسْلِيمِ علي المَلائِكَةِ المُقَربِين، ومَن تَبِعهم (¬3) مِن المسلمين والمُؤمِنين. رَواه الإمامُ أحمدُ، والترمِذِي (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمرَ، قال: ¬

(¬1) في: باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 504. كما أخرجه أبو داود، في: باب تفريع أبواب التطوع، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 288. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الركعتين بعد العشاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 226، الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 30. (¬2) في: باب الصلاة في العصر، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 292.كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الأربع في العصر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 223. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 117. (¬3) في م: «سمعه». (¬4) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الأربع في العصر، من أبواب الصلاة، وفي: كتاب كيف كان تطوع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالنهار، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 222، 3/ 79 والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 85، 142، 160.كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الصلاة قبل العصر وذكر اختلاف الناقلين عن أبي إسحاق في ذلك، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 92. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ما يستحب من التطوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 367.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَفِظْتُ عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عَشر رَكَعات؛ رَكعَتَيْن قبلَ الظهْرِ، ورَكْعَتَيْن بعدَها، ورَكْعَتَيْن بعدَ المَغربِ في بَيْته، ورَكْعَتَيْن بعدَ العِشاء في بيتِه، ورَكْعَتَيْن قبلَ الصبحِ، وكانت ساعَة لا يُدْخَل (¬1) على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيها، حَدثَتْنِي حَفْصَةُ، أنَّه كان إذا أذنَ المُؤذنُ وطَلَع الفَجرُ صلى رَكعَتَيْن. مُتَّفَق عليه (¬2). وروَى التِّرمِذِي مثلَ ذلك عن عائشةَ مَرْفُوعًا (¬3)، وقال: هو حديث صحيح. وقولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «رَحِمَ الله امْرَأً صلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أرْبَعًا». ترغِيب فيها، ولم يَجْعَلْها من السننِ الرواتِبِ، بدَلِيلِ أن ابنَ عمَرَ لم يَحْفَظْها مِن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-. وحَدِيث عائشةَ قد اخْتُلِفَ فيه، فرُوِيَ عنها مثلُ رِوايةِ ابنِ عُمرَ. ¬

(¬1) في الأصل: «أدخل». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الركعات قبل الظهر، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 74. ومسلم، في: باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 504. كما أخرجه أبو داود، في: باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 288. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة بعد الظهر، من كتاب الإمامة. المجتبي 2/ 92. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أنَّه يصليها بالبيت، من أبواب الصلاة. عارضة الأحواذي 2/ 224. والإمام مالك، في: باب العمل في جامع الصلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 166. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 6، 51، 63، 73، 74، 99، 100، 117، 141. (¬3) في: باب ما جاء في الركعتين بعد العشاء، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 226.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وآكَدُها رَكْعَتا الفَجْرِ؛ لقَوْلِ عائشةَ: إنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَكُنْ على شيء مِن النَّوافِلِ أشَدَّ مُعاهدَةً منه على رَكْعَتَيْن قبلَ الصبحِ. مُتَّفَق عليه (¬1). وقال: «رَكْعَتَا الْفجْرِ خَيْر مِنَ الدنيا وَمَا فِيهَا». رَواه مسلم (¬2). وقال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ». رواه أبو داودَ (¬3). ويسْتَحَبُّ تَخْفِيفهما؛ فإنَّ عائشةَ قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصَلى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ فيُخَففُ، حتَّى إنِّي لأقولُ: هل قرأ فيهما بأم الكتابِ؟. مُتفَق عليه (¬4). ويُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأ فيهما، وفي رَكْعَتَي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعًا، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 71، 72. ومسلم، في: باب استحباب ركعتي سنة الفجر. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 501، 502. كما أخرجه أبو داود، في: باب ركعتي الفجر، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 289. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 43، 54، 170. (¬2) انظر التخريج السابق. (¬3) في: باب في تخفيفها، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 289. أخرجه الإمام أَحْمد، في المسند 2/ 405. (¬4) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 72. ومسلم، في: باب استحباب ركعتي سنة الفجر. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 500، 501. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تخفيفهما، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 289. والنَّسائيّ، في: باب تخفيف ركعتي الفجر من كتاب افتتاح الصلاة، وفي: باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على الشق الأيمن، وباب ركعتي الفجر وذكر الاختلاف على نافع، من كتاب قيام الليل. المجتبى 2/ 120، 3/ 210، 214. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ركعتي الفجر، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَغْرِبِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}؛ لِما روَى ابنُ مسعود، قال: ما أحْصِي ما سَمِعتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأ في الرَّكْعَتَيْن بعدَ المَغْرِبِ، وفي الرَّكْعَتَيْن قبلَ الفَجْرِ بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} رَواه الترمِذِي، وابنُ ماجه (¬1). وعن أبي هُرَيرةَ، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قرأ في الركْعَتَيْن قبلَ الفَجْرِ بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. قال الترمِذِي: هو حديثٌ ¬

= صلاة الليل. الموطأ 1/ 127. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 165، 183، 186، 204، 235، 285. (¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما، من كتاب أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 223. وابن ماجه، في: باب ما يقرأ في الركعتين بعد المغرب، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 369.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حسنٌ (¬1). وعن ابنِ عباس، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرأ في رَكْعَتَى الفجْرِ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التى في البَقَرَةِ (¬2)، وفي الآخِرَةِ منهما {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬3). رَواه مسلم (¬4). ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ عن أبي هريرة مسلم، في: باب استحباب ركعتي سنة الفجر. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 502. وأبو داود، في: باب في تخفيفهما، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 289. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في ركعتي الفجر، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 120. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يقرأ في الركعتين في الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 363. وأخرجه التِّرْمِذِيّ من حديث ابن عمر بلفظ مقارب، في: باب ما جاء في تخفيف ركعتي الفجر. . . . إلخ، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 210. والنَّسائيّ، في: باب القراءة في الركعتين بعد المغرب، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 132. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يقرأ في الركعتين في الفجر من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 363. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 94، 95، 99. (¬2) الآية 136. (¬3) سورة آل عمران 52. (¬4) في: باب استحباب ركعتي سنة الفجر. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 205. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تخفيفهما، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 290. والنَّسائيّ في: باب القراءة في ركعتى الفجر، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 120.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَضْطَجِعَ بعدَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ على جَنْبِه الأيمَنِ، وكان أبو موسى، ورافِعُ بنُ خَدِيجٍ، وأنس يَفْعَلُونَه، وأنكَرَه ابنُ مسعودٍ، واخْتَلَف (¬1) فيه عن ابنِ عمَرَ. ولَنا، ما رَوَتْ عائشة، قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا صَلى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، اضْطَجَعَ على شِقه الأيمَن. متفَق عليه (¬2). واللفْظُ للبُخارِي. وعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا صَلى أحدُكُمُ الركْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصبحِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأيْمَنِ». رَواه الإمامُ أَحْمد، وأبو داودَ، والتِّرمذيّ (¬3)، ¬

(¬1) أي النقل. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من انتظر الإقامة، من كتاب الأذان، وفي: باب ما جاء في الوتر، من كتاب الوتر، وفي: باب طول السجود في قيام الليل، وباب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر من كتاب التهجد، وفي: باب الضجع على الشق الأيمن، من كتاب الدعوات. صحيح البُخَارِيّ 1/ 161، 2/ 31، 61، 62، 69، 70، 8/ 84. ومسلم، في: باب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 511. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 307. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 213. والنَّسائيّ، في: باب إيذان المؤذنين الأئمة بالصلاة، من كتاب الأذان. المجتبى 3/ 34، 25. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الضجعة بعد الوتر وبعد ركعتي الفجر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 378. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 34، 49، 74، 83، 85، 88، 143، 167، 168، 182، 215، 248، 254. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الاضطجاع بعدها، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 290. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 212. الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 415.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه ليس بسُنَّةٍ؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ أنكَرَه. واتباعُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْلَى. ويُسْتَحَب فِعْلُ الركْعَتَيْن قبلَ الفَجْرِ، والرَّكْعَتَيْن بعدَ المَغْرِبِ، وبعدَ العِشاءِ في بَيْته؛ لِما ذكرْنا مِن حديث ابنِ عُمَرَ. قال أبو داودَ: ما رَأيتُ أحمدَ رَكَعَهما، يَعْنِي رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، في المَسْجِدِ قَطُّ، إنما كان يَخرُجُ فيَقْعدُ في المَسْجِدِ حتَّى تُقامَ الصلاةُ. قال الأثْرَمُ: سمِعْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُسْأل عن الرَّكْعَتَيْن بعد الظهْرِ، أين يُصَليان؟ قال: في المَسْجدِ، ثمَّ قال: أما الركْعَتان قبلَ الفَجْرِ ففي بيْته، وبعدَ المَغْرِبِ ففي بَيْته. ثم قال: ليس هاهُنا شيء آكَدُ مِن الركْعَتَيْن بعدَ المَغْرِبِ، يَعْنِي فِعْلَهما في البَيْتِ. قيل له: فإن كان مَنْزِلُ الرجلِ بَعِيدًا؟ قال: لا أدْرِي. وذلك لِما روَى سعدُ بنُ إسحاقَ، عن أَبيه، عن جَده، أن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أتاهم في مَسْجِدِ بنى عبدِ الأشْهَلِ، فصَلَّى المَغْرِبَ، فَرَآهم يَتَطَوعُون بعدَها، فقال: «هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن رافِع بنِ خَدِيج، قال: أتانا رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في بنِي عبدِ الأشْهَلِ، فَصَلى بنا المَغْرِبَ في مَسْجِدِنا، ثم قال: «ارْكَعُوا هَاتينِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» رَواه ابنُ ماجه (¬2). ¬

(¬1) في: باب ركعتي المغرب أين تصليان، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 299. (¬2) في: باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 368.

499 - مسألة: (ومن فاته شيء من هذه السنن، سن له قضاؤه)

وَمَنْ فَاتهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ السننِ، سُنَّ لَهُ قَضَاؤهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ سُنَّةٍ قبلَ الصلاةِ، فوَقتُها مِن دُخُولِ وَقتِها إلى فِعْلِ الصلاة، وكلُّ سُنَّةٍ بعدَها، فوَقتُها مِن فِعْلِ الصلاةِ إلى خرُوجِ (¬1) وَقتِها. والله أعلمُ. 499 - مسألة: (ومَن فاتَه شيء مِن هذه السننِ، سُنَّ له قَضاؤُه) ¬

(¬1) في الأصل: «آخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا اخْتِيارُ ابنِ حامِدٍ؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَضَى بَعْضَها، فرُوِي عنه، عليه السلامُ، أنَّه قَضَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ مع الفَجْرِ، حينَ نام عنها (¬1)، وقَضَى الركْعَتَيْن اللَّتَيْن قبلَ الظهْرِ بعدَ العَصْرِ (¬2)، وقِسْنا الباقِيَ عليه. وروَى أبو سعيدٍ الخُدْرِي، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ نَامَ عَن الْوتْرِ أو نَسِيَهُ، فَلْيُصَلهِ إذا أصبَحَ أو ذَكَرَ». رَواه أبو داودَ، والترمِذِي (¬3)، مِن رِواية عبدِ الرحمنِ بنِ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ. قال أحمدُ: أحِب أن يَكُونَ للرجل شيء مِن النوافِلِ يُحافِظُ عليه، إذا فات قَضاه. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يُقضَى إلَّا رَكْعَتا الفَجْرِ، إلى وقْت الضحَى، ورَكْعَتا الظهْرِ؛ فإن أحمدَ قال: ما أعْرِفُ وترًا بعدَ الفَجْرِ، ورَكعَتا الفَجْرِ تُقْضَى إلى وَقْتِ الضُّحْى. وقال مالك: تُقْضَى إلى وقْتِ الزوالِ، ولا تُقْضَى بعدَه. وقال النَّخَعِيّ، وسعيد ابنُ جُبَير، والحسنُ: إذا طَلَعَتِ الشَّمْس فلا وِتر. والصحِيحُ الأول؛ لما ذَكَرْنا مِن النص والمَعْنَى. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 98 من حديث عمرو بن أمية الضمرى. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا كلم وهو يصلي. . . . إلخ، من كتاب السهو. صحيح البُخَارِيّ، 2/ 87، 88. ومسلم، في: باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعد العصر، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 571، 572. والنَّسائيّ، في: باب الرخصة في الصلاة بعد العصر، وباب الرخصة في الصلاة قبل غروب الشَّمس، من كتاب المراتب. المجتبى 1/ 225 - 227. والدارمي، في: باب في الركعتين بعد العصر، من كتاب الصلاة. من الدَّارميّ 1/ 334. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 184، 188، 309. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الدعاء بعد الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 231. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل ينام عن الوتر أو ينساه، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 252. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من نام عن وتر أو نسيه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 375. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 31، 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ المُحافَظَةُ على أرْبَع قبلَ الظُّهْرِ وأربَع بعدَها؛ لِما رَوَتْ أم حبِيبَة، قالت: سمعْت رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظهْرِ، وَأرْبَع بَعْدَهَا، حَرمَهُ الله عَلَى النَّارِ». قال الترمِذِي (¬1): حديث صحيحٌ. وروَى أبو أيوبَ، عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «أرْبع قَبْلَ الظهْر لَيْس فِيهِن تَسْلِيم تُفْتَحُ لَهُن أبوَابُ السُّمَاء». رَواه أبو داودَ (¬2). وعلى أرْبع قبلَ العَصْرِ؛ لِما ذَكَرْنا. وعن علي، رَضِيَ الله عنه، في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: وأرْبَعًا قبلَ الظهر إذا زالَتِ الشَّمس، وركْعَتَيْن بعدَها، وأرْبَعًا قبلَ العَصْرِ، يَفْصِل بينَ كلِّ رَكْعَتَيْن بالسَّلامِ على الملائِكَةِ المُقَربِين، والنبِيين، ومَن تَبعَهم مِن المسلمين. رَواه ابنُ ماجه (¬3). وعلى سِت بعدَ الْمَغْرِبِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الأربع قبل الظهر وبعدها، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 292. والتِّرمذيّ، في: باب منه آخر (أي مما جاء في الراكعتين بعد الظهر)، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 221. (¬2) في: باب الأربع قبل الظهر وبعدها، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 292 كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في الأربع ركعات قبل الظهر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 365، 366. (¬3) في: باب ما جاء في ما يستحب من التطوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 367. وكذلك أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الأربع قبل العصر، من أبواب الصلاة، وفي: باب كيف كان تطوع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 222، 3/ 79. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة قبل العصر، ذكر اختلاف الناقلين عن أبي إسحاق في ذلك، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 92.، الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 85، 142، 160.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ صَلى بَعْدَ المغربِ سِتَّ رَكعَاتٍ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ، عُدِلْنَ لَهُ بعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عشرَةَ سَنَة». رَواه الترمذِي (¬1)، وقال: لا نَعْرِفُه إلَّا مِن حديثِ عُمَرَ (¬2) بنِ أبي خَثْعَم. وضَعفَه البُخارِي. وعلى أربَع بعدَ العِشاء، قالت عائشةُ: مما صَلى رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- العِشاءَ قَطُّ إلَّا صَلى أربَعَ رَكَعاتٍ، أو سِتَّ رَكَعاتٍ. رَواه أبو داودَ (¬3). فصل: واخْتُلِفَ في أرْبَع رَكَعاتٍ؛ منها رَكْعَتان قبلَ المَغرِبِ بعدَ الأذانِ. والظّاهِرُ عن أحمدَ، جَوازُهما وعَدَمُ اسْتِحْبابِهما. قال الأثرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ الله، الركْعَتان قبلَ المَغْرِبِ؟ قال: ما فَعَلْتُه قَط إلَّا مرة (¬4)، حينَ سَمِعْتُ الحَدِيثَ، وقال: فيهما أحادِيثُ جِياد. أو قال: صِحاحٌ، عن النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصْحابِه والتّابِعِين. إلَّا أنَّه قال: «لِمَنْ شَاءَ» (¬5). فَمَن شاء صَلَّى. وقال: هذا شيء يُنْكِرُه النَّاسُ. وضَحِك كالمُتَعَجِّبِ، وقال: هذا عندَهم عَظِيم. ووجْهُ جَوازِهما ما روَى أنس، قال: كُنا نُصلِّي على عَهْدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَكْعَتَيْن بعدَ غُرُوبِ الشمْس قبلَ صَلاةِ المَغرِبِ. قال المُخْتارُ بنُ فُلْفُل: فقلتُ له: أكان رسولُ الله ¬

(¬1) في: باب ما جاء في فضل التطوع وست ركعات بعد المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 225. أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الست ركعات بعد المغرب، وباب ما جاء في الصلاة بين المغرب والعشاء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 369، 437. (¬2) في الأصل: «عمرو». (¬3) في: باب الصلاة بعد العشاء، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 300. (¬4) بعده في م: «واحدة». (¬5) انظر حديث عبد الله المزني الآتي بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلَّاهما؟ قال: كان يَرانا نصليهما، فلم يَأمُرْنا ولم يَنْهَنا. مُتَّفَق عليه (¬1). وقال أنُس: كُنّا بالمدِينَةِ إذا أذنَ المُؤذنُ (¬2) لصلاةِ المَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السوارِيَ، فصَلَّوْا رَكْعَتَيْن، حتَّى إن الرجلَ الغرِيبَ ليَدْخُلُ المَسْجِدَ فيَحْسَبُ أن الصلاةَ قد صُلِّيَتْ، مِن كَثْرَةِ مَن يُصَلِّيها. رَواه مسلمٌ (¬3). وعن عبد الله المُزَنِيِّ، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلوا قَبْلَ الْمَغْرِب رَكْعَتَيْن». ثم قال: «صلوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» [ثم قال: «صلوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ] (¬4) لِمَنْ شَاءَ». خَشْيَةَ أن يَتخِذَها النَّاسُ سُنَّة. مُتفَق عليه (¬5). الثّانِي، الرَّكْعَتان بعدَ الوِتْرِ. وظاهِرُ كلام أحمدَ أنَّه لا يَستحِبُّ فِعْلَهما مع الجَوازِ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبا عبدِ الله يُسْأل عن الركْعَتَيْن بعدَ الوِتْرِ، فقال: أرْجُو إن فَعَلَه إنْسان أن لا يُضَيق عليه، ولكن يَكُونُ وهو جالس، كما جاء الحَدِيثُ. قلتُ: تَفْعَلُه أَنْتَ؟ ¬

(¬1) لم يخرجه البُخَارِيّ، وأخرجه مسلم، في: باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 573. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة في المغرب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 295. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الباب السابق، كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 161. والنَّسائيّ، في: باب الصلاة بين الأذان والإقامة، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 23، والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 280. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة قبل المغرب، من كتاب التهجد، وفي: باب نهى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن التحريم إلَّا ما عرف إباحته، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 2/ 74، 389. ولم يخرجه مسلم. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة قبل المغرب، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 295. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 55.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: لا، ما أفْعَله. وعَدهما أبو الحسنِ الآمدِي مِن السُّننِ الراتِبَةِ. قال شيْخُيا (¬1): والصحِيحُ أنهما ليْسَتا بسُنةٍ؛ لأنَّ أكْثَرَ مَن وَصَف تَهجَدَ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يذْكرْهما؛ منهم ابنُ عباسٍ، وزَيْدُ بن خالِدٍ، وعائشة، فيما رَواه عنها عُرْوة، وعبد اللهِ بنُ شَقِيقٍ، والقاسم، واخْتَلف فيه (¬2) عن أبي سَلَمَةَ، وأكْثر الصحابَةِ ومَن بعدَهم. مِن أهلِ العلمِ على تَرْكهِما. ووجْهُ قولِ مَن قال بالاسْتِحْباب، ما روَى سعدُ بنُ هشام، عن عائشةَ، رَضِي الله عنها، أنّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلى مِن الليْلِ تِسْعَ رَكَعاتٍ، ثم يُسَلِّمُ تسْلِيمًا يسْمِعُنا، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْن بعدَ ما يُسَلمُ، وهو قاعِد، فتلك إحْدَى عشرة رَكْعَة. وقال أبو سَلَمَةَ: سأَلتُ عائشةَ عن صلاةِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقالت: كان يُصَلِّي ثلاثَ عشرةَ رَكعَةً، يُصَلِّي ثَمانِيَ رَكَعاتٍ، ثم يُوتِرُ، ثم يُصَلى رَكْعتَيْن وهو جالِس، فإذا أراد أن يَرْكَعَ قام فرَكَعَ، ثم يُصَلى رَكْعَتَيْن بينَ النِّداء والإقامَةِ مِن صلاةِ الصبحِ. رواهما مسلم (¬3). وروَى ذلك أبو أمامَةَ أَيضًا. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 547، 548. (¬2) أي النقل. (¬3) الأول تقدم في صفحة 118. والثاني أخرجه مسلم، في: باب استحباب ركعتي الفجر. . . . إلخ، وباب صلاة الليل. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 501، 509. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الأذان بعد الفجر، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 160. وأبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 308. والنَّسائيّ، في: باب إباحة الصلاة بين الوتر وبين ركعتي الفجر، وباب وقت ركعتي الفجر وذكر الاختلاف على نافع، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 209، 214 والدرامي، في: باب صلاة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 344. والإمام مالك، في: باب صلاة النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 121. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 81، 128، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 138، 189، 230، 249، 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: في صَلَواتٍ مُعَينةٍ سِوى ما ذَكَرْنا؛ منها، صلاةُ التَّراويحِ، والضُّحَى، وسُجُودُ التلاوَةِ، والشُّكرِ. وسَيأتِي ذِكْرُها، إن شاء اللهُ تعالى. ومنها، تَحِيةُ المسْجِدِ، فيُسْتَحَب لمَن دَخَل المَسْجِدَ أن يُصَلىَ رَكْعَتَيْن قبلَ جُلُوسِه؛ لِما روَى أبو قتادَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إذَا دَخَلَ أحدُكُم الْمَسْجِدَ، فلَا يَجْلِسْ حَتَى يَرْكَعَ (¬1) رَكْعَتَيْنِ». متَّفَق عليه (¬2). فإن جَلَس قبلَ الصلاةِ، سُنَّ له أن يَقومَ فيُصَلىَ؛ لِما روَى جابِر قال: جاء سُلَيْك الغَطَفانِي ورسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَخْطُبُ، فجَلَسَ، فقال: «يَا سُلَيْك، تُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجوَّزْ فِيهِمَا». رواه (¬3) مسلمٌ (¬4). فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَتَطَوعَ بمثلِ تَطَوُّعِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ فإن عَلِيّا، رَضِيَ الله عنه، قال: كان النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا صَلَّى الفَجْرَ يُمهِل حتَّى إذا كانتِ الشَّمس مِن هاهُنا، يَعْنِي مِن قِبَلِ المَشْرِقِ، مِقْدارَها مِن صلاةِ العَصْرِ مِن هاهُنا، يَعْنِي مِن قِبَل المَغْرِبِ، قام فصَلَّى رَكْعَتَيْن، ثم تَمَهلَ حتَّى إذا ¬

(¬1) في الأصل: «يصلي». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، من كتاب الصلاة، وفي: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 1/ 120، 121، 2/ 70. ومسلم، في: باب استحباب تحية المسجد بركعتين. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 495. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتي، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 112. والنَّسائيّ، في: باب الأمر كالصلاة قبل الجلوس فيه، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 42. والدارمي، في: باب الركعتين إذا دخل المسجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 323، 324. والإمام مالك، في: باب انتظار الصلاة، والمشي إليها من كتاب السفر. الموطأ 1/ 162. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 295، 296، 303، 305، 311. (¬3) في م: «رواهما». (¬4) في: باب التحية والإمام يخطب، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 597. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب. . . . إلخ، من كتاب الجمعة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 15. أبو داود، في: باب إذا دخل الرَّجل، الإمام يخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 255، 256. وابن ماجه في: باب ما جاء في من دخل المسجد والإمام يخطب، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 353، 354. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 297، 316، 317.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتِ الشمسُ مِن هاهُنا، يَعنِي مِن قِبَلِ المَشْرِقِ، مِقْدارَها مِن صَلاةِ الظهْرِ، قام فَصَلى أربَعا، وأرْبَعًا قبلَ الظهْر إذا زالَتِ الشَّمس، ورَكْعتَيْن بعدَها، وأربَعًا قبلَ العَصْرِ، يَفْصِلُ بينَ كل رَكْعتَيْن بالسلام على الملَائِكَةِ المُقَربين والنَّبيِّين ومَن تَبِعَهم مِن المُسْلِمِين، فتلك سِث عَشْرَةَ رَكْعةً، تَطَوُّعُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالنهارِ، وقَلَّ مَن يُداوِمُ عليها. مِن «المُسْنَدِ» (¬1). فصل: ومنها صلاةُ الاسْتِخارَةِ، فرَوَى جابرُ بنُ عبدِ الله، قال: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعَلِّمنا الاسْتِخارَةَ في الأمُورِ كلها، كما يُعَلمنُا السورَةَ مِن القُرْآنِ، يَقُولُ: «إذَا هَم أحَدُكُمْ بِالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعتَيْن مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُم لْيَقُلْ: اللهُمَّ إنِّي (¬2) أسْتَخِيرُك. بِعلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأسْألكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعظيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أعْلَم، وَأنتَ عَلامُ الغيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أن هذا الأمْرَ خَيْر لى فِي دِيني وَمَعَاشى وَعَاقبَةِ أمْرِي» أو قال: «فِي عَاجِلِ أمْرِي وَآجِلِهِ، فَيَسرهُ لي (¬3)، ثُم بَارِكْ لى فِيهِ، وَإنْ كُنْتَ تعْلَمُ أن هَذَا الأمر شَر لِي فِي دِيني وَمَعِيشَتِي وَعَاقِبَةِ أمْرِي» أو قال: «في عَاجِلِ أمْرِي وآجلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنى، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لىَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، [ثُم أرضِنِي] (¬4) بِهِ، ¬

(¬1) 1/ 85، 142، 160. وتقدم تخريجه صفحة 140. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) هكذا بالأصول وفي رواية التِّرْمِذِيّ. وفي بقية المصادر: «فاقدره لي، ويسره لي». (¬4) في م: «ورضني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَيُسَمى حَاجَتَهُ». أخْرَجَه البُخارِي (¬1)، ورَواه الترمِذِيّ، وفيه: «ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ». فصل: ومنها صلاةُ الحاجَةِ؛ عن عبدِ الله بنِ أبي أوْفَى، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ كَانتْ لَهُ إلَى الله حَاجَةٌ أوْ إلَى أحَدٍ مِنْ بني آدَمَ، فَلْيَتَوَضَّأ، وَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لْيُصَل رَكْعَتَيْنِ، ثم ليُثْن عَلَى الله تَعَالَى، وَلْيُصَل عَلَى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ثُم لْيَقُلْ: لَا إلهَ إلَّا الله الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لا إلهَ إلَّا الله العَلِي العَظِيمُ، سُبْحَانَ الله (¬2) رَب العَرْش العَظيمِ، الحَمْد لِلْه رَب العَالَمِينَ، أسْأَلك موجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُل بِرٍّ، وَالسلامَةَ مِنْ كُل إثم، لَا تَدَعْ لي ذَنبا إلَّا غفَرْتَهُ، وَلَا هَما إلَّا فَرجْتَهُ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رضي إلَّا قَضيْتَهَا يَا أرحَمَ الراحِمِينَ». رَواه ابن ماجه، والترمِذِي (¬3)، وقال: حديثٌ غريبٌ. فصل: في صلاةِ التَّوْبَةِ؛ عن عَليٍّ، رَضِيَ الله عنه، قال: حَدثَنِي ¬

(¬1) في: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد، وفي: باب الدعاء عند الاستخارة، من كتاب الدعوات، وفي: باب قوله {قل هو القادر}. . . .، من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 70، 8/ 101، 9/ 144. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الاستخارة، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 352، 353. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في صلاة الاستخارة من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 262، 263. والنَّسائي، في: باب كيف الاستخارة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 66. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الاستخارة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 440. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 344. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في صلاة الحاجة، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذي 2/ 261، 262. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الحاجة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 441.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بكر، وصَدَق أبو بكر، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «مَا مِنْ رَجُل يُذْنِبُ ذَنبًا، ثُم يَقُومُ فَيَتَطَهرُ، ثُم يُصَلى ركْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ الله إلَّا غفَرَ لَهُ». ثم قَرَأ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬1). إلى آخِرِها، الآيةُ. رَواه أبو داودَ، والترمِذِي (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب. وفي إسْنادِه مقال؛ لأنَّه مِن رِوايةِ أبي الوَرْقاءِ، وهو ضَعِيفٌ (¬3) في الحَدِيثِ. فصل: فأما صلاةُ التَّسْبِيحِ، فإن أحمدَ قال: ما تُعْجِبُنِي. قيلَ له: لِمَ؟ قال: ليس فيها شيء يَصِحُّ. ونَفَض يَدَه كالمنْكرِ، ولم يَرَها مسْتَحَبةً. قال شيخنا (¬4): وإن فَعَلَها إنْسان فلا بَأسَ؛ فإنَّ النوافِلَ والفَضائِلَ لا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الحَدِيثِ فيها (¬5). وقد رَأى غير واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ صلاة التَّسبِيحِ؛ منهم ابنُ المُبارَكِ. وذَكَرُوا الفَضْلَ فيها. ووَجْهُها ما روَى أبو ¬

(¬1) سورة آل عمران 135. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الاستغفار، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 349. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الصلاة عند التوبة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 196، 197. كما أخرجه ابن ماجه في: باب ما جاء في أن الصلاة كفارة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 446، 447. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 2، 9، 10. (¬3) في م: «يضعف». (¬4) في: المغني 2/ 552. (¬5) ولكن اشترط المحققون له ثلاثة شروط: 1 - ألا يكون شديد الضعف. 2 - وأن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ما لم يفعله. 3 - أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل. قال الحافظ ابن حجر: والأول متفق عليه، ونقل الثاني والثالث عن العز بن عبد السلام وابن دقيق العيد، والضعيف عند أَحْمد كالحسن عند غيره، فلا يدخل فيه شديد الضعف. انظر: تدريب الراوي 1/ 377، 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ، والترمِذِي، [وابنُ ماجه] (¬1)، عن ابنِ عباس، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال للعباس بنِ عبدِ المُطلِبِ: «[يَا عَبَّاسُ] (¬2) يَا عَمَّاهُ، ألَا أعْطِيكَ، ألَا أمنحُكَ، [ألَا أحْبُوكَ] (¬3)، ألَأْ أفْعَلُ بِكَ؟ عَشْرُ خِصَالٍ إذَا أَنْتَ فعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللهُ لَكَ ذَنبكَ، أولَهُ وَآخِرَهُ، وقدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، خَطَأه وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكبِيرَه، وسِرهُ وَعَلَانِيَتَهُ، [عَشرُ خِصَالٍ] (3)، أن تصَلىَ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأ فِي كلِّ رَكْعَة فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وسُورَةٌ، فَإذَا فَرَغتَ مِنَ القِرَاءَةِ، [فِي أولَ رَكْعَةٍ، وأنتَ قَائم]، قُلْتَ: سُبْحَانَ الله، وَالحَمدُ لِله، وَلَا إلهَ إلّا الله، وَاللهُ أكبَرُ، خَمسَ عَشرةَ مَرَّةً، ثُم تَرْكعُ فتَقولهَا وَأنتَ رَاكع عَشْرًا، ثُم تَرْفَع رَأسكَ مِنَ الرُّكُوعِ فتَقولُها عَشرا، ثُم تَهْوِي سَاجدًا، فَتَقُولُها [وأنْتَ سَاجِدٌ] (1) عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأسَك مِنَ السُّجُودِ، فتقولُها عَشْرًا، ثُم تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشرًا، ثُمَّ ترفعُ رَأْسَكَ [مِنَ السُّجُودِ] (1) فتَقُولُها عَشْرا، فَذلِك خَمسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الأرْبَع رَكَعَاتٍ، إنِ اسْتَطَعْتَ أن تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْم مَرةً فَافْعَلْ، فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كَلِّ جُمُعةٍ مَرة، فَإن لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُل شَهْرِ مَرةً، فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سنةٍ مَرةً، فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمْرِكَ ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث أخرجه أبو داود، في: باب صلاة التسبيح، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 298. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في صلاة التسبيح، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 267. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة التسبيح، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 443. (¬2) سقط من: الأصل. وهي في رواية أبي داود، وابن ماجه. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَرَّةً». رَواه ابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِه، والطبراني في مُعْجَمِه (¬1)، وفي آخِرِه: «فَلَوْ كانَتْ ذُنُوبُكَ مِثْلَ زبَدِ الْبَحْرِ وَرَمْلِ عَالِجٍ (¬2) غَفرَ اللهُ لَكَ». فصل (¬3): وقد وَصَفَ عبدُ اللهِ بنُ المُباركِ صلاةَ التَّسْبِيحِ، فذَكَرَ أنَّه يَقُولُ قبلَ القِراءَةِ، وبعدَ الاسْتِفْتاحِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرةً: سبحان الله، والحَمْدُ لله، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، والله أكبَرُ. ثم يَقولُها بعدَ القِراءَةِ عَشْرًا، ويَقُولُها في الركُوعِ عَشرا، وفي الرفع منه عَشْرا، وفي السجُودِ عَشْرًا، وفي الرفع منه عَشرا، وفي السَّجْدَةِ الثانِيَةِ عَشرا، فتلك خَمْسٌ وسَبْعُونَ تَسْبِيحَة في كل رَكْعَةٍ. قال أبو وَهْبٍ: وأخْبَرَنِي عبدُ العَزِيز، هو [ابنُ أبي رِزْمَةَ] (¬4)، عن عبدِ اللهِ، قال: يَبدَأ في الركُوعِ بسبحانَ رَبي العَظِيمِ، وفي السُّجُودِ بسبحانَ رَبي الأعْلَى ثَلاثًا، ثم يُسَبحُ التسْبِيحاتِ. وعن [ابنِ أبي رِزْمَةَ] (¬5)، قال: قلتُ لعبدِ الله بنِ المُبارَكِ: إن سَها فيها، أيُسَبحُ في سَجْدَتَيِ السهْو عَشرا عَشرا؟ قال: لا إنَّما هي ثَلاثمائَةِ تَسْبِيحَةٍ. رَواه الترمِذِي (¬6). فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن تَوَضأ أن يُصَلىَ رَكْعَتَيْن عَقِيبَ الوُضُوءِ، إذا ¬

(¬1) أخرجه ابن خزيمة، في: باب صلاة التسبيح إن صح الخبر، من كتاب التطوع. صحيح ابن خزيمة 2/ 223. والطبراني المعجم الكبير 11/ 244. (¬2) عالج: رمال معروفة بالبادية. اللسان (ع ل ج). (¬3) هذا الفصل ليس في الأصل. (¬4) في تش: «ابن رزمة». وهو أبو محمَّد مُحَمَّد العزيز بن أبي زرعة المروزي، كان ثِقَة. تُوفِّي سنة ست ومائتين. تهذيب الكمال 18/ 132، 133. (¬5) في تش، م: «أبي رزمة». (¬6) في: باب ما جاء في صلاة التسبيح، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 265.

500 - مسألة: (ثم التراويح، وهي عشرون ركعة، يقوم بها في رمضان في جماعة، ويوتر بعدها في الجماعة)

ثُمَّ التراوِيحُ، وَهِيَ عِشْرُونَ رَكْعَة، يَقُومُ بِهَا في رَمَضَانَ في جَمَاعَةٍ، وَيُوتِرُ بَعْدَهَا في الْجَمَاعَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كان في غيرِ أوْقاتِ النهْيِ؛ لِما روَى أبو هُرَيرةَ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لبِلالٍ عندَ صلاةِ الفَجْرِ: «يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الْإسْلَامِ، فَإنى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَى في الْجَنةِ». فقال: ما عَمِلْتُ عَمَلًا أرْجَى عندِي، أني لم أتطَهرْ طُهُورًا في ساعَةٍ مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ، إلَّا صَليْتُ بذلك الطهورِ ما كُتِبَ لي أن أصَلىَ. مُتفَق عليه (¬1)، واللفْظُ للبُخارِي. وعن بُريْدَةَ، قال: أصْبَحَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فَدَعا بِلالا فقال: «يَا بلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إلَى الْجَنّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الجَنةَ قَط إلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، إنِّي دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْت خَشْخشَتَكَ». وذَكَر الحديث، وفيه قال: وقال لبِلالٍ: «بِمَ سَبَقْتنِي إلى الْجَنةِ؟». قال: ما أحْدَثْتُ إلَّا تَوَضأتُ، وصَليْتُ رَكْعَتَيْن. فقال رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «بِهَذا» (¬2). ورَواه الإمامُ أحمدُ (¬3)، وهذا لَفْظُه، والترمِذِي (¬4)، وقال: حدث حسن صحيح غريب. 500 - مسألة: (ثم التراوِيحُ، وهي عِشْرُونَ رَكْعَة، يَقُومُ بها في رمضانَ في جَماعَةٍ، ويُوتِرُ بعدَها في الجَماعَةِ) التراوِيحُ سُنة مُؤكدَة، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب فضل الطهور بالليل والنهار، من كتاب التهجد بالليل. صحيح البُخَارِيّ 2/ 67. ومسلم، في: باب فضائل بلال؛ رضي الله عنه، من كتاب فضائل الصَّحَابَة. صحيح مسلم 4/ 1910. كما أخرجه الإِمام أَحْمد، في: المسند 2/ 333، 439. (¬2) في تش: «هذا». (¬3) في: المسند 5/ 354، 360. (¬4) في: باب في مناقب عمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَنَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو هُرَيرة: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يرغبُ في قِيامِ رمضانَ، مِن غيرِ أن يَأمُرَهم فيه بعَزِيمةٍ، فيقولُ: «مَنْ قامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وعن عائشةَ: صلَّى رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في المَسْجدِ ذاتَ لَيْلَةٍ، فصَلَّى بصَلاتِه ناسٌ، ثم صلَّى في القابِلَةِ، وكثُر النّاسُ، ثم اجْتَمَعُوا مِن الليْلَةِ الثالِثَةِ والرابِعةِ (¬1)، فلم يَخْرُجْ إليهم رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فلَمّا أصْبَحَ، قال: «قَدْ رَأيْتُ الذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْني مِنَ الخُرُوجِ إلَيْكمْ إلَّا أني خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ عَليْكُمْ». وذلك في رمضانَ. رواهما مسلم (¬2). وعن أبي ذَر، ¬

(¬1) في م: «أو الرابعة». (¬2) في: باب في الترغيب في قيام رمضان، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 523، 524. كما أخرج الأول البُخَارِيّ، في: باب تطوع قيام رمضان من الإيمان, من كتاب الإيمان, وفي: باب من صام رمضان. . . . إلخ، من كتاب الصوم، وفي باب فضل من قام رمضان، من كتاب التراويح، وفي: باب فضل ليلة القدر, من كتاب ليلة القدر. صحيح البُخَارِيّ 1/ 16، 3/ 33، 58، 59. وأبو داود، في: باب في قيام شهر رمضان، من كتاب رمضان. سنن أبي داود 1/ 316. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في فضل شهر رمضان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 196. والنَّسائي، في: باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، من كتاب قيام الليل، وفي: باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وباب ذكر اختلاف يحيى بن أبي كثير، والنضر بن شيبان فيه، من كتاب الصيام, وفي: باب قيام رمضان، وباب قيام ليلة القدر، من كتاب، الإيمان. المجتبي 3/ 164، 4/ 129، 131، 8/ 103. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قيام شهر رمضان، من كتاب إقامة الصلاة. وفي: باب ما جاء في فضل شهر رمضان، من كتاب الصيام. عن ابن ماجه 1/ 420، 526. والدارمي، في: باب في فضل قيام شهر رمضان، من كتاب الصوم. سنن الدَّارميّ 2/ 26. والإمام مالك، في: باب الترغيب في الصلاة رمضان، من كتاب رمضان. الموطأ 1/ 113. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 281، 289، 408, 423، 473، 486، 529. كما أخرج الثاني البُخَارِيّ، في: باب تحريض النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على صلاة الليل، من كتاب التهجد. صحيح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: صُمْنا مع رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- رمضانَ، فلم يَقُمْ بنا شيئًا مِن الشهْرِ، حتَّى بَقِيَ سبْعٌ، فقامَ بنا حتَّى ذهَب ثلث الليْل، فلَمّا كانتِ السّادِسةُ لم يَقُمْ بنا، فلما كانتِ الخامِسَةُ قامِ بنا حتَّى ذَهَب شَطْرُ الليْلِ، فقلتُ: يَا رسولَ الله، لو نَفَلْتَنا قِيام هذه اللَّيْلَة؟ قال: فقال: «إن الرَّجُل إذا صَلى مَعَ الإمَامِ حَتَّى يَنْصَرِف، حسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ». قال: فلَما كانتِ الرّابِعَةُ لم يَقُمْ، فلَما كانتِ الثّالِثَةُ جَمَع أهْلَه ونِساءَه والنّاسَ، فقامَ بنا حتَّى خَشِينا أن يَفُوتَنا الفَلاحُ. قال: قلتُ: وما الفَلاحُ؟ قال: السَّحُورُ. ثم لم يَقمْ بنا بَقيَّة الشهْرِ. رَواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، واللفْظُ له، وابن ماجه، والنَّسائِي، والترمِذِي (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: خَرَج رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فإذا النَّاسُ [في رمضانَ] (¬2) يُصَلون في ناحِيَة المَسْجِدِ، فقال: «مَا هؤلَاءِ؟» فقيل: هؤلاءِ أناس ليس معهم قرْآن، وأبي بنُ كَعب يُصَلى بهم، [وهم] (¬3) يُصَلون بصَلاِته. فقال ¬

= البُخَارِيّ 2/ 63. وأبو داود، في: باب في قيام شهر رمضان، من كتاب رمضان سنن أبي داود 1/ 316. والنَّسائي في: باب قيام شهر رمضان، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 164. والإمام مالك، في: باب الترغيب والصلاة في رمضان، من كتاب رمضان. الموطأ 1/ 113. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 169. (¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في قيام شهر رمضان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 317. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في قيام شهر رمضان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذي 4/ 17، 18. والنَّسائي، في: باب قيام شهر رمضان، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 165. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قيام شهر رمضان، من كتاب إقامة الصلاة. عن ابن ماجه 1/ 420، 421، الإمام أَحْمد في: المسند 5/ 159، 163. كما أخرجه الدَّارميّ في باب فضل قيام شهر رمضان، من كتاب الصوم. سنن الدَّارميّ 2/ 27. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أصابُوا، وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا». رَواه أبو داودَ (¬1)، وقال: يروِيه مسلمُ بنُ خالِدٍ، وهو ضَعِيفٌ. حتَّى كان زَمَنُ عُمَرَ، رَضىَ الله عنه، فجَمَعَ النَّاسَ على أبيّ بْن كَعْب. فرَوَى عبدُ الرحمنِ بنُ عبد القارِيُّ (¬2)، قال: خَرَجْتُ مع عُمَرَ لَيْلَةً في رمضانَ، فإذا النَّاسُ أوْزاعٌ (¬3) مُتَفرقُون، يُصَلى الرجلُ لنَفْسِه، ويُصَلِّي الرجُلُ فيُصَلي بصَلاِته الرهْطُ، فقال عُمَرُ: إنِّي أرَى لو جَمَعْتُ هؤلاءِ على قارِئٍ واحِدٍ، لكان أمْثَلَ. ثم عَزَم فجَمَعَهم على أبيِّ بنِ كَعْبٍ، قال: ثم خَرَجْتُ معه لَيْلَةً أخْرَى والنَّاسُ يُصَلون بصَلاةِ قارِئِهم، فقال: نِعْمَتِ (¬4) البِدْعَةُ هذه، والتي يَنامُون عنها أفْضَلُ مِن التي يَقُومُون. يريدُ آخِرَ اللَّيْلِ. وكان النَّاسُ يَقُومُون أولَه. أخْرَجَه البُخارِيُّ (¬5). فصل: وعَدَدُها عِشْرُون رَكْعَةً. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأبو ¬

(¬1) في الباب السابق، والموضع السابق. (¬2) في م: «القادر». (¬3) سقط من: م، وأوزاع: جماعات. (¬4) في الأصل: «نعم». (¬5) في: باب فضل من قام رمضان، من كتاب صلاة التراويح. صحيح البُخَارِيّ 3/ 58. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في قيام رمضان، من كتاب الصلاة في رمضان. الموطأ 1/ 114، 115.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، والشافعي. وقال مالكٌ: سِتٌّ وثَلاثون. وزَعَم أنَّه الأمْرُ القَدِيم، وتَعَلق بفِعلِ أهلِ المَدِينَةِ؛ فإن صالِحًا مَوْلَى التَّوْأمَةِ، قال: أدْرَكْتُ النَّاسَ يَقومُون بإحْدَى وأرْبَعِين رَكْعَةً! يُوتِرُون منها بخَمسٍ. ولَنا، أن عُمَر، رَضِيَ الله عنه، لَما جَمَع النَّاسَ على أبيِّ بنِ كعْبٍ، فكان يصَلِّي بهم عِشْرِين رَكْعَة. وروَى السّائبُ بنُ يزِيدَ نحْوَه (¬1). وروَى مالك مثل ذلك (¬2)، عن يزيدَ بنِ رُومانَ، قال: كان النَّاسُ يَقُومُون في زَمَنِ عُمَرَ ابنِ الخطابِ في رمضانَ بثَلاثٍ وعِشْرِينَ رَكْعَةً. وعن أبي عبدِ الرحمنِ السلَمِي، عن علي، رَضِيَ الله عنه، أنَّه أمَرَ رجلًا يُصَلّى بهم في رمضانَ عِشْرِين رَكْعَة (¬3). وهذا كالإجْماعِ. وأمّا ما روَى صالِح، فإن صالِحًا ضَعِيفٌ، ثمَّ لا نَدْرِي مَن النّاسُ الذين أخْبَرَ عنهم؟ وليس ذلك بحُحةٍ. ثم لو ثَبَت أن أهل المَدِينَةِ كلهم فَعَلُوه، لكان ما فَعَلَه عُمَرُ وعليٌّ، وأجْمَعَ عليه الصحابَةُ في عَصْرِهم، أوْلَى بالاتباعِ. قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنما فَعَل هذا أهلُ المَدِينَةِ؛ لأنهم أرادُوا مُساواةَ أهلِ مَكةَ، فإن أهلَ مَكَّةَ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب قيام رمضان، من كتاب الصيام. المصنف 4/ 260. (¬2) في: باب ما جاء في قيام رمضان، من كتاب الصلاة في رمضان. الموطأ 1/ 115. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب ما روى في عدد ركعات القيام في شهر رمضان، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 496.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَطوفُون سَبْعًا بينَ كلِّ تَرْوِيحَتَيْن، فجَعَلَ أهلُ المَدِينَةِ مَكانَ [كلِّ سَبْعٍ] (¬1) أرْبَعَ رَكَعاتٍ، واتِّباعُ أصحابِ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أحَقُّ وأوْلَى. فصل: والأفْضَلُ فِعْلُها في الجَماعَةِ. نصَّ عليه، في رِوايَة يُوسُفَ ابن موسى. ويُوتِرُ بعدَها في الجَماعَةِ، لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ يَزِيدَ بنِ رُومانَ. قال أحمدُ: كان جابرٌ، وعلي، وعبدُ الله يُصَلونَها في الجَماعَةِ. وبهذا قال المُزَنِي، وابنُ عبدِ الحَكَمِ، وجَماعَة مِن الحَنَفِية. وقال مالك، والشافعي: قيامُ رمضانَ لمَن قَوِيَ في البَيْتِ أَحَبُّ إلينا؛ لِما روى زيدُ بن ثابِتٍ، قال: احْتَجَرَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حُجيرَة بخَصَفَةٍ أو حَصِيرٍ (¬2)، فخَرَجَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي فيها. قال: فتَتَبعَ إليه رِجال، وجاءوا يصَلون بصَلاِته، قال (¬3): ثم جاءوا لَيْلَةً فحضرُوا، وأبطَأ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- عنهم، فلم يَخْرُجْ إليهم، فرَفَعوا أصْواتَهم، وحَصبُوا البابَ، فخَرَجَ إليهم رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مُغْضَبًا، فقال لهم (¬4): «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُكْتَبُ عَلَيْكمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاةِ في بُيُوتِكُمْ، فَإنَّ خَير صَلَاةِ الْمَرْءِ في بَيتهِ، إلَّا المَكتُوبَةَ». رَواه ¬

(¬1) في الأصل: «ذلك السبع». (¬2) أي حوَّط موضعًا من المسجد بحصيرة ليستره ليصلي فيه. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ (¬1). ولَنا، إجْماعُ الصحابَةِ على ذلك، وجَمْعُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أهلَه وأصحابَه في حَدِيثِ أبي ذرٍّ، وقولُه: «إن الرجُلَ إذا صلَّى معَ الإمَامِ حَتَّى يَنْصَرِف حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (¬2). وهذا خاصٌّ في قِيامِ رمضانَ، فيُقَدَّمُ على عُمومِ ما احْتَجُّوا به، وقولُ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لهم ذلك مُعَلَّلٌ بخَشْيَةِ فَرْضِه عليهم، ولهذا تَرَك القِيامَ بهم مُعَلِّلًا بذلك، أو خَشْيَةَ أن يَتَّخِذها النَّاس فَرْضًا، وقد أُمِن هذا بعدَه. فصل: قال أحمدُ: يَقْرَأُ بالقَوْمِ (¬3) في شَهْرِ رمضانَ ما يَخِفُّ عليهم، ولا يَشُقُّ، لا سِيَّما في اللَّيالِي القِصارِ. وقال القاضي: لا يُسْتَحَب النقصانُ عن خَتْمَةٍ في الشَّهْرِ؛ ليَسْمَعَ النّاس جَمِيعَ القُرآنِ، ولا يزيدُ على خَتْمَةٍ؛ ¬

(¬1) في: باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 540. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب صلاة الليل، من كتاب الأذان، وفي: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، من كتاب الأدب، وفي: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 186، 8/ 34، 9/ 117. وأبو داود في: باب في فضل التطوع في البيت، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 334. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 239. والنَّسائي في: باب الحث على الصلاة في البيوت، الفضل في ذلك، من كتاب قيام الليل. المجتبي 3/ 161. والدارمي، في: باب صلاة التطوع في أي موضع أفضل، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 317. والإمام مالك، في: باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 130. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 182. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 163. (¬3) في الأصل: «الإمام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَراهِيَة المَشَقةِ على مَن خَلْفَه. قال الشيخُ (¬1)، رَحِمَه اللهُ: والتَّقْدِيرُ بحالِ النَّاس أوْلَى؛ فإنَّه لو اتَّفَقَ جَماعَة يَرْضَوْن بالتطْوِيلِ ويَخْتارُونَه، كان أفْضَلَ، كما جاء في حَدِيثِ أبي ذَرٍّ، قال: فقُمْنا مع النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حتَّى خَشِينا أن يَفُوتَنا الفَلاحُ. يعني السَّحُورَ. وعن السائِبِ بنِ يَزيدَ، قال: كانوا يَقُومُون على عهدِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، رَضىَ الله عنه، في شَهْرِ رمضانَ بعِشْرِين رَكْعة، وكانوا يقُومُون بالمائتيْن، وكانوا يَتَوَكئُون على عِصِيِّهم في عهدِ عُثْمانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، مِن شدةِ القِيامِ. رَواه البَيْهَقي (¬2). وعن أبي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ قال: دعا عُمَرُ بنُ الخطَابِ بثَلَاثةِ قُراء فاسْتَقْرَأهم، فأمَرَ أسْرَعَهم قِراءةً أن يَقْرأ للنَّاس بثلاِثين آية، وأوْسَطهم أن يَقْرا خَمْسًا وعِشْرِين آية، وأمَرَ أبطَأَهم أن يَقْرأ عِشْرِينَ آيةً. رَواه البَيْهَقِي (¬3). وكان السَّلَفُ يَستَعْجلُون خدَمَهم بالطعامِ؛ مخافَةَ طُلُوعِ الفَجْرِ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 606. (¬2) في: باب ما روى في عدد ركعات القيام في شهر رمضان، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 496، 497. (¬3) في الموضع السابق 497.

501 - مسألة: (فإن أحب متابعة الإمام، فأوتر معه، قام إذا سلم الإمام فشفعها بأخرى)

فَإنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ، جَعَلَ الْوِتر بَعْدَهُ، فَإنْ أحَبَّ مُتَابَعَةَ الْإمَامِ، فَأوْتَرَ مَعَهُ، قَامَ إذا سَلَّمَ الْإمَامُ فَشَفَعَهَا بِأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (فإن كان له تَهجُّدٌ، جَعَل الوِتر بعدَه) لقوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «وَاجْعَلُوا آخِرَ صَلَاِتكُمْ بِالليْلِ وِترًا» (¬1). 501 - مسألة: (فإن أَحَبّ مُتابَعَةَ الإِمام، فأوْتَرَ معه، قام إذا سَلّمَ الإمامُ فشَفَعَها بأخْرَى) قال أبو داودَ: سمِعتُ أحمدَ يقولُ: يُعْجِبُنِي أن يُصَلىَ مع الإِمامِ، ويوتِرَ معه؛ لقَوْلِ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- «إن الرجُل إذا قامَ مَعَ الْإمَامِ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، كتِبَ لهُ بقِيةُ لَيْلَتِهِ» (¬2). قال: وكان أحمدُ يَقُومُ مع النَّاسِ، ويُوتِرُ معهم. وأخْبَرَني الذي كان يَؤمه في شَهْرِ رمضانَ، أنَّه كان يُصَلى معهم التَّراوِيحَ كلها والوِتر. قال: ويَنْتَظِرُنِي بعدَ ذلك حتَّى أقُومَ، ثم يَقُومُ، كأنه يذْهبُ إلى حَدِيثِ أبي ذَرٍّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 111. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 163 من حديث أبي ذر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أوْتَرَ مع الإِمام، شَفعَها بأُخْرَى، إذا سَلَّمَ إمامُه؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا وِترانِ في ليْلَةٍ» (¬1). ويُؤخِّرُ وِترَه إلى آخِرِ اللَّيْلِ؛ للحَدِيثِ المَذْكُورِ. قال أبو داودَ: وسُئِل أحمدُ عن قَوْم صَلُّوْا في رمضان خَمس تَراوِيحَ، لم يَتَرَوحُوا بينَها؟ قال: لا بَأسَ. وسُئِل عن مَن أدْرَكَ مِن تَراوِيحِه رَكْعَتَيْن، يُصَلِّى إليها رَكْعَتَيْن؟ فلم يَرَ (¬2) ذلك. وقيل لأحمدَ: يُؤخِّرُ القيامَ، يعني في التَّراوِيحِ، إلى آخِرِ اللَّيْلِ؟ قال: لا، سُنَّةُ المسلمين أَحَبُّ إليَّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 114. (¬2) في الأصل: «يرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجْعَلُ خَتْمَ القُرْآنِ في التَّراوِيحِ. نَصَّ عليه أَحْمد، في رِوايَة الفضْلِ بنِ زيادٍ، قال: حتَّى يَكُونَ لَنا دعاءً بينَ اثْنَيْن. قلتُ: كيف أصنَعُ؟ قال: إذا فرَغْتَ مِن آخِرِ القرْآنِ، فارفَعْ يدَيْكَ قبلَ أن تَرْكعَ، وادْع بنا ونَحْنُ في الصلاةِ، وأطِلِ القِيامَ. قلت: بِمَ أدْعُو؟ قال: بما شِئْتَ. قال حَنبَل: وسمعتُ أحمدَ يَقولُ، في ختْمِ القُرْآنِ: إذا فَرَغْت مِن قراءَةِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. فارْفعْ يدَيْك في الدُّعاءِ قبلَ الرُّكُوعِ. قلتُ: إلى أي شئٍ تَذْهَبُ في هذا؟ قال: رَأيتُ أهلَ مَكَّةَ وسُفْيان بنَ عُيَيْنَةَ يَفْعَلونَه. قال العباسُ بنُ عبدِ العَظِيمِ (¬1): أدركْتُ النّاسَ بالبَصْرَةِ يَفْعَلُونَه وبمكَّةَ. ويَرْوِي أهل المَدِينَةِ في هذا شيئًا، وذُكِر عن عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ. فصل: واخْتَلَفَ أصْحابُنا في قيامِ لَيْلَةِ الثلاِثين مِن شَعْبانَ في الغَيْمِ، فحُكِيَ عن القاضي، قال: جَرَتْ هذه المَسْألةُ في وَقْتِ شَيْخِنا أبي عبدِ اللهِ ابن حامِدٍ، فصَلَّى، وصَلاها القاضي أبو يَعْلَى؛ لأنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: ¬

(¬1) أبو الفضل العباس بن عبد العظيم العدوي البَصْرِيّ الحافظ، أحد علماء السنة، تُوفِّي سنة ست وأربعين ومائتين. العبر 1/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ (¬1) وسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ» (¬2). فجَعَلَ القِيامَ مع الصيامِ. وذَهَب أبو حَفْصٍ العُكْبَرِي إلى تركِ القِيامِ، وقال: المعَوَّلُ في الصيامِ على حديثِ ابنِ عُمَرَ وفِعْلِ الصَّحابَةِ والتَّابِعِين، ولم ينقلْ عنهم قِيامُ تلك اللَّيْلَةِ. واخْتارَه المَيْمُونِي؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ شَعْبانَ، وإنما صِرْنا إلى الصوْمِ احْتِياطًا للواجِبِ، والصلاةُ غيرُ واجِبَةٍ، فتَبْقَى على الأصْلِ. فصل: وسُئِل أبو عبدِ اللهِ، إذا قرَأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. يَقرَأ مِن البَقَرَةِ شيئًا؟ قال: لا. ولم يَسْتَحِبَّ أن يَصِلَ خَتْمَتَه بقراءَةِ شيءٍ. ولَعَلَّه لم يَثْبُتْ فيه عندَه أثر صحيح. وسُئِل عن الإِمامِ، في شَهْر رمضانَ يَدَعُ الآياتِ مِن السورَةِ، تَرَى لمَن خَلْفَه أن يَقْرَأها؟ قال: نعم، قد كان بمكةَ يُوَكلُون رجلًا يَكْتُبُ ما تَرَك الإمامُ مِن الحُرُوفِ وغيرِها، فإذا كان لَيْلَةَ الخَتْمَةِ أعادَه. وإنما استُحِب ذلك؛ لتَكْمُلَ الخَتْمَةُ، ويَعظُمَ الثَّوابُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه النَّسائيّ، في: باب ذكر الاختلاف على معمر فيه، وباب اختلاف يحيى بن أبي كثير, من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 104، 132. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قيام شهر رمضان، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 421. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 191، 195.

502 - مسألة: (ويكره التطوع بين التراويح. وفي التعقيب روايتان؛ وهو أن يتطوع بعد التراويح والوتر في جماعة)

وَيُكْرَهُ التطَوُّعُ بَيْنَ التراوِيح، وَفِي التَّعْقِيبِ رِوَايَتَانِ؛ وَهُوَ أنْ يَتَطَوعَ بَعْدَ التراوِيح وَالْوِتْرِ في جَمَاعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 502 - مسألة: (ويُكْرَهُ التَّطَوعُ بينَ التَّراوِيحِ. وفي التَّعْقِيبِ رِوايَتان؛ وهو أن يَتَطَوَّعَ بعدَ التراويحِ والوتر في جَماعَةٍ) يُكْرَهُ التطَوعُ بينَ التَّراوِيحِ. نَص عليه أحمدُ، وقال: فيه عن ثَلَاثةٍ مِن أصْحابِ رَسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ عُبادَةُ، وأبو الدَّرْداءِ، وعُقْبَةُ بنُ عامِرٍ. وذُكِر لأبي عبدِ الله رُخْصَة فيه عن بعض الصحابةِ، فقال: هذا باطِلٌ، إنما فيه عن الحسنِ، وسعيدِ ابن جُبَيْرٍ. وقال أحمدُ: يَتَطَوعُ بعدَ المَكْتُوبَةِ، ولا يَتَطَوَّعُ بعدَ (¬1) التَّراوِيحِ. وروَى الأثْرَمُ، عن أبي الدَّرْداءِ, أنَّه أبصَرَ قوْمًا يُصَلُّون بينَ التَّراوِيح، فقال: ما هذه الصلاةُ؟ أتُصَلِّي وإمامُك بينَ يَدَيْك؟ ليس مِنّا مَن رَغِب عَنَّا. وقال: مِن قِلَّةِ فِقهِ الرجلِ أن يرى أنَّه في المَسْجِدِ وليس في صلاةٍ. ¬

(¬1) في م: «بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما التَّعقِيبُ، أو صلاةُ التَّراوِيحِ في جَماعَة أخرَى، فعنه الكَراهَةُ. نَقَلَها عنه محمدُ بنُ الحَكَمِ، إلَّا أنَّه قول قدِيم. قال أبو بكرٍ: إذا أخَّرَ الصلاةَ إلى نِصْفِ الليْلِ أو آخِره، لم يُكْرَهْ، رِوايَة واحِدَة، وإنَّما الخِلافُ فيما إذا رَجَعُوا قبل النوْم (¬1). وعنه، لا بَأس به. نقَلَها عنه الجَماعَةُ. وهو الصحِيحُ، لقَوْلِ أنس، رَضِيَ الله عنه: ما يَرْجِعُون إلَّا بخيْرٍ يَرْجُونَه، أو لَشرٍّ يَحْذَرُونَه (¬2). وكان لا يَرَى به بَأسًا. ولأنَّه خَيرٌ وطاعَةٌ، فلم يُكْرَهْ، كما لو أخَّرَه إلى آخِرِ الليْلِ. فصل: ويُسْتَحَب أن يَجْمَعَ أهلَه عندَ خَتْمِ القُرآنِ وغيرَهم؛ لحُضُورِ الدُّعاءِ. وكان أنس إذا خَتَم القُرْآنَ جَمع أهْلَه ووَلَدَه (¬3). ورُوىَ ذلك عن ابن مسعودٍ وغيرِه. ورَواه ابنُ شاهِين مَرْفُوعًا. واسْتَحْسَنَ أبو عبدِ الله التَّكبِيرَ عندَ آخِرِ كلِّ سُورَةٍ من سُورَةِ ¬

(¬1) في م: «الإمام». (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب التعقيبَ في رمضان، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 399. (¬3) أخرجه الدَّارميّ، في: باب ختم القرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 2/ 469.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضُّحَى إلى آخِرِ القُرْآنِ، لأنَّه رُوِيَ عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أنّه قَرَأ على النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فأمَرَه بذلك. رَواه القاضي بإسنادِه في «الجامِع». ولا بَأسَ بقِراءَةِ القُرْآنِ في الطَّريقِ، ولا وهو مُضْجعٌ. قال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: خَرَجْتُ مع أبي عبدِ اللهِ إلى الجامع فسَمعتُه يَقْرأ سُورَةَ الكَهْفِ. وعن إبراهِيمَ التيمِي، قال: كنتُ أقْرَأ على أبي موسى وهو يَمْشى في الطَّرِيقِ، فإذا قَرَأتُ السجْدَةَ قلتُ له: أسْجُدُ في الطرِيقِ؟ قال: نعم. وعن عائشةَ أنها قالت: إنِّي لَأقْرأ القُرْآنَ وأنا مُضْطَجعَةٌ على سرِيرِي. رَواه الفِرْيابِيّ، في فَضائِلِ القُرآنِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ خَتَم القُرْآنِ في كلِّ سَبْعَةِ أيامٍ. قال عبدُ الله بنُ أحمدَ: كان أبي يَخْتِمُ القُرْآنَ في النَّهارِ في كل سَبعٍ؛ يَقْرَأ في كُل يَوم سُبْعا، لا يَكادُ يَتْرُكه نَظرا. وذلك لِما رُوِي أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لعبدِ الله بِنِ عمرٍو: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ في كل سَبْع، وَلَا تَزِيدَن عَلَى ذَلِكَ». رَواه أبو داودَ (¬1). ¬

(¬1) في: باب في كم يقرأ القرآن، وباب في تحزيب القرآن، من كتاب رمضان. سنن أبي داود 1/ 321، 322. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب في كم يقرأ القرآن، من كتاب فضائل القرآن. صحيح البُخَارِيّ 6/ 243.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن أوْسِ بنِ حذَيْفَةَ، قال: قُلْنا لرسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: لقد أبْطَأْتَ عنّا اللَّيْلَةَ. قال: «إنَّه طَرَأ عَلَيَّ حِزْبي مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ، أنْ أجئَ حَتَّى أتِمَّهُ» (¬1). قال أوْسٌ: سَألْتُ أصْحابَ رسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: كيف تُحَزبُون القُرْآنَ؟ قالُوا: ثَلاثٌ، وخَمْسٌ، وسبْعٌ، وتِسْعٌ، وإحدى عَشْرَةَ، وثلاثَ عَشرَة، وحِزْبٌ منَ (¬2) المُفصَّلِ وحْدَه. رَواه أبو داودَ. ورَواه الإمامُ أحمدُ (¬3)، وفيه: وحِزْبُ (¬4) المُفَصَّلِ مِن {ق} حتَّى يَخْتِمَ. ورَواه الطَّبْرَانِيّ (¬5). فسَألْنا أصْحابَ رسولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: كيف كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُحَزِّبُ القُرْآنَ؟ فقالُوا: كان يحُزبُه ثَلاثًا، وخَمسًا. وذَكَرَه. وإن قَرَأه في ثَلاث فحَسَنٌ؛ لأنَّه رُوِيَ عن عبدِ الله بِنِ عَمْرو، قال: قُلْت لرسولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: إن لي قُوةً. قال: «اقرَأهُ في ثَلَاثٍ». رَواه أبو داودَ (¬6). ¬

(¬1) في م: «أختمه». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب تحزيب القرآن، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 322. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 343. كما أخرجه ابن ماجه, في: باب في كم يستحب ختم القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 427، 428. (¬4) في م: «حزب». (¬5) في المعجم الكبير 1/ 190. (¬6) في: باب في كم يقرأ القرآن، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قرَأه في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ، فعنه، يُكْرَهُ ذلك؛ لِما روَى عبدُ الله بنُ عَمْرٍو، قال: قالَ رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأهُ في أقَلَّ مِنْ ثلَاثٍ». رواه أبو داودَ (¬1). وعنه، أن ذلك غيرُ مُقَدَّرٍ، بل هو على حسَب ما يَجدُ مِن النَّشاطِ والقُوَّةِ؛ لأنَّ عُثْمانَ كان يَخْتِمُه في لَيْلة، ورُوِيَ ذلك عن جَماعة مِن السَّلَفِ. والأفْضَلُ التَّرْتِيلُ؛ لقَوْلِ الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬2). وعن عائشةَ، أنها قالت: لا أعْلمُ رسولَ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ القُرْآنَ كلَّه في لَيْلَةٍ. رَواه مسلم (¬3). وعنها قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- لا يَخْتِمُ القُرْآنَ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ. رَواه أبو عُبَيْدٍ في «فضائِلِ القُرْآن». وقال ابنُ مسعودٍ، في مَن قَرَأ القُرْآنَ في أقَل مِن ثَلاثٍ: ¬

(¬1) في: باب في كم يقرأ القرآن, في: باب في تحزيب القرآن، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 321، 322. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب من أبواب القراءات. عارضة الأحوذى 11/ 65، 66. وابن ماجه, في: باب في كم يستحب ختم القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 428. والدارمي، في: باب كم يختم القرآن، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 350. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 164، 165، 189، 193، 195. (¬2) سورة المزمل 4. (¬3) في: باب جامع صلاة الليل، من نام عنه أو مرض، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 514. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 309. والنَّسائي، في: باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر عائشة فيه, باب صوم النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بأبي هو وأمي، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 125، 169. وابن ماجه، في: باب في كم يستحب ختم القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 428.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهَذٌّ (¬1) كَهَذِّ الشِّعْر، ونَثرٌ كَنَثْرِ الدَّقلِ (¬2). ويُكْرَهُ أن يُؤخرَ خَتْمَه أكثَرَ مِن أرْبعِين يَوْمًا! لأنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو، سألَ النَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: في كَمْ يَخَتم القرْآنَ؟ قال: «في أرْبَعِينَ يَوْما». ثم قال: «في شَهْر». ثم قال: «في عِشْرينَ». ثم قال: «في خَمس عَشْرَةَ». ثم قال: ««في عَشْرٍ». ثم قال: «في سَبعٍ». لم يَنْزِلْ مِن سَبْعٍ. أخْرَجه أبو داودَ (¬3). قال أحمدُ: أكْثَرُ ما سَمِعْتُ أن يُخْتَمَ القُرْآنُ في أرْبَعِين. ولأنَّ تأخيرَه أكثَرَ مِن هذا يُفْضِي إلى نِسْيانِه والتَّهاوُنِ به، وهذا إذا لم يَكُنْ عُذْر، فأمَّا مع العُذْرِ فذلك واسعٌ. فصل: قال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: قال ابنُ المُبارَكِ: إذا كان الشتاءُ فاخْتِمِ القُرْآنَ في أولِ الليْلِ، وإذا كان الصيفُ فَاخْتِمْه في أوَّلِ النهارِ. فكَأنه أعْجَبَه؛ لِما روَى طَلْحَةُ بنُ مُصَرّفٍ (¬4)، قال: أدْرَكْتُ أهلَ الخَيْرِ مِن صَدْرِ هذه الأمَّةِ يَسْتَحِبُّون الخَتْمَ في أولِ اللَّيْل، وأوَّلِ (¬5) النهارِ، يَقُولُون: إذا خَتَم في أولِ النهارِ صَلَّتْ عليه المَلائِكَةُ حتَّى يُمْسِيَ، وإذا خَتَم في أوَّلِ الليْلِ صَلَّتْ عليه المَلائكةُ حتَّى يُصْبِحَ. وقال بعضُ العُلَماءِ: ¬

(¬1) الهذُّ: سرعة القراءة. (¬2) الدقل: الرطب الرديء اليابس. (¬3) في الباب السابق كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب في ختم القرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 2/ 471. (¬4) أبو مُحَمَّد طلحة بن مصرف بن عمرو الهمداني الكُوفيّ، تابعي ثِقَة، توفى سنة اثنتى عشرة ومائة تهذيب التهذيب 5/ 25، 26. (¬5) في الأصل: «وآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَحَبُّ أن يَجْعَلَ خَتْمَةَ النهارِ في رَكْعَتَي الفَجْر أو بعدَهما، وخَتْمةَ اللَّيْلِ في رَكْعَتَيِ المَغْرِبِ أو بعدَهما. فصل: وكَرِه أحمدُ قراءَةَ القُرْآنِ بالألْحانِ، وقال: هي بِدْعَةٌ، لِما رُوِيَ أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذَكَر في أشْراطِ السّاعَةِ أن يُتَّخَذَ القُرآنُ مَزامِيرَ، يُقَدِّمُون أحَدَهم ليس بأقرَئِهم ولا أفْضَلِهم، إلَّا ليُغنيهم غِناءً (¬1). ولأنَّ مُعْجزَةَ القُرْآنِ في لَفْظِه ونَظْمِه، والألْحانُ تُغَيره. قال شيخُنا (¬2): وكلامُ أَحمدَ في هذا مَحْمُولٌ على الإفْراطِ في ذلك, بحيث يَجْعَلُ الحَرَكاتِ حُرُوفًا، ويَمُدُّ في غير مَوْضِعِه. وأمّا تحْسِينُ القُرآنِ والترجِيعُ فلا يُكْرَهُ، فإن عبدَ اللهِ بنَ المُغفلِ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ. قال: فقَرَأ ابنُ مغَفل، ورَجَّعَ في قِراءَتِه. وفي لَفْظٍ، قال: قَرَأ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عامَ الفَتْحِ في مَسِيرٍ له سُورَةَ الفَتْحِ على راحِلَتِه، فرَجَّعَ في قِراءَتِه. قال مُعاوِيَةُ (¬3) بنُ قرَّةَ: لولا أنِّي أخافُ أن يَجْتَمعَ عليَّ النّاسُ لحَكَيْتُ لكم قراءَتَه. رَواهما مسلم (¬4). وفي لفظٍ ¬

(¬1) انظر: مسند الإِمام أَحْمد 3/ 494 وانظر: غريب الحديث، لأبي عبيد 2/ 141. (¬2) في: المغني 2/ 613. (¬3) في الأصل: «معاذ». (¬4) في: باب ذكر قراءة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سورة الفتح ويوم فتح مكة، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 547. كما أخرجهما البُخَارِيّ، في: باب أين ركز النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- الراية يوم الفتح، من كتاب المغازي، وفي: باب القراءة على الدابة، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ورواته عن ربه، من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 5/ 187، 6/ 238، 1/ 192. وأبو داود, في: باب استحباب الترتيل في القرآن، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 338 والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 54 - 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال (¬1): «أأ أ». وروَى أبو هُريَرةَ، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أذِنَ الله لِشَيْء كأذَنِه لِنَبِيٍّ يَتَغَنى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِه». رَواه مسلمٌ (¬2). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «زَيِّنوا الْقُرْآنَ بأصْوَاتِكمْ» (¬3). وقال: «لَيْس مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغنَّ بِالْقُرْآنِ». رَواه البخارِي (¬4). قال أبو عُبَيْدٍ وجَماعَةٌ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب استحسان تحسين الصوت بالقرآن، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 545. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من لم يتغنَّ بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، من كتاب التوحيد، وفي: باب قول النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-: الماهر بالقرآن. . . . إلخ، من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 6/ 235، 236، 9/ 173، 193. وأبو داود، في: باب استحباب الترتيل في القراءة، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 339. والنَّسائي، في: باب تزيين القرآن بالصوت من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 140. والدارمي، في: باب التغني بالقرآن، من كتاب الصلاة، وباب التغني بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 1/ 349، 350، 2/ 473، الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 271، 285, 450. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب استحباب الترتيل في القراءة، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 338. والنَّسائي، في: باب تزيين القرآن بالصوت، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 139، 140. وابن ماجه، في: باب في حسن الصوت، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 426. والدارمي، في: باب التغني بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 2/ 274. والإمام أَحْمد, في: المسند 4/ 283 , 285، 296، 304. (¬4) في: باب قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} من كتاب التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 9/ 188.كما أخرجه أبو داود، في: باب استحباب الترتيل في القراءة، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 339. والدارمي، في: باب التغني بالقرآن، من كتاب الصلاة، وفي: باب التغني بالقرآن, من كتاب فضائل القرآن. سنن الدَّارميّ 1/ 349، 2/ 471. الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 172، 175، 179.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَغَنَّى بالقرْآنِ يَسْتَغْنِي به. وقالت طائفَةٌ: مَعْناه يُحْسِنُ قِراءَتَه، ويَتَرَنَّمُ به، ويَرْفَعُ صَوْتَه به. كما قال أبو موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لو عَلِمْتُ أنَّك تسْمَعُ قِراءَتِي لحبَّرتُه لك تَحْبِيرًا. وقال الشَّافعيّ: يَرْفَعُ صَوْتَه به. وقال أبو [عبدِ اللهِ] (¬1): يَقْرَأ بحُزْنٍ مثلِ صَوْتِ أبي موسى. وعلى كلِّ حالٍ فتَحْسِينُ الصوْتِ بالقُرْآنِ وتطريبُه مُسْتَحبٌّ، ما لم يَخْرُجْ بذلك إلى تَغْيِيرِ لَفْظِه، أو زيادَة حُرُوفٍ فيه؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ. ورُوِيَ عن عائشةَ، أنها قالَت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: كُنْتُ أسمع قراءَةَ رجل في المَسْجِدِ لم أسمعْ قِراءَةً أحسنَ مِن قِراءته. فقام النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فاسْتَمَعَ، ثم قال: «هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي جَعَلَ في أمتِي مِثْلَ هَذَا» (¬2). ¬

(¬1) في م: «عبيد». (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب في حسن الصوت بالقرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 425. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 165.

503 - مسألة: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار)

وَصَلَاةُ اللَّيْلِ أفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهارِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 503 - مسألة: (وصلاةُ اللَّيْلِ أفْضَلُ مِن صلاةِ النهارِ) قد ذَكَرْنا النَّوافِلَ المعَيَّنَةَ. فأمَّا النَّوافِلُ المُطْلَقَةُ فتُسْتَحَبُّ في جَمِيع الأوْقاتِ، إلَّا في أوْقاتِ النُّهْيِ؛ لِما سيَأتي بَيانُه، إن شاء الله تعالى. وتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أفْضَلُ مِن تَطَوُّعِ النَّهارِ. قال أحمدُ: ليس بعدَ المَكْتُوبَةِ عندِي أفْضَلُ مِن قِيامِ اللَّيْلِ. وقد أمِر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بذلك، بقَوْلِه تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} (¬1). وكان قِيامُ اللَّيْلِ مَفْرُوضًا بقَوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2). ثم نُسِخ بآخِر السُّورَةِ. وعن أبي هُرَيرةَ، قال: قالَ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أفْضَلُ الصلَاةِ بَعدَ الْفَرِيضَةِ ¬

(¬1) سورة الإسراء 79. (¬2) سورة المزمل 1، 2.

504 - مسألة: (وأفضلها وسط الليل، والنصف الأخير أفضل من الأول)

وَأَفْضَلُهَا وَسَطُ الليْلِ، وَالنَّصْف الأخِيرُ أفْضَلُ مِنَ الْأَوَّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَاةُ (¬1) اللَّيْلِ». رَواه مسلمٌ، والتِّرمِذِي (¬2)، وقال: هذا حديث حسن. 504 - مسألة: (وأفْضَلُها وَسَطُ اللَّيْلِ، والنِّصْفُ الأخِيرُ أفْضَلُ مِن الأولِ) لِما روَى عَمْرُو بنُ عَبَسَةَ (¬3)، قال: قلتُ: يَا رسولَ اللهِ، أي اللَّيْلِ أسْمَعُ؟ قال: «جَوْفُ اللَّيلِ الْآخِرِ، فَصَل مَا شِئْتَ». رَواه أبو داودَ (¬4). وقال النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ الليْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَام سُدُسَهُ» (¬5). وفي حديثِ ابن عباسٍ في ¬

(¬1) في م: «قيام». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب فضل صوم المحرَّم، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 821 والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في فضل صلاة الليل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 227. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم المحرم، من كتاب الصوم. عن أبي داود 1/ 566. والنَّسائي، في: باب فضل صلاة الليل، من كتاب قيام الليل وتطوع النهار. المجتبى 3/ 168. والدارمي، في: باب أي صلاة الليل أفضل، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 346. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 342، 344، 535. (¬3) في م: «عنبسة». (¬4) في: باب من رخص في صلاة الركعتين بعد العصر إذا كانت الشَّمس مرتفعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 294. كما أخرجه مسلم، في: باب إسلام عمرو بن عبسة، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 569 - 571. والنَّسائي، في: باب النهي عن الصلاة بعد العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 224. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 396. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 111، 112، 385. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به. . . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 816. والنَّسائي، في: باب ذكر صلاة نبي الله داود عليه السلام بالليل، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 174، 175. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام داود عليه السلام، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 546. الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 160.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صِفَة تَهَجُّد رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه نام حتَّى انتصَفَ الليْلُ، أو قَبْلَه بقَليلٍ، أو بعدَه بقَلِيلٍ، ثم اسْتَيْقَظَ، فوَصَفَ تَهَجُّدَه، قال: ثم أوْتَرَ، ثم اضْطجعَ حتَّى جاءَه المُؤذِّنُ. وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَنامُ أولَ الليْلِ، ويُحْيى آخِرَه، ثم إن كان له حاجَةٌ إلى أَهْلِه قضَى حاجَتَه، ثم يَنامُ، فإذا كان عندَ النداء الأوَّلِ وَثب، فأفاضَ عليه الماءَ، وإن لم يَكُنْ له حاجَة تَوَضَّأْ. وقالت: ما ألْفَى رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- السَّحَرُ (¬1) الأعْلَى في بيتِي إلَّا نائِمًا. مُتَّفق عَلَيهِن (¬2). ولأنَّ آخِرَ اللَّيْل يَنْزِلُ فيه الرَّبُّ تَبارَكَ وتعالى إلى السماءِ الدُّنْيا؛ فرَوَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَنْزِلُ رَبنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلثُ اللَّيلِ الْآخِرُ، فَيَقولُ: مَنْ يَدْعونِي فَأستَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْألني فَأعْطِيَه؟ وَمَنْ يَستغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» (¬3) قال أبو عبدِ الله: إذا أغْفَى، يَعْنِي بعدَ التهَجُّدِ، فإنَّه لا يَبِينُ ¬

(¬1) في م: «من السحر». (¬2) حديث ابن عباس تقدم تخريجه في صفحة 119. وحديث عائشة الأول, أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من نام أول الليل وأحيى آخره، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 66. ومسلم، في: باب صلاة الليل. . . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 510. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب وقت الوتر، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 189. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 63، 102، 109, 253. وحديثها الثاني، أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من نام عند السحر، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 63. ومسلم، في: باب صلاة الليل. . . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 511. كما أخرجه أبو داود، في: باب وقت قيام النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من الليل، من كتاب التطوع. عن أبي داود 1/ 203. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 161، 205، 270. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 66. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه السَّهَرُ، فإذا لم يُغْفِ يَبِينُ عليه. فصل: ويُسْتَحبُّ أن يقولَ عندَ انْتِباهِه ما روَى عُبادَة، عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه قال: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ، فَقَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدِيرٍ، الحَمدُ لله وَسبحَانَ الله، وَلَا إلَهَ إلَّا الله، وَاللهُ أكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قوةَ إلَّا بِاللهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي. أوْ دَعَا، اسْتُجيبَ لَهُ، فَإنْ تَوَضَّأ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلَاتُه». رَواه البُخارِي (¬1). وعن ابنِ عباس، قال: ¬

= ومسلم، في: باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل. . . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 521 - 523. وأبو داود، في باب أي الليل أفضل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 303. والتِّرمذيّ، في: ما جاء في نزول الرب عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 233. وابن ماجه، في: باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 435. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 258، 264، 265، 267، 282، 419, 433, 487, 504, 521. (¬1) في: باب فضل من تعارَّ من الليل فصلى، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 68. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل إذا تعارَّ من الليل، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 609. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الدعاء، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 12/ 297، 298. وابن ماجه, في: باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 2/ 1276. والدارمي، في: باب ما يقول إذا انتبه من نومه، من كتاب الاستئذان. سنن الدَّارميّ 2/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قام يَتَهَجَّدُ مِن اللَّيْل، قال: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنتَ قَيَّامُ (¬1) السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِك السَّمَوَاتِ وَالأرْض وَمَن فِيهِن، وَلَكَ الحَمْدُ، أنتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤكَ حَقٌّ، وَالجَنةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنبِيُّونَ حَقٌّ، وَمحَمَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حَقٌّ، اللَّهُم لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِك آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكلْتُ، وإلَيْكَ أنبْتُ، وَبك خَاصَمْتُ، وإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدمْتُ وَمَا أخرْتُ، وَمَا أسررْت وَمَا أعْلَنْتُ، أنتَ المُقَدِّمُ وَأنتَ المُؤخرُ، لَا إلهَ إلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك (¬2)». مُتَّفَق عليه (¬3). وفي مسلم: «أنتَ رَبُّ السمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ». ¬

(¬1) في الأصل: «قيوم» قال النووي: من صفاته القيام والقيم، كما صرح به في هذا الحديث, القيوم بنص القرآن، وقائم. شرح صحيح مسلم 6/ 54. (¬2) في م: «بالله». (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب التهجد بالليل, من كتاب التهجد، وفي: باب الدعاء إذا انتبه بالليل، من كتاب الدعوات، وفي: باب قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، وباب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وباب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ}، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: «أَنْتَ الَهِي لَا الَهَ إلَّا أَنْتَ». وعن عائشةَ، قالت: كان النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قام مِن الليلِ افْتَتَح صَلاتَه، قال: «اللَّهُمَّ رَب جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ، أنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا (¬1) فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِني لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيم». [رَواه مسلم] (¬2) (¬3). ¬

= التوحيد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 60، 61، 8/ 86، 87، 9/ 143، 144، 162، 175 ومسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 532، 533. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 178. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول إذا قام من الليل إلى الصلاة، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 12/ 300 , 301. والنَّسائي، في: باب ذكر ما ينفتح به القيام، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 170، 171. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرَّجل من الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 430، 431. والدارمي، في: باب الدعاء عند التهجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 348، 349. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الدعاء، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 215، 216. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 298، 308، 358. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 532 - 534. كما أخرجه أبي داود، في: باب ما يتفتح به الصلاة من الدعاء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 177. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء من الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 12/ 305. والنَّسائي، في: باب بأي شيء تستفتح الصلاة، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 173. وابن ماجه، في باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرَّجل من الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 431، 432. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَتَسَوَّك؛ لِما روَى حُذَيْفَةُ، قال: كان النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا قام مِن الليْلِ يَشُوصُ فاهُ بالسواكِ. مُتفَق عليه (¬1). وعن عائشةَ، قالت: كُنا نُعِدُّ لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سِواكَه وطَهورَه، فيَبْعَثُه الله ما شاء أن يَبْعَثَه، فيَتَسوكُ، ويَتَوَضأ، ويُصَلِّي. أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَه برَكْعَتَيْن خَفِيفَتيْن، لِما روَي أبو هُرَيرةَ، عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذا قامَ أحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتهُ بِرَكْعَتَيْن خَفِيفتَيْنِ» (¬3). وعن زيدِ بنِ خالِدٍ، أنَّه قال: لَأرْمُقَنَّ صلاةَ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- الليلَةَ, فصلى رَكْعَتَيْن خَفِيفَتَيْن، ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن طَويلَتَيْن طَوِيلَتَيْن طَوِيلَتَيْن، ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن، وهُما دُونَ اللَّتَيْن قَبْلَهما، ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن وهما دُونَ اللَّتَيْن قَبْلَهما، ثم صَلى رَكْعَتَيْن وهما دُونَ اللَّتَيْن قبْلَهما، ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن وهما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهما، ثم أوْتَرَ، فذلك ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَة. وقال ابنُ عباسٍ: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّى مِن اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشرةَ رَكْعَةً. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 244. (¬2) تقدم تحريجه في صفحة 118. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 532. وأبو داود، في: باب افتتاح صلاة الليل بركعتين، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 304. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 399.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْرَجَهما مسلمٌ (¬1). وقد اخْتُلِف في عَدَدِ الركَعاتِ في تَهَجدِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ففي هذين الحَدِيثَيْن أنَّه ثَلاثَ عشرَةَ رَكْعَةً، وقالت عائشة: ما كان يزيدُ في رمضانَ ولا في غيره على إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلى أرْبَعًا، فلا تَسألْ عن حُسنِهِن وطُولِهِنَّ، ثم يصَلِّي أربَعًا فلا تَسْألْ عن حُسْنِهِن وطُولهِن، ثم يُصَلى ثلاثًا. وفي لفظٍ [قالت: كانت صَلاتُه في رمضان وغيرِه بالليْلِ ثَلاثَ عشرَةَ رَكْعَةً، منها الوِتْرُ ورَكْعَتا الفَجْرِ. وفي لفْظٍ] (¬2). كان يصلي ما بينَ صلاةِ العِشاءِ إلى الفَجْرِ إحْدَى عَشرةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِن (¬3) كلِّ رَكْعَتَيْن، ويُوتِرُ بواحِدةٍ. مُتَّفَق عليهن (¬4). فلَعَلَّها لم تَعُد الركْعَتَيْن الخفِيفَتَيْن اللَّتَيْن ذَكَرَهما غيرُها، ويَحْتَمِلُ أنَّه صَلَّى في لَيْلَةٍ ثَلاثَ عَشرةَ، وفي لَيْلَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ. فصل: ويُسْتَحبُّ أن يَقْرَأَ جُزْءَه (¬5) مِن القُرْآن في تَهَجدِه؛ فإنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَفْعَلُه. وهو مُخَيَّر بينَ الجَهْرِ في القِراءَةِ والإسْرارِ، فإن كان ¬

(¬1) الأول في: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 531، 532. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 314، 315. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كم يصلي بالليل، عن كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 433. والإمام مالك، في: باب صلاة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الوتر، من كتاب صلاة الليل. الموطأ 1/ 122. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 193. والثاني أخرجه مسلم، في الباب السابق، كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب كيف كانت صلاة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وكم كان النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصلي من الليل، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 64. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «بين». (¬4) تقدم في صفحة 115. (¬5) في م: «حزبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَهْرُ أنشَطَ له في القِراءَةِ، أو بحَضرتِه مَن يَسْتَمِعُ قِراءَتَه، أو يَنْتَفِعُ بها، فالجَهْرُ أفْضَلُ، وإن كان قرِيبًا منه مَن يَتَهَجَّدُ، أو مَن يَسْتَضِرُّ برَفْعِ صَوْتِه، فالإسْرارُ أوْلى؛ لِما روى أبو سعيدٍ، قال: اعْتَكَفَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في المَسْجِدِ، فسمِعَهم يَجْهَرُون بالقِراءَةِ، فكَشفَ السترَ (¬1)، فقال: «ألَا إنَّ كلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضكمْ عَلَى بَعْض في الْقِراءَة». أو قال: «في الصلَاةِ». رواه أبو داودَ (¬2). وإلا فلْيَفْعَلْ ما شاء. قَالَ عبدُ الله بنُ أبي قَيْس: سَألْتُ عائشةَ: كيف كانت قِراءَةُ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟ فقالت: ربما أسَرَّ ورُبَّما جَهَر (¬3). قال الترمِذِي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابنُ عباس: كانت قِراءَةُ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على قدْرِ ما يَسْمَعه مَن في الحُجْرَةِ، وهو في البَيْتِ. رَواه أبو داودَ (¬4). وعن أبي قَتادَةَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَرَج، فإذا هو بأبي بكر يُصَلى، يَخْفِضُ مِن (¬5) صَوْتِه، ومَرَّ بعُمَرَ وهو يُصَلِّي رافِعًا صَوْتَه، ¬

(¬1) في الأصل: «السترة». (¬2) في: باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 306. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 94. (¬3) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء وقراءة الليل، من أبواب الصلاة، وفي: باب ما جاء كيف كان قراءة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب ثواب القرآن. عارضة الأحوذى 2/ 238، 11/ 43. والنَّسائي، في: باب كيف القراءة بالليل، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 184. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 430. (¬4) في: باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 305 كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 271. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: فلَما اجْتَمَعا عندَ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَا أَبا بَكْرٍ، مَرَرْتُ بكَ وَأنتَ تصلِّي تخْفِضُ صَوْتَكَ» قال: إنِّي أسْمَعْتُ مَن ناجيْتُ يَا رسولَ اللهِ. قال: «ارْفَعْ قَلِيلًا». وقال لعُمَرَ: «مَرَرْتُ بِكَ وَأنتَ تُصَلى رَافِعا صَوْتَكَ». قال: فقال: يَا رسولَ الله أوقِظُ الوَسنانَ، وأطْرُدُ الشيطانَ. قال: «اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا». رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: ومَن كان له تَهَجُّدٌ ففاتَه، اسْتُحب له قضاؤه بينَ صَلاةِ الفَجْرِ وصَلاةِ (¬2) الظهْرِ؛ لقَوْل رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أوْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ، فَقَرَأهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأنمَا قَرَأهُ مِنَ اللَّيْل». وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا عَمِل عَمَلًا أَثْبَتَه، وكان إذا نام مِن الليلِ، أو مَرِض، صلى مِن النهارِ ثِنْتَى عشرةَ رَكْعَة. قالت: وما رَأيتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قام لَيْلَة حتَّى الصباحِ، وما صام شَهْرًا مُتَتابِعًا إلَّا رمضان. أخْرَجَهما مسلمٌ (¬3). ¬

(¬1) في: الباب السابق. سنن أبي داود 1/ 305، 306. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب جامع صلاة الليل، ومن قام عنه أو مرض، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 514، 515. والأول أخرجه أَيضًا أبو داود، في: باب من نام عن حزبه، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 302، 303. والتِّرمذيّ، في: باب ما ذكر في من فاته حزبه من الليل فقضاه بالنهار، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 61. والنَّسائي، في: باب متى يقضى من نام عن حزبه من الليل، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 216. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من نام عن حزبه من الليل، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 426. والدارمي، في: باب إذا نام عن حزبه من الليل، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 346. والإمام مالك، في: باب ما جاء في تحزيب القرآن، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 200.

505 - مسألة: (وصلاة الليل مثنى مثنى، فإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس، والأفضل مثنى)

وَصَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى. وإنْ تَطوَّعَ في النَّهَارِ بِأرْبَعٍ فَلَا بَأسَ، وَالْأَفْضَلُ مَثْنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 505 - مسألة: (وصلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإن تَطوَّعَ في النهارِ بأرْبعٍ فلا بَأسَ، والأفْضَلُ مَثْنَى) قَوْلُه، مَثْنَى مَثْنَى. يَعْنِي يُسَلِّمُ مِن كلِّ ركْعَتَيْن. والتَّطَوُعُ قِسْمان؛ تَطوُّعُ الليْلِ، وتَطَوُّعُ النهارِ، فلا يَجُوزُ [تَطوُّعُ اللَّيْلِ] (¬1) إلَّا مَثْنَى مَثْنَى. وهذا قولُ كثير مِن أهْلِ العِلْمِ؛ منهم أبو يُوسُف، ومحمدٌ. وقال القاضي: لو صَلى سِتًّا في لَيْلٍ أو نَهارٍ، كُرِهَ, وصَحَّ. وقال أبو حنيفةَ: إن شِئْتَ رَكْعَتيْن، وإن شِئْتَ أرْبَعًا، وإن شِئْتَ سِتًّا، وإن شِئْتَ ثَمانِيًا. ولَنا، قَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلَاة الليل مَثْنَى مثْنى». مُتَّفَق عليه (¬2). ¬

= والثاني أخرج صدره أبو داود, في: باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 315. والنَّسائي، في: باب المصلى يكون بينه وبين الإمام سترة، من كتاب القبة، وفي: باب قيام الليل، وباب الاختلاف على عائشة، من كتاب قيام الليل، وفي: باب ذكر اختلاف الناقلين في عائشة فيه، وباب صوم النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بأبي هو أمي، من كتاب الصيام. المجتبى 2/ 53، 3/ 163، 178، 4/ 125، 169. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 109. (¬1) في الأصل: «التطوع بالليل». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 11، 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا صلاةُ النهارِ فتَجُوزُ أرْبَعًا، فَعَل ذلك ابنُ عُمَرَ. وقال إسحاقُ: صلاةُ النَّهارِ أخْتارُ أرْبَعًا، وإن صَلَّى رَكْعَتَيْن جاز؛ لِما رُوِيَ عن أبي أَيوب، عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «أرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلَّمُ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهنَّ أبوَابُ السَمَاءِ». رَواه أبو داودَ (¬1). [والأفْضَلُ مَثْنَى. وقال إسحاقُ: الأفْضَلُ أرْبَعًا. ويُشْبِهُه قَوْلُ الأوْزاعِي، وأصْحاب الرأيِ، وحديثُ أبي أيوبَ. ولَنا، ما روَى عليُّ بنُ عبدِ الله البارِقي، عن ابنِ عُمَرَ، عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «صلَاةُ اللَّيْلِ وَالنهَار مَثْنَى مَثْنَى». رَواه أبو داود] (¬2). ولأنه أبْعَد [مِن السهْوِ] (¬3)، وأشبَهُ بصلاةِ اللَّيْلِ. وتَطَوعات النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- في الصَّحِيحِ رَكْعَتان. وذَهَب الحَسَنُ، وسَعِيد بنُ جُبَيْر، ومالك، إلى أنَّ تَطَوُّعَ النَّهارِ والليْلِ (¬4) مَثنَى مَثنَى؛ لحديثِ علي ابنِ عبدِ الله البارِقيِّ، وقد ذَكَرْنا حديثَ أبي أَيوبَ، وحديثُ البارِقي تَفَرّدَ بذِكْرِ النَّهارِ مِن بينِ سائِرِ الرُّواةِ، ونَحْمِلُه على الفَضِيلَةِ جَمعًا بينَ الحَدِيثَيْن. ¬

(¬1) في: باب الأربع قبل الظهر، بعدها، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 292. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في الأربع ركعات قبل الظهر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 365، 366. (¬2) سقط من الأصل. وحدث ابن عمر أخرجه أبو داود، في: باب صلاة النهار، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 298. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 419. (¬3) في م: «للسهو». (¬4) سقط من م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال بعضُ أصحابِنا: لا تجوز الزيادة في النَّهارِ على أربع. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرقِي. وقال القاضِي: يَجُوز ويكْرهُ. ولَنا، أنَّ الأحْكامَ إنما تُتَلَقَى مِن الشارِعِ، ولم يَرِدْ شيءٌ مِن ذلك. واللهُ أعلمُ. فصل: ويُسْتَحَبُّ التنفّل بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ؛ لِما روِيَ عن أنس ابنِ مالكٍ في هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (¬1). الآيةُ. قال: كانوا يَتَنَفلون بينَ المَغْرِب والعِشاءِ، يُصَلُّون. رَواه أبو داود (¬2). وعن عائشةَ، عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغرِبِ عِشْرِين رَكْعَةً بَنَى اللهُ لَه بَيْتًا في الْجَنة» (¬3). قال الترمِذِي: هذا حديثٌ غريبٌ. فصل: وما وَرَد عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- تَخْفِيفُه أو تَطْوِيلُه، فالأفْضَلُ اتباعُه فيه؛ فإنَّه عليه السلامُ لا يَفْعَل إلَّا الأفْضَلَ، وقد ذَكَرْنا بعضَ ما كان النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُخَفِّفُه ويُطولُه. وما عَدا ذلك، ففيه ثَلاث رِواياتٍ؛ إحْداها، الأفْضَل كَثْرَةُ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، لقَوْلِ ابنِ مسعودٍ: إنِّي لأعْلَمُ النَّظائِرَ التي كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقْرِنُ بينَهُنَّ سُورَتَيْن في كلِّ رَكْعَةٍ، عِشْرُون ¬

(¬1) سورة السجدة 16. (¬2) في: باب قيام النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من الليل، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 304. (¬3) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في فضل التطوع وست ركعات بعد المغرب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُورَةٌ مِن المُفَصَّلِ. رَواه مسلمٌ (¬1). ولقَولِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسجدُ سَجْدَةً، إلَّا كتب اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَة، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» (¬2). والثَّانِيَةُ، التَّطْوِيل أفْضَلُ؛ لقَوْلِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أفْضَلُ الصلَاةِ طُولُ (¬3) القُنُوتِ». رَواه مسلم (¬4). ولأن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان أكْثَرَ صلَاته التَّهَجدُ وكان يُطِيلُه، على ما قد ذَكَرْنا. والثالثةُ، هما سَواءٌ؛ لتَعارُضِ الأخْبارِ في ذلك. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 618. (¬2) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في كثرة الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 179، 180. والنَّسائي، في: باب ثواب من سجد لله عز وجل سجدة، من كتاب التطبيق. المجتبى 3/ 180، 181. وابن ماجه، في: باب ما جاء في السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 457. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 276. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب أفضل الصلاة طول القنوت، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 520. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في طول القيام في الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 178، 176. وابن ماجه، في: باب ما جاء في طول القيام في الصلوات، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 456. والدارمي، في: باب أي الصلاة أفضل, من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 331. الإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 302، 391، 412.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتطَوُّعُ في البَيْتِ أفْضَلُ؛ لقَوْلِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «عَليْكُمْ بِالصلَاةِ في بُيُوتِكمْ، فَإِنْ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ في بَيتهِ إلَّا الْمكْتُوبَة». وقال عليه السَّلامُ: «إذا قضَى أحدُكُمُ الصلَاةَ في مَسْجِدِه، فَلْيَجْعَلْ لِبَيتهِ نَصيبًا مِنْ صَلَاِتهِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ في بَيتهِ مِنْ صَلَاِتهِ خَيْرًا». رَواهما مسلم (¬1). وعن زيدِ بنِ ثابِتٍ، أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «صَلَاةُ المَرْءِ في بَيتهِ أفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ في مَسْجدِي هذَا, إلَّا الْمكْتُوبَةَ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولأن الصَّلاة في البَيْتِ أَقرَبُ إلى الإخْلاصِ، وأَبْعَدُ مِن الرياءِ، وهو مِن عَمَلِ السرِّ، والسرُّ أفْضَلُ مِن العَلانِيَة. فصل: ويُسْتَحَب أن يكونَ للإنْسانِ تَطوعاتٌ يُداوِمُ عليها، وإذا فاتَت يَقْضِيها؛ لقَوْلِ عائشةَ: سئِل رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: أي الأعْمالِ أفْضَل؟ قال: ¬

(¬1) في: باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 539، 540. كما أخرج الأول البُخَارِيّ، في: باب صلاة الليل من كتاب الأذان، وفي: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، عن كتاب الأدب، وفي: باب ما يكره عن كثرة السُّؤال وتكلف ما لا يعنيه، عن كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 186، 8/ 34، 9/ 117 والتِّرمذيّ، في: باب في فضل صلاة التطوع في البيت من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 239. والنَّسائي، في: باب الحث على الصلاة في البيوت والفضل في ذلك، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 161. والدارمي، في: باب صلاة التطوع في أي موضع أفضل، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 317. والإمام مالك، في: باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، عن كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 130. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 182، 184، 186، 187. وأخرج الثاني ابن ماجه، في: باب ما جاء في التطوع في البيت، من كتاب إقامة الصلاة. عن ابن ماجه 1/ 438. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 15، 59، 316. (¬2) في: باب في فضل التطوع في البيت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 333.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «أدْوَمُهُ وَإنْ قَلَّ». مُتفَق عليه (¬1). وقالت: كان النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا صَلى صلاةً أحَبَّ أن يُداوِم عليها، وكان إذا عَمل عَمَلًا أَثْبَتَه. رَواه مسلم (¬2). وقال ابنُ عَمْرٍو (¬3). قال لي رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ الليْلَ، فَتَرَكَ [قِيامَ اللَّيْلِ] (¬4)». مُتَّفَق عليه (¬5). ولأنه إذا قَضَى ما تَرَك مِن تَطَوُّعِه، كان أبعَدَ له مِن التَّرْكِ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب أحب الدين إلى الله أدومه، من كتاب الإيمان, وفي: باب الجلوس على الحصير ونحوه، من كتاب اللباس، وفي: باب القصد والمداومة على العمل، من كتاب الرقاق. صحيح البُخَارِيّ 1/ 17، 7/ 200، 8/ 122. ومسلم، في: باب فضيلة العمل الدائم، من كتاب صلاة المسافرين، وفي: باب صيام النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في غير رمضان، من كتاب الصيام، وفي: باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، من كتاب المنافقين. صحيح مسلم 1/ 540، 541، 2/ 809، 4/ 2171. كما أخرجه النَّسائيّ, في: باب المصلى يكون بينه وبين الإِمام سترة، من كتاب القبلة، وفي: باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، من كتاب قيام الليل. المجتبى 2/ 53 , 3/ 178. وابن ماجه، في: باب المداومة على العمل، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1416. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 40, 61، 125, 165, 176, 180, 199, 231, 241, 268, 273. (¬2) في: باب جامع صلاة الليل، وباب فضيلة العمل الدائم، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 515، 541. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب هل يختص شيئًا من الأيام، من كتاب الصوم، وفي: باب القصد والمداومة على العمل، من كتاب الرقاق. صحيح البُخَارِيّ 3/ 55، 8/ 122. والنَّسائي، في: باب المصلي يكون له وبين الإِمام سترة، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 53. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 43, 55، 84، 95، 109، 128، 174، 189، 233، 244، 250. (¬3) في الأصول: «ابن عمر». والمثبت هو الصواب، كما في المصادر. (¬4) في م: «القيام فنام الليل». (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب ما يكره من ترك قيام الليل، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 68. ومسلم، في: باب النهي عن صوم الدهر، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 814.

506 - مسألة: (وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، ويكون في حال القيام متربعا)

وَصَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَيَكُونُ في حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ التَّطوُّعُ في جَماعَةٍ وفرادَى؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَل الأمْرَيْن كِلَيْهما، وكان أكثرُ تَطَوُّعِه مُنْفَرِدًا، وصَلَّى بحُذَيْفةَ مَرة (¬1)، وبابنِ عباسِ مَرةً (¬2)، وبأنَس وأمه واليَتيمِ مَرة (¬3)، وأمَّ أصْحابَه في ليالي رمضان ثَلاثًا (¬4). وقد ذَكَرْنا بعضَ ذلك فيما مَضَى، وسنَذْكُرُ الباقِيَ، إن شاء اللهُ تعالى، وهي كلُّها أحادِيثُ صِحاحٌ. 506 - مسألة: (وصلاةُ القاعِدِ على النِّصْفِ مِن صلاةِ القائِمِ، ويَكُونُ في حالِ القِيامِ مُتَربعًا) يَجُوزُ التَّطَوعُ جالِسًا مع القُدْرَةِ على القِيامِ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، من كتاب صلاهَ المسافرين. صحيح مسلم 1/ 536. وأبو داود، في: باب ما يقول الرَّجل ركوعه وسجوده، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 201. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 63. والنَّسائي، في: باب تعوذ القارئ إذا مر بآية عذاب، من كتاب الافتتاح, في: باب الذكر في الركوع، وباب الدعاء بين السجدتين، من كتاب التطبيق، وفي: باب تسوية القيام والركوع. . . .، من كتاب قيام الليل. المجتبى 2/ 137، 149، 183، 3/ 184. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 384، 397. (¬2) تقدم تخريجه لي صفحة 119. (¬3) يأتي في صفحة 403. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 162.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، والصلاةُ قائِمًا أفْضَلُ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «من صَلى قَائِمًا فَهُوَ أفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قاعِدا فَلَهُ نِصْف أجْر الْقَائِمِ». مُتفَق عليه (¬1). وفي لَفْظِ مسلم: «صَلَاةُ الرجُلِ قاعِدًا نِصْف الصلَاة» (¬2). وقالت عائشةُ: إنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَمُتْ حتَّى كان كَثِيرٌ (¬3) مِن صلَاتِه وهو جالِس. رَواه مسلمٌ (¬4). ولأن كَثِيرًا مِن النَّاس يَشُقُّ عليه طُولُ القِيامِ، فلو وَجَب في التَّطوُّعِ لتُرِكَ أكْثَرُه، فسامَحَ الشارِعُ في تَرْكِ القِيامِ فيه تَرْغيبًا في تَكثِيرِه، كما سامَحَ في فِعْلِه على الرّاحِلَةِ في السفَرِ، وسامَح في نِيةِ صَوْمِ التطوُّعِ مِن النهارِ ¬

(¬1) كذا ذكر المؤلف، ولم يخرجه مسلم، انظر: تحفة الأشراف 8/ 184. وإنما أخرج التالى، ويأتي. وهذا الحديث أخرجه البُخَارِيّ، في: باب صلاة القاعد، وباب صلاة القاعد بالإيماء، من كتاب التقصير. صحيح البُخَارِيّ 2/ 59. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 218. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء أن صلاة القاعد. . . . إلخ، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوازي 2/ 165، 166. والنَّسائي، في: باب فضل صلاة القائم على صلاة النائم، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 183. وابن ماجه، في: باب صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. سنن ابن ماجه 1/ 388. الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 433، 435، 442، 443. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب جواز النافلة قائمًا وقاعدا، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 507. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة. عن أبي داود 1/ 218. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 192، 193، 203. (¬3) في م: «كان يصلي كثيرًا». (¬4) في: باب جواز النافلة قائمًا، قاعدًا، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 506.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويسْتَحَبّ للمُتَطوعِ جالِسًا أن يكونَ في حالِ القِيامِ مُتَرَبِّعًا، رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وأنس، وابنِ سِيرِينَ، ومالك، والثوْرِيِّ، والشافعي، وإسحاقَ. وعن أبي حنيفةَ، كقَوْلِنا. وعنه، يَجْلِسُ كيف شاء؛ لأن القِيامَ سَقَط، فسَقَطَت هَيْئته. ورُوىَ عن (¬1) ابنِ المسَيبِ، وعُرْوَةَ، وابنِ سِيرِينَ، وعُمَرَ بين عبدِ العزيز، أنَّهم كانوا يَحْتَبُون في التَّطوُّع. واخْتُلِفَ فيه عن عَطاء، والنخَعيِّ. ولَنا، ما رُوِي عن أنس، أنَّه صَلى مُتَرَبعًا. ولأن ذلك أبعَدُ مِن السَهوِ والاشْتِباهِ، ولأنَّ القِيامَ يُخالِف القُعُودَ، فيَنْبَغِي أن تُخالِفَ هيْئته في بَدَلِه هَيْئَةَ غيرِه، كمُخالَفَةِ القِيامِ غيرَه، ولا يَلْزَمُ مِن سُقُوطِ القِيامِ لمَشَقَتِه سُقُوطُ ما لا مشقَّةَ فيه، كمَن سَقَط عنه الركُوعُ والسجودُ، ولا يَلْزَمُ سُقوطُ الإيماءِ بهما. وهذا الذي ذَكَرْنا مِن صِفةِ الجُلُوس مُسْتَحَب غيرُ واجِبٍ، إذ (¬2) لم يَرِدْ بإيجابه دَلِيل. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «إذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويثْنِي رِجْلَيْه في الركُوعِ والسُّجُودِ. كذلك ذَكرَه الخِرَقيُّ؛ لأنَّ ذلك يروَى عن أُنسٍ، وهو قولُ [سعيدِ بنِ جُبَيْر و] (¬1) الثَّوْرِي. وحُكِيَ عن أحمدَ، وإسحاقَ، أنَّه لا يَثْنِي رِجْلَيْه إلَّا في السُّجُودِ خاصةً، ويكونُ في الركُوعِ على هَيْئَةِ القِيامِ. وحكاه أبو الخطابِ. وهو قولُ أبي يوسفَ، ومحمَّد، وهو أقْيَسُ؛ لأن هَيْئَةَ الرَّاكِع (¬2) في رِجْلَيْه هَيْئَةُ القائِمِ، فيَنْبَغِي أن يكونَ على هَيْئَتِه. قال شيخُنا (¬3): وهذا أصَحُّ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) والأصل: «الركوع». (¬3) في: المغني 2/ 569.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّظرَ، إلَّا أن أحمدَ ذَهَب إلى فِعْلِ أَنَسٍ، وأخَذَ به. وهو مُخيَّرٌ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، إن شاء مِن قِيام، وإن شاء مِن قُعُودٍ؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَل الأمْرَيْن. قالت عائشةُ: لم أر رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى صلاةَ اللَّيْلِ قاعِدًا قَط، حتَّى أسَن، فكانَ يَقْرأ قاعِدًا، حتَّى إذا أراد أن يَرْكَعَ، قام فقَرَأ نَحْوًا مِن ثَلاثِين آيَةً، أو أرْبَعِين آيَة، ثم رَكَع. مُتَّفَق عليه (¬1). وعنها، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يصَلى لَيْلًا طَوِيلا قائمًا, ولَيْلًا طَوِيلًا قاعِدًا، وكان إذا قَرَأ وهو قائِم رَكَع وسَجد وهو قائِمٌ، وإذا قَرَأ وهو قاعِد رَكَع وسَجَد وهو قَاعِدٌ. رَواه مسلمٌ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا صلى قاعدًا، من كتاب التقصير، وفي: باب قيام النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالليل، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 60، 67. ومسلم، في: باب جواز النافلة قائمًا، قاعدًا، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 505. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 218. والنَّسائي، في: باب كيف يفعل إذا افتتح الصلاة قائمًا، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 179، 180. وابن ماجه، في: باب في صلاة النافلة قاعدًا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 387. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صلاة القاعد في النافلة، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 137. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 52، 127، 178، 231. (¬2) في: باب جوز النافلة قائمًا، قاعدًا، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 504، 505. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 219. والتِّرمذيّ في: باب ما جاء في الرَّجل يتطوع جالسًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 168. وابن ماجه، في: باب في صلاة النافلة قاعدًا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 388. والإمام أَحْمد، في المسند 6/ 30، 98، 100، 113 , 166، 204، 217، 227، 262، 265.

507 - مسألة: (وأدنى صلاة الضحى ركعتان، وأكثرها ثمان، ووقتها إذا علت الشمس)

وَأدْنَى صَلَاةِ الضُّحَى رَكْعَتَانِ، وَأكثرُهَا ثَمانٍ، وَوَقْتُهَا إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 507 - مسألة: (وأدْنَى صلاةِ الضُّحَى رَكْعَتان، وأكْثَرها ثَمانٍ، ووَقْتُها إذا عَلَتِ الشمسُ) صلاةُ الضُّحَى مُستحَبةٌ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أوْصاني خَلِيلى بثَلاث؛ صِيامِ ثَلاثةِ أيام مِن كلِّ شَهرٍ، ورَكْعَتَيِ الضُّحَى، وأن أُوترَ قبلَ أن أنامَ. وعن أبي الدَّرداءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نحوُه. مُتَّفق عليه (¬1). وروَى أبو ذَرٍّ، عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى (¬2) مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَة، فَكُلُّ (¬3) تَسْبِيحَةٍ صَدَقةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَة، وَكُلُّ تَهْلِيلَة صَدَقَة، وَأمْر بِالْمَعْرُوفِ صَدَقةٌ، وَنَهْى عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَة، ويُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يركَعُهُما مِنَ الضُّحَى». رَواه مسلم (¬4). وأقلُّ صَلاةِ الضُّحَى رَكْعَتان لهذا الحَدِيثِ. قال أصْحابُنا: وأكثَرُها ثَمانِي رَكَعاتٍ؛ لِما رَوَت أمُّ هانِئٍ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- دخل بَيْتَها يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وصَلَّى ثَمانِي رَكَعاتٍ، فلم أر صلاةً قَطُّ أخَفَّ منها، غيرَ أنَّه يتمَّ الركُوعَ والسُّجُود. مُتَّفَق عليه (¬5). ويَحْتَمِلُ أن يكونَ أكثَرُها اثنَتَى عشرةَ رَكْعَة؛ لِما روَى أنس، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 113 من حديثهما. (¬2) سُلامى: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله. (¬3) في الأصل: «فبكل». (¬4) في: باب استحباب صلاة الضحى. . . . إلخ, من كتاب صلاة المسافرين, وفي: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 1/ 498، 499، 2/ 697، 698. كما أخرجه أبو داود، في: باب صلاة الضحى، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 295، 296. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في صنائع المعروف، من أبواب البر. عارضة الأحوذى 8/ 134. الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 167، 168، 178. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من تطوع في الفرد في السفر غير دبر الصلوات، وقبلها، وركع النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ركعتي الفجر في السفر، من كتاب التقصير وفي: باب صلاة الضحى في السفر، من كتاب التهجد، وفي: باب منزل النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يوم الفتح، من كتاب المغازي. صحيح البُخَارِيّ 2/ 57، 73 , 5/ 189. ومسلم، في: باب استحباب صلاة الضحى. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 497، 498. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في صلاة الضحى، من أبواب الوتر عارضة الأحوذى 2/ 258. والدارمي، في: باب صلاة الضحى، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 338. والإمام مالك، في: باب صلاة الضحى، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 152، والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 342.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقولُ: «مَنْ صلي الضُّحَى ثِنْتَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى الله لَهُ قصْرًا في الْجَنَّةِ - مِنْ ذَهَبٍ». رَواه ابنُ ماجه، والتِّرمذيّ (¬1)، وقال: حديثٌ غريبٌ. وأفْضَلُ وَقْتِها إذا عَلَتِ الشَّمسُ واشْتَدَّ حَرُّها؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ ترمَضُ الْفِصَالُ (¬2)». رَواه مسلمٌ (¬3). ويَمْتَدُّ وَقْتُها إلى زَوالِ الشَّمس، وأوَّلُه حينَ تَبْيَضُّ الشمسُ. فصل: قال بعضُ أَصْحابِنا: لا تُسْتَحَبُّ المُداوَمَةُ عليها؛ لأن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يكنْ يُداوِمُ عليها. قالت عائشةُ: ما رَأيتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّى ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في صلاة الضحى، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذي 2/ 257. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الضحى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 439. (¬2) أي حين تحترق أخفاف الفصال، وهي الصغار من أولاد الإبل، من شدة الحر. (¬3) في: باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 516. كما أخرجه الدَّارميّ، في: باب في صلاة الأوابين، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 340. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 366، 367، 372، 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضُّحَى قَطُّ. مُتَّفَقْ عليه (¬1). وعن عبدِ الله بنِ شَقِيقٍ، قال: قُلْتُ لعائشة: أكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي الضُّحَى؟ قالَتْ: لا، إلَّا أن يَجِيءَ مِن مَغيبه. رَواه مسلمٌ (¬2). وقال عبدُ الرحمنِ بنُ أبي لَيْلَى: ما حَدثَنِي أحدٌ قَط أنَّه رَأى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أم هانِئٍ، فإنَّها حَدَّثَتْ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- دَخَل بَيْتَها يَوْمَ فتحِ مَكةَ، فصَلى ثَمانِيَ رَكَعاتٍ، ما رأيتُه قَط صَلى صلاة أخَفَّ منها، غيرَ أنَّه كان يتم الركُوعَ والسجُودَ مُتفَق عليه (¬3). ولأنَّ في المُداوَمَةِ عليها تَشْبِيهًا بالفَرائِض. وقال أبو الخطَّابِ: تُسْتَحَب المُداوَمَة عليها؛ لأن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَصى بها أصحابَه، وقال: «منْ حَافَظَ عَلَى شَفْعَةِ (¬4) الضُّحَى غُفِرَتْ لَهُ ذنوبُهُ وَإنْ كَانَتْ مثْلَ زَبد البَحْرِ». رَواه الترمِذِي، وابنُ ماجه (¬5). ورَوَتْ عائشة، قالَتْ: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلى الضُّحَى أرْبَعًا، ويزيدُ ما شاء اللهُ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب تحريض النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، من كتاب التهجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 62. ومسلم، في: باب استحباب صلاة الضحى، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 497. (¬2) في الباب السابق. صحيح مسلم 1/ 496, 497. كما أخرجه أبو داود، في: باب صلاة الضحى، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 297. والنَّسائي، في: باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر عائشة فيه، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 125. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 171، 204، 218. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬4) بضم الشين وفتحها. (¬5) أخرجه التِّرْمِذِيّ في: باب ما جاء في صلاة الضحى، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذى 2/ 259، 260. وابن ماجه, في: باب ما جاء في صلاة الضحى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 440. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 443 , 497، 499.

وَهَلْ يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مسلمٌ (¬1). ولأن أَحَبُّ العملِ إلى اللهِ ما داوَمَ عليه صاحِبُه، على ما ¬

(¬1) في: باب استحباب صلاة الضحى. . . . إلخ، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 417. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاه الضحى، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 440.

508 - مسألة؛ قال الشيخ، رحمه الله: (وسجود التلاوة صلاة)

فَصْلٌ: وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ صَلَاةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 508 - مسألة؛ قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وسُجُودُ التِّلاوَةِ صلاةٌ) يَعْنِي يُشترَطُ له ما يُشتَرَطُ لصلاةِ النَّافِلَةِ؛ مِن سَتْرِ العَوْرَةِ، واسْتِقْبالِ القِبْلَةِ، والنية، والطهارَةِ مِن الحَدَثِ والنَّجَسِ، في قولِ عامةِ أهلِ العِلْمِ. ورُوِيَ عن عثمانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، في الحائِض تسْتَمِعُ السَّجْدَةَ، تُومِئُ برَأْسِها. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: وتقولُ:

509 - مسألة: (وهو سنة للقارئ والمستمع دون السامع)

وَهُوَ سُنة لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ دُونَ السَّامِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهمَّ لك سجَدْتُ. وقال الشعبي، في مَن سمَع السجْدَةَ على غيرِ وُضُوءٍ: يَسجدُ حيث كان وَجْهه. ولَنا، قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا يَقْبَل الله صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» (¬1). فيَدْخُل في عُمومِه السُّجُودُ. ولأنه سُجُود، فأشْبَهَ سُجُودَ السهْوِ. فعلى هذا إن سَمِع السجْدَةَ (¬2) وهو مُحْدِث، لم يَلْزَمْه الوُضوءُ ولا التَّيْمُّمُ. وقال النَّخَعِي: يَتَيَمَّمُ، ويَسْجُدُ. [وعنه، يَتَوَضأ، ويَسْجُدُ (¬3). وبه قال الثَّوْرِي، وإسحاقُ، وأصحابُ الرأيِ. ولَنا، أنها تَتَعلقُ بسَبَبٍ، فإذا فات لم يَسْجُدْ] (¬4)، كما لو قَرَأ سَجْدَةً في الصلاةِ، فلم يَسْجدْ، [لم يَسْجُدْ] (¬5) بعدَها. فعلى هذا، إن تَوَضأ لم يَسْجُدْ لفَواتِ سببِها, ولا يَتَيَمَّمُ لها مع وُجُودِ الماءِ؛ لأن الله تعالى شَرَط لجَوازِ التيممِ المَرَضَ أو عَدَمَ الماء، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما. فإن كان عادِمًا للماءِ فتَيمم، فله السُّجُودُ إذا لم يَطُلِ الفَصْلُ (¬6)، لأنه لم يَبْعُدْ سَببُها، ولم يَفُتْ، بخِلافِ الوُضُوءِ. 509 - مسألة: (وهو سُنَّة للقارئ والمُسْتَمِع دُونَ السّامعِ) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث 124. (¬2) في م: «السجود». (¬3) زيادة من: م. (¬4) سقط من: «تش». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُجُودُ التِّلاوَةِ سُنة مُؤكَّدَةٌ، وليس بواجِبٍ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِه. وبه قال مالك، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه بوُجُوبِه؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (¬1). وهذا ذَمّ، ولا يُذَمُّ إلَّا على تَرْكِ الواجِبِ. ولأنَّه سُجُود يُفْعَلُ في الصلاةِ، أشْبَهَ سجُودَ صُلْبِها. ولَنا، ما رُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قَرَأ يومَ الجُمُعَةِ على المِنْبَرِ سُورَةَ النّحْلِ (¬2)، حتَّى إذا جاء السَّجْدَةَ [نَزَل، فسَجَدَ وسَجد النَّاس، حتَّى إذا كانَتِ الجُمُعَة القابِلَة قَرَأ بها، حتَّى إذا جاءَتِ السَّجْدَةُ] (¬3) قال: يَا أيُّها ¬

(¬1) سورة الانشقاق 20، 21. (¬2) في م: «النمل». (¬3) سقط من: «تش».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسُ، إنما نمُرُّ بالسجُودِ، فمَن سَجَد فقد أصابَ، ومَن لم يَسْجُدْ فلا إثْمَ عليه. ولم يَسْجُدْ عُمَرُ. وفي لَفْظٍ: إن الله لم يَفْرِضْ علينا السجُودَ، إلَّا أن نَشاءَ. رَواه البُخارِي (¬1). وهذا كان يومَ الجُمُعَةِ بمَحْضَرٍ مِن الصحابَةِ وغيرِهم، ولم يُنْكرْ، فيَكُونُ إجْماعًا. وروَى زَيْدُ بنُ ثابِتٍ، قال: قَرَأتُ على النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سُورَةَ النَّجْمِ، فلم يَسْجُدْ منّا أَحَد. مُتفَق عليه (¬2). فأما الآيَةُ فإنَّما ذَم فيها تارِكَ السجودِ غيرَ مُعْتَقِدٍ فَضْلَه، ولا مَشْرُوعِيته، وقِياسُهم يَنتَقِضُ بسُجُودِ السهْوِ، فإنَّه في الصلاةِ، وهو غيرُ واجِبٍ عندَهم. فصل: ويُسَنُّ للتالِي والمسُتمِع، وهو الذي يَقْصِدُ الاسْتِماعَ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمناه، سَواء كان التّالي في الصلاةِ، أو لم يكُنْ. فإن كان المسُتمِعُ في صلاةٍ فهل يَسْجُدُ بسُجُودِ التالي؛ على رِوايَتيْن؟ وذلك لِما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرأ علينا القُرْآنَ، فإذا [مَرّ بالسجْدَةِ] (¬3) كَبر وسَجَد، وسَجَدْنا معه. رَواه أبو داودَ (¬4). وروَى ¬

(¬1) في: باب من رأى أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يوجب السجود، من كتاب السجود. صحيح البُخَارِيّ 2/ 52. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من قرأ السجدة ولم يسجد. صحيح البُخَارِيّ 2/ 51. ومسلم، في: باب سجود التلاوة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 406. كما أخرجه أبو داود، في: باب من لم ير السجود في المفصل، من كتاب السجود، سنن أبي داود 1/ 324، 325. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء من لم يسجد فيه، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 57، 58. والنَّسائي، في: باب ترك السجود في النجم، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 124. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 183، 186. (¬3) في الأصل: «أمرنا بسجدة». (¬4) في: باب في الرَّجل يسمع السجدة وهو راكب، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 236.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَيضًا، قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأ علينا السُّورَةَ في غير الصلاةِ، فيَسْجُدُ، ونَسْجُدُ معه، حتَّى لا يَجِدَ أحَدُنا مَكانًا لموْضع جَبْهَتِه. مُتَّفَق عليه (¬1). فأمّا السامِعُ الذي لا يَقْصِدُ الاسْتِماعَ فلا يُسَن له، رُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وابنِ عباس، وعِمْرانَ بنِ حُصَيْن، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال مالكٍ. وقال أصْحابُ الرأيِ: عليهِ السجُودُ. ورُوِيَ نَحْوُه عن ابنِ عُمَرَ، والنخعِي، وإسحاقَ؛ لأنَّه سامِع للسَّجْدَةِ، أشبهَ المُسْتَمِعَ. وقال الشَّافعيّ: لا أؤكِّدُ عليه السجُودَ، وإن سَجَد فحَسَن. ولَنا، ما رُوِي عن عثمانَ، أنَّه مَر بقاصٍّ، فقَرَأ القاصُّ سَجْدَة ليَسْجُدَ عثمانُ معه، فلم يَسْجُدْ. وقال: إنما السَّجْدَةُ على مَن اسْتَمَعَ. وقال [ابنُ مَسْعُودٍ] (¬2)، وعِمْرانُ: ما جَلَسْنا لها (¬3). ولم يُعْلَم لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهم. فأمَّا ابنُ عُمَرَ فإنَّما رُوِيَ عنه أنَّه قال: إنَّما السجْدَةُ على من سمِعَها. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في. باب من سجد لسجود القارئ، وباب ازدحام النَّاس إذا قرأ الإِمام السجدة، وباب من لم يجد موضعًا للسجود من الزحام، من كتاب السجود. صحيح البُخَارِيّ 2/ 51 - 53. ومسلم، في: باب سجود التلاوة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 405. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرَّجل يسمع السجدة وهو راكب أو في غير صلاة، من كتاب الصلاة. عن أبي داود 1/ 326. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 17. (¬2) في م: «ابن عباس». (¬3) أخرج هذه الآثار عبد الرَّزّاق، في: باب السجدة على من استمعها، من كتاب الصلاة، مصنف عبد الرَّزّاق 3/ 344. وابن أبي شيبة، في: باب من قال السجدة على من جلس لها، من سمعها، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 5.

510 - مسألة: (ويعتبر أن يكون القارئ يصلح إماما له)

وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ القَارِئُ يَصْلُحُ إِمَامًا لَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْتَمِل أنَّه أراد مَن سَمِعَها قاصِدًا، ويَنْبَغِي أن يُحْمَلَ على ذلك، جَمْعًا بينَ أقْوالِهم، ولأنَّ السامِع لا يُشارِكُ التالِيَ في الأجْرِ، فلم يُشارِكْه في السجودِ كغيرِه، أمّا المستمِع فقد قال عليه السلامُ: «التَّالِي وَالْمسْتَمِع شَرِيكَانِ في الْأَجْرِ» (¬1). فلا يُقاس غيرُه عليه. 510 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ أن يَكونَ القارِئُ يَصْلحُ إمامًا له) يُشْتَرَطُ لسُجُودِ المستمِع (¬2) كَوْنُ التَّالِي يَصْلُح إمامًا له، فإن كان امرأةً، أو خُنثى مُشكلًا، لم يَسْجُدِ الرَّجل باسْتِماعِه، رِوايَةً واحِدَةً. وبهذا قال مالك، والشافعي، وإسحاق. ورُوِيَ ذلك عن قتادَةَ. والأصْلُ في ذلك ما رُوِيَ، أن رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أتَى إلى نَفَر مِن أصحابه، فقَرَأ رجلٌ منهم سَجْدَةً، ثم نَظَر إلى رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّكَ كنْتَ إمَامَنَا، وَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا». رَواه الشَّافعيّ، في «مُسْنَدِه» (¬3). ¬

(¬1) لم نجده. (¬2) في م: «التلاوة». (¬3) في الجزء الأول، صفحة 122، في: باب سجود التلاوة. وانظر: الأم 1/ 120.

511 - مسألة: (فإن لم يسجد القارئ، لم يسجد)

فَإنْ لَمْ يَجُدِ الْقَارِئُ، لَمْ يَسْجدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والجوزَجانِيُّ (¬1)، في «المتَرْجَمِ»، عن عَطاءٍ، عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. فإن كان التّالى أميًّا، سَجَد [القارِئُ المُسْتَمِعُ] (¬2) بسُجودِه؛ لأن القِراءَةَ ليست برُكْن في السجودِ. وإن كان صَبِيًّا ففي سُجُودِ الرجلِ بسُجُودِه وجْهان؛ بِناءً على صِحةِ إمامتِه في النفل. 511 - مسألة: (فإن لم يَسْجدِ القارِئُ، لم يَسْجُدْ) يَعْنِي إذا لم ¬

(¬1) لعله أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب، الذي تقدمت ترجمته في 1/ 121. وذكر له الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/ 549 كتابًا في الضعفاء، كما نجد بعض آثاره في تاريخ التراث العربي 1/ 1 / 262. (¬2) في الأصل: «القارئ والمستمع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْجُدِ التالي لم يَسْجُدِ المُسْتَمِعُ. وقال الشافعيُّ: يَسْجُد: لوُجُودِ الاسْتِماعِ، وهو سَبَبُ السُّجُودِ. وقال القاضي: إذا كان التالِي في غيرِ صلاةٍ، وهناك مسُتمع للقِراءَةِ فلم يَسْجُدِ التالِي، لم يَسْجُدِ المُسْتَمِعُ، في ظاهِرِ كَلامِه. فدَلَّ على أنَّه قد رُوِيَ عنه السُّجُودُ. ولَنا، ما رَوَيْنا من الحَدِيثِ، ولأنه تابع له، فلم يَسْجُدْ بدُونِ سُجُودِه، كما لو كانا في الصلاةِ. وإن كان التّالِي في صلاة دُونَ المُسْتَمع، سَجَد معه. وإن كان المُسْتَمِعُ في صلاةٍ أخْرَى لم يَسْجُدْ، ولا يَنْبَغِي له الاسْتِماعُ؛ لقولِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّ في الصَّلَاةِ لَشُغْلا». مُتفَق عليه (¬1). فعلى هذا، لا يَسْجُدُ إذا فَرَغ مِن الصلاةِ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْجُدُ؛ لأنَّ سَبَبَ السجُودِ وُجِدَ، وامْتَنَعَ لمُعارِض (¬2)، فإذا زال المُعارِضُ سَجَد. ولَنا، أنَّه لو تَرِك السجُودَ لتِلاوَتِه في الصلاةِ لم يَسْجُدْ بعدَها، فلِئَلَّا يَسْجُدَ ثم بحُكْمِ تِلاوَةِ غيرِه أولَى. وعن أحمدَ في المسْتَمِعِ، أنَّه يَسْجُدُ إذا كان في تَطَوُّع؛ سَواء كان التالِي في صلاةٍ أخْرَى، أو لم يَكُنْ. قال شيخُنا (¬3): والأولُ أصَحُّ؛ لأنه ليس بإمام له، فلا يَسْجُدُ لتِلاوَتِه، كما لو كان في فَرْضٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 33. (¬2) في م: «المعارض». (¬3) في: المغني 2/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والرُّكُوعُ لا يَقُومُ مَقامَ السُّجُودِ. وحَكَى صاحِبُ «المسُتوْعِبِ» رِوايَة عن أحمدَ، أن رُكُوعَ الصلاةِ يَقُومُ (¬1) [مَقامَ السُّجُودِ. وقال أبو حنيفةَ: يَقُومُ] (¬2) مَقامَه؛ لقَوْلِه تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬3). ولَنا، أنَّه سُجُود مَشروع، فلم يَقُمِ الرُّكُوعُ مقامَه، كسُجُودِ الصلاةِ، والآيَةُ أُريدَ بها السُّجُودُ، وعَبر عنه بالركُوعِ؛ بدَلِيلِ أنّه قال: {وَخَرَّ}. ولا يُقالُ للراكِع: خَر. وإنما رُوِيَ عن داودَ عليه السلامُ السُّجُودُ، ولو قُدِّرَ أنَّ داودَ رَكَع حَقِيقَةً، لم يَكُنْ فيه حُجَّةٌ؛ لأنَّه إنما فَعَل ذلك توْبَةً، لا لسُجُودِ التلاوَةِ. ¬

(¬1) في «تش» «لا يقوم». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة ص 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا قَرَأ السَّجْدَةَ في الصلاةِ في آخِرِ السُّورَةِ؛ فإن شاء رَكَع، وإن شاء سَجَد، ثم قام فقَرَأ شيئًا مِن القُرآنِ ثم رَكَع، وإن شاء سَجَد ثم قام فرَكَعَ مِن غيرِ قراءَة. نَص عليه أحمدُ. وهذا قولُ ابنِ مسعود، والربِيعِ بنِ خُثَيْم (¬1)، وإسحاق، وأصحابِ الرأيِ. ورُوِيَ عن عُمَرَ، أنَّه قَرَأ بالنَّجْمِ فسَجَدَ فيها، ثم قام فقَرَأ سُورَةً أخْرَى. فصل: وإذا قَرَأ السَّجْدَةَ على الراحِلَةِ في السَّفَرِ، أوْمَأ بالسجودِ حيث كان وَجْهه. وقال القاضي: إن أمْكَنَه أن يَسْتَفتِحَ بها القِبْلَةَ فَعلَه، وإن كان لا تُطِيقُ دابتُهُ، احْتَمَلَ أن لا يَسْتَفْتِحَ بها، واحْتَمَلَ أنَّه لا بُد مِن الاسْتِفْتاحِ. وقد رُوِيَ الإيماءُ به على الراحِلةِ عن عليٍّ، وسعيدِ بنِ زَيْدٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ الزبَيْرِ. وبه قال مالك والشافعي، وأبو ثَوْر، وأصحابُ الرَّأيِ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ عامَ الفَتْح سَجْدَةً، ¬

(¬1) في م: «خيثم». وهو الرَّبيع بن خثيم من عائذ الثَّوريّ الكُوفيّ أبو يزيد، من كبار التابعين روى عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مرسلًا، تُوفِّي بعد مقتل الحسين بن عليّ سنة ثلاث وستين. تهذيب التهذيب 3/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فسَجَدَ النَّاسُ كلهم؛ منهم الراكِب والسَّاجدُ بالأرض، حتَّى إن الرّاكِبَ ليَسْجُدُ على يده. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأَنه صلاةُ تَطَوُّع، أشْبَهَ سائِرَ التَّطَوعِ. وإن كان ماشيًا سَجد بالأرض، وبه قال أبو العالِيَةِ، وأبو ثوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْيِ؛ لِما ذَكَرْنا. وقال الأسْودُ بنُ يَزِيدَ (¬2)، وعَلْقَمةُ، وعَطاء، ومجاهِد: يُومِئُ. وقد قال أبو الحسنِ الآمِدِي، في صلاةِ الماشِي: يومِئُ. وهذا مثله. ¬

(¬1) في: باب في الرَّجل يسمع السجدة وهو راكب أو في غير الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 326. (¬2) في الأصل: «زيد».

512 - مسألة؛ قال: (وهو أربع عشرة سجدة)

وَهُوَ أربَعَ عَشَرةَ سَجْدَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 512 - مسألة؛ قال: (وهو أربَعَ عشرةَ سَجْدَة) اخْتَلَفُوا في سُجُودِ القُرآنِ، فالمشهُورُ في المَذهْبَ أن عَزائِمَ السُّجُودِ أربَعَ عَشرةَ سَجْدَة؛ منها ثَلاث في المُفَصَّلِ، وليس منها سَجْدَةُ ص، ومنها اثْنَتان في الحَجِّ. وهذا أحَدُ قَوْلَى أبي حنيفةَ، والشافعيّ، إلَّا أن أَبا حنيفةَ جَعَل سَجْدَةَ ص بَدلًا من السَّجْدَةِ الثَّانِيَة مِن الحَجِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّها خَمسَ عشرةَ، منها سَجْدَةُ ص. ورُوِيَ ذلك عن عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ، وهو قولُ إسحاقَ، لِما رُوىَ عن عَمرِو به. العاص، أن رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أقْرَأه خمسَ عشرةَ سَجْدَة، منها ثَلاث في المُفَصَّلِ، وفي الحَجِّ سَجْدَتان (¬1). رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬2). وقال مالك في رِواية، والشافعي في قول: عَزائِمُ السُّجُودِ إحدَى عَشرةَ سَجْدَةً. ويروَى هذا القولُ عن ابن عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، منها سَجْدَةُ ص، وأولُ الحَجِّ دُونَ آخِرِها، وليس فيها سَجَداتُ المفَصَّلِ. ورُوِيَ عن ابن عباس أنَّه عدَّها عَشرًا، وأسْقَطَ منها سَجْدَةَ ص، لِما روَى أبو الدرداءِ، قال: سَجَدتُ مع النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إحدَى عشرةَ سَجْدَة (¬3)، ليس فها مِن المُفَصَّلِ شيءٌ. ¬

(¬1) في م: «اثنتان». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 324. وابن ماجه، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: باب عدد السجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 335. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه ابنُ ماجه (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: إنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم يَسْجدْ في شئٍ مِن المُفَصَّلِ منذُ تَحَوَّلَ إلى المَدِينَةِ. رواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، ما روَى أبو رافِع، قال: صَليْتُ خلفَ أبي هُرَيْرَةَ العَتَمَةَ، فقَرَأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. فسَجَدَ، فقُلْتُ: ما هذه السَّجْدَةُ؟ قال: سَجَدتُ بها خلفَ أبي القاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلا أزالُ أسْجُدُ فيها حتَّى ألْقاه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن أبي هُرَيرةَ، قال: سَجَدنا مع رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. أخْرَجَه مسلمٌ (¬4). وعن عبدِ اللهِ ¬

(¬1) في: باب عدد سجود القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 335. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في سجود القرآن، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 48. والإمام أَحْمد، في المسند 5/ 194، 6/ 442 (¬2) في: باب من لم ير السجود في المفصل، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 324. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الجهر في العشاء، وباب القراءة في العشاء بالسجدة، من كتاب الأذان، في: باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها، من كتاب السجود. صحيح البُخَارِيّ 1/ 194، 2/ 52. ومسلم، في: باب سجود التلاوة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 407. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى فيها (في سورة النجم) سجودا، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 325. وابن ماجه، في: باب عدد سجود القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 336. (¬4) في: باب سجود التلاوة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 406. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى فيها (في سورة النجم) سجودا، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 325. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في السجدة في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذي 3/ 56. وابن ماجه، في: باب عدد سجود القرآن، من باب إقامة الصلاة سنن ابن ماجه 1/ 336. والدارمي، في: باب السجود في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَرَأ سُورَةَ النَّجْمِ، فسَجَدَ فيها، وما بَقِيَ مِن القَوْمِ أحَدٌ إلَّا سَجَد. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا مُقَدَّم على قولِ ابنِ عباس؛ لأنه إثْبات، والإثْباتُ مُقَدَّمٌ على النَّفْيِ، وأبو هُرَيرةَ إنَّما أسْلَمَ بعدَ الهِجْرَةِ فِي السنةِ السابِعَةِ، ويمكِنُ الجَمعُ بينَ الأحادِيثِ بحَملِ السُّجُودِ على الاسْتِحبابِ، وتركِه السُّجودَ يَدُلُّ على عَدَمِ الوُجُوب، فلا تَعارُضَ إذًا. وأمّا رِوايَةُ كَوْنِ السُّجُودِ خَمسَ عَشْرَةَ، فمَبْناه على أنَّ منها سَجْدَةَ ص. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ، وابنه، وعثمانَ، أنَّهم سَجَدُوا فيها، وهو قَوْلُ الحسنِ، ومالكٍ، والثَّوْري، وأصحابِ الرأيِ؛ لِما روَى ابنُ عباس، أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد فيها (¬2). وظاهِرُ المَذْهبِ أنَّها ليست مِن عَزائِمَ السُّجُودِ. رُوِيَ ذلك عن [بنِ مسعودٍ] (¬3) وابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب سجدة النجم، من كتاب السجود، وفي: باب ما لقى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصحابه من المشركين بمكة، من كتاب مناقب الْأَنصار. صحيح البُخَارِيّ 2/ 50، 51، 5/ 57. ومسلم، في: باب سجود التلاوة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 450. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى فيها (سورة النجم) سجودا، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 325. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 388، 401، 437. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب السجود في صف، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 325. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَلْقَمَةَ. وهو قولُ الشَّافعيِّ؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: قَرَأ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على المِنبَرِ ص، فنَزَلَ فسَجَدَ، وسَجَد النَّاسُ معه، فلَمّا كان يَوْمٌ آخَرُ قَرَأها، فلما بَلَغ السجْدَة تَشَزَّنَ النَّاسُ (¬1) للسُّجُودِ، فقال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّما هِيَ تَوْبَةُ نَبيٍّ، وَلَكنِّي رَأيْتُكم تَشزَّنتُم لِلسجُودِ». فنَزَلَ، فسَجَدَ، وسَجَدُوا. رواه أبو داودَ (¬2). وعن ابنِ عباس، أنّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد في ص، وقال: «سَجَدَها دَاوُدُ تَوْبَةً، وَنحنُ نَسْجُدُها شُكْرًا». أَخْرَجه النَّسائيُّ (¬3). وقال ابنُ عباس: ليست ص مِن عَزائِمِ السُّجُودِ. والحديثُ الذى ذَكَرنَاه للروايةِ الأولَى مِن أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد فيها، يَدُلُّ على أنَّه إنما سَجَد فيها [شُكْرًا، كما بَينَ في حَدِيثِ ابنِ عباس. فإذا قُلْنا: ليست مِن عَزائمِ السجُودِ، فسَجَدَهَا] (¬4) في الصلاةِ، احتَمَلَ أن لا تَبْطُلَ صلاتُه؛ لأنَّ سَبَبَها القِرَاءَةُ في الصلاةِ، أشْبَهَتْ عَزائِمَ السجُودِ، واحتَمَلَ أن تَبْطُلَ صلاتُه إذا فَعَل ذلك عَمدًا، كسائِرِ سُجُودِ الشكْرِ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) تشزّن النَّاس: استوفزوا وتأهبوا له ويهيأوا. (¬2) في الموضع السابق. (¬3) في. باب سجود القرآن، السجود في ص؛ من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 123. (¬4) سقط من: الأصل.

513 - مسألة؛ قال: (في الحج منها اثنتان)

فِي الْحَجِّ مِنْها اثْنَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 513 - مسألة؛ قال: (في الحَجِّ منها اثْنَتان) وهذا قول الشَّافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وممَن كان يَسْجُدُ فها سَجْدَتَيْن؛ عُمَرُ، وعليٌّ، وعبدُ الله بن عُمَرَ (¬1)، وأبو الدرداءِ، وأبو موْسى. وقال ابنُ عباس: فَضُلَتِ الحَج بسَجْدَتَيْن. وقال الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْر، والنخَعيُّ، ومالك، وأصحابُ الرأيِ: ليستِ الثانِيَةُ بسَجْدَةٍ (¬2)، لأنَّه جَمَع فيها بينَ الركُوعِ والسُّجُودِ، فلم تَكُنْ سَجدَة، كقولِه: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬3). ولَنا، حديثُ عمرِو بنِ العاص، الذى ذكَرْناه (¬4). وعن عُقْبَةَ بنِ عامِر، قال: قلتُ لرسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: في سُورَةِ الحَج سَجْدَتان؟ قال: «نَعَم، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدهُمَا فَلَا يَقْرَأهمَا». رَواه أبو داودَ (¬5). وقال أبو إسْحاقَ: أدرَكْتُ النَّاسَ منذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُون في الحَجِّ سَجْدَتَيْن. وقال ابنُ عُمَرَ: لو كُنْتُ تارِكًا إحداهما، لتَرَكْتُ الأولَى. وذلك لأن الأولَى أخبار، والثانِيَةَ أمْرٌ، واتباعُ الأمرِ أوْلَى. فصل: ومَواضِعُ السَّجَدات؛ آخِرُ، الأعرافِ، وفي ¬

(¬1) في الأصل: «عمرو». (¬2) في الأصل: «تسجد». (¬3) سورة آل عمران 43. (¬4) تقدم في صفحة 220. (¬5) في: باب تفريع أبواب السجود، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 324. كما أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في السجدة في الحج، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 59. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 151.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّعْدِ: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬1). وفي النخلِ: {ويَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ} (¬2). وفي بنِي إسرائِيلَ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬3). وفي مَريَمَ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬4). وفي الحَج: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}. والثانِيَةُ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5). وفي الفُرقانِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬6). وفي النملِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬7). وفي ألمَ تنزيل السجْدَةُ: {وَهمْ لَا يَسْتَكبِرُون} (¬8). وفي حمَ السَّجْدَةُ: {وَهمْ لَا يَسْئَمونَ} (¬9). وآخِرُ النَّجْمِ، وفي سُورَةِ الانْشِقاقِ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (¬10). وآخِرُ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّك: {وَاقْتَرِبْ} (¬11). ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أن السُّجُودَ في حمَ عندَ قَولِه: {إيَّاهُ تَعبُدُونَ} (¬12). وحَكاه ابنُ أبي موسى. وبه قال ¬

(¬1) الآية 15. (¬2) الآية 50. (¬3) الآية 109. (¬4) الآية 58. (¬5) الآيتان 18، 77. (¬6) الآية 60. (¬7) الآية 26. (¬8) سورة السجدة 15. (¬9) سورة فصلت 38. (¬10) الآية 21. (¬11) سورة العلق 19. (¬12) سورة فصلت 37.

514 - مسألة؛ قال: (ويكبر إذا سجد، وإذا رفع)

وَيكَبِّرُ إذَا سَجَدَ، وإذَا رَفَعَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وِأصحابُ عبدِ اللهِ، والليْثُ، ومالكٌ؛ لأنَّ الأمرَ بالسجُودِ فيها. ولَنا، أنَّ تَمامَ الكَلامِ في الثانيةِ، فكان السُّجُودُ بعدَها، كما في سَجْدَةِ النَّحْلِ عندَ قَوْلِه: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وذِكرُ السَّجْدَةِ في التى قَبْلَها. 514 - مسألة؛ قال: (ويُكَبِّرُ إذا سَجَد، وإذا رَفَع) (¬1) متى سَجَد للتلاوَةِ فعليه التَّكبِيرُ للسجُودِ والرَّفْع منه، في الصلاةِ وغيرِها. وبه قال الحسن (¬2)، وابنُ سيرِينَ، والنخَعيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ ¬

(¬1) في الأصل: «ركع». (¬2) في الأصل: «إسحاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّأْيِ. وبه قال مالكٌ، إذا سَجَد في الصلاة. واخْتَلَفَ (¬1) عنه في غيرِ الصلاةِ. وقال ابنُ أبي موسى: في التكْبِيرِ، إذا رَفَع رَأسَه مِن سُجودِ التلاوَةِ، اخْتِلافٌ في (¬2) الصلاةِ وغيرِها. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقْرَأ علينا القرآنَ، فإذا مَر بالسجْدَةِ كَبر وسَجَد، وسَجَدنا معه. قال عبدُ الرزّاقِ: كان الثوْرِي يعجبُه هذا الحديثُ. قال أبو داودَ: يعجبُه؛ لأنه كَبر. رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّه سُجُود مُنْفردٌ، فشُرِعَ التكْبِير في ابْتِدائِه والرفع منه، كسُجُودِ السهْوِ بعدَ السلامَ. فصل: ولا يُشْرَعُ في ابتداءِ السجُودِ أكثرُ من تَكبِيرَةٍ. وقال الشَّافعيّ: إذا سَجَد خارِجَ الصلاةِ كَبر تَكبِيرَتَيْن؛ للافْتِتاحِ، والسُّجُودِ، كما لو صَلى رَكْعَتَيْن. ولَنا، حديثُ ابنِ عُمَرَ، وظاهِره أنَّه كبر واحِدَةً، ولأنَّ معرِفَةَ ذلك مِن الشرعَ، ولم يرد به، ولأنه سُجُود مُفْرَد، فلم يُشرع فيه تَكبِيرَتان، كسُجُودِ السَّهْوِ، وقِياسُهُم يَبْطُلُ بسُجُودِ السهْوِ، وقِياسُ هذا على سُجُودِ السَّهوِ أوْلَى مِن قِياسِه على الركْعَتَيْن؛ لشَبَهِه به، ولأن الإحرامَ بالركْعَتَيْن يَتَخلل بينَه وبينَ السُّجُودِ أفْعال كثيرَةَ، فلذلك لم يُكتَفَ بتَكْبِيرَةِ الإحرام عن تَكبِيرَةِ السُّجُودِ، بخِلافِ هذا. ¬

(¬1) أي النقل. (¬2) في الأصل: «خلاف». (¬3) في: باب في الرَّجل يسمع السجدة وهو راكب، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 236.

515 - مسألة: (ويجلس ويسلم، ولا يتشهد)

وَيَجْلِسُ وَيُسَلِّمُ، وَلَا يَتَشَهدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 515 - مسألة: (ويَجْلِسُ ويسَلمُ، ولا يَتَشَهَّدُ) المشْهُورُ عن أحمدَ، أنَّ التسْلِيمَ واجِبٌ في سُجُودِ التِّلاوَةِ. وبه قال أبو قلابَة، وأبو عبدِ الرحمنِ؛ لقولِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «تَحرِيمها التكْبِير، وَتَحلِيلُها التَّسْلِيم» (¬1). ولأنَّها صلاةٌ ذاتُ إحرامٍ، فوَجَبَ السَّلامُ فيها، كسائِرِ الصلواتِ. وفيه رِوايَة أخْرَى، لا تَسْلِيمَ فيه (¬2). وبه قال النخعيُّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 407. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبير. ورُوِيَ ذلك عن أبي حنيفةَ. واخْتَلَف قولُ الشَّافعيّ فيه. قال أحمدُ: أمَا التَّسْلِيمُ فلا أدرِي ما هو؛ لأنه لم ينقَلْ عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-[فيه سَلامٌ] (¬1). فعلى قَوْلنا بوُجُوبِ السلامِ يُجْزِئُه تَسْلِيمَة واحِدة (¬2). نص عليه أحمدُ. وبه قال إسحاقُ، قال: يقولُ: السلامُ عليكم. وذَكَر القاضي في «المُجَردِ» عن أبي بكر، رِوايَة، لا تُجْزِئُه إلَّا اثْنَتان. والصحِيحُ الأولُ؛ لأنَّها صلاةٌ ذات إحْرام لا رُكُوعَ فيها، أشبهتْ صلاةَ الجنازَةِ، ولا تَفْتَقِرُ إلى تَشَهُّدٍ. نَص عليه أحمدُ؛ لأنه لم يُنْقَلْ عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا عن أحَدٍ مِن أصحابه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه يَفْتَقِر إلى التشَهدِ، قِياسًا على الصلاةِ. ولَنا، أنها صلاة لا رُكوعَ فيها، فلم تفْتَقر إلى تَشهدٍ، كصلاةِ الجِنازَةِ، ولا يَسْجُدُ فيه للسَّهْوِ، كصلاةِ الجِنازَةِ. فصل: ويقولُ في سُجُودِه ما يَقُولُ في سُجُودِ صلْبِ الصلاةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن قال ما رُوِيَ عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فحَسَن. قالَتْ عائشةُ: إن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقولُ في سُجُودِ القُرآنِ بالليْلِ: «سَجَدَ وَجْهى لِلذِي خَلَقَهُ ¬

(¬1) سقط س. م. (¬2) سقط من: م.

516 - مسألة؛ قال: (وإذا سجد في الصلاة رفع يديه. نص عليه. وقال القاضي: لا يرفعهما)

وَإنْ سَجَدَ فِي الصَّلَاةِ رَفَع يَدَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يرفَعُهُا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَصَوَّرهُ، وَشَقَّ سَمعَهُ وَبَصَرهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» (¬1). قال الترمِذِي: هذا حديث حسن صحيح. وعن ابنِ عباس، قال: جاء رجل إلى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال: يَا رسولَ الله إنِّي رَأيْتُنِي اللَّيْلَةَ أُصَلِّي خلفَ شَجَرَةٍ، فقَرَأْتُ السجْدَةَ، فسَجَدْتُ، فسْجَدَتِ الشجرَةُ لسُجُودِي، فسَمعْتُها وهي تقولُ: اللَّهُمَّ اكتب لي بها عندَك أجْرًا، وضَع عَنى بها وِزْرًا، واجْعَلْها لِي عندَكْ ذُخْرا، وتَقَبلَها مِنِّي كما تَقَبَّلْها مِن عَبْدِك داودَ. فقَرَأ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجدَةً ثم سَجَد، فقالَ ابنُ عباس: فسَمِعتُه يقُولُ مثلَما أخْبرَه الرجلُ عن قولَ الشَّجَرَةِ. رواه أبو داودَ، وابنُ ماجه، والتِّرْمِذِيّ (¬2)، وقال: غريب. ومهما قال مِن نحوِ ذلك فحَسَنٌ. 516 - مسألة؛ قال: (وإذا سَجَد في الصلاةِ رَفَع يدَيْه. نَصَّ عليه. وقال القاضي: لا يرفَعُهما) متى سَجَد للتِّلاوَةِ خارِجَ الصلاةِ رَفَع ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا سجد، من كتاب السجود. سنن أبي داود 1/ 327. والتِّرمذيّ، في: باب يقول في سجود القرآن، من أبواب الصلاة، وفي: باب يقول في سجود القرآن، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 3/ 60، 12/ 310. والنَّسائي، في: نوع آخر من الدعاء، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 175، 176. والإمام أَحْمد، في: المسند 7/ 216. وتقدم غيره من حديث على بن أبي طالب في 3/ 504. (¬2) لم نجده عند أبي داود. وأخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما يقول في سجود القرآن، من كتاب الجمعة، وفي: باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 3/ 60، 12/ 310. وابن ماجه، في: باب سجود القرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 334.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدَيْه في تَكْبِيرَةِ الابتِداءِ؛ لأنَّها تَكْبِيرَةُ إحرام (¬1)، وإن كان في الصلاةِ فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لِما روَى وائِلُ بنُ حُجْر، قال: قلْتُ لأنظُرَن إلى صلاةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان يُكبر إذا خَفَض ورَفَع، ويَرفَعُ يَدَيْه في التكبيرِ (¬2). قال أحمدُ: هذا يدخُلُ في هذا كلِّه. وفي رِوايَةِ أخْرَى، لا يرفعُ يَدَيْه في الصلاةِ. اخْتَاره القاضي. وهوِ قِياسُ المَذْهبَ، لقولِ ابنِ عُمَرَ، وكان لا يَفْعَلُ ذلك في السُّجُودِ. مُتفق عليه (¬3). ويَتَعينُ تقْدِيمُه على حديثِ وائِلِ بنِ حُجْر؛ أنَّه أخَص منه، ولذلك قُدِّمَ عليه في سُجُودِ الصلاةِ، كذلك هاهُنا. ¬

(¬1) في م: «الإحرام». (¬2) أخرجه أبو داود: كتاب رفع اليدين في الصلاة، وباب كيف الجلوس في التشهد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 167، 219. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء كيف الجلوس في التشهد، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 86. والنَّسائي، في: باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، من كتاب افتتاح الصلاة، وفي: باب مكان اليدين من السجود، من كتاب التطبيق، وفي: باب موضع المرفقين، وباب قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى، من كتاب السهو. المجتبي 2/ 97، 98، 167، 3/ 30 - 33. وابن ماجه، في: باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 281. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 316، 318. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 418.

517 - مسألة: (ولا يستحب للإمام السجود في صلاة لا يجهر فيها)

وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإمَامِ السُّجُودُ فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهرُ فِيها، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ اخْتِصارُ السُّجُودِ، وهو أن يَنْتَزِعَ الآيات التى فيها (¬1) السُّجُودُ، فيَقْرَأَها، ويَسْجُدَ فيها. وبه قال الشَّعبِي، والنخعيُّ، والحسنُ، وإسحاقُ. ورَخَّصَ فيه أبو حنيفةَ، ومحمدٌ، وأبو ثَورٍ. وقِيل: اخْتِصارُ السُّجُودِ أن يَحْذِف في القِراءَةِ آياتِ السُّجُودِ. وكِلاهما مَكْرُوهٌ؛ لأنه لم يروَ عن السلَفِ، رَحِمَهم اللهْ، بل المَنْقُولُ عنهم كَراهتُه. 517 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ للإمامِ السُّجُودُ في صلاةٍ لا يُجْهرُ فيها) قال بعضُ أصحابِنا: يكرهُ للإمام قراءةُ السجْدَةِ في صلاةِ السِّر، فإن قَرأ لم يَسْجدْ. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأَنَّ فيه إيهامًا على المَأمُومِ. وقال الشَّافعيّ: لا يُكرهُ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سَجَد في الظهْرِ، ثم قام فرَكَعَ، فَرأَى أصحابُه أنَّه قرَأ سُورَةَ السجْدَةِ. رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «قبلها». (¬2) في: باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 186.

518 - مسألة: (فإن سجد، فالمأموم مخير بين اتباعه وتركه)

فَإنْ فَعَلَ، فَالْمَأمُومُ مُخَير بَيْنَ أتباعِهِ وتَركِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): واتِّباعُ سُنةِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أوْلَى. 518 - مسألة: (فإن سَجَد، فالمَأمُومُ مُخَيَّر بينَ اتباعِه وتَركِه) كذلك قال بعضُ أصحابِنا؛ لأنه ليس بمَسْنُونٍ للإمامِ، ولم يُوجَدْ الاسْتِماع المُقْتَضِي للسُّجُودِ. قال شيخُنا (¬2): والأوْلَى السجُودُ؛ لقول النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» (¬3). وما ذَكَرُوه يَبْطُل بما إذا كان المَأمُومُ بَعِيدًا، أو أُطْرُوشًا في صلاةِ الجَهْرِ، فإنَّه يَسْجد بسُجُودِ إمامِه، وإن لم يَسْمَع. ¬

(¬1) انظر: المغني 2/ 371. (¬2) في: المغني 2/ 371. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 416.

519 - مسألة: (ويستحب سجود الشكر عند تجدد

وَيُسْتَحَبُّ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النَّعَمِ، وَانْدِفَاعِ النَّقَمَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 519 - مسألة: (ويُسْتَحَب سُجُودُ الشُّكر عندَ تَجَدُّدِ (¬1) النِّعَمِ، وانْدِفاعِ النِّقَمِ) وبهذا قال الشَّافعيّ، وإسحاقُ، وأبو ثَور، وابن المُنْذِرِ. وقال النَّخَعيُّ، ومالك، وأبو حنيفةَ: يُكْرهُ؛ لأَنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان في أيامِه الفُتُوحُ، واسْتَسْقَى فسُقِيَ، ولم يُنْقَلْ أنَّه سَجَد، ولو كان مُسْتَحبا لم يُخِلَّ به. ولَنا، ما روَى أبو بَكْرَةَ، أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا أتاهُ أمرٌ [يُسَرُّ به] (¬2) خرَّ ساجِدًا. رَواه ابنُ المُنْذِرِ (¬3). وسَجَد الصديقُ حينَ ¬

(¬1) في الأصل: «تجديد». (¬2) في الأصل: «يسره». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في سجود الشكر، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 81. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في سجدة الشكر، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 73. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة، والسجدة عند الشكر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 446.

520 - مسألة: (ولا يسجد له في الصلاة)

وَلَا يَسْجُدُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بُشِّرَ بفَتْحِ اليَمامَةِ (¬1)، وعليٌّ حينَ وَجَد ذا الثُّدَيَّة (¬2)، ورُوِيَ عن غيرِهما مِن الصحابَةِ، فثَبَتَ ظُهُورُه وانْتشارُه. وتَرْكه تارَةً لا يَدُل على عَدَمِ اسْتِحْبابِه، فإن المُسْتَحَب يفْعَلُ تارَةً، ويُتْرَكُ أخْرَى. وصِفَة سُجُودِ الشُّكْرِ كصِفَةِ سُجُودِ التلاوَةِ في أفْعالِه وأحْكامِه وشُرُوطِه، على ما بَيَّنَّا. 520 - مسألة: (ولا يَسْجُدُ له في الصلاةِ) لا يَجُوزُ أن يَسْجُد ¬

(¬1) أخرجه عبد الرَّزّاق، في: باب سجود الرَّجل شكرًا، من كتاب فضائل القرآن. المصنف 3/ 358. والبيهقي، في: باب سجود الشكر، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 371. (¬2) كان من صفة ذى الثدية أن له عضدا وليس له ذراع، وعلى رأس عضده مثل حلمة الثدى، وكان من الخوارج على عليٍّ رضي الله عنه، وتجد خيره في: الإصابة 2/ 409، 410، كما أن حديثه أخرجه مسلم، في: باب التحريض على قتل الخوارج، من كتاب الزكاة، صحيح مسلم 2/ 748، 749. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج؛ من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 543.

فَصْلٌ: فِي أوْقَاتِ النَّهْيِ، وَهِيَ خَمسَةٌ؛ بعدَ طُلُوعِ الْفَجْر ـــــــــــــــــــــــــــــ للشُّكْرِ في الصلاةِ؛ لأن سَبَبَه ليس منها، فإن فَعَل بَطَلَتْ صلاتُه إن كان عَمدًا، كما لو زاد فيها سُجُودًا غيرَه، وإن كان ناسِيًا، أو جاهِلًا بتَحرِيم ذلك لم تَبْطُلْ صلاتُه، كما لو زاد في الصلاةِ سُجُودًا ساهِيًا. والله أعلمُ. وقال ابن الزاغونيِّ: يَجُوزُ في الصلاةِ. والأوَّلُ أوْلَى. فصل: في أوْقاتِ النهْيِ، وهي خَمسَة؛ بعدَ طُلُوعِ الفَجْر حتَّى تَطْلُع

حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمس، وَبَعدَ الْعَصرِ، وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمس حَتَى ترتَفِعَ قِيدَ رمْح، وَعِنْدَ قِيَامها حَتَى تَزُولَ، وإذا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ حَتى تَغْرُبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمسُ، وبعدَ العصرِ، وعندَ طُلُوعِها حتَّى ترتَفِعَ قِيدَ رُمْحٍ، وعندَ قِيامِها حتَّى تَزُول، وإذا تَضَيَّفَتْ (¬1) للغرُوبِ حتَّى تَغْرُبَ) كذلك عَدَّها ¬

(¬1) تضيفت للغروب؛ أي مالت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُنا خمسَةَ أوْقاتٍ كما ذَكرنا. وقال بعضُهم: الوَقْتُ الخامس مِن حينِ شُرُوعِ الشَّمس في الغُرُوبِ إلى تَكامُلِه؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمس فَأخرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإذَا غَابَ حَاجبُ الشَّمس فَأخرُوا الصلَاةَ حَتى تَغِيب» (¬1). ووَجْهُ القولِ الأَولِ حديثُ عُقْبَةَ بنِ عامِر الذى نَذْكُرُه، إن شاء الله تَعالَى. قال شيخُنا (¬2): والمَنْهِيُّ عنه مِن الأوْقاتِ عندَ أَحْمد: بعدَ الفَجْرِ حتَّى تَرتَفِعَ الشَّمس، وبعدَ العَصرِ حتَّى تَغْرُبَ، وعندَ قِيامِها حتَّى تَزُولَ. وهو في مَعنَى قول الأصحابِ. وهذه الأوْقاتُ مَنْهىٌّ عن الصلاةِ فيها، وهو قولُ الشَّافعيّ، وأصحابِ الرأيِ. والأصلُ فيها ما روَى ابنُ عباس، قال: شَهِد عندِي رجال مَرضِيُّونَ، وأرضاهم عندِي عُمَرُ، أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَهى عن الصلاةِ بعدَ الصُّبحِ حتَّى تُشْرِقَ الشمسُ، وبعدَ العَصْرِ حتَّى تَغْرُبَ ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة بعد الفجر حتَّى ترتفع الشَّمس، من كتاب مواقيت الصلاة، وفي: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق. صحيح البُخَارِيّ 1/ 152، 4/ 149. ومسلم، في باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 568. والنَّسائي، في: باب النهي عن الصلاة بعد العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 224. والإمام مالك، في: باب النهي عن الصلاة بعد الظهر وبعد العصر، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 220. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 13، 19، 106. (¬2) انظر: المغني 2/ 523.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمسُ. وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا صَلَاةَ بعدَ الصُّبحِ حَتى ترتَفِعَ الشَّمس، وَلَا صَلَاةَ بعدَ الْعصرِ حَتى تَغِيبَ الشَّمسُ». مُتفَق عليهما (¬1). وعن عُقْبَةَ بنِ عامِر، قال: ثَلاث ساعات كان النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَنْهانا أن نُصَلِّيَ فيهِن، وأن نَقْبرَ فيهِن مَوْتانا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمس بازِغَة حتَّى ترتَفِعَ، وحِينَ يَقُومُ قائمُ الظهِيرَةِ حتَّى تَمِيلَ، وحِينَ تتَضَيَّفُ الشَّمس للْغُرُوبِ حتَّى تَغْرُبَ. وعن عمرِو بنِ عَبَسَة (¬2)، قال: قلتُ يَا رسولَ الله، أخْبرني عن الصلاةِ قال: «صَلِّ صَلَاةَ الصبح، ثُمَّ أقصر عَنِ الصلَاةِ حَتى (¬3) تَطْلُعَ الشَّمس حَتَّى ترتَفِعَ؛ فَإنها تَطْلُعُ حِينَ ¬

(¬1) الأول أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة بعد الفجر حتَّى ترتفع الشَّمس، من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 152. ومسلم، في: باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 567 كما أخرجه أبو داود في: باب من رخص في الركعتين بعد العصر إذا كانت الشَّمس مرتفعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 294. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 296. والنَّسائي، في: باب النهي عن الصلاة بعد الصبح، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 222. وابن ماجه، في: باب النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد الفجر، من أبواب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 396، الدَّارميّ، في: باب أي ساعة يكره بها الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 333. والثاني: أخرجه البُخَارِيّ، في: باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشَّمس، من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 152. ومسلم، في: باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 567. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب النهي عن الصلاة بعد العصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 223. وابن ماجه، في: باب النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 395. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 64. (¬2) في م: «عنبسة». وكذلك في المواضع الآتية. (¬3) في م: «حين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطْلُعُ بَيْنَ قرنَيْ شَيْطَان، وحِينَئذٍ يَسْجُدُ لَها الْكُفارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإنَّ الصَّلَاةَ مَحضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمْحِ، ثم أقصر عن الصَّلَاةِ؛ فإنَّه حيِنَئِذٍ تُسْجَرُ جهنَّمُ، فَإذَا أقْبَلَ الفَيْءُ فَصَلِّ، فإنَّ الصلَاة مَشْهُودَةٌ مَحضورَةٌ، حَتَّى تُصَلىَ الْعصرَ، ثُم أقْصر فَي الصَّلَاةِ حَتَى تَغْربَ الشَّمس؛ فإنَّها تَغْرُبُ بَيْنَ قَرنيْ شَيْطَانٍ، وَحِينئذٍ يَسْجُدُ لَها الْكُفَّارُ». رَواهما مسلمٌ (¬1). وقال ابن المُنْذِرِ: إنَّما المَنْهِيُّ عنه الأوْقاتُ الثَّلَاثةُ التى في حديثِ عُقْبَةَ؛ بدَليل تَخْصِيصِها بالنَّهْيِ في حدِيثِه. وقَوْلُه: «لَا تُصَلُّوا بَعدَ الْعصرِ إلَّا أنْ تُصَلُّوا وَالشَّمسُ مُرتَفِعَةٌ». رَواه أبو داودَ (¬2). وقالت ¬

(¬1) حديث عقبة أخرجه مسلم، في: باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 568، 569. كما أخرجه أبو داود، في: باب الدفن عند طلوع الشَّمس وعند غروبها، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 185. والتِّرمذيّ، في: باب جاء في كراهية الصلاة علي الجنازة عند طلوع الشَّمس وعند غروبها، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذي 4/ 247، 248. والنسائي، في: باب الساعات التي نهى عن الصلاة فيها، وباب النهي عن الصلاة نصف النهار، من كتاب المواقيت، وفي: باب الساعات التي نهى عن إقبار الموتي فيهن، من كتاب الجنائز. المجتبى 1/ 221 - 223، 4/ 67. وابن ماجه، في: باب جاء في الأوقات التي لا يصلي فيها على الميت ولا يدفن، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 486، 487. والدارمي، في: باب أي ساعة يكره فيها الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 333. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 152. وحديث عمرو تقدم تخريجه في صفحة 183. (¬2) عن على -رَضِيَ الله عَنْهُ-، في: باب من رخص في الركعتين بعد العصر إدا كاتت الشَّمس مرتفعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةُ: وَهِمَ عُمَرُ، إنَّما نَهى رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يَتَحَرَّى طُلُوع الشَّمس أو غرُوبَها (¬1). ولَنا، ما ذَكَرنا مِن الأحاديث، فإنّها صحيحِةٌ صَرِيحَةٌ. والتَّخْصِيصُ في بعض الأحاديثِ لا يُعارِضُ العُمُومَ الموافِقَ له، بل يَدُلُّ على تَأكُّدِ الحُكْمِ فيما خَصَّه، وقولُ عائشةَ في رَدِّ خَبَر عمَرَ غيرُ مَقْبولٍ، فإنَّه مُثْبِتٌ لروايَتِه عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وهي تَقُولُ برَأْيِها، ثم هي قد رَوَتْ ذلك أَيضًا، فرَوَتْ أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصلِّى بعدَ العصرِ، ويَنْهى عنها. رَواه أبو داودَ (¬2). فكيف يُقْبَلُ رَدُّها لِما قد أقَرَّتْ بصِحَتِه؟ وقد رَواه أبو سعيدٍ، وأبو هُرَيرةَ، وعمرو بنُ عَبسَةَ، وغيرُهم، كنَحوِ رِوايَةِ عُمَرَ، فكيف يُتركُ هذا بمُجَرَّدِ رَأى مُخْتَلفٍ؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشَّمس ولا غروبها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 571. (¬2) في: باب في من رخص في الركعتين بعد العصر إذا كانت الشَّمس مرتفعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والنَّهْىُ بعدَ العَصرِ عن الصلاةِ مُتَعلقٌ بفِعلِها، فمن لم يُصَلِّ العَصر أُبِيحَ له التنفلُ، وإن صَلَّى غيرُه. ومَن صَلَّى فليس له التَّنفُّلُ، وإن صَلَّى وحدَه. لا نَعلَمُ في ذلك خِلافًا عندَ مَن مَنَع الصلاةَ بعدَ العَصرِ. فأمّا النَّهْىُ بعدَ الفَجْرِ، ففيه رِوايتان؛ إحداهما، يَتَعلَّقُ بفعلِ الصلاةِ أَيضًا. يُرْوَى ذلك عن الحسنِ والشافعيِّ؛ لِما روَى أبو سعيد، أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا صلَاةَ بعدَ صلَاةِ (¬1) الْعصرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمسُ، وَلَا صَلَاةَ بعدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتى تطْلُعَ الشَّمس». وروَى أبو داودَ حديثَ عُمَرَ بهذا اللَّفْظِ. وفي حديثِ عمرِو بنِ عَبَسَةَ: «صَلِّ صلَاةَ الصبحِ ثُمَّ أقْصر عَنِ الصلَاةِ». رَواه مسلمٌ. وفي رِوايَةِ أبي داودَ، قال: قُلْتُ يَا رسولَ اللهِ، أي الليْلِ أسْمَعُ؟ قال: «جَوْفُ اللَّيْلِ الآخرِ، فَصَلِّ مَا شئتَ، فَإنَّ الصلَاةَ [مَشْهُودَة مَكْتُوبَةٌ] (¬2) حَتى تُصَلِّىَ الصبحَ، ثُمَّ أقصر حَتى تَطْلُعَ الشَّمس، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) هكذا في سنن أبي داود. وفي الأصل: «مكتوبة مشهودة». وفي تش، م: «مقبولة مشهودة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَتَرتَفِعَ قِيسَ (¬1) رُمْحٍ أوْ رُمحَيْن». ولأنَّ النهْىَ بعد العصر مُتَعَلق بفعلِ الصلاةِ. فكذلك بعد الفَجْرِ. والروايَةُ الثّانِيَةُ، أنَّ النهْىَ مُتَعَلِّقٌ بطُلوعِ الفَجْرِ. وبه قال ابن المُسَيبِ، وحُميْدُ بنُ عبدِ الرَّحْمَن (¬2)، وأصحابُ الرأيِ. وقد رُوِيَتْ كَراهتُه عن ابنِ عُمرَ، وابنِ عمرو، وهو المَشْهُورُ في المَذْهبِ؛ لِما روَى يَسارُ مَوْلَى ابنِ عُمرَ، قال: رآني ابنُ عُمَرَ وأنا أُصَلِّي بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، فقال: يَا يَسارُ، إنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَرَج علينا ونحن نُصَلِّي هذه الصلاةَ، فقال: «لِيُبَلِّغ شَاهِدُكُم غَائِبَكم، لَا تُصَلوا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتيْنِ». رَواه أبو داود (¬3). وعن أبي هُرَيرةَ، رَضىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا صلَاة إلَّا رَكْعَتَيِ الْفَجْر» (¬4). وهذا يُبَيِّنُ مرادَ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِن اللفْظِ المُجْمَلِ، ولا يُعارضُه تَخصِيصُ ما بعدَ الصلاةِ بالنهْيِ (¬5) فإنَّ ذلك دَلِيلُ خِطابٍ، فالمَنْطُوقُ أوْلَى منه، وحديثُ عمرِو بن عَبَسَةَ قد اخْتَلَفَتْ ألفاظُ الرُّواةِ فيه، وهو في سننِ ابنِ ماجه: «حَتى يَطْلُعَ الْفَجْر». ¬

(¬1) في م: «قيد». (¬2) حميد بن عبد الرَّحْمَن الحميدي البَصْرِيّ، من فقهاء التابعين بالبصرة، قال ابن سيرين: هو أفقَه أهل البصرة قبل أن يموت بعشر سنين. طبقات الفقهاء للشيرازى 88. تهذيب التهذيب 3/ 46. (¬3) في: باب من رخص في الركعتين بعد العصر. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 294. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 104. (¬4) أورده الهيثمى في: مجمع الزوائد، وقال: رواه الطَّبْرَانِيّ في الأوسط وفيه إسماعيل بن قيس وهو ضعيف. مجمع الزوائد 2/ 218. وانظر: إرواء الغليل 2/ 232. (¬5) في م: «من النهي».

521 - مسألة؛ قال: (ويجوز قضاء الفرائض فيها)

وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ فِيها. ـــــــــــــــــــــــــــــ 521 - مسألة؛ قال: (ويَجُوزُ قضاءُ الفَرائِض فيها) يَجُوزُ قضاءُ الفرائض الفائتُةِ في جميع أوْقاتِ النهْيِ وغيرِها. رُوِيَ نَحْوُ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، وغيرِ واحدٍ مِن الصحابَةِ. وبه قال أبو العالِيَةِ، والنَّخَعِيُّ»، والشعبِي، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أصحابُ الرأيِ: لا تُقْضَى الفَوائِتُ في الأوْقاتِ الثلَاثةِ التى في حديثِ عُقْبَةَ بني عامر، إلَّا عَصْرَ يومِه يُصَليها قبلَ غُروب الشَّمس؛ لعُمُومِ النَّهْي، ولأن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لَمّا نام عنِ صلاةِ الفَجْرِ حتَّى طَلَعَتِ الشمسُ، أخرَها حتَّى ابْيَضَّتِ الشمسُ. مُتفق عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الصعيد الطَّيب وضوء المسلم، من كتاب التيمم، وفي: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب علامات النبوة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 94، 4/ 232. ومسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة، استحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 475.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، قولُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نامَ عَنْ صَلَاةٍ أوْ نَسِيَها، فَلْيُصَلها إذَا (¬1) ذَكَرَها». مُتَّفقْ عليه (¬2). وفي حديثِ أبي قتادَةَ: «إنَّمَا التفْرِيطُ في اليَقَظَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصلَاةَ حَتى يَجِيءَ وقْتُ الأخْرَى فَمَنْ (¬3) فَعَل ذَلِكَ فَلْيُصَلِّها حِينَ يَنْتَبهُ لَها». مُتَّفَقْ عليه (¬4). وخَبَرُ النهْيِ مَخْصُوص بالقَضاءِ في الوَقْتَين الآخَرَين، فنَقِيسُ مَحَلَّ النِّزاعِ على المَخْصُوص وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بذلك أَيضًا، وحديثُهم يَدُلُّ على جَوازِ التأخير، لا على تَحرِيمَ الفعلِ. ¬

(¬1) في م: «متى». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب من نسى صلاة فليصل إذا ذكرها، من كتاب المواقيت. صحيح البُخَارِي 1/ 154، 155. ومسلم، في: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 471، 477.كما أخرجه أبو داود، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة سنن أبي داود 1/ 103. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في النَّوم عن الصلاة، وباب جاء في الرَّجل ينسى الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 1/ 288 - 290. والنَّسائي، في: باب في من نسى صلاة، وباب في من نام عن صلاة، وباب إعادة من نام عن الصلاة لوقتها من الغد، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 236 - 239. وابن ماجه، في: باب من نام عن الصلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 227، 228. والدارمي، في: باب من نام عن صلاة أو نسيها، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارمي 1/ 280. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 267، 269، 282. (¬3) في م: «فإن». (¬4) تقدم تخريجه والجزء الثالث صفحة، ولم يخرجه البُخَارِيّ. انظر: تلخيص الحبير 1/ 177.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو طَلَعَتِ الشَّمَس وهو في صلاةِ الصبحِ، أتمَّها. وقال أصحابُ الرأيِ: تَفْسُدُ؛ لأنها صارَتْ في وقْتِ النَّهْي. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا أدرَكَ أَحَدُكم سَجْدَة مِنْ صَلَاةِ الْعصر قَبْلَ أنْ تَغِيبَ الشمسُ، فَلْيتِمَّ صلاتهُ، لَماذَا أدرَكَ سَجْدَة مِنْ صَلَاةِ الصبحِ قبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشمسُ فليتم صلاتهُ». مُتفَق عليه (¬1). وهذا نَص خاص يُقَدَّمُ (2) على عُموم ما ذَكَروه. فصل: ويَجُوز فِعل الصلاةِ المَنْذورَةِ في وقْتِ النهْيِ؛ سَواء كان النذْرُ مطْلَقا أو موقتا. ويَتَخَرَّجُ لنا (¬2) أنَّه لا يجوز بِناءً على صَوْم الواجِبِ في أيامِ التَّشريقِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لعُمُومِ النهْيِ. ولَنا، أنَّها صلاة واجِبَةٌ، فأشْبَهتِ الفَوائتَ مِن الفَرائِضِ وصلاةَ الجِنازَةِ، فإنَّه قد وافَقَنا فيما بعدَ صَلاةِ العَصرِ والصبحِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 149، 170، 171. (¬2) سقط من: م.

522 - مسألة: (وتجوز صلاة الجنازة، وركعتا الطواف

وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، وإعَادَةُ الجَماعَةِ إذَا أقِيمَتْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، بَعْدَ الْفَجْرِ والعصرِ. وهل يَجُوزُ فِي الثلَاثةِ الْبَاقِيَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 522 - مسألة: (وتَجُوزُ صلاةُ الجِنازَةِ، ورَكْعَتا الطَوافِ (¬1)، وإعادَةُ الجَماعَةِ إذا أقيمَتْ وهو في المسجدِ، بعد الفَجْرِ والعصرِ. وهل يَجُوزُ في الثلاثةِ البَاقيةِ؟ علَى رِوايَتَين) تَجُوزُ صلاةُ الجِنازَةِ بعدَ الصُّبْحِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «بعده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى تَطْلعَ الشمسُ، وبعدَ العَصْرِ حتى تَمِيلَ الشمسُ للغُرُوبِ، بغير خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: إجْمَاعُ المسلمين في الصلاةِ على الجِنازَةِ بعدَ العصرِ والصبحِ. فأما الصلاةُ عليها في الأوْقاتِ الثلاثةِ التي في حديثِ عُقْبَةَ فلا تَجُوز. ذَكَره القاضي، وغيرُه، وحَكاه الأثْرَمُ عن أحمدَ. وقد رُوِيَ عن جابر، وابن عُصَرَ نحوُ هذا القولِ. قال الخَطَابي: هذا قولُ أكثرِ أهْلِ العلم. وفيه رِواية أخْرى، أنه يَجُوزُ. حَكاها أبو الخَطَّاب. وهو مَذهبُ الشافعي؛ لأنَّها صلاة تُباحُ بعدَ الصبحِ والعصرِ (¬1)، فأبِيحَتْ في سائِر الأوْقاتِ، كالفَرائض. ولنا، قولُ عُقْبَةَ بين عامِر: ثَلاثُ ساعاتٍ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَنْهانا عن الصلاةِ فهن، وأن نَقْبُرَ فيهِنُّ مَوْتانا (¬2). وذِكْرُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصلاةِ مَقْرونًا بالدَّفْنِ يَدُل على إرادَةِ صلاةِ الجنازَةِ. ولأنها صلاة عِن غيرِ الصلواتِ الخَمس، أشْبَهتِ النوافِلَ، وإنما أبِيحَتْ بعدَ الصبحِ والعَصرِ لطُولِ مدَّتِهما، فالانتِظارُ يُخافُ منه عليها؛ بخِلافِ هذه الأوْقاتِ، وقِياسُهم على الفَرائِض لا يَصِح؛ لتَأكدِها، ولا يَصِحُّ قِياسُ الأوْقاتِ الثلاثةِ على الوَقْتَين الطويلَين؛ لِما ذَكَرنا. فصل: وتَجُوزُ رَكْعَتا الطوافِ بعده في هذين الوَقْتَين، وممن طاف بعدَ الصبحِ والعَصرِ وصَلى رَكْعَتَين؛ ابنُ عُمَرَ، وابنُ الزُّبَيرِ، وابنُ عباس، والحسن، والحسينُ، ومُجاهِد، والقاسِمُ بنُ محمدٍ، وفَعَلَه عُروَة بعدَ الصبحِ، وهو قولُ الشافعي، وأبي ثَور. وقال أبو حنيفةَ، ومالك: لا يَجُوزُ؛ لعُمومِ أحاديثِ النهْي. ولَنا، ما روَى جُبَيرُ بنُ مُطْعِم، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا بنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمنَعُوا أحَدًا طَافَ بِهذَا الْبَيتِ، وَصلَّى فِيهِ في آية سَاعَةٍ شَاءَ، عِنْ لَيل أوْ نهارٍ» رَواه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأثْرَم، والترمذِي (¬1)، وقال: حديث حَسَن صحيح. ولأن رَكْعتي الطوافِ تابِعَة له، فإذا أبِيحَ المَتْبُوعُ أبيح التبعُ، وحديثُهم مَخْصُوص بالفَوائِتِ، وحديثنا لا تَخْصِيص فيه، فيكونَ أوْلَى. وهل يَجُوزُ في الثلاثةِ الباقِيَةِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحداهما، يَجُوزُ؛ لِما ذَكرنا، وهو مَذْهبُ الشافعي، [وأبي ثور] (¬2). والثانِيَةُ، لا يَجوز، لحديثِ عُقْبَة بنِ عامِرٍ، ولتأكدِ النهْي في هذه الأوْقاتِ الثلاثةِ، وقَصرها، وكَوْنِها لا يَشُق تَأخِيرُ الرُّكوعَ للطَّوافِ فيها بخِلافِ غيرِها. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 98، 99 كما أخرجه أبو داود، في: باب الطواف بعد العصر من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 437. والنسائي، في: باب إباحة الصلاة الساعات كلها بمكة، من كتاب المواقيت، وفي: باب إباحة الطواف في كل الأوقات، من كتاب المناسك. المجتبى 1/ 228، 5/ 176. وابن ماجه: في باب ما جاء من الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، من كتاب إقامة الصلاة سنن ابن ماجه 1/ 398. والدارمي، في: باب الطواف في غير وقت الصلاة، من كتاب المناسك. الدارمي 2/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 80 - 84. (¬2) سقَط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل (¬1): وتَجُوز إعادَة الجَماعَةِ إذا أقيمتْ وهو في المسجدِ، أو دَخَل وهم يُصَلُّون بعدَ الفَجْرِ والعصر. وهذا قول الحسنِ، والشافعي. واشْتَرَطَ القاضي لجَوازِ الإعادَةِ ههُنا أن يكونَ مع إمامِ الحيِّ، ولم يفرِّقْ (¬2) ههُنا بينَ إمامِ الحَي وغيرِه، ولا بينَ المُصَلِّي جَماعَةً أو فُرادَى. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرقِيِّ. وكلامُ أحمدَ يَدُلُّ على ذلك أيضًا. قال الأثْرَمُ: سَألْتُ أبا عبدِ الله عمَّن صَلَّى في جَماعَةٍ، ثم دَخَل المسجدَ وهم يُصَلون، أيصَلي معهم؟ قال: نَعَم. وقال أبو حنيفةَ: لا تُعاد الفَجْرُ ولا العصرُ في وَقتِ النَّهْي؛ لعُمُومِ النهي. ولَنا، ما روَى جابِرُ بنُ [يزِيدَ بين الأسْوَدِ] (¬3)، عن أبِيه، قال: شَهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَجتَه، فصَلّيتُ ¬

(¬1) في الأصل: «مسألة». (¬2) بعده في الأصل: «الخرقي». (¬3) في الأصل: «يزيد الأسود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معه صلاةَ الفَجْرِ في مسجدِ الخَيفِ، وأنا غُلام شاب، فلما قَضَى صلاته إذا هو برَجُلَين في آخِرِ القومِ لم يُصَليا معه، فقال: «عَلَيَّ بِهما». فأُتِيَ بهما ترعَدُ فرائِصُهما، فقال: «مَا مَنَعَكمَا أنْ تُصَليَا مَعَنَا؟»، فقالا: يا رسولَ اللهِ قد صلَينا في رحالِنا. قال: «لَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَيتُمَا فِي رِحَالِكمَا، ثُمَّ أتيتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصليَا مَعَهُم؛ فَإنَّها لَكُمَا نَافِلَةً». رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ، والترمِذي (¬1). وهذا صَرِيح في إعادَةِ الفَجْرِ، والعَصرُ مِثْلُها. والحدِيثُ بإطْلاقِه يَدُل على الإعادَةِ، سَواء كان مع إمامِ الحَي أو غيرِه، وسواء صَلَّى وحدَه أو في جَماعَةٍ، وهل يَجُوزُ في الأوْقاتِ الباقِيَةِ؟ على رِوايَتَين؛ إحداهما، يَجُوزُ؛ لِما روَى أبو ذر، قال: إن خَلِيلي، يَعنِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أوْصانِي أن أصَلي الصلاةَ لوَقْتِها (¬2): «فَإذا أدرَكتها مَعَهم فصَل مَعَهم، فَإنها لَك نَافِلَة». رَواه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود. في: باب في من صلى في منزله فأدرك الجماعة يصلي معهم، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 136. والترمذي، في: باب جاء الرجل يصلي وحد ثم يدرك الجماعة، من أبواب الصلاة. عارضه الأحوذي 2/ 18، 19. كما أخرجه النسائي، في: باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 87. والدارمي، في: باب إعادة الصلوات في الجماعة بعدما صلى في بيته، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 317؛ 318. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 160، 161. (¬2) بعده في م: «وقال».

523 - مسألة: (ولا يجوز التطوع بغيرها في شيء من هذه

وَلَا يَجوزُ التَطَوُّعُ بغَيرِها فِي شَيء مِنْ هذهِ الْأوْقَاتِ الْخَمسَةِ، إلَّا مَا لَهُ سَبَبٌ؛ كَتَحِيَّةِ الْمَسجِدِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَصلَاةِ الْكُسُوفِ، وَقَضَاءِ السننِ الرَّاتِبَةِ، فَإنها عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم (¬1)، وقِياسا على الوَقْتَينْ الآخَرَين. والثّانِيَةُ، لا يَجُوزُ؛ لحديثِ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ، ولِما بينَها وبينَ هذين الوَقْتَين مِن الفَرقِ. 523 - مسألة: (ولا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بغيرِها في شيء مِن هذه (¬2) الأوْقاتِ الخمسَةِ، إلَّا ما له سَبب؛ كتَحِيَّةِ المسجدِ، وسُجُود التلاوَةِ، وصلاةِ الكُسُوفِ، وقَضاءِ السُّنَن الرّاتِبَةِ، فإنها على روايَتَين) أرادَ بغيرِ ما ذكَر مِن الصَّلَواتِ، وهي صلاةُ الجِنازَةِ، ورَكْعَتا الطَوافِ، وإعادَةُ الجماعَةِ، وليس في المَذْهبِ خِلاف نَعلَمُه في أنَّه لا يَجُوز أن يَبْتَدِئَ في هذه الأوْقاتِ تَطَوُّعًا لا سَبَبَ له. وهذا قولُ الشافعي، وأصحابِ الرأي. ¬

(¬1) في: باب كراهة تأخير الصلاة عن وقتها المختار، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 448.كما أخرجه النسائي، في: باب الصلاة مع أئمة الجور، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 58، 59. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما إذا أخروا الصلاة عن وقتها، من كتاب إقامة الصلاة سنن ابن ماجه 1/ 398. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 147، 149، 160، 161، 168. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن المُنْذر: رَخَّصت طائِفةً في الصلاة بعدَ العَصرِ، يروَى ذلك عن على، والزُّبَيرِ، وابنِه، وتمِيم الدارِي، والنعمانِ بنِ بَشِيرٍ، وأبي أيُّوبَ الأنْصاري، وعائشةَ، رَضِيَ الله عنه، وجَماعَةٍ مِن أهلِ العِلْمِ سِواهم. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنه قال.: لا نَفْعَلُه ولا نعِيبُ فاعِلَه؛ لقَوْلِ عائشةَ: ما تَرَك رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكعَتَين بعدَ العَصرِ عندِي قط. وقولِها: وهِمَ عُمَرُ، إنما نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى طُلُوعَ الشمس أو غُرُوبَها. رَواهما مسلم (¬1). وقولُ علي، - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَلَاة بعدَ الْعصرِ إلّا وَالشمس مُرتَفِعَة» (¬2). ولَنا، الأحاديثُ المذْكُورَةُ، وهي ¬

(¬1) الأول، في: باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 572. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 96. والثاني، تقدم تخريجه في صفحة 241. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحَة صرِيحَة. وروَى أبو بَصرَةَ، قال: صَلى بِنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العَصرِ بالمُخَمَّصِ (¬1)، فقال: «إنَّ هذهِ الصَّلاة عُرِضَتْ عَلى مَنْ كَانَ قَبْلَكم فَضَيَّعُوها، فمَنْ حَافَظَ عَلَيها كَانَ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَينِ، وَلا صَلاةَ بَعدَها حَتَّى يَطْلُعَ الشاهِدُ». رَواه مسلم (¬2). وهذا خاصٌّ في مَحَل النزاعِ. وأما حديثُ عائشةَ،، فقد روَى عها ذَكْوانُ مَوْلاها، أنها حَدَّثَتْه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلي بعدَ العَصرِ وينْهى عنها. رواه أبو داودَ (¬3). وعن أمِّ سَلَمَةَ، قالت: سَمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْهى عنهما، ثم رأيتُه يُصَليهما، وقال: «يَا بنْتَ ابنِ أبِي أمَيَّةَ، إنَّهُ أتانِيَ نَاس مِنْ عَبْدِ الْقَيس بالإسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِم، فشَغَلُوني عَنِ الركْعَتَينِ اللَّتَينِ بعدَ ¬

(¬1) كذا ضبطه النووي؛ وقال: موضع معروف. شرح صحيح مسلم 6/ 113. وفي معجم البلدان 4/ 444 المَحمِص، طريق في جبل عمر إلى مكة. (¬2) في: باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 568. كما أخرجه النسائي، في: باب تأخير المغرب، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 208. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 397. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 241.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظهْرِ، فهُمَا هاتَان». رواه مسلم (¬1). وهذا يَدُلُّ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما فَعَلَه لسَبَبٍ، وهو قَضاءُ ما فات مِن السنةِ، وأنه نَهى عن الصلاةِ بعدَ العَصرِ، كما رَواه غيرُهما، وحديثُ عائشةَ يَدُل على اخْتِصاص النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[بذلك، ونَهْيه غيرَه، وهو حُجّة على مَن خالف ذلك، فإن النِّزاعَ في غيرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2)، وقد ثبَت ذلك مِن غيرِ مُعارض له، وقَوْلُها: وَهِمَ عُمَرُ. قد أجبنا عنه. فصل: فأما ما له سَبَب، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ، - رضي الله عنه -، في الوتْرِ أنَّه يُفْعَلُ بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ قبلَ الصلاةِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعود، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباس، وحُذَيفَةَ، وأبِي الدرداءِ، وعُبادَةَ بنِ الصامِتِ، وعائشِة، وغيرِهم، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِي، والشافعي. ورُوِيَ عن علي، رَضِيَ الله عنه، ¬

(¬1) في النسخ: «رواهما».وهو خطأ. والحديث أخرجه مسلم، في: باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 571، 572.كما أخرجه البخاري، في: باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها؛ من كتاب المواقيت، وفي: باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع، من كتاب السهو، وفي: باب، وفد عبد القيس؛ من كتاب المغازي. صحيح البخاري 1/ 153، 2/ 88، 5/ 214. وأبو داود، في: باب الصلاة بعد العصر، من كتاب التطوع سنن أبي داود 1/ 293. والدارمي، في: باب: في الركعتين بعد العصر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 334، 335. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنّه خَرج بعدَ طلُوعِ الفَجْرِ، فقال: لنِعمَ هذه ساعَةُ الوتْرِ (¬1). وقد رُوِيَ عن أبي موسى، أنَّه سُئِل عن رجل لم يُوتِر حتى أذنَ المُؤذنُ، فقال: لا وتر. له. وأنكَر ذلك عَطاء، والنَّخَعِي، وسعيدُ بنُ جُبير. وهو قول أبي موسى؛ لعمومِ النهْي. ولَنا، ما روَى أبو بَصرَة الغِفاري، قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الله زَادَكم صلَاة فَصَلُّوها مَا بَينَ الْعِشَاءِ إلَى صلَاةِ الصبحَ، الوتر الوتر (¬2)». رَواه الأثْرَمُ، واحتَجَّ به أحمدُ (¬3). وأحادِيثُ النهْي ليست صَرِيحَة في النهْي قبلَ صلاةِ الفَجْرِ؛ كما حَكَيناه مُتَقَدَّمًا. وقد روَى أبو هُريرةَ (¬4)، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن نَامَ عن الْوتر ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب أي ساعة يستحب فيها الوتر، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 18. والبيهقي، في: باب من أصبح، ولم يوتر. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 479. (¬2) سقَط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 107. ونحوه حديث خارجة بن حذافة المتقدم في الموضع السابق. (¬4) كذا جاء. وهو من حديث أبي سعيد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَلْيُصَلِّهِ إذا أصبح». رَواه ابنُ ماجه (¬1). إذا ثَبَت هذا، فإنه لا يَنْبَغِي أن يَتَعَمَّدَ تركَ الوتْرِ حتى يُصبِحَ؛ لهذا الخَبَرِ، ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «فَإذَا خشيَ أحَدُكُم الصبحَ فَلْيُصَل رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى». مُتفَق عليه (¬2). وقال مالك: مَن فاتَتْه صلاةُ اللَّيلِ، فله أن يُصَلِّيَ بعدَ الصبحِ قبلَ أن يُصَلِّيَ الصبحَ. وحَكاه ابنُ أبي موسى في «الإرشادِ» مَذْهبًا لأحمدَ، قِياسًا على الوتْرِ، ولأن هذا الوَقتَ، لم يَثْبُتِ النَّهْيُ فيه صَرِيحًا، فكان حُكمُه خَفِيفًا. فصل: فأما سُجُودُ التلاوَةِ، وصلاةُ الكُسوفِ، وتَحِيُّةُ المسجدِ، فالمَشْهُورُ في المَذْهبِ أنه لا يَجُوزُ فِعلُها في شيءٍ مِن أوْقاتِ النَّهْي، وكذلك قَضاء السننِ الراتِبَةِ في الأوْقاتِ الثلاثةِ المَذْكورَةِ في حديثِ عُقْبَةَ بنِ عامِر. ¬

(¬1) في: باب من نام عن وتر أو نسيه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 375 أخرجه أبو داود، في: باب في الدعاء بعد الوتر، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 331. والترمذي، في؛ باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينساه، من أبواب الوتر. عارضة الأحوذي 2/ 252. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 31، 44. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 11، 12 في حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه الخِرَقي في سُجُودِ التلاوَةِ، وصلاةِ الكسُوفِ. وقال القاضِي: في ذلك رِوايَتان؛ أصَحُهما، أنه لا يَجُوزُ. وهو قولُ أصحاب الرَّأي. والثانِيةُ، يجُوزُ. وهو قول الشافعيِّ؛ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَركَعَ رَكْعَتَينِ». مُتَفَق عليه (¬1). وقال في الكسُوفِ: «فإذَا رأيتُموها (¬2) فصَلوا» (¬3) وهذا خاصٌّ في هذه الصلاةِ، فيُقَدمُ على النَّهْي العام، ولأنها صلوات ذَواتُ أسبابٍ أشْبَهتْ ما ثَبَت جَوازُه. ولَنا، أن كل واحِدٍ خاصٌّ مِن وَجْهٍ، [وعام من وَجْهٍ] (¬4) إلَّا أن النهْيَ للتحرِيمِ، والأمرَ للندبِ، وتَركُ المُحَرُّمِ أوْلَى مِن فِعلِ المَنْدُوبِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، من كتاب الصلاة، وفي: باب جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد. صحيح البخاري 1/ 120، 121، 2/ 70، ومسلم، في: باب استحباب تحية المسجد بركعتين. . . . إلخ من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 495.كما أخرجه الترمذي، في: باب جاء إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 112، والنسائي في: باب الأمر بالصلاة قبل الجلوس فيه. من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 42. وابن ماجه، في: باب من دخل المسجد فلا يجلس حتى يركع، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 323. والإمام مالك، في: باب انتظار الصلاة، المشي إليها، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 162. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 295، 296، 303، 305، 311. (¬2) في تش: «رأيتموهما». (¬3) يأتي تخريجه في صلاة الكسوف. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما قَضاءُ السُّننِ الرّاتِبَةِ في الوَقتَين الآخَرَين، فالصَّحِيحُ أن رَكْعَتَي الفَجْرِ تُقْضَى بعدَها؛ [إلا أن] (¬1) أحمدَ قال: أنا أخْتارُ أن يَقْضِيَهما مع الضحَى. كان صلّاهما بعدَ الفَجْرِ أجْزَأه؛ لِما روَى قَيسُ بنُ قَهْدٍ، قال: رَآنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصَلّي رَكْعَتَي الفَجر بعدَ صلاةِ الفَجْرِ، فقال: «مَا هاتَانِ الركْعَتَانِ يَا قَيسُ؟» قُلْتُ: يا رسولَ الله، لم أكُنْ صَلَيتُ رَكْعَتَي الفَجْرِ، فهما هاتانِ. رَواه الامامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمِذِي (¬2). وسُكُوتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَدُل على الجَوازِ. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، لا يَجُوزُ ذلك. وهو قولُ أصحابِ الرأي، لعُمُومِ أحاديثِ النَّهْي، ولِما روَى أبو هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يُصَل رَكْعَتَي الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهمَا بَعْدَ مَا تَطْلُعُ الشمسُ». رَواه الترمِذِيُّ (¬3). ¬

(¬1) في م: «لأن». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من فاتته متى يقفط، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 291؛ 292. والترمذي، في: كتاب ما جاء في من تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الفجر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 215. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 447. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب جاء في من فاتته الركعتان. . . . إلخ، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماحه 1/ 365. (¬3) في: باب ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس، من أبواب المواقيت. عارضة الأحوذي 2/ 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديثُ قَيسٍ مُرسَل، قاله أحمدُ، والترمِذِي. وإذا كان الأمرُ هكذا كان تأخِيرُهما إلى وَقتِ الضُّحَى أحسَنَ؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ، ولا يُخالِفُ عُمومَ الحدِيتِ، وإن فَعَلَهما جاز؛ لأنَّ هذا الخبَرَ لا يَقْصُرُ عن الدَّلالةِ على الجَوازِ. والصحِيحُ أن السننَ الراتِبَةَ تُقْضَى بعدَ العَصرِ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه، فإنه قَضَى الركْعَتَين اللَّتَين بعدَ الظهْر بعدَ العَصرِ في حَدِيثِ أم سَلمَةَ الذي ذَكَرناه (¬1)، والاقتِداءُ بما فَعَلَه النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَعيِّن. ولأن النهْيَ بعدَ العَصرِ خَفِيف، لِما روىَ في خِلافِه مِن الرُّخْصَةِ. وقولُ عائشةَ: إنه كان يَنْهى عنها. معنَاه والله أعلمُ، أنه نَهى (¬2) عنها لغيرِ بهذا السببِ، أو أنه كان بَفْعَلُها على الدَّوامِ. وهذا مذهب الشافعي. وفيه رِوايَة أخْرَى، لا يَجُوزُ. وهو قولُ أصحابِ الرأي؛ لعُمُومِ النهْي. والأخْذُ بالحدِيثِ الخاص أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 256. (¬2) في م: «ينهى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرقَ بينَ مَكَّةَ وغيرِها في المَنْع مِن التطَوُّعِ في أوْقاتِ النَّهْي. وقال الشافعي: لا يُمنَعُ؛ لِما ذَكَرنا مِن حديثِ جُبَيرِ بنِ مُطعم (¬1)، ولِما روَى أبو ذَر، قال: سَمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا يُصَليَن أحَدٌ بَعدَ الصبحِ إلى طُلُوعِ الشمس، وَلَا بَعْدَ الْعصرِ إلَى أنْ تَغْرُبَ (¬2) الشمسُ، إلّا بمَكَّةَ». قال ذلك ثلاثًا. رَواه الدّارَقطني (¬3). ولَنا، عُمومُ النهْي، ولأنه مَعنى يَمنَعُ الصلاةَ، فاستَوَتْ فيه مَكَة وغيرُها، كالحَيضِ، وحديثُ جُبَير أرادَ به رَكْعَتَي الطَّوافِ وحديثُ أبي ذَر يرويه عبدُ الله (¬4) بنُ المُؤملِ، وهو ضَعِيفْ. قاله يَحيَى بنُ مَعِين. فصل: ولا فَرقَ في وَقتِ الزّوالِ بينَ يومِ الجُمُعَةِ وغيرِه، ولا بينَ الشِّتاءِ والصيفِ. كان عُمَرُ بنُ الخطْابِ يَنْهى عنه، وقال ابنُ مسعود: كُنا نُنْهى عن ذلك. يَعنِي يومَ الجُمُعَةِ. ورَخَّصَ فيه الحَسَنُ، وطاوس والأوْزاعي، والشافعي، وإسحاقُ في يوم الجُمُعَةِ، لِما روَى أبو سعيد، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاةِ نِصفَ النهارِ إلى يومَ الجُمعَةِ. رَواه أبو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 250. (¬2) في م: «تغيب». (¬3) في: باب جواز النافلة عند البيت في جميع الأزمان، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 425. (¬4) في تش: عبد الرحمن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). ولأن النّاسَ يَنتظِرُون الجُمُعَةَ في هذا الوَقْتِ، وليس عليهم قطْعُ النَّوافِلِ. وأباحَه عَطاء في الشتاءِ دُونَ الصيفِ؛ لأن ذلك الوَقْتَ حينَ تُسْجَرُ جَهنَّمُ. ولَنا، عُموم أحادِيثِ، النهْي، وهي عامَّةٌ في يومِ الجُمُعَةِ وغيرِه، وفي الصيفِ والشتاءِ، ولأنه وَقْتُ نَهْي، فاستوى فيه يومُ الجُمعَةِ وغيرُه، كسائِرِ الأوْقاتِ، وحَدِيثهم في إسناده لَيث (¬2)، وهو ضَعِيفٌ، وهو مُرسَل أيضًا. وقَوْلُهم: إنهم يَنْتَظِرُون الجُمُعَة. قُلْنا: إذا عَلِم وَقْتَ النهْي فليس له أن يُصَلي، وإن شَكَّ فله أن يصَليَ حتى يَعلَمَ، لأن الأصلَ الإباحَةُ، فلا تَزُولُ بالشكِّ. ونَحوُ هذا قال مالِكٌ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) كذا في النسخ. وإنما أخرجه أبو داود من حديث أبي قتادة، في: باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 249. ولفظه: كره الصلاة نصف النهار. . . . إلخ وأخرج البيهقي نحوه من حديث أبي هريرة، في: باب ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأيام دون بعض، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 464. (¬2) هو ليث بن أبي سليم. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 8/ 465.

باب صلاة الجماعة

بَابُ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ هِيَ وَاجِبَةٌ لِلصَلَوَاتِ الخمسِ عَلَى الرجَالِ، لَا شرط. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صلاةِ الجماعةِ 524 - مسألة: (وهي واجبة للصَلَواتِ الخَمس على الرجالِ، لا شرط) الجماعَةُ واجِبَة على الرجالِ المُكلفِين لكلّ صَلاة مَكْتوبَةٍ. رُوِيَ نحوُ ذلك عن ابنِ مسعود، وأبي موسى. وبه قال عَطاءٌ، والأوزاعِي، وأبو ثورٍ. وقال مالك، والثّورِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعي: لا تَجِبُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَفْضُل صلَاة الجماعة عَلَى صَلَاةِ الفَذ بِخمس وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». مُتفَق عليه (¬1). ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْكِر على اللّذَين قالا: صَلينا (¬2) في رِحالِنا (¬3). ولو كانت واجِبَة لأنكرَ عليهما، ولأنَّها لو ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصلاة في مسجد السوق، من كتاب الصلاة، وفي: باب فضل صلاة الجماعة من كتاب الأذان، وفي: باب ما ذكر في الأسواق، من من كتاب البيوع، وفي: كتاب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} من كتاب التفسير. صحيح البخاري 1/ 129، 166، 3/ 86، 6/ 108. ومسلم، في: باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 449 - 451، 459؛ أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء المشي إلى الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 132. والترمذي، في: باب ما جاء في فضل الجماعة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 15 - والنسائي، في: باب فضل الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 80 وابن ماجه في: باب وفضل الصلاة في جماعة، من كتاب المساجد- سنن ابن ماجه 1/ 259. والدرامي، في: باب في فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 293. والإمام مالك، في باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 129. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 376، 382، 437، 452، 2/ 65، 102، 112، 233، 252، 264، 328، 396، 454، 473، 475، 486، 501، 520، 525. 3/ 55، 6/ 49. (¬2) في م: «قد صلينا». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت واجِبَة، لكانت شَرطًا لها كالجُمُعَةِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1). الآية. ولو لم تَكُنْ واجِبَةً لرَخصَ فيها حالةَ الخَوْفِ، ولم يُجزِ الإخْلال بواجِباتِ الصلاةِ مِن أجْلِها. وروَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لَقد هممت أنْ آمُرَ [بِحَطَب لِيُحطَبَ] (¬2)، ثُم آمُرَ بِالصلَاةِ فيؤذنَ لَها، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَوم النَّاسَ، ثُمَّ أخَالِفَ إلَى رِجَالٍ لَا يشهدُونَ الصلَاةَ، فَأحرقَ عَلَيهِم ¬

(¬1) سورة النساء 102. (¬2) في الأصل: «بخطيب ليخطب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُيُوتَهم». مُتفَق عليه (¬1). وفيه ما يَدُل على أنَّه أراد الجَماعَةَ؛ لأنه لو أراد الجُمُعَةَ لَما همَّ بالتَخلفِ عنها. وعن أبي هُرَيرةَ، قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمَى، فقال: يا رسولَ الله، ليس لي قائد يَقُودُني إلى المَسْجِدِ. فسَأله أن يُرَخِّصَ له أن يُصَليَ في بَيته، فرَخَّصَ له، فلمَا وَلَّى دَعاه، فقال: «أتَسمع النِّدَاءَ بِالصلَاةِ؟». قال: نعم. قال: «فأجبْ». رَواه مسلمٌ (¬2). وإذا لم يُرَخَّض للأعمَى الذي لا قائِدَ له، فغيره أولَى. قال ابنُ المُنْذِر: ورَوَينا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابنِ أمِّ مَكْتُوم: «لَا أجِدُ لَكَ رُخْصَة» (¬3). يَعنِي في التخلُّفِ عن الجَماعَةِ. وعن أبي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب وجوب صلاة الجماعة، وباب فضل العشاء في جماعة، من كتاب الأذان، وفي: باب إخراج الخصوم، أهل الريب من البيوت بعد المعرفه، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 1/ 165، 167، 9/ 101 ومسلم، في: باب فضل صلاة الجماعة. . . .، من كتاب المساجد صحيح مسلم 1/ 452. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ترك الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 129. والترمذي، في: باب جاء في من يسمع النداء فلا يجب، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 17. والنسائي، في: باب التشديد في التخلف عن الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 83. وابن ماجه في: باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 259، الدارمي، في: باب ومن تخلف ص الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 292. والإمام مالك؛ في: باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 129، 130. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 450، 2/ 244، 376، 377، 416، 472. (¬2) في: باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 452.كما أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ترك الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 130. والنسائي، في: باب في التشديد في التخلف عن الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 84، 85. وابن ماجه، في: باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 260. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 23، 4/ 43. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب التشديد في ترك الجماعة؛ من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّرداءِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (¬1) قال: «مَا مِن ثَلَاثةٍ فِي قريَةٍ، أو بَلَدٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ (¬2) الصَلَاةُ إلّا اسْتَحوَذ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ، فَعَلَيكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإن الذِّئْبَ يَأكُلُ الْقَاصِيَةَ» (¬3). وفي حديثِ مالكِ بنِ الحُوَيرِثِ: «إذَا حَضَرَتِ الصَلَاةُ فلْيُؤذنْ أحَدُكُمَا، وَلْيَؤمَّكُمَا أكْبَرُكُمَا» (¬4). ولمسلم: «إذَا كَانُوا ثَلَاثةً فَلْيَؤمَّهم أحَدُهُم» (¬5). وهذا (¬6) أمرٌ، وظاهِرُ الأمرِ الوجُوبُ. فصل: وليست شرطًا لصِحَّةِ الصلاةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال ابنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيه». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ترك الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 129. والنسائي، في: باب التشديد في ترك الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 83. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 196، 6/ 446. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 52. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 464. (¬6) سقط من. م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيلٍ: تُشْتَرَطُ في أحَدِ الوَجْهين. قال: وهو الصحيح عندِي؛ لِما ذَكَرنا مِن الأدلَّةِ. قال شيخُنا (¬1): وهذا ليس بصَحِيح؛ للحَدِيثَين اللذَين ذَكَرناهما في حُجَّةِ الخصمِ. ولا نَعلَمُ أحَدًا قال بوُجُوبِ الإعادَةِ على مَن صَلى وحدَه، إلَّا أنه قد رُوِيَ عن جَماعَةٍ مِن الصحابَةِ، منهم ابنُ مسعودٍ، أنهم قالوا: مَن سَمِع النِّداءَ [وتَخَلَّفَ] (¬2) مِن غيرِ عُذْرٍ، فلا صلاةَ له. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 7. (¬2) زيادة من المغني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَنْعقِدُ باثْنَين فصاعِدًا، بغيرِ خِلاف عَلِمناه؛ لِما روَى أبو موسى، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الاثْنَانِ فمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولحَدِيثِ مالكِ بنِ الحُوَيرِثِ. وقد أم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عباس مَرة، وحذيفَةَ مَرَّة (¬2). ولو أم الرجلُ عَبْده أو زَوْجَتَه أدرَكَ فَضِيلَةَ الجَماعَةِ. وإن أَمَّ صبيًّا جاز في التَّطَوُّعِ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم ابنَ عباس وهو صَبِيٌّ. وإن أمه في الفَرض، فقال أحمدُ (¬3): لا تنْعَقِدُ به الجَماعَة، لأنه لا يَصلُحُ أن يَكونَ إمامًا فيها. وعنه، يَصِح. ذَكَرَها الآمِدي كما لو أمَّ بالِغًا مُتَنَفِّلًا. ¬

(¬1) في: باب الاثنان جماعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 312.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 254، 269. (¬2) حديث ابن عباس تقدم تخريجه في صفحة 119. وتقدم طرف منه في الجزء الأول صفحة 455. وحديث حذيفة تقدم تخريجه في صفحة 198. (¬3) سقط من: الأصل.

525 - مسألة: (وله فعلها في بيته في أصح الروايتين)

وَلَهُ فعلُها فِي بَيتهِ فِي أصح الروَايَتَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 525 - مسألة: (وله فِعلُها في بَيته في أصَح الروايَتَين) ويجُوزُ فِعلُ الجَماعَةِ في البَيتِ والصحراءِ، في الصحِيحِ مِن المذْهبَ. وعنه، أن حُضُورَ المَسْجِدِ واجِبٌ على القَرِيبِ منه، لأنه رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمسْجدِ إلا فِي المَسْجِدِ» (¬1). ولَنا، قَوْلُ النبي ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه إلا من عذر، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 240. وهو فيه عن جابر وأبي هريرة مرفوعًا. كما أخرجه موقوفًا على علي في نفس الموضع، وقد أشار المصنف إلى هذه الرواية الموقوفة كما سيأتي بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسْجدًا وَطَهُورًا، فأيمَا رَجُل أدرَكَتْه الصلَاة فَلْيُصَل». مُتفق عليه (¬1). والحديثُ الذي ذَكَرُوه لا نَعرِفُه إلَّا مِن قَوْلِ على نَفْسِه، كذلك رَواه سعيدٌ. والطاهِرُ أنَّه إنما أرادَ الجَماعَةَ، فعَبر بالمَسْجدِ عنها؛ لأنه مَحَلها، ويَجُوزُ أن يَكُون أرادَ الكمال والفَضِيلَةَ، فإن الأخْبارَ الصحِيحَةَ دالةٌ على صِحةِ الصلاةِ في غيرِ المسجد. والله أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 34.

526 - مسألة: (ويستحب لأهل الثغر الاجتماع في مسجد واحد)

وَيُسْتَحَبُّ لأهْلِ الثغْرِ الاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالْأفْضَلُ لِغَيرِهِمُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ إلا بِحُضُورِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 526 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ لأهْلِ الثغْرِ الاجْتِماعُ في مَسْجِدٍ واحِدٍ) لأنه أعلَى للكَلِمَةِ، وأوْقَعُ للهيبَةِ، فإذا جاءهم خَبَر عن عَدُوهم سَمِعَه جَمِيعُهم، وكذلك إذا أرادُوا التشاوُرَ في أمر، وإن جاء عَين للكُفارِ أخْبَرَ بكثْرَتِهم. قال الأوْزاعِي: لو كان الأمرُ إليَّ لَسَمَّرتُ أبواب المَساجِدِ التي [في الثغُورِ] (¬1)؛ ليَجْتَمِعَ الناسُ في مَسْجِدٍ واحِدٍ. 527 - مسألة: (والأفْضَلُ لغيرِهم الصلاةُ في المَسْجِدِ الذي لا تُقامُ فيه الجَماعَةُ إلى بحُضُورِه) (¬2) لأنَّه يعمُرُه بإقامَةِ الجَماعَةِ فيه، ويُحَصِّلُها لمَن يُصَلِّي فيه، فيَحصُلُ له ثَوابُ عِمارَةِ المسجِدِ، [وتَحصِيلُها لمَن يُصَلِّي فيه] (¬3)، وذلك معدُومٌ في غيرِه. وكذلك إن كَانت تُقامُ فيه مع غَيبتِه، إلَّا أن في قَصده غيرَه كَسر قَلْبِ إمامِه أو جَماعتِه، فجَبْرُ قُلُوبِهم أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «للثغور». (¬2) في الأصل:. «بحضورهم». (¬3) في م: «ويحصلها لمن لا يصلي فيه».

528 - مسألة: (ثم ما كان أكثر جماعة، ثم في المسجد العتيق)

ثُمَّ مَا كَانَ أكْثَرَ جَمَاعَةً، ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 528 - مسألة: (ثم ما كان أكثرَ جَماعَة، ثم في المَسْجدِ العتيق) فإن عُدِم ما ذَكَرنا في المَسْألَةِ التي قَبْلَها، ففِعلها فيما كان أكثرَ جَماعَة أفْضلُ؛ لقَوْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرجُلِ أزْكَى (¬1) مِنْ صلَاتهِ وَحدهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرجُلَين أزكَى مِنْ صلَاتهِ مَعَ الرجُل؛ وَمَا كَانَ أكثَرَ، فَهُوَ أحَبُّ إلَى الله تَعَالى». رَواه الإمامُ أحمدُ في «المُسندِ» (¬2). فإن ¬

(¬1) في الأصل: «أولى». (¬2) في: 5/ 140، 145.كما أخرجه أبو داود، في: باب في فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 151. والنسائي، في: باب الجماعة إذا كانوا اثنين، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 81.

529 - مسألة: (وهل الأولى قصد الأبعد أو الأقرب؟ على روايتين)

وهلِ الأوْلَى قَصدُ الْأبْعد أو الْأقْرَبِ؟ عَلى رِوَايتينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَساوَيا في الجماعَةِ، فالمَسْجدُ العتِيقُ أفْضَل؛ [لأن الطَّاعَةَ فيه أسبقُ، والعِبادَةَ فيه أكثَرُ. وذَكر أَبو الخَطابِ أن فعلَها في المَسْجدِ العتِيقِ أفْضَلُ] (¬1)، وإن قَل الجَمع فيه؛ لذلك. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكرنا مِن الحَدِيثِ. 529 - مسألة: (وهل الأوْلَى قصدُ الأبعدِ أو الأقْربِ؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، قصدُ الأبعَدِ أفْضَلُ؛ لتَكْثُرَ خُطاه في طَلَبِ الثوْابِ، ¬

(¬1) سقط من الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَكثُر حَسَناتُه، ولِما روَى أبو مُوسى، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعظَمُ الناسِ أجْرًا [في الصَّلَاةِ] (¬1) أبعَدُهُم فَأبعَدُهم ممشًى». رَواه البُخارِيُّ (¬2). والثانِيَةُ، قصد الأقْرَبِ؛ لأنَّ له جِوارًا، فكان أحق بصَلاته، كما أنَّ الجارَ أحَق بهدية جارِه ومعرُوفهِ، ولقَوْلِه - عليه السلام -: «لَا صَلَاة لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلا في المَسْجِدِ» (¬3). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب فضل صلاة الفجر في جماعة، من كتاب الصلاة. صحيح البخاري 1/ 166. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل عشرة الخطا إلى المساجد، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. صحيح مسلم 1/ 460. (¬3) تقدم تخرجه في صفحة 273.

530 - مسألة: (ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه)

وَلَا يَؤُمُّ فِي مَسْجِدٍ قَبْلَ إمَامِهِ الراتِبِ إلَّا بإذْنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 530 - مسألة: (ولا يَؤمُّ في مَسْجِدٍ قبلَ إمامِه الرّاتِبِ إلَّا بإذْنِه) لأن الامامَ الرَّاتِبَ بمَنْزِلَةِ صاحِبِ البَيتِ، وهو أحَقُّ؛ لقَوْلِه - عليه السلام -: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرجلَ فِي بَيته إلَّا بإذْنِهِ» (¬1). وقد رُوِيَ عن ابن عُمرَ أنَّه أتى أرضًا وعندَها، مَسْجِدٌ يُصَلِّي فيه مَوْلى لابنِ عُمَرَ، فصَلى ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب من أحق بالإمامة من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 465. وأبو داود، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 937. والترمذي، في: كتاب من أحق بالإمامة، من أبواب الصلاة، وفي: باب حدثنا هناد. . . . إلخ، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 2/ 34، 10/ 225. والنسائي، باب أحق بالإمامة، وباب اجتماع القوم وفيهم الوالي، من كتاب الإمامة المجتبي 2/ 59 - 5، 60. وابن ماجه، في: كتاب من أحق بالإمامة، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 313، 314. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 118، 121، 122، 5/ 272.

531 - مسألة: (فإن لم يعلم عذره انتظر وروسل، [ما لم يخش]

إلَّا أنْ يَتَأخَّرَ لِعُذْرٍ، فَإن لَمْ يُعلَم عُذْرُه انْتُظِرَ وَرُوسِلَ، مَا لَمْ يُخْشَ خُرُوجُ الْوَقتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ معهم، فسَألوه أن يُصَلّي بهم، فأبَى، وقال: صاحِبُ المَسْجِدِ أحَقُّ (¬1). (إلَّا أن يَتَأخَّرَ لعُذْرٍ) فيُصَلِّي غيرُه؛ لأن أبا بكرٍ صَلى حينَ غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وفَعَل ذلك عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحسَنْتم». رَواه مسلم (¬3). 531 - مسألة: (فإن لم يُعلَم عُذْرُه انتُظِرَ ورُوسِلَ، [ما لم يُخْشَ] (¬4) خُروجُ الوَقتِ) فيُقَدمُ غيرُه؛ لئَلا يَفُوتَ الوَقْتُ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الإمام الراتب أولى من الزائر، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 126. (¬2) قطعة من حديث: «إذا نابكم شيء في صلاتكم» المتقدم في 3/ 627. (¬3) سقط من: م. وتقدم الحديث في الجزء الأول صفحة 344. (¬4) في م: «إلا أن يخشى».

532 - مسألة: (فإن صلى، ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد، استحب له إعادتها إلا المغرب. وعنه

فَإنْ صَلَّى، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، اسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا إلَّا الْمَغْرِبَ. وَعَنْهُ، يُعِيدُهَا، وَيَشْفَعُهَا بِرَابِعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 532 - مسألة: (فإن صَلَّى، ثم أُقِيمتَ الصلاةُ وهو في المَسْجِدِ، اسْتُحِبَّ له إعادَتُها إلَّا المَغْرِبَ. وعنه (¬1)، يُعِيدُها، ويَشْفَعُها برابِعةٍ) ¬

(¬1) في م: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن صَلَّى فَرِيضَةً، ثم أدْرَكَ تلك الصلاةَ في جَماعَةٍ اسْتُحِبَّ له إعادَتُها، أيَّ صلاةٍ كانت، إذا كان في المَسْجِدِ، أو دَخَل المَسْجدَ وهم يُصَلُّون. وهذا قول الحسنِ، والشافعيِّ. سواءٌ كان صَلّاها مُنْفَرِدًا أو في جَماعَةٍ, وسواءٌ كان مع إمامِ الحَيِّ أو لا. وهذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، فيما حَكاه عنه الأثْرَمُ والخِرَقِيُّ. وقال القاضي: إن كان مع إمامِ الحَيَّ، اسْتُحِبَّ له، وإن كان مع غيرِ إمامِ الحَيَّ اسْتُحِبَّ له إعادَةُ ما سِوَى الفَجْرِ والعَصْرِ. وقال أبو الخَطّابِ: يُسْتَحَبُّ له الإعادَةُ مع (¬1) إمامِ الحَيِّ. وقال مالكٌ: إن كان صَلَّى وحدَه أعاد المَغْرِبَ، والَّا فلا؛ لأنَّ الحَدِيثَ الدّالَّ على الإعادَةِ قال فيه: صَلَّينا في رِحالِنا (¬2). وقال أبو حنيفةَ: لا تُعادُ الفَجْرُ، ولا العَصْرُ، ولا المَغْرِبُ؛ لعُمُومِ أحادِيثِ النَّهْي، ولأنَّ التَّطَوعَ لا يكونُ بوتْرٍ. وعن ابنِ عُمَرَ، والنَّخعِيَّ، تُعادُ الصَّلَواتُ كلُّها، إلا الصبُّحَ والمَغْرِبَ (¬3). وقال أبو موسى، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ: تُعادُ كلُها إلَّا المَغْرِبَ؛ لِما ذَكَرْنا. وقال الحَكَمُ: إلَّا الصُبْحَ وَحْدَها. ولَنا، حَدِيثُ يَزِيدَ بنِ الأسْوَدِ الذي ذَكَرْناه (¬4)، وحَدِيثُ أبي ذَر (¬5)، وهي تَدُلَّ على ¬

(¬1) في الأصل: «مع غير». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 252. (¬3) بعده في الأصل: «لما ذكرنا». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 252. (¬5) تقدم تخريجه في صفحه 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحَلّ النَّزاعِ. وحَدِيثُ يَزِيدَ بنِ الأسْوَدِ صَرِيحٌ في صَلاةِ الفَجْرِ، والعَصْرُ في مَعْناها. ويَدُلُّ أيضًا على الإعادَةِ، سواءٌ كان مع إمام الحيَّ أو غيرِه، وعلى جَمِيعِ الصَّلَواتِ. وقد روَى أنسٌ، قال: صَلَّى بنا أبو موسى الغَداةَ في المِرْبَدِ، فانْتهَينا إلى المَسْجِدِ الجامِع، فأُقِيمَتِ الصلاة، فصَلَّينا مع المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ. وعن حُذيفةَ، أنَّه أعاد الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْربَ، وكان قد صَلّاهُنَّ في جَماعَةٍ. رَواهما الأثْرَمُ. فصل: فأمّا المَغْرِبُ ففي اسْتحْبابِ إعادَتِها رِوايَتان؛ إحْداهما، تُسْتَحَبُّ. قِياسًا على سائِر الصَّلَواتِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن عُمُومِ الأحادِيثِ. والثّانِيَةُ، لا تُسْتَحَبُّ. حَكاها أبو الخطَّابِ؛ لأنَّ التَّطَوُّعَ لا يكونُ بوتْرٍ. فإن قُلْنا: تُسْتَحَبُّ إعادَتُها. شَفَعَها برابِعَةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الأسْوَدُ بنُ يَزِيدَ، والزُّهْرِيُّ، والشّافعيُّ، وإسْحاق؛ لِما ذَكَرْنا. وروَى صِلَةُ، عن حُذيفةَ، أنَّه قال، لَمّا أعادَ المَغْرِبَ، قال: ذَهَبْتُ أقُومُ في الثّالِثَةِ (¬1) , فأجْلَسَنِي. وهذا يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ أمَرهَ بالاقْتِصارِ على رَكْعَتَين، ويَحْتَمِلُ أنَّه أمَرَه بالصَّلاةِ مِثْلَ صَلاةِ الإمامِ. ووَجْهُ الأوَّلَ، ¬

(¬1) في م: «الثانية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النّافِلَةَ لا تُشرَعُ بوتْرٍ، والزَّيادَةُ أَولَى مِن النُّقْصانِ؛ [لِئَلّا يُفارِقَ إمامَه قبلَ إتْمام صَلاتَهِ] (¬1). فصل: فإن أُقِيمَتِ الصلاةُ وهو خارِجُ المَسْجِدِ، فإن كان في وَقْتِ نَهْي لم يُسْتَحَبَّ له الدُّخُولُ؛ لِما روَى مُجاهِدٌ، قال: خَرَجْتُ مع ابنِ عُمَرَ مِن دارِ عبدِ اللهِ بنِ خالدِ بنِ أسِيدٍ، حتى إذا نَظَر إلى بابِ المَسْجِدِ، إذا النّاسُ في الصلاةِ، فلم يَزَلْ واقِفًا حتى صَلَّى النّاسُ، وقال: إنِّي قد صَلَّيتُ في البَيتِ. فإن دَخَل وصَلَّى فلا بَأْسَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن خَبَرِ أبي موسى. وإن كان في غير وَقْتِ النَّهْي، اسْتُحِبَّ له الدُّخُولُ والصلاةُ معهم؛ لعُمُومِ الأحادِيثِ الدّالَّةِ على إعادَةِ الجَماعَةِ. فصل: وإذا أعادَ الصلاةَ فالأُولَى فَرْضُه. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وهو قولُ الثَّوريّ، وأبي حنيفةَ، وإسحاقَ، والشافعيَّ في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَدِيدِ. وعن سعيدِ بن المُسَيَّبِ، وعَطاء، والشَّعْبيَّ، التي صَلَّى معهم المَكْتُوبَةُ؛ لأنّه رُوِيَ في حَدِيثِ يَزِيدَ بنِ الأسْوَدِ: «إذَا جِئْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَوَجَدْتَ النَّاسَ فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكتُوبَةً» (¬1). ولَنا، أنَّ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً» (¬2) وقَوْلُه في حَدِيثِ أبي ذَرٍّ: «فَإنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» (¬3). ولأنَّها قد وقَعَتْ فَريضَة، وأسْقَطَتِ الفَرْضَ، بدَلِيلِ أنَّها لا تَجِبُ ثانِيًا، وإذا بَرِئَتِ الذِّمَّةُ بالأوْلَى، اسْتَحال كَوْنُ الثّانِيةِ فَرِيضَةُ. قال إبراهيمُ: إذا نَوَى الرجلُ صلاةً، وكَتَبَتْها المَلائِكَةُ، فمَن يَسْتَطيعُ أن يُحَوِّلَها! فما صَلَّى بعدَه فهو تَطَوُعٌ. وحَدِيثُهم لا تَصْرِيحَ فيه، فيَنْبَغِي أن يُحْمَلَ مَعْناه على ما في الأحادِيثِ الباقَيَةِ. فعلى هذا لا يَنْوي الثانِيَةَ فَرْضًا، بل يَنْويها ظُهْرًا مُعادَة، وإن نواها نَفْلًا صَحَّ. فصل: ولا تَجِبُ الإعادَةُ، رِوايةً واحِدَةً، قاله القاضي، قال: وقد ذَكَر بعضُ أصْحابنا فيه رِوايةً، أَنَّها تَجِبُ مع إمامِ الحَيِّ؛ لظاهِرِ الأمْر. ¬

(¬1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه أبو داود، في: باب في من صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 136. (¬2) تقدم تخريجه ق صفحة 253. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 253.

533 - مسألة: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير المساجد الثلاثة)

وَلَا تُكْرَهُ إِعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي غَيرِ الْمَسَاجِدِ الثَلَاثَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّها نافِلَةٌ، والنّافِلَةُ (¬1) لا تَجِبُ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْم مَرَّتَينِ». رَواه أبو داودَ (¬2). ومَعْناه، واللهُ أعلمُ، واجِبَتان، ويُحْمَلُ الأمْرُ على الاسْتِحْبابِ. فعلى هذا إذا قَصَد الإعادَةَ، فلم يُدْرِكْ إلَّا رَكْعَتَين، فقال الآمِدِيُّ: يَجُوزُ أن يُسَلّمَ معهم، وأن يُتِمَّها أرْبَعًا؛ لأنَّها نافِلَةٌ. والمَنْصُوصُ أنَّه يُتِمُّها أرْبعًا؛ لقَوْله عليه السَّلامُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِموا» (¬3). 533 - مسألة: (ولا تُكْرَه إعادَةُ الجَماعَةِ في غيرِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ) معنى إعادَةِ الجَماعَةِ، أنَّه إذا صلَّى إمامُ الحَيِّ، وحَضَر جَماعَةٌ ¬

(¬1) في م: «والثانية». (¬2) في: باب إذا صلى مع جماعة ثم أدرك جماعة بعيد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 136.كما أخرجه النسائي، في: باب سقوط الصلاة على من صلى مع الإمام في المسجد جماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 88. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 395، 396.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْرَى، اسْتُحِبَّ لهم أن يُصَلُّوا جَماعَةً. وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ، وعَطاءٍ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، وإسحاقَ. وقال مالكّ، والثَّوْرِي، واللَّيثُ، وأبو حنيفةَ, والشافعيُّ: لا تُعادُ الجَماعَةُ في مَسْجِدٍ له إمامٌ راتِبٌ، في غيرِ مَمَرِّ النّاسِ، ومَن فاتَتْه الجَماعَةُ صَلَّى مُنْفَردًا؛ لئلَّا يُفْضِيَ إلى اخْتِلافِ القُلُوبِ، والعَداوَةِ، والتَّهاوُنِ في الصلاةِ مع الإمامِ، ولأنَّه مَسْجِدٌ له إمامٌ راتِبٌ، فكُرِهَ فيه إعادَةُ الجَماعَةِ، كالمَسْجِدِ الحَرامِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه (¬1) عليه السَّلامُ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬2). وروَى أبو سعيدٍ، قال: جاء رجلٌ، وقد صَلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا؟». فقامَ رجلٌ، فصَلَّى معه (¬3). قال التِّرمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. ورَواه الأثْرَمُ، وفيه، ¬

(¬1) سقط ش: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 266. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الجمع في المسجد مرتين, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 135. الترمذي، في: باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صلى فيه مرة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 21. والدارمي، في: باب صلاة الجماعة في مسجد قد صلى فيه مرة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 318. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 5، 64، 85، 5/ 254، 269.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «ألَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ». وروَى بإسْنادِه، عن أبي أمامَةَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَه، وزاد: فلَمّا صَلَّيا، قال: «وَهَذانِ جَمَاعَةٌ». ولأنَّه قادِرٌ على الجَماعَةِ، فاسْتُحِبَّ له، كالمَسْجِدِ الذي في مَمَرِّ النّاسِ، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. فصل: فأمّا إعادَتُها في المَسْجدِ الحَرامِ، ومَسْجِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ والمَسْجِدِ الأقْصَى، فقد رُوِيَ عن أَحمدَ كَراهَتُه. وذَكَرَه أصْحابُنا؛ لَئلّا يَتَوانَى النّاسُ في حُضُورِ الجَماعَةِ مع الإمامِ الرّاتِبِ فيها إذا أمْكنَهُم الصلاةُ مع الجَماعَةِ مع غيرِه. وطاهِرُ خَبَرِ أبي سعيدٍ وأبي أمامَةَ، أنَّه لا يُكْرَهُ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ ذلك كان في مَسْجِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ المَعْنَى يَقْتَضِيه؛ لأنَّ حُصُولَ فَضِيلَةِ الجَماعَةِ فيها، كحُصُولها في غيرِها. واللهُ أعلمُ.

534 - مسألة: (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)

وَإذَا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إلّا الْمَكتُوبَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 534 - مسألة: (وإذا أقِيمَتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلَّا المَكتُوبَةُ) متى أقِيمَتِ الصلاةُ المَكتُوبَةُ، لم يَشْتَغِلْ عنها بغيرها؛ لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا المَكْتُوبَةُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوِيَ ذلك عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (في الترجمة)، من كتاب الأذان. صحيح البخاري 1/ 168. كما أخرجه مسلم، في: باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 493. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتي الفجر، من كتاب التطوع. سنن أبي داود 1/ 291. والترمذي، في: باب ما جاء، إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 213. والنسائي، في: باب ما يكره من الصلاة عند الإقامة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 90. وابن ماجه، في: باب ما جاء في: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 364. والدارمي، في: باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 337. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 331، 531,517,455,352.

535 - مسألة: (وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها)

وَإنْ أُقِيمَت وَهُوَ فِي نَافِلَةٍ أتَمَّهَا، إلَّا أَنْ يَخْشىَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي هُرَيرةَ. وكان عُمَرُ يَضْرِبُ على صَلاةٍ بعدَ الإقامَةِ. وكَرِهَه سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وابنُ سِيرِينَ، وعُرْوَةُ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وأباح قَوْمٌ رَكعَتَيِ الفَجْرِ والإمامُ يُصَلِّي، رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ (¬1). ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ، أنَّه دَخَل المَسْجِدَ والنّاسُ في الصلاةِ، فدَخَلَ بَيتَ حَفْصَةَ، فصَلَّى رَكْعَتَين، ثم خَرَج إلى المَسْجِدِ، فصَلَّى (¬2). وهذا قولُ مَسْرُوقٍ، والحسنِ. وقال مالكٌ: إن لم يَخَفْ أن تَفُوتَه الرَّكْعَةُ، فلْيَرْكَعْ. وقال الأوْراعِيُّ: ارْكَعْهما ما تَيَقَّنْتَ أَنَّك تُدْرِكُ الرَّكْعَةَ الأخِيرَةَ. ونحْوُه قولُ أبي حنيفةَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا. 535 - مسألة: (وإن أقِيمَتْ وهو في نافِلَةٍ أتمَّها) خَفِيفَةً؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ} (¬3) (إلَّا أن يَخافَ فَواتَ الجَماعَةِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب هل يصلى ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة. من أبواب الإمامة. المصنف 2/ 444. (¬2) انظر المصنف في الموضع السابق. (¬3) سورة محمد 33.

فَيَقْطَعَهَا. وَعَنْهُ، يُتِمُّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَقْطَعَها) لأنَّ الفَرِيضَةَ أهَمُّ مِن النَّافِلَةِ (وعنه، يُتِمُّها) للآيَةِ التي ذَكرناها (¬1). ¬

(¬1) في م: «ذكرها».

536 - مسألة: (ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك الجماعة)

وَمَنْ كَبَّرَ قَبْلَ سَلَامِ الْإمَامِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 536 - مسألة: (ومَن كَبَّرَ قبلَ سَلامِ الإمامِ، فقد أدْرَكَ الجَماعَةَ) يعني أنَّه يَبْنِي عليها ولا يُجَدِّدُ إحْرامًا؛ لأنَّه أدْرَكَ جُزْءًا مِن صَلاةِ الإِمامِ، أشْبَهَ ما لو أدْرَكَ رَكْعَةً، ولأنَّه إذا أدْرَكَ جُزْءًا مِن صَلاةِ الإمامِ فأحْرَمَ معه، لَزِمَه أن يَنْويَ الصِّفَةَ التي هو عليها، وهو كَوْنُه مَأَمُومًا، فَيَنْبَغِي أن يُدْرِكَ فَضْلَ الجَماعَةِ.

537 - مسألة؛ قال: (ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة)

وَمَنْ أدْرَك الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 537 - مسألة؛ قال: (ومَن أدْرَكَ الرُّكُوعَ فقد أدْرَكَ الرَّكْعَةَ) لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أدْرَكَ الرَّكْعَةَ». رَواه. أبو داودَ (¬1). ولأنَّه لم يَفُتْه مِن الأرْكانِ إلَّا القِيامُ، وهو يَأْتِي به مع تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ، ثم يُدْرِكُ مع الإمامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ. وإنَّما تَحْصُلُ له الرُّكْعَةُ إذا اجْتَمَعَ مع الإِمامِ في الرّكُوعِ بحيث يَنْتَهِي إلى قَدْرِ الإِجْزاءِ مِن الرُّكُوعِ، قبلَ أن يَزُولَ الإِمامُ عن قَدْرِ الإِجْزاءِ منه، فإن أدْرَكَ الرُّكُوعَ ولم يُدْرِكِ الطُّمَأنِينَةَ، فعلى وَجْهَين. ذَكَرَهما ابنُ عَقِيلٍ. وعليه أن يَأْتِيَ بالتَّكْبِيرِ في حالِ قِيامِه. فأمّا إن أتى به أو ببَعْضِه بعدَ أنِ انْتَهَى في الانْحِناءِ إلى قَدْرِ الرُّكُوعِ، يُجْزِئْه؛ لأنُّه أتَى بها في غيرِ مَحَلِّها، ولأنَّه يَفُوتُه القِيامُ، وهو مِن أرْكانِ الصلاةِ، إلَّا في النَّافِلَةِ، لأنَّه لا يُشْتَرَطُ لها القِيامُ. ¬

(¬1) لم نجده بهذا اللفظ، لا عند أبي داود ولا عند غيره. وأخرجه أبو داود بلفظ: «ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة». من حديث أبي هريرة في: باب في الرجل يدرك الإمام ساجدا كيف يصنع، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 206. ويأتي بتمامه في صفحة 98 وقد أخرج ابن أبي شيبة نحوه عن ابن عمر. انظر إرواء الغليل 3/ 260 - 266.

538 - مسألة: (وأجزأته تكبيرة واحدة، والأفضل اثنتان)

وَأجزَأتهُ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالأفْضَلُ اثْنَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 538 - مسألة: (وأجْزأتْه تَكْبيرَةٌ واحِدَةٌ، والأفْضَل اثْنَتان) وجملَةُ ذلك، أنَّ مَن أدْرَكَ الإمامَ في الرُّكُوع أجْزأته تَكْبيرَة واحِدَةٌ، وهي تكْبِيرَةُ الإحْرامِ، التي ذَكَرْناها، وهي رُكنٌ، لا تَسْقَطُ بحالٍ، وتسْقُطُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ ههُنا. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبيِ داودَ، وصالحٍ. رُوِيَ ذلك عن زيدِ بن ثابتٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والحسنِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، ومالكٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وعنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ: عليه تَكْبِيرَتان. وهو قولُ حَمّادِ بنِ أبي سُليمانَ. قال شيخُنا (¬1): والظّاهِرُ أنَّهما أرادا، الأوْلَى له تَكْبِيرَتان، فيَكُونُ مُوافقًا لقَوْلِ الجَماعَةِ، فإنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ قد نُقِلَ عنه، أنَّه كان مِمَّن لا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ. ووَجْهُ القَوْلِ الأوَّلِ، أنَّ هذا قد رُويَ عن زيدِ بنِ ثابِت، وابنِ عُمَرَ، ولا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ مِن الصحابَةِ، فيَكُونُ إجَماعًا، ولأنَّه اجْتَمَع واجِبان مِن جِنْسٍ واحِدٍ في مَحلٍّ واحِدٍ، أحَدُهما رُكْنٌ، فسَقطَ به الآخَرُ، كما لو طاف الحاجُّ (¬2) طَوافَ الزَّيارَةِ عندَ خُرُوجِه مِن مَكَّةَ، فإنَّه يُجْزِئُه عن طَوافِ الوَداعِ. وقال القاضي: إن نَوَى بها تَكْبِيرَةَ الإحْرامِ وحدَها أجْزأه، وإن نَواهما لم يُجْزِئْه، في الظّاهِرِ مِن قَوْلِ أحمدَ؛ لأنَّه شَرَّكَ بينَ الواجِبِ وغيرِه في النِّيَّة، أشْبَهَ ما لو عَطَس عندَ رَفْعِ رَأْسِه مِن الرُّكُوعِ، فقال: رَبَّنا ولك الحَمْدُ. يَنْويهما، فإنَّ أحمدَ قد نَصَّ في هذا أنَّه لا يُجْزِئُه. وهذا القَوْلُ يُخالِفُ مَنْصُوصَ أحمدَ، فإنَّه قد قال، في رِوايَةِ ابنِه صالحٍ، في مَن جاء والإمامُ راكِعٌ: كَبَّرَ تَكْبِيرَةً واحِدَةً. قِيلَ له: يَنوي بها الافْتِتاحَ؟ ¬

(¬1) في: المغني 2/ 182. (¬2) في م: «في الحج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [قال: نَوَى أَو لم يَنْو، أليس قد جاء وهو يُرِيدُ الصلاة؟ ولأنَّ نِيَّةَ الرُّكُوعِ لا تُنافِي نِيَّةَ الافْتِتاحِ] (¬1)، ولهذا حَكَمْنا بدُخولِه في الصلاةِ بهذه. النِّيَّةِ، ولم تُؤثِّرْ نِيَّةُ الرُّكُوعِ في فَسادِها، ولا يَجُوزُ ترْكُ نَص الإمام لقِياس نَصَّه في مَوْضِع آخَرَ، كما يُتْرك نَصُّ اللهِ تعالى وسُنَّةُ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالقِياس، وهذا لا يُشْبِهُ ما قاس عليه القاضي؛ فإنّ التَّكبِيرَتَين مِن جُمْلَةِ العِبادَةِ، بخِلافِ حَمْدِ اللهِ في العُطاس، فإنَّه ليس مِن جمْلَةِ الصلاةِ، فقِياسُه على الطَّوافَين أَولَى؛ لكَوْنِهما مِن أجْزاءِ العِبادَةِ، والأفْضَلُ تَكْبِيرَتان. نَصَّ عليه. قال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: يُكَبِّرُ مَرَّتَينِ أحَبُّ إليك؟ قال: إن كَبَّر تكْبِيرَتَين، ليس فيه اخْتِلافٌ. وإن نَوَى تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ خاصَّةً، لم يُجْزِئْه؛ لأن تَكْبِيرَةَ الإحْرامِ رُكْنٌ، ولم يَأُتِ بها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أدْرَكَ الإمامَ في رُكْنٍ غيرِ الرُّكُوعِ، لم يُكَبِّر إلَّا تَكْبِيرَةَ الافْتِتاحِ، ويَنْحَطُّ بغيرِ تَكْبِيرٍ؛ لأنَّه لا يُعْتَدُّ له به، وقد فاتَه مَحَلُّ التَّكْبِيرِ. وإن أدْرَكَه في السُّجُودِ، أو في التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، كَبَّرَ في حالِ قِيامِه مع الإمامِ إلى الثَّالِثَةِ؛ لأنَّه مَأْمُومٌ له، فيُتابِعُه في التَّكْبِيرِ، كمَن (¬1) أدْرَكَ الرَّكْعَةَ معه (¬2) مِن أوَّلِها. وإن سَلَّمَ الإمامُ قام المأمُومُ إلى القَضاءِ بتَكْبِيرٍ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ. وقال الشافعيُّ: يقُومُ بغيرِ تَكْبِيرٍ؛ لأنَّه قد كَبَّرَ في ابْتِداءِ الرَّكْعَةِ، ولا إمامَ له يُتابِعُه [في التَّكْبِيرِ] (¬3). ولَنا، أنَّه قام في الصلاةِ إلى رُكْنٍ مُعْتدٍّ له (¬4) به، فيُكَبِّرُ، كالقائِمِ مِن التَّشَهُّدِ الأوَّلِ، وكما لو قام مع الإمامِ، ولا يُسَلَّمُ أنَّه كَبَّرَ في ابْتِداءِ الرَّكْعَةِ، فإنَّ ما كَبر فيه لم يكنْ مِن الرَّكْعَةِ، إذ ليس في أوَّلِ الرَّكْعَةِ سُجُودٌ ولا تَشَهّدٌ، وإنَّما ابْتِداءُ الرَّكْعَةِ قِيامُه، فيَنْبَغِي أن يُكَبِّر فيه. ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في الأصل: «في». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

539 - مسألة: (وما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه أولها

وَمَا أدْرَكَ مَعَ الإمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَقْضِيهِ أوَّلُهَا، يَسْتَفْتِحُ لَهُ وَيَتَعَوَّذُ، وَيَقْرَأ السُّورَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن أدْرَكَ الإمامَ في حالٍ مُتابَعَتُه فيه، وإن لم يُعْتَدَّ له به؛ لمِا روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا جْئتُمْ إلى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسجُدُوا، وَلا تَعُدُّوهَا شَيئًا، وَمَنْ أدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أدْرَكَ الرَّكْعَةَ» رَواه أبو داودَ (¬1). وروَى الترمِذِي (¬2)، عن مُعاذٍ، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جَاءَ أحَدُكُمْ وَالإمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإمَامُ». قال التِّرمِذِيُّ: والعَمَلُ على هذا عندَ أهْلِ العِلْمِ، قالُوا: إذا جاء الرجلُ والإمامُ ساجِدٌ فلْيَسْجُدْ، ولا تُجْزِئُه تلك الرَّكْعَةُ. قال بَعْضُهم: لعلَّه أن لا يَرْفَعَ رَأْسَه مِن السَّجْدَةِ حتى يُغْفَرَ له. 539 - مسألة: (وما أدْرَكَ مع الإمامِ فهو آخِرُ صَلاته، وما يَقْضِيه أوَّلُها (¬3)، يَسْتَفْتِحُ له ويَتَعَوَّذُ، ويَقْرَأُ السُّورَةَ) هذا المَشْهُورُ في المذْهَبِ. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ، ومُجاهِدٍ، وابنِ سِيرِينَ، ومالكٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 213. (¬2) في باب ما ذكر في الرجل يدرك الإمام، هو ساجد كيف يصنع، من أبواب الجمعة. عارضه الأحوذي 3/ 73. (¬3) في م: «في أولها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثوْريِّ. وحُكِيَ عن الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وأبي يُوسُفَ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا». مُتَّفَق عليه (¬1). والمَقضْيُّ هو الفائِتُ، فيَنبغِي أن يَكُونَ على صِفَتِه. فعلى هذا يَسْتَفْتحُ له، ويَستعِيذُ، ويَقْرأ السُّورَةَ. وعنه، أنَّ الذي يُدْرِكه أولُ صَلاته، والمَقْضِيُّ آخِرها. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيز، وإسحاق. وهو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 395، 396.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشافعيِّ، ورِوايَةٌ عن مالكٍ. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا». فعلى هذه الرِّوايَةِ لا يَسْتَفْتِحُ. وأمّا الاسْتِعاذَةُ، فإن قُلْنا: تُسَنُّ في كلِّ رَكْعَةٍ. اسْتَعاذَ، وإلَّا فلا. وأمّا [السُّورَةُ بعدَ الفاتِحَةِ فيَقْرأها على كلِّ حالٍ. قال شيخُنا (¬1): لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ] (¬2) الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ في قِراءَةِ الفاتحَةِ وسُورَةٍ. وهذا ممّا يُقَوِّي ¬

(¬1) في: المغني 3/ 307. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوايَةَ الأُولَى. فإن لم يُدْرِكْ إلَّا رَكْعَةً مِن المَغْرِبِ أو الرُّباعِيَّةِ، ففي مَوْضِعِ تَشَهُّدِه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَسْتَفْتِحُ ويأْتِي برَكْعَتَين مُتَوالِيَتَين، ثم يَتَشَهَّدُ. فَعَل ذلك جُنْدُبٌ؛ لأنَّ المَقْضِيَّ أوَّلُ صَلاته، وهذه صِفَةُ أوَّلِها، ولأنَّهما رَكْعَتان يَقْرأُ فيها السُّورَةَ، فكانا مُتَوالِيَتَين، كغيرِ المَسْبُوقِ (¬1). والثّانِيَةُ، يأْتِي برَكْعَةٍ يَقْرَأُ فيها بالحَمْدِ وسُورَةٍ، ثم يَجْلِسُ، ثم يَقُومُ فيَأتِي بأْخْرَى، يَقْرأُ فيها بالحَمْد لله (¬2) وَحْدَها. نَقلَها ¬

(¬1) في الأصل: «المسنون». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صالِحٌ، وأبو داودَ، والأثْرَمُ. فَعَل ذلك مَسْرُوقٌ. وبه قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وأيَّما فَعَل مِن ذلك جاز، إن شاء اللهُ؛ لأنَّه يُرْوَى أنَّ مَسْرُوقًا وجُنْدُبًا، ذَكَرا ذلك (¬1) عندَ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، فصَوَّبَ فِعْلَ مَسْرُوقٍ، ولم يُنْكِرْ فِعْلَ جُنْدُبٍ، ولا أمَرَه بإعادَةِ الصلاةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

540 - مسألة: (ولا تجب القراءة على المأموم)

وَلَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 540 - مسألة: (ولا تَجِبُ القِراءَةُ على المَأْمُومِ) هذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. ومِمَّن كان لا يَرَى القِراءَةَ خلفَ الإِمامِ عليٍّ، وابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وأبو سعيدٍ، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، وعُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، وجابِرٌ، وابن عُمَرَ، وحُذَيفَةُ بنُ اليَمانِ. وبه يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وابنُ عُيَينَةَ، وأصحابُ الرَّأْي، ومالكٌ، والزُّهْرِيُّ، والأسْوَدُ، وإبراهيمُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. قال ابن سِيرِينَ: لا أعْلَمُ مِن السُّنَّةِ القِراءَةَ خلفَ الإِمامِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعيُّ، وداودُ: تَجِبُ القِراءَةُ؛ لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعنِ عُبادَةَ، قال: كنّا خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقَرَأ، فثَقُلَتْ عليه القِراءَةُ، فلَمّا فَرَغ قال: «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُون خَلْفَ إِمَامِكُمْ». قُلْنا: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: «لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن أبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ (¬3)، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيرُ تَمَامٍ». قال الرّاوي: فقلتُ: يا أبا هُرَيرَةَ، إنِّي أكُونُ أحْيانًا وراءَ الإمامِ؟ قال: فغَمَزَنِي في ذِراعِي وقال: اقْرَأْ بها في نَفْسِك يا فارِسِيُّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 440. (¬2) في: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن أبي دارد 1/ 189. كما أخرجه الترمذي، في: باب في القراءة خلف الإمام، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 106، 107. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 316، 322. (¬3) الخداج: النقصان. يقال: خدجت الناقة. إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّها رُكْنٌ مِن أرْكانِ الصلاةِ فلم تَسْقُطْ عن المَأْمُومِ، كسائِرِ الأرْكانِ، ولأنَّ مَن لَزِمَه القِيامُ لَزِمَتْه القِراءَةُ إذا قَدَر عليها، كالمُنْفَرِدِ. ولَنا، قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ، فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» (¬2). رَواه الحسنُ بنُ صالِحٍ، عن لَيثِ بنِ أبي (¬3) سُلَيمٍ. فإنَّ قِيلَ: إنَّ لَيثَ بنَ أبي (¬4) سُلَيمٍ ضَعِيفٌ. قُلْنا: قد رَواه الإِمامُ أحمدُ، ثَنا أسْوَدُ بنُ عامرٍ، ثَنَا الحسنُ بنُ صالِحٍ، عن أبي الزُّبَيرِ، عن جابِرٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وهذا إسْنادٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ، رِجالُه كلُّهم ثِقاتٌ؛ الأسْوَدُ بنُ عامِرٍ روَى له البُخارِيُّ، والحسنُ بنُ صالِحٍ أدْرَكَ أبا الزُّبَيرِ، وُلِدَ قبلَ وَفاتِه بنَيِّفٍ وعِشْرِين سَنَةً. ورُوِيَ مِن طُرُقٍ خَمْسَةٍ سِوَى هذا (¬5). ¬

(¬1) في: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 296، 297. كما أخرجه أبو داود، في: باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 188. والترمذي، في: باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة، من كتاب الصلاة، وفي: باب حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز، من كتاب التفسير (سورة الفاتحة). عارضة الأحوذي 2/ 108، 109، 11/ 69. والنسائي، في: باب ترك قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فاتحة الكتاب، افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 105. وابن ماجه، في: باب القراءة خلف الإمام من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 273، 274. والإمام مالك، في:، باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 84، 85. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 241، 250،، 290، 457، 460، 478، 487. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، من كتاب إقامه الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 277. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 339. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) انظر هذه الطرق في نصب الراية 2/ 6 - 12، وإرواء الغليل 2/ 268 - 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ أيضًا عن [عليٍّ، وابنِ عُمَرَو] (¬1) ابنِ عباسٍ، وعِمْرانَ بنِ حُصَينِ، وأبي الدَّرْداءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. أخْرَجَهُنَّ الدّارَقطْنِيُّ] (¬2). ورَواه عبدُ اللهِ بنُ شَدّادٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. أخْرَجَه الإِمامُ أحمدُ، وسعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، وغيرُهما (¬3). ورُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: ليس على الفِطْرَةِ مَن قَرَأ خلفَ الإِمامِ (¬4). وقال ابنُ مسعودٍ: وَدَدْتُ أنَّ مَن قَرَأ خلفَ الإِمامِ مُلِئَ فُوهُ تُرابًا (¬5). ولأنَّ القِراءَةَ لو وَجَبَت على المَأمُومِ لَما سَقَطَتْ عن المَسْبُوقِ، كسائِرِ الأرْكانِ. وأمّا أحادِيثُهم فالحَدِيثُ الأوَّلُ الصَّحِيحُ مَحْمُوَلٌ على غيرِ المَأْمُومِ، وكذلك حَدِيثُ أبي هُرَيرَةَ، وقد جاء مُصَرَّحًا به، فَروَى جابِرٌ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، إلَّا وَرَاءَ الإِمَامِ» (¬6). رَواه الخَلّالُ. وقولُ أبي هُرَيرَةَ: اقرَأْ بها في نَفْسِك. مِن كَلامِه ورَأْيِه، وقد خالفَه غيرُه مِن الصحابةِ. وحديثُ عُبادَةَ لم يَرْوه غيرُ ابن إسحاقَ، ونافِعِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: ما أخرجه الدارقطني، في: باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 323 - 325، 331. وما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 49. (¬3) لم يخرجه الإمام أحمد. انظر: الفتح الرباني 3/ 200. وأخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من كره القراءة خلف الإِمام، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 1/ 376. والدارقطني، في: باب ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له إمام»، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 325. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القراءة خلف الإمام، من أبواب القراءة. المصنف 2/ 137، 138. (¬5) انظر التخريج السابق صفحة 138. (¬6) أخرجه الدارقطني، في الباب السابق 3/ 327. والبيهقي، في: باب من قال: لا يقرأ خلف الإمام على الإطلاق، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 2/ 160.

541 - مسألة: (ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام، وما لا يجهر فيه، أو لا يسمعه لبعده. فإن لم يسمعه لطرش، فعلى وجهين)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَام، وَفِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ، أَوْ لَا يَسْمَعُهُ لِبُعْدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لِطَرَشٍ فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ محمودِ بنِ الرَّبِيعِ، وهو أدْنَى حالًا مِن ابنِ إسحاقَ. وقِياسُهم على المُنْفَرِدِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُنْفَرِدَ ليس له مَن يَتَحَمَّلُ عنه القِراءَةَ، بخِلافِ المَأْمُومِ. 541 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأَ في سَكَتاتِ الإِمامِ، وما لا يَجْهَرُ فيه، أو لا يَسْمَعُه لبُعْدِه. فإن لم يَسْمَعْه لطَرَشٍ، فعلى وَجْهَين) وهو قولُ جَماعَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ. ورُوِيَ نَحْوُه عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ (¬1). ¬

(¬1) في الأصل: «عمرو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ مُجاهِدٍ، والحسنِ، والشَّعْبيِّ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةَ، وغيرِهم. قال أبو سَلَمةَ بن عبدِ الرَّحْمَنِ: للإِمامِ سَكْتَتان، فاغْتَنِمْ فيهما القِراءةَ بفاتِحَةِ الكِتابِ؛ إذا دَخَل في الصلاةِ، وإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}. وقال عُرْوَةُ: أمّا أنا فأغْتَنِمُ مِن الإِمامِ اثْنَتَين؛ إذا قال: {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. فأَقْرَأُ عندَها، وحينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ فأقْرَأُ قبلَ أن يَرْكَعَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقالت طائِفَةٌ: لا يَقْرَأُ خلفَ الإِمام في سِرٍّ ولا جَهْرٍ. يُرْوَى ذلك عن تِسْعَةٍ مِن أصحابِ رسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ذَكرْناهم في المَسْألَةِ قبلَها. رَواه سعيدٌ في سُنَنِه. وقال إبراهيمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّخَعِيُّ: إنَّما أحْدَثَ النّاسُ القِراءَةَ وراءَ الإِمامِ زَمانَ المُخْتارِ (¬1)؛ لأنَّه كان يُصَلِّي بهم صلاةَ النَّهارِ دُونَ اللَّيلِ، فاتَّهَمُوه، فقَرَأُوا خَلْفَه. وكَرِه إبراهيمُ القِراءَةَ خلفَ الإِمام. وقال: يَكْفِيكَ قِراءَةُ الإِمامِ. وهذا قولُ ابنِ عُيَينَةَ، والثَّوْرِيِّ، وأصَحابِ الرَّأْي؛ لِما روَى جابِرٌ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» (¬2). ولأنَّه مَأْمُومٌ، فلم يَقْرَأُ، كحالةِ الجَهْرِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا أَسْرَرْتُ بِقِرَاءَتِي فاقْرَأوا». رَواه الدّارَقُطنِيُّ (¬3). ولقَوْلِ الرّاوي في الحديثِ الصَّحِيحِ: فانْتَهَى النّاسُ أن يَقْرَأُوا فيما جَهَر فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. [وأمّا خَبَرُ جابِرٍ، فالصَّحِيحُ أنَّه مُرْسَلٌ عن عبدِ اللهِ بنِ شَدّادٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬4). كذلك رَواه الإِمامُ أحمدُ، وسعيدُ بنُ منْصُورٍ. والقِياسُ على حالةِ الجَهْرِ لا يَصِحُّ، لأنَّه أُمِرَ فيها بالإِنْصاتِ لاسْتِماعِ قِراءَةِ الإِمامِ، بخِلافِ هذا. إذا ثبَت هذا فإنَّه يَقْرأُ في حالةِ الجَهْرِ في سَكَتاتِ الإِمامِ بالفاتِحَةِ، وفي حالِ الإِسْرارِ يَقْرَأُ بالفاتِحَةِ وسُورَةٍ، كالإِمامِ والمُنْفَرِدِ. ¬

(¬1) المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، الكذاب، مُدَّعي النبوة، قتل سنة سبع وستين. الإصابة 6/ 349 - 352، سير أعلام النبلاء 3/ 538 - 544. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 305. (¬3) في: باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام»، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 333. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَسْمَعِ الإِمامَ في حالِ الجَهْرِ؛ لبُعْدِه، قَرَأ. نَصَّ عليه. قِيلَ له: أَليس قد قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1)؟ قال: هذا إلى أيِّ شيء يَسْتَمِعُ؟ قِيلَ له: فالأُطْرُوشُ؟ ¬

(¬1) سورة الأعراف 204.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: لا أدْرِي. قال شيخُنا (¬1): وهذا يُنْظَرُ فيه؛ فإن كان بَعِيدًا قَرَأ أَيضًا، وإن كان قَرِيبًا قَرَأ في نَفْسِه، بحيث لا يَشْغَلُ مَن إلى جانِبِه عن الاسْتِماعِ؛ لأنَّه في مَعْنَى البِعِيدِ، ولا يَقْرَأُ إذا كان يَخْلِطُ على مَن يَقْرُبُ إليه ويَشْغَلُه (¬2) عن الاسْتِماعِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا يَقْرأُ إذا كان قَريبًا؛ لئَلَّا يَخْلِطَ على الإِمامِ، ولأنَّه لو كان في مَوْضِعِه مَن يَسْمَعُ لم يَقْرَأْ، أشْبَهَ السَّمِيعَ. وإن سَمِع هَمْهَمَةَ الإِمامِ ولم يَفهَمْ، فقال، في رِوايَة الجَماعَةِ: لا يَقْرَأُ. وقال، في رِوايَةِ عبدِ اللهِ: يَقْرَأْ إذا سَمِع الحَرْفَ بعدَ الحَرْفِ. ¬

(¬1) في: المغني 2/ 267. (¬2) في م: «يشتغل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُسْتَحَبُّ للمَأْمُوم القِراءَةُ وهو يَسْمَعُ قِراءَةَ الإِمامِ بالحَمْد للهِ ولا بغيرِها. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، والزُّهْرِيُّ، وكثيرٌ مِن السَّلَفِ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وابنُ المُبارَكِ، وإسحاقُ (¬1)، وأصحابُ الرَّأْيِ. وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشافعيِّ. والقَوْلُ الآخَرُ، قال: يَقْرَأْ. ونَحْوُه عن اللَّيْثِ، وابنِ عَوْنٍ (¬2)، ومَكْحُولٍ؛ لِما ذكَرْنا مِن الأحادِيثِ والمَعْنى على وُجُوبِ القِراءَةِ على المَأْمُومِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬3). قال سعيدُ بنُ المُسَيَّب، ومحمدُ بنُ كَعْبٍ، والزُّهْرِيُّ، وإبراهيمُ، والحسنُ: إنَّها نَزَلَت في شَأْنِ الصلاةِ. وقال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي داودَ: أجْمَعَ النّاسُ على أنَّ هذه الآيَةَ في الصلاةِ. وروَى أبو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان، مولى مزينة، من فقهاء التابعين بالبصرة، توفى سنة إحدى وخمسين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازى 90. (¬3) سورة الأعراف 204.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمُّ بِهِ، فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإذَا قَرَأَ فَأَنصِتُوا» (¬1). رَواه [الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ، وصَحَّحَه مسلمٌ ورَواه أَيضًا] (¬2) سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ. وروَى أبو موسى، قال: إنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَطَبَنا، فبَيَّنَ لَنا سُنَّتَنا، وعَلَّمَنا صَلَاتَنا، فقال: «إذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا». رَواه مسلمٌ (¬3). وروَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ». فانْتَهَى النّاسُ أن يَقْرأُوا فيما جَهَر فيه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. رَواه مالكٌ (¬4) بمَعْناه. وقال التِّرْمِذِيُّ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 416. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 523. (¬4) في: باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 86، 87. كما أخرجه أبو داود، في: باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر بها الإمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 190. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 107، 108. والنَّسائي: في: باب القراءة خلف الإمام فيما جهر به, من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 108، 109. وابن ماجه، في: باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 276. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 240، 284، 285، 302، 487.

542 - مسألة: (وهل يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؛ على روايتين)

وَهَلْ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ؛ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ حسنٌ. ولأنَّه إجْماعٌ. قال أحمدُ: ما سَمِعْتُ أحَدًا مِن أهْلِ الإِسْلامِ يقولُ: إنَّ الإِمامَ إذا جَهَر بالقِراءَةِ لا تُجْزِئُ صلاةُ مَن خَلْفَه إذا لم يَقْرَأْ. وقال: هذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه والتّابِعُون، وهذا مالكٌ في أهْلِ الحِجازِ، وهذا الثَّوْرِيُّ في أهْلِ العِراقِ، وهذا الأوْزاعِيُّ أهْلِ الشّامِ وأمّا الأحادِيثُ فقد أجَبْنا عنها فيما مَضَى، ولأنَّها قِراءَةً لا تَجِبُ على المَسْبُوقِ، فلا (¬1) تَجِبُ على غيرِه، كقِراءَةِ السُّورَةِ. فصل: قال أبو داودَ: قِيلَ لأحمدَ: إذا قَرَأ المَأْمُومُ بفاتِحَةِ الكِتابِ، ثم سَمِع قِراءَةَ الإِمامِ؛ قال: يَقْطَعُ إذا سَمِع قِراءَة الإِمام، ويُنْصِتُ للقِراءَةِ. وذلك لِما ذَكَرْنا مِن الآيَةِ والأخْبارِ. 542 - مسألة: (وهل يَسْتفْتِحُ ويَسْتَعِيذُ فيما يَجْهَرُ فيه الإِمامُ؛ على رِوايَتَيْن) أمّا في حالِ قِراءَةِ إمامِه، فلا يَسْتَفْتِحُ ولا يَسْتَعِيذُ؛ لأنَّه إذا ¬

(¬1) في الأصل: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَقَطَتِ القِراءَةُ عنه كَيْلا يَشْتَغِلَ عن اسْتِماعِ قِراءَةِ الإِمامِ، فالاسْتِفْتاحُ أوْلَى، ولأنَّ قَوْلَه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. يَتناوَلُ كلَّ ما يَشْغَلُ عن الإِنْصاتِ، مِن الاسْتِفْتاحِ وغيرِه، ولأنَّ الاسْتِعاذَةَ إنَّما شُرِعَت مِن أجْلِ القِراءَةِ، فإذا سَقَطَتِ القِراءَةُ سَقَط التَّبَعُ. وإن سَكَت الإِمامُ قَدْرًا يَتِّسِعُ لذلك، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَسْتفْتِحُ ولا يَسْتَعِيذُ. اخْتارَه القاضي؛ لأنَّه أمْكَنَ الاسْتِفْتاحُ (¬1) مِن غيرِ اشْتِغالٍ عن الإنْصاتِ. والثَّانِيَةُ، لا يَسْتَفْتِحُ [ولا يَسْتَعِيذُ] (¬2)؛ لأنَّه يَشْغَلُه عن القِراءَةِ، وهي أهَمُّ منه. [وفيه رِوايَةٌ، أنَّه يَسْتَفْتِحُ ويَسْتَعِيذُ؛ لِما ذَكَرْنا] (¬3). وأمّا المَأْمُومُ في صلاةِ الإِسْرارِ، فإنّه يَسْتَفْتِحُ ويَسْتَعِيذُ. نَصَّ عليه أحمدُ، ¬

(¬1) في م: «للاستفتاح». (¬2) سقط من: م، تش. (¬3) جاء في م بعد قوله: «من غير اشتغال عن الإنصات». وكذلك في تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: إذا كان ممَّن يَقْرأُ خلفَ الإِمامِ تَعَوَّذَ، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل 98.

543 - مسألة: (ومن ركع أو سجد قبل إمامه، فعليه أن يرفع ليأتي به بعده

وَمَنْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ قَبْلَ إِمَامِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ لِيَأْتِيَ بهِ بَعْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاُتهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، إِلَّا الْقَاضِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 543 - مسألة: (ومَن رَكع أو سَجَد قبلَ إمامِه، فعليه أن يَرْفَعَ ليَأْتِيَ به بعدَه (¬1). فإن لم يَفْعَلْ عَمْدًا، بَطَلَت صَلَاتُه عندَ أَصْحابِنا، إلَّا القاضي) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه لا يَجُوزُ أن يَسْبقَ إمامَه؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ». رَواه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ (¬1). وعن أبي هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فإن فَعَل ذلك عامِدًا أثِمَ، وتَبْطُلُ صَلَاتُهُ في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ؛ فإنَّه قال: ليس لمَن سَبَق الإِمامَ ¬

(¬1) في: باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 320. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام، وباب في من ينصرف قبل الإِمام، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 145، 146. والنَّسائي، في: باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة, من كتاب السهو. المجتبى 3/ 69. وابن ماجه، في: باب النهي أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 309. والدارمي، في: باب النهي عن مبادرة الإمام من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 102 , 115, 126, 130, 154, 170, 228, 234, 240, 245, 269, 279, 284, 290. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 177. ومسلم، في: باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود أو نحوهما، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 320، 321. كما أخرجه أبو داود، في: باب التشديد في من يرفع رأسه قبل الإمام أو يضع قبله, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 145. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء من التشديد في الذى يرفع رأسه قبل الإمام، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 62. والنَّسائي، في: باب مبادرة الإمام، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 75. وابن ماجه، في: باب النهي أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 308. والدارمي، في: باب النهي عن مبادرة الأئمة بالركوع والسجود، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 302. الإمام أَحْمد, في: المسند 2/ 260, 271، 425، 456، 469، 472, 504.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاةٌ، ولو كان له صلاةً لرَجا له الثَّوابَ، ولم يَخْشَ عليه العِقابَ. وذلك لِما ذَكرْنا مِن الحدِيثَيْن. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه نَظَر إلى مَن سَبَق الإِمامَ، فقال: لا وَحْدَك صَلَّيْتَ، ولا بإمامِكَ اقْتَدَيْتَ. ولأنَّه لم يَأْتَمَّ بإمامِه في الرُّكْنِ، أشْبَهَ ما إذا سَبَقَه بتَكْبِيرَةِ الإِحْرام. وإن كان جاهِلًا أو ناسِيًا لم تَبْطُلْ صَلاتُه، لأنَّه سَبْقٌ يَسِيرٌ، ولقَوْلِه عليه السَّلامُ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ» (¬1). وقال ابنُ حامِدٍ: في ذلك وجْهان. وقال القاضي (¬2): عندِي أنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّه اجْتَمَعَ معه في الرُّكْنِ، أشْبَهَ ما لو رَكع معه ابْتِداءً صَحَّ. وهذا اخْتِيارُ ابنِ عَقِيلٍ. وعليه أن يَرْفعَ ليَأْتِيَ به بعدَه؛ ليَكُونَ مُؤْتَمًّا بإمامِه. فإن لم يَفْعَلْ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُه عندَ أصحابِنا؛ لأنَّه تَرَك الواجِبَ عَمْدًا. وقال القاضي: لا تَبْطُلُ، لأنَّه سَبْقٌ يَسِيرٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 276. (¬2) سقط من: م، تش.

544 - مسألة: (فإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالما عمدا فهل تبطل صلاته؟ على وجهين)

فَإنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ إِمَامِهِ عَالِمًا عَمْدًا فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 544 - مسألة: (فإن رَكَع ورَفَع قبلَ رُكُوعِ إمامِه عالِمًا عَمْدًا فهل تَبْطُلُ صَلَاتُه؟ على وَجْهَيْن) وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ أحَدُهما، تَبْطُلُ؛ للنَّهْيِ. والثّانِي، لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه سَبَقَه برُكْنٍ واحِدٍ، فهي كالتى قَبْلَها. قال ابنُ عَقِيلٍ: اخْتَلَفَ أصحابُنا، فقال بَعْضُهم: تَبْطُلُ الصلاةُ بالسَّبْقِ، بأيِّ رُكْنٍ مِن الأرْكانِ؛ رُكُوعًا كان أو سُجُودًا، أو قِيامًا أو قُعُودًا. وقال بَعْضُهم: السَّبْقُ المُبْطِلُ يَخْتَصُّ بالرُّكُوعِ؛ لأنَّه الذى

وَإنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيّا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاُتهُ. وَهَلْ تَبْطُلُ الرَّكْعَةُ؛ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَإِنْ رَكَعَ وَرَفعَ قَبْلَ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ قَبْلَ رَفْعِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْصُلُ به إدْراكُ الرَّكْعَةِ، وتَفوتُ بفَواتِه، فجازَ أن يَخْتَصَّ بُطلانُ الصلاةِ بالسَّبْقِ به. (وإن كان جاهِلًا أو ناسِيًا لم تَبْطُلْ صلاتُه) لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ». (وهل تَبْطُلُ الرَّكْعَةُ؛ فيه رِوايتانِ) إحْداهما، تَبْطُلُ؛ لأنَّه [لم يَقْتَدِ] (¬1) بإمامِه في الرُّكُوعِ، أشْبَهَ ما لو لم يُدْرِكْه. والأُخْرى، لا تَبْطُلُ؛ للخبَير. فأمّا (إن رَكَع ورَفَع (¬2) قبلَ رُكُوعِ إمامِه) فلَمّا رَكَع الإِمامُ (سَجَد قبلَ ¬

(¬1) في م: «لا يقتدى». (¬2) سقط من. م.

بَطَلَتْ صَلَاُتهُ، إلَّا الْجَاهِلَ وَالنَّاسِيَ، تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا وَتَبْطُلُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رفْعِه، بَطَلَت صَلَاتُه) وإن كان عَمْدًا؛ لأنَّه لم يَقْتَدِ بإمامِه في أكْثَرِ الرَّكْعَةِ. وإن فَعَلَه جاهِلًا أو ناسِيًا، لم تَبْطُلْ؛ للحَدِيثِ، ولم يَعْتَدَّ بتلك الرَّكْعَةِ؛ لعَدَمِ اقْتِدائِه بإمامِه فيها. فصل: فإن سَبَق الإِمامُ المأْمُومَ برُكْن كامِلٍ؛ مِثْلَ أن رَكَع ورفَع قبلَ رُكُوعِ المَأْمُومِ؛ لعُذْرٍ مِن نُعاسٍ أو غَفْلَةٍ أو زِحامٍ أو عَجَلَةِ الإِمامِ، فإنَّه يَفْعَل ما سُبِقَ به، ويُدْرِكُ إمامَه، ولا شئَ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ. قال شيخُنا (¬1): وهذا لا أعْلَمُ فيه خِلافًا. وحَكَى في «المُسْتَوْعِبِ» رِوايَةً، أنَّه لا يُعْتَدُّ بتلك الرَّكْعَةِ. وإن سَبَقَه برَكْعَةٍ كامِلَةٍ أو أكْثَرَ، فإنَّه يَتْبَعُ إمامَه، ويَقْضِي ما سَبَقَه به، كالمَسْبُوقِ. قال أحمدُ، في رجلٍ نَعَس خلفَ الإِمام حتَّى صَلَّى رَكْعَتَيْن، قال: كأنَّه أدْرَكَ رَكْعَتَيْن، فإذا سَلَّمَ الإِمامُ صَلَّى رَكْعَتَيْن. وعنه، يُعِيدُ الصلاةَ. وإن سَبَقَه بأكْثَرَ مِن رُكْنٍ وأقَلَّ مِن رَكْعَةٍ، ثم زال عُذْرُه، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ، ¬

(¬1) في: المغني 2/ 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يَتْبَعُ إمامَه، ولا يَعْتَدُّ بتلك الرَّكْعَةِ. [وقال المَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: الإِمامُ إذا سَجَد ورَفَع رَأْسَه قبلَ أن أسْجُدَ؟ قال: إن كانَتْ سَجْدَةً واحِدَةً فاتْبَعْه إذا رَفَع رَأْسَه، وإن كان سَجْدَتَيْن فلا يُعْتَدُّ بتلك الرَّكْعَةِ] (¬1). وظاهِرُ هذا أنَّه متى (¬2) سَبَقَه بركْعَتَيْن بَطَلَتْ تلك الرَّكْعَةُ. وإن سَبَق بأقَلَّ مِن ذلك فَعَلَه وأدْرَك إمامَه. وقد قال أصْحابُنا (¬3)، في مَن زُحِم عن السُّجُودِ يومَ الجُمُعَةِ: يَنْتَظِرُ زَوالَ الزِّحامِ، ثم يَسْجُدُ ويَتْبَعُ الإِمامَ، ما لم يَخَفْ فَواتَ الرُّكُوعِ في الثّانِيَةِ مع الإِمام. فعلى هذا يَفْعَلُ ما فاتَه، وإن كان أكْثَرَ مِن رُكْنٍ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَلَه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إن». (¬3) في م: «بعض أصحابنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأصْحابِه، حينَ صَلَّى بهم بعُسْفانَ (¬1) صلاةَ الخَوْفِ، فأقامَهم خلفَه صَفَّيْن، فسَجَدَ معه الصَّفُّ الأوَّلُ، والصَّفُّ الثّانِي قِيامٌ، حتَّى قام النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى الثّانِيَةِ، فسَجَدَ الصَّفُّ الثّانِي، ثم تَبِعَه (¬2). وجاز ذلك للعُذْرِ. فهذا مِثْلُه. وقال مالكٌ: إن أدْرَكَهم المَسْبُوقُ في أوَّلِ سُجُودِهم سَجَد معهم، واعتَدَّ بها. وإن عَلِم أنَّه لا يَقْدِرُ على الرُّكوعِ، وأدْرَكَهم في السُّجُودِ حتَّى يَسْتَوُوا قِيامًا، اتِّبَعَهم فيما بَقِيَ مِن صَلاِتهم، ثم يَقْضى رَكْعَةً، ثم يَسْجُدُ للسَّهْوِ. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ، إلَّا أنَّه لم يَجْعَلْ عليه سُجُودَ سَهْوٍ. قال شيخُنا (¬3): والأوْلَى في (¬4) هذا، والله أعلمُ، أنَّه ما كان على قِياسِ فِعْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في صلاةِ الخَوْفِ، فإنَّ غيرَ المَنْصُوصِ عليه يُرَدُّ في الأقْرَبِ من المَنْصُوصِ عليه. وإن فَعَل ذلك لغيرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لأنَّه تَرَك الائْتِمامَ بإمامِه عَمْدًا. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. معجم البلدان 3/ 673. (¬2) يأتي الحديث في صلاة الخوف. (¬3) في: المغني 2/ 212. (¬4) في الأصل: «من».

545 - مسألة: (ويستحب للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها)

وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ مَعَ إِتْمَامِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن سَبَق المأمومُ الإِمامَ بالقِراءةِ، لم تَبْطُلْ صَلَاتُه. روايَةً واحِدَةً. 545 - مسألة: (ويُسْتحَبُّ للإمامِ تخْفِيفُ الصلاةِ مع إتْمامِها)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِ عائشةَ؛ كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أخَفَّ النَاسِ صلاةً في تَمامٍ (¬1). وروَى ابنُ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أيُّهَا النَّاسُ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ والْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لمُعاذٍ: «أفَتَّانٌ أَنْتَ؟» ثَلاثَ مِرارٍ، «فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بسَبِّحَ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الضَّعِيفُ والْكَبِيرُ وَذُو الْحَاجَةِ». رَواه البُخارِيُّ، وهذا لَفْظُه، ورَواه مسلمٌ (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حَدَّثَنَا أبو معمر، من كتاب بدء الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 181. ومسلم، في: باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 342. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليخفف، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 37. والنَّسائي, في: باب ما على الإمام من التَّخفيف، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 74. وابن ماجه، في: باب من أمَّ قومًا فليخفف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 315. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 100، 101، 162، 170، 173، 179، 182، 705، 207، 231، 233، 234، 255، 262، 276, 278, 282. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، من كتاب الصلاة، وفي: باب تخفيف الإمام في القيام، وفي: باب هل يقضى الحاكم أو يفتى وهو غضبان، من كتاب الأحكام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 33، 180، 9/ 82. ومسلم، في: باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 340. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من أم النَّاس فليخفف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 315. والدارمي، في: باب ما أمر الإمام من التَّخفيف في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 288. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 119, 5/ 273. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا طوَّل الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، وباب من شكا إمامه إذا طوَّل، من كتاب الأذان، وفي: باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلًا، من كتاب الأدب. صحيح البُخَارِيّ 1/ 179، 180، 8/ 32، 33. ومسلم، في: باب القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 339، 340. كما أخرجه أبو داود, في: باب في التَّخفيف في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 182، 183. والنَّسائي، في: باب خروج الرَّجل من صلاة الإمام وفراغه من صلاته في =

546 - مسألة: (و)

وَتَطْوِيلُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَكْثَرَ مِنَ الثَّانِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 546 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (تَطْوِيل الرَّكْعَةِ الأُولَى أكْثَرَ (¬1) مِن الثَّانِيَةِ) يُسْتَحَبُّ تَطْوِيلُ الرَّكْعَةِ الأُولَى مِن كلِّ صلاةٍ، ليَلْحَقَه القاصِدُ للصلاةِ. وقال الشافعيُّ: تَكُونُ الأُولَتان سَواءً. وقال أبو حنيفةَ: يُطَوِّلُ الأُولَى مِن صلاةِ الصُّبْحِ خاصَّةً. ووافَقَ الشافعيَّ (¬2) في غيرِها، وذلك لحَدِيثِ أبي سعيدٍ: حَزَرْنا قِيامَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الرَّكْعَتَيْن الأُولَيَيْن مِن الظُّهْرِ قَدْرَ الثَّلاِثِين آيةً (¬3). ولأنَّ الأُخْرَيَيْن مُتَساوِيَتان، فكذلك الأُولَيان. ولَنا، ما روَى أبو قَتادَةَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقْرأُ في الركْعَتَيْن الأُولَيَيْن مِن صلاةِ الظهْرِ بفاِتحَةِ الكتابِ وسُورَتَيْن، يُطَوِّلُ في الأُولَى، ¬

= ناحية المسجد، وباب اختلاف نية الإِمام والمأموم، من كتاب الإمامة، وفي: باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بسبح اسم ربك الأعلى، وباب القراءة في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 76، 77، 79، 130, 134. وابن ماجه، في: باب من أمَّ قومًا فليخفف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 315. والدارمي، في: باب قدر القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 297. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 299، 300, 308, 369. وإلى هنا انتهى الجزء الأول من نسخة أَحْمد الثالث التى هي الأصل. وفيها بعد هذا خرم استكملناه من نسخة تشستربيتى، وتجد أرقام أوراقها في مواضعها من التحقيق. (¬1) في م: «أطول». (¬2) في م: «قول الشَّافعيّ». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب القراءة الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 334. وأبو داود, في: باب تخفيف الأخريين، من كتاب الصلاة 1/ 185. وابن ماجه، في: باب القراءة في الظهر والعصر من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 271. والإمام أَحْمد, في: المسند 3/ 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُقَصِّرُ في الثّانِيَةِ، ويُسْمِعُ الآيَةَ أحْيانًا، وكان يَقْرأُ في العَصْرِ في الرَّكْعَتَيْن الأُولَيَيْن بفاتِحَةِ الكِتابِ وسُورَتَيْن، ويُطَوِّلُ في الأُولَى، ويُقَصِّرُ في الثّانِيَةِ، وكان يُطَوِّلُ في الأُولَى مِن صلاةِ الصُّبْحِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى عبدُ اللهِ ابنُ أبي أوْفَى، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يَقُومُ في الرَّكْعَةِ الأُولى مِن صلاةِ الظهرِ حتَّى لا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَمٍ (¬2). فأمّا حَدِيثُ أبي سعيدٍ، فرَواه ابنُ ماجه، وفيه: وفي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِن ذلك. وهو أوْلَى؛ لمُوافَقَتِه للأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ثم لو قُدِّرَ التَّعارُضُ وَجَب تَقْدِيمُ حَدِيثِ أبي قَتادَةَ؛ لصِحَّتِه، ولتَضَمُّنِه الزِّيادَةَ، وهو التَّفْرِيقُ بينَ الرَّكْعَتَيْن. وروَى ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب القراءة في الظهر، وباب إذا سمع الإمام الآية, وباب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، وباب يطول في الركعة الأولى، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 193، 197، 198. ومسلم، في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 333. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 184. والنَّسائي، في: باب تقصير الإمام في الركعة الثَّانية من الظهر، وباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر. من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 128. وابن ماجه، في: باب الجهر بالآية أحيانًا في صلاة الظهر والعصر، من كتاب إقامة الصلاة 1/ 271. والدارمي, في: باب كيف العمل بالقراءة في الظهر والعصر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 296. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 295، 301، 305، 311. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في القراءة في الظهر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 185. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 356.

547 - مسألة: (ولا يستحب انتظار داخل وهو في الركوع، في إحدى الروايتين)

وَلَا يُسْتَحَبُّ انْتِظَارُ دَاخِلٍ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [أبو سعيدٍ] (¬1)، أنَّ الصلاةَ كانت تُقامُ ثم يَخْرُجُ أحَدُنا يَقْضِي حاجَتَه، ويَتَوَضَّأُ، ثم يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ الأُولَى مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬2). قال أحمدُ، في الإمامِ يُطَوِّلُ في الثّانِيَةِ، يَعْنِي أكثرَ مِن الأُولَى: يُقالُ له في هذا: تَعَلَّمْ. 547 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ انْتِظارُ داخِلٍ وهو في الرُّكُوعِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) متى أحَسَّ بداخِلٍ في حالِ القِيام أو الرُّكُوعِ، يُرِيدُ الصلاةَ معه، وكانتِ الجَماعَةُ كَثِيرَة، كُرِهَ (¬3) انْتِظارُه؛ لأنَّه يَبْعُدُ أن لا يكونَ فيهم مَن يَشُقُّ عليه (¬4). وكذلك إن كانتِ الجَماعَةُ يَسِيرَةً، ¬

(¬1) في الأصل: «ابن عمر». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب القراءة في الظهر، العصر، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 335. والنَّسائي، في: باب تطويل القيام في الركعة الأولى من صلاة الظهر، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 127. وابن ماجه، في: باب القراءة في الظهر والعصر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 270. (¬3) في م: «في». (¬4) في م: «عليهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والانْتِظارُ يَشُقُّ عليهم، لأنَّ الذين معه أعْظَمُ حُرْمَةً مِن الدّاخِلِ، فلا يَشُقُّ عليهم لنَفْعِه، وإن لم يَكُنْ كذلك اسْتُحِبَّ انْتِظارُه. وهذا مَذْهَبُ أبي مِجْلَزٍ (¬1)، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وإسحاقَ. وقال الأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يَنْتَظِرُه. وهو رِوايةٌ أُخْرَى؛ لأنَّ انْتِظارَه تَشْرِيكٌ في العِبادَةِ، فلا يُشْرَعُ، كالرِّياءِ. ولَنا، أنَّه انْتِظارٌ يَنْفَعُ ولا يَشُقُّ، فشُرِعَ، كتَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الأُولَى، وتَخْفِيفِ الصلاةِ، وقد قال عليه السلامُ: «مَنْ أمَّ النَّاس فَلْيُخَفِّفْ، فَإنَّ فِيهِمُ الْكبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» (¬2). وقد شُرِعَ الانْتِظارُ في صلاةِ الخَوْفِ؛ لتُدْرِكَ الطّائِفةُ الثّانِيَةُ، وكان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَنْتَظِرُ الجَماعَةَ، فقال جابِرٌ: كان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي العِشاءَ أحْيانًا وأحْيانًا، إذا رَآهم اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وإذا رَآهم أبْطَأُوا ¬

(¬1) في م، ص: «مخلد». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 327 من حديث ابن مسعود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخَّرَ (¬1). وقد كان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُطِيلُ الرَّكْعَة الأُولَى، حتَّى لا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَم (¬2). وأطال السُّجُودَ حينَ رَكِب الحسنُ على ظَهْرِه، وقال: «إنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أنْ أُعَجِّلَهُ» (¬3). وبهذا كلِّه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. وقال القاضي: الانْتِظارُ جائِزٌ غيرُ مُسْتَحَبٍّ، وإنَّما يَنْتَظِرُ مَن كان ذا حُرْمَةٍ، كأهْلِ العِلْمِ ونُظَرائِهم مِن أهْل الفَضْلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 134. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 329 من حديث ابن أبي أوفى. (¬3) انظر ما تقدم 1/ 160.

548 - مسألة: (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها، وبيتها خير لها)

وَإذَا اسْتَأْذَنَتِ الْمَرْأَةُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرِهَ مَنْعُهَا، وَبَيْتُهَا خَيْرٌ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 548 - مسألة: (وإذا اسْتَأْذَنَتِ المرأةُ إلى المَسْجِدِ كُرِهَ مَنْعُها، وبَيْتُها خَيْرٌ لها) لقَوْلِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ». يَعْنِي غيرَ مُتَطّيَّباتٍ. رَواه أبو داودَ (¬1). ويَخْرُجْنَ غيرَ مْتَطَيِّباتٍ؛ لهذا الحديثِ. ويُباحُ لَهُنَّ حُضُورُ الجَماعَةِ مع الرِّجالِ؛ لقَوْلِ عائشةَ: كان النِّساءُ يُصَلِّينَ مع رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ثم يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعاتٍ بمُرُوطِهِنَّ، ما يُعْرَفْنَ مِن الغَلَسِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وصَلاتُهُنَّ في بُيُوتِهِنَّ أفْضَلُ؛ لقَوْلِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاِتهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاُتهَا فِي مَخْدَعِهَا أفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا». رَواه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 134. وكذلك أخرجه الدَّارميّ، في: باب النهي عن منع النساء عن المساجد، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 293. وبدون زيادة «وليخرجن تفلات» أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حَدَّثَنَا عبد الله بن مُحَمَّد. . . . إلخ، من كتاب الجمعة. صحيح البُخَارِيّ 2/ 7. ومسلم، في: باب خروج النساء إلى المساجد. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 327. وابن ماجه، في: باب تعظيم حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. . . . إلخ، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 8. والإمام مالك، في: باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، من كتاب القبلة. الموطأ 1/ 197. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 16 , 36، 45، 76، 77, 151, 438، 475، 528، 5/ 192، 193، 6/ 69، 70. (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 168. (¬3) في: باب التشديد في ذلك, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 134.

فَصْلٌ فِي الْإِمَامَةِ: السُّنَّةُ أنْ يَؤْمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فَصْلٌ في الإمامَةِ (السُّنَّةُ أن يَؤُمَّ القومَ أقْرَؤْهم) يَعْنِي أنَّ القارِئَ مُقَدَّمٌ على الفَقِيهِ وغيرِه، ولا خِلافَ في التَّقْدِيمَ بالقِراءَةِ والفِقْهِ واخْتُلِفَ في أيِّهما يُقَدَّمُ؟ فذهَبَ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، إلى تَقْدِيمِ القارِئِ. وهو قولُ ابنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وإسحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْي. وقال عَطاءٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ: يُقَدَّمُ الأفْقَهُ إذا كان يَقْرَأُ ما يَكفِي في الصلاةِ؛ لأنَّه قد يَنُوبُه في الصلاةِ ما لا يَدْرِي ما يَفْعَلُ فيه إلَّا بالفِقْهِ، فيَكُونُ أوْلَى، كالإِمامَةِ الكُبْرَى، والحُكْمِ. ولَنا، ما روَى أبو مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَوُّمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَاب الله تَعَالَى، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا». أو قال: «سِلْمًا» (¬1). وعن أبي سعيدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا اجْتمَعَ ثَلاثَةٌ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ». رَواهما مسلمٌ (¬2). ولَمّا ¬

(¬1) أي إسلامًا. (¬2) الأول، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب. المساجد. صحيح مسلم 1/ 465. كما أخرجه أبو داود, في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 137. والتِّرمذيّ، في: باب من أحق بالإمامة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 34. والنَّسائي، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 59. وابن ماجه، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 313، 314. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 118، 121, 5/ 272. والثاني في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 464. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب اجتماع القوم موضع هم فيه سواء، وباب الجماعة إذا كانوا ثلاثة, من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 60، 80. والدارمي، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 286. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 24، 34، 36، 48، 51، 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدِم المُهاجِرُون الأوَّلُون، كان يَؤُمُّهم سالِمٌ مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ، وفيهم عُمَرُ ابنُ الخَطّابِ (¬1). وفي حَدِيثِ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ، قال: «لِيَؤُمَّكُمْ أكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» (¬2). فإن قِيلَ: إنَّما أمَرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بتَقْدِيمِ القارِئ؛ لأنَّ الصَّحابَةَ كان أقْرَؤُهم أفْقَهَهم، وأنَّهم كانُوا إذا قَرَؤُوا القُرْآنَ تَعَلَّمُوا معه أحْكامَه، قال ابنُ مسعودٍ: كنّا لا نُجاوِزُ عَشْرَ آيَاتٍ حتَّى نَعْرِفَ أمْرَها، ونَهْيَها، وأحْكامَها (¬3). قُلْنا: اللَّفْظُ عامٌّ فيَجِبُ الأخْذُ بعُمُومِه، على أنَّ في الحَدِيثِ ما يُبْطِلُ هذا التَّأوِيلَ، وهو قَوْلُه: «فَإنِ اسْتَوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنِّةِ». ففاضَلَ بينَهم في العِلْمِ بالسُّنَّةِ مع تَساوِيهم في القِراءَةِ، ولو كان ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إمامة العبد والمولى، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 178. وأبو داود، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 138. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب وقال الليث حَدَّثني يونس. . . .، من كتاب المغازي. صحيح البُخَارِيّ 5/ 191. وأبو داود، في: باب من أحق بالإمامة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 138. والنَّسائي، في: باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر، من كتاب الأذان، وفي: باب إمامة الغلام قبل أن يحتلم، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 9, 63. والإِمام أَحْمد، في: المسند 3/ 475، 5/ 30، 71. (¬3) أخرجه الحاكم، في: أخبار في فضائل القرآن جملة، من كتاب فضائل القرآن. المستدرك 1/ 557.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قالُوا للَزِمَ مِن التَّساوِي في القِراءَةِ التَّساوِي في الفِقْهِ، وقد نَقَلَهم مع التَّساوِي في القِراءَةِ إلى الأعْلَمِ بالسُّنَّةِ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ» (¬1). ففَضَّلَ بالفِقْهِ مَن هو مَفْضُولٌ بالقِراءَةِ. قِيلَ لأبي عبدِ اللهِ: حديثُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» (¬2). أهو خِلافُ حديثِ أبي مَسْعُودٍ؟ قال: لا، إنَّما قَوْلُه لأبي بكرٍ، عندِي: «يُصَلِّي بالنَّاسِ». للخِلافَةِ. يَعْنِي أنَّ الخَلِيفَةَ أحَقُّ بالإِمامَةِ. فصل: ويُرَجَّحُ أحَدُ القارِيَّيْن على الآخَرِ بكَثْرَةِ القُرْآنِ؛ لحديثَ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ. وإن تَساوَيا في قَدْرِ ما يَحْفَظُ كلُّ واحِدٍ منهما، وكان أحَدُهما أجْوَدَ قِراءَةً وإعْرابًا فهو أوْلَى؛ لأنَّه أقْرَأُ. وإن كان ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب في فضائل أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من المقدمة، بأطول من هذا السياق. سنن ابن ماجه 1/ 55. وأخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب مناقب معاذ بن جبل. . . .، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 202، والإمام أَحْمد، في: المسند 281، وليس عندهما ذكر على. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ: باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وباب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، وباب الرَّجل يأتم بالإِمام، ويأتم النَّاس بالمأموم، وباب إذا بكى الإِمام في الصلاة، من كتاب الآذان. وفي: باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخَارِيّ 1/ 169, 172, 182, 182, 9/ 120, 121. ومسلم، في: باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، وسفر غيرهما من يصلي بالنَّاس، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 313، 314، 316. وأبو داود في: باب التصفيق في الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 216، والتِّرمذيّ، في: باب في مناقب أبي بكر وعمر، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 135. والنَّسائي, في: باب استخلاف الإِمام إذا غاب، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 64. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في مرضه، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 389، 390. والإمام مالك، في: باب جامع الصلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 170، 171. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 202، 4/ 412، 413، 5/ 332، 6/ 34، 96، 159، 210، 224، 229، 270.

549 - مسألة: (ثم أفقههم، ثم أسنهم، ثم أقدمهم هجرة، ثم أشرفهم، ثم أتقاهم، ثم من تقع له القرعة)

ثُمَّ أَفْقَهُهُمْ، ثُمَّ أسَنُّهُمْ، ثُمَّ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَة، ثُمَّ أَشْرَفُهُمْ، ثُمَّ أَتْقَاهُمْ، ثُمَّ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما أكْثَرَ حِفْظًا، والآخَرُ أقَلَّ لَحْنًا وأجْوَدَ قِراءَةً، قُدِّمَ؛ لأنَّه أعْظَمُ أجْرًا في قِراءَتِه؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فلَهُ بكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، رَضىَ اللهُ عنهما: إعْرابُ القُرْآنِ أَحَبُّ إلينا مِن حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِه. وإنِ اجْتَمَع قارِئ لا يَعْرِفُ أحْكامَ الصلاةِ فكذلك، للخَبَرِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يقَدَّمُ الأفْقَهُ؛ لأنَّه تَمَيَّزَ (¬2) بما لا يُسْتَغْنَى عنه في الصلاةِ. 549 - مسألة: (ثم أفْقَهُهم، ثم أسَنُّهم، ثم أقْدَمُهم هِجْرَةً، ثم أشْرَفُهم، ثم أتْقاهم، ثم مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ) متى اسْتَوَوْا في القِراءةِ وكان أحَدُهم أفْقَهَ، قُدِّمَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ولأنَّ الفِقْهَ يُحْتاجُ إليه في ¬

(¬1) لم نجده في التِّرْمِذِيّ بهذا اللفظ ولا قريب منه. وقد أورده ابن عدي في: الكامل في الضعفاء، عن عمر ابن الخَطَّاب. انظر: الكامل 7/ 2506. (¬2) في م: «يمتاز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةِ للإِتْيانِ بواجِباتِها وأرْكانِها وشُرُوطِها وسُنَنِها، وجَبْرِها إنِ احْتاجَ إليه. فإنِ اجْتَمَعَ فَقِيهان قارِيّان، أحَدُهما أقْرَأُ، والآخَرُ أفْقَهُ، قُدِّمَ الأقْرَأُ؛ للحَدِيثِ. نَصَّ عليه. وقال ابنُ عَقِيل: يُقَدَّمُ الأفْقَهُ؛ لتَمَيُّزِه بما لا يُسْتَغْنَى عنه في الصلاةِ. وهذا يُخالِفُ الحديثَ المَذْكُورَ، فلا يُعَوَّلُ عليه. فإنِ اجْتَمَع فَقِيهان، أحَدُهما أعْلَمُ بأحْكام الصلاة، والآخَرُ أعْرَفُ (¬1) بما سِواها، قُدِّمَ الأعْلَمُ بأحْكامِ الصلاةِ؛ لَأنَّ عِلْمَه يُؤَثِّرُ في تَكْمِيل الصلاةِ، بخِلافِ الآخَرِ. فصل: فإنِ اسْتَوَوْا في القِراءَةِ والفِقْهِ، فقال شيخُنا (¬2) ها هنا: يُقَدَّمُ أسَنُّهم. يَعْنِي أكْبَرَهم سِنًّا. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لمالكِ ¬

(¬1) في م: «أعلم». (¬2) انظر: المغني 3/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ الحُوَيْرِثِ: «إذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أكْبَرُكُمَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأن الأسَنَّ أحَقُّ بالتَّوْقِيرِ والتَّقْدِيمِ. وظاهِرُ كَلام أحمدَ، أنَّه يُقَدَّمُ أقْدَمُهما هِجْرَةً، ثم أسَنُّهما؛ لحَدِيثِ أبي مَسْعُودٍ، فإنِّه مُرَتَّبٌ هكذا. قال الخَطّابِيُّ (¬2): وعلى هذا التَّرَتِيبِ أكْثَرُ أقاوِيلِ العُلَماءِ. ومَعْنَى تَقْدِيم الهِجْرَةِ، أن يكونَ أحَدُهما أسْبَقَ هِجْرَةٌ مِن دارِ الحَرْبِ إلى دارِ الإِسْلامِ، وإنَّما يُقَدَّمُ بها؛ لأنَّها قُرْبَةٌ وطاعَةٌ. فإن عُدِمَ ذلك؛ إما لاسْتِوائِهما فيها، أو عَدَمِها، قُدِّمَ أسَنُّهما؛ لِما ذَكَرْنا. وقال ابنُ حامِدٍ: أحَقُّهم بعدَ القِراءَةِ والفِقْهِ أشْرَفُهم، ثم أقْدَمُهم هِجْرَةً، ثم أسَنُّهم. والصَّحِيحُ ما دَل عليه حديثُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِن تَقْدِيمِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 52. (¬2) في: معالم السنن 1/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السّابِقِ بالهِجْرَةِ، ثم الأسَنِّ، ويُرَجَّحُ بتَقْدِيمِ الإسلامِ، كتَقْدِيمِ الهِجْرَةِ؛ لأنَّ في بَعْضِ ألْفاظِ حديثِ أبي مسعودٍ: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» (¬1). ولأنَّ الإِسلامَ أقْدَمُ مِن الهِجْرَةِ، فإذا قُدِّمَ بالهِجْرَةِ فأَوْلَى أن يَتَقَدَّمَ بالإِسلامِ. فإذا اسْتَوَوْا في جَمِيع ذلك قُدِّمَ أشْرَفُهم، والشَّرَفُ يَكُونُ بعُلُوِّ النَّسَبِ، وبكَوْنِه أفْضَلَ في نَفْسِه وأعْلاهم قَدْرًا؛ لقَوْلِ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» (¬2). فإنِ ¬

(¬1) تقدم في صفحة 336. (¬2) الحديث في الكامل لابن عدي 5/ 1810. وفي ترتيب مسند الشَّافعيّ للسندى 2/ 194 حديث رقم (691) أول كتاب المناقب. وفي فيض القدير للمناوى 4/ 512 حديث رقم (6109)، وعزاه للطبرانى، وحديث رقم (6110) وعزاه للبزار. وأخرجه ابن أبي عاصم، في السنة حديث (1519، 1520، 1521).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوَوْا في هذه الخِصالِ، قُدِّمَ أتْقاهم؛ لأنَّه أشْرَفُ في الدِّينِ، وأفْضَلُ وأقْرَبُ إلى الإِجابَةِ، وقد جاء: «إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ». ذَكَرَه الإمامُ أحمدُ في «رِسالَتِه» (¬1). ويُحْتَمَلُ تَقْدِيمُ الأتْقَى على الأشْرَفِ؛ لأنَّ شَرَفَ الدِّين خَيْرٌ مِن شَرَفِ الدُّنْيا، وقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2). فإنِ اسْتَوَوْا في هذا كلِّه أُقْرِعَ بينَهم. نَصَّ عليه؛ لأنَّ سَعْدًا أقْرَعَ بينَ النّاسِ في الأذانِ يومَ القادِسِيَّةِ (¬3)، فالإِمامَةُ أوْلَى، ولأنَّهم تَساوَوْا في ¬

(¬1) الرسالة السنية، ضمن مجموعة الحديث النجدية 457. (¬2) سورة الحجرات 13. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب الاستهام على الأذان، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 1/ 429.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِحْقاقِ، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ، فأْقْرِعَ بينَهم، كسائِرِ الحُقُوقِ. وإن كان أحَدُهما يَقُومُ بعِمارَةِ المَسْجِدِ وتَعاهُدِه فهو أحَقُّ به، وكذلك إن رَضِيَ الجِيرانُ أحَدَهما دُونَ الآخَرِ، قُدِّمَ به، ولا يُقَدَّمُ بحُسْنِ الوَجْهِ؛ لأنَّه لا مَدْخَلَ له في الإِمامَةِ، ولا أثَرَ له فيها. وهذا كلُّه تَقْدِيمُ اسْتِحْبابٍ، لا تَقْدِيمُ اشْتِراطٍ ولا إيجابٍ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه.

550 - مسألة: (وصاحب البيت وإمام المسجد أحق بالإمامة، إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان)

وَصَاحِبُ الْبَيْتِ وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، إلَّا أنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ذَا سُلْطَانٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 550 - مسألة: (وصاحِبُ البَيْتِ وإمامُ المَسْجِدِ أحَقُّ بالإِمامَةِ، إلَّا أن يَكُونَ بَعْضُهم ذا سُلْطانٍ) متى أُقِيمَتِ الجَماعَةُ في بَيْتٍ، فصاحِبُه أوْلَى بالإِمامَةِ مِن غيرِه، إذا كان مِمَّن تَصِحُّ إمامَتُه؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ (¬1) فِي بَيْتِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بإِذْنِهِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن مالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ، عن النبيِّ ¬

(¬1) سقط من: تش. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 278.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ زارَ قَوْمًا فلَا يَؤُمَّهُمْ وليَؤُمَّهُمْ رجُلٌ مِنهُمْ». رَواه أبو داوُدَ (¬1). وهذا قولُ عَطاءٍ، والشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فإنْ كان في البَيْتِ ذُو سُلْطَانٍ قُدِّمَ على صاحِبِ البَيْتِ؛ لأنَّ وِلايتَه على البَيْتِ وصاحِبِه، [وقَد أمَّ] (¬2) النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عِتْبانَ بنَ مالكٍ وأنَسًا في بُيُوتِهِما (¬3). اخْتارَه الخِرَقِيُّ. وقال ابنُ حامِدٍ: صاحِبُ البَيْتِ أحَقُّ بالإمامَةِ؛ لعُمُومِ الحَدِيثِ. والأوَّلُ أَصَحُّ. وكذلك إمامُ المَسْجِدِ الرّاتِبِ أوْلَى مِن غيرِه؛ لأنَّه في مَعْنَى صاحِبِ البَيْتِ، إلَّا أن يَكُونَ بَعْضُهم ذا سُلْطانٍ، ففيه وَجْهان. وقد رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه أتَى أرْضًا له، وعندَها مَسْجِدٌ يُصَلِّي فيه مَوْلًى له، فصَلَّى ابنُ عُمَرَ معَهم، فسَألُوه أن يَؤُمَّهم، فأبَى، وقال: صاحِبُ المَسْجِدِ أحَقُّ (¬4). ¬

(¬1) في: باب إمامة الزائر، من كتاب الصلاة. . . . سنن أبي داود 1/ 140. وكذلك أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء فيمن زار قومًا لا يصلي، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 150, 151. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 436، 5/ 53. (¬2) في م: «وقدم». (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 285. (¬4) تقدم في صفحة 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أذِنَ (¬1) المُسْتَحِقُّ مِن هؤلاء لرَجُلٍ في الإِمامَةِ، جاز، صار بمَنْزِلَةِ مَن أُذِن له في اسْتِحْقاقِ التَّقَدِيمِ (¬2)؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إلَّا بإِذْنِهِ». ولأنَّه حَقٌّ له، فجازَ نَقْلُه إلى مَن شاء. قال أحمدُ: قَوْلُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ في سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ». أرْجُو أن يَكُونَ الإِذْنُ في الكُلِّ. فصل: وإذا دَخَل السُّلْطانُ بَلَدًا له فيه خَلِيفَةٌ، فهو أَحَقُّ مِن خَلِيفَتِه؛ لأنَّ وِلايَتَه على خَلِيفَتِه وغيرِه. وكذلك لو اجْتَمَعَ العَبْدُ وسَيِّدُه في بَيْتِ العَبْدِ، فالسَّيِّدُ أوْلَى؛ لأنَّه يَمْلِكُ البَيْتَ والعَبْدَ على الحَقِيقةِ، ووِلايتُه على العَبْدِ، فإن لم يَكُنْ سَيِّدُه معهم فالعَبْدُ أَوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. وقد رُوِي أنَّه اجْتَمَعَ ابنُ مسعودٍ، وحُذَيْفَةُ، وأبو ذَرٍّ، في بَيْتِ أبي سعيدٍ موْلَي أبي أسِيدٍ وهو عَبْدٌ، فتَقَدَّمَ أبو ذَرٍّ ليُصَلِّي بهم، فقالُوا له: وَراءَكَ. فالْتَفَتَ إلى أَصْحابِه، فقال: أكذلك؟ قالُوا: نعم. فتَأخَّرَ، وقَدَّمُوا أَبا سعيدٍ، فصَلَّى بهم (¬3). رَواه صالِحُ بنُ أحمدَ، بإسْنادِهِ (¬4). وإنِ اجْتَمَعَ المُؤْجِرُ والمُسْتَأْجِرُ، فالمُسْتَأْجِرُ أوْلَى، ولأنَّه أحَقُّ بالسُّكْنَى والمَنْفَعَةِ. ¬

(¬1) في النسخ: «قدم» والمثبت من المغني. (¬2) في م: «التقدم». (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب إمامة القوم لا سلطان فيهم وهم في بيت أحدهم، من كتاب الصلاة. السنن =

551 - مسألة: (والحر أولى من العبد، والحاضر أولى من المسافر, والبصير أولى من الأعمي، في أحد الوجهين)

والْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ، وَالْحَاضِرُ أَوْلَى مِنَ الْمُسَافِرِ، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَى، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 551 - مسألة: (والحُرُّ أَوْلَى مِن العَبْدِ، والحاضِرُ أَوْلَى مِن المُسافِرِ, والبَصِيرُ أَوْلَى مِن الأعْمَي، في أحَدِ الوَجْهَيْن) إمامَةُ العَبْدِ صحِيحَةٌ؛ لِما رُوِيَ عن عائشةَ، أنَّ غُلامًا لها كان يَؤُمُّها (¬1). وصَلَّى ابنُ مسعودٍ، وحُذَيْفَةُ، وأبو ذَرٍّ، وَراءَ أبي سعيدٍ مَوْلَى أبي أَسِيدٍ وهو عَبْدٌ. ¬

= الكبرى 3/ 126. وهو في مصنف عبد الرَّزّاق، باب الرَّجل يؤتى في ربعه، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 392. (¬1) أخرجه عبد الرَّزّاق في: باب إمامة العبد، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 394.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، والثوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْيِ. وكَرِه ذلك أبو مِجْلَزٍ. وقال مالكٌ: لا يَؤُمُّهم إلَّا أن يَكُونَ قارِئًا وهم أُمِّيُّون. ولَنا، عُمُومُ قَوْله عليه السلامُ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى» (¬1). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّه مِن أهْلِ الأذانِ للرِّجالِ يَأْتِي بالصلاةِ على الكَمالِ، فجازَ له إمامَتُهم، كالحُرِّ. إذا ثَبَت ذلك فالحُرُّ أوْلَى منه؛ لأنَّه أكْمَلُ منه وأشْرَفُ، ويُصَلِّي الجُمُعَةَ والعِيدَ إمامًا، بخِلافِ العَبْدِ، ولأنَّ في تَقْدِيمِ الحُرِّ خُرُوجًا مِن الخِلافِ. والمُقِيمُ أوْلَى مِن المُسافِرِ؛ لأنَّه إذا كان إمامًا حَصَلَتْ له الصلاةُ كلُّها جَماعَةً، فإن أمَّه المُسافِرُ أتَمَّ الصلاةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُنْفَرِدًا. وقال القاضي: إن كان فيهم إمامًا فهو أحَقُّ بالإِمامَةِ وإن كان مُسافِرًا؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي بهم عامَ الفَتْحِ، ويَقُولُ لأهْلِ البَلَدِ: «صَلوا أرْبَعًا، فَإنَّا سَفْرٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). وإن تَقَدَّمَ المُسافِرُ جاز، ويُتِمُّ المُقِيمُ الصلاةَ بعدَ سَلام إمامِه، كالمَسْبُوقِ، وإن أتَمَّ المُسافِرُ الصلاةَ جازَتْ صَلاُتهُم. وحُكِيَ عنه رِوايَةٌ في صلاةِ المُقِيمِ، أنَّها لا تجُوزُ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ نَفْلً أمَّ بها مُفْتَرِضِين. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ المُسافِرَ إذا نَوَى الإِتْمامَ لَزِمَه، فيَصِيرُ الجَمِيعُ فَرْضًا. فصل: وإمامَةُ الأعْمَى جائِزَةٌ، لا يُعْلَمُ فيها خِلافًا، إلَّا ما حُكِيَ عن أنَسٍ, أنَّه قال: ما حاجَتُهم إليه. وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: كَيّفَ أؤُمُّهم وهم يَعْدِلُونَنِي إلى القِبْلَةِ (¬2). والصحِيحُ عن ابنِ عباسٍ أنَّه كان يَؤُمُّهم وهو أعْمَى، وعِتْبانَ بنِ مالكٍ، وقَتادَةَ، وجابِرٍ. وقال أنَسٌ: إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- اسْتَخْلَفَ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، أمَّ النّاسَ وهو أعْمَى. رواه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) في: باب متى يتم المسافر، من كتاب السفر سنن أبي داود 1/ 280. (¬2) أخرجهما ابن أبي شيبة، في: باب من كره إمامة الأعمى، من كتاب الصلاة. مصنف ابن أبي شيبة 2/ 215. (¬3) في: باب إمامة الأعمى، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ العَمَى (1) فَقْدُ حاسَّةٍ لا تُخِلُّ بشئٍ مِن أفْعالِ الصلاةِ ولا شُرُوطِها، أشْبَهَ فَقْدَ الشَّمِّ. والبَصِيرُ أوْلَى منه. اخْتارَه أبو الخَطّابِ، ولأنَّه يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ بعِلْمِه، ويَتَوَقَّى النَّجاساتِ ببَصَرِه، ولأنَّ في إمامَتِه اخْتِلافًا. وقال

وَفِي الْآخَرِ، هُمَا سَوَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: (هما سَواءٌ) لأنَّ الأعْمَى أخْشَعُ، لا يَشْتَغِلُ في الصلاةِ بالنَّظَرِ إلى ما يُلْهِيه، فيكونُ ذلك مُقابِلًا لِما ذَكَرْتُم، فيَتَساوَيان. قال الشَّيْخُ (¬1): والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ البَصِيرَ لو أغْمَضَ عَيْنَيْه كُرِهَ ذلك، ولوِ كان فَضِيلَةً لكان مُسْتَحَبًّا؛ لأنَّه يُحَصلُ بتَغْمِيضِه ما يُحَصِّلُه الأعْمَى، ولأنَّ البَصِيرَ إذا أغْمَضَ بَصَرَه مع إمْكانِ النَّظَرِ كان له الأجْرُ فيه، لأنَّه يَتْرُكُ المَكْرُوهَ مع إمْكانِه اخْتِيارًا، والأعْمَى يَتْرُكُه اضْطِرارًا، فكان أدْنَى حالًا، وأقَلَّ فضْلًا. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 28.

552 - مسألة: (وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف؟ على روايتين)

وَهَلْ تَصِحُّ إمَامَةُ الْفَاسِقِ وَالْأَقْلَفِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 552 - مسألة: (وهل تَصِحُّ إمامَةُ الفاسِقِ والأقْلَفِ؟ على رِوايَتَيْن) والفاسِقُ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْن؛ فاسِقٌ مِن جِهَةِ الاعْتِقادِ، وفاسِقٌ مِن جِهَةِ الأفْعالِ. فأمّا الفاسِقُ مِن جِهَةِ الاعْتِقادِ، فمتى كان يُعْلِنُ بِدْعَتَه، ويَتَكَلَّمُ بها، ويَدْعُو إليها ويُناظِرُ، لم تَصحَّ إمامَتُه، وعلى مَن صَلَّى وراءَه الإِعادَةُ. قال أحمدُ: لا يُصَلَّى خلفَ أحَدٍ مِن أهْلِ الأهْواءِ، إذا كان داعِيَةً إلى هَواه. وقال: لا تُصَلِّ خلفَ المُرْجِيءِ، إذا كان داعِيَةً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: وكذلك إن كان مُجْتَهِدًا يَعْتَقِدُها بالدَّلِيلِ، كالمُعْتَزِلَةِ، والقَدَرِيَّةِ، وغُلاةِ (¬1) الرَّافِضَةِ؛ لأنَّهم يُكَفَّرُون ببِدْعَتِهم. وإن لم يكنْ يُظْهِرُ بِدْعَتَه، ففي وُجُوبِ الإِعَادَةِ خلفَه رِوايتان؛ إحْداهما، تَجِبُ الإِعادَةُ، كالمُعْلِن بدْعَتَه، ولأنَّ الكافِرَ لا تَصِحُّ الصلاةُ خَلْفه، سَواءٌ أظْهَرَ كُفْرَه أو أخْفاه، كذلك المُبْتَدِعُ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي الحارِثِ: لا يُصَلِّي خلفَ مُرْجِئٍ ولا رافِضِيٍّ، ولا فاسِقٍ، إلَّا أن يَخافَهم فيُصَلِّي، ثم يُعِيدُ. وقال أبو داودَ: متى صَلَّيْتَ خلفَ مَن يَقُولُ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ. ¬

(¬1) في م: «وغيرة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأعِدْ. وعن مالكٍ، لا تُصَلِّ خلفَ أهْلِ البِدَعِ. والثّانِيَة، تَصِحُّ الصلاةُ خلفَه. قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: الرّافِضَةُ الذين يَتَكَلَّمُون بما تَعْرِفُ؛ قال: نعم، آمُرُه أن يُعِيدَ. قِيلَ له: وهكذا أهْلُ البِدَعِ؟ قال: لا؛ لأنَّ منهم من يَسْكُتُ، ومنهم مَن [يَقِفُ ولا] (¬1) يَتَكَلَّمُ. وقال: لا تُصَلِّ خلفَ المُرْجِئِ، إذا كان داعِيَةً. فدَلَّ على أنَّه لا يُعِيدُ إذا لم يَكُنْ كذلك. وقال الحسنُ، والشافعيُّ: الصلاةُ خلفَ أهْلِ البِدَعِ جائِزَةٌ بكلِّ حالٍ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلُّوا خَلْفت مَنْ قَالَ في إلَهَ إلَّا اللهُ» (¬2). ولأنَّه رجلٌ صلاتُه صَحِيحَةٌ، فصَحَّ الائْتِمامُ به، كغَيْرِه. وقال نافِعٌ: كان ابنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: باب في التشديد في ترك الصلاة. . . .، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 2/ 56. وتقدم بعضه في الجزء الثالث صفحة 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ يُصَلِّي خلفَ الخَشَبِيَّةِ (¬1) والخَوارِجِ زَمَنَ ابنِ الزُّبَيْرِ، وهم يَقْتَتِلُون. فقِيلَ له: أتُصَلِّي مع هؤلاء، وبَعْضُهم يَقْتُلُ بعضًا؟! فقال: مَن قال: حَيَّ على الصلاةِ. أجَبْتُه، وَمَن قال: حَيَّ على الفَلاحِ. أجَبْتُه، ومَن قال: حَيَّ على قَتْلِ أخِيك المُسْلمِ، وأخْذِ مالِه. قلتُ: لا (¬2). رَواه سعيدٌ. ووَجْهُ القولِ الأوَّلِ ما روَى جابِرٌ. قال: سَمِعْتُ رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على مِنْبَرِه يقولُ: «لَا تَؤُمنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أنْ يَقْهَرَهُ بسُلْطَانِهِ، أوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أوْ سَيْفَهُ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). وهذا أخَصُّ مِن حدِيثِهم، فيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُه، وحَدِيثُهم نَقُولُ به في الجُمَعِ والأعْيادِ، ونُعِيدُ، وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالأُمِّيِّ. ويُرْوَى عن حَبِيب بنِ عُمَرَ ¬

(¬1) في م: «الحسنية». والخشبية بالتحريك قوم من الجهمية يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم، وإن القرآن مخلوق. وقال ابن الأثير: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. ويقال: هم ضرب من الشيعة، قيل: لأنهم حفظوا خشية زيد بن عليّ حين صلب. والأول أوجه. تاج العروس (الكويت) 2/ 359. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب الصلاة خلف من لا يحمد فعله، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 122. (¬3) في: باب في فرض الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنْصَارِيِّ، عن أَبِيه، قال: سأَلْتُ واثِلَةَ بنَ الأسْقَعِ، قلتُ: أُصَلِّي خلفَ القَدَرِيِّ؟ قال: لا تُصَلِّ خَلْفَه. ثم قال: أمّا أنا لو صَلَّيْتُ خلفَه لأعَدْتُ صَلاِتى. رَواه الأثْرَمُ. فصل: وأمّا الفاسِقُ مِن جِهَةِ الأعْمالِ؛ كالزّانِي، والذى يَشْرَبُ ما يُسْكِرُه، فرُوِيَ عنه، أنَّه لا يُصَلَّى خلفَه، فإنَّه قال: لا تُصَلِّ خَلْفَ فاجِرٍ ولا فاسِقٍ. وقال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ يُسْئَلُ عن إمامٍ قال: أُصَلِّي بكم رمضانَ بكذا وكذا دِرْهَمًا. قال: أسْألُ اللهَ العافِيَةَ، مَن يُصَلِّي خلفَ هذا؛ ورُوِيَ، لا يُصَلَّى خلف مَن لا يُؤدِّي الزكاةَ، ولا يُصَلَّى خلفَ مَن يُشارِطُ، ولا بَأْسَ أن يُدْفَعَ إليه من غيرِ شَرْطٍ. وهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتِيارُ ابنِ عَقِيل. وعنه، أنَّ الصلاةَ خَلْفَه جائِزَةٌ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ». وكان ابنُ عُمَرَ يُصَلِّي مع الحَجّاجِ. والحَسنُ والحسينُ، وغيرُهما من الصَّحابَةِ كانوا يُصَلُّون مع مَرْوانَ. والَّذين كانوا في وِلايةِ زِيادٍ وابنِه كانوا يُصَلُّون معهما. وصَلَّوْا وراءَ الوَلِيدِ بنِ عُقْبَةَ وقد شَرِبَ الخَمْرَ. فصارَ هذا إجْماعًا. وعن أبي ذَرٍّ، قال: قال لى رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا»؟ قال: قلتُ: فما تَأْمُرُنِي؟ قال: «صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإنْ أدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ». رَواه مُسْلِمٌ (¬1). وهذا فِعْلٌ يَقْتَضِي فِسْقَهم، ولأنَّه رجلٌ تَصِحُّ صَلَاتُه لنَفْسِه، ¬

(¬1) في: باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار. . . .، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 448، 449. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 102. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في تعجيل الصلاة إذا أخرها الإمام, من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 287. والنَّسائي, في: باب الصلاة مع أئمة الجور، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 58، 59. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما إذا أخروا الصلاة عن وقتها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 398، والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 40، 409، 455، 459، 3/ 445، 446، 5/ 147، 160، 168، 169، 314، 315، 329، 6/ 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصَحَّ الائْتِمامُ به، كالعَدْلِ. ووَجْهُ الأُولَى ما ذَكَرْنا من الحَدِيثِ، ولأنَّ الإِمامَةَ تَتَضَمَّنُ حَمْلَ القِراءَةِ، ولا يُؤْمَنُ تَرْكُه لها، ولا يُؤْمَنُ تَرْكُ بَعْضِ شَرائِطِها، كالطهارةِ، وليس ثَمَّ أمارَةٌ ولا غَلَبَةُ ظنٍّ يُؤَمنُنا ذلك. والحدِيث أجَبْنَا عنه، وفِعْلُ الصَّحابَةِ مَحْمُولٌ على أنَّهم خافُوا الضَّرَرَ بتَرْكِ الصلاةِ معهم، ورَوَيْنا عن قَسامَةَ بنِ زُهَيْرٍ (¬1)، أنَّه قال: لَمّا كان مِن شَأْنِ فُلانٍ ما كان، قال له أبو بَكْرَةَ (¬2): تَنَحَّ عن مُصَلَّانا، فإنَّا لا نُصَلِّي خَلْفَكَ. وحَدِيت أبي ذَرٍّ يَدُلُّ على صِحَّتِها نافِلَةً، والنِّزاعُ إنَّما هو في الفَرْضِ. فصل: وأمّا الجُمَعُ والأعْيادُ فَتُصَلَّى خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجِر. وقد كان أحمدُ يَشْهَدُها مع المُعْتَزِلَةِ، وكذلك مَن كان مِن العُلَماءِ في عَصْرِه. وقد ¬

(¬1) قسامة بن زهير المازنِيّ البَصْرِيّ، تابعى ثِقَة، تُوفِّي في ولاية الحجاج على العراق بعد الثمانين. تهذيب الكمال 23/ 602. (¬2) في م: «أبو بكر» وهو خطأ, وانظر خبر أبي بكرة مع المغيرة, في شرح مختصر الروضة 2/ 170 - 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِيَ أنَّ رَجُلًا جاء محمدَ بنَ النَّضْرِ (¬1)، فقال له: إنَّ لى جيرانًا مِن أهْلِ الأهْواءِ لا يَشْهَدُون الجُمُعَةَ. قال: حَسْبُكَ، [ما تَقولُ] (¬2) في مَن رَدَّ على أبي بكرٍ وعُمَرَ؟ قال: ذلك رجلُ سَوْءٍ. قال: فإن رَدَّ على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟ قال: يَكْفُرُ. قال: فإن رَدَّ على العَلِيِّ الأعْلَى؟ ثم غُشِيَ عليه، ثم أفاقَ، فقال: رَدُّوا عليه، والذِي لا إلهَ إلَّا هُوَ، فإنَّه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} (¬3). وهو يَعْلَمُ أنَّ بَنِي العَبّاسِ سَيَلُونَها. ولأنَّ هذه الصلاة مِن شَعائِرِ الإِسْلامِ الظّاهِرَةِ، وتَلِيها الأَئِمَّةُ دُونَ غيرِهم، فتَرْكُها خلفَهم يُفْضِي إلى تَرْكِها بالكُلِّيَةِ. إذا ثَبَت ذلك فإنَّها تُعادُ خَلْفَ مَن يُعادُ خلْفَه غيرُها قِياسًا عليها. هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ. وعنه، أنَّه قال: مَن أعادَها فهو مُبْتَدِعٌ. وهذا يَدُلُّ على أنَّها لا تُعادُ خَلْفَ فاسِقٍ ولا مُبْتَدِعٍ؛ لأنَّها صلاةٌ مَأْمُورٌ بها، فلم تَجِبْ إعادَتُها، كسائِرِ الصَّلَواتِ. ¬

(¬1) أبو بكر مُحَمَّد بن النضر بن سلمة الجارودى الحنفي النَّيْسَابُورِيّ، كان شيخ وقته، وعين علماء عصره، حفظًا وجمالا، وتوفى سنة إحدى وتسعين ومائتين. الجواهر المضية 3/ 382. (¬2) سقط من: تش. (¬3) سورة الجمعة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المُباشِرُ عَدْلًا، والذى وَلَّاه غيرَ مَرْضِيِّ الحالِ لبِدْعَتِه أو لفِسْقِه، لم يُعِدْها. في المَنْصُوصِ عنه؛ لأنَّ صلَاته إنَّما تَرْتَبِطُ بصلاةِ إمامِهِ، ولا يَضُرُّ وُجُودُ مَعْنًى في غيرِه، كالحَدَثِ. وذَكَر القاضي في وُجُوبِ الإِعادَة رِوايَتَيْن. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. فصل: فإنَ لم يَعْلَمْ فِسْقَ إمامِه، ولا بِدْعَتَه، فقال ابنُ عَقِيل: لا إعادَةَ عليه؛ لأنَّ ذلك مما يَخْفِي، فأَشْبَهَ الحَدَثَ والنَّجَسَ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّ هذا يُنْظَرُ فيه، فإن كان مِمَّن يُخْفِي بِدْعَتَه وفُسُوقَه، صَحَّتْ صَلَاتُه؛ لأَنَّ مَن يُصَلِّي خَلْفه مَعْذُورٌ، وإن كان مِمَّن يُظْهِرُ ذلك، وجَبَتِ الإِعادَةُ، على الرِّوايَةِ التى تَقُول بوُجُوبِ إعادَتِها خَلْفَ المُبْتَدِعِ؛ لأنَّه مَعْنًى يَمْنَعُ الائْتِمامَ، فاسْتَوَى فيه العِلْمُ وعَدَمُه, كما لو كان أُمِّيًّا، والحَدَثُ والنَّجاسَةُ يُشْتَرَطُ خَفاؤُهما على الإِمامِ والمَأْمُومِ معًا، والفاسِقُ لا يَخْفَى عليه فِسْقُ نَفْسِه. فأمّا إن لم يَعْلَمْ حَالَه، ولم يَظْهَرْ منه ما يَمْنَعُ الائِتْمامَ به، فصَلاُته صَحِيحَةٌ. نصَّ عليه؛ لأنَّ الأصْلَ في المُسْلِمين السَّلامَةُ. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا المُخالِفُون في الفُرُوعِ كالمذاهِب الأرْبَعَةِ، فالصلاةُ خلفهم جائِزَةٌ صَحِيحَةٌ غيرُ مَكْرُوهَةٍ. نَصَّ عليه؛ لأَنَّ الصَّحابَةَ والتّابِعِين ومَن بعدَهم، لم يَزَلْ بَعْضُهم يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ، مع اخْتِلافِهم في الفُرُوعِ، فكان ذلك إجْماعًا. وإن عَلِم أنَّه يَتْرُكُ رُكْنًا يَعْتَقِدُه المَأْمُومُ دوُنَ الإِمامِ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ صِحَّةُ الائْتِمام به. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أحمدَ يُسْألُ عن رَجُلٍ صَلَّى بقَوْمٍ وعليه جُلُودُ الثَّعالِبِ، [فقال: إن كان يَلْبَسُه وهو يَتَأوَّلُ قَوْلَه عليه السَّلامُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ» (¬1). فَصَلِّ خَلْفَه] (¬2). فقِيلَ له: أتَراهُ أَنْتَ جائِزًا؟ قال: لا. ولكنَّه إذا كان يَتَأَوَّلُ فلا بَأْسَ أن يُصَلَّىَ خَلْفَه. ثم قال أبو عبدِ الله: لو أنَّ رجلًا لم يَرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 168. (¬2) سقط من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُضُوءَ مِن الدَّمِ لم يُصَلَّ خلفَه، فلا نُصَلِّي خَلْفَ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ومالكٍ. أي: بَلَى. ولأنَّ كلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أو كالمُصيبِ في حَطِّ المَآثِمِ عنه، وحُصُولِ الثَّوابِ له، ولأنَّ صَلَاتَه تَصِحُّ لنَفْسِه، فجازتِ الصلاةُ خَلْفَه, كما لو لم يَتْرُكْ شيئًا. وقال ابنُ عَقِيلٍ في الفُصُولِ: لا تَصِحُّ الصلاةُ خَلْفَه. وذَكَر القاضي فيه رِوايَتَيْن؛ إحْداهُما، لا تَصِحُّ؛ لأنَّه يَفْعَلُ ما يَعْتَقِدُه المَأْمُومُ مُفْسِدًا للصلاةِ، فلم يَصِحَّ ائْتِمامُه به, كما لو خالَفَه في القِبْلَةِ حالَةَ الاجْتِهادِ، ولأنَّ أكْثَرَ ما فيه أنَّه تَرَك رُكْنًا لا يَأْثَمُ بتَرْكِه، فبَطَلَتِ الصلاةُ خَلْفَه, كما لو تَرَكَه ناسِيًا. والثّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: فإن فَعَل شيئًا مِن المُخْتَلَفِ فيه، يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَه، فإن كان يَتْرُكُ ما يُعْتَقَدُ شَرْطًا للصلاةِ، أو وَاجِبًا فيها، فصَلاُته وصلاةُ مَن يَأْتَمُّ به فاسِدَةٌ، وإن كان المَأْمُومُ يُخالِفُ في اعْتِقادِ ذلك؛ لأنَّه تَرَك واجِبًا في الصلاةِ، فبَطَلَتْ صَلَاتُه وصلاةُ مَن خَلْفَه، كالمُجْمَعِ عليه. وإن كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَتَعَلَّقُ ذلك بالصلاةِ، كشُرْبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ، والنَّكاحَ بغيرِ وَلِيٍّ مِمَّن يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَه، فهذا إن دام علي ذلك فهو فاسِقٌ، حُكْمُه حُكْمُ سائِرِ الفُسّاقِ، وإن لم يَدُمْ عليه لم يُؤَثِّرْ؛ لأنَّه مِن الصَّغائِرِ. فإن كان الفاعِلُ لذلك عامِّيًّا قَلُّدَ مَن يَعْتَقِدُ جَوازَه، فلا شئَ عليه فيه؛ لأنَّ (¬1) فَرْضَ العامِّيِّ سُؤَالُ العالِمِ وتَقْلِيدُه؛ قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). وإنِ اعْتَقَد حِلَّه وفِعْلَه، صَحَّتِ الصلاةُ خَلْفَه في الصَّحيحِ مِن المَذْهَبِ. وذَكَر ابنُ أبي موسى في صِحَّةِ الصلاةِ خَلْفَه رِوايَتَيْن. فصل: وإذا أُقِيمَتَ الصلاةُ والإِنْسانُ في المَسْجدِ، والإِمامُ لا يَصْلُحُ للإِمامَةِ، فإن شاء صَلَّى خَلْفَه، وأعاد. وإن نَوَى الانْفِرادَ، ووافَقَه في أفْعالِ الصلاةِ، صَحَّتْ صَلاتُه؛ لأنَّه أتَى بالصلاةِ على الكَمالِ، أشْبَهَ ما لو لم يَقْصِدْ مُوافَقَةَ الإِمامِ. ورُوِي عن أحمدَ، أنَّه يُعِيدُ. ¬

(¬1) في ص: «ولأن». (¬2) سورة النحل 43.

553 - مسألة: (وفي إمامة أقطع اليدين وجهان)

وَفِي إِمامَةِ أَقْطَعِ الْيَدَيْنِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواها عنه الأثْرَمُ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا. وكذلك لو كان الذين لا يَرْضَوْن الصلاةَ خلفَه جَماعَةً، فأمَّهم أحَدُهم ووافَقُوا الإِمامَ في الأفْعالِ، كان ذلك جائِزًا. فصل: وأمّا الأقْلَفُ (¬1)، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ إمامَتُه؛ لأنَّ النَّجاسَة في ذلك المَحلِّ لا يُعْفَى عنها عندَنا. والثّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لأنَّه إن أمْكنَه كَشْفُ القُلْفَةِ، وغَسْلُ النَّجاسَةِ غَسَلَها، وإن كان مُرْتَتِقًا (¬2) لا يَقْدِرُ علي كَشْفِها، عُفِي عن إزالَتِها؛ لعَدَمِ الإِمْكانِ، وكلُّ نَجاسَةٍ مَعْفُوٍّ عنها لا تُؤَثِّرُ في بُطْلانِ الصلاةِ. والله أعلمُ. 553 - مسألة: (وفي إمامَةِ أقْطَعِ اليَدَيْن وَجْهان) رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لم أسْمَعْ فيها شيئًا. وذَكَر الآمِدِيُّ فيه رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، ¬

(¬1) من لم يختن. (¬2) في م: «مرتقا». والمرتتق من التحمت جلدة ذكره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُكْرَهُ وتَصِحُّ. اخْتارَها القاضي؛ لأنَّه عَجْزٌ لا يُخِلُّ برُكْنٍ في الصلاةِ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الإمامَةِ، كقَطْعِ إحدَى الرِّجْلَيْن [والأنْفِ] (¬1). والثّانِيَةُ، لا تَصِحُّ. اخْتارَها أبو بكرٍ؛ لأنَّه يُخِلُّ بالسُّجُودِ على بَعْضِ أعْضاءِ السُّجُودِ، أشْبَهَ العاجِزَ عن السُّجُودِ على جَبْهَتِه. وحُكمُ قَطْعِ اليَدِ الواحِدَةِ كقَطِعِهما. فأمّا أقْطَعُ الرِّجْلَيْنِ فلا تَصِحُّ إمامَتُه؛ لأنَّه عاجِزٌ عن القِيامِ، أشْبَهَ الزَّمِنَ. فإن قُطِعَتْ إحْداهُما، وأمْكَنَه القِيامُ، صَحَّتْ إمامَتُه. ويَتَخَرَّجُ أن لا تَصِحَّ، على قوْلِ أبي بكرٍ؛ لإِخْلالِه بالسُّجُودِ على عُضْوٍ. والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لأنَّه يَسْجُدُ على الباقِي من رِجْلِه أو حائِلِها (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «حاملها».

554 - مسألة: (لا تصح الصلاة خلف كافر، ولا أخرس)

وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ كَافِرٍ، وَلَا أَخْرَسَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 554 - مسألة: (لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ كافِرٍ، ولا أخْرَسَ) ولا تَصِحُّ الصلاة خلفَ كافِرٍ بحالٍ، سواءٌ عَلِم بِكُفْرِه قبلَ فراغِه مِن الصلاةِ أو بعدَ ذلك. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ. [وقال المُزَنِيُّ، وأبو ثَوْرٍ: لا إعادَةَ على مَن صَلَّى خَلْفَه وهو لا يَعْلَمُ, كما لو ائْتَمَّ] (¬1) بمُحْدِثٍ وهو لا يَعْلَمُ. ولَنا، أنَّه ائْتَمَّ بمَن ليس مِن أهلِ الصلاةِ، أشْبَهَ ما لو ائْتَمَّ بمَجْنُونٍ. والمُحْدِثُ يُشْتَرَطُ أن لا يَعْلَمَ حَدَثَ نفْسِه، والكافِرُ يَعْلَمُ حالَ نَفْسِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا صَلَّى خَلْفَ مَن يَشُكُّ في إسْلامِه، فصَلاتُه صَحِيحَةٌ، ما لم يَبِنْ كُفْرُه، ولأنَّ الظّاهِرَ مِن المُصَلِّين الإِسْلامُ، سِيَّما إذا كان إمامًا. فإن كان مِمَّن يُسْلِمُ تارَةً ويَرْتَدُّ أُخْرَى، لم يُصَلِّ خَلْفَه، حتَّى يَعْلَمَ على أيِّ دِينٍ هو، فإن صَلَّى خَلْفَه ولم يَعْلَمْ ما هو عليه، نَظَرْنا؛ فإن كان قد عَلِمَ إسْلامَه قبلَ الصلاةِ، ثم شَكَّ في رِدَّتِه، فهو مسلمٌ، وإن عَلِم رِدَّتَه، وشَكَّ في إسْلامِه، لم تَصِحَّ الصلاةُ خَلْفَه، وإن كان عَلِم إسْلامَه فصَلَّى خَلْفَه، فقال بعدَ الصلاةِ: أسْلَمْتُ. أو: ارْتَدَدْتُ قبلَ الصلاةِ. لم تَبْطُل الصلاةُ؛ لأنَّها كانت مَحْكُومًا بصِحَّتِها، فلم يُقْبَلْ قوْلُه في إبْطالِهَا؛ لأنَّه مِمَّن لا يُقْبَلُ قَوْلُه. [وإن صَلَّى خَلْفَ مَن عَلِمَ رِدَّتَه، فقال بعدَ الصلاةِ: قد كنتُ أسْلَمْتُ. قُبِلَ قَوْلُه؛ لأنَّه مِمَّن يُقْبَلُ قَوْلُه] (¬1). فصل: قال أصحابُنا: يُحْكَمُ بإسْلامِه [بالصلاةِ] (1)، سَواءٌ كان في دارِ الحَرْبِ أو دارِ الإِسْلامِ، وسَواءٌ صَلَّى في جَماعَةٍ أو مُنْفَرِدًا؛ فإن رَجَع عن الإسْلامِ بعدَ ذلك فهو مُرْتَدٌّ، وإن ماتَ قبلَ ظُهُورِ ما يُنافِي الإِسْلامَ فهو مسلمٌ، يَرِثُه وَرَثَتُه المسْلِمُونَ دُونَ الكُفَّارِ. وقال ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حنيفةَ: إن صَلَّى في المَسْجِدِ حُكِم بإسْلامِه، وإن صَلَّى في غيرِ المَسْجِدِ فُرادَى لم يُحْكَمْ بإسْلامِه. وقال بعضُ الشَّافِعِيَّةِ: لا يُحْكَمُ بإسْلامِه بِحالٍ؛ لأنَّ الصلاة مِن فُرُوعِ الإِسْلامِ، فلا يَصِيرُ بفِعْلِها مُسْلِمًا، كالحَجِّ والصِّيام، ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوَها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وأمْوَالَهُمْ، إلَّا بحَقِّهَا» (¬1). وقال بعضُهم: إن صَلَّى في دارِ الإِسْلامِ فليس بمُسْلِمٍ؛ لأنَّه يَقْصِدُ الاسْتِتارَ بالصلاةِ، وإخْفاءَ دِينهِ، وإن صَلَّى في دارِ الحَرْبِ فهو مسلمٌ؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ في حَقِّهِ. ولَنا، قولُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ المُصَلِّينَ» (¬2). وقال: «بَيْنَنَا وبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ» (¬3). فجَعَلَ الصلاةَ حَدًّا بينَ الإِسْلامِ والكُفْرِ، فمَن صَلَّى فقد دَخَل في حَدِّ الإِسْلامِ. وقال: «المَمْلُوكُ إذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوكَ». رواه الإِمامُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 31. (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 32. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ (¬1). ولأنِّها عِبادَةٌ تَخْتَصُّ المُسْلِمينَ، فإِذَا [أتَى بها] (¬2) حُكِم بإسْلامِه، كالشَّهادَتَيْن. فأمّا الحَجُّ، فإنَّ الكُفارَ كانُوا يَفْعَلُونَه، والصِّيامُ ترْكُ المُفْطِراتِ، وقد يَفْعَلُه مَن ليس بصائِم، فأمّا صلاتُه في نَفْسِه فَأَمْرٌ بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فإن علمَ أنَّه كان قد أَسْلَم، ثم تَوَضَّأ وصَلَّى بنِيَّة صَحِيحَةٍ، فهي صَحِيحَةٌ، وإلَّا فعليه الإعادَةُ؛ لأنَّ الوُضُوءَ لا يَصِحُّ مِن الكُفّارِ. وإذا لم يُسْلِمْ قبلَ الصلاةِ، كان حالَ شُرُوعِه فيها غيرَ مُسْلِم ولا مُتَطَهِّر، فلا تَصِحُّ منه. واللهُ أعلمُ. فصل: ولا تَصِحُّ إمامَةُ الأخْرَسِ بغيرِ أَخْرسَ؛ لأنَّه يَتْرُكُ رُكْنًا وهو القِراءَةُ تَرْكًا مَأُيُوسًا مِن زَوالِه، فلم تَصِحَّ إمامَتُه بقادِرٍ عليه، كالعاجِزِ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. فأمّا إمامَتُه بمِثْلِه، فقِياسُ المذْهَبِ صِحَّتُها، قِياسًا على الأُمِّيِّ. والعاجِزُ عن القِيَامِ يومُّ مِثْلَه، وهذا في مَعْناهما. واللهُ أعلمُ. وقال القاضي، وابنُ عَقِيل: لا تَصِحُّ؛ لأنَّ الأمِّيِّ غيرُ مَأْيُوس مِن نُطْقِهِ. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) في: المسند 1/ 13. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الإحسان إلى المماليك، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1217. (¬2) في م: «صلي».

555 - مسألة: (ولا)

وَلَا مَنْ بِهِ سَلَس الْبَوْلِ، وَلَا عَاجِزٍ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الأَصَمُّ فتَصِحُّ إمامَتُه؛ لأنَّه لا يُخِلُّ بشئٍ مِن أفْعالِ الصلاةِ ولا شُرُوطِها، أشْبَهَ الأعْمَى. فإن كان الأصَمُّ أعْمَى صَحَّتْ إمامَتُه كذلك. وقال بعضُ أَصْحابِنا: لا تَصِحُّ إمامَتُه؛ لأنَّه إذا سَها لا يُمْكِنُ تَنْبِيهُه بتسْبِيحٍ ولا إشارَةٍ. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى صِحَّتُها؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ مِن صِحَّةِ الصلاةِ احْتِمالُ عارِض لا يُتَيَقَّنُ وُجُودُه، كالمَجْنُونِ حال إفاقَتِه. 555 - مسألة: (ولا) تَصِحُّ إمامَةُ (مَن به سَلَسُ البَوْلِ، ولا عاجِزٍ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ والقُعُودِ) وجملَةُ ذلك أنَّه لا تَصِحُّ إمامَةُ مَن به سَلَسُ البَوْلِ، ومَن في مَعْناه، ولا المُسْتَحاضَةِ بصَحِيح؛ لأنَّهم يُصَلُّون مع خُرُوجِ النَّجاسَةِ التى يَحْصُلُ بها الحَدَثُ مِن غيرِ طهارةٍ. فأمّا مَن عليه النَّجاسَةُ، فإن كانت على بَدَنِه فتَيَمَّمَ لها لعَدَمِ الماءِ، جاز للطّاهِرِ الائْتِمامُ به، كما يَجُوزُ لِلمُتَوَضِّئ الائْتِمامُ بالمُتَيَمِّمِ للحَدَثِ. هذا ¬

(¬1) في: المغني 3/ 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتيارُ القاضي. وعلى قِياسِ قولِ أبي الخَطّابِ، لا يَجُوزُ الائْتِمامُ به؛ لأنَّه أوْجَبَ عليه الإعادَةَ. وإن كانت على ثَوْبِه، لم يَجُزْ الِائْتِمامُ به؛ لتَرْكِه الشَّرْطَ. ولا يَجُوزُ ائْتِمامُ المُتَوَضِّئِ ولا المُتَيَمِّمِ بعادِم اِلماءِ والتُّراب، ولا اللّابِسِ بالعارِي، ولا القادِرِ على الاسْتِقْبالِ بالعاجِزِ عنه؛ لأنَّه تارِكٌ (¬1) لشَرْطٍ يَقْدِرُ عليه المَأْمُومُ، أشْبَهَ ائْتِمامَ المُعافَى بمَن به سَلَسُ البَوْلِ. ويَصِحُّ ائْتِمامُ كلِّ واحِدٍ مِن هؤلاء بمِثْلِه؛ لأنَّ العُراةَ يُصَلُّون جَماعَةً، وكذلك الأمِّيُّ يَجُوزُ أن يَؤُمَّ مِثْلَه، كذلك هذا. فصل: ويَصِحُّ ائْتِمامُ المتَوضِّئ بالمُتَيَمِّمِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ عَمْرَو بنَ العاص صَلَّى بأصحابِه مُتَيَمِّمًا، وبَلَغ ذلك النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-فلم يُنْكِرْه (¬2). وأمَّ ابنُ عباس أصحابَه مُتَيَمِّمًا، وفيهم عَمّارُ بنُ ياسِرٍ، في نَفَرٍ مِن أصْحابِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فلم يَنْكِرُوه (¬3). ولأن طَهارَتَه صحِيحَةٌ، أشْبَهَ المُتَوَضِّئَ. فصل: ولا تَصِحُّ إمامَةُ العاجِزِ عن شئٍ مِن أرْكانِ الأفْعالِ، كالعاجزِ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، بالقادِرِ عليه، سَواءٌ كان إمامَ الحَيِّ أو لم يَكُنْ. ¬

(¬1) في م: «ما ترك». (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 99. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب المتيمم يؤم المتوضئين، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 1/ 234.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وقال الشافعيُّ: يَجُوزُ؛ لأَنَّه فِعْلٌ أجازَه المَرَضُ، أشْبَهَ القاعِدَ يَؤُمُّ بالقُيَّامِ. ولَنا، أنَّه أخَلَّ برُكْن لا يَسْقُطُ في النّافِلَةِ، فلم يَجُزْ الائْتِمَامُ به، للقادِرِ عليه، كالقارِئُ بالأُمِّيِّ. وأمّا القِيامُ فهو أخَفُّ بدَلِيلِ سُقُوطِه في النَّافِلَةِ؛ ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَ المُصَلِّين خَلْفَ الجالِسِ بالجُلُوسِ (¬1). ولا خِلافَ أنَّ المُصَلّىَ خَلْفَ المُضْطَجِعِ لا يَضْطَجِعُ. فأمّا إن أمَّ مِثْلَه، فقِياسُ المَذْهَب صِحَّتُه؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى بأصحابِه في المَطَرِ بالإِيماء (¬2). والعُراةُ يُصَلُّوَن جَماعَةً بالإِيماءِ، وكذلك حالَ المُسايَفَةِ، ولأنَّ الأُمِّيَّ تَصِحُّ إمامَتُه بمِثْلِه، كذلك هذا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» في الجزء الثالث صفحة 416. (¬2) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطِّين والمطر، من كتاب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 203، 204.

556 - مسألة: (ولا تصح خلف عاجز عن القيام، إلا إمام الحي المرجو زوال علته، [ويصلون وراءه جلوسا]

وَلَا تَصِحُّ خَلْفَ عَاجِزٍ عَنِ الْقِيَامِ، إِلَّا إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَيُصَلُّونَ وَرَاءُهُ جُلُوسًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 556 - مسألة: (ولا تَصِحُّ خَلْفَ عاجِزٍ عن القِيامِ، إلَّا إمامَ الحَيِّ المَرْجُوَّ زَوالُ عِلَّتِه، [ويُصَلُّون وراءَه جُلُوسًا] (¬1) ولا تَصِحُّ إمامَةُ العاجِزِ عن القِيامِ بالقادِرِ عليه إذا لم يَكُنْ إمامَ الحَيِّ، رِوايَة واحِدَةً؛ لأنَّه يُخِلُّ برُكْنٍ مِن أركانِ الصلاةِ، أشْبَهَ العاجِزَ عن الرُّكُوعِ، وتَجُوزُ إمامَتُه بمِثْلِه، كما يَؤُمُّ الأُمِّيُّ مِثْلَه. فصل: فأمّا إِمامُ الحَيِّ إذا عَجَز عن القِيام، فيَجُوزُ أن يَؤُمَّ القادِرَ عليه، بشَرْطِ أن يكون ذلك لمَرَض يُرْجَى زَوالُه؛ لأنَّ اتِّخاذَ الزَّمِنِ، ومَن لا تُرْجَى قُدْرَتُه على القِيامِ إمامًا رَاتِبًا، يُفْضِي إلى تَرْكِهم القِيامَ على الدَّوامِ، وإلى مُخالَفَةِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «فَإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ» (¬2). ولا حاجَةَ إليه، ولأنَّ الأصْلَ في هذا فِعْلُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وكان يُرْجَى بُرْؤُه. فإذا وُجِدَ فيه هذان الشَّرْطان، فالمُسْتَحَبُّ له أن يَسْتَخْلِفَ؛ لأنَّ النّاسَ مُخْتَلِفُون في صِحَّة إمامَتِه، ففي اسْتِخْلافِه خُرُوجٌ مِن الخِلافِ، ولأنَّ صَلاةَ القَائِمِ أكْمَلُ، وكَمالُ صلاةِ الإِمامِ مَطْلُوبٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 416. من حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قِيلَ: فقد صَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بأصْحابِه، ولم يَسْتَخْلِفْ. قُلْنا: فَعَل ذلك لتَبْيِينِ الجَوازِ، واسْتَخْلَفَ مَرَّةً أُخْرَى، ولأنَّ صلاةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قاعِدًا أفْضَلُ مِن صلاةِ غيرِه قائِمًا. فإن صَلَّى بهم قاعِدًا «جاز» وصَلَّوا وراءَه جُلُوسًا. يُرْوَى ذلك عن أرْبَعَةٍ مِن أصْحابِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ (¬1) , وجابِرٌ، وقَيْسُ بنُ قَهْدٍ (¬2)، وأبو هُرَيْرَةَ. وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وحَمّادِ بنِ زيدٍ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن: لا تَصِحُّ صلاةُ القادِرِ على الِقيامِ خَلْفَ القاعِدِ. وهو قَوْلُ محمدِ بنِ الحسنِ. قال الشَّعْبِيُّ: رُوِي عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «لَا يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بَعْدِي (¬3) جَالِسًا». أخْرَجَه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬4). ولأنَّ القِيامَ رُكْنٌ، فلا يَصِحُّ ائْتِمامُ القادِرِ عليه بالعاجِزِ عنه، كسائِرِ الأرْكانِ. وقال ¬

(¬1) أسيد بن حضير بن سماك الأوسى، شهد العقبة الثَّانية، وكان نقيبًا لبنى عبد الأشهل. توفى سنة عشرين. أسد الغابة 1/ 111 - 113. (¬2) قيس بن قهد بن قيس الخزرجى، شهد بدرًا وما بعدما، وتوفى في خلافة عثمان. أسد الغابة 4/ 440، 441. (¬3) في م «بعد». (¬4) في صلاة المريض جالسًا بالمأمومين، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 398.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّون خَلْفَه قِيامًا؛ لِما رَوت (¬1) عائشةُ، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- اسْتَخْلَفَ أَبا بكرٍ، ثم وَجَد في نَفْسِه خِفَّةً، فخرَجَ بينَ رَجُلَيْن، فأجْلَساه إلى جَنْبِ أبي بكر، فجَعَلَ أبو بكرٍ يُصَلِّي وهو قائِمٌ بصلاةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، والنّاسُ يُصَلُّون بصلاةِ أبي بكرٍ، والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قاعِدٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وهذا آخِرُ الأمْرَيْن مِن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولأنَّه رُكْنٌ قَدَر عليه، فلم يَجُزْ له تَرْكُه، كسائِرِ الأرْكانِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ». مُتَّفَقٌ عليه. وعن عائشةَ، قالت: صَلَّى رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في بَيْتِه، وهو شاكٍّ، فَصَلَّى جالِسًا، وصَلَّى وراءَه قَوْمٌ قِيامًا، فأشار إليهم، أنِ اجْلِسُوا. فلَمَّا ¬

(¬1) في م: «روى عن». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وباب من قام إلى جنب الإمام لعلة، وباب إنما جعل الإمام ليؤتم به، وباب الرَّجل يأتم بالإمام، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 169، 174، 175، 176، 182، 183. ومسلم، في: باب استخلاف الإمام. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 311 - 315. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الإتمام بالإمام يصلي قاعدًا، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 77 - 79. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في مرضه, من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 389. والدارمي، في: باب في من يصلي خلف الإمام والإمام جالس، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 287، 288. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 356، 2/ 52، 6/ 224، 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْصَرَفَ قال: «إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فَإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإذا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ». أخْرَجَه البُخارِيُّ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: رُوِيَ هذا عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مِن طُرُقٍ مُتَواتِرَةٍ من حَدِيثِ أنَسٍ، وجابِرٍ، وأبي هُرَيْرَةَ، وابنِ عُمَرَ، وعائشةَ، كلُّها بأسانِيدَ صَحِيحَةٍ. فأمّا حَدِيثُ الشُّعْبِي فمُرْسَلٌ، ويَرْوِيه جابِرٌ الجُعْفِيُّ، وهو مَتْرُوكٌ. وقد فَعَلَه أرْبَعَةٌ مِن أصْحاب النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعدَه. وأمّا حَدِيثُ الآخَرِين فليس فيه حُجَّةٌ. قاله أحمدُ، لأنَّ أَبا بكرٍ كان ابْتَدَأ الصلاةَ، [فإذا ابْتَدَأ الصلاةَ قائِمًا (¬1) أتمَّها قائِمًا. فأشار أحمدُ إلى إمْكانِ الجَمْع بينَ الحَدِيثَيْن، بحَمْلِ حَدِيثِهم على مَن ابْتَدَأ الصلاةَ قائِمًا، والثّانِي على مَن ابْتَدَأ الصلاةَ جالِسًا، ومتى أمْكَنَ الجَمْعُ بينَ الحَدِيثَيْن كان أوْلَى مِن النَّسْخِ، ثم يَحْتَمِلُ أن أَبا بكر كان الإمامَ. قاله ابنُ المُنْذِرِ في بَعْضِ الرِّواياتِ. وقالت عائشةُ: إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى خَلْفَ أبي بكر في مَرَضِه الذى مات فيه (¬2). وقال أنسٌ: صَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في مَرَضِه خَلْفَ أبي بكرٍ قاعِدًا في ثَوْب مُتَوَشِّحًا به (¬3). قال الترمِذِيُّ: كلا الحَدِيثَيْن حسنٌ صحيحٌ، ولا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب من قوله: إذا صلى الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 157، 158. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 159. (¬3) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب منه، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 158.

557 - مسألة؛ قال: (فإن صلوا قياما صحت صلاتهم في أحد الوجهين)

فَإنْ صَلَّوْا قِيَامًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْرَفُ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خَلْفَ أبي بكرٍ صلاةٌ إلَّا في هذا الحَدِيثِ. وروَى مالك الحديثَ عن رَبِيعَةَ، وقال: كان أبو بكرٍ الإمامَ. قال مالكٌ: العَمَلُ عندَنا على حَدِيثِ رَبيعَةَ هذا. فإن قِيلَ: لو كان أبو بكر الِإمامَ لكان عن يَسارِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. قُلْنا: يَحْتَمِلُ أنَّه فَعَل ذلك؛ لأنَّ (¬1) وراءَه صَفًّا. واللهُ أعلمُ. 557 - مسألة؛ قال: (فإن صَلَّوْا قِيامًا صَحَّتْ صلاتُهم في أحَدِ الوَجْهَيْن) أحَدُهما، لا تَصِحُّ. أوْمأ إليه أحمدُ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمَرَهم بالجُلُوس، ونَهاهم عن القِيام، فقال في حَدِيثِ جابِرٍ: «إذَا صَلَّى الْإمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَإذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيامًا، وَلَا تَقُومُوا والْإمَامُ جَالِسٌ، كَمَا يَفْعَلُ أهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا». فَقَعَدْنا (¬2). ولأنَّه تَرَك الاقْتِداءَ بإمامِه مع القدْرَةِ عليه، أشْبَهَ تارِكَ القِيامِ في حالِ قِيامِ إمامِه. ¬

(¬1) في ص: «وإن». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يصلي من قعود، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّانِي، يَصِحُّ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى وراءَه قَوْمٌ قِيامًا، فلم يَأْمُرْهم بالإِعادَةِ. فعلى هذا يُحْمَلُ الأمْرُ على الاسْتِحْبابِ، ولأنَّه تَكَلَّف القِيامَ في مَوْضِعٍ يَجُوزُ له الجُلُوسُ، أشْبَهَ المَرِيضَ إذا تكَلَّفَ القِيامَ. ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ صلاةُ الجاهِلِ بوُجُوبِ القُعُودِ، دُونَ العالِمِ، كما قالُوا في الذى رَكَع دُونَ الصَّفِّ.

558 - مسألة: (فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما، ثم اعتل فجلس، أتموا خلفه قياما)

وَإنِ ابْتَدَأ بِهِمُ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، أَتَمُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 558 - مسألة: (فإنِ ابْتدَأ بهم الصلاةَ قائِمًا، ثم اعْتَلَّ فجَلَسَ، أتَمُّوا خَلْفَه قِيامًا) لأنَّ أَبا بكرٍ حينَ ابْتَدَأ بهم الصلاةَ قائِمًا، ثم جاء النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فأتَمَّ الصلاةَ بهم جالِسًا، أتَمُّوا قِيامًا، ولم يَجْلِسُوا. ولأنَّ القِيامَ هو الأصْلُ، فمَن بَدَأ به في الصلاةِ لَزِمَه في جَمِيعِها إذا قَدَر عليه، كالذى أحْرَمَ في الحَضَرِ ثم سافَرَ. فصل: فإن اسْتَخْلَفَ بعضُ الأئِمَّةِ في وَقْتِنا هذا، ثم زال عُذْرُه فحَضَرَ، فهل يَجُوزُ أن يَفْعَلَ كفِعْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أبي بكرٍ؛ فيه ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداها، ليس له ذلك. قال أحمدُ، في رِوايَة أبي داودَ: وذلك خاصٌّ بالنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لأن هذا أمْرٌ يُخالِفُ القِياسَ، فإنَّ انْتِقالَ الإِمام مَأْمُومًا، وانْتِقَالَ المأْمُومِين مِن إمام إلى آخَرَ، لا يَجُوزُ إلَّا لعُذْرٍ يُحْوِجُ إليه، وليس في تَقدُّم الإِمامِ الرّاتِبِ ما يُحْوِجُ إلى هذا، أمّا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فله مِن الفَضِيلَةِ وعِظَمِ المَنْزِلَةِ ما ليس لأَحَدٍ، ولذلك قال أبو بكرٍ: ما كان لابنِ أبي قُحافَةَ أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَيْ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-. والثانيةُ، يَجُوزُ. نَصَّ عليه في رِوايةِ أبي الحارِثِ. فعلى هذا يُكَبِّرُ ويَقْعُدُ إلى جَنْبِ الإمام، ويَبْتَدِئُ القِراءةَ مِن حيث بَلَغ الإِمامُ؛ لأنَّ الأصْلَ أنَّ ما فَعَلَه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يكونُ جائِزًا لأُمَّتِه، ما لمِ يَقُمْ على اخْتِصاصِه به دَلِيلٌ. والرِّوايةُ الثالِثَةُ، أنَّ ذلك يَجُوزُ للخَلِيفَةِ دُون بَقِيَّةِ الأئِمَّةِ، فإنَّه قال، في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ: ليس هذا لأحَدٍ إلَّا للخَلِيفَةِ. وذلك لأنَّ رُتْبَةَ الخِلافَةِ تَفْضُلُ رُتْبَةَ سائِرِ الأئِمَّةِ، فلا يَلْحَقُ بها غيرُها، [وكان ذلك للخَلِيفَةِ] (¬1)، وخَلِيفَةُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُومُ مَقامَه. ¬

(¬1) في ص: «مكان ذلك الخليفة».

559 - مسألة: (ولا تصح إمامة المرأة والخنثى للرجال، ولا للخناثى)

ولَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرأَةِ وَالْخُنْثَى لِلرِّجَالِ، وَلَا لِلْخَنَاثَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 559 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إمامَةُ المَرْأةِ والخُنْثَى للرجالِ، ولا للخَناثَى) لا يَصِحُّ أن يَأْتَمَّ رجلٌ بامْرَأةٍ، في فَرْضٍ ولا نافِلَةٍ، في قولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا إعادَةَ على المُصَلِّي خَلْفَها. وقال بعضُ أَصْحابِنا: يَجُوزُ أن تَؤُمَّ الرِّجالَ في التَّراوِيحِ، وتكونَ وراءَهم؛ لِما رُوِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أُمِّ وَرَقَةَ بنتِ [عبدِ اللهِ بنِ] (¬1) الحارثِ، أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- جَعَل لها مُؤذِّنًا يُؤَذِّنُ لها، [وأمَرَها] (¬2) أن تَؤُمَّ أهلَ دارِها. رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا عامٌّ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رجُلًا». رَواه ابنُ ماجه (¬4). ولأَنَّها لا تُؤَذِّنُ للرِّجالِ، فلم يَجُزْ أن تَؤُمَّهم، كالمَجْنُونِ، وحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّما أَذِن لها أن تؤُمَّ بنِساءِ أهلِ الدّارِ. كذلك رَواه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «وأذن لها». (¬3) في: باب إمامة النساء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 139. وكذلك أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 405. (¬4) في: باب في فرض الجمعة من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّارَقُطنيُّ (¬1). وهذه زِيادَةٌ يَجِبُ قَبُولُها، ولو لم يُذْكَرْ ذلك لتَعَيَّنَ حَمْلُ الحديثِ عليه؛ وذلك لأنَّه أذِن لها أن تَؤُمَّ في الفَرائِضِ، بدَلِيلِ أنَّه جَعَل لها مُؤَذِّنًا، والأذانُ إنَّما يُشْرَعُ في الفَرائِضِ، ولا خِلافَ في المذْهَبِ أنَّها لا تَؤُمُّهم في الفَرائِضِ، فالتَّخْصِيصُ بالتَّراوِيحِ تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلِ. ولو ثَبَت ذلك لأُمِّ وَرَقَةَ، لكان خاصًّا لها، بدَلِيلِ أنَّه لا يُشْرَعُ لغَيْرِها مِن النِّساءِ أذانٌ ولا إقامَةٌ، فتَخْتَصُّ بالإِمامةِ، كما اخْتَصَّت بالأذانِ والإِقامَةِ. ¬

(¬1) في: باب في ذكر الجماعة وأهلها وصفة الإمام, من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأمّا الخُنْثَى، فلا يجُوزُ أن يَؤُمَّ رجلًا؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ امْرَأةً، ولا يَؤُمَّ خُنْثَى؛ لجَوازِ أن يكونَ الإمامُ امْرأةً والمأُمُومُ رجلًا، ولا أن تَؤُمَّه امْرَأةٌ؛ لجَوازِ أن يكونَ رجلًا. ويَجُوزُ له أن يَؤُمَّ المرأةَ؛ لأنَّ أدْنَى أحْوالِه أن يكونَ امرأةً. وقال القاضي: رأيْتُ لأبي حَفْص البَرْمَكِيِّ (¬1) أنَّ الخُنْثَى لا تَصِحُّ صَلاتُه في جَماعَةٍ؛ لأنَّه إن قام مع الرِّجالِ احْتَمَلَ أن يكونَ امرأةً، وإن قام مع النِّساءِ، أو وَحْدَه، أو ائْتَمَّ بامرأةٍ، احْتَمَل أن يكونَ رجلًا، وإن أمَّ الرِّجالَ احْتَمَل أن يكونَ امْرَأةً. وإن أمَّ النِّساءَ فقامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَل أن يكونَ رجلًا، وإن قام أمامَهُنَّ احْتَمَل أنَّه امْرَأةٌ. قال ¬

(¬1) أبو حفص عمر بن أَحْمد بن إبراهيم البرمكى، كان من الفقهاء والأعيان النساك الزهاد، وهو ذو الفتيا الواسعة، والتصانيف النافعة، تُوفِّي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 2/ 153 - 155.

560 - مسألة؛ قال: (ولا إمامة الصبي لبالغ، إلا في النفل،

وَلَا إمَامَةُ الصَّبِيِّ لِبَالِغ، إلَّا فِي النَّفْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيخُ (¬1): ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ صَلاتُه في هذه الصُّورَةِ، وفي صُورَةٍ أُخْرى، وهو أن يَقُومَ في صَف الرِّجالِ مَأُمُومًا؛ فإنَّ المَرْأَةَ إذا قامت في صَفِّ الرِّجالِ لم تَبْطُلْ صَلاتُها، ولا صلاةُ مَن يَلِيها. 560 - مسألة؛ قال: (ولا إمامَةُ الصَّبِيِّ لبالِغٍ، إلَّا في النَّفْلِ، ¬

(¬1) في: المغني 3/ 34.

عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على إحْدَى الرَّوايَتَيْن) لا يَصِحُّ ائْتِمامُ البالِغِ بالصَّبِيِّ في الفَرْضِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قَوْلُ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباس. وبه قال عطاءٌ، ومُجاهِدٌ (¬1)، والشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ. وأجازه الحسنُ، والشافعيُّ: وإسحاق، وابنُ المُنْذِر. وذَكَر أبو الخَطَّاب رِوايَةً في صحَّةِ إمامَتِه في الَفْرض، بِناءً على [إمامَةِ المُفْترِض بالمُتَنَفِّلِ. وقال ابنُ عَقِيل: يُخَرَّجُ في صِحَّةِ إمامَةِ ابنِ عَشْر سِنينَ وجْهًا، بناءً على] (¬2) القَوْلِ بوُجُوب الصلاة عليه. ووَجْهُ ذلك قوْلُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» (¬3). فيدخُلُ في عُمُوم ذلك. وروَى عَمْرُو ابنُ سَلَمةَ الجَرْمِي، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لقَوْمِه: «لِيَؤُمَّكُمْ أقْرَؤُكُمْ». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: فكنتُ أؤُمُّهم وأنا ابنُ سَبْعِ سِنِين، أو ثَمانِ سِنِين. رَواه البُخاريُّ، وأبو داودَ، وغيرُهما (¬1). ولَنا، قَوْل ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، ولأنَّ الإمامَةَ حالُ كَمالٍ، والصَّبِيُّ ليس مِن أهلِ الكَمالِ، فلا يَؤُمُّ الرِّجالَ، كالمَرْأَة؛ ولأنَّهُ لا يُؤْمَنُ مِن الصَّبِي الإخْلالُ بشَرْط مِن شَرائِطِ الصلاةِ أو القِراءَةِ حالَ الإسْرارِ. فأما حديثُ عمرِو بنِ سَلَمَةَ، فقال الخَطابِيُّ (¬2): كان أحمدُ يُضَعِّفُ أمْرَ عمرِو بنِ سَلَمَةَ. وقال مَرَّةً: دَعْه، ليس بشئٍ. قال أبو داودَ: قِيلَ لأحمدَ: حَدِيثُ عمرِو بنِ سَلَمَةَ؛ قال: لا أدْرِي أيُّ شيء هذا! ولَعَلَّه إنَّما تَوَقفَ عنه؛ لأنَّه لم يَتَحَقَّقْ بُلُوغَ الأمْرِ إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإنَّه كان بالبادِيَةِ في حَيٍّ مِن العَربِ بَعِيدٍ مِن المَدِينَةِ، وقَوَّى هذا الاحْتِمالَ قَوْلُه في الحديثِ: وكنتُ إذا سَجَدْتُ خَرَجَتِ اسْتِي. وهذا غيرُ سائِغٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 337. (¬2) في: معالم السنن 1/ 169.

561 - مسألة: (ولا تصح إمامة محدث ولا نجس يعلم ذلك

وَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ مُحْدِثٍ وَلَا نَجِسٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا إمامَتُه في النَّفْلِ، ففيها رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ؛ لذلك. والثانيةُ، تَصِحُّ لأنَّه مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُتَنَفِّلِين، ولأنَّ النّافِلَةَ يَدْخُلُها التَّخْفِيفُ، ولذلك تَنْعَقِدُ الجَماعَةُ به فيها إذا كان مَأْمُومًا. 561 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إمامَة مُحْدِثٍ ولا نَجِسٍ يَعْلَمُ ذلك

فَإنْ جَهِلَ هُوَ وَالْمَأْمُومُ حَتَّى قَضَوُا الصَّلَاةَ، صَحَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن جَهِل هو والمَأْمُومُ حتَّى قَضَوُا الصلاةَ، صَحَّتْ صلاةُ المَأْمُومِ وحدَه) متى أخَلَّ بشَرْطِ الصلاةِ مع القُدْرَةِ عليه، لم تَصِحَّ صَلاتُه؛ لإخْلالِه بالشَّرْطِ. فإن صَلَّى مُحْدِثًا، وجَهِل الحَدَثَ هو والمَأْمُومُ حتَّى قَضَوُا الصلاة، فصلاةُ المَأْمُومِين صَحِيحَةٌ، وصلاةُ الإِمامِ باطِلَةٌ. ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، وابنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ, والشافعيُّ. وعن عليٍّ، أنَّهم يُعيِدُون جميعًا (¬1). وبه قال ابنُ سِيرِينَ (¬2)، والشَّعْبِيُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه؛ لأنَّه صَلَّى بهم مُحْدِثًا، أشْبَهَ ما لو عَلِم. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، فرُوِي أنَّ عُمَرَ صَلَّى بالنّاسِ الصُّبْحَ, ثم خَرَج إلى الجُرْفِ (¬3)، فأهْراقَ الماء، فوَجَدَ في ثَوْبِه احْتِلامًا، فأعاد ولم يُعِدِ ¬

(¬1) أخرجه عنه عبد الرَّزّاق، في: باب الرَّجل يؤم القوم وهو جنب. . . . إلخ، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 351. (¬2) في م: «نصر». (¬3) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشَّام, به كانت أموال لعمر بن الخَطَّاب ولأهل المدينة. معجم البلدان 2/ 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسُ (¬1). وعن عثمانَ أنَّه صَلَّى بالنّاسِ صلاةَ الفجْرِ، فلَمّا أصْبَح وارْتَفَع النَّهارُ إذا هو بأثَرِ الجَنابَةِ، فقال: كَبُرَتْ واللهِ، كَبُرَتْ واللهِ. وأعاد الصلاةَ، ولم يَأْمُرْهم أن يُعِيدُوا. وعن ابنِ عُمَرَ نحوُ ذلك (¬2). رَواه كلَّه الأثْرَمُ. وعن البَراءِ بن عازِبٍ، أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إذَا صَلَّى الجُنُبُ بِالْقَوْمِ، أعاد صَلَاتهُ، وتَمَّتْ لِلْقَوْمِ صَلاتُهم». رَواه أبو سُليمانَ محمدُ ابنُ الحسينِ الحَرّانِيُّ. ولَأنَّ الحَدَثَ ممَّا يَخْفَى، ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه مِن الإِمامِ للمَأْمُومِ، فكان مَعْذورًا في الاقْتِداءِ به، ويُفارِقُ ما إذا عَلِم الإمامُ حَدَثَ نَفْسِه؛ لأنَّه يكونُ مُسْتَهْزِئًا بالصلاةِ، فاعِلًا ما لا يَحِلُّ. وإذا عَلِمَه المَأْمُومُ، لم يُعْذَرْ في الاقْتِداءِ به، وما نُقِل عن عليٍّ لا يَثْبُتُ، بل قد نُقِل عنه كما ذَكَرْنا عن غيرِه مِن الصَّحابةِ. والحُكْمُ في النَّجاسَةِ كالحُكْمِ في الحَدَثِ؛ لأنَّها في مَعْناه في خَفائِها على الإِمامِ والمَأْمُومِ، على أنَّ في النَّجاسَةِ رِوايَةً أُخْرَى، أنَّ الإِمامَ أَيضًا لا تَلْزَمُه الإِعادَةُ. وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب إعادة الجنب الصلاة. . . . إلخ ,من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 49، 50. وانظر مصنف عبد الرَّزّاق 2/ 347 - 351. والسنن الكبرى للبيهقى 1/ 170. (¬2) أخرجه عبد الرَّزّاق في مصنفه 2/ 348.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عَلِم حَدَثَ نَفْسِه في الصلاةِ، أو عَلِم المَأْمُومُون، لَزِمَهم اسْتِئْنافُ الصلاةِ. قال الأثْرَمُ سأَلْتُ أَبا عبدِ اللهِ، عن رَجُلٍ صَلَّى بقَوْمٍ [غيرَ طاهرٍ] (¬1)، بعضَ الصلاةِ، فذَكَرَ؟ قال: يُعْجِبُنِي أن يَبْتَدِئُوا الصلاةَ. قلتُ: يقولُ لهم: اسْتَأْنِفُوا الصلاةَ؟ قال: لا، ولكنْ يَنْصَرِفُ وَيَتَكَلَّمُ، ويَبْتَدِئُون هم الصلاةَ. وذَكَر ابنُ عقيل رِوايَةً، إذا عَلِم المَأْمُومُون، أنَّهم يَبْنُون على صَلاِتهم. وقال الشافعيُّ: يَبْنُون على صَلاِتهم، سواءٌ عَلِم بذلك، أو عَلِم المَأْمُومُون؛ لأن ما مَضَى مِن صَلاِتهم صَحِيحٌ، فكان لهم البِناءُ عليه، لو قام (¬2) إلى خامِسَةٍ فسَبَّحُوا به فلم يَرْجِعْ. ولَنا، أنَّه ائْتَمَّ بمَن صَلَاتُه فاسِدَةٌ، مع العِلْمِ منهما أو مِن أحَدِهما، أشْبَهَ ما لو ائْتَمَّ بامرَأةٍ. وإنما خُولِفَ هذا إذا اسْتَمَرَّ الجَهْلُ [منهما؛ للإِجْماعِ، ولأنَّ وُجُوبَ الإِعادَةِ على المَأْمُومِين حالَ (¬3) اسْتِمْرارِ الجَهْلِ] (¬4) يَشُقُّ؛ لتَفَرُّقِهم، بخِلافِ مَا إذا عَلِمُوا في الصلاةِ. ¬

(¬1) في م: «على غير طهارة». (¬2) في م: «أقام». (¬3) في م: «في حالة». (¬4) سقط من: ص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن عَلِم بعضُ المَأْمُومِين دُونَ بَعْضٍ، فالمَنْصُوصُ أنَّ صلاةَ الجَمِيعِ تَفْسُدُ. والأوْلَى يَخْتَصُّ البُطْلانُ بمَن عَلِم دُون مَن جَهِل؛ لأنَّه مَعْنًى مُبْطِلٌ اخْتَصَّ به، فاخْتَصَّ بالبُطْلانِ، كحَدَثِ نَفسِه. فصل: قال أحمدُ، في رَجُلَيْن أمَّ أحَدُهما الآخرَ، فشَمَّ كلُّ واحِدٍ منهما رِيحًا، أو سَمِع صوْتًا يَعْتَقِدُه مِن صاحِبِه: يَتَوَضَّآن، ويُعِيدان الصلاةَ؛ لأنَّ كلُّ واحِدٍ منهما يَعْتَقِدُ فَسادَ صلاةِ صاحِبِه. وهذا إذا قُلْنا: تَفْسُدُ صلاةُ كُلِّ واحِدٍ مِن الإمامِ والمَأْمُومِ بفَسادِ صلاةِ الآخَرِ، بكَوْنِه صارِ فَذًّا. وعلى الرِّوايَةِ المَنْصُورَة يَنْوِي كلُّ واحِدٍ منهما الانْفِرادَ، ويُتِمُّ صَلاتَه. ويَحْتَمِلُ أنَّه إنَّما قَضَى بفَسادِ صَلاتِهما، إذا أتَمّا الصلاةَ على ما كانا عليه مِن غيرِ فَسْخِ النِّيَّةِ، فإنَّ المَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أنَّه مُؤتَمَّ بمُحْدِثٍ، والإمامَ يَعْتَقِدُ أنَّه يَؤُمُّ مُحْدِثًا. وأمَّا قولُه: يَتَوَضَّآن. فلَعَلَّه أراد؛ لتَصِحَّ صَلاتُهما جَماعَةً. إذ ليس لأحَدِهما أن يَأْتَمَّ بالآخَرِ مع اعْتِقادِه حَدَثَه، [أو احْتِياطًا] (¬1). أمّا إذا صَلَّيا مُنْفَرِدَيْن، فلا يَجِبُ الوُضُوءُ على واحِدٍ منهما؛ لأنَّه مُتَيَقِّنٌ للطَّهارَةِ، شاكٌّ في الحَدَثِ. فصل: فإنِ اخْتَلَّ غيرُ ذلك مِن الشُّرُوطِ في حَقِّ الإِمامِ، كالسِّتارَةَ، ¬

(¬1) في م: «واحتياطًا».

562 - مسألة: (ولا تصح إمامة الأمي؛ وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم حرفا [لا يدغم، أو يبدل حرفا]

وَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الأُمِّيِّ؛ وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، أَوْ يُدْغِمُ حَرْفًا لَا يُدْغَمُ، أَوْ يُبْدِلُ حَرْفًا، أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، إِلَّا بِمِثْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ واسْتِقْبالِ القِبْلَةِ، لم يُعْفَ عنه في حَقِّ المَأْمُومِ؛ لأنَّ ذلك لا يَخْفَى غالِبًا، بخِلافِ الحَدَثِ والنَّجاسَةِ. وكذا إن فَسَدَتْ صلاُته، لتَرْكِ رُكْنٍ، فَسَدَتْ صلاُتهم. نَصَّ عليه (¬1) أحمدُ، في مَن تَرَك القِراءَةَ، يُعِيدُ ويُعِيدُون، وكذلك لو تَرَك تَكْبيرَةَ الإِحْرامِ. 562 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إمامَة الأُمِّيِّ؛ وهو مَن لا يُحْسِنُ الفاتِحَةَ، أو يُدْغِمُ حَرْفًا [لا يُدْغَمُ، أو يُبْدِل حَرْفًا] (¬2)، أو يَلْحَنُ فيها (¬3) لَحْنًا يُحِيلُ المَعْنَى، إلَّا بِمِثْلِه) الكلامُ في هذه المَسْأَلةِ في فَصْلَيْن؛ ¬

(¬1) في ص: «عليهما». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م، ص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، أن الأمِّيَّ لا تَصِحُّ إمامَتُه بمَن يُحْسِنُ قِراءَةَ الفاتِحَةِ. وهذا قَوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ في الجديدِ. وقيل عنه: يَصِحُّ أن يَأْتَمَّ القارِئُ بالأُمِّيِّ في صلاةِ الإِسْرارِ دُونَ الجَهْرِ. وعنه، يَصِحُّ أن يَأُتَمَّ به في الحالَيْن. ولَنا، أنَّه ائْتَمَّ بعاجِزٍ عن رُكْن وهو قادِرٌ عليه، فلا تَصِحُّ، كالعاجِزِ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقِياسُهم يَبْطُلُ بالأخْرَسِ والعاجزِ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وأمّا القِيامُ فهو رُكْنٌ أخَفُّ مِن غيرِه؛ بدَلِيل أنَّه يَسْقُطُ في النّافِلَةِ مع القُدْرَةِ عليه بخِلافِ القِراءَةِ. فإن صَلَّى بأُمِّيِّ وقارِئٍ، صَحَّتْ صلاةُ الأُمِّيّ والإِمام. وقال أبو حنيفةَ: تفْسُدُ صلاةُ الإِمامِ أَيضًا؛ لأنَّه يَتَحَمَّلُ القِراءَةَ عن المَأَمُومِ، وهو عاجِزٌ عنها ففَسَدَتْ صَلَاتُه. ولَنا، أنَّه أمَّ مَن لا يَصِحُّ ائْتِمامُه به، فصَحَّتْ صلاةُ الإمامَ، كما لو أمَّتِ امْرأةٌ رَجُلًا ونِساءً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَوْلُهم: إنَّ المَأُمُومَ يَتَحَمَّلُ عنه الإمامُ القِراءَةَ. قُلْنا: إنَّما يَتَحَمَّلُها مع القُدْرَةِ، فأمّا مَن يَعْجِزُ عن القِراءَةِ عن نَفْسِه، فعن غيرِه أوْلَى. الفصلُ الثانِي: أنَّه تَصِحُّ إمامَتُه بمِثْلِه؛ لأنَّه يُساوِيه، فصَحَّتْ إمامَتُه به، كالعاجِزِ عن القِيام. فصلَ: قَوْلُه (أو يُبْدِلُ حَرْفًا) هو كالأُلْثَغِ الذى يُبْدِلُ الرّاءَ غَيْنًا. والذى (يَلْحَنُ لَحْنًا يُحِيلُ المَعْنَى) كالذى يَكْسِرُ كافَ {إِيَّاكَ}، أو

وَإنْ قَدَرَ عَلَى إِصْلَاحِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تاءَ {أَنْعَمْتَ} أو يَضُمُّها، إذا كان لا يَقْدِرُ على إصْلاحِ ذلك، يَصِحُّ ائْتِمامُه بمِثْلِه، كاللَّذَيْن لا يُحْسِنان شيئًا (وإن) كان يَقْدِرُ (على إصْلاحِ ذلك، لم تَصِحَّ صَلَاتُه) ولا صلاةُ مَن يَأْتَمُّ به؛ لأنَّه تَرَك رُكْنًا مِن أرْكانِ (¬1) الصلاةِ مع القُدْرَةِ عليه، أشْبَهَ تارِكَ الرُّكُوعِ. فصل: فإن صَلَّى القَارِئُ خلفَ مَن لا يَعْلَمُ حالَه في صلاةِ الإسْرارِ، صَحَّتْ صَلَاتُه؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه إنَّما يَتَقَدَّمُ مَن يُحْسِنُ القِراءَةَ. وإن كان يُسِرُّ في صلاةِ الجَهْرِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تصِحُّ صلاةُ القارِئُ. ذَكَرَه القاضي، وابنُ عَقِيل؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لو أحْسَن القِراءَةَ لجَهَرَ. ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّانِي، تَصِحُّ، لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لا يَؤُمُّ النّاسَ إلَّا مَن يُحْسِنُ القِراءَةَ، والإسْرارُ يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ لجَهْل أو نِسْيانٍ. فإن قال: قد قَرَأْتُ. صَحَّتِ الصلاةُ على الوَجْهَيْن؛ لأن الظّاهِرَ صِدْقُه. وتُسْتَحَبُّ الإِعادَةُ احْتِياطًا. ولو أسَرَّ في صلاةِ الإِسْرارِ، ثم قال: ما كنتُ قَرَأْتُ الفاتِحَةَ. لَزِمَه ومَن وَراءَه الإعادَةُ؛ لأنَّه رُوِيَ عن عُمَرَ، أنَّه صَلَّى بهم المَغْرِبَ، فلَمَّا سَلَّم، قال: ما سَمِعْتُمُونِي قَرَأْتُ؟ قالوا: لا. قال: فما قَرَأْتُ في نَفْسِي. فأعاد بهم الصلاةَ.

563 - مسألة: (وتكره إمامة اللحان، والفأفاء الذي يكرر الفاء، والتمتام الذي يكرر التاء

وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ اللَّحَّانِ، وَالْفَأْفَاءِ الَّذِي يُكَرِّرُ الْفَاءَ، وَالتَّمْتَامِ الَّذِي يُكَرِّرُ التَّاءَ، وَمَنْ لَا يُفْصِحُ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان رَجُلان لا يُحْسِنان الفاتِحَةَ، أو أحَدُهما يُحْسِنُ سَبْعَ آياتٍ مِن غيرِها، والآخَرُ لا يُحْسِنُ شيئًا، فلكلِّ واحِدٍ منهما الائْتِمامُ بالآخَرِ؛ لأنَّهما أُّمِّيّانِ، والمُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ مَن يُحْسِنُ الآياتِ (¬1)؛ لأنَّه أقْرَأُ. وعلى هذا، كُلُّ مَن لا يُحْسِنُ الفاتِحَةَ، يَجُوزُ أن يَوُّمَّ مَن لا يُحْسِنُها، سواءٌ اسْتَوَيا في الجَهْلِ، أو تَفاوَتا فيه. 563 - مسألة: (وتُكْرَه إمامَةُ اللَّحّانِ، والفَأْفَاءِ الذي يُكَرِّرُ الفاءَ، والتَّمْتامِ الذي يُكَرِّرُ التَّاءَ (¬2)، ومن لا يُفْصِحُ ببَعْضِ الحُرُوفِ) أمّا الذي ¬

(¬1) في م: «السبع آيات». (¬2) في م: «القاف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْحَنُ لَحْنًا يُحِيلُ المَعْنَى، فقد ذَكَرْناه. وتُكْرَهُ إمامَةُ اللَّحّانِ الذي لا يُحِيلُ المعْنى. نصَّ عليه (¬1). وتَصِحُّ صَلاتُه بمَن لا يَلْحَنُ؛ لأنَّه أتَى بفَرْضِ القِراءَةِ. فإن أحالَ المعْنَى في غيرِ الفاتِحَةِ، لم يَمْنَعْ صِحَّةَ إمامَتِه، إلَّا أن يَتَعَمَّدَه، فيُبْطِلُ صَلَاتهما. ومَن لا يُفْصِحُ ببَعْضِ الحُرُوفِ، كالقافِ والضّادِ، فقال القاضي: تُكْرَهُ إمامَته، وتَصِحُّ، أعْجَمِيًّا كان أو عَرَبِيًّا. وقِيلَ في مَن قرأَ {وَلَا الضَّالِّينَ}. بالظّاءِ: لا تَصِحُّ صَلَاتُه؛ لأنَّه يُحِيلُ المعْنَى. يُقالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كذا. إذا فَعَلَه نَهارًا. فهو كالألْثَغِ. وتُكْرَهُ ¬

(¬1) أي الإمام أَحْمد.

564 - مسألة: (و)

وَأَنْ يَؤُمَّ نِسَاءً أَجَانِبَ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إمامَةُ الفَأْفاءِ، والتِّمْتامِ، وتَصِحُّ (¬1)؛ لأنَّهُما يَأْتِيان بالحُروفِ على وَجْهِها، ويَزِيدان زِيادَةً هما مَغْلُوبان عليها، فعُفِيَ عنها، ويُكْرَهُ تَقْدِيمُهما؛ لهذه الزِّيادَةِ. 564 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (أن يَؤُمَّ نِساءٌ أجانِبَ لا رجلَ مَعَهُنَّ) لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- نَهَى أن يَخْلُوَ الرجلُ بالمرأَةِ الأجْنَبِيَّةِ (¬2). ولا بَأْسَ أن يَؤُمَّ ذَواتَ مَحارِمِه، وأن يَؤُمَّ النِّساءَ مع الرِّجالِ، فقد كُنَّ النِّساءَ يَشْهَدْنَ مع ¬

(¬1) في م: «تصلح». (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب لا يخلون رجل بامرأة إلَّا ذو محرم. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البُخَارِيّ 7/ 48. ومسلم، في: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 978. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، من أبواب الرضاع، وفي: باب ما جاء في لزوم الجماعة، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذى 5/ 120، 9/ 9، 10. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 322 , 3/ 339 , 446.

565 - مسألة: (و)

أَوْ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- (¬1)، وقد أمَّ أنَسًا واليَتِيمَ وأُمَّه (¬2). 565 - مسألة: (و) يُكْرَهُ أن يَؤُمَّ (قَوْمًا أكُثَرُهم له كارِهُون) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 168. (¬2) أخْرجه البُخَارِيّ، في: باب الصلاة على الحصير، من كتاب الصلاة وباب المرأة وحدها تكون صفا، وباب وضوء الصبيان. . . . إلخ، وباب صلاة النساء خلف الرجال, من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 106، 107، 185، 218، 220. ومسلم، في: باب جواز الجماعة في النافلة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 457، 458. وأبو داود, في: باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه. . . . إلخ، في: باب ثلاثة كيف يقومون، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 143، 144. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرَّجل يصلي ومعه الرجال والنساء, من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 32. والنَّسائي، في: باب إذا كانوا ثلاثة وامرأة، وباب إذا كانوا رجلين وامرأتين، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 67، 68. والدارمي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما روَى أبو أُمامَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمُ؛ الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وإمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» (¬1). حديثٌ حسنٌ غرِيبٌ. وعن عبدِ اللهِ ابنِ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ (¬2) مِنْهُمْ صَلَاةً: مَنَ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ يَأْتِي الصَّلَاةَ دِبَارًا»، والدِّبَارُ أن يَأْتِيَ بعدَ أن يَفُوتَ الوَقتُ، «ورَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا». رَواه أبو داودَ (¬3). وقال عليٌّ لرَجُلٍ أمَّ قَوْمًا وهم له كارِهُون: إنَّك لخَرُوطٌ (¬4). ¬

= في: باب الصلاة على الخمرة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 139. والإمام مالك، في: باب جامع في سبحة الضحى. الموطأ 1/ 153. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 131، 149، 164، 242، 258. (¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في من أم قومًا وهم له كارهون، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 154. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب الرَّجل يؤم القوم وهم له كارهون، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 140. (¬4) كنز العمال (22889). والخروط: الرَّجل المتهور يركب رأسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ: إذا كَرِهَه اثْنان أو ثَلَاثةٌ، فلا بَأْسَ، حتَّى يَكْرَهَه أكْثَرُهُم. فإن كان ذا دِينٍ وسُنَّةٍ فكَرِهَه القَوْمُ لذلك، لم تُكْرَهْ إمامَتُه. قال مَنْصُورٌ: أما إنّا سَأَلْنا عن ذلك، فقِيلَ لنا: إنَّما عَنَى بهذا الظَّلَمَةَ، فأمّا مَن أقام السُّنَّةَ فإنَّما الإثْمُ على مَن كَرِهَهُ. قال القاضي: والمُسْتَحَبُّ أن لا يَؤْمهُمْ؛ صِيانَةً لنَفْسِه. وإنِ اسْتَوى الفَريقان فالأوْلَى أن لا يَؤُمَّهُم، [إزالةَ لذلك] (¬1) الاخْتِلافِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «أراد بذلك».

566 - مسألة: (ولا بأس بإمامة ولد الزنا والجندي، إذا سلم دينهما)

وَلَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا وَالْجُنْدِيِّ، إذَا سَلِمَ دِينُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 566 - مسألة: (ولا بَأْسَ بإمامَةِ وَلَدِ الزِّنا وَالجُنْدِيِّ، إذا سَلِمِ دينُهما) لا بَأْسَ بإمامَةِ وَلَدِ الزِّنا. وهو قولُ عطاءٍ، وسليمانَ ابنِ مُوْسى (¬1)، والحسن، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، وعمرِو بنِ دِينارٍ، وإسَحاقَ. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ: لا تُجْزِئُ الصلاةُ خَلْفَه. وكرِه مالكٌ أن يُتَّخَذَ إمامًا راتِبًا. وقال الشافعيُّ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا؛ لأنَّ الِإمامَةَ مَنْصِبُ فَضِيلَةٍ، فَكُرِهَ تقْدِيمُه فيها، كالعَبْدِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السلامُ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أقْرَؤُهُمْ» (¬2). وقالت عائشةُ: ليس عليه مِن وِزْرِ أبَوَيْه شئٌ. قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬3). وقال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (¬4). والعَبْدُ لا تكْرَهُ إمامَتُه، ¬

(¬1) أبو أَيُّوب سليمان بن موسى الأشدق، من فقهاء التابعين بالشَّام والجزيرة، توفى سنة تسع عشرة، ومائة. طبقات الفقهاء للشيرازى 75. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 336. (¬3) سورة الأنعام 164. والأثر أخرجه البيهقي، في: باب اجعلوا أئمتكم خياركم، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 91. (¬4) سورة الحجرات 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكنَّ الحُرَّ أوْلَى منه، ولو سَلِم ذلك فالعَبْدُ ناقِصٌ في أحْكامِه، لا يَلِي النِّكاحَ ولا المالَ، بخِلافِ هذا. ولا بَأْسَ بإمامَةِ الجُنْدِيُّ والخَصيِّ إذا كانا مَرْضِيِّيْن؛ لأنَّه عَدْلٌ يَصْلُحُ للإمامَةِ، أشْبَهَ غيرَه. فصل: ولا بَأْسَ بإمامَةِ الأعْرابِيِّ إذا كان يَصْلُحُ. نصَّ عليه. وهو قَوْلُ عطاءٍ، والثَّوْريِّ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْيِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لا تُعْجِبُنى إمامَةُ الأعْرابِيِّ، إلَّا أن يكونَ قد سَمِع وفَقِه؛ لأنَّ الغالِبَ عليهم الجَهْلُ. وكَره ذلك أبو مِجْلَز. وقال مالكٌ: لا يَؤُمُّهم؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} (¬1). الآية. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السلامُ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ اللهِ». ولأنَّه مُكَلَّفٌ عَدْلٌ تَصِحُّ صَلاتُه لنَفْسِه، أشْبَهَ المُهاجِرَ. فصل: والمُهاجِرُ أوْلَى منه؛ لأَنَّه (¬2) يُقَدِّمُ على المَسْبُوقِ بالهِجْرَةِ، فمَن لا هِجْرَةَ له أوْلَى. قال أبو الخَطّابِ: والحَضَرِيُّ أوْلَى مِن البَدَوِيِّ، لأنَّه مُخْتَلَفٌ في إمامَتِه، ولأنَّ الغالِبَ عليهم الجَفاءُ، وقِلَّةُ المَعْرِفَةِ بحُدُودِ اللهِ تعالى. ¬

(¬1) سورة التوبة 97. (¬2) في م، ص: «لا».

567 - مسألة: (ويصح ائتمام [من يؤدي]

وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ مَنْ يَؤَدِّي الصَّلَاةَ بِمَنْ يَقْضِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 567 - مسألة: (ويَصِحُ ائْتِمامُ [مَن يُؤْدِّي] (¬1) الصلاةَ بمَن يَقْضِيها) مثلَ أن يكونَ عليه ظُهْرُ أمْسِ، فأراد قَضاءَها، فائْتَمُّ به رجلٌ عليه ظُهْرُ اليوم، ففِيه رِوايَتان؛ أَصَحُّهما، أنَّه يَصِحُّ. نصَّ عليه في (¬2) رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهذا اخْتِيارُ الخَلَالِ، وقال: المذْهَبُ عندِي في هذا رِوايَةٌ واحِدَةٌ، وغَلِط مَن نَقَل غيرَها؛ لأنَّ القَضاءَ يَصِحُّ بنِيَّةِ الأداءِ فيما إذا صَلَّى فبانَ بعدَ خُرُوجِ الوَقْتِ. وكذلك مَن يَقْضِي الصلاةَ، يُصَلِّي خَلْفَ مَن يُؤدِّيها؛ لأنَّه في مَعْناه. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، لا يَصِحُّ. نَقَلَها صالِحٌ؛ لأن نِيَّتَهما مُخْتَلِفَةٌ؛ هذا يَنْوِي قَضاءً، وهذا أداءً. ¬

(¬1) في م: «مؤدى». (¬2) في م: «وفي».

568 - مسألة: (ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر، في إحدى الروايتين. والأخرى، لا يصح فيهما)

وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَمَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَصِحُّ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 568 - مسألة: (ويَصِحُّ ائْتِمامُ المُفْتَرِضِ بالمُتَنَفِّلِ، ومَن يُصَلِّي الظُّهْرَ بمَن يُصَلِّي العَصْرَ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. والأُخْرَى، لا يَصِحُّ فيهما) اخْتَلَفَ عنه (¬1) في صِحَّةِ ائْتِمامِ (¬2) المُفْترِضِ بالمُتَنَفِّلِ؛ فنقَلَ ¬

(¬1) أي النقل. (¬2) في تش: «إمامة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه حَنْبَلٌ، وأبو الحارِثِ، لا يَصِحُّ. اخْتارَه أكْثَرُ الأصْحابِ. وهو قولُ الزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، وأصحابِ الرَّأَيِ، لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنَّمَا جُعِلَ الْإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تخْتَلِفُوا عَلَيْهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ صلاةَ المَأْمُومِ لا تَتَأَدَّى بنِيَّةِ الْإمامِ، أشْبَهَ صلاةَ الجُمُعَةِ خلفَ مَن يُصَلِّي الظُّهْرَ. والثّانِيَةُ، تصِحُّ. نَقَلَها عنه إسماعِيلُ بنُ سعيدٍ، وأبو داودَ. وهذا قَوْلُ عَطاءٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. قال ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 416.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شيخُنا (¬1): وهي أَصَحُّ؛ لأنَّ مُعاذًا كان يُصَلِّي مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ثم يَرْجعُ فيُصَلِّي بقوْمِه تلك الصلاةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وصَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بطائِفَةٍ مِن أصْحابِه في صلاةِ الخَوْفِ رَكْعَتَيْن، ثم سَلَّمَ، ثم صَلَّى بالطائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْن، ثم سَلَّمَ. رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ (¬3). وهو في الثّانِيَةِ مُتَنَفِّلٌ أمَّ (¬4) مُفْتَرِضِين. ولأنَّهما صلاتان اتَّفَقَتا في الأفْعالِ، فجازَ ائْتِمَّامُ المُصَلِّي في إحْداهما بالمُصَلِّي في الأخْرَى، كالمُتَنَفِّلِ خلفَ المُفتَرِضِ. فأمّا حَدِيثُهم فالمُرادُ به، لا تَخْتَلِفُوا عليه في الأفْعالِ؛ لأنَّه إنَّما ذَكَر في الحديثِ الأفْعالَ, فقالَ: «فَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا». ولهذا صَحَّ ائْتِمامُ المُتَنَفِّلِ بالمُفْترِضِ، وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالمَسْبُوقِ في الجُمُعَةِ إذا أدْرَك أقَلَّ مِن رَكْعَةٍ، فنَوَى الظُّهْرَ خلفَ مَن يُصلِّي الجُمُعَةَ. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 67. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا صلى ثم أم قومًا، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 181/ 1، 182. ومسلم، في: باب القراءة في العشاء، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 340. وأبو داود، في: باب إمامة من يصلي بقوم وقد صلى تلك الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 141. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 302. (¬3) يأتي في صلاة الخوف. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا صلاةُ المُتَنَفِّلِ خلفَ المُفْتَرِضِ، فلا نَعْلَمُ في صِحَّتِها خِلافًا، وقد دَلَّ عليه قَوْلُه عليه السَّلامُ: «ألَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» (¬1). فصل: فأمّا صلاةُ الظُّهْرِ خلفَ مَن يُصَلِّي العَصْرَ، ففيه رِوايَتان، وكذلك صلاةُ العِشاءِ خلفَ مَن يُصَلِّي التَّراوِيحَ؛ إحداهما، يَجُوزُ. نَقَلَها عنه إسماعيلُ بنُ سعيدٍ، فإنَّه قال له: ما تَرَى إن صَلَّى في رمضانَ خلفَ إمام يُصَلِّي بهم التَّراوِيحَ؛ قال: يُجْزِئُه ذلك مِن المَكْتُوبَةِ. والثّانِيَةُ، لا يَجُوزُ. نَقَلَها عنه المَرُّوذِيُّ؛ لأنَّ أحَدَهما لا يَتَأدَّى بنِيَّةِ الأُخْرَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وهذا فَرْعٌ على صلاةِ المُتَنَفِّلِ بالمُفْتَرِضِ، وقد مَضَى ذِكْرُها. فأمّا إن كانت إحْداهما تُخالِفُ الأُخْرَى] (¬1)، كصلاةِ الجُمُعَةِ والكُسُوفِ خلفَ مَن يُصَلِّي غيرَهما، أو صلاةِ غيرِهما خلفَ مَن يُصَلِّيهما، لم تَصِحَّ، رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّه يُفْضِي إلى المُخالَفَةِ في الأفْعالِ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيهِ». ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومن صَلَّى الفَجْرَ، ثم شَكَّ، هل طَلَع الفَجْرُ أو لا، لزِمَتْه الإعادَةُ، وله أن يَؤُمَّ فيها مَن لم يُصَلِّ. وقال بَعْضُ أصْحابنا: تُخَرَّجُ على الرِّوايَتَيْن في إمامَةِ المُتَنَفِّلِ بالمُفْتَرِضِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ الصلاةِ في ذِمَّتِه ووُجُوبُ فِعْلِها (¬1)، فأشْبَهَ ما لو شَكَّ، هل صَلَّى أو لا؟ ولو فاتَتِ المَأْمُومَ رَكْعَةٌ، فصَلَّى الإمامُ خَمْسًا ساهِيًا، فقالَ ابنُ عَقِيلٍ: لا يُعْتَدُّ للمَأْمُومِ بالخامِسَةِ؛ لأنِّها سَهْوٌ وغَلَطٌ. وقال القاضي: هذه الرَّكْعَةُ نافِلَةٌ للإمامِ، وفَرْضٌ للمأْمُومِ. فيُخَرَّجُ فيها الرِّوايَتان. وقد سُئِل أحمدُ عن هذه المَسائِلَ، فتَوَقَّفَ فيها. قال شيخُنا (¬2): والأوْلَى أنَّه يُحْتَسبُ له بها؛ لأنَّه لو لم يُحْتَسبْ له بها, لَزِمَه أن يُصَلِّيَ خَمْسًا مع عِلْمِه ¬

(¬1) في م: «أفعالها». (¬2) في: المغني 3/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك، ولأنَّ الخامِسَةَ واجِبَةٌ على الإمامِ عندَ مَن يُوجِبُ عليه البِناءَ على اليَقِينِ، ثم إن كانَتْ نَفْلًا، فقد ذَكَرْنا أنَّ الصَّحِيحَ صِحَّةُ الائْتِمامِ فيه. وإن صَلَّى بقَوْمٍ الظُّهْرَ يَظُنُّها العَصْرَ، فقالَ أحمدُ: يُعِيدُ ويُعِيدُون. وهذا على الرِّوايَةِ التي مَنَع فيها ائْتِمامَ المفْتَرضِ بالمُتَنَفِّلِ. فإن ذَكَر الإِمامُ وهو في الصلاةِ، فأتَمَّها عَصْرًا، كانت له نفْلًا، وإن قَلَب نِيِّتَه إلى الظُّهْرِ، بَطَلَتْ صَلَاتُه؛ لِما ذَكَرْناه مُتَقدِّمًا (¬1). وقال ابنُ حامِدٍ: يُتِمُّها، والفَرْضُ باقٍ في ذِمَّتِه. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في الجزء الثالث صفحة 373.

فَصْلٌ في الْمَوْقِفِ: السُّنَّةُ أنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُونَ خَلْفَ الْإمَامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصلٌ في المَوْقِفِ: السُّنَّةُ أن يَقِفَ المَأْمُومُون خلفَ الإمامِ) إذا كان المَأْمُومُون جَماعَةٌ، فالسُّنَّةُ أن يَقِفُوا خلفَ الإمامِ، رِجالًا كانوا أو نِساءً؛ لأنّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان يُصَلِّي بأصْحابِه فيَقُومُون خلفَه، ولأنَّ جابِرًا وجَبّارًا لَمّا وَقَفا عن يَمِينِه وشِمالِه، رَدَّهما إلى خلفِه (¬1). وإن كانا اثْنَيْن فكذلك, لِما روَى جابرٌ، قال: سِرْتُ مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في غَزْوَةٍ، فقامَ يُصَلِّي، فتَوَضَّأْتُ، ثم جِئْتُ حتَّى قُمْتُ عن يَسارِه، فأخَذَ بيَدِي فأدارَنى حتَّى أقامَنِي عن يَمِيِنِه، فجاءَ جَبّارُ بنُ صَخْرٍ حتَّى قام عن يَسارِه، فأخَذَنا جِميعًا بيَدَيْه فأقامَنا خلفَه. رَواه أبو داودَ (¬2). وهذا قولُ عُمَرَ، وعليٍّ، وجابِرِ بنِ زَيْدٍ، والحسنِ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْيِ. وكان ابنُ مسعودٍ يَرَى أن يَقِفا عن جانِبَيِ الإِمامِ؛ لأنَّه يُرْوَى عنه، أنَّه صَلَّى بينَ عَلْقَمَةَ والأسْوَدِ، وقال: هكذا رَأيْتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَعَل. رَواه ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب حديث جابر الطَّويل. . . . إلخ، من كتاب الزهد والرقائق. صحيح مسلم 4/ 2305. وأبو داود، في: باب إذا كان ثوبًا ضيقًا يتزر به, من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 147، 148. (¬2) انظر التخريج السابق.

569 - مسألة: (فإن وقفوا قدامه، لم يصح)

فَإنْ وَقَفُوا قُدَّامَهُ، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1). ولَنا، الحديثُ الذي ذَكَرْناه، فإنَّه أخَّرَهما إلى خلفِه، ولا يَنْقُلُهما إلَّا إلى الأكْمَلِ، وصَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بأنَسٍ واليَتِيمِ، فجَعَلَهما خلفَه (¬2). وحديثُ ابنِ مسعودٍ يَدُلُّ على الجَوازِ، فإن كان أحَدُهما صَبِيًّا فكذلك، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن إن كانَتِ الصلاةُ تَطَوُّعًا؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- جَعَل أنَسًا واليَتيمَ وراءَه. وإن كان فَرْضًا، جَعَل الرَّجل عن يَمِينِه، والغُلامَ عن يَسارِه، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ، أو جَعَلَهما عن يَمِينِه. فإن جَعَلَهما خلفَه، فقال بعضُ أَصْحابِنا: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ أن يَوُّمَّه فيه [فلم يُصافَّه] (¬3)، كالمَرْأَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ المُتَنَفِّلِ، والمُتَنَفِّلُ يُصَافُّ المُفْتَرِضَ. 569 - مسألة: (فإن وَقَفُوا قُدّامَه، لم يَصِحَّ) وهذا قولُ أبي ¬

(¬1) في: باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون؟ من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 144. كما أخرجه النَّسائيّ: باب موقف الإمام إذا كانوا ثلاثة والاختلاف في ذلك، من كتاب الصلاة. المجتبى 2/ 66. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 403. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، والشافعيِّ. وقال مالكٌ، وإسْحاقُ: يَصِحُّ؛ لأنَّ ذلك لا يَمْنَعُ الاقْتِداءَ به، فأَشْبَهَ مَن خلفَه. ولَنا، قَوْلُهُ عليه السَّلامُ: «إنَّما جُعِلَ الْإمَامُ لِيُؤُتَمَّ بِهِ» (¬1). ولأنَّه يَحْتاجُ في الاقْتِداءِ إلى الالتِفاتِ إلى ورائِه، ولأنَّ ذلك لم يُنْقَلْ عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولا هو في مَعْنَى المَنْقُولِ، فلم يَصِحَّ، كما لو صَلَّى في بَيْتِه بصلاةِ الإمامِ، ويُفاِرقُ مَن خلفَ الإمامِ؛ فإنَّه لا يَحْتاجُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 3/ 416.

570 - مسألة: (وإن وقفوا عن يمينه أو عن جانبيه، صح)

وَإنْ وَقَفوا مَعَهُ عَنْ يَمِينِهِ، أوْ عَنْ جَانِبَيْهِ، صَحَّ. وإنْ كَانَ وَاحِدًا، وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الاقْتِداء إلى الالتِفاتِ، بخِلافِ هذا. وقال بَعْضُ أَصْحابِنا: يَجُوزُ للمرأةِ أن تَؤم الرِّجالَ في صلاةِ التَّراوِيحِ، ويَكونُون بينَ يَدَيْها. وقد ذَكَرْنا فَسادَ ذلك فيما مَضَى. 570 - مسألة: (وإنْ وَقَفُوا عن يَمِينِه أو عن جَانِبَيْه، صَحَّ) لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ، ولأنَّ وَسَطَ الصَّفِّ مَوْقِفٌ لإِمام العُراةِ، وللمَرْأةِ إذا أمَّتِ النِّساءَ. ويَصِحُّ أن يَقِفُوا عن يَمِينِه؛ لأنَّه مَوْقِفٌ للواحِدِ، على ما نَذْكُرُه، إن شاء اللهُ. 571 - مسألة: (وإن كان واحِدًا، وَقَف عن يَمِينِه) رجلًا كان

572 - مسألة: (وإن وقف خلفه، أو عن يساره، لم يصح)

وَإِنْ وَقَفَ خَلْفَهُ، أوْ عَنْ يَسَارِهِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو غُلامًا؛ لِما رَوَيْنا مِن حديثِ جابِرٍ. وروَى ابنُ عباسٍ، قال: قام النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّى مِن اللَّيْلِ, فَقُمْتُ ووَقَفْتُ عن يسارِه، فأخَذَ بذُؤَابَتِي، فأدارَنِي عن يَمِيِنه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). 572 - مسألة: (وإن وَقَف خَلْفَهُ، أو عن يَسارِه، لم يَصِحَّ) وجُملَةُ ذلك، أنَّه مَن صَلَّى وحدَه خَلْفَ الإمامِ رَكْعَةً كامِلَةً، لم تَصِحَّ صَلَاتُه. وهذا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، وغيرِهم. وأجازَه الحسنُ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ, والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأنَّ أَبا بَكْرَةَ رَكَع دُونَ الصَّفِّ، فلم يَأْمُرْه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالإعادَةِ (¬2)، ولأنَّه مَوْقِفٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 119. (¬2) أخرجه البخاريّ، في: باب إذا ركع دون الصف، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 198. وأبو داود, في: باب الرَّجل يركع دون الصف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 157، 158. والنَّسائي، في: باب الركوع دون الصف، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 91. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 39، 42, 45, 46, 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمرأةِ فكان مَوْقِفًا للرجالِ، كما لو كان مع جَماعَة. ولَنا، ما روَى وابصَةُ ابنُ مَعْبَدٍ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَأى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وحْدَه، فأَمَرَه أن يُعِيدَ. رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬1). وقال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت الحديثُ. وفي لَفْظٍ: سُئِل رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن رجلٍ صَلَّى وراءَ الصَّفِّ وحدَه، فقال: «يُعِيدُ». رَواه تمّامٌ في «الفَوائِدِ». وعن عليِّ بنِ شَيْبانَ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى بهم فسَلَّمَ، فانْصَرَفَ ورَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، فوَقَفَ نبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حتَّى انْصَرَف الرَّجُلُ، فقال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «اسْتَقْبِلْ صَلَاتك، فَلَا صَلَاةَ لفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ». رَواه الأثْرَمُ (¬2). وقال: قلتُ لأبِي عبدِ اللهِ: حديثُ مُلازِمِ بنِ عمرٍو، يَعْنِي هذا الحَدِيثَ، أَيضًا حسَنٌ؟ قال: نعم. ولأنَّه خالَفَ المَوْقِفَ، فلم تَصِحَّ صلاتُه، كما لو وَقَف قُدّامَ الإمامِ. فأمّا حديثُ أبي بَكْرَةَ، فإنَّ النبيَّ نَهاه، فقالَ: «لا تَعُدْ» (¬3). والنَّهْىُ يَقْتَضِي الفَسادَ، وعَذَره فيما فَعَلَه لجَهْلِه، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرَّجل يصلي وحده خلف الصف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 157. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 27، 28. وابن ماجه، في: باب صلاة الرَّجل خلف الصف وحده، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 321. والدارمي، في: باب في صلاة الرَّجل خلف الصف وحده، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 294، 295. الإِمام أَحْمد, في: المسند 4/ 23، 228. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب صلاة الرَّجل خلف الصف وحده، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 320، والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 23. والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 105. (¬3) كذا ضبط في جميع الروايات المشهورة، من العَوْد. وانظر عون المعبود 1/ 254.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللجَهْلِ تَأْثِيرٌ في العَفْوِ، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْنِه مَوْقِفًا للمَرْأةِ أن يكونَ مَوْقِفًا للرجلِ؛ بدَلِيلِ اخْتِلافِهما في كَراهَةِ الوُقُوفِ واسْتِحْبابِه. فصل: وإن وَقَف عن يَسارِ الإِمام، وكان عن يَمِينَ الإِمام أحَدٌ، صَحَّتْ صَلَاتُه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ ابنِ مسعود (¬1) , ولأنَّ وَسَطَ الصَّفِّ مَوْقِفٌ لإِمامِ العُراةِ. وإن لم يكنْ عن يَمِينِه أحَدٌ فصَلاتُه فاسِدَةٌ. وكذلك إن كانوا جَماعَةً. وأكْثَرُ أهلِ العِلْمِ يَروْن أنَّ الأوْلَى للواحِدِ أن يَقِفَ عن يَمِينِ الإمامِ. رُوِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه كان إذا لم يكنْ معه إلَّا واحِدٌ جَعَلَهُ عن يَسارِه. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ: تَصِحُّ صلاةُ مَن وَقَف عن يَسارِ الإمامِ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ لَمَّا أحْرَم عن يَسارِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أدارَه عن يَمِيِنه، ولم تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُه، ولو لم يكنْ مَوْقِفًا، لَزِمَه اسْتِئْنافُها، كقُدّامِ الإمامِ، ولأنَّه أحَدُ الجانِبَيْن، أشْبَهَ اليَمِينَ، وكما لو كان عن يَمِينِه أحَدٌ. ولَنا، حَدِيثُ ابنِ عباس، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أدارَه عن يَمِيِنه. وكذلك حَدِيثُ جابِرٍ. وقَوْلُهم: لم يَأْمُرْه بابْتِداءِ التَّحْريمَةِ؛ لأنَّ ما فَعَلَه قبلَ الرُّكُوعِ لا يُؤْثِّرُ، فإنَّ الإمامَ يُحْرِمُ قبل المَأْمُومِين، وكذلك المَأْمُومُون يُحْرِمُ بَعْضُهم قبلَ بعضٍ (¬2)، ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 418. (¬2) في م: «بعض الباقين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضُرُّ انْفِرادُه، ولا يَلْزَمُ مِن العَفْوِ عن ذلك العَفْوُ عن رَكْعَةٍ كامِلَةٍ. وقَوْلُهم: هو مَوْقِفٌ إذا كان أحَدٌ عن يَمِينِه. قُلْنا: لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِه موْقِفًا في صُورَةٍ أن يكونَ مَوْقِفًا في غيرِها؛ بدَلِيلِ ما وراءَ الإِمامِ، فإنَّه مَوْقِفٌ للاثْنَيْن، وليس مَوْقِفًا للواحِدِ، وإن مَنَعُوه فقد دَلَّ عليه الحديثُ المذْكُورُ. والقِياسُ أنَّه يَصِحُّ، كما لو كان عن يَمِينِه، وكونُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أدار ابنَ عباسٍ، وجابِرًا يَدُلُّ على الفَضِيلَةِ، لا على عَدَمِ الصِّحَّةِ، بدَلِيلِ رَدِّ جابِرٍ وجَبّارٍ إلى وراءِه مع صِحَّةِ صَلاِتهما عن جَنْبَيْه. فصل: فإن كان خَلْفَ الإمامِ صَفٌّ، فهل تَصِحُّ صلاةُ مَن وقفَ عن يَسارِه؛ فيه احْتمالانِ؛ أحَدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّه رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، أنَّه صَلَّى وأبو بَكْرٍ عن يَمِينِه، وكان أبو بكر الإمَامَ (¬1). ولأنَّ مع الإمامِ مَن تَنْعَقِدُ صَلَاتُه به، فصَحَّ، كما لو كان عن يَمِينِه أحَدٌ. والثّانِي، لا تَصِحُّ؛ لأنَّه ليس بمَوْقِفٍ إذا لم يكنْ صَفَّ، فلم يكنْ مَوْقِفًا مع الصَّفِّ، كأمامِ الإمامِ، وفارَقَ إذا كان معه آخَرُ؛ لأنَّه معه في الصَّفِّ, فكان صَفًا واحِدًا، فهو كما لو وَقَف معه خَلْفَ الصَّفِّ. ¬

(¬1) بعده في م: «وكان مع الإمام». وانظر ما تقدم في صفحة 377.

573 - مسألة: (وإن أم امرأة وقفت خلفه)

وَإنْ أمَّ امْرَأةً وَقَفَتْ خَلفُه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 573 - مسألة: (وإن أَمَّ امرأَةً وَقَفَتْ خَلْفَه) [إذا أمَّ الرجلُ المرأةَ وَقَفَتْ خلفَه] (¬1)؛ لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللهُ» (¬2). وروَى أنَسٌ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى [به و] (¬3) بأُمِّه أو خالَتِه، فأقامَنِي عن يَمِينِه، وأقام المَرْأة خَلْفَنا. رَواه مسلمٌ (¬4). وإن أَمَّ رجلًا وامرأةً، وَقَف الرجلُ عن يَمِينِه، ووقَفَتِ المَرْأَةُ خَلْفَهُما؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) رواه عبد الرَّزَّاق، في مصنفه، موقوفًا على ابن مسعود. في: باب شهود النساء الجماعة، من كتاب الصلاة. مصنف عبد الرَّزّاق 3/ 149. ومن طريقه أخرجه الطَّبْرَانِيّ في الكبير 9/ 9484، 9485. وانظر نصب الراية 2/ 36. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 403.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانا رَجُلَيْن وَقَفا خَلْفَه، والمرأةُ خلْفَهما، كما روَى أنَسٌ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بهم، قال (¬1): فصَفَفْتُ أنا واليَتِيمُ وراءَه، والمَرْأَةُ خَلْفَنا، فصَلَّى لَنا رسولُ الله رَكْعَتَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وكان الحسنُ يُقُولُ، في ثَلَاثَةٍ أحَدُهم امْرَأةٌ: يَقُومُ بعْضُهم وراءَ بعضٍ (¬3). وهذا قَوْلٌ لا نَعْلَمُ أحدًا وافَقَه فيه، واتِّباعُ السُّنَّةِ أوْلَى. فصل: فإن وَقَفَتِ المرأةُ في صَفِّ الرجالِ كُرِه لها ذلك، ولم تبْطُلْ صَلاتُها, ولا صلاةُ مَن يَلِيها. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبوِ بكرٍ: تَبْطُلُ صلاةُ مَن يَلِيها ومَن خَلْفَها دُونَها. وهو قولُ أبي حنيفةَ، لأنَّه مَنْهِيٌّ عن الوُقُوفِ إلى جانِبَها، أشْبَهَ الوُقُوفَ أمامَ الإمامِ. ولَنا، أنَّها لو وقَفَتْ في غيرِ صلاةٍ لم تَبْطُلْ صَلاتُه، كذلك في الصلاةِ، وقد ثَبَت أنَّ عائشةَ كانت تَعْتَرِضُ بينَ يَدَيِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو يُصَلِّى (¬4). وقوْلُهم: وهو مَنْهِيٌّ عنه. قُلْنا: هي مَنْهِيَّةٌ عن الوُقُوفِ مع الرجالِ، فإذا لم تَبْطُلْ صَلاُتها، فصَلاتُهُم أوْلَى. وقال ابنُ عَقِيلٍ: الأشْبَهُ بالمذْهَبِ عنديِ بُطْلانُ صلاِتها؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أَخِّرُوهُنَّ». وهو مَوْقِفٌ مَنْهِيٌّ عنه، أشْبَهَ مَوْقِفَ الفَذِّ خَلْفَ الإمامِ والصَّفِّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 403. (¬3) أخرجه عبد الرَّزّاق في مصنفه 2/ 407. (¬4) تقدم تخريجه في الجزء الثالث صفحة 400، 643.

574 - مسألة: (وإن اجتمع)

فَإنِ اجْتَمَعَ أَنْوَاعٌ؛ تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 574 - مسألة: (وإنِ اجْتَمَع) رجالٌ وصِبْيانٌ وخَناثَى ونِساءٌ (تَقَدَّم الرجالُ، ثم الصِّبْيانُ، ثم الخَناثَى، ثم النِّساءُ) لِما روَى أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1)، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صَلَّى، فصَفَّ الرِّجالَ، ثم صَفَّ خَلْفَهُم الغِلْمانَ. وتَقَدُّمُ الخَناثَى على النِّساءِ؛ لجَوازِ أن [يكُونوا رِجالًا] (¬2). ¬

(¬1) في: باب مقام الصبيان من الصف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 156. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 341, 342. (¬2) في م: «يكون رجلًا».

وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي تَقْدِيمِهمْ إلَى الإمَام، إذا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وكذلك يُفْعَلُ في تَقْدِيمِهم إلى الإمامِ، إذا اجْتَمَعَت جَنائِزُهم) وسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه، إن شاءَ اللهُ تَعالَى.

575 - مسألة: (ومن لم يقف معه إلا كافر، أو امرأة، أو محدث يعلم حدثه، فهو فذ. وكذلك الصبي، إلا في النافلة)

وَمَنْ لَم يَقِفْ مَعَهُ إِلَّا كَافِرٌ، أوِ امْرَأَةٌ، أوْ مُحْدِثٌ يَعْلَمُ حَدَثَهُ، فَهُوَ فَذٌّ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، إلَّا في النَّافِلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 575 - مسألة: (وَمَنْ لَم يَقِفْ مَعَهُ إِلَّا كَافِرٌ، أوِ امْرَأَةٌ، أوْ مُحْدِثٌ يَعْلَمُ حَدَثَهُ، فَهُوَ فَذٌّ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، إلَّا في النَّافِلَةِ) أمَّا إذا وَقَفَ معه كافِرٌ أو مُحْدِثٌ يَعْلَمُ حَدَثه لم تَصِحَّ صَلاتُه؛ لأن وجُودَه وعَدَمَه واحِدٌ. وكذلك إذا وَقَف معه سائِرُ مَن لا تَصِحُّ صَلاتُه؛ لِما ذَكَرْنا. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أَّنه قال: إذا أَمَّ رَجُلَيْن، أحَدُهما غيرُ طاهِرٍ، أَتَمَّ الطّاهِرُ معه. وهذا يَحْتَمِلُ أنَّه إرادَ عَلِمَ المُحْدِثُ حَدَثَ نَفْسِه، أتَمَّ الآخَرُ إن كان عن يَمِينِ الإمامِ، وإن لم يكنْ عن يَمِينِه تَقَدَّمَ، فصار عن يَمِنِيه. فأمّا إن كانا خَلْفَه، وأتَمَّ الصلاةَ عِلْمِ المُحْدِثِ بحَدَثِه، لم تَصِحَّ. وإن لم يَعْلَمْه صحَّ؛ لأنَّه لو كان إمامًا صحَّ الائْتِمامُ به، فصِحَّةُ مُصافَّتِه أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَقِفْ (¬1) معه إلَّا امْرَأةٌ، فقال ابنُ حامِدٍ: لا تَصحُّ صَلَاتُه، لأنَها لا تَؤُمُّه، فلا تَكُونُ معه صَفًّا، ولأنَّها مِن غير أهلِ الوُقُوفِ معه فوُجُودهُا كعَدَمِها. وقال ابنُ عَقِيلٍ: تَصِحُّ على أصَحِّ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه وَقَف معه مُفْتَرِضٌ صَلاتُه صَحِيحَةٌ، أشْبَهَ ما لو وَقَف معه رجلٌ، وليس مِن شَرْطِ المُصافَّةِ أن يكونَ مِمَّن تَصِحُّ إمامَتُه، بدَلِيلِ القارِئُ مع الأُمِّيِّ، والفاسِقِ والمفُتْرِضِ مع المُتَنَفِّلِ. وإن وَقَف معه خُنْثَى مُشْكِلٌ، لم يَكُنْ معه صَفًّا، على قوْلِ ابنِ حامِدٍ، لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ امْرَأةٌ. فصل: وإن وَقَف معه فاسِقٌ أو مُتَتفِّلٌ صار صَفًّا، لأنَّ صلاتَهما صَحِيحَةٌ. وكذلك لو وَقَف قارِئ مع أُمِّيّ، أو مَن به سَلَسُ البُوْلِ مع صَحِيح، أو قائِمٌ مع قاعِدٍ كانا صَفًّا؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: [فأمَّا الصَّبِي إذا وَقَفَ مع البالِغِ وَحْدَه] (¬2)؛ فإن كان في النَّافِلَةِ صَحَّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ أنَسٍ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ رِوايَةً، أنَّه لا يَصِحُّ، بِناءً على صِحَّةِ (¬3) إمَامَتِه في النَّفْل. وإن كان في الفَرْضِ، فقد روَى الأثْرَمُ عن أحمدَ، أنَّه توَقَّف في هذه المَسْألَةِ، وقال: ما أدْرِي. ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في م: «إذا وقف مع البالغ وخلفه صبى». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فذُكِرَ له حَدِيثُ أنَس، فقال: ذلك في التَّطَوُّعِ. واخْتَلَف فيه أصحابُنا، فقال بَعْضُهم: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَصْلُحُ إمامًا للرجالِ في الفَرْضِ، [فلم يُصافِّهم كالمرأةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ؛ لأنَّه يَصِحُّ أن يُصافَّ الرجلَ في النَّفْلِ، فيَصِحُّ في الفَرْض] (¬1)، كالمُتَنَفِّلِ. ولا يُشْتَرَطُ لصحةِ مصافَّتِه صَلاحِيَتُه للإمامَةِ، بدَلِيلِ الفاسِقِ والعَبْدِ والمُسافِرِ في الجُمُعَةِ، والأصْلُ المَقِيسُ عليه مَمْنُوعٌ. فصل: إذا أمَّ الرَّجُلُ خُنْثَى مُشْكِلًا وحْدَه، فالصَّحِيحُ أنَّه يَقِفُ عن يَمِينِه؛ لأنَّه إن كان رَجُلًا فهذا مَوْقِفُه، وإن كان امرأةً لم تَبْطُلْ صلاتُها بوُقُوفِها مع الإمامِ؛ لو وَقَفَتْ مع الرجالِ. ولا يَقِفُ وحدَه، لجَوازِ أن يكونَ رَجُلًا. فإن كان معهما رَجُلٌ، وقَف الرَّجُلُ عن يَمِينِ الإمامِ، ¬

(¬1) سقط س: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخُنْثَى عن يَسارِه، أو عن يَمِينِ الرَّجُلِ، ولا يَقفان خلْقه؛ لجوازِ أن يكونَ امرأَةً، إلَّا عندَ مَن أجاز للرَّجُلِ مُصافَّةَ المرأةِ. فإن كان معهم رَجُلٌ آخَرُ، وقَف الثَّلَاثة خَلْفَه صَفًّا؛ لِما ذَكَرْنا. وإن كانا خُنْثَييْن مع الرَّجُلَيْن، فقال أصْحابُنا: يَقِفُ الخُنْثَيان صَفًّا خَلْفَ الرَّجُلَيْن؛ لاحْتِمالِ أن يكونا امرأتيْن. ويَحْتَمِل أن يَقِفا مع الرَّجُلَيْن؛ لأنَّه يَحْتمِلُ أن يكون أحَدُهما رَجُلًا، فلا تصِحُّ صلاتُه. وإن كان معهم نِساءً، وقفْنَ خَلْفَ الخَناثَى، على ما ذَكَرنا. فصل: وإذا كان المَأمُومُ واحِدًا، فكَبَّر عن يَسارِ الإمامِ، أدارَ الإِمامُ عن يَمِينِه، ولم تَبْطلْ تَحْريمَتُه كما فَعَل النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بابنِ عباسٍ (¬1). وإن كَبَّر وحدَه خلفَ الإمامِ، ثم تَقَدَّم عن يَمِينِه، أو جاء آخَرُ فوَقَفَ معه، أو تَقَدَّم إلى الصَّفِّ بينَ يَدَيْه، أو كانا اثْنَيْن فكَبَّرَ أحَدُهما، وتَوَسْوَس الآخَرُ ثم كَبَّر قبلَ رَفْعِ الإمام رَأسَه مِن الرُّكُوعِ، أو كَبَّر واحِدٌ عن يَمِينِ الإِمام، فأحَسَّ بآخرَ، فتَأَخَّرَ معه قبل أن يُحْرِمَ الثّانِي ثم أحْرَم، أو أحرَم عن يَسارِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 119.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإمامِ، فجاءَ آخَرُ فوَقَفَ عن يَمِينِه قبل رَفْعِ الإمامِ رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ، صَحَّتْ صَلاتُهم. وقد نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، في الرَّجُلينِ يقومان خلْفَ الإمامِ، ليس خَلْفَه غيْرُهُما [فإن كَبَّرَ أحدُهما قبلَ صاحِبِه] (¬1) خاف أن يَدْخُلَ في الصلاةِ خلْف الصَّف، فقال: ليس هذا مِن ذاك، ذاك في الصلاةِ بكَمالِها، أو صَلَّى رَكْعَةً كامِلَةً، وما أشْبَهَ هذا، فأمَّا هذا فأرْجُو أن لا يكونَ به بَأَسٌ. ولو أحْرَم رَجُلٌ خلْفَ الصَّفِّ، ثم خَرج مِن الصَّفِّ رَجُلٌ فوَقَفَ معه، صَحَّ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: وإن كَبَّر رَجُلٌ عن يَمِينِ الإمام، وجاء آخَرُ فكَبَّرَ عن يَسارِه، أخْرَجَهُما الإمامُ إلى ورائِه، كفِعْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بجابِرٍ وجَبّارٍ (¬2). ولا يَتَقَدَّمُ الإمامُ، إلَّا أن يكونَ وراءَهُ ضَيِّقٌ. وإن تَقَدَّم، جاز، وإن كَبَّر الثّانِي مع الأوَّلِ عن اليَمِينَ وخرَجا، جاز. وإن دَخَل الثّانِي، وهما في التَّشَهدِ، كَبَّر وجَلَس عن يَسارِ الإمامِ، أو عن يَمِينِ الآخَرِ، ولا يَتَأخَّران في التَّشَهُّدِ، لأنَّ فيه مَشَقَّةً. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 417.

576 - مسألة: (ومن جاء فوجد فرجة وقف فيها، فإن لم يجد

وَمَنْ جَاءَ فَوَجَدَ فُرْجَةٌ وَقَفَ فِيهَا، فَان لَمْ يَجِدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: وإن أحْرَم اثْنان وراءَ الإمامِ، فخَرَجَ أحَدُهما لعُذْرٍ أو لغيره، دَخَل الآخر في الصَّفِّ، أو نَبَّهَ رجُلًا فخَرَج معه، أو دَخَل فوَقَفَ عن يَمِينِ الإمامِ، فإن لم يُمْكنْه شئٌ من ذلك نوَى الانْفِرادَ، وأتَمَّ مُنْفَرِدًا؛ لأنَّه عُذْرٌ حَدَث له، أشْبَه ما لو سَبَق إمامَه الحَدَثُ. 576 - مسألة: (ومَن جاء فوَجَدَ فُرْجَةً وَقَف فيها، فإن لم يَجِدْ

وَقَف عَنْ يَمِين الْإمَامِ، فَانْ لَمْ يُمْكنْهُ، فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَف عنِ يَمِينِ الإمامِ) ولم يَجْذِبْ رَجُلًا ليَقُومَ معه (فإن لم يُمْكِنْه) ذلك، نَبَّه رَجُلًا (¬1) فخَرَجَ فوَقَف معه. وهذا قَوْلُ عطاءٍ، والنَّخَعِيِّ. وكَرِه ذلك مالكٌ، والأوْزاعِيُّ. واسْتَقْبَحَه أحمدُ، وإسحاقُ. قال ابنُ عَقِيلٍ: جَوَّز أصحابُنا جَذبَ رَجُلٍ يَقُومُ معه صَفًّا. قال: وعندِي أنَّه لا يَفْعَلُ؛ لِما فيه مِن التَّصَرُّفِ بغيرِ إذْنِه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ جَوازُ ذلك، لأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه فجازَ، كالسُّجُودِ على ظَهْر إنسانٍ أو قَدَمِه ¬

(¬1) بعده في م: «ليقوم معه». (¬2) في: المغني 3/ 56.

577 - مسألة: (فإن صلى فذا ركعة، لم تصح)

فَإنْ صَلَّى فَذًّا رَكْعَة، لَمْ تَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حالَ الزِّحامِ، وليس هذا تَصَرُّفًا فيه، بل هو تَنْبِيهٌ له، فجَرَى مَجْرَى مَسْألَتِه أن يُصَلِّيَ معه. وقد رُوِيَ عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أَّنه قال: «لِينُوا في أيْدِي إخْوانِكُمْ» (¬1) يُرِيدُ ذلك. فإنِ امْتَنَع مِن الخُرُوجِ (¬2) صَلَّى وحدَه. 577 - مسألة: (فَإنْ صَلَّى فَذًّا رَكْعَة، لَمْ تَصِحَّ) لقَوْلِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب تسوية الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 154. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 98، 5/ 262. (¬2) بعده في م: «وحده معه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَا صَلَاةَ لِفَردٍ [خَلْفَ الصَّفِّ] (¬1)». رَواه الأثْرَمُ (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 422.

578 - مسألة: (وإن ركع فذا ثم دخل في الصف، أو وقف معه آخر قبل رفع الإمام صحت صلاته، وإن رفع ولم يسجد صحت. وقيل: إن علم النهى لم تصح، وإن فعله لغير عذر لم تصح)

وَإنْ رَكَعَ فَذًّا ثُمَّ دَخَلَ في الصَّفِّ، أوْ وَقَفَ مَعَهُ آخَرُ قَبْلِ رَفعِ الإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ رَفَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ صَحَّتْ. وَقِيلَ: إنْ عَلِمَ النَّهْىَ لَمْ تَصِحَّ، وَانْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 578 - مسألة: (وَإنْ رَكَعَ فَذًّا ثُمَّ دَخَلَ في الصَّفِّ، أوْ وَقَفَ مَعَهُ آخَرُ قَبْلِ رَفعِ الإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ رَفَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ صَحَّتْ. وَقِيلَ: إنْ عَلِمَ النَّهْىَ لَمْ تَصِحَّ، وَإنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَصِحَّ) عَن رَكَع دونَ الصَّفِّ، ثم دَخَل في الصف، لم يَخْلُ مِن ثلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يُصَلى رَكْعَةً ثم يَدْخلَ، فلا تَصح صلاته؛ لِما ذَكرنا. الثَّاني، أن يَمْشِيَ وهو راكِعٌ، ثم يَدْخُلَ في الصَّف قبلَ رَفْعِ الإمامِ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ، أو يَأتِيَ آخَرُ فيَقِفَ معه قبلَ رَفْعِ الإمامِ رَأسَه، فتَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّه أدْرَك مع الإمامِ في الصَّفِّ ما يُدْرِكُ به الرَّكْعَةَ. وممَّن رَخَّصَ في ذلك زَيْدُ بنُ ثابِتِ. وفعَلَه ابنُ مسعودٍ، وزَيْدُ بنُ وَهْبٍ، وعُرْوَةُ، وسَعِيدُ بن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُبَيْرٍ. وجَوَّزَه الزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، إذا كان قَرِيبًا من الصَّفِّ. الحالُ الثَّالِثْ، أن لا يَدخُلَ في الصَّفِّ إلَّا بعدَ رَفْعِ الإمام رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ، أو يقِفَ معه آخَرُ في هذه الحالِ، ففِيه ثَلاثُ رواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، تَصِحُّ صلاتُه. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّ أَبا بكرَةَ فَعَل ذلك، وفَعَلَه مَن ذَكَرْنا مِن الصَّحَابَةِ، ولأنَّه لم يُصَلِّ رَكْعَةً كامِلَةً، أشْبَه ما لو أدْرَك الرُّكوعَ. والثّانِيَةُ، تَبْطُلُ صلاتُه بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّه لم يُدْرِكْ في الصَّفِّ ما يُدْرِكُ به الرَّكْعَةَ، أشْبَه ما لو صَلَّى رَكعَةً كامِلَةً. والثّالِثَةُ، أنَّه إن كان جاهِلًا بتَحْرِيمِ ذلك، صَحَّتْ صلاتُه، وإلَّا لَزمَتْه الإعادَةُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتارَها الخِرَقِيُّ؛ لِما رُوِيَ أنَّ أَبا بَكْرَةَ انْتَهَى إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو راكِعٌ، فرَكعَ قبلَ أن يَصِلَ إلى الصَّفِّ، فذَكَرَ ذلك للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال: «زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ». رَواه البُخَارِيّ (¬1). فلم يَأمُرْه بإعادَةِ الصلاةِ، ونَهاه عن العَوْدِ، والنَّهْىُ يَقْتَضِي الفَسادَ. ولم يُفَرِّقِ القاضِيّ والخرَقِيُّ في هذه المَسْألةِ بينَ مَن دَخَل قبلَ رَفْعِ رَأسِه مِن الرُّكُوع أو بعدَ الرَّفْعِ، وذلك مَنْصُوصُ أحمدَ. والدَّلِيلُ يَقْتَضِي التَّفْرِيق، فيُحْمَلُ كلامُهم عليه، وقد ذَكَرَه أبو الخَطّابِ على نحْوِ ما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 421.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن فَعَل ذلك لغوِ عُذْرٍ، ولا خَشِيَ الفَواتَ لم تَصِحَّ صلاتُه، في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه فاتَه ما تَفُرتُه الرَّكْعَةُ بفَواتِه، وإنَّما أَبِيحَ للمَعْذُورِ، لحَدِيثِ أبي بَكْرَةَ، فيَبْقَى فيما عداه على قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ. والثّانِي تَصِحُّ؛ لأنَّ المَوْقِفَ لا يَخْتَلِفُ بخِيفَةِ الفَواتِ وعَدَمِه؛ لو فَاتَتْه الرَّكْعَةُ كلُّها. فصل: السُّنَّةُ أن يَتَقَدَّمَ في الصَّفِّ الأوَّلِ أَو لُو الفَضْلِ، [والسِّنِّ] (¬1)، وأن يَلِيَ الإمامِ أكْمَلُهم وأفْضَلُهُم. قال أحمدُ: يَلِي الإمامَ الشُّيُوخُ وأهلُ القُرْآنِ، ويُؤخَّرُ الصِّبْيانُ والغِلْمانُ؛ لِما روَى أبو مَسْعودٍ (¬2) الأنصارِيُّ، قال: كان رسِولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «لِيَلِنِي مِنْكُم أُولُو الأحْلَامِ والنُّهَى، ثم الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثم الَّذِين يَلُونَهُمْ». وقالَ أبو سعِيدٍ: إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- رَأى في أصحابِه تَأَخُّرًا، فقال: «تَقَدَّموا فَائْتَمُوا بى، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، ولا يَزَالُ قَوْمْ يَتَأخَّرونَ حتَّى يُؤَخِّرَهُمُ الله عَزَّ وَجَل». رَواهما أبو ¬

(¬1) في م: «والأسن». (¬2) في م: «سعيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). وعن قَيْسِ بنِ عُبادٍ، قال: أَتَيْتُ المَدِينَةَ لِلِقاءِ أصحابِ رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، [فأُقِيمَتِ الصلاةُ، وخَرَجَ عمرُ مع أصْحابِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-] (¬2)، فقُمْتُ في الصَّفِّ الأوَّلِ، فجاءَ رَجُلٌ فنَظَرَ في وُجُوهِ القَوْمِ، فعَرَفَهُم غيرِي، فنَحّانِي وتام في مَكانِي، فما عَقَلْتُ صلاِتى، فلمَّا صَلَّى قال: يَا بُنَيَّ لا يَسُؤْكَ اللهُ، فإنِّي لم آتِ الَّذي أتيْتُ بجَهالَةِ، ولكنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال لنَا: «كونُوا في الصَّفِّ الَّذي يَلينِي». وإنِّي نَظَرْتُ في وُجُوهِ القَوْمِ فعَرَفْتُهُم غيرَك. وكان الرَّجُلُ أبَيَّ بنَ كعبٍ. رَواه أحمدُ، والنَّسائِيُّ (¬3). ¬

(¬1) الأول، في: باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخير، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 156. كما أخرجه مسلم، في: باب تسوية الصفوف. إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 323. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 26. والنَّسائي، في: باب من يلى الإمام ثم الَّذي يليه، وباب ما يقول الإمام إذا تقدم في تسوية الصفوف، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 68، 71. وابن ماجه، في: باب من يستحب أن يلى الإمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 312، 313. والدارمي، من: كتاب من يلى الإمام من النَّاس، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 290. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 457، 4/ 122. والثاني، في: باب صف النساء وكراهية التأخير عن الصف الأول، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 157. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الرَّجل يأتم بالإمام ويأتم النَّاس بالمأموم، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 182. ومسلم، في: باب تسوية الصفوف. إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 325. والنَّسائي: كتاب الائتمام بمن يأتم بالإمام، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 65. وابن ماجه في: باب من كتاب من يلى الإمام، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 313. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 140. والنَّسائي بتغيير في اللفظ، في: باب من يلى الإمام ثم الَّذي يليه، من كتاب الإمامة. المجتبي 2/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والصَّفُّ الأوَّلُ أفْضَلُ للرِّجالِ، والنِّساءُ بالعَكْس؛ لقَوْلِ رسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُهَا، وشَرُّهَا آخِرُهَا، وخَيْرُ صُفُوفِ النَّسَاء آخِرُهَا، وشَرُّهَا أوَّلُهَا». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن أنَسٍ، أنّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أتمُّوا الصَّفّ الأوَّلَ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ في الصَّفِّ الْآخِرِ». رَواه أبو داوُدَ (¬2). وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ. قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «الصَّفُّ الأوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابتدَرْتُمُوهُ». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬3). ومَيامِنُ الصُّفُوفِ أفْضَلُ؛ ¬

(¬1) في: باب صف النساء وكراهية التأخير عن الصف الأول، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 156. كما أخرجه مسلم، في: باب تسوية الصفوف. إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 326. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في فضل الصف الأول، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 23، 24. والنَّسائي، في: باب ذكر خير صفوف النساء وشر صفوف الرجال، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 73. وابن ماجه، في: باب صفوف النساء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 319. والدارمي، في: باب أي صفوف النساء أفضل، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 291. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 247، 336، 340، 367، 3/ 3، 96، 293، 331. (¬2) في: باب تسوية الصفوف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 155. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الصف المؤخر، من كتاب الإمام. المجتبى 2/ 72. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 132، 215، 233. (¬3) في: المسند 5/ 140، وكما أخرجه أبو داود، في: باب في فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 131. والنَّسائي، في: باب الجماعة إذا كانوا اثنين، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 81.

579 - مسألة: (وإذا كان المأموم يرى من وراء الإمام صحت صلاته، إذا اتصلت الصفوف. وإن لم ير من وراءه تصح، وعنه، تصح إذا كانا

وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ يَرَى مَنْ وَرَاءَ الْإمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، إذَا اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَنْ وَرَاءَهُ لَمْ تَصِحَّ. وَعَنْهُ، تَصِحُّ إذَا كَانَا في الْمَسْجِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِ عائشةَ، رَضِيَ الله عنها: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يَقِفَ الإمامُ في مُقابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «وَسِّطُوا الإمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ» [رَواه أبو داودَ] (¬2). 579 - مسألة: (وإذا كان المَأَمُومُ يَرَى مَن وراءَ الإِمامِ صَحَّتْ صلاتُه، إذا اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ. وإن لم يَرَ مَن وراءَه تَصِحَّ، وعنه، تَصِحُّ إذا كانا (¬3) في المَسْجِدِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا كان الإمامُ والمَأْمُومُ ¬

(¬1) في: باب من يستحب أن يلى الإمام في الصف وكراهية التأخير، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 156. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب فضل ميمنة الصفوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 321. (¬2) سقط من: م. وأخرجه أبو داود، في: باب مقام الإمام من الصف، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 157. (¬3) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المَسْجدِ لم (¬1) يُعْتَبَرِ اتِّصالُ الصُّفُوفِ. قال الآمِديُّ: لا خِلافَ في المَذْهبِ، أنَّه إذا كان في أقْصَى المَسْجِدِ، وليس بينَه وبينَ الِإمامِ ما يَمْنَعُ الاسْتِطْراقَ والمُشاهَدَةَ، أنَّه يَصِحُّ اقْتِداؤُه به، وإن لم تَتَصِلِ الصُّفُوفُ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ وذلك لأنَّ المَسْجِدَ بُنِيَ للجَماعَةِ، فكلُّ مَن حَصَل فيه فقد حَصَل في مَحَلِّ الجَماعَةِ. فإن كان المأمُومُ خارِجَ المَسْجِدِ، أو كانا جَمِيعًا في غيرِ المَسْجِدِ، صَحَّ أن يَأتَمَّ به، بشَرْطِ إمْكانِ المُشاهَدَةِ واتِّصالِ الصُّفُوفِ، وسَواءٌ كان المأمُومُ في رَحْبَةِ (¬2) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «درجة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْجِدِ، أو في دارٍ، أبي على سَطْحٍ والإمامُ على سَطْحٍ آخَر، أو كانا (¬1) في صَحْراءَ، أو في سَفِينَتَيْن. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّه يُشْتَرِطُ أن لا يكونَ بَيْنَهما ما يَمْنَعُ الاسْتِطْراقَ، في أحَدِ القَوْلَيْن. ولَنا، أنَّ هذا لا تَأثِيرَ له في المَنْع مِن (¬2) الاقْتِداءِ بالإمامِ، ولم يَرِدْ فيه نَهْىٌ، ولا هو في مَعْنَى ذلك، فلم يَمْنَعْ صِحةَ الائْتِمامِ به، كالفَصْلِ اليَسِيرِ. إِذا ثَبَت هذا، فإنَّ مَعْنَى اتِّصالِ الصُّفُوفِ أن لا يكونَ بينَهما بُعْدٌ لم تَجْرِ العادَةُ به، بحيث يَمْنَعُ إمكانَ الاقْتِداءِ. وحُكِيَ عن الشافعيِّ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه حَدَّ الاتِّصالَ بما دُونَ ثَلاِثِمائَةِ ذِراعٍ. والتَّحْدِيداتُ بابُها التَّوْقِيفُ، ولا نَعْلَمُ في هذا نَصًّا ولا إجْماعًا يُعْتَمَدُ عليه، فوَجَبَ الرُّجُوعُ فيه إلى العُرْفَ، كالتَّفَرُّقِ، والإحْرازِ. ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) في م: «مع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان بينَ المأمُوم والإمام حائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الإمام ومَن وراءَه، فقال ابنُ حامِدٍ: فيه رِوايَتان؛ إحداهما، لا يَصِحُّ الائتِمامُ به. اخْتارَه القاضي؛ لأنَّ عائشةَ قالت لنِساءٍ كُنَّ يُصَلينَ في حُجْرَتِها: لا تُصَلِّين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بصلاةِ الإمامِ، فإنَّكُنَّ دُونَه في حِجابٍ (¬1). ولأنَّه لا يُمْكِنُه الاقْتِداءُ به في الغالِبِ. والثَّانِيَةُ، تَصِحُّ. قال أحمدُ، في رجلٍ يُصَلِّيِ خارِجَ المَسْجِدِ يومَ الجُمُعَةِ وأَبْوابُ المسجدِ مُغْلَقَةٌ: أرجُو أن لا يكون به بَأسٌ. وذلك لأنَّه يُمْكِنُه الاقْتِداءُ بالإمامِ، فصَحَّ عِن غيرِ مُشاهَدَةٍ، كالأعْمَى، ولأنَّ المُشاهَدَةَ تُرادُ للعِلْمِ بحالِ الإمامِ، والعلمُ [يَحْصُلُ بسَماعِ] (¬2) التَّكبِيرِ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب المأموم خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد وبينهما حائل، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 111. (¬2) في م: «إسماع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجرَى مَجْرَى الرُّؤْيَةِ. وعنه، أنَّه يَصِحُّ إذا كان في المَسجِدِ دُونَ غيرِه؛ لأنَّ المَسْجِدَ مَحَلُّ الجَماعَةِ، وفي مَظِنَّةِ القُرْبِ، ولأنَّه لا يُشْتَرَطُ فيه اتِّصالُ الصُّفُوفِ لذلك، فجازَ أن لا تُشْتَرَطَ الرُّؤْيَةُ. واخْتارَ شيخُنا (¬1) التَّساوِيَ فيهما؛ لاسْتوائِهما في المَعْنَى المُجَوِّزِ أو المانِعِ، فوَجَبَ اسْتِواؤهما في الحُكْمِ. وإنَّما صَحَّ مع عَدَمِ المُشاهَدَةِ، بشَرْطِ (¬2) أن يَسْمَعَ التَّكْبِيرَ، فإن لم يَسْمَعْه لم يَصِحَّ ائتِمامُه بحالٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه الاقْتِداءُ. فصل: وكلُّ مَوْضِع اعْتَبَرْنا المُشاهَدَةَ، فإنَّه يَكْفِي مُشاهَدَةُ مَن وراءَ الإِمامِ؛ مِن بابٍ أمامَه أو (¬3) عن يَمِينِه أو عن يَسارِه، ومُشاهَدَةُ طَرَفِ ¬

(¬1) في: المغني 3/ 46. (¬2) في م: «لأنه يشترط». (¬3) سقط: «الأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّفِّ الَّذي وراءَه؛ لأنَّه يُمْكِنُه الاقْتِداءُ بذلك. وإن حَصَلَتِ المُشاهَدَةُ في بَعْضِ أحْوالِ الصلاةِ كَفاه في الظّاهِرِ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ، وجِدارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فرَأى النَّاسُ شَخْصَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُصَلِّي، فقامَ أُناسُ يُصَلُّون بصلاتِه. والحديثُ رَواه البخاريُّ (¬1). والظّاهِرُ أنَّهم كانُوا يَرَوْنَه في حالِ قِيامِه. ¬

(¬1) في: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان بَيْنَهما طَرِيقٌ أو نَهْرٌ تَجْرِي فيه السُّفُنُ، أو كانا في سَفينَتَيْن مُتَفرِّقَتَيْن، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ. اخْتارَه أصحابُنا. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الطَّرِيقَ ليست مَحَلًّا للصلاةِ، أشْبَهَ ما يَمْنَعُ الاتِّصالَ. والثّانِي، يَصِحُّ. اخْتارَه شيخُنا (¬1). وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّه لا نَصَّ في مَنْع ذلك، ولا إجْماعَ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ، لأنَّه لا يَمْنَعُ الاقْتِداءَ، والمُؤثِّرُ في المَنْع ما يَمْنَعُ الرُّؤيَةَ أو سَماعَ الصَّوْتِ، وليس هذا بواحِدٍ منهما. قولُهم (¬2): إن ما بَيْنَهما ليس مَحَلًّا للصلاةِ. مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ في الطَّرِيقِ، فلا يَصِحُّ في النَّهْرِ، بدَلِيلِ صِحَّةِ الصلاةِ عليه في السَّفِينَةِ، وحالَ جُمُودِه. ثم كَوْنُه ليس مَحَلًّا للصلاةِ إنَّما يُؤثِّرُ مَنْع الصلاةِ فيه، أمَّا في صِحَّةِ الاقْتِداء بالإمامِ فتَحَكُّمٌ مَحْضٌ، لا يَلْزَمُ الحَصِيرُ إليه. فأمَّا إن كانت صلاةَ (¬3) جُمُعَةٍ أو عِيدٍ أو جِنازَةٍ، لم يُؤثِّرْ ذلك فيها؛ لأنَّها تَصِحُّ في الطَّرِيقِ، وقد صَلَّى أنَسٌ في مَوْتِ حُمَيْدِ ابن عبدِ الرَّحْمَنِ بصلاةِ الإمامِ، وبينَهما طَرِيقٌ (¬4). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: المغني 3/ 46. (¬2) في الأصل: «فوهم». (¬3) في م: «صلاته». (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد وليس بينهما حائل، =

580 - مسألة: (ولا يكون الإمام أعلى من المأموم، فإن فعل وكان كثيرا، فهل تصح صلاته؟ على

وَلَا يَكُونُ الإِمَامُ أعْلَى مِنَ الْمَأمُومِ، فَإنْ فَعَلَ وَكَانَ كَثِيرًا، فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُه؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 580 - مسألة: (وَلَا يَكُونُ الإِمَامُ أعْلَى مِنَ الْمَأمُومِ، فَإنْ فَعَلَ وَكَانَ كَثِيرًا، فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُه؟ عَلَى (¬1) وَجْهَيْنِ) يُكرَهُ أن يكونَ الإمامُ أعْلَى مِن المَأمُومِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ، سَواءٌ أراد تَعْلِيمَهم أو لم يُردْ. وهذا قَوْلُ مالكٍ، والأوزاعِيِّ، وأصحاب الرَّأْيِ. ورُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يُكرَهُ. واخْتارَ الشافعيُّ للإمامِ الَّذي يُعَلِّمُ مَن خَلْفَه أن يُصَلِّيَ على الشئِ المُرْتَفِع، ليَراه مَن خَلْفَه، ليَقْتَدُوا به؛ لِما روَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ، ¬

= من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 111. (¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: لقد رَأيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قام عليه، يعْنِي المِنْبَرَ، فكَبَّرَ، وكَبَّرَ النَّاسُ وراءَه، ثم رَكع وهو على المِنْبَرِ، ثم رَفَع ونَزل القَهْقَرَى، حتَّى سَجَد في أصْلِ المِنْبَرِ، ثم عاد حتَّى فَرَغ مِن آخِرِ صلاتِه، ثِم أقْبَلَ على النَّاس فقال: أيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَمُوا صَلَاِتى». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولَنا، ما رُوِيَ أنَّ (¬2) عَمّارَ بنَ ياسِرٍ، صَلَّى بالمَدائِنِ، فتَقَدَّمَ فقامَ على دُكانٍ، والنَّاسُ أسْفل منه، فتَقَدَّمَ حُذيْفَةُ فأخَذَ بيَدِه، فاتَّبَعَه عَمّارٌ حتَّى أنْزَلَه حُذَيْفَةُ، فلَمّا فَرَغ مِن صلاتِه، قال له حُذَيْفَةُ: ألم تَسْمَعْ رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: «إِذَا أمَّ الرَّجُلُ القَوْمَ، فَلَا يَقُومَنَّ في مَكَانٍ أرْفعَ. مِن مَقَامِهِمْ؟» قال عَمَّار: فلذلك اتِّبَعْتُك حينَ أخَذْتَ على يَدَيَّ. رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّه يَحْتاجُ أن يَقْتَدِيَ بإمامِه، فيَنْظُرَ رُكُوعَه وسُجُودَه، فإذا كان أعْلَى منه احْتاجَ إلى رَفْعِ بَصَرِه إليه، وذلك مَنْهِيٍّ عنه في الصلاةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 612. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب الإمام يقوم مكانًا أرفع من مكان القوم. من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا حديثُ سَهْلٍ، فالظَّاهِرُ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان على الدَّرَجَةِ السُّفْلَى؛ لِئَلَّا يَحْتاجَ إلى عَمَلٍ كَثِير في الصُّعُودِ والنُّزُولِ، فيَكُونُ ارْتِفاعًا يَسِيرًا لا بَأسَ به، جَمْعًا بينَ الأخْبارِ. ويَحْتَمِلُ أن يَخْتَصَّ ذلك بالنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، لأنَّه فَعَل شيئًا ونَهَى عنه، فيكونُ فِعْلُه لنَفْسِه، ونَهْيُه لغَيْرِه، [ولذلك] (¬1) لا يُسْتَحَبُّ لغيرِه عليه السلامُ. ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ولم يُتِمَّ الصلاةَ على المِنْبَرِ، فإنَّ سُجُودَه وجُلُوسَه إنَّما كان على الأرض، بخِلافِ ما اخْتَلَفْنا فيه. فصل: ولا بَأسَ بالعُلُوِّ اليَسِيرِ، كدَرَجَةِ المِنْبَرِ ونَحْوِها؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ سَهْل، ولأنَّ النَّهْىَ مُعَلَّلٌ بما يُفْضِي إليه مِن رَفْعِ البَصَرِ في الصلاةِ، وهذا يَخْتَصُّ الكَثِيرَ. ¬

(¬1) في م: «وكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان العُلُو كَثيرا، أُبْطَلَ الصلاةَ في قَوْلِ ابنِ حامِدٍ. وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ؛ لأنَّ النَّهْىَ يَقتَضِي فَسادَ المَنْهِيِّ عنه. وقال القاضي: لا تَبْطُلُ. وهو قولُ أصْحَابِ الرَّأى؛ لأنَّ عَمّارًا أتَمَّ صلَاته، ولو كانت فاسِدَةً لَاسْتَأْنَفَها، ولأنَّ النَّهْىَ مُعَلَّلٌ بما يُفْضِي إليه مِن رَفْع البَصَرِ، وهو لا يُبطِلُ الصلاةَ، فسَبَبُه أوْلَى. فصل: فإن كان مع الإمام مَن هو مُساوٍ له، ومَن هو أسْفَلُ منه، اخْتَصَّتِ الكَراهةُ بمَن هو أسْفَلُ مَنه، لوُجُودِ المَعْنَى فيهم خاصَّةً. ويَحْتَمِلُ أن يَتَناوَلَ النَّهْىُ الإمامَ، لكَوْنِه مَنْهيًّا عن القِيامِ في مَكانٍ أعْلَى مِن مَقامِهم. فعلى هذا الاحْتِمالِ تَبْطُلُ صلاةُ الجَمِيع عندَ مَن أَبْطَلَ الصلاةَ بارْتِكابِ النَّهْيِ. فصل: فإن كان المَأمُومُ أعْلَى مِن الإِمامِ، كالذى على سَطحِ المَسجدِ، أو رَفٍّ أو دِكَّةٍ عالِيةٍ، فلا بَأسَ؛ لأنَّه رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَة، أنَّه صَلَّى بصلاةِ الإِمامِ على سَطْحِ المَسْجِدِ (¬1). وفَعَلَه سالِمٌ. وبه قال ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الصلاة المأموم في المسجد أو على ظهره، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 111.

581 - مسألة: (ويكره للإمام أن يصلي في طاق القبلة، أن يتطوع في موضع المكتوبة، إلا من حاجة)

وَيُكْرَهُ لِلْإمَامِ أنْ يُصَلِّيَ في طَاقِ الْقِبْلَةِ، أوْ يَتَطَوَّعَ في مَوْضِعِ الْمَكْتُوبَةِ، إلَّا مِنْ حَاجَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافعيّ، وأصحابُ الرَّأيِ. وقال مالكٌ: يُعِيدُ إذا صَلَّى الجُمُعَةَ فوقَ سَطْح المسجدِ بصلاةِ الإمامَ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ أبي هُرَيْرَةَ، ولأنَّه يُمْكِنُه الاقْتِداءُ بإمامِه، أشْبَهَ المُتَساوِيَيْن، ولأنَّ عُلُوَّ الإمامِ إنَّما كُرِهَ لحاجَةِ المأَمُومِين إلى رَفْع البَصَرِ المَنْهِيِّ عنه، وهذا بخِلافِه. 581 - مسألة: (وَيُكْرَهُ لِلْإمَامِ أنْ يُصَلِّيَ في طَاقِ الْقِبْلَةِ، أنْ يَتَطَوَّعَ في مَوْضِعِ الْمَكْتُوبَةِ، إلَّا مِنْ حَاجَةٍ) يُكْرَهُ للإمام أن يَدْخُلَ (¬1) في طاقِ القِبْلَةِ. كَرِهَ ذلك ابنُ مسعودٍ، وعَلْقَمَةُ، والأَسْوَدُ؛ لأنَّه يَسْتَتِرُ (¬2) عن بَعْضِ المَأمومين، فيُكْرَهُ؛ لو كان بينَه وبينَهم حِجابٌ. وفَعَلَه سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو عبدِ الرَّحمن السُّلَمِيُّ (¬3). فأمّا إن كان لحاجَةٍ، ككوْنِ المَسْجدِ ضَيِّقًا، لم يُكْرَهْ للحاجَةِ إليه. ¬

(¬1) في الأصل: «يصلي». (¬2) في الأصل: «يستر». (¬3) أبو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن حبيب بن رُبيِّعة السلمي الكُوفيّ القارئ، تابعي ثِقَة، تُوفِّي بين السبعين والثمانين. تهذيب التهذيب 5/ 183، 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ للإمامِ أن يَتَطَوَّعَ في مَوْضِعِ المَكْتُوبَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ، وقال (¬1): كذا قال عليُّ بنُ أبي طالب، رَضِيَ اللهُ عنه. فأمّا المَأمومُ فلا بَأسَ أن يَتطَوَّعَ مَكانَه، فَعَل ذلك ابن عُمَرَ. وبه قال إسحاقُ. ورُوِيَ عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «لَا يَتَطَوَّع الإمَامُ في مَكانِهِ الذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالناسِ». رَواه أبو داودَ (¬2). إلَّا أنَّ أحمدَ قال: لا أعْرِفُ ذلك عن غيرِ عليٍّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب الإمام يتطوع في مكانه، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 144. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة النافلة حيث تصلى المكتوبة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 459.

582 - مسألة: (ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري إذا قطعت صفوفهم)

وَيُكْرَهُ لِلْمَأمُومِينَ الْوُقُوفُ بَيْنَ السَّوَارِي إذَا قَطَعَتْ صُفُوفَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 582 - مسألة: (وَيُكْرَهُ لِلْمَأمُومِينَ الْوقُوفُ بَيْنَ السَّوَارِي إذَا قَطَعَتْ صُفُوفَهُمْ) وكَرِه ذلك ابنُ مسعودٍ، والنَّخَعِيُّ [وابنُ عباسٍ وحُذَيْفَةُ] (¬1). ورَخَّصَ فيه ابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأيِ، وابنُ المُنْذِرِ. ولَنا، ما روَى مُعاوِيَةُ بنُ قُرَّةً، عن أَبيه، قال: كُنَّا نُنْهَى أن نَصُفَّ بينَ السُّوارِي على عَهْدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وتُطْرَدُ عنها طَرْدًا. رَواه ابنُ ماجه (¬2). فإن كان الصَّفُّ صَغِيرًا لا يَنْقَطِعُ بها لم يُكْرَهْ؛ لعَدَمِ ما يُوجِبُ الكَراهَةَ. ولا يُكْرَه ذلك للإمامَ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب الصلاة بين السوارى في الصف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 320. كما أخرج أبو داود ونحوه عن أنس، في: باب الصفوف بين السوارى، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 155.

583 - مسألة: (ويكره للإمام إطالة القعود بعد الصلاة، مستقبل القبلة)

وَيُكْرَهُ لِلْإمَامِ إطَالَةُ الْقُعُودِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 583 - مسألة: (ويُكْرَهُ للإمامِ إطالَةُ القُعُودِ بعدَ الصلاةِ، مُسْتَقِبلَ القِبْلَةِ) لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا سَلَّمَ لم يَقْعُدْ إلَّا مِقْدارَ ما يقولُ: «اللَّهُم أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَام». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولأنَّه لا يُسْتَحَبُّ للمَأْمُومين الانصِرافُ قبلَ الإمامِ، فإذا أطال الجُلُوسَ شَقَّ عليهم. فإن لم يَقُم اسْتُحِبَّ أن يَنْحَرفَ عن قِبْلَتِه؛ لِما رُوِيَ عن سَمُرَةَ، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا صَلَّىَ صلاةً أقْبَلَ علينا بوَجْهِه. أخْرَجَه البخاريُّ (¬2). وعن عليٍّ، رَضىَ اللهُ عنه، أنَّه صَلَّى بقَومٍ العصرَ، ثم أسْنَد ظَهْرَه إلى القِبْلَةِ فاسْتَقْبَل القَوْمَ. رَواه الأثْرَمُ. قال الأثرَمُ: رَأيْتُ أَبا عبدِ الله إِذا سَلَّمَ يَلْتَفِتُ ويَتَرَبَّعُ. قال أبو داودَ: رَأْيْتُه إذا كان إمامًا فسَلَّمَ انْحَرَفَ عن يَمِينِه. وروَى جابرُ بنُ سَمُرَةَ، قال: كان رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا صَلَّى الفَجْرَ تَرَبَّعَ في مَجْلِسِه ¬

(¬1) في: باب ما يقال بعد التسليم، من كتاب إِقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 298. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 414. والتِّرمذيّ، في: باب ما يقول إذا سلَّم من الصلاة، من أبواب الصلاة. سنن التِّرْمِذِيّ 2/ 91، 92. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 62، 184، 235. (¬2) في: باب يستقبل الإمام النَّاس إذا سلّم، من كتاب الأذان، وفي: باب حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، من كتاب الجنائز. صحيح البُخَارِيّ 1/ 214، 2/ 125. كما أخرجه مسلم، في: باب رؤيا النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، من كتاب الرؤيا. صحيح مسلم 4/ 1781. والتِّرمذيّ، في: باب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار، من أبواب الرؤيا. عارضة الأحوذي 9/ 165. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 14.

584 - مسألة: (فإن كان معه نساء، لبث قليلا لينصرف النساء)

فَإنْ كَانَ مَعَهُ نِسَاءٌ، لَبِثَ قَلِيلًا لِيَنْصَرِفَ النِّسَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حسَنًا (¬1). وفي لَفْظٍ: كان إذا صَلَّى الفَجْرَ جَلَس في مُصَلّاه حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. رواه مسلمٌ (¬2). 584 - مسألة: (فإن كان معه نِساءٌ، لَبِثَ قَلِيلًا ليَنْصَرِف النِّساءُ) لِما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قالت: إنَّ النِّساءَ كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِن المَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وثَبَت رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ومَن صَلَّى مِن الرِّجالِ ما شاء اللهُ، فإذا قام رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قام الرِّجالُ. قال الزُّهْرِيُّ: فنَرَى ذلك، واللهُ أعلمُ، أنَّ ذلك لكى يَنْفُذَ مَن يَنْصَرِفُ مِن النِّساءِ. رَواه البخاريُّ (¬3). ويُسْتَحَبُّ للنِّساءِ أن لا يَجْلِسْنَ بعدَ الصلاةِ، لذلك، ولأنَّ الإخْلالَ به مِن أحَدِ الفَرِيقَيْن يُفْضى إلى اخْتِلاطِ الرجالِ بالنِّساءِ. ويُسْتَحَبُّ للمَأْمُومين أن لا يَقُومُوا قبلَ الإِمامِ؛ لِئَلاَّ يَذْكُرَ سَهْوًا فيَسْجُدَ، وقد قال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إنِّي إِمَامُكمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بالقِيَامِ، وَلَا بِالانْصِرَافِ». رَواه مسلمٌ (¬4). إلَّا أن يُخالِفَ الإمامُ السُّنَّةَ في إطالَةِ الجُلُوس، أو يَنْحَرِفَ، فلا بَأْسَ ذلك. فصل: ويَنْصرِفُ الإمامُ حيث يشاء، عن يَمين وشِمالٍ؛ لقَوْلِ ابنِ ¬

(¬1) حسنًا: أي طلوعا حسنًا، أي مرتفعة. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 577. (¬3) في: باب انتظار النَّاس قيام الإمام للعالم، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 219. كما أخرجه النَّسائيّ، في: جلسة الإمام بين التسليم والانصراف، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 57. الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 316. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 318.

585 - مسألة: (وإن أمت امرأة نساء، قامت وسطهن في الصف)

وَإذَا صَلَّتِ الْمَرْأَة بِالنِّسَاءِ، قَامَتْ وَسَطَهُنَّ في الصَّفِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعودٍ: لا يَجْعَلْ أَحَدُكم للشَّيْطانِ حَظًّا مِن صَلاتِه، يَرَى أنَّ حَقًا عليه أن لا يَنْصَرِفَ إلَّا عن يَمينِه، لقد رَأَيْتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أكْثَر ما يَنْصَرِفُ عن شِمالِه. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن هُلْبٍ (¬2)، أنَّه صَلَّى مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكانَ يَنْصَرِفُ عن شِقَّيْه. رَواه أبو داودَ (¬3). 585 - مسألة: (وإن أَمْتِ امرأةٌ نِساءٍ، قامَتْ وَسَطَهُنَّ في الصَّفِّ) اخْتَلَفَتِ الروايَةُ، هل يُسْتَحَبُّ للمرأةِ أن تُصلِّي بالنِّساءِ جَماعَةً؟ فعنه، أنَّه مُسْتَحَبٌّ. يروَى ذلك عن عائشةَ، وأمِّ سَلَمَةَ، وعطاءٍ، والثَّوْريِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَورٍ. وعن أحمدَ، أنَّه غيرُ مُسْتَحَبٌّ وكَرِهَه أصْحابُ الرَّأْيِ. وقال الشَّعْبِيُّ، ¬

(¬1) في: باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 492. كما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 1/ 216. وأبو داود، في: باب كيف الانصراف من الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 239. وابن ماجه، في: باب الانصراف من الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 300. والدارمي، في: باب على أي شقيه ينصرف الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 311. (¬2) في م: «لهب». (¬3) في: باب كيف الانصراف من الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 239. كما أخرجه ابن ماجه. في: باب الانصراف من الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 300. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 226، 227.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِيُّ، وقَتادَة: لَهُنَّ ذلك في التَّطَوُّعِ خاصَّةً. وقال الحسنُ، وسليمانُ بنُ يَسارٍ: لا تَؤُمُّ مُطْلَقًا. ونَحْوُه قَوْلُ مالكٍ؛ لأنَّه يُكْرَهُ لها الأذانُ، وهو دُعاءٌ إلى الجماعَةِ، فكُرِهَ ما يُرادُ له الأذانُ. ولَنا، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أذِنَ لأُمِّ وَرقَةَ أن تَؤُمُّ أهْلَ دارِها. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّهُنَّ مِن أهْلِ الفرائِضِ، أشْبَهْنَ الرِّجالَ. وإنَّما كُرِهَ لَهُنَّ الأذانُ لِما فيه مِن رَفْعِ الصَّوْتِ، ولَسْنَ مِن أَهْلِه. إذا ثَبَت ذلك، فإِنَّها تَقُومُ وَسَطَهُن في الصَّفِّ، لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا بينَ مَن رَأى أن تَؤُمهُنَّ؛ لأن ذلك يُرْوَى عن عائشةَ، وأمِّ سَلَمَةَ (¬2). رَواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، عن أُمِّ سَلَمَةَ. ولأنَّ المرْأةَ يُسْتَحَبُّ لها التَّسَتُّرُ، ولذلك لا يُسْتَحَبُّ لها التَّجافِي، وكوْنُها في وَسَطِ الصَّفِّ أسْتَرُ لها، فاسْتُحِبَّ لها كالعُرْيانِ. فإن صَلَّتْ بينَ أيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أن يَصِحَّ؛ لكَوْنِه مَوْقِفًا في الجُمْلَةِ للرجلِ. واحْتَمَلَ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّها خالَفَتْ مَوْقِفَها، أشْبَهَ ما لو خالَفَ الرجلُ مَوْقفَه. فإِن أمَّتِ امرأةً واحِدَةً، ¬

(¬1) في: باب إمامة النساء، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 139. كما أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 405. (¬2) أخرجه البيهقي في: باب المرأة تؤم النساء فتقوم وسطهن، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 131.

586 - مسألة: (ويعذر في ترك

فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ في تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْمَرِيضُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قامَتْ عن يَمِينِها، كالمَأمُومِ مِن الرِّجالِ، وإن وَقَفتْ خَلْفَها جازَ؛ لأنَّ المرأة يَجُوزُ وُقُوفُها وَحْدَها، بدَلِيلِ حديثِ أنسٍ (¬1). فصل: وتَجْهَرُ في صلاةِ الجَهْرِ قياسًا على الرجلِ، فإن كان ثَمَّ رجالٌ لم تَجْهَرْ، إلَّا أن يَكُونُوا مِن مَحارمِها، فلا بَأسَ به. والله أعلمُ. 586 - مسألة: (ويُعْذَرُ في ترْكِ (¬2) الجُمُعَةِ والجَماعَةِ، المَرِيضُ) قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ خلافًا بينَ أهْلِ العِلْمِ، أنَّ للمَرِيضِ أن يَتَخَلَّفَ عن الجماعاتِ مِن أجْلِ المَرَضِ. وقد روَى ابنُ عباس، عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنَّه قال: «مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّباعِهِ عُذْرٌ». قالُوا: وما العُذْرُ يَا رسولَ اللهِ؟ قال: «خَوْفٌ [أو مَرَضٌ] (¬3). لم تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى». رَواه أبو داودَ (¬4). وقد كان بلالٌ يُؤَذِّنُ بالصلاةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 403، 404. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «المرض». (¬4) في: باب في التشديد في ترك الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 130.

587 - مسألة: (ومن يدافع أحد الأخبثين، أو بحضرة طعام هو محتاج إليه)

وَمَنْ يُدَافِعُ أَحدَ الأخْبَثَيْنِ، أو بِحَضْرَةِ طَعَام هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يَأْتِي النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وهو مَرِيضٌ، فيقولُ: «مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» (¬1). 587 - مسألة: (ومَن يُدافِعُ أحَدَ الأخْبَثَيْن، أو بحَضْرَةِ طَعامٍ هو مُحْتاجٌ إليه) لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الأخْبَثَيْنِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وسَواءٌ خاف فَواتَ الجماعَةِ أو لم يَخَفْ؛ لقَوْلِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إذَا حَضَرَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فابْدَأْوا بالعَشَاءِ». رَواه مسلمٌ (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 338. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 594. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 596 من حديث ابن عمر.

588 - مسألة: (والخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه، [أو موت قريبه، أو]

وَالْخَائِفُ مِنْ ضيَاعِ مَالِهِ، أوْ فَوَاتِهِ، أوْ ضَرَرٍ فِيهِ، أوْ مَوْتِ قَرِيبهِ، أوْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ضَرَرٍ، أوْ سُلْطَانٍ، أَوْ مُلَازَمَةِ غَرِيمٍ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 588 - مسألة: (والخائِفُ مِن ضَياعِ مالِه، أو فَواتِه، أو ضَرَرٍ فيه، [أو مَوْتِ قريبِه، أو] (¬1) على نَفْسِه مِن ضَررٍ، أو سُلْطانٍ، أو مُلازَمَةِ غَرِيم ولا شيْءَ معه) الخَوْفُ يَتَنَوَّعُ ثَلَاثةَ أنْواعٍ؛ أحَدُها، الخَوْفُ على نَفْسِه؛ بأن يَخافَ سُلْطانًا يَأْخُذُه، أو لِصًّا، أو سَبُعًا، أو سَيْلًا، أو نَحْوَ ذلك مِمّا يُؤْذِيه في نَفْسِه، أو يَخافَ غَرِيمًا يَحْبِسُه (¬2) ولا شئَ معه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْطِيه، فإِنَّ حَبسَ المُعْسِرِ ظُلْمٌ، وكذلك إن كان عليه دَيْنٌ مُوجَّلٌ خَشِيَ أن يُطالَبَ به قبلَ مَحِلِّه. وإن كان الدَّيْنُ حالًا، وهو قادِرٌ على أدائِه، فلا عُذْرَ له في التَّخَلُّفِ؛ لأنَّ مَطْلَ الغَنِيِّ ظُلْمٌ. وإن تَوَجَّهَ عليه حَدٌّ لله تعالى، أو حَدُّ قَذْفٍ، فخافَ أن يُؤْخَذَ به، لم يَكُنْ ذلك عُذْرًا؛ لأنَّه يَجِبُ عليه وَفاؤه، وكذلك إن تَوَجَّهَ عليه قِصاصٌ. وقال القاضي: إن رَجا الصُّلْحَ عنه بِمالٍ، فهو عُذْرٌ حتَّى يُصالِحَ، بخِلافِ الحُدُودِ؛ لأنَّها لا تَدْخُلها المُصالَحَةُ. وحَدُّ القَذْفِ إن رَجا العَفْوَ عنه، فليس بعُذْرٍ، لأنَّه يَرْجُو إسقاطَه بغيرِ بَدَلٍ. الثَّانِي، الخَوْفُ على مالِه مِن لِصٌّ، أو سُلْطانٍ، أو نَحْوِه، أو يَخافُ على بَهِيمَتِه (¬1) مِن سَبُعٍ، أو شُرُودٍ، إن ذَهب وترَكَها، أو على مَنْزِلِه، أو مَتاعِه، أو زَرْعِه، أو يَخافُ إباقَ عَبْدِه، أو يكونُ له خُبْزٌ في التَّنُّورِ، أو طَبِيخٌ على النّارِ يَخافُ تَلَفَهما (¬2) بذَهابِه، أو ¬

(¬1) في م: «بهيمة». (¬2) في م: «تلفها».

589 - مسألة: (أو فوات رفقته

أوْ مِنْ فَوَاتِ رُفْقَتِهِ، أوْ غَلَبَةِ النُّعَاسِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ له مالٌ ضائِعٌ، أو عَبْدٌ آبِقٌ يَرْجُو وِجْدانَه في تلك الحالِ، أو يخافُ ضَياعَه إنِ اشْتَغَلَ عنه، أو يكونُ له غَرِيمٌ إن تَرَك مُلازَمَتَه ذَهَب، أو يكونُ ناطُورَ (¬1) بُسْتَانٍ أو نَحْوِه يَخافُ إن ذَهَب سُرِقَ، أو مُسْتَأْجَرًا لا يُمْكِنُه تَرْكُ ما اسْتُؤْجِرَ على حِفْظِه، فهذا وأشْباهُه عُذْرٌ في التَّخَلُّفِ عن الجُمُعَةِ والجَماعَةِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «أوْ خَوْفٌ». ولأنَّ في أمْرِه عليه السَّلامُ بالصلاةِ في الرِّحالِ لأجْلِ الطِّينِ والمَطَرِ، مع أن ضَرَرَهما أيْسَرُ مِن ذلك، تنْبيهًا على جَوازِه. الثالثُ، الخوْفُ على وَلَدِه وأهْلِه أن يَضِيعُوا، أو يَخافُ مَوْتَ قَرِيبِه ولا يَشْهَدُه، فهذا كلُّه عُذْرٌ في تَرْكِ الجُمُعَةِ والجماعَةِ. وبهذا قال عَطاءٌ، والحسنُ، والشافعيُّ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وقد اسْتُصْرِخَ ابنُ عُمَرَ على سعيدِ بنِ زيدٍ، بعدَ ارْتفاعِ الضُّحَى، وهو يَتَجَهزُ للجُمُعَةِ، فأتاه بالعَقِيقِ وتَرَك الجُمُعَةَ. والله أَعلمُ. 589 - مسألة: (أو فَواتِ رُفْقَتِه (¬2)، أو غَلْبَةِ النُّعاسِ، أو خَشْيَةِ ¬

(¬1) الناطور: حافظ الكرم والنخل. (¬2) في م: «رفقة».

أوِ الْأَذَى بِالْمَطَرِ، وَالْوَحْل، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ في اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّأْذِّي بالمَطَرِ، والوَحْلِ، والرِّيحِ الشَّدِيدَةِ في اللَّيْلَةِ المُظْلمَةِ البارِدَةِ) ويُعْذَرُ في تَرْكِهما (¬1) مَن يُرِيدُ سَفَرًا يَخافُ فَواتَ رُفْقَتِه، لأنَّ عليه في ¬

(¬1) في م: «تركها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك ضَرَرًا، ومَن يَخافُ غلبةَ النُّعاسِ حتَّى يفُوتاه، يَجُوزُ (¬1) لَه أن يُصَلِّيَ وَحْدَه ويَنْصَرِفَ؛ لأنَّ الرجلَ الذى صَلى مع مُعَاذٍ انْفَرَدَ [وصَلَّى وَحْدَه] (¬2) عندَ تَطْوِيلِ مُعاذٍ، وخَوْفِ النُّعاسِ والمَشَقَّةِ، فلم يُنْكِرْ عليه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- حينَ أخْبَرَه بذلك (¬3). ويُعْذَرُ في تركِ الجماعَةِ مَن يخافُ تَطْويلَ الإمامِ كثيرًا لذلك، فإنَّه إذا جاز تَرْكُ الجَماعَةِ بعدَ دُخُولِه فيها لأجْلِ التَّطْوِيلِ، فتَرْكُ الخُرُوجِ إليها أوْلَى. ويُعْذَرُ في المَطَرِ الذى يَبُلُّ الثِّيابَ، والوَحْلِ الذى يَتَأذَّى به في بَدَنه أو ثِيابِه، لِما روَى عبدُ الله بنُ الحَارِثِ قال: قال عبدُ الله بنُ عباسٍ لمُؤذِّنِه في يَوْمٍ مَطِيرٍ: إذا قُلْتَ: أشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، فلا تَقُلْ: حَيَّ على الصلاةِ. وقُلْ: صلُّوا في بُيُوتِكم. . قال: فكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك. فقال ابنُ عباسٍ: أتعْجَبُون مِن ذلك؟ قد فَعَل ذلك من هو خَيْرٌ مِنِّي، إنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وإنِّي كَرِهْتُ أن أُخرِجَكُم فَتَمْشُوا في الطِّينِ والدَّحْضِ (¬4) مُتَّفَق عليه (¬5). وروَى أبو ¬

(¬1) في م: «الجواز» (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 461. (¬4) الدحض: الزَّلِق. (¬5) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الكلام في الأذان، وباب هل يصلي الإمام. إلخ، من كتاب الأذان، وفي: باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر، من كتاب الجمعة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 160، 170، 2/ 7. ومسلم، في: باب الصلاة في الرحال في المطر، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 485. كما أخرجه أبو داود، في: باب التخلف عن الجماعة في الليلة الباردة. إلخ، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 245. وابن ماجه، في: باب الجماعة في الليلة المطيرة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَليحِ، أنَّه شَهِد النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- زَمَنَ الفَتْحِ، وأصابَهم مَطرٌ لم تَبْتَلَّ أسْفَلُ نِعالِهم، فأمَرَهم أن يُصَلوا في رِحالِهم. رَواه أبو داودَ (¬1). ويُعْذَرُ في تَرْكِ الجَماعَةِ بالرِّيحِ الشَّديدَةِ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ البارِدَةِ؛ لِما روَى ابن عُمَرَ قال: كان رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُنادِي مُنادِيه في اللَّيْلَةِ البارِدَةِ أو المَطِيرَةِ في ¬

(¬1) في: باب الجمعة في اليوم المطير، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 2/ 411. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الجماعة في الليلة المطيرة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 302. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 24، 74، 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّفَر: «صَلُوا في رِحَالِكمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورَواه ابنُ ماجه (¬2) بإسْنادٍ صَحِيحٍ، ولم يَقُلْ في السَّفَرِ. ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الأذان للمسافر، وباب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، من كتاب الأذان. صحيح البُخَارِيّ 9/ 163، 170. ومسلم، في: باب الصلاة في الرحال في المطر، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 484. كما أخرجه أبو داود، في: باب التخلف عن الجماعة والليلة الباردة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 244. والنَّسائي، في: باب الأذان في التخلف عن شهود الجماعة في الليلة المطيرة، من كتاب الأذان، وفي: باب العذر في ترك الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 13، 86. والدارمي، في: باب الرخصة في ترك الجماعة إذا كان مطر في السفر، من كتاب الصلاة. سنن الدَّارميّ 1/ 292. والإمام مالك، في: باب النداء في السفر وعلى غير وضوء، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 73. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 4، 10، 53، 63، 103. (¬2) في: باب الجماعة في الليلة المطيرة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 302.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب صلاة أهل الأعذار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ وَيُصَلِّى الْمَرِيضُ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صلاةِ أَهْلِ الأعْذارِ 590 - مسألة: (ويُصَلِّى المَرِيضُ كما قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعِمْرانَ بنِ حُصَيْنِ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ») رَواه البُخارِيُّ (¬1). أَجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَن لا يُطِيقُ القِيامَ، له أن يُصَلِّى جَالِسًا؛ لهذا الحَديثِ؛ ولِما روَى أنَسٌ، قال: سَقَط رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن فَرَسٍ، فجُحِشَ (¬2)، أو خُدِش شِقُّه الأيْمَنُ، فدَخَلْنا ¬

(¬1) في: باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، من كتاب التقصير. البخارى 2/ 60. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 218. والترمذى، في: باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 166. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة المريض، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 386. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 426. (¬2) الجحش: سجح الجلد وقشره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه نَعُودُه، فحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فصَلَّى قاعِدًا، وصَلَّيْنا قُعُودًا. مُتَفَّقٌ عليه (¬1). فصل: فإن أمْكَنه القِيامُ، إلَّا أنَّه يَخْشَى تَبَاطُؤَ بُرْئِه، أو زِيادَةَ مَرَضِه، أو يَشُقُّ عليه مَشَقَّةً شديدةً، فلَه أن يُصَلِّى قاعِدًا. ونَحْوَه قال مالكٌ، وإسحاقُ. وقال مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ (¬2): إذا لم يَسْتَطِعْ أن يَقُومَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، من كتاب الصلاة، وفى: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، وباب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، وباب يهوى بالتكبير حين يسجد، من كتاب الأذان، وفى: باب صلاة القاعد، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 1/ 106، 177، 187، 203، 2/ 59 ومسلم، في: باب ائتمام المأموم بالإمام، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 308. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يصلى من قعود، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 141. والترمذى، في: باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 156. والنسائى، في: باب الائتمام بالإمام يصلى قاعدا، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 77. وابن ماجه، في: باب في إنما جعل الإمام ليؤتم به، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 392. والدارمى، في: باب في من يصلى خلف الإمام والإمام جالس، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 286، 287. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 110، 162، 300. (¬2) أبو أيوب ميمون بن مهران، مولى الأزد، من فقهاء التابعين بالجزيرة، توفى سنة سبع عشرة ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازى 77. وقوله في مصنف عبد الرزاق 2/ 473.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لدُنْياه، فَلْيُصَلِّ جالِسًا. وحُكِىَ نَحْوُ (¬1) ذلك عن أحمدَ. ولَنا، قَوْلُ اللَّهِ تعالىِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). وهذا حَرَجٌ، ولأنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى جالِسًا لَمّا جُحِش شِقُّه، والظّاهِرُ أنَّ مَن جُحِش شِقُّه لا يَعْجِزُ عن القِيامِ بالكُلِّيَّة. ومتى صَلَّى قاعِدًا، فإنَّه يكونُ على صِفَةِ صلاةِ المُتَطَوِّعِ جالِسًا، على ما ذَكَرْنا (¬3). فصل: فإن قَدَر على القِيامِ؛ بأن يَتَّكِئ على عَصًا أو يَسْتَنِدَ إلى (¬4) حائِطٍ، أو يَعْتَمِدَ على أحَدِ جانِبَيْه لَزِمَه؛ لأنَّه قادِرٌ على القِيامِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فلَزِمَه، كما لو قَدَر بغيرِ هذه الأشياءِ. وإن قَدَر على القِيامِ، إلَّا أنَّه يكونُ على هَيْئَةِ الرّاكِعِ كالأحْدَبِ والكَبِيرِ، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّه قِيامُ مِثْلِه. وإن كان لقِصَرِ سَقْفٍ لا يُمْكِنُه الخُرُوجُ، أو سَفِينةٍ، أو خائِفٍ لا يُعْلَمُ به إلَّا إذا رَفَع رَأْسَه، ففيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه القِيامُ، كالأحْدَبِ. ¬

(¬1) في م: «بجواز». (¬2) سورة الحج 78. (¬3) انظر ما تقدم في 4/ 200. (¬4) في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّانِى، لا يَلْزَمُه، فإنَّ أحمدَ قال، في (¬1) الذى في السَّفِينَةِ لا يَقْدِرُ أن يَسْتَتِمَّ قائِمًا؛ لقِصَرِ سَماءِ السَّفِينَةِ: يُصَلِّى قاعِدًا، إلَّا أن يكونَ شيئًا يَسِيرًا. فيُقاسُ عليه ما في مَعْناه؛ لحدِيثِ عِمْرانَ المَذْكُورِ. فصل: فإن قَدَر المَرِيضُ على الصلاةِ وَحْدَه قائِمًا، ولا يَقْدِرُ مع الإِمامِ لتَطْوِيلِه، احْتَمَلَ أن يَلْزَمَه القِيامُ (¬2)، ويُصَلِّى وَحْدَه؛ لأنَّ القِيامَ رُكْنٌ لا تَتِمُّ صَلاتُه إلَّا به، والجَماعَةُ تَصِحُّ الصلاةُ بدُونِها. واحْتَمَلَ أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ الأمْرَيْنِ؛ لأنّا أبَحْنا له تَرْكَ القِيامِ المَقْدُورِ عليه مع إمامِ الحَىِّ العاجِزِ عنه، مُراعاةً للجَماعَةِ، فههُنا أوْلَى، ولأنَّ الأجْرَ يَتَضاعَفُ بالجَماعَةِ أكْثَرَ مِن تَضاعُفِه بالِقيامِ؛ لأنَّ صلاةَ القاعدِ على النِّصْفِ مِن صلاةِ القائِمِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «القياس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ و «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬1). وهذا أحسنُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. فصل: فإن عَجَز عن القُعُودِ صَلَّى على جَنْبٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ بوَجْهِه. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وأبو ثَوْرِ، وأصحابُ الرَّأْى: يُصَلِّى مُسْتَلْقِيًا ورجْلاه إلى القِبْلَةِ، ليَكُونَ إيماؤُه إليها، فإنَّه إذا صَلَّى على جَنْبِه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة في مسجد السوق، من كتاب الصلاة، وفى: باب فضل صلاة الجماعة من كتاب الأذان، وفى: باب ما ذكر في الأسواق، من كتاب البيوع، وفى: باب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} من كتاب التفسير. صحيح البخارى 1/ 129، 166، 3/ 86، 6/ 108. ومسلم، في: باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 449 - 451، 459. وأبو داود، في: باب ما جاء في المشى إلى الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 132. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل الجماعة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 15. والنسائي، في: باب فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصلاة، في: باب فضل الجماعة، من كتاب الإمامة. المجتبى 2/ 80. وابن ماجه، في: باب فضل الصلاة. في جماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 259. والدارمى، في: باب في فضل صلاة الجماعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 293. والإمام مالك، في: باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، من كتاب الجماعة. الموطأ 1/ 129. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 376، 382، 437، 452، 2/ 65، 102، 112، 233، 252، 264، 328، 396، 454، 473، 475، 486، 501، 520، 525، 3/ 55، 6/ 49.

591 - مسألة: (فإن صلى على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، صحت

فَإِنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ، وَرِجْلَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، صَحَّتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ كان وَجْهُه في الإِيماءِ إلى غيرِ القِبْلَةِ. ولَنا، قَوْلُه عليه السَّلامُ: «فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». ولأنَّه يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ إذا كان على جَنْبِه، وإذا كان على ظَهْرِه إنَّما يَسْتَقْبِلُ السَّماءَ، [وكذلك] (¬1) يُوضَعُ المَيِّتُ (¬2) على جَنْبِه، ليكونَ مُسْتَقْبلًا للقِبْلَةِ. وقَوْلُهم: إنَّ وَجْهَه في الإِيماءِ إلى غيرِ (¬3) القِبْلَةِ. قُلْنا: اسْتِقْبالُ القِبْلَةِ [مِن الصَّحِيح] (¬4) إنَّما يكونُ في غيرِ حالِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، فإنَّ وَجْهَه فيهما إنَّما يكونُ إلى الأرْضِ، فكذلك المَرِيضُ يَنْبَغِى أن لا يُعْتَبَرَ اسْتِقْبالُه فيهما. والمُسْتَحَبُّ أن يُصَلِّىَ على جَنْبِه الأيمَنِ، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُحِبُّ التَّيَمُّنَ في شَأْنِه كلِّه (¬5). وإن صَلَّى على الأيْسَرِ جاز؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعَيِّنْ في الحديثِ جَنْبًا، ولأنَّ المَقْصُودَ اسْتِقْبالُ القِبْلَةِ، وهو حاصِلٌ على كلا الجَنْبَيْن. 591 - مسألة: (فإنْ صَلَّى على ظَهْرِه، ورِجْلَاه إلى القِبْلَةِ، صَحَّتْ ¬

(¬1) في م: «ولذلك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 1/ 73.

صَلَاتُهُ، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أحَدِ الوَجْهَيْن) متى صَلَّى مُسْتَلْقِيًا على ظَهْرِه، مع القُدْرَةِ على الصلاةِ على جَنْبِه، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يَصِحُّ. وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ؛ لأنَّه نَوْعُ اسْتِقْبالٍ، ولهذا يُوَجَّهُ المَيِّتُ كذلك عندَ المَوْتِ. والثَّانِى، لا يَصحُّ. وهو أظْهَرُ، لأنَّه مُخالفٌ للحديثِ المَذْكُورِ، فإنَّه قال عليه السّلامُ: «فَإن لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبٍ». ولأنَّ في حديثِ عِمْرانَ مِن رِوايَةِ [النَّسائىِّ: «فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا] (¬1) إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2)». وهذا صَرِيحٌ، فإنَّه نَقَلَه إلى الاسْتِلْقاءِ عندَ العَجْزِ عن الصلاةِ على جَنْبٍ، فدَلَّ على أنَّه لا يَجُوزُ مع القُدْرَةِ عليه. فإن عَجَز عن الصلاةِ على جَنْبِه، صلَّى مُسْتَلْقِيًا، وَجْهًا واحِدًا؛ للحديثِ المَذْكُورِ. ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث لم نجده عند النسائى. (¬2) سورة البقرة 286.

592 - مسألة: (ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه)

وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 592 - مسألة: (ويُومِئُ بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ، ويَجْعَلُ سُجُودَه أخْفَضَ مِن رُكُوعِه) متى عَجَز عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ أوْمَأَ بِهِما، ويَجْعَلُ سُجُودَه أخْفَضَ مِن رُكُوعِه، اعْتِبارًا بالأصْلِ، كما قُلنا في حالَةِ الخَوْفِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن عَجَز عن السُّجُودِ وَحْدَه، رَكَع وأوْمَأ بالسُّجُودِ، وإن لم يُمْكِنْه أن يَحْنِىَ ظَهْرَه [حَنَى رَقَبَتَه، وإن تَقَوَّسَ ظَهْرُه] (¬1)، فصارَ كالرّاكِع، زاد في الانْحِناءِ قَلِيلًا إذا رَكَع، ويُقَرِّبُ وَجْهَه إلى الأرْضِ في السُّجُودِ حَسَبَ الإِمْكانِ. فإن قَدَر على السُّجُودِ على صُدْغِه لم يَفْعَلْ؛ لأنَّه ليس مِن أعْضاءِ السُّجُودِ. وإن وَضَع بينَ يَدَيْه وِسادَةً، أو شيئًا عاليًا، أو سَجَد على رَبْوَةٍ أو حَجَرٍ جاز، إذا لم يَكُنْ يُمْكِنُه تَنْكِيسَ وَجْهِه أكْثَرَ مِن ذلك. وحُكِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: أخْتارُ السُّجُودَ على المِرْفَقَةِ (¬2) وقال: هو أحَبُّ إلىَّ مِن الإيماءِ. واخْتارَه إسحاقُ. وجَوَّزَه الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. ورَخَّصَ فيه ابنُ عباسٍ. وسَجَدَتْ أمُّ سَلَمَةَ على مِرْفَقَةٍ (¬3). وكَرِهَ ابنُ مَسْعُودٍ السُّجُودَ على عُودٍ، وقال: الإِيماءُ أحبُّ إلىَّ (¬4). ووَجْهُ الجَوازِ؛ أنَّه أتَى بما يُمْكِنُه مِن الانْحِطاطِ، أشْبَهَ الإيماءَ. فأمَّا إن رَفَع إلى وَجْهِه شيئًا فسَجَدَ عليه، فقال بعضُ أصحابِنا: لا يُجْزِئُه. ورُوىَ نَحْوُ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وجابِرٍ، وأنَسٍ. وهو قَوْلُ مالكٍ والثَّوْرِىِّ؛ لأنَّه سَجَد على ما هو حامِلٌ له، أشْبَهَ ما لو سَجَد على يَدَيْه. وروَى الأثرَمُ عن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «المرفق». والمرفقة المخدة. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 477. والبيهقى في السنن الكبرى 2/ 307. (¬4) انظر التخريج السابق.

593 - مسألة: (فإن عجز عنه أومأ بطرفه، ولا تسقط الصلاة)

فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَوْمَأَ بِطرفِهِ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، أنَّه قال: أيَّ ذلك فَعَل فلا بَأْسَ، يُومِئُ أو يَرْفَعُ المِرْفَقَةَ فيَسْجُدُ عليها. قيل له: فالمِرْوَحَةَ؟ قال: أمَّا المِرْوَحَةُ فلا. ورُوِىَ، أنَّه قال: الإِيماءُ أحَبُّ إلىَّ. وإن رَفَع إلى وَجْهِه شيئًا أَجْزَأَه. ولابدَّ أن يكونَ بحيث لا يُمْكِنُه الانْحِطاطُ أكْثَرَ منه، ووَجْهُ ذلك أنَّه أتَى بما يُمْكِنُه مِن الانْحِطاطِ، أشْبَهَ ما لو أَوْمَأَ. 593 - مسألة: (فإن عَجَز عنه أَوْمَأَ بطَرْفِه، ولَا تَسْقُطُ الصلاةُ) متى عَجَز عن الإِيماءِ برَأسِه أَوْمَأَ بطَرْفِه ونَوَى بقَلْبِه، ولا تَسْقُطُ عنه الصلاةُ ما دام عَقْلُه ثابِتًا. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ أنَّ الصلاةَ تَسْقُطُ عنه. وذَكَر القاضى أنَّه ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ. رَواه محمدُ بنُ يَزِيدَ (¬1)؛ لِما رُوِىَ ¬

(¬1) أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسى المستملى، انحدر مع الإمام من طرسوس أيام المأمون. وعنده عنه مسائل حسان، وكان له فقه. طبقات الحنابلة 1/ 328، 329.

594 - مسألة: (وإن قدر على القيام أو القعود فى أثنائها، انتقل إليه وأتمها)

وَإنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أوِ الْقُعُودِ فِى أَثْنَائِهَا، انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَأتَمَّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبى سعيدٍ، أنَّه قِيلَ له في مَرَضِه: الصلاةَ. قال: قد كَفَانِى، إنَّما العَمَلُ في الصِّحَّةِ. ولأنَّه عَجَز عن أفْعالِ الصلاةِ بالكُلِّيَّة، فسَقَطَتْ عنه. ولَنا، أنَّه مُسْلِمٌ بالِغٌ عاقِلٌ فلَزِمَتْه الصلاةُ، كالقَادِرِ على الإِيماءِ برَأْسَه. 594 - مسألة: (وإن قَدَر على القِيامِ أو القُعُودِ في أثْنائِها، انْتَقَلَ إليه وأَتَمَّها) ومتى قَدَر المَرِيضُ في أثْناءِ الصلاةِ على ما كان عاجِزًا عنه؛ مِن قِيامٍ، أو قُعودٍ، أو رُكُوعٍ، أو سُجُودٍ، أو إيماءٍ، انْتَقَلَ إليه، وبَنَى

595 - مسألة: (وإن قدر على القيام، وعجز عن الركوع والسجود، أومأ بالركوع قائما، وبالسجود قاعدا)

وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ والْقُعُودِ، وَعَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ قَائِمًا، وَبِالسُّجُودِ قَاعِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما مَضَى مِن صلاتِه. وهكذا لو ابْتَدَأها قادِرًا ثم عَجَز في أثْناءِ الصلاةِ؛ لحديثِ عِمْرانَ، ولأنَّ ما مَضَى مِن صلاتِه كان صَحِيحًا. فبَنَى عليه، كما لو لم تَتَغَيَّر حَالُه. 595 - مسألة: (وَإن قَدَر على القِيام، وعَجَز عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، أَوْمَأَ بالرُّكُوعِ قائِمًا، وبالسُّجُودِ قَاعِدًا) وهذا قَوْلُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ القِيامُ؛ لأنَّها صلاةٌ لا رُكُوعَ فيها ولا سُجُودَ، فسَقَطَ فيها القِيامُ، كالنّافِلَةِ على الرَّاحِلَةِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1). وحديثُ عِمْرانَ الذى ذَكَرْناه، ولأنَّ القِيامَ ¬

(¬1) سورة البقرة 238.

596 - مسألة: (وإذا قال ثقات من العلماء بالطب للمريض: إن

وَإذَا قَالَ ثِقَاتٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ لِلْمَرِيضِ: إنْ صَلَّيْتَ مُسْتَلْقِيًا أمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ. فَلَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُكْنٌ قَدَر عليه. فلم يَسْقُطْ بالعَجْزِ عن غيرِه، كالقِراءَةِ، وقِياسُهم فاسِدٌ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ الصلاةَ على الرّاحِلَةِ لا يَسْقُطُ فيها الرُّكوعُ. الثانِى، أنَّ النّافِلَةَ لا يَجِبُ فيها القِيامُ، فما سَقَط فيها تَبَعًا لسُقُوطِ الرُّكوع والسُّجُودِ. الثالثُ، مَنْقوضٌ بصلاةِ الجِنازَةِ. 596 - مسألة: (وإذا قال ثِقاتٌ مِن العُلَماءِ بالطِّبِّ للمَرِيضِ: إن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَّيْتَ مُسْتَلْقِيًا أمْكَنَ مُداواتُك. فله ذلك) وهذا قَوْلُ جابرِ بنِ زَيْدٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبي حنيفةَ. قال القاضى: وهو قِياسُ المَذْهَبِ. وكَرِهَه عُبَيْدُ اللَّهِ ابنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ (¬1)، وأبو وائِلٍ. وقال مالكٌ، والأوْزاعِىُّ: لا يَجُوزُ؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه لَمّا كُفَّ بَصَرُه أتاه رجلٌ، فقال: لو صَبَرْتَ علىَّ سَبْعَةَ أيَّام لم تُصَلِّ إلَّا مُسْتَلْقِيًا داوَيْتُ عَيْنَكَ، ورَجَوْتُ أن تَبْرَأ. فأرْسَلَ في ذلك إلى عائشةَ، وأبى هُرَيْرَةَ، وغيرِهما مِن أصحابِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فكُلُّهُم قال له: إن مِتَّ في هذه الأيامِ ما الذى تَصْنَعُ بالصلاةِ؟ فتَرَكَ مُعالَجَةَ عَيْنِه (¬2). ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى جالِسًا لَمّا جُحِشَ شِقُّه، والظَّاهِرُ أنَّه لم يَكُنْ يَعْجِزُ عن القِيامِ، لكنْ كان عليه فيه خَوْفُ (¬3) مَشَقَّةٍ، أو خَوْفُ ضَرَرٍ، وأيُّهُما قُدِّرَ فهو حُجَّةٌ على الجَوازِ ههُنا، ولأنَّا أبَحْنا له تَرْكَ الوُضُوءِ إذا لم يَجِدِ الماءَ إلَّا بزِيادَةٍ على ¬

(¬1) أبو عبد اللَّه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة الهذلى المدني، ثقة، فقيه، كثير الحديث والعلم، شاعر، توفى سنة أربع أو خمس وتسعين. تهذيب التهذيب 7/ 23، 24. (¬2) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى 2/ 308، 309. (¬3) سقط من: م.

597 - مسألة: (ولا تصح الصلاة فى السفينة قاعدا لقادر على القيام)

وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِى السَّفِينَةِ قَاعِدًا لِقَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَنِ المِثْلِ صَوْنًا لجُزءٍ من مَالِه، وتَرْكَ الصَّوْمِ لأجْلِ المَرَضِ والرَّمَدِ، ودَلَّتِ الأخْبارُ على جَوازِ تَرْكِ القِيامِ في صلاةِ الفَرْضِ على الرَّاحِلَةِ، خَوْفًا مِن ضَرَرِ الطِّينِ في ثِيابِه وبَدَنِه، وجازَ تَرْكُ القِيام اتِّبَاعًا لإِمامِ الحَىِّ، والصَّلاةُ على جَنْبِه ومُسْتَلْقِيًا في حالةِ الخَوْفِ مِن العَدُوِّ، ولا يَنْقُصُ الضَّرَرُ بفَواتِ البَصَرِ عن الضَّرَرِ في هذه الأحْوالِ. وحديث ابنِ عباسٍ، إن صَحَّ، فيَحْتَمِلُ أنَّ المُخْبِرَ لم يُخْبِرْ عن يَقِينٍ، وإنَّما قال: أرْجُو. أو أنَّه لم يَقْبَلْ خَبَرَه؛ لكَوْنِه واحِدًا، أو مَجْهُولَ الحالِ، بخلافِ مَسْألَتِنا. 597 - مسألة: (ولا تَصِحُّ الصلاةُ في السَّفِينةِ قاعدًا لقادِرٍ على القِيامِ) اخْتَلَفَ قَوْلُه في الصلاةِ في السَّفِينَةِ مع القُدْرةِ على الخُرُوجِ على

598 - مسألة: (وتجوز صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذى بالوحل

وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ التَّأَذِّى بِالْوَحْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتَيْن؛ إحْداهُما، لا يَجُوزُ؛ لأنَّها ليست حالَ اسْتِقْرارٍ، أشْبَه الصلاةَ على الرَّاحِلَةِ. والثانيةُ، يَصِحُّ؛ لأنه يَتَمَكَّنُ مِن القِيامِ والقُعودِ والرُّكُوع والسُّجُودِ، أشْبَه الصلاةَ على الأرْضِ، وسَواءٌ في ذلك الجارِيَةُ والواقِفَةُ، والمُسافِرُ والحاضِرُ. وهى أصَحُّ. ومتى قَدَر فيها على القِيامِ لم يَجُزْ له تَرْكُهْ؛ لحديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَين، فإن عَجَز عنه صَحَّتْ للحديثِ. 598 - مسألة: (وتجُوزُ صلاةُ الفَرْضِ على الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ التَّأَذِّى بالوَحْلِ) (¬1) متى تَضَرَّرَ بالسُّجُودِ على الأرْضِ لأجْلِ الوَحْلِ، وخاف مِن ¬

(¬1) بعده في م: «إذا كان يسيرا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَلْوِيثِ بَدَنِه وثِيابِه بالطِّينِ والبَلَلِ، جاز له الإِيماءُ بالسُّجُودِ إن كان راجِلًا، والصلاةُ على دابَّتِه. وقد رُوِيَ عن أنَسٍ، أنَّه صَلَّى دابَّتِه في ماءٍ وطِينٍ. وفَعَله جابِرُ بنُ زَيْدٍ. قال التِّرْمِذِىُّ: والعَمَلُ على هذا عندَ أهْلِ العِلْمِ، وبه يَقُولُ إسحاقُ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: لا يَجُوزُ أن يُصَلِّىَ الفَرْضَ على الرّاحِلَةِ لأجْلِ المَطرِ. وحَكَى ابنُ أبى موسى رِوايَةً مِثْلَ ذلك؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: فأبْصَرَتْ عَيْناىَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قد انْصَرَفَ وعلي جَبْهَتِه وأنْفِه أثَرُ الماءِ والطِّينِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ السُّجُودَ والقِيامَ مِن أرْكانِ الصلاةِ، فلم تَسْقُطْ بالمَطَرِ، كبَقِيَّةِ أرْكانِها. ولَنا، ما روَى يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ (¬2) عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه انْتَهَى إلى مَضِيقٍ ومعه أصحابُه، والسَّماءُ مِن فَوْقِهم، والبِلَّةُ مِن أسْفَلَ منهم، فصَلَّى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على راحِلَتِه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب السجود على الأنف والسجود على الطين، من كتاب الأذان، وفى: باب التماس ليلة القدر، وباب تحرى ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، من كتاب ليلة القدر، وفى: باب الإعتكاف في العشر الأواخر، وباب من خرج من اعتكافه عند الصبح، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخارى 1/ 206، 207، 3/ 60، 61، 62، 65، 66. ومسلم، في: باب فضل ليلة القدر. . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 824 - 826. كما أخرجه النسائي، في: باب السجود على الجبين، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 164. والإمام مالك، في: باب جاء في ليلة القدر، من كتاب الاعتكاف. الموطأ 1/ 319. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 7، 24. (¬2) كذا في النسخ، والذى في سنن الترمذى والمسند: «يعلى بن مرة عن أبيه عن جده». ويعلى بن أمية بن أبي عبيدة المكى، حليف قريش، هو الذى يقال له: يعلي بن منية، روى عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وقتل بصفين، أو تأخرت وفاته بعدها. أما يعلى بن مرة بن وهب بن جابر الثقفي، فهو الذى يقال له: يعلى ابن سيابة. انظر ترجمتهما في: تهذيب التهذيب 11/ 399، 404.

599 - مسألة: (وهل يجوز)

وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُه على ظُهُورِ دَوابِّهم، يُومِئُون إيماءً، يَجْعَلُونَ السُّجُودَ أخْفَضَ مِن الرُّكُوعِ. رَواهَ الأثْرَمُ، والتِّرمِذِىُّ (¬1). وفَعَلَه أَنَسٌ. ذَكَرَه الإمامُ أحمدُ، ولم يُنْقَلْ عن غيرِه خِلافُه. ولأنَّ المَطَرَ عُذْرٌ يُبِيحُ الجَمْعَ، فأثَّرَ في أفْعالِ الصلاةِ، كالسَّفَرِ والمَرَضِ، وحديثُ أبي سعيدٍ بالمدِينَةِ والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى (¬2) في مَسْجِدِه، والظاهِرُ أنَّ الطِّينَ كان يَسِيرًا لم يُؤثِّرْ في غيرِ الجَبْهَةِ والأنْفِ، وإنَّما يُبِيحُ ما كان كثيرًا يُلَوِّثُ الثِّيابَ والبَدَنَ، وتَلْحَقُ المَضَرَّةُ بالسُّجُودِ فيه. فصل: ومتى أمْكَنَه النُّزُولُ والصلاةُ قائِمًا مِن غيرِ مَضَرَّةٍ لَزِمَه، ولم يُصَلِّ على دابَّتِه؛ لأنَّه قَدَر على القِيامِ مِن غيرِ ضَرَرٍ فلَزِمَه، كغيرِ حالَةِ المَطَرِ. ولا يَسْقُطُ عنه الرُّكُوعُ؛ لقُدْرَتِه عليه، ويُومِئُ بالسُّجُودِ، لِما فيه مِن الضَّرَرِ. وإن تَضَرَّرَ بالنُّزولِ عن دَابَّتهِ، وتَلَوَّثَ، صَلَّى عليها؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ. ولا يَجُوزُ له تَرْكُ الاسْتِقْبالِ في المَطَرِ؛ لأنَّه قادِرٌ عليه. 599 - مسألة: (وهل يَجُوزُ) ذلك (لأجْلِ المرَضِ؟ على رِوايَتَيْن) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ الصلاةَ على الرَّاحِلَةِ لأجْلِ المَرَضِ لا تَخْلو مِن ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 202، 204. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 173، 174. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلَاثةِ أحْوالٍ، أحَدُها، أن يَخافَ الانْقِطاعَ عن الرُّفْقَةِ، أو العَجْزَ عن الرُّكُوبِ، أو زِيادَةَ المَرَضِ، ونَحْوَه، فيَجُوزُ له ذلك، كما ذَكَرْنا في صلاةِ الخَوْفِ. الثَّانِى، أن لا يَتَضَرَّرَ بالنُّزُولِ، ولا يَشُقَّ عليه، فيَلْزَمُه النُّزُولُ، كالصَّحِيحِ. الثَّالِثُ، أن يَشُقَّ عليه النُّزولُ مَشَقَّةً يُمْكِنُ تَحَمُّلُها مِن غيرِ خَوْفِ تَلَفٍ (¬1)، ولا زِيادَةِ مَرَضٍ، ففيه الرِّوايَتان؛ إحْداهُما، لا يَجُوزُ له الصلاةُ على الرّاحِلةِ، لأنَّ ابنَ عمرَ كان يُنْزِلُ مَرْضاه. احْتَجَّ به أحمدُ. ولأنَّه قادِرٌ على أفْعالِ الصّلاةِ مِن غيرِ ضَرَرٍ كبيرٍ، فلَزِمَه، كغيرِ الرَّاكِبِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّانِيَةُ، يَجوزُ. اخْتارَها أبو بكرٍ؛ لأنَّ المَشَقَّةَ عليه (¬1) في النُّزولِ أكثَرُ مِن المَشَقَّةِ عليه في المَطرِ، فكان إباحَتُها ههُنا أوْلَى. ومَن نَصَرَ الرِّوايَةَ الأُولَى، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إنَّ نُزُولَ المَرِيضِ يُؤثِّرُ في حُصُولِه على الأرْضِ، وهو أسْكَنُ له، وأمْكَنُ للصلاةِ، والمَمْطُورُ يَتَلَوَّثُ بنُزُولِه، ويَتَضَرَّرُ بحُصُولِه على الأرْضِ، فالمَرِيضُ يَتَضَرَّرُ بنَفْسِ النُّزُولِ لا في الحُصُولِ على الأرْضِ، والمَمْطورُ يَتَضَرَّرُ بحُصُولِه على الأرْضِ دُونَ نَفْسِ النُّزُولِ، فقد اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الضَّرَرِ، فلا يَصِحُّ الإلْحَاقُ.

فصل فى قصر الصلاة

فَصْلٌ فِى قَصْر الصَّلَاةِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصلٌ في قَصْرِ الصلاةِ) قَصْرُ الصلاةِ في السّفَرِ [في الجُمْلَةِ] (1) جائِزٌ [إذا وُجِدَتْ شُرُوطُه] (¬1)، والأصْلُ فيه الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ فقَوْلُه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2). وقال يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ: قُلْتُ لعمرَ بنِ الخَطّابِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وقد أمِن النّاسُ! فقال: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ منه، فسَأَلْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ، بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬3). وتَواتَرَتِ الأخْبارُ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقْصُرُ في أسْفَارِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 101. (¬3) في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 478.كما أخرجه أبو داود، في: باب صلاة المسافر، من كتاب السفر. سنن أبي داود 1/ 274. والترمذى، في: باب سورة النساء، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 163. والنسائي، في: باب تقصير الصلاة في السفر، من كتاب التقصير. المجتبى 3/ 95. وابن ماجه، في: باب تقصير الصلاة في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 339. والدارمى، في: باب قصر الصلاة في السفر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 354. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 25، 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حاجًّا، ومُعْتَمِرًا، وغازِيًا. قال أنَسٌ: خَرَجْنا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مَكَّةَ فصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حتى رَجَعَ، وأقَمْنَا بمَكَّةَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصّلاةَ. وقال ابنُ عمرَ: صَحِبْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى قُبِضَ، يَعْنِى في السَّفَرِ، فكان لا يَزِيدُ على رَكْعَتَيْنِ، وأبا بكرٍ حتى قُبِضَ، فكان لا يَزِيدُ على رَكْعَتَيْنِ، وعمرَ، وعُثْمانَ كذلك. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وأجْمَعَتِ الأُمَّة على أنَّ مَن سَافَرَ سَفَرًا تُقْصَرُ في مِثْلِه الصلاةُ؛ في حَجٍّ، أو عُمْرَةٍ، أو جِهادٍ، أنَّ له قَصْرَ الصّلاةِ الرُّباعِيَّةِ إلى رَكْعَتَيْنِ. ¬

(¬1) في م: «عليه». الأول أخرجه البخارى، في باب مقام النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 190، 191. ومسلم، في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 481، 482. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب متن يتم المسافر، من كتاب السفر. سنن أبي داود 1/ 280. والترمذى، في: باب ما جاء في تقصير الصلاة، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 18. والنسائى، في: باب تقصير الصلاة في السفر، وباب المقام الذى يقصر بمثله الصلاة، من كتاب السفر. المجتبى 3/ 96، 97، 100. وابن ماجه، في: باب كم يقصر الصلاة المسافر إذا أقام ببلدة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 342. والدارمى، في: باب في من أراد أن يقيم ببلدة كم يقيم حتى يقصر الصلاة، بن كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 355. والثاني أخرجه البخارى، في: باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 2/ 57. ومسلم، في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 479، 480. كما أخرجه أبو داود، في: باب التطوع في السفر، من كتاب السفر. سنن أبي داود 1/ 279. والترمذى، في: باب ما جاء في التقصص في السفر، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 3/ 14. والنسائى، في: باب ترك التطوع في السفر، من كتاب السفر. المجتبى 3/ 101. وابن ماجه، في: باب التطوع في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 340. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 31، 44، 45، 56.

600 - مسألة: (ومن سافر سفرا مباحا، يبلغ ستة عشر فرسخا، فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين)

وَمَنْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا، يَبْلُغُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، فَلَهُ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ خَاصَّةً إلَى رَكْعَتَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 600 - مسألة: (ومَن سافرَ سَفَرًا مُباحًا، يَبْلُغُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، فَلَه قَصْرُ الرُّباعيَّةِ خاصَّةً إلى رَكْعَتَيْنِ) يُشْتَرَطُ لجَوازِ القَصْرِ للمُسافِرِ شُروطٌ؛ أحَدُها، أن يكونَ سَفَرُه مُباحًا لا حَرَجَ عليه فيه، كسَفَرِ التِّجارَةِ، وهكذا حُكْمُ سائِرِ الرُّخَصِ المُخْتَصَّةِ بالسَّفَرِ، كالجَمْعِ، والمَسْحِ ثَلاثًا، والفِطْرِ، والنّافِلَةِ على الرَّاحِلَةِ، وهذا قولُ أكثرِ أهْلِ العلمِ. ورُوِىَ نَحْوُه عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ. وبه قال الأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأهْلُ المَدِينَةِ، وأصْحابُ الرَّأْى. وعن ابنِ مسعودٍ، لا يَقْصُرُ إلَّا في حَجٍّ أو جِهادٍ (¬1)؛ لأنَّ الواجِبَ لا يُتْرَكُ إلَّا ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 521، 522.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لواجبٍ. وعن عَطاءٍ: لا يَقْصُرُ إلَّا في سَبِيلٍ من سُبُلِ الخَيْرِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما قَصَر في سَفرٍ واجبٍ أو مَنْدُوبٍ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. وقالت عائشةُ: إنَّ الصلاةَ أَوَّلَ ما فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وأُتِمَّتْ صلاةُ الحَضَرِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، قال: فَرَضَ اللَّهُ الصلاةَ على لِسَانِ نَبِيِّكُمْ في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفى السَّفَرِ رَكْعَتَيْن، وفى الخَوْفِ رَكْعَةً. رَواه مسلمٌ (¬2). وفى حَدِيثِ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كُنَّا مُسافِرِين أو سَفْرًا، أن لا نَنْزِعَ خِفَافَنا ثَلَاثَةَ أيَّام ولَيالِيهِنَّ. رَواه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب يقصر إذا خرج عن موضعه، من كتاب تقصر الصلاة. صحيح البخارى 2/ 55. ومسلم، في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 478. كما أخرجه النسائي، في: باب كيف فرضت الصلاة، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 183. والإمام مالك، في: باب قصر الصلاة في السفر، من كتاب قصر الصلاة. الموطأ 1/ 146. (¬2) في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 479. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال: يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، من كتاب صلاة السفر. سنن أبي داود 1/ 287. والنسائى، في: باب كيف فرضت الصلاة، من كتاب الصلاة، وفى: أول كتاب تقصير الصلاة في السفر، من كتاب التقصر. المجتبى 1/ 183، 3/ 97. وابن ماجه، في: باب تقصير الصلاة في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 339. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرمِذِىُّ (¬1). وهذه نُصوصٌ تَدُلُّ على إباحَةِ التّرَخُّص في كلِّ سَفَرٍ، وقد كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَرَخَّصُ في العَوْدِ مِن السَّفَرِ، وهو مُباحٌ. فصل: فأمَّا سَفَرُ المَعْصِيَة فلا تُباحُ فيه هذه الرُّخَصُ؛ كالإباقِ، وقَطْع الطرَّيقِ، والتِّجارَةِ في الخَمْرِ، ونحوِه. نَصِّ عليه أحمدُ. وهذا قَوْلُ الشافعىِّ. وقال الثَّوْرِى، والأوْزاعِىُّ: له ذلك؛ لِما ذَكَرْنَا مِن النُّصوصِ، ولأنَّه مُسافرٌ، أشْبَهَ المُطِيعَ. ولَنا، قولُه تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬2). خَصَّ إباحَة الأكْلِ بغيرِ الباغِى والعادى، فدَلَّ على أنه لا يُباحُ للباغِى والعادِى، وهذا في مَعْناه. ولأنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ [للإعانةِ على المَقْصُودِ المُباحِ، تَوَصُّلًا إلى المَصْلَحَةِ، فلو شُرِعَ ههُنا لشُرِعَ] (¬3) إعانَةً على المُحَرَّمِ، تَحْصِيلًا للمَفْسَدَةِ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في المسح على الخفين للمسافر والمقيم، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 142. كما أخرجه النسائى، في: باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 71. وابن ماجه، في: باب الوضوء من النوم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 161. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 239، 240. (¬2) سورة البقرة 173. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عن هذا، والنُّصوصُ وَرَدَتْ في حَقِّ الصحابةِ، وكانت أسْفارُهم مُباحَةً، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ فيما خالَفَها، ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه على ذلك جَمْعًا بينَ النُّصوصِ، وقِياسُ سَفَرِ المَعْصِيَةِ على الطَّاعَةِ لا يَصِحُّ. فصل: إذا غُرِّبَ في الحَدِّ إلى مَسافَةِ القَصْرِ، جَازَ له القَصْرُ وسائرُ الرُّخَصِ، وكذلك إذا نُفِىَ قاطِعُ الطَّرِيقِ؛ لأنَّه سَفَرٌ لَزِمَه بالشَّرْعِ، أشْبَه سَفَرَ الغَزْوِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: ويَحْتَمِلُ أن لا يَقْصُرَ؛ لأنَّه سَفَرٌ [سَبَبُه المَعْصِيَةُ، أشْبَه سَفَرَ المَعْصِيَةِ، ولأنَّه ليس بأحْسَنَ حَالًا مِن سَفَرِ النُّزْهَةِ، وفيه رِوايَتان، فيُخَرَّجُ ههُنا مِثْلُه] (¬1). والأولُ أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بينَ هذا وبينَ سَفَرِ المَعْصِيَةِ؛ لأنَّ ذلك تَصِحُّ التَّوْبَةُ منه، بخِلافِ هذا. وإن هَرَب المَدِينُ مِن غُرَمائِه وهو مُعْسِرٌ قصَر، وإن لم يكنْ مُعْسِرًا، والدَّيْنُ حالٌ، أو مُؤَجَّلٌ يَحِلُّ قبلَ مُدَّةِ السَّفَرِ، احْتَمَلَ وَجْهَين، ذَكَرهما ابنُ عَقِيل؛ أحَدُهما، لا يَقْصُرُ؛ لأنَّه سَفَر يَمْنَعُ حَقًّا واجِبًا عليه. والثَّانِى، يَقْصُرُ؛ لأنَّه نَوْعٌ غَيْرُه (¬1)، فلا يَتَوَجَّهُ عليه كقبلِ (¬2) المُطالَبَةِ. فصل: فإن عَدِم الماءَ في سَفَرِ المَعْصِيَةِ لَزِمَه التَّيَمُّمُ؛ لأنَّه عَزِيمَةٌ. وهل تَلْزَمُه الإعادَةُ؟ على وَجْهَيْن؛ أحَدُهُما، لا تَلْزَمُه؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، بدَلِيلِ وُجُوبِه، والرُّخَصُ لا تَجِبُ. والثّانِى، عليه الإعادَةُ؛ لأنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بالسَّفَرِ، أشْبَهَ بَقِيَّةَ الرُّخَصِ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه أتَى بما أُمِرَ به، فلم ¬

(¬1) في م: «حبس». وفى ص: «جنس». (¬2) في م: «قبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَلْزَمْه الإِعادَةُ، وفارَقَ بَقِيَّةَ الرُّخَص، لأنَّه مَمْنُوعٌ منها، [وهذا مَأْمُورٌ به، فلا يُمْكِنُه تَعْدِيَةُ حُكْمِها إلى التَّيَمُّمِ. وقَوْلُهم: إن ذلك مُخْتَصٌّ بالسَّفَرِ. مَمْنُوعٌ] (¬1) ويُباحُ له المَسْحُ يَوْمًا ولَيْلَةً؛ لأنَّ ذلك [لا يَخْتَصُّ السَّفَرَ] (¬2)، أشْبَهَ الاسْتِجْمَارَ. وقيلَ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه رُخْصَةٌ، فلم يُبَحْ كَرُخَصِ السَّفَرِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما بَيَّنّا. فصل: وإذا كان السَّفَرُ مُباحًا فغَيَّرَ نِيَّتَه إلى المَعْصِيَةِ، انْقَطَعَ التَّرَخُّصُ؛ لزَوالِ سَبَبِه. ولو كان لمَعْصِيةٍ، فغَيَّرَ نِيَتّهَ إلى المُباح [أُبيحَ له ما يُباحُ] (¬3) في السَّفَرِ المُباحِ. وتُعْتَبَرُ مَسافَةُ القَصْرِ مِن حينَ غَيَّرَ النِّيَّةَ؛ لأنَّ وُجُودَ ما مَضَى مِن سَفرِه لا يُؤَثِّرُ في الإباحَةِ، فهو كعَدَمِه. فأمَّا إن كان السَّفَرُ مُباحًا، لَكِنَّه يَعْصِى فيه، أُبيحَ له التَّرَخُّصُ؛ لأنَّ السَّبَبَ السَّفَرُ، وهو مُباحٌ، وقد وُجِدَ، فيَثْبُتُ حُكْمُه، ولم تَمْنَعْه المَعْصِيَةُ، كَمَا أنَّ المَعْصِيَةَ في الحَضَرِ لا تَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فيه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يختص بالسفر». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفى سَفَرِ التَّنَزُّهِ والتَّفَرُّجِ روايَتان، إحْداهما، يُبِيحُ التَّرَخُّصَ. وهو ظاهِرُ كَلام الخِرَقِىِّ، لأنَّه مُباحٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النُّصُوصِ، وقِيَاسًا على سَفَرِ التِّجَارَةِ. والثانيةُ، لا يَتَرَخَّصُ فيه، لأنَّه إنَّما شُرِعَ إعانةً على تَحْصِيلِ المَصْلَحَةِ، ولا مَصْلَحَةَ في هذا. والأولُ أوْلَى. فصل: فإن سافَرَ لزِيارَةِ القُبُورِ والمَشاهِدِ، فقال ابنُ عقيل: لا يُباحُ له التَّرَخُّصُ، لأنَّه مَنْهِىٌّ عن السَّفَرِ إليها، لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال شيخُنا (¬2): ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، وباب مسجد بيت المقدس، من كتاب مسجد مكة، وفى: باب حج النساء، من كتاب جزاء الصيد، وفى: باب الصوم يوم النحر، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 2/ 76، 77، 3/ 25، 56. ومسلم، في: باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، وباب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 975، 976، 1014. كما أخرجه أبو داود، في: باب في إتيان المدينة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 469. والترمذى، في: باب ما جاء في أى المساجد أفضل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 123. والنسائى، في: باب ما تشد الرحال إليه من المساجد، من كتاب المساجد، وفى: باب ذكر الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 2/ 31، 93، 94. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 452. والدارمى، في: باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 330. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الساعة التى في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 108، 109. والامام أحمد، في: المسند 2/ 234، 238، 278، 501، 3/ 7، 34، 45، 51، 52، 53، 64، 71، 77، 78، 93، 6/ 7، 398. (¬2) في: المغنى 3/ 117.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحِيحُ إباحَتُه، وجَوازُ (¬1) التَّرَخُّصِ فيه، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَأْتِى قُباءَ راكِبًا وماشِيًا، وكان يَزُورُ القُبُورَ، وقال: «زُورُوهَا تُذَكِّرْكُمُ الْآخِرَةَ» (¬2). والحديثُ المَذْكُورُ مَحْمُولٌ على نَفْىِ الفَضِيلَةِ، لا على التَّحْرِيم (¬3)، وليستِ الفَضِيلَةُ شَرْطًا في إباحَةِ. القَصْرِ، فلا يَضُرُّ انْتِفاؤُها. ¬

(¬1) في م: «وجوز». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استئذان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 671. وأبو داود، في: باب في زيارة القبور، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 195. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 274. والنسائى، في: باب زيارة قبر المشرك، من كتاب الجنائز، وفى: باب الإذن في ذلك، من كتاب الضحايا. المجتبى 4/ 74، 7/ 207. وابن ماجه، في: باب ما جاء في زيارة القبور، وباب ما جاء في زيارة قبور المشركين، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 500، 501. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 441، 5/ 355. (¬3) النفى يقتضى التحريم، لأنه نفى بمعنى النهى، وقد جاء النهى صريحا في رواية: «لا تشدوا» وهو يدل على التحريم صراحة، وهذا يرد ما ذكره المصنف من حمل النفى على نفى الفضيلة، أما زيارة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لقباء، وزيارته للقبور، فهذا بدون سفر، على أن زيارة قباء زيارة مسجد، ومسجد قباء من المساجد التى تشرع زيارتها، وأما شد الرحال بقصد التقرب والعبادة، فلا تشرع إلا إلى المساجد الثلاثة، التى ورد النص فيها. واللَّه أعلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فضل: الشَّرْطُ الثَّانِى: أن تكونَ مَسافَةُ سَفَرِه سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا فما زاد. قال الأثْرَمُ: قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: في [كَمْ تُقْصَرُ] (¬1) الصلاةُ؟ قال: في أرْبَعَةِ بُرُدٍ. قيلَ له: مَسِيرَةُ يومٍ تامٍّ؟ قال: لا، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ. والفَرْسَخُ: ثَلَاثةُ أمْيَالٍ. قال القاضى: والمِيلُ: اثْنَا عَشَرَ ألْفَ قَدَمٍ، وذلك مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قاصِدَيْن. وقد قَدَّرَه ابنُ عباسٍ مِن عُسْفانَ (¬2) إلى مَكَّةَ. ومِن الطّائِفِ إلى مَكَّةَ، ومن جُدَّةَ إلى مَكَّةَ (¬3). وذكر صاحِبُ المَسَالِكِ (¬4)، أنَّ من دِمشقَ إلى القُطَيِّفَة أرْبَعَةً وعِشْرِينَ مِيلًا، ومِن دِمَشْقَ إلى الكُسْوَةِ اثْنَىْ عَشَرَ مِيلًا، ومِن الكُسْوَةِ ¬

(¬1) في م: «حكم القصر». (¬2) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. محجم البلدان 3/ 673. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 524. (¬4) أى ابن خرداذبه أبو القاسم عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، المتوفى في حدود سنة ثلاثمائة. والنقل عنه في المسالك والممالك 76، 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي جاسِمٍ أرْبَعَةً وعشرين ميلاً. فعلى هذا تكونُ مَسافَةُ القَصْرِ يَوْمَيْن قاصِدَيْن. وهذا قولُ ابنِ عباس، وابنِ عمرَ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنه يَقْصُرُ في مَسِيرَةِ عَشرَةِ فَراسِخَ. حكاه ابنُ المُنْذِرِ. ورُوِىَ نَحْوُه عن ابنِ عباسِ، أنه قال: يَقْصُرُ في يَوْمٍ، ولاْ يَقْصُرُ فيما دُونَه. وإليه ذَهَب الأوْزاعِىُّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: عامَّةُ العُلَماءِ يَقُولون: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍ. وبه نَأْخُذُ. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه يَقْصُرُ في مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أيَامٍ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثةَ أيَّامٍ ولَيَالِيهِنَّ» (¬1). وهذا يَقْتَضِى أنَّ كُلَّ مُسافِرٍ له ذلك، ولأنَّ الثَّلَاثةَ مُتَّفَقٌ عليها، وليس في ما دُونَها تَوْقِيف ولا اتِّفاقٌ. ورُوِىَ عن جَماعَة مِن السَّلَفِ ما يَدُلُّ على جَوازِ القَصْرِ في أقَلَّ مِن يَوْمٍ. فقال الأوْزاعِىُّ: كان أَنَسٌ يَقْصُرُ فيما بَيْنَه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينَ خَمْسَةِ فَراسِخَ. وكان قَبِيصَةُ بنُ ذُؤيْبٍ (¬1)، وهانِئُ بنُ كُلْثُومٍ (¬2)، وابنُ مُحَيْرِيزٍ (¬3) يَقْصُرُون فيما بينَ الرَّمْلَةِ وبَيْتِ المَقْدِسِ (¬4). ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه خَرَج مِن قَصْرِهِ بالكُوفَةِ حتى أتى النُّخَيْلَةَ (¬5)، فصَلَّى بها الظُّهْرَ والعَصْر رَكْعَتَيْن، ثمْ رَجَع مِن يَوْمِه، فقال: أرَدْتُ أن أعَلِّمَكُم سُنَّتَكَم. ورُوِىَ أنَّ دِحْيَة الكَلْبِىَّ خَرَج مِن قَرْيَةٍ مِن دِمَشْقَ مَرَّةً إلى قَدْرِ ثَلَاثَةِ أمْيالٍ في رمضانَ، ثم إنَّه أفْطر وأفْطر معه أُنَاسٌ كَثِيرٌ، وكَرِهَ آخَرونَ أن يُفْطِرُوا، فلمَّا رَجَعَ إلى قَرْيته، قال: واللَّه لقد رَأيْتُ اليَوْمَ أمْرًا ما كُنْتُ أظُنُّ أنِّى أرَاهُ، إنَّ قوْمًا رَغِبُوا عن هَدْىِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. يَقُولُ ذلك للَّذِينَ صامُوا. رَواه أبو داودَ (¬6). وعن أبى سعيدٍ ¬

(¬1) أبو سعيد قبيصة ببن ذؤيب بن عمرو الخزاعى، من فقهاء التابعين بالمدينة، توفى سنة سبع وثمانين. طبقات الفقهاء، للشيرازى 62. (¬2) هانئ بن كلثوم بن عبد اللَّه، ويقال ابن حبان الكنانى العابد، من كبار التابعين توفى في خلافة عمر بن عبد العزيز. تهذيب التهذيب 11/ 22. (¬3) أبو محيريز عبد اللَّه بن محيريز بن جنادة الجمحى، تابعى ثقة، وقيل: له صحبة. توفى سنة تسع وتسعين. تهذيب التهذيب 6/ 22، 23. (¬4) بين الرملة وبيت المقدس ثمانية عشر ميلًا. المسالك والممالك 78. (¬5) النخيلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام. معجم البلدان 4/ 771. (¬6) في: باب قدر مسيرة ما يفطر فيه، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 562، 563. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 398.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُدْرِىِّ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سافَرَ فَرْسَخًا. قَصَرَ الصلاةَ (¬1). رَواه سعيد. واحْتَجَّ أصحابُنا بقَوْلِ ابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ: يا أهْلَ مَكةَ، لا تَقْصُرُوا في أدْنَى مِن أرْبَعَةِ بُرُدٍ، ما بينَ عُسْفانَ إلى مَكَّةَ (¬2). قال الخَطَّابِىُّ (¬3): وهو أصَحُّ الرِّوايَتَيْن عن ابنِ عمرَ. ولأنَّها مَسافَةٌ تَجْمَعُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ، مِن الحَلِّ والعَقْدِ، فجازَ القَصْرُ فيها، كالثَّلاثِ، ولم يَجُزْ فيما دُونَها؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ دَلِيلٌ بوُجُوبِ القَصْرِ فيه. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في مسيرة كم يقصر الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 442، 443. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما يجب فيه قصر الصلاة، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 148. والدارقطنى، في: باب قدر المسافة التى تقصر في مثلها وقدر المدة، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطنى 1/ 387. (¬3) في: معالم السنن 1/ 262.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَدِيثُ أبى سعيدٍ يُحْمَلُ على أنَّه عليه السّلامُ كان إذا سافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا قَصَرٍ إذا (¬1) بَلَغ فَرْسَخًا. قال شيخُنا (¬2): ولا أرى لِما صار إليه الأئِمَّةُ حُجَّةٌ؛ لأنَّ أقْوالَ الصَّحابَةِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَعارِضَةٌ، ولا حُجَّةَ فيها مع الاخْتِلَافِ. ثم لو لم يُوجَدْ ذلك لم يَكُنْ قوْلُهم حُجَّةً مع قَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفِعْلِه. وإذا لم تَثْبُتْ أقوالُهم امْتَنَعَ المَصِيرُ إلى التقْدِيرِ الذى ذَكَرُوه، لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه مُخالِفٌ للسُّنَّةِ التى رَوَيْناها، ولظاهِرِ القُرْآنِ؛ فإنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ إباحَةُ القَصْرِ لمَن ضَرَب في الأرْضِ. فأمَّا قَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يَمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلَاَثةَ أيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ». فإنَّما جاء لبَيانِ أكْثَرِ مُدَّةِ المَسْحِ، فلا يَصِحُّ الاحْتِجاجُ به ههُنا. على أنه يُمْكِنُه قَطعُ المَسافَةِ ¬

(¬1) في م، ص: «وإذا». (¬2) في: المغنى 3/ 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَصِيرَةِ في ثَلَاثَةِ أيام، وقد سَمَّاه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَفَرًا، فقال: «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوْم الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم إلَّا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» (¬1). والثَّانى، أنَّ التَّقْدِيرَ بَابُه التَّوْقِيفُ، فلا يَجُوزُ المَصِيرُ إليه برأىٍ مُجَرَّدٍ، سِيَّما وليس له أصْل يُرَدُّ إليه، ولا نَظِيرٌ يُقاسُ عليه، والحُجَّةُ مع مَن أباح القَصْرَ لكلِّ مُسافِرٍ، إلَّا أن يَنْعَقِدَ الإجْماعُ على خِلافِه. فصل: وحُكْمُ سَفَرِ البحرِ حُكْمُ سَفَرِ البَرِّ، إن بَلَغَتْ [مَسافَةُ سفَرِه] (2) مَسافةَ القَصْرِ، [أُبيحَ له، وإلَّا فلا، سَواءٌ قَطَعَه فِى زَمَنٍ طَوِيلٍ أو قَصِيرٍ، اعْتِبارًا بالمَسافَةِ] (¬2). وإن شَكَّ في كَوْنِ السَّفَرِ مُبِيحًا أوْلا لم يُبَحْ؛ لأن الأصْلَ عَدَمُه ووُجُوبُ الإِتْمامِ. فإن قَصَر لم تَصِحَّ صَلاتُه، وإن تَبَيَّنَ له بعدَها أنَّه طَوِيلٌ؛ لأنَّه صَلَّى مع الشَّكِّ، فلم تَصِح صَلاتُه، كما لو صَلَّى شاكًّا في دُخُولِ الوَقْتِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب في كم يقصر الصلاة، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 2/ 54. مسلم، في: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 977. وأبو داود، في: باب في المرأة تحج بغير محرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 400. والترمذى، في: باب كراهية أن تسافر المرأة وحدها، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 2/ 119، 120. وابن ماجه، في: باب المرأة تحج بغير ولى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 968. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 979. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 251، 423، 437، 445، 493، 506. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والاعْتِبارُ بالنِّيَّةِ لا بالفِعْلِ، فيُعْتَبَرُ أن يَنْوِىَ مَسافَةَ القَصْرِ، فلو خَرَج يَقْصِدُ سَفَرًا بَعِيدًا، فقَصَرَ الصلاةَ، ثم بَدا له فرَجَعَ، كان ما صَلَّاه صَحِيحًا، ولا يَقْصُرُ في رُجُوعِه، إلَّا أن تَكونَ مَسافَةُ الرُّجُوعِ مُبِيحَةً بنَفْسِها. نَصَّ أحمدُ على هذا. ولو خَرَج طَالِبًا لعَبْدٍ آبِقٍ، لا يَعْلَمُ أين هو، أو مُنْتَجِعًا غَيْثًا أو كَلأً متى وَجَدَه أقَامَ، أو سائِحًا في الأرْضِ لا يَقْصِدُ مَكانًا، لم يُبَحْ له القَصْرُ، وإن سار أيّامًا. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يُباحُ له القَصْرُ إذا بَلَغ مَسافَةَ القَصْرِ؛ لأنَّه سافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا. ولَنا، أنَّه لم يَقْصِدْ مَسافَةَ القَصْرِ، فلم يُبَحْ له، كابْتِداءِ سَفَرِه، ولأنَّه سَفَرٌ لم يُبَحِ القَصْرُ في ابْتِدائِه، فلم يُبَحْ في أثْنائِه، إذا لم يُغَيِّرْ نِيَّتَه، كالسَّفَرِ القَصِيرِ، وسَفَرِ المَعْصِيَة. ومتى رَجَع هذا يَقصِدُ بَلَدًا، أو نَوَى مسافةَ القَصْرِ، فله القَصْرُ؛ لوُجُودِ النِّيَّةِ المُبِيحَةِ. ولو قصَد بَلَدًا بَعِيدًا، وفى عَزْمِه أنَّه متى وَجَد طِلْبَتَه دُونَه رَجَع أو أقَامَ، لم يُبَحْ له القَصْرُ؛ لأنَّه لم يَجْزِمْ بسَفَرٍ طَوِيلٍ. وإن كان لا يَرْجِعُ ولا يُقيمُ بوُجُودِه، فله القَصْرُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن خَرَج إلى سَفَرٍ مُكْرَهًا، كالأسِيرِ، فله القَصْرُ إذا كان سَفَرُه بَعِيدًا. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعىُّ: لا يَقْصُرُ؛ لأنَّه غيرُ نَاوٍ للسَّفَرِ ولا جازِمٍ به، فإنَّ نِيَّتَه متى أفْلَتَ رَجَع. ولَنا، أنَّه مُسافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا غيرَ مُحَرَّمٍ، فأُبِيحَ له القَصْرُ، كالمَرْأَةِ مع زَوْجِها، والعَبْدِ مع سَيِّدِه، إذا كان عَزْمُهما أنَّه لو مات أو زال مُلْكُهما، رَجَعا. وقِياسُهم مُنْتَقِضٌ بهذا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُتِمُّ إذا صار في حُصُونِهم. نَصَّ عليه أيضًا؛ لأنَّه قد انْقَضَى سَفَرُه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه الإِتْمَامُ؛ لأنَّ في عَزْمِه أنَّه متى أفْلَتَ رَجَع، فهو كالمَحْبُوسِ ظُلْمًا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أنَّ القَصرَ يَخْتَصُّ الربَاعِيَّةَ، فأمَّا المَغْرِبُ والصُّبْحُ فلا قَصْرَ فيهما. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أن لا يَقصُرَ في صلاةِ المَغْرِبِ والصُّبْحِ، وأنَّ القَصْرَ إنَّما هو في الرُّبَاعِيَّةِ، ولأنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتان، فلو قُصِرَتْ صارَتْ رَكْعَةً، وليس في الصَّلَواتِ رَكْعَةٌ إلَّا الوِتْرَ، والمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهارِ، فإن قُصِرَ منها رَكْعَةٌ لم تَبْقَ وِترًا، وإن قُصِرَ رَكْعَتان كان إجْحافًا بها، وإسْقاطًا لأَكْثَرِها.

601 - مسألة: (إذا جاوز بيوت قريته، أو خيام قومه)

إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ، أَوْ خيَامَ قَوْمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 601 - مسألة: (إذا جاوَزَ بُيُوتَ قَرْيته، أو خِيامَ قَوْمِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه ليس لمن نَوَى السَّفَرَ القَصْرُ حتى يَشْرَعَ في السَّفَرِ بخُرُوجِه مِن بُيُوتِ قَرْيته. وهذا قَوْلُ مالكٍ (¬1)، والشافعىِّ، والأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ. وحُكِىَ ذلك عن جَماعَةٍ مِن التَّابِعِين. وحُكِىَ عن عَطاءٍ، وسليمانَ بنِ موسى، أنَّهما أباحا القَصْرَ في البَلدِ لمَن نَوَى السَّفَرَ. وعن الحارثِ بن أبى رَبِيعَةَ، أنه أراد سَفَرًا، فصَلَّى بهم في مَنْزِلِه رَكْعَتَيْن، وفيهم الأسْوَدُ ابنُ يَزِيدَ وغيرُه مِن أصْحابِ عبدِ اللَّهِ. وروَى عُبَيْدُ بنُ جُبَيْرٍ (¬2)، قال: رَكِبْتُ مع أبى بَصْرَةَ الغِفارِىِّ في سَفِينَةٍ مِن الفُسْطاطِ، في شَهْرِ رمضانَ، فدَفَعَ، ثم قُرِّبَ غَدَاه، فلم يُجاوِزِ البُيُوتَ حتى دَعَا بالسُّفْرَةِ، ثم قال: اقْتَرِبْ. قُلْتُ: ألَسْتَ تَرَى البُيُوتَ؟ قال أبو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عن سُنَّةِ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فأَكَلَ. رَواه أبو داودَ (¬3). ولَنا، قولُه تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. ولا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «حنين». (¬3) في: باب متى يفطر المسافر إذا خرج، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 562.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 398. وانظر: عون المعبود 2/ 293، في تعليقه على «فدفع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ ضاربًا [في الأرض] (¬1) حتى يَخْرُجَ. وقد رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه إنَّما كان يَبْتَدِئُ القَصْرَ إذا خَرَج مِن المَدِينَةِ (¬2). فرَوَى أنَسٌ قال: صَلَّيْتُ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمَدِينَةِ أرْبَعًا، وبذى الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فأمَّا أبو بَصْرَةَ، فإنَّه لم يَأْكُلْ حتى دَفَع، بدَلِيلِ قوْلِ عُبَيْدٍ له: ألَسْتَ تَرَى البُيُوتَ؟ وقولُه: لم يُجاوِزِ البُيوتَ: مَعْناه لم يَيْعُدْ منها. إذا ثَبَت هذا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرج نحوه البخارى، في: ترجمة باب يقصر إذا خرج من موضعه، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 2/ 54. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب من بات بذى الحليفة حتى أصبح، وباب رفع الصوت بالإهلال، وباب التحميد والتسبيح. . . إلخ، وباب نحر البدن قائمة، من كتاب. الحج، وفى: باب الخروج بعد الظهر، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 170، 210، 4/ 59. ومسلم، في: باب صلاة المسافرين وقصرها، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 480.كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 411. والنسائى، في: باب صلاة العصر في السفر، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 192.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَجُوزُ القَصْرُ، وإن كان قَرِيبًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، أنَّ للذى يُرِيدُ السَّفَرَ أن يَقْصُرَ الصلاةَ إذا خَرَج مِن بُيوتِ القَرْيَةِ التى يَخْرُجُ منها. وروِىَ عن مُجاهِدٍ، أنَّه قال: إذا خَرَجْتَ مُسافِرًا فلا تَقْصُرِ الصلاةَ يَوْمَكَ ذلك إلى اللَّيْلِ، وإذا رَجَعتَ فلا تَقْصُرْ لَيْلَتَكَ حتى تُصْبِحَ. والآيَةُ تَدُلُّ على خِلافِ قَوْلِه. ورُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا خَرَج مِن المَدِينَةِ لا يَزِيدُ على رَكْعَتَيْن حتى يَرْجِعَ إليها (¬1). وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ أبى بَصْرةَ. وقال البخارِي: خَرَج علىٌّ فقَصَر وهو يَرَى البُيوتَ، فلمَّا رَجَع قِيلَ له: هذه الكُوفَةُ. قال: لا حتى نَدْخُلَها (¬2). فصل: فإن خَرَج مِن البَلَدِ، وصار بينَ حِيطانِ بَساتِينه، فله القَصْرُ؛ لأنَّه قد تَرَك البُيوتَ وراءَ ظَهْرِه. وإن كان حَوْلَ البَلَدِ خَرابٌ قد تَهَدَّمَ وصار فَضاءً، أُبِيحَ القَصْرُ فيه كذلك (¬3). وإن كانت حِيطانُه قائِمةً، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوتر في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 377. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 124. (¬2) رواه البخارى معلقا، في: باب يقصر إذا خرج من موضعه، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 2/ 54. (¬3) في الأصل: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكذلك، قاله الآمِدِىُّ. وقال القاضى: لا يُباحُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ السُّكْنَى فيه مُمْكِنَة، أشْبَهَ العامِر. ولَنا، أنَّها غيرُ مُعَدَّةٍ للسُّكْنَى، أشْبَهَتْ حِيطانَ البَساتينِ. وإن كان في وَسَطِ البَلَدِ نَهْر فاجْتازَه، فليس له القَصْرُ؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ مِن البَلَدِ، ولم يُفارقِ البُنْيانَ، فأَشْبَهَ الرَّحْبَةَ والمَيْدانَ في وَسَطِ البَلَدِ. وإن كان للبَلَدِ مَحَالٌّ، كلُّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدَةٌ عن الأُخْرَى كبَغْدادَ، فمتى خَرَج مِن مَحَلَّتِه أُبِيحَ له القَصْرُ إذا فارَقَ مَحَلَّتَه. وإن كان بعضُها مُتَّصِلًا ببَعْض، لم يَقْصُرْ حتى يُفارِقَ جَمِيعَها (¬1). ولو كانت قَرْيَتان مُتَدانيَتَيْن، فاتَّصَل بِناءُ إحْداهما بالأُخْرَى، فهما كالواحِدَةِ، وإن لم يَتَّصِلْ، فلكلِّ قَرْيةٍ حُكْمُ نَفْسِها. فصل: وحُكْمُ السَّفَرِ مِن الخِيامِ والحِلَلِ حُكْمُ السَّفَرِ مِن القُرَى فيما ذَكَرْنا، متى فارَقَ حِلَّتَه قَصَرَ، وإن كانت حِلَلًا، فلكلِّ حِلَّةٍ حُكْمُ نَفْسِها، كالقُرَى. وإن كان بَيْتُه مُنْفَرِدًا، فحتى يُفارِقَ مَنْزِلَه ورَحْلَه، ويَجْعَلَه وراءَ ظَهْرِه، كالحَضَرِىِّ. وقال القاضى: إن كان نازِلًا في وادٍ ¬

(¬1) في م: «جميعا».

602 - مسألة: (وهو أفضل من الإتمام، وإن أتم جاز)

وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الإِتْمَامِ، وَإِنْ أَتَمَّ جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسافَرَ في طُولِه فكذلك، وإن سافَرَ في عَرْضِه فكذلك إن كان واسِعًا، وإن كان ضَيِّقًا لم يَقْصر حتى يَقْطَعَ عَرْضَ الوَادِى ويُفارِقَه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: متى كانت حِلَّتُه في وادٍ لم يَقْصُرْ حتى يُفارِقَه. والأَوْلَى جَوازُ القَصْرِ إذا فارَقَ البنيانَ مُطْلَقًا، لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، كما لو كان نازِلًا في الصَّحْرَاءِ، ولأنَّ المَعْنَى المُجَوِّزَ للتَّرَخُّص وُجُودُ المَشَقَّةِ، وذلك مَوْجُودٌ في الوَادِى، كوُجُودِه في غيرِه. 602 - مسألة: (وهو أَفْضَلُ مِن الإِتْمامِ، وإن أَتَمَّ جاز) القَصْرُ أفْضَلُ من الإِتْمامِ في قولِ جُمْهُورِ العُلَماءِ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ فيه إلَّا الشافعىَّ في أحَدِ قَوْلَيْه، قال: الإتمَامُ أفْضَلُ، لأنَّه أكثرُ عَمَلًا وعَدَدًا، وهو الأصْلُ، فكان أفْضَلَ، كغَسْلِ الرِّجْلَيْن. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُدَاوِمُ على القَصْرِ، قال ابنُ عمرَ: صَحِبْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في السَّفَرِ، فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن حتى قَبَضَه اللَّهُ، وصَحِبْتُ أبا بكرٍ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن حتى قَبَضَه اللَّهُ، وصَحِبْتُ عُمَرَ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن حتى قَبَضَه اللَّهُ. مُتَّفَقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). ولمّا بَلَغ ابنَ مسعودٍ أنَّ عثمانَ صَلَّى أرْبَعًا، اسْتَرْجَعَ، وقال: صَلَّيْتُ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْعَتَين، ومع أبى بكرٍ رَكْعَتَين، ومع عمرَ رَكْعَتَيْنِ. ثم تَفَرقَتْ بكم الطرقُ، ولوَدِدْتُ أنَّ حَظِّى مِن أرْبعٍ رَكْعَتان مُتَقَبَّلَتان (¬2). وقد كَرِهَ طائِفَة مِن الصَّحابَةِ الإِتْمَامَ، فقال ابنُ عباسٍ للذى قال له: كُنْتُ. أُتِمُّ الصلاةَ وصَاحِبى يَقْصُرُ: أنتَ الذي كُنْتَ تَقْصُرُ وصاحِبُكَ يتمُّ (¬3). ورُوِىَ أنَّ رَجُلًا سَأَل ابنَ عُمَرَ عن صلاةِ السَّفَرِ، فقال: رَكْعَتان، فمَن خالَفَ السُّنَّةَ كَفَر (¬4). ولأنَّه إذا قَصَر أدَّى الفَرْضَ بالإِجْمَاعِ، بخِلافِ الإِتْمَامِ، وأمَّا الغَسْلُ فلاْ نُسَلِّمُ أنه أفْضَلُ مِن المَسْحِ. ¬

(¬1) تقدم في صفحة 27. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة بمنى، من كتاب التقصير، وفى: باب الصلاة بمنى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 53 - ، 54، 197، 198. ومسلم، في: باب قصر الصلاة بمنى، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 483. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بمنى، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 454. والدارمى، في: باب الصلاة بمنى، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 55. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 416، 425، 464. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 561. عن ابن عمر بنحوه. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصلاة في السفر، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 520. وابن أبى شيبة، في: باب من كان يقصر الصلاة، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 449، 450.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والإِتْمامُ جائِزٌ في المَشْهُورِ عن أحمدَ، وقد رُوِىَ عنه أنَّه تَوَقَّفَ، وقال: أنا أحِبُّ العافِيَةَ مِن هذه المَسْأَلَةِ. وقال مَرَّةً أُخْرَى: ما يُعْجِبُنِى. ومِمَّن رُوِىَ عنه الإِتْمامُ في السَّفَرِ، عثمانُ (¬1)، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وعائشةُ رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال الأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وهو المَشْهُورُ عن مالكٍ. وقال حَمَّادُ بنُ أبى سليمانَ: ليس له الإِتْمَامُ في السَّفَرِ. وهو قَوْلُ الثَّوْرِىِّ، وأبي حنيفة. وأوْجَبَ حَمَّادٌ على مَن أَتَمَّ الإِعادَةَ. وقال أصحابُ الرَّأىِ: إن كان جَلَس بعدَ الرَّكْعَتَيْن قَدْرَ التَّشَهُّدِ فصلاُته صَحِيحَةٌ، وإلَّا فلا. وقال عُمَرَ بنُ عبدِ العزيزِ: الصلاةُ في السَّفَرِ رَكْعَتانِ حَتْمٌ (¬2)، لا يَصْلُحُ غيرُهما. واحْتَجُّوا بأنَّ صلاةَ السَّفَرِ رَكْعَتان بدَلِيلِ قولِ عائشةَ: إنَّ الصلاةَ أوَّلَ ما فُرِضَتْ رَكْعَتَيْن، فأُقِرَّتْ صلاةُ السَّفَرِ، وأُتِمَّتْ صلاةُ الحَضَرِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وقال عمرُ رَضِىَ اللَّه عنه: صلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتان، وصَلَاةُ الجُمُعَةِ رَكْعتانِ، وصَلَاةُ العِيدِ رَكْعَتانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ على لِسانِ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد خاب مَن افْتَرَى. رَواه ابنُ ماجه (¬4). وسُئِلَ ابنُ عمرَ عن الصلاةِ في السَّفرِ، فقال: رَكْعَتانِ، ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) في م: «حتى». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 29. (¬4) في: باب تقصر الصلاة في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 338.كما أخرجه النسائى، في: باب تقصير الصلاة في السفر، من كتاب القصر، وفى: باب عدد صلاة العيدين، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 97، 149. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَن خالَفَ السُّنَّةَ كَفَر. ولأنَّ الرَّكْعَتَيْن الأُخْرَيَيْن يَجُوزُ تَرْكُهما إلى غيرِ بَدَلٍ، فلم يَجُزْ زِيادَتُهما على الرَّكْعَتَيْن المَفْروضَتَيْن، كالزِّيادَةِ على صلاةِ الفَجْرِ. ولَنا، قَولُه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. وهذا يَدُل على أنَّ القَصْرَ رُخْصَةٌ يُتَخَيَّرُ بينَ فِعْلِه وتَرْكِه، كسائرِ الرُّخَص. وقَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديثِ يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ: «صَدَقَة تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقتَهُ» (¬1). يَدُلُّ على أنه رُخْصَة، وليس بعَزِيمَةٍ. وقالت عائشةُ: خَرَجْتُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في عُمْرَةٍ في رمَضانَ، فأفْطَرَ وصُمْتُ، وقَصَر وأَتمَمْتُ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّه، بأبى أنت وأُمِّى، أفْطَرْتَ وصُمْتُ، وقَصَرْتَ وأَتْمَمْتُ. قال: «أحْسَنْتِ». رَواه أبو داودَ الطَّيالِسِىُّ (¬2). ولأنَّه لو ائْتَمَّ بمُقِيمٍ صَلَّى أرْبَعًا، والصلاةُ لا تَزِيدُ بالائْتِمَام. وعن أنَسٍ، قال: كُنَّا، أصحابَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نُسافرُ، فيتم بَعْضُنا، ويَقْصُرُ بَعْضُنا، ويَصُومُ بَعْضُنا، ويُفْطِرُ بَعْضُنا، فلا يَعِيبُ أحَدٌ على أحدٍ (¬3). وهذا إجْمَاعٌ منهم على جَوازِ الأمْرَيْنِ. فأمَّا قولُ عائشةَ، فُرِضَتْ الصَّلاة رَكْعَتَيْنِ. فإنَّما أرادَتْ أنَّ ابتداءَ فَرْضِها كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 26. (¬2) لم نجده في مسند أبى داود الطيالسى، وأخرجه النسائى، في: باب المقام الذى يقصر بمثله الصلاة، من كتاب التقصير. المجتبى 3/ 100، 101. ونقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كذب هذا الحديث. انظر: زاد المعاد 1/ 464، 465، 472. وانظر: إرواء الغليل 3/ 6 - 9. (¬3) لم نجده بهذا السياق. وانظر: بلوغ الأمانى شرح الفتح الربانى، للساعاتى 5/ 99.

603 - مسألة: (فإن أحرم فى الحضر ثم سافر، أو فى السفر ثم

فَإِنْ أَحْرَمَ فِى الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، أوْ فِى السَّفَرِ ثُمَّ أَقامَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكْعَتَيْنِ، ثم أُتِمَّتْ بعدَ الهِجْرَةِ، فصارَتْ أرْبَعًا، وكذلك كانت تُتِمُّ الصلاةَ، ولو اعْتَقَدَتْ ما أرادَه هؤلاء لم تُتِمَّ. وقوْلُ عمرَ: تَمامٌ (¬1) غيرُ قَصْير. [أراد بها تَمامٌ في فضلِها] (¬2)، ولم يُرِدْ أنَّها غيرُ مَقْصُورَةِ الرَّكَعاتِ (¬3)؛ لأنَّه خِلافُ ما دَلَّتْ عليه الآيَةُ والإِجْماعُ، إذ الخِلافُ إنَّما هو في القَصْرِ والإِتْمام، وقد ثَبَت برِوايته عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَدِيثِ يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ أنَّها مَقْصُورَةٌ، ثم لو ثَبَت أنَّ أَصْلَ الفَرْض رَكْعَتان لم تَمْتَنِعِ الزِّيادَةُ عليها، كما لو ائْتَمَّ بمُقِيم، ويُخالِفُ زِيادَةَ رَكْعَتَيْن على صلاةِ الفَجْرِ، فإنَّه لا يَجُوزُ زِيادَتُهما بحالٍ. 603 - مسألة: (فإن أَحْرَمَ في الحَضَرِ ثم سافَرَ، أو في السَّفَرِ ثم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أراد تمام فضلها». (¬3) في م: «الركعتان».

أوْ ذَكَرَ صَلَاةَ حَضَرٍ فِى سَفَرٍ، أوْ صَلَاةَ سَفَرٍ فِى حَضَرٍ، أوِ ائْتَمَّ بِمقِيمٍ، أوْ بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ، أوْ أحْرَمَ بصَلَاةٍ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا، فَفَسَدَتْ وَأعَادَهَا، أوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ، لَزِمَهُ أنْ يُتمَّ. وَقَالَ أبو بَكْرٍ: لَا يَحْتَاجُ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ إِلَى نِيَّةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقامَ، أو ذَكَر صلاةَ حَضَرٍ في سَفَرٍ، أو صلاةَ سَفَرٍ في حَضَرٍ، أو ائْتَمَّ بمُقِيمٍ، أو بمَن يَشُكُّ فيه، أو أَحْرَمَ بصلاةٍ يَلْزَمُه إتْمامُها، ففَسَدَتْ وأعادَها، أو لم يَنْوِ القَصْرَ، لَزِمَه أن يُتِمَّ. وقالَ أبو بكرٍ: لا يَحْتاجُ القَصْرُ والجَمْعُ إلى نِيَّةٍ) إذا أحْرَمَ بالصلاةِ في سَفِينَةٍ في الحَضَرِ، فخَرَجَتْ به في أثْناءِ الصلاةِ، أو أحْرَمَ في السَّفَرِ، فدَخَلَتْ في أثْناءِ الصلاةِ البَلَدَ، لم يَقْصُرْ؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَخْتَلِفُ بالسَّفَرِ والحَضَرِ، فإذا وُجِدَ أحَدُ طَرَفَيْهَا في الحَضَرِ غُلِّبَ حُكْمُه، كالمَسْحِ. فصل: فأمَّا إن سافَرَ بعدَ دُخُولِ الوَقْتِ، فقال أصْحابُنا: يُتِمُّ. وذَكَر ابنُ عَقِيل فيه رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، يُتِمُّ؛ لأنَّها وَجَبَتْ في الحَضَرِ، فلَزِمَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إتْمامُها، كما لو سافَرَ بعدَ خُرُوجِ وَقْتِها. والثَّانِيَةُ، له قَصْرُها. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا؛ لأنَّه سافَرَ قبلَ خُروجِ وَقْتِها، أشْبَهَ ما لو سافَرَ قبلَ وُجُوبِها، وكلابِس الخُفِّ إذا أحْدَثَ ثم سافَرَ قبلَ المَسْحِ. فصل: وإذا نَسِىَ صلاةَ حَضَرٍ، فذَكَرَها في السَّفَرِ، وَجَبَتْ عليه أرْبَعًا بالإِجْماعِ. حَكاه الإمامُ أحمدُ، وابنُ المُنْذِرِ. قال: [إلَّا أنَّه] (¬1) قد اخْتُلِفَ فيه عن الحسنِ، فرُوِىَ عنه، أنَّه قال: يُصَلِّيها رَكْعَتَيْنِ. ورُوِىَ عنه كقَوْلِ الجَماعَةِ؛ لأنَّ الصلاةَ يَتَعَيَّنُ (¬2) فِعْلُها، فلم يَجُزْ له النُّقْصانُ مِن عَدَدِها، كما لو لم يُسافِرْ. وأمّا إذا نَسِىَ صلاةَ سَفَرٍ فذَكرها في الحَضَرِ، فقال أحمدُ، في رِواية الأَثْرَمِ: عليه الإِتْمامُ احْتِياطًا. وبه قالَ الأوْزاعِىُّ، وداودُ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال مالك، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ: يُصَلِّيها صلاةَ سَفَرٍ؛ لأنَّه إنَّما يَقْضِى ما فاتَه، وهو رَكْعَتانِ. ولَنا، أنَّ القَصْرَ رُخْصَة مِن رُخَص السَّفَرِ، فَبَطَلَتْ بزَوالِه، كالمَسْحِ ثَلاثًا. ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) في م: «تغير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها وَجَبَت عليه في الحَضَرِ؛ بدَلِيلِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ تَخْتَلِفُ بالحَضَرِ والسَّفَرِ فإذا وُجِدَ أحَدُ طَرَفَيْها في الحَضَرِ غُلِّبَ حُكْمُه، كالسَّفِينَةِ إذا دَخَلتْ به البَلَدَ في أثْناءِ الصلاةِ، وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالجُمُعَةِ إذا فاتَتْ، وبالمُتَيَمِّمِ إذا فاتَتْه الصلاةُ فقَضاها عندَ وُجُودِ الماءِ. فصل: وإذا ائْتَمَّ المُسافِرُ بمُقِيمٍ، لَزِمَه الإِتْمامُ، سَواءٌ أدْرَكَ جَميعَ الصلاةِ أو بَعْضَها، وقال ابنُ أبى موسى في (¬2) رِوايةٍ: إنَّه إذا أحْرَمَ في آخِرِ صَلاِته لا يَلْزَمُه أن يُتِمَّ. قال الأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن المُسافِرِ، يَدْخُلُ في تَشَهُّدِ المُقِيمين؟ قال: يُصَلِّى أرْبَعًا. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمرَ، وابنِ عباسٍ، وجَماعَةٍ مِن التَّابِعِين. وبه. قال الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وقال إسحاقُ: للمُسافِرِ القَصْرُ؛ لأنَّها صلاةٌ يَجُوزُ فِعْلُها رَكْعَتَيْن، فلم تَزِدْ بالائْتمامِ (¬3)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 183. (¬2) في م: «فيه». (¬3) في الأصل: «بالإتمام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالفَجْرِ. وقال طاوُسٌ، والشَّعْبِىُّ، في المُسافِرِ يُدْرِكُ مِن صلاةِ المُقِيمِ رَكْعَتَيْن: تُجْزِئان. وقال الحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والزهْرِىُّ وقَتادَةُ، ومالكٌ: إن أدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ، وإن أدْرَكَ دُونَها قَصَر؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاةَ» (¬1). ولأنَّ مَن أدْرَكَ مِن الجُمُعَةِ رَكْعَةً أتَمَّها جُمُعَةً، ومَن أدْرَكَ أقَلَّ مِن ذلك لا يَلْزَمُه فَرْضُها. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّه قِيلَ لابنِ عباسٍ: ما بالُ المُسافِرِ يُصَلِّى رَكْعَتَيْن في حالِ الانْفِرادِ، وأرْبَعًا إذا أَتَمَّ بمُقِيم؟ فقال: تلك السُّنَّةُ. رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). وهذا يَنْصَرِفُ إلى سُنَّةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّه فِعْلُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابةِ، ولا يُعْرَفُ لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا، ولأنَّها صلاةٌ مَرْدُودَةٌ مِن أرْبَع إلى رَكْعَتَيْن، فلا يُصَلِّيها [خَلْفَ مَن يُصَلِّى الأرْبَعَ كالجُمُعَةِ. وما ذَكَروه لا يَصِحُّ عندَنا؛ فإنَّه لا تَصِحُّ له صلاةُ الفَجْرِ] (¬3) خلفَ مَن يُصَلِّى رُباعِيَّةً، وإدْراكُ الجُمُعَةِ يُخالِفُ ما نحن فيه؛ فإنَّه لو أدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ رَجَع إلى الرَّكْعَتَيْن، وهذا بخِلافِه، ولأنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 170. (¬2) في: المسند 1/ 216. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّما جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» (¬1). وَمُفارَقَةُ إِمامِة مع إمْكانِ مُتابَعَتِه اخْتِلافٌ عليه. فصل: وإذا أحْرَمَ المُسافِرُون خلفَ مُسافِرٍ، فأحْدَثَ واسْتَخْلَفَ مُسافِرًا، فلهم القَصْرُ. وإنِ اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَزِمَهم الإِتْمامُ، لأنَّهم ائْتَمُّوا بمُقِيم، وللإِمامِ المُحْدِثِ القَصْرُ؛ لأنَّه لم يَأْتَمَّ بمُقِيمٍ. ولو صَلَّى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 559.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَافِرُون خلفَ مُقِيم فأحْدَثَ واسْتَخْلَفَ مُسافِرًا أو مُقِيمًا، لَزِمَهم الإِتْمامُ؛ لأنَّهم ائْتَمُّوا بمُقِيمٍ. فإنِ اسْتَخْلَفَ مُسافِرًا لم يَكُنْ معهم في الصلاةِ فله أن يُصَلِّىَ صلاةَ السَّفَرِ؛ لأنَّه لم يَأْتَمَّ بمُقِيمٍ. فصل: وإذا أحْرَمَ المُسافِرُ خلفَ مَن يَشُكُّ فيه، أو مَن يَغْلِبُ على ظَنِّه أنَّه مُقِيمٌ، لَزِمَه الإِتْمامُ وإن قَصَر إمامُه؛ لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ الإِتْمامِ (¬1)، فليس له نِيةُ قَصْرِها مع الشَّكِّ في وُجُوبِ إتْمامِها، فلَزِمَه الإِتْمامُ اعْتِبارًا بالنِّيَّةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وإن غَلَب على ظَنِّه أنَّ الإِمامَ مُسافِرٌ بأمارَةِ آثارِ السَّفَرِ، فله أن يَنْوِىَ القَصْرَ، فإن قَصَر إِمامُه قَصَر معه، وإن أتَمَّ تابَعَه فيه، وإن نَوَى الإِتْمَامَ لَزِمَه الإِتْمَامُ، سَواءٌ قَصَر إِمامُه أو أتَمَّ، اعْتِبارًا بالنِّيَّة. وإن نَوَى القَصْرَ فأحْدَثَ إِمامُه قبلَ عِلْمِه بحالِه، فله القَصْرُ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ إِمامَه مُسافرٌ، لوُجُودِ دَلِيله، وقد أُبِيحَتْ (¬2) له نِيَّةُ القَصْرِ، بِناءً على هذا الظَّاهِرِ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه الإِتْمَامُ احْتِياطًا. فصل: وإذا أحْرَمَ بصلاةٍ يَلْزَمُه إِتْمامُها، مثلَ إن نَوَى الإِتْمامَ، أو ائْتَمَّ بمُقِيمٍ ففَسَدت الصلاةُ وأراد إعادَتَها، لَزِمَه الإِتْمامُ؛ لأنَّها وَجَبَتْ عليه تامَّةً بتَلبُّسِه بها خلفَ المُقِيمِ ونِيَّةِ الإِتْمَامِ. وهذا قولُ الشافعىِّ. ¬

(¬1) في م: «الائتمام». (¬2) في م: «أتيحت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: إذا فَسَدَتْ صلاةُ الإِمامِ عاد المُسافِرُ إلى القَصْرِ. ولَنا، أنَّها وَجَبَتْ بالشُّرُوعِ فيها تَامَّةً، فلم يَجُزْ له قَصْرُها، كما لو لم تَفْسُدْ. فصل: وإذا صَلَّى المُسافِرُ صلاةَ الخَوْفِ بمُسافِرِين، ففَرَّقَهم فِرْقَتَيْن، فأحْدَثَ قبلَ مُفارَقَةِ الطَّائِفَةِ الأُولَى، واسْتَخْلَفَ مُقِيمًا، لَزِم الطائِفَتَيْن الإتْمَامُ؛ لأنَّهم ائْتَمُّوا بمُقِيم. وإن كان ذلك بعدَ مُفارَقَةِ الأُولَى، أتَمَّتِ الثَّانِيَةُ وحدَها؛ لأنَّها اخْتَصتْ بمُوجِبِه. وإن كان الإِمامُ مُقِيمًا، فاسْتَخْلَفَ مُسافرًا مِمَّن كان معه في الصلاةِ، فعلى الجَمِيعِ الإِتْمامُ؛ لأنَّ المُسْتَخْلَفَ قد لَزِمَه الإِتْمَامُ باقْتِدائِه بالمُقِيمِ، فصار كالمُقِيمِ. وإن لم يَكُنْ دَخَل معه في الصلاةِ، وكان استخْلَافُه قبلَ مُفارَقَةِ الأُولَى، فعليها الإِتْمامُ؛ لائْتِمَامِها بمُقِيم، وكقَصْرِ الإِمامِ والطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ. وإنِ اسْتَخْلَفَ بعدَ دُخُولِ الثَّانِيَةِ، فعلى الجَمِيع الإِتْمامُ، وللمُستخْلَفِ القَصْرُ وحدَه؛ لأنَّه لم يَأْتَمَّ بمقِيمٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا صَلَّى مُقِيمٌ ومُسافِرٌ خلفَ مُسافِرٍ، أَتَمَّ المُقِيمُ إذا سَلَّمَ إمامُه، وذلك إجْماعٌ. وقد روَى عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ، قال: شَهِدْتُ الفَتْحَ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأَقَامَ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لا يُصَلِّى إلَّا رَكْعَتَيْن، ثم يقولُ لأهْلِ البَلَدِ: «صَلُّوا أرْبَعًا، فَإنَّا سَفْرٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأن الصلاةَ واجبَة عليه أرْبَعًا، فلم يَسْقُطْ شئٌ منها، كما لو لم يَأْتَمَّ بالمُسافِرِ. ويُسْتَحَبُّ أَن يقولَ الإِمامُ للمُقِيمِين: أَتِمُّوا، فإنَّا سَفْرٌ. كما في الحَدِيثِ، ولِئَلَّا يَلْتَبِسَ على الجاهِل عَدَدُ رَكَعاتِ الصلاةِ. وقد روَى الأْثرمُ عن الزُّهْرِىِّ، أنَّ عثمانَ إنَّما أتَمَّ لأنَّ الأعْرابَ حَجُّوا، فأراد أن يُعَرِّفَهم أنَّ الصلاةَ أرْبَعٌ. فصل: وإذا أمَّ المُسافِرُ المُقِيمِين، فأَتَمَّ بهم الصلاةَ، فصلاتُهم تامَّةٌ. وبهذا قال الشافعىُّ، وإسحاقُ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: تَفْسُدُ صلاةُ المُقِيمِين، وتَصِحُّ صلاةُ الإِمام والمُسافِرِين معه. وعن أحمدَ نحوُه. قال القاضى: لأنَّ الرَّكعَتَيْن الأخرَيَيْنَ نَفْلٌ مِن الإِمامِ، ولا يَؤُمُّ بها مُفْتَرِضِين. ولَنا، أنَّ المُسافِرَ يَلْزَمُه الإِتْمامُ بنِيَّتِهِ، فيكونُ الجَمِيعُ واجِبًا، ثم لو كانت نَفْلاً، فائْتِمامُ المُفْتَرِضِ بالمُتَنَفِّلِ صَحِيحٌ، على ما مَضَى. فصل: وإن أمَّ مُسافِرٌ مُسافِرِين، فنَسِىَ فصَلَّاها تامَّةً، صَحَّتْ صلاةُ ¬

(¬1) في: باب متى يتم المسافر، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 280.كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 4/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمِيعِ، ولا يَلْزَمُه سُجُودُ سَهْوٍ؛ لأنَّها زِيادَة لا يُبْطِلُ عَمْدُها الصلاةَ، فلا يَجِبُ السُّجُودُ لسَهْوِها، كزِياداتِ الأقْوالِ. وهل يُشرعُ السُّجودُ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْنِ فيما إذا قَرَأ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَحْتاجُ إلى سُجُودٍ؛ لأنَّه أتى بالأصْلِ. ولَنا، أنَّ هذه زِيادَةٌ نقصَتِ الفَضِيلَةَ، وأخَلَّتْ بالكَمالِ، أشْبَهَتِ القِراءَةَ في غيرِ مَحَلِّها، وقِراءَةَ (¬1) السُّورَةِ في الأُخْرَيَيْن. فإذا ذَكَر الإِمامُ بعدَ قِيامِه إلى الثَّالِثةِ، لم يَلْزَمْه الإِتْمامُ، وله أن يَجْلِسَ، فإنَّ المُوجِبَ للإِتْمامِ نِيَّتُه، أو الائْتِمامُ بمُقِيمٍ، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما. وإن عَلِم المأْمُومُ أنَّ قِيامَه لسَهْوٍ، لم يَلْزَمْه مُتابَعَتُه، ويُسَبِّحُونَ به (¬2)؛ لأنَّه سَهْو فلا يَجِبُ اتِّباعُه فيه، ولهم مُفارَقَتُه إن لم يَرْجِعْ، كما لو قام إلى ثالِثَةٍ في الفَجْرِ. وإن تابَعُوه لم تَبْطُلْ صَلاتُهم؛ لأنَّها زِيادَة لا تُبْطِلُ صلاةَ الإِمامِ، فلا تَبْطُلُ صلاةُ المَأْمُومِ بمُتابَعَتِه فيها، كزِياداتِ الأقْوالِ. وقال القاضى: تَفْسُدُ صَلاُتهم؛ لأنَّهم زادُوا رَكْعَتَيْن عَمْدًا. وإن لم يَعْلَمُوا هل قام (¬3) سَهْوًا أو عَمْدًا، لَزِمَهم مُتابَعَتُه؛ لأنَّ وُجُوبَ المُتابَعَةِ ثابِتٌ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ. فصل: ومَن لم يَنْوِ القَصْرَ لَزِمَه الإِتْمامُ؛ لأنَّ نِيَّةَ القَصْرِ شَرْطٌ في ¬

(¬1) في م: «كقراءة». (¬2) في م: «له». (¬3) في م: «قاموا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَوازِه، ويُعْتَبَرُ وُجُودُها عندَ أوَّلِ الصلاةِ، كنِيَّتها. كذلك ذَكَرَه الخِرَقِىُّ والقاضى. وقال أبو بكرٍ: لا يَحْتاجُ الجَمْعُ والقَصْرُ إلى نِيَّةٍ؛ لأنَّ مَن خُيِّرَ في العِبادَةِ قبلَ الدُّخُولِ فيها خُيِّرَ بعدَ الدُّخُولِ فيها، كالصَّوْمِ، ولأنَّ القَصْرَ هو الأصْلُ، بدَلِيلِ خَبَرِ عائشةَ، وعُمَرَ، وابنِ عباس، فلا يَحْتاجُ إلى نِيَّةٍ، كالإِتْمام في الحَضَرِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ الإِتْمام هو الأصْلُ على ما ذَكَرْنَا، وقد أَجَبْنَا عن الأخْبارِ المَذْكُورَةِ، وإطْلاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلى الأَصْلِ، ولا يَنْصَرِفُ عنه إلَّا بتَعْيِينِ ما يَصْرِفُه (¬1) إليه، كما لو نَوَى الصلاةَ مُطْلَقًا، ولم يَنْوِ إمامًا. ولا مَأْمُومًا، فإنَّه يَنْصَرِفُ إلى الانْفِرادِ، إذ هو الأصْلُ. والتَّفْرِيعُ على هذا القَوْلِ، فلو شَكَّ في أثْناءِ صَلاتِه، هل نَوَى القَصْرَ في ابتدائِها أوْ لَا، لَزِمَه الإِتْمامُ احْتِياطًا؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ. ¬

(¬1) في م: «يصرف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن ذَكَر بعدَ ذلك أنَّه قد نَوَى القَصْرَ، لم يَجُزْ له القَصْرُ؛ لأنَّه قد لَزِمَه الإِتْمامُ، فلم يَزُلْ. فصل: ومَن نَوَى القَصْرَ، ثمَّ نَوَى الإِتْمامَ، أو نَوَى ما يَلْزَمُه به الإِتْمامُ مِن الإِقامَةِ، وسَفَرِ المَعْصِيَةِ، أو نَوَى الرُّجُوعَ، ومَسافَةُ رُجُوعِه لا يُباحُ فيها القصْرُ، ونحو هذا، لَزِمَهُ الإِتْمامُ، ولَزِم مَن خَلْفَه مُتابَعَتُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا يَجُوزُ له الإِتْمامُ؛ لأنَّه نَوَى عَدَدًا، وإذا زاد عليه، حَصَلَتِ الزِّيادَةُ بغيرِ نِيَّةٍ. ولَنا، أنَّ نِيَّةَ صلاةِ الوَقْتِ قد وُجِدَتْ، وهي أرْبَعٌ، وإنَّما أُبِيحَ تَرْكُ رَكْعَتَيْن رُخْصَةً، فإذا أسْقَطَ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ،

604 - مسألة: (ومن له طريقان؛ بعيد وقريب، فسلك البعيد، أو ذكر صلاة سفر فى آخر، فله القصر)

وَمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ؛ بَعِيدٌ وَقَريبٌ، فَسَلكَ الْبَعِيدَ، أَوْ ذَكَرَ صَلاةَ سَفَرٍ فِى آخَرَ، فَلَهُ الْقَصْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتِ الصلاةُ بِنيَّتِها, ولَزِمَه الإِتْمامُ، ولأنَّ الإِتْمامَ الأصْلُ، وإنَّما أُبِيحَ تَرْكُه بشَرْطٍ، فإذا زال الشَّرْطُ عاد الأصْلُ إلى حالِه. فصل: وإذا قَصَر المُسافِرُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَ القَصْرِ، لم تَصِحَّ صَلاتُه؛ لأنَّه فَعَل ما يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَه، فلم يَقَعْ مُجْزِئًا، كمَن صَلَّى مُعْتَقِدًا أنَّه مُحْدِثٌ، ولأنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بالصَّلاةِ شَرْطٌ، وهذا يَعْتَقِدُ أنَّه عاصٍ، فلم تَصِحَّ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ. 604 - مسألة: (ومَن له طَرِيقان؛ بَعِيدٌ وقَرِيبٌ، فسَلَكَ البَعِيدَ، أو ذَكَر صلاةَ سَفَرٍ في آخَرَ، فله القَصْرُ) إذا كان لسَفَرِه طَرِيقانِ، يُباحُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَصْرُ في أحَدِهما لبُعْدِه دُونَ الآخَرِ، فسَلَكَ البَعِيدَ، ليَقْصُرَ الصلاةَ فيه، أو لغيرِ ذلك، أُبِيحَ له القَصْرُ؛ لأنَّه مُسافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا مُباحًا، فأُبِيحَ له القَصْرُ، كما لو لم يَجِدْ سِواه، وكما لو كان الآخَرُ مَخُوفًا أو شَاقًّا. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إن سَلَك الأَبْعَدَ لرَفْع أذِيَّةٍ، واخْتِلافِ نَفْعٍ قَصَرَ، قَوْلًا واحِدًا، وإن كان لا لغَرَضٍ صَحِيحٍ، خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن في سَفَرِ التَّنَزُّهِ. وقد ذَكَرْنا تَوْجِيهَهما (¬1). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن نَسِىَ الصلاةَ في سَفَرٍ وذَكَرَها فيه، قَضاها مَقْصُورَةً؛ لأنَّها وَجَبَتْ في السَّفَرِ، وفُعِلَتْ فيه، أشْبَهَ ما لو صَلّاها في وَقْتِها. وإن ذَكَرَها في سَفَرٍ آخَرَ، فكذلك؛ لِما ذَكَرْنا. وسَواءٌ ذَكَرها في الحَضَرِ أو لم يَذْكرها. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا ذَكَرَها في الحَضَرِ لَزِمَتْه تامَّةً؛ لأنَّه وَجَب عليه فِعْلُها تامَّةً بذِكْرِه إيَّاها، فبَقِيَتْ في ذِمَّتِه. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه إتْمامُها إذا ذَكَرَها في سَفَرٍ آخَرَ، سَواءٌ ذَكَرَها في الحَضَرِ أوْلَا؛ لأنَّ الوُجُوبَ كان ثابِتًا في ذِمَّتِة في الحَضَرِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ وُجُوبَها وفعلَها في السَّفَرِ، فكانَتْ صلاةَ سَفَرٍ، كما لو لم يَذكرْها في الحَضَرِ. وذَكَر بعضُ أَصحابِنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ مِن شَرْطِ القَصْرِ كَوْنَ الصَّلاةِ مُؤدَّاةً؛ لأنَّها صلاةٌ مَقْصُورَة، فاشْتُرِطَ لها الوَقْتُ، كالجُمُعَةِ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه اشتراطٌ بالرَّأْى والتَّحَكُّمِ ولم يَرِدِ الشَّرْعُ به، والقِياسُ على الجُمُعَةِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الجُمُعَة لا تُقْضَى، ويُشْتَرَطُ لها الخُطبتان والعَدَدُ والاسْتِيطانُ، فجازَ أن يُشْتَرَطَ لها الوَقْتُ، بخِلافِ هذه.

605 - مسألة: (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين

وَإِذَا نَوَى الإِقَامَةَ فِى بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً أَتَمَّ، وَإِلَّا قَصَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 605 - مسألة: (وإذا نَوَى الإِقامَةَ ببَلَدٍ أَكْثَرَ مِن إحْدَى وعِشْرِين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاةً، أتَمَّ، وإلَّا قَصَرْ) المَشْهُورُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّه، أنَّ المُدَّةَ التى يَلْزَمُ المُسافِرَ الإِتْمامُ إذا نَوَى الإِقامَةَ فيها، ما كان أَكْثَرَ مِن إحْدَى وعِشْرِين صلاةً. رَواه الأثْرَمُ، وغيرُه. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وعنه، إن نَوَى الإِقامَةَ أَكْثَرَ مِن أربَعَةِ الكلام أَتَمَّ. حَكَى هذه الرِّوايَةَ أبو الخطّابِ وابنُ عَقِيلٍ. وعنه، إذا نَوَى إقامَةَ أربَعَةِ أيام أتَمَّ، وإلَّا قَصَرَ. وهذا قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. ورُوِىَ عن عثمانَ، رَضِىَ اللَّه عنه، وعن سعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ، أنَّه قال: إذا أقمْتَ أربَعًا فصَلِّ أربَعًا؛ لأن الثَّلاثَ حَدُّ القِلَّةِ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «يُقيمُ [المُهَاجِرُ بِمَكَّةَ] (¬1). بَعْدَ قَضاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا» (¬2). فدَل على أنَّ الثّلاثَ في حُكْمِ السَّفَرِ، وما زاد في حُكْمِ الإِقامَةِ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرّأى: إن أقام خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مع ¬

(¬1) في الأصل، م: «المسافر». والمثبت من صحيح مسلم. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب جواز الإقامة بمكة. . . إلخ، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 985. والترمذي، في: باب ما جاء أن يمكث المهاجر. . . إلخ، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 174. والنسائى، في: باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، من كتاب التقصير. المجتبى 3/ 100. وابن ماجه، في: باب كم يقصر الصلاة إذا أقام ببلدة، من كتاب اقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 341. والدارمى، في: باب في من أراد أن يقيم ببلدة كم يقيم حتى يقصر الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 355. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 339، 5/ 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَوْمِ الذى يَخْرُجُ فيه أَتَمَّ، فإن نَوَى دُونَه قَصَر. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عمرَ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، واللَّيْثِ بنِ سعدٍ؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، أنَّهما قالا: إذا قَدِمْتَ وفي نَفْسِكَ أن تُقِيمَ بها خَمس عَشرةَ لَيْلَةً فأكْمِلِ الصلاةَ. ولا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنَه، قال: يتمُّ الصلاةَ الذى يُقيمُ عَشْرًا، ويَقْصُرُ الذى يقولُ: أخْرُجُ اليومَ أخْرُجُ غدًا. شَهْرًا. وعن ابنِ عباس، أنَّه قال: يَقصُرُ إذا أقامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ويتمُّ إذا زادَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقامَ في بعضِ أسْفارِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ يُصَلِّى رَكعَتَيْنِ. قال ابنُ عباسٍ: فنحن إذا أتَمْنا تِسْعَةَ عَشَرَ نُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، وإن زِدْنا على ذلك أتمَمْنَا. رَواه البُخارِىُّ (¬1). وقال الحسنُ: صَلِّ رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْن، إلَّا أن تَقدَمَ مِصْرًا، فأتِمَّ الصلاةَ وصُمْ (¬2). وقالت عائشةُ: إذا وَضَعْتَ الزَّادَ والمَزادَ فأتِمَّ الصلاةَ (¬3). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في التقصر وكم يقيم حتى يقصر، من كتاب التقصير، وفي: باب مقام النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخاري 2/ 53، 5/ 191. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تقصير الصلاة، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 21، 22. وابن ماجه، في: باب من يقصر الصلاة المسافر إذا أقام ببلدة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 341. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 223. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة بنحوه، في المصنف 2/ 451، 455. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في المصنف 2/ 455.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان طاوُسٌ إذا قَدِم مَكَّةَ، صَلَّى أربَعًا. ولَنا، ما روَى أنَسٌ، قال: خَرَجْنا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مَكَّةَ، فصَلَّى رَكْعَتَيْن حتى رَجَع، وأقام بمَكَّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصلاةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وذَكَر أحمدُ حديثَ جابرٍ، وابنِ عباسٍ (¬2) أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِم مَكَّةَ لصُبْحِ رابِعَةٍ، فأقام النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليَوْمَ الرَّابعَ والخامِسَ والسَّادِسَ والسّابع، وصَلَّى الفَجْرَ بالأبْطَحِ يَوْمَ الثّامِنِ، فكانَ يَقْصُرُ الصلاةَ في هذه الأيَّامِ، وقد أجْمَعَ على إقامَتِها. قال: فإذا أجْمَعَ أن يقيمَ كما أقامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصَر، وإذا أجْمَعَ على أكْثَرَ مِن ذلك أَتَمَّ. قال الأثْرَمُ: وسَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يَذْكُرُ حَدِيثَ أنسٍ في الإِجْماعِ على الإِقامَةِ للمُسافِرِ، فقال: هو كَلامٌ ليس يَفْقَهُه كلُّ أحَدٍ. فقولُه أقامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشْرًا يَقْصُرُ الصلاةَ. وقال: قَدِم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لصُبْحِ رابِعَةٍ وخامِسَةٍ وسابِعَةٍ. ثم قال: ثامِنَةٍ يومَ التروِية، وتاسِعَةٍ وعاشِرَةٍ. فإنَّما ¬

(¬1) أخرجه البخارى في: باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، من كتاب التقصير، وفي: باب مقام النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 53، 5/ 190، 191. ومسلم، في: باب صلاة المسافربن وقصرها، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 481. كما أخرجه أبو داود، في: باب متى يتم المسافر، من كتاب صلاة السفر. سنن أبى داود 1/ 280. والترمذى، في: باب ما جاء في تقصير الصلاة، من أبواب صلاة السفر. عارضة الأحوذى 3/ 18. والنسائى، في: باب تقصير الصلاة في السفر، وباب المقام الذى يقصر بمثله الصلاة، من كتاب صلاة السفر. المجتبى 3/ 96، 97، 100. وابن ماجه، في: باب كم يقصر الصلاة المسافر إذا أقام ببلدة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 342. والدارمى، في: باب في من أراد أن يقيم ببلدة. . . إلخ، من كتاب الصلاة. . . . سنن الدارمى 1/ 355. (¬2) لم نجده في المسند.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهُ حَدِيثِ أنَسٍ أنَّه حَسَب مُقامَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَكَّةَ ومِنًى، وإلَّا فلا وَجْهَ له عندِى غيرُ هذا. فهذه أرْبَعَةُ أيام، وصلاةُ الصُّبْحِ بها يَوْمَ التَّرْوِية تَمامُ إحْدَى وعِشْرين صلاةً يَقْصُرُ، وهي تَزِيدُ على أرْبَعَةِ أيَّامٍ، وهو صَرِيحٌ في خِلافِ قولِ مَن حَدَّه بأربعةِ أيَّامٍ. وقولُ أصحابِ الرَّأىِ: لا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ في الصَّحابَةِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّا قد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه عنهم. وحديثُ ابنِ عباسٍ في إقامَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَةَ عَشَرَ، وَجْهُه أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُجْمِع الإِقامَةَ. قال أحمدُ: أقامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَكَّةَ، زَمَنَ الفَتْحِ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ؛ لأنَّه أراد حُنَيْنًا، ولم يَكُنْ ثَمَّ إجْماعُ المقامِ. وهذه إقامَتُه التى رَواها ابنُ عباسٍ، وهو دَلِيلٌ على خِلافِ قولِ عائشةَ والحسنِ. والحسن واللَّهُ أعلمُ. فصل: ومَن قَصَد بَلَدًا بِعَيْنِه، فوَصَلَه غيرَ عَازِمٍ على الإِقامَةِ به مُدَّةً تَقْطَعُ حُكْمَ سَفَرِه، فله القَصْرُ فيه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أسْفارِه يَقْصُرُ حتى يَرْجِعَ، وحينَ قَدِم مَكَّةَ كان يَقْصُرُ فيها. ولا فَرْقَ بينَ أن يَقْصِدَ الرُّجُوعَ إلى بَلَدِه، كما فَعَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَجَّةِ الوَداعِ، على ما في حديثِ أنَسٍ، وبينَ أن يُرِيدَ بَلَدًا آخَرَ، كما فَعَل عليه السَّلامُ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، كما في حديثِ ابنِ عباسٍ. فصل: وإن مَرَّ في طَرِيقِه على بَلَدٍ له فيه أهْلٌ أو مالٌ. فقالَ أحمدُ، في مَوْضِعٍ: يُتِمُّ. وقال في مَوْضِعٍ: لا يُتِمُّ إلَّا أن يَكُونَ مَارًّا. وهذا قَوْلُ ابنِ عباسٍ. وقال مالكٌ: يُتِمُّ إذا أراد أن يقيمَ بها يَوْمًا ولَيْلَةً. وقال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: يَقْصُرُ، ما لم يُجْمِعْ على إقامَةِ أرْبَعٍ؛ لأنَّه مُسافِرٌ. ولَنا، ما رُوِىَ عن عثمانَ، أنَّه صَلَّى بمِنًى أرْبَعَ رَكَعاتٍ، فأنْكَرَ النّاسُ عليه، فقال: يا أيُّها النّاسُ، إنِّى تَأَهَّلْتُ بمَكَّةَ منذُ قَدِمْتُ، وإنِّى سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صلاةَ الْمُقِيمِ». رَواه أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: إذا قَدِمْتَ على أهْلٍ لك أو مالٍ، فَصَلِّ صلاةَ المُقِيمِ (¬2). ولأنَّه مُقِيم ببَلَدٍ له فيه أهْلٌ ومالٌ، أشْبَهَ ¬

(¬1) المسند: 1/ 62. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب المسافر ينتهى إلى الموضع الذى يريد المقام به، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 155، 156. وعبد الرزاق، في: باب في كم يقصر الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 524، بن أبى شيبة، في باب في مسيرة كم يقصر الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 445.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَلَدَ الذى سافَرَ منه. فصل: قال أحمدُ: مَن كان مُقِيمًا بمَكَّةَ، ثم خَرَج إلى الحَجِّ وهو يُرِيدُ أن يَرْجعَ إلى مَكَّةَ فلا يُقِيمُ بها، فهذا يُصَلِّى رَكْعَتَيْن بعَرَفَةَ؛ لأنَّه حينَ خَرَج مِن مَكَّةَ أنْشَأَ السَّفَرَ إلى بَلَدِه، ليس على أنَّ عَرَفَةَ سَفَرُه. فهو في سَفرٍ مِن حينَ خَرَج مِن مَكَّةَ. ولو أنَّ رجلًا كان مُقِيمًا ببَغْدَادَ، فأرادَ الخُرُوجَ إلى الكوفَةِ، فعَرَضَتْ له حاجَةٌ بالنَّهْرَوانِ (¬1)، ثم رَجَع فمَرَّ، ببَغْدَادَ ذاهِبًا إلى الكُوفَةِ، صَلَّى رَكْعَتَيْن إذا كان يَمُرُّ ببَغْدَادَ مُجْتازًا، لا يُرِيدُ الإِقامَةَ بها. وإن كان الذى خَرَج إلى عَرَفَةَ في نِيَّتِه الإِقامَةُ بمَكَّةَ إذا رَجَع، لم يَقْصُرْ بعَرَفَةَ، وكذلك أهْلُ مَكَّةَ لا يَقْصُرُون. وإن صَلَّى خلفَ رجلٍ مَكِّىٍّ يَقْصُرُ الصلاةَ بِعَرَفَةَ، ثم قام بعدَ صلاةِ الإِمامِ، فأضافَ إليها رَكْعَتَيْن أُخْرَيَيْن، صَحَّتْ صَلاتُه؛ لأنَّ المَكِّىَّ يَقْصُرُ بِتَأْوِيلٍ، فصَحَّتْ صلاةُ مَن يَأْتَمُّ به. فصل: وإذا خَرَج المُسافِرُ، فذَكَرَ حاجَةً، فرَجَع إليها، فله القَصْرُ في رُجُوعِه، إلَّا أن يكونَ نَوَى أن يُقِيمَ إذا رَجَع مُدَّةً تَقْطعُ القَصْرَ. أو (¬2) ¬

(¬1) النهروان: كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقى، حدها الأعلى متصل ببغداد. معجم البلدان 4/ 846. (¬2) في م: «و».

606 - مسألة: (وإن أقام لقضاء حاجة، أو حبس، ولم ينو الإقامة، قصر أبدا)

وَإِنْ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ حُبِسَ، وَلَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ، قَصَرَ أَبَدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونَ في البَلَدِ أهْلُه أو (¬1) مالُه؛ كما ذَكَرْنا. وقولُ أحمدَ في الرِّوايَةِ الأخْرَى: أَتَمَّ، إلَّا أن يكونَ مارًّا. يَقْتَضِى أنَّه إذا قَصَد أخْذَ حاجَتِه، والرُّجُوعَ مِن غيرِ إقامَةٍ، أنَّه يَقْصُرُ. وقال الشافعىُّ: يَقْصُرُ، ما لم يَنْوِ الإِقامَةَ أرْبَعًا. وقال الثَّوْرِىُّ، ومالكٌ: يُتمُّ حتى يَخْرُجَ فاصِلًا الثانيةَ. ولَنا، أنَّه ثَبَت له حُكْمُ السَّفَرِ بخُرُوجِه، ولم تُوجدْ إقامَة تَقْطَعُ حُكْمَه، فأشْبَهَ ما لو أَتَى قَرْيَةً غيرَ التى خَرَج منها. 606 - مسألة: (وإن أَقَامَ لقضَاءِ حاجَةٍ، أو حُبِسَ، ولم يَنْوِ الإِقَامَةَ، قَصَر أبَدًا) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن لم يُجْمِعْ على إِقامَةٍ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ، فله القَصْرُ ولو أقَامَ سِنِين، كمَن يُقِيمُ لقَضاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو إنْجاحَها، أو جِهادِ عَدُوٍّ، أو حَبَسَه سُلْطانٌ، أو ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَرَضٌ، وسَواءٌ غَلَب على ظَنِّه انْقِضاءَ حاجَتِه في مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أو كَثِيرَةٍ، بعدَ أن يَحْتَمِلَ انْقِضاؤها في مُدَّةٍ لا يَنْقَطِعُ حُكْمُ السَّفَرِ بها. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ أنَّ للمُسافِرِ أن يَقْصُرَ ما لم يُجْمِعْ إقَامَةً، ولو أتَى عليه سُنون. والأَصْلُ فيه ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: أقامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَعْضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْفَارِه تِسْعَةَ عَشَرَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْن. رَواه البُخارِىُّ (¬1). وقال جابِرٌ: أقامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبْوكَ عِشْرِين يَوْمًا يَقْصُرُ الصلاةَ. [رَواه الإِمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ»] (¬2). وروَى سعيدٌ بإسناده عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، قال: أقَمنا مع سعدٍ ببعض قُرَى الشَّامِ أرْبَعِين لَيْلَةً يَقْصُرُها سعدٌ ونُتِمُّها (¬3). وقال نافِعٌ: أقامَ ابنُ عمرَ بأذْرَبِيجَانَ (¬4) سِتَّةَ أشْهُرٍ، يُصَلِّى رَكْعَتَيْن، حَبَسَه الثَّلْجُ (¬5). وقال أنسٌ: أقامَ أصْحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- برامَهُرْمُزَ (¬6) سَبْعَةَ أشْهُر يَقْصُرُون الصلاةَ (¬7). وعن الحسنِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 70. (¬2) سقط من: الأول. وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 295.كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا أقام بأرض العدو يقصر، من كتاب صلاة المسافر. سنن أبى داود 1/ 281. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يخرج في وقت الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 535. (¬4) أذربيجان: إقليم واسع، حده من برذعة مشرقا إلى أرزنجان مغربا، ويتصل حدها من جهة الشمال ببلاد الديلم والجيل والطرم. معجم البلدان 1/ 172. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يخرج في وقت الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 533. والبيهقى، في: باب من قال يقصر أبدا ما لم يجمع مكثا، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 152. (¬6) في م: «برامهز». رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحى خوزستان. معجم البلدان 2/ 738. (¬7) أخرجه البيهقى، في: باب من قال يقصر أبدا ما لم يجمع مكثا، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 152. بلفظ «تسعة أشهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمُرَةَ، قال: أقَمْتُ معه بكابُلَ (¬1) سَنَتَيْن نَقْصُرُ الصلاةَ، ولا نُجَمِّعُ (¬2). فصل: وإن عَزَم على إقامَةٍ طَوِيلَة في رُسْتَاقَ (¬3) يَنْتَقِلُ فيه مِن قَرْيةٍ إلى قَرْيةٍ، لا يُجْمِعُ على الإِقامَةِ بواحِدَةٍ منها مُدَّةً تُبْطُل حُكْمَ السَّفَرِ قَصَر؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقامَ بمَكَّةَ ومِنًى وعَرَفَةَ عَشْرًا، فكان يَقْصُرُ الأيامَ كلَّها (¬4). وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه عن مُوَرِّقٍ، قال: سَأَلْتُ ابنَ عمرَ، ¬

(¬1) كابل: ولاية ذات مروج كبيرة بين هند وغزنة. معجم البلدان 4/ 220. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يخرج في وقت الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 536. «ولا نُجَمِّع». أي ولا يصلى جمعة. (¬3) الرستاق: السواد والقرى. معرب. (¬4) أخرج نحوه عبد الرزاق، في: باب الرجل يخرج في وقت الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 533.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْتُ: إنِّى رَجُلٌ آتِى الأهْوازَ (¬1)، فأنْتَقِلُ في قُراها قَرْيَةً قَرْيَةً، فأُقِيمُ الشَّهْرَ أو أكْثَرَ. قال: تَنْوِى الإِقامَةَ؛ قُلتُ: لا. قال: ما أراكَ إلَّا مُسافِرًا، صَلِّ صلاةَ المُسافِرِين. ولأنَّه لم يَنْوِ الإِقامَةَ في مَكانٍ بعَيْنه، أشْبَهَ المُتَنَقِّلَ [في سَفَرِه] (¬2) مِن مَنْزلٍ إلى مَنْزلٍ. وإذا دَخَلِ بَلَدًا، فقالَ: إن لَقِيتُ فُلانًا أقَمْتُ، وإلَّا لم أقِمْ. لم يَبْطُلْ حُكْمُ سَفرِه؛ لأنَّه لم يَجْزِمْ بالإِقامَةِ، [ولأنَّ المُبْطِلَ للسَّفَرِ هو العَزْمُ على الإِقامَةِ، ولم يُوجَدْ] (2)، وإنَّما عَلَّقَه على شَرْطٍ لم يُوجَدْ، وذلك ليس بجَزْمٍ. فصل: ولا بَأْسَ بالتَّطَوُّعِ في السَّفَر نازِلًا وسائِرًا على الرّاحِلَةِ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسَبِّحُ على ظَهْرِ راحِلَتِه حيثُ كان وَجْهُه، يُومِئُ برَأْسِه. وروَى نَحْوَ ذلك جابِرٌ وأُنَسٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) الأهواز: سبع كور بين البصرة وفارس. معجم البلدان 1/ 411. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) حديث ابن عمر تقدم تخريجه في 3/ 322. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن علىٍّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَتَطوُّعُ في السَّفَرِ. رَواه سعيدٌ (¬1). وفى حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ [أنَّ النبىَّ صَلَّى في بَيْتها يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ثَمانِىَ رَكَعاتٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يُصَلِّى رَكْعَتَى الفَجْرِ والوِتْرَ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ] (¬3)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُوتِرُ على بَعِيرِه. ولَمّا فاتَتِ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلاةُ الصُّبْحِ صَلَّى رَكْعَتَى الفَجْرِ قَبْلَها. مُتَّفَق عليهما (¬4). فأمّا سائِرُ التَّطَوُّعَاتِ والسُّنَنِ قبلَ الفَرائِضِ وبعدَها. فقالَ أحمدُ: أرْجُو أن لا يكونَ بالتَّطَوُّعِ في السَّفَرِ بَأسٌ. رُوِىَ ذلك عن عمرَ (¬5) وعلىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وجابِرٍ، وابنِ عباسٍ، وأبى ذَرٍّ، وجَماعَةٍ مِن التَّابِعِين. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وكان ابنُ عمرَ لا يَتَطوَّعُ مع الفَرِيضَةِ قبلَها ولا بعدَها، إلَّا مِن جَوْفِ اللَّيْلِ. ¬

= وحديث جابر لم يخرجه مسلم. انظر تحفة الأشراف 2/ 168. وأخرجه البخارى، في: باب التوجه نحو القبلة، من كتاب الصلاة، وفى: باب ينزل للمكتوبة، من كتاب التقصر. صحيح البخارى 1/ 110، 2/ 56.كما أخرجه أبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 279. وأما حديث أنس فقد أخرجه البخارى، في: باب صلاة التطوع على الحمار، من كتاب التقصر. صحيح البخارى 2/ 56. ومسلم، في: باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 488.كما أخرجه أبو داود، في: باب التطوع على الراحلة والوتر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 279. والدارقطنى، في: باب صفة صلاة التطوع. . .، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطنى 1/ 396. (¬1) أخرج نحوه، عن ابن عمر، ابن أبى شيبة. انظر المصنف 1/ 382. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 205. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «عليه». وتقدم تخرج الأول في 3/ 323 والثاني تقدم تخريجه في 4/ 244. (¬5) في الأصل: «ابن عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِىَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعلىِّ بنِ الحسينِ؛ لِما رُوِىَ أنَّ ابنَ عمرَ رَأى قَوْمًا يُسَبِّحون بعدَ الصَّلاةِ، فقالَ لو كُنْتُ مُسَبِّحًا لأتمَمْتُ فَرْضِى، يا ابْنَ أخى، صَحِبتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن حتى قَبْضَه اللَّهُ، وصَحِبْتُ [أبا بكرٍ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن حتى قَبَضَه اللَّهُ، وذَكر] (¬1) عمرَ، وعثمانَ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2). مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولَنا، ما رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، قال: فَرَض رسولُ اللَّهِ أنْ صلاةَ الحَضَرِ، فكُنَّا نُصَلِّى قبلَها وبعدَها، [وكُنَّا نُصَلِّى في السَّفَرِ قَبْلَها وبعدَها] (¬4). رَواه ابنُ ماجه (¬5). وقال الحسنُ: كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسافِرُون فيَتَطَوَّعون قبلَ المَكْتُوبَةِ وبعدَها. وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ، قال: صَحِبْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا، فما رَأيْتُه تَرَك رَكْعَتَيْن إذا زاغَتِ الشَّمس قبلَ الظُّهْرِ. رَواه أبو داودَ (¬6). فهذا يَدُلُّ على أنَّه لا بأسَ بفِعْلِها، وحديثُ ابنِ عمرَ يَدُلّ على أنه لا بَأْسَ بتَرْكِها فيُجْمَعُ بين الأحادِيثِ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الأحزاب 21. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في: باب التطوع في السفر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 341. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 232. (¬6) في: باب التطوع في السفر، من كتاب صلاة السفر. سنن أبى داود 1/ 278. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في التطوع في السفر، من أبواب صلاة السفر. عارضة الأحوذى 3/ 24. والإمام أحمد، =

607 - مسألة: (والملاح الذى معه أهله، وليس له نية الإقامة ببلد، ليس له الترخص)

وَالْمَلَّاحُ الَّذِى مَعَهُ أَهْلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ الإِقَامَةِ بِبَلَدٍ، لَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 607 - مسألة: (والمَلّاحُ الذى معه أَهْلُه، وليس له نِيَّةُ الإِقامَةِ ببَلَدٍ، ليس له التَّرَخُّصُ) قال الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عن المَلَّاحِ، أيَقْصُرُ، ويُفْطِرُ (¬1) في السَّفِينَةِ؟ قال: أمّا إذا كانتِ السَّفِينَةُ ¬

= في: المسند 4/ 292. (¬1) في م: «أو يفطر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْتَه فإنَّه يُتِمُّ ويَصُومُ. قِيلَ له: وكيف تَكُونُ بَيْتَه؟ قال: لا يَكُونُ له بَيْتٌ غيرَها، معه فيها أهْلُه وهو فيها مُقِيمٌ. وهذا قولُ عطاءٍ. وقال الشافعى: يَقْصُرُ ويُفْطِرُ؛ لعُمُوم النُّصُوصِ، ولأنَّ كَوْنَ أهْلِه معه لا يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ، كالجَمّالِ. ولَنا، أنَّه غيرُ ظاعِنٍ عن مَنْزِلِه، فلم يُبَحْ له التَّرَخُّصُ، كالمُقِيمِ في المُدُنِ، [فأمّا النُّصُوصُ] (¬1)، فالمُرادُ بها الظّاعِنُ عن مَنْزِلِه، وليس هذا كذلك. وأمَّا الجَمّالُ والمُكارِى فلهم التَّرَخُّصُ وإن سافَرُوا بأهْلِهم. قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ يَقُولُ في المُكارِى الذى هو دَهْرَه في السَّفَرِ (¬2): لابُدَّ أن يُقِيمَ إذا قَدِم اليَوْمَيْن ¬

(¬1) في م: «فأما في عام النصوص». (¬2) في الأصل: «السفينة».

فصل فى الجمع

فَصْلٌ فِى الْجَمْعِ: وَيَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ والْعَصْرِ، والْعِشَاءَيْنِ فِى وَقْتِ إِحْدَاهُمَا لِثَلاثَةِ أُمُورٍ؛ السَّفَرِ الطَّوِيلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّلَاثةَ. قال: هذا يَقْصُرُ. وذَكَر القاضى، وأبو الخَطّابِ، أنَّه بمَنْزِلَةِ المَلّاحِ. وليس بصَحِيح؛ لأنَّه مُسافِرٌ مَشْقُوقٌ عليه فكانَ له القَصْرُ كغيرِه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على المَلّاحِ؛ فإنَّ المَلّاحَ في مَنْزِلِة سَفَرًا وحَضَرًا معه مَصالِحُه وتَنُّورُه وأهْلُه، لا يَتَكَلَّفُ لحَمْلِه، وهذا لا يُوجَدُ في غيره. وإن سافَرَ هذا بأهْله كان أشَقَّ عليه وأبلغ في اسْتِحْقاقِ التَّرَخُّص، فأُبِيحَ له؛ لعُمُومِ النُّصُوصِ، وليس هو في مَعْنَى المَخْصُوصِ، فوَجَبَ القَوْلُ بثُبُوت حُكْمِ النَّصِّ فيه. فَصْلٌ في الجَمْعِ 608 - مسألة: (يَجُوزُ الجَمْعُ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، والعِشاءَيْن في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقْتِ إحْداهُما لثَلَاثةِ أُمُورٍ؛ السَّفَرِ الطَّوِيلِ) الجَمْعُ بينَ الصلَاتيْن في السَّفَرِ في وَقْتِ إحْداهُما جائِزٌ في قَوْلِ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ. رُوِىَ ذلك عن سَعْدٍ، وسعيدِ بنِ زَيْدٍ، وأسامَةَ، ومُعاذِ بنِ جَبَل، وأبى موسى، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ. وبه قال عِكْرِمَةُ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وجماعَةٌ غيرُهم. وقال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وأصَحابُ الرَّأْى: لا يَجُوزُ الجَمْعُ إلَّا في يَوْمِ عَرَفَةَ بعَرَفَةَ (¬1)، ولَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ بها. وهو رِوايَة عن ابنِ القاسِمِ عن مالكٍ واختِيارُه. واحْتَجُّوا بأن المَواقِيتَ ثَبَتَتْ بالتَّواتُرِ، فلا يَجْوزُ تَرْكُها بخَبَرِ الواحِدِ. ولَنا، ما رُوِىَ عن ابنِ عمرَ، أنه كان إذا جَدَّ به السيرُ جَمَع بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ، ويَقُولُ: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جَدَّ به السَّيْرُ جَمَع بينَهما. وعن أنَسٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ارْتَحَلَ قبلَ أن تَزِيغ الشَّمْسُ أخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ العَصْرِ، ثم نَزَل فجَمَعَ بينَهما، وإن زاغَتِ الشَّمْسُ قبلَ أن يَرْتَحِلَ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَّى الظهْرَ ثم رَكِب. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولمسلمٍ، كان إذا عَجِل عليه السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ العَصْرِ، فيَجْمَعُ بينَهما، ويُؤَخرُ المَغْرِبَ حتى يَجْمَعَ بينَها وبينَ العِشاءِ حينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ (¬2). وروَى الجَمْعَ مُعاذٌ، وابنُ عباسٍ. وقَوْلُهم: لا نَتْرُكُ الأخْبارَ المُتَواتِرَةَ لأخْبارِ الآحادِ. قُلْنا: لا نَتْرُكُها، وإنَّما نُخصِّصُها وتَخْصِيصُ المُتَواتِرِ بالخَبَرِ الصَّحِيح جائِزٌ ¬

(¬1) الأول: أخرجه البخارى، في: باب يصلى المغرب ثلاثًا في السفر، وباب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، وباب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء، من كتاب التقصير، وفى: باب المسافر إذا جدَّ به السير يعجل إلى أهله، من كتاب العمرة، وفى: باب السرعة في السير، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 55، 57، 58، 3/ 10، 4/ 70، 71. ومسلم، في: باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 488، 489. كما أخرجه أبو داود، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 6/ 277. والترمذى، في: باب في الجمع بين الصلاتين، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 28. والنسائى، في: باب الوقت الذى يجمع فيه المسافر بين المغرب والعشاء، وباب الحال التى يجمع فيها بين الصلاتين، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 232، 233. والدارمى، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 356، 357. والإمام مالك، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر. الموطأ 1/ 144. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 4، 7، 8، 54، 77، 80، 102، 106، 148، 150. والثانى: أخرجه البخارى، في: باب يؤخر الظهر إلى العمر. . . إلخ، وباب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس، من كتاب التقصير. صحيح البخارى 2/ 58. ومسلم، في: باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 489. كما أخرجه أبو داود، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 278. والترمذى، في: باب في الجمع بين الصلاتين، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 26، 27. والنسائى، في: باب الوقت الذى يجمع فيه المسافر. . . إلخ، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 229. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 247، 265. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 489.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإِجْماعِ، وهذا ظاهِرٌ جِدًّا. فإن قِيلَ: مَعْنَى الجَمْعِ في الأخْبارِ أن يُصَلِّىَ الأُولَى في آخِرِ وَقْتِها، والأُخْرَى في أوَّلِ وَقْتِها. قُلْنا: هذا فاسِدٌ لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه قد جاء الخَبَرُ صَرِيحًا في أنَّه كان يَجْمَعُهما في وَقْتِ الثّانِيَةِ على ما ذَكَرْنا في خَبَرِ أنَسٍ. الثّانِى، أنَّ الجَمْعَ رُخْصَةٌ، فلو كان على ما ذَكَرُوه لكان أشَدَّ ضَيْقًا، وأعْظَمَ حَرَجًا مِن الإِتْيانِ بكلِّ صلاةٍ في وَقْتِها؛ لأنَّ ذلك أوْسَعُ مِن مُراعاةِ طَرَفَى الوَقتَيْنِ، بحيث لا يَبْقَى مِن وَقتِ الأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِها، ومَن تَدَبَّرَ هذا وَجَدَه كما وَصفْنا, ولو [كان الجَمْعُ هكذا] (¬1)، لجازَ الجَمْعُ بينَ (¬2) العَصْرِ والمَغْرِبِ، والعِشاءِ والصُّبْحِ، وهو مُحَرَّمٌ بالإِجْماعِ، فإذا حُمِلَ خَبَرُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأمْرِ السّابِقِ إلى الفَهْمِ منه، كان (¬3) أوْلَى مِن هذا التَّكَلُّفِ الذى يُصانُ عنه كَلامُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

(¬1) في م: «جاز الجمع هذا». (¬2) في م: «من». (¬3) سقط من: الأصل.

609 - مسألة: (والمرض الذى يلحقه بترك الجمع فيه مشقة

وَالْمَرَضِ الَّذِى يَلْحَقُهُ [بِتَرْكِ الْجَمْعِ] (¬1) فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما يَجُوزُ الجَمْعُ في السَّفَرِ الذى يُبِيحُ القَصْرَ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ، في أحَدِ قَولَيْه: يَجُوزُ في السَّفَرِ القَصِيرِ؛ لأنَّ أهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُون بعَرَفَةَ ومُزْدَلِفَةَ، وهو سَفَرٌ قَصِيرٌ. ولَنا، أنَّه رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ لدَفْعِ المَشَقَّةِ في السَّفَرِ، فاخْتَصَّتْ بالطَّوِيلِ، كالقَصْرِ والمَسْحِ ثَلاثًا؛ ولأنَّ دَلِيلَ الجَمْعِ فِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والفِعْلُ لا صِيغَةَ له، وإنَّما هو قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، فلا يَثْبُت حُكْمُها إلَّا في مِثْلِها, ولم يُنْقَلْ أنه جَمَع إلَّا في سَفَرٍ طَوِيلٍ. 609 - مسألة: (والمَرَضِ الذى يَلْحَقُه بتَرْكِ الجَمْعِ فيه مَشَقَّةٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وضَعْفٌ) نَصَّ أحمدُ على جَوازِ الجَمْعِ للمَرِيض، ورُوِىَ عنه التَّوَقُّفُ فيه، وقال: أهابُ ذلك. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. وهذا قولُ عطاءٍ، ومالكٍ. وقال أصحابُ الرأىِ، والشافعىُّ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ أخْبارَ التَّوْقِيتِ (¬1) ثابتَةٌ، فلا تُتْرَكُ بأمْرٍ مُحْتَمِلٍ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: جَمَع رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ الظّهْرِ والعَصْرِ، والمَغْرِبِ والعِشاءِ، مِن غيرِ خَوْفٍ ولا مَطرٍ. وفى رِوايَةٍ: مِن غيرِ خَوْفٍ ولا سَفَرٍ. رَواهما مسلمٌ (¬2). وقد أجْمَعْنا على أنَّ الجَمْعَ لا يَجُوزُ لغيرِ عُذْرٍ، ثَبَت أنَّه كان لمَرَضٍ. وقد رُوِىَ عن أبى عبدِ اللَّهِ، أنَّه قال في هذا الحَدِيثِ: هذا عندِى رُخْصَةٌ للمَرِيضِ والمُرْضِع. وقد ثَبَت أن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ سَهْلَةَ بنتَ سهَيْلٍ، وحَمْنَةَ بنتَ جَحْشٍ، لَمّا كانَتا مُسْتَحاضَتَيْن بتَأخِيرِ الظُّهْرِ وتَعْجِيلِ العَصْرِ، والجَمْعِ بينَهما (¬3). ¬

(¬1) في م: «التوقيف». (¬2) الرواية الأول أخرجها مسلم، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 490. كما أخرجها أبو داود، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 276. والنسائى، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 233. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 283. والثانية أخرجها مسلم، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 491. كما أخرجها أبو داود، في: باب الجمع بن الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 276. والترمذى، في: باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 303. والنسائى، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 234. الإمام أحمد، في: المسند 1/ 223، 346، 354. (¬3) حديث سهلة تقدم تخريجه فيه 2/ 61. وحديث حمنة تقدم تخريجه في 2/ 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأباحَ الجَمْعَ لأجْلِ الاسْتِحاضَةِ. وأخْبارُ المَواقِيتِ مَخْصُوصَةٌ بالصُّوَرِ المُجْمَع على جَوازِ الجَمْعِ فيها، فنَخُصُّ مَحَلَّ النِّزاعِ بما ذَكَرْنا. فصل: والمَرَضُ المُبِيحُ للجَمْع هو ما يَلْحَقُه بتَرْكِه مَشَقَّةٌ وضَعْفٌ. قال الأثْرَمُ: قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: المَرِيضُ يَجْمَعُ بينَ الصَّلَاتيْن؟ قال: إنِّى لأرْجُو ذلك إذا ضَعُف. وكذلك الجَمْعُ، للمُسْتَحاضَةِ، ولمَن به سَلَسُ البَوْلِ، ومَن في مَعناهما (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. ¬

(¬1) في م: «معناها».

610 - مسألة: (والمطر الذى يبل الثياب، إلا أن جمع المطر يختص بالعشاءين، فى أصح الوجهين)

وَالْمَطرَ الَّذِى يَبُل الثيابَ، إِلَّا أنَّ جَمْعَ الْمَطَرِ يَخْتَصُّ الْعِشَاءَيْنِ، في أصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 610 - مسألة: (والمَطَرِ الذى يَبُلُّ الثِّيابَ، إلَّا أنَّ جَمْعَ المَطَرِ يَخْتَصُّ بالعِشاءَيْن، في أصَحِّ الوَجْهَيْن) يَجُوزُ (¬1) الجَمْعُ في المَطَرِ بينَ العِشاءَيْن. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عمرَ. وفَعَلَه أبانُ بنُ عُثمانَ في أهْلِ المَدِينَةِ. وهو قولُ الفُقَهاءِ السَّبعَةِ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. ¬

(¬1) في م: «لجواز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُرْوَى عن مَرْوانَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ولم يُجَوِّزْه أصحابُ الرَّأْى. والدَّلِيلُ على جَوازِه، أنَّ أَبا سَلَمَةَ بنَ عبدِ الرحمنِ قال: إنَّ مِن السُّنَّةِ إذا كان يَوْمٌ مَطِيرٌ أن يُجْمَعَ بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ. رَواه الأثْرَمُ. وهذا يَنْصَرِفُ إلى سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال نافِعٌ: إنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ كان يَجْمَعُ إذا جَمَع الأمَراءُ بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ (¬1). وفَعَلَه أبانُ بنُ عثمانَ في أهْلِ المَدِينَةِ وفيهم عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وأبو سَلَمَةَ وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ. ولا يُعْرَفُ لهم مُخالفٌ، فكان إجْماعًا. رَواه الأثْرَمُ (¬2). فصل: والمَطَرُ المُبيحُ للجَمْعِ هو ما يَبُلُّ الثِّيابَ، وتَلْحَقُ المَشَقَّةُ بالخُرُوجِ فيه. فأمّا الطَّلُّ، والمَطر الخَفِيفُ [الذى لا يَبُلُّ الثِّيابَ] (¬3) فلا يُبِيحُ؛ لعَدَمِ المَشَقَّةِ، والثَّلْجُ والبَرَدُ في ذلك كالمَطَرِ؛ لأنَّه في مَعْناه. ¬

(¬1) أخرجه الإِمام مالك، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 145. والبيهقى، في: باب الجمع في المطر بين الصلاتين، من كتاب الصلاة. السنن الكبرى 3/ 168. (¬2) انظر لذلك مصنف ابن أبى شيبة 2/ 234، 235. والسنن الكبرى للبيهقى 3/ 168، 169. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الجَمْعُ بينَ الظّهْرِ والعَصْرِ، لأجْلِ المطر فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَجُوزُ. قال الأثْرَمُ: قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: الجَمْعُ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ في المَطرَ؟ قال: لا، ما سَمِعْتُه. وهذا اخْتِيارُ أبى بكرٍ، وابنِ حامِدٍ. وقولُ مالكٍ. وقال أبو الحسنِ التَّمِيمِىُّ: فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، يَجُوزُ. اخْتارَه القاضى، وأبو الخَطَّابِ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لِما روَى يحيى بنُ واضِحٍ، عن موسى بنِ عُقْبَةَ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع في المَدِينَةِ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ في المَطرَ (¬1). ولأنَّه مَعْنًى أباحَ الجَمْعَ، فأباحَه بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، كالسَّفَرِ. ولَنا، أنَّ مُسْتَنَدَ الجَمْع ما ذَكَرْنا مِن قولِ أبى سَلَمَةَ، والإِجْماعِ، ولم يَرِدْ إلَّا في المَغْرِبِ والعِشَاءِ، وحَدِيثُهم لا يَصِحُّ، فإنَّه غيرُ مَذْكُورٍ في الصِّحاحِ والسُّنَنَ. وقولُ أحمدَ: ما سَمِعْتُ. يَدُلُّ على أنَّه ليس بشئٍ، ولا يَصِحُّ القِياسُ على المَغْرِبِ والعِشاء؛ لِما بينَهما مِن المَشَقَّةِ لأجْلِ الظُّلْمَةِ، ولا القِيَاسُ على السَّفَرِ؛ لأنَّ مَشَقَّتَه لأجْلِ السَّيْرِ وفَواتِ الرُّفْقَةِ، وهو غيرُ مَوْجُودٍ ههُنا. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب جمع الصلاة في الحضر، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 556. وانظر: تلخيص الحبير لابن حجر 2/ 50.

611 - مسألة: (وهل يجوز ذلك لأجل الوحل، أو الريح الشديدة الباردة، أو لمن يصلى فى بيته، أو فى مسجد طريقه تحت ساباط

وَهَلْ يَجُوزُ لأجْلِ الْوَحْلِ، أَو الرِّيِحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ، أَوْ لِمَنْ يُصَلِّى في بَيْتِهِ، أَو فِى مَسْجِدٍ طَرِيقُهُ تحْتَ سَابَاطٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 611 - مسألة: (وهل يَجُوزُ ذلك لأجْلِ الوَحْلِ، أو الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الباردَةِ، أو لمَن يُصَلِّى في بَيْتِه، أو في مَسْجِدٍ طَرِيقه تَحْتَ سَابَاطٍ (¬1)؟ على وَجْهَيْن) اخْتَلَفَ أصْحابُنا في الوَحْلِ بمُجَرَّدِه، فقال القاضى: قال أصحابُنا: هو عُذْرٌ يُبِيحُ الجَمْعَ؛ لأنَّ المَشَقَّةَ تَلْحَقُ بذلك في الثِّيابِ والنِّعَالِ، كما تَلْحَقُ بالمَطرَ. وهو قولُ مالكٍ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ فيه وَجْهًا ¬

(¬1) الساباط: سقيفة بين دارين تحتها طريق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثانِيًا، أنَّه لا يُبِيحُ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ مَشَقَّتَه (¬1) دُونَ مَشَقَّةِ المطَرِ، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليه. قال شيخُنا (¬2): والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لأنَّ الوَحْلَ يُلَوِّثُ الثِّيابَ والنِّعالَ، ويُعَرضُ الإِنْسانَ للزَّلَقِ (¬3)، فيَتَأذَّى نَفْسُه وثِيابُه، وذلك أعْظَمُ ضَرَرًا مِن البَلَلِ، وقد سَاوَى المَطرَ في العُذْرِ في تَرْكِ الجُمُعَةِ والجَماعَةِ، فدَلَّ على تَسَاوِيهما في المَشَقَّةِ المَرْعِيَّةِ في الحُكْمِ. فصل (¬4): فأمَّا الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ، في اللَّيْلَةِ البارِدَةِ، ففيها وَجْهان؛ ¬

(¬1) في م: «المشقة». (¬2) في: المغنى 3/ 133. (¬3) في الأصل: «التلويث». (¬4) هذا الفصل ليس في الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، يُبِيحُ الجَمْعَ. قال الآمِدِىُّ: وهو أَصَحُّ. يُرْوَى عن عمرَ بن عبدِ العزِيزِ؛ لأنَّ ذلك عُذْرٌ في تَرْكِ الجُمُعَةِ والجمَاعَةِ، بدَلِيلِ ما روَى محمدُ ابنُ الصَّبّاحِ، حدَّثنا سُفْيانُ، عن أيُّوبَ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ: قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَادِى مُنادِيه في اللَّيْلَةِ المَطِيرَةِ، واللَّيْلَةِ البارِدَةِ ذاتِ الرِّيِحِ: «صَلُّوا في رِحَالِكُمْ» رَواه ابنُ ماجه (¬1). والثَّانِى، لا يُبِيحُه؛ لأنَّ مَشَقَّتَه دُونَ مَشَقَّةِ المَطرَ، فلا يَصِحُّ القِياسُ، ولأنَّ مَشَقَّتَها مِن غيرِ جِنْسِ مَشَقَّةِ المَطرَ، ولا ضابِطَ لذلك يَجْتَمِعان فيه، فلم يَصِحَّ الإِلحاقُ. فصل: وهل يَجُوزُ الجَمْعُ لمُنْفَرِدٍ، أو لمَن طرِيقُه تحتَ سَابَاطٍ يَمْنَعُ وُصُولَ المطرَ إليه، أو مَن كان مُقامُه في المَسْجِدِ، أو لمَن يُصَلِّى في بَيْتِه؟ على وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، الجَوازُ. قال القاضى: وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 472.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الرُّخْصَةَ العامَّةَ يَسْتَوِى فيها حالُ وُجُودِ المَشَقَّةِ وعَدَمِها، كالسَّفَرِ، وكإباحَةِ السَّلَمِ في حَقِّ مَن ليس له إليه حاجَةٌ، [وإِباحَةِ اقْتِناءِ] (¬1) الكَلْبِ للصَّيْدِ والماشِيَةِ لمَن لا يَحْتاجُ إليها. وقد رُوِيَ أنَّه عليه السَّلامُ جَمَع في مَطرَ وليس بينَ حُجْرَتِه ومَسْجِدِه شئٌ. والثَّانِى، المَنْعُ. اخْتارَه ابنُ عَقِيل؛ لأنَّ الجَمْع لأجْلِ المَشَقَّةِ, فاخْتَصَّ بمَن تَلْحَقُه المَشَقَّةُ، [كالرُّخْصَة في التَّخَلُّفِ عن الجُمُعَةِ والجَماعَةِ] (¬2)، دُونَ مَن لا تَلْحَقُه، كمَن في الجامِعِ والقَرِيبِ منه. ¬

(¬1) في م: «كاقتناء». (¬2) سقط من: الأصل.

612 - مسألة: (ويفعل الأرفق به؛ من تأخير الأولى إلى وقت الثانية، أو تقديم الثانية إليها)

وَيَفْعَلُ الْأَرْفَقَ بِهِ؛ مِنْ تَأْخِيرِ الأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، أوْ تَقْدِيم الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 612 - مسألة: (ويَفْعَلُ الأرْفَقَ به؛ مِن تَأْخِيرِ الأُولَى إلى وَقْتِ الثّانِيَةِ، أو تَقْدِيمِ الثّانِيَةِ إليها) هذا هو الصَّحِيحُ مِن المذْهَبِ، وعليه أكثرُ الأصْحابِ، وهو أنَّ المُسافِرَ مُخَيَّرٌ في الجَمْعِ بينَ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِير. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ أَنَّه لا يَجُوزُ الجَمْع إلَّا إذا كان سائِرًا في وَقْتِ الأُولَى، فيُؤَخِّرُها إلى وَقْتِ الثَّانِيَةِ. وهي رِوايَةٌ عن أحمدَ. ويُرْوَى ذلك عن سعدٍ، وابنِ عمرَ، وعِكْرِمَةَ، أخْذًا بحَدِيثَى ابنِ عمرَ وأنَسٍ الصَّحِيحَيْن. وقال القاضى: هذه الرِّوايَةُ هى الفَضِيلَةُ والاسْتِحْبابُ، وإن جَمَع بينَهما في وَقْتِ الأُولَى، جاز، نازِلًا كان أو سائِرًا، أوْ مُقِيمًا في بَلَدٍ إقامَةً لا تَمْنَعُ القَصْرَ. وهذا قَوْلُ عطاءٍ، وأكثرِ عُلماءِ المَدِينَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لِما روَى مُعاذٌ، قال: خَرَجْنا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فكان إذا ارْتَحَلَ قبلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أخَّرَ الظُّهْرَ حتَّى يَجْمَعَها إلى العَصْرِ، فيُصَلِّيَهما جَمِيعًا، وإذا ارْتحَلَ بعدَ زَيْغ الشَّمْسِ، صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعًا ثم سار، وإذا ارْتَحَلَ قبلَ المَغْرِبِ أخَّرَ المَغْرِبَ حتَّى يُصَلِّيَها مع العِشاءِ، وإذا ارْتَحَلَ بعدَ المَغْرِبِ عَجَّلَ العِشَاءَ، فَصَلَّاهَا مع المَغْرِبِ. رَواه أبو داودَ، والتِّرمِذِىُّ (¬1)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ. وروَى مالكٌ في «المُوَطَّأِ» (¬2)، عن أبى الزُّبَيْرِ، عن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 276. والترمذى، في: باب في الجمع بين الصلاتين، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 26، 27. كما أخرجه الإِمام أَحمد، في: المسند 5/ 241، 242. (¬2) في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 143. كما أخرجه مسلم، في: باب في معجزات النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1784. وأبو داود، في: باب الجمع بين الصلاتين، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 275. والنسائى، في: باب الوقت الذى يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر، من كتاب المواقيت. المجتبى 1/ 299. والدارمى، في: باب الجمع بن الصلاتين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 356. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى الطُّفَيْلِ، أنَّ مُعاذًا أخْبَرَهُ، أنَّهم خَرَجُوا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فكان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، والمَغْرِبِ والعِشاءِ. قال: فأخَّرَ الصلاةَ يَوْمًا، ثم خَرَج فَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعًا ثم دَخَل، ثمَّ خَرَج فصَلَّى المَغْرِبَ والعِشاءَ جَمِيعًا. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثابِتُ الإِسْنادِ. وفى هذا الدَّليلِ أوْضَحُ الدَّلائلِ في الرَّدِّ على مَن قال: لا يَجْمَعُ بينَ الصَّلَاتيْن إلَّا إذا جَدَّ به السَّيْرُ؛ لأنَّه كان يَجْمَعُ وهو نازِلٌ غيرُ سائِرٍ، ماكِثٌ في خِبائِه، يَخْرُجُ فيُصَلِّي الصَّلَاتيْن جَمِيعًا، فتَعَيَّنَ الأَخْذُ بهذا الحديثِ، لثُبُوتِه وكَوْنِه صَرِيحًا في الحُكْمِ مِن غيرِ مُعارِضٍ له، ولأنَّ الجَمْعَ رُخْصَةٌ مِن رُخَصِ السَّفَرِ، فلم يَخْتَصَّ بحالَةِ السَّيْرِ، كالقَصْرِ والمَسْحِ ثَلاثًا، لكنَّ الأفْضَلَ التَّأْخِيرُ؛ لأنَّه أحْوَطُ، وفيه خُرُوجٌ مِن الخِلافِ عندَ القائِلِينَ بالجَمْعِ، وعَمَلٌ بالأحادِيثِ كُلِّها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَرِيضُ مُخيَّرٌ في التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، كالمُسافِرِ. فإنِ اسْتَوَى عندَه الأمْرانِ، فالتَّأْخِيرُ أفْضَلُ؛ لِما ذَكَرْنا في المُسافِرِ. فأمَّا الجَمْعُ للمَطرِ فإنَّما يُفْعَلُ في وَقْتِ الأُولَى؛ لأنَّ السَّلَفَ إنَّما كانوا يَجْمَعُونَ في وَقْتِ الأُولَى، ولأنَّ تأْخِيرَ الأُولَى إلى وَقْتِ الثَّانيةِ يُفْضِى إلى المَشَقَّةِ بالانْتِظارِ، والخُرُوجِ في الظُّلْمَةِ، ولأنَّ العادَةَ اجْتِماعُ النَّاسِ للمَغْرِبِ، فإذا حَبَسَهم في المَسْجِدِ ليَجْمَعَ بينَ الصلاتَيْنِ في وَقْتِ الثَّانِيَةِ، كان أشَقَّ مِن أنْ يُصَلِّىَ كلَّ صلاةٍ في وَقْتِها. وإنِ اخْتارَ تَأْخيرَ الجَمْعِ، جاز. والمُسْتَحَبُّ أن يُؤَخِّرَ الأُولَى عن أوَّلِ وَقْتِها شيئًا. قال أحمدُ: يَجْمَعُ بينَهما، إذاْ اخْتَلَطَ الظَّلامُ قبلَ أن يَغِيبَ الشَّفَقُ، كذا (¬1) فَعَلَ ابنُ عمرَ. قيلَ لأبى عبدِ اللَّه: فكَأنَّ سُنَّةَ الجَمْعِ بينَ الصَّلاتَيْن في المَطرِ عندَك أن يَجْمَعَ قبلَ أن يَغِيبَ الشَّفَقُ، وفى السَّفَرِ (¬2) أن يُؤخِّرَ حتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ؟ قال: نعم. فصل: ولا يَجُوزُ الجَمْعُ لغيرِ مَن ذَكَرْنا. وقال ابنُ شُبْرُمَة: يَجُوزُ ¬

(¬1) في م: «الذى». (¬2) في م: «الشفق».

613 - مسألة: (وللجمع فى وقت الأولى ثلاثة شروط؛ نية

وَلِلْجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ نِيَّةُ الْجَمْعِ عِنْدَ إِحْرَامِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كانت حاجةٌ أو شئٌ، ما لم يَتَّخذْه عادَةً؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، والمَغْرِبِ والعِشاء مِن غيرِ خَوْفٍ ولا مَطرٍ. فقِيلَ لابنِ عباسٍ: لم فَعَل ذلك؟ قال: أَرادَ أَن لا يُحْرِجَ أُمَّتَه (¬1). ولَنا، عُمُومُ أخْبارِ المَواقِيتِ، وحَدِيثُ ابنِ عباسٍ مَحْمُولٌ على حالَةِ المَرَضِ، ويَجُوزُ أن يكونَ صَلَّى الأُولَى في آخِرِ وَقْتِها، والثَّانِيَةَ في أوَّلِ وَقْتِها، فإنَّ عمرَو بنَ دِينارٍ روَى هذا الحدِيثَ عن جابرِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ عَباسٍ، قال عمرو: قلتُ لجابِرٍ (¬2): يَا أبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّه أخَّرَ الظُّهْرَ وعَجَّلَ العَصْرَ، وأخَّرَ المَغْرِبَ وعَجَّلَ العِشاءَ. قال: وأنا أظُنُّ ذلك (¬3). 613 - مسألة: (وللجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى ثَلاثَةُ شُرُوطٍ؛ نِيَّةُ ¬

(¬1) تقدم في الرواية الأولى لحديث ابن عباس في صفحة 89. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب تأخير الظهر إلى العصر، من كتاب مواقيت الصلاة. صحيح البخارى 1/ 143، 144. ومسلم، في: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 491.

وَيَحْتَمِلُ أنْ تُجْزِئَهُ النِّيَّةُ قَبْلَ سَلَامِهَا، وَأنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِقَدْرِ. الإِقَامَةِ وَالْوُضُوءِ، فَإِنْ صَلَّى السُّنَّةَ بَيْنَهُمَا، بَطَلَ الْجَمْعُ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأنْ يَكُونَ الْعُذْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاتيْنِ وَسَلَامَ الأُولَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمْعِ عندَ إحْرامِها، وَيحْتَمِلُ أن تُجْزِئَه النِّيَّةُ قبلَ سلامِها. وأن لا يُفَرِّقَ بَيْنَهما إلَّا بقَدْرِ الإِقامَةِ والوُضُوءِ، فَإِنْ صَلَّى السُّنَّةَ بَيْنَهما، بَطَل الجَمْعُ، في إحْدَى الرِّوايتَيْن. وأن يَكُونَ العُذْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ افْتِتاحِ الصَّلاتَيْنِ وسَلامِ الأُولَى) نِيَّةُ الجَمْعِ شَرْطٌ لجَوازِه في المَشْهُورِ مِن المَذْهَبِ. وقال أبو بكرٍ: لا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الجَمْعِ. كقولِه في القَصْرِ، وقد ذَكَرْناه (¬1). والتَّفْرِيعُ على الأوَّلِ. ومَوْضِعُ النِّيَّةِ إذا جَمَع في وَقْتِ الأُولَى عندَ الإِحْرامِ بها؛ لأنَّها نِيَّةٌ تَفْتَقِرُ إليها الصلاةُ، فاعْتُبِرَتْ عندَ الإحْرامِ، كنِيَّةِ القَصْرِ. وفيه وَجْهٌ ثانٍ، أنَّ مَوْضِعَها [مِن أوَّلِ الصَّلاةِ الأُولَى] (¬2) إلى ¬

(¬1) تقدم في صفحة 62. (¬2) في م: «أول الصلاة من الأولى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَلامِها، فمتى نَوَى قبلَ سَلامِ الأُولَى أجْزَأَه؛ لأنَّ مَوْضِعَ الجَمْعِ عندَ الفَراغِ مِن الأُولَى إلى الشُّرُوعِ في الثَّانِيَةِ، فإذا لم تَتَأَخَّرِ النِّيَّةُ عنه، أجْزَأَه ذلك. ويُعْتَبَرُ أن لا يُفَرِّقَ بينَهما إلَّا تَفْرِيقًا يَسِيرًا. والمَرْجِعُ في اليَسِيرِ إلى العُرْفِ والعادَةِ، وقَدَّرَه بعضُ أَصْحابِنا بقَدْرِ الوُضُوءِ والإِقامَةِ. والصَّحِيحُ، أنَّه لا حَدَّ له؛ لأنَّ التَّقْدِيرَ بابُه التَّوقِيفُ، فما لم يَرِدْ فيه تَوْقِيفٌ فيُرْجَعُ فيه إلى العادَةِ، كالقَبْضِ والإِحْرازِ. فإن فَرَّقَ بينَهما تَفْرِيقًا كَثِيرًا بَطَل الجَمْعُ، سَواءٌ فَعَلَه عَمْدًا أو لنَوْمٍ أو شُغْلٍ أو سَهْوٍ أو غيرِ ذلك؛ لأنَّ الشَّرْطَ لا يَثْبُتُ المَشْرُوطُ بدُونِه. والمَرْجِعُ في الكَثِيرِ إلى العُرْفِ والعادَةِ كما قُلْنا في اليَسِيرِ. ومتى احْتاجَ إلى الوُضُوءِ والتيَّمُّمِ فَعَلَه إذا لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَطُلْ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن تَكَلَّمَ بكَلامٍ يَسِيرٍ لمِ يَبْطُلِ الجَمْعُ. وإن صَلَّى بينَهما السُّنَّةَ بَطِل الجَمْعُ في الظَّاهرِ؛ لأنَّه فرَّقَ بَيْنَهما بصلاةٍ، فبَطَلَ الجَمْعُ، كما لو صَلّى بينَهما غيرَها. وعنه، لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه تَفْرِيقٌ يَسِيرٌ، أشْبَهَ الوُضُوءَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُعْتَبَرُ للجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى وُجُودُ العُذْرِ حالَ افْتِتاحِ الصَّلَاتيْن والفَراغِ مِن الأُولَى؛ لأنَّ افْتِتاحَ الأُولَى مَوْضِعُ النِّيَّةِ، وبافْتِتاحِ الثَّانِيَةِ يَحْصُلُ الجَمْعُ، فاعْتُبِرَ العُذْرُ في هَذَيْن الوَقتَيْن، فمتى زال العُذْرُ في أحَدِ هذه الثَّلاثَةِ لم يُبَحِ الجَمْعُ. وإن زال المَطرُ في أثْناءِ الأُولَى، ثم عاد قبلَ تَمامِها، أو انْقَطَعَ بعدَ الإِحْرامِ بالثّانِيَةِ، جاز الجَمْعُ، ولم يُؤثِّرِ انْقِطاعُه؛ لأنَّ العُذْرَ وُجِدَ في وَقْتِ اشْتِراطِه، فلم يَضُرَّ عَدَمُه في غيرِه. فأمَّا المُسافِرُ إذا نَوَى الإِقامَةَ في أثْناءِ الصَّلاةِ الأُولَى انْقَطَعَ الجَمْعُ والقَصْرُ، ولَزِمَهُ الإِتْمامُ. فلو عاد فنَوَى السَّفَرَ، لم يُبَحْ له التَّرَخُّصُ حتَّى يُفارِقَ البَلَدَ الذى هو فيه. وإن نَوَى الإِقامَةَ بعدَ الإِحْرامِ بالثَّانِيَةِ، أو دَخَلَتْ به السَّفِينَةُ البَلَدَ في أثْنائِها، احْتَمَلَ أنَ يُتِمَّها، ويَصِحُّ قِياسًا على انْقِطاعِ المَطرَ. قال بعضُ أصحابِ الشَّافعىّ: هذا الذى يَقْتَضِيه مَذْهَبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ. واحْتَمَلَ أن تَنْقَلِبَ نَفْلًا، ويَبْطُل الجَمْعُ؛ لأنَّه أحَدُ رُخَصِ السَّفَرِ، فبَطَلَ بذلك، كالقَصْرِ والمَسْحِ، ولأنَّه زال شَرْطها في أثْنائِها، أشْبَهَ سائِرَ شُرُوطِها. ويُفارِقُ انْقِطاعَ المَطرَ مِن وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، أنَّه لا يَتَحَقَّقُ انْقِطاعُه، لاحْتِمالِ عَوْدِه في أثْناءِ الصَّلاةِ. والثَّانِى، أنَّه يَخْلُفُه عُذْرٌ مُبِيحٌ، وهو الوَحْلُ، بخِلافِ مَسْأَلتِنا. وهكذا الحُكْمُ في المَرِيضِ يَزُولُ عُذْرُه في أثْناءِ الصَّلاةِ الثَّانِيَةِ. فأمَّا إن لم يَزُلَ العُذْرُ إلَّا بعدَ الفَراغِ مِن الثَّانِيَةِ قبلَ دُخُولِ وَقْتِها، صَحَّ الجَمْعُ، ولم يَلْزَمْه إعادَةُ الثَّانِيَةِ في وَقْتِها؛ لأنَّ الصلاةَ وَقَعَت صَحِيحَةً مُجْزِئَةً مُبْرِئَةً للذِّمَّةِ، فلم تَشْتَغِلِ الذِّمَّةُ بها بعدَ ذلك، كالمُتَيَمِّمِ إذا وَجَد الماءَ في الوَقْتِ بعدَ فَراغِه مِن الصَّلاةِ. فصل: وإذا جَمَع في وَقْتِ الأُولَى، فله أن يُصَلِّى سُنَّةَ الثَّانِيَةِ منهما،

614 - مسألة: (وإن جمع فى وقت الثانية كفاه نية الجمع فى وقت الأولى، ما لم يضق عن فعلها، واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية

وَإنْ جَمَعَ في وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَفَاهُ نِيَّةُ الْجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى، مَا لَمْ يَضِقْ عَنْ فِعْلِهَا، واسْتِمْرَارُ الْعُذْرِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُوتِرَ قبلَ دُخُولِ الثَّانِيَةِ؛ لأنَّ سُنَّتَهَا تابِعَةٌ لها، فَتَتْبَعُها في فِعْلِها ووَقْتِها، ولأنَّ الوِتْرَ وَقْتُه ما بينَ صلاةِ العِشاءِ والصُّبْحِ، وقد صَلَّى العِشاءَ، فدَخَلَ وَقْتُه. 614 - مسألة: (وإن جَمَع في وَقْتِ الثَّانيةِ كَفَاهُ نِيَّةُ الجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى، ما لم يَضِقْ عن فِعْلِها، واسْتِمْرارُ العُذْرِ إلى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ

وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما, ولا يُشْتَرَطُ غيرُ ذلك) متى جَمَع في وَقْتِ الثَّانيةِ، فلا بُدَّ من نِيَّةِ الجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى، فمَوْضِعُ النِّيَّةِ في وَقْتِ الأُولَى من أوَّلِه إلى أن يَبْقَى منه قَدْرُ ما يُصَلِّيها، هكذا ذَكَرَه أصحابُنا؛ لأنَّه متى أخَّرَها عن ذلك بغيرِ نِيَّةٍ صارَتْ قَضاءً لا جَمْعًا, ولأنَّ تأْخِيرَها عن القَدْرِ الذى يَضِيقُ عن فِعْلِها حَرامٌ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يكونَ وَقْتُ النِّيَّةِ أن يَبْقَى منه قَدْرُ ما يُدْرِكُها به، وهو رَكْعَةٌ، أو تَكْبِيرَةٌ، على ما ذَكَرْنا مُتَقَدِّمًا. ويُعْتَبَرُ بَقاءُ العُذْرِ إلى حينِ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فإن زال في وَقْتِ الأُولَى، ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَرِيضِ يَبْرَأُ، والمُسافِرِ يَقْدَمُ، والمَطرَ يَنْقَطِعُ، لم يُبَح الجَمْعُ لزَوالِ سَبَبِه، وإنِ اسْتَمَرَّ إلى وَقْتِ الثَّانِيَةِ جَمَع وإن زال العُذْرُ؛ لأنَّهما صارَتا واجِبَتَيْن في ذِمَّتِه، فلا بُدَّ له مِن فِعْلِهما (¬1). فصل: ولا تُشْتَرَطُ المُواصَلَةُ بينَهما إذا جَمَع في وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ لأنَّه متى صلَّى الأُولَى، فالثّانِيَةُ في وَقْتِها لا يَخرُجُ بتَأْخِيرِها عن كَوْنِها مُؤَدّاةً. ¬

(¬1) في م: «فعلها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه وَجْهٌ، أنَّ المُواصَلَةَ مُشْتَرَطَةٌ؛ لأنَّ حَقِيقَةَ الجَمْعِ ضَمُّ الشَّىْءِ إلى الشئِ، ولا يَحْصُلُ مع التَّفْرِيقِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الأُولَى بعدَ وُقُوعِها صَحِيحَةً لا تَبْطُلُ بشئٍ يُوجَدُ بعدَها، والثَّانِيَةُ لا تَقَعُ إلَّا في وَقْتِها. فصل: وإذا صَلَّى إحْدَى صَلاتَى الجَمْعَ مع الإِمامَ، والثّانِيَةَ مع إمامٍ آخَرَ، أو صَلَّى معه مَأْمُومٌ في إحْدَى الصلاتَيْن، وصَلَّى معه في الثّانِيَةِ مَأْمُومٌ آخَرُ، صَحَّ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الإِمام والمَأْمُومِ أحدُ مَن يَتِمُّ به الجَمْعُ، فاشْتُرِطَ دَوامُه (¬1)، كالعُذْرِ. ولَنا، أنَّ لكلِّ صلاةٍ حُكْمَ نَفْسِها، وهي مُنْفَرِدَةٌ بنِيَّتِها، فلم يُشْتَرَطِ اتَّحادُ الإِمامِ والمَأْمُومِ، كغيرِ المَجْمُوعَتَيْن. وقولُه: إنَّ الإمامَ والمَأْمُومَ أحَدُ مَن يَتِمُّ به الجَمْعُ. لا يَصِحُّ في المُسافِرِ والمَرِيضِ؛ لجَوازِ الجَمْعِ لكلِّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا، وفى المَطَرِ في أَحَد الوَجْهَيْن. وإن قُلْنا: إنَّ الجَمْعَ في المَطرَ لا يَجُوزُ للمُنْفَرِدِ. فالذي يَتِمُّ به الجَمْعُ الجَماعَةُ، لا عَيْنُ الإِمامِ والمَأْمُومِ، ولم تَخْتَلَّ الجماعةُ. وعلى ما قُلْنا، لو ائْتَمَّ المَأْمُومُ بإمامٍ (¬2) لا يَنْوِي الجَمْعَ ونَواهُ المَأْمُومُ (¬3)، فلَمَّاْ سَلَّمَ الإِمَامُ صَلَّى المأْمُومُ الثّانِيَةَ، ¬

(¬1) في م: «وجود دوامه». (¬2) في م: «بالإمام». (¬3) في م: «الإمام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جازَ؛ لأنَّنا أبَحْنا له مُفارَقَةَ إمامِه في الصَّلاةِ الواحِدَةِ لعُذْرٍ، ففي الصَّلاتَيْنِ أَولَى، وإنَّما نَوَى أن يَفْعَلَ في غيرِها، فلم يُؤَثِّرْ، كما لو نَوَى المُسافِرُ في الأُولَى إتْمامَ الثانِيَةِ، فلم تَخْتَلِفْ نِيَّتهما في الصّلاةِ الأُولَى. وهكذا لو صَلَّى المُسافِرُ بِمُقِيمِينَ، ونَوَى الجمْعَ، فلَمَّا صَلَّى بهم الأُولَى قام فصَلَّى الثانِيَةَ، جازَ. وهكذا لو صَلَّى إحْدَى صَلاتَى الجَمْع مُنْفَرِدًا، ثم حَضَرَتْ جماعَةٌ يُصَلُّونَ الثانيةَ، فأمَّهُم فيها، أو صَلَّى (¬1) معهم مَأْمُومًا، جاز. وقولُ ابنِ عَقِيلٍ يَقْتَضِى أن لا يَجُوزَ شئ مِن ذلك. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «فصلى».

فصل فى صلاة الخوف

فَصْلٌ في صَلَاةِ الْخَوْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللَّهُ: (فصلٌ في صلاةِ الخَوْفِ) وهي جائِزَةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ؛ أمَّا الكِتابُ، فقولُه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1) الآية. وأمّا السُّنَّةُ، فثَبَتَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصَلِّى صلاةَ الخَوْفِ، وحُكْمُها باقٍ في قَوْلِ جُمْهورِ أهْلِ العِلْمِ. وقال أبو يُوسُف: إنَّما كانت مُخْتَصَّةً بالنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بدَلِيلِ قولِه سُبْحانَه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}. وما قاله غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنَّ ما ثَبَت في حَقِّ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَبَت في حَقِّنا ما لم يَقُمْ على اخْتِصاصِه به دَلِيلٌ؛ لأنَّ اللَّه تعالى أمَرَنا باتِّباعِه، ولمّا سُئِل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القُبْلَةِ للصّائِمِ؟ أجاب بـ: «إنِّى أفْعَلُ ذلك». فقال السّائِلُ: لَسْتَ مِثْلَنا، فغَضِبَ وقال: «إنِّى لَأرْجُو أنْ أكُونَ أخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأعْلَمَكُمْ بِمَا أتَّقِى» (¬2). ولو اخْتَصَّ بفِعْلِه لَما حَصَل جَوابُ السّائِلِ بالإِخْبارِ بفِعْلِه، ولا غضِبَ مِن قَوْلِ السّائِلِ: لَسْتَ مِثْلَنا؛ لأنَّ قَوْلَه إذًا كان صَوابًا. وقد كان أصْحابُ النَّبِىّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْتَجُّون بأفْعالِه، ويَرَوْنَها مُعارِضَةً لقَوْلِه وناسِخَةً له، ولذلك لمّا أخْبَرَتْ عائشةُ وأُمُّ سَلَمَةَ، بأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصْبِحُ جُنُبًا مِن غيرِ احْتِلام، ثم يَغْتَسِلُ ¬

(¬1) سورة النساء 102. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 779. وانظر: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 781. وأبو داود في: باب في من أصبع جنبًا في شهر رمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 557. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صيام الذى يصبح جنبًا في رمضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 289. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 67، 156، 245.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَصُومُ ذلك اليَوْمَ (¬1). تَرَكُوا به خَبَرَ أبى هُرَيْرَةَ: «مَنْ أصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ له» (¬2) ولمَّا ذَكَرُوا ذلك لأبى هُرَيْرَةَ، قال: هُنَّ أعْلَمُ، إنَّما حَدَّثَنِى به الفَضْلُ بنُ عباسٍ، ورَجَع عن قَوْلِه. وأيضًا فإنَّ الصَّحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أجْمَعُوا على صلاةِ الخَوْفِ، فصَلَّاها علىٌّ لَيْلَةَ الهَرِيرِ (¬3) بصِفِّينَ، وصَلّاها أبو مُوسى الأشْعَرِىُّ بأصْحابِه (¬4)، ورُوِىَ أنَّ سَعيدَ (¬5) بنَ العاصِ كان أمِيرًا على الجَيْشِ بِطَبَرِستْانَ، فقالَ: أيُّكُم صَلَّى مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الصائم يصبح جنبا, وباب اغتسال الصائم، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 38، 40. ومسلم، في: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 780، 781. والنسائى عن أم سلمة، في: باب ترك الوضوء مما غيرت النار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 90. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الرجل يصبح جنبًا وهو يريد الصيام، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 543، 544. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صيام الذى يصبح جنبًا في رمضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 289، 290. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 34، 36، 38، 67، 71، 99، 183، 184، 216، 229، 253، 256، 262، 279، 290، 306، 308، 310، 312، 313. (¬2) أخرجه البخارى معلقا، في: باب الصائم يصبح جنبًا، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 38. ومسلم، في: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 779، 780. وابن ماجه، في: باب مما جاء في الرجل يصبح جنبًا وهو يريد الصيام، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 543. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صيام الذى يصبح جنبًا في مضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 290، 291. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 184، 203، 266. (¬3) ليلة الهرير في حرب صفين، بين على ومعاوية، اقتتل الناس تلك الليلة حتى الصباح، حتى تقصفت الرماح، ونفد النبل، وصار الناس إلى السيوف. انظر خبرها في: تاريخ الطبرى 5/ 47. وأخرج البيهقى هذا، في: باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ، من كتاب صلاة الخوف. السنن الكبرى 3/ 252. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في صلاة الخوف كم هى، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 465. والبيهقى، في: الباب السابق. (¬5) في م: «سعد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاةَ الخَوْفِ؟ فقال حُذَيْفَةُ: أنا. فَقَدَّمَه، فصَلَّى بهم (¬1). فأمّا تَخْصِيصُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالخِطابِ، فلا يُوجِبُ تَخْصِيصَه بالحُكْمِ؛ لِما ذَكَرْنا, ولأنَّ الصَّحابةَ أنْكَرُوا على مانِعِى الزَّكاةِ قَوْلَهم (¬2): إنَّ اللَّه تَعالَى خَصَّ نَبِيَّه يأخْذِ الزَّكاةِ. بقَوْلِه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3). فإن قِيلَ: فالنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَّرَ الصلاةَ يَوْمَ الخَنْدَقِ, ولم يُصَلِّ. قُلْنا: هذا (¬4) الاعْتِراضُ باطِلٌ في نَفْسِه؛ إذْ لا خِلافَ في أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان له أن يُصَلِّىَ صلاةَ الخَوْفِ، وقد أمَرَه اللَّهُ بها في كِتابِه، فلا يَجُوزُ الاحْتِجاجُ بما يُخالِفُ الكِتابَ والإِجْماعَ، وإنَّما كان ذلك قبلَ نُزُولِ صلاةِ الخَوْفِ، وإنَّما يُوخَذُ بالآخِرِ فالآخِرِ مِن أمْرِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-[أَخَّرَ الصلاةَ نِسْيانًا، فإنَّه رُوِىَ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَألَهُم عن صلاِتِهم، قالوا: ما صَلَّيْنا. ورُوِىَ أنَّ عُمرَ، قال: ما صَلَّيْتُ العَصْرَ. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» (¬5). أو: كما جاءَ] (¬6). ومِمّا يَدُلُّ على ذلك أنَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 286. والنسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 136. وابن أبى شيبة، في: باب في صلاة الخوف كم هى، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 461، 462. وانظر السنن الكبرى للبيهقى الباب السابق. (¬2) في م: «وقولهم». (¬3) سورة التوبة 103. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب من صل بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، من كتاب المواقيت، وفى: باب قول الرجل ما صلينا، من كتاب الأذان، وفى: باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، من كتاب صلاة الخوف. صحيح البخارى 1/ 154، 165، 2/ 19. ومسلم، في: باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة الحصر، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 438. والترمذى، في: باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 1/ 292. (¬6) سقط من: الأصل.

615 - مسألة؛ (قال الإمام أبو عبد الله: صح عن النبى -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف من خمسة أوجه، أو ستة)

قَالَ الإمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: صَحَّ عَنِ النَّبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةُ الْخَوْفِ مِنْ خَمْسَةِ أَوجُهٍ، أو سِتَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ فَعلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَكُنْ ثَمَّ قِتالٌ يَمْنَعُه مِن الصَّلاةِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّما تَجُوزُ صَلاةُ الخَوْفِ إذا كان العَدُوُّ مُباحَ القِتالِ، ويُشْتَرَطُ أن لا يُؤْمَنَ هُجُومُه على المُسلِمين، وتَجُوزُ على كلِّ صِفَةٍ صلّاها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 615 - مسألة؛ (قال الإِمامُ أبو عبدِ اللَّهِ: صَحَّ عن النَّبِىّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاةُ الخَوْفِ مِن خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، أو سِتَّةٍ). [أو قال: سِتَّةٍ أوسَبْعَةٍ] (¬1)، (كُلُّ ذَلك جائِزٌ لمَن فَعَلَه). قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبِى عبدِ اللَّهِ: تَقُولُ بالأحادِيثِ كُلِّها، أو تَخْتارُ واحِدًا منها؟ قال: أنا أقولُ مَن ذَهَب إليها كُلِّها فحَسَنٌ، وأمّا حَدِيثُ سَهْلٍ (¬2) فأنا أخْتارُه. فنَذْكُرُ الوُجُوهَ التى بَلَغَتْنا؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب غزوة ذات الرقاع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 146. ومسلم، في: باب صلاة الخوف، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 575. وأبو داود، في: باب من قال: يقوم صف مع الإِمام وصف وجاه العدو. . . إلخ، وباب من قال: إذا صلى ركعة وثبت قائمًا أتموا لأنفسهم. . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 282، 283. والترمذى، في: باب ما جاء في صلاة الخوف، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 44. والنسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 948. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الخوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 399. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 448.

فَمِنْ ذَلِكَ، إِذَا كَان الْعَدُوُّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ، صَفَّ الإمَامُ الْمُسْلِمِينَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَصَلَّى بِهِم جَمِيعًا إِلَى أنْ يَسْجُدَ فَيَسْجُدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِى يَلِيهِ، وَيَحْرُسَ الْآخرُ حَتَّى يَقُومَ الإمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَإِذَا سَجَدَ في الثَّانِيَةِ، سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِى حَرَسَ، وَحَرَسَ الْآخَرُ حَتَّى يَجْلِسَ في التَّشَهُّدِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأوَّلُها: (إذا كان العَدُوُّ في جِهَةِ القِبْلَةِ) بحيثُ (¬1) لا يَخْفَى بَعْضُهم على المسلمين، ولم يَخَافُوا كَمِينًا، فيُصَلِّى بهم، كما روَى جابِرٌ، قال: شَهِدْتُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاةَ الخَوْفِ فصَفَّنا خَلْفَه صَفَّيْن، والعَدُوُّ بَيْنَنا وبينَ القِبْلَةِ، فكَبَّرَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وكَبَّرْنا جَمِيعًا، ثم رَكَع ورَكَعْنا، ثم رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ ورَفَعْنا جميعًا، ثم انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الذى يَلِيه، وقامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ (¬2)، فلَمّا قَضَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ، وقام الصَّفُّ الذى يَلِيهِ، انْحَدَرَ (¬3) الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ وقامُوا، ثم تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ، وتَأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في نحر العدو: أى في مقابلته. ونحر كل شئ أوله. (¬3) في م: «وانحدر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكَع رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ورَكَعْنا جَمِيعًا، ورَفَع رَأْسَه مِن الرُّكُوعِ وَرَفَعْنا جَمِيعًا، ثم انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفّ الذى يَلِيهِ الذى كان مُؤخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وقامَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فلَمَّا قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ، وقامَ الصَّفُّ الذى يَلِيه، انْحَدَرَ الصَّفّ المُؤخَّرُ بالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا (¬1) ثم سَلَّمَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسَلَّمْنا جَمِيعًا. أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). وروَى أبو عَيّاشٍ الزُّرَقِىُّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بعُسْفانَ نَحْوَ هذه الصَّلاةِ، وصَلّاها يَوْمَ بَنِى سُلَيْمٍ. رَواه أبو داودَ (¬3). وإن حَرَس الصَّفُّ الأوَّلُ في ¬

(¬1) المثبت من صحيح مسلم. وهي في الأصل: «سجد». وسقطت من: م. (¬2) في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 574، 575. كما أخرجه النسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 143. (¬3) في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة السفر. سنن أبى داود 1/ 282. كما أخرجه النسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 144، 145. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 59، 60. بعده في م: «قلت وأخرجه مسلم عن جابر. قال البيهقى وهو صحيح». وانظر السنن الكبرى 3/ 257.

الْوَجْهُ الثَّانِى، إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، جَعَلَ طَائِفَةً حِذَاءَ الْعَدُوِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى، والثَّانِى في الثّانِيَةِ، أوْ لم يَتَقَدَّم الثانِى إلى مَقَامِ الأوَّلِ، أو حَرَس بعضُ الصَّفِّ وسَجَد الباقُون، جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ، لَكِنَّ الأوْلَى أن تُفْعَلَ مثلَ ما فَعَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. و (الوَجْه الثّانِى، إذا كان العَدُوُّ في غيرِ جِهَةِ القِبْلَةِ) فيُصَلِّى بهم كما

وَطَائِفَةً تُصَلِّى مَعَهُ رَكْعَةً، فَإذَا قَامُوا إلَى الثَّانِيَةِ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأتَمَّتْ لِأنْفُسِهَا أُخْرَى، وَسَلَّمَتْ وَمَضتْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الأُخْرَى فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَإذا جَلَسَ للِتَّشَهُّدِ أتَمَّتْ لِأنْفُسِهَا أُخْرَى، وَتَشَهَّدَتْ وَسَلَّمَ بِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى صالحُ بنُ خَوّاتٍ، عنِ مَن صَلَّى مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ ذاتِ الرِّقاعِ صلاةَ الخَوْفِ، أنَّ طائِفَةً صَفَّتْ معه، وطائِفَةً وِجاهَ العَدُوِّ. فصَلَّى بالتى معه رَكْعَةً، ثم ثَبَت قَائِمًا، وأتمُّوا لأنْفُسِهِم، ثم انْصَرُفوا فصَفُّوا وِجاهَ العَدُوِّ، وجاءَتِ الظّائِفَةُ الأخْرَى، فصَلَّى بهم الرَّكْعَةَ التى بَقِيَتْ مِن صلاتِه، ثم ثَبَت جالِسًا، وأتمُّوا لأنْفُسِهم، ثم سَلَّمَ بهم. رَواه مسلمٌ (¬1). وروَى سَهْلُ بنُ أبى حَثْمَةَ نَحْوَ ذلك. واشْتَرَطَ القاضى لهذه الصَّلاةِ كَوْنَ العَدُوِّ في غيرِ جِهَةِ القِبْلَةِ. ونَصَّ أحمدُ على خِلافِ ذلك، ¬

(¬1) في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 575، 576. كما أخرجه البخارى، في: باب غزوة ذات الرقاع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 145. وأبو داود، في: باب من قال: إذا صلى ركعة وثبت قائما. . . إلخ، من كتاب السفر. سنن أبى داود 1/ 283. والنسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 139. والإمام مالك، في: باب صلاة الخوف. من كتاب صلاة الخوف. الموطأ 1/ 183. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، فإنَّه قال: قُلْتُ له: حَدِيثُ سَهْلٍ، نَسْتَعْمِلُه مُسْتَقْبِلِين القِبْلَةَ كانوا أو مَسْتَدْبِرِين؟ قال: نعم، هو أنْكَى. ولأنَّ العَدُوَّ قد يكونُ في جِهَةِ القِبْلَةِ على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ أن يُصَلِّىَ بهم صلاةَ عُسْفانَ؛ لانْتِشارِهم، أو لخَوْفٍ مِن كَمِينٍ، فالمَنْعُ مِن هذه الصَّلاةِ يُفْضِى إلى تَفْوِيتِها. قال أبو الخَطّابِ: ومِن شَرْطِها أن يكونَ المُصَلّونَ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهم طائِفَتَيْن، كُلُّ طائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ فأكْثَرُ. وقال القاضى: إن كانت كلُّ فِرْقَةٍ أقَلَّ مِن ثَلاثَةٍ كَرِهْناه. ووَجْهُ قَوْلِهما أنَّ اللَّهَ سبحانه ذَكَر الطّائِفَةَ بلَفْظِ الجَمْعِ، بقَوْلِه: {فَإِذَا سَجَدُوا}. وأقَلُّ الجَمْعِ ثَلَاثةٌ، ولأنَّ أحمدَ ذَهَب إلى ظاهِرِ فِعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال شيخُنا (¬1): والأَوْلَى أن لا يُشْتَرَطَ هذا؛ لأنَّ ما دُونَ الثَّلاثةِ تَصِحُّ به الجَماعَةُ، فجازَ أن يكونُوا طائِفَةً كالثَّلَاثةِ، فأمّا فِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنَّه لا يُشْتَرَطُ في صلاةِ ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 299.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَوْفِ أن يَكُونَ المُصَلُّون مثلَ أصحابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في العَدَدِ، وَجْهًا واحِدًا. ويُسْتَحَبُّ أن يُخَفِّفَ بهم الصلاةَ، لأنَّ مَوْضُوعَ صلاةِ الخَوْفِ على التَّخْفِيفِ، وكذلك الطّائِفَةُ التى تُفارِقُه تُخَففُ الصلاةَ، ولا تُفارِقُه حتى يَسْتَقِلَّ قاِئمًا؛ لأنَّ النُّهُوضَ يَشْتَرِكُون فيه جَمِيعًا، فلا حاجَةَ إلى مُفارَقَتِهم إيّاه قبلَه، لأنَّ المُفارَقَةَ إنَّما جازَتْ للعُذْرِ. ويَقْرأُ في حالِ الانْتِظارِ، ويُطِيلُ التَّشَهُّدَ حتى يُدْرِكُوه. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَقْرأُ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالِ (¬1) الانْتِظَارِ، بل يُؤخِّرُ القِراءَةَ؛ ليَقْرَأ بالطّائِفَةِ الثَّانيةِ، فتَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ بينَ الطّائِفَتَيْن. ولَنا، أنَّ الصلاةَ ليس فيها حالُ سُكُوتٍ، والقِيامُ مَحَلٌّ للقِراءَةِ، فيَنْبَغِى أن يَأتِىَ بها فية، كما في التَّشَهُّدِ إذا انْتَظَرَهم فإنَّه لا يَسْكُتُ، والتّسْوِيَةُ بينَهم تَحْصُلُ بانْتِظارِه إيّاهُم في مَوْضِعَيْن، والأولَى في مَوْضِعٍ واحِدٍ. إذا ثَبَت هذا، فقال القاضى: إن قَرَأ في انْتِظارهِم قَرَأ (¬2) بعدَ مَجِيئهم بقَدْرِ فاتِحَةِ الكِتابِ وسُورَةٍ خفِيفَةٍ، وإن لم يَقْرَأ في انْتِظارِهِم قَرَأ إذا جاءُوا بفَاتِحَةِ الكِتابِ وسُورَةٍ. وهذا على سَبِيلِ الاسْتِحْبابِ، فلو قَرَأ قبلَ مَجِيئهم ثم رَكَع عندَ مَجِيئهِم أو قبلَه فَأدْرَكُوه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فقرأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راكِعًا رَكَعُوا معه، وصَحَّتْ لهم الركْعَةُ مع تَرْكِه للسُّنَّةِ، وإذا جَلَس للتَّشَهُّدِ قامُوا فصَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى، وأطالَ التَّشَهُّدَ والدُّعاءَ حتى يُدْرِكُوه ويَتَشَهَّدُوا، ثم يُسَلِّمُ بهم. وقال مالكٌ: يَتَشَهَّدُونَ معه، فإذا سَلَّمَ الإِمامُ قامُوا فقَضَوْا ما فاتهُم كالمَسْبُوقِ. والأَوْلَى ما ذَكَرْناه؛ لمُوافَقَتِه الحَدِيثَ، ولأنَّ قَوْلَه تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}. يَدُلُّ على أنَّ صَلَاتهُم كُلَّها معه، ولأنَّ الأُولَى أدْرَكَتْ معه فَضِيلَةَ الإِحْرام، فيَنْبَغِى أن يُسَلِّمَ بالثانيةِ؛ ليُسَوِّىَ بينَهم. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ على ما ذَكَرْنا مِن الاخْتِلافِ. واخْتارَ أبو حنيفةَ أن يُصَلِّىَ على ما في حَدِيثِ ابنِ عمرَ، وسوف نَذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ تعالى في الوَجْهِ الثّالِثِ. والأَوْلَى والمُخْتارُ عندَ أحمدَ، رَحِمَه اللَّه، هذا الوَجْهُ الثّانِى؛ لأنَّه أشْبَهُ بكِتابِ اللَّهِ تعالى، وأحْوَطُ للصلاةِ والحَرْبِ، أمّا مُوافَقَةُ الكِتابِ، فإنَّ قَوْلَه تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}. يَقْتَضِى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ جميعَ صَلاتها معه، وعلى ما اخْتارَه أبو حنيفةَ، لا تُصَلِّى معه إلَّا رَكْعَةً على ما يَأتِى، وعلى ما اخْتَرْنا تُصَلِّى جَمِيعَ صلاِتها معه، إحْدَى (¬1) الرَّكْعَتَيْن مُوافِقَةً في أفْعالِه، والثّانِيَةَ تَأْتِى بها قبلَ سلامِه، ثم تُسَلِّمُ معه. وأمَّا الاحْتِياطُ للصلاةِ، فإنَّ كلَّ طائِفَةٍ تَأتِى بصلاتِها مُتَوالِيَةً، بَعْضُها تُوافِقُ (¬2) للإِمامِ فيها فِعْلًا، وبَعْضُها تُفارِقُه، وتَأتِى به وَحْدَها كالمَسْبُوقِ. وعلى ما اخْتارَه يَنْصَرِفُ إلى جِهَةِ العَدُوِّ، وهى في الصَّلاةِ ماشِيَةً أو رَاكِبَةً، ويَسْتَدْبِرُ القِبْلَةَ، وهذا يُنافِى الصلاةَ. وأمّا الاحْتِياطُ للحَرْبِ، فإنَّه يَتَمَكَّنُ مِن الضَّرْبِ والطَّعْنِ والتَّحْرِيضِ، وإعْلامِ غيرِه بما يَراهُ مِمَّا خَفِىَ عليه، وتَحْذِيرِه، وإعْلامِ الذين مع الإِمامِ بما يَحْدُثُ، ولا يُمْكِنُ هذا على اخْتِيارِه. ¬

(¬1) في م: «في إحدى». (¬2) في م: «موافق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَجبُ التَّسْوِيَةُ بينَ الطّائِفَتَيْن؛ لأنَّه لم يَرِدْ بذلك نَصٌّ ولا قِياسٌ. ويَجِبُ أن تَكونَ الطّائِفَةُ التى بِإزاءِ العَدُوِّ مِمَّن يَحْصُلُ الثِّقَةُ بكِفايتها وحِراسَتِها، ومتى خُشِىَ اخْتِلالُ حالِهم واحْتِيجَ إلى مَعُونتِهم بالطَّائِفَةِ الأخْرَى، فللإِمامِ أن يَنْهَدَ إليهم بمَن معه، ويَبْنُوا (¬1) على ما مَضَى مِن صلاتِهم. فصل: وإن صَلَّوُا الجُمُعَةَ صلاةَ الخَوْفِ جاز، إذا كانت كلُّ طائِفَةٍ أرْبَعِين. فإن قِيلَ: فالعَدَدُ شَرْطٌ في الجُمُعَةِ كلِّها، ومتى ذَهَبَتِ الطَّائِفَةُ الأُولَى بَقِىَ الإِمامُ مُنْفَرِدًا، فبَطَلَتِ الجُمُعَةُ، كما لو نَقَص العَدَدُ. فالجَوابُ، أنَّ هذا جاز لأجْلِ العُذْرِ، ولأنَّه يتَرَقَّبُ مَجِئَ الطّائِفَةِ الأُخْرَى، بخِلافِ الانْفِضاضِ. ولَنا أيضًا في الأصْلِ مَنْعٌ. ولا يَجُوزُ أن يَخْطُبَ بإحْدَى الطّائفَتَيْن، ويُصَلِّىَ بالأخْرَى، حتى يُصَلِّىَ معه مَن حَضَر الخُطْبَةَ. وبهذا قال الشافعىُّ. فصل: والطّائِفَةُ الأُولَى في حُكْمِ الائْتِمامِ قبلَ مُفارَقَةِ الإِمامِ، فإنْ سَها لَحِقَهُم حُكْمُ سَهْوِه فيما قبلَ مُفارَقَتِه، وإن سهَوْا لم يَلْحَقْهم (¬2) حُكْمُ سَهْوِهم؛ لأنَّهم مَأمُومُون. وأمّا بعدَ مُفارَقَتِه فلا يَلْحَقُهُم حُكْمُ ¬

(¬1) في م: «يبينوا». (¬2) في م: «يلزمهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْوِه، ويَلْحَقُهم حُكْمُ سَهْوِهم؛ لأنَّهم مُنْفَرِدُون. وأمّا الطّائِفَةُ الثّانيةُ، فيلْحَقُها حُكْمُ سَهْوِ إمامِها في جميعِ صلاتِه، ما أدْرَكَتْ منها وما فاتَها، كالمَسْبُوقِ يَلْحَقُه حُكْمُ سَهْوِ إمامِه فيما لم يُدْرِكْه، ولا يَلْحَقُها حُكْمُ سَهْوِها في شئٍ مِن صلاتِها؛ لأنَّها إن فارَقَتْه فِعْلًا لقَضاءِ ما فَاتَها، فهى في حُكْمِ المُؤتَمِّ؛ لأنَّهُم يُسَلِّمُون بسلامِه، فإذا فَرَغَتْ مِن قَضاءِ ما فاتَها، سَجَد وسَجَدَتْ معه، فإن سَجَد قبلَ إتْمامِها تابَعَتْه؛ لأنَّها مُؤتَمَّةٌ به، ولا تُعِيدُ (¬1) السُّجُودَ بعدَ فَراغِها مِن التَّشَهُّدِ؛ لأنَّها لم تَنْفَرِدْ عن الإِمامِ، بخِلافِ المَسْبُوقِ. وقال القاضى: يَنْبَنِى هذا على الرِّوايَتَيْن في المَسْبُوقِ إذا سَجَد مع إمامِه، هل يَسْجُدُ [بعدَ القَضاءِ] (¬2) أم لا. وقد ذَكَرنا الفَرْقَ بينَهما. ¬

(¬1) في م: «يقيد». (¬2) سقط من: الأصل.

616 - مسألة: (فإن كانت الصلاة مغربا، صلى)

فَإنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا، صَلَّى بِالأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 616 - مسألة: (فإن كانتِ الصلاةُ مَغْرِبًا، صَلَّى) بالطّائِفَةِ (الأُولَى رَكْعَتَيْن، وبالثّانِيَةِ رَكْعَةً) وبهذا قال مالكٌ، والأوْزاعِىُّ، وسُفيانُ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال في الآخَرِ: يُصَلِّى بالأُولَى رَكْعَةً، وبالثّانِيَةِ رَكْعَتَيْن؛ لأنَّه رُوِىَ عن علىٍّ، رضى اللَّه عنه، أنّه صَلَّى كذلك (¬1) ليْلَةَ الهَرِيرِ (¬2)، ولأنَّ الأُولَى أدْرَكَتْ. معه فَضِيلَةَ الإِحْرامِ والتَّقَدُّمِ، فيَنْبَغِى أن تَزِيدَ الثّانِيَةُ في الرّكَعاتِ؛ ليُجْبَرَ نَقْصُهم به. ولَنا، أنَّه إذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن التَّفْضِيلِ، فالأُولَى أحَقُّ به، وما فاتَ الثّانِيَةَ يَنْجَبِرُ بإدْراكِها السَّلامَ مع الإِمامِ، ولأنَّها، تُصَلِّى جميعَ صلاِتها في حُكْمِ الائتِمامِ، والأُولَى تَفْعَل (¬3). بعضَ صلاِتها في حُكْمِ الانْفِرادِ، وأيًّا ما فَعَل فهو جائِزٌ. وإذا صَلَّى بالثّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثالثةَ (¬4)، وجَلَس ¬

(¬1) في م: «ذلك». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 115. (¬3) في م: «تفضل». (¬4) في م: «الثانية».

617 - مسألة: (وإن كانت رباعية غير مقصورة، صلى بكل طائفة ركعتين، وأتمت الأولى بـ {الحمد لله} فى كل ركعة، والأخرى تتم بـ {الحمد لله} وسورة)

وإنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ، صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْن، وَأَتَمَّتِ الأُولَى بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالأُخْرَى تُتِمُّ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، وَسُورَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للتَّشَهُّدِ، فإنَّ الطّائِفَةَ تَقُومُ ولا تَتَشَهَّدُ معه. ذَكَرَه القاضى؛ لأنَّه ليس بمَوْضِعٍ لتَشَهُّدِها، بخِلافِ الرُّباعِيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَتَشَهَّدَ معه إذا قُلْنا: إنَّها تَقْضى رَكْعَتَيْن مُتَوالِيَتَيْن؛ لئلَّا يُفْضِىَ إلى أن تُصَلِّىَ ثَلاثَ رَكَعَاتٍ بتَشَهُّدٍ واحِدٍ، ولا نَظِيرَ لهذا في الصلواتِ. هذا حُكْمُ صلاةِ المَغْرِبِ على حَدِيثِ سَهْلٍ (¬1). 617 - مسألة: (وإن كانت رُباعِيَّةً غيرَ مَقْصورَةٍ، صَلَّى بكلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْن، وأتَمَّتِ الأُولَى بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في كل رَكْعَةٍ، والأُخْرَى تُتِمُّ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وسُورَةٍ). تَجُوزُ صلاةُ الخَوْفِ في الحَضَرِ، عند الحاجَةِ إليها. وبه قال الأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ. وحُكِىَ عن مالكٍ، لا يَجُوزُ في الحَضَرِ؛ لأنَّ الآيَةَ إنَّما دَلَّتْ على صلاةِ رَكْعَتَيْن، وصلاةُ الحَضَرِ أرْبَعٌ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْعَلْها في الحَضَرِ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}. وهذا عامٌّ، وتَرْكُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لها في الحَضَرِ إنَّما كان لغِناه عنها فيه. وقَوْلُهم: إنَّما دَلَّتِ الآيَةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 117.

618 - مسألة: (وهل تفارقه الأولى فى التشهد الأول أو فى الثالثة؟ على وجهين)

وَهَلْ تُفَارِقُهُ الأُولَى في التَّشَهُّدِ الْأوَّلِ أوْ في الثَّالِثَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على رَكْعَتَيْن. مَمْنُوعٌ، وإن سَلِمَ فقد تكونُ صلاةُ الحَضَرِ رَكْعَتَيْن؛ الصُّبْحَ والجُمُعَةَ. والمَغْرِبُ ثَلاثٌ، ويَجُوزُ فِعْلُها في الخَوْفِ في السَّفَرِ، [ولأنَّها حالَةُ خَوْفٍ، فجازَتْ فيها صلاةُ الخَوْفِ، كالسَّفَرِ] (¬1)، فعلى هذا إذا صَلَّى بهم الرُّباعِيَّةَ، فَرقَهُم فِرْقَتَيْن، صَلَّى بكلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْن، وتَقْرَأُ الأُولَى بعدَ مُفارَقَةِ إِمامِها بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وَحْدَها في كُلِّ رَكْعَةٍ؛ لأنَّها آخِرُ صلاِتها. وأمّا الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ، فإذا جَلَس الإِمامُ للتَّشَهُّدِ الأخِيرِ، تَشَهَّدَتْ معه التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، كالمَسْبُوقِ، ثم قامَتْ وهو جالِسٌ فأتَمَّتْ صلَاتها، وتَقْرُأُ في كلِّ رَكْعَةٍ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وسُورَةٍ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّه أوَّلُ صلاِتها على ما ذَكَرْنا في المَسْبُوقِ، وتَسْتَفْتِحُ إذا قامَتْ للقَضاءِ، كالمَسْبُوقِ، ولأنَّها لم تَحْصُلْ لها مع الإِمامِ قِراءَةُ السُّورَةِ. ويُطَوِّلُ الإِمامُ التَّشَهُّدَ والدُّعاءَ حتى تُصَلِّىَ الركْعَتَيْن، ثم يَتَشَهدُ ويُسَلِّمُ بهم. وإذا قُلْنا: إنَّ الذى يَقْضِيه المَسْبُوقُ آخِرُ صلاِته. فيَقْتَضِى أن لا يَسْتَفْتِحَ ولا يَقْرَأ السُّورَةَ ههُنا قِياسًا عليه. 618 - مسألة: (وهل تُفارِقُه الأُولَى في التَّشَهُّدِ الأوَّلِ أو في الثّالِثةِ؟ على وَجْهَيْن) أحَدُهما، حينَ قِيامِه إلى الثّالِثَةِ. وهو قَوْلُ مالكٍ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزاعِىِّ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى التَّطْويلِ مِن أجْلِ الانْتِظارِ، والتَّشَهُّدُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُه، ولهذا رُوِىَ أن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جَلَس للتَّشَهُّدِ كأنَّه على الرَّضْفِ حتى يَقُومَ (¬1). ولأنَّ ثوابَ القائِمِ أَكْثَرُ، ولأنَّه إذا انْتَظَرَهُم جالِسًا وجاءَتِ الطّائِفَة فإنَّه يَقُومُ قبلَ إحْرامِهم، فلا يَحْصُلُ اتِّباعُهُم إيّاهُ في القِيامِ. والثَّانِى، في التَّشَهُّدِ؛ لتُدْرِكَ الطّائِفَةُ الثَّانيةُ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ الثّالِثَةِ، ولأنَّ الجُلُوسَ أخَفُّ على الإمام، ولأنَّه متى انْتَظرهم قائِمًا احْتاجَ إلى قِراءَةِ السُّورَةِ في الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وهوَ خِلافُ السُّنَّةِ، وكِلا الأمْرَيْن جائِزٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 296.

619 - مسألة: (وإن فرقهم أربعا، فصلى بكل طائفة ركعة، صحت صلاة الأوليين، وبطلت صلاة الإمام، والأخريين إن علمتا بطلان صلاته)

وَإنْ فَرَّقَهُمْ أرْبَعًا، فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، صَحَّتْ صَلَاةُ الأُولَيَيْنِ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإمَامِ، وَالأُخْرَيَيْنِ إِنْ عَلِمَتَا بُطلانَ صَلَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 619 - مسألة: (وإِن فَرَّقَهم أرْبَعًا، فصَلَّى بكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَةً، صَحَّتْ صلاةُ الأُولَيَيْنِ، وبَطَلَتْ صلاةُ الإِمامِ، والأخْرَيَيْن إن عَلِمَتا بُطْلانَ صلاتِه) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه متى فَرَّقَهُم الإِمامُ في صلاةِ الخَوْفِ أكْثَرَ مِن فِرْقَتَيْن، مثلَ أن فَرَّقَهُم أرْبَعَ فِرَقٍ، فصَلَّى بكل طائِفَةٍ رَكْعَةً، أو ثَلَاثَ فِرَقٍ فصَلَّى بالأُولَى رَكْعَتَيْن، وبالباقِيَتَيْن (¬1) رَكْعَةً رَكْعَةً (¬2) صَحَّتْ صلاةُ الأُولَيَيْن، لأنَّهُما إنَّما ائْتَما بمَن صلاتُه صَحِيحَةٌ، ولم يُوجَدْ منهما ما يُبْطِلُ ¬

(¬1) في الأصل: «بالثانيتين». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صلَاتهما، وتَبْطُلُ صلاةُ الإِمامِ بالانْتِظارِ الثّالِثِ؛ لأنَّه لم يَرِدِ الشَّرْعُ به، فأبْطَلَ الصلاةَ، كما لو فَعَلَه مِن غيرِ خَوْفٍ، وسَواءٌ فَعَل ذلك لحاجَةٍ أو غيرِها؛ لأنَّ التَّرَخُّصَ إنَّما يُصارُ إليه فيما وَرَد به الشَرْعُ، وتَبْطُلُ صَلاةُ الثَّالِثَةِ والرَّابِعَةِ؛ لائْتِمَامِهما بمَن صلاتُه باطِلَةٌ، فأشْبَهَ ما لو كانت باطِلَةً مِن (¬1) أوَّلِهَا. فإن لم يَعْلَما ببُطْلَانِ صَلاةِ الإِمامِ، فقال ابنُ حامِدٍ: لا تَبْطُلُ صلاتُهما؛ لأنَّ ذلك مِمّا يَخْفَى، فلم تَبْطُلْ صلاةُ المَأْمُومِ، كما لو ائْتَمَ بمُحْدِثٍ لا يَعْلَمُ حَدَثَه. ويَنْبَغِى على هذا أن يَخْفَى على الإِمامِ والمَأْمُومِ، اعْتَبَرْنا ذلك في المُحْدِثِ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا تَصِحَّ صلاتُهما؛ لأنَّ الإِمامَ والمَأْمُومَ يَعْلَمان وُجُودَ المُبْطِلِ. وإنَّما ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في: المغنى 3/ 309.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أنْ يُصَلِّىَ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ تَمْضِىَ إلَى الْعَدُوِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ خَفِىَ عليهم حُكْمُه، فلم يَمْنَعْ ذلك البُطْلانَ، لو عَلِمَ حَدَثَ الإِمامِ، ولم يَعْلَمْ كَوْنَه مُبْطلًا. وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ كقَوْلِ ابنِ حامِدٍ. وقال بعضُهم: تَصِحُّ صلاةُ الجَمِيعِ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، أشْبَهَ الفِرْقَتَيْن. ولَنا، أنَّ الرُّخَصَ إنَّما تُتَلَقَّى مِن الشَّرْعِ، وهذا لم يَرِدْ به الشَّرْعُ، فلم يَجُزْ (¬1)، كغَيْرِ الخَوْفِ. واللَّه أعلمُ. (الوَجْهُ الثّالِثُ، أن يُصَلِّىَ) كما روَى ابنُ عمرَ، قال: صَلَّى النبىُّ ¬

(¬1) في م: «يجزئه».

وَتَأْتِىَ الأُخْرَى فَيُصَلِّىَ بِهَا رَكْعَةً، وَيُسلِّمَ وَحْدَهُ، وَتَمْضِىَ هِىَ، ثُمَّ تَأْتِىَ الْأُولَى فَتُتِمَّ صَلَاتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- صلاةَ الخَوْفِ بإحْدَى الطَّائِفَتَيْن رَكْعَةً وسَجْدَتَيْن، والطّائِفَةُ الأُخْرَى مُواجِهَةُ العَدُوِّ، ثم انْصَرَفُوا وقامُوا في مَقامِ أصْحابِهِم مُقْبِلِين على العَدُوِّ، وجاء أُولئِك، ثم صَلَّى لهم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْعَةً، ثم سَلَّمَ، ثم قَضَى هؤلاء رَكْعَةً، وهؤلاء رَكْعَةً. مُتَّفقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب غزوة ذات الرقاع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 146. ومسلم، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 574. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال: يصلى بكل طائفة ركعة. . . إلخ، من كتاب صلاة السفر. سنن أبى داود 1/ 285. والترمذى، في: باب ما جاء في صلاة الخوف، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 42، 43. والنسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 139. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الخوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 399. والدارمى، في: باب في صلاة الخوف، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 357، 358. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 132، 147، 148، 150، 155.

الْوَجْهُ الرَابعُ، أنْ يُصَلِّىَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً، وَيُسَلِّمَ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الوَجْهُ الرّابعُ، أن يُصَلِّىَ بكُلِّ طائِفَةٍ صلاةً، ويُسَلِّمَ بها) كما روَى أبو بَكْرَةَ، قال: صَلَّى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خَوْفٍ الظُّهْرَ، فصَفَّ بَعْضَهم خَلْفَه؛ وبَعْضَهم بإزاءِ العَدُوِّ، فصَلَّى رَكْعَتَيْن، ثم سَلَّمَ، فانْطَلَقَ الذين صَلَّوْا فوَقَفُوا مَوْقِفَ أصْحَابِهِم، ثم جاءَ أُولِئكَ فَصَلَّوْا خَلْفَه فصَلَّى بهم رَكْعَتَيْن، ثم سَلَّمَ، فكان لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْبَعٌ، ولأصْحَابِه رَكْعَتَان. رَواه أبو داودَ (¬1)، والأثْرَمُ. وهذه صِفَةٌ حَسَنَةٌ قَلِيلَةُ الكُلْفَةِ، لا يَحْتاجُ فيها إلى مُفارَقَةِ إمامِه، ولا إلى تَعْرِيفِ (¬2) كَيْفِيَّةِ الصَّلاةِ. وهو مَذْهَبُ الحسنِ. وليس فيها أكْثرُ مِن أنَّ الإِمامَ في الثَّانِيَةِ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُفْتَرِضِين. ¬

(¬1) في: باب من قال: يصلى بكل طائفَةٍ ركعتين، من كتاب صلاة السفر. سنن أبى داود 1/ 287. كما أخرجه النسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 146. (¬2) في م: «تفريق».

الْوَجْهُ الْخَامِسُ، أنْ يُصَلِّىَ الرُّبَاعِيَّةَ الْمَقْصُورَةَ تَامَّةً، وَتُصَلِّىَ مَعَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا تَقْضِىَ شَيْئًا، فَتَكُونَ لَهُ تَامَّةً، وَلَهُمْ مَقْصُورَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الوَجْهُ الخامِسُ، أن يُصَلِّىَ) كما روَى جابِرٌ، قال: أقْبَلْنا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى إذا كُنّا بذاتِ الرِّقاعِ، قال: فنُودِىَ بالصلاةِ، فصَلَّى بطائِفَةٍ رَكْعَتَيْن، ثم تَأَخَّرُوا (¬1)، وصَلَّى بالطّائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْن. قال: وكانت لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْبَعَ رَكَعاتٍ، وللقَوْم رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وتَأوَّلَ القاضى هذا على أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بهم كصلاةِ الحَضَرِ، وأنَّ كلَّ طائِفَةٍ قَضَتْ رَكْعَتَيْن. وهذا (¬3) التَّأْوِيلُ فاسِدٌ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «تأخر». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب غزوة ذات الرقاع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 146، 147. ومسلم، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 576. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 364. (¬3) في م: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لمُخالَفَتِه صِفَةَ الرِّوايَةِ، وقولَ أحمدَ. أمّا مُخالَفَةُ الرِّوايَةِ، فإنَّه ذَكَر أنَّه صَلَّى بكلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْن، ولم يَذْكُرْ قَضاءً، ثم قال في آخِرِه: للقَوْمِ رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْن. وأمّا مُخالَفَةُ قَوْلِ أحمدَ، فإنَّه قال: سِتَّةُ أوْجُهٍ أو سَبْعَةٌ يُروَى فيها، كُلُّها جائِزٌ. وعلى هذا لا تكونُ سِتَّةً ولا خَمْسَةً. ثم إنَّه حَمَل الحدِيثَ على مَحْمَلٍ بَعِيدٍ؛ لأنَّ الخَوْفَ يَقْتَضِى قَصْرَ الصَّلاةِ وتَخْفِيفَها. وعلى هذا التَّأْوِيلِ يَجْعَلُ مَكانَ الرَّكْعَتَيْن أرْبَعًا، ويُتِمُّ الصلاةَ المَقْصُورَةَ، ولم يُنْقَلْ عنه عليه السلامُ إتْمَامُ صلاةِ السَّفَرِ في غيرِ الخَوْفِ، فكيف يُتِمُّها في مَوْضِعٍ يَقْتَضِى التَّخْفِيفَ. فصل: وقد ذَكَر شيخُنا، رَحِمَه اللَّهُ (¬1)، الوَجْهَ السّادِسَ، أن يُصَلِّىَ بكلِّ طائِفَةٍ رَكْعَةً (¬2)، ولا تَقْضِى شيئًا؛ لِما روَي ابن عباسٍ، ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 314. (¬2) في م: «ركعة ركعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: صَلَّى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذِى قَرَدٍ (¬1) صلاةَ الخَوْفِ، والمُشْرِكُون بينَه وبينَ القِبْلَةِ، فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَه، وصَفًّا مُوازِىَ العَدُوِّ، فصَلَّى بهم رَكْعَةً، ثم ذَهَب هؤلاء إلى مَصافِّ هؤلاء، ورَجَع هؤلاء إلى مَصافِّ هؤلاء، فصَلَّى بهم رَكْعَةً، ثم سَلَّمَ عليهم، فكانت لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْعَتان، وكانت لهم رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ. رَواه الأثْرَمُ (¬2). وعن حُذَيْفَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الخَوْفِ بهؤلاء رَكْعَةً، وهؤلاء رَكْعَةً، ولم يَقْضُوا شيئًا. رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا قَوْلُ ابنِ عباسٍ وجابِرٍ. قال جابِرٌ: إنَّما القَصْرُ رَكْعَةٌ عندَ القِتالِ. وقال طاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، والحسنُ، وقَتادَةُ، ¬

(¬1) ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- انتهى إليه، لما خرج في طلب عيينة حين أغار على لقاحه. معجم البلدان 4/ 55. (¬2) وأخرج البخارى نحوه، في: باب يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف، من كتاب صلاة الخوف. صحيح البخارى 2/ 18. والنسائى، في: أول كتاب صلاة الخوف. المجتبى 3/ 137. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 232، 357، 5/ 183، 385. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 116.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَكَمُ: يقُولُون: رَكْعَةً (¬1) في شِدَّةِ الخَوْفِ يُومِئُ إيماءً. وبه قال إسْحاقُ: يُجْزِئُك عندَ الشِّدَّةِ رَكْعَةٌ تُومِئُ إيماءً، فإن لم تَقْدِرْ فسَجْدَةٌ واحِدَةٌ، فإنْ لم تَقْدِرْ فتَكْبيرَةٌ. فهذه الصلاةُ يَقْتَضِى عُمُومُ كَلامِ أحمدَ جَوازَها؛ لأنَّه ذَكَر سِتَّةَ أوجُهٍ، ولا نَعْلَمُ وَجْهًا سَادِسًا سِواها. وقال القاضى: لا تَأْثِيرَ للخَوْفِ في عدَدِ الرَّكَعاتِ. وهذا قولُ أصحابِنا، وأكْثرَ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم ابنُ عمرَ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وغيرُهم مِن عُلَماءِ الأمْصارِ، لا يُجِيزُون رَكْعَةً، والذي قال منهم رَكْعَةً، إنَّما جَعَلَها عندَ شِدَّةِ القِتالِ، والذين رَوَيْنا عنهم صلاةَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكْثَرُهم لم يَنْقُصُوا مِن رَكْعَتَيْن، وابنُ عباسٍ لم يَكُنْ مِمَّن يَحْضُرُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزَواتِه ولا (¬2) يَعْلَمُ ذلك إلَّا بالرِّوايَةِ، فالأخْذُ برِوايَةِ مَن حَضَر الصلاةَ وصَلَّاها مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى. ¬

(¬1) أي يصلى ركعة. (¬2) في م: «ولم».

620 - مسألة: (ويستحب أن يحمل معه فى الصلاة من السلاح

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ في الصَّلَاة مِنَ السِّلَاحِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى صَلَّى بهم صلاةَ الخَوْفِ مِن غيرِ خَوْفٍ، فصلاةُ الجميعِ فاسِدَةٌ؛ لأنَّها لا تَخْلُو بِن مُفارِقِ إمامِه لغيرِ عُذْرٍ، أو تارِك مُتابَعَةِ إمامِه في ثَلَاثَةِ أرْكانٍ، أو قاصِرِ الصَّلاةِ مع إتْمامِ الإِمامِ، وكلُّ ذلك يُفْسِدُ الصلاةَ، إلَّا مُفارَقَةَ الإِمامِ في قَوْلٍ. وإذا فَسَدَتْ صلاتُهم (¬1) فَسَدَتْ صلاةُ الإِمامِ؛ لأنَّه صَلَّى إمامًا بمَن صلاتُه فاسِدَةٌ، إلَّا أن يُصَلِّىَ بهم صلَاتيْنِ كامِلَتَيْن، فتَصِحُّ صلاتُه، وصلاةُ الطّائِفَةِ الأُولَى، وصلاةُ الثّانيةِ تَنْبَنِى على إمامَةِ المُتَنَفِّلِ بالمُفْتَرِضِ، وقد ذَكَرْناه (¬2). 620 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَحْمِلَ معه في الصَّلاةِ مِن السِّلاحِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر ما تقدم في 4/ 408.

وَلَا يُثْقِلُهُ؛ كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَجِبَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَدْفَعُ به عن نَفْسِه ولا يُثْقِلُه، كالسَّيْفِ، والسِّكِّين. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ ذلك) حَمْلُ السِّلاحِ في صلاةِ الخَوْفِ مُسْتَحَبٌّ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬1). ولأنَّهم [لا يَأْمَنُون] (¬2) أن يَفْجَأَهم العَدُوُّ، كما قال اللَّه تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}. والمُسْتَحَبُّ مِن ذلك ما يَدْفَعُ به عن نَفْسِه ولا يُثْقِلُه، كالسَّيْفِ، والسِّكِّينِ، ولا يُسْتَحَبُّ حَمْلُ ما يُثْقِلُه، كالجَوْشَنِ (¬3) ولا ما يَمْنَعُ إكْمالَ السُّجُودِ، كالمِغْفَرِ (¬4)، ولا ما يُؤْذِى ¬

(¬1) سورة النساء 102. (¬2) في الأصل: «يأمنون». (¬3) في م: «كالجوشرة». والجوشن: الصدر والدرع. (¬4) المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرَه، كالرُّمْحِ إذا كان مُتَوَسِّطًا، ولا يَجُوزُ حَمْلُ نَجِسٍ، ولا ما يُخِلُّ ببعضِ أرْكانِ الصَّلاةِ إلَّا عندَ الضَّرُورَةِ، كمَن يَخافُ وُقُوعَ الحِجارَةِ والسِّهامِ. وليس ذلك بواجبٍ، ذَكَرَه أصْحابُنا. وهو قَوْلُ أبى حنيفةَ، وأحدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ، وأكْثَر أهلِ العلمِ؛ لأنَّه لو وَجَب لكانَ شَرْطًا، كالسُّتْرَةِ، ولأنَّ الأمْرَ به للرِّفْقِ بهم والصِّيانَةِ لهم، فلم يَكُنْ للإيجابِ، كما أنَّ نَهْىَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوِصالِ لَمّا كان للرِّفْقِ لم يَكُنْ للتَّحْرِيمِ. ويَحْتَمِلُ أن يَجبَ ذلك، وهو قَوْلُ داودَ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ، وهذا القولُ (¬1) أظْهَرُ؛ لأنَّ ظاهِرَ الأمْرِ الوُجُوبُ، وقد اقْتَرَنَ به ما يَدُلُّ على ¬

(¬1) سقط من: م.

621 - مسألة: (وإذا اشتد الخوف، صلوا رجالا وركبانا، إلى

فَصْلٌ: وَإذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، يُومِئُونَ إِيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُجُوب، وهو قَوْلُه سُبْحانه: {ولَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مِّطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}. ونَفْىُ الحَرَجِ مَشرُوطًا بالأذَى دَلِيلٌ على لُزُومِه عندَ عَدَمِه، فأمَّا إنْ كان بهم أذًى مِن مَطَرٍ أو مَرَضٍ، فلا يَجِبُ بغيرِ خِلافٍ؛ لصَرِيحِ النَّصِّ بنَفْى الحَرَجِ. 621 - مسألة: (وإذا اشْتَدَّ الخَوْفُ، صَلَّوْا رِجالًا ورُكْبانًا، إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِبْلَةِ وغيرِها، يُومِئُون إيماءً على قَدْرِ الطّاقَةِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى اشْتَدَّ الخَوْفُ، والْتَحَمَ القِتالُ، فلهم الصلاةُ كَيْفَما أمْكَنَهم، رِجالًا أو رُكْبانًا، إلى القِبْلةِ إن أمْكَنَهم، [وإلى] (¬1) غيرِها إن لم يُمْكِنْهم، يُومِئُون بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ، ويَجْعَلُون سُجُودَهم أخْفَضَ مِن رُكُوعِهم على قَدْرِ الطّاقَةِ، ولهم التَّقَدُّمُ والتَّأخُّرُ، والطَّعْنُ والضَّرْبُ، والكَرُّ والفَرُّ، ولا يُؤَخِّرُون الصلاةَ عن وَقْتِها في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وحَكَى ابنُ أبى مُوسى، أنَّه يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ حالَ الْتِحامِ القِتالِ في رِوايَةٍ. وقال أبو حنيفَةَ، وابنُ أبى لَيْلَى: لا يُصَلِّى مع المُسايَفَةِ، ولا مع المَشْى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلِّ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وأخَّرَ الصلاةَ. ولأنَّ ما يَمْنَعُ الصلاةَ في غيرِ شِدَّةِ الخَوْفِ يَمْنَعُها معه؛ كالحَدَثِ والصِّياحِ. وقال الشافعىُّ: يُصَلِّى، لكنْ إن تابَعَ الطَّعْنَ والضَّرْبَ، أو المَشْىَ، أو فَعَل ما يَطُولُ، بَطَلَتْ صَلاتُه؛ لأنَّ ذلك مِن مُبْطِلاتِ الصَّلاةِ، أشْبَهَ الحَدَثَ. ولَنا، قَوْلُه عزَّ وجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬2). ¬

(¬1) في م: «أو إلى». (¬2) سورة البقرة 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عُمرَ: فإن كان خَوْفٌ أشَدُّ مِن ذلك، صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا على أقْدَامهم، ورُكْبانًا مُسْتَقْبلى القِبْلَةِ وغيرَ مُسْتَقْبِلِيها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوِى ذلك عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بأصحابِه في غيرِ شِدَّة الخَوْفِ، فأمَرَهم بالمَشْى إلى وِجاهِ العَدُوِّ وهم في الصَّلاةِ، ثم يَعُودُون لقَضاءِ ما بَقِىَ مِن صَلَاِتهم، وهذا مَشْىٌ كَثِيرٌ، وعَمَلٌ طَوِيلٌ، واسْتِدْبارٌ للقِبْلَةِ، فإذا جاز ذلك مع أنَّ الخَوْفَ ليس بشدِيدٍ، فمع شِدَّتِهِ أوْلَى. ومِنْ العَجَبِ اخْتِيَارُ أبى حنيفَةَ هذا الوَجْهَ دُونَ سائِرِ الوُجُوهِ التى لا تَشْتَمِلُ على العَمَلِ في أثْناء الصَّلاةِ، وتَسْوِيغُه إيّاهُ مع الغِنَى عنه، ثم مَنْعُه في حالِ الحاجَةِ إليه، بحيثُ لا يَقْدِرُ على غيرِه، فكان العَكْسُ أوْلَى، ولأنَّه مُكَلَّفٌ تَصِحُّ طَهارَتُه، فلم يَجُزْ له إخْلاءُ وَقْتِ الصَّلاةِ عن فِعْلِها، كالمَرِيضِ، ويُخَصُّ الشافعىُّ بأنَّه عَمَلٌ أُبِيحَ للخَوْفِ، فلم يُبْطِلِ الصلاةَ، كاسْتِدْبارِ القِبْلَةِ، والرُّكُوبِ، والإيماءِ، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرَه. فأمّا تَأْخِيرُ الصَّلاةِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فرَوَى أبو سعيدٍ، أنَّه كان قبلَ نُزُولِ صلاةِ الخَوْفِ. ويَحْتَمِل أنَّه شَغَلَه المُشْرِكُون فنَسِىَ الصلاةَ، فقد نُقِلَ ما يَدُلُّ على ذلك (¬2). ويُؤَكِّدُ ما ذَكَرْنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه لم ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب صلاة الخوف رجالا وركبانا راجل قائم، من كتاب صلاة الخوف، وفى: باب تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 18، 6/ 38. ومسلم، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 574. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة الخوف. الموطأ 1/ 184. (¬2) انظر ما تقدم في 3/ 145.

622 - مسألة: (فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة، فهل يلزمهم ذلك؟ على روايتين)

فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُونُوا في مُسايَفَةٍ تُوجِبُ قَطْعَ الصَّلاةِ. وأمّا الصِّياحُ والحَدَثُ، فلا حاجَةَ بهم إليه، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ الشَّئِ مُبْطِلًا مع عَدَمِ العُذْرِ أن تَبْطُلَ معه، كخُرُوجِ النَّجاسَةِ مِن المُسْتَحاضَةِ ومَن في مَعْناها. 622 - مسألة: (فإن أمْكَنَهم افْتِتاحُ الصَّلاةِ إلى القِبْلَةِ، فهل يَلْزَمُهم ذلك؟ على رِوَايَتَيْن) إحْداهما، لا تَجِبُ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه جُزْءٌ مِن الصَّلاةِ، فلم يَجِبْ الاسْتِقْبالُ فيه، كبَقِيَّةِ أجْزَائِها. والثّانيةُ، يَجبُ؛ لأنَّه أمْكَنَه ابْتِداءُ الصَّلاةِ مُسْتَقْبِلًا، فلم يَجُزْ بدُونِه، كما لو أمْكَنَه ذلك في رَكْعَةٍ كامِلَةٍ.

623 - مسألة: (ومن هرب من عدو هربا مباحا، أو من سيل، أو سبع ونحوه، فله [أن يصلى]

وَمَنْ هَرَبَ مِنْ عَدُوٍّ هَرَبًا مُبَاحًا، أَوْ مِنْ سَيْلٍ، أَوْ سَبُعٍ وَنَحْوِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّى كَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 623 - مسألة: (ومَن هَرَب مِن عَدُوٍّ هَرَبًا مُباحًا، أو مِن سَيْلٍ، أو سَبُعٍ ونَحْوِه، فله [أن يصَلِّىَ] (¬1) كذلك) سَواءٌ خاف على نَفْسِه، ¬

(¬1) في م: «الصلاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو مالِه، أو أَهْلِه. وكذلك الأسِيرُ إذا خافَهم على نَفْسِه إن صَلَّى، والمُخْتَفِى في مَوْضِعٍ، يُصَلِّيان كيْفَما أمْكَنَهما. نَصَّ عليه أحمدُ في الأسِيرِ. فلو كان المُخْتَفِى قاعِدًا لا يُمْكِنُه القِيامُ، أو مُضْطَجِعًا لا يُمْكِنُه القُعُودُ، صَلَّى على حَسبِ حالِه. وهذا قولُ ابنِ الحسنِ. وقال الشافعىُّ: يُصَلِّى ويُعِيدُ. ولَنا، أنَّه خائِفٌ صَلَّى على حَسَبِ ما أمْكَنَه، فلم تَلْزَمْه الإِعادَةُ، كالهارِبِ. ولا فَرْقَ في هذا بينَ الحَضَرِ والسَّفَرِ، لأنَّ المُبِيحَ خَوْفُ الهَلاكِ، وقد تَساوَيا فيه. فإن أمْكَنَ التَّخَلُّصُ بدُونِ ذلك، كالهارِبِ مِن السَّيْلِ يَصْعَدُ إلى رَبْوَةٍ، والخائِفِ مِن العَدُوِّ يُمْكِنُه دُخُولُ حِصْن يَأْمَنُ فيه صَوْلَةَ العَدُوِّ، فيُصَلِّى فيه ثم يَخْرُجُ، لم يَكُنْ له أن يُصَلِّىَ صلاةَ الخَوْفِ، لأنَّه لا حاجَةَ إليها ولا ضَرُورَةَ. فصل: فأمّا العاصِى بهَرَبِه، كالذى يَهْرُبُ [مِن حَقٍّ تَوَجَّهَ] (¬1) عليه، وقاطِعِ الطَّريقِ، واللِّصِّ، والسَّارِقِ، فليس لهم أن يُصَلُّوا صلاةَ الخَوْفِ، لأنَّها رُخْصَةٌ ثبتَت للدَّفْعِ (¬2) عن نَفْسِه في مَحَلٍّ مُباحٍ، فلا تَثْبُتُ بالمَعْصِيَةِ، كَرُخَصِ السَّفَرِ. فصل: قال أصحابُنا: يَجُوزُ أن يُصَلُّوا في حالِ شِدَّةِ الخَوْفِ جَماعَةً. ¬

(¬1) في م: (مما يحب). (¬2) في الأصل: «تثبت الدفع».

624 - مسألة: (وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك؟ على روايتين)

وَهَلْ لِطَالِبِ العَدُوِّ الْخَائِفِ فَوَاتَهُ الصَّلاةُ كَذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتيْن). ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّهم يَحْتاجُون إلى التَّقَدُّم والتَّأخُّرِ، ورُبَّما تَقَدَّمُوا الإِمامَ (¬2)، وتَعَذَّرَ عليهم الائْتِمامُ. وحُجَّةُ الأصَحابِ أنَّها حالَة تَجُوزُ فيها الصلاةُ على الانْفِرادِ، فجازَ فيها صلاةُ الجَماعَةِ، كالرُّكُوبِ في السَّفِينَةِ، ويُعْفَى عن تَقَدُّمِ الإِمامِ للحاجَةِ إليه، كالعَفْوِ عن العَمَلِ الكَثِيرِ. ولمَن نَصَر القَوْلَ الأَوَّلَ أن يُفَرِّقَ بينَهما، بأنَّ العَفْوَ عن العَمَلِ الكَثِيرِ لا يَخْتَصُّ الإِمامَةَ، بل هو في حالِ الانْفِرادِ أيضًا، فلم يُؤثِّرْ الانْفِرادُ في نَفْسِه، بخِلافِ تَقَدُّمِ الإِمامِ. 624 - مسألة: (وهل لطالِبِ العَدُوِّ الخائِفِ فَواتَه الصلاةُ كذلك؟ على رِوايَتيْن) إحْداهما، له ذلك كالمَطْلُوبِ سَواءً. رُوِىَ ذلك ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 319. (¬2) في م: «على الإمام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن شُرَحْبِيلَ ابنِ حَسَنَةَ (¬1)، وهو قَوْلُ الأوْزاعِىِّ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ أُنَيْسٍ، قال: بَعَثَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى خالِدِ بنِ سُفْيانَ الهُذَلِىِّ فقال: «اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ». فرَأيْتُه، وحَضَرَتْ صلاةُ العَصرِ، فقُلْتُ: إنِّى لَأَخافُ أن يكونَ بَيْنِى وبَيْنَه ما يُؤَخِّرُ الصلاةَ، فانْطَلَقْتُ أمْشِى، وأنا اُّصَلِّى أُومِئُ إيماءً نَحْوَه. وذَكَرَ الحَدِيثَ. رَواه أبو داودَ (¬2). وظاهِرُ حالِه أنَّه أخْبَرَ بذلك النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو كان قد عَلِم جَوازَ ذلك، فإنَّه لا يُظنُّ به أن يَفْعَلَ ذلك مُخْطِئًا.، وهو رسولُ (¬3) رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يُخْبِرُه بذلك، ولا يَسألُه (¬4) عن حُكْمِه وقال شرَحْبِيلُ ابنُ حَسَنَةَ: لا تُصَلُّوا الصُّبْحَ إلَّا على ظَهْرٍ. فنَزَلَ الأشتَرُ (¬5) فصَلَّى على الأرْضِ، فمَرَّ به شُرَحْبِيل، ¬

(¬1) أبو عبد اللَّه شرحبيل بن عبد اللَّه بن المطاع الكندى، وحسنة أمه، أو تبَنَّتْه، كان ممن سيَّره أبو بكر في فتوح الشام، وولاه عمر على ربع من أرباع الشام، وتوفى في طاعون عمواس، وهو ابن سبع وستين سنة. الإصابة 3/ 328، 329. (¬2) في: باب صلاة الطالب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 287. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 496. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «يسأل». (¬5) الأشتر لقبه، واسمه مالك بن الحارث النخعى، كان من الأبطال الكبار، يد قومه وخطيبهم وفارسهم، بعثه علىّ على مصر، فمات في الطريق، سنة ثمان وثلاثين. العبر 1/ 45.

625 - مسألة: (ومن أمن فى الصلاة أتم صلاة آمن، وإن ابتدأها آمنا فخاف، أتم صلاة خائف)

وَمَنْ أَمِنَ في الصَّلاةِ أَتَمَّ صَلَاةَ آمِنٍ، وَمَنِ ابْتدَأَها آمِنًا فَخَافَ، أتَمَّ صلاةَ خَائِفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: مُخالِفٌ، خالَفَ اللَّه به. قال: فخَرَجَ الأشْتَرُ في الفِتْنَةِ. ولأنَّها إحْدَى حالتَى الحَرْبِ، أشْبَهَتْ حالَةَ الهَرَبِ، ولأنَّ فَواتَ الكُفّارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ (¬1)، فَأُبِيحَتْ صلاةُ الخَوْفِ عندَ فَوْتِه كالحالَةِ الأُخْرى. والثَّانيةُ، ليس له أن يُصَلِّىَ إلَّا صلاةَ آمِنٍ. وهذا قولُ أكثَرِ أهْلِ العِلْمٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أوْ رُكْبَانًا} فشَرَط الخَوْفَ. وهذا غيرُ خائِفٍ، ولأنَّه آمِنٌ فلَزِمَتْه صلاةُ الآمِنِ، كما لو لم يَخْشَ فَوْتَهم. وهذا الخِلافُ في مَن يَأْمَنُ رُجُوعَهم عليه إن تَشاغَلَ بالصلاةِ، ويَأْمَنُ على أصحابِه. فأمَّا الخائِفُ مِن ذلك فحُكْمُه حُكْمُ المَطْلُوبِ على ما بَيَّنّا. 625 - مسألة: (ومَن أَمِنَ في الصَّلاةِ أَتَمَّ صلاةَ آمِنٍ، وإِنِ ابْتدَأَها آمِنًا فخافَ، أتَمَّ صلاةَ خائِفٍ) متى صَلَّى بعْضَ الصَّلاةِ في حالِ شِدَّةِ الخَوْفِ، مع الإِخْلالِ بشئٍ مِن واجِباتِها، كالاسْتِقْبالِ وغيرِه، فأَمِنَ في أثْنائِها، أَتَمَّها آتِيًا بواجِباتِها، فإذا كان راكِبًا إلى غيرِ القِبْلَةِ، نَزَل مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، وإن كان ماشِيًا، وَقَف واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وبَنَى على ما ¬

(¬1) في الأصل: «عليهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَضَى؛ لأنَّ ما مَضَى مِن صلاِتِه كان صَحِيحًا قبلَ الأَمْنِ، فجاز البِناءُ عليه، كما لو لم يُخِلَّ بشئٍ مِن الواجِباتِ، [وكالمريضِ] (¬1) يَبْتَدِئُ الصلاةَ قاعِدًا، إذا قَدَر على القِيام في أثْنَائِها. فإن تَرَك الاسْتِقْبَالَ حَالَ نُزُولِه، أو أخَلَّ بشئٍ مِن واجِباتِهاَ بعدَ أمْنِه، فسَدَتْ صلاتُه. وإنِ ابْتَدأَ الصلاةَ آمِنًا بشُرُوطِها وواجِباتها، ثم حَدَثَ له شِدَّةُ خَوْفٍ، أتَمَّها على حَسَبِ ما يَحْتَاجُ إليه، مثلَ مَن يكونُ قائِمًا على الأرضِ مُسْتَقْبِلًا، فيَحْتاجُ أن يَرْكَبَ وَيَسْتَدْبِرَ القِبْلَةَ، ويَطْعَنَ (¬2) ويَضْرِب، ونحوَ ذلك، فإنَّه يَصِيرُ إليه، ويَبْنِى على الماضِى مِن صلاِتِه. وحُكِىَ عن الشافعىِّ، أنَّه إذا أمِنَ نَزَل فبَنَى، وإذا خاف فرَكِبَ ابْتَدَأَ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الرُّكُوبَ قد يكونُ يَسِيرًا، لا يُبْطِلُ مِثْلُه في حَقِّ الآمِنِ، ففى حَقِّ الخائِفِ أَوْلَى، كالنُّزُولِ، ولأنَّه عَمَل أُبِيحَ للحاجَةِ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الصَّلاةِ، كالهَرَبِ. ¬

(¬1) في م: «وكان المريض». (¬2) في الأصل: «يطرد».

626 - مسألة

ومَنْ صَلَّى صَلَاةَ الخَوْفِ لِسَوادٍ ظَنَّهُ عَدُوًّا فَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بعَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُهُ، فَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 626 - مسألة (¬1): (ومَن صَلَّى صلاةَ الخَوْفِ لسَوادٍ ظَنَّهُ عَدُوًّا، فبانَ أنَّه ليس بعَدُوٍّ، [أو بينَه] (¬2) وبينَه ما يَمْنَعُه، فعليه الإِعادَةُ) سَواءٌ صَلَّى صلاةَ شِدَّةِ الخَوْفِ أو غيرَها، وسَواءٌ كان ظَنُّهم مُسْتَنِدًا إلى خَبَرِ ثِقَةٍ أو غيرِه، أو رُؤْيَةِ سَوادٍ، أو نحوِه؛ لأنَّه تَرَك بعضَ واجِباتِ الصَّلاةِ ظَنًّا منه أنَّه قد سَقَط، فلَزِمَتْه الإِعادَةُ، كما لو تَرَك غَسْلَ رِجْلَيْه، ومَسَح على خُفَّيْهِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وبينه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظَنًّا منه أنَّ ذلك يُجْزِئُ، فبانا مُخَرَّقَيْن، وكما لو ظَنَّ المُحْدِثُ أنَّه مُتَطَهِّرٌ فصَلَّى. ويَحْتَمِلُ أن لا تَلْزَمَ الإِعادَةُ إذا كان بينَه وبينَ العَدُوِّ ما يَمْنَعُ العُبُورَ؛ لأنَّ سَبَبَ الخَوْفِ مُتَحَقِّقٌ، وإنَّما خَفِىَ المانِعُ. واللَّهُ أعلمُ.

باب صلاة الجمعة

بابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صلاةِ الجُمُعَةِ (¬1) والأصْلُ في فَرْضِ الجُمُعَةِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ فقولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). فأمَرَ بالسَّعْى، ومُقْتَضَى الأمْرِ الوُجُوبُ، ولا يَجِبُ السَّعْىُ إلَّا إلى واجِبٍ. والمُرادُ بالسَّعْى هُنا الذِّهابُ إليها، لا الإِسْراعُ، فإنَّ السَّعْىَ في كِتابِ اللَّهِ لا يُرادُ به العَدْوُ، قال اللَّه ¬

(¬1) بعد هذا خرم في نسخة تشستربيتى، نستكمله من نسخة محمد بن فيصل آل سعود، ونشير إلى أرقام صفحاتها في تحقيقنا. (¬2) سورة الجمعة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} (¬1). وقال: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} (¬2) وقال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (¬3). وقال: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} (¬4). وأشْبَاهُ هذا لم يُرَدْ بشئٍ منه العَدْوَ، وقد رُوِىَ عن عُمَرَ أنَّه كان يَقْرأُ: (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ). وأمَّا السُّنَّةُ فقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى (¬5) قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلينَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬6). وعن أبى الجَعْدِ الضَّمْرِىِّ (¬7)، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا (¬8)، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ». وقال عليه السلامُ: ¬

(¬1) سورة عبس 8. (¬2) سورة الإسراء 19. (¬3) سورة المائدة 33، 64. (¬4) سورة البقرة 205. (¬5) سقط من: م. (¬6) لم يُخرجه البخارى. انظر تحفة الأشراف 5/ 334. وأخرجه مسلم، في: باب التغليظ في ترك الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 591. كما أخرجه النسائى، في: باب التشديد في التخلف عن الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 73. وابن ماجه، في: باب التغليط في التخلف عن الجماعة، من كتاب المساجد. سنن ابن ماجه 1/ 260. والدارمى، في: باب في من يترك الجمعة من غير عذر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 369. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 239، 254، 335، 2/ 84. (¬7) في م: «الضميرى». (¬8) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إلَّا أرْبَعَةً؛ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أوِ امْرَأَةٌ، أوْ صَبِىٌّ، أوْ مَرِيضٌ». رَواهما أبو داودَ (¬1). وعن جابِرٍ، قال: خَطَبَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالَ: «وَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الجُمُعَةَ فِى مَقَامِى هَذَا، فِى يَوْمِى هَذَا، فِى شَهْرِى هَذَا، مِن عَامِى هَذَا، فَمَنْ تَرَكَهَا فِى حَيَاتِى أوْ بَعْدَ مَوْتِى، وَلَهُ إِمَامٌ عَاِدلٌ أو جَائِرٌ، اسْتِخْفَافًا بِهَا، أوْ جُحُودًا بِهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّه لَهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَه (¬2) أمْرَهُ، ألَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ، ألَا وَلَا زَكَاةَ لَهُ، ألَا وَلَا حَجَّ لَهُ، ألَا وَلَا صَوْمَ لَهُ، وَلَا بِرَّ لَهُ، حَتَّى يَتُوبَ، فَإنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). وأجْمَعَ المسلون على وُجُوبِ الجُمُعَةِ. ¬

(¬1) في: باب التشديد في ترك الجمعة، وباب الجمعة للمملوك والمرأة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 242، 245. كما أخرج الأول الترمذى، في: باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 287. والنسائى، في: باب التشديد في التخلف عن الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 73. وابن ماجه، في: باب في من ترك الجمعة من غير عذر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 357. والدارمى، في: باب في من يترك الجمعة من غير عذر، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 369. والإمام مالك، في: باب القراءة في صلاة الجمعة. . . إلخ، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 111. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 424، 425. (¬2) في م: «اللَّه». (¬3) في: باب في فرض الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 343. كما أخرجه البيهقى، في أول كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 171.

627 - مسألة: (وهى واجبة على كل مسلم، مكلف، ذكر، حر، مستوطن ببناء، ليس بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، إذا لم يكن له عذر)

وَهِىَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ، مُكَلَّفٍ، حُرٍّ، مُسْتَوْطِنٍ ببنَاءٍ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 627 - مسألة: (وهى واجِبَةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ، مُكَلَّفٍ، ذَكَرٍ، حُرٍّ، مُسْتَوْطِنٍ ببِناءٍ، ليس بينَه وبينَ مَوْضِعِ الجُمُعَةِ أكْثَرُ مِن فَرْسَخٍ، إذا لم يَكُنْ لَه عُذْرٌ) يُشْتَرَطُ لوُجُوبِ الجُمُعَةِ ثمانِيَةُ شُرُوطٍ؛ الإِسْلَامُ، والعَقْلُ، والذُّكُورِيَّةُ. فهذه الثَّلَاثةُ لا خِلافَ في اشْتِراطِها لوُجُوبِ الجُمُعَةِ وانْعِقادِها؛ لأنَّ الإسْلامَ والعَقْلَ شَرْطان للتَّكْلِيفِ وصِحَّةِ العِبادَةِ المَحْضَةِ، والذُّكُورِيَّةَ شَرْط لوُجُوبِ الجُمُعَةِ وانْعِقادِها؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ، ولأنَّ الجُمُعَةَ يَجْتَمِعُ لها الرجالُ، والمرْأةُ ليستْ مِن أهْلِ الحُضُورِ في مَجامِعِ الرِّجالِ، ولكنَّ الجُمُعَةَ تَصِحُّ مِنها، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان النِّساءُ يُصَلِّين معه في الجَماعَةِ. الرَّابعُ.، البُلُوغُ، وهو شَرْطٌ لوُجُوبِ الجُمُعَةِ وانْعِقادِها، في الصَّحيحِ مِن المَذْهَبِ؛ للحَدِيثِ المَذْكُورِ. وهذا قولُ أكثرَ أهْلِ العِلْمِ، ولأنَّ البُلُوغَ مِن شَرائِطِ التَّكْلِيفِ؛ لقَوْلِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاَثةٍ، عَنَ الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ» (¬1). وذَكَر بعضُ أصحابِنا في الصَّبِىِّ المُمَيِّزِ رِوايَةً في وُجُوبِها عليه، بِناءً على تَكْلِيفِه. ولا مُعَوَّلَ عليه. والخامِسُ، الحُرِّيَّةُ السَّادِسُ، الاسْتِيطانُ بقَرْيَةٍ. وسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه، إن شاء اللَّهُ تعالى. السَّابعُ، أن لا يكونَ بينَه وبينَ مَوْضِعِ الجُمُعَةِ أكثَرُ مِن فَرْسَخٍ. وهذا الشَّرْطُ في حَقِّ غيرِ أهْلِ المِصْرِ، أمَّا أهْلُ المِصْرِ فيَلْزَمُهُم كلَّهم الجُمُعَةُ، بَعُدُوا أو قَرُبُوا. نصَّ عليه أحمدُ، فقال: أمَّا أهْلُ المِصْرِ فلابُدَّ لهم مِن شُهُودِها، سَمِعُوا النِّداءَ أو لم يَسْمَعُوا؛ وذلك لأنَّ البَلَدَ الواحِدَ يُبْنَى لِلْجُمُعَةِ، فلا فَرْقَ فيه بينَ القَرِيبِ والبَعِيدِ، ولأنَّ المِصْرَ لا يَكادُ يكونُ أكْثَرَ مِن فَرْسَخ. فهو في مَظِنَّةِ القُرْب، فاعْتُبِرَ ذلك. وهو قولُ أصحابِ الرَّأىِ، ونحْوُه قولُ الشافعىِّ. فأَمَّا غيرُ أهْلِ المِصْر، فمَن كان بينَه وبينَ الجامِعِ فَرْسَخٌ فما دُونَ، فعليه الجُمُعَةُ، وإلَّا فلا جُمُعَةَ عليه. ورُوِىَ نحْوُ هذا عن سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّب. وهو قولُ مالِكٍ، واللَّيْثِ. وروَى عبدُ اللَّهِ بنُ عَمْرو، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ». رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15 بنحوه. (¬2) في: باب من تجب عليه الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 243.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأشْبَهُ أنَّه مِن كلامِ ابنِ عَمْرو؛ ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للأعْمَى الذى قال: ليس لى قائِدٌ يَقُودُنِى: «أتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟». قال: نعم. قال: «فَأَجِبْ» (¬1). ولأنَّه داخِلٌ في قولِه تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. ورُوِىَ عن ابنِ عمرَ، وأبى هُرَيْرَةَ، وأنَس، والحسنِ، ونافِعٍ، وعِكْرِمَةَ، وعَطاءٍ، والأوْزاعِىِّ، أنَّهم قالوا: الجُمُعَةُ على مَن أواهُ اللَّيْلُ إلى أهْلِه؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ أوَاهُ اللَّيْلُ إلَى أهلِهِ» (¬2). وقال أصحابُ الرَّأىِ: لا جُمُعَةَ على مَن كان خارِجَ المصْرِ؛ لأنَّ عُثْمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صَلَّى العِيدَ في يَوْمِ جُمُعَةٍ، ثم قال لأهْلِ العَوالِى (¬3): مَن أرادَ منكم أن يَنْصَرِفَ فلْيَنْصَرِفْ، ومَن أرادَ أن يُقِيمَ حتى يُصَلِّىَ الجُمُعَةَ فَلْيُقِمْ (¬4). ولأنَّهم خارِجُ المِصْرِ، فأشْبَهُوا أهْلَ الحِلَلِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. وهذا يَتَناوَلُ غيرَ أهلِ المِصْرِ إذا سَمِعُوا النّداءَ، وحَدِيثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، ولأنَّهم مِن أهْلِ الجُمُعَةِ يَسْمَعُون النِّداءَ، فأشْبَهُوا أهْلَ المِصْرِ. وترْخِيصُ عثمانَ لأهْل ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 268. (¬2) ذكره الترمذى، في: باب ما جاء من كم تؤتى الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 290. (¬3) العوالى: ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال. معجم البلدان 3/ 743. (¬4) سقط من النسخ، وأثبتناه من المغنى. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه مرفوعا وموقوفا. المصنف 3/ 304, 305.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَوالِى إنَّما كان لأنَّه إذا اجْتَمَعَ عِيدان اجْتُزِئَ بالعِيدِ، وسَقَطَتِ الجُمُعَةُ عن مَن حَضَر العِيدَ غيرَ الإِمامِ. وقِياسُ أهْلِ القُرَى على أهْلِ الحِلَلِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الحِلَلَ لا تُعَدُّ للاسْتِيطانِ، ولا هم ساكِنُون بقَرْيَةٍ، ولا في مَوْضِعٍ جُعِلَ للاسْتِيطانِ. وقد ذَكَر القاضى أنَّ الجُمُعَةَ تَجِبُ عليِهم إذا كانوا بمَوْضِعٍ يَسْمَعُون النِّداءَ، كأهْلِ القَرْيَةِ. وأمَّا ما احْتَج به الآخرُون مِن حَدِيثِ أبى هُرَيْرَةَ فهو غيرُ صَحِيح، يَرْوِيه عبدُ اللَّهِ بنُ سعِيدٍ المقْبُرِىُّ، وهو ضَعِيفٌ. قال أحمدُ بنُ الحسنِ (¬1): ذَكَرْتُ هذا الحدِيث لأحمدَ بنِ حَنْبَل، فغَضِبَ وقال: اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ، اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ. وإنَّما فَعَل هذا؛ لأنَّه لم يَرَ الحَدِيثَ شيئًا بحالِ إسْنادِه، قالَه التِّرْمِذِىُّ (¬2). وأمَّا اعْتِبارُ حَقِيقَةِ النِّداءِ فغيرُ مُمْكِنٍ؛ لأنَّه قد يكونُ في النّاسِ الأصَمُّ وثَقِيلُ السَّمْعِ، وقد يكونُ النِّداءُ بينَ يَدَىِ المِنْبَرِ فلا يَسْمَعُه إلَّا أهْلُ المَسْجِدِ، وقد يكونُ المُؤَذِّنُ خَفِىَّ الصَّوْتِ، أو في يَوْمِ رِيحٍ، أو يكونُ المُسْتَمِعُ نائِمًا أو مَشْغُولًا بما يَمْنَعُ السَّماعَ، ويَسْمَعُ مَن هو أبعَدُ مِنه، فيُفْضِى إلى وُجُوبِها على البَعِيدِ دُونَ القَرِيبِ، وما هذا سَبِيلُه يَنْبَغِى أن يُقَدَّرَ بمقدارٍ لا يَخْتَلِفُ، ¬

(¬1) أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذى، حدث البخارى عنه في «الصحيح» عن الإمام أحمد , ونقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة. طبقات الحنابلة 1/ 37، 38. (¬2) انظر: عارضة الأحوذى 2/ 290، 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَوْضِعُ الذى يُسْمَعُ مِنه النِّداءُ في الغالِبِ، إذا كانتِ الأصْواتُ هادِئَةً، والموانِعُ مُنْتَفِيَةً، والرِّيحُ ساكِنَةً، والمُؤَذِّنُ صَيِّتًا على مَوْضِعٍ عالٍ، والمُسْتمِعُ غيرَ ساهٍ، فرْسَخ، أو ما قارَبَهُ، فحُدَّ به. واللَّهُ أعلمُ. فصل: وأهلُ القَرْيَةِ لا يَخْلُونَ مِن حالَيْن، إمَّا أن يكونَ بينَهم وبينَ المِصْرِ أكْثرُ مِن فرْسَخٍ [أوْ لا، فإن كان بينَهم أكثرُ مِن فَرْسَخٍ] (¬1) لم يَجِبْ عليهم السَّعْىُ إلى الجُمُعَةِ، وحالُهم مُعْتَبَرٌ بأنْفُسِهم، فإن كانوا أرْبَعِين واجْتَمَعَتْ فيهم الشَّرائِطُ، فعليهم إقامَةُ الجُمُعَةِ، ولهم السَّعْىُ إلى المِصْرِ، والأفْضَلُ إقامَتُها في قَرْيتهم، لأنَّه متى سَعَى بَعْضُهم اخْتَلَّ على الباقِين إقامَةُ الجُمُعَةِ، وإذا أقامُوا حَضَرُوها جَمِيعُهم، ولأنَّ في إقامَتِها في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْضِعِهم تَكْثِيرَ جَماعاتِ المُسْلِمين. وإن كانوا مِمَّن لا تَجِبُ عليهم الجُمُعَةُ بأنْفُسِهِم، فهم مُخَيَّرُون بينَ السَّعْىِ إلى المِصْرِ، وبينَ الإِقامَةِ ويُصَلُّون ظُهْرًا، والسَّعْىُ أفْضَلُ؛ ليَحْصُلَ لهم فَضْلُ السَّاعِى إلى الجُمُعَةِ، ويَخْرُجُوا مِن الخِلافِ. الحالُ الثانِى، أن يكونَ بينَهم وبينَ المِصْرِ فَرْسَخٌ فما دونَ، فإن كانوا أقَلَّ مِن أرْبَعِين، فعليهم السَّعْىُ إلى الجُمُعَةِ؛ لِما بَيَّنا. وإن كانوا مِمَّن تَجِب عليهم الجُمُعَةُ بأنْفُسِهم، وكان مَوْضِعُ الجُمُعَةِ القَرِيبُ قَرْيَةً أُخْرَى، لم يَلْزَمْهم السَّعْىُ إليها، وصلَّوْا في مَكانِهم؛ إذ ليست إحْدَى القَرْيَتَيْن أوْلَى مِن الأخْرَى، ولهم السَّعْىُ إليها، وإقامَتُها في مَكانِهم أفْضَلُ، كما ذَكَرْنا. فإن سَعَى بَعضُهم فنَقَصَ عَدَدُ الباقِين، لَزِمَهم السَّعْىُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لئَلَّا يُؤدِّىَ إلى تَرْكِ الجُمُعَةِ الواجِبَةِ، وإن كان مَوْضِعُ الجُمُعَةِ القَرِيبُ مِصْرًا، فهم مُخَيَّرُون أيضًا بينَ السَّعْىِ إليه، وإقامَتِها في مَكانِهِم، كالتى قَبْلَها. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ. وعن أحمدَ، أنَّ السَّعْىَ يَلْزَمُهم، إلَّا أن يكون لهم عُذْرٌ فيُصَلُّون جُمُعَة. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ أهْلَ القَرْيَةِ لا تَنْعَقِدُ بهم جُمُعَةُ أهْلِ المِصْرِ، فكان لهم إقامَةُ الجُمُعَةِ في مَكانِهم، كالتى قبلَها، ولأنَّ أهْلَ القُرَى يُقِيمُون الجُمَعَ في بِلادِ الإِسْلامِ في مثلِ ذلك مِن غيرِ نَكيرٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان إجْماعًا. الشَّرْطُ الثَّامِنُ، انْتِفاءُ الأعْذارِ، وقد ذَكَرْنَاها في آخِرِ صلاةِ الجَماعَةِ بما يُغْنِى عن إعادَتِها (¬1). والمَطَرُ الذى يَبُلُّ الثِّيابَ، والوَحْلُ الذى يَشُقُّ المَشْىُ فيه مِن جُمْلَةِ الأعْذارِ. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّه كان لا يَجْعَلُ المَطَرَ عُذْرًا في التَّخَلُّفِ عنها. ولَنا، أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أمَرَ مُؤَذِّنَه في يَوْمِ جُمُعَةٍ في يَوْمِ مَطَرٍ، فقال: إذا قُلْتَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّهِ. فلا تَقُلْ حَىَّ على الصَّلاةِ. قُلْ صَلُّوا في بُيُوتِكم. قال: فكأنَّ النَّاْسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك. فقال: أتَعْجَبُون مِن ذا؟ فَعَل هذا مَن هو خَيْرٌ مِنِّى، إنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وإنِّى كَرِهْتُ أن أُخْرِجَكم إليها فتَمْشُون في الطِّينِ والدَّحْضِ. أخْرَجَه مُسْلِمٌ (¬2). ولأنَّه عُذْرٌ في تَرْكِ الجَماعَةِ (¬3)، فكان عُذْرًا في تَرْكِ الجُمُعَةِ، كالمَرَضِ. فصل: والعَمَى ليس بعُذْرٍ في تَرْكِ الجُمُعَةِ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَجِبُ على الأعْمَى. ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ والأخْبارِ. وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعْمَى الذى اسْتَأْذَنه في تَرْكِ الخُرُوجِ إلى الصَّلاةِ: «أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟» قال: نعم. قال: «أَجِبْ» (¬4). واللَّه أعْلمُ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 4/ 464، وما بعدها. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 470. (¬3) بعده في م: «وقال أبو حنيفة لا تجب». (¬4) تقدم تخريجه في 4/ 268.

628 - مسألة: (ولا تجب على مسافر، ولا عبد، ولا امرأة، ولا خنثى)

وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ، وَلا عَبْدٍ، وَلَا امْرأةٍ، وَلَا خُنْثَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 628 - مسألة: (ولا تجبُ على مُسافِرٍ، ولا عَبْدٍ، ولا امْرَأةٍ، ولا خُنْثَى) أمّا المَرْأَةُ، فلا خِلافَ في أنَّها لا تَجِبُ عليها الجُمُعَةُ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. وحُكْمُ الخُنْثَى حُكْمُ المرْأَةِ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كَوْنُه رجلًا. وأمَّا المُسافِرُ فلا جُمُعَةَ عليه في قولِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم مالكٌ في أهْلِ المَدِينَةِ، والثَّوْرِىُّ في أهْلِ العِراقِ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وحُكِىَ عن الزُّهْرِىِّ، والنَّخَعىِّ، أنَّها تَجبُ عليه؛ لأنَّ الجَماعَةَ تَجِبُ عليه، فالجُمُعَةُ أوْلَى. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسافِرُ فلا يُصَلِّى الجُمُعَةَ في سَفَرِه، وكان في حَجَّةِ الوَداعِ يَومَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمَع بينَهما، ولم يُصَلِّ جُمُعَةً، والخُلفَاءُ الرَّاشِدُون، رَضِىَ اللَّه عنهم، كانوا يُسافِرُون في الحَجِّ وغيرِه، فلم يُصَلِّ أحَدٌ منهم الجُمعَةَ في سَفَرِه، وكذلك غيرُهم مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَن بعدَهم. قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إبراهيمُ: كانوا يُقِيمُون بالرَّىِّ (¬1) السَّنَةَ وأكثرَ مِن ذلك، وبسجِسْتان (¬2) السِّنِين (¬3) لا يُجَمِّعُون ولا يُشَرِّقُون. رَواه سَعيدٌ (¬4). وهذا إجْماعٌ، مع السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، لا يَسُوغُ مُخالَفَتُه. فصل: وإذا أجْمَعَ المُسافِرُ إقامَةً تَمْنَعُ القَصْرَ، ولم يَنْوِ الاسْتِيطانَ، كطالِبِ العِلْمِ أو الرِّباطِ، أو التَّاجِرِ ونحوِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَلْزمُه الجُمُعَةُ؛ لعُمُومِ الآيةِ والأَخْبارِ. والثَّانِى، لا تَجبُ عليه؛ لأنَّه غيرُ مُسْتَوْطِنٍ، والاسْتِيطانُ مِن شَرائِطِ الوُجُوبِ، ولأنَّه لم يَنْوِ الإِقامَةَ في هذا البَلَدِ على الدَّوامِ، أشْبَهَ أهْلَ القَرْيَةِ الذين يَسْكُنُونَها صَيْفًا وَيظْعَنُون عنها شِتاءً، ولأنَّهم كانوا يُقِيمُون السَّنَةَ والسَّنَتَيْن لا يُجَمِّعُون ولا يُشَرِّقُون، أى لا يُصَلُّون جُمُعَةً ولا عِيدًا. فإن قُلْنا: تَجِبُ عليهم الجُمُعَةُ. فالظَّاهِرُ أنَّها لا تَنْعَقِدُ به، لعدَمِ الاسْتِيطانِ الذى هو مِن شُرُوطِ الانْعِقادِ. ¬

(¬1) في م: «بالقرى». والرى: قصبة بلاد الجبال، مدينة مشهورة. معجم البلدان 2/ 892. (¬2) سجستان: ناصية كبيرة، وولاية واسعة، بينها وبين هراة ثمانون فرسخًا. معجم البلدان 3/ 41. (¬3) في م: «السنتين». (¬4) أخرجه بنحوه ابن أبى شيبة في مصنفه 2/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا العَبْدُ، فالمَشْهُورُ في المَذْهَب أنَّها لا تَجبُ عليه. وهو قولُ (¬1) مَن سَمَّيْنا في حَقِّ المُسافِر. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّها تَجِبُ عليه. نَقَلَها عنه المَرُّوذِىُّ. وهى اخْتِيارُ أبى بكرٍ، إلَّا أنَّه لا يَذْهَبُ مِن غيرِ إذْنِ سَيِّدِه. وهو قولُ طائِفَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، واحْتَجُّوا بعُمُومِ الآيَةِ، ولأنَّ الجَماعَةَ تَجِبُ عليه، والجُمُعَةُ آكَدُ مِنها. وحُكِىَ عن الحسنِ، وقَتادَةَ، أنَّها تَجِبُ على العَبْدِ الذى يُؤَدِّى الضَّرِيبَةَ؛ لأنَّ حَقَّ السَّيِّدِ عليه قد (¬2) تَحَوَّلَ إلى المالِ، أشْبَهَ المَدِينَ. ولَنا، ما روَى طارِقُ بنُ شِهابٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم، إلَّا أرْبعَةً؛ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أوِ امْرَأةٌ، أوْ صَبِىٌّ، أوْ مَرِيضٌ». رَوَاه أبو داودَ (¬3)، وقال: طارِقٌ رَأى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يَسْمَعْ منه، وهو مِن أصحابِه. وعن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسخ: «فلا»، والمثبت من المغنى. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 159.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جابِرٍ، أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا مَرِيضًا، أوْ مُسَافِرًا، أَوِ امْرأةً، أَو صَبِيًّا، أوْ مَمْلُوكًا». رَواه الدَّارَقُطْنِىُّ (¬1). ولأنَّ الجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْىُ إليها مِن مَكانٍ بَعِيدٍ، فلم تَجِبْ عليه الجُمُعَةُ، كالحَجِّ والجِهادِ، ولأنَّه مَحْبُوسٌ على السَّيِّدِ، أشْبَهَ المَحْبُوسَ بالدَّيْنِ، ولأنَّها لو وَجَبَتْ عليه لجاز له السَّعْىُ إليها مِن غيرِ إذْنِ السَّيِّدِ، كسائِرِ الفَرائِضِ، والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بذوى الأعْذارِ، وهذا منهم. فصل: وحُكْمُ المُكاتَبِ والمُدَبَّرِ في ذلك حُكْمُ القِنِّ، لبَقَاءِ الرِّقِّ فيهما. وكذلك مَن بعضُه حُرٌّ، فإنَّ حَقَّ السَّيِّدِ مُتَعَلِّقٌ به. وكذلك لا يَجِبُ عليه شئٌ مِمّا [لا يَجِبُ على العبيدِ] (¬2). ¬

(¬1) في: باب من تجب عليه الجمعة، من كتاب الجمعة. سنن الدارقطنى 2/ 3. (¬2) في م: «ذكرنا عن العبد».

629 - مسألة: (ومن حضرها منهم أجزأته، ولم تنعقد به، ولم يجز له أن يؤم فيها. وعنه، فى العبد، أنها تجب عليه)

وَمَنْ حَضَرَهَا مِنْهُمْ أَجْزَأَتْهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا. وَعَنْهُ، فِى الْعَبْدِ، أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 629 - مسألة: (ومَن حَضَرَها منهم أَجْزأَتْه، ولَم تَنْعَقِدْ بِه، ولَم يَجُزْ لَه أن يَؤُمَّ فيها. وعنْه، في العَبْدِ، أنَّهَا تَجِبُ عليه) مَن حَضَر الجُمُعَةَ مِن هؤلاءِ أجْزَأَتْه عن الظُّهْرِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا؛ لأنَّ إسْقاطَ الجُمُعَةِ عنهم تَخْفِيفٌ عنهم، فإذا حَضَرُوها أجْزَأَتْهُم، كالمَرِيضِ. والأَفْضَلُ لِلمُسافِرِ حُضورُ الجُمُعَةِ؛ لأنَّها أكْمَلُ، وفيه خُروجٌ مِن الخِلافِ. فأمَّا العَبْدُ فإن أَذِنَ سَيِّدُه في حُضورِها فهو أفْضَلُ؛ لِيَنالَ فَضْلَ الجُمُعَةِ، ويَخْرُجِ مِن الخِلافِ. وإن مَنَعَه سَيِّدُه فليس له حُضُورُها، إلَّا أن نقُولَ بوُجُوبِها عليه. وأمَّا المرأةُ؛ فإن كانت مُسِنَّةً فلا بَأْسَ بحُضُورِها، وإن كانت شابَّةً جاز لها ذلك، وصلاتُها في بَيْتِها أفْضَلُ. قال أبو عَمْرٍو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّيْبَانِىُّ (¬1): رَأيْتُ ابنَ مَسْعُودٍ يُخْرِجُ النِّساءَ مِن الجامِعِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ويَقُولُ: اخْرُجْنَ إلى بُيُوتِكُنَّ خيْرٌ لَكُنَّ (¬2). فصل: ولا تَنْعَقِدُ الجُمُعَةُ بأحَدٍ مِن هؤلاءِ، ولا يَصِحُّ أن يكونَ إمامًا فيها. وقال أبو حنيفةَ، والشَّافِعىُّ: يَجُوزُ أن يكونَ العَبْدُ والمُسافِرُ إمامًا فيها. ووافَقَهُم مالكٌ في المُسافِرِ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، أنَّ الجُمُعَةَ تَصِحُّ بالعَبِيدِ والمُسافِرِينَ؛ لأنَّهم رِجالٌ تَصِّحُّ منهم الجُمُعَةُ. ولَنا، أنَّهم مِن غيرِ أهْلِ فَرْضِ الجُمُعَةِ، فلم تَنْعَقِدْ بهم، ولم يَؤُمُّوا فيها، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ، ولأنَّ الجُمُعَةَ إنَّما تَصِحُّ منهم تَبَعًا لمَن انْعَقَدَتْ به، فلو انْعَقَدَتْ بهم أو كانوا أئِمَّةً صارَ التَّبعُ مَتْبُوعًا، وعليه يَخْرُجُ الحُرُّ المُقِيمُ، ولأنَّ الجُمُعَةَ لو انْعَقَدَتْ بهم لانْعَقَدَتْ بهم مُنْفَرِدِينَ، كالأحْرَارِ المُقِيمِينَ، وقِياسُهم يَنْتَقِضُ (¬3) بالنِّساءِ والصِّبْيانِ. وفى العَبْدِ رِوايَة، أنَّها تَجِبُ عليه؛ لعُمُومِ الآيَةِ، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيبانى، صاحب ديوان اللغة والشعر، وكان صدوقا، توفى سنة ست ومائتين. تاريخ العلماء النحويين 207، 208. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من لا جمعة عليه إذا شهدها صلاها ركعتين، من كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 186. وعبد الرزاق، في: باب من تجب عليه الجمعة، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 173. (¬3) في م: «ينقض».

630 - مسألة: (ومن سقطت عنه لعذر، إذا حضرها وجبت عليه، وانعقدت به)

وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ لِعُذْرٍ، إِذَا حَضَرَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكُلُّ ما كان شَرْطًا لوُجُوبِ الجُمُعَةِ فهو شَرْطٌ لانْعِقادِها، فمتى صَلَّوا جُمُعَةً مع اخْتِلالِ بعضِ شُرُوطِها، لم تَصِحَّ، ولَزِمَهُم أن يُصَلُّوا ظُهْرًا، ولا يُعَدُّ في الأرْبَعِينَ الذين تَنْعَقِدُ بهم مَن لا تَجِبُ عليه، ولا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ للصِّحَّةِ، بل تَصِحُّ مِمَّن لا تَجِبُ عليه تَبَعًا لمَن وَجَبَتْ عليه، ولا يُعْتَبَرُ للوُجُوبِ كَوْنُه مِمَّن تَنْعَقِدُ به؛ فإنَّها تَجِبُ على مَن يَسْمَعُ النِّداءَ مِن غيرِ أهْلِ المِصْرِ، ولا تَنْعَقِدُ به. 630 - مسألة: (ومَن سَقَطَتْ عنه لِعُذْرٍ، إذَا حَضَرَها وَجَبَتْ عليْه، وانْعَقَدَتْ بِه) ويَصِحُّ أن يكونَ إمامًا فيها، كالمَرِيضِ، ومَن حَبَسَه العُذْرُ والخَوْفُ؛ لأنَّ سُقُوطَها عنهم (¬1) إنَّما كان لِمَشَقَّةِ السَّعْى، فإذا تَكَلَّفُوا وحَصَلُوا في الجامِعِ زالَتِ المَشَقَّةُ، فصار حُكْمُهُم حُكْمَ أهلِ الأعْذارِ. ¬

(¬1) في م: «أن».

631 - مسألة: (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، لم تصح صلاته، والأفضل لمن لا تجب عليه أن لا يصلى الظهر حتى يصلى الإمام)

وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الإِمَامِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ لَا تَجبُ عَلَيْهِ أنْ لَا يُصَلِّىَ الظُّهْرَ حَتَّى يُصَلِّىَ الإِمَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 631 - مسألة: (ومَن صَلَّى الظُّهْرَ مِمَّن عليْه حُضُورُ الجُمُعَةِ قبلَ صلاةِ الإِمامِ، لم تَصِحَّ صَلاتُه، والأَفْضَلُ لمَن لا تَجِبُ عليْه أنْ لَا يُصَلِّىَ الظُّهْرَ حتى يُصَلِّىَ الإِمامُ) يَعْنِى إذا صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مَن (¬1) تَجِبُ عليه الجُمُعَةُ قبلَ صَلاةِ الإِمامِ لم تَصِحَّ صَلاتُه، ويَلْزَمُه السَّعْىُ إلى الجُمُعَةِ إن ظَنَّ أنَّه يُدْرِكُها؛ لأنَّها المَفْرُوضَةُ عليه، فإن أدْرَكَها صَلَّاها مع ¬

(¬1) في م: «ممن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمامِ، وإن فاتَتْه فعليه صلاةُ الظُّهْرِ. وإن ظَنَّ أنَّه لا يُدْرِكُها انْتَظَرَ حتى يَتَيَقَّنَ أنَّ الإِمامَ قد صَلَّى، ثم يُصَلِّى الظُّهْرَ. وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشَّافِعىِّ في الجَدِيدِ. وقال أبو حنيفةَ، والشَّافِعِىُّ في القَدِيمِ: يَصِحُّ ظُهْرُه قبلَ صلاةِ الإِمامِ؛ لأنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الوَقْتِ، بدَلِيلِ سائِرِ الأيَّامِ، وإنَّما الجُمُعَةُ بَدَلٌ عنها، وقائِمَةٌ مَقامَها، [ولهذا] (¬1) إذا تَعَذَّرَتْ صَلَّى ظُهْرًا، فمَن صَلَّى الظُّهْرَ فقد أتى بالأصْلِ، فأجْزَأه كسائِرِ الأيَّامِ. قال أبو حنيفةَ: ويَلْزَمُه السَّعْىُ إلى الجُمعَةِ، فإن سَعَى بَطَلَتْ ظُهْرُه، وإن لم يَسْعَ أجْزَأته. ولَنا، أنَّه صَلَّى ما لم يُخاطَبْ به، وتَرَك ما خُوطِبَ به، فلم يَصِحَّ، كما لو صَلَّى العَصْرَ مَكانَ الظُّهْرِ، ولا نِزاعَ أنَّه مُخاطَبٌ بالجُمُعَةِ، وقد دَلَّ عليه النَّصُّ والإِجْماعُ، ولا خِلافَ في أنَّه يأثَمُ بتَركِها وتَرْكِ السَّعْىِ إليها، ويَلْزَمُ مِن ذلك أن لا يُخاطَبَ بالظُّهْرِ (¬2)، لأنَّه لا يُخاطَبُ بصَلَاتيْن في الوَقْتِ، ولأنَّه يَأْثَمُ بتَرْكِ الجُمُعَةِ وإن صَلَّى الظُّهْرَ، ¬

(¬1) في النسخ: «وكذلك». والمثبت من المغنى. (¬2) في م: «بالسعى بالظهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَأْثَمُ بتَرْكِ الظُّهْرِ وفِعْلِ الجُمُعَةِ بالإِجْماعِ، والواجِبُ ما يَأْثَمُ بتَرْكِه دُونَ ما لا يَأْثَمُ به. وقَوْلُهم: إنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الوَقْتِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّها لو كانتِ الأصْلَ لوَجَبَ عليه فِعْلُها، وأَثِم بتَرْكِها، ولم يُجْزِئْه صلَاةُ الجُمُعَةِ مَكانَها؛ لأنَّ البَدَلَ إنَّما يُصارُ إليه عندَ تَعَذُّرِ المُبْدَلِ، بدَلِيلِ سائِرِ الأَبْدالِ، ولأنَّ الظُّهْرَ لو صَحَّتْ لم تَبْطُلْ بالسَّعْى إلى غيرِها، كسائِرِ الصَّلواتِ الصَّحِيحَةِ، ولأنَّ الصلاةَ إذا فُرِغَ منها لم تَبْطُلْ بمُبطِلاتِها، فكيف تَبْطُلُ بما ليس مِن مُبْطِلاتها، ولا وَرَد به الشَّرْعُ. وأمَّا إذا فاتَتْه الجُمُعَةُ فإنَّه يَصِيرُ إلى الظُّهْرِ؛ لتَعَذُّرِ قَضاءِ الجُمُعَةِ؛ لكَوْنِها لا تَصِحُّ إلَّا بشُرُوطِها، ولا يُوجَدُ ذلك في قَضائِها، فتَعيَّنَ المَصِيرُ إلى الظُّهْرِ عندَ عَدَمِها، وهذا حالُ البَدَلِ. فصل: فإن صَلَّى الظُّهْرَ، ثم شَكَّ، هل صَلَّى قبلَ صلاةِ الإِمامِ أو بعدَها؟ لَزِمَتْه الإِعادَةُ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الصَّلاةِ في ذِمَّتِه، ولأنَّه صَلّاها مع الشَّكِّ في شَرْطِها، فلم تَصِحَّ، كما لو صَلّاها مع الشَّكِّ في طَهارَتِها. وإن صَلّاها مع صلاةِ الإِمامِ، لم تَصِحَّ؛ لأنَّه صَلّاها قبلَ فَراغِ الإِمامِ، أشْبَهَ ما لو صَلّاها قبلَه في وَقْتٍ لا يَعْلَمُ أنَّه لا يُدْرِكُها. فصل: فإنِ اتَّفَقَ أهْلُ بَلَدٍ أو قَرْيَةٍ مِمَّن تَجِبُ عليهمُ الجُمُعَةُ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرْكِها، وصَلَّوْا ظُهْرًا، لم تَصِحَّ صَلاتهم؛ لما ذَكَرْنا. فإذا خَرَج وَقْتُ الجُمُعَةِ لَزِمَهم (¬1) إعادَةُ الظُّهْرِ؛ لتَعَذُّرِ فِعْلِ الجُمُعَةِ بعدَ الوَقْتِ. فصل: فأمَّا مَن لا تَجِبُ عليه الجُمُعَةُ؛ كالعَبْدِ، والمَرْأَةِ، والمُسافِرِ، والمَرِيضِ، وسائِرِ المَعْذُورِين، فله أن يُصَلِّىَ الظُّهْرَ قبلَ صلاةِ الإِمامِ في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: لا تَصِحُّ صلاتُه قبلَ الإِمامِ؛ لأنَّه لا يَتَيقَّنُ بَقاءَ العُذْرِ، فلم تصِحَّ صَلاتُه، كغيرِ المَعْذُوِر. ولَنا، أنَّه لم يُخاطَبْ بالجُمُعَةِ، فصحَّت منه الظُّهْرُ، كالبَعِيدِ مِن مَوْضِعِ الجُمُعَةِ. وقَوْلُه: لا يَتَيقَّنُ بَقاءَ العُذْرِ. قُلْنا: أمَّا المرأةُ فَيُتَيَقَّنُ بَقاءُ عُذْرِها، وأمَّا عْيرُها فالظَّاهِرُ بَقاءُ عُذْرِه، والأصْلُ اسْتِمْرارُه، فأشْبَهَ المُتَيَمَّمَ إذا صَلَّى في أوَّلِ الوَقْتِ، والمَرِيضَ إذا صَلَّى جالِسًا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا سَعَى إلى الجُمُعَةِ بعدَ أن صَلّاها، لم تَبْطُلْ ظُهْرُه، وكانتِ الجُمُعَةُ نَفْلًا في حَقِّه، وسَواءٌ زَال عُذْرُه أو لم يَزُلْ. وقال أبو حنيفةَ: ¬

(¬1) في م: «لزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْطُلُ ظُهْرُه بالسَّعْى إليها، كالتى قبْلَها. ولَنا، ما رَوَى أبو العالِيَةِ، قال: سَأَلْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ الصَّامِتِ، فقُلْتُ: نُصَلِّى يَوْمَ الجُمُعَةِ خَلفَ أُمَراءَ، فَيُؤَخِّرُون الصَّلاةَ؟ فقال: سَأَلْتُ أبا ذَرٍّ عن ذلك، فقال: سَأَلْتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[عن ذلك] (¬1)، فقال: «صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً». وفى لَفْظٍ: «فَإنْ أدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» (¬2). ولأنَّها صلاةٌ صَحيحَةٌ أسْقَطَتْ فَرْضَه، وأبْرأَتْ ذِمَّتَه، أشْبَهَ ما لو صَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا ثم سَعَى إلى الجَماعَةِ. والأَفْضَلُ لهم أن لا يُصَلُّوا حتى يُصَلِّىَ الإِمامُ؛ لأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ، ولأنَّ غيرَ المرْأَةِ يَحْتمِلُ زَوالُ أعْذارِهم، فيُدْرِكُون الجُمُعَةَ. فصل: ولا يُكْرَه لمَن فاتَتْه الجُمُعَةُ، أو لم يَكُنْ مِن أهْلِ فَرْضِها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 252، 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يُصَلِّىَ الظُّهْرَ في جَماعَةٍ، إذا أَمِنَ أن يُنْسَبَ إلى مُخالَفَةِ الإِمامِ، والرَّغْبَةِ عن الصَّلاةِ معه، أو أنَّه (¬1) يَرَى الإِعادَةَ إذا صَلَّى معه. فَعَل ذلك ابنُ مسعودٍ، وأبو ذَرٍّ، والحسنُ بنُ عُبَيْدِ اللَّه (¬2)، وإياسُ بنُ مُعاوِيَةَ (¬3). وهو قولُ الأعْمَشِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وكَرِهَه الحسنُ، وأبو قِلابَةَ، ومالِكٌ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّ زَمَنَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَخْلُ مِن مَعْذُورِين، فلم يُنْقَلْ أنَّهم صَلَّوْا جَماعَةً. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْس وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬4). ورُوِىَ عن ابنِ مَسْعودٍ، أنَّه فأتَتْه الجُمُعَةُ، فصَلَّى بعَلْقَمَةَ، والأسْوَدِ (¬5). احْتَجَّ به أحمدُ، وفَعَلَه مَن ذَكَرْنا مِن قبلُ، ومُطَرِّفٌ (¬6)، وإبْراهِيمُ. قال أبو عبدِ اللَّهِ: ما أعْجَبَ ¬

(¬1) في م: «أن». (¬2) أبو عروة الحسن بن عبيد اللَّه بن عروة النخعى الكوفى، ثقة صالح، توفى سنة تسع وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 2/ 292. (¬3) أبو واثلة إياس بن معاوية بن قرة المزنى البصرى، قاضيها، تابعى ثقة، فقيه، عفيف، توفى سنة اثنتين وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 390، 391. (¬4) تقدم تخريجه في 4/ 266. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القوم يأتون المسجد يوم الجمعة بعد انصراف الناس، من كتاب الجمعة. مصنف عبد الرزاق 3/ 231. (¬6) أبو مصعب مطرف بن عبد اللَّه بن مطرف الأصم، صحب مالكا، وتفقه به، وتوفى بالمدينة سنة عشرين ومائتين. طبقات الفقهاء، للشيرازى 147.

632 - مسألة: (ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر فى يومها بعد الزوال)

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ السَّفَرُ في يَوْمِهَا بَعْدَ الزَّوَال، ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسَ، يُنْكِرُون هذا. فأمَّا زَمَنَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يُنْقَلْ إلينا أنَّه اجْتَمَعَ جَماعَةٌ مَعْذُورُون يَحْتاجُون إلى إقامَةِ الجَماعةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُسْتَحَبُّ إعادَتُها جَماعَةً. في مَسْجِدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا في مسجِدٍ تُكْرَه إِعادَةُ الجَماعَةِ فيه، ولا في المسجدِ الذى أُقِيمَتْ فيه الجُمُعَةُ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى أن يُنْسَبَ إلى الرَّغْبَةِ عن الجُمُعَةِ، أو أنَّه لا يَرَى الصلاةَ خلفَ الإِمامِ، أو يَرَى الإِعادَةَ معه، وفيه افْتِياتٌ على الإِمامِ، ورُبَّما أفْضَى إلى فِتْنَةٍ، أو لُحُوقِ ضَرَرٍ به، وإنَّما يُصَليها في مَنْزِلِه، أو في مَوْضِعٍ لا تَحْصُلُ هذه المَفْسَدَةُ بالصلاةِ فيه. 632 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لمَن تَلْزَمُه الجُمُعَةُ السَّفَرُ في يَوْمِها بعدَ الزّوالِ) وبه قال الشافعىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ. وسُئِلَ الأوْزاعِىُّ عن مُسافِرٍ سَمِع أذانَ الجُمُعَةِ وقد

633 - مسألة: (ويجوز قبله. وعنه، لا يجوز. وعنه، يجوز للجهاد خاصة)

وَيَجُوزُ قَبْلَهُ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ لِلْجِهَادِ خَاصَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْرَجَ دابَّتهَ، فقال: ليَمْضِ في سَفَرِه؛ لأنَّ (¬1) عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: الجُمُعَةُ لا تَحْبِسُ عن سَفَرٍ (¬2). ولَنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أنْ لَا يُصْحَبَ في سَفَرِهِ، وَلَا يُعَانَ عَلَى حَاجَتِهِ». رواه الدّارَقُطْنِىُّ في «الأفْرادِ» (¬3). ولأنَّ الجُمُعَةَ قد وَجَبَتْ عليه، فلم يَجُزْ له الاشْتِغالُ بما يَمْنعُ منها، كما لو تَرَكَها لتِجارَةٍ، وما رُوِىَ عن عمرَ، فقد رُوِىَ عن ابنِه، وعائشةَ، ما يدُلُّ على كَراهِيَةِ السَّفَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فتُعارِضُ قَوْلَه، ويُمْكِنُ حَمْلُه على السَّفَرِ قبلَ الوَقتِ. 633 - مسألة: (ويَجُوزُ قبلَه. وعنه، لا يجُوزُ. وعنه، يَجُوزُ للجِهادِ خاصَّةً) السَّفَرُ بعدَ الزَّوالِ، فيَجُوزُ للجِهادِ خاصَّةً. وكذلك ¬

(¬1) في النسخ: «ولأن». والمثبت من المغنى. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من قال لا تحبس الجمعة عن سفر، من كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 187. وعبد الرزاق، في: باب السفر يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. مصنف عبد الرزاق 3/ 250. وابن أبى شيبة، في: باب من رخص في السفر يوم الجمعة، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 105. (¬3) ذكره ابن حجر في تلخيص الحبير 2/ 66. وعزاه للدارقطنى في الأفراد، ولم يعزه لغيره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكره القاضى؛ لِما روَى ابنُ عَباسٍ، قال: بَعَث رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدَ اللَّهِ ابنَ رَواحَةَ في سَرِيَّةٍ، فوافَقَ ذلك يَوْمَ الجُمُعَةِ، فقَدَّمَ أصحابَه وقال: لعَلِّى أُصَلِّى مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ألْحَقُهم. فلَمّا صَلَّى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَآه فقال: «مَا مَنَعَكَ أنْ تَغْدُوَ مَعَ أصْحَابكَ». فقال: أرَدْتُ أنْ أُصَلِّىَ معك، ثم ألْحَقَهمِ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الأَرْضِ مَا أَدْرَكْت فَضْلَ غَدْوَتِهمْ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). وفيه رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّ ذلك لا يَجُوزُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ ابنِ عمرَ. وفيه رِوِايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه يَجُوزُ مُطْلَقًا. اخْتارَه شيخُنا (2)؛ لحدِيثِ عمرَ، وكما لو سافرَ مِن اللَّيْلِ. ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 256.كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في السفر يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 316، 317.

فصل

فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا إن خافَ المُسافِرُ فَواتَ رُفْقَتِه، جاز له تَرْكُ الجُمُعَةِ؛ لأنَّه مِن الأعْذارِ المُسْقِطَةِ للْجُمُعَةِ والجَماعَةِ، وسَواءٌ كان في بَلَدِه وأرادَ إنْشاءَ السَّفَرِ، أو في غيرِه. (فصل: ويُشْتَرطُ لصِحَّةِ الجُمُعَةِ أرْبَعَةُ شُروطٍ؛ أحَدُها، الوَقْتُ،

الْوَقْتُ، وَأَوَّلُهُ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: يَجُوزُ فِعْلُهَا في السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. وَآخِرُهُ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأوَّلُ وَقْتِها أوَّلُ وقْتِ صَلاةِ العِيدِ. وقال الخِرَقِىُّ: يَجُوزُ فِعْلُها في السَّاعَةِ السَّادِسَةِ) وفى بعضِ النُّسَخِ، في الخامِسَةِ. والصَّحِيحُ في السَّادسةِ (وآخِرُه آخرُ وَقْتِ صلاةِ الظُّهْرِ) لا تصِحُّ الجُمُعَةُ قبلَ وَقتِها ولا بعدَه إجْماعًا. ولا خِلافَ فيما عَلِمْنا أنَّ آخرَ وَقْتِها آخِرُ وَقْتِ صلاةِ الظُّهْرِ. فأمَّا أوَّلُه، فقد ذَكَرْنا قولَ الخِرَقِىِّ: إنَّه لا يَجُوزُ قبلَ الساعَةِ السَّادِسَةِ. أو الخَامِسَةِ. على ما نُقِلَ عنه. وقال القاضى وأصحابُه: أوَّلُه أوَّلُ وَقْتِ صلاةِ العِيدِ. ورَواه عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ، عن أَبِيه، قال: نَذْهَبُ إلى أنَّها كصلاةِ العِيدِ. قال مُجاهِدٌ: ما كان للنَّاْسِ عِيدٌ إلَّا في أوَّلِ النَّهارِ. وقال عَطاءٌ: كلُّ عِيدٍ حينَ يَمْتَدُّ الضُّحَى؛ الجُمُعَةُ، والأضْحَى، والفِطْرُ؛ لِما رُوِىَ أنَّ ابنَ مسعودٍ، قال: ما كان عِيدٌ إلَّا في أوَّل النَّهارِ. ورُوِىَ عنه، وعن مُعاوِيَةَ، أنَّهما صَلَّيَا الجُمُعَةَ ضُحًى، وقالا: إنَّما عَجَّلْنَا خَشْيَةَ الحَرِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليكم. وعن ابنِ مسعودٍ قال: لقد كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى بنا الجُمُعَةَ في ظِلِّ الحَطِيمِ (¬1). رَواه ابنُ البَخْتَرِىِّ (¬2) في «أمالِيه» بإسْنادِه. والدَّلِيلُ على أنَّها عِيدٌ، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ اجْتَمَعَ العيدُ والجُمُعَةُ: «قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ في يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ» (¬3). وقال أكثرُ أهلِ العِلْمِ: وَقْتُها وَقْتُ الظُّهْرِ، إلَّا أنَّه يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُها في أوَّل وَقْتها؛ لقَوْلِ سَلَمَةَ بنِ الأكْوعِ: كُنَّا نُجَمِّعُ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا زالَتِ الشَّمْسُ، ثم نَرْجِعُ نَتَّبعُ الفَىْءَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وقال أنَسٌ: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى الجُمُعَةَ حين تَمِيلُ الشَّمْسُ. رَواه البخارِىُّ (¬5). ولأنَّهما صَلاتا وَقْتٍ، فكان وَقْتُهما واحِدًا، كالمَقْصُورَةِ والتَّامَّةِ، ولأنَّ آخِرَ وَقْتِها واحِدٌ فكان أوَّلُه واحِدًا، كصلاةِ الحَضَرِ والسَّفَرِ. ولَنا، على جوازِها في السّادِسَةِ السُّنَّةُ ¬

(¬1) في النسخ: «الخيم». وانظر المغنى 3/ 239. والحطيم بمكة: هو ما بين المقام إلى الباب، أو ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر. معجم البلدان 2/ 290. (¬2) في م: «البحترى». وهو محمد بن عمرو بن البخترى بن مدرك البغدادى الرزاز، أبو جعفر، مسند العراق، الثقة المحدث، كان ثقة ثبتا. توفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 3/ 132. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 247. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 416. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 138. (¬5) في: باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 8. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وقت الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 249. والترمذى، في: باب ما جاء في وقت الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 291. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 128، 150، 228.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِجْماعُ؛ أمَّا السُّنَّةُ فما روَى جابِرٌ، قال: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى، يَعْنِى الجُمُعَةَ، ثم نَذْهَبُ إلى جِمالِنا فنُرِيحُها حينَ تَزُولُ الشَّمْسُ. أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). وعن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال: ما كُنَّا نَقِيلُ ولا نَتَغَدَّى إلَّا بعدَ الجُمُعَةِ في عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال ابنُ قُتَيْبَةَ: لا يُسَمَّى غَداءً، ولا قَائِلَةً، بعدَ الزَّوَالِ. وعن سَلَمَةَ، قال: كُنَّا نُصَلِّى مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُمُعَةَ، ثم نَنْصَرِفُ وليس للحِيطانِ فىْءٌ. رَواه أبو داودَ (¬3). وأمّا الإِجْماعُ، فرَوَى الإِمامُ أحمدُ، عن وَكِيعٍ، عن جَعْفَرِ ابنِ بُرْقانَ، عن ثابِتِ بنِ الحَجَّاجِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سِيدانَ، قال: ¬

(¬1) في: باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 588. كما أخرجه النسائى، في: باب وقت الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 81. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 331. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 139. (¬3) في باب في وقت الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 249. وانظر تخريج حديث سلمة المتقدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهِدْتُ الخُطْبَةَ مع أبى بكرٍ، فكانت صَلاتُه وخُطْبَتُه قبلَ نِصْفِ النَّهارِ، وشَهِدْتُها مع عمرَ بنِ الخَطَّابِ، فكانت صلاتُه وخُطْبَتُه إلى أن أقُولَ: قد انْتَصَفَ النَّهارُ، ثم صَلَّيْتُها مع عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، فكانت صلاتُه وخُطْبَتُه إلى أن أقُولَ: زال النَّهارُ، فما رَأيْتُ أحَدًا عاب ذلك ولا أنْكَرَه (¬1). ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، وجابِرٍ، وسعيدٍ، ومُعاوِيةَ، أنَّهم صَلَّوْا قبلَ الزَّوالِ. وأحادِيثُهم تَدُلُّ على أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَها بعدَ الزَّوالِ في كثيرٍ مِن أوْقَاتِه، ولا خِلافَ في جَوازِه، وأنَّه الأوْلَى، وأحادِيثُنا تَدُلُّ على جَوازِ فِعْلِها قبلَ الزَّوالِ، فلا تَعارُضَ بينَهما. قال شيخُنا (¬2): وأمّا فِعْلُها في أوَّلِ النَّهارِ، فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَجُوزُ؛ لِما ذَكَرَه أكثرُ العُلماءِ، ولأنَّ التَّوْقِيتَ لا يَثْبُتُ إلَّا بدَلِيلٍ؛ مِن نَصٍّ، أو ما يَقُومُ مَقامَه، وما ثَبَت عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا خُلَفائه أنَّهم صَلَّوْها في أوَّلِ النَّهارِ، ولأنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيل كَوْنُ وَقْتِها وَقْتَ الظُّهْرِ، وإنَّما جاز تَقدِيمُها عليه بما ذَكَرْنا مِن الدَّلِيلِ، وهو مخْتَصٌّ بالسّاعةِ السَّادِسَةِ، فلم يَجُزْ تَقدِيمُها عليها، ولأنَّها لو صُلِّيَتْ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يقيل بعد الجمعة ويقول هى أول النهار، من كتاب الجمعة. المصنف 2/ 107، وعبد الرزاق، في: باب وقت الجمعة، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 175. (¬2) في: المغنى 3/ 241.

634 - مسألة: (فإن خرج وقتها قبل فعلها، صلوا ظهرا)

فَإِنْ خَرَج وَقْتُهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، صَلَّوْا ظُهْرًا، وَإنْ خَرَجَ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، أتَمُّوهَا جُمُعَةً، وَإنْ خَرَجَ قَبْلَ رَكْعَةٍ، فَهَلْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا، أوْ يَسْتَأنِفُونَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ في وَقْتِ الضُّحَى لفاتَتْ أكثرَ المُصَلِّين. إذا ثبَت ذلك، فالأوْلَى فِعْلُها بعدَ الزَّوالِ؛ لأنَّ فيه خُرْوجًا مِن الخِلافِ، ولأنَّه الوَقْتُ الذى كان يَفْعَلُها فيه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أكثرِ أوْقاِته. وتَعْجِيلُها في أوَّلِ وَقْتِها في الشِّتاءِ والصَّيْفِ؛ لأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُعَجِّلُها؛ لِما رَوَيْنا مِن الأخْبارِ، ولأنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ إليها في أوَّلِ وَقْتِها، ويُبَكِّرُون إليها قبلَ وَقْتِها، فلو أْبْرَدَ لَشَقَّ على الحاضِرينَ، وإنَّما جُعِلَ الإِبْرادُ بالظُّهْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ دَفْعًا للمَشَقَّةِ، والمَشَقَّةُ في الإبْرادِ بها في الجُمُعَةِ أكْثرُ. 634 - مسألة: (فإن خَرَج وَقْتُها قَبْلَ فِعْلِها، صَلَّوْا ظُهْرًا) لفَواتِ الشَّرْطِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 635 - مسألة: (وإن خَرَجَ وقد صَلَّوْا رَكْعَةً، أَتَمُّوها جُمُعَةً، وإن خَرَجِ قبلَ رَكْعَةٍ، فهل يُتِمُّونَها ظُهْرًا، أو يَسْتَأنِفُونها؟ على وَجْهيْنِ) متى خرَج وَقْتُ الجُمُعَةِ قبلَ تَمامِها، فإن كان بعدَ أن صَلَّوا رَكْعَةً أَتَمُّوها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُمُعَةً، وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1)، وظاهِرُ قَوْلِ الخرَقِىِّ. وقال القاضى: متى أحْرَمُوا بها في الوَقْتِ قبلَ خُروجه أتَمُّوهاْ جُمُعَةً. ونَحْوَه قال أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه أحْرَمَ بها في وَقْتِها، فأَشْبَهَ (¬2) ما لو أتَمَّها فيه. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّه إن دَخَلِ وَقْتُ العَصْرِ بعدَ تَشَهُّدِه وقبلَ سَلَامِه سَلَّمَ وأجْزَأَتْه. وهذا قولُ أبى يوسف، ومحمدٍ. وقال أبو حنيفةَ: متى خرَج الوقْتُ قبلَ الفَراغِ منها بَطَلَتْ، ولا يَبْنِى عليها ظُهْرًا؛ لأنَّهما صلاتانِ مُخْتَلِفَتانِ، فلا تَنْبَنِى إحْدَاهُما على الأُخْرَى، كالظُّهْرِ والعَصْرِ. والظَّاهِرُ أنَّ مَذْهَبَ أبى حنيفةَ في هذا كمَذْهَبِ صاحِبَيْه؛ لأنَّ السَّلامَ عندَه ليس بواجِبٍ في الصَّلاةِ. وقال الشافعىُّ: لا يُتِمُّها جُمُعَةً، ويَبْنِى عليها ظُهْرًا؛ لأنَّهما صلاتا وَقْتٍ، فجاز بناءُ إحْدَاهما علِى الأخرَى، كصلاةِ السَّفَرِ والحَضَرِ. واحْتَجُّوا على أنَّه لا يُتِمُّها جُمُعَةً، بأنَّ ما كان شَرْطًا في بَعضِها كان شَرْطًا في جَمِيعِها، كالطَّهارةِ. ولَنا، قولُه عليه السَّلامُ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ ¬

(¬1) انظر: المغنى 3/ 191. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكْعَةً فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاةَ» (¬1). ولأنَّهْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ فكان مُدْرِكًا لها، كالمَسْبُوقِ برَكْعَةٍ (¬2)، ولأنَّ الوَقْتَ شَرْطٌ يَخْتَصُّ الجُمُعَةَ، فاكْتُفِىَ به في رَكْعَةٍ، كالجَماعَةِ، وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالجَماعَةِ. فصل: فإن دَخَل وَقْتُ العَصْرِ قبلَ رَكْعَةٍ لم تَحْصُلْ لهم جُمُعَةٌ؛ لأنَّ قولَه عليه السلامُ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ». يَدُلُّ بِمَفْهُومِه على أنَّه إذا أدْرَك أقَلَّ مِن ذلك لا يَكُونُ مُدْرِكًا، وَيلْزَمُه الظُّهْرُ. وهل يَبْنِى أو يَسْتأْنِفُ؟ فعلى قِياسِ قَوْلِ الخِرَقِىِّ تَفْسُدُ صلاتُه، ويَسْتَأنِفُها ظُهْرًا، كمذْهَبِ أبى حنيفةَ. وعلى قِياسِ قَوْلِ أبى إسحاقَ بنِ شَاقْلَا، يُتِمُّها ظُهْرًا، كقولِ (¬3) الشافعىِّ. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ القَوْلَيْن. فصل: إذا أَدْرَكَ مِن الوَقْتِ ما يُمْكِنُه أن يَخْطُبَ ثم يُصَلِّىَ رَكْعَةً، ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب من أدرك ركعة من صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 92. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من أدرك من الجمعة ركعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 356. (¬2) سقط من: م. (¬3) في النسخ: «لقول». وانظر المغنى 3/ 192.

636 - مسألة: (الثانى، أن يكون بقرية يستوطنها أربعون من

الثَّانِى، أَنْ يَكُونَ بِقَرْيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا؛ فَلَا تَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِى غَيْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فله التَّلَبُّسُ بها، على قِياسِ قولِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه أدْرَكَ مِن الوَقْتِ ما يُدْرِكُها فيه. فإن شَكَّ هل أدْرَكَ مِن الوَقْتِ ما يُدْرِكُها أو لا؟ صَحَّتْ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الوَقْتِ وصِحَّتُها. 636 - مسألة: (الثَّانِى، أن يكونَ بقَرْيةٍ يَسْتَوْطِنُها أرْبَعون مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ وُجُوبِها، فلا تَجُوزُ إقامَتُها في غيرِ ذلك) الاسْتِيطَانُ شَرْطٌ لصِحَّةِ الجُمُعَةِ، في قولِ أكثَرِ أهلِ العِلْمِ، وهو الإِقامَةُ في قَرْيَةٍ مَبْنِيَّةٍ بما جَرَتْ به العادَةُ بالبِناءِ به؛ مِن حَجَرٍ، أو طِينٍ، أو لَبِنٍ، أو قَصَبٍ، أو شَجَرٍ، أو نَحْوِه، فلا يَظْعَنُونَ عنها صَيْفًا ولا شِتاءً؛ لأنَّ ذلك هو الاسْتِيطَانُ غالِبًا. فأمَّا أهلُ الخِيامِ والخَرْكاآتِ (¬1) وبُيُوتِ الشَّعَرِ، فلا تَجِبُ عليهم الجُمُعَةُ، ولا تَصِحُّ منهم؛ لأنَّ ذلك لا يُنْصَبُ للاسْتِيطانِ غالِبًا، وكذلك كانت قَبائِلُ العَرَبِ حولَ المدِينَةِ، فلم يُقِيمُوا جُمُعَةً، ولا أمَرَهم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّه لو كان ذلك لم يَخْفَ، ولم يُتْرَكْ نَقْلُه، مع كَثْرْتِه وعُمُومِ البَلْوَى به، لكن إن كانوا مُقِيمِينَ بمَوْضِع يَسْمَعُونَ النِّداءَ، لَزِمَهم السَّعْىُ إليها، كأهلِ القَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إلى جانِبِ المِصْرِ. ذَكَرَه القاضى. فإن كان أهلُ القَرْيَةِ يَظْعَنُونَ عنها في بعضِ السَّنَةِ، لم تَجِبْ عليهم الجُمُعَةُ، فإن خَرِبَتِ القَرْيَةُ أو بَعْضُها، وأهْلُها مُقِيمُونَ بها عازِمُونَ على إصْلاحِها، فحكْمُها باقٍ في إقامَةِ الجُمُعَةِ بها. وإن عَزَمُوا على النقْلَةِ عنها، لم تَجِبْ عليهم؛ لعَدَمِ الاسْتِيطَانِ. ومتى كانتِ القَرْيَةُ لا تَجِبُ (¬2) على أهْلِها. ¬

(¬1) في النسخ: «الحركات». وانظر المغنى 3/ 203. والخركاة معربة عن الفارسية، وكانت تطلق في أول الأمر على المحل الواسع، وبالأخص على الخيمة الكبيرة التى يتخذها أمراء الأكراد والأعراب والتركمان مسكنا لهم، ثم أطلقت على سرادق الملوك والوزراء الأسماء الفارسة المعربة 53، 54. (¬2) أى الجمعة.

637 - مسألة: (ويجوز إقامتها فى الأبنية المتفرقة إذا شملها اسم واحد، وفيما قارب البنيان من الصحراء)

وَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِى الْأَبْنِيَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ إِذَا شَمِلَهَا اسْمٌ وَاحِدٌ، وَفِيمَا قَارَبَ الْبُنْيَانَ مِنَ الصَّحْرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنْفُسِهم، وكانوا بحيث يَسْمَعُونَ النِّداءَ مِن المِصْرِ، أو من قَرْيَةٍ تُقامُ فيها الجُمُعَةُ، لَزِمَهم السَّعْىُ إليها؛ لعُمومِ الآيةِ، وكذلك إن كان بِناؤُها مُتَفَرِّقًا تَفرُّقًا لم تَجْرِ العادَةُ به. 637 - مسألة: (ويَجُوزُ إقامَتُها في الأَبْنِيَةِ المُتَفَرِّقَةِ إذا شَمِلَها اسْمٌ واحِدٌ، وفيما قارَبَ البُنْيانَ مِن الصَّحْراءِ) تَجُوزُ إقامَةُ الجُمُعَةِ [في القَرْيَةِ الواحِدَةِ المُتَفَرِّقَةِ البُنْيَانِ إذا كان تَفَرُّقًا جَرَتِ العادَةُ به] (¬1). فإن كانت مُتَفَرِّقَةً في قَرْيةٍ تَفَرُّقًا لم تَجْرِ به العادَةُ لم تَجِبْ عليهم الجُمُعَةُ، إلَّا أن يَجْتَمِعَ منها ما يَسْكُنُه أرْبَعُون، فتَجِبُ بهم الجُمُعَةُ، ويَتَّبِعُهم البَاقُون. ولا يُشْتَرَطُ اتِّصالُ البُنْيانِ بعْضِه ببعضٍ، وحُكِىَ عن الشافعىِّ اشْتِراطُه. ولَنا، أنَّ القَرْيَةَ المُتَقارِبَةَ البُنْيانِ قَرْيَةٌ مَبْنِيَّةٌ بما جَرَتْ به عادَةُ القُرَى، أشْبَهَتِ المُتَّصِلَةَ. ¬

(¬1) في النسخ: «المتفرقة البنيان إذا كان تفرقا جرت العادة به في القرية الواحدة». والمثبت هو الصواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُشْتَرطُ لصِحَّةِ الجُمُعَةِ البُنْيانُ، بل يَجُوزُ إقامَتُها فيما قارَبَه مِن الصَّحْراءِ. وبهذا قال الإِمامُ أبو حنيفةَ. وقال الإِمامُ الشافعىُّ: لا يَجُوزُ، لأنَّه مَوْضِعٌ يَجُوزُ لأهْلِ المِصْرِ قَصْرُ الصَّلاةِ فيه، أشْبَهَ البَعِيدَ. ولَنا، ما رَوَى كَعْبُ بنُ مَالكٍ، أنَّه قال: أسْعَدُ بنُ زُرارَةَ أَوَّلُ مَن جَمَّعَ بنا في هَزْمِ النَّبِيتِ (¬1) مِن حَرَّةِ بَنِى بَياضةَ (¬2)، في نقِيعٍ يقالُ له: نَقِيعُ الخَضَمَاتِ (¬3). رَواه أبو داودَ (¬4). وقال ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: يَعْنِى أكان بأمْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم. والنَّقِيعُ (¬5): بَطْنٌ مِن الأرْضِ يَسْتَنْقِعُ فيه الماءُ مُدَّةً، فإذا نَضَبَ الماءُ نَبَت الكَلأُ. قال الخَطَّابِىُّ (¬6): حَرَّةُ بَنِى بَيَاضَةَ قَرْيَةٌ على مِيلٍ مِن المدِينَةِ، ولأنَّه مَوْضِعٌ لصَلاةِ العِيدِ، فجازَتْ فيه الجُمُعَةُ، كالجامِعِ، ولأنَّ الأصْل عَدَمُ اشْتِراطِ ذلك، ولا نَصَّ في اشْتِراطِه، ولا مَعْنَى نصٍّ. فصل: ولا يُشتَرَطُ لصِحَّةِ الجُمُعَةِ المِصْرُ. رُوِىَ نَحْوُ ذلك عن ¬

(¬1) الهزم: المطمئن من الأرض، والنبيت: أبو حى باليمن، اسمه عمرو بن مالك. (¬2) الحرة: الأرض ذات الحجارة السود. وبنو بياضة: بطن من الأنصار. (¬3) النقيع: مرضع قريب من المدينة كان يستنقع فيه الماء، أى يجتمع. والخضمات: موضع بنواحى المدينة. (¬4) في: باب الجمعة في القرى، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 246. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب فرض الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 343. (¬5) في م: «البقيع». (¬6) معالم السنن 2/ 245.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عمرَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والأوْزاعِىِّ، واللَّيْثِ، ومَكْحُولٍ، وعِكْرمةَ، والشافعىِّ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه لا جُمُعَةَ ولا تَشْريقَ إلَّا في مِصْرٍ جَامِعٍ (¬1). ورُوِىَ ذلك عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وبه قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وإبراهيمُ، وأبو حنيفةَ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حديثِ أسْعَدَ بنِ زُرارَةَ، رواه البخارىُّ (¬2) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ: إنَّ أوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ (¬3) بعدَ جُمُعَةٍ بالمَدِينَةِ لجُمُعَةٌ جُمِّعتْ بجُوَاثَى (¬4) مِن البَحْرَيْنِ مِن قُرَى عَبْدِ القَيْسِ. ورَوَى أبو هُرَيْرةَ، أنَّه كَتَب إلى عمرَ يَسْأَلُه عن الجُمُعَةِ بالبَحْرَيْنِ، وكان عامِلًا عليها، فكَتَبَ إليه عمرُ: جَمِّعُوا حيث كُنْتُم. رَواه الأثْرَمُ (¬5). قال الإِمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ تعالى: إسْنادُه جَيِّدٌ. فأمّا خَبَرُهم فلم يَصِحَّ. قال الإِمامُ أحمدُ: ليس هذا بحديثٍ، إنَّما هو عن علىٍّ وقد خالَفَه عمرُ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القرى الصغار، من كتاب الجمعة، موقوفًا على على. مصنف عبد الرزاق: 3/ 167، 168. وابن أبى شيبة، في: باب من قال لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع، من كتاب الصلوات، موقوفا على على. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 101. وانظر نصب الراية 2/ 195. (¬2) في: باب الجمعة في القرى والمدن، من كتاب الجمعة، وفى: باب وفد عبد القيس، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 6، 5/ 213. كما أخرجه أبو داود، في: باب الجمعة في القرى، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 246. (¬3) زيادة من صحيح البخارى. (¬4) في الأصل: «بحوثى»، وفى م: «بجوارنا»، والمثبت من صحيح البخارى. وجواثاء، يمد ويقصر: حصن لعبد القيس بالبحرين. معجم البلدان 2/ 136. (¬5) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 101.

638 - مسألة: (الثالث، حضور أربعين من أهل القرية، فى ظاهر المذهب. وعنه، تنعقد بثلاثة)

الثَّالِثُ، حَضُورُ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، فِى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان أهلُ المِصْرِ دُونَ الأرْبَعِين، فجاءَهم أهلُ قَرْيَةٍ، فأَقامُوا الجُمُعَةَ في المِصْرِ، لم تَصِحَّ؛ لأنَّ أهلَ القَرْيَةِ غيرُ مُسْتَوْطِنينَ في المِصْرِ، وأهلَ المِصْرِ لا تَنْعَقِدُ بهم الجُمُعَةُ؛ لقلَّتِهم. وإن كان أهلُ القَرْيَةِ مِمَّن تَجِبُ عليهم الجُمُعَةُ بأنْفُسِهم، لَزِم أهلَ المِصْرِ السَّعْىُ إليهم إذا كان بينهما أقلُّ مِن فَرْسَخٍ؛ [لأنَّ بينَهم وبينَ مَوْضِعِ الجُمُعَةِ أقَلَّ مِن فَرْسَخٍ] (¬1) فلزمَهم السَّعْىُ إليها، كما يَلْزَمُ أهلَ القَريةِ السَّعْىُ إلى المِصْرِ إذا أُقِيمَتْ به، وكان أهلُ القَرْيَةِ دُونَ الأرْبَعِين، وإن كان في كُلِّ واحِدٍ دُونَ الأَرْبَعِين لم تَجُزْ إقامَةُ الجُمُعَةِ في واحِدٍ منهما. 638 - مسألة: (الثالثُ، حُضورُ أرْبَعِين مِن أَهْلِ القَرْيَةِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وعنه، تَنْعَقِدُ بثَلاثَةٍ) حُضُورُ أرْبَعِين شَرْطٌ لوُجُوبِ الجُمُعَةِ وصِحَّتِها، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. رُوِىَ ذلك عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وعُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. ورُوِىَ عن الإِمامِ أحمدَ، أنَّها لا تَنْعَقِدُ إلَّا بخَمْسِين، لِما روَى أبو بكرِ النَّجَّادُ، عن عبدِ الملِكِ الرَّقَاشِىِّ، حدثنا رَجاءُ بنُ سلَمَةَ، حدثنا عَبّادُ بنُ عَبَّادٍ المُهَلَّبِىُّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عن القاسِمِ، عن أبى أُمامَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى خمْسِينَ، رَجُلًا، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ دُونَ ذَلِكَ» (¬1). وبإسنادِه عن الزُّهْرىِّ، عن أبى سَلَمَةَ، قال: قُلْتُ لأبى هُرَيْرَةَ: على كم تَجِبُ الجُمُعَةُ مِن رجلٍ؟ قال: لَمّا بَلَغ أصحابُ رسولِ اللَّهِ خَمْسِين جَمَّعَ بهم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعنه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّها تَنْعَقِدُ بثَلاثَةٍ. وهو قَوْلُ الأوْزَاعِىِّ؛ لأنَّ اسْمَ الجَمْعِ يتَناوَلُه، فانْعَقَدَتْ به الجُمُعَةُ، كالأرْبَعِين، ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). بصِيغَةِ الجَمْعِ، فيَدْخُلُ فيه الثَّلاثَةُ. وحَكَى أبو الحارثِ، عن الإِمامِ أحمدَ، إذا كانوا ثَلَاثَةً مِن أهْلِ القُرَى جَمَّعُوا. فيَحْتَمِلُ أن يَخْتَصَّ ذلك أهلَ القُرَى لقِلَّتِهم. وقال أبو حنيفةَ: تَنْعَقِدُ بأَرْبَعَةٍ؛ لأنَّه عَدَدٌ زِيدَ على أقَلِّ الجَمْعِ المُطلَقِ، أشْبَهَ الأرْبَعِين. وقال رَبِيعَةُ: تَنْعَقِدُ باثْنَىْ عَشَرَ؛ لِما رُوِىَ أنَّ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: باب ذكر العدد في الجمعة، من كتاب الجمعة. سنن الدارقطنى 2/ 4. وقال: جعفر بن الزبير متروك. وعزاه الهيثمى إلى الطبرانى في الكبير، وقال: جعفر بن الزبير صاحب القاسم ضعيف جدًّا. مجمع الزوائد 2/ 176. (¬2) سورة الجمعة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَب إلى مُصْعَبِ بنِ عُمَيْر بالمَدِينَةِ، فأمَرَه أن يُصَلِّىَ عندَ الزَّوَالِ رَكْعَتَيْن، وأن يَخْطُبَ فيهما. فجَمَّعَ مُصْعَبِ بنُ عُمَيْرٍ في بَيْتِ سَعْدِ بنِ خَيْثَمَةَ باثْنَىْ عَشَرَ رَجُلًا (¬1). وعن جابِرٍ، قال: كُنَّا مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ الجُمُعَةِ فَقَدِمَتْ سُوَيْقَةٌ، فخَرَجَ النّاسُ إليها، فلم يَبْقَ إلَّا اثْنا عَشَرَ رجلًا، أنا فيهم، فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (¬2) الآيةُ. رواه مسلمٌ (¬3). وما يُشْتَرَطُ للابْتِداءِ يُشْتَرَطُ للاسْتِدامَةِ. ولَنا، حديثُ كَعْبٍ الذى رَوَيْناه. وفى الحديث: قُلْتُ له: كم كُنْتُم يَوْمَئِذٍ؟ قال: أَرْبَعِين. رواه الدّارَقُطْنِىُّ (¬4). وقولُ الصَّحابِىِّ: مَضَتِ ¬

(¬1) أخرج البيهقى ما يقاربه، في: باب العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة، من كتاب الجمعة، ولفظه: أن مصعب بن عمير حين بعثه النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا. السنن الكبرى 3/ 179. (¬2) سورة الجمعة 11. (¬3) في: باب في قوله تعالي {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا. . .} من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 590. كما أخرحه البخارى، في: باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة. . .، من كتاب الجمعة، وفى: باب قول اللَّه تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا. . .} وباب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا. . .}، من كتاب البيوع، وفى: تفسير سورة الجمعة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 16، 3/ 71، 73، 6/ 189. والترمذى، في: تفسير سورة الجمعة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 199. (¬4) في: باب ذكر العدد في الجمعة، من كتاب الجمعة. سنن الدارقطنى 2/ 6. وتقدم تخريجه في صفحة 196.

639 - مسألة: (فإن نقصوا قبل إتمامها، استأنفوا ظهرا. ويحتمل

فَإِنْ نَقَصُوا قَبْلَ إِتْمَامِهَا، اسْتَأْنَفُوا ظُهْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّنَّةُ. يَنْصَرفُ إلى سُنَّةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فأمَّا حَدِيثُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرِ، أنَّهُم كانوا اثْنَىْ عَشَرَ، فلا يَصِحُّ، فإنَّ حديثَ كَعْبٍ أصَحُّ منه، رَواه أصحابُ السُّنَنِ. والخَبَرُ الآخرُ يَحْتَمِلُ أنَّهم عادُوا فحَضَرُوا القَدْرَ الواجِبَ، ويَحْتَمِلُ أنَّهم عادُوا قبلَ طُولِ الفَصلِ. وأمَّا الثَّلاثَةُ والأرْبَعَةُ فتَحَكُّمٌ بالرَّأْىِ فيما لا مَدْخَلَ للرَّأْى فيه؛ لأنَّ التَّقْدِيرَ. بابُه التَّوقِيفُ، ولَا مَعْنَى لاشْتِراطِ كَوْنِه جَمْعًا، ولا للزِّيادَةِ على الجَمْعِ، إذ لا نصَّ فيه ولا مَعْنَى نَصٍّ، ولو كان الجَمْعُ كافِيًا لاكْتفِىَ باثْنَيْن، لأنَّ الجماعَةَ تَنْعَقِدُ بهما. 639 - مسألة: (فإن نَقَصُوا قبلَ إتْمامِها، اسْتَأْنَفُوا ظُهْرًا. ويَحْتَمِلُ

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ إِنْ نَقَصُوا قَبْلَ رَكعَةٍ أَتَمُّوا ظُهْرًا. وَإنْ نَقَصُوا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَتَمُّوا جُمُعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهم إن نَقَصُوا بعدَ رَكْعَةٍ أتَمُّوها جُمُعَةً، وإن نَقَصوا قبلَ رَكْعَةٍ أتَمُّوها ظُهْرًا) المَشْهُورُ في المَذْهَبِ أنَّه يُشْتَرَطُ كَمالُ العَدَدِ في جَمِيعِ الصَّلاةِ. قال أبو بكرٍ: لا أعْلَمُ خِلافًا عن الإِمام أحمدَ إن لم يَتِمَّ العَدَدُ في الصَّلاةِ والخُطْبَةِ، أنَّهم يُعِيدُون الصلاةَ. وهذا أَحَدُ قَوْلَى الإِمامِ الشافعىِّ؛ لأنَّه شَرْطٌ للصلاةِ، فاعْتُبِرَ في جَمِيعِها، كالطَّهارةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّهم إن نَقَصوا بعدَ رَكْعَةٍ أتَمُّوها جُمُعَةً. وهذا قِياسُ قولِ الخِرَقِىِّ. وبه قال الإِمامُ مالكٌ. وقال المُزَنِىُّ: هو أشْبَهُ عندِى؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أدْرَكَ مِنَ الجُمُعَةِ رَكْعَةً أضَافَ إلَيْها أُخْرَى» (¬1). ولأنَّهم أدْرَكُوا رَكْعَةً، فصَحَّتْ لهم الجُمُعَةُ، كالمَسْبُوقِ برَكْعَةٍ، وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬2). وقال ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في: باب ما جاء في من أدرك من الجمعة ركعة، من كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. سنن ابن ماجه 1/ 356. (¬2) في: المغنى 3/ 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حنيفةَ: إن نَقَصُوا بعدَما صَلَّوْا رَكْعَةً بسَجْدَةٍ واحِدَةٍ، أتَمُّوها جُمُعَةً؛ لأنَّهم أدْرَكُوا مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ، فأشْبَهَ ما لو أدْرَكُوها بسَجْدَتَيها. وقال إسحاقُ: إن بَقِىَ معه اثْنا عَشَرَ أتَمَّهَا جُمُعَةً؛ لأنَّ أصحابَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- انْفَضُّوا عنه، فلم يَبْقَ معه إلَّا اثْنا عَشَرَ رجلًا، فأتَمَّها جُمُعَةً. وقال الإِمامُ الشافعىُّ، في أحَدِ أقْوالِه: إن بَقِىَ معه اثْنان أتَمَّها جُمُعَةً. وهو قولُ الثَّوْرىِّ؛ لأنَّه أقَلُّ الجَمْعِ. وحَكَى عنه أبو ثَوْرٍ، إن بَقِىَ معه واحِدٌ أتَمَّها جُمُعَةً، لأنَّ الاثْنَيْن جَماعَةٌ. ولَنا، أنَّهم لم يُدْرِكُوا رَكْعَةً كامِلَةً بشُرُوطِ الجُمُعَةِ، فأَشْبَهَ ما لو نَقَص الجَمْعُ قبلَ رُكُوعِ الأُولَى. وقولُهم: أدْرَكَ مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ. يَبْطُلُ بمَن لم يَفُتْه مِن الرَّكْعَةِ الأُولَى إلَّا السَّجْدَتان، فإنَّه قد أدْرَكَ مُعْظَمَها. وقولُ الإِمام الشافعىِّ: بَقِىَ معه مَن تَنعَقِدُ به الجَماعَةُ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا لا يَكْفِىَ في الابتداءِ، فلا يَكفى في الدَّوامِ. إذا ثَبَت هذا، فكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: لا يُتِمُّها جُمُعَةً. فقِياسُ قولِ الخِرَقِىِّ أنَّها تَبْطُلُ، ويَسْتَأْنِفُها ظُهْرًا، إلَّا أن يُمْكِنَهم فِعْلُ الجُمُعَةِ مَرَّةً أُخْرَى،

640 - مسألة: (ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)

وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً، أَتَمَّهَا جُمُعَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُعِيدُونَها. وحَكَاه أبو بكرِ عن الإِمامِ أحمدَ. وقِيَاسُ قَوْلِ أبى إسْحاقَ ابنِ شاقْلَا أنَّهم يُتِمُّونَها ظُهْرًا. وهذا قولُ القاضى. وقال: قد نَصَّ الإِمامُ أحمدُ في الذى زُحِمَ عن أفْعالِ الجُمُعَةِ حتى سَلّمَ الإِمامُ، يُتِمُّها ظُهْرًا. ووجْهُ القَوْلَين قد تَقَدَّمَ. 640 - مسألة: (ومَن أَدْرَكَ مع الإِمامِ منها رَكْعَةً أَتَمَّها جُمُعَةً) وهذا قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم ابنُ مسعودٍ، وابنُ عمرَ، وأنَسٌ، وسعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وعَلْقَمَةُ، والأسْودُ، والزُّهرِىُّ، ومالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال عَطاءٌ، وطاوسٌ، ومُجاهِدٌ: مَن لمِ يُدْرِكِ الخُطْبَةَ صَلَّى أرْبَعًا؛ لأنَّ الخُطْبَةَ شَرْطٌ للجُمُعَةِ، فلا تكونُ جُمُعَةً في حَقِّ مَن لم يُوجَدْ في حَقِّه شَرْطُها. ولَنا، ما روَى أبو سَلَمَةَ، عن أبى هُرَيْرَة، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدرَكَ الصَّلَاةَ». رَواه الأَثْرمُ (¬1). ورواه ابنُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 192.

641 - مسألة: (ومن أدرك أقل من ركعة أتمها ظهرا، إذا كان قد نوى الظهر فى قول الخرقى. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوى جمعة، ويتمها ظهرا)

وَمَنْ أدْرَكَ أقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أتَمَّهَا ظُهْرًا، إِذَا كَانَ قَدْ نَوَى الظُّهْرَ فِى قَوْلِ الْخِرَقِىِّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقْلَا: يَنْوِى جُمُعَةً، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجه (¬1): «فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا أُخْرَى». وعن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدرَكَ الصَّلَاةَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه قَوْلُ مَن سَمَّيْنَا مِن الصحابَةِ، ولا مُخِالفَ لهم في عَصْرِهم. 641 - مسألة: (ومَن أدْرَكَ أقَلَّ مِن رَكْعَةٍ أتَمَّهَا ظُهْرًا، إذا كان قد نَوَى الظُّهْرَ في قَوْلِ الْخِرَقِىِّ. وقال أبو إسحاقَ بنُ شَاقْلَا: يَنْوِى جُمُعَةً، ويُتِمُّهَا ظُهْرًا) أمَّا مَن أدْرَكَ أقَلَّ مِن رَكْعَةٍ، فلا يَكُونُ مُدْركًا للجُمُعَةِ، ويُصَلِّى الظُّهْرَ أرْبَعًا. وهذا قَوْلُ جَمِيعِ مَن ذَكَرْنا في المَسْأَلَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه 192. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا الإِمامَ (¬1) أبا حنيفةَ، فإنَّه قال: يكونُ مُدْرِكًا للجُمُعَةِ بأَىِّ قَدْرٍ أدْرَكَ مِن الصَّلاةِ مع الإِمام. وهو قولُ الحَكَمِ، وحَمّادٍ، لأنَّ مَن لَزِمَه أن يَبْنِىَ على صلاةِ الإِمامَ بإدْراكِ رَكْعَةٍ، لَزِمَه بإدْراكِ أقَلَّ منها، كالمُسافِرِ يُدْرِكُ المُقِيمَ، ولأنَّه أدْرَكَ جُزْءًا مِن الصَّلاةِ، فكان مُدْرِكًا لها، كالظُّهْرِ. ولَنا، قولُه عليه السَّلامُ: «مَنْ أدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدرَكَ الصَّلَاةَ». فمفْهُومُه أنَّه إذا أدْرَكَ أقَلَّ مِن رَكْعَةٍ لم يُدْرِكْها، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابةِ والتَّابِعين، رَضىَ اللَّهُ عنهم، ولا مُخِالفَ لهم في عَصْرِهم، فيَكُونُ إجْماعًا. وقد رَوَى بشرُ بنُ مُعاذٍ الزَّيَّاتُ، عن الزُّهْرىِّ، عن أبى سَلَمَةَ (¬2)، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنَّه قال: «مَنْ أَدْرَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، ومَنْ أدْرَكَ دُونَهَا صَلَّى أرْبَعًا» (¬3). ومَن لم يُدْرِكْ رَكْعَةً، فلا تَصِحُّ له جُمُعَةٌ، كالإِمامِ إذا انْفَضُّوا (¬4) قبلَ السُّجُودِ. ¬

(¬1) في النسخ: «إلا أن الإمام». خطأ. (¬2) بعده عند الدارقطنى: «عن أبى هريرة». (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: باب في من يدرك من الجمعة ركعة أو لم يدركها، من كتاب الجمعة. سنن الدارقطنى 2/ 10، 11. (¬4) في م: «نقصوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا المُسافِرُ فإدْرَاكُه إدْراكُ إلْزَامٍ، وهذا إدْراكُه إدْراكُ إسْقاطٍ للعَدَدِ، فافْتَرَقا، وكذلك يُتِمُّ المُسافِرُ خلفَ المُقِيمُ، ولا يَقْصُرُ المُقِيمُ خلفَ المُسافِرِ، وأمّا الظُّهْرُ فليس مِن شَرْطِها الجَماعَةُ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فصل: وكلُّ مَن أَدْرَكَ مع الإِمام ما لا يَتِمُّ له به جُمُعَةٌ، فإنَّه في قولِ الخِرَقِىِّ يَنْوِى ظُهْرًا، فإن نَوَى جُمُعَةً لم تَصِحَّ في ظاهِرِ كَلامِه. وكَلامُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، في رِوايَةِ صالحٍ وابنِ مَنْصُورٍ، يَحْتَملُ هذا، لقَوْلِه (¬1) في مَن أحْرَمَ، ثم زُحِمَ عن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ حتى سَلَّمَ إمامُه، قال: يَسْتَقْبِلُ ظُهْرًا أرْبَعًا، وذلك لأنَّ الظُّهْرَ لا يَتَأَدَّى (¬2) بنِيَّةِ الجُمُعَةِ ابْتِداءً، فكذلك اسْتِدامَتُه، كالظُّهْرِ مع العَصرِ. وقال أبو إسحاقَ بنُ شاقْلَا: يَنْوِى جُمُعَةً؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ نِيَّةَ إمامِه، ثم يَبْنِى عليها ظُهْرًا. وهذا ظاهِرُ قولِ قتادَةَ، وأيُّوبَ، ويُونُسَ (¬3)، والشافعىِّ، لأنَّه لا يَجُوزُ أن يَأْتَمَّ بمَن يُصَلِّى جُمُعَةً، فجاز أن يَبْنِىَ صلاتَه على نِيَّتِها، كصلاةِ المُقِيمِ مع المُسافِرِ، وكما يَنْوِى أنَّه مأْمُومٌ، ويُتِمَّ صلاتَه بعدَ مُفارَقَةِ إمامِه مُنْفَرِدًا، ولأنَّه يَصِحُّ أن يَنْوِىَ الظُّهْرَ خلفَ مَن يُصَلِّى الجُمُعَةَ في ابْتِدائِها، فكذلك في انْتِهائِها. فصل: إذا صَلَّى الإِمامُ الجُمُعَةَ قبلَ الزَّوالِ، فأَدْرَكَ المَأْمُومُ معه دُونَ الرَّكْعَةِ، لم يَكُنْ له الدُّخُولُ معه، لأنَّها في حَقِّه ظُهْر، فلا تَجُوزُ قبلَ ¬

(¬1) في م: «القول». (¬2) في الأصل: «ينوى». (¬3) يونس بن عبيد بن دينار العبدى مولاهم البصرى، كان من سادات أهل زمانه علما وفضلا، وحفظا وإتقانا، مع الفقه في الدين. توفى سنة أربعين ومائة. الجرح والتعديل 4/ 2/ 242، تهذيب التهذيب 11/ 442 - 445.

642 - مسألة: (ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود، سجد على ظهر إنسان أو رجله)

وَمَنْ أَحْرَمَ مَعَ الإِمَامِ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ، سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أوْ رِجْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوالِ، كغيرِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فإن دَخَل معه كانت نَفْلًا في حَقِّه، ولم تُجْزِئْه عن الظُّهْرِ. ولو أدْرَكَ معه رَكْعَةً، ثم زُحِمَ عن سُجُودِها، وقُلْنا: تَصِيرُ (¬1) ظُهْرًا، فإنَّها تَنْقَلِبُ نَفْلًا؛ لئَلَّا تَكُونَ ظُهْرًا قبلَ وَقْتِها. 642 - مسألة: (ومَن أحْرَمَ مع الإِمام، ثم زُحِمَ عن السُّجُودِ، سَجَد على ظَهْرِ إنْسانٍ أو رِجْلِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في من أحْرَمَ مع الإِمام، ثم زُحِمَ فلم يَقْدِرْ على الرُّكُوعِ حتى سلَّمَ الإِمامُ، فرُوِىَ أنَّه يكون مُدْرِكًا للجُمُعَةِ. اخْتارَها الخَلَّالُ. وهو قولُ الحسنِ، وأصحابِ الرَّأْىِ؛ لأنَّه أحْرَمَ بالصَّلاةِ مع إمامِه في أوَّلِها، فأشْبَهَ ما لو رَكَع وسَجَد معه. ونُقِلَ عنه، أنه يَسْتَقْبِلُ الصلاةَ أرْبَعًا. اخْتارَه أبو بكرٍ، وابنُ أبى موسى. وهو قولُ الشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه لم يُدْرِكْ رَكْعَةً كامِلَةً، فلم يَكُنْ مُدْرِكًا للجُمُعَةِ، كالمَسْبُوقِ. وهذا ظاهِرُ كَلامِ ¬

(¬1) في الأصل: «يصلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِىِّ. وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن زُحِمَ عن السُّجُودِ في الجُمُعَةِ سَجَد على ظَهْرِ إنْسانٍ أو رِجْلِه إذا أمْكَنَه ذلك، وأجْزَأَه. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أحمدَ ابنِ هاشمٍ (¬1): يَسْجُدُ على ظَهْرِ الرَّجُلِ والقَدَمِ، ويُمَكِّنُ الجَبْهَةَ والأنْفَ، في العِيدَيْن والجُمُعَةِ. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالِكٌ: لا يَفْعَلُ. فإن فَعَل، فقال مالِكٌ: تَبْطُلُ الصَّلاةُ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ (¬2) الْأرْضِ» (¬3). ولَنا، ما رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: إذا اشْتَدَّ الزِّحامُ فَلْيَسْجُدْ على ظَهْرِ أَخِيهِ. رَواه سعيدٌ في سُنَنِه (¬4). وهذا قاله بمَحْضَرِ مِن الصحابَةِ وغيرِهم في يَوْمِ جُمُعَةٍ، ولم ¬

(¬1) في النسخ: «هشام». والمثبت من المغنى. وهو أحمد بن هاشم بن الحكم الأنطاكى، نقل عن أحمد مسائل حسانا. طبقات الحنابلة 1/ 82. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 408. في حديث المسئ صلاته. (¬4) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب من حضر الجمعة فزحم فلم يستطع يركع مع الإمام، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 233.

643 - مسألة: (فإن لم يمكنه سجد إذا زال الزحام، إلا أن يخاف فوات الثانية، فيتابع الإمام فيها، وتصير أولاه، ويتمها جمعة)

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ سَجَدَ إِذَا زَالَ الزِّحَامُ، إِلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الثَّانِيَةِ، فَيُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيهَا، وَتَصِيرُ أُولَاهُ، وَيُتِمُّهَا جُمُعَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَظْهَرْ له مُخالِفٌ، فكان إجْماعًا. ولأنَّه أَتَى بما يُمْكِنُه حالَ العَجْزِ، فصَحَّ، كالمَرِيضِ يَسْجُدُ على المِرْفَقَةِ، والخَبَرُ لم يَتَناوَلِ العاجِزَ، لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). 643 - مسألة: (فإن لم يُمْكِنْه سَجَد إذا زال الزِّحامُ، إِلَّا أن يَخافَ فَواتَ الثَّانِيَةِ، فَيُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيهَا، وَتَصِيرُ أُولَاهُ، وَيُتِمُّهَا جُمُعَةً) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن زُحِمَ في إحْدَى الرَّكْعَتَيْن، فإمّا أن يُزْحَمَ في الأُولَى، أو الثَّانِيَةِ، فإن كان في الأُولَى، ولم يَتَمَكَّنْ مِن السُّجُودِ على ظَهْرِ ولا قَدَمٍ، انْتَظَرَ ¬

(¬1) سورة البقرة 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حتَّى يَزُولَ الزِّحامُ، ثم يَسْجُدُ ويتْبَعُ إِمامَه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ أصحابَه بذلك في صلاةِ الخوْفِ بعُسْفانَ للعُذْرِ، والعُذْرُ مَوْجُودٌ. فإذا قَضَى ما عليه، وأدْرَكَ إِمامَه قبلَ رَفْعِ رَأْسِه مِن الرُّكُوعِ، اتَّبَعَه، وصَحَّت له الرَّكْعَةُ، وهكذا لو تَعَذَّرَ عليه السُّجُودُ مع إمامِه، لمرَضٍ، أو نَوْمٍ، أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِسْيانٍ؛ لأنَّ ذلك عُذْرٌ، أشْبَهَ المَزْحُومَ. فإن خاف أنَّه إن تشاغَلَ بالسُّجُودِ فاتَه الرُّكُوعُ مع الإِمامِ في الثَّانِيَةِ ولَزِمَه مُتابَعَتُه، وتَصِيرُ الثَّانِيةُ أُولَاه. وهذا قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ: يَشُّتَغِلُ بالسُّجُودِ؛ لأنَّه قد رَكَع مع الإِمامِ، فيَجِبُ عليه السُّجودُ بعدَه؛ لو زال الزِّحامُ والإِمامُ قائِمٌ. وللشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، قَولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» (¬1). فإن قِيلَ: فقد قال: «فَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا». قُلْنا: قدْ سَقَط الأمْرُ بالمُتابَعَةِ في السُّجُود عن هذا للْعُذْرِ، وبَقِىَ الأمْرُ بالمُتابَعَةِ في الرُّكُوعِ لإِمْكانِه، ولأنَّه خائِفٌ فَواتَ الرُّكُوعِ، فلَزِمَتْه مُتابَعَةُ إمامِه فيه (¬2)، كالمَسْبُوقِ، أمَّا إذا كان الإِمامُ قائِمًا فليس هذا اخْتِلافًا كَثِيرًا. إذا ثَبَت أنَّه يُتابعُ الإِمامَ فِى الرُّكُوعِ، فإن أدْرَكَهُ رَاكِعًا صَحَّتْ له الثَّانِيَةُ، وتَصِيرُ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ، وتَبْطُلُ الأُولَى في قِياسِ المَذْهَبِ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 416. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكَوْنِه تَرَك منها رُكْنًا وشَرَع في الثَّانِيةِ، فبَطَلَتِ الأُولَى على ما ذَكَرْنا في سُجُودِ السَّهْوِ، ويُتِمُّها جُمُعَةً، لأنَّه أدْرَكَ منها رَكْعَةً مع الإِمامِ، فإن لم يَقُمْ، ولكن يَسْجُد السَّجْدَتَيْن مِن غيرِ قِيامٍ تَمَّتْ رَكْعَتُه. وإن فاتَه الرُّكُوعُ وسَجَد معه، فإن سَجَد السَّجْدَتَيْن معه، فقال القاضى: يُتِمُّ بها الرَّكْعَةَ الأُولَى. وهذا مَذْهَبُ الإِمامِ الشافعىِّ. رَحِمَه اللَّه تعالى. وقال أبو الخَطَّابِ: إذا سَجَد مُعْتَقِدًا جَوازَ ذلك اعْتُدَّ له به، وتَصِحُّ له الرَّكْعَةُ، كما لو سَجَد وإمامُه قائِمٌ، ثم إن أدْرَكَ الإِمامَ في رُكوعِ الثَّانِيَةِ صَحَّتْ له الرَّكْعَتان، وإن أدْرَكَه بعدَ رَفْعِ رَاسِه مِن رُكُوعِها، فَينْبَغى أن يَرْكَعَ ويَتْبَعَه، لأنَّ هذا سَبْقٌ يَسِيرٌ. ويَحْتَمِلُ أن تَفُوتَه الثَّانِيةُ بفَواتِ الرُّكُوعِ، كالمَسْبُوقِ.

644 - مسألة: (فإن لم يتابعه عالما بتحريم ذلك بطلت صلاته، وإن جهل تحريمه فسجد ثم أدرك الإمام فى التشهد، أتى بركعة أخرى بعد سلام الإمام، وصحت جمعته. وعنه، يتمها ظهرا)

فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإنْ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ فَسَجَدَ ثمَّ أدْرَكَ الإمَامَ فِى التَّشَهُّدِ، أُتَى بِرَكْعَةٍ أُخْرَى بَعْدَ سَلَامِهِ، وَصَحَّتْ جُمُعَتُهُ. وَعَنْهُ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 644 - مسألة: (فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإنْ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ فَسَجَدَ ثمَّ أدْرَكَ الإمَامَ فِى التَّشَهُّدِ، أُتَى بِرَكْعَةٍ أُخْرَى بَعْدَ سَلَامِ الإِمامِ، وَصَحَّتْ جُمُعَتُهُ. وَعَنْهُ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا) وجُمْلَتُه أنَّ مَن زُحِمَ عن السُّجُودِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وخَاف فَواتَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مع الإِمامِ إنِ اشْتَغَلَ بالسُّجُودِ، لَزِمَه مُتابَعَتُه في رُكُوعِ الثَّانِيةِ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن تَرَك مُتابَعَةَ إمامِه عالِمًا بتَحْرِيمِ ذلك بَطَلَتْ صلاتُه؛ لأنَّه تَرَك الواجِبَ فيها عَمْدًا، وفَعَل ما لا يَجُوزُ فِعْلُه. وإنِ اعْتَقَدَ جَوازَ ذلك فسَجَد، لم يُعْتَدَّ بسُجُودِه، لأنَّه سَجَدَ في مَوْضِعِ الرُّكوعِ جَهْلًا، أشْبَهَ السَّاهِىَ. ؤقال أبو الخَطَّابِ: يُعْتَدُّ له به، فإن أدْرَكَ الإِمامَ في التَّشَهُّدِ تابَعَه، وقَضَى رَكْعَة بعدَ سلامِه، كالمَسْبُوقِ، ويَسْجُدُ للسَّهْوِ. قال شيخُنا (¬1): ولا وَجْهَ للسُّجُودِ هنا؛ لأنَّ المأْمُومَ (¬2) ليس عليه سُجُودُ ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 188. (¬2) في النسح: «الإمام»، والمثبت من المغنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْوٍ. وإن زُحِمَ عن سَجْدَةٍ واحِدَةٍ، أو عن الاعْتِدالِ بينَ السَّجْدَتَيْن، أو بينَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في ازْدِحامٍ عن السُّجُودِ. فصل: فأمَّا إن زُحِمَ عن السُّجُودِ في الثَّانِيةِ، فزالَ الزِّحامُ قبلَ سَلامَ الإِمام، سَجَدَ وتَبِعَه، وصَحَّتْ له الرَّكْعَةُ. وإن لم يَزُلْ حتَّى سَلَّمَ، فإن كان أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الأُولَى، فقد أَدْرَكَ الجُمُعَةَ، ويَسْجُدُ للثَّانِيَةِ بعدَ سَلامِ الإِمامِ، ويَتَشَهَّدُ ويُسَلِّمُ، فقد تَمَّتْ جُمُعَتُه. وإن لم يَكُنْ أدْرَكَ الأُولَى، فإنَّه يَسْجُدُ بعدَ سلامِ إمامِه، وتَصِحُّ له رَكْعَةٌ. وهل يَكُونُ مُدْرِكًا للجُمُعَةِ بذلك؟ على رِوايَتَيْن. فصل: وإذا أدْرَكَ مع الإِمامِ رَكْعَةً، فلمَّا قام ليَقْضِىَ الأُخْرَى ذَكَر أنَّه لم يَسْجُدْ مع إمامِه إلَّا سَجْدَةً واحِدَةً [أو شَكَّ] (¬1) في ذلك؛ فإن لم يَكُنْ شَرَع في قِراءَةِ الثَّانيةِ، رَجَع فَسَجَدَ للأُولَى، فأَتَمَّهَا، وقَضَى الثَّانِيَةَ، وأتمَّ الجُمُعَةَ. نَصَّ عليه الإِمامُ أحمدُ، في رِوايَةِ الأثْرَمِ. وإن كان شَرَع في قِراءَةِ الثَّانيةِ، بَطَلَتِ الأُولَى، وصارَتِ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ، ويُتِمُّها جُمُعَةً، ¬

(¬1) في م: «وشك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما نَقَلَه الأثْرَمُ. وقِياسُ الرِّوايَةِ الأُخْرَى في المَزْحُومِ، أنَّه يُتِمُّها ههُنا ظُهْرًا، لأنَّه لم يُدْرِكْ رَكْعَةً كامِلَةً. ولو قَضَى الرَّكْعَهً الثَّانِيَةَ، ثم عَلِم أنَّه تَرَك سَجْدَةً مِن إحْدَاهما، لا يَدْرِى مِن أَيُّهما تَرَكَها، فالحُكْمُ واحِدٌ، ويَجْعَلُها مِن الأُولَى، ويَأْتِى برَكْعَةٍ مَكانَها. وفى كَوْنِه مُدْرِكًا (¬1) للجُمعَةِ وَجْهان. فأمَّا إن شَكَّ في إدْراكِ الرُّكُوع مع الإِمامِ؛ مثلَ أن كَبَّرَ والإِمامُ راكِعٌ، فرَفَعَ إمَامُه رَأْسَه، فشَكَّ هل أدْرَكَ المُجْزَئَ مِن الرُّكوعِ مع الإِمامِ أوْ لا؟ لم يَعْتَدَّ بتلك الرَّكْعَةِ، ويُصَلِّى ظُهْرًا، قَوْلًا واحِدًا، لأنَّ الأصْلَ أنَّه ما أتَى بها معه وفى كلِّ مَوْضِعٍ لا يَكُونُ مُدْرِكًا للجُمُعَةِ، فعلى قَولِ الخِرَقِىِّ، يَنْوى ظُهْرًا، فإن نوَى جُمُعَةً لَزِمَه اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ. ويَحْتَمِلُه كلامُ الإِمام أحمدَ، في رِوايَةِ صالِحٍ وابن مَنْصُورٍ وعلى قَوْلِ أبى (¬2) إسحاقَ بنِ شَاقْلَا: [يَنْوى جُمُعَةً] (¬3)، لِئَلَّا يُخالِفَ إِمامَه، ويُتِمُّها ظُهْرًا. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ القَوْلَيْن. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

645 - مسألة: (الرابع، أن يتقدمها خطبتان، ومن شرط صحتهما حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله

الرَّابعُ، أنْ يَتَقَدَّمَهَا خُطْبَتَانِ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحُضُورُ الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلْ: ولو صَلَّى مع الإِمام رَكْعَةً، ثم زُحِمَ في الثَّانِيَةِ، فأُخْرِجَ مِن الصَّفِّ فصارَ فَذًّا، فَنَوى الانْفِرادَ عن الإِمامِ، قِياسُ المَذْهَبِ أنَّه يُتِمُّها جُمُعَةً؛ لأنَّه أدْرَكَ منها رَكْعَةً مع الإِمامِ، أشْبَهَ ما لو أدْرَكَ الثَّانِيَةَ. وإن لم يَنْوِ الانْفِرادَ، وأتَمَّها مع الإِمامِ، ففية رِوايَتان؛ إحْدَاهُما، لا يَصِحُّ، لأنَّه قد فَذَّ في رَكْعَةٍ كامِلَةٍ، أشْبَهَ ما لو فَعَل ذلك عَمْدًا. والثَّانيةُ، يَصِحُّ؛ لأنَّه قد يُعْفَى في البِناءِ عن تَكْمِيلِ الشُّرُوطِ كما لو خَرَج الوَقْتُ وقد صَلَّوْا رَكْعَةً، وكالمَسْبُوقِ. 645 - مسألة: (الرَّابعُ، أنْ يَتَقَدَّمَهَا خُطْبَتَانِ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِما حَمْدُ اللَّه تِعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعَالَى، وَحُضُورُ الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ.) الخُطْبَةَ. وبه قال غطَاءٌ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الحسنُ: تُجْزِئُهم الجُمُعَةُ مِن غيرِ خُطْبَةٍ؛ لأنَّها صلاةُ عِيدٍ، فلم تُشْتَرَطْ لها الخُطْبَةُ، كصلاةِ الأضْحَى. ولَنا، قولُ اللَّهِ سُبْحَانَه وتعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}. والذِّكْرُ هو الخُطْبَةُ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَتْرُكِ (¬1) الخُطْبَةَ، وقَد قال: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِى أُصَلِّى» (¬2). وعن عمرَ، رَضِى اللَّهُ عنه، أنَّه قُصِرَ في الصَّلاةِ لأجْلِ الخُطْبَةِ (¬3). وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، نَحْوُ هذا. فصل: ويُشْتَرَطُ لها خُطْبَتَانِ. وهذا مَذْهَبُ الإِمامِ الشافعىِّ. وقال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصَحابُ الرَّأْى: ¬

(¬1) في الأصل: «يدع». (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 441، 442. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل تفوته الخطبة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 128.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُجْزِئُه خُطْبَةٌ واحِدَةٌ. وعن الإمام أحمدَ ما يَدُلُّ عليه، فإنَّه قال: لا تَكُونُ الخُطْبَةُ إِلَّا؛ خَطَب النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو خُطْبَةٌ تَامَّةٌ. ووَجْهُ الأوَّلِ ما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْطُبُ خُطْبَتَيْن وهو قائِمٌ، يَفْصِلُ بينَهما بجُلُوسٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقد قال: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِى أُصَلِّى». ولأنَّ الخُطْبَتَيْن أُقِيمَتَا مَقامَ الرَّكْعَتَيْن، فكلُّ خُطْبَةٍ مَكانَ رَكْعَةٍ، فالإِخْلالُ بإحْدَاهُما إخْلَالٌ بإحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ. فصل: ويُشْتَرَطُ لكلِّ واحِدَةٍ منهما حَمْدُ اللَّهِ تعالى، والصلاةُ على رسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «كُلُّ كَلَامٍ ذِى بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» (¬2). وقال جابِرٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: كان رسولُ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الخطبة قائمًا، وباب القعدة بين الخطبتين بوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 12، 14. ومسلم، في: باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 589 كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الجلوس بين الخطبتين، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 294. والنسائى، في: باب الفصل بين الخطبتين بالجلوس، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 90. وابن ماجة، في: باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 351. والدارمى، في: باب القعود بين الخطبتين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 366. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 98. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الهَدْى في الكلام، من كتاب الأدب، سنن أبى داود 2/ 560 بلفظ «أجذم». وابن ماجة، في: باب خطبة النكاح، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجة 1/ 160 بلفظ «أقطع». والإمام أحمد، في: المسند 2/ 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ اللَّهَ ويُثْنِى عليه بما هو أهْلُه، ثم يَقُولُ: «مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِىَ لَهُ» (¬1). وإذا وَجَب ذِكْرُ اللَّهِ، وَجَب ذِكْرُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كالأَذانِ، ولأنَّه قد رُوِىَ في تَفْسِير قولِه تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (¬2). قال: لا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِى (¬3). ويَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ الصلاةُ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَذْكُرْ ذلك في خُطْبَتِه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب تخفيف الصلاة والخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 593. والنسائى، في: باب كيف الخطبة، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 153. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 371. (¬2) سورة الشرح 4. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ما يستدل به على وجوب ذكر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الخطبة، من كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 209. وانظر: الدر المنثور، للسيوطى 6/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقِراءَةُ في كلِّ واحِدَةٍ مِن الخُطتَيْنِ شَرْطٌ، وهو ظاهِرُ كَلامِ الخرَقِىِّ؛ لأنَّ الخُطْبَتَيْن أُقِيمَتا مَقامَ الرَّكْعَتَيْن، فكانتِ القِراءَةُ فيهما شَرْطًا، كالرَّكْعَتَيْن. ولأنَّ ما وَجَب في إحْداهما وَجَب في الأُخْرَى، كسائِرِ الفُرُوضِ. ويَحْتَمِلُ أن تُشْتَرَطَ القِراءَةُ في إحْداهما؛ لِما روَى الشَّعْبِىُّ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صَعِدَ المِنْبَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ، وقال: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ». ويَحْمَدُ اللَّهَ، ويُثْنِى عليه، ويَقْرَأُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُورَةً، ثم يَجْلِسُ، ثم يَقُومُ فيَخْطُبُ، ثم يَنْزِلُ، وكان أبو بكرٍ وعمرُ يَفْعَلَانِه. رَواه الأثْرَمُ (¬1). والظَّاهِرُ أنَّه إنَّما قَرَأ في الخُطْبَةِ الأُولَى. فصل: وتَجِبُ المَوْعِظَةُ؛ لأنَّها المَقْصُودَةُ مِن الخُطْبَةِ، فلم يَجُزِ الإِخْلالُ بها، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَعِظُ. وفى حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ، أنَّه كان يُذَكِّرُ النَّاسَ (¬2). وتَجِبُ في الخُطْبَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لأَنَّ ما وَجَب في إحْداهما وَجَب في الأخْرَى، كسائِرِ الشُّرُوطِ. وهذا قَوْلُ القاضى. ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب تسليم الإمام إذا صعد، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 193. وابن أبى شيبة، في: باب الإمام إذا جلس على المنبر سلم، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 114. (¬2) انظر حديثه الآتى بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ أنَّ المَوْعِظةَ إنَّما تَكُونُ في الخُطْبَةِ الثَّانِيةِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حدِيثِ الشَّعْبِىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لو أتَى بِتَسْبِيحَةٍ أجْزَأَ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. فأجْزَأَ ما يَقَعُ عليه الذِّكْرُ، ولأنَّ اسْمَ الخُطبَةِ يَقَعُ على دونِ ما ذَكَرْتُمْ، بدَلِيلِ أنَّ رجلًا جاء إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: عَلِّمْنِى عَمَلًا أدْخُلُ به الجَنَّةَ؟ فقال: «[لئِنْ كُنْتَ] (¬1) أَقْصَرْتَ مِنَ الخُطْبَةِ لَقَدْ أعْرَضْتَ فِى المَسْأَلةِ» (¬2). وعن مالِكٍ كالمَذْهَبَيْنِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَّرَ الذِّكْرَ بفِعْلِه. قال جابِرُ بنُ سَمُرَةَ: كانت صلاةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصْدًا، وخُطْبَتُه قَصْدًا، يَقْرَأْ آيَاتٍ مِن القُرْآنِ، ويُذَكِّرُ ¬

(¬1) سقط من النسخ. وأثبتناه من المسند. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 299، 6/ 384.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّاسَ. رَواه أبو دَاود، والتِّرْمِذِىُّ (¬1). وقد ذَكَرْنا حديثَ جابِرِ بنِ سَمُرَة. وأمَّا التَّسْبِيحُ فلا يُسَمَّى خُطْبَةً. والمُرادُ بالذِّكْر الخُطْبَةُ، وما رَوَوْه مجازٌ؛ فإنَّ السُّؤالَ لا يُسَمَّى خُطْبَةً، بدَلِيلِ أنَّه لو ألْقَى مَسْألَةً على الحاضِرِين لم يَكْفِ ذلك اتِّفاقًا. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يخطب على قوس، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 252. والترمذى، في: باب ما جاء في قصر الخطبة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 295. كما أخرجه مسلم، في: باب تخفيف الصلاة والخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 591. والنسائى، في: باب القراءة في الخطبة الثانية والذكر فها، من كتاب الجمعة، وفى: باب القصد في الخطبة، وباب القراءة في الخطبة الثانية والذكر فيها، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 90، 156. وابن ماجة، في: باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 351. والدارمى، في: باب في قصر الخطبة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 365. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 91، 93، 95، 98، 100، 102، 106، 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَكْفِى في القِراءَةِ أقَلُّ مِن آيَةٍ. هكذا ذكَرَه الأصحابُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَقْتَصِرْ على أقَلَّ مِن ذلك، ولأنَّ الحُكْمَ لا [يَتَعَلَّقُ بما دُونَها] (¬1)، بدلِيلِ مَنْعِ الجُنُبِ مِن قِراءَتِها. فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّه لا يَشْتَرِطُ ذلك؛ فإنَّه قال، في القِراءَةِ في الخُطْبَةِ: ليس فيه شئٌ مُوَقَّتٌ، ما شاءَ قَرَأ. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. قال شَيْخُنا (¬2): ويَحْتمِلُ أن لا يَجِبَ سِوَى حَمْدِ اللَّهِ والمَوْعِظَةِ؛ لأنَّ ذلك يُسَمَّى خُطْبَةً، ويَحْصُلُ به المَقصُودُ، وما عَداهما ليس على اشْتِراطِه دَلِيل؛ لأنَّه لا يَجِبُ أن يَخْطُبَ على صِفَةِ خُطْبَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالاتِّفاقِ؛ لأنَّه رُوِىَ أنَّه كان يَقْرأ آيَاتٍ، ولا يَجبُ قِراءَةُ آيَاتٍ بالاتِّفاقِ، لكن يُسْتَحَبُّ ذلك؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ الشَّعْبِىِّ. وقالَتْ أُمُّ هِشامٍ بنتُ حارِثَةَ بنِ النُّعْمانِ: ما أخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}. إلَّا مِن فِي رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان يَخْطُبُ بها كلَّ جُمُعَةٍ. رَواه مسلمٌ (¬3). ¬

(¬1) في م: «يتعين بدونها». (¬2) في: المغنى 3/ 176. (¬3) في باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 595. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يخطب على قوس، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 252، 253. والنسائى، في: باب القراءة في الخطبة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 88.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ للْخُطْبَةِ حُضورُ العَدَدِ المُشْتَرَطِ في القَدْرِ الواجِبِ مِن الخُطْبَتَيْنِ. وقال أبو حنيفةَ، في رِوايَةٍ عنه: لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّه ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلاةَ، فلم يُشْتَرَطْ له العَدَدُ، كالأذَانِ. ولَنا، أنَّه ذِكْرٌ مِن شَرائِطِ الجُمُعَةِ، فكان مِن شَرْطِه العَدَدُ، وكتَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ، وتُفارِقُ الأذانَ، فإنَّه ليس بِشَرْطٍ، وإنَّما مَقْصُودُه الإِعْلامُ، والإِعْلامُ للغَائِبينَ، والخُطْبَةُ مَقْصُودُها المَوْعِظَةُ، فهى لِلحاضِرِينَ. فعلى هذا إنِ انْفَضُّوا في أثْناءِ الخُطْبَةِ، ثم عادُوا فحَضَرُوا القَدْرَ الواجِبَ، أجْزاهم، وإلَّا لم يُجْزِئْهم، إلَّا أن يَحْضُرُوا القَدْرَ الواجِبَ، ثم يَنْفَضُّوا ويَعُودُوا قبلَ شُرُوعِه في الصَّلاةِ، مِن غيرِ طُولِ الفَصْلِ، فإن طالَ الفَصْلُ لَزِمَه إعادَةُ الخُطْبَةِ، إن كان الوَقْتُ مُتَّسِعًا، وإن ضاقَ الوَقْتُ صَلَّوْا ظُهْرًا. والمَرْجِعُ في طُولِ الفَصْلِ وقِصَرِه إلى العادَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ لهما (¬1) الوَقْتُ، فلو خَطَب قبلَ الوَقْتِ لم تَصِحَّ خُطْبَتُه، قِياسًا على الصَّلاةِ. ويُشْتَرَطُ لهما المُوَالاةُ، فإن فَرَّقَ بينَ الخُطْبَتَيْنِ، أو بينَ أجْزاءِ (¬2) الخُطْبَةِ الواحِدَةِ بكَلام طَويلٍ، أو سُكُوتٍ طَوِيلٍ مِمَّا يَقْطَعُ المُوَالاةَ، اسْتَأْنَفَها. وكذلك يُشْتَرَطُ المُوَالَاةُ بينَ الخُطْبَةِ والصَّلاةِ أيضًا. فإن فَرَّقَ بينَهما تَفْرِيقًا كَثِيرًا بَطَلَتْ، ولا تَبْطُلُ باليَسِيرِ؛ لأنَّ الخُطْبَتَيْنِ مع الصَّلاةِ كالمَجْمُوعَتَيْنِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ المُوَالَاةَ لا تُشْتَرَطُ؛ لأنَّه ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصلاةَ، فلم تُشْتَرَطِ المُوَالَاةُ بينَهما، ¬

(¬1) في م: «لها». (¬2) في م: «آخر».

646 - مسألة: (وهل يشترط لهما الطهارة، وأن يتولاهما من يتولى الصلاة؟ على روايتين)

وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ، وَأَنْ يَتَوَلَّاهُمَا مَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالأَذَانِ والإِقامَةِ. والمَرْجِعُ في طُولِ الفَصْلِ وقِصَرِه إلى العُرْفِ. وإنِ احْتاجَ إلى الطهارَةِ تَطَهَّرَ وبَنَى على خُطْبَتِه. وكذلك تُعْتَبَرُ سائِرُ شُروطِ الجُمُعَةِ لِلْقَدْرِ الوَاجِب مِن الخُطْبَتَيْنِ. 646 - مسألة: (وهل يُشْتَرَطُ لهما الطهارةُ، وأن يَتَولَّاهُما مَن يَتَولَّى الصلاةَ؟ على رِوايَتَيْن) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في اشْتِراطِ الطهارةِ لِلخُطْبَةِ، وللشافعىِّ قَوْلان، كالرِّوايَتَيْنِ. وقد قال أحمدُ في مَن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَطَب وهو جُنُبٌ، ثم اغْتَسَل وَصلَّى بهم، تُجْزِئُه. قال شيْخُنا (¬1): والأشْبَهُ بأُصُولِ المَذْهَبِ اشْتِرَاطُ الطهارَةِ الكُبْرَى؛ لكونِ قِراءَةِ آيَةٍ شَرْطًا للخُطْبَةِ. ولا يَجُوزُ ذلك للجُنُبِ. فأمَّا الطهارةُ الصُّغْرَى، فالصَّحِيحُ أنَّها لا تُشْتَرطُ؛ لأنَّه ذِكْرٌ، يَتَقَدَّمُ الصلاةَ، فلم تَكُنِ الطهارةُ فيه شَرْطًا، كالأذَانِ، ولأنَّه لو اشْتُرِطَتْ لهما الطهارةُ لاشْتُرِطَ الاسْتِقْبالُ، كالصلاةِ. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 177.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، أنَّها تُشْتَرَطُ لهما، كتَكْبِيرَةِ الإِحْرام، ولكنْ يُسْتَحَبُّ أن يكونَ مُتَطَهِّرًا مِن الحَدَثِ والنَّجَسِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصَلِّى عَقِيبَ الخُطْبَةِ، لا يَفْصِلُ بينَهما بطهارةٍ، فيَدُلُّ على أنَّه كان مُتَطَهِّرًا، والاقْتِدَاءُ به إن لم يَكُنْ واجِبًا فهو سُنَّةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ أن يَتَولَّاهُما مَن يَتَوَلَّى الصلاةَ، في إحْدَى الرِّوَايَتَيْن؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُه، وقد قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونِى أُصَلِّى» (¬1). ولأنَّ الخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقامَ رَكْعَتَيْن، لكن يَجُوزُ الاسْتِخْلافُ لعُذْرِ، ففى الخُطْبَةِ والصلاةِ أوْلَى. وعنه، يَجُوزُ الاسْتِخْلافُ لغيرِ عُذْرٍ، فإنَّه قال في الإِمامِ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ويُصَلِّى الأميرُ بالنَّاسِ: لا بَأْسَ إذا حَضَر الأمِيرُ الخُطْبَةَ؛ لأنَّ الخُطْبَةَ مُنْفَصِلَةٌ عن الصَّلاةِ، فأَشْبَها الصلاتَين. وهل يُشْتَرَطُ أن يكونَ المُصَلِّى مِمَّن حَضَر الخُطْبَةَ؟ فيه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 441، 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايتان، إحْداهما، يُشْتَرَطُ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ وأصحابِ الرَّأْىِ، لأنَّه إمامٌ في الجُمُعَةِ، فاشْتُرِطَ حُضُورُ الخُطْبَةِ كما لو لم يَسْتَخْلِفْ. والثَّانيةُ، لا يُشْتَرَطُ. وهو قولُ الأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ؛ لأنَّه مِمَّن تَنْعَقِدُ به الجُمُعَةُ، فجاز أن يَؤُمَّ فيها كما لو حَضَر الخُطْبَةَ. وقد روَى الإِمَامُ أحمدُ رَحِمَه اللَّهُ، أنَّه لا يَجُوزُ الاسْتِخْلافُ مع العُذْرِ أيضًا، فإنَّه قال، في الإِمَامِ إذا أحْدَثَ بعدَ ما خَطَب فَقَدَّمَ (¬1) رجلًا يُصلِّى بهم: لم يُصَلِّ إلَّا أرْبَعًا، إلَّا أن يُعِيدَ الخُطْبَةَ، ثم يُصلِّى بهم رَكْعَتَيْنِ. وذلك لأنَّ هذا لم يُنْقَلْ عن النبىِّ ¬

(¬1) في م: «يقدم». وفى الأصل: «تقدم». والمثبت من المغنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أحَدٍ مِن خُلَفائِه. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. وهل يَجُوزُ أن يَتَوَلَّى الخُطْبَتَيْن اثْنان، يَخْطُبُ كلّ واحدٍ خُطْبَةً؟ فيه احْتمالان؛ أحَدُهما، يَجُوزُ، كالأذانِ والإِقَامَةِ. والثَّانِى، لا يَجُوزُ؛ لِما ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ.

647 - مسألة: (ومن سننهما أن يخطب على منبر، أو موضع عال)

وَمِنْ سُنَنِهِمَا أنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَرٍ، أوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 647 - مسألة: (ومِن سُنَنِهما أن يَخْطُبَ على مِنْبرٍ، أو مَوْضِعٍ عالٍ) لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْطُبُ النَّاسَ على مِنْبَرٍ. قال سَهْلُ بنُ سَعْدٍ: أرْسَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى فُلانَةَ: «أنْ مُرِى غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِى أعْوَادًا أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ». مُتَّفَق عليه (¬1). ولأنَّه أَبلَغُ في الإِعْلامِ. وليس ذلك واجِبًا، فلو خَطَب على الأرْضِ، أو رَبْوَةٍ، أو راحِلةٍ، أو غيرِ ذلك، جاز، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقُومُ على الأرْضِ قبلَ أن يُصْنَعَ له المِنْبَرُ. ويُسْتَحَبُّ أن يَكُونَ المِنْبَرُ عن يَمِينِ القِبْلَةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هكذا صَنَع. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الاستعانة بالنجار. . . إلخ، من كتاب الصلاة، وفى: باب الخطبة على المنبر، من كتاب الجمعة، وفى: باب النجار، من كتاب البيوع، وفى: باب من استوهب من أصحابه شيئًا، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 1/ 122، 2/ 11، 3/ 80، 201. ومسلم، في: باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 386، 387. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اتخاذ المنبر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 248. والنسائى، في: باب الصلاة على المنبر، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 45. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 339.

648 - مسألة: (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم)

وَيُسَلِّمَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إِذَا أقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 648 - مسألة: (ويُسَلِّمَ على المَأْمُومِينَ إذا أقْبَلَ علَيْهِم) ويُسْتَحَبُّ للإِمامِ إذا خَرَج أن يُسَلِّمَ على النَّاسِ، ثم إذا صَعِدَ المِنْبَرَ فاسْتَقْبَلَ الحاضِرِينَ سَلَّم عليهم. يُرْوَى ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وبه قال الأوزاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يُسَنُّ السَّلامُ عَقِيبَ الاسْتقْبال؛ لأنَّه سَلَّمَ حالَ خُرُوجِهْ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صَعِدَ المِنْبَرَ سَلَّمَ عليهم. رَواه ابنُ ماجه (¬1). وعن ابنِ عمرَ، قال: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دَخَل المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ سَلَّمَ على مَن عندَ المِنْبَرِ جالِسًا، فإذا صَعِدَ المِنْبَرَ [واسْتَقْبلَ النَّاسَ] (¬2) سَلَّمَ عليهم. رَواه أبو بكرٍ، بإسْنادِه (¬3). ومتى سَلَّمَ رَدَّ عليه النَّاسُ؛ لأنَّ رَدَّ السَّلامِ آكَدُ مِن ابْتِدائِه. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجة 1/ 352. (¬2) سقط من: م. (¬3) وأخرجه البيهقى، في: باب الإمام يسلم على الناس إذا صعد المنبر قبل أن يجلس، من كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 205.

649 - مسألة: (ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين)

ثُمَّ يَجْلِسَ إِلَى فَرَاغِ الْأذَانِ، وَيَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 649 - مسألة: (ثم يَجْلِسَ إلى فَراغِ الأذَانِ، ويَجْلِسَ بينَ الخُطْبَتَيْن)؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْلِسُ إذا صَعِد حتَّى يَفْرَغَ الأذَانُ، ثم يَقُومُ فيَخْطُبُ [ثم يَجْلِسُ] (¬1) [فلا يتَكَلَّمُ، ثم يَقُومُ فيَخْطُبُ] (¬2). رَوَاه أبو داودَ (¬3). وتَكُونُ الجَلْسةُ بينَ الخُطْبَتَيْن ¬

(¬1) سقط من: الأصول. والمثبت من سنن أبى داود. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب الجلوس إذا صعد المنبر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 250، 251.

650 - مسألة: (ويخطب قائما)

وَيَخْطبَ قَائِمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ خَفِيفَةً. وليست واجِبَةً في قولِ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ. وقال الشافعىُّ: واجبَةٌ. ولَنا، أنَّها جَلْسَة ليس فيها ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فلم تَكُنْ واجِبَةً كالأُولَى. وقد سَرَد الخُطْبَةَ جَماعَةٌ، منهم المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، وأُبَىُّ بنُ كَعْبٍ. قالَه الإِمامُ أحمدُ. ورُوِىَ عنِ أبى إسحاقَ، قال: رأْيتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ على المِنْبَرِ فلم يَجْلِسْ حتَّى فرَغَ (¬1). فإن خَطَب جالِسًا لعُذْرٍ اسْتُحِبَّ أن يَفْضلَ بينَ الخُطْبَتَيْن بسَكْتةٍ، وكذلك إن خَطَب قائِمًا فلم يَجْلِسْ. 650 - مسألة: (ويَخْطُبَ قائِمًا) رُوِىَ عن الإِمامِ أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ القِيامَ في الخُطْبَةِ واجِبٌ، وهو مَذهَبُ الإِمامِ الشافعىُّ. فرَوَى الأثْرَمُ، قال: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يُسْألُ عن الخُطْبَةِ قاعِدًا، أو يَقْعُدُ في ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الخطبة قائمًا، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 189.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْدَى الخُطْبَتَيْن؟ فلم يُعْجِبْه، وقال: قال اللَّه تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬1). وكان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ قائِمًا. فقال له الهَيْثَمُ بنُ خَارِجَةَ (¬2): كان عمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ يَجْلِسُ في خُطْبَتِه. فظَهَرَ منه إنْكارُه. ووَجْهُ ذلك ما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْطُبُ خُطْبَتَيْن (¬3)، وهو قائِمٌ، يَفْصِلُ بينَهما بجُلُوسٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وروَى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْطُبُ قائِمًا، ثم يَجْلِسُ، ثم يَقُومُ فيَخْطُبُ قائِمًا، فمَن نَبَّأكَ أنَّه كان يَخْطُبُ جالِسًا فقد كَذَب، فقد واللَّهِ صَلَّيْتُ معه أكثرَ مِن ألْفَىْ صلاةٍ. رَواه مسلمٌ (¬5). وقال القاضى: تُجْزِئُه الخُطةُ قاعِدًا. وقد نَصَّ عليه الإِمامُ أحمدُ، وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه ذِكْرٌ ليس مِن شَرْطِه الاسْتِقْبالُ، فلم يَجبْ له القِيامُ، كالأذانِ، ولأنَّ المَقْصودَ يَحْصُلُ بدونِه. وهذا اخْتِيارُ أكَثرِ أصحابِنا. ¬

(¬1) سورة الجمعة 11. (¬2) أبو أحمد الهيثم بن خارجة الخراسانى الأول، روى عنه الإمام أحمد، وسأل الهيثم الإمام أحمد عن أشياء، توفى ببغداد سنة ثمان وعشرين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 394. (¬3) في م: «خطبته». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 220. (¬5) في: باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 589. كما أخرجه أبو داود، في: باب الخطبة قائما، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 251. والنسائى، في: باب السكوت في القعدة بين الخطبتين. من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 90. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 351. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 87 - 95، 100 - 102، 107، 108.

651 - مسألة: (ويعتمد على سيف، أو قوس، أو عصا)

ويَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ، أَوْ قَوْسٍ، أَوْ عَصًا، وَيَقْصِدَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 651 - مسألة: (ويَعْتَمِدَ على سَيفٍ، أو قَوْسٍ، أو عَصًا) لِما روَى الحَكَمُ بنُ حَزْنٍ، قال: وَفَدْتُ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فشَهِدْنا معه الجُمُعَةَ، فقام مُتَوَكِّئًا على عَصًا أو قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنَى عليه، كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّباتٍ مُبارَكَاتٍ. رَواه أبو داودَ (¬1). فإن لم يَفْعَلِ اسْتُحِبَّ أن يُسَكِّنَ أطْرَافَه، إمَّا أن يَضَعَ يَمِينَه على شِمالِه، أو يُرْسِلَهُما ساكِنَتَيْن إلى جَنْبَيْه. 652 - مسألة: (ويَقْصِدَ تِلْقَاءَ وَجْهِه) لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُ ذلك ولأنَّ (¬2) في التِفاتِه إلى أحَدِ جانِبَيْه إعْراضًا (¬3) عن الجانِبِ الآخَرِ، فإن خالَفَ فاسْتَدْبَرَ النَّاسَ واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، صَحَّتِ الخُطْبَةُ؛ لحُصُولِ المَقْصُودِ به، كما لو أذَّنَ غيرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه ترَك الجِهَةَ المَشْرُوعَةَ، أشْبَهَ ما لو اسْتَدْبَرَ القِبْلَةَ في الصَّلاةِ، ولأنَّ مَقْصُودَ الخُطْبَةِ المَوْعِظَةُ، وذلك لا يَتِمُّ باسْتِدْبارِ النَّاسِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ للنَّاسِ أن يَسْتَقْبِلُوا الخَطِيبَ إذا خَطَب. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: يَكُونُ الإِمامُ عن يَمِينى مُتباعِدًا، فإذا أرَدْتُ ¬

(¬1) في: باب الرجل يخطب على قوس، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 251. كما أخرجه، الإمام أحمد، في: المسند 4/ 212. (¬2) في م: «لأن المقصود». (¬3) في م: «الإعراض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن أنْحَرِفَ إليه حَوَّلْتُ وَجْهِىَ عن القِبْلَةِ. فقال: نعم، تَنْحَرفُ إليه. ومِمَّن كان يَسْتَقْبِلُ الإِمامَ ابنُ عمرَ، وأنسٌ. وهو قولُ أكثرِ العُلَماءِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا كالإجْماعِ. ورُوِىَ عن الحسنِ، أنَّه اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، ولم يَنْحَرِفْ إلى الإِمامِ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه كان لا يَسْتَقْبِلُ هِشامَ ابنَ إسماعيلَ (¬1) إذا خَطَبَ، فوَكَلَ به هِشامٌ شُرَطِيًّا يَعْطِفُه إليه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما روَى عَدِىُّ بنُ ثابِتٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قام على المِنْبَرِ اسْتَقْبَلَه أصحابُه بوُجُوهِهم. رَواه ابنُ ماجه (¬2). ولأنَّ ذلك أبْلغُ في إسماعِهم، فاسْتُحِبَّ، كاسْتِقْبَالِه إيَّاهم. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَرْفَعَ صَوْتَه ليُسْمِعَ النَّاسَ قال جابِرٌ: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خَطَب احْمَرَّتْ عَيْنَاه، وعَلَا صَوْتُه، واشْتَدَّ غَضبُه حتى كأنَّه مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحكُمْ ومَسَّاكُمْ، ويَقُولُ: «أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رَواه مسلمٌ (¬3). ويُسْتَحَبُّ تَرْتِيبُ الخُطْبَةِ، وهو أن يَبْدَأَ بالحَمْدِ قبلَ المَوْعِظَةِ؛ ¬

(¬1) هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد، ولاه عبد الملك بن مروان على المدينة سنة اثنتين وثمانين، وظل واليا عليها حتى خلفه عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد بن عبد الملك. توفى بعد سنة سبعة وثمانين. الأعلام للزركلى 9/ 81. (¬2) في: باب ما جاء في استقبال الإمام وهو يخطب، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 360. (¬3) في: باب تخفيف الصلاة والخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 592. كما أخرجه النسائى، في باب: كيف الخطبة، من كتاب صلاة العيدين. المجتبى 3/ 153، 154 =

653 - مسألة: (ويستحب تقصير الخطبة)

وَيَقْصِرَ الْخُطْبَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُ ذلك، ثمَّ يُثْنِى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمَّ يَعِظُ. فإن عَكَس ذلك صَحَّ؛ لحُصُولِ (¬1) المَقْصُودِ منه (¬2). قال ابنُ عَقِيلٍ: ويَحْتمِلُ أن لا يُجْزِئَه؛ لأنَّهما فَصْلان مِن الذِّكْرِ يَتَقَدَّمان الصلاةَ، فلم يَصِحَّا مُنَكَّسَيْن، كالأذانِ والإِقامَةِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَكُونَ في خُطْبَتِه مُتَرَسِّلًا، مُبينًا، مُعْرِبًا، لا يَعْجَلُ فيها، ولا يَقْطَعُها، وأن يكونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَّعِظًا بما يَعِظُ الناسَ به؛ لأنَّه قد رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «عُرِضَ عَلَىَّ قَوْمٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقِيلَ لِى: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» (¬3). 653 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الخُطْبَةِ) لِما روَى عَمَّارٌ، قال: إنِّى سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِه مَئِنَّةٌ (¬4) مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَأقْصِرُوا الخُطْبَةَ». رَواه مسلمٌ (¬5). وعن جابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُطِيلُ ¬

= وابن ماجه، في: باب اجتناب البدع والجدل، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 17. والدارمى، في: باب في كراهية أخذ الرأى، من المقدمة. سنن الدارمى 1/ 69. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 310، 311، 319، 338، 371. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 120، 231، 239. (¬4) أي علامة. (¬5) في: باب تخفيف الصلاة والخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 594. كما أخرجه الدارمى، في: باب قصر الخطبة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 365. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 263.

654 - مسألة: (و)

وَيَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْعِظَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إنَّما هى كَلِماتٌ يَسِيراتٌ. رَواه أبو داود (¬1). 654 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ أن (يَدْعُوَ) لنَفْسِه، (والمسلمين) والمُسْلِماتِ، والحاضِرِينَ، وإن دَعَا لسُلْطانِ المسلمين بالصَّلاحِ، فحَسَنٌ. وقد روَى ضَبَّةُ بنُ مُحْصَنٍ (¬2)، أنَّ أبا موسى كان إذا خَطَب فحَمِدَ اللَّهَ، وأثْنَى عليه، وصَلَّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَدْعُو لعمرَ. وقال القاضى: لا يُسْتَحَبُّ ذلك؛ لأنَّ عَطاءً قال: هو مُحْدَثٌ. وفِعْلُ الصحابةِ أوْلَى مِن قولِ عَطَاءٍ؛ ولأنَّ سُلْطَانَ المسلمين إذا صَلَح كان فيه صَلاحٌ لهم، ففى الدُّعاءِ له دُعاءٌ لهم، وذلك مُسْتَحَبٌّ غيرُ مَكْرُوهٍ. فصل: وسُئِلَ الإِمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، عمَّن قَرَأ سُورَةَ الحَجِّ على المِنْبَرِ، أيُجْزِئُه؟ قال: لا، لم يَزَلِ النَّاسُ يَخْطُبُون بالثَّناءِ على اللَّهِ والصلاةِ على رسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال: لا تكونُ الخُطْبَةُ إلَّا كما خَطَب النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. أو خُطْبَةٌ تَامَّةٌ. ولأنَّ هذا لا يُسَمَّى خُطْبَةً، ولا يَجْمَعُ الشُّروطَ. فإن قَرَأ آيَاتٍ فيها حَمْدُ اللَّهِ تعالى، والمَوْعِظَةُ، وصَلَّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، صَحَّ؛ لاجْتِماعِ الشُّروطِ. ¬

(¬1) في: باب إقصار الخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 253. (¬2) ضبة بن محصن العنزى الكوفى، ثقة، انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 4/ 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قَرَأ سَجْدَةً في أثْناءِ الخُطْبَةِ، فإن شاء نَزَل فسَجَدَ، وإن أمْكَنَه السُّجودُ على المِنْبَرِ، سَجَد عليه. وإن تَرَك السُّجودَ فلا حَرَج، فَعَلَه عمرُ وتَرَك (¬1). وبهذا قال الإِمامُ الشافعىُّ. ونَزَل عثمانُ، وأبو موسى، وعَمّارٌ، والنُّعْمانُ، وعُقْبَةُ بنُ عامرٍ. وبه قال أصحابُ الرَّأْى. وقال الإِمامُ مالكٌ: لا يَنْزِلُ؛ لأنَّه تَطَوُّعٌ بصلاةٍ، فلم يَشْتَغِلْ به في أثْناءِ الخُطْبَةِ، كصلاةِ رَكْعَتَيْن. ولَنا، فِعْلُ عمرَ، وفِعْلُ مَن سَمَّينا مِن الصحابةِ، -رَضِىَ اللَّهُ عنهم-، ولأنَّه سُنَّةٌ وُجِدَ سَبَبُها في أثْناءِ الخُطْبَةِ، لا يَطُولُ الفَصْلُ بها، فاسْتُحِبَّ فِعْلُها، كحَمْدِ اللَّهِ إذا عَطَس. ولا يَجِبُ ذلك؛ لِما قَدَّمْنَا مِن أنَّ سُجُودَ التِّلاوَةِ غيرُ واجِبٍ. ويُفارِقُ صلاةَ رَكْعَتَيْن؛ لأنَّ سَبَبَها لم يُوجَدْ في الخُطْبَةِ، ويَطُولُ بها الفَصْلُ. فصل: ويُسْتَحَبُّ الأذانُ إذا صَعِدَ الإِمامُ على المِنْبَرِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه قد كان يُؤَذَّنُ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ: كان النِّداءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إذا جَلَس الإِمامُ على المِنْبَرِ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبى بكرٍ، وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، فلمَّا كان زَمَنُ عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وكَثُرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 212.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّاسُ، زاد النِّداءَ الثَّالِثَ على الزَّوْرَاءِ. رَواه البخارىُّ (¬1). فهذا النِّداءُ الأوُسَطُ هو الذى يَتَعَلَّقُ به وُجُوبُ السَّعْى، وتَحْرِيمُ البَيْعِ؛ لقَوْلِه سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). وهذا النِّداءُ الذى كان على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ نُزولِ الآيَةِ، فَتعَلَّقَتِ الأحْكِامُ به. والنِّداءُ الأوَّلُ مُسْتَحَبٌّ في أوَّلِ الوَقْتِ، سَنَّه عثمانُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وعَمِلَت به الأُمَّةُ بعدَه، وهو للإِعْلامِ بالوَقْتِ، والثَّانِى للإِعْلامِ بالخُطْبَةِ، والثَّالِثُ للإِعْلامِ بقِيامِ الصَّلاةِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ روايةً (¬3) أنَّ الأذانَ الذى يُوجِبُ السَّعْىَ ويُحَرِّمُ البَيْعَ هو الأذانُ الأوَّلُ على المَنارَةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. فصل: فأمَّا مَن يَكُونُ مَنْزِلُه بَعيدًا، لا يُدْرِكُ الجُمُعَةَ بالسَّعْى وَقْتَ النِّداءِ، فعليه السَّعْىُ في الوقتِ الذى يَكُونُ مُدْرِكًا للجُمُعَةِ؛ لكَوْنِه مِن ضَرُورَةِ إدْراكِها، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به واجِبٌ، كاسْتِسْقاءِ الماءِ مِن البئْرِ للوُضُوءِ إذا احْتاجَ إليه. ¬

(¬1) في: باب المؤذن الواحد يوم الجمعة، وباب التأذين عند الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 10، 11. كما أخرجه أبو داود، في: باب النداء يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 250. والترمذى، في: باب ما جاء في أذان الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 304، 305. والنسائى، في: باب الأذان للجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 81، 82. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الأذان يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 359. (¬2) سورة الجمعة 9. (¬3) سقط من: م.

655 - مسألة: (ولا يشترط إذن الإمام. وعنه، يشترط)

وَلَا يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ. وَعَنْهُ، يُشْتَرَطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 655 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ إذْنُ الإِمامِ. وعنه، يُشْتَرَطُ) الصَّحِيحُ أنَّ إذْنَ الإِمامِ الأَعْظَمِ ليس بشَرْطٍ في صِحَّةِ الجُمُعَةِ. وبه قال الإِمامُ مالكٌ، رحِمَه اللَّهُ تعالى، والإِمامُ الشافعىُّ. والثَّانِيَةُ، هو شَرْطٌ. رُوِىَ ذلك عن الحسنِ، والأوْزاعِىِّ، وحَبِيبِ بنِ أبى ثابِتٍ، والإِمامِ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لا يُقِيمُها إلَّا الأئِمَّةُ في كلِّ عَصْرٍ، فكان في ذلك إجْماعٌ. ولَنا، أنَّ عَلِيًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صَلَّى الجُمُعَةَ بالنَّاسِ وعثمانُ مَحْصُورٌ، فلم يُنْكِرْه أحَدٌ، وصَوَّبَ ذلك عثمانُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. فرَوَى حُمَيْدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَدِىِّ بنِ الخِيَارِ، أنَّه دَخَل على عثمانَ وهو مَحْصُورٌ، فقال: إنَّه قد نَزَل بك ما تَرَى وأنت إمامُ العَامَّةِ. فقال: الصلاةُ مِن أحْسَنِ ما يَعْمَلُ النَّاسُ، فإذا أحْسَنُوا فأحْسِنْ معهم، وإذا أساءُوا فاجْتَنِبْ إساءَتَهُم. أخْرَجَه البُخارِىُّ (¬1)، والأثْرَمُ. وهذا لَفْظُه. ¬

(¬1) في: باب إمامة المفتون والمبتدع، من كتاب الأذان. صحيح البخارى 1/ 178.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإِمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ تعالى: وَقَعَتِ الفِتْنَةُ بالشَّامِ تِسْعَ سِنِين، فكانوا يُجَمِّعُون. ولأنَّها مِن فَرائِضِ الأعْيانِ، فلم يُشْتَرَطْ لها إذْنُ الإِمامِ، وما ذَكَرُوه إجْمَاعًا لا يَصِحُّ، فإنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ الجَماعاتِ (¬1) في القُرَى مِن غيرِ اسْتِئْذانِ أحَدٍ، ثمَّ لو صَحَّ أنَّه لم يَقَعْ إلَّا ذلك لَكان إجْماعًا على جَوازِ ما وَقَع، لا على تَحْرِيمِ غيرِه، كالحَجِّ يَتَوَلَّاه الأئِمَّةُ، وليس شَرْطًا فيه. فإن قُلْنا: هو شَرْطٌ. فلم يَأْذَنِ الإِمامُ، لم تَجُزْ إقامَتُها، وصَلَّوْا ظُهْرًا. وإن أَذِنَ في إقامَتِها ثمَّ مات (¬2) بَطَل إذْنُه. فإن صَلَّوْا، ثمَّ بان أنَّه مات قبلَ صلاتِهم، فهل تُجْزِئُهم صَلاُتهم؟ على رِوَايَتيْن؛ أصَحُّهما، أنَّها تُجْزِئُهم؛ لأنَّ المسلمين في الأمْصارِ النَّائِيَةِ عن بَلَدِ الإِمامِ لا يُعِيدُون ما صَلَّوْا مِن الجُمُعَاتِ بعدَ مَوْتِه، ولا نَعْلَمُ أحَدًا أنْكَرَ ذلك عليهم، فكان ¬

(¬1) هكذا في النسخ. وفى المغنى: «الجمعات». (¬2) في م: «عادت».

فصل

فَصْلٌ: وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِى الْأُولَى بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَفِى الثَّانِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْماعًا. ولأنَّ وُجُوبَ الإِعادَةِ يَشُقُّ؛ لعُمُومِه في أكْثَرِ البُلْدانِ. وإن تَعَذَّرَ إذْنُ الإِمامِ لفِتْنَةٍ، فقال القاضى: ظاهِرُ كلامِه صِحَّتُها بغيرِ إذْنٍ، على كِلْتَا الرِّوايَتَيْن. فعلى هذا إنَّما يَكُونُ الإِذْنُ مُعْتَبَرًا عندَ إمْكانِه، ويسْقُطُ بتَعَذُّرِه. فصل: قال: (وصلاةُ الجُمُعَةِ رَكْعَتان، يَجْهَرُ فيهما بالقِراءَةِ) بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ المسلمون على أنَّ صلاةَ الجُمُعَةِ رَكْعَتان. وجاء الحديثُ عن عمرَ، أنَّه قال: صلاةُ الجُمُعَةِ رَكْعَتان، تمامٌ، غَيْرُ قَصْرٍ، على لِسانِ نَبِيِّكم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد خاب مَن افْتَرَى. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وابنُ ماجه (¬1). 656 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقرَأَ في الأُولَى بسُورَةِ الجُمُعَةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 50.

بِالْمُنَافِقِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى الثَّانِيَةِ بالمُنافِقِين) يُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأَ في الجُمُعَةِ بعدَ الفاتِحَةِ بهاتَيْن السُّورَتَيْن. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ؛ لِما رُوِىَ عن عَبدِ اللَّهِ بنِ أبى (1) رافِعٍ، قال: صَلَّى بنا أبو هُرَيْرَةَ الجُمُعةَ فَقَرأَ سُورَةَ الجُمُعَةِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وفى الرَّكْعَةِ الأُخْرَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فلما قَضَى أبو هُرَيْرَةَ الصلاةَ أدْرَكْتُه، فقُلْتُ: يا أبا هُرَيْرَةَ، إنَّك (¬1) قَرَأْتَ سُورَتَيْن كان علىٌّ يَقْرَأُ بهما [بالكُوفَةِ] (¬2). فقال: إنِّى سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ بهما في الجُمُعَةِ. رَواه مسلمٌ (¬3). وإن قَرَأَ في الثَّانِيَةِ بالغاشِيَةِ، فحَسَنٌ؛ فإنَّ الضَّحَّاكَ بنَ قَيْسٍ سَأَل النُّعْمانَ بنَ بَشِيرٍ: ماذَا يَقْرَأُ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «في الكوفة». (¬3) في: باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 597، 598. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ به في الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 257. والترمذى، في: باب ما جاء في القراءة في صلاة الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 308. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القراءة في الصلاة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَوْمَ الجُمُعَةِ على إثْرِ سُورَةِ الجُمُعَةِ؟ قال: كان يَقْرَأُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. أخْرَجه مسلمٌ (¬1). وإن قَرَأَ في الأُولَى بـ {سَبِّحِ}. وفى الثّانِيَة بـ «الغَاشِيَةِ» فحَسنٌ؛ فإنَّ النُّعْمانَ بنَ بَشِيرٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ في العِيدَيْن، وفى الجُمُعَةِ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. فإذا اجْتَمَعَ العِيدُ والجُمُعَةُ في يَوْمٍ واحِدٍ، قَرَأ بهما في الصلاتَيْن. أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). وقال مالكٌ: أمَّا الذى جاء به الحَدِيثُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. مع سُورَةِ الجُمُعَةِ، والذى أدْرَكْتُ عليه النَّاسَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وحُكِىَ عن أبى بكرٍ عبدِ العَزِيزِ، أنَّه يَسْتَحِبُّ أن يَقْرَأَ في الثَّانِيَةِ ¬

(¬1) في: باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 598. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ به في الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 257. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف على النعمان بن بشير في القراءة في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 92. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القراءة في الصلاة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 355. والدارمى، باب القراءة في صلاة الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 368. (¬2) في: باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 598. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 257. والترمذى، في: باب ما جاء في القراءة في العيدين، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 5. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف على النعمان بن بشير في القراءة في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب القراءة في العيدين. . . إلخ، وفى: باب اجتماع العيدين وشهودهما، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 92، 150، 158. والدارمى، في: باب القراءة في صلاة الجمعة، وباب القراءة في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 368، 376، 377. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 271، 273، 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {سَبِّحِ} ولَعَلَّه صار إلى ما حَكاه مالكٌ، أنَّه أدْرَكَ عليه النَّاسَ، واتِّباعُ سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْلَى. ومَهْمَا قَرَأ به فجائِزٌ حَسَنٌ، إلَّا أنَّ الاقْتِدَاءَ به عليه الصلاةُ والسَّلامُ أحْسَنُ، ولأنَّ سُورَةَ الجُمُعَةِ تَلِيقُ بالجُمُعَةِ؛ لِما فيها مِن ذِكرها، والأمْرِ بها، والحَثِّ عليها. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأَ في صلاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ {الم} السَّجْدَةَ (¬1). و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬2). نَصَّ عليه؛ لما روَى ابنُ عباسٍ، وأبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقْرَأُ في الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}. رَواهُما مسلمٌ (¬3). قال أحمدُ: لا أُحِبُّ المُداوَمَةَ عليها؛ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أنَّها ¬

(¬1) أي سورة السجدة. (¬2) أي سورة الإنسان. (¬3) في: باب ما يقرأ في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 599. كما أخرجهما ابن ماجه، في: باب القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 269. وأخرج حديث أبى هريرة أيضًا البخارى، في: باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب سجدة تنزيل السجدة، من كتاب سجود القرآن. صحيح البخارى 2/ 5، 50. والنسائى، في: باب القراءة في الصبح يوم الجمعة، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 123. والدارمى، في: باب القراءة في صلاة الصبح يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 362. كما أخرج حديث ابن عباس أبو داود، في: باب ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. سنن أبى داود 1/ 247. والترمذى، في: باب ما جاء ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 309. والنسائى، في: باب القراءة في صلاة الجمعة. . . إلخ، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 226، 307، 316، 328، 334، 354.

657 - مسألة: (وتجوز إقامة الجمعة فى موضعين من البلد للحاجة، ولا يجوز مع عدمها)

وَتَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْبَلَدِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ مُفَضَّلَةٌ بسَجْدَةٍ. ويَحْتَمِلُ أن يُسْتَحَبَّ؛ لأنَّ لَفْظَ الخَبَرِ يَدُلُّ عليه، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَه: 657 - مسألة: (وتَجُوزُ إقَامَةُ الجُمُعَةِ في مَوْضِعَيْن مِن البَلَدِ للحاجَةِ، ولا يَجُوزُ مع عَدَمِها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ البَلَدَ إذا كان كَبِيرًا، يَشُقُّ على أهْلِه الاجْتِماعُ في مسْجِدٍ واحِدٍ، ويَتَعَذَّرُ ذلك لتبَاعُدِ أقْطارِه، أو ضِيقِ مَسْجِدِه على أهْلِه، كبَغْدادَ ونَحْوِها، جازَتْ إقامَةُ الجُمُعَةِ في أكْثَرَ مِن مَوْضِعٍ على قَدْرِ ما يَحْتاجُونَ إليه. وهذا قولُ عَطَاءٍ. وأجازَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو يوسفَ في بَغْدادَ دُونَ غيرِها، قال: لأنَّ الحُدُودَ تُقامُ فيها في مَوْضِعَيْن، والجُمُعَةُ حيثُ تُقامُ الحُدُودُ. ومُقْتَضَى قَوْلِه، أنَّه لو وُجِدَ بَلَدٌ آخَرُ تُقامُ فيه الحُدُودُ في مَوْضعَيْن، كان مثلَ بَغْدَادَ؛ لأنَّ الجُمُعَةَ حيثُ تُقامُ الحُدُودُ. وهذا قولُ ابنِ المُبارَكِ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا تَجُوزُ الجُمُعَةُ في بَلَدٍ واحِدٍ في أكْثَرَ مِن مَوْضِعٍ واحِدٍ، ورُوِىَ أيضًا عن أحمدَ مثلُ ذلك؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُنْ يُجَمِّعُ إلَّا في مَسجِدٍ واحِدٍ، وكذلك الخُلَفاءُ بعدَه، ولو جاز لم يُعَطِّلُوا المَساجِدَ، حتى قال ابنُ عمرَ: لا تُقامُ الجُمُعَةُ إلَّا في المَسْجِدِ الأكْبرِ، الذى يُصَلِّى فيه الإِمامُ. ولَنا، أنَّها صلاةٌ شُرِعَ لها الاجْتِماعُ والخُطْبَةُ، فجَازَت فيما يُحْتاجُ إليه مِن المَواضِعِ كصلاةِ العِيدِ. وقد ثَبَت أنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عنه، كان يَخْرُجُ يَوْمَ العِيدِ إلى المُصَلَّى، ويَسْتَخْلِفُ على ضَعَفَةِ النَّاسِ أبا مسعودٍ البَدْرِىَّ، فيُصَلِّى بهم (¬1). فأمَّا تَرْكُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إقامَةَ جُمُعَتَيْن فلغناهُم عن إحْداهما، ولأنَّ الصحابةَ كانوا يُؤْثِرُونَ سَماعَ خُطْبَتِه، وشُهُودَ جُمُعَتِه، وإن بَعُدَتْ مَنازِلُهم؛ لأنَّه المُبَلِّغُ عن اللَّهِ تعالى، وشارِعُ الأحْكامِ، ولَمّا دَعَتِ الحَاجَةُ إلى ذلك في الأمْصارِ صُلِّيَتْ في أماكِنَ، ولم يُنْكَرْ، فصارَ إجْماعًا. ¬

(¬1) أخرج البيهقى، أن عليا أمر رجلًا أن يصلى بضعفة الناس. كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولُ ابنِ عمرَ مَعْناه أنَّها لا تُتْرَكُ في المَساجِدِ الكِبارِ، وتُقامُ في الصِّغارِ. وأمَّا اعْتِبارُ ذلك بإقامَةِ الحُدُودِ، فلا وَجْهَ له. قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ يَقُولُ: أىُّ حَدٍّ كان يُقامُ بالمَدِينَةِ! قَدِمَها مُصْعَبُ ابنُ عُمَيْرٍ وهم يَخْتَبِئُونَ في دارٍ، فجَمَّعَ بهم وهم أرْبَعونَ. فصل: فأمَّا مع عَدمِ الحاجَةِ فلا يَجُوزُ أكْثَرُ مِن واحِدَةٍ، وإن حَصَل الغِنَى باثْنَتَيْن لم تَجُزِ الثَّالِثَةُ، وكذلك ما زاد، لا نَعْلَمُ في هذا مُخالِفًا، إلَّا أنَّ عَطَاءً قِيلَ له: إنَّ أهْلَ البَصْرَةِ يَسَعُهم المَسْجِدُ الأكْبَرُ. قال: لكلِّ قومٍ مَسْجِدٌ يُجَمِّعُونَ فيه، ويُجْزِئُ ذلك مِن التَّجْمِيعِ في المسجدِ الأكْبَرِ. وما عليه الجُمْهُورُ أَوْلَى إذ لم يُنْقَلْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخُلَفائِه أنَّهم جَمَّعُوا أكْثرَ مِن جُمُعَةٍ، إذ لم تَدْعُ الحاجَةُ إلى ذلك، ولا يَجُوزُ إثْباتُ الأحكامِ بالتَّحَكُّمِ بغيرِ دَلِيلٍ.

658 - مسألة: (فإن فعلوا فجمعة الإمام هى الصحيحة)

فَإِنْ فَعَلُوا فَجُمُعَةُ الْإِمَامِ هِىَ الصَّحِيحَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 658 - مسألة: (فإن فعلُوا فجُمُعَةُ الإِمامِ هى الصَّحِيحَةُ) متى صَلَّوْا جُمُعَتَيْن في بلدٍ لغيرِ حاجَةٍ، وإحْداهما جُمُعَةُ الإِمامِ، فهى الصَّحِيحَةُ، تَقَدَّمَتْ أو تَأَخَّرَتْ؛ لأنَّ في الحُكْمِ ببُطْلانِ جُمُعَةِ الإِمامِ افْتِئاتًا عليه، وتَفْوِيتًا له الجُمُعَةَ ولمَن يُصَلِّى معه، ويُفْضِى إلى أنَّه متى شاءَ أرْبَعُونَ أن يُفْسِدُوا صلاةَ أهلِ البلدِ أمْكَنَهم ذلك، بأن يَسْبِقُوا أهلَ البلدِ بصلاةِ الجُمُعَةِ، وقيل: السَّابِقَةُ هى الصَّحِيحَةُ؛ لأنَّها لم يَتَقَدَّمْها ما يُفْسِدُها، ولا تَفْسُدُ بعدَ صِحَّتِها بما بعدَها. والأوَّلُ أصَحُّ. وكذلك إن كانت إحْداهما في المَسْجدِ الجامِعِ، والأُخْرَى في مَكانٍ صَغِيرٍ لا يَسَعُ المُصَلِّينَ، أو لا يُمْكِنُهم الصلاةُ فيه؛ لاخْتِصاصِ السُّلْطانِ وجُنْدِه به،

659 - مسألة: (فإن استويا فالثانية باطلة)

فَإِنِ اسْتَوَيَا فَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو غيرِ ذلك، أو كانت إحْداهما في قَصَبَةٍ، والأُخْرَى أقْصَى المَدِينَةِ، فما وُجدَتْ فيه هذه المَعَانِى، الصلاةُ فيه صَحِيحَةٌ دُونَ الأُخْرَى. وهذا قولُ مالكٍ؛ فإنَّه قال: لا أرَى الجُمُعَةَ إلَّا لأهلِ القَصَبَةِ. وذلك لأنَّ لهذه المعانى مَزِيَّةً تَقْتَضِى التَّقْدِيمَ، فيُقَدَّمُ بها، كجُمُعَةِ الإِمامِ. ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ السَّابِقَةُ؛ لأنَّ إذْنَ الإِمامِ شَرْطٌ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْن، فكانت آكَدَ مِن غيرِها. 659 - مسألة: (فإنِ اسْتَوَيَا فالثَّانِيَةُ باطِلَةٌ) وإن لم يَكُنْ لإِحْداهما مَزِيَّةٌ على الأُخْرَى؛ لكَوْنِهما جَمِيعًا مَأْذُونًا فيهما، أو غيرَ مَأْذُونٍ وتَساوَى المكانان، فالسَّابِقَةُ هى الصَّحِيحَةُ؛ لأنَّها وَقَعَتْ بشُرُوطِها، ولم يُزاحِمْها

660 - مسألة: (فإن وقعتا معا، أو جهلت الأولى بطلتا معا)

فَإِنْ وَقَعَتَا مَعًا، أَوْ جُهِلَتِ الْأُولَى بَطَلَتَا مَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يُبْطِلُها، ولا سَبَقَها ما يُغْنِى عنها، والثَّانِيَةُ باطِلَةٌ؛ لكَوْنِها واقِعَةً في مِصْرٍ أُقِيمَتْ فيه جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ، تُغْنِى عمَّا سِواها. ويُعْتَبَرُ السَّبْقُ بالإِحرامِ؛ لأنَّه متى أُحْرِمَ بإحْداهما حَرُمَ الإِحْرامُ بالأُخْرَى للغِنَى عنها. 660 - مسألة: (فإن وَقَعَتا مَعًا، أو جُهِلَتِ الأُولَى بَطلَتا مَعًا) متى وَقَع الإِحْرامُ بهما معًا مع تَساوِيهما، فهما باطِلَتان؛ لأنَّه لم يُمْكِنْ صِحَّتُهما معًا، وليست إحْداهما أوْلَى بالفَسادِ مِن الأُخْرَى، كالمُتَزوِّجِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْتَيْن. وإن لم تُعْلَمِ الأُولَى منهما، أو لم يُعْلَمْ كَيْفِيَّةُ وُقُوعِهما، بَطلَتا أيضًا؛ لأنَّ إحْداهما باطِلَةٌ، ولم يُعْلَمْ عَيْنُها، وليست إحْداهما بالإِبْطالِ أوْلَى مِن الأُخْرَى، فهى كالتى قبلَها، ثمَّ نَنْظُرُ، فإن عَلِمْنا فَسادَ الجُمُعَتَيْن لوُقُوعِهما معًا وَجَبَتْ إعادَةُ الجُمُعَةِ إن أمْكَنَ ذلك، لأنَّه مِصْرٌ ما أُقِيمَتْ فيه جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ، والوَقْتُ مُتَّسِعٌ لإِقامَتِها، أشْبَهَ ما لو لم يُضَلُّوا شَيْئًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن عَلِمْنا صِحَّةَ إحْداهما لا بعَيْنِها، فليس لهم أن يُصَلُّوا إلَّا ظُهْرًا؛ لأنَّ هذا مِصْرٌ، تَيَقَّنّا سُقُوطَ الجُمُعَةِ فيه بالأُولَى، فلم تَجُزْ إقامَةُ الجُمُعَةِ فيه كما لو عُلِمَتْ. وقال القاضى: يَحْتَمِلُ أنَّ لهم إقَامَةَ الجُمُعَةِ؛ لأنَّا حَكَمْنا بفَسادِهما معًا، فكأنَّ المِصْرَ ما صُلِّيَتْ فيه جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الأُولَى لم تَفْسُدْ، وإنَّما لم يُمْكِنْ إثْباتُ حُكْمِ الصِّحَّةِ لها بعَيْنِها للجَهْلِ، فيَصِيرُ هذا كما لو زَوَّجَ الوَلِيَّان، وجُهِلَ السَّابِقُ منهما، فإنَّه لا يَثْبُتُ حُكْمُ الصِّحَّةِ بالنِّسْبَةِ إلى واحِدٍ بعَيْنِه، ويَثْبُتُ حُكْمُ النِّكاحِ في حَقِّ المرأَةِ، بحيثُ لا يَحِلُّ لها أن تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ. فإن جَهِلْنا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهما، فالأَوْلَى أن لا تَجُوزَ إقامَةُ الجُمُعَةِ أيضًا؛ لأنَّ وُقُوعَهما معًا، بحيثُ لا تَسْبِقُ إحْداهما الأُخْرَى بَعِيدٌ جدًّا، وما كان في غايَةِ النُّدُورِ فحُكْمُه حُكْمُ المَعْدُومِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لهم إقامَتَها؛ لأنَّنا لم نَتَيَقَّنِ المانِعَ مِن صِحَّتِها. والأوَّلُ أوْلَى. فصل: فإن أحْرَمَ بالجُمُعَةِ، فتَبَيَّنَ في أثناءِ الصَّلاةِ أنَّ الجُمُعَةَ قد أُقِيمَتْ في المِصْرِ، بَطَلَتِ الجُمُعَةُ، ولَزِمَهم اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّه أحْرَمَ بها في وَقْتٍ لا يَجُوزُ الإِحْرامُ بها، لا يَصِحُّ، أشْبَهَ ما لو أحْرَمَ بها في وَقْتِ العَصْرِ. وقال القاضى: يُسْتَحَبُّ أن يَسْتَأنِفَ ظُهْرًا. وهذا مِن قَوْلِه يَدُلُّ على أنَّ له إتْمامَها ظُهْرًا، كالمَسْبُوقِ بأكثرَ مِن رَكْعَةٍ، وكما لو

661 - مسألة: (وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد)

وَإِذَا وَقَعَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاجْتُزِئَ بِالْعِيدِ، وَصُلِّىَ ظُهْرًا، جَازَ إِلَّا لِلْإِمَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحْرَمَ بالجُمُعَةِ [فنَقَصَ العَدَدُ] (¬1) قبلَ رَكعَةٍ. والفَرْقُ ظاهِرٌ؛ فإنَّ هذا أحْرَمَ بها في وَقْتٍ لا تَصِحُّ فيه الجُمُعَةُ، ولا يَجُوزُ الإِحْرامُ بها بخِلافِ الأصْلِ المقِيسِ عليه. فصل: وإذا كانت قَرْيَةٌ إلى جانِبِ مِصْرٍ، يَسْمَعُونَ النِّداءَ منه، أو كان مِصْرَان مُتَقَارِبان، يَسْمَعُ كلٌّ منهم نِداءَ المِصْرِ الآخَرِ، لم تَبْطُلْ جُمُعَةُ أحدِهما بجُمُعَةِ الآخَرِ. وكذلك القَرْيَتان المُتقَارِبتَان؛ لأنَّ لكلِّ قومٍ منهم حُكْمَ أنْفُسِهم، بدَلِيلِ أنَّ جُمُعَةَ أحَدِ القَرْيَتَيْن لا يَتِمُّ عَدَدُها بالفَرِيقِ الآخَرِ، ولا تَلْزَمُهم الجُمُعَةُ بكمَالِ العَدَدِ بهم، وإنَّما يَلْزَمُهم السَّعْىُ إذا لم يَكُنْ لهم جُمُعَةٌ، فهم كأهلِ المَحَلَّةِ القَرِيبَةِ مِن المِصْرِ. 661 - مسألة: (وإذا وَقَع العِيدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فاجْتُزِئَ بالعِيدِ) عن الجُمُعَةِ (وصَلَّوْا ظُهْرًا، جاز إلَّا للإِمامِ) وقد قِيلَ: في وُجُوبها على الإِمامِ ¬

(¬1) في الأصل: «فانفض العدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايتَانِ. ومِمَّن قال بسُقُوطِها الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والأوْزاعِىُّ. وقد قِيلَ: إنَّه مَذهَبُ عمرَ، وعثمانَ، وعلىٍّ، وسَعِيدٍ، وابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ. وقال أكثرُ الفُقَهاءِ: لا تَسْقُطُ الجُمُعَةُ؛ لعُمُومِ الآيَةِ، والأخْبارِ الدَّالَّةِ على وُجُوبِها، ولأنَّهما صلاتان واجِبتانِ، فلم تَسْقُطْ إحْداهما بالأُخْرَى، كالظُّهْرِ مع العِيدِ. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ مُعاوِيَةَ سَأَل زيدَ بنَ أرْقَمَ: هل شَهِدْتَ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِيدَيْن اجْتَمَعا في يَوْمٍ؟ قال: نعم. قال: فكيف صَنَع؟ قال: صَلَّى العِيدَ، ثمَّ رَخَّصَ في الجُمُعَةِ، فقالَ: «مَنْ شَاءَ أنْ يُصَلِّىَ فَلْيُصَلِّ». رَواه أبو دَاودَ، وفى لَفْظٍ للإِمامِ أحمدَ: «مَنْ شَاءَ أنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ» (¬1). وعن أبى هُرَيْرَةَ، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 246. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 372. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 415. والدارمى، في: باب إذا اجتمع عيدان في يوم، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «اجْتَمَعَ لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وإنَّا مُجَمِّعُونَ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولأنَّ الجُمُعَةَ إنَّما زادَتْ عن الظُّهْرِ بالخُطْبَةِ، وقد حَصَل سَماعُها في العِيدِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأجْزَأَ عن سَماعِها ثانِيًا. ونُصُوصُهم مَخْصُوصَةٌ بما رَوَيْنَاه، وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالظُّهْرِ مع الجُمُعَةِ. فأمَّا الإِمامُ فلا تَسْقُطُ عنه؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَإنَّا مُجَمِّعُونَ». ولأنَّه لو تَرَكَها لا مْتَنَعَ فِعْلُ الجُمُعَةِ في حَقِّ مَن تَجِبُ عليه، ومَن يُرِيدُها مِمَّن سَقَطَتْ عنه، ولا كذلك غيرُ الإِمامِ. فصل: فإن قَدَّمَ الجُمُعَةَ فصَلَّاها في وَقْتِ العِيدِ، فقد رُوِىَ عن أحمدَ، قال: تُجْزِئُ الأُولَى منهما. فعلى هذا تُجْزِئُه عن العِيدِ والظُّهْرِ، ولا يَلْزمُه شئٌ إلى (¬1) العَصْرِ، عندَ مَن يُجَوِّزُ فِعْلَ الجُمُعَةِ في وَقْتِ العِيدِ؛ لِما روَى أبو داودَ، بإسْنادِه، عن عَطَاءٍ، قال: اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ ويومُ فِطْرٍ على عَهْدِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فقال: عِيدَانِ قد اجْتَمَعَا في يَوْمٍ واحَدٍ، فجَمَعَهما ¬

(¬1) في م: «إلا».

662 - مسألة: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست ركعات)

وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا سِتُّ رَكَعَاتٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصَلَّاهُما رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً، ولم يَزِدْ عليهما حتى صَلَّى العَصْرَ. فيُرْوَى أنَّ فِعْلَه بَلَغ ابنَ عباسٍ، فقالَ: أصاب السُّنَّةَ (¬1). قال الخَطَّابِىُّ (¬2): وهذا لا يَجُوزُ أن يُحْمَلَ إلَّا على قَوْلِ مَن يَذْهَبُ إلى تَقدِيمِ الجُمُعَةِ قبلَ الزَّوالِ. فعلى هذا يَكُونُ ابنُ الزُّبَيْرِ قد صَلَّى الجُمُعَةَ، فسَقَطَ العِيدُ والظُّهْرُ، ولأنَّ الجُمُعَةَ إذا سَقَطَتْ بالعِيدِ مع تَأكُّدِها، فالعِيدُ أوْلَى أن يَسْقُطَ بها. أمَّا إذا قَدَّمَ العِيدَ فلابُدَّ مِن صلاةِ الظُّهْرِ في وَقْتِها إذا لم يُصَلِّ الجُمُعَةَ. واللَّهُ أعلمُ. 662 - مسألة: (وأَقَلُّ السُّنَّةِ بعدَ الجُمُعَةِ رَكْعَتان، وأكْثَرُها سِتُّ رَكَعاتٍ) رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إن شاء صَلَّى رَكْعَتَيْن، وإن شاء صَلَّى أرْبَعًا. وفى رِوايَةٍ: إن شاء صَلَّى سِتًّا فأيَّما فعَلَ مِن ذلك فهو حَسَنٌ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 246. كما أخرجه النسائى، في: باب الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 158. وهو عنده عن وهب بن كيسان. (¬2) في: معالم السنن: 1/ 246.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان ابنُ مَسْعُودٍ، والنَّخَعِىُّ وأصحابُ الرَّأْى يَرَوْن أن يُصَلِّىَ بعدَها أرْبعًا؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أرْبَعًا». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وأبى موسى، وعَطَاءٍ، والثَّوْرِىِّ، أنَّه يُصَلِّى سِتًّا؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه كان إذا كان بمَكَّةَ، فصَلَّى الجُمُعَةَ، تَقَدَّمَ فصَلَّى رَكْعَتَيْن، ثمَّ تَقَدَّمَ فصَلَّى أرْبَعًا (¬2). ووَجْهُ قَوْلِنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُ ذلك كلَّه؛ بما رَوَيْنا مِن الأخْبارِ، ورُوِىَ عن ابنِ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصَلِّى بعدَ الجُمُعَةِ رَكْعَتَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفى لَفْظٍ: وكان ¬

(¬1) في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 600. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 258. والترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 311. والنسائى، في: باب عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 92. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة بعد الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 358. والدارمى، في: باب ما جاء في الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 370. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 249، 442. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 258. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 16. ومسلم، في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 600، 601. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 259. والترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُصَلِّى في المسجدِ حتى يَنْصَرِفَ، فيُصَلِّى رَكْعَتَيْن في بَيْتِه. وهذا يَدُلُّ على أنَّه مَهْمَا فَعَل مِن ذلك كان حَسَنًا. وقد قال أحمدُ، في رِوايَةِ عبدِ اللَّهِ: ولو صَلَّى مع الإِمامِ، ثمَّ لم يُصَلِّ شَيْئًا حتى صَلَّى العَصْرَ كان جائِزًا، فقد فَعَلَه عِمْرَانُ بنُ حُصَينٍ. فصل: فأمَّا الصلاةُ قبلَ الجُمُعَةِ، فقد رُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَرْكَعُ قبلَ الجُمُعَةِ أرْبعًا. أخْرَجَه ابنُ ماجه (¬1). ورُوِىَ عن عَمْرِو بنِ سَعِيدِ ابنِ العَاصِ، عن أبِيه، قال: كُنْتُ أبْقِى (¬2) أصْحَابَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

= 2/ 310. والنسائى، في: باب الصلاة بعد الظهر، من كتاب الإمامة، وفى: باب صلاة الإمام بعد الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 2/ 92، 3/ 93. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة بعد الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 358. والدارمى، في: باب في صلاة السنة، وباب القراءة في ركعتى الفجر، وباب ما جاء في الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 335، 337، 369. والإمام مالك، في: باب العمل في جامع الصلاة، من كتاب السفر. الموطأ 1/ 166، والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 11، 17، 35، 63، 75، 77. (¬1) في: باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة، من كتاب الجمعة. سنن ابن ماجه 1/ 358. (¬2) أى أنتظر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا زالَتِ الشمسُ قامُوا فصَلَّوْا أرْبَعًا. وعن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، أنَّه كان يُصَلِّى قبلَ الجُمُعَةِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ. رواه سعيدٌ (¬1). فصل: ويُسْتَحَبُّ لِمن أرادَ الرُّكُوعَ بعدَ الجُمُعَةِ أن يَفْصِلَ بينَها وبينَه ¬

(¬1) وعزاه الزيلعى للطبرانى في الأوسط. نصب الراية 1/ 206.

فصل

فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ فِي يَوْمِهَا، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ عِنْدَ مُضِيِّهِ إِلَيْهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بكَلامٍ، أو انْتِقَالٍ مِن مَكانِه، أو خُرُوجٍ؛ لِما روَى السَّائِبُ بنُ (¬1) يَزِيدَ، قال: صَلَّيْتُ مع مُعاوِيَةَ الجُمُعَةَ في المَقْصُورَةِ، فلمَّا سَلَّمَ الإِمامُ قُمْتُ في مَقامِى فَصَلَّيْتُ، فلمّا دَخَل أرْسَلَ إلىَّ، فقال: لا تَعُدْ لِما فَعَلْتَ، إذا صَلَّيْتَ الجُمُعَةَ فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتى تَتَكَلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَنا بذلك؛ أن لا نُوصِلَ صلاةً حتى نَتَكَلَّمَ أو نَخْرُجَ. أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ويُسْتَحَبُّ أن يَغْتَسِلَ للجُمُعَةِ في يَوْمِها، والأفْضَلُ فِعْلُه عندَ مُضِيِّه إليها) لا خِلافَ في اسْتِحْبابِ غُسْلِ الجُمُعَةِ، وفيه أحاديثُ صَحِيحَةٌ؛ منها ما روَى سَلْمَانُ الفارِسِىُّ، قال: ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 601. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بعد الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 258. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 95، 99.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى». رَواه البُخارىُّ (¬1). ومنها قَوْلُه عليه السَّلامُ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». وقولُه: «مَنْ أَتَى مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). وليس الغُسْلُ واجِبًا في قَوْلِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. قال التِّرْمِذىُّ: العَمَلُ على هذا عندَ أهلِ العِلْمِ مِن أصحابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَن بعدَهُم؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. وحَكاه ابنُ عبدِ البَرِّ إجْماعًا. وعن أحمدَ، أنَّه واجِبٌ. رُوِىَ ذلك عن أبى هُرَيْرَةَ، وعَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 118. (¬2) الأول: أخرجه البخارى، في: باب وضوء الصبيان. . . إلخ، من كتاب الأذان، وفى: باب فضل الغسل يوم الجمعة. . . إلخ، وباب الطيب يوم الجمعة، وباب هل على من لم يشهد الجمعة غسل، من كتاب الجمعة، وفى: باب بلوغ الصبيان وشهاداتهم، من كتاب الشهادات. صحيح البخارى 1/ 217، 2/ 3، 6، 3/ 232. ومسلم، في: باب وجوب غسل الجمعة. . . إلخ، وباب الطيب والسواك يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 580، 581. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 83. والنسائى، في: باب الأمر بالسواك يوم الجمعة، وباب إيجاب الغسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 75، 76. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 346. والدارمى، في: باب الغسل يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 361. والإمام مالك، في: باب العمل في غسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 102. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 6، 30، 60، 65، 66، 69، 4/ 34. والثانى تقدم تخريجه في 2/ 117.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقاوَلَ عَمَّارُ بنُ يَاسِر رجلًا، فقال: أنا إذًا أشَرُّ مِمَّن لا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ. ووَجْهُه ما ذَكَرْنا مِن النُّصُوصِ. ولَنا، ما روَى سَمُرَةُ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَل فَالْغُسْلُ أفْضَلُ». رَواه النَّسَائِىّ، والتِّرْمِذىّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أتَى الْجُمُعَةَ، وَاسْتَمَعَ وَأنصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وحَدِيثُهم مَحْمُولٌ على تَأْكِيدِ النَّدْبِ، ولذلك (¬3) ذَكَر في سِياقِه: «وَسِوَاكٌ، وَأنْ يَمَسَّ طِيبًا». كذلك رَواه مسلمٌ (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 282. والنسائى، في: باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 77. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 86. والدارمى، في: باب الغسل يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدرامى 1/ 362. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 8، 11، 15، 16، 22. (¬2) لم يخرجه البخارى. وأخرجه مسلم، في: باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 588. كما أخرجه أبو داود، في: باب فضل الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 242. والترمذى، في: باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 284. وابن ماجه، في: باب مسح الحصى في الصلاة، وباب ما جاء في الرخصة في ذلك، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 327، 346، 347. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 424. (¬3) في الأصول: «كذلك». والمثبت من المغنى. (¬4) انظر تخريج حديث «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» المتقدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسِّوَاكُ، وَمَسُّ الطِّيبِ، لا يَجِبُ. وقالَتْ عائشةُ، رضى اللَّهُ عنها، وعن أبيها: كان النّاسُ مِهْنَةَ أنْفُسِهم، وكانوا يَرُوحُونَ إلى الجُمُعَةِ بهَيْئَتِهِم، فتَظْهَرُ لهم رائِحةٌ، فَقيلَ لهم: لو اغْتَسَلْتُمْ. رَواه مسلمٌ بنَحْوِ هذا المَعْنَى (¬1). والأفْضَلُ أن يَفْعَلَه عندَ مُضِيِّه إليها؛ لأنَّه أبلَغُ في المَقْصُودِ، وفيه خُروجٌ مِن الخِلافِ. فصل. ومتى اغْتَسَلَ بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ أجْزَأ، وإن اغْتَسلَ قبلَه لم يُجْزِئْه. وهذا قولُ مُجاهِدٍ، والحسنِ، والنَّخعىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وحُكىَ عن الأوْزاعِى أنَّه يُجْزِئُه الغُسْلُ قبلَ الفَجْرِ. وعن مالكٍ: لا يُجْزِئُه الغُسْلُ إلَّا أن يَتَعَقَّبَه الرَّواحُ. ولَنا، قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» (¬2). واليَوْمُ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ. وإن اغْتَسَلَ، ثم أحْدَثَ أجْزَأَه الغُسْلُ وكَفاهُ الوُضُوءُ. وهذا قولُ الحسنِ، ومالكٍ، والشافعىِّ. واسْتَحَبَّ طَاوس، والزُّهْرِىُّ، وقَتادَةُ، ¬

(¬1) في: باب وجوب غسل الجمعة. . . إلخ، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 581. كما أخرجه البخارى، في: باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب، وباب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، من كتاب الجمعة، وفى: باب كسب الرجل وعمله بيده، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 2/ 8، 3/ 74. وأبو داود، في: باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 85. والنسائى، في: باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 76. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 63. (¬2) انظر ما تقدم في أول المسألة، وما سيأتى في المسألة بعد التالية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْيَى بنُ أبى كَثيرٍ (¬1) إعادَةَ الغُسْلِ. ولَنا، أنَّه اغْتَسَلَ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، أشْبَهَ مَن لم يُحْدِثْ، والحَدَثُ إنَّما يُؤَثِّرُ في الطهارةِ الصُّغْرَى، ولأنَّ المقْصُودَ مِن الغُسْل. التَّنّظِّفُ وإزالَةُ الرائِحَةِ، وذلك لا يُؤثِّرُ فيه الحَدَثُ، ولأنَّه غُسْلٌ فلم يُؤَثِّرْ فيه الحَدَثُ الأصْغَرُ، كغُسْلِ الجَنَابَةِ. فصل: ويَفْتَقِرُ الغُسْلُ إلى النِّيَّةِ، لأنَّه عِبادَةٌ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ، كتَجْدِيدِ الوُضُوءِ. وإنِ اغْتَسَلَ للجُمُعَةِ والجَنابَةِ غُسْلًا واحِدًا ونَواهُما أجْزَأَه، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّهُما غُسْلان اجْتَمَعا، فأشْبَها غُسْلَ الحَيْضِ والجَنابَةِ. وإنِ اغْتسَلَ للجَنَابَةِ، ولم يَنْوِ غُسْلَ الجُمُعَةِ، ففيه وِجْهان؛ أحَدُهما، لا يُجْزِئُه، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَإنَّما لِامْرِئٍ مَا نوَى» (¬2). ورُوِىَ عن ابنٍ لأبى قَتادَةَ، أنَّه دَخَل عليه يَومَ الجُمُعَةِ مُغْتَسِلًا، فقال: للجُمُعَةِ اغْتَسَلْتَ؟ قال: لا، ولكن للجَنابَةِ. قال: فأعِدْ غُسْلَ الجُمُعَةِ (¬3). والثانى، يُجْزِئُه؛ لأنَّه مُغْتَسِلٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ الحَديثِ، ولأنَّ المَقْصُودَ التنظِيفُ، وقد حَصَل، ولأنَّه قد رُوِىَ ¬

(¬1) يحيى بن أبى كثير (صالح) الطائى مولاهم اليمامى، أدرك من الصحابة أنسا رضى اللَّه عنه، ثقة، من أصحاب الحديث، توفى سنة تسع وعشرين ومائة. تهذب التهذيب 11/ 268 - 270. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل يغتسل للجنابة يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المصنف 2/ 100.

663 - مسألة: (ويتنظف، ويتطيب، ويلبس أحسن ثيابه)

وَيَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحديثِ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ» (¬1). فصل: ومَن لا يأْتِى الجُمُعَةَ فلا غُسْلَ عليه. قال أحمدُ: ليس على النِّساءِ غُسْلُ يومِ الجُمُعَةِ؛ وعلى قِياسِهِنَّ الصِّبْيَانُ والمُسافِرُونَ. وكان ابنُ عمرَ لا يَغْتَسِلُ في السَّفَرِ، وكان طَلْحَةُ يَغْتَسِلُ. ورُوِىَ عن مُجْاهِدٍ، وطَاوُسٍ اسْتِدْلَالًا بعُمُومِ الأَحادِيثِ المذْكُورَةِ. ولَنا، قولُه عليه السَّلامُ: «مَنْ أتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» (¬2). ولأنَّ المَقْصُودَ التنظِيفُ وقَطْعُ الرَّائِحَةِ؛ لِئلَّا يَتأذَّى غيرُه به، وذلك مُخْتَصٌّ بحُضُورِ الجُمُعَةِ، والأخْبارُ العامَّةُ تُحْمَلُ على هذا؛ ولذلك يُسَمَّى غُسْلَ الجُمُعَةِ، ومَن لا يَأْتِيها فليس غُسْلُه غُسْلَ الجُمُعَةِ. فإن أتَاها من لا تَجِبُ عليه اسْتُحِبَّ له الغُسْلُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ووُجُودِ المَعْنَى فيه. 663 - مسألة: (ويَتَنَظَّف، ويَتَطَيَّبَ، ويَلْبَسَ أحْسَنَ ثِيابِهِ) التَّنظُّفُ والتَّطَيُّبُ والسِّوَاكُ مَنْدُوبٌ إليه؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِب عَلَى كُلِّ مُحْتلم، وَسِوَاكٌ، وَأنْ يَمَسَّ طِيبًا» (¬3). ويُسْتَحَبُّ أن يَدَّهِنَ، ويَتَنَظَّفَ ما اسْتَطاعَ بأخْذِ الشَّعَرِ، وقَطْعِ الرَّائِحَةِ؛ ¬

(¬1) سيأتى تخريجه بتمامه في المسألة بعد التالية. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 117. (¬3) تقدم تخريجه في 269.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحديثِ سَلْمَانَ الذى ذَكَرْناه (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يَلْبَسَ ثَوْبَيْن نَظِيفَيْن؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَام، أنَّه سمِع النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في يَوْمِ الجُمُعَةِ، يَقُولُ: «مَا عَلَى أحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَومِ جُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَى مِهْنَتِه». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن أبى أيُّوبَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ لَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خرَجَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتَّى أتَى المَسْجِدَ، فَيَرْكَعُ إنْ بَدَا لَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أحَدًا، ثُمَّ أنْصَتَ إذَا خَرَجَ إمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّى، كَانتْ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). وأفْضَلُها البَياضُ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضُ أَلْبِسُوهَا أحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» (¬4). والإِمَامُ في هذا ونَحْوِه آكَدُ؛ لأنَّه المَنْظُورُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 269. (¬2) لم نجده عند مسلم، وعزاه صاحب تحفة الأشراف لأبى داود وابن ماجه. انظر تحفة الأشراف 4/ 355. وأخرجه أبو داود، في: باب اللبس للجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 248. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 348. (¬3) في: المسند 5/ 420. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الأمر بالكحل، من كتاب الطب، وفى: باب في البياض، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 2/ 335، 336، 373. والترمذى، في: باب ما يستحب من الأكفان، من أبواب الجنائز، وفى: باب ما جاء في لبس البياض، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى، 4/ 215، 10/ 252، 253. والنسائى، في: باب أى الكفن خير، من كتاب الجنائز، وفى: باب الأمر بلبس البياض من الثياب، من كتاب الزينة المجتبى 4/ 29، 8/ 181. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، من كتاب الجنائز، وفى: باب البياض من الثياب، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 1/ 473، 2/ 1181. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 247، 274، 328، 355، 363، 5/ 10، 12، 13، 17، 18، 19، 21.

664 - مسألة: (وييكر إليها ماشيا، ويدنو من الإمام)

وَيُبَكِّرَ إِلَيْهَا مَاشِيًا، وَيَدْنُوَ مِنَ الإِمَامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه مِن بينِ النَّاسِ. 664 - مسألة: (ويُيَكِّرَ إليها ماشِيًا، ويَدْنُوَ مِن الإِمامِ) للسَّعْى إلى الجُمُعَةِ وَقْتانِ؛ وَقْتُ وُجُوبٍ، ووَقْتُ فَضِيلَةٍ، وقد ذَكَرْنا وقتَ الوُجُوبِ. وأمَّا وقتُ الفَضِيلَةِ فمِن أوَّلِ النَّهارِ، فكُلَّما كان أبْكَرَ كان أوْلَى وأفْضَلَ. وهذا مَذْهَبُ الأَوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: لا يُسْتَحَبُّ التبكِيرُ قبلَ الزَّوالِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ» (¬1). والرَّوَاح بعدَ الزَّوالِ، والغُدُوُّ (¬2) قبلَه، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «غَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ رَوْحَة خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها» (¬3). قال امْرُؤُ القَيْسِ (¬4): ¬

(¬1) يأتى بتمامه بعد قليل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الحور العين وصفتهن. . . إلخ، وباب الغدوة والروحة في سبيل اللَّه، وباب فضل رباط يوم في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد، وفى: باب مثل الدنيا في الآخرة، وباب صفة الجنة والنار، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى 4/ 20، 43، 8/ 110، 145. ومسلم، في: باب فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1499، 1500. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل اللَّه، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 153. والنسائى، في: باب فضل غدوة في سبيل اللَّه عز وجل، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 14. وابن ماجه، في: باب فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه عز وجل، وباب تشييع الغزاة ووداعهم، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 921، 943. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 256، 3/ 132، 141، 153، 157، 207، 263، 433، 4/ 168، 5/ 266، 335، 337، 339، 6/ 401. (¬4) ديوان امرئ القيس 154، وهو صدر بيت عجزه: * وماذا عليكَ بأنْ تَنْتَظِرْ *

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ * تَرُوحُ مِنَ الحَىِّ أمْ تَبْتَكِرْ * ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثمَّ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الأُولَى، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِى الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال عَلْقَمَةُ: خَرَجْتُ مع عبدِ اللَّه، إلى الجُمُعَةِ، فوَجَدَ ثَلَاثةً قد سَبَقُوه، فقال: رابعُ أرْبَعَةٍ، وما رابعُ أرْبَعَةٍ ببَعِيدٍ، إنِّى سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُون مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). ورُوِىَ أن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ واغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أجْرُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 3. ومسلم، في: باب الطيب والسواك يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 582. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 85. والترمذى، في: باب ما جاء في التبكير إلى الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 286. والنسائى، في: باب وقت الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 80، 81. وابن ماجه، في: باب ما جاء في التهجير إلى الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 347. والدارمى، في: باب فضل التهجر إلى الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 362. والإمام مالك، في: باب العمل في غسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 101. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 239، 259، 272، 280، 457، 460، 505، 512. (¬2) في: باب ما جاء في التهجير الى الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 348.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَنَةٍ، صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا». أخْرَجَه التِّرْمِذىُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ. ورَواه ابنُ ماجه، والنَّسَائِىُّ (¬1) وفيه: «وَمَشَى وَلَمْ يَركَبْ، ودَنَا مِن الإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ». قولُه: «بَكَّرَ» أى خرَج في بُكْرَةِ النَّهارِ، وهو أوَّلُه. وقولُه: «وابْتَكَرَ» أى بالَغَ في التبكِيرِ، أى جاء في أوَّل البُكْرَةِ، على ما قال امْرُؤُ القَيْسِ: * تَرُوحُ مِنَ الحَىِّ أمْ تَبْتَكِرْ * وقِيلَ: مَعْناه ابْتَكَرَ العِبادَةَ مع بُكُورِه. وقِيلَ: ابْتَكَرَ الخُطْبَةَ. أى حَضَر الخُطْبَةَ، مَأخُوذٌ مِن باكُورَةِ الثَّمرَةِ، وهى أوَّلُها. وغيرُ هذا أجْوَدُ، لأنَّ مَن جاء في بُكْرَةِ النَّهَارِ لَزِم أن يَحْضُرَ أوَّلَ الخُطْبَةِ. وقولُه: «غسَّلَ» أى جامَعَ ثم اغْتَسَلَ. يَدُلُّ على هذا قولُه في الحديثِ الآخَرِ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ». قال الإِمامُ أحمدُ: قولُه: «غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ». مُشَدَّدَةً، يُرِيدُ يُغَسِّلُ أهْلَه. وغيرُ واحِدٍ مِن التَّابِعِينَ، عبدُ الرحمنِ بنُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 281. والنسائى، في: باب فضل الغسل يوم الجمعة، وباب فضل المشى إلى الجمعة، وباب الفضل في الدنو من الإمام، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 77، 79، 83. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 346. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغسل يوم الجمعة، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 84. والدارمى، في: باب الاستماع يوم الجمعة عند الخطبة والإنصات من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 363. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 209، 4/ 8، 9، 10، 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسْوَدِ، وهِلَالُ بنُ يَساف (¬1)، يَسْتَحِبُّونَ أن يُغَسِّل الرجلُ أهْلَه يَوْمَ الجُمُعَةِ، يُرِيدُونَ أن يَطَأَ؛ لأنَّ ذلك أمْكَنُ لنَفْسِه، وأغَضُّ لطَرْفِه في طَرِيقِه. وقال الخَطَّابِىُّ (¬2): المُرادُ به غَسَّل رَأسَه واغْتَسَلَ في بَدَنِه. وحُكِى ذلك عن ابنِ المُباركِ. فعلى هذا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِه: «غُسْلَ الْجَنَابَةِ». أى كغُسْلَ الجَنابَةِ. فأمَّا قوْلُ مالكٍ، فمُخالِفٌ للآثارِ؛ لأنَّ الجُمُعَةَ مُسْتَحَبٌ فِعْلُها عندَ الزَّوالِ، وكان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَكِّرُ بها، ومتى خَرَجَ الإِمامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ، فلم يُكْتَبْ مَن أتَى الجُمُعَةَ بعدَ ذلك، فأىُّ فَضِيلَةٍ لهذا؟ فإن أخَّرَ بعدَ ذلك شَيْئًا دَخَل في النَّهْى والذَّمِّ، كما قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للذى جاء يَتَخَطَّى رِقابَ النَّاسِ: «أَرَأَيتَكَ؟ آنيْتَ وَآذَيْتَ» (¬3). أى أخَّرْتَ المَجِئَ. وقال عمرُ لعثمانَ حينَ جاء والإِمامُ يَخْطُبُ: أيَّةُ ساعَةٍ ¬

(¬1) هلال بن يساف -ويقال: ابن إساف- الأشجعى مولاهم الكوفى، أدرك عليا رضى اللَّه عنه، ثقة، كثير الحديث. تهذيب التهذيب 11/ 86، 87. (¬2) انظر: معالم السنن 1/ 108. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن تخطى الناس يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 354. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 188، 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه؟ (¬1) على وَجْهِ الإِنْكارِ. فكيف يَكُونُ لهذا بَدَنَةٌ، أو بَقَرَةٌ، أو فَضْلٌ؟ فعلى هذا، مَعْنى قولِه: «رَاحَ إلى الْجُمُعَةِ». أى ذَهَب إليها. لا يَحْتَمِلُ غيرَ هذا. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَمْشِىَ ولا يَرْكَبَ في طَرِيقِها؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ». لأنَّ الثَّوابَ على الخُطُواتِ، بدَلِيلٍ ما ذَكَرْناه مِن الحديثِ. ويَكُونُ عليه السَّكِينَةُ والوَقَارُ في مَشْيهِ، ولا يُسْرِعُ؛ لأنَّ الماشِىَ إلى الصَّلاةِ في صلاةٍ، ولا يُشَبِّكُ بينَ أصَابِعِه، ويُقارِبُ بينَ خُطاه؛ لتَكْثُرَ حسَناتُه. وقد رَوَيْنَا عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه خَرَج مع زيدِ بنِ ثابِتٍ إلى الصَّلاةِ، فقارَبَ بينَ خُطَاهُ، ثم قال: «إنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ خُطَانَا فِى طَلَبِ الصَّلَاةِ». ورُوِىَ عن [عبدِ اللَّه] (¬2) بنِ رَوَاحَةَ، أنَّه كان يَمْشِى إلى الجُمُعَةِ حافِيًا، ويُبَكِّرُ، ويَقْصُرُ في مَشْيِه. رَواهُما الأثْرَمُ (¬3). ويُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ، ويَغُضُّ طَرْفَه، ويَقُولُ ما ذَكَرْنا في أدَبِ المَشْى إلى الصَّلاةِ. ويقولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنْ أوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل الغسل يوم الجمغة، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 3. ومسلم، في: أول كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 580. والإمام مالك، في: باب العمل في غسل يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 101، 102. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 29، 30. (¬2) في م: «عبد الرحمن». (¬3) الأول أخرجه عبد بن حميد، في مسنده 1/ 240. والثانى أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يحب أن يأتى الجمعة ماشيا، من كتاب الجمعة. المصنف 2/ 136.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَيْكَ، وَأقْرَبِ مَنْ تَوَسَّلَ إلَيْكَ، وَأفْضَلِ مَنْ سَألَكَ وَرَغِبَ إلَيْكَ» (¬1). ورَوَيْنا عن بعضِ الصحابةِ، أنَّه مَشَى إلى الجُمُعَةِ حَافِيًا، فسُئِلَ عن ذلك. فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (¬2). فصل: ويَجِبُ السَّعْىُ إلى الجُمُعَةِ، سَواءٌ كان مَن يُقِيمُها عَدْلًا أو فاسِقًا، سُنِّيًّا أو مُبْتَدِعًا. نَصَّ عليه الإِمامُ أحمدُ في رِوايَةِ عباسِ ابنِ عبدِ العَظِيمِ. وقد سُئِلَ عن الصَّلاةِ خلفَ المُعْتزِلَةِ، فقال: أمَّا الجُمُعَةُ فَيَنْبَغِى شُهُودُها. قال شيخُنا (¬3): ولا أعْلَمُ في هذا خِلافًا. وذلك لعُمُومِ قَوْلِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬4). ولقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَمَنْ تَرَكَهَا فِى حَيَاتِى أوْ بَعْدَ مَمَاتِى وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أوْ عَادِلٌ، اسْتِخْفَافًا بِهَا [أوْ جُحُودًا بِهَا] (¬5)، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ» (¬6). ولأنَّه إجْماعُ الصحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فإنَّ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرواح في الجمعة، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 205. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب المشى إلى الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب من اغبرت قدماه في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 9، 4/ 35. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل من اغبرت قدماه في سبيل اللَّه، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 128. والنسائى، في: باب ثواب من اغبرت قدماه في سبيل اللة، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 13. والدارمى، في: باب في فضل الغبار في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 202. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 367، 479، 5/ 225، 226. (¬3) في: المغنى 3/ 169. (¬4) سورة الجمعة 9. (¬5) سقط من: م. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 159.

665 - مسألة: (ويشتغل بالصلاة والذكر، ويقرأ سورة الكهف

وَيَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَيَقْرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِى يَوْمِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ، وغيرَه مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانُوا يَشْهَدُونَها مع الحَجَّاجِ ونُظَرائِه، ولم يُسْمَعْ عن أحدٍ منهم التَّخَلُّفُ عنها. ولأنَّ الجُمُعَةَ مِن أعْلامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، ويَتَوَلَّاهَا الأئِمَّةُ أو مَن وَلَّوْة، فتَرْكُها خَلْفَ مَن هذه صِفَتُه يُفْضِى إلى سُقُوطِها. إذا ثَبَت هذا فإنَّها تُعادُ خلفَ مَن تُعاد خلفَه بَقِيَّةُ الصلواتِ. نَصَّ عليه الإِمامُ أحمدُ، في رِوايَةِ عباسِ ابنِ عبدِ العَظيمِ. وعنه رَوايَة أُخْرَى، أنَّها لا تُعَادُ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ الصحابةِ، رَضىَ اللَّهُ عنهم، أنَّهُم لم يَكُونُوا يُعِيدُونَها؛ لأنَّهُم لم يُنْقَلْ ذلك عنهم، وقد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الإِمَامَةِ. فصل: ويُسْتَحَبّ الدُّنُوُّ مِن الإِمامِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ» (¬1). وعن سَمُرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «احْضَرُوا الذِّكْرَ، وادْنُوا مِنَ الإِمَامِ، فَإنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَد حَتَّى يُؤَخَّرَ فِى الجَنَّةِ». رَواه أبو داودَ (¬2)، ولأنَّه أمْكَن له مِن السَّماعِ. 665 - مسألة: (ويَشْتَغِلَ بالصلاةِ والذِّكْرِ، ويقْرأَ سُورَةَ الكَهْفِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 270. (¬2) في: باب الدنو من الإمام عند الموعظة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 254. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 11.

وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ، وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في يَوْمِها، ويُكْثِرَ الدُّعاءَ، والصلاةَ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-) إذا حَضَر قبلَ الخُطْبَةِ اشْتَغَلَ بالصلاةِ، وذِكْرِ اللَّهِ تعالى، لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَاعْلَمُوا أنَّ مِنْ خَيْرِ أعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ» (¬1). وَيقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ في يَوْم الجُمُعَةِ؛ لِما رُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَإنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ». رَواه زَيْدُ بنُ على في كِتابِه بإسْنادِه. وعن ابنِ عمرَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمِه إلى عَنَانِ السَّمَاءِ، يُضِئُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْن» (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يُكْثِرَ مِن الصَّلاةِ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لِما رُوِىَ عن أبى الدَّرْدَاءِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَىَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإنَّهُ مَشْهُود تَشْهَدُهُ المَلَائِكَةُ». رَواه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 99. (¬2) عزاه المنذرى إلى أبى بكر بن مردويه في تفسيره. الترغيب والترهيب 1/ 513. وأخرج نحوه البيهقى من حديث أبى سعيد الخدرى، في: باب وقراءة سورة الكهف وغيرها، من كتاب الجمعة. السنن الكبرى 3/ 249.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1). وعن أوْسِ بنَ أوْسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أفْضَلُ أيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قبضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ». قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ: كيفَ تُعْرَضُ صَلاتُنا عليك وقد أَرمْتَ؟ أى بَلِيتَ. قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأرْضِ أجْسَادَ الأنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ». رَواه أبو داودَ (¬2). فصل: ويُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِن الدُّعاءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، لَعَلَّه يُوافِقُ ساعَةَ الإِجابَةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكَر يومَ الجُمُعَةِ، فقالَ: «فِيهِ سَاعَة لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّى، يَسْألُ اللَّهَ شَيْئًا، إلَّا أعْطَاهُ إِيَّاهُ». وأشارَ بيَدِه ¬

(¬1) في: باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 524. (¬2) في: باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 241. كما أخرجه النسائى، في: باب إكثار الصلاة على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 75. وابن ماجه، في: باب في فضل الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة، وفى: باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 345، 524. والدارمى، في: باب في فضل الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 369. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقَلِّلُهَا، وفى لَفْظٍ: «وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). واخْتُلِفَ في تلك السَّاعَةِ، فقال عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، وطَاوسٌ، هى آخِرُ ساعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ. وفَسَّرَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ الصلاةَ بانْتِظارِها، بقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- «إنَّ الْعَبْدَ المُؤْمِنَ إذَا صلَّى، ثُمَّ جَلَسَ لا يُجْلِسُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، فَهُوَ فِى صَلَاةٍ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). ورُوِىَ هذا القولُ مَرْفُوعًا. فعلى هذا يَكُونُ القِيامُ بِمَعْنى المُلازَمَةِ والإِقامَةِ، كقَوْلِه تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬3). وعن أنَسٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِى تُرْجَى فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ». ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الساعة التى في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب الإشارة في الطلاق، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 2/ 16، 7/ 66. ومسلم، في: باب في الساعة التى في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 583، 584. كما أخرجه أبو داود، في: باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 240. والترمذى، في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في يوم الجمعة، من أبواب الجمعة، وفى: تفسير سورة البروج، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 2/ 277، 12/ 237، 238. والنسائى، في: باب ذكر الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 95. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 360. والدارمى، في: باب الساعة التى تذكر في الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 368. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الساعة التى في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 108. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 230، 255، 257، 272، 280، 284، 312، 403، 457، 469، 481، 489، 504، 519، 3/ 39، 65، 313، 331، 348، 5/ 451، 453. (¬2) في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 360. (¬3) سورة آل عمران 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْرَجَه التِّرْمِذىُّ (¬1). وقِيلَ: هى ما بينَ أن يَجْلِسَ الإِمامُ إلَى أنْ تَنْقَضِى الصلاةُ؛ لِما روَى أبو مُوسى، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقولُ: «هِىَ مَا بَيْنَ أنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إلَى أنْ يَقْضِىَ الإِمَامُ الصَّلَاةَ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن عَمْرِوٍ بنِ عَوْفٍ المُزَنِىِّ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّ فِى الْجُمُعَةِ سَاعَة، لَا يَسْأَلُ اللَّهَ العَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ». قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ أيَّةُ سَاعَةٍ هى؟ قال: «حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الانْصِرَافِ مِنْهَا». رَواه ابنُ ماجه، والتِّرْمِذىُّ (¬3)، وقال: حدِيثٌ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 275. (¬2) في: باب في الساعة التى في يوم الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 584. كما أخرجه أبو داو، في: باب الإجابة أية ساعة هى في يوم الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 241. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 276. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الساعة التى ترجى في الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 360.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حسنٌ غَرِيبٌ. فعلى هذا تكونُ السَّاعَةُ (¬1) مُخْتَلِفَةً، فتكونُ في حَقِّ كلِّ قَوْمٍ في وَقْتِ صلاتِهم. وقِيلَ: هى ما بينَ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ومِن العَصْرِ إلى غُرُوبِها. وقِيلَ: هى السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قِيلَ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لأىِّ شئٍ سُمِّىَ يَوْمُ الجُمُعَةِ؛ قال: «لأنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ أبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ، وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِى آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وقال كَعْبٌ: لو قَسَّمَ الإِنْسَانُ جُمُعَةً في جُمَعٍ أتَى على تلك السَّاعَةِ. وقِيلَ: هى مُتَنقِّلَةٌ في اليَوْمِ. وقال ابنُ عمرَ: إنَّ طَلَبَ حاجَةٍ في يَوْمٍ لَيَسِيرٌ. وقِيلَ: أخْفَى اللَّهُ تعالى هذه السَّاعَةَ ليَجْتَهدَ العِبادُ في طَلَبِها، وفى الدُّعاءِ في جَمِيعِ اليَوْمِ، كما أخْفَى لَيْلَةَ القَدْرِ في رمضانَ، وأَوْلِياءَه في النَّاسِ، ليَحْسُنَ الظَّنُّ بجَمِيعِ الصَّالِحينَ. ¬

(¬1) في م: «الصلاة». (¬2) في: المسند 2/ 311.

666 - مسألة: (ولا يتخطى رقاب الناس، إلا أن يكون إماما، أو يرى فرجة فيتخطى إليها. وعنه، يكره)

وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، إِلَّا أن يَكُونَ إِمَامًا، أوْ يَرَى فُرْجَةً فَيَتَخَطَّى إِلَيْهَا. وَعَنْهُ، يُكْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 666 - مسألة: (ولا يتَخَطَّى رِقابَ النَّاسِ، إلَّا أن يكُونَ إمامًا، أو يَرَى فُرْجَةً فيَتَخطَّى إلَيها. وعنه، يُكْرَهُ) يُكْرَهُ تخَطِّى رِقابِ النَّاسِ لغيرِ الإِمامِ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ» (¬1). وقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحَدًا» (¬2). وقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- للذى جاء يتَخَطَّى رِقابَ النّاس: «اجْلِسْ، فَقَدْ آنيْتَ وَآذَيْتَ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذىّ (¬4)، وقال: لا نَعْرِفُه إلَّا مِن حديثِ رِشْدِين بنِ سَعْدٍ، وقد ضَعَّفَه بعضُ أهْلِ العِلْمِ مِن قِبَلِ حِفْظِه. فأمَّا الإِمامُ إذا لم يَجِدْ طَرِيقًا، فلا يُكْرَهُ له التَّخَطِّى؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 269. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الكلام والإمام يخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 255. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 181، 214. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 278. (¬4) لم نجده عند أبى داود، وعزاه في تحفة الأشراف للترمذى وابن ماجه. انظر تحفة الأشراف 8/ 393. وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية التخطى يوم الجمعة، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 301. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن تخطى الناس يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 354. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 437.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا رَأَى فُرْجَةً لا يَصِلُ إليها إلَّا بالتَّخَطىِّ، ففيه رِوايَتان؛ إحْدَاهُما، له التَّخَطِّى. قال أحمدُ: يَدْخُلُ الرجلُ ما اسْتَطاعَ، ولا يَدَعُ بينَ يَدَيْه مَوْضِعًا فارِغًا، وذلك لأنَّ الذى جَلَس دونَ الفُرْجَةِ ضَيَّعَ حَقَّه بِتَأْخُّرِه عنها، وأسْقَطَ حُرْمَتَه، فلا بَأْسَ بتَخَطِّيهِ. وبه قال الأوْزَاعِىّ. وقال قَتادَةُ: يَتَخَطَّاهُم إلى مُصَلَّاه. وقال الحسنُ: يَخْطُو رِقابَ الذين يَجْلِسُونَ على أبوابِ المَسْجِدِ، فإنَّه لا حُرْمَةَ لهم. وعنه، يُكْرَهُ لِما ذَكَرنا مِن الأحَادِيثِ. وعنه، إن كان يَتَخَطَّى الواحِدَ والاثْنَيْنِ فلا بَأْسَ، فإنْ كَثُر كَرِهْنا. وكذلك قال الشافعىُّ، إلَّا أن لا يَجِدَ سبِيلًا إلى مُصَلَّاه إلَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّخَطِّى، فيَسَعَه التَّخَطِّى، إن شاء اللَّهُ. قال شيخُنا (¬1): ولَعَلَّ قوْلَ أحمدَ ومَن وافَقَه في الرِّوايَةِ الأُوْلَى، فيما إذا تَرَكُوا مَكانًا واسِعًا، مثلَ الذين يَصُفُّونَ في آخِرِ المَسْجِدِ، ويَتْرُكُونَ بينَ أيْدِيهم صُفُوفًا خالِيةً، فهؤلاءِ لا حُرْمَةَ لهم. كما قال الحسنُ؛ لأنَّهم خالَفُوا أمْرَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَغِبُوا عن الفَضِيلَةِ وخَيْرِ الصُّفُوفِ، وجَلَسُوا في شَرِّها، فتَخَطِّيهم مِمَّا لابُدَّ منه. وقولَه الثَّانِىَ في حَقِّ مَن لم يُفَرِّطْ، وإنَّما جَلَسُوا في مَكانِهِم؛ لامْتِلاءِ ما بينَ أَيْدِيهِم. فأمَّا إن لم تُمْكِنِ الصلاةُ إلَّا بالتَّخَطِّى، جاز؛ لأنَّه مَوْضعُ حاجَةٍ. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 231.

667 - مسألة: (ولا يقيم غيره فيجلس فى مكانه، إلا من قدم صاحبا له فجلس فى موضع يحفظه له)

وَلَا يُقِيمُ غَيْرَهُ فَيَجْلِسُ مَكَانَهُ، إِلَّا مَنْ قَدَّمَ صَاحِبًا لَهُ فَجَلَسَ فِى مَوْضِعٍ يَحْفَظُهُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 667 - مسألة: (ولا يُقِيمُ غيرَه فيَجْلِسُ في مَكانِه، إلَّا مَن قَدَّمَ صاحِبًا له فجلَسَ في مَوْضِعٍ يَحْفَظُه له) ليس له أن يُقِيمَ إنْسانًا ويَجْلِسَ في مَوْضِعِه سَواءٌ كان المَكانُ لشَخْصٍ يَجْلِسُ فيه، أو مَوْضِعَ حَلْقَةٍ لمَن يُحَدِّثُ فيها، أو حَلْقَةً يتَذاكَرُ فيها الفُقَهاءُ، أو لم يَكُنْ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، قال: نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُقِيمَ الرجلُ، يَعْنِى أخاه، مِن مَقْعَدِه، ويَجْلِسَ فيه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ المَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ تَعالَى، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 10. ومسلم، في: باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه. . . إلخ، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1714، 1715. كما أخرجه الترمذى، في: باب كراهية أن يقام الرجل من مجلسه. . . إلخ، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 208، 209. والدارمى، في: باب لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 281، 282. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 17، 22، 45، 89، 102، 121، 124، 126، 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّاسُ فيه سَواءٌ، العاكِفُ فيه والبادِى، فمَن سَبَق إلى مَكانٍ منه فهو أحَقُّ به؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬1). فإن قَدَّمَ صاحِبًا له، فجَلَسَ حتى إذا جاء قام صاحِبُه وأجْلَسَه، فلا بَأْسَ؛ لأنَّ النَّائِبَ يَقُومُ باخْتِيارِه. وقد رُوِىَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ، أنَّه كان يُرْسِلُ غُلامًا له يَوْمَ الجُمُعَةِ، فيَجْلِسُ في مكانٍ، فإذا جاء قام ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 158. وهو عنده بلفظ «ماء». وأخرجه البيهقى في السنن الكبرى 6/ 142. والطبرانى في الكبير 1/ 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغُلامُ، وجَلَس فيه محمدٌ. فإن لم يَكُنْ نائِبًا فقامَ باخْتِيارِه ليُجْلِسَ آخَرَ مَكانَه، فلا بَأْسَ؛ لأنَّه قام باخْتِيارِ نَفْسِه، أشْبَه النَّائِبَ. وأمَّا القائِمُ فإنِ انْتَقَلَ إلى مثلِ مَكانِه الذى آثرَ به في القُرْبِ، وسَماعِ الخُطْبَةِ، فلا بَأْسَ، وإلَّا كُرِهَ له ذلك؛ لأنَّه يُؤْثِرُ على نَفْسِه في الدِّينِ، ويَحْتَمِل أن لا يُكْرَهَ إذا كان الذى آثرَه مِن أهْلِ الفَضْلِ، لأنَّ تَقْدِيمَهم مَشْرُوعٌ، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لِيَليَنِى مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامَ وَالنُّهَى» (¬1). ولو آثرَ شَخْصًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَكانِه، فليس لغيرِه أن يَسْبِقَه إليه؛ لأنَّه قام مَقامَ الجالِسِ في اسْتِحْقاقِ مَكانِه، أشْبَهَ ما لو تَحَجَّرَ مَواتًا، ثم آثَرَ به غيرَه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ؛ لأنَّ القائِمَ أسْقَطَ حَقَّه بالقِيامِ، فبَقِىَ علِى الأَصْلِ، فكان السَّابِقُ إليه أحَقَّ به، كمَن وَسَّعَ لرجل في طَرِيقٍ، فمَرَّ غيرُه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، ويُفارِقُ التَّوسِعَةَ في الطَّرِيقِ؛ لأنَّها جُعِلَتْ للمُرُورِ فيها، فمَن انْتَقَل مِن مكانٍ فيها لم يَبْقَ له حَقٌّ يُؤْثِرُ به، والمَسْجِدُ جُعِلَ للإِقامَةِ فيه، وكذلك لا يَسْقُطُ حَقُّ المُنْتَقِلِ منه إذا انْتَقَلَ لحاجَةٍ، وهذا إنَّما انْتَقَلَ مُؤْثِرًا لغيرِه، فأشْبَهَ النَّائِبَ الذى بَعَثَه (¬1) إنْسَانٌ ليَجْلِسَ في مَوْضِعٍ يَحْفَظُه له. ولو كان الجالِسُ مَمْلُوكًا، لم يَكُنْ لسَيِّدِه أن يُقِيمَه لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّ هذا ليس بمالٍ، وإنَّما هو حَقٌّ دِينىٌّ، فاسْتَوَى فيه العَبْدُ وسَيِّدُه، كالحُقُوقِ الدِّينِيَّةِ. ¬

(¬1) في م: «يعينه».

668 - مسألة: (وإن وجد مصلى مفروشا، فهل له رفعه؟ على روايتين)

وَإنْ وَجَدَ مُصَلًّى مَفْرُوشًا، فَهَلْ لَهُ رَفْعُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 668 - مسألة: (وإن وَجَد مُصَلًّى مَفْرُوشًا، فهل له رَفْعُه؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، ليس له ذلك؛ لأنَّ فيه افْتِئاتًا على صاحِبِه، ورُبَّما أفْضَى إلى الخُصُومَةِ، ولأنَّه سَبَق إليه، أشْبَهَ السابِقَ إلى رَحْبَةِ المَسْجِدِ

669 - مسألة: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به)

وَمَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لِعَارِضٍ لَحِقَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَقاعِدِ الأَسْواقِ. والثَّانِى، يجُوزُ رَفْعُه والجُلُوسُ مَوْضِعَه؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ له، ولأنَّ السَّبْقَ بالأَبْدانِ هو الذى يَحْصُلُ به الفَضْلُ لا بالأوْطِئَةِ، ولأنَّ تَرْكَه يُفْضِى إلى أن يَتَأخَّرَ صاحِبُه، ثم يَتَخَطَّى رِقابَ النَّاسِ، ورَفْعُه يَنْفِى ذلك. 669 - مسألة: (ومَن قام مِن مَوْضِعِه لعارِضٍ لَحِقَه، ثم عاد إليه فهو أحَقُّ به) إذا جَلَس في مَكانٍ، ثم بَدَتْ له حاجَةٌ، أو احْتاجَ إلى الوُضُوءِ، فله الخُرُوجُ؛ لِما روَى عُقْبَةُ، قال: صَلَّيْتُ وراءَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فسَلَّمَ، ثم قام مُسْرِعًا، فتَخَطَّى رِقابَ النَّاسِ إلى حُجَرِ بَعْضِ نِسائِه، فقال: «ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فكَرِهْتُ أن يَحْبِسَنِى، فأَمَرْتُ بقِسْمَتِه». رَواه البخارىُّ (¬1). و: «إذا قام مِن مَجْلِسِه، ثم رَجَع إليه، فهو أحَقُّ به». رَواه مسلمٌ (¬2). وحُكْمُه في التَّخَطِّى إلى مَوْضِعِه حُكْمُ مَن رَأَى بينَ يَدَيهِ فُرْجَةً. ¬

(¬1) في: باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم، من كتاب الأذان، وفى: باب يفكر الرجل في الشئ في الصلاة، من كتاب العمل في الصلاة، وفى: باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها، من كتاب الزكاة، وفى: باب من أسرع في مشيه لحاجة أو قصد، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 1/ 215، 2/ 84، 145، 8/ 76. كما أخرجه النسائى، في: باب الرخصة للإمام في تخطى رقاب الناس، من كتاب السهو. المجتبى 3/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 7، 8. (¬2) في: باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1715. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا قام من مجلسه ثم رجع، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 563. والترمذى، في: باب ما جاء إذا قام الرجل من مجلسه. . . إلخ، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 210. وابن ماجه، في: باب من قام من مجلسه فرجع فهو أحق به، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1224. والدارمى، في: باب إذا قام من مجلسه ثم رجع إليه. . . إلخ، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 282. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 263، 283، 342، 389، 446، 447، 483، 527، 537، 3/ 32، 422.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن نَعَس يَوْمَ الجُمُعَةِ أن يَتَحَوَّلَ مِن مَوْضِعِه؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَقُولُ: «إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِى مَجْلِسِهِ، فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). ولأنَّ ذلك يَصْرِفُ عنه النَّوْمَ. فصل: وتُكْرَهُ الصلاةُ في المَقْصُورَةِ التى تُحْمَى. نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِىَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه كان إذا حَضَرَتِ الصلاةُ، [وهو] (¬2) في المَقْصُورَةِ خَرَجِ. وكَرِهَه الأحْنَفُ (¬3)، وابنُ مُحَيْرِيزٍ، والشَّعْبِىُّ، وإسْحاقُ. ورَخَّصَ فيه أَنَسٌ، والحسنُ، والحسينُ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، والقاسِمُ، وسالِمٌ؛ لأنَّه مِن الجامِعِ، فهو (¬4) كسائِرِ المَسْجِدِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه يُمْنَعُ النَّاسُ مِن الصَّلاةِ فيه، فصار كالمَغْصُوبِ، فكُرِهَ لذلك. فإن كانت لا تُحْمَى، احْتَمَلَ أن لا تُكْرَهَ الصلاةُ فيها؛ لعَدَمِ شَبَهِ الغضبِ، واحْتَمَلَ أن تُكْرَهَ؛ لأنَّها تَقْطَعُ الصُّفُوفَ، فأشْبَهَ الصلاةَ بينَ السَّوارِى. فعلى هذا إنَّما تُكْرَهُ الصلاةُ فيها إذا قَطَعَتِ الصُّفُوفَ. ¬

(¬1) في: المسند 22/ 2، 32، 135. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في من نعس يوم الجمعة. . . إلخ، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 316. (¬2) سقط من: م. (¬3) أبو بكر الأحنف بن قيس التميمى السعدى، أحد الأشراف، ومن يضرب بحلمه المثل، توفى سنة اثنتين وسبعين. العبر 1/ 80. (¬4) سقط من: م.

670 - مسألة: (ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما)

وَمَنْ دَخَلَ وَالإمَامُ يَخْطُبُ لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، يُوجِزُ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الصَّفِّ الأوَّلِ فقالَ في مَوْضِعٍ: هو الذى يَلِى المَقْصُورَةَ، لأنَّها تُحْمَى. وقال: ما أدْرِى هلْ الصَّفُّ الأوَّلُ الذى يَقْطَعهُ المِنْبَرُ، أو الذى يَلِيه؟ قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّه الذى يَقْطَعة المِنْبَرُ؛ لأنَّه الصَّف الأوَّلُ حَقِيقَةً، ولو كان الأوَّلُ ما دونَه أفْضَى إلى خُلوِّ ما يَلِى الإِمامَ. ولأنَّ أصحابَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يلِيه فُضَلاؤُهم، ولو كان الصَّفُّ الأوَّلُ وراءَ المِنْبَرِ، لوَقَفُوا فيه. 670 - مسألة: (ومَن دَخَل والإِمامُ يَخْطب لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، يوُجِزُ فيهما) وبه قال الحسنُ، وابن عُيَيْنَةَ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المنْذِرِ. وقال شُرَيْحٌ وابنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَة، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، واللَّيْثُ، وأبو حنيفةَ: يُكْرَهُ ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له أن يَرْكَعَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للذى جاء يَتَخَطَّى رِقابَ النَّاسَ: «اجْلِسْ، فَقَدْ آنيْتَ وَآذَيْتَ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولأنَّ الرُّكوعَ يَشْغَلُه عنِ اسْتِماعِ الخُطْبَةِ، فكُرِهَ، كغيرِ الدَّاخِلِ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ، قال: جاء رجلٌ والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، فقال: «صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟» قال: لا. قال: «قمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لَفْظٍ لمسلمٍ: «إذا جَاءَ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَام يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». فإن جَلَس قبلَ أن يَرْكَعَ اسْتُحِبَّ له أن يقُومَ فيَرْكَعَ؛ لِما روَى جَابر أنَّ سُلَيْكًا الغَطَفانِىَّ جاء يَوْمَ الجُمُعَةِ والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعِد على المِنْبَرِ، فقَعَدَ سُلَيْكٌ قبلَ أن يُصَلِّىَ، فقالَ. له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَارْكَعْهُمَا». رَواه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 278. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ (¬1). وفى لَفْظٍ: جاء سُلَيْكٌ الغَطَفانِىُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، فجَلَسَ، فقال: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». وحَدِيثُهم قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أنَّه أمَرَه بالجُلُوسِ لضِيقِ المَكانِ، أو لكَوْنِه في آخِرِ الخُطْبَةِ، بحيثُ لو تَشاغَلَ بالصلاةِ فَاتَتْه تَكْبيرَةُ الإِحْرامِ. والظَّاهِرُ أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما أمَرَه بالجُلُوسِ، ليَكُفَّ أذاه عن النَّاسِ، فإن خَشِىَ أن يَفُوتَه أوَّلُ الصَّلاةِ إذا تَشاغَلَ بهما، لم يُسْتَحَبَّ له التَّشاغُلُ بهما لذلك. فصل: ويَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ بجُلُوسِ الإِمامِ على المِنْبَرِ، فلا يُصَلِّى أحَدٌ غيرَ الدَّاخِلِ، يُصَلِّى تَحِيَّةَ المسجِدِ، رُوِىَ ذلك عن ابنِ عَبَّاس، وابنِ عمرَ؛ لِما روَى ثَعْلَبَةُ بنُ مالكٍ، أنَّهم كانُوا في زَمَنِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه يَوْمَ الجُمُعَةِ يُصَلُّون حتى يَخْرُجَ عمرُ (¬2). ولأنَّه يَشْغَلُ عن سَماعِ الخُطْبَةِ المَنْدُوبِ إليه. فصل: ويُكْرَهُ التَّحَلُّقُ يَوْمَ الجُمُعَةِ قبلَ الصَّلاةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الحِلَقِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قبلَ الصَّلاةِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 155. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 103. وعبد الرزاق، في: باب جلوس الناس حين يخرج الإمام، من كتاب الجمعة. المصنف 3/ 208.

671 - مسألة: (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب، إلا له، أو لمن كلمه)

وَلَا يَجُوزُ الْكَلَامُ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، إِلَّا لَهُ، أَوْ لِمَنْ كَلَّمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّسَائِىُّ (¬1). 671 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الكَلامُ والإِمامُ يَخْطُبُ، إلّا له، أو لمَن كَلَّمَه) يَجِبُ الإِنْصاتُ مِن حينِ يَأْخُذُ الإِمامُ في الخُطْبَةِ، فلا يَجُوزُ الكلامُ لمَن حَضَرَها، نَهَى عن ذلك عثمانُ، وابنُ عمرَ. وقال أبو مسعودٍ: إذا رَأيْتَه يَتَكَلَّمُ، والإِمامُ يخطُبُ، فاقْرَعْ رَأْسَه بالعَصا. وكَرِهَ ذلك عامَّةُ أهلِ العِلْمِ؛ منهم مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والأوْزاعِىُّ. وعن أحمدَ؛ لا يَحْرُمُ الكَلامُ. وكان سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، وأبو بُرْدَةَ يَتَكَلَّمُون والحَجَّاجُ يَخْطُبُ. وقال بعضُهم: إنَّا لم نُؤْمَرْ أن نُنْصِتَ لهذا. وللشافعىِّ قَوْلان، كالرِّوايَتَيْن. واحْتَجَّ مَن أجازَه بما روَى أنَسٌ، قال: بينَما النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إذْ قامَ رجلٌ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، هَلَك ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 248. والنسائى، في: باب النهى عن البيع والشراء في المسجد. . . إلخ، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة. . . إلخ، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُراعُ (¬1)، هَلَك الشَّاءُ (¬2)، فَادْعُ اللَّهَ أن يَسْقِيَنا. وذَكَر الحديثَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ورُوِىَ أنَّ رجلًا قام والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، متى السَّاعَةُ؟ فأعْرَضَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأوْمَأَ النَّاسُ إليه بالسُّكُوتِ، فلم يَقْبَلْ وأعادَ الكَلامَ، فلمَّا كان الثَّالِثَةُ، قال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ويْحَكَ مَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا؟». قال: حُبَّ اللَّهِ ورسولِه. قال: «إنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» (¬4). فلم يُنْكِرْ عليه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَلامَه، ولو حَرُم لأنْكَرَه. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنْصِتْ يَوْمَ ¬

(¬1) الكراع: جماعة الخيل. (¬2) الشاء: جمع شاة. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب رفع اليدين في الخطبة، وباب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب الاستسقاء في المسجد الجامع، وباب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، وباب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 15، 34، 35، 36. ومسلم، في: باب الدعاء في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. صحيح مسلم 2/ 612. كما أخرجه أبو داود، في: باب رفع اليدين في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 2/ 267، 268. والنسائى، في: باب متى يستسقى الإمام، وباب كيف يرفع، وباب ذكر الدعاء، من كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 125، 129، 130، 131. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. الموطأ 1/ 191. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب مناقب عمر بن الخطاب، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب ما جاء في قول الرجل ويلك، وباب علامة حب اللَّه عز وجل، من كتاب الأدب، وفى: باب القضاء والفتيا في الطربق، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 5/ 14، 8/ 48، 49، 9/ 81. ومسلم، في: باب المرء مع من أحب، من كتاب البر والصلة. صحيح مسلم 4/ 2032، 2033. والترمذى، في: باب ما جاء أن المرء مع من أحب، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى 9/ 232. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 104، 110، 165، 167، 168، 172، 173، 178، 192، 200، 202، 207، 208، 213، 226، 227، 228، 255، 276، 283، 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْجُمُعَةِ، والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَارًا، وَالَّذِى يَقُولُ لَهُ أنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وعن أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَأ يومَ الجُمُعَةِ «تَبَارَكَ» وهو قائِمٌ فذَكَّرَنا بأيَّامِ اللَّهِ، وأبو الدَّرْداء أو أبو ذَرٍّ يَغْمِزُنِى، فقالَ: متى أُنْزِلَتْ هذه السُّورَةُ، إنِّى لم أسْمَعْها إلَّا الآنَ؟ فأشارَ إليه، أنِ اسْكُتْ، فلمَّا انْصَرَفُوا، قال: سَأَلْتُكَ متى أُنْزِلَتْ هذه السُّورَةُ فلم تُخْبِرْنِى. فقالَ أُبَىٌّ: ليس لك مِن صَلاتِك اليومَ إلَّا ما لَغَوْتَ. فذَهَبَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، من كتاب الجمعة. صحيح البخارى 2/ 16. ومسلم، في: باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 583. كما أخرجه أبو داود، في: باب الكلام والإمام يخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 255. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الكلام والإمام يخطب، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 300. والنسائى، في: باب الإنصات للخطبة يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب الإنصات للخطبة، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 84، 85، 153. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الاستماع للخطبة والإنصات لها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 352. والدارمى، في: باب الاستماع يوم الجمعة عند الخطبة والإنصات، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 364. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، من كتاب الجمعة. الموطأ 1/ 103. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 244، 272، 280، 393، 396، 474، 485، 518، 532. (¬2) في: المسند 1/ 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فذَكَرَ له ذلك، وأخْبَرَه بالذى قال أُبَىٌّ، فقالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَدَقَ أُبَىٌّ». رَواه عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ، وابنُ ماجَه (¬1). وما احْتَجُّوا به، فالظَّاهِرُ أنَّه مُخْتَصٌّ بمَن كَلَّمَ الإِمامَ، أو كَلَّمَه الإِمامُ؛ لأنَّه لا يَشْتَغِلُ بذلك عن سَماعِ خُطْبَتِهِ، وكذلك سَأَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذى دَخَل: «هَلْ صَلَّيْتَ؟». فأجابَه. وسَأل عمرُ عثمانَ، فأجابَه. فتَعَيَّنَ جَمْلُه على ذلك، جَمْعًا بينَ الأخْبارِ، ولا يَصِحُّ قِياسُ غيرِه عليه؛ لأنَّ كلامَ الإِمامِ لا يَكُونُ في حالِ خُطْبَتِه، بخِلافِ غيرِه، ولو قُدِّرَ التَّعارُضُ تَرَجَّحَتْ أحادِيثُنا؛ لأنَّها قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونَصُّه، وذلك سُكُوتُه، والنَّصُّ أقْوَى. فصل: ولا فَرْقَ بينَ القَرِيبِ والبَعِيدِ؛ لعُمُومِ ما ذَكَرْناه. وقد رُوِىَ عن عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: مَن كان قَرِيبًا يَسْمَعُ ويُنْصِتُ، ومَن كان بَعِيدًا يُنْصِتُ؛ فإنَّ للمُنْصِتِ الذى لا يَسْمَعُ مِن الحَظِّ ما للسامِعِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الاستماع للخطبة والإنصات لها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 353. وعبد اللَّه بن أحمد، في مسند أبيه 5/ 143، 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد روَى عبدُ اللَّهِ بنُ عَمْروٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفرٍ؛ رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو، فَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، إنْ شَاءَ أعْطَاهُ، وَإنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بإنْصَاتٍ وَسُكوُتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحَدًا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِى تَلِيهَا، وَزِيَادَةُ ثَلَاَثَةِ أيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}» (¬1). رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬2). وقال القاضى: يَجِبُ الإِنْصاتُ على السَّامِعِ، ويُسْتَحَبُّ لمَن لا يَسْمَعُ؛ لأنَّ الإِنْصاتَ إنَّما وَجَب لأجْلِ الاسْتِماعِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لعُمُومِ النُّصُوصِ. وللبَعِيدِ أن يَذْكُرَ اللَّهَ تَعالَى، ويَقْرَأَ القرآنَ، ويُصَلِّىَ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يَرْفَعُ صَوْتَه. قال أحمدُ: لا بَأْسَ أن يُصَلِّىَ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بينَه وبينَ نفسِه. ورَخَّصَ له في القِراءَةِ والذِّكْرِ عَطاءٌ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشافعىُّ، وليس له رَفعُ ¬

(¬1) سورة الأنعام 160. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 287.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَوْتِه، ولا المُذاكَرَةُ في الفِقْهِ، ولا الصلاةُ، ولا أن يَجْلِسَ في حَلْقَةٍ. قال ابنُ عَقِيلٍ: له صلاةُ النَّافِلَةِ، والمُذاكَرَةُ في الفِقْهِ. ولَنا، عُمُومُ الأحاديثِ المَذْكُورَةِ، وأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الحِلَقِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قبلَ الصَّلاةِ. ولأنَّه إذا رَفَع صَوْتَه مَنَع مَن هو أقْرَبُ منه مِن السَّماعِ وآذاه بذلك، فيَكُونُ عليه إثْمُ مَن يُؤْذِى المسلمين، وصَدَّ عن ذِكْرِ اللَّهِ تَعالَى. وهل ذِكْرُ اللَّه سِرًّا أفْضَلُ أو الإِنْصاتُ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الإِنْصاتُ أفْضَلُ؛ لحديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْروٍ، وقولِ عُثمانَ. والثَّانِى، الذِّكْرُ أَفْضَلُ؛ لأنَّه يَحْصُلُ ثَوابُ الذِّكْرِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فكانَ أفْضَلَ، كقَبْلِ الخُطْبَةِ. فصل: فأمَّا الكَلامُ على الخَطِيبِ، أو مَن كَلَّمَه فلا يَحْرُمُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَأَل سُلَيْكًا الدَّاخِلَ وهو يَخْطُبُ: «أصَلَّيْتَ؟» قال: لا (¬1). وسَأَل عمرُ عثمانَ حينَ دَخَل وهو يَخْطُبُ، فأجابَه عثمانُ. ولأنَّ تَحْرِيمَ الكَلامِ عليه، لاشْتِغالِه بالإنْصاتِ الواجِبِ، وسَماعِ الخُطْبَةِ، ولا يَحْصُلُ ههُنا، وسَواءٌ سَأَلَه الخَطِيبُ فأجابَه، أو كَلَّمَ بعضُ النَّاسِ الخَطِيبَ لحاجَةٍ ابْتِداءً؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْن قبلُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا سَمِع مُتَكَلِّمًا لم يَنْهَه بالكَلامِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» (¬1). ولكن يُشِيرُ إليه، ويَضَعُ أُصْبُعَه على فِيهِ. كما رَوَيْنا عن أُبَىٍّ. وهذا قولُ زيدِ بنِ صُوحانَ (¬2)، وعبدِ الرحمنِ بنِ أبى لَيْلَى، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ. وكَرِه الإِشارَةَ طَاوُسٌ. ولَنا، أنَّ الذى قال للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: متى السَّاعَة؟ أَوْمَأَ إليه النَّاسُ بالسُّكُوتِ بحَضْرَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يُنْكِرْ عليهم، ولأنَّ الإِشارَةَ تَجُوزُ في الصَّلاةِ للحاجَةِ التى يُبْطِلُها الكلامُ، فجَوازُها في الخُطْبَةِ أوْلَى. فصل: فأمَّا الكلامُ الواجِبُ؛ كتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِن البِئْرِ، أو مَن يَخافُ عليه نارًا، أو حَيَّةً، ونَحْوَ ذلك، فلا يَحْرُمُ؛ لأنَّ هذا يَجُوزُ في نَفْسِ الصَّلاةِ مع فَسادِها به، فهُنا أَوْلى. فأمَّا تَشْمِيتُ العاطِسِ، ورَدُّ السَّلامِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْدَاهما، يَجُوزُ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 303. (¬2) زيد بن صوحان، كان من سادة التابعين، صواما قواما، توفى سنة ست وثلاثين. العبر 1/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبا عبدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: يَرُدُّ الرجلُ السَّلامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ويُشَمِّتُ العاطِسَ؟ فقالَ: نعم، والإِمَامُ يَخْطُبُ. وقال أبو عبدِ اللَّهِ: قد فَعَلَه غيرُ واحِدٍ. [قال ذلك غيرَ مَرَّةٍ] (¬1). ومِمَّن يُرَخِّصُ فيه الحسنُ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّ هذا واجِبٌ فوَجَبَ الإِتْيانُ به في الخُطْبَةِ لحَقِّ الآدَمِىِّ، فهو كتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ. والرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، إن كان لا يَسْمَعُ، رَدَّ السَّلامَ وشَمَّتَ العَاطِسَ، وإن كان يَسْمَعُ، فليس له ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبى داودَ. قلتُ لأحمدَ: يَرُدُّ السَّلامَ والإِمامُ يَخْطُبُ، ويُشَمِّتُ العاطِسَ؟ قال: إذا كان لا يَسْمَعُ الخُطْبَةَ فيَرُدُّ، وإذا كان يَسْمَعُ فلا. قال اللَّهُ تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬2). قِيلَ له: الرجلُ يَسْمَعُ نَغَمَةَ الإِمامِ بالخُطْبَةِ، ولا يَدْرِى ما يقولُ، أيَرُدُّ السَّلامَ؟ قال: لا. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن عَطاءٍ؛ وذلك لأنَّ الإِنْصاتَ واجِبٌ، فلم يَجُزِ الكَلامُ المَانِعُ منه، مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، كالأَمْرِ بالإِنْصَاتِ، بخِلافِ مَن لا يَسْمَعُ. وقال القاضى: لا يَرُدُّ ولا يُشَمِّتُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة الأعراف 204.

672 - مسألة: (ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها. وعنه، يجوز فيها)

وَيَجُوزُ الْكَلَامُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا. وَعَنْهُ، يَجُوزُ فِيها. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوىَ نَحْوُ ذلك عن ابنِ عمرَ. وهو قولُ مالكٍ، والأوْزاعِىِّ، وأصحابِ الرَّأْىَ. واخْتُلِفَ فيه عن الشافعىِّ. فيَحْتَمِلُ قولُ القاضى أن يَكُوْنَ مُخْتَصًّا بمَن يَسْمَعُ، فيكونُ مثلَ الرِّوايَةِ الثَّانِيَةِ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ عامًّا في الجَمِيع؛ لأنَّ وُجُوبَ الإِنْصاتِ شامِلٌ لهم، فأشْبَهُوا السَّامِعِينَ. ويَجُوزُ أن يَرُدَّ على المُسَلِمِ بالإِشارَةِ. ذَكرَه القاضى في «المُجَرِّدِ»؛ لأنَّه يَجُوزُ في الصَّلاةِ، فَههُنا أَوْلَى. 672 - مسألة: (ويَجُوزُ الكَلامُ قبلَ الخُطْبَةِ وبعدَها. وعنه، يَجُوزُ فيها) يَجُوزُ الكَلامُ قبلَ الخُطْبَةِ، وبعدَ فَراغِه منها، مِن غيرِ كَراهَةٍ. وبهذا قال عَطَاءٌ، وطاوُسٌ، والزُّهْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسْحاقُ، ويَعْقُوبُ، ومحمدٌ. ورُوِى عن ابنِ عمرَ، وكَرِهَه الحَكَمُ. وقال أبو حنيفةَ: إذا خَرَج الإِمامُ حَرُم الكَلامُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ كانا يَكْرَهان الكَلامَ والصلاةَ بعدَ خُروج الإِمامِ، ولا مُخالِفَ لهم في الصحابةِ. ولَنا، ما روَى ثَعْلَبَةُ بنُ مالكٍ، أنَّهم كانُوا يَتَحَدَّثُونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وعمرُ جالِسٌ على المِنْبَرِ، فإذا سَكَت المُؤَذِّنُ، وقام عمرُ، لم يَتَكُلَّمْ أحَدٌ حتى يَقْضِىَ الخُطْبَةَ، فإذا قامَتِ الصلاةُ، ونَزَل عمرُ تَكَلَّمُوا (¬1). وهذا يَدُلُّ على شُهْرَةِ الأمْرِ بينَهم، ولأنَّ قولَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنْصِت، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» (¬2). يَدُلُّ على تَخْصِيصِه بوَقْتِ الخُطْبَةِ، ولأنَّ الكَلامَ إنَّما حُرِّمَ لأجْلِ الإِنْصاتِ للخُطْبَةِ، ولا وَجْهَ لتَحْرِيمِه مع عَدَمِها. وقَوْلُهم: لا مُخالِفَ لهما في الصحابةِ. قد ذَكَرْنا عن عُمُومِهم خِلافَ ذلك. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 300. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الكَلامُ في الجَلْسَةِ بينَ الخُطْبَتَيْن، فيَحْتَمِلُ جَوازُه؛ لِما ذَكْرَنا. وهذا قولُ الحسنِ. ويَحْتَمِلُ المَنْعُ. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، والأوْزاعِىِّ، وإسْحاقَ؛ لأنَّه سُكُوتٌ يَسِيرٌ في أثْناءِ الخُطْبَتَيْن، أشْبَهَ السُّكُوتَ للتَّنَفُّسِ. وإذا بَلَغ الخَطِيبُ إلى الدُّعاءِ، فهل يَجُوزُ الكَلامُ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الجَوازُ؛ لأنَّه فَرَغ مِن الخُطْبَةِ، أشْبَهَ ما لو نَزَل. والثَّانِى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه تابعٌ للخُطْبَةِ، فيَثْبُتُ له ما ثَبَت لها، كالتَّطْوِيلِ في المَوْعِظَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان دُعاءً مَشْرُوعًا، كالدُّعاءِ للمُؤْمِنينَ والمُؤْمِناتِ، والإِمامِ العادِلِ أنْصَتَ، وإن كان لغيرِه لم يَلْزَمِ الإِنْصاتُ؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ له. فصل: ويُكْرَهُ العَبَثُ والإِمامُ يَخْطُبُ، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَمَنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسَّ الحَصَا فَقَدْ لَغَا» (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حَدِيث صَحِيحٌ. واللَّغْوُ: الإِثْمُ، قال اللَّهُ تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (¬2). ولأنَّ العَبَثَ يَمْنَعُ الخُشُوعَ ويُكْسِبُ الإثْمَ. ويُكْرَهُ أن يَشْرَبَ والإِمامُ يَخْطُبُ، إذا كان يَسْمَعُ. وبه قال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ. ورَخَّصَ فيه مُجاهِدٌ، وطاوُسٌ، والشافعىُّ؛ لأنَّه لا يَشْغَلُ عن السَّماعِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّه فِعْلٌ يَشْتَغِلُ به، أشْبَهَ مَسَّ الحَصا، فإن كان لا يَسْمَعُ لم يُكْرَه. نَصَّ عليه؛ لأنَّه لا يَسْمَعُ فلا يَشْتَغِلُ به. فصل: قال الإِمامُ أحمدُ: لا يَتَصَدَّقُ على السُّؤَّالِ والإِمامُ يَخْطُبُ؛ لأنَّهم فَعَلُوا ما لا يَجُوزُ، فلا يُعِينُهُم عليه. قال الإِمامُ أحمدُ: وإن حَصَبَه كان أعْجَبَ إلىَّ؛ لأنَّ ابنَ عمرَ رَأى سائِلًا يَسْأَلُ والإِمامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فحَصَبَه. قِيلَ للإِمامِ أحمدَ: فإن تَصَدَّقَ عليه إنْسانٌ، فناوَلَه والإِمامُ يَخْطُبُ؟ قال: لا. قِيلَ: فإن سَأَل قبلَ خُطْبَةِ الإِمامِ ثم جَلَس، فأعْطانِى رجلٌ صَدَقَةً أُناوِلُه إيّاها؟ قال: نعم، هذا لم يَسْأَلْ والإِمامُ يَخْطُبُ. فصل: ولا بَأْسَ بالاحْتِباءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإِمامُ يَخْطُبُ، رُوِىَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وجماعةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإليه ذَهَب عامَّةُ أهلِ العِلْمِ؛ منهم، مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 270. (¬2) سورة المؤمنون 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو داودَ: لم يَبْلُغْنِى أنَّ أحَدًا كَرِهَه إلَّا عُبادَةَ بنَ نُسَىٍّ (¬1)؛ لأنَّ سَهْلَ ابنَ مُعاذٍ روَى، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الْحَبْوَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإِمامُ يَخْطُبُ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، ما روَى يَعْلَى بنُ شَدَّادِ بنِ أوْسٍ، قال: شَهِدْتُ مع مُعَاوِيَةَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، فجَمَّعَ بنا، فنَظَرْتُ فإذا جُلُّ مَن في المَسْجِدِ أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرَأَيْتُهُم مُحْتَبِينَ والإِمامُ يَخْطُبُ (¬3). وفَعَلَه ابنُ عمرَ، وأنَسٌ، ولا نَعْرِفُ لهما مُخالِفًا، فكان إجْماعًا، والحَدِيثُ في إسْنادِه مَقَالٌ. قالَه ابنُ المُنْذِرِ: والأَوْلَى تَرْكُه لأجْلِ الحديثِ، وإن كان ضَعِيفًا، لأنَّه يَصِيرُ به مُتَهَيِّئًا للنَّوْمِ والسُّقُوطِ وإسْقاطِ الوُضُوءِ، ويُحمَلُ النَّهْىُ في الخَبَرِ على الكَراهَةِ، وأحْوالُ الصحابةِ الذين فَعَلُوه على أنَّه لم يَبْلُغْهُم الخَبَرُ. فصل: قال الإِمامُ أحمدُ: إذا كان يَقْرَءُونَ الكِتابَ يَوْمَ الجُمُعَةِ على النَّاسِ بعدَ الصَّلاةِ، أعْجَبُ إلىَّ أن يَسْمَعَ إذا كان فَتْحًا مِن فُتُوحِ المُسْلمين، أو كان فيه شئٌ مِن أُمُورِ المسلمينَ، وإن كان شئٌ إنَّما فيه ذِكْرُهُم فلا يَسْتَمِعْ. وقال في الذين يُصَلُّونَ في الطُّرُقَاتِ: إذا لم يَكُنْ بينَهم ¬

(¬1) أبو عمرو عبادة بن نسى الكندى الشامى، قاضى طبرية، من تابعى أهل الشام، ثقة، توفى سنة ثمانى عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 5/ 113، 114. (¬2) في: باب الاحتباء والإمام يخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 254. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الاحتباء والإمام يخطب، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 2/ 302، 303. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 439. وهو عندهم عن سهل بن معاذ، عن أبيه معاذ بن أنس. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الاحتباء والإمام يخطب، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 254 وذكر أيضًا فعل ابن عمر، وأنس، وغيرهم في الموضع نفسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بابٌ مُغْلَقٌ فلا بَأْسَ. وسُئِلَ عمَّن صَلَّى خارجَ المَسْجِدِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، والأبْوابُ مُغْلَقَةٌ، قال: أرْجُو أن لا يكُونَ به بَأْسٌ. وسُئِلَ عن الرجلِ يُصَلِّى يَوْمَ الجُمُعَةِ، وبينَه وبينَ الإِمامِ سُتْرَةٌ. قال: إذا لم يَقدِرْ على غيرِ ذلك. يَعْنِى يُجْزِئُه.

باب صلاة العيدين

بابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صلاةِ العِيدَيْنِ وهى مَشْرُوعَةٌ، والأصْلُ في ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ فقَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬1). المشْهُورُ في التَّفْسِيرِ أنَّ المُرادَ بها صلاةُ العِيدِ. وأمّا السُّنَّةُ، فثَبَتَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتَّواتُرِ أنَّه كان يُصَلِّى العِيدَيْنِ. قال ابنُ عباسٍ: شَهِدْتُ صلاةَ الفِطْرِ مع رسوِلِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبى بَكرِ، وعُمَرَ، فكُلُّهم يُصَلِّيها قبلَ الخُطْبَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بغيرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ (¬3). وأجْمَعَ المُسْلِمون على صلاةِ العِيدَيْن. ¬

(¬1) سورة الكوثر 2. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الخطبة بعد العيد، وباب موعظة الإمام النساء يوم العيد، من كتاب العيدين، وفى: تفسير سورة الممتحنة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 23، 27، 6/ 187، 188. ومسلم، في: أول كتاب العيدين. صحبح مسلم 2/ 602. كما أخرجه أبو داود، في: باب ترك الأذان في العيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 262. والدارمى، في: باب لا صلاة قبل العيد ولا بعدها، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 376. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 331. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ترك الأذان في العيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 262. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 406. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 227، 242، 243، 285، 346، 354.

673 - مسألة: (وهى فرض على الكفاية، إن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام)

وَهِىَ فَرْضٌ على الْكِفايَةِ، إِذَا اتَّفَقَ أهلُ بَلَدٍ على تَرْكِهَا قاتَلَهُمُ الْإِمَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 673 - مسألة: (وهى فَرْضٌ على الكِفايَةِ، إنِ اتَّفَقَ أهلُ بَلَدٍ على تَرْكِها قاتَلَهُم الإِمامُ) صلاةُ العِيدِ فَرْضٌ على الكِفايَةِ، في ظاهِر المذْهَبِ، إذا قام بها مَن يَكْفِى سَقَطَتْ عن الباقِينَ. وبه قال بعضُ (¬1) أصحابِ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: هى واجِبَةٌ على الأعْيانِ، وليست فَرْضًا، وقال ابنُ أبى موسى: وقد قيل: إنَّها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وهو قَوْلُ مالكٍ، وأكْثَرِ أصحابِ الشافعىِّ؛ لقوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعْرابِىّ حينَ ذَكَر خمْسَ صَلَواتٍ، قال: هل علىَّ غيرُهُنَّ؟ قال: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ» (¬2). ولأنَّها صلاةٌ ذاتُ رُكُوعٍ وسُجُودٍ لا يُشْرَعُ لها أذانٌ، فلم تَكُنْ واجِبَةً، كصلاةِ الاسْتِسْقاءِ. ثم اخْتَلَفُوا، فقالَ بعضُهم: إذا امْتَنَعَ جَمِيعُ النّاسِ مِن فِعْلِها قاتَلَهم الإِمامُ عليها. وقال بعضُهم: لا يُقاتِلُهُم. ولَنا، على أنَّهَا لا تَجِبُ على الأعْيانِ، أنَّها صلاةٌ لا يُشْرَعُ لها الأذانُ، فلم تَجِبْ على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 125، 4/ 180.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأعْيانِ، [كصلاةِ الجِنازَةِ، ولأنَّ الخَبَرَ الذى ذَكَرَه مالكٌ ومَن وافَقَه يَقْتَضِى نَفْىَ وُجُوبِ صلاةٍ سِوَى الخَمْسِ، وإنَّما خُولِفَ بفِعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَن صَلَّى معه، فيَخْتَصُّ بمَن كان مِثْلَهم، ولأنَّها] (¬1) لو وَجَبَتْ على الأعْيانِ لوَجَبَتْ خُطْبَتُها والاسْتِماعُ لها، كالجُمُعَةِ. ولَنا، على وُجُوبِها في الجُمْلَةِ، قولُه تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. والأمْرُ يَقْتَضِى الوُجُوبَ، ولأنَّها مِن أعْلامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، فكانت واجِبَةً، كالجُمُعَةِ، والجِهادِ، ولأنَّها لو لم تَجِبْ، لم يَجِبْ قِتالُ تارِكِيها؛ لأنَّ القِتالَ عُقُوبَةٌ، فلا يتوَجَّه إلى تارِكِ مَنْدُوبٍ؛ كالقَتْلِ والضَّرْبِ، وقِياسًا على سائِرِ السُّنَنِ. فأمَّا حَدِيثُ الأعْرابِىِّ فليس لهم فيه حُجَّةٌ؛ لأنَّ الأعْرابَ لا تَلْزَمُهُم الجُمُعَةُ، فالعِيدُ أوْلَى، على أنَّه مَخْصوصٌ بالصلاةِ على الجنازَةِ المَنْذُورَةِ، فكذلك صلاةُ العِيدِ. وقِياسُهم لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كَوْنَها ذاتَ رُكُوعٍ وسُجُودٍ لا أثَرَ له، فيَجِبُ حَذْفُه، فيَنْتَقِضُ بصلاةِ الجنازَةِ، ويَنْتَقِضُ على كلِّ حالٍ بالصلاةِ المَنْذُورَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

674 - مسألة: (وأول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وآخره إذا زالت)

وَأَوَّلُ وَقْتِهَا إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، وَآخِرُهُ إِذَا زَالَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اتَّفَقَ أهلُ بَلَدٍ على تَرْكِها قاتَلَهم الإِمامُ، لأنَّها مِن شَعائِرِ الإِسلامِ الظّاهِرَةِ، فقُوتِلُوا على تَرْكِها، كالأذانِ، ولأنَّها مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ فقُوتِلُوا على تَرْكِها، كغَسْلِ المَيِّتِ، والصلاةِ عليه، إذا اتَّفَقُوا على تَرْكِه. 674 - مسألة: (وأوَّلُ وَقْتِها إذا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، وآخِرُه إذا زالَتْ) أوَّلُ وَقْتِ صلاةِ العِيدِ إذا خَرَج وَقْتُ النَّهْى، وارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ (¬1) مِن طُلُوعِ الشَّمْسِ، وذلك ما بينَ وَقْتَى النَّهْى عن صلاةِ النافِلَةِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: أوَّلُ وقتِها إذا طَلَعَتِ الشَّمْسِ، لِما روَى يَزِيدُ بنُ خُمَيْرٍ، قال: خَرَج عبدُ اللَّهِ بنُ بُسْرٍ، صاحِبُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في يَوْمِ عِيدِ فِطرٍ أو أضْحَى، فأنْكَرَ إبْطاءَ الإِمامِ، وقال: إنّا كُنّا قد فَرَغْنا ساعَتَنا هذه. وذلك حِينَ صلاةِ التَّسْبِيحِ. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬2). ولَنا، ما روَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، قال: ثَلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْهانا أن نُصَلِّىَ فيهنَّ، وأن نقْبُرَ فيهنَّ مَوْتانا؛ حينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بازِغَةً حتى تَرْتَفِعَ (¬3). ولأنَّه وَقْتٌ نُهِىَ عن الصَّلاةِ فيه، فلم يَكُنْ وَقْتًا للعِيدِ، كقبلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ولأنَّ النبىَّ ومَن بعدَه لم يُصَلُّوا حتى ارْتَفَعَتِ ¬

(¬1) قيد رمح: قدر رمح. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب وقت الخروج إلى العيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 259. وابن ماجه، في: باب وقت صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 418. (¬3) تقدم تخريجه في 4/ 240.

675 - مسألة: (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال، خرج من الغد فصلى بهم)

فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعِيدِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، خَرَجَ مِنَ الْغَدِ فَصَلَّى بِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّمْسُ، بدَلِيلِ الإِجْماعِ أنَّ فِعْلَها في ذلك الوقتِ أفْضَلُ. ولم يَكُنِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليَفْعَلَ إلَّا الأفْضَلَ، ولو كان لها وقتٌ قبلَ ذلك، لكانَ تَقْيِيدُه بطُلُوعِ الشَّمْسِ تَحَكُّمًا بغيرِ نَصٍّ ولا مَعْنَى نَصٍّ، ولا يَجُوزُ التَّوْقِيتُ بالتَّحَكُّمِ. وأمّا حَدِيثُ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ، فيُحْمَلُ على أنَّه أنْكَرَ إبْطاءَ الإِمامِ عن وَقْتِها المُجْمَعِ عليه؛ لأنَّه لو حُمِل على غيرِ هذا لم يَكُنْ إبْطاءً، ولا يَجُوزُ أن يُحْمَلَ ذلك على أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُ الصلاةَ في وقتِ النَّهْى؛ لأنَّه مَكْرُوهٌ بالاتِّفاقِ، والأفْضَلُ خِلافُه، ولم يَكُنِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُداوِمُ على المَفْضُولِ ولا المَكْرُوهِ، فتَعَيَّنَ حَمْلُه على ما ذَكَرْنا. 675 - مسألة: (فإن لم يَعْلَمْ بالعِيدِ إلَّا بعدَ الزَّوالِ، خَرَج مِن الغَدِ فصَلَّى بهم) وهذا قَوْلُ الأوْزاعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، أنَّها لا تُقْضَى. وقال الشافعىُّ: إن عَلِم بعدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، كقولِنا، وإن عَلِم بعدَ الزَّوالِ لم يُصَلِّ؛ لأنَّها صلاةٌ شُرِع لها الاجْتِماعُ والخُطْبَةُ، فلا تُقْضَى بعدَ فَواتِ وَقْتِها، كالجُمُعَةِ، وإنَّما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُصَلِّيها إذا عَلِم بعد غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لأنَّ العِيدَ هو الغَدُ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ» (¬1). ولَنا، ما روَى أبو عُمَيْرِ بنُ أنَسٍ، عن عُمُومَةٍ له مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّ رَكْبًا جاءُوا إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فشَهِدُوا أنَّهم رَأوُا الهِلالَ بالأمْسِ، فأمَرَهم أن يُفْطِرُوا، فإذا أصْبَحُوا أن يَغْدُوا إلى مُصَلَّاهم. رَواه أبو داودَ (¬2). وقال الخَطَّابِىُّ (¬3): سُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أولَى أن تُتَّبَعَ، وحَدِيثُ أبى (¬4) عُمَيْرٍ صَحِيحٌ، فالمَصِيرُ إليه واجِبٌ. ولأنَّها صلاةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فلا تَسْقُطُ بفَواتِ الوَقْتِ، كسائِرِ الفُرُوضِ، فأمَّا الجُمُعَةُ فإنَّها مَعْدُولٌ بها عن الظُّهْرِ بشَرائِطَ، مِنها الوَقْتُ، فإذا فات واحِدٌ مِنها رَجَع إلى الأصْلِ. ¬

(¬1) أخرجه بدون ذكر «وعرفتكم يوم تعرفون» كل من: أبى داود، في: باب إذا أخطأ القوم الهلال، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 543. والترمذى، في: باب ما جاء الصوم يوم تصومون. . . إلخ، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 216. وابن ماجه، في: باب ما جاء في شهرى العيد، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 531. وأخرجه البيهقى عن عطاء مرسلا وفيه: «وعرفة يوم تعرفون». في: باب خطأ الناس يوم عرفة، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 176. وأخرج أبو داود في المراسيل أن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «يوم عرفة الذى يعرف فيه الناس». المراسيل 125. (¬2) في: باب إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 264. كما أخرجه النسائى، في: باب الخروج إلى العيدين من الغد، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 146، 147. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 529. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 57، 58. (¬3) في: معالم السنن 1/ 252. (¬4) في م: «ابن».

676 - مسألة: (ويسن تقديم الأضحى، وتأخير الفطر، والأكل فى الفطر قبل الصلاة، والإمساك فى الأضحى حتى يصلى)

وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَضْحَى، وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ، وَالْأَكْلُ فِى الْفطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَالْإِمْسَاكُ فِى الْأَضْحَى حَتَّى يُصلِّىَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الواحِدُ، إذا فاتَتْه حتى تَزُولَ الشَّمْسُ وأحَبَّ قضاءَها، قَضاها متى أحَبَّ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَقْضِيها إلَّا مِن الغَدِ، كالمَسْأَلَةِ قبلَها. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّ ما يَفْعَلُه تَطوُّعٌ، فمتى أحَبَّ أتَى به، وفارَق إذا لم يَعْلَمِ النّاسُ؛ لأنَّهم تَفَرَّقُوا على أنَّ العِيدَ في الغَدِ، فلا يجْتَمِعُون إلَّا إلى الغَدِ، ولا كذلك ههُنا؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى اجْتِماعِ الجَماعَةِ، ولأنَّ صلاةَ الإِمامِ هى الواجِبَةُ، التى يُعْتَبَرُ لها شُرُوطُ العِيدِ ومَكانُه، فاعْتُبِرَ لها العِيدُ، بخِلافِ هذا. 676 - مسألة: (ويُسَنُّ تَقْدِيمُ الأضْحَى، وتَأْخِيرُ الفِطْرِ، والأكْلُ في الفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاةِ، والإِمْساكُ في الأضْحَى حتى يُصَلِّىَ) يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الأضْحَى؛ ليَتَّسِعَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ؛ لأنَّ التَّضْحِيَةَ لا تَجُوزُ إلَّا بعدَ الصَّلاةِ، وتَأْخِيرُ الفِطْرِ؛ ليَتَّسِعَ وَقْتُ إخْراجِ صَدَقَةِ الفِطْرِ؛ لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّنَّةَ إخْراجُها يَوْمَ العِيدِ قبلَ الصَّلاةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ، ولا أعْلَمُ فيه خِلافًا. وقد رُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَب إلى عَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «أنْ أخِّرْ صَلَاةَ الْفِطْرِ وَعَجِّلِ الْأضْحَى، وَذَكِّرِ النَّاسَ». الحدِيثُ مُرْسَلٌ، رَواه الشافعىُّ (¬1). فصل: ويُسْتَحَبُّ الأكْلُ في الفِطْرِ قبلَ الصَّلاةِ، وأن لا يَأْكُلَ في الأضْحَى حتى يُصَلِّىَ. رُوِىَ ذلك عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، ولا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لِما روَى أنَسٌ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حتى يَأْكُلَ تَمَراتٍ. وقال مُرَجَّأُ بنُ رَجاءٍ: حَدَّثنِى عُبَيْدُ اللَّهِ، قال: حَدَّثَنِى أنَسٌ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ويَأْكُلُهُنَّ وَتْرًا». رَواه البخارىُّ (¬2). وعن بُرَيْدَةَ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ، ولا يَطْعَمُ يَوْمَ الأضْحَى حتى يُصَلِّىَ. رَواه الإِمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِىُّ (¬3)، وهذا لَفْظُه، ورَواه الأثْرَمُ، ولَفْظُ رِوايَتِه: حتى ¬

(¬1) في: باب صلاة العيدين. ترتيب مسند الشافعى 1/ 152. كما أخرجه البيهقى، في: باب الغدو إلى العيدين، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 282. (¬2) في: باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج، من كتاب العيدين. صحيح البخارى 2/ 21. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 558. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 126. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 3/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 353، 360. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 558. والدارمى، في: باب في الأكل قبل الخروج يوم العيد، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 375.

677 - مسألة: (و)

وَالْغُسْلُ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَيْهَا بَعْدَ الصُّبْحِ، مَاشِيًا عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، إِلَّا الْمُعْتَكِفَ يَخْرُجُ فِى ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ، أَوْ إِمَامًا يَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُضَحِّىَ. ويُسْتَحَبُّ أن يُفْطِرَ على تَمَراتٍ، ويَأْكُلُهُنَّ وَتْرًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وأمّا في الأضْحَى، فإن كان له أُضْحِيَةٌ اسْتُحِبَّ أن يُفْطِرَ على شئٍ مِنها. قال أحمدُ: والأضْحَى لا يَأْكُلُ فيه حتى يَرْجِعَ إذا كان له ذِبْحٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكل مِن ذَبِيحَتِه. وروَى الدّارَقُطْنِىُّ (¬1) حديثَ بُرَيْدَةَ، وفيه: وكان لا يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حتى يَرْجِعَ فيَأْكُلَ مِن أُضحِيَتِه، وإذا لم يَكُنْ له ذِبْحٌ لم يُبالِ أن يَأْكُلَ. 677 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (الغُسْلُ والتَّبْكِيرُ إليها بعدَ الصُّبْحِ، ماشِيًا على أحْسَنِ هَيْئَةٍ، إلَّا المُعْتَكِفَ يَخْرُجُ في ثِيابِ اعْتِكافِه، أو إمامًا يَتَأخَّرُ إلى وَقْتِ الصَّلاةِ) يُسْتَحَبُّ الغُسْلُ للعِيدِ، وكان ابنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الفِطْرِ. رَواه مالكٌ في «المُوَطَّإِ». ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، وبه قال عَلْقَمَةُ، وعُرْوَةُ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَغْتَسِلُ يَوْمَ الفِطْرِ ويَوْمَ الأضْحَى. رَواه ابنُ ماجه (¬2)، إلَّا أنَّه مِن ¬

(¬1) في: أول كتاب العيدين. سنن الدارقطنى 2/ 45. كما أخرجه البيهقى، في: باب يترك الأكل يوم النحر حتى يرجع، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 283. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَةِ جُبارَةَ بنِ مُغَلِّسٍ، وهو ضَعِيفٌ. ورُوِىَ أيضًا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في جُمُعَةٍ مِن الجُمَعِ: «إنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّه عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَان عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أنْ يمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» (¬1). عَلَّلَ بكَوْنِه عِيدًا. ولأنَّه يَوْمٌ يُشْرَعُ فيه الاجْتِماعُ للصلاةِ، فاسْتُحِبَّ الغُسْلُ فيه، كيومِ الجُمُعَةِ، وإن تَوَضَّأَ أجْزَأَه؛ لأنَّه إذا أجْزَأَ في الجُمُعَةِ مع الأمْرِ بالغُسْلِ لها، فَههُنا أوْلَى. ووَقْتُ الغُسْلِ بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ. قال الآمِدِىُّ: إنِ اغْتَسَلَ قبلَ الفَجْرِ لم يُصِبْ سُنَّةَ الاغْتِسالِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: المَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّه قبلَ الفَجْرِ وبعدَه؛ ولأنَّ زَمَنَ العِيدِ أضْيَقُ مِن وَقْتِ الجُمُعَةِ، فلو وُقِف على طُلُوعِ الفَجْرِ رُبَّما فات، ولأنَّ المَقْصُودَ مِنه التَّنْظِيفُ، وذلك يَحْصُلُ بالغُسْلِ في اللَّيْلِ؛ لِقُرْبِه مِن الصَّلاةِ. والأَوْلَى أن يكونَ بعدَ الفَجْرِ؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ، ولأنَّه أبْلَغُ في النَّظافَةِ؛ لقُرْبِه مِن الصَّلاةِ. والغُسْلُ لها غيرُ واجِبٍ. قال ابنُ عَقيلٍ: وَيَتَخَرَّجُ وُجُوبُه بِناءً على غُسْلِ الجُمُعَةِ، لأنَّها في مَعْناها. فصل: ويُسْتَحَبُّ التبكِيرُ إلى العِيدِ بعدَ صلاةِ الصُّبْحِ، والدُّنُوُّ مِن الإِمامِ؛ ليَحْصُلَ له أجْرُ التَّبْكِيرِ وانْتظارِ الصَّلاةِ، ويَحْصُلَ له فَضلُ الدُّنُوِّ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 349. والإمام مالك، في: باب ما جاء في السواك، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 65 مرسلًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الإِمام مِن غيرِ تَخَطِّى رِقابِ النّاسِ، ولا أذَى أحَدٍ. قال عَطاءُ بنُ السّائِبِ: كان عبدُ الرحمن بنُ أبى لَيْلَى، وعبدُ اللَّه بنُ مَعْقِلٍ (¬1) يُصَلِّيانِ الفَجْرَ يَوْمَ العِيدِ وعليهما ثِيابُهما، ثم يَتَدافَعانِ إلى الجَبَّانَةِ؛ أحَدُهما يُكَبِّرُ، والآخَرُ يُهَلِّلُ. فأمَّا الإِمامُ فإنَّه يَتَأَخَّرُ إلى وَقْتِ الصَّلاةِ؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ والأضْحَى إلى المُصَلَّى، فأوَّلُ شئٍ يَبْدأُ به الصلاةُ. رَواه مسلمٌ (¬2). قال مالكٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ أن يَخْرُجَ الإِمامُ مِن مَنْزِلِه قَدْرَ ما يَبْلُغُ المُصَلَّى، وقد حَلَّتِ الصلاةُ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان لا يَخْرُجُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. ويُسْتَحَبُّ أن يَخْرُجَ ماشِيًا، وعليه السَّكِينَةُ والوَقارُ، كما ذَكَرْنا في الجُمُعَةِ. وهذا قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وغيرِهم، لِما رُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لا يَرْكَبُ في عيدٍ ولا ¬

(¬1) أبو الوليد عبد اللَّه بن معقل بن مقرن المزنى الكوفى، ثقة من خيار التابعين، توفى سنة بضع وثمانين بالبصرة. تهذيب التهذيب 6/ 40، 41. (¬2) في: أول كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 605. كما أخرجه البخارى، في: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، من كتاب العيدين. صحيح البخارى 2/ 22. والنسائى، في: باب استقبال الإمام الناس بوجهه في الخطبة، من كتاب العيدين، المجتبى 3/ 153. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الخطبة في العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 409. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جِنازَةٍ (¬1). وروَى ابنُ عُمَرَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْرُجُ إلى العِيدِ ماشِيًا، ويَرْجِعُ ماشِيًا. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وإن كان بَعِيدًا، فلا بَأْسَ أن يَرْكَبَ. نصَّ عليه أحمدُ؛ لِما رُوِىَ أنَ عُمَرَ بنَ عبدِ العزِيزِ قال على المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: إنَّ الفِطْرَ غَدًا، فامْشُوا إلى مُصَلَّاكُم، فإنَّ ذلك كان يُفْعَلُ، ومَن كان مِن أهْلِ القُرَى فلْيَرْكَبْ، فإذا جاء إلى المَدِينَةِ فلْيَمْشِ إلى الصَّلاةِ. رَواه سعيدٌ (¬3). فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَتَطَيَّبَ وَيَتسوَّكَ، وَيلْبَسَ أحْسَنَ ثِيابِه، كما ذَكَرْنا في الجُمُعَةِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وروَى ابنُ عبدِ البَرِّ، بإسْنادِه عن جابِرٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَعْتَمُّ ويَلْبَسُ بُرْدَه الأحْمَرَ في العِيدَيْن والجُمُعَةِ. وعن ابنِ عباسٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلْبَسُ في العِيدَيْن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الركوب في الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 182. وانظر الأم، للشافعى 1/ 207. (¬2) في: باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 411. (¬3) أخرجه عبد الرزاق عنه بنحوه، في: باب الركوب في العيدين. المصنف 3/ 289.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُرَدَ حِبَرَةٍ (¬1). وبإسْنادِه عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا عَلَى أحَدِكُمْ أنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبَانِ سِوَى ثَوْبَىْ مِهْنَتِهِ لِجُمُعَتِهِ وَعِيدِهِ» (¬2). والإِمامُ بذلك أحَقُّ؛ لأنَّه المَنْظُورُ إليه مِن بَيْنِهم، إلَّا أنَّ المُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ له الخُرُوجُ في ثِيابِ اعْتِكافِه، ليَبْقَى عليه أثَرُ العِبادَةِ والنُّسْكِ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ: طاوُسٌ كان يَأْمُرُ بزِينَةِ الثِّيابِ، وعطاءٌ قال: هو يَوْمُ تَخَشُّعٍ. وأسْتَحْسِنُهُما جَمِيعًا. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَكُونَ في خُرُوجِه مُظْهِرًا للتَّكْبِيرِ، يَرْفَعُ به صَوْتَه. قال أحمدُ: يُكَبِّرُ جَهْرًا إذا خَرَج مِن بَيْتِه حتى يَأْتِىَ المُصَلَّى. ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ، وابنِ عُمَرَ، وأبى أُمامَةَ، وناسٍ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وفَعَلَه ابنُ أبى لَيْلَى، والنَّخَعِىُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وهو قولُ الحَكَمِ، وحَمّادٍ، ومالكٍ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ الأضْحَى، ولا يُكَبِّرُ يَوْمَ الفِطْرِ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ سَمِع التَّكْبِيرَ يَوْمَ الفِطْرِ، فقال: ما شَأْنُ النّاسِ؟ ¬

(¬1) أخرجهما البيهقى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، في: باب الزينة للعيدين، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 280. وعزاهما الزيلعى للطبرانى في الأوسط عن ابن عباس بلفظ: «بردة حمراء». نصب الراية 2/ 209. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 274.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقِيلَ: يُكَبِّرُون. فقال: أمَجانِينُ النّاسُ؟ (¬1). ولَنا، أنَّه فِعْلُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ، وقَوْلُهم، فأمّا ابنُ عباسٍ فكان يقولُ: يُكَبِّرُونَ مع الإِمامِ، ولا يُكَبِّرُونَ وحدَهم. وهذا خِلافُ مَذْهَبِهم. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُكَبِّرُ حتى يَأْتِىَ المُصَلَّى؛ لقَوْلِ أبى جَمِيلَةَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، خَرجَ يومَ العيدِ، فلم يَزَلْ يُكَبِّرُ حتى انْتَهى إلى الجَبّانَةِ (¬2). قال الأَثْرَمُ: قِيلَ لأبى عبدِ اللَّه فِى الجَهْرِ بالتَّكْبِيرِ حتى يَأْتِىَ المُصَلَّى، أو حتى يَخْرُجَ الإِمامُ؟ قال: حتى يَأْتِىَ المُصَلَّى. وقال القاضى: فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، حتى يَخْرُجَ الإِمامُ. فصل: ولا بَأْسَ بخُرُوجِ النِّساءِ يومَ العِيدِ إلى المُصَلَّى. وقال ابنُ حامِدٍ: يُسْتَحَبُّ ذلك. ورُوِىَ عن أبى بكرٍ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنهما، أنَّهما قالا: حَقٌّ على كُلِّ ذاتِ نِطاقٍ أن تَخْرُجَ إلى العِيدَيْنِ (¬3). وكان ابنُ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في التكبير إذا خرج إلى العيد، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 165. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: أول كتاب العيدين. سنن الدارقطنى 2/ 44. (¬3) أخرجه عنهما ابن أبى شيبة، في: باب من رخص في خروج النساء إلى العيدين، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ يُخْرِجُ مَن اسْتَطاعَ مِن أهْلِه إلى العِيدَيْن (¬1). ورَوَتْ أمُّ عَطِيَّةَ، قالت: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نُخْرِجَهُنَّ في الفِطْرِ والأضْحَى؛ العَوَاتِقَ (¬2) وذَواتَ الخُدُورِ، فأمّا الحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصلاةَ، ويَشْهَدْنَ الخَيْرَ، ودَعْوةَ المُسْلِمين، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ: إحْدانا لا يَكُونُ لها جِلْبابٌ؟ قال: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وهذا لَفْظُ رِوايَةِ مسلمٍ. وقال القاضِى: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّ ذلك جائِزٌ غيرُ مُسْتَحَبٍّ، وكَرِهَه النَّخَعِىُّ، ويَحْيى الأنْصارِىُّ، وقالا: ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من رخص في خروج النساء إلى العيدين، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 182. (¬2) العواتق: جمع عاتق، وهى الجارية البالغة، أو التى قاربت البلوغ. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب شهود الحائض العيدين. . . إلخ، من كتاب الحيض، وفى: باب وجوب الصلاة في الثياب، من كتاب الصلاة، وفى: باب التكبير أيام منى. . . إلخ، وباب خروج النساء والحيض إلى المصلى، وباب اعتزال الحيض المصلى، وباب إذا لم يكن لها جلباب في العيد، من كتاب العيدين، وفى: باب تقضى الحائض المناسك. . . إلخ، من كتاب الحج. صحيح البخارى 1/ 88، 89، 99، 2/ 25، 26، 27، 28، 196. ومسلم، في: باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين. . . إلخ، من كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 605، 606. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في خروج النساء في العيدين، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 9/ 3، 10. والنسائى، في: باب شهود الحيض العيدين ودعوة المسلمين، وفى: باب خروج العواتق وذوات الخدور في العيدين، وباب اعتزال الحيض مصلى الناس، من كتاب العيدين. المجتبى 1/ 159، 3/ 147. والدارمى، في: باب خروج النساء في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 377. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 84، 85، 6/ 409.

678 - مسألة: (وإذا غدا من طريق، رجع فى أخرى)

وَإذَا غَدَا مِنْ طَرِيقٍ، رَجَعَ فِى أُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُعْرَفُ خُرُوجُ المرأةِ في العِيدَيْن عندَنا. وكَرِهَه سُفْيانُ، وابنُ المُبارَكِ، ورَخَّصَ أهلُ الرَّأْىِ للمرأةِ الكَبِيرَةِ، وكَرِهُوه للشّابَّةِ، لِما في خُرُوجهِنَّ مِن الفِتْنَةِ، وقولِ عائِشةَ، رَضِىَ اللَّه عنها: لو رَأى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما أحْدَثَ النِّساءُ لَمَنَعَهُنَّ المَساجدَ، كما مُنِعَت نِساءُ بَنِى إسْرائِيلَ (¬1). ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن سُنَّةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهى أحَقُّ أن تُتَبّعَ، وقولُ عائِشةَ مُخْتَصٌّ بمَن أحْدَثَتْ دونَ غيرِها، ولا شَكَّ في أنَّ تلك يُكْرَهُ لها الخُرُوجُ، وإنَّما يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الخُرُوجُ غيرَ مُتَطَيِّباتٍ، ولا يَلْبَسْنَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ ولا زِينَةٍ ويَخْرُجْنَ في ثِيابِ البِذْلَةِ؛ لقَوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» (¬2). ولا يُخالِطْنَ الرِّجالَ، بل يَكُنَّ ناحِيَةً مِنهم. 678 - مسألة: (وإذا غَدا مِن طَرِيقٍ، رَجَع في أُخْرَى) الرُّجُوعُ في غيرِ الطَّرِيقِ التى غَدا منها سُنَّةٌ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ؛ لأنَّ النبىَّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، من كتاب الأذان. صحيح البخارى 1/ 219. ومسلم، في: باب خروج النساء إلى المساجد. . . إلخ، من كتاب الصلاة. صحيح مسلم 1/ 329. والإمام مالك، في: باب ما جاء في خروج النساء الى المساجد، من كتاب القبلة. الموطأ 1/ 198. وذكره الترمذى، في: باب ما جاء في خروج النساء في العيدين، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 3/ 10. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 334.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُه. قال أبو هُرَيْرَةَ: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خَرَج يَوْمَ العِيدِ في طَرِيقٍ رَجَع في غيرِه (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. قال بعضُ أهلِ العِلْمِ: إنَّما فَعَل هذا قَصْدًا لسُلُوكِ الأبعَدِ في الذَّهابِ ليَكْثُرَ ثَوابُه وخُطُواتُه إلى الصَّلاةِ، ويَعُودُ في الأقْصَرِ؛ لأنَّه أسْهَلُ. وقيل: كان يُحِبُّ أن يَشْهَدَ له الطَّريقانِ. وقيل: كان يُحِبُّ المُساواةَ بينَ أهلِ الطَّرِيقَيْن في التَّبَرُّكِ بمُرُورِه بهم، وسُرُورِهم برُؤيَتِه، ويَنْتَفِعُونَ بمَسْألَتِه. وقِيل: لتَحْصُلَ الصَّدَقَةُ ممَّن صَحِبَه على أهلِ الطَّرِيقَيْن مِن الفُقَراء. وقيل: ليَشْتَرِكَ الطَّرِيقان بوَطْئِه عليهما. وفى الجُمْلَةِ، الاقْتِداْءُ به سُنَّةً؛ لاحْتِمال بَقاءِ المَعْنَى الذى فَعَلَه لأجلِه، ولأنَّه قد يَفْعَلُ الشئَ لمَعْنًى ويَبْقَى ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في خروج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى العيد في طريق ورجوعه من آخر، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 3/ 11. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الخروج يوم العيد. . . إلخ، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 412. والدارمى، في: باب الرجوع من المصلى من غير الطريق الذى خرج منه، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 378. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حَقِّ غيرِه سُنَّةً مع زَوالِ المَعْنَى، كالرَّمَلِ والاضْطِباعِ في طَوافِ القُدُومِ، فَعَلَه هو وأصحابُه لإِظْهارِ الجَلَدِ للكُفارِ، وهى سُنَّةٌ. قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: فيمَ الرَّمَلانُ الآنَ؟ ولمَن نُبْدِى مَناكِبنا وقد نَفَى اللَّهُ المُشْرِكِينَ؟ ثم قال: مع ذلك لا نَدَعُ شيئًا فَعَلْناه مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الرمل، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 436. والإمام أحمد، في: المسند 4511

679 - مسألة: (وهل من شرطها الاستيطان، وإذن الإمام، والعدد المشروط للجمعة؟ على روايتين)

وهل مِن شَرْطِها الاسْتِيطانُ، وإذْنُ الإِمامِ، والعَدَدُ المَشْرُوطُ للجُمُعَةِ؟ على رِوايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ 679 - مسألة: (وهل مِن شَرْطِها الاسْتِيطانُ، وإذْنُ الإِمامِ، والعَدَدُ المَشْرُوطُ للجُمُعَةِ؟ على رِوايَتَيْن) يُشْتَرَطُ لوُجُوب صَلاةِ العِيدِ ما يُشْتَرَطُ لوُجُوبِ صَلاةِ الجُمُعَةِ مِن الاسْتِيطانِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلِّها في سَفَرِه، ولا خُلَفاؤُه، وكذلك العَدَدُ المُشْتَرَطُ لصلاةِ الجُمُعَةِ؛ لأنَّها صلاةُ عِيدٍ، فأشْبَهَتِ الجُمُعَةَ. وفى اشْتِراطِ إذْنِ الإِمامِ رِوايتان؛ أصَحُّهما، أنَّه لا يُشْتَرَطُ، كما قُلْنا في الجُمُعَةِ، ولا يُشْتَرَطُ شئٌ مِن ذلك لصِحَّتِها؛ لأنَّ أنَسًا كان إذا لم يَشْهَدِ العِيدَ مع الإِمامِ، جَمَع أهْلَه ومَوالِيَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قام عبدُ اللَّهِ بنُ أبى عُتْبَةَ مَوْلاه فصَلَّى بهم رَكْعَتَيْن، يُكَبِّرُ فيهما، ولأنَّها في حَقِّ مَن انْتَفَتْ فيه شُرُوطُ الوُجُوبِ تَطَوُّعٌ، فلم يُشْتَرَطْ لها ذلك، كسائِرِ التَّطَوُّعِ. وقد ذَكَرَ شَيْخُنا (¬1) ههُنا رِوايَتَيْن، وكذلك ذَكَره أبو الخَطَّابِ. وقال القاضى: كلامُ أحمدَ يَقْتَضِى أنَّ في اشْتِراطِ ذلك رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، لا يُقامُ العِيدُ إلَّا حيث تُقامُ الجُمُعَةُ. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ، إلَّا أنَّه لا يَرَى ذلك إلَّا في المِصْرِ؛ لقَوْلِه: لا جُمُعَةَ ولا تَشْرِيقَ إلَّا في مِصْرٍ جامِعٍ (¬2). والثَّانِيَةُ، يُصَلِّيها المُنْفَرِدُ والمُسافِرُ، والعَبْدُ، والنِّساءُ. وهذا قولُ الحسنِ، والشافعىِّ؛ لِما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّ الإِمامَ إذا خَطَب مَرَّةً، ثم أرادُوا أن يُصَلُّوا، لم يَخْطُبُوا ثانيًا، وصَلَّوْا بلا خُطْبَةٍ، كيْلا يُؤَدِّىَ إلى تَفْرِيقِ الكَلِمَةِ، وهذا التَّفْصيلُ الذى ذَكَرْناه أوْلَى ما قيل به، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 287. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال ابنُ عَقِيلٍ: إذا قُلْنا: مِن شَرْطِها العَدَدُ. وكانت قَرْيَةٌ إلى جانِبِ قَرْيَةٍ أو مِصْرٍ يُصَلَّى فيه العِيدُ، لَزِمَهم السَّعْىُ إلى العِيدِ، سواءٌ كانوا بحيثُ يَسْمَعُونَ النِّداءَ أم لا؛ لأنَّ الجُمُعَةَ إنَّما لم يَلْزَمْ إتْيانُها مع عَدَم السَّماعِ؛ لتَكَرُّرِها، بخِلافِ العِيدِ، فإنَّه لا يَتَكَرَّرُ، فلا يَشُقُّ إتْيانه.

680 - مسألة: (وتسن فى الصحراء، وتكره فى الجامع، إلا من عذر)

وَتسَنُّ فِى الصَّحْرَاءِ، وَتُكْرَهُ فِى الْجَامِعِ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 680 - مسألة: (وتُسَنُّ في الصَّحراءِ، وتُكْرَهُ في الجامِعِ، إلَّا مِن عُذْرٍ) السُّنَّةُ أن يُصَلَّى العِيدُ في المُصَلَّى، أمَرَ بذلك علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، واسْتَحْسَنَه الأوْزَاعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وهو قولُ ابنَ المُنْذِرِ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ، إن كان مَسْجِدُ البَلَدِ واسِعًا، فالصلاةُ فيه أوْلَى؛ لأنَّه خَيْرُ البِقاعِ وأطْهَرُها، ولذلك يُصَلِّى أهلُ مَكَّةَ في المَسْجِدِ الحَرامِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْرُجُ إلىْ المُصَلَّى ويَدَعُ مَسْجِدَه، وكذلك الخُلَفاءُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّاشِدُون بعدَه، ولا يَتْرُكُ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأفْضَلَ مع قُرْبِه، ويَتَكَلَّفُ فِعْلَ المَفْضُول مع بُعْدِه، ولا يَشْرَعُ لاُّمَّتِه تَرْكَ الفَضائِلِ، ولأنّا قد أُمِرْنا باتِّباعِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- والاقْتِداءِ به، ولا يَجُوزُ أن يكونَ المَأمُورُ به هو النّاقِصَ، ولأنَّ هذا إجْماعٌ، فإنَّ النّاسَ في كُلِّ عَصْرٍ يَخْرُجُون إلى المُصَلَّى، فيُصَلُّون فيه العِيدَيْن، مع سَعَةِ المَسْجِدِ وضِيقِه، ولم يُنْقَلْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه صَلَّى العِيدَ بمَسْجدِه إلَّا مِن عُذْرٍ، مع شَرَفِ مَسْجِدِه. ورَوَيْنا عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قِيلَ له: قد اجْتَمَعَ في المَسْجدِ ضُعَفاءُ النّاسِ وعُمْيانُهم، فلو صَلَّيْتَ بهم في المَسْجِدِ؟ فقال: أُخالِفُ السُّنَّةَ إذًا، ولكنْ أخْرُجُ إلى المُصَلَّى، وأسْتَخْلِفُ مَن يُصلِّى بهم في المَسْجِدِ أرْبَعًا (¬1). وصلاةُ النَّفْلِ في البَيْتِ أفْضَلُ منها، مع شَرَفِه. ويُسْتَحَبُّ للإِمامِ إذا خَرَج أن يَسْتَخْلِفَ في المَسْجِدِ مَن يُصَلِّى بضَعَفَةِ النّاس في الجامِعِ؛ لأنَّ عَليًّا، رَضِىَ اللَّهُ ¬

(¬1) انظر: السنن الكبرى للبيهقى 3/ 310، ومصنف ابن أبى شيبة 2/ 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، اسْتَخْلَفَ أبا مَسْعُودٍ البَدْرِىَّ يُصَلِّى بضَعَفَةِ النّاسِ في المَسْجِدِ. رَواه سَعِيدٌ. وهل يُصَلِّى المُسْتَخْلَفُ رَكْعَتَيْن، أم أرْبَعًا؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهُما، يُصَلِّى أرْبَعًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن قولِ علىٍّ. والثّانيةُ، يُصَلِّى رَكْعَتَيْن. ورُوِى أنَّه صَلَّى أرْبَعًا. فإن كان عُذْرٌ مِن مَطَرٍ أو نحوِه، صَلَّى في المَسْجِدِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أصابَنا مَطَرٌ في يَوْمِ عِيدٍ، فصَلَّى بنا رسولُ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَسْجِدِ. رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: ولا يُشْرَعُ لها أذانٌ ولا إقامَةٌ، ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا، إلَّا ¬

(¬1) في: باب يصلى بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 264. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة العيد في المسجد إذا كان مطر، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 416.

681 - مسألة: (ويبدأ بالصلاة، فيصلى ركعتين)

وَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، فَيُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه رُوِىَ عن ابنِ الزُّبَيْرِ أنَّه أذَّنَ وأقامَ. وقِيلَ: أوَّلُ مَن أذَّنَ في العِيدَيْن ابنُ زِيادٍ. وهذا يَدُلُّ على انْعِقادِ الإِجْماعِ قبلَه أنَّه لا يُسَنُّ ذلك. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقد روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى العِيدَيْن بغيرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ. وعن جابِرٍ مثلُه. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وعن عَطاءٍ، قال: أخْبَرَنِى جابِرٌ أن لا أذانَ للصلاةِ يَومَ الفِطْرِ حينَ يَخْرُجُ الإِمامُ، ولا بعدَ ما يَخْرُجُ الإِمامُ، ولا إقامَةَ، ولا نِداءَ ولا شئَ، لا نِداءَ يَوْمَئِذٍ ولا إقامَةَ. رَواه مسلمٌ (¬2). وقال بعضُ أصحابِنا: يُنادَى لها: الصلاةَ جامِعةً. وهو قولُ الشافعىِّ. والسُّنَّةُ أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. 681 - مسألة: (ويَبْدأُ بالصلاةِ، فيُصلِّى رَكْعَتَيْن) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يَبْدأُ في العِيدِ بالصَّلاةِ قبلَ الخُطْبَةِ، لا نَعْلَمُ في ذلك خِلَافًا، إلَّا ما رُوِىَ عن بَنِى أُمَيَّةَ. وقِيلَ: إنَّه يُرْوَى عن عُثمانَ، وابنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُما فَعَلا ذلك. ولا يَصِحُّ عنهما، وخِلافُ بَنِى أُمَيَّةَ مَسْبُوقٌ بالإِجْماعِ، فلا يُعْتَدُّ به، ولأنَّه مُخالِفٌ لسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّحِيحَةِ، ولخُلَفائِه ¬

(¬1) حديث ابن عباس ليس عند البخارى ولا مسلم. وتقدم تخريجه في صفحة 315. وحديث جابر بن سمرة بهذا اللفظ ليس عند البخارى. وأخرجه مسلم، في: أول كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 603، 604. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء أن صلاة العيدين بغير أذان ولا إقامة، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 3/ 4. والدارمى، في: باب صلاة العيدين بلا أذان ولا إقامة. . . إلخ، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 375. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 310، 314، 318، 381، 382. (¬2) في: أول كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 604.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرّاشِدِين؛ فإنَّ ابنَ عُمَرَ قال: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبا بكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، كانوا يُصَلّونَ العِيدَيْن قبلَ الخُطْبَةِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). وقد أُنْكِرَ على بَنِى أُمَيَّةَ فِعْلُهم، وعُدَّ مُنْكَرًا وبِدْعَةً، فرَوَى طارِقُ بنُ شِهابٍ، قال: قَدَّمَ مَرْوانُ الخُطْبَةَ قبلَ الصَّلاةِ، فقامَ رجلٌ، فقال: خالَفْتَ السُّنَّةَ، كانتِ الخُطْبَةُ بعدَ الصَّلاةِ. فقال: تُرِك ذلك يا أبا فُلانٍ. فقامَ أبو سعيدٍ فقال: أمّا هذا المُتَكَلِّمُ فقد قَضَى ما عليه، قال لَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ رَأىَ مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ (¬2) بِيدِهِ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ». رَواه أبو داودَ الطَّيالِسىّ، عن شُعْبَةَ، عن قَيْصرِ بنِ مسلمٍ، عن طارقٍ. ورَواه مسلمٌ بمَعْناه (¬3). فعلى هذا مَن خَطَب قبلَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الخطبة بعد العيد، من كتاب العيدين. صحيح البخارى 2/ 23. ومسلم، في: أول كتاب صلاة العيدين. صحيج مسلم 2/ 605. كما أخرجه النسائى، في: باب صلاة العيدين قبل الخطبة، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 149. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 407. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 12، 38، 71. (¬2) في م: «فليغيره». (¬3) أخرجه أبو داود الطيالسى، في منحة المعبود 2/ 51. ومسلم، في: باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان. . . إلخ، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 69. كما أخرجه أبو داود، في: باب الخطبة يوم العيد، من كتاب الصلاة، وفى: باب الأمر والنهى، من كتاب الملاحم. سنن أبى داود 1/ 360، 361، 2/ 437. والترمذى، في: باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذى 9/ 18، 19. والنسائى، في: باب تفاضل أهل الإيمان، من كتاب الإيمان. المجتبى 8/ 98. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة، وفى: باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 1/ 406، 2/ 1330. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 10، 20، 49، 52، 53، 92.

682 - مسألة: (يكبر فى الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ ستا، وفى الثانية بعد القيام من السجود خمسا)

يُكَبِّرُ فِى الأُولَى بَعْدَ الِاسْتِفْتَاح. وَقَبْلَ التَّعَوُّذِ سِتًّا، وَفِى الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ خَمْسًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلاةِ فهو كمَن لم يَخْطُبْ؛ لأنَّه خَطَب في غيرِ مَحَلِّ الخُطْبَةِ، أشْبَهَ ما لو خَطَب في الجُمُعَةِ بعدَ الصَّلاةِ. فصل: ولا خِلافَ بينَ أهلِ العِلْمِ أنَّ صلاةَ العِيدِ رَكْعَتان، وذلك المُتَواتِرُ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه فَعَل ذلك، وفَعَلَه الأئِمَّةُ بعدَه. وقد قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: صلاةُ العِيدِ رَكْعتان، تَمامٌ غيرُ قَصْرٍ، على لِسانِ نَبِيِّكم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد خاب مَن افْتَرَى (¬1). 682 - مسألة: (يُكَبِّرُ في الأُولَى بعدَ الاسْتِفْتاحِ وقبلَ التَّعَوُّذِ سِتًّا، وفى الثّانِيَةِ بعدَ القِيام مِن السُّجُودِ خَمْسًا) السُّنَّةُ أن يَسْتَفْتِحَ بعدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ، ثم يُكَبِّرَ تَكبِيراتِ العِيدِ، ثم يَتَعَوَّذَ، ثم يَقْرَأ. هذا المَشْهُورُ في المَذْهَبِ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ. وعن الإِمامِ أحمدَ، أنَّ الاسْتِفْتاحَ بعدَ التَّكْبِيراتِ. اخْتارَها الخَلّالُ وصاحِبُه. وهو قولُ الأوْزاعِىِّ؛ لأنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِفْتاحَ يَلِيه الاستِعاذةُ [في سائِرِ الصَّلَواتِ، كذلك ههُنا، والقِراءَةُ تَلِى الاسْتِعاذَةَ] (¬1). قال أبو يوسفَ: يَتَعَوَّذُ قبلَ التَّكْبِيرِ؛ لئَلّا يَفْصِلَ بينَ الاسْتِفْتاحِ والاسْتِعاذةِ. ولَنا، أنَّ الاسْتِفْتاحَ يُشْرَعُ لافْتِتاحِ الصَّلاةِ، فكان في أوَّلِها كسائِرِ الصَّلَواتِ، والاسْتِعاذَةُ شُرِعَتْ للقِراءَةِ، فهى تابِعَةٌ لها، فتكونُ عندَ الابْتِداءِ بها؛ لقَوْلِ اللَّه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2). وإنَّما جَمَع بينَهما في سائِرِ الصَّلَواتِ؛ لأنَّ القِراءَةَ تَلِى الاسْتِفْتاحَ مِن غيرِ فاصِلٍ، فَلَزِمَ أن يَليَه ما يكونُ في أوُّلِها بخِلافِ مَسأَلَتِنا. وأيَّما فَعَل كان جائِزًا. فصل: وعَدَدُ التَّكْبِيراتِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى ستُّ تَكْبِيراتٍ غيرَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ، وفى الثّانيةِ خَمْسٌ سِوَى تَكْبِيرَةِ القِيامِ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: يُكَبِّرُ في الأُولَى سَبْعًا مع تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ، وِلا يَعْتَدُّ بتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ؛ لأنَّ بينَهما قِراءَةً، ويُكَبِّرُ في الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ خمْسَ تَكْبِيراتٍ، ولا يَعْتَدُّ بتَكْبِيرَةِ النُّهُوضِ، ثم يَقْرأُ في الثّانِيَةِ، ثم يُكَبِّرُ ويَرْكَعُ. ورُوِىَ ذلك عن فُقَهاءِ المَدِينَةِ السَّبْعَةِ (¬3)، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، والزُّهْرِىِّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النحل 98. (¬3) فقهاء المدينة السبعة هم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار. طبقات الفقهاء للشيرازى 57 - 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٍ، والمُزَنِىِّ. ورُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ، وأبى سَعِيدٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، ويَحْيى الأنْصارِىِّ، قالوا: يُكَبِّرُ في الأُولَى سَبْعًا وفى الثّانِيَةِ خَمْسًا. وبه قال الشافعىُّ، وإسْحاقُ، إلَّا أنَّهم قالوا: يُكَبِّرُ سَبْعًا في الأُولَى سِوَى تَكْبيرَةِ الافْتِتاحِ (¬1)؛ لقَوْلِ عائِشةَ، رَضِىَ اللَّه عنها وعن أبِيها: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَبِّرُ في العِيدَيْنِ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سِوَى تَكْبِيرَةِ الافْتِتاحِ. رَواه الدّارَقُطْنِىُّ (¬2). ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، وأنَسٍ، والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِىِّ: يُكَبِّرُ سَبْعًا. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: في الأُولَى والثّانِيَةِ ثَلاثًا ثَلاثًا؛ لِما روَى أبو موسى، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَبِّرُ تَكْبِيرَه على الجِنازةِ ويُوالِى بينَ القِراءَتَيْنِ. رَواه أبو داودَ (¬3). ورُوِىَ أنَّ سَعِيدَ بنَ العاصِ سأل أبا موسى، وحُذَيْفَةَ: كيف كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَبِّرُ في الأضْحَى والفِطْرِ؟ فقال أبو موسى: كان يُكَبِّرُ أرْبَعًا، تَكْبِيرَه على الجِنازَةِ. فقالَ حُذَيْفَةُ: صَدَق (¬4). ولَنا، ما روَى كثِيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ، عن أبِيه، عن جَدَّه، أنَّ ¬

(¬1) في م: «الإحرام». (¬2) في: أول كتاب العيدين. سنن الدارقطنى 2/ 46. (¬3) أخرجه أبو داود باللفظ الذى بعده، وليس فيه: «ويوالى بين القراءتين». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب التكبير في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 263. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 416.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَبَّرَ في العِيدَيْن في الأُولَى سَبْعًا قبلَ القِراءَةِ، وفى الثّانِيَةِ خَمْسًا قبلَ القِراءةِ. رَواه الأثرَمُ، وابنُ ماجه، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: هو حديثٌ حسنٌ، وهو أحْسَنُ حَدِيثٍ في البابِ. وعن عائِشَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكَبِّرُ في الفِطْرِ والأضْحَى؛ في الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيراتٍ، وفى الثّانيةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرتَى الرُّكُوعِ. رَواه أبو داودَ (¬2). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: قد رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ حِسانٍ، أنَّه كَبَّرَ في العِيدِ سَبْعًا في الأُولَى وخَمْسًا في الثّانِيَةِ مِن حَدِيثِ عبدِ اللَّه بنِ عَمْرو، وابنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، وعائِشَةَ، وأبى واقِدٍ، وعَمْرِو ابنِ عَوْفٍ، ولم يُرْوَ عنه مِن وَجْهٍ قَوِىٍّ ولا ضَعِيفٍ خِلافُ هذا، وهو أوْلَى ما عُمِل به. وحديثُ عائشةَ المَعْرُوفُ عنها كما رَوَيْناه، وحَدِيثُهم إنَّما رَواه الدّارَقُطْنِىُّ مِن رِوايَةِ ابن لِهِيعَةَ (¬3)، وحَدِيثُ أبى موسى ضَعِيفٌ، يَرْوِيه أبو عائشةَ (¬4)، جَلِيسٌ لأبى هُرَيْرَةَ، وهو غيرُ مَعْرُوفٍ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في التكبير في العيدين، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 6، 7. واين ماجه، في: باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 407. كما أخرجه الدارمى، في: باب التكبير في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 376. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 73. (¬2) في: باب التكبير في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 262. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 407. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 70. (¬3) هو عبد اللَّه بن لهيعة بن عقبة، أبو عبد الرحمن المصرى القاضى الفقيه، حدث عن جمع كبير من التابعين، مختلف في توثيقه وتضعيفه. توفى سنة أربع وسبعين ومائة. تهذيب الكمال 15/ 487 - 503. (¬4) أبو عائشة القرشى الأموى مولى سعيد بن العاص أو مروان الحكم. تهذيب الكمال 34/ 17، 18.

683 - مسألة: و (يرفع يديه مع كل تكبيرة)

يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، ويَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَصَلَّى اللَّه عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِىِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَإنْ أَحَبَّ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 683 - مسألة: و (يَرْفَعُ يَدَيْه مع كلِّ تَكْبِيرَةٍ) يُسْتَحَبُّ أن يَرْفَعَ يَدَيْه في حالِ تَكْبيرِه، كرَفْعِهما مع تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ. وبه قال عَطاءٌ، والأوْزاعِىّ، وأبَو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىّ: لا يَرْفَعُهما فيما عدا تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ؛ لأنَّها تَكْبِيراتٌ في أثْناءِ الصَّلاةِ، أشْبَهَتْ تَكْبِيراتِ الرُّكُوعِ. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَرْفَعُ يَدَيْه مع التَّكْبِيرِ (¬1). قال أحمدُ: أمّا أنا فأرَى أنَّ هذا الحديثَ يدْخُلُ فيه هذا كلُّه. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَرْفَعُ يَدَيْه في كلِّ تَكْبِيرَةٍ في الجِنازَةِ، وفى العِيدِ. رَواه الأثْرَمُ (¬2). ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ في الصَّحابةِ. فأمّا تَكْبِيراتُ الرُّكُوعِ، قُلْنا: فيها مَنْعٌ. وإن سُلِّمَ؛ فلأنَّ هذه يَقَعُ طَرَفاها في حالِ القِيامِ، فهى بمَنْزِلَةِ تَكْبِيرَةِ الافْتِتاحِ. واللَّهُ أعلمُ. 684 - مسألة: (ويَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ كَبِيرًا، والحَمْدُ للَّهِ كَثِيرًا، وسبحان اللَّه بُكْرَةً وأصِيلًا، وصَلَّى اللَّهُ على مُحمَّدٍ النبىِّ وآلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وإن أحَبَّ قال غيرَ ذلك) وجملةُ ذلك، أنَّه متى فَرَغ مِن ¬

(¬1) تقدم في صفة الصلاة من حديث أبى حميد في 3/ 399، 400. (¬2) وأخرجه البيهقى، في: باب رفع اليدين في تكبير العيد، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِفْتاحِ في صَلاةِ العِيدِ، حَمِد اللَّهَ وأثْنَى عليه، وصَلَّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم فَعَل ذلك بينَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْن، وإن قال ما ذُكِرَ ههُنا فحَسَنٌ؛ لكَوْنِه يَجْمَعُ ذلك كلَّه، وإن قال غيرَه نحوَ: سبحان اللَّهِ، والحَمْدُ للَّهِ، ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، أو ما شاءَ مِن الذِّكْرِ فجائِزٌ. وبهذا قال الشافعىُّ وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ: يُكَبِّرُ مُتَوالِيًا، لا ذِكْرَ بينَه؛ لأنَّه لو كان بينَه ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لنُقِلَ كما نُقِلَ التَّكْبِيرُ، ولأنَّه ذِكْرٌ مِن جِنْسٍ مَسْنونٍ، فكان مُتَوالِيًا، كالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودٍ. ولَنا، ما روَى عَلْقَمَةُ، أنَّ عبدَ اللَّه بنَ مسعودٍ، وحُذيْفَةَ، وأبا موسى، خرَج عليهم الوَلِيدُ ابنُ عُقْبَةَ قبلَ العِيدِ يَوْمًا، فقال لهم: إنَّ هذا العِيدَ قد دَنا، فكيف التَّكْبِيرُ فيه؟ فقال عبدُ اللَّهِ: تَبْدَأُ فتُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً تَفْتَتِحُ بها الصلاةَ، وتَحْمَدُ رَبَّكَ، وتُصَلِّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم تَدْعُو وتُكَبِّرُ وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَدْعُو وتُكَبِّرُ، وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَدْعُو وتُكَبِّرُ، وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَدْعُو

685 - مسألة: (ثم يقرأ بعد الفاتحة فى الأولى بـ «سبح»

ثُمَّ يَقْرا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِى الأولَىْ بـ «سَبِّح»، وَفِى الثَّانِيَةِ بِـ «الغَاشِيَةِ»، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وتُكَبِّرُ، وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَدْعُو وتُكَبِّرُ وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَقْرأُ، ثم تُكَبِّرُ وتَرْكَعُ، ثم تَقُومُ فتَقْرأُ وتَحْمَدُ رَبَّكَ، وتُصَلِّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم تَدْعُو وتُكَبِّرُ، وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تُكَبِّرُ وتَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم تَرْكَعُ. فقال حُذَيْفَةُ وأبو موسى: صَدَق أبو عبدِ الرحمنِ. رَواه الأثْرَمُ (¬1). ولأنَّها تَكْبِيراتٌ حالَ القِيامِ، فاسْتُحِبَّ أن يَتَخَلَّلَها ذِكْرٌ، كتَكْبِيراتِ الجِنازَةِ، وتُفارِقُ التَّسْبِيحَ، فإنَّه ذِكْر يَخْفَى ولا يَظْهَرُ، بخِلافِ التَّكْبِيرِ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بتَكْبِيراتِ الجِنازَةِ. قال القاضى: يَقِف بينَ كلِّ تَكْبِيرَتَيْن بقَدْرِ آيَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ. وهذا قولُ الشافعىِّ. 685 - مسألة: (ثم يَقْرأُ بعدَ الفاتِحَةِ في الأُولى بـ «سَبِّح» (¬2). ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب يأتى بدعاء الاستفتاح عقيب تكبيرة الافتتاح، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 291. (¬2) أى سورة الأعلى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى الثّانيةِ بـ «الغاشِيَة»، ويَجْهَرُ بالقِراءَةِ) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّه يُشْرَعُ أن يَقْرَأ في كلِّ رَكْعَةٍ مِن صلاةِ العِيدِ بفاتِحَةِ الكِتاب وسُورَةٍ، وأنَّه يُسَنُّ الجَهْرُ في القراءَةِ فيما نَعْلَمُ، إلَّا أنَّه رُوِىَ عن علىٍّ، أَنَّه كان إذا قَرَأ في العِيدَيْن أسْمَعَ مَن يَلِيه، ولم يَجْهَرْ ذلك الجَهْرَ (¬1). وقال ابنُ المُنْذِرِ: أكثَرُ أهلِ العِلْم يَرَوْن الجَهْرَ بالقِراءَةِ، وفى أخْبارِ مَن أخْبَرَ بقِراءَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها دَلِيلٌ على أنَّه كان يَجْهَرُ، ولأنَّها صلاةُ عِيدٍ، أشْبَهَتِ الجُمُعَةَ. ويُسْتَحَبُّ أن يَقْرَأ في الأُولَى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وفى الثّانيةِ بالغاشِيَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ النُّعمانَ بنَ بَشِيرٍ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ في العِيدَيْن وفى الجُمُعَةِ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وربَّما اجْتَمَعا في يَوْمٍ واحِدٍ فقرأ بهما. رَواه مسلمٌ (¬2). وقال الشافعىُّ: يقرأُ بـ «ق». و «اقْتَرَبَتِ» (¬3). وحَكاه ابنُ أبى موسى، عن أحمدَ، لِما رُوى أنَّ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في رفع الصوت بالقراءة في العيدين، من كتاب الصلوات. مصنف ابن أبى شيبة 2/ 180. (¬2) في: باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، من كتاب الجمعة. صحيح مسلم 2/ 598. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ به في الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 257. والترمذى، في: باب ما جاء في القراءة في العيدين، من أبواب الجمعة. عارضة الأحوذى 3/ 5. والنسائى، في: باب القراءة في العيدين. . . إلخ، من كتاب العيدين، وفى: باب ذكر الاختلاف على النعمان. . . . إلخ، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 92، 150. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 408. والدارمى، في: باب القراءة في العيدين، وباب القراءة في صلاة الجمعة، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 368، 376، 377. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 271، 273، 376. (¬3) أى سورة القمر.

686 - مسألة: (ويكون بعد التكبير فى الركعتين. وعنه، يوالى بين القراءتين)

وَيَكُونُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ فِى الرَّكْعَتَيْنِ. وَعَنْهُ، يُوَالِى بَيْنَ الْقرَاءَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ سألَ أبا واقِدٍ اللَّيْثِىَّ: ماذا كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرأُ به في الفِطْرِ والأضْحَى؟ فقال: كان يَقْرأُ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}. و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} رَواه مسلمٌ (¬1). قال أبو حنيفةَ: ليس فيه شئٌ مُؤَقَّتٌ. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ رِوايَةً عن أحمدَ. وكان ابنُ مسعودٍ يَقْرأُ بالفاتِحَةِ وسورَةٍ مِن المُفَصَّلِ. ومَهْما قَرَأ به كان حَسَنًا، إلَّا أنَّ ما ذَكَرْناه أحْسَنُ؛ لأنَّه كان مَذْهَبًا لعُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، وعَمِل به، ولأنَّه قد رَواه مع النُّعْمانِ ابنُ عباسٍ، وسَمُرَةُ، ولأنَّ في {سَبِّحِ} الحَثَّ على الصَّلاةِ وزكاةِ الفِطْرِ، على ما قاله سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، في تَفْسِيرِ قولِه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬2). فاخْتُصَّتِ الفَضِيلَةُ به، كاخْتِصاصِ الجُمُعَةِ بسُورَتِها. 686 - مسألة: (ويَكُونُ بعدَ التَّكْبِيرِ في الرَّكْعَتَيْن. وعنه، يُوالِى بينَ القِراءَتَيْن) المَشْهُورُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، أنَّ القِراءَةَ تكونُ بعدَ التَّكْبِيرِ في الرَّكْعَتَيْن. رُوِىَ ذلك عن أبى هُرَيْرةَ، والفُقَهاءِ السَّبْعَةِ، وعُمَرَ ابنِ عبدِ العزِيزِ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، الشافعىِّ، واللَّيْثِ. ورُوِىَ عن ¬

(¬1) في: باب ما يقرأ به في صلاة العيدين، من كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 607. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقرأ في الأضحى والفطر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 263. والإمام مالك، في: باب ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين، من كتاب العيدين. الموطأ 1/ 180. (¬2) سورة الأعلى 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، أنَّه يُوالِى بينَ القِراءَتَيْن. ومَعْناه أنَّه يُكَبِّرُ في الأُولَى قبل القِراءَةِ، وفى الثَّانيةِ بعدَها. اخْتارَها أبو بكرٍ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وحُذَيْفَةَ، وأبى موسى، وأبى مسعودٍ البَدْرِىِّ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والثَّوْرِىِّ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ. وعن أبى موسى، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَبِّر تَكْبِيرَه على الجِنازَةِ، ويُوالِى بينَ القِراءَتَيْن. رَواه أبو داودَ (¬1). ولَنا، ما رَوَت عائشةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكَبِّرُ في العِيدَيْن سَبْعًا وخَمْسًا قبلَ القِراءَةِ. رَواه أحمدُ في المُسْنَدِ (¬2). وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو (¬3)، قال: قال نبىُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «التَّكْبِيرُ فِى الفِطْرِ سَبْعٌ فِى الأُولَى، وَخَمسٌ فِى الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُما كِلْتَيْهِمَا». رَواه أبو داودَ (¬4)، والأثْرَمُ. ورَواه ابنُ ماجه (4)، عن سَعْدٍ مُؤَذِّنِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلَ ذلك. وحَدِيثُ أبى موسى ضَعِيفٌ. قالَه الخَطّابِىُّ (¬5). وليس في رِوايَةِ ألى داودَ أنَّه والَى بينَ القِراءَتَيْن. ¬

(¬1) تقدم التعليق عليه في صفحة 343. (¬2) المسند 6/ 65. (¬3) في النسخ: «عمر»، والمثبت من أبى داود. (¬4) في: باب التكبير في العيدين، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 262. ورواية ابن ماجه، في: باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 407. (¬5) في: معالم السنن 1/ 252.

687 - مسألة: (فإذا سلم خطب خطبتين، يجلس بينهما، يفتتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع، يحثهم فى خطبة الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يخرجون، ويرغبهم فى الأضحية فى الأضحى، ويبين لهم حكم الأضحية)

فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا، يَسْتَفْتِحُ الأُولَى بِتِسْعِ تَكبِيرَاتٍ، وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ، يَحُثُّهُمْ فِى خُطْبَةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُخْرِجُونَ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِى الأُضْحِيَةِ فِى الْأَضْحَى، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ حُكْمَ الأُضْحِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 687 - مسألة: (فإذا سَلَّمَ خَطَب خُطْبَتَيْن، يَجْلِسُ بينَهما، يَفْتَتِحُ الأُولَى بتِسْعِ تَكْبِيراتٍ، والثّانِيَةَ بسَبْعٍ، يَحُثُّهم في خُطْبَةِ الفِطْرِ على الصَّدَقَةِ، ويُبَيِّنُ لهم ما يُخْرِجُون، ويُرَغِّبُهم في الأضْحِيَةِ في الأضْحَى، ويُبَيِّنُ لهم حُكْمَ الأُضْحِيَةِ) الخُطْبَتان مَشْرُوعَتان بعدَ صلاةِ العِيدِ، ويُسْتَحَبُّ الجُلُوسُ بينَهما؛ لِما روَى جابرٌ، قال: خَرَج رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فِطْرِ أو أضْحَى، فخَطَبَ قائِمًا، ثم قَعَد قَعْدَةً، ثم قام. رَواه ابنُ ماجه (¬1). ويكُونان بعدَ الصَّلاةِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. وصِفَتُها كصِفَةِ خُطبَتَى الجُمعَةِ قِياسًا عليهما، إلَّا أنَّه يَسْتَفْتِحُ الأُولَى بتسْعِ تَكْبِيراتٍ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الخطبة في العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَوالِياتٍ، والثانيةَ بسَبْعٍ مُتَوالِياتٍ. قال القاضى: وإن جَعَل بينَهما تَهْلِيلًا أو ذِكْرًا فحَسَنٌ؛ لِما روَى سعيدٌ، حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أبِيه، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: يُكَبِّرُ الإِمامُ يَوْمَ العِيدِ على المِنْبَرِ قبلَ أن يَخْطُبَ بتِسْعِ تَكْبِيراتٍ، ثم يَخْطُبُ، وفى الثّانِيَةِ بسَبْعِ تَكْبِيراتٍ (¬1). ورُوِىَ عنه أنَّه قال: هو مِن السُّنَّةِ. ذَكَرَه البَغَوِىُّ. ويُسْتَحَبُّ أن يُكْثِرَ التَّكْبيرَ في أضْعافِ خُطْبَتِه، لِما روَى سَعْدٌ مُؤَذِّنُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكثِرُ التَّكْبِيرَ في خُطْبَةِ العِيدَيْن بينَ أضْعافِ الخُطْبَةِ. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وإذا كَبَّرَ في أثْناءِ الخُطْبَةِ كَبَّرَ النّاسُ بتَكْبِيرِه. وقد رُوِىَ عن أبى موسى، أنَّه كان يُكَبِّرُ يَوْمَ العِيدِ على المِنْبَرِ ثَلاثِين أو أرْبَعِين تَكْبِيرَةً. ويُسْتَحَبُّ أن يَجْلِسَ إذا صَعِد المِنْبَرَ قبلَ الخُطْبَةِ ليَسْتَرِيحَ، كالجُمُعَةِ. وقِيلَ: لا يَجْلِسُ، لأنَّ الجُلُوسَ في الجُمُعَةِ للأذانِ، ولا أذانَ ههُنا. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب التكبير في الخطبة في العيدين، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 299، 300. (¬2) في: باب ما جاء في الخطبة في العيد، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان فِطْرًا يَحُثُّهم على الصَّدَقَةِ، ويُبَيِّنُ لهم وُجُوبَ صَدَقَةِ الفِطْرِ وثَوابَها، وقَدْرَ المُخْرَجِ، وجِنْسَه، وعلى مَن تَجبُ، ووَقْتَها، وإن كان أضْحَى ذَكَر لهم الأُضْحِيَةَ، وفَضْلَها، وتَأكُّدَ اسْتِحْبابِها، وما يُجْزِئُ منها وما لا يُجْزِئُ، ووَقْتَ الذَّبْحِ، وصِفَةَ تَفْريقِها، وما يَقُولُ عندَ ذَبْحِها؛ ليَعْمَلُوا بذلك. وقد روَى أبو سعيدٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَخْرُجُ يَوْمَ الأضْحَى ويَومَ الفِطْرِ، فيَبْدأُ بالصلاةِ، فإذا صَلَّى صَلاتَه وسَلَّمَ، قام فأقْبَلَ على النّاسِ وهم جُلُوسٌ في مُصَلَّاهُم، فإن كان له حاجةٌ ببَعْثٍ ذَكَرَه للنّاسِ، أو كانت له حاجةٌ بغيرِ ذلك أمَرَهم بها، كان يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا». وكان أكْثَرَ مَن يَتَصَدَّقُ النِّساءُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 325.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللَّفْظُ لمسلم. وعن جابِرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَقَدْ أصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ» (¬1). ¬

(¬1) لم يرو عن جابر بهذا اللفظ، وأخرج له مسلم ما في معناه، في: باب سن الأضحية، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1555. انظر: نصب الراية للزيلعى 4/ 211، 212. وهذا اللفظ أخرجه -عن البراء بن عازب- كل من: البخارى، في: باب التبكير إلى العيد، وباب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد، من كتاب العيدين، وفى: باب سنة الأضحية، وباب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبى بريدة ضَحِّ بالجذع من المعز. . . إلخ، من كتاب الأضاحى. صحيح البخارى 2/ 24، 26، 7/ 128، 131. ومسلم، في: باب وقتها، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1552. والنسائى، في: باب الخطبة يوم العيد، من كتاب العيدين، وفى: باب ذبح الأضحية قبل الإمام، من كتاب الضحايا. المجتبى 3/ 148، 149، 7/ 696. وأخرجه -عن أنس- الإمام أحمد، في: المسند 3/ 113، 117.

688 - مسألة: (والتكبيرات الزوائد، والذكر بينهما، والخطبتان، سنة)

وَالتَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ، وَالذِّكْرُ بَيْنَهُمَا، وَالْخُطْبَتَانِ، سُنَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 688 - مسألة: (والتَّكْبِيراتُ الزَّوائِدُ، والذِّكْرُ بينَهما، والخُطْبَتان، سُنَّةٌ) لا تَبْطُلُ بتَرْكِه الصلاةُ عَمْدًا ولا سَهْوًا، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، فإن نَسِى التَّكْبِيرَ حتى شَرَع في القِراءَةِ لم يَعُدْ إليه. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ، وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّه سُنَّةٌ، فلم يَعُدْ إليه بعدَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ، كالاسْتِفْتاحِ. وقالْ القاضى: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَعُودُ إليه. وهو قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، والقولُ الثّانِىَ للشافعىِّ؛ لأنَّه ذَكَرَه في مَحَلِّه، فيَأْتِى به، كما قبلَ الشُّرُوعِ في القِراءَةِ؛ لأنَّ مَحَلَّه القِيامُ، وقد ذَكَرَه فيه. فعلى هذا يَقْطَعُ القِراءَةَ ويُكَبِّرُ، ثم يَسْتَأْنِفُها؛ لأنَّه قَطَعَها مُتَعَمِّدًا بذِكرٍ طوِيلٍ. وإن كان المَنْسِىُّ يَسِيرًا احْتَمَلَ أن يَبْنِى، لأنَّه يَسِيرٌ، أشْبَهَ ما لو قَطَعَها بقولِ: آمِينَ. واحْتَمَلَ أن يَبْتَدِئَ؛ لأنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ قبلَ القِراءَةِ، ومَحَلَّ القِراءَةِ بعدَ التَّكْبِيرِ. فإن ذَكَر التَّكْبِيرَ بعدَ القِراءَةِ فأتَى به لم يُعِدِ القِراءَةَ؛ لأنَّها وقَعَتْ مَوْقِعَها. وإن لم يَذْكُرْه حتى رَكَع سَقَط، وجْهًا واحِدًا، لفَوات مَحَلِّه. وكذلك المَسْبُوقُ إذا أدْرَكَ الرُّكُوعَ لم يُكَبِّرْ فيه. وقال أبو حنيفةَ: يُكَبِّرُ فيه، لأنَّه بمَنْزِلَةِ القِيامِ، بدَلِيلِ إدْراكِ. الرَّكْعَةِ به. ولَنا، أنَّه ذِكْرٌ مَسْنُونٌ حالَ القِيامِ، فلم يَأْتِ به في الرُّكُوعِ، كالاسْتِفْتاحِ، وقِراءَةِ السُّورَةِ، والقُنُوتِ عندَه، وإنَّما أدْرَكَ الرَّكْعَةَ بإدْراكِه؛ لأنَّه أدْرَكَ مُعْظَمَها، ولم يَفُتْه إلَّا القِيامُ، وقد حَصَل منه ما يُجْزِئُ في تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ. وأمّا المَسْبُوقُ إذا أدْرَكَ الإمامَ بعد تَكْبِيره، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يُكَبِّرُ؛ لأنَّه أدْرَكَ مَحَلَّه. ويَحْتَمِلُ ألَّا يُكَبِّرَ، لأنَّه مَأْمُورٌ بالإِنْصاتِ لقِراءَةِ الإِمامِ. فعلى هذا إن كان يَسْمَعُ أنْصَتَ، وإن كان بَعِيدًا كَبَّرَ. فصل: وإذا شَكَّ في عَدَدِ التَّكْبِيراتِ (¬1)، بَنَى على اليَقِينِ، فإن كَبَّرَ ¬

(¬1) في م: «الركعات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم شَكَّ هل نَوَى تَكْبِيرَةَ الإِحْرامِ أو لا؟ ابْتَدَأ الصلاةَ هو والمَأْمُومُون؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ، إلَّا أن يَكونَ وَسْواسًا، فلا يَلْتَفِتُ إليه. فصل: والخُطْبَتان سُنَّةٌ، لا يَجِبُ حُضُورُها ولا اسْتِماعُها؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ السّائِبِ، قال: شَهِدْتُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العِيدَ، فلمّا قَضَى الصلاةَ، قال: «إِنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أحَبَّ أنْ يَجْلِسَ للخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أحَب أنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ». رواه أبو داودَ، وقال: هو مُرْسَلٌ. ورَواه ابنُ ماجه، والنَّسائِىُّ (¬1). قال شيخُنا (¬2): وإنَّما أُخِّرَتِ الخُطْبَةُ عن الصَّلاةِ، واللَّه أعلمُ؛ لأنَّها لمّا لم تَكُنْ واجِبَةً، جُعِلَتْ في وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مَن أراد تَرْكَها مِن تَرْكِها، بخِلافِ خُطْبَةِ الجُمُعَةِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ في وُجُوبِ الإِنْصاتِ لها رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، يَجِبُ، كالجُمُعَةِ. والثّانيةُ، لا يَجِبُ؛ لأنَّ الخُطْبَةَ غيرُ واجبَةٍ، فلم يَجِبِ الإِنْصاتُ لها، كسائِرِ السُّنَنِ والأذْكارِ. والاسْتِماعُ لها أفضَلُ. وقد رُوِىَ عن الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، أنَّهما كَرِها الكَلامَ يَوْمَ العِيدِ والإِمامُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الجلوس للخطبة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 263. والنسائى، في: باب التخيير بين الجلوس في الخطبة للعيدين، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 151. وابن ماجه، في: باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 410. (¬2) في: المغنى 3/ 279.

689 - مسألة: (ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، فى موضع الصلاة)

وَلَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا بَعْدَهَا فِى مَوْضِعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْطُبُ (¬1). وقال إبراهيمُ: يَخْطُبُ الإِمامُ يَوْمَ العِيدِ قَدْرَ ما يَرْجِعُ النِّساءُ إلى بُيُوتِهِنَّ. وهذا يَدُلّ على أنَّه لا يُسْتَحَبُّ لهنَّ الجُلُوسُ لاسْتِماعِ الخُطْبَةِ؛ لئلَّا يَخْتَلِطْنَ بالرِّجالِ. وحديثُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَوْعِظَتِه النِّساءَ بعدَ فَراغِه مِن خُطْبَتِه دَلِيلٌ على أنَّهُنَّ لم يَنْصَرِفْن. وسُنَّنُه -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى بالاتِّباع. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَخْطُبَ قائِمًا؛ لِما روَى جابِرٌ، قال: خَرَج رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فِطْرٍ أو أضْحَى، فخطَبَ قائِمًا، ثم قَعَد، ثم قامَ. رَواه ابنُ ماجه (¬2). وإن خَطَب قاعِدًا، فلا بَأْسَ؛ لأنَّها غيرُ واجِبَةٍ، أشْبَهَتْ صلاةَ النّافِلَةِ. وإن خَطَب على راحِلَتِه، فحَسَنٌ؛ لِما روَى سَلَمَةُ ابنُ نُبَيْطٍ عن أبيه، أنَّه حَجَّ، فقالَ: رأيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ على بَعِيرِه. رَواه ابنُ ماجه (¬3). وعن أبى جَمِيلَةَ، قال: رأيْتُ عليًّا، عليه السَّلامُ، صَلَّى يَوْمَ العِيدِ، فبَدَأ بالصلاةِ قبلَ الخُطْبَةِ، ثم خَطَب على دابَّتِه، ورَأيْتُ عثمانَ بنَ عَفّانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يَخْطُبُ على راحِلَتِه (¬4). رَواه سعيدٌ. 689 - مسألة: (ولا يَتَنَفَّلُ قبلَ صلاةِ العِيدِ ولا بعدَها، في مَوْضِعِ الصَّلاةِ) يُكْرَهُ التَّنفُّلُ قبلَ صَلاةِ العِيدِ وبعدَها، في مَوْضِعِ الصَّلاةِ، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الكلام يوم العيد والإمام يخطب، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 171. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 351. (¬3) قى: باب ما جاء في الخطبة في العيدين، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 409. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب من أباح أن يخطب على منبر أو على راحلة، من كتاب العيدين. السنن الكبرى 3/ 298.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للإِمامِ والمَأْمُومِ، سَواءٌ كان في المُصَلَّى أو المَسْجِدِ. وهو مَذْهَبُ ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، ورُوِى عن علىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وحُذَيْفَةَ، وبُرَيْدَةَ (¬1)، وسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، وجابِرٍ، وابنِ أبى أوْفَى. وبه قال شرَيْحٌ، وعبدُ اللَّهِ بنُ مُغَفَّلٍ (¬2)، ومَسْرُوقٌ، والضَّحّاكُ، والقاسِمُ، والشَّعْبِىُّ. قال الزُّهْرِىُّ: لم أسْمَعْ أحَدًا مِن عُلَمائِنا يَذْكُرُ أنَّ أحَدًا مِن سَلَفِ هذه الأُمَّةِ كان يُصَلِّى قبلَ تلك ولا بعدَها. يَعْنِى صلاةَ العِيدِ. وقال: ما صَلَّى قبلَ العِيدِ بَدْرِىٌّ. ونَهَى عنه أبو مَسْعُودٍ البَدْرِىُّ. ورُوِىَ أنَّ عَلِيًّا، رَضِىَ اللَّه عنه، رَأى قَوْمًا يُصَلُّون قبلَ العِيدِ، فقال: ما كان هذا يُفْعَلُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). قال أحمدُ: أهلُ المَدِينَةِ لا يَتَطَوَّعُون قبلَها، ويَتَطَوَّعُون بعدَها. وهذا قولُ عَلْقَمَةَ، والأسْوَدِ، ومُجاهِدٍ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال مالكٌ كَقَوْلِنا في المُصَلَّى، وله في المَسْجِدِ رِوايَتان؛ إحْداهما، يَتَطَوَّعُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِذَا ¬

(¬1) بريدة بن الحُصَيْب بن عبد اللَّه الأسلمى، غزا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ست عشرة غزوة، وسكن البصرة لما فتحت، وغزا خراسان في زمن عثمان ثم تحول إلى مرو فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية. الإصابة 1/ 286. (¬2) كذا في النسخ، وعبد اللَّه بن المغفل في الصحابة، ولعل الصواب «بن مَعْقِل»، وهو المزنى، ويناسب ذكره في التابعين أو تابعيهم. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصلاة قبل خروج الإمام وبعد الخطبة، من كتاب العيدين. المصنف 3/ 276، 277.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» (¬1). وقال الشافعىُّ: يُكْرَهُ ذلك للإِمام، لأنَّه لا يُسْتَحَبُّ له التَّشاغُلُ عن الصَّلاةِ، ولا يُكْرَهُ للمَأْمُومِ؛ لأنَّه وَقْتٌ لم يُنْهَ عن الصَّلاةِ فيه، أشْبَهَ ما بعدَ الزَّوال. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج يَوْمَ الفِطْرِ، فصَلَّى رَكْعَتَيْن، لم يُصَلِّ قبلَهما ولا بعدَهما. مُتَّفَق عليه (¬2). ولأنَّه إجْماعٌ كما حَكاه الزهْرِىُّ وغيرُه، ولأنَّه وَقْتٌ نُهِىَ الإِمامُ عن التَّنَفُّلِ فيه، فكُرِهَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 397. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الخطبة بعد العيد، وباب الصلاة قبل العيد وبعدها، من كتاب العيدين، وفى: باب التحريض على الصدقة والشفاعة، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 23، 30، 140. ومسلم، في: باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى، من كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 606. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بعد صلاة العيد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 264. والترمذى، في: باب ما جاء لا صلاة قبل العيد ولا بعدها، من أبواب العيدين. عارضة الأحوذى 3/ 8. والنسائى، في: باب الصلاة قبل العيدين وبعدها، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 157. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 410. والدارمى، في: باب لا صلاة قبل العيد ولا بعدها، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 376. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 340, 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمَأْمُومِ، كسائِرِ أوْقاتِ النَّهْى، وكما قبلَ الصَّلاةِ عندَ أبى حنيفةَ، وكما لو كان في المُصلَّى عندَ مالكٍ. والحديثُ الذى ذَكَرَه مالكٌ مَخْصُوصٌ بما ذَكَرْنا مِن المَعْنَى. وقال الأثْرَمُ: قلتُ لأحمدَ: قال سُليمانُ بنُ حَرْبٍ: إنَّما تَرَك النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- التَّطَوُّعَ لأنَّه كان إمامًا. قال أحمدُ: فالذين رَوَوْا هذا عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَتَطَوَّعُوا. ثم قال: ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباس، هما رَوَياه، وأخَذا به. يُشِيرُ، واللَّه أعلمُ، إلى أنَّ عَمَلَ راوِى الحَدِيثِ به تَفْسِيرٌ له، وتَفْسِيرُه يُقَدَّمُ على تَفْسِيرِ غيرِه. ولو كانتِ الكَراهَةُ للإِمامِ كَيْلا يَشْتَغِلَ عن الصَّلاةِ، لاخْتُصَّتْ بما قبلَ الصَّلاةِ، إذ لم يَبْقَ بعدَها ما يَشْتَغِلُ به. وقد روَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكَبِّرُ في صلاةِ العِيدِ سَبْعًا وخَمْسًا، ويقولُ: «لَا صَلَاةَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» (¬1). رَواه ابنُ بَطَّةَ بإسْنادِه. فصل: قِيلَ لأحمدَ: فإن كان لرجل صلاةٌ في ذلك الوَقْتِ؟ قال: أخافُ أن يُقْتَدَى به. قال ابنُ عَقِيلٍ: كَرِه أحمدُ أن يَتَعَمَّدَ لقَضاءِ صلاةٍ، وقال: أخافُ أن يَقْتَدُوا به. فصل: وإنَّما يُكْرَهُ التَّنَفِّلُ في مَوْضِعِ الصَّلاةِ، فأمّا في غيرِه فلا بَأْسَ ¬

(¬1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 180.

690 - مسألة: (ومن كبر قبل سلام الإمام، صلى ما فاته عك صفته)

وَمَنْ كَبَّرَ قَبْلَ سَلَام الْإِمَامِ، صَلَّى مَا فَاتَهُ عَلَى صِفَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ به، وكذلك لو خَرَج منه، ثم عاد إليه بعدَ الصَّلاةِ. قال عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ: سَمِعْتُ أبى يقولُ: رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباس أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلِّ قَبْلَها ولا بعدَها. ورَأيْتُه يُصَلِّى بعدَها رَكَعاتٍ في البَيْتِ، ورُبَّما صَلَّاها في الطَّرِيقِ، يَدْخُلُ بعضَ المساجِدِ. ورُوِىَ عن أبى سَعِيدٍ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُصَلِّى قبلَ العِيدِ شَيْئًا، فإذا دَخَل إلى مَنْزِلِه صَلَّى رَكْعَتَيْن. رَواه ابنُ ماجه (¬1). 690 - مسألة: (ومَن كَبَّرَ قبلَ سَلام الإِمام، صَلَّى ما فاتَه عك صِفَتِه) لأنَّه أدْرَكَ بعضَ الصَّلاةِ التى ليستَ مُبْدَلَةً مِن أرْبَعٍ، فقَضاها على صِفَتِها، كسائِرِ الصلواتِ. وإن أدْرَكَ معه رَكْعَةً، وقُلْنا: ما يَقْضِيه المَسْبُوقُ أوَّلُ صَلاِتِه. كَبَّرَ في الذى يقْضِيه سَبْعًا، وإن قُلْنا: آخِرُ صَلاتِه. كَبَّرَ خَمْسًا، على ما ذَكَرْنا مِن الاخْتِلافِ مِن قبلُ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 410.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أدْرَكَه في الخُطْبَةِ، فإن كان في المَسْجِدِ، فقال شيخُنا (¬1): يُصلِّى تَحِيَّةَ المَسْجِدِ؛ لأنَّها إذا صُلِّيَتْ في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ مع وُجُوبِ الإِنْصاتِ لها، ففى خُطْبَةِ العِيدِ أوْلَى، ولا يَكُونُ حُكْمُه في تَرْكِ التَّحِيَّةِ حُكْمَ مَن أدْرَكَ العِيدَ. وقال القاضى: يَجْلِسُ ويَسْتَمِعُ الخُطْبَةَ، ولا يُصَلِّى. لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ قبلُ، ولأنَّ صلاةَ العِيدِ تُفارِقُ صلاة الجُمُعَةِ؛ لأنَّ التَّطَوَّعَ قبلَها وبعدَها مَكْرُوهٌ، بخِلافِ صلاةِ الجُمُعَةِ. وإن لم يكنْ في المَسْجِدِ، جَلَس فاسْتَمَعَ ولم يُصَلِّ؛ لئلَّا يَشْتَغِلَ عن اسْتِماعِ الخُطْبَةِ، ثم إن أحَبَّ قَضاءَ صلاةِ العِيدِ قَضاها على ما نَذْكُرُه. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 285.

691 - مسألة: (وإن فاتته الصلاة، استحب أن يقضيها على صفتها. وعنه، يقضيها أربعا. وعنه، أنه مخير بين ركعتين وأربع)

وَإنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، اسْتُحِبَّ لَهُ أنْ يَقْضِيَهَا عَلَى صِفَتِهَا. وَعَنْهُ، يَقْضِيهَا أَرْبَعًا. وَعَنْهُ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 691 - مسألة: (وإن فاتَتْه الصلاةُ، اسْتُحِبَّ أن يَقْضِيَها على صِفَتِها. وعنه، يَقْضِيها أرْبَعًا. وعنه، أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ رَكْعَتَيْن وأرْبَعٍ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه لا يَجِبُ قَضاءُ صلاةِ العيدِ على مَن فاتَتْه؛ لأنَّها فَرْضُ كِفايَةٍ، وقد قام بها مَن حَصَلَتْ به الكِفايَةُ، وإن أحَبَّ قَضاءَها اسْتُحِبَّ له أن يَقْضِيَها غلى صِفَتِها. نَقَل ذلك عن أحمدَ إسْماعِيلُ بنُ سعيدٍ، واخْتارَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجُوزَجانِىُّ، وهو قولُ النَّخَعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ, وأبى ثَوْرٍ؛ لِما رُوِىَ عن أنَسٍ، أنَّه كان إذا لم يَشْهَدِ العِيدَ مع الإِمامِ بالبَصْرَةِ جَمَع أهْلَه ومَوالِيَه، ثم قام عبدُ اللَّهِ بنُ أبى عُتْبَةَ مَوْلاه فيُصَلِّى بهم رَكْعَتَيْن، يُكَبِّرُ فيهما (¬1). ولأنَّها قَضاءُ صلاةٍ، فكانت على صِفَتِها، كسائِرِ الصَّلَواتِ، وهو مُخَيَّرٌ، إن شاءَ صَلَّاها في جَماعَةٍ كما ذَكَرْنا عن أنَسٍ، وإن شاءَ صَلَّاهَا وحدَه. وعنه، أنَّه يَقْضِيها أرْبَعًا، إمّا بسَلامٍ واحِدٍ أو بسَلامَيْن. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ؛ لِما رُوِىَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، أنَّه قال: مَن فاتَه العِيدُ فلْيُصَلِّ أرْبَعًا. ورُوِىَ عن علىٍّ، أنَّه قال: إن أمَرْتُ رجلًا أن يُصَلِّىَ بضَعَفَةِ النّاسِ، أمَرْتُه أن يُصَلِّى أرْبَعًا. رَواهما سَعِيدٌ (¬2). ولأنَّه قضاءُ صلاةِ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل تفوته الصلاة في العيد كم يصلى، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 183. والبيهقى، في: باب صلاة العيدين سنة أهل الإسلام حيث كانوا، من كتاب العيدين. السنن الكبرى 3/ 305. (¬2) الأول أخرجه عبد الرزاق، في: باب من صلّاها غير متوضئ ومن فاته العيدان، من كتاب العيدبن. المصنف 3/ 300. والثانى تقدم تخريجه في صفحة 337.

692 - مسألة: (ويستحب التكبير فى ليلتى العيدين)

وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ في لَيْلَتَى الْعِيدَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عيدٍ، فكانت أرْبَعًا، كقَضاءِ الجُمُعَة. وعنه، أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ رَكْعَتَيْن وأرْبَعٍ. وهذا قولُ الأوْزاعِىِّ، لأنَّها صلاةُ تَطَوُّعٍ، أشْبَهَتْ صلاةَ الضُّحَى. 692 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ في لَيْلَتَى العِيدَيْن) يُسْتَحَبُّ إظْهارُ التَّكْبِيرِ في لَيْلَتَى العِيدَيْن في المَساجِدِ والطُّرُقِ والأسْواقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُسافِرُ والمُقِيمُ فيه سَواءٌ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬1). قال بعضُ أهلِ العِلْمِ: لتُكْمِلُوا عِدَّةَ رَمضانَ، ولتُكَبِّرُوا اللَّهَ عندَ كَمالِه على ما هَداكُم. ويُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ به، وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك لِما فيه مِن إظْهارِ شَعائِرِ الإِسْلامِ، وتَذْكِيرِ الغَيْرِ. وكان ابنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ في قُبَّتِه بمِنًى، فيَسْمَعُه أهلُ المَسْجِدِ فيُكَبِّرُون، ويُكَبِّرُ أهلُ الأسْواقِ، حتى تَرْتجَّ مِنًى تَكْبِيرًا (¬2). قال أحمدُ: كان ابنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ في العِيدَيْن جَمِيعًا. والتَّكْبِيرُ في الفِطْرِ آكَدُ؛ لوُرُودِ النَّصِّ فيه، وليس التَّكْبيرُ واجِبًا. وقال داودُ: هو واجبٌ في الفِطْرِ؛ لظاهِرِ الآيَةِ. ولَنا، أنَّه يُكَبِّرُ في عِيدٍ، فلم يكنْ واجِبًا؛ كتَكْبِيرِ الأضْحَى، والآيَةُ ليس فيها أمْرٌ، إنَّما أخْبَرَ اللَّهُ تعالى عن إرادَتِه، فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. إلى قَوْلِه: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. ويُسْتَحَبُّ أن يُكَبِّرَ في طَرِيقِ العِيدِ، ويَجْهَرَ بالتَّكْبِيرِ. قال ¬

(¬1) سورة البقرة 185. (¬2) أخرجه البخارى معلقًا، في: باب التكبر أيام منى وإذا غدا إلى عرفة, من كتاب العيدين. صحيح البخارى 2/ 25، وسياقه أخصر من هذا. وقال ابن حجر: وصله ابن المنذر والفاكهى في أخبار مكة. فتح البارى 2/ 462.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ أبى موسى: يُكَبِّرُ النّاسُ في خُرُوجِهم مِن مَنازِلِهم لصَلاتَى العِيدَيْن جَهْرًا، حتى يَأْتِى الإِمامُ المُصَلَّى، فَيُكَبِّرُ النّاسُ بتَكْبِيرِ الإِمامِ في خُطْبَتِه، ويُنْصتُون فيما سِوَى ذلك. وقد روَى سعيدٌ بإسْنادِه, عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان إذا خَرَج مِن بَيْتِه إلى العِيدِ كَبَّرَ حتى يَأْتِىَ المُصَلَّى (¬1). ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وابنِ أبى لَيْلَى. قال القاضى: التَّكْبِيرُ في الفِطْرِ مُطْلَقٌ غيرُ مُقَيَّدٍ على ظاهِرِ كَلامِه. يَعْنِى لا يَخْتَصُّ بأدْبارِ الصَّلَواتِ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ قولَه تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. غيرُ مُخْتَصٍّ بوَقْتٍ. وقال أبو الخَطّابِ: يُكَبِّرُ مِن غُرُوبِ الشَّمْسِ مِن لَيْلَةِ الفِطْرِ إلى خُرُوجِ الإِمامِ إلى الصَّلاةِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وهو قولُ الشافعىِّ. وفى الأُخْرَى إلى فَراغِ الإِمامِ مِن الصَّلاةِ. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: أول كتاب العيدين. سنن الدارقطنى 2/ 45. والبيهقى، في: باب التكبر ليلة الفطر ويوم الفطر. . . إلخ، من كتاب صلاة العيدين. السنن الكبرى 3/ 279.

693 - مسألة: (وفى الأضحى، يكبر عقيب كل فريضة فى جماعة. وعنه، يكبر، وإن كان وحده، من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق)

وَفِى الْأَضْحَى، يُكَبِّرُ عَقِيبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ في جَمَاعَةٍ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يُكَبِّرُ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 693 - مسألة: (وفى الأضْحَى، يُكَبِّرُ عَقِيبَ كلِّ فَرِيضَةٍ في جَماعَةٍ. وعنه، يُكَبِّرُ، وإن كان وَحْدَه، مِن صلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، إلى العَصْرِ مِن آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ) وجملَةُ ذلك أنَّ التَّكْبِيرَ في الأضْحَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُطْلَقٌ ومُقَيَّدٌ، فالمُطْلَقُ التَّكْبِيرُ في جَمِيعِ الأوْقاتِ، مِن أوَّل العَشْرِ إلى آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬1). وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬2). فالأيّامُ المَعْلُوماتُ أيّامُ العَشْرِ، والمَعْدُوداتُ أيّامُ التَّشْرِيقِ. قالَه ابنُ عباسٍ. قال البخارىُّ: كان ابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجان إلى السُّوقِ. في أيّامِ العَشْرِ، يُكَبِّران، ويُكَبِّرُ النّاسُ بتَكْبِيرِهما. ورُوِىَ أنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُكَبِّرُ بمِنًى في تلك الأيّامِ خلفَ الصَّلَواتِ، وعلى فِراشِه، وفى فُسْطاطِه، ومَجْلِسِه ومَمْشاه تلك الأيّامَ جَمِيعًا، ويُكَبِّرُ في قُبَّتِه حتى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. فصل: وأمّا المُقَيَّدُ، فهو التَّكْبِيرُ في أدْبارِ الصَّلواتِ. ولا خِلافَ بينَ العُلَماءِ في مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبيرِ في عِيدِ النَّحْرِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في مُدَّتِه، فذَهَبَ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، إلى أنَّه مِن صلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلى العَصْرِ مِن آخِر أيّامِ التَّشْرِيقِ. وهو قولُ عُمَرَ، وعلىٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ ¬

(¬1) سورة الحج 28. (¬2) سورة البقرة 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّه عنهم. وإليه ذَهَب الثَّوْرِىُّ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وهو قولٌ للشافعىِّ. وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّه كان يُكَبِّرُ مِن غَداةِ عَرَفَةَ إلى العَصْرِ مِن يَوْمِ النَّحْرِ. وإليه ذَهَب النَّخَعِىُّ، وعَلْقَمَةُ، وأبو حنيفةَ؛ لقولِه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}. وهى أيّامُ العَشْرِ. وأجْمَعْنا على أنَّه لا يُكَبِّرُ قبلَ عَرَفَةَ، فلم يَبْقَ إلَّا يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَّحْرِ. وعن ابنِ عُمَرَ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، أنَّ التَّكْبِيرَ مِن صلاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلى الفَجْرِ مِن آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ (¬1). وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ في المَشْهُورِ عنه؛ لأنَّ النّاسَ تَبَعٌ للحاجِّ، يَقْطَعُون التَّلْبِيَةَ مع أوَّلِ حَصاةٍ، ويُكَبِّرُون مع الرَّمْى، وإنَّما يَرْمُون يَوْمَ النَّحْرِ، وأوَّلُ صلاةٍ بعدَ ذلك الظُّهْرُ، وآخِرُ صلاةٍ بمِنًى الفَجْرُ مِن اليَوْمِ الثّالِثِ مِن أيّامِ التَّشْرِيقِ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صَلَّى الصُّبْحَ مِن غَداةِ عَرَفَةَ، أقْبَلَ على أصْحابه، فيقولُ: «عَلَى مَكَانِكُمْ». ويقولُ: «اللَّهُ أكبَرُ اللَّهُ أكبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللَّه أكْبَرُ، اللَّهُ أكبَرُ وَللَّه الْحَمْدُ». فيُكَبِّرُ مِن غَداةِ عَرَفَةَ إلى العَصْر مِن آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ. وعن علىٍّ، وعَمّارٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَة صلاةَ الغداةِ ويَقْطَعُها صلاةَ العَصْرِ آخرَ أيّام التَّشْرِيقِ. رَواهما الدّارَقُطنِىُّ (¬2). ¬

(¬1) أخرج خبر ابن عمر البيهقى، في: باب من قال يكبر في الأضحى. . . إلخ، من كتاب العيدين. السنن الكبرى 3/ 313. (¬2) في: أول كتاب العيدين. سنن الدارقطنى 2/ 49، 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أنَّهما مِن رِوايةِ عَمْروْ بنِ شَمِرٍ، عن جابِرٍ الجُعْفِىِّ، وقد ضُعِّفا. ولأنَّه قولُ عُمَرَ، وعلىٍّ، وابنِ عباسٍ. رَواه سعيدٌ عنهم (¬1). قيل لأحمدَ: بأىِّ حَدِيثٍ تَذْهَبُ إلى التَّكْبِيرِ مِن صلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلى آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ؟ قال: لإِجْماعِ عُمَرَ، وعلىٍّ، وابنِ عباس. ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}. وهى أيّامُ التَّشْرِيقِ، فيَتَعَيَّنُ الذِّكْرُ في جَمِيعِها. وأمّا قولُه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}. فمَحْمُولٌ على ذِكْرِ اللَّه عِلى الهَدايا والأضاحِى عندَ رُؤْيَتِها، فإنَّه مُسْتَحَبٌّ في جَمِيعِ العَشْرِ، وهو أوْلَى مِن تَفْسِيرِهم؛ لأنَّهم لم يَعْمَلُوا به في كلِّ العَشْرِ، ولا في أكْثَرِه، ولو صَحَّ تَفْسِيرُهم فقد أمَرَ اللَّه بالذِّكْرِ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ، وهى أيّامُ التَّشْرِيقِ، فيُعْمَلُ به أيضًا. وأمّا المُحْرِمُ، فإنَّما لم يُكَبِّرْ مِن صلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لاشْتِغالِه عنها بالتَّلْبِيَةِ كما ذَكَرُوا، وغيرُه يَبْتَدِئُ مِن غَداةِ يومِ عَرَفةَ؛ لعَدَمِ المنافِعِ. وقَوْلُهم: إنَّ النّاسَ في هذا تَبَعٌ للحاجِّ. مُجَرَّدُ دَعْوَى بغيرِ دَلِيلٍ. وقَوْلُهم: إنَّ آخِرَ صلاةٍ يُصَلُّونَها بمِنًى الفَجْرُ مِن آخِرِ أيّامِ التَّشْرِيقِ. مَمنُوعٌ؛ لأنَّ الرَّمْى إنَّما يكونُ بعدَ الزَّوالِ. فصل: والتَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ إنَّما يَكُونُ عَقِيبَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ في ¬

(¬1) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: باب كيف يكبر يوم عرفة، من كتاب الصلوات، المصنف 2/ 165, 166.

إِلَّا الْمُحْرِمَ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَماعاتِ، في المَشْهُورِ عن أحمدَ. قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: أذْهَبُ إلى فِعْلِ ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يُكَبِّرُ إذا صَلَّى وَحْدَه؟ قال: نعم. وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّما التَّكْبِيرُ على مَن صَلَّى في جَماعَةٍ. وهذا مَذْهَبُ الثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ. وعنه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّهْ يُكَبِّرُ عَقِيبَ الفَرائِضِ، وإن كان وَحْدَه. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ؛ لأنَّه ذِكْرٌ مُسْتَحَبٌّ للمَسْبُوقِ، فاسْتُحِبَّ للمُنْفَرِدِ، كالسَّلامِ. قال الشافعىُّ: يُكَبِّرُ عَقِيبَ كلِّ صلاةٍ، فَرِيضةً كانت أو نافِلَةً، مُنْفَرِدًا أو في جَماعَةٍ، قِياسًا على الفَرْضِ في الجَماعَةِ. ولَنا، أنَّه قولُ ابنِ مسعودٍ، وفِعْلُ ابنِ عُمَرَ، ولا مُخالِفَ لهما في الصحابةِ، فكان إجْماعًا. فصل: فأمّا (المُحْرِمُ، فإنَّه) يَبْتَدِئُ التَّكْبيرَ (مِن صلاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ) لأنَّه يكونُ مَشْغُولًا بالتَّلْبِيَةِ قبلَ ذلك، وأوَّلُ صلاةٍ بعدَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ الظُّهْرُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُسافِرُون كالمُقِيمِين فيما ذَكَرْنا؛ لعُمُومِ النَّصِّ. وحُكْمُ النِّساءِ حُكْمُ الرِّجالِ، في أنَّهُنَّ يُكَبِّرْنَ في الجَماعَةِ، وفى الانْفِرادِ رِوايَتان. وقال البخارىُّ (¬1): كان النِّساءُ يُكَبِّرْنَ خلفَ أبانَ بنِ عثمانَ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ لَيالِىَ التَّشْرِيقِ مع الرِّجالِ في المَسْجِدِ. ويَنْبَغِى أن يَخْفِضْنَ أصْواتَهُنَّ حتى لا يَسْمَعَهُنَّ الرِّجالُ. وعن أحمدَ، أنَّهُنَّ لا يُكَبِّرْنَ؛ لأنَّه ذِكْرٌ يُشْرَعُ فيه رَفْعُ الصَّوْتِ، فلم يُشْرَعْ في حَقِّهِنَّ، كالأذانِ. ¬

(¬1) في: باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، من كتاب العيدين. صحيح البخارى 2/ 25. وقال ابن حجر: وصله ابن أبى الدنيا في كتاب العيدين. انظر: فتح البارى 2/ 462.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَسْبُوقُ ببعضِ الصَّلاةِ يُكَبِّرُ إذا فَرَغ مِن قَضاءِ ما فاتَه. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أكْثَرُ أهلِ العلم. وقال الحسنُ: يُكَبِّرُ، ثم يَقْضِى؛ لأنَّه ذِكْرٌ شُرِع في آخِرِ الصَّلاةِ، فيَأْتِى به المَسْبُوق قبلَ القَضاءِ، كالتَّشَهُّدِ. وعن مُجاهِدٍ، ومَكْحُولٍ، يُكَبِّرُ، ثم يَقْضِى، ثم يُكَبِّرُ لذلك. ولَنا، أنَّه ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ بعدَ السَّلامِ (¬1)، فلم يَأْتِ به في أثْناءِ الصَّلاةِ، كالتَّسْلِيمَةِ الثَّانيةِ، والدُّعاءِ بعدَها. وإن كان على المُصَلِّى سُجُودُ سَهْوٍ بعدَ السَّلامِ، سَجَد ثم كَبَّرَ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ لأنَّه سُجُود مَشْرُوعٌ للصلاةِ، فكان التَّكْبِيرُ بعدَه وبعدَ تَشَهُّدِه، كسُجُودِ صُلْبِها. ¬

(¬1) في م: «الصلاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا فاتَتْه صلاةٌ مِن أيّام التَّشْرِيقِ، أو مِن غيرِها فقَضاها فيها، فحُكْمُها حُكْمُ المُؤَدّاةِ في التَّكْبِيرِ؛ لأنَّها مَفْرُوضَةٌ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ. وإن فاتَتْه في أيَّامِ التَّشْرِيقِ فقَضاها في غيرِها، لم يُكَبِّرْ؛ لأَنَّ التَّكْبيرَ مُقَيَّدٌ بالوَقْتِ، فلم يُفْعَلْ في غيرِه، كالتَّلْبِيَةِ. ويُكَبِّرُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ. قال أبو بكرٍ: وعليه العَمَلُ. وحَكاه أحمدُ عن إبْراهيمَ؛ لأنَّه ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بالصلاةِ، أشْبَهَ الأذانَ والإِقامَةَ. ويَحْتَمِلُ أن يُكَبِّرَ كَيْفَما شاء؛ لِما روَى جابِرٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقْبَلَ عليهم، فقال: «اللَّه أكْبَرُ اللَّهُ أكبَرُ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 371.

694 - مسألة: (وإن نسى التكبير قضاه، ما لم يحدث، أو يخرج من المسجد)

وَإنْ نَسِىَ التَّكْبِيرَ قَضَاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، أوْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسجِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 694 - مسألة: (وإن نَسِىَ التَّكْبيرَ قَضاه، ما لم يُحْدِثْ، أو يَخْرُجْ مِن المَسْجِد) لأنَّه مُخْتَصٌّ بالصلاةِ، أَشْبَهَ سُجُودَ السَّهْوِ. فعلى هذا إن ذَكَرَه في المَسْجِدِ بعدَ أن قام، عاد إلى مكانِه، فجَلَسَ واسْتَقْبَلَ القِبْلِةَ فكَبَّرَ. وقال الشافعىُّ: يُكَبِّرُ ماشِيًا. قال شيخُنا (¬1): وهو أقْيَسُ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 293.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ بعدَ الصَّلاةِ، أشْبَهَ سائِرَ الذِّكْرِ. فإن ذَكَرَه بعدَ خُرُوجِه مِن المَسْجِدِ لم يُكَبِّرْ؛ لِماَ ذَكَرْنا. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى. ويَحْتَمِلُ أن يُكَبِّرَ؛ لأنَّه ذِكْرٌ بعدَ الصَّلاةِ، فاسْتُحِبَّ وإن خَرَج، كالدُّعاءِ والذِّكْرِ المَشْرُوعِ بعدَ الصَّلاةِ. وإن نَسِيَه حتى أحْدَثَ، فقال أصْحابُنا: لا يُكَبِّرُ، سواءٌ أحْدَثَ عامِدًا أو ساهِيًا؛ لأنَّ الحَدَثَ يَقْطَعُ الصلاةَ عَمْدُه وسَهْوُه. وبالَغَ ابنُ عَقِيلٍ، فقال: إن تَرَكَه حتى تَكَلَّمَ لم يُكَبِّرْ. قال الشَّيْخُ: والأَوْلَى إن شاء اللَّهُ أَنَّه يُكَبِّرُ؛ لأنَّ ذلك ذِكْرٌ مُنْفَرِدٌ بعدَ سَلامِ الإِمامِ، فلا يُشْتَرَطُ له الطَّهارَةُ، كسائِرِ الذِّكْرِ، ولأنَّ اشْتِراطَ الطَّهارَةِ إمّا بنَصٍّ أو مَعْناه، ولم يُوجَدْ. وإن نَسِيَه الإِمامُ كَبَّرَ المَأْمُومُ. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ؛ لأنَّه ذِكْرٌ يَتْبَعُ الصلاةَ، أشْبَهَ سائِرَ الذِّكْرِ.

695 - مسألة: (وفى التكبير عقيب العيد وجهان)

وَفِى التَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 695 - مسألة: (وفى التَّكْبِيرِ عَقِيبَ العِيدِ وَجْهَان) أحَدُهما، يكَبِّرُ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وقال القاضى: هو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّها صَلاةٌ مَفْرُوضَةٌ في جَماعَةٍ، فأشْبَهَتِ الفَجْرَ. والثانِى، لا يُسَنُّ. قالَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّها ليست مِن الصَّلَواتِ الخَمْسِ، أشْبَهَتِ النَّوافِلَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ هذه الصلاةَ أخَصُّ بالعِيدِ، فكانت أحَقَّ بتَكْبِيرِه.

696 - مسألة: (وصفة التكبير شفعا؛ الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)

وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ شَفْعًا، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، وللَّهِ الْحَمْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 696 - مسألة: (وصِفَةُ التَّكْبِيرِ شَفْعًا؛ اللَّهُ أكْبَرُ اللَّه أكْبَرُ، لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، وللَّهِ الحَمْدُ) وهذا قولُ عُمَرَ، وعلىٍّ، وابنِ مسعودٍ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وإسْحاقُ، وابنُ المُبارَكِ، إلَّا أنَّه زاد: على ما هَدانا. لقَوْلِه تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: يقولُ: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، ثَلاثًا؛ لأنَّ جابِرًا صَلَّى في أيّامِ التَّشْرِيقِ، فلمّا فَرَغ مِن صَلاتِه، قال: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ. رواه ابنُ ماجه. وهذا لا يَقُولُه إلَّا تَوْقِيفًا، ولأنَّ التَّكْبِيرَ شِعارُ العِيدِ، فكان وِتْرًا، كتَكْبيرِ الصَّلاةِ والخُطْبةِ. ولَنا، خَبَرُ جابِرٍ المَذْكُورُ (¬1)، وهو نَصٌّ في كَيْفِيَّةِ التَّكْبِيرِ، وأنَّه قولُ الخَلِيفَتَيْن الرّاشِدَيْن، وقولُ ابنِ مسعودٍ. وقولُ جابِرٍ لا يُسْمَعُ مع قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يُقَدَّمُ على قولِ أحَدٍ ممَّن ذَكَرْنا، فكيف قَدَّمُوه على قولِ الجَمِيعِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع تَقَدُّمِهم عليه في الفَضْلِ والعِلْمِ، وكَثْرتِهم؟ ولأنَّه تَكْبِيرٌ خارِجَ الصَّلاةِ، فكان شَفْعًا، كتَكْبيرِ الأذانِ. وقوْلُهم: إنَّ جابِرًا لا يَفْعَلُه إلَّا تَوْقِيفًا. لا يَصِحُّ؛ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّه قد روَى خِلافَ قوْلِه، فكيف يُترَكُ ما صَرَّحَ به لاحْتِمالِ وُجُودِ ضِدِّهِ؟ والثانِى، أنَّه إن كان قَوْلُه تَوقِيفًا، فقولُ مَن ذَكَرْنا تَوْقِيفٌ، وهو مُقَدَّمٌ على قَوْلِه بما بَيَّنّا. والثالثُ، أنَّ هذا ليس مَذْهَبًا لهم. الرّابِعُ، أنَّ قولَ الصَّحابِىِّ إنَّما يُحْمَلُ على التَّوْقِيفِ إذا خالَفَ الأُصُولَ، وذِكْرُ اللَّهِ تعالى لا يُخالِفُ الأصْلَ، لاسِيَّما إذا كان وِتْرًا. فصل: ولا بَأْسَ أن يقولَ للرَّجُلِ في يَوْمِ العِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّه مِنّا ومنك. قال حَرْبٌ: سألتُ أحمدَ عن قول النّاسِ في العِيدَيْن: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنّا ومِنْكُمْ؟ قال: لا بَأْسَ به يَرْوِيه أهلُ الشَّامِ عن أبِى أُمامَةَ (¬1). قِيلَ: وواثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ (¬2)؛ قال: نعم. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ في ذلك أحادِيثَ، منها؛ أنَّ ¬

(¬1) أبو أمامة صدىّ بن عجلان بن الحارث الباهلى الصحابى، روى عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكثر، وتوفى سنة إحدى وثمانين. أسد الغابة 3/ 16، 6/ 16، 17. (¬2) واثلة بن الأسقع بن عبد العزى، أسلم قبل تبوك وشهدها، كان من أهل الصفة ثم نزل الشام وشهد فتح دمشق وحمص وغيرهما، وهو آخر من مات بدمشق من الصحابة. الإصابة 6/ 591.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحمَّدَ بنَ زِيادٍ، قال: كنتُ مع أبِى أُمامَةَ الباهِلِىِّ وغيرِه مِن أصحاب النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكانُوا إذاْ رَجَعُوا مِن العِيدِ يقولُ بعضُهم لبعض: تَقَبَّلَ اللَّه مِنّا ومنك (¬1). وقال: إسنادُ حَدِيثِ أبى أُمامَةَ إسنادٌ جَيِّدٌ. قال مالكٌ: لم نَزَلْ نَعْرِفُ هذا بالمَدِينَةِ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لا أبْتَدِئٌ به أحَدًا وإن قالَه أحَدٌ رَدَدْتُ عليه. فصل: ولا بَأْسَ بالتَّعْرِيفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بالأمْصارِ. ذَكَرَه القاضى. وقال الأثْرَمُ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن التَّعْرِيفِ بالأمْصارِ، يَجْتَمِعُونَ في المَساجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ قال: أرْجُو ألا يكونَ به بَأْسٌ، قد فَعَلَه غيرُ واحِدٍ. وروَى الأثْرَمُ عن الحسنِ، قال: أوَّلُ مَن عَرَّفَ بالبَصْرَةِ ابنُ عباسٍ، رَحِمَه اللَّهُ. وقال أحمدُ: أوَّلُ مَن فَعَلَه ابنُ عباسٍ وعَمْرُو بنُ حُرَيْثٍ (¬2). وقال أحمدُ: لا بَأْسَ به، إنَّما هو دُعاءٌ وذِكْرُ اللَّهِ. وقال: الحسنُ، وبَكْرٌ (¬3)، وثابِتٌ، ومحمدُ بنُ واسِعٍ (¬4) كانُوا يَشْهَدُون المَسْجدَ يَوْمَ ¬

(¬1) كره ابن التركمانى في حاشية السنن الكبرى للبيهقى 3/ 320. (¬2) أبو سعيد عمرو بن حريث بن عمرو المخزومى الكوفى الصحابى, توفى سنة خمس وثمانين. أسد الغابة 4/ 213. (¬3) بكر بن عبد اللَّه بن عمرو المزنى، تابعى ثقة فقيه، توفى سنة ثمان ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 484. (¬4) محمد بن واسع الأزدى، عابد البصرة، أخذ عن أنس، وتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائة. العبر 1/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَرَفَةَ. قِيلَ له: فتَفْعَلُه أنت؟ قال: أمّا أنا فلا. ورُوِىَ عن يَحْيى بنِ مَعِينٍ، أنَّه حَضَر مع النّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. فصل: ويُسْتَحَبُّ الاجْتِهادُ في عَمَلِ الخَيْرِ أيّامَ العَشْرِ؛ مِن الذِّكْرِ، والصِّيامِ، والصَّدَقَةِ، وسائِرِ أعْمالِ البِرِّ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا الْعَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْهَا فِى هذِهِ». يَعْنِى أيَّامِ العَشْرِ. قالُوا: ولا الجِهادُ؟ قال: «وَلَا الْجِهَادُ، إلَّا رَجُل خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِع بشَىْءٍ». رَواه البخارىُّ (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا مِنْ أيَّامِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا أحَبُّ إِلَيْهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ العَشْرِ، فَأكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). ¬

(¬1) في: باب فضل العمل في أيام التشريق، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 2/ 24، 25. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم العشر، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 568. والترمذى، في: باب ما جاء في العمل في أيام العشر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 289. وابن ماجه، في: باب صيام العشر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 550. والدارمى، في: باب في فضل العمل في العشر، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 25. والإمام أحمد في: المسند 1/ 224. (¬2) في: المسند 2/ 75, 131.

باب صلاة الكسوف

بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَإِذَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ، فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ، جَمَاعَةً وَفُرَادَى، بِإِذْنِ الْإِمَامَ وَغَيْرِ إِذنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صَلاةِ الكُسُوفِ الكُسُوفُ والخُسوفُ شئٌ واحِدٌ، وكِلاهما قد وَرَدَتْ به الأخْبارُ، وجاءَ القُرْآنُ بلَفْظِ الخُسُوفِ. 697 - مسألة: (وإذا كَسَفَتِ الشَّمْسُ أو القَمَرُ، فَزِع النّاسُ إلى الصَّلاةِ، جَماعَةً وفُرادَى، بإذْنِ الإِمامِ وغيرِ إذْنِه) صَلاةُ الكُسُوفِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَها وأمَرَ بها. ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَشْرُوعِيَّتِها لكُسُوفِ الشَّمْسِ. فأمّا خُسُوفُ القَمَرِ، فأكْثَرُ أهلِ العلمِ على أنَّها مَشْرُوعَةٌ له، فَعَلَها ابنُ عباسٍ. وبه قال عَطاءٌ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وقال مالكٌ: ليس لكُسُوفِ القَمَرِ سُنَّةٌ. وحَكَى عنه ابنُ عبدِ البَرِّ، وعن أبى حنيفةَ، أنَّهما قالا: يُصَلِّى النّاسُ لخُسُوفِ القَمَرِ وُحْدانًا رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْن، ولا يُصَلُّون جَماعَةً؛ لأنَّ في خُرُوجِهم إليها مَشَقَّةً. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمَرَ بالصلاةِ لهما أمْرًا واحِدًا. وعن ابنِ ¬

(¬1) أخرحه البخارى، في: كتاب صلاة الكسوف، وفى: باب صفة الشمس والقمر بحسبان، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب كفران العشير، من كتاب النكاح، وفى: باب من جرّ إزاره من غير خيلاء، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 2/ 42 - 49، 7/ 39، 40، 182. ومسلم، في: كتاب صلاة الكسوف. صحيح مسلم 2/ 618، 619، 622، 628، 630. كما أخرجه أبو داود، في: باب صلاة الكسوف، وباب من قال: أربع ركعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 268، 269. والنسائى، في: كتاب صلاة الكسوف. المجتبى 3/ 101 - 124. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الكسوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 400، 401. والدارمى، في: باب الصلاة عند الكسوف، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 359. والإمام مالك، في: باب العمل في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. الموطأ 1/ 186، 187. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 298، 358, 2/ 109, 118, 159, 3/ 318, 4/ 122, 245, 249, 253, 5/ 37, 60، 61، 428، 6/ 76، 164، 168، 354.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباسٍ، أنَّه صَلَّى بأهلِ البَصْرَةِ في خُسُوفِ القَمَرِ رَكْعَتَيْن، وقال: إنَّما صَلَّيْتُ لأنِّى رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى (¬1). ولأنَّه أحَدُ الكُسُوفَيْن، فأشْبَهَ كُسُوفَ الشَّمْسِ. ويُسَنُّ فِعْلُها جَماعَةً وفُرادَى. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وحُكِىَ عن الثَّوْرِىِّ، أنَّه قال: إن صَلَّاها الإِمامُ فصَلُّوها معه، وإلَّا فلا. ولَنا، قَوْلُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَإذَا رَأيْتُمُوهَا فَصَلُّوا». ولأنَّهَا نافِلَةٌ، فجازَتْ في الانْفِرادِ، كسائِرِ النَّوافِلِ. وفِعْلُها في الجَماعَةِ أفْضَلُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّاها في جَماعَةٍ. والسُّنَّةُ أن يُصلِّيَها في المَسْجِدِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَها فيه، لقَوْلِ عائِشَةَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في حَياةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-, فخَرَجَ إلى المَسْجِدِ، فصَفَّ النّاسُ وراءَه. رَواه البخارىُّ (¬2). ولأنَّ وَقْتَ الكُسُوفِ يَضِيقُ، فلو خَرَج إلى المُصَلَّى احْتَمَلَ التَّجَلِّى قبلَ فِعْلِها. ويُشْرَعُ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، بإذْنِ الإِمامِ وغيرِ إذْنِه. وقال أبو بكرٍ: ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الصلاة في خسوف القمر، من كتاب صلاة الخسوف. السنن الكبرى 3/ 338. (¬2) في: باب خطبة الإِمام في الكسوف، وباب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. صحيح البخارى 2/ 43، 45. كما أخرجه مسلم، في: باب صلاة الكسوف، وباب ذكر عذاب القبر في صلاة الخوف، من كتاب صلاة الكسوف. صحيح مسلم 2/ 619، 621. وأبو داود، في: باب من قال: أربع ركعات، من كتاب صلاة الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 269. والنسائى، في: باب نوع آخر منه عن عائشة، وباب نوع آخر، من كتاب صلاة الكسوف. المجتبى 3/ 107، 109، 110. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الكسوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 401. والإمام مالك، في: باب العمل في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. الموطأ 1/ 187، 188. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 87.

وَيُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ هى كصَلاةِ العيدِ، فيها رِوايَتان. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السلامُ: «فَإذَا رَأيْتُمُوهَا فَصَلُّوا». ولأنَّها نافِلَةٌ، أشْبَهَتْ سائِرَ النَّوافِلِ. وتُشْرَعُ في حَقِّ النِّساءِ؛ لأنَّ عائشةَ وأسْماءَ صَلَّتا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواه البخارىُّ (¬1). (و) يُسَنُّ أن (يُنادَى لها: الصَّلاةَ جامِعَةً) لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو، قال لمّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نُودِىَ بالصلاةِ جامِعَةً. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولا يُسَنُّ لها أذانٌ ولا إقامَةٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّاها بغيرِ أذانٍ ولا إقامَةٍ، ولأنَّها مِن غيرِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، أشْبَهَتْ سائِرَ النَّوافِلِ. ¬

(¬1) في: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. صحيح البخارى 2/ 46. كما أخرجه مسلم، في: باب ما عرض على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 622. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 345. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف، وباب طول السجود في الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 43, 45. ومسلم، في: باب ذكر النداء بصلاة الكسوف «الصلاة جامعة»، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 267. كما أخرجه النسائى، في: باب نوع آخر، وباب القول في السجود في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. المجتبى 3/ 112, 120. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 175, 220.

698 - مسألة: (ثم يصلى ركعتين، يقرأ فى الأولى بعد الفاتحة سورة طويلة، ويجهر بالقراءة، ثم يركع ركوعا طويلا، ثم يرفع، فيسمع ويحمد، ويقرأ الفاتحة وسورة، ويطيل، وهو دون القيام الأول، ثم يركع ويطيل، وهو دون الركوع الأول، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين طويلتين، ثم يقوم إلى الثانية، فيفعل مثل ذلك، ثم يتشهد، ويسلم)

ثُمَّ يْصَلِّى رَكْعَتَيْن، يَقْرَأُ في الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورَةً طَوِيلَةً، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَركَعُ رُكُوِعًا طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْفَعُ، فَيُسَمِّعُّ وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةَ، وَيُطِيلُ، وَهُوَ دُون الْقِيَامَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْكَعُ، فَيُطِيلُ.، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَويلَتَيْنِ، ثمَّ يَقُومُ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَيَفْعَلُ مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، وَيُسَلِّمُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 698 - مسألة: (ثم يُصَلِّى رَكْعَتَيْن، يَقْرَأُ في الأُولَى بعدَ الفاتِحَةِ سُورَةً طَوِيلَةً، ويَجْهَرُ بالقِراءَةِ، ثم يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثم يَرْفَعُ، فَيُسَمِّعُ ويُحَمِّدُ، ويَقْرَأُ الفاتِحَةَ وسُورَةً، ويُطِيلُ، وهو دُونَ القِيامِ الأوَّلِ، ثم يَرْكَعُ ويُطِيلُ، وهو دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثم يَرْفَعُ، ثم يَسْجُدُ سَجدَتَيْن طَوِيلَتَيْن، ثم يَقُومُ إلى الثَّانيةِ، فيَفْعَلُ مثلَ ذلك، ثم يَتَشَهَّدُ، ويُسَلِّمُ) المُسْتَحَبُّ في صلاةِ الكُسُوفِ أن يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْن، يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الإِحْرامِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يَسْتَفْتِحُ، ويَسْتَعِيذُ، ويَقْرأُ الفاتِحَةَ وسُورَةَ البَقَرَةِ، أو قَدْرَها، ثم يَرْكَعُ فيُسَبِّحُ قَدْرَ مائةِ آيَةٍ، ثم يَرْفعُ فيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَه، رَبَّنا ولك الحَمْدُ. ثم يَقْرَأُ الفاتِحَةَ وآلَ عِمْرانَ، أو قَدْرَها، ثم يَرْكَعُ فيُسَبِّحُ نَحْوًا مِن سَبْعِين آيةً، ثم يَرْفَعُ فَيُسَمعُ ويُحَمدُ، ثم يَسْجُدُ سَجْدَتَيْن، فَيُطِيلُ السُّجُودَ نَحْوًا مِن الرُّكُوعِ، ثِم يَقُومُ إلى الثَّانيةِ، فيَقْرأُ الفاتِحَةَ وسُورَةَ النِّساءِ، أو نحْوَها، ثم يَرْكَعُ فيُسَبِّحُ نَحْوًا مِن خَمْسِين آيةً، ثم يَرْفَعُ، ويُسَمِّعُ ويُحَمِّدُ، ويَقْرَأُ الفاتِحَةَ وسُورَةَ المائِدَةِ، ثم يَرْكَعُ فيُطِيلُ دُونَ الذى قَبْلَه، ثم يَرْفَعُ، ثم يَسْجُدُ سَجْدَتَيْن طَوِيلَتَيْن، ثم يَتَشهَّدُ، ويُسَلِّمُ. ويَجْهَرُ بالقِراءَةِ لَيْلًا كان أو نَهارًا. وليس هذا التَّقْدِيرُ في القِراءَةِ مَنْقُولًا عن الإِمامِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ تعالى، ولكنْ قد نُقِلَ عنه، أنَّ الأُولَى أطْوَلُ مِن الثَّانيةِ. وجاء في حَدِيثِ ابنِ عباس، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قام قِيامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِن سُورَةِ البَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفى حَدِيثٍ لعائشةَ: حَزَرْتُ قِراءَةَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فرأيتُ أنَّه قَرَأ في الرَّكْعَةِ الأُولَى سُورَةَ البَقَرَةِ، وفى الثَّانيةِ سُورَةَ آلِ عِمْرانَ (¬2). وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، إلَّا أنَّهما قالا: لا يُطِيلُ السُّجُودَ. حكاه ابنُ المُنْذِرِ عنهما؛ لأنَّ ذلك لم يُنْقَلْ. وقالا: لا يَجْهَرُ في كُسُوفِ الشَّمْسِ، ويَجْهَرُ في كُسُوفِ القَمَرِ. ووافَقَهم أبو حنيفةَ؛ لقولِ عائشةَ: حَزَرْتُ قِراءَةَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولو جَهَر بالقِراءَةِ لم يُحْتَجْ إلى الحَزْرِ. وكذلك قال ابنُ عباس: قام قِيامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِن سُورَةِ البَقَرَةِ. ولأنَّها صَلاةُ نهارٍ، فلم يَجْهَرْ فيها كالظُّهْرِ. وفى حَدِيثِ سَمُرَةَ، قال: فلم أسْمَعْ له صَوْتًا. قال ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب صلاة الكسوف في جماعة، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 45، 46. ومسلم، في: باب ما عرض على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 626. كما أخرجه أبو داود، في: باب القراءة في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 272. والنسائى، في: باب قدر القراءة في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. المجتبى 3/ 118، 119. والإمام مالك، في: باب العمل في صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. الموطأ 1/ 186، 187. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 298، 358. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب القراءة في صلاة الكسوف، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 271.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذىُّ (¬1). هذا حديثٌ صحيحٌ. وقال أبو حنيفةَ: يُصَلِّى رَكْعَتَيْن كصلاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِما روَى النُّعْمانُ بنُ بَشِيرٍ، قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخَرَجَ فكان يُصَلِّى رَكْعَتَيْن، حتى انْجَلَتِ الشَّمْسُ. رَواه أحمدُ (¬2). وروَى قَبِيصَةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «فَإذَا رَأيْتُمُوهَا فَصَلُّوا كَأحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ» (¬3). ولَنا، على أنَّه يُطِيلُ السُّجُودَ، أنَّ في حديثِ عائِشةَ: ثم رَفَع، ثم سَجَد سُجُودًا ¬

(¬1) في: باب ما جاء كيف القراءة في الكسوف، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 40. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال: أربع ركعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 270، 271. والنسائى، في: باب نوع آخر، وباب ترك الجهر فيها بالقراءة، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 114، 120. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الكسوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 402. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 14، 16، 19، 23. (¬2) في: المسند 2/ 267، 269. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال وركع ركعتين، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 272. والنسائى، في: باب نوع آخر، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 115. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الكسوف، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 401. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من قال: أربع ركعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 221. والنسائى، في: باب نوع آخر، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 117. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 60، 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَوِيلًا، ثم قام قِيامًا طَوِيلًا، وهو دُونَ القِيامِ الأوَّلِ، ثم رَكَع رُكُوعًا طَوِيلًا، وهو دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثم سَجَد سُجُودًا طَوِيلًا، وهو دُونَ السُّجُودِ الأوَّلِ. رَواه البخارىُّ (¬1). وفى حَدِيثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو في صِفَةِ صلاةِ الكُسُوفِ: ثم سَجَد، فلم يَكَدْ يَرْفَعُ. رَواه أبو داودَ (¬2). وتَرْكُ ذِكْرِه في حديثٍ لا يَمْنَعُ مَشْرُوعِيَتَّه إذا ثَبَت عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأمَّا الجَهْرُ فرُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه فَعَلَه. وهو مذْهَبُ أبى يُوسُف، وإسحاقَ، وابنَ المُنْذِرِ؛ لِما روَتْ عائشةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَهَر في صَلاةِ ¬

(¬1) انظر حديثها المتقدم في صفحة 387. (¬2) في: باب من قال يركع كعتين، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 272، 273. كما أخرجه النسائى، في: باب نوع آخر، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 159.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُسُوفِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعنها أيضًا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ، وجَهَر فيها. قال التِّرْمِذىُّ (¬2): هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّها نافِلَةٌ شُرِعَتْ لها الجَماعَةُ، فكان مِن سُنَّتِها الجَهْرُ، كصلاةِ الاستِسْقاءِ. فأمَّا قولُ عائشةَ: حَزَرْتُ قِراءَتَه. ففى إسْنادِه مَقالٌ؛ لأنَّه مِن رِوايَةِ ابنِ إسْحاقَ. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ سَمِعَتْ صَوْتَه ولم تَفْهَمْ للبُعْدِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الجهر بالقراءة في الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. صحيح البخارى 2/ 49. ومسلم، في: باب صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 620. (¬2) في: باب ما جاء كيف القراءة في الكسوف، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 41. كما أخرجه البخارى، في: باب الجهر بالقراءة في الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 49. ومسلم، في: باب صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 620. وأبو داود، في: باب القراءة في صلاة الكسوف، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 271. والنسائى، في: باب الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 120. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 65.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو قَرَأ مِن غيرِ أوَّلِ القُرْآنِ بقَدْرِ البَقَرَةِ. ثم حَدِيثُنا صحيحٌ صريحٌ، فكيف يُعارَضُ بمثْلِ هذا. وحديثُ سَمُرَةَ مَحْمُولٌ على أنَّه لم يَسْمَعْ لبُعْدِه؛ فإنَّ في حَدِيثِه ما يَدُلُّ على هذا، وهو أنَّه قال: دَفَعْتُه إلى المَسْجدِ، وهو بأُزَزٍ. يعنى وهو مُغْتَصٌّ بالزّحامِ. ثم إنَّ هذا نَفْىٌ يَحْتَمِلُ أُمُورًا كَثِيرةً، فكيف يُتْرَكُ لأجْلِه الحديثُ الصحيحُ! وقِياسُهم مُنْتَقَضٌ بما ذَكَرْنا مِن القِياسَ. والدَّلِيلُ على صِفَةِ الصَّلاةِ التى ذَكَرْناها، ما روَتْ عائشةُ، قالت: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في حَياةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخَرَجَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المَسْجِدِ، فقامَ وكَبَّرَ، وصَف النّاسُ وَراءَه، فقَرَأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قِراءَةً طَوِيلَةً، ثم كَبَّرَ فرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثم رَفَع رأْسَه، فقال: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَاَ وَلَكَ الْحَمْدُ». ثم قام فاقْتَرَأ قِراءَةً طَوِيلَةً، وهى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أدْنَى مِن القِراءَةِ الأُولَى، ثم كَبَّرَ فرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وهو أدْنَى مِن الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثم قال: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». ثم سَجَد، ثم فَعَل في الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مثلَ ذلك، حتى اسْتَكْمَلَ أرْبَعَ رَكَعاتٍ، وأرْبَعَ سَجَداتٍ، وانْجَلَتِ الشَّمْسُ قبلَ أن يَنْصَرِفَ. وعن ابنِ عباسٍ مثلُ ذلك، وفيه أنَّه قام في الأُولَى قِيامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِن سُورَةِ البَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمّا أحادِيثُهم فغيرُ مَعْمُولٍ بها باتِّفاقِنا، فإنَّهم قالُوا: يُصَلِّى رَكْعَتَيْن. وحَدِيثُ النُّعْمانِ فيه أنَّه يُصَلِّى رَكْعَتَيْن، وحَدِيثُ قَبِيصَةَ مُرْسَل، وحديثُ النُّعْمانِ يَحْتَمِلُ أنَّه صَلَّى رَكْعَتَيْن في كلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْن، لأنَّ فيه جمعًا بينَ الأحاديثِ، ولو قُدِّرَ التَّعارُضُ كانت أحادِيثُنا أوْلَى؛ لصِحَّتِها وشُهْرَتِها، واشْتِمالِها على الزِّيادَةِ، والزِّيادَةُ مِن الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. ¬

(¬1) الأول تقدم تخريجه في صفحة 387. والثانى تقدم تخريجه في صفحة 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَهْما قَرَأ به جاز، سَواءٌ كانتِ القِراءَةُ طَوِيلَةً أو قَصِيرَةً؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُصَلِّى في كُسُوفِ الشَّمْسِ والقَمَرِ أرْبَعَ رَكَعاتٍ في أرْبَعِ سَجَداتٍ، وقَرَأ في الأُولَى بالعَنْكَبُوتِ والرُّومِ، وفى الثَّانيةِ بـ {يس}. أخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنىُّ (¬1). فصل: وقال أصحابُنا: لا خُطْبَةَ لصلاةِ الكُسُوفِ، ولم يَبْلُغْنا عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في ذلك شئٌ. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، وأصْحابِ الرَّأْى. وقال إسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ: يَخْطُبُ الإِمامُ بعدَ الصَّلاةِ. قال الشافعىُّ: يَخْطُبُ كَخُطْبَتَى الجُمُعَةِ؛ لأنَّ في حديثِ عائشةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- انْصَرَفَ وقد انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فخَطَبَ النّاس، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثْنَى عليه، وقال: «إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَخسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا» ثم قال: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولَنا، أنَّ في هذا الخَبَرِ ما يَدُلُّ على أنَّ الخُطْبَةَ لا تُشْرع لها، لأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَهم بالصلاةِ، والدُّعاءِ، والتَّكْبِيرِ، والصَّدَقَةِ، ولم يَأْمُرْهم بخُطْبَةٍ، ولو كانت سُنَّةً لأمَرَهمِ بها، وإنَّما خَطَب ¬

(¬1) في: باب صفة الخسوف والكسوف وهيئتها، من كتاب الكسوف. سنن الدارقطنى 2/ 94. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الصدقة في الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 42، 43. ومسلم، في: باب صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 618. كما أخرجه النسائى، في: باب كيف الخطبة في الكسوف، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 123. والإمام مالك، في: باب العمل في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. الموطأ 1/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 164.

699 - مسألة: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة، وإن تجلى قبلها، أو غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف، لم يصل)

فَإِنْ تَجَلَّى الْكُسُوفُ فِيهَا أتَمَّهَا خَفِيفَةً، وَإنْ تَجَلَّى قَبْلَهَا، أَوْ غَابَتِ الشَّمْسُ كَاسِفَةً، أوْ طَلَعَتْ وَالْقَمَرُ خَاسِفٌ، لَمْ يُصَلِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدَ الصلاةِ ليُعَلِّمَهم حُكْمَها، وهذا مُخْتَصٌّ به، ليس في الخَبَرِ ما يَدُلُّ على أنَّه خَطَب خُطْبَتَى الجُمُعَةِ. واسْتُحِبَّ ذِكْرُ اللَّهِ تعالى، والدُّعاءُ، والتَّكْبِيرُ، والاسْتِغْفارُ، والصَّدَقَةُ، والعِتْقُ، والتَّقَرُّبُ إلى اللَّهِ تعالى بما اسْتَطاعَ؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ. وفى خَبَرِ أبى موسى: «فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تعالى، وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ» (¬1). ورُوِى عن أسماءَ، أنَّها قالت: إنَّا كُنَّا لنُؤْمَرُ بالعِتْقِ في الكُسُوفِ (¬2). 699 - مسألة: (فإن تَجَلَّى الكُسُوفُ فيها أتَمَّها خَفِيفَةً، وإن تَجَلَّى قَبْلَها، أو غابَتِ الشَّمْسُ كاسِفَةً، أو طَلَعَتْ والقَمَرُ خاسِفٌ، لم يُصَلِّ) وقْتُ صلاةٍ الكُسُوفِ مِنْ حينِ الكُسُوفِ إلى حينِ التَّجَلِّى. فإن فاتَتْ لم تُقْضَ؛ لأنَّه قد رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الذكر في الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 48. ومسلم، في: باب ذكر النداء بصلاة الكسوف «الصلاة جامعة»، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 628، 629. والنسائى، في: باب الأمر بالاستغفار في الكسوف، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 124. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس، من كتاب الكسوف، صحيح البخارى 2/ 47. وأبو داود، في: باب العتق فيها، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 272. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ حَتَّى تَنْجَلِىَ» (¬1). فجَعَلَ الانْجِلاءَ غايَةً للصلاةِ. ولأنَّ الصلاةَ إنَّما سُنَّتْ رَغْبَةً إلى اللَّهِ في رَدِّها، فإذا حَصَل ذلك حَصَل مَقْصُودُ الصَّلاةِ. وإن تَجَلَّتْ وهو في الصَّلاةِ أتَمَّها خَفِيفةً؛ لأنَّ المَقْصُودَ التَّجَلِّى، وقد حَصَل. وإنِ اسْتَتَرَتِ الشَّمْسُ والقَمَرُ بالسَّحابِ، وهما مُنْكَسِفان، صَلَّى؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الكُسُوفِ. وإن تَجَلَّى السَّحابُ عن بعقِمها فرَأوْه صافِيًا، صَلَّوْا، ولأنَّ الباقِىَ لا يُعْلَمُ حالُه. وإن غابَتِ الشَّمْسُ كاسِفَةً، أو طَلَعَتْ على القَمَرِ وهو خاسِفٌ، لم يُصَلِّ؛ لأنَّه قد ذَهَب وَقْتُ الانْتِفاعِ بنُورِهما. وإن غاب القَمَرُ لَيْلًا، فقال القاضى: يُصَلِّى؛ لأنَّه لم يَذْهَبْ وَقْتُ الانْتِفاعِ بنُورِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يُصَلِّىَ؛ لأنَّ ما يُصَلِّى له قد غاب، أشْبَهَ ما لو غابَتِ الشَّمْسُ. فإن لم يُصَلِّ حتى طَلَع الفَجْرُ الثَّانِى ولم يَغِبْ، أو ابْتَدَأ الخَسْفُ بعدَ طُلُوعِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الدعاء في الخسوف، من كتاب الكسوف. صحيح البخارى 2/ 48، 49. ومسلم، في: باب ما عرض على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، وباب ذكر النداء بصلاة الكسوف «الصلاة جامعة»، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 622، 630. وأبو داود، في: باب من قال: أربع كعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 619. والنسائى، في: باب نوع آخر، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 110، 111. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 318، 349، 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَجْرِ وغاب قبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ففيه احْتِمالان ذَكَرَهما القاضى؛ أحَدُهما، لا يُصَلِّى؛ لأنَّ القَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ وقد ذَهَب اللَّيْلُ، أشْبَهَ إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. والثانِى، يُصَلِّى؛ لأنَّ الانْتِفاعَ بنُورِه باقٍ، أشْبَهَ ما قبلَ الفَجْرِ. وإن فَرَغ مِن الصَّلاةِ والكُسُوفُ قائِم لم يُصَلِّ صلاةً أُخْرَى، واشْتَغَلَ بالذِّكْرِ والدُّعاءِ؛ لأنَّ الصَّحِيحَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه لم يَزِدْ على رَكْعَتَيْن. فصل: وإذا اجْتَمَعَ مع الكُسُوفِ صلاةٌ أُخْرَى كالجُمُعَةِ، والعِيدِ، أو الوِتْرِ، أو صلاةٍ مَكْتُوبَةٍ، بَدَأ بأخْوَفِهما فَوْتًا. فإن خِيفَ فَوْتُهما بَدَأ بالواجِبَةِ، فإن لم يكنْ فيهما واجِبَةٌ بَدَأ بالكُسُوفِ؛ لتَأكُّدِه، ولهذا تُسَنُّ له الجَماعَةُ، ولأنَّ الوِتْرَ يُقْضَى، وصلاةُ الكُسُوفِ لا تُقْضَى. فإنِ اجْتَمَعتِ التَّراويِحُ والكُسُوفُ، ففيه وَجْهان عندَ أصْحابِنا. وقال شيخُنا (¬1): الصَّحِيحُ أنَّ الصَّلَواتِ الواجبَةَ التى تُصَلَّى في الجَماعَةِ تُقَدَّمُ على الكُسُوفِ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ تَقْدِيمَ الكُسُوفِ عليها يُفْضِى إلى المَشَقَّةِ؛ ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِلْزامِ الحاضِرِين بفِعْلِها مع كَوْنِها ليست واجِبَةً عليهم، وانْتِظارِهم الصلاةَ الواجِبَةَ، مع أنَّ فيهم الضَّعِيفَ والكَبِيرَ وذا الحاجَةِ. وقد أمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتَخْفِيفِ الصَّلاةِ الواجِبَةِ؛ لئلَّا يَشُقَّ على المَأْمُومِين، فتَأْخِيرُ هذه الصَّلاةِ الطَّوِيلَةِ الشّاقَّةِ، مع [أنَّها غيرُ] (¬1) واجِبَةٍ، أوْلَى، وإنِ اجْتَمَعَتْ مع التَّراوِيحِ، قُدِّمَتِ التَّراوِيحُ لذلك. وإنِ اجْتَمَعَتْ مع الوِتْرِ في أوَّلِ وَقْتِ الوِتْرِ، قُدِّمَتْ؛ لأنَّ الوِتْرَ لا يَفُوتُ، وإن خِيفَ فَواتُ الوِتْرِ قُدِّمَ؛ لأنَّه يَسِيرٌ يُمْكِنُ فِعْلُه وإدْراكُ وَقْتِ الكُسُوفِ، وإن لم يَبْقَ إلَّا قَدْرُ الوِتْرِ، فلا حاجَةَ إلى التَّلبّسِ بصلاةِ الكُسُوفِ؛ لأنَّها تَقَعُ في وَقْتِ النَّهْى. فإنِ اجْتَمَعَتْ مع صلاةِ الجِنازَةِ، قُدِّمَتِ الجِنازَةُ وجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ المَيِّتَ يُخافُ عليه. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «أن غيرها».

700 - مسألة: (وإن أتى فى كل ركعة بثلاث ركوعات، أو أربع، فلا بأس)

وَإِنْ أَتَى فِى كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، فَلَا بَأْسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أدْرَكَ المَأْمُومُ الإِمامَ في الرُّكُوعِ الثانِى، احْتَمَلَ أن تَفُوتَه الرَّكْعَةُ. قاله القاضى؛ لأنَّه فاتَه مِن الرَّكْعَةِ رُكُوع، أشْبَهَ ما لو فاتَه الرُّكُوعُ مِن غيرِ هذه الصَّلاةِ. واحْتَمَلَ أن تَصِحَّ له الرَّكْعَةُ؛ لأنَّه يَجُوزُ أن يُصَلِّىَ هذه الصلاةَ برُكُوع واحِدٍ، فاجْتُزِئَ به في حَقِّ المَسْبُوقِ. وهذا الخِلافُ على الرِّوايَةِ التى تَقُولُ: يَرْكَعُ رُكُوعَيْن. فأمَّا على الرِّوايَةِ التى يَرْكَعُ أكْثَرَ مِن رُكُوعَيْن، فإنَّه يَكُون مُدْرِكًا للرَّكْعَةِ إذا فاتَه رُكُوعٌ واحِدٌ؛ لإِدْراكِه مُعْظَمَ الرِّكْعَةِ. حكاهُ ابنُ عَقِيلٍ. 700 - مسألة: (وإن أتَى في كلِّ رَكْعَةٍ بثَلاثِ رُكُوعاتٍ، أو أرْبَعٍ، فلا بَأْسَ) تَجُوزُ صلاةُ الكُسُوفِ على كل صِفَةٍ رُوِيَتْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما قُلْنا في صلاةِ الخَوْفِ، والأَوْلَى عندَ أبى عبدِ اللَّهِ الصلاةُ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّفَةِ التى ذَكَرْنا؛ فإنَّه قال: رُوِىَ عن ابنَ عباس، وعائشةَ، في صَلاةِ الكُسُوفِ أرْبَعُ رَكَعاتٍ وأرْبَعُ سَجَداتٍ، وأمَّا علىٌّ فيَقُولُ: سِتُّ رَكَعاتٍ وأرْبَعُ سَجَداتٍ. نَذهَبُ إلى قَوْلِ ابنِ عباس وعائشةَ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه صَلَّى سِتَّ رَكَعاتٍ وأرْبَعَ سَجَداتٍ. وعن حُذَيْفَةَ. وهو قولُ إسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه قد رُوِىَ عن عائشةَ، وابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى لسِتَّ رَكَعاتٍ وأرْبَعَ سَجَداتٍ. أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). ورُوِىَ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه صَلَّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ وسَجْدَتَيْن في كلِّ رَكْعَةٍ. رَواه مسلمٌ (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: رُوِينا عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ، أنَّهُما صَلَّيا هذه الصلاةَ. وحُكِىَ عن إسْحاقَ، أنَّه قال: وَجْهُ الجَمْعِ ¬

(¬1) في: باب صلاة الكسوف، من كتاب الكسوف. صحيح مسلم 2/ 618 - 621. (¬2) في الموضع السابق. صحيح مسلم 2/ 620.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَ هذه الأحاديثِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما كان يَزِيدُ في الرُّكُوعِ إذا لم يَرَ الشَّمْسَ قد انْجَلَتْ، فإذا انْجَلَتْ سَجَد، فمِن ههُنا صارَتْ زِيادَةُ الرَّكَعاتِ. قال شيخُنا (¬1): ولا يُجاوِزُ أرْبَعَ رَكَعاتٍ في كلِّ رَكْعَةٍ؛ لأنَّه لم يَأْتِنا عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكْثَرُ مِن ذلك. قُلْتُ: وقد روَى أُبَىُّ بنُ كَعْبٍ، قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بهم فقَرَأ سُورَةً مِن الطِّوالِ، ورَكَع خمْسَ رَكَعاتٍ، وسَجَد سَجْدَتَيْن، ثم جَلَس كما هو مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ يَدْعُو، حتى انْجَلَى كُسُوفُها. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 330.

701 - مسألة: (ولا يصلى لشئ من سائر الآيات، إلا الزلزلة الدائمة)

وَلَا يُصَلِّى لِشَىْءٍ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ، إِلَّا الزَّلْزَلَةَ الدَّائِمَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه أبو داودَ (¬1). فعلى هذا لا بَأْسَ أن يَأْتِىَ في كلِّ رَكْعَةٍ بخَمْسِ رُكُوعاتٍ؛ لهذا الحديثِ، ولا يَزِيدُ عليها؛ لِما ذَكَرْنا. 701 - مسألة: (ولا يُصلِّى لشئٍ مِن سائِرِ الآياتِ، إلَّا الزَّلْزَلَةَ الدّائِمَةَ) قال أصْحابُنا: يُصَلِّى للزَّلْزَلَةِ كصلاةِ الكُسُوفِ. نَصَّ عليه. ¬

(¬1) في: باب من قال أربع ركعات، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 270. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مَذْهَبُ إسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. قال القاضى: ولا يُصَلِّى للرَّجْفَةِ، والرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، والظُلْمَةِ، ونحْوِها. وقال الآمِدِىُّ: يُصَلِّى لذلك، ولرَمْىِ الكَواكِبِ والصَّواعِقِ، وكَثْرَةِ المَطَرِ. وحَكاه عن ابنِ أبى موسى. وقال أصحابُ الرَّأْى: الصلاةُ لسائِرِ الآياتِ حَسَنَة؛ لأنَّ النبىَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّلَ الكُسُوفَ بأنَّه مِن آياتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ بها عِبادَه، وصَلَّى ابنُ عباسٍ للزَّلْزَلَةِ بالبَصْرَةِ. رَواه سَعِيدٌ (¬1). وقال مالكٌ والشافعىُّ: لا ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من صلى في الزلزلة بزيادة عدد الركوع والقيام قياسا على صلاة الخسوف. السنن الكبرى 3/ 343. وابن أبى شيبة، في: باب في الصلاة في الزلزلة، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 472.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُصَلِّى لشئٍ مِن الآياتِ سِوَى الكُسُوفِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلِّ لغيرِه ولا خُلَفاؤُه، وقد كان في عَصْرِه بعضُ هذه الآياتِ. ووَجْهُ الصَّلاةِ للزَّلْزَلَةِ فِعْلُ ابنِ عباسٍ، وغيرُها لا يُصَلِّى له؛ لِما ذَكَرْنا. واللَّهُ أعلمُ.

باب صلاة الاستسقاء

بَابُ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ وَإذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ، وَقَحَطَ الْمَطَرُ، فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صَلاةِ الاسْتِسْقاءِ 702 - مسألة: (وإذا أجْدَبَتِ الأرْضُ، وقَحَط المَطَرُ، فَزِع النَّاسُ إلى الصَّلاةِ) صَلاةُ الاسْتِسْقاءِ عندَ الحاجَةِ إليها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَها، وكذلك خُلَفاؤُه، فروَى عبدُ اللَّه بِنُ زَيْدٍ، قال: خَرَج النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَسْقِى، فتَوَجَّهَ إلى القِبْلَةِ يَدْعُو، وحَوَّلَ رِداءَه، وصَلَّى رَكْعَتَيْن جَهَر فيهما بالقِراءَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا قولُ سَعِيدِ بنِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء، وباب كيف حول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ظهره الى الناس، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 38، 39. ومسلم، بدون ذكر «جهر فيهما بالقراءة»، في: أول كتاب الاستسقاء. صحيح مسلم 2/ 611. كما أخرجه أبو داود، في: أول كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 265. والترمذى، في: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 30. والنسائى، في: باب تحويل الإمام ظهره إلى الناس عند الدعاء في الاستسقاء، وباب الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 127، 133. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 39، 40، 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ، وداودَ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُسَنُّ صلاةُ الاسْتِسْقاءِ، ولا، الخُروجُ إليها، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَسْقَى على المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ولم يَخْرُجْ، ولم يُصَلِّ لها. وليس هذا بشئٍ، فإنَّه قد ثَبَت بما روَيْناه مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ. وروَى أبو هُرَيْرَة، أنَّه خَرَج وصَلَّى (¬1). وفِعْلُه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما ذَكَرُوه لا يَمْنَعُ فِعْلَ ما ذَكَرْنا. قال ابن المُنْذِرِ: ثَبَت أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى صلاةَ الاسْتِسْقاءِ. وهو قولُ عَوامِّ أهلِ العِلْمِ إلَّا أبا حنيفةَ، وخالَفَه صاحِباه واتَّبَعا سائِرَ العُلَماءِ، والسُّنَّةُ يُسْتَغْنَى بها عن كلِّ قولٍ، ولا يَنْبَغِى أن يُعَرَّجَ على ما خالَفَها. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 403، 404. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 326.

703 - مسألة: (وصفتها فى موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد)

وَصِفَتُهَا فِى مَوْضِعِهَا وَأحْكَامِهَا، صِفَةُ صَلَاةِ الْعِيدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 703 - مسألة: (وصِفَتُها في مَوْضِعِها وأحْكامِها صِفَةُ صلاةِ العِيدِ) وجملَةُ ذلك أنَّه يُسْتَحَبُّ فِعْلُها في المُصَلَّى، كصلاةِ العِيدِ. قالت عائشةُ: شَكَا النّاسُ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَحْطَ المَطَرِ، فأمَرَ بمِنْبَرٍ فوُضِعَ له في المُصَلَّى. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ النَّاسَ يَكْثُرُون فكان المُصَلَّى أرْفَقَ بهم. وهى رَكْعَتان عندَ العامِلِين بها، لا نَعْلَمُ بَيْنَهم خِلافًا في ذلك. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ في صِفَتِها، فرُوِىَ أنَّه يُكَبِّرُ فيها سَبْعًا في الأُولَى، وخَمْسًا في الثَّانيةِ، كتَكْبِيرِ العِيدِ. وهو قولُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وداودَ، والشافعىِّ. وحُكِىَ عن ابنِ عباسٍ في حديثِه: ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن كما يُصَلِّى العِيدَ. رَواه أبو داود (¬2). وروَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3)، عن ¬

(¬1) في: باب رفع اليدين في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 267. (¬2) في: باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 265. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، من أبواب السفر. عارضة الأحوذى 3/ 31 والنسائى، في: باب الحال التى يستحب للإمام أن يكون علمها إذا خرج، وباب جلوس الإمام على المنبر للاستسقاء، وباب كيف صلاة الاستسقاء، كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 126، 127، 132. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 403. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 230، 269، 355. (¬3) في: كتاب الاستسقاء. سنن الدارقطنى 2/ 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى كْعَتَيْن، كَبَّرَ في الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيراتٍ، وقَرَأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وقَرَأَ في الثَّانيةِ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وكَبَّرَ فيها خَمْسَ تَكْبِيراتٍ. وروَى جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكرٍ، وعُمَرَ، كانوا يُصَلُّون صلاةَ الاسْتِسْقاءِ، يُكَبِّرُون فيها سَبْعًا وخَمْسًا. رَواه الشافعىُّ (¬1). والثانية، أنَّه يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، كصلاةِ التَّطَوُّعِ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، والأوْزاعِىِّ، وإسْحاقَ؛ لأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ زَيْدٍ، قال: صَلَّى رَكْعَتَيْن. ولم يَذْكرْ أنَّه كَبَّرَ سَبْعًا وخَمْسًا. وروَى أبو هُرَيْرَةَ نَحْوَه (¬2). وظاهِرُه أنَّه لم يُكَبِّرْ، وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. ويُسَنُّ أن يَجْهَرَ فِيهما بالقِراءَةِ؛ لِما ذَكَرْنا من حَدِيثِ عبدِ اللَّهِ بن زَيْدٍ، وأن يَقْرَأَ فيهما بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. لحدِيثَى ابنِ عباسٍ. ¬

(¬1) في: باب صلاة العيدين. ترتيب مسند الشافعى 1/ 157. وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الاستسقاء، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 85. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 410.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُسَنُّ لها أذانٌ ولا إقامَةٌ. لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا فيه. وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: خَرَج رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا يَسْتَسْقِى، فصَلَّى بنا رَكْعَتَيْن، بلا أذانٍ ولا إقامَةٍ. رَواه الأثْرَمُ. ولأنَّها نافِلَةٌ، فلم يُؤَذَّنْ لها كسائِرِ النَّوافِلِ. قال أصْحابُنا: ويُنادَى لها: الصلاةَ جامِعَةً. كالعِيدِ وصلاةِ الكُسُوفِ. وليس لها وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إلَّا أنَّها لا تُفْعَلُ في وَقْتِ النَّهْى بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ وَقْتَها مُتَّسِعٌ، فلا يُخافُ فَوْتُها، والأَوْلَى فِعْلُها في وَقْتِ صلاةِ العِيدِ، لِما روَت عائشةُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج حينَ بَدَا حاجبُ الشَّمْسِ. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّها تُشْبِهُها في المَوْضِعِ والصِّفَةِ، فكذلك في الوَقْتِ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: الخُرُوجُ إليها عندَ زَوالِ الشَّمْسِ، عندَ جَماعَةِ العُلَماءِ، إلَّا أبا بكرِ ابنَ حَزْمٍ (¬2). وهذا على سَبِيلِ الاخْتِيارِ لا أنَّه يَتَعَيَّنُ فِعْلُها فيه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬2) أبو بكر بن عمد بن عمرو بن حزم الأنصارى المدنى القاضى، ثقة، كثير الحديث، توفى سنة سبع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 12/ 38 - 40.

704 - مسألة: (وإذا أراد الإمام الخروج إليها، وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة من المعاصى، والخروج من المظالم، والصيام، والصدقة، وترك التشاحن)

وَإذَا أَرَادَ الإِمَامُ الْخُرُوجَ لَهَا، وَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِى، وَالْخُروجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَتَرْكِ التَّشَاحُنَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 704 - مسألة: (وإذا أرادَ الإِمامُ الخُرُوجَ إليها، وَعَظ النَّاسَ، وأمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِن المعاصِى، والخُرُوجِ مِن المَظَالِمِ، والصِّيامِ، والصَّدَقَةِ، وتَرْكِ التَّشاحُنِ) لكَوْنِ المعاصِى سَبَبَ الجَدْبِ، والتَّقْوَى سَبَبَ البَرَكاب، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). وقال مُجاهِدٌ في قَوْلِه تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬2): البَهائِمُ تَلْعَنُ عُصاةَ بَنِى آدَمَ، إذا أمْسَك المَطَرُ. وقال: هذا مِن شُؤْمِ بَنِى آدَمَ. ¬

(¬1) سورة الأعراف 96. (¬2) سورة البقرة 159.

705 - مسألة: (ويعدهم يوما يخرجون فيه)

وَيَعِدُهُمْ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَيَتَنَظَّفُ لَهَا، وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَيَخْرُجُ مُتَوَاضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَذَلِّلًا، مُتَضَرِّعًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 705 - مسألة: (ويَعِدُهُمْ يَوْمًا يَخْرُجُون فيه) لِما روَت عائشةُ، قالت: شَكَا النَّاسُ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُحُوطَ المَطَر، فأمَرَ بمِنْبَرٍ فوُضِعَ له في المُصَلَّى، ووَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُون فيه. رَواه أبو داودَ (¬1). 706 - مسألة: (وَيَتَنَظَّفُ لها) بالغُسْلِ، والسِّواكِ، وإزالَةِ الرّائِحَةِ، قِياسًا على صلاةِ العِيدِ (ولا يَتَطَيَّبُ) لأنَّه يَوْمُ اسْتِكانَةٍ وخُشُوعٍ. 707 - مسألة: (ويَخْرُجُ مُتَواضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَذَلِّلًا، مُتَضَرِّعًا) السُّنَّةُ الخُرُوجُ لصلاةِ الاسْتِسْقاءِ على الصِّفَةِ المذْكُورَةِ، مِن التَّواضُعِ والخُشُوعِ، في ثِيابِ بِذْلَتِه، ولا يَلْبَسُ ثِيابَ زِينَةٍ؛ لأنَّه يَوْمُ تَواضعٍ، ويكونُ مُتَخَشِّعًا في مَشْيِه وجُلُوسِه، مُتَضَرِّعًا إلى اللَّهِ تعالى، مُتَذَلِّلًا، راغِبًا إليه. قال ابنُ عباسٍ: خَرَج رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- للاسْتِسْقاءِ مُتَذَلِّلًا، مُتَواضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَضرِّعًا، حتى أتى المُصَلَّى، فلم يَخْطُبْ كخُطْبَتِكُم هذه، ولكن لم يَزَلْ في الدُّعاءِ [والتَّضَرُّعِ] (¬2) والتَّكْبِيرِ، وصَلَّى رَكْعَتَيْن كما كان يُصَلِّى في العِيدِ. قال التِّرْمِذىُّ (¬3): هذا حَدِيثٌ ¬

(¬1) هذه قطعة من حديثها المتقدم. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 411.

708 - مسألة: (و)

وَمَعَهُ أَهْلُ الدِّينَ وَالصَّلَاحِ، وَالشُّيُوخُ، وَيَجُوزُ خُروجُ الصِّبْيَانِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُسْتَحَبُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حسنٌ صحيحٌ. 708 - مسألة: (و) يَخْرُجُ (معه أهلُ الدِّينِ والصَّلاحِ، والشُّيُوخُ) لأنَّه أسْرَعُ للإِجابَةِ. ويُسْتَحَبُّ الخُرُوجُ لِكافَّةِ النّاسِ، فأمَّا النِّساءُ، فلا بَأْسَ بخُرُوجِ العَجائِزِ منهنَّ، ومَن لا هَيْئةَ لها. وقال ابنُ حامِدٍ: يُسْتَحَبُّ. فأمَّا الشَّوابُّ، وذَواتُ الهَيْئَةِ، فلا يُسْتَحَبُّ لهُنَّ؛ لأنَّ الضَّرَرَ في خُرُوجِهِنَّ أكْثَرُ مِن النَّفْعِ. ولا يُسْتَحَبُّ إخْراجُ البَهائِمِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْعَلْه. وبه قال أصحابُ الشافعىِّ؛ لأنَّه رُوِىَ أنَّ سُلَيمانَ عليه السلامُ خَرَج يَسْتَسْقِى، فرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً وهى تقولُ: اللَّهُمَّ إنَّا خَلْقٌ مِن خَلْقِكَ، ليس بنا غِنًى عن رِزْقِك. فقال سُلَيمانُ: ارْجِعُوا فقد سُقِيتُم بدَعْوةِ غيرِكم (¬1). وقال ابنُ عَقِيلٍ، والقاضى: لا بَأْسَ به لذلك. والاقْتِداءُ بالنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى. 709 - مسألة: (ويَجُوزُ خُبرُوجُ الصِّبْيانِ) كغيرِهم مِن النَّاسِ. (وقال ابنُ حامِدٍ: يُسْتَحَبُّ) اخْتارَه القاضى، فقال: خُرُوجُ الشُّيُوخِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الاستسقاء، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 95، 96. والدارقطنى، في: كتاب الاستسقاء. سنن الدارقطنى 2/ 66.

710 - مسألة: (وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا، ولم يختلطوا بالمسلمين)

وَإنْ خَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ يُمْنَعُوا، وَلَمْ يَخْتَلِطُوا بِالْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والصِّبْيانِ أشَدُّ اسْتِحْبابًا مِن الشَّبابِ؛ لأنَّ الصِّبْيانَ لا ذُنُوبَ عليهم. 710 - مسألة: (وإن خَرَج معهم أهْلُ الذِّمَّةِ لم يُمْنَعُوا، ولم يَخْتَلِطُوا بالمسلمين) وجملَةُ ذلك، أنَّه لا يُسْتَحَبُّ إخْراجُ أهْلِ الذِّمَّةِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّهم أعْداءُ اللَّهِ الذين بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فهم بَعِيدُون مِن الإِجابَةِ، وإن أُغِيثَ المسلمون فرُبَّما قالوا: هذا حَصَل بدُعائِنا وإجابَتِنا. وإن خَرَجُوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُمْنَعُوا؛ لأنَّهم يَطْلُبون أرْزاقَهم مِن رَبِّهم، فلا يُمْنَعُون مِن ذلك. ولا يَبْعُدُ أن يُجِيبَهم اللَّهُ تعالى؛ لأنَّه قد ضَمِن أرْزاقَهم في الدُّنْيا، كما ضَمِن أرْزاقَ المُؤْمِنين. ويُؤْمَرُون بالانْفِرادِ عن المُسْلِمين، لأَنَّه لا يُؤْمَنُ أن يُصِيبَهم عَذابٌ، فيَعُمَّ مَن حَضَرَهم، فإنَّ عادًا اسْتَسْقَوْا، فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم رِيحًا صَرْصَرًا، فأهْلَكَتْهُم. فإن قِيلَ: فيَنْبَغِى أن يُمْنَعُوا الخُرُوجَ يَوْمَ يَخْرُجُ المسلمون، لئلَّا يَظُنُّوا أنَّ ما حَصَل مِن السُّقْيا بدُعائِهم. قُلْنا: ولا يُؤْمَنُ أن يَتَّفِقَ نُزولُ الغَيْت يَوْمَ يَخْرُجُونَ وحدَهم، فيكونُ أعْظَمَ لفِتْنَتِهم، ورُبَّما فُتِن بهم غيرُهم.

711 - مسألة: (فيصلى بهم، ثم يخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير، كخطبة العيد)

فَيُصَلِّى بِهِمْ، ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً، يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 711 - مسألة: (فيُصَلِّى بهم، ثم يَخْطُبُ خُطْبَةً واحِدَةً، يَفْتَتِحُها بالتَّكْبِيرِ، كخُطْبَةِ العِيدِ) قد ذَكَرْنا الاخْتِلافَ في مَشرُوعِيَّةِ صلاةِ الاسْتِسْقاء وصِفَتِها. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في خُطْبَةِ الاسْتِسْقاءِ وفى مَوْضِعِها، فرُوِىَ، أنَّه لا يَخْطُبُ، وإنَّما يَدْعُو ويَتَضَرَّعُ؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: لم يَخْطُبْ كخُطْبَتِكُم هذه، لكنْ لم يَزَلْ في الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ. والمَشْهُورُ أن فيها خُطْبَةً بعدَ الصَّلاةِ. قال أبو بكر: اتَّفَقُوا عن أبى عبدِ اللَّهِ، أنَّ في صلاةِ الاسْتِسْقاءِ خُطْبَةً، وصُعُودًا على المِنْبَرِ. والصَّحِيحُ أنَّها بعدَ الصَّلاةِ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وعليه جَماعَةُ الفُقَهاءِ؛ لقولِ أبى هُرَيْرَةَ: صَلَّى رَكْعَتَيْن، ثم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَطَبَنا (¬1). لأنَّها صلاةٌ ذَاتُ تَكْبِيرٍ، فأشْبَهَتْ صلاةَ العِيدَيْن. وفيها رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه يَخْطُبُ قبلَ الصَّلاةِ. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وأبانَ بنِ عُثْمان (¬2)، وهِشَامِ بنِ إسماعِيلَ (¬3)، وأبى بكرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ. وبه قال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لما روَى أنَسٌ، وعائشةُ، أنَّ النبىَّ - رضي اللَّه عنه - خَطَب وصَلَّى (¬4). وعن عبد اللَّهِ بنِ زيدٍ، قال: رَأيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَوْمَ خَرَج يَسْتَسْقِى، فحَوَّلَ ظَهْرَه إلى النّاسِ، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ يَدْعُو، ثم حَوَّلَ رِداءَه، ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن، جَهَر فيهما بالقِراءَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وفيها رِوايَةٌ ثالثةٌ، أنَّه مُخَيَّرٌ في الخُطْبَةِ قبلَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 410. (¬2) أبو سعيد أبان بن عمان بن عفان الأموى التابعى؛ ثقة من فقهاء المدينة، توفى في خلافة يزيد بن عبد الملك. وكانت وفاة في يد سنة خمس ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 97. (¬3) أبو عبد الملك هشام بن إسماعيل الدمشقى العطار، الزاهد القدوة، كان ثقة، توفى سنة سبع عشرة ومائتين. العبر 1/ 372. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلاةِ وبعدَها؛ لوُرُودِ الأخْبارِ بكِلا الأمْرَيْن، ودلالَتِها على كِلْتا الصِّفَتَيْن (¬1)، فحُمِلَ على أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل الأمْرَيْن. وأيًّا ما فَعَل مِن ذلك فهو جائِزٌ؛ لأنَّ الخُطْبَةَ غيرُ واجِبَةٍ على جَمِيِعِ الرِّواياتِ. والأَوْلَى أن يَخْطُبَ بعدَ الصَّلاةِ، كالعِيدِ، وليكونُوا قد فرغُوا مِن الصَّلاةِ، فإن أُجِيبَ دُعاؤُهم وأُغِيثُوا لم يَحْتاجُوِا إلى الصَّلاةِ في المَطَر. وقولُ ابنِ عباسٍ: لم يَخْطُبْ كخُطْبَتِكم. نفْىٌ لصِفَةِ الخُطْبَةِ لا لأصْلِها؛ بدَلِيلِ قَوْلِه: إنَّما كان جُلُّ خُطْبَتِه الدُّعاءَ والتَّضَرُّعَ والتَّكْبِيرَ. ويُسْتَحَبُّ أن يَفْتَتِحَها بالتَّكْبِيرِ، كخُطْبَةِ العِيدِ. فصل: والمَشْرُوعُ خُطْبَةٌ واحِدَةٌ، وبهذا قال عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىٍّ. وقال مالكٌ والشافعىُّ: يَخْطُبُ كخُطْبَتَى العِيدَيْن؛ لقَوْلِ ابنِ عباسٍ: صَنَع النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما صَنَع في العِيدِ (¬2). ولأنَّها ¬

(¬1) في م: «الصنفين». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 411.

712 - مسألة: (ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التى فيها الأمر به)

وَيُكْثِرُ فِيهَا الِاسْتِغْفَارَ، وَقِرَاءَةَ الْآياتِ الَّتِى فِيهَا الْأَمْرُ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَتْها في صِفَةِ الصَّلاةِ، فكذلك في صِفَةِ الخُطْبَةِ. ولَنا، قولُ ابن عباسٍ: لم يَخْطُبْ كخُطْبَتِكم هذه، ولكن لم يَزَلْ في الدُّعاءِ والتَّكْبيرِ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه ما فَصَل بينَ ذلك بسُكُوتٍ ولا جُلُوسٍ، ولأنَّ كلَّ مَن نَقَل الخُطْبَةَ لم يَنْقُلْ خُطْبَتَيْن. والصَّحيحُ مِن حديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: صَلَّى رَكْعَتَيْن، كما كان يُصَلِّى في العِيدِ. ولو كان النَّقْلُ كما ذَكَرُوه، فهو مَحْمُولٌ على الصَّلاةِ، بدَلِيلِ أوَّلِ الحَدِيثِ. وإذا صَعِد المِنْبَرَ للْخُطْبَةِ جَلَس، وإن شاء لم يَجْلِسْ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ، ولا ههُنا أذانٌ يَجْلِسُ لفَراغِه. 712 - مسألة: (ويُكْثِرُ فِيها الاسْتِغْفارَ، وقِراءَةَ الآياتِ التى فيها الأمْرُ به) يُسْتَحَبُّ أن يُكْثِرَ في خُطْبَتِه الاسْتِغْفارَ، والصلاةَ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقِرْاءَةَ الآياتِ التى فيها الأمْرُ بالاسْتِغْفارِ، كقَوْلِه تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬1). وكقولِه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬2). ولأنَّ الاسْتِغْفارَ سَبَبٌ لنُزُولِ الغَيْثِ؛ بدَلِيلَ ما ذَكَرْنا، ¬

(¬1) سورة هود 52. (¬2) سورة نوح 10، 11.

713 - مسألة: (ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبى -صلى الله عليه وسلم-)

وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَيَدْعُو بِدُعَاءِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعاصِىَ سَبَبٌ لانْقِطاعِ الغَيْثِ، والاسْتِغْفارَ والتَّوْبَةَ يَمْحُوان المَعاصِىَ. وقد رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه خرَج يَسْتَسْقِى، فلم يَزِدْ على الاسْتِغْفارِ، وقال: لقد اسْتَسْقَيْتُ بمجَادِيح السَّماءِ (¬1). 713 - مسألة: (ويَرْفَعُ يَدَيْه، فيَدْعُو بِدُعاءِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الأيْدِى في دُعاء الاسْتِسْقاءِ؛ لِما روَى البخارىُّ (¬2)، عن أنَسٍ، قال: كِان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَرْفَعُ يَديْه في شئٍ مِن دُعائِه، إلَّا الاسْتِسْقاءَ، فإنَّه يَرْفَعُ حتى يُرَى بَياضُ إبطَيْه. وفى حَدِيثِ أنَسٍ أيضًا: فَرَفَعَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْه. ورَفَع النّاسُ أيْدِيَهُم (¬3). ويُسْتَحَبُّ أن يَدْعُوَ بدُعاءِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) مجاديح السماء: أنواؤها. وأخرجه البيهقى، في: باب ما يستحب من كثرة الاستغفار في خطبة الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. السنن الكبرى 3/ 351. وعبد الرزاق، في: باب الاستغفار، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 87. (¬2) في: باب رفع الإمام يده في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 39، 40. كما أخرجه مسلم، في: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. صحيح مسلم 2/ 612. وأبو داود، في: باب رفع اليدين في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 266. والنسائى، في: باب كيف يرفع، من كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 128. وابن ماجه، في: باب من كان لا يرفع يديه في القنوت، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 373. والدارمى، في: باب رفع الأيدى في الاستسقاء، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 361. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 39.

«اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، غَدَقًا مُجَلِّلًا، سَحًّا عَامًّا، طَبَقًا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ، وَلَا هَدْمٍ، وَلَا غَرَقٍ، اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُوهُ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّماءِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْىَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نسْتَغْفِرُكَ، إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا». ـــــــــــــــــــــــــــــ فروَى عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا اسْتَسْقَى، قال: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيعًا، غَدَقًا مُجَلِّلًا، طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنا الغَيْثَ، ولا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبادِ وَالْبِلَادِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لا نَشْكُوهُ إلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أنْبِت لَنَا الزَّرْعَ، وَأدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْىَ، وَارْفَعْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إنَّا نسْتَغْفِرُكَ، إنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا» (¬1). وروَى جابِرٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «اللَّهُمّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، ¬

(¬1) عند الإمام الشافعى في الأم 1/ 251. وعن غير ابن عمر في السنن الكبرى للبيهقى 3/ 354 - 356.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَرِيئًا مَرِيعًا، نَافِعًا غَيْرَ ضارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). قال الخَطّابِىُّ (¬2): مَرِيعًا (¬3) يُرْوَى على وَجْهَيْنِ بالياء والباءِ، فمَن رَواه بالياءِ جَعَلَه مِن المَراعَةِ. يُقالُ: أمْرَعَ المَكانُ. إذا أَخْصَبَ. ومَن رَواه بالباءِ مُرْبِعًا، كان مَعْناه: مُنْبِتًا للرَّبِيعِ. وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالتْ: شَكَا النّاسُ إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قُحُوطَ المَطَرٍ، فأمَرَ بمِنْبَر فَوُضِعَ له في المُصَلَّى، ووَعَدَ النّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُون فيه، وخرَج رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ بَدَا حاجِبُ الشَّمْسِ، فقَعَدَ على المِنْبَرِ، فكَبَّرَ، وحَمِدَ اللَّهَ، ثم قال: «إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، واسْتِئْخَارَ المَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِه عَنْكُمْ، فَقَدْ أمَرَكُمُ اللَّهُ أنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أن يَسْتَجيبَ لَكُمْ». ثم قال: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، يَفْعَلُ مَا يُريدُ، اللَّهُمَّ أنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ الْغَنِىُّ، ونَحْنُ الفُقَرَاءُ، أنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ». ثم رَفَع يَدَيْه، فلم يَزَلْ في الرَّفْعَ حتى يُرَى بَياضُ ¬

(¬1) في: باب رفع اليدين في الاستسقاء، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 266. (¬2) في: معالم السنن 1/ 255. (¬3) في م: «مربعا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إبْطَيْه، ثم حَوَّل إلى النّاسِ ظَهْرَه، وقَلَب، أو حَوَّل رِداءَه، وهو رافِعٌ يَدَيْه، ثم أقْبَلَ على النّاسِ، فنَزَلَ فصَلَّى رَكْعَتَيْن. رَواه أبو داودَ (¬1). وروَى ابنُ قُتَيْبَةَ، بإسْنادِه في «غَرِيبِ الحَدِيثِ» (¬2)، عن أنَسٍ: أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج للاسْتِسْقاءِ، فصَلَّى بهم رَكْعَتَيْن، يَجْهَرُ فيهما بالقِراءَةِ، وكان يَقْرأُ في العِيدَيْن والاسْتِسْقاءِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى بفاتِحةِ الكِتاب، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وفى الرَّكْعَةِ الثَّانيةِ فاتِحَةَ الكِتابَ و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. فلمّا قَضَى صلاتَه اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ بوَجْهِه، وقَلَب رِداءَه، ورَفَع يَدَيْه، وكَبَّر تَكبِيرَه قبل أن يَسْتَسْقِىَ، ثم قال: «[اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا] (¬3)، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا فُغِيثًا، وَحَيًا رَبِيعًا، وَجَدًا طَبَقًا، غَدَقًا مُغْدِقًا مُونِقًا، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مُرْبِعًا مُرْتِعًا، سَابِلًا مُسْبِلًا، مُجَلِّلًا دَيْمًا، دَرُورًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجلًا غَيْرَ رَائِثٍ (¬4)؛ اللَّهُمَّ تُحْيِى به البِلَادَ، وَتُغِيثُ به العِبَادَ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ في أرْضِنَا زِينَتَها، وأنْزِلْ عَلَيْنَا في أرْضِنَا سَكَنَها، اللَّهُمَّ أنْزِلْ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهورًا، فَأَحْى بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، وَأسْقِهِ مِمَّا خَلَقْتَ أنْعَامًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا». قال ابنُ قُتَيْبَةَ: المُغِيثُ: المُحْيى بإذْنِ اللَّهِ تعالى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬2) لم نجده غريب الحديث المطبوع وذكر تفسير كلمة طبق في 1/ 364. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «آجل».

714 - مسألة: (ويستقبل القبلة فى أثناء الخطبة، ويحول رداءه، ويجعل الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر، ويفعل الناس

وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ في أثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ، فَيَجْعَلُ الْأيْمَنَ عَلَى الْأيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الأَيْمَنِ، حَتَّى يَنْزِعُوهُ مَعَ ثِيَابِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَيا: الذى تَحْيا به الأرْضُ والمالُ. والجَدا: المَطَرُ العامُّ، ومنه أُخِذَ جَدا العَطِيَّةِ، والجَدْوَى مَقْصُورٌ. والطَّبَقُ: الذى يُطَبِّقُ الأرْضَ. والغَدَقُ والمُغْدِقُ: الكَثِيرُ القَطْرِ. والمُونِقُ: المُعْجِبُ. والمَرِيعُ: ذُو المَراعَةِ والخِصْبِ. والمُرْبعُ مِن قَوْلِك: رَبعْتُ بمكانِ كذا: إذا أقَمْتَ فيه. وأرْبعْ على نَفْسِك: أرْفِقْ. والمُرْتِعُ: مِن رَتَعَتِ الإبِلُ، إذا رَعَتْ. والسّابِلُ: مِن السَّبَلِ، وهو المَطَرُ. يقالُ: سَبَلُ السّابِلِ، كما يقالُ: مَطَرٌ ماطِرٌ. والرّائِثُ: البَطِئُ. والسَّكَنُ: القُوَّةُ، لأنَّ الأرْضَ تَسْكُنُ به. 714 - مسألة: (ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ في أثْناءِ الخُطْبَةِ، ويُحَوِّلُ رِداءَه، ويَجْعَلُ الأيسَرَ على الأيْمَنِ، والأيْمَنَ على الأيْسَرِ، ويَفعَلُ النّاسُ كذلكِ، ويَتْرُكُونَه حَتَّى يَنْزِعُوه مع ثِيابِهم) وجملَةُ ذلك أنَّه يُسْتَحَبُّ للخَطِيب اسْتِقْبالُ القِبْلَةِ في أثْناءِ الخُطْبَةِ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج يَسْتَسْقِى، فتَوَجَّه إلى القِبْلَةِ يَدْعُو. رَواه البخارىُّ (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى لفظٍ: فحَوَّلَ إلى النّاسِ ظَهْرَه، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ يَدْعُو. ويُسْتَحَبُّ أن يُحَوِّلَ رِداءَه حالَ اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ، لأنَّ في حَدِيثِ عبدِ اللَّهِ بن زَيْدٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج يَسْتَسْقِى، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ يَدْعُو، وحَوَّلَ رِداءَه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولمُسْلِمٍ: فحَوَلَّ رِداءَه حينَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُسَنُّ، لأنَّه دُعاءٌ، فلا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّداءِ فيه، كسائِرِ الأدْعِيَةِ. وسُنَّةُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى بالاتِّباعِ. ويُسْتَحَبُّ التَّحْوِيلُ للْمَأْمُومِ (¬2)، في قولِ أكْثَرَ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةِ، والثَّوْرِىِّ، أنَّ التَّحْوِيلَ مُخْتَصٌّ بالإمامْ. وهو قولُ اللَّيْثِ، وأبى يُوسُف، ومحمدٍ، لأنَّه إنَّما نُقِلَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دُونَ أصحابِه. ولَنا، أنَّ ما فَعَلَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَثْبُتُ في حَقِّ غيرِه، ما لم يَقُمْ على اخْتِصاصِه به دَلِيلٌ، كيف وقد عُقِلَ المَعْنَى في ذلك، وهو التَّفاؤُلُ بقَلْبِ الرِّداءِ، ليَقْلِبَ اللَّهُ ما بهم مِن الجَدْبِ إلى الخِصْب، وقد جاء ذلك في بَعْضِ الحَدِيثِ. وروَى الإِمامُ أحمدُ (¬3) حَدِيثَ عبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ، وفيه أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ تَحَوَّلَ إلى القِبْلَةِ وحَوَّلَ رِداءَه فقَلَبَه ظَهْرًا لبَطْن، وتَحَوَّلَ النّاسُ معه. إذا ثَبَت. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 409. (¬2) في الأصل: «للإمام». (¬3) في: المسند 4/ 41.

715 - مسألة: (ويدعو سرا حال استقبال القبلة، فيقول: اللهم

وَيَدْعُو سِرًّا حَالَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيَقُولُ: ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك فصِفَةُ التَّقْلِيبِ أن يَجْعَلَ ما على اليَمِينِ على اليَسارِ، وما على اليسارِ على اليَمِينِ. رُوِىَ ذلك عن أبانَ بنِ عُثمانَ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، وهِشامِ بنِ إسماعِيلَ، وأبى بكرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، ومالكٍ. وكان الشافعىُّ يقولُ به، ثم رَجع، فقال: يَجْعَلُ أعْلاه أسْفَلَه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَسْقَى وعليه خَمِيصَةٌ سَوْداءُ، فأرادَ أن يَجْعَلَ أسْفَلَها أعْلاها، فلَمَّا ثَقُلَتْ جَعَل العِطافَ (¬1) الذى على الأيْسَرِ على الأيْمَنِ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، ما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَوَّلَ عِطافَه، وجَعَل عِطافَه الأيْمَنَ على عاتِقِه الأيْسَرِ، وجَعَل عِطافَه الأيْسَرَ على عاتِقِه الأيْمَنِ. رَواه أبو داودَ (¬3). وفى حَدِيثِ أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَلَب رِداءَه، فجَعَلَ الأيْمَنَ على الأيْسَرِ، والأيْسَرَ على الأيْمَنِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وابنُ ماجه (¬4). والزِّيادَةُ التى نَقَلُوها، إن ثَبَتَتْ، فهى ظَنُّ الرّاوِى، لا يُتْرَكُ لها فِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد نَقَل التَّحْوِيلَ جَماعَةٌ، لم يَنقُلْ أحَدٌ منهم أنَّه جَعَل أعْلاه أسْفَلَه. ويَبْعُدُ أن يكونَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَرَك ذلك في جَمِيعِ الأوْقاتِ لثِقَلِ الرِّداءِ. 715 - مسألة: (ويَدْعُو سِرًّا حالَ اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ، فيَقُولُ: اللَّهُمَّ ¬

(¬1) أصل العطاف الرداء، وإنما أضاف العطاف إلى الرداء، لأنه أراد أحد شقى العطاف. (¬2) في: أول أبواب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 265. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 41، 42. (¬3) في: أول أبواب الاستسقاء. سنن أبى داود 1/ 265. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 410.

اللَّهُمَّ إِنَّكَ أمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ، وَوَعَدتَّنَا إِجَابَتَكَ، وَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا، فَاسْتَجِبْ لَنَا كَمَا وَعَدتَّنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّكَ أمَرْتَنا بدُعائِك، ووَعَدتَّنا إِجابَتَك، وقد دَعَوْناك كما أمَرْتَنا، فاسْتَجِبْ لَنا كما وَعَدْتَنا) اللَّهُمَّ فَامْنُنْ علينا بمَغْفِرَةِ ذُنُوبِنا، وإجابَتِنا في سُقْيانا، وسَعَةِ أرْزاقِنا. ثم يَدْعُو بما شاء مِن أمْرِ دِينٍ أو دُنْيا. وإنَّما اسْتُحِبَّ الإِسْرارُ؛ ليَكُونَ أقْرَبَ إلى الإِخْلاصِ، وأبْلَغَ في الخُشُوعِ والخُضُوعِ والتَّضَرُّعِ، وأسْرَعٍ في الإِجابَةِ، قال اللَّهُ تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬1). واسْتُحِبَّ الجَهْرُ ببَعْضِه؛ ليَسْمَعَ النّاسُ، فيُؤَمِّنُون على دُعائِه. فصل: ويُسْتَحَبُّ أنْ يُسْتَسْقَى بمَن ظَهَر صَلاحُه، لأنَّه أقْرَبُ إلى إجابَةِ الدُّعاء، وقد اسْتَسْقَى عُمَرُ، رَضِىَ اللَّه عنه، بالعباسِ عَمِّ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فروَى ابنُ عُمَرَ، قال: اسْتَسْقَى عُمَرُ عامَ الرَّمادَةِ بالعباسِ، فقال: اللَّهُمَّ إنَّ هذا عَمُّ نَبِيِّك -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَتَوَجَّهُ إليك به فاسْقِنا، فما بَرِحُوا حتى سَقاهُم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (¬2). ورُوِى أنَّ مُعاويَةَ خَرَج يَسْتَسْقِى، فلمّا جَلَس على المِنْبَرِ، قال: أَيْنَ يَزِيدُ بنُ الأسْوَدِ؟ فقامَ ¬

(¬1) سورة الأعراف 55. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب سؤل الناس الإمام الاستقاء إذا قحطوا، من كتاب الاستسقاء، وفى: باب ذكر العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه عنه، عن كتاب فضائل الصحابة. صحيح البخارى 2/ 34، 5/ 25. والبيهقى، في: باب الاستقاء بمن ترجى بركة دعائه، من كتاب الاستسقاء. السنن الكبرى 3/ 352. والمراد بالاستسقاء بمن ظهر صلاحه أن يطلب منه أن يدعو اللَّه، لأنه أقرب إلى الإجابة، لا أن يتوسل به.

716 - مسألة: (فإن سقوا، وإلا عادوا ثانيا وثالثا. وإن سقوا قبل خروجهم، شكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله)

فَإِنْ سُقُوا، وَإلَّا عَادُوا ثَانِيًا وَثَالِثًا. وَإنْ سُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ، شَكَروا اللَّهَ تَعَالَى، وَسَأَلُوة الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَزِيدُ، فدَعاه مُعاويَةُ، فأجْلَسَه عندَ رِجْلَيْه، ثم قال: اللَّهُمَّ إنّا نَسْتَشْفِعُ إليك بِخَيْرِنا وأفْضَلِنا يَزِيدَ بنِ الأسْوَدِ، [يا يزيدُ] (¬1) ارْفَعْ يَدَيْك. فرَفعَ يَدَيْه، ودَعا اللَّهَ، فثارَتْ في الغَرْبِ سَحابَةٌ مثلُ التُّرْسِ، وهَبَّ لها رِيحٌ، فسُقُوا حتى كادُوا لا يَبْلُغُون مَنازِلَهم. واسْتَسْقَى به الضَّحّاكُ بنُ قَيْسٍ مَرَةً أُخْرَى. 716 - مسألة: (فإن سُقُوا، وإلَّا عادُوا ثانِيًا وثالِثًا. وإن سُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهم، شَكَرُوا اللَّهَ تعالى، وسَأَلُوه المَزِيدَ مِن فَضْلِه) وبهذا قال مالكٌ والشافعىُّ. وقال إسْحاقُ: لا يَخْرُجُون إلَّا مَرَّةً واحِدَةً؛ لأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما خَرَج مَرَّةً واحِدَةً، ولكنْ يَجْتَمِعُون في مَساجِدِهم، فإذا فَرَغُوا مِن الصَّلاةِ، ذَكَرُوا اللَّهَ تعالى، ودَعَوْا، ويَدْعُو الإِمامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ على المِنْبَرِ، ويُؤَمِّنُ النّاسُ. ولَنا، أنَّ هذا أَبْلَغُ في الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، وقد جاء ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدُّعَاءِ» (¬1). وأمّا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنَّما لم يَخْرُجْ ثانِيًا؛ لاسْتِغْنائِه بإجابَتِه أوَّلَ مَرَّةٍ، والخُرُوجُ في المَرَّةِ الأُولَى آكَدُ مِمّا بعدَها؛ لوُرُودِ السُّنَّةِ بها. فصل: فإن تَأهَّبُوا، فسُقُوا قبلَ خُرُوجِهم، لم يَخْرُجُوا، وشَكَرُوا اللَّهَ وحَمِدُوه على نِعْمَتِه، وسَأَلُوه المَزِيدَ مِن فَضْلِه. وقال القاضى، وابنُ عَقِيل: يَخْرُجُون، ويُصَلون شُكْرًا للَّه تِعالى. وإن كانُوا قد خَرَجُوا فسُقُوا قبلَ أن يُصَلُّوا، شَكَرُوا اللَّهَ تعالى وحَمِدُوه، قال اللَّهُ تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2). ويُسْتَحَبُّ الدُّعاءُ عندَ نُزُولِ الغَيْثِ؛ لِما رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «اطْلُبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ، وإقَامَةِ الصَّلَاةِ، ونُزُولِ الْغَيْثِ» (¬3). وعن عائشةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رَأى المَطَرَ، قال: «صَيِّبًا نَافِعًا». رَواه البخارىُّ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن عدى في: الكامل 7/ 2621. وعزاه السيوطى إلى الحكيم الترمذى في نوادر الأصول، والبيهقى في شعب الإيمان، وابن عساكر في تاريخه، وابن صصرى في أماليه، عن عائشة. جمع الجوامع 1/ 184. (¬2) سورة إبراهيم 7. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب طلب الإجابة عند نزول الغيث، من كتاب الاستسقاء. السنن الكبرى 3/ 360. (¬4) في: باب ما يقال إذا أمطرت، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 40. كما أخرجه النسائى، في: باب القول عند المطر، من كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 133. وابن ماجه، في: باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 2/ 1280. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 41، 90، 119، 129، 138، 166، 190، 223.

717 - مسألة: (وينادى لها: الصلاة جامعة)

وَيُنادَى لَهَا: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. وَهَلْ مِنْ شَرْطِهَا إِذْنُ الإِمَامِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ 717 - مسألة: (ويُنادَى لَها: الصلاةَ جامِعَةً) كذلك ذَكَرَه أصحابُنا، قِياسًا على صلاةِ الكُسُوفِ. 718 - مسألة: (وهل مِن شَرْطِها إذنُ الإِمامِ؟ على رِوايَتَيْن) إحداهما، لا يُسْتَحَبُّ إلَّا إذا خَرَج الإِمامُ، أو رَجُلٌ مِن قِبَلِه، فإن خَرَجُوا بغيرِ إذنِ الإِمامِ، فقالَ أبو بكرٍ: يَدْعُون ويَنْصَرفُون بلا صلاةٍ ولا خُطْبَةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. والثانيةُ، لا يُشْتَرَطُ، ويُصَلُّون لأنْفُسِهم، ويَخْطُبُ بهم أحَدُهم. فعلى هذه الرِّوايَةِ يُشْرَعُ الاسْتِسْقاءُ في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ؛ مُقِيمٍ ومُسافِرٍ، وأهلِ القُرَى، والأعْرابِ، قِياسًا على صلاةِ الكُسُوفِ. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَأْمُرْ بها، وإنَّما فَعَلَها على صِفَةٍ، وهو أنَّه صَلَّاها بأصحابِه، فلم يَتَعَدَّ تلك الصِفَةَ، وكذلك فَعَل خُلَفاؤُه ومَن بَعْدَهم، بخِلافِ صلاةِ الكُسُوفِ، فإنَّه أمَرَ بها.

719 - مسألة: (ويستحب أن يقف فى أول المطر، ويخرج رحله وثيابه؛ ليصيبها)

وَيُسْتَحَبُّ أن يَقِفَ في أوَّلِ الْمَطرَ، وَيُخْرِجَ رَحْلَهُ وَثِيَابَهُ؛ لِيُصِيبَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 719 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقِفَ في أوَّلِ المَطَرِ، ويُخْرِجَ رَحْلَه وثِيابَه؛ ليُصِيبَها) لِما روَى أنَسُ بنُ مالكٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَزَلْ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنْبَرِه حتى رَأيْنا المَطَرَ يَتَحادَرُ عن (¬1) لِحْيَتِه. رَواه البخارىُّ (¬2). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه كان إذا أمْطَرتِ السَّماءُ قال لغُلامِه: أخْرِجْ رَحْلِى وفِراشِى يُصِيبُه المَطَرُ. ويُسْتَحَبُّ أن يَتَوَضَّأَ مِن ماءِ المَطَرِ إذا سال السَّيْلُ؛ لِما رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان إذا سال السَّيْلُ قال: «اخْرُجُوا بِنَا إلَى هَذَا الَّذِى جَعَلَهُ اللَّه طَهُورًا، فَنتَطَهَّرَ» (¬3). فصل: قال القاضى، وابنُ عَقِيلٍ: إذا نَقَصَتْ مِياهُ العُيُونِ في البَلَدِ الذى يُشْرَبُ منها، أو غارَتْ وتَضَرَّرَ النّاسُ بذلك، اسْتُحِبَّ الاسْتِسْقاءُ، كما يُسْتَحَبُّ لانْقِطاعِ المَطَرِ. وقال أصحابُنا: لا يُسْتَحَبُّ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ. واللَّهُ أعلمُ. فصل: والاسْتِسْقاءُ ثَلَاثَةُ أضْرُبٍ، ذَكَرها القاضى؛ أحَدُها، الخُرُوجُ والصلاةُ كما وَصَفْنا، وهو أكْمَلُها. والثانِى، اسْتِسْقاءُ الإِمامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ على المِنْبَرِ؛ لِما روَى أنَسٌ، أنَّ رَجُلًا دَخَل المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ورسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، فاسْتَقْبَلَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قائِمًا، ثم قال: يا رسولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الأمْوالُ، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فادْعُ اللَّهَ يُغِثْنا. فرَفَعَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْه، فقال: «اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا». ¬

(¬1) في مصادر التخريج الآتية: «على». (¬2) في: باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب من تمَطَّر في المطر حتى يتحادر على لحيته، من كتاب الاستسقاء. صحيح البخارى 2/ 15، 40. كما أخرجه النسائى، في: باب رفع الإمام يديه عند مسألة إمساك المطر، من كتاب الاستسقاء. المجتبى 3/ 135. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 256. (¬3) أخرجه البيهقى، في باب ما جاء في السيل، من كتاب الاستسقاء. السنن الكبرى 3/ 359.

720 - مسألة: (وإذا زادت المياه فخيف منها، استحب له أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب، والآكام، وبطون

وَإذَا زَادَتِ الْمِيَاهُ فَخِيفَ مِنْهَا، اسْتُحِبَّ أنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ، وَالْآكَامِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} الْآيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أنَسٌ: ولا واللَّهِ ما نَرَى في السَّماءِ مِن سَحابٍ، ولا قَزَعَةٍ (¬1)، ولا شئٍ بَيْنَنا وبينَ سَلْعٍ (¬2) مِن بيتٍ ولا دارٍ، فطَلَعَت مِن وَرائِه سَحابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فلمّا تَوَسَّطَتِ السَّماءَ، انْتَشَرَتْ ثم أمْطَرَتْ، فلا واللَّهِ ما رَأيْنا الشَّمْسَ سَبْتًا (¬3)، ثم دَخَل مِن ذلك البابِ رَجُلٌ في الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، فاسْتَقْبَلَه قائِمًا، وقال: يا رسولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ المَواشِى، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فادْعُ اللَّهَ أن يُمْسِكَها. قال: فرَفَعَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْه، وقال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ على الآكَامِ والظِّرَابِ (¬4)، وبُطُونِ الأوْدِيَةِ، ومَنَابِتِ الشَّجَرِ». قال: فانْقَطَعَتْ، وخَرَجْنَا نَمْشِى في الشَّمْسِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). والثّالِثُ، أن يَدْعُوا اللَّهَ تعالى عَقِيبَ صلواتِهم، في خَلَواتِهم. 720 - مسألة: (وإذا زادَتِ المِياهُ فخِيفَ منها، اسْتُحِبَّ له أن يقُولَ: اللَّهُمَّ حَوالَيْنا ولا عَلَيْنا، اللَّهُمَّ على الظِّرابِ، والآكامِ، وبُطُونِ ¬

(¬1) القزعة: قطعة من السحاب. (¬2) سلع: جبل بسوق المدينة. معجم البلدان 3/ 117 (¬3) في صحيح مسلم 2/ 613 حاشية (5): (سبتًا) أى قطعة من الزمان. وأصل السبت القطع. (¬4) الظراب: جمع ظرب، ككتف، وهو ما نتأ من الحجارة وحُدَّ طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوْدِيَةِ، ومَنابِتِ الشَّجَرِ، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬1). الآيةُ) لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. وكذلك إن زادَتْ مِياهُ العُيُونِ بحَيثُ يَضُرُّ، اسْتُجِبَّ لهم أن يَدْعُوا اللَّهَ ليُخَفِّفَه عنهم، ويَصْرِفَه إلى أماكِنَ يَنْفَعُ ولا يَضرُّ؛ لأنَّ الضَّرَرَ بزِيادَةِ المَطَرِ أحَدُ الضَّرَرَيْن، فاسْتُحِبَّ الدُّعاءُ لإِزالَتِه وانْقِطاعِه كالآخَرِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 286.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الجنائز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحْيمِ كتَابُ الجَنائِزِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتَابُ الجَنائِزِ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ المَوْتِ؛ لأنَّه رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فما ذُكِرَ في كَثِيرٍ إِلَّا قَلَّلَهُ، وَلَا في قَلِيلٍ إلَّا كَثَّرَهُ». روَى البخارىُّ أَوَّلَه (¬1). قال ابنُ عَقِيلٍ: مَعْناه، متى ذُكِر في قَلِيلٍ مِن الرِّزْقِ اسْتَكْثَرَه الإِنْسانُ؛ لاسْتِقْلالِ ما بَقِىَ مِن عُمُرِه، ومتى ذَكَرَه في كَثِيرٍ قَلَّلَه؛ لأنَّ كثِيرَ الدُّنْيَا إِذا عُلِم انْقِطَاعُه بالمَوْتِ قَلَّ عِندَه. ¬

(¬1) كذا ذكر المصنف ولم نعثر عليه فيه، وانظر تلخيص الحبير 2/ 101، والفتح الربانى 7/ 32. وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في ذكر الموت، من أبواب الزهد، وفى: باب حدثنا سفيان بن وكيع. . .، من أبواب القيامة. عارضة الأحوذى 9/ 186، 187، 283. والنسائى، في: باب كثرة ذكر الموت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 4، 5. وابن ماجه، في: باب ذكر الموت والاستعداد له، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1422. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 293. كلهم بدون زيادة فما ذكر. . . إلى آخره. وبهذه الزيادة عزاه النبهانى في الفتح الكبير للبيهقى في شعب الإيمان وابن حبان والبزار. الفتح الكبير 1/ 225. وانظر إرواء الغليل 3/ 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُسْتَحَبُّ الاسْتِعْدَادُ للمَوْتِ، قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} (¬1). وِإذا مَرِض الإِنْسَانُ اسْتُحِبَّ أن يَصْبِرَ؛ لِما وَعَد اللَّهُ الصَّابِرِينَ مِن الأجْرِ، قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). ويُكْرَهُ الأنِينُ؛ لأنَّه رُوِى عن طاوُسٍ كَراهَتُه. ولا يَتَمَنَّى المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَل به؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أحْيِنِى مَا كانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِى». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وقال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ويُحْسِنُ ظَنَّه بِرَبِّه تعالى؛ لِما روَى جَابرٌ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قبلَ مَوْتِهِ بِثَلاثةِ أيَّامٍ يقولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ إلَّا وهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ». رواه مسلمٌ بمَعْناه، وأبو داودَ (¬4). وقال مُعْتَمِرٌ، عن أبيه، أنَّه قال عندَ مَوتِه: حَدِّثْنِى ¬

(¬1) سورة الكهف 110. (¬2) سورة الزمر 4. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب تمنى المريض الموت، من كتاب الطب، وفى: باب الدعاء بالموت والحياة، من كتاب الدعوات. صحيح البخارى 7/ 156، 8/ 94. ومسلم، في: باب كراهة تمنى الموت لضر نزل به، من كتاب الذكر. صحيح مسلم 4/ 2064. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية تمنى الموت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 167. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن التمنى للموت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 195. والنسائى، في: باب تمنى الموت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 3، 4. وابن ماجه، في: باب ذكر الموت والاستعداد له، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1425. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 101، 104، 163، 171، 195، 208، 247، 281. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب الأمر بحسن الظن باللَّه عند الموت، من كتاب الجنة. صحيح مسلم 4/ 2205، 2206، وأبو داود، في: باب ما يستحب من حسن الظن باللَّه عند الموت، من كتاب =

721 - مسألة: و (تستحب عيادة المريض، وتذكيره التوبة والوصية)

تُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَتَذْكِيرُهُ التَّوْبَةَ وَالْوَصِيَّةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرُّخَصَ. 721 - مسألة: و (تُسْتَحَبُّ عِيادَةُ المَرِيضِ، وتَذْكِيرُه التَّوْبَةَ والوَصِيَّةَ) عِيادَةُ المَرِيضِ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِما روَى البَرَاءُ، قال: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَبْعٍ، ونَهانا عن سَبْعٍ؛ أمَرَنا بعِيادَةِ المَرِيضِ، واتِّبَاعِ الجِنازَةِ. وذَكَر الحديثَ. رَواه البُخارىُّ، ورَواه مسلمٌ بمَعْناهُ (¬1). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا، إلَّا ابْتَعَثَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ ألْفَ مَلَكٍ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، أىَّ سَاعَةٍ مِنَ النَّهارِ كَانَتْ حَتَّى يُمْسِىَ، وَأَىَّ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ كَانَتْ حَتَّى ¬

= الجنائز. سنن أبى داود 2/ 168. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب التوكل واليقين، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1395. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 293، 315، 325، 330، 334، 390. (¬1) أخرجه البخارى، في: باب الأمر باتباع الجنائز، من كتاب الجنائز، وفى: باب نصر المظلوم، من كتاب المظالم، وفى: باب آنية الفضة، من كتاب الأشربة، وفى: باب وجوب عيادة المريض، من كتاب الطب، وفى: باب الميثرة الحمراء، وباب خواتيم الذهب، من كتاب اللباس، وفى: باب تشميت العاطس إذا حمد، من كتاب الأدب، وفى: باب إفشاء السلام، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 2/ 90، 3/ 169، 7/ 146، 150، 197، 200، 8/ 61، 65. ومسلم، في: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة. . .، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1635. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسى، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 252. والنسائى، في: باب الأمر باتباع الجنائز، من كتاب الجنائز، وفى: باب إبرار القسم، من كتاب الأيمان. المجتبى 4/ 44، 7/ 9. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 287، 299.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُصْبِحَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجهْ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وزاد: «وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ (¬2) في الْجَنَّةِ». وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّماءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد بلفظه في: المسند 1/ 97، 118. وأخرجه بمعناه أبو داود في: باب في فضل العبادة على وضوء، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 165. والترمذى، في: باب ما جاء في عيادة المريض، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 193. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 463، 464. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 121، 138. (¬2) الخريف: الرطب المجتنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْزِلًا». رَواه التِّرْمِذِىّ، وابنُ ماجه (¬1)، وهذا لَفْظُه. وعنه قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ (¬2) مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِى فُلَانًا مَرِضَ، فَلَمْ تَعُدْهُ، أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ». وذَكَر الحديثَ. رَواه مسلمٌ (¬3). وِإذا دَخَل على المَرِيضِ سَأله (¬4) عن حالِه ودَعا له، وَرَقاه. قال ثابِتٌ لأنَسٍ: يا أبا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ. قال أنَسٌ: أفَلَا أرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: بلى، قال: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أنْتَ ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في زيارة الإخوان، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 170. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ثواب من عاد مريضًا، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 464. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب فضل عيادة المريض، من كتاب البر والصلة والآداب. صحيح مسلم 4/ 1990. (¬4) في م: «سأل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافِى، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» (¬1). وروَى أبو سعيدٍ، قال: أتَى جِبْرِيلُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا محمدُ، اشْتَكَيْتَ؟ قال: «نَعَمْ». قال: بِاسْمِ اللَّهِ أرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُوذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب رقية النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الطب. صحيح البخارى 7/ 171. وأبو داود، في: باب كيف الرقى، من كتاب الطب. سنن أبى داود 2/ 338. والترمذى، في: باب ما جاء في التعوذ للمريض، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 196. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 151، 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَاسِدٍ (¬1) اللهُ يَشْفِيكَ» (¬2). قال أبو زُرْعَةَ: كلا الحَدِيثَيْن صحيحٌ (¬3). ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ، فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ شَيْئًا، وَإنَّهُ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ». رواه ابنُ ماجه (¬4). ¬

(¬1) في م: «حاسدة». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الطب والمرض والرقى، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1718. والترمذي، في: باب ما جاء في التعوذ للمريض، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 196. وابن ماجه، في: باب ما عَوَّذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عُوَّذ به، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1164. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 28، 56، 58، 75. (¬3) انظر: عارضة الأحوذى 4/ 197. (¬4) في: باب ما جاء في عيادة المريض، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 462.كما أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا عبد الله بن سعيد. . . .، من أبواب الطب. عارضة الأحوذى 8/ 238.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُرَغِّبَه في التَّوْبَةِ مِن المَعاصِى، والخُرُوجِ مِن المَظالِمِ، وفي الوَصِيَّةِ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَا حَقُّ امْرِئ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، ولَهُ شَىْءٌ يُوصِى فِيهِ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: أول كتاب الوصايا. صحيح البخاري 4/ 2. ومسلم، في: أول كتاب الوصايا. صحيح مسلم 3/ 1249. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء فيما يؤمر به من الوصية، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 1/ 101. والترمذي، في: باب ما جاء في الحث على الوصية، من أبواب الجنائز، وفي: باب ما جاء في الحث على الوصية، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذى 4/ 197، 8/ 273. والنسائي، في: باب الكراهية في تأخير الوصية، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 199. وابن ماجه، في: باب الحث على الوصية، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 901. والدارمى، في: باب من استحب الوصية، من كتاب الوصايا. سنن الدارمى 2/ 402. والإمام مالك، في: باب الأمر بالوصية، من كتاب الوصايا. الموطأ 2/ 761. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 4، 10, 50, 57، 80, 113.

722 - مسألة: (وإذا نزل به، تعاهد بل حلقه بماء أو شراب، وندى شفتيه بقطنة)

فَإِذَا نَزَلَ بِهِ، تَعَاهَدَ بَلَّ حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ، وَنَدَّى [38 و] شَفَتَيْهِ بِقُطْنَةٍ، وَلَقَّنَهُ قَوْلَ: لَا إلهَ إِلَّا اللهُ. مَرَّةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 722 - مسألة: (وإِذَا نَزَلَ به، تَعاهَدَ بَلَّ حَلْقِه بماءٍ أو شَرابٍ، ونَدَّى شَفَتَيْه بقُطْنَةٍ) يُسْتَحَبُّ أن يَلِىَ المَرِيضَ أرْفَقُ أهْلِه به، وأعْلَمُهم بسِياسَتِه، وأتْقاهم للهِ تعالى. فإذا رَآه مَنْزُولًا به تَعَاهَدَ بَلَّ حَلْقِه، بتَقْطِيرِ ماءٍ أو شَرابٍ فيه، ويُنَدِّى شَفَتَيْه بقُطْنَةٍ؛ لأنَّه رُبَّما يَنْشَفُ حَلْقُه مِن شِدَّةِ ما نَزَل به، فيَعْجِزُ عن الكَلامِ. 723 - مسألة: (و) يُسْتًحَبُّ أن (يُلَقِّنَه قَوْلَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. مَرَّةً)

724 - مسألة: (ولا يزيد على ثلاث)

وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ، إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ، فَيُعِيدَ تَلْقِينَهُ بِلُطْفٍ وَمُدَارَاةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلهَ إلَّا الله». رَواه مسلمٌ (¬1). وقال الحسنُ: سُئِل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أىُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ فقال: «أنْ تَمُوتَ يَوْمَ تَمُوتُ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ». رَواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ. 724 - مسألة: (ولا يَزِيدُ على ثَلاثٍ) لئَلَّا يُضْجِرَه (إلَّا أن يَتَكَلَّمَ بعدَه) بشئٍ (فيُعِيدَ تَلْقِينَه بلُطْفٍ ومُدارَاةٍ) ليَكُونَ آخِرُ كَلامِه: «لا إلهَ إلَّا الله». نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِىَ عن عبدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ، أنَّه لمّا حضَرَه المَوْتُ جَعَلَ رجلٌ يُلَقِّنُه «لا إلهَ إلَّا اللهُ» فأكْثَرَ عليه، فقال له عبدُ اللهِ: إذا قُلْتُ مَرَّةً فأنا على ذلك ما لم أتَكَلَّمْ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): إنَّما أراد ما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَواه أبو داودَ (¬3). ورَوَى سعيدٌ (¬4)، بإسْنادِه، عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّه لمّا حَضَرَتْه الوَفاةُ، قال: أجْلِسُونى. ¬

(¬1) في: باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 631.كما أخرجه أبو داود، في: باب في التلقين، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 169. والترمذي، في: باب ما جاء في تلقين المريض. . . .، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 199. والنسائى، في: باب تلقين الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 5. وابن ماجه، في: باب ما جاء في تلقين الميت لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 464. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 3. (¬2) في: عارضة الأحوذى 4/ 201. (¬3) في: باب في التلقين، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 169.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 233، 247. (¬4) سقط من النسخ، وأثبتناه من المغني.

725 - مسألة: ويقرأ عنده سورة يس) لما روى معقل بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأوا يس على موتاكم». رواه أبو داود

وَيَقْرَأُ عِنْدَهُ سُورَةَ يس, ـــــــــــــــــــــــــــــ فلمَّا أجْلَسُوه قال: كَلِمَةٌ سَمِعْتُها مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُنْتُ أَخْبَوُّها, ولولا ما حَضَرَنى مِن المَوْتِ ما أخْبَرْتُكم بها، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إلَّا هَدَمَتْ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنَ الْخَطَايَا والذُّنُوبِ، فَلَقِّنُوهَا مَوْتَاكُمْ». فَقِيلَ: يا رسولَ اللهِ، فكيف هي للأحْياءِ؟ قال: «هِىَ أهْدَمُ وَأهْدَمُ» (¬1). 725 - مسألة: ويَقْرَأُ عِنْدَه سُورَةَ يَس) لِما روَى مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرأُواْ يَس عَلَى مَوْتَاكُمْ». رَواه أبو داودَ (¬2). وقال أحمدُ: ويَقْرَءُون عندَ المَيِّتِ إذا حُضِرَ؛ ليُخَفَّفَ عنه بالقُرْآنِ، يَقْرَأُ يَس. وأمَرَ بقِراءَةِ فاتِحَةِ الكِتابِ. ورَوَى الِإمَامُ أحمدُ (¬3): «يَسَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ الله وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، إلَّا غُفِرَ لَهُ، وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَرْضَاكُمْ». ¬

(¬1) أورده السيوطي في جمع الجوامع 1/ 827 في بدون: فلقنوها. . . . إلى آخره، وعزاه لأبي يعلى وابن عساكر. وأخرج عبد الرزاق نحوه عن ابن مسعود، في: باب تلقنة المريض، من كتاب الجنائز. مصنف عبد الرزاق 3/ 387. (¬2) في: باب القراءة عند الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 170. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حُضر، من كَتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 465، 466.والإمام أحمد، في: المسند 5/ 26، 27. (¬3) في: المسند 5/ 26. بلفظ: «موتاكم» بدل: «مرضاكم».

726 - مسألة: (ويوجهه إلى القبلة)

وَيُوجِّهُهُ إِلى الْقِبْلَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 726 - مسألة: (ويُوَجِّهُه إلى القِبْلَةِ) التَّوْجِيهُ إلى القِبْلَةِ عندَ المَوْتِ مُسْتَحَبٌّ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، ومالكٍ، وأهلِ المَدِينَةِ، والأوْزاعِىِّ، وأهلِ الشَّامِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وأنْكَرَه سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، فإنَّهم لمّا أرادُوا أنَّ يُحَوِّلُوه إلى القِبْلَةِ، قال: ألم أكُنْ على القِبْلَةِ إلى يَوْمِى هذا (¬1)؟ والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ حُذَيْفَةَ، قال: وَجِّهُونى. وقد رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» (¬2). ولأنَّ فِعْلَهم ذلك بسعيدٍ دَلِيلٌ على أنَّه كان مَشْهُورًا بينَهم، يَفْعَلُه المُسْلِمُون بمَوْتاهم. وصِفَةُ تَوْجِيهِه إلى القبْلَةِ أن يُوضَعَ على جَنْبِه الأيْمَنِ، كما يُوضَعُ في اللَّحْدِ، إن كان المَكانُ واسِعًا. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ هكذا اسْتَقْبَلَ المُصَلِّى على جَنْبِه. وإن كان المَكانُ ضَيِّقًا جُعِل على ظَهْرِه، ويُجْعَلُ رَأْسُه على مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ؛ ليَتَوَجَّهَ نَحْوَ القِبْلَةِ. هكذا ذَكَرَه القاضى. ويَحْتَمِلُ أن يُجْعَلَ على ظَهْرِه بكلِّ حالٍ، ويَحْتَمِلُه كَلامُ الخِرَقِىِّ؛ لقَوْلِه: وجُعِل على بَطْنِه مِرْآةٌ أو غَيْرُها. وإنَّما يُمْكِنُ ذلك إذا كان على ظَهْرِه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب غسل المرء إذا حضره الموت. . . . إلخ، من كتاب الجنائز، المصنف 3/ 392. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 397.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُسْتَحَبُّ تَطْهِيرُ ثِيابِ المَيِّتِ قبلَ مَوْتِه؛ لأنَّ أبا سعيدٍ لَمّا حَضَرَه المَوْتُ دَعا بثِيابٍ جُدُدٍ فلَبِسَها، ثم قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِى يَمُوتُ فِيهَا». رَواه أبو داودَ (¬1). ¬

(¬1) في: باب ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 169.

727 - مسألة: (فإذا مات أغمض عينيه، وشد لحييه، ولين مفاصله، وخلع ثيابه، وسجاه بثوب يستره، وجعل على بطنه مرآة أو نحوها، ووضعه على سرير غسله، متوجها، منحدرا نحو رجليه)

فَإِذَا مَاتَ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ، وَشَدَّ لَحْيَيْهِ، وَلَيَّنَ مَفَاصِلَهُ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَسَجَّاهُ بِثَوْبٍ يَسْتُرُهُ، وَجَعَلَ عَلَى بَطْنِهِ مِرْآةً أَوْ نَحْوَهَا، وَوَضَعَهُ عَلَى سَرِيرِ غَسْلِهِ، مُتَوَجِّهًا، مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 727 - مسألة: (فإذا مات أغْمَضَ عَيْنَيْه، وشَدَّ لَحْيَيْه، ولَيَّنَ مَفاصِلَه، وخَلَع ثِيابَه، وسَجّاه بِثَوْبٍ يَسْتُرُه، وجَعَل على بَطْنِه مِرْآةً أو نَحْوَها، ووَضَعَه على سَرِيرِ غَسْلِه، مُتَوَجِّهًا، مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ) يُسْتَحَبُّ تَغْمِيضُ المَيِّتِ عَقِيبَ المَوْتِ. ويُسْتَحَبُّ لمَن حَضَر المَيِّتَ أن لا يَتَكَلَّمَ إلَّا بخَيْر؛ لِما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قالت: دَخَل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أبِي سَلَمَةَ، وقد شَقَّ بَصَرُه (¬1)، فأغْمَضَه، ثم قال: «إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ». فَضَجَّ ناسٌ مِن أهْلِه، فقال: «لَا تَدْعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ إلًّا بِخَيْرٍ، فَإنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ». ثم قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأبِى سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمُقَرَّبِينَ, وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَارَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ». رَواه مسلمٌ (¬2). ورَوَى شَدَّادُ بنُ أوْسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا ¬

(¬1) شق بصره: شخص، أي نظر إلى شئ ولم يرتد إليه طرفه. (¬2) في: باب في إغماض الميت. . . .، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 634. كما أخرجه أبو داود، في: باب تغميض الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 169، 170 وابن ماجه، في: باب ما جاء في تغميض الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 467. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأغْمِضُوا الْبَصَرَ، فَإنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ، وَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإنَّه يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أهْلُ الْمَيِّتِ». رَواه الِإمامُ أحمدُ في المُسْنَدِ (¬1). ويُسْتَحَبُّ شَدُّ ذَقَنِه بعِصابَةٍ عَرِيضَةٍ، يَرْبِطُها مِن فَوْقِ رَأْسِه؛ لأنَّ المَيِّتَ إذا كان مَفْتُوحَ العَيْنَيْن والفَمِ قَبُح مَنْظَرُه، ولا يُؤْمَنُ دُخُولُ الهَوامِّ فيه، والماءِ فِي وَقْتِ غَسْلِه. قال بَكْرُ بنُ عبدِ الله اِلمُزَنِيُّ: ويقولُ الذي يُغْمِضُه: بسْمِ اللهِ، وعلى وَفاةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ويُجْعَلُ على بَطْنِه شئٌ مِن الحَدِيدِ، كالمِرْآةِ ونَحْوِها, لِئَلَّا يَنْتَفِخَ بَطْنُه، ويُلَيِّنُ مَفاصِلَه، وهو أن يَرْدُدَ ذِراعَيْه إلى عَضُدَيْه، وعَضُدَيْه إلى جَنْبَيْه، ثم يَرْدُدَهما، ويَرُدَّ ساقَيْه إلى فَخِذَيْه، وفَخِذَيْه إلى بَطْنِه، ثم يَرْدُدَهما؛ ليكونَ ذلك أبْقَى للينِه، فيكونَ أمْكَنَ للغاسِلِ في تَمْكِينِه وتَمْدِيدِه. قال أصْحابُنا: ويُسْتَحَبُّ ذلك عَقِيبَ مَوْتِه، قبلَ قَسْوَتِها ببُرُودَتِه. فإن شَقَّ عليه ذلك تَرَكَه. ويَخْلَعُ ثِيابَه، لِئَلَّا يَحْمَى فيُسْرِعَ إليه الفَسادُ والتَّغَيُّرُ، ويُسَجِّيهِ بِثَوْبٍ يَسْتُرُه؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ تُوُفِّىَ سُجِّىَ ببُرْدٍ حِبَرَةٍ (¬2). مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) مسند أحمد 4/ 125.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في تغميض الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 468. (¬2) الحبرة، وزان عنبة: ثوب يمانى من قطن أو كتان مخطط.

728 - مسألة: (ويسارع في قضاء دينه)

وَيُسَارِعُ فِي قَضَاء دَيْنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). ويُسْتَحَبُّ أن يَلِىَ ذلك منه أرْفَقُ النَّاسِ به، بأرْفَقِ ما يَقْدِرُ عليه. قال أحمدُ: تُغْمِضُ المَرْأةُ عَيْنَيْه إذا كانت ذاتَ مَحْرَمٍ. قال: ويُكْرَهُ للحائِضِ والجُنُبِ تَغْمِيضُه، وأن يَقْرَباه. وكَرِه ذلك عَلْقَمَةُ. ورُوِىَ نَحْوُه عن الشافعىِّ. وكَرِه الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، أن تُغَسِّلَ الحائِضُ والجُنُبُ المَيِّتَ. ونَحْوَ قال مالكٌ. وقال ابنُ المُنْذِر: يُغَسِّلُه الجُنُبُ؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» (¬2). ولا نَعْلَمُ بينَهم خِلافًا في صِحَّةِ تَغْسِيلِهما وَتغْمِيضِهما له، ولكنَّ الأوْلَى أن يكونَ المُتَوَلِّى لذلك طاهِرًا؛ لأنَّه أكمَلُ وأحْسَنُ. ويُوضَعُ على سَرِيرِ غَسْلِه، أو لَوْحٍ؛ لأنَّه أحْفَظُ له، ولا يَدَعُه على الأرْضِ، لِئَلَّا يُسْرِعَ إليه التَّغَيُّرُ بسَبَبِ نَداوَةِ الأرْضِ. ويكونُ مُتَوَجِّهًا مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْه؛ ليَنْصَبَّ عنه ماءُ الغَسْلِ وما يَخْرُجُ منه، ولا يَسْتَنْقِعُ تحتَه فَيُفْسِدَه. 728 - مسألة: (ويُسارِعُ في قَضَاءِ دَيْنِه) لِما رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ». رَواه الِإمامُ أحمدُ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب البُرُود والحِبَرَةِ والشَّملَةِ، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 190. ومسلم، في: باب تسجية الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 651.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الميت يسجى، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 170. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 153، 269. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 64.

729 - مسألة: (و)

وَتَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ، وَتَجْهِيزِهِ إِذَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ ماجه، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وعن سَمُرَةَ قال: صَلَّى نَبِىُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ، فقال: «ههُنا أحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟» قالوا: نعم. قال: «فَإِنَّ صَاحِبَكُم مُحْتَبَسٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ في دَيْنٍ عَلَيْهِ». رَواه الِإمامُ أحمدُ (¬2). وإن تَعَذَّرَ إيفاءُ دَيْنِه في الحالِ، اسْتُحِبَّ لوارِثِه أو غيرِه أن يَتَكَفَّلَ به عنه، كما فَعَل أبو قَتادَةَ لمَّا اُّتِىَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجِنازَةٍ، ولم يُصَلِّ عليها، قال أبو قَتادَةَ: صَلِّ عليها يا رسولَ اللهِ وعلىَّ دَيْنُه. رَواه البخارىُّ (¬3). 729 - مسألة: (و) يُسارِعُ في (تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ) ليَتَعَجَّلَ له ثَوابَها بجَرَيانِها على المُوصَى له. 730 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ المُسارَعَةُ في (تَجْهِيزِه إذا تُيُقِّنَ مَوْتُه) لأنَّه أصْوَنُ له، وأحْفَظُ له مِن التَّغْيِيرِ. قال أحمدُ: كرامَةُ المَيِّتِ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: نفس المؤمن معلقة بدَينه. . . . إلخ، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 297. وابن ماجه، في: باب التشديد في الدين، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 806. والإِمام أحمد, في: المسند 2/ 440، 475، 508. كما أخرجه الدارمى، في: باب ما جاء في التشديد في الدين، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 262. (¬2) في: المسند 5/ 11، 13، 20. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في الدين، من كتاب البيوع 2/ 221. والنسائي، في: باب التغليظ في الدين، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 277. (¬3) في: باب إذا أحال دينُ الميت على رجل جاز، من كتاب الحوالة، وفي: باب من تكفل عن ميت دينا. . . .، من كتاب الكفالة. صحيح البخاري 3/ 124، 126. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في الدين، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 221. والترمذي، في: باب ما جاء في الصلاة على المديون، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 290. والنسائي، في: باب الصلاة على من عليه =

بِانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ، وَمَيْلِ أَنْفِه، وَانْفِصَالِ كَفَّيْهِ، وَاسْتِرْخَاءِ رِجْلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْجِيلُه. لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنِّى لَأُرَى طَلْحَةَ (¬1) قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَاذِنُونِي بِهِ، وَعَجِّلُوا، فإنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ أهْلِهِ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولا بَأْسَ أن يُنْتَظَرَ بها مِقْدارُ مَا ¬

= دين، من كتاب الجنائز، وفي: باب الكفالة بالدين، من كتاب البيوع. المجتبى 4/ 52، 53، 7/ 279. والدارمى، في: باب في التشديد في الدين، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 221. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 330، 5/ 297، 302، 304، 311. (¬1) هو طلحة بن البراء، أنصارى له صحبة. أسد الغابة 3/ 82، 83. (¬2) في: باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 178.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجْتَمِعُ لها جَماعَةٌ؛ لِما يُؤمَّلُ مِن الدُّعاءِ له، إذا صُلِّىَ عليه، ما لم يُخَفْ عليه، أو يَشُقَّ على النّاسِ. نصَّ عليه أحمدُ. وإن شُكَّ في أمْرِ المَيِّتِ، اعْتُبِرَ بِظُهُورِ أماراتِ المَوْتِ، مِن انْفِصالِ كَفَّيْه، واسْتِرْخاءِ رِجْلَيْهِ، ومَيْلِ أنْفِه، وانْخِسافِ صُدْغَيْه وامْتِدادِ جِلْدَةِ وجْهِه. فإن مات فَجْأةً، كالمَصْعُوقِ، أو خائِفًا مِن حَرْبٍ أو سَبُعٍ، أو تَرَدَّى مِن جَبَلٍ، إنْتُظِرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به هذه العَلامَاتُ، حتى يُتَيَقَّنَ مَوْتُه. قال الحسنُ في المَصعُوقِ: يُنْتَظَرُ به ثَلاثًا. قال أحمدُ: ورُبَّما تَغَيَّرَ في الصَّيْفِ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ. قِيلَ (¬1): فكيف تَقُولُ؟ قال: يُتْرَكُ بقَدْرِ ما يُعْلَمُ أنَّه مَيِّتٌ. قِيلَ له: مِن غُدْوَةٍ إلى اللَّيْلِ؟ قال: نعم. ¬

(¬1) في النسخ: «قال»، والمثبت من المغنى.

731 - مسألة: (غسل الميت ودفنه وتكفينه والصلاة عليه، فرض كفاية)

فَصْلٌ فِى غَسْلِ الْمَيِّتِ: غَسْلُ الْمَيِّتِ، وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في غَسْلِ المَيِّتِ: 731 - مسألة: (غَسْلُ المَيِّتِ ودَفْنُه وتَكْفِينُه والصلاةُ عليه، فَرْضُ كِفايَةٍ) لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي وقَصَتْه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راحِلَتُه: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ (¬1)». مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) في م: «ثوب». وفي الأصل «ثوبه». والمثبت من البخاري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ» (¬2). ودَفْنُه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الكفن في ثوبين، وباب الحنوط للميت، وباب كيف يكفن الميت، من كتاب الجنائز، وفى: باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، وباب المحرم يموت بعرفة. . . .، وباب سنة المحرم إذامات، من كتاب جزاء الصيد. صحيح البخاري 2/ 96، 3/ 20، 23. ومسلم، في: باب ما يفعل المحرم إذا مات، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 865 - 867.كما أخرجه أبو داود، في: باب كيف يصنع بالمحرم إذا مات، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 196. والترمذي، في: باب ما جاء في المحرم يموت في إحرامه، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 175. والنسائي، في: باب كيف يكفن المحرم إذا مات، من كتاب الجنائز، وفي: باب تخمير المحرم وجهه ورأسه، وباب غسل المحرم بالسدر إذا مات، وباب في كم يكفن المحرم إذا مات، وباب النهى عن أن يحنط المحرم إذا مات، وباب النهى عن أن يخمر وجه المحرم ورأسه إذا مات، وباب النهى عن تخمير رأس المحرم إذا مات، من كتاب المناسك. المجتبى 4/ 32، 5/ 112، 154، 155. وابن ماجه، في: باب المحرم يموت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1030. والدارمى، في: باب في المحرم إذا مات ما يصنع به، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 50. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 215، 286، 287، 333. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرْضُ كِفايَةٍ؛ لأنَّ في تَرْكِه أذًى للنَّاسِ به وهَتْكَ حُرْمَتِه. وهذا مَذْهَبُ الشافِعىِّ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا.

732 - مسألة: (وأحق الناس به وصيه، ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم ذوو أرحامه، إلا الصلاة عليه، فإن الأمير أحق بها بعد وصيه)

وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ وَصِيُّهُ، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ، إِلَّا الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ الْأَمِيرَ أَحَقُّ بِهَا بَعْدَ وَصِيّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 732 - مسألة: (وأحَقُّ النَّاسِ بِهِ وَصِيُّه، ثم أبوه، ثم جَدُّه، ثم الأقْرَبُ فالأقْرَبُ مِن عَصَباتِه، ثم ذَوو أرْحامِهِ، إلَّا الصَّلاةَ عليه، فإنَّ الأمِيرَ أحَقُّ بها بعدَ وصِيِّه) أحَقُّ النَّاسِ بغَسْلِ المَيِّتِ وَصِيُّه في ذلك. وقال أصحابُ الشّافعىِّ: أوْلَى النّاسِ بغَسْلِ المَيِّتِ عَصَباتُه الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، فإن كان له زَوْجَةٌ، فهل تُقَدَّمُ على العَصَباتِ؟ فيه وَجْهان. ولَنا، على تَقْدِيمِ الوَصِىِّ، أنَّ أبا بكرٍ، رَضِىَ الله عنه، أوْصَى أن تُغَسِّلَه امْرَأتُه أسْماءُ بنتُ عُمَيْسٍ. وأوْصَى أنَسٌ أن يُغَسِّلَه محمدُ بنُ سِيرِينَ، فَقُدِّما بذلك. ولا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ في الصَّحابَةِ، ولأنَّه حَقٌّ للمَيِّتِ فَقُدِّمَ فيه وَصِيُّه على غيرِه، كتَفْرِيقِ ثُلُثِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يكنْ له وَصِىٌّ فالعَصَباتُ أوْلَى النّاسِ به، وأوْلاهم أبوه، ثم جَدُّه وإن عَلا، ثم ابْنُه، ثم ابنُ ابْنِه وإن نزَل، ثم الأقْرَبُ فالأقْرَبُ مِن عَصَباتِه، على تَرْتِيبِ المِيراثِ؛ لأنَّهم أحَقُّ بالصلاةِ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأحَقُّ النّاسِ بالصلاةِ عليه, وَصِيُّه. وهذا قولُ سعيدِ بنِ زَيدٍ، وأنَسٍ، وأبى بَرْزَةَ (¬1)، وزيدِ بنِ أرْقَمَ (¬2)، وأُمِّ سَلَمَةَ. وقال الثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو حنيفةَ: تُقَدَّمُ العَصَبَاتُ؛ لأنَّها وِلايَةٌ تَتَرَتَّبُ بتَرْتِيبِ العَصَبَاتِ، فالوَلِىُّ فيها أوْلَى، كوِلايةِ النِّكاحِ. ولَنا، إجْماعُ الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللهُ عنهم، فإنَّ أبا بكرٍ أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه عُمَرُ. قاله أحمدُ. قال: وعُمَرُ أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه صُهَيْبٌ، وأُمُّ سَلَمَةَ أوْصَتْ أن يُصَلِّىَ عليها سعيدُ بنُ زَيْدٍ، وأبو بَكْرَةَ أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه أبو بَرْزَةَ. وقال غيرُه: عائشةُ أوْصَتْ أن يُصَلِّىَ عليها أبو هُرَيْرَةَ، وابنُ مسعودٍ أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه الزُّبَيْرُ، وأبو سَرِيحَةَ (¬3) أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه زيدُ بنُ أرْقَمَ، فجاءَ عَمْرُو بنُ حُرَيْثٍ، وهو أميرُ الكُوفَةِ، لِيَتَقَدَّمَ فيُصَلِّىَ عليه (¬4)، فقال ابنُه: أيُّها الأمِيرُ، إنَّ أبى أوْصَى أن يُصَلِّىَ عليه زيدُ بنُ أرْقَمَ. فقَدَّمَ زيدًا. وهذه قَضَايا اشْتَهَرَتْ، ولم يَظْهَرْ لها مُخالِفٌ، فكانت إجْماعًا. ولأنَّه حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فإنَّها شَفاعَةٌ له، فَقُدِّمَ وَصِيُّه فيها، كتَفْرِيقِ ¬

(¬1) هو الأسلمى نضلة بن عبيد بن الحارث الصحابى الجليل، توفي بخراسان أيام يزيد بن معاوية. أسد الغابة 5/ 322، 321. (¬2) زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخررجى، شهد الخندق وما بعدها ومات بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين. الإصابة 2/ 589. (¬3) أبو سريحة حذيفة بن أسيد الغفارى الصحابى، شهد الحديبية، وقيل إنه بايع تحت الشجرة، توفي سنة اثنتين وأربعين. أسد الغابة 1/ 466. تهذيب التهذيب 2/ 219. (¬4) في النسخ: «عليها». والمثبت من المغنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثُلُثِه. ووِلايَةُ النِّكاحِ يُقَدَّمُ عندَنا فيها الوَصِىُّ أيضًا على الصَّحِيحِ، وإن سُلِّمَتْ فليست حَقًّا له، إنَّما هي حَقٌّ للمُولَّى عليه، ولأنَّ الغَرَضَ في الصلاةِ الدُّعاءُ والشَّفاعَةُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فالمَيِّتُ يَحْتَاجُ (¬1) لذلك مَن هو أظْهَرُ صَلاحًا، وأقْرَبُ إجابَةً، بخِلافِ وِلايةِ النِّكاحِ. فإن كان الوَصِىُّ فاسِقًا أو مُبْتَدِعًا، لم تُقْبَلِ الوَصِيَّةُ، كما لو كان الوَصِىُّ ذِمِّيًّا. وإن كان الأقْرَبُ إليه كذلك لم يُقَدَّمْ، وصلَّى غيرُه، كما يُمْنَعُ مِن التَّقْدِيمِ في الصَّلَواتِ الخَمْسَ (¬2). والأَمِيرُ أحَقُّ بالصلاةِ عليه بعدَ الوَصِىِّ. وقال به أكْثَرُ أهلِ العِلْمِ. وقال الشافعىُّ، في أَحَدِ قَوْلَيْه: يُقَدَّمُ الوَلِىُّ قِياسًا على تَقْدِيمِه في النِّكاحِ. ولَنا، قَوْلُه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِى سُلْطَانِهِ» (¬3). وقال أبو حازِمٍ: شَهِدْتُ حُسَيْنًا حينَ ماتَ الحسنُ يَدْفعُ في قَفا سعيدِ بنِ العاصِ، ويقولُ: ¬

(¬1) في م: «يختار». (¬2) بعده في النسخ: «مسألة». (¬3) تقدم تخريجه 4/ 278.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقَدَّمْ، لولا السُّنَّةُ ما قَدَّمْتُكَ (¬1). وسعيدٌ أمِيرُ المَدِينَةِ. وهذا يَقْتَضِى سُنَّةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى أحمدُ، بإسْنادِه، عن عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هاشِمٍ، قال: شَهِدْتُ جِنازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ علىِّ، وزيدِ بنِ عُمَرَ، فَصَلَّى عليهما سعيدُ بنُ العاصِ، وكان أمِيرَ المَدِينَةِ، وخَلْفَه يَوْمَئِذٍ ثَمَانُون مِن أصْحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيهم ابنُ عُمَرَ، والحسنُ، والحسينُ (¬2). وقال علىٌّ رَضِىَ اللهُ عنه: الِإمامُ أحَقُّ مَن صَلَّى على الجِنازَةِ (¬3). وعن ابنِ مسعودٍ نَحْوُ ذلك. وهذا أشْهَرُ، ولم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا, ولأنَّها صلاةٌ شُرِعَتْ فيها الجَماعَةُ، فَقُدِّمَ فيها الأمِيرُ، كسائِرِ الصَّلَواتِ، وقد كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - وخُلَفاؤُه يُصَلُّونَ على الجَنائِزِ، ولم يُنْقَلْ إلينا أنَّهم اسْتَأْذَنُوا أوْلِياءَ المَيِّتِ في التَّقْدِيمِ. والمُرادُ بالأمِيرِ ههُنا الِإمامُ، فإن لم يكنْ فالأمِيرُ مِن جِهَتِه، فإن لم يكنْ فالنَّائِبُ مِن قِبَلِه في الإِمامَةِ، فإن لم يكنْ فالحَاكِمُ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من أحق بالصلاة على الميت، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 471، 472. (¬2) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 314، 315. وليس في مسند الإِمام أحمد. انظر الفتح الرباني 7/ 245. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في تقدم الإِمام على الجنازة، من كتاب الجنائز. المصنف 2/ 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأحَقُّ النَّاسِ بالصلاةِ بعدَ ذلك العَصَباتُ، وأحَقُّهم الأبُ، ثم الجَدُّ أبو الأبِ وإن عَلا، ثم الابنُ، ثم ابْنُه وإن نَزَل، ثم الأخُ العَصَبَةُ، ثم ابْنُه، ثم الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، ثم المَوْلَى المُعْتقُ، ثم عَصَباتُه. هذا الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ. وقال أبو بكرٍ: في تَقْدِيمِ الأخِ على الجَدِّ قَوْلَان. وحُكِىَ عن مالِكٍ تَقْدِيمُ الابْنِ على الأبِ؛ لأنَّه أقْوَى تَعْصِيبًا منه، والأخِ على الجَدِّ؛ لأنَّه يُدْلِى بالابْنِ، والجَدُّ يُدْلِى بالأبِ. ولَنا، أنَّهما اسْتَوَيَا فِى الِإدْلاءِ، والأبُ أرَقُّ وأشْفَقُ، ودُعاؤُه لابْنِه أقْرَبُ إلى الِإجابَةِ، فكان أوْلَى، كالقَرِيبِ مع البَعِيدِ، ولأنَّ المَقْصُودَ بالصلاةِ الدُّعاءُ للمَيِّتِ والشَّفاعَةُ له، بخِلافِ المِيراثِ. فصل: وِإنِ اجْتَمَعَ زَوْجُ المَرْأةِ وعَصَبَاتُها، فأكْثَرُ الرِّواياتِ عن أحمدَ تَقْدِيمُ العَصَبَاتِ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، وقولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِىِّ، ومذْهَبُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفَة يُقَدِّمُ زَوْجَ المرأةِ على ابْنِها منه. ورُوِى عن أحمدَ تَقْدِيمُ العَصَبَاتِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وهي أصَحُّ؛ لأنَّ أبا بكرٍ صَلَّى على زَوْجَتِه، ولم يَسْتَأْذِنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إخْوَتَهَا. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وهو قَوْلُ الشَّعْبِىِّ، وعَطَاءٍ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وإسْحاقَ. ولَنا، أنَّه يُرْوَى عن عُمَرَ، أنَّه قال لأهْلِ امْرَأتِه: أنْتُمْ أحَقُّ بها (¬1). ولأنَّ الزَّوْجَ قد زَالَتْ زَوْجِيَّتُه بالمَوْتِ، فصار أجْنَبِيًّا، والقَرابَةُ لم تَزُلْ، فعلىِ هذه الرِّوايَةِ، إن لم يكنْ لها عَصَباتٌ، فالزَّوْجُ أوْلَى؛ لأنَّ له سَبَبًا وشَفَقَةَ، فكان أوْلَى مِن الأجْنَبِىِّ. فصل: فإِنِ اجْتَمَعَ أخٌ مِن أبَوَيْنِ، وأخٌ مِن أبٍ، ففى تَقْدِيمِ الأخِ مِن الأبَوَيْن أو التَّسْوِيَةِ وَجْهان، بِناءً على الرِّوايتَيْنِ في وِلايَةِ النِّكاحِ. والحُكْمُ في الأعْمامِ وأوْلادِهم وأوْلادِ الإِخْوَةِ كذلك. فإنِ انْقَرَضَ العَصَبَةُ فالمَوْلَى المُنْعِمُ، ثم عَصَبَاتُه، ثم الرِّجالُ مِن ذَوِى أرْحامِه، ثم الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، ثم الأجانِبُ. فإنِ اسْتَوى وَلِيَّانِ في الدَّرَجَةِ، فأحَقُّهما ¬

(¬1) إخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الزوج والأخ أيهما أحق بالصلاة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلاهما بالِإمامَةِ في المَكْتُوباتِ. وقال القاضى: يَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ الأسَنِّ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعىِّ؛ لأنَّه أقْرَبُ إلى إجابَةِ الدُّعاءِ، وأعْظَمُ عندَ اللهِ قَدْرًا. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «يَؤُّمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفَضِيلَةُ السِّنِّ مُعارَضَةٌ بفَضِيلَةِ العِلْمِ، وقد رَجَّحَها الشَّارِعُ في سائِرِ الصَّلَواتِ، مع أنَّه يُقْصَدُ فيها إجابَةُ الدُّعاءِ، والحَظُّ للمَأْمُومِين، وقد رُوِىَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ» (¬1). ولا يُسَلَّمُ أنَّ المُسِنَّ الجاهِلَ أعْظَمُ قَدْرًا عندَ اللهِ مِن العالِمِ والأقْرَبُ (¬2) إجابَةً. فإنِ اسْتَوَوْا وتَشَاحُّوا أُقْرِعَ بَيْنَهم، كما في سائِرِ الصَّلَواتِ. فصل: ومَن قَدَّمَه الوَلِىُّ فهو بمَنْزِلَتِه؛ لأنَّها وِلايةٌ ثَبَتَتْ له، فكانت له الاسْتِنابَةُ فيها، كوِلايةِ النِّكاحِ. فصل: وإن كان القَرِيبُ عَبْدًا، فالحُرُّ البَعِيدُ أوْلَى منه؛ لأنَّ العَبْدَ ¬

(¬1) ذكره القرطبي في تفسيره 1/ 270، 271. (¬2) في الأصل: «إن قرب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا وِلايَةَ له في النِّكاحِ ولا المالِ، كذلك هذا. فإنِ اجْتَمَعَ صَبِىٌّ ومَمْلُوكٌ ونِسَاءٌ، فالمَمْلُوكُ أوْلَى؛ لأَنَّه تَصِحُّ إمامَتُه بهما، فإن لم يكنْ إلَّا نِساءٌ وصِبْيانٌ، فقِياسُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَصِحُّ أن يَؤُمَّ أحَدُ الجِنْسَيْنِ الآخَرَ. ويُصَلِّى كلُّ نَوْعٍ لأنْفُسِهم, وإمامُهم منهم، ويُصَلِّى النِّساءُ جَماعَةً وإمامَتُهُنَّ في وَسَطِهِنَّ. نصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يُصَلِّينَ مُنْفَرِداتٍ، لا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، وإن صَلَّيْنَ جَماعَةً جاز. ولَنا، أنَّهُنَّ مِن أهلِ الجَماعَةِ، فَسُنَّ أن يُصَلِّينَ جَماعَةً، كالرِّجالِ، وما ذَكَرُوه مِن كَوْنِهِنَّ مُنْفَرِداتٍ، لا يَسْبِقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا تَحَكُّمٌ لا يُصارُ إليه إلَّا بِدَلِيلٍ، وقد صَلَّى أزْواجُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - على سعدِ ابنَ أبى وَقَّاصٍ. رَواه مسلمٌ (¬1). ¬

(¬1) في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 668.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اجْتَمَعَ جَنائِزُ، فتَشاحَّ أولِياؤُهم في مَن يَتَقَدَّمُ للصلاةِ عليهم، قُدِّمَ أوْلاهم بالِإمامَةِ في الفَرائِضِ. وقال القاضى: يُقَدَّمُ مَن سَبَقَ مَيَتُه. ولَنا، أنَّهم تَساوَوْا، فأشْبَهُوا الأوْلِياءَ إذا تَساوَوْا في الدَّرَجَةِ، مع قَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ». وإن أراد وَلِىُّ كلِّ مَيِّتٍ إفْرادَ مَيِّتِهِ بصلاةٍ جاز.

733 - مسألة: (وأحق الناس بغسل المرأة)

وَغَسْلُ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ الْأَقْرَبُ مِنْ نِسَائِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 733 - مسألة: (وأحَقُّ النَّاسِ بغَسْلِ المَرْأةِ) وَصِيُّها، ثم (الأقْرَبُ فالأقْرَبُ مِن نِسائِها) أُمَّهاتُها (¬1)، ثم بِنْتُها، ثم بَنَاتُها، ثم أخَوَاتُها، كما ذَكَرْنا في حَقِّ الرجلِ. وكلُّ مَن لها رَحِمٌ ومَحْرَمٌ، بحيث لوَ كانت رَجُلًا لم يَحِلَّ له نِكاحُها، أوْلَى بها ممَّن لا رَحِمَ لها وبعدَها التى لها رَحِمٌ وليست بمَحْرَمٍ، كبَناتِ العَمِّ، والعَمَّاتِ، وبَنَاتِ الخَالِ، ¬

(¬1) في م: «أمها».

734 - مسألة: (ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه فى إحدى الروايتين، كذلك السيد مع سريته)

وَلِكُلِّ واحدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ غَسْلُ صَاحِبِهِ [38 ظ] , فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ, وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ مَعَ سُرِّيَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والخَالَةِ، فهُنَّ أوْلَى مِن الأجانِبِ. وبهذا قال الشافعيُّ إن لم يكنْ لها زَوْجٌ. فإن كان لها زَوْجٌ، فهل يُقَدَّمُ على النِّساءِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُقَدَّمُ؛ لأنَّه يَنْظُرُ منها إلى مالا يَنْظُرُ النِّساءُ. والثَّانِي، يُقَدَّمُ النِّساءُ على الزَّوْجِ؛ لأنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَزُولُ بالمَوْتِ، والرَّحِمَ لا يَزُولُ، كما ذَكرْنا في حَقِّ الرجلِ. 734 - مسألة: (ولِكلِّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ غَسْلُ صاحِبهِ في إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ، كذلك السَّيِّدُ مع سُرِّيَّتِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ تعالى، في غَسْلِ كلِّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ الآخَرَ، فرُوِىَ عنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَوازُ فيهما، نَقَلَها عنه حَنْبَلٌ. ورُوِىّ عنه المَنْعُ مُطْلَقًا، حَكاها ابنُ المُنْذِرِ. ورُوِى عنه التَّفْرِقَةُ، وهو جَوازُ غَسْلِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ. والقولُ بجَوازِ غَسْلِ المرأةِ زَوْجَها قولُ أهلِ العلمِ، حَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. قالت عائشةُ: لو اسْتَقْبَلْنَا مِن أمْرِنا ما اسْتَدْبَرْنا ما غَسَّلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا نِساؤُه. رَواه أبو داودَ (¬1). وأوْصَى أبو بكرِ، رَضِىَ اللهُ عنه، أن تُغَسِّلَه امْرَأتُه أسْماءُ بنتُ عُمَيْسٍ، فَفَعَلَتْ. وغَسَّلَ أَبا موسى امْرَأَتُه أُمُّ عبدِ اللهِ (¬2). قال أحمدُ: ليس فيه اخْتِلافٌ بينَ الْنَّاسِ. وعنه، لا يَجُوزُ. حَكَى عنه صالِحٌ ما يَدُلُّ على ذلك؛ لأنَّها فُرْقَةٌ بينَ الزَّوْجَيْنِ، أشْبَهَتِ الطَّلاقَ، ولأنَّها أحَدُ الزَّوْجَيْن، أشْبَهَتِ الآخَرَ. ¬

(¬1) في: باب في ستر الميت عند غسله، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 175. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في غسل الرَّجل امرأته وغسل المرأة زوجها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 470. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 267. (¬2) أخرجهما عبد الرَّزّاق، في المصنف 3/ 409، 410.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَشْهُورُ عن أحمدَ جوازُ غَسْلِ الرجلِ زَوْجَتَه. وهو قولُ عَلْقَمَةَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ يَزيدَ (¬1)، وجابِرِ بنِ زَيدٍ، وسُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ، وأبى سَلَمَةَ، وأبى قَتَادَةَ، وحَمَّادٍ، ومالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، ليس للزَّوْجِ غَسْلُها. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ؛ لأنَّ المَوْتَ فُرْقَةٌ تُبِيحُ أُخْتَها، وأرْبَعًا سِواها، فحَرَّمَتِ اللَّمْسَ والنَّظَرَ، كالطَّلاقِ. ولَنا، ما روَى ابنُ المُنْذِرِ، أنَّ عليًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، غَسَّلَ فَاطِمَةَ، عليها السَّلامُ (¬2). واشْتَهَرَ ذلك، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْمَاعًا, ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشةَ: «لَوْ مِتِّ قَبْلِى لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). والأصْلُ في إضَافَةِ الفِعْلِ إلى الشَّخْصِ أن يكونَ للمُباشَرَةِ، فإنَّ حَمْلَه على، الأمْرِ يُبْطِلُ فائِدَةَ ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعى الكوفى، تابعى ثقة، قتل في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. تهذيب التهذيب 6/ 269. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في الموضع السابق. (¬3) في: باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 470. كما أخرجه الدارمى، في: باب في وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من المقدمة. سنن الدارمي 1/ 37، 38. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 228. والجميع بلفظ: «فغسلتك». قال ابن حجر: قوله: «لغسلتك» باللام تحريف، والذي في الكتب المذكورة: «فغسْلتك» بالفاء وهو الصواب، والفرق بينهما أن الأولى شرطية والثانية للتمنى ا. هـ. تلخيص الحبير 2/ 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّخْصِيصِ، ولأنَّه أحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فأُبِيحَ له غَسْلُ صاحِبِه، كالآخَرِ. والمَعْنَى في ذلك أنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَيْن يَسْهُلُ عليه اطِّلاعُ الآخَرِ على عَوْرَتِه؛ لِما كان بَينَهما في الحياةِ، ويَأْتِي بالغَسْلِ على ما يُمْكِنُه، لِما كان بينَهما مِن المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ. وما قَاسُوا عليه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَمْنَعُ الزَّوْجَةَ مِن النَّظَرِ، بخِلافِ هذا, ولأنَّه لا فَرْقَ بينَ الزَّوْجَيْن إلَّا بَقَاءُ العِدَّةِ. ولو وضَعَتْ حَمْلَها عَقِيبَ مَوْتِهِ كان لها غَسْلُه وقد انْقَضَتْ عِدَّتُها. فصل: فإن طَلَّقَ امْرَأتَه طَلاقًا بائِنًا، ثم مات أحَدُهما في العِدَّةِ، لم يَجُزْ لواحِدٍ منهما غَسْلُ الآخَرِ؛ لأنَّ اللَّمْسَ والنَّظَرَ مُحَرَّمٌ حالَ الحياةِ، فبعدَ المَوْتِ أوْلَى. وإن كان الطَّلاقُ رَجْعِيًّا، وقُلْنا: الرَّجْعِيَّةُ مُحَرَّمَةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكذلك. وإن قُلْنَا: هي مُباحَةٌ، فحُكْمُها حُكْمُ الزَّوْجَيْن؛ لأنَّها تَرِثُه ويَرِثُها، ويُباحُ له وَطْؤُها والخَلْوَةُ والنَّظَرُ إليها، أشْبَهَ سائِرَ الزَّوْجَاتِ. فصل: وحُكْمُ أُمِّ الوَلَدِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ فيما ذَكَرْنا. واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ أنَّه لا يَجُوزُ لها غَسْلُ سَيِّدِها؛ لأنَّها عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، ولم يَبْقَ عُلْقَةٌ مِن مِيراثٍ ولا غيرِه. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ. ولَنا، أنَّها في مَعْنَى الزَّوْجَةِ في اللَّمْسِ والنَّظَرِ والاسْتِمْتاعِ، فكذلك في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَسْلِ، والمِيراثُ ليس مِن جُمْلَةِ المُقْتَضَى، بدَلِيلِ مالو كان أحَدُ الزَّوْجَيْن رَقِيقًا، والاسْتِبْراءُ ههُنا كالعِدَّةِ. فأمَّا غيرُها مِن الِإماءِ، فيَجُوزُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لسَيِّدِها غَسْلُها في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن. ذَكَرَه. أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه يَلْزَمُه كَفَنُها ودَفْنُها ومُؤْنَتُها، فهى أوْلَى مِن الزَّوْجَةِ. وهل يَجُوزُ لها غَسْلُ سَيِّدِها؟ قال شيخُنا (¬1): يَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ فيها إلى غيرِه. ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ ذلك لسُرِّيَّتِه؛ لأنَّها مَحَلُّ اسْتِمْتاعِه، ويَلْزَمُها الاسْتِبْرَاءُ بعدَ مَوْتِهِ، أشْبَهَتْ أُمَّ الوَلَدِ. فإن ماتَ الزَّوْجُ قبلَ الدُّخُولِ بامْرَأتِه، احْتَمَل أن لا يُباحَ لها غَسْلُه؛ لأنَّه لم يكنْ بينَهم اسْتِمتاعٌ حالَ الحياةِ. فصل: فإن كانتِ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً، فليس لها غَسْلُ زَوْجِها؛ لأنَّ الكافِرَ لا يُغَسِّلُ المُسْلِمَ؛ لأنَّ النِّيَّةَ واجِبَةٌ في الغَسْلِ، ولا تَصِحُّ مِن الكافِرِ. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 463.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعىُّ: يُكْرَهُ لها غَسْلُه، فإن غَسَّلَتْه جاز؛ لأنَّ القَصْدَ التَّنْظِيفُ، وليس لزَوْجِها غَسْلُها؛ لأنَّ المُسْلِمَ لا يُغَسِّلُ الكَافِرَ، ولا يَتَوَلَّى دَفْنَه على ما يَأْتِي، ولأنَّه لا مِيراثَ بينَهما, ولا مُوالاةَ، وقد انْقَطَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ بالمَوْتِ. ويَتَخَرَّجُ جَوازُ ذلك بِناءً على جَوازِ غَسْلِ المُسْلِمِ الكافِرَ، وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. فصل: وليس لغيرِ مَن ذَكَرْنا مِن الرِّجالِ غَسْلُ أحَدٍ مِن النِّساءِ، ولا لأحَدٍ مِن النِّساءِ غَسْلُ غيرِ مَن ذَكَرْنا مِن الرِّجالِ، وإن كُنَّ ذواتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وهذا قَوْلُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه حُكِىَ له عن أبى قِلابَةَ غَسْلُ ابنَتِه (¬1)، فاسْتَعْظَمَ ذلك، ولم يُعْجِبْه. وذلك لأنَّها مُحَرَّمَةٌ حالَ الحياةِ، فلم يَجِبْ غَسْلُها، كالأجْنَبِيَّةِ، وأُخْتِه مِن الرَّضَاعِ. فإن لم يُوجَدْ مَن يُغَسِّلُها مِن النِّساءِ، فقال مُهَنَّا: سَألْتُ أحمدَ عن الرجلِ يُغَسِّلُ أُخْتَه إذا لم يَجِدْ نِساءً. قال: لا. قُلْتُ: فكيف يَصْنَعُ؟ قال: يُغَسِّلُها وعليها ثِيَابُها، يَصُبُّ الماءَ صَبًّا. قلتُ لأحمدَ: وكذلك كلُّ ذاتِ مَحْرَمٍ تُغَسَّلُ وعليها ثِيابُها؟ قال: نعم. وذلك لأنَّه لا يَحِلُّ مَسُّها. والأوْلَى أنَّها تُيَمَّمُ، كالأجْنَبيَّةِ؛ لأنَّ الغَسْلَ مِن غيرِ مَسٍّ لا يَحْصُلُ به التَّنْظِيفُ، ولا إزَالَةُ النَّجاسَةِ، بل رُبَّما كَثُرَتْ، أشْبَهَ ما لو عَدِمَ الماءَ. وقال الحسنُ، ومحمدٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا بَأْسَ بغَسْلِ ذاتِ مَحْرَمِه عندَ الضَّرُورَةِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرَّجل يغسل ابنته، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 251.

735 - مسألة: (وللرجل والمرأة غسل من له دون سبع سنين، وفي ابن السبع وجهان)

وَللِرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. وَفِى ابْنِ السَّبْعِ وَجْهَانِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ 735 - مسألة: (وللرجلِ والمرأةِ غَسْلُ مَن له دُونَ سَبْعِ سِنِينَ، وفي ابنِ السَّبْعِ وَجْهان) أمَّا غَسْلُ النِّساءِ للطِّفْلِ الصَّغِيرِ فهو إجْماعٌ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في حَدِّه، فقال أحمدُ: لَهُنَّ غَسْلُ مَن له دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. وقال الحسنُ: إذا كان فَطِيمًا، أو فَوْقَه. وقال الأَوْزاعِىُّ: ابن أرْبَعٍ أو خَمْسٍ. وقال أصْحابُ الرَّأْىِ: الذى لم يَتَكَلَّمْ. ولَنا، أنَّ مَن له دُونَ سَبْعِ سِنِينَ لم يُؤْمَرْ بالصلاةِ، ولم يُخَيَّرْ بينَ أَبَوَيْه، ولا عَوْرَةَ له، أشْبَهَ ما لو سَلَّمُوه. فأمَّا مَن بَلَغ السَّبْعَ، ففيه وَجْهان؛

وَفِى غَسْلِ مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، يَجُوزُ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، أشْبَهَ ما قبلَ السَّبْعِ والثَّانِى، لا يَجُوزُ. اخْتارَه ابنُ حامِدٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، وقيل: سُئِل عن غُلامٍ ابنِ سَبْعِ سِنِينَ تُغَسِّلُه المَرْأَةُ؟ فقال: هو ابنُ سَبْعٍ، وهو يُؤْمَرُ بالصلاةِ، ولو كان أقَلَّ مِن سَبْعٍ كان أهْوَنَ عِنْدِى. وحَكَى أبو الخَطَّابِ في مَن بَلَغ السَّبْعَ [ولم يَبْلغْ] (¬1) رِوايَتَيْنِ. والصَّحِيحُ أنَّ مَن بَلَغ عَشْرًا ليس للنِّساءِ غَسْلُه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ» (¬2). وأمَرَ بضَرْبِهم على الصلاةِ لعَشْرٍ. فأمَّا مَن بَلَغَ السَّبْعَ والعَشْرَ، ففيه احْتِمَالان، ووَجْهُهما ما ذَكَرْنا. وأمَّا الجارِيَةُ إذا لم تَبْلُغْ سَبْعًا، فقال القاضي، وأبو الخَطَّابِ: يَجُوزُ للرِّجالِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَسْلُها. وقال الخَلَّالُ: القِياسُ التَّسْوِيَةُ بينَهما لكلِّ واحِدٍ منهما على الآخَرِ. فعلى قَوْلِنا حُكْمُها حُكْمُ الغُلامِ. ولا يُغَسِّلُ الرجلُ مَن بَلَغَتْ عَشْرًا؛ لِما ذَكَرْنَا في الصَّبِىِّ. ويَحْتَمِلُ أن يُحَدَّ ذلك بِتِسْعٍ في حَقِّ الجَارِيَةِ؛ لقَوْلِ عائشةَ: إذا بَلَغَتِ الجارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فهى امْرَأةٌ (¬1). وفيما قبلَ ذلك الوَجْهانِ. ونُقِل عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، كَراهَةُ ذلك، وقال: النِّساءُ أعْجَبُ إلىَّ. وذُكِر له أنَّ الثَّوْرِيَّ قال: تُغَسِّلُ المرأةُ الصَّبِيَّ، والرجلُ الصَّبِيَّةَ. فقال: لا بَأْسَ أن تُغَسِّلَ المَرْأةُ الصَّبِىَّ، وأمَّا الرجلُ يُغَسِّلُ الصَّبِيَّةَ فلا أجْتَرِئُ عليه، إلَّا أن يُغَسِّلَ الرجلُ ابْنَتَه الصَّغِيرَةَ. ويُرْوَى عن أبى قِلابَةَ، أنَّه غَسَّلَ ابْنَةً له صَغِيرَةً (¬2). وهو قَوْلُ الحسنِ. وكَرِه غَسْلَ الرجلِ الصَّغِيرَةَ سعيدٌ، والزُّهْرِيُّ. وقال شيخُنا (¬3): وهذا أوْلَى مِن ¬

(¬1) سبق تخريجه في 2/ 385. (¬2) تقدم في صفحة 48. (¬3) في: المغني 3/ 465.

736 - مسألة: (وإذا مات رجل بين نسوة، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل، يمم فى أصح الروايتين. وفى الأخرى، يصب عليه الماء من فوق القميص، ولا يمس)

وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسْوَةٍ, أَوِ امْرَأَةٌ رِجَالٍ, أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٌ, يُمِّمَ فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِى الأُخْرَى, يُصَبُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ, وَلَا يُمَسُّ, ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلِ الأصْحابِ؛ لأنَّ عَوْرَةَ الجِارِيَةِ أفْحَشُ مِن عَوْرَةِ الغُلامِ، ولأنَّ العادَةَ مُباشَرَةُ المرأَةِ للغُلامِ الصَّغِيرِ، والنَّظَرُ إلى عَوْرَتِهِ في حالِ تَرْبِيَتِه، ومَسُّها، ولم تَجْرِ العادَةُ للرجلِ بمُباشَرَةِ عَوْرَةِ الجارِيَةِ حالَ الحَياةِ، فكذلك حالَةَ المَوْتِ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا. واللهُ أعلمُ. فصل: ويَصِحُّ أن يُغَسِّلَ المُحْرِمُ الحَلالَ، والحَلالُ المُحْرِمَ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما تَصِحُّ طَهارَتُه وغَسْلُه. 736 - مسألة: (وإذا مات رجلٌ بينَ نِسْوَةٍ، أو امرأةٌ بينَ رِجالٍ، أو خُنْثَى مُشْكِلٌ، يُمِّمَ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن. وفى الأُخْرَى، يُصَبُّ عليه الماءُ مِن فوقِ القَمِيصِ، ولا يُمَسُّ) إذا مات رجلٌ بينَ نِسْوَةٍ أجانِبَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو امرأةٌ بينَ رِجالٍ أجانِبَ، أو مات خُنثَى مُشْكِلٌ، فإنَّه يُيَمَّمُ في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِىِّ، وحَمّادٍ، ومالكٍ، وأصحابِ الرَّأْىِ، وابنِ المُنْذِرِ، وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ. والوَجْهُ الثانِى، يُغَسَّلُ في قَمِيصٍ، ويَجْعَلُ الغاسِلُ على يَدِهِ خِرْقَةً. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يُغَسَّلُ مِن فوقِ القَمِيصِ، يُصَبُّ عليه الماءُ صَبًّا, ولا يُمَسُّ. وهو قولُ الحسنِ، وإسحاقَ. ولَنا، ما روَى واثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا مَاتَتِ الْمَرْأةُ مَعَ الرِّجَالِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَحْرَمٌ، تُيَمَّمُ كَمَا يُيَمَّمُ الرِّجَالُ» (¬1). ولأنَّ الغَسْلَ مِن غيرِ مَسٍّ لا يَحْصُلُ به التَّنْظِيفُ ولا إزالةُ النَّجاسَةِ، بل رُبَّما كَثُرَتْ، ولا يَسْلَمُ مِن النَّظَرِ، فكان العُدُولُ إلى التَّيَمُّمِ أوْلَى، كما لو عَدِم الماءَ. فأمَّا إن ماتَتِ الجارِيَةُ بينَ مَحارِمِها الرِّجالِ، فقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، مرسلا عن مكحول، في: باب في غسل الميت، من كتاب الجنائز. المراسيل 177. والبيهقى، مرسلا، في: باب المرأة تموت مع الرجال ليس معهم امرأة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 398.

737 - مسألة: (ولا يغسل مسلم كافرا, ولا يدفنه، إلا أن لا يجد من يواريه غيره)

وَلَا يُغْسِّلُ مُسْلِمٌ كَافِرًا, وَلَا يَدْفِنُهُ, إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 737 - مسألة: (ولا يُغَسِّلُ مُسْلِمٌ كَافِرًا, ولا يَدْفِنُه، إلَّا أن لا يَجِدَ مَن يُوارِيه غيرَه) إذا مات كافِرٌ مع مُسْلِمِين لم يُغَسِّلُوه، سَواءٌ كان قَرِيبًا لهم أو لا, ولا يَتَوَلَّوْا دَفْنَه، إلَّا أن لا يَجِدُوا مَن يُوارِيه. وهذا قولُ مالكٍ. وقال أبو حَفْصٍ العُكْبَرِىُّ: يَجُوزُ له غَسْلُ قَرِيبِه الكافِرِ، ودَفْنُه. وحَكاه قَوْلًا لأحمدَ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لِما رُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قلتُ للنَّبىّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قد مات، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبْ فَوَارِهِ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬1). ولَنا، أنَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يموت له قرابة مشرك، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 191. والنَّسائى، في: باب الغسل من مواراة المشرك، من كتاب الطهارة، وفي: باب مواراة المشرك، من كتاب الجنائز. المجتبى 1/ 92، 4/ 65. كما أخرجه الإِمام أَحْمد، في: المسند 1/ 97، 103، 130، 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُصَلِّى عليه، ولا يَدْعُو له فلم يكنْ له غَسْلُه، كالأجْنَبِىِّ، والحَدِيثُ يَدُلُّ على مُواراتِه، وله ذلك إذا خاف مِن التَّغَيُّرِ به، والضَّرَرِ بِبَقائِه. قال أحمدُ، في يَهُودِىٍّ أو نَصْرانِىٍّ مات، وله ولَدٌ مُسْلِمٌ: فَلْيَرْكَبْ دَابَّةً، ويَسِرْ أمامَ الجِنازَةِ، وإذا أراد أن يَدْفِنَ رَجَع مثلَ قولِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه (¬1). ¬

(¬1) عن أبى وائل، قال: ماتت أمى وهى نصرانية، فأتيت عمر، فذكرت ذلك له، فقال: اركب دابة، وسر أمامها. أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يموت له القرابة المشرك يحضره أم لا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 348.

738 - مسألة: (وإذا أخذ فى غسله، ستر عورته وجرده. وقال القاضى: يغسله

وَإِذَا أَخَذَ فِى غَسْلِهِ, سَتَرَ عَوْرَتَهُ وَجَرَّدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُغَسِّلُهُ فِى قَمِيصٍ خَفِيفٍ, وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ 738 - مسألة: (وِإذَا أَخَذَ فِى غَسْلِهِ، سَتَرَ عَوْرَتَهُ وَجَرَّدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُغَسِّلُهُ (¬1) فِى قَمِيصٍ خَفِيفٍ (¬2)، وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ) يَجِبُ سَتْرُ عَوْرَةِ المَيِّتِ بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، وهو ما بينَ سُرَّتِه إلى رُكْبَتِه، وقد قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لعلىٍّ: «لَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَىٍّ، وَلَا مَيِّتٍ». رَواه أبو داودَ (¬3). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ورُوِىَ: «النَّاظِرُ مِنَ الرِّجَالِ إلَى فُرُوجِ الرِّجَالِ، كَالنَّاظِرِ مِنْهُمْ إلَى فُرُوجِ النِّسَاءِ، وَالمُتَكَشِّفُ مَلْعُونٌ» (¬4). قال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: الصَّبِىُّ يُسْتَرُ كما يُسْتَرُ الكَبِيرُ، أعْنِى الصَّبِىَّ المَيِّتَ، في الغَسْلِ؟ قال: أىُّ شئٍ يُسْتَرُ منه؟! ليست عَوْرَتُه بعَوْرَةٍ، ويُغَسِّلُه النِّساءُ. ¬

(¬1) في م: «يغسل». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 202. (¬4) التمهيد: 2/ 160. وآخره فيه: «والناظر والمتكشف ملعون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ المَيِّتِ عندَ غَسْلِه ما سوى عَوْرَتِه. رَواه الأثْرَمُ عن أحمدَ. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيارُ أبى الخَطَّابِ، وإليه ذَهَب ابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ. وروَى المَرُّوذِىُّ، عن أحمدَ، أنَّه قال: يُعْجِبُنِي أن يُغَسِّلَ المَيِّتَ وعليه ثَوْبٌ، يُدْخِلُ يَدَه مِن تَحْتِ الثَّوْبِ. قال: وكان أبو قِلابَةَ إذا غَسَّلَ مَيِّتًا جَلَّلَه بِثَوْبٍ. وقال القاضى: السُّنَّةُ أَن يُغَسَّلَ في قَمِيصٍ رَقِيقٍ يَنْزِلُ الماءُ فيه، ولا يَمْنَعُ أن يَصِلَ إلى بَدَنِه. ويُدْخِلُ يَدَه في كُمِّ القَمِيصِ فيُمِرُّها على بَدَنِه والماءُ يُصَبُّ، فإن كان القَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخارِيصِ (¬1)، وأدْخَلَ يَدَه فيه. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - غُسِّلَ في قَمِيصِه (¬2). وقال سعدٌ: اصْنَعُوا بى كما صُنِعَ برسولِ (¬3) اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قال أحمدُ: غُسِّلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الدخريص، واحد الدخاريص: ما يوصل به بدن الثوب أو الدرع ليتسع. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في غسل النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 471. والبيهقى، في: باب ما يستحب من غسل الميت في قميص، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 387. (¬3) في م: «رسول». (¬4) أخرجه مسلم، في: باب في اللحد ونصب اللبن على الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 665. والنسائى، في: باب اللحد والشق، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 66. وابن ماجه، في: باب ما جاء في استحباب اللحد، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 496. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 169، 173، 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قَمِيصِه، وقد أرادُوا خَلْعَه، فَنُودُوا، ألَّا تَخْلَعُوه، واسْتُرُوا نَبِيَّكم (¬1). ولَنا، أنَّ تَجْرِيدَ المَيِّتِ أمْكَنُ لتَغْسِيلِه وتَطْهِيرِه، والحَىُّ يَتَجَرَّدُ إذا اغْتَسَلَ، فكذلك المَيِّتُ، ولأنَّه إذا غُسِّلَ (¬2) في ثَوْبِه يَنْجُسُ الثَّوْبُ بما يَخْرُجُ، وقد لا يَطْهُرُ بصَبِّ الماءِ عليه، فيَنْجُسَ المَيِّتُ به. فأمَّا النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - فذلك خاصٌ له، ألا تَرَى أنَّهم قالُوا: نُجَرِّدُه كما نُجَرِّدُ مَوْتانا. كذلك رَوَتْه عائشةُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: رُوِىَ ذلك عنها مِن وجْهٍ صَحِيحٍ. فالظاهِرُ أنَّ تَجْرِيدَ المَيِّتِ فيما عدا العَوْرَةَ كان مَشْهُورًا عندَهم، ولم يكنْ هذا ليَخْفَى عن النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -، بل الظَّاهِرُ أنَّه كان بأمْرِه؛ لأنَّهم كانوا يَنْتَهُون إلى رَأْيِه، ويَصْدُرُون عن أمْرِه في الشَّرْعِيَّاتِ، واتِّباعُ أمْرِه وفِعْلِه أوْلَى مِن اتِّباعِ غيرِه. ولأنَّ ما يُخْشَى مِن تَنْجيسِ قَمِيصِه بما يَخْرُجُ منه كان مَأْمُونًا في حَقِّ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه طاهِرٌ حَيًّا ومَيِّتًا، بخِلافِ غيرِه، وإنَّما قال سعدٌ: الحَدُوا لى لَحْدًا، وانْصِبُوا علىَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كما صُنِع برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في ستر الميت عند غسله، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 175. والامام أَحْمد، في: المسند 6/ 267. (¬2) في م: «اغتسل».

739 - مسألة: (ويستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين فى غسله)

وَيُسْتَرُ الْمَيِّتُ عَنِ الْعُيُونِ. وَلَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ يُعِينُ فِى غَسْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 739 - مسألة: (ويُسْتَرُ المَيِّتُ عن العُيُونِ، ولا يَحْضُرُه إلَّا مَن يُعِينُ في غَسْلِه) يُسْتَحَبُّ سَتْرُ المَيِّتِ، وأن يُغَسَّلَ في بَيْتٍ إن أمْكَنَ؛ لأنَّه أسْتَرُ له، فإن لم يكنْ بَيْتٌ، جُعِل بينَه وبينَ السماءِ سِتْرًا. وكان ابنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أن يكونَ البَيْتُ الذى يُغَسَّلُ فيه مُظْلِمًا. ذَكَرَه أحمدُ. وروَى أبو داودَ (¬1)، بإسْنادٍ له، قال: أوْصَى الضَّحّاكُ أخاه سالِمًا، قال: إذا ¬

(¬1) لم نجده في سننه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَسَّلْتَنِى فاجْعَلْ حَوْلِى سِتْرًا، واجْعَلْ بَيْنِى وبينَ السَّماءِ سِتْرًا. وذَكَر القاضى، أنَّ عائشةَ قالت: أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نُغَسِّلُ ابْنَتَه، فجَعَلْنَا بينَها وبينَ السَّقْفِ سِتْرًا (¬1). وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك لئلَّا يَسْتَقْبِلَ السَّماءَ بعَوْرَتِه، وإنَّما اسْتُحِبَّ سَتْرُ المَيِّتِ، وأن لا يَحْضُرَه إلَّا مَن يُعِينُ في غَسْلِه؛ لأنَّه يُكْرَهُ النَّظَرُ إلى المَيِّتِ إلَّا لحاجَةٍ؛ لأنَّه رُبَّما كان بالمَيِّتِ عَيْبٌ يَكْتُمُه، ويَكْرَهُ أن يُطَّلَعَ عليه بعدَ مَوْتِه، ورُبَّما حَدَث منه أمْرٌ يَكْرَهُ الحَىُّ أن يُطَّلَعَ منه على مِثْلِه، ورُبَّما ظَهَر فيه شئٌ هو في الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ فيُتَحَدَّثُ به، فيكونُ فَضِيحَةً، ورُبَّما بَدَتْ عَوْرَتُه فشاهَدَها. ويُسْتَحَبُّ للحاضِرِين غَضُّ أبْصارِهم عنه، إلَّا لحاجَةٍ كذلك، ولهذا أحْبَبْنا أن يكونَ الغاسِلُ ثِقَةً أمِينًا؛ ليَسْتُرَ ما يَطَّلِعُ عليه. وفى الحَدِيثِ عن النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -: «لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمُ الْمَأْمُونُونَ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). وعن عائشةَ، عن النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لِيَلِهِ أقْرَبُكُمْ مِنْهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ، فَإنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَمَنْ تَرَوْنَ أنَّ (¬3) عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ». رَواه الِإمامُ أحمدُ (¬4). وقال القاضى: لوَلِيِّه أن ¬

(¬1) لم نجد هذا عن عائشة رضى الله عنها، والأحاديث في تغسيل ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن أم عطية وأم سليم. (¬2) في: باب ما جاء في غسل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 469. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: المسند 6/ 119، 120، 122.

740 - مسألة: (ثم يرفع رأسه برفق إلى قريب من الجلوس، ويعصر بطنه عصرا رفيقا، ويكثر صب الماء حينئذ)

ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بِرِفْقٍ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْجُلُوسِ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا، وَيُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حِينَئِذٍ, ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدْخُلَ كيف شاء. والأَوْلَى ما ذَكَرْنا، إن شاء اللهُ؛ لأنَّ العِلَّةَ تَقْتَضِى التَّعْمِيمَ. 740 - مسألة: (ثم يَرْفَعُ رَأْسَه برِفْقٍ إلى قَرِيبٍ مِن الجُلُوسِ، ويَعْصِرُ بَطْنَه عَصْرًا رَفِيقًا، ويُكْثِرُ صَبَّ الماءِ حِينَئِذٍ) يُسْتَحَبُّ للغاسِلِ أن يَبْدَأَ فيَحْنِىَ المَيِّتَ حَنْيًا رَفِيقًا، لا يَبْلُغُ به الجُلُوسَ؛ لأنَّ في الجُلُوسِ أذِيَّةً، ثم يُمِرُّ يَدَه على بَطْنِه، يَعْصِرُه عَصْرًا؛ ليُخْرِجَ ما معه مِن نَجاسَةٍ، كيلا يَخْرُجَ بعدَ ذلك، ويُكْثِرُ صَبَّ الماءِ حِينَئِذٍ، ليُخْفِىَ مَا يَخرُجُ منه، ويَذْهَبَ به الماءُ. ويُسْتَحَبُّ أن يكونَ بِقُرْبِهِ مِجْمَرٌ فيه بَخُورٌ حتَّى لا يَظْهَرَ منه رِيحٌ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لا يَعْصِرُ بَطْنَ المَيِّتِ في المَرَّةِ الأُولَى، ولكنْ في الثَّانِيَةِ. وقال في موضِعٍ آخَرَ: يَعْصِرُ بَطْنَه في الثَّالِثَةِ، يَمْسَحُ مَسْحًا رَفِيقًا مَرَّةً واحِدَةً. وقال أَيضًا: عَصْرُ بَطْنِ المَيِّتِ في الثَّانِيَةِ أمْكَنُ؛ لأنَّ المَيِّتَ لا يَلِينُ حتَّى يُصِيْبَه الماءُ.

741 - مسألة: (ثم يلف على يده خرقة، فينجيه. ولا يحل مس عورته، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة)

ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِه خِرْقَةً، فَيُنَجِّيهِ بِهَا. وَلَا يَحِلُّ مَسُّ عَوْرَتِه، وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يَمَسَّ سَائِرَ بَدَنِهِ إِلَّا بِخِرْقَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ امرأةً حامِلًا لم يَعْصِرْ بَطْنَهَا؛ لئَلَّا يُؤْذِيَ الوَلَدَ (¬1)، لِما رَوَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا تُوُفِّيَتِ الْمَرْأةُ، فَأرَادُوا غَسْلَهَا، فَلْيَبْدَأْنَ بِبَطْنِهَا، فَلْيُمْسَحْ مَسْحًا رَفِيقًا إنْ لَمْ تَكُنْ حُبْلَى، فَإنْ كَانَتْ حُبْلَى فَلاَ يُحَرِّكْنَهَا». رَواه الخَلَّالُ (¬2). 741 - مسألة: (ثم يَلُفُّ على يَدِه خِرْقَةً، فَيُنَجِّيه. ولا يَحِلُّ مَسُّ عَوْرَتِه، ويُسْتَحَبُّ أن لَا يَمَسَّ سَائِرَ بَدَنِه إلَّا بخِرْقَةٍ) يُسْتَحَبُّ للغاسِلِ إذا عَصَر بَطْنَ المَيِّتِ أن يُنَجِّيَه، فيَلُفَّ على يَدِه خِرْقَةً ¬

(¬1) في النسخ: «أم الولد». والمثبت من المغنى. (¬2) حديث أم سليم في تغسيل المرأة عزاه المزى في تحفة الأشراف للترمذى ولم يذكر موضع روايته له، وكذلك ابن حجر في النكت الظراف. انظر تحفة الأشراف 13/ 85. وأخرجه البيهقى، في: باب في غسل المرأة، من كتاب الجنائز، ثم عزاه للترمذى. واستدرك عليه صاحب الجوهر النقى بقوله: لم أجده في كتاب التِّرْمِذِى وما رأيت أحدًا غير البيهقى عزاه إليه. السنن الكبرى 4/ 5. والذى عند الترمذى هو قوله- بعد رواية حديث أم عطية- وفي الباب عن أم سليم. انظر عارضة الأحوذى 4/ 211 باب ما جاء في غسل الميت، من أبواب الجنائز. وأورده الهيثمى في مجمع الزوائد 3/ 21 وعزاه للطبرانى في الكبير. وهو فيه. انظر: المعجم الكبير 25/ 125، 126.

742 - مسألة: (ثم ينوى غسله

ثُمَّ يَنْوِى غَسْلَهُ، وَيُسَمِّى, ـــــــــــــــــــــــــــــ خَشِنَةً فيُنَجِّيَه (¬1) بها؛ لئَلَّا يَمَسَّ عَوْرَتَه؛ لأنَّ النَّظرَ إلى عَوْرَةِ المَيِّتِ حَرامٌ، فمَسُّها أوْلَى. ويُزِيلُ ما على بَدَنِه مِن نَجاسَةٍ؛ لأنَّ الحَىَّ يَبْدَأُ بذلك في اغْتِسالِه مِن الجنابةِ. ويُسْتَحَبُّ أن لا يَمَسَّ سائِرَ بَدَنِه إلَّا بخِرْقَةٍ؛ لِما رُوِىَ أنَّ عَلِيًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، غَسَّلَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وبِيَدِه خِرْقَةٌ، يَمْسَحُ بها ما تحتَ القَمِيصِ (¬2). قال القاضى: يُعِدُّ الغاسِلُ خِرْقَتَيْن، يَغْسِلُ بإحْداهما السَّبِيلَيْن، وبالأُخْرَى سائِرَ بَدَنِه. 742 - مسألة: (ثم يَنْوِى غَسْلَه (¬3)، ويُسَمِّى) النِّيَّةُ في غَسْلِ المَيِّتِ واجِبَةٌ على الغاسِلِ، وفى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ رِوايَتَانِ، كغُسْلِ ¬

(¬1) في م: «يمسحه». (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الميت يغسل من قال يستر ولا يجرد، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبى شيبة 3/ 240. (¬3) في م: «غسلهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَنابَةِ، وإنَّما أوْجَبْناها على الغَاسِلِ لتَعَذُّرِها مِن الميِّتِ، ولأنَّ الحَىَّ هو المُخاطَبُ بالغَسْلِ. وقال القاضى، وابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن لا تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ؛ لأنَّ القَصْدَ التَّنْظِيفُ، فأشْبَهَ غَسْلَ النَّجاسَةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّه لو كان كذلك لَما وَجَب غَسْلُ مُتَنَظِّفٍ، ولجاز غَسْلُه بماءِ الوَرْدَ، وكلِّ ما يَحْصُلُ به التَّنْظِيفُ، وإنَّما هو غَسْلُ تَعَبُّدٍ، فأشْبَهَ غُسْلَ الجَنابَةِ.

743 - مسألة؛ قال: (ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفى منخريه فينظفهما، ويوضئه، ولا يدخل الماء فى فيه ولا أنفه)

وَيُدْخِلُ إِصْبَعَيْهِ مَبْلُولَتَيْنِ بِالْمَاءِ بَيْنَ شَفَتَيْهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ، وَفِى مَنْخَرَيْهِ فَيُنَظِّفُهُمَا، وَيُوَضِّئُهُ، وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فِى فِيهِ وَلَا أَنْفِه, ـــــــــــــــــــــــــــــ 743 - مسألة؛ قال: (ويُدْخِلُ إِصْبَعَيْه مَبْلُولَتَيْن بالماء بينَ شَفَتَيْه، فيَمَسَحُ أسْنَانَه، وفى مَنْخَرَيْه فيُنَظِّفُهما، ويوضِّئُه، ولا يُدْخِلُ الماءَ في فيه ولا أنْفِه) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه إذا نَجَّى المَيِّتَ وأزال عنه (¬1) النَّجاسَةَ، بَدَأ بعدَ ذلك فوَضَّأه وُضُوءَ الصلاةِ، فيَغْسِلُ كَفَّيْه، ثم يَأْخُذُ خِرْقَةً خَشِنَةً فيَبُلُّها ويَجْعَلُها على إِصْبَعَيْه، فيَمْسَحُ أسْنانَه وأنْفَه، حتَّى يُنَظِّفَهما، ويكونُ ذلك في رِفْقٍ، ثم يَغْسِلُ وَجْهَه، ويُتَمِّمُ وُضُوءَه، لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للنِّساءِ اللاتى غَسَّلْنَ ابْنَتَه: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّ الحَىَّ يَبدَأُ بالوُضُوءِ في غُسْلِه، ولا يُدْخِلُ الماءَ في فِيه ولا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) يأتى تخريجه من حديث أم عطية.

744 - مسألة: (ثم يضرب السدر، فيغسل برغوته رأسه ولحيته

وَيَضْرِبُ السِّدْرَ، فيَغْسِلُ برَغْوَتِهِ رَأْسَه ولِحْيَتَهُ وَسَائِرَ بَدَنِهِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْفِه في قولِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ, وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يُمَضْمِضُه ويُنْشِقُه كما يَفْعَلُ الحَىُّ. ولَنا، أنَّ ذلك لا يُؤْمَنُ معه وُصُولُه إلى جَوْفِه، فَيُفْضى إلى المُثْلَةِ به، ولا يُؤْمَنُ مِن خُرُوجِه في أكْفانِه فيُفْسِدَها. 744 - مسألة: (ثم يَضْرِبُ السِّدْرَ، فيَغْسِلُ برَغْوَتِهِ رَأْسَه ولِحْيَتَه

ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ الْأَيْسَرَ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ, يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا, ـــــــــــــــــــــــــــــ وسائِرَ بَدَنِه، ثم يَغْسِلُ شِقَّه الأيْمَنَ، ثم الأيْسَرَ، يَفْعَلُ ذلك ثَلاثًا) يُسْتَحَبُّ أن يَبْدَأَ الغاسِلُ بعدَ وُضُوءِ المَيِّتِ بغَسْلِ رأْسِ المَيِّتِ، فيَغْسِلُه برَغْوَةِ السِّدْرِ، ويَغْسِلُ بَدَنَه بالثُّفْلِ (¬1)، يَفْعَلُ ذلك ثَلاثًا. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّه يُسْتَحَبُّ أن يُغْسَلَ ثَلاثًا بماءٍ وسِدْرٍ. قال صالحٌ: قال أبى: المَيِّتُ يُغَسَّلُ بماءٍ وسِدْرٍ، ثَلاثَ غَسَلَاتٍ. قلتُ: فيَبْقَى عليه؟ قال: أىُّ شئٍ يكونُ هو أنْقى له. وذُكِر عن عَطاءٍ، أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ قال له: إنَّه يَبْقَى عليه السِّدْرُ إذا غُسِّلَ به كلَّ مَرَّةٍ. قال عَطاءٌ: هو طَهُورٌ. واحْتَجَّ أحمدُ بحَدِيثِ أمِّ عَطِيَّةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُه قال: «اغْسِلْنَها ثَلاثًا، أو أربَعًا (¬2)، أو خَمْسًا، أو أكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأْيتُنَّ، بِمَاءٍ ¬

(¬1) الثُّفْل: حثالة الشيء، وهو الثّخين الذى يبقى أسفل الصافى. (¬2) هكذا ورد هذا اللفظ في الأصل، م. ولم نجده في مصادر الحديث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). [وقال في المُحْرِمِ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ». مُتَّفَقٌ عليه] (¬2). وذَهَبَ كَثِيرٌ مِن أَصْحابِنا المُتَأَخِّرِينَ، إلى أنَّه لا يُتْرَكُ في الماءِ سِدْرٌ يُغَيِّرُه، ثم اخْتَلَفُوا، فقال ابنُ حامدٍ: يُطْرَحُ في كلِّ المِياهِ شئٌ يَسِيرٌ مِن السِّدْرِ لا يُغَيِّرُه ليَجْمَعَ بينَ العَمَلِ بالحديثِ، ويكونَ الماءُ باقِيًا على إطْلاقِه. وقال القاضى، وأبو الخَطَّابِ: يُغَسَّلُ أوَّلَ مَرَّةٍ بالسِّدْرِ، ثم يُغَسَّلُ بعدَ ذلك بالماءِ القَراحِ (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِى، في: باب التيمن في الوضوء والغسل، من كتاب الوضوء، وفى: باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، وباب ما يستحب أن يغسل وترا، وباب يبدأ بميامن الميت، وباب مواضع الوضوء من الميت، وباب هل تكفن المرأة في إزار الرَّجل، وباب يجعل الكافور في الأخيرة، وباب نقض شعر المرأة، وباب كيف الإشعار للميت، وباب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون، وباب يلقى شعر المرأة خلفها، من كتاب الجنائز. صحيح البُخَارِى 1/ 53، 2/ 93، 94، 95. ومسلم، في: باب في غسل الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 646 - 648. كما أخرجه أبو داود، في: باب كيف غسل الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 175، 176. والتِّرمذى، في: باب ما جاء في غسل الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 209 - 211. والنسائي، في: باب غسل الميت بالماء والسدر، وباب نقض رأس الميت، وباب غسل الميت وترا، وباب غسل الميت أكثر من خمس، وباب غسل الميت أكثر من سبع، وباب الكافور في غسل الميت، وباب الإشعار، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 24 - 28. وابن ماجه، في: باب ما جاء في غسل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 468، 469. والإمام مالك، في: باب غسل الميت، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 222. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 84، 85، 6/ 407 , 408. (¬2) سقط من م. والحديث تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬3) القراح: الخالص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ الجَمِيعُ غَسْلَةً واحِدَةً، ويكونُ الاعْتِدادُ بالآخِرِ دُونَ الأوَّلِ؛ لأنَّ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، شَبَّهَ غَسْلَه بغُسْلِ الجَنَابَةِ، ولأنَّ السِّدْرَ إن غَيَّرَ الماءَ سَلَبَه الطُّهُورِيَّةَ، وإن لم يُغَيِّرْه فلا فائِدَةَ في تَرْكِ يَسِيرٍ لا يُؤثِّرُ. والأوَّلُ ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ. ويكونُ هذا مِن قَوْلِه دَالًّا على أنَّ تَغْيِيرَ الماءِ بالسِّدْرِ لا يُخْرِجُه عن طُهُورِيَّتِه. فإن لم يَجِدِ السِّدْرَ غَسَّلَه بما يَقُومُ مَقامَه، ويَقْرُبُ منه، كالخِطْمِىِّ (¬1) ونَحْوِه؛ لحُصُولِ المَقْصُودِ به، وإن غَسَّلَه بذلك مع وُجُودِ السِّدْرِ جاز؛ لأنَّ الشَّرْعَ وَرَد بهذا لمَعْنًى مَعْقُولٍ، وهو التَّنْظِيفُ، فَيَتَعَدَّى إلى كل ما وُجِد فيه المَعْنَى. قال أبو الخَطَّابِ: ويُسْتَحَبُّ أن يَخْضِبَ رَأْسَ المَرأَةِ، ولِحْيَةَ الرجلِ بالحِنَّاءِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَبْدَأَ بشِقِّه الأيْمَنِ، فيَغْسِلَ وَجْهَه ويَدَه اليُمْنَى مِن المَنْكِبِ إلى الكَفَّيْنِ، وصَفْحَةَ عُنُقِه اليُمْنَى، وشِقَّ صَدْرِه، وَجَنْبَه، وفَخِذَه، ¬

(¬1) الخطمى: نبات منضج محلل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وساقَه، وهو مُسْتَلْقٍ، ثم يَصْنَعَ ذلك بالجانِبِ الأيْسَرِ، ثم يَرْفَعَه مِن جانِبهِ، ولا يَكُبَّه لوَجْهِه، فيَغْسِلَ الظَّهْرَ وما هناك مِن وَرِكِه، وفَخِذِه، وساقِه، ثم يَعُودَ فَيَحْرِفَه على جَنْبِه الأيْمَنِ، ويَغْسِلَ شِقَّه الأيْسَرَ كذلك. هكذا ذَكَرَه إبراهيمُ النَّخَعِىُّ، والقاضى؛ وذلك لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا». وهو أشْبَهُ بغُسْلِ الحَىِّ. فصل: والواجِبُ غَسْلَةٌ واحِدَةٌ؛ لأنَّه غُسْلٌ واجِبٌ مِن غيرِ نَجاسَةٍ أصابَتْه، فكان مَرَّةً واحِدَةً، كغُسْلِ الجَنابَةِ. قال عَطاءٌ: يُجْزِئُه غَسْلَةٌ واحِدَةٌ إن نَقَّوْه. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لا يُعْجِبُنِى إن غُسِّلَ واحِدَةً؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أوْ خَمْسًا». وهذا على سَبِيلِ الكَراهَةِ دُونَ الِإجْزاءِ؛ لِما ذَكَرْنا, ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في المُحْرِمِ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» (¬1) ولم يَذْكُرْ عَدَدًا. فصل: والحَائِضُ والجُنُبُ إذا ماتا كغيرِهما في الغَسْلِ، قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا قولُ مَن نَحْفَظُ عنه مِن عُلَماءِ الأمْصارِ. وقد قال الحسنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: ما مات مَيِّتٌ إِلَّا جَنُبَ. وقِيل عن الحسنِ: إنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُغَسَّلُ الجُنُبُ للجَنابَةِ، والحائِضُ للحَيْضِ، ثم يُغَسَّلانِ للمَوْتِ (¬1). والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّهما خَرَجا مِن أحْكامِ التَّكْلِيفِ، ولم يَبْقَ عليهما عِبادَةٌ واجِبَةٌ، وإنَّما الغَسْلُ للمَيِّتِ تَعَبُّدٌ، وليَكُونَ في حالِ خُروجِه مِن الدُّنْيا على أكْمَلِ حالٍ مِن النَّظَافَةِ، وهذا يَحْصُلُ بغَسْلَةٍ واحِدَةٍ، ولأنَّ الغَسْلَ الواحِدَ يُجْزِئُ مَن وُجِد في حَقِّه شَيْئَان، كالحَيْضِ والجَنابَةِ، كذا هذا. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبه، في: باب في الجنب والحائض يموتان ما يصنع بهما، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبى شيبة 3/ 255، 254.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقال بعضُ أصحابِنا: يَتَّخِذُ الغاسِلُ ثَلَاثَةَ آنِيَةٍ؛ كبِيرًا يَجْمَعُ فيهِ الماءَ الذى يُغَسِّلُ به المَيِّتَ يَكونُ بالبُعْدِ منه، وإناءَيْن صَغِيرَيْن يَطْرَحُ مِن أحَدِهما على المَيِّتِ، والثَّالِثُ يَغْرِفُ به مِنَ الكَبِيرِ في الصَّغِيرِ الذى يُغَسِّلُ به المَيِّتَ، ليَكُونَ الكبيرُ مَصُونًا، فإذا فَسَدَ الماءُ الذى في الصَّغِيرِ، وطار فيه من رَشاشِ الماءِ، كان ما بَقِىَ في الكَبيرِ كافِيًا. ويَسْتَعْمِلُ في كلِّ أُمُورِه الرِّفْقَ به في تَقْلِيبِه، وعَرْكِ أعْضائِه، وعَصْرِ بَطْنِه، وتَلْيِينِ مَفاصِلِه، وفى سائِرِ أُمُورِه، احْتِرامًا له، فإنَّه مُشَبَّه بالحَىِّ في حُرْمَتِه، ولا يَأْمَنُ إن عَنُفَ به أن يَنْفَصِلَ منه عُضْوٌ، فيكونَ مُثْلَةً به، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَىِّ» (¬1). وقال: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الْأمْرِ كُلهِ» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الحفَّارِ يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 190. وابن ماجه، في: باب في النهى عن كسر عظام الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 516. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الاختفاء، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 238. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 58، 100، 105، 169، 200، 264. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الرفق في الأمر كله، من كتاب الأدب، وفى: باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، من كتاب الاستئذان، وفى: باب الدعاء على المشركين، من كتاب الدعوات، وفى: باب عرض الذمى وغيره. . . .، من كتاب استتابة المرتدين. صحيح البخارى 8/ 14، 71، 104، 9/ 20. ومسلم، في: باب النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. . . .، من كتاب السلام، وفى: باب فضل الرفق، من كتاب البر. صحيح مسلم 4/ 1706، 2003، 2004. وأبو داود، في: باب في الرفق، من كتاب =

745 - مسألة: (فإن لم ينق بالثلاث، [أو خرج]

يُمِرُّ فِى كُلِّ مَرَّة يَدَهُ، فَإِنْ لَمْ يُنَقَّ بِالثَّلَاث،. أَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ، غَسَّلَهُ إِلَى خَمْسٍ، فَإِنْ زَادَ فَإِلَى سَبْعٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 745 - مسألة: (فإن لم يُنَقَّ بالثَّلاثِ، [أو خَرَجَ] (¬1) منه شئٌ، غَسَّلَه إلى خَمْسٍ، فإن زاد فإلى سَبْعٍ) إذا فَرَغ الغاسِلُ مِن الغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ، لم يُمِرَّ يَدَه على بَطْنِ المَيِّتِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ منه شئٌ، فإن رَأى الغاسِلُ أنَّه لم يُنَقَّ بالثَّلاثِ غَسَّلَه خَمْسًا أو سَبْعًا، إن رَأى ذلك، ولا يَقْطَعُ إلَّا على وِتْر. قال الإِمامُ أحمدُ: ولا يُزادُ على سَبْع؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاًثا، أوْ خَمْسًا، أوْ سَبْعًا». لم يَزِدْ على ذلك، وجَعَل ما أمَرَ به وِتْرًا. ¬

= الأدب. سنن أبى داود 2/ 554. والترمذى، في: باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذى 10/ 175. وابن ماجه، في: باب الرفق، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1216. والدارمى، في: باب في الرفق، من كتاب الرقاق. سنن الدارمى 2/ 323.والإمام مالك، في: باب ما يؤمر به من العمل في السفر، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 979. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 112، 4/ 87، 6/ 37، 85، 199. (¬1) في م: «وخرج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضًا: «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا» (¬1). فإن لم يُنَقَّ بالسَّبْعِ، فقالَ شيخُنا (¬2): الأَوْلَى غَسْلُه حتى يُنَقَّى؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أوْ خَمْسًا أوْ سَبْعًا، أوْ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيتُنَّ ذَلِكَ». ولأنَّ الزِّيادَةَ على الثَّلاثِ إنَّما كانت للإِنْقاءِ أو للحاجَةِ إليها، فكذلك ما بعدَ السَّبْعِ، ولا يَقْطَعُ إلَّا على وِتْر؛ لِما ذَكَرْنا، ولم يَذْكُرْ أصحابُنا أنَّه يَزِيدُ على سَبْعٍ. فصل: فإن خَرَج مِن المَيِّتِ نَجاسَةٌ بعدَ الثَّلاثِ، وهو على مُغْتَسَلِه مِن قُبُلِه أو دُبُرِه، غَسَلَه إلى خَمْسٍ، فإن خَرَج بعدَ الخَمْسِ، غَسَلَه إلى سَبْعٍ، ويُوَضِّئُه في الغَسْلَةِ التى تَلِى خُرُوجَ النَّجَاسَةِ. قال صالِحٌ: قال أبى: يُوَضَّأُ المَيِّتُ مَرَّةً واحِدَةً، إلَّا أن يَخْرُجَ منه شئٌ، فيُعادَ عليه الوُضُوءُ. وهذا قولُ ابنِ سِيرِينَ، وإسحاقَ. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه يُغْسَلُ مَوْضِعُ النَّجاسَةِ، ويُوَضَّأُ، ولا يَجِبُ إعادَةُ غَسلِه. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، ومالكٍ، وأبى حنيفةَ؛ لأنَّ خُرُوجَ النَّجاسَةِ مِن الحَىِّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث أم سليم في صفحة 62. (¬2) في: المغنى 3/ 379، 380.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ غُسْلِه لا يُبْطِلُه، فكذلك المَيِّتُ. وللشافعىِّ قَوْلان كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّ القَصْدَ مِن غَسْلِ المَيِّتِ أن يَكُونَ خاتِمَةُ أمْرِه الطهارةَ الكامِلَةَ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاًثا أوْ خْمَسًا أوْ سَبْعًا، إنْ رَأيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ». فإن خَرَجَتْ منه نَجاسَةٌ مِن غيرِ السَّبِيلَيْنِ، فقالَ أحمدُ، في رِوايَةِ أبى داودَ: الدَّمُ أسْهَلُ مِن الحَدَثِ. يَعْنِى الدَّمَ الذى يَخرُجُ مِن

746 - مسألة: (ويجعل فى الغسلة الأخيرة كافورا)

وَيَجْعَلُ فِى الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ كَافُورًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْفِه أسْهَلُ مِن الحَدَثِ في أنَّه لا يُعادُ له الغَسْلُ، لأنَّ الحَدَثَ يَنْقُضُ الطهارةَ بالاتِّفاقِ، ويُسَوَّى بينَ قَلِيِلِه وكَثِيرِه. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ الغَسْلَ لا يُعادُ مِن يَسِيرِه، كما لا يَنْقُضُ الوُضُوءَ، بخِلافِ الخارِجِ مِن السَّبِيلَيْن. 746 - مسألة: (ويَجْعَلُ في الغَسْلَةِ الأخِيرَةِ كافُورًا) يُسْتَحَبُّ أن يَجْعَلَ في الغَسْلَةِ الأخِيرَةِ كافُورًا، ليَشُدَّه ويُبَرِّدَه ويُطَيِّبَه؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، للنِّساء اللَّاِتى غَسَّلْنَ ابْنَتَه: «اغْسِلْنَهَا بالسِّدْرِ، وِتْرًا ثَلَاثًا، أوْ

747 - مسألة: (والماء الحار، والخلال، والأشنان

وَالْمَاءُ الْحَارُّ، وَالْخِلَالُ، وَالْأُشْنَانُ يُسْتَعْمَلُ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسًا، أو أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، واجْعَلْنَ فِى الْغَسْلَةِ الْأخِيرَةِ كَافُورًا». وفى حديثِ أُمِّ سُلَيْمٍ: «فَإذَا كَانَ فِى آخِرِ غَسْلَةٍ مِنَ الثَّالِثَةِ أوْ غَيْرِهَا، فَاجْعَلْنَ مَاءً فِيهِ شىْءٌ مِنْ كَافُورٍ، وَشَىْءٌ مِنْ سِدْرٍ، ثُمَّ اجْعَلْن ذَلِكَ فِى جَرَّةٍ جَدِيدَةٍ، ثُمَّ أفْرِغْنَهُ عَلَيْهَا، وَابْدَئِى بِرَأْسِهَا حَتَّى يَبْلُغَ رِجْلَيْهَا». 747 - مسألة: (والماءُ الحارُّ، والخِلالُ، والأُشْنَانُ (¬1)، يُسْتَعْمَلُ إنِ احْتِيجَ إليه) هذه الثَّلاَثَةُ تُسْتَعْمَلُ عندَ الحاجَةِ إليها، مثلَ أن يُحْتاجَ إلى الماءِ الحارِّ لشِدَّةِ البَرْدِ، أو الوَسَخُ لا يَزُولُ إلَّا به، وكذلك الأُشْنانُ يُسْتَعْمَلُ إذا كان على المَيِّتِ وَسَخٌ. قال أحمدُ: إذا طال ضَنَى المَرِيضِ غُسِّلَ بالأُشْنَانِ. يَعْنِى أنَّه يَكْثُرُ وَسَخُه، فيَحْتاجُ إلى الأُشْنَانِ ليزِيلَه. والخِلالُ يُحْتاجُ إليه لإِخْرَاجِ شئٍ، والأَوْلَى أن يكونَ مِن شَجَرَةٍ كالصَّفْصافِ ونحوِه، ومِمّا يُنَقِّى ولا يَجْرَحُ، وإن جَعَلَ على رَأْسِه قُطْنًا، ¬

(¬1) الأشنان: مادة تجلو وتنقِّى.

748 - مسألة: (ويقص شاربه، ويقلم أظفاره، ولا يسرح شعره، ولا لحيته)

وَيَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَلَا يُسَرِّحُ شَعَرَهُ، وَلَا لِحْيَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَسَنٌ. ويَتَتَبَّعُ ما تحتَ أظْفارِه فَيُنَقِّيه، فإن لم يَحْتَجْ إلى شئٍ مِن ذلك لم يُسْتَحَبَّ اسْتِعْمالُه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: والمُسَخَّن أوْلَى، لكنْ حالَ أنَّه يُنَقِّى ما لا يُنَقِّى البارِدُ. ولَنا، أنَّ البارِدَ يُمْسِكُه والمُسَخَّنَ يُرْخِيه، ولهذا يُطْرَحُ الكافُورُ في الماءِ ليشُدَّه ويُبَرِّدَه، والانْقاءُ يَحْصُلُ بالسِّدْرِ إذا لم يَكْثُرْ وَسَخُه، فإن كَثُر ولم يَزُلْ إلَّا بالحَارِّ صار مُسْتَحَبًّا. 748 - مسألة: (ويَقُصُّ شارِبَه، ويُقَلِّمُ أظْفارَه، ولا يُسَرِّحُ شَعَرَه، ولا لِحْيَتَه) متى كان شارِبُ المَيِّتِ طَوِيلًا اسْتُحِبَّ قَصُّه. وهذا قولُ الحسنِ، وبكرِ بنِ عبدِ اللهِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وإسْحاقَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يُؤْخَذُ مِن المَيِّت شئٌ؛ لأنَّه قَطْعُ شئٍ منه فلم يُسْتَحَبَّ، كالخِتانِ. ولأصْحابِ الشافعىِّ اخْتلافٌ كالقَوْلَيْن. ولَنا، قَوْلُ أنَس: اصْنَعُوا بِمَوْتاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بعَرَائِسِكُمْ (¬1). والعَرُوسُ يُحَسَّنُ، ويُزالُ عنه ما يُسْتَقْبَحُ مِن الشَّارِبِ وغيرِه، ولأنَّ تَرْكَه يُقَبِّحُ مَنْظَرَه، فشُرِع إزالَتُه، كفَتْحِ عَيْنَيْه وفَمِه، ولأنَّه فِعْلٌ مَسْنُونٌ في الحياةِ ¬

(¬1) عزاه ابن حجر إلى الغزالى في الوسيط مرفوعا. تلخيص الحبير 2/ 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا مَضَرَّةَ فيه، فشُرِع بعدَ المَوْتِ، كالاغْتِسالِ. وعلى هذا يُخَرَّجُ الخِتانُ؛ لِما فيه مِن المَضَرَّةِ. وإذا أُخِذ منه جُعِل مع المَيِّتِ في أكْفانِه، وكذلك كلُّ ما أُخِذ منه مِن شَعَرٍ أو ظُفْرٍ أو غيرِهما، فإنَّه يُغَسَّلُ ويُجْعَلُ معه في أكْفانِه؛ لأنَّه جُزْءٌ مِن المَيِّتِ، فأشْبَهَ أعْضاءَه. فصل: فأمَّا قَصُّ الأظْفارِ إذا طالَتْ ففيها رِوايَتانِ؛ إحْداهما، لا تُقَلَّمُ، ويُنَقَّى وَسَخُها وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، لأنَّ الظُّفْرَ لا يَظْهَرُ كظُهُورِ الشَّارِبِ، فلا حاجَةَ إلى قَصِّه. والثّانِيَةُ، يُقَصُّ إذا كان فاحِشًا. نصَّ عليه؛ لأنَّه مِن السُّنَّةِ، ولا مَضَرَّةَ فيه، فيُشْرَعُ أخْذُه، كالشّارِبِ. ويُمْكِنُ حَمْلُ الرِّوايَةِ الأولَى على ما إذا لم يَفْحُشْ. ويُخَرَّجُ في نَتْفِ الِإبِطِ وَجْهان، بِناءً على الرِّوَايَتَيْنِ في قَصِّ الأظْفارِ؛ لأنَّه في مَعْناه. فصل: فأمَّا العانَةُ ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تؤْخَذُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخرَقِىِّ. وهو قولُ ابنِ سِيرِينَ، ومالكٍ، وأبى حنيفةَ. ورُوِىَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أحمدَ، أنَّ أخْذَها مَسْنُونٌ. وهو قولُ الحسنِ، وبكرِ بنِ عبدِ اللهِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرِ، وإسحاقَ؛ لأنَّ سعدَ بنَ أبى وَقَّاصٍ جَزَّ عانَةَ مَيِّتٍ (¬1). ولأنَّه شَعَرٌ يُسَنُّ إزالَتُه في الحياةِ، أشْبَهَ قَصَّ الشَّارِبِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّه يُحْتاجُ في أخْذِها إلى كَشْفِ العَوْرَةِ، ولَمْسِها، وهَتْكِ المَيِّتِ، وذلك مُحَرَّمٌ لا يُفْعَلُ لغيرِ واجِبٍ، ولأنَّ العانَةَ مَسْتُورَةٌ، يُسْتَغْنَى بسَتْرِها عن إزالَتِها؛ لأنَّها لا تَظْهَرُ، بخِلافِ الشَّارِبِ. فإذا قُلْنا بأخْذِها، ففال أحمدُ: تُؤْخَذُ بالمُوسَى أو بالمِقْراضِ. وقال القاضى: تُزالُ بالنُّورَةِ؛ لأنَّه أسْهَلُ، ولا يَمَسُّها. ووَجْهُ قولِ أحمدَ أنَّه فِعْلُ سعدٍ، والنُّورَةُ لا يُؤْمَنُ أن تُتْلِفَ جِلْدَ المَيِّتِ. ولأصْحَابِ الشافعىِّ وَجْهان كهذَيْن. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب المريض يأخذ من أظفاره وعانته، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الخِتانُ فلا يُشْرَعُ؛ لأنَّه إبانَةُ جُزْءٍ مِن أعْضائِه. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْم. وحُكِىَ عن بعضِ أهْلِ العلم أنَّه يُخْتَنُ. حَكاه الِإمامُ أحمدُ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْناه. ولا يُحْلَقُ رَأْسُ المَيِّتِ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: يُحْلَقُ إذا لم يَكُنْ له جُمَّةٌ، للتَّنْظِيفِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه ليس مِن السُّنَّةِ في الحياةِ، وإنَّما يُرادُ لزِينَةٍ أو نُسُكٍ، ولا يُطْلَبُ شئٌ مِن ذلك ههُنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن جُبِر عَظْمُه بعَظْمٍ فجَبَرَ، ثم مات، فإن كان طاهِرًا لم يُنْزَعْ، وإن كان نَجِسًا وأمْكَنَ إزالَتُه مِن غيرِ مُثْلَةٍ أُزِيلَ؛ لأنَّه نَجاسَةٌ مَقْدُورٌ على إزالَتِها مِن غيرِ ضرَرٍ. وإن أفْضى إلى المُثْلَةِ لِم يُقْلَعْ، وإن كان في حُكْمِ الباطِنِ كالحَىِّ. وإن كان عليه جَبِيرَةٌ يُفْضِى نَزْعُها إلى مُثْلَةٍ، مُسِح عليها، كحالِ الحياةِ، وإلَّا نَزَعَها وغَسَل ما تَحْتَهَا. قال أحمدُ، في المَيِّت تَكُونُ أسْنانُه مَرْبُوطَةً بذَهَبٍ: إن قَدَر على نَزْعِه مِن غيرِ أن تَسْقُطَ بعضُ أسْنانِه نَزَعَه، وإن خاف سُقُوطَ بعضِها تَرَكَه. فصل: ومَن كان مُشَنَّجًا، أو به حَدَبٌ، أو نحوُ ذلك، فأمْكَنَ تَمْدِيدُه بالتَّلْيِينِ والماءِ الحارِّ، فَعَل ذلك، وإن لم يُمْكِنْ إلَّا بعَسْفٍ، تَرَكَه بحالِه. فإن كان على صِفَةٍ لا يُمْكِنُ تَرْكُه على النَّعْشِ إلَّا على وَجْهٍ يُشْهَرُ بالمُثْلَةِ، تُرِكَ في تابُوتٍ، أو تحتَ مِكَبَّةٍ،؛ يُصْنَعُ بالمَرْأةِ؛ لأنَّه أصْوَنُ له وأسْتَرُ. ويُسْتَحَبُّ أن يُتْرَكَ فوقَ سَرِيرِ المرأةِ شئٌ مِن الخَشَبِ أو الجَرِيدِ مثلُ القُبَّةِ، ويُتْرَكَ فوقَه ثَوْبٌ، ليَكُونَ أسْتَرَ لها. وقد رُوِىَ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَضِىَ اللهُ. عنها، أوَّلُ مَن صُنِعَ لها ذلك بأمْرِها. فصل: فأمَّا تَسْرِيحُ رَأْسِه ولِحْيَتَهْ فكَرِهَه أحمدُ، وقد (¬1) قالَتْ ¬

(¬1) سقط من: م.

749 - مسألة: (ويضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها)

وَيُضْفَرُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وُيَسْدَلُ مِنْ وَرَائِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةُ: عَلامَ تَنُصُّونَ (¬1) مَيّتَكُم (¬2)؟ أى لا تُسَرِّحُوا رَأْسَه بالمُشْطِ، ولأنَّ ذلك يَقْطَعُ شَعَرَه ويَنْتِفُه. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ. وقد رُوِىَ عن أُمِّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: - مَشَطْناها ثَلاثَةَ قُرُونٍ. مُتَّفَقٌ. عليه (¬3). قال أحمدُ: إنَّما ضَفَرْنَ. وأنْكَرَ المَشْطَ. فكأنَّه تَأَوَّلَ قَوْلَهَا: مَشَطْناها. على أنَّها أرادتْ ضَفَرْنَاهَا؛ لما ذَكَرْنا. واللهُ أعلمُ. 749 - مسألة: (ويُضْفَرُ شَعَرُ المرأةِ ثَلاثَةَ قُرُونٍ، ويُسْدَلُ مِن وَرائِها) يُسْتَحَبُّ ضَفْرُ شَعَرِ المرأةِ ثلاثةَ قُرُونٍ؛ قَرْنَيْها وناصِيَتَها، ويُلْقَى مِن خلفِها. وبهذا قال الشافعىُّ، وِإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الأوْزاعِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ: لا يُضْفَرُ، ولكنْ يُرْسَلُ مع خَدَّيْها [مِن بينِ يَدَيْها] (¬4) مِن الجانِبَيْن، ثم يُرْسَلُ عليه الخِمارُ؛ لأنَّ ضَفْرَه يَحْتاجُ إلى ¬

(¬1) نصه: حرْكه. والنُّصة: الخصلة من الشعر، أو الشعر الذى يقع على وجهها من مقدم رأسها. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب المريض يأخذ من أظفاره وعانته، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 390. وعبد الرزاق، في: باب شعر الميت وأظفاره، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 437. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 68. (¬4) سقط من: م.

750 - مسألة: (ثم ينشفه بثوب)

ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ بَعْدَ السَّبْعِ حَشَاهُ بالْقُطْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْرِيحِه، فَيَتَقَطَّعُ ويَتَنَتَّفُ (¬1). ولَنا، ما رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: ضَفَرْنا شَعَرَها ثلاثَةَ قُرُونٍ، وألْقَيْناه خلفَها. تَعْنِى بِنْتَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عليه. ولمسلمٍ: فضَفَرْنا شَعَرَها ثَلاثَةَ قُرُونٍ، قَرْنَيْها وناصِيَتَها. وفى حديثِ أُّمِّ سُلَيْمٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «واضْفُرْنَ شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، قُصَّةً، وَقَرْنَيْنِ، وَلَا تُشَبِّهْنَهَا بِالرِّجَالِ» (¬2). 750 - مسألة: (ثم يُنَشِّفُه بِثَوْبٍ) وذلك مُسْتَحَبٌّ؛ لئَلَّا تَبْتَلَّ أكْفانُه، وفى حديثِ ابنِ عباسٍ في غَسْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فجَفَّفُوه بِثَوْبٍ (¬3). ذَكَرَه القاضى. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. 751 - مسألة: (فإن خَرَج منه شئٌ بعدَ السَّبْعِ حَشَاه بالقُطْنِ، ¬

(¬1) في م: «وينشف». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 68. (¬3) أخرج عبد الرزاق نحوه، عن هشام بن عروة، بلفظ: لف النبى - صلى الله عليه وسلم - في ثوب حبرة جُفِّف فيه. المصنف 3/ 422.

752 - مسألة: (ثم يغسل المحل ويوضأ)

فَإِنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَبِالطِّينِ الْحُرِّ، يُغْسَلُ الْمَحَلُّ، وَيُوَضَّأُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن لم يَسْتَمْسِكْ فبالطِّينِ الحُرِّ) متى خَرَجَتْ مِن المَيِّتِ نَجاسَةٌ بعدَ السَّبْعِ لم يَعُدْ إلى الغَسْلِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ إعادَةَ غَسْلِه يُفْضى إلى الحَرَجِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ ثَلاثًا، أو خَمْسًا، أو سبْعًا، في حديثِ أُمِّ عَطِيَّةَ. لكنْ يَحْشُوه بالقُطْنِ، أو يُلْجَمُ بالقُطْنِ كما تَفْعَلُ المُسْتَحاضَةُ، ومَن به سَلَسُ البَوْلِ، فإن لم يُمْسِكْه ذلك حُشِىَ بالطِّينِ الخالِصِ الصُّلْبِ الذى له قُوَّةٌ يُمْسِكُ المَحَلَّ. 752 - مسألة: (ثم يُغْسَلُ المَحَلُّ ويُوَضَأُّ) وقد ذُكِرَ عن أحمدَ، أنَّه لا يُوَضَّأُ. وهو قولٌ لأصْحابِ الشافعىِّ. والأوْلَى، إن شاء اللهُ، أنَّه يُوَضَّأُّ، كالجُنُبِ إذا أحْدَثَ بعدَ الغُسْلِ، لتَكُونَ طَهارَتُه كامِلَةً.

753 - مسألة: (فإن خرج منه شئ بعد وضعه فى أكفانه، لم يعد إلى الغسل)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ بَعْدَ وَضْعِهِ فِى أَكْفَانِهِ، لَمْ يَعُدْ إِلَى الْغَسْلِ. 753 - مسألة: (فإن خَرَج منه شئٌ بعدَ وَضْعِه في أكْفانِه، لم يَعُدْ إلى الغَسْلِ) قال شيخُنا (¬1)، رحِمَه اللهُ: لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، إذا كان الخارِجُ يَسِيرًا؛ لِما في إعادَةِ الغَسْلِ مِن المَشَقَّةِ الكَثِيرَةِ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى إخْراجِه، وإعادَةِ غَسْلِه، وغَسْلِ أكْفانِه، وتَجْفِيفِها أو إبْدالِهَا، ثم لا يُؤْمَنُ مثلُ هذا في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ، فسَقطَ ذلك. ولا يَحْتاجُ أيضًا إلى إعادَةِ وُضوئِه، ولا غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجاسَةِ، دَفْعًا لهذه المَشَقَّةِ، ويُحْمَلُ بحالِه. وقد رُوِىَ عن الشَّعْبِىِّ، أنَّ ابْنَةً له لمّا لُفَّتْ في أكفانِها، بَدَا منها شئٌ، فقالَ الشَّعْبِىُّ: ارْفَعُوا. وإن كان كَثِيرًا، فالظَّاهِرُ عنه أنَّه يُحْمَلُ أيضًا؛ لِما ذَكَرْنا. وعنه، أنَّه يُعادُ غَسْلُه، ويُطَهَّرُ كَفَنُهْ؛ لأنَّه يُؤْمَنُ مِثْلُه في الثَّانِى للتَّحَفُّظِ بالتَّلَجُّمِ والشَّدِّ. ¬

(¬1) في: المغنى 3/ 389، 390.

754 - مسألة: (ويغسل المحرم بماء وسدر، ولا يلبس المخيط، ولا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبا)

وَيُغَسَّلُ الْمُحْرِمُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُلْبَسُ الْمَخِيطَ، وَلَا يُخَمَّرُ رَأسُهُ، وَلَا يُقْرَبُ طِيبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 754 - مسألة: (ويُغَسَّلُ المُحْرِمُ بِماءٍ وسِدْرٍ، ولا يُلْبَسُ المَخِيطَ، ولا يُخَمَّرُ رَأْسُه، ولا يُقْرَبُ طِيبًا) إذا ماتَ المُحْرِمُ لم يَبْطُلْ حُكْمُ إحْرامِه بمَوْتِه، ويُجَنَّبُ ما يُجَنَّبُه المُحْرِمُ مِن الطيبِ، وتَغْطيَةِ الرَّأْس، ولُبْسِ المَخِيطِ، وقَطْعِ الشَّعَرِ. رُوِىَ ذلك عن عثمانَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ. وبه قال عَطاءٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. وقال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ: يَبْطُلُ إحْرامُه بمَوْتِه، ويُصْنَعُ به ما يُصْنَعُ بالحَلالِ. ورُوِى ذلك عن عائشةَ، وابنِ عُمَرَ، وطاوُسٍ؛ لأنَّها عِبادَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فبَطَلَتْ بالمَوْتِ، كالصلاةِ والصيامِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ رجلًا وَقصَه بَعِيرُه (¬1)، ونحن مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا» (¬2). وفى رِوايَةٍ: «مُلَبِّيًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فإن قِيلَ: هذا خَاصٌّ له؛ لأنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا. قُلْنا: حُكْمُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في واحِدٍ حُكْمُه في مِثْلِه، إلَّا أن ¬

(¬1) وقصه بعيره: رمى به فدقَّ عنقه. (¬2) ملبدا: أى ملصق بعض شعره ببعض كاللبد. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرِدَ تَخْصِيصُه، ولهذا ثَبَت حُكْمُه في شُهَداءِ أُحُدٍ، وفى سائِرِ الشُّهَداءِ. قال أبو داود: سَمِعْتُ أحمدَ يَقُولُ: في هذا الحديثِ خَمْسُ سُنَنٍ؛ كَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، أى يُكَفَّنُ في ثَوْبَيْنِ. وأن يَكُونَ في الغَسَلاتِ كلِّها سِدْرٌ، ولا تُخَمِّرُوا رَأْسَه، ولا تُقَرِّبُوه طِيبًا، وكَوْنُ الكَفَنِ مِن جَمِيع المالِ. قال أحمدُ في مَوْضِعٍ: يُصَبُّ عليه الماءُ صَبًّا، ولا يُغَسَّلُ يُغَسَّلُ الحَلالُ. وإنَّما كُرِه عَرْكُ رَأْسِه ومَواضِعِ الشَّعَرِ، كيلا يَنْقَطِعَ شَعَرُه. فصل: واخْتُلِفَ عن أحمدَ في تَغْطِيَةِ وَجْهِه، فعنه، لا يُغَطَّى. نَقَلَها عنه إسماعيلُ بنُ سعيدٍ؛ لأنَّ في بَعْضِ الحديثِ: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ». وعنه، لا بَأْسَ بتَغْطِيَةِ وَجْهِه. نَقَلَها عنه سائِرُ أصْحابِه؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ المَذْكُورِ، فإنَّه أصَحُّ ما رُوِىَ فيه، وليس فيه سِوَى المَنْعِ مِن تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ. ولا يُلْبَسُ المَخِيطَ؛ لأنَّه يَحْرُمُ عليه في حياتِه، فكذلك بعدَ المَوْتِ. واخْتُلِفَ عن أحمدَ أيضًا في تَغْطِيَةِ رِجْلَيْه، فرَوَى حَنْبَلٌ عنه: لا تُغَطَّى رِجْلاه. كذلك ذَكَرَه الخِرَقِىُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الخَلَّالُ: لا أعْرِفُ هذا في الأحادِيثِ، ولا رَواه أحَدٌ عن أبِى عبدِ اللهِ غيرُ حَنْبَلٍ، وهو عندى وَهَمٌ (¬1) مِن حَنْبَلٍ، والعَمَلُ على أنَّه يُغَطَّى جَمِيعُ المُحْرِمِ، إلَّا رَأْسَه، ولأنَّ المُحْرِمَ لا يُمْنَعُ مِن تَغْطِيَةِ رِجْلَيْه في حَياتِه، فكذلك بعدَ مَوْتِه. فإن كان المَيِّتُ امرأةَ مُحْرِمَةً، أُلْبِسَتِ القَمِيصَ، وخُمِّرَتْ، كما تَفْعَلُ في حَياتِها، ولم تُقْرَبْ طِيبًا، ولم يُغَطَّ وَجْهُها؛ لأنَّه يَحْرُمُ عليها في حَياتِها، فكذلك بعدَ مَوْتِها. فإن ماتَتِ المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها في عِدَّتِها، احْتَمَلَ أن لا تُطَيَّبَ؛ لأنَّهَا مَمْنُوعَةٌ حالَ حَياتها، واحْتَمَلَ أن تطَيَّبَ؛ لأنَّ التَّطَيُّبَ إنَّما حَرُمَ لكَوْنِه يَدْعُو إلى نِكاحِها، وقد زال بالمَوْتِ. وهو أصَحُّ. ولأصحابِ الشافعىِّ وَجْهان. ¬

(¬1) الوهم: الغلط.

755 - مسألة: (والشهيد لا يغسل، إلا أن يكون جنبا)

وَالشَّهِيدُ لَا يُغَسَّلُ، إِلَّا أنْ يَكُونَ جُنُبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 755 - مسألة: (والشَّهِيدُ لَا يُغَسَّلُ، إلَّا أن يَكُونَ جُنُبًا) إذا مات الشَّهِيدُ في المَعْرَكَةِ لم يُغَسَّلْ رِوايَةً واحِدَةً، إذا لم يَكُنْ جُنُبًا. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ، ولا نَعْلَمُ فيه (¬1) خِلَافًا، إلَّا عن الحسنِ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّب، فإنَّهُما قالا: يُغَسَّلُ، ما مات مَيِّتٌ إلَّا جُنُبًا. ولَنا، ما روَى جابِرٌ، أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ في دِمائِهِم، ولم يُغَسِّلْهم، ولم يُصَلِّ عليهم. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). إذا ثَبَت هذا فيَحْتَمِلُ أنَّ تَرْكَ الغَسْلِ لِما يَتَضمَّنُه مِن إزالَةِ أثَرِ العِبادَةِ المُسْتطابِ شَرْعًا، فإنَّه جاء عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) لم يروه مسلم. انظر تحفة الأشراف 2/ 16. والحديث أخرجه البخارى، في: باب الصلاة على الشهيد، وباب من لم ير غسل الشهداء، بدون لفظ: «ولم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَا يُكْلَمُ (¬1) أحَدٌ في سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِه، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ». رَواه البخارىُّ (¬2). وروَى عبدُ اللهِ بنُ ثَعْلَبَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِم، فَإنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِى اللهِ إلَّا يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ». رَواه ¬

= يصل عليهم» وباب من يقدم في اللحد، باب اللحد والشق في القبر، من كتاب الجنائز، وفى: باب من قتل من المسلمين يوم أحد. . . . إلخ، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 114، 115، 117، 5/ 131. كما أخرجه أبو داود بدون لفظ: «ولم يصل عليهم»، في: باب في الشهيد يغسل، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 174. والترمذى، في: باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد، من أبواب الجنائز. عارضِة الأحوذى 4/ 253. والنسائي، في: باب ترك الصلاة عليهم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 50. وابن ماجة, في: باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 485. والإِمام أحمد نحوه، في: المسند 1/ 247، 3/ 299. (¬1) الكَلْم: الجرح. (¬2) في: باب ما يقع من النجاسات. . . . إلخ، من كتاب الوضوء، وفى: باب من يجرح في سبيل الله عز وجل، من كتاب الجهاد، وفى: باب المسك، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 1/ 68، 4/ 22، 7/ 125. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1495 - 1497. والترمذى، في: باب ما جاء في من يكلم في سبيل الله، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 157. والنسائى، في: باب مواراة الشهيد في دمه، من كتاب الجنائز، وفى: باب من كلم في سبيل الله عز وجل، من كتاب الجهاد. المجتبى 4/ 65، 5/ 24، 25. وابن ماجه، في: باب القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 934. والدارمى، في: باب في فضل من جرح في سبيل الله جرحا، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 205. والإمام مالك، في: باب الشهداء في سبيل الله، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 231, 242, 317, 384, 391, 398, 399 ,400, 512, 520, 531, 537, 5/ 431.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّسَائِىُّ (¬1). ويَحْتَمِلُ أنَّ الغَسْلَ لا يَجِبُ إلَّا مِن أجْلِ الصلاةِ، إلَّا أنَّ المَيِّتَ لا فِعْلَ له، فأُمِرْنا بغَسْلِه ليُصَلَّى عليه، فمَن لم تَجِبِ الصلاةُ عليه لم يَجبْ غَسْلُه، كالحَىِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّ الشُّهَداءَ في المَعْرَكَةِ يَكْثُرُون، فيَشُقَّ غَسْلُهم، فعُفِىَ عنه لذلك. فصل: فإن كان الشَّهِيدُ جُنُبًا غُسِّلَ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال مالكٌ: لا يُغَسَّلُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ في الشُّهَداءِ. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ حَنْظَلَةَ بنَ الرَّاهِبِ قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا شَأْنُ حَنْظَلَةَ؟ فَإِنِّى رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُةُ». قالُوا: إنَّه جامَعَ، ثم سَمِع الهَيْعَةَ (¬2) فخَرَجَ إلى القِتالِ. رَواه ابنُ إسحاقَ، في «المَغَازِى» (¬3). ولأنَّه غُسْلٌ واجِبٌ لغيرِ المَوْتِ، فلم يَسْقُطْ بالمَوْتِ، كغَسْلِ النَّجَاسَةِ. ¬

(¬1) في: باب من كلم في سبيل الله عز وجل، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 25. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 431. (¬2) الهيعة: الصوت تفزع منه وتخافه، من عدو أو غيره. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 3/ 75. وأخرجه البيهقى، في: باب الجنب يستشهد في المعركة، من كتاب الجنائز: السنن الكبرى 4/ 15.

756 - مسألة: (وينزع عنه السلاح والجلود، ويزمل فى ثيابه،

بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ وَالْجُلُودُ، وَيُزَمَّلُ فِى ثِيَاْبِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَدِيثُهم وَرَد في شُهَداءِ أُحُدٍ، وحَدِيثُنا خاصٌّ في حَنْظَلَةَ، وهو مِن شُهَداءِ أُحُدٍ، فيَجِبُ تَقْدِيمُه. وعلى هذا، كلُّ مَن وَجَب عليه الغُسْلُ بسَبَبٍ سابِقٍ على المَوْتِ، كالمرأةِ تَطْهُرُ مِن حَيْضٍ أو نِفاسٍ ثم تُقْتَلُ، فهى كالجُنُبِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن العِلَّةِ. ولو قُتِلَتْ في حَيْضِها أو نِفاسِها لم يَجِبِ الغَسْلُ؛ لأنَّ الطُّهْرَ شَرْطٌ في الغُسْلِ، أو في السَّبَبِ المُوجِبِ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ بدُونِه. فإن أسْلَمَ، ثم اسْتُشْهِدَ قبِلَ الغُسْلِ، فلا غُسْلَ عليه؛ لأنَّه رُوِىَ أنَّ أُصيْرِمَ بَنِى عبدِ الأشْهَلِ (¬1) أَسْلَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثم قُتِل، فلم يؤْمَرْ بغُسْلٍ. 756 - مسألة: (ويُنْزَعُ عنهُ السِّلاحُ والجُلُودُ، ويُزَمَّلُ فِى ثِيابِه، ¬

(¬1) سمه عمرو بن ثابت بن وقش. سيرة ابن هشام 3/ 90.

وَإِنْ أَحَبَّ كَفَّنَهُ [39 ظ] بِغَيْرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أَحَبَّ [كَفَّنَه بغيرِها] (¬1) أمَّا دَفْنُه في ثِيَابِه، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وقد ثَبَت بقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ادْفِنُوهُمْ فِى ثِيَابِهِمْ» (¬2). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أن يُنْزَعَ عنهم الحَدِيدُ والجُلُودُ، وأن يُدْفَنُوا في ثِيابِهم، بدِمائهم. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬3). وليس ذلك بواجِبٍ.، لكنَّه الأوْلَى. ويَجُوزُ للوَلِىِّ أن يَنْزِعَ ثِيابَه ويُكَفِّنَه بغيرِها. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْزِعُ ثِيَابَه؛ لظاهِرِ الخَبَرِ. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ صَفِيَّةَ أرْسَلَتْ إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبَيْنِ، ليُكَفِّنَ فيهما حَمْزَةَ، فكَفَّنَه في أحَدِهما، وكَفَّنَ في الآخَرِ رجلًا آخَرَ. رَواه ¬

(¬1) في م: «فيكفنه في غيرها». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 91، 92. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الشهيد يغسل، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 174. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، من كتاب الجنائز. سننن ابن ماجه 1/ 485. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 247.

757 - مسألة: (ولا يصلى عليه، فى أصح الروايتين)

وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ (¬1)، وقال: هو صالِحُ الإِسْنادِ. وحَدِيثُهم يُحْمَلُ على الإِباحَةِ والاسْتِحْبابِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُنْزَعُ عنه ما لم يَكُنْ مِن عَامَّةِ لِباسِ النَّاسِ، مِن الجُلُودِ والفِراءِ والحَدِيدِ. قال أحمدُ: لا يُتْرَكُ عليه فَرْوٌ، ولا خُفٌّ، ولا جِلْدٌ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا يُنْزَعُ عنه فَرْوٌ ولا خُفٌّ ولا مَحْشُوٌّ، لعُمُوم الخَبَرِ وهو قولُه: «ادْفِنُوهُمْ فِى ثِيَابِهِمْ». وما رَوَيْناه أخَصُّ، فكانَ أولَى. 757 - مسألة: (ولا يُصَلَّى عليه، في أصَحِّ الرِّوايتَيْن) وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وعن أحمدَ، رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يُصَلَّى عليه. اخْتارَهَا الخَلَّالُ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ. إلَّا أنَّ كلامَ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في هذه الرِّوايَةِ يُشِيرُ إلى أنَّ الصلاةَ عليه مُسْتَحَبَّةٌ غيرُ واجِبَةٍ، وقد صَرَّحَ بذلك في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ، فقال: الصلاةُ عليه ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب الدليل على جواز التكفين في ثوب واحد، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 401. وعبد الرزاق، في: باب الكفن، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْوَدُ، وإن لم يُصَلُّوا عليه أجْزَأ (¬1). وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ: يُصَلَّى عليه، وأهلُ الحِجازِ لا يُصَلُّونَ عليه، وما تَضُرَّه الصَّلاةُ، لا بَأْسَ به. فكَأنَّ الِّرَوايتَيْن في اسْتِحْباب الصلاةِ، لا في وُجُوبِها؛ إحْدَاهُما، يُسْتَحَبُّ؛ لِما روَى عُقْبَةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَج. يَوْمًا، فصَلَّى على أهلِ اُّحُدٍ صلاتَه على المَيِّتِ، ثم انْصرَفَ إلى المِنْبَر. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى على قَتْلَى اُّحُدٍ (¬3). ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى ما روَى جابِرٌ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِدَفْنِ شُهَداءِ أُحُدٍ في دِمائِهم، ولم يُغَسِّلْهم، ولم يُصَلِّ عليهم. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وحديثُ عُقْبَةَ مَخْصُوصٌ بِشُهَداءِ أُحُدٍ، فإنَّه صَلَّى عليهم في القُبُورِ بعدَ سِنِين، وهم لا يُصَلُّون على القَبْرِ أصلًا، ونحن لا نُصَلِّى عليه بعدَ شَهْرٍ. وحديثُ ابنِ عباسٍ يَرْوِيه ¬

(¬1) في م: «أجزأه». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة على الشهيد، من كتاب الجنائز، وفى: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب، وفى: باب غزوة أحد، من كتاب المغازى، وفى: باب في الحوض، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى 2/ 114، 115، 4/ 240، 5/ 120، 8/ 151. ومسلم، في: باب إثبات حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1795، 1796. كما أخرجه أبو داود، في: باب الميت يصلى على قبره بعد حين، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 193. والنسائى، في: باب الصلاة على الشهداء، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 49. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 149، 153، 154. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب من زعم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 13. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 90. مع بيان عدم رواية مسلم له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنُ بنُ عُمارَةَ، وهو ضَعِيفٌ، وقد أنْكَرَ عليه شُعْبَةُ رِوايَةَ هذا الحَديثِ. إذا ثَبَت هذا، فيَحْتَمِلُ أن يَكُونَ سُقُوطُ الصلاةِ عليهم لكَوْنِهِم أحْياءً عندَ رَبِّهم، والصلاةُ إنَّما شُرِعَتْ في حَقِّ المَوْتَى، ويَحْتَمِلُ أنَّ ذلك لِغناهم عن الشَّفاعَةِ لهم، فإنَّ الشَّهِيدَ يُشَفَّعُ في سَبْعِين مِن أهْلِه، فلا يَحْتاجُ إلى شَفِيعٍ، والصَّلاةُ إنَّما شُرِعَتْ للشَّفاعَةِ. فصل: والبالِغُ وغيرُه سَواءٌ في تَرْكِ غَسْلِه والصلاةِ عليه، إذا كان شَهِيدًا. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَثْبُتُ حُكْمُ الشَّهادَةِ لغيرِ البالِغِ؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ القِتالِ. ولَنا، أنَّه مُسْلِمٌ قُتِل في مُعْتَرَكِ المُشْرِكِين بقِتَالِهِم، أشْبَهَ البالِغَ، ولأنَّه يُشْبِهُ البالِغَ في غَسْلِه والصلاةِ عليه إذا لم يَكُنْ شَهِيدًا، فيُشْبِهُه في سُقُوطِ ذلك عنه بالشَّهادَةِ، وقد كان في شُهَداءِ أُحُدٍ حارِثَةُ بنُ النُّعْمانِ، وهو صَغِيرٌ، والحديثُ عامٌّ في الكُلِّ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالنِّساءِ.

758 - مسألة: (وإن سقط من دابته، [أو وجد ميتا ولا]

وَإِنْ سَقَطَ منْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُجدَ مَيَتًّا وَلَا أثَرَ بِهِ، أَوْ حُمِلَ فَأَكَلَ، أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ، غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 758 - مسألة: (وإن سَقَط مِن دَابَّتِه، [أو وُجِد مَيِّتًا ولا] (¬1) أثَرَ به، أو حُمِلَ فأَكَلَ، أو طال بَقَاؤُه، غُسِّلَ وصُلِّىَ عليه) إذا سَقَط مِن دَابَّتِه فمات، أو وُجِد مَيِّتًا ولا أثَرَ به، فإنَّه يُغَسَّلُ ويُصَلَّى عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. وتأوَّلَ الحديثَ: «ادْفِنُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ» (¬2). فإذا كان به كَلْمٌ لم يُغَسَّلْ. ¬

(¬1) في م: «ووجد ميتا لا». (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 431 بلفظ «زملوهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ أبى حنيفةَ في الذى يُوجَدُ مَيَتًّا لا أثَرَ به. وقال الشافعىُّ: لا يُغَسَّلُ بحالٍ؛ لأنَّه مات بسَبَبٍ مِن أسْبابِ القِتالِ. ولَنا، أنَّ الأصْلَ وُجُوبُ الغَسْلِ، فلا يَسْقُطُ بالاحْتِمال، ولأنَّ سُقُوطَ الغَسْلِ في مَحَلِّ الوِفاقِ مَقْرُونٌ بمَن كُلِم، فلا يَجُوزُ تَرْكُ اعْتِبارِ ذلك. فصل: وكذلك إن حُمِل، فأكَلَ، أو طال بَقَاؤُه، لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - غَسَّلَ سَعْدَ بنَ مُعاذٍ، وصَلَّى عليه، وكان شَهِيدًا، رَمَاه ابنُ العَرِقَةِ يَوْمَ الخَنْدَقِ بسَهْمٍ، فقَطَعَ أكْحَلَه (¬1)، فحُمِلَ إلى المَسْجِدِ، فلَبِثَ فيه ¬

(¬1) الأكحل: عرق معروف، إذا قطع في اليد لم يرقأ الدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيَّامًا، ثم مات (¬1). وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه متى طالَتْ حَياتُه بعدَ حَمْلِه غُسِّلَ، وصُلَّىَ عليه، وإن مات في المَعْرَكَةِ، أو عَقِبَ حَمْلِه، لم يُغَسَّلْ، ولم يُصَلَّ عليه. وقال مالكٌ: إن أكَلَ، أو شَرِب، أو بَقِىَ يَوْمَيْن أو ثَلاَثةً، غُسِّلَ. وقال أحمدُ في مَوْضِعٍ: إن تَكَلَّمَ، أو أَكَلَ، أو شَرِب، صُلِّىَ عليه. وعن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن المَجْرُوحِ إذا بَقِىَ في المَعْرَكَةِ يَوْمًا إلى اللَّيْلِ ثم مات، فرَأى أن يُصَلَّى عليه. وقال أصحابُ الشافعىِّ: إن مات حالَ الحَرْبِ، لم يُغَسَّلْ، ولم يُصَلَّ عليه، وإلَّا غُسِّلَ وصُلِّىَ عليه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ التَّحْدِيدُ بما ذَكَرْنا مِن طُولِ الفَصْلِ والأكْلِ؛ لأنَّ الأكْلَ لا يَكُونُ إلَّا مِن ذِى حَياةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وطُولُ الفَصْلِ يَدُلُّ على ذلك، وقد ثَبَت اعْتِبارُهما في كَثِيرٍ مِن المَواضِعِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، من كتاب الصلاة، وفى: باب مرجع النبى - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 1/ 125، 5/ 143، 144. ومسلم، في: باب جواز قتال من نقض العهد. . . . إلخ، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1389، 1390. وأبو داود مختصرا، في: باب في العيادة مرارا، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 165. والنسائى مختصرا، في: باب ضرب الخباء في المساجد، من كتاب الجنائز. المجتبى 2/ 35. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 141، 56 مختصرا. (¬2) في: المغنى 3/ 472 , 473.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا الكَلامُ والشربُ، وحالَةُ. الحَرْبِ، فلا يَصِحُّ التَّحْدِيدُ بشئٍ منها؛ لِما رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يَوْمَ أُحُدٍ: «مَنْ يَنْظرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ؟» فقال رَجُلٌ: أنا أنْظُرُ يا رسولَ اللهِ. فنَظَرَ فوَجَدَه جَرِيحًا به رَمَقٌ، فقال له: إنَّ رسولَ الله أِمَرَنِى أن أَنْظُرَ في الأحْياءِ أنت أم في الأمْواتِ؟ قال: فأنا في الأمْواتِ، فأبْلِغْ رسولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - عَنِّى السَّلامَ. وذَكَر الحديثَ، قال: ثم لم أبْرَحْ أن مات (¬1). ورُوِىَ أنَّ أُصَيْرِمَ بَنِى عَبْدِ الأشْهَلِ وُجِد صَرِيعًا يَومَ أُحُدٍ، فقِيلَ له: ما جاء بك؟ قال: أسْلَمْتُ، ثم جِئْتُ. وهما مِن شُهَداءِ أُحُدٍ، دَخَلا في عُمُومِ قولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ». ولم يُغَسَّلَا (¬2)، ولم يُصَلَّ عليهما (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب الترغيب في الجهاد، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 465، 466. (¬2) في الأصل: «يغسلهم». (¬3) في الأصل: «عليهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد تَكَلَّما وماتا بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ. وفى حديث أهلِ اليَمَامَةِ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه طاف في القَتْلَى، فوَجَدَ أبا عَقِيلٍ الأُنيْفِىَّ (¬1)، قال: فسَقَيْتُه ماءً، وبه أرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا، كُلُّها قد خَلَص إلى مَقْتَلٍ، فَخَرَجَ الماءُ مِن جِراحاتِه كلِّها، فلم يُغَسَّلْ. فصل: فإن كان الشَّهِيدُ قد عاد عليه سِلاحُه فقَتَلَه، فهِو كالمَقْتُولِ بأيْدِى العَدُوِّ. وقال القاضى: يُغَسَّلُ، ويُصَلَّى عليه؛ لأنَّه مات بغيرِ أيْدِى المُشْرِكِين، أشْبَهَ مَن أصابَه ذلك في غيرِ المُعْتَرَكِ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬2)، عن رجل مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: أغَرْنَا على حَىٍّ مِن جُهَيْنَةَ (¬3)، فطَلَبَ رجلٌ مِن المُسْلِمِينَ رجلًا منهم، فضَرَبَه فأخْطَأه، فأصاب نَفْسَه بالسَّيْفِ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَخُوكُمْ يا ¬

(¬1) عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة الأنصارى، وفى نسبه: أنيف بن جشم، فلعله نسب إليه. شهد بدرا، واستشهد باليمامة. أسد الغابة 6/ 219. (¬2) في: باب في الرجل يموت بسلاحه، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 20. (¬3) جهينة: قبيلة من قضاعة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ». فابْتَدَرَه الناسُ، فوَجَدُوه قد مات، فلَفَّه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بثِيابِه ودِمَائِه، وصَلَّى عليه، فقالُوا: يارسولَ اللهِ، أشَهِيدٌ هو؟ قال: «نَعَمْ، وَأَنَا لَهُ شَهِيدٌ». وعامِرُ بنُ الأكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يومَ خَيْبَرَ، فذَهَبَ يَسْفُلُ (¬1) له، فرَجَعَ سَيْفُه على نَفْسِه، فكانت فيها نَفْسُه (¬2). فلم يُفْرَدْ عن الشُّهَداء بحُكْمٍ. ولأنَّه شَهِيدُ المَعْركَةِ، أشْبَهَ مالو قَتَلَه الكُفَّارُ، وبهذا فارَقَ ما لَو كان في غيرِ (¬3) المُعْتَرَكِ. فصل: ومَن قُتِل مِن أهلِ العَدْلِ (¬4) في المَعْرَكَةِ، فَحُكْمُه في الغَسْلِ حُكْمُ مَن قُتِل في مَعْرَكَةِ المُشْرِكِين. وقال القاضى: يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن، كالمَقْتُولِ ظُلْمًا. ولَنا، أنَّ عَلِيًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، لم يُغَسِّلْ مَن قُتِلَ معهَ، وعَمَّارٌ أوْصَى أن لا يُغَسَّلَ، وقال: ادْفِنُوني في ثِيابِى، فإنى مُخاصِمٌ. ولأنَّه شَهِيدُ المَعْرَكَةِ، أشْبَهَ قَتِيلَ الكُفَّارِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: يُغَسَّلُون، لأنَّ أسْمَاءَ غَسَّلَتِ ابْنَها عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ. والأوَّلُ أوْلَى، لِما ذَكَرْنا، فأمَّا عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ فإنَّه أُخِذ وصُلِب، فصار كالمَقْتُولِ ظُلْمًا، ولأنه ليس بِشَهِيدِ المَعْرَكَةِ. وأمَّا الباغِى، فيَحْتَمِلُ أن يُغَسَّلَ، ويُصلَّى عليه. اخْتارَه الخِرَقِىُّ، ¬

(¬1) في م: «سيف». ويسفل أى يضربه من أسفله. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب غزوة ذى قرد وغيرها، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1440. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 51، 52. (¬3) سقط. من: م. (¬4) أى الذين يقاتلون البغاة مع الإمام.

759 - مسألة: (ومن قتل مظلوما، فهل يلحق بالشهيد؟ على روايتين)

وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا، فَهَلْ يُلْحَقُ بِالشَّهِيدِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والقاضى. ويَحْتَمِلُ إلْحَاقُه بأهِل العَدْلِ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ غَسْلُ أهْلِ الجَمَلِ وصِفَينَ (¬1) مِن الجَانِبَيْن، ولأنَّهم يَكْثُرُون في المُعْتَرَكِ، فيَشُقُّ عليهم غَسْلُهم، أشْبَهُوا أهلَ العَدْلِ. وهل يُصَلَّى على أهْلِ العَدْلِ؟ فيه احْتِمَالَان؛ أحَدُهما، لا يُصلَّى عليهم؛ لأنَّهم أشْبَهُوا شُهَدَاءَ المُشْرِكِينَ. ويَحْتَمِلُ أن يُصَلَّى عليهم؛ لأنَّ عليًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، صَلَّى عليهم. والمَرْجُومُ يُغَسَّلُ، ويُصَلَّى عليه، وكذلك المَقْتُولُ قِصَاصًا، كسائِرِ المَوْتَى. 759 - مسألة: (ومَن قُتِل مَظْلُومًا، فهل يُلْحَقُ بِالشَّهِيدِ؟ على رِوايَتَيْن) إحْدَاهما، يُغَسَّلُ، ويُصَلَّى عليه. اخْتارَها الخَلَّالُ. وهو قولُ الحسنَ، ومَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّ رُتْبَتَه دونَ رُتْبَةِ الشَّهِيدِ في المُعْتَرَكِ، أشْبَهَ المَبْطُونَ (¬2)، ولأنَّ هذا لا يَكْثُرُ القَتْلُ فيه، فلم يَجُزْ ¬

(¬1) وقعة الجمل نسبة إلى جمل عائشة الذى كانت تركبه في المعركة التى كانت سنة خمس وثلاثين بين أهل الشام وفيهم معاوية وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم وبين على بن أبي طالب. وصفين: موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي، وكانت وقعة صفين بين على ومعاوية في سنة سبع وثلاثين. معجم البلدان 3/ 402. (¬2) المبطون: من اشتكى بطنه عن إسهال أو استسقاء أو غيره فمات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلْحَاقُه بشَهِيدِ المُعْتَرَكِ. والثَّانِيَةُ، حُكْمُه حُكْمُ الشَّهِيدِ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ في الغَسْلِ؛ لأنَّه شَهِيدٌ، أشْبَهَ شَهِيدَ المُعْتَرَكِ. قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من قاتل دون ماله، من كتاب المظالم. صحيح البخارى 3/ 179. ومسلم، في: باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه. . . . إلخ، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 125. وأبو داود، في: باب في قتال اللصوص، من كتاب السنّة. سنن أبي داود 2/ 546. والترمذى، في: باب ما جاء في من قتل دون ماله فهو شهيد، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 188 - 191. والنسائى، في: باب من قتل دون ماله، وباب من قاتل دون دينه، وباب من قاتل دون أهله، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 105، 106، 107. وابن ماجه، في: باب من قتل دون ماله فهو. شهيد، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 861. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 79، 188، 189، 190، 2/ 163، 193، 194، 206، 210، 215، 217، 221، 324.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الشَّهِيدُ بغيرِ قَتْلٍ، كالمَطْعُونِ (¬1)، والمَبْطُونِ، والغَرِقِ، وصاحِبِ الهَدْمِ، والنُّفَساءِ، فإنَّهم يُغَسَّلُون، ويُصَلَّى عليهم. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا أنَّه رُوِىَ عن الحسنِ: لا يُصَلَّى على النُّفَساءِ؛ [لأنَّها شَهِيدَةٌ] (¬2). ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلي على امْرَأةٍ ماتَت في نِفاسِها، فقامَ وَسَطَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وصَلَّى المُسْلِمُون على عُمَرَ، وعليٍّ، رَضىَ اللهُ عنهما، وهما شَهِيدان. وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّهَدَاءُ خَمْسٌ؛ الْمَطْعُونُ، والْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصاحِبُ الْهَدْمِ، ¬

(¬1) أي أصابه الطاعون فمات. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، وباب أين يقوم من المرأة والرجل، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 111، 112. ومسلم، في: باب أين يقوم الامام من الميت للصلاة عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 664. كما أخرجه أبو داود، في: باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 187. والترمذى، في: باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 252. والنسائي، في: باب الصلاة على النفساء، من كتاب الحيض، وفى: باب الصلاة على الجنازة قائما، وباب اجتماع جنائز الرجال والنساء، من كتاب الجنائز. المجتبى 1/ 160، 4/ 57، 58. وابن ماجه، في: باب ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 479. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 14، 19.

760 - مسألة: (وإذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل

وَإذَا وُلِدَ السِّقْطُ لأَكْثَرَ مِنْ أَربَعَةِ أَشْهُرٍ، غُسِّلَ وَصُلِّىَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ» (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثُ حسنٌ صحيحٌ. وكلُّهم، غيرَ الشَّهِيدِ في سَبِيلِ اللهِ، يُغَسَّلُون، ويُصَلَّى عليهم، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك غَسْلَ شَهِيدِ المَعْرَكَةِ، لِما يَتَضَمَّنُه مِن إزالَةِ الدَّمِ المُسْتَطابِ شَرْعًا، أو لمَشَقَّةِ غَسْلِهم، لكَثْرَتِهم، أو لِما فيهم من الجِراحِ، ولا يُوجَدُ ذلك ههُنا. 760 - مسألة: (وإذا وُلِد السِّقْطُ لأكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، غُسِّلَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل التهجير إلى الظهر، وباب الصف الأول، - بدون لفظ: «والشهيد. . . .»، من كتاب الأذان، وفى: باب الشهادة سبع سوى القتل، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 1/ 167، 184، 4/ 29. ومسلم، في: باب بيان الشهداء، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1521. والترمذى، في: باب ما جاء في الشهداء مَن هم، مِن أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 284. والدارمى، في: باب ما يعد من الشهداء، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 207، 208. والإمام مالك، في: باب ما جاء في العتمة والصبح، من كتاب صلاة الجماعة. الموطأ 1/ 131، والإمام أحمد، في: المسند 2/ 310، 325، 522، 3/ 489، 5/ 314، 315، 317. وبدون لفظ: «والشهيد. . . .» في: 3/ 400، 401، 6/ 465، 466.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وِصُلِّى عليه) السِّقْطُ: الوَلَدُ (¬1) تَضَعُه المرأةُ لغيرِ تَمامِ، أو مَيِّتًا. فإن خرَج حَيًّا واسْتَهَلَّ، غُسِّلَ وصُلِّىَ عليه، بغيرِ خِلافٍ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. وإن خَرَج مَيَتًّا، فقال أحمدُ: إذا أتَى له أرْبَعَةُ أشْهُرٍ غُسِّلَ وصُلِّىَ عليه. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وابنِ سِيرِينَ، وإسحاقَ. وصَلَّى ابنُ عُمَرَ على ابْنٍ لابنَتِه (¬2) وُلِدَ مَيَتًّا (¬3). وقال الحسنُ، وإبراهيمُ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ: لا يُصَلَّى عليه حتى يَسْتَهِلَّ. وللشافعيِّ قَوْلانِ كالمَذْهَبَيْنِ، لِما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَاْ يُورَثُ، حَتَّى يَسْتَهِلَّ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬4). ولأنَّه لم يَثْبُتْ له حُكْمُ الحَياةِ، ولا يَرِث ولا يُورَثُ، فلا يُصَلَّى عليه، كمَن دُونَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ. ولَنا، ما روَى المُغِيرَةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ». رَواه أبو داودَ، ¬

(¬1) بعده في م زيادة: «الذى». (¬2) في النسخ: «لأبيه». والمثبت من المغنى. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في السقط من قال يصلى عليه، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبي شيبة 3/ 317. وعبد الرزاق، في: باب الصلاة على الصغير والسقط وميراثه، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 531. وقد أخرجه كلاهما بمعناه. (¬4) في: باب ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 249. كما أخرجه الدارمى، في: باب ميراث الصبى، من كتاب الفرائض. سنن الدارمى 2/ 393.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتِّرْمِذِىُّ (¬1). وفى رِوايَةِ التِّرْمِذِىِّ: «وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ». وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وذَكَرَه أحمدُ، واحْتَجَّ به، وبحديثِ أبي بكِرٍ الصِّدِّيقِ، أنَّه قال: ما أحَدٌ أحَقُّ أن يُصَلَّى عليه مِن الطِّفْلِ (¬2). ولأنَّه نَسَمَةٌ نُفِخ فيها الرُّوحُ، فيُصَلَّى عليه، كالمُسْتَهِلِّ، فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أخْبَرَ في حديثِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ، أنَّه يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ لأرْبَعَةِ أشْهُرٍ (¬3). وحَدِيثُهم، قال التِّرْمِذِيُّ: قد اضْطَرَبَ النَّاسُ فيه، فرَواه بعضُهم مَرْفوِعًا. قال التِّرْمِذِىُّ: كأنَّ (¬4) هذا أصَحُّ مِن المَرْفُوعِ. وإنَّما لم يَرِثْ؛ لأنَّه لا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب المشى أمام الجنازة. من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 183. والترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة على الأطفال، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 248. كما أخرجه بلفظ الترمذى النسائي، في: باب مكان الراكب من الجنازة، وباب مكان الماضى من الجنازة، وباب الصلاة على الأطفال، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 45، 46، 47. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة على الأطفال، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 483. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 247، 252. وأخرجه بلفظ أبي داود الإمام أحمد، في: المسند 4/ 249. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب السقط يغسل ويكفن ويصلى عليه إن استهل أو عرفت له حياة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 9. وعبد الرزاق بلفظ آخر، في: باب الصلاة على الصغير والسقط وميراثه، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 532. (¬3) الحديث أخرجه البخارى، في: باب ذكر الملائكة، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، من كتاب الأنبياء، وفى: باب حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، من كتاب القدر، وفى: باب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 4/ 135، 161، 8/ 152، 9/ 165. ومسلم، في: باب كيفية خلق الآدمى في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2036. وأبو داود، في: باب في القدر، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 530. والترمذى، في: باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، من أبواب القدر. عارضة الأحوذى 8/ 301، وابن ماجه، في: باب في القدر، عن المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 29. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 374، 375. (¬4) في النسخ: «كان». والمثبت من عارضة الأحوذى 4/ 249.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْلَمُ حَياتُه حالَ مَوْتِ مُوَرِّثِه، وذلك مِن شَرْطِ الِإرْثِ، والصلاةُ مِن شَرْطِها أن تُصادِفَ مَن كانت فيه حَياةٌ، وقد عُلِم ذلك بما ذَكَرْنا مِن الحَديثِ، ولأن الصلاةَ دُعاءٌ له ولوالِدَيْه، فلم يُحْتَجْ فيها إلى الاحْتِياطِ واليَقِينِ، بخِلافِ المِيراثِ. فأمَّا مَن لم يَبْلُغْ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فلا يُغَسَّلُ، ولا يُصلَّى عليه، ويُلَفُّ في خِرْقَةٍ، ويُدْفَنُ؛ لعَدَمِ وُجُودِ الحَياةِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا عن ابنِ سِيرِينَ، فإنَّه قال: يُصَلَّي عليه إذا عُلِم أنَّه نُفِخَ فيه الرُّوحُ (¬1). وحديثُ الصّادِقِ المَصْدُوقِ يَدُلّ على أنَّه لا يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ إلَّا بعدَ الأرْبَعَةِ أشْهُرِ، وقبلَ ذلك لا يَكُونُ نَسَمَةً، فلا يُصَلَّى عليه، كسائرِ الجَماداتِ، ذَكَرَه شيخُنا (¬2). وحَكَى ابنُ أبي موسى، أنَّه يُصَلَّى على السِّقْطِ إذا اسْتَبَانَ فيه بعضُ خَلْقِ الِإنْسانِ. والأوَّلُ أوْلَى. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُسَمَّى السِّقْطُ؛ لأنَّه يُرْوَى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في السقط من قال يصلى عليه، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 317. وعبد الرزاق، في: باب الصلاة على الصغير والسقط وميراثه، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 531. (¬2) في: المغنى 3/ 460.

761 - مسألة: (ومن تعذر غسله يمم)

وَمَنْ تَعَذَّرَ غَسْلُهُ يُمِّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «سَمُّوا أسْقَاطَكُمْ، فَإنَّهُمْ أسْلَافُكُمْ» (¬1). رَواه ابنُ السَّمّاكِ (¬2) بإسْنادِهِ. قِيل: إنَّهم يُسَمَّوْن ليُدْعَوْا يَوْمَ القِيامَةِ بأسْمائِهِم. فإذا لم يُعْلَمْ أذَكَرٌ هو أم أُنْثَى، سُمِّىَ اسْمًا يَصْلُحُ لهما جَمِيعًا؛ كسَلَمَةَ، وقَتادَةَ، وهِبَةِ اللهِ، وما أشْبَهَه. 761 - مسألة: (ومَن تَعَذَّرَ غَسْلُه يُمِّمَ) مَن تَعَذَّرَ غَسْلُه لعَدَمِ الماءِ، أو للخَوْفِ عليه مِن التَّقَطُّعِ بالغَسْلِ، كالمَجُدُورِ، والغَرِيقِ، ¬

(¬1) عزاه في الكنز 16/ 420، 423، 424 لابن عساكر.، وفيه «أفراطكم» بدل «أسلافكم». (¬2) عثمان بن أحمد بن عبد الله البغدادى، ابن السماك، أبو عمرو، مسند العراق، كتب المصنفات الطوال بخطه، وكان من الثقات. توفى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 444، 445.

762 - مسألة: (وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسنا)

وَعَلَى الْغَاسِلِ سَتْرُ مَا رَآهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُحْتَرِقِ يُمِّمَ إذا أمْكَنَ، كالحَىِّ العادِمِ للماءِ، أو الذى يُؤْذِيه الماءُ، وإن أمْكَنَ غَسْلُ بعضِه غُسِّلَ ويُمِّمَ للباقِى، كالحَىِّ. ويَحْتَمِلُ ألَّا يُيَمَّمَ، ويُصَلَّى عليه على حَسَبِ حالِه، ذَكَرَه ابنُ عَقِيل، لأنَّ المَقْصُودَ بغَسْلِ المَيِّتِ التَّنْظِيفُ، ولا يَحْصُلُ ذلك بالتَيّمُّمِ. والأوَّلُ أصَحُّ إن أمْكَنَ غَسْلُه بأن يُصَبَّ عليه الماءُ صَبًّا، ولا يُمَسَّ، غُسِّلَ كذلك. واللهُ أعلمُ. 762 - مسألة: (وعلى الغاسِلِ سَتْرُ ما رَآه إن لم يَكُنْ حَسَنًا) يَنْبَغِى للغاسِلِ، ومَن حَضَر، إذا رَأى مِن المَيِّتِ شيئًا مِمَّا يُحِبُّ المَيِّتُ سَتْرَه أن يَسْتُرَه، ولا يُحَدِّثَ به، لِما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، ثُمَّ لَمْ يُفْشِ مَا عَلَيْهِ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». رواه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1). وقال: «مَنْ سَتَر عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، سَتَرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (¬2). فإن رَأى حَسَنًا مثلَ أماراتِ الخَيْرِ، مِن وَضَاءَةِ الوَجْهِ، والتَّبَسَّمِ، ونَحْوِ ذلك، اسْتُحِبَّ إظْهارُه، ليُكْثُرَ التَّرَحُّمُ عليه، والتَّشَبُّهُ بجَمِيلِ سِيرَتِه. قال ابنُ عَقِيلٍ: إلَّا أن يَكُونَ مَغْمُوصًا عليه في الدِّينِ والسُّنَّةِ، مَشْهُورًا ببِدْعَةٍ، فلا بَأسَ بإظْهَارِ الشَّرِّ عليه؛ لتُحْذَرَ طَرِيقَتُه. وعلى هذا يَنْبَغِى أن يَكْتُمَ ما يَرَى عليه مِن أماراتِ الخَيْرِ، لئَلَّا يُغْتَرَّ به، فَيُقْتَدَى. به في بِدْعَتِه. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في غسل الميت، من كتب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 469، 470.كما أخرجه الإمام. أحمد، في: المسند 6/ 119، 120، 122. (¬2) قريب منه ما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 274. وانظر ما أخرجه أبن ماجه، في: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، من المقدمة، وفى: باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 1/ 82، 2/ 850.

763 - مسألة: (ويجب كفن الميت فى ماله، مقدما على الدين وغيره)

فَصْلٌ فِىِ الْكَفَنِ: وَيَجِبُ كَفَنُ الْمَيِّتِ فِى مَالِهِ، مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنَ وَغيْرِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في الكَفَنِ 763 - مسألة: (ويَجِبُ كَفَنُ المَيِّتِ في مالِه، مقَدَّمًا على الدَّيْنِ وغيرِه) مِن الوَصِيَّةِ والمِيراثِ، لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ به، ولأنَّ سُتْرَتَه واجِبَةٌ في الحَياةِ، فكذلك بعدَ المَوْتِ. ويَكُونُ ذلك مِن رَأْسِ مالِه؛ لأنَّ حَمْزَةَ ومُصْعَبًا، رَضِىَ اللهُ عَنهما، لم يُوجَدْ لكلِّ وَاحِدٍ منهما إلَّا ثَوْبٌ فكُفِّنَ فيه، ولأنَّ لِباسَ المُفْلِسِ مُقَدَّمٌ على قَضاءِ دَيْنِه، فكذلك كَفَنُ المَيِّتِ، ولا يَنْتَقِلُ إلى الوَرَثَةِ مِن مالِ المَيِّتِ إلَّا ما فَضلَ عن حاجَتِه الأصْلِيَّةِ. وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وفيه قَوْلانِ شاذَّان؛ أحَدُهما، قولُ خِلاسِ بنِ عَمْرٍو (¬1): إنَّ الكَفَنَ مِن الثُّلُثِ. والآخَرُ، قال طاوسٌ: إن كان المالُ قَلِيلًا فمِن الثُّلُثِ (¬2). والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا. وكذلك مَؤُونَةُ دَفْنِه وتَجْهِيزِه، وما لا بُدَّ للمَيِّتِ منه، قِياسًا على الكَفَنِ. فأمَّا الحَنُوطُ والطِّيبُ فليس بِواجِبٍ، ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّه لا يَجِبُ في الحَياةِ، ¬

(¬1) هو خلاس بن عمر والهجرى البصرى، تابعى ثقة، توفى قبيل المائة. تهذيب التهذيب 3/ 176 - 178. (¬2) أخرجهما عبد الرزاق، في: باب الكفن من جميع المال، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 436.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكذلك بعدَ المَوْتِ. وقال القاضى: يَحْتَمِلُ أنَّه وَاجِبٌ؛ لأنَّه مما جَرَتِ العادَةُ به. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ العادَةَ جَرَت بتَحْسِينِ الكَفَنِ، وليس بواجبٍ. ولأصحابِ الشافعىِّ وَجْهان كهَذَيْن.

764 - مسألة: (فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته، إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته)

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، إِلَّا الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ كَفَنُ امْرَأَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 764 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ لهْ مالٌ، فعلَى مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُه، إلَّا الزَّوْجَ لا يَلْزَمُه كَفَنُ امرأتِه) إذا لم يَكُنْ للمَيِّتِ مالٌ، فكَفَنُه على مَن تَلْزَمُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَؤُونَتُه في الحَياةِ، وكذلك دَفْنُه، وما لا بُدَّ للمَيِّتِ منه؛ لأنَّ ذلك يَلْزَمُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالَ الحياةِ، فكذلك بعدَ المَوْتِ، إلَّا الزَّوْجَ لا يَلْزَمُه كَفَنُ امرأتِه. وهذا قولُ الشَّعْبِىِّ، وأبي حنيفةَ، وبعضِ أصحابِ الشافعىِّ. وقال بَعْضهم: يَجِبُ على الزَّوْجِ. واخْتُلِفَ فيه عن مالكٍ. واحْتَجُّوا بأنَّ كُسْوَتَها واجِبَةٌ عليه في الحَياةِ، فوَجَبَ عليه كَفَنُها، كسَيِّدِ العَبْدِ. ولَنا، أنَّ النَّفَقَةَ والكُسْوَةَ وَجَبَتْ في النكاحِ للتَّمْكِينِ مِن الاسْتِمْتاعِ، ولهذا تَسْقُطُ بالنُّشُوزِ والبَيْنُونَةِ، وقِد انْقَطَعَ ذلك بالمَوْتِ، فأشْبَهَ ما لو انْقَطَعَ بالفُرْقَةِ في الحَياةِ، ولأنَّها بانتْ منه في المَوْتِ، فأشْبَهَتِ الأجْنَبِيَّةَ، وفارَقَتِ المَمْلُوكَ، فإنَّ نَفَقَتَه تَجِبُ بحَقِّ المِلْكِ لا بالانْتِفاعِ، ولهذا تَجِبُ نَفَقَةُ الآبِقِ وفِطْرَتُه، والوَلَدُ تَجِبُ نَفَقَتُه بالقَرابَةِ، ولا تَبْطُلُ بالمَوْتِ؛ بدَلِيل أنَّ السَّيِّدَ والوالِدَ أحَقُّ بدَفْنِه وتَوَلِّيه. إذا تَقَرَّرَ هذا فإن لم يَكُنْ لها مالٌ، فعلى مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُها مِن الأقارِبِ، فإن لم يَكُنْ ففى بَيْتِ المالِ، كمَن لا زَوْجَ لها. فصل: ويُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الكَفَنِ؛ لِما روَى مسلمٌ (¬1)، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) في: باب في تحسين كفن الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 651.كما أخرجه أبو داود، في: باب في الكفن، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 176. والترمذى، في: باب منه، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 217. والنسائى، في: باب الأمر بتحسين الكفن، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 28. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، من كتاب الجنائز 1/ 473. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 295، 329، 349، 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر رَجُلًا مِن أصحابِه، قُبِض فكُفِّنَ في كَفَن غيرِ طائِلٍ، فقال: «إذَا كَفَّنَ أحَدُكُمْ أخَاهُ، فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ». فإن تَشَاحَّ الوَرَثَةُ، جُعِل بحَسَبِ حالِ الحياةِ، إن كان مُوسِرًا، كان حَسَنًا رَفِيعًا، على نحْوِ ما كان يَلْبَسُ في حال الحياةِ، وإن كان دُونَ ذلك، فعلى حَسَبِ حالِه، وليس لثَمَنِه حَدٌّ، لأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ البُلْدانِ والأوْقاتِ، ولأنَّ التَّحْدِيدَ إنَّما يَكُونُ بنَصٍّ أو إجْماعٍ، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما. وقال الخِرَقِيُّ: إذا تَشاحَّ الوَرَثَةُ في الكَفَنِ، جُعِل بثَلاثِينَ، وإن كان مُوسِرًا فبخَمْسِين. وهذا مَحْمُولٌ على وَجْهِ التَّقْرِيبِ، ولعَلَّ الجَيِّدَ في زَمَنِه والمُتَوَسِّطَ كان يَحْصُلُ بهذا القَدْرِ. وقد رُوِى عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه أوْصَى أن يُكَفَّنَ بنَحْوٍ مِن ثَلاثِين درْهَمًا (¬1). فصل: والمُسْتَحَبُّ أن يُكَفَّنَ في جَدِيدٍ، إلَّا أن يُوصِىَ المَيِّتُ بغيرِه، فتُمْتَثَلَ وَصِيَّتُه،؛ رُوِىَ عن الصِّدِّيقِ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه قال: كَفِّنُونِى في ثَوْبَىَّ هَذَيْن، فإنَّ الحَىَّ أحْوَجُ إلى الجَدِيدِ مِن المَيِّتِ، وإنَّما هما للمُهْلَةِ (¬2) والتُّرابِ. رَواه البخارىُّ بمَعْناه (¬3). وذَهَب ابنُ عَقِيل إلى أنَّ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ذكر الكفن والفساطيط، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 433. (¬2) في م: «اللهلة» والمهلة بتثليث الميم: هى الصديد والقيح الذى يذوب فيسيل من الجسد. (¬3) في: باب موت يوم الاثنين، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 127. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في كفن الميت، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 224.

765 - مسألة: (ويستحب تكفين الرجل فى ثلاث لفائف بيض، يبسط بعضها فوق بعض بعد تجميرها)

وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ الرَّجُلِ فِى ثَلَاثِ لَفَائِفَ بيضٍ، يُبْسَطُ بَعْضُهَا فوْقَ بَعْضٍ بَعْدَ تجْمِيرِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّكْفِينَ في الخَلِيعِ (¬1) أوْلَى لهذا الخَبَرِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لدَلالَةِ قولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وفِعْلَ أصحابِه به 765 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ الرجلِ في ثَلاثِ لَفائِف بِيضٍ، يُبْسَطُ بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ بعدَ تَجْمِيرِها) الأفْضَلُ عندَ إمامِنا، رَحِمَه اللهُ، أن يُكَفَّنَ الرجلُ في ثَلاثِ لَفائِفَ بِيضٍ، ليس فيها قَمِيصٌ ولا عِمامَةٌ، لا يَزِيدُ عليها ولا يَنْقُصُ منها. قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): والعَمَلُ عليها عندَ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ مِن أصحاب النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. ويُسْتَحَبُّ كَوْنُ الكَفَنِ أبْيَضَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثَلاثَةِ أثْوابٍ بِيضٍ (¬3). ولقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، ¬

(¬1) أى الثوب المخلوع بعد لبسه. (¬2) في: عارضة الأحوذى 4/ 217، 218. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الثياب البيض للكفن، وباب الكفن ولا عمامة، وباب موت يوم الاثنين، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 95، 97، 127. ومسلم، في: باب كفن الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 649. وأبو داود، في: باب في الكفن، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 177. والترمذى، في: باب ما جاء في كفن النبى - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 217. والنسائي، في: باب كفن النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 29، 30. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كفن النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 472.والإمام مالك، في: باب ما جاء في كفن الميت، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 332، 224 والإمام أحمد، في: المسند 6/ 118، 132. كلهم من حديث عائشة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإنَّهُ أطْهَرُ وَأطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ». رَواه النَّسَائِىُّ (¬1). وحُكِىَ عن أبي حنيفةَ، أنَّ المُسْتَحَبَّ أن يُكَفَّنَ (¬2) في إزارٍ ورِداءٍ وقَمِيصٍ، لِما روَى عبدٌ اللهِ بنُ المُغَفَّلِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كُفنَ في قَمِيصه (¬3). ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ألْبَسَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ قَمِيصَه. رَواه النَّسَائِىُّ (¬4). ولَنا، قولُ عائشةَ: كُفِّنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في ثَلاَثةِ أثْوابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ (¬5)، ليس ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 274. (¬2) في م: «يكون». (¬3) أورده الهيثمى في مجمع الزرائد 3/ 24. وعزاه للطبراني في الكبير. (¬4) في: باب القميص في الكفن، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 30، 31.كما أخرجه البخارى، في: باب الكفن في القميص الذى يُكَفُّ. . . . إلخ، وباب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة، من كتاب الجنائز، وفى: باب الكسوة للأسارى، من كتاب الجهاد، وفى: تفسير سورة التوبة، باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. . . .}، وباب {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. . . .}، منَ كتاب التفسير، وفى: باب القميص. . . .، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 2/ 96، 116، 4/ 73، 6/ 85، 86، 7/ 185. ومسلم، في: كتاب صفات المنافقين. صحيح مسلم 4/ 2141. والترمذى، في: باب تفسير سورة التوبة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 244، 245. وابن ماجه، في: باب في الصلاة على أهل القبلة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 487، 488. (¬5) سحول، مثل رسول: بلدة باليمن، يجلب منها الثياب، وينسب إليها على لفظها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها قَمِيصٌ ولا عِمامَةٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1) وهو أصَحُّ حديثٍ يُرْوَى في كَفَنِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعائشةُ أقْرَبُ إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وأعْرَفُ بأحْوالِه، ولهذا لمَّا ذُكِر لها قولُ النَّاسِ: إنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في بُرْدٍ، قالت: قد أُتِىَ بالبُرْدِ، ولكنَّهم لم يُكَفِّنُوه فيه، فحَفِظَتْ ما أغْفَلَه غيرُها. وقالَتْ أيضًا: أُدْرِجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كانت لعَبْدِ اللهِ بنِ أبي بكرٍ، ثم نُزِعَتْ عنه، فرَفَعَ عبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ الحُلَّةَ، وقال: أُكَفَّنُ فيها. ثم قال: لم يُكَفَّنْ فيها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأُكَفَّنُ فيها. فتَصَدَّقَ بها. رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّ حالَ الِإحْرَامِ أكْمَلُ أحْوالِ الحَىِّ، وهو لا يَلْبَسُ المَخِيطَ، فكذلك حالَةُ المَوْتِ. وأمَّا إلْباسُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ قَمِيصَه، فإنَّما فَعَل ذلكَ تَكْرِمَةً لابْنِه عبدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ؛ لأنَّه كان سأله ذلك، ليَتَبَرَّكَ به أبوه، ويَنْدَفِعَ عنه العَذابُ ببَرَكَةِ قَمِيصِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقِيل: إنَّما فَعَل ذلك جَزاءً لعبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ عن كُسْوَتِه العباسَ قَمِيصَه يَوْمَ بَدْرٍ. فصل: ويُسْتَحَبُّ تَجْمِيرُ الأكْفانِ، وهوْ تَبْخِيرُها (¬3) بالعُودِ، فيُجْعَلُ العُودُ على النَّارِ في مِجْمَرٍ، ثم يُبَخَّرُ به الكَفَنُ حتى تَعْبَقَ رائِحَتُه، ويَكُونُ ذلك بعدَ أن يُرَشَّ عليه ماءُ الوَرْدِ؛ لتَعْلَقَ به الرَّائِحَةُ. وقد رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذَا أجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأجْمِرُوهُ ثَلَالًا». رَواه الِإمامُ ¬

(¬1) انظر تخريج حديث: «كفن في ثلاثة أثواب بيض» المتقدم قبل قليل. (¬2) في: باب في كفن الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 650، 651. (¬3) في م: «تجميرها».

766 - مسألة:. (ثم يوضع عليها مستلقيا، ويجعل الحنوط

ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا مُسْتَلْقِيًا، وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا، وَيُجْعَلُ مِنْهُ فِى قُطْنٍ يُجْعَلُ مِنْهُ بَيْنَ ألْيَتَيْهِ، وَيُشَدُّ فَوْقَهُ خِرْقَةٌ مَشْقُوقَة الطَّرَفِ كَالتُّبَّانِ، تَجْمَعُ أَلْيتَيْهِ وَمثَانَتَهُ، ويجْعَلُ الْبَاقِى عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ، وَمَوَاضِعِ سُجُودِهِ، وَإنْ طُيِّبَ جَمِيعُ بَدَنِه كَانَ حَسَنًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ (¬1). وأوْصَى أبو سعيدٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، أن تُجَمَّرَ أكْفانُهم بالعُودِ. ولأنَّ هذا عادَةُ الحَيِّ عندَ غُسْلِه، وتَجْدِيدِ ثِيابِه، أن تُجَمَّرَ بالطِّيبِ والعُودِ، فكذلك المَيِّتُ. 766 - مسألة:. (ثم يُوضَعُ عليها مُسْتَلْقِيًا، ويُجْعَلُ الحَنُوطُ (¬2) فيما بينَها، ويُجْعَلُ منه في قُطْن يُجْعَلُ بَيْنَ ألْيَتَيْه، ويُشَدُّ فوقَه خِرْقَة مَشْقُوقَةُ الطَّرَفِ كالتُّبّانِ، تَجْمَعُ ألْيَتَيْه ومَثَانَتَه، ثم يُجْعَلُ الباقِى على مَنافِذِ وَجْهِه، ومَواضِعِ سُجُودِه، وإن طَيَّبَهَ كلَّه كان حَسَنًا) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ المُسْتَحَبَّ أن يُوخَذَ أوْسَعُ اللَّفائِفِ وأحْسَنُها، فتُبْسطَ أوَّلًا، ¬

(¬1) في: المسند 3/ 331. (¬2) الحنوط: طيب يخلط للميت خاصة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لتَظْهَرَ للنَّاسِ؛ لأنَّ هذا عادَةُ الحَىِّ، يَجْعَلُ الظَّاهِرَ أفْخَرَ ثِيابِه. ويَجْعَلُ عليها حَنُوطًا، ثم يَبْسُطُ الثانيةَ التى تَلِيها في الحُسْنِ والسَّعَةِ عليها، ويَجْعَلُ فوقَها حَنُوطًا وكافُورًا، ثم يَبْسُطُ فوقَها الثَّالِثَةَ، ويَجْعَلُ فوقَها حَنُوطًا وكافُورًا، ولا يَجْعَلُ على وَجْهِ العُلْيَا، ولا على النَّعْشِ شيئًا مِن الحَنُوطِ؛ لأنَّ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللهُ عنةْ، قال: لا تَجْعَلُوا على أكْفانِى حَنُوطًا (¬1). ثم يُحْمَلُ المَيِّتُ مَسْتُورًا بثَوْبٍ فيُوضعُ عليها مُسْتَلْقِيًا؛ لأنَّه أمْكَنُ لإدْراجِه فيها، ويُجْعَلُ مِن الحَنُوطِ والكافورِ في قُطْنٍ، ويُجْعَلُ منه بينَ ألْيَتَيْه برِفْقٍ، ويُكْثِرُ ذلك ليَرُدَّ شيئًا إن خَرَج منه حينَ تَحْرِيكِه، ويُشَدُّ فوقَه خِرْقَةٌ مَشْقُوقَةُ الطَّرَفِ كالتُّبّانِ، وهو السَّراوِيلُ بلا أكْمامٍ، ليَجْمَعَ ألْيَتَيْه ومَثانَتَه، ويُجْعَلُ بَاقِى الطِّيبِ على مَنافِذِ وَجْهِه، ¬

(¬1) أخرجه الامام مالك، في: باب النهى عن أن تتبع الجنازة بنار، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 226.

767 - مسألة: (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر)

ثُمَّ يُرَدُّ طَرَفُ اللِّفَافَةِ الْعُلْيَا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيُرَدُّ طَرَفُهَا الْآخَرُ فَوْقَهُ، ثُمَّ يُفْعَلُ [40 و] بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَذَلِكَ، وَيُجْعَلُ مَا عِنْدَ رَأْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ في فيه، ومَنْخَرِه، وعَيْنَيْه، لئَلَّا يَحْدُثَ منهنَّ حادِثٌ، وكذلك في الجِراحِ النَّافِذَةِ، ويُتْركُ منه على مَواضِعِ السُّجُودِ تَشْرِيفًا لهذه الأعْضاءِ المُخْتَصَّةِ بالسُّجُودِ، ويُطَيَّبُ رَأْسُه ولِحْيَتُه؛ لأنَّ الحَىَّ يَتَطَيَّبُ هكذا، وإن طَيَبّهَ كلَّه كان حَسَنًا. 767 - مسألة: (ثم يُرَدُّ طَرَفُ اللِّفَافَةِ العُلْيا على شِقه الأيْمَنِ، ثم يُرَدُّ طَرَفُها الآخَرُ على شِقِّه الأيسَرِ) وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك، لئَلَّا يَسْقُطَ عنه الطَّرَفُ الأيمَنُ إذا وُضِع على يَمِينِه في القَبْرِ (ثم يُفْعَلُ بالثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ كذلك، ويُجْعَلُ ما عندَ رَأْسِهِ أكْثَرَ مِمّا عندَ رِجْلَيْه) لأنَّه أحَقُّ بالسَّتْرِ مِن رِجْلَيْه، فالاحْتِيَاطُ لسَتْرِه بتَكْثِيرِ ما عندَه أوْلَى، ثم يَجْمَعُ ما فَضَل [عندَ رَأْسِه ورِجْلَيْه] (¬1)، فيَرُدُّه عندَ رَاسِه ورِجْلَيْه، وإن خاف انْتِشَارَها عَقَدَها، فإذا وَضَعَه في قَبْرِه حَلَّها؛ لأنَّ عَقْدَ هذا إنَّما كان للخَوْفِ مِن ¬

(¬1) في النسخ: «جمع وطرف العمامة». والمثبت من المغنى.

وَتُحَلُّ الْعُقَدُ فِى الْقَبْرِ، وَلَا يُخْرَقُ الْكَفَنُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ انْتِشارِها. وقد أُمِن بِدَفْنِه. وقد رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لمَّا أدْخَلَ نُعَيْمَ ابنَ مسعودٍ الأشْجَعِىَّ القَبْرَ، نَزَع الأخِلَّةَ بفِيه (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ، وسَمُرَةَ نَحْوُه (ولا يُخْرَقُ الكَفَنُ) لأنَّه إفْسَادٌ له. فصل: وتُكْرَهُ الزِّيادَةُ في الكَفَنِ على ثَلاثَةِ أثْوابٍ، لِما فيه مِن إضاعَةِ المالِ، وقد نَهَى عنه عليه السَّلامُ. ويَحْرُمُ تَرْكُ شئ مع المَيِّتِ مِن مالِه لغيرِ حاجَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا، إلَّا مثلَ ما رُوِى عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه تُرِكَ تَحْتَه ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب عقد الأكفان عند خوف الانتشار وحلها إذا أدخلوه القبر، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 407.

768 - مسألة: (وإن كفن فى قميص ومئزر ولفافة، جاز)

وَإنْ كُفِّنَ فِى قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطِيفَةٌ في قَبْرِه (¬1). فإن تُرِكَ نَحوُه فلا بَأْسَ. 768 - مسألة: (وإن كُفّنَ في قَمِيصٍ ومِئْزَرٍ ولِفافَةٍ، جاز) التَّكْفِينُ في القَمِيصِ واللِّفافَةِ والمِئْزَرِ جائِرٌ، إلَّا أنَّ الأوَّلَ أفْضَلُ، وهذا جائِزٌ لا كَرَاهَةَ فيه، فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ألْبَسَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَى قَمِيصَه لمَّا مات. رَواه البخاريُّ (¬2). فيُؤْزَرُ بالمِئْزَرِ، ويُلْبَسُ القَمِيصَ، ثم يُلَفُّ باللِّفافَةِ بعدَ ذلك. وقال أحمدُ: إن جَعَلُوه قَمِيصًا، فأحبُّ إلىَّ أن يَكُونَ مثلَ قَمِيصٍ له كُمَّان وتَخارِيصان (¬3) وأزْرارٌ، ولا يُزَرُّ عليه القَمِيصُ. فصل: قال أبو داودَ: قُلْتُ لأحمدَ: يَتَّخِذُ الرجلُ كَفَنه يُصَلِّى فيه أيَّامًا. أو قُلْتُ: يُحْرِمُ فيه، ثم يَغْسِلُه ويَضَعُه لكَفَنِه؟ فَرَآه حَسَنًا. قال: يُعْجِبُنِى أن يَكُونَ جَدِيدًا أو غَسِيلًا. وكَرِه أن يَلْبَسَه حتى يُدَنِّسَه. فصل: ويَجُوزُ التَّكْفِينُ في ثَوْبَيْنِ، لقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المُحْرِمِ الذى ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب جعل القطيفة في القبر، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 665، 666. والترمذى، في: باب ما جاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 268. والنسائى، في: باب وضع الثوب في اللحد، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 67. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 228، 355. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 122. (¬3) في الأصل: «وتخاريسان». والتخريص لغة في الدِّخريص. وتقدم معناه في صفحة 57.

769 - مسألة: (وتكفن المرأة فى خمسة أثواب، إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين)

وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِى خَمْسَةِ اثوَابٍ، إِزَارٍ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَلِفَافَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَصَتْه دَابَّتُه: «وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ». رَواه البخارىُّ (¬1). 769 - مسألة: (وتُكَفَّنُ المرأةُ في خَمْسَةِ أثوابٍ، إزارٍ، وخِمارٍ، وقَمِيصٍ، ولِفافَتَيْن) قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ يَرَى أن تُكَفَّنَ المرأةُ في خَمْسَةِ أثْوابٍ. منهم الشَّعْبِىُّ، ومحمدُ بنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِىُّ، والأوْزَاعيُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وكان عَطاءٌ يَقُولُ: تُكَفَّنُ في ثَلاَثةِ أثْوابٍ، دِرْعٍ، وثَوْبٍ تحتَ الدِّرْعِ تُلَفُّ به، وثَوْبٍ فوقَه تُلَفُّ فيه (¬2). وقال سُلَيْمانُ بنُ موسى (¬3): ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 27. (¬2) أخرجه عبد الرزاق بمعناه، في: باب كفن المرأة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 433. (¬3) في النسخ: «موسى بن سليمان» وهو خطأ. وأثبتناه على الصواب كما في مصنف عبد الرزاق. وانظر المغنى 3/ 391، وتقدم التعريف به في 4/ 406.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِرْعٌ وخِمارٌ ولِفافَةٌ (¬1). والصَّحِيحُ الأوَّلُ. وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك، لأنَّ المرأةَ تَزِيدُ في حالِ حَيَاتِها على الرجلِ في السَّتْرِ لزيادَةِ عَوْرَتِها على عَوْرَتِه، فكذلك بعدَ المَوْتِ، ولمَّا كانت تَلْبَسُ المَخِيطَ في إحْرامِها. وهو أكْمَلُ أحْوالِ الحِىِّ، اسْتُحِبَّ إلْباسُها إيَّاهُ بعدَ مَوْتِها، بخِلافِ الرجلِ، وقد روَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه عن لَيْلَى بنتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةِ، قالت: كُنْتُ في مَن غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عندَ وفاتِها، فكان أوَّلُ ما أعْطانا الحِقاءَ (¬3)، ثم الدِّرْعَ، ثم الخِمارَ، ثم المِلْحَفَةَ (¬4)، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب كفن المرأة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 433. (¬2) في: باب في كفن المرأة، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 178. (¬3) الحقاء: هو الإزار الذى يشد على العورة. (¬4) الملحفة: الملاءة التى تلتحف بها المرأة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أُدْرِجَتْ بعدَ ذلك في الثَّوْبِ الآخَرِ. قالت: ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ البابِ معه كَفَنُها، يُناوِلُناها ثَوْبًا ثَوْبًا. وَرَوَتْ امُّ عَطِيَّةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ناوَلَها إزارًا، ودِرْعًا، وخِمارًا، وثَوْبَيْنِ (¬1). فصل: قال أحمدُ: يكَفَّنُ الصبِىُّ في خِرْقَةٍ، وإن كُفِّنَ في ثَلاثَةٍ فلا بَأسَ. وكذلك قال إسحاقُ، ونَحْوَه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والثَّوْرىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ، وغيرُهم. لا اخْتِلافَ بينَهم في أنَّ ثَوْبًا يُجْزِئُه، وإن كُفِّنَ في- ثَلاَثةٍ فلا بَأسَ. فصل: قال المَرُّوذِىُّ: سَألتُ أبا عبدِ اللهِ: في كم تُكَفَّنُ الجارِيَةُ إذا لم تَبْلُغْ؟ قال: في لِفَافَتَيْن، وقَمِيصٍ، لا خِمارَ فيه. وكَفَّنَ ابنُ سِيرِينَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِنْتًا له قد أعْصَرَتْ، أى قارَبَتِ المَحِيضَ في قمِيصٍ ولِفافَتَيْن. ورُوِىَ في بَقِيرٍ ولِفَافَتَيْن (¬1). قال أحمدُ: البَقيرُ القَمِيصُ الذى ليس له كُمَّان. والحَدُّ الذى تَصِيرُ به الجارِيَةُ في حُكْمِ المرأةِ في الكَفَنِ هو البُلُوغُ. هذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ، لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمارٍ» (¬2). مَفْهُومُه أنَّ غيرَها لا تَحْتاجُ إلى خِمارٍ في صلاتِها، كذلك في كَفَنِها. وروَى عن أحمدَ أكثَرُ أصحابِه: إذا كانت بِنْتَ تِسْعٍ يُصْنَعُ بها ما يُصْنَعُ بالمرأةِ. واحْتَجَّ بأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل بعائشةَ وهى بِنْتُ تِسْعٍ (¬3). وقالت عائشةُ: إذا بَلَغَتِ الجارِيَةُ تِسْعًا فهى امرأةٌ (¬4). فصل: قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنى أن تُكَفَّنَ في شئٍ مِن الحَرِيرِ. وكَرِه ذلك الحسنُ، وابنُ المُبارَكِ، وإسحاقُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا أحْفَظُ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الجارية في كم تكفن، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 264. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 197. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب تزوج النبى - صلى الله عليه وسلم - عائشة، من كتاب مناقب الأنصار، وفى: باب إنكاح الرجل ولده الصغار، وباب تزويج الأب ابنته من الإمام، وباب من بنى بامرأة وهى بنت تسع سنين، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 5/ 71، 7/ 22، 27، 28. وأبو داود، في: باب في تزويج الصغار، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 490. وابن ماجه، في: باب نكاح الصغار يزوجهن الآباء، من كتاب النكاح. ابن ماجه 1/ 603، 604. والدارمى، في: باب في تزويج الصغار إذا زوجهن آباؤهن، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 159. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 42، 118، 211. (¬4) تقدم تخريجه في 2/ 385.

770 - مسألة: (والواجب من ذلك ثوب يستر جميعه)

وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ ثَوْبٌ يَستُرُ جَمِيعَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن غَيْرِهم خِلافَهم. وفى جَوازِ تَكْفِينِ المرأةِ بالحَرِيرِ احْتِمالانِ، أحَدُهما، الجَوازُ. وهو أقْيَسُ، لأنَّه مِن لُبْسِها في حَياتِها. والثَّانِى، المَنْعُ. لأنَّها إنَّما تَلْبَسُه في حَياتِها، لأنَّها مَحَلٌّ للزِّينَةِ والشَّهوةِ، وقد زال ذلك. وعلى كلِّ حالٍ فهو مَكْروهٌ. وكذلك يُكْرَهُ تَكْفِينُها بالمُعَصْفَرِ، ونَحْوِه، لِما ذَكَرْنا. قال الأوْزاعِىُّ: لا يُكَفَّنُ في الثِّيابِ المُصْبَغَةِ، إلَّا ما كان مِن العَصْبِ؛ يَعْنِى ما صُنِع بالعَصْبِ، وهو نَبْتٌ باليَمَنِ (¬1). فصل: وإن أحَبَّ أهلُ المَيِّتِ أن يَرَوْه لَمْ يُمْنَعُوا؛ لِما روَى جابرٌ، قال: لمّا قُتِل أبى جَعَلْتُ أكْشِفُ الثَّوْبَ عن وَجْهِه وأبكِى، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَنْهاني (¬2). وقالت عائشةُ: رَأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ عثمانَ بنَ مَظْعُونٍ وهو مَيِّتٌ، حتى رَأيتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ (¬3). والحَدِيثان صَحِيحان. 770 - مسألة: (والواجِبُ مِن ذلك ثَوْبٌ يَستُرُ جَمِيعَه) لِما رَوَتْ ¬

(¬1) في اللسان: العصب برود يمنية يعصب غزلها، أى يجمع ويشد، ثم يصبغ وينسج، فيأتى موشيا لبقاء ما عصب به أبيض. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، من كتاب الجنائز، وفى: باب من قتل من المسلمين يوم أحد، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 91، 5/ 131. ومسلم، في: باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام. . . .، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1917. والنسائى، في: باب تسجية الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 10. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 298، 307. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في تقبيل الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 179.والترمذى، في: باب ما جاء في تقبيل الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 208، 209. وابن ماجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمُّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: لمّا فَرَغْنا، يَعْنِى مِن غَسْلِ ابْنَةِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ألْقَى إلينا حَقْوَه، فقال: «أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ». ولم يَزِدْ على ذلك. رَواه البخارىُّ (¬1). وقال: مَعْنى أشْعِرْنَها. الْفُفْنَها فيه. ولأنَّ العَوْرَةَ المُغَلَّظَةَ يُجْزِئُ في سَتْرِها ثَوْبٌ واحِدٌ، فكَفَنُ المَيِّتِ أوْلَى. وهذا وَجْهٌ لأصحابِ الشافعىِّ. وظاهِرُ مَذْهَبِهم أنَّ الواجِبَ ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ، كالحَىِّ. وقال القاضى: لا يُجْزِئُ للقادِرِ أقَلُّ مِن ثَلاَثةِ أثْوابٍ. ورُوِىَ نَحْوُه عن عائشةَ. قال: لأنَّه لو أجْزَأ أقَلُّ منها، لم يَجُزِ التَّكْفِينُ بها في حَقِّ مَن له أيْتَامٌ، احْتِياطًا لهم. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. وما احْتَجَّ به القاضى لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَجُوزُ التَّكْفِينُ بالحَسَنِ مع حُصُولِ الِإجْزاءِ بما دُونَه. فصل: فإن لم يَجِدْ ثَوْبًا يَسْتُرُ جَمِيعَه، سَتَر رَأْسَه، وجُعِلَ على رِجْلَيْه حَشِيشٌ أو وَرَقٌ، كَما رُوِىَ عن مُصْعَبٍ، أنَّه قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ، فلم يُوجَدْ له شئٌ يُكَفَّنُ فيه، إلَّا نمِرَةً (¬2)، فكانت إذا وُضِعَتْ على رَأْسِه بَدَتْ رِجْلاه، وإذا وُضِعَتْ على رِجْلَيْه خَرَج رَأْسُه، فأمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُغَطَّى ¬

= في: باب ما جاء في تقبيل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 468. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 43، 55، 56، 206. (¬1) تقدم تخريجه في صفحة 68. (¬2) النمرة: كساء فيه خطوط بيض وسود تلبسه الأعراب.

فَصْلٌ فِى الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأْسُه، ويُجْعَلَ على رِجْلَيْه الِإذْخِرُ (¬1). رَوَاه البخارىُّ (¬2). فإن لم يَجِدْ إلَّا ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ سَتَرَها، كحالِ الحَياةِ. فإن كَثُر القَتْلَى، وقَلَّتِ الأكْفانُ، كُفِّنَ الرَّجُلانِ (¬3) والثَّلاثَةُ في الثَّوْبِ الواحِدِ. قال أنَسٌ: كَثُر القتْلَى، وقَلَّتِ الثِّيابُ، يَعْنِى يَوْمَ أُحُدٍ، قال: فَكُفِّنَ الرَّجُلُ والرَّجُلان والثَّلاثَةُ في الثَّوْبِ الواحِدِ، ثم يُدْفَنُون في قَبْرٍ واحِدٍ. رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬4)، وهذا لَفْظُه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. فصلٌ في الصَّلاةِ على الميِّتِ: والصلاةُ على المَيِّتِ فَرْضُ ¬

(¬1) الإذخر: نبات ذكى الريح، وإذا جف ابيض. (¬2) في: باب إذا لم يجد كفنا. . . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب هجرة النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، من كتاب مناقب الأنصار، وفى: باب غزوة أحد، وباب من قتل من المسلمين يوم أحد، من كتاب المغازى، وفى: باب فضل الفقر، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى 2/ 98، 5/ 71، 72، 121، 122، 131، 8/ 119. كما أخرجه مسلم، في: باب في كفن الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 649. وأبو داود، في: باب ما جاء في الدليل على أن الكفن من جميع المال، من كتاب الوصايا، وفى: باب كراهية المغالاة في الكفن، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 104، 177 - والترمذى، في: باب مناقب مصعب بن عمير رضى الله عنه، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 238. والنسائى، في: باب القميص في الكفن، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 32. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 109 , 111، 112، 6/ 395، 396. (¬3) في م: «الرجل أو الرجلان». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الشهيد يغسل، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 174. والترمذى، في: باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 234.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كِفَايَةٍ؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلهْ إلَّا الله» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 39.

771 - مسألة: (السنة أن يقوم الإمام عند رأس الرجل، ووسط المرأة)

السُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، ووَسَطِ الْمَرْأَةِ , ـــــــــــــــــــــــــــــ 771 - مسألة: (السُّنَّةُ أن يَقُومَ الِإمامُ عندَ رَأْسِ الرجلِ، ووَسَطِ المرأةِ) المُسْتَحَبُّ أن يَقُومَ الِإمامُ في صلاةِ الجِنازَةِ حِذاءَ رَأْسِ الرجلِ، ووَسَطِ المرأةِ. وإن وقَفَ في غيرِ هذا المَوْضِعِ خالَفَ السُّنَّةَ، وصَحَّتْ صَلاتُه. وبه قال إسحاقُ، والشافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال الخِرَقِىُّ: يَقُومُ عندَ صَدْرِ الرجلِ. وهو قَرِيبٌ مِن القَوْلِ الأوَّلِ؛ لقُرْبِ أحَدِهما مِن الآخَرِ، فالواقِفُ عندَ أحَدِهما واقِفٌ عندَ الآخَرِ. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حنيفةَ: يَقُومُ عندَ صَدْرِ الرجلِ والمرأةِ، لأنَّهما سواءٌ، فإذا وَقَف عندَ صَدْرِ الرجلِ، فكذلك المرأةُ. وقال مالِكٌ: يقِفُ عندَ وَسَطِ الرجلِ، لأنَّ ذلك يُرْوَى عن ابنِ مسعودٍ، ويَقِفُ عندَ مَنْكِبِ المرأةِ، لأنَّ الوُقُوفَ عندَ أعالِيها أمْثَلُ وأسْلَمُ. وروَى سعيدٌ، قال: حَدَّثَنى خالدُ ابنُ يَزِيدَ بنِ أبى مالِكٍ الدِّمَشْقِىُّ، قال: حَدَّثَنِى أبى، قال: رَأيْتُ واثِلَةَ ابنَ الأسْقَعِ يُصَلِّى على الجَنائِزِ، فإذا كانُوا رِجالًا صَفَّهم، ثم قام وَسَطَهُم، وإذا كانُوا رِجالًا ونِساءً جَعَل رَأْسَ أوَّلِ امرأةٍ عندَ رُكْبَةِ الرجلِ، ثم يَقُومُ وَسَطَ الرجال (¬1). ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ أنَسًا صَلَّى على رجلٍ، فقام عندَ رَأسِه، ثم صَلَّى على امرأةٍ، فقام حِيالَ وَسَطِ السَّريرِ، فقال له العَلاءُ بنُ زِيادٍ: هكذا رَأيْتَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قام على الجِنازَةِ مَقَامَك منها، ومِن الرجلِ مَقامَك منه؟ قال نعم. فلمَّا فَرَغ، قال: احْفَظُوا. قال ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب أين توضع المرأة من الرجل، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 467. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا فيه إذا اجتمع رجل وامرأة كيف يصنع في القيام عليهما، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 314.

772 - مسألة: (ويقدم إلى الإمام أفضلهم، ويجعل وسط المرأة حذاء رأس الرجل. وقال القاضى: يسوى بين رءوسهم)

وَيُقَدَّمُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُهُمْ، وَيُجْعَلُ وَسَطُ الْمَرْأَةِ حِذَاءَ رَأْسِ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُسَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حسنٌ. وعن سَمُرَةَ، قال: صَلَّيْتُ وَراءَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ ماتت في نِفاسِها، فقام وَسَطَهَا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والمرأةُ تُخالِفُ الرجلَ في مَوْقِفِ الصلاةِ، فجاز أن تُخالِفَه ههُنا، وقِيامُ الِإمامِ عندَ وَسَطِها أسْتَرُ لها، فكان أوْلَى. 772 - مسألة: (ويُقَدَّمُ إلى الِإمامِ أفْضلُهُم، ويُجْعَلُ وَسَطُ المرأةِ حِذاءَ رَأسِ الرجلِ. وقال القاضى: يُسَوَّى بينَ رُءُوسِهم) إذا كانَتِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء أين يقوم الِإمام من الرجل والمرأة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 251، 252.كما أخرجه أبو داود مطولا، في: باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 186. وابن ماجه، في: باب ما جاء في أين يقوم الِإمام إذا صلى على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 479. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 118. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَنائِزُ نَوْعًا واحِدًا، قُدِّمَ أفْضَلُهم إلى الِإمامِ، لأنَّ الأفْضَلَ يَلى الِإمامَ في صَفِّ المَكْتُوبَةِ، فكذلك هاهُنا. وقد دَلَّ على الأصْلِ قَوْلُه عليه السَّلامُ: «لِيَلنِى مِنْكُمْ أولُو الْأحْلَامِ وَالنُّهَى» (¬1). فإن تَسَاوَوْا في الفَضْلِ، قُدِّمَ الأكبَرُ فَالأكْبَرُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ المَيْمُونِى. فإن تَساوَوا قُدِّمَ السَّابِقُ. وقال القاضى: يُقَدَّمُ السابِقُ وإن كان صَبِيًّا، ولا تُقَدَّمُ المرأةُ وإن كانَتْ سابِقَةً، لمَوْضِعِ الذُّكُورِيَّةِ. فإن تَساوَوْا قَدَّمَ الِإمامُ مَن شاء، فإن تَشاحُّوا أُقْرِعَ بينَهم. فصل: فإن كانُوا أنْواعًا، كرِجالٍ وصِبْيانٍ وخَناثَى ونِساءٍ، قُدِّمَ الرِّجالُ، بغيرِ خِلافٍ في المَذْهَبِ، إلَّا ما حَكَيْنا مِن قَوْلِ القاضى، إذا سَبَق الصَّبِىُّ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. ثم يُقَدَّمُ بعدَهم الصِّبْيانُ. هذا المَنْصُوصُ عن أحمدَ، في رِوايَةِ الجَماعَةِ. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 442، 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ. وقال الخِرَقِىُّ: يُقَدَّمُ النِّساءُ على الصِّبْيانِ، لأنَّ المرأةَ شَخْصٌ مُكَلَّفٌ، فهى أحْوَجُ إلى الشَّفاعَةِ. وروَى عَمّارٌ مَوْلَى الحارِثِ بنِ نَوْفَلٍ، أنَه شَهِد جِنازَةَ امِّ كُلْثُوم وابْنِها، فجُعِلَ الغُلامُ مِمَّا يَلِى القِبْلَةَ، فأنْكَرْتُ ذلك، وفى القَوْمِ ابنُ عباسٍ، وأبو سعيدٍ، وأبو قَتادَةَ، وأبو هُرَيْرَةَ، فقالُوا: هذه السُّنَّةُ (¬1). ولَنا، أنَّهم يُقَدَّمُون عليهِنَّ في الصَّفِّ في الصلاةِ المَكْتُوبَةِ إذا اجْتَمَعُوا، فكذلك عندَ اجْتِماعِ الجَنائِزِ، كالرِّجالِ. فأمَّا حديثُ عَمّارٍ، فالصَّحِيحُ فيه أنَّه جَعَلَها مِمّا يَلى القِبْلَةَ، وجَعَل ابْنَها مِمّا يَليه. كذلك رَواه سعيدٌ، وعَمَّارٌ مَوْلَى بَنِى سَلَمَةَ، عن عَمّارٍ مَوْلَى بَنِى هاشِمٍ. وأخْرَجَه كذلك أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، وغيرُهما (¬2). ولَفْظُه قال: شَهِدْتُ جِنازَةَ صَبِىٍّ وامرأةٍ، فقُدِّمَ الصَّبِىُّ مِمَّا ¬

(¬1) انظر ما يأتى في تخريج الحديث عند أبى داود والنسائى. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب إذا حضر جنائز رجال ونساء من يقدم، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 186. والنسائى، في: باب اجتماع جنازة صبى وامرأة، من كتاب الجنائز، ونحوه عن نافع، في: باب اجتماع جنائز الرجال والنساء، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 57، 58.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلِى القَوْمَ، ووُضِعَتِ المرأةُ وراءَه. وفى القومِ أبو سعيدٍ الخُدْرِىُّ، وابنُ عباسٍ، وأبو قَتادَةَ، وأبو هُرَيْرَةَ، فقُلْنا لهم، فقالُوا: السُّنَّةُ. أمّا الحديث الأوَّلُ فغيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ زَيْدَ بنَ عُمَرَ هو ابنُ أُمِّ كُلْثُومٍ، الذى صُلِّىَ عليه معها، وكان رجلًا له أوْلادٌ كذلك قال الزُّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ. ولأنَّ زَيْدًا ضُرِب في حَرْبٍ كانت بينَ بَنِى عَدِىٍّ، في خِلافَةِ بعضِ بَنِى امَيَّةَ، فصُرِعَ وحُمِل، فمات. ومثلُ هذا لا يَكُونُ إلَّا رجلًا. فصل: ولا نعْلَمُ خِلافًا في تَقْدِيمِ الخُنْثَى على المرأةِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ رجلًا، وأدْنَى أحْوالِه مُساواتُه لها. ويُقَدَّمُ الحُرُّ على العَبْدِ؛ لشَرَفِه وتَقْدِيمِه عليه في الِإمامَةِ. وكذلك في تَقْدِيمِ الكَبيرِ على الصَّغِيرِ لذلك. وقد روَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه، عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، في جِنازَةِ حُرٍّ وعَبْدٍ، ورجلٍ وامْرَأةٍ، وصَغِيرٍ وكَبِيرٍ، يُجْعَلُ الرجُلُ مِمّا يلِى الإمامَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمرأةُ أمامَ ذلك، والكَبِيرُ ممّا يَلى الِإمامَ، والصَّغِيرُ أمامَ ذلك، والحُرُّ مِمَّا يَلى الِإمامَ، والمَمْلُوكُ أمامَ ذلك. فإنِ اجْتَمَعَ حُرٌّ صَغِيرٌ وعَبْدٌ كَبِيرٌ، فقال أحمدُ، في رِوايَةِ الحسنِ بنِ محمدٍ (¬1): يُقَدَّمُ الحُرُّ وإن كان غُلامًا. ونَقَل أبو الحارِثِ: يُقَدَّمُ الأكْبَرُ. قال شيخُنا (¬2): وهو أصَحُّ إن شاء اللهُ تعالى، لأنَّه يُقَدَّمُ في الصَّفِّ في الصلاةِ. وقَوْلُ علىٍّ مُتَعارِضٌ؛ فإنَّه قد قال: يُقَدَّمُ الكَبِيرُ على الصَّغِيرِ، كقَوْلِه: يُقَدَّمُ الحُرُّ على العَبْدِ. فصل: وإذا اجْتَمَعَ رجلٌ وامرأةٌ فصُلِّىَ عليهما جَمِيعًا، جُعِل رَأْسُ الرجلِ حِذاءَ وَسَطِ المرأةِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ عن أحمدَ. اخْتارَه أبو الخَطَّابِ؛ ليَكُونَ مَوْقِفُ الِإمامِ عندَ رَأسِ الرَّجُلِ، ووَسَطِ المرأةِ. ¬

(¬1) الحسن بن محمد الأنماطى البغدادى، نقل عن الإمام أحمد مسائل صالحة. طبقات الحنابلة 1/ 138. (¬2) في: المغنى 3/ 511.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والرِّوايَةُ الثَّانِيَةُ، يُسَوَّى بينَ رُءُوسِهم. اخْتارَها القاضى. وهو قولُ إبراهيمَ، وأهلِ مَكَّةَ، وأبى حنيفةَ، ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ (¬1). وروَى سعيدٌ، بإسْنادِه، عن الشَّعْبِىِّ، أنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بنتَ علىٍّ، وابْنَها زيدَ بنَ عُمَرَ تُوُفيا جَمِيعًا.، فأُخْرِجَتْ جِنازَتاهما، فصَلَّى عليهما أميرُ المَدِينَةِ، فسَوَّى بينَ رُءُوسِهما وأرْجُلِهما حينَ صَلَّى عليهما (¬2). ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب أين توضع المرأة من الرجل، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 467. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 141.

773 - مسألة: (ثم يكبر أربع تكبيرات، يقرأ فى الأولى الفاتحة، ويصلى على النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الثانية)

وَيُكَبِّرُ أرْبَعَ تَكْبِيراتٍ، يَقْرأُ في الأولَى الْفَاتِحَةَ، ويُصَلِّى عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - في الثَّانِيَةِ , ـــــــــــــــــــــــــــــ 773 - مسألة: (ثم يُكَبِّرُ أرْبَعَ تَكْبِيراتٍ، يَقْرأُ في الأُولَى الفاتِحَةَ، ويُصَلِّى على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في الثانِيَةِ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ التَّكْبِيرَ على الجنازَةِ أرْبَعٌ، لا يَجُوزُ النَّقْصُ منها، ولا تُسَنُّ الزِّيادَةُ عليها؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ على النَّجاشِىِّ أرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فيُكَبِّرُ الأولَى، ثم يَسْتَعِيذُ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. وقال القاضى: يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن، كالاسْتِفْتاحِ. ويَقْرَأُ الحَمْدَ، يَبْتَدِئُها بـ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، كسائِرِ الصَّلَواتِ. ولا يُسَنُّ الاسْتِفْتاحُ، في المَشْهُورِ عنه. قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ يُسْألُ عن الرجلِ يَسْتَفْتِحُ الصلاةَ على الجِنازَةِ بـ «سُبْحانَكَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، وباب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وباب التكبير على الجنازة أربعا، من كتاب الجنائز، وفى: باب موت النجاشى، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 2/ 92، 111، 112، 5/ 65. ومسلم، في: باب في التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 656، 657. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 189. والنسائى، في: باب الصفوف على الجنازة، وباب عدد التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 56، 59. وابن ماجه، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهُمَّ وبحَمْدِك»؟ قال: ما سَمِعْتُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: كان الثَّوْرِىُّ يَسْتَحِبُّ أن يَسْتَفْتِحَ في صلاةِ الجِنازَةِ، ولم نَجِدْه في كُتُبِ سائِرِ أهلِ العِلْمِ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ مثلُ قَوْلِ الثَّوْرِىِّ؛ لأنَّ الاسْتِعاذَةَ فيها مَشْروعَةٌ، فسُنَّ فيها الاسْتِفْتاحُ، كسائِرِ الصَّلَواتِ. ولَنا، أنَّ صلاةَ الجِنازَةِ شُرِع فيها التَّخْفِيفُ، ولهذا لا يُقْرَأُ فيها بعدَ الفاتِحَةِ بشئٍ، وليس فيها ركُوعٌ ولا سُجودٌ. فأمَّا التَّعَوّذُ فهو سُنَّةٌ للقراءَةِ مُطْلَقًا في الصلاةِ وغيرِها؛ لقَوْلِ الله تِعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). ولأصحابِ الشافعىِّ في الاسْتِعاذَةِ والاسْتِفْتاحِ وَجْهان. فصل: وقِراءَةُ الفاتِحَةِ واجِبَةٌ في صلاةِ الجِنازَةِ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عباس. وهو قولُ الشافعىِّ، وإسحاقَ. وقال الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، ¬

= باب ما جاء في الصلاة على النجاشى، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 490. والإمام مالك، في: باب التكبير على الجنائز، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 226، 227. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 281، 438، 439. (¬1) سورة النحل 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يَقْرَأُ فيها بشئٍ؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ قال: إنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُوَقِّتْ فيها قَوْلًا ولا قِراءَةً. ولأنَّ ما لا رُكُوعَ فيه لا قِراءَةَ فيه، كسُجُودِ التِّلاوَةِ. ولَنا، ما رَوَتْ أُمُّ شَرِيكٍ، قالت: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نَقْرَأَ على الجنازَةِ بفاتِحَةِ الكِتابِ. رَواه ابنُ ماجه (¬1). وعن جابِر، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ على الجِنازَةِ أرْبعًا، وقَرَأ بفاتِحَةِ الكِتاب بعدَ التَّكْبِيرَةِ الأولَى. رُواه الشافعىُّ في «مُسْنَدِهِ» (¬2). ثم هو داخِلٌ في عُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ (¬3) يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» (¬4). ولأنَّها صلاةٌ يَجِبُ فيها القِيامُ، فوَجَبَتْ فيها القِراءَةُ، كسائِرِ الصَّلَواتِ. وحديثُ ابنِ مسعودٍ، إن صَحَّ، فإنَّمَا قال: لم يُوَقِّتْ. أى لم يُقَدِّرْ. ولا يَدُلّ هذا على نَفْىِ أصْلِ القِراءَةِ، وقد روَى عنه ابنُ المُنْذِرِ، أنَّه قَرِأَ على جِنازَةٍ بفاتِحَةِ الكِتابِ. ثم لا يُعارِضُ ما رَويْنَاه؛ لأنَّه نَفْىٌ مُقَدَّمٌ عليه الِإثْباتُ، وفارَقَ سُجُودَ التِّلاوَةِ، فإنَّه لا قِيامَ فيه، والقِراءَةُ مَحَلُّها القِيامُ. ويُسْتَحَبُّ إسْرارُ القِراءَةِ والدُّعاءِ والصلاةِ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في: باب ما جاء في القراءة على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 479. (¬2) في: كتاب صلاة الجنائز وأحكامها. ترتيب المسند 1/ 209. (¬3) في م: «لا». (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 440.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، ولا يَقْرأُ بعدَ الفاتِحَةِ شيئًا. وقد رُوِىَ عن ابن عباس، أنَّه جَهَر بفاتِحَةِ الكِتابِ في صلاةِ الجِنَازَةِ (¬1)، قال أحمدُ: إنَّما جَهَر ليُعَلِّمَهم. فصل: ويُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، ويُصَلِّى على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عباس، أنَّه صَلَّى على جِنازَةٍ بمَكَّةَ فَكَبَّرَ، ثم قَرَأ وجَهَر، وصَلَّى على النبى - صلى الله عليه وسلم -، ثم دَعا لصاحِبِها (¬2) فأحْسَنَ، ثم انْصَرَفَ، وقال: هكذا يَنْبَغِى أن تَكُونَ الصلاةُ. على الجِنازَةِ (¬3). وعن أبى أُمامَةَ بنِ سَهْلٍ، أنَّه أخْبَرَه رجلٌ مِن أصحابِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مِن السُّنَّةِ في الصلاةِ على الجِنازَةِ أن يُكَبِّرَ الإمامُ، ثم يَقْرَأَ بفاتِحَةِ الكِتابِ بعدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى، يَقْرَأَ في نَفْسِه، ثم يُصَلِّىَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويُخْلِصَ الدُّعاءَ للجِنازَةِ في التَّكْبِيراتِ، لا يَقْرأُ في شئٍ مِنهُنَّ، ثم يُسَلِّمَ سِرًّا في نَفْسِه، رَواه الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬4). وصِفَةُ الصلاةِ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - كصِفَةِ الصلاةِ عليه في ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، من كتاب الجنائز المصنف 3/ 298. (¬2) في النسخ: «لصاحبه». والمثبت من المغنى. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب الدعاء في صلاة الجنازة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 42. (¬4) في: كتاب صلاة الجنائز وأحكامها. ترتيب المسند 1/ 210، 211.

774 - مسألة: (ويدعو فى)

ويَدْعُو فِى الثَّالِثَةِ , ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّشَهُّدِ. نَصَّ عليه أحمدُ: وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سَألُوه: كيف نُصَلِّى عليك؟ عَلَّمَهم ذلك (¬1). وإن أتَى بها على غيرِ صِفَةِ التَّشَهُّدِ فلا بَأْسَ؛ لأنَّ القَصْدَ مُطْلَقُ الصلاةِ. وقال القاضى، يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ على مَلائِكَتِك المُقَرَّبِين (¬2)، وأنْبِيائِك والمُرْسَلِين، وأهلِ طاعَتِك أجْمَعِين، مِن أهلِ السّماواتِ وأهْلِ الْأَرَضِين، إنَّك على كلِّ شئٍ قَدِيرٌ. لأنَّ أحمدَ قال، في رِوايَةِ عبدِ اللهِ: يُصَلِّى على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - , ويُصَلِّى على المَلائِكَةِ المُقَرَّبِين. 774 - مسألة: (ويَدْعُو في) التَّكْبِيرَةِ (الثّالِثَةِ) لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى المَيِّتِ فَأخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ». رَواه أبو ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث كعب بن عجرة في 3/ 545. (¬2) هكذا وردت في نسخ الشرح بدون «و» وفى نسخ الإنصاف بإثباتها. وفى مسائل الإمام أحمد برواية عبد الله بدونها.

فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا؛ إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ,اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَهُ منَّا فَأحْيِهِ عَلى الإسْلامِ والسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا , [40 ظ] ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). والدُّعاءُ هاهُنا واجِبٌ، لهذا الحديثِ، ولأنَّه المَقْصُودُ، فلا يَجُوزُ الِإخْلالُ به، ويَكْفِى أَدْنَى دُعاءٍ لهذا الحديثِ: قال أحمدُ: ليس على المَيِّتِ دُعاءٌ مُؤَقَّتٌ. والأَوْلَى أن يَدْعُوَ لنَفْسِه ولوالِدَيْه وللمَيِّتِ وللمُسْلِمِين بما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - , فرَوَى أبو إبراهيمَ الأشْهَلِىُّ، عن أبِيه، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى على الجِنازَةِ، قال: («اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا»). قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حديثٌ حسن صحِيحٌ. وروَى أبو داودَ (¬3)، عن أبى هُرَيْرَةَ مثلَ حديثِ أبى إبراهيمَ، وزاد: («اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأحْيِهِ عَلَى) الْإِيمَانِ، (وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ) عَلَى الإسْلامِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أجْرَهُ، وَلَا ¬

(¬1) في: باب في الدعاء للميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 188. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 480. (¬2) في: باب ما يقول في الصلاة على الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 240، 241. كما أخرجه النسائى، في: باب الدعاء، من كتاب الجنائز، المجتبى. 4/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 170. (¬3) في: باب في الدعاء للميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 188.كما أخرجه الترمذى، في: باب ما يقول في الصلاة على الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 241. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 480. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 368.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوْبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأبيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَزَوْجًا خيْرًا مِنْ زَوْجهِ، وَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ ,وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ , وَافْسَحْ لَهُ فِى قَبْرِهِ , وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُضِلَّنَا (¬1) بَعْدَهُ». وفى حديثٍ آخَرَ، عن أبى هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّهَا، وَأنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأنْتَ هَدَيْتَهَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتَهَا، وَأنْتَ أعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيتِهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ، فَاغْفِرْ لَهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن عَوْفِ بنِ مالكٍ الأشْجَعِىِّ، قال: صَلَّى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - على جِنازَةٍ فحَفِظْتُ مِن دُعائِهِ، وهو يَقُولُ: («اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أهْلِهِ (وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ»). حتى تَمَنَّيْتُ أن أكُونَ ذلك المَيِّتَ. رَواه مسلمٌ (¬3). وذَكَر ابنُ أبى موسى، أنَّه يَقُولُ ¬

(¬1) في م: «تفتنا». (¬2) في: باب في الدعاء للميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 188 كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 256، 345، 363، 459. (¬3) في: باب الدعاء للميت في الصلاة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 662، 663. كما أخرجه النسائى، في: باب الدعاء، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 60. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 481. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 23، 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع ذلك: الحَمْدُ للهِ الذى أمات وأحْيا، الحَمْدُ للهِ الذى يُحْيى المَوْتَى، له العَظَمَةُ والكِبْرِياءُ، والمُلْكُ والقُدْرَةُ والسَّناءُ، وهو على كلِّ شئٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ إنَّه عَبْدُك، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمَتِك، أنت خَلَقْتَه وَرَزَقْتَه، وأنت أمَتَّه وأنت تُحْيِيهِ، وأنت تَعْلَمُ سِرَّه، جِئْنَاك شُفَعاءَ له، فشَفِّعْنَا فيه، اللَّهُمَّ إنّا نَسْتَجِيرُ بحَبْلِ جِوارِكَ له، إنَّك ذو وَفاءٍ وذِمَّةٍ، اللَّهُمَّ وَقِه مِن فِتْنَةِ القَبْرِ، ومِن عَذابِ جَهَنَّمَ، اللَّهُمَّ إن كان مُحْسِنًا فجازِه بإحْسانِه، وإن كان مُسِيئًا فتَجاوَزْ عنه، اللَّهُمَّ قد نزَل بك، وأنت خَيْرُ مَنْزُولٍ به، فَقِيرًا إلى رَحْمَتِك، وأنت غَنِىٌّ عن عَذابِهِ، اللَّهُمَّ ثبِّتْ عندَ المَسْألَةِ مَنْطِقَه، ولا تَبْتَلِه في قَبْرِه. وقال الخِرَقِىُّ: يَقُولُ في الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ إنَّه عَبْدُك وابنُ أَمَتِك، نَزَل بِك وأنت خَيْرُ مَنْزُولٍ به، ولا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا. وقَوْلُه: لا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا. إنَّما يَقُولُه لمَن لم يَعْلَمْ منه شَرًّا، لِئَلَّا يَكُونَ كاذِبًا. وقد روَى القاضى حديثًا، عن عبدِ اللهِ بنِ الحارِثِ، عن أبيه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهم الصلاةَ على المَيِّتِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأحْيَائِنَا وَأمْوَاتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَكَ وَابْنَ عَبْدِكَ نَزَلَ بِفِنَائِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا». فقُلْتُ، وأنا أصْغَرُ الجَماعَةِ: يارسولَ اللهِ، وإن لم أعْلَمْ خَيْرًا؟ قال: «لَا تَقُلْ إلَّا مَا تَعْلَمُ» (¬1). وإنَّما شُرِع هذا للخَبَرِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أُثْنِىَ عندَه على ¬

(¬1) عزاه الهيثمى: إلى الطبرانى في الكبير والأوسط. وقال: فيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة ولكنه مدلس. انظر: مجمع الزوائد 3/ 33.

775 - مسألة: (وإن كان صبيا)

وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ , وَفَرَطاً وَأَجْراً , ـــــــــــــــــــــــــــــ جِنازَةٍ بخَيْرٍ، قال: «وَجَبَتْ». وأُثْنِىَ على جِنازَةٍ أُخْرَى بشَرٍّ، قال: «وَجَبَتْ». ثم قال: «إنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ شُهَدَاءُ». رَواه أبو داودَ (¬1). وفى حديثٍ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَشَهِدَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ جِيرَانِهِ الْأدْنِينِ بِخَيْرٍ، إلَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِى عَلَى مَا عَلِمُوا، وَغَفرْتُ لَهُ مَا أعْلَمُ». رَواه الِإمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬2). وفى لَفْظٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ رَجُلَانِ مِنْ جِيرَانِه الْأدْنِينَ، فيَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا. إلَّا قَالَ الله تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُمَا لِعَبْدِى، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا يَعْلَمَانِ». أخْرَجَه. اللَّالَكائِىُّ (¬3). 775 - مسألة: (وإن كان صَبِيًّا) جَعَل مَكانَ الاسْتِغْفارِ لَهُ (اللَّهُمَّ ¬

(¬1) في: باب في الثناء على الميت كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 195.كما أخرجه البخارى، في: باب ثناء الناس على الميت، من كتاب الجنائز، وفى: باب تعديل كم يجوز، من كتاب الشهادات. صحيح البخارى 2/ 121، 3/ 221.ومسلم، في: باب في من يثنى عليه خير أو شر من الموتى، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 655. والترمذى، في: باب ما جاء في الثناء الحسن على الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 279. والنسائى، في: باب الثناء، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 41. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الثناء على الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 478. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 261، 466، 470، 498، 499، 528، 3/ 179، 186، 197، 211، 245، 281. (¬2) المسند 2/ 384، 408، بلفظ: «ثلاثة أبيات»، 3/ 242 بلفظ: «أربعة أهل أبيات». (¬3) عزاه السيوطى للخطيب في تاريخه عن أنس. انظر جمع الجوامع 1/ 726. وهو في تاريخ بغداد 7/ 456. واللالكائى هو هبة الله بن الحسن بن منصور، المتوفى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، وله كتاب السنن. انظر تاريخ التراث العربى 1/ 3/ 211.وابنه محمد بن هبة الله الحافظ، سمع الحديث وصنف، =

وَشِفِيعاً مُجَاباً. اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا , وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا , وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ , وَاجْعَلْهُ فِى كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ , وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَاْبَ الْجَحِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اجْعَلْه ذُخْرًا لوالِدَيْه، وفَرَطًا (¬1) وأجْرًا، وشَفِيعًا مُجابًا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ به مَوازِينَهما، وَأعْظِمْ به أُجُورَهما، واجْعَلْه في كَفالَةِ أَبيه إبراهيمَ، وألْحِقْه بصالِحِ سَلَفِ المُؤْمِنِين، وقِهِ برَحْمَتِك عَذاْبَ الجَحِيمِ) اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأسْلافِنا، وأفْراطِنا، ومَن سَبَقَنَا بالِإيمانِ. وبأىِّ شئٍ دَعا مِمّا ذَكَرْنا أو نَحْوَه، أجْزَأَ. ¬

= وتوفى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. اللباب 3/ 300. (¬1) الفرط؛ بالتحريك: ما تقدمك من أجر أو عمل.

776 - مسألة: (ثم يقف بعد الرابعة قليلا، ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه)

وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً , وَيُسَلِّمُ تَسْليمَةً واحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ , ـــــــــــــــــــــــــــــ 776 - مسألة: (ثم يَقِفُ بعدَ الرّابِعَةِ قَلِيلًا، ويُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً واحِدَةً عن يَمِينِه) ظاهِرُ كَلامِ شيخِنا (¬1)، رَحِمَه اللهُ، أنَّه لا يَدْعُو بعدَ الرّابِعَةِ. نَقَل ذلك عن أحمدَ جَماعَةٌ مِن أصحابِه، أنَّه قال: لا أعْلَمُ فيه شيئًا، لأنَّه لو كان فيه دُعاءٌ مَشْرُوعٌ لنُقِلَ. وعن أحمدَ أنَّه يَدْعُو، ثم يُسَلِّمُ، لأنَّه قِيامٌ في صلاةِ الجِنازَةِ، فكان فيه ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، كالذى قبلَ الرَّابِعَةِ. قال ابنُ أبى موسى، وأبو الخَطَّابِ: يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2) وقِيلَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَه، ولا تَفْتِنَّا بعدَه، واغْفِرْ لنا وله. والخِلافُ هاهُنا في الاسْتِحْبابِ، ولا خِلافَ في المَذْهَبِ أنَّه غيرُ واجِبٍ. وقد روَى الجُوزَجَانِىُّ، ¬

(¬1) انظر المغنى 3/ 416. (¬2) سورة البقرة 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُكَبِّرُ أرْبَعًا، ثم يَقُولُ ما شاء اللهُ، ثم يَنْصرِفُ (¬1). قال الجُوزَجَانِىّ: أحْسَبُ هذه الوَقْفَةَ ليُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ، فإنَّ الِإمامَ إذا كبَّرَ ثم سَلَّمَ، خِفْتُ أن يَكُونَ تَسْلِيمُه قبلَ أن يُكَبِّرَ آخِرُ الصُّفُوفِ، فإن كان هكذا فاللهُ عَزَّ وَجَلَّ المُوَفِّقُ له، وإن كان غيرَ ذلك فإنى أبرَأُ إلى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مِن أن أتَأوَّلَ على رسولِ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أمرًا لم يُرِدْه، أو أراد خِلافَه. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتَّسْلِيمُ واجِبٌ فيها؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» (¬1). والسُّنَّةُ أن يُسَلِّمَ على الجِنازَةِ تَسْلِيمَةً واحِدَةً. قال أحمدُ: التَّسْلِيمُ على الجِنازَةِ تَسْلِيمَةٌ واحِدَةٌ، عن سِتَّةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها اخْتِلافٌ إلَّا عن إبراهيمَ. رُوِىَ ذلك عن علىٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وجابِرٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وأنَسٍ، وابنِ أبى أوْفَى، وواثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ. وبه قال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو أُمَامَةَ بنُ سَهْلٍ (¬1)، والقاسِمُ بنُ محمدٍ، وإبراهيمُ النَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ عُيَيْنَةَ (¬2)، وابنُ المُبارَكِ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىِّ وإسحاقُ. قال ابنُ المُبارَكِ: مَن سَلَّمَ على الجِنازَةِ تَسْلِيمَتَيْن فهو جاهِلٌ جاهِلٌ. واخْتارَ القاضى أنَّ المُسْتَحَبَّ تَسْلِيمَتان، ووَاحِدَةٌ تُجْزِئُ. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، قِياسًا على سائِرِ الصَّلَواتِ. ولَنا، ما روَى عَطَاءُ بنُ السَّائِبِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَلَّمَ على الجِنازَةِ تَسْلِيمَةً واحِدَةً (¬3). رَواه الجُوزَجَانِىُّ. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابَةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا. واخْتِيارُ القاضى في هذه المَسْألةِ مُخالِفٌ لقَوْلِ إمامِه وأصحابِه، ولِإجْماعِ الصحابةِ والتَّابِعِين، رَحْمَةُ الله عليهم. ويُسْتَحَبُّ أن يُسَلِّمَهَا عن يَمِينه، وإن سَلَّمَ تِلْقاءَ وَجْهِه فلا بَأْسَ. وسُئِل أحمدُ: يُسَلِّمُ تِلْقَاءَ وجْهِه؟ قال: كلُّ هذا جائِزٌ، وأكثَرُ ما رُوِىَ فيه عن يَمِينه. قِيلَ: خُفْيَةً؟ قال: نعم. يَعْنِى أنَّ الكلَّ جائِزٌ، والتَّسْلِيمُ عن يَمِينه أوْلَى، لأنَّه أكثَرُ ما رُوِىَ، وهو أشْبَهُ بسائِرِ الصَّلَواتِ. قال ¬

(¬1) أسعد بن سهل بن حنيف الأنصارى، أبو أمامة، ولد في حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -، وتوفى سنة مائة. تهذيب التهذيب 1/ 263 - 265. (¬2) أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبى عمران الهلالى الكوفى، الإمام الكبير، حافظ العصر، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 400 - 418. (¬3) اً خرجه البيهقى، في: باب ما روى في التحلل من صلاة الجنازة بتسليمة واحدة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 43.

777 - مسألة: (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)

وَيَرْفَعُ يَدَيهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ: يَقُولُ: السَّلامُ عليكم ورَحْمَةُ اللهِ. وروَى عنه علىُّ بنُ سعيدٍ، أنَّه قال: إذا قال: السَّلامُ عليكم. أجْزَأه. وروَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه عن علىِّ بنِ أبى طالِبٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه صَلَّى على يَزِيدَ بنِ المُكَفِّفِ، فَسَلِّمَ واحِدَةً عن يَمِينِه: السَّلَامُ عليكم (¬1). فصل: ورُوِىَ عن مُجاهِدٍ، أنَّه قال: إذا صَلَّيْتَ فلا تَبْرَحْ مُصَلَّاكَ حتى تُرْفَعَ. قال: ورَأيْتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ لا يَبْرَحُ مُصَّلاه، إذا صلَّى على جِنازَةٍ حتى يَراها على أيْدِى الرِّجالِ. قال الأوْزاعِىُّ: لا تُنْقَضُ الصُّفُوفُ حتى تُرْفَعَ الجِنازَةُ. 777 - مسألة: (ويَرْفَعُ يَدَيْه مع كلِّ تَكْبِيرَةٍ) أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ علِى أنَّ المُصَلِّىَ على الجِنازَةِ يَرْفعُ يَدَيْه في التَّكْبِيرَةِ الأولَى، ويُسْتَحَبُّ أن يَرْفَعَ يَدَيْه في كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. يُرْوَى ذلك. عن سالِمٍ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وعَطاءٍ، وقَيْسِ بنِ أبِى حازِمٍ (¬2)، والزُّهْرِىِّ، وإسحاقَ، وابنِ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في التسليم على الجنائز كم هو، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 307. (¬2) أبو عبد الله قيس بن أبى حازم حصين بن عوف الكوفى، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه فقبض وهو في الطريق، توفى سنة أربع وثمانين. تهذيب التهذيب 8/ 386 - 389.

778 - مسألة: (والواجب من ذلك، التكبيرات، والقيام و)

وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ , الْقِيَامُ , والتَّكْبِيراتُ , وَالْفَاتِحَةُ , والصَّلاةُ عَلَى النَّبىِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَأدْنَى دُعَاءٍ لِلميِّتِ , وَالسَّلامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا يَرْفَعُ يَدَيْه إلَّا في الأُولَى؛ لأنَّ كلَّ تَكْبِيرَةٍ مَقامُ رَكْعَةٍ، ولا تُرْفَعُ الأَيْدِى في جَمِيعِ الرَّكَعاتِ. ولَنا، ما رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْفَعُ يَدَيْه في كلِّ تَكْبِيرَةٍ (¬1). رَواه. ابنُ أبى موسى. وعن ابنِ عُمَرَ، وأنَسٍ، أنَّهُما كانا يَفْعَلان ذلك. ولأنَّها تَكْبِيرَةٌ حالَ الاسْتِقْرارِ، أشْبَهَتِ الأُولَى، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَحُطُّ يَدَيْه إذا رَفَعَهما عندَ انْقِضاءِ التَّكْبِيرَةِ، ويَضَعُ يَدَه اليُمْنَى على اليُسْرَى، كما في بَقِيَّةِ الصَّلَواتِ. وفيما روَى ابنُ أبى موسى، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى على جِنازَةٍ، فوَضَعَ يَمِينَه على شِمالِه (¬2). 778 - مسألة: (والواجِبُ مِن ذلك، التَّكْبِيراتُ، والقِيامُ و) قِراءَةُ (الفاتِحَةِ، والصلاةُ على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وأدْنَى دُعاءٍ للمَيِّتِ، ¬

(¬1) عزاه الزيلعى إلى الدارقطنى في «علله» مرفوعا عن ابن عمر. نصب الراية 2/ 285 وأخرجه البيهقى، موقوفا على ابن عمر، في: باب يرفع يديه في كل تكبيرة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 44. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في رفع اليدين على الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 296. والبيهقى، في: باب ما جاء في وضع اليمنى على اليسرى في صلاة الجنازة، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسَّلَامُ) لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. ويُشْتَرَطُ لها النِّيَّةُ، وسائِرُ شُرُوطِ المَكْتُوبَةِ قِياسًا عليها، إلَّا الوَقْتَ.، يسْقُطُ بعضُ واجِباتِها عن المَسْبُوقِ، على ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَيَأْتِى. ولا يُجْزِئُ أن يصلِّىَ على الجِنازَةِ راكِبًا؛ لأنَّه يُفَوِّتُ القِيامَ الواجِبَ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُصَفَّ في الصلاةِ على الجِنازَةِ ثَلَاثةُ صُفُوفٍ؛ لِما روَى الخَلَّالُ، بإسْنَادِه، عن مالكِ بنِ هُبَيْرَةَ، وكانت له صُحْبَةٌ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أوْجَبَ». قال: فكان مالكُ بنُ هُبَيْرَةَ إذا اسْتَقَلَّ أهلَ الجِنازَةِ جَزَأهم ثَلاثَةَ أجْزاءٍ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حسنٌ. قال أحمدُ: أُحِبُّ إذا كان فيهم قِلَّةٌ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 246، 247 كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصفوف على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 180. وابن ماجة، في: باب ما جاء في من صلى عليه جماعة من المسلمين، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجة 1/ 478. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَجْعَلَهم ثَلاثَةَ صُفُوفٍ. قِيلَ له: فإن كان وراءَه أرْبَعَةٌ؟ قال: يَجْعَلُهم صفَّيْن، في كلِّ صَفٍّ رَجُلَيْن. وكَرِه أن يَكُونَ في صَفٍّ رجلٌ واحِدٌ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ أنَّ عَطَاءَ بنَ أبى رَباحٍ روَى، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى على جِنازَةٍ، فكانُوا سَبْعَةً، فجَعَلَ الصَّفَّ الأوَّلَ ثَلاثَةً، والثّانِىَ اثْنَيْنِ، والثّالِثَ واحِدًا. قال ابنُ عَقِيل: ويُعايَى (¬1) بها، فيُقالُ: أين تَجِدُون فذًّا، انْفِرادُه أفْضَلُ؟ قال شيخُنا (¬2): ولا أحْسَبُ هذا الحَديثَ صَحِيحًا، فإنَّنى لم أرَه في غيرِ كتابِ ابنِ عَقِيلٍ، وقد صار أحمدُ إلى خِلافِه، ولو عَلِم فيه حديثًا لم يَعْدُه إلى غيرِه. والصَّحِيحُ في هذا أن يَجْعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا. فصل: ويُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ في صلاةِ الجِنازَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقِيلَ لعَطَاءٍ: أُخِذَ على النَّاسِ أن يُصَفُّوا على الجِنازَةِ كما يُصَفُّون في الصلاةِ؟ قال: لا، قَوْمٌ يَدْعُون ويَسْتَغْفِرُونَ (¬3). وكَرِه أحمدُ قَوْلَ عَطاءٍ هذا. وقال: يُسَوُّونَ صُفُوفَهم، فإنَّها صلاةٌ. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجاشِىَّ في اليومِ الَّذي مات فيه، وخَرَج إلى المُصَلَّى، فصَفَّ بهم وكَبَّرَ أرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وعن أبى المَلِيحِ (¬5)، أنَّه صَلَّى على جِنازَةٍ، فالْتَفَتَ، ¬

(¬1) من المعاياة، وهي أنْ تأتى بكلام لا يهتدى له. (¬2) في: المغنى 3/ 420، 421. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب تسوية الصفوف عند الصلاة على الجنائز، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 529. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 145. (¬5) أبو المليح بن أسامة الهذلى، يأتى حديثه هذا بتمامه في صفحة 289.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: اسْتَوُوا، ولْتَحْسُنْ شَفاعَتُكم.

779 - مسألة: (وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره. وعنه، لا يتابع في زيادة على أربع. وعنه، يتابع إلى سبع.)

وَإنْ كَبَّرَ الإمَامُ خَمْسًا كُبِّرَ بِتَكْبِيرِهِ. وَعَنْهُ، لَا يُتَابَعُ في زِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعٍ. وَعَنْهُ، يُتَابَعُ إِلَى سَبْعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 779 - مسألة: (وَإنْ كَبَّرَ الإمَامُ خَمْسًا كُبِّرَ بِتَكْبِيرِهِ. وَعَنْهُ، لَا يُتَابَعُ في زِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعٍ. وَعَنْهُ، يُتَابَعُ إِلَى سَبْعٍ.) لا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه لا تَجُوزُ الزِّيادَةُ على سَبْعِ تَكْبِيراتٍ، ولا النَّقْصُ مِن أرْبَعٍ، والأوْلَى أن لا يُزادَ على أرْبَعٍ. فإن كَبَّرَ الإِمَامُ خَمْسًا تابَعَه المَأمُومُ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، ولا يُتابِعُه فيما زاد عليها. كذلك رَواه الأثْرَمُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وعنه، لا يُتابِعُه في زِيادَةٍ على أرْبَعٍ، ولكنْ لا يُسَلِّمُ إلَّا مع الإِمامِ. نَقَلَها عنه حَرْبٌ. اخْتارَها ابنُ عَقِيلٍ. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ، لأنَّها زِيادَةٌ غيرُ مَسْنُونَةٍ للإِمامِ، فلا يُتابِعُه المَأْمُومُ فيها، كالقُنُوتِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى. والرِّوايَةُ الأُولى هي الصَّحِيحَةُ. قال الخلَّالُ: كلُّ مَن روَى عن أبى عبدِ اللهِ يُخالِفُ حَرْبًا. ولَنا، ما رُوِىَ عن زيدِ بنِ أرْقَمَ، أنَّه كَبَّرَ على جِنازَةٍ خَمْسًا، وقال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُها. أخْرَجَه مسلمٌ، ورَواه سعيدٌ (¬1). وفيه: فسُئِلَ عن ذلك، فقال: سُنَّةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى سعيدٌ، بإسْنادِه، عن مَوْلًى لحُذَيْفَةَ، أنَّه كَبَّرَ على جِنازَةٍ خَمْسًا، فقِيلَ له؛ فقال: مَوْلاىَ ووَلِىُّ نِعْمَتِى صَلَّى على جِنازَةٍ وكَبَّرَ عليها خَمْسًا. وذَكَر حُذَيْفَةُ، أنَّ النبيَّ فَعَل ذلك (¬2). وبإسْنادِه، أنَّ عليًّا صلَّى على سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، فكَبَّرَ عليه خَمْسًا. وروَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه [عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ] (¬3)، قال: ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 659. كما أخرجه أبو داود، في: باب التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 187. والترمذى، في: باب ما جاء في التكبير على الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 239. والنسائي، في: باب عدد التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 59/ 4. وابن ماجة، في: باب ما جاء في من كبر خمسًا، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجة 1/ 482. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 367، 368، 370، 371، 372. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من كان يكبر على الجازة خمسا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 303. (¬3) سقط من النسخ. وانظر المغنى 3/ 448.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلُّ ذلك قد كان، أرْبَعًا، وخَمْسًا، وأمَرَ النَّاسَ بأرْبَعٍ (¬1). قال أحمدُ، في إسْنادِ حديثِ زيدِ بنِ أرْقَمَ: إسْنادُه جَيِّدٌ. ومَعْلُومٌ أنَّ المُصَلِّين معه كانُوا يُتابِعُونه. وهذا أوْلَى مِمّا ذَكَرُوه. فأمّا إن زاد على خَمْسٍ، ففيه أيضًا رِوايَتان، إحْدَاهما، لا يُتابِعُه المَأْمُومُ، لأنَّ المَشْهُورَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه خِلافُها. والثانيةُ، يُتابِعُه إلى سَبْعٍ. قال الخَلَّالُ: ثَبَت القَوْلُ عن أبى عبدِ اللهِ أنَّه يُكَبِّرُ مع الإِمامِ إلى سَبْعٍ ثم لا يُزادُ عليه. وهذا قولُ بَكْرِ بنِ عبدِ اللهِ المُزَنِىِّ، لأنَّه رُوِىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كَبَّرَ على حَمْزَةَ سَبْعًا. رَواه ابنُ شاهِينَ (¬2). وَكَبَّرَ عليٌّ على أبى قَتادَةَ (¬3) سَبْعًا (¬4)، وعلى سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وقال: إنَّه بَدْرِيٌّ (¬5). ورُوِىَ أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما يستدل به على أن أكثر الصحابة اجتمعوا على أربع. . . . إلخ، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 37. (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب من زعَم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 13. (¬3) في م: «ابن أبى قتادة». (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 36. وابن أبى شيبة، في: باب من كان يكبر على الجنازة سبعًا وتسعًا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 304. وقال صاحب السنن: هكذا روى وهو غلط لأن أبا قتادة رضى الله عنه بقى بعد على رضى الله عنه مدة طويلة. وقد أورده ابن كثير في ذكر من توفى سنة أربع وخمسين. البداية والنهاية 8/ 68. أما ابن حجر فقد رجح تأخر وفاته. تهذيب الهذيب 12/ 204، الإصابة 7/ 337. (¬5) أخرجه البيهقي، في: باب من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 36. وعبد الرزاق، في: باب التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 480، 481. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في التكبير على الجنازة من كبر أربعا، وفى: باب من كان يكبر على الجنازة سبعًا وتسعًا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 301، 304.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ عنه، جَمَع النَّاسَ فاسْتَشارَهم، فقال بَعْضُهم: كَبَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعًا. [وقال بَعْضُهم: خَمْسًا] (¬1). وقال بَعْضُهم: أرْبَعًا. فجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ على أرْبَعِ تَكْبِيراتٍ، وقال: هو أطْوَلُ الصلاةِ (¬2). وإذا قُلْنا: لا يُتابِعُه. لم يُسَلِّمْ حتَّى يُسَلِّمَ إمامُه. قال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَخْتَلِفُ قولُ أحمدَ إذا كَبَّرَ الإِمامُ زِيادَةً على أرْبَعٍ، أنَّه لا يُسَلِّمُ قبلَ إمامِه، على الرِّواياتِ الثَّلاثِ، بل يَقِفُ ويُسَلِّمُ معه. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال الثَّوْرِىّ، وأبو حنيفةَ: يَنْصَرِفُ، كما لو قام الإِمامُ إلى خامِسَةٍ. قال أبو عبدِ اللهِ: ما أعْجَبَ حالَ الكُوفِيِّين، سُفْيَانُ يَنْصَرِفُ إذا كَبَّرَ الخامِسَةَ، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ خَمْسًا، وفَعَلَه زيدُ بنُ أرْقَمَ، وحُذَيْفَةُ. وقال ابنُ مسعودٍ: كَبِّرْ ما كَبَّرَ إمامُكَ. ولأنَّ هذه زِيادَةٌ مُخْتَلَفٌ فيها، فلم يُسَلِّمْ قبلَ إمامِه إذا اشْتَغَلَ به، كما لو صَلَّى خلفَ مَن يَقْنُتُ في صلاةٍ يُخالِفُه المَأْمُومُ في القُنُوتِ فيها. وهذا يُخالِفُ ما قاسُوا عليه مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ زِيادَةَ الرَّكْعَةِ الخامِسَةِ لا خِلافَ فيه. الثَّانِى، أنَّ الرَّكْعَةَ زِيادَةُ فِعْلٍ، وهذه زِيادَةُ قولٍ. وكلُّ تَكْبِيرَةٍ قُلْنا يُتابَعُ الإمامُ فيها فله فِعْلُها، وما لا فلا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب ما يستدل به على أن أكثر الصحابة اجتمعوا على أربع. . . . إلخ، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن زاد على سَبْعٍ لم يُتابعْه. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال، في رِوايَةِ أبي داودَ: إن زاد على سَبْعٍ فيَنْبَغِى أَن يُسَبَّحَ به، ولا أعْلَمُ أحَدًا قال بالزِّيَادَةِ على سَبْعٍ إلَّا عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ. قال عَلْقَمَةُ: رُوِىَ أنَّ أصحابَ عبدِ اللهِ، قالُوا له: إنَّ أصحابَ مُعاذٍ يُكَبِّرُون على الجَنائِزِ خَمْسًا، فلو وَقَّتَ لنا وَقْتًا (¬1). فقال: إذا تَقَدَّمَكم إِمامٌ، فَكَبِّرُوا ما يُكَبِّرُ، فإنَّه لا وَقْتٌ، ولا عَدَدٌ. رَواه سعيدٌ، والأثْرَمُ (¬2). والصَّحِيحُ أنَّه لا يُزادُ عليها؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحَدٍ مِن أصحابِه، ولكنْ لا يُسَلِّمُ حتَّى يُسَلِّمَ إمامُه؛ لِما ذَكَرْناه. فصل: والأفْضَلُ أن لا يَزِيدَ على أرْبَعٍ؛ لأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ، وأكْثَرُ أهلِ العِلْمِ يَرَوْن التَّكْبِيرَ أرْبَعًا؛ منهم عُمَرُ وابْنُه، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، وجابِرٌ، وابنُ أبي أوْفَى، والحسنُ بنُ عليٍّ، والبَراءُ بنُ عازِبٍ، وأبو هُرَيْرَةَ، وعُقْبَةُ بنُ عامِر، وابنُ الحَنَفِيَّةِ، وعَطاءٌ، والأوْزَاعِيُّ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ ¬

(¬1) أي: قررت عددًا معينا من التكبير. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من ذهب في ذلك مذهب التخيير. . . . إلخ، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على النَّجاشِىِّ أرْبعًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وكَبَّرَ على قَبْرِ بعدَ ما دُفِن أرْبَعًا (¬2). وجَمَع عُمَرُ النّاسَ على أرْبَعٍ. ولأنَ أكْثَرَ الفَرائِضِ لا يَزِيدُ على أرْبَعٍ. فصل: ولا يَجُوزُ النَّقْصُ مِن أرْبَعٍ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه كَبَّرَ على الجِنازَةِ ثَلاثًا (¬3). ولم يُعْجِبْ ذلك أبا عبدِ اللهِ. وقال: قد كَبَّرَ أنَسٌ ثَلاثًا. ناسِيًا، فأعاد. ولأنَّه خِلافُ ما نُقِل عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ الصلاةَ الرُّبَاعِيَّةَ إذا نَقَص (¬4) منها رَكْعَةً، بَطَلَتْ، كذا هُنا. فعلى هذا إن نَقَص منها تَكْبيرَةً عَامِدًا بَطَلَتْ؛ لأنَّه تَرَك واجِبًا فيها عَمْدًا. وإن تَرَكَها سَهْوًا احْتَمَلَ أَن يُعِيدَها، كما فَعَلَ أنَسٌ، واحْتَمَلَ أن يُكَبِّرَها، ما لم يَطُلِ الفَصْلُ، كما لو نسِىَ رَكْعَةً، ولا يُشْرَعُ لها سُجُودُ سَهْوِ في المَوْضِعَيْنِ. فصل: قال أحمدُ: يُكَبِّرُ [على الجِنازَةِ فيَجِيئُون بأُخْرَى، يُكَبِّرُ] (¬5) إلى سَبْعٍ، ثم يَقْطَعُ لا يَزِيدُ على ذلك حتَّى تُرْفَعَ الأرْبَعُ. قال أصحابُنا: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 145. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 658. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب التكبير على الجنازة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 481. وابن أبى شيبة، في: باب من كبر على الجنازة ثلاثًا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 303. (¬4) في م: «أنقص». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كَبَّرَ على جِنازَةٍ، ثم جِئَ بأُخْرَى، كَبَّرَ الثانيةَ عليهما، و (¬1) يَنْوِيهما، فإن جِئَ بثالِثَةٍ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ عليهِنَّ، ونَواهُنَّ، فإن جِئَ برابِعَةٍ، كَبَّرَ الرّابعَةَ عليهنَّ، ونَواهُنَّ، ثم يُكْمِلُ التَّكبِيرَ عليهِنَّ إلى سَبْعٍ، ليَحْصلَ للرّابعَةِ أَرْبَعٌ، إذ لا يَجُوزُ النُّقْصانُ منهُنَّ، ويَحْصُلُ للأُولَى سَبْعٌ، وهو أكْثَرُ ما يَنْتَهِى إليه التَّكْبيرُ، فإن جِئَ بخامِسَةٍ لم يَنْوِها بالتَكْبِيرِ، لأنَه دائِرٌ بينَ أن يَزِيدَ على سَبْعٍ أَو يَنْقُصَ في تَكْبِيرِها عن أرْبَعٍ، وكلاهما لا يَجُوزُ. وهكذا إن جِئَ بثانِيَةٍ بعدَ أن كَبَّرَ الرّابِعَةَ، لم يَجُزْ أن يُكَبِّرَ عليها الخامِسَةَ، لِمَا بَيَّنَّا. فإن أراد أهلُ الجِنازَةِ الأولَى رَفْعَها قبلَ سَلام الإِمامِ لم يَجُزْ، لأنَّ السَّلامَ رُكنٌ لا تَتِمُّ الصلاةُ إلَّا به. إذْا تَقَرَّرَ هذا، فإنَّه يَقْرَأُ في التَّكْبِيرَةِ الخامِسَةِ الفاتِحَةَ، ويُصَلِّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السّادِسَةِ، ويَدْعُو للمَيِّتِ ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في السَّابِعَةِ، ليُكْمِلَ لجَمِيعِ الجَنائِزِ القِراءَةَ والأذْكارَ، كما كَمَّلَ لهُنَّ التَّكْبِيراتِ. وذَكَر ابنُ عَقِيلٍ وَجْهًا، قال: يَحْتَمِلُ أن يُكَبِّرَ ما زاد على الأرْبَعِ مُتَتابِعًا، كما قُلْنا في القَضاءِ للمَسْبُوقِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، لأنَّ ما بعدَ الأُولَى (¬1) جَنائِزُ، فاعْتُبِرَ في الصلاةِ عليهِنَّ شُرُوطُ الصلاةِ، كالأُولَى. ¬

(¬1) في م: «الأول».

780 - مسألة: (ومن فاته شيء من التكبير، قضاه على صفته. وقال الخرقى: يقضيه متتابعا)

وَمَنْ فَاتَهُ شَىْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ [41 و]، قَضَاهُ عَلَى صِفَتِهِ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: يَقضِيهِ مُتَتَابعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 780 - مسألة: (ومَن فاتَه شيءٌ مِن التَّكْبِيرِ، قَضاه على صِفَتِه. وقال الخِرَقِىُّ: يَقْضِيه مُتَتابِعًا) يُسْتَحَبُّ للمَسْبُوقِ في صلاةِ الجِنازَةِ قَضاءُ ما فاتَه منها. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِىِّ، وابنِ سِيرِينَ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأصحابِ الرَّأْىِ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «فَمَا أدْرَكْتُمْا فَصلُّوا» (¬1). وفى لَفْظٍ: «فَأَتِمُّوا» (¬2). وقِياسًا على سائِرِ الصَّلَواتِ. ويَكُونُ القَضاءُ على صِفَةِ الأَداءِ؛ لِما ذَكَرْنا. فعلى هذا إذا أدْرَكَ الإِمام في الدُّعاءِ تابَعَه فيه، فإذا سَلَّمَ الإِمامُ كَبَّرَ، وقَرَأ الفاتِحَةَ، ثم كَبَّرَ وصَلَّى على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم كَبَّرَ وسَلَّمَ. وقال الشافعىُّ: متى دَخَل المَسْبُوقُ في الصلاةِ ابْتَدَأ الفاتِحَةَ، ثم أَتَى بالصلاةِ في الثانِيَةِ. وَوجْهُ الأُولَى أنَّ المَسْبُوقَ في سائِرِ الصلواتِ يَقْرَأُ فيما يَقْضيه الفاتِحَةَ، وسُورَةً على صفَةِ ما فاتَه، فيَنْبَغِى أن يَأْتِىَ ههُنا بالقِراءَةِ على صفَةِ ما فاتَه قِياسًا عليه. وقال الخِرَقِىُّ: يَقْضِيه مُتَتابِعًا. وكذلك رُوِىَ عن أحمدَ، وحَكاه عن إبراهيمَ، قال: يُبادِرُ بالتَّكْبِيرِ مُتَتابِعًا؛ لِما روَى نافِعٌ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: ¬

(¬1) هكذا ويبدو أنَّه سقط منه: «وما فاتكم فاقضوا». ليتسق مع ما بعده. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 395.

781 - مسألة: (فإن سلم ولم يقضه.، فعلى روايتين)

فَإِنْ سَلَّمَ وَلَمْ يَقْضِهِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَقْضِى (¬1) -: فإن كَبَّرَ مُتَتابِعًا فلا بَأْسَ. ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ في الصحابةِ، فكان إجْماعًا. وكذا قال ابنُ المُنْذِرِ: يَقْضِيه مُتَوالِيًا. وقال القاضى، وأبو الخَطّابِ: إن رُفِعَتِ الجِنازَةُ قبلَ إتْمَامِ التَكْبِيرِ قَضاه مُتَوالِيًا، وإن لم تُرْفَعْ قَضاه على صِفَتِه، كما سَبَق. 781 - مسألة: (فإن سَلَّمَ ولم يَقْضِه.، فعلى رِوايَتَيْن) إحْدَاهما، لا تَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ والمَعْنَى. والثانيةُ، تَصِحُّ، اخْتارَهَا الخِرَقِىُّ، لما ذَكَرْنا مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ. وقد رُوِىَ عن عائشةَ، أنَّها قالت: يارسولَ اللهِ، إنى أُصلِّى على الجِنازَةِ، ويَخْفَى علىَّ بعضُ التَّكْبِيرِ؟ قال: «مَا سَمِعْتِ فَكَبِّرِى، وَمَا فَاتَكِ فَلَا قَضاءَ عَلَيْكِ» (¬2). وهذا صَرِيحٌ، ولأنَّها ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يفوته التكبير على الجنازة يقضيه أم لا، من كتاب الجنائز المصنف 3/ 306. (¬2) لم نجده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكْبِيراتٌ مُتَوالِياتٌ حالَ القِيامِ، فلم يَجِبْ قَضاءُ ما فات منها، كتَكْبِيراتِ العِيدِ. وحَدِيثُهم وَرَد في الصَّلَواتِ الخَمْسِ، بدَلِيلِ قَوْلِه في صَدْرِ الحَدِيثِ: «فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ». وفى رِوايَةٍ، سَعَى في جِنازَةِ سعدٍ حتَّى سَقَط رِداؤُه عن مَنْكِبَيْه، فعُلِمَ أنَّه لم يُرِدْ بالحَدِيثِ هذه الصلاةَ. والقِياسُ على سائِرِ الصَّلَواتِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَقْضِى في شيءٍ مِن الصَّلوَاتِ التَّكْبِيرَ المُنْفَرِدَ، ويَبْطُلُ بِتَكْبِيراتِ العِيدِ.

782 - مسألة: (ومن فاتته الصلاة على الجنازة، صلى على القبر إلى شهر)

وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ، صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إِلَى شَهْرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أدْرَكَ الإِمامَ بينَ تَكْبيرَتَيْنِ، فعن أحمدَ، أنَّه يَنْتَظِرُ الإِمامَ حتَّى يُكَبِّرَ معه. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، وإسحاقَ؛ لأنَّ التَّكْبِيراتِ كالرَّكَعاتِ، ثم لو فاتَتْه رَكْعَةٌ، لم يَتَشاغَلْ بِقَضائِهَا، كذلك التَّكْبِيرَةُ. والثانيةُ، يُكَبِّرُ ولا يَنْتَظِرُ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه في سائِرِ الصَّلَواتِ إذا أدْرَكَ الإِمامَ، كَبَّرَ معه، ولم يَنْتَظِرْ، وليس هذا اشْتِغالًا بقَضاءِ ما فاتَه، وإنَّما يُصَلِّى معه ما أدْرَكَه، فيُجْزِئُه ذلك، كالذى يَتَأخَّرُ عن تَكْبِيرِ الإِمامِ قَلِيلًا. وعن مالكٍ كالرِّوايَتَيْن. قال ابنُ المُنْذِرِ: سَهَّلَ أحمدُ في القَوْلَيْن جَمِيعًا. ومتى أدْرَكَ الإِمامَ في التَّكْبِيرَةِ الأُولَى فَكَبَّرَ، وشَرَع في القِراءَةِ، ثم كَبَّرَ الإِمامُ قبلَ أن يُتِمَّها، فإنَّه يُكَبِّرُ ويُتابِعُه، ويَقْطَعُ القِراءَةَ، كالمَسْبُوقِ في بَقِيَّةِ الصَّلَواتِ، إذا رَكَع الإِمامُ قبلَ إتْمَامِه القِراءَةَ. 782 - مسألة: (ومَن فاتَتْه الصلاةُ على الجِنازَةِ، صَلَّى علَى القَبْرِ إلى شَهْرٍ) مَن فاتَتْه الصلاةُ على الجِنازَةِ، فله أن يُصَلِّىَ عليها، ما لم تُدْفَنْ، فإن دُفِنَتْ، فله أن يُصَلِّىَ على القَبْرِ إلى شَهْرٍ. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِىَ ذلك عن أبى موسى، وابنِ عُمَرَ، وعائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم. وهو مَذْهَبُ الأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ. وقال النَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا تُعادُ الصلاةُ على المَيِّتِ، إلَّا للوَلِىِّ إذا كان غائِبًا، ولا يُصلَّى على القَبْرِ إلَّا كذلك، ولو جاز ذلك، لصُلِّىَ على قَبْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جَمِيعِ الأعْصارِ. ولَنا، ما رُوِىَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر رجلًا مات، فقال: «فَدُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ». فأتَى قَبْرَه، فصَلَّى عليهِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عباس، أنَّه مَرَّ مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَبْر مَنْبُوذٍ، فأمَّهم وصَلَّوْا خلفَه (¬2). قال أحمدُ: ومَن يَشُكُّ في الصلاةِ على القَبْرِ! يُرْوَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من سِتَّةِ وُجُوهٍ، كلُّها حِسانٌ. ولأنَّ غيرَ الوَلِىِّ مِن أهلِ الصلاةِ، فسُنَّتْ له الصلاةُ، كالوَلِىِّ، وإنَّما لم يُصَلَّ على قَبْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّه لا يُصَلَّى على القَبْرِ بعدَ شَهْرٍ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، من كتاب الصلاة، وفى: باب الإذن بالجنازة، وباب الصلاة على القبر بعد ما يدفن، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 1/ 124، 2 - 92، 113. ومسلم، في: باب الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 659. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 189. وابن ماجة، في: باب ما جاء في الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجة 1/ 490. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 353، 388. (¬2) أخرجه بألفاظ مختلفة البخاري، في: باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل. . . . إلخ، من كتاب الأذان، وفى: باب الصفوف على الجنازة، وباب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنائز، وباب سنة الصلاة على الجنازة، وباب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، وباب الصلاة على القبر بعد ما يدفن، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 1/ 217، 2/ 109، 110، 111، 112. والترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة على القبر، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 256. والنسائي، في: باب الصلاة على القبر، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُصَلَّى على القَبْرِ بعدَ شَهْرٍ، ويُصَلَّى قبلَه. وبهذا قال بعضُ (¬1) أصحابِ الشافعيِّ. وقال بَعْضُهم: يُصلَّى عليه أَبدًا. واخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى على شُهَداءِ أُحُدٍ بعدَ ثَمانِى سِنِين. حديثٌ صحيحٌ (¬2). وقال بعضُهم: يُصَلَّى عليه ما لم يَبْلَ جَسَدُه. وقال أبو حنيفةَ: يُصَلِّى عليه الوَلِيُّ خاصَّةً إلى ثَلاثٍ. وقال ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 96. وأخرجه بلفظه البخاري، في: باب غزوة أحد، من كتاب المغازى. صحيح البخاري 5/ 120. وأبو داود، في: باب الميت يصلى على قبره بعد حين، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 193. والإمام أحمد، في.: المسند 4/ 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إسحاقُ: يُصَلِّى عليه الغائِبُ إلى شَهْرٍ، والحَاضِرُ إلى ثَلاثٍ. ولَنا، ما روَى سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، أَنَّ أُمَّ سعدٍ ماتَتْ والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - غائِبٌ، فلمَّا قَدِم صَلَّى عليها، وقد مَضَى لذلك شَهْرٌ (¬1). قال أحمدُ: أَكْثَرُ ما سَمِعْتُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى على أُمِّ سعدِ بنِ عُبادَةَ بعدَ شَهْرٍ. ولأنَّها مُدَّةٌ يَغْلِبُ على الظَنِّ بَقاءُ المَيِّتِ فيها، أشْبَهَتِ الثَّلاثَةَ، أو كالغائِبِ. وتَجْوِيزُ الصلاةِ عليه مُطلَقًا باطِلٌ، بأنَّ قَبْرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا يُصَلَّى عليه الآن إجْماعًا، وكذلك التَّحْدِيدُ ببِلَى المَيِّتِ؛ لكَوْنِه عليه السَّلامُ لا يَبْلَى. فإن قِيلَ: فالخَبَرُ دَلَّ على الصلاةِ بعدَ شَهْرٍ، فكيف مَنَعْتُموه؛ قُلْنا: تَحْدِيدُه بالشَّهْرِ يَدُلُّ على أنَّ صَلاتَه، عليه الصلاةُ والسَّلامُ، كانت عندَ رَأْسِ الشَّهْرِ؛ لِيَكُونَ مُقَارِبًا للحَدِّ. وتَجُوزُ الصلاةُ بعدَ الشَّهْرِ قَرِيبًا منه؛ لدَلالَةِ الخَبَرِ عليه، ولا يَجُوزُ بعدَ ذلك؛ لعَدَمِ وُرُودِه فيه. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الصلاة على القبر، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن صَلَّى عليها مَرَّةً، فلا تُسَنُّ له إعادَةُ الصلاةِ عليها. وإذا صُلِّىَ على الجِنازَةِ، لم تُوضَعْ لأَحَدٍ يُصَلِّى عليها، ويُبادَرُ بِدَفْنِها. قال القاضي: إلَّا أن يُرْجَى مَجِئُ الوَلِىِّ فَتُؤخَّرُ، إلَّا أن يُخافَ تَغَيُّرُه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يُنْتظَرُ به أحَدٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في طَلْحَةَ بنِ البَرَاءِ: «عَجِّلُوا بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِى لجِيفَةِ مُسْلِمٍ أنْ تحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ أهْلِهِ» (¬1). وأمّا مَن أدْرَكَ الجِنازَةَ مِمَّن لم يُصَلِّ، فله أن يُصَلِّىَ عليها، فَعَلَه علىٌّ، وأنَسٌ، وسَلْمانُ بنُ رَبِيعَةَ (¬2)، وأبو حَمْزَةَ (¬3)، رَضِىَ اللهُ عنهم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 22. (¬2) هو سلمان بن ربيعة بن يزيد الباهلي، سلمان الخيل، يقال إن له صحبة، قتل سنة خمس وعشرين. تهذيب التهذيب 4/ 136، 137. (¬3) أبو حمزة عيسى بن سليم الحمصي، ثقة صدوق. ذكر أبن حجر أن له عند مسلم حديث عوف بن مالك في الصلاة على الجنازة. تهذيب التهذيب 8/ 211.

783 - مسألة: (ويصلى على الغائب بالنية، فإن كان في أحد جانبى البلد، لم يصل

وَيُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ بالنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَىِ الْبَلَدِ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ، في أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُصَلَّى على القَبْرِ، وتُعادُ عليه الصلاةُ جَماعَةً وفُرادَى. نَصَّ عليهما أحمدُ. وقال: وما بَأْسٌ بذلك، قد فَعَلَه عِدَّةٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وفى حديثِ ابنِ عباسٍ، قال: انْتَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى قَبْرِ رَطْبٍ، فصَفّوا خلفَه، فكَبَّرَ أرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). 783 - مسألة: (وَيُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ بالنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَ في أَحَدِ جَانِبَىِ الْبَلَدِ، لَمْ يُصَلَّ (¬2) عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ، في أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ). تَجُوزُ الصلاةُ على الغائِبِ في بَلَدٍ آخَرَ بالنِّيَّةِ، بَعِيدًا كان البَلَدُ أو قَرِيبًا، فيَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 178. (¬2) في م: «تصح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُصَلِّى عليه كصلاتِه على الحاضِرِ، وسَواءٌ كان المَيِّتُ في جِهَةِ القِبْلَةِ أو لم يَكُنْ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ. وحَكَى ابنُ أبى موسى، عن أحمدَ رِوايَةً كقَوْلِهما، لأنَّ (¬1) مِن شَرْطِ الصلاةِ على الجِنازَةِ حُضُورَهَا، بدَلِيلِ ما لو كان في البَلَدِ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجاشِىَّ صاحِبَ الحَبَشَةِ في اليومِ الَّذي مات فيه، وصَلَّى بهم بالمُصلَّى، فكَبَّرَ عليه أرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فإن قِيلَ: فيَحْتَمِلُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زُوِيَتْ له الأرْضُ، فأُرِىَ الجِنازَةَ. قُلْنا: «لم يُنْقَلْ ذلك، ولو كان لأخْبَرَ به، ولَنا، الاقْتِداءُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يَثْبُتْ ما يَقْتَضِى اخْتِصاصَه، ولأنَّ المَيِّتَ مع البُعْدِ لا تَجُوزُ الصلاةُ عليه وإن رُئِىَ، ثم لو اخْتَصَّتِ الرُّؤْيَةُ بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لاخْتَصَّتِ الصلاةُ به، وقد صَفَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه فصَلَّى بهم. فإن قِيلَ: لم يَكُنْ بالحَبَشَةِ مَن يُصَلِّى عليه. قُلْنَا: ليس هذا مَذْهَبَكم، فإنَّكم لا تُجِيزُونَ الصلاةَ على الغَرِيقِ، والأسِيرِ، وإن كان لم يُصَلَّ عليه، ولأنَّ هذا بَعِيدٌ، لأنَّ النَّجاشِىَّ كان مَلِكَ الحَبَشَةِ، وقد أظْهَرَ إسْلامَه، فيَبْعُدُ أنَّه لم يُوافِقْه أحَدٌ يُصَلِّى عليه. ¬

(¬1) في م: «ليس». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المَيِّتُ في أحَدِ جانِبَىِ البَلَدِ، لم يُصَلِّ عليه مَن في الجانِبِ الآخَرِ، في أصَحِّ الوَجْهَيْنِ. اخْتارَه أبو حَفْصٍ البَرْمَكِىُّ، لأنَّه يُمْكِنُه الحُضُورُ للصلاةِ عليه، أو على قَبْرِه، أشْبَهَ ما لو كانا في جانِبٍ واحِدٍ. والثَّانِى، يَجُوزُ كما لو كان في بَلَدٍ آخَرَ. وقد رُوِىَ عن ابنِ حامِدٍ، أنَّه صَلَّى على مَيِّتٍ مات في أحَدِ جانِبَى بَغْدادَ، وهو في الآخَرِ. فصل: وتَتَوَقَّتُ الصلاةُ على الغائِبِ بشَهْرٍ، كالصلاةِ على القَبْرِ، لأنَّه لا يُعْلَمُ بَقاؤُه مِن غيرِ تَلاشٍ أكْثَرَ مِن ذلك. فعلى هذا قال ابنُ عَقِيلٍ

784 - مسألة: (ولا يصلى الإمام على الغال، ولا من قتل نفسه)

وَلَا يُصَلِّى الإْمَامُ عَلَى الْغَالِّ، وَلَا عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ، في أكِيلِ السَّبُعِ، والمُحْتَرِقِ بالنّارِ: يَحْتَمِلُ أن لا يُصَلَّى عليه؛ لذَهابِه، ويُصَلَّى على الغَرِيقِ، إذا غَرِق قبلَ الغُسْلِ، كالغائِبِ البَعِيدِ، لأنَّ الغُسْلَ تَعَذَّرَ لمانِعٍ، أشْبَهَ الحَىَّ إذا عَجَز عن الغُسْلِ والتَيّمَّمِ، صَلَّى على حَسَبِ حالِه. 784 - مسألة: (ولا يُصَلِّى الإِمامُ على الغالِّ، ولا مَن قَتَل نَفْسَه) الغَالُّ، هو الَّذي يَكْتُمُ غَنِيمَتَه أو بعضَها، ليَأْخُذَها لنَفْسِه ويَختَصَّ بها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا لا يُصَلِّى عليه الإِمامُ، ولا على قاتِلِ نَفْسِه عَمْدًا. ويُصَلِّى عليهما سائِرُ النّاسِ. نَصَّ على هذا أحمدُ. وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، والأوْزاعِىُّ: لا يُصَلَّى على قاتِلِ نَفْسِه بحالٍ؛ لأنَّ مَن لا يُصلِّى عليه الإِمامُ لا يُصَلِّى عليه غيرُه، كشَهِيدِ المَعْرَكَةِ. وقال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والشافعىُّ: يُصَلِّى الإِمامُ وغيرُه على جَمِيعِ المُسْلِمِين؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ». رَواه الخَلَّالُ بإسْنَادِه (¬1). ولَنا، ما روَى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءُوه برجلٍ قد قَتَل نَفْسَه بمَشاقِصَ (¬2)، فلم يُصَلِّ عليه. رَواه مسلمٌ (¬3). وروَى أبو داودَ نحوَه (¬4). وعن زيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنِىِّ، قال: تُوُفِّىَ رجلٌ مِن جُهَيْنَةَ يومَ خَيْبَرَ، فذُكِرَ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ». فتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ القَوْمِ. فلمّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 39. (¬2) المشقص: سهم ذو نصل عريض. (¬3): باب ترك الصلاة على القاتل نفسه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 672. كما أخرجه النسائي، في: باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 53. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 87، 94، 97، 107. (¬4) في: باب الإمام لا يصلى على من قتل نفسه، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأى ما بهم قال: «إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ» (¬1). احْتَجَّ به أحمدُ. واخْتَصَّ الامْتِناعُ بالإِمامِ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا امْتَنَعَ مِن الصلاةِ على الغالِّ، قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». ورُوِىَ أنَّه أمَرَ بالصلاةِ على قاتِلِ نَفْسِه، وكان - صلى الله عليه وسلم - هو الإمامَ، فأُلحِقَ به مَن ساواه في ذلك، ولا يَلْزَمُ مِن تَرْكِ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ صلاةِ غيرِه؛ فإنَّه كان في بَدْءِ الإِسْلامِ لا يُصَلِّى على مَن عليه دَيْنٌ لاوَفاءَ له، ويَأْمُرُهم بالصلاةِ عليه. فإن قِيلَ: هذا خاصٌّ بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ صَلَاتَه سَكَنٌ. قُلْنا: ما ثَبَت في حَقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثَبَت في حَقِّ غيرِه، ما لم يَقُمْ على اْختِصاصِه به دَلِيلٌ. فإن قِيلَ: فقد تَرَك النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ على مَن عليه دَيْنٌ. قُلْنا: ثم صَلَّى عليه بعدُ، فرَوَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤْتَى بالرجلِ المُتَوَفَّى عليه الدَّيْنُ، فيَقُولُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَينِهِ مِنْ وَفَاءٍ؟». فإن حُدِّثَ أنَّه تَرَك وَفاءً صَلَّى عليه، وإلَّا قال للمُسْلِمِين: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». فلمَّا فَتَح الله الفُتوحَ قام، فقالَ: «أنَا أوْلَى بِالْمُومِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّىَ مِنَ الْمُومِنِينَ، وَتَرَكَ دَيْنًا ¬

(¬1) أخرجه أبوداود، في: باب في تعظيم الغلول، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 62. والنسائي، في: باب الصلاة على من غل، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 52. وابن ماجة، في: باب الغلول، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجة 2/ 950. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 114.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ صحِيحٌ. ولولا النَّسْخُ كان كمَسْأَلَتِنا، وهذه الأحادِيثُ خاصَّةٌ، فيَجِبُ تَقْدِيمُها على قَوْلِه: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلهَ إلَّا اللهِ». فصل: قال أحمدُ: لا أشْهَدُ الجَهْمِيَّةَ (¬2) ولا الرَّافِضَةَ (¬3)، ويَشْهَدُه مَن شاء، قد تَرَك النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ على أقَلَّ مِن ذا؛ الدَّيْنِ، والغُلُولِ، وقاتِلِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في باب الدين، من كتاب الكفالة، وفي: باب الصلاة على من ترك دينا، من كتاب الاستقراض: وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك كلا أو ضياعًا فإلىَّ، من كتاب النفقات، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك مالًا فلأهله، باب ميراث الأسير، من كتاب الفرائض. صحيح البخارى 3/ 128، 155، 7/ 86، 87, 8/ 187، 193، 194، ومسلم في: باب من ترك مالا فلورثته، من كتاب الفرائض. صحيح مسلم 3/ 1237، 1238. وأبو داود، في: باب في ميراث ذوى الأرحام، من كتاب الفرائض، وفى: باب أرزاق الذرية، من كتاب الإجارة، وفى باب في التشديد في اليمين، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 111، 123، 221. الترمذى، فَى: باب ما جاء في الصلاة على المديون، من أبواب الجنائز، وفى: باب ما جاء من ترك مالا فلورثته، من أبواب الفرائض. عارضة اللأحوذي، 4/ 291، 8/ 239. والنسائي، في: باب الصلاة على من عليه دين، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 53. وابن ماجة، في: باب من ترك دينا أو ضياعا. . . .، من كتاب الصدقات، في: باب ذوى الأرحام، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجة 2/ 807، 915. . . . والإمام أحمد، في: المسند 2/ 290، 453، 456، 3/ 296، 371، 4/ 131. (¬2) الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان، وهو من الجبرية الخالصة، الذين ينفون الفعل حقيقة عن العبد، ويضيفونه إلى الله تعالى. الملل والنحل 1/ 135. (¬3) كان من مذهب زيد على جواز إمامة المفضول، فأجاز إمامة الشيخين أبي بكر وعمر، فلما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة رفضوه، فسموا رافضة. الملل والنحل 1/ 304 - 306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسِه. وقال: لا يُصَلَّى على الرَافِضِىِّ. وقال أبو بكرِ بنُ عَيّاشٍ: لا أُصَلِّى على رافِضِىٍّ، ولا حَرُورِىٍّ (¬1). وقال الفِرْيابِىُّ (¬2): مَن شَتَم أبا بكرٍ فهو كافِرٌ، لا يُصَلَّى عليه. قِيلَ له: فكيف تَصْنَعُ به، وهو يَقُولُ: لا إلهَ إلاَّ اللَهُ؟ قال: لا تَمَسُّوه بأيْدِيكم، ادْفَعُوه بالخُشُبِ حتَّى تُوارُوه. وقال أحمدُ: أهلُ البِدَعِ لا يُعادُون إن مَرِضُوا، ولا تُشْهَدُ جَنائِزُهم إن ماتُوا. وهو قَوْلُ مالكٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وسائِرُ العُلَماءِ يُصَلُّون على أهلِ البِدَعِ والخَوَارِجِ وغيرِهم، لعُمُومِ قولِه عليه السَّلامُ: «صَلُّوا عَلَى مَن قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ» (¬3). ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك الصلاةَ بأدْوَنَ مِن هذا، فأوْلَى أن تُتْرَكَ الصلاةُ به، وروَى ابنُ عُمَرَ أنَّ رسولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسًا، وإنَّ مَجُوسَ أُمَّتِى الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ، فَإنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإنْ مَاتُوا فلا تَشْهَدُوهُمْ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬4). ¬

(¬1) الحرورية أتباع نجدة عامر الحرورى الحنفى، وهم فرقة من الخوارج. الملل والنحل 1/ 212. (¬2) أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابى الحافظ، شيخ البخاري، المتوفى سنة اثنتى عشرة ومائتين. العبر 1/ 363. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 39. (¬4) في: المسند 2/ 86، 125 كما أخرجه أبو داود مختصرا، في: باب في القدر، من كتاب السنة سنن أبى داود 2/ 524.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُصَلَّى على أطْفالِ المُشْرِكِين، لأنَّ لهم حُكْمَ آبَائِهم، إلَّا مَن حَكَمْنا؛ بإسْلامِه، بأن يُسْلِمَ أحدُ أبَوَيْه، أو يَمُوتَ، أو يُسْبَى مُنْفَرِدًا مِن أَبوَيْه، أو مِن أحَدِهما، فإنَّه يُصَلَّى عليه. وقال أبو ثَوْرٍ، في مَن سُبِىَ مع أحَدِ أبَوَيْه: لا يُصَلَّى عليه، حتَّى يَخْتارَ الإِسْلَامَ. ولَنا، أنَّه مَحْكُومٌ بِإسْلامِهِ، أشْبَهَ مَن سُبِىَ مُنْفَرِدًا منهما. فصل: ويُصَلَّى على سائِرِ المُسلمين، أهْلِ الكَبائِرِ، والمَرْجُومِ في الزِّنَا، وغيرِهم. قال أحمدُ: مَن اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وصَلَّى صَلاتَنا، نُصَلِّى عليه ونَدْفِنُه. ويُصَلَّى على وَلَدِ الزِّنا، والزّانِيَةِ، والذي يُقادُ منه في القِصاصِ، أو يُقْتَلُ في حَدٍّ. وسُئِل عمَّن لا يُعْطِى زَكاةَ مالِه، قال: يُصَلَّى عليه، ما نَعْلَمُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك الصلاةَ على أحَدٍ، إلَّا على قاتِلِ نَفْسِه والغالِّ. وهذا قولُ عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: لا يُصَلَّى على البُغاةِ، ولا على المُحارِبِين، لأنَّهم بايَنُوا أهلَ الإِسْلامِ، أشْبَهُوا أهلَ دارِ الحَرْبِ. وقال مالكٌ: لا يُصَلَّى على مَن قُتِل في حَدٍّ، لأنَّ أبا بَرْزَةَ الأسْلَمِىَّ قال: لم يُصَلِّ رسولُ اللهِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - على ماعِزِ بنَ مالكٍ، ولم يَنْهَ عن الصلاةِ عليه. رَواه أبو داودَ (¬1). ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا الله». رَواه الخَلَّالُ. وروَى عن أبى شُمَيْلَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَج إلى قُباءَ، فاسْتَقْبَلَه رَهْطٌ مِن الأنْصارِ، يَحْمِلُون جِنازَةً على بابِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا هذَا؟» قالُوا: مَمْلُوكٌ لآلِ فُلانٍ. قال: «أكَانَ يَشْهدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّااللهُ؟» قالُوا: نعم، ولكنَّه كان وكان. فقالَ: «أكَانَ يُصَلِّى؟» قالُوا: قد كان يُصَلِّى ويَدَعُ. فقالَ لهم: «ارْجِعُوا بِهِ، فَغَسِّلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ، وَادْفِنُوهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ كَادَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنِى وبَيْنَهُ» (¬2). وأمّا أهلُ الحَرْبِ فلا يُصَلَّى عليهم؛ لكُفْرِهم، لا تُقْبَلُ فيهم شَفاعَةٌ، ولا يُسْتَجابُ فيهم دُعاءٌ، وقد نُهِينا عن الاسْتِغْفارِ لهم. وأمّا تَرْكُ الصلاةِ على ماعِزِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك الصلاةَ عليه لعُذْرٍ؛ بدَلِيلِ أنَّه صَلَّى على الغامِدِيَّةِ، فقالَ له عُمَرُ: تَرْجُمُها، وتُصَلِّى عليها؟ فقالَ: «لَقَد تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» (¬3). كذلك ¬

(¬1) في: باب الصلاة على من قتلته الحدود، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 184. (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 539. وعزاه الهيثمى إلى الطبراني في الكبير. مجمع الزوائد 3/ 41، 42. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنا، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1323، 1324. وأبو داود، في: باب في المرأة التى أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 462، 463. والترمذى، في: باب تربص الرجم بالحبلى حتى تضع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 211. والنسائي، في: باب الصلاة على المرجوم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 51. والدارمى، في: باب الحامل إذا اعترفت بالزنا، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 180. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 430، 435، 437، 440.

785 - مسألة: (وإن وجد بعض الميت، غسل وصلى عليه.

وَإنْ وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ، غُسِّلَ وَصُلِّىَ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ، لَا يُصَلَّى عَلَى الْجَوَارِحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه الأوْزاعِىُّ. وروَى مَعْمَرٌ، وهِشامٌ، أنَّه أمَرَهم بالصلاةِ عليها. واللهُ أعلمُ. 785 - مسألة: (وإن وُجِد بَعْضُ المَيِّتِ، غُسِّلَ وصُلِّىَ عليه. وعَنْهُ، لا يُصَلَّى على الجَوارِحِ) هذا المَشْهُورُ في المَذْهبِ. هو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وعنه، لا يُصَلَّى على الجَوارِحِ. نَقَلَهَا عنه ابنُ مَنْصُورٍ. قال الخَلَّالُ: ولَعَلَّه قولٌ قَدِيمٌ لأبي عبدِ اللهِ، والأوَّلُ الذى اسْتَقَرَّ عليه قَوْلُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: إن وُجِد الأكْثَرُ صُلِّىَ عليه، وإلَّا فلا؛ لأنَّه بَعْضٌ لا يَزِيدُ على النِّصْفِ، فلم يُصَلَّ عليه، كالذى بان في حَياةِ صاحِبِه، والشَّعَرِ والظُّفْرِ. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ، رَضِىَ الله عنهم، قال أحمدُ: صَلَّى أبو أيُّوبَ على رِجْل، وصَلَّى عُمَرُ على عِظامٍ بالشّامِ، وصَلَّى أبو عُبَيْدَةَ على رُءوس بالشامِ. رَواهما عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، بإسْنادِه (¬1). وقال الشافعىُّ: ألْقَى طائِرٌ يَدًا بمَكَّةَ مِن وَقْعَةِ الجَمَلِ، عُرِفَتْ بالخَاتمِ، وكانت يدَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَتّابِ بنِ أسِيدٍ، فصَلَّى عليها أهلُ مَكَّةَ (¬2). وكان ذلك بمَحْضَرٍ مِن الصحابةِ، ولم نَعْرِفْ مِن الصحابةِ مُخالِفًا في ذلك، ولأنَّه بعضٌ مِن جُمْلَةٍ تَجِبُ الصلاةُ عليها، فيُصَلَّى عليه، كالأكْثَرِ، وفارَقَ ما بان في الحَياةِ، لأنَّه مِن جُمْلَةٍ لا يُصَلَّى عليها، والشَّعَرُ. والظُّفْرُ لا حَياةَ فيه. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف 3/ 356. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب ما ورد في غسل بعض الأعضاء. . . . إلخ، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وُجد الجُزْءُ بعدَ دَفْنِ المَيِّتِ، غُسِّل وصُلِّىَ عليه، ودُفِن إلى جانِبِ القَبْرِ، أَو نُبِش بعضُ القَبْرِ ودُفِن فيه، ولا حاجَةَ إلى كَشْفِ المَيِّتِ؛ لأنَّ ضَرَرَ نَبْشِ المَيِّتِ وكَشْفِه أعْظَمُ مِن الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أجْزائِه.

786 - مسألة: (وإن اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه، صلى على الجميع، ينوى من يصلى عليه)

وَإنِ اخْتَلَطَ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِمَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، صُلِّىَ عَلَى الْجَمِيعِ، يَنْوِى مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 786 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَطَ مَن يُصَلَّى عليه بمَن لا يُصَلَّى عليه، صُلِّىَ على الجَمِيعِ، يَنْوِى مَن يُصَلَّى عليه) قال أحمدُ: ويَجْعَلُهم بينَه وبينَ القِبْلَةِ، ثم يُصَلِّى عليهم. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان المسلمون أكْثَرَ، صَلَّى عليهم، وإلَّا فلا؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالأكْثَرِ؛ بدَلِيلِ أنَّ دارَ المسلمين الظّاهِرُ فيها الِإسْلامُ؛ لكَثْرَةِ المسلمين بها، وعَكْسُها دارُ الحَرْبِ؛ لكَثْرَةِ الكُفّارِ بها. ولَنا، أنَّه أمْكَنَ الصلاةُ على المسلمين مِن غيرِ ضَرَرٍ، فوَجَبَ، كما لو كانُوا أكْثَرَ، ولأنَّه إذا جاز أن يَقْصِدَ بصَلاِته ودُعائِه الأكْثَرَ، جاز أن يَقْصِدَ الأقَلَّ، ويِبْطُلُ ما قالُوه بما إذا اخْتَلَطَتْ أُخْتُه بأجْنَبِيّاتٍ، أو مَيْتَةٌ بمُذَكَّياتٍ، فإنَّه يَثْبُتُ الحُكْمُ للأقَلِّ، دُونَ الأكْثَرِ. فصل: وإن وُجِد مَيِّتٌ، فلم يُعْلَمْ أمُسْلِمٌ هو أم كافِرٌ؟ نَظَر إلى العَلاماتِ؛ مِن الخِتانِ، والثِّيابِ، والخِضابِ، فإن لم يَكُنْ عليه عَلامَةٌ، وكان في دارِ الِإسْلامِ غُسِّلَ، وصُلِّىَ عليه. وإن كان في دارِ الكُفْرِ، لم يُغَسَّلْ، ولم يُصَلَّ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ الأصْلَ أنَّ مَن كان في دارٍ، فهو مِن أهْلِها، يَثْبُتُ له حُكْمُهم مالم يَقُمْ على خِلافِه دَلِيلٌ.

787 - مسألة: (ولا بأس بالصلاة على الميت فى المسجد)

وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِى الْمَسْجِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 787 - مسألة: (ولا بَأْسَ بالصلاةِ على المَيِّتِ في المَسْجِدِ) [تَجُوزُ الصلاةُ على المَيِّتِ في المَسْجِدِ] (¬1) إذا لم يُخَفْ تَلْوِيثُه. وبهذا قال الشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ. وكَرِه ذلك مالكٌ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّه رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ صَلَّى عَلَىِ جنَازَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَلَا شَىْءَ لَهُ». رَواه أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬2). ولَنا، ما روَى مسلمٌ (¬3) وغيرُه.، عن عائشةَ، رَضىَ اللهُ عنها، قالَتْ: ما صَلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على سُهيْلِ بنِ بَيْضَاءَ إلَّا في المَسْجِدِ. وروَى سعيدٌ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ العزِيزِ بنُ محمدٍ، عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، قال: صُلِّىَ على أبى بكر في المَسْجِدِ (¬4). وقال: حَدَّثَنَا مالكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) المسند 2/ 444، 455، 505. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 185. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة على الجنائز في المسجد، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 486. (¬3) في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 668.كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 185. والنسائى، في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 55. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة على الجنائز في المسجد، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 486. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 526.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ، قال: صُلِّىَ على عُمَرَ بالمَسْجِدِ (¬1). وهذا كان بمَحْضَرٍ مِن الصحابةِ، رَضِىَ الله عنهم، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، ولأنَّها صلاةٌ فلم يُمْنَعْ منها في المَسْجِدِ، كسائِرِ الصَّلواتِ، وحديثُهم يَرْوِيه صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأمَةِ. وقد قال فيه ابنُ عبدِ البَرِّ: مِن أهلِ العلمِ مَن لا يَحْتَجُّ بحَدِيثه أصْلًا؛ لضَعْفِه، ومنهمِ مَن يَقْبَلُ منه ما رَواه عن ابنِ أبى ذِئْبٍ خاصَّةً. ثم يُحْمَلُ على مَن خِيفَ منه الانْفِجارُ، وتَلْوِيثُ المَسْجِدِ. فصل: فأمَّا الصلاةُ على الجنازَةِ في المَقْبَرَةِ، ففيها رِوايتان؛ إحْداهما، لا بَأْسَ بها؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -صَلَّى على قَبْرِ وهو في المَقْبَرَةِ (¬2). وقال ابنُ المُنْذِرِ: ذَكَر نافِعٌ، أنَّه صُلِّىَ على عائشةَ، وأُمِّ سَلَمَةَ وَسَطَ قُبُورِ البَقِيعِ؛ صَلِّى على عائشةَ أبو هُرَيْرَةَ، وحَضَر ذلك ابنُ عُمَرَ (¬3)، وفَعَلَه عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، يُكْرَهُ. رُوِىَ ذلك عن عَلىٍّ، وعبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وابنِ عباس، وبه قال عَطَاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْأرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ والْحَمَّامَ» (¬4). ولأنَّه ليس بمَوْضِعٍ لصلاةٍ غيرِ صلاةِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب الصلاة على الجنائز في المسجد، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 230. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 178. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب هل يصلى على الجنازة وسط القبور، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 525. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 297.

788 - مسألة: (وإن لم يحضره إلا النساء صلين عليه)

وِإنْ لَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُ النِّسَاءِ صَلَّيْنَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنازَةِ، فَكُرِهَتْ فيه صلاةُ الجِنازَةِ، كالحَمَّامِ. 788 - مسألة: (وإن لم يَحْضُرْه إلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عليه) لأنَّ عائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، أمَرَتْ أن يُؤْتَى بسعدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ؛ لتُصَلِّىَ عليه. ولأنَّ الصلاةَ على المَيِّتِ صلاةٌ مَشْرُوعَةٌ، فتُشْرَعُ في حَقِّهِنَّ، كسائِرِ الصَّلَواتِ.

789 - مسألة: (يستحب التربيع فى حمله)

فَصْلٌ فِى حَمْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ: يُسْتَحَبُّ التَّرْبِيعُ فِى حَمْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ قَائِمَةَ السَّرِيرِ الْيُسْرَى الْمُقَدَّمَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَى الْمُؤَخِّرَةِ، ثُمَّ يَضَعِ قَائِمَتَهُ الْيُمْنَى الْمُقَدَّمَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَى الْمُؤَخرَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في حَمْلِ المَيِّتِ وَدفْنِه: 789 - مسألة: (يُسْتَحَبُّ التَّرْبِيعُ في حَمْلِهِ) ومَعْناه الأخْذُ بقَوائِمِ السَّرِيرِ الأرْبَعِ. وهو سُنَّةٌ؛ لقَوْلِ ابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللهُ عنه: إذَا اتَّبَعَ أحَدُكم جِنازَةً، فلْيَأْخُذ بجَوانِبِ السَّريرِ الأرْبعِ، ثم لْيَتَطَوَّعْ بعدُ أو لِيَذَرْ، فإنَّه مِن السُّنَّةِ. رَواه سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬1). وهذا يَقْتَضِى سنَّةَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. 790 - مسألة؛ قال: (وهو أن يَضَعَ قائِمَةَ السَّرِيرِ اليُسْرَى المُقَدَّمَةَ ¬

(¬1) وأخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في شهود الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 474.

791 - مسألة: (وإن حمل بين العمودين فحسن)

وَإنْ حَمَلَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فَحَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على كَتِفِه اليُمْنَى، ثم يَنْتَقِلَ إلى المُؤَخَّرَةِ، ثم يَضَعَ قَائِمَتَه اليُمْنَى المُقَدَّمَةَ على كَتِفِه اليُسْرَى، ثم يَنْتَقِلَ إلى المُؤخَّرَةِ) هذا صِفَةُ التَّرْبِيعِ في المَشْهُورِ في المَذْهبِ. اخْتارَه الخِرَقِىُّ، وإليه ذَهَب أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، أنَّه يَدُورُ عليها، فيأخُذُ بعدَ يَاسِرَةِ المُؤخَّرَةِ يامِنَةَ المُؤخَّرَةِ ثم المُقَدَّمَةَ. وهو مَذْهبُ إِسحاقَ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، وسعيدِ بن جُبَيْرٍ، وأيُّوبَ. ولأنَّه أخَفُّ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه أحَدُ الجانِبَيْن، فيَنْبَغِى أَن يَبْدأ فيه بمُقَدَّمِه، كالأوَّلِ. 791 - مسألة: (وإن حَمَل بينَ العَمُودَيْن فحَسَنٌ) حَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن عثمانَ، وسعدِ بنِ مالكٍ، وابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيْرَةَ، وابن

792 - مسألة: (ويستحب الإسراع بها)

وَيُسْتَحَبُّ الإسْرَاعُ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الزُّبَيْرِ. وقال به الشافعىُّ، وأحمدُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وكَرِهَه النَّخَعِىُّ، والحسنُ، وأبو حنيفةَ، وإسحاقُ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الصحابةَ، رَضِىَ الله عنهم، فَعَلُوه، وفيهم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وقال مالكٌ: ليس في حَمْلِ المَيِّتِ تَوْقِيتٌ، يَحْمِلُ مِن حيث شاء. ونَحْوَه قال الأوْزاعِىُّ. واتِّباعُ الصحابةِ، رَضِىَ اللهُ عنهم، فيما فَعَلُوه وقالُوه أحْسَنُ. 792 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ الِإسْراعُ بها) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا بينَ الأئِمَّةِ، رَحِمَهم الله؛ وذلك لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإنْ تَكُنْ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). واخْتَلَفُوا في الِإسْراعِ المُسْتَحَبِّ، فقال القاضى: هو إسْراعٌ لا يَخْرُجُ عن المَشْىِ المُعْتادِ. وهو قولُ الشافعىِّ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: يَخُبُّ ويَرْمُلُ؛ لِما روَى أبو داودَ (¬2)، عن عُيَيْنَةَ ابنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه. قال: كُنَّا في جنازَةِ عثمانَ بنِ أبى العاصِ، وكُنَّا نَمْشِى مَشْيًا خَفِيفًا؛ فلَحِقَنا أبو بَكْرَةَ (¬3)، فرَفَعَ سَوْطَه، فقال: لقد رَأيْتُنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَرْمُلُ رَمَلًا. ولَنا، ما روَى أبو سعيد، عن النبيِّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب السرعة بالجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 108. ومسلم، في: باب الإسراع بالجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 651، 652. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإسراع بالجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 183. والترمذى، في: باب ما جاء في الإسراع بالجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 233. والنسائى، في: باب السرعة بالجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 34. وابن ماجه، في: باب ما جاء في شهود الجنائز. من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 474. والإمام مالك، في: باب جامع الجنائز، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 243. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 240، 280، 488. (¬2) في: باب في الِإسراع بالجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 183. كما أخرجه النسائى، في: باب السرعة بالجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 35. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 36 - 38. (¬3) في م: «أبو بكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه مُرَّ عليه بجِنازَةٍ تُمْخَضُ مَخْضًا (¬1)، فقالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِى جَنَائِزِكُمْ». رَواه الِإمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬2). ولأنَّ الِإسْرافَ في الِإسْراعِ يَمْخُضُها، ويُوْذِى حامِلِيها ومُتَّبِعِيها، ولا يُؤْمَنُ على المَيِّتِ. وقال ابنُ عباس في جِنازَةِ مَيْمُونَةَ: لا تُزَلْزِلُوا، وارْفُقُوا، فإنَّها أمُّكُمْ (¬3). فصل: واتِّباعُ الجَنائِزِ سُنَّةٌ؛ لقَوْلِ البَراءِ: أمَرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - باتِّباعِ الجَنائِزِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). واتِّبَاعُ الجَنائِزِ على ثَلاَثةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، أن يُصَلِّىَ عليها ثم يَنْصَرِفَ. قال زيدُ بنُ ثابِتٍ: إذا صَلَّيْتَ فقد قَضَيتَ الذى عليك (¬5). وقال أبو داودَ: - رَأيْتُ أحمدَ مالا أُحْصِى صَلَّى على جَنائِزَ، ولم يَتْبَعْها إلى القَبْرِ، ولم يَسْتأْذِنْ. الثانِى، أن يَتْبَعَها إلى القَبْرِ، ثم يَقِفَ حتى تُدْفَنَ؛ لقَوْلِ رسوَلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصِلِّىَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ». قِيلَ: وما القِيرَاطَان؟ قال: ¬

(¬1) تمخص مخضا: تتحرك شديدًا. (¬2) مسند أحمد 4/ 406 عن أبى موسى. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في شهود الجنازة؛ من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 475. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المشى بالجنازة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 442. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 7. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب انصراف الناس من الجنازة قبل أن يؤذن لهم، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 514. وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يصل على الجنازة له أن لا يرجع حتى يؤذن له، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبى شيبة 3/ 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). الثالثُ، أن يَقِفَ بعدَ الدَّفْنِ، فيَسْتَغْفِرَ له، ويَسْألَ اللهَ له التَّثْبِيتَ، ويَدْعُوَ له بالرَّحْمَةِ، فإنَّه رُوِىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا دَفَن مَيِّتًا وَقَف، فقالَ: «اسْتَغْفِرُوا لَهُ (¬2)، وَاسْألُوا الله لَهُ التَّثبِيتَ، فإنَّهُ الْآنَ يُسْألُ». رَواه أبو داودَ (¬3). ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يقْرَأُ عندَه عندَ الدَّفْنِ أوَّلَ البَقَرَةِ وخاتِمَتَها. ويُسْتَحَبُّ لمُتَّبعِ الجنازَةِ أن يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَفَكِّرًا في مَآلِه (¬4) مُتَّعِظًا بالمَوْتِ، وبما يَصِيرُ إليه المَيِّتُ، لا يَتَحَدَّثُ بأحَاديثِ الدُّنْيَا، ولا يَضْحَكُ. قال سعدُ بنُ مُعاذٍ: ما تَبِعْتُ جِنازَةً فحَدَّثْتُ نَفْسِى بغيرِ ما هو مَفْعُولٌ بها. ورَأى بعضُ السَّلَفِ رجلًا يَضْحَكُ في جِنازَةٍ، فقالَ: تَضْحَكُ وأنت تَتْبَعُ الجنازَة؟! لا كَلَّمْتُك أبَدًا. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل اتباع الجنائز، وباب من انتظر حتى تدفن، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 110. ومسلم، في: باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 652. كما أخرجه أبو داود، في: باب فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 180. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل الصلاة على الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 261. والنسائى، في: باب فضل من تبع جنازة، وباب ثواب من صلى على جنازة، من كتاب الجنائز، وفى: باب شهود الجنائز، من كتاب الإيمان. المجتبى 4/ 44، 63، 8/ 106. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ثواب من صلى على جنازة ومن انتظر دفنها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 491. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 2، 3، 31، 144، 233، 246، 273، 280، 387، 401، 430، 458، 470، 475، 480، 493، 498، 503، 521، 3/ 20، 97، 27، 4/ 294، 5/ 131. (¬2) في م: «الله». (¬3) في: باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 192. (¬4) في م: «حاله».

793 - مسألة: (و)

وَيَكُونُ الْمُشَاةُ أَمَامَهَا، وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا [41 ظ]، ـــــــــــــــــــــــــــــ 793 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ أن (يَكُونَ المُشاةُ أمامَها، والرُّكْبانُ خلفَها) أكْثَرُ أهلِ العلمِ يَرَوْن الفَضِيلَةَ للماشِى أن يَكُونَ أمامَ الجِنَازَةِ، رُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، وابن عُمَرَ، وأبى هُرَيْرَةَ، والحسنِ بنِ علىٍّ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وأبي قَتادَةَ، وأبي أَسِيدٍ، وشرَيْحٍ، والقَاسِمِ بنِ محمدٍ، وسالمٍ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقال الأوْزاعِىُّ، وأصحابُ الرّأْىِ: المَشْىُ خلفَها أفْضَلُ، لِما روَى ابنُ مسعودٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَا تَتْبَعُ، لَيْسَ مِنْها (¬1) مَنْ تَقَدَّمَهَا» (¬2). وقال علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه: فَضْلُ الماشِى خلفَ الجِنازَةِ على الماشِى قُدّامَها، كفَضْل المَكْتُوبَةِ على التَّطَوُّعِ، سَمِعْتُه مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ولأنَّها مَتْبُوعَةٌ فيَجِبُ أن تُقَدَّمَ ¬

(¬1) في سنن أبى داود وسنن ابن ماجه: «معها». وفى سنن الترمذى: «فيها». وفى المسند 1/ 394، 415: «منا» (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الإسراع بالجنازة، من كَتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 183. والترمذى، في: باب ما جاء في المشى خلف الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 231. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 476. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 378، 394، 415، 419، 432. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 447.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالِإمامِ في الصلاةِ، ولهذا قال في الحديثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ تَبعَ جِنَازَةً» (¬1). ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: رَأيْتُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ، وعُمَرِ، يَمْشُون أمامَ الجِنازَةِ. رَواه أبو داودَ، والتِّرمِذِىُّ (¬2)، وعن أنَس نَحْوُه، رَواه ابنُ ماجه (¬3). قال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعُمَرَ، كانُوا يَمْشُون أمامَ الجِنازَةِ. وقال أبو صالِحٍ: كان أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشُون أمامَ الجِنازَةِ. ولأنَّهم شُفَعاءُ له؛ بدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السّلامُ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُون مِائَةً، كُلُّهُمْ (¬4) يَشْفَعُونَ لَهُ، إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ». رَواه مسلمٌ (¬5). والشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ المَشْفُوعَ له، وحديثُ ابنِ مسعودٍ يَرْوِيه أبو ماجِدٍ، وهو مَجْهُولٌ. قِيلَ ليَحْيىَ: مَن أبو ماجِدٍ هذا؟ قال: طائِرٌ طار. ¬

(¬1) انظر تخريج الحديث المتقدم بلفظ: «من شهد جنازة». ولفظ: «من تبع» موجود في مصادر التخريج. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 183. والترمذى، في: باب ما جاء في المشى أمام الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 228. كما أخرجه النسائى، في: باب مكان الماشى من الجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 46. وابن ماجه، في: باب في المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 475. والإمام مالك، في: باب المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 225. والإمام أحمد، في: المسند. 2/ 8، 122. (¬3) في: باب ما جاء في المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 475. (¬4) في م: «لهم». (¬5) في: باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 654.كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 247. والنسائى، في: باب فضل من صلى عليه مائة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 62. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 32، 40، 97، 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال التِّرْمِذىُّ: سَمِعْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ يُضَعِّفُ هذا الحَدِيثَ. والحَدِيثُ الآخَرُ لم يَذْكُرْه أصحابُ السُّنَنِ. وقالُوا: هو ضَعِيفٌ. ثُم نَحْمِلُه على مَن تَقَدَّمَهَا إلى مَوْضِعِ الصلاةِ أو الدَّفْنِ، ولمِ يَكُنْ معها. وقِياسُهم يَبْطُلُ بسُنَّةِ الصُّبْحِ والظُّهْرِ، فإنَّها تابعَةٌ لهما، وَتتَقَدَّمُهما في الوُجُودِ. فصل: ويُكْرَهُ الرُّكُوبُ في اتِّباعِ الجَنائِزِ؛ لِما روَى ثَوْبانُ، قال: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في جنازَةٍ، فرَأى ناسًا رُكْبانًا، فقالَ: «ألَا تَسْتَحْيُونَ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللهِ عَلَى أقْدَامِهمْ، وَأنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1). فإن رَكِب، فالسُّنَّةُ أن يَكُونَ خلف الجِنازَةِ. قال الخَطّابِىُّ (¬2) في الرّاكِبِ: لا أعْلَمُهم اخْتَلَفُوا في أنَّه يَكُونُ خلفها؛ [لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3): «الرَّاكِبُ يمْشِى خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَاشِى يَمشِى خَلْفَهَا وَأمَامَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا، قَرِيبًا مِنْها». رَواه أبو ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية الركوب خلف الجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 232. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في شهود الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 475. (¬2) في: معالم السنن 1/ 308. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1)، التِّرْمِذِىُّ، ولَفْظُه: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَاشِى حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» (¬2). وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّ سَيْرَ الرَّاكِبِ أمامَها يُؤْذِى المُشاةَ. فأمّا الرُّكُوبُ في الرُّجُوعَ مِن الجِنازَةِ فلا بأْسَ به. قال جابِرُ بنُ سَمُرَةَ: إنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّبَعَ جِنازَةَ ابنِ الدّحْداحِ ماشِيًا، ورَجَع على فَرَسٍ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬3): هذا حديثٌ صحيحٌ. فصل: ويُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عندَ الجَنائِزِ، لنَهْىِ النبى - صلى الله عليه وسلم - أن تُتْبَعَ ¬

(¬1) في: باب المشى أمام الجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 183.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في شهود الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 475. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 248، 249. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الصلاة على الأطفال، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 248.كما أخرجه النسائى، في: باب مكان الراكب من الجنازة،. وباب مكان الماشى من الجنازة، وباب الصلاة على الأطفال، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 45، 46، 47. والإمام أحمد؛ في: المسند 4/ 247، 252. (¬3) في: باب ما جاء في الرخصة في ذلك، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 233. وهذا لفظه. وعند مسلم بمعناه. في: باب ركوب المصلى على الجنازة إذا انصرف، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 664.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَنائِزُ بصَوْتٍ (¬1). قال ابنُ المُنْذِرِ: رَوَيْنا بن قَيْسِ بنِ عُبَادٍ (¬2)، أنَّه قال: كان أصحابُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُون رَفْعَ الصَّوْتِ عندَ ثَلاثٍ؛ عندَ الجَنائِزِ، وعندَ الذِّكْرِ، وعندَ القِتالِ (¬3). وكَرِه سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسعيدُ بنُ جُبَيْر، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، وإمامُنا، وإسحاقُ، قول القائِلِ خلفَ الجِنازَةِ: اسْتَغْفِرُوا له. وقال الأوْزاعِىُّ: بِدْعَةٌ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ في مَرَضِه: إيّاىَ وحَادِيهم، هذا الذى يَحْدُو لهم، يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا له، غَفَر الله لكم. وقال فُضَيْلُ بنُ عَمْرِو: بَيْنَا ابنُ عُمَرَ في جِنازَةٍ، إذْ سَمِع قائِلًا يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا له، غَفَرَ اللهُ لكم. فقال ابنُ عُمَرَ: لا غَفَر اللهُ لك. رَواهما سعيدٌ. قال أحمدُ: ولا يَقُولُ خلفَ الجِنازَةِ: سَلِّمْ رَحِمَك الله. فإنَّه بِدْعَةٌ. ولكنْ يَقُولُ: بسمِ اللهِ، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ. ويَذْكُرُ الله إذا تَناوَلَ السَّرِيرَ. ومَسُّ الجِنازَةِ بالأيْدِى والأكْمامِ والمَنادِيل مُحْدَثٌ مَكْرُوهٌ، ولا يُؤْمَنُ معه فَسادُ المَيِّتِ، وقد مَنَع العُلَماءُ مَسَّ القَبْرِ، فمَسُّ الجَسَدِ مع احْتِمالِ الأذَى أوْلَى بالمَنْعِ. فصل: ويُكْرَهُ اتِّبَاعُ المَيِّتِ بِنارٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: يَكْرَهُ ذلك كلُّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في النار يتبع بها الميت، من كَتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 181. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 427، 528، 532. (¬2) قيس بن عُبَاد القيسى الضُّبَعى، أبو عبد الله البصرى، تابعى ثقة، قدم المدينة في خلافة عمر، رضى الله عنه، خرج مع ابن الأشعث في فتنته، قتله الحجاج بعدها. تهذيب التهذيب 8/ 400. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في رفع الصوت في الجنازة، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبى شيبة 3/ 274.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من نَحْفَظُ (¬1) عنه من أهلِ العلمِ. رُوىَ عن ابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيْرَةَ، وعبدِ اللهِ بنِ مُغَفَلٍ، ومًعْقِلِ بنِ يًسارٍ (¬2)، وأَبى سعيدٍ، وعائشةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّهم وَصَّوْا أن لا يُتْبَعُوا بنارٍ. وروَى ابنُ ماجه (¬3)، أنَّ أبا موسى حينَ حَضَرَه المَوْتُ، قال: لا تَتْبَعُونِى بمِجْمَرٍ. قالُوا له: أوَ سَمِعْتَ فيه شيئًا؟ قال: نعم، مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى أبو داودَ (¬4)، بإسْنادِه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُتْبَعُ الْجِنازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ». فإن دُفِن لَيْلًا فاحْتاجُوا إلى ضَوْءِ، فلا بَأْسَ به، إنَّما كُرِة المَجَامِرُ فيها البَخُورُ. وفى حديثٍ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه دَخَل قَبْرًا لَيْلًا، فأُسْرِجَ له سِراجٌ (¬5). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. فصل: ويُكْرَهُ اتِّباعُ النِّساءِ الجَنائِزَ؛ لِما رُوِىَ عن أُمِّ عَطِيَّةَ، قالت: نُهِينا عن اتِّباعِ الجَنائِزِ، ولم يُعْزَمْ علينا. مُتَّفَقٌ عليه (¬6). كَرِه ذلك ابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وأبو أُمَامَةَ، وعائشةُ، ومَسْرُوقٌ، والحسنُ، ¬

(¬1) في م: «يحفظ». (¬2) معقل بن يسار بن عبد الله أبو على، أسلم قبل الحديبية وشهد بيعة الرضوان، سكن البصرة وتوفى بها في آخر خلافة معاوية. الإصابة 6/ 184 - 186. (¬3) في: باب ما جاء في الجنازة لا تؤخر إذا حضرت ولا تتبع بنار، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 476.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 397. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬5) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الدفن بالليل، من أبواب الجنائز،. عارضة الأحوذى 4/ 277. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الأوقات التى لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 487. (¬6) أخرجه البخارى، في: باب اتباع النساء للجنائز، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 99. ومسلم، في: باب نهى النساء عن اتباع الجنائز، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 646.كما أخرجه أبو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِىُّ، والأوزاعِىُّ، وإسحاقُ. ورُوِى أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَج فإذا نِسوَةٌ جُلُوسٌ، قال: «مَا يُجْلِسُكُنّ؟». قُلْنَ: نَنْتَظِرُ الجِنازَةَ. قال:. «هَلْ تُغَسِّلنَ؟». قُلْنَ: لا. قال: «هل تَحْمِلْنَ؟». قُلْنَ: لا. قال: «هل تُدْلِينَ فىَ من يُدْلِى؟». قُلْنَ: لا. قال: «فَارْجعْنَ مأْزُورَاتٍ، غَيْرَ مأْجُورَاتٍ». رَواهُ ابن ماجه (¬1)، ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِىَ فاطمةَ، قال: «مَا أخْرَجَكِ يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِكِ؟». قالَتْ: يارسولَ اللهِ أتَيْتُ أهْلَ هذا البَيْتِ، فرَحَّمتُ إليهما مَيِّتَهم، أو عَزَّيْتُهم به. قال لها رسوا اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى» (¬2). قالت: مَعاذَ اللهِ، وقد سَمِعْتُك تَذكُرُ فيها ما تَذْكُرُ. قال: «لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى». فذَكَرَ تَشْدِيدًا. رَواه أبو داودَ (¬3). فصل: فإن كان مع الجِنازَةِ مُنْكَرٌ يَراه أو يَسْمَعُه، فإن قَدَر على إنْكارِه وإزالَتِه أزالَه. وإن لم يَقْدِرْ على إزالَتِهِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُنْكِرُه، ويَتْبَعُها. فيَسْقُطُ فَرْضُه بالِإنْكارِ، ولا يَتْرُكُ حَقًّا لباطِلٍ. والثانِى، يَرْجِعُ. لأنَّه يُؤدِّى إلى اسْتِماعِ مَحْظُورٍ ورُؤْيَتِه، مع قُدْرَتِه على تَرْكِ ذلك. ¬

= داود، في: باب في اتباع النساء الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 180.: وابن ماجه، في: باب ما جاء في أتباع النساء الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 502. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 408. (¬1) في: باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 502. 503. (¬2) الكدى: المراد بها هنا المقابر، لأنها كانت في مواضع صلبة. (¬3) في: باب التعزية، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 171. كما أخرجه النسائى، في: باب النعى، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 23: والإمام أحمد، في: المسند 2/ 169.

794 - مسألة: (ولا يجلس من تبعها حتى توضع)

وَلَا يَجْلِسُ مَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُوضَعَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 794 - مسألة: (ولا يَجْلِسُ مَن تَبِعَها حتى تُوضَعَ) ومِمَّن رَأى أن لا يَجْلِسَ حتى تُوضَعَ عن أعْناقِ الرِّجالِ الحسنُ بنُ علىِّ، وابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيْرَةَ، وابنُ الزُّبَيْرِ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، وإسحاقُ. ووَجْهُ ذلك ما روَى مسلمٌ (¬1)، بإسْنادِه، عن أبى سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اتَّبَعْتُمُ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ». وقال الشافعىُّ: هذا مَنْسُوخٌ بقَوْلِ علىٍّ: قام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم قَعَد. رَواه مسلمٌ (¬2). قال إسحاقُ: مَعْنَى قَوْلِ علىٍّ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا رَأى الجِنازَةَ قام، ثم تَرَك ذلك بعدُ. وعلى هذا التَّفْسِيرِ لا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ. وليس في اللَّفْظِ عُمُومٌ فيَعُمُّ الأمْرَيْن جَمِيعًا، فلم يَجُزِ النَّسْخُ بأمْرِ مُحْتَملٍ، ولأنَّ قَوْلَ علىٍّ: قام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم قَعَد. يَدُلُّ على ابْتِداءِ ¬

(¬1) في: باب القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 660. كما أخرجه أبو داود، في: باب القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 181. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 38. وذكر أبو داود- بعد رواية الحديث- الخلاف الآتى بين رواية الثورى وأبي معاوية. (¬2) في: باب نسخ القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 662. كما أخرجه أبو داود، في: باب القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 182. والترمذى، في: باب الرخصة في ترك القيام لها، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 265. والنسائى، في: باب الوقوف للجنائز، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 64. . . . وابن ماجه، في: باب ما جاء في القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 493. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 82.

795 - مسألة: (وإن جاءت وهو جالس لم يقم لها)

وَإنْ جَاءَتْ وَهُوَ جَالِسٌ لَمْ يَقُمْ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِعْلِ القِيامِ، وههُنا إنَّما وُجِدَتْ منه الاسْتِدَامَةُ. إذا ثَبَت هذا، فأظْهَرُ الرِّوايُتَيْن أنَّه أُرِيدَ وَضْعُها عن أَعْناقِ الرِّجالِ. وهو قولُ مَن ذَكَرْنا مِن قبلُ. وقد رُوِىَ الحديثُ: «إذَا اتَّبَعْتُمُ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرضِ». ورَواه أبو مُعاوِيَةَ: «حَتَّى تُوضَعَ فِى اللَّحْدِ». وحديثُ سُفْيانَ أصَحُّ. فأمَّا مَن تَقَدَّمَ الجِنازَةَ فلا بَأسَ أن يَجْلِسَ قبلَ أن تَنْتَهِىَ إليه. قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): رُوِىَ عن بعضِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّهم كانُوا يَتَقَدَّمُون الجِنازَةَ، فيَجْلِسُون قبلَ أن تَنْتَهِىَ إليهم. وإذا جاءَتْ وهو جالِسٌ لم يَقُمْ لها. لِما يأْتِى بعدُ. 795 - مسألة: (وإن جاءَتْ وهو جالِسٌ لم يَقُمْ لها) لِما ذَكرْنا مِن حديثِ عَلىٍّ، وقد فَسَّرَه إسْحاقُ بِما حَكَيْنا. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إن قام لم أَعِبْه، وإن قَعَد فلا بَأسَ. وذَكَر ابنُ أبى موسى، والقاضى، أنَّ القِيامَ مُسْتَحَبٌّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا رأَى أحَدُكُمُ الْجِنَازَةَ فَلْيَقُمْ حينَ يَرَاهَا، حَتَّى تَخْلُفَهُ». رَواه مسلمٌ (¬2)؛ وقد ذَكَرْنا ¬

(¬1) في: عارضة الأحوذى 4/ 264. (¬2) في: باب القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح سلم 2/ 659، 660 - .كما أخرجه البخارى، في: باب القيام للجنازة، وباب متى يقعد إذا قام للجنازة، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 107، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ آخِرَ الأمْرَيْن مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ القيامِ لها، والأخْذُ مِن آخِرِ أمْرِه أوْلَى. وقد رُوِىَ في حديثٍ، أنَّ يَهُودِيًّا رَأَى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَام للجِنازَةِ، فقالَ: يا محمدُ، هكذا نَصْنَعُ. فتَرَكَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - القِيامَ لها (¬1). ¬

= وأبو داود، في: باب القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 181. والترمذي، في: باب ما جاء في القيام للجنازة، من أبواب الجنائز. عارضة الأًحوذى 4/ 263، 264. والنسائى، في: باب الأمر بالقيام للجنازة، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 36. وابن ماجه، في: باب ما جاء في القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 492. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 445. (¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في القيام للجنازة، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 493.

796 - مسألة: (ويدخل قبره من عند رجل القبر، إن كان أسهل عليهم)

وَيُدْخَلُ قَبْرَهُ مِنْ عِنْدِ رِجْلِ الْقَبْرِ، إِنْ كَانَ أَسْهلَ عَلَيْهِم، ـــــــــــــــــــــــــــــ 796 - مسألة: (ويُدْخَلُ قَبْرَه من عندِ رِجْلِ القَبْرِ، إن كان أسْهَلَ عليهم) المُسْتَحَبُّ أن يُوضَعَ رَأسُ المَيِّتِ عندَ رِجْلِ القَبْرِ، ثم يُسَلَّ سَلًّا إلى القَبْرِ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وأنَسٍ، وعبدِ اللهِ بنِ يَزيدَ الأنْصارِىِّ (¬1)، والنَّخَعِىِّ، والشَّعبِىِّ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: تُوضَعُ الجِنازَةُ على جانِبِ القَبْرِ مِمَّا يَلى القِبْلَةَ، ثم يُدْخَلُ القَبْرَ مُعْتَرِضًا؛ ¬

(¬1) عبد الله بن يزيد بن زيد الأنصاري أبو موسى، أحد من بايع بيعة الرضوان، وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة، له أحاديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، مات قبل السبعين وله نحو من ثمانين منة. سير أعلام النبلاء 3/ 197، 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يُرْوَى عن علىًّ، رَضِىَ اللهُ عنه. وقال النَّخَعِىُّ: حَدَّثَنِى مَن رَأَى أهلَ المَدِينَةِ في الزَّمَنِ الأوّلِ يُدْخِلُونَ مَوْتاهم مِن قِبَلِ القِبْلَةِ، وأنَّ السَّلَّ شىْءٌ أحْدَثَه أهل المَدِينَةِ. لَنا، أنَّ الحارِثَ أوْصَى أن يَلِيَه عندَ مَوْتِه عبدُ اللهِ ابنُ يزِيدَ الأنْصَارِىُّ، فصَلَّى (¬1) عليه، ثم دَخَل القَبْرَ، فأدْخَلَه مِن رِجْلَىِ القَبْرِ، وقال: هذه السُّنَّةُ (¬2). وهذا يَقْتَضى سنَّةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه الِإمام أحمدُ (¬3). وروَى ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُلَّ مِنِ قِبَلِ رَأْسِه سَلَّا (¬4). وما ذُكِر عن النَّخَعِىِّ لا يَصِحُّ، لأنَّ مَذْهَبه بخِلافِه، ولأنَّه لا يَجُوزُ على العَدَدِ الكَثِيرِ أن يُغَيِّرُوا سُنَّةً [ظاهِرةً في الدَّفْنِ] (¬5) إلَّا بسَبَبٍ ظاهِرٍ، أو سُلْطَانٍ قاهِرٍ. ولم يُنْقَلْ شئٌ مِن ¬

(¬1) في الأصل: «يصلى». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الميت يدخل من قبل رجليه، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 190، 191. (¬3) أورده صاحب الفتح الربانى في الزوائد التى ليست في المسند. انظر بلوغ الأمانى شرح الفتح الربانى 8/ 60. وهو عند أبى داود، في: باب في الميت يدخل من قبل رجليه، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 190، 191. (¬4) قال ابن حجر: لم أجده عن ابن عمر، إنما هو عن ابنْ عباس، ولعله من طغيان القلم. تلخيص الحبير 2/ 128. وأخرجه عن إبن عباس الإمام الشافعى. انظر ترتيب المسند 1/ 215. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، ولو نُقِلَ فسُنَّةُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَدَّمَةٌ على فِعْلِ أهْلِ المَدِينَةِ. فأمّا إن كانْ أخْذُه مِن قِبَلِ القِبْلَةِ، أو مِن رأْاسِ القَبْرِ أسْهَلَ عليهم، فلا حَرَجَ فيه؛ لأنَّ اسْتِحْبَابَ أخْذِه مِن عندِ رِجْلِ القَبْرِ، إنَّما كان طَلَبًا للأسْهَلِ. قال أحمدُ: كُلٌّ لا بأْسَ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: يُعَمَّقُ القَبْرُ إلى الصَّدْرِ، الرجلُ والمرأةُ في ذلك سَواءٌ. كان الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبّان ذلك. وروَى سعيدٌ، بإسْنادِه، أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزِيزِ لمّا مات ابْنُه، أمَرَهم أن يَحْفِرُوا قَبْرَه إلى السُّرَّةِ، ولا يُعَمِّقُوا، فإنَّ ما على ظَهْرِ الأرْضِ أفْضَلُ مِمّا سَفُلَ منها. وذَكَر أبو الخَطَّابِ أنَّه يُسْتَحَبُّ أن يُعَمَّقَ قَدْرَ قامَةٍ وبَسْطَةٍ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «احْفِرُوا، وَأوْسِعُوا، وَأعْمِقُوا». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ ابنَ عُمَرَ أوْصَى بذلك. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ ما ذَكَرْنا أوَّلًا؛ لأنَّ التَّعْمِيقَ قَدرَ قامَةٍ وبَسْطَةٍ يَشُقُّ، ويَخْرُجُ عن العادَةِ. وقَوْلُه - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْمِقُوا» ليس فيه بَيانُ قَدْرِ التَّعْمِيقِ، ولم يَصِحَّ مَا رَوَوه عن ابنِ عُمَرَ، ولو صَحَّ عندَ أحمدَ لم يَعْدُه إلى غيرِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُه وتَعْمِيقُه وتَوْسِيعُه؛ للخَبَرِ. وقد روَى زيدُ بنُ أسْلَمَ، ¬

(¬1) في: باب في تعميق القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 191، 192. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في دفن الشهداء، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 206. والنسائى، في: باب ما يستحب من إعماق القبر، وباب ما يستحب من توسيع القبر، وباب دفن الجماعة في القبر الواحد، وباب من يقدم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 66 - 69. وابن ماجه، في: باب ما جاء في حفر القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 497. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 19، 20.

797 - مسألة؛ قال: (ولا يسجى القبر، إلا أن يكون لامرأة)

وَلَا يُسَجَّى الْقَبْرُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِامْرأةٍ. وَيَلْحَدُ لَهُ لَحْدًا، وَيَنْصِبُ عَلَيْهِ اللَّبِنَ نَصْبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: وَقَف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علىِ قَبْرٍ، فقالَ: «اصْنَعُوا كَذَا، اصْنَعُوا كَذَا»، ثم قال: «مَابِى أنْ يَكُون يُغْنِى عَنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الله يُحِبُّ إذَا عُمِلَ العَمَلُ أنْ يُحْكَمَ». قال مَعْمَرٌ: وبَلَغَنِى أنَّه قَالَ: «وَلَكِنَّهُ أطْيَبُ لِأنْفُسِ أهْلِهِ». رَواه عبدُ الرَّزّاقِ، في كتابِ الجَنَائِزِ (¬1). 797 - مسألة؛ قال: (ولا يُسَجَّى القَبْرُ، إلَّا أن يَكُونَ لامرأةٍ) قال الشَّيْخُ (¬2)، رَحِمَه اللهُ، لا نَعْلَمُ في اسْتِحْبابِ تَغْطِيَةِ قَبْرِ المرأةِ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. وقد روَى ابنُ سِيرِينَ أنَّ عُمَرَ قال: يُغَطَّى قَبْرُ المرأةِ. ومَرَّ علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه، بقَوْمٍ قد دَفَنُوا مَيَتّاً، وبَسَطُوا على قَبْرِه الثَّوْبَ، فَجَذَبَه، وقال: إنَّما يُصْنَعُ هذا بالنِّساءِ (¬3). ولأنَّ المرأةَ عَوْرَةٌ، ولا يُؤْمَنُ أن يَبْدُوَ منها شئٌ فيَرَاه الحاضِرُون. فأمَّا قَبْرُ الرجلِ فيُكْرَهُ سَتْرُه، لِما ذَكَرْنا، وكَرِهَه عبدُ الله بِنُ يَزِيدَ، ولم يَكْرَهْه أصحابُ الرَّأْىِ، وأبو ثَوْرٍ. والأوَّلُ أوْلَى، لأنَّ فِعْلَ علىٍّ يَدُلُّ على كَراهتِه، ولأنَّ كَشْفَه أمْكَنُ وأبْعَدُ مِن التَّشَبُّهِ بالنِّساءِ، مع ما فيه مِن اتِّباعِ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. 798 - مسألة: (ويَلْحَدُ له لَحْدًا، ويَنْصِبُ عليه اللَّبِنَ نَصْبًا) ¬

(¬1) في: باب حسن عمل القبر، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 507، 508. (¬2) في: المغنى 3/ 431. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ما روى في ستر القبر بثوب، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 54.

799 - مسألة: (ولا يدخل القبر خشبا، ولا شيئا مسته النار)

وَلَا يُدْخِلُهُ خَشَبًا، وَلَا شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقوْلِ سعدِ بنِ أبِى وَقّاصٍ: الْحِدُوا لى لَحْدًا، وانْصِبُوا علىَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كما صُنِعَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه مسلمٌ (¬1). ومَعْنَى اللَّحْدِ: أنَّه إذا بَلَغ أرْضَ القَبْرِ حَفَر فيه مِمَّا يَلِى القِبْلَةَ مَكانَا يُوضَعُ فيه المَيِّتُ، فإن كانَتِ الأرْضُ رُخْوَةً جَعَلَ شِبْة اللّحْدِ مِن الحِجارَةِ. قال أحمدُ: وَلا أُحِبُّ الشَّقَّ، لِما روَى ابنُ عَبّاسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِى، والتِّرْمِذِىُّ (¬2). وقال: غريبٌ. فإن عَجَز عن اللَّحْدِ شَقَّ له في الأرضِ، ومَعْنَى الشَّقِّ: أن يَحْفِرَ في أرضِ القَبْرِ شَقًّا يَضَعُ المَيِّتَ فيه، ويَسْقُفُه عليه بشئٍ. 799 - مسألة: (ولا يُدْخِلُ القَبْرَ خَشَبًا، ولا شيئًا مَسَّتْه النّار) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 57. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في اللحد، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 190. والنسائى، في: باب اللحد والشق، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 66. والترمذى، في: باب ما جاء في قول النبى - صلى الله عليه وسلم -: اللحد لنا والشق لغيرنا، من أبواب الجنائز. عارضة الاًحوذى 4/ 266. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في استحباب اللحد، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 496.

800 - مسألة: (ويقول الذى يدخله: بسم الله، وعلى ملة رسول الله)

وَيَقُولُ الَّذِى يُدْخِلُهُ: بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال إبراهيمُ: كانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ، ويَكْرَهُون الخَشَبَ (¬1). ولا يُستَحَبُّ الدَّفنُ في تابُوتٍ؛ لأنَّه خَشَبٌ، ولم يُنْقَلْ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابِه، وفيه تَشَبُّهٌ بأهلِ الدُّنْيَا، والأرْضُ أنْشَفُ لفَضَلاتِه. ويُكْرَهُ الآجُرُّ، وسائِرُ ما مَسَّتهُ النّارُ، تَفاؤُلًا أن لا تَمَسَّه النّارُ. 800 - مسألة: (ويَقُولُ الذى يُدْخِلُه: بسْمِ اللهِ، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ)، لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدْخلَ المَيِّتَ القَبْرَ، قال: «بسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ». ورُوِىَ: «(¬2) وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ». قال التِّرمِذِىُّ (¬3): هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وروَى ¬

= وقد عزاه ابن حجر في: تلخيص الحبير 2/ 137 للإمام أحمد. وانظر: نصب الراية للزيلعى 2/ 296، والفتح الربانى 8/ 52، 53. وأخرجه الإمام أحمد من طريق جرير بن عبدالله. المسند 4/ 357، 359. (¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في القصب يوضع على اللحد، من كتاب الجنائز. مصنف ابن أبي شيبة 3/ 333. (¬2) قبله في م زيادة: «في سبيل الله». (¬3) في: باب ما يقال إذا أدخل الميت القبر، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 266. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في إدخال الميت القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 494، 495. وأخرج الرواية الثانية أبو داود، في: باب في الدعاء للميت إذا وضع في قبره، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 191. وأخرج الرواية الأولى الإمام أحمد، في: المسند 2/ 27، 40، 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1)، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: حَضَرْتُ ابنَ عُمَرَ في جِنازَةٍ، فلَمّا وَضَعَها في اللَّحْدِ، قال: بِسْمِ اللهِ، [وفى سَبِيلِ الله] (¬2)، وعلى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ. فلمّا أخَذَ في تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ على اللّحْدِ، قال: اللَّهُمَّ أَجِرْهْا من الشَّيْطانِ، ومِن عَذابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ جَافِ الأرْضَ عن جَنْبَيْها، وصَعِّدْ رُوحَها، ولَقِّها منك رِضْوانًا. قُلْتُ: يا ابْنَ عُمَرَ أشئٌ سَمِعْتَه مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أم قُلْتَه برَأْيِكَ؟ قال: إنِّى إذًا لقادِرٌ على القَوْلِ! بل سَمِعْتُه مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ورُوِىَ عن عُمَرَ، أنَّه كان إذا سَوَّى على المَيِّتِ قال: اللَّهُمَّ أسْلَمَه إليك الأهلُ والمالُ والعَشِيرَةُ، وذَنْبُهُ عَظِيمٌ، فاغْفِرْ له. رَواه ابنُ المُنْذِرِ (¬3). فصل: وإذا مات في سَفِينَةٍ في البَحْرِ، فقالَ أحمدُ: يُنْتَظَرُ به إن كانُوا يَرْجُون أن يَجِدُوا له مَوْضِعًا يَدْفِنُونه، حَبَسُوه يَوْمًا أو يَوْمَيْن، ما لم يَخافُوا عليه، فإن لم يَجِدُوا غُسِّلَ، وكُفِّنَ، وحُنِّطَ، ويُصَلَّى عليه، ويُثَقَّلُ بِشئٍ، ويُلْقَى في الماءِ. وهذا قولُ عَطاءٍ. قال الحسنُ: يُتْرَكُ في ¬

(¬1) في: باب ما جاء في إدخال الميت القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 495. (¬2) سقط من: م. (¬3) وأخرجه البيهقى، في: باب ما يقال بعد الدفن، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 56.

801 - مسألة: (ويضعه فى لحده على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة)

وَيَضَعُهُ فِى لَحْدِهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَن، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ زِنْبِيلٍ (¬1)، ويُلْقَى في البَحْرِ. وقال الشافعىُّ: يُرْبَطُ بينَ لَوْحَيْنِ؛ ليَحْمِلَه البَحْرُ إلى السّاحِلِ، فرُبَّما وَقَع إلى قَوْمٍ يَدْفِنُونَه، وإن ألْقَوْه في البَحْرِ لم يَأْثَمُوا. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه يَحْصُلُ به السَّتْرُ المَقْصُودُ مِن دَفْنِه، وإلْقَاؤُه بينَ لَوْحَيْن يَعْرِضُ له التَّغَيُّرُ والهَتْكُ، ورُبَّما بَقِىَ على السّاحِلِ مَهْتُوكًا عُرْيانًا، ورُبَّما وَقَع إلى قَوْمٍ مِن المُشْرِكِين، فكان ما ذَكَرْنا أوْلَى. 801 - مسألة: (وَيَضَعُه في لَحْدِه على جَنْبِه الأيْمَنِ، مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ) بوَجْهِه؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا نَامَ أحَدُكُمْ فَلْيَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ» (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يَضَع تحتَ رَأْسِه لَبِنَةً، أو حَجَرًا، أو شَيْئًا مُرْتَفِعًا، كما يَصْنَعُ الحَىُّ. وإن ترَكَه فلا بَأْسَ؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضىَ اللهُ عنه، قال: إذا جَعَلْتُمُونِى في اللَّحْدِ فأفْضُوا بِخَدِّى إلى الأرْضِ. ويُدْنَى من الحائِطِ؛ لِئَلَّا يَنْكَبَّ على وَجْهِه، ويُسْنَدُ مِن وَرائِه بتُرابٍ؛ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ. ¬

(¬1) الزنبيل: القفة. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ: ما أُحِبُّ أن يُجْعَلَ في القَبْرِ مُضَرَّبَة (¬1)، ولا مِخَدَّةٌ. وقد جُعِلَ في قَبْرِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَطِيفَةٌ حَمْراءُ (¬2)، فإن جَعَلُوا قَطِيفَةً فلِعِلَّةٍ. فإذا فَرَغُوا نَصَبُوا عليه اللَّبِنَ نَصْبًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ سَعْدٍ (¬3). ويُسَدُّ عليه بالطِّينِ لِئَلَّا يَصِلَ إليه التُّرابُ، وإن جَعَل مَكانَ اللَّبِنِ قَصَبًا،. فحَسَنٌ؛ لأنَّ الشَّعْبِىَّ، قال: جُعِل على لَحْدِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - طُنُّ (¬4) قَصَبٍ (¬5). قال الخَلَّالُ: كان أبو عبدِ الله يِمِيلُ إلى اللَّبِنِ، ويَخْتارُه على القَصَبِ، ثم تَرَك ذلك ومال إلى اسْتِحْبابِ القَصَبِ على اللَّبِنِ، وأمّا الخَشَبُ فكَرِهَه على كلِّ حالٍ، ورَخَّصَ فيه عنْدَ الضَّرُورَةِ. قال شيخُنا (¬6): وأكْثَرُ الرِّواياتِ عن أحمدَ اسْتِحْبَابُ اللَّبِنِ، وتَقْدِيمُه على القَصَبِ؛ لحَديثِ سَعْدٍ، وقَوْلُه أوْلَى مِن قولِ الشَّعْبِىِّ؛ لأنَّ الشَّعْبِىَّ لم يَرَ، ولم يَحْضُرْ، وكِلاهُما حَسَنٌ. ¬

(¬1) المضربة وسادة تضرب بالخيوط. التلخيص للعسكرى 1/ 235 (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 128. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 57 (¬4) الطن: حزمة القصب أو الحطب. (¬5) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في القصب يوضع على اللحد، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 332، 333. (¬6) في: المغنى 3/ 429.

802 - مسألة: (ويجثو التراب فى القبر ثلاث حثيات، ويهال عليه التراب)

وَيَحْثُو التُّرَابَ فِى الْقَبْرِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَيُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال حَنْبَلٌ: قُلْتُ لأَحمدَ: فإن لم يَكُنْ لَبِنٌ؟ قال: يُنْصَبُ عليه القَصَبُ والحَشِيشُ، وما أمْكَنَ مِن ذلك. 802 - مسألة: (ويَجْثُو التُّرابَ في القَبْرِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ويُهالُ عليه التُّرابُ) رُوِىَ عن أبى عبدِ اللهِ، أنَّه حَضَر جِنازَةً، فلَمَّا أُلْقِىَ عليها التُّرَابُ، قام إلى القَبْرِ فَحَثَى عليه ثَلاثَ حَثَياتٍ ثم رَجَع إلى مَكانِه. وقال: قد جاء عن علىٍّ وصَحَّ، أنَّه حَثَى على قَبْرِ ابْنِ المُكَفِّفِ (¬1). ورُوِىَ عنه ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب إهالة التراب في القبر بالمساحى وبالأيدى، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 410.

803 - مسألة: (ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنما)

وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنِ الْأرْضِ قَدْرَ شِبْرِ مُسَنَّمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: إن فَعَل فحَسَنٌ، وإن لم يَفْعَلْ فلا بَأْسَ. ووَجْهُ اسْتِحْبابِه ما رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلّى على جِنازَةٍ، ثم أتَى قَبْرَ المَيِّتِ مِن قِبَلِ رَأْسِه، فحَثَى عليه ثَلاثًا. أخْرَجَه ابنُ ماجه (¬1). وعن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - حَثَى على المَيِّتِ ثَلاثَ حَثَياتٍ بيَدَيْه جَمِيعًا. رَواه الشافعىُّ (¬2). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه لَمّا دَفَن زيدَ بنَ ثابِتٍ، حَثَى في قَبْرِه ثَلاثًا، وقال: هكذا يَذْهبُ العِلْمُ (¬3). فإذا فَرَغ مِن لَحْدِه أهالَ عليه التُّرابَ؛ لأنَّ دَفْنَه واجِبٌ، وذلك يَحْصُلُ بإهالَةِ التُّراب عليه. 803 - مسألة: (ويُرْفَعُ القَبْرُ عن الأَرْضِ قَدرَ شِبْرِ مُسَنَّمًا) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ القَبْرِ عن الأرْضِ، ليُعْرَفَ أنَّه قَبْرٌ، فيُتَوَقَّى، ويُتَرَحَّمَ على صاحِبِه وقد روَى السّاجِىُّ، عن جابِرِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رُفِع قَبْرُه عن ¬

(¬1) في: باب ما جاء في حثو التراب في القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 499. (¬2) في: كتاب الجنائز. ترتيب المسند 1/ 216. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب إهالة التراب في القبر بالمساحى وبالأيدى، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 410.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرْضِ قَدرَ شِبْرٍ (¬1). وروَى القاسِمُ بنُ محمدٍ، قال: قُلْتُ لعائشةَ: يا أُمَّهْ، اكْشِفِى لى عن قَبْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْه. فكَشَفَتْ لى عن ثَلاثَةِ قُبُورٍ، لا مُشْرِفَةٍ ولا لاطِئَةٍ (¬2)؛ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحاءِ العَرْصَةِ الحَمْراءِ. رَواه أبو داودَ (¬3). ولا يُسْتَحَبُّ رَفْعُه أكْثَرَ مِن ذلك؛ لِما ذَكَرْنَا، ولقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لعلىٍّ: «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ». رَواه مسلمٌ (¬4)، وغيرُه. والمُشْرِفُ ما رُفِع كَثِيرًا، بدَلِيلِ قولِ القاسِمِ في صِفَةِ قَبْرِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْه: لا مُشْرِفَةٍ، ولا لاطِئَةٍ. ولا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ القَبْرِ بأكْثَرَ مِن تُرابِه. نَصَّ عليه أحمدُ، وِرَواه عن عُقْبَةَ بنِ عامِرِ. وروَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه، عن جابِرٍ، قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُزادَ على القَبْرِ على حُفْرَتِه (¬5). فصل: وتَسْنِيمُ القَبْرِ أفْضَلُ مِن تَسْطِيحِه. وبه قال مالكٌ، وأبو ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه لئلا يرتفع جدًّا، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 411. (¬2) لاطئة: مستوية على وجه الأرض. (¬3) في: باب في تسوية القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 192. (¬4) في: باب الأمر بتسوية القبور، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 666. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تسوية القبر، منْ كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 192.والترمذى، في: باب ما جاء في تسوية القبور، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 269. والنسائى، في: باب تسوية القبور إذا رفعت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 73. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 96، 129، 145. (¬5) أخرجة البيهقى، في: باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه لئلا يرتفع جدا، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 410

804 - مسألة: (ويرش عليه الماء)

وَيُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ. وقال الشافعىُّ: تَسْطِيحُه أفْضَلُ. قال: وبَلَغَنا أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِه إبراهيمَ (¬1). وعن القاسِمِ، قال: رأيْتُ قَبْرَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكرٍ، وعُمَرَ مُسَطَّحَةٌ (¬2). ولَنا، ما روَى سُفْيانُ التَّمّارُ، أنَّه قال: رَأَيْتُ قَبْرَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسَنَّمًا. رَواه البُخَارِىُّ (¬3). وعن الحسنِ مِثْلُه. ولأنَّ التَّسْطِيحَ أشْبَهُ بأبْنِيَةِ أهلِ الدُّنْيا، وهو أشْبَهُ بشِعارِ أهلِ البِدَعِ، فكان مَكْرُوهًا. وحَدِيثُنا أثْبَتُ مِن حَدِيثِهم وأصَحُّ، فكان أوْلَى. 804 - مسألة: (ويُرَشُّ عليه الماءُ) ليَتَلَبَّدَ تُرابُه. قال أبو رافِعٍ: سَلَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سعدًا، ورَشَّ على قَبْرِه ماءً. رَواه ابنُ ماجه (¬4). وعن جابِرِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رُشَّ على قَبْرِه ماءٌ (¬5). رَواه الخَلَّالُ. فصل: ولا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ القَبْرِ بحَجَرِ أو خَشَبَةٍ، يَعْرِفُه بها. نَصَّ عليه أحمدُ، لِما روَى أبو داودَ (¬6)، بإسْنادِه؛ عن المُطَّلِبِ (¬7)، قال: لَمّا ¬

(¬1) أخرجه الشافعى، في: كتاب الجنائز. ترتيب المسند 1/ 215. (¬2) في م: «مسطح». (¬3) في: باب ما جاء في قبر النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضى الله؛ عنهما، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 128. (¬4) في: باب ما جاء في إدخال الميت القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبو ماجه 1/ 495. (¬5) أخرجه البيهقى، في: باب رش الماء على القبور ووضع الحصباء عليه، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 3/ 411. (¬6) في: باب في جمع الموتى في قبر والقبر يعلم، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 189، 190. (¬7) في م: «عبد المطلب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مات عثمانُ بنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بجِنازَتِه فدُفِنَ، أمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا (¬1) أن يَأْتِيَه بَحَجَرٍ، فلم يَسْتَطِعْ حَمْله، فقام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فحَسَرَ عن ذِراعَيْه، ثم حَمَلَها فوَضَعَها عندَ رَأْسِه، وقال: «أُعلِّمُ (¬2) بِها قَبْرَ أخِى، وأدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أهْلِهِ». ورَواه ابنُ ماجه (¬3)، عنه عليه السَّلامُ، مِن رِوايَةِ أنَسً. فصل: فأمّا التَّلْقِينُ بعدَ الدَّفْنِ، فقال شيخُنا (¬4): فلم نَسْمَعْ فيه عن أحمدَ شيئًا، ولا أعْلَمُ فيه للأئِمَّةِ قَوْلًا، سِوَى ما رَواه الأَثْرَمُ، قال: قُلْتُ لأبى عبدِ اللهِ: فهذا الذى يَصْنَعُون إذا دُفِن المَيِّتُ، يَقِفً الرجلُ، فيَقُولُ يا فُلانُ ابن فُلانَةَ (¬5)، اذْكرْ ما فارَقْتَ عليه، شَهادَةَ أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ؟ ¬

(¬1) سقط من النسخ. والمثبت من سنن أبى داود. (¬2) في سنن أبى داود: «أتعلم». (¬3) في: باب ما جاء في العلامة في القبر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 498. (¬4) في: المغنى 3/ 437. (¬5) في م: «فلان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالَ: ما رَأيْتُ أحَدًا فَعَل هذا إلَّا أهلَ الشّامِ، حينَ مات أبو المُغِيرَةِ (¬1) جاء إنْسانٌ، فقالَ ذلك. قال: وكان أبو المُغِيرَةِ يَرْوِى فيه عن أبى بكرِ ابنِ أبى مَرْيَمَ، عن أشْياخِهم، أنَّهم كانُوا يَفْعَلُونه. وقال القاضى، وأبو الخَطّاب: يُسْتَحَبُّ ذلك. ورَوَيا فيه عن أبى أُمامَةَ الباهِلِىِّ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا مَاتَ أحَدُكمْ، فَسَوَّيْتُم عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلْيَقُمْ أحَدُكُمْ عِنْدَ رأُسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فُلَانُ ابنَ فُلَانةَ. فَإنَّهُ يَسْمَعُ وَلَا يُجِيبُ، ثُمَّ لْيَقُل: يَا فُلانُ ابنَ فُلَانَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَسْتَوِى قَاعِدًا، ثُمَّ لْيَقُل: يا فُلَانُ ابنَ فُلَانةَ. فإنَّهُ يَقُولُ: أرْشِدْنَا يَرْحَمْكَ اللهُ. وَلَكِنْ لَا تَسْمَعُون. فَيَقُولُ: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، شَهادَةَ أنْ لَا إلَه إلَّا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأنَّكَ رَضِيتَ بالله رَبًّا، وَبِالْإسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبيًّا، وَبالْقُرْآنِ إمَامًا. فَإنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَتَأخَّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فيَقُولُ: انْطَلِقْ فَمَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ هذَا وَقَد لُقِّنَ حُجَّتَهُ. وَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى حُجَّتَهُ دُونَهُمَا». ¬

(¬1) هو عبد القدوس بن الحجاج الخولانى الحمصى، ثقة، مات سنة اثنتى عشرة ومائتين وصلى عليه الإمام أحمد بن حنبل. تهذيب التهذيب 6/ 369.

805 - مسألة: (ولا بأس بتطيينه)

وَلَا بَأْسَ بِتَطْيينِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالَ رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، فإن لم يَعْرِفِ اسْمَ أُمِّه؟ قال: «فَلْيَنْسِبْهُ إلَى حَوَّاءَ». رَواه ابنُ شاهِينَ، بإسْنادِه (¬1)، في «كِتَابِ ذِكْرِ المَوْتِ». 805 - مسألة: (ولا بَأْسَ بتَطْيِيِنه) ومِمَّن رَخَّصَ في ذلك الحسنُ، والشافعىُّ. وروَى أحمدُ، بإسْنادِه، عن نافِعٍ، قال: تُوُفِّىَ ابنٌ لعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وهو غائِبٌ، فقَدِمَ فسَألَنَا عنه، فدَلَلْناه عليه، فكانَ يَتَعاهَدُ القَبْرَ، ويأْمُرُ بإصْلاحِه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: رُوِىَ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رُفِع قَبْرُه مِن الأرْضِ شِبْرًا، وطُيِّنَ بطِينٍ أحْمَرَ مِن العَرْصَةِ، وجُعِل عليه مِن الحَصْباءِ. وإن تَرَكَه كان حَسَنًا؛ لِمْا روَى الحسنُ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) عزاه الهيثمى إلى الطبرانى في الكبير، وقال: فيه من لم أعرفه جماعة. مجمع الزوائد 2/ 324. وقال ابن القيم: حديث لا يصح رفعه. زاد المعاد 1/ 522. وانظر تلخيص الحبير 2/ 135، وإرواء الغليل 3/ 203.

806 - مسألة: (ويكره تجصيصه، والبناء عليه، والجلوس، والوطء عليه، والاتكاء إليه، والكتابة عليه)

وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُهُ، وَالْبِنَاءُ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ، وَالْوَطْءُ عَلَيْهِ، وَالِاتِّكَاءُ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَا يَزَالُ المَيِّتُ يَسْمَعُ الأذانَ مَالَمْ يُطَيَّنْ قَبْرُهُ». أو قال: «مَالَمْ يُطْوَ قَبْرُهُ» (¬1). 806 - مسألة: (ويُكْرَهُ تَجْصِيصُه، والبِناءُ عليه، والجُلُوسُ، والوَطْءُ عليه، والاتِّكاءُ إليه، والكِتابَةُ عليه) لِما روَى جابِرٌ، قال: نَهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَصَّصَ القَبْرُ، وأن يُبْنَى عليه، وأن يُقْعَدَ عليه. رَواه مسلمٌ، والترمِذِىُّ (¬2). وزاد: وَأن يُكْتَبَ عليها. وقال: ¬

(¬1) رواه الديلمي، في: كتاب فردوس الأخبار 5/ 234. وأورده ابن الجوزى، في: الموضوعات 3/ 238. وأقره السيوطى، في: اللآلئ المصنوعة 2/ 439. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب النهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 667. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 271. كما أخرجه أبو داود، في: باب في البناء على القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 193. . . . والنسائى، في: باب الزيادة على القبر، وباب البناء على القبر، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 71، 72. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 498. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 295، 3990، 332، 6/ 299.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّ ذلك من زِينَةِ الدُّنْيَا، فلا حاجَةَ بالمَيِّتِ إليه. وكَرِه أحمدُ أن يُضْرَبَ على القَبْرِ فُسْطاطٌ؛ لأنَّ أبا هُرَيْرَةَ- أوْصَى حينَ حضَره المَوْتُ أن لا تَضْرِبُوا علىَّ فُسْطَاطًا. وروَى أبو مَرْثَدٍ الغَنَوىُّ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا». رَواه مسلمٌ (¬1). وقال الخَطّابىُّ: ثَبَت أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى أن تُوطَأَ القُبُورُ. قال (¬2): ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رجلًا قد اتَّكَأ على قَبْرٍ، فقالَ: «لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ» (¬3). وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في: باب النهى عن الجلوس على القبر والصلاة إليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 668.كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية القعود على القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 194. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الوطء على القبور والجلوس عليها والصلاة عليها، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 270. والنسائى، في: باب النهى عن الصلاة إلى القبر، من كتاب القبلة. المجتبى 2/ 53. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 135. (¬2) في: معالم السنن 1/ 316. (¬3) عزاه الهيثمى بمعناه عن عمارة بن حزم إلى الطبرانى في الكبير، وقال: وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وقد وثق. مجمع الزوائد 3/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَأنْ يَجْلِسَ أحَدُكمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ». رَواه مسلمٌ (¬1). ويُكْرَهُ التَّغَوُّطُ بينَ القُبُورِ؛ لِما روَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَأَنْ أَطَأ عَلَى جَمْرَةٍ، أوْ سَيْفٍ، أحَبُّ إلىَّ مِنْ أنْ أطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَلَا أُبَالِى أوَسَطَ الْقُبُورِ قضَيْتُ حَاجَتى، أوْ وَسَطَ السُّوقِ». رَواه الخَلَّالُ، وابنُ ماجه (¬2). ¬

(¬1) في: باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 667.كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية القعود على القبر، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 194. والنسائى، في: باب التشديد في الجلوس على القبور، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 78. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهي عن المشى على القبور والجلوس عليها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 499. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 311، 312، 389، 444، 528. (¬2) في: باب ما جاء في النهى عن المشى على القبور والجلوس عليها، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 499.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ اتِّخاذُ السُّرُجِ على القُبُورِ، لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهنَّ (¬1) المَسَاجِدَ والسُّرُجَ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، بمَعْناه (¬2). ولو أَبِيحَ لم يَلْعَنِ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَن فَعَلَه، ولأنَّ. فيه تَضْيِيعًا للمال في غيرِ فائدَةٍ. ولا يَجُوزُ اتخاذُ المَساجِدِ على القُبُورِ، لهذا الخَبَرِ، ولأنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَعَنَ الله اليَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهمْ مَسَاجِدَ». يُحَذِّرُ مثلَ ما صَنَعُوا. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأنَّ تَخْصِيصَ القُبُورِ بالصلاةِ عندَها يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الأصْنامِ بالسُّجُودِ لها. وقد رُوِىَ أنَّ ابْتِداءَ عِبادَةِ الأَصْنامِ تَعْظِيمُ الأمْواتِ،. باتِّخاذِ صُوَرِهم، ومَسْحِها، والصلاةِ عندَها (¬4). ¬

(¬1) في م: «عليها». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في زيارة النساء القبور، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 196. والنسائي، في: باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 77.كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجد، من أبواب الصلاة، ومختصرا في: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، من أبواب الجنائز 2/ 116، 4/ 276. وابن ماجه مختصرا أيضا، في: باب ما جاء في النهى عن زيارة النساء القبور، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 502. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 229، 287، 324، 337، ومختصرا في: 2/ 337، 356، 3/ 442، 443. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 299. (¬4) يشير المصنف إلى ما رواه البخارى عن ابن عباس، في: تفسير سورة نوح، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 6/ 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ خَلْعُ النِّعالِ لمَن دَخَل المَقَابرَ؛ لِما روَى بَشِيرُ بنُ الخَصاصِيَةِ، قال: بَيْنَا أنا أُماشِى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا رجلٌ يَمْشِى في القُبُورِ، عليه نَعْلان، فقالَ له: «يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَتّيْنِ (¬1)، أَلْقِ سِبْتِيَتّيْكَ». فنَظَرَ الرجلُ، فلَمّا عَرَف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَلَعَهما، - فرمَى بهما. رَواه أبو داودَ (¬2). قال أحمدُ: إسْنادُه جَيِّدٌ، [أذْهَبُ إليه] (¬3). وأكْثَرُ أهلِ العلمِ لا يَرَوْن بذلك بَأْسًا. قال جَرِيرُ بنُ حازِمٍ: رَأَيْتُ الحسنَ، وابنَ سِيرِينَ، يَمْشِيان بينَ القُبُورِ بنِعالِهما. ومنهم مَن احْتَجَّ بقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَيِّت إذا دُفِنَ، وتَوَلَّى عنه أصْحَابُه: «إنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ ¬

(¬1) السبتيتان: نعلان لا شعر عليهما. (¬2) في: باب المشى بين القبور في النعل، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 194.كما أخرجه النسائي، في: باب كراهة المشى بين القبور في النعال السبتية، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 78، 79. وابن ماجه، في: باب ما جاء في خلع النعلين في المقابر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 499، 500. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 83، 84، 224. (¬3) في النسخ: «أذهب الأمر عليه». والمثبت من المغنى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نعَالِهِم». رَواه البُخارِىّ (¬1). وقال- الخَطّابِىُّ (¬2): يُشْبِهُ أن يَكُونَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كَرِه للرجلِ المَشْىَ في نَعْلَيْه؛ لِما فيه مِن الخُيَلاءِ، فإنَّ نِعالَ السِّبْتِ مِن لِباسِ أهلِ التَّنَعَّمِ، قال عَنْتَرَةُ (¬3): * يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليس بتَوْأمِ * ولَنا، أمْرُه عليه السَّلامُ في الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ، وأدْنَى أحْوالِ الأمْرِ النَّدْبُ، ولأنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْن أقْرَبُ إلى الخُشُوعِ، وزِىِّ أهْلِ التَّواضُعِ، واحْتِرامِ أمْوَاتِ المُسْلِمِينَ. وإخْبارُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهم لا يَنْفِى الكَراهَةَ، إنَّما يَدُلّ على وُقوع هذا منهم، ولا نِزاعَ فيه. فأمّا إن كان للماشِى عُذْرٌ يَمْنَعُه مِن الخَلْعِ؛ مِن شَوْكٍ يَخافُ منه على قَدَمَيْه، أو نَجاسَةٍ تَمَسُّهما، لم يُكْرَهِ المَشْىُ فيهما؛ لأنَّ العُذْرَ يَمْنَعُ الوُجُوبَ في بعضِ الأحْوالِ، فالاسْتِحْبابُ أوْلَى. ولا يَدْخُلُ في ¬

(¬1) في: باب الميت يسمع خفق النعال، وباب ما جاء في عذاب القبر، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 113، 123.كما أخرجه مسلم، في: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه. . . . إلخ، من كتاب الجنة. صحيح مسلم 4/ 2200، 2201. وأبو داود، في: باب المشى بين القبور في النعل، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 195. والنسائى، في: باب التسهيل في غير السبتية، وباب المسألة في القبر، وباب مسألة الكافر، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 79. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 126، 233. ومختصرا في 2/ 347، 445. (¬2) في: معالم السنن 1/ 317. (¬3) عجز بيت له من معلقته، وصدره: * بطلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ * ديوانه 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِحْبابِ نَزْعُ الخِفافِ؛ لأنَّه يَشُقُّ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه كان إذا أراد أن يَخْرُجَ إلى الجِنازَةِ لَبس خُفَّيْه، مع أمْرِه بخَلْعِ النِّعالِ. فأمّا غيرُ النِّعالِ ممّا يُلْبَسُ كالتُّمُشْكَاتِ (¬1) وغيرِها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُخْلَعُ قِياسًا على النِّعالِ. والثانِى، أنَّ الكرَاهَةَ لا تَتَعَدَّى النِّعالَ. ذَكَرَه القاضى؛ لأنَّ النَّهْىَ غيرُ مُعَلَّل، فلا يَتَعَدَّى مَحَلَّه. فصل: والدَّفْنُ في مَقابِرِ المسلمين أعْجَبُ إلى أبى عبدِ اللهِ مِن الدَّفْنِ في البُيُوتِ؛ لأنَّه أقَلّ ضرَرًا على الأحْياءِ مِن الوَرَثةِ، وأشْبَهُ بمَساكنِ الآخِرَةِ، وأكْثَرُ للدُّعاءِ له، والتَّرَحُّمِ عليه. ولم يَزَل الصحابةُ والتّابِعُون ومَن بعدَهم يُقْبَرُون في الصَّحارَى. فأمّا النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّما قُبِر فِى بَيْتِه، قالَتْ عائشةُ: لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُه مَسْجِدًا. رَواه البُخارىُّ» (¬2). ولأَّنه - صلى الله عليه وسلم - كان يَدْفِنُ أصْحابَه في البَقِيعِ، وفِعْلُه أوْلَى مِن فِعْلِ غيرِه، وإنَّما أصحابُه رَأَوْا تَخْصِيصَه بذلك. ولأنَّه رُوِىَ: «يُدْفَنُ الأنْبِيَاءُ حَيْثُ يَمُوتُونَ» (¬3). وصِيانَةً له عن كَثْرَةِ الطُّرَّاقِ، وتَمْيِيزًا له عن غيرِه - صلى الله عليه وسلم - فصل: ويُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ في المَقْبَرَةِ التى يَكْثُرُ فيها الصّالِحُون؛ لتَنَالَه بَرَكَتُهم، وكذلك في البِقاعِ الشَّرِيفَةِ. فقد رَوَى (¬4) البُخَارِىُّ، ¬

(¬1) التمشك، بضم المثناة من فوق وضم الميم أيضا وسكون الشين بعدها الكاف: نوع من النعال مشهور عند أهل بغداد. قاله ابن نصر الله في حواشيه. الفروع 2/ 303. (¬2) انظر مواضع تخرج حديث «لعن الله اليهود والنصارى. . . .» الموضع الثانى والثالث، تقدم في 3/ 299. (¬3) أخرج نحوه ابن ماجه، في؛ باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 521. (¬4) في م: «روى في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومسلمٌ (¬1)، أنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمّا حَضرَه المَوْتُ، سَأل الله تَعالَى أن يُدْنِيَه إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بحَجَرِ. فصل: وجَمْعُ الأقَارِبِ في الدَّفْنِ حسنٌ، لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ حَضَر عثمان بنَ مَظْعُونٍ: «أدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أهْلِهِ (¬2)». ولأنَّه أسْهَلُ لزِيارَتِهم، وأكْثَرُ للتَّرَحُّمِ عليهم. ويُسَنُّ تَقْدِيمُ الأبِ ثم مَن يَلِيه في السِّنِّ والفَضِيلَةِ إذا أمْكَنَ. فصل: ويُسْتَحَبُّ دَفْنُ الشَّهِيدِ حيت قُتِل. قال أحمدُ: أمّا القَتْلَى فعلى حديثِ جابِرِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِى مَصَارِعِهمْ» (¬3). وروَى ابنُ ماجه (¬4)، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بقَتْلَى أُحُدٍ أن يُرَدُّوا إلى مَصارِعِهم. ولا يُنْقَلُ المَيِّتُ مِن بَلَدٍ إلى آخَرَ، إلَّا لغَرَض صَحِيح. وهذا قولُ الأوْزاعِىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. قال عبدُ اللهِ بنُ أبى مُلَيْكَةَ: تُوُفِّىَ عبدُ الرحمنِ بنُ أبى بكر بالحُبْشِى (¬5)، فحُمِلَ إلي مَكَّةَ، فدُفِنَ، فلَمّا قَدِمَتْ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 113، ومسلم، في: باب من فضائل موسى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1842، 1843.كما أخرجه النسائى، في: باب نوع آخر، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 96. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 269، 315. (¬2) في الأصل: «أهلى». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 229. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض وكراهة ذلك، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 180. والنسائى، في: باب أين يدفن الشهيد، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 65. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 486. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 308، 398. (¬4) انظر تخرج الحديث السابق. (¬5) في م: «بالحبشة» والحُبْشِىُّ، بضم المهملة في آخره ياء النسب من جبل بأسفل مكة بينه وبين مكة سنة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةُ أتَتْ قَبْرَه، ثم قالَتْ: واللهِ لو حَضَرْتُك ما دُفِنْتَ إلَّا حيثُ مُتَّ، ولو شَهِدْتُك ما زُرْتُك (¬1). ولأنَّ ذلك أخَفُّ لمُؤْنَتِه وأسْلَمُ له مِن التَّغْيِيرِ. فأمّا إن كان فيه غَرَضٌ صحيحٌ جاز. قال أحمدُ: ما أعْلَمُ بنَقْلِ الرجلِ يَمُوتُ في بَلَدِه إلى بَلْدَةٍ أُخْرَى بَأْسًا. وسُئِل الزُّهْرىُّ عن ذلك، فقالَ: قد حُمِل سعدُ بنُ أبى وَقَّاصٍ، وسَعِيدُ بنُ زيدٍ مِن العَقِيقِ (¬2) إلى المَدِينَةِ. وقال ابنُ عُيَيْنَةَ: ماتَ ابنُ عُمَرَ ههُنا، فأوْصَى أن لا يُدْفَنَ ههُنا، وأن يُدْفَنَ بسَرِفٍ (¬3). فصل: وإذا تَنازَعَ اثْنان مِن الوَرَثَةِ، فقالَ أحَدُهما: يُدْفَنُ في المَقْبَرَةِ المُسَبَّلَةِ. وقال الآخرُ: يُدْفَنُ في مِلْكِه. دُفِن في الُمسَبَّلَةِ؛ لأنَّه لا مِنَّةَ فيها، وهو أقَلُّ ضرَرًا على الوارِثِ (¬4). فإن تَشاحّا في الكَفَنِ، قُدِّمَ قولُ مَن قال نُكَفِّنُه مِن مِلْكِه؛ لأنَّ ضرَرَه على الوارِثِ بلُحُوقِ المِنَّةِ، وتَكْفِينُه مِن مالِه قَلِيلُ الضَّرَرِ. وسُئِل أحمد عن الرجلِ يُوصِى أن يُدْفَنَ في دارِه. ¬

= أميال. معجم البلدان 2/ 197. (¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في زيارة القبور للنساء، من أبواب الجنائز عارضة الأحوذى 4/ 275. والبيهقى، في: باب من كره نقل الموتى من أرض إلى أرض، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 57. وعبد الرزاق، في: باب لا ينقل الرجل من حيث يموت، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 517. (¬2) العقيق هو الوادى شقه السيل، وفى بلاد العرب منها أربعة منها عقيق بناحية المدينة المنورة. معجم البلدان 3/ 700. (¬3) سرف: موضع على ستة أميال من مكة. معجم البلدان 3/ 77. (¬4) في م: «الورثة».

807 - مسألة: (ولا يدفن فيه اثنان إلا لضرورة، ويقدم الأفضل إلى القبلة ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب)

وَلَا يُدْفَنُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا لِضَرورَةٍ، وَيُجْعَلُ بَيْنَ كلِّ اثْنَيْن حَاجزٌ مِنَ التُّرَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: يُدْفَنُ في المَقابِرِ مع المسلمين، وإن دُفِن بدارِه أضَرَّ بالوَرَثَةِ. وقال: لا بأْسَ أن يَشتَرِىَ الرجلُ مَوْضِعَ قَبْرِه، ويُوصِىَ أن يُدْفنَ فيه، فَعَل ذلك عثمانُ، وعائشةُ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، رَضِىَ الله عنهم. وإذا تَشاحَّ اثْنان في الدَّفْنِ في المَقْبَرَةِ المُسَبَّلَةِ، قُدِّمَ أسْبَقُهما، كما لو تَنازَعا في مَقاعِدِ الأسْواقِ، ورِحابِ المَساجِدِ، فإن تَساوَيا أُقْرِعَ بَيْنَهما. فصل: وإن تَيَقَّنَ أنَّ المَيِّتَ قد بَلِىَ وصار رَمِيمًا، جاز نَبْشُ قَبْرهِ، ودَفْنُ غيرِه فيه. وإن شَكَّ في ذلك رَجَع إلى قولِ أهلِ الخِبْرَةِ. فإن حَفَر، فوَجَدَ فيها عِظامًا دَفَنَهَا، وحَفَر في مَكانٍ آخَرَ. نَصَّ عليه. واسْتَدلَّ بأنَّ كَسْرَ عَظْمِ المَيِّتِ ككَسْرِه وهو حَىٌّ. وسُئِل أحمدُ عن المَيِّتِ يُخْرَجُ مِن قَبْرِه إلى غيرِه. فقال: إذا كان شئٌ يُؤْذِيه، قد حُوِّلَ طَلْحَةُ، وحُوِّلَتْ عائشةُ. وسُئِل عن قَوْم دُفِنُوا في بَساتِينَ ومَواضِعَ رَدِيئَةٍ. فقالَ: قد نَبَش مُعاذ امرأتَه وقد كانَتْ كُفنَتْ في خُلْقَان، فكَفَّنَهَا. ولم يَرَ أبو عبدِ اللهِ - بَأْسًا أن يُحَوَّلُوا. 807 - مسألة: (ولا يُدْفَنُ فِيهِ اثْنان إلَّا لضَرُورَةٍ، ويُقَدَّمُ الأفْضَلُ إلى القِبْلَةِ ويُجْعَلُ بينَ كلِّ اثْنَيْن حاجِزٌ مِن التُّرابِ) لا يُدْفَنُ في القَبْرِ أكْثَرُ

وَيُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ إلَى الْقِبْلَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن واحِدٍ، إلَّا لضَرُورَةٍ. وسُئِل أحمدُ عن الاثْنَيْن والثَّلاَثَةِ يُدْفَنُون في قَبْرٍ واحِدٍ. قال: أمّا في مِصْرٍ فلا، ولكنْ في بِلادِ الرُّومِ تكْثُرُ القَتْلَى. وهذا قولُ الشافعىِّ. ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -كان يَدْفِنُ كلَّ مَيِّتٍ في قَبْرٍ، ولأنَّه لا يَتَعَذَّرُ في الغالِبِ إفْرادُ كلِّ واحِدٍ بقَبْرِ في المصْرِ، ويتَعَذَّرُ ذلك غالِبًا في دارِ الحَرْبِ، وفى مَوْضِعِ المُعْتَرَكِ. فإن وُجِدَتِ الضَّرُورَةُ جاز دَفْنُ الاثْنَيْن والثَّلاثَةِ، سَواءٌ كان في مِصْرٍ أو غيرِه للحاجَةِ. ومتى دُفِنُوا في قَبْر واحِدٍ قُدِّمَ الأفْضَلُ إلى القِبْلَةِ، ثم الذى يَلِيه، على حَسَبِ تَقْدِيمِهم إلى الِإمامِ في الصلاةِ عليهم، على ما ذَكَرْنا؛ لِما روَى هِشامُ بنُ عامِر قال: شُكِىَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الجِراحاتُ يَوْمَ أُحُدٍ، فقالَ: «احْفِرُوا، وَأوْسِعُوا، وَأحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِى قَبر وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أكثَرَهُمْ قُرْآنًا». رَواه التِّزمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَنْبَغِى أن يُجْعَلَ بين كلِّ اثْنَيْن حاجِزٌ مِن تُرابٍ؛ لأنَّ الكَفَنَ حائِلٌ غيرُ حَصِينٍ. قال أحمدُ: ولو حَفَر لهم شِبْة النَّهْرِ، وجَعَل رَأْسَ أحَدِهم عندَ رِجْلِ الآخَرِ، وجَعَل بينَهما حاجِزًا مِن تُرابٍ، لم يَكُنْ به بأْسٌ. فصل: فإن مات له أقارِبُ بَدَأ بمَن يَخافُ تَغَيُّرَه، فإنِ اسْتَوَوْا في ذلك بَدَأ بأقْرَبِهم إليه، على تَرْتِيبِ النَّفَقاتِ، فإنِ اسْتَوَوْا في القُرْبِ، قَدَّمَ أَسَنَّهم وأفْضَلَهم.

808 - مسألة: (وإن وقع فى القبر ماله قيمة، نبش وأخذ)

وَإنْ وَقَعَ فِى الْقَبْرِ مَالَهُ قِيمَةٌ.، نُبِشَ وَأُخِذَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 808 - مسألة: (وإن وَقَعَ في القَبْرِ ماله قِيمَةٌ، نُبِش وأُخِذَ) قال أحمدُ: إذا نَسِىَ الحَفَّارُ مِسْحاتَه (¬1) في القَبْرِ جاز أن يَنْبُشَ عنها. قِيلَ: فإن أعْطاه أوْلِياءُ المَيِّتِ؟ قال: إن أعْطَوْه حَقَّه أىَّ شئٍ يُرِيدُ! وقد رُوِىَ أنَّ ¬

(¬1) المسحاة: أداة القشر والجرف.

809 - مسألة: (وإن كفن بثوب غصب، أو بلع مال غيره، غرم ذلك من تركته. وقيل: ينبش، ويؤخذ الكفن، ويشق جوفه فيخرج)

وَإنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ غَصْبٍ، أَوْ بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ، غَرِمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَقِيلَ: يُنْبَشُ، وَيُؤْخَذُ الْكَفَنُ، وَيُشَقُّ جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُغيرَةَ بنَ شُعْبَةَ طَرَحِ خاتَمَه في قَبْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: خَاتَمِى. ففُتِحَ مَوْضِعٌ منه، فأخذَ المُغِيرَةُ خاتَمَه، وكان يَقُولُ: أنا أقْرَبُكم عَهْدًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأنَّه أمْكَنَ رَدُّه إلى صاحِبِه مِن غيرِ ضَرَرٍ، فوَجَبَ. 809 - مسألة: (وإن كُفِّنَ بِثَوْبٍ غَصْبٍ، أو بَلَع مالَ غيرِه، غَرِم ذلك مِن تَرِكَتِه. وقِيلَ: يُنْبَشُ، ويُؤْخَذُ الكَفَنُ، ويُشَقُّ جَوْفُه فيُخْرَجُ) إذا بَلَع المَيِّتُ مالًا، لم يَخْلُ مِن أن يَكُونَ له أو لغيرِه، فإن كان له لم يُشقَّ بَطْنُه؛ لأنَّه اسْتَهْلَكَه في حَياتِه، ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان كَثِيرَ القِيمَةِ، شُقَّ بَطْنُه وأُخْرِجَ؛ لأنَّ فيه حِفْظَ المالِ عن الضَّياعِ، ونَفْعَ الوَرَثَةِ الذين تَعَلَّقَ ¬

(¬1) انظر: المسند، للإمام أحمد 1/ 101، والبداية والنهاية 5/ 270.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقُّهم بمالِه في مَرَضِه. وإن كان المالُ لغيرِه، وابْتَلَعَه بإذْنِه، فهو كمالِه؛ لأنَّ صاحِبَه أذِنَ في إتْلافِه. وإنِ ابْتَلَعَه غَصْبًا، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُشَقُّ بَطْنُهُ، ويُغْرَمُ مِن تَرِكَتِه؛ لِما في ذلك مِن المُثْلَةِ، ولأنَّه إذا لم يُشَقَّ بَطْنُ الحامِلِ مِن أجْلِ الوَلَدِ المَرْجُوِّ حياتُه، فمِن أجْلِ المالِ أوْلَى. والثّانِى، يُشَق إن كَثُرَتْ قِيمَتُه؛ لأنَّ فيه دَفْعَ الضَّرَرِ عن المالِكِ برَدِّ مالِه إليه، وعن المَيِّتِ بإبْراءِ ذمَّتِه، وعن الوَرَثَةِ بحِفْظِ التَّرِكَةِ لهم. ويُفارِقُ الجَنِينَ مِن وَجْهيْن؛ أحَدُهما، أنَّه لا يَتَحَققُ حَياتَه. والثّانِى، أنَّه ما حَصَلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بجِنايَتِه. فإن لم يَكُنْ له تَرِكَةٌ، ولم يَتَبَرَّعْ إنْسان بتَخْلِيصِ ذِمَّتِه، شُقَّ بَطْنُه على كلا الوَجْهيْن. وعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، إذا بَلِىَ جَسَدُه، وغَلَب على الظَّنِّ ظُهُورُ المالِ وتَخْلِيصُه مِن أعْضاءِ المَيِّتِ جاز نَبْشُه وإخْراجُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما روَى أبو داودَ (¬1)، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذَا قَبْرُ أبِى رِغَالٍ (¬2)، وَآيَةُ ذَلِكَ أنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهبٍ، إنْ أنْتُمْ نَبَشْتُم عَنْهُ أصَبْتُمُوهُ مَعَهُ». فابْتَدَرَه النّاسُ، فاسْتَخْرَجُوا الغُصْنَ. ولو كان في أُذُنِ المَيِّتِ حَلَقٌ، أو في أُصْبُعِه خاتَمٌ أُخِذَ. فإن صَعُبَ أخْذُه بُرِد، وأُخِذَ؛ لأنَّ تَرْكَه تَضْيِيعٌ للمالِ. وإن كُفِّنَ بثَوْبٍ مَغْصُوبٍ غَرِم قِيمَتَه مِن تَرِكَتِه، ولا يُنْبَشُ. ذَكَرَه القاضى؛ لِما فيه مِن هَتْكِ حُرْمَتِه مع إمْكانِ دَفْعِ الضَّرَرِ بدُونِها. ويَحْتَمِلُ أن يُنْبَشَ إن كان الكَفَنُ باقِيًا بحالِه، ليُرَدَّ إلى مالِكِه عَيْنُ مالِه، وإن كان بالِيًا فقِيمَتُه في تَرِكَتِه وإن دُفِن في أرْضٍ غَضبٍ، أو أرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بينَه وبينَ غيرِه بغيرِ إذْنِ الشَّرِيك، نُبِش وأُخْرِج؛ لأنَّ القَبْرَ في الأرْضِ يَدُومُ ضَرَرُه، ويَكْثرُ، بخِلافِ الكَفَنِ، وإن أَذِنَ المالِكُ في الدَّفْنِ في أرْضِه، ثم أراد إخْراجَه لم يَمْلِكْ ذلك؛ لأنَّ في ذلك ضَرَرًا. وإن بَلِىَ المَيِّتُ وعاد تُرابًا، فلصاحِب الأرْضِ أخْذُها. وكلُّ مَوْضِع أجَزْنا نَبْشَه لحُرْمَةِ مِلْكِ الآدَمِىِّ، فالأفْضَلُ تَرْكُه. ¬

(¬1) في: باب نبش القبور العادية يكون فيها المال، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 161. (¬2) أبو رغال: هو أبو ثقيف، وكان من ثمود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن دُفِن مِن غيرِ غَسْل، أو إلى غيرِ القِبْلَةِ نُبِش، وغُسِّلَ، ووُجِّة، إلأ أن يُخافَ عليه أن يَتَفسَّخَ، فيُتْرَكُ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُنْبَشُ؛ لأنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ، وقد نُهِىَ عنها. ولَنا، أنَّ هذا واجِبٌ فلا يَسْقُطُ بذلك، كإخْراجِ له قِيمَةٌ. وقَوْلُهم: إنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ. قُلْنا: إنَّمَا هو مُثْلَةٌ في حَقِّ مَن تغَيَّرَ، وهو لا يُنْبَشُ. فصل: وإن دُفِن قبلَ الصلاةِ عليه، فرُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه يُنْبَش ويُصَلَّى عليه. وعنه، إن صُلِّىَ على القَبْرِ جاز. واخْتارَ القاضى أنَّه يُصلَّى على القَبْر، ولا يُنْبَشُ. وهو مَذْهبُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ، لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى على قَبْرِ المِسْكِينَةِ ولم يَنْبُشْها (¬1). ولَنا، أنَّه دُفِن قبلَ واجِبٍ، أشْبَهَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 178، في مصادر تخريج حديث أنه ذكر رجلا مات، فقال: «دلونى على قبره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالو دُفِن مِن غيرِ غَسْلٍ، وإنَّما يُصَلَّى على القَبْرِ عندَ الضَّرُورَةِ. وأمَّا المِسْكِينَةُ فقد كان صُلِّىَ عليها، فلم تَبْقَ الصلاةُ عليها واجِبَةً، فلذلك لم تُنْبَشْ. فإن تَغَيَّرَ المَيِّتُ، لم يُنْبشْ بحالٍ. فصل: وإن دُفِن بغيرِ كَفَنٍ ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُتْرَكُ؛ لأنَّ القَصْدَ بالكَفَنِ سَتْرُه، وقد حَصَل بالتُّرابِ. والثّانِى، يُنْبَشُ ويُكَفَّنُ؛ لأنَّ التَّكْفِينَ واجِبٌ، فأشْبَة الغَسْلَ. والله أعلمُ. فصل: ولا يَجُوزُ الدَّفْنُ في السّاعاتِ التى نَهى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الدَّفْنِ فيها في حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عامِرِ، وهو قَوْلَه: ثَلاثُ ساعاتٍ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَنْهانا عن الصلاةِ فيهِنَّ، وأن نَقْبُرَ فيهِنَّ مَوْتانا، حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بازِغَةً حتى تَرْتَفِعَ، وحينَ يَقُومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ، وحِينَ تَتَضَيَّف الشَّمْسُ للغُرُوبِ حتى تَغْرُبَ. رَواه مسلمٌ (¬1). ومَعْنَى تَتَضَيَّفُ: أى تَجْنَحُ وتَمِيلُ للغُرُوبِ، مِن قَوْلِك: تَضَيَّفْتُ فُلانًا، إذا مِلْتَ إليه. فأمّا في غيرِ هذه الأوْقاتِ فيَجُوزُ الدَّفْنُ لَيْلًا ونَهارًا. قال أحمدُ في الدَّفْنِ باللَّيْلِ: وما بأْسٌ بذلك، أبو بكر دُفِن لَيْلًا، وعلىٌّ دَفَن فاطمةَ لَيْلًا. وحَدِيثُ عائِشةَ: كُنّا سَمِعْنا صَوْتَ المَساحِى مِن آخِرِ اللَّيْلِ في دَفْنِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ودُفِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 240. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 62، 242، 274. وابن أبى شيبة، في: باب ما جاء في الدفن بالليل، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عثمانُ، وعائشةُ لَيْلًا. وهذا قولُ عُقْبَةَ بنٍ عامِر، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والثَّوْرىِّ، والشافعىِّ، وإسحاق. وعنه، أنَّه يُكْرَهُ. وهو قولُ الحسنِ؛ لِما روَى مسلمٌ (¬1)، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر رجلًا مِن أصحابِه قُبِض، فكُفِّنَ في كَفَنٍ غيرِ طائِلٍ، ودُفِن لَيْلًا، فزَجَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُقْبَرَ الرجلُ باللَّيْلِ، إلَّا أن يُضْطَرَ إنْسانٌ إلى ذلك. ووَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ الصحابةِ. وروَى ابنُ مسعودٍ، قال: واللهِ لَكَأنِّى أسْمَعُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهو في قَبْرِ ذى البِجَادَيْن (¬2)، وأبو بكرٍ وعُمَرُ، وهو يقولُ: «أدْنِيَا مِنِّى أخَاكُمَا حَتَّى أَسْنُدَهُ فِى لَحْدِهِ». ثم قال لَمّا فَرَغ مِن دَفْنِه، وقام على قَبْرِه مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ: «اللَّهُمَّ إنِّى أمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ». وكان ذلك لَيْلًا، قال: فواللهِ لقد رَأيْتُنِى ولوَدَدْتُ أنِّى مَكَانَه، ولقد أسْلَمْتُ قبلَه بخَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، وأخَذَه مِن قِبَلِ القِبْلَةِ. رَواه الخَلَّالُ في «جامِعِه» (¬3). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل قَبْرًا لَيْلًا، فأُسْرِجَ له سِراجٌ، فأخَذَ مِن قِبَلِ القِبْلَةِ، وقال: «رَحِمَكَ اللهُ، إنْ كُنْتَ لَأوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» (¬4). قال التِّرْمِذِىُّ: حديثٌ حسنٌ. ¬

(¬1) في: باب في تحسين الكفن، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 651. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الكفن، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 176. والنسائى، في: باب الأمر بتحسين الكفن، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 28. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الأوقات التى لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 487. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 295. (¬2) هو عبدالله بن عبد نُهم بن عفيف المزنى، وهو عم عبد الله بن مغفل بن عبد نهم، وله صحبة. الإصابة 4/ 161 - 163. (¬3) عزاه الهيثمى إلى الطبرانى في الأوسط. مجمع الزوائد 3/ 43. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 210.

810 - مسألة: (وإن ماتت حامل لم يشق بطنها، وتسطو عليه القوابل، فيخرجنه)

وَإنْ مَاتَتْ حَامِلٌ لَمْ يُشَقَّ بَطْنُهَا، وَتَسْطُو عَلَيْهِ الْقَوَابِلُ فَيُخْرِجْنَهُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يُشَقَّ بَطنُهَا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يَحْيَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه أحَدُ الزَّمانَيْن، فجاز الدَّفْنُ فيه كالنَّهارِ. وحَدِيثُهم مَحْمُولٌ على التَّأدِيبِ، والدَّفْنُ بالنَّهارِ أوْلَى؛ لأنَّه أسْهَلُ على مُتَّبِعِها، وأكثَرُ للمُصَلِّين عليها، وأمْكَنُ لاتِّباعِ السُّنَّةِ في دَفْنِه وإلحادِه. 810 - مسألة: (وإن ماتَتْ حامِلٌ لم يُشَقَّ بَطْنُها، وتَسْطُو عليه القَوابِلُ، فيُخْرِجْنَه) إذا ماتَتْ حامِلٌ، وفى بَطْنِها وَلَدٌ يَتَحَرَّكُ وتُرْجَى حَياتُه، لم يُشَقَّ بَطْنُها، مُسْلِمَةً كانت أو ذِمِّيَّةً، ويُدْخِلُ القَوابِلُ أيْدِيَهُنَّ في فَرْجِها، فيُخْرِجْن الوَلَدَ مِن مَخْرَجِه. فإن لم يُوجَدْ نِساءٌ لم يَسْطُ الرجالُ عليه؛ لِما فيه مِن هَتْكِ المَيِّتةِ وتُتْرَكُ حتى يُتَيَقَّنَ مَوْتُه. ومَذْهَبُ مالكٍ، وإسحاقَ نَحْوُ هذا (وَيحْتَمِلُ أن يُشَقَّ بَطْنُها، إذا غَلَب على الظَّنِّ أنّه يَحْيا) وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ، لأنَّه إتْلافُ جُزْءٍ مِن المَيِّتِ لِإبْقاءِ حَىٍّ، فجاز، كما لو خَرَج بعْضُه حَيًّا، ولم يُمْكِنْ خُرُوجُ باقِيه إلَّا بالشَّقِّ، ولأنَّه يُشَقُّ لِإخْراجِ المالِ، فإبْقاءُ الحَىِّ أوْلَى. ولَنا، أنَّ هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَلَدَ لا يَعِيشُ عادَةً، ولا يَتَحَقَّقُ أنَّه يَحْيا، فلا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لأمْرٍ مَوْهُومٍ، وقد قال عليه السَّلامُ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَىِّ». رَواه أبو داودَ (¬1). وفيه مُثْلَةٌ، وقد نَهَى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن المُثْلَةِ (¬2). وفارَقَ الأصْلَ؛ فإنَّ حَياتَه مُنْتَفِيَةٌ (¬3)، وبَقاؤُه مَظْنُونٌ. فعلى هذا إن خَرَج بعضُ الوَلَدِ حَيًّا، ولم يُمْكِنْ إخْراجُه إلَّا بالشَّقِّ، شُقَّ المَحَلُّ، وأُخْرِجَ؛ لِما ذَكَرْنا. وإن مات على حالِه، فأَمْكَنَ إخْراجُه، أُخْرِجَ وغُسِّلَ، وإن تَعَذَّرَ خُرُوجُه غُسِّلَ ما ظَهَر مِن الوَلَدِ، وما بَقِىَ ففى حُكْمِ الباطِنِ لا يَحْتاجُ إلىْ تَيَمُّمٍ؛ لأنَّ الجَمِيعَ كان في حُكْمِ الباطِنِ، وظَهَر البَعْضُ، فتَعَلَّقَ الحُكْمُ به، وما بَقِىَ فهو على ما كان عليه. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ، وقال: هى حادِثَةٌ سُئِلْتُ عنها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 72. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب النهبى بغير إذن صاحبه، من كتاب المظالم، وفى: باب قصة عكل وعرينة، من كتاب المغازى، وفى: باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 3/ 178، 5/ 165، 7/ 122. وأبو داود، في: باب في النهى عن المثلة، من كتاب الجهاد، وفى: باب ما جاء في المحاربة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 49، 444. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن المثلة، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 179. وابن ماجه، في: باب النهى عن صبر البهائم وعن المثلة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1063. والدارمى.، في: باب الحث على الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب النهى عن مثلة الحيوان، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 1/ 390، 2/ 83. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 246، 307، 428، 429، 432، 436، 439، 440، 445، 5/ 12، 13. (¬3) في النسخ: «متيقنة» وهو خطأ، وانظر المغنى 3/ 498.

811 - مسألة: (وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها، ويجعل ظهرها إلى القبلة)

وَإنْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ حَامِلٌ مِنْ مُسْلِمٍ، دُفِنَتْ وَحْدَهَا، وَيجْعَلُ ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 811 - مسألة: (وإن ماتَتْ ذِمِّيَّةٌ حامِلٌ مِن مُسْلِمٍ دُفِنَتْ وَحْدَها، ويُجْعَلُ ظَهْرُها إلى القِبْلَةِ) وإنَّما اخْتارَ أحمدُ ذلك؛ لأنَّها كافِرَةٌ، فلا تُدْفَنُ في مَقْبَرَةِ المسلمين، ووَلَدُها مَحْكُومٌ بإسْلامِه، فلا يُدْفَنُ بينَ الكُفَّارِ، مع أنَّ ذلك رُوِىَ عن واثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ، وعن عُمَرَ، أنَّها تُدْفَنُ في مَقابِرِ المسلمين (¬1). قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَثْبُتُ ذلك. قال أصحابُنا: ويُجْعَلُ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المرأة من أهل الكتاب الحبلى من المسلمين، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 528.

812 - مسألة: (ولا تكره القراءة على القبر، فى أصح الروايتين)

وَلَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ، فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظَهْرُها إلى القِبْلَةِ علىِ جانِبِها الأيْسَرِ، ليَكُونَ وَجْهُ الجَنِينِ إلى القِبْلَةِ على جانِبِه الأيْمَنِ؛ لأنَّ وَجْهَ الجَنِينِ إلى ظَهْرِها. 812 - مسألة: (ولا تُكْرَهُ القِراءَةُ على القَبْرِ، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن) هذا هو المَشْهُورُ عن أحمدَ، فإنَّه رُوِىَ عنه، أنَّه قال: إذا دَخَلْتُم المَقابِرَ اقْرَأُوا آيَةَ الكُرْسِىِّ، وثَلاثَ مِرارٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثم قُلْ: اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَه لأهْلِ المَقابِرِ. ورُوِىَ عنه، أنَّه قال: القِراءَةُ عندَ القَبْرِ بِدْعَةٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ ذلك عن هُشَيْمٍ. قال أبو بكرٍ: نَقَل ذلك عن أحمدَ جَماعَةٌ، ثم رَجَع رُجُوعًا أبانَ به عن نَفْسِه. فَرَوَى جَماعَةٌ، أنَّ أحمدَ نَهَى ضَرِيرًا يَقْرَأُ عندَ القَبْرِ، وقال له: القِراءَةُ عندَ القَبْرِ بِدْعَةٌ. فقالَ له محمدُ بنُ قُدامَةَ الجَوْهَرِىُّ (¬1): يا أبا عبدِ اللهِ: ما تَقُولُ في مُبَشرٍ الحَلَبِىِّ (¬2)؟ قال: ثِقَةٌ. قال: فأخْبَرَنِى مُبَشِّرٌ، عن أبيه، أنَّه أوْصَى إذا دُفِن أن يُقْرَأَ عندَه بفاتِحَةِ البَقَرَةِ وخاتِمَتِها، وقال: سمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يُوصِى بذلك. فقالَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: فارْجِعْ فقُلْ للرجلِ يَقْرَأَ. وقال الخَلَّالُ: حَدَّثَنِى أبو علىٍّ الحسنُ ابنُ الهَيْثَمِ البَزَّارُ (¬3)، شيخُنا الثِّقَةُ المَأْمُونُ، قال: رَأيْتُ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ يُصلِّى خَلْفَ ضَرِيرٍ يَقْرَأُ على القُبُورِ. وقد رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ¬

(¬1) نقل عن الإمام أحمد أشياء؛ منها العزاء عند القبور، واحتج بحديث ابن عمر. طبقات الحنابلة 1/ 315. (¬2) مبشر بن إسماعيل الحلبى، أبو إسماعيل. كان ثقة مأمونا. روى عنه الإمام أحمد. توفى سنة مائتين. تهذيب التهذيب 10/ 31. (¬3) في الأصل: «البزاز». وانظر ترجمته في طبقات الحنابلة 1/ 140.

813 - مسألة: (وأى قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك)

وَأَىُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ، نَفَعَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أوْ أحَدِهِمَا، فَقَرَأ عِنْدَهُ أوْ عِنْدَهُمَا يسَ، غُفِرَ لَهُ» (¬1). ورُوِىَ عنه، عليه السَّلامُ، أنَّه قال: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأ سُورَةَ يسَ، خُفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ» (¬2). 813 - مسألة: (وأىُّ قُرْبَةٍ فَعَلَها وجَعَل ثَوابَها للمَيِّتِ المُسْلِمِ، نَفَعَه ذلك) أمّا الدُّعاءُ، والاسْتِغْفارُ، والصَّدَقَةُ، وقَضاءُ الدَّيْنِ، وأداءُ ¬

(¬1) أخرجه ابن عدى، في: الكامل في الضعفاء 5/ 180. وأورده ابن الجوزى في: الموضوعات 3/ 239. وعزاه السيوطى الى ابن النجار في تاريخه. الدر النثور 5/ 257. (¬2) عزاه القرطبى إلى الثعلبى في تفسيره. تفسير القرطبى 15/ 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواجِباتِ، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إذا كانتِ الواجِباتُ مِمّا يَدْخُلُه النِّيابَةُ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (¬1) وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). ودُعاءُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبى سَلَمَةَ حينَ مات (¬3)، وللمَيِّتِ الذى صَلَّى عليه (¬4)، ولذى البِجادَيْن (¬5) حينَ ¬

(¬1) سورة الحشر 10. (¬2) سورة محمد 19. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 18. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 151. (¬5) في م: «النجادين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَفَنَه (¬1). وشَرَع اللهُ تعالى ذلك لكلِّ مَن صَلَّى على مَيِّتٍ. وسَأل رجلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يارسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّى ماتَتْ، أَيَنْفَعُها إن تَصَدَّقْتُ عنها؟ قال: «نَعَمْ». رَواه أبو داودَ (¬2). وجاءَتِ امرأةٌ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَتْ: يارسولَ اللهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ في الحَجِّ أدْرَكَتْ أبى شَيْخًا كَبِيرًا، لا يَسْتَطِيعُ أن يَثْبُتَ على الرّاحِلَةِ، أفَأحُجُّ عنه؟ قال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 251. (¬2) في: باب ما جاء في من مات من غير وصية يُتصدَّق بها، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 106. كما أخرجه البخارى، في: باب إذا قال أرضى أو بستانى صدقة عن أمى فهو جائز وإن لم يبين لمن ذلك، وباب ما يستحب لمن يتوفى فجأة أن يتصدقوا عنه، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة، وباب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، من كتاب الوصايا. صحيح البخارى 4/ 9، 10، 13. ومسلم، في: باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، من كتاب الزكاة، وفى: باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، من كتاب الوصية. صحيح مسلم 2/ 696، 3/ 1254. والترمذى، في: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 175. والنسائى، في: باب إذا مات الفجأة هل يستحب لأهله أن يتصدقوا عنه؟، وباب فضل الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 209، 210، 211. والإمام مالك، في: باب صدقة الحى عن الميت، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 760. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 370، 5/ 285.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «أرَأيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكِ دَيْنٌ أكُنْتِ قَاضِيَتَهُ». قالَتْ: نعم. قال: «فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى» (¬1). وقال في الذى سَألَه، إنَّ أُمِّى ماتَتْ وعليها صَوْمُ شَهْرٍ، أفَأصُومُ عنها؟ قال: «نَعَمْ» (¬2). وكلُّها أحادِيثُ صِحاحٌ، وفيها دَلالَةٌ على انْتِفَاعِ المَيِّتِ بسائِرِ القُرَبِ، لأنَّ الصومَ، ¬

(¬1) جمع المصنف في هذا السياق ألفاظ حديثين: الأول دون تشبيه الحج بالدين، والثانى بمعناه ولكن السائل رجل. وقد أخرج الأول، البخارى، في: باب وجوب الحج وفضله، من كتاب الحج، وفى: باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وباب حج المرأة عن الرجل، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب حجة الوداع، من كتاب المغازى، وفى: باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا. . . .} إلخ، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 2/ 163، 3/ 23، 5/ 322، 8/ 63. ومسلم، في: باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 973، 974. وأبو داود، في: باب الرجل يحج عن غيره، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 420. والترمذى، في: باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 157. والنسائى، في: باب الحج عن الميت الذى لم يحج، وباب الحج عن الحى الذى لا يستمسك على الرحل، وباب حج المرأة عن الرجل، من كتاب الحج، وفى: باب الحكم بالتشبيه والتمثيل، من كتاب القضاة. المجتبى 5/ 87، 88، 90، 8/ 200، 201. وابن ماجه، في: باب الحج عن الحى إذا لم يستطع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 970. والدارمى، في: باب في الحج عن الحى، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 39، 40. والإمام مالك، في: باب الحج عمن يحج عنه، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 359. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 212، 213، 219، 251، 329، 346. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من مات وعليه صوم، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 46. ومسلم، في: باب قضاء الصيام عن الميت، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 804. والترمذى، في: باب ما جاء في المتصدق يرث صدقته، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 173. وابن ماجه، في: باب من مات وعليه صيام من نذر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 559. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 227، 5/ 349، 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَجَّ، والدُّعاءَ، والاسْتِغْفَارَ، كلُّها عِباداتٌ بَدَنِيَّةٌ، وقد أوْصَلَ اللهُ نَفْعَها إلى المَيِّتِ، فكذلك ما سِواها، مع ما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ في ثَوابِ مَن قَرَأ يسَ، وتَخْفِيفِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عن أهلِ المَقابِرِ بقِراءَتِه. ولأنَّه عَمَلُ بِرٍّ وطاعَةٍ، فوَصَلَ نَفْعُه وثَوابُه، كالصَّدَقَةِ، والصيامِ، والحَجَّ الواجِبِ. وقال الشافعىُّ: ما عَدَا الواجِباتِ، والصَّدَقَةَ، والدُّعاءَ، والاسْتِغْفَارَ، لا يُفْعَلُ عن المَيِّتِ، ولا يَصِلُ ثَوابُه إليه؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬1). وقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أوْ ولَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬2). ولأن نَفْعَه لا يَتَعَدَّى فاعِلَه، فلا يَتَعَدَّاه ثَوابُه. وقال بعضُهم: إذا قُرِئ القُرْآنُ عندَ المَيِّتِ، أو أُهْدِىَ إليه ثَوابُه، كان الثَّوابُ لقارِئِه، ويَكُونُ المَيِّتُ كأنَّه حاضِرُها، فتُرْجَى له الرَّحْمَةُ. ولَنا، ما ذَكَرْناه، وأنَّه إجْماعُ المُسْلِمِين؛ فإنَّهم في كلِّ عَصْرٍ ¬

(¬1) سورة النجم 39. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، من كتاب الوصية. صحيح مسلم 3/ 1255. وأبو داود، في: باب فيما جاء في الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 106. والترمذى، في: باب في الوقف، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 144. والنسائى، في: باب فضل الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا، المجتبى 6/ 210. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِصْرٍ يَجْتَمِعُون ويَقْرَءُون القُرْآنَ، ويُهْدُون ثَوابَه إلى مَوْتاهم مِن غيرِ نَكِيرٍ. ولأنَّ الحَدِيثَ صَحَّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهلِهِ عَلَيْهِ» (¬1). واللهُ أكْرَمُ مِن أْن يُوصِلَ عُقُوبَةَ المَعْصِيَةِ إليه، ويَحْجُبَ عنه المَثُوبَةَ. والآيةُ مَخْصُوصَةٌ بما سَلَّمُوه، فيُقاسُ عليه ما اخْتَلَفْنَا فيه؛ لكَوْنِه في مَعْناه. ولا حُجَّةَ لهم في الخَبَرِ الذى احْتَجُّوا به؛ لأنَّه إنَّمَا دَلَّ على انْقِطاعِ عَمَلِه، وليس هذا مِن عَمَلِه فلا دَلالَةَ فيه عليه، ولو دَلَّ عليه كان مَخْصُوصًا بما سَلَّمُوه، فيَتَعَدَّى إلى ما مَنَعُوه، وما ذَكَرُوه مِن المَعْنَى غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ تَعَدِّىَ الثَّوابِ ليس بفَرْعٍ لتَعَدِّى النَّفْعِ، ثم هو باطِلٌ بالصومِ والدُّعاءِ والحَجِّ، وليس له أصْلٌ يُعْتَبَرُ به. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) متفق عليه من رواية ابن عمر، وهو عند مسلم من رواية عمر. أخرجه البخارى، في: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت. . . . إلخ، وباب البكاء عند المريض، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 101، 106. ومسلم، في: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 638 - 641. وأبو داود، في: باب في النوح، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 172. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت، وباب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 222، 225. والنسائى، في: باب النهى عن البكاء على الميت، وباب النياحة على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 13، 15، 16. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 36، 38، 41، 42، 45، 47، 54، 2/ 31، 38، 61، 134، 6/ 281.

814 - مسألة: (ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعام، يبعث إليهم، ولا يصلحون هم طعاما للناس)

ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْلَحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ هُمْ طَعَامًا لِلنَّاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 814 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أنْ يُصْلَحَ لأهلِ المَيِّتِ طَعامٌ، يُبْعَثُ إليهم، ولا يُصْلِحُون هم طَعامًا للنّاسِ) لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، قال: لَمّا جاء نَعْىُ جَعْفَرٍ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا لآلِ جَعْفرٍ طَعَامًا، فَقَدْ جَاءَهُمْ أمْرٌ شَغَلَهُمْ». رَواه أبو داودَ (¬1). ويُرْوَى عن عبدِ اللهِ بنِ أبى بكرٍ، أنَّه قال: فما زالَتِ السُّنَّةُ فينا، حتى تَرَكَها مَن تَرَكَها. ولأنَّ أهلَ المَيِّتِ رُبَّما اشْتَغَلُوا بمُصِيبَتِهم وبمَن يَأْتِى إليهم عن ¬

(¬1) في: باب صنعة الطعام لأهل الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 173. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 219. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 514. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 205.

فصل: وَيُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَةُ الْقبُورِ. وَهَلْ تُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إصْلاحِ طَعامٍ لهم، ولأنَّ فيه جَبْرًا لقُلُوبِهم. فأمّا إصْلاحُ أهلَ المَيِّتِ طَعامًا للنّاسِ فَمَكْرُوهٌ؛ لأنَّه زِيادَةٌ على مُصِيبَتِهم، وشُغْلٌ لهم إلى شُغْلِهِم، وتَشْبِيهٌ بصَنِيعِ أهلِ الجَاهِلِيَّةِ. وقد رُوِىَ أنَّ جَرِيرًا وَفَد على عُمَرَ، فقالَ: هل يُناحُ على مَيِّتِكم؟ قال: لا. قال: فهل يَجْتَمِعُون عندَ أهْلِ المَيِّتِ، ويَجْعَلُون الطَّعامَ؟ قال: نعم. قال: ذلك النَّوْحُ (¬1). وإن دَعَتِ الحاجَةُ (¬2) إلى ذلك جاز؛ فإنَّه رُبَّما جاءَهم مَن يَحْضُرُ مَيِّتَهم مِن أهلِ القُرَى البَعِيدَةِ، ويَبِيتُ عندَهم، فلا يُمْكِنُهم إلَّا أن يُطْعِمُوه. (فصل: ويُسْتَحَبُّ للرِّجالِ زِيارَةُ القُبُورِ. وهل تُكْرَهُ للنِّساءِ؟ على رِوايَتَيْنِ) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في اسْتِحْبابِ زِيارَةِ الرجالِ ¬

(¬1) ذكره الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في بلوغ الأمانى 8/ 95. وعزاه لسعيد بن منصور في سننه. (¬2) في م: «الحالة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القُبُورَ. قال علىُّ بنُ سعيدٍ: قُلْتُ لأحمدَ: زِيارَةُ القُبورِ أفْضَلُ أم تَرْكها؟ قال: زِيارَتُها. وقد صَحَّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا؛ فَإنَّها تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» (¬1). وللتِّرْمِذِىِّ: ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب استئذان النبى - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، من كتاب الجنائز، وفى: باب بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 2/ 671، 672، 3/ 1564. وأبو داود، في: باب في زيارة القبور، من كتاب الجنائز، وفى: باب في الأوعية، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 195، 298. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 274. والنسائى، في: باب زيارة القبور، وباب زيارة قبر المشرك، من كتاب الجنائز، وفى: باب الإذن في ذلك، من كتاب الضحايا، وفى: باب الإذن في شئ منها، من كتاب الأشربة. المجتبى 4/ 73، 74، 7/ 207، 8/ 278. وابن ماجه، في: باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 501. والإمام مالك، في: باب ادخار لحوم الأضاحى، من كتاب الضحايا. الموطأ 2/ 485. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 441، 3/ 38، 63، 66، 237، 250، 5/ 350، 355 - 357، 359، 361.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ». فأمّا زِيارَةُ القُبُورِ للنِّساءِ ففيها رِوايَتانِ؛ إحْداهما، الكَراهَةُ؛ لِما رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، قالَتْ: نُهِينَا عن زِيارَةِ القُبُورِ، ولم يُعْزَمْ علينا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: - «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ (¬2) القُبُورِ» (¬3). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا (¬4) حَدِيثٌ صحيحٌ. وهذا خاصٌّ في النِّساءِ، والنَّهْىُ المَنْسُوخُ كان عامًّا للرجالِ والنِّساءِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه كان خاصًّا للرِّجالِ. ويَحْتَمِلُ كَوْنَ الخَبَرِ في لَعْنِ زَوّاراتِ القُبُورِ بعدَ أمْرِ الرِّجالِ بزِيارَتِها، فقد دار بينَ الحَظْرِ والِإباحَةِ، فأقَلُّ أحْوالِه الكَراهَةُ. ولأنَّ المرأةَ قَلِيلَةُ الصَّبْرِ، كَثِيرَةُ الجَزَعِ، وفى ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث أم عطية في صفحة 210. بلفظ: «نهينا عن اتباع الجنائز. . . .». (¬2) في م: «زائرات». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة ينظر 235. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زِيارَتِها للقَبْرِ تَهْيِيجٌ لحُزْنِها (¬1)، وتَجْدِيدٌ لذِكْرِ مُصابِها، فلا يُؤْمَنُ أن يُفْضِىَ بها ذلك إلى فِعْل ما لا يَحِلُّ، بخِلافِ الرجلِ، ولهذا اخْتَصَصْنَ بالنَّوْحِ والتَّعْدِيدِ، وخُصِصْنَ بالنَّهْىِ عن الحَلْقِ والصَّلْقِ (¬2) ونحوِهما. والرِّوايةُ الثَّانِيَةُ، لا يُكْرَهُ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا». وهو يَدُلُّ على سَبْقِ النَّهْىِ ونَسْخِه، فيَدْخُلُ فيها الرجالُ والنِّساءُ. وروَى ابنُ أبى مُلَيْكَةَ، عن عائشةَ، أنَّها زارَتْ قَبْرَ أخِيهِا، فقالَ لها: قد نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن زِيارَةِ القُبُورِ. قَالَتْ: نعم قد نهَى، ثم أمَرَ بزِيارَتِها (¬3). وروَى التِّرْمِذِىُّ، أنَّ عائشةَ زارَتْ قَبْرَ أخِيها. وروَى عنها أنَّها قالَتْ: لو شَهِدْتُه ما زُرْتُه (¬4). ¬

(¬1) في م: «للحزن». (¬2) الصلق: الصوت الشديد. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ما ورد في دخولهن في عموم قوله فزوروها، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 78. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 240.

815 - مسألة: (ويقول إذا زارها، أو مر بها)

وَيَقُولُ إِذَا زَارَهَا أَوْ مَرَّ بِهَا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 815 - مسألة: (ويَقُولُ إذا زارَها، أو مَرَّ بها) ما روَى مسلم (¬1)، عن بُرَيْدَةَ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهم إذَا خَرَجُوا إلى المَقابِرِ، فكان قَائِلُهم يَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الدِّيارِ مِن الْمُؤْمِنِينَ ¬

(¬1) في: باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 671. كما أخرجه النسائى، في: باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 77. وابن ماجه، في: باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 494. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 353، 360.

وَإنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، وَيَرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والْمُسْلِمِينَ، وَإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ (¬1)، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ». وفى حَدِيثِ عائشةَ: «وَيَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ (¬2)». وفى حَدِيثٍ آخَرَ: «اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أجْرَهُمْ، ولا تَفْتِنَّا بَعْدَهُم (¬3)». وإن زاد: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا ولهم. كان حَسَنًا. ¬

(¬1) في م: «لاحقون». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 671. والنسائى، في: باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 76. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 221. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، وباب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 480، 493. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 71، 76، 111.

816 - مسألة: (ويستحب تعزية أهل الميت)

وَيسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 816 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أهْلِ المَيِّتِ) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وسَواءٌ في ذلك قبلَ (¬1) الدَّفْنِ وبعدَه، إلَّا أنَّ الثَّوْرِىَّ قال: لا يُسْتَحَبُّ بعدَ الدَّفْنِ؛ لأنَّه خَاتِمَةُ أمْرِه. ولَنا، قَوْلُه عليه السَّلامُ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أجْرِهِ» (¬2). قال التِّرْمِذِىُّ: حديثٌ غريبٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «ما قبل». (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في أجر من عزى مصابا، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 294. وابن ماجه، في: باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 511.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى ابنُ ماجه (¬1)، بإسْنادِه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّى أخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إلَّا كَسَاهُ الله مِن حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والمقْصُودُ بالتَّعْزِيَةِ تَسْلِيَةُ أهْلِ المُصِيبَةِ، وقَضاءُ حُقُوقِهم، وسَواءٌ في ذلك قبلَ الدَّفْنِ وبعدَه. ويُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ كلِّ أهْلِ المُصِيبَةِ؛ كِبارِهم وصِغارِهم، ويَبْدَأُ بخِيارِهم والمَنْظُورِ إليه منهم؛ لِيَسْتَنَّ به غيرُه، وذى الضَّعْفِ منهم عن تَحَمُّلِ المُصِيبَةِ؛ لحاجَتِه إليها. ولا يُعَزِّى الرجلُ الأجْنَبِىُّ شَوابَّ النِّساءِ؛ مَخافَةَ الفِتْنَةِ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 511.

وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ويُكْرَهُ الجُلُوسُ لها) وذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه مُحْدَثٌ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الاجْتِماعُ بعدَ خُرُوجِ الرُّوحِ؛ لأنَّ فيهْ تَهْيِيجًا للحَزْنِ. وقال أحمدُ: أكْرَهُ التَّعْزِيَةَ عندَ القَبْرِ، إلَّا لمَن لم يُعَزِّ، فيُعَزِّى إذا دُفِن المَيِّتُ، أو قبلَه. وقال: إن شِئْتَ أخَذْتَ بيَدِ الرجلِ في التَّعْزِيَةِ وإن شِئْتَ فلا. وإذا رَأى الرجلَ قد شَقَّ ثَوْبَه على المُصِيبَةِ عَزّاه، ولم يَتْرُكْ حَقًّا لباطِلٍ، وإن نَهاه فحَسَنٌ.

817 - مسألة: (ويقول فى تعزية المسلم بالمسلم: أعظم

وَيَقُولُ فِى تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ: أعْظَمَ اللهُ أجْرَكَ، وَأحْسَنَ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 817 - مسألة: (ويَقُولُ في تَعْزِيَةِ المُسْلِمِ بالمُسْلِمِ: أعْظَمَ (¬1) الله أجْرَكَ، وأحسَنَ عَزاءَكَ، ورَحِم مَيِّتَك) هكذا ذَكَرَه بعضُ أصحابِنا. قال شيخُنا (¬2): ولا أعْلَمُ في التَّعْزِيَةِ شيئًا مَحْدُودًا، إلَّا أنَّه يُرْوَى أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَزَّى. رجلًا، فقال: «رَحِمَكَ الله وآجَرَكَ». رَواه الِإمامُ. أحمدُ (¬3). وعَزَّى أحمدُ أبا طالِبٍ، فوَقَفَ على بابِ المَسْجِدِ، فقالَ: ¬

(¬1) في م: «عظم». (¬2) في: المغنى 3/ 485. (¬3) لم يرويه الإمام أحمد في المسند، انظر: الفتح الربانى 8/ 91. والحديث أخرجه، البيهقى مرسلا، في: باب ما يقول في التعزية من الترحم على الميت والدعاء له ولمن خلف، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 60.

818 - مسألة: (و)

وَفِى تَعْزِيَتِهِ عَنْ كَافِرٍ: أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ، وَأحْسَنَ عَزَاءَكَ. وَفِى تَعْزِيَةِ الْكَافِرِ بِمُسْلِمٍ: أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكَ، وغَفَرَ لِميِّتِكَ. وَفِى [42 ظ] تَعْزِيَتِهِ عَنْ كَافِرٍ: أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْكَ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْظَمَ الله أجْرَكم، وأحْسَنَ عَزاءَكم. واسْتَحَبَّ بعضُ أهلِ العلمِ أن يَقُولَ ما روَى جَعْفَرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: لَمّا تُوفِّىَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وجاءَتِ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَاِئلًا يَقُولُ: إنَّ في الله عَزاءً مِن كلِّ مُصِيبَةٍ، وخَلَفًا مِن كلِّ هالِكٍ، ودَرَكًا مِن كلِّ ما فات، فبالله فِثِقُوا، وإيّاهُ فارْجُوا، فإنَّ المُصابَ مَن حُرِم الثَّوابَ. رَواه الشافعىُّ (¬1) في «مُسْنَدِه». وإن عَزَّى مُسْلِمًا بكافِرٍ، قال: (أعْظَمَ اللهُ أجْرَك، وأحْسَنَ عَزاءَك). 818 - مسألة: (و) يَقُولُ (في تَعْزِيَةِ الكافِرِ بالمُسْلِمِ: أحْسَنَ الله عَزاءَك، وغَفَر لِمَيِّتِك. وفى تَعْزِيَتِه عن كافِرٍ: أخْلَفَ الله عليك ولا نَقَص عَدَدَك) تَوَقَّفَ أحمدُ عن تَعْزِيَةِ أهلِ الذِّمَّةِ، وهى ¬

(¬1) في: كتاب الجنائز. ترتيب مسندِ الشافعى 1/ 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُخَرَّجُ على عِيادَتِهم، وفيها رِوايَتان، إحْداهما، لا نَعُودُهم، لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَبْدَءُوهُمْ بالسَّلَامِ» (¬1). وهذا في مَعْناه. والثانيةُ، نَعُودُهم؛ لأنَّ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أتَى غُلامًا مِن اليَهُودِ كان مَرِض يَعُودُه، فقَعَدَ عندَ رَأْسِه، فقال له: «أسْلِمْ». فنَظَرَ إلى أبيه وهو عندَ رَأْسِه، فقال له (¬2): أطِعْ أبا القاسِمِ. فأسْلَمَ، فقام النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى أنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ». رَواه البُخارِىُّ (¬3). فعلى هذا يُعَزِّيهم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. . . .، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1707. وأبو داود، في: باب في السلام على أهل الذمة، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 463. والترمذى، في: باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب، من أبواب السير، وفى: باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذى 7/ 103، 10/ 175. وابن ماجه، في: باب رد السلام على أهل الذمة، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1219. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 263، 266، 346، 444، 459، 525، 4/ 144، 233، 6/ 398. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب إذا أسلم الصبى فمات هل يصلى عليه. . . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب عيادة المشرك، من كتاب المرضى. صحيح البخارى 2/ 118، 7/ 152. كما أخرجه أبو داود، في: باب في عيادة الذمى، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 164. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 175، 227، 280.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَقُولُ ما ذَكَرْنا، ويَقْصِدُ بقولِه: لا نَقَصَ عَدَدَكَ: زِيادَةَ عَدَدِهم؛ لتَكْثُرَ جزْيَتُهم. وقال أبو عبدِ اللهِ ابنُ بَطَّةَ: يَقُولُ: أعْطَاكَ الله على مُصِيبَتِك أفْضَلَ ما أعْطَى أحَدًا مِن أهلِ دِينك. فصل: فأمّا الرَّدُّ مِن المُعَزَّى، فرُوِىَ عن أحمدَ بنِ الحسينِ (¬1)، قال: سَمِعْتُ أبا عبدِ الله، وهو يُعَزَّى في عَبْثَرٍ ابنِ عَمِّه، وهو يَقُولُ: اسْتَجابَ الله دُعاءَك، ورَحِمَنا وَإيّاك. ¬

(¬1) في النسخ: «الحسن». وتقدمت ترجمته في صفحة 2/ 29.

819 - مسألة: (ويجوز البكاء على الميت، وأن يجعل المصاب على رأسه ثوبا يعرف به)

وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْمُصَابُ عَلَى رَأْسِهِ ثَوْبًا يُعْرَفُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 819 - مسألة: (ويَجُوزُ البُكاءُ على المَيِّتِ، وأن يَجْعَلَ المُصابُ على رَأْسِه ثَوْبًا يُعْرَفُ به) ليُعَزَّى. البُكاءُ بمُجَرَّدِه. لا يُكْرَهُ في حالٍ. وقال الشافعىُّ: يُباحُ قبلَ المَوْتِ، ويُكْرَهُ بعدَه؛ لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ عَتِيكٍ (¬1)، قال: جاء (¬2) رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عبدِ اللهِ بنِ ثابِتٍ يَعُودُه، فوَجَدَه قد غُلِب، فصاح به فلم يُجِبْه، فاسْتَرْجَعَ، وقال: «غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أبَا الرَّبِيعِ». فصاح النِّسْوَةُ، وبَكَيْنَ، فجَعَلَ ابنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ. فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُنَّ، فَإذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» (¬3). يَعْنِى إذا ¬

(¬1) في مصادر تخريج الحديث أنه جابر بن عتيك. (¬2) في الأصل: «جاز». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في فضل من مات بالطاعون، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 167. والنسائى، في: باب النهى عن البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 12. والإمام مالك، في: باب النهى عن البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 233. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ماتَ. ولَنا، ما روَى أنَسٌ، قال: شَهِدْنا بنتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالِسٌ على القَبْرِ، فرَأيْتُ عَيْنَيْه تَدْمَعَان (¬1). وقَبَّلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عثمانَ بنَ مَظْعُونٍ وهو مَيِّتٌ، وعَيْناه تُهَرَاقان (¬2). وقالَتْ عائشةُ: دَخَل أبو بكرٍ، فكَشَفَ عن وَجْهِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقَبَّلَه، ثم بَكَى (¬3). وكلُّها أحاديثُ صِحاحٌ. ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل على سعدِ بنِ عُبادَةَ، وهو في غاشِيَتِه، فبَكَى، وبَكَى أصحابُه، وقال: «ألَا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ القَلْبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذا، وأشار إلى لِسانِه، أوْ يَرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وحَدِيثُهم مَحْمُولٌ على رَفْعِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه. . . .، وباب من يدخل قبر المرأة، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 100، 114. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 126، 228. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 133. (¬3) أخرج البخارى، في: باب الدخول على الميت بعد الموت. . . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذًا خليلًا، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب مرض النبى - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 90، 5/ 8، 6/ 17. والنسائى، في: باب تقبيل الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 10. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 55، 117 (¬4) أخرجه البخارى، في: باب البكاء عند المريض، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 106. ومسلم، في: باب البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 636.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّوْتِ، والنَّدْبِ، وشِبْهِهما، بدَلِيلِ ما روَى جابِرٌ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أخَذَ ابْنَه، فوَضَعَه في حِجْرِه، فبَكَى، فقالَ له عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ: أتَبْكِى! أوَ لم تَكُنْ نَهَيْتَ عن البُكاءِ؟ قال: «لَا، وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ؛ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَخَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ» (¬1). حديثٌ حسنٌ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه لم يَنْهَ عن مُطْلَقِ البُكاءِ، إنَّما نَهَى عنه مَوْصُوفًا بهذه الصِّفاتِ. وْقال عُمَرُ: ما على نِساءِ بَنِى المُغِيرَةِ أن يَبْكِينَ على أبى سُليمانَ، ما لم يَكُنْ نَقْعٌ أو لَقْلَقَةٌ (¬2). اللَّقْلَقَةُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، والنَّقْعُ: التُّرابُ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - إنا بك لمحزونون، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 105. ومسلم، في: باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال. . . . إلخ، من كتاب الفضائل. صحيح مسلمِ 4/ 1808. وأبو داود مختصرًا، في: باب في البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 194. (¬2) أخرجه البخارى تعليقا، في: باب ما يكره من النياحة على الميت، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 3/ 102. ووصله عبد الرزاق، في: باب الصبر والبكاء والنياحة، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 558، 559.

820 - مسألة: (ولا يجوز الندب، ولا النياحة، ولا شق الثياب، ولطم الخدود، وما أشبه ذلك)

وَلَا يَجُوزُ النَّدْبُ، وَلَا النِّيَاحَةُ، وَلَا شَقُّ الثِّيَابِ، وَلَا لَطْمُ الْخُدُودِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 820 - مسألة: (ولا يَجُوزُ النَّدْبُ، ولا النِّياحَةُ، ولا شَقُّ الثِّيابِ، ولَطْمُ الخُدُودِ، وما أشْبَهَ ذلك) النَّدْبُ هو تَعْدادُ مَحاسِنِ المَيِّتِ، وما يَلْقَوْنَ بعدَه، بلَفْظِ النُّدْبَةِ، كقَوْلِهم: وارَجُلاهُ، واجَبَلاهُ، وانْقِطَاعُ ظَهْراهُ. فهذا وأشْباهُه مِن النَّوْحِ، وشَقِّ الجُيُوبِ، ولَطْمِ الخُدُودِ، والدُّعاءِ بالوَيْلِ والثُّبُورِ ونَحْوِه لا يَجُوزُ. وقال بعضُ أصحابِنا: هو مَكْرُوهٌ. ونَقَل حَرْبٌ عن أحمدَ كَلامًا يَحْتَمِلُ إباحَةَ النَّوْحِ والنَّدْبِ. واخْتارَه الخَلَّالُ وصاحِبُه؛ لأنَّ واثِلَةَ بنَ الأسْقَعِ، وأبا وائِلٍ، كانا يَسْتَمِعان النَّوْحَ ويَبْكِيان (¬1). وقال أحمدُ: إذا ذَكَرَتِ المرأةُ مثلَ ما حُكِىَ عن فاطمةَ، في مثلِ الدُّعاءِ لا يكونُ مثلَ النَّوْحِ. يَعْنِى لا بَأْسَ به. ورُوِىَ ¬

(¬1) أخرج أثر أبى وائل ابن أبى شيبة، في: باب من رخص في استماع النوح، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن فاطمةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّها قالت: يا أبَتاهُ، مِن رَبِّه ما أدْناهُ، إلى جِبْرِيلَ أنْعاهُ، يا أبَتاهُ، أجاب رَبّاً دَعاهُ (¬1). ورُوِىَ عن علىٍّ، عن فاطمةَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّها أخَذَت قَبْضَةً مِن تُرابِ قَبْرِ النبىِّ -صلى الله عليه وسلم-، فوَضَعَتْها على عَيْنِها، ثم قالت: ماذا على مُشْتَمِّ تُرْبَةِ أحْمَدٍ … أن لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمانِ غَوالِيا صُبَّتْ عَلَىَّ مَصائِبٌ لو أنَّها … صُبَّتْ على الأيّامِ عُدْنَ لَيالِيا ووَجْهُ الأُولَى أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عنها في حديثِ جابِرٍ الذى ذَكَرْناه (¬2)، وقال الله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (¬3). قال أحمدُ: هو النَّوْحُ. ولَعَن رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّائِحَةَ والمُسْتَمِعَةَ (¬4). وقالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: أخَذَ علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عندَ البَيْعَةِ أن لا نَنُوحَ. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم-، من كتاب المغازى. صحيح البخاري 6/ 18. وابن ماجه، في: باب ذكر وفاته ودفنه، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 522. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 279. (¬3) سورة الممتحنة 12. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في النوح، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 65.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وعن أبي موسى، أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- بَرِئَ مِن الحالِقَةِ والصَّالِقَةِ والشّاقَّةِ. الصّالِقَةُ؛ التي تَرْفَعُ صَوْتَها. وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ (¬2) الْخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). ولأنَّ ذلك يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ والاسْتِغَاثَةَ والتَّسَخُّطَ بقَضاءِ اللهِ، ولأنَّ شَقَّ الجُيُوبِ إفْسادُ المالِ [لغيرِ حاجَةٍ] (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما ينهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك، من كتاب الجنائز، وفى: باب تفسر سورة الممتحنة، وفى: باب بيعة النساء، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 2/ 106، 6/ 187، 9/ 99. ومسلم، في: باب التشديد في النياحة، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 645، 646. كما أخرجه النسائى، في: باب بيعة النساء، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 134. والإمام أحمد.، في: المسند 5/ 84، 85، 6/ 408. (¬2) في م: «لطم». (¬3) الأول أخرجه البخارى، في: باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 103. ومسلم، في: باب تحريم ضرب الخدود. . . . إلخ، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 100، 101. كما أخرجه أبو داود، في: باب في النوح، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 173. والنسائى, في: باب شق الجيوب، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 18. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن ضرب الخدود وشق الجيوب، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 505. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 396، 397، 404، 416. والثانى أخرجه البخارى، في: باب ليس منا من شق الجيوب، وباب ليس منا من ضرب الخدود، وباب ما ينهى عن الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة، من كتاب الجنائز، وفى: باب ما ينهى من دعوة الجاهلية، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 2/ 103، 104، 4/ 223. ومسلم، في: باب تحريم ضرب الخدود. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 99. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن ضرب الخدود. . . .، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 220. والنسائى في: باب دعوى الجاهلية، وفي: باب ضرب الخدود، وباب شق الجيوب، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 17، 18. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن ضرب الخدود. . . .، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 505. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 386، 432، 442، 456. (¬4) في م: «بغير الحاجة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَنْبَغِى للمُصابِ أن يَسْتَعِينَ باللهِ، ويَتَعَزَّى بعَزائِه، ويَمْتَثِلَ أمْرَه في الاسْتِعانَةِ بالصَّبْرِ والصلاةِ، ويَسْتَنْجِزَ ما وَعَدَ اللهُ الصّابِرينَ، قال اللهُ تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآيَتَيْن (¬1). ويَسْتَرْجِعَ ويَقُولَ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِى في مُصِيبتى، واخْلُفْ لى خَيْراً منها؛ لقَوْل أُمِّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ إِنَّا لِلهِ وَإَّنا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِى فِى مُصِيبَتِى، وَاخْلُفْ لِى خَيْراً مِنْهَا، إلَّا آجَرَهُ اللهُ فِى مُصِيبَتِهِ، وَأخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا». قُلْتُ: فلَمّا مات أبو سَلَمَةَ، قُلْتُ كما أمَرَنِى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فأخْلَفَ اللهُ لى خَيْراً منه، رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. رَواه مسلمٌ (¬2). ولْيَحْذَرْ أن يَتَكَلَّمَ بشئٍ يُحْبِطُ أجْرَه ويُسْخِطُ ¬

(¬1) سورة البقرة 155 - 157. (¬2) في: باب ما يقال عند المصيبة، فن كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 633. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب جامع الحسبة في المصيبة، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 236 مختصراً. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 309.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَبَّه، ممَّا يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ والاسْتِغاثَةَ، فإنَّ اللهَ عَدْلٌ لا يَجُورُ، له ما أخَذَ، وله ما أعْطَى، ولا. يَدْعُو على نَفْسِه، فإنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال، لَمّا مات أبو سَلَمَةَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أنْفُسِكُم؛ فَإنَّ الْمَلَاِئكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» (¬1). ويَحْتَسِبُ ثَوابَ اللهِ تعالى ويَحْمَدُه؛ لِما روَى أبو موسى، أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمَلَاِئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِى؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ، وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ: ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» (¬2). حديثٌ حسنٌ غريبٌ. فصل: وقد صَحَّ عن النبىَّ -صلى الله عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ بِمَا يُنَاحُ عَلَيْهِ». وفى لَفْظٍ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في مَعْنَى الحَدِيثِ، فحَمَله قَوْمٌ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 18. (¬2) أخرجه. الترمذى، في: باب فضل المصيبة إذا احتسب، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 237. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 415. (¬3) الأول متفق عليه من رواية عمر، أخرجه البخاري، في: باب ما يكره من النياحة على الميت، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 102. ومسلم، في: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم-2/ 639. كما أخرجه النسائى, في: باب النياحة على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 14. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 26، 36، 50، 51. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِه، وقالُوا: يَتَصَرَّفُ اللهُ سبحانه في خَلْقِه بما يَشَاءُ. وأيَّدُوا ذلك بما روَى أبوِ موسى، أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهُ، وَاسَيِّدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إلَّا وَكَّلَ اللهُ بهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ (¬1): أهَكَذَا كُنْتَ؟» (¬2). حديثٌ حسنٌ. وروَى النُّعْمانُ بنُ بَشِيرٍ، قال: أُغْمِىَ على عبدِ اللهِ بنِ رَواحَةَ، فجَعَلَتْ أُخْتُه عَمْرَةُ تَبْكِى؛ واجَبَلاهُ، واكَذا، واكَذا. تُعَدِّدُ عليه. فقالَ حينَ أفاقَ: ما قُلْتِ شيئاً إلَّا قِيلَ لى (¬3): أنت كذاك؟ فلمّا مات لم تَبْكِ عليه. أخْرَجَه البُخارِىُّ (¬4) وأنْكَرَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، حَمْلَه على ظاهِرِه، ووافَقَها ابنُ عباسٍ، فقالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ، واللهِ ما حَدَّثَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ ¬

= والثانى تقدم تخريجه في صفحة 262. (¬1) لهز، كلكز: ضربه بجُمع كفه في صدره. وفي الأصل: «يكرهانه». وفى هامش الأصل، صوابه: يلهزانه أو يلكزانه. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 225. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه، من أبواب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 508. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 414. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب غزوة مؤتة من أرض الشام، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 183.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ». ولكنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَاباً بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ». وقالَتْ: حَسْبُكم القُرْآنُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). وذَكَر ذلك ابنُ عباسٍ لابنِ عُمَرَ، حينَ روَى حَدِيثَه، فما قال شيئاً. رَواه مسلمٌ (¬2). وحَمَلَه قَوْمٌ علىْ مَن كان النَّوْحُ سُنَّتَه، ولم يَنْهَ عنه أهْلَه، لقَوْلِ اللهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (¬3). وقولِ النبىِّ -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه» (¬4). وحَمَلَه آخَرُون على مَن ¬

(¬1) سورة الأنعام 164، وسورة الإسراء 15، وسورة فاطر 18. (¬2) في: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز. صحيح مسلم 2/ 641، 642. كما أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 2/ 101. والنسائى، في: باب النياحة على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 15، 16. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 41، 42. (¬3) سورة التحريم 6. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب الجمعة في القرى والمدن، من كتاب الجمعة، وفى: باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، من كتاب الاستقراض، وفى: باب كراهية التطاول على الرقيق. . . .، وباب العبد راع في مال سيده، من كتاب العتق، وفى: باب تأويل قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} , من كتاب الوصايا، وفى: باب قوا أنفسكم وأهليكم نارا، وباب المرأة راعية في بيت زوجها، من كتاب النكاح، وفى: باب قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 2/ 6، 100، 3/ 157، 196، 197، 4/ 6، 7/ 34، 41، 9/ 77. ومسلم، في: باب فضيلة الإمام العادل. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1459. وأبو داود، في: باب ما يلزم الإمام من حق الرعية، من كتاب الإمارة. سنن أد داود 2/ 117. والترمذى، في: باب ما جاء في الإمام العادل، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 198. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5، 54، 55، 108، 111، 121.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْصَى بذلك في حَياتِه، كقَوْلِ طَرَفَةَ (¬1): إذا مُتُّ فانْعِينِى بما أنا أهْلُهُ … وشُقِّى عَلَىَّ الجَيْبَ يا ابْنَةَ مَعْبدِ وقال آخَرُ: مَنْ كان مِن أُمَّهاتِى بَاكِياً أبَداً … فاليَوْمَ إنِّي أرَانِى اليَوْمَ مَقْبُوضَا ولابُدَّ مِنِ حَمْلِ البُكاءِ في هذا الحَدِيثِ على البُكاءِ الذى معه نَدْبٌ ونِياحَةٌ، ونحْوُ هذا؛ بدَلِيلِ ما قَدَّمْنا مِن الأحاديثِ. فصل: ويُكْرَهُ النَّعْىُ، وهو أن يَبْعَثَ مُنادِياً يُنَادِى في النَّاسِ: إنَّ فُلاناً مات. ليَشْهَدُوا (¬2) جِنازَتَه؛ لِما روَى حُذَيْفَةُ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عن النَّعْىِ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬3): هذا حديثٌ حسنٌ. واسْتَحَبَّ جَماعَةٌ مِن أهلِ العلمِ أن لا يُعْلَمَ الناسُ بجَنائِزِهم؛ منهم ابنُ مسعودٍ، ¬

(¬1) ديوانه بشرح الأعلم 46. (¬2) في م: «لتشهد». (¬3) في: باب ما جاء في كراهية النعى، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذى 4/ 207.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن النعى، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 474. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 385، 406.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَلْقَمَةُ، والرَّبِيعُ بنُ خُثَيْمٍ، وعَمْرُو بنُ شُرَحْبِيلَ (¬1)، قال: إذا أنا مُتُّ فلا أُنْعَى. وقال كَثِيرٌ مِن أهلِ العلمِ: لا بَأْسَ مِن أن يُعْلَمَ بالرجلِ إخْوانُه ومَعارِفُه وذوو الفَضْلِ، من غيرِ نِداءٍ. قال إبراهيمُ النَّخَعِىُّ: لا بَأْسَ أن يُعْلِمَ الرجلُ إخْوانَه وأصْحابَه، إنَّما كانُوا يَكْرَهُون أن يُطافَ في المَجالِسِ: أنْعِى فُلاناً. كفِعْلِ أهلِ الجاهِليَّةِ (¬2). ومِمَّن رَخَّصَ في هذا؛ أبو هُرَيْرَةَ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ سِيرِينَ. فرُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه لَمّا نُعِىَ له رافِعُ بنُ خَدِيجٍ، قال: كيف تُرِيدُون أن تَصْنَعُوا به؟ قالُوا: نَحْبِسُه حتى نُرْسِلَ إلى قُباءَ، وإلى قُرَياتٍ (¬3) حَوْلَ المَدِينَةِ، ليَشْهَدُوا جِنازَتَه. قال: نِعْمَ ما رَأيْتُم (¬4). وقال النبىُّ -صلى الله عليه وسلم- في الذى دُفِن لَيْلاً: «ألَا آذَنْتُمُونِى» (¬5). وقد صَحَّ أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- نَعَى النَّجاشِىَّ، في اليَوْمِ الذى مات فيه. مُتَّفَقٌ عليه (¬6). ولأنَّ في كَثْرَةِ المُصَلِّين عليه أجْراً لهم، ¬

(¬1) أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمدانى الكوفى، تابعى ثقة، توفى سنة ثلاث وستين. تهذيب التهذيب 8/ 47. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب النعى على الميت، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 390. (¬3) في م: «من قد بات». (¬4) أخرج البيهقى نحوه، في: باب من كره النعى والإيذان والقدر الذى لا يكره منه، من كتاب الجنائز. السنن الكبرى 4/ 74. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 178. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَفْعاً للميِّتِ، فإنَّه يَحْصُلُ لكلِّ مُصَلٍّ منهم قِيراطٌ مِن الأجْرِ. وروَى الإِمامُ أحمدُ (¬1)، بإسْنادِه، عن أبى المَلِيحِ، أنَّه صَلَّى على جِنازَةٍ، فالْتَفَتَ فقالَ: اسْتَوُوا, ولْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ، ألا وإنَّه حَدَّثَنِى عبدُ اللهِ بنُ سَلِيطٍ، عن إحْدَى أُمَّهاتِ المؤمنين، وهى مَيْمُونَةُ، وكان أخاها مِن الرَّضاعَةِ، أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ». فسَألْتُ أبَا المَلِيحِ عن الأُمَّةِ؟ فقالَ: أرْبَعُونَ. آخِرُ الصلاةِ. والحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِين. ¬

(¬1) في: المسند 6/ 331، 334. وانظر ما تقدم في صفحة 163.

كتاب الزكاة

كِتَابُ الزَّكَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الزكاةِ قال ابنُ قُتَيْبَةَ (¬1): الزكاةُ مِن الزكاءِ والنَّماءِ والزِّيادَةِ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّها تُثَمِّرُ المالَ وتُنَمِّيه. يقالُ: زَكا الزَّرْعُ. إذا كَثُرَ رَيْعُه. وزَكَتِ النَّفَقَةُ. إذا بُورِكَ فيها. وهي في الشَّرِيعَةِ حَقٌّ يَجِبُ في المالِ، فعندَ إطْلاقِ لَفْظِها في الشَّرْعِ تَنْصَرفُ إلى ذلك. والزكاةُ أحَدُ أرْكانِ الإسْلامِ، وهى واجِبَةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ، أمّا الكِتابُ، فقَوْلُه تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). وأمّا السُّنَّةُ، فإنَّ النبىَّ، -صلى الله عليه وسلم-، بَعَث مُعاذاً إلى اليَمَنِ، فقال: «أعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وأجْمَعَ المُسْلِمون في جميعِ الأعْصارِ على وُجُوبِها، واتَّفَقَ الصحابَةُ، رَضِىَ اللهُ عنهم، على قِتالِ مانِعِى الزكاةِ، ¬

(¬1) في: غريب الحديث 1/ 184. (¬2) سورة البقرة 43. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 99. ويضاف إليه: وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 117، 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرَوَىْ البخارىُّ بإسْنادِه عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: لمّا تُوُفِّىَ رسولُ اللهِ، -صلى الله عليه وسلم-، وارْتَدَّتِ العَرَبُ، وكَفَر مَن كَفَر مِن العَرَب، فقال عُمَرُ لأبى بكرٍ: كيف تُقاتِلُ النّاسَ وقد قال رسولُ اللهِ، -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَها فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ»؟ فقال أبو بكرٍ: واللهِ لأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بينَ الصلاةِ والزكاةِ؛ فإنَّ الزكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لو مَنَعُونِى عَناقاً (¬1) كانُوا يُؤَدُّونَها إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لقاتَلْتُهم على مَنْعِها. قال عُمَرُ: فواللهِ ما هو إلَّا أنِّى رأيْتُ أن قد شَرَح اللهُ صَدْرَ أبى بَكْرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ (¬2). ورَواه أبو داودَ، وقال: لو مَنَعُونِى عِقالاً. قال أبو عُبَيْدٍ: العِقالُ صَدَقَةُ العامِ (¬3). قال الشّاعرُ (¬4): سَعَى عِقالاً فلم يَتْرُكْ لنا سَبَداً … فكيفَ لو قد سَعَى عَمْرٌو عِقالَيْنِ (¬5) وقِيلَ: كانُوا إذا أخَذُوا الفَرِيضَةَ أخَذُوا معها عِقالَها. ومَن روَى «عَناقاً» ففى رِوايَتِه دَلِيلٌ على جَوازِ أخْذِ الصَّغِيرَةِ مِن الصِّغارِ. ¬

(¬1) العناق: الأنثى من أولاد المعز والغنم من حين الولادة إلى تمام حول. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬3) نسب أبو عبيد وابن منظور هذا القول إلى الكسائى، غريب الحديث 3/ 210، اللسان (ع ق ل) 11/ 464. (¬4) البيت لعمرو بن العداء الكلابى. غريب الحديث، لأبى عبيد 3/ 211، النهاية 3/ 280، 281، واللسان، الموضع السابق. وتاج العروس (ع ق ل) 8/ 27. (¬5) قال ابن الأثير: نصب عقالا على الظرف، أراد مدة عقال. والسبد: ما يطلع عن رءوس النبات قبل أن ينتشر.

821 - مسألة: (تجب الزكاة فى أربعة أصناف من المال؛ السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض

تَجِبُ الزَّكَاةُ فِى أَرْبَعَةِ أصْنَافٍ مِنَ الْمَالِ، السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْأَثْمَانِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ. وَلَا تَجِبُ فِى غَيْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 821 - مسألة: (تَجِبُ الزكاةُ في أرْبَعَةِ أصْنافٍ مِن المالِ؛ السّائِمَةِ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، والخارِجِ مِن الأرْضِ، والأثْمانِ، وعُرُوضِ التِّجارَةِ) وسيَأْتِى شَرْحُ ذلك في مَواضِعِه، إن شاء اللهُ. (ولا تَجِبُ في غيرِ ذلك) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ، وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقال أبو حنيفةَ: في الخَيْلِ الزكاةُ إذا كانت ذُكُوراً وإناثاً، فإن كانت ذُكُوراً أو إناثاً مُفْرَدَةً، ففيها رِوايَتان، وزَكاتُها دِينارٌ عن كلِّ فَرَسٍ، أو رُبعُ عُشْرِ قِيمَتِها، والخِيَرَةُ في ذلك إلى صاحِبِها؛ لِما روَى جابِرٌ، أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِى الْخَيْل السَّائِمَةِ، فِى كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ» (¬1). وعن عُمَرَ، أنَّه كان يأْحُذُ مِن الرَّأْسِ عَشَرَةً (¬2)، ومِن الفَرَسِ عَشَرَةً، ومِن البِرْذَوْنِ خَمْسَةً (¬3). ولأنَّه حَيوانٌ يُطْلَبُ نَماؤُه لجِهَةِ السَّوْمِ، أشْبَهَ النَّعَمَ. ولَنا، قَوْلُه عليه السلامُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ». ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 126. والبيهقى، في: باب من رأى في الخيل صدقة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 119. (¬2) أى دراهم. (¬3) رواه الدارقطنى، في: باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقَوْلُه عليه السلامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» (¬2). حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّ ما لا تُخْرَجُ زَكاتُه مِن جِنْسِه لا تَجِبُ فيه الزكاةُ، كسائِرِ الدَّوابِّ. وحَدِيثُهم يَرْوِيه غُوركُ السَّعْدِىُّ (¬3)، وهو ضَعِيفٌ. وأمّا عُمَرُ فإنَّما أخَذ منهم شيئاً تَبَرَّعُوا به، وعَوَّضَهم عنه رِزْقَ عَبِيدِهم. كذلك رَواه أحمدُ (¬4). والزكاةُ لا يُؤْخَذُ عنها عِوَضٌ، ولأنَّ عُمَرَ حينَ عَرَضُوا عليه ذلك، شاوَرَ الصحابَةَ فيه. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، وباب ليس على المسلم في عبده صدقة، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 149. ومسلم، في: باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 675، 676. كما أخرجه أبو داود، في: باب صدقة الرقيق، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 370. والترمذى، في: باب ما جاء ليس في الخيل والرقيق صدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 122. والنسائى، في: باب زكاة الخيل، وباب زكاة الرقيق، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 25، 26. وابن ماجه، في: باب صدقة الخيل والرقيق، من كتاب الزكاة سنن ابن ماجه 1/ 579. والدارمى، في: باب ما لا تجب فيه الصدقة من الحيوان، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 384. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صدقة الرقيق والخيل والعسل، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 277. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 242، 249، 254، 297، 407، 410، 469، 470، 477. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في زكاة الذهب والورق، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 101، 102. وأبو داود، في: باب زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 363. والنسائى، في: باب زكاة الورق، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 27. وابن ماجه، في: باب زكاة الورق والذهب، وباب صدقة الخيل والورق، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 570، 579. والدارمى، في: باب في زكاة الورق، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 383. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 92، 113، 121، 132، 145، 146، 148. (¬3) هو غورك بن الخضرم, كما ذكر الدارقطنى. وانظر ميزان الاعتدال 3/ 337. (¬4) في: المسند 1/ 14.

822 - مسألة: (وقال أصحابنا: تجب فى المتولد بين الوحشى والأهلى)

وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَجِبُ فِى الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِىِّ وَالْأَهْلِىِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال علىٌّ: هو حَسَنٌ إن لم يَكُنْ جِزْيَةً يُؤْخَذُون بها مِن بَعْدِك. فدَلَّ على أنَّ أخْذَهم بذلك غيرُ جائِزٍ. وقِياسُها على النَّعَمِ لا يَصِحُّ، لكمَالِ نَفْعِها بدَرِّها ولَحْمِها، ويُضَحَّى بجِنْسِها، وتَكُونُ هَدْياً، وتَجِبُ الزكاةُ مِن عَيْنِها، ويُعْتَبَرُ كَمالُ نِصابِها، والخَيْلُ بخِلافِ ذلك. واللهُ أعلمُ. 822 - مسألة: (وقال أصحابُنا: تَجِبُ في المُتَوَلِّدِ بينَ الوَحْشِىِّ والأهْلِىِّ) وسَواءٌ كانتِ الوَحْشِيَّةُ الفُحُولَ أو الأُمَّهاتِ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: إن كانتِ الأُمَّهاتُ أهْلِيَّةً وَجَبَتِ الزكاةُ فيها، وإلَّا فلا؛ لأنَّ وَلَدَ البَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّه. وقال الشافعىُّ: لا زَكاةَ فيها؛ لأنَّها مُتَوَلِّدَةٌ مِن وَحْشِىٍّ، أشْبَهَ المُتَوَلِّدَ مِن وَحْشِيَّيْن. وحُجَّةُ أصحابِنا، أنَّها مُتَوَلِّدَةٌ بينَ ما تَجِبُ فيه الزكاةُ، وما لا تَجِبُ، فوَجَبَ فيها الزكاةُ، كالمُتَوَلِّدِ بينَ سائِمَةٍ ومَعْلُوفَةٍ. وزَعَم بعضُهم أنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ بينَ الظِّباءِ والغَنَمِ، وفيها الزكاةُ بالاتِّفاقِ. فعلى هذا القَوْلِ تُضَمُّ إلى جِنْسِها مِن الأهْلِىِّ في وُجُوبِ الزكاةِ، وتَكُونُ كأحَدِ أنْواعِه. قال شيخُنا (¬1): والقولُ بانْتِفاءِ الزكاةِ فيها أصَحُّ؛ لأنَّ الأصْلَ انْتِفاءُ الوُجُوبِ، وإنَّما يَثْبُتُ بنَصٍّ أو إجْماعٍ أو ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِياسٍ، ولا نَصَّ فيها ولا إجْماعَ ولا قِياسَ, لأنَّ النَّصَّ إنَّما هو في بَهِيمَةِ الأنعامِ مِن الأزْواجِ الثَّمانِيَةِ، وليس هذا منها, ولا داخِلَةً في اسْمِها ولا حُكْمِها ولا حَقِيقَتِها، فإنَّ المُتَوَلِّدَ بينَ شَيْئَيْنِ مُنْفَرِدٌ باسْمِه وجِنْسِه، كالبَغْلِ، والسِّمْعِ (¬1) المُتَوَلِّدِ بينَ الضَّبُعِ والذِّئْبِ، فكذلك المُتَوَلِّدُ بينَ الظَّبْىِ والمَعْزِ [ليس بمَعْزٍ ولا ظَبْىٍ، فلا تَتَناوَلُه النُّصُوصُ، ولا يَصِحُّ قِياسُه عليها؛ لتَباعُدِ ما بينَهما، واخْتِلافِ حُكْمِهما] (¬2)، في كَونِه لا يُجْزِئُ في هَدْىٍ ولا أُضْحِيَةٍ ولا دِيَةٍ، ولو وَكَّلَ وَكِيلاً في شِراءِ شاةٍ، لم يَدْخُلْ في الوَكالَةِ، ولا يَحْصُلُ منه ما يَحْصُلُ مِن الشّاةِ؛ مِن الدَّرِّ وكَثْرَةِ النَّسْلِ، بل الظّاهِرُ أنَّه لا نَسْلَ له كالبَغْلِ، فامْتَنَعَ القِياسُ. فإذَنْ إيجابُ الزَّكاةِ فيه تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ. فإن قِيلَ تَجِبُ الزَّكاةُ فيه احْتِياطاً وتَغْلِيباً للإِيجابِ، كما أثْبَتْنا التَّحْرِيمَ فيها في الحَرَمِ والإِحْرامِ احْتِياطاً. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الواجِباتِ لا تَثْبُتُ احْتِياطاً بالشَّكِّ، ولهذا لا تَجِبُ الطهارَةُ على مَن تَيَقَّنَها وشَكَّ في الحَدَثِ. وأمّا السَّوْمُ والعَلَفُ فالاعْتِبارُ فيه بما تَجِبُ فيه الزكاةُ، لا بأصْلِه الذى تَوَلَّدَ منه، بدَلِيلِ أنَّها تَجِبُ في أوْلادِ المَعْلُوفَةِ ¬

(¬1) حيوان من الفصيلة الكلبية أكبر من الكلب في الحجم قوائمه طويله ورأسه مفلطح. (¬2) سقط من: م.

823 - مسألة: (وفى بقر الوحش روايتان)

وَفِى بَقَرِ الْوَحْشِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أسامَها, ولا تَجِبُ في أوْلادِ السّائِمَةِ إذا عَلَفَها. وقولُ مَن زَعَم أنَّ غَنَمَ مَكَّةَ مُتَوَلِّدَةٌ. مِن الظِّباءِ والغَنَمِ لا يَصِحُّ، وإلَّا لَحُرِّمَتْ في الحَرَمِ والإِحْرامِ، كسائِرِ المُتَوَلِّدِ بينَ الوَحْشِىِّ والأهْلِىِّ، ولَما كان لها نَسْلٌ، كالبَغْلِ والسِّمْعِ. 823 - مسألة: (وفى بَقرِ الوَحْشِ رِوايَتان) إحْداهُما، فيها الزكاةُ. اخْتارَها أبو بكرٍ؛ لأنَّ اسْمَ البَقَرِ يَشْمَلُها، فتَدْخُلُ في مُطْلَقِ الخَبَرِ. والثانِيَةُ، لا زَكاةَ فيها. وهى أصَحُّ، وهو قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛

824 - مسألة: (ولا تجب إلا بشروط خمسة؛ الإسلام،

وَلَا تَجِبُ إِلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ الإِسْلَامِ، وَالْحُرِّيَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنُّ اسْمَ البَقَرِ عندَ الإِطْلاقِ لا يَنْصَرِفُ إليها, ولا تُسَمَّى بَقَراً إلَّا بالإِضافَةِ إلى الوَحْشِ، ولأنَّها حَيَوانٌ لا يُجْزِئُ نَوْعُه في الأُضْحِيَةِ والهَدْىِ، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالظِّباءِ، وليست مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، فلم تَجِبْ فيها الزكاةُ، كسائِرِ الوَحْشِ. يُحَقِّقُ ذلك أنَّ الزكاةَ إنَّما وَجَبَتْ في بَهِيمَةِ الأنعامِ دُونَ غيرِها, لكَثْرَةِ النَّماءِ فيها مِن دَرِّها ونَسْلِها، وكَثْرَةِ الانْتِفاعِ بها، وخِفَّةِ مُؤْنَتِها، وهذا المَعْنَى مُخْتَصٌّ بها، فاخْتَصَّتِ الزكاةُ بها. ولا تَجِبُ الزكاةُ في الظِّباءِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافاً؛ لعَدَمِ تَناوُلِ اسْمِ الغَنَمِ لها. واللهُ أعْلَم. 824 - مسألة: (ولا تَجِبُ إلَّا بشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ الإِسلامِ،

فَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُرِّيَّةِ، فلا تَجِبُ على كافِرٍ، ولا عَبْدٍ، ولا مُكاتَبٍ) لا تَجِبُ الزكاةُ على كافِرٍ، لقَوْلِ النبىِّ -صلى الله عليه وسلم- لِمُعاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «إِنَّكَ تَأْتِى قَوْماً أهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ». إلى قولِه «فَإنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِك فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فجَعَلَ الإِسْلامَ شَرْطاً لوُجُوبِ الزكاةِ، ولأنَّها أحَدُ أرْكانِ الإِسْلامِ، فلم تَجِبْ على كافِرٍ، كالصِّيامِ. وذَهَب بعضُ العُلَماءِ إلى أنَّها تَجِبُ عليه في حالِ كُفْرِه، بمَعْنَى أنَّه يُعاقَبُ عليها إذا مات على كُفْرِه، وهذا لا يَتَعَلَّقُ به حُكْمٌ، فلا حاجَةَ إلى ذِكْرِه. هذا حُكْمُ الكافِرِ الأصْلِىِّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا المُرْتَدُّ فَلَنا فيه وَجْهٌ، أنَّه يَجِبُ عليه قَضاءُ الزكاةِ في حالِ رِدَّتِه إذا أسْلَمَ. ولأصحابِ الشافعىِّ فيه قَوْلان مَبْنِيّان على زَوالِ مِلْكِه بالرِّدَّةِ، فإن قُلْنا: يَزُولُ. فلا زَكاةَ عليه. وإن قُلْنا: لا يَزُولُ مِلْكُه. أو: هو مَوْقُوفٌ. وَجَبَتْ عليه؛ لأنَّه حَقٌّ الْتَزَمَه بالإِسْلامِ، فلم يَسْقُطْ بالرِّدَّةِ، كحُقُوقِ الآدَمِيِّين. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ. ولا تَجِبُ على عَبْدٍ. وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، وأبى ثَوْرٍ، أنَّه يَجِبُ على العَبْدِ زَكاةُ مالِه. ولَنا، أنَّ العَبْدَ ليس بتامِّ المِلْكِ، فلم يَلْزَمْه زَكاةٌ، كالمُكاتَبِ، ولأنَّ الزكاةَ إنَّما وَجَبَتْ على سَبِيلِ المُواساةِ، ومِلْكُ العَبْدِ ناقِصٌ لا يَحْتَمِلُ المُواساةَ، بدَلِيلِ أنَّه لا تَجِبُ عليه نَفَقَةُ أقارِبِه، لكَوْنِها وَجَبَتْ مُواساةً ولا يَعْتِقُون عليه. ولا تَجِبُ على مُكاتَبٍ؛ لأنَّه عَبْدٌ، لقَوْلِه عليه السلامُ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْه دِرْهَمٌ». رَواهُ أبو داودَ (¬1). ولأنَّ مِلْكَه غيرُ ¬

(¬1) في: باب في المكاتب يؤدى بعض كتابته. . . .، من كتاب العتق. سنن أبى داود 2/ 346. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدى، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 265. وابن ماجه، في: باب المكاتب، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 842. والإمام أحمد، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تامٍّ، فهو كالعَبْدِ، ولا نَعْلَمُ أحَداً قال بوُجُوبِ الزكاةِ على المُكاتَبِ إلَّا أبا ثَوْرٍ، ذَكَرَه عنه ابنُ المُنْذِرِ. واحْتَجَّ أبو ثَوْرٍ بأنَّ الحَجْرَ مِن السَّيِّدِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ، كالحَجْرِ على الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ والمَرْهُونِ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، أنَّه أوْجَبَ العُشْرَ في الخارِجِ مِن أرْضِه، بِناءً على أصْلِه في أنَّ العُشْرَ مُؤْنَةُ الأرْضِ، وليس بزَكاةٍ. ولَنا، ما رُوِىَ أَنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا زَكَاةَ فِى مَالِ الْمُكَاتَبِ» (¬1). رَواه الفُقَهاءُ في كُتُبِهم. ولأنَّ الزكاةَ تَجِبُ علىْ طَرِيقِ المُواساةِ، فلم تَجِبْ في مالِ المُكاتَبِ، كنَفَقَةِ الأقارِبِ، وفارَقَ المَحْجُورَ عليه، فإنَّه مُنِعَ التَّصَرُّفَ لنَقْصِ تَصَرُّفِه لا لنَقْصِ مِلْكِه، والمَرْهُونُ مُنِعَ مِن التَّصَرُّفِ فيه بعَقْدِه، فلم يَسْقُطْ حَقُّ اللهِ تعالى. ومتى كان مَنْعُ. التَّصَرُّفِ فيه لدَيْنٍ لا يُمْكِنُه وَفاؤُه مِن غيرِه، فلا زكاةَ عليه، وسَيأْتِى ذلك إن شاء اللهُ تعالى. فإن عَجَز المُكاتَبُ ورُدَّ في الرِّقِّ، صار ما في يَدِه لسَيِّدِه، فاسْتَقْبَلَ به حَوْلاً، إن كان نِصاباً، وإلَّا ضَمَّه إلى ما في يَدِه، كالمُسْتَفادِ. وإن أدَّى المُكاتَبُ ما عليه، وبَقِىَ في يَدِه نِصابٌ، فقد صار حُرّاً تامَّ المِلْكِ، فيَسْتأنِفُ الحَوْلَ مِن حينِ عِتْقِه ويُزَكِّى، كسائِرِ الأحْرارِ. ¬

= المسند 2/ 178، 184، 206، 209. (¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من قال زكاة ماله على مالكه وإن العبد لا يملك، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 109. والدارقطنى، في: باب ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 108.

825 - مسألة: (فإن ملك السيد عبده مالا، وقلنا: إنه يملكه.

فَإِنْ مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مَالاً، وَقُلْنَا: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ. فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَإنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُهُ. فَزَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 825 - مسألة: (فإن مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَه مالاً، وقُلْنا: إنَّه يَمْلِكُه. فلا زَكاةَ فيه. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُه. فزَكاتُه على سَيِّدِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في زَكاةِ مالِ العَبْدِ الذى مَلَّكَه إيّاه سَيِّدُه، فرُوِىَ عنه، زكاتُه على سَيِّدِه. هذا مَذْهَبُ سُفْيانَ (¬1)، وأصحابِ الرَّأْىِ، وإسْحاقَ. وعنه، لا زَكاةَ فيه على واحِدٍ منهما. قال ابنُ المُنْذِرِ: وهذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، ومالكٍ. وللشافعىِّ قَوْلان كالمَذْهَبَيْن وقال أبو بكرٍ: المَسْألَةُ مَبْنِيَّةٌ على الرِّوايَتَيْن في مِلْكِ العَبْدِ بالتَّمْلِيكِ؛ إحْداهُما، لا يَمْلِكُ. قال أبو بكرٍ: وهو اخْتِيارِى. وهو ¬

(¬1) في الأصل: «الشافعى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ العَبْدَ مالٌ، فلا يَمْلِكُ المالَ، كالبَهائِمِ، فعلى هذا تَكونُ زَكاتُه على السَّيِّدِ؛ لأنَّه مِلْكٌ له في يَدِ عَبْدِه، فكانت زَكاتُه عليه، كالمالِ الذى في يَدِ المُضارِبِ والوَكِيلِ. والثّانِيَةُ، يَمْلِكُ؛ لأنَّه آدَمِىٌّ يَمْلِكُ النِّكاحَ، فمَلَكَ المالَ، كالحُرِّ، ولأنَّ قَوْلَه عليه السلامُ: «مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ» (¬1). يَدُلُّ على أنَّه يَمْلِكُ، ولأنَّه بالآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ للمِلْكِ مِن قِبَلِ أنَّ اللهَ تعالَى، خَلَق المالَ لبَنِى آدَمَ ليَسْتَعِينُوا به على القيامِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، من كتاب المساقاة. صحيح البخارى 3/ 150، 151. ومسلم، في: باب من باع نخلاً عليها ثمر، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1173. وأبو داود، في: باب العبد يباع وله مال، من كتاب الإجارة. سنن أبى داود 2/ 240، 241. والترمذى، في: باب ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير والعبد وله مال، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 253، والنسائى، في: باب العبد يباع ويستثنى المشترى ماله، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 261. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من باع نخلاً مؤبراً أو عبداً له مال، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 746. والدارمى، في: باب في من باع عبداً له مال، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 253. والإِمامُ مالك، في: باب ما جاء في مال المملوك، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 611. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 9، 78، 82، 150، 3/ 301، 5/ 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوَظائِفِ العِباداتِ، وأعْباءِ التَّكالِيفِ، قال اللهُ تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1). فبالآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ للمِلْكِ، كما تَمَهَّدَ للتَّكْلِيفِ، فعلى هذا لا زَكاةَ على السَّيِّدِ في مالِ العَبْدِ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُه، ولا على العَبْدِ؛ لنَقْصِ مِلْكِه، والزكاةُ إنَّما تَجِبُ على تامِّ المِلْكِ. فصل: ومَن بعضُه حُرٌّ عليه زَكاةُ مالِه؛ لَأنَّه يَمْلِكُ بجُزْئِه الحُرِّ، ويُورَثُ عنه، فمِلْكُه كامِلٌ، فهو كالحُرِّ في وُجُوبِ الزكاةِ. وهذا أحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ. وفيه لهم وجْهٌ آخَرُ، لا تَجِبُ؛ لأنَّه ناقِصٌ، أشْبَهَ القِنَّ. والأوَّلُ أوْلَى. فأمّا أمُّ الوَلَدِ والمُدَبَّرُ فحُكْمُهما حُكْمُ القِنِّ؛ لأنَّه لا حُرِّيَّةَ فيهما. ¬

(¬1) سورة البقرة 29.

826 - مسألة: (الثالث، ملك نصاب، فإن نقص عنه فلا زكاة فيه، إلا أن يكون نقصا يسيرا؛ كالحبة والحبتين)

الثَّالِثُ، مِلْكُ نِصَابٍ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصاً يَسِيراً؛ كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 826 - مسألة: (الثّالِثُ، مِلْكُ نِصابٍ، فإن نَقَص عنه فلا زَكاةَ فيه، إلَّا أن يَكُونَ نَقْصاً يَسِيراً؛ كالحَبَّةِ والحَبَّتَيْن) مِلْكُ النِّصابِ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ، لِما يَأْتِى في أبْوابِه مُفَصَّلاً إن شاء اللهُ. فإن نَقَص عن النِّصابِ فلا زَكاةَ فيه، إن كان النَّقْصُ كَثِيراً بالاتِّفاقِ، وإن كان يَسِيراً، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في ذلك، فرُوِىَ أنَّه قال، في نِصابِ الذَّهَبِ إذا نَقَص ثُمُناً: لا زَكاةَ فيه. اخْتارَه أبو بكرٍ، وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِىِّ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقَوْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ» (¬1). وقال: «لَيْسَ فِى أقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ» (¬2). ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ نِصابَ الذَّهَبِ إذا نَقَص ثُلُثَ مِثْقالٍ زَكّاه. وهو قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وسُفْيانَ. وإن نَقَص نِصْفاً لا زَكاةَ فيه. وقال أصحابُنا: إن كان النَّقْصُ يَسِيراً؛ كالحَبَّةِ والحَبَّتَيْن، وجَبَتِ الزكاةُ؛ لأنَّه لا يَنْضَبِطُ غالِباً، فهو ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما أُدِّى زكاته فليس بكنز، وباب زكاة الورق، وباب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وباب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 133، 143، 144، 148، 156. ومسلم، في: أول كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 674, 675. وأبو داود، في: باب ما تجب فيه الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 357. والترمذى، في: باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 120، 121. والنسائى، في: باب زكاة الإبل، وباب زكاة الورق، وباب زكاة الحبوب، وباب القدر الذى تجب فيه الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 12، 26، 30، 31. وابن ماجه، في: باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 572. والدارمى، في: باب ما لا يجب فيه الصّدقة من الحبوب والورق والذهب، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 384. والإمام مالك، في: باب ما تجب فيه الزكاة، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 244، 245. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 92، 402، 403، 3/ 6، 30، 45، 59، 60، 73، 74، 79، 86، 296. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب وجوب زكاة الذهب والورق. . . .، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 93. وأبو عبيد، في: الأموال 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كنَقْصِ الحَوْلِ ساعَةً أو ساعَتَيْن، وإن كان نَقْصًا بَيَنًّا، كالدّانِقِ (¬1) والدّانِقَيْن، فلا زَكاةَ فيه. وقال مالكٌ: إذا نَقَص نَقْصًا يَسِيرًا يَجُوزُ جَوازَ الوازِنَةِ، وجَبَتِ الزكاةُ؛ لأنَّها تَقُومُ مَقامَ الوازِنَةِ، أشْبَهَتِ الوازِنَةَ. والأوَّلُ ظاهِرُ الأخْبارِ، فيَنْبَغِى أن لا يُعْدَلَ عنه. ¬

(¬1) الدانق: سدس الدرهم.

827 - مسألة: (وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب، إلا في السائمة)

وَتَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِالْحِسَابِ، إِلَّا فِى السَّائِمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 827 - مسألة: (وتَجِبُ فيما زاد على النِّصابِ بالحِسابِ، إلَّا في السّائِمَةِ) فلا شئَ في أوْقاصِها على ما يَأتِى بَيانُه. واتَّفَقُوا على زِيادَةِ الحَبِّ، أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيها بالحِسابِ، واخْتَلَفُوا في زِيادَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، فرُوِىَ وُجُوب الزكاةِ فيها عن عليٍّ، وابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما. وبه قال عُمَرُ بن عبدِ العزِيزِ، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، والحسنُ، والشَّعْبِىُّ، ومَكْحُول، والزُّهْرِىُّ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، وأبو حنيفةَ: لا شيء في زيادَةِ الدَّراهِمِ حتى تَبْلُغَ أرْبَعِين، ولا في زِيادَةِ الذَّهَبِ حتى تَبْلُغَ أرْبَعَةَ دَنانِيرَ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «مِنْ كُلِّ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا» (¬1). وعن مُعاذٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذَا بَلَغَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 362، 363. والترمذى، في: باب ما جاء في زكاة الذهب والفضة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 101، 102. وابن ماجه، في: باب. زكاة الورق والذهب، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 570. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 92، 132، 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْوَرِقُ مِائتَيْن فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ لَا شَىْءَ فِيهِ حَتَّى يَبلُغَ إلَى أرْبَعِينَ دِرْهمًا» (¬1). ولأنَّ له عَفْوًا في الابْتِداءِ، فكان له عَفْو بعدَ النِّصابِ، كالسّائِمَةِ. ولَنا، ما رُوِىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «هَاتُوا رُبْعَ العُشُورِ، مِنْ كُلِّ أربَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيءٌ حَتَّى يتِمَّ مِائَتَيْن، فَإذَا كَانتْ مِائَتَىْ دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ». رَواه الأثْرَمُ، والدّارَقُطْنِىُّ (¬2). ورُوِىَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عليهما (¬3)، ولم نَعْرِفْ لهما مُخالِفًا في الصحابَةِ، فيَكُونُ إجْماعًا. ولأنَّه مال يَتَجَزَّأُ، فلم يَكُنْ له عَفْوٌ بعدَ النِّصابِ، كالحُبُوبِ. وما احْتَجُّوا به مِن الخَبَرِ الأوَّلِ فهو احْتِجاجٌ بدلِيلِ الخِطابِ، والمَنْطُوقُ راجِحٌ عليه. والخَبَرُ الثّانِى يَرْوِيه أبو العطُوفِ الجَرّاحُ بنُ مِنْهالٍ، وقد قال الدّارَقُطنيُّ: ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب ليس في الكسر شئ، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 93. والبيهقى، في: باب ذكر الخبر الذى روى في وقص الورق، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 135. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب وجوب زكاة الذهب والورق، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 92. (¬3) أخرجه عن على أبو داود، في: باب زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 363. وأخرجه عن ابن عمر ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 119.

828 - مسألة: الشرط (الرابع، تمام الملك، فلا زكاة في دين المكاتب)

الرَّابعُ، تَمَامُ الْمِلْكِ، فَلَا زَكَاةَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ، [43 و] وَلَا فِى السَّائِمَةِ الْمَوْقُوفَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ هو مَتْرُوكُ الحَدِيثِ. وقال مالكٌ: هو دَجّالٌ. ويَرْوِيه عن عُبادَةَ بنِ نُسَيٍّ، عن مُعاذٍ، ولم يَلْقَ عُبادَةُ مُعاذًا، فيَكُونُ مُنْقَطِعًا. والماشِيَةُ يَشُقُّ تَشْقِيصُها، بخِلافِ الأثْمانِ. 828 - مسألة: الشَّرْطُ (الرّابعُ، تَمامُ المِلْكِ، فلا زَكاةَ في دَيْن المكاتَبِ) بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لنُقْصانِ المِلْكِ فيه، فإنَّ له أن يُعَجِّزَ نَفْسَه، ويَمْتَنِعَ مِن أدائِه. 829 - مسألة: (ولا) تَجِبُ (في السّائمَةِ المَوْقُوفَةِ، ولا في

وَلَا فِى حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنَ الرِّبْحِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، عَلَى أحدِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِصَّةِ المُضارِبِ مِن الرِّبْحِ قبلَ القِسْمَةِ، على أحَدِ الوَجْهَيْن فيهما) لا تَجِبُ الزكاةُ في السّائِمَةِ المَوْقُوفةِ؛ لأنَّ المِلْكَ لا يَثْبُت فيها في وَجْهٍ، وفى وَجْهٍ يَثْبُتُ ناقِصًا، لا يَتَمَكَّنُ مِن التَّصَرُّفِ فيها بأنْواعِ التَّصَرُّفاتِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر شيخُنا في هذا الكِتابِ المَشْرُوحِ وَجْهًا آخَرَ، أنَّ الزكاةَ تَجبُ فيها. وذَكَرَه القاضى. ونَقَل مُهَنّا عن أحمدَ ما يَدُلُّ على ذلك؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «فِى أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬1). ولعُمُوم غيرِه مِن النُّصُوصِ، ولأنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ إلى المَوْقُوف عليه في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ، أشْبَهَتْ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 360. والترمذى، في: باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 108. وابن ماجه، في: باب صدقة الغنم، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 577، 578. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سائِرَ أمْلاكِه. وللشّافِعِيَّةِ وَجْهان كهذيْن. فإذا قُلْنا بوُجُوبِ الزكاةِ فيه، فيَنْبَغِى أن يَخْرُجَ مِن غيرِه؛ لأنَّ الوَقْفَ لا يَجُوْزُ نَقْلُ المِلْكِ فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا حِصَّةُ المُضارِبِ مِن الرِّبْحِ قبلَ القِسْمَةِ، فلا تَجِبُ فيها الزكاةُ. نصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ صالحٍ، وابنِ مَنْصُورٍ، فقال: إذا احْتَسَبا يُزَكِّى المُضارِبُ إذا حالَ الحَوْلُ مِن حينَ احْتَسَبا؛ لأنَّه عَلِم ما لَه في المالِ، ولأنَّه إذا اتَّضَعَ بعدَ ذلك كانتِ الوَضِيعَة على صاحِبِ المالِ. يَعْنِى إذا اقْتَسَما؛ لأنَّ القِسْمَةَ في الغالِبِ تَكُونُ عندَ المُحاسبَةِ، فقَوْلُ أحمدَ يَدُلُّ على أنَّه أرادَ بالمُحاسبَةِ القِسْمَةَ؛ لقَوْلِه: إنَّ الوَضِيعَةَ تَكُونُ على رَبِّ المالِ. وهذا إنَّما يَكُونُ بعدَ القِسْمَةِ، وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). واختارَ أبو الخَطّابِ وُجُوبَ الزكاةِ فيها مِن حينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ، إذا كَمَلَت نِصابًا، إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ الشَّرِكَةَ تُؤثِّرُ في غيرِ الماشِيةِ؛ لأنَّ العامِلَ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بظُهُورِه، فإذا مَلَكَه جَرَى في حَوْلِ الزكاةِ، ولأنَّ مِن أصْلِنا أنَّ الزكاةَ تَجِبُ في الضّالِّ والمَغْصُوبِ وإن كان رُجُوعُه مَظونًا، كذلك هذا. ¬

(¬1) انظر: المغنى 4/ 260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ المُضارِبَ لا يَمْلِكُ الرِّبْحَ بالظُّهُورٍ على رِوايَةٍ، وعلى رِوايَةٍ يَمْلِكُه مِلْكًا غيرَ تامٍّ؛ لأنَّه وِقايَةٌ لرَأسِ المالِ، فلو نقَصَتْ قِيمَةُ الأصْلِ، أو خَسِر فيه، أو تَلِف بعضُه، لم يَحْصلْ للمُضارِبِ، ولأنَّه مَمْنُوعٌ مِن التَّصَرُّفِ فيه، فلم يكنْ فيه زَكاةٌ، كمالِ المُكاتَبِ. ولأنَّ مِلْكَه لو كان تامًّا لاختَصَّ برِبْحِه، كما لو اقْتَسَما ثم خَلَطا المالَ، والأمْرُ بخِلافِ ذلك، فإن مَن دَفَع إلى رَجُلٍ عَشَرَةً مُضارَبَةً، فرَبِحَ فيها عِشْرِين، ثم اتجَرَ فرَبِحَ ثَلاثِين، فإنَّ الخَمْسِين التى رَبِحَها بينَهما نِصْفَيْن، ولو تَمَّ مِلْكُه بمُجَرَّدِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لمَلَكَ مِن العِشْرِين الأولَى عَشَرَةً، واخْتَصَّ برِبْحِها، وهى عَشرَة مِن الثَّلاِثين، وكانتِ العِشْرُون الباقِيَة بينَهما نِصْفَيْن، فيَصِيرُ للمُضارِبِ ثَلاُثون. وفارَق المَغْصُوبَ والضَّالَّ، فإنَّ المِلْكَ فيه تامٌّ، وإنَّما حِيلَ بينَه وبينَه بخِلافِ مَسْألَتِنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَن أوْجَبَ الزكاةَ على المُضارِبِ، فإنَّما يُوجِبُها عليه إذا حال الحَوْلُ مِن حينِ تَبْلُغُ حِصَّتُه نِصابًا أو يَضُمُّها إلى ما عندَه مِن جِنْسِ المالِ، أو مِن الأثْمانِ، إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ الشَّرِكَةَ تُؤَثِّرُ في غيرِ السّائِمَةِ. وليس عليه إخْراجُها قبلَ القِسْمَةِ، كالدَّيْنِ. وإنْ أرادَ إخْراجَها مِن المالِ قبلَ القِسْمَةِ لم يَجُزْ؛ لأنَّ الربْحَ وِقايَةٌ لرَأسِ المالِ. ويحْتَمِلُ أن يَجُوزَ؛ لأنَّهما دَخَلا على حُكْمِ الِإسْلامِ، ومِن حُكْمِه وُجُوبُ الزكاةِ، وإخْراجُها مِن المالِ. فصل: وإن دَفَع إلى رَجُلٍ ألْفًا مُضارَبَةً، على أنَّ الرِّبْحَ بينَهما نِصْفَيْن، فحال الحَوْلُ وقد رَبِح ألْفَيْن، فعلى رَبِّ المالِ زَكاةُ ألْفَيْن. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: عليه زَكاةُ الجَمِيعِ؛ لأنَّ الأصْلَ له، والرِّبْحَ [نَماءُ مالِه] (1). ولَنا، أنَّ حِصَّةَ المُضارِبِ له دُونَ رَبِّ المالِ، لأنَّ للْمُضارِبِ المُطالَبَةَ بها، ولو أرادَ رَبُّ المالِ دَفْعَ حِصَّتِه إليه مِن غيرِ هذا المالِ لم يَلزَمْه قَبُولُه، ولا تَجِبُ على الِإنْسانِ زَكاةُ مِلْكِ غيرِه. وقَوْلُه: [إنَّه نماءُ] (¬1) مالِه. قُلْنا: إلَّا أنَّه لغيرِه، فلم تَجِبْ عليه زَكاتُه، كما لو وَهَب نِتاجَ سائِمَتِه لغيرِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُخْرِجُ الزكاةَ مِن المالِ؛ لأنَّها مِن مُؤنَتِه، فكانت منه، كمُؤنَةِ حَمْلِه، ويُحْسبُ مِن الرِّبْحِ؛ لأنَّه وِقايَة لرَأسِ المالِ. ¬

(¬1) في م: «إنما نمى».

830 - مسألة: (ومن كان له دين على ملئ من صداق أو غيره، زكاه إذا قبضه لما مضى)

وَمَنْ كانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِئٍ مِنْ صَدَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، زَكَّاهُ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 830 - مسألة: (ومَن كان له دَيْنٌ على مَلِئٍ مِن صَداقٍ أو غيرِه، زَكّاه إذا قَبَضَه لِما مَضَى) الدَّيْنُ على ضَرْبَيْن؛ أحَدُهما، دَيْنٌ على مُعْتَرِفٍ به باذِلٍ له، فعلى صاحِبِه زَكاتُه، إلَّا أنَّه لا يَلْزَمُه إِخْراجُها حتى يَقْبِضَه، فَيُزَكِّيَه لِما مَضَى. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، رَضِىَ الله عنه. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأىِ. وقال عثمانُ بنُ عَفّانَ، وابنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وطاوسٌ، والنَّخَعِىُّ، وجابِرُ بنُ زَيْدٍ، والحسنُ، والزُّهْرِىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَتَادَةُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ: عليه إخْراجُ الزكاةِ في الحالِ، وإن لم يَقْبِضْه؛ لأنَّهُ قادِرٌ على أخْذِه والتَّصَرُّفِ فيه، أشْبَهَ الوَدِيعَةَ. ورُوِىَ عن عائشةَ، وابنِ عُمَرَ: ليس في الدَّيْنِ زَكَاةٌ. وهو قولُ عِكْرِمَةَ؛ لأنَّه غيرُ تامٍّ، فلم تَجِبْ زَكَاتُه، كعَرْضِ القُنْيَةِ. ورُوِىَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، وأبي الزِّنَادِ، يُزَكِّيه إذا قَبَضَه لسَنَةٍ واحِدَةٍ. ولَنا، أنَّه مِلْكُه، يَقْدِرُ على قَبْضِه والانْتِفاعِ به، فلَزِمَتْه زَكاتُه لِما مَضَى، كسائِرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْوالِه، ولا تَجِبُ عليه زَكاتُه قبلَ قَبْضِه؛ لأنَّه دَيْنٌ ثابتٌ في الذِّمَّةِ، فلم يَلْزَمْه الِإخْراجُ قبلَ قَبْضِه، كالدَّينِ على المُعْسِرِ، ولأَنَّ الزكاةَ تَجِبُ على سَبِيلِ المُواساةِ، وليس مِن المُواساةِ أن يُخْرِجَ زَكاةَ مالٍ لا يَنْتَفِعُ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا المُسْتَوْدَعُ (¬1)، فهو كالذى في يَدِه؛ لأنَّ المُسْتَوْدَعَ (¬2) نائِبٌ عنه، فيَدُه كيَدِه. ¬

(¬1) أى الوديعة. (¬2) من عنده الوديعة.

831 - مسألة: (وفى الدين على غير الملئ، والمؤجل، والمجحود، والمغصوب، والضائع، روايتان)

وَفِى الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِ الْمَلِيءِ، وَالْمُؤَجَّلِ، وَالْمَجْحُودِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالضَّائِعِ، رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، هُوَ كَالدَّيْنِ عَلَى الْمَلِئِ، وَالثَّانِيَةُ، لَا زَكَاةَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 831 - مسألة: (وفى الدَّيْنِ على غيرِ المَلِئِ، والمُؤَجَّلِ، والمَجْحُودِ، والمَغْصوبِ، والضائِعِ، رِوايَتان) هذا الضَّرْبُ الثّانِي، وهو الدَّيْنُ على المُماطِلِ، والمُعْسِرِ، والمَجْحُودِ الذى لا بَيِّنَةَ به، والمَغْصُوبِ، والضّالِّ، حُكْمُه حُكْمُ الدَّيْنِ على المُعْسِرِ، وفى ذلك كُلِّه رِوايَتان؛ (إحْداهُما) لا تَجِبُ فيه الزكاةُ. وهو قولُ قَتادَةَ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وأهْلِ العِراقِ؛ لأنَّه مالٌ مَمْنُوع منه، غيرُ قادِرٍ على الانْتِفاعِ به، أشْبَهَ الدَّيْنَ على المُكاتَبِ. (و) الرِّوايَةُ (الثّانيةُ) يُزَكِّيه إذا قَبَضَه لِما مَضَى. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، وأبي عُبَيْدٍ؛ لِما رُوِىَ عن عليٍّ، رَضِىَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ عنه، أنَّه قال، في الدَّيْنِ المَظْنُونِ: إن كان صادِقًا فلْيُزَكِّه إذا قَبَضَه لِما مَضَى. وعن ابنِ عباس نحوُه. رَواهُما أبو عُبَيْدٍ (¬1). ولأنَّه مالٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه، أشْبَهَ الدَّيْنَ على المَلِئِ، ولأنَّ مِلْكَه فيه تامٌّ، أشْبَهَ ما لو نَسِىَ عندَ مَن أوْدَعَه. وللشافعىِّ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. وعن عُمَرَ ابنِ عبدِ العزِيزِ، والحسنِ، واللَّيْثِ، والأوْزاعِىِّ، ومالكٍ: يُزَكِّيه إذا قَبَضَه لعامٍ واحِدٍ؛ لأنَّه كان في ابْتِداءِ الحَوْلِ في يَدِه، ثم حَصَل بعدَ ذلك في يَدِه، فوَجَبَ أن لا تَسْقطَ الزكاةُ عن حَوْلٍ واحِدٍ. ولَنا، أنَّ هذا المالَ في جميعِ الأحْوالِ على حالٍ واحِدٍ، فوَجَبَ أن يَتَساوَى في وُجُوبِ الزكاةِ أو سُقُوطِها، كسائِرِ الأمْوالِ. قَوْلُهم: إنَّه حَصَل في يَدِه في كل الحَوْلِ. قُلْنا: هذا لا يُؤَثِّرُ؛ لأنَّ المانِعَ إذا وُجِد في بعضِ الحَوْلِ مَنَعَ، كنَقْصِ النِّصابِ، ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الغَرِيم يَجْحَدُه في الظّاهِرِ دُونَ الباطِنِ، أو فيهما. ¬

(¬1) في: الأموال 431، 432. وأخرج ابن أبي شيبة حديث على، في: باب وما كان لا يستقر يعطيه اليوم ويأخذه إلى يومين فليزكيه، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 163.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه لا فَرْقَ بينَ الحالِّ والمُؤَجَّلِ؛ لأنَّ البَراءَةَ تَصِحُّ مِن المُؤَجَّلِ، ولولا أنَّه مَمْلُوكٌ لم تَصِحَّ منه البَراءَةُ، لكنَّه في حُكْم الدَّيْنِ على المُعْسِرِ، لتَعَذُّرِ قَبْضِه في الحالِ. فصل: ولو أجَّرَ دارَه سِنِين بأربَعِين دِينارًا، مَلَك الأجْرَةَ مِن حينِ العَقْدِ، وعليه زكاةُ الجميعِ إذا حالَ الحَوْلُ؛ لأنَّ مِلْكَه عليها تامٌّ، بدَلِيلِ جَوازِ التَّصَرُّفِ فيها بأنْواعِ التَّصَرُّفاتِ، ولو كانت (¬1) جارِيَة كان له وَطْؤُها. وكَوْنُها يَعْرِضُ الرُّجُوعُ، لانْفِساخِ العَقْدِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ، كالصَّداقِ قبلَ الدُّخُولِ. ثم إن كان. قد قَبَض الأُجْرَةَ أخرَجَ الزكاةَ منها، وإن كانت دَيْنًا فهى كالدَّيْنِ، مُعَجَّلًا أو مُؤَجَّلًا. وقال ابنُ أبي موسى: فيه رِوايةٌ، أنَّه يُزَكِّيه في الحالِ، كالمَعْدِنِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ فِى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬2). وكما لو مَلَكَه بهِبَةٍ، أو مِيراثٍ، أو نحوِه. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يُزَكِّيها حتى يَقْبِضَها ويَحُولَ عليها حَوْلٌ؛ بِناءً على أنَّ الأُجْرَةَ إنَّما تُسْتَحَقُّ بانْقِضاءِ مُدَّةِ الِإجارَةِ. وهذا يُذْكَرُ في مَوْضِعِه، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) أي الأجرة. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من استفاد مالًا، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 571 من حديث عائشة رضى الله عنها مرفوعًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اشْتَرَى شيئًا بعِشْرِين دِينارًا، أو أسْلَمَ نِصابًا في شيءٍ، فحالَ الحَوْلُ قبلَ أن يَقْبِضَ المُشْتَرِى المَبِيعَ، أو المُسْلَمَ فيه، والعَقْدُ باقٍ، فعلى البائِعِ والمُسْلَمِ إليه زَكَاةُ الثَّمَنِ؛ لأنَّ مِلْكَه ثابِتٌ فيه، فإنِ انْفَسَخَ العَقْدُ لتَلَفِ المَبِيعِ، أو تَعَذَّرَ المُسْلَمُ فيه، وَجب رَدُّ الثَّمَنِ، وزَكاته على البائِعَ والمُسْلَمَ إليه. فصل: والغَنِيمَةُ يملِكُ الغانِمُون أرْبًعَةَ أخْماسها بانْقِضاءِ الحَرْبِ، فإن كانت جِنْسًا واحِدًا تَجِبُ فيه الزكاةُ، كالأثْمانِ والسّائِمَةِ، ونَصِيبُ كلِّ واحِدٍ منهم نِصابٌ، فعليه زَكاتُه إذا انْقَضَى الحَوْلُ، ولا يَلْزَمُه إخْراجُ زَكاتِه قبلَ قَبضِه، كالدَّيْنِ على المَلِئِ. وإن كان دُونَ النِّصابِ فلا زَكاةَ فيه، إلَّا أن يَكُونَ أرْبَعَةُ أخْماسِها يَبْلُغُ النِّصابَ، فتَكُونُ خُلْطَةً، ولا تُضَمُّ إلى الخُمسِ؛ لأنَّه لا زَكاةَ فيه. فإن كانت أجْناسًا، كإبل وبَقَرٍ وغَنَمٍ، فلا زَكاةَ على واحِدٍ منهم؛ لأنَّ للإِمامِ أن يَقْسِمَ بينَهم قِسْمَةً بحُكْمٍ (¬1)، فيُعْطِىَ لكلِّ واحِدٍ منهم مِن أىِّ أصْنافِ المالِ شاء، فما تَمَّ مِلْكُه على شئٍ مُعَيَّن، بخِلافِ المِيراثِ. ¬

(¬1) في م: «تحكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقد ذَكَرْنا أنَّ حُكْمَ المالِ المَغْصُوبِ حُكْمُ الدَّيْنِ على المُعْسِرِ، على ما فيه مِن الخِلافِ، فإن كان سائِمَةً، وكانت مَعْلُوفَةً عندَ صاحِبِها وغاصِبِها فلا زَكاةَ فيها؛ لفُقْدانِ الشَّرْطِ. وإن كانت سائِمَةً عندَهما ففيها الزكاةُ، على الرِّوايَةِ في وُجُوبِ الزكاةِ في المَغْصُوبِ. وإن كانت مَعْلُوفَةً عندَ المالِكِ، سائِمَةً عندَ الغاصِبِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا زَكاةَ فيها؛ لأنَّ صاحِبَها لم يَرْضَ بإسامَتِها، فلم تَجِبْ عليه الزكاةُ بفِعْل الغاصِبِ، كما لو رَعَتْ مِن غيرِ أن يُسِيمَها. والثّانِي، عليه الزكاةُ؛ لأنَّ السَّوْمَ يُوجِبُ الزكاةَ مِن المالِكِ، فأوْجَبَها مِن الغاصِبِ، كما لو كانت سائِمَةً عندَهما، وكما لو غَصَب بَذْرًا فزَرَعَه، وَجَب العُشْرُ فيما خَرَج منه. وإن كانت سائِمَةً عندَ المالِكِ، مَعْلُوفَةً عندَ الغاصِبِ، فلا زَكاةَ فيها؛ لفُقْدانِ الشَّرْطِ. وقال القاضي: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيها؛ لأنَّ العَلَفَ مُحَرَّمٌ، فلم يُؤَثِّرْ في الزكاةِ، كما لو غَصَب أثْمانًا فصاغَها حَلْيًا. قال أبو الحسنِ الآمِدِىُّ: هذا هو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ العَلَفَ إنَّما أسْقَطَ الزكاةَ لِما فيه مِن المُؤْنَةِ، ولا مُؤْنَةَ عليه ههنا. ولَنا، أنَّ السَّوْمَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ وقد فُقِدَ، فلم يَجِبْ، كنَقْصِ النِّصابِ. قَوْله: إنَّ العَلَفَ مُحَرَّمٌ. مَمْنُوعٌ، إنَّما المُحَرَّمُ الغَصْبُ، والعَلَفُ تَصَرُّفٌ في مالِه بإطْعامِها إيّاه، ولا تَحْرِيمَ فيه، ولهذا لو عَلَفَها عندَ مالِكِها، لم يُحَرَّمْ عليه. وما ذَكَرَه الآمِدِىّ مِن خِفَّةِ المُؤْنَةِ غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ الخِفَّةَ لا تُعْتَبَرُ بنَفْسِها، وإنَّما تُعْتَبَرُ بمَظِنَّتِها، وهو السَّوْمُ، ثم يَبْطُلُ ما ذَكَراه بالمَعْلُوفَةِ عندَهما جميعًا، ويَبْطُلُ ما ذَكَرَه القاضى بما إذا عَلَفَها مالِكُها عَلَفًا مُحَرَّمًا، أو أتْلَفَ شاةً مِن النِّصابِ، فإنَّه مُحَرَّمٌ، وتَسْقُطُ به الزكاةُ. وأمّا إذا غَصَب ذَهَبًا فصاغَه حَلْيًا، فلا يُشْبِهُ ما اخْتَلَفْنا فيه؛ لأنَّ العَلَفَ فات به شَرْطُ الوُجُوبِ، والصِّياغَةُ لم يَفُتْ بها شئٌ، وإنَّما اخْتُلِفَ في كَوْنِها مُسْقِطَةً بشَرْطِ كَوْنِها مُباحَةً، فإذا كانت مُحَرَّمَةً لم يُوجَدْ شَرْطُ الِإسْقاطِ، ولأنَّ المالِكَ لو عَلَفَها عَلَفًا مُحَرَّمًا، سَقَطَتِ الزكاةُ، ولو صاغَها صِياغَةً مُحَرَّمَةً، لم تَسْقُط، فافْتَرَقا. ولو غَصَب حَلْيًا مُباحًا، فكَسَرَه، أو ضَرَبَه نَقْدًا، وَجَبَتْ فيه الزكاةُ؛ لأنَّ المُسْقِطَ لها زال، ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو غَصَب مَعْلُوفَةً فأسامَها. ولو غَصب عُرُوضًا، فاتَّجَرَ فيها، لم تَجِبْ فيها الزكاةُ؛ لأنَّ نِيَّةَ التِّجارَةِ شَرْطٌ، ولم تُوجَدْ مِن المالِكِ، وسَواءٌ كانت للتِّجارَةِ عندَ مالِكِها أو لا؛ لأنَّ بَقاءَ النَيَّةِ شَرْطٌ، ولو لم يَنْوِ التِّجارَةَ به عندَ الغاصِبِ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ فيها الزكاةُ إذا كانت للتِّجارَةِ عندَ مالِكِها واسْتَدامَ النِّيَّةَ؛ لأنَّها لم تَخْرُجْ عن مِلْكِه بغَصْبِها، وإن نَوَى بها الغاصِبُ القُنْيَةَ. وكلُّ مَوْضِعٍ أوْجَبْنا الزكاةَ، فعلى الغاصِبِ ضَمانُها؛ لأنَّه نَقْصٌ حَصَل في يَدِه، فضَمِنَه، كتَلَفِه. فصل: إذا ضَلَّتْ واحِدَةٌ مِن النِّصاب أو أكْثَرُ، أو غُصِبَتْ، فنَقَصَ النِّصابُ، فالحُكْمُ فيه كما لو ضَلَّ جَمِيعُه أَو غُصِبَ؛ لأنَّ كَمالَ النِّصابِ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ. لكنْ إن قُلْنا بوُجُوبِ الزكاةِ، فعليه الِإخْراجُ عن المَوْجُودِ عندَه. وإذا رَجَع الضّالُّ والمَغْصُوبُ أخْرَجَ عنه، كما لو رجَع جَمِيعُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أُسِرَ المالِكُ لم تَسْقُطِ الزكاةُ عنه، سَواءٌ حِيلَ بينَه وبينَ مالِه أو لم يُحَلْ؛ لأنَّ تَصَرُّفَه في مالِه نافِذٌ، يَصِحُّ بَيْعُه، وهِبَتُه، وتَوْكِيلُه فيه. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يُخَرَّجُ فيه وَجْهٌ، أنَّه لا تَجِبُ فيه الزكاةُ إذا حِيلَ بينَه وبينَه، كالمَغْصُوبِ. فصل: وإنِ ارْتَدَّ قبلَ مُضِىِّ الحَوْلِ، وحال الحَوْلُ وهو مُرْتَدٌّ، فلا زَكاةَ عليه [نَصَّ عليه] (¬1)؛ لأنَّ الإسْلامَ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ، فعَدَمُه في بعضِ الحَوْلِ يُسْقِطُ الزكاةَ، كالمِلْكِ. وإن رَجَع إلىْ الِإسْلامِ قبلَ مُضِىِّ الحَوْلِ، اسْتَأنَفَ حَوْلًا؛ لِما ذَكَرْنا. نَصَّ عليه أحمدُ. فأمّا إنِ ارْتَدَّ بعدَ الحَوْلِ، لم تَسْقُطْ عنه الزكاةُ. وهو قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: تَسْقُطُ؛ لأنَّ مِن شَرْطِها النِّيَّةَ، فسَقَطَتْ بالرِّدَّةِ، كالصلاةِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ مالِىٌّ، فلا يَسْقُطُ بالرِّدَّةِ، كالدَّيْنِ. وأمّا الصلاةُ فلا تَسْقُطُ أيضًا، لكنْ لا يُطالَبُ بفِعْلِها؛ لأنَّها لا تَصِحُّ منه، ولا تَدْخُلُها النِّيابَةُ، فإذا عاد لَزِمَه قَضاؤها، والزكاةُ تَدْخُلُها النِّيابَةُ، ويَأخُذُها الِإمامُ مِن المُمْتَنِعِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكذا ههُنا [يَأخُذُها الِإمامُ مِن] (¬1) مالِه. فإن أسْلَمَ بعدَ أخْذِها، لم يَلْزَمْه أداؤها؛ لأنَّها سَقَطَتْ بأخْذِ الِإمام، كسُقُوطِها بالأخْذِ مِن المُسْلِمِ المُمْتَنِعِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ؛ لأنَّها عِبادَةٌ، فلا تَصحُّ بغيرِ نِيَّةٍ. وأصْلُ هذا إذا أُخِذَتْ مِن المُسْلِمِ المُمْتَنِعِ قَهْرًا، وسيَأتِى ذِكْرُه، إن شاء الله تعالى. وإن أخَذَها غيرُ الِإمامِ، أو نائِبُه، لم تَسْقُطْ عنه؛ لأنَّه لا وِلايةَ له عليه، فلا يَقُومُ مَقامَه بخِلافِ نائِبِ الِإمامِ. وإن أدّاها في حالِ رِدَّتِه، لم تُجْزِئْه، لأنَّه كافِرٌ، فلا تَصِحُّ منه، لكَوْنِها عبادَةً، كالصلاةِ. فصل: وحُكْمُ الصداقِ حُكْمُ الدَّيْنِ؛ لأنَّه ديْنٌ للمرأةِ في ذَمَّةِ الرجلِ. فإن كان على مَلِئٍ وجَبَتْ فيه الزكاةُ، فإذا قَبَضَتْه أدَّتْ لِما مَضَى، وإن كان على جاحِدٍ أو مُعْسرٍ فعلى الرِّوايَتَيْن. ولا فَرْقَ بينَ ما قبلَ الدُّخُولِ وبعدَه؛ لأنَّه دَيْنٌ في الذِّمَّةِ، فهو كثَمَنِ مَبِيعِها، فإن سَقَط نِصْفُه بطَلاقِها قبلَ الدُّخُولِ، وقَبَضَتِ النِّصْفَ، فعليها زَكاةُ ما قَبَضَتْه خاصَّةً؛ لأنَّه دَيْنٌ لم تَتَعَوَّضْ عنه ولم تَقْبِضْه، فأشْبَهَ ما تَعَذَّرَ قَبْضُه لفَلَسٍ أو جَحْدٍ. وكذلك لو سَقَط الصَّداقُ كلُّه قبلَ قَبْضِه لانْفِساخ النِّكاحِ بسَبَبٍ مِن جِهَتِها، ليس عليها زَكاةٌ لِما ذَكَرْنا. ويَحْتَمِلُ أن تجِبَ عليها ¬

(¬1) في م: «يأخذ الإمام منه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زكاتُه؛ لأنَّ سُقُوطَه بسَبَبٍ مِن جِهَتِها، أشْبَهَ المَوْهُوبَ. وكذلك كلُّ دَيْنٍ سَقَط قبلَ قَبْضِه مِن غيرِ إسْقاطِ صاحِبهِ، أو أيِسَ صاحِبُه مِن اسْتِيفائِه. والمالُ الضّالُّ إذا أيس منه، فإنَّه لا زكاةَ على صاحِبهِ؛ لأنَّ الزكاةَ مُواساةٌ، فلاْ تَلْزَمُه المُواساةُ إلَّا ممّا حَصَل له. وإن كان الصَّداقُ نِصابًا، فحالَ عليه الحَوْلُ، ثم سَقَط نِصْفُه، وقَبَضَتِ النِّصْفَ، فعليها زَكاةُ النِّصْفِ المَقْبُوضِ؛ لأنَّ الزكاةَ وجَبَتْ فيه، ثم سَقَطَتْ مِن نِصْفِه لمَعْنًى اخْتَص به، فاخْتَصَّ السُّقُوطُ به. وإن مَضَى عليه حَوْلٌ قبلَ قَبْضِه، ثم قَبَضَتْه كلَّه، زَكَّتْه لذلك الحَوْلِ. وإن مَضَتْ عليه أحْوالٌ قبلَ قَبْضِه، ثم قَبَضَتْه، زَكَّتْه لِما مَضَى كلِّه. وقال أبو حنيفةَ: لا تَجِبُ الزكاةُ عليها ما لم تَقْبِضْه؛ لأنَّه بَدَل عمّا ليس بمالٍ، فلم تَجِبِ الزكاةُ فيه قبلَ قَبْضِه، كدَيْنِ الكِتابَةِ. ولَنا، أنَّه دَيْن يُسْتَحَقُّ قَبْضُه، وَيُجْبَرُ المَدِينُ على أدائِه، فوَجَبَتْ فيه الزكاةُ، كثَمَنِ المَبِيعِ، بخِلافِ دَيْنِ الكِتابَةِ [فإنَّه لا] (¬1) يُسْتَحَقُّ قَبْضُه، وللمُكاتَبِ الامْتِناعُ مِن أدائِه، ولا يَصِحُّ قِياسُهم عليه؛ لأنَّه عِوَضٌ عن مالٍ. فصل: وإن قَبَضَتْ صَداقَها قبلَ الدُّخُولِ، ومَضَى عليه حَوْلٌ، فزَكَّتْه، ثم طَلَّقَها الزَّوْجُ قبلَ الدُّخُولِ، رَجَع عليها بنِصْفِه، وكانتِ الزكاةُ مِن النِّصْفِ الباقِى لها. وقال الشافعيُّ في قولٍ: يَرْجِعُ الزَّوْج بنِصْفِ المَوْجُودِ ونِصْفِ قِيمَةِ المُخْرَجِ؛ لأنَّه لو تَلِف الكلُّ رَجَع عليها بنِصْفِ ¬

(¬1) سقطت من النسخ، وأثبتناها لضرورة السياق. وانظر المغنى 4/ 278.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَتِه، فكذلك إذا تَلِفَ البعضُ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬1). ولأنَّه يُمْكِنُه الرُّجُوعُ في العَيْنِ، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ إلى القِيمَةِ، كما لو لم يَتْلَفْ منه شئٌ. ويُخَرَّجُ على هذا إذا تَلِف كلُّه، لعَدَمِ إمْكانِ الرُّجُوعِ في العَيْنِ. وإن طَلَّقَها بعدَ الدُّخُولِ وقبلَ الِإخْراجِ، لم يَكُنْ لها الِإخْراجُ مِن النِّصابِ؛ لأنَّ حَقَّ الزَّوْجِ تَعَلَّقَ به على وَجْهِ الشَّرِكَةِ، والزكاةُ لا تتعَلَّقُ به على وَجْهِ الشَّرِكَةِ، لكنْ يُخْرِجُ الزكاةَ مِن غيرِه، أو يَقْتَسِمانِه، ثم تُخْرِجُ الزكاةَ مِن حِصَّتِها. فإن طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ مَلَك النِّصْفَ مُشاعًا، وكان حُكْمُ ذلك كما لو باعَتْ نِصفَه قبلَ الحَوْلِ مُشاعًا، وسيَأتِى ذلك، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: فإن كان الصَّداقُ دَيْنًا، فأبْرَأتِ الزَّوْجَ منه بعدَ مُضىِّ الحَوْلِ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، عليها الزكاةُ؛ لأنَّها تَصَرَّفَتْ فيه، أشْبَهَ ما لو قَبَضَتْه. والثانيةُ، زَكاتُه على الزَّوْجِ؛ لأنَّه مَلَك ما مُلِّكَ عليه، فكأنَّه لم يَزُلْ مِلْكُه عنه. والأوَّلُ أصَحُّ، وما ذَكَرْناه لهذه الرِّوايَةِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الزَّوْجَ لم يَمْلِكْ شيئًا، وإنَّما سَقَط عنه، ثم لو مَلَك في الحالِ لم يَقْتَضِ هذا وُجُوبَ زَكاةِ ما مَضى. ويَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ الزكاةُ على واحِدٍ منهما؛ لِما ذَكَرْنا في الزَّوْجِ. وأمّا المرأةُ، فلم تَقْبِضِ الدَّيْنَ، أشْبَهَ ما لو سَقَط بغيرِ إسْقاطِها، وهذا إذا كان الدَّيْنُ ممَّا تَجِبُ فيه الزكاةُ إذا قَبَضَتْه. وكُلُّ دَيْنٍ على إنسانٍ أبرَأه صاحِبُه منه بعدَ مُضيِّ الحَوْلِ عليه، ¬

(¬1) سورة البقرة 237.

832 - مسألة؛ (قال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذى كان الملتقط ممنوعا منها)

قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَاللُّقَطَةُ إِذَا جَاءَ رَبُّهَا زَكَّاهَا لِلْحَوْلِ الَّذِى كَانَ الْملْتَقِطُ مَمْنُوعًا مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فحُكْمُه حُكْمُ الصَّداقِ فيما ذَكَرْنا. قال أحمدُ: إذا وَهَبَتِ المرأةُ مَهْرَها لزَوْجِها، وقد مَضَى له عَشْرُ سِنِين، فإنَّ الزكاةَ على المرأةِ؛ لأنَّ المالَ كان لها. وإذا وَهَب رجلٌ لرجلٍ مالًا، فحالَ الحَوْلُ، ثم ارْتَجَعَه الواهِبُ، فالزكاةُ على الذى كان عندَه. وقال في رجلٍ باع شَرِيكَه نَصِيبَه مِن دارِه، لم يُعْطِه شيئًا، فلمّا كان بعدَ سَنَةٍ، قال: ليس عندِى دَراهِمُ فأقِلْنِى. فأقالَه، قال: عليه أن يُزَكِّىَ؛ لأنَّه قد مَلَكَه حَوْلًا. 832 - مسألة؛ (قال الخِرَقِيُّ: واللّقَطَةُ إذا جاء رَبُّها زَكّاها للحَوْلِ الذى كان المُلْتَقِطُ مَمْنُوعًا منها) قد ذَكَرْنا في المالِ الضّائِعِ روايَتَيْن، وهذا منه. وعلى مُقْتَضَى قولِ الخِرَقِيِّ أنَّ المُلْتَقِطَ لو لم يَمْلِكها، كمَن لم يُعَرِّفْها، فإنَّه لا (¬1) زَكاةَ على مُلْتَقِطِها. وإذاْ جاء رَبُّها زَكّاها للزَّمانِ كلِّه، وإذا كانت ماشِيَةً فإنَّما تَجِبُ عليه زَكاتُها إذا كانت سائِمَةً عندَ المُلْتَقِطِ، فإن عَلَفَها فلا زَكاةَ على صاحِبِها، على ما ذَكَرْنا في المَغْصُوبِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وزَكاتُها بعدَ الحَوْلِ الأوَّلِ على المُلْتَقِطِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّ اللُّقَطَةَ تَدْخُلُ في مِلْكِه حُكْمًا (¬1) كالمِيراثِ، فتَصِيرُ كسائِرِ مالِه، يَسْتَقْبِلُ بها حَوْلًا. وعندَ أبي الخَطّابِ أنَّه لا يَمْلِكُها حتى يَخْتارَ ذلك. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، وسنَذْكُرُ ذلك إن شاء الله في بابِه. وحَكَى القاضي في مَوْضِعٍ، أنَّ المُلْتَقِطَ إذا مَلَكَها وَجَب عليه مثلُها إن كانت مِثْلِيَّةً، أو قِيمَتُها إن لم تَكُنْ مِثْلِيَّةً. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ومُقْتَضَى هذا أن لا تَجِبَ عليه زَكاتُها؛ لأنَّه دَيْنٌ، فمَنَعَ الزكاةَ، كسائِرِ الدُّيُونِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ الزكاةُ فيها لمَعْنًى آخَرَ، وهو أنَّ مِلْكَه غيرُ مُسْتَقِرٍّ عليها، ولصاحِبِها أخْذُها منه متى وَجَدَها. والمَذهَبُ الأوَّلُ، وما ذَكَره القاضى يُفْضِى إلى ثُبُوتِ مُعارَضَةٍ في حَقِّ مَن لا وِلايةَ عليه، بغيرِ فِعْلِه ولا اخْتِيارِه، ويَقْتَضِى ذلك أن يَمْنَعَ الدَّيْنُ الذى عليه المِيراثَ والوَصِيَّةَ، كسائِرِ الدُّيُونِ، والأمْرُ بخِلافِه. وما ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ يَبْطُلُ بما وَهَبَه الأبُ لوَلَدِه، وبنصْفِ الصَّداقِ، فإنَّ لهما اسْتِرْجاعَه، ولا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ. ¬

(¬1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الهامش ممسوح من المطبوعة في جميع ما وقفنا عليه من نسخ، ويغلب على الظن أن نص الهامش هو: «سقط من: م.»، لأن كلمة «حُكْمًا» ليست في ط المنار

833 - مسألة: (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، إلا في المواشى والحبوب في إحدى الروايتين)

وَلَا زَكَاةَ فِى مَالِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَنْقُصُ النِّصَابَ، إِلَّا فِي الْمَوَاشِى وَالْحُبُوبِ فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 833 - مسألة: (ولا زَكاةَ في مالِ مَن عليه دَيْنٌ يَنْقُصُ النِّصابَ، إلَّا في المَواشِى والحبوبِ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ في الأمْوالِ الباطِنَةِ، رِوايَةً واحِدَةً. وهى الأثْمانُ، وعُرُوضُ التِّجارَةِ. وبه قال عطاءٌ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ، والحسنُ، والنَّخَعِيُّ، واللَّيْثُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأيِ. وقال رَبِيعَةُ، وحَمّادُ بنُ أبى سُليمانَ، والشافعيُّ في الجَدِيدِ: لا يَمْنَعُ؛ لأنَّه حُرٌّ مسلمٌ مَلَك نِصابًا حَوْلًا، فوَجَبَتْ عليه الزكاةُ، كمَن لا دَيْنَ عليه. ولَنا، ما روَى السّائِبُ بنُ يَزِيدَ، قال: سَمِعْتُ عثمانَ بنَ عفّانَ يقولُ: هذا شَهْرُ زَكاتِكم، فمَن كان عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَينٌ فَلْيُؤَدِّه، حتى تُخْرِجُوا زَكاةَ أمْوالِكُم. رَواه أبو عُبَيْدٍ في «الأمْوالِ» (¬1)، وفى لَفْظٍ: مَن كان عليه دَيْنٌ فلْيَقْضِ دَيْنَه، وَليُزَكِّ (¬2) بَقِيَّةَ مالِه. قال ذلك بمَحْضَرٍ مِن الصَّحابَةِ ولم يُنْكِرُوه، فدَلَّ على اتِّفاقِهم عليه. وروَى أصحابُ مالكٍ، عن عُمَيْرِ بنِ عِمْرانَ، عن شُجاعٍ، عن نافِعٍ، عن ابنَ عُمَرَ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَانَ لِرَجُلٍ ألف دِرْهَم وَعَلَيْهِ ألفُ دِرْهَم، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ» (¬3). وهذا نَصٌّ. ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ فَأردَّهَا فِى فُقَرَائِكُمْ» (¬4). فدَلَّ على أنَّها إنَّما تَجِبُ على الأغْنِياءِ، ولا تُدْفَعُ إلَّا إلى الفُقَراءِ، وهذا ممَّن يَحِلُّ له أخْذُ الزكاةِ، فيكونُ فَقِيرًا، فلا تَجِبُ عليه الزكاةُ؛ لأنَّها إنَّما تَجِبُ على الأغنِياءِ للْخَبَرِ. وكذلك قَوْلُه عليه السَّلامُ: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» (¬5). فأمّا مَن لا دَيْنَ عليه فهو ¬

(¬1) الأموال 437. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب الزكاة في الدين، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 253. (¬2) في النسخ: «وليترك» والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) لم نجد هذا الحديث. وانظر: النقل عن مالك والليث وأهل الرأى في هذه المسألة، في الأموال 438. (¬4) تقدم معناه في حديث بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن، في صفحة 291. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، من كتاب الزكاة، وفى: باب وجوب النفقة عل الأهل والعيال، من كتاب النفقات. صحيح البخارى 2/ 139، 7/ 81. ومسلم، في: باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى. . . . إلخ، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 717. وأبو داود، في: باب الرجل يخرج من ماله، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 390. والترمذى، في: باب ما جاء في النهي عن المسألة، من أبواب الزكاة، وفى: باب ما جاء في الزهادة في الدنيا. من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَنِىٌّ يَمْلِكُ (¬1) النِّصابَ، فهو بخِلافِ هذا. يُحقِّقُ هذا أنَّ الزكاةَ إنَّما وَجَبَتْ مُواساةً للفُقَراءِ، وشُكْرًا لنِعْمَةِ الغِنَى، والمَدِينُ مُحْتاجٌ إلى قَضاءِ دَينه كحاجَةِ الفَقِيرِ أو أشَدَّ، وليس مِن الحِكْمَةِ تَعْطِيلُ حاجَةِ المالِكِ (¬2) لدَفْعِ حاجَةِ غيرِه، وقد قال عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» (¬3). إذا ثَبَتَ ذلك فظاهرُ كلام شيخِنا أنَّه لا فَرْقَ بين الحالِّ والمؤجَّل؛ لِما ذَكَرنا مِن الأدِلَّةِ. وقال ابنُ أبى موسى: إنَّ المؤجَّلَ لا يَمْنَعُ وُجُودب الزكاةِ؛ لأنه غيرُ مُطالَبٍ به في الحالِ. فصل: فأمّا الأمْوالُ الظّاهِرَةُ وهى المَواشِى، والحُبُوبُ، والثِّمارُ، ففيها رِوايتان؛ إحْداهما، أنَّ الدَّيْنَ يَمْنعُ وُجُوبَ الزكاةِ فيها؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

= 3/ 193، 9/ 207. والنسائى، في: باب أيتهما العليا، وباب الصدقة عن ظهر غنى، وباب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 46، 52. والدارمي، في: باب من يستحب للرجل الصدقة، وباب فضل اليد العليا، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 389. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 4، 152، 230، 245، 278، 288، 319، 358، 362، 394، 402، 434، 475، 476، 480، 501، 524، 527، 3/ 330، 346، 402, 403, 434، 5/ 262. (¬1) في م: «بملك». (¬2) في م: «الملك». (¬3) أخرجه بمعناه بن حديث جابر، مسلم، في: باب النفقة بالنفس. . . .، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 693. والنسائي، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة، وفى: باب بيع المدبر، من كتاب البيوع. المجتبى 5/ 52، 7/ 267. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 305، 369. وقوله: «ابدأ بمن تعول» جزء من حديث «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» المتقدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ، في رِوايَةِ إسْحاقَ بنِ إبراهيمَ: يَبْتَدِئُ بالدَّيْنِ فيَقْضِيه، ثم يَنْظُرُ ما بَقِىَ عندَه بعدَ إخْراجِ النَّفَقَةِ فيُزَكِّيه، ولا يكونُ على أحَدٍ، دَيْنُه أكْثَرُ مِن مالِه، صَدَقَةٌ في إبلٍ، أو بَقَرٍ، أوْ غَنَمٍ، أو زَرْعٍ. وهذا قولُ عطاءٍ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، وسُليمانَ بنِ يَسارٍ، والثَّوْرِيِّ، واللَّيْثِ، وإسْحاقَ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يَمْنَعُ الزكاةَ فيها. وهو قولُ مالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه قال: قد اخْتَلَفَ ابنُ عُمَرَ وابنُ عباسٍ، فقال ابنُ عُمَرِ: يُخْرِجُ ما اسْتَدانَ أو أنْفَقَ على ثَمَرَتِه وأهْلِه، ويُزَكِّى ما بَقِىَ. وقال الآخرُ: يُخْرِجُ ما اسْتَدانَ [أو أنْفَقَ] (¬1) على ثَمَرَتِه، ويُزَكِّى ما بَقِىَ (¬2). وإليه أذْهَبُ، أن لا يُزَكِّىَ ما أنْفَقَ على ثَمَرَتِه، ويُزَكِّى ما بَقِىَ؛ لأنَّ المُصَدِّقَ إذا جاء فوَجَدَ إبِلًا أو بَقَرًا أو غَنَمًا، لم يَسْألْ ¬

(¬1) سقط من الأصل. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب الدين مع الصدقة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 148.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيَّ شئٍ على صاحِبِها مِن الدَّيْنِ، وليس المالُ هكذا. فظاهِرُ ذلك أنَّ هذه. رِوايةٌ ثالِثَةٌ، وهو أنَّه لا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزكاةَ في الأمْوالِ الظّاهِرَةِ، إلَّا في الزُّرُوعِ والثِّمارِ، فيما اسْتَدانَه للإِنْفاقِ عليها خاصَّة. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ. وقال أبو حنيفةَ: الدَّيْنُ الذى تَتَوَجَّهُ به المُطالَبَةُ يَمْنَعُ في سائِرِ الأمْوالِ، إلَّا الزُّرُوعَ والثِّمارَ. بِناءً منه على أنَّ الواجِبَ فيها ليس بصَدَقَةٍ. والفَرْقُ بينَ الأمْوالِ الباطنَةِ والظّاهِرَةِ أنَّ تَعَلُّقَ الزكاةِ بالظّاهِرَةِ آكَدُ، لظُهُورِها، وتَعَلُّقِ قلُوبِ الفُقَراء بها، ولهذا يُشْرَع إرْسالُ السُّعاةِ لأخْذِها مِن أرْبابِها، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ السُّعاةَ فيَأْخُذُون الصَّدَقاتِ مِن أرْبابِها، وكذلك الخُلَفاءُ بعدَه، ولم يَأْتِ عنهم أنَّهم طالَبُوا أحَدًا بصَدَقَةِ الصّامِتِ، ولا اسْتَكْرَهُوه عليها، إلَّا أنْ يَأْتِىَ بها طَوْعًا، ولأنَّ السُّعاةَ يَأْخُذُون زَكاةَ ما يَجِدُون، ولا يَسْأَلُون عَمّا على صاحِبِها مِن الدَّيْنِ، فدلَّ على أنَّه لا يَمْنَعُ زَكاتَها، ولأنَّ تَعَلُّقَ الأطْماعِ مِن الفُقَراءِ بها أكْثَرُ، والحاجَةُ إلى حِفْظِها أوْفَرُ، فتكونُ الزكاةُ فيها أوْكَدَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزكاةَ إذا كان يَسْتَغْرِقُ النِّصابَ أو يَنْقُصُه، ولا يَجِدُ ما يَقْضِيه به سِوَى النِّصاب، أو ما لا يُسْتَغْنَى عنه، مثلَ أن يَكُونَ له عِشْرُون مِثْقالًا، وعليه مِثْقالٌ أو أَقَلُّ، ممّا يَنْقُصُ به النِّصابُ إذا قَضاه، ولا يَجِدُ له قضاءً مِن غيرِ النِّصابِ، فإن كان لا يَنْقُصُ به النِّصابُ أسْقَطَ مِقْدارَ الدَّيْنِ، وأخْرَجَ زَكاةَ الباقِى، فإن كان له ثَلاثُون مِثْقالًا، وعليه عَشَرَةٌ، فعليه زَكاةُ العِشرِين. وإن كان عليه أكْثَرُ مِن عَشَرَةٍ، فلا زَكاةَ عليه. وكذلك لو أنَّ له مائةً مِن الغَنَم، وعليه ما يُقابِلُ سِتِّين، فعليه زَكاةُ الأرْبَعين. وإن قابَلَ إحْدَى وسِتِّين، فلا زَكاة عليه؛ لأنَّه يَنْقصُ النِّصابَ، وإن كان له مالان مِن جِنْسَيْن، وعليه. ديْنٌ جَعَلَه في مُقابَلَةِ ما يَقْضِى منه، فلو كان عليه خَمْسٌ مِن الإبِلٍ ولَه خَمْسٌ مِن الابِلِ ومائتا دِرْهَمٍ، فإن كانت عليه سَلَمًا أو دِيَةً أَو نحْوَ ذلك مما يُقْضَى بالإِبِلِ، جَعَلْتَ الدَّيْنَ في مُقابَلَتِها، ووَجَبَتْ عليه زَكاةُ الدَّراهِمِ، فإن كان أتْلَفَها، جَعَلْتَ قِيمَتَها في مُقابَلَةِ الدَّراهِمَ؛ لأنَّها تُقْضَى منها، وإن كانت قَرْضًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُرِّجَ على الوَجْهَيْن فيما يُقْضَى منه، فإن كانت إذا جَعَلْناها في مُقابَلَةِ أحَدِ المالَيْن، فَضَلَتْ منها فَضْلَةٌ تَنْقُصُ النِّصابَ الآخَرَ، وإذا جَعَلْناها في مُقابَلَةِ الآخَرِ، لم يَفْضُلْ منها شئٌ، كرجلٍ له مائتا دِرْهَمٍ وخَمْسٌ مِن الإِبِلِ، وعليهِ ستٌّ مِن الإبِلِ قِيمَتُها مائتا دِرْهَمٍ، إذا جَعَلْناها في مُقابَلَةِ المائتَيْن لم يَبْقَ مِن الدَّيْنِ شئٌ يَنْقُصُ نِصابَ السّائِمَةِ، وإن جَعَلْناها في مُقابَلَةِ الإِبِل فَضَل منها بَعِيرٌ يَنْقُصُ نِصابَ الدَّراهِمِ، أو كانت بالعَكْسِ، مثلَ أن يكونَ عليه مائتان وخمْسُون دِرْهَمًا، وله مِن الإبِلِ خَمْسٌ أو أكثَرُ تُساوِى الدَّيْنَ أو تَفْضُلُ عليه، جَعَلْنا الدَّيْنَ في مُقابَلَةِ الإِبِلِ ههُنا، وفى مُقابَلَةِ الدَّراهِمِ في الصُّورَةِ الأُولَى؛ لأنَّ له مِن المالِ ما يَقْضِى به الدَّيْنَ سَوى النِّصابِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن كان عليه مائةُ دِرْهَمٍ، وله مائتا دِرْهَم وتِسْعٌ مِن الإِبِلِ، فإذا جَعَلْناها في مُقابَلَةِ الإِبِلِ، لم يَنْقُصْ نِصابُها؛ لكَوْنِ الأرْبَعِ الزّائِدَةِ عنه تُساوِى المائةَ أو أكْثَرَ منها، وإن جَعَلْناها في مُقابَلَةِ الدَّراهِمِ سَقَطَتِ الزكاةُ منها، جَعَلْناها في مُقابَلَةِ الإبِلِ؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ ذلك أحَظُّ للْفُقَراءِ. ذَكَر القاضى نحوَ هذا، فقال: إذا كان النِّصابان زَكَوِيِّيْن، جَعَلْتَ الدَّيْنَ في مُقابَلَةِ ما الحَظُّ للْمَساكِين في جَعْلِه في مُقابَلَتِه، وإن كان مِن غيرِ جِنْسِ الدَّيْنِ. وإن كان أحَدُ المالَيْن لا زَكاةَ فيه والآخَرُ فيه الزكاة،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كرَجُل عليه مائتا دِرْهَمٍ، وله مِثْلُها، وعُرُوضٌ للقُنْيَةِ تُساوِى مائتَيْن، فقال القاضى: يَجْعَلُ الدَّيْنَ في مُقابَلَةِ العُرُوضِ. وهذا مَذْهَب مالكٍ، وأبى عُبَيْدٍ. قال أصحابُ الشافعيِّ: وهو مُقْتَضَى قَوْلِه؛ لأنَّه مالكٌ لمائتَيْن زائِدَةٍ عن مَبْلَغِ دَيْنه، فوَجَبَتْ عليه زَكاتُها، كما لو كان جَمِيعُ مالِه جِنْسًا واحِدًا. لي هذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه يَجْعَلُ الدَّيْنَ في مُقابَلَةِ ما يَقْضِى منه (¬1)، فإنَّه قال، في رَجُلٍ عندَه ألْفٌ وعليه ألْفٌ وله عُرُوضٌ بألْفٍ: إن كانتِ العُرُوضُ للتِّجارَةِ زَكّاها، وإن كانت لغيرِ التِّجارَةِ فليس عليه شئٌ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ. ويُحْكَى عن اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ؛ لأنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِن جِنْسِه عندَ التَّشاحِّ، فجَعْلُ الدَّيْنِ في مُقابَلَتِه أوْلَى، كما لو كان النِّصابان زَكَوِيَّيْن. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كَلامُ أحمدَ ¬

(¬1) في م: «عنه». (¬2) في: المغنى 4/ 267.

834 - مسألة: (والكفارة كالدين فى أحد الوجهين)

وَالْكَفَّارَةُ كَالدَّيْنِ في أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا على ما إذا كان العَرْضُ تَتَعَلَّقُ به حاجَتُه الأصْلِيَّةُ، ولا فَضْلَ فيه عن حاجَتِه، فلا يَلْزَمُه صَرْفُه في وَفاءِ الدَّيْنِ؛ لأنَّ حاجَتَه أهَمُّ، ولذلك لم تَجِبِ الزكاةُ في الحَلْىِ المُعَدِّ للاسْتِعْمالِ، ويَكُونُ قولُ القاضى مَحْمُولًا على مَن كان العَرْضُ فاضِلًا عن حاجَتِه، وهذا أحْسَنُ؛ لأنَّه في هذه الحالِ مالكٌ لنِصابٍ فاضِل عن حاجَتِه وقَضاءِ دَيْنِه، فلَزِمَتْه زَكاتُه، كما لو لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ. فأمّا إن كان عندَه نِصابان زَكَوِيّان، وعليه دَيْنٌ مِن غيرِ جِنْسِهِما، ولا يُقْضَى مِن أحَدِهِما، فإنَّك تَجْعَلُه في مُقابَلَةِ ما الحَظُّ للمَساكِينِ في جَعْلِه في مُقابَلَتِه. 834 - مسألة: (والكَفّارَةُ كالدَّيْنِ في أحَدِ الوَجْهَيْن) دَيْنُ اللهِ تعالى كالنَّذْرِ والكَفّارَةِ، فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَمْنَعُ الزكاةَ؛ لأنَّه دَيْنٌ يَجِبُ قَضاؤُه، فهو كدَيْنِ الآدَمِيِّ، وقد قال عليه السلامُ: «دَيْنُ اللهِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَقُّ أنْ يُقْضَى» (¬1). والآخَرُ، لا يَمْنَعُ؛ لأنَّ الزكاةَ آكَدُ منه لتَعَلُّقِها بالعَيْنِ، فهى كأرْشِ الجِنايَةِ، ويُفارِقُ دَيْنَ الآدَمِيِّ، لتَأَكُّدِه، وتَوَجُّهِ المُطالَبَةِ به. فإن نَذَر الصَّدَقَةَ بمُعَيَّنٍ، فقال: للهِ علىَّ أن أتَصَدَّقَ بهذه المائَتىْ دِرْهَم إذا حال الحَوْلُ فقال ابنُ عَقِيلٍ: يُخْرِجُها، ولا زَكاةَ عليه؛ لأنَّ النَّذْرَ آكَدُ لتَعَلّقِه بالعَيْنِ، والزكاةُ مُخْتَلَفٌ فيها. ويَحْتَمِلُ أن تَلْزَمَه زَكاتُها، وتجْزِئُه الصَّدَقَة بها، إلَّا أنَّه (¬2) يَنْوِى الزكاةَ بقَدْرِها، ويكونُ ذلك صَدَقَة مُجْزِئَةً عن الزكاةِ والنَّذْرِ؛ لكَوْنِ الزكاةِ صَدَقَةً، وباقِيها يكونُ صَدَقَةً لنَذْرِه، وليس بزَكاةٍ. وإن نَذَر الصَّدَقَةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 260. (¬2) في الأصل: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ببعضِها، وكان ذلك البعضُ قَدْرَ الزكاةِ أو أكْثَرَ، فعلى هذا الاحْتِمالِ يُخْرِجُ المَنْذُورَ، وَيَنْوِى الزكاةَ بقَدْرِها منه. وعلى قولِ ابنِ عَقِيل، يَحْتَمِلُ أن تَجِبَ الزكاةُ عليه؛ لأنَّ النَّذْرَ إنَّما تَعَلَّقَ بالبعضِ بعدَ وُجُودِ سَبَبِ الزكاةِ وتَمامِ شَرْطِه، فلا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، لكَوْنِ المَحلِّ مُتَّسِعًا لهما جَمِيعًا. وإن كان المَنْذُورُ أقَلَّ مِن قَدْرِ الزكاةِ، وَجب قَدْرُ الزكاةِ، ودَخَل النَّذْرُ فيه، في أحَدِ الوَجْهَيْن، وفى الآخَرِ يَجِبُ إخْراجُهما جَمِيعًا. فصل: وإذا قُلْنا: لا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزكاةِ في الأمْوال الظّاهِرَةِ. فحَجَرَ الحاكِمُ عليه بعدَ وُجُوبِ الزكاةِ، لم يَمْلِكْ إخْراجَها، لأنَّه قد انْقَطَعَ تَصَرُّفُه في مالِه. وإن أقَرَّ بها بعدَ الحَجْرِ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه، وتَتَعلَّقُ بذِمَّتِه،

835 - مسألة: الشرط (الخامس، مضي الحول شرط، إلا فى الخارج من الأرض)

الْخَامِسُ، مُضِىُّ الْحَوْلِ شَرْطٌ، إِلَّا في الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كدَيْنِ الآدَمِىِّ. ويَحْتَمِلُ أن تَسْقُطَ إذا حُجِرَ عليه قبلَ إمْكانِ أدائِها، كما لو تَلِف مالُه. فإن أقَرَّ الغُرَماءُ بوُجُوبِ الزكاةِ عليه، أو ثَبَت ببَيِّنَةٍ، أو كان قد أقَرَّ بها قبلَ الحَجْرِ عليه، وَجَب إخْراجُها مِن المالِ، فإن تَرَكُوها فعليهم إثْمُها. فإن حَجَر الحاكِمُ على المُفْلِسِ في أمْوالِه الزَّكَوِيَّةِ، فهل يَنْقَطِعُ حَوْلُها؛ يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَيْن في المالِ المَغْصُوبِ، وقد ذَكَرْناه. فصل: وإذا جَنَى العَبْدُ المُعَدُّ للتِّجارَةِ جِنايَةً، تَعَلَّقَ أرْشُها برَقَبَتِه، ومَنَع وُجُوبَ الزكاةِ فيه، إن كان يَنْقُصُ النِّصابَ؛ لأنَّه دَيْنٌ. وإن لم يَنْقُص النِّصابَ، مَنَع الزكاةَ في قَدْرِ ما يُقابِلُ الأرْشَ. 835 - مسألة: الشَّرْطُ (الخامِسُ، مُضِيُّ الحَوْلِ شَرْطٌ، إلَّا في الخارِجِ مِن الأرْضِ) مُضِىُّ الحَوْلِ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ في السّائِمَةِ، والأثْمانِ، وعُرُوضِ التِّجارَةِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، إلَّا ما نَذْكُرُه في المُسْتَفادِ. والأصْلُ فيه ما روَى ابنُ ماجَه بإسْنادِه، عن عائشةَ، قالت:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬1). رَواه ابنُ عُمَرَ أيضًا، وأخْرَجَه التِّرْمذِىُّ. وهو لَفْظٌ عامٌّ. فأمّا ما يُكالُ ويُدَّخَرُ مِن الزُّرُوعِ والثِّمارِ والمَعْدِنِ، فلا يُعْتَبَرُ لهما حَوْلٌ. والفَرْقُ بينَ ما اعْتُبِرَ له الحَوْلُ وما لا يُعْتَبَرُ، أنَّ ما اعْتُبِرَ له الحَوْلُ مُرْصَدٌ للنَّماءِ، فالماشِيَةُ مُرْصَدَةٌ للدَّرِّ والنَّسْلِ، وعُرُوضُ التِّجارَةِ مُرْصَدَةٌ للرِّبْحِ، وكذا الأثْمانُ، فاعْتُبرَ له الحَوْلُ، لكَوْنِه مَظِنَّةَ النَّماء، ليَكُونَ إخْراجُ الزكاةِ مِن الرِّبْحِ، فإنَّه أسْهَلُ وأيْسَرُ، ولأنَّ الزكاةَ إنَّما وَجَبَتْ مُواساةً، ولم تُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ النَّماءِ لكَثْرَةِ اخْتِلافِه، وعَدَمِ ضَبْطِه، ولأنَّ ما اعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُه لم يُلْتَفَتْ إلى حَقِيقَتِه، كالحُكْمِ مع الأسْببابِ، ولأنَّ الزكاةَ تَتَكَرَّرُ في هذه الأمْوالِ، فلا بُدَّ لها مِن ضابِطٍ، كَيْلا يُفْضِىَ إلى تَعاقُبِ الوُجُوبِ في الزَّمَنِ الواحِدِ، فيَنْفَدَ مالُ المالِكِ. أمّا الزُّرُوعُ والثِّمارُ، فهى نَماءٌ في نَفْسِها، تَتَكامَلُ عندَ إخْراجِ الزكاةِ منها، فتُؤْخَذُ الزكاةُ منها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327. وسيأتى تخريج حديث ابن عمر في صفحة 357.

836 - مسألة: (فإذا استفاد مالا، فلا زكاة فيه

فَإِذَا اسْتَفَادَ مَالًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَتِمَّ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، إِلَّا نِتَاجَ السَّائِمَةِ، وَرِبْحَ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ حَوْلَهُ حَوْلُ أصْلِهِ إِنْ كَانَ نِصَابًا، وَإِنْ لَمْ يَكنْ نِصَابًا فَحَوْلُهُ مِنْ حِينَ كَمَلَ النِّصَابُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِينَئِذٍ، ثم تَعُودُ في النَّقْصِ فلا (¬1) تَجِبُ فيها زَكاةٌ ثانِيَةٌ، لعَدَمِ إرْصادِها للنَّماءِ. وكذلك الخارِجُ مِن المَعْدِنِ مُسْتَفادٌ خارِجٌ مِن الأرْضِ، بمَنْزِلةِ الزُّرُوعِ والثِّمارِ، إلَّا أنَّه إن كان مِن جِنْسِ الأثْمانِ، وَجَبَتْ فيه الزكاةُ عندَ كلِّ حَوْلٍ؛ لأنَّه مَظِنَّةٌ للنَّماءِ، مِن حيثُ إنَّ الأثْمانَ قِيَمُ الأمْوالِ، ورُءُوسُ مالِ التِّجارات، وبها تَحْصُلُ المُضارَبَةُ والشَّرِكَةُ، وهى مَخْلُوقَةٌ لذلك، فكانت بأصْلِها وخِلْقَتِها، كمالِ التِّجارَةِ المُعَدِّ لها. 836 - مسألة: (فإذا اسْتَفادَ مالًا، فلا زَكاةَ فيه (¬2) حتى يَتِمَّ عليه الحَوْلُ، إلَّا نِتاجَ السَّائِمَةِ، ورِبْحَ التِّجارَةِ، فإنَّ حَوْلَه حَوْلُ أصْلِه (¬3) إن كان نِصابًا، وإن لم يَكُنْ نِصابًا فحَوْلُه مِن حينَ كَمَلَ النِّصابُ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن اسْتَفادَ مالًا زَكَوِيًّا ممّا يُعْتَبَرُ له الحَوْلُ، ¬

(¬1) في م: «بملا». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «مثله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَكُنْ له مالٌ سِواه، وكان المُسْتَفادُ نِصابًا، أو كان له مالٌ مِن جِنْسِه لا يَبْلُغُ نِصابًا، فبَلَغَ بالمُسْتَفادِ نِصابًا، انْعَقَدَ عليه حَوْلُ الزكاةِ مِن حِينئِذٍ، فإذا تَمَّ وَجَبَتْ فيه الزكاةُ، لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ». وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْىِ، لأنَّه لم يَحُلِ الحَوْلُ على نِصابٍ، فلم تَجِبِ الزكاةُ فيها، كما لو كَمَلَتْ بغيرِ سِخالِها. والحُكْمُ في فُصْلانِ الإِبِلِ، وعُجُولِ البَقَرِ، كالحُكْمِ في السِّخالِ. وعن أحمدَ في مَن مَلَك دُونَ (¬1) النِّصابِ مِن الغَنَمِ فَكَمَلَ بالسِّخالِ، احْتُسِبَ الحَوْلُ مِن حينَ مَلَك الأُمَّهاتِ. وهو قولُ مالكٍ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ، لأنَّ النِّصابَ هو السَّبَبُ، فاعْتُبِرَ مُضِيُّ الحَوْلِ على جَمِيعِه. وإن كان عندَه نِصابٌ لم يَخْلُ المُسْتَفادُ مِن ثَلاثَةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يَكُونَ مِن نَمائِه، كرِبْحِ مالِ التِّجارَةِ، ونِتاجِ السّائِمَةِ، فهذا يَجِبُ ضَمُّه إلى ما عِنْدَه مِن أصْلِه في الحَوْلِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا إلَّا ما حُكِىَ عن الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، لا زَكاةَ في السِّخالِ حتى يَحُولَ عليها الحَوْلُ؛ للحَدِيثِ المَذْكُورِ. والأوَّلُ أوْلَى، لقولِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لساعِيه: اعْتَدَّ عليهم بالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بها الرّاعِى على يَدَيْه (¬1). والحَدِيثُ مَخْصُوصٌ برِبْحِ التِّجارَةِ؛ لأنَّه تَبَعٌ له مِن جِنْسِه، أشْبَهَ زِيادَةَ القِيمَةِ في العُرُوضِ وثَمَنَ العَبْدِ والجارِيَةِ. القِسْمُ الثانى، أن يكونَ المُسْتَفادُ مِن غيرِ جِنْسِ النِّصابِ، فهذا له حُكْمُ نَفْسِه، لا يُضَمُّ إلى ما عِندَه في حَوْلٍ ولا نِصابٍ، بل إن كان نِصابًا اسْتَقْبَلَ به حَوْلًا وزَكّاهُ، وإلَّا فلا شئَ فيه. وهذا قولُ جُمْهُورِ العُلَماءِ. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، ومُعاوِيَةَ، أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيه حين اسْتَفادَه. قال أحمدُ، عن غيرِ واحِدٍ: يُزَكِّيه حينَ يَسْتَفِيدُه. وعن الأوْزاعِيِّ في مَن باع عَبْدَه، أنَّه يُزَكِّى الثَّمَنَ حينَ يَقَعُ في يَدِه إلَّا أن يَكُونَ له شَهْرٌ يُعْلَمُ، فيُؤَخِّرَه حتىْ يُزَكِّيَه مع مالِه. وجُمْهُورُ العُلَماءِ على القولِ الأوَّلِ؛ منهم أبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعثمانُ، وعلىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنهم. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: والخِلافُ في ذلك شُذُوذٌ، لم يُعَرِّجْ عليه أحَدٌ مِن العُلَماءِ، ولا قال به أحَدٌ مِن أهْلِ الفَتْوَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ في مَن باع دارَه بعَشَرَةِ آلافٍ إلى سَنَةٍ، إذا قَبَض المالَ يُزَكِّيه. وهذا ¬

(¬1) رواه الإمام مالك، في: باب ما جاء فيما يعتدّ به من السخل في الصدقة، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 265. والبيهقى، في: باب السن التى تؤخذ في الغنم، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 100،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحْمُولٌ مِن قَوْلِه على أنَّه يُزَكِّيه لكَوْنِه دَيْنًا في ذِمَّةِ المُشْتَرِى، فيَجِبُ على البائِعِ زَكاتُه، كسائِرِ الدُّيُونِ. وقد صَرَّحَ بذلك في رِوايَةِ بكرِ بنِ محمدٍ، عن أبِيه، فقال: إذا أكْرَى (¬1) عبْدًا أو دارًا في سَنَةٍ بأَلْفٍ، فحَصَلَتْ له الدَّراهِمُ وقَبَضَها، زَكّاها إذا حال عليها الحَوْلُ، مِن حِينَ قَبَضَها، وإن كانت على المُكْتَرِى، فمِن يَوْمِ وَجَبَتْ له فيها الزكاةُ، بمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ إذا وَجَب له على صاحِبِه، زَكّاه مِن يَوْمِ وَجَب له. القِسْمُ الثّالِثُ، أن يَسْتَفِيدَ مالًا مِن جِنْسِ نِصابٍ عندَه، قد انْعَقَدَ عليه حَوْلُ الزكاةِ بسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، كمَن عندَه أرْبَعُون مِن الغَنَمِ، مَضَى عليها بعضُ الحَوْلِ، فيَشْتَرِى أو يَرِثُ أو يَتَّهِبُ (¬2) مائةً، فهذا لا تَجِبُ فيه الزكاةُ حتى يَمْضِىَ عليه حَوْلٌ أيضًا. وبهذا قال الشافعيُّ. ولا يَبْنِى الوارِثُ حَوْلَه على حَوْلِ المَوْرُوثِ، وهو أحَدُ القَوْلَيْن للشافعىِّ؛ لأنَّه تَجْدِيدُ مِلْكٍ. والقَوْلُ الثّانِى، أنَّه يَبْنِى على حَوْلِ مَوْرُوثِه؛ لأنَّ مِلْكَه مَبْنِىٌّ على مِلْكِ المَوْرُوثِ، بدَلِيلِ أنَّه لو اشْتَرَى شيئًا مَعِيبًا، ثم مات، قام الوارِثُ مَقامَه في الرَّدِّ بالعَيْبِ. والأوَّلُ أوْلَى. وقال أبو حنيفةَ: يَضُمُّها إلى ما عندَه. في الحَوْل، فيُزَكِّيهِما جِميعًا عندَ تَمامِ حَوْلِ المالِ الأوَّلِ الذى كان عندَه، إلَّا أن يَكَونَ عِوَضًا مِن مالٍ مُزَكًّى. والدَّلِيلُ على ذلك أنَّه مالٌ ¬

(¬1) في الأصل: «اكترى». (¬2) في م: «يهب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُضَمُّ إلى جِنْسِه في النِّصابِ، فضُمَّ إليه في الحَوْلِ، كالنِّتاجِ، ولأنَّه إذا ضُمَّ في النِّصابِ وهو سَبَبٌ، فضَمُّه إليه في الحَوْلِ الذى هو شَرْطٌ أوْلَى. وبَيانُ ذلك أنَّه لو كان عندَه مائَتا دِرْهَمٍ، مَضَى عليها بعضُ الحَوْلِ، فوُهِبَ له مائةٌ أُخْرَى، فإنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيها إذا تَمَّ حَوْلُها، بغيرِ خِلافٍ، ولولا المائتان ما وَجَب فيها شئٌ، فإذا ضُمَّتْ إلى المائَتَيْن في أصْلِ الوُجُوبِ، فكذلك في وَقْتِه، ولأنَّ إفْرادَه بالحَوْلِ يُفْضِى إلى تَشْقِيصِ الواجِبِ في السّائِمَةِ، واخْتِلافِ أوْقاتِ الواجِبِ، والحاجَةِ إلى ضَبْطِ أوْقاتِ التَّمَلُّكِ، ومَعْرِفَةِ قَدْرِ الواجِبِ في كلِّ جُزْءٍ مَلَكَه، ووُجُوبِ القَدْرِ اليَسِيرِ الذى لا يَتَمَكَّنُ مِن إخْراجِه، ويَتَكَرَّرُ ذلك، وهذا حَرَجٌ مَنْقِىٌّ بقَوْلِه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). وقد اعْتَبَر الشَّرْعُ (¬2) ذلك بإيجابِ غيرِ الجِنْسِ فيما دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِين مِن الإِبِلِ، وضَمَّ الأرْباحَ والنِّتاجَ إلى حَوْلِ أصْلِها مَقْرُونًا بدَفْعِ هذه المَفْسَدَةِ، فدَلَّ على أنَّه عِلَّةٌ لذلك، فيَتَعَدَّى الحُكْمُ إلى مَحَلِّ النِّزاعِ. وقال مالكٌ كقَوْلِ أبي حنيفةَ في السّائِمَةِ؛ دَفْعًا للتَّشْقِيصِ في الواجِبِ، وكقَوْلِنا في الأثْمانِ؛ ¬

(¬1) سورة الحج 78. (¬2) في م: «الشارع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَدَمِ ذلك فيها. ولَنا، قَوْلُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). وروَى التِّرْمِذيُّ (¬2) بإسْنادِه، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: مَن اسْتَفادَ مالًا، فَلا زَكاةَ فيه حتى يَحُولَ عليه الحَوْلُ. ورَواه مَرْفُوعًا، إلَّا أنَّه قال: المَوْقُوفُ أصَحُّ. وإنَّما رَفَعَه عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسْلَمَ، وهو ضَعِيفٌ. ولأنه مَمْلُوكٌ أصْلًا، فيُعْتَبَرُ له الحَوْلُ شَرْطًا، كالمُسْتفادِ مِن غيرِ الجِنْس. وأمّا الأرْباحُ والنِّتاجُ، فإنَّما ضُمَّت إلى أصْلِها؛ لأنَّها تَبَعٌ لها، وَمُتَوَلِّدَةٌ منها، لا لِما ذَكَرْتُم، وإن سَلَّمْنا أنَّ عِلَّةَ ضَمِّها ما ذَكَرْتُمْ مِن الحَرَجِ، إلَّا أنَّ الحَرَجَ في الأرْباحِ يَكْثُرُ ويَتَكَرَّرُ في الأيَّام والسّاعاتِ، ويَعْسُرُ (¬3) ضَبْطُها، وكذلك النِّتاجُ، وقد يُوجَدُ ولا. يُشْعَرُ به، فالمَشَقَّةُ فيه أتَمُّ؛ لكَثْرَةِ تَكَرُّرِه، بخِلافِ هذه الأسبابِ المُسْتَقِلَّةِ، فإنَّ المِيراثَ والاغْتِنامَ والاتِّهابَ ونَحْوَ ذلك يَنْدُرُ ولا يَتَكَرَّرُ غالِبًا، فلا يَشُقُّ ذلك فيه، وإن شَقَّ ¬

(¬1) تقدم تخريخه في صفحة 327. (¬2) في: باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 125. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب الزكاة في العين من الذهب والورق، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 246. (¬3) في الأصل: «يعتبر».

837 - مسألة: (وإن ملك نصابا صغارا، انعقد عليه الحول من حين ملكه. وعنه، لا ينعقد حتى يبلغ سنا يجزئ مثله فى الزكاة)

وَإنْ مَلَكَ نِصَابًا صِغَارًا، انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حِينَ مَلَكَهُ. وَعَنْهُ، لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِى مِثْلُهُ في الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو دُونَ المَشَقَّةِ في الأوْلادِ والأرْباحِ، فيَمْتَنِعُ الإِلحاقُ. وقولُهم: ذلك حَرَجٌ. قُلْنا: التَّيْسِيرُ فيما ذَكَرْنا أكْثَرُ؛ لأنَّ المالِكَ يَتَخَيَّرُ بينَ التَّعْجيلِ والتَّأْخِيرِ، وهم يُلْزِمُونَه بالتَّعْجِيلِ، ولا شَكَّ أنَّ التَّخْيِيرَ بينَ شَيْئَيْن أيْسَرُ مِن تَعْيِينِ أحَدِهِما؛ لأنَّه حِينَئِذٍ يَخْتَارُ أيْسَرَهما عليه، وأمّا ضَمُّه إليه في النِّصابِ، فَلأنَّ النِّصابَ مُعْتَبَرٌ لحُصُولِ الغِنَى، وقد حَصَل الغِنَى بالنِّصابِ الأوَّلِ، والحَوْلُ مُعْتَبَرٌ لاسْتِنْماءِ المالِ؛ ليَحْصُلَ أداءُ الزكاةِ مِن الرِّبْحِ، ولا يَحْصُل ذلك بمُرُورِ الحَوْلِ علىْ أصْلِه، فوَجَبَ أن يُعْتَبَرَ له الحَوْلُ. 837 - مسألة: (وإن مَلَك نِصابًا صِغارًا، انْعَقَدَ عليهِ الحَوْلُ مِن حينَ مَلَكَه. وعنه، لا يَنْعَقِدُ حتى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِئُ مثلُه في الزكاةِ) الرِّوايَةُ الأُولَى هى المَشْهُورَةُ في المَذْهَبِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «فِىٍ خَمْس مِنَ الإبِلِ شَاةٌ» (¬1). ولأنَّ السِّخالَ تُعَدُّ مع غيرِها، فتُعَدُّ مُنْفَرِدَةً كالأُمَّهاتِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يَنْعَقِدُ عليه الحَوْلُ حتى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِئُ ¬

(¬1) يأتى بتمامه في صفحة 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلُه في الزكاة. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وحُكِىَ عن الشَّعْبِيِّ، لأنَّه رُوِىَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَيْسَ في السِّخَالَ زَكَاةٌ» (¬1). ولأنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَتَغَيَّرُ به الفَرْضُ، فكان لنُقْصانِه تَأْثِيرٌ في الزكاةِ، كالعَدَدِ. والأُولَى أوْلَى، والحَدِيثُ يَرْوِيه جابِرٌ الجُعْفِىُّ، وهو ضَعِيفٌ، عن الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، ثم يُمْكِنُ حَمْلُه على أنَّه لا يَجِبُ فيها قبلَ حَوَلانِ الحَوْلِ، والعَدَدُ تَزِيدُ الزكاةُ بزِيادَتِه، بخِلافِ السِّنِّ. فإذا قُلْنا بالرِّوايَةِ الثّانِيَةِ، وماتَتِ الأُمَّهاتُ كلُّها إلَّا واحِدَةً، لم يَنْقَطِعِ الحَوْلُ، وإن ماتَتْ كلُّها انْقَطَعَ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إذا كانتِ السِّخالُ لا تَأْكُلُ المَرْعَى، بل تَشْرَبُ اللَّبَنَ، احْتَمَلَ أن لا تَجِبَ فيها الزكاةُ؛ لعَدَمِ تَحَقّقِ السَّوْمِ فيها، واحْتَمَلَ أن تَجِبَ؛ لأنَّها تَبَعٌ للأُمَّهات، كما تَتْبَعُها في الحَوْلِ. ¬

(¬1) لم نجده.

838 - مسألة: (ومتى نقص النصاب فى بعض الحول، أو باعه، أو أبدله بغير جنسه، انقطع الحول)

وَمَتَى نَقَصَ النِّصَابُ في بَعْضِ الْحَوْلِ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ أَبْدَلَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 838 - مسألة: (ومتى نَقَص النِّصابُ في بعضِ الحَوْلِ، أو باعَه، أو أبْدَلَه بغيرِ جِنْسِه، انْقَطَعَ الحَوْلُ) وُجُودُ النِّصابِ في جميعِ الحَوْلِ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ، فإن نَقَص الحَوْلُ نَقْصًا يَسِيرًا، فقال أبو بكرٍ: ثَبَت أنَّ نَقْصَ الحَوْلِ ساعَةً أو ساعَتَيْن مَعْفُوٌّ عنه. وقال شيخُنا في كِتابِ الكافى: إن نَتَجَتْ واحِدَةٌ، ثبم هَلَكَتْ واحِدَةٌ، لم يَنْقَطِعِ الحَوْلُ، وإن خَرَج بعضُها، وهَلَكَتِ الأُخْرَى قبلَ خُرُوجِ بَقِيَّتِها، انْقَطَعَ الحَوْلُ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ لها حُكْمُ الوُجُودِ في الزكاةِ حتى يَخْرُجَ جَمِيعُها. وقال القاضى: إن كان النِّتاجُ والمَوْتُ حَصَلا في وَقْتٍ واحِدٍ لم تَسْقُطِ الزكاةُ، لأنَّ النِّصابَ لم يَنْقُصْ، وإن تَقَدَّمَ المَوْتُ النِّتاجَ، سَقَطَتِ الزكاةُ. وظاهِرُ قَوْلِهما أنَّه لا يُعْفَى عن النَّقْصِ في الحَوْلِ وإن كان يَسِيرًا؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬1). ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كَلامُ أبي بكرٍ على أنَّه أراد النَّقْصَ في طَرَفِ الحَوْلِ، فيكونُ كنَقْصِ النِّصابِ حَبَّةً أو حَبَّتَيْن. واللهُ أعلمُ. وقال بعضُ أصحابِنا: إن نَقَص الحَوْلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقَلَّ مِن يَوْم لا يُؤثِّرُ؛ لأنَّه يَسِيرٌ، أشْبَهَ الحَبَّةَ والحَبَّتَيْن. وظاهِرُ الحَدِيثِ يَقْتَضِى التَّأْثِيرَ، وهو أوْلَى، إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: ومتى باع النِّصابَ في أثْناءِ الحَوْلِ، أو أبْدَلَه بغيرِ جِنْسِه، انْقَطَعَ حَوْلُ الزكاةِ، واسْتَانَفَ له حَوْلًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، إلَّا أن يُبْدِلَ ذَهَبًا بفِضَّةٍ، أو فِضَّةً بذَهَبٍ، فإنَّه مَبْنِىٌّ على الرِّوايَتَيْن في ضَمِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ؛ إحْداهما، يُضَمُّ؛ لأنَّهما كالجِنْسِ الواحِدِ، إذ هما أُرُوشُ الجِناياتِ وقِيَمُ المُتْلَفاتِ، فهما كالمالِ الواحِدِ، فعلى هذا لا يَنْقَطِعُ الحَوْلُ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يُضَمُّ أحَدُهما إلى الآخرِ؛ لأنَّهما جِنْسان في بابِ الرِّبا، فلم يُضَمَّ أحَدُهما إلى الآخَر، كالتَّمْرِ والزَّبِيبِ. فعلى هذا يَنْقَطِعُ الحَوْلُ، ولا يُبْنَى أحَدُهما على حُوْلِ الآخَرِ، كالجِنْسَيْن مِن الماشِيَةِ.

839 - مسألة: (إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها، فلا تسقط)

إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ قُرْبِ وُجُوبِهَا، فَلَا تَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 839 - مسألة: (إلَّا أن يَقْصِدَ بذلك الفِرارَ مِن الزكاةِ عندَ قُرْبِ وُجُوبِها، فلا تَسْقُطُ) وكذا لو أتْلَفَ جُزْءًا مِن النِّصابِ، ليَنْقُصَ النِّصابُ، فتَسْقُطَ عنه الزكاةُ، لم تَسْقُطْ، وتُؤْخَذُ منه في آخِرِ الحَوْلِ. وهذا قولُ مالكٍ، والأوْزاعِيِّ، وابنِ الماجِشُون، وإسْحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ. وقال أبو حَنيفةَ، والشافعيُّ: تَسقُطُ عنه الزكاةُ، لأنَّه نَقَص قبلَ تَمامِ حَوْلِه، فلمِ تَجِبْ فيه الزكاةُ، كما لو أتْلَفَه لحاجَتِه. ولَنا، قَوْلُه عزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} إلى قَوْلِه: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (¬1). فعاقَبَهم اللهُ تَعالَى بذلك، لفِرارِهم مِن الصَّدَقَةِ. ¬

(¬1) سورة القلم 17 - 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه قَصَد إسْقاطَ نَصِيبِ مَن انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقاقِه، فلم يَسْقُطْ، كما لو طَلَّقَ امْرَأَتَه في مَرَضِ مَوْتِه، ولأنَّه لَمّا قَصَد قَصْدًا فاسِدًا، اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ عُقُوبَتَه بنَقِيضِ قَصْدِه، كمَن قَتَل مَوْرُوثَه لاسْتِعْجالِ مِيراثِه، عاقَبَه الشَّرْعُ بالحِرْمانِ. أمّا إذا أتْلَفَه لحاجَةٍ، فلم يَقْصِدْ قَصْدًا فاسِدًا، وإنَّما يُؤَثِّرُ ذلك إذا كان عندَ قُرْبِ الوُجُوبِ؛ لأنَّه حِينَئِذٍ مَظِنَّةُ الفِرارِ، فإن فَعَل ذلك في أوَّلِ الحَوْلِ لم تَجِبِ الزكاةُ، لكَوْنِه ليس بمَظِنَّةٍ للفِرارِ. وقِيلَ: تَجِبُ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: وإذا قُلْنا: لا تَسْقُطُ الزكاةُ. وحالَ الحَوْلُ، أخْرَجَ الزكاةَ مِن جِنْسِ المالِ المَبِيعِ، دُونَ المَوْجُودِ، لأنَّه الذى وَجَبَب الزكاةُ بسَبَبِه، ولَوْلاه لم تَجِبْ في هذه زكاةٌ. فصل: وإذا باعَ النِّصابَ فانْقَطَعَ الحَوْلُ، ثم وَجَد بالثانِى عَيْبًا فرَدَّه، اسْتَأْنَفَ حَوْلًا لزَوالِ مِلْكِه بالبَيْعِ، قَلَّ الزَّمانُ أو كَثُرَ. وإن حالَ الحَوْلُ على النِّصاب المُشْتَرَى وَجَبَتْ فيه الزكاةُ، فإن وَجَد به عَيْبًا قبلَ إخْراجِ زَكاتِه فله الرَّدُّ، سَواءٌ قُلْنا: الزكاةُ تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ، أو بالذِّمَّةِ؛ لأنَّ الزكاةَ لا تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ، بمَعْنَى اسْتِحْقاقِ الفُقراءِ جُزْءًا منه، بل بمَعْنَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعَلُّقِ حَقِّهم به، كتَعَلُّقِ الأرْشِ بالجانِى، فعلى هذا يَرُدُّ النِّصابَ، وعليه إخْرَاجُ زَكَاتِه مِن مالٍ آخَرَ. فإن أخْرَجَ الزكاةَ منه، ثم أرادَ رَدَّه، انْبَنَى على المَعِيبِ إذا حَدَث به عَيْبٌ آخَرُ عندَ المُشْتَرِى، هل له رَدُّه؟ على رِوايَتَيْن، ومتى رَدَّه فعليه عِوَضُ الشّاةِ المُخْرَجَةِ، تُحْسَبُ عليه بحِصَّتِها مِن الثَّمَنْ، والقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِى في قِيمَتِها مع يَمِينِه؛ لأنَّه غارِمٌ، إذا لِم تكنْ بَيِّنَةٌ. وفيه وَجْهٌ، أنَّ القَوْلَ قَوْلُ البائِعِ؛ لأنَّه يَغْرَمُ ثَمَنَ. المَبِيعِ، فيَرُدُّه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الغارِمَ لثَمَنِ الشّاةِ المُدَّعاةِ هو المُشْتَرِى. فإن أخْرَجَ الزكاةَ مِن غيرِ النِّصابِ، فله الرَّدُّ وَجْهًا واحِدًا. فصل: وإنْ كان البَيْعُ بالخِيارِ، انْقَطَعَ الحَوْلُ في ظاهِرِ المَذْهَبِ، سَواءٌ كان الخِيارُ للبائِعِ أو للمُشْتَرِى، أو لهما؛ لأنَّ ظاهِرَ المَذْهَبِ أنَّ البَيْعَ بشَرْطِ الخِيارِ يَنْقُلُ المِلْكَ عَقِيبَ العَقْدِ، ولا يَقِفُ على انْقِضاءِ الخِيارِ. فعلى هذا إذا رُدَّ المَبِيعُ على البائِعِ اسْتَقْبَلَ به حَوْلًا. وعن أحمدَ، لا يَنْتَقِلُ المِلْكُ حتى يَنْقَضِىَ الخِيارُ. وهو قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَنتقِلُ المِلْكُ إن كان الخِيارُ للبائِعِ، وإن كان للمُشْتَرِى خَرَج عن البائِعِ، ولم يَدْخُلْ في مِلْكِ المُشْتَرِى. وعن الشافعيِّ ثَلاثَةُ أقْوالٍ؛ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن، وقَوْلٌ ثالِثٌ، أنَّه مُرَاعًى، فإن فسَخاه تَبَيَّنّا أنَّه لم يَنْتَقِلْ، وإلَّا تَبَيَّنّا أنَّه انْتَقَلَ. ولَنا، أنَّه بَيْعٌ صَحِيحٌ، فانْتَقَلَ المِلْكُ عَقِيبَه، كما لو لم يُشْتَرَطِ الخِيارُ. وهكذا الحُكْمُ لو فَسَخا البَيْعَ في المَجْلِسِ بخِيارِهما؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ نَقْلَ المِلْكِ، فهو كخِيارِ الشَّرْطِ. ولو مَضَى الحَوْلُ في مُدَّةِ الخِيارِ، ثم فَسَخا البَيْعَ، كانت زَكاتُه على المُشْتَرِى؛ لأنَّه مِلْكُه وإن قُلْتا بالرِّوايَةِ الأُخْرَى، لم يَنْقَطِعِ الحَوْلُ ببَيْعِه؛ لأنَّ مِلْك البائِعِ لم يَزُلْ عنه. ولو حال عليه الحَوْلُ في مُدَّةِ الخِيارِ، كانت زَكاتُه على البائِعِ، فإن أخْرَجَها مِن غيرِه، فالبَيْعُ بحالِه، وإن أخْرَجَها منه بَطَل البَيْعُ في المُخْرجِ، وهل يَبْطُلُ في الباقِى؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وإن لم يُخْرِجْها حتى سُلِّمَتْ إلى المُشْتَرِى، وانْقَضَتْ مُدَّةُ الخِيارِ، لَزِم البَيْعُ فيه، وكان عليه الإِخْراجُ مِن غيرِه، كما لو باع ما وَجَبَتْ فيه الزكاةُ. ولو اشْتَرَى عَبْدًا، فهَلَّ هِلالُ شَوّالٍ، ففِطْرَتُه على المُشْتَرِى، وإن كان في مُدَّةِ الخِيارِ على الصَّحِيحِ. وعلى الرِّوايَةِ الأُخْرَى، يَكُونُ في مُدَّةِ الخِيارِ على البائِعَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان البَيْعُ فاسِدًا، لم يَنْقَطِعْ به الحَوْلُ، وبَنَى على حَوْلِه الأوَّلِ؛ لأنَّه لا يَنْقُلُ المِلْكَ إلَّا أن يَقْبِضَه المُشْتَرِى ويَتَعَذَّرَ رَدُّه، فيَصيرَ كالمَغْصُوبِ، على ما مَضَى. فصل: ويَجُوزُ التَّصَرُّفُ في النِّصابِ الذى وَجَبَتْ فيه الزكاةُ بالبَيْعِ وأنْواعِ التَّصَرُّفاتِ، وليس للسّاعِى فَسْخُ البَيْعِ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ، إلَّا أنَّه إذا امْتَنعَ مِن أداءِ الزكاةِ نَقَض البَيْعَ في قَدْرِها. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَصِحُّ لأنَّنا إن قُلْنا: إنَّ الزكاةَ تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ. فقد باع ما لا يَمْلِكُه. وإن قُلْنا: تَتَعَلَّقُ بالذَّمِّةِ. فقَدْرُ الزكاةِ مُرْتَهَنٌ بها، وبَيْعُ الرَّهْنِ لا يَجُوزُ. ولَنا، - أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيْعِ الثَّمَرَةِ حتى يَبْدُوَ صَلاحُها. مُتَّفقٌ عليه (¬1). ومَفْهُومُه صِحَّةُ بَيْعِها إذا بَدَا صَلاحُها، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه. . . .، من كتاب الزكاة، وفى: باب بيع المزابنة، وباب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة، وباب بيع الثمار قبل أن ييدو صلاحها، وباب بيع النخل قبل أن ييدو صلاحها، وباب إذا باع الثمار قبل أن ييدو صلاحها، من كتاب البيوع، وفى: باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، من كتاب المساقاة. صحيح البخارى 2/ 157، 3/ 98، 99، 101، 151. ومسلم، في: باب النهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وباب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، وباب النهى عن المحاقلة والمزابنة. . . . من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1165 - 1168، 1174. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 227. والنسائى، في: باب بيع التمر قبل أن ييدو صلاحه، وباب العرايا بالرطب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 231، 235، 236. وابن ماجه، في: باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 746، 747. والدارمى، في: باب في النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 252. والإمام مالك، في: باب النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 618. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 7، 46، 56، 59، 62، 63، 75، 79، 80، 123، 363، 3/ 372، 381، 5/ 185، 190، 192، 6/ 70، 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو عامٌّ فيما تَجِبُ فيه الزكاةُ وغيرِه. ونَهَى عن بَيْعِ الحبِّ حتى يَشْتَدَّ، والعِنَبِ حتى يَسْوَدَّ (¬1). وهما ممّا تَجِبُ الزكاةُ فيه. ولأنَّ الزكاةَ إن وَجَبَتْ في الذِّمَّةِ لم تَمْنَعْ صِحَّةَ بَيْعِ النِّصابِ، كما لو باع مالَه وعليه دَيْنٌ لآدَمِىٍّ. وإن تَعَلَّقَتْ بالعَيْنِ، فهو تَعَلُّقٌ لا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ في جُزْءٍ مِن النِّصابِ، فلم يَمْنَعْ بَيْعَ جَمِيعِه، كأَرْشِ الجِنايَةِ. وقَوْلُهم: باع ما لا يَمْلِكُه. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ المِلْكَ لم يَثْبُتْ للفُقَراءِ في النِّصابِ، بدَلِيلِ أنَّ له أداءَ الزكاةِ مِن غيرِه بغيرِ رِضاهم، وليس برَهْنٍ، فإنَّ أحْكامَ الرَّهْنِ غيرُ ثابتَةٍ فيه، فعلى هذا إذا تَصَرَّفَ في النِّصابِ، ثم أخْرَجَ الزكاةَ مِن غيرِه، وإَلَّا كُلِّفَ إخْراجَها وتَحْصِيلَها إن لم تَكُنْ عندَه، فإن عَجَز بَقِيَتْ في ذِمَّتِه، كسائِرِ الدُّيُون. ويَحْتَمِلُ أن يُفْسَخَ البَيْعُ في قَدْرِ الزكاةِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الثمار قبل أن ييدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 227. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى ييدو صلاحها، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 236. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 747. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 221، 250.

840 - مسألة: (وإن أبدله بنصاب من جنسه بنى على حوله، ويتخرج أن ينقطع)

وَإنْ أَبْدَلَهُ بِنِصَابٍ مِنْ جِنْسِهِ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ، وَيَتَخَرَّجُ أن يَنْقَطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا، وتُؤْخَذَ مِن النِّصابِ، ويَرْجِعَ البائِعُ عليه بقَدْرِ ما؛ لأنَّ على الفُقَراءِ ضَرَرًا في إتْمامِ البَيْعِ، وتَفْوِيتًا لحُقُوقِهم، فوَجَبَ فَسْخُه؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» (¬1). وهذا أصَحُّ. 840 - مسألة: (وإن أبْدَلَه بنِصابٍ مِن جِنْسِه بَنَى على حَوْلِه، ويَتَخَرَّجُ أن يَنْقَطِعَ) إذا باع نِصابًا للزكاةِ ممّا يُعْتَبَرُ به الحَوْلُ بجِنْسِه، كالإِبِلِ بالإِبِلِ، والذَّهَبِ بالذَّهَبِ، لم يَنْقَطِعِ الحَوْلُ، ويَبْنِى حَوْلَ الثّانِى على حَوْلِ الأوَّلِ. وبهذا قال مالكٌ. ويَتَخرَّجُ أن يَنْقَطِعَ الحَوْلُ، ويَسْتَأْنِفَ الحَوْلَ من حينِ الشِّراءِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬2). ولأنَّه أصْلٌ بنَفْسِه، فلم يُبْنَ على حَوْلِ غيرِه، كما لو اخْتَلَفَ الجِنْسان. ووافَقَنا أبو حنيفةَ في الأثْمانِ ووافَقَ الشافعىَّ فيما سِواها؛ لأنَّ الزكاةَ إنَّما وجَبَتْ في الأثْمانِ لكَوْنِها ثَمنًا، وهذا المَعْنَى يَشْمَلُه، بخِلافِ غيرِها. ولَنا، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 784. والإمام مالك مرسلا، في: باب القضاء في المرفق، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 745. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 313، 5/ 327. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه نِصابٌ يُضَمُّ إليه نَماؤُه في الحَوْلِ فبُنِىَ حَوْلُ بَدَلِه مِن جِنْسِه على حَوْلِه، كالعُرُوضِ، والحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بالنَّماءِ والعُرُوضٍ والنِّتاجِ، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزاعِ، والجنْسان لا يُضَمُّ أحَدُهما إلى الآخرِ مع وُجُودِهما. فأوْلَى أن لا يُبْنَى حَوْلُ أَحَدِهما على الآخَرِ. فصل: قال أحمدُ بنُ سَعِيدٍ: سألتُ أحمدَ عن الرجلِ يكونُ عندَه غَنَمٌ سائِمَةٌ، فيَبِيعُها بضِعْفِها مِن الغَنَمِ، أعليه أن يُزَكِّيَها كلَّها، أم يُعْطِىَ زَكاةَ الأصْلِ؟ قال: بل يُزَكِّيها كلَّها، على حَدِيثِ عُمَرَ في السَّخْلَةِ يَرُوحُ بها الرّاعِى؛ لأنَّ نَماءَها معها. قلتُ: فإن كانت للتِّجارَةِ؟ قال: يُزَكِّيها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلَّها على حَدِيثِ حِماس (¬1). فأمّا إن باع النِّصابَ بدُونِ النِّصابِ انْقَطَعَ الحَوْلُ، وإن كان عندَه مائتان فباعَها بمائةٍ، فعليه زكاةُ مائةٍ وَحْدَها. ¬

(¬1) يأتى بتمامه والكلام عليه في المسألة 934 في الجزء السابع.

841 - مسألة: (وإذا تم الحول وجبت الزكاة فى عين المال. وعنه، تجب فى الذمة)

وَإذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ في عَيْنِ الْمَالِ. وَعَنْهُ، تَجِبُ في الذِّمَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 841 - مسألة: (وإذا تَمَّ الحَوْلُ وَجَبَتِ الزَّكاةُ في عَيْنِ المالِ. وعنه، تَجبُ في الذِّمَّةِ) الزكاةُ تَجِبُ في عَيْنِ المالِ إذا تَمَّ الحَوْلُ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن- عن أحمدَ، وأحَدِ قَوْلَىِ الشافعيِّ. وهذه الرِّوايَةُ هى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظّاهِرَةُ عندَ أكثَرِ الأصحابِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فِي أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬1). وقَوْلِه: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ» (¬2). وغيرِ ذلك مِن الألفاظِ الوارِدَةِ بحَرْفِ «في» وهى للظَّرْفِيَّةِ (¬3) وإنَّما جاز الإِخْراجُ مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 316. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 155. ومسلم، في: باب ما فيه العشر أو نصف العشر، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 675. وأبو داود، في: باب في زكاة السائمة، وباب صدقة الزرع، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 362، 370. والترمذى، في: باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيره، من أبواب الزكاة. 3/ 134، 135. والنسائى، في: باب ما ووجب العشر وما يوجب نصف العشر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 31. وابن ماجه، في: باب صدقة الزروع والثمار، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 580. والدارمى، في: باب العشر فيما سقت السماء وفيما تسقى بالنضح، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 393. والإمام مالك مرسلا، في: باب زكاة ما يخرص من ثمار النخيل والأعناب، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 2770. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 145، 3/ 341، 353، 5/ 233. (¬3) في م: «للنظر فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ النِّصابِ رُخْصَةً. والرِّوايَةُ الثانِيَةُ، أنَّها تَجِبُ في الذِّمَّةِ. وهو القَوْلُ الثانِى للشافعيِّ، واخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ إخْراجَها مِن غيرِ النِّصابِ جائِزٌ، فلم تكنْ واجِبَةً فيه، كزَكاةِ الفِطْرِ، ولأنَّها لو وَجَبَتْ فيه لامْتَنَعَ المالِكُ مِن التَّصَرُّفِ فيه، ولتَمَكَّنَ المُسْتَحِقُّون مِن إلزامِه أداءَ الزكاةِ مِن عَيْنِه، أو ظَهَر شئٌ مِن أحْكام ثُبُوتِه فيه، ولسَقَطَتِ الزكاةُ بتَلَفِ النِّصابِ مِن غيرِ تَفْرِيطٍ، كسُقُوطِ أرشِ الجِنايَةِ بتَلَفِ الجانِى. وفائِدَةُ الخِلافِ فيما إذا كان له نِصابٌ، فحالَ عليه حَوْلان، لم يُؤَدِّ زَكاتَهما، وسنذْكُرُه، إن شاء اللهُ تعالى.

842 - مسألة: (ولا يعتبر فى وجوبها إمكان

وَلَا يُعْتَبَرُ في وُجُوبِهَا إِمْكَانُ الأدَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 842 - مسألة: (ولا يُعْتَبَرُ في وُجُوبها إمْكانُ (¬1) الأداءِ) الزاكاةُ تَجِبُ بحَوَلانِ الحَوْلِ، وإن لم يَتَمَكَّنْ مِن الأَداءِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وهو أحَدُ قَوْلَىِ الشافعيِّ، وقال في الآخرِ: هو شَرْطٌ. وهو قَوْلُ مالكٍ. حتى لو أتْلَفَ الماشِيَةَ بعدَ الحَوْلِ قبلَ إمْكانِ الأداءِ فلا زَكاةَ عليه، إذا لم يَقْصِدِ الفِرارَ مِن الزكاةِ، لأنَّها عِبادَةٌ، فاشتُرِطَ لوُجُوبِها إمْكانُ (1) الأداءِ كسائِرِ العِباداتِ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا زَكَاةَ فِي ¬

(¬1) في م: «مكان».

843 - مسألة: (ولا تسقط بتلف المال. وعنه، أنها تسقط إذا لم يفرط)

وَلَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا تَسْقُطُ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬1). فمَفْهُومُه وُجُوبُها عليه إذا حالَ الحَوْلُ، ولأنَّه لو لم يَتَمَكَّنْ مِن الأداءِ حتى حال عليه حَوْلان، وَجَبَتْ زَكاةُ الحَوْلَيْن، ولا يَجُوزُ وُجُوبُ فَرْضَيْن في نِصابٍ واحِدٍ في حالٍ واحِدَةٍ، وقِياسُهم يَنْقَلِبُ عليهم، فيُقالُ: عِبادَةٌ، فلا يُشْتَرَطُ لوُجُوبِها إمْكانُ الأداءِ، كسائِرِ العِباداتِ، فإنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ على الحائِض والمَرِيضِ والعاجِزِ عن أدائِه، والصلاةُ تَجِبُ على المُغْمَى عليه والنّائِمِ، ومَن أدْرَكَ مِن أوَّلِ الوَقْتِ جُزْءًا ثم جُنَّ أو حاضَتِ المَرأَةُ. ثم الفَرْقُ بينَهما أنَّ تلك العِباداتِ بَدَنِيَّةٌ، يُكَلَّفُ فِعْلَها ببَدَنِه، فأسْقَطَها تَعَذُّر فِعْلِها، وهذه عِبادَةٌ مالِيَّةٌ، يُمْكِنُ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ للمَساكِينِ في مالِه والوُجُوب في ذِمَّتِه مع عَجْزِه عن الأداءِ، كثُبُوتِ الدُّيُونِ في ذِمَّةِ المُفْلِسِ وتَعَلُّقِها بمالِه بجنَايَتِه. 843 - مسألة: (ولا تَسقُطُ بتَلَفِ المالِ. وعنه، أنَّها تَسْقُطُ إذا لم يُفَرِّطْ) المَشْهُورُ عن أحمدَ، أنَّ الزكاةَ لا تَسْقُطُ بتَلَفِ المالِ، سَواءٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرَّطَ أو لم يُفَرِّطْ. وحَكَى عنه المَيْمُونِيُّ أنَّه إن تَلِفَ (¬1) النِّصابُ قبلَ التَّمَكنِ مِن الأداء سَقَطَتِ الزكاةُ، وإن تَلِفَ بعدَه لم تَسْقُطْ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ مَذْهَبًا لأحمدَ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ، والحسنِ بنِ صالِحٍ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وبه قال مالكٌ، إلَّا في الماشِيَةِ، فإنَّه قال: لاشئَ فيها حتى يَجِئَ المُصَدِّقُ، فإن هَلَكَتْ قبلَ مَجِيئِه فلا شئَ عليه. وقال أبو حنيفةَ: تَسْقُطُ الزكاةُ بتَلَفِ النِّصاب على كلِّ حالٍ، إلَّا أن يكونَ الإمامُ قد طالَبَه بها فمَنَعَه؛ لأنَّه تَلَفٌ قبلَ مَحَلِّ الاسْتِحْقاقِ، ¬

(¬1) في م: «أتلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فسَقَطَتِ الزكاةُ، كما لو تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ قبلَ الجَذاذِ، ولأنَّه تَعَلَّقَ بالعَيْن، فسَقَطَ بتَلَفِها، كأرْشِ الجِنايَةِ في العَبْدِ الجانِى. ومَنْ اشْتَرَطَ التَّمَكُّنَ قال: هذه عِبادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُها بالمالِ، فيسْقُطُ فَرْضُها بتَلَفِه قبلَ إمْكانِ أدائِهَا، كالحَجِّ. ومَن نَصَر الأوَّلَ، قال: مالٌ وَجَب في الذِّمَّةِ، فلم يسْقُطْ بتَلَفِ النِّصابِ، كالدَّيْنِ أو: فلم يُشْتَرَطْ في ضَمَانِه إمْكانُ الأداءِ، كثَمَنِ المَبِيعِ. فأمّا الثَّمَرَةُ، فلا تَجبُ زَكاتُها في الذِّمَّةِ حتى تُحْرَزَ؛ لأنَّها في حُكْمِ غيرِ المَقْبُوضِ، ولهذا لو تَلِفَتْ كانت مِن ضَمانِ البائِعِ، على ما دَلَّ عليه الخَبَرُ. وإذا قُلْنا بوُجُوبِ الزكاةِ في العَيْنِ، فليس هو بمَعْنَى اسْتِحقاقِ جُزْءٍ منه، ولهذا لا يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فيه، والحَجُّ لا يَجِبُ حتى يَتَمَكَّنَ مِن الأداءِ، فإذا وَجَبَ لم يَسْقُطْ بتَلَفِ المالِ، بخِلافِ الزكاةِ، فإنَّ التَّمَكُّنَ ليس بِشَرْطٍ لوُجُوبِها، على ما قَدَّمْنا. قال شيخُنا (¬1): ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، أنَّ الزكاةَ تَسْقُطُ بتَلَفِ المالِ، إذا لم يُفَرِّطْ في الأداءِ؛ لأنَّها تَجِبُ على سَبِيلِ المُواساةِ، فلا تَجِبُ على وَجْهٍ يَجِبُ أداؤُّها مع عَدَمِ المالِ وفَقْرِ مَن تَجِبُ عليه، ولأنَّه حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ، فيَسْقُطُ بِتَلَفِها مِن غيرِ تَفْرِيطٍ، كالوَدِيعَةِ. والتَّفْرِيطُ، أن يُمْكِنَه إخْراجُها فلا يُخْرِجُها، فإن لم يَتَمَكَّنْ مِن إخْراجِها فليس بمُفَرِّطٍ، سَواءٌ كان لعَدَمِ المُسْتَحِقِّ، أو لبُعْدِ المالِ، أو لكَوْنِ الفَرضِ لا يُوجَدُ في المالِ، ولا يَجِدُ ما يَشْتَرِى، أو كان في طَلَبِ الشِّراءِ، ونحْوِ ذلك. وإن قُلْنا بوُجُوبِها بعدَ التَّلَفِ، فأمْكَنَه أداؤُّها، أدّاها، وإلَّا اُّمْهِلَ إلى مَيْشرَتِه وتَمكُّنِه مِن أدَائِها مِن غيرِ مَضَرَّةٍ عليه، لأنَّه إذا لَزِم إنْظارُه بدَيْنِ الآدَمِيِّ المُعَيَّنِ، فهذا أوْلَى. فإن تَلِف الزّائِدُ عن النِّصابِ في السّائِمَةِ، لم يَسْقُطْ شئٌ مِن الزكاةِ؛ لأنَّها تَتَعَلَّقُ بالنِّصابِ دُونَ العَفْوِ.

844 - مسألة: (وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما، فعليه زكاة واحدة، إن قلنا: تجب في العين. وزكاتان، إن قلنا: تجب فى الذمة. إلا ما كان زكاته الغنم من الإبل، فإن فيه لكل حول زكاة)

وَإذَا مَصى حَوْلَانِ عَلَى نِصَابٍ لَمْ يُؤَدِّ زكَاتَهُمَا، فَعَلَيْهِ ركَاةٌ وَاحِدَةٌ، إِنْ قُلْنَا: تَجِبُ في الْعَيْنِ. وَزَكَاتَانِ، إِنْ قُلْنَا: تَجِبُ في الذِّمَّةِ. إِلَّا مَا كَانَ زَكَاتُهُ الْغَنَمَ مِنَ الإبِلِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ حَولٍ زَكَاةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 844 - مسألة: (وإذا مَضَى حَوْلانِ على نِصابٍ لم يُؤَدِّ زَكاتَهما، فعليه زَكاةٌ واحِدَةٌ، إن قُلْنا: تَجِبُ في العَيْن. وزَكاتانِ، إن قُلْنا: تَجِبُ في الذِّمَّةِ. إلَّا ما كان زَكاتُه الغَنَمَ مِنَ الإِبِلِ، فإنَّ فِيه لكُلِّ حَوْلٍ زَكاةً) إذا كان عندَه أرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عليها ثَلاَثَةُ أحْوالٍ لم يُؤَدِّ زَكاتَها، فعليه شاةٌ واحِدَةٌ، إن قُلْنا: تَجِبُ في العَيْنِ؛ لأنَّ الزكاةَ تَعَلَّقَتْ في الحَوْلِ الأوَّلِ مِن النِّصابِ بقَدْرِها، فلم تَجِبْ فيه فيما بعدَه زكاةٌ؛ لِنَقْصِه عن النِّصابِ. وهذا هو المَنْصُوصُ عن أحمدَ في رِوايَةِ جَماعَةٍ، فإنَّه قال، في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ: إذا كانتِ الغَنَمُ أرْبَعِين، فلم يَأْتِه المُصَدِّقُ عامَيْن، فإذا أخَذ المُصَدِّقُ شاةً، فليس عليه شئٌ في الباقِى، وفيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافٌ. وقال، في رِوايَةِ صالِحٍ: إذا كان عندَ الرجلِ مائتا درْهَمٍ، فلم يُزَكِّهَا حتى حال عليها حَوْلٌ آخَرُ، يُزَكِّيها للعامِ الأوَّلِ؛ لَأنَّ هذه تَصِيرُ مائتَيْن غيرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وقال في رَجُلٍ له ألفُ دِرْهَمٍ، فلم يُزَكِّها سِنِين: زكَّى في أوَّلِ سَنَةٍ خَمْسَةً وعِشْرِين، ثم في كُلِّ سَنَةٍ بحِسابِ ما بَقِىَ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبى عُبَيْدٍ. فإن كان عندَه أرْبَعُونَ مِن الغَنَمِ نُتِجَتْ سَخْلَةً في كُلِّ حَوْلٍ، وَجَب عليه في كُلِّ سَنَةٍ شاةٌ؛ لأنَّ النِّصابَ كَمَل بالسَّخْلَةِ الحادِثَةِ، فإن كان نِتاجُ السَّخْلَةِ بعدَ وُجُوبِ الزكاةِ عليه، اسْتُؤْنِفَ الحَوْلُ الثانِى مِن حينَ نُتِجَتْ؛ لأنَّه حِينَئِذٍ كَمَل. وإن قُلْنا: إنَّ الزكاةَ تَجِبُ في الذِّمَّةِ. وَجَب عليه لكُلِّ حَوْلٍ زكاةٌ، مثلَ مَن له أرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عليها ثَلاَثَةُ أحْوالٍ لم يُؤَدِّ زَكاتَها، فعليه ثلاثُ شِياهٍ، وكذلك مَن له مائةُ دِينارٍ مَضَى عليها ثَلاَثَةُ أحْوالٍ لم يُؤَدِّ زَكاتَها، فعليه فيها سَبْعَةُ دَنانِيرَ ونِصْفٌ؛ لأنَّ الزكاةَ وَجَبَتْ في ذِمَّتِه، فلم تُؤَثِّرْ في تَنْقِيصِ النِّصابِ. لكنْ إن لم يكنْ له مالٌ آخَرُ يُؤَدِّي الزكاةَ منه، احْتَمَلَ أن تَسْقُطَ الزكاةُ في قَدْرِها؛ لأنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا تَسْقُطُ الزكاةُ بهذا الحالِ؛ لأنَّ الشئَ لا يُسْقِطُ نَفْسَه، وقد يُسْقِطُ غيرَه، بدَلِيلِ أنَّ تَغيُّرَ الماءِ بالنَّجاسَةِ في مَحَلِّها لا يَمْنَعُ صِحَّةَ طهارَتها وإزالَتِها به، ويَمْنَعُ إزالَةَ نَجاسةِ غيرِها. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الزكاةَ الثّانِيَةَ غيرُ الأُولَى. فصل: فأمّا ما كانت زكاتُه الغنَمَ مِن الإبِلِ، كما دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِين، فإنَّ عليه لكُلِّ حَوْلٍ زكاةً. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال في رِوايَةِ

845 - مسألة: (وإن كان أكثر من نصاب، فعليه زكاة جميعه لكل حول، إن قلنا: تجب فى الذمة. وإن قلنا: تجب فى العين. نقص ص من زكاته لكل حول بقدر نقصه بها

وَإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ جَمِيعِهِ لِكُلِّ حَوْلٍ، إِنْ قُلْنَا: تَجِبُ في الذِّمَّةِ. وَإنْ قُلْنَا: تَجِبُ في الْعَيْنِ. نَقَصَ مِنْ زَكَاتِهِ كُلَّ حَولٍ بِقَدْرِ نَقصِهِ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأثْرَم: المالُ غيرُ الإِبِل إذا أُدِّىَ عن الإِبِلِ، لم يَنْقُصْ ذلك؛ لأنَّ الفَرْضَ يَجبُ مِن غيرِها، فلا يُمْكِنُ تَعَلُّقُه بالعَيْنِ. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: إنًّ الزكاةَ تَنْقُصُه، كسائِرِ الأمْوالِ. فإذا كان عندَه خَمْسٌ مِن الإِبِلِ، فمَضَى عليها أحْوالٌ، فعلى قَوْلِنا يَجِبُ فيها. لكلِّ حَوْلٍ شاةٌ، وعلى قَوْلِه لا يَجِبُ فيها إلَّا شاةٌ واحِدَةٌ؛ لأنَّها نَقَصَتْ بوُجُوبِ الزكاةِ فيها في الحَوْلِ الأوَّلِ عن خَمْسةٍ كَامِلَةٍ، فلم يَجِبْ فيها شئٌ، كما لو مَلَك أرْبَعًا وجُزْءًا مِن بَعيرٍ. ولَنا، أنَّ الواجِبَ مِن غيرِ جِنْسِ النِّصابِ، فلم يَنْقُصْ به النِّصابُ، كما لو أدّاه، وفارَقَ غيرَه مِن المالِ. فإنَّ الزكاةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُها بعَيْيه، فتَنْقُصُه، كما لو أدّاه مِن النِّصابِ. فعلى هذا لو مَلَكَ خَمْسًا وعِشْرِين، فحَالَتْ عليها أحْوالٌ، فعَلَيْه للحَوْلِ الأوَّلِ- بِنْتُ مَخاضٍ، وِعليه لكُلِّ حَوْلٍ بعدَه أرْبَعُ شِياهٍ. وإن بَلَغَتْ قِيمُ الشِّياهِ الواجِبَةِ أكْثَرَ مِن خمْسٍ مِن الإِبِلَ. 845 - مسألة: (وإن كان أكْثَرَ مِن نِصابٍ، فعليه زَكاةُ جَمِيعِه لكُلِّ حَوْلٍ، إن قُلْنا: تَجِبُ في الذِّمَّةِ. وإن قُلْنا: تَجِبُ في العَيْنِ. نَقَص ص مِن زَكاتِه لكلِّ حَوْلٍ بقَدْرِ نَقْصِه بها) (¬1) وقد ذَكَرْنا شَرْحَ ذلك في ¬

(¬1) في م: «لها».

846 - مسألة: (وإذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته، فإن كان عليه دين اقتسموا بالحصص)

وَإذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ اقْتَسَمُوا بِالْحِصَصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسألةِ قبلَها. 846 - مسألة: (وإذا مات مَن عليه الزكاةُ أُخِذَتْ مِن تَرِكَتِه، فإن كان عليه دَيْنٌ اقْتَسَمُوا بالحِصَصِ) إذا مات مَن عليه الزكاةُ أُخِذَتْ مِن تَرِكَتِه، ولم تَسْقُطْ بمَوْتِه، هذا قولُ عَطاءٍ، والحسنِ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ: تُؤْخَذُ مِن الثُّلُثِ، مُقَدَّمًا على الوَصايا، ولا يُجاوِزُ الثُّلُثَ. وقال ابنُ سِيرِينَ والشَّعْبِى، والنَّخَعِيُّ، وحمادُ بنُ أبى سُليمانَ، والبَتِّيُّ (¬1)، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ: لا يُخْرَجُ إلَّا أن يُوصِىَ بها، فتَكونَ كسائِرِ الوَصايا، تُعْتَبَرُ مِن الثُّلثِ، ويُزاحَمُ بها أصحابُ الوَصايا؛ لأنَّها عِبادَة مِن شَرْطِها النِّيَّةُ، فسَقَطَتْ بمَوْتِ مَن هى عليه، ¬

(¬1) أبو عمرو عمان بن سليمان البتى، من فقهاء البصرة، وهو من أهل الكوفة، وانتقل إلى البصرة، ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازى 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالصومِ والصلاةِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ واجِبٌ تَصِحُّ الوَصِيَّةُ به، فلم تَسْقُطْ بالمَوْتِ، كدَيْنِ الآدَمِيِّ. ويُفارِقُ الصومَ والصلاةَ، فإنَّهما عِبادَتان بَدَنِيَّتان لا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ بهما. فعلى هذا، إذا كان عليه دَيْنٌ وضاق مالُه عن الدَّيْن والزكاةِ، اقْتَسَمُوا مالَه بالحِصَصِ، كدُيُونِ الآدَمِيّينَ إذا ضاق عنها المالُ. ويَحْتَمِلُ أن تُقَدَّمَ الزكاةُ إذا قُلْنا: إنَّها تَتَعَلّقُ بالعَيْنِ. كما تَقَدَّمَ حَقُّ المُرْتَهِنِ على سائِرِ الغُرَماءِ بثَمَنِ الرَّهْنِ، لتَعَلُّقهِ به.

باب زكاة بهيمة الأنعام

بَابُ زَكَاةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَلَا تَجِبُ إِلَّا في السَّائِمَةِ مِنْهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ زكاةِ بهيمةَ الأنعامِ 847 - مسألة: (ولا تَجِبُ إلَّا في السّائِمَةِ منها) والسّائِمَةُ؛ الرّاعِيَةُ، وقد سامَتْ تَسُومُ سَوْمًا: إذا رَعَتْ، وأسَمْتُها إذا رَعَيْتُها، ومنه قَوْلُه تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} (¬1). وذَكَر السّائِمَةَ ههُنا احْتِرازًا مِن المَعْلُوفَةِ والعَوامِلِ، فإنَّه لا زَكاة فيها عندَ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّ فيها الزكاةَ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «في كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ». قال أحمدُ: ليس في العوامِلِ زكاةٌ. وأهلُ المَدِينَةِ يَرَوْنَ فها الصَّدَقَةَ، وليس عندَهم في هذا أصْلٌ. ولَنا؛ قولُ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ بَهْزِ ابنِ حَكِيمٍ: «في كُلِّ سَائِمَةٍ في أرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» (¬2). قَيَّدَه ¬

(¬1) سورة النحل 10. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 363. والنسائى، في: باب عقوبة مانع الزكاة، وباب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلًا لأهلها ولحمولتهم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 11، 17. والدارمى، في: باب ليس في عوامل الإبل صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 396. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 2، 4.

848 - مسألة: (وهى التى ترعى فى أكثر الحول)

وَهِىَ الَّتِى تَرْعَى في أَكْثَرِ الْحَوْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسّائِمَةِ، فدَلَّ على أنَّه لا زكاةَ في غيرِها، وحَدِيثُهم مُطْلَقٌ، فيُحْمَلُ على المُقَيَّدِ. وعن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ في العَوَامِلِ صَدَقَةٌ». رَواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬1). ولأنَّ وَصْفَ النّماءِ مُعْتَبَرٌ في الزكاةِ، والمَعْلُوفَةُ يَسْتَغْرِقُ عَلَفُها نَماءَها، ولأنَّها تُعَدُّ للانْتِفاعِ دُونَ النَّماءِ، أشْبَهَتْ ثِيابَ البِذْلَةِ، إلَّا أن تَكُونَ للتِّجارَةِ، فيَجبُ فيها زكاةُ التِّجارَةِ، على ما يَأْتِى إن شاء الله. 848 - مسألة: (وهى التى تَرْعَى في أكْثَرِ الحَوْلِ) متى كانت سائِمَةً في أكْثَرِ الحَوْلِ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يُعْتَبَرُ السَّوْمُ في. جَمِيعِ الحَوْلِ؛ لأنَّه شَرْطٌ في الزكاةِ، أشْبَهَ ¬

(¬1) في: باب ليس في العوامل صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 103 كما أخرجه البيهقى، في: باب ما يسقط الصدقة عن الماشية، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 116.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِلْكَ وكَمالَ النِّصابِ، ولأنَّ العَلَفَ مُسْقِطٌ، والسَّوْمُ مُوجِبٌ، فإذا اجْتَمَعا غَلَب الإسْقاطُ، كما لو كان فيها سائِمَةٌ ومَعْلُوفَهٌّ. ولَنا، عُمُومُ النُّصُوصِ الدّالًّةِ على وُجُوبِ الزكاةِ في الماشِيَةِ، واسْمُ السَّوْمِ لا يَزُولُ بالعَلَفِ اليَسِيرِ، قلم يَمْنَعْ دُخُولَها في الأخْبارِ، ولأنَّهُ لا يَمْنَعُ خِفَّةَ المَؤُونَةِ، أشْبَهَ السّائِمَةَ في جَميعِ الحَوْلِ، ولأنَّ العَلَفَ اليَسِيرَ لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه، فاعْتِبارُه في جَمِيعِ الحَوْلِ يُفْضِى إلى إسْقاطِ الزكاةِ بالكُلِّيَّةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا سِيَّما عندَ مَن يَسُوغُ له الفِرارُ مِن الزكاةِ، فإنَّه متى أرادَ إسْقاطَ الزكاةِ عَلَفَها يَوْمًا فَأسْقَطَها، ولأنَّ هذا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ في رَفْعِ الكُلْفَةِ، فاعْتُبِرَ فيه الأكْثَرُ، كالسَّقْىِ بغيرِ كُلْفَةٍ في الزُّرُوعِ والثِّمارِ. قولُهم: السَّوْمُ شَرْطٌ. مَمْنُوعٌ، بل العَلَفُ في نِصْفِ الحَوْلِ فما زاد مانِعٌ، كما أنَّ السَّقْىَ بكُلْفَةٍ كذلك مانِعٌ مِن وُجُوب العُشْرِ، ولَئِن سَلَّمْنا أنَّه شَرْطٌ، فيَجُوزُ أن يَكُونَ الشَّرْطُ وُجُودُه في أكْثَرِ الحَوْلِ، كالسَّقْىِ بغيرِ كُلْفَةٍ، شَرْطٌ في وُجُوبِ العُشْرِ، ويُكْتَفَى فيه بالوُجُودِ في الأكْثَرِ، ويُفارِقُ ما إذا كان بعضُ النِّصابِ مَعْلُوفًا؛ لأنَّ النِّصابَ سَبَبُ الوُجُوبِ، فلا بُدَّ مِن وُجُودِ الشَّرْطِ في جَمِيعِه، والحَوْلُ والسَّوْمُ (¬1) شَرْطُ الوُجُوب، فجاز أن يُعْتَبَرَ الشَّرْطُ في أكْثَرِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

849 - مسألة: (وهى ثلاثة أنواع؛ أحدها، الإبل، فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا فتجب فيها شاة)

وَهِىَ عَلَى ثَلَاثَةِ أنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، الإبِلُ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَتَجِبَ فِيهَا شَاةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 849 - مسألة: (وهى ثَلاَثةُ أنْواعٍ؛ أحَدُها، الإِبِلُ، فلا زَكاةَ فيها حتى تَبْلُغَ خَمْسًا فتَجِبَ فيها شاةٌ) بَدَأ بذِكْرِ الإِبِلِ؛ لأنَّها أهَمُّ، لكَوْنِها أعْظَمَ النَّعَمِ قِيمَةً وأجْسامًا، وأكْثَرَ أمْوالِ العَرَبِ، ووُجُوبُ الزكاةِ فيها ممّا أجْمَعَ عليه عُلَماءُ الإِسْلامِ، وصَحَّتْ فيه السُّنَّةُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِن أحْسَنِ ما رُوِىَ فيها، ما روَى البخاريُّ (¬1) بإسْنادِه، عن أنَسِ بنِ مالكٍ، أنَّ أبا بكر الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللهُ عنه، كَتَبَ له كِتابًا لمّا وَجَّهَه إلى البَحْرَيْن: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ التى فَرَض رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والتى أمَر الله بها رَسُولَه - صلى الله عليه وسلم -، فمَن سُئِلَها مِن المسلمين على وَجْهِها فَلْيُعْطِها، ومَن سُئِل فَوْقَها فلا يُعْطِ: «في أرْبَعٍ وَعِشْرِين فَما دُونَها مِن الإِبِلِ في كُلِّ خَمْسٍ شاةٌ، فإذا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِين إلىِ خَمْسٍ وثَلاثِين، ففيها بنْتُ مَخاضٍ أُنْثَى، فإذا بَلَغَتْ سِتًّا وثَلاثِين إلى خمْسٍ وأرْبَعِين، ففيها بِنْتَ لَبُونٍ أُنْثَى، فإذا بَلَغَتْ سِتًّا وِأرْبَعِين إلى سِتِّين، ففيها حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ، فإذا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وسِتِّين إلَى خمْسٍ وسَبْعِين، ففيها جَذَعَةٌ، فإذا بَلَغَتْ سِتًّا وسَبْعِين إلى تِسْعِين، ففيها بِنْتَا لَبُونٍ، فإذا بَلَغَتْ إحْدَى وتِسْعِين إلى عِشْرِين ومائَةٍ، ففيها حِقَّتانِ طَرُوقَتا ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، وباب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وباب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، وباب زكاة الغنم، وباب لا تؤخذ في الصدقة هرمة. . . .، من كتاب الزكاة، وفى: باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع. . . .، من كتاب الحيل. صحيح البخارى 2/ 144، 145، 146، 147، 9/ 29. كما أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 358 - 360. والنسائى، في: باب زكاة الإبل، باب زكاة الغنم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 13؛ 14، 19، 20. وابن ماجه، في: باب إذا أخَذَ المصدق سنّا دون سن أو فوق سن، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 575. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 11، 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمَلِ، فإذا زادَتْ علي عِشْرِين ومائَةٍ، ففِى كلِّ أرْبَعِين بِنْتُ لَبُونٍ، وفى كلِّ خَمْسِين حِقَّةٌ، ومَن لم يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أرْبَعٌ مِن الإِبِلِ، فليس عليه فيها صَدَقَةٌ إلَّا أنْ [يَشاءَ رَبُّها] (¬1)، فإذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِن الإِبِلِ، ففيها شاةٌ». وتَمامُ الحَدِيثِ نَذْكُرُه إن شاء اللهُ في أبْواِبِه. وقولُ الصِّدِّيقِ: التى فَرَض رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَعْنِى: قَدَّرَ. ومنه فرَض الحاكِمُ للمرأةِ: بمَعْنَى قَدَّرَ (¬2) التَّقْدِيرَ. وقولُ المُصَنِّفِ: ولا شئَ فيها حتى تَبْلُغَ خَمْسًا. مُجْمَعٌ عليه، وقد دَلَّ عليه قَوْلُه في هذا الحَدِيثِ: «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَ». وقَوْلُه عليه السلامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمْسِ ذَوْدٍ (¬3) صَدَقَةٌ، فَإذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ» (¬4). وهذا مُجْمَعٌ عليه أيضًا، وقد دَلَّ عليه الحَدِيثُ المَذْكُورُ أيضًا، وإنَّما أوْجَبَ الشّارِعُ فيما دُونَ خَمْس وعِشْرِين مِن الإبِلِ الشّاةَ؛ لأنَّها لا تَحْتَمِلُ المُواساةَ مِن جِنْسِها، لأنَّ واحِدَةً منها كَثِيرٌ، وإيجابُ شِقْصٍ منها يَضُرُّ بالمالكِ والفَقِيرِ، والإِسْقاطُ غيرُ مُمْكِنٍ، فعَدَلَ إلى إيجابِ الشّاةِ جَمْعًا بينَ الحُقُوقِ، فصارَتْ أصْلًا في الوُجُوبِ لا يَجُوزُ إخْراجُ الإِبِلَ مَكانَها. ¬

(¬1) في م: «يشارى بها». (¬2) سقط من: م. (¬3) الذود: بفتح الذال وسكون الواو الجمع من الإبل. (¬4) هذا بعض الحديث المتقدم تخريجه في صفحة 310 بلفظ: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُجْزِئُ في الغَنَمِ المُخْرَجَةِ في الزكاةِ إلَّا الجَذَعُ مِن الضّأْنِ، وهو ما لَه سِتَّةُ أشْهُرٍ فما زاد، والثَّنِيُّ مِن المَعْزِ، وهو ما لَه سَنَةٌ، وكذلك شاةُ الجُبْرانِ، وأيُّهما أخْرَجَ أجْزأه، ولا يُعْتَبَرُ كَوْنُها مِن جِنْسِ غَنَمِه، ولا جِنْسِ غَنَمِ البَلَدِ؛ لأنَّ الشّاةَ مُطْلَقَةٌ في الخَبَرِ الذى ثَبَت به وُجُوبُها، وليس غَنَمُه ولا غَنَمُ البَلَدِ سَبَبًا لوُجُوبِها، فلم يَتَقَيَّدْ بذلك، كالشّاةِ الواجِبَةِ في الفِدْيَةِ، وتَكُونُ أُنْثَى، ولا يُجْزِئُ الذَّكَرُ، كالشّاةِ الواجِبَةِ في نِصابِ الغَنَمِ. ويَحْتَمِلُ أن تُجْزِئَه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أطْلَقَ الشّاةَ، ومُطْلَقُ الشّاةِ يَتَناوَلُ الذَّكَرَ والأُنْثَى، وقِياسًا على الأُضْحِيَةِ، فإن لم يَكُنْ له غَنَمٌ، لَزِمَه شِراءُ شاةٍ. وقال أبو بكرٍ: يُخْرِجُ عَشَرَةَ دَراهِمَ، قِياسًا على شاةِ الجُبْرانِ. ولنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -: نَصَّ على الشّاةِ، فيَجِبُ العَمَلُ بنَصِّه، ولأنَّ هذا إخْراجُ قِيمَةٍ فلم يَجُزْ، كالشّاةِ الوَاجِبَةِ في نِصابِها، وشاةُ الجُبْرانِ مُخْتَصَّةٌ بالبَدَلِ بالدّراهِم، بدَلِيلِ أنَّها لا تَجُوزُ بَدَلًا عن الشّاةِ الواجِبَةِ في سائِمَةِ الغَنَمِ، ولأنَّ شاةَ الجُبْرانِ يَجُوزُ إبْدالُها بالدَّراهِمِ مع وُجُودِها، بخِلافِ هذه. فصل: وتَكُونُ الشّاةُ المُخْرَجَةُ كحال الإِبِلِ في الجَوْدَةِ والرَّداءَةِ والتَّوَسُّطِ، فيُخْرِجُ عن السِّمانِ سَمِينَةً، وعن الهُزالِ هَزِيلَةً، وعن الكِرامِ كَرِيمَةً، وعن اللِّئامِ لَئِيمَةً، فإن كانتْ مِراضًا أخْرَجَ شاةً صَحِيحَةً على

850 - مسألة: (فإن أخرج بعيرا لم يجزئه)

فَإِنْ أَخْرَجَ بَعِيرًا لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدْرِ قِيمَةِ المالِ. فيُقالُ: لو كانَتِ الإِبِلُ صِحاحًا كانتْ قِيمَتُها مائةً، وقِيمَةُ الشّاةِ خَمْسَةً، فيَنْقُصُ مِن قِيمَتِها قَدْرُ ما نَقَصَتِ الإِبِلُ، فإن نَقَصَتِ الإِبِلُ خُمْسَ قِيمَتِها وَجَب شاةٌ قِيمَتُها أرْبَعَةٌ، وقِيلَ: تُجْزِئُه شاةٌ تُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ، مِن غيرِ نَظَرٍ إلى القِيمَةِ، وعلى القَوْلَيْن لا يُجْزِئُه مَرِيضَةٌ؛ لأنَّ المُخْرَجَ مِن غيرِ جِنْسِها، وليس كلُّه مِراضًا، فتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الصِّحاحِ؛ والمِراضُ لا يُجْزِئُ فيها إلَّا صَحِيحَةٌ. 850 - مسألة: (فإن أخْرَجَ بَعِيرًا لم يُجْزِئْه) يَعْنِى إذا أخْرَجَ بَعِيرًا عن الشّاةِ الواجبَةِ في الإِبِلِ لم يُجْزِئْه، سواء كانت قِيمتُه أكْثَرَ مِن قِيمَةِ الشّاةِ أو لم يَكُنْ، حُكِىَ ذلك عن مالكٍ، ودَاودَ. وقال الشافعىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْىِ: يُجْزِئُ البَعِيرُ عن العِشْرِين فما دُونَها. ويَتَخَرَّجُ لنا مِثْلُ ذلك إذا كان المُخْرَجُ ممّا يُجْزِئُ عن خَمْسٍ وعِشْرِين؛ لأنَّه يُجْزِئُ عن خَمْسٍ وعِشْرِين، والعِشْرُون داخِلَةٌ فيها، ولأنَّ ما أجْزَأَ عن الكَثِيرِ أجْزَأَ عمّا دُونَه، كابْنَتَىْ لَبُونٍ عمّا دُونَ سِتٍّ وسَبْعِين. ولَنا، أنَّه أخْرَجَ غيرَ المَنْصُوصِ عليه مِن غيرِ جِنْسِه، فلم يُجْزِئْه، كما لو أخْرَجَ البَعِيرَ عن أرْبَعِين شَاةً، ولأنَّها فَرِيضَةٌ وجَبَتْ فيها شاةٌ فلم يُجْزِئُ عنها البَعِيرُ، كنِصابِ الغَنَمِ، ويُفارِقُ ابْنَتىْ لَبُونٍ عن الجَذَعَةِ؛ لأنَّهُما مِن الجِنْسِ.

851 - مسألة: (وفى العشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شياه، وفى العشرين أربع شياه)

وَفِى الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِى خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِى الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَهِىَ الَّتِى لَهَا سَنَةٌ، فَإِنْ عَدِمَهَا أَجْزأَهُ ابْنُ لَبُونٍ، وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 851 - مسألة: (وفِى العَشْرِ شاتان، وفى خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاثُ شِياهٍ، وفِى العِشْرِين أرْبَعُ شِياهٍ) وهذا كلُّه مُجْمَعٌ عليه، وثابِتٌ بسُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التى رَوَيْناها وغيرِها. 852 - مسألة: (فإذا بَلَغَتْ خَمْسًا وعِشْرِين ففيها بِنْتُ مَخاضٍ، وهى التى لَها سَنَةٌ) متى بَلَغَتِ الإِبِلُ خَمْسًا وعِشْرِين، ففيها بِنْتُ مَخاضٍ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا أنَّه يُحْكَى عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، في خَمْسٍ وعِشْرِين خَمْسُ شِياهٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا يَصِحُّ ذلك عنه. وحَكاه إجْماعًا. وابْنَةُ المَخاضِ؛ التى لها سَنَةٌ، وقد دَخَلَتْ في الثّانِية، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ أُمَّها قد حَمَلَتْ، والماخِضُ الحامِلُ، وليس كَوْنُ أُمِّها ماخِضًا شَرْطًا، وإنَّما ذُكِرَ تَعْرِيفًا لها بغالِبِ حالِها، كتَعْرِيفِه الرَّبِيبَةَ بالحِجْرِ. وكذلك بِنْتُ اللَّبُونِ وبِنْتُ المَخاضِ أدْنَى سِنٍّ تُؤْخَذُ في الزكاةِ، ولا تَجِبُ إلَّا في خَمْسٍ وعِشْرِين إلى خَمْسٍ وثَلاثِين خاصَّةً؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. 853 - مسألة: (فإن عَدِمَها أجْزَأه ابْنُ لَبُونٍ، وهو الذى له

الَّذِى لَهُ سَنَتَانِ، فَإِنْ عَدِمَهُ أَيْضًا لَزِمَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَنَتان، فإن عَدِمَه لَزِمَه بِنْتُ مَخاضٍ) إذا لم يَكُنْ في إبِلِه بِنْتُ مَخاضٍ أجْزَأه ابنُ لَبُونٍ، ولا يُجْزِئُه مع وُجُودِها؛ لأنَّ في حَدِيثِ أنَسٍ: «فَإذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاض إلَى أنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَفِيهَا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). وهذا مُجْمَعٌ عليه أيضًا. فإنِ اشْتَرَى ابْنَةَ مَخاضٍ وأخْرَجَها جاز؛ لأنَّها الأصْلُ، وإن أراد إخْراجَ ابنِ لَبُونٍ بعدَ شِرائِها لم يَجُزْ، لأنَّه صار في إبِلِه بِنْتُ مَخاضٍ، وإن لم يَكُنْ في إبِلِه ابنُ لَبُونٍ وأرادَ الشِّراءَ، لَزِمَه شِراءُ بِنْتِ مَخاضٍ. وهذا قولُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ: يُجْزِئُه شِراءُ ابنِ لَبُونٍ؛ لظاهِرِ الخَبَرِ. ولَنا، أنَّهما اسْتَوَيا في العَدَمِ، فلَزِمَتْه ابْنَةُ مَخاضٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو اسْتَوَيا في الوُجُودِ، والحَدِيثُ مَحْمُولٌ على حالِ وُجُودِه؛ لأنَّ ذلك للرِّفْقِ به، إغْناءً له عن الشِّراءِ، ومِع عَدَمِه لا يَسْتَغْنِى عن الشِّراءِ. على أنَّ في بَعْضِ ألْفاظِ الحَدِيثِ: «فمَنْ لَمْ يكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فإنَّه يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ». فشَرَطَ في قَبُولِه وُجُودَه وعَدَمَها، وهذا في حديثِ أبى بكرٍ، وفي بعضِ الألْفاظِ أيضًا: «وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُ لَبُونٍ». وهذا تَقْيِيدٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ المُطْلَقِ عليه. وإن لم يَجِدْ إلَّا ابنةَ مَخاضٍ مَعِيبَةً، فله الانْتِقالُ إلى ابنِ لَبُونٍ؛ لقوْلِه في الخَبَرِ: «فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا». ولأنَّ وُجُودَها كعَدَمِها، لكَوْنِها لا يَجُوزُ إخْراجُها، فأشْبَهَ الذى لا يَجِدُ إلَّا ماءً لا يَجُوزُ الوُضُوءُ به في انْتِقالِه إلى البَدَلِ، وإن وَجَد ابْنَةَ مَخاضٍ أعْلى مِن صِفَةِ الواجِبِ، لم يُجْزِئْه ابنُ لَبُونٍ؛ لوُجُودِ بِنْتِ مَخاضٍ على وَجْهِها، ويُخَيَّرُ بينَ إخْراجِها وبينَ شِراءِ بِنْتِ مَخاضٍ على صِفَةِ الواجِبِ. وقال أبو بكرٍ: يَجِبُ عليه إخْراجُها بِناءً على قَوْلِه: إنَّه يُخْرِجُ عن المِراضِ صَحِيحَةً. حكاهُ عنه ابنُ عَقِيلٍ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الزكاةَ وَجَبَتْ علي وَجْهِ المُساواةِ، وكانتْ مِن جِنْس المُخْرَجِ عنه، كَزَكاةِ الحُبُوبِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُجْبَرُ نَقْصُ الذُّكُورِيَّةِ بزِيادَةِ سِنٍّ في غيرِ هذا المَوْضِعِ، فلا يُجْزِئُه أن يُخْرِجَ عن بِنْتِ لَبُونٍ حِقًّا، ولا عن الحِقَّةِ جَذَعًا، مع وُجُودِهما ولا عَدَمِهما. وقال القاضى، وابنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذلك عندَ العَدَمِ، كابنِ لَبُونٍ عن بِنْتِ مَخاضٍ. ولَنا، أنَّه لا نَصَّ فيهما، ولا يَصِحُّ قِياسُهما على ابنِ لَبُونٍ مَكانَ بِنْتِ مَخاضٍ؛ لأنَّ زِيادَةَ سِنِّ ابنِ لَبُونٍ على بِنْتِ مَخاضٍ يَمْتَنِعُ بها مِن صِغارِ السِّباعِ، ويَرْعَى الشَّجَرَ بنَفسِه، ويَرِدُ المَاءَ، ولا يُوجَدُ هذا في الحِقِّ مع بِنْتِ لَبُونٍ، لأنَّهما يَشْتَرِكان في هذا، فلم يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ زِيادَةِ السِّنِّ، فلم يُقابِلِ الأُنُوثِيَّةَ، ولأنَّ تَخْصِيصَهُ في الحديثِ بالذِّكْرِ دُونَ غيرِه يَدُلُّ على اخْتِصاصِه بالحُكْمِ، بدَلِيلِ الخِطابِ.

854 - مسألة: (وفى ست وثلاثين بنت لبون، وفى ست وأربعين حقة، وهى التى لها ثلاث سنين، وفى إحدى وستين جذعة، وهى التى لها أربع سنين، وفي ست وسبعين ابنتا لبون، وفى إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين)

وَفِى سِتٍّ وَثَلَاِثينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى سِتٍّ وَأرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وَهِىَ الَّتِى لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ، وَفِى إِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ، وَهِىَ الَّتِى لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَفِى سِتٍّ وَسَبْعِينَ ابْنَتَا لَبُونٍ، وَفِى إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 854 - مسألة: (وفى سِتٍّ وثَلاثِين بِنْتُ لَبُونٍ، وفى سِتٍّ وأرْبَعِين حِقَّةٌ، وهى التى لها ثَلاثُ سِنِين، وفى إحْدَى وسِتِّين جَذَعَةٌ، وهى التى لها أرْبَعُ سِنِين، وفي سِتٍّ وسَبْعِين ابْنَتا لَبُونٍ، وفى إحْدَى وتِسْعِين حِقَّتانِ إلى مائَةٍ وعِشْرِين) وهذا كلُّه مُجْمَعٌ عليه، والخَبَرُ الذى رَوَيْناه يَدُلُّ عليه، وبِنْتُ اللَّبُونِ؛ التى تَمَّتْ لها سَنَتان ودَخَلَتْ في الثّالِثَةِ، سُمِّيَتْ بذلك [لأنَّ أُمَّها قد وَضَعَتْ، فهى ذاتُ لَبَنٍ، والحِقَّةُ؛ التى لها ثَلاثُ سِنِين ودَخَلَتْ في الرّابِعَةِ.، سُمِّيَتْ بذلك] (¬1) لأَّنها قد اسْتَحَقَّتْ أن يَطْرُقَها ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَحْلُ، واسْتَحَقَّتْ أن يُحْمَلَ عليها وتُرْكَبَ، والجَذَعَةُ؛ التى لها أرْبَعُ سِنِين ودَخَلَتْ في الخامِسَةِ، وقِيلَ لها ذلك؛ لأنَّها تَجْذَعُ إذا سقَطَتْ سِنُّها، وهى أعْلَى سنٍّ يَجِبُ في الزكاةِ، وإن رَضِىَ رَبُّ المالِ أن يُخْرِجَ مَكانَها ثَنِيَّةً جاز، وهى التى لها خَمْسُ سِنِين ودَخَلَتْ في السّادِسَةِ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّها قد ألْقَتْ ثَنِيَتَّهَا، وهذا المَذْكُورُ في الأسْنانِ، ذَكَرَه أبو عُبَيْدٍ (¬1) حِكايَةً عن الأصْمَعِىِّ، وأبي زَيْدٍ الأنْصارِيِّ (¬2)، وأبي زِيادٍ الكِلابِىِّ (¬3)، وغيرِهم. ¬

(¬1) في: غريب الحديث 3/ 70 - 72. (¬2) سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيذ، الإمام العلامة النحوى حجة العرب وصاحب التصانيف. توفى سنة خمس عشرة ومائتين. إنباه الرواة للقفطى 2/ 30. (¬3) يزيد بن عبد الله بن الحر الكلابي أبو زياد، الإِمام اللغوى الشاعر الفصيح، صنف كتبًا جليلة. توفى نحو سنة مائتين. إنباه الرواة 4/ 121. الفهرست لابن النديم 44.

855 - مسألة: (فإذا زادت)

فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، ثُمَّ فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 855 - مسألة: (فإذا زادَتْ) على عِشْرِين ومِائَةٍ (واحِدَةً ففيها ثَلاثُ بَناتِ لَبُونٍ، ثم في كلِّ أرْبَعِين بِنْتُ لَبُونٍ، وفي كلِّ خَمْسِين حِقَّةٌ) إذا زادَتِ الإِبِلُ على عِشْرِين ومائَةٍ واحِدَةً ففيها ثَلاثُ بَناتِ لَبُونٍ، كما ذُكِرَ، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن. وهذا مَذْهَبُ الأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. وفيه رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، لا يَتَغَيَّرُ الفَرْضُ إلى ثَلاِثين ومائَةٍ، فيَكُونُ فيها حِقَّة وبِنْتا لَبُونٍ. وهذا مَذْهَبُ محمدِ بنِ إسْحاقَ، وأبي عُبَيْدٍ. وإحْدَى الرِّوايَتَيْن عن مالكٍ؛ لأنَ الفَرْضَ لا يَتَغَيَّرُ بزِيادَةِ الواحِدَةِ؛ بدَلِيلِ سائِرِ الفُرُوضِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ ومِائَةٍ؛ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» (¬1). والواحِدَةُ زِيادَةٌ، وقد جاء مُصَرَّحًا به في حديثِ الصَّدَقاتِ الذى كَتَبَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكان عندَ آلِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ. رَواه أبو داودَ، والتِّرْمذِيُّ (¬2)، وقال: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: هو أحْسَنُ شئٍ رُوِىَ في أحادِيثِ الصَّدَقاتِ. فإنَّ فيه: «فَإذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ». وهذا صَريِحٌ لا يَجُوزُ العُدُولُ عنه، ولأنَّ سائِرَ ما جَعَلَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - غايَةً للفَرْضِ، إذا زاد عليه واحِدَةً تَغَيَّرَ الفَرْضُ، كذا هذا. قَوْلُهم: إنَّ الفَرْضَ لا يَتَغَيَّرُ بزِيادَةِ الواحِدَةِ، قُلْنا: هذا ما تَغَيَّرَ بالواحِدَةِ وَحْدَها، بل تَغَيَّرَ بها مع ما قَبْلَها، فهى كالواحِدَةِ الزّائِدَةِ على التِّسْعِين، والسِّتِّين، وغيرِها. وقال ابْنُ مسعودٍ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: إذا زادَتِ الإِبِلُ على عِشرِينِ ومِائَةٍ اسْتُؤْنِفَتِ الفَرِيضَةُ، في كلِّ خَمْسٍ شاةٌ، إلى خمْسٍ وأرْبَعِين ومِائَةٍ، فيَكُونُ فيها حِقَّتانِ وبِنْتُ مَخاضٍ، إلى خَمْسِين ومائَةٍ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 361. والترمذى، في: باب ما جاء في زكاة الإِبل والغنم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 106 - 109. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب صدقة الإِبل، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 573، 574. والدارمى، في: باب في زكاة الغنم، وباب في زكاة الإبل، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 381 - 383. والإمام أحمد، في المسند 2/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيها ثَلاثُ حِقاقٍ، وتُسْتَأْنَفُ الفَرِيضَةُ في كلِّ خَمْسٍ شاةٌ؛ لِما رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ كِتابًا، ذَكَر فيه الصَّدَقاتِ والدِّيَاتِ (¬1)، وذَكَر فيه مِثْلَ هذا. ولَنا، أنَّ في حَدِيثَىِ الصَّدَقاتِ الذى كَتَبَه أبو بكرٍ لأَنَسٍ، والذى كان عندَ آلِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ مِثْلَ مَذْهَبِنا، وهما صَحِيحان. وأمّا كِتابُ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، فقد اخْتُلِفَ في صِفَتِه، فرَواه الأثْرَمُ في «سُنَنِه» مِثْلَ مَذْهَبِنا. والأخْذُ بذلك أوْلَى، لمُوافَقَتِه الأحادِيثَ الصَّحِيحَةَ مع مُوافَقَتِه القِياسَ، فإنَّ المالَ إذا وَجَب فيه مِن جِنْسِه لم يَجِبْ مِن غيرِ جنْسِه، كسائِرِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، وإنَّما وَجَبَتْ في الابتِداءِ مِن غيرِ جِنْسِه؛ لأَنَّه ما احْتَمَلَ المُواساةَ مِن جِنْسِه، فعَدَلْنا إلى غيرِ الجِنْسِ ضَرُورَةً، وقد زال بكَثْرَةِ المالِ وزِيادَتِه؛ ولأنَّه عِنْدَهم يَنْتَقِلُ مِن بِنْتِ مَخاضٍ إلى حِقَّةٍ، بزِيادَةِ خَمْسٍ مِن الإِبِلِ، وهى زِيادَةٌ يَسِيرَةٌ لا تَقتَضِى الانْتِقالَ إلى حِقَّةٍ، فإنّا لم نَنْتَقِلْ في مَحَلِّ الوِفاقِ مِن بِنْتِ مَخاضٍ إلى حِقَّةٍ، إلَّا بزِيادَةِ إحْدَى وعِشْرِين. فإن زادَتْ على عِشْرِين ومِائَةٍ جُزْءًا مِن بَعِيرٍ، لم يَتَغَيَّرِ الفَرْضُ إجْماعًا؛ لأنَّ في بعضِ الرِّواياتِ: «فَإذَا زَادَتْ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصدقات، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 4، 5. وأخرجه مختصرًا كل من: الدارمى، في: باب زكاة الغنم، وباب زكاة الإِبل، من كتاب الزكاة. . . . سنن الدارمى 1/ 381، 383. والدارقطني، في: باب زكاة الإِبل والغنم، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطني 2/ 117.

856 - مسألة: (فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان، فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء خمس بنات لبون، والمنصوص أنه يخرج الحقاق)

فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ اتَّفَقَ الْفَرْضَانِ، فَإِنْ شَاءَ أخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُخْرِجُ الحِقَاقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَاحِدَةً». وهذا يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الزِّيادَةِ في الرِّوايَةِ الأُخْرَى؛ ولأنَّ سائِرَ الفُرُوضِ لا يَتَغَيَّرُ بزِيادَةِ جُزْءٍ، كذا هذا. وعلى كِلْتا الرِّوايَتَيْن، متى بَلَغَتْ مِائَةً وثَلاِثين ففيها حِقَّةٌ وبِنْتا لَبُونٍ، وفى مِائةٍ وأرْبَعِين حِقَّتان وبِنْتُ لَبُونٍ، وفى مِائةٍ وخَمْسِين ثَلاثُ حِقاقٍ، وفى مِائَةٍ وسِتِّين أرْبَعُ بَناتِ لَبُونٍ، ثم كُلَّما زَادَتْ على ذلك عَشْرًا أُبْدِلَتْ بِنْتُ لَبُونٍ بحِقَّةٍ، ففى مِائةٍ وسَبْعِين حِقَّةٌ وثَلاثُ بَناتِ لَبُونٍ، وفى مِائةٍ وثَمانِين حِقَّتان وابْنَتا لَبُونٍ، وفى مِائةٍ وتِسْعِين ثَلاثُ حِقاقٍ وبِنْتُ لَبُونٍ. 856 - مسألة: (فإذا بَلَغَتْ مِائَتيْن اتَّفَقَ الفَرْضانِ، فإن شاء أخْرَجَ أرْبَعَ حِقاقٍ، وإن شاء خَمْسَ بَناتِ لَبُونٍ، والمَنْصوصُ أنَّه يُخْرِجُ الحِقاقَ) إذا بَلَغَتْ إبِلُه مِائَتَيْن اجْتَمَعَ الفَرْضان؛ لأنَّ فيها أرْبَعَ خَمْسِيناتٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخَمْسَ أرْبَعِيناتٍ، فيَجِبُ عليه أرْبَعُ حِقاقٍ أو خَمْسُ بَناتِ لَبُونٍ، أىَّ الفَرْضَّيْن شاء أخْرَجَ؛ لوُجُودِ المُقْتَضَى لكلِّ واحِدٍ منهما، وإن كان أحَدُهما أفْضَلَ مِن الآخَرِ. ومَنْصُوصُ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّه يُخْرِجُ الحِقاقَ. وذلك مَحْمُولٌ على أنَّ عليه أرْبَعَ حِقاقٍ بصِفَةِ التَّخْيِيرِ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يَكُونَ المُخْرِجُ ولِىَّ يَتِيمٍ أو مَجْنُونٍ، فليس له أن يُخْرِجَ مِن مالِه إلَّا أدْنَى الفَرْضَيْن. وقال الشافعىُّ: الخِيَرَةُ إلى السّاعِى، ومُقْتَضَى قَوْلِه أنَّ رَبَّ المالِ إذا أخْرَجَ لَزِمَه إخْراجُ أعْلَى الفَرْضَيْن، واحْتَجَّ بقَوْلِ الله تِعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). ولأنَّه وُجِدَ سَبَبُ الفَرْضَيْن، فكانتِ الخِيَرَةُ إلى المُسْتَحِقِّ أو نائِبِه، كقَتْلِ العَمْدِ المُوجِبِ للقِصاصِ أو الدِّيَةِ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في كتابِ الصَّدَقاتِ الذى كان عندَ آلِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ: «فَإذَا كَانتْ مِائَتَيْن، فَفِيهَا أرْبَعُ حِقَاقٍ، أوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، أىَّ الشَّيْئَيْنِ وَجَدْتَ أخَذْتَ» (¬2). وهذا نَصٌّ لا يُعَرَّجُ معه على ما يُخالِفُه. ولأنَّها زَكاةٌ ثَبَت فيها الخِيارُ، فكان ذلك لرَبِّ المالِ، ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالخِيَرَةِ في الجُبْرانِ بينَ الشِّياهِ والدَّراهِم، وبينَ النُّزُولِ والصُّعُودِ، والآيَةُ لا تَتَناوَلُ ما نحن فيه؛ لأنَّه إنَّما يَأْخُذُ الفَرْضَ بصِفَةِ المالِ، بدَلِيلِ أنَّه يَأْخُذُ مِن الكِرامِ كَرِيمَةً، ومِن غيرِها مِن الوَسَطِ، فلا يَكُونُ خَبِيثًا، ولأنَّ الأدْنَى ليس. بخبِيثٍ، وكذلك لو لم يَكُنْ يُوجَدُ إلَّا سَبَبُ وُجُوبِه وَجَب إخْراجُه، وقِياسُنا أوْلَى مِن قِياسِهِم؛ لأنَّ قِياسَ الزكاةِ على مِثْلِها أَوْلَى مِن قِياسِها على الدِّيَاتِ. فإن كان أحَدُ الفَرْضَيْن في مالِه دُونَ الآخَرِ؛ فهو مُخَيَّرٌ بينَ إخْراجِه وشِراءِ الآخَرِ، ولا يَتَعَيَّنُ عليه إخْراجُ المَوْجُودِ؛ لأنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ مِن عَيْنِ المالِ. وقال القاضى: يَتَعَيَّنُ عليه إخْراجُ المَوْجُودِ. وهو بَعِيدٌ؛ لِما ذَكَرْنا، إلَّا أن يَكُونَ أراد إذا عَجَز عن شِراء الآخَرِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أراد إخْراجَ الفَرْضِ مِن نَوْعَيْنِ، نَظَرْنا؛ فإن لم نَحْتَجْ إلى تَشْقِيصٍ، كَزَكاةِ الثَّلاثِمائَةٍ يُخرِجُ عنها حِقَّتَيْن وخَمْسَ بَناتِ لَبُونٍ، جاز. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وإنِ احْتاجَ إلى تَشْقِيصٍ، كزَكاةِ المائَتَيْن، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ مِن غيرِ تَشْقِيصٍ. وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ، على قِياسِ قولِ أصحابِنا في جَوازِ عِتْقِ نِصْفِ عَبْدَيْن في الكَفّارَةِ. وهذا غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بالتَّشْقِيصِ في زَكاةِ السّائِمَةِ إلَّا مِن حاجَةٍ، ولذلك جَعَل لها أوْقاصًا، دفْعًا للتَّشْقِيصِ عن الواجِبِ فيها، وعَدَل فيما دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِين مِن الِإبِلِ عنِ الجِنْسِ إلى الغَنَمِ، فلا يَجُوزُ القَوْلُ بِجَوازِه مع إمْكانِ العُدُولِ عنه إلى فَرِيضَةٍ كامِلَةٍ. وإن وَجَد أحَدَ الفَرْضَيْن كامِلًا، والآخَرَ ناقِصًا لا يُمْكِنُه إخْراجُه، إلَّا بجُبْرانٍ معه، مِثْلَ أن يَجِدَ في المائَتَيْن خَمْسَ بَناتِ لَبُونٍ وثَلاثَ حِقاقٍ، تَعَيَّنَ أخْذُ الفَرِيضَةِ الكامِلَةِ؛ لأنَّ الجُبْرانَ بَدَلٌ لا يَجُوزُ مع المُبْدَلِ. وإن كان كلُّ واحِدٍ يَحْتاجُ إلى جُبْرانٍ، مثلَ أن يَجِدَ أرْبَعَ بَناتِ لَبُونٍ وثَلاثَ حِقاقٍ، فهو مُخَيَّرٌ

857 - مسألة:. (وليس فيما بين الفريضتين شئ)

وَلَيْسَ فِيمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيُّهما شاء أخْرَجَ [مع الجُبْران، إن شاء أخْرَجَ] (¬1) بَناتَ اللَّبُونِ وحِقَّةً وأخَذ الجُبْرانَ، وإن شاء أخْرَجَ الحِقاقَ وبِنْتَ اللَّبُونِ مع جُبْرانِها. فإن قال: خُذُوا مِنِّى حِقَّةً وثَلاثَ بَناتِ لَبُونٍ مع الجُبْرانِ. لم يَجُزْ؛ لأنَّه [لا يُعْدَلُ] (¬2) عن الفَرْضِ مع وُجُودِه إلى الجُبْرانِ. ويَحْتَمِل الجَوازُ؛ لكَوْنِه لابُدَّ مِن الجُبْرانِ، وإن لم يَجِدْ إلَّا حِقَّةً وأرْبَعَ بَناتِ لَبُونٍ أدّاها وأخَذ الجُبْرانَ، ولم يَكُنْ له دَفْعُ ثَلاثِ بَناتِ لَبُونٍ وحِقَّةٍ مع الجُبْرانِ، في أصَحِّ الوَجْهَيْن. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذين. وإن كان الفَرْضان مَعْدُومَيْن، أو مَعِيبَيْن، فله العُدُولُ عنهما مع الجُبْرانِ، فإن شاء أخْرَجَ أرْبَعَ جَذَعاتٍ وأخَذ ثَمانِىَ شِياهٍ أو ثَمانِين دِرْهَمًا، وإن شاء دَفَع خَمْس يَناتِ مَخاضٍ ومعها عَشْرُ شِياهٍ أو مِائَةُ دِرْهَمٍ. وإن أحَبَّ أن يَنْتَقِلَ عن الحِقاقِ إلى بَناتِ المَخاضِ، أو عن بَناتِ اللَّبُونِ إلى الجَذَعِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الحِقاقَ وبَناتِ اللَّبُونِ مَنْصُوصٌ عليهنَّ في هذا المالِ، فلا يَصْعَدُ إلى الحِقاقِ بجُبْرانٍ، ولا يَنْزِلُ إلى بَناتِ اللَّبُونِ بجُبْرانٍ. 857 - مسألة:. (وليس فيما بينَ الفَرِيضَتَيْن شَئٌ) ما بينَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يعدل» بدون «لا».

858 - مسألة: (ومن وجبت عليه سن فعدمها، أخرج سنا أسفل

وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ فَعَدِمَهَا، أَخْرَجَ سِنًّا أَسْفَلَ مِنْهَا وَمَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرِيضَتَيْن يُسَمَّى الأوْقاصَ، ولا شئَ فيها؛ لعَفْوِ الشّارِعِ عنها. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبِى عبدِ اللهِ: الأوْقاصُ كما بينَ الثَّلاثِين إلى الأرْبَعِين في البَقَرِ وما أشْبَهَ هذا؟ قال: نعم، والشَّنَقُ ما دُونَ الفَرِيضَةِ. قُلْتُ له: كأنَّه ما دُونَ الثَّلاثِين مِن البَقَرِ؟ قال: نعم. وقال الشَّعْبِىُّ: الشَّنَقُ ما بينَ الفَرِيضَتَيْن أيضًا. قال أصحابُنا: والزكاةُ تَتَعَلَّقُ بالنِّصابِ دُونَ الوَقْصِ. ومَعْناه: أنَّه إذا كان عندَه ثَلاثُون مِن الِإبِلِ، فالزكاةُ تَتَعَلَّقُ بخَمْسٍ وعِشْرِين دُونَ الخَمْسَةِ الزّائِدَةِ. فعلى هذا لو وَجَبَتِ الزكاةُ فيها، وتَلِفَتِ الخَمْسَةُ قبلَ التَّمَكُّنِ مِن أدائِها، وقلنا: إنَّ تَلَفَ المالِ قبلَ التَّمَكُّنِ يُسْقِطُ الزكاةَ. لم يَسْقُطْ ههُنا منها شئٌ، لأنَّ التّالِفَ لم تَتَعَلَّقِ الزكاةُ به، وإن تَلِف منها عَشْرٌ سَقَط مِن الزكاةِ خُمْسُها؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بتَلَفِ جُزْءٍ مِن النِّصابِ، وإنَّما تَلِف مِن النِّصابِ خُمْسُه. وأمّا مَن قال: لا تَأْثِيرَ لتَلَفِ النِّصابِ في إسْقاطِ الزكاةِ فلا فائدَةَ في الخِلافِ عندَه في هذه المَسْألَةِ فيما أعلمُ. 858 - مسألة: (ومَن وَجَبَتْ عليه سِنٌّ فعَدِمَها، أخْرَجَ سِنًّا أسْفَلَ

وَإنْ شَاءَ أَخْرَجَ أَعْلَى مِنْهَا، وَأَخَذَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ السَّاعِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ منها ومعها شاتان أو عِشْرُون دِرْهَمًا، وإن شاء أخْرَجَ أعْلَى منها، وأخَذ مِثْلَ ذلك مِن السّاعِى) هذا هو المَذْهَبُ، إلَّا أنَّه لا يَجُوزُ أن يُخْرِجَ أدْنَى مِن ابْنَةِ مَخاضٍ، لأنَّها أدْنَى سِنٍّ تَجِبُ في الزكاةِ، ولا يُخْرِجَ أعْلَى مِن الجَذَعَةِ، إلَّا أن يَرْضَى رَبُّ المالِ بإخْراجِها بغيرِ جُبْرانٍ، فيُقْبَلُ منه. والاخْتِيارُ في الصُّعُودِ والنُّزُولِ، والشِّياهِ والدَّراهِمِ، إلى رَبِّ المالِ. وبهذا قال النَّخَعِىّ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. واخْتَلَفَ فيه عن إسْحاقَ. وقال الثَّوْرِىُّ: يُخْرِجُ شاتَيْن أو عَشَرَةَ دَراهِمَ؛ لأنَّ الشّاةَ مُقَوَّمَةٌ في الشَّرْعِ بخَمْسَةِ دَراهِمَ، بدَلِيلِ أنَّ نِصابَها أرْبَعُون، ونِصابَ الدَّراهِمِ مائَتان. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: يَدْفَعُ قِيمَةَ ما وَجَب عليه، أو دُونَ السِّنِّ الواجِبَةِ، وفَضْلَ ما بينَهما دَراهِمَ. ولَنا، أنَّ في حَدِيثِ الصَّدَقاتِ الذى كَتَبَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بكرِ، لأنَسٍ، أنَّه قال: «ومَن بلَغَتْ عِنْدَه مِن الإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وليست عندَه جَذَعَةٌ، وعندَه حِقَّةٌ، فإنَّها تُقْبَلُ منه الحِقَّةُ، ويَجْعَلُ معها شاتين، إنِ اسْتَيْسَرَتا له، أو عِشْرِين دِرْهَمًا، ومَن بَلَغَتْ عندَه صَدَقَةُ الحِقَّةِ، وليست عندَه، وعندَه الجَذَعَةُ، فإنَّها تُقْبَلُ منه الجَذَعَةُ، ويُعْطِيه المُصَدِّقُ عِشْرِين دِرْهَمًا أو شاتَيْن، ومَن بَلَغَتْ عندَه صَدَقَةُ الحِقَّةِ، وليست عندَه إلَّا ابْنَةُ لَبُونٍ، فإنَّها تُقْبَلُ منه بِنْتُ لَبُونٍ، ويُعْطِى شاتَيْن، أو عِشْرِين دِرْهَمًا، ومَن بَلَغَتْ صَدَقَتُه بِنْتَ لَبُونٍ، وليست عندَه، وعندَه بِنْتُ مَخاضٍ، فإنَّها تُقْبَلُ منه بِنْتُ مَخاضٍ، ويُعْطِى معها عِشْرِين دِرْهَمًا، أو شاتَيْن» (¬1). وهذا نَصٌّ ثابتٌ صحيحٌ، فلا يُلْتَفَتُ إلى ما سِواه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يَجُوزُ العُدُوْلُ إلى هذا الجُبْرانِ مع وُجُودِ الأصْلِ؛ لأنَّه مَشْرُوطٌ في الخَبَرِ بعَدَمِ الأصْلِ. فإن أراد أن يُخْرِجَ في الجُبْرانِ شاةً، وعَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فقال القاضى: يَجُوزُ، كما قُلْنا في الكَفَّارَةِ، له إخْراجُها مِن جِنْسَيْن، ولأنَّ الشَّاةَ مَقامُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فإذا اخْتار إخْراجَها وعَشَرَةٌ جاز. ويَحْتَمِلُ المَنْعَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ بينَ شاتَيْن أو عِشْرِين دِرْهَمًا، وهذا قِسْمٌ ثالِثٌ، فتَجْوِيزُه يُخالِفُ الخَبَرَ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395.

859 - مسألة: (فإن عدم السن التى تليها انتقل إلى الأخرى، وجبرها بأربع شياه، أو أربعين درهما. وقال أبو الخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن تلى الواجب)

فَإِنْ عَدِمَ السِّنَّ الَّتِى تَلِيهَا انْتَقَلَ إِلَى الْأُخْرَى، وَجَبَرَهَا بِأَرْبَعِ شِيَاهٍ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا إِلَى سِنٍّ تَلِى الْوَاجِبَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 859 - مسألة: (فإن عَدِم السِّنَّ التى تَلِيها انْتَقَلَ إلى الأُخْرَى، وجَبَرَها بأرْبَعِ شِياهٍ، أو أرْبَعِين دِرْهَمًا. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَنْتَقِلُ إلَّا إلى سِنٍّ تَلِى الواجِبَ) وذلك كمَن وجَبَتْ عليه جَذَعَةٌ فعَدِمَها وعَدِم الحِقَّةَ، أو وجَبَتْ عليه حِقَّةٌ فعَدِمَها وعَدِم الجَذَعَةَ وبِنْتَ اللَّبُونِ، فيَجُوزُ أن يَنْتَقِلَ إلى السِّنِّ الثالِثِ مع الجُبْرانِ، فيُخْرِجُ في الصُّورَةِ الأُولَى ابْنَةَ لَبُونٍ ومعها أرْبَعَ شِياهٍ أو أرْبَعِين دِرْهَمًا، ويُخْرِجُ ابْنَةَ مَخاضٍ في الثّانِيَةِ، ويُخْرِجُ معها مِثْلَ ذلك. ذَكَرَه القاضى. وذَكَر أنَّ أحمدَ أوْمَأ إليه. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَنْتَقِلُ إلَّا إلى سِنٍّ تَلِى الواجِبَ، فأمَّا إنِ انْتَقَلَ مِن حِقَّةٍ إلى بِنْتِ مَخاضٍ، أو مِن جَذَعَةٍ إلى بِنْتِ لَبُونٍ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد بالعُدُولِ إلى سِنٍّ واحِدَةٍ، فيَجِبُ الاقْتِصارُ عليه، كما اقْتَصَرْنا في أخْذِ الشِّياهِ (¬1) عن الإِبِلِ على المَوْضِعِ الذى وَرَد ¬

(¬1) في م: «الشاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به النَّصُّ. وهذا قولُ ابنِ المُنْذِرِ. وَوَجْهُ الأوَّلِ أنَّه قد جَوَّزَ الانْتِقالَ إلى السِّنِّ التى تَلِيه مع الجُبْرانِ، وجَوَّز العُدُولَ عنها أيضًا إذا عَدِم مع الجُبْرانِ إذا كان هو الفَرْضَ، وههُنا لو كان مَوْجُودًا أجْزَأ، فإذا عَدِم جاز العُدُولُ إلى ما يَلِيه مع الجُبْرانِ، والنَّصُّ إذا عُقِل عُدِّىَ وعُمِلَ بمَعْناه، وعلى مُقْتَضَى هذا القولِ يَجُوزُ العُدُولُ عن الجَذَعَةِ إلى بِنْتِ مَخاضٍ مع سِتِّ شِياهٍ، أو سِتِّين دِرْهَمًا، ومِن بِنْتِ مَخاضٍ إلى الجَذَعَةِ، ويَأْخُذُ سِتَّ شِياهٍ، أو سِتِّين دِرْهَمًا. وإن أراد أن يُخْرِجَ عن الأرْبَعِ شِياهٍ شاتَيْن وعِشْرِين دِرْهَمًا، جاز؛ لأنَّهما جُبْرانان، فهما كالكَفّارَتيْن. وكذلك في الجُبْرانِ الذى يُخْرِجُه عن فَرْضِ المِائَتَيْن مِن الإِبِلِ، إذا أخْرَجَ عن خَمْسِ بَناتِ لَبُونٍ خَمْسَ بَناتِ مَخاضٍ، أو مكانَ أرْبَعِ حِقاقٍ أرْبَعَ بَناتِ لَبُونٍ، جاز أن يُخْرِجَ بعضَ الجُبْرانِ دَراهِمَ، وبعضَه شِياهًا. ومتى وَجَد سِنًّا تَلِى الواجِبَ لم يَجُزِ العُدُوالُ إلى سِنٍّ لا تَلِيه؛ لأنَّ الانْتِقالَ عن السِّنِّ التى تَلِيه إلى السِّنِّ الأُخْرَى بَدَلٌ لا يَجُوزُ مع إمْكانِ الأصْلِ. فلو عَدِم الحِقَّةَ وابْنَةَ اللَّبُونِ، ووَجَد الجَذَعَةَ وابْنَةَ المَخاضِ، وكان الواجِبُ الحِقَّةَ، لم يَجُزِ العُدُولُ إلى بِنْتِ المَخاضِ، وإن كان الواجِبُ ابْنَةَ لَبُونٍ، لم يَجُزْ إخراجُ الجَذَعَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان النِّصابُ كلُّه مِراضًا، وفَرِيضَتُه مَعْدُومَةً، فله أن يَعْدِلَ إلى السِّنِّ السُّفْلَى مع دَفْعِ الجُبْرانِ، وليس له أن يَصْعَدَ مع أخْذِ الجُبْرانِ؛ لأنَّ الجُبْرانَ أكْثَرُ مِن الفَضْلِ الذى بينَ الفَرْضَيْن وقد يَكُونُ الجُبْرانُ خَيْرًا مِن الأصْلِ، فإنَّ قِيمَةَ الصَّحِيحَيْن أكْثَرُ مِن قِيمَةِ المَرِيضَيْن، وكذلك قِيمَةُ ما بينَهما، وإذا كان كذلك لم يَجُزْ في الصُّعُودِ، وجاز في النُّزُولِ؛ لأنَّه مُتَطَوِّعٌ بالزّائِدِ، ورَبُّ المالِ يُقْبَلُ منه الفَضْلُ، ولا يَجُوزُ لِلسّاعِى أن يُعْطِىَ الفَضْلَ مِن المِساكِينِ لذلك. فإن كان المُخْرِجُ وَلِيًّا ليَتِيمٍ، لم يَجُزْ له النُّزُولُ أيضًا؛ لأنَّهْ لا يَجُوزُ أن يُعْطِىَ الفَضْلَ مِن مالِ اليَتِيمِ، فيَتَعَيَّنُ شِراءُ الفَرْضِ مِن غيرِ المالِ.

860 - مسألة: (ولا مدخل للجبران في غير الإبل)

وَلَا مَدْخَلَ لِلْجُبْرَانِ فِى غَيْرِ الإِبِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 860 - مسألة: (ولا مَدْخَلَ للجُبْرانِ في غيرِ الإِبِلِ) وذلك لأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد فيها، وليس غيرُها في مَعْناها، لأنَّها أكْثَرُ قِيمَةً، ولأنَّ الغَنَمَ لا تَخْتَلِفُ فَرِيضَتُها باخْتِلافِ سِنِّها، وما بينَ الفَرِيضَتَيْن في البَقَرِ يُخالِفُ ما بينَ الفَرِيضَتَيْن في الإِبِلِ، فامْتَنَعَ القِياسُ. فمَن عَدِم فَرِيضَةَ البَقَرِ أو الغَنَمِ ووَجَد دُونَها، لم يَجُزْ له إخْراجُها، وإن وَجَد أعلى منها فأحَبَّ أن يَدْفَعَها مُتَطَوِّعًا بغيرِ جُبْرانٍ، قُبِلَتْ منه، وإن لم يَفْعَلْ كُلِّفَ شِراءَها مِن غيرِ مالِه.

فَصْلٌ: النَّوْع الثَّانِى، الْبَقَرُ، وَلَا شَىْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَيَجِبُ فِيهَا تَبِيعٌ اوْ تَبِيعَةٌ؛ وَهِىَ الَّتِى لَهَا سَنَةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ؛ وَهِىَ الَّتِى لَهَا سَنَتَانِ، وَفِى السِّتِّينَ تَبِيعَانِ، ثُمَّ فِى كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، ثُمَّ فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِىَ اللهُ عنه: (النَّوْعُ الثّانِى، البَقَرُ، ولَا شَئَ فيها حتى تَبْلُغَ ثَلاثِين، فيَجِبُ فيها تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ، وهى التى لها سَنَةٌ، وفى الأرْبَعِين مُسِنَّةٌ؛ وهى التى لها سَنَتان، وفى السِّتِّين تَبِيعان، ثم في كلِّ ثَلاثِين تَبِيعٌ، وفى كلِّ أرْبَعِين مُسِنَّةٌ) صدقةُ البَقَرِ ثابِتَةٌ بالسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أما السُّنَّةُ فرَوَى أبو ذَرٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَا مِنْ صاحِبِ إبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّى زَكاتَها، إلَّا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ أعْظَمَ مَا كَانَتْ وأسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِها وَتَطَؤُهُ بأخْفَافِها، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب زكاة البقر، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 148. ومسلم، في: باب تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 686، 687. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منع الزكاة من التشديد، من أبواب الزكاة. عارضة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن مُعاذٍ، قال: بَعَثَنِى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ، وأمَرَنِى أن آخُذَ مِن كلِّ حالِمٍ دِينارًا أو عَدْاَله مَعافِرَ (¬1)، وأمَرَنِى أن آخُذَ مِن كلِّ أرْبَعِين مُسِنَّةً، ومِن كلِّ ثَلاثِين بَقَرَةً تَبِيعًا حَوْلِيًّا. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2)، وهذا لَفْظُه، وأبو داودَ، والتّرْمذِىُّ، والنَّسائِىُّ، وابنُ ماجه، ولم يَذكُرِ التِّرْمذِىُّ: «حَوْليًّا». وقال: حديثٌ حسنٌ. وعندَ النَّسائِيِّ، قال: أمَرَنِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ بَعَثَنِى إلى اليَمَنِ أن لا آخُذَ مِن البَقَرِ شيئًا حتى تَبْلُغَ ثَلاثِين فإذا بَلَغَتْ ثَلاثِين، ففيها عِجْلٌ تابِعٌ، جَذَعٌ أو جَذَعَةٌ، حتى تَبْلُغَ أرْبَعِين، فإذا بَلَغَتْ أرْبَعِين، فَفِيها (¬3) بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ. ورَوَى الإِمامُ أحمدُ (¬4)، ¬

= الأحوذى 3/ 95. والنسائى، في: باب التغليظ في حبس الزكاة، وباب مانع زكاة الغنم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 8، 20. وابن ماجه، في: باب ما جاء في منع الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 569. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 152، 157، 158، 169، 170. (¬1) المعافر، بالعين المهملة، بوزن مساجد، هو موضع باليمن أو حيٌّ من همدان باليمن تنسب إليهم الثياب المعافرية. (¬2) في: المسند 5/ 230، 233، 240، 247. وأبو داود، في: باب زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 363. والترمذى، في: باب ما جاء في زكاة البقر، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 115. والنسائى، في: باب زكاة البقر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 17، 18. وابن ماجه، في: باب صدقة البقر، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 576، 577. (¬3) زيادة من المجتبى. (¬4) في: المسند 5/ 240. وذكره أبو عبيد، في كتابه «الأموال» 383.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِهِ، عن يحيى بنِ الحَكَمِ، أنَّ مُعاذًا قال: بَعَثَنِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُصَدِّقُ أهْلَ اليَمَنِ، وأمَرَنِى أن آخُذَ مِن البَقَرِ مِن كلِّ ثَلاثِين تَبِيعًا، ومن كلِّ أرْبَعِين مُسِنَّةً. قال: فعَرَضُوا علىَّ أن آخُذَ ممّا بينَ الأرْبَعِين والخَمْسِين، وبينَ السِّتِّين والسَّبْعِين، وما بينَ الثَّمانِين والتِّسْعِين، فأبَيْتُ ذلك، وقُلْتُ لهم: حتى أسْألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقَدِمْتُ، فأخْبَرْتُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَنِى أن آخُذَ مِن كلِّ ثَلاثِين تِبَيعًا، ومِن كلِّ (¬1) أرْبَعِين مُسِنَّةً، ومِن السِّتِّين تَبِيعَيْن، ومِن السَّبْعِين مُسِنَّةً وتَبِيعًا، ومِن الثَّمانِين مُسِنَّتَيْن، ومِن التِّسْعِين ثلاثَةَ أتْباعٍ، ومِن المِائَةِ مُسِنَّةً وتَبِيعَيْن، ومِن العَشرَةِ ومائَةٍ مُسِنَّتَيْن وتَبيعًا، ومِن العِشْرِين ومائَةٍ ثَلاثَ مُسِنّاتٍ أو أرْبَعَةَ أتْباعٍ، وأمَرَنِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أن لا آخُذَ فيما بينَ ذلك شيئًا [إلَّا أن] (¬2) تَبلُغَ مُسِنَّةً أو جَذَعًا. يَعْنِى تَبِيعًا. وزَعَم أنَّ الأوْقاصَ لا فَرِيضَةَ فيها. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ الزكاةِ في البَقَرِ. قال أبو عُبَيْدٍ: لا أعْلَمُ النّاسَ يَخْتَلِفُون فيه اليَوْمَ. ولا تَجِبُ في البَقَرِ زَكاةٌ حتى تَبْلُغَ ثَلاِثين في قولِ جُمْهُورِ العلماءِ. وحُكِىَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حتى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِىِّ أنَّهما قالا: في كلِّ خَمْسٍ شاةٌ؛ لأنَّها عُدِلَت بالإِبِلِ في الهَدْىِ والأُضْحِيَةِ، كذلك في الزكاةِ. ولَنا، ما تَقَدَّمَ مِن الخَبَرِ، ولأنَّ نُصُبَ الزكاةِ إنَّما تَثْبُتُ بالنَّصِّ والتَّوْقِيفِ، وليس فيما ذَكراه نَصٌّ ولا تَوْقِيفٌ، فلا يَثْبُتُ، وقِياسُهم مُنْتَقِضٌ بِخَمْسٍ وثَلاثِين مِن الغَنَمِ، فإنَّها تَعْدِلُ خَمْسًا مِن الإِبِلِ في الهَدْىِ، ولا زَكاةَ فيها، وإنَّما تَجِبُ الزكاةُ فيها إذا كانت سائِمَةً. وحُكِىَ عن مالكٍ في العوامِلِ والمَعْلُوفَةِ زَكاةٌ، كقَوْلِه في الإِبِلِ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ. ولَنا، ما رَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ فِى الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ». رَواه الدّارَقُطْنِىُّ (¬1). وعن عليٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال الرّاوِى: أحْسَبُه عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في صَدَقَةِ البَقَرِ، قال: «وَلَيْسَ فِى العَوَامِلِ شَيءٌ». رَواه أبو داودَ (¬2). وهذا مُقَيَّدٌ يُحْمَلُ عليه المُطْلَقُ.؛ ولأنَّه قولُ عليٍّ، ومُعاذٍ، وجابِرٍ، ولأنَّ صِفَةَ النَّماءِ مُعْتَبَرَةٌ في الزكاةِ، وإنَّما تُوجَدُ في السّائِمَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 390. (¬2) في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والواجِبُ فيها في كلِّ ثلاثِين تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ، وهو الذى له سَنَةٌ ودَخَل في الثّانِيَةِ، وقِيلَ له ذلك لأنَّه يَتبَعُ أُمَّه. وفى كلِّ أرْبَعِين مُسِنَّةٌ، وهى التى لها سَنَتان، وهى الثَّنِيَّةُ. ولا فرْضَ في البَقَرِ غَيْرُهما. وفى السِّتِّين تَبِيعانِ كما ذَكَر في أوَّلِ المَسْألَةِ. وهذا قولُ جُمْهُورِ العلماءِ؛ منهم الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحسنُ، ومالكٌ، واللَّيْثُ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ، في رِوايَةٍ عنه: فيما زاد على الأرْبَعِين بحِسابِه، في كلِّ بَقَرَةٍ رُبعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، فِرارًا مِن جَعْل الوَقْصِ تِسْعَةَ عَشَرَ، فإنَّه مُخَالِفٌ لجَمِيعِ أوْقاصِها، فإنَّها عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ. ولَنا، حَدِيثُ مُعاذٍ المذْكُورُ، وهو صَرِيحٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ، ولأنَّ البَقَرَ أحَدُ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، فلم يَجِبْ في زَكاتِها كَسْرٌ، كسائِرِ الأنْواعِ، ولا يَنْتَقِلُ مِن فَرْضِها فيها بغيرِ وَقْصٍ، كسائِرِ الفُرُوضِ، وكما بينَ الثَّلاثِين والأرْبَعِين، ومُخالَفَةُ قَوْلِهم للأُصُولِ أشَدُّ مِنْ الوُجُوهِ التى ذَكَرْناها، وعلى أنَّ أوْقاصَ الإِبِلِ والغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ، فجاز الاخْتِلاف ههُنا. فإن رَضِىَ رَبُّ المالِ بإعْطاءِ المُسِنَّةِ عن التَّبِيعِ، والتَّبِيعَيْن عن المُسِنَّةِ، أو أكبَرَ منها سِنًّا عنها، جاز. واللهُ أعلمُ.

861 - مسألة: (ولا يجزئ الذكر في الزكاة في غير هذا، إلا ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها، إلا أن يكون النصاب كله ذكورا، فيجزئ الذكر في الغنم، وجها واحدا، وفى البقر والإبل في أحد الوجهين)

وَلَا يُجْزِئُ الذَّكَرُ فِى الزَّكَاةِ فِى غَيْرِ هَذَا، إلَّا ابْنُ لَبُونٍ مَكَانَ بنْتِ مَخَاضٍ إِذَا عَدِمَهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا، فَيُجْزِئُ الذَّ كَرُ فِى الْغَنَمِ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَفِى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 861 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ الذَّكَرُ في الزكاةِ في غيرِ هذا، إلَّا ابنُ لَبُونٍ مَكانَ بِنْتِ مَخاضٍ إذا عَدِمَها، إلَّا أن يَكُونَ النِّصابُ كلُّه ذُكُورًا، فيُجْزِئُ الذَّكُرُ في الغَنَمِ، وَجْهًا واحِدًا، وفى البَقَرِ والإِبِلِ في أحَدِ الوَجْهَيْن) الذَّكَرُ لا يُخْرَجُ في الزكاةِ أصْلًا إلَّا في البَقَرِ، فأمّا ابنُ لَبُونٍ مَكانَ بِنْتِ مَخاضٍ فليس بأصْلٍ، ولهذا لا يُجْزِئُ مع وُجُودِها، وإنَّما يُجْزِئُ الذَّكَرُ في البَقَرِ عن الثَّلاثِين، وما تَكَرَّرَ منها، كالسِّتِّين والتِّسْعِينَ، وَما تَرَكَّبَ مِن الثَّلاثِين وغيرِها، كالسَّبْعِين، فيها تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ. وإن شاء أخْرَجَ مكانَ الذُّكُورِ إناثًا؛ لوُرُودِ النَّصِّ بهما، فأمّا الأرْبَعُون وما تَكَرَّرَ منها، كالثَّمانِين، فلا يُجْزِئُ في فَرْضِها إلَّا الإِناثُ، لِنَصِّ الشّارعِ عليها، إلَّا أن يُخْرِجَ عن المُسِنَّةِ تَبِيعَيْنِ، فيَجُوزُ. فإذا بَلَغَتْ مائةً وعِشْرِين خُيِّرَ المالِكُ بينَ إخْراجِ ثَلاثِ مُسِنّاتٍ، أو أرْبَعَةِ أتْباعٍ، أيُّهما شاء أخْرَجَ على ما نَطَق به الخَبَرُ، هذا التَّفْصِيلُ فيما إذا كان في بَقَرِه إناثٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان في ماشِيَتِه إناثٌ لم يَجُزْ إخْراجُ الْذَّكَرِ، وجْهًا واحِدًا، إلَّا في المَوْضِعَيْن المَذْكُورَيْن. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ إخْراجُ الذَّكَرِ مِن الغَنَمِ الإِناثِ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فِى أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬1). ولَفْظُ الشّاةِ يَقَعُ على الذَّكَرِ والأُنْثَى، ولأنَّ الشّاةَ إذا أُمِرَ بها مُطْلَقًا، أجْزَأ فيها الذَّكَرُ والأُنْثَى، كالأُضْحِيَةِ. ولَنا، أنَّه حَيوانُ تَجِبُ الزكاةُ في عَيْنِه، فكانتِ الأُنوثِيَّةُ مُعْتَبَرَةً في فَرْضِه، كالإِبِلِ، والمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بالقِياسِ على سائِرِ النُّصبِ، والأُضْحِيَةُ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ بالمالِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فصل: فإن كانت ماشِيَتُه كلُّها ذُكُورًا، أجْزَأ الذَّكَرُ في الغَنَمِ، وَجْهًا واحِدًا، ولأنَّ الزكاةَ مُواساةٌ، فلا يُكَلَّفُ المُواساةَ مِن غيرِ مالِه، ويَجُوزُ إخْراجُه في البَقَرِ في أصَحِّ الوَجْهَيْن لذلك. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَصَّ على المُسِنّاتِ في الأرْبَعِينات، فيَجِبُ اتِّباعُ مَوْرِدِه، فيُكَلَّفُ شِراءَها إذا عَدِمَها، كما لو لم يَكُنْ في ماشِيَتِه إلا مَعِيبًا. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّا قد جَوَّزْنا الذَّكَرَ في الغَنَمِ، مع أنَّه لا مَدْخَلَ له في زَكاتِها مع وُجُودِ الإِناثِ، فالبَقَرُ التى للذَّكَرِ فيها مَدْخَلٌ أوْلَى. وفى الإِبِلِ وَجْهان؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 316.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْجَهُهما ما ذَكَرْنا. وْالفَرْقُ بينَ النُّصُبِ الثَّلاثَةِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَصَّ على الأُنْثَى في فَرائِضِ الإِبِلِ والبَقَرِ، وأطْلَقَ الشّاةَ الواجِبَةَ، وقال في الإِبِلِ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ بِنْتَ مَخَاضٍ، أخْرَجَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا» (¬1). ومِن حيث المَعْنَى أنَّ الإِبِلَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُها بزيادَةِ السِّنِّ، فإذا جَوَّزْنا إخْرِاجَ الذَّكَرِ أفْضَى إلى التَّسْوِيَةِ بينَ الفَرْضَيْن؛ لأنَّه يُخْرِجُ ابنَ لَبُونٍ عن خمْسٍ وعِشْرِين للخبَرِ، وعن سِتٍّ وثَلاِثين، وهذا المَعْنَى يَخْتَصُّ الإِبِلَ. فعلى هذا يُخْرِجُ أُنْثَى ناقِصَةً بقَدْرِ قِيمَةِ الذَّكَرِ. فإن قِيلَ: فالبَقَرُ أيضًا يَأْخُذُ منها تَبِيعًا عن ثَلاِثين، وتَبِيعًا عن أرْبَعِين إذا كانت كلُّها أتْبِعَةً، وقُلْنا بِأخْذِ الصَّغِيرَةِ مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395 من حديث أنس.

862 - مسألة: (ويؤخذ من الصغار صغيرة، ومن المراض مريضة

وَيُؤْخَذُ مِنَ الصِّغَارِ صَغِيرَةٌ، وَمِنَ الْمِرَاضِ مَرِيضَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يُؤْخَذُ إِلَّا كَبِيرَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّغارِ. قلنا: هذا يَلْزَمُ مِثْلُه في إخْراجِ الأُنْثَى، فلا فَرْقَ. ومَن جَوَّزَ إخْراجَ الذَّكَرِ في الكلِّ، قال: يَأْخُذُ ابْنَ لَبُونٍ مِن خَمْسٍ وعِشْرِين، قِيمَتُه دُونَ قِيمَةِ ابنِ لَبُونٍ يَأْخُذُه مِن سِتَّةٍ وثَلاثِينَ، ويَكُونُ بينهما في القِيمَةِ كما بينَهما في العَدَدِ، ويَكُونُ الفَرْضُ بصِفَةِ المالِ، وإذا اعْتَبَرْنا القِيمَةَ لم يُرَدَّ إلى التَّسْوِيَةِ، كما قُلْنا في الغَنَمِ. ويَحْتَمِلُ أن يُخْرِجَ ابنَ مَخاضٍ عن خَمْسَةٍ وعِشْرِين مِن الإِبِلِ، فيَقُومَ الذَّكَرُ مَقامَ الأَنْثَى التى في سِنِّه، كَسائِرِ النُّصُبِ. 862 - مسألة: (ويُؤْخَذُ مِن الصِّغارِ صَغِيرَةٌ، ومِن المِراضِ مَرِيضَةٌ (¬1). وقال أبو بكرٍ: لا يُؤْخَذُ إلَّا كَبِيرَةٌ صَحِيحَةٌ على قَدْرِ المالِ) متى كان حالُ نصابٍ كلِّه صِغارًا جاز أخْذُ الصَّغِيرَةِ، في الصَّحِيحِ مِن ¬

(¬1) في م: «مريض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَذْهَبِ. وإنَّما يُتَصَوَّرُ ذلك بأن تُبَدَّلَ كِبارٌ بصِغارٍ في أثْناءِ الحَوْلِ، أو يَكُونَ عندَه نِصابٌ مِن الكِبارِ، فتَوالَدَ نِصابًا مِن الصِّغارِ.، ثم تَمُوتَ الأُمَّهاتُ، ويَحُولَ الحَوْلُ على الصِّغارِ. وقال أبو بكرٍ: لا يُؤْخذُ إلَّا كَبِيرَةٌ تجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ. وهو قولُ مالكٍ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما حَقُّنَا فِى الجَذَعَةِ أوِ الثَّنِيَّةِ» (¬1). ولأنَّ زِيادَةَ السِّنِّ في المالِ لا يَزِيدُ بها الواجِبُ، كذلك نُقْصانُه لا يَنْقُصُ به. ولَنا، قولُ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ الله عنه: واللهِ لو مَنَعُونِى عَناقًا كانُوا يُؤَدُّونَها إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلْتُهم عليها (¬2). فدَلَّ على أنَّهم كانوا يُؤَدُّونَ العَناقَ، ولأنَّه مالٌ تَجِبُ فيه الزكاةُ مِن غيرِ اعْتِبارِ قِيمَتِه، فيُجْزِئُ الأخْذ مِن عَيْنِه، كسائِرِ الأمْوالِ. وأمّا زِيادَة السِّنِّ، فليس يَمْتَنِعُ الرِّفْقُ بالمالكِ في المَوْضِعَيْن، كما [أنَّ ما] (¬3) دُونَ النِّصابِ عَفْوٌ، وما فَوْقَه عَفْوٌ، والحديثُ مَحْمُولٌ على مالٍ فيه كبارٌ، ¬

(¬1) لم يرد مرفوعًا بهذا اللفظ. وقريب منه ما يورده المصنف في صفحة 443 من حديث سعر بن ديسم، من رواية الطبراني في الكبير 7/ 202. وفيه أن هذا من كلام المصدق وليس النبي - صلى الله عليه وسلم -. وانظر نصب الراية 2/ 354. وتلخيص الحبير 2/ 153. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ ما ذَكَرَه شيخُنا ههُنا، وقولُ الأصحابِ أنَّ الحُكْمَ في الفُصْلانِ والعُجُولِ، كالحُكْمِ في السِّخالِ؛ لِما ذَكَرْنا في الغَنَمِ، ويَكُونُ التَّعْدِيلُ بالقِيمَةِ مكانَ زِيادَةِ السِّنِّ، كما قُلْنا في إخْراجِ الذَّكَرِ مِن الذُّكُورِ، قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ إخْراجُ الفُصْلانِ والعُجُولِ، وهو قولُ الشافعىِّ؛ لِئلَّا يُفْضِىَ إلى التَّسْوِيَةِ بينَ الفُروضِ، فيُخْرِجَ ابْنَةَ مَخاضٍ عن خَمْسٍ وعِشْرِين، وسِتٍّ وثَلاثِين وسِتٍّ وأرْبَعِين، وإحْدَى وسِتِّين، ويُخْرِجَ ابْنَتَىِ اللَّبُونِ عن. سِتٍّ وسَبْعِين، وإحْدَى وتِسْعِين، ومائةٍ وعِشْرِين، ويُفْضِىَ إلى (¬2) الانْتِقَالِ مِن بِنْتِ اللَّبُونِ الواحِدَةِ مِن إحْدَى وسِتِّين إلى ابْنَتَىْ لَبُونٍ في سِتٍّ وسَبْعِين، مع تَقارُبِ الوَقْصِ بينَهما، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 48. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينَهما في الأصْلِ أرْبَعون، والخَبَرُ وَرَد في السِّخالِ، فيَمْتَنِعُ قِياسُ الفُصْلانِ والعُجُولِ عليها؛ لِما ذَكَرْنا مِن الفَرْقِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك إذا كان النِّصابُ كلُّه مِراضًا، فالصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ جَوازُ إخْراجِ الفَرْضِ منه، ويَكُونُ وَسَطًا في القِيمَةِ، ولا اعْتِبارَ بقِلَّةِ العَيْبِ وكَثْرَتِه؛ لأنَّ القِيمَةَ تَأْتِى على ذلك. وهو قولُ الشافعىِّ، وأبي يُوسُف، ومحمدٍ. وقال مالكٌ: إن كانت كلُّها جَرْباءَ أخْرَجَ جَرْباءَ، وإن كانت هَتْماءَ كُلِّفَ شِراءَ صَحِيحَةٍ. وقال أبو بكرٍ: لا يُجْزِئُ إلَّا صَحِيحَةٌ، لأنَّ أحمدَ قال: لا يُؤْخَذُ إلَّا ما يَجُوزُ في الأضاحِى، وللنَّهْىِ عن أخْذِ ذاتِ العَوارِ، فعلى هذا يُكَلَّفُ شِراءَ صَحِيحَةٍ بقَدْرِ قِيمَةِ المَرِيضَةِ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ» (¬1). وقال: «إنَّ اللهَ لَمْ يَسأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّ مَبْنَى الزكاةِ على المُواسَاةِ، وتَكْلِيفُ الصَّحِيحَةِ عن المِراضِ إخْلالٌ بالمُواساةِ، ولهذا يَأْخُذُ مِن الرَّدِئِ مِن الحَيَوانِ والثِّمارِ مِن جِنْسِه، ومِن اللِّئامِ والهُزالِ مِن المَواشِى مِن جنْسِه، كذا هذا. وأمّا الحَدِيثُ فيُحْمَلُ على ما إذا كان فيه صَحِيحٌ، فإنَّ الغَالِبَ الصِّحَّةُ. وإن كان في النِّصابِ بعضُ الفَريضَةِ صَحِيحًا، أخْرَجَ الصَّحِيحَةَ، وتَمَّمَ الفَرِيضَةَ مِن المِراضِ على قَدْرِ المالِ، ولا فَرْقَ في هذا بينَ الإِبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ. والحُكْمُ في الهَرِمَةِ والمَعِيبَةِ كالحُكْمِ في المَرِيضَةِ سَواءٌ؛ لأنَّها في مَعْناها. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، وفى صفحة 291. من حديث معاذ. (¬2) في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 365.

863 - مسألة: (فإن اجتمع كبار وصغار، وصحاح ومراض، وذكور وإناث، لم يؤخذ إلا أنثى كبيرة صحيحة على قدر قيمة المالين)

فَإِنِ اجْتَمَعَ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، وَصِحَاحٌ وَمِرَاضٌ، وَذُكُورٌ وَإنَاثٌ، لَمْ يُؤْخَذْ إِلَّا أُنْثَى صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 863 - مسألة: (فإنِ اجْتَمَعَ كِبارٌ وصِغارٌ، وصِحاحٌ ومِراضٌ، وذُكُورٌ وإناثٌ، لم يُؤْخَذْ إلَّا أُنْثَى كَبِيرَةٌ صَحِيحَةٌ على قَدْرِ قِيمَةِ المَالَيْن) متى كان عندَه نِصابٌ، فنَتَجَتْ منه سِخالٌ في أثْناءِ الحَوْلِ، وجَبَتِ الزكاةُ في الجَمِيعِ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ، وكأَنَّ حَوْلَ السِّخالِ حَوْلُ أصْلِها. وحُكِىَ عن الحسنِ، والنَّخَعِىِّ: لا زَكاةَ في السِّخالِ حتى يَحُولَ عليها الحَوْلُ؛ لقولِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ فِى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ» (¬1). ولَنا، قولُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، لساعِيه: اعْتَدَّ عليهم بالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بها الرّاعِى على يَدَيْه، ولا تَأْخُذْها منهم (¬2). وهو مَذْهَبُ عليٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، ولا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ في الصَّحابَةِ، فكان إجْماعًا. والخَبَرُ مَخْصُوصٌ بمالِ التِّجارَةِ، فإنَّه يُضَمُّ إليه نَماؤُه بالاتِّفاقِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 354.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُقاسُ عليه. والحُكْمُ في فُصْلانِ الإِبِلِ، وعَجاجِيلِ البَقَرِ، كالحُكْمِ في السِّخالِ. إذا ثَبَت هذا فإنَّ السَّخْلَةَ لا تُؤْخَذُ في الزكاةِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قولِ عُمَرَ، ولِما ذَكَرْنا في المَسألَةِ التى قَبْلَها. فصل: وإن كان في النِّصابِ ذُكُورٌ وإناثٌ، لم يُؤْخَذْ إلَّا أُنْثَى. وقد ذَكَرْنا ذلك. وإن كان فيه صِحاحٌ ومِراضٌ، أخْرَجَ صَحِيحَةً قِيمَتُها على قَدْرِ قِيمَةِ المالَيْن، ولا يَجُوزُ إخراجُ المَرِيضَةِ، لقولِه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). ولقولِه عليه السلامُ: «وَلَا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إلَّا أنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ» (¬2). وإن كان النِّصابُ كلُّه مِراضًا إلَّا مِقْدارَ الفَرْضِ، فهو مُخَيَّرٌ بينَ إخْراجِه، وبينَ شِراءِ فَرِيضَةٍ قَلِيلَةِ القِيمَةِ فيُخْرِجُها، ولو كانتِ الصَّحِيحَةُ غيرَ الفَرِيضَةِ بعَدَدِ الفَرِيضَةِ، مثلَ مَن وَجَب عليه ابْنَتا لَبُونٍ، وعندَه حُواران (¬3) صَحِيحان، فإنَّ عليه شِراءَ صَحِيحَتَيْن، فيُخْرِجُهما. وإن وَجَبَتْ عليه حِقَّتان وعندَه ابْنَتا لَبُونٍ صَحِيحَتان، خُيِّرَ بينَ إخْراجِهما مع الجُبرانِ، وبينَ شِراءِ حِقَّتَيْن صَحِيحَتَيْن على قَدْرِ قِيمَةِ المالِ. وإن كان ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 395 من حديث أنس. (¬3) الحوار، بالضم وقد يكسر: ولد الناقة صاعة تضعه أو إلى أن يفصل عن أمه.

864 - مسألة: (وإن كان نوعين؛ كالبخاتى والعراب

وَإنْ كَانَ نَوْعَيْنِ؛ كَالْبَخَاتِىِّ وَالْعِرَابِ، وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ، وَالْضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَه جَذَعَتانْ صَحِيحَتان، فله إخْراجُهما مع أخْذِ الجُبْرانِ. وإن كان عليه حِقَّتان، ونِصْفُ مالِه صَحِيحٌ، ونِصْفُه مَرِيضٌ، فقال ابنُ عَقِيلٍ: له إخْراجُ حِقَّةٍ صَحِيحَةٍ وحِقَّةٍ مَرِيضَةٍ، لأنَّ النِّصْفَ الذى يَجِبُ فيه إحْدَى الحِقَّتَيْن مَرِيضٌ كلُّه. والصَّحِيحُ في المَذْهَبِ خِلافُ ذلك؛ لأنَّ في مالِه صَحِيحًا ومَرِيضًا، فلم يَمْلِكْ إخراجَ مَرِيضَةٍ، كما لو كان نِصابًا واحِدًا، ولم يَتَعَيَّنِ النِّصْفُ الذى وَجَبَتْ فيه الحِقَّةُ في المِراضِ، وكذلك لو كان لشَرِيكَيْن، لم يَتَعَيَّنْ حَقُّ أحَدِهما في المِراضِ دُونَ الآخَرِ. وإن كان النِّصابُ كلُّه صَحِيحًا، لم يَجُزْ إخْراجُ المَعِيبَةِ وإن كَثُرَتْ قِيمَتُها، للنَّهْىِ عن أخْذِها، ولِما فيه مِنْ الإِضْرارِ بالفُقَراءِ، ولهذا يُسْتَحَقُّ رَدُّها في البَيْعِ وإن كَثُرتْ قِيمَتُها. 864 - مسألة: (وإن كان نَوْعَيْن؛ كالبَخاتِىِّ والعِرابِ (¬1)، ¬

(¬1) البخاتي: الإِبل الخراسانية. والعراب: الإبل العربية الخالصة.

أَوْ كَانَ فِيهِ كِرَامٌ وَلِئَامٌ، وَسِمَانٌ وَمَهَازِيلُ، أُخِذَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبَقَرِ والجَوامِيسِ، والضَّأْنِ والمَعْزِ، أو كان فيه كِرامٌ ولِئامٌ، وسِمانٌ ومَهازِيلُ، أُخِذَتِ الفَرِيضَةُ مِن أحَدِهما على قَدْرِ قِيمَةِ المالَيْن) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في ضَمِّ أنْواعِ الأجْناسِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، في إيجابِ الزكاةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ مَن نحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على ضَمِّ الضَّأْنِ إلى المَعْزِ. إذا ثَبَت هذا فإنَّه يُخْرِجُ الزكاةَ مِن أىِّ الأنْواعِ أحَبَّ، سَواءٌ دَعَتِ الحاجَةُ إلى ذلك، بأن يَكُونَ الواجِبُ واحِدًا، و (¬1) لا يَكُونَ أحَدُ النَّوْعَيْن مُوجِبًا لواحِدٍ، أو لم تَدْعُ، بأن يَكُونَ كلُّ واحِدٍ مِن النَّوْعَيْن فيه فَرِيضَةٌ كامِلَةٌ، وقال عِكْرِمَةُ، ومالكٌ، وإسْحاقُ: يُخْرِجُ مِن أكْثَرِ العَدَدَيْنِ، فإنِ اسْتَوَيا أخْرَجَ مِن أيِّهِما شاء، وقال الشافعيُّ: القِياسُ أن يُؤْخَذَ مِن كلِّ نَوْعٍ ما يَخُصُّه. اخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّها أنْوَاعٌ تَجِبُ فيها الزكاةُ، فتَجِبُ زكاةُ كلِّ نَوْعٍ منه، كأنْواعِ الثَّمَرَةِ والحُبُوبِ. ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّهما نَوْعا جِنْسٍ مِن الماشِيَةِ، فجاز الإِخْراجُ مِن أيِّهما شاء، كما لو اسْتَوَى العَدَدانِ، وكالسِّمانِ والمَهازِيلِ، وما ذَكَرَه الشافعيُّ يُفْضِى إلى تَشْقِيصِ الفَرْضِ، وقد عَدَل إلى غَيْرِ الجِنْسِ فيما دُونَ خَمْسٍ وعِشرِين مِنِ الإِبِلِ مِن أجْلِ ذلك، فالعُدُولُ إلى النَّوْعِ أوْلَى. إذا ثَبَت ذلك، فإنه يُخرِجُ مِن أحَدِ النَّوْعَيْن ما قِيمَتُه كقِيمَةِ المُخْرَجِ مِن النَّوْعَيْن، فإذا كان النَّوْعان سَوِاءً، وقِيمَةُ المُخْرَجِ مِن أحَدهما اثْنَىْ عَشَرَ، وقِيمَةُ المُخْرَجِ مِن الآخرِ خَمْسةَ عَشَرَ، أخْرَجَ مِن أحَدِهما ما قِيمَتُه ثَلاَثةَ عَشَرَ، وإن كان الثُّلُثُ مَعْزًا، والثُّلُثان ضَأْنًا، أخْرَجَ ما قِيمَتُه أرْبَعَةَ عَشَرَ، وإن كان بالعَكْسِ، أخْرَجَ ما قِيمَتُه ثلاثةَ عَشَرَ. وإن كان في إبِلِه عَشْرٌ بَخاتِيٌّ، وعَشْرٌ مَهْرِيَّةٌ (¬1)، وعَشْرٌ عِرابِيَّةٌ، وقِيمَةُ ابْنَةِ المَخاضِ البُخْتِيةِ ثَلاُثون والمَهْرِيَّةِ أرْبَعَةٌ وعِشْرُون، والعِرابِيَّةِ اثْنا عَشَر، أخْرَجَ ابْنَةَ مَخاضٍ قِيمَتُها ثُلُثُ قِيمَةِ بِنْتِ مَخاضٍ بخْتِيَّةٍ، وهو عَشَرَةٌ، وثُلُثُ قِيمَةِ مَهْرِيَّةٍ ثَمانِيَةٌ، وثُلُثُ قِيمَةِ عِرابِيَّةٍ أرْبَعَةٌ، فصار الجَمِيعُ اثْنَيْن وعِشْرِين. وكذلك الحُكْمُ في أنْواعِ البَقَرِ، وفى السِّمانِ مع المَهازِيلِ، والكَرائِمِ مع اللِّئامِ. ¬

(¬1) نسبة إلى مهرة بن حيدان، بطن من بطون قضاعة من القحطانية، كانوا يقيمون باليمن تنسب إليهم الإِبل المهرية. معجم قبائل العرب 3/ 1151.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأوْلَى أن يُخْرِجَ عن ماشِيَتِه مِن نَوْعِها؛ فيُخْرِجُ عن البَخاتِىِّ بُخْتِيَّةً، وعن العِرابِ عِرابِيَّةً، وعن الكِرام كَرِيمَةً، فإن أخْرَجَ عن الكِرامِ هَزِيلَةً بقِيمَةِ السَّمِينَةِ جاز. ذَكَرَه أبو بكَرٍ. وحُكِىَ غن القاضى أنَّه لا يَجُوزُ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ القِيمَةَ مع اتِّحادِ الجِنْسِ هى المَقْصُودَةُ، فإن أخْرَجَ عن النِّصاب مِن غيرِ نَوْعِه ممَّا ليس في مالِه منه شئٌ ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُجْزِئُ؛ لأنَّه أخْرَجَ عنه مِن جِنْسِه، فجازَ كما لوْ أخْرَجَ من أحَدِ النَّوْعَيْنِ عنهما. اخْتاره أبو بكرٍ. والثانِي. لا يُجْزِئُ؛ لأنَّه أخرَجَ مِن غيرِ نَوْعِ مالِه، أشْبَهَ ما لو أخرَجَ مِن غيرِ الجِنْسِ، وفارَقَ ما إذا أخرَجَ مِن أحَدِ نَوْعَىْ مالِه؛ لأنَّه جاز فِرارًا مِن تَشْقِيصِ الفَرْضِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. واللهُ أعلمُ.

865 - مسألة: (ولا شئ فيها حتى تبلغ أربعين، فتجب فيها شاة، إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها [شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها]

فَصلٌ: النَّوْعُ الثَّالِثُ، الْغَنمُ، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَتَجِبُ فِيهَا شُاةٌ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاهٍ، ثُمَّ فِى كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَضِىَ الله عنه: (النَّوْعُ الثّالِثُ) في (الغَنَمِ). 865 - مسألة: (ولا شئَ فيها حتى تَبْلُغ أرْبَعِين، فَتَجِبُ فيها شاةٌ، إلى مِائَةٍ وعِشْرِين، فإذا زادَت واحِدَةً ففيها [شاتان إلى مِائَتَيْن، فإذا زادَت واحِدَةً فَفِيها] (¬1) ثَلاثُ شِياهٍ، ثُمَّ فِى كلِّ مائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) الأصْلُ في وُجُوبِ صَدَقَةِ الغَنَمِ السُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا السُّنَّةُ فما روَى أنَسٌ، في كتابِ الصَّدَقاتِ الذى كَتَبَه له أبو بكرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه (¬2)، أنَّه قال: «في صَدَقَةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها، إذا كانَتْ أرْبَعِين إلى عِشْرِين ومائَةٍ شاةٌ، فإذا زادَتْ على عِشْرِين ومائَةٍ إلَى مائَتَيْن، ففيها شاتان، فإذا زادَتْ على مائَتَيْن إلى ثلاِثمائةٍ ففيها ثَلاثُ شِيَاهٍ، فإذا زادَتْ على ثلاثمائَةٍ ففى كلِّ مائَةٍ شَاةٌ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كانَتْ سَائِمَةُ الرجلِ ناقِصَةً مِن أرْبَعِين شَاةً واحِدَةً فليس فيها صَدَقَةٌ، إلَّا أنْ يَشاءَ رَبُّها، وَلَا يُخْرِجُ في الصدَقَةِ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ، ولا تَيْسًا، إلَّا ما شاء المُصَدِّقُ» وأخْبارٌ سِوَى هذا. وأجْمَعَ المُسْلِمُون على وُجُوبِ الزكاةِ فيها، وهذا المَذْكُورُ ههُنا مُجْمَعٌ عليه، حَكاه ابنُ المُنْذِرِ، إلَّا أنَّه حُكِىَ عن مُعاذٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ الفَرْضَ لا يَتَغَيَّرُ بعدَ المِائَةِ وإحْدَى وعِشْرِين، حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْن واثْنَيْن وأرْبَعِين، ليَكونَ مِثْلَىْ (¬1) مائَةٍ وإحْدَى وعِشْرِين. ورَواه سَعِيدٌ، عن خالِدٍ، عن مُغِيرَةَ، عن الشَّعْبِىِّ، عن مُعاذٍ، أنَّه كان إذا بَلَغَتِ الشِّياهُ مائَتَيْن لم يُغَيِّرْها، حتى تَبْلُغَ أرْبَعِين ومائَتَيْن، فيَأْخُذَ منها ثَلاثَ شِياهٍ، فإذا بَلَغَت ثَلاثَمائَةٍ، لم يُغَيِّرْها، حتى تَبْلُغَ أرْبَعِين وثَلاَثماثَةٍ، فيَأخُذَ منها أرْبَعًا. ولا يَثْبُتُ عنه. والحديثُ الذى رَوَيْناهُ دَلِيلٌ على خِلافِ ما رُوِىَ عنه، والإِجماعُ على خِلافِ هذا القولِ دَلِيلٌ على فَسادِهِ، وما رَواه سَعِيدٌ مُنْقَطِعٌ؛ فإنَّ الشَّعْبِىَّ لم يَلْقَ مُعاذًا. وظاهِرُ المذْهَبِ أنَّ فَرْضَ الغَنَمِ لا يَتَغَيَّرُ بعدَ مائَتَيْن وواحِدَةٍ، حتى يَبْلُغَ أرْبَعَمِائةٍ، فيَجِبُ في كلِّ مِائةٍ شاةٌ، ويَكُونُ ما بينَ مائتَيْن وواحِدَةٍ إلى أرْبَعِمائةٍ وَقْصًا، وذلك مائةٌ وتِسْعَةٌ وتِسْعُون. وهذا قولُ أكْثَرِ العلماءِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّها إذا زادَتْ على ثَلاِثمائَةٍ واحِدَةً، ¬

(¬1) في م: «مثل».

866 - مسألة: (ويؤخذ من المعز الثنى، ومن الضأن الجذع)

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمَعْزِ الثَّنِىُّ، وَمِنَ الضَّأْنِ الْجَذَعُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيها أرْبَعُ شِياهٍ، ثم لا يَتَغَيَّرُ الفَرْضُ حتى تَبْلُغَ خَمْسَمائَةٍ، فيَكُونُ في كلِّ مائَةٍ شاةٌ، ويَكُونُ الوَقْصُ الكَبِيرُ ما بينَ ثَلاِثمائةٍ وواحِدَةٍ إلى خَمْسِمائةٍ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو قولُ النَّخَعِىِّ، والحسنِ بنِ صالِحٍ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل الثَّلاثَمائةٍ حَدًّا للوَقْصِ، وغايَةً، فيَجِبُ أن يَتَعَقَّبَه تَغَيُّرُ النِّصابِ، كالمائتَيْن. ولَنا، أنَّ قولَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإذَا زَادَتْ، فَفِى كُلِّ مائَةٍ شَاةٌ». يَقْتَضِى ألَّا يَجِبَ فيما دُونَ المائةِ شئٌ، وفى كِتابِ الصَّدَقاتِ الذى كان عندَ آلِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ: فإذا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمائةٍ وَاحِدَةً، فَلَيْس فِيهَا شَئٌ، حَتَّى تَبْلُغَ أرْبَعَمائةِ شَاةٍ، ففِيهَا أرْبَعُ شِيَاهٍ (¬1). وهذا صَرِيحٌ لا يَجُوزُ خِلافُه، وتَحْدِيدُ النِّصابِ لاسْتِقْرارِ الفَريضَةِ، لا لِلْغَايَةِ. 866 - مسألة: (ويُؤْخَذُ مِن المَعْزِ الثَّنِىُّ، ومِن الضَّأْنِ الجَذَعُ) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُجْزِئُ في صَدَقَةِ الغَنَمِ إلَّا الجَذَعُ مِن الضَّأْنِ، وهو ما لَه سِتَّةُ أشْهُرٍ، والثَّنِيُّ مِن المَعْزِ، وهو مالَه سَنَةٌ، فإن تَطَوَّعَ المالكُ بأعْلَى منهما في السِّنِّ، جاز؛ لِما نَذْكُرُه. فإن كان الفَرْضُ في النِّصابِ أخَذَه السّاعِى، وإن كان فَوْقَ الفَرْضِ خُيِّرَ المالِكُ بينَ دَفْعِ واحِدَةٍ منه، وبينَ شِراءِ الفَرْضِ فيُخْرِجُه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفة، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عنه: لا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيَّةُ منهما جَمِيعًا؛ لأنَّهما نَوْعا جِنْسٍ، فكان الفَرْضُ منهما واحِدًا، كالإِبِلِ والبَقَرِ. وقال مالكٌ: تُجْزِئُ الجَذَعَةُ منهما؛ لذلك، ولقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا حَقُّنَا في الجَذَعَةِ أوِ الثَّنِيَّةِ» (¬1). ولَنا، على أبى حنيفةَ هذا الخَبَرُ، وقولُ [سِعْر بنِ دَيْسَمَ] (¬2): أتانِى رجلان على بَعِيرٍ، فقالا: إنّا رسولا رسولِ اللهِ إليك، لتُؤَدِّىَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ. قلتُ: فأىَّ شئٍ تَأْخُذانِ؟ قالا: عَناقٌ، جَذَعَةٌ أو ثنِيَّةٌ. أخْرَجَه أبو داودَ (¬3). ولَنا على مالكٍ، ما رَوَى سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، قال: أتانا مُصَدِّقُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) تقدم إيراد المصنف للحديث بهذا السياق في صفحة 430. وأحلناه هناك على حديث سعر بن ديسم الآتي من رواية الطبراني في الكبير 7/ 202. (¬2) في م: «سعد بن دليم». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 364، 365. والنسائي، في: باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق، من كتاب الركاة. المجتبى 5/ 23. كما أخرجه البيهقي، في: باب لا يأخذ الساعى فوق ما يجب. . . .، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 96. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 414، 415.

867 - مسألة: (ولا يؤخذ)

وَلَا يُؤْخَذُ تَيْسٌ، وَلَا هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ؛ وَهِىَ الْمَعِيبَةُ،. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: أُمْرِنا أن نَأْخُذَ الجَذَعَةَ مِن الضَّأْنِ، والثَّنِيَّةَ مِن المَعْزِ (¬1). وهذا صَرِيحٌ، وفيه بَيانٌ للمُطْلَقِ في الحَدِيثَيْن قبلَه، ولأنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ تُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ، بخِلافِ جَذَعَةِ المَعْزِ؛ بدَلِيلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبِي بُرْدَةَ ابنِ نِيَارٍ (¬2)، في جَذَعَةِ المَعْزِ: «تُجْزِئُ عَنْكَ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ» (¬3). 867 - مسألة: (ولا يُؤْخَذُ) في الصَّدَقَةِ (تَيْسٌ، ولا هَرِمَةٌ، ولا ذاتُ عَوارٍ؛ وهى المَعِيبَةُ) هذه الثَّلاثُ لا تُؤْخَذُ لدَناءَتِها، ولقولِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 364. والنسائي، في: باب الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 21. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 315. كما أخرجه الدارقطنى، في: باب تفسير الخليطين، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 104. والبيهقي، في: باب لا يؤخذ كرائم أموال الناس، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 101. (¬2) في م: «دينار». (¬3) أخرجه البخارى، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة. . . .، وباب الذبح بعد الصلاة، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد، من كتاب الأضاحى. صحيح البخاري 7/ 131 - 133. ومسلم، في: باب وقتها [أى الأضحية]، من كتاب الأضاحي. صحيح مسلم 3/ 1552، 1553. وأبو داود، في: باب ما يجوز في الضحايا من السن، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 87. والترمذى، في: باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 306. والنسائي، في: باب ذبح الضحية قبل الإِمام، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 196. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 282، 298، 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). ولأنَّ في حَدِيثِ أنَسٍ: «وَلَا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، ولا تَيْسٌ، إلَّا أنْ يَشَاءَ المُصَدِّقُ» (¬2). وقد قِيلَ: لا يُؤْخَذُ تَيْسُ الغَنَمِ لفَضِيلَتِه. وكان أبو عُبَيْدٍ يَرْوِى هذا الحَدِيثَ: «إلَّا مَا شَاءَ المُصَدَّقُ» (¬3). بفَتْحِ الدّالِ يَعْنِى صاحِبَ المالِ. فعلى هذا يَكُونُ الاسْتِثْناءُ في الحَدِيثِ راجِعًا إلى التَّيْسِ وَحْدَه. وذَكَر الخَطّابِىُّ (¬4) أنَّ جَمِيعَ الرُّواةِ يُخالِفُونَه في هذا، فيَرْوُونَه: «المُصَدِّقُ». بكَسْرِ الدّالِ. أى العامِلُ. وقال: التَّيْسُ لا يُؤْخَذُ؛ لنَقْصِه، وفسادِ لَحْمِه. وعلى هذا لا يَأْخُذُ المُصَدِّقُ، وهو السّاعِى، أحَدَ هذه الثَّلاثةِ، إلَّا أن يَرَى ذلك، بأن يَكُونَ جَمِيعُ المالِ مِن جِنْسِه، فيَكُونُ له أن يَأْخُذَ مِن جِنْسِ المالِ، فيَأْخُذُ هَرِمَةً مِن الهَرِماتِ، ومَعِيبَةً مِن المَعِيباتِ، وتَيْسًا مِن التُّيُوسِ. وقال مالكٌ، ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 395. (¬3) في: الأموال 3991. (¬4) في: معالم السنن 2/ 26.

868 - مسألة: (ولا الربى؛ وهى التى تربى ولدها، ولا الماخض، ولا كرائم المال، إلا أن يشاء ربه)

وَلا الرُّبَّى؛ وَهِىَ الَّتِى تُرَبِّى وَلَدَهَا، وَلَا الْحَامِلُ، وَلَا كَرَائِمُ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ: إن رَأى السّاعِى أنَّ أخْذَ هذه الثَّلاثِ خَيْرٌ له، وأنْفَعُ للفُقَراءِ، فله أخْذُها؛ لظاهِرِ الاسْتِثْناء. ووَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْنا. ولأنَّ في أخْذِ المَعِيبَةِ عن الصِّحاحِ إضْرارًا بالفُقَراءِ، ولذلك يَسْتَحِقُّ رَدُّها في البَيْعِ، ولأنَّهَا مِن شِرارِ المالِ، وقد قال عليه السلامُ: «إنَّ اللهَ لم يَسْأَلْكُمْ خيْرَهُ، ولم يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ» (¬1). 868 - مسألة: (ولا الرُّبَّى؛ وهى التى تُرَبِّى وَلَدَها، ولا الماخِضُ، ولا كَرائِمُ المالِ، إلَّا أن يَشاءَ رَبُّه) الرُّبَّى؛ قَرِيبَةُ العَهْدِ بالوِلادَةِ، تقولُ العَرَبُ: في رِبابِهَا. كما تَقُولُ: في نِفاسِها. قال الشاعرُ: * حَنِينَ أُمِّ الْبَوِّ في رِبابِهَا * (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 365. (¬2) أنشده منتجع بن نبهان. وهو في اللسان (رب ب) 1/ 404، وتاج العروس 1/ 263. والبوّ: ولد الناقة. أو جلده بعد موته يُحشى تبنا ويقرب من أمه لتعطف عليه فتدر اللبن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ: والماخِضُ التى قد حان وِلادُها، فإن لم يَقْرُبْ وِلادُها، فهى خَلِفَةٌ. وهذه الثَّلاثَةُ لا تُؤْخَذُ لحقِّ رَبِّ المالِ، ولا تُؤْخَذُ أيضًا الأكُولَةُ؛ لذلك. قال عُمَرُ، رَضِىَ اللهُ عنه، لساعِيه: لا تَأْخُذِ الرُّبَّى ولا الماخِضَ، ولا الأكُولَةَ. وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولا فَحْل الغَنَمِ. فإن تَطَوَّعَ رَبُّ المالِ بإخْراجِها جاز أخْذُها، وله ثَوابُ الفَضْلِ، لأنَّ الحَقَّ له فجاز برِضاه، كما لو دَفَع فَرْضَيْن مكانَ فَرْضٍ. وإذا تَقَرَّرَ أنَّه لا يَجُوزُ أخْذُ الرَّدِئِ لأجْلِ الفُقَراءِ، ولا كَرائِمِ المالِ مِن أجْلِ أرْبابِه، ثَبَت أنَّ الحَقَّ في الوَسَطِ مِنْ المالِ. قال الزُّهْرِىُّ: إذا جاء المُصَدِّق قَسَّمَ الشِّياهَ ثَلاثًا؛ ثُلُثٌ خِيارٌ، وثُلُثٌ أوْساطٌ، وثُلُثٌ شِرارٌ، وأخَذَ مِن الوَسَطِ. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه (¬2). والأحادِيثُ تَدُلُّ على نَحْوِ هذا، فروَى أبو داودَ والنَّسائِىُّ، بإسْنادِهِما عن [شِعْرِ بنِ دَيْسَمَ] (¬3) قال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، وفى صفحة 291. من حديث معاذ. (¬2) روى الخبرين، البيهقى، في: باب لا يؤخذ كرائم الناس، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 04/ 102. وعبد الرزاق، في: باب ما يعدُّ كيف تؤخذ الصدقة، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 12، 13، 15. وروى خبر الزهرى، ابن أبى شيبة، في: باب في المصدق ما يصنع بالغنم، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 135. (¬3) في م: «سعد بن دليم».

869 - مسألة: (ولا يجوز إخراج القيمة. وعنه، فيجوز)

وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كنتُ في غَنَمٍ لى، فجاءَنِى رجلان على بَعِير، فقالا: إنّا رسولَا رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إليك لتُؤَدِّىَ إلينا صَدَقَةَ غَنَمِك. قلتُ: وما علىَّ فيها؟ قالا: شاةٌ. فأعْمَدُ إلى شَاةٍ قد عَرَفْتُ مَكانَهَا مُمْتَلِئَةً مَخْضًا وشَحْمًا، فأخْرَجْتُها إليهما. قالا: هذه شافِعٌ، وقد نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نَأْخُذَ شاةً شافِعًا (¬1). والشّافِعُ: الحامِلُ؛ سُمِّيَتْ بذلك لأنَّ وَلَدَها قد شَفَعَها. والمَخْضُ: اللَّبَنُ. ورَوَى أبو داودَ بإسْنادِه عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَأنَّهُ لَا إلهَ إلَّا هُوَ، وَأعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، وَلَمْ يُعْطِ الهَرِمَةَ، وَلَا الدَّرِنَةَ، وَلَا المَرِيضَةَ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، ولَكِنْ مِنْ وَسَطِ أمْوالِكُمْ، فَإنَّ اللهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ» (¬2). رَافِدَةً؛ مُعِينَةً؛ والدَّرِنَةُ؛ الجَرْباءُ، والشَّرَطُ؛ رُذالَةُ المالِ. 869 - مسألة: (ولا يَجُوزُ إخْراجُ القِيمَةِ. وعنه، فيَجُوزُ) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَجُوزُ إخْراجُ القِيمَةِ في شئٍ مِن الزَّكَواتِ. وبه قال مالكٌ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 443. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: يَجُوزُ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ ابنِ عبدِ العزِيزِ، والحسنِ. وعن أحمدَ مثلُ قَوْلِهم فيما عدا زكاةَ الفِطْرِ. فأمّا زكاةُ الفِطْرِ فقد نَصَّ على أنَّه لا يَجُوزُ. قال أبو داودَ: قِيلَ لأحمدَ: وأنا أُعْطِى دَراهِمَ. يَعْنِى في صَدَقَةِ. الفِطْرِ، قال: أخافُ أن لا يُجْزِئَه خِلافُ سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو طالِبٍ: قال أحمدُ: لا يُعْطِى قِيمَتَه. قِيلَ له: قَوْمٌ يَقُولُون: عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ كان يأْخُذُ بالقِيمَةِ. قال: يَدَعُون قولَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويَقُولُون قالَ فُلانٌ! قال ابنُ عُمَرَ: فَرَض رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وقال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬2). ونُقِلَ عن أحمدَ في غيرِ زكاةِ الفِطْرِ جَوازُ إخْراجِ القِيمَةِ. قال أبو داودَ: وسُئِلَ أحمدُ عن رجلٍ باع ثَمَرَةَ نَخْلِه. قال: عُشْرُه على الذي باعَه. قِيلَ له: فَيُخْرِجُ تَمْرًا، أو ثَمَنَه؟ قال: إن شاء أخْرَجَ تَمْرًا، وإن شاء أخْرَجَ مِن الثَّمَنِ. ووَجْهُ ذلك قولُ مُعاذٍ لأهْلِ اليَمَنِ: ائْتُونِي بخمِيسٍ. (¬3) أو لَبِيسٍ (¬4) آخُذُه منكم، فإنَّه أيْسَرُ عليكم، ¬

(¬1) يشير إلى حديث ابن عمر في زكاة الفطر، ويأتي في موضعه في أول باب زكاة الفطر إن شاء الله تعالى. (¬2) سورة النساء 59. (¬3) الثوب الخميس: الذى طوله خمسة أذرع، يعنى الصغير من الثياب. منسوب لملك باليمن يقال له الخمس؛ لأنه أول من عمله. (¬4) اللبيس: الثوب قد كثر لبسه فأخلق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنْفَعُ للمُهاجِرِين بالمَدِينَةِ (¬1). ورَوَى سَعِيدٌ، بإسْنادِه، قال: لَمّا قَدِمْ مُعاذٌ إلى اليَمَنِ، قال: ائْتُونِي بعَرْضِ ثِيابٍ آخُذُه مِنكم مكانَ الذُّرَةِ والشَّعِيرِ، فإنَّه أهْوَنُ عليكم، وخَيْرٌ للمُهاجِرِين بالمَدِينَةِ. ولأنَّ المَقْصُودَ دَفْعُ حاجَةِ الفُقَراءِ، ولا يَخْتَلِفُ ذلك باخْتِلافِ صُوَرِ الأمْوالِ إذا حَصَلَتِ القِيمَةُ. ولَنا، قولُ ابنِ عُمَرَ: فَرَض رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الفِطْرِ صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ. فإذَا عَدَل عن ذلك فقد تَرَك المَفْرُوضَ. وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فِى أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬2)، «وفِى مِائَتَىْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» (¬3). وهو وارِدٌ بَيانًا لقَوْلِه تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4). فتَكُونُ الشّاةُ المذْكُورَةُ هى المَأْمُورُ بها، والأمْرُ للوُجُوبِ. وفى كِتابِ أبى بكرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه (¬5): ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: باب ليس في الخضروات صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 100. والبيهقي، في: باب من أجاز أخذ القيم في الزكوات، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 113. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 316. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 313. (¬4) سورة البقرة 43. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ التى فَرَضَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وفَسَّرَها بالشّاةِ والبَعِيرِ. والفَرِيضَةُ واجِبَةٌ، والواجِبُ لا يَجُوزُ تَرْكُه. وقَوْلُه عليه السلامُ: «فَإنْ لَمْ يَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَابْنُ لبونٍ ذَكَرٌ». يَمْنَعُ إخْراجَ ابْنَةِ اللَّبُون مع وُجُودِ ابْنَةِ المَخاضِ، ويَدُلُّ على أنَّه أرادَ البَعِيرَ دُونَ المالِيَّةِ؛ فإنَّ خَمْسًا وعِشْرِين مِن الإِبِلِ لا تَخْلُو مِن مالِيَّةِ بِنْتِ مَخاضٍ، وإخْراجُ القِيمَةِ يُخالِفُ ذلك، ويُفْضِى إلى إخْراجِ الفَرِيضَةِ مكانَ الأُخْرَى مِن غيرِ جُبْرانٍ، وهو خِلافُ النَّصِّ. وقد رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمُعاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْبَعِيرَ مِنَ الإِبِلِ، وَالْبَقَرَ مِنَ الْبَقَرِ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1). ولأنَّ الزكاةَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب صدقة الزرع، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 370. وابن ماجه، في: باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 580.

870 - مسألة: (وإن أخرج سنا أعلى من الفرض من جنسه، جاز)

وَإِنْ أَخْرَجَ سِنًّا أَعْلَى مِنَ الْفَرْضِ مِنْ جِنْسهِ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَبَتْ لدَفْعِ حاجَةِ الفَقِيرِ [وشُكْرًا لنِعْمَةِ المالِ، والحاجاتُ مُتَنَوِّعَةٌ، فيَنْبَغِى أن يَتَنَوَّعَ الواجِبُ؛ ليَصِلَ إلى الفَقِيرِ] (¬1) مِن كُلِّ نَوْعٍ ما تَنْدَفِعُ به حاجَتُه، ويَحْصُلُ شُكْرُ النِّعْمَةِ بالمُواساةِ مِن جِنْسِ ما أنْعَمَ اللهُ عليه، ولأنَّه عَدَل عن الجِنْسِ المَنْصُوصِ عليه، فهو كما لو عَدَل عنه إلى مَنافِعِ دارٍ أو عَبْدٍ أو ثَوْبٍ، وحَدِيثُ مُعاذٍ، الذى رَوَوْه في الجِزْيَةِ، بدَلِيلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه بتَفْرِيقِ الصَّدَقَةِ في فُقَرائِهِم، ولم يَأْمُرْه بِحَمْلِها. وفي حَدِيثِه هذا: فإنَّه أنْفَعُ للمُهاجِرِين بالمَدينَةِ. 870 - مسألة: (وإن أخْرَجَ سِنًّا أعْلَى مِن الفَرْضِ مِن جِنْسِه، جاز) وذلك مثلُ أن يُخرِجَ بِنْتَ لَبُونٍ عن بِنْتِ مَخاضٍ، أو عنِ الجَذَعَةِ ابْنَتَىْ لَبُونٍ أو حِقَّتَيْن، فإنَّ ذلك جائِزٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه زاد على الواجِبِ مِن جِنْسِه ما يُجْزِئُ عنه مع غيرِه، فكان مُجْزِئًا عنه على انْفِرادِه، كما لو كانتِ الزِّيادَةُ في العَدَدِ. وقد رَوَى الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬2)، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 142. وأبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 365، 366.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِهما عن أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ قال: بَعَثَنِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقًا، فَمَرَرْتُ برجلٍ، فلَمّا جَمَع لى مالَه لم أجِدْ عليه فيه إلَّا بِنْتَ مَخاضٍ. فقلتُ له (¬1): أدِّ بِنْتَ مَخاضٍ، فإنَّها صَدَقَتُكَ. فقال: ذاك ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهْرَ، ولكنْ هذه نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ، فخُذُوها. فقلتُ: ما أنا بآخِذٍ ما لم أُؤْمَرْ به، وهذا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منك قَرِيبٌ، فإن أحْبَبْتَ أن تَأْتِيَه فتَعْرِضَ عليه ما عَرَضْتَ علىَّ فافْعَلْ، فإن قَبِلَه منك قَبِلْتُه، وإن رَدَّه عليك رَدَدْتُه. قال: فإنِّى فاعِلٌ. فخَرَجَ معى، وخَرَج بالنّاقَةِ التى عَرَض علىَّ، حتى قَدِمْنا على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا نَبِىَّ اللهِ، أتَانِى رَسُولُكَ ليَأْخُذَ مِنِّى صَدَقَةَ مالِى، وايْمُ اللهِ، ما قام في مالِى رسولُ اللهِ ولا رَسُولُه قَطُّ قَبْلَه، فجَمَعْتُ له مالِى، فزَعَمَ أنَّ ما علىَّ فيه بِنْتُ مَخاضٍ، وذاك ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهْرَ، وقد عَرَضْتُ عليه ناقَةً فَتِيَّةً سَمِينَةً عَظِيمَةً ليَأْخُذَها فأبَى. وقال: ها هى ذِهِ، قد جِئْتُكَ بها يا رسولَ اللهِ، خُذْها. فقال له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكَ الَّذِى وَجَبَ عَلَيْكَ، فإنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ آجَرَكَ اللهُ فِيهِ، وقَبِلْنَاهُ مِنْكَ». قال: فها هى ذِهِ يا رسولَ اللهِ، قد جِئْتُكَ بها.- قال: فأمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقَبْضِها، ودَعا له في مالِه بالبَرَكَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل فى الخلطة

فَصْلٌ فِى الْخُلْطَةِ: وَإِذَا اخْتَلَطَ نَفْسَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فِى نِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ حَوْلًا، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ فِى بَعْضِه، فَحُكْمُهُمَا فِى الزَّكَاةِ حُكْمُ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خُلْطَةَ أَعْيَانٍ؛ بِأَنْ يَكُونَ مُشَاعًا بَيْنَهُمَا، أَوْ خُلْطَةَ أَوْصَافٍ؛ بِأَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا، فَخَلَطَاهُ وَاشْتَرَكَا فِى الْمُرَاحِ وَالْمَسْرَحِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَحْلَبِ وَالرَّاعِى وَالْفَحْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصلٌ في الخُلْطَةِ) 871 - مسألة: (وإذا اخْتَلَطَ نَفْسان أو أكْثَرُ مِن أهلِ الزكاةِ في نِصابٍ مِن الماشِيَةِ حَوْلًا، لَم يَثْبُتْ لهما حُكْمُ الانْفِرادِ في بَعْضِه، فحُكْمُهما في الزكاةِ حُكْمُ الواحِدِ، سَواءٌ كانت خُلْطَةَ أعْيانٍ؛ بأن يَكُونَ مُشاعًا بينَهما، أو خُلْطَةَ أوْصافٍ؛ بأن يَكُونَ مالُ كلِّ واحِدٍ منهما مُتَمَيِّزًا، فخَلَطاه واشْتَرَكا في المُراحِ والمَسْرَحِ والمَشْرَبِ والرّاعِي والفَحْلِ) الخُلْطَةُ في السّائِمَةِ تَجْعَلُ المالَيْن كالمالِ الواحِدِ إذا وُجِدَتْ فيها الشُّرُوطُ المَذْكُورَةُ، فتَجِبُ فيها الزكاةُ إذا بَلَغ المَجْمُوعُ نِصابًا. فإذا كان لكلِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ منهما عِشْرُوِن، فعليهما شاةٌ، وإن زاد المالان على النِّصاب، لم يَتَغَيَّرِ الفَرْضُ حتى يَبْلُغا فرِيضَةً ثانِيَةً، مثلَ أن يَكُونَ لكلِّ واحِدٍ منهما سِتُّون شاةً، فلا يَجِبُ عليهما إلَّا شاةٌ، وسَواءٌ كانت خُلْطَةَ أعْيانٍ؛ بأن تَكُونَ الماشِيَةُ مُشْتَرَكَة بينَهما، لكلِّ واحِدٍ منهما نَصِيبٌ مُشاعٌ، مثلَ أن يَرِثا نِصابًا أو يَشْتَرِياه، فيُبْقِياه بحالِه.، أو خُلْطَةَ أوْصافٍ؛ وهى أن يَكُونَ مالُ كلِّ واحِدٍ منهما مُتَمَيِّزًا، فخَلَطاه، واشْتَرَكا في الأوْصافِ التى ذَكَرْناها. وسَواءٌ تَساوَيا في الشَّرِكَةِ، أو اخْتَلَفا، مثلَ أن يَكُونَ لرجلٍ شاةٌ، ولآخَرَ تِسْعَةٌ وِثَلاُثون، أو يَكُونَ لأرْبَعِين رَجُلًا أرْبَعُون شاةً، لكلِّ واحِدٍ منهم شاةٌ. نصَّ عليهما أحمدُ. وهذا قولُ عَطاءٍ، والأوْزاعِىِّ،: اللَّيْثِ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. وقال مالكٌ: إنَّما تُؤَثِّرُ الخُلْطَةُ إذا كان لكلِّ واحِدٍ مِن الشُّرَكاءِ نِصابٌ. وحُكِىَ ذلك عن الثَّوْرِىِّ، وأبي ثَوْرٍ. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: لا أثَرَ لها بحالٍ؛ لأنَّ مِلْك كلِّ واحِدٍ دُونَ النِّصابِ، فلم يَجِبْ عليه زكاةٌ، كما لو انْفَرَدَ. [وله، فيما إذا اخْتَلَطا في نِصابَيْن] (¬1) أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَمْلِكُ أرْبَعِين مِن الغَنَمِ، فوَجَبَتْ عليه شاةٌ؛ لقَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «فِى أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬2). ولَنا، ما رَوَى ¬

(¬1) في الأصل: «وله على ملك». وفى م: «وعلى قول مالك». والمثبت هو الصواب. انظر المغنى 4/ 52. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 316.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البخارىُّ في حَدِيثِ أنَسٍ (¬1): «وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، ولا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فإنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا (¬2) بِالسَّوِيَّةِ». ولا يَجِئُ التَّراجُعُ إلَّا على قَوْلِنا في خُلْطَةِ الأوْصافِ. وقَوْلُه: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ». إنَّما يَكُونُ هذا إذا كان لجَماعَةٍ، فإنَّ الواحِدَ يَضُمُّ بَعْضَ مالِه إلى بَعْضٍ وإن كان في أماكِنَ، وهكذا قَوْله: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ». ولأنَّ للخُلْطَةِ تَأْثِيرًا في تَخْفِيفِ المُؤْنَةِ، فجاز أن تُؤَثِّرَ في الزكاةِ، كالسَّوْمِ، وقِياسُهم مع مُخالَفَةِ النَّصِّ غيرُ مَسْمُوعٍ. فصل: ويُعْتَبَرُ للخُلْطَةِ شُرُوطٌ أرْبَعَةٌ؛ أوَّلُها، أن يَكُونَ الخَلِيطان مِن أهلِ الزكاةِ، فإن كان أحَدُهما ذِمِّيًّا، أو مُكاتَبًا لم يُعْتَدَّ بخُلْطِته؛ لأنَّه لا زكاةَ في مالِه، فلم يَكْمُلِ النِّصابُ به. الثّانِى، أن يَخْتَلِطا في نِصابٍ؛ إمّا في خَمْسٍ مِن الإِبِلِ، أو ثَلاثِين مِن البَقَرِ، أو أرْبَعِين مِن الغَنَمِ، فإنِ اخْتَلَطا فيما دُونَ. النِّصابِ لم تُؤَثِّرِ الخُلْطَةُ، سواءٌ كان لهما مالٌ سِواه أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ المُجْتَمِعَ دُونَ النِّصابِ، فلم تَجِبِ الزكاةُ فيه. الثّالِثُ، أن يَخْتَلِطا في جَمِيعِ الحَوْلِ، فإنِ اخْتَلَطُوا في بعضِه لم يُؤَثِّرِ اخْتِلاطُهم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال الشافعيُّ في القول الجَدِيدِ. وقال مالكٌ: لا يُعْتَبَرُ اخْتِلاطُهم في أوَّلِ الحَوْلِ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ». يَعْنِى في وَقْتِ الزكاةِ. ولَنا، أنَّ هذا مالٌ ثَبَت له حُكْمُ الانْفِرادِ في بعضِ الحَوْلِ، أشبَهَ مالو انْفَرَدَ في آخِرِ الحَوْلِ، ولأنَّ الخُلْطَةَ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ به إيجابُ الزكاةِ، فاعْتُبِرَتْ في جَمِيعِ الحَوْلِ، كالنِّصابِ. الرّابعُ، أن يَكُونَ اخْتِلاطُهم في السّائِمَةِ. وسَنَذْكرُ ذلك، إن شاء الله تعالى. فصل: ويُعْتَبَرُ لخُلْطَةِ الأوْصافِ اشْتِراكُهم في الأوْصافِ المَذْكُورَةِ، وهى سِتَّةٌ؛ المُراحُ، وهو الذى تَرُوحُ إليه الماشِيَةُ، قال اللهُ تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (¬1). والمَسْرَحُ، وهو ¬

(¬1) سورة النحل 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَرْعَى الذى تَرْعَى فيه الماشِيَةُ، والمَحْلَبُ، المكانُ الذى تُحْلَبُ فيه الماشِيَةُ، وليس المُرادُ منه خَلْطَ اللَّبَنِ في إناءٍ واحِدٍ؛ لأنَّ هذا ليس بمَرْفَقٍ (¬1)، بل مَشَقَّةٌ، لِما فيه مِن الحاجَةِ إلى قَسْمِ اللَّبَنِ. والفَحْلُ، وهو أن لا يَكُونَ فُحُولَةُ أحدِ المالَيْن لا تَطْرُقُ غيرَه. والرّاعِى، وهو أن لا يَكُونَ لكلِّ مالٍ راعٍ، يَنْفرِدُ برِعاِيَتِه دُونَ الآخَرِ. والأصْلُ في هذه الشُّرُوطِ ما رَوَى سعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِى الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ والرَّاعِى». رَواه الدّارَقُطْنِىُّ (¬2). ورُوِىَ «المَرْعَى». وبنَحْوِ هذا قال الشافعىُّ. وقال ¬

(¬1) في م: «بموافق». (¬2) في: باب تفسير الخليطين. . . .، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضُ أصحاب مالكٍ: لا يُعْتَبَرُ إلَّا شَرْطان؛ الرّاعِى والمَرْعَى؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفرِّقٍ». والاجْتِماعُ يَحْصُلُ بذلك، ويُسَمَّى خُلْطَةً، فاكْتُفِىَ به. ولَنا، قَوْلُه: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِى الْحَوْضِ وَالرَّاعِى وَالْفَحْلِ». وحَكَى ابنُ أبى موسى، عن أحمدَ أنَّه لا يُعْتَبَرُ إلَّا الحَوْضُ والرّاعِى والمُراحُ. وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعِيدٌ؛ لأنَّه تَرَك ذِكْرَ الفَحْلِ وهو مَذْكُورٌ في الحَدِيثِ. فإن قِيلَ: فلِمَ اعْتَبَرتُمْ زِيادَةً على هذا؟ قُلنا.: هذا تَنْبِيهٌ على بَقِيَّةِ الشَّرائِطِ، وإلْغاءٌ لِما ذَكَرُوه، ولأنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن هذه الأوْصافِ تأْثِيرًا، فاعْتُبِرَ كالمَرْعَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الخُلْطَةِ. وحُكِىَ عن القاضى أنَّه اشْتَرَطَها. ولَنا، قولُه عليه - السلامُ: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِى الْحَوضِ وَالرَّاعِى والْفَحْلِ». ولأنَّ النِّيَّةَ لا تُؤَثِّرُ في الخُلْطَةِ، فلا تُؤَثِّرُ في حُكْمِها، ولأنَّ المَقْصُودَ مِن الخُلْطَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الارْتِفاقِ يَحْصُلُ بدُونِها، فلم يُعْتَبَرْ وُجُودُها معه،؛ لا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ السَّوْمِ في السّائِمَةِ، ولا نِيَّةُ السَّقْىِ في الزُّرُوعِ والثِّمارِ.

872 - مسألة: (فإن اختل شرط منها، أو ثبت لهما حكم الانفراد فى بعض الحول، زكيا زكاة المنفردين فيه)

فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا، أَوْ ثَبَتَ لَهُمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ فِى بَعْضِ الْحَوْلِ، زَكَّيَا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدَيْنِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 872 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ منها، أو ثَبَت لهما حُكْمُ الانْفِرادِ في بعضِ الحَوْلِ، زَكَّيا زَكاةَ المُنْفَرِدَيْن فيه) متى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِن شُرُوطِ الخُلْطَةِ المذْكُورَةِ بَطَل حُكْمُها لفَواتِ شَرْطِها، وصار وُجُودُها كعَدَمِها، فيُزَكِّى كلُّ واحِدٍ مالَه إن بَلَغ نِصابًا، وإلَّا فلا. وكذلك إن ثَبَت لهما حُكْمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الانْفِرادِ في بعضِ الحَوْلِ، كرجُلَيْن لهما ثَمانُون شاةً بينَهما نِصْفَيْن، وكانا مُنْفَرِدَيْن، فاخْتَلَطا في أثْناءِ الحَوْلِ، فعلى كلِّ واحِدٍ منهما عندَ تَمامِ حَوْلِه شاةٌ، وفيما بعدَ ذلك مِن السِّنِين يُزَكِّيان زَكاةَ الخُلْطَةِ. فإنِ اتَّفَقَ حَوْلاهما أخْرَجا شاةً عندَ تَمامِ الحَوْلِ على كلِّ واحِدٍ نِصْفُها، وإنِ اخْتَلَفَ، فعلى الأوَّل منهما عندَ تَمامِ حَوْلِه نِصْفُ شاةٍ، فإذا تَمَّ حَوْلُ الثّانِى، فإن كان الأوَّلِ أخْرَجَها مِن غيرِ المالِ، فعلى الثّانِى نِصْفُ شاةٍ أيضًا، وإن أخْرَجَها مِن النِّصابِ، فعلى الثّانِى أرْبَعُون جُزْءًا، مِن تِسْعَةٍ وسَبْعِين جُزءًا ونِصْفٍ مِن شاةٍ.

873 - مسألة: (وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد وحده، فعليه زكاة المنفرد، وعلى الثانى زكاة الخلطة، ثم يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة، كلما تم حول أحدهما، فعليه بقدر ماله منها)

وَإنْ ثَبَتَ لأحَدِهِمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُنْفَرِدِ، وَعَلَى الْآخَرِ زَكَاةُ الْخُلْطَةِ، ثُمَّ يُزَكِّيَانِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، كُلَّمَا تَمَّ حَوْلُ أحَدِهِمَا، فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَالهِ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 873 - مسألة: (وإن ثَبَت لأحَدِهما حُكْمُ الانْفِرادِ وَحْدَه، فعليه زَكاةُ المُنْفَرِدِ، وعلى الثّانِى زَكاةُ الخُلْطَةِ، ثم يُزَكِّيان فيما بَعْدَ ذلكَ الحَوْلِ زكاةَ الخُلْطَةِ، كُلَّما تَمَّ حَوْلُ أحَدِهِما، فعليه بقَدْرِ مالِه منها) يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ حُكْمِ الانْفِرادِ لأحَدِهما، بأن يَمْلِكَ رجلان نِصابَيْن فَيَخْلِطاهما، ثم يَبِيعَ أحَدُهما نَصِيبَه أجْنَبِيًّا، أو يَكُونَ لأحَدِهما نِصابٌ، وللآخَرِ دُونَ النصابِ، فيَخْتَلِطان في أثْناءِ الحَوْلِ، فإذا تَمَّ حَوْلُ الأوَّلِ فعليه شاةٌ، فإذا تَمَّ حَوْلُ الثّانِى فعليه زَكاةُ الخُلْطَةِ، على التَّفْصِيلِ المذْكُورِ. ويُزَكِّيان فيما بعدَ ذلك الحَوْلِ زَكاةَ الخُلْطَةِ، كلَّما تَمَّ حَوْلُ أحَدِهما فعليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَدْرِ مالِه منه، فإذا كان المالُ جَمِيعًا ثَمانِين شاةً، وأخْرَجَ الأوَّلُ منها شاةً عن الأرْبَعِين، فإذا تَمَّ حَوْلُ الثّانِى فعليه أرْبَعُون جُزْءًا، مِن تِسْعَةٍ وسَبْعِين جُزْءًا، فإن أخْرَجَ الشّاةَ كلَّها مِن مِلْكِه وحال الحَوْلُ الثّانِى، فعلى الأوَّلِ نِصْفُ شاةٍ، زكاةَ الخُلْطَةِ، فإن أخْرَجَه وَحْدَه، فعلى الثّانِى تِسْعَة وثَلاثُون جُزْءًا مِن سَبْعَةٍ وسَبْعِين جُزْءًا ونِصْفِ جُزءٍ مِن شاةٍ، وإن تَوالَدَتْ شيئًا حُسِب معها. فصل: وإن كان بينَهما ثَمانُون شاةً مُخْتَلِطَةً، مَضَى عليها بعضُ الحَوْلِ، فتَبايَعاها، بأن باعَ كلُّ واحِدٍ منهما غَنَمَه صاحِبَه مُخْتَلِطَةً، وبَقِيا على الخُلْطَةِ، لم يَنْقَطِعْ حَوْلُهما، ولم تَزُلْ خُلْطَتُهما. وكذلك لو باعَ بعضَ غَنَمِه ببعضِ غَنَمِه مِن غيرِ إفْرادٍ (¬1)، قَلَّ المَبِيعُ أو كثرُ. فأمّا إن أفْرَداها ثم تبايَعاها ثم خَلَطاها وتَطاوَلَ زَمَنُ الانْفِرادِ، بَطَل حُكْمُ الخُلْطَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «انفراد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن خَلَطاها عَقِيبَ البَيْعِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَنْقَطِعُ؛ لأنَّ هذا زَمَنٌ يَسِيرٌ فعُفِىَ عنه. والثّانِى، يَنْقَطِعُ؛ لوُجُودِ الانْفِرادِ في بعضِ الحَوْلِ. وإن أفْرَدَ كلُّ واحِدٍ منهما نِصْف نِصابٍ. وتَبايَعاه، لم يَنْقَطِعْ حُكْمُ الخُلْطَةِ؛ لأنَّ مِلْكَ الإِنْسانِ يُضَمُّ بعضُه إلى بَعْض، فكأنَّ الثَّمانِين مُخْتَلِطَة بحالِها. وكذلك إن تَبايَعا أقَلَّ مِن النِّصْفِ. وإن تَبايَعا أكْثَرَ مِن النِّصْفِ مُنْفَرِدًا، بَطَل حُكْمُ الخُلْطَةِ، لأنَّ مِن شَرْطِها كَوْنَها في نِصابٍ، فمتى بَقِيَتْ فيما دُونَ النِّصابِ صارا مُنْفَرِدَيْن. وقال القاضى: تَبْطُلُ الخُلْطَةُ في جَمِيعِ هذه المَسائِلِ في المَبِيعِ، ويَصِيرُ مُنْفَرِدًا. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ عندَه أنَّ المَبِيعَ بجنْسِه يَنْقَطِعُ حُكْمُ الحَوْلِ فيه، فَتَنْقَطِعُ الخُلْطَةُ بانْقِطاعِ الحَوْلِ. وقد بَيَّنَا فيما مَضَىِ أنَّ حُكْمَ الحَوْلِ لا يَنْقَطِعُ إذا باع الماشِيَةَ بجِنْسِها، فلا تَنْقَطِعُ الخُلْطَةُ؛ لأنَّ الزكاةَ إنَّما تَجِبُ في المُشْتَرَى ببِنائِه على حَوْلِ المَبيعِ، فيَجِبُ أن يَبْنِىَ عليه في الصِّفَةِ التى كان عليها، فأمّا إن كان مالُ كلِّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا، فَخَلطاه ثم تَبايَعاه،

874 - مسألة: (ولو ملك رجل نصابا شهرا، ثم باع نصفه مشاعا، أو أعلم على بعضه وباعه مختلطا، فقال أبو بكر: ينقطع الحول، ويستأنفانه من حين البيع)

وَلَوْ مَلَكَ رَجُلٌ نِصَابًا شَهْرًا، ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهُ مُشَاعًا، أَوْ أَعْلَمَ عَلَى بَعْضِهِ وَبَاعَهُ مُخْتَلِطًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَيَسْتَأْنِفَانِهِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعليهما في الحَوْلِ الأوَّلِ زكاةُ الانْفِرادِ، لأنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيه ببِنائِه على أوَّلِ الحَوْلِ، وهو مُنْفَرِد فيه، ولو كان لرجل نِصاب مُنْفَرِدًا، فباعَه بنِصابٍ مُخْتَلِطٍ، زَكَّى كلُّ واحِدٍ منهما زكاةَ الانْفِرادِ، لأنَّ الزكاةَ في الثّانِى تَجِبُ ببِنائِه على الأوَّلِ، فهما كالمالِ الواحِدِ الذى حَصَل الانْفِرادُ في أحَدِ طَرَفَيْه. فإن كان لكلِّ واحِدٍ منهما أرْبَعُون مُخْتَلِطَةً مع مالٍ آخَرَ، فتَبايَعاها، وبَقِيَتْ مُخْتَلِطَةً، لِم يَبْطُلْ حُكْمُ الخُلْطَةِ، وإنِ اشْتَرَى أحَدُهما بالأرْبَعِين المُخْتَلِطَةِ أرْبَعِين مُنْفرِدَةً، وخَلَطَها في الحالِ، احْتَمَلَ أن يُزَكِّىَ زكاةَ الخُلْطَةِ، لأنَّه يَبْنِى حَوْلَها على حَوْلِ مُخْتَلِطَةٍ، وزَمَنُ الانْفِرادِ يَسِيرٌ فعُفِىَ عنه، واحْتَمَلَ أن يُزَكِّىَ زَكاةَ المُنْفَرِدِ، لوُجُودِ الانْفِرادِ في بعضِ الحَوْلِ. 874 - مسألة: (ولو مَلَك رجلٌ نِصابًا شَهْرًا، ثم باع نِصْفَه مُشاعًا، أو أعْلمَ على بعضِه وباعَه مُخْتَلِطًا، فقال أبو بكر: يَنْقَطِعُ الحَوْلُ، ويَسْتَأْنِفانِه مِن حينِ البَيْعِ) لأنَّ النِّصْفَ المُشْتَرَى قد انْقَطَعَ الحَوْلُ فيه،

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يَنْقَطِعُ حَوْلُ الْبَائِع، وَعَلَيْهِ إِذَا تَمَّ حَوْلُهُ زَكَاةُ حِصَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكَأنَّه لم يَجْرِ (¬1) في حَوْلِ الزكاةِ أصْلًا، فلَزِمَ انْقِطاعُ الحَوْلِ في الآخَرِ (وقال ابنُ حامِدٍ: لا يَنْقَطِعُ حَوْلُ البائِعِ، وعليه عندَ تَمامِ حَوْلِه زَكاةُ حِصَّتِه) لأنَّ حُدُوثَ الخُلْطَةِ لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ الحَوْلِ، فلا يَمْنَعُ اسْتِدامَتَه، وَلأنَّه لو خالَطَ غيرَه في جَمِيعِ الحَوْلِ وجَبَتِ الزكاةُ، فإذا خالَطَ في بعضِه نَفْسَه، وفى بعضِه غيرَه، كان أوْلَى بالإِيجابِ، وإنَّما بَطَل حَوْلُ المَبِيعَةِ لانْتِقالِ المِلْكِ فيها، وإلَّا فهذه العِشْرُون لم تَزَلْ مُخالِطَةً لمالٍ جارٍ في حَوْلِ الزكاةِ. وهكذا الحُكْمُ فيما إذا كانتِ الأرْبَعُون لرَجُلَيْن، فباعَ أحَدُهما نَصِيبَه أجْنَبِيًّا، فعلى هذا إذا تَمَّ حَوْلُ الأوَّلِ فعليه نِصْفُ شاةٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «يحز».

875 - مسألة: (فإن أخرجها من المال انقطع حول المشترى؛ لنقصان النصاب)

فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَالِ انْقَطعَ حَوْلُ الْمُشْتَرِى؛ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقُلْنَا: الزَّكَاةُ فِى العَيْنِ. فَكَذَلِكَ. وَإنْ قُلْنَا: فِى الذِّمَّةِ. فَعَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ زَكاةُ نَصيبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 875 - مسألة: (فإن أخْرَجَها مِن المالِ انْقَطَعَ حَوْلُ المُشْتَرِى؛ لنُقْصان النِّصابِ) في بعضِ الحَوْلِ، إلَّا أن يَكُونَ الفَقِيرُ مُخالِطًا لهما بالنِّصْفِ الذى صار له، فلا يَنقُصُ النِّصابُ إذًا، ويُخْرِجُ الثّانِى نِصْفَ شاةٍ أيضًا، على قولِ ابنِ حامِدٍ. 876 - مسألة: (وإن أخْرَجَها مِن غيرِه، وقُلنا: الزكاةُ في العَيْنَ. فكذلك. وإن قُلنا: في الذِّمَّةِ. فعليه عندَ تَمامِ حَوْلِه زكاةُ حِصَّتِه) إذا أخْرَجَ البائِعُ الزكاةَ مِن غيرِ المالِ في هذه المَسْألَةِ، وقُلنا: الزكاةُ تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ. فقال القاضى: يَجِبُ نِصْفُ شاةٍ أيضًا؛ لأنَّ تَعَلُّقَ الزكاةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعَيْنِ، لا بمَعْنَى أنَّ الفُقَراءَ يَمْلِكُون جُزْءًا مِن النِّصابِ، بل بمَعْنَى أنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهم به كتَعَلُّقِ أرْشِ الجِنايَةِ بالجانِى، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَ الزكاةِ. والصَّحِيحُ أنَّه لا شئَ على المُشْتَرِى، ذَكَرَه شيخُنا (¬1). وهو قولُ أبى الخَطّابِ؛ لأنَّ تَعَلُّقَ الزكاةِ بالعَيْنِ نَقَص النِّصابَ، فمنَعَ وُجُوبَ الزكاةِ على المُشْتَرِى، ولأنَّ فائِدَةَ قَوْلِنا: الزكاةُ تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ. إنَّما تَظْهَرُ في مَنْعِ الزكاةِ، وقد ذَكَرَه القاضى في غيرِ هذا المَوْضِعِ. وإن قُلنا: الزكاةُ تَتَعَلَّقُ بالذِّمَّةِ. لم يَمْنَعْ وُجُوبَ الزكاةِ على المُشْتَرِى؛ لأنَّ النِّصابَ لم يَنْقُصْ. وعلى قِياسِ هذا، لو كان لرَجُلَيْن نِصابُ خُلْطَةٍ، فباعَ أحَدُهما خَلِيطَه في بعضِ الحَوْلِ، فهى عَكْسُ المَسْألَةِ الأُولَى في الصُّورَةِ، ومِثْلُها في المَعْنَى؛ لأنَّه كان في الأوَّلِ خَلِيطَ نَفْسِه، ثم صار خَلِيطَ أجْنَبِىٍّ، وههُنا كان خَلِيطَ أجْنَبِىٍّ، ثم صار خَلِيطَ نَفْسِه. ومِثْلُه لو كان رَجُلان مُتَوارِثانِ، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 59.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما نِصابُ خُلْطَةٍ، فماتَ أحَدُهما في بعضِ الحَوْلِ، فوَرِثَه صاحِبُه، فعلى قِياسِ قولِ أبى بكرٍ، لا يَجِبُ عليه شئٌ حتى يَتِمَّ الحَوْلُ على المالَيْن مِن حينِ مِلْكِه لهما، إلَّا أن يَكُونَ أحَدُهما بمُفْرَدِه يَبْلُغُ نِصابًا. وعلى قِياسِ قولِ ابنَ حامِدٍ تَجِبُ الزكاةُ في النِّصْفِ الذى كان له خاصَّةً، إذا تَمَّ حَوْلُه.

877 - مسألة: (وإن أفرد بعضه وباعه ثم اختلطا، انقطع الحول)

وَإِنْ أَفْرَدَ بَعْضَهُ وَبَاعَهُ ثُمَّ اخْتَلَطَا، انْقَطَعَ الْحَوْلُ. وَقَالَ الْقَاضِى: يحْتَمِلُ أَلَّا يَنْقَطِعَ إِذَا كَانَ زَمَنًا يَسِيرًا. وَإِنْ مَلَكَ نِصَابَيْنِ شَهْرًا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُشَاعًا، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِى بَكْرٍ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حُكْمُ الِانْفِرَادِ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ زَكَاةُ الْمُنْفَرِدِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ عَلَيْهِ زَكَاةُ خَلِيطٍ. فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْمُشْتَرِى، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَلِيطٍ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 877 - مسألة: (وإن أفْرَدَ بعضَه وباعَه ثم اخْتَلَطا، انْقَطَعَ الحَوْلُ) ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ، لثُبُوتِ حُكْمِ الانْفِرادِ في البعضِ (وقال القاضى: يَحْتَمِلُ) أن يكونَ كما لو باعَها مُخْتَلِطَةً (إذا كان زَمَنًا يَسِيرًا) لأنَّ اليَسِيرَ مَعْفُوٌّ عنه. 878 - مسألة: (وإن مَلَك نِصابَيْن شَهْرًا، ثم باع أحَدَهُما مُشاعًا، فعلى قِياسِ قَوْلِ أبى بَكْرٍ، يَثْبُتُ للبائِعِ حُكْمُ الانْفِرادِ، وعليه عندَ تَمامِ حَوْلِه زكاةُ المُنْفَرِدِ، لثُبُوتِ حُكْمِ الانْفِرادِ له. (وعلى قِياسِ قولِ ابنِ حامِدٍ، عليه زكاةُ خَلِيطٍ) لأنَّه لم يَزَلْ مُخالِطًا في جَمِيعِ الحَوْلِ (فإذا تَمَّ حَوْلُ المُشْتَرِى، فعليه زكاةُ خَلِيطٍ، وجْهًا واحِدًا) لكَوْنِه لم

879 - مسألة: (ولو ملك)

وَإِذَا مَلَكَ نِصَابًا شَهْرًا، ثُمَّ مَلَكَ آخَرَ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ؛ مِثْلَ أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِى الْمُحَرَّمِ، وَأَرْبَعِينَ فِى صَفَرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتْ له حُكْمُ الانْفِرادِ أصْلًا. 879 - مسألة: (ولو مَلَك) رَجُلٌ (نِصابًا شَهْرًا، ثم مَلَك آخَرَ لا يَتَغَيَّرُ به الفَرْضُ؛ مثلَ أن يَمْلِكَ أرْبَعِين شاةً في المُحَرَّمِ، وأرْبَعِين في

فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، وَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ فِى الثَّانِى، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِى الآخَرِ، عَلَيْهِ لِلثَّانِى زَكَاةُ خُلْطَةٍ، كَالْأَجْنَبِىِّ فِى الَّتِى قَبْلَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَفَرٍ، فعليه زكاةُ الأوَّلِ عندَ تَمامِ حَوْلِه) شاةٌ؛ لأنَّه مَلَك نِصابًا حَوْلًا، فإذا تَمَّ حَوْلُ (الثّانِيِ) فعلى وَجْهَيْن؛ أحَدُهما (لا زكاةَ فيه) لأنَّ الجَمِيعَ مِلْكُ واحِدٍ فلم يَزِدْ فرْضُه على شاةٍ، كما لو اتَّفَقَتْ أحْوالُه. والثّانِى، فيه (زكاةُ خَلِيطٍ) لأنَّ الأوَّلَ اسْتَقَلَّ بشاةٍ، فتَجِبُ الزكاةُ في الثّانِى، وهو نِصْفُ شاةٍ؛ لاخْتِلاطِها بالأرْبَعِين الأُولَى (كالأجْنَبِىِّ في) المَسْألَةِ (التى قبلَها).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان مَلَك أرْبَعِين أُخْرَى في رَبِيعٍ، ففيها وجْهان؛ أحَدُهما، لا زكاةَ فيها. والثانى، فيها [ثُلُثُ شاةٍ] (¬1)؛ لأنَّه مَلَكَها مُخْتَلِطَةً بالثَّمانِين المُتَقَدِّمَةِ. وذَكَر أبو الخَطّابِ وَجْهًا ثالِثًا، أنَّه يَجِبُ في الثّانِى شاةٌ، وكذلك في الثّالِثِ؛ لأنَّه نِصابٌ كامِلٌ وجَبَتِ الزكاةُ فيه بنَفْسِه، أشْبَهَ ما لو انْفَرَدَ. وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّه لو كان مالِكُ الثّانِى والثّالِثِ أجْنَبِيَّيْن، ملَكاهُما مُخْتَلِطَيْن، لم يَجِبْ عليهما إلَّا زكاةُ خُلْطَةٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «ثلاث شياه».

880 - مسألة: (وإن كان الثانى يتغير به الفرض؛ مثل أن يملك مائة شاة، فعليه زكاته إذا تم حوله، وجها واحدا)

وَإنْ كَانَ الثَّانِى يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِائَةَ شَاةٍ، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ إِذَا تَمَّ حَوْلُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا كانا لمالِكِ الأوَّلِ كان أوْلَى؛ لأنَّ ضَمَّ بعض مِلْكِه إلى بعض أوْلَى مِن ضَمِّ مِلْكِ الخَلِيطِ إلى خَلِيطِه. 880 - مسألة: (وإن كان الثّانِى يَتَغَيَّرُ به الفَرْضُ؛ مِثلَ أن يَمْلِكَ مائَةَ شاةٍ، فعليه زَكاتُه إذَا تَمَّ حَوْلُه، وجْهًا واحِدًا) كما لو اتَّفَقَتْ أحْوالُه. والواجِبُ فيه شاةٌ على الوَجْهِ الأوَّلِ والثّالِثِ؛ لأنَّه لو مَلَكَها دُفْعَةً واحِدَةً لم يَجِبْ عليه أكْثَرُ مِن شاتَيْن. وعلى الوَجْهِ الثّانِى، يَجِبُ عليه شاةٌ وثَلَاثةُ أسْباعِ شاةٍ؛ لأنَّه لو مَلَك المالَيْن دُفْعَةً واحِدَةً، كان عليه فيهما شاتان،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حِصَّةُ المائةِ منها خَمْسَةُ أسْباعِهما، وهو شاةٌ وثَلاثَةُ أسباعٍ، فإن كان مَلَك مائةً أُخْرَى في رَبِيعٍ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ والثّالِثِ، عليه فِيها شاةٌ. وعلى الوَجْهِ الثّانِى، عليه شاةٌ وَرُبْعٌ؛ لأنَّه لو مَلَك المائتَيْن وأرْبَعِين دَفْعَةً واحِدَةً كان عليه فيها ثَلاثُ شِياهٍ، حِصَّةُ المائةِ الثّانِيَةِ مِنهُنَّ رُبْعُهُنَّ وسُدْسُهُنَّ، وذلك شاةٌ ورُبْعٌ. ولو كان المالِكُ للأمْوالِ الثَّلَاثةِ ثَلاثَةَ أشْخاصٍ، ومَلَك الثّانِى والثّالِثُ سائِمَتَهما مُخْتَلِطَةً، لكان الواجِبُ على الثّانِى والثّالِثِ كالواجِبِ على المالِكِ في الوَجْهِ الثّانِى، لا غيرُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن مَلَك عِشْرِين مِن الإِبِلِ في المُحَرَّمِ وخَمْسًا في صَفَرٍ، فعليه في العِشْرِين إذا تَمَّ حَوْلُها أرْبَعُ شِياهٍ، وفى الخَمْسِ عندَ تَمامِ حَوْلِها خُمْسُ بِنتِ (¬1) مَخاضٍ على الوَجْهَيْن الأوَّلَيْن. وعلى الوَجْهِ الثّالِثِ، عليه شاةٌ. وإن مَلَك في المُحَرَّمِ خَمْسًا وعِشرِين، وخَمْسًا في صَفَرٍ، فعليه في الأوَّلِ عندَ تَمامِ حَوْلِه بِنْتُ مَخاضٍ، ولا شئَ عليه في الخَمْسِ، على الوَجْهِ (¬2) الأوَّلِ. وعلى الثّانِى، عليه سُدْسُ بِنْتِ مَخاضٍ، وعلى الثّالِثِ، عليه شاةٌ. فإن مَلَك مع ذلك سِتًّا في رَبِيع، فعليه في الأوَّلِ عندَ تَمامِ حَوْلِه بِنْتُ مَخاضٍ، ولا شئَ عليه في الخَمْسِ، على الوَجْهِ الأوَّلِ حتى يَتِمَّ حَوْلُ السِّتِّ، فيَجِبُ فيهما رُبْعُ بِنْتِ لَبُونٍ ونِصْفُ تُسْعِها. وفى ¬

(¬1) في م: «بنات». (¬2) سقط من: م.

881 - مسألة: (وإذا كان الثانى يتغير به الفرض ولا يبلغ نصابا، مثل أن يملك ثلاثين من البقر فى المحرم وعشرا فى صفر، فعليه فى)

وَإِنْ كَانَ الثَّانِى يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ وَلَا يَبْلُغُ نِصَابًا، مِثْلَ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ فِى الْمُحَرَّمِ وَعَشْرًا فِى صَفَرٍ، فَعَلَيْهِ فِى الْعَشْرِ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا رُبْعُ مُسِنَّةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهِ الثّانِى، عليه في الخَمْسِ سُدْسُ بِنْتِ مَخاضٍ إذا تَمَّ حَوْلُها، وفى السِّتِّ سُدْسُ بِنْتِ لَبُونٍ. وفى الوَجْهِ الثّالِثِ، عليه في الخَمْسِ والسِّتِّ عندَ تَمامِ حَوْلِ كلِّ واحِدٍ منهما شاةٌ. 881 - مسألة: (وإذا كان الثّانِى يَتَغَيَّرُ به الفَرْضُ ولا يَبْلُغُ نِصابًا، مثلَ أن يَمْلِكَ ثَلاثِين مِن البَقَرِ في المحَرَّمِ وعَشْرًا في صَفرٍ، فعليه في) الثَّلاثِين إذا تَمَّ حَوْلُها تَبِيعٌ، وفى (العَشْرِ إذا تَمَّ حَوْلُها رُبْعُ مسِنَّةٍ) على الوَجْهَيْن الأوَّلَيْن، لأنَّ الفَرِيضَةَ الموجِبَةَ للمُسِنَّةِ قد كَمُلَتْ، وقد أخْرَجَ زكاةَ الثَّلاثِين، فوَجَبَ في العَشْرِ بقِسْطِها مِن المُسِنَّةِ، وهو رُبْعُها. وعلى الوَجْهِ الثّالِثِ، يَقْتَضِى أن لا يَجِب عليه في العَشْرِ شئٌ، كما لو مَلَكَها مُنْفرِدَة.

882 - مسألة: (وإن ملك ما لا يغير الفرض، كخمس، فلا شئ فيها)

وَإنْ مَلَكَ مَا لَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ كَخَمْسٍ، فَلَا شَىْءَ فِيهَا، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وِفِى الثَّانِى، عَلَيْهِ سُبْعُ تَبِيعٍ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ سِتُّون شَاةً، كُلُّ عِشْرِينَ مِنْهَا مُخْتَلِطَةٌ مَعَ عِشْرِينَ لِآخَرَ، فَعَلَى الْجَمِيعِ شَاةٌ؛ نِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 882 - مسألة: (وإن مَلَك ما لا يُغَيِّرُ الفَرْضَ، كَخَمْسٍ، فلا شَئَ فيها) على الوَجْهِ الأوَّلِ، كما لو مَلَك الجَمِيعَ دَفْعَةً واحِدَةً. وعلى الوَجْهِ (الثّانِى، عليه سُبْعُ تَبِيعٍ إذا تَمَّ حَوْلُها)؛ لو كان المالِكُ لها أجْنَبِيًّا، ولا شَئَ عليه فيها في الوَجْهِ الثّالِثِ. 883 - مسألة: (وإذا كان لرجلٍ سِتُّون شاةً، كلُّ عِشْرِين منها مُخْتَلِطَةٌ بعِشْرِين لآخَرَ، فعلى الجَمِيعِ شاةٌ؛ نِصْفُها على صاحِبِ السِّتِّين،

وَنِصْفُهَا عَلَى خُلَطَائِهِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدْسُ شَاةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونِصْفُها على الخُلَطاءِ، على كلِّ واحِدٍ سُدْسُ شاةٍ)؛ لو كانت لشَخْصٍ واحِدٍ. ولو كان رجلان، لكلِّ واحِدٍ منهما سِتُّون، فخَالَطَ كلُّ واحِدٍ منهما صاحِبَه بعِشْرِين فقط، وَجَب عليهما شاةٌ بينَهما نِصْفَيْن

884 - مسألة: (وإذا كانت ماشية الرجل متفرقة فى بلدين لا تقصر

وَإنْ كَانَتْ كُلُّ عَشْرٍ مِنْها مُخْتَلِطَةً بِعَشْرٍ لِآخَرَ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَا شَىْءَ عَلَى خُلَطَائِهِ؛ لَأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِطُوا فِى نِصَابٍ. وَإذَا كَانَتْ مَاشِيَةُ الرَّجُلِ مُتَفَرِّقَةً فِى بَلَدَيْنِ لَا تُقْصَرُ بَيْنَهُمَا الصَّلَاةُ، فَهِىَ كَالْمُجْتَمِعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك (فإن كان) له سِتُّون (كلُّ عَشْرٍ منها مُخْتَلِطَةً بعَشْرٍ لآخَرَ، فعليه شاةٌ ولا شئَ على خُلَطائِه؛ لأنَّهم (¬1) لم يَخْتَلِطُوا في نِصابٍ) كذلك قال أصحابُنا. 884 - مسألة: (وإذا كانت ماشِيَةُ الرجلِ مُتَفَرِّقَةً في بَلَدَيْن لا تُقْصَرُ ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبِى الْخَطَّابِ. وَالْمَنْصُوصُ أنَّ لِكُلِّ مَالٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَا لِرَجُلَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما الصلاةُ، فهى كالمُجْتَمِعَةِ) يَضُمُّ بعضَها إلى بعضٍ، ويُزَكِّيها كالمُخْتَلِطَةِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا (وإن كان بينَهما مسافَةُ القَصْرِ، فكذلك) في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ. اخْتارَها أبو الخَطّابِ. وهو قولُ سائِرِ العُلماءِ. وهو الصَّحِيحُ إن شاء اللَّهُ تعالى؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «فِى أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬1). ولأنَّه مِلْكٌ واحِدٌ، أشْبَهَ ما لو كان في بُلْدانٍ مُتَقارِبَةٍ، وكغيرِ السّائِمَةِ. فعلى هذا يُخْرِجُ الفَرْضَ في أحَدِ البَلَدَيْن؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ (أنَّ لكلِّ مالٍ حُكْمَ نَفْسِه) يُعْتَبَرُ على حِدَتِه، إن كان نِصابًا ففيه الزكاةُ، وإلَّا فلا. نَصَّ عليه أحمدُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ هذا القولَ عن غيرِ أحمدَ. واحْتَجَّ بظاهِرِ قَوْلِه عليه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 316.

885 - مسألة: (ولا تؤثر الخلطة فى غير السائمة. وعنه، أنها

وَلَا تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ فِى غَيْرِ السَّائِمَةِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا تُؤَثِّرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السلامُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِع، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» (¬1). وهذا مُتَفَرِّقٌ فلا يُجْمَعُ، ولأنَّه [لمّا أثَّرَ اجْتِماعُ] (¬2) مالَيْن لرجُلَيْن في كَوْنِهما كالمالِ الواحِدِ، يَجِبُ أن يُؤَثِّرَ افْتِراقُ مالِ الرجلِ الواحِدِ، حتى يَجْعَلَه كالمالَيْن. والحديثُ مَحْمُولٌ على المُجْتَمِعَةِ، ولا يَصحُّ القِياسُ على غيرِ السّائِمَةِ، لأنَّ الخُلْطَةَ لا تُؤَثِّرُ فِيها، كذلك الافْتِراقُ، والبُلْدانُ المُتَقارِبَةُ بمَنْزلَةِ البَلَدِ الواحِدِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ على ما بَيَّنّا، وكَلامُ أحمدَ مَحْمُولٌ على أنَّ السّاعِىَ لا يَأْخُذُها، فأمّا رَبُّ المالِ فيُخْرِجُ إذا بَلَغ مالُه نِصابًا، فإنَّه قد رُوِىَ عنه، في مَن له مائةُ شاةٍ في بُلْدانٍ مُتَفَرِّقَةٍ: لا يَاخُذُ المُصَدِّقُ (¬3) منها شيئًا؛ لأنَّه لا يُجْمَعُ بينَ مُتَفَرِّقٍ، وصاحِبُها إذا ضَبَط ذلك وعَرَفَه أخْرَجَ هو بنَفْسِه، يَضَعُها في الفُقَراءِ. كذلك رَواه المَيْمُونِىُّ وحَنْبَلٌ عنه. 885 - مسألة: (ولا تُؤَثِّرُ الخُلْطَةُ في غيرِ السّائِمَةِ. وعنه، أنَّها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395 من حديث أنس. (¬2) في م: «ولأنه لا أثر لاجتماع». (¬3) في م: «المتصدق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُؤَثِّرُ) لا تُؤَثِّرُ الخُلْطَةُ في غْيْرِ السّائِمَةْ، كالذَّهبِ والفِضَّةِ والزُّرُوعِ والثِّمارِ وعُرُوضِ التِّجارَةِ، ويَكُونُ حُكْمُهم حُكْمَ المُنْفَرِدِين. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وعن أحمدَ، أنَّ شَرِكَةَ الأعْيانِ تُؤَثِّرُ في غيرِ الماشِيَةِ، فإذا كان (¬1) بينَهم نِصابٌ يَشْتَرِكُون فيه، فعليهم الزكاةُ. وهذا قولُ إسحاقَ، والأوْزاعِىِّ، في الحَبِّ والثَّمَرِ، قِيَاسًا على خُلْطَةِ الماشِيَةِ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. قال أحمدُ: الأوْزاعِىُّ يَقُولُ في الزَّرْعِ إذا كانُوا شُرَكاءَ يَخْرُجُ لهم خَمْسَةُ أوْسُقٍ فيهْ الزكاةُ. قاسَه على الغَنَمِ، ولا يُعْجِبُنِى قولُ الأوْزاعِىِّ. فأمّا خُلْطَةُ الأوْصافِ، فلا مَدْخَلَ لها في غيرِ المَاشِيَةِ بحالٍ؛ لأنَّ الاخْتِلاط لا يَحْصُلُ. وخَرَّجَ القاضى وَجْهًا، أنَّها تُؤَثِّرُ؛ لأنَّ المُؤْنَةَ تَخِفُّ إذا كان المُلْقِحُ (¬2) واحِدًا، والنّاطُورُ (¬3)، والجَرِينُ (¬4)، وكذلك أمْوالُ التِّجارَةِ؛ الدُّكّانُ، والمَخْزَنُ، والمِيزانُ، والبائِعُ، فأشْبَهَ المَاشِيَةَ. ومَذْهَبُ الشافعىِّ على نَحْوِ مَذْهَبِنا. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لقَوْلِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أى الفحل الذى يلقحها. (¬3) الناطور: حافظ الزرع. (¬4) الجرين: الجرن، وهو الموضع الذى يداس فيه الطحام وتجفف فيه الثمار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اشْتَرَكَا فِى الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِى» (¬1). فدَلَّ على أنَّ ما لم يُوجَدْ فيه ذلك لا يَكونُ خُلْطَةً مُؤثِّرَةً، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ فتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصدَقَةِ». إنَّما يَكُونُ في المَاشِيَةِ؛ لأنَّ الزَّكاةَ يَقِلُّ جَمْعُها تارَةً، ويَكْثُرُ أُخْرَى، وسائِرُ الأمْوالِ يَجِبُ فيما زاد على النِّصابِ بحِسابِه، فلا أثَرَ لجَمْعِها، ولأنَّ خُلْطَةَ الماشِيَةِ تُؤَثِّرُ في النَّفْعِ تارَةَ، وفى الضَّرَرِ أُخْرَى، وفى غيرِ الماشِيَةِ تُؤثِّرُ ضَرَرًا مَحْضًا برَبِّ المالِ، فلا يَصِحُّ القِياسُ. فعلى هذا إذا كان لجَماعَةٍ وَقْفٌ، أو حائِطٌ مُشْتَرَكٌ بينَهم فيه ثَمَرَةٌ أو زَرْعٌ، فلا زَكاةَ عليهم، إلَّا أن يَحْصُلَ في يَدِ بعضِهم نِصابٌ فتَجِبُ عليه الزكاةُ. وعلى الرِّوايَةِ الأُخْرَى، إذا كان الخارِجُ نِصابًا، ففيه الزكاةُ، فإن كان الوَقْفُ نِصابًا مِن السّائِمَةِ، وقُلنا: إنَّ الزكاةَ تَجِبُ في السّائِمَةِ المَوْقُوفَةِ. فيَنْبَغِى أن تَجِبَ عليهم الزكاةُ؛ لاشْتِراكِهم في مِلْكِ نِصابٍ تُؤثِّرُ الخُلْطَةُ فيه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 458.

886 - مسألة: (ويجوز للساعى أخذ الفرض من مال أى الخليطين شاء)

وَيَجُوزُ لِلسَّاعِى أَخْذُ الْفَرْضِ مِنْ مَالِ أَىِّ الْخَلِيطيْنِ شَاءَ، مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 886 - مسألة: (ويَجُوزُ للسّاعِى أخْذُ الفَرْضِ مِن مالِ أىِّ الخَلِيطَيْن شاء) هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، وسَواءٌ دَعَتِ الحاجَةُ إلى ذلك، بأن تَكُونَ الفَرِيضَةُ عَيْنًا واحِدَةً لا يمكنُ أخْذُها مِن المالَيْن، ونَحْوَ ذلك، أو لم تَدْعُ الحاجَةُ إلى ذلك، بأن يَجِدَ فَرْضَ كلِّ واحِدٍ مِن المالَيْن فيه. قال أحمدُ: إنَّما يَجِئُ المُصَدِّقُ فيَجِدُ الماشِيَةَ فيُصَدِّقُها، ليس يَجئُ فيقولُ: أىُّ شئٍ لك؟ وأىُّ شئٍ لك؟ قال الهَيْثَمُ بنُ خارِجَةَ لأبى عبدِ اللَّهِ: أنا رَأيْتُ مِسْكِينًا كانت له في غَنَمٍ شاتان، فجاء المُصَدِّقُ فأخَذَ إحْداهما. ووَجْهُ ذلك قولُ النبىِّ، -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ» (¬1). يَعْنِى إذا أخَذَ مِن مالِ أحَدِهما. ولأنَّ المالَيْن قد صارا كالمالِ الواحِدِ في وُجُوبِ الزكاةِ، فكذلك في إخْراجِها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 395. من حديث أنس.

887 - مسألة: (ويرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من القيمة)

وَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى خَلِيطِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْقِيمَةِ. فَإنِ اخْتَلَفَا فِى الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ، إِذَا عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ. وَإذَا أَخَذَ السَّاعِى أَكْثَرَ مِنَ الْفَرْضِ ظُلْمًا، لَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى خَلِيطِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 887 - مسألة: (ويَرْجِعُ المَأْخُوذُ منه على خَلِيطِه بحِصَّتِه مِن القِيمَةِ) لِما ذَكَرْنا مِن النَّصِّ والمَعْنَى. فإذا كان لأحَدِهما ثُلثُ المالِ، وللآخَرِ ثُلثاه، فأخَذَ الفَرْضَ مِن مالِ صاحِبِ الثُلثِ، رَجَعَ بثُلثَىْ قِيمَةِ المُخْرَجِ على شَرِيكِه، وإن أخَذَه مِن الآخَرِ، رَجَع بالثُّلثِ على شَرِيكِه. 888 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفا في القِيمَةِ، فالقولُ قولُ المَرْجُوعِ عليه، إذا عُدِمَتِ البَيِّنَةُ) لأنَّه غارِمٌ، فأشْبَهَ الغاصِبَ إذا اخْتَلَفا في قِيمَةِ المَغْصُوبِ بعدَ تَلَفِه، وعليه اليَمِينُ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. 889 - مسألة: (وإذا أخَذَ السّاعِى أكْثَرَ مِن الفَرْضِ ظُلْمًا، لم

890 - مسألة: (وإن أخذه بقول بعض العلماء رجع عليه)

وَإِنْ أَخَذَهُ بِقَوْلِ بَعْض الْعُلَمَاءِ رَجَعَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْجِعْ بالزِّيادةِ على خَلِيطِه) إذا أخَذَ السّاعِى أكْثَرَ مِن الفَرْضِ بغيرِ تَأْوِيلٍ، مثلَ أن يَأْخُذَ مكانَ الشّاةِ شاتَيْن، أو جَذَعَةً مكانَ حِقَّةٍ، لم يَكُنْ للمَأْخُوذِ منه الرُّجُوعُ إلَّا بقَدْرِ الواجِبِ، لأنَّ شَرِيكَه لم يَظْلِمْه، فلم يَكُنْ له الرُّجُوْعُ عليه (¬1)، كغيرِه. ولأنَّه ظُلْمٌ اخْتَصَّ السّاعِى، فلم يَرْجِعْ به على غيرِه، كما لو غَصَبَه على غيرِ وَجْهِ الزكاةِ. 890 - مسألة: (وإن أخَذَه بقَوْلِ بَعْضِ العُلماءِ رَجَع عليه) وذلك مثلُ أن يَأْخُذَ الصَّحِيحَةَ عن المِراضِ، والكَبِيرَةَ عن الصِّغارِ؛ لأنَّ ذلك إلى اجْتِهادِ الإِمامِ، فإذا أدّاه اجْتِهادُه إلى أخْذِه، وَجَب دَفْعُه، وصار بمَنْزِلَةِ الفَرْضِ الواجِبِ، والسّاعِى نائِبُ الإِمامِ، فعْلُه كفِعْلِ الإِمامِ. ¬

(¬1) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إذا أخَذَ القِيمَةَ، يَرْجِعُ على شَرِيكِه بما يَخُصه منها؛ لِما ذَكَرْنا. واللَّهُ أعلمُ.

باب زكاة الخارج من الأرض

بَابُ زَكَاةِ الْخَارِجِ مِنَ الأَرْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ زكاةِ الخارجِ مِن الأرْضِ والأصْلُ فيها الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ فقَوْلُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). والزَّكاةُ تُسَمَّى نَفَقَةً، بدَلِيلِ قَوْلِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3). قال ابنُ عباسٍ: حَقُّه الزكاةُ المَفْرُوضَةُ. وقال مَرَّةً: العُشْرُ ونِصْفُ العُشْرِ. ومِنِ السُّنَّةِ قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ». مُتَّفقٌ عليه (¬4). وعن ابنِ عُمَرَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أوْ كَانَ عَثَرِيًّا (¬5) العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ». أخْرَجَه البخارىُّ، وأبو داودَ (¬6). وعن جابِرٍ، أنَّه سَمِع النبىَّ، -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «فِيمَا ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) سورة التوبة 34. (¬3) سورة الأنعام 141. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 310 في حديث: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة». (¬5) العثرى: الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 372.

891 - مسألة: (تجب الزكاة فى الحبوب كلها، وفى كل ثمر يكال ويدخر؛ كالتمر، والزبيب، واللوز، والفستق، والبندق. ولا تجب فى سائر الثمر، ولا فى الخضر، والزهر، والبقول)

تَجِبُ الزَّكَاةُ فِى الْحُبُوبِ كُلِّهَا، وَفِى كُلِّ ثَمَرٍ يُكَالُ وَيُدَّخَرُ؛ كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ. وَلَا تَجِبُ فِى سَائِرِ الثَّمَرِ، وَلا فِي الْخُضَرِ، وَالْبُقُولِ، وَالزَّهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَقَتِ الْأنهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِىَ بالسَّانِيَةِ (¬1) نِصْفُ الْعُشْرِ». رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬2). وأجْمَعَ أهل العلمِ على وُجُوبِ الزكاةِ في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ. 891 - مسألة: (تَجِبُ الزكاةُ في الحُبُوبِ كلِّها، وفى كلِّ ثَمَرٍ يُكالُ ويُدَّخَرُ؛ كالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، واللَّوْزِ، والفُسْتُقِ، والبُنْدُقِ. ولا تَجِبُ في سائِرِ الثَّمَرِ، ولا في الخُضَرِ، والزَّهْرِ، والبُقُولِ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيما اجْتَمَعَ فيه الكَيْلُ والادِّخارُ مِن الثَّمَرِ والحُبُوبِ، ممّا يُنْبِتُه الآدَمِيُّون، سَواءٌ كان قُوتًا؛ كالحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والسُّلْتِ (¬3)، ¬

(¬1) السانية: البعير يسنى عليه، أى يستقى عليه من البئر. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب ما فيه العشر أو نصف العشر، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 675. وأبو داود، في: باب صدقة الزرع، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 370. كما أخرجه النسائى، في: باب ما يوجب العشر، وما يوجب نصف العشر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 31. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 341، 353. (¬3) السلت: قيل ضرب من الشعير ليس له قشر، وقيل ضرب منه رقيق القشر صغار الحب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُرْزِ، والذُّرَةِ، والدُّخْنِ (¬1)، أو مِن القِطْنِيّاتِ (¬2)، كالباقِلَّا، والعَدَسِ، والماشِ (¬3)، والحِمَّصِ، أو مِن الأبازِيرِ؛ كالكُسْفَرَةِ (¬4)، والكَمُّونِ، والكَراوْيا، أو البُزُورِ؛ كبِزْرِ الكَتّانِ، والِقثّاءِ، والخِيارِ، أو حَبِّ البُقُولِ؛ كالرَّشَادِ (¬5)، وحَبِّ الفُجْلِ، والقِرْطِمِ (¬6)، والتُّرْمُسٍ، والسِّمْسِمِ، وسائِرِ الحُبُوبِ. وتَجِبُ أيضًا فيما جَمَع هذه الأوْصاف مِن الثِّمارِ؛ كالتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، والقِشْمِش (¬7)، واللَّوْزِ، والفُسْتُقِ، والبُنْدُقِ. ¬

(¬1) الدخن: نبات عشبى، حبه صغير كحب السمسم. (¬2) القطنية، بالكسر، حكاه ابن خيبة بالتخفيف وأبو حنيفة بالتشديد: الحبوب التى تدَّخر. اللسان (ق ط ن). ثم حكاه صاحب اللسان بضم القاف، ضبط قلم، وقال: ما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أو هو اسم جامع للحبوب إلى تطبخ. (¬3) الماش: حب، ذكر الفيروزابادى أنه معروف معتدل، يتطبب به. (¬4) كذا ذكره المؤلف بالفاء، وهو بالياء. (¬5) الرشاد: بقلة سنوية، لها حب حريف يسمى حب الرشاد. (¬6) القرطم: حب العصفر. (¬7) القشمش: هو الكشمش، وهو زبيب صغير لا نوى له. الجامع لمفردات الأدوية 4/ 21، 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا زكاةَ في سائِرِ الفَواكِهِ، مِن الخَوْخِ، والرُّمّانِ، والإِجّاصِ (¬1)، والكُمَّثْرَى، والتُّفّاحِ، والمِشْمِشِ (¬2)، والتِّينِ، والجُوْزِ، ونَحْوِه. ولا في الخُضَرِ؛ كالقِثّاءِ، والخِيارِ، والباذِنْجانِ، واللِّفْتِ، والجَزَرِ. وبهذا قال عَطاءٌ في الحُبُوبِ كلِّها، ونَحْوُه قولُ أبى يُوسُفَ ومحمدٍ. وقال أبو عبدِ اللَّه اِبنُ حامدٍ: لا شئَ في الأبازِيرِ، ولا البُزُورِ، ولا حَبِّ البُقُولِ. ولَعَلَّه لا يُوجِبُ الزكاةَ إلَّا فيما كان قُوتًا أو أُدْمًا (¬3)؛ لأنَّ ما عَدَاه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ عليه، فيَبْقَى على النَّفْى الأصْلِىِّ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: لا زكاةَ في ثَمَرٍ، إلَّا التَّمْرَ والزَّبِيبَ، ولا في حَبٍّ، إلَّا ما كان قُوتًا في حالَةِ الاخْتِيارِ لذلك، إلَّا في الزَّيْتُونِ، على اخْتِلافٍ. وحُكِىَ عن أحمدَ: لا زكاةَ إلَّا في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ. ¬

(¬1) الإجاص: يطلق في سورية وفلسطين وسيناء على الكمثرى وشجرها، وكان يطلق في مصر على البرقوق وثمره. (¬2) المشمش، مثلث المِيمَيْن. (¬3) الأدم: ما يستمرأ به الخبز.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وموسى بنِ طَلْحَةَ (¬1)، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِىِّ، وابنِ أبى لَيْلَى، وابنِ المُبارَكِ. والسُّلْتُ، وهو نَوْعٌ مِن الشَّعِيرِ. ووافَقَهُم إبراهيمُ، وزاد الذُّرَةَ. ووافَقَهم ابنُ عباسٍ، وزاد الزَّيْتُونَ، لأنَّ ما عَدَا هذا لا نصَّ فيه ولا إجْماعَ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ ولا المُجْمَعِ عليه، فيَبْقَى على الأصْلِ. وقد روَى عمرُو ابنُ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، أنَّه قال: إنَّما سَنَّ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ والزَّبِيبِ. وعن أبى بُرْدَةَ، عن أبى موسى، ومُعاذٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَهُما إلى اليَمَنِ يُعَلِّمان النَّاسَ أمْرَ دِيبهم، فَأمَرَهم أن لا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إلَّا مِن هذا الأرْبَعَةِ، الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ. رَواهُنَّ الدَّارَقُطْنِىُّ (¬2). ولأنَّ غيرَ هذه الأرْبَعَةِ لا يُساوِيها في غَلَبَةِ الاقْتِياتِ بها وكَثْرَةِ نَفْعِها، وُجُودِها، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليها. وقال أبو حنيفةَ: في كلِّ ما يُقْصَدُ بزراعَتِه نَماءُ الأرْضِ، ¬

(¬1) موسى بن طلحة بن عبيد اللَّه القرشى التيمى، تابعى ثقة، توفى سنة ثلاث ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 350، 351. (¬2) الأول، في: باب ما يجب فيه الزكاة من الحب، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 94. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 580. والثانى، في: باب ليس في الخضراوات صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 98. كما أخرجه البيهقى، في: باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 128، 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا الحَطَبَ، والقَصَبَ، والحَشِيشَ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬1). وهو عامٌّ. ولأنَّ هذا يُقْصَدُ بزِراعَتِه نَماءُ الأرْضِ، أشْبَهَ الحُبُوبَ. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السلامُ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ». وقولِه لمُعاذٍ: «خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ» (¬2). خَرَج منه ما لا يُكالُ، وما ليس بحَبٍّ، بمَفْهُومِ قولِه عليه السلامُ: «لَيْسَ فِى حَبٍّ وَلَا ثَمرٍ (¬3) صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ». رَواه مسلمٌ والنَّسائِىُّ (¬4). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَيْسَ فِى الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ». وعن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَيْسَ فِيمَا أنْبَتَتِ الأرْضُ مِنَ الْخَضِرِ صدَقَةٌ». رَواهما الدّارَقُطْنِىُّ (¬5). وقال موسى بنُ طَلْحَةَ: جاء الأثَرُ عن رسولِ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خَمْسَةِ أشْياءَ؛ الشَّعِيرِ، والحِنْطَةِ، والسُّلْتِ، والزَّبِيبِ، والتَّمْرِ، وما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 372. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 451. (¬3) كذا في النسخ. وفى مصادر التخرج: «تمر». إلا الإمام أحمد، فعنده الروايتان. (¬4) أخرجه مسلم، في: أول كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 674، 675. والنسائى، في: باب زكاة التمر، وباب زكاة الحبوب، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 29، 30. كما أخرجه الدارمى، في: باب ما لا يجب فيه الصدقة من الحبوب والورق والذهب، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 384، 385. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 59، 73، 98. (¬5) في: باب ليس في الخضراوات صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 95، 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِوَى ذلك ممّا أخْرَجَتِ الأرْضُ فلا عُشْرَ فِيه (¬1). وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِهِ، أنَّ عامِلَ عُمَرَ كَتَب إليه في كُرُومٍ، فيها مِن الفِرْسِكِ (¬2) والرُّمّانِ ما هو أكْثَرُ غَلَّةً مِن الكُرُومِ أضْعافًا، فكَتَبَ إليه عمرُ: ليس عليها عُشْرٌ، هى مِن العِضاهِ (¬3). فصل: ولا تَجِبُ فِيما ليس بحَبٍّ ولا ثَمَرٍ، سَواءٌ وُجِد فيه الكَيْلُ والادِّخارُ أو لا، فلا تَجِبُ في وَرَقٍ مثلِ السِّدْرِ والخَطْمِىِّ (¬4) والأُشْنانِ والصَّعْتَرِ (¬5) والآسِ (¬6) ونَحْوِه، لأنَّه ليس بمَنْصُوصٍ عليه، ولا في مَعْنَاه، ولأنَّ قولَه عليه السلامُ: «لَيْسَ فِى حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ». يَدُلُّ على أنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ في غَيْرِهما. قال ¬

(¬1) رواه أبو عبيد، في: باب فيما تجب فيه الصدقة مما تخرج الأرض. الأموال 461. (¬2) الفرسك: الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر، أو ما ينفلق عن نواه. (¬3) العضاه: جمع العضاهة، وهى الخمط أو كل ذات شوك. (¬4) الخطمى: نبات يدق ورقه يابسا ويجعل غسلا للرأس فينقيه. (¬5) الصعتر: هو السعتر بالسين، وهو نبت إذا فرش في مرضع طرد الهوام. (¬6) الآس: شجر دائم الخضرة عطرى، وتجفف ثماره فتكون من التوابل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ عَقِيلٍ: ولأنَّه لا زكاةَ في ثَمَرِ السِّدْرِ، فوَرَقُه أوْلَى. ولأنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ في الحَبِّ المُباحِ، ففى الوَرَقِ أوْلَى. وقال أبو الخَطّابِ: تَجِبُ الزكاةُ في الصَّعْتَرِ والأُشْنانِ؛ لأنَّه مَكِيلٌ مُدَّخرٌ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّه ليس بمَنْصُوصٍ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ. ولا تَجِبُ في الزَّهْرِ، كالزَّعْفَرانِ، والعُصْفُرِ، والقُطْنِ؛ لأنَّه ليس بحَبٍّ ولا ثَمَرٍ، ولا مَكِيلٍ، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالخَضْراواتِ. قال أحمدُ: ليس في القُطْنِ شئٌ. وقال: ليس في الزَّعْفَرانِ زكاةٌ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيَارُ أبى بكرٍ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: ليس في الفاكِهَةِ والبَقْلِ والتَّوابِلِ والزَّعْفَرانِ زكاةٌ.

وَعَنْهُ، أَنَّهَا تَجِبُ فِى الزَّيْتُونِ، وَالْقُطْنِ، وَالزَّعْفَرَانِ، إِذَا بَلَغَا بِالْوَزْنِ نِصَابًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وعنه، أنَّها تَجِبُ في الزَّيْتُونِ، والقُطْنِ، والزَّعْفرانِ، إذا بَلَغا بالوَزْنِ نِصابًا) ورُوِىَ عن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ في القُطْنِ والزَّعْفَرانِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زكاةً. وخَرَّجَ أبو الخَطّابِ في العُصْفُرِ والوَرْس وَجْهًا، قِياسًا على الزَّعْفَرانِ. وقال القاضى: الوَرْسُ عندِى بمَنْزِلَةِ الزَّعْفرانِ، يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن؛ لاجْتِماعِ الكَيْلِ والادِّخارِ فيه، أشْبَهَ الحُبُوبَ. والأوَّلُ أوْلَى، وهذا مُخالِفٌ لأُصُولِ أحمدَ؛ فإنَّ المَرْوِىَّ عنه رِوايَتان؛ إحْداهما، أنَّه لا زكاةَ إلَّا في الأرْبَعَةِ. والثانيةُ، أنَّها تَجِبُ في الحِنْطَةِ والشَّعِير والتَّمْرِ والزَّبِيبِ والذّرَةِ والسُّلْتِ والأرْزِ والعَدَسِ، وكلِّ شئٍ يقُومُ مقامَ هذه حتى يُدَّخَرَ، ويَجْرِىَ فيه القَفِيزُ، مثل اللُّوبيا والحِمَّصِ والسَّماسِمِ (¬1) والقِطْنِيَّاتِ، ففيه الزكاةُ. وهذا لا يَجْرِى فيه القَفِيزُ، ولا هو في مَعْنَى ما سَمَّاه. وإذا قُلْنا بوُجُوبِ الزكاةِ في القُطْنِ، احْتَمَلَ أن تَجِبَ في الكَتّانِ والقِنَّبِ (¬2)، لأنَّه في مَعْنَى القُطْنِ. ولا تَجِبُ الزكاةُ في التِّبْنِ وقُشورِ الحَبِّ، كما لا تَجِبُ في كَرَبِ (¬3) النَّخْلِ وخُوصِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) القِنَّبُ: نوع من الكتان. (¬3) الكَرَبُ: أصول السعف الغلاظ العراض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الزَّيْتُونِ عن أحمدَ، فقال في رِوايَةِ ابْنِه صالِحٍ: فيه العُشْرُ إذا بَلَغ، يَعْنِى خَمْسَةَ أوْسُقٍ، وإن عُصِر قُوِّمَ ثَمَنُه؛ لأنَّ الزَّيْتَ له بَقاءٌ. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، ومالكٍ، واللَّيْثِ، والثَوْرِىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1). في سِياقِ قولِه تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} (1). ولأنَّه يمكنُ ادِّخارُ غَلَّتِه، أشْبَهَ التَّمْرَ والزَّبِيبَ (¬2) ورُوِىَ عنه: لا زَكاةَ فيه. نَقَلَها عنه يَعْقُوبُ ¬

(¬1) سورة الأنعام 141. وما روى عن ابن عباس أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الزيتون فيه الزكاة أم لا، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 141. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ بخْتانَ، وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ، وظاهِرُ كلام الخِرَقِىِّ، وهذا قولُ ابنِ أبى لَيْلِى، والحسنِ بنِ صالِحٍ، وأبى عُبَيْدٍ، وأَحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ؛ لأنَّه لا يُدَّخرُ يابِسًا، فهو كالخَضْرَاواتِ، ولأنَّه لم يُرَدْ يها الزكاةُ؛ لأنَّها مَكِّيَّةٌ، والزكاةُ إنَّما فُرِضَتْ بالمَدِينَةِ، ولهذا ذُكِر الرُّمّانُ ولا عُشْرَ فيه. وقال النَّخَعِىُّ، وأبو جَعْفَرٍ (¬1): هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ. على أنَّها مَحْمُولَةٌ على ما يَتَأتَّى حَصادُه، بدَلِيلِ أنَّ الرُّمّانَ مَذْكُورٌ بعدَه، ولا زَكاةَ فيه. فصل: ونِصابُهُ خَمْسَةُ أوْسُقٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ صالحٍ. فأمّا نِصابُ الزَّعْفَرانِ وْالقُطْنِ وما أُلحِقَ بهما مِن المَوْزُوناتِ، فهو ألْفٌ وسِتُّمائةِ رَطْلٍ بالعِراقِىِّ؛ لأنَّه ليس بمَكِيلٍ، فيَقُومُ وَزْنُه مَقامَ كَيْله. ¬

(¬1) هو ابن جرير. انظر تفسيره 12/ 168 - 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه القاضى، في «المُجَرَّدِ». وحُكِىَ عنه: إذا بَلَغَتْ قِيمَتُه نِصابًا مِنِ أدْنَى ما تُخْرِجُه الأرْضُ ممّا فيه الزكاةُ، ففيه الزكاةُ. وهذا قولُ أبى يُوسُف في الزَّعْفَرانِ؛ لأنَّه لا يمكنُ اعْتِبارُه بنَفْسِه، فاعْتُبِرَ بغيرِه، كالعُرُوضِ تُقَوَّمُ بأدْنَى النِّصابَيْن مِن الأثْمانِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ في الزَّعْفرانِ: تَجِبُ الزكاةُ في قَلِيلِه وكَثِيرِه. وحَكاه القاضى في «المُجَرَّدِ» قَوْلًا في المَذْهَبِ. قال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللَّهُ: ولا أعْلَمُ لهذيْن القَوْلَيْن دَلِيلًا، ولا أصْلًا يُعْتَمَدُ عليه، ويَرُدُّهما قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬2). ولأنَّ إيجابَ الزكاةِ في قَلِيلِه وكَثِيرِه مُخالِفٌ لجَمِيعِ ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 163، 164. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْوالِ الزكاةِ، واعْتِبارُه بغيرِه مُخالِفٌ لجَمِيعِ ما يَجِبُ فيه العُشْرُ، واعْتِبارُه بأقلِّ ما تَجبُ الزكاةُ فيه قِيمَةً لا نَظِيرَ له أصْلًا، ولا يَصِحُّ قِياسُه على العُرُوضِ؛ لأَنَّها لا تَجِبُ الزكاةُ في عَيْنِها، وإنَّما تَجِبُ في قِيمَتِها فيُؤَدَّى مِن القِيمَةِ التى اعْتُبِرَتْ بها، والقِيمَةُ تُرَدُّ إليها كلُّ الأمْوالِ المتَقَوّماتِ، فلا يَلْزَمُ مِن الرَّدِّ إليها الرَّدُّ إلى ما لم يُرَدَّ إليه شئٌ أصْلًا ولا تُخْرَجُ الزكاةُ منه، ولأنَّ هذا مالٌ تُخْرَجُ الزكاةُ مِن جِنْسِه، فاعْتُبِرَ بنَفْسِه، كالحُبُوبِ.

892 - مسألة: (وقال ابن حامد: لا زكاة فى حب البقول؛ كحب الرشاد، والأبازير، كالكسفرة، والكمون، وبزر القثاء، والخيار، ونحوه)

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا زَكَاةَ فِى حَبِّ الْبُقُولِ؛ كَحَبِّ الرَّشَادِ، وَالْأَبَازِيرِ؛ كَالْكُسْفَرَةِ، وَالْكَمُّونِ، وَبِزْرِ الْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَنَحْوِهِ. وَيُعْتَبَرُ لِوُجُوبِها شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَبْلُغَ نِصَابًا، قَدْرُهُ بَعْدَ التَّصْفِيَة فِى الْحُبُوبِ، وَالْجَفَافِ فِى الثِّمَارِ، خَمْسَةُ أَوْسُقٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 892 - مسألة: (وقال ابنُ حامِدٍ: لا زكاةَ في حَبِّ البُقُولِ؛ كحَبِّ الرَّشادِ، والأبازِيرِ، كالكُسْفَرةِ، والكَمُّونِ، وبِزْرِ القِثّاءِ، والخِيارِ، ونَحْوِه) لِما ذَكَرْنا. 893 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ لوُجُوبِها شَرْطان؛ أحَدُهما، أن تَبْلُغَ نِصابًا، قَدْرُه بعدَ التَّصْفِيَةِ في الحُبُوبِ، والجَفافِ في الثِّمارِ، خَمْسَة أوْسُقٍ) لا تَجِبُ الزكاةُ في شئٍ مِن الزُّرُوعِ والثِّمارِ حتى تَبْلُغَ خَمْسَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْسُقٍ. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وأبو أُمامَةَ ابنُ سَهْلٍ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والحسنُ، وعطاءٌ، ومَكْحُولٌ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، وأهلُ المَدِينَةِ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ فيه، إلَّا مُجاهِدًا، وأبا حنيفةَ، ومَن تابَعَه، قالوا: تَجِبُ الزكاةُ في قَلِيلِ ذلك وكَثِيرِه؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلامُ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬1). ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ له حَوْلٌ، فلا يُعْتَبَرُ له نِصابٌ، كالرِّكازِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة». وهذا خاصٌّ يَجِبُ تَقْدِيمُه على ما رَوَوْه، كما خَصَّصْنا قَوْلَه: «فِى سَائِمَةِ الإِبِلِ الزَّكاةُ» (¬2). بقولِه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ». وقولَه: «فِى الرِّقَّةِ (¬3) رُبْع الْعُشْرِ» (¬4). بقولِه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ» (¬5). ولأنَّه مالٌ تَجِبُ فيه الصدقةُ (¬6)، فلم تَجِبْ في يَسِيرِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 372. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 389 من حديث بهز بن حكيم. (¬3) الرِّقَّة: هى الدراهم المضروبة. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 395 من حديث أنس. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 310. (¬6) في م: «الزكاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ الأمْوالِ الزَّكَوِيَّةِ، وإنَّما لم يُعْتَبَرِ الحَوْلُ، لأنَّه يَكْمُلُ نَماؤُه باسْتِحْصادِه لا ببَقائِه، واعْتُبِرَ الحَوْقُ في غَيْرِه، لأنَّه مَظِنَّةٌ لِكمالِ النَّماءِ في سائِرِ الأمْوالِ، والنِّصابُ اعْتُبِرَ ليَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ المُواساةَ منه، فلهذا اعْتُبِرَ فيه. يُحَقِّقُه أنَّ الصَّدَقَةَ إنَّما تَصِبُ على الأغْنِياءِ لِما ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ، ولا يَحْصُلُ الغِنىَ بدُونِ النِّصابِ، فهو كسائِرِ الأمْوالِ الزَّكَوِيَّةِ. فصل: وتُعتَبَرُ الخَمْسَةُ الأوسُقِ بعدَ التَّصْفِيَةِ في الحُبُوبِ، والجَفافِ في الثِّمارِ، فلو كان له عَشْرَةُ أوْسُقٍ عِنَبًا، لا يَجِئُ منها خَمْسَةُ أوْسُقٍ زَبِيبًا، لم يَجِبْ عليه شئٌ، لأنَّه حالُ وُجُوبِ الإِخْراجِ منه، فاعْتُبِرَ النِّصابُ بحالِه حِينَئِذٍ.

894 - مسألة: (والوسق ستون صاعا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقى، فيكون ذلك ألفا وستمائة رطل)

وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِىِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ألْفًا وَسِتَّمِائَةِ رَطْلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 894 - مسألة: (والوَسْقُ سِتُّون صاعًا، والصّاعُ خَمْسَةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ بالعِراقِىِّ، فيَكُونُ ذلك ألْفًا وسِتَّمائةِ رَطْلٍ). الوَسْقُ سِتُّون صاعًا بغَيْرِ خِلافٍ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، عن سَلَمَةَ ابنِ صَخْرٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا». وروَى أبو سعيدٍ، وجابِرٌ نَحْوَه. رَواه ابنُ ماجه (¬1). والصّاعُ خَمْسَةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ بالعِراقِىِّ، وفيه خِلافٌ بينَ العلماءِ، وقد ذَكَرْنا في كِتابِ الطهارةِ ذلك وبَيَّنَّاه (¬2)، فيكونُ النِّصابُ ألْفًا وسِتَّمائةِ رَطْلٍ بالعِراقِىِّ، كما ذَكَر. والرَّطْلُ العِراقِىُّ مائةٌ وثَمانِيَة وعِشْرُون دِرْهَمًا وأربَعَةُ أسْباعِ دِرْهَمٍ، ووَزْنُه بالمَثاقِيلِ تِسْعُون، ثم زِيدَ في الرَّطْلِ مِثْقالٌ واحِدٌ، وهو دِرْهَمٌ وثَلاثَةُ أسْباعٍ دِرْهَمٍ (¬3)، فصار إحْدى وتِسْعِين مِثْقالًا، كَمَل وَزْنُه بالدَّراهِمِ مائةَ وثَلَاثِين دِرْهَمًا، والاعْتِبارُ به قبلَ الزِّيادَةِ، فيَكُونُ الصّاعُ بالرَّطْلِ الدِّمَشْقِىِّ الذى وَزْنُه سِتُّمائةِ دِرْهَمٍ رَطْلًا وسُبْعًا، وتكونُ خَمْسَةُ الأوْسُقِ ثَلَاثمِائَةٍ واثْنَيْن وأرْبَعِين رَطلًا وسِتَّةَ أسْباعِ رَطْلٍ. والنِّصابُ مُعْتَبَرٌ ¬

(¬1) في: باب الوسق ستون صاعا، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 586، 587. وحديث أبى سعيد أخرجه أبو داود، في: باب ما تجب فيه الزكاة، من كتاب الزكاة. منن أبى داود 1/ 357. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 59، 83. وأخرجه البيهقى عن ابن عمر. السنن الكبرى 4/ 121. (¬2) انظر ما تقدم في الجزء الثانى صفحة 143. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكَيْلِ؛ لأنَّ الأوْسَاقَ مَكِيلَةٌ، وإنّما نُقِلَتْ إلى الوَزْنِ لتُضْبَطَ وتُحْفَظَ وتُنْقَلَ؛ لعَدَمِ إمْكانِ ضَبْطِ الكَيْلِ، ولذلك تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزكاةِ بالمَكِيلاتِ دُونَ المَوْزُوناتِ، والمَكِيلاتُ تَخْتَلِفُ في الوَزْنِ؛ فمنها الثَّقِيلُ، كالحِنْطَةِ والعَدَسِ، ومنها الخَفِيفُ، كالشَّعِيرِ والذُّرَةِ، ومنها المُتَوَسِّطُ. وقد نَصَّ أحمدُ على أنَّ الصّاعَ خَمْسَةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ مِن الحِنْطَةِ. رَواه عنه جماعَةٌ. وقال حَنْبَلٌ: قال أحمدُ: أخَذْتُ الصّاعَ مِن أبى النَّضْرِ (¬1). وقال أبو النَّضْرِ: أخَذْتُه مِن ابنِ أبى ذِئْبٍ. وقال: هذا صاعُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذى يُعْرَفُ بالمَدِينَةِ. قال أبو عبدِ اللَّهِ: فأخَذْنا العَدَسَ، فعَيَّرْنا به، وهو أصْلَحُ ما يُكالُ به؛ لأنَّه لا يَتَجافَى عن مَواضِعِه، فكِلْنا به ثم وَزَنّاه، فإذا هو خَمْسَةُ أرْطالٍ وثُلُثٌ. قال: هذا أصْلَحُ ما وَقَفْنا عليه، وما بُيِّنَ لنا مِن صاعِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فمتى بَلَغ القَمْحُ ألْفًا وسِتَّمائةِ رَطْلٍ أو نَحْوَه مِن العَدَسِ، ففيه الزكاةُ؛ لأنَّهم قَدَّرُوا الصّاعَ بالثَّقِيلِ، فأمّا الخَفِيفُ فتَجِبُ الزكاةُ فيه إذا قارَبَ هذا وإن لم يَبْلُغْه. ومتى شَكَّ في وُجُوبِ الزكاةِ فيه، ولم يَجِدْ مِكْيالًا يُقَدِّرُ به، فالاحْتِياطُ الإِخْراجُ. فإن لم يُخْرِجْ فلا حَرَجَ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكاةِ، فلا تَجِبُ بالشَّكِّ. فصل: قال القاضى: النِّصابُ مُعْتَبَرٌ تَحْدِيدًا، فمتى نَقَص شيئًا لم تَجِبِ الزكاةُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ ¬

(¬1) هو هاشم بن القاسم بن مسلم الليثى البغدادى الحافظ، شيخ الإمام أحمد، المتوفى سنة خمس أو سبع ومائتين. تهذيب التهذيب 11/ 18، 19.

895 - مسألة؛ قال: (إلا الأرز والعلس؛ نوع من الحنطة يدخر فى قشره، فإن نصاب كل واحد منهما مع قشره عشرة أوسق)

إِلَّا الْأُرْزَ وَالْعَلَسَ؛ نَوْعٌ مِنَ الْحِنْطَةِ يُدَّخَرُ فِى قِشْرِهِ، فَإِنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ قِشْرِهِ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَدَقَةٌ» (¬1). إلَّا أن يكونَ نَقْصًا يَسِيرًا يَدْخُلُ في المَكَايِيلِ، كالأُوقِيَّةِ ونَحْوِها، فلا عِبْرَةَ به، لأنَّ مثلَ ذلك يجوزُ أن يَدْخُلَ في المَكاييلِ، فلا يَنْضبِطُ، فهو كنَقْصِ الحَوْلِ ساعَةً أو ساعَتَيْن. 895 - مسألة؛ قال: (إلَّا الأُرْزَ والعَلَسَ؛ نَوْعٌ مِن الحِنْطَةِ يُدَّخَرُ في قِشْرِه، فإنَّ نِصابَ كلِّ واحِدٍ منهما مع قِشْرِه عَشَرَةُ أوْسُقٍ) العَلَسُ: نَوْعٌ مِن الحِنْطَةِ يُدَّخَرُ في قِشْرِه، زَعَم أهلُه أنَّه يُخْرَجُ على النِّصْفِ، وأنَّه إذا أُخْرِجَ مِن قِشْرِه لا يَبْقَى بَقاءَ غيرِه. فاعْتُبِرَ نِصابُه في قِشْرِه للضَّرَرِ في إخْراجِه، فإذا بَلَغ بقِشْرِه عَشَرَةُ أوْسُقٍ، ففيه العُشْرُ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ فيه خَمسَةَ أوْسُقٍ حَبًّا، وإن شَكَكْنا في بُلُوغِه نِصابًا، خُيِّرَ صاحِبُه بينَ إخْراجِ عُشْرِه، وبينَ إخْراجِه مِن قِشْرِه، كقولِنا في مَغْشُوشِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ. ولا يَجُوزُ تَقْدِيرُ غيرِه مِن الحِنْطَةِ في قِشْرِه، ولا إخْراجُه قبلَ تَصْفِيَتِه؛ لأنَّ العادَةَ لم تَجْرِ به، ولا تَدْعُوا الحاجَةُ إليه، ولا نَعْلَمُ قَدْرَ ما يَخْرُجُ منه. فصل: ونِصابُ، الأُرْزِ كنِصابِ العَلَسِ، كذلك ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه يُدَّخَرُ مع قِشْرِه، وإذا خَرَجَ مِن قِشْرِه لا يَبْقَى بقاءَ ما في القِشْرِ، فهوْ كالعَلَسِ فيما ذَكَرْنا سَواءٌ. وقال بَعْضُ أصحابِنا: لا يُعْتَبَرُ نِصابُه بذلك، إلَّا أن يقولَ ثِقاتٌ مِن أهْلِ الخِبْرَةِ: إنَّه يَخْرُجُ على النِّصْفِ. فيكونُ كالعَلَسِ، فعلى هذا متى لم يُوجَدْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثِقاتٌ يُخْبِرُون بهذا، أو شَكَكْنا في بُلُوغِه نِصابًا، خُيِّرَ رَبُّه بينَ تَصْفِيَتِه وبينَ الإِخْراجِ، ليُعْلَمَ قَدْرُه، كمَغْشُوشِ الأثْمانِ.

896 - مسألة: (وعنه، أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا، ويؤخذ عشره يابسا)

وَعَنْهُ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ نِصَابُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ رُطَبًا، ثُمَّ يُؤْخَذُ عشْرُهُ يَابِسًا، وَتُضَمُّ ثَمَرَةُ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِى تَكْمِيلِ النِّصَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 896 - مسألة: (وعنه، أنَّه يُعْتَبَرُ نِصابُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ والكَرْمِ رُطَبًا، ويُؤْخَذُ عُشْرُه يابِسًا) روَى الأثْرَمُ عن أحمدَ، أنَّه يُعْتَبَرُ نِصابُ النَّخْلِ والكَرْمِ عِنَبًا ورُطَبًا، ويُؤْخَذُ منه مِثْلُ عُشْرِ الرُّطَبِ تَمرًا. اخْتارَه أبو بكرٍ. قال شيخُنا (¬1): وهذا مَحْمُولٌ على أنَّه أراد، يُؤْخَذُ عُشْرُ ما يَجِئُ منه مِن التَّمْرِ، إذا بَلَغ رُطَبُها خَمْسَةَ أَوْسُقٍ؛ لأنَّ إيجابَ قَدْرِ عُشْرِ الرُّطَبِ مِن التَّمْرِ إيجابٌ لأكْثَرَ مِن العُشْرِ، وذلك يُخالِفُ النَّصَّ والإِجمْاعَ، فلا يَجُوزُ حَمْلُ كَلامِ الإِمامِ عليه. وظاهِرُ ما حَكَى عنه الأثْرَمُ، أنَّه يُؤْخَذُ مِقْدارُ عُشْرِ الرُّطَبِ يابِسًا، فإنَّه رُوِىَ أنَّه قِيلَ لأحمدَ: رَجُلٌ (¬2) خُرِصَ عليه مائةُ وَسَقٍ رُطَبًا، يُعْطِيه عَشَرَةَ أوْسُقٍ تَمْرًا؟ قال: نعم، على ظاهِرِ الحديثِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا. 897 - مسألة: (وتُضَمُّ ثَمَرَةُ العامِ الواحِدِ بَعْضُها إلى بَعْضٍ في تَكْمِيلِ النِّصابِ) تُضَمُّ ثَمَرَةُ العامِ الواحِدِ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، سَواءٌ اتَّفَقَ ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 162. (¬2) سقط من: م.

898 - مسألة: (فإن كان له نخل يحمل فى السنة حملين، ضم

فَإِنْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ يَحْمِلُ فِى السَّنَةِ حَمْلَيْنِ، ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الْقَاضى: لَا يُضَمُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقْتُ إطْلاعِها وإدْراكِها أو اخْتَلَفَا، فلو أنَّ الثَّمَرَةَ جُدَّتْ، ثم أطْلَعَتْ أُخْرَى وجُدَّتْ، ضُمَّ إحْداهُما إلى الأُخْرَى. وكذلك زَرْعُ العامِ الواحِدِ يُضَمُّ بَعْضُه إلى بَعْضٍ تَكْمِيلِ النِّصابِ، كما قُلْنا في الثَّمَرَةِ، سواءٌ اتَّفَقَ زَرْعُه وإدْراكُه أو اخْتَلَفَ. ويُضَمُّ الصَّيْفِىُّ إلى الرَّبِيعِىِّ. ولو حُصِدَتِ الدُّخْنُ (¬1) والذُّرَةُ ثم نَبَتَتْ أُصُولُها، ضُمَّ أحَدُهما إلى الآخَرِ، لأنَّ الجَمِيعَ زَرْعُ عامٍ واحدٍ، فَضُمَّ بَعْضُه إلى بَعْضٍ، كما لو تَقارَبَ زَرْعُه وإدْراكُه. 898 - مسألة: (فإن كان له نَخْلٌ يَحْمِلُ في السَّنَةِ حَمْلَيْن، ضُمَّ ¬

(¬1) نبات عشبى حبه صغير أملس كحب السمسم.

899 - مسألة: (ولا يضم جنس إلى آخر فى تكميل النصاب.

وَلَا يُضَمُّ جِنْسٌ إِلَى آخَرَ فِى تَكْمِيلِ النِّصَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما إلى الآخَرِ. وقال القاضى: لا يُضَمُّ) وهو قولُ الشافعىِّ، لأنَّه حَمْلٌ يَنْفَصِلُ عن الأوَّلِ، فكان حُكْمُه حُكْمَ حَمْلِ (¬1) عامٍ آخَرَ، كحَمْلِ العامَيْن. وإن كان له نَخْلٌ يَحْمِلُ مَرَّةً، ونَخْلٌ يَحْمِلُ حَمْلَيْن، ضَمَمْنا الحَمْلَ الأوَّلَ إلى الحَمْلِ المُنْفَرِدِ، ولم يَجِبْ في الثّانِى شئٌ، إلَّا أن يَبْلُغَ بمُفْرَدِه نِصابًا. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. اخْتارَه أبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ، لأنَّها ثَمَرَةُ عامٍ واحِدٍ، فضُمَّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، كزَرْعِ العامِ الواحِدِ، وكالذُّرَةِ التى تَنْبُتُ مَرَّتَيْن، ولأنَّ الحَمْلَ الثّانِىَ يُضَمُّ إلى الحَمْلِ المُنْفَرِدِ لو لم يكنْ حَمْلٌ أوَّلُ، فكذلك إذا كان؛ لأنَّ وُجُودَ الحَمْلِ الأوَّلِ لا يَصْلُحُ أن يكونَ مانِعًا، بدَلِيلِ حَمْلِ الذُّرَةِ الأوَّلِ، وبها يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه مِن الانْفِصالِ. 899 - مسألة: (ولا يُضَمُّ جِنْسٌ إلى آخَرَ فِى تَكْمِيلِ النِّصابِ. ¬

(¬1) سقط من النسخ. وانظر المغنى 4/ 207.

وَعَنْهُ، أَنَّ الْحُبُوبَ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. وَعَنْهُ، تُضَمُّ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ، وَالْقِطنِيَّاتُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، أنَّ الحُبُوبَ يُضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ. وعنه، تُضَمُّ الحِنْطَةُ إلى الشَّعِيرِ، والقِطنِيّاتُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ) القِطْنِيّاتُ، بكَسْرِ القافِ (¬1): جَمْعُ قِطْنِيَّةٍ، ويُجْمَعُ أيضًا قَطانِىّ. قال أبو عُبَيْدٍ (¬2): هى صُنُوفُ الحُبُوبِ، مِن العَدَسِ، والحِمَّصِ، والأُرْزِ، والجُلُبّانِ، والجُلْجُلانِ. وهو السِّمْسِمُ. وزاد غيرُه: الدُّخْنَ، واللُّوبِيا، والفُولَ، والماشَ. وسُمِّيَتْ قِطْنِيَّةً، فِعْلِيَّةً، مِن قَطَنْ يَقْطُنُ في البَيْتِ، أى يَمْكُثُ فيه. وجُمْلَةُ ذلك أنَّه لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في غيرِ الحُبُوبِ والأثْمانِ، أنَّه لا يُضَمُّ جِنْسٌ إلى جِنْسٍ آخَرَ في تكْمِيلِ النِّصابِ. ¬

(¬1) وتضم القاف أيضا. (¬2) في: الأموال 471، 472.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالماشِيَةُ ثَلاثَةُ أجْناسٍ؛ الإِبِلُ، والبَقَرُ، والغَنَمُ، لا يُضمُّ جِنْسٌ إلى غيرِه. وكذلك الثِّمارُ، لا يُضمُّ جِنْسن إلى آخَرَ، فلا يُضمُّ التَّمْرُ إلى الزَّبِيبِ، ولا إلى غيرِه مِن الثِّمارِ. ولا تُضَمُّ الأثْمانُ إلى السّائِمَةِ، ولا إلى الحُبُوبِ والثِّمارِ. ولا خِلافَ بينَهم فيما عَلِمْنا (¬1) أنَّ أنْواعَ الأجْناسِ يُضمُّ بعضُها إلى بَعْضٍ في إكْمالِ النِّصاب. ولا نَعْلَمُ بينَهم خِلافًا في أنَّ العُرُوضَ والأثْمانَ يُضمُّ كلُّ واحِدٍ منهما إلى الآخَرِ، إلَّا أنَّ الشافعىَّ لا يَضُمُّها إلَّا إلى جِنْسِ ما اشْتُرِيَتْ به؛ لأنَّ نِصابَها عندَه مُعْتَبَرٌ بذلك. فأمّا الحُبُوبُ فاخْتَلَفُوا في ضَمِّ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، وفى ضَمِّ أحَدِ النَّقْدَيْن إلى الآخَرِ، فرُوِىَ عن أحمدَ في الحُبُوبِ ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، لا يُضَمُّ جِنْسٌ منها إلى غيرِه، ويُعْتَبَرُ النِّصابُ في كلِّ جِنْسٍ مُنْفَرِدًا. وهذا قولُ عَطاءٍ، ومَكْحُولٍ، وابنِ أبِى لَيْلَى، والأوْزاعِى، والثَّوْرِىِّ، والحسنِ بنِ صالِحٍ، وشَرِيكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأبى عُبَيْدٍ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّها أجْناسٌ، فاعْتُبِرَ النِّصابُ في كلِّ واحِدٍ مُنْفَرِدًا، كالنِّصابِ، والمَواشِى. ¬

(¬1) في م: «ذكرنا من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّانِيَةُ، أنَّ الحُبُوبَ كُلَّها يضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ في تَكْمِيلِ النِّصابِ. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهذا قولُ عِكْرِمَةَ، وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن طاوُسٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا زَكَاةَ فِى حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ» (¬1). فمَفْهُومُه وُجُوبُ الزكاةِ فيه إذا بَلَغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ. ولأنَّها تَتَّفِقُ في النِّصابِ وقَدْرِ المُخْرَجِ، فوَجَبَ ضَمُّ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، كأنْواعِ الجِنْسِ. وهذا الدَّلِيلُ مُنْتَقِضٌ بالثِّمارِ. والثّالِثَةُ، أنَّ الحِنْطَةَ تُضَمُّ إلى الشَّعِيرِ، وتُضَمُّ القِطْنِيّاتُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ. حَكاها الخِرَقِىُّ. ونَقَلَها أبو الحارِثِ عنه. قال القاضى: وهذا هو الصَّحِيحُ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، واللَّيْثِ، إلَّا أنَّه زاد، فقال: الذُّرَةُ، والدُّخْنُ، والأُرْزُ، والقَمْحُ، والشَّعِيرُ، صِنْفٌ واحِدٌ؛ لأنَّ هذا كلَّه مُقْتاتٌ، فضُمَّ بَعْضُه إلى بَعْضٍ، كأنْواعِ الحِنْطَةِ. وقال الحسنُ، والزُّهْرِىُّ: تُضَمُّ الحِنْطَةُ إلى الشَّعِيرِ؛ لأنَّها تَتَّفِقُ في الاقْتِياتِ والمَنْبِتِ والحَصادِ والمَنافِعِ، فوَجَبَ ضَمُّها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 498.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يُضَمُّ العَلَسُ إلى الحِنْطَةِ. والأُولَى أصَحُّ، إن شاء اللَّهُ، لأنَّها أجْناسٌ يجوزُ التَّفاضُلُ فيها، فلم يُضَمَّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، كالثِّمارِ. ولا يَصِحُّ القِياسُ على العَلَسِ مع الحِنْطَةِ، لأنَّه نَوْعٌ منها. وإذا انْقَطَعَ القِياسُ، لم يَجُزْ إيجابُ الزكاةِ بالتَّحَكُّمِ، ولا بوَصْفٍ غيرِ مُعْتَبَرٍ، ثم هو باطِلٌ بالثِّمارِ، فإنَّها تَتَّفِقُ فيما ذَكَرُوه، ولا يُضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ. ولا خِلافَ فيما نَعْلَمُه، في ضَمِّ الحِنْطَةِ إلى العَلَسِ، لأنَّه نَوْعٌ منها. وعلى قِياسِه السُّلْتُ إلى الشَّعِيرِ. فصل: ولا تَفرِيعَ على الرِّوايَتَيْن الأُولَيَيْن، لوُضُوحِهما. فأمّا الثّالِثَةُ، وهى ضَمُّ الحِنْطَةِ إلى الشَّعِيرِ، والقِطْنِيّات بَعْضِها إلى بَعْضٍ، فإنَّ الذُّرَةَ تُضَمُّ إلى الدُّخْنِ، لتقارُبِهما في المَقْصِدِ، فإنَّهما يُتَّخَذان خُبْزًا وأُدْمًا، وقد ذُكِرا (¬1) مِن جُمْلَةِ القِطْنِيّاتِ، فيُضَمّان إليها. والبُزُورُ لا تُضَمُّ إلى القِطْنِيّاتِ، [والأبازِيرُ يُضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْض، لتَقارُبِهما في المَقْصِدِ، كالقِطْنِيّاتِ. وحُبُوبُ البُقُولِ لا تُضَمُّ إلى القِطْنِيّاتِ] (¬2)، ولا إلى الأبازِيرِ، ¬

(¬1) في م: «ذكر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَنْبَغِى أن يُضَمَّ بَعْضُها إلى بَعْض، وكلُّ ما تَقارَبَ مِن الحُبُوبِ ضُمَّ بَعْضُه إلى بَعْضٍ، وإلَّا فلا، وما شَكَكْنا فيه لا يُضَمُّ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ. فصل: ومتى قُلْنا بالضَّمِّ، فإنَّ الزكاةَ تُؤْخَذُ من كلِّ جِنْسٍ على قَدْرِ ما يَخُصُّه. ولا يُؤْخَذُ مِن جِنْسِ عن غيرِه، فإنَّنا إذا قُلنا في أنْواَعِ الجِنْسِ: يُؤْخَذُ مِن كلِّ نوْعٍ ما يَخُصُّه، ففى الأجْناسِ مع تَقارُبِ مَقاصِدِها أوْلَى.

الثَّانِى، أن يَكُونَ النِّصَابُ مَمْلُوكًا لَهُ وَقْتَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلَا تَجِبُ فِيمَا يَكْتَسِبُهُ اللَّقَّاطُ، أَوْ يَأْخُذُهُ بحَصَادِهِ، وَلَا فِيَما يَجْتَنِيهِ مِنَ الْمُبَاحِ؛ كَالْبُطْمِ، وَالزَّعْبَلِ، وَبِزْرِ قَطُونَا وَنَحْوِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثانِى (¬1)، أن يكونَ النِّصابُ مَمْلُوكًا له وَقْتَ وُجُوبِ الزكاةِ، فلا زكاةَ فيما يَكْتَسِبُه اللَّقَّاطُ ولا فيما يأْخُذُه) أُجْرَةً (بحصادِه) نَصَّ عليه أحمدُ، وقال: هو بمَنْزِلَةِ المُباحاتِ، ليس فيه صَدَقَةٌ، فهو كما لو اتَّهَبَه. (و) كذلك (ما يَنْبُتُ مِن المُباحِ) الذى لا يُمْلَكُ إلَّا بأخْذِه (كالبُطْمِ) (¬2) والعَفْصِ (¬3) (والزَّعْبَلِ) وهو شَعِيرُ الجَبَلِ (وبِزْرِ قَطُونا) (¬4) وحَبِّ الثُّمامِ (¬5)، وبِزْرِ البَقْلَةِ، وحَبِّ الأُشْنانِ إذا أدْرَكَ ¬

(¬1) أى الشرط الثاني لوجوبها، وقد سبق ذكر الأول في المسألة 893. (¬2) البطم: شجرة الحبة الخضراء، من الفصيلة الفستقية، وثمرتها تؤكل في بلاد الشام. (¬3) العفص: شجر البلوط. (¬4) بزر قطونا: بذور نبات عشبى حولى من فصيلة لسان الحمل، يطبب به. (¬5) الثمام: من الفصيلة النجيلية، يرتفع، وفروعه مزدحمة متجمعة.

وَقَالَ الْقَاضِى: فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا نَبَتَ فِى أَرْضِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَصَلَتْ فيه مُزوزَةٌ (¬1) ومُلُوحَةٌ، وأشْباهِ هذا. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّه إنَّما يُمْلَكُ بحِيازَتِه وأخْذِه، والزكاةُ إنَّما تَجِبُ فيه إذا بَدَا صَلاحُه، وفى تلك الحالِ لم يَكُنْ مَمْلُوكًا له، فلا يَتَعَلَّقُ به الوُجُوبُ، كالذى يَلْتَقِطُه اللَّقَّاطُ، وكالمُوهَبِ له. وقال أبو الخَطّابِ: فيه الزكاةُ؛ لاجْتِماعِ الكَيْلِ والادِّخارِ فيه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا (وقال القاضى: فيه الزكاةُ إذا نَبَت في أرْضِه) يَعْنِى في المُباحِ، ولَعَلَّه بَنَى هذا على أنَّ ما يَنْبُتُ في أرْضِه مِن الكَلَأ يَمْلِكُه. والصَّحِيحُ خِلافُه. فأمّا ما يَنْبُتُ في أرْضِه ممّا يَزْرَعُه الآدَمِيُّون، كمَن سَقَط في أرْضِه حَب مِن الحِنْطَةِ أو الشَّعِيرِ، فيَنْبُتُ، ففيه الزكاةُ؛ لأنَّه يَمْلِكُه. ولو اشْتَرَى زَرْعًا بعدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ فيه، أو ثَمَرَةً قد بَدا صَلاحُها، أو مَلَكَها بجِهَةٍ مِن جِهاتِ المِلْكِ، لم تَجِبْ فيه الزكاةُ، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاء اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «مرورة».

فصل

فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا سُقِىَ بِغَيْرِ مُونَةٍ؛ كَالْغَيْثِ، وَالسُّيُوخِ، وَمَا يَشْرَب بِعُرُوقِهِ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِىَ بِكُلْفَةٍ؛ كَالدَّوَالِى وَالنَّوَاضِحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِىَ اللَّه عنه: (ويَجِبُ العُشْرُ فيما سُقِىَ بغَيْرِ مُؤْنَةٍ؛ كالغَيْثِ، والسُّيُوحِ (¬1)، وما يَشْرَبُ بعُرُوقِه، ونِصْفُ العُشْرِ فيما سُقِىَ بكُلْفَةٍ؛ كالدَّوالِى والنَّواضِحِ) وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِىَ بالنَّضْحِ ¬

(¬1) السيوح: جمع سَيْح، وهو الماء الظاهر الجارى على وجه الأرض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُ العُشْرِ». رَواه البخارىُّ (¬1). قال أبو عُبَيْدٍ (¬2): العَثَرِىُّ ما تَسْقِيه السَّماءُ، وتُسَمِّيه العامَّةُ: العَذْى (¬3). وقال القاضى: هو الماءُ المُسْتَنْقَعُ في بِرْكَةٍ أو نَحْوِها، يَصُبُّ إليه ماءُ المَطَرِ في سَواقٍ تُشَقُّ له، فإذا اجْتَمَعَ سُقِىَ منه، واشْتِقاقُه مِن العاثُورِ، وهى السّاقِيَةُ التى يَجْرِى فيها الماءُ؛ لأنَّه يَعْثُرُ بها مَن يَمُرُّ بها. والنَّواضِحُ؛ الإِبِلُ يُسْتَقَى عليها لشُرْب الأرْضِ، وهى السَّوانِى أيضًا. وعن مُعاذٍ، قال: بَعَثَنى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَرَنى أن آخُذَ ممّا سَقَتِ السَّماءُ، أو سُقِىَ بَعْلًا، العُشْرَ، وما سُقِىَ بدالِيَةٍ، نِصْفَ العُشْرِ (¬4). قال أبو عُبَيْدٍ (¬5): البَعْلُ ما يَشرَبُ بعُرُوقِه مِن غَيْرِ سَقْى. وفى الجُمْلَةِ كلُّ ما سُقِىَ بكُلْفَةٍ أو مُؤْنَةٍ؛ مِن دالِيَةٍ أو سانِيَةٍ أو دُولابٍ أو ناعُورَةٍ أو نَحْوِ ذلك، ففيه نِصْفُ العُشْرِ، وما سُقِىَ بغيرِ مُؤْنَةٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 372. (¬2) في: كتاب الأموال 478. (¬3) في الأصل: «العدى». (¬4) أخرجه النسائى، في: باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 31. وابن ماجه، في: باب صدقة الزروع والثمار، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 581. والإمام حمد، في: المسند 5/ 233. (¬5) في: كتاب الأموال 478.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه العُشْرُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن النَّصِّ، ولأنَّ للكُلْفَةِ تَأْثِيرًا في إسْقاطِ الزكاةِ بالكُلِّيَّةِ في المَعْلُوفَةِ، ففى تَخْفِيفِها أوْلَى. ولا يُؤثِّرُ حَفْرُ الأنْهارِ والسَّواقِى في نُقْصانِ الزكاةِ؛ لأنَّ المُؤْنَةَ تَقِلُّ نجيه، لكَوْنِها من جُمْلَةِ إحْياءِ الأرْضِ ولا يَتَكَرَّرُ كلَّ عامٍ، وكذلك احْتِياجُها إلى مَن يَسْقِيها، ويُحَوِّلُ الماءَ في نَواحِيها؛ لأنَّ (¬1) ذلك لابدَّ منه في السَّقْىِ بكُلْفَةٍ أيضًا، فهو زِيادَةٌ على المُؤْنَةِ، فجَرَى مَجْرَى حَرْثِ الأرْضِ وتَسْمِيتِها (¬2). وإن كان الماءُ يَجْرِى مِن النَّهْرِ في ساقِيَةٍ إلى الأرْضِ، ويَسْتَقِرُّ في مَكانٍ قَرِيبٍ، مِن وَجْهِها (¬3)، إلَّا أنَّه لا يَصِلُ إليها إلَّا بغَرفٍ أو دُولابٍ، فهو مِن الكُلْفَةِ المُسْقِطَةِ لنِصْفِ العُشْرِ، ولأنَّ مِقْدارَ الكُلْفَةِ وقُرْبَ الماءِ وبُعْدَه لا يُعْتَبَرُ، والضّابِطُ لذلك الاحْتِياجُ في تَرْقِيَةِ الماءِ إلى الأرْضِ إلى آلةٍ [مِن غَرْفٍ] (¬4) أو نَضْحٍ أو دَالِيَةٍ أو نَحْوِ ذلك، وقد وُجِد. ¬

(¬1) في م: «ولأن». (¬2) في النسخ: «تسحيتها». والتسميت هنا تهيئة الأرض وتسويتها، أو جعل طرق فيها. وانظر المغنى 4/ 166. (¬3) في م: «وجهتها». (¬4) سقط من: م.

900 - مسألة: (فإن سقى نصف السنة بهذا، ونصفها بهذا، ففيه ثلاثة أرباع العشر)

فَإِنْ سُقِىَ نِصْفَ السَّنَةَ بِهَذَا، وَنِصْفَهَا بِهَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ. وَإِنْ سُقِىَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ اعْتُبِرَ أَكثَرُهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ. وَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ، وَجَبَ الْعُشْرُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 900 - مسألة: (فإن سُقِىَ نِصْفَ السَّنَةِ بهذا، ونِصْفَها بهذا، ففيه ثَلاثَةُ أرْباعِ العُشْرِ) وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما لو وُجِد في جَمِيعِ السَّنَةِ لأوْجَبَ مُقْتَضاه، فإذا وُجد في نِصْفِها أوْجَبَ نِصْفَه (وإن سُقِىَ بأحَدِهما أكْثَرَ مِن الآخَرِ اعْتُبِرَ أكْثَرُهما. نَصَّ عليه) أحمدُ. وهو قولُ عَطاءٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّ اعْتِبارَ مِقْدارِ السَّقْى وعَدَدِ مَرّاتِه وقَدْرِ ما يُشْرَبُ في كلِّ سَقْيَةٍ يَشُقُّ، فاعْتُبِرَ الأكْثَرُ، كالسَّوْمِ في الماشِيَةِ. (وقال ابنُ حامِدٍ: يُؤْخَذُ بالقِسْطِ) وهو القولُ الثّانِى للشافعىِّ؛ لأنَّ ما وَجَب فيه بالقِسْطِ عندَ التَّماثُلِ، وَجَب عند التَّفاضُلِ، كفِطْرَةِ العَبْدِ المُشْتَرَكِ (وإن جُهِل المِقْدارُ، وَجَب العُشْرُ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتِياطًا. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ عبدِ اللَّهِ؛ لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ العُشْرِ، وإنَّما [يَسْقُطُ بوُجُودِ] (¬1) الكُلْفَةِ، فما لم يَتَحَقَّقِ المُسْقِطُ يَبْقَى على الأصْلِ، ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الكُلْفَةِ في الأكْثَرِ، فلا يَثْبُتُ وُجُودُها مع الشَّكِّ فيه، وإنِ اخْتَلَفَ رَبُّ المالِ والسّاعِى في أيِّهما سُقِىَ به أكْثَرَ، فالقولُ قولُ رَبِّ المالِ بغيرِ يَمِينٍ، فإنَّ النّاسَ لا يُسْتَحْلَفُون على صَدَقاتِهم. فصل: وإذا كان لرجلٍ حائِطان، يَسْقِى أحَدَهما بمُؤْنَةٍ، والآخَرَ بغيرِها، ضَمَّ غَلَّةَ أحَدِهما إلى الآخَرِ في تَكْمِيلِ النِّصابِ، وأخْرَجَ مِن الذى ¬

(¬1) في الأصل: «تسقط بوجوب».

901 - مسألة: (وإذا اشتد الحب، وبدا الصلاح فى الثمر، وجبت الزكاة)

وَإذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ، وَبَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سُقِىَ بغَيْرِ مُؤْنَةٍ عُشْرَه، ومِن الآخَرِ نِصْفَ عُشْرِه، كما يَضُمُّ أحَدَ النَّوْعَيْن إلى الآخَرِ، ويُخْرِجُ مِن كلٍّ منهما ما وَجَب فيه. 901 - مسألة: (وإذا اشْتَدَّ الحَبُّ، وبَدا الصَّلاحُ في الثَّمَرِ، وَجَبَتِ الزَّكاةُ) لأنَّه حِينَئِذ يُقْصَدُ للأكْلِ والاقْتِياتِ به، فأشْبَهَ اليابِسَ، وقبلَه لا يُقْصَدُ لذلك، فهو كالرُّطَبَةِ. وقال ابنُ أبى موسى: تَجِبُ زكاةُ الحَبِّ يَوْمَ حَصادِه؛ لقَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1). وفائِدَةُ الخِلافِ أنَّه لو تَصَرَّفَ في الثَّمَرَةِ أو الحَبِّ قبلَ ¬

(¬1) سورة الأنعام 141.

902 - مسألة: (ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها فى الجرين)

فَإِنْ قَطَعَهَا قَبْلَهُ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَقْطَعَهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَتَلْزَمَهُ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ إِلَّا بِجَعْلِهَا فِى الْجَرِينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُجُوبِ لا شئَ عليه، كما لو أكَلَ السّائِمَةَ أو باعَها قبلَ الحَوْلِ، وإن تَصرَّفَ فيها بعدَ الوُجُوبِ لم تَسْقُطِ الزكاةُ، كما لو فَعَل ذلك في السّائِمَةِ فإن قَطَعَها قبلَ ذلك سَقَطَتْ، (إلَّا أن يَقْطَعَها فِرارًا مِن الزكاةِ فتَلْزَمَه) لأنَّه فَوَّتَ الواجِبَ بعدَ انْعِقادِ سَبَبِه، أشْبَهَ ما لو طَلَّقَ امْرَأتَه في مَرَضِ مَوْتِه. 902 - مسألة: (ولا يَسْتَقِرُّ الوُجُوبُ إلَّا بجَعْلِها في الجَرِينِ)

فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ سرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، سَقَطَت الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ خُرِصَتْ أوْ لَمْ تُخْرَصْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبجَعْلِ الزَّرْعِ في البَيْدَرِ (فإن تَلِفَتْ قَبْلَه بغيرِ تَعَدٍّ منه، سَقَطَتِ الزكاةُ، سَواءٌ كانت خُرِصَتْ أو لم تُخْرَصْ) إذا خُرِصَ وتُرِك في رُءُوسِ النَّخْلِ، فعليهم حِفْظُه، فإن أصَابَتْه جائِحَةٌ فلا شئَ عليه إذا كان قبلَ الجَدادِ. نَصَّ عليه أحمدُ، وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. ولأنَّه قبلَ الجَدادِ في حُكْمِ ما لم تَثْبُتْ عليه اليَدُ؛ بدَلِيلِ أنَّه لو اشْتَرَى ثَمَرَةً فتَلِفَتْ بجائِحَةٍ، رَجَع بها على البائِعِ، وإن تَلِف بعضُ الثَّمَرَةِ، فقال القاضى: إن كان الباقِى نِصابًا ففيه الزكاةُ، وإلَّا فلا. وهذا القولُ يُوافِقُ قولَ مَن قال: إنَّه لا تَجِبُ الزكاةُ فيه إلَّا يَوْمَ حَصادِه؛ لأنَّ وُجُودَ النِّصابِ شَرْطٌ في الوُجُوبِ، فمتى لم يُوجَدْ وَقْتَ الوُجُوبِ لم يَجبْ. وأمّا مَن قال: إنَّ الوُجُوبَ يَثْبُتُ إذا بَدا الصَّلاحُ وأشْتَدَّ الحَبُّ. فَقِياسُ قولِه: إن تَلِف البَعْضُ. إن كان قبلَ الوُجُوبِ، فهو كما قال القاضى، وإن كان بعدَه، وَجَب في الباقِى بقَدْرِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ كان نِصابًا أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ المُسْقِطَ اخْتَصَّ بالبَعْضِ، فاخْتَصَّ السُّقُوطُ به؛ كما لو تَلِف بعضُ نِصابِ السّائِمَةِ بعدَ وُجُوب الزكاةِ فيها. وهذا فيما إذا تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطِه ولا عُدْوانِه. فأمّا إن أتْلَفَها، أو تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه بعدَ الوُجُوبِ، لم تَسْقُطْ عنه الزكاةُ، وإن كان قبلَ الوُجُوبِ سقَطَتْ، إلَّا أن يَقْصِدَ بذلك الفِرارَ مِن الزكاةِ، فيَضْمَنُها، ولا تَسْقُطُ عنه؛ لِما ذَكَرْنا.

903 - مسألة: (ومتى ادعى)

وَإذَا ادَّعَى تَلَفَهَا قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 903 - مسألة: (ومتى ادَّعَى) رَبُّ المالِ (تَلَفَها) مِن غيرِ تَفْرِيطِه (قُبِلَ قولُه مِن غيرِ يَمِينٍ) سَواءٌ كان ذلك قَبْلَ الخَرْصِ أو بَعْدَه، ويُقْبَلُ قولُه أيضًا في قَدْرِها، وكذلك في سائِرِ الدَّعاوَى. قال أحمدُ: لا يُسْتَحْلَفُ النّاسُ على صَدَقاتِهم. وذلك لأنَّه حَق للَّهِ تعالى، فلا يُسْتَحْلَفُ فيه، كالصلاةِ والحَدِّ. فصل: وإن أحْرَزَ الثَّمَرَةَ في الجَرِينِ، أو الحَبَّ في البَيْدَرِ، اسْتَقَرَّ وُجُوبُ الزكاةِ عليه، عندَ مَن لم يَرَ التَّمكُّنَ مِن الأداءِ شَرْطًا في اسْتِقْرارِ الوُجُوبِ. فإن تَلِف بعدَ ذلك، لم تَسْقُطِ الزكاةُ عنه، وعليه ضَمانُها، كما لو تَلِف نِصابُ الأثْمانِ بعدَ الحَوْلِ. وعلى قولِنا، في الرِّوايَةِ الأخْرَى: التَّمَكُّنُ مِن الأداءِ مُعْتَبَرٌ. لا يَسْتَقِرُّ الوُجُوبُ فيها حتى تَجِفَّ الثَّمَرَةُ، ويُصَفَّى الحَبُّ، ويَتَمَكَّنَ مِن الأداءِ، فلا يُؤَدِّى، وإن تَلِف قبلَ ذلك فلا شئَ عليه، على ما ذَكَرْنا مِن قبلُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ تَصَرُّفُ المالِكِ في النِّصابِ قبلَ الخَرْصِ وبعدَه، بالبَيْعِ والهِبَةِ وغيرِهما. فإن باعَه أو وَهَبَه بعدَ بُدُوِّ صَلاحِه، فصَدَقَتُه على البائِعِ والواهِبِ. وبهذا قال الحسنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ. وهو قولُ اللَّيْثِ، إلَّا أن يَشْتَرِطَها على المُبْتاعِ، لأنَّها كانت واجِبَةً عليه قبلَ البَيْعِ فبَقِىَ الوُجُوبُ علِى ما كان عليه، وعليه إخْراجُ الزكاةِ مِن جِنْسِ المَبِيعِ. وعنه، أنَّه مُخيَّرٌ بينَ ذلك وبينَ أن يُخْرِجَ بِن الثَّمَنِ، بِناءً على جَوازِ إخْراجِ القِيمَةِ في الزكاةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، ولأنَّ عليه القِيامَ بالثَّمَرَةِ حتى يُؤَدِّىَ الواجِبَ فيها ثَمَرًا، فلا يَسْقُطُ ذلك عنه ببَيْعِها. ويَتَخَرَّجُ أن تَجِبَ الزكاةُ على المُشْتَرِى، عندَ مَن قال: إنَّ الزكاةَ إنَّما تَجِبُ يَوْمَ الحَصادِ؛ لأنَّ الوُجُوبَ إنَّما تَعَلَّقَ بها في مِلْكِه، فكانت عليه. ولو اشْتَرَى ثَمَرَةً قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، ثم بَدا صَلاحُها في يَدِه على وَجْهٍ صَحِيحٍ، كمَن اشْتَرَى شَجَرَةَ مُثْمِرَةً واشْتَرَطَ ثَمَرَتَها، أو وُهِبَتْ له ثَمَرَةٌ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، فبَدا صَلاحُها في يَدِه، أو وَصَّى له بالثَّمَرَةِ فقَبِلَها بعدَ مَوْتِ المُوصِى، ثم بَدا صَلاحُها، فالصَّدَمةُ عليه في هذه الصُّوَرِ؛ لأنَّ سَبَبَ الوُجُوبِ وُجِد في مِلْكِه، فهو كما لو مَلَك عَبْدًا أو وُلِد له وَلَدٌ آخِرَ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ، وجَبَتْ عليه فِطْرَتُه.

904 - مسألة: (ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر

وَيَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْحبِّ مُصَفًّى، وَالثَّمَرِ يَابِسًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، فتَرَكَها حتى بَدا صَلاحُها مِن غْيرِ شَرْطِ القَطْعِ، فالبَيْعُ باطِلٌ، وزَكاتُها على البائِعِ، وإن شَرَط القَطْعَ بَطَل البَيْعُ أيضًا، ويكونُ كما لو لم يشْتَرِطِ القَطْعَ. وعنه، أنَّه صَحِيحٌ ويَشْتَرِكان في الزِّيادَةِ. فعلى هذا يكونُ على المُشْتَرِى زكاةُ حِصَّتِه منها إن بَلَغَتْ نِصابًا، فإن لم يَكُنِ المُشْتَرِى مِن أهلِ (¬1) الزكاةِ، فلا صَدَقَةَ فيها، فإن عاد البائِعُ فاشْتَراها بعدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ، فلا زكاةَ فيها، إلَّا أن يكونَ قَصد ببَيْعِها الفِرارَ مِن الزكاةِ، فلا تَسْقُطُ. 904 - مسألة: (ويَجِبُ إخْراجُ زكاةِ الحَبِّ مُصَفًّى والثَّمَرِ (¬2) يابِسًا) لأنَّه أوانُ الكَمالِ، وحالُ الادِّخارِ. والمُؤْنَةُ التى تَلْزَمُ الثَّمَرَةَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «والتمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى حينِ الإِخْراجِ على رَبِّ المالِ؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ كالمَاشِيَةِ، ومُؤْنَةُ الماشِيَةِ وحِفْظُها ورَعْيُها على رَبِّها إلى حينِ الإِخْراجِ، كذلك هذا. فإن أخَذَ السّاعِى الزكاةَ قبلَ التَّجْفِيفِ فقد أساء ويَرُدُّه إن كانْ رَطْبًا بحالِه، وإن تَلِف رَدَّ مِثْلَه، وإن جَفَّفَه وكان قَدْرَ الزكاةِ، فقد اسْتَوْفَى (¬1) الواجِبَ، وإن كان دُونَه أخَذَ الباقِىَ، وإن كان زائِدًا رَدَّ الفَضْلَ. وإن كان المُخْرِجُ رَبَّ المالِ، لم يُجْزِئْه، ولَزِمَه إخْراجُ الفَرْضِ بعدَ التَّجْفِيفِ؛ لأنَّه أخْرَجَ غيرَ الفَرْضِ، فلم يُجْزِئْه، كما لو أخرَجَ الصَّغِيرَةَ مِن الماشِيَةِ عن الكِبارِ. ¬

(¬1) في الأصل: «استوى»

905 - مسألة: (فإن احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها)

فَإِنِ احْتِيجَ إلَى قَطْعِهِ قَبْلَ كَمَالِهِ لِضَعْفِ الْأَصْلِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ رُطَبًا لَا يِجِئُ مِنْهُ تَمْرٌ، أوْ عِنبًا لَا يَجِئُ مِنْهُ زَبِيبٌ، أَخْرَجَ مِنْه عِنَبًا وَرُطَبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 905 - مسألة: (فإنِ احْتِيجَ إلى قَطْعِ الثَّمَرَةِ قبلَ كَمالِها) وبعدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ، للخَوْفِ مِن العَطَشِ، أو (لضَعْفِ الأصْلِ) جاز قَطْعُها، لأنَّ حَقَّ الفُقَراءِ إنَّما يَجبُ على طَرِيقِ المُواساةِ، فلا يُكَلَّفُ الإِنسانُ ما يُهْلِكُ أصْلَ مالِه. ولأنَّ حِفْظَ الأصْلِ أحَظُّ للفُقَراءِ مِن حِفْظِ الثَّمَرَةِ؛ لأنَّ حَقَّهم يَتَكَرَّرُ بحِفْظِها في كلِّ سَنَةٍ، فهم شُرَكاءُ رَبِّ النَّخْلِ. ثم إن كان يَكْفِى تَخْفِيفُ الثَّمَرةِ دُونَ قَطْعِ جَمِيعِها، خَفَّفَها، وإن لم يَكْفِ إلَّا قَطْعُ الجَمِيعِ، جاز. وكذلك إن قَطَع بَعْضَ الثَّمَرَةِ لتَحْسِينِ الباقِى، وكذلك (إن كان عِنَبًا لا يَجِئُ منه زَبِيبٌ) كالخَمْرِىِّ (أو رُطَبًا لا يَجِئُ منه تَمْرٌ) كالبَرْنِىِّ، والهِلْباثِ، فإنَّه يُخْرِجُ (منه عِنَبًا ورُطَبًا) للحاجَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الزكاةَ مُواسَاةٌ، فلم تَجِبْ عليه مِن غيرِ ما عندَه كرَدِئِ الجِنْسِ.

وَقَالَ الْقَاضِى: يُخَيَّرُ السَّاعِى بَيْنَ قَسْمِهِ مَعَ رَبِّ الْمَال قَبْلَ الْجُذَاذِ وَبَعْدَهُ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَالمَنْصُوصُ أنَّهُ لَا يُخْرِجُ إِلَّا يَابِسًا، وَأنَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ زَكَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال القاضى: يُخَيَّرُ السّاعِى) إذا أراد ذلك رَبُّ المالِ، بينَ أن يُقاسِمَ رَبَّ المالِ (قبلَ الجِدَادِ) بالخَرْصِ، ويَأْخُذَ نَصِيبَهم نَخَلاتٍ مُنْفَرِدَةً، يَأْخُذُ ثَمَرَتَها، وبينَ أن يَجُدَّها، ويُقاسِمَه إيَّاها بالكَيْلِ، [ويَقْسِمَ الثَّمَرَةَ] (¬1) في الفُقَراءِ (وبينَ بَيْعِها) مِن رَبِّ المالِ (ومِن غيرِه) قبلَ الجَدادِ وبعدَه، ويَقْسِمَ ثَمَنَها (والمَنْصُوصُ أنَّه لا يُخْرِجُ إلَّا يابِسًا، وأنَّه لا يجوزُ) له (شِراءُ زَكاتِه) اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّ اليابِسَ حالُ الكَمالِ في تلك الحالِ. والدَّلِيلُ على أنَّه لا يَجُوزُ له شِراءُ زَكاتِه حَدِيثُ عُمَرَ حينَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَأْذَنَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شِراءِ الفَرَسِ الذى حَمَل عليه فقال: «لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ وَإنْ بَاعَكَهُ بدِرْهَم» (¬1). فإن قِيلَ: فهَلَّا قُلْتمُ: لا زكاةَ في العِنَبِ والرُّطَبِ الذى لا يَجِئُ منه زَبيبٌ، [ولا تَمْرٌ] (¬2)؛ لكَوْنِه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب هل يشترى صدقته. . .، من كتاب الزكاة، وفى: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وباب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة، من كتاب الهبة، وفى: باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت، من كتاب الوصايا، وفى. باب الجعائل والحملان في السبيل، وباب إذا حمل على فرس فرآها تباع، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 157، 3/ 215، 218، 4/ 15، 64، 71. ومسلم، في: باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1239، 1240. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يبتاع صدقته، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 369. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية العود في الصدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 174. والنسائى، في: باب شراء الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 82. وابن ماجه، في: باب الرجوع في الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 2/ 799. والإمام مالك، في: باب اشتراء الصدقة والعود فيها، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 282. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 25، 40، 54، 2/ 7، 34، 55، 103. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُدَّخَرُ، فهو كالخَضْراواتِ. قُلْنا: بل يُدَّخَرُ في الجُمْلَةِ، وإنَّما لم يُدَّخَرْ ههُنا؛ لأنَّ أخْذَه رُطَبًا أنْفَعُ، فلم تَسْقُطْ منه الزكاةُ بذلك. ولا تَجِبُ فيه الزكاةُ حتى يَبْلُغَ حَدًّا يكونُ منه خَمْسَةُ أوْسُقٍ تَمْرًا أو زَبِيبًا، إلَّا على الرِّوايَةِ الأخْرَى. فإن أتْلَفَ رَبُّ المالِ هذه الثَّمَرَةَ، فقال القاضى: عليه قِيمَتُها، كما لو أتْلَفَها غيرُه. وعلى قولِ أبى بكرٍ: يَجِبُ عليه العُشْرُ تَمْرًا أو زَبِيبًا، كما في غيرِ هذه الثَّمَرَةِ. قال: فإن لم يَجِدِ التَّمْرَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تُؤْخَذُ منه قِيمَتُه. والثّانِى، يَبْقَى في ذِمَّتِه إلى أَن يَجِدَه، فيَأْتِىَ به.

906 - مسألة: (وينبغى أن يبعث الإمام ساعيا إذا بدا الصلاح فى الثمر، فيخرصه عليهم، ليتصرفوا فيه)

وَيَنْبَغِى أَنْ يَبْعَثَ الإِمَامُ سَاعِيًا إِذَا بَدَا صَلَاحُ الثَّمَرِ، فَيَخْرُصَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 906 - مسألة: (ويَنْبَغِى أن يَبْعَثَ الإِمامُ ساعِيًا إذا بَدا الصَّلاحُ في الثَّمَرِ، فيَخْرُصَه عليهم، ليَتَصَرَّفُوا فيه) فيَعْرِفَ بذلك قدْرَ الزكاةِ، ويُعَرِّفَ المالكَ ذلك. وممَّن كان يَرَى الخَرْصَ، عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، وسَهْلُ بنُ أبى حَثْمَةَ (¬1)، ومَرْوانُ (¬2)، والقاسمُ بنُ محمدٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأكْثَرُ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن الشَّعْبِىِّ، أنَّ الخَرْصَ بِدْعَةٌ. وقال أهلُ الرَّأْى: الخَرْصُ ظَنٌّ وتَخْمِينٌ، لا يَلْزَمُ به حُكْمٌ، وإنَّما كان تَخْوِيفًا للأكَرَةِ (¬3) مِن الخِيانَةِ. ولَنا، ما روَى عَتّابُ بنُ أسِيدٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَبْعَثُ على النّاسِ من يَخْرُصُ عليهم كُرُومَهم وثِمارَهُم. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه، والتِّرْمِذىُّ (¬4). ¬

(¬1) سهل بن أبى حثمة بن عبد اللَّه الأنصارى الأوسى، ولد سنة ثلاث من الهجرة وتوفي النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وله ثمان سنين، وحفظ عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفى في أيام معاوية. أسد الغابة 2/ 468. (¬2) مروان بن الحكم بن أبى العاص الأموى، ولد على عهد رصول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يره، وكان واليا في أيام معاوية ومن بعده من الأمويين، واغتيل بعد ذلك. أسد الغابة 5/ 145. (¬3) الأكرة: الحُرّاث. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في خرص العنب، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 371. والترمذى، في: باب ما جاء في الخرص، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 142، 143. وابن ماجه، في: باب خرص النخل والعنب، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 582. كما أخرجه النسائى، في: باب شراء الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى لَفْظٍ، قال: أمَرَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُخْرَصَ العِنَبُ كما يُخْرَصُ النَّخْلُ وتُؤْخَذَ زَكاتُه زَبِيبًا، كما تُؤْخَذُ زكاةُ النَّخْلِ تَمْرًا. وقالت عائشةُ، وهى تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْعَثُ عبدَ اللَّهِ بنَ رَواحَةَ إلى يَهُودَ، فيَخْرُصُ عليهم النَّخْلَ حينَ يَطِيبُ قبلَ أن يُؤْكَلَ منه. رَواه أبو داودَ (¬1). وقَوْلُهم: هوِ ظنٌّ. قُلنا: بل هو اجْتِهادٌ في مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ بالخَرْصِ، الذى هو نوْعٌ مِن المَقادِيرِ، فهو كتَقْوِيمِ المُتْلَفاتِ. وؤَقْتُ الخَرْصِ حينَ يَبْدُو الصَّلاحُ، لحديثِ عائشةَ، ولأنَّ فائِدَةَ الخَرْصِ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الزكاةِ، وإطْلَاقُ أرْبابِ الثِّمارِ في التَّصَرِّفِ فيها، وإنَّما تَدْعُو الحاجَةُ إلى ذلك حينَ يَبْدُو الصَّلاحُ. ¬

(¬1) في: باب متى يخرص التمر، من كتاب الزكاة، وفى: باب في الخرص، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 1/ 372، 2/ 236. كما أخرجه الدارقطنى، في: باب في قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 134. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 163.

907 - مسألة: (فإن كان أنواعا، خرص كل نوع وحده)

فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا، خَرَصَ كُلَّ نَوْعٍ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُجْزِئُ خارِصٌ واحِدٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَبْعَثُ ابنَ رَواحَةَ يَخْرُصُ، ولم يُذْكَرْ معه غيرُه، ولأنَّ الخارِصَ يَفْعَلُ ما يُؤَدِّيه إليه اجْتِهادُه، فهو كالحاكِمِ (1) والقائِفِ، ويُعْتَبَرُ فيه أن يكونَ أمِينًا كالحاكِمِ (¬1). 907 - مسألة: (فإن كان أنْواعًا، خَرَص كلَّ نَوْعٍ وَحْدَه) لأنَّ الأنْواعَ تَخْتَلِفُ؛ فمنها ما يَكْثُرُ رُطَبُه ويَقِلُّ تَمْرُه (¬2)، ومنها بالعَكْسِ، ¬

(¬1) في م: «كالحكم». (¬2) في م: «ثمره».

908 - مسألة: (وإن كان نوعا واحدا، فله خرص كل شجرة وحدها)

وَإنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، فَلَهُ خَرْصُ كُلِّ شَجَرَةٍ وَحْدَهَا، وَلَهُ خَرْصُ الْجَمِيعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا العِنَبُ، ولأنَّه يَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كلِّ نَوْعٍ حتى يُخْرِجَ عُشْرَه. 908 - مسألة: (وإن كان نَوْعًا وَاحِدًا، فله خَرْصُ كُلِّ شَجَرَةٍ وَحْدَها) فيُطِيفُ بها (وله خَرْصُ الجَمِيعِ دَفْعَةً واحِدَةً) دَفْعًا للمَشَقَّةِ، ويَنْظُرُ كم يَجِئُ منه تَمْرًا أو زَبِيبًا، ثم يُعَرِّفُ المالِكَ قَدْرَ الزكاةِ، ويُخَيِّرُه بينَ أن يَضْمَنَ قَدْرَ الزكاةِ، ويَتَصَرَّفَ فيها بما شاء مِن أكْلٍ أو غيرِه، وبينَ حِفْظِها إلى وَقْتِ الجِدَادِ والجَفافِ، فإن حَفِظَها وجَفَّفَها فعليه زكاةُ المَوْجُودِ لا غيرُ، سَواءٌ اخْتارَ الضَّمانَ أو الحِفْظَ، وسَواءٌ كانت أكْثرَ ممّا خَرَصَه الخارِصُ أو أقَلَّ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: يَلْزَمُه ما قال الخارِصُ، زاد أو نَقَص، إذا كانتِ الزكاةُ مُتَقارِبَةً. وعن أحمدَ نَحْوُ ذلك، فإنَّه قال: إذا خَرَص الخارِصُ، فإذا فيه فَضْلٌ كَثِيرٌ، مثلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضِّعْفِ، تَصَدَّقَ بالفَضْلِ؛ لأنَّه يَخْرُصُ بالسَّوِيَّةِ؛ لأنَّ الحُكْمَ انْتَقَلَ إلى ما قال السّاعِى، بدَلِيلِ وُجُوبِ ما قال عندَ تَلَفِ المال. ولَنا، أنَّ الزكاةَ أمانَةٌ، فلا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بالشَّرْطِ، كالوَدِيعَةِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الحُكْمَ انْتَقَلَ إلى ما قال السّاعِى، وإنَّما يُعْمَل بقَوْلِه إذا تَصَرَّفَ في الثَّمَرَةِ ولم يَعْلَمْ قَدْرَها؛ لأنَّ الظّاهِرَ إصابَتُه. قال أحمدُ: إذا تَجافَى السُّلْطانُ عن شئٍ مِن العُشْرِ، يُخْرِجُه فيُؤَدِّيه. وقال: إذا حَطَّ مِن الخَرْصِ عن الأرْضِ، يَتَصَدَّقُ بقَدْرِ ما نَقَصُوه مِن الخَرْصِ، وإن أخَذَ منهم أكْثَرَ مِن الواجِبِ عليهم، فقال أحمدُ: يُحْتَسَبُ لهم مِن الزكاةِ لسَنَةٍ أُخْرَى. ونَقَل عنه أبو داودَ: لا يُحْتَسَبُ بالزِّيادَةِ، لأنَّ هذا غَصْبٌ. اخْتارَه أبو بكرٍ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ الجَمْعُ بينَ الرِّوايَتَيْن، فيُحْتَسَبُ إذا نَوَى صاحِبُه به التَّعْجِيلَ، ولا يُحْتَسَبُ إذا لم يَنْوِ. فصل: وإذا ادَّعَى رَبُّ المالِ غَلَطَ الخارِصِ، وكان ما ادَّعاه مُحْتَمِلًا، قُبِلِ قَوْلُه بغيرِ يَمِينٍ، وإن لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا، مثل أنِ ادَّعَى غَلَطَ النِّصْفِ ونحْوِه، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه لا يَحْتَمِلُه، فيُعْلَمُ كَذِبُه. وإن قال: لم يَحْصُلْ في يَدِى إلَّا كذا. قُبِل قولُه؛ لأنَّه قد يَتْلَفُ بَعْضُه بآفَةٍ لا نَعْلَمُها (¬2). فصل: فإن أتْلَفَ رَبُّ المالِ الثَّمَرَةَ، أو تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه بعدَ خَرْصِها، فعليه ضَمانُ نَصِيبِ الفُقَرَاءِ بالخَرْصِ، وإن أتْلَفَها أجْنَبِىٌّ، فعليه قِيمَةُ ما ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 177. (¬2) في الأصل: «يعلمها».

909 - مسألة: (ويجب أن يترك فى الخرص لرب المال الثلث أو الربع)

وَيِجِبُ أَنْ يَتْرُكَ فِى الْخرْصِ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَ أوِ الرُّبْعَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أتْلَفَ. والفَرْقُ بينَهما أنَّ رَبَّ المالِ وَجَب عليه تَجْفِيفُ هذا الرُّطَبِ بخِلافِ الأجْنَبِىِّ، ولهذا قُلنا في مَن أتْلَفَ أُضْحِيَتَه (¬1) المُعَيَّنَةَ: فعليه أُضْحِيَةٌ مَكانَها. وإن أتْلَفَها أجْنَبِىٌّ فعليه قِيمَتُها. وإن تَلِفَتْ بِجائِحَةٍ مِن السَّماءِ، سَقَط عنهم الخَرْصُ. نَصَّ عليه؛ لأنَّها تَلِفَتْ قبلَ اسْتِقْرارِ زَكاتِها، وإنِ ادَّعَى تَلَفَها، قُبِل قولُه بغيرِ يَمِينٍ، وقد ذَكَرْناه. 909 - مسألة: (ويَجِبُ أن يَتْرُكَ في الخَرْصِ لرَبِّ المالِ الثُّلُثَ أو الرُّبْعَ) تَوْسِعَةً على رَبِّ المالِ، لأنَّه يَحْتاجُ إلى الأكْلِ هو وأضْيافُه، ويُطْعِمُ جِيرانَه وأهْلَه، ويَأكلُ منها المارَّةُ، ويكونُ في الثَّمَرَةِ السّاقِطَةُ، ويَنْتابُها الطَّيْرُ، فلو اسْتَوْفَى الكُلَّ منهم أضَرَّ بهم. وبهذا قال إسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ. والمَرْجِعُ في تَقْدِيرِ المَتْرُوكِ إلى اجْتِهادِ السّاعِى، فإن رَأى الأكَلَةَ كَثِيرًا تَرَك الثُّلُثَ، وإلَّا تَرَك الرُّبْعَ، لِما روَى سَهْلُ بنُ أبى حَثْمَةَ، أنَّ رسولَ ¬

(¬1) في م: «ضحيته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقولُ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلثَ، فَإنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبعَ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىّ، والتِّرْمِذىُّ (¬1). وروَى أبو عُبَيْدٍ (¬2)، بإسْنادِه، عن مَكْحُولٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا بَعَث الخُرّاصَ قال: «خَفِّفُوا على النَّاسِ، فَإنَّ فِى الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والْوَاطِئَةَ وَالْأكلَةَ». قال أبو عُبَيْدٍ: الواطِئَةُ؛ السّابِلَةُ، سُمُّوا بذلك لوَطْئِهم بلادَ الثِّمارِ مُجْتازِين. والأكَلَةُ: أرْبابُ الثِّمارِ وأهْلُوهم، ومَن لَصِق بهم. ومنه حديثُ سَهْلٍ في مالِ سعدِ بنِ أبى سَعْدٍ، حينَ قال: لولا أنِّى وَجَدْت فيه أرْبَعِين عَرِيشًا لخَرَصْتُه تِسْعَمائةِ (¬3) وَسَقٍ، فكانت تلك العُرُشُ لهولاء الأكَلَةِ (¬4). والعَرِيَّةُ؛ النَّخْلَةُ أو النَّخَلاتُ يَهَبُ إنْسانًا ثَمَرَتَها. فجاء عن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الخرص، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 372. والترمذى، في: باب ما جاء في الخرص، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 140، 141. والنسائى، في: باب كم يترك الخارص، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 32. كما أخرجه الدارمى، في: باب في الخرص، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 272؛ والإمام أحمد، في: المسند 3/ 448، 4/ 2، 3. (¬2) في: الأموال 487. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما ذكر في خرص النخل، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 195. (¬3) في النسخ: «بسبعمائة». والمثبت من الأموال. وانظر المغنى 4/ 178. (¬4) رواه أبو عبيد، في: الأموال 487، 488.

910 - مسألة: (فإن لم يفعل، فلرب المال الأكل بقدر ذلك، ولا يحتسب عليه)

فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْأَكْلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَيْسَ فِىِ الْعَرَايَا صَدَقَةٌ» (¬1). والحُكْمُ في العِنَبِ كالحُكْمِ في الرُّطَبِ سَواءٌ، لأنَّه في مَعْناه. 910 - مسألة: (فإن لم يَفْعَلْ، فلرَبِّ المالِ الأكْلُ بقَدْرِ ذلك، ولا يُحْتَسَبُ عليه) نَصَّ عليه أحمدُ، لأنَّه حَق لهم، فإن لم يُخْرِجِ الإِمامُ خارصًا، فاحْتاجَ رَبُّ المالِ إلى التَّصَرُّفِ في الثَّمَرَةِ فأخْرَجَ خارِصًا، جاز أن يَأْخُذَ بقَدْرِ ذلك. ذَكَرَه القاضى. فإن خَرَص هو وأخَذَ بقَدْرِ ذلك، جاز، ويَحْتاطُ أن لا يَأخُذَ أكْثَرَ ممّا له أخْذُه، ثم إن بَلَغ الباقِى نِصابًا زَكّاه، وإلَّا فلا. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: باب ليس في الخضراوات صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 95. والبيهقى، في: باب من قال يترك لرب الحائط قدر ما يأكل. . .، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 124، 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُخْرَصُ النَّخْلُ والكَرْمُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأثَرِ فيهما، ولا يُخْرَصُ الزَّرْعُ في سُنْبُلِه. وبهذا قال عطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بالخَرْصِ فيه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ عليه؛ لأنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ والكَرْمِ تُؤْكَلُ رُطَبًا، فيُخْرَصُ على أهْلِه للتَّوْسِعَةِ عليهم، ليُخَلِّى بينَهم وبينَ الأكَلَةِ والتَّصَرُّفِ فيه، ولأنَّ ثَمَرَةَ الكَرْمِ والنَّخْل ظاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فخَرْصُها أسْهَلُ مِن خَرْص غيرِها، وما عَداهما لا يُخرَصُ، وإنَّما على أهْلِه فيه الأمانَةُ إذا صار مُصَفًّى يابِسًا، ولا بَأْسَ أن يَأْكُلُوا منه ما جَرَتِ العادَةُ بأكْلِه، ولا يُحْتَسَبُ عليهم. وقد سُئِل أحمدُ عمّا يَأْكُلُه أرْبابُ الزُّرُوعِ من الفَرِيكِ؟ قال: لا بَأْسَ به أن يَأْكُلَ منه صاحِبُه ما يَحْتاجُ إليه. وذلك لأنَّ العَادَةَ جارِيَةٌ به، فأشْبَهَ ما يَأْكلُه أرْبابُ الثِّمارِ مِن ثِمارِهم. وإذا صُفِّىَ الحَبُّ أخْرَجَ زكاةَ المَوْجُودِ كلِّه، ولم يُتْرَكْ منه

911 - مسألة: (ويخرج العشر من كل نوع على حدته، فإن شق ذلك أخذ من الوسط)

وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ أَخَذَ مِنَ الْوَسَطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شئٌ؛ لأنَّه إنَّما تُرِك لهم في الثَّمَرِ شئٌ، لكَوْنِ النُّفُوسِ تَتُوقُ إلى أكْلِها رَطْبَةً، والعادَةُ جَارِيَةٌ به، وفى الزَّرْعِ إنَّما يُؤْكَلُ منه شئٌ يسيرٌ، لا وَقْعَ له. ولا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، ولا غيرُ النَّخْلِ والكَرْمِ؛ لأنَّ حَبَّه مُتَفَرِّقٌ في شَجَرِه، مَسْتُورٌ بوَرَقِه، ولا حاجَةَ بأهْلِه إلى أكْلِه، بخِلافِ النَّخْلِ والكَرْمِ. وبهذا قال مالكٌ. وقال الزُّهْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ: يُخْرِصُ قِياسًا على الرُّطَبِ والعِنَبِ: ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن المَعْنَى، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ. 911 - مسألة: (ويُخرَجُ العُشْرُ مِن كلِّ نَوْعٍ على حِدَتِه، فإن شَقَّ ذلك أخَذَ مِن الوَسَطِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا كان المالُ الزَّكَوِىُّ نَوْعًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدًا أخَذَ منه، جَيِّدًا كان أو رَدِيئًا؛ لأنَّ حَقَّ الفُقَراءِ يَجِبُ على طَرِيقِ المُواساةِ، فهمِ بمَنْزلَةِ الشُّرَكاءِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وإن كان أنْواعًا، أخَذَ مِن كلِّ نوْعٍ ما يَخُصُّه. وهذا قولُ أكْثَرِ العُلَماءِ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: يُؤْخَذُ مِن الوَسَطِ. وكذلك ذَكَرَه شيخُنا ههُنا وأبو الخَطّابِ، إذا شَقَّ عليه إخْراجُ زَكاةِ كل نَوْعٍ منه، دَفْعًا للحَرَجِ والمَشَقَّةِ، وقِياسًا على السّائِمَةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الفُقَراءَ بمَنْزِلَةِ الشُّرَكاءِ، فيَنْبَغِى أن يَتساوَوْا في كلِّ نَوْعٍ، ولا مَشَقَّةَ في ذلك، بخِلافِ الماشِيَةِ، فإنَّ إخْراجَ زكاةِ كلِّ نوْعٍ منها يُفْضى إلى التَّشْقِيصِ، وفيه مَشَقَّةٌ، بخِلافِ الثِّمارِ. ولا يَجُوزُ إخْراجُ الرَّدِئِ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). قال أبو أُمَامَةَ بنُ (¬2) سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، في هذه الآيَةِ: هو الجُعْرُورُ (¬3)، ولَوْنُ حُبَيْقٍ (¬4)، فنَهَى ¬

(¬1) سورة البقرة 267. (¬2) سقط من: م. وهو أسعد بن حنيف الأنصارى، ولد قبل وفاة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بعامين، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم. توفى سنة مائة. تهذيب التهذيب 1/ 263 - 265. (¬3) ضرب من التمر صغار لا ينتفع به. (¬4) في م: «الحبيق». وهو نوع من التمر ردئ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُؤْخَذَ في الصَّدَقَةِ. رَواه النَّسائِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ (¬1). قال: وهما ضَرْبانِ مِن التَّمْرِ؛ أحَدُهما، إنَّما يَصِيرُ قِشْرًا على نَوًى. والآخَرُ، إذا أتْمَرُ (¬2) صار حَشَفًا. ولا يَجُوزُ أخْذُ الجَيِّدِ عن الرَّدِئِ؛ لقولِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ» (¬3). فأمّا إن تَطَوَّعَ رَبُّ المالِ بإِخْراجِ الجَيِّدِ عن الرَّدِئِ، جاز، وله أجْرُ ذلك، على ما ذَكْرنا في الماشِيَةِ. فصل: وأمّا الزَّيْتُونُ، فإن كان ممّا لا زَيْتَ فيه، فإنَّه يُخْرِجُ منه عُشْرَه حَبًّا إذا بَلَغ نِصابًا، لأنَّه حالُ كَمالِه وادِّخارِه، وإن كان له زَيْتٌ أخْرَجَ منه زَيْتًا، إذا بَلَغ الحَبُّ نِصابًا. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، ومالكٍ، واللَّيْثِ. قالُوا: يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، ويُؤْخَذُ منه زَيْتًا صافِيًا. وقال مالكٌ: إذا بَلَغ خَمْسَةَ أوْسُقٍ أخَذَ العُشْرَ مِن زَيْتِه بعدَ أن يُعْصَرَ: وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: يُخْرِجُ مِن حَبِّهِ كسائِرِ الثِّمارِ. ولأنَّه الحالَةُ التى يُعْتَبَرُ فيها الأوْساقُ، فكان إخْراجُه فيها كسائِرِ الثِّمارِ. وهذا جائِزٌ، وإخْراجُ الزَّيْتِ أوْلَى وأفْضَلُ، لأنَّه يَكْفِى الفُقَراءَ مُؤْنَتَه، ولأنَّه حالُ كَمالِه وادِّخارِه، أشْبَهَ الرُّطَبَ إذا يَبِسَ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب قوله عز وجل: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 32. وأبو عبيد، في: الأموال 507. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 372. (¬2) في م: «أثمر». (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 99، في حديث بعث معاذ إلى اليمن.

912 - مسألة: (ويجب العشر على المستأجر دون المالك)

وَيَجِبُ الْعُشرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْمَالِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 912 - مسألة: (ويَجِبُ العُشْرُ على المُسْتَأْجِرِ دُونَ المالِكِ) وبهذا قال مالكٌ، والثُّوْرِىُّ، وشُرَيْكٌ، وابنُ المُبارَكِ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: هو على مالِكِ الأرْضَ، لأنَّه مِن مُؤْنَتِها، أشْبَهَ الخَرَاجَ. ولَنا، أنَّه واجِبٌ في الزَّرْعِ، فكان على مالِكِه كزكاةِ القِيمَةِ فيما إذا أعَدَّه للتِّجارَةِ، وكعُشْرِ زَرْعِه في مِلْكِه. ولا يَصِحُّ قَوْلُهم: إنَّه مِن مُؤْنَةِ الأرْضِ. لأنَّه لو كان مِن مُؤْنَتِها لوَجَبَ فيها وإن لم تزْرَعْ، [ولَوَجَبَ] (¬1) على الذِّمِّىِّ، كالخَراجِ، ولتَقَدَّرَ بقَدْرِ الأرْضِ لا بقَدْرِ الزَّرْعِ، ولوَجَبَ صَرْفُه إلى مَصارِفِ الفَىْءِ. فإنِ اسْتَعارَ أرْضًا فزَرَعَها، فالزكاةُ على صاحِبِ الزَّرْعِ، لأنَّه مالِكُه. وإن غَصَبَها فزَرَعَها وأخَذَ ¬

(¬1) في الأصل: «ولو وجب».

913 - مسألة: (ويجتمع العشر والخراج فى كل أرض

وَيَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِى كُلِّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّرْعَ، فالعُشْرُ عليه؛ لأنَّه نَبَت على مِلْكِه (¬1). وإن أخَذَه مالِكُها قبل اشْتِدادِ حَبِّه، فالعُشْرُ عليه. وإن أخَذَه بعده، احْتَمَلَ أن يَجِبَ عليه أيضًا؛ لأنَّ أخْذَه إيَّاهُ اسْتَنَدَ إلى أوَّلِ زَرْعِه، فكَأنَّه أخَذَه مِن تلك الحالِ. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ زَكاتُه على الغاصِبِ؛ لأنَّه كان مِلْكًا له حينَ وُجُوبِ عُشْرِه، وهو حينَ اشْتِدادِ الحَبِّ. وإن زارَعَ رَجُلًا مُزارَعَةً فاسِدَةً، فالعُشْرُ على مَن يَجِبُ الزَّرْعُ له. وإن كانت صَحِيحَةً، فعلى كلِّ واحِدٍ منهما عُشرُ حِصَّتِه، إن بَلَغَتْ نِصابًا، أو كان له مِن الزَّرْعِ ما يَبْلُغُ بضَمِّه إليه نِصابًا، وإلَّا فلا. وإن بَلَغَتْ حِصَّةُ أحَدِهما نِصابًا دُونَ الآخرِ، فعلى مَن بَلَغَتْ حِصَّتُه النِّصابَ (¬2) العُشْرُ دُونَ صاحِبهِ، إلَّا إذا قُلنا: الخُلْطَةُ تُوثِّرُ في غيرِ السّائِمَةِ. فيَلْزَمُهما العُشْرُ إذا بَلَغ زَرْعُهما نِصابًا، ويُخْرِجُ كلُّ واحِدٍ منهما عُشْرَ نَصِيبِه، إلَّا أن يكونَ أحَدُهما ممَّن لا عُشْرَ عليه، كالمُكاتَبِ؛ فلا يَلْزَمُ شَرِيكَه شئٌ إلَّا أن تَبْلُغَ حِصَّتُه نِصابًا، وكذلك الحُكْمُ في المُساقاةِ. 913 - مسألة: (ويَجْتَمِعُ العُشْرُ والخَراجُ في كلِّ أرْضٍ ¬

(¬1) في م: «مالكه». (¬2) سقط من: النسخ. وانظر المغنى 4/ 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فُتِحَتْ عَنْوَةً) الأرْضُ أرْضانِ؛ صُلْحٌ، وعَنْوَةٌ. فأمّا الصُّلْحُ فهو كلُّ أرْضٍ صُولِحَ أهلُها عليها لتَكُونَ مِلْكًا لهم، ويُؤَدُّون عليها خَراجًا، فهذه الأرْضُ مِلْكٌ لأرْبابِها، وهذا الخَراجُ كالجِزْيَةِ، متى أسْلَمُوا سَقَط عنهم، ولهم بَيْعُها وهِبَتُها ورَهْنُها، وكذلك كلُّ أرْضٍ أسْلَمَ عليها أهلُها، كأرْضِ المَدِينَةِ وشِبْهِها، ليس عليها خَراجٌ ولا شئٌ، إلَّا الزكاةَ، فهى واجِبَةٌ على كلِّ مسلمٍ. ولا خِلافَ في وُجُوبِ العُشْرِ في الخارِجِ مِن هذه الأرْضِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ على كلِّ أرْضٍ أسْلَمَ عليها أهلُها قبلَ قَهْرِهم، عليها الزكاةُ فيما زَرَعُوا فيها. وأمّا العَنْوَةُ فالمُرادُ بها ما فُتِح عَنْوَةً، ووُقِف على المسلمين، وضُرِب عليه خَراجٌ مَعْلُومٌ، فإنَّه يُؤَدِّى الخَراجَ عن رَقَبَةِ الأرْضِ، وعليه العُشْرُ عن غَلَّتِها إذا كانت لمسلمٍ، وكذلك الحُكْمُ في كلِّ أرْض خَراجِيَّةٍ. وهذا قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، والزُّهْرِىِّ، ويحيى الأنْصارِىِّ، ورَبِيعَةَ، والأوْزاعِىِّ (¬1)، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وابنِ المُبارَكِ، وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا عُشْرَ في الأرْضِ الخراجِيَّةِ؛ لقولِه عليه السلامُ: «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِى أرْضِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْلِمٍ» (¬1). ولأنَّهما حَقّان سَبَباهُما مُتنافِيان، فلم يَجْتَمِعا، كزكاةِ السَّوْمِ والتِّجارَةِ، وكالعُشْرِ وزكاةِ القِيمَةِ. وبَيانُ تنافِيهما أنَّ الخَراجَ وَجَبَ عُقُوبَةً؛ لأنَّه جِزْيَةٌ للأرْضِ، والزكاةُ وَجَبَتْ طَهُورًا وشُكْرًا. ولَنا، قولُه تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬2). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (¬3). وغيرُه مِن عُمُوماتِ الأخْبارِ. قال ابنُ المُبارَكِ: يقولُ اللَّهُ تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. ثم قال: نَتْرُكُ القُرآنَ لقولِ أبى حنيفةَ! ولأنَّهما حَقّانِ يَجِبانِ لمُسْتَحِقِّين يَجُوزُ وُجُوبُ كلِّ واحِدٍ منهما على المسلمِ فجاز اجْتِماعُهما، كالكَفّارَةِ والقِيمَةِ في الصَّيْدِ الحَرَمِىِّ المَمْلُوكِ، وحَدِيثُهم يَرْوِيه يحيى بنُ عَنْبَسَةَ، وهو ضَعِيفٌ، عن أبى حنيفةَ، ثم نَحْمِلُه على الخَراجِ الذى هوْ جِزْيَةٌ. وقولُهم: إنَّ سَبَبَيْهِما (¬4) مُتنَافِيان. غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ الخَراجَ أُجْرَةُ الأرْضِ، والعُشْرَ زَكاةُ الزَّرْعِ، ولا يَتَنافَيان، كما لو اسْتَأْجَرَ أرْضًا فزَرَعَها. وقولُهم: الخَراجُ عُقُوبَةٌ. قلْنا: لو كان عُقُوبَةً لَما وَجَب على مسلمٍ، كالجِزْيَةِ. وإن كانَتِ الأرْضُ لكافِرٍ فليس عليه فيها سِوَى الخَراجِ. قال أحمدُ: ليس في أرْضِ أهلِ الذِّمَّةِ صَدَقَةٌ، إنَّما قال اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه ابن عدى في الكامل 7/ 2710. وابن الجوزى، في: الموضوعات 2/ 151. (¬2) سورة البقرة 267. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 372. (¬4) في م: «سببها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1). فأىُّ طُهْرَةٍ للمُشْرِكِينَ؟. فصل: فإن كان في غَلَّةِ الأرْضِ ما لا عُشْرَ فيه، كالثِّمارِ التى لا زكاةَ فيها، والخَضْراواتِ، وفيها زَرْعٌ فيه الزكاةُ، جُعِل ما لا زكاةَ فيه في مُقابَلَةِ الخَراجِ، وزُكِّىَ ما فيه الزكاةُ، إذا كان ما لا زَكاةَ فيه وافِيًا بالخَراجِ. وإن لم يكنْ لها غَلَّةٌ إلا ما تَجِبُ نجيه الزكاةُ، أُدِّىَ الخَراجُ مِن غَلَّتِها، وَزُكِّىَ ما بَقِىَ، في أصَحِّ الرواياتِ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ. وهذا قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ. قال أبو عُبَيْدٍ (¬2)، عن إبراهيمَ بنِ أبى عَبْلَةَ: كَتَب عُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ إلى عامِلِه على فِلَسْطِينَ، في مَن كانت في يَدِه أرْضٌ بجِزْيَتِها مِن المسلمين، أن يَقْبِضَ منها جِزْيَتَها، ثم يُؤْخَذَ منها زَكاةُ ما بَقِىَ بعدَ الجِزْيَةِ. وذلك لأنَّ الخَراجَ مِن مُؤْنَةِ الأرْضِ، فيَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ في قَدْرِه؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: يَحْسِبُ ما أنْفَقَ على زَرْعِه دُونَ ما أنْفَقَ على أهْلِه. وفيه رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، أنَّ الدَّيْنَ كلَّه يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ في الأمْوالِ الظّاهِرَةِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ يَحْسِبُ كلَّ دَيْنٍ عليه، ثم يُخْرِجُ العُشْرَ ممّا بَقِىَ إن بَلَغ نِصابًا. يُرْوَى نَحْوُ ذلك عن ابنِ عُمَرَ؛ لأنَّه دَيْنٌ فمَنَعَ وُجُوبَ العُشْرِ، كالخَراجِ، وما أنْفَقَه على زَرْعِه. وفيه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّ الدَّيْنَ لا يَمْنَعُ ¬

(¬1) سورة التوبة 103. (¬2) في: الأموال 88.

914 - مسألة: (ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية، ولا عشر عليهم. وعنه، عليهم عشران، يسقط أحدهما بالإسلام)

وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ شِرَاءُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِمْ. وَعَنْهُ، عَلَيْهِمْ عُشْرَانِ، يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالإِسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُوبَ الزكاةِ في الأمْوالِ الظّاهِرَةِ مُطْلَقًا، سَواءٌ اسْتَدانَه لنَفَقَةِ زَرْعِه، أو لنَفَقَةِ أهلِه، فيَحْتَمِلُ على هذه أن يُزَكِّىَ الجَمِيعَ. وقد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الزكاةِ. 914 - مسألة: (ويَجُوزُ لأهْلِ الذِّمَّةِ شِراءُ الأرْضِ العُشْرِيَّةِ، ولا عُشْرَ عليهم. وعنه، عليهم عُشْران، يَسْقُطُ أحَدُهما بالإِسلامِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يُكْرَه (¬1) للمسلمِ بَيْعُ أرْضِه مِن الذِّمِّىِّ وإجارَتُها منه؛ ¬

(¬1) في م: «لم يكره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِفْضائِه إلى إِسقْاطِ عُشْرِ الخارِجِ منها. قال محمدُ بنُ موسى: سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن المسلمِ يُؤاجِرُ أرْضَ الخَراجِ مِن الذِّمِّى؟ قال: لا يُؤاجِرُ مِن الذِّمِّىِّ، إنَّما عليه الجِزْيَةُ، وهذا ضرَرٌ. وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ: لأنَّهم لا يُؤَدُّون الزكاةَ. فإن آجَرَها مِن الذِّمِّىِّ، أو باع أرْضَه التى لا خَراجَ عليها لذِمِّىٍّ، صَحَّ البَيْعُ والإِجارَةُ. وهو مَذهَبُ الثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وليس عليهم فيها عُشْرٌ ولا خَراجٌ. قال حَرْبٌ: سألتُ أحمدَ عن الذِّمِّىِّ يَشْتَرِى أرْضَ العُشْرِ؟ قال: لا أعْلَمُ عليه (¬1) شيئًا، وأهلُ المَدِينَةِ يَقُولُون في هذا قَوْلًا حَسَنًا، يَقُولُون: لا يُتْرَكُ الذِّمِّىُّ يَشْتَرِى أرْضَ العُشْرِ. وأهلُ البَصْرَةِ يَقُولُون قَوْلًا عَجَبًا، يَقُولُون: يُضاعَفُ عليهم. ¬

(¬1) سقط من: النسخ. والمثبت كما في المغنى 4/ 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّهم يُمْنَعُون مِن شِرائِها. اخْتارَها الخَلَّالُ. وهو قولُ مالكٍ وصاحِبه. فإنِ اشْتَرَوْها ضُوعِفَ عليهم العُشْرُ، فأُخِذَ منهم الخُمْسُ، كما لو اتَّجَرُوا بأمْوالِهم إلى غيرِ بَلَدِهمِ، يُؤْخَذُ منهم نِصْفُ العُشْرِ. وهذا قولُ أهلِ البَصْرَةِ، وأبى يُوسُف. ويُرْوَى ذلك عن الحسنِ، وعُبَيْدِ اللَّهِ بنِ الحسنِ العَنْبَرِىِّ (¬1). وقال محمدُ بنُ الحسنِ: العُشْرُ بحالِه. وقال أبو حنيفةَ: تَصِيرُ أرْضَ خَراجٍ. ولَنا، أنَّ هذه أرْضٌ لا خَراجَ. عليها، فلا يَلْزَمُ فيها (¬2) الخَراجُ ببَيْعِها، كما لو باعها مُسْلِمًا، ¬

(¬1) هو عبيد اللَّه بن الحسن بن الحصين العنبرى القاضى، من فقهاء التابعين بالبصرة. توفى سنة ثمان وستين ومائة. طبقات الفقهاء للشيرازى 91، تهذيب التهذيب 7/ 7 - 9. (¬2) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها مالُ مسلمٍ يَجبُ الحَقُّ فيها للفُقَراءِ، فلم يُمْنَعْ مِن بَيْعِه للذِّمِّىِّ، كالسّائِمَةِ. وإذا مَلَكَهَا الذِّمِّىُّ فلا عُشْرَ عليه فيما يَخْرُجُ منها؛ لأنَّه زَكاةٌ، فلا يَجِبُ (¬1) على الذِّمِّىِّ، كزكاةِ السّائِمَةِ، وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بزكاةِ السّائِمَةِ، وما ذَكَرُوه مِن تَضْعِيفِ العُشْرِ تَحَكُّمٌ لا نَصَّ فيه ولا قِياسَ. ¬

(¬1) في م: «تجب».

فصل

فَصْلٌ: وَفِى الْعَسَلِ الْعُشْرُ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنْ مَوَاتٍ أَوْ مِنْ مِلْكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: وفى العَسَلِ العُشْرُ، سَواءٌ أخَذَه مِن مَواتٍ أو مِن مِلْكِه.

وَنِصَابُهُ عَشَرَةُ أفْرَاقٍ، كُلُّ فَرَقٍ سِتُّونَ رَطْلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونِصابُه عَشَرَةُ أفْراقٍ، كلُّ فَرَقٍ سِتُون رَطْلًا) قال الأثْرَمُ: سُئِل أبو عبدِ اللَّهِ: أنت تَذْهَبُ إلى أنَّ في العَسَلِ زكاةً؟ قال: نعم، أذْهَبُ إلى أنَّ في العَسَلِ زكاةً، العُشْرَ، قد أخَذَ عُمَرُ منهم الزكاةَ. قلتُ: ذلك على أنَّهم تَطَوَّعُوا به؟ قال: لا بل أخَذَه (¬1) منهم. ويُرْوَى ذلك عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، ومَكْحُولٍ، والزُّهْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ. وقال ¬

(¬1) في م: «أخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ، والشافعىُّ، وابنُ أبى لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالِحٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لا زكاةَ فيه؛ لأنَّه مائِعٌ خارِجٌ مِن حَيَوانٍ، أشْبَهَ اللَّبَنَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ليس في وُجُوبِ الصَّدَقَةِ في العَسَلِ حَدِيث يَثْبُتُ ولا إجْماعٌ، فلا زكاةَ فيه. وقال أبو حنيفةَ: إن كان في أرْضِ العُشْرِ ففيه الزكاةُ، وإلَّا فلا زكاةَ فيه. ووَجْهُ الأوَّلِ ما روَى عَمْرُو بنُ شعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُؤخَذُ (¬1) في زَمانِه مِن قِرَبِ العَسَلِ، مِن كلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِن أوْسَطِها. رَواه أبو عُبَيْدٍ، والأثْرَمُ، وابنُ ماجه (¬2). وعن سُلَيْمانَ بنِ موسى، أنَّ أبا سَيّارَةَ المُتعِىَّ (¬3)، قال: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ: إنَّ لى نَحْلًا. قال: «أدِّ الْعُشْرَ». قال: فاحْمِ إذًا جَبَلَها. فحماه له. رَواه أبو عُبَيْدٍ، وابنُ ماجه (¬4). وروَى الأثْرَمُ، عن ابن أبى ذُبابٍ (¬5)، عن أبيه، عن جَدِّهِ، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أمَرَه في العَسَلِ بالعُشْرِ. ¬

(¬1) في م: «يأخذ». (¬2) أخرجه أبو عبيد، في: الأموال 497. وابن ماجه، في باب زكاة العسل، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 584. كما أخرجه أبو داود، في: باب زكاة العسل، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 371. (¬3) نسبة إلى متع، بطن من فهم، فيما يظن السمعانى؛ وهو أبو سيارة عامر بن هلال. اللباب 3/ 94. وضبط ابن حجر «متع» بضم اليم وفتح المثناة الفوقية، وذكر الاختلاف في اسمه. الإصابة 7/ 196. (¬4) أخرجه أبو عبيد، في: الأموال 497. وابن ماجه، في: باب زكاة الحل، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 584. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 236. (¬5) في النسخ: «ذبابة». والتصويب من ترجمة عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن الحارث بن سعد بن أبى ذباب، في تهذيب التهذيب 5/ 292.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمّا اللَّبَنُ، فإنَّ الزكاةَ وَجَبَتْ في أصْلِه، وهو السّائِمَةُ، بخِلافِ العَسَلِ. وقولُ أبى حنيفةَ يَنْبَنِى على أنَّ العُشْرَ والخَراجَ لا يَجْتَمِعان، وقد ذَكَرْناه. ونِصابُه عَشَرَةُ أفْراقٍ. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ. وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: خَمْسَةُ أوْسَاقٍ، لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (¬1). وقال أبو حنيفةَ: تَجِبُ في قَلِيلِه وكَثِيرِه، بِناءً على أصْلِه في الحُبُوبِ والثِّمارِ. ووَجْهُ الأوَّل ما رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ ناسًا سَألُوه، فقالُوا: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطَع لنا وادِيًا باليَمَنِ، فيه خَلَايا مِن نَحْلٍ، وإنّا نَجِدُ ناسًا يَسْرِقونَها. فقال عُمَرُ: إن أدَّيْتُم صَدَقَتَها، مِن كلِّ عَشرَةِ أفْراقٍ فَرَقًا، حَمَيْناها لكم. رَواه الجُوزَجانِىُّ (¬2). وهذا تَقْدِيرٌ مِن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فيَجِبُ المَصِيرُ إليه. إذا ثَبَت هذا، فقد اخْتَلَفَ المَذْهَبُ في قَدْرِ الفَرَقِ، فرُوِىَ عن أحمدَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 310. (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب صدقة العسل، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَدُلُّ على أنَّه سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا بالعِراقِىِّ (¬1). فإنَّه قال، في رِوايَةِ أبى داودَ: قال الزُّهْرِىُّ: في عَشَرَةِ أفْراقٍ فَرَقٌ، والفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، فيكونُ نِصابُه مائةً وسِتِّين رَطْلًا بالعِراقِىِّ. وقال ابنُ حامِدٍ: الفَرْقُ سِتُّون رَطْلًا، فيكونُ النِّصابُ سِتَّمائةِ رَطْلٍ. وكذلك ذَكَرَه القاضى في «المُجَرَّدِ»، فإنَّه يُرْوَى عن الخَلِيلِ بنِ أحمدَ (¬2)، قال: الفَرْقُ، بإسْكانِ الرّاءِ؛ مِكْيالٌ ضَخْمٌ مِن مَكايِيلِ أهلِ العِراقِ. وحُكِىَ عن القاضى، أنَّ الفَرْقَ سِتَّةٌ وثَلاثُون رَطْلًا. وقِيلَ: هو مائةٌ وعِشْرُون رَطْلًا. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن يكونَ نِصابُه ألْفَ رَطْلٍ؛ لحديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّه كان يُؤْخَذُ (¬4) مِن كلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِن أوْسَطِها. والقِرْبَة مائةُ رَطْلٍ بالعِراقِىِّ، بدَلِيلِ قِرَبِ القُلَّتَيْن. ووَجْهُ الأوَّلِ قولُ عُمَرَ: مِن كلِّ عَشَرَةِ أفْرَاق فَرَقًا. والفَرَقُ بتَحْرِيكِ الرّاءِ؛ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا. قال أبو عُبَيْدٍ (¬5): لا خِلافَ بينَ النّاسِ أعْلَمُه، في أنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الفراهيدى، أبو عبد الرحمن، الإمام، صاحب العربية، ومنشئ علم العروض، أحد الأعلام الكبار، وصاحب كتاب «العين». توفى سنة بضع وستين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 429 - 431. (¬3) في: المغنى 4/ 184. (¬4) في م: «يأخذ». (¬5) في: الأموال 520.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرَقَ ثَلاثَةُ آصُعٍ. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ: «أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ طَعَامٍ» (¬1). فقد بَيَّنَ أنَّه ثَلَاثَةُ آصُعٍ. وقالت عائشةُ: كنتُ أغْتَسِلُ أنا ورسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن إنَاءٍ، هو الفَرَقُ (¬2). هذا المَشْهُورُ، فيَنْصَرِفُ الإِطْلاقُ إليه. والفَرْقُ الذى هو مِكْيالٌ ضَخْمٌ لا يَصِحُّ حَمْلُه عليه، لوُجُوهٍ؛ أحدُها أنَّه غيرُ مَشْهُورٍ في كلامِهم، فلا يُحْمَلُ عليه المُطْلَقُ مِن كلامِهم. قال ثَعْلَبٌ: قُلْ فَرَقٌ ولا تَقُلْ فَرْقٌ. الثانى أنَّ عُمَرَ قال: مِن كلِّ عَشَرَةِ أفْراقٍ فَرَقًا. والأفْراقُ جَمْعُ فَرَقٍ، بفَتْحِ الرّاءِ، وجَمْعُ الفَرْقِ، بإسْكانِ الرّاء، فُرُوقٌ، لأنَّ ما كان على وَزْنِ فَعْل ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى}، وباب قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ. . .}، وباب النسك شاةٌ، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازى، وفى: باب قول المريض إني وجع. . .، من كتاب المرضى، وفى أول كتاب كفارات الأيمان. صحيح البخارى 3/ 12، 13، 14، 5/ 164، 7/ 155، 8/ 179. ومسلم، في: باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 859 - 862. وأبو داود، في: باب الفدية، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 2/ 430، 431. والترمذى، في: باب ما جاء في المحرم يحلق رأسه في إحرامه، ما عليه، من أبواب الحج، وفى: باب تفسير سورة البقرة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 4/ 177، 11/ 97، 98. والنسائى، في: باب في المحرم يؤذيه القمل في رأسه، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 153، 154. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 241 - 244. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 148.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ساكِنَ العَيْنِ غيرَ مُعْتَلٍّ، فجَمْعُه في القِلَّةِ أفْعُلٍ،، وفى الكَثْرَةِ فِعالٌ أو فُعُولٌ. والثالثُ، أنَّ الفَرْقَ الذى هو ضَخْمٌ مِن مَكاييلِ أهلِ العِراقِ، لا يُحْمَلُ عليه كَلامُ عُمَرَ، وإنَّما يُحْمَلُ كلامُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، على مَكايِيلِ أهلِ الحِجازِ؛ لأنَّه بها ومِن أهْلِها، ويُؤَكِّدُ ذلك تَفْسيرُ الزُّهْرِىِّ له في نِصابِ العَسَلِ بما قُلنا، والإِمامُ أحمدُ ذَكَرَه في مَعْرِضِ الاحْتِجاجِ به، فيَدُلّ على أنَّه ذهَب إليه. واللَّهُ أعلمُ.

فصل فى المعدن

فَصْلٌ فِى الْمَعْدِنِ: وَمَنِ اسْتَخْرَجَ مِنْ مَعْدِنٍ نِصَابًا مِنَ الْأَثْمَانِ، أوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالصُّفْرِ، وَالزِّئْبَق، وَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَالْكُحْلِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَسَائِرِ مَا يُسَمَّى مَعْدِنًا، فَفِيهِ الزَّكَاةُ فِى الْحَالِ، رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهِ، أوْ مِنْ عَيْنِهَا، إِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا، سَوَاءٌ اسْتَخْرَجَهُ فِى دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ لَمْ يَتْرُكِ الْعَمَلَ بَيْنَهَا تَرْكَ إِهْمَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل في المَعْدِنِ): 915 - مسألة: (ومَن اسْتَخْرَجَ مِن مَعْدِنٍ نِصابًا مِن الأثْمانِ، أو ما قِيمَتُه نِصابٌ مِن الجَواهِرِ، والقارِ، والصُّفْرِ، والزِّئْبَقِ، والكُحْلِ، والزِّرْنِيخِ، وسائِرِ ما يُسَمَّى مَعْدِنًا، ففيه الزكاةُ في الحالِ، رُبْعُ العُشْرِ مِن قِيمَتِه، أو مِن عَيْنِها، إن كانت أثْمانًا، سَواءٌ اسْتَخْرَجَه في دفْعَةٍ أو دفَعاتٍ لم يَتْرُكِ العَمَلَ بينَها تَرْكَ إهْمالٍ) الكلامُ في هذه المَسْألةِ في فُصُولٍ أربعةٍ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، في صِفَةِ المَعْدِنِ الذى تَتَعَلَّقُ به الزكاةُ، وهو كلُّ ما خَرَج مِن الأرْضِ ممّا خُلِق فيها مِن غيرِها ممّا له قِيمَةٌ، كالذى ذُكِر ههُنا ونَحْوِه مِن البِلَّوْرِ، والعَقِيقِ، وِالحَدِيدِ، والسَّبَجِ (¬1)، والزَّاجِ (¬2)، والمُغْرَةِ (¬3)، والكِبْرِيتِ، ونحْوِ ذلك. وقال الشافعىُّ، ومالكٌ: لا تَتَعَلَّقُ الزكاةُ إلَّا بالذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ لقول النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا زَكَاةَ فِى حَجَرٍ» (¬4). ولأنَّه مالٌ مُقَوَّمٌ مُسْتَفَادٌ مِن الأَرْضِ، أشْبَهَ الطِّينَ الأحْمَرَ. وقال أبو حنيفةَ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن: تَتَعَلَّقُ الزكاةُ بكلِّ ما يَنْطَبعُ، كالرَّصاصِ والحَدِيدِ والنُّحاسِ، دُونَ غيرِه. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬5). ولأنَّه مَعْدِنٌ، ¬

(¬1) السبج: خرز أسود، الواحدة سبجة كقصب وقصبة. (¬2) الزاج الأبيض: كبريتات الخارصين. والزاج الأزرق: كبريتات النحاس. والزاج الأخضر: كبريتات الحديد. (¬3) المُغْرَة: مسحوق أكسيد الحديد، ويوجد في الطبيعة مختلطا بالطُّفال، وقد يكون أصفر أو أحمر بُنِّيًّا، ويستعمل في أعمال الطلاء. (المعجم الوسيط م غ ر). (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب ما لا زكاة فيه من الجواهر غير الذهب والفضة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 146. (¬5) سورة البقرة 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَعَلَّقَتِ الزكاةُ به، كالأثْمانِ، ولأنَّه مالٌ لو غَنِمَه خَمَّسَه، فإذا أخْرَجَه مِن مَعْدِنٍ وَجَبَتْ زَكاتُه، كالذَّهَبِ. فأمّا الطِّينُ فليس بمَعْدِنٍ؛ لأنَّه تُرابٌ، والمَعْدِنُ، ما كان في الأرْضِ مِن غيرِ جِنْسِها. الفَصْلُ الثاني، في قَدْرِ الواجِبِ فيه، وصِفَتِه. وقَدْرُ الواجِبِ فيه رُبْعُ العُشْرِ. وهو زكاةٌ. وهذا قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، ومالكٍ. وقال أبو حنيفةَ: الواجِبُ فيه الخُمْسُ، وهو فىْءٌ. واخْتارَه أبو عُبَيْدٍ (¬1). وقال الشافعىُّ: هو زكاةٌ. واخْتُلِفَ عنه في قَدْرِه كالمَذْهَبَيْن. واحْتَجَّ مَن أوْجَبَ الخُمْسَ بقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَا لَمْ يَكُنْ فِى طَرِيقٍ مَأْتِىٍّ، وَلَا فِى قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَفِيهِ وَفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ». رَواه النَّسائِىُّ، والجُوزْجانِىُّ (¬2). وفى حَدِيثٍ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «وَفِى الرِّكَازِ ¬

(¬1) انظر: الأموال 340، 341. (¬2) أخرجه النسائى، في: باب المعدن، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 33. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبى داود 1/ 397. والإمام أحمد بلفظ آخر، في: المسند 2/ 180، 186، 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْخُمْسُ»، قِيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، ما الرِّكازُ؟ قال: «الذَّهَبُ والْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِى الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» (¬1). وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الرِّكَازُ هُوَ الذَّهَبُ الذِى يَنْبُت مَعَ الْأَرْضِ» (1). وفى حديثِ علىٍّ، عليه السلامُ، أنَّه قال: «وَفِى السُّيُوبِ الْخُمْسُ» (¬2). قال: والسُّيُوبُ عُرُوقُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ التى تَحْت الأرْضِ. ولَنا، ما روَى أبو عُبَيْدٍ (¬3)، بإسْنادِهِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقْطَعَ بِلالَ بنَ الحارِثِ المُزَنِىَّ مَعادِنَ القَبَلِيَّةِ (¬4) مِن ناحِيَةِ الفُرْعِ (¬5)، قال: فتلك المَعادِنُ لا يُؤْخَذُ منها إلَّا الزكاةُ (¬6) إلى اليَوْمِ. وقد أسْنَدَه ¬

(¬1) أخرجه البيقهى، في: باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 152. (¬2) ذكر ابن منظور، في اللسان (س ي ب) 1/ 477 أن ذلك كان في كتاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لوائل بن حجر. ووائل بن حجر من أقيال اليمن، وفد على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكتب له كتابا، ومات في خلافة معاوية. أسد الغا بة 5/ 435، 436، الإصابة 6/ 596، 597. (¬3) في: الأموال 338. كما أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 154. والإمام مالك، في: باب الزكاة في المعادن، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 248، 249. والبيهقى، في: باب زكاة المعدن ومن قال المعدن ليس بركاز، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 152. (¬4) في الأصل: «القبلة». (¬5) الفرع: موضع بين نخلة والمدينة. (¬6) في النسخ: «الركاز». والمثبت من مصادر التخريج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَثِيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ (¬1) المُزَنِىُّ، عن أبيه، عن جَدِّه (¬2). ورَواه الدَّراوَرْدِىُّ، عن رَبِيعَةَ عنِ (¬3) الحَارِثِ بنِ بِلالٍ، عن بِلالِ بنِ الحارِثِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَذَ منه زَكاةَ المَعادِنِ القَبَلِيَّةِ. قال أبو عُبَيْدٍ (¬4): القَبَلِيَّةُ بِلاد مَعْرُوفَةٌ بالحِجازِ. ولأنَّها زَكاةُ أثْمانٍ فكانت رُبْعَ العُشْرِ، كسائِرِ الأثْمانِ، أو تَتَعَلَّقُ بالقِيمَةِ، أشْبَهَتْ زكاةَ التِّجارَةِ. وحَدِيثُهم الأوَّلُ لا يَتَناوَلُ مَحَلَّ النِّزاعِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما ذَكَر ذلك في جَواب سُؤالِه عن اللُّقَطَةِ، وهذا ليس بلُقَطَةٍ، فلا يَتَناوَلُه النَّصُّ، وحديثُ أَبي هُرَيرَةَ يَرْوِيه عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدٍ، وهو ضَعِيفٌ. وسائِرُ أحادِيثِهم لا نَعْرِفُ صِحَّتَها، ولا هى مَذكُورَةٌ في المَسانِيدِ. الفَصْلُ الثَّالِثُ، في نِصابِ المَعْدِنِ. وهو عِشْرُون مِثْقالًا مِن الذَّهَبِ، أو مائتا دِرْهَمٍ مِن الفِضَّةِ، أو قِيمَةُ ذلك مِن غيرِهما. وهذا مَذْهَبُ ¬

(¬1) ف م: «عون». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 155. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 306. (¬3) في الأصل: «ابن». (¬4) في: الأموال 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ الخُمْسُ في قَلِيلِه وكَثِيرِه، بِنَاءً على أنَّه رِكاز؛ لعُمُومِ الأحادِيثِ التى احْتَجُّوا بها، ولأنَّه لا يُشْتَرَطُ له حَوْلٌ، فلم يُشْتَرَطْ له نِصابٌ، كالرِّكازِ. ولَنا، قولُه عليه السلامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَة» (¬1). وقولُه عليه السلامُ: «لَيْسَ فِى الذَّهَبِ شَىْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا» (¬2). ولأنّها زكاة تَتَعَلَّقُ بالأثْمانِ أو بالقِيمَةِ، فاعْتُبِرَ لها النِّصابُ، كالأثْمانِ والعُرُوضِ. وقد بَيَّنّا أن هذا ليس برِكازٍ، وأنَّه مُفارِقٌ للرِّكازِ مِن حيثُ إنَّ الرِّكازَ مالُ كافِرٍ مَظْهُورٌ عليه في الإِسْلامِ، فهو كالغَنِيمَةِ. وهذا وَجَب مُواساةً وشُكْرًا لنِعْمَةِ الغِنَى، فاعْتُبِرَ له النِّصابُ كسائِرِ الزَّكَواتِ. وإنَّما لم يُعْتَبَرْ له الحَوْلُ؛ لحُصُولِه دُفْعَةً واحِدَةً، فأشْبَهَ الزُّرُوعَ والثِّمارَ، ولأنَّ النَّماءَ يَتَكامَلُ فيه بالوُجُودِ والأخْذِ، فهو كالزَّرْعِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُشْتَرَطُ إخْراجُ النِّصابِ دُفْعَةً واحِدَةً أو دُفَعاتٍ لا يُتْرَكُ العَمَلُ بَيْنَهُنَّ تَرْكَ إهْمالٍ، فإن أخْرَجَ دُونَ النِّصابِ، ثم تَرَك العَمَلَ مُهْمِلًا له، ثم أخْرَجَ دُونَ النِّصاب، فلا زكاةَ فيهما وإن بَلَغا بمَجْمُوعِهما نِصابًا؛ لفَواتِ الشَّرْطِ. وإن بَلَغ أحَدُهما نِصابًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 310. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ الآخَرِ، زَكَّى النِّصابَ وَحْدَه، ويَجِبُ فيما زاد على النِّصابِ بحِسابِه، كالأثْمانِ والخارِجِ مِن الأرْضِ. فأمّا تَرْكُ العَمَلِ لَيْلًا، وللاسْتِراحَةِ، أو لعُذْرٍ مِن مَرَضٍ، أو لإصْلاحِ الأداةِ، أو إباقِ عَبْدٍ، ونَحْوِه، فلا يَقْطَعُ حُكْمَ العَمَلِ، وحُكْمُه حُكْمُ المُتَّصِلِ، لأنَّ العادَةَ كذلك. وكذلك إن كان مُشْتَغِلًا بالعَمَلِ، فخَرَجَ بينَ المَعْدِنَيْن تُرابٌ، لا شئَ فيه. فصل: وإنِ اشْتَمَلَ المَعْدِنُ على أجْناسٍ، كمَعْدِنٍ فيه الذَّهَبُ والفِضَّةُ، فذَكَرَ القاضى أنَّه لا يُضَمُّ أحَدُهما إلى الآخَرِ في تَكْمِيلِ النِّصابِ؛ لأنَّها أجْناسٌ، فلا يُضَمُّ أحَدُهما إلى غيرِه، كغيرِ المَعْدِنِ. قال شيخُنا (¬1): والصَّوابُ، إن شاء اللَّهُ، أنَّه إن كان المَعْدِنُ يَشْتَمِلُ على ذَهَبٍ وفِضةٍ، ففى ضَمِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ وَجْهان مَبْنِيّان على الرِّوايَتَيْن في ضَمِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ في غيرِ المَعْدِنِ، وإن كان فيه أجْناسٌ مِن غيرِ (¬2) الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ضُمَّ بَعْضها إلى بَعْض؛ لأنَّ الواجِبَ في قِيمَتِها، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 243. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَتْ عُرُوضَ التِّجارَةِ. وإن كان فيها أحَدُ النَّقْدَيْن، وجِنْسٌ آخَرُ، ضُمَّ أحَدُهما إلى الآخَرِ، كما تُضَمُّ العُرُوضُ إلى الأثْمانِ. وإنِ اسْتَخْرَجَ نِصابًا مِن مَعْدِنَيْن، وَجَبَتِ الزكاةُ فيه، كالزَّرْعِ في مَكانَيْن. الفَصْلُ الرَّابع، في وَقْتِ الوُجُوبِ. وتَجِبُ الزكاةُ فيه حينَ يَتَناوَلُه ويَكْمُلُ نِصابُه، ولا يُعْتَبَرُ له حَوْل. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وقال إسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ: يُعْتَبَرُ له الحَوْلُ؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلامُ: «لَا زَكَاةَ فِى مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327.

916 - مسألة: (ولا يجوز إخراجها إذا كانت أثمانا إلا بعد السبك

وَلَا يَجُوزُ إِخْرُاجُهَا إِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا إِلَّا بَعْدَ السَّبْكِ وَالتَّصْفِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه مُسْتَفاد مِن الأرْضِ، فلا يُعْتَبَرُ في وُجُوبِ حَقِّهِ حولٌ (¬1)، كالزَّرْعِ والثِّمارِ والرِّكازِ، ولأنَّ الحولَ إنَّما يُعْتَبَرُ في غيرِ هذا؛ ليَكْفُلَ النَّماءُ، وهذا يَتَكامَلُ نماؤُه دُفْعَةً واحِدَةً، فلم يُعْتَبَرْ له حولٌ كالزَّرْعِ، والخَبَرُ مَخْصُوصٌ بالزَّرْعِ والثَّمَرِ، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزاعِ. 916 - مسألة: (ولا يَجُوزُ إخْراجُها إذا كانت أثْمانًا إلَّا بعدَ السَّبْكِ ¬

(¬1) في م: «حوله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّصْفِيَةِ) كالحَبِّ والثَّمَرَةِ، فإن أخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ تُرابِه قبلَ تَصْفِيَتِه، وَجَب رَدُّه إن كان باقِيًا، أو قِيمَتُه إن كان تالِفًا، والقولُ في قَدْرِ المَقْبُوضِ قولُ الآخِذِ؛ لأنَّه غارِمٌ، فإن صَفّاه الآخِذُ فكان قَدْرَ الزكاةِ، أجْزَأ، وإن زاد رَدَّ الزيادَةَ، إلَّا أن يَسْمَحَ له المُخْرِجُ، وإن نَقَص فعلى المُخْرِجِ، وما أنْفَقَه الآخِذُ على تَصْفِيَته فهو مِن مالِه، لا يَرْجِعُ به على المالِكِ، ولا يَحْتَسِبُ المالِكُ ما أنْفَقَه على المَعْدنِ في اسْتِخْراجِه، ولا في (¬1) تَصْفِيَتِه مِن المعْدِنِ، لأنَّ الواجِبَ فيه زكاة، فلا يُحْتَسَبُ بمُؤْنَةِ اسْتِخْراجِه وتصْفِيَته، كالحُبُوب. فإن كان ذلك دَيْنًا عليه احْتَسبَ به، على الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ كما يَحْتَسِبُ بما أنْفَقَ على الزَّرْعِ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَلْزَمُه المُؤْنةُ مِن حَقِّه. وشَبَّهَه بالغَنِيمَةِ، وبَناه على أصْلِه في أنَّه رِكازٌ. وقد مَضَى الكلامُ في ذلك. ¬

(¬1) سقط من: م.

917 - مسألة: (ولا زكاة فيما يخرج من البحر؛ [من العنبر]

وَلَا زَكَاةَ فِيمَا يُخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ؛ مِنَ اللْولُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 917 - مسألة: (ولا زكاةَ فيما يُخْرَجُ مِن البَحْرِ؛ [مِن العَنْبَرِ] (¬1) واللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ ونَحْوهِ) في أحَدِ الوَجْهَيْنِ. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ، وظاهِرُ قولِ الخِرَقِىِّ. رُوِىَ نَحْوُ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، وعَطاءٌ، ومالك، والثَّوْرِىُّ، وابنُ أبى لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالِحٍ، والشّافعىُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ. والرِّوايَةُ الأُخْرَى ¬

(¬1) سقط من: م.

وَعَنْهُ، فِيهِ الزَّكَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فيه الزكاةُ) لأنَّه خارِجٌ مِن مَعْدِنٍ، أشْبَهَ الخارِجَ مِن مَعْدِنِ البَرِّ. ويُرْوَى عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، أنَّه أخَذَ مِن العَنْبَرِ الخُمْسَ (¬1). وهو قولُ الحسنِ، والزُّهْرِىِّ. وزاد الزُّهْرِىُّ في اللُّؤْلُؤِ يُخْرجُ مِن البَحْرِ. ولَنا، أنَّ ابنَ عباسٍ، قال: ليس في العَنْبَرِ شئٌ إِنَّما هو شئٌ ألْقاه البَحْرُ. وعن جابِرٍ نحْوُه. رَواهما أبو عُبَيْدٍ (¬2). ولأنَّه قد كان يُخْرجُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخُلفائِه، فلم يَأْتِ فيه سُنَّةٌ عنه ولا عنهم مِن وَجْهٍ يَصِحُّ، ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ فيه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على مَعْدِنِ البَرِّ؛ لأنَّ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال ليس في العنبر زكاة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 143. وعبد الرزاق، في: باب العنبر، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 64، 65. (¬2) في الأموال 345، 346. وأخرج الأول البخارى تعليقا، في: باب ما يستخرج من البحر، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 159. وابن أبى شيبة، في: باب من قال ليس في العنبر زكاة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 142، 143. وعبد الرزاق، في: باب العنبر، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 65. وأخرج الثاني ابن أبى شيبة، في: باب من قال ليس في العنبر زكاة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَنْبَرَ إنَّما يُفقِيه البَحْرُ، فيُوجَدُ على الأرْضِ فيُؤْخَذُ مِن غيرِ تَعَبٍ، فهو كالمُباحاتِ المَأْخُوذَةِ مِن البَرِّ، كالمَنِّ وغيرِه. فأمّا السَّمَكُ فلا شئَ عليه بحالٍ في قولِ أهلِ العلمِ كَافَّةً، إلَّا شئٌ رُوِىَ عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ. رَواه عنه أبو عُبَيْدٍ (¬1). وقال: ليس النّاسُ على هذا، ولا نَعْلَمُ أحَدًا قال به. وعن أحمدَ، أنَّ فيه الزكاةَ كالعَنْبَرِ. والصَّحِيحُ أنَّ هذا لا شيءَ فيه، لأنَّه صَيْد، فلم تَجِبْ فيه زكاةٌ، كصَيْدِ البَرِّ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على ما فيه الزكاةُ، فلا وَجْهَ لإِيجابِها. ¬

(¬1) في: الأموال 347.

فصل

فَصْلٌ: وَفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ، أَي نَوْعٍ كَانَ مِنَ الْمَالِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لِأَهْلِ الْفَىْءِ. وَعَنْهُ، أنَّهُ زَكَاة، وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: وفى الرِّكازِ الخُمْسُ، أىَّ نَوْعٍ كان مِن المالِ، قَلَّ أو كَثُر (¬1)؛ لأهلِ الفَىْءِ. وعنه، أنَّه زكاة، وباقِيه لواجدِهِ) الواجِبُ في الرِّكازِ الخُمْسُ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «وفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلمُ أحَدًا ¬

(¬1) في م: «أكثر». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من حفر بئرا في ملكه لم يضمن، من كتاب المساقاة، وفى: باب في الركاز =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خالَفَ هذا الحديث، إلَّا الحسنَ، فإنَّه فَرَّقَ بينَ ما يُوجَدُ في أرْضِ الحَرْبِ وأرْضِ العَرَبِ، فقال: فيما يُوجَدُ في أرْضِ الحَرْبِ الخُمْسُ، وفيما يُوجَدُ في أرْضَ العَرَبِ الزكاةُ. فصل: والرِّكازُ الذى فيه الخُمْسُ كلُّ ما كان مالًا على اخْتِلافِ أنْواعِه؛ مِن الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والحَدِيدِ، والرَّصاصِ، والصُّفْرِ، والآنِيَةِ، وغيرِ ذلك. وهو قولُ إسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، وابنِ المُنْذِرِ، ¬

_ = الخمس، من كتاب الزكاة، وفى: باب المعدن جبار والبئر جبار، وباب العجماء جبار، من كتاب الديات. صيح البخارى 3/ 145، 2/ 160، 9/ 15، 16. ومسلم، في: باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1334، 1335. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الركاز وما فيه، من كتاب الخراج والفئ والإمارة، وفى: باب العجماء والمعدن والبئر جبار، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 161، 502. والترمذى، في: باب ما جاء أن العجماء جرحها جبار. . .، من أبواب الزكاة، وفى باب با جاء في العجماء جرحها جبار، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 3/ 138، 6/ 145. والنسائى، في: باب المعدن، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 33. وابن ماجه، في: باب من أصاب ركازا، من كتاب اللقطة، وفى: باب الجبار، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 839، 891. والدارمى، في: باب في الركاز، من كتاب الزكاة، وفى: باب العجماء جرحها جبار، من كتاب الديات. سنن الدارمى 1/ 393، 2/ 196. والإمام مالك، في: باب زكاة الركاز، من كتاب الزكاة، وفى: باب جامع العقل، من كتاب العقول. الموطأ 1/ 249، 2/ 869. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 314، 2/ 228، 239، 274، 254، 285، 319، 382، 386، 406، 411، 415، 454، 456، 467، 475، 482، 493، 495، 499، 501، 507، 3/ 336، 354، 5/ 326، 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابِ الرَّأْى، والشافعىِّ في قولٍ، وأحَدُ الرِّوايَتَيْن عن مالكٍ. وقال الشافعىُّ في الآخَرِ: لا يَجِبُ إلَّا في الأثْمانِ. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السلامُ: «وَفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ». ولأنَّه مالٌ مَظْهُورٌ عليه من مالِ الكُفّارِ، فوَجَبَ فيه الخُمْسُ على اخْتِلافِ أنْواعِه، كالغَنِيمَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الخُمْسَ يجب في كثِيرِه وقَلِيله. وهذا قولُ مالكٍ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْى، والشافعىِّ في القَدِيمِ. وقال في الجَدِيدِ: يُعْتَبَرُ فيه النِّصابُ؛ لأنَّه مُسْتَخْرَجٌ مِن الأرْضِ، يَجِبُ فيه حَقٌّ، أشْبَهَ المَعْدِنَ والزَّرْعَ. ولَنا، الحديثُ المذْكُورُ، ولأنَّه مال مَخْمُوسٌ، فلا يُعْتَبَرُ له النِّصابُ، كالغَنِيمَةِ، والمَعْدِنُ والزَّرْعُ يَحْتَاجُ إلى كُلْفَةٍ، فاعْتُبِرَ فيه النِّصابُ تَخْفِيفًا، بخِلافِ الرِّكازِ. فصل: وقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في مَصْرِفِ خُمْس الرِّكازِ، فرُوِىَ عنه، انَه لأهلِ الفَىْءِ. نَقَلَها عنه محمدُ بنُ الحَكَمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال أبو حنيفةَ، والمُزَنِىُّ؛ لِما روَى أبو عُبَيْدٍ (¬1)، بإسنادِه، عن الشَّعْبِىِّ، أنَّ رجلًا وَجَد ألْف دِينارٍ مَدْفُونَةً (¬2) خارِجًا مِن المَدِينَةِ، فأتىَ بها عُمَرَ بنَ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فأخَذَ منها الخُمْسَ مائَتَىْ دِينارٍ، ودَفَعْ إلى الرجلِ بَقِيَتّهَا وجَعَل عُمَرُ يَقْسِمُ المائَتَين بينَ مَن حَضرَه مِن المسلمين، إلى أن فَضَل منها فَضْلَةٌ، فقال: أين صاحِبُ الدَّنانِيرِ؟ فقام إليه، فقال عُمَرُ: خُذْها فهى لك. ولو كان زَكاةً لخَصَّ به أهلَ الزكاةِ، ولم يَرُدَّه على واجِدِه. ولأنَّه يَجِبُ على الذِّمِّىِّ، والزكاةُ لا تَجِبُ عليه، ولأنَّه مالٌ مَخْمُوسٌ زالت عنه يَدُ الكُفّارِ، أشْبَهَ خُمْسَ الغَنِيمَةِ. وهذه الرِّوايَةُ أقْيَس في المَذْهَبِ. ورُوِىَ عنه، أنَّ مَصْرِفَه مَصْرِفُ الصَّدَقاتِ. ¬

(¬1) في: الأموال 342. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، فقال: يُعْطِى الخُمس مِن الرِّكازِ على مَكانِه، وإن تَصَدَّقَ به على المساكينِ أجْزَأه. واخْتاره الخِرَقِىُّ. وهذا قولُ الشافعىِّ؛ لِما روَى الإِمامُ أحمدُ (¬1)، بإسْنادِه عن عبدِ اللَّهِ بنِ بِشْرٍ الخَثْعَمِىِّ، عن رجل مِنِ قَوْمِه يُقالُ له: ابنُ حُمَمَةَ، قال: سَقَطْتُ على جَرَّةٍ مِن دَيْرٍ قَدِيمٍ بالكُوفةِ، عندَ جَبّانَةِ بِشْرٍ، فيها أرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، فذَهَبْتُ بها إلى علىٍّ، عليه السلامُ، فقال: اقْسِمْها خَمْسَةَ أخْماسٍ فقَسَمْتُها، فأخَذَ منها علىٌّ خُمْسًا، وأعْطانِى أرْبَعَةَ أخْماسٍ، فلَمّا أدْبَرْتُ دَعانِى، فقال: في جِيرانِك فُقَراءُ ومَساكِينُ؟ قلتُ: نعم. قال: فخُذْها فاقْسِمْها بينَهم. والمَساكِينُ مَصْرِفُ الصَّدَقاتِ؛ ولأنَّه حَقٌّ يَجِبُ في الخارجِ مِن الأرْضِ، فأشْبَهَ صَدَقَةَ المَعْدِنِ. ¬

(¬1) الحديث لم نجده في المسند. وأخرجه البيهقى، في: باب ما روى عن على رضى اللَّه عنه في الركاز، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 156، 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ لواجِدِ الرِّكازِ أن يَتَوَلَّى تَفْرِقَةَ الخُمْسِ بنَفْسِه. وبه قال أصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ علىٍّ. ولأنَّه أدَّى الحَقَّ إلى مُسْتَحِقِّه، فبَرِئَ منه، كما لو فَرَّقَ الزكاةَ. ويَتَخَرَّجُ أن لا يَجوزَ؛ لأنَّه فَىْءٌ، فلم يَمْلِكْ تَفْرِقَتَه بنَفْسِه كخُمْسِ الغَنِيمَةِ. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ. وإن فَعَل ضَمَّنَه الإِمامُ. قال القاضى: ليس للإِمامِ رَدُّ خُمْسَ الرِّكازِ على واجِدِه؛ لأنَّه حَقُّ مالٍ فلم يَجُزْ رَدُّه على مَن وَجَب عليه، كالزكاةِ، وخُمْسِ الغَنِيمَةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، رَدَّ بَعْضَه على واجِدِه، ولأنَّه فَىْءٌ، فجاز رَدُّه أو رَدُّ بَعْضِه على واجِدِه، كخراجِ الأرْضِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ. فصل: ويَجِبُ الخُمْسُ على مَن وَجَد الرِّكازَ، مِن مسلمٍ، وذِمِّىٍّ، وحُرٍّ، وعَبْدٍ، ومُكاتَبٍ، وكَبِيرٍ، وصَغِيرٍ، وعاقِلٍ، ومَجْنُونٍ، إلَّا أنَّ الواجِدَ له إذا كان عَبْدًا فهو لسَيِّدِه؛ لأنَّه كَسْبُ مالٍ، أشْبَهَ الاحْتِشاشَ، والمُكاَتَبُ يَمْلِكُه، وعليه خُمْسُه؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ كَسْبه، والصَّبِىُّ والمَجْنُونُ يَمْلِكانه، ويُخْرِجُ عنهما وَلِيُّهما. وهذا قولُ أكثرَ أهلِ العلمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ على الذِّمِّىِّ في الرِّكازِ يَجِدُه الخُمْسَ. قاله مالكٌ، وأهلُ المَدِينَةِ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأهلُ العراقِ مِن أصحابِ الرَّأْى وغيرُهم: وقال الشافعىُّ: لا يَجِبُ الخُمسُ إلَّا على مَن تَجبُ عليه الزكاةُ؛ لأنَّه زكاةٌ. وحُكِىَ عنه في الصَّبِىِّ والمرأةِ، أنَّهما لا يَمْلِكَانِ الرِّكازَ. وقال الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ: إذا وَجَدَه عَبْدٌ يُرْضَخُ له منه، ولا يُعْطاه كلَّه. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السلامُ: «وَفِى الرِّكازِ الْخُمْسُ» (¬1). فإنَّه يَدُلُّ بعُمُومِه على وُجُوبِ الخُمْسِ في كلِّ رِكازٍ، وبمَفْهُومِه على أنَّ بَاقيَه لواجِدِه كائِنًا مَن كان، ولأنَّه مالُ كافِرٍ مَظْهُورٌ عليه، فكان فيه الخُمْسُ على مَن وَجَدَه، وباقِيه لواجِدِه، كالغَنِيمَةِ، ولأنَّه اكْتِسابُ مالٍ، فكان لواجِدِه إن كان حُرًّا، ولسَيِّدِه إن كان عَبْدًا، كالاحْتِشاش والاصْطِيادِ. ويَتَخَرَّجُ لَنا أن لا يَجِبَ الخُمْسُ إلَّا على مَن تَجِبُ عليه الزكاةُ، بِناءً على أنه زكاةٌ. والأوَّلُ أصَحُّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 587، 588.

918 - مسألة؛ قال: (إن وجده فى موات أو أرض لا يعلم

إِنْ وَجَدَهُ فِى مَوَاتٍ، أَوْ أَرْضٍ لَا يَعْلَمُ مَالِكَهَا، وَإِنْ عَلِمَ مَالِكَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وباقِى الرِّكازِ لواجِدِه؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ عُمَرَ وعَلِيًّا، رَضِىَ اللَّه عنهما، دَفَعا باقِىَ الرِّكازِ بعدَ الخُمْسِ إلى واجدِه. ولأنَّه مالُ كافِرٍ مَظْهُورٌ عليه، فكان لواجِدِه بعدَ الخُمْسِ، كالغَنِيمَةِ، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه. 918 - مسألة؛ قال: (إن وَجَدَه في مَواتٍ أو أرْضٍ لا يَعْلَمُ

أوْ كَانَتْ مُنْتَقِلَةً إِلَيْهِ، فَهُوَ لَهُ أَيْضًا. وَعَنْهُ، أَنَّهُ لِمَالِكِهَا، أوْ لِمَنِ انْتَقَلَتْ عَنْهُ، إِنِ اعْتَرَفَ بهِ، وَإلَّا فَهُوَ لأوَّلِ مَالِكٍ. وَإنْ وَجَدَهُ فِى أَرْضِ حَرْبِىٍّ مَلَكَهُ، إِلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيْكُونُ غَنِيمَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِكَها، وإن عَلِم مالِكَها، أو كانت مُنْتَقِلَةً إليه، فهو له أيضًا. وعنه، أنَّه لمالِكِها، أو لمَن انْتَقَلَتْ عنه، إنِ اعْتَرَفَ به، وإلَّا فهو لأوَّلِ مالكٍ. وإن وَجَدَه في أرْضِ حَرْبِىٍّ مَلَكَه، إلَّا أن لا يَقْدِرَ عليه إلَّا بجَماعَةٍ مِن المسلمين، فيَكُونُ غَنِيمَة) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَوْضِعَ الركازِ لا يَخْلُو مِن أرْبَعَةِ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أن يَجِدَه في مَواتٍ، أو أرْضٍ لا يَعْلَمُ لها مالِكًا، كالأرْضِ التى يُوجَدُ فيها آثارُ المُلْكِ، مِن الأَبْنِيَةِ القَدِيمَةِ، والتُّلُولِ، وجُدْرانِ الجاهِلِيَّةِ، وقبُورِهم. فهذا فيه الخُمْسُ بغيرِ خِلافٍ فيه، إلَّا ما ذَكَرْنا. ولو وَجَدَه في هذه الأرْضِ على وَجْهِها، أو في طَرِيقٍ غيرِ مَسْلُوكٍ، أو قَرْيَةٍ خَرابٍ، فهو كذلك في الحُكْمِ؛ لِما روَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: سُئِل رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن اللُّقَطَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «[مَا لَمْ يَكُنْ] (¬1) فِى طَرِيقٍ مَأْتِىٌّ، أوْ فِى قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَفِيهِ وَفِى الرِّكازِ الْخُمْسُ». رَواه النَّسائِىُّ. القسمُ الثَّانِى، أن يَجِدَه في مِلْكِه المُنْتَقِلِ إليه، فهو له في إحْدَى الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّه مالُ كافِرٍ مَظْهُورٌ عليه في الإِسلامِ، فكان لمَن ظَهَر عليه، كالغَنائِمِ، ولأنَّ الرِّكازَ لا يُمْلَكُ بمِلْكِ الأرْضِ؛ لأنَّه مُودَعٌ فيها، وإنَّما يُمْلَكُ بالظُّهُورِ عليه، وهذا قد ظَهَر عليه، فوَجَبَ أن يَمْلِكَه. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، هو للمالِكِ قبلَه إنِ اعْتَرَفَ به، وإن لم يَعْتَرِفْ به فهو للذى قَبْلَه كذلك إلى أوَّلِ مالِكٍ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه كانت يَدُه على الدَّارِ، فكانت على ما فيها، وإنِ انْتَقَلَتِ الدّارُ بالمِيراثِ، حُكِم ¬

(¬1) في النسخ: «ما كان». والمثبت من سنن النسائى 5/ 33. وقد تقدم تخريج الحديث في صفحة 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنَّه مِيراثٌ، فإنِ اتفَقَ الوَرَثَةُ على أنَّه لم يكن لمَوْروثِهم (¬1)، فهو لأوَّلِ مالِكٍ، فإن لم يُعْرَفْ أوَّلُ مالكٍ، فهو كالمالِ الضّائِعِ الذى لا يُعْرَفُ له مالِكٌ. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاء اللَّه؛ لأنَّ الرِّكازَ لا يُمْلَكُ بمِلْكِ الدّارِ؛ لأنَّه ليس مِن أجْزائِها، وإنَّما هو مُودَعٌ فيها، فهو كالمُباحاتِ مِن الحَطَبِ والحَشِيشِ والصَّيْدِ يَجِدُه في أرْضِ غيرِه، فيَأْخُذُه، لكنْ إنِ ادَّعَى المالكُ الذى انْتَقَلَ عنه المِلْكُ (¬2) أنَّه له، فالقولُ قولُه (¬3)؛ لأنَّ يَدَه كانت عليه، بكوْنِها (¬4) على مَحَلِّه، وإن لم يَدَّعِه، فهو لواجدِه. وإنِ اخْتَلَفَ الوَرَثَةُ، فادَّعَى بعضُهم أنه لمَوْروثِهم (1) وأنْكَرَ البَعْضُ، فحُكْمُ مَن أنكَرَ في نَصيبِه حُكْمُ المالِكِ الذى لم يَعْتَرِفْ به، وحُكْمُ المُدَّعِين حُكْمُ المالِكِ المُعْتَرِفِ. ¬

(¬1) في م: «لمورثهم». (¬2) في م: «المالك». (¬3) في هامش الأصل: «يعنى بيمينه». (¬4) في م: «بكونه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الثّالثُ، أن يَجِدَه في مِلْكِ آدَمِىٍّ مَعْصُومٍ، مسلمٍ أو ذِمِّىٍّ، فعن أحمدَ ما يَدُلّ على أنَّه لصاحِبِ الدّارِ، فإنَّه قال، في مَن اسْتَأْجَرَ حَفّارًا ليَحْفِرَ له في دارِهِ فأصاب كَنْزًا عادِيًّا (¬1)، فهو لصاحِب الدّارِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. ونُقِل عن أحمدَ ما يَدُل على أنَّه لواجِدِه؛ لأنَّه قال، في مَسْألَةِ مَن اسْتَأجَرَ أجِيرًا ليَحْفِرَ له في دارِهِ، فأصَابَ في الدّارِ كَنْزًا: فهو للأجِيرِ. نَقَل عنه ذلك محمدُ بنُ يحيى الكَحّالُ (¬2). قال القاضى: هو الصَّحِيحُ. وهذا يَدُلّ على (¬3) أنَّ الرِّكازَ لواجِدِه. وهو قولُ الحسنِ بنِ صالِحٍ، وأبى ثَوْرٍ. واسْتَحْسَنَه أبو يُوسُفَ. وذلك لأنَّ الكَنْزَ لا يُمْلَكُ بمِلْكِ الدّارِ، على ما ذَكَرْنا في القِسْمِ الذى قبلَه، لكنْ إنِ ادَّعاه المالِكُ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ يَدَه عليه بكَوْنِها على مَحَلِّه. وإن لم يَدَّعِه، فهو لواجِدِهِ. وقال الشافعىُّ: هو لمالِكِ الدّارِ إنِ اعْتَرَفَ به، وإلَّا فهو لأوَّلِ مالكٍ. ويُخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك، على ما (3) ذَكَرْنا في القِسْمِ الثَّانِى. ¬

(¬1) عاديا: أى قديما، من عهد عاد ونحوه. (¬2) أبو جعفر محمد بن يحيى الكحال المتطبب البغدادى، كان من كبار أصحاب الإمام أحمد، وكان يقدمه ويكرمه، وكانت عنده عن أبى عبد اللَّه مسائل كثيرة حسان مشبعة. من رجال القرن الثالث. طبقات الحنابلة 1/ 328. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنِ اسْتَأْجَرَ حَفّارًا ليَحْفِرَ له طَلبًا لكَنْزٍ يَجِدُه، فوَجَدَه، فهو للمُسْتَأْجِرِ؛ لأنَّه اسْتَأْجَرَه لذلك، أشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَه ليَحْتَشَّ له أو ليَصْطادَ، فإنَّ الحاصِلَ مِن ذلك للمُسْتَأْجِرِ دُونَ الأجيرِ. وإنِ اسْتَأْجَرَه لأمْرٍ غيرِ طَلَبِ الرِّكازِ، فالواجِدُ له هو الأجِيرُ. وهَكذا قال الأوْزاعِىُّ. فصل: وإنِ اكْتَرَى دارًا، فوَجدَ فيها رِكازًا، فهو لواجِدِه، في أحَدِ الوَجْهيْن، وفى الآخَرِ، هو للمالِكِ، بِناءً على الرِّوايَتَيْن، في مَن وَجَد رِكازًا في مِلْكٍ انْتَقَلَ إليه. وإنِ اخْتَلَفا، فقال كلُّ واحِدٍ منهما: هذا كان لى. فعلى وَجْهَيْن أيضًا، أحَدُهما، القولُ قولُ المالِكِ، لأنَّ الدِّفْنَ تابعٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للأرْضِ. والثانِى القولُ قولُ المُكْتَرِى؛ لأنَّ هذا مُودَعٌ في الأرْضِ، وليس منها، فكان القولُ قولَ مَن يَدُه عليها، كالقَمّاشِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الرابعُ، أن يَجِدَه في أرْضِ الحَرْبِ، فإن لم يَقْدِرْ عليه إلَّا بجَماعَةٍ [مِن] (¬1) المسلمين، فهو غَنِيمَةٌ لهم، وإن قَدَر عليه بنَفسِه فهو لواجِدِه، حُكْمُه حُكْمُ ما لو وَجَده في مَواتٍ مِن أرْضِ المسلمين. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: إن عَرَف مالِكَ الأرْضِ وكان حَرْبِيًّا، فهو غَنِيمَةٌ أيضًا؛ لأنَّه في حِرْزِ مالِكٍ مُعَيَّنٍ، أشْبَهَ ما لو أخَذَه مِن بَيْتٍ أو خِزانَةٍ. ولَنا، أنَّه ليس لمَوْضِعِه مالِك مُحْتَرَمٌ، أشْبَهَ ما لو لم يُعْرَفْ مالِكُه. ويُخَرَّجُ لَنا مِثْلُ قولِهم، بِناءً على قولِنا: إنَّ الرِّكازَ في دارِ الإِسلامِ يكونُ لمالكِ الأرْضِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

919 - مسألة: (والركاز ما وجد من دفن الجاهليه، عليه علامتهم. فإن كان عليه علامة المسلمين أو لم تكن عليه علامة، فهو لقطة)

وَالرِّكَازُ مَا وُجِدَ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ، فَهُوَ لُقَطَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 919 - مسألة: (والرِّكازُ ما وُجِد مِن دِفْنِ الجاهِلِيَّهِ، عليه علامَتُهم. فإن كان عليه عَلامَةُ المسلمين أو لم تَكُنْ عليه عَلامَةٌ، فهو لُقَطَةٌ) الدِّفْنُ، بكَسْرِ الدَّالِ؛ المَدْفُونُ. والرِّكازُ؛ هو المدْفُونُ في الأرْضِ. واشْتِقاقُه مِن رَكَز يَرْكِزُ (¬1): إذا أخْفَى. يقالُ: رَكَز الرُّمْحَ، إذا غَرَز أسْفَلَه في الأرْضِ. ومنه الرِّكْزُ، وهو الصَّوْتُ الخَفِىُّ، قال اللَّهُ تعالى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (¬2). والرِّكازُ الذى يَتَعَلَّقُ به وُجُوبُ الخُمْسِ ما كان مِن دِفْنِ الجَاهِلِيَّةِ. هذا قولُ الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، ويُعْتَبَرُ ذلك بأن يُرَى عليه عَلامتُهم، كأسْماءِ مُلُوكِهم، وصُوَرِهم، وصُلُبِهم، وصُوَرِ أصْنامِهم، ونَحْوِ ذلك؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لهم، فإن كان عليه عَلامَةُ الإِسلامِ، أو اسْمُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو أحَدٍ مِن خُلَفاءِ المسلمين، أو وُلاتِهم، أو آيَةٌ مِن القُرْآنِ، ¬

(¬1) كذا ضبطه، وتضم عينه في المضارع أيضا. (¬2) سورة مريم 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَحْوُ ذلك، فهو لُقَطَةٌ؛ لأنَّه مِلْكُ مسلمٍ لم يُعْلَمْ زَوالُه عنه. وإن كان على بَعْضِه عَلامَةُ الإِسلامِ، وعلى بَعْضِه عَلامَةُ الكُفْرِ، فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُور؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنه صار إلى مسلمٍ، ولم يُعْلَمْ زَوالُه عن مِلْكِه، فأشْبَهَ ما على جَمِيعِه عَلامَةُ المسلمين. وكذلك إن لم يكنْ عليه عَلامَةٌ فهو لُقَطَة، تَغْلِيبًا لحُكْمِ الإِسلامِ، إلَّا أن يَجِدَه في مِلْكٍ انْتَقَلَ إليه، فيَدَّعِيَه المالِكُ قبلَه، بلا بَيِّنَةٍ ولا صِفَةٍ.، فهل يُدْفَعُ إليه؟ فيه رِوايَتانِ، ذَكَرهما ابنُ تَيْمِيَةَ (¬1) في كِتابِ «المُحَرَّرِ»؛ إحْداهما، لا يُدْفَعُ إليه، كَاللُّقَطَةِ. والثّانِيَةُ، يُدْفَعُ إليه؛ لأنَّه تَبَعٌ للمِلْكِ. فإن كان على بَعْضِه عَلامَةُ الكُفّارِ، وليس على بَعْضِه عَلامَة، فيَنْبَغِى أن يكونَ رِكازًا؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه مِلْكُ الكُفّارِ. ¬

(¬1) هو الشيخ مجد الدين بن عبد السلام ابن تيمية صاحب «المحرر» انظر ما تقدم في الجزء الأول صفحة 18.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب زكاة الأثمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ زكَاةِ الأَثْمَانِ وَهِىَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَلَا زَكَاةَ فِى الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ زكاةِ الأَثْمانِ (وهى الذَّهَبُ والفِضَّةُ) والأصْلُ في وُجُوبِها الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ. أمّا الكِتابُ، فقَوْلُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). وأمّا السُّنَّةُ، فما روَى أبو هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤدِّى منهَا حَقَّهَا، إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبينُهُ وظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ اعِيدَتْ لَهُ، فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). إلى غيرِ ذلك مِن ¬

(¬1) سورة التوبة 34. (¬2) في: باب إثم مانع الزكاة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 680. كما أخرجه أبو داود، في: باب في حقوق المال، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 385. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 262، 276.

920 - مسألة: (ولا شئ فى الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا، فيجب فيه نصف مثقال)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحاديثِ. وأجْمَعَ المسلمون على أنَّ في مائتَى دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَراهِمَ، وعلى أنَّ الذَّهَبَ إذا كان عِشْرِين مِثْقالًا قِيمَتُها مائتا دِرْهَمٍ، أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيه، إلَّا ما اخْتُلِفَ فيه عن الحسن. 920 - مسألة: (ولا شئَ في الذَّهبِ حتى يَبْلُغَ عِشْرِين مِثْقالًا، فيَجِبُ فيه نِصْفُ مِثْقالٍ) لا يَجبُ في الذَّهَبِ زكاةٌ إلَّا أن يَبْلُغَ عِشْرِين مِثْقالًا، إلَّا أن يتمَّ بعَرْضِ تِجارَةٍ أو وَرِقٍ، على ما فيه مِن الخِلافِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الذَّهَبَ إذا كان عِشْرينَ مِثْقالًا قِيمَتُها مائَتا دِرْهمٍ، أنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيها، إلَّا ما حُكِىَ عن الحسنِ، أنَّه قال: لا شئَ فيها حتى تَبْلُغَ أرْبَعِين. وأجْمَعُوا على أنَّه إذا كان أقَلَّ مِن عِشْرِين مِثْقالًا ولا يَبْلُغُ قِيمَةَ مائتَى دِرْهَمٍ، فلا زكاةَ فيه. وقال عامَّةُ الفُقَهاءِ: نِصابُ الذَّهَبِ عِشْرُون مِثْقالًا مِن غيرِ اعْتِبارِ قِيمَتِها. وحُكِىَ عن عَطاءٍ وطاوُسٍ، والزُّهْرِىِّ، وسُلَيْمانَ بنِ حَرْبٍ (¬1)، وأيوبَ السَّخْتِيانِىِّ (¬2)، أنَّهم قالُوا: هو مُعْتَبَرٌ بالفِضَّةِ، فما كان قِيمَتُه مائتَى دِرْهَم ففيه الزكاةُ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَقْدِيرٌ فِى نِصابِهِ، فثَبَتَ أنَّه حَمَلَه على الفِضَّةِ. ولنَا، ما روَى عمرُو بنُ شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن ¬

(¬1) أبو أيوب سليمان بن حرب بن بجيل الأزدى البصرى، سكن مكة وكان قاضيها، توفى سنة أربع وعشرين ومائتين. تهذيب التهذيب 4/ 178 - 180. (¬2) أبو بكر أيوب بن أبى تميمة السختياتى، من فقهاء التابعين بالبصرة، توفى سنة إحدى وثلاثين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازى 89

921 - مسألة؛ قال: (ولا فى الفضة حتى تبلغ مائتى درهم، فيجب فيها خمسة دراهم)

وَلَا فِى الْفِضَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَى دِرْهَمٍ، فَيَجِبُ فِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَيْسَ فِى أقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا فِى أقَلَّ مِنْ مِائتَى دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ». رَواه أبو عُبَيدٍ (¬1). وروَى ابنُ ماجه (¬2) عن ابنِ (3) عُمَرَ، وعائشةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِين دِينارًا فصاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، ومِن الأرْبَعِين دِينَارًا دِينارًا (¬3). وروَى سعيدٌ والأثْرَمُ، عن علىٍّ: على كلِّ أرْبَعِين دينارًا دِينارٌ، وفى كلِّ عِشرِينَ دِينارًا نِصْف دِينارٍ. ورَواه غيرُهما مَرْفُوعًا (¬4). ولأنَّه مالٌ تَجِبُ في عَيْنِه، فلم يُعْتَبَرْ بغيرِه، كسائِرِ الأمْوالِ الزَّكَوِيَّةِ. 921 - مسألة؛ قال: (ولا في الفِضَّةِ حتى تَبْلُغَ مائتَى درْهَمٍ، فيَجِبُ فيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) لا تَجِبُ فيما دُونَ المائتَى دِرْهَمٍ مِنَ الفِضَّةِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 310. (¬2) في: باب زكاة الورق والذهب، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 571. كما أخرجه الدارقطنى، في: باب وجوب زكاة الذهب والورق. . .، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 92. (¬3) سقط من: النسخ. والمثبت من مصادر الحديث. (¬4) انظر: نصب الراية 2/ 365 , 366. وتلخيص الحبير 2/ 173، 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَدقَةٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لِقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْس فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والأوقِيَّةُ أرْبَعُون دِرْهَمًا. فإذا بَلَغَتْ مائتَى دِرْهَم ففيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. لا خِلَافَ بينَ العلماءِ في ذلك، والواجِبُ فيه رُبْعُ العُشْرِ بغير خِلافٍ. وقد رَوَى البُخَارِىُّ (¬2)، بإسْنادِهِ، في كِتابِ أنَسٍ: «وَفِى الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإنْ لَم تَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً، فَلَيْس فِيهَا شَىْءٌ، إلَّا أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا». الرِّقَةُ: الدَّراهِمُ المَضْرُوبَةُ. والدَّراهِمُ التى يُعْتَبَرُ بها النِّصابُ هى الدَّراهِمُ التى كلُّ عَشَرةٍ منها سَبْعَةُ مَثاقِيلَ بِمثْقالِ الذَّهَبِ، وكلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقالٍ وخُمْسُه، وهى الدَّراهِمُ الإِسْلاميَّةُ التى يُقَدَّرُ بها نُصُبُ الزكاةِ، ومِقْدارُ الجِزْيَةِ، والدِّياتُ، ونِصابُ القَطْعِ في السَّرِقَةِ، وغيرُ ذلك. وكانتِ الدَّراهِمُ في صَدْرِ الإِسلامِ صِنْفَيْنِ؛ سُودًا وطَبَرِيَّةً، وكانتِ السُّودُ ثمَانِيَةَ دَوانِيقَ، والطَّبَرِيَّةُ أرْبَعَةَ دَوانِيقَ، فجُمِعا في الإِسلامِ، وجُعِلا دِرْهَمَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ، كلُّ دِرْهَم ستةُ دَوانِيقَ، فَعَل ذلك بنو أُمَيَّةَ. ولا فَرْقَ في ذلك بينَ التِّبْرِ والمَضْرُوبِ. ومتى نَقَص النِّصابُ فلا زكاةَ فيه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 310. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 395.

922 - مسألة: (ولا زكاة فى مغشوشهما حتى يبلغ قدر ما فيه

وَلَا زَكَاةَ فِى مَغْشُوشِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ مَا فِيهِ نِصَابًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لظاهِرِ الحديثِ. قال أصْحابُنا: إلَّا أن يكونَ نَقْصًا يَسِيرًا. وقدا ذكَرْنا الخِلافَ فيما مَضَى. 922 - مسألة: (ولا زكاةَ في مَغْشُوشِهما حتى يَبْلُغَ قَدْرُ ما فيه

923 - مسألة: (فإن شك فيه، خير بين سبكه وبين الإخراج)

فَإِنْ شَكَّ فِيهِ، خُيِّرَ بَيْنَ سَبْكِهِ وَبَيْنَ الْإِخْرَاجَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصابًا) مَن مَلَك ذَهَبًا أو فِضَّةً مَغْشُوشًا، أو مُخْتَلِطًا بغيرِه، فلا زكاةَ فيه حتى يَبْلُغَ قَدْرُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ نِصابًا، لِما ذكرنا مِن الأحاديثِ. 923 - مسألة: (فإن شَكَّ فيه، خُيِّرَ بينَ سَبْكِه وبينَ الإِخْراجِ) إذا شَكَّ في بُلُوغِ قَدْرِ ما في المَغْشُوش مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ نِصابًا، خُيِّرَ بينَ سَبْكهما ليَعْلَمَ قَدْرَ ما فيهما، وبينَ أن يَسْتَظْهِرَ ويُخْرِجَ؛ لِيَسْقُطَ الفَرْضُ بِيَقِينٍ. فإن أحَبَّ أن يُخْرِجَ اسْتِظْهارًا، فأراد إخْراجَ الزكاةِ مِن المَغْشُوشَةِ، وكان الغِشُّ لا يَخْتَلِفُ، مثلَ أن يكونَ الغِشُّ في كلِّ دِينارٍ سُدْسَه، وعَلِم ذلك، جاز أن يُخْرِجَ منها؛ لأنَّه يكونُ مُخْرِجًا لرُبْعِ العُشْرِ، وإن اخْتَلَفَ قَدْرُ ما فيها، أو لم يُعْلَمْ، لم يُجْزِئْه الإِخْراجُ منها، إلَّا أن يَسْتَظْهِرَ بإخْراجِ ما يَتَيَقَّنُ أنَّ فيما أخْرَجَه مِن العَيْنِ قَدْرَ الزكاةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أخْرَجَ عنها ذَهَبًا أو فِضَّةً لا غِشَّ فيه، فهو أفْضَلُ. وإن أراد إسْقاطَ الغِشِّ، وإخْراجَ الزكاةِ عن قَدْرِ ما فيه مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ، كمن معه أرْبَعَةٌ وعِشْرون دِينارًا، سُدْسُها غِش، فأسْقَطَ السُّدْسَ أرْبَعَةً، وأخْرجَ نِصْفَ دِينارٍ عن عشْرِين، جاز؛ لأنَّه لو سَبَكَها لم يَلْزَمْه إلَّا ذلك، ولأنَّ غِشَّها لا زكاةَ فيه، إلَّا أن يكونَ غِشُّ الذَّهَبِ فِضَّةً، وعندَه مِن الفِضَّةِ ما يَتمُّ به النِّصابُ، [أو له] (¬1) نِصابٌ سِواه، فيكونُ عليه زكاةُ الغِشِّ حِينَئذٍ. وكذلك إن قُلنا بضَمِّ الذَّهَبِ إلى الفِضَّةِ. وإنِ ادَّعَى رَبُّ المالِ أنَّه عَلِم الغِشَّ، أو أنَّه اسْتَظْهَرَ وأخْرَجَ الفَرْضَ، فيَلْزَمه بغيرِ يَمِينٍ. وإن زادت قِيمَةُ المَغْشُوشِ بالغِش، فصارَتْ قِيمَةُ العِشْرين تُساوِى اثْنَيْن وعِشْرِين، فعليه إخْراجُ رُبْعِ عُشْرِها ممَّا قِيمته كقِيمَتِها، لأنَّ عليه إخْراجَ زكاةِ المالِ الجيِّدِ مِن جِنْسِه، بحيث لا يَنْقُصُ عن قِيمته، واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «وله».

924 - مسألة: (ويخرج عن الجيد الصحيح من جنسه)

وَيُخْرِجُ عَنِ الْجَيِّدِ الصَّحِيحِ مِنْ جنْسِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 924 - مسألة: (ويُخْرِجُ عن الجَيِّدِ الصَّحِيحِ مِن جِنْسِه) ويُخْرِجُ عن كلِّ نَوْعٍ مِن جِنْسِه، لأنَّ الفُقَراءَ شُرَكاؤُه، وهذه وَظِيفَةُ الشَّرِكَةِ. فإن كان أنْواعًا مُتَساوِيَةَ القِيَمِ، جاز إخْراجُ الزكاةِ (¬1) مِن أحَدِهما، كما يُخْرِجُ مِن أحَدِ نَوْعَى الغَنَمِ. وإن كانت مُخْتَلِفَةَ القِيَمِ أخَذَ مِن كلِّ نَوْعٍ ما يَخُصُّه. وإن أخْرَجَ مِن أوْسَطِها ما يَفِى (¬2) بقَدْرِ الواجِبِ، [وقِيمَتِه، جاز، لأنَّ الإِخْراجَ مِن كلِّ نَوْعٍ يَشُقُّ. وإن أخْرَجَ مِن أجْوَدِها بقَدْرِ الواجِبِ] (¬3) جاز، وله ثوابُ الزِّيادَةِ، لأنَّه زاد خَيْرًا. وإن أخْرَجَه بالقِيمَةِ، مثلَ أن يُخرِجَ عن نِصْفِ دِينارٍ رَدِئٍ ثُلُثَ دِينارٍ جَيِّدٍ، لم يَجُزْ؛ لأن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على نِصْفِ دِينارٍ، فلم يَجُزِ ¬

(¬1) في م: «الزيادة». (¬2) في الأصل: «بقى». (¬3) سقط من: م.

925 - مسألة: (فإن أخرج مكسرا أو بهرجا زاد

فإِنْ أَخْرَجَ مُكَسَّرًا أوْ بَهْرَجًا زَادَ قَدْرَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّقْصُ منه. وإن أخْرَجَ مِن الأدْنَى مِن غيرِ زِيادَةٍ، لم يَجُزْ (¬1)؛ لِقَوْلِه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬2). وإن زاد في المُخْرَجِ ما يَفِى (1) بقيمَةِ الواجِبِ، كمَن أخْرَجَ عن دِينارٍ دِينارًا ونِصْفًا يَفِى بِقيمَتِه، جاز؛ لأنَّ الرِّبا لا يَجْرِى بينَ العَبْدِ وسَيِّدِه. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ إخْراجُ الرَّديئَةِ عن الجَيِّدَةِ مِن غيرِ جُبْرانٍ؛ لأنَّ الجَوْدَةَ إذا لاقَتْ جِنْسَها فيما فيه الرِّبا لا قِيمَةَ لها. ولَنا، أن الجَوْدَةَ مُتَقَوَّمَةٌ في الإِتْلافِ، ولأنَّه إذا لم يَجْبُرْه بما يُتِمُّ به قِيمَةَ الواجِبِ، دَخَل في قَوْلِه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية. ولأنَّه أخْرَجَ رَدِيئًا عن جَيِّدٍ بقَدْرِه، فلم يَجُزْ (1)، كالماشِيَةِ. وأمَّا الرِّبا فلا يَجْرِى ههُنا، لأنَّه لا رِبا بينَ العَبْدِ وَسَيِّدِه. فإن قِيلَ: فلو أخْرَجَ في المَاشِيَةِ في الجَيِّدَةِ رَدِيئَتَيْن، لم يَجُزْ (1)، أو أخْرَجَ عن القَفِيزِ الجَيِّدِ قَفِيزَيْن رَدِيئَيْن، لم يَجُزْ (1)، فَلِمَ أجَزْتُم ههنا؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما أنَّ القَصْدَ في الأثْمانِ القِيمَةُ لا غيرُ، فإذا تَساوَى الواجِبُ والمُخْرَجُ في القِيمَةِ والوَزْنِ، جاز، وسائِرُ الأمْوالِ يُقْصَدُ الانْتِفاعُ بعَيْنها، فلا يَلْزَمُ مِن التَّساوِى في الأمْرَيْنِ الجَوازُ؛ لِفَواتِ بَعْضِ المَقْصُودِ. 925 - مسألة: (فإن أخْرَجَ مُكَسَّرًا أو بَهْرَجًا زاد (¬3) قَدْرَ مَا ¬

(¬1) في م: «يجزئ». (¬2) سورة البقرة 267. (¬3) في م: «وزاد».

نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بينهما مِن الفَضلِ (¬1). نَصَّ عليه) إذا أخْرَجَ عن الصِّحاحِ مُكَسَّرَةً، وزاد بقَدْرِ ما بينهما مِن الفَضْلِ، جازَ؛ لأنَّه أدَّى الواجِبَ عليه قِيمَةً وقَدْرًا. وإن أخرَجَ بَهرَجًا عن الجَيِّدِ وزاد بقَدْرِ ما يُساوِى قِيمَةَ الجَيِّدِ، جاز لذلك. وهكذا ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ. وقال القاضى: يَلْزَمُه إخْراجُ جَيِّدٍ، ولا يَرْجِعُ فيما أخْرَجَه مِن المَعِيبِ، لأنَّه أخْرَجَ مَعِيبًا في حقِّ اللَّهِ، فأشْبَهَ ما لو أخْرَجَ مَرِيضَةً عن صِحاحٍ. وبهذا قال الشافعىُّ، إلَّا أنَّ أصْحابَه قالُوا: له الرُّجُوعُ فيما أخْرَجَ مِن المَعِيبِ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ. ¬

(¬1) بعده في م: «جاز».

926 - مسألة: (وهل يضم الذهب إلى الفضة فى تكميل النصاب، أو يخرج أحدهما عن الآخر؟ على روايتين)

وَهَلْ يُضَمُّ الذَّهَبُ إِلَى الْفِضَّةِ فِى تَكْمِيلِ النِّصَابِ، أوْ يُخْرَجُ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 926 - مسألة: (وهل يُضمُّ الذَّهَبُ إلى الفِضَّةِ في تَكْمِيل النِّصابِ، أو يُخْرَجُ أحَدُهما عن الآخَرِ؟ على رِوَايَتَيْنِ) إذا كان له مِن كلِّ واحِدٍ مِن الذَّهَبِ والفِضةِ ما لا يَبْلُغُ نِصابًا بمُفرَدِه، فقد نُقِل عن أحمدَ، أنَّه تَوَقَّفَ في ضَمِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ، في رِوايَةِ الأثْرَم وجَماعَةٍ، وقَطَع في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، أنَّه لا زكاةَ عليه حتى يَبْلُغَ كلُّ واحدٍ منهما نِصابًا. وقد نَقَل الخِرَقِىُّ فيها رِوايَتَيْن. وتْقَلَهما غيرُه مِن الأصْحابِ؛ إحْداهما، لا يُضمُّ. وهو قولُ ابنِ أبِى لَيْلَى، والحسنِ بنِ صالِحٍ، وشَرِيكٍ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وأبِى ثَوْرٍ. واخْتِيارُ أبِى بَكرٍ عبدِ العَزِيز؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّهما مالان يَخْتَلِفُ نِصابُهما، فلم يُضَمَّ أحَدُهما إلى الآخَرِ، كأجناسِ الماشِيَةِ. والثَّانِيَةُ، يُضَمُّ. وهو قولُ الحسنِ، وقَتادَةَ، ومالِكٍ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى، لأنَّ أحَدَهما يُضَمُّ إلى ما يُضَمُّ إليه الآخَرُ، فيُضَمُّ إلى الآخَرِ، كأنْواعِ الجنْس، ولأنَّهما نَفْعُهما واحِدٌ، والمَقْصُودُ منهما مُتَّحِدٌ، فإنَّهما قِيَمُ المُتْلَفاتِ وأُرُوشُ (¬1) الجِناياتِ، وثمَنُ البِياعاتِ، وحَلْىٌ لمَن يُرِيدُهما، فأشْبَها النَّوْعَيْنِ، والحديثُ مَخْصُوصٌ بعَرْضِ التِّجارَةِ، فنَقِيسُ عليه. ¬

(¬1) أروش، جمع أرْش: دية الجراحة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل يُخْرَجُ أحَدُهما عن الآخَرِ في الزكاةِ؟ فيه رِوايتانِ. نَصَّ عليهما أحمدُ؛ إحْداهما، لا يَجُوزُ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّهُما جِنْسان فلم يَجُزْ إخْراجُ أحَدِهما عن الآخَرِ، كسائِرِ الأجْناسِ، ولأنَّ أنْواعَ الجِنْسِ إذا لم يُخرَجْ أحَدُهما عن الآخَرِ إذا كان أقَلَّ في المِقْدارِ، فمع اخْتِلافِ الجِنْسِ أوْلَىِ. والثانيةُ، يَجُوزُ؛ لأن المَقْصُودَ مِن أحَدِهما يَحْصُلُ بإخْراجِ الآخرِ، فيُجْزِئ، كأنواعِ الجِنْس، وذلك لأن المَقْصُودَ [منهما جَمِيعًا] (¬1) الثَّمَنِيَّةُ (¬2) والتَّوَسُّلُ بهما إلى المَقَاصِدِ، وهما يَشْتَرِكان فيه على السَّواءِ، فأشْبَهَ إخْراجَ المُكسَّرَةِ عن الصِّحاحِ، بخِلافِ سائِرِ الأجْناسِ والأنْواعِ، ممَّا تجِبُ فيه الزكاةُ، فإنَّ لكلِّ جِنْسٍ مَقْصُودًا مُخْتَصًّا به، لا يَحْصُلُ مِن الجِنْسِ الآخَر، وكذلك أنْواعُها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «التنمية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يحْصُلُ مِن إخْراجِ غيرِ الواجِب مِن الحِكْمَةِ ما يَحْصُلُ مِن إخْراجِ الواجِبِ، وههُنا المَقْصُودُ حاصِلٌ، فوَجَبَ إجْزاؤُه، إذ لا فَائِدَةَ فِى اخْتِصاصِ الإِجْزاءِ بعَيْنٍ مِع (¬1) مُساواةِ غيرِها لها في الحِكْمَةِ، ولأنَّ ذلك أوفقُ بالمُعْطِى والآخِذِ وأرْفقُ بهما، فإنَّه لو تَعَيَّنَ إخْراجُ زكاةِ الدَّنانِيرِ منها، شَقَّ على مَن يَمْلِكُ [أقَلَّ مِن] (¬2) أرْبَعِينَ دِينارًا إخْراجُ جُزْءٍ مِن دِينارٍ، ويَحْتاجُ إلى التَّشْقيصِ ومُشارَكَةِ الفَقِيرِ له في دِينارٍ مِن مالهِ، أو بَيْعِ أحَدِهما نَصيبَه، ولأنَّه إذا دَفَع إلى الفَقِيرِ قِطْعَةً مِن الذَّهَبِ في مَوْضِعٍ لا يُتَعامَلُ بها فيه، أو قِطْعَةً (¬3) في مَكانٍ لا يَتَعامَلُون به فيه، لا يَقدِرُ على قَضاءِ حاجَتِه بها، وإن أراد بَيْعَها احْتاجَ إلى كُلْفَةِ البَيْعِ، والظَّاهِرُ أنَّها تَنْقُصُ عِوَضُها عن قِيمَتِها، فقد دار بينَ ضَرَرَيْنِ، وفى جَوازِ إخْراجِ أحَدِهما عن الآخَرِ دَفْعٌ لهذا الضَّرَرِ وتحْصِيلٌ لِحكْمَةِ الزكاةِ على الكَمالِ، فلا وَجْهَ لِمَنْعِه، وإن تُوُهِّمَتْ ههُنا مَنْفَعَةٌ تَفُوتُ بذلك، فهى يَسِيرَةٌ مَغْمُورَةٌ فيما يَحْصُلُ مِن النَّفْعِ الظَّاهِرِ، ويَنْدَفِعُ مِن الضَّرَرِ والمَشَقَّةِ مِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) أى من درهم. انظر المغنى 4/ 219.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِبَيْن، فلا يُعْتَبَرُ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). وعلى هذا لا يَجُوزُ الإِبْدالُ في مَوْضِعٍ يَلْحَقُ الفَقِيرَ ضَرَرٌ، مثلَ أن يَدْفَعَ إليه ما لا يُنْفقُ عِوَضًا عمَّا يُنْفقُ؛ لأنَّه إذا لم يَجُزْ إخْراجُ أحَدِ النَّوْعَيْن عن الآخَر مع الضَّرَرِ، فمع غيرِه أوْلَى. وإن اخْتَارَ المالِكُ الدَّفع مِن الجِنْسِ، واخْتارَ الفَقِيرُ الأخْذَ مِن غيرِه؛ لضَرَرٍ يَلْحَقُه في أخذِ الجِنْسِ، لم يَلْزَمِ المالِكَ إجابَتُه؛ لأنَّه أدَّى ما فَرَض اللَّهُ عليه، فلم يُكَلَّفْ سِواه. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) انظر المغنى 4/ 219.

927 - مسألة: (ويكون الضم بالأجزاء. وقيل: بالقيمة فيما فيه الحظ للمساكين)

ويَكُونُ الضَّمُّ بِالأَجْزَاءِ. وَقِيلَ: بِالْقِيمَةِ فِيمَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 927 - مسألة: (ويَكُونُ الضَّمُّ بالأجْزاءِ. وقِيلَ: بالقِيمَةِ فيما فيه الحَظُّ للمَساكِينِ) إذا قُلْنا: يُضَمُّ أحَدُ النَّقْدَيْن إلى الآخرِ في تَكْمِيل النِّصابِ. فإنَّما يُضَمُّ بالأجْزاءِ، فيُحْسَبُ كلُّ واحِدٍ منهما مِن نِصابِه، فإذا كَمَلَتْ أجْزَاؤُهما نِصابًا وجَبَتِ الزكاةُ، مثلَ أن يكونَ عندَه نِصْف نِصابٍ مِن أحَدِهما، ونِصْفُ نِصابٍ أو أكْثَرُ مِن الآخَر، أو ثُلُثٌ مِن أحَدِهما، وثُلُثان مِن الآخَرِ، وهو أن يَمْلِكَ مائةَ دِرْهَم وعَشَرَةَ دَنانِيرَ، أو خَمْسَةَ عَشَرَ دِينارًا وخَمْسِمين دِرْهَمًا، أو بالعَكْسِ، فيَجِبُ عليه فيه الزكاة، فإن نَقَصَتْ أجْزَاوهما عن نِصابٍ فلا زكاةَ فيها. سُئِل أحمدُ، عن رجلٍ يَمْلِكُ مائةَ دِرْهَمٍ وثمانِيَةَ دَنانِيرَ؟ فقال: إنَّما قال مَن قال: فيها الزكاةُ. إذا كان عندَه عَشَرَةُ دَنانِيرَ ومائةُ دِرْهَم. وهذا قولُ مالكٍ، وأبى يُوسُفَ، ومحمدٍ، والأوْزاعِىِّ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما لا تُعْتَبَرُ قِيمَتُه في إيجابِ الزكاةِ إذا كان مُنْفَرِدًا، فلا يُعْتَبَرُ إذا كان مَضْمُومًا، كالحُبُوبِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنْواعِ الأجْناسِ كلِّها. وقد قِيلَ: يُضَمُّ بالقِيمَةِ إذا كان أحَظَّ للمسَاكِينِ. قال أبو الخَطّابِ: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ، أنَّها تُضَمُّ بالأحْوَطِ مِن الأجْزاءِ والقِيمَةِ. ومَعْناه، أنَّه يُقَوَّمُ الغالِى منها بقِيمَةِ الرَّخِيصِ، فإذا بَلَغَتْ قِيمَتُهما بالرَّخِيصِ نِصابًا وجَبَتِ الزكاةُ فيهما، كمَن مَلَك مائةَ دِرْهَمٍ وتِسْعَةَ دَنانِيرَ قِيمَتُها مائةُ دِرْهَمٍ، أو عَشَرَةَ دَنانِيرَ وتِسْعِين دِرْهَمًا قِيمَتُها عَشَرَةُ دَنانِيرَ، فتَجِبُ عليه الزكاةُ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ في تَقْوِيمِ الدَّنانِيرِ بالفِضَّةِ؛ لأنَّ كلَّ نِصابٍ وَجَب فيه ضَمُّ الذَّهَبِ إلى الفِضَّةِ، ضُمَّ بالقِيمَةِ، كَنِصابِ القَطْعِ في السَّرِقَةِ، ولأنَّ أصْلَ الضَمِّ لحَظِّ (¬1) الفُقَراءِ، فكذلك صِفَتُه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الزكاةَ تَجِبُ في عَيْنِ الأثْمانِ، فلم تُعْتَبَرْ قِيمَتُها، كما لو انْفرَدَتْ، وتُخالِفُ نِصابَ القَطْعِ، فإنَّ النِّصابَ فيه الورِقُ خَاصَّةً، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن، وفى الأُخْرَى، أنَّه لا يَجِبُ في الذَّهَبِ حتى يَبْلُغَ رُبْعَ دِينارٍ. ¬

(¬1) في م: «يحظ».

928 - مسألة: (وتضم قيمة العروض إلى كل واحد منهما)

وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 928 - مسألة: (وتُضَمُّ قِيمَةُ العُرُوضِ إلى كلِّ واحِدٍ منهما) يَعْنِى إذا كان في مِلْكِه ذَهَب أو فِضَّة أو عُرُوضٌ (¬1) للتِّجارَةِ، فإنَّ قِيمَةَ العُرُوضِ تُضَمُّ إلى كلِّ واحِدٍ منهما، ويَكْمُلُ به نِصابُه. قال شيخُنا (¬2): لا أعْلَمُ فيه خِلافًا. وقال الخَطّابِىُّ: لا أعْلَمُ عَامَتّهَم اخْتَلَفُوا فيه؛ وذلك لأنَّ الزكاةَ إنَّما تَجِبُ في قِيمَةِ العُرُوضِ، وهو يُقَومُ بكلِّ واحِدٍ منهما، فيُضَمُّ إلى كلِّ واحِدٍ منهما. فلو كان ذَهَبٌ وفِضَّة وعُرُوضٌ، وَجَب ضَمُّ الجَمِيعِ بَعْضِه إلى بَعْضٍ في تَكْمِيلِ (¬3) النِّصابِ؛ لأنَّ العَرْضَ مَضْمُومٌ إلى كلِّ واحِدٍ منهما، فيَجِبُ ضَمُّهما إليه. ¬

(¬1) في م: «وعروض». (¬2) في: المغنى 4/ 210. (¬3) في م: «تحميل».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا زَكَاةَ فِى الْحَلْى الْمُبَاحِ الْمُعَدِّ لِلاِسْتِعْمَالِ، فِى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال: (ولا زكاةَ في الحَلْى المُباحِ المُعَدِّ للاستِعْمالِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ) رُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، وأنَسٍ، وعائشةَ، وأسماءَ أخْتِها، رَضِىَ اللَّه عنهم. وبه قال القاسمُ، والشَّعْبِىُّ، وقَتادَةُ، ومحمدُ بنُ علىٍّ، ومالكٌ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه، وأبو عُبَيْدٍ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وذَكَر ابنُ أبى موسى عن أحمدَ رِوايَةً أُخْرَى، أنَّ فيه الزكاةَ. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مَسْعُودٍ، وابنِ عباسٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وابنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، وغيرِهم؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «فِى الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» (¬1). و «لَيْسَ فِيمَا دُون خَمسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ» (¬2). مَفْهُومُه أنَّ فيها صَدَقَةً إذا بَلَغَتْ خَمْسَ أواقٍ. وعن عَمْرو بنِ شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: أتَتِ امرأةٌ مِن أهلِ اليَمَنِ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعها ابْنَة لها في يَدِها مَسَكَتان (¬3) مِن ذَهَبٍ، فقال. «هَلْ تُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟». قالت: لا. قال: «أيَسُرُّكِ أنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟». رَواه أبو داودَ (¬4). ولأنَّه مِن جِنْسِ الأثْمانِ، أشْبَهَ التِّبْرَ. وقال الحسنُ، وعَبْدُ اللَّهِ (¬5) بنُ عُتْبَةَ: زَكاتُه عارِيَّتُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 395. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 310. (¬3) الواحدة مَسَكة، وهى الأسورة والخلاخيل. (¬4) في: باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 358. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في زكاة الحلى، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 131. والنسائى، في: باب زكاة الحلى، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 28. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 178، 204، 208. وإسناده صحيح. انظر: نصب الراية 2/ 370. (¬5) في النسخ: «عبيد اللَّه». وهو عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود الهذلى، ولد في عهد النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان ثقة رفيعا كثير الحديث والفتيا فقيها. توفى سنة أربع وسبعين. تهذيب التهذيب 5/ 311، 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ: خَمْسَةٌ مِن أصْحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُون: ليس في الحَلْى زكاةٌ، زَكاتُه عارِيَّتُه. ووَجْهُ الأُولَى ما روَى جابِرٌ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: «لَيْسَ فِى الْحَلْى زَكَاةٌ» (¬1). ولأنَّه مُرْصَد لاسْتعْمالٍ مُبَاحٍ، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالعَوامِلِ مِن البَقَرِ، وثِيابِ القُنْيَةِ. والأحادِيثُ الصَّحيحةُ التى احْتَجُّوا بها لا تَتَناوَلُ مَحِلَّ النِّزاعِ؛ لأنَّ الرِّقَةَ هى الدراهِمُ المَضْرُوبَةُ. قال أبو عُبَيْدٍ (¬2): لا نَعْلَمُ هذا الاسْمَ في الكلامِ المَعْقُولِ عندَ العَرَبِ إلَّا على الدَّراهِم المَضْرُوبَةِ، ذاتِ السِّكَّةِ السّائِرَةِ في النّاسِ. وكذلك الأواقِىُّ ليس مَعْناها إلَّا الدَّراهِمَ، كلُّ أوقِيَّةٍ أرْبَعُون دِرْهَمًا. وأمّا حديثُ المَسَكَتَيْن، فقال أبو عُبَيْدٍ (¬3): لا نَعْلَمُه إلَّا مِن وَجْهٍ قد تَكَلَّمَ النّاسُ فيه قَدِيمًا وحَدِيثًا. وقال التِّرْمذِىُّ (¬4): ليس يَصِحُّ في هذا البابِ ¬

(¬1) عزاه الزيلعى إلى ابن الجوزى في التحقيق. نصب الراية 2/ 374. وأخرجه الدارقطنى موقوفًا على جابر، في: باب زكاة الحلى، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 107. وانظر الكلام عليه في إرواء الغليل 3/ 294. (¬2) في: الأموال 444. (¬3) في: الأموال 445. (¬4) في: عارضة الأحوذى 3/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شئٌ ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد بالزكاةِ العارِيَّةَ،؛ قد ذَهَب إليه جَمَاعَةٌ مِن الصَّحابَةِ وغيرِهم، والتِّبْرُ غيرُ مُعَدٍّ للاسْتِعْمالِ، بخِلافِ الحَلْى. ولا فَرْقَ بينَ الحَلْى المُباحِ أن يكونَ مَمْلُوكًا لامرأةٍ تَلْبَسُه أو تُعِيرُه، أو لرَجُل يُحَلِّى به أهلَه، أو يُعِيرُه، أو يُعِدُّه لذلك؛ لأنَّه مَصرُوف عن جِهَةِ النَّماءِ إلى اسْتِعْمالٍ مُباحٍ، أشْبَهَ حَلْى المَرأةِ. فإن اتَّخَذَ حَلْيًا فِرارًا مِن الزكاةِ، لم تَسْقُطْ عنه الزكاةُ؛ لأنَّها إنَّما سَقَطَتْ عن ما أعِدَّ للاسْتِعْمالِ، لصَرْفِه عن جِهَةِ النَّماءِ، ففيما (¬1) عَداهُ يَبْقَى على الأصْلِ. فصل: فإنِ انْكَسَرَ الحَلْىُ كَسْرًا لا يَمْنَعُ اللُّبْسَ، فهو كالصَّحِيحِ، إلَّا أن يَنْوِىَ تَرْكَ لُبْسِه، وإن كان كَسْرًا يَمْنعُ الاسْتِعْمالَ، ففيه الزكاةُ؛ لأنَّه صار كالنُّقْرَةِ (¬2)، وإن نَوَى بحَلْى (¬3) اللُّبْسِ التِّجارَةَ [أو الكِرَى] (¬4)، انْعَقَدَ عليه حَوْلُ الزكاةِ مِن حِينَ نَوَى؛ لأنَّ الوُجُوبَ الأصْلُ، فانْصَرَفَ إليه بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كما لو نَوَى بمالِ التِّجارَةِ القُنْيَةَ. فصل: وكذلك ما يُباحُ للرجالِ مِن الحَلْى، كخاتَمِ الفِضَّةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «فما». (¬2) في م: «كالبقرة». والنقرة: القطعة المذابة من الذهب والفضة. (¬3) في م: «يحل». (¬4) في م: «والكرى».

929 - مسألة: (فأما الحلى المحرم، والآنية، وما أعد للكراء والنفقة، ففيه الزكاة إذا بلغ نصابا)

فَأَمَّا الْحَلْىُ الْمُحَرَّمُ، وَالآنِيَةُ، وَمَا أعِدَّ لِلْكِرَاءِ أَوِ النَّفَقَةِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَبِيعَةِ (¬1) السَّيْفِ، وحِلْيَةِ المِنْطَقَة (¬2)، على الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ، والجَوْشَنِ (¬3)، والخُوذَةِ وما في مَعناه، وأَنْف الذَّهَبِ. وكلُّ ما أُبِيحَ للرجلِ، حُكْمُه حُكْمُ حَلْى المرأةِ في عَدَمِ وُجُوبِ الزكاةِ؛ لأنَّه مَصْرُوفٌ عن جِهَةِ النَّماءِ، أشْبَهَ حَلْى المرأةِ. 929 - مسألة: (فأمّا الحَلْىُ المُحَرَّمُ، والآنِيَةُ، وما أُعِدَّ للكِراءِ والنَّفَقَةِ، ففيه الزكاةُ إذا بَلَغ نِصابًا) كلُّ ما أعِدَّ للكِراءِ والنَّفَقَةِ إذا احْتِيجَ (¬4) إليه ففيه الزكاةُ؛ لأنَّها إنَّما سَقَطَتْ عن ما أعِدَّ للاسْتِعْمالِ، لصَرْفِه عن جِهَةِ النَّماءِ، ففيما عَداه يَبْقَى كل الأصْلِ. ولأصحابِ ¬

(¬1) قبيعة السيف: طرف مقبضه. (¬2) ما يشد على الوسط فوق الثياب. (¬3) الجوشن: الدرع. (¬4) في م: «احتاج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ وَجْهٌ فيما أُعِدَّ للكِراءِ لا زَكاةَ فيه. وكلُّ ما كان اتِّخاذُه مُحَرَّمًا مِن الأثْمانِ ففيه الزكاةُ؛ لأنَّ الأصْل وُجُوبُ الزكاةِ فيها؛ لكَوْنِها مَخْلُوقَةً للتِّجارَةِ والتَّوَسُّلِ بها إلى غيرِها، ولم يُوجَدْ ما يُسْقِطُ الزكاةَ فيها، فبَقِيَتْ على الأصْلِ. قال أحمدُ: ما كان على سَرْجٍ أو لِجامٍ، ففيه الزكاةُ. ونَصَّ على حِلْيَةِ الثَّفَرِ (¬1) والرِّكابِ واللِّجامِ، أنَّه مُحَرَّمٌ. وقال، في رِوايَةِ الأثْرَمِ: أكْرَهُ رَأْسَ المُكْحلَةِ فِضَّةً. ثم قال: هذا شئٌ تَأوَّلْتُه. وعلى قِياسِ ما ذَكَرَه، حِلْيَةُ الدَّواةِ، والمِقْلَمَة، والسَّرْجِ، ونَحْوِه ممّا على الدّابَّةِ. ولو مَوَّهَ سَقْفَه بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، فهو مُحَرَّم، وفيه الزكاةُ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: يُباحُ؛ لأنَّه تابع للمُبَاحِ، فتَبِعَه في الإِباحَةِ. ولَنا، أنَّه سَرَفٌ، ويُفْضِى إلى الخُيَلاء، وكَسْرِ قُلُوبِ الفُقَراءِ، فحَرُمَ، كاتِّخاذِ الآنِيَةِ، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التَّخَتُّمِ بخاتَمِ الذَّهَبِ للرجل (¬2)، ¬

(¬1) الثفر، بالتحريك: السير في مؤخر السرج. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1648. وأبو داود في: باب من كرهه (أى لبس الحرير)، من كتاب اللباس، وفى: باب ما جاء في خاتم الذهب، من كتاب الذهب. سنن أبى داود 2/ 371، 406. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن القراءة في الركوع، من أبواب الصلاة، وفى: باب ما جاء في كراهية خاتم الذهب، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 2/ 65، 7/ 244. والنسائى، في: باب النهى عن القراءة في الركوع، وباب النهى عن القراءة في السجود، من كتاب التطبيق، وفى: باب خاتم الذهب، وباب حديث أبى هريرة والاختلاف على قتادة، من كتاب الزينة. المجتبى 2/ 147، 171، 8/ 146، 148. والإمام مالك، في: باب الحمل في القراءة، من كتاب النداء. الموطأ 1/ 80. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 92، 114، 126، 2/ 153، 4/ 287، 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتمْوِيهُ السَّقْفِ أوْلَى. فإن صار التَّمْويهُ الذى في السَّقْفِ مُسْتَهْلَكًا لا يَجْتَمِعُ منه شئٌ، لم تَحْرُم اسْتِدامَتُه؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في إتْلافِه وإزالَتِه، ولا زكاةَ فيه؛ لأنَّ مَالِيَتّهَ ذَهَبتْ، وإن لم تَذْهَبْ مالِيته ولم يكنْ مُسْتَهْلَكًا، حَرُمَتِ اسْتِدامَتُه. وقد بَلَغَنا أن عُمَرَ بنَ عبدِ العزِيزِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لَمَّا وَلِىَ، أراد جَمْعَ ما في مَسْجِدِ دِمَشْقَ ممّا مُوِّهَ به مِن الذَّهَبِ، فقِيلَ له: إنَّه لا يَجْتَمِعُ منه شئٌ. فتَرَكَه. ولا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ المَصاحِفِ ولا المَحارِيبِ، ولا اتِّخاذُ قَنادِيلَ مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ لأنَّها بمَنْزِلَةِ الآنِيَةِ. وإن وَقَفَها على مَسْجِدٍ أو نَحْوِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ليس ببِرٍّ ولا مَعْرُوفٍ، ويكونُ ذلك بمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ، فتُكْسَرُ وتُصْرَفُ في مَصْلَحَةِ المَسْجِدِ وعِمارَتِه. وكذلك إن حَبَّسَ الرجلُ فَرَسًا له لِجامٌ مُفَضَّضٌ. وقد قال أحمدُ، في الرجلِ يَقِفُ فَرَسًا في سبِيلِ اللَّهِ، ومعه لِجامٌ مُفَضَّضٌ: فهو على ما وَقَفَه، وإن بِيعَتِ الفِضَّةُ مِن السَّرْجِ واللِّجامِ، وجُعِلَتْ في وَقْفٍ مِثْلِه فهو أحَبُّ إلىَّ؛ لأنَّ الفِضَّةَ لا يُنْتَفَعُ بها، ولَعَلَّه يَشْتَرِى بذلك سَرْجًا ولِجامًا، فيكونَ أنْفَعَ للمسلمين. قِيل: فتُباعُ الفِضَّةُ، وتُنْفَقُ على الفَرَسِ؟ قال: نعم. وهذا يَدُلُّ على إباحَةِ حِلْيَةِ السَّرْجِ واللِّجامِ بالفِضَّةِ، لولا ذلك لَما قال: هو على ما وَقَفَه. وهذا لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ به، فأشْبَهَ حِلْيَةَ المِنْطَقَةِ. وإذا قُلْنا بتَحْرِيمِه، فصار بحيث لا يَجْتَمِعُ منه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شئٌ، لم تَحْرُمِ اسْتِدامَتُه، كقَوْلِنا في تَمْوِيهِ السَّقْفِ. وقال القاضى: تُباحُ عِلاقَةُ المُصْحَفِ ذَهَبًا وفِضَّةً للنِّساءِ خاصَّةً. وليس بجَيِّدٍ؛ لأنَّ حِلْيَةَ المرأةِ ما لَبِسَتْه، وتَحَلَّتْ به في بَدَنِها أو ثِيابِها، وما عَداه فحُكْمُه حُكْمُ الأوانِى، يَسْتَوِى فيه الرِّجالُ والنِّساءُ. ولو أُبِيحَ لها ذلك لأُبِيحَ عِلاقَة الأوانِى، ونَحوُه. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ. ويَحْرُمُ على الرجل خاتَمُ الذَّهَبِ، لنَهْى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه (¬1)، وكذلك طَوْقُ الفِضَّةِ، لأنَّه غيرُ مُعْتادٍ في حَقِّه، فهذا وكلُّ ما يَحْرُمُ اتِّخاذُه، إذا بَلَغ نِصابًا ففيه الزكاةُ، أو بَلَغ نِصابًا بضَمِّه إلى ما عندَه؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: واتِّخاذُ الأوانِى مُحَرَّمٌ على الرِّجالِ والنِّساءِ، وكذلك اسْتِعْمالُها. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَحْرُمُ اتِّخاذُها. وقد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الآنِيَةِ (¬2)، ففيها الزكاةُ بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه بينَ أهلِ العلمِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الصفحة قبل السابقة. (¬2) انظر الجزء الأول صفحة 145.

930 - مسألة: (والاعتبار بوزنه، إلا ما كان مباح الصناعة،

وَالاعْتِبَارُ بِوَزْنِهِ، إِلَّا مَا كانَ مُبَاحَ الصِّنَاعَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا زكاةَ فيه حتى يَبْلُغَ نِصابًا، أو يكونَ عندَه ما يَبْلُغُ بضَمِّه إليه نِصابًا، فإن لم يَبْلُغْ نِصابًا فلا زكاةَ فيه؛ لعُمُومِ الأخْبارِ، لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَة» (¬1). وغيرِ ذلك. 930 - مسألة: (والاعْتِبارُ بوَزْنِهِ، إلَّا ما كان مُباحَ الصِّناعَةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 310.

فَإِنَّ الاعْتِبَارَ فِى النِّصَابِ بِوَزْنِهِ، وَفِى الإِخْرَاجِ بِقِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الاعْتِبارَ في النِّصاب بوَزْنِه، وفى الإِخْراجِ بقِيمُتِه) اعْتِبارُ النِّصابِ في الذَّهَبِ المُحَلَّى والآنِيَةِ وغيرِه ممّا تَجِبُ فيه الزكاةُ بالوَزْنِّ؛ للخَبَرِ، فإن كانت قِيمَتُه أكثر مِن وَزْنِه لصِناعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، فلا عِبْرَةَ بها، لأنَّها لا قِيمَةَ لها في الشَّرْعِ، وله أن يُخْرِجَ عنها قَدْرَ رُبْعِ عُشْرِها بقِيمَتِه غيرَ مَصُوغٍ، وله كَسْرُها وإخْراجُ رُبْعِ عُشْرِها مَكْسُورًا، وإن أخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِها مَصُوغًا، جاز، لأنَّ الصِّناعَةَ لم تَنْقُصْها عن قِيمَةِ المَكْسُورِ. وذَكَر أبو الخَطّابِ وَجْهًا في اعْتِبارٍ قِيمَتِها إذا كانت صِناعَتُها مباحةً، كمَن عندَه حَلْىٌ للكِراءِ، وَزْنُه مائة وخمْسُون دِرْهَمًا، وقِيمَتُه مائتان، تَجِبُ فيه الزكاةُ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما كان مُباحَ الصِّناعَةِ، كحَلْى التِّجارَةِ، فالاعْتِبارُ في النِّصابِ بوَزْنِه؛ لِما ذَكَرْنا، وفى الإِخْراجِ بقِيمَتِه. فإذا كان وَزْنُه مائتَيْن، وقِيمَتُه ثَلاثَمائةٍ، فعليه قَدْرُ رُبْعِ عُشْرِه في زِنَتِه وقِيمَتِه؛ لأنَّ زِيادَةَ القِيمَةِ ههُنا بغيرِ مُحَرَّمٍ، أشبَهَ زِيادَةَ قِيمَتِه لنَفاسَةِ جَوْهَرِه. فإن أخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِه مُشاعًا، جاز، وإن دَفَع قَدْرَ رُبْعِ عُشْرِه وزاد في الوَزْنِ، بحيث يَسْتَوِيانِ في القِيمَةِ، بأن أخْرَجَ سَبْعَةَ دَراهِم ونِصْفًا، جاز، وكذلك إن أخْرَجَ حَلْيًا وَزْنُه خَمْسَةُ دَراهِمَ، وقِيمَتُه سَبْعَةٌ ونِصْفٌ؛ لأنَّ الرِّبا لا يَجْرِى ههنا. وإن أراد كسْرَه ودَفْعَ رُبْعِ عُشْرِه مَكْسُورًا لم يَجُزْ؛ لأنَّ كَسْرَهُ

931 - مسألة: (ويباح للرجال من الفضة الخاتم، وقبيعة

وَيباحُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ، وَقبِيعَةُ السَّيْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْقُصُ قِيمَتَه. وحَكَى (¬1) القاضى في «المُجَرَّدِ» إذا نَوَى بالحَلْى القُنْيَةَ، أنَّ الاعْتِبارَ في الإِخْراجِ بوَزْنِه أيضًا، فإن كان للتِّجارَةِ اعْتُبِرَ بقِيمَتِه، قال: وعندى في الحَلْى المُعَدِّ للقُنْيَةِ أنَّه تُعْتَبَرُ قِيمَتُه أيضًا. فإن كان في الحَلْى جَواهِرُ ولآلِئُ، وكان للتِّجارَةِ، قُومَ جَمِيعُه، وإن كان لغيرِها فلا زكاةَ فيها؛ لأنَّها لا زكاةَ فيها مُنْفَرِدَةً، فكذلك مع غيرِها. 931 - مسألة: (ويُباحُ للرِّجالِ مِن الفِضَّةِ الخَاتَمُ، وقَبِيعَةُ ¬

(¬1) في الأصل: «حكى عن».

وَفِى حِلْيَةِ الْمِنْطَقَةِ رِوَايَتَانِ. وَعَلَى قِيَاسِهَا الْجَوْشَنُ، وَالْخُوذَةُ، وَالْخُفُّ، وَالرَّأَنُ، وَالْحَمَائِلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّيْفِ. وفى حِلْيَةِ المِنْطَقَةِ رِوايَتان. وعلى قِياسِها الجَوْشَنُ، والخُوذَةُ. والخُفُّ، والرَّأنُ (¬1)، والحَمائِلُ) يُباحُ للرِّجالِ خاتَمُ الفِضَّةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اتَّخَذ خاتمًا مِن وَرِقٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ويُباحُ حِلْيَةُ السَّيْفِ مِن القَبِيعَةِ وتَحْلِيَتُها؛ لأنَّ أنَسًا قال: كانت قَبِيعَةُ سَيْفِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِضَّةً. ¬

(¬1) الرأن، كالخف إلا أنه لا قدم له، وهو أطول من الخف. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يذكر في المناولة. . .، من كتاب العلم، وفى: باب دعوة اليهودى والنصرانى، من كتاب الجهاد، وفى: باب الشهادة على الخط المختوم، من كتاب الأحكام، وفى: باب خواتيم الذهب، وباب خاتم الفضة، وباب فص الخاتم، وباب نقش الخاتم، وباب اتخاذ الخاتم ليختم به الشئ، وباب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لا ينقش على نقش خاتمه، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 1/ 26، 4/ 54، 84، 7/ 200، 201، 202، 203. ومسلم، في: باب لبس النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتما من ورق، وباب في طرح الخواتم، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1656، 1658. كما أخرجه أبو داود، في: باب الخاتم يكون فيه ذكر اللَّه يدخل به الخلاء، من كتاب الطهارة، وفى: باب ما جاء في اتخاذ الخاتم، من كتاب الخاتم. سنن أبى داود 1/ 5، 2/ 405. والترمذى، في: باب ما جاء في خاتم الفضة، وباب ما جاء ما يستحب في فص الخاتم، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 245، 246، 247. والنسائى، في: باب صفة خاتم النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، وباب نزع الخاتم عند دخول الخلاء، وباب صفة خاتم النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ونقشه، وباب موضع الخاتم، وباب طرح الخاتم وترك لبسه، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 150، 155، 169، 270، 271، 272. وابن ماجه، في: باب نقش الخاتم، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1201. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 18، 22، 141، 3/ 206، 209، 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال هِشامُ بنُ عُرْوَةَ: كان سَيْفُ الزُّبَيْرِ مُحَلًّى بالفِضَّةِ. رَواهما الأثْرَمُ (¬1). والمِنْطَقَةُ يُباحُ تَحْلِيَتُها بالفِضَّةِ، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّها حِلْيَةٌ مُعْتادَة للرجلِ، فهى كالخاتَمِ. وعنه، كَراهَةُ ذلك؛ لِما فيه مِن الفَخْرِ والخُيَلاءِ، أشْبَهَ الطَّوْقَ. والأوَّلُ أوْلَى، لأنَّ الطَّوْقَ ليس بمُعْتادٍ في حَقِّ الرجلِ. وعلى قِياسِ المِنْطَقَةِ، الجَوْشَنُ، والخُوذَةُ، والخُفُّ، والرَّأنُ، والحَمائِلُ وكذلك الضبَّةُ في الإِناءِ، وما أشْبَهَها؛ للحاجَةِ. وقد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الآنِيَة (¬2). وقال القاضى: يُباحُ اليَسِيرُ، وإن لم يكنْ لحاجَةٍ. وإنَّما كَرِه أحمدُ الحَلْقَةَ لأنَّها تُسْتَعْمَلُ. ¬

(¬1) أخرج الأول أبو داود، في: باب في السيف يحلى، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 29. والترمذى، في: باب ما جاء في السيوف وحليتها، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 185. والنسائى، في: باب حلية السيف، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 194. والدارمى، في: باب في قبيعة سيف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 221. وأخرج الثانى البخارى، في: باب قتل أبى جهل، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 97. والبيهقى، في: باب ما ورد فيما يجوز للرجل أن يتحلى به. . .، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 144. (¬2) انظر الجزء الأول صفحة 145.

932 - مسألة: (ومن الذهب قبيعة السيف، وما دعت إليه الضرورة؛ كالأنف، وما ربط به أسنانه. وقال أبو بكر: يباح يسير الذهب)

وَمِنَ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ، وَمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ؛ كَالْأَنْفِ، وَمَا رَبَطَ بِهِ أَسْنَانَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُباحُ يَسِيرُ الذَّهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 932 - مسألة: (ومِن الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ، وما دَعَتْ إليه الضَّرُورَةُ؛ كالأنْفِ، وما رَبَط به أسْنانَه. وقال أَبُو بَكْرٍ: يُباحُ يَسِيرُ الذَّهَبِ) يُباحُ مِن الذَّهَب للرجلِ ما دَعَتِ الضَّرُورَةُ إليه، كالأنْفِ لمَن قُطِع أنْفُه؛ لِما رُوِىَ أنَّ عَرْفَجَةَ (¬1). بنَ أسْعَدَ قُطِع أنْفُه يَوْمَ ¬

(¬1) في الأصل: «عرفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُلابِ (¬1)، فاتَّخَذَ أنْفًا مِن وَرِقٍ فأنْتَنَ عليه، فأمَرَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاتَّخَذَ أنْفًا مِن ذَهَبٍ. رَواه أبو داودَ (¬2). وقال الإِمامُ أحمدُ: يَجُوزُ رَبْطُ الأسْنانِ بالذَّهَبِ إن خُشِىَ عليها أن تَسْقُطَ، قد فَعَلَه النّاسُ، ولا بَأْسَ به عندَ الضَّرُورَةِ. وروَى الأثْرَمُ، عن أبى جَمْرَةَ الضُّبَعِىِّ (¬3)، وموسى بنِ طَلْحَةَ، وأبى رافِعٍ (¬4)، وثابِتٍ البُنانِىِّ (¬5)، وإسْماعِيلَ بنِ زَيْدٍ بن ثابِتٍ (¬6)، والمُغِيرَةِ بن عبدِ اللَّه (¬7)، أنَّهم شَدُّوا أسْنانَهُم بالذَّهَبِ. وما عَدا ذلك مِن الذَّهَبِ، فقد رُوِىَ عن أحمدَ الرُّخْصَةُ فيه في السَّيْفِ. قال أحمدُ: قد رُوِى أنَّه كان في سَيْفِ عثمانَ بنِ حُنَيْفٍ مِسْمارٌ مِن ذَهَبٍ. ¬

(¬1) يوم الكلاب الأول ويوم الكلاب الثانى كانا بين ملوك كندة وبنى تميم. (¬2) في: باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، من كتاب الخاتم. سنن أبى داود 2/ 409. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 269، 270. والنسائى، في: باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفا من ذهب، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 142. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 23. (¬3) نصر بن عمران بن عصام، أبو جمرة الضبَعِى البصرى، كان ثقة مأمونًا، توفى سنة ثمان وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 431، 432. (¬4) أبو رافع القبطى، مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقال: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، روى عدة أحاديث، شهد غزوة أحد والخندق، وكان ذا علم وفضل، توفى في خلافة على سنة أربعين. سير أعلام النبلاء 2/ 16. (¬5) ثابت بن أسلم البُنانى البصرى، أبو محمد، من أثبت أصحاب أنس بن مالك، من تابعى أهل البصرة وزهادهم ومحدثيهم. توفى سنة سبع وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 2/ 2 - 4. (¬6) الأنصارى المدنى، روى عن أبيه، وعنه عثمان بن عروة بن الزبير. الجرح والتعديل 2/ 170. (¬7) ابن أبى عقيل اليشكرى الكوفى، تابعى ثقة. تهذيب التهذيب 10/ 263.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: إنَّه كان لعُمَرَ سَيْف فيه سَبائِكُ مِن ذَهَبٍ. مِن حديثِ إسْماعِيلَ ابنِ أُمَيَّةَ، عن نافِعٍ. وروَى التِّرْمذِىّ (¬1)، بإسْنادِه، عن مَزِيدَةَ العَصرِىِّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَل مَكَّةَ وعلى سَيْفِه ذَهَبٌ وفِضَّةٌ. ورُوِىَ عن أحمدَ رِوايَة أُخْرَى تَدُلُّ على تَحْرِيمِ ذلك. قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: يَخافُ عليه أن يَسْقُطَ يَجْعَلُ فيه مِسْمارًا مِن ذَهَبٍ؟ قال: إنَّما رُخِّصَ في الأسْنانِ، وذلك إنَّما هو على وَجْهِ الضَّرُورَةِ، فأمّا المِسْمارُ، فقد رُوِىَ: «مَنْ تَحَلَّى بخَرْبَصِيصَةٍ» (¬2). قلتُ: أىُّ شئٍ خَرْبَصِيصَةٌ؟ قال: شئٌ صغيرٌ مثلُ الشُّعَيْرَةِ. وِروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِهِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْم: «مَنْ تَحَلَّى بِخرْبَصِيصَةٍ، كُوِىَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَغْفُورًا لَهُ أوْ مُعَذَّبًا» (¬3). وحُكِى عن أبى بكر مِن أصْحابِنا، أنَّه أباح ¬

(¬1) في: باب ما جاء في السيوف وحليتها، من أبواب الجهاد. عارضة الًاحوذى 7/ 184، 185. (¬2) خَرْبَصِيصَة بالخاء المعجمة، ويقال حربصيصة بالحاء المهملة: شئ من الحلى. اللسان 7/ 12 مادة (ح ر ب ص). والحديث أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 459، 460. من حديث أسماء بنت يزيد. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 227 مرفوعًا.

933 - مسألة: (ويباح للنساء من الذهب والفضة وكل ما جرت عادتهن بلبسه، قل أو كثر. وقال ابن حامد: إن بلغ الف مثقال حرم، وفيه الزكاة)

وَيُبَاحُ للِنِّسَاءِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ بَلَغَ أَلْفَ مِثْقَالٍ حَرُمَ، وَفيهِ الزَّكَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسيرَ الذَّهَبِ، ولعَلَّه يَحْتَجُّ بما رَوَيْنا مِن الأخْبارِ، ولأنَّه أحَدُ الثَّلَاثةِ المُحَرَّمَةِ على الذُّكُورِ دُونَ الإِناثِ، فلم يُحَرَّمْ يَسِيرُه، كسائِرِها. وكلُّ ما أُبِيحَ مِن الحَلْى فلا زَكاةَ فيه إذا أُعِدَّ للاسْتِعْمالِ. 933 - مسألة: (ويُباحُ للنِّساءِ مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ وكلُّ ما جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بلُبْسِه، قَلَّ أوْ كَثُر. وقال ابنُ حامِدٍ: إن بَلَغ الْفَ مِثْقالٍ حَرُم، وفيه الزكاةُ) يُباحُ للنِّساءِ مِن حَلْىِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والجَواهِرِ كلُّ ما جَرَتْ عادَتُهُنَّ بلُبْسِه؛ كالسِّوارِ، والخَلْخالِ، والقُرْطِ، والخاتَمِ، وما يَلْبَسْنَه على وُجُوهِهِنَّ، وفى أعْناقِهِنَّ، وأيدِيهِنَّ، وأرْجُلِهِنَّ، وآذانِهِنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرِه. فأمّا ما لم تَجْرِ عادَتُهُنَّ بلُبْسِه، كالمِنْطَقَةِ وشِبْهِها مِن حَلْى الرِّجالِ، فهو مُحَرَّمٌ، وعليها زَكاتُه، كما لو اتَّخَذَ الرَّجُلُ لنَفْسِه حَلْى المرأةِ. وقَلِيلُ الحَلْى وكثيرُه سَواءٌ في الإِباحَةِ والزكاةِ. وقال ابنُ حامِدٍ: يُباحُ ما لم يَبْلُغْ الْفَ مِثْقالٍ، فإن بَلَغَها حَرُم، وفيه الزكاةُ؛ لِما روَى أبو عُبَيْدٍ (¬1)، والأثْرَمُ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ، قال: سُئِل جابِرٌ عن الحَلْى، هل فيه زكاةٌ؟ قال: لا. فقِيلَ لَه (¬2): ألْفُ دِينارٍ؟ قالَ: إنَّ ذلك لكَثِيرٌ. ولأنَّه يَخْرُجُ إلى السَّرَفِ والخُيَلاءِ، ولا يحْتاجُ إليه في الاسْتِعْمالِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الشَّرْعَ أباحَ التَّحَلِّى مُطْلَقًا مِن غيرِ تَقْيِيدٍ، ¬

(¬1) في: الأموال 442. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَجُوزُ تَقْيِيدُه بالرَّأى والتَّحَكُّمِ، وحديثُ جابِرٍ ليس بصَريحٍ في نَفْى الوُجُوبِ، بل يَدُلُّ على التَّوَقُّفِ, وقد رُوِىَ عنه خِلافُه، فرَوَى الجُوزَجانِىُّ، بإسْنادِه، عن أبى الزُّبَيْرِ، قال: سأَلْتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ عن الحَلْى فيه زكاةٌ؟ قال: لا. قلتُ: إنَّ الحَلْى يكونُ فيه أَلْفُ دِينارٍ. قال: وإن كان فيه، يُعَارُ ويُلْبَسُ (¬1). ثم إنَّ قولَ جابِرٍ قولُ صَحابِىٍّ، وقد خالَفَه غيرُه مِن الصَّحابَةِ ممَّن يَرَى التَّحَلِّىَ مُطْلَقًا، فلا يَبْقَى قَولُه حُجَّةً، والتَّقْيِيدُ بمُجَرَّدِ الرَّأْىِ والتَّحَكُّمِ غيرُ جائِزٍ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال ليس في الحلى زكاة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 155. والبيهقى، في: باب من قال لا زكاة في الحلى، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 138.

باب زكاة العروض

بَابُ زَكَاةِ الْعُرُوضِ تَجِبُ الزَّكَاةُ في عُرُوضِ التِّجَارَةِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ زكاةِ العُرُوضِ 934 - مسألة: (تَجِبُ الزكاةُ في عُرُوضِ التِّجارَةِ، إذا بَلَغَتْ قِيمَتُها نِصابًا) العُرُوضُ: جمع عَرْض. وهو غيرُ الأثْمانِ مِن المالِ على اخْتِلافِ أنْواعِه؛ مِن الحَيَوانِ، والعَقارِ، والثِّيابِ، وسائِرِ المالِ. والزكاةُ واجِبَةٌ فيها في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ في العُرُوضِ التى يُرادُ بها التِّجارَةُ الزكاةَ، إذا حال عليها الحَوْلُ. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وابْنِه، وابنِ عباسٍ. وبه قال الفُقَهاءُ السَّبْعَةُ (¬1)، والحسنُ، وجابرُ بنُ زيدٍ، ومَيْمُونُ بنُ مِهْرانَ، والنَّخَعِىُّ, والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصحابُ الرَّأْى، وإسحاقُ. وحُكِىَ عن مالكٍ، وداودَ، أنَّه لا زكاةَ فيها؛ لأنَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ والرَّقِيقِ» (¬2). ولَنا، ما روَى أبو ¬

(¬1) هم علماء التابعين الذين انتهت إليهم الفتوى بالمدينة المنورة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقيل في السابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن. أو: سالم بن عبد اللَّه بن عمر. بدل أبى بكر بن عبد الرحمن. تهذيب الأسماء واللغات 1/ 172. سير أعلام النبلاء 4/ 417، 438، 445. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 294.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1)، بإِسْنادِه عن سَمُرَةَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْمُرُنا أن نُخْرِجَ الزكاةَ ممّا نُعِدُّه للبَيْعِ. وروَى الدّارَقُطْنِىُّ (¬2)، عن أبِى ذَرٍّ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «في الإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِى الْغَنَم صَدَقَتُها، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ». قالَه بالزّاى. ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ أنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ في عَيْنها، وثَبَت أنَّها تَجِبُ في قِيمَتِها. وعن أبى عَمْرِو ابنِ حِمَاسٍ، عن أبيه، قال: أمَرَنِى عُمَرُ، فقال: أدِّ زكاةَ مالِكَ. فقلتُ: ما لى مالٌ إلَّا جِعابٌ (¬3) وأدَمٌ. فقال: قَوِّمْها ثم أدِّ زَكاتَها. رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو عُبَيْدٍ (¬4). وهذه قَضِيَّةٌ يَشْتَهرُ مِثْلُها ولم تُنْكَرْ، فتكونُ إجْماعًا, ولأنَّه مالٌ تَامٌّ فوَجَبَت فيه الزكاةُ، كالسّائِمَة. وخَبَرُهم المُرادُ به زكاةُ العَيْنِ، لا زكاةُ القِيمَةِ؛ بدَلِيلِ ما ذَكَرْنا، على أنَّ خَبَرَهم عامٌّ، وحَدِيثُنا خاصٌّ، فيَجِبُ تَقْدِيمُه. ¬

(¬1) في: باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها زكاة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 357. (¬2) في: باب ليس في الخضراوات صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 102. كما أخرجه البيهقى، في: باب زكاة التجارة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 147. والبز بفتح الباء وبالزاى. تهذيب الأسماء واللغات للنووى 2/ 27. (¬3) جمع جَعْبَة، وهى وعاء السهام والنبال. (¬4) كذا قال. وعزاه أيضًا ابن حجر إلى الإمام أحمد في تلخيص الحبير 2/ 180. ولم نعثر عليه في المسند. ولم يورده ابن حجر في المسند المعتلى في مسند عمر أو حماس. وأخرجه ابن حزم في المحلى 5/ 348، في باب زكاة عروض التجارة. وعلق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر بقوله: نسبه بعضهم لمالك ولأحمد، ولم أجده عندهما. اهـ. وأخرجه أبو عبيد في الأموال 425. كما أخرجه الدارقطنى في سننه 2/ 125. والبيهقى في السنن الكبرى 4/ 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُعْتَبَرُ أن تَبْلُغَ قِيمَتُه نِصابًا؛ لأنَّه مالٌ تامٌّ يُعْتَبَرُ له الحَوْلُ، فاعْتُبِرَ له النِّصابُ، كالماشِيَةِ، ويُعْتَبَرُ له الحَوْل؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬1). ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فعلى هذا مَن مَلَك عَرْضًا للتِّجارَةِ، فحال عليه الحَوْلُ وهو نِصابٌ، قَوَّمَهُ في آخِرِ الحَوْلِ، فما بَلَغ أخْرَجَ زَكاتَه، ولا تَجِبُ فيه الزكاةُ إلَّا إذا بَلَغَتْ قِيمَتُه نِصابًا، وحال عليه الحَوْلُ وهو نِصابٌ، فلو مَلَك سِلْعَةً قِيمَتُها دُونَ النِّصابِ، فمَضَى نِصْفُ حَوْلٍ وهى كذلك، ثم زادت قِيمَتُها، فبَلَغَتْ نِصابًا، أو باعَها بنِصابٍ، أو مَلَك في أثْناءِ الحَوْلِ عَرْضًا آخَرَ وأثْمانًا تمَّ بها النِّصابُ، ابْتَدَأ (¬2) الحَوْلَ مِن حِينئِذٍ، ولا يُحْتَسَبُ عليه بما مَضَى. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ، وأهلِ العِراقِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. ولو مَلَك للتِّجارَةِ نِصابًا، فنَقَصَ عن النِّصابِ في أثْناءِ الحَوْلِ، ثم زاد حتى بَلَغ نِصابًا، اسْتَأنفَ الحَوْلَ عليه، لكَوْنِه انْقَطَعَ بنَقْصِه في أثْناءِ الحَوْلِ. وقال مالكٌ: يَنْعَقِدُ الحَوْلُ على ما دُونَ النِّصابِ، فإذا كان في آخِرِه نِصابًا زَكّاه. وقال أبو حنيفةَ: يُعْتَبَرُ كَوْنه نِصابًا في طَرَفَى الحَوْلِ دُونَ وَسَطِه؛ لأنَّ التَّقْوِيمَ يَشُقُّ في جَمِيع الحَوْلِ، فعُفِى عنه إلَّا في آخِرِه، فصار الاعْتِبارُ به، ولأنَّه يَحْتاجُ إلى تعَرُّفِ قِيمَتِه في كلِّ وَقْتٍ، ليَعْلَمَ أنَّ قِيمَتَه تَبْلُغُ نِصابًا، وذلك يَشُقُّ. ولَنا، أنَّه مالٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 327. (¬2) في م: «ابتداء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْتَبَرُ له الحَوْلُ والنِّصابُ، فيجِبُ اعْتِبارُ كَمالِ النِّصابِ في جَمِيعِ الحَوْلِ، كسائِرِ الأمْوالِ التى يُعْتَبَرُ لها ذلك. وقَوْلُهم: يَشُقُّ التَّقْوِيمُ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ غيرَ المُقارِبِ للنِّصابِ لا يَحْتاجُ إلى تَقْوِيم، لظُهُورِ مَعْرِفَتِه، والمُقاربُ للنِّصاب إن سَهُل عليه التَّقْوِيمُ، وإلَّا فله الأداءُ والأخْذُ بالاحْتِياطِ، كالمُسْتَفادِ في أَثْناءِ الحَوْلِ إن سَهُل عليه ضَبْطُ حَوْلِه، وإلَّا فله تَعْجِيلُ زَكاتِه مع الأصْلِ. فصل (¬1): وإذا مَلَك نُصُبًا للتِّجارَةِ في أوْقاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لم يَضُمَّ بَعْضَها إلى بَعْضٍ؛ لِما ذَكَرْنا في المُسْتَفادِ، وإن كان العَرْضُ الأوَّلُ ليس بنِصابٍ فكَمَلَ بالثّانِى نِصابًا، فَحَوْلُهما مِن حينَ مَلَك الثّانِى، ونَماؤُهما تابعٌ لهما، ولا يُضَمُّ الثّالِثُ إليهما، بل ابْتِداءُ الحَوْلِ فيه مِن حينَ مَلَكَه، وتَجِبُ زَكاتُه إذا حال عليه الحَوْلُ، وإن كان دُونَ النِّصابِ؛ لأنَّ في مِلْكِه نِصابًا قَبْلَه، ونَماؤُه تابعٌ له. فصل: والواجِبُ فيه رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِه؛ لأنَّها زكاةٌ تَتَعَلَّقُ بالقِيمَةِ، فأشْبَهَتْ زكاةَ الأثْمانِ، وتَجِبُ فيما زاد بحِسابِه، كالأثْمانِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه تَجِبُ فيه الزكاةُ في كلِّ حَوْلٍ. وبهذا قال الثَّوْرِى، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ: لا يُزَكِّيه إلَّا لحَوْلٍ واحِدٍ، إلَّا أن يكونَ مُدَبَّرًا؛ لأنَّ الحَوْلَ الثّانِى لم يَكُنِ المالُ عَيْنًا في أحَدِ ¬

(¬1) جاء هذا الفصل في «م» في آخر المسألة التالية.

935 - مسألة: (ويؤخذ منها لا من العروض)

وَيُؤْخَذُ مِنْهَا لَا مِنَ الْعُرُوضِ، وَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ إِلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ طَرَفَيْه، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالحَوْلِ الأوَّلِ إذا لم يكنْ في أوَّلِه عَيْنًا. ولَنا، أنَّه مالٌ تَجِبُ فيه الزكاةُ في الحَوْلِ الأوَّلِ، لم يَنْقُصْ عن النِّصابِ، ولم تَتَبَدَّلْ صِفَتُه، فوَجَبَتْ زَكاتُه في الحَوْلِ الثّانِى، كما لو نَضَّ (¬1) في أوَّلِه ولا نُسَلمُ أنَّه إذا لم يكنْ في أوَّلِه عَيْنًا لا تَجِبُ الزكاةُ فيه. وإذا اشْتَرَى عَرْضًا للتِّجارَةِ بعَرْضٍ للقُنْيَةِ، جَرَى في حَوْلِ الزكاةِ مِن حينِ الشِّراءِ. 935 - مسألة: (ويُؤْخَذُ منها لا مِن العُرُوضِ) تُخْرَجُ الزكاةُ مِن قِيمَةِ العُرُوضِ دُونَ عَيْنِها؛ لأنَّ نِصابَها يُعْتَبَرُ بالقِيمَةِ لا بالعَيْنِ، فكانتِ الزكاةُ منها كالعَيْنِ في سائِرِ الأمْوالِ. وهذا أحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: هو مُخَيَّرٌ بينَ الإِخْراجِ مِن قِيمَتِها ومِن عَيْنها. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه مالٌ تَجِبُ فيه الزكاةُ، فجاز إخْراجُها منه، كسائِرِ الأمْوالِ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن المَعْنَى، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الزكاةَ وَجَبَتْ في المالِ، إنَّما وَجَبَت في قِيمَتِه. 936 - مسألة: (ولا تَصِيرُ للتِّجارَةِ إلَّا أن يَمْلِكَها بفِعْلِه بنِيَّةِ التِّجارَةِ ¬

(¬1) أهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير نضًّا وناضًّا، إذا تحول عينا بعد أن كان متاعا؛ لأنه يقال: ما نضّ بيدى منه شئ. أي ما حصل. المصباح المنير 2/ 747.

بِفِعْلِهِ بنِيَّةِ التِّجَارَةِ بهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بها) لا يَصِيرُ العَرْضُ للتِّجارَةِ إلَّا بشَرْطَيْن؛ أحَدُهما، أن يَمْلِكَه بفِعْلِه، كالبَيْعِ، والنِّكاحِ، والخُلْعِ، وقَبُولِ الهِبَةِ، والوَصِيَّةِ، والغَنِيمَةِ، واكْتِسابِ المُباحاتِ؛ لأنَّ ما لا يَثْبُتُ له حُكْمُ الزكاةِ بدُخُولِه في مِلْكِه لا يَثْبُتُ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كالسَّوْمِ. ولا فَرْقَ بينَ أن يَمْلِكَه بعِوَضٍ أو بغَيْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَض. وهكذا (¬1) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، وابنُ عَقِيلٍ؛ لأنّه مَلَكَه بفِعْلِه، أشْبَهَ ما لو مَلَكَه بعِوَضٍ. وذَكَر القاضى أنَّه لا يَصِيرُ للتِّجارَةِ إلَّا ¬

(¬1) في الأصل: «هذا».

937 - مسألة: (فإن ملكها بإرث، أو ملكها بفعله بغير نية التجارة، ثم نوى التجارة بها, لم تصر للتجارة)

فَإِنْ مَلَكَهَا بِإِرْثٍ، أَوْ مَلَكَهَا بِفِعْلِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، ثُمَّ نَوَى التِّجَارَةَ بِهَا، لَمْ تَصِرْ لِلتِّجَارَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَمْلِكَه بعِوَضٍ. [وهو قولُ الشافعىِّ. فإن مَلَكَه بغيرِ عِوَضٍ، كالهِبَةِ، والغَنِيمَةِ، ونحوِهما، لم يَصِرْ للتِّجارَةِ؛ لأنَّه لم يَمْلِكْه بعِوَضٍ] (¬1)، أشْبَهَ المَوْرُوثَ. الثانِى، أن يَنْوِىَ عندَ تَمَلُّكِه أنَّه للتِّجارَةِ، فإن لم يَنْوِ عندَ تَمَلُّكِه أنَّه للتِّجارَةِ لم يَصِرْ للتِّجارَةِ؛ لقَوْلِه في الحديثِ: ممَّا نُعِدُّه للبَيْعِ (¬2). ولأنَّهَا مَخْلُوقَة في الأصْلِ للاسْتِعْمالِ، فلا تَصِيرُ للتِّجارَةِ إلَّا بنِيَّتها، كما أنَّ ما خُلِق للتِّجارَةِ لا يَصِيرُ للقُنْيَةِ إلَّا بنِيَّتها (¬3). 937 - مسألة: (فإن مَلَكَها بإرْثٍ، أو مَلَكَها بفِعْلِه بغيرِ نِيَّةِ التِّجارَةِ، ثم نَوَى التِّجارَةَ بها, لم تَصِرْ للتِّجارَةِ) إذا مَلَك العَرْضَ بالإِرْثِ لم يَصِرْ للتِّجارَةِ وإن نَواها؛ لأنَّه مَلَكَه بغير فِعْلِه، فجَرَى مَجْرَى الاسْتِدانَةِ، فلم يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، ومُجَرَّدُ النِّيَّةِ لا يَصِيرُ بها العَرْضُ للتِّجارَةِ؛ لِما ذَكَرْنا. وكذلك إن مَلَكَها بفِعْلِه بغير نِيَّةِ التِّجارَةِ، ثم نَواها بعدَ ذلك، لم تَصِرْ للتِّجارَةِ؛ لأنَّ الأصلَ في العُرُوضِ القُنْيَةُ، فإذا صارت للقُنْيَةِ لم تَنْتَقِلْ عنه بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كما لو نوَى الحاضِرُ السَّفَرَ، وعَكْسُه ما لو نَوَى المُسافِرُ الإِقامَةَ، يَكْفِى فيه مُجَرَّدُ النِّيَّةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 52. (¬3) في الأصل: «بنيته».

938 - مسألة: (وإن كان عنده عرض للتجارة، فنواه للقنية، ثم نواه للتجارة، لم يصر للتجارة. وعنه، أن العروض تصير للتجارة بمجرد النية)

وَإنْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ لِلتِّجَارَةِ، فَنَوَاهُ لِلْقُنْيَةِ، ثُمَّ نَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَصِرْ لِلتِّجَارَةِ. وَعَنْهُ، أن الْعُرُوضَ تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 938 - مسألة: (وإن كان عندَه عَرْضٌ للتِّجارَةِ، فنَواه للقُنْيَةِ، ثم نَواه للتِّجارَةِ، لم يَصِرْ للتِّجارَةِ. وعنه، أنَّ العُرُوضَ تَصِيرُ للتِّجارَةِ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ) لا (¬1) يَخْتَلِف المَذْهَبُ أنَّه إذا نَوَى بعَرْضِ التِّجارَةِ القُنْيَةَ، أنَّه يَصِيرُ للقُنْيَةِ، وتَسْقُطُ الزكاةُ منه. وبهذا قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن: لا يَسْقُطُ حُكْمُ التِّجارَةِ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كما لو نَوَى بالسّائِمَةِ العَلْفَ. ولَنا، أنَّ القُنْيَةَ الأصْلُ، والرَّدُّ إلى الأصْلِ يَكْفِى فيه مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، كما لو نَوَى بالحَلْى التِّجارَةَ، أو نَوَى المُسافِرُ الإِقامَةَ، ولأنَّ نِيَّةَ التِّجارَةِ شَرْط لوُجُوبِ الزكاةِ في العُرُوضِ. فإذا نَوَى القُنْيَةَ زالت نِيَّةُ التِّجارَةِ ففات شَرْطُ الوُجُوبِ، وفارَقَ السّائِمَةَ إذا نَوَى عَلْفَها؛ لأنَّ الشَّرْطَ فيها الإسامَةُ دُونَ نِيَّتِها، فلا يَنْتَفِى الوُجُوبُ إلَّا بانْتِفاءِ السَّوْمِ. وإذا صار العَرْضُ للقُنْيَةِ، ثم نَواه للتِّجارَةِ، لم يَصِرْ للتِّجارَةِ؛ لِما ذَكَرْنا. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، ¬

(¬1) في م: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىِّ. وذَهَب أبو بكرٍ، وابنُ عَقِيلٍ، إلى أنَّها تَصِيرُ للتِّجارَةِ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. وحَكَوْه رِوايَةً عن أحمدَ. قال بعضُ أصحابنا: هذا على أصَحِّ الرِّوايَتَيْن، لقولِ سَمُرَةَ: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ ممّا نُعِدُّه للبَيْعِ (¬1). وهذا داخِلٌ في عُمُومِه، ولأنَّ نِيَّةَ القُنْيَةِ كافِيَةٌ بِمُجَرَّدِها، فكذلك نِيَّةُ التِّجارَةِ، بل هذا أوْلَى؛ لأنَّ الإِيجابَ يُغَلَّبُ على الإِسْقاطِ احْتِياطًا, ولأنَّه نَوَى به التِّجارَةَ، أشْبَهَ ما لو نَوَى حالَ الشِّراءِ. ووَجْهُ الأُولَى أنَّ كلِّ ما لا يَثْبُتُ له الحُكْمُ بدُخُولِه في مِلْكِه، لا يَثْبُتُ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كما لو نوَى بالمَعْلُوفَةِ السَّوْمَ، ولأنَّ القُنْيَةَ الأَصْلُ، والتِّجارَةُ فَرْعٌ عليها، فلا يَنْصَرِفُ إلى الفَرْعِ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كالمُقِيمِ يَنْوِى السَّفَرَ. ويُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّيَّةِ في جَمِيعِ الحَوْلِ؛ لأنَّها (¬2) شَرْطٌ أمْكَنَ اعْتِبارُه في جَمِيعِ الحَوْلِ، فاعْتُبِرَ فيه، كالنِّصابِ. فصل: وإذا كانت عندَه ماشِيَةٌ للتِّجارةِ نِصْف حَوْلٍ، فنَوَى بها الإِسامَةَ، وقطَعَ نِيَّةَ التِّجارَةِ، انْقَطَعَ حَوْلُ التِّجارَةِ، واسْتَأْنَفَ حَوْلًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 52. (¬2) في الأصل: «ولأنها».

939 - مسألة: (وتقوم العروض عند الحول بما هو أحظ للمساكين، من عين أو ورق، ولا يعتبر ما اشتريت به)

وَتُقَوَّمُ الْعُرُوضُ عِنْدَ الْحَوْلِ بِمَا هُوَ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِين، مِنْ عَيْنٍ أَوْ وَرِقٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيَتْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذلك قال الثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأنَّ حَوْلَ التِّجارَةِ انْقَطَعَ بنِيَّةِ الاقْتِنَاءِ، وحَوْلُ السَّوْمِ لا يُبْنَى على حَوْلِ التِّجارَةِ. قال شيخُنا (¬1): والأشْبَهُ بالدَّلِيلِ أنَّها متى كانت سائِمَةً مِن أوَّلِ الحَوْلِ، وجَبَتِ الزكاةُ فيها عندَ تمامِه. يُرْوَى نحوُ هذا عن إسحاقَ؛ لأنَّ السَّوْمَ سَبَبٌ لوُجُوبِ الزكاةِ وُجِد في جَمِيعِ الحَوْلِ خالِيًا عن مُعارِض، فوَجَبَتْ به الزكاةُ، كما لو لم يَنْوِ التِّجارَةَ، أو كما لو كانتِ السّائِمَةُ لا تَبْلُغُ نِصابَ القِيمَةِ. 939 - مسألة: (وتُقَوَّمُ العُرُوضُ عندَ الحَوْلِ بما هو أحَظُّ للمساكينِ، مِن عَيْن أو وَرِقٍ، ولا يُعْتَبَرُ ما اشْتُرِيَتْ به) إذا حال الحَوْلُ على عُرُوضِ التِّجارَةِ، وقِيمَتُها بالفِضَّةِ نِصابٌ، ولا تَبْلُغُ نِصابًا بالذَّهَبِ، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوَّمْناها بالفِضَّةِ، وإن كانت قِيمَتُها بالذَّهَبِ تَبْلُغُ نِصابًا, ولا تَبْلُغُ نِصابًا بالفِضَّةِ، قَوَّمْناها بالذَّهَبِ؛ لتَجِبَ الزكاةُ فيها، ويَحْصُلَ الحَظُّ للفُقَراءِ، سَواءٌ اشْتَراها بذَهَبٍ أو عُرُوض. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: تُقَوَّمُ بما اشْتَراه مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ؛ لأنَّ نِصابَ العَرْضِ (¬1) مَبْنِىٌّ على ما اشْتَراه به، فوَجَبَتِ الزكاةُ فيه، [واعْتُبِرَتْ به، كما لو لم يَشْتَرِ به شيئًا. ولَنا، أنَّ قِيمَتَه بَلَغَتْ نِصابًا، فوَجَبتِ الزكاةُ فيه] (¬2)، كما لو اشْتَراه بعَرْضٍ وفى البَلَدِ نَقْدان مُسْتَعْمَلان، تَبْلُغُ قِيمَةُ العَرْضِ (1) بأحَدِهما نِصابًا, ولأن تَقْوِيمَه لحَظِّ المَساكِينِ، فيُعتَبَرُ ما لهم فيه الحَظُّ، كالأصْلِ. وأمّا إذا لم يَشْتَرِ بالنَّقْدِ شيئًا، فإنَّ الزكاةَ في عَيْنه لا في قِيمَتِه، بخِلافِ العَرْضِ، فإن كان النَّقْدُ مُعَدًّا للتِّجارةِ، فيَنْبَغِى أن تَجِبَ الزكاةُ فيه إذا بَلَغَتْ قِيمَتُه بالنَّقْدِ الآخَرِ نِصابًا، وإن لم يَبْلُغْ بعَيْنه نِصابا، كالسّائِمَةِ التى للتِّجارَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «العروض». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن بَلَغَتْ قيمة العُرُوضِ نِصابًا بكلِّ واحدٍ مِن النَّقْدَيْن، قوَّمَه بما شاء منهما، وأخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ قِيمَتِه مِن أىِّ النَّقْدَيْن شاء، لكنِ الأُوْلَى أن يُخْرِجَ مِن النَّقْدِ المُسْتَعْمَلِ في البَلَدِ؛ لأنَّه أحَظُّ للمَساكِينِ، فإن كانا مُسْتَعْمَلَيْن أخْرَجَ مِن الغالِبِ في الاسْتِعْمالِ لذلك، فإن تَساوَيا أخْرَجَ مِن أيهما شاء. وإن باع العُرُوضَ بنَقْدٍ، وحال الحَوْلُ عليه، قَوَّمَ النَّقْدَ دُونَ

940 - مسألة: (وإن اشترى عرضا بنصاب من الأثمان أو من العروض، بنى على حوله)

وَإنِ اشْتَرَى عَرْضًا بِنِصَابٍ مِنَ الأثْمَانِ أَوْ مِنَ الْعُرُوضِ, بَنَى عَلَى حَوْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العُرُوضِ؛ لأنَّه إنَّما يُقَوِّمُ ما حال عليه الحَوْلُ دُون غيرِه. 940 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَىَ عَرْضًا بنصابٍ مِن الأثْمانِ أو مِن العُرُوضِ، بَنَى على حَوْلِه) لأنَّ مالَ التِّجارَةِ إنَّما تَتَعَلَّقُ الزكاةُ بقِيمَتِه، وقِيمَتُه هى: الأثْمانُ، إنَّما كانت ظاهِرَةً فخَفِيَتْ، فأشْبَهَ ما لو كان له (¬1) نِصابٌ فأقْرَضَه، لم يَنْقَطِعْ حَوْلُه بذلك. وهكذا الحُكْمُ إذا باع العَرْضَ بنِصابٍ أو بعَرْضٍ قِيمَتُه نِصابٌ؛ لأنَّ القِيمَةَ كانت خَفِيَّة فَظَهَرَتْ، أو بَقِيَتْ على خَفائِها، فأشْبَهَ ما لو كان له قَرْضٌ فاسْتَوْفاه، أو أقْرَضَه إنْسانًا آخَرَ، ولأنَّ النَّماءَ في الغالِبِ في التِّجارَةِ إنَّما يَحْصُلُ بالتَّقْلِيبِ، ولو كان ذلك يَقْطَعُ الحَوْلَ لكان السَّبَبُ الذى وَجَبَتْ فيه الزكاةُ لأجْلِه يَمْنَعُها؛ لأنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ إلَّا في زَمانٍ نامٍ. وإن قَصَد بالأثْمانِ غيرَ التِّجارَةِ لم يَنْقَطِع الحَوْلُ. وقال الشافعىُّ: يَنْقَطِعُ؛ لأنَّه مالٌ تَجِبُ الزكاةُ في عَيْنه دُون قِيمَتِه، فانْقَطَعَ الحَوْلُ بالبَيْعِ به (¬2)، كالسّائِمَةِ. ولَنا، أنَّه مِن جِنْسِ القِيمَةِ التى تَتَعَلَّقُ الزكاةُ بها، فلم يَنْقَطِعِ الحَوْلُ ببَيْعِها به، كما لو قَصَد به التِّجارَةَ، وفارَقَ السّائِمَةَ، فإنَّها مِن غيرِ جِنْسِ القِيمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

941 - مسألة: (وإن اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله)

وَإنِ اشْتَرَاهُ بِنِصَابٍ مِنَ السَّائِمَةِ لَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِهِ، وَإنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنَ السَّائِمَةِ لِلتِّجَارَةِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوْمِ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغ قِيمَتُهَا نِصَابَ التِّجَارَةِ، فعَلَيْهِ زَكَاةُ السَّوْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 941 - مسألة: (وإنِ اشْتَراه بنِصابٍ مِن السّائِمَةِ لم يَبْنِ على حَوْلِه) إذا أَبْدَلَ عَرْضَ التِّجارَةِ بنِصابٍ مِن السّائِمَةِ، ولم يَنْوِ به التِّجارَةَ، أو اشْتَرَى بنِصابٍ مِن السّائِمَةِ عَرْضًا للتِّجارَةِ، لم يَبْنِ حَوْلَ أحَدِهما على الآخَرِ؛ لأنَّهما مُخْتَلِفان. وإن أبدَلَ عَرْضَ التِّجارَةِ بعَرْضِ القُنيةِ بَطَل الحَوْلُ. وإنِ اشْتَرَى عَرْضَ التِّجارَةِ بعَرْضِ القُنْيَةِ، انْعَقَدَ عَليه الحَوْلُ مِن حينَ مَلَكَه إن كان نِصابًا؛ لأنَّه اشْتَرَاه بما لا زكاةَ فيه، فلم يُمْكنْ بِناءُ الحَوْلِ عليه. وإنِ اشْتَراه بما دُونَ النِّصابِ مِن الأثْمانِ، أو مِن عُرُوضِ التِّجارَةِ، انْعَقَدَ عليه الحَوْلُ مِن حينِ تَصِيرُ قِيمَتُه نِصابًا؛ لأنَّ مُضِىَّ الحَوْلِ على نِصابٍ كامِلٍ شَرْطٌ لوُجُوبِ الزكاةِ، وقد ذَكَرْناه. 942 - مسألة: (وإن مَلَك نِصابًا مِن السّائِمَةِ للتِّجارَةِ، فعليه زكاةُ التِّجارَةِ دُونَ السَّوْمِ، فإن لم تَبْلُع قِيمَتُه نِصابَ التِّجارَةِ، فعليه زكاةُ السَّوْمِ) إذا اشْتَرَى للتِّجارَةِ نِصابًا مِن السّائِمَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحال الحَوْلُ، والسَّوْمُ ونِيَّةُ التِّجارَةِ موْجُودان، زَكّاه زكاةَ التِّجارَةِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ في الجَدِيدِ: يُزَكِّيها زكاةَ السَّوْم؛ لأنَّها أقْوَى؛ لانْعِقادِ الاجْماعِ عليها، واخْتِصاصِها بالعَيْنِ، فكانت أولَى. ولَنا، أنَّ زكاةَ التِّجارَةِ أحَظُّ للمَساكِينِ؛ لأنَّها تَجِبُ فيما زاد على النِّصابِ بالحِسابِ، ولأنَّ الزّائِدَ عن النِّصابِ قد وُجِد سَبَبُ وُجُوبِ زَكاتِه، فوَجَبَ، كما لو لم يَبْلُغْ بالسَّوْمِ نِصابًا، وإن سَبَق وَقْتُ وُجُوبِ زكاةِ السَّوْمِ وَقْتَ وُجُوبِ زكاةِ التِّجارَةِ، مثلَ أن يَمْلِكَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْبَعِين مِن الغَنَمِ قِيمَتُها دُونَ مائَتى دِرْهَمٍ، ثم صارت قِيمَتُها في أثْناءِ الحَوْلِ مائَتى دِرْهَمٍ، فقال القاضى: يَتأخَّرُ وُجُوبُ الزكاةِ حتى يَتمَّ حَوْلُ التِّجارَةِ؛ لأنّه أنْفَعُ للفُقَراءِ، ولا يُفْضِى إلى سُقُوطِها؛ لأنَّ الزكاةَ تَجِبُ فيها إذا تَمَّ حَوْلُ التِّجارَةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ زكاةُ العَيْنِ عندَ تَمامِ حَوْلِها؛ لوُجُودِ مُقْتَضِيها مِن غيرِ مُعارِضٍ. فإذا تَمَّ حَوْلُ التِّجارَةِ وَجَبَتْ زكاةُ الزّائِدِ عن النِّصابِ، لوُجُودِ مُقْتَضِيها؛ لأنَّه مالٌ للتِّجارَةِ، حال عليه الحَوْلُ وهو نِصابٌ، ولا يُمْكِنُ إيجابُ الزَّكاتَين بكمالِهما (¬1)؛ لأنَّه يُفْضِى إلى إيجابِ زَكاتَين في حَوْلٍ واحِدٍ بسَبَبٍ واحِدٍ، فلم يَجُزْ ذلك؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا ثِنَى (¬2) في الصَّدَقَة» (¬3). وفارَقَ هذا زكاةَ التِّجارَةِ، وزكاةَ الفِطْرِ في العَبْدِ الذى للتِّجارَةِ؛ لأنَّهما يَجْتَمِعان لكَوْنِهما بسَبَبَيْن، فإنَّ زكاةَ الفِطْرِ، تَجِبُ عن بَدَنِ المُسْلِمِ طُهْرَةً له، ¬

(¬1) في الأصل: «بكمالها». (¬2) في م: «تثنى». والثنى: أن يفعل الشئ مرتين. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال لا تؤخذ الصدقة في السنة إلا مرة واحدة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 218. وأبو عبيد، في: الأموال 375. كلاهما من حديث فاطمة بنت الحسين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وزكاةَ التِّجارَةِ تَجِبُ عن قِيمَتِه شُكْرًا لنِعْمَةِ الغِنَى مُواساةً للفُقَراءِ. فأمّا إن وُجِد نِصابُ السَّوْمِ دُونَ التِّجارَةِ، كمَن مَلَك نِصابًا مِن السّائِمَةِ للتِّجارَةِ، لا تَبْلُغُ قِيمَتُها مائَتى دِرْهَمٍ، وحال الحَوْلُ عليها كذلك، فإنَّ زكاةَ العَيْنِ تَجبُ (¬1) فيها بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ لها مُعارِضٌ، أشْبَهَ إذا لم تكنْ للتِّجارَةِ. وكذلك إن مَلَك أرْبَعًا مِن الإبِلِ، قِيمَتُها مائتا دِرْهَمٍ، تَجِبُ فيها زكاةُ التِّجارَةِ بغيرِ خِلافٍ؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في م: «لا تجب».

943 - مسألة: (وإن اشرى أرضا أو نخلا للتجارة، فأثمرت النخل، أو زرعت الأرض، فعليه فيهما العشر، ويزكى الأصل للتجارة)

وَإِنِ اشْتَرَى أَرْضًا أَوْ نَخْلًا لِلتِّجَارَةِ، فَأَثْمَرَتِ النَّخْلُ، وَزُرِعَتِ الأَرْضُ، فَعَلَيْهِ فِيهِمَا الْعُشْرُ، وَيُزَكِّى الْأَصْلَ لِلتِّجَارَةِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُزَكِّى الْجَميعَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 943 - مسألة: (وإنِ اشرَى أرْضًا أو نَخْلًا للتِّجارَةِ، فأثْمَرَتِ النَّخْلُ، أو زُرِعَتِ الأرْضُ، فعليه فيهما العُشْرُ، ويُزَكِّى الأصْلَ للتِّجارَةِ) إذا اشْتَرَى أرْضًا أو نَخْلًا للتِّجارَةِ، فأثْمَرَتِ النَّخْلُ، أو زُرِعَتِ الأرْضُ، واتَّفَقَ حَوْلاهما، بأن يكونَ بُدُوُّ الصَّلاحِ في الثَّمَرَةِ واشْتِدادُ الحَبِّ عندَ تَمامِ الحَوْلِ، وكانت قِيمَةُ الأصْلِ تَبْلُغُ نِصابًا للتِّجارَةِ، فإنَّه يُزَكِّى الحَبَّ والثَّمَرَةَ زكاةَ العُشْرِ إذا بَلَغ نِصابًا، ويُزَكِّى الأصْلَ زكاةَ القِيمَةِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، وأبى ثَوْرٍ. (وقال القاضى) وأصْحابُه: (يُزَكى الجَمِيعَ زَكاةَ القِيمَةِ) وذَكَر أنَّ أحمدَ أَوْمَأَ إليه؛ لأنَّه مالُ تِجارَةٍ، فوَجَبَتْ فيه زكاةُ التِّجارَةِ، كالسّائِمَةِ. ولَنا، أنَّ زكاةَ العُشْرِ أحَظُّ للفُقَراءِ، فإنَّ العُشْرَ

وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ وُجُوبُ الْعُشْرِ حَوْلَ التِّجَارَةِ فَيُخْرِجَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَظُّ مِن رُبْعِ العُشْرِ، فيَجِبُ تَقْدِيمُ ما فيه الحَظُّ، ولأنَّ الزِّيادَةَ على رُبْع العُشْرِ قد وُجد سَبَبُ وُجُوبِها فتَجِبُ، وفارَقَ زكاةَ السَّوْمِ المُعَدَّةِ للتِّجارَةِ؛ لأنَّ زكاةَ التِّجارَةِ فيها أنْفَعُ للفُقَراءِ، فأمّا إن سَبَق وُجُوبُ العُشْرِ حَوْلَ التِّجارَةِ وَجَب عليه العُشْرُ؛ لوُجُودِ سَبَبِه مِن غيرِ مُعارِضٍ، وهو أحَظُّ للفقراءِ كما بَيَّنَّا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا حال الحَوْلُ أدَّى زكاةَ الأصْلِ والنَّماءِ؛ لأنَّه تابعٌ له في المِلْكِ فتَبِعَه في الحَوْلِ، كالسِّخالِ والنِّتاجِ. وبهذا قال مالكٌ، وإسحاقُ، وأبو يُوسُفَ. وأمّا أبو حنيفةَ، فإنَّه يَبْنِى حَوْلَ كلِّ مُسْتَفادٍ على حَوْلِ جِنْسِه، النَّماءَ وغيرَه. وقال الشافعىُّ: إن نَضَّتِ (¬1) الفَائِدَة قبلَ الحَوْلِ لم يَبْنِ حَوْلَها على حَوْلِ النِّصابِ، ويَسْتَأْنِفُ لها حَوْلَها؛ لقَوْله عليه السَّلامُ: «لَا زَكَاةَ في مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» (¬2). ولأنَّها فائِدَةٌ تامَّةٌ لم تَتَوَلَّدْ ممّا عندَه، أشْبَهَ المُسْتَفادَ مِن غيرِ الرِّبْحِ. وإنِ اشْتَرى سِلْعَةً بنِصابٍ، فزادَتْ قيمَتُها عندَ رأسِ الحَوْلِ، فإنَّه يَضُمُّ الفائِدَةَ، ¬

(¬1) أي حصلت. وانظر ما تقدم في هذا المعنى في صفحة 55. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُزَكِّى عن الجَمِيعِ، بخِلافِ ما إذا باع السلْعَةَ قبلَ الحَوْلِ. ولَنا، أنَّه نَماءٌ جارٍ في حَوْلٍ، تابعٌ لأصْلِه في المِلْكِ، فضُمَّ إليه في الحَوْلِ، كالنِّتاجِ، وكما لو لم يَنضَّ، ولأنَّه ثَمَنُ عَرْض تَجِبُ زكاةُ بَعْضِه، يُضَمُّ إليه الباقِى قبلَ البَيْعِ، فضُمَّ إليه بعدَه، كبعضِ النِّصابِ، ولأنَّه لو بَقِىَ عَرْضًا زَكَّى جَمِيعَ القِيمَةِ، فإذا نَضَّ كان أوْلَى؛ لأنَّه يَصِيرُ مُتَحَقِّقًا. والحَديثُ فيه مَقالٌ، وهو مَخْصُوصٌ بالنِّتاجِ، وبما لم يَنضَّ، فنَقِيسُ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اشْتَرى للتِّجارَةِ شِقْصًا مَشْفُوعًا بألْفٍ، فحال الحَوْلُ وهو يُساوِى ألْفَيْن، فعليه زكاةُ ألْفَيْن، فإن جاء الشَّفِيعُ أخَذَه بألْفٍ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ إنَّما يَأخذُ بالثَّمَنِ لا بالقِيمَةِ، والزكاةُ على المُشْتَرِى؛ لأنَّها وَجَبَتْ في مِلْكِه، ولو لم يَأخذْه الشَّفِيعُ لكنْ وَجَد المُشْتَرِى به عَيْبًا فَرَدَّه، فإنَّما يأخذُ مِن البائِعِ ألْفًا. ولو اشْتَراه بألْفَيْن، وحال الحَوْلُ وقِيمَتُه ألْفٌ، فعليه زكاةُ ألْفٍ ويَأخذُه الشَّفِيعُ إن أخَذَه، ويَرُدُّه بالعَيْبِ بألْفَيْن؛ لأنَّهما الثَّمَنُ الذى وَقَع به البَيْعُ. فصل: وإذا دَفَع إلى رجلٍ ألْفًا مُضارَبَةً، على أنَّ الرِّبْحَ بينَهما، فحال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَوْلُ وهو ثَلَاثَةُ آلافٍ، فعلى رَبِّ المالِ زكاةُ أَلْفَيْن؛ لأنَّ رِبْحَ التِّجارَةِ حَوْلُه حَوْلُ أصْلِه على ما بَيَّنَّا وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: عليه زكاةُ الجَمِيعِ؛ لأنَّ الأصْلَ له، والرِّبْحُ نَماءُ مالِه. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ حِصَّةَ المُضارِبِ له، وليست مِلْكًا لرَبِّ المالِ، بدَلِيلِ أنَّ للمُضارِبِ المُطالَبَةَ بها, ولو أراد رَبُّ المالِ دَفْعَ حِصَّتِه إليه مِن غيرِ هذا المالِ، لم يَلْزَمْه قَبُولُه، ولا يَجِبُ على الإِنْسانِ زكاةُ مِلْكِ غيرِه، ولأنَّ رَبَّ المالِ يقولُ: حِصَّتُك أيُّها العامِلُ مُتَرَدِّدَةٌ بينَ أن تَسْلَمَ فتكونَ لك، أو تَتْلَفَ فلا تكونُ لى ولا لك، فكيف يَجِبُ علىَّ زكاةُ ما ليس لي بوَجْهٍ ما؟ وقولُه: إنَّها نَماءُ مالِه. قُلْنَا: إلَّا أنَّه لغيرِه، فلم تَجِبْ عليه زَكاتُه، كما لو وَهب نِتاجَ سائِمَتِه لغيرِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُخْرِجُ الزكاةَ مِن المالِ؛ لأنَّه مِن مُؤْنَتِه، فكان منه، كمُؤْنَةِ حَمْلِه، ويُحْتَسَبُ مِن الرِّبْحِ؛ لأنَّه وِقايَةٌ لرَأسِ المالِ، كذلك ذَكَرَه شيخُنا في كِتَابِ «المُغْنِى» (¬1). وقال في كِتابِ «الكافِى» (¬2): تُحْتَسَبُ الزكاةُ مِن حِصَّةِ رَبِّ المالِ؛ لأنَّها واجبَةٌ عليه، فحُسِبَتْ مِن نَصِيبِه، كدَيْنِه. فأمّا حِصَّةُ المُضارِبِ، فمَن أَوْجَبَها لم يُجَوِّزْ إخْراجَها مِن المالِ؛ لأنَّ الرِّبحَ وِقايَةٌ لرَأسِ المالِ. ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ؛ لأنَّهما دَخَلا على حُكْمِ الإِسلام، ومِن حُكْمِه وُجُوبُ الزكاةِ، وإخْراجُها مِن المالِ. ولأصحابِ الشافعىِّ في هذه المَسْألَةِ نحوٌ ممّا ذَكَرْنا. ¬

(¬1) 4/ 260. (¬2) 1/ 318.

944 - مسألة: (وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه فى إخراج زكاته)

وإذا أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِه في إِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَأَخْرَجَاهَا مَعًا، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَ صَاحِبِه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 944 - مسألة: (وإذا أذِنَ كلُّ واحِدٍ مِن الشَّرِيكَيْن لصاحِبِه في إخْراجِ زَكاتِه) أو أذِنَ رَجُلان غيرُ الشِّرِيكَيْن كلُّ واحِدٍ منهما للآخَرِ في إخْراجِ زَكاتِه، فأخْرَجَ كل واحِدٍ منهما زَكاتَه وزكاةَ صاحِبه مَعًا في حالٍ واحِدَةٍ (ضَمِن كلُّ واحِدٍ منهما نَصِيبَ صاحِبِه) لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما انْعَزَلَ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ عن الوَكالَةِ؛ لإِخْراج المُوَكِّلِ زَكاتَه بنَفْسِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَضْمَن إذا لم يَعْلَمْ بإخْراجِ صاحِبِه، إذا قُلْنا: إنَّ الوَكِيلَ لا يَنْعَزِلُ قبلَ العِلْمِ بعَزْلِ المُوَكِّلِ أو بمَوْتِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَضْمَنَ، وإن قُلْنا: إنَّه يَنْعَزِلُ؛ لأنَّه غَرَّه بتَسْلِيطِه على الإِخْراِجِ، وأمَرَه به، ولم يُعْلِمْه بإِخْراجِه، فكان خَطَرُ التَّغْرِيرِ عليه، كما لو غرَّه بحُرِّيَّةِ أمَةٍ. قال

945 - مسألة: (فإن أخرجها أحدهما قبل الآخر، ضمن الثانى نصيب الأول، علم أو لم يعلم)

وَإنْ أَخْرَجَهَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، ضَمِنَ الثَّانِى نَصِيبَ الْأَوَّلِ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَيَتَخَرَّجُ أن لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيخُنا (¬1): وهذا أحْسَنُ إن شاء اللَّه تعالى. وعلى هذا، إن عَلِم أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، فعلى العالِمِ الضَّمانُ دُونَ الآخرِ. 945 - مسألة: (فإن أخْرَجَها أحَدُهما قبلَ الآخَرِ، ضَمِن الثانى نَصِيبَ الأوَّلِ، عَلِم أو لم يَعْلَمْ) لِما ذَكَرْنا (¬2). وهذا على الوَجْهِ الأوَّلِ. وعلى الوَجْهِ الثانى لا ضَمانَ عليه إذا لم يَعْلَمْ، لِما ذَكَرْنا. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 262. (¬2) في م: «ذكر».

باب زكاة الفطر

بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ زَكاةِ الْفِطْرِ قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرْضٌ. قال إسحاقُ: هو كالإِجْماعِ مِن أهلِ العلم. وحَكَى ابنُ عبدِ البَرِّ أنَّ بعضَ المُتَأخِّرِينَ مِن أصْحابِ مالكٍ وداودَ، يقولُون: هى سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وسائِرُ العلماءِ على أنَّها واجِبَةٌ، لِما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَض زكاةَ الفِطْرِ مِن رَمضانَ على النّاسِ، صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِير، على كُلِّ حُرٍّ وعَبْدٍ، ذَكَرِ أو أنْثَى مِن المسلمين. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فرض صدقة الفطر، وباب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، وباب صدقة الفطر على الحر والمملوك، وباب صدقة الفطر على الصغير والكبر، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 161، 162. ومسلم، في: باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشحر، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 677، 678. كما أخرجه أبو داود، في: باب كم يؤدَّى في صدقة الفطر؟، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 373، 374. والترمذى، في: باب ما جاء في صدقة الفطر، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 182 - 184. والنسائى، في: باب فرض زكاة رمضان، وباب فرض زكاة رمضان على المملوك، باب فرض زكاة رمضان على الصغر، وباب فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين، وباب كم فرض، وباب السلت، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 34 - 36، 41. وابن ماجه، في: باب صدقة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 584. والدارمى، في: باب في زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 392. والإمام مالك، في: باب ملكية زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 284. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 55، 63، 66، 114، 137.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللبخارىِّ: والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِن المسلمين. وعنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر بزكاةِ الفِطْرِ أن تُؤَدَّى قبلَ خُرُوجِ النّاسِ إلى الصَّلاةِ. وعن أبى سَعِيدٍ، قال: كُنَّا نُخْرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعًا مِن طَعام، أو صاعًا مِن شَعِير، أو صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن أقطٍ (¬1)، أو صاعًا مِن زَبِيب. مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ في قَوْلِه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬3). هو زكاةُ الفِطْر. وأُضِيفَتْ هذه ¬

(¬1) الأقِط: لبن محَمَّضٌ يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به. (¬2) أخرج الأول البخارى، في: باب فرض صدقة الفطر، وباب الصدقة قبل العيد، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 161، 162. ومسلم، في: باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 679. كما أخرجه أبو داود، في: باب متى تؤدى، وباب كم يؤدى في صدقة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 373. والترمذى، في: باب ما جاء في تقديمها قبل الصلاة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 187. والنسائى، في: باب فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين، وباب الوقت الذى يستحب أن تؤدى صدقة الفطر فيه، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 36، 41. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 67، 151، 157. والثانى أخرجه البخارى، في: باب صدقة الفطر صاع من طعام، وباب صاع من زبيب، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 161، 162. ومسلم، في: باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 678، 679. كما أخرجه أبو داود، في: باب كم يؤدى في صدقة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 374، 375. والترمذى، في: باب ما جاء في صدقة الفطر، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 179. والنسائى، في: باب التمر في زكاة الفطر، وباب الزبيب، وباب الدقيق، وباب الشعير، وباب الأقط، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 38 - 40. وابن ماجه، في: باب صدقة الفطر، من. كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 585. والدارمى، في: باب في زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 392، 393. والإمام مالك، في: باب ملكية زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 284. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 23، 73، 98. (¬3) سورة الأعلى 14. وانظر تفسير عبد الرزاق 2/ 367.

946 - مسألة: (وهى واجبة على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه، إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع، وإن كان مكاتبا)

وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ نَفْسِه، إِذَا فَضَلَ عِنْدَهُ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِةِ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ صَاعٌ، وَإنْ كَانَ مُكَاتبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزكاةُ إلى الفِطْرِ؛ لأنَّها تَجِبُ بالفِطْرِ مِن رَمضانَ. قال ابنُ قُتَيْبَةَ (¬1): وقِيلَ لها فِطْرَة؛ لأنَّ الفِطْرَةَ الخِلْقَةُ، قال اللَّهُ تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬2). وهذه يُرادُ بها الصَّدَقَةُ عن البَدَنِ والنَّفْسِ. قال بعضُ أصْحابِنا: وهل تُسَمَّى فَرْضًا مع القَوْلِ بوُجُوبِها؟ على رِوايَتَيْن. والصَّحِيحُ أنَّها فرْضٌ؛ لقَوْلِ ابنِ عُمَرَ: فَرَض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زكاةَ الفِطْرِ. ولأنَّ الفَرْضَ إن كان الواجِبَ فهى واجِبَةٌ، وإن كان الواجِبَ المُتَأكِّدَ فهى مُتَأكَّدَةٌ مُجْمَعٌ عليها، على ما حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. 946 - مسألة: (وهى واجِبَة على كُلِّ مُسْلِمٍ تَلْزَمُه مُؤْنَةُ نَفْسِه، إذا فَضَل عِنْدَه عن قوتِه وقُوتِ عِيالِه يَوْمَ العِيدِ ولَيْلَتَه صاعٌ، وإن كان مُكَاتبًا) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ زكاةَ الفِطْرِ تَجِبُ على كُلِّ مسلم، تَلْزَمُه مُؤْنَةُ نَفْسِه صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا، حُرًّا أو عَبْدًا، ذَكَرًا أو أنْثَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ. وهذا قَوْلُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. وتَجِبُ على اليَتيمِ، ¬

(¬1) غريب الحديث 1/ 184. (¬2) سورة الروم 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُخْرِجُ عنه وَلِيُّه مِن مالِه، لا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ فيه، إلَّا محمدَ بنَ الحسنِ، قال: ليس في مالِ الصَّغِيرِ صَدَقَةٌ. وقال الحسنُ: صَدَقَةُ الفِطْرِ على مَن صام مِن الأحْرارِ، وعلى الرَّقِيقِ. وعُمُومُ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ يَقْتَضِى وُجُوبَها على اليَتيمِ والصَّغِيرِ مُطْلَقًا, ولأنَّه مُسْلِمٌ فوَجبت فِطْرَتُه، كما لو كان له أبٌ. فصل: وتَجِبُ صَدَقَةُ الفِطْرِ على أهْلِ البادِيَةِ في قَوْلِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. رُوِىَ ذلك عن ابنَ الزُّبَيْرِ. وهو قَوْلُ الحسنَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصْحابِ الرَّأْى. وقال عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ورَبِيعَةُ: لا صَدَقَةَ عليهم. ولَنا، عُمُومُ الحَدِيثِ، ولأنَّها زَكاةٌ فوَجبت عليهم كزكاةِ المالِ، ولأنَّهم مسلمون، أشْبَهُوا أهْلَ الأمْصارِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَجِبُ على كافِرٍ أصْلِىٍّ، حُرًّا كان أو عَبْدًا، أمّا المُرْتَدُّ ففى وُجُوبِها عليه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى (¬1). قال شيخُنا (¬2): ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَهم في الحُرِّ البالِغِ الكافِرِ أنَّها لا تَجِبُ عليه. وقال إمامُنا، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ: لا تَجِبُ على العَبْدِ أيضًا, ولا على الصَّغِيرِ. ويُرْوَى عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وسعِيدِ ابنِ جُبَيْر، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْى، أن على السَّيِّدِ المسلمِ إخْراجَ الفِطْرَةِ عن عَبْدِه الذِّمِّىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُخْرِجُ عن ابْنِه الصَّغِيرِ إذا ارْتَدَّ. ورَوَوْا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وعَبْدٍ، صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ، يَهُودِىٍّ أو نَصْرَانِىٍّ، أو مَجُوسِىٍّ، نِصْفَ صَاعٍ منْ بُرٍّ» (¬3). ولأنَّ كُلَّ زَكاةٍ وَجَبَتْ بسَبَبِ عَبْدِه المسلمِ، وَجَبَتْ سبَبِ عبدِه الكافِرِ، كزكاةِ التِّجارَةِ. ولَنا, قَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَدِيثِ عن عُمَرَ: «مِنَ الْمُسْلِمِينَ». وروَى أبو داودَ (¬4)، عن ابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 6/ 332. (¬2) في: المغنى 4/ 283. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: باب زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 150 من حديث ابن عباس. وقال: سلام الطويل متروك الحديث، ولم يسنده غيره. اهـ. وأورده ابن الجوزى في الموضوعات 2/ 149. وانظر الكلام عليه في: نصب الراية 2/ 412. (¬4) في: باب زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 373. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب صدقة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 585.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: فَرَض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زكاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِن الرَّفَثِ واللَّغْوِ، وطُعْمَةً للمَساكينِ، من أدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فهى زَكاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَن أدَّاهَا بعدَ الصَّلاةِ فهى صَدَقَةٌ مِن الصَّدَقاتِ. وحَدِيثُهم لم نَعْرِفْه، ولم يَذْكُرْه أصحابُ السُّنَنِ، وزكاةُ التِّجارَةِ تَجِبُ عن القِيمَةِ، ولذلك تَجِبُ في سائِرِ الحَيَواناتِ وسائِرِ الأمْوالِ، وهذه طُهْرَةٌ للبَدَنِ، ولهذا اخْتُصَّ بها الآدَمِيُّون، بخلافِ زكاةِ التِّجارَةِ. فصل: فأن كان لكافِرٍ عَبْدٌ مسلمٌ، وهَلَّ هِلالُ شَوّالٍ وهو في (¬1) مِلْكِه، فحُكِىَ بن أحمدَ أنَّ على الكافِرِ إخْراجَ صَدَقَةِ الفِطْرِ عنه. واخْتارَه القاضى. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العلمِ أن لا صَدَقَةَ على الذِّمِّىِّ في عَبْدِه المسلمِ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «مِنَ الْمُسْلِمِينَ». ولأنَّه كافِرٌ، فلم تَجِبْ عليه الفِطْرَةُ كسائِرِ الكُفّارِ، ولأنَّها زكاةٌ فلم تَجِبْ على الكَفَرَةِ، كزَكاةِ المالِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الأُولَى، أنَّ العَبْدَ مِن أهْلِ الطُّهْرَةِ، فوَجَبَ أن تُؤَدَّى عنه الفِطْرَةُ، كما لو كان سَيِّدُه مسلمًا، وقَوْلُه: «مِنَ الْمُسْلِمِينَ». يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ به المُؤَدَّى عنه، بدَلِيلِ أنَّه لو كان للمسلمِ عَبْدٌ كافِرٌ لم تَجِبْ. فِطْرَتُه، ولأنَّه ذَكَر في الحَدِيثِ كُلَّ عَبْدٍ وصَغِيرٍ، وهذا يَدُلُّ على أنَّه أرادَ المُؤَدَّى عنه، لا المُؤَدِّى ولأصْحاب الشافعىِّ في هذا وَجْهان كالمَذْهَبَيْن. فصل: وهى واجِبَةٌ على مَن قَدَر عليها, ولا يُعْتَبَرُ في وُجُوبِها النِّصابُ. وبهذا قال أبو هُرَيْرَةَ، وأبو العالِيَةِ، والشَّعْبِىُّ، وعطاء، وابنُ سيرِينَ، والزُّهْرِىّ، ومالكٌ، وابنُ المُبارَكِ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: لا تَجِبُ إلَّا على مَن يَمْلِكُ مائَتَى دِرْهَمٍ، أو ما قِيمَتُه نِصابٌ فاضِلًا عن مَسْكَنِه؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» (¬1). والفَقِيرُ (¬2) لا غِنَى له، فلا تَجِبُ عليه، ولأنَّه تَحِلُّ له ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 339. (¬2) في م: «الفقر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّدَقَةُ، فلا تَجِبُ عليه، كالعاجزِ عنها. ولَنا، ما روَى ثَعْلَبَةُ بنُ أبى صُعَيْرٍ، عن أبِيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أدُّوا صَدَقَةَ (¬1) الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ». أوْ قال: «بُرٍّ، عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أوْ مَمْلُوكٍ، غَنِىٍّ أوْ فَقِيرٍ، ذَكَرٍ أوْ أنْثَى، أمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّه، وَأمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطَى» (¬2). وفى رِوايَةِ أبى داودَ: «صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ». ولأنَّه حَقُّ مالٍ لا يَزِيدُ بزِيادَةِ المَالِ، فلم يُعْتَبَرْ وُجُودُ النِّصابِ له، كالكَفّارَةِ، ولا يَمْتَنِعُ أن يُؤْخَذَ منه ويُعْطَى، كمَن وَجَبَ عليه العُشْرُ. والقِياسُ على العاجِزِ لا يَصِحُّ، وحَدِيثُهم مَحْمُولٌ على زكاةِ المالِ. فصل: ومَن له دارٌ يَحْتاجُ إليها لسُكْناه، أو إلى أجْرِها لنَفَقَتِه، أو ثِيابُ بذْلَةٍ له، أو لمَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، أو رَقِيقٌ يَحْتاجُ إلى خِدْمَتِهم هو أو مَن يَمُونُه، أَو بَهائِمُ يَحْتاجُون إلى رُكُوبِها والانْتِفاعِ بها في حَوائِجِهم الأصْلِيَّةِ، أو سائِمَةٌ يَحْتاجُ إلى نَمائِها لذلك، أو بضاعَة يَخْتَلّ رِبْحُها الذى يَحْتاجُ إليه بإخْراجِ الفِطْرَةِ منها، فلا فِطْرَةَ عليه لذلك؛ لأنَّ هذا مما تَتَعَلَّقُ به حاجَتُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من روى نصف صاع من قمح، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 375. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصْلِيَّةُ، فلم يَلْزَمْه بَيْعُه، كمُؤْنَةِ نَفْسِه يَوْمَ العِيدِ. ومَن له كُتُبٌ يَحْتاجُ إليها للنَّظَرِ فيها والحِفْظِ منها, لا يَلْزَمُه بَيْعُها. والمرأةُ إذا كان لها حَلْىٌ للُّبْسِ أو الكِراءِ المُحْتاجِ إليه، لم يَلْزَمْها بَيْعُه في الفِطْرَةِ. وما فَضَل مِن ذلك كُلِّه عن حَوائِجِه الأصْلِيَّةِ، وأمْكَنَ بَيْعُه أو صَرْفُه في الفِطْرَةِ، وَجَبَتِ الفِطْرَةُ به؛ لأنَّه أمْكَنَه أداؤُها مِن غيرِ ضَرَرٍ أصْلِىٍّ أشْبَهَ ما لو مَلَك مِن الطَّعامِ ما يُؤَدِّيه فاضِلًا عن حاجَتِه. فصل: وليس على السَّيِّدِ في مُكاتَبِه زكاةُ الفِطْرِ. وهذا قَوْلُ أبى سَلَمَةَ ابنِ عبدِ الرحمنِ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، في أشْهَرِ قَوْلَيْه، وأَصْحابِ الرَّأْى. وقال عَطاء، ومالكٌ، وابن المُنْذِرِ: على السَّيِّدِ؛ لأنَّه عَبْدٌ، أشْبَهَ سائِرَ العَبيدِ. ولَنا، قَوْلُه عليه السَّلامُ: «مِمَّنْ تَمُونونَ» (¬1). وهذا لا يَمُونُه، ولأَنَّه لا تَلْزَمُه مُؤْنته، أشْبَهَ الأجْنَبِىَّ، وبهذا فارَقَ سائِرَ عَبِيدِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ على المُكاتَبِ فِطْرَةَ نَفْسِه، وفِطْرَةَ مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُه، ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: باب زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 141. والبيهقى، في: باب إخراج زكاة الفطر عن نفسه وغيره، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 161. كلاهما من حديث ابن عمر مرفوعًا. وروى البيهقى نحوه من رواية على بن أبى طالب مرفوعًا كذلك. وانظر: نصب الراية 2/ 413.

947 - مسألة: (وإن فضل بعض صاع، فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين)

وَإنْ فَضَلَ بَعْضُ صَاعٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كزَوْجَتِه ورَقِيقِه. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: لا تَجِبُ عليه قِياسًا على القِنِّ (¬1)، ولأنَّها زكاة، فلم تَجِبْ على المُكاتَبِ، كزكاةِ المالِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَض صَدَقَةَ الفِطْرِ على الحُرِّ والعَبْدِ، والذَّكَرِ والأُنْثَى. وهذا عَبْدٌ، لا يَخْلُو مِن كَوْنِه ذَكَرًا أو أُنْثَى، ولأنَّه تَلْزَمُه مُؤْنَةُ نَفْسِه، فلَزِمَتْه الفِطْرَةُ، كالحُرِّ، ويُفارِقُ زكاةَ المالِ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ لها الغِنَى والنِّصابُ والحَوْلُ، ولا يَحْمِلُها أحَدٌ عن غيرِه، بخِلافِ الفِطْرَةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على القِنِّ؛ لأنَّ مُؤْنَةَ القِنِّ على سَيِّدِه، بخلافِ المُكاتَبِ. وتَجِبُ على المُكاتَبِ فِطْرَةُ مَن يَمُونُه؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «عَمَّنْ تَمُونُونَ». 947 - مسألة: (وإن فَضَل بَعْضُ صاعٍ، فهل يَلْزَمُه إخْراجُه؟ على روايَتَيْن) إحْداهما، لا يَلْزَمُه. اخْتارَها ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّها طُهْرَةٌ، فلا تَجِب على مَن يَعْجِزُ عن بَعْضِها، كالكَفّارَةِ. والثَّانيةُ، يَلْزَمُه إخْراجُه؛ ¬

(¬1) في م: «الثمن».

948 - مسألة: (وتلزمه فطرة من يمونه من المسلمين)

وَتَلْزَمُهُ فِطْرَةُ مَنْ يَمُوُنهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْل النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). ولأنَّها طُهْرَةٌ، فوَجَبَ منها ما قَدَر عليه، كالطّهارَةِ بالماءِ، ولأنَّ بعضَ الصَّاعِ يُخْرَجُ عن العَبْدِ المُشْتَرَكِ، فجازَ أن يُخْرَجَ عن غيرِه، كالصّاعِ. 948 - مسألة: (وتَلْزَمُه فِطْرَةُ مَن يَمُونُه مِن المُسْلِمِين) إذا وَجَد ما يُؤَدِّى عنهم؛ لحَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَض صَدَقَةَ الفِطْرِ عن كُلِّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ، حُرٍّ وعَبْدٍ، مِمَّن تَمُونُونَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والذين يَلْزَمُ الإِنْسانَ فِطْرَتُهم ثَلاثَةُ أصْنافٍ؛ الزَّوْجاتُ، والعَبِيدُ، والأقارِبُ. فأمّا الزَّوجاتُ فتَلْزَمُه فِطْرَتُهُنَّ في قَوْلِ مالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا تَجِبُ عليه، وعلى المرأةِ فِطْرَةُ نَفْسِها؛ لقَوْل رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَدَقَةُ الفِطْرِ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى» (¬1). ولأَنَّها زكاةٌ، فوَجَبَتْ عليها، كزكاةِ مالِها. ولَنا، الخَبَرُ الذى رَوَيْناه، ولأنَّ النِّكاحَ سَبَبٌ تَجِبُ به النَّفَقَةُ، فوَجَبَتْ به الفِطْرَةُ، كالمِلْكِ والقَرابَةِ، بخِلافِ زَكاةِ المالِ، فإنَّهَا لا تُتَحَمَّلُ بالمِلْكِ والقَرابَةِ. فإن كان لامْرَأتِه مَن يَخْدِمُها بأُجْرَةٍ، فِليس على الزَّوْجِ فِطْرَتُه؛ لأنَّ الواجِبَ الأجْرُ دُونَ النَّفَقَةِ، وإن كان لها نَظَرْتَ، فإن كانت مِمَّن لا يَجِبُ لها خادِم، فليس عليه نَفَقَةُ خادِمِها ولا فِطْرَتُه، وإن كانت مِمَّن يُخْدَمُ مِثْلُها، فعلى الزَّوْجِ أن يُخْدِمَها، ثم هو مُخَيَّرٌ بينَ أن يَشْتَرِى لها خادِمًا، أو يَكْتَرِى، أو يُنْفِقَ على خادِمِها، فإنِ اخْتارَ الإِنْفاقَ على خادِمِها فعليه فِطْرَتُه، وإنِ اسْتَأْجَرَ لها خادِمًا فليس عليه نَفَقَتُه ولا فِطْرَتُه، سَواءٌ شَرَط عليه مُؤْنَتَه أو لم يَشْرِطْ؛ لأنَّ المُؤْنَةَ إذا كانت أُجْرَةً فهى مِن مالِ المُسْتَأْجِرِ، وإن كانت تَبَرُّعًا، فهو كما لو تَبَرَّعَ بالإِنْفاقِ على (¬2) أجْنَبِىٍّ، وسَنَذْكُرُه، إن شاء اللَّه تعالى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 79 من حديث ابن عمر. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الثانى، العَبِيدُ، وتَجِبُ فِطْرَتُهم على السَّيِّدِ إذا كانوا لغيرِ التِّجارَةِ إجْماعًا. وإن كانوا للتِّجارَةِ فكذلك. وهو قَوْلُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى: لا تَلْزَمُه فِطْرَتُهم؛ لأنَّها زكاةٌ، ولا تَجِبُ في مالٍ واحِدٍ زكاتان، وقد وَجَب فيهم زَكاةُ التِّجارَةِ، فيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الزَّكاةِ الأُخْرَى، كالسّائِمَةِ إذا كانت للتِّجارَةِ. ولَنا، عُمُومُ الأحادِيثِ، وقولُ ابنِ عُمَرَ: فَرَض رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زكاةَ الفِطْرِ على الحُرِّ والعَبْدِ (¬1). وفى حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ: «ألَا إنَّ صَدَقَةَ الفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، حُرٍّ أوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ» (¬2). ولأنَّ نَفَقَتَهم واجِبَةٌ، أشْبَهُوا عَبِيدَ القُنْيَةِ، وزكاةُ الفِطْرِ تَجِبُ على البَدَنِ، ولهذا تَجِبُ على الأحْرارِ، وزكاةُ التِّجارَةِ تَجِبُ عن القِيمَةِ وهى المالُ، بخِلافِ السَّوْمِ والتِّجارَةِ، فإنَّهما يَجِبان بسَبَبِ مالٍ واحِدٍ. ومتى كان عَبِيدُ التِّجارَةِ في يَدِ المُضارِب وَجَبَتْ فِطْرَتُهم مِن مالِ المُضارَبَةِ؛ لأنَّ مُؤْنَتَهم منها. وحَكى ابنُ المُنْذِرِ عن الشافعىِّ، أنَّها على رَبِّ المالِ. ولَنا، أنَّ الفِطْرَةَ تابِعَة للنَّفَقَةِ، وهى مِن المالِ، فكذلك الفِطْرَةُ. فصل: وأمّا عَبِيدُ عَبِيدِه، فإن قُلْنا: إنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُهم بالتَّمْلِيكِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 79. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في صدقة الفطر، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 181.

949 - مسألة: (فإن لم يجد ما يؤدى عن جميعهم، بدأ بنفسه،

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُؤَدِّى عَنْ جَمِيعِهِمْ، بَدَأَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِامْرَأَتِه، ثُمَّ بِرَقِيقِهِ، ثُمَّ بِوَلَدِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ففِطْرَتُهم على السَّيِّدِ، لأنَّهم مِلْكُه. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وقَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وإن قُلْنا: يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ. فقد قِيلَ: لا تَجِبُ فِطْرَتُهم على أحَدٍ؛ لأنَّ السَّيِّدَ لا يَمْلِكُهم، ومِلْكُ العَبْدِ ناقِصٌ. والصَّحِيحُ وُجُوبُ فِطْرَتِهم على العَبْدِ؛ لأنَّ نَفَقَتَهم واجِبَةٌ عليه، فكذلك فِطْرَتُهم. وعَدَمُ تَمامِ المِلْك لا يَمْنَعُ وُجُوبَ الفِطْرَةِ، بدَلِيل وُجُوبِها على المُكاتَبِ عن نَفْسِه وعَبِيدِه، مع نقْصِ مِلْكِه. فصل: وأمّا زَوْجَةُ العَبْدِ، فذَكَرَ أصحابُنا المُتَأخِّرُونَ أنَّ فِطْرَتَها على نَفْسِها إن كانت حُرَّةً، وعلى سَيِّدِها إن كانت أمَةً. قال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللَّهُ: وقِياسُ المَذْهَبِ عندِى وُجُوبُ فِطْرَتِها على سَيِّدِ العَبْدِ؛ لوُجُوبِ نَفَقَتِها عليه، كما أنَّه يَجِبُ على الزَّوْجِ نَفَقَةُ خادِمِ امْرَأتِه، مِع أنَّه لا يَمْلِكُها؛ لوُجُوبِ نَفَقَتِها, ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أدُّوا صَدَقةَ الفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» (¬2). وهذه مِمَّن يَمُونُ. وهكذا لو زَوَّجَ الابنُ أباه، وكان ممَّن تَجِبُ عليه نَفَقَتُه ونَفَقَةُ امرأتِه، فعليه فِطْرَتُهما. 949 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ ما يُؤَدِّى عن جَمِيعِهم، بَدَأ بنَفْسِه، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 305. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87.

ثُمَّ بأُمِّهِ، ثُمَّ بِأَبِيهِ، ثُمَّ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ في الْمِيرَاثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم بامرأتِه، ثم برَقِيقِه، ثم بوَلَدِه، ثم بأُمِّه، ثم بأبِيه، ثم بالأقْرَبِ فَالأقْرَبِ في المِيراثِ) إذا لم يَفْضُلْ عندَه إلَّا صاعٌ أخرَجَه عن نَفْسِه؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» (¬1). ولأنَّ الفِطْرَةَ تَنْبَنِى على النَّفَقَةِ، فكما أنَّه يَبْدَأُ بنَفْسِه في النَّفَقَةِ، فكذلك في الفِطْرَةِ. فإن فَضَل صاعٌ آخَرُ (¬2) أخْرَجَه عن امْرأتِه؛ لأنَّ نَفَقَتَها آكَدُ؛ لأنَّها تَجِبُ على سَبِيلِ المُعاوَضَةِ مع اليَسارِ والإِعْسارِ، ونفَقَةُ الأقارِبِ صِلَةٌ إنَّما تَجِبُ مع اليَسارِ. فإن فَضَل آخَرُ، أخْرَجَه عن رَقِيقِه؛ لوُجُوبِ نَفَقَتِهم في الإِعْسارِ أيضًا. قال ابنُ عَقِيلٍ: ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُهم على الزَّوْجَةِ؛ لأنَّ فِطْرَتَهُم مُتَّفَقٌ عليها، وفِطْرَتُها مُخْتَلَفٌ فيها. فإن فَضَل آخَرُ أخْرَجَه عن وَلَدِه الصَّغِيرِ؛ لأنَّ نَفَقَتَه مَنْصُوصٌ عليها، ومُجْمَع عليها. وفى الوالِدِ والوَلَدِ الكَبِيرِ وَجْهان؛ أحَدُهما، يُقَدَّمُ الوَلَدُ؛ لأنَّه كبَعْضِه، أشْبَهَ الصَّغِيرَ. والثانِى، الوالِدُ؛ لأنَّه كبعضِ ولَدِه. ويقَدِّمُ فِطْرَةَ الأُمِّ على فِطْرَةِ الأبِ؛ لأن الأمَّ مُقدَّمَةٌ في البِرِّ، بدَلِيلِ قَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعْرابِىِّ حِينَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 340. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: مَن أبَرُّ؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «ثُمَّ (¬1) أبُوكَ» (¬2). ولأنَّها ضَعِيفَةٌ عن الكَسْبِ. ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الأبِ، وحكاه ابنُ أبى موسى رِوايَةً عن أحمدَ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ» (¬3). ثم بالجَدِّ، ثم بالأقْرَبِ فالأقْرَبِ (¬4)، على تَرْتِيبِ المِيراثِ. ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ فِطْرَةِ الوَلَدِ على فِطْرَةِ المرأةِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أمَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصَّدَقَةِ، فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، عندِى دِينارٌ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ». قال: عندِى آخَرُ: قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ». قال: عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّق بِهِ عَلَى زَوْجِكَ». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاى، في: باب من أحق الناس بحسن الصحبة، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 2. ومسلم، في: باب بر الوالدين وأنهما أحق به، من كتاب البر والصلة. صحيح مسلم 4/ 1974. وأبو داود، في: باب في بر الوالدين، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 629. والترمذى، في: باب ما جاء في بر الوالدين، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 92. وابن ماجه، في: باب النهى عن الإمساك في الحياة. . .، من كتاب الوصايا، وفى: باب بر الوالدين، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 903، 1207. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 327، 391، 402، 5/ 3, 5. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يأكل من مال ولده، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 259. وابن ماجه، في: باب ما للرجل من مال ولده، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 769. والإمام أحمد، في: المسند: 2/ 179، 204، 214. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ». قال: عندِى آخَرُ. قال: «أَنْتَ أبْصَرُ» (¬1). فقَدَّمَ الوَلَدَ في الصَّدَقَةِ عليها، فكذلك في (¬2) الصَّدَقَةِ عنه. ولأنَّ الوَلَدَ كبَعْضِه، فيُقَدَّمُ كتَقْدِيمِ نَفْسِه، ولأنَّه إذا ضَيَّعَ وَلَدَه لم يَجِدْ مَن يُنْفِقُ عليه، والزَّوْجَةُ إذا لم يُنْفِقْ عليها فُرِّقَ بينَهما، وكان لها مَن يَمُونُها، مِن زَوْجٍ أو ذى رَحِمٍ، ولأنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ على سَبِيلِ المُعاوَضَةِ، فكانت أضْعَفَ في اسْتِتْباعِ الفِطْرَةِ مِن النَّفَقَةِ الواجِبَةِ على سَبِيلِ الصِّلَةِ؛ لأنَّ وُجُوبَ [العِوَضِ المُقَدَّرِ لا يَقْتَضِى وُجُوبَ] (¬3) زِيادَةٍ عليه يَتَصَدَّقُ بها عنه، ولذلك لم تَجِبْ فِطْرَةُ الأجِيرِ المَشْرُوطِ نَفَقَتُه، بخلافِ القَرابَةِ، فإنَّها كما اقْتَضَتْ صِلَتَه بالإنْفاقِ عليه، اقْتَضَتْ صِلَتَه بتَطْهِيرِه بإخْراجِ الفِطْرَةِ عنه. واللَّه أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في صلة الرحم، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 393. والنسائى، في: باب تفسير الصدقة عن ظهر غنى، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 47. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 251، 471. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

950 - مسألة: (ويستحب الإخراج عن الجنين، ولا يجب)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْرِجَ عَنِ الْجَنِينِ، وَلَا يَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 950 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ الإِخْراجُ عن الجَنِينِ، ولا يَجِبُ) يُسْتَحَبُّ إخْراجُ الفِطْرَةِ عن الجَنِينِ؛ لأنَّ عُثمانَ، رَضِىَ اللَّه عنه، كان يُخْرِجُها عنه، ولأنَّها صَدَقَةٌ عمَّن لا تَجِبُ عليه، فكانت مُسْتَحَبَّةً، كَسائِرِ صَدَقاتِ التَّطَوُّعِ. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ فِطْرَةَ الجَنِينِ غيرُ واجِبَةٍ. وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن علماءِ الأمْصارِ لا يُوجِبُ على الرجلِ زكاةَ الفِطْرِ عن الجَنِينِ في بَطْنِ أُمِّه. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّها تَجبُ عليه؛ لأنَّه آدَمِى، تَصِحُّ الوَصِيَّةُ له وبه ويَرِثُ، فيَدْخُل في عُمُومِ الأَخْبارِ، ويُقاسُ على المَوْلُودِ. ولَنا، أنَّه جَنِينٌ فلم تَتَعَلَّقْ به الزكاةُ، كأجِنَّة البَهائِمِ، ولأنَّه لم تَثْبُتْ له أحْكامُ الدُّنْيا إلَّا في الإِرث والوَصِيَّةِ، بشَرْطِ خُرُوجِه حَيًّا، [فأُلْحِقَ هذا الحُكْمُ بسائِرِ] (¬1) الأحْكامِ. ¬

(¬1) في م: «فحكم هذا كسائر».

951 - مسألة: (ومن تكفل بمؤنة شخص فى شهر رمضان، لم تلزمه فطرته عند أبى الخطاب. والمنصوص أنها تلزمه)

وَمَنْ تَكَفَّلَ بِمُؤْنَةِ شَخْصٍ في شَهْرِ رَمَضَانَ، لَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ عِنْد أَبِى الْخَطَّابِ. وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 951 - مسألة: (ومَن تَكَفَّلَ بمُؤْنَةِ شَخْصٍ في شَهْرِ رَمَضانَ، لم تَلْزَمْه فِطْرَتُه عندَ أبى الخَطّابِ. والمَنْصُوصُ أنَّها تَلْزَمُه) وهذا قَوْلُ أكْثَرِ الأصْحابِ. وقد نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبى داودَ، في من ضَمَّ إلى نَفْسِه يَتِيمَةً، يُؤَدِّى عنها؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «أدُّوا صَدَقَةَ الفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ» (¬1). وهذا مِمَّن يَمُونُ ولأنَّه شَخْصٌ يُنْفِقُ عليه، فلَزِمَتْه فِطْرَتُه، كعَبْدِه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه لا تَلْزَمُه فِطْرَتُه؛ لأنَّه لا تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، فلم تَلْزَمْه فِطْرَتُه، كما لو لم يَمُنْه. وهذا قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وهو الصَّحِيحُ، إن شاء اللَّهُ. وكلامُ أحمدَ في هذا مَحْمُولٌ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِحْبابِ، والحَدِيثُ مَحْمُولٌ على مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، لا على حَقِيقَةِ المُؤْنَةِ، بدَلِيلِ أنَّه تَلْزَمُه فِطْرَةُ الآبِقِ ولم يَمُنْه. ولو مَلَك عَبْدًا عندَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أو تَزَوَّجَ، أو وُلِد له وَلَدٌ، لَزِمَتْه فِطْرَتُهم؛ لوُجُوبِ مُؤْنَتِهم عليه، وإن لم يَمُنْهم، ولو باع عبدَه، أو طَلَّقَ امرأتَه، أو ماتا، أو مات وَلَدُه، لم تَلْزَمْة فِطْرَتُهم، وإن مانَهم، ولأنَّ قَوْلَه: «عَمَّنْ تَمُونُونَ». فِعْلٌ مُضارِعٌ يَقْتَضِى الحالَ أو الاسْتِقْبالَ دُونَ الماضِى، ومَن مانَه في رمضانَ إنَّما وُجِدَتْ منه المُؤْنَةُ في الماضِى، فلا يدخلُ في الخَبَرِ، ولوِ دَخَل فيه لاقْتَضَى بعُمُومِه وُجُوبَ الفِطْرَةِ على مَن مانَه لَيْلَةً واحِدَةً؛ لأنَّه ليس في الخَبَرِ ما يَقْتَضِى تَقْيِيدَه بالشَّهْرِ ولا بغَيْرِه، فالتَّقْيِيدُ بمُؤْنَةِ الشَّهْرِ تَحَكُّمٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا تكونُ فِطْرَتُه على نَفْسِه، كما لو لم يَمُنْه. وعلى قَوْلِ أصحابنا، المُعْتَبَرُ الإِنْفاقُ في جَمِيعِ الشَّهْرِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: قِياسُ مَذْهَبِنا أنَّه إذا مانَه آخِرَ لَيْلَةٍ وَجَبَتْ فِطْرَتُه، قِياسًا على مَن مَلَك عَبْدًا عندَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. فإن مانَه جَماعَةٌ في الشَّهْرِ كُلِّه، أو مانَه إنْسانٌ في بَعْض الشَّهْرِ، فعلى تَخْرِيجِ ابنِ عَقِيلٍ تكونُ فِطْرَتُه على أن مانَه آخِرَ لَيْلَةٍ، وعلى قَوْلِ غيرِه يَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ فِطْرَتُه على أحَدٍ ممَّن مانَه؛ لأنَّ سَبَبَ الوُجُوبِ المُؤْنَةُ في جَمِيعِ الشَّهْرِ، ولم يُوجَدْ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ على الجَمِيعِ فِطْرَةٌ واحِدَةٌ بالحِصَصِ؛ لأنَّهم اشْتَرَكُوا في سَبَبِ الوُجُوبِ، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَكُوا في مِلْكِ عَبْدٍ.

952 - مسألة: (وإذا كان العبد بين شركاء، فعليهم صاع. وعنه، على كل واحد صاع. وكذلك الحكم فى من بعضه حر)

وَإذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شُرَكَاءَ، فَعَلَيْهِمْ صَاعٌ. وَعَنْهُ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ في مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 952 - مسألة: (وإذا كان العَبْدُ بينَ شُرَكاءَ، فعليهم صاعٌ. وعنه، على كُلِّ واحِدٍ صاعٌ. وكذلك الحُكْمُ في مَن بَعْضُه حُرٌّ) فِطْرَةُ العَبْدِ المُشْتَرَكِ واجِبَةٌ على مَوالِيه. وبه قال مالكٌ، ومحمدُ بنُ مَسْلَمَةَ (¬1)، وعبدُ المَلِكِ، والشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الحسنُ، وعِكْرِمَةُ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ: لا فِطْرَةَ على واحِدٍ منهم؛ لأنَّه ليس عليه لأحَدٍ منهم وِلايةٌ تامَّةٌ، أشبَهَ المُكاتَبَ. ولَنا، عُمُومُ الأحادِيثِ، ولأنَّه عَبْدٌ مسلمٌ مَمْلُوكٌ لمَن يَقْدِرُ على الفِطْرَةِ وهو مِن أهلِها فلَزِمَتْه، كمَمْلُوكِ الواحِدِ، وفارَقَ المُكاتَبَ، فإنَّه لا يَلْزَمُ سَيِّدَه مُؤْنَتُه، ولأنَّ المُكاتَبَ يُخْرِجُ عن نَفْسِه زكاةَ الفِطْرِ، بخلافِ القِنِّ، والوِلايةُ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ في وُجُوبِ الفِطْرَةِ، بدَلِيلِ عَبْدِ الصَّبِىِّ، ثم إنَّ وِلايتَه للجَمِيعِ، ¬

(¬1) في م: «سلمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَكُونُ فِطْرَتُه عليهم. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في قَدْرِ الواجِبِ على كُلِّ واحِدٍ منهم، ففى إحْداهما، على كُلِّ واحِدٍ صاعٌ؛ لأنَّها طُهْرَةٌ، فوَجَبَ تَكْمِيلُها على كُلِّ واحِدٍ مِن الشُّرَكاءِ، ككفّارَةِ القَتْلِ. والثانيةُ، على الجَمِيعِ صاعٌ واحِدٌ، على كُلِّ واحِدٍ بقَدْرِ مِلْكِه فيه. هذا الظّاهِرُ عن أحمدَ. قال فَوْزانُ (¬1): رَجَع أحمدُ عن هذه المَسْألَةِ، وقال: يُعْطِى كُلُّ واحِدٍ منهم نِصْفَ صاعٍ. يَعْنِي رَجَعِ عن إيجابِ صاعٍ كامِلٍ على كُل واحِدٍ. وهذا قَوْلُ سائِرِ مَن أوْجَبَ فِطْرَته على سادَتِه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْجَبَ صاعًا عن كُلِّ واحِدٍ. وهذا عامٌّ في المُشْتَرَكِ وغيرِه، ولأنَّ نَفَقَتَه تُقْسَمُ عليهم، فكذلك فِطْرَتُه التّابِعَةُ لها, ولأنَّه شَخْصٌ واحِدٌ، فلم يَجِبْ عنه أكثَرُ مِن صاعٍ، كسائِرِ الناسِ، ولأنَّها طُهْرَةٌ، فوَجَبَتْ على سادَتِه بالحِصَصِ، كماءِ الغُسْلِ مِن الجَنابَةِ إذا احْتِيجَ إليه. وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرْناه للرِّوايَةِ الأُولَى. فصل: ومَن بَعْضُه حُرٌّ، ففِطْرَتُه عليه وعلى سَيِّدِه. وبه قال الشافعىُّ، ¬

(¬1) هو عبد اللَّه بن محمد بن المهاجر، كان الإمام أحمد يجله، وكان من أصحابه الذين يقدمهم، ويأنس بهم، ويخلو إليهم، ويستقرض منهم، توفى سنة ست وخمسين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 195، 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو ثَوْرٍ. وقال مالكٌ: على الحُرِّ بحِصَّتِه، وليس على العَبْدِ شئٌ. ولَنا، أنَّه مسلمٌ تَلْزَمُ مُؤْنَتُه شَخْصَيْن مِن أهْلِ الفِطْرَةِ، فكانت فِطْرَتُه عليهما، كالمُشْتَرَكِ، وهل يَلْزَمُ كُلَّ واحِدٍ منهما صاعٌ أو بالحِصَصِ؟ يَنْبَنِى على ما ذَكَرْنا في العَبْدِ المُشْتَرَكِ، فإن كان أحَدُهما مُعْسِرًا فلا شئَ عليه، وعلى الآخَرِ (¬1) القَدْرُ الواجِبُ عليه، فإن كان بينَ السَّيِّدِ والعَبْدِ مُهايَأةٌ، أو كان المُشْتَرِكُون في العَبْدِ قد تَهايئُوا عليه، لم تَدْخُلِ الفِطْرَةُ في المُهايَأةِ؛ لأنَّ المُهايأةَ مُعاوَضَةُ كَسْبٍ بكَسْبٍ، وِالفِطْرَةُ حَقٌّ للَّهِ تعالى، فلم تَدْخُلْ في ذلك، كالصلاةِ. ولو ألْحَقَتِ القافَةُ (¬2) وَلَدًا ¬

(¬1) في م: «الأحرار». (¬2) القافة جمع قائف، وهو الذى يتبع الأثر، ومنه قيل للذي ينظر إلى شبه الولد بأبيه قائف. تهذيب اللغة 9/ 330.

953 - مسألة: (وإن عجز زوج المرأة عن فطرتها، فعليها أو على

وَإنْ عَجَزَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ عَنْ فِطْرَتِهَا، فَعَلَيْهَا أَوْ عَلَى سَيِّدِهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً فِطْرَتُهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ برَجُلَيْن أو أكْثَرَ، فالحُكْمُ في فِطْرَتِه كالحُكْمِ في العَبْدِ المُشْتَرَكِ. وكذلك المُعْسِرُ القَرِيبُ لاثْنَيْن أو لجماعةٍ، نَفَقَتُه عليهم، وفِطْرَتُه عليهم، حُكْمُها حُكْمُ فِطْرَةِ العَبْدِ المُشْتَرَكِ على ما ذُكِرَ فيه. 953 - مسألة: (وإن عَجَز زَوْجُ المرأةِ عن فِطْرَتِها، فعليها أو على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَيِّدِها إن كانَتْ أمَةً فِطْرَتُها. ويَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ) إذا أعْسَرَ بفِطْرَةِ زَوْجَتِه، فعليها فِطْرَةُ نَفْسِها، أو على سَيِّدِها إن كانت مَمْلُوكَةً؛ لأنَّها تُتَحَمَّلُ إذا كان ثَمَّ مُتَحَمِّلٌ، فإذا لم يكنْ عاد إليها، كالنَّفَقَةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ عليها شئٌ؛ لأنَّها لم تَجِبْ على أن وُجِدَ سَبَبُ الوُجُوبِ في حَقِّه لعُسْرَتِه، فلم تَجِبْ على غيرِه، كفِطْرَةِ نَفْسِه. وتُفارِقُ النَّفَقةَ، فإنَّ

954 - مسألة: (ومن كان له غائب أو آبق فعليه فطرته، إلا

وَمَنْ كَانَ لَهُ غَائِبٌ أَوْ آبِقٌ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، إلَّا أَنْ يَشُكَّ في حَيَاتِهِ فَتَسْقُطَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُوبَها آكَدُ؛ لأنَّها ممَّا لا بُدَّ منه، وتَجِبُ على المُعْسِرِ والعاجِزِ، ويُرْجَعُ عليه بها عندَ يَسارِه، والفِطْرَةُ بخِلافِها. 954 - مسألة: (ومَن كان له غائِبٌ أو آبِقٌ فعليه فِطْرَتُه، إلَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَشُكَّ في حَياتِه فتَسْقُطَ) تَجِبُ فِطْرَةُ العَبْدِ الحاضِرِ، والغائِبِ الذى تُعْلَمُ حَياتُه، والآبِقِ، والمَرْهُونِ، والمغْصُوبِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ أهلِ العلمِ على أنَّ على المَرْءِ زكاةَ الفِطْرِ عن مَمْلُوكِه الحاضِرِ غيرِ المُكاتَبِ، والمَغْصُوبِ، والآبِقِ. والغائِبُ تَجِبُ فِطْرَتُه إذا عُلِمَ أنَّه حَىٌّ، سَواءٌ رَجا رَجْعَتَه أو أيِسَ منها، وسَواءٌ كان مُطْلَقًا أو مَحْبُوسًا، كالأسِيرِ وغيرِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ أهلِ العِلْمِ يَرَوْنَ أن تُؤَدَّى زكاةُ الفِطْرِ عن الرَّقِيقِ، غائِبِهم وحاضِرِهم؛ لأنَّه مالكٌ لهم، فوَجَبَتْ فِطْرَتُهم عليه، كالحاضِرِين. وممَّن أوْجَبَ فِطْرَةَ الآبِقِ الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، والزُّهْرِىُّ إذا عُلِمَ مَكانُه، والأوْزاعِىُّ إن كان في دارِ الإِسْلامِ، ومالكٌ إن كانت غَيْبَتُه قرِيبَةً. ولم يُوجِبْها عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه الإِنْفاقُ عليه، فلا تَجِبُ فِطْرَتُه، كالمرأةِ

955 - مسألة: (وإن علم حياته بعد ذلك، أخرج لما مضى)

وَإنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أخْرَجَ لِمَا مَضَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّاشِزِ. ولَنا، أنَّه مالُه (¬1)، فوَجَبَتْ زكاتُه في حالِ غَيْبَتِه, كمالِ التِّجارَةِ، ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه إخْراجُ زكاتِه حتَّى يَرْجعَ، كزَكاةِ الدَّيْن والمَغْصُوبِ. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ. ووَجْهُ القَوْلِ الأَوَّل، أنَّ زَكاةَ الفِطْرِ تَجِبُ تابِعَةً للنَّفَقَةِ، والنَّفَقَةُ تَجِبُ مع الغَيْبَةِ، بدَلِيلِ أنَّ مَن رَدَّ الآبِقَ رَجَع بنَفَقَتِه. فأمَّا مَن شُكَّ في حَياتِه وانْقَطَعَتْ أخْبارُه لم تَجِبْ فِطْرَتُه. نصَّ عليه، في رِوايَةِ صالِحٍ؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ بَقاءَ مِلْكِه عليه، ولأنَّه لو أعْتَقَه عن كَفَّارَتِه لم يُجْزِئْه، فلم تَجِبْ فِطْرَتُه، كالمَيِّتِ. 955 - مسألة: (وإن عَلِم حَياتَه بعدَ ذلك، أخْرَجَ لِما مَضَى) لأنَّه بان له وُجُودُ سَبَبِ الوُجُوبِ في الزَّمَنِ الماضِى، فوَجَبَ عليه الإِخْراجُ لما مَضَى، كما لو سَمِع بهَلاكِ مالِه الغائِبِ، ثم بان له أنَّه كان سَلِيمًا. ¬

(¬1) في الأصل: «مال».

956 - مسألة: (ولا تلزم الزوج فطرة الناشز. وقال أبو الخطاب: تلزمه)

وَلَا تَلْزَمُ الزَّوْجَ فِطْرَةُ النَّاشِزِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَلْزَمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُكْمُ في القَرِيبِ الغائِبِ كالحُكْمِ في العَبِيدِ؛ لأنَّهم مِمَّن تَجِبُ فِطْرَتُهم مع الحُضُورِ، فكذلك مع الغَيْبَةِ، كالعَبِيدِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَجِبَ فِطْرَتهم مع الغَيْبَةِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه بَعْثُ نَفَقَتِهم إليهم، ولا يَرْجِعُونَ بالنَّفَقَةِ الماضِيَة. 956 - مسألة: (ولا تَلْزَمُ الزَّوْجَ فِطْرَةُ النَّاشِزِ. وقال أبو الخَطّابِ: تَلْزَمُه) إذا نَشَزَتِ المرأةُ في وَقْتِ وُجُوبِ الفِطْرَةِ، ففِطْرَتُها على نَفْسِها دُونَ زَوْجِها؛ لأنَّ نَفَقَتَها لا تَلْزَمُه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّ عليه (¬1) فِطْرَتَها؛ لأنَّ الزَّوْجيَّةَ ثابِتَةٌ عليها فلَزِمَتْه فِطْرَتُها، كالمَرِيضَةِ التى لا تَحْتاجُ إلى نفَقَةٍ. والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لأنَّ هذه مِمَّن لا تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، فلا تَلْزَمُه فِطْرَتُه، كالأجْنَبِيَّةِ، وفارَقَ المَرِيضَةَ؛ لأنَّ عَدَمَ الإِنْفاقِ عليها لعَدَمِ الحاجَةِ، لا لخَلَلٍ في المُقْتَضى لها، فلا يَمْنَعُ ذلك مِن ثُبُوتِ تَبَعِها، بخِلافِ النَّاشِزِ. وكذلك كُلُّ امرأةٍ لا تَلْزَمُه نَفَقَتُها، كغيرِ المَدْخُولِ بها إذا لم تُسَلَّمْ إليه، والصَّغِيرةِ التى لا يُمْكِنُ الاسْتِمْتاعُ بها، فإنَّه لا تَلْزَمُه ¬

(¬1) في الأصل: «عليها».

957 - مسألة: (ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه، فهل يجزئه؟ على وجهين)

وَمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ فِطْرَتُهُ فَأَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفَقَتُها ولا فِطْرَتُها؛ لأنَّها ليست مِمَّن يَمُونُ. 957 - مسألة: (ومَن لَزِم غيرَه فِطْرَتُه فأخْرَجَ عن نَفْسِه بغيرِ إذْنِه، فهل يُجْزِئُه؟ على وَجْهَيْنِ) مَن وَجَبَتْ نَفَقَتُه على غيرِه، كالمرأةِ والنَّسِيبِ الفَقِيرِ، إذا أخْرَجَ عن نفْسِه بإذْنِ مَن تَجِبُ عليه، صَحَّ بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه نائِبٌ عنه. وِإن أخْرَجَ بغيرِ إذْنِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُجْزِئُه؛ لأنَّه أخْرَجَ فِطْرَةَ نفْسِه، فأجْزَأه، كالتى وَجَبَتْ عليه. والثانِى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُجْزِئُه؛ لأنَّه أدَّى ما وَجَب على غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَصِحَّ [كما لو أدَّى] (¬1) عن غيرِه. ¬

(¬1) في م: «كالمؤدِّى».

958 - مسألة: (ولا يمنع الدين وجوب الفطرة، إلا أن يكون مطالبا به)

وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 958 - مسألة: (ولَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الفِطْرَةِ، إلَّا أن يَكُونَ مُطالَبًا به) إنَّما لم يَمْنَعِ الدَّيْنُ الفِطْرَةَ؛ لأنَّها آكَدُ؛ بدَلِيلِ وُجُوبِها على الفَقِيرِ، وشُمُولِها لكلِّ مسلم قَدَر على إخْراجِها، ووُجُوبِ تَحَمُّلِها عمَّن وَجَبَتْ نَفَقَتُه على غيرِه، ولا تَتَعَلَّقُ بقَدْرٍ مِن المالِ، فجَرَى مَجْرَى النَّفَقَةِ، ولأنَّ زَكاةَ المالِ تَجِبُ بالمِلْكِ، والدَّيْنُ يُؤَثِّرُ في المِلْكِ، فأثَّرَ فيها، وهذه تَجِبُ على البَدَنِ، والدَّيْنُ لا يُؤَثِّرُ فيه. فأمَّا عندَ المُطالَبَةِ بالدَّيْنِ، فتَسْقُطُ الفِطْرَةُ، لوُجُوبِ أدائِه عندَها، وتَأَكُّدِه بكَوْنِه حَقَّ آدَمِىٍّ مُعَيَّنٍ لا يَسْقُطُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإِعْسارِ، وكَوْنُه أسْبَقَ سَبَبًا وأقْدَمَ وُجُوبًا يَأْثَمُ بتَأْخِيرِه. فصل: وإن مات مَن وَجَبَتْ عليه الفِطْرَةُ قبلَ أدائِها، أُخْرِجَتْ مِن مالِه، فإن كان عليه دَيْنٌ وله مَالٌ يَفِى بهما، قُضِيا جَمِيعًا، وإن لم يَفِ بهما، قُسِمَ بينَ الدَّيْنِ والصَّدَقَةِ بالحِصَصِ. نَصَّ عليه أحمدُ في زَكاةِ المالِ، أنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بينَهما، فكذا ههُنا. فإن كان عليه زَكاةُ مالٍ وصَدَقَةُ الفِطْرِ ودَيْنٌ، فزَكاةُ الفِطْرِ والمال كالشئِ الواحِدِ، لاتِّحادِ مَصْرِفِهِما، فيُحاصَّان الدَّيْنَ، وأصْلُ هذا أنَّ حَقَّ اللَّه تعالى وحَقَّ الآدَمِىِّ، إذا تَعَلَّقا بمَحَلٍّ واحِدٍ، فكانا في الذِّمَّةِ، أو كانا في العَيْنِ، تَساوَيا في الاسْتِيفاءِ. فصل: وإذا مات المُفْلِسُ ولهَ عَبِيدٌ، فهَلَّ شَوّالٌ قبلَ قِسْمَتِهم بينَ الغُرَماءِ، ففِطْرَتُهم على الوَرَثَةِ؛ لأنَّ الدَّيْنَ لا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ، بل غايَتُه أن يكونَ رَهْنًا بالدَّيْنِ، وفِطْرَةُ الرَّهْنِ على مالِكِه. فصل: ولو مات عَبِيدُه أو مَن يَمُونُه بعدَ وُجُوبِ الفِطْرَةِ، لم تَسْقُطْ؛ لأنَّها دَيْنٌ ثَبَت في ذِمَّتِه بسَبَبِ عَبْدِه، فلم يَسْقُطْ بمَوْتِه، كما لو اسْتَدانَ العَبْدُ بإذْنِه دَيْنًا وَجَب في ذِمَّتِه، ولأنَّ زَكاةَ المالِ لا تَسْقُطُ بتَلَفِه (¬1)، فالفِطْرَةُ أوْلَى، فإنَّ زَكاةَ المالِ تَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن، وزَكاةُ الفِطْرِ بخِلافِه. ¬

(¬1) في م: «بفطرته».

959 - مسألة: (وتجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، فمن أسلم بعد ذلك، أو ملك عبدا أو زوجة، أو ولد له ولد، لم تلزمه فطرته، وإن وجد ذلك قبل الغروب، وجبت)

وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ مَلَكَ عَبْدًا أَوْ زَوْجَةً، أو وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، لَمْ تَلْزَمْهُ فِطْرَتُهُ، وَإنْ وُجِدَ ذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَجَبَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 959 - مسألة: (وتَجِبُ بغُرُوب الشَّمْسِ مِن لَيْلَةِ الفِطْرِ، فمَن أسْلَمَ بعدَ ذلك، أو مَلَك عَبْدًا أو زَوْجَةً، أَو وُلِد له وَلدٌ، لم تَلْزَمْه فِطْرَتُه، وإن وُجِدَ ذلك قبلَ الغُرُوبِ، وَجَبَتْ) ولو كان حينَ الوُجُوبِ مُعْسِرًا ثم أيْسَرَ في لَيْلَتِه تلك، أو في يَوْمِه، لم يَجِبْ عليه شئٌ. ولو كان وَقْتَ الوُجُوبِ مُوسِرًا ثم أعْسَرَ لم تَسْقُطْ عنه، اعْتِبارًا بحالَةِ الوُجُوبِ. ومَن مات لَيْلَةَ الفِطْرِ، بعدَ غُروبِ الشَّمْسِ، فعليه صَدَقَةُ الفِطْرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، ومالكٌ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عنه, والشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال اللَّيْثُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى: تَجِبُ بطُلُوعِ الفَجْرِ يَوْمَ العِيدِ. وهى رِوايَةٌ عن مالكٍ؛ لأنَّها قُرْبَةٌ تتَعَلَّقُ بالعِيدِ، فلم يَتَقَدَّمْ وقْتُها يَوْمَ العِيدِ، كالأُضْحِيَةِ. ولَنا، قَوْلُ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَض زَكاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً للصّائِمِ مِن الرَّفَثِ واللَّغْوِ (¬1). ولأنَّها تُضافُ إلى الفِطْرِ، فكانت واجِبَةً به، كزكاةِ المالِ، وذلك لأنَّ الإِضافَةَ دَلِيلُ الاخْتِصاصِ، والسَّبَبُ أخَصُّ بحُكْمِه مِن غيرِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُضْحِيَةُ لا تَتَعَلَّقُ بطُلُوعِ الفَجْرِ (¬1)، ولا هى واجِبَةٌ، ولا تُشْبِهُ ما نحن فيه. فعلى هذا إذا غَرَبَتْ والعَبْدُ المَبِيعُ في مُدَّةِ الخِيارِ، أو وُهِب له عَبْدٌ فقَبِلَه ولم يَقْبِضْه، أو اشْتَراه ولم يَقْبِضْه، فالفِطْرَةُ على المُشْتَرِى والمُتَّهِبِ؛ لأنَّ المِلْكَ له، والفِطْرَةُ على المالِكِ. ولو أوْصَى له بعَبْدٍ، أو مات المُوصِى قبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فلم يَقْبَلِ المُوصَى له حتَّى غَرَبَت، فالفِطْرَةُ عليه، في أحَدِ الوَجْهَيْن، والآخَرِ، على وَرَثَةِ المُوصِى، بناءً على الوَجْهَيْن في المُوصَى به هل يَنْتَقِلُ بالمَوْتِ أو مِن حينِ القَبُولِ؟ ولو مات المُوصَى له قبلَ الرَّدِّ والقَبُولِ، فقَبِلَ وَرَثَتُه، وقُلْنَا بصِحَّةِ قَبُولِهم، فهل تكونُ فِطْرَته على وَرَثَةِ المُوصِى، أو في تَرِكَةِ المُوصَى له؟ على وَجْهَيْن. وقال القاضى: فِطْرَتُه في تَرِكَةِ المُوصَى له؛ لأنّا حَكَمْنا بانْتِقالِ المِلْكِ مِن حينِ مَوْتِ المُوصَى له، فإن كان مَوْتُه بعدَ هِلالِ شَوَّالٍ، ففِطْرَةُ العَبْدِ في تَرِكَتِه؛ لأنَّ الوَرَثَةَ إنَّما قَبِلُوه له. وإن كان مَوْتُه قبِلَ هِلالِ شَوَّالٍ، ففِطرَتُه على الوَرَثَةِ. ولو أوْصَى لرجلٍ برَقَبَةِ عَبْدٍ، ولآخرَ بنَفْعِه، فقَبِلا، كانتِ الفِطْرَةُ على مالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لأنَّ الفِطْرَةَ تَجِبُ بالرَّقَبَةِ لا بالمَنْفَعَةِ، ولهذا تَجِبُ على مَن لا نَفْعَ فيه. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ تَبَعًا لنَفَقَتِه، وفيها ثَلاثَةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّها على مالِكِ نَفْعِه. والثانِى، أنَّها على مالِكِ رَقَبَتِه. والثالثُ، في كَسْبِه. ¬

(¬1) في الأصل: «الفطر».

960 - مسألة: (ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين)

وَيَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 960 - مسألة: (ويَجُوزُ إخْراجُها قبلَ العِيدِ بيَوْمَيْن) ولا يجوزُ قبلَ ذلك. قال ابنُ عُمَرَ: كانوا يُعْطُونَها قبلَ الفِطْرِ بيَوْمٍ أو يَوْمَيْن (¬1). وقال بعضُ أصحابِنا: يَجُوزُ تَعْجِيلُها بعدَ نِصْفِ الشَّهْرِ، كما يَجُوزُ تَعْجِبلُ أذانِ الفَجْرِ، والدَّفْعِ مِن مُزْدَلِفَةَ بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ تَعْجِيلُها مِن أوَّلِ الحَوْلِ؛ لأنَّها زَكاةٌ، أشْبَهَتْ زَكاةَ المالِ. وقال الشافعىُّ: يجوزُ مِن أوَّلِ شَهْرِ رمضانَ؛ لأنَّ سَبَبَ الصَّدَقَةِ الصَّوْمُ والفِطْرُ عنه، فإذا وُجِد أحَدُ السَّبَبَيْن، جاز تَعْجِيلُها، كزَكاةِ المالِ بعدَ مِلْكِ النِّصابِ. ولَنا، ما روَى الجُوزَجانِىُّ: ثَنا يَزِيدُ بنُ هارُونَ، أنَا أبو مَعْشَرٍ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُ به، فيُقْسَمُ، قال يَزِيدُ: أظُنُّ قال: يَوْمَ الفِطْرِ، ويَقُولُ: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ في هذَا اليَوْمِ» (¬2). والأمْرُ للوُجُوبِ، ومتى قَدَّمَها بالزَّمَنِ الكَثِيرِ لم ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث ابن عمر في صفحة 80، وإعطاء زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين، عند البخارى وأبى داود، وفيهما أنه من فعل ابن عمر، لا من قوله. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 152. والبيهقى، في: باب وقت إخراج زكاة الفطر، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 175. وله طرق لا تخلو من مقال. انظر نصب الراية 2/ 432، وإرواء الغليل 3/ 333.

961 - مسألة: (والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة)

وَالْأَفْضَلُ إِخْرَاجُهَا يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْصُلْ إغْناؤُهُم بها يَوْمَ العِيدِ، وسَبَبُ وُجُوبِها الفِطْرُ؛ بدَلِيلِ إضافَتِها إليه، وزَكاةُ المالِ سَبَبُها مِلْكُ النِّصابِ، والمَقْصُودُ إغْناءُ الفَقِيرِ بها في الحَوْلِ كلِّه، فجازَ إخْراجُها في جَمِيعِه، وهذه المَقْصُودُ منها الإِغْناءُ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فلم يَجُزْ تَقْدِيمُها قبلَ الوَقْتِ. فأمَّا تَقْدِيمُها بيَوْمٍ أو يَوْمَيْن فجائِزٌ، لِما روَى البخارىُّ، بإسْنادِه، عن ابنِ عُمَرَ (¬1)، قال: فَرَض رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ مِن رمضانَ. وقال في آخِرِه: وكانوا يُعْطُونَ قبلَ الفِطْرِ بيَوْمٍ أو يَوْمَيْن. وهذا إشارَةٌ إلى جَمِيعِهم، فيكون إجْماعًا, ولأنَّ تَعْجِيلَها بهذا القَدْرِ لا يُخِلُّ بالمَقْصُودِ منها، فإنَّ الظاهِرَ أنَّها تَبْقَى أو بَعْضُها إلى يَوْمِ العِيدِ، فيُسْتَغْنَى بها عن الطَّوافِ والطَّلَبِ فيه، ولأنَّها زَكاةٌ، فجازَ تَعْجِيلُها قبلَ وُجُوبِها، كزَكاةِ المالِ. 961 - مسألة: (والأفْضَلُ إخْراجُها يَوْمَ العِيدِ قبلَ الصَّلاةِ) لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر بها أنْ تُؤَدَّى قبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ في حَدِيثِ ابنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 80. وانظر الكلام عليه في الصفحة السابقة.

962 - مسألة: (ويجوز فى سائر اليوم)

وَيَجُوزُ في سَائِرِ الْيَوْمِ. فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْهُ، أَثِمَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ، وقال في حَدِيثِ ابنِ عباسٍ: «مَنْ أدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِى زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِى صَدَقَةٌ مِن الصَّدَقَاتِ» (¬1). فإن أخَّرَها عن الصَّلاةِ تَرَك الأفْضَلَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن السُّنَّةِ، ولأنَّ المَقْصُودَ منها الإِغْناءُ عن الطَّوافِ والطَّلَبِ في هذا اليَوْمِ، فمتى أخَّرَها لم يَحْصُلْ إغْناؤُهُم في جَمِيعِه. ومالَ إلى هذا القَوْلِ عَطاءٌ، ومالكٌ، وموسى بنُ وَرْدانَ (¬2)، وأصحابُ الرَّأْى. وقال القاضى: إذا أخْرَجَها في بَقِيَّةِ اليَوْمِ لم يُكْرَهْ. وقد ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ والمَعْنَى ما يَقْتَضِى الكَراهَةَ. 962 - مسألة: (ويَجُوزُ في سائِرِ اليَوْمِ) لحُصُولِ الإِغْناءِ في اليَوْمِ، إلَّا أنَّه يَكُونُ قد تَرَك الأَفْضَلَ على ما ذَكَرْنا (فإن أخَّرَها عنه أثِمَ) لتَأخِيرِه الحَقَّ الواجِبَ عن وَقْتِه (ولَزِمَه القَضاءُ) لأنَّه حَقُّ مالٍ وَجَب، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 83. (¬2) موسى بن وردان القرشى أبو عمرو العامرى مولاهم، تابعى كان قاصًّا بمصر، توفى سنة سبع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 376، 377.

فصل

فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ في الْفِطْرَةِ صَاعٌ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ وَدَقِيقِهِمَا وَسَوِيقِهِمَا، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَمِنَ الْأَقِطِ في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَسْقُطُ بفَواتِ وَقْتِه، كالدَّيْنِ. وحُكِىَ عن ابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِىِّ الرُّخْصَةُ في تَأْخِيرِها عن يَوْم العِيدِ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وروَى محمدُ بنُ يحيى الكَحّالُ، قالَ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: فإن أخْرَجَ الزَّكَاةَ، ولم يُعْطِها؟ قال: نعم، إذا أعَدَّها لقَوْمٍ. واتِّباعُ سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى. (فصل:) قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (والواجِبُ في الفِطْرَةِ صاعٌ مِن البُرِّ أو الشَّعِيرِ ودَقِيقِهما وسَوِيقِهما، والتَّمْرِ والزَّبِيبِ، ومِن الأَقِطِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) الكلامُ في هذه المَسْألَةِ في أمُورٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُها، أنَّ الواجِبَ في صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعٌ عن كلِّ إنْسانٍ، مِن جَميعِ أجْناسِ المُخْرَجِ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. ورُوِىَ عن أبى سَعِيدٍ الخُدْرِىِّ، والحسنِ وأبى العالِيَةِ. ورُوِىَ عن ابنِ الزُّبَيْرِ، ومُعاوِيَةَ، أنَّه يُجْزِئُ نِصْفُ صاعٍ مِن البُرِّ خاصَّةً. وهو مَذهَبُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيز، وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، وأبى سَلَمَةَ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ، والشَّعْبِىِّ، فرُوِى صاعٌ، ورُوِى نِصْفُ صاعٍ. وعن أبى حنيفةَ في الزَّبِيبِ رِوايَتانِ؛ إحْداهُما، صاعٌ. والأُخْرَى، نِصْفُ صاعٍ، واحْتَجُّوا بما روَى ثَعْلَبَةُ بنُ أبى صُعَيْرٍ، عن أَبِيه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «صَاعٌ مِن بُرٍّ أوْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أَبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث مُنادِيًا في فِجاجِ مَكَّةَ: «ألَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، حُرٍّ أوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ مِن قَمْحٍ أوْ سِوَاهُ صَاعٌ مِن طَعَامٍ» (¬2). قال التِّرْمِذىُّ: هذا حَدِيثٌ حسنٌ غَرِيبٌ. ولَنا، ما روَى أبو سَعِيدٍ الخُدْرِىُّ، قال: كنّا نُخْرِجُ زَكاةَ الفِطْرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 86. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في صدقة الفطر، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذ كان فينا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صاعًا مِن طَعامٍ، أو صاعًا مِنِ شَعِيرٍ، أو صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبٍ، أو صاعًا مِن أقِطٍ، فلم نزَلْ نُخرِجُه حتَّى قَدِم مُعاوِيَةُ المَدِينَةَ فتَكَلَّمَ، فكان فيما كلَّمَ النّاسَ: إنِّى لأرَى مُدَّيْنِ مِن سَمْراءِ الشّامِ تَعْدِلُ صاعًا مِن تَمْرٍ. فأخَذَ النّاسُ بذلك. قال أبو سَعِيدٍ: فلا أزالُ أُخْرِجُه كما كنتُ أُخْرِجُه. وروَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَض صَدَقَةَ الفِطْرِ صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ، فعَدَلَ النّاسُ إلى نِصْفِ صاعٍ مِن بُرٍّ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولأنَّه جِنْسٌ يُخْرَجُ في صَدَقَةِ الفِطْرِ، فكان صاعًا، كسائِرِ الأجْناسِ. فأمّا أحادِيثُهم فلا تَثْبُتُ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قالَه ابنُ المُنْذِرِ. وحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ يَنْفَرِدُ به النُّعْمانُ بنُ راشِدٍ. قال البخارىُّ: وهو يَهِمُ كَثِيرًا. وقال مُهَنّا: ذَكَرْتُ لأحمدَ حَدِيثَ ثَعْلَبَةَ بنِ أبى صُعَيْرٍ، في صَدَقَةِ الفِطْرِ نِصْفُ صاعٍ مِن بُرٍّ. فقال: ليس بصَحِيحٍ، إنَّما هو مُرْسَلٌ، يَرْوِيه مَعْمَرٌ وابنُ جُرَيْجٍ، عن الزُّهْرِىِّ مُرْسَلًا. قلت: مِن قِبَل مَن هذا؟ قال: مِن قِبَلِ النُّعْمانِ [بنِ راشِدٍ] (¬2)، ليس هو بقَوِىٍّ في الحَدِيثِ. وسَألْتُه عن ابنِ أبى صُعَيْرٍ، أمَعْرُوفٌ هِو؟ قال: مَن يَعْرِفُ ابنَ أبى صُعَيْرٍ؟ ليس هو مَعْرُوفًا. وضَعَّفَه أحمدُ، وابنُ المَدِينِىِّ جَمِيعًا. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: ليس دُونَ الزُّهْرِىِّ مَن تَقُومُ به حُجَّةٌ. وقد روَى أبو إسحاقَ الجُوزَجانِىُّ حَدِيثَ ثَعْلَبَةَ، بإسْنادِه، عن أَبِيه، قال: قال ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 79، 80. (¬2) في النسخ: «بن أبى راشد». انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/ 452.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ» أو قال: «بُرٍّ، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ، صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ» (¬1). وهذا حُجَّةٌ لنا، وإسْنادُه حَسَنٌ. قال: الجُوزَجانِىُّ: والنِّصْفُ صاعٍ ذَكَرَه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورِوايَتُه ليس تَثْبُتُ. ولأنَّ ما ذَكَرْناه أحْوَطُ مع مُوافَقَتِه القِياسَ. فصل: والصاعُ خَمْسَةُ أرْطَالٍ وثُلُثٌ بالعِراقِىِّ، وقد دَلَّلْنا عليه فيما مَضى، وذَكَرْنا الاخْتِلافَ فيه (¬2)، والأصْلُ فيه الكَيْلُ، وإنَّما قَدَّرَه العلماءُ بالوَزْنِ ليُحْفَظَ ويُنْقَلَ. وقد روَى جَماعَةٌ عن أحمدَ، أنَّه قال: الصاعُ وَزَنْتُه وقَدَّرْتُه، فوَجَدْتُه خَمْسَةَ أرْطالٍ وثُلُثًا حِنْطَةً. ورُوِى عنه تَقْدِيرُه بالعَدَسِ أيضًا. وإذا كان الصاعُ خَمْسَةَ أرْطالٍ وثُلُثًا مِن الحِنْطَةِ والعَدَسِ، وهما مِن أثْقَلِ الحُبُوبِ، فمتى أخْرَجَ مِن غيرِهما خَمْسَةَ أرْطالٍ وثُلُثًا، فهى أكْثَرُ مِن صاعٍ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: إن أخْرَجِ خَمْسَةَ أرْطالٍ وثُلُثًا بُرًّا لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ البُرَّ يَخْتَلِفُ، فيكونُ ثَقِيلًا وخَفِيفًا. وقال الطَّحاوِىُّ (¬3): يُخْرِجُ ثَمانِيَةَ أرْطالٍ ممّا يَسْتَوِي كَيْلُه ووَزْنُه، وهو الزَّبِيبُ والماشُ. ومُقْتَضَى كَلامِه أنَّه إذا أخْرَجَ ثَمانِيَةَ أرْطالٍ ممّا هو أثْقَلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 86. (¬2) انظر ما تقدم في الجزء الثانى صفحة 143 وما بعدها. (¬3) في: شرح معانى الآثار 2/ 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما لم يُجْزِئْه، حتَّى يَزِيدَ شيئًا يَعْلَمُ أنَّه قد بَلَغ صاعًا. قال شيخُنا (¬1): والأَوْلَى لمَن أخْرَجَ مِن الثَّقِيلِ بالوَزْنِ أن يَحْتاطَ، فيَزِيدَ شيئًا يَعْلَمُ به أنَّه قد بَلَغ صاعًا. وقدْرُ الصاعِ بالرَّطْلِ الدِّمَشْقِىِّ رَطْلٌ وسُبْعٌ، وقَدْرُه بالدَّراهِمِ سِتُّمائةِ دِرْهَم وخمسةٌ وثمانون دِرْهَمًا وخمسةُ أسْباعِ دِرْهَمٍ، ويُجْزِئُ إخْراجُ مُدٍّ بالدِّمَشْقِىِّ مِن سائِرِ الأجْناس؛ لأنَّه أكْثَرُ مِن صاعٍ يَقِينًا. واللَّهُ أعلمُ. الأمْرُ الثَّانِى، لا يَجُوزُ العُدُولُ عن هذه الأجْناسِ المَذْكُورَةِ مع القُدْرَةِ عليها، سَواءٌ كان المَعْدُولُ إليه قُوتَ بَلَدِه أو لم يَكُنْ. وقال أبو بكرٍ: يَتَوَجَّهُ قَوْل آخَرُ، أنَّه يُعْطِى ما قامَ مَقامَ الخَمْسَةِ على ظاهِرِ الحَدِيثِ صاعًا مِن طَعام، والطَّعامُ قد يكونُ البُرَّ والشَّعِيرَ، وما دَخَل في الكَيْلِ. قال: وكِلا القَوْلَيْن مُحْتَمِلٌ، وأقْيَسُهُما لا يَجُوزُ غيرُ الخَمْسَةِ، إلَّا أن يَعْدَمَها, فيُعْطِيَ ما قام مَقَامَها. وقال مالكٌ: يُخْرِجُ مِن غالِبِ قُوتِ البَلَدِ. وقال الشافعىُّ: أىُّ قُوتٍ كان الأغْلَبَ على الرَّجُلِ، أدَّى زَكاةَ الفِطْرِ منه. واخْتَلَفَ أصحابُه؛ فمنهم مَن قال كقَوْلِ مالكٍ، ومنهم مَن قال: الاعْتِبارُ بغالِبِ قُوتِ المُخْرِجِ. ثم إن عَدَل عن الواجِبِ إلى أعْلَى منه جاز، وإن عَدَل إلى دُونِه، جاز في أحَدِ القَوْلَيْن؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «أغْنُوهُم عَنِ الطَّلَبِ» (¬2). والغِنَى يَحْصُلُ بالقُوتِ. والثانِى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه عَدَل ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 288. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 116.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الواجبِ إلى أدْنَى منه، فلم يُجْزِئْه، كما لو عَدَل عن الواجب في زَكاةِ المالِ إلى أَدْنَى منه. ولَنا، قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: فَرَضِ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ. متَّفقٌ عليه (¬1). وروَى أبو سَعِيدٍ، قال: كنّا نُخْرِجُ زَكاةَ الفِطْرِ صاعًا مِن طَعامٍ، أو صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لَفظٍ لمسلمٍ: كُنّا نُخْرِجُ إذ كان فينا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَكاةَ الفِطْرِ عن كُلِّ صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ، حُرٍّ أو مَمْلُوكٍ، صاعًا مِن طَعامٍ، أو صاعًا مِن أقِطٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ، أو صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبٍ. فقَصَرُوها على أجْناسٍ مَعْدُودَةٍ؛ فلم يَجُزِ العُدُولُ عنها، كما لو أخْرَجَ القِيمَةَ، وكما لو أخْرَجَ عن زَكاةِ المالِ مِن غيرِ جِنْسِه. والإِغْناءُ يَحْصُلُ بالإِخْراجِ مِن المَنْصُوصِ عليه، فلا مُنافاةَ بينَ الخَبَرَيْن؛ لكَوْنِهِما جَمِيعًا يَدُلَّان على وُجُوبِ الإِغْناءِ بأحَدِ الأجْناسِ المَفْرُوضَةِ. والسُّلْتُ نَوْعٌ مِن الشَّعِيرِ، فيَجُوزُ إخْراجُه؛ لدُخُولِه في المَنْصُوصِ عليه، وقد صُرِّح بذِكْرِه في بعْضِ ألفاظِ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، قال: كان النّاسُ يُخْرِجُون صَدَقَةَ الفِطْرِ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صاعًا مِن شَعِيرٍ، أو تَمْرٍ، أو سُلْتٍ، أو زَبِيبٍ. رَواه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 79. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 80. (¬3) انظر رواية أبى داود في تخريج الحديث في صفحة 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأمْرُ الثّالثُ، أنَّه يَجُوزُ إخْراجُ أحَدِ الأصْنافِ المَذْكُورَةِ أيُّها شاء، وإن لم يكنْ قُوتًا له. وقال مالكٌ: يُخْرِجُ مِن غالِبِ قُوتِ البَلَدِ. وقال الشافعىُّ: أىُّ قُوتٍ كان أغْلَبَ على الرجلِ أخرَجَ منه. ولَنا، أنَّ خَبَرَ الصَّدَقَةِ وَرَد بحَرْفِ «أوْ» وهى للتَّخْيِيرِ بينَ هذه الأصْنافِ، فوَجَبَ التَّخْيِيرُ فيه، ولأنّه عَدَل إلى مَنْصُوصٍ عليه، فجازَ، كما لو عَدَل إلى الأعْلَى، ولأنَّه خَيَّرَ بينَ الزَّبِيبِ والتَّمْرِ والأقِطِ، ولم يَكُن الزَّبِيبُ والأقِطُ قُوتًا لأهْلِ المَدِينَةِ، فدَلَّ على أنَّه لا يُعْتَبَرُ أن يكونَ قوتًا للمُخْرِجِ. فصل: ويَجُوزُ إخْراجُ الدَّقِيقِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك السَّوِيقُ. قال أحمدُ: قد رُوِىَ عن ابنِ سِيرِينَ، دَقِيقٍ أو سَوِيقٍ. وقال مالكٌ، وِالشافعىُّ: لا يَجُوزُ إخْراجُهما؛ لحَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، ولأنَّ مَنافِعَه نقَصَتْ، فهو كالخُبْزِ. ولَنا، حَدِيثُ أبى سَعِيدٍ، وفى بَعْضِ ألْفاظِه: «أوْ صَاعًا مِن دَقِيقٍ». رَواه النَّسائِىُّ (¬1). ثم شَكَّ سُفْيانُ بعدُ، فقال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَقِيقٍ أو سُلْتٍ. ولأنَّ الدَّقِيقَ والسَّوِيقَ أجْزاءُ الحَبِّ بَحْتًا يُمْكِنُ كَيْلُه وادِّخارُه، فجازَ إِخْراجُه، كالحَبِّ، وذلك لأنَّ الطَّحْنَ إنَّما فَرَّقَ أجْزاءَه، وكَفَى الفقِيرَ مُؤنَتَه، فأشْبَهَ ما لو نَزَع نَوَى التَّمْرِ ثم أخْرَجَه. ويُفارِقُ الخُبْزَ، فإنَّه قد خرَج عن حالِ الادِّخارِ والكَيْلِ، والمَأْمُورُ به صَاعٌ، وهو مَكِيلٌ. وحَدِيثُ ابنِ عُمَرَ لم يَقْتَضِ ما ذَكَرُوه، ولم يَعْمَلُوا به. فصل: وفى جَوازِ إخْراجِ الأقِطِ إذا قَدَر على غَيْرِه مِن الأجْناسِ المَذْكُورَةِ رِوايَتان؛ إحْداهُما، يُجْزِئُه؛ لحَدِيثِ أبى سعيدٍ المَذْكُورِ. والثانيةُ، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّه جِنْسٌ لا تجِبُ الزَّكاةُ فيه، فلم يَجُزْ إخْراجُه مع القُدْرَةِ على غيرِه مِن الأصْنافِ المَنْصُوصِ عليها، كاللَّحْمِ. ويُحْمَلُ الحَدِيثُ على مَن هو قُوتٌ له، أو لم يَقْدِرْ على غيرِه. وقال الخِرَقِىُّ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن أخْرَجَ أهْلُ البادِيَةِ الأقِطَ أجْزَأ إذا كان قُوتَهم. فظاهِرُه أنَّه يَجُوزُ إخْراجُه وإن قَدَر على غيرِه، إذا كان مِن أهْلِ البادِيَةِ وكان قوتًا له. وعلى قَوْلِه يَنْبَغِى أن يُجْزِئَ غيرَ أهْلِ البادِيَةِ إذا كان قُوتَهم أَيضًا؛ لأنَّ الحَدِيثَ لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفَرِّقْ. وحديثُ أبى سَعِيدٍ يَدُلُّ عليه، وهم مِن غيرِ أهْلِ البادِيَةِ، ولَعَلَّه إنَّما ذَكَر أهْلَ البادِيَةِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّه لا يَقْتاتُه غيرُهم. وقال أبو الخَطّابِ: في إخْراجِ الأقِطِ لمَن قَدَر على غيرِه مُطْلقًا رِوايَتان. وظاهِرُ حديث أبى سَعِيدٍ يَدُلُّ على خِلافِه. وذَكَر القاضى أنّا إذا قُلْنا بجَوازِ إخْراجِ الأقِطِ وعَدِمَه، أخْرَجَ لَبَنًا؛ لأنَّه أكْمَلُ مِن الأقِطِ، لكَوْنِه يَجِئُ منه الأقِطُ وغيرُه. وحَكاه أبو ثوْرٍ عن الشافعىِّ. وقال الحسنُ: إن لم يكنْ بُرٌّ ولا شَعِيرٌ أخْرَجَ صاعًا مِن لَبَنٍ. وما ذَكَرَه القاضى لا يَصِحُّ، فإنَّه لو كان أكْمَلَ مِن الأقِطِ، لجاز إخْراجُه مع وُجُودِه، ولأنَّ الأقِطَ أكْمَلُ مِن اللَّبَنِ مِن وَجْهٍ؛ لأنَّه بَلَغ حالةَ الادِّخارِ، وهو جامِدٌ، بخِلافِ اللَّبَنِ، لكنْ يَكُونُ حُكْمُ اللَّبَنِ حُكْمَ اللَّحْمِ، يُجْزِئُ إخْراجُه عندَ عَدَمِ الأصْنافِ المَنْصُوصِ عليها على قولِ ابنِ حامِدٍ، ومَن وافَقَه. وكذلك الجُبْنُ وما أشْبَهَه.

963 - مسألة: (ولا يجزئ غير ذلك، إلا أن يعدمه، فيخرج مما يقتات عند ابن حامد. وعند أبى

وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَعْدَمَهُ، فَيُخْرِجَ مِمَّا يَقْتَاتُ عِنْدَ ابْن حَامِدٍ. وَعِنْدَ أَبِى بَكْرٍ يُخْرِجُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 963 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ غيرُ ذلك، إلَّا أن يَعْدَمَه، فيُخْرِجَ مِمَّا يَقْتاتُ عندَ ابنِ حامِدٍ. وعندَ أبى (¬1) بكرٍ يُخْرِجُ ما يقُومُ مَقامَ المَنْصُوصِ) لا يَجُوزُ إخْراجُ غيرِ الأجْناسِ المذْكُورَةِ مع القُدْرَةِ عليها؛ لأنَّ في بعْضِ ألفاظِ حَدِيثِ أبى سعيدٍ: فَرَض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ صاعًا مِن طَعام، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ، أو صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن أقِطٍ. رَواه النَّسائِىُّ (¬2). ولِما ذَكَرْنا، إلَّا أن يَعْدَمَها، فيُخْرِجَ ممّا يَقْتاتُ عندَ ابنِ حامِدٍ، كالذُّرَةِ، والدُّخْنِ (¬3)، واللَّحْمِ، واللَّبَنِ، ¬

(¬1) في م: «ابن». (¬2) انظر تخريجه المتقدم. (¬3) نبات حبه صغير أملس كحب السمسم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسائِرِ ما يَقْتاتُ؛ لأنَّ مَبْناها على المُواساةِ. وقال أبو بكر: يُخْرِجُ ما يقومُ مَقامَ المَنْصُوصِ عندَ عَدَمِه مِن كُلِّ مُقْتاتٍ مِن الحَبِّ والتَّمْرِ؛ كالذُّرَةِ، والدُّخْنِ، والأُرْزِ، والتِّينِ اليابِسِ، وأشْباهِه. لأنَّه أشْبَهُ بالمَنْصُوصِ عليه، فكانَ أوْلَى مِن غيرِه، وهذا ظاهِرُ كلامَ الخِرَقِىِّ.

964 - مسألة: (ولا يخرج حبا معيبا, ولا خبزا)

وَلا يُخْرِجُ حَبًّا مَعِيبًا، وَلَا خُبْزًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 964 - مسألة: (ولا يُخْرِجُ حَبًّا مَعِيبًا, ولا خُبْزًا) لا يَجُوزُ أن يُخْرِجَ حَبًّا مَعِيبًا، كالمُسَوَّسِ، والمَبْلُولِ، والقَدِيمِ الذى تَغَيَّرَ طَعْمُه، لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). فإن كان القَدِيمُ لم يَتَغَيَّرْ طَعْمُه، إلَّا أنَّ الحَدِيثَ أكْثَرُ قِيمَةً، جاز إخْراجُه؛ لعَدَمِ العَيْبِ فيه، والأفْضَلُ الأجْوَدُ. قال أحمدُ: كان ابنُ سِيرِينَ يُحِبُّ أن يُتَقَّى الطَّعامُ، وهو أحبُّ إلىَّ، ليكونَ على الكَمالِ، ويَسْلَمَ ممّا يُخالِطُه مِن غيره. فإن كان المُخالِطُ له يَأْحُذُ حَظًّا مِن المِكْيالِ، وكان كَثِيرًا بحيثُ ¬

(¬1) سورة البقرة 267.

965 - مسألة: (ويجزئ إخراج صاع من أجناس)

وَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ أجْنَاسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعَدُّ عَيْبًا فيه، لم يُجْزِئْه، وإن لم يَكْثُرْ، جاز إخْراجُه إذا زاد على المُخْرَجِ قَدْرًا يَزِيدُ على ما فيه مِن غيرِه، ليَكُونَ المُخْرَجُ صاعًا كامِلًا. ولِا يَجُوزُ إخْراجُ الخُبْزِ، ولا الهَرِيسَةِ، ولا الكَبُولا (¬1)، وأشْباهِها؛ لأنَّه خَرَج عن الكَيْلِ والادِّخارِ، ولا الخَلِّ والدِّبْسِ (¬2)؛ لأنَّهما ليسا قُوتًا. 965 - مسألة: (ويُجْزِئُ إخْراجُ صاعٍ مِن أجْناسٍ) إذا كان مِن الأجْناسِ المَنْصُوصِ عليها؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما يُجْزِئُ مُنْفَرِدًا، فأجْزأ بعضٌ مِن هذا وبعضٌ مِن الآخَرِ، كفِطْرَةِ العَبْدِ المُشْتَرَكِ إذا أخْرَجَ كُلُّ واحِدٍ مِن جِنْسٍ. ¬

(¬1) الكبولاء: العصيدة. (¬2) الدِّبْس: عسل التمر، وما يسيل من الرُّطَبِ.

966 - مسألة: (وأفضل المخرج التمر، ثم ما هو أنفع للفقراء بعده)

وَأفْضلُ الْمُخْرَجِ التَّمْرُ، ثُمَّ مَا هُوَ أنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ بَعْدَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 966 - مسألة: (وأفْضَلُ المُخْرَجِ التَّمْرُ، ثُمَّ ما هو أنْفَعُ للْفُقَراءِ بعدَه) وهذا قَوْلُ مالكٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: واسْتَحَبَّ مالكٌ إخْراجَ العَجْوَةِ منه. واخْتارَ الشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، إخْراجَ البُرِّ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعىِّ: يَحْتَمِلُ أنَّ الشافعىَّ قال ذلك؛ لأنَّ البُرَّ كان أغْلَى في زَمنِه؛ لأنَّ المُسْتَحَبَّ أن يُخْرِجَ أغْلاها ثَمَنًا وأنْفَسَها؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِل عن أفْضَلِ الرِّقابِ، فقال: «أغْلَاهَا ثَمَنًا، وأنْفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا» (¬1). وإنَّما اخْتارَ أحمدُ إخْراجَ التَّمْرِ اقْتِداءً بأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وروَى بإسْنادِه، عن أبى مِجْلَزٍ، قال: قُلتُ لابنِ عُمَرَ: إنَّ اللَّه قد أوْسَعَ، والبُرُّ أفْضَلُ مِن التَّمْرِ. قال: إنَّ أصحابِى سَلَكُوا طَرِيقًا، وأُحِبُّ أن أسْلُكَه. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب أى الرقاب أفضل، من كتاب العتق. صحيح البخارى 3/ 188. ومسلم، في: باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 89. وابن ماجه، في: باب العتق، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 843. والإمام مالك، في: باب فضل عتق الرقاب وعتق الزانية وابن الزنا، من كتاب العتق. الموطأ 2/ 779، 780. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 388، 5/ 150, 171, 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ هذا أنَّ جَماعَةَ الصَّحابَةِ كانوا يُخْرِجُون التَّمْرَ، فأحَبَّ ابنُ عُمَرَ مَوافَقَتَهُم، وسُلُوكَ طَرِيقِهم، وأحَبَّ أحمدُ أَيضًا الاقْتِداءَ بهم واتِّباعَهم. وروَى البخارىُّ (¬1)، عن ابنِ عُمَرَ، قال: فَرَض رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ، صاعًا مِن تَمْرٍ، أو صاعًا مِن شَعِيرٍ، فعَدَلَ النّاسُ به نِصْفَ صاعٍ مِن بُرٍّ. فكان ابنُ عُمَرَ يُخْرِجُ التَّمْرَ، فأعْوَزَ أهْلُ المَدِينَةِ مِن التَّمْرِ، فأعْطَى شَعِيرًا. ولأنَّ التَّمْرَ فيه قُوتٌ وحَلاوَةٌ، وهو أقْرَبُ تَناوُلًا، وأقَلُّ كُلْفَةً، فكان أوْلَى. والأفْضَلُ بعدَ التَّمْرِ البُرُّ. وقال بعضُ أصحابنا: الزَّبِيبُ؛ لأنَّه أقْرَبُ تَناوُلًا وأقَلُّ كُلْفَةً، أشْبَهَ التَّمْرَ. ولَنا، أنَّ البُرَّ أَنْفَعُ في الاقْتِياتِ، وأْبلَغُ في دَفْعِ حاجَةِ الفَقِيرِ. ولذلك قال أبو مِجْلَزٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 79. وهذه الرواية عند البخارى، في: باب صدقة الفطر على الحُر والمملوك، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 162.

967 - مسألة: (ويجوز أن يعطى الجماعة ما يلزم الواحد، والواحد ما يلزم الجماعة)

وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِىَ الْجَمَاعَةَ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ، وَالْوَاحِدَ مَا يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لابنِ عُمَرَ: البُرُّ أفْضَلُ مِن التَّمْرِ. فلم يُنْكِرْه ابنُ عُمَرَ، وإنَّما عَدَل عنه اتِّباعًا لأصْحابِه، وسُلُوكَ طَرِيقَتِهم، ولهذا عَدَل نِصْفَ صاعٍ منه بصاعٍ مِن غيرِه. وتَفْضِيلُ التَّمْرِ إنَّما كان لاتِّباعِ الصَّحابَةِ، فيَبْقَى فيما عَداه على قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ الأفْضَلُ بعدَ التَّمْرِ ما كان أعْلَى قِيمَةً وأكْثَرَ نَفْعًا؛ لما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. 967 - مسألة: (ويَجُوزُ أن يُعْطِىَ الجَماعَةَ ما يَلْزَمُ الواحِدَ، والواحِدَ ما يَلْزَمُ الجَماعَةَ) أمّا إعْطاءُ الجَماعَةِ ما يَلْزَمُ الواحِدَ فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا إذا أعْطَى مِن كلِّ صِنْفٍ ثَلاثَةً؛ لأنَّه دَفَع الصَّدَقَةَ إلى مُسْتَحِقِّها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا إعْطاءُ الواحِدِ ما يَلْزَمُ الجَماعَةَ، فإنَّ الشافعىَّ ومَن وافَقَه أوْجَبُوا تَفْرِيقَ الصَّدَقَةِ على سِتَّةِ أصْنافٍ، مِن كلِّ صِنْفٍ ثَلاثةٌ. وقد رُوِى مثلُ هذا عن أحمدَ، وسَنَذْكُرُ ذلك فيما بعدَ هذا البابِ، إن شاء اللَّهُ تعالى. وظاهِرُ المَذْهَبِ الجَوازُ، وبه قال مالك، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّها صَدَقَةٌ لغير مُعَيَّنٍ، فجاز صَرْفُها إلى واحِدٍ، كالتَّطَوُّعِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَصْرِفُ صَدَقَةِ الفِطْرِ مَصْرِفُ سائِرِ الزَّكَواتِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬1). الآيةُ. ولأنَّها زكاة، أشْبَهَتْ زكاةَ المالِ، فلا يَجُوزُ دَفْعُها إلى مَن لا يجوزُ دَفْعُ زكاةِ المالِ إليه. وبهذا قال مالكٌ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: يَجوزُ. وعن عَمْرِو بنِ مَيْمُونٍ، وعَمْرِو بنِ شُرَحْبِيل، ومُرَّةَ الهَمْدانِىِّ (¬2)، أنَّهم كانوا يُعْطُون منها الرّهْبانَ. ولَنا، أنَّها زكاةٌ، فلم يَجُزْ دَفْعُها إلى غيرِ المُسْلِمِين، كزكاةِ المالِ، وزَكاةُ المالِ لا يجوزُ دَفْعُها إلى غيرِ المُسْلِمِين إجْماعًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّه لا يَجُوزُ أن يُعْطِىَ مِن زكاةِ المالِ أحَدًا مِن أهْلِ الذِّمَّةِ. فصل: فإن دَفَعَها إلى مُسْتَحِقها، فأخْرَجَها آخِذُها إلى دافِعِها، أو جُمِعَتِ الصَّدَقَة عندَ الإِمامِ، ففَرَّقَها على أهْلِ السُّهْمانِ، فعادَتْ إلى إنْسانٍ ¬

(¬1) سورة التوبة 60. (¬2) مرة بن شراحيل الهمدانى، المعروف بمرة الطيب ومرة الخير، لقب بذلك لعبادته، تابعيى توفى في زمان الحجاج بعد دير الجماجم، وقيل: توفى سنة ست وسبعين. تهذيب التهذيب 10/ 88، 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَدَقَتُه. فاخْتارَ القاضى جَوازَ ذلك، قال: لأنَّ أحمدَ نَصَّ في مَن له نِصابٌ مِن الماشيَةِ والزُّرُوعِ، أنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ منه، وتُرَدُّ إليه، إذا لم يكنْ له قَدْرُ كِفايَتِه. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ قَبْضَ الإِمامِ أو المُسْتَحِقِّ أزالَ مِلْكَ المُخْرجِ، وعادَتْ إليه بسَبَبٍ آخَرَ، أَشْبَهَ ما لو عادَتْ إليه بمِيراثٍ. وقال أبو بكر: مَذْهَبُ أحمدَ أنَّه لا يَحِلُّ له أخْذُها؛ لأنَّها طُهْرَةٌ، فلم يَجُزْ له أخْذُها، كشِرائِها؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أراد أن يَشتَرِى الفَرَسَ الذى حَمَلَ عليه في سَبِيلِ اللَّهِ، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَشْتَرِهَا، وَلَا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ، فَإنَّ الْعائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ في قَيْئهِ» (¬1). فإن عادَتْ إليه بالشِّراءِ، ففيه مِن الخِلافِ مثلُ ما ذَكَرْنا، والمَنْصُوصُ أنَّه لا يجوزُ، فإن عادَتْ إليه بالمِيراثِ، فله أخْذُها؛ لأنَّها رَجَعَتْ إليه بغيرِ فِعْلٍ منه، واللَّهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 544.

باب إخراج الزكاة

بَابُ إِخْرَاجَ الزَكَاةِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقتِ وُجُوبِهَا مَعَ إِمكَانِهِ إِلَّا لِضَرَرٍ؛ مِثْلَ أَنْ يَخشَى رُجُوعَ السَّاعِى عَلَيْهِ، وَنحْوَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ إِخْراجَ الزَّكاةِ (لا يَجُوزُ تَأخِيرُه عن وَقْتِ وُجُوبِها مع إمْكانِه إلَّا لضَرَرٍ؛ مثلَ أن يَخْشَى رُجُوعَ السّاعِى عليه أو نحوَ ذلك) الزكاةُ واجِبَةٌ على الفَوْرِ، فلا يجوزُ تَأْخِيرُ إخْراجِها مع القُدْرَةِ عليه، إذا لم يَخْشَ ضَرَرًا. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: له التَّأْخِيرُ ما لِم يُطالَبْ؛ لأنَّ الأمْرَ بأدائِها مُطْلَقٌ، فلا يَتَعَيَّنُ الزَّمَنُ الأوَّلُ (¬1) للأداءِ دُون غيرِه، كما لا يَتَعَيَّنُ المكانُ. ولَنا، أنَّ الأمْرَ المُطْلَقَ يَقْتَضِى الفَوْرَ، على ما يُذكَرُ في مَوْضِعِه، ولذلك يَستَحِقُّ مُؤَخِّرُ الامْتِثالِ العِقابَ، بدَلِيلِ أنَّ اللَّه تعالى أخْرَجَ إبْلِيسَ، وسَخِط عليه بامْتِناعِه مِن السُّجُودِ. ولو أنَّ رُجُلًا أمَرَ عَبْدَه أن يَسْقِيَه فأخَّرَ ذلك، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَحَقَّ العُقُوبَةَ، ولأنَّ جَوازَ التَّأْخِيرِ يُنافِى الوُجُوبَ، لكَوْنِ الواجِبِ ما يُعاقَبُ على تَرْكِه، ولو جاز التَّأْخِيرُ، لجاز إلى غيرِ غايَةٍ، فتَنْتَفِى العُقُوبَةُ بالتَّرْكِ. ولو سَلَّمْنا أنَّ مُطْلَقَ الأمْرِ لا يَقْتَضِى الفَوْرَ، لاقْتَضاه في مَسْألَتِنا، إذ لو جاز التَّأْخِيرُ ههُنا لَأخّرَه بمُقْتَضَى طَبْعِه، ثِقَةً منه بأنَّه لا يَأْثَمُ بالتَّأْخِيرِ، فيَسْقُطُ عنه بالمَوْتِ، أو بتَلَفِ مالِه، أو بعَجْزِه عن الأداءِ، فيَتَضَرَّر الفُقَراءُ، ولأنَّ ههُنا قرِينَةً تَقْتَضِى الفَوْرَ، وهو أنَّ الزكاةَ وَجَبَتْ لحاجَةِ الفُقَراءِ، وهى ناجزَةٌ، فيَجِبُ أن يكونَ الوُجُوبُ ناجِزًا، ولأنَّها عِبادَةٌ تَتَكَرَّرُ، فلم يَجُزْ تَأْخِيرُها إلى وقْتِ وُجُوبِ مثلِها، كالصلاةِ والصومِ. قال الأثْرَمُ: سمعتُ أَبا عبدِ اللَّه يُسْألُ عن الرَّجل يَحُولُ الحَوْلُ على مالِه، فيُؤَخِّرُ عن وقتِ الزكاةِ؟ فقال: لا, ولِمَ يُؤَخِّرُ إخْراجَها؟ وشَدَّدَ في ذلك. قِيلَ: فابْتَدَأ في إخْراجِها، فجَعَلَ يُخْرِجُ أوَّلًا فأوَّلًا. فقال: لا، بل يُخْرِجُها كلَّها إذا حال الحَوْلُ. فأمّا إن كان يَتَضَرَّرُ بتَعْجِيل الإِخْراجِ، مثلَ أن يَخْشَى إن أخْرَجَها بنَفْسِه أخَذَها السّاعِى منه مَرَّةً أُخْرَى، فله تَأْخِيرُها. نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك إن خَشِى في إخراجِها ضَرَرًا في نَفْسِه، أو مالٍ له سِواها، فله تَأْخِيرُها؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» (¬1). ولأنَّه إذا جاز تَأْخِيرُ دَيْنِ الآدَمِىِّ لذلك (¬2)، فتَأْخِيرُ الزكاةِ أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخَّرَها ليَدْفَعَها إلى مَن هو أحَقُّ بها، مِن ذى قَرابَةٍ، أو حاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فإن كان شيئًا يَسِيرًا فلا بَأْسَ، وإن كان كَثِيرًا لم يَجُزْ. قال أحمدُ: لا يُجَزِّئُ على أقْرَابِه مِن الزكاةِ في كلِّ شَهْرٍ. يَعْنِى لا يُؤَخِّرُ إخْراجَها حتَّى يَدْفَعَها إليهم مُفَرَّقَةً، في كلِّ شَهرٍ شيئًا، فأمّا إن عَجَّلَها فَدَفَعَها إليهم أو (¬1) إلى غيرِهم مُفَرَّقَةً أو مَجْمُوعَةً، جاز؛ لأنَّه لم يُؤَخِّرْها عن وَقْتِها، وكذلك إن كانت عندَه أمْوالٌ أحْوالُها مُخْتَلِفَةٌ، مثلَ أن يكونَ عندَه نِصابٌ، وقد اسْتَفادَ في أثْناءِ الحَوْلِ مِن جِنْسِه، لم يَجُزْ تَأْخِيرُ الزكاةِ ليَجْمَعَها كلَّها؛ لأنَّه يُمْكِنُه جَمْعُها بتَعْجِيلِها في أوَّلِ واجِبٍ منها. ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخْرَجَ الزكاةَ، فضاعَتْ قبلَ دَفْعِها إلى الفَقِيرِ، لم تَسْقُطْ عنه. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ، وحَمّادٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، والشافعىِّ، إلَّا أنَّه قال: إن لم يكنْ فَرَّطَ في إخراجِ الزكاةِ، وفى حِفْظِ ذلك المُخْرَجِ

968 - مسألة: (فإن جحد وجوبها جهلا به، عرف ذلك، فإن أصر كفر وأخذت منه، واستتيب ثلاثا، فإن لم يتب قتل)

فَإِنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا جَهْلًا بِهِ، عُرِّفَ ذَلِكَ، فَإِنْ أصَرَّ كَفَرَ وَأُخِذَتْ مِنْهُ، وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُجعَ إلى مالِه، فإن كان فيما بَقِىَ زكاةٌ أخْرَجَ، وإلَّا فلا. وقال أصحابُ الرَّأْى: يُزَكى ما بَقِى، إلَّا أن يَنْقصَ عن النِّصابِ وإن فَرَّطَ. وقال مالكٌ: أراها تُجْزِئُه إذا أخْرَجَها في مَحَلِّها، وإن أخْرَجَها بعدَ ذلك ضَمِنَها. وقال مالكٌ: يُزَكِّى ما بَقِىَ بقِسْطِه، وإن بَقِى عَشَرَةُ دَراهِمَ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ على رَبِّ المالِ، تَلِف قبلَ وُصُولِه إلى مُسْتَحِقِّه، فلم يَبْرَأْ منه بذلك، كدَيْنِ الآدَمِىِّ. قال أحمدُ: ولو دَفَع إلى رجل زَكاتَه خَمْسَةَ دَراهِمَ، فقَبْلَ أن يَقْبِضَها منه، قال: اشْتَرِ لى ثَوْبًا بها أو طَعامًا. فذَهَبَتِ الدَّراهِمُ، أو اشْتَرَى بها ما قال فضاعَ منه، فعليه أن يُعْطِى مَكانَها؛ لأنَّه لم يَقْبِضْها منه، ولو قَبَضَها ثم رَدَّها إليه، وقال: اشْتَرِ لى بها، أو اشْتَرِ بها. فضاعَتْ، أو ضاع ما اشْتَراه، فلا ضَمانَ عليه إذا لم يكنْ فَرَّطَ. وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّ الفَقِيرَ لا يَمْلِكُها إلَّا بقَبْضِه، فإذا وَكَّلَه في الشِّراءِ بها لم يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وبَقِيَتْ على مِلْكِ رَبِّ المالِ، فإذا تَلِفَتْ كانت مِن ضَمانِه. ولو عَزَل قَدْرَ الزكاةِ يَنْوِى أنَّه زكاةٌ فتَلِفَ فهو مِن ضَمانِ رَبِّ المالِ، ولا تَسْقُطُ الزكاةُ عنه بذلك، سَواءٌ قَدَر على دَفْعِها أو لم يَقْدِرْ، وهى كالمَسْألةِ قبلَها. 968 - مسألة: (فإن جَحَد وُجُوبَها جَهْلًا به، عُرف ذلك، فإن أصَرَّ كَفَر وأُخِذَتْ منه، واسْتُتِيبَ ثَلاثًا، فإن لم يَتُبْ قُتِل) مَن جَحَد وُجُوبَ الزكاةِ جَهْلًا به، وكان ممَّن يَجْهَلُ ذلك، إمّا لحَداثَةِ عَهْدِه بالإِسْلامِ، أو لأنَّه نَشَأ ببادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، عُرِّفَ وُجُوبَها, ولم يُحْكَمْ

969 - مسألة: (وإن منعها بخلا بها، أخذت منه وعزر. فإن غيب ماله، أو كتمه، أو قاتل دونها، وأمكن أخذها، أخذت من غير زيادة. وقال أبو بكر: يأخذها وشطر ماله)

وَمَنْ مَنَعَهَا بُخْلًا بِهَا، أُخِدتْ مِنْهُ وَعُزِّرَ. فَإِنْ غَيَّبَ مَالَهُ، أَوْ كَتَمَهُ، أوْ قَاتَلَ دُونَهَا، وَأَمْكَنَ أخْذُهَا، أُخِذَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَأْخُذُهَا وَشَطْرَ مَالِه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بكُفْرِه؛ لأنَّه مَعْذُورٌ. وإن كان مُسْلِمًا ناشِئًا ببِلادِ الإِسْلامِ بينَ أهلِ العلْمِ فهو مُرْتَدٌّ، تَجْرِى عليه أحْكامُ المُرْتَدِّين، ويُسْتَتابُ ثلاثًا، فإن تاب وإلَّا قُتِل؛ لأنَّ أدِلَّةَ وُجُوبِ الزكاةِ ظاهِرَةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجْماعِ الأمَّةِ، فلا تَكادُ تَخْفَى على مَن هذا حالُه، فإذا جَحَدَها لا يكونُ إلَّا لتَكْذِيبِه الكِتابَ والسُّنَّةَ، وكُفْرِه بهما. 969 - مسألة: (وإن مَنَعَها بُخْلًا بها، أُخِذَتْ منه وعُزِّرَ. فإن غَيَّبَ مالَه، أو كَتَمَه، أوْ قاتَلَ دُونَها، وأمْكَنَ أخْذُها، أُخِذَت مِن غيرِ زِيادَةٍ. وقال أبو بكرٍ: يَأْخُذُها وشَطْرَ مالِه) إذا مَنَع الزكاةَ مع اعْتِقادِ وُجُوبِها، وقَدَر الإِمامُ على أخْذِها منه، أَخَذَها وعَزَّرَه. قال ابنُ عَقِيلٍ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يكونَ كَتَمَها لفِسْقِ الإِمامِ، لكَوْنِه يَصْرِفُها في غيرِ مصارِفِها (¬1)، فلا يُعَزَّرُ؛ لأنَّ له عُذْرًا في ذلك. ولم يَأْخُذْ زِيادَةً عليها، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلْمِ؛ منهم أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُهم. وكذلك إن غَلَّ مالَه فكَتَمَه، أو قاتَلَ دُونَها فقَدَرَ عليه الإِمامُ. وقال إسحاقُ ابنُ راهُويه، وأبو بكَرٍ عبدُ العزِيزِ: يَأْخُذُها وشَطْرَ مالِه؛ لِما روَى أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والأثْرَمُ (¬2)، عن بَهْزِ بن حَكِيمٍ، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يقولُ: «في كُلِّ سَائِمَةِ الإبِلِ، في كُلِّ أرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ الإبِلُ عَنْ حِسَابِهَا (¬3)، مَنْ أعْطَاهَا مُؤْتَجرًا فَلَهُ أجْرهَا، وَمَنْ أبَى فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنهَا شَئٌ». وسُئِل أحمدُ عن إسْنادِه ¬

(¬1) في م: «مصرفها». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في زكاة السائمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 363. والنسائى، في: باب عقوبة مانع الزكاة، وباب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها ولحمولتهم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 11، 17. كما أخرجه الدارمى، في: باب ليس في عوامل الإبل صدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 396. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 2، 4. (¬3) معناه أن المالك لا يفرق ملكه عن ملك غيره حيث كانا خليطين. عون المعبود 3/ 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: هو عندِى صالِحُ الإِسْنادِ. وقال: ما أدْرِى ما وَجْهُه. ووَجْه الأوَّلِ قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ في الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» (¬1). ولأنَّ مَنْعَ الزكاةِ كان عَقِيبَ مَوْتِ النبىّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مع تَوَفُّرِ الصحابَةِ، فلم يُنْقَلْ عنهم أخْذُ زِيادَةٍ، ولا قولٌ بذلك. واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في العُذْرِ عن هذا الخَبَرِ. فقِيلَ: كان في بَدْءِ الإِسْلامِ، حيث كانتِ العُقُوباتُ في المالِ، ثم نُسِخ بالحديثِ الذى رَوَيْناه، ولذلك انْعَقَدَ الإِجْماعُ على تَرْكِ العَمَلِ به في المانِعِ غيرِ الغالِّ. وحَكَى الخَطّابِىُّ (¬2) عن إبراهيمَ الحَرْبِىِّ، أنَّه يُؤْخذُ منه السِّنُّ الواجِبُ عليه مِن خِيارِ مالِه، مِن غيرِ زِيادَةٍ في سِنٍّ ولا عَدَدٍ، لكنْ يَنْتَقِى مِن خِيارِ مالِه ما تَزِيدُ به صَدَقَتُه في القِيمَةِ بقَدْرِ شَطْرِ قِيمَةِ الواجِبِ عليه. فيكونُ المُرادُ بـ «مالِه» ههُنا الواجِبَ عليه مِن مالِه، فيُزادُ في القِيمَةِ بقَدْرِ شَطْرٍ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما أدى زكاته فليس بكنز، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 570. وانظر تلخيص الحبير، لابن حجر 2/ 160. (¬2) في م: «الخطاب». وانظر: معالم السنن 2/ 33.

970 - مسألة: (فإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثا، فإن تاب، وإلا قتل وأخذت من تركته. وقال بعض أصحابنا: إن قاتل عليها كفر)

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أخْذُهَا اسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَأَخْرَجَ، وَإلَّا قُتِلَ وَأُخِذَت مِنْ تَرِكَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كَفَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 970 - مسألة: (فإن لم يُمْكِنْ أخْذُها استُتِيبَ ثَلاثًا، فإن تاب، وإلَّا قُتِل وأُخِذَتْ مِن تَرِكَتِه. وقال بعضُ أصحابِنا: إن قاتَلَ عليها كَفَر) متى كان مانِعُ الزكاةِ خارِجًا عن قَبْضَةِ الإِمامِ قاتَلَه؛ لأنَّ الصحابةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، اتَّفَقُوا على قِتالِ مانِعِى الزكاةِ. وقال أبو بكر: واللَّهِ لو مَنَعُونِى عِقالًا كانُوا يُؤَدُّونَه إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لقاتَلْتُهم عليه (¬1). فإن ظَفِر به وبمالِه أَخَذَها من غيرِ زِيادَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا، ولم يَسْبِ ذُرِّيَّته، لأنَّ الجِنايَةَ مِن غيرِهم، ولأنَّ المانِعَ لا يُسْبَى، فذُرِّيَّتُه أوْلَى. وإن ظَفِرَ به [دُونَ مالِه] (¬2) دَعاه إلى أدائِها، فإن تاب وأدَّى وإلَّا قُتِل، قياسًا على تارِكِ الصَّلاةِ، ولم يُحْكَمْ بكُفْرِه في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وعن أحمدَ، أنَّه قال: إذا مَنَعُوا الزكاةَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقاتَلُوا عليها كما قاتَلُوا أَبا بكرٍ، لم يُوَرَّثُوا، ولم يُصَلَّ عليهم. وهذا حُكْمٌ منه بكُفْرِهم. واخْتارَه بعضُ أصحابِنا. قال عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: وما تارِكُ الزكاةِ (¬1) بمُسْلِمٍ (¬2). ووَجْهُ ذلك ما رُوِى أنَّ أَبا بكرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، لَمّا قاتَلَهم وعَضَّتْهم الحَرْبُ، قالُوا: نُؤَدِّيها. قال: لا أقْبَلُها حتَّى تَشْهَدُوا أنَّ قَتْلانا في الجَنَّةِ وقَتْلاكم في النَّارِ (¬3). ولم يُنْقَلْ إنْكارُ ذلكَ عن أحَدٍ مِن الصحابَةِ، فدَلَّ على كُفْرِهم. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ عُمَرَ وغيرَه امْتَنَعُوا مِن القِتالِ في بَدْءِ الأمْرِ، ولو اعْتَقَدُوا كُفْرَهم لَما تَوَقَّفُوا عنه، ثم اتَّفَقُوا على القِتالِ، وبَقِىَ الكُفْرُ على أصْلِ النَّفْى، ولأنَّ الزكاةَ فَرْعٌ مِن فُرُوعِ الدِّينِ، فلم يَكْفُرْ بتَرْكِه، كالحَجِّ، وإذا لم يَكْفُرْ بتَرْكِه لم يَكْفُرْ بالقِتالِ عليه، كأهلِ البَغْى. وأمّا الذين قال لهم أبو بكرٍ هذا القولَ، فيَحْتَمِلُ أنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَها، فإنَّه نُقِل عنهم أنَّهم قالُوا: إنَّما كُنّا نُؤَدِّى إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّ صَلَاته سَكَنٌ لَنا, وليس صلاةُ أبى بكرٍ سَكَنًا لَنا، فلا نُؤَدِّى إليه. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَ الأداءِ إلى أبى بكرٍ، ¬

(¬1) في م: «الصلاة». (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في منع الزكاة، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 114. (¬3) أخرجه أبو عبيد، في: الأموال 196 - 198. والبخارى مختصرًا، في: باب الاستخلاف، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 9/ 101. وانظر: فتح البارى 13/ 210.

971 - مسألة: (وإن ادعى ما يمنع وجوب الزكاة؛ من نقصان الحول أو النصاب، أو انتقاله عنه فى بعض الحول، قبل قوله بغير يمين. نص عليه)

وَإنِ ادَّعَى مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ مِنْ نُقْصَانِ الْحَوْلِ أوِ النِّصَابِ، أَوِ انْتِقَالِهِ عَنْهُ في بَعْضِ الْحَوْلِ وَنَحْوِهِ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولأنَّ هذه قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، ولم يَتَحَقَّقْ مِن الذين قال لهم أبو بكرٍ هذا القولَ، فيَحْتَمِلُ أنَّهم كانوا مُرْتَدِّين، ويَحْتَمِلُ أنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَ الزكاةِ، ويَحْتَمِلُ غيرُ ذلك، فلا يَجُوزُ الحُكْمُ به في مَحلِّ النِّزاعِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ أَبا بكرٍ قال ذلك لأنَّهم ارْتَكَبُوا كَبائِرَ، وماتُوا عليها مِن غيرِ تَوْبَةٍ، فحَكَمَ لهم بالنّارِ ظاهِرًا، كما حَكَم لقَتْلَى المُجاهِدِين بالجَنّةِ ظاهِرًا، والأمْرُ إلى اللَّهِ تعالى في الجَمِيعِ، ولأنَّه لم يَحْكُمْ عليهم بالتَّخْلِيدِ، ولا يَلْزَمُ مِن الحُكْمِ بالنّارِ الحُكْمُ بالكُفْرِ، فقد أخْبَرَ عليه السّلامُ أنَّ قَوْمًا مِن أُمَّتِه يَدْخُلُون النّارَ، ثم يُخْرِجُهم اللَّه تعالى منها ويُدْخِلُهم الجَنَّةَ (¬1). 971 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى ما يَمْنَعُ وُجُوبَ الزكاةِ؛ مِن نُقْصانِ الحَوْلِ أوِ النِّصابِ، أو انْتِقالِه عنه في بعضِ الحَوْلِ، قُبِلَ قَوْلُه بغَيْرِ يَمِينٍ. نَصَّ عليه) أحمدُ؛ لأنَّ الزكاةَ عِبادَةٌ وحَقٌّ للَّهِ، فلم يُسْتَحْلَفْ عليه، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب صفة الجنة والنار، من كتاب الرقاق، وفى: باب ما جاء في قول اللَّه {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 8/ 148، 9/ 164. ومسلم، في: باب إثبات الشفاعة، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 133، 134، 147، 163، 208، 269.

972 - مسألة: (والصبى والمجنون يخرج عنهما وليهما)

وَالصَّبِىُّ وَالْمَجْنُونُ يُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالصلاةِ والحَدِّ. 972 - مسألة: (والصَّبِىُّ والمَجْنُونُ يُخرِجُ عنهما وَلِيُّهما) تَجِبُ الزكاةُ في مالِ الصبِىِّ والمَجْنُونِ، إذا كان حُرًّا مُسْلِمًا تَامَّ المِلْكِ، رُوِى ذلك عن عُمَرَ، وعَلىٍّ وابنِ عُمَرَ، وعائِشةَ، والحسنِ بنِ علىٍّ، وجابِرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال جابِرُ بنُ زيدٍ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، والحَسنُ بنُ صالِحٍ، وابنُ أبى لَيْلَى، والشافعىُّ، والعَنْبَرِىُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وحُكِى عن ابنِ مسعودٍ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ أنَّهم قالوا: تَجِبُ الزكاةُ، ولا يُخْرِجُ حتَّى يَبْلُغَ الصَّبِىُّ، ويُفِيقَ المَعْتُوهُ. وقال الحسنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو وائِلٍ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا تَجِبُ الزكاةُ في أمْوالِهما. قال أبو حنيفةَ: إلَّا العُشْرَ وصَدَقَةَ الفِطْرِ؛ وذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِه عليه السلامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ؛ عَنِ الصبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فلا تَجِبُ عليهما، كالصلاةِ والحَجِّ. ولَنا، ما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ وَلِىَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكلَهُ الصَّدَقَةُ». أخْرَجَه الدَّارقُطنِىُّ (¬2). وفى رُواتِه المُثَنَّى بنُ الصَّبّاحِ، وفيه مَقالٌ، ورُوِىَ مَوْقُوفًا عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه (¬3). وإنَّما تَأْكُلُه الصَّدَقَةُ بإخْراجِها. وإنَّما إخْراجُها إذا كانت واجِبَةً؛ لأنَّه ليس له أن يَتَبَرَّعَ بمالِ اليَتِيمِ، ولأنَّ مَن وَجَب العُشْرُ في زَرْعِه وَجَب نِصفُ العُشْرِ في وَرِقِه، كالبالِغِ العاقِلِ، وتُخالِفُ الصلاةَ والصومَ، فإنَّها مُخْتَصَّةٌ بالبَدَنِ، وبِنْيَةُ (¬4) الصبِىِّ ضَعِيفَةٌ عنها، والمَجْنُونُ لا يَتَحَقَّقُ منه نِيَّتُها، والزكاةُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بالمالِ، أشْبَهَ نَفَقَةَ الأقارِبِ والزَّوْجاتِ، وأُرُوشَ الجِناياتِ، والحَدِيثُ أُرِيدَ به رَفْعُ الإِثْم والعِباداتِ البَدَنِيَّةِ، بدَلِيلِ وُجُوبِ العُشْرِ وصَدَقَةِ الفِطْرِ والحُقُوقِ المالِيَّةِ، ثم هو مَخْصُوصٌ بما ذَكَرْنا، والزكاةُ في المالِ في مَعْناه، ومَقِيسَةٌ عليه. إذا تَقَرَّرَ هذا، فإن الوَلِىَّ يُخْرِجُ عنهما مِن مالِهما؛ لأنَّها زكاةٌ واجِبَةٌ، فوَجَبَ إخْراجُها، كزكاةِ البالِغِ العاقِلِ، والوَلِىُّ يقُومُ مَقامَه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15. (¬2) في: باب وجوب الزكاة في مال الصبى واليتيم، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 110. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في زكاة مال اليتيم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 136. والبيهقى، في: باب من تجب عليه الصدقة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 107. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب من تجب عليه الصدقة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 107. والدارقطنى، في: باب وجوب الزكاة في مال الصبى واليتيم، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 110. (¬4) في النسخ: «نية». والمثبت كما في المغنى 4/ 70.

973 - مسألة: (ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه، ويجوز دفعها إلى الساعى. وعنه، يستحب أن يدفع إليه العشر، ويتولى تفريق الباقى)

وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ تَفْرِقَةُ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ دَفْعُهَا إِلَى السَّاعِى. وَعَنْهُ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْعُشْرَ، وَيَتَوَلَّى هُوَ تفْرِيقَ الْبَاقِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أداءِ ما عليه، ولأنَّه حَقٌّ واجِبٌ على الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ، فكان على الوَلِىِّ أداوه عنهما، كنَفَقَةِ أقارِبِه، وتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الوَلِىِّ في الإِخْراجِ، كما تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ مِن رَبِّ المالِ. 973 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ للإِنْسانِ تَفْرِقَةُ زَكاتِه بنَفْسِه، ويَجُوزُ دَفْعُها إلى السّاعِى. وعنه، يُسْتَحَبُّ أن يَدْفَعَ إليه العُشْرَ، ويَتَوَلَّى تَفْرِيقَ الباقِى) وإنَّما اسْتُحِبَّ ذلك؛ ليَكُونَ على يَقِينٍ مِن وصُولِها إلى مُسْتَحِقِّها، وسَواءٌ كانت مِن الأمْوالِ الظّاهِرَةِ أو الباطِنَةِ. قال أحمدُ: أعْجَبُ إلىَّ أن يُخْرِجَها، وإن دَفَعَها إلى السُّلْطان فهو جائِزٌ. وقال الحسنُ، ومَكْحُولٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: يَضَعُها رَبُّ المالِ في مَواضِعِها (¬1). وقال الثَّوْرِىُّ: احْلِفْ لهم، واكْذِبْهم، ولا تُعْطِهم شيئًا، إذا لم يَضَعُوها مَواضِعَها. وقال طاوسٌ: لا تُعْطِهم. وقال عطاءٌ: أعْطِهم إذا وَضَعُوها مَواضِعَها. وقال الشَّعْبِىُّ، وأبو جَعْفَرٍ: إذا رَأيْتَ الوُلاةَ لا يَعْدِلُون فضَعْها ¬

(¬1) أخرج أثر الحسن وسعيد، ابن أبى شيبة، في: باب من رخص في أن لا تدفع الزكاة إلى السلطان، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 158.

974 - مسألة: (وعند أبى الخطاب، دفعها إلى الإمام العادل أفضل)

وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ، دَفْعُهَا إلَى الإِمَامِ الْعَادِلِ أَفْضَلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أهلِ الحاجَةِ. وقال إبراهيمُ: ضَعُوها في مَواضِعِها، فإن أَخَذَها السُّلْطانُ أجْزَأك. وقال: ثنا سعيدٌ، ثنا أبو عَوانَةَ، عن مُهاجِرٍ أبى الحسنِ، قال: أَتَيْتُ أَبا وائِلٍ، وأبا بُرْدَةَ بالزكاةِ وهما على بَيْتِ المالِ فأخَذاها، ثم جِئْت مَرَّةً أُخْرَى فرَأْيتُ أَبا وائِلٍ وحْدَه، فقال لى: رُدَّها فضَعْها مَواضِعَها. وقد رُوِى عن أحمدَ، أنَّه قال: أمّا صَدَقَةُ الأرْضِ فيُعْجِبُنِى دَفْعُها إلى السُّلْطانِ. وأمّا زكاةُ الأمْوالِ كالمَواشِى، فلا بَأْسَ أن يَضَعَها في الفُقَراءِ والمَساكِينِ. فظاهِرُ هذا أنَّه اسْتَحَبَّ دَفْعَ العُشْرِ خَاصَّةً إلى الأئِمَّةِ؛ وذلك لأنَّ العُشْرَ قد ذَهَب قَوْمٌ إلى أنَّه مُؤْنَةُ الأرْضِ يَتَوَلَّاه الأئِمَّةُ، كالخَراجِ، بخِلافِ سائِرِ الزكاةِ. قال شيخُنا (¬1): والذى رَأَيْتُ في «الجامِعِ» قال: أمّا صَدَقَةُ الفِطْرِ فَيُعْجِبُنى دَفْعُها إلى السُّلْطانِ. ثم قال أبو عبدِ اللَّهِ: قِيلَ لابنِ عُمَرَ: إنَّهم يُقَلِّدُون بها الكِلابَ، ويَشْرَبُون بها الخُمُورَ؟ قال: ادْفَعْها إليهم. 974 - مسألة: (وعند أبى الخَطّابِ، دَفْعُها إلى الإِمامِ العادِلِ أفْضَلُ) اخْتارَه ابنُ أبى موسى. وهو قولُ أصحابِ الشافعىِّ. ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِمَّن قال: يَدْفَعُها إلى الإِمامِ؛ الشَّعْبِىُّ، ومحمدُ بنُ علىٍّ (¬1)، والأوْزاعِىُّ؛ لأنَّ الإِمامَ أعْلَمُ بمَصارِفِها، ودَفْعُها إليه يُبَرِّئُه ظاهِرًا وباطِنًا، ودَفْعُها إلى الفَقِيرِ لا يُبَرِّئُه باطِنًا، لاحْتِمالِ أن يكونَ غيرَ مُسْتَحِقٍّ لها, ولأنَّه يَخرُجُ مِن الخِلافِ، وتَزُولُ عنه التُّهْمَةُ. وكان ابنُ عُمَرَ يَدْفَعُ زَكاتَه إلى مَن جاءَه مِن سُعاةِ ابنِ الزُّبَيْرِ، أو نَجْدَةَ الحَرُورِىِّ (¬2). وقد رُوِى عن سُهَيْلِ بنِ أبى صالِحٍ [عن أبيه] (¬3)، قال: أَتَيْتُ سعدَ بنَ أبى وقَّاصٍ، فقلتُ: عندِى مالٌ، وأُرِيدُ أن أُخْرِجَ زَكاتَه، وهؤلاءِ القَوْمُ على ما تَرَى، فما تَأْمُرُنِى؟ قال: ادْفَعْها إليهم. فأتَيْتُ ابنَ عُمَرَ، فقال مثلَ ذلك، فأتَيْتُ أَبا هُرَيْرَةَ، فقال مثلَ ذلك، فأتَيْتُ أَبا سَعِيدٍ، فقال مثلَ ذلك (¬4). ورُوِىَ نحوُه عن عائِشَةَ، رَضِيَ اللَّه عنهم (¬5). وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يُفرِّقُ الأمْوالَ الظّاهِرَةَ إلَّا الإِمامُ؛ لقَوْل اللَّهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. ولأَنَّ أَبا بكر رَضِىَ اللَّهُ عنه، ¬

(¬1) محمد بن على بن الحسين الهاشمى، الباقر، أبو جعفر. تابعى ثقة كثير الحديث، وذكره النسائى في فقهاء أهل المدينة. توفى سنة بضع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 350 - 352. (¬2) هو نجدة بن عامر، من بنى حنيفة، من كبار أصحاب الثورات في صدر الإسلام، والحرورى نسبة إلى حروراء، موضع قرب الكوفة كان أول اجتماع الخوارج به، وقد استولى نجدة على البحرين وما حولها وتسمى بأمير المؤمنين حتى قتل سنة تسع وستين. وذلك في أيام عبد اللَّه بن الزبير. الأعلام 8/ 324، 325. (¬3) سقط من: النسخ. والمثبت من مصادر التخرج. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب الاختيار في دفعها إلى الوالى، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 115. (¬5) أخرج أثر عائشة ابن أبى شيبة، في: باب من قال تدفع الزكاة إلى السلطان، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 157. وانظر مصنف عبد الرزاق 4/ 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طالَبَهم بالزكاةِ، وقاتَلَهم عليها، وقال: واللَّه لِو مَنَعُونِى عَناقًا كانوا يُؤَدُّونَها إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لقاتَلْتُهم عليها (¬1). ووافَقَه الصحابةُ على هذا, ولأنَّ ما للإِمامِ قَبْضُه بحُكْمِ الوِلايةِ، لا يَجُوزُ دَفْعُه إلى المُوَلَّى عليه، كوَلِىِّ اليَتِيمِ. وللشافعىِّ قَوْلان كالمَذْهَبَيْن. ولَنا على جَوازِ دَفْعِها بنَفْسِه، أنَّه دَفَعَ الحَقَّ إلى مُسْتَحِقِّه الجائِزِ تَصَرُّفُه فأجْزَأه، كما لو دَفَع الدَّيْنَ إلى غَرِيمِه، وكزكاةِ الأَمْوال الباطِنَةِ، والآيَةُ تَدُلّ على أنَّ للإِمام أخذَها, ولا خِلافَ فيه، ومُطالَبَة أبى بكرٍ لهم بها لكَوْنِهم لم يُؤَدُّوها إلى أَهْلِها, ولو أدَّوْها إلى أهْلِها لم يُقاتِلْهم عليها؛ لأنَّ ذلك مُخْتَلَفٌ في إجْزائِه، ولا تَجُوزُ المُقاتَلَةُ مِن أجْلِه، وإنَّما يُطالِبُ الإِمامُ بحُكْمِ الوِلايَةِ والنِّيابَةِ عن مُسْتَحِقِّها، فإذا دَفَعَها إليهم جاز؛ لأنَّهم أهلُ رُشْدٍ، بخِلافِ اليَتِيمِ. وأمّا وَجْهُ فَضِيلَةِ دَفْعِها بنَفْسِه؛ فلأنَّه إيصالٌ للحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه، مع تَوْفِيرِ أجْرِ العِمالَةِ، وصِيانَةِ حَقِّهم عن خَطرَ الجِنايَةِ، ومُباشَرَةِ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مُسْتَحِقِّها، وإغْنائِه بها، مع إعْطائِها للأوْلَى بها، مِن مَحاوِيجِ أقارِبِه، وذوى رَحِمِه، وصِلَةِ رَحِمِه بها، فكان أفْضَلَ، كما لو لم يكنْ آخِذُها مِن أهلِ العَدْلِ. فإن قِيلَ: فالكَلامُ في الإِمامِ العادِلِ، والخِيانَةُ مَأْمُونَةٌ في حَقِّه. قُلْنا: الإِمامُ لا يَتَوَلَّى ذلك بنَفْسِه، وإنَّما يُفَوِّضُه إلى نُوَّابِه، فلا تُؤْمَنُ منهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِيانَةُ، ثم رُبَّما لا يَصِلُ إلى المُسْتَحِقِّ الذى قد عَلِمَه المالِكُ مِن أهلِه وجيرانِه شئٌ منها، وهم أحَقُّ الناسِ بصِلَتِه وصَدَقَتِه ومُواساتِه. وقَوْلُهم: إنَّ أخْذَ الإِمامِ يُبَرِّئُه ظاهِرًا وباطِنًا. قُلْنا: يَبْطُلُ هذا بدَفْعِها إلى غيرِ العادِلِ، فإنَّه يَبْرأُ أَيضًا، وقد سَلَّمُوا أنَّه ليس بأفْضَلَ، ثم إنَّ البَراءَةَ الظّاهِرَةَ تَكْفِى. وقولُهم: إنَّه تَزُولُ به التُّهْمَةُ. قُلْنا: متى أظْهَرَها زالتِ التُّهْمَةُ، سَواءٌ أخْرَجَها بنَفْسِه، أو دَفَعَها إلى الإِمامِ، ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّ دَفْعَها إلى الإِمامِ جائِزٌ، سَواءٌ كان عادِلًا أو غيرَ عادلٍ، وسَواءٌ كانت مِن الأمْوالَ الظّاهِرَةِ أو الباطِنَةِ، ويَبْرأُ بدَفْعِها، سَواءٌ تَلِفَتْ في يَدِ الإِمامِ أو لا، أو صَرَفَها في مَصارِفِها أو لم يَصْرِفْها؛ لِما ذَكَرْنا عن الصحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، ولأنَّ الإِمامَ ناِئِبٌ عنهم شَرْعًا فبَرِئَ بدَفْعِها إليه، كوَلِىِّ اليَتِيمِ إِذا قَبَضَها له، ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أَيضًا في أنَّ صاحِبَ المالِ يجوزُ أن يُفرِّقَها بنَفْسِه. فصل: وإذا أخَذَ الخَوارِجُ والبُغاةُ الزكاةَ، أجْزَأتْ عن صاحِبها. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، في الخَوارِجِ، أنَّها تُجْزِئ. وكذلك كلُّ مَن أَخَذَها مِن السَّلاطِينِ، أجْزَأتْ عن صاحِبِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ عَدَل فيها أو جار، وسَواءٌ أَخَذَها قَهْرًا أو دَفَعَها إليه اخْتِيارًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ أبى صالِحٍ. وقال إبراهيمُ: يُجْزِئُ عنك ما أخَذَ العَشَّارُون. وعن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، أنَّه دَفَع صَدَقَتَه إلى نَجْدَةَ (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه سُئِل عن مُصَدِّقِ ابنِ الزُّبَيْرِ، ومُصَدِّقِ نَجْدَةَ، فقال: إلى أيِّهما دَفَعْتَ أجْزَأ عنك (¬2). وبهذا قال أصْحابُ الرَّأْى فيما غُلِبُوا عليه. وقالوا: إذا مَرَّ على الخَوارِجِ فعُشْرُه لا يُجْزِئُ عن زَكاتِه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب موضع الصدقة ودفع الصدقة في مواضعها، من كتاب الزكاة. المصنف 4/ 48. وذكره أبو عبيد، في: الأموال 574. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الواليين يريدان الصدقة من الرجل، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو عُبَيْدٍ (¬1): على مَن أخَذَ الخَوارِجُ منه الزكاةَ الإِعادَةُ؛ لأنَّهم ليسوا بأئِمَّةٍ، أشْبَهُوا قُطّاعَ الطَّرِيقِ. ولَنا، قولُ الصحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، مِن غيرِ خِلافٍ في عَصْرِهم عَلِمْناه، فيكونُ إجْماعًا، ولأنَّه دَفَعَها إلى أهلِ الوِلاية، فأشْبَهَ دَفْعَها إلى أهلِ البَغْى. ¬

(¬1) في: الأموال 575.

975 - مسألة: (ولا يجزئ إخراجها إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا. وقال أبو الخطاب: لا تجزئه أيضا بغير نية)

وَلَا يَجوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تُجْزِئُهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 975 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ إخْراجُها إلَّا بنيَّةٍ، إلَّا أن يَأْخُذَها الإِمامُ منه قَهْرًا. وقال أبو الخَطّابِ: لا تُجْزِئُه أيضًا بغيرِ نِية) مَذْهَبُ عامَّةِ أهلِ العلمِ، أنَّ النيةَ شَرْطٌ في إخْراجِ الزكاةِ. وحُكِىَ عن الأوْزاعِىِّ أنَّها لا تَجِبُ لها النِّيَّةُ؛ لأنَّها دَيْنٌ، فلا تَجِبُ لها النِّيَّةُ، كسائِرِ الدُّيُونِ، ولهذا يُخْرِجُها وَلِىُّ اليَتِيمِ، ويَأْخُذُها السُّلْطانُ مِن المُمْتَنِع. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (¬1). وأداؤُها عَمَلٌ، ولأنَّها عِبادَةٌ، منها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرضٌ ونَفْلٌ، فافْتَقَرَتْ إلى النِّيَّةِ، كالصلاةِ، وتُفارِقُ قَضاءَ الدَّيْنِ؛ فإنَّه ليس بعِبادَةٍ، فإنَّه يَسْقُطُ بإسقاطِ مُسْتَحِقِّه، ووَلِىُّ اليَتيمِ والسُّلْطانُ يَنُوبان عندَ الحاجَةِ. إذا ثَبَت ذلك، فالنِّيَّةُ أن يَعْتَقِدَ أنها زَكاتُه، أو زكاةُ مَن يُخْرِجُ عنه، كالصَّبِىِّ والمَجْنُونِ، ومَحَلُّها القَلْبُ، لأنَّه مَحَلُّ الاعْتِقاداتِ كلِّها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ على الأداءِ بالزَّمَنِ اليَسِيرِ، كسائِرِ العِباداتِ، ولأنَّها يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيها، فاعْتِبارُ مُقارَنَةِ النِّيَّةِ للإِخْراجِ يُؤَدِّى إلى التَّغْرِيرِ (¬1) بمالِه، ولو تَصَدَّقَ الإِنْسانُ بجَمِيع مالِه ولم يَنْوِ به الزكاةَ، لم يُجْزِئْه. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال أصحابُ أبى حنيفةَ: يُجْزِئُه اسْتِحْسانًا. ولَنا، أنَّه لم ينوِ الفَرْضَ فلم يُجْزِئْه كما لو تَصَدَّقَ ببعضِ مالِه وكما لو صَلَّى مائةَ رَكْعَةٍ لم يَنْوِ الفرضَ بها. فصل: ومَن له مالٌ غائِبٌ يَشُكُّ في سَلامَتِه، يَجُوزُ إخْراجُ الزكاةِ عنهْ، وتَصِحُّ منه نِيَّةُ الإِخْراجِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاؤُه، فإن نَوَى أنَّ هذا زكاةُ مالِى إن كان سالِمًا، وإلَّا فهو تَطوُّعٌ، فبان سالِمًا، أجْزَأتْ؛ لأنَّه أخْلَصَ النِّيَّةَ للفَرْضِ، ثم رَتَّبَ عليها النَّفْلَ، وهذا حُكْمُها لو لم يَقُلْه، فإذا قالَه لم يَضُرَّ. ولو قال: هذا زكاةُ مالِى الغائِبِ والحاضِرِ. صَحِّ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ لا يُشْتَرَطُ، بدَلِيلِ أنَّ مَن له أرْبَعُون دِينارًا إذا أخْرَجَ نِصْف دِينارٍ عنها، صَحَّ، وإن كان يَقَعُ عن عِشْرِين غيرِ مُعَيَنةٍ. وإن قال: هذا زَكاةُ مالِى الغائِبِ، أو تَطَوُّعٌ. لم يُجْزِئْه. ذَكَرَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه لم يُخْلِص النِّيَّةَ للفَرْض، أشْبَهَ ¬

(¬1) في م: «التقرير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لو قال: أُصَلِّى فَرْضًا أو تَطَوُّعًا. وإن قال: هذا زكاةُ مالِى الغائِبِ إن كان سالِمًا، وإلَّا فهو زكاةٌ لمالِى الحاضِرِ. أجْزَأه عن السّالِمِ منهما. فإن كانا سالِمَيْن فعن أحَدِهما، لأنَّ التَّعْيِينَ ليس بشَرْطٍ. وإن قال: زكاةُ مالِى الغائِبِ. وأطْلَقَ، فبان تالِفًا، لم يكنْ له أن يَصْرِفَه إلى زَكاةِ غيرِه، لأنَّه عَيَّنَه، فأشْبَهَ ما لو أَعْتَقَ عَبْدًا عن كفّارَةٍ عَيَّنَها فلم يَقَعْ عنها، لم يكنْ له صَرْفُه إلى كَفّارَةٍ أُخْرَى. هذا التَّفْريعُ فيما إذا كانتِ الغَيْبَةُ ممّا لا تَمْنَعُ إِخْراجَ زَكاتِه في بَلَدِ رَبِّ المالِ، إمّا لقُرْبِه، أو لكَوْنِ البَلَدِ لا يُوجَدُ فيه أهلُ (¬1) السُّهْمانِ، أو على الرِّوايَةِ التى تقولُ بإجْزاءِ إخْراجِها في بَلَدٍ بعيدٍ مِن بَلَدِ المالِ. وإن كان له مَوْرُوث غائِبٌ، فقال: إن كان مَوْرُوثِى قد مات فهذه زكاةُ مالِه الذى وَرِثْتُه عنه. فبان مَيِّتًا، لم يُجْزِئْه، لأنَّه يَنْبَنِى على غيرِ أصْلٍ، فهو كقَوْلِه لَيْلَةَ الشَّكِّ: إن كان غدًا مِن رَمضانَ فهو فَرْضِى، وإلَّا فهو نَفْلٌ. فصل: فإن أخَذَها الإِمامُ منه قَهْرًا أجْزَأتْ بغيرِ نِيَّةٍ، وهذا قولُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِىِّ. ومَفْهُومُ هذا الكلامِ أنَّه متى دَفَعَها طَوْعًا لم تُجْزِئْه إلَّا بنِيَّةٍ، سَواءٌ دَفَعَها إلى الإِمامِ أو (¬1) غيرِه. أمّا في حالِ القَهْرِ فتَسقُطُ النِّيَّةُ؛ لأنَّ تَعَذُّرَها في حَقِّه أسْقَطَها، كالصَّغِيرِ والمَجْنُونِ. وقال القاضى: لا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ إذا أخَذَها الإِمامُ في حالِ الطَّوْعِ والكُرْهِ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ أخْذَ الإِمامِ بمَنْزِلَةِ القَسْمِ بينَ الشُّرَكاءِ، فلم يَحْتَج إلى نِيَّةٍ، ولأنَّ للإِمام وِلايةً في أخْذِها، ولذلك يَأخُذُها مِن المُمْتَنِعِ اتِّفاقًا، ولو لم تُجْزِئْه لَما أخَذَها، ولأخَذَها ثانِيًا وثالِثًا حتى يَنْفَدَ مالُه؛ لأنَّ أخْذَها إن كان لإِجْزائِها فهو لا يَحْصُلُ بدُونِ النِّيَّةِ، وإن كان لوُجُوبِها، فهو باقٍ بحالِه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ أنها لا تُجْزِئُه أيضًا مِن غيرِ نِيَّةٍ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ الإِمامَ إمّا وَكِيلُه وإمّا وَكِيلُ الفُقَراءِ أو وَكِيلُهما، وأىُّ ذلك كان فلا بُدَّ مِن نِيَّةِ رَبِّ المَالِ، ولأنَّها عِبادَةٌ تَجبُ لها النِّيَّةُ، فلا تُجْزِئُ عن مَن وجَبَتْ عليه إذا كان مِن أهلِ النِّيَّةِ بغيرِ نِيَّةٍ، ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالصلاةِ، وإنَّما أُخِذَتْ منه حِراسَةً للعِلْمِ الظّاهِرِ، كالمُمْتَنِع مِن الصَّلاةِ يُجْبَرُ عليها ليَأْتِىَ بصُورَتِها، ولو صَلَّى بغيرِ نِيَّةٍ لم تُجْزِئْه، والمُرْتَدُّ يُطالَبُ بالشَّهادَةِ، فإذا أتَى بها حُكِمَ بإِسْلامِهِ ظاهِرًا، وإن لم يَعْتَقِدْ صِحَّتَها لم يَصِحَّ إسْلامُه باطِنًا. ومَن نَصَر القولَ الأوَّلَ، قال: إنَّ للإِمامِ وِلايةً على المُمْتَنِع فقامَتْ نِيَّتُه مَقامَ نِيَّتِه، كولِىِّ المَجْنُونِ واليَتيمِ، وفارَقَ الصلاةَ؛ فإنَّ النِّيابَةَ فيها لا تَصِحُّ، فلا بُدّ مِن نِيَّةِ فاعِلِها. وقولُه: لا يَخْلُو مِن كَوْنِه وَكِيلًا له أو للفُقَراءِ أو لهما. قُلْنا: بل هو وَكِيلٌ على المالِكِ، وإلحاقُ الزكاةِ بالقِسْمَةِ غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنّها ليست عِبادَةً، ولا يُعْتَبَرُ لها نِيَّةٌ، بخِلافِ الزكاةِ.

976 - مسألة: (وإن دفعها إلى وكيله، اعتبرت النية فى الموكل دون الوكيل)

وَإنْ دَفَعَهَا إِلَى وَكِيلهِ، اعْتُبِرَتِ النِّيَّةُ مِنَ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 976 - مسألة: (وإن دَفَعَها إلى وَكِيلِه، اعْتُبِرَتِ النِّيَّةُ في المُوَكِّلِ دُونَ الوَكِيلِ) إذا وَكَّلَ في دَفْع الزكاةِ، فدَفَعَها الوَكِيلُ إلى مُسْتَحِقِّها قبلَ تَطاوُلِ الزَّمَنِ، أجْزَأتْ نِيَّةُ المُوَكِّلِ، ولم يَفْتَقِرْ إلى نِيَّةِ الوَكِيلِ؛ لأنَّ المُوَكِّلَ هو الذى عليه الفَرْضُ، فاكْتُفِىَ بنِيَّتِه، ولأنَّ تَأَخُّرَ الأداءِ عن النِّيَّةِ بالزَّمَنِ اليَسِيرِ جائِزٌ على ما ذَكَرْنا، فإن تَطاوَلَ الزَّمَنُ، فقال أبو الخَطّابِ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْزِئُ، كما لو تَقارَبَ الدَّفْعُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ شيخِنا ههُنا. والصَّحِيحُ. أنَّه لابُدَّ مِن نِيَّة المُوَكِّلِ حالَ الدَّفْع إلى الوَكِيلِ، ونِيَّةِ الوَكِيلِ عندَ الدَّفْعِ إلى المُسْتحِقِّ؛ لئلَّا يَخْلُوَ الدَّفْعُ إلى المُسْتَحِقِّ عن نِيَّةٍ مُقارِنَةٍ أو مُقارِبَةٍ، ولو نَوَى الوَكِيلُ دُونَ المُوَكِّلِ، لم يَجُزْ؛ لتَعَلُّقِ (¬1) الفَرْضِ بالمُوَكِّلِ، ووُقُوعِ الإِجْزاءِ عنه. وإن دَفَعَها إلى الإِمامِ ناوِيًا، ولم يَنْوِ الإِمامُ حالَ ¬

(¬1) في م: «تتعلق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَفْعِها إلى الفُقَراءِ، جاز وإن طال الزَّمَنُ، لأنَّه وَكِيلُ الفُقَراءِ.

977 - مسألة: (ويستحب أن يقول عند الدفع: اللهم اجعلها مغنما، ولا تجعلها مغرما)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دَفْعِهَا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا. وَيَقُولَ الآخِذ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أبْقَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 977 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقُولَ عندَ الدَّفْع: اللَّهُمَّ اجْعَلْها مَغْنَمًا، ولا تَجْعَلْها مَغْرَمًا) ويَحْمَدُ اللَّهَ على التَّوْفِيقِ لأدائِها لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا أعْطَيْتُمُ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا». أخْرَجَه ابنُ ماجه (¬1). 978 - مسألة: (ويَقُولُ الآخِذُ: آجَرَك اللَّهُ فيما أعْطَيْتَ، وبارَكَ لك فيما أبْقَيْتَ، وجَعَلَه لك طَهُورًا). ¬

(¬1) في: باب ما يقال عند إخراج الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 573.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن دَفَعَها إلى السّاعِى أو الإِمامِ شَكَرَه ودَعا له؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬1). وقال عبدُ اللَّهِ بنُ أبى أوْفَى: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أتاه قَوْمٌ بصَدَقَتِهم، قال: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ». فأتاه أبى بصَدَقَتِه، فقالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أبِى أوْفَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والصلاةُ ههُنا الدعاءُ والتَّبَرُّكُ، وليس هذا بواجبٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ بَعَث مُعاذًا وأمَرَه (¬3) يَأْخُذُ الزكاةَ منهم، لم يَأْمُرْه بالدُّعاءِ، ولأنَّ ذلك لا يَجِبُ على ¬

(¬1) سورة التوبة 103. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازى، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، وباب هل يصلى على غير النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الدعوات. صحيح البخارى 2/ 159، 5/ 159، 8/ 90، 91، 96. ومسلم، في: باب الدعاء لمن أتى بصدقته، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 756، 757. كما أخرجه أبو داود، في: باب دعاء المصدق لأهل الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 368. والنسائى، في: باب صلاة الإمام على صاحب الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 22. وابن ماجه، في: باب ما يقال عند اخراج الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 572. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 353 - 355، 381، 383. (¬3) في م: «أو أمره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَقِيرِ المَدْفُوعِ إليه، فالنّائِبُ أوْلَى.

979 - مسألة: (ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فإن فعل، فهل تجزئه؟ على روايتين)

وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا إِلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ فَعَلَ، فَهَلْ تُجْزِئُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ 979 - مسألة: (ولا يَجُوز نَقْلُها إلى بَلَدٍ تُقْصَرُ إليه الصلاةُ، فإن فَعَل، فهل تُجْزِئُه؟ على رِوايَتَيْن) قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ سُئِل عن الزكاةِ يُبْعَت بها مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ؟ قال: لا. قِيلَ: وإن كان قَرابَتُه بها؟ قال: لا. واسْتَحَبَّ أكْثَرُ أهلِ العلمِ أن لا تُنْقَلَ مِن بَلَدِها ورُوِىَ عن الحسنِ، والنَّخَعِىِّ أنَهما كَرِها نَقْلَ الزكاةِ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، إلَّا لذى قرابَةٍ (¬1). وكان أبو العالِيَةِ يَبْعَثُ بزَكاتِه إلى المَدِينَة. ولَنا، قَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعاذٍ: «أخْبِرْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ» (¬2). وهذا يَخْتَصُّ فُقَراءَ بَلَدِهم. وقال سَعِيدٌ: حَدَّثَنا ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الصدقة يخرج بها من بلد إلى بلد من كرهه، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 167. وأبو عبيد، في: الأموال 594. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُفْيانُ، عن مَعْمَرٍ، عن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيه، قال في كِتابِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ: مَن أخْرَجَ مِن مِخْلافٍ (¬1) إلى مِخْلافٍ، فإنَّ صَدَقَتَه وعُشْرَه تُرَدُّ إلى مِخْلافِه. ورُوِىَ عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، أنه رَدَّ زكاةً أُتِى بها مِن خُراسانَ إلى الشّامِ، إلى خُراسانَ (¬2). ولَمّا بَعَث مُعاذٌ الصَّدَقَةَ مِن اليَمَنِ إلى عُمَرَ، أنْكَرَ ذلك عُمَرُ، وقال: لم أبْعَثْك جابِيًا، ولا آخِذَ جِزْيةٍ، ولكنْ بَعَثْتُك لتَأْخُذَ مِن أغْنِياءِ النّاسِ، فتَرُدَّ في فُقَرائِهم. فقال مُعاذٌ: ما بَعَثْتُ إليك بشئٍ وأنا أجِدُ مَن يأْخُذُه مِنِّى. رَواه أبو عُبَيْدٍ في ¬

(¬1) المخلاف: المدينة. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الصدقة يخرج بها من بلد إلى بلد من كرهه، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 168. وأبو عبيد، في: الأموال 595.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «الأمْوالِ» (¬1). ورُوِىَ أيضًا عن إبراهيمَ بنِ عَطاءٍ مَوْلَى عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، أنَّ زِيادًا، أو بعضَ الأُمَراءِ بَعَث عِمْرانَ على الصَّدَقَةِ، فلَمَّا رَجَع قال: أين المالُ؟ قال: أللمالِ بَعَثْتَنِى؟ أخَذْناها مِن حيث كُنّا نأْخُذُها على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووَضَعْناها حيث كُنّا نَضَعُها على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ولأنَّ المَقْصُودَ إغْناءُ الفُقَراءِ بها، فإذا أُبَحْنا نَقْلَها أفْضَى إلى بقاءِ فُقَراءِ أهلِ ذلك البَلَدِ مُحْتاجِين. فإن خالَفَ ونَقَل، ففيه رِوايَتان، إحْداهما، تجْزِئُه. وهو قولُ أكثَرِ أهلِ العلمِ. واخْتارَها أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه دَفَع الحَقَّ إلى مُسْتَحِقِّه، فبَرِئَ، كالدَّيْنِ، وكما لو فَرَّقَها في بَلَدِها. والأُخْرَى، لا تُجْزِئُه. اخْتارَها ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّه دَفَع الزكاةَ إلى غيرِ مَن أُمِر بدَفْعِها إليه، أشْبَهَ ما لو دَفَعَها إلى غيرِ الأصْنافِ. ¬

(¬1) الأموال 596. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الزكاة هل تحمل من بلد الى بلد، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 377. وابن ماجه، في باب ما جاء في عمال الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 579

إلَّا أَنْ يَكُونَ فِى بلَدٍ لَا فُقَرَاءَ فِيهِ، فَيُفَرِّقَهَا فِى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اسْتَغْنَى عنها فُقَراءُ أهلِ بَلَدِها جاز نَقْلُها. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: قد تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ إلى الإِمامِ إذا لم يكنْ فُقَراءُ، أو كان فيها فَضْلٌ عن حاجَتِهمِ. وقال أيضًا: لا تُخْرَج صَدَقَةُ قَوْمٍ عنهم مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، إلَّا أن يكون فيها فَضْلٌ، لكنَّ (¬1) الذى كان يَجِئُ إلى المَدِينَةِ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكرٍ وعُمَرَ مِن الصَّدَقَةِ، إنَّما كان عن فَضْلٍ منهم، يُعْطَوْن ما يَكْفِيهم، ويُخْرَجُ الفَضْلُ عنهم. وروَى أبو عُبَيْدٍ في كِتابِ «الأمْوالِ» (¬2) بإسْنادِه، عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، أن مُعاذًا لم يَزَلْ بالجَنَدِ (¬3)، إذ بَعَثَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى ماتَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قَدِم على عُمَرَ، فرَدَّه على ما كان عليه، فبَعَثَ إليه مُعاذٌ بثُلُثِ صَدَقَةِ الناسِ، فأنْكَرَ ذلك عُمَرُ، وقال: ¬

(¬1) كذا في النسخ، ولعل الصواب: «لأن». وانظر المغنى 4/ 133. (¬2) الأموال: 596. (¬3) الجند: مدينة كبيرة باليمن تتبعها مخاليف، وبين الجند وصنعاء ثمانية وخمسون فرسخا. معجم البلدان 2/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم أبْعَثْك جابِيًا، ولا آخِذَ جِزْيَةٍ، لكنْ بَعَثْتُك لتَأْخُذَ مِن أغْنِياءِ الناسِ، فتَرُدَّها على فُقَرائِهم. فقال مُعاذٌ: ما بَعَثْتُ إليك بشئٍ وأنا أجِدُ مَن يَأْخُذُه مِنِّى. فلمّا كان العامُ الثانى، بَعَث إليه بشَطْرِ الصَّدَقَةِ، فتَراجَعا بمثلِ ذلك، فلمّا كان العامُ الثالِثُ بَعَث إليه بها كلِّها، فرَاجَعَه عُمَرُ بمثلِ ما راجَعَه، فقال مُعاذٌ: ما وَجَدْتُ أحَدًا يَأخُذُ مِنِّى شَيئًا. وكذلك إذا كان ببادِيَةٍ، ولم يَجِدْ مَن يَدْفَعُها إليه، فَرَّقَها على فُقَراءِ أقْرَبِ البِلادِ إليه. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يُفَرِّقَ الصَّدَقَةَ في بَلَدِها، ثم الأقْرَبِ فالأقْرَبِ مِن القُرَى والبُلْدانِ. قال أحمدُ، في رِوايَة صالِحٍ: لا بَأْسَ أن يُعْطِىَ زَكاتَه في القُرَى التى حَوْلَه ما لم تُقْصَرِ الصلاةُ في إتْيانِها، ويَبْدَأُ بالأقْرَبِ فالأقْرَبِ. فإن نَقَلَها إلى البَعِيدِ لتَحَرِّى قَرابَةٍ، أو مَن كان أشَدَّ حاجَةً فلا بَأْسَ، ما لم يُجاوِزْ مَسافَةَ القَصْرِ.

980 - مسألة: (فإن كان فى بلد، وماله فى آخر، أخرج زكاة المال فى بلده، وفطرته فى البلد الذى هو فيه)

فَإِنْ كَانَ فِى بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِى آخَرَ، أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالِ فِى بَلَدِهِ، وَفِطْرَتَهُ فِى الْبَلَدِ الَّذِى هُوَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 980 - مسألة: (فإن كان في بَلَدٍ، ومالُه في آخَرَ، أخْرَجَ زكاةَ المالِ في بَلَدِه، وفِطْرَتَه في البَلَدِ الذى هو فيه) قال أحمدُ، في رِوايَةِ محمدِ ابنِ الحَكَمِ: إذا الرجلُ في بَلَدٍ، ومالُه في بَلَدٍ، فأحَبُّ إلىَّ أن يُؤَدِّىَ حيث كان المالُ، فإن كان بعضُه حيث هو، وبعضُه في مِصْرٍ، يُؤَدِّى زكاةَ كلِّ مالٍ حيث هو. فإن كان غائِبًا عن مِصْرِه وأهْلِه، والمالُ معه، فأسْهَلُ أن يُعْطِىَ بعضَه في هذا البَلَدِ، وبعضَه في البَلَدِ الآخَرِ. فأمّا إن كان المالُ في البَلَدِ الذى هو فيه حتى يَمْكُثَ فيه حَوْلًا تامًّا، فلا يَبْعَثُ بزَكاتِه إلى بَلَدٍ آخَرَ. فإن كان المالُ تِجارَةً يُسافِرُ به، فقال القاضى: يُفَرِّقُ زَكاتَه حيث حال حَوْلُه، في أىِّ مَوْضِع كان. ومَفْهُومُ كَلامِ أحمدَ في اعْتِبارِه الحَوْلَ التّامَّ، أنَّه يُسَهِّلُ في أن يُفَرِّقَها في ذلك البَلَدِ، وغيرِه مِن البُلْدانِ التى أقام بها في ذلك الحَوْلِ. وقال في الرجلِ يَغِيبُ عن أهْلِه، فتَجِبُ عليه الزكاةُ: يُزَكِّيه في المَوْضِع الذى أكْثَرُ مُقامِه فيه. فأمّا زكاةُ الفِطْرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يُفَرِّقُها في البَلَدِ الذى وجَبَتْ عليه فيه، سَواءٌ كان مالُه فيه أو لم يكنْ؛ لأنَّه سَبَبُ وُجُوبِ الزكاةِ، ففُرِّقَتْ في البَلَدِ الذى سَبَبُها فيه. فصل: إذا أخَذَ السّاعِى الصَّدَقَةَ، فاحْتاجَ إلى بَيْعِها لمَصْلَحَةِ مَن كَلَّفَه نَقْلَها، أو مَرَضِها ونَحْوِهما، فله ذلك؛ لِما روَى قَيْسُ بنُ أبى حازِمٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأى في إِبِلِ الصَّدَقَةِ ناقَةً كَوْماءَ (¬1)، فسَألَ عنها؟ فقال المُصَدِّقُ: إنِّى ارْتَجَعْتُها بإِبلٍ. فسَكَتَ عنه. رَواه أبو عُبَيْدٍ في «الأمْوالِ» (¬2)، وقال: الرِّجْعَةُ أن يَبِيعَها ويَشْتَرِى بثمَنِها مثلَها أو غيرَها. فإن لم يكنْ حاجَةٌ إلى بَيْعِها، فقال القاضى: لا يجوزُ، والبَيْعُ باطِلٌ، وعليه الضَّمانُ. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ الجَوازُ؛ لحديثِ ¬

(¬1) ناقة كوماء: ضخمة السنام. (¬2) بل فعل ذلك في غريب الحديث 1/ 222. وأخرجه البيهقى، في: باب من أجاز أخذ القيم في الزكوات، من كتاب الركاة. السنن الكبرى 4/ 114. والرجعة بكسر الراء: انظر اللسان (ر ج ع)، النهاية 2/ 201. وحاشية الفروع 2/ 569. (¬3) في: المغنى 4/ 134.

981 - مسألة: (وإذا حصل عند الإمام ماشية، استحب له وسم الإبل فى أفخاذها، والغنم فى آذانها، فإن كانت زكاة كتب «لله» أو «زكاة»، وإن كانت جزية كتب «صغار» أو «جزية»)

وَإذَا حَصَلَ عِنْدَ الإِمَامِ مَاشِيَةٌ، اسْتُحِبَّ لَهُ وَسْمُ الإبِلِ فِى أَفْخَاذِهَا، وَالْغَنَمِ فِىِ آذَانِهَا، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةً كَتَبَ «للَّهِ» أوْ «زَكَاةٌ»، وَإنْ كَانتْ جِزْيَةً كَتَبَ «صَغَارٌ» أوْ «جِزْيَةٌ». ـــــــــــــــــــــــــــــ قَيْسٍ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَكَت حينَ أخْبَرَه المُصَدِّقُ بارْتِجاعِها، ولم يَسْتَفْصِلْ. 981 - مسألة: (وإذا حَصَل عندَ الإِمامِ ماشِيَةٌ، اسْتُحِبَّ له وَسْمُ الإِبِلِ في أفْخاذِها، والغَنَم في آذانِها، فإن كانت زَكاةً كَتَب «للَّه» أو «زكاة»، وإن كانت جزْيَةٌ كَتَب «صَغارٌ» أو «جِزْيَةٌ») إنَّما اسْتُحِبَّ ذلك؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَسِمُها (¬1)، ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الوسم والعلم في الصورة، من كتاب الذبائح والصيد، وفى: باب الخميصة السوداء، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 7/ 126، 191، 192. ومسلم، في: باب جواز وسم الحيوان غير الآدمى في غير الوجه. . . إلخ، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1674. وأبو داود، في: باب في وسم الدواب، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 25. وابن ماجه، في: باب لبس الصوف، من =

فصل

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْلِ إِذَا كَمَلَ النِّصَابُ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لتَمْيِيزِها مِن غَنَمِ الجِزْية والضَّوالِّ، ولِتُرَدَّ إلى مَواضِعِها إذا شَرَدَتْ. ويَسِمُ الإِبِلَ والبَقَرَ في أفْخاذِها؛ لأنَّه مَوْضِعٌ صُلْبٌ يَقِلُّ ألَمُ الوَسْمِ فيه، وهو قَلِيل الشَّعَرِ فتَظْهَرُ السِّمَةُ، ويَسِمُ الغَنَمَ في آذانِها؛ لأنَّه مكانٌ تَظْهَرُ فيه السِّمَةُ لا تَضَرَّرُ به الغَنَمُ. فصل: قال: (ويَجُوزُ تَعْجِيلُ الزكاةِ عن الحَوْلِ إذا كَمَلَ النِّصابُ، ولا يَجُوزُ قبلَ ذلك) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى وُجِد سَبَبُ وُجُوبِ الزكاةِ، وهو النِّصابُ الكامِلُ، جاز تَقدِيمُ الزكاةِ. وبهذا قال الحسنُ، وسَعِيدُ ابنُ جُبَيْر، والزُّهْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ. وحُكِىَ عن الحسنِ، أنَّه لا يَجُوزُ. وبه قال رَبِيعَةُ، ومالكٌ، ¬

_ = كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1180. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 106، 171، 254، 259، 4/ 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وداودُ؛ لأنَّه رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: «لَا تُؤَدَّى زَكَاةٌ قَبْلَ حُلُولَ الْحَوْلِ» (¬1). ولأنَّ الحَوْلَ أحَدُ شَرْطَىِ الزكاةِ، فلم يَجُزْ تَقْدِيمُ الزكاةِ عليه، كالنِّصابِ، ولأنَّ للزكاةِ وقْتًا، فلم يَجُزْ تَقْدِيمُها عليه، كالصَّلاةِ. ولَنا، ما روَى علىٌّ، أنَّ العباسَ سَألَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تَعْجِيلِ صَدَقَتِه قبلَ أن تَحِلَّ، فرَخَّصَ له في ذلك. وفى لَفْظٍ (¬2)، في تَعْجِيلِ الزكاةِ، فرَخَّصَ له في ذلك. رَواه أبو داودَ (¬3). وقال يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ: هو أثْبَتُها إسْنادًا. وروَى التِّرْمذِىُّ (¬4)، عن علىٍّ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال لعُمَرَ: ¬

(¬1) انظر حديث عائشة وابن عمر، وتقدم تخريجهما في صفحة 6/ 327، 354. (¬2) هذا اللفظ عند الدارقطنى. (¬3) في: باب في تعجيل الزكاة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 376 كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تعجيل الزكاة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 190. وابن ماجه، في: باب تعجيل الزكاة قبل محلها، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 572. والدارمى، في: باب في تعجيل الزكاة، من كتاب الركاة. سنن الدارمى 1/ 385. والدارقطنى، في: باب تعجيل الصدقة قبل الحول، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطنى 2/ 123. والبيهقى، في: باب تعجيل الصدقة، من كتاب الزكاة. السنن الكبرى 4/ 111. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 104. (¬4) انظر التخريج السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَّا قَدْ أخَذْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاس عَامَ أوَّل لِلْعَامِ». وفى لَفْظٍ قال: «إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ لِعَامِنَا هَذَا عَامَ أوَّل» (¬1). رَواه سعيدٌ عن عَطاء، وابنِ أبى مُلَيْكَةَ، والحسنِ بنِ مسلمٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرْسَلًا. ولأنَّ تَعْجِيلَ المالِ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِه، فجاز، كتَعْجِيلِ قَضاءِ الدَّيْنِ قبلَ حُلُولِ أجَلِه، وأداءِ كَفّارَةِ اليَمِينِ بعدَ الحَلِفِ وقبلَ الحِنْثِ، وكَفّارَةِ القَتْلِ بعدَ الجَرْحِ قبلَ الزُّهُوقِ، وقد سَلَّمَ مالكٌ تَعْجِيلَ الكَفّارَةِ، وفارَقَ تَقْدِيمَها قبلَ النِّصابِ؛ لأنَّه تَقدِيمٌ لها على سَبَبِها، فأشْبَهَ تَقْدِيمَ الكَفّارَةِ على اليَمِينِ، وكَفّارَةِ القَتْلِ على الجَرْحِ، ولأنَّه قَدَّمَها على الشَّرْطَيْنِ، وههُنا قَدَّمَها على أحَدِهما. وقَوْلُهم: إنَّ للزكاةِ وقْتًا. قُلْنا: الوَقْتُ إذا دَخَل في الشئِ رِفْقًا بالإِنْسانِ، كان له أن يُعَجِّلَه ويَتْرُكَ الإِرْفاقَ بنَفْسِه، كالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، وكمَن أدَّى زكاةَ مالٍ غائِب، وإن لم يكنْ على يَقِينٍ مِن وُجُوبِها، ومِن الجائِزِ أن يكونَ المالُ تالِفًا في ذلك الوَقْتِ، وأمّا الصلاةُ والصيامُ فتَعَبُّد مَحْضٌ، والتَّوْقِيتُ فيها غيرُ مَعْقُولٍ، فيَجِبُ أن يُقْتَصَرَ عليه. فصل: فأمّا تَعْجِيلُها قبلَ مِلْكِ النِّصابِ، فلا يَجُوزُ بغيرِ خِلافٍ ¬

(¬1) انظر الدارقطنى والبيهقى في التخرج السابق، والأموال، لأبى عبيد 590.

982 - مسألة: (وفى تعجيلها لأكثر من حول روايتان)

وَفِى تَعْجِيلِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَعْلمُه. فلو مَلك بعضَ نِصابٍ، فعَجَّلَ زَكاتَه، أو زكاةَ نِصابٍ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه تَعَجَّلَ الحُكْمَ قبلَ سَبَبِه. 982 - مسألة: (وفى تَعْجِيلِها لأكْثَرَ مِن حَوْلٍ رِوايَتان) إحداهما، لا يجوزُ؛ لأنَّ النَّصَّ لم يَرِدْ بتَعْجِيلِها لأكْثَرَ مِن حَوْلٍ، فاقْتُصِرَ عليه. والثانيةُ، يجوزُ؛ لأنَّه قد رُوِى في حديثِ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وَأمَّا الْعَبَّاسُ فَهِىَ عَلَىَّ وَمِثْلُهَا». مُتَّفَقٌ عليه. ورَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1) ورُوِىَ أنَّه قال عليه السلامُ، في حديثِ العباسِ: «إنَّا اسْتَسْلَفْنَا زَكَاةَ عَامَيْنِ». ولأنَّه تَعْجِيلٌ لها بعدَ وُجُوبِ النِّصابِ، أشْبَهَ تَقْدِيمَها على الحَوْلِ الواحِدِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}. . .، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 151. ومسلم، في: باب في تقديم الزكاة ومنعها، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 676، 677. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما لم يَرِدْ به النَّصُّ يُقاسُ على المَنْصُوصِ إذا كان في مَعْناه، ولا نَعْلَمُ مَعْنًى سِوَى أنَّه تَقْدِيمٌ للمالِ الذى وُجِد سَبَبُ وُجُوبِه على شرْطِ وُجُوبِه، وهذا مُتَحَقِّق في التَّقْدِيمِ في الحَوْلَيْن، كتَحَقُّقِه في الحَوْلِ الواحِدِ. فعلى هذا إذا كان عندَه أكْثَرُ مِن النِّصاب، فعَجَّلَ زَكاتَه لحَوْلَيْن، جاز، وإن كان قَدْرَ النِّصابِ، مثلَ مَن عندَه أربَعُون شاةً، فعَجَّلَ شاتَيْن لحَوْلَيْن، وكان المُعَجَّلُ مِن غيرِه، جاز. وإن أخْرَجَ شاةً منه، وشاةً مِن غيرِه، أجْزَأ عن الحَوْلِ الأوَّلِ، ولم يُجْزِئْ عن الثَّانِى؛ لأنَّ النِّصابَ نَقَص. فإن تَكَمَّل بعدَ ذلك صار إخْراجُ زَكاتِه وتعْجِيلُه لها قبلَ كَمالِ نِصابِها، وإن أخْرَجَ الشّاتَيْن جَمِيعًا مِن النِّصابِ لم تَجِبِ الزكاةُ في الحَوْلِ الأوَّلِ، إذا قُلْنا: ليس له ارْتِجاعُ ما عَجَّلَه؛ لأنَّه كالتّالِفِ، فيكونُ النِّصابُ ناقِصًا. فإن كَمَلَ بعدَ ذلك، اسْتُؤْنِفَ الحَوْلُ مِن حينَ كَمَلَ النِّصابُ، وكان ما عَجَّلَه سابِقًا على كَمالِ النِّصابِ، فلم يُجْزِئُ عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا تَعْجيلُها لِما زاد على الحَوْلَيْن، فقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَجُوزُ رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّ التَّعْجِيلَ على خِلافِ الأصْلِ، وإنَّما جاز في عامَيْن للنَّصِّ، فيَبْقَى فيما عَداه على [قَضِيَّةِ الأَصْلِ] (¬1). ¬

(¬1) في الأصل: «قضيته».

983 - مسألة: (وإن عجلها عن النصاب وما يستفيده، أجزأ عن النصاب دون الزيادة)

وَإنْ عَجَّلَهَا عَنِ النِّصَابِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ، أجْزَأَ عَنِ النِّصَابِ دُونَ الزِّيَادَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 983 - مسألة: (وإن عَجَّلَها عن النِّصابِ وما يَسْتَفِيدُه، أجْزَأ عن النِّصابِ دُونَ الزِّيادَةِ) إذا مَلَك نِصابًا، فعَجَّلَ زَكاتَه وزكاةَ ما يَسْتَفِيدُه، وما يُنْتَجُ منه أو يَرْبَحُه فيه، أجْزَأه عن النِّصابِ دُونَ الزِّيادَة. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه؛ لأنَّه تابع لِما هو مالِكُه. وحَكَى ابنُ عَقِيلٍ عن أحمدَ رِوايَةً، فيما إذا مَلَك مائَتى دِرْهَمٍ، وعَجَّل زكاةَ أرْبَعِمائةٍ، أنَّه يُجْزِئُه عنهما؛ لأنَّه قد وُجِد سَبَبُ وُجُوبِ الزكاةِ في الجُمْلَةِ، بخِلافِ تَعْجِيلِ الزكاةِ قبلَ مِلْكِ النِّصاب. وكذلك لو كان عندَه نِصابٌ مِن الماشِيَةِ، فعَجَّلَ زكاةَ نِصابَيْنِ. ولَنا، أنَّه عَجَّلَ زكاةَ ما ليس في مِلْكِه، فلم يَجُزْ، كالنِّصابِ الأوَّلِ، ولأنَّ الزائِدَ مِن الزكاةِ على زكاةِ النِّصابِ إنَّما سَبَبّهَا الزّائِدُ في المِلْكِ، فقد عَجَّلَ الزكاةَ قبلَ وُجُودِ سَبَبِها، فأشْبَهَ ما لو عَجَّلَ الزكاةَ قبلَ مِلْكِ النِّصابِ، وقَوْلُه: إنَّه تابعٌ. قُلْنا: إنَّما يَتْبَعُ في الحَوْلِ، فأمّا في الإِيجابِ، فإنَّ الوُجُوبَ ثَبَت بالزِّيادَة، لا بالأصْلِ، ولأنَّه إنَّما يَصِيرُ له حُكْمٌ بعدَ الوُجُودِ، فأمّا قبلَ ظُهُورِه فلا حُكْمَ له في الزكاةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن عَجَّلَ زكاةَ نِصابٍ مِن الماشِيَةِ، فتَوالَدَتْ نِصابًا، ثم ماتَتِ الأُمَّهاتُ وحال الحَوْلُ على النِّتاجِ، أجْزَأ المُعَجَّلُ عنها؛ لأنَّها دَخَلَتْ في حَوْلِ الأُمَّهاتِ، وقامَتْ مَقامَها، فأجْزَأتْ زَكاتُها عنها. فإذا كان عندَه أرْبَعُون مِن الغَنَمِ، فعَجَّلَ عنها شاةً، ثم تَوالَدَتْ أرْبَعِين سَخْلَةً، وماتَتِ الأُمَّهاتُ، وحالَ الحَوْلُ على السِّخالِ، أجْزَأتِ المُعَجَّلَةُ عنها؛ لأنَّها كانت مُجْزِئَةً عنها وعن أُمَّهاتِها لو بَقِيَتْ، فلأن تُجْزِئُ عن أحَدِهما أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان عندَه ثَلاثُون مِن البَقَرِ، فعَجَّلَ عنها تَبِيعًا، ثم تَوالَدَتْ ثَلاثِين عِجْلَةً، وماتَتِ الأُمَّهاتُ، وحال الحَوْلُ على العُجُولِ، احْتَمَلَ أن يُجْزِئَ عنها، لأنَّها تابِعَةٌ لها في الحَوْلِ. واحْتَمَلَ أن لا يُجْزِئَ عنها. لأنَّه لو عَجَّلَ عنها تَبِيعًا مع بَقاءِ الأُمَّهاتِ لم يُجْزِئْ عنها، فلأن لا يُجْزِئَ عنها إذا كان التَّعْجِيلُ عنٍ غيرِها أوْلَى. وهكذا الحكمُ في مائةِ شاةٍ إذا عَجَّلَ عنها شاةً فتَوالدَتْ مائة، ثم ماتَتِ الأُمَّهاتُ، وحال الحَوْلُ على السِّخالِ. وإن تَوالَدَ نِصْفُها، ومات نِصْفُ الأُمَّهاتِ، وحال الحَوْلُ على الصِّغارِ ونِصْفِ الكِبارِ، فإن قُلْنا بالوَجْهِ الأوَّلِ، أجْزَأ المُعَجَّلُ عنهما جَمِيعًا، وإن قُلْنا بالثانِى، فعليه في الخَمْسِين سَخْلَةً شاةٌ؛ لأنَّها نِصابٌ لم تُؤدَّ زَكاتُه. وليس عليه في العُجُولِ إذا كانت خَمْسَةَ عَشَرَ شئٌ؛ لأنَّها لم تَبْلُغْ نِصابًا، وإنَّما وجَبَتِ الزكاةُ فيها بِنَاءً على أُمَّهاتِها التى عُجِّلَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَكاتُها. وإن مَلَك ثَلاثِين مِن البَقَرِ، فعَجَّلَ مُسِنَّةً زكاةً لها ولنِتاجِها، فنُتِجَتْ عَشْرًا، أجْزَأتْه عن الثَّلاثِين دُونَ العَشرِ، ووَجَب عليه في العَشْرِ رُبْعُ مُسنَّةٍ. ويَحْتَمِل أن تُجْزئَه المُسِنَّةُ المُعَجَّلَةُ عن الجَمِيع؛ لأنَّ العَشْرَ تابِعَةٌ للثَّلاِثين في الوُجُوبِ والحَوْلِ، فإنَّه لولا مِلْكُه للثَّلاِثين لَما وَجَب عليه في العَشْرِ شئٌ، فصارَتِ الزِّيادَةُ على النِّصابِ مُنْقَسِمَةً أرْبَعَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقْسامٍ؛ أحَدُها (¬1) ما لا يَتْبَعُ في وُجُوبٍ ولا حَوْلٍ، وهو المُسْتَفادُ مِن غيرِ الجِنْسِ، فهذا لا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكاتِه قبلَ وُجُودِه ومِلْكِ نِصابِه، بغيرِ خِلافٍ. الثانى، ما يَتْبَعُ في الوُجُوبِ دُونَ الحَوْلِ، وهو المُسْتَفادُ مِن الجِنْسِ بسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فلا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكاتِه أيضًا قبلَ وُجُودِه، مع الخِلافِ في ذلك. وحَكى ابنُ عَقِيلٍ رِوايَةً أنَّه يُجْزِئُ. الثالثُ، ما يَتْبَعُ في الحَوْلِ دُونَ الوُجُوبِ، كالنِّتاجِ والرِّبْحِ إذا بَلَغ نِصابًا، فإنَّه يَتْبَعُ أصْلَه في الحَوْلِ، فلا يُجْزِئُ التَّعْجِيلُ عنه قبلَ وُجُودِه، كالذى قبلَه. الرابعُ، ما يَتْبَعُ في الحَوْلِ والوُجُوبِ، وهو الرِّبْحُ والنِّتاجُ إذا لم يَبْلُغْ نِصابًا، فهذا يَحْتَمِلُ وجْهَيْن؛ أحَدُهما، لا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكاتِه قبلَ وُجُودِه، كالذى قبلَه. والثانى، يُجْزِئُ؛ لأنَّه تاجٌ في الوُجُوبِ والحَوْلِ، أشْبَهَ المَوْجُودَ. ¬

(¬1) في م: «الأول».

984 - مسألة: (وإن عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم

وَإنْ عَجَّلَ عُشْرَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الطَّلْعِ وَالْحِصْرِمِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 984 - مسألة: (وإن عَجَّلَ عُشْرَ الثَّمَرَةِ قبلَ طُلُوعِ الطَّلْع والحِصْرِمِ (¬1)، لم يُجْزِئْه) لأنَّه تَقْدِيم لها قبلَ وُجُودِ سَبَبِها. فأمّا تَعجِيلُها بعدَ وُجُودِ الطَّلْعِ والحِصْرِمِ، وتَعْجِيلُ عُشْرِ الزَّرْعِ بعدَ نَباتِه، فظاهِرُ كَلامِ القاضى أنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّه قال: كُلُّ ما تَتَعَلَّقُ الزكاةُ فيه بشيْئَيْن؛ حَوْل ونِصابٍ، جاز تَعْجِيلُ زَكاتِه. فمَفْهُومُه أنه لا يَجُوزُ تَعْجِيلُ زكاةِ غيرِه؛ لأنَّ الزكاةَ مُعَلَّقَةٌ بسَبَبٍ واحِدٍ، وهو إدراكُ الزَّرْعِ والثَّمَرَةِ، ¬

(¬1) الحصرم: أول العنب ما دام حامضًا.

985 - مسألة: (وإن عجل زكاة النصاب، فتم الحول وهو ناقص قدر ما عجله، جاز)

وَإِنْ عَجَّل زَكَاةَ النِّصَابِ، فتَمّ الْحَوْلُ وَهُوَ ناقِصٌ قدرَ مَا عَجَّلَهُ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا قَدَّمَها كان قبلَ وُجُودِ سَبَبِها، لكنْ إن أدّاها بعدَ الإِدْراكِ، وقبلَ اليُبْسِ والتَّصْفِيَةِ، جاز. وقال أبو الخَطّابِ: يَجُوزُ بعدَ ظُهُورِ الطَّلْعِ والحِصْرِمِ ونَباتِ الزَّرْعِ، ولا يجوزُ قبلَ ذلك؛ لأنَّ وُجُودَ الزَّرْعِ وإطْلاعَ النَّخْلِ بمَنْزِلَةِ مِلْكِ النِّصابِ، والإِدْراكُ بمَنْزِلَةِ حَوَلانِ الحَوْلِ، فجاز تَقدِيمُها عليه، وتَعَلُّقُ الزّكاةِ بالإِدْراكِ لا يَمْنَعُ جَوازَ التَّعْجِيلِ، بدَلِيلِ أنَّ زكاةَ الفِطْرِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُها بهِلالِ شَوّالٍ، وهو زَمَنُ الوُجُوبِ، ويَجوزُ تَعْجِيلُها قبلَه. 985 - مسألة: (وإن عَجَّلَ زكاةَ النِّصابِ، فتَمَّ الحَوْلُ وهو ناقِصٌ قَدْرَ ما عَجَّلَه، جاز) لأنَّ حُكْمَ ما عَجَّلَه حُكْمُ المَوْجُودِ في مِلْكِه، يَتِمُّ

986 - مسألة: (وإن عجل زكاة المائتين، فنتجت عند الحول سخلة، لزمته شاة ثالثة)

وإنْ عَجَّلَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ، فَنُتِجَتْ عِنْدَ الْحَوْلِ سَخْلَةً، لَزِمَتْهُ شَاةٌ ثَالِثَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصابُ به، فلو زاد مالُه حتى بَلَغ النِّصابَ، أو زاد عليه، وحال الحَوْلُ، أجْزَأ المُعَجَّلُ عن زَكاتِه؛ لِما ذَكَرْنا. فإن نَقَص أكْثَرُ ممّا عَجَّلَه، فقد نَقَص بذلك عن كَوْنِه سَبَبًا للزكاةِ، مثلَ مَن له أرْبَعُون شاةً، فعَجَّل شاةً ثم تَلِفَتْ أُخْرَى، فقد خَرَج عن كَوْنِه سَبَبًا للزكاةِ، فإن زاد بعدَ ذلك، إمّا بنتاجٍ أو شِراءِ ما يَتِمُّ به النِّصابُ، اسْتُؤْنِفَ الحَوْلُ مِن حِينَ كَمَل النِّصابُ، ولم يُجْزِئُ ما عَجَّلَه، كما ذَكَرْنا مِن قبلُ. 986 - مسألة: (وإن عَجَّل زكاةَ المائتَيْن، فنُتِجَتْ عندَ الحَوْلِ سَخْلَةً، لَزِمَتْه شاةٌ ثالِثَةٌ) وبما ذَكَرْنا قال الشافعىُّ في المَسْألَتَيْن. وقال أبو حنيفةَ: ما عَجَّلَه في حُكْمِ التّالِفِ، فقال في المَسْألَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى: لا تَجِبُ الزكاةُ، ولا يكونُ المُخْرَجُ زكاة. وقال في هذه المَسْألَةِ: لا يَجِبُ عليه زِيادَة؛ لأنَّ ما عَجَّلَه زال مِلْكُه عنه، فلم يُحْسَبْ مِن مالِه، كما لو تَصَدَّقَ به تَطَوُّعًا. ولَنا، أنَّ هذا نِصابٌ تَجبُ الزكاةُ فيه بحُلُولِ الحَوْلِ، فجاز تَعْجِيلُها منه، كما لو كان أكثرَ مِن أرْبَعِين، ولأنَّ ما عَجَّلَه بمَنْزِلَةِ المَوْجُودِ في إجْزائِه عن مالِه، فكان بمَنْزِلَةِ المَوْجُودِ في تَعَلُّقِ الزكاةِ به، ولأنَّها لولم تُعَجَّلْ كان عليه شاتان، فكذلك إذا عُجِّلَتْ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ التَّعْجِيلَ إنَّما كان رِفْقًا بالمَساكِينِ، فلا يَصِيرُ سَبَبًا لنَقْصِ حُقُوقِهم، والتَّبرُّعُ يُخْرِجُ ما تَبَرَّعَ به عن حُكْمِ المَوْجُودِ في مالِه؛ وهذا في حُكْمِ المَوْجُودِ في الإِجْزاءِ عن الزكاةِ. فصل: وكلُّ مَوْضِعٍ قلْنا: لا يُجْزِئُه ما عَجَّلَه عن الزكاةِ. فإن كان دَفَعَها إلى الفُقَراء مُطْلَقًا، فليس له الرُّجُوعُ فيها، وإن كان دَفَعَها بشَرْطِ أنَّها زكاةٌ مُعَجَّلَةَ فهل له الرُّجُوعُ؟ على وَجْهَيْن، يَأْتِى تَوْجيهُهما، إن شاء اللَّهُ تعالى. فصل: وإن عَجَّلَ زكاةَ مالِه، ثم مات، فأراد الوارِثُ الاحْتِسابَ يها

987 - مسألة: (وإن عجلها، فدفعها إلى مستحقها، فمات أو ارتد أو استغنى، أجزأت عنه)

وَإنْ عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَمَاتَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ اسْتَغْنَى، أَجْزَأَتْ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن زكاةِ حَوْلِه، لم يَجُزْ. وذَكَر القاضى وَجْهًا في جَوازِه بِناءً على ما لو عَجَّلَ زكاةَ عامَيْن. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه تَعْجِيل للزكاةِ قبلَ وُجُودِ سَبَبِها، أشْبَهَ ما لو عَجَّل زكاةَ نِصابٍ لغيرِه ثم اشْتَراه، وذلك لأن سَبَبَ الزكاةِ مِلْكُ النِّصابِ، ومِلْكُ الوارِثِ حادِثٌ، ص ولا يَبْنِى الوارِثُ على حَوْلِ المَوْرُوثِ، ولأنَّه لم يُخْرِجِ الزكاةَ، وإنَّما أخْرَجَها غيرُه عن نَفْسِه، وإخْراجُ الغيرِ عنه مِن غيرِ وِلايَةٍ ولا نِيابَةٍ لا يُجْزِئُ ولو نَوَى، فكيف إذا لم يَنْوِ؟ وقد قال أصْحابُنا: لو أخْرَجَ زَكاتَه وقال: إن كان مَوْرُوثِى قد مات فهذه زكاةُ مالِه، فبان أنَّه قد مات، لم يَقَعِ المَوْقِعَ. وهذا أبْلَغُ، ولا يُشبِهُ هذا تَعْجِيلَ الزكاةِ لعامَيْن؛ لأنَّه ثَمَّ عَجَّلَ بعدَ وُجُودِ السَّبَبَ، وأخْرَجَها بنَفْسِه بخِلافِ هذا. فإن قِيلَ: فإنَّه لو مات المَوْرُوثُ قبلَ الحَوْلِ، كان للوارِثِ ارْتِجاعُها، فإذا لم يَرْتَجِعْها احْتَسَبَ بها كالدَّيْنِ. قُلْنا: فلو أراد أن يَحْسِبَ الدَّيْنَ عن زَكاتِه لم يَصِحَّ، ولو كان له عندَ رجلٍ شاةٌ مِن غَصبٍ أو قَرْضٍ، فأراد أن يَحْسِبَها عن زَكاتِه لم تُجْزِئْه. 987 - مسألة: (وإن عَجَّلها، فدَفَعَها إلى مُسْتَحِقِّها، فمات أو ارْتَدَّ أو استَغْنَى، أجْزَأتْ عنه) إذا دَفَع الزكاةَ المُعَجَّلَةَ إلى مُسْتَحِقِّها، لم يَخْلُ مِن أرْبَعَةِ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أن لا يَتَغَيَّرَ الحالُ، ففى هذا القِسْمِ يَقَعُ

988 - مسألة: (وإن دفعها إلى غنى، فافتقر عند الوجوب، لم تجزئه)

وَإنْ دَفَعَهَا إِلَى غَنِىٍّ، فَافتَقَرَ عِنْدَ الْوُجُوبِ، لَمْ تُجْزِئْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَدْفُوعُ مَوْقِعَه، ويُجْزِئُ عن المُزَكِّى، ولا يَلْزَمُه بَدَلُه، ولا له اسْتِرْجاعُه، كما لو دَفَعَها بعدَ وُجُوبِها. الثانى، أن يَتَغَيَّرَ حَالُ الآخِذِ، بأن يَمُوتَ قبلَ الحَوْلِ، أو يَسْتَغْنِىَ، أو يَرْتَدَّ. فهذا في حُكْمِ القِسْمِ الذى قبلَه، وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: لا يُجْزِئُ؛ لأنَّ ما كان شَرْطًا للزكاةِ إذا عدِم قبلَ الحَوْلِ لم يُجْزِئُ، كما لو تَلِف المالُ، أو مات رَبُّه. ولَنا، أنَّه أدَّى الزكاةَ إلى مُستَحِقِّها، فلم يَمْنَع الإِجْزَاءَ تَغَيُّرُ حالِه، كما لو اسْتَغْنَى بها، ولأنَّه حَقٌّ أدّاه إلى مُسْتَحِقِّه، فبَرِئَ منه، كالدَّيْنِ يُعجِّلُه قبلَ أجَلِه، وما ذَكَرُوه مُنْتَقِضٌ بما إذا اسْتَغْنَى بها، والحُكْمُ في الأصْلِ مَمْنُوعٌ، ثم الفَرْقُ بينَهما ظاهِرٌ، فإنَّ المالَ إذا تَلف تَبَيَّنَ عَدمُ الوُجُوبِ؛ فأشْبَهَ ما لو أدَّى إلى غَرِيمِه دَراهِمَ يَظُنُّها عليه، فتَبَيَّنَ أنَّها ليست عليه، وكما لو أدَّى الضّامِنُ الدَّيْنَ، فبان أنَّ المَضْمُونَ عنه قَضاه، وفى مَسْألَتِنا الحَقُّ واجِبٌ، وقد أخَذَه مُسْتَحِقُّه. القِسْمُ الثالِثُ، أن يَتَغَيَرّ حَالُ رَبِّ المَالِ، وسَيَأْتِى ذِكْرُ ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. القِسْمُ الرّابعُ، أن يَتَغَيَّرَ حَالُهما، فهو كالقِسْمِ الثّالِثِ. 988 - مسألة: (وإن دَفَعَها إلى غَنِىٍّ، فافْتَقَرَ عندَ الوُجُوبِ، لم تُجْزِئْه) لأنَّه لم يَدْفَعْها إلى مُسْتَحِقِّها، أشْبَهَ ما لو لم يَفْتَقِرْ.

989 - مسألة: (وإن عجلها ثم هلك

وَإنْ عَجَّلَها ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الْحَوْلِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمِسكِينِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ كَانَ الدَّافِعُ السَّاعِىَ، أوْ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، رَجَعَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 989 - مسألة: (وإن عَجَّلَها ثمْ هَلَك (¬1) المالُ، لم يَرْجِعْ على الآخِذِ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان الدّافِعُ السّاعِىَ، أو أعْلَمَه أنَّها زكاةٌ مُعَجَّلةٌ رَجَع عليه) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن عَجَّلَ زكاةَ مالِه، فدَفَعَها إلى مُسْتَحِقِّها، ثم تَلِف المالُ أو بعضُه، فنَقَص النِّصابِ قبلَ الحَوْلِ، أو تَغَيَّرَ حالُ رَبِّ المالِ بمَوْتٍ أو رِدَّةٍ، أو باع النِّصابَ، فقال أبو بكرٍ: لا يَرْجِعُ بها على الفَقِيرِ، سَواءٌ أعْلَمَه أنَّها زكاةٌ مُعَجَّلَةٌ أو لم يُعْلِمْه. ¬

(¬1) في م: «تلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضى: وهو المَذْهَبُ عندى؛ لأنَّها وصَلَتْ إلى الفَقِيرِ فلم يكنْ له ارْتِجاعُها، كما لو لم يُعْلِمْه، ولأنَّها زكاة دُفِعَتْ إلى مُسْتَحِقِّها، فلم يَجُزِ ارْتِجاعُها، كما لو تَغَيَرّ حَالُ الآخِذِ وَحْدَه. وقال أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامِدٍ: إن كان الدّافِعُ لها السّاعِىَ، اسْتَرْجَعَها بكلِّ حالٍ، وإن كان رَبَّ المالِ، وأعْلَمَه أنَّها زكاةٌ مُعَجَّلَةٌ، رَجَع بها، وإن أطْلَقَ لم يَرْجِعْ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مالٌ دَفَعَه عن ما يَسْتَحِقُّه القابِضُ [في الثانى] (¬1)، فإذا طَرَأ ما يَمْنَعُ الاسْتِحْقاقَ، وَجَب رَدُّه، كالأُجْرَةِ إذا انْهَدَمَتِ الدارُ قبلَ السُّكْنَى، أمّا إذا لم يُعْلِمْه فيَحْتَمِلُ أن يكونَ تَطَوُّعًا، ويَحْتَملُ أن يكونَ هِبَةً، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه في الرُّجُوعِ. فعلى قولِ ابنِ حامِدٍ، إن كانتِ العَيْنُ لم تَتَغَيَّرْ أخَذَها، وإن زادَتْ زِيادَةً مُتَّصِلَةً أخَذَها (¬2) بزِيادَتِها؛ لأنَّها تَتْبَعُ في الفُسُوخِ، وإن كانت مُنْفَصِلَةً، أخَذَها دُونَ زِيادَتِها؛ لأنَّها حدَثَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مِلْكِ الفَقِيرِ. وإن كانت ناقِصَةً، رَجَع على الفَقِيرِ بالنَّقْصِ؛ لأنَّ الفَقِيرَ قد مَلَكَها بالقَبْضِ، فكان نَقْصُها عليه، كالمَبِيعِ إذا نَقَص في يَدِ المُشْتَرِى، ثم عَلِم عَيْبَه. وإن كانت تالِفَةً أخَذَ قِيمَتَها يَوْمَ القَبْضِ؛ لأنَّ ما زاد بعدَ ذلك أو نَقَص فإنَّما هو في مِلْكِ الفَقِيرِ، فلم يَضْمَنْه، كالصَّداقِ يَتْلَفُ في يَدِ المَرْأةِ، فإن تَغَيَّرَ حالُهما، فهو كما لو تَغَيَّرَ حالُ رَبِّ المالِ سَواءٌ. فصل: إذا قال رَبُّ المالِ: قد أعْلَمْتُه أنَّها زَكاةٌ مُعَجَّلَةٌ، فَلِىَ الرُّجُوعُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأَنْكَرَ الآخِذُ، فالقَوْلُ قَوْلُه؛ لأنَّه مُنْكِر، والأصْلُ عَدَمُ الإِعْلامِ، وعليه اليَمِينُ. وإن مات الآخِذُ واخْتَلَفَ وارِثُه والمُخْرِجُ، فالقَوْلُ قَوْلُ الوارِثِ، ويَحْلِفُ أنَّه لا يَعْلَمُ أنَّ مَوْرُوثَه أعْلَمَ بذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَسَلَّفَ الإِمامُ الزكاةَ، فهَلَكَتْ في يَدِه، فلا ضَمانَ عليه، وكانت مِن ضَمانِ الفُقَراءِ. ولا فَرْقَ بينَ أن يَسْألَه ذلك رَبُّ المال أو الفُقَراءُ أو لم يَسْألْه أحَدٌ؛ لأنَّ يَدَه كيَدِ الفُقَراءِ. وقال الشافعىُّ: إن تَسَلَّفَها مِن غيرِ سُؤالٍ ضَمِنَها؛ لأنَّ الفُقَراءَ رُشُدٌ، لا يُوَلَّى عليهم، فإذا قَبَض بغيرِ إذْنِهم ضَمِن، كالأبِ إذا قَبَض لابْنِه الكَبِيرِ. وإن كان بسُؤالِهم كان مِن ضَمانِهم؛ لأنَّه وَكِيلُهم، وإن كان بسُؤالِ أرْبابِ الأمْوالِ، لم يُجْزِئْهم الدَّفْعُ، وكان مِن ضَمانِهم؛ لأنَّه وَكِيلُهم. وإن كان بسُؤالِهما ففيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجهان؛ أصَحُّهما، أنَّه في ضَمانِ الفُقَراءِ. ولَنا، أنَّ للإِمامِ وِلايةً على الفُقَراءِ، بدَلِيلِ جَوازِ قَبْضِ الصَّدَقَةِ لهم بغيرِ إذْنِهم سَلَفًا وغيره، فإذا تَلِفَتْ في يَدِه مِن غيرِ تَفْرِيطٍ لم يَضْمَنْ، كوَلِىِّ اليَتِيمِ إذا قَبَض له. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالقَبْضِ بعدَ الوُجُوبِ، وفارَقَ الأبَ؛ فإنَّه لا يَجُوزُ له القَبْض لوَلَدِه الكَبِيرِ؛ لعَدَمِ وِلاِيته عليه، ولهذا يَضْمَنُ ما قَبَضَه له بعدَ وُجُوبِه.

باب ذكر أهل الزكاة

بَابُ ذِكْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَهمْ ثَمَانِيَة أَصْنَافٍ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ذِكْر أهلِ الزَّكاةِ (وهم ثَمانِيَةُ أصْنافٍ) سَمّاهُم اللَّه تعالى فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). ورُوِىَ أنَّ رَجُلًا قال: يا رسولَ اللَّهِ أعْطِنِى مِن هذه الصَّدَقاتِ، فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِىٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِى الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ، فَجَزَّأهَا ثَمَانِيَةَ أجْزَاءٍ، فَإنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأجْزَاءِ أعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» (¬2). ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهْلِ ¬

(¬1) سورة التوبة 60. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من يعطى من الصدقة وحَدّ الغنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 378، 379.

990 - مسألة: (الفقراء؛ وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم. الثانى، المساكين؛ وهم الذين يجدون معظم الكفاية)

الْفُقَرَاءُ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ. وَالثَّانِى، الْمَسَاكِينُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَ مُعْظَمَ الْكِفَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العِلْمِ في أنَّه لا يَجُوزُ دَفْعُ هذه الزَّكاةِ إلى غيرِ هذه الأصْنافِ، إلَّا ما رُوِى عن أنَسٍ، والحسنِ، أنَّهُما قالا: ما أعْطَيْتَ في الجُسورِ والطُّرُقِ فهى صَدَقَةٌ قاضِيةٌ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ}. و «إنَّمَا» للحَصْرِ تُثْبِتُ المَذْكُورَ، وتَنْفِى ما عَداه؛ لأنَّها مُرَكَّبَةٌ من حرفَىْ نَفْى، وإثْباتٍ، وذلك كقَوْلِه تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). أى لا إله إلَّا اللَّهُ، وكقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- «إنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ» (¬2). 990 - مسألة: (الفُقَراءُ؛ وهم الذين لا يَجِدُون ما يَقَعُ مَوْقِعًا مِن كِفايَتِهم. الثَّانِى، المَساكِينُ؛ وهم الذين يَجِدُون مُعْظَمَ الكِفايَةِ) الفُقَراءُ والمَساكِينُ صِنْفان في الزَّكاةِ، وصِنْفٌ واحِدٌ في سائِرِ الأحْكامِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الاسْمَيْن يَنْطَلِقُ عليهما، فأمّا إذا جُمِعَ بينَ الاسمَيْن، ومُيِّزَ بينَ المُسَمَّيَيْن تَمَيَّزا، وكِلاهما يُشْعِرُ بالحاجَةِ والفاقَةِ وعَدَمِ الغِنَى، ¬

(¬1) سورة النساء 171. (¬2) يأتى تخريجه في باب الشروط في البيع من كتاب البيع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أنَّ الفَقِيرَ أشَدُّ حاجَةً مِن المِسْكِينِ، لأنَّ اللَّهَ تعالى بَدَأ به، وإنَّما يَبْدأُ بالأهَمِّ فالأهَمِّ. وبهذا قال الشافعىُّ، والأصْمَعِىُّ. وذَهَب أبو حنيفةَ إلى أنَّ المِسْكِينَ أشدُّ حاجَةً. وبه قال الفَرَّاءُ، وثعلبٌ، وابنُ قُتَيْبَةَ، لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬1). وهو المَطْرُوحُ على التُّرابِ لشِدَّةِ حاجَتِه، وأنْشَدَ (¬2): أمّا الفَقِيرُ الذى كانتْ حَلُوبَتُه … وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ لَه سَبَدُ (¬3) فأخْبَرَ أنَّ الفَقِيرَ حَلُوبَتُه وَفْقَ عِيالِه. ولَنا، أنَّ اللَّهَ تعالى بَدَأ بالفُقَراءِ، فيَدُلُّ على أنهم أهَمُّ، وقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬4). فأخْبَرَ أنَّ المَساكِينَ لهم سَفِينَةٌ يَعْمَلُون فيها. ولأنَّ النبىَّ ¬

(¬1) سورة البلد 16. (¬2) البيت للراعى النميرى وهو في ديوانه 55. (¬3) السبد: القليل من الشعر. وما له سبد ولا لبد محركتان أى لا قليل ولا كثير. (¬4) سورة الكهف 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «اللهُمَّ أحْيِنِى مِسْكِينًا، وَأمِتْنِى مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِى فِى زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» (¬1). وكان يَسْتَعِيذُ مِن الفَقْرِ، ولا يَجوزُ أن يَسْألَ شِدَّةَ الحاجَةِ، ويَسْتَعِيذَ مِن حالةٍ أصْلَحَ منها، ولأنَّ الفَقِيرَ (¬2) مُشْتَقٌّ مِن فِقَرِ الظَّهْرِ، فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ، أى مَفْقُورٌ، وهو الذى نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِه فانْقَطَعَ صُلْبُه. قال الشاعِرُ (¬3): لَمّا رَأى لُبَدُ النُّسُورَ تَطايَرَتْ … رَفَعَ القَوادِمَ كالفَقِيرِ الأعْزَلِ (¬4) أى لم يُطِقِ الطَّيَرانَ، كالذى انْقَطَعَ صُلْبُه. والمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِن السُّكونِ، وهو الذى أسْكَنَتْه الحاجَةُ، ومَن كُسِرَ صُلْبُه أشَدُّ حالًا مِن السّاكِنِ. فأمّا الآيةُ فهى حُجَّةٌ لَنا؛ لأنَّ نَعْتَ اللَّهِ سبحانه المِسْكِينَ بكَوْنِه ذا مَتْرَبَةٍ، يدُلُّ على أنَّ هذا النَّعْتَ لا يَسْتَحِقُّه بإطْلاقِ اسمِ المَسْكَنَةِ، ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء أن فقراء المهاجرون يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى 9/ 213. وابن ماجه، في: باب مجالسة الفقراء، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1381. (¬2) في الأصل: «الفق». (¬3) هو لبيد بن ربيعة العامرى. ديوانه 274. (¬4) لبد: هو السابع من نسور لقمان بن عاد. معمر جاهلى قديم، زعموا أنه عاش عمر سبعة نسور.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يُقالُ: ثَوْبٌ ذو عَلَمٍ. ويجوزُ التَّعْبِيرُ عن الفَقِيرِ بالمِسْكِينِ بقَرِينَةٍ وبغيرِ قَرِينَةٍ، والشِّعْرُ أيضًا حُجَّةٌ لَنا، فإنَّه أخْبَرَ أنَّ الذى كانت حَلُوبَتُه وَفْقَ العِيالِ لم يُتْرَكْ له سَبْدٌ، فصارَ فَقِيرًا لا شئَ له. إذا تَقَرَّر ذلك، فالفَقِيرُ الذى لا يَقْدِرُ على كَسْبِ ما يَقَعُ مَوْقِعًا مِن كِفايَتِه، ولا له مِن الأُجْرَةِ أو مِن المالِ الدّائِم ما يَقَعُ مَوْقِعًا مِن كِفايَتِه، ولا له خَمْسُون دِرْهَمًا، ولا قِيمَتُها مِن الذَّهَبِ، مثلَ الزَّمْنَى والمَكافِيفِ وهم العُمْيانُ؛ لأنَّ هؤلاء في الغالِبِ لا يَقْدِرُون على اكْتِسابِ ما يقعُ مَوْقِعًا مِن كِفايَتِهم، ورُبَّما لا يَقدِرُون على شئٍ أصْلًا، قال اللَّهُ تَعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬1). فمعنى قولِه: يقعُ مَوْقِعًا عِن كِفايَتِه. أنَّه يَحْصُلُ به مُعْظَمُ الكِفايَةِ أو نِصْفُها، مثلَ مَن يَكْفِيه عَشَرَةٌ، ¬

(¬1) سورة البقرة 273.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْصُلُ له مِن مَسْكَنِه أو غيرِه خَمْسَةٌ فما زاد، والذى لا يجدُ إلَّا [ما لا يقعُ] (¬1) مَوْقِعًا مِن كِفايَتهِ، كالذى لا يُحصِّلُ إلَّا ثَلاثةً أو دُونَها، فهذا هو الفقيرُ، والأولُ هو المسكينُ. فأمّا الذى يَسْألُ، فيُحَصِّلُ الكِفايةَ أو مُعْظمَها مِن مَسْألَتِه، فهو مِن المَساكِينِ، لكنَّه يُعْطى جَمِيعَ كِفايتِه، ليَغْتَنِىَ عن السُّؤالِ. فإن قيل: فقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ المِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِى تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الذى لا يَسْألُ النَّاسَ، وَلَا يُفْطنُ لَهُ فَيُتَصَدَّق عَلَيْهِ» (¬2). قُلْنا: هذا تَجَوُّزٌ، وإنّما نَفَى ¬

(¬1) في الأصل: «ما يقع». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. . .، من كتاب الزكاة، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 153، 6/ 40. ومسلم، في: باب المسكين الذى لا يجد غنى. . .، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 719. وأبو داود، في: باب من يعطى من الصدقة وحَدُّ الغِنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 379. والنسائى، في: باب تفسير المسكين، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 63، 64. والدارمى، في: باب المسكين الذى يتصدق عليه، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 379. والإمام مالك، في: باب ما جاء في المساكين، من كتاب صفة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. الموطأ 2/ 923. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 384، 446، 2/ 316، 445، 457، 469،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسْكَنَةَ عنه مع وُجُودِها حَقِيقَةً. فيه، مُبالَغَةً في إثْباتِها في الذى لا يَسْألُ النَّاسَ، كما قال عليه السلامُ: «لَيْس الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ (¬1) نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (¬2). وأشْباهُ ذلك، كقَوْلِه: «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذى لا يَعِيشُ له ولَدٌ قال: «لَا، وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الَّذِى لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِه شَيْئًا» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «يغلب». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الحذر من الغضب. . .، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 34. ومسلم، في: باب فضل من يملك نفسه عند الغضب. . .، من كتاب البر. صحيح مسلم 4/ 2014. والإمام مالك، في: كتاب ما جاء في الغضب، من كتاب حسن الخلق. الموطأ 2/ 906. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 268. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب فضل من يملك نفسه عند الغضب. . .، من كتاب البر. صحيح مسلم 4/ 2014. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 382، 5/ 367.

991 - مسألة: (ومن ملك من غير الأثمان ما لا يقوم بكفايته، فليس بغنى وإن كثرت قيمته)

وَمَنْ مَلَكَ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ مَا لَا يَقُومُ بِكِفَايَتهِ، فَلَيْسَ بِغَنِىٍّ وَإنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 991 - مسألة: (ومَن مَلَك مِن غيرِ الأثْمانِ ما لا يَقُومُ بكِفايَتِه، فليسَ بغَنِىٍّ وإن كَثُرَتْ قِيمَتُه) وجُمْلَةُ ذلك، أنه إذا مَلَك ما لا يَتِمُّ به كِفايَتُه مِن غيرِ الأثْمانِ، فإن كان ممّا لا تَجِبُ فيه الزكاةُ، كالعَقارِ ونَحْوِه، لم يكنْ ذلك مانِعًا مِن أَخْذِها (¬1). نَصَّ عليه أحمدُ، فقال، في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ: إذا كان له عَقارٌ يَسْتَغِلُّه، أو ضَيْعَةٌ تُساوِى عَشَرَةَ آلافٍ أو أقَلَّ أو أكْثَرَ لا تُقِيمُه، يَأْخُذُ مِن الزَّكاةِ. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه فَقِيرٌ مُحْتاجٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ الآيةِ. فأمّا إن مَلَك نِصابًا زَكَوِيًّا لا تَتِمُّ به الكِفايَةُ، كالمَواشِى والحُبُوبِ، فله الأخْذُ مِن الزَّكاةِ. قال المَيْمُونِىُّ: ذاكَرْتُ أحمدَ، فقلتُ: قد يكونُ للرجلِ الإِبِلُ والغَنَمُ تَجِبُ فيها الزكاةُ وهو فَقِيرٌ، ويكونُ له أرْبَعُون شاةً، ويكونُ له الضَّيْعَةُ لا تَكْفِيه، يُعْطَى مِن الصَّدَقَةِ؟ قال: نعم. وذَكَر قَوْلَ عُمَرَ: أعْطُوهم، وإن راحَتْ عليهم مِن الإِبِلِ كذا وكذا (¬2). قلتُ: فلهذا قَدْرٌ مِن العَدَدِ أو الوَقْتِ؟ قال: ¬

(¬1) في الأصل: «أخذهما». (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال ترد الصدقة في الفقراء إذا أخذت من الأغنياء، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم أسْمَعْه. وهذا قَوْلُ الشافعىِّ. وقال أصحابُ الرَّأْى: ليس له أن يَأْخُذَ منها؛ لأنَّه تَجبُ عليه الزكاةُ، فلم تَجِبْ له؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لمُعاذٍ: «أعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِم، فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ» (¬1). فجعلَ الأغْنِياءَ مَن تَجِبُ عليهم الزكاةُ. وإذا كان غَنِيًّا لم يكنْ له الأخْذُ مِن الزَّكاةِ، للخَبَرِ. ولَنا، أنَّه لا يَمْلِكُ ما يُغْنِيه، ولا يَقْدِرُ على كَسْبِ ما يَكْفِيه، فجازَ له الأخْذُ مِن الزَّكاةِ، كما لو كان ما يَمْلِكُه لا تَجِبُ فيه الزكاةُ، ولأنَّه فَقِيرٌ فجازَ له الأخْذُ؛ لأنَّ الفَقْرَ عِبارَةٌ عن الحاجَةِ، قال اللَّهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} (¬2). [أى: مُحْتاجُونَ] (¬3) وقال الشاعِرُ: * وإنِّى إلَى مَعْرُوفِها لفَقِيرُ * (¬4) أى: مُحْتاجٌ. وهذا مُحْتاج، فيكونُ فَقِيرًا غيرَ غَنِىٍّ، ولأنَّه لو كان ما يَمْلِكُه لا زَكاةَ فيه لكانَ فَقِيرًا، ولا فَرْقَ في دَفْع الحاجَةِ بينَ المالَين، فأمّا الخَبَرُ فيَجُوزُ أن يكونَ الغِنَى المُوجِبُ للزكاةِ غيرَ الغِنَى المانِع منها؛ لِما ذَكَرْنا مِن المَعْنَى، فيكونُ المانِعُ منها وُجُودَ الكِفالَةِ، والمُوجِبُ لها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291. (¬2) سورة فاطر 15. (¬3) سقط من: م. (¬4) عجز بيت للأحوص، صدره: * لقد منَعَتْ معروفَها أُمُّ جعفرٍ * شعر الأحوص الأنصارى 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكَ النِّصابِ، جَمْعًا بينَ الأدِلَّةِ. فصل: فإن مَلَك مِن (¬1) غيرِ الأثْمانِ ما يَقُومُ بكِفايَتِه، كمَن له مَكْسَبٌ يَكْفِيه، أو أُجْرَةُ عَقَارٍ أو غيرِه، فليس له الأخْذُ مِن الزَّكاةِ. وهذا قَوْلُ الشافعىِّ وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ، وأصحابُه: إن كان المالُ ممّا لا تَجِبُ فيه الزكاةُ، جاز الدَّفْعُ إليه. إلَّا أنَّ أبا يُوسُفَ قال: إن دَفَع إليه الزَّكاةَ فهو قَبِيحٌ، وأرْجُو أن يُجْزِئَه، لأنَّه ليس بغَنِىٍّ؛ لِما ذَكَرْنا لهم في المَسْألَةِ قبلَها. ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ (¬2)، ثنا يحيى بنُ سَعِيدٍ، عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّه بِنِ عَدِىِّ بنِ الخِيارِ، عن رَجُلَيْن مِن أَصحابِ النبىِّ، -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّهما أتَيا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسَأَلاه الصَّدَقَةَ، فصَعَّدَ فيهما النَّظَرَ، فَرَآهما جَلْدَيْن، فقال: «إنْ شِئْتُمَا أعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِىٍّ، وَلَا لِقَوِىٍّ مُكْتَسِبٍ». قال أحمدُ: ما أجْوَدَه مِن حديثٍ. وقال: هو أحْسَنُها إسْنادًا. ولأنَّ له ما يُغْنِيه عن الزَّكاةِ، فلم يَجُزِ الدَّفْعُ إليه، كمالِكِ النِّصابِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المسند 4/ 224، 5/ 362. كما أخرجه أبو داود، في: باب من يعطى من الصدقة وحدّ الغنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 379. والنسائى، في: باب مسألة القوى المكتسب، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 75.

992 - مسألة: (وإن كان من الأثمان، فكذلك فى إحدى الروايتين. والأخرى، إن ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، فهو غنى)

وَإنْ كَانَ مِنَ الأَثْمَانِ، فَكَذَلِكَ فِى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالأُخْرَى، إِذَا مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتَهَا مِنَ الذَّهَبِ، فَهُوَ غَنِىٌّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 992 - مسألة: (وإن كان مِن الأثْمانِ، فكذلك في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. والأُخْرَى، إن مَلَك خَمْسِين دِرْهَمًا أو قِيمَتَها مِن الذَّهَبِ، فهو غَنِىٌّ) لا يجوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلى غَنِىٍّ لأجْلِ الفَقْرِ والمَسْكَنَةِ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَلَها للفُقَراءِ والمَساكِينِ، والغَنِىُّ غيرُ داخِلٍ فيهم، ولقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ، وَلَا لِقَوِىٍّ مُكْتَسِبٍ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واخْتَلفَ العلماءُ في الغِنَى المانِع مِن أخْذِ الزَّكاةِ، فنُقِلَ عن أحمدَ فيها رِوايَتان؛ إحْداهما، أنَّه مِلْكُ خَمْسِين دِرْهَمًا، أو قِيمتِها مِن الذَّهَبِ، أو وُجُودُ ما تَحْصُلُ به الكِفايَةُ على الدَّوامِ؛ مِن مَكْسَبٍ، أو تِجارَةٍ، أو أجْرٍ، أو عَقارٍ، أو نحوِ ذلك. ولو مَلَك مِن الحُبُوبِ، أو العُرُوضِ، أو العَقارِ، أو السّائِمَةِ، ما لا تَحْصُلُ به الكِفايَةُ، لم يكنْ غَنِيًّا. اخْتارَه الخِرَقِىُّ. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وابنِ المُبارَكِ، وإسحاقَ. ورُوِىَ عن علىٍّ، وابنِ مسعودٍ، أنَّهما قالا: لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لمَن له خَمْسُون دِرْهَمًا، أو قِيمَتُها، أو عِدْلُها مِن الذَّهَب (¬1). لِما روَى عبدُ اللَّهِ ابنُ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ، جَاءَتْ مَسْأَلَتهُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُمُوشًا، أوْ خُدُوشًا، أوْ كُدُوحًا (¬2) فِى وَجْهِهِ». ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال: لا تحل له الصدقة إذا ملك خمسين درهما، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 180. (¬2) الخموش والخدوش والكدوح: ألفاظ متقاربة، بمعنى خدش الوجه بظفر أو حديدة أو نحوها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقيل: يا رسولَ اللَّهِ، ما الغِنَى؟ قال: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ». رَواه أبو داودَ، والتِّرمذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. فإن قيل: هذا يَرْوِيه حَكِيمُ بنُ جُبَيْرٍ، وكان شُعْبَةُ لا يَرْوِى عنه، وليس بقَوِىٍّ في الحديثِ. قُلْنا: قد قال عبدُ اللَّهِ بنُ عُثمانَ لسُفْيانَ: حِفْظِى أنَّ شُعْبَةَ لا يَرْوِى عن حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ. فقال سُفْيانُ: حَدَّثَناه زُبَيْدٌ عن محمدِ ابنِ عبدِ الرحمنِ. وقد قال علىٌّ وعبدُ اللَّه مِثْلَ ذلك. الثَّانيةُ، أنَّ الغِنَى ما تَحْصُلُ به الكِفايَةُ، فإذا لم يكنْ مُحْتاجًا حَرُمَتْ عليه الصَّدَقَةُ، وإن لم يَمْلِكْ شيئًا، وإن كان مُحْتاجًا حَلَّتْ له المَسْألَةُ، وإن مَلَك نِصابًا. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من يعطى من الصدقة وحدّ الغنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 377. والترمذى، في: باب ما جاء من تحل له الزكاة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 148، 149 كما أخرجه النسائى، في: باب حد الغنى، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 72، 73. وابن ماجه، في: باب من سأل عن ظهر غنى، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 589. والدارمى، في: باب من تحل له الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 386. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 441، 466.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأثْمانُ وغيرُها في هذا سَواءٌ. وهذا اخْتِيارُ أبى الخَطّاب، وابنِ شِهابٍ العُكْبَرِىِّ، وقَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لقَبِيصَةَ بنِ المُخارِقِ: «لَا تَحِلُّ المَسْألَةُ إلَّا لِأحَدِ ثَلَاثَةٍ؛ رَجُل أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الحِجَا مِنْ قَوْمِه: قَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ». رَواه مسلمٌ (¬1). فمَدَّ إباحَةَ المَسْألَةُ إلى وُجُودِ إصَابَةِ القِوامِ أو السِّدادِ، ولأنَّ الحاجَةَ هى الفَقْرُ، والغِنَى ضِدُّها، فمَن كان مُحْتاجًا فهو فَقِير، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ، ومَن اسْتَغْنَى دَخَل في عمُومِ النُّصُوصِ والمُحَرِّمَةِ، والحديثُ الأوَّلُ فيه ضَعْفٌ، ثم يَجُوزُ أن تَحْرُمَ المَسْألَةُ ولا يَحْرُمَ أخْذُ الصَّدَقَةِ إذا جَاءَتْه مِن غيرِ مَسْألَةٍ، فإنَّ المَذْكُورَ فيه تَحْرِيمُ المَسْألَةُ، فنقْتَصِرُ عليه. وقال ¬

(¬1) في: باب من تحل له المسألة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 722. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما تجوز فيه المسألة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 381. والنسائى، في: باب الصدقة لمن تحمل بحمالة، وباب فضل من لا يسأل الناس شيئًا، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 67، 72. الدارمى، في: باب من تحل له الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 396. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 477، 5/ 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنُ، وأبو عُبَيْدٍ: الغِنَى مِلْكُ أُوقِيَّةٍ، وهى أرْبَعُون دِرْهَمًا؛ لِما روَى أبو سَعِيدٍ الخُدْرِىُّ، قال: قالْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ سَأْلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ». وكانتِ الأُوقِيَّةُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْبَعِين دِرْهَمًا. رَواه أبو داودَ (¬1). وقال أصحابُ الرَّأْى: الغِنَى المانِعُ مِن أخْذِ الزَّكاةِ هو المُوجِبُ لها، وهو مِلْكُ نِصابٍ تَجِبُ فيه الزكاةُ، مِن الأثْمانِ، أو العُرُوضِ المُعَدَّةِ للتِّجارَةِ، أو السّائِمَةِ، أو غيرِها؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعاذٍ: «أَعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ» (¬2). فجَعَلَ الأغْنِياءَ مَن تَجِبُ عليهم الزكاةُ، فدَلَّ ذلك على أنَّ مَن تَجِبُ عليه غَنِىٌّ، ومَن لا تَجِبُ عليه ليس بغَنِىٍّ، فيكونُ فَقِيرًا، فتُدْفَعُ الزكاةُ إليه؛ لقَوْلِه: «فتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ». ولأنَّ المُوجِبَ للزكاةِ غِنًى، والأصْلُ عدَمُ الاشْتِراكِ، ولأنَّ مَن لا نِصَابَ له لا تَجِبُ عليه الزكاةُ، فلا يُمْنَعُ منها، كمَن له دُونَ الخَمْسِين. ووَجْهُ الرِّواية الأُولَى، أنَّه يجوزُ أن ¬

(¬1) في: باب من يعطى من الصدقة وحدّ الغنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 378 كما أخرجه النسائى، في: باب من الملحف، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 73. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 7، 9. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونَ الغِنَى المانِعُ مِن أخْذِ الزَّكاةِ غيرَ المُوجِبِ لها، بدَلِيلِ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ، وهو أخَصُّ مِن حَدِيثِهم، فيَجِبُ تَقْدِيمُه، ولأنَّ فيما ذَكرْنا جَمْعًا بينَ الحَدِيثَيْن، وهو أوْلَى مِن التَّعارُضِ، ولأنَّ حديثَ مُعاذٍ إنَّما يَدُلُّ على أنَّ مَن تَجِبُ عليه الزكاةُ غَنِىٌّ، أمّا أنَّه يَدُلُّ على أنَّ مَن لا تَجِبُ؛ عليه الزكاةُ فَقِيرٌ، فلا. وعلى هذا فلا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ الغِنَى وُجودُ الفَقْرِ، فلا يَدُلُّ على جَوازِ الدَّفْعِ إلى غيرِ الغَنِىِّ إذا لم يَثْبُتْ فَقْرُه. وقَوْلُهم: الأصْلُ عَدَمْ الاشْتِراكِ. قُلْنا: قد قام دَلِيلُه بما ذَكَرْنا، فيَجِبُ الأَخْذُ به. واللَّهُ أعلمُ. فصل: فمَن قال: إنَّ الغِنَى هو الكِفايَةُ. سَوَّى بينَ الأثْمانِ وغيرِها، وجَوَّزَ الأخْذَ لكلِّ مَن لا كِفايَةَ له، وإن مَلَكَ نُصُبًا (¬1) مِن جَمِيع الأمْوالِ. ومَن قال بالرِّوايَةِ الأُخْرَى، فَرَّقَ بينَ الأثْمانِ وغيرِها، لحديثِ بنِ مَسْعُودٍ، ولأنَّ الأثمانَ آلةُ الإِنْفاقِ المُعَدَّةُ له دُونَ غيرِها، فجَوَّزَ الأخْذَ لكلِّ مَن لا يَمْلِكُ خَمْسِين دِرْهَمًا، ولا قِيمَتَها مِن الذَّهَبِ، ولا ما تَحْصُلُ بها الكِفايَةُ، مِن مَكْسَب، أو أُجْرَةِ عَقارٍ، أو غيرِه. فإن كان له مالٌ مُعَدٌّ للإِنْفاقِ مِن غيرِ الأثْمانِ، فيَنْبَغِى أن تُعْتَبَرَ الكِفايَةُ في حَوْلٍ كامِلٍ؛ لأنَّ الحَوْلَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكاةِ بتَكَرُّرِه، فيَأْخُذُ منها كلَّ حَوْلٍ ما يَكْفِيه إلى مِثْلِه. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «نصابًا».

993 - مسألة: (الثالث، العاملون عليها؛ وهم الجباة لها، والحافظون لها)

الثَّالِثُ، الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَهُمُ الْجُبَاةُ لَهَا، وَالْحَافِظُونَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 993 - مسألة: (الثالثُ، العامِلُون عليها؛ وهم الجُباةُ لها، والحافِظُون لها) العامِلُون على الزَّكاةِ هم الصِّنْفُ الثالثُ مِن أصْنافِ الزَّكاةِ، وهم السُّعاةُ الذين يَبْعَثُهم الإِمامُ لأخْذِها مِن أرْبابِها، وجَمْعِها وحِفْظِها ونَقْلِها، ومَن يُعِينُهُمْ ممَّن يَسُوقُها ويَرْعاها ويَحْمِلُها، وكذلك الحاسِبُ والكاتِبُ والكَيّالُ والوَزّانُ والعَدّادُ، وكلُّ مَن يُحْتاجُ إليه فيها يُعْطىَ أُجْرَتَه منها؛ لأنَّ ذلك مِن مُؤْنَتِها، فهو كعَلْفِها، وقد كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْعَثُ على الصَّدَقَةِ سُعاةً، ويُعْطِيهم عِمالَتَهم، فَبَعَثَ عُمَرَ وأبا مُوسَى وابنَ اللُّتْبِيَّةِ (¬1) وغيرَهم، وليس فيه اخْتِلافٌ مع ما وَرَد مِن نَصِّ الكِتابِ ما يُغْنِى عن التَّطْوِيلِ. ¬

(¬1) هو عبد اللَّه بن اللتبية بن ثعلبة الأزدى. انظر: الإصابة 4/ 220. ويأتى حديثه في صفحة 230.

994 - مسألة: (ويشترط أن يكون العامل مسلما أمينا، من غير ذوى القربى، ولا يشترط حريته ولا فقره. وقال القاضى: لا يشترط إسلامه، ولا كونه من غير ذوى القربى)

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُسْلِمًا أَمِينًا، مِنْ غَيْرِ ذَوِى الْقُرْبَى، وَلَا يُشْتَرَطُ حُرِّيَّتُهُ وَلَا فَقْرُهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُ، وَلَا كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِى الْقُرْبَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 994 - مسألة: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُسْلِمًا أَمِينًا، مِنْ غَيْرِ ذَوِى الْقُرْبَى، وَلَا يُشْتَرَطُ حُرِّيَّتُهُ وَلَا فَقْرُهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُ، وَلَا كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِى الْقُرْبَى) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مِن شَرْطِ العامِلِ أن يكونَ بالِغًا عاقِلًا أمِينًا؛ لأنَّ ذلك ضَرْبٌ مِن الوِلايَةِ، والوِلايةُ يُشْتَرطُ ذلك فيها، ولأنَّ الصَّبِىَّ والمَجْنُونَ لا قَبْضَ لهما، والخائِنَ يَذْهَبُ بمالِ الزَّكاةِ ويُضَيِّعُه. ويُشْتَرَطُ إسْلامُه. اخْتارَه شيخُنا (¬1)، وأبو الخَطّابِ. وذَكَر الخِرَقِىُّ، والقاضى، أنَّه لا يُشْتَرَطُ إسْلامُه؛ لأَنَّه إجارَةٌ على عَمَلٍ، فجازَ أن يَتَولَّاه الكافِرُ، كجِبايَةِ الخَراجِ. وقِيلَ عن أحمدَ في ذلك رِوايتان. ¬

(¬1) في: المغنى 9/ 313.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه يُشْتَرَطُ له الأمانَةُ، فاشْتُرِطَ له الإِسْلامُ، كالشَّهادَة، ولأنَّه وِلايَةٌ على المُسْلِمِين، فاشْتُرِطَ لها الإسْلامُ، كسائِرِ الوِلاياتِ، ولأنَّ الكافِرَ ليس بأمِينٍ، ولهذا قال عُمَرُ: لا تَأْمَنُوهم وقد خَوَّنَهم اللَّهُ. وأَنْكَرَ على أبى مُوسى تَوْلِيَةَ الكِتابَةِ نَصْرَانِيًّا (¬1). فالزكاةُ التى هى رُكْنُ الإِسْلامِ أوْلَى. ويُشْتَرَطُ كَوْنُه مِن غيرِ ذَوِى القُرْبَى، إلَّا أن تُدْفَعَ إليه أُجْرَتُه مِن غيرِ الزَّكاةِ. وقال أصحابُنا: لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّها إجْرَةٌ على عَمَلٍ تَجُوزُ للغَنِىِّ، فجازَتْ لذَوِى القُرْبَى، كأُجْرَةِ النَّقَّالِ. وهذا أحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ. ولَنا، أنَّ الفَضْلَ بنَ عباسٍ والمُطَّلِبَ بنَ رَبِيعَةَ بنِ الحارِثِ سَألا النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَبْعَثَهما على الصَّدَقَةِ، فأبَى أن يَبْعَثَهما، وقال: «إنَّمَا هَذِهِ الصَّدَقَةُ أوْسَاخُ النَّاسِ، وَإنَّهَا لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآلِ مُحَمَّدٍ» (¬2). وهذا ظاهِرٌ في تَحْرِيمِ أخْذِهم لها عِمالةً، فلا تَجوزُ مُخالَفَتُه. ويُفارِقُ النَّقَّالَ والحَمَّالَ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب لا ينبغى للقاضى ولا للوالى. . .، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 10/ 127. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب ترك استعمال آل النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 752 - 754. وأبو داود، في: باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوى القربى، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 133. والنسائى، في: باب استعمال آل النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 80. والإمام مالك، في: باب ما يكره من الصدقة، من كتاب الصدقة. الموطأ 2/ 1000. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَأْخُذُ أُجْرَةً لحَمْلِه لا لعِمالَتِه. ولا تُشْتَرَطُ حُرِّيَّتُه؛ لأنَّ العَبْدَ يَحْصُلُ منه المَقْصُودُ، فأشْبَهَ الحُرَّ. ولا كَوْنُه فَقِيهًا إذا كُتِبَ له ما يَأْخُذُه، وحُدَّ له، كما كَتَب النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعُمّالِه فَرائِضَ الصَّدَقَةِ، وكذلك كَتَب أبو بكرٍ لعُمالِه، أو بَعَث معه مَن يُعَرِّفُه ذلك. ولا يُشْتَرَطُ كَوْنُه فَقِيرًا؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَل العامِلَ صِنْفًا غيرَ الفُقراءِ والساكِينِ، فلا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَعْناهما فيه كما لا يُشْتَرَطُ مَعْناه قيهما، وقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ؛ لغَازٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أوْ لِغَارِمٍ، أوْ لِرَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِه، أوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جارٌ (¬1) مِسْكِينٌ فتُصُدِّقَ عَلَى المِسْكِينِ، فَأهْدَى المِسْكِينُ إلَى الغَنِىِّ». رَواه أبو داودَ (¬2). وذَكَر أصحابُ الشافعىِّ أنَّه تُشْتَرَطُ الحُرِّيَّةُ؛ لأنَّه وِلايةٌ، فنافاها الرِّقُّ، كالقَضاءِ، ويُشْتَرَطُ الفِقْهُ؛ ليَعْلَمَ قَدْرَ الواجبِ وصِفَتَه. ولَنا، ما ذَكَرْنا، ولا نُسَلِّمُ مُنافاةَ الرِّقِّ للوِلاياتِ الدِّيِنيَّةِ، فإنَّه يَجُوزُ أَنْ يكونَ إمامًا في الصَّلاةِ، ومُفْتِيًا، وراوِيًا للحديثِ، ¬

(¬1) في م: «رجل». (¬2) في: باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غنى، من باب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 380؛ كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من تحل له الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 590. والإمام مالك، في: باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 268. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وشاهِدًا، وهذه مِن الوِلاياتِ الدِّينيَّةِ. وأمّا الفِقْهُ فإنَّما يَحْتاجُ إليه في مَعْرِفَةِ ما يَأْخُذُه ويَتْرُكُه، ويَحْصُلُ ذلك بالكتابةِ له كما فَعَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصاحِبُه، رَضِىَ اللَّهُ عنه. فصل: ذَكَر أبو بكرٍ في «التَّنْبِيهِ» في قَدْرِ ما يُعْطىَ العامِلُ رِوايَتْين؛ إحداهما، يُعْطَى الثُّمْنَ ممّا يَجْبيه. والثانيةُ، يُعْطَى بقَدْرِ عملِه. فعلى هذه الرِّوايَةِ يُخَيَّرُ الإِمامُ بينَ أن يَسْتَأْجَرَ العامِلَ إجارَةً صَحِيحَةً، بأَجْرٍ معلومٍ، إمّا على عملٍ معلومٍ، أو مُدَّةٍ معلومةٍ، من وبينَ أن يَجْعَلَ له جُعْلًا معلومًا على عَمَلِه، فإذا فَعَلَه اسْتَحَقَّ الجُعْلَ، وإن شاء بَعَثَه مِن غيرِ تَسْمِيَةٍ: ثم أعْطاه؛ فإنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: بَعَثَنِى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصَّدَقَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلمّا رَجَعْتُ عَمَّلَنِى (¬1)، فقلتُ: أعْطِه مَن هو أحْوَجُ إليه مِنِّى. وذكَر الحديثَ (¬2). فصل: ويُعْطِى منها أُجْرَةَ الحاسِبِ والكاتِبِ والحاشِرِ والخازِنِ والحافِظِ والرّاعِى ونحوِهم؛ لأنَّهم مِن العامِلِين، ويَدْفَعُ إليهم مِن حِصَّةِ العامِلِين، فأمّا الكَيَّالُ والوَزَّانُ ليَقْبِضَ العامِلُ الزَّكاةَ فعلى رَبِّ المالِ؛ لأنَّه مِن مُؤْنَةِ دَفْعِ الزَّكاةِ. ¬

(¬1) أي: أعطاني أجرة عملى. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أعطاه اللَّه شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 152، 153. ومسلم، في: باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 723. وأبو داود، في: باب في الاستعفاف، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 383. والنسائى، في: باب من آتاه اللَّه عز وجل مالًا من غير مسألة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 77. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 17، 40، 52، 2/ 99.

995 - مسألة: (فإن تلفت الصدقة فى يده من غير تفريط، أعطى أجرته من بيت المال)

وَإنْ تَلِفَتِ الزَّكَاةُ في يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، اُعْطِىَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 995 - مسألة: (فإنْ تَلِفَتِ الصَّدَقَةُ في يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، أُعْطِىَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) إذا تَلِفَتِ الزكاةُ في يَدِ السّاعِى مِن غيرِ تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أمِينٌ، ويُعْطَى أُجْرَتَه مِن بَيْتِ المالِ؛ لأنَّه لمصالِحِ المسلمين، وهذا مِن مَصالِحِهم. وإن لم تَتْلَفْ أُعْطِىَ أجْرَ عَمَلِه منها، وكان أكْثَرَ مِن ثُمْنِها؛ لأنَّ ذلك مِن مُؤْنَتِها، فجرَى مَجْرَى عَلْفِها ومُداواتِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رَأَى الإِمامُ أعْطاه أجْرَه مِن بيتِ المَالِ. أو يَجْعَلُ له رِزْقًا في بيتِ المالِ وَلَا يُعْطِيه منها شيئًا، فَعَل. وإن تَوَلَّى الإِمامُ أو الوالِى مِن قِبَلِه أخْذَ الصَّدَقَةِ وقَسْمَها، لم يَسْتَحِقَّ منها شيئًا؛ لأنَّه يَأْخُذ رِزْقَه مِن بيتِ المالِ. فصل: ويجوزُ للإمامِ أن يُوَلِّىَ السَّاعِىَ جِبايَتَها وتَفْرِيقَها، وأن يُوَلِّيَه أحَدَهما؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَّى ابنَ اللُّتْبِيَّةِ، فقَدِمَ بصَدَقَتِه على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: هذا لَكُم، وهذا أُهْدِىَ لِى (¬1). وقال لقَبِيصَةَ: «أقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» (¬2). وأمَرَ مُعاذًا أن يَأْخُذَ الصدقةَ مِن أغْنِيائِهم فيَرُدَّها في فُقَرائِهم (¬3). ويُروَى أنَّ زِيادًا وَلَّى عِمْرانَ بنَ حُصَيْنٍ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ومحاسبة المصدقين مع الإمام، من كتاب الزكاة، وفى: باب احتيال العامل ليهدى، من كتاب الحيل، وفى: باب هدايا العيال، وباب محاسبة الإمام عماله، من كتاب الأحكام، وفى: باب من لم يقبل الهدية لعلة. . .، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 2/ 160، 9/ 36، 88، 95. ومسلم، في: باب تحريم هدايا العمال، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1463، 1464. والدارمى، في: باب ما يهدى لعمال الصدقة لمن هو، من كتاب الزكاة، وفى: باب في العامل إذا أصاب في عمله شيئًا، من كتاب السير. سنن الدارمى 1/ 394، 2/ 232. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 423. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 219. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

996 - مسألة: (الرابع، المؤلفة قلوبهم؛ وهم السادة المطاعون فى عشائرهم ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها، أو الدفع عن

الرَّابِعُ، الْمُؤلَّفَةُ قُلُوبُهُم؛ وَهُمُ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ في عَشَائِرِهِمْ مِمَّنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، أَوْ يُخْشى شَرُّهُ، أَوْ يُرْجى بِعَطِيَّتِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ، أَو إِسْلَامُ نَظِيرِهِ، أو جِبَايَةُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا، أَوِ الدَّفْعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّدَقَةَ، فلمّا جاءَ قِيلَ له: أين المالُ؟ قال: أوَ للمالِ بَعَثْتَنِى! أخَذْناها كما كنَّا نَأْخُذُها على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووَضَعْناها حيثُ كُنّا نَضَعُها على عهدِ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواه أبو داودَ (¬1). وعن أبى جُحَيْفَةَ، قال: أتانا مُصَدِّقُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخَذَ الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا، فوَضَعَها في فُقَرائِنا، وكنتُ غُلامًا يَتيمًا فأعْطانِى منها قَلُوصًا (¬2). أخْرَجَه التِّرمِذِىُّ (¬3). 996 - مسألة: (الرَّابِعُ، الْمُؤلَّفَةُ قُلُوبُهُم؛ وَهُمُ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ في عَشَائِرِهِمْ مِمَّنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، أَوْ يُخْشى شَرُّهُ، أَوْ يُرْجى بِعَطِيَّتِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ، أَو إِسْلَامُ نَظِيرِهِ، أو جِبَايَةُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا، أَوِ الدَّفْعُ عَنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 173. (¬2) القلوص من الإبل: الفتية المجتمعة الخلق. (¬3) في: باب ما جاء أن الصدقة تؤخذ من الأغنياء فترد في الفقراء، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 148.

أَنَّ حُكْمَهُمُ انْقَطَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين. وعنه، أنَّ حُكْمَهم انْقَطعَ) المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهم قِسْمان؛ كُفّارٌ ومُسْلِمون، وهم جميعًا السّادَةُ المُطاعُون في عشائِرِهم كما ذَكَر. فالكُفّارُ ضَرْبان، أَحَدُهما، مَن يُرْجَى إسْلامُه، فيُعْطى لتَقوَى نِيَّتُه في الإِسْلامِ، وتَمِيلَ نَفْسُه إليه، فيُسْلِمَ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ فَتْحِ مَكَّةَ أعْطى صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ الأمانَ، واسْتَصْبَرَهُ صَفْوانُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ ليَنْظُرَ في أمْرِه، وخَرَج معه إلى حُنَيْنٍ، فلمّا أعْطَىَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَطايا قال صفوانُ: مالِى؟ فأوْمأ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى وادٍ فيه إبِل مُحَمَّلَةٌ، فقال: «هَذَا لَكَ». فقال صَفْوانُ: هذا عَطاءُ مَن لا يَخْشَى الفَقْرَ (¬1). والضَّرْبُ الثَّانِى، مَن يُخْشَى شَرُّه، فيرجَى بعَطِيَّتِه كَفُّ شَرِّه، وكَفُّ شَرِّ غيرِه معه. فرَوَى ابنُ عباسٍ، أنَّ قَوْمًا كانوا يَأْتُونَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن أعْطاهم مَدَحُوا الإسْلامَ، وقالوا: هذا دِينٌ حَسَنٌ. وإن مَنَعَهم ذمُّوا وعابُوا (¬2). وقال أبو حنيفةَ: ¬

(¬1) أخرجه بنحوه مسلم، في: باب ما سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا قط، فقال: لا. وكثرة عطائه، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1806. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 108، 175، 259، 284. (¬2) أخرجه ابن جرير في تفسيره 14/ 313.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْقطَعَ سَهْمُ هؤلاء. وهو أحدُ أقْوالِ الشافعىِّ؛ لِما رُوِى أنَّ مُشركًا جاء يَلْتَمِسُ مِن عُمَرَ مالًا فلم يُعْطِه، وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬1). ولأنَّه لم يُنْقَلْ عن عُثْمانَ ولا علىٍّ أنَّهم أعْطَوْهم شيئًا مِن ذلك، ولأنَّ اللَّهَ تعالى أظْهَرَ الإِسْلامَ وقَمَع المُشْرِكِين، فلا حاجَةَ بنا إلى التَّأْلِيفِ عليه. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (¬2). وهذه الآيةُ في سورةِ بَراءة، وهى مِن آخِرِ ما نَزَل مِن القرآنِ، وقد ثَبَت أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطى المُؤَلَّفَةَ مِن المُشْرِكِين والمسلمين (¬3). وأعْطى أبو بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عَدِىَّ بنَ حاتمٍ، حينَ قَدِم عليه مِن الصَّدَقَةِ بثلاِثمائةِ جَمَلٍ، ثَلاثين بَعِيرًا (¬4). ومُخالَفَةُ كتابِ اللَّهِ تعالى، وسُنَّةِ رسولِه، ¬

(¬1) سورة الكهف 29. وأخرجه ابن جرير بنحوه في تفسيره 14/ 315. (¬2) سورة التوبة 60. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 6/ 84. ومسلم، في: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام. . .، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 738. والترمذى، في: باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 171. والنسائى، في: باب المؤلفة قلوبهم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 65. (¬4) أخرجه البيهقى عن الشافعى بدون إسناد. السنن الكبرى 9/ 17، 20. وانظر إرواء الغليل 3/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واطِّراحُهما بلا حُجَّةٍ لا يجوزُ، ولا يَثْبُتُ النَّسْخُ بتَرْكِ عُمَرَ وعثمانَ وعلىٍّ إعْطاءَهم، ولَعَلَّهم لم يَحْتاجُوا إليه (¬1) فتَرَكُوا ذلك لعَدَمِ الحاجَةِ إلى إعْطائِهم، لا لسُقُوطِ سَهْمِهم، ومثلُ هذا لا يَثْبُتُ به النَّسْخُ. واللَّهُ أعلمُ. وأمّا المسلمون فأرْبَعَةُ أضْرُبٍ؛ قومٌ بِن ساداتِ المسلمين لهم نُظرَاءُ مِن الكُفّارِ، أو مِن المسلمين الذين لهم نِيَّةٌ حَسَنَةٌ في الإِسْلامِ، فإذا أُعْطُوا رُجِىَ إسْلامُ نُظرَائِهم وحُسْنُ نِيّاتِهم، فيجوزُ إعْطاوهم؛ لأنَّ أبا بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أعْطَى عَدِىَّ بنَ حاتم، والزِّبْرِقانَ بنَ بَدْرٍ، مع حُسْنِ نِيَّاتِهما وإسْلَامِهما. الضَّرْبُ الثَّانِى، ساداتٌ مُطاعُون في قَوْمِهم، يُرْجَى بعَطِيَّتِهم قُوَّةُ إيمانِهم، ومُناصَحَتُهم في الجِهادِ، فيُعْطَوْن؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى عُيَيْنَةَ بنَ حِصْنٍ، والأقْرَعَ بنَ حابِسٍ، وعَلْقَمَةَ بنَ عُلَاثةَ، والطُّلقَاءَ مِن أهْلِ مَكةَ، وقال للأنْصارِ: «يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ عَلى مَا تَأْسَوْنَ؟ عَلَى لُعَاعَةٍ مِن الدُّنْيَا تَأْلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لَا إيمَانَ لَهُمْ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إيِمَانِكُمْ» (¬2). وروَى البخارىُّ (¬3)، عن عَمْرو بنِ تَغْلِبَ، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) في م: «لهم». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام. . .، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 738، 739. والنسائى، في: باب المؤلفة قلوبهم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 65. (¬3) في: باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، من كتاب الجمعة، وفى: باب ما كان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم من الخمر ونحوه. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. . .}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 2/ 13، 4/ 114، 9/ 191. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى ناسًا وتَرَكَ ناسًا، فبَلَغَه عن الذين تَرَك أنَّهم عَتَبُوا، فصَعِدَ المِنْبَرَ فحَمِدَ اللَّهَ وأثْنَى عليه، ثم قال: «إنِّى أُعْطِى نَاسًا لِمَا في قُلُوبِهِم مِن الجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ نَاسًا إلى ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى والْخَيْرِ؛ مِنْهُمْ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ (¬1)». وعن أَنَسٍ، قال: حينَ أفاءَ اللَّهُ على رسولِه أمْوالَ هَوازِنَ، طَفِقَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْطِى رِجالًا مِن قُرَيْشًا مائةً مِن الإبِلِ، فقال ناسٌ مِن الأنْصارِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُعْطِى قُرَيْشًا ويَمْنَعُنَا، وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهم. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنِّى أُعْطِى رِجَالًا حَدِيْثِى عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُم». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). الضَّرْبُ الثالثُ، قومٌ في طَرَفِ بلادِ الإِسْلامِ، إذا أُعْطُوا دَفَعُوا عمَّن يَلِيهم مِن المسلمين. الضَّرْبُ الرابعُ، قَوْمٌ إذا اعْطُوا جَبَوُا الزَّكاةَ مِمّن لا يُعْطِيها إلَّا أن يَخافَ. فكلُّ هؤلاء يجوزُ الدَّفْعُ إليهم مِن الزَّكاةِ، لأنَّهم مِن المُؤلَّفَةِ قُلُوبُهم، فيَدْخُلُون في عُمُومِ ¬

(¬1) في الأصل: «ثعلب». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما كان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم من الخمس ونحوه، من كتاب الخمس. صحيح البخارى 4/ 114. ومسلم، في: باب إعطاء المؤلفة ومن يخاف على إيمانه، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 733 - 737. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 166.

997 - مسألة: (الخامس، الرقاب؛ وهم المكاتبون)

الْخَامِسُ، الرِّقَابُ؛ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الآيَةِ. وحَكَى حَنْبَلٌ، عن أحمدَ، أنَّه قال: المُؤلَّفَةُ قد انْقَطَعَ حُكْمُهم اليومَ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا. ولعلَّ معنَى قولِ أحمدَ: انْقَطَعَ حُكْمُهم. أنَّه لا يُحْتاجُ إليهم في الغالِبِ، أو أنَّ الأئِمَّةَ لا يُعْطونَهم اليومَ شيئًا، لعَدَمِ الحاجَةِ إليهم، فإنَّهم إنَّما يجوزُ إعْطِاؤُهم عندَ الحاجَةِ إليهم. واللَّهُ سبحانَه أعلمُ. 997 - مسألة: (الخامسُ، الرِّقابُ؛ وهُم المُكاتَبُون) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهْلِ العِلْمِ في ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقابِ، ولا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ في أنَّ المُكاتَبِين مِن الرِّقابِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكاةِ إليهم. وهو قولُ الجُمْهورِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالكٌ: إنَّما يُصْرَفُ سَهْمُ الرِّقابِ في إعْتاقِ العَبِيدِ، ولا يُعْجِبُنِى أن يُعانَ منها مُكاتَبٌ. وقَوْلُه مُخالِفٌ لظاهِرِ الآيَةِ؛ لأنَّ المُكاتَبَ مِن الرِّقابِ؛ لأنَّه عَبْدٌ، واللَّفْظُ عامٌّ، فيَدْخُلُ في عُمُومِه. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه إنَّما يُدْفَعُ إليه إذا لم يَكُنْ معه ما يَقْضِى به كِتابَتَه، ولا يُدْفَعُ إلى مَن معه وَفاءُ كِتابَتِه شَئٌ؛ لأنَّه مُسْتَغْنٍ عنه في وَفاءِ الكِتابَةِ. فإن كان معه بعضُ الكِتابَةِ تَمَّمَ له وَفاءَ كِتابَتِه؛ لأنَّ حاجَتَه لا تَنْدَفِعُ إلَّا بذلك، وإن لم يكنْ معه شئٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُعْطِىَ جَمِيعَ ما يَحْتاجُ إليه لوَفاءِ الكِتابَةِ؛ لما ذَكَرْنا. ولا يُعْطىَ بحُكْمِ الفَقْرِ شيئًا؛ لأنَّه عبدٌ. ويَجُوزُ إعْطاؤُه قبلَ حُلُولِ كِتابَتِه؛ لئَلَّا يَحِلَّ النَّجْمُ ولا شئَ معه، فَتُفْسَخَ الكِتابَةُ. ولا يُدْفَعُ إلى مُكاتَب كافِرٍ شئٌ؛ لأنَّه ليسَ مِن مَصارِفِ الزَّكاةِ.

998 - مسألة: (ويجوز أن يشترى بها أسيرا مسلما. نص عليه)

وَيَجُوزُ أَنْ يَفْدِىَ بِهَا أَسِيرًا مُسلِمًا. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 998 - مسألة: (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِىَ بِهَا أَسِيرًا مُسلِمًا. نَصَّ عَلَيْهِ) لأنَّه فَكُّ رَقَبَةٍ مِن الأسْرِ، فهو كفكِّ رَقَبَةِ العَبْدِ مِن الرِّقِّ، ولأنَّ فيه إعْزازًا للدِّينِ، فهو كصَرْفِه إلى المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم، ولأنَّه يَدْفَعُه إلى الأسِيرِ في فَكِّ رَقَبَتِه، أشْبَهَ ما يَدْفَعُه إلى الغارِمِ لفَكِّ رَقَبَتِه مِن الدَّيْنِ.

999 - مسألة: (وهل يجوز أن يشترى منها رقبة يعتقها؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِىَ مِنْهَا رَقَبَةً يُعْتِقُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 999 - مسألة: (وَهَلْ يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِىَ مِنْهَا رَقَبَة يُعْتِقُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في جَوازِ الإِعْتاقِ مِن الزَّكاةِ، فرُوِىَ عنه جَوازُ ذلك. وهو قَوْلُ ابنِ عباسٍ، والحسنِ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، والعَنْبَرِىِّ، وأبى ثوْرٍ؛ لعُمُومِ قولِه تعالى: {وَفِى الرِّقَابِ}. وهو مُتَناوِلٌ للقِنِّ، بل هوِ ظاهِرٌ فيه، فإنَّ الرَّقَبَةَ تَنْصَرِفُ إليه إذا أُطْلِقَتْ، كقولِهِ تعالى: {فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} (¬1). وتَقْدِيرُ الآيَةِ: وفى إعْتاقِ الرِّقابِ. ولأنَّه إعْتاقٌ للرَّقَبَةِ، فجاز صَرْفُ الزَّكاةِ فيه، كدَفْعِه في الكِتابَةِ. والثانيةُ، لا يجوزُ. وهو قولُ إبراهيمَ، والشافعىِّ؛ لأنَّ الآيَةَ تَقْتَضِى صَرْفَ الزَّكاةِ إلى الرِّقابِ، كقولِه: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. يُرِيدُ الدَّفْعَ إلى المُجاهِدِين، كذلك ههُنا. ¬

(¬1) سورة النساء 92، وسورة المجادلة 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَبْدُ القِنُّ لا يُدْفَعُ إليه شئٌ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبى طالبٍ: قد كُنْتُ أقولُ: يُعْتِقُ مِن زَكاتِه، ولكنْ أهابُه اليومَ؛ لأنَّه يَجُرُّ الوَلاءَ. وفى مَوْضِعٍ آخَرَ، قِيلَ له: فما يُعْجِبُكَ مِن ذلك؟ قال: يُعِينُ في ثَمَنِها، فهو أسْلَمُ. وقد رُوِى نحوُ هذا عن النَّخَعِىِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ؛ فإنَّهما قالا: لا يُعْتِقُ مِن الزَّكاةِ رَقَبَةً كامِلَةً، لكنْ يُعْطِى منها في رَقَبَةٍ، وِيُعِينُ مُكاتَبًا. وبه قال أبو حنيفةَ وصاحِباه؛ لأنَّه إذا أعْتَقَ مِن زَكاتِه، انْتَفَعَ بوَلاءِ (¬1) مَن أعْتَقَه، فكأنَّه صَرَف الزَّكاةَ إلى نَفْسِه. وأخَذَ ابنُ عَقِيلٍ مِن هذه الرِّوايَةِ، أنَّ أحمدَ رَجَع عن القَوْلِ بالإِعْتاقِ مِن الزَّكاةِ. وهذا، واللَّهُ أعلمُ، إنَّما كان على سبيلِ الوَرَعِ مِن أحمدَ، فلا يَقْتَضِى رُجُوعًا؛ لأنَّ العِلَّةَ التى عَلَّل بها جَرُّ الوَلَاءِ، ومَذْهَبُه في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عنه أنَّ ما رَجَع مِن الوَلاءِ رُدَّ في مِثْلِه، فلا يَنْتَفِعُ إذًا بإعْتاقِه مِن الزَّكاةِ. فصل: ولا يجوزُ أن يَشْتَرِىَ مِن زَكاتِه مَن يَعْتِقُ عليه بالرَّحِمِ، فإنْ ¬

(¬1) في م: «بالولاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَل عَتَق عليه، ولم تَسْقُطْ عنه الزكاةُ. وقال الحسنُ: لا بأْسَ أن يُعْتِقَ أباه مِن الزَّكاةِ؛ لأنَّ دَفْعَ الزَّكاةِ لم يكنْ إلى أبِيه، وإنَّما دَفَع الثَّمَنَ إلى البائِعِ. ولَنا، أنَّ نَفْعَ زَكاتِه عادَ إلى أبِيه، فلم يَجُزْ، كما لو دَفَعَها إليه، ولأنَّ عِتْقَه حَصَل بنَفْسِ الشِّراءِ مُجازاةً وصِلَةً للرَّحِمِ، فلم يَجُزْ أن يُحْسَبَ له مِن الزَّكاةِ، كنَفَقَةِ أقارِبِه. ولو أعْتَقَ عبْدَه المَمْلُوكَ له عن زَكاتِه، لم يُجْزئْه؛ لأنَّ أداءَ الزَّكاةِ عن كلِّ مالٍ مِن جِنْسِه، والعَبْدُ ليس مِن جِنسِ ما تَجِبُ الزكاةُ فيه. وكذلك لو أعْتَقَ عَبْدًا مِن عَبِيدِ التِّجارَةِ، لم يَجُزْ، لأنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ في قِيمَتِهم، لا في عَيْنِهم.

1000 - مسألة: (السادس، الغارمون؛ وهم المدينون، وهم ضربان؛ ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وضرب غرم لإصلاح نفسه فى مباح)

السَّادِسُ، الْغَارِمُونَ؛ وَهُمُ الْمَدِينُونَ، وَهُمْ ضَرْبَانِ؛ ضَرْبٌ غَرِمَ لإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَضَرْبٌ غَرِمَ لإِصْلَاحِ نَفْسِهِ في مُبَاحٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1000 - مسألة: (السَّادِسُ، الْغَارِمُونَ؛ وَهُمُ الْمَدِينُونَ، وَهُمْ ضَرْبَانِ؛ ضَرْبٌ غَرِمَ لإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَضَرْبٌ غَرِمَ لإِصْلَاحِ نَفْسِهِ في مُبَاحٍ) الغارِمُون ضَرْبان؛ أحَدُهما، الغارِمُون لإِصْلاحِ نُفُوسِهم، ولا خِلافَ في اسْتِحْقاقِهم وثُبُوتِ سَهْمِهم في الزَّكاةِ، وأنَّ المَدِينين العاجِزِين عن وَفاءِ دُيُونِهم منهم. لكن مَن غَرِم في مَعْصِيَةٍ، مثلَ أن يَشْتَرِىَ خَمْرًا، أو يَصْرِفَه في زِنًا، أو قِمارٍ، أو غِناءٍ، أو نحوِه، لم يُدْفَعْ إليه قبلَ التَّوْبَةِ شئٌ؛ لأنَّه إعانَةٌ له على المَعْصِيةِ، وسَنَذْكُرُ ذلك. ولا يُدْفَعُ إلى غارِمٍ كافِرٍ؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ الزَّكاةِ، ولذلك لم يُدْفَعْ إلى فقيرِهم ومُكاتَبهم. وإن كان مِن ذَوِى القُرْبَى، فقال أصحابُنا: يَجُوزُ الدَّفْعُ إليه؛ لأنَّ عِلَّةَ مَنْعِه مِن الأخْذِ منها لفَقْرِه صِيانَتُه عن أكْلِها، لكَوْنِها أوْساخَ النّاسِ، وإذا أخَذَها للغُرْمِ صَرَفَها إلى الغُرَماءِ، فلا يَنَالُه دَناءَةُ وَسَخِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لعُمُومِ النُّصُوصِ في مَنْعِهم مِن أخْذِها، وكَوْنِها لا تَحِلُّ لهم، ولأنَّ دَناءةَ أخْذِها تَحْصُلُ، سواءٌ أكَلَها أو لم يَأكُلْها. ولا يُدْفَعُ إلى غارِمٍ له ما يَقْضِى به دَيْنَه؛ لأنَّ الدَّفْعَ إليه لحاجَتِه، وهو مُسْتَغْنٍ عنها. الضَّرْبُ الثَّانِى، مَن غَرِم لإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، وهو أن يَقَعَ بينَ الحَيَّيْن أو أهلِ القَرْيَتَيْن عَداوةٌ وضَغائِنُ، يَتْلَفُ بها نَفْسٌ أو مالٌ، ويَتَوَقَّفُ صُلْحُهم [على مَن] (¬2) يَتَحَمَّلُ ذلك، فيَسْعَى إنْسَانٌ في الإِصْلاحِ بينَهم، ويَتَحَمَّلُ الدِّماءَ التى بينَهم والأمْوالَ، فيُسَمَّى ذلك حَمالَةً، بفَتحِ الحاءِ، وكانتِ العربُ تَعرِفُ ذلك، فكان الرجلُ منهم يَتَحَمَّلُ الحَمالةَ، ثم يَخْرُجُ في القَبائِلِ فيَسْألُ حتَّى يُؤَدِّيَها، فوَرَدَ الشرعُ بإباحَةِ المَسْألَةُ فيها، وجَعَل لهم نَصِيبًا مِن الصَّدَقَةِ، فرَوَى مسلمٌ (¬3) بإسْنادِه، عن قَبِيصَةَ بنِ المُخارِقِ، قال: تَحَمَّلْتُ حَمالةً، فأتَيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَألْتُه فيها، فقال: ¬

(¬1) في: المغنى 9/ 323. (¬2) في م: «عمن». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 219.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «أقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا». ثم قال: «يَا قَبِيصَةُ، إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالةً، فَيَسْألُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أصَابَتْهُ جَاثِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، أوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِن عَيْشٍ، أوْ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْبٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا يَوْمَ القِيَامَةِ». ورَوَى أبو سعيدٍ الخُدْرِىُّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ، إلَّا لخَمْسَةٍ» (¬1). ذَكَر منهم الغارِمَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 225.

1001 - مسألة: (السابع، فى سبيل الله؛ وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم)

السَّابِعُ، في سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1001 - مسألة: (السَّابِعُ، في سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ) هذا الصِّنْفُ السَّابِعُ مِن أصْنافِ الزَّكاةِ. ولا خِلافَ في اسْتِحْقاقِهم، وبَقاءِ حُكْمِهم. ولا خِلافَ في أَنَّهم الغزاةُ؛ لأنَّ سَبيلَ اللَّهِ عندَ الإِطْلاقِ هو الغَزْوُ، وقالْ اللَّهُ تعالى: {وَقَتِلُواْ فِي سَبيلِ اللَّهِ} (¬1). وقال: {وَتُجَهِدُونَ فِىٍ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). وقال: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَتِلُونَ في سَبِيْلِهِ صَفًّا} (¬3). ذَكَر ذلك في غيرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِه العزِيزِ. فصل: وإنَّما يَسْتَحِقُّ هذا السَّهْمَ الغُزاةُ الَّذين لا دِيوانَ لهم، وإنَّما يَتَطَوَّعُون بالغَزْوِ إذا نَشِطُوا. قال أحمدُ: يُعْطى ثَمَنَ الفَرَسِ، ولا يَتَوَلَّى مُخْرِجُ الزَّكاةِ شِراءَ الفَرَسِ بنَفْسِه؛ لأنَّ الواجِبَ إيتاءُ الزَّكاةِ، فإنِ اشْتَراها بنَفْسِه فما أعْطىَ إلَّا فَرَسًا. وكذلكَ الحُكْمُ في شِراءِ السِّلاحِ والمُؤْنَةِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 190، 244. (¬2) سورة الصف 11. (¬3) سورة الصف 4.

1002 - مسألة: (ولا يعطى منها فى الحج. وعنه، يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه)

وَلَا يُعْطَى مِنْهَا في الْحَجِّ. وَعَنْهُ، يُعْطى الْفَقِيرُ مَا يَحُجُّ بِهِ الْفَرْضَ أوْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ: إن دَفَع ثَمَنَ الفَرَسِ وثَمَنَ السَّيْفِ فهو أعْجَبُ إلىَّ، وإنِ اشْتَراه هو رَجَوْتُ أن يُجْزِئَه. وقال أيضًا: يَشْتَرِى الرجلُ مِن زَكاتِه الفَرَسَ، ويَحْمِلُ عليه، وَالقَناةَ، ويُجَهِّزُ الرجلَ، وذلك لأنَّه قد صَرَف الزَّكاةَ في سَبِيلِ اللَّهِ، فجاز، كما لو دَفَعَها إلى الغازِى فاشْتَرَى بها. وقال: ولا يَشْتَرِى مِن الزَّكاةِ فَرَسًا يصيرُ حَبِيسًا في سَبِيلِ اللَّهِ، ولا دارًا، ولا ضَيْعَةً يُصَيِّرُها للرِّباطِ، ولا يَقِفُها على المُجاهِدِين؛ لأنَّه لم يُؤْتِ الزَّكاةَ لأحَدٍ، وهو مَأمُورٌ بإيتائِها. قال: ولا يَغْزُو الرجلُ على الفَرَسِ الَّذى أخْرَجَه مِن زَكاةِ مالِه؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَجْعَلَ نَفسَه مَصْرِفًا لزَكاتِه، كما لا يَحُوزُ أن يَقْضِىَ بها دَيْنَه، ومتى أخَذَ الفَرَسَ التى اشْتُرِيَتْ بمالِه، صارَ هو مَصْرِفًا لزَكاتِه. 1002 - مسألة: (ولا يعْطىَ منها في الحَجِّ. وعنه، يُعْطىَ الفَقِيرُ قَدْرَ ما يَحُجُّ به الفَرْضَ أو يَسْتَعِينُ به فيه) اختَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَحِمَه اللَّهُ، في ذلك، فرُوِىَ عنه، أنَّه لا يُصْرَفُ منها في الحَجِّ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وهى أصَحُّ؛ لأنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عندَا الإطْلاقِ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى الجهادِ، فإنَّ كلَّ ما في القُرآنِ مِن ذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إنَّما ارِيدَ به الجِهادُ، إلَّا اليَسِيرَ، فيَجِبُ أن يُحْمَلَ ما في آيَةِ الزَّكاةِ على ذلك؛ لأنَّ الظَّاهِرَ إرادَتُه به، ولأنَّ الزَّكاةَ إنَّما تُصْرَف إلى أحَدِ رَجُلَيْن، مُحْتاجٍ إليها، كالفُقَراءِ والمَساكِينِ وفى الرِّقابِ والغارِمين لقَضاءِ دُيُونِهم، أو مَن يحْتاجُ إليه المسلمون، كالعاملِ والغازِى والمُؤَلَّفِ والغارِمِ لإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ. والحَجُّ للفَقِيرِ لا نَفْعَ للمسلمين فيه، ولا حاجَةَ بهم إليه، ولا حاجَةَ به أيضًا؛ لأنَّ الفَقِيرَ لا فرْضَ عليه فيُسْقِطَه، ولا مَصْلَحَةَ له في إيجابِه عليه، وتَكْلِيفُه مَشَقَّةٌ قد رَفَّهَهْ اللَّهُ منها، وخَفَّفَ عنه إيجابَها. وتَوْفِيرُ هذا القدرِ على ذَوِى الحاجةِ مِن سائِرِ الأصْنافِ، أو دَفْعُه في ئصالِحِ المسلمين أوْلَى. ورُوِىَ عنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ الفَقِيرَ يُعْطىَ قَدْرَ ما يَحُجُّ به الفَرْضَ، أو يَسْتَعِينُ به فيه. يُرْوَى إعْطاءُ الزَّكاةِ في الحَجِّ عن ابنِ عباسٍ. وعن ابنِ عُمَرَ: الحَجُّ مِن سَبِيلِ اللَّهِ. وهو قَوْلُ إسحاقَ؛ لِما رُوِى أنَّ رجلًّا جَعَل ناقَةً له في سَبيلِ اللَّهِ، فأرادَتِ امْرَأتُه الحَجَّ، فقال لها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ارْكَبِيهَا، فَإنَّ الحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ». رَواه أبو داودَ (¬1) بمعناه. والأوَّلُ أوْلَى. وأمّا الخَبَرُ فلا يَمْتَنِعُ أن يكونَ الحجُّ مِن سبيلِ اللَّهِ، والمُرادُ بالآيَةِ غيرَه؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: فإذا قُلْنا: يُدْفَعُ في الحَجِّ منها. فلا يُعْطىَ إلَّا بشَرْطَين؛ أحَدُهما، أن يكونَ ممَّن ليس له ما يَحُجُّ به سِواها؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ، وَلَا لِذِى مِرَّةٍ سَوِىٍّ» (¬2). وقال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ (¬3) إلَّا لِخَمْسَةٍ» (¬4). ولم يَذْكُرِ الحاجَّ فيهم. ولأنَّه يَأْخُذُ ¬

(¬1) في: باب العمرة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 459. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 379. والترمذى، في: باب من لا تحل له الصدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 151. والنسائى، في: باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 74. وابن ماجه، في: باب من سأل عن ظهر غنى، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 589. والدارمى، في: باب من تحل له الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 386. والإمام أحمد، في: المسند.2/ 164، 192، 377، 389، 4/ 62، 5/ 375. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحاجَتِه، لا لحاجَةِ المسلمين إليه، فاعْتُبِرَتْ فيه الحاجَةُ، كمَن يأخُذُ لفَقْرِه. الثَّانِى، أن يأخُذَ لحَجَّةِ الفَرْضِ. وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى إسْقاطِ فَرْضِه وإبْراءِ ذِمَّتِه، أمّا التَّطَوُّعُ فله عنه مَنْدُوحَةٌ. وقال القاضى: ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ جَوازُه في الفَرْضِ والنَّفْلِ معًا. وهو ظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ الكلَّ مِن سَبِيلِ اللَّهِ، ولأنَّ الفَقِيرَ لا فَرْضٍ عليه، فالفَرْضُ منه كالتَّطَوُّعِ، فعلى هذا يَجُوزُ أن يُدْفَعَ ما يَحُجُّ به حَجَّة كاملةً، وما يُعِينُه في حَجِّه، ولا يجوزُ أن يَحُجَّ مِن زكاةِ نَفْسِه، كما لا يجوزُ أن يَغْزُوَ بها.

1003 - مسألة: (الثامن، ابن السبيل؛ وهو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده)

الثَّامِنُ، ابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ، دُونَ الْمُنْشِئ لِلسَّفَرِ مِنْ بَلَدِهِ، فَيُعْطَى قَدْرَ مَا يَصِلُ بِهِ إلَى بَلَدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1003 - مسألة: (الثَّامِنُ، ابنُ السَّبِيلِ؛ وهو المُسافِرُ المُنْقَطِعُ به دُونَ المُنْشِئ للسَّفَرِ مِن بَلَدِهِ) ابنُ السَّبيلِ هو الصِّنْفُ الثَّامِنُ من أصْنافِ الزَّكاةِ. ولا خِلافَ في اسْتِحْقاقِه وبَقاءِ سَهْمِه. وهو المُسافِرُ الَّذى ليس له ما يَرْجِعُ به إلى بَلَدِه، وإن كان ذا (¬1) يَسارٍ في بَلَدِه فيُعْطىَ ما يَرْجِع به إلى بَلَدِه. وهذا قولُ قَتادَةَ. ونحوُه قولُ مالكٍ، وأصحابِ الرَّأْى وقال الشافعىُّ: هو المُجْتازُ، ومَن يُرِيدُ إنْشاءَ السَّفَرِ إلى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَلَدٍ أيضًا، فيُدْفَعُ إليهما ما يحْتاجانِ إليه لذَهابهِما وعَوْدِهِما؛ لأنَّه يُرِيدُ السَّفرَ لغيرِ مَعْصِيَةٍ، فأشْبَهَ المُجْتازَ. ولَنا، أنَّ السَّبِيلَ هو الطَّريقُ، وابنُ السَّبِيلِ المُلازِمُ للطرَّيقِ الكائِنُ فيها. كما يقالُ: وَلَدُ اللَّيْلِ. للذى يُكْثِرُ الخُرُوجَ فيه. والقاطِنُ في بَلَدِهِ ليس في طَرِيقٍ، ولا يَثْبُتُ له حُكْمُ الكائِنِ فيها، ولهذا لا يَثْبُتُ له حُكْمُ السَّفَرِ بِعَزْمِه عليه دُونَ فِعْلِه، ولأنَّه لا يُفْهَمُ مِن ابنِ السَّبِيلِ إلَّا الغَرِيبُ دُونَ مَن هو في وَطَنِه ومَنْزِلِه، وإنِ انْتَهَتْ به الحاجَةُ مُنْتَهاهَا، فوَجَبَ أن يُحْمَلَ المَذْكورُ في الآيَةِ على الغَرِيبِ دُونَ غيرِه، وإنَّما يُعْطى وله اليَسَارُ في بَلَدِه؛ لأنَّه عاجِزٌ عن الوُصُولِ إليه، والانتفاعِ به، فهو كالمَعْدُومِ في حَقِّه. فإن كان ابنُ السَّبِيلِ فِقيرًا في بَلَدِهِ، أُعْطِىَ لفَقْرِه وكَوْنِه ابنَ سَبِيلٍ، لوُجُودِ الأمْرَيْن فيه، ويُعْطى لكَوْنِه ابنَ سَبِيلٍ قَدْرَ ما يُوَصِّلُه إلى بَلَدِه؛ لأنَّ الدَّفْعَ إليه للحاجَةِ إلى ذلك، فيُقَدَّرُ بقَدْرِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان ابنُ السَّبِيلِ مُجْتازًا يُرِيدُ بَلَدًا غيرَ بَلَدِه، فقال أصحابُنا: يُدْفَعُ إليه ما يَكْفِيه في مُضِيِّه إلى مَقصِدهِ ورُجُوعِه إلى بَلَدِه؛ لأنَّ فيه إعانَةً على السَّفَرِ المُبَاحِ، وبلوغِ الغَرَضِ الصَّحِيحِ، لكنْ يُشْتَرَطُ كَونُ السَّفَرِ مُباحًا؛ إمَّا قُرْبَةَ كالحَجِّ والجِهادِ وزِيارَةِ الوالِدَيْن، أو مُباحًا كطَلَبِ المَعَاشِ وطَلَبِ التِّجاراتِ. وأمَّا المَعْصِيَةُ فلا يَجُوز الدَّفْعُ إليه فيها؛ لأنَّه إعانَةٌ عليها، فهو كفِعْلِها، فإنَّ وَسِيلَةَ الشئِ جارِيَةٌ مَجْراه. وإن كان السَّفَرُ للنُّزْهَةِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُدْفَعُ إليه؛ لأنَّه غيرُ

1004 - مسألة: (ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيهما)

وَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مَا يُغْنِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْصِيَةٍ. والثانِى، لا يُدْفَعُ إليه، لأنَّه لا حاجَةَ به إلى هذا السَّفَرِ. قال شيخُنا (¬1): ويَقْوَى عندِى أنَّه لا يَجُوزُ الدَّفْعُ للسَّفَرِ إلى غيرِ بَلَدِه؛ لأنَّه لو جاز ذلك لجاز لِلمُنْشِئ للسَّفَرِ مِن بَلَدِه، ولأنَّ هذا السَّفَرَ إن كان لجِهادٍ، فهو يَأْخُذُ له مِن سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وإن كان حَجًّا فغيرُه أهَمُّ منه، وإذا لم يَجُزِ الدَّفْعُ في هذَيْن، ففى غيرِهِما أوْلَى، وإنَّما وَرَد الشَّرْعُ بالدَّفْعِ إليه لِلرُّجُوعِ (¬2) إلىْ بَلَدِه؛ لأنَّه أَمْرٌ تَدْعُو حاجَتُه إليه ولا غَناءَ به عنه، فلا يَجُوزُ إلْحاقُ غيرِه به؛ لأنَّه ليس في مَعْناه، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليه، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، فلا يَثْبُتُ جَوازُه لعَدَمِ النَّصِّ والقِياسِ. 1004 - مسألة: (ويُعْطى الفَقِيرُ والمِسْكِينُ ما يُغْنِيهما) لأنَّ ¬

(¬1) في: المغنى 9/ 331. (¬2) في م: «لرجوعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّفْعَ إليهما للحاجَةِ، فيُقَدَّرُ بقَدْرِها، فإن قُلْنا: إنَّ الغِنَى هو ما تَحْصُلُ به الكِفايةُ. أُعْطِىَ ما يَكْفِيه في حَوْلٍ كامِلٍ؛ لأنَّ الحَوْلَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكاةِ بتَكَرُّرِه، فيَنْبَغِى أن يَأْخُذَ ما يكْفِيه إلى مِثْلِه، ويُعْتَبرُ وُجُودُ الكِفايَةِ له ولعائِلَتِه ومَن يَمُونُه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم مَقْصُودٌ دَفْعُ حاجَتِه، فيُعْتَبرُ له ما يُعْتَبرُ للمُنْفَردِ. وإن قُلْنا: إنَّ الغِنَى يَحْصُلُ بخَمْسِين دِرْهمًا. جاز أن يَأْخُذَ له ولعائِلَتِه حتَّى يَصِيرَ لكلِّ واحِدٍ منهم خَمْسُون. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبى داودَ، في مَن يُعْطَى الزَّكاةَ، وله عِيالٌ: يُعْطى كُلُّ واحدٍ مِن عِيالِه خَمْسِين خَمْسِين.

1005 - مسألة: (و)

وَالْعَامِلُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْغَارِمُ مَا يَقضِيَان بِهِ دَيْنَهُمَا، وَالْمُؤلَّفُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّأْلِيفُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1005 - مسألة: (و) يُعْطى (العامِلُ قَدْرَ أُجْرَتِه) لأنَّ الَّذى يأْخُذُه بسَبَب العملِ، فوَجَبَ أن يكونَ بمِقْدَارِهِ، (والمُؤْلَّفُ ما يَحْصُلُ به التَّألِيفُ) لأنَّه المَقْصُودُ. 1006 - مسألة: (والغارِمُ والمُكاتَبُ ما يَقْضِيانِ به دَيْنَهما) لأنَّ حاجَتَهُما إنَّما تَنْدَفِعُ بذلك.

1007 - مسألة: (والغازى ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر)

وَالغَازِى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِغَزْوِهِ وَإنْ كَثُرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1007 - مسألة: (والغَازِى ما يَحْتاجُ إليه لغَزْوِهِ وإن كَثُر) فيُدْفَعُ إليه قَدْرُ كِفايَتِه، وشِراءِ السِّلاحِ والفَرَسِ إن كان فارِسًا، وحُمُولَتِه ودِرْعِه، وسائِرُ ما يَحْتاجُ إليه لغَزْوِه، وإن كَثُر؛ لأنَّ الغَزْوَ إنَّما يَحْصُلُ بذلك. ومتى ادَّعَى أنَّه يُرِيدُ الغَزْوَ قُبِلَ قوْلُه؛ لأنَّه لا يمكنُ إقامَةُ البَيِّنَةِ على نِيَّتِه، ويُدْفَعُ إليه دَفْعًا مُراعًى، فإن لم يَغْزُ رَدَّه؛ لأنَّه أخَذَه لذلك، وإن مَضَى إلى الغَزْوِ فرَجَعَ مِن الطرَّيقِ، أو لم يُتِمَّ الغَزْوَ الَّذى دُفِع إليه مِن أجْلِه، رَدَّ ما فَضَل معه؛ لأنَّ الَّذى أخَذَ لأجْلِه لم يَفْعَلْه كلَّه.

1008 - مسألة: (ولا يزاد أحد منهم على ذلك)

وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ ذَا عِيَالٍ أخَذَ مَا يَكْفِيهِمْ. وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ الْغِنَى، إلَّا أَرْبَعَةٌ؛ الْعَامِلُ، وَالْمُؤَلَّفُ، وَالْغَارِمُ لإصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ، وَالْغَازِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1008 - مسألة: (ولا يُزادُ أحَدٌ منهم على ذلك) لِما ذَكَرْنا. ولأنَّ الدَّفْعَ لحاجَةٍ، فوَجَبَ أن يُتَقَيَّدَ بها، وإنِ اجْتَمَعَ في واحِدٍ سَبَبانِ، كالغارِمِ الفَقِيرِ، دُفِعَ إليه لهما؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما سَبَبٌ للأخْذِ، فوَجَبَ أن يَثْبُتَ حُكْمُه حيثُ وُجِد. 1009 - مسألة: (ومَن كان ذا عِيالٍ أخَذَ ما يَكْفِيهم) لِما ذَكَرْنا. 1010 - مسألة: (ولا يُعْطَى أحَدٌ منهم مع الغِنَى، إلَّا أرْبَعَةٌ؛ العامِلُ، والمُؤلَّفُ، والغارِمُ لإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، والغازِى) يجوزُ للعامِلِ الأخْذُ مع الغِنَى، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّه يَأْخُذُ أجْرَ عَمَلِه، ولأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَل العامِلَ صِنْفًا غيرَ الفُقَراءِ والمَساكِينِ، فلا يُشْتَرَطُ وُجُودُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْناهُما فيه كما لا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَعْناه فيهما. وكذلك المُؤَلَّفُ يُعْطَى مع الغِنَى؛ لظاهِرِ الآيَةِ، ولأنَّه يَأْخُذُ لحاجَتِنا إليه، أشْبَهَ العامِلَ، ولأنَّهم إنَّما أُعْطُوا لأجْلِ التَّأْلِيفِ، وذلك يُوجَدُ مع الغِنَى. والغارِمُ لإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، والغازِى يَجُوزُ الدَّفْعُ إليهم مع الغِنَى. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ وصاحِباه: لا يُدْفَعُ إلَّا إلى الفَقِيرِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السلامُ: «أعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغنِيائِهِمْ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ» (¬1). فظاهِرُ هذا أَنَّها كلَّها تُرَدُّ في الفُقَراءِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٌّ (¬2) إلَّا لِخَمْسَةٍ؛ لِغَازٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ لِغَارِمٍ» (¬3). وذكر بَقِيتَّهَم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَل الفُقراءَ والمَساكِينَ صِنْفَيْنِ، وعَدَّ بعدَهما سِتَّةَ أصْنافٍ لم يَشْتَرِطْ فيهم الفَقْرَ، فيَجُوزُ لهم الأخْذُ مع الغِنَى بظاهِرِ الآيَةِ، ولأنَّ هذا يَأْخُذُ لحاجَتِنا إليه، أشْبَهَ العامِلَ والمُؤَلَّفَ، ولأنَّ الغارِمَ لإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ إِنَّما يُوثَقُ بضَمانِه، ويُقْبَلُ إذا كان مَلِيئًا، ولا ملاءَةَ مع الفَقْرِ، فإن أدَّى الغُرْمَ مِن مالِه، لم يكنْ له الأخْذُ مِن الزَّكاةِ؛ لأنَّه لم يَبْقَ غارِمًا، وإنِ اسْتَدانَ وأَدَّاها جاز له الأخْذُ؛ لبَقَاءِ الغُرْمِ. فصل: وخَمْسَةٌ لا يَأخُذُون إلَّا مع الحاجَةِ؛ وهم الفُقَراءُ، والمَساكِينُ، والمُكاتَبُ، والغارِمُ لمَصْلَحَةِ نَفْسِه في مُباحٍ، وابنُ السَّبِيلِ؛ لأنَّهم يأْخُذُون لحاجَتِهم لا لحاجَتِنا إليهم، إلَّا أنَّ ابنَ السَّبِيلِ إنَّما تُعْتَبَر حاجَتُه في مَكانِه وإن كان له مالٌ في بَلَدِه؛ لأنَّه الآن كالمَعْدُومِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كان الرجلُ غَنِيًّا وعليه دَيْنٌ لمَصْلَحَتِه لا يُطِيقُ قَضاءه، جاز أن يُدْفَعَ إليه ما يُتِمُّ به قَضاءَه مع ما زاد عن حَدِّ الغِنَى. فإذا قُلْنا: الغِنَى يَحْصُلُ بخَمْسِين دِرْهَمًا. وِله مائةٌ، وعليه مائةٌ. جاز أن يُعْطى خَمْسِين؛ ليُتِمَّ قَضاءَ المائةِ مِن غيرِ أن يَنْقُصَ غناؤُه. قال أحمدُ: لا يُعْطى مَن عندَه خَمْسون دِرْهمًا أو حِسابُها مِن الذَّهَبِ، إلَّا مَدِينًا فيُعْطى دَيْنَه. ومتى أمْكَنَه قَضاءُ الدَّيْنِ مِن غيرِ نَقْصٍ مِن الغِنَى، لم يُعْطَ شَيْئًا. وإن قُلْنا: إنَّ الغِنَى لا يَحْصُلُ إلَّا بالكِفايَةِ. وكان عليه دَيْنٌ إذا قَضاه لم يَبْقَ له ما يَكْفِيه، أُعْطِىَ ما يُتِمُّ به قَضاءَ دَيْنِه، بحيث يَبْقَى له قَدْرُ كِفايَتِه بعدَ قَضاءِ الدَّيْنِ على ما ذَكَرْنا. وإن قَدَر على قَضائِه مع بقاءِ الكِفايَةِ، لم يُدْفَعْ إليه شئٌ. وقد رُوِى عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا كان له مائتَان، وعليه مِثْلُها، لا يُعْطى مِن الزَّكاةِ؛ لأنَّ الغِنَى خَمْسُون دِرْهَمًا. وهذا يَدُلُّ على أنَّه اعْتَبَرَ في الدَّفْع إلى الغارِمِ كَوْنَه فَقِيرًا. وإذا أُعْطِىَ للغُرْمِ، وجَبَ صَرْفُه إلى قَضاءِ الدَّيْنِ، وإن أُعْطِىَ للفَقْرِ، جاز أن يَقْضِىَ به دَيْنَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أرادَ الرجلُ دَفْعَ زَكَاتِه إلى الغارِم، فله أن يُسَلّمَها إليه ليَدْفَعَها إك غَرِيمِه، فإن دَفَعَها إلى الغَرَيمِ قَضاءً عن الدَّيْنِ، ففيه عن أحمدَ رِوَايتانِ، إحْداهُما، يَجُوزُ ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ في ما نَقَل عنه أبو الحارثِ، قال: قلتُ لأحمدَ: رَجُلٌ عليه ألفٌ، وكان على رَجُلٍ زَكاةُ مَالِه ألفٌ، فأدَّاها عن هذا الَّذى عليه الدَّيْنُ، يَجُوزُ هذا مِن زَكَاتِه؟ قال: نعم، ما أرى بذلك بَأْسًا، لأنَّه دَفَع الزَّكاةَ في قَضاءِ دَيْنِ المَدِينِ، أشْبَهَ ما لو دَفَعَها إليه فقَضَى بها دَيْنَه. والثانيةُ، لا يَجُوزُ. قال أحمدُ: أحَبُّ إلىَّ أن يَدْفَعَه إليه، حتَّى يَقْضِىَ هو عن نَفْسِه. قِيلَ: هو مُحْتاجٌ يَخافُ أن يَدْفَعَه إليه، فيَأْكُلَه ولا يَقْضِىَ دَيْنَه. قال: فَقُلْ له يُوَكِّلُه حتَّى يَقْضِيَه. وظاهِرُ هذا أنَّه لا يَدْفَعُها إلى الغَريمِ إلَّا بوَكالَةِ الغارِمِ، لأنَّ الدَّيْنَ إنَّما هو على الغارِمِ، فلا يَصِحُّ قَضاوه إلا بتَوْكِيلِه. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ هذا على الاسْتِحْبابِ، ويكونُ قَضاؤُه عنه جائِزًا. وإن كان دافِعُ الزَّكاةِ الإِمامَ، جاز أن يَقْضِيَها عنه مِن غيرِ تَوْكِيلِه، لأنَّ للإِمامِ وِلايةَ عليه في إيفاءِ الدَّيْنِ، ولهذا يُجْبِرُه عليه إذا امْتَنَعَ منه.

1011 - مسألة: (وإن فضل مع الغارم والمكاتب والغازى وابن السبيل شئ بعد حاجتهم، لزمهم رده، والباقون يأخذون أخذا مستقرا، فلا يردون شيئا. وظاهر كلام الخرقى فى الم

وَإِنْ فَضَلَ مَعَ الْغَارِمِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْغَازِى وَابْنِ السَّبِيلِ شَىْءٌ بَعْدَ حَاجَتِهِمْ، لَزِمَهُمْ رَدُّهُ، وَالْبَاقُونَ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا يَرُدُّونَ شَيْئًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِىِّ في الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ يَأْخُذُ أيْضًا أخْذًا مُسْتَقِرًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1011 - مسألة: (وَإِنْ فَضَلَ مَعَ الْغَارِمِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْغَازِى وَابْنِ السَّبِيلِ شَىْءٌ بَعْدَ حَاجَتِهِمْ، لَزِمَهُمْ رَدُّهُ، وَالْبَاقُونَ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا يَرُدُّونَ شَيْئًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِىِّ في الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ يَأْخُذُ أيْضًا أخْذًا مُسْتَقِرًّا) أصْنافُ الزَّكاةِ قسمان؛ قسمٌ يَأْخُذُونَ أخْذا مُستَقِرًّا، فلا يُراعَى حَالُهم بعدَ الدَّفْع، وهم الفُقراءُ، والمَساكِينُ، والعامِلُون، والمُؤَلَّفَةُ، فمتى أخَذُوها مَلَكُوها مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، لا يَجبُ عليهم رَدُّها بِحَالٍ. وقِسْمٌ يَأْخُذُون أخْذًا مُراعًى، وهم أَرْبَعَةٌ؛ المُكاتَبُون، والغارِمُون، والغُزَاةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ السَّبِيلِ، فإن صَرَفُوه في الجِهَةِ التى اسْتَحَقُّوا الأخْذَ لأجْلِها، وإلَّا اسْتُرْجِعَ منهم. والفَرْقُ بينَ هذا القِسْمِ والذي قَبْلَه، أنَّ هؤلاء أخَذُوا لمَعْنًى لم يَحْصُلْ بأخْذِهم للزكاةِ، والقِسم الأوَّلُ حَصَل المَقْصُودُ بأخْذِهم، وهو غِنَى الفُقراءِ والمَساكِينِ، وتَألِيفُ المُؤَلَّفِين، وأداءُ أجْرِ العامِلِين. وإن قَضَى المذْكُورُون في القِسْمِ الثَّانِى حاجَتَهم، وفَضَل معهم فَضْلٌ رَدُّوا الفَضْلَ؛ لأنَّهم أخَذُوه لِلحاجَةِ، وقد زَالَتْ. وذَكَر الخِرَقِىُّ، في غيرِ هذا البابِ، أنَّ الغَازِىَ إذا فَضَل معه شئٌ بعدَ غَزْوِه، فهو له؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّنا دَفَعْنا إليه قَدْرَ الكِفايَةِ، وإنَّما ضَيَّقَ على نَفْسِه. وظاهِرُ قولِ الخِرَقِىِّ في المُكاتَبِ، أنَّه يأْخُذُ أخْذًا مُستَقِرًّا، فلا يَرُدُّ ما فَضَل؛ لأنَّه قال: وإذا عَجَز المُكاتَبُ، ورُدَّ في الرِّقِّ، وكان قد تُصُدِّقَ عليه بشئٍ، فهو لِسَيِّدِه. ونَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ المَرُّوذِىِّ والكَوْسَجِ. ونَقَل عنه حَنْبَلٌ، إذا عَجَز يَرُدُّ ما في يَدَيْه في المُكاتَبِين. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيز: إن كان باقِيًا بعَيْنِه اسْتُرْجِعَ منه؛ لأنَّه إنَّما دُفِع إليه ليَعْتِقَ به ولم يَقَعْ. وقال القاضى: كَلامُ الخِرَقِىِّ مَحْمُولٌ على أنَّ الَّذى بَقِىَ في يَدِه لم يكنْ عَيْنَ الزَّكاةِ، وإنَّما تَصَرَّفَ فيها، وحَصَل عِوَضُها وفائِدَتُها. ولو تَلِف المالُ الَّذى في يَدِ هؤلاء بغيرِ تَفرِيطٍ، لم يَرْجِعْ عليهم بشئٍ.

1012 - مسألة: (وإن ادعى الفقر من عرف بالغنى)

وَإذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ عُرِفَ بِالْغِنَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1012 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الفَقْرَ مَن عُرِفَ بالغِنَى) لم يُقْبَلْ قولُه إلَّا ببيِّنَةٍ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ المَسْألَةَ لَا تَحِلُّ لِأحَدٍ إلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِه، لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أو سِدَادًا

1013 - مسألة: (وإن ادعى أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل، لم يقبل)

أَوِ ادَّعَى إِنسَانٌ أَنَّهُ مُكاتَبٌ أوْ غارِمٌ أَوِ ابْنُ سَبِيلٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ عَيْشٍ». رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّ الأصْلَ بقاءُ الغِنَى، فلم يُقْبَلْ قولُه بمُجَرَّدِه فيما يُخَالِفُ الأَصْلَ. وهل يُعْتَبَرُ في البَيِّنةِ على الفَقْرِ ثَلَاثَةٌ، أَو يُكْتَفَى باثْنَين؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُكْتَفَى إلَّا بثَلاثَةٍ، لظَاهِرِ الخَبَرِ. والثانِى، يُقْبَلُ اثْنان؛ لأنَّ قَوْلَهما يُقْبَلُ في الفقْرِ بالنِّسْبَةِ إلى حُقُوقِ الآدَمِيِّين المَبْنِيَّةِ على الشُّحِّ والضِّيقِ، فمْى حَقِّ اللَّهِ تعالى أوْلَى، والخَبَرُ إنَّما وَرَد في حِلِّ المَسْألَةُ، فيُقْتَصَرُ عليه. 1013 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى أنَّه مُكاتَبٌ أو غارِمٌ أو ابنُ سَبِيلٍ، لم يُقْبَلْ) قولُه (إلَّا ببَيِّنةٍ) لأنَّ الأصْلَ عدمُ ما يَدَّعِيه، وبراءَةُ الذِّمَّةِ. فإنْ كان يَدَّعِى الغُرْمَ من جِهَةِ إصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، فالأمْرُ فيه ظاهِرٌ لا يَكادُ يَخْفَى، ويَكْفِى اشْتِهارُ ذلك، فإن خَفِىَ بر يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنةٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 219.

1014 - مسألة: (فإن صدق المكاتب سيده، أو الغارم غريمه، فعلى وجهين)

وَإنْ صَدَّقَ الْمُكَاتَبَ سَيِّدُهُ، أوِ الْغَارِمَ غَرِيمُهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1014 - مسألة: (فإنْ صَدَّقَ المُكاتَبَ سَيِّدُه، أوِ الغارِمَ غَرِيمُه، فعلى وَجْهَين) أحَدُهما، يُقْبَلُ، لأنَّ الحَقَّ في العَبْدِ لِسَيِّدِه، فإذا أقَرَّ بانْتِقالِ

1015 - مسألة: (وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى، قبل

وَإنِ ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْغِنَى، قُبِلَ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّه عنه قُبِلَ، ولأنَّ الغَرِيمَ إذا صَدَّقَ الغارِمَ ثَبَت عليه ما أقَرَّ به. والثانى، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ في أنَّه يُواطِئة ليَأْخُذَ المالَ به. 1015 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الفَقْرَ مَن لم يُعْرَفْ بالغِنَى، قُبِلَ

وَإنْ رَآهُ جَلْدًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، بَعْدَ أَنْ يُخبِرَه أنَّهُ لا حَظَّ فِيهَا لِغَنىٍّ وَلا لِقَوِىٍّ مُكتَسِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُه) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الغِنَى (فإنْ رآه جَلْدًا، وذَكَر أنَّه لا كَسْبَ له، أعْطاهُ مِن غيرِ يَمِينٍ، بعدَ أن يخْبِرَه أنَّه لا حَظَّ فيها لِغَنِىٍّ ولا لقَوِىِّ مُكْتَسِبٍ) إذا كان الرجلُ صَحِيحًا جَلْدًا، وذَكَرَ أنَّه لا كَسْبَ له، أُعْطِىَ مِن الزَّكاةِ، وقُبِلَ قولُه بغيرِ يَمِينٍ، إذا لم يُعْلَمْ كَذِبُه، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُعْطَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذيْن سَألاه، ولم يُحلِّفْهما، وفى بعضِ رِواياتِه، أنَّه قال: أتَيْنا النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَألْناهُ مِن الصَّدَقَةِ، فصَعَّدَ فينا النَّظَرَ، فرَآنا جَلْدَيْنِ، فقال: «إنْ شِئْتُمَا أعْطَيْتُكُمَا وَلَا حظَّ فِيهَا لِغَنِىٍّ، وَلَا لِقَوىٍّ مُكْتَسِبٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: وإنْ رآه مُتَجَمِّلًا قَبِلَ قولَه أيضًا؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن ذلك الغِنَى، بدَلِيلِ قولِه سبحانه: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ الْتَّعَفُّفِ} (¬2). لكنْ ينْبَغِى أن يُخْبِرَه أنَّها زَكاةٌ؛ لئَلَّا يكونَ ممَّن لا تَحِلُّ له. وإن رآه ظاهِرَ المَسْكَنةِ أعْطاهُ منها، ولم يَحْتَجْ أن يُبَيِّنَ له شَرْطَ جَوازِ الأخْذِ، ولا أنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 215. (¬2) سورة البقرة 273.

1016 - مسألة: (وإن ادعى أن له عيالا، قلد وأعطى)

وَإِنِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا، قُلِّدَ وَأُعْطِىَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَمَنْ غَرِمَ أَوْ سَافَرَ في مَعْصِيَةٍ، لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَابَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَدْفَعُه إليه زكاةٌ. قال أحمدُ، رَحِمه اللَّهُ، وقد سُئِل عن الرجلِ يَدْفَعُ زَكاتَه إلى رَجُلٍ: هل يقولُ له: هذه زَكاةٌ؟ فقال: يُعْطِيه ويَسْكُتُ، ولا يُقَرِّعُه. فاكْتَفَى بظاهِرِ حالِه عن السُّؤَالِ. 1016 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى أنَّ له عِيَالًا، قُلِّدَ وأُعْطِىَ) ذَكَرَه القاضى، وأبو الخَطّابِ، كما يُقَلَّدُ في دَعْوَى حاجَتِه. (ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) اختارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُهم، ولا يَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه، وفارَقَ ما إذا ادَّعَى أنَّه لا كَسْبَ له، لأنَّه يَدَّعِى ما يُوافقُ الأصْلَ، ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الكَسْبِ والمالِ، وَيَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه. 1017 - مسألة: (ومَن سَافَر أو غرِم في مَعْصِيَةٍ، لم يُدْفَعْ إليه) شَىْءٌ (فإنْ تاب، فعلى وَجْهَيْن) مَن غَرِم في مَعْصِيَةٍ، كالخَمْرِ، والزِّنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقِمارِ، والغِناءِ، ونحوِه، لم يُدْفَعْ إليه شئٌ قبلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّه إعانةٌ على المَعْصِيَةِ. وكذلك إذا سافَرَ في مَعْصِيَةٍ، فأرادَ الرُّجُوعَ إلى بَلَدِه، لا يُدْفَعُ إليه شئٌ قبلَ التَّوْبَةِ، لِما ذَكَرْنا. فإن تاب مِن المَعْصِيَةِ، فقال القاضى، وابنُ عَقِيلٍ: يُدْفَعُ إليه؛ لأنَّ إبْقاءَ (¬1) الدَّيْنِ في الذِّمَّةِ ليس مِن المَعْصِيَةِ، بل يَجِبُ تَفْرِيغُها، والإعانَةُ على الواجِبِ قُرْبَةٌ لا مَعْصِيَةٌ، فأشْبَهَ من أتْلَفَ مالَه في المَعاصِى حتَّى افْتَقَرَ، فإنَّه يُدْفَعُ إليه مِن سَهْمِ الفُقرَاءِ. والوجْهُ الثانى، لا يُدْفَعُ إليه؛ لأنَّه اسْتِدانَةٌ لِلمَعْصِيَةِ، فلم يُدْفَعْ إليه، كما لو لم يَتُبْ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ أن يَعُوذ إلى الاسْتِدَانَةِ لِلمَعاصِى ثِقَةً منه بأن دَيْنَه يُقْضَى، بخِلافِ من أتْلَفَ مالَه (¬2) في المَعاصِى، فإنَّه يُعْطى لِفَقْرِه لا لِمَعْصِيَتِه. وكذلك مَن سافَرَ إلى مَعْصِيَةٍ، ثم تاب أو أراد الرُّجوعَ إلى بَلَدهِ، ¬

(¬1) في م: «بقاء». (¬2) سقط من: م.

1018 - مسألة: (ويستحب صرفها فى الأصناف كلها. فإن اقتصر على إنسان واحد أجزأه. وعنه، لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف، إلا العامل، فإنه يجوز أن يكون واحدا)

وَيُسْتَحَبُّ صَرْفُهَا في الْأَصْنَافِ كُلِّها. فَإنِ اقْتَصَرَ عَلَى إنْسَانٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا ثَلَاثَة مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، إِلَّا الْعَامِلَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ الدَّفْعُ إليه، في أحدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّ رُجُوعَه، ليس بمَعْصِيَةٍ، أشْبَهَ غيرَه، بل ربَّما كان رُجوعُه إلى بَلَدِه تَرْكًا للمَعْصِيَةِ، وإقْلاعًا عنها، كالعَاقِّ يُرِيدُ الرُّجوعَ إلى أَبَوَيْه. والوجْهُ الثانى، لا يُدْفَعُ إليه، لأنَّ سبَبَ ذلك المَعْصِيَةُ، أشْبَهَ الغارِمَ في المَعْصِيَةِ. 1018 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ صَرْفُها في الأصْنافِ كلِّها. فإنِ اقْتَصَرَ على إنسانٍ واحِدٍ أجْزَأه. وعنه، لَا يُجْزِئُه إلَّا ثَلاثَةٌ مِن كلِّ صِنْفٍ، إلَّا العامِلَ، فإنَّه يَجُوزُ أنْ يَكُونَ واحِدًا) يُسْتَحَبُّ. صَرْفُ الزَّكاةِ إلى جَمِيعِ الأصْنافِ، أو إلى مَن أمْكَنَ منهم، لأنَّه يَخْرُجُ بذلك مِن الخِلَافِ، ويَحْصُلُ الإِجْزاءُ يَقِينًا. فإنِ اقْتَصَرَ على إنْسانٍ واحِدٍ أجْزَأه. وهذا قولُ عُمَرَ، وحُذَيْفَةَ، وابنِ عَبَّاسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والحسنُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطَاءٌ. وإليه ذَهَب الثَّوْرِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصحابُ الرَّأْى. ورُوِىَ عن النَّخَعِىِّ: إن كان المالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الأصْنافَ قَسَمَه عليهم، وإن كان قَلِيلًا، جاز وَضْعُه في صِنْفٍ وَاحِدٍ. وقال مالكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الحاجَةِ منهم، ويُقَدِّمُ الأُوْلَى فالأَوْلَى. وقال عِكْرِمَةُ، والشافعىُّ: يَجِبُ أن يَقْسِمَ زَكاةَ كلِّ صِنْفٍ مِن مالِه على المَوْجُودِين مِن الأصْنافِ السِّتَّةِ الذين سُهْمانُهم ثابِتَةٌ، قِسْمَةً على السَّواءِ، ثمِ حِصَّةَ كُلِّ صِنْفٍ منهم، لا تُصْرَف إلى أقَلَّ من ثَلاثَةٍ [إنْ وَجَد منهم ثَلاثَةً] (¬1) أو أكْثَرَ، فإن لم يَجِدْ إلَّا واحدًا صَرَف حِصَّةَ ذلك الصِّنْفِ إليه. وروَى الأثْرَمُ ذَلك عن أحمدَ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى جَعَل الصَّدَقَةَ لِجَميعِهم، وشَرَّكَ بينَهم فيها، فلم يَجُزْ الاقْتِصارُ على بَعْضِهم، كأهْلِ الخُمْسِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعَاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «أعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 271. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 292.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَذْكُرْ في الآيَةِ والخَبَرِ إلَّا صِنْفًا واحِدًا. وأمَر بَنِى زُرَيقٍ بدَفْعِ صَدَقَتِهم إلى سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ (¬1). وقال لقَبِيصَةَ: «أقِمْ يا قَبِيصَةُ، حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» (¬2). ولو وَجَب صَرْفُها إلى جَمِيعِ الأصْنافِ لم يَجُزْ صَرْفُها إلى واحِدٍ، ولأنَّه لا يَجِبُ صَرْفُها إلى جَمِيعِ الأصْنافِ إذا فَرَّقَها السّاعِى، فكذلك المالِكُ، ولأنَّه لا يَجِبُ عليهم تَعْمِيمُ أهْلِ كلِّ صِنْفٍ بها، فجاز الاقْتِصارُ على واحِدٍ، كما لو وَصَّى لجَماعَةٍ لا يُمْكِنُ حَصْرُهم. ويُخَرَّجُ على هذَيْن المَعْنَيَيْنِ الخُمْسُ، فإنَّه يَجِبُ على الإِمامِ تَفْرِيقُه على جَمِيعِ مُسْتَحِقِّيه، بخِلافِ الزَّكاةِ. وهذا الَّذى اختَرْناه هو الَّلائِقُ بحِكْمَةِ الشَّرْعِ وحُسْنِه، إذ غيرُ جائِزٍ أن يُكَلِّفَ اللَّهُ سبحانه وتعالى ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 513. والترمذى، في: باب ما جاء في كفارة الظهار، من أبواب الطلاق، مختصرا، وفى: باب من سورة المجادلة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 5/ 178، 179، 12/ 185، 186. وابن ماجه، في: باب الظهار، ومختصرًا في: باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 665، 666. والدارمى، في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 163، 164. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 37. ومختصرا في 5/ 436. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 219.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن وجَبَتْ عليه شاةٌ أو صاعٌ مِن البُرِّ، أو نِصْفُ مِثْقالٍ، دَفْعَه إلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ نَفْسًا، أو إحدى وعِشْرِين نَفْسًا، أو أرْبَعَةٍ وعِشْرِين، مِن ثَمانِيَةِ. أصْنافٍ، لكلِّ ثَلَاثَةٍ منهم ثُمُنُها، الغالِبُ تَعَذُّرُ وُجُودِهم في الإِقْليمِ العظيمِ، فكيف يُكَلِّفُ اللَّهُ تعالى كلَّ مَن وجَبَتْ عليه زَكاةٌ جَمْعَهم وإعْطاءَهم، وهو سبحانه القائلُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2). وأظُنُّ مَن قال بوُجُوبِ دَفْعِها على هذا الوَجْهِ إنَّما يقولُه بلِسانِه، ولا يَفْعَلُه، ولا يَقْدِرُ على فِعْلِه، وما بَلَغَنَا أنَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل هذا في صَدَقَةٍ مِن الصَّدَقاتِ، ولا أحَدٌ مِن خُلَفَائِه، ولا مِن صَحَابَتِه، ولا غيرِهم، ولو كان هذا هو الواجِبَ في الشَّرِيعَةِ المُطَهَرَةِ لَما أغْفَلُوه، ولو فَعَلُوه مع مَشَقَّتِه لنُقِلَ ولَما أُهْمِلَ، إذ لا يَجُوزُ على أهْلِ التَّوَاتُرِ إهْمالُ نَقْلِ ما تَدْعُو الحاجَةُ إلى نَقْلِه، [سِيَّما مع كَثْرَةِ] (¬3) مَن تَجِبُ عليهم الزكاةُ، ووُجُودِ ذلك في كلِّ زَمانٍ، في كلِّ مِصْرٍ (¬4) وبَلَدٍ، وهذا أمْرٌ ظاهِرٌ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، والآيَةُ إنَّما سِيقَتْ لبَيانِ مَن يَجُوزُ الصَّرْفُ إليه، ¬

(¬1) سورة الحج 78. (¬2) سورة البقرة 185. (¬3) في م: «لا سِيّمْا من كثرة». (¬4) في م: «عصر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا لإِيجابِ الصَّرْفِ إلى الجَمِيعِ؛ بدَلِيلِ أنَّه لا يَجِبُ تَعْمِيمُ كلِّ صِنْفٍ بها، فأمَّا العامِلُ، فإنَّه يَجُوزُ أن يكونَ واحِدًا؛ لأنَّه إنَّما يَأخُذُ أجْرَ عَمَلِه، فلم تَجُزِ الزِّيادَةُ عليه مع الغَناءِ عنه، ولأنَّ الرجلَ إذا تَوَلَّى إخْراجَها بنَفْسِه سَقَط سَهْمُ العامِلِ لعَدَمِ الحاجَةِ إليه، فإذا جاز تَرْكُهم بالكُلِّيَّةِ، جاز الاقْتِصَارُ على بَعْضِهم بطرَيقِ الأُوْلَى. فصل: وقد ذَكَرْنا أنَّه يُسْتَحَبُّ تَفْرِيقُها على مَن أمْكَنَ مِن الأصْنافِ، وتَعْمِيمُهم بها. فإن كان المُتَوَلِّى لتَفْرِيقِها السّاعِىَ، اسْتُحِبَّ إحْصاءُ أهْلِ السُّهْمَانِ مِن عَمَلِه، حتى يكونَ فَراغُه مِن قَبْضِ الصَّدَقاتِ بعدَ تَناهِى أسْمائِهم وأنْسابِهم وحاجاتِهم وقَدْرِ كِفاياتِهم؛ ليكونَ تَفْرِيقُه عَقِيبَ جَمْعِ الصَّدَقَةِ. ويَبْدَا بإعْطاءِ العامِلِ؛ لأنَّه يَأْخُذُ على وَجْهِ المُعاوَضَةِ،

1019 - مسألة: (ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم، وتفريقها فيهم على قدر حاجتهم)

وَيُسْتَحَبُّ صَرْفُهَا إِلَى أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ، وَتَفْرِيقُهَا فِيهِمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان اسْتِحْقَاقُه أوْلَى، ولذلك إذا عَجَزَتِ الصَّدَقَةُ عن أجْرِه، تُمِّمَ له (¬1) مِن بَيْتِ المالِ، ولأنَّ ما يَأْخُذُه أجْرٌ، وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أعْطُوا الأجِيرَ أجْرَهُ قَبْلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» (¬2). ثم الأهَمِّ فالأهَمِّ، وأهَمُّهم أشَدُّهم حاجَة، ويُعْطِى كلَّ صِنْفٍ قَدْرَ كِفايَتِه على ما ذَكَرْنا، فإن فَضَلَتْ عن كِفايَتِهم نَقَل الفاضِلَ إلى أقْرَبِ البِلادِ إليه، وإن نَقَصَتْ أعْطى كلَّ إِنْسانٍ منهم ما يَرَى. 1019 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ صَرْفُها إلى أقارِبِه الذين لا تَلْزَمُه مُؤْنَتُهم، وتَفْرِيقُها فيهم على قَدْرِ حاجَتِهم) إذا تَوَلَّى الرجلُ تفريقَ زَكاتِه، اسْتُحِبَّ أن يَبْدَا بأقارِبِه الذين يَجُوزُ الدَّفْعُ إليهم، لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَدَقَتُكَ عَلَى ذِى الْقَرَابَةِ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ». رَواه الترمذِىُّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب أجر الأجراء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 817.

1020 - مسألة: (ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه، وإلى غريمه)

وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى مُكَاتَبِهِ، وَإِلَى غَرِيمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّسائِىُّ (¬1). ويَخُصُّ ذوى الحاجَةِ؛ لأنَّهم أحَقُّ، فإنِ اسْتَوَوْا في الحاجَةِ، فأوْلاهم أقْرَبُهم نَسَبًا. 1020 - مسألة: (ويَجُوزُ للسَّيِّدِ دَفْعُ زَكاتِه إلى مُكاتَبِه، وإلى غَرِيمِه) يَجُوزُ للسَّيِّدِ دَفْعُ زَكاتِه إلى مُكاتَبِه في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ؛ لأنَّه صار معه في بابِ المُعامَلَةِ كالأجْنَبِىِّ، يَجْرى بينَهما الرِّبا، فهو كالغَرِيمِ يَدْفَعُ زَكاتَه إلى غَرِيمِه، ويَجُوزُ للمُكاتَبِ رَدُّها إلى سَيِّدِه بحُكْمِ الوَفاءِ؛ [لأنَّها رَجَعَتْ إليه بحُكْمِ الوَفاءِ] (¬2)، أشْبَهَ إيفاءَ الغَرِيمِ دَيْنَه بها. ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الصدقة على ذى القرابة، من أبواب الصدقات. عارضة الأحوذى 3/ 160. والنسائى، في: باب الصدقة على الأقارب، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 69. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب فضل الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 591، والدارمى، في: باب الصدقة على الأقارب، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 397. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 17، 18، 214. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عَقِيلٍ: ويَجُوزُ دَفْعُ الزَّكاةِ إلى سَيِّدِ المُكاتَبِ وَفاءً عن دَيْنِ الكِتابَةِ. وهو الأُوْلَى؛ لأنَّه أعْجَلُ لعِتْقِه، وأوْصَلُ إلى المَقْصُودِ الذى كان الدَّفْعُ مِن أجْلِه، لأنَّه إذا أخَذَه المُكاتَبُ قد يَدْفَعُه وقد لا يَدْفَعُه. ونَقَل حَنْبَلٌ، عن أحمدَ، أنَّه قال: قال سُفْيان: لا تُعْطِ مُكاتَبًا لك مِن الزَّكاةِ. قال: وسَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقولُ: وأنا أرَى مثلَ ذلك. قال الأثْرَمُ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّه يُسْأل: يُعْطىَ المُكاتَبُ مِن الزَّكاةِ؟ قال: المُكاتَبُ بمَنْزِلَةِ العَبْدِ، وكيف يُعْطَى؟ ومَعْناه، واللَّهُ أعلمُ، لا يُعْطِى مُكاتَبَه مِن الزَّكاةِ؛ لأنَّه عَبْدُه ومالُه، يَرْجِعُ إليه إن عَجَز، وإن عَتَق فله وَلاؤُه، ولأنَّه لا تُقْبَلُ شَهادَتُه لمُكاتَبِه، ولا شهادَةُ مُكاتَبِه له، فلم يُعْطَ مِن زَكاتِه، كوَلَدِه. وكذلك يَجُوزُ للرجلِ دَفْعُ زَكاتِه إلى غَرِيمِه؛ لأنَّه مِن جُمْلَةِ الغارِمِين، فإن رَدَّه إليه الغارِمُ، فله أخْذُه. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ مُهَنَّا؛ لأنَّ الغَرِيمَ قد مَلَكَه بالأخْذِ، أشَبَهَ ما لو وَفَّاه مِن مالٍ آخرَ. وإن أسْقَطَ الدَّيْنَ عن الغريمِ وحَسَبَه زكاةً، لم تَسْقُطْ عنه الزكاةُ؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بأدائِها، وهذا إسْقاطٌ. قال مُهَنَّا: سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن رجل له على رِجلٍ دَيْنٌ برَهْنٍ، وليس عندَه قَضاؤُه، ولهذا الرجلِ زكاةُ مالٍ يُرِيدُ أن يُفرِّقَها على المَساكِينِ، فيَدْفَعُ إليه رَهْنَه، ويقولُ له: الدَّيْنُ الذى عليك هو لك.

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى كَافِرٍ، وَلَا عَبْدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْسُبُه مِن زكاةِ مالِه؟ قال: لا يُجْزِئُه ذلك. فقلتُ له: فيَدْفَعُ إليه زَكاتَه، فإن رَدَّه إليه قَضاءً مِن مالِه، له أخْذُه؟ قال: نعم. وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ، وقِيلَ له: فإن أعْطاه، ثم رَدَّه إليه؟ قال: إذا كان بحِيلَةٍ، فلا يُعْجِبُنِى. قِيلَ له: فإنِ اسْتَقْرَضَ الذى عليه الدَّيْنُ دَراهِمَ، فقَضاه إيّاها، ثم رَدَّها عليه، وحَسَبَها مِن الزَّكاةِ؟ قال: إذا أراد بهذا إحْياءَ مالِه، فلا يَجُوزُ. فحَصَلَ مِنِ كَلامِه أنَّ دَفْعَ الزَّكاةِ إلى الغَرِيمِ جائِزٌ، سَواءٌ دَفَعَها ابْتِداءً، أو اسْتَوْفَى حَقَّه ثم دَفَع ما اسْتَوْفاه إليه، إلَّا أنَّه متى قَصَد بالدَّفْعِ إحْياءَ مالِه واسْتِيفاءَ دَيْنِه، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الزَّكاةَ لحقِّ اللَّهِ تعالى، فلا يَجُوزُ صَرْفُها إلى نَفْعِه. واللَّهُ أعلمُ. فصل: قال، رَحِمَه اللَّهُ: (ولا يَجُوزُ دَفْعُها إلى كافِرٍ، ولا عَبْدٍ،

وَلَا فَقِيرَةً لَهَا زَوْجٌ غَنِىٌّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا فَقِيرَةٍ لها زَوْجٌ غَنِىٌّ) قال الشَّيْخُ (¬1)، رَحِمَه اللَّهُ: لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهْلِ العلمِ في أنَّ زَكاةَ المالِ لا تُعْطَى لكافِرٍ ولا لمَمْلُوكٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العلمِ أنَّ الذِّمِّىَّ لا يُعْطى مِن زَكاةِ الأمْوالِ شيئًا. وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعَاذٍ: «أعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِم، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ» (¬2). فخَصَّهم بصَرْفِها إلى فُقَرائِهم، كما خَصَّهم بوُجُوبِها على أغْنِيائِهم، ولأنَّ المَمْلُوكَ لا يَمْلِكُ ما يُدفَعُ إليه، وإنَّما يَمْلِكُه سيِّدُه، فكأنَّه دَفَع إلى السَّيِّدِ، ولأنَّه تَجِبُ نَفَقَتُه على السَّيِّدِ، فهو غَنِىٌّ بغِناه. ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 106. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إلَّا أن يكونَ الكَافِرُ مُؤَلَّفًا قَلْبُه، فيَجُوزُ الدَّفعُ إليه. وكذلك إن كان عامِلًا، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه. وكذلك العَبْدُ إذا كان عامِلًا، يجوزُ أن يُعْطَى مِن الزَّكاةِ أجْرَ عَمَلِه، وقد مَضَى ذِكْرُ ذلك (¬1). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والفَقِيرَةُ إذا كان لها زَوْجٌ غَنِىٌّ يُنْفِقُ عليها، لم يَجُزْ دَفْعُ الزَّكاةِ إليها؛ لأنَّ الكِفايَةَ حاصِلَة لها بما يَصِلُها مِن النَّفَقَةِ الواجِبَةِ، فأشْبَهَتْ مَن له عَقارٌ يَسْتَغْنِى بأُجْرَتِه. وإن لم يُنْفِقْ عليها، وتَعَذَّرَ ذلك، جاز الدَّفْعُ إليها، كما لو (¬1) تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ العَقارِ. وقد نَصَّ أحمدُ على هذا. ¬

(¬1) سقط من: م.

1021 - مسألة: (ولا)

وَلَا الْوَالِدَيْنِ وَإنْ عَلَوْا، وَلَا الْوَلَدِ وَإنْ سَفَلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1021 - مسألة: (ولا) إلى (الوالِدَيْن وإن عَلَوْا، ولا) إلى (الوَلَدِ وإن سَفَل) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ الزَّكاةَ لا يَجُوزُ دَفْعُها إلى الوالِدَيْن، في الحالِ التى يُجْبَرُ الدَّافِعُ إليهم على النَّفَقَةِ عليهم، ولأنَّ دَفْعَ زَكاتِه إليهم يُغْنِيهم عن نَفَقَتِه، ويُسقِطُها عنه، فيَعودُ نَفْعُها إليه، فكأنَّه دَفَعَها إلى نَفْسِه، فلم يَجُزْ، كما لو قَضَى بها دَيْنَه. وأراد المُصَنِّفُ بالوالِدَيْن الأبَ والأُمَّ. وقولُه: (وإن عَلَوْا) يَعْنِى آباءَهما وأُمَّهاتِهما، وإنِ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهم مِن الدَّافِع، كأبَوَىِ الأبِ، وأبَوَىِ الأُمِّ، مَن يَرِثُ منهم ومَن لا يَرِثُ. وقولُه: (ولا إلى الوَلَدِ وإن سَفَل) يَعْنِى وإن نَزَلَتْ دَرَجَتُه مِن أوْلادِ البَنِين وأولادِ البَناتِ، الوارِثِ وغيرِه.

1022 - مسألة؛ قال: (ولا إلى الزوجة)

وَلَا إِلَى الزَوْجَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نصَّ عليه أحمدُ، فقال: لا يُعْطِى الوالِدَيْن مِن الزَّكاةِ، ولا الوَلَدَ، ولا وَلَدَ الوَلَدِ، ولا الجَدَّ ولا الجَدَّةَ، ولا وَلَدَ البِنْتِ، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ ابْنِى هذَا سَيِّدٌ» (¬1). يَعْنِى الحسنَ، فجَعَلَه ابْنَه؛ لأنَّه مِن عَمُودَىْ نَسَبِه، فأشْبَهَ الوارِثَ، ولأنَّ بينَهما قَرابَةً جُزْئِيَّةً وبَعْضِيَّةً، بخِلافِ غيرِهما. 1022 - مسألة؛ قال: (ولا إلى الزَّوْجَةِ) وذلك إجْماعٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ الرجلَ لا يُعْطِى زَوْجَتَه مِن الزَّكاةِ؛ وذلك لأن نَفَقَتَها واجِبَةٌ عليه، فتَسْتَغْنِى بها عن أخْذِ الزَّكاةِ، فلم يَجُزْ دَفْعُها إليها، كما لو دَفَعَها إليها على سَبِيلِ الإِنْفاقِ عليها. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن. . .، من كتاب الصلح، وفى: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب، وفى: باب الحسن والحسين، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن. . .، من كتاب الفتن. صحيح البخارى 3/ 244، 4/ 249، 5/ 32، 9/ 71. وأبو داود، في: أول كتاب المهدى، وفى: باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 423، 519. والترمذى، في: باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 194. والنسائى، في: باب مخاطبة الإمام رعيته وهو على المنبر، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 88. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 38، 44، 47، 51.

1023 - مسألة: (ولا لبنى هاشم، ولا مواليهم)

وَلَا لِبَنِى هَاشِم، وَلَا مَوَالِيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1023 - مسألة: (ولا لبَنِى هاشمٍ، ولا مَوالِيهم) لا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّ بَنِى هَاشِم لا تَحِلُّ لهم الصَّدَقَةُ المَفْرُوضَةُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِى لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّما هِىَ أوْسَاخُ النَّاسِ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: أخَذَ الحَسَنُ تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كِخْ كِخْ». لِيَطْرَحَها، وقال: «أمَا شَعَرْتَ أنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وسَوَاءٌ أُعْطوا مِن خُمْسِ الخُمْسِ، أو لم يُعْطوْا؛ لعُمُومِ النُّصُوصِ، ولأنَّ مَنْعَهم مِن الزَّكاةِ لشَرَفِهم، وشَرَفُهم باقٍ، فيَبْقَى المَنْعُ، فإن أُعْطُوا منها لغَزْوٍ أو حَمالَةٍ، جاز ذلك، ذَكَرَه شيخُنا (¬2). وإن كان الهاشِمِىُّ عامِلًا، أو غارِمًا، لم يُجزِئْه الأخْذُ في أظْهَرِ الوَجْهَيْن، وقد ذَكَرْنا ذلك (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يذكر في الصدقة للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة، وفى: باب من تكلم بالفارسية والرطانة. . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 157، 4/ 90. ومسلم، في: باب تحريم الزكاة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 751، كما أخرجه الدارمى، في: باب الصدقة لا تحل للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا لأهل بيته، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 387. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 409، 410، 444، 476. (¬2) انظر المغنى 4/ 112. (¬3) انظر ما تقدم في صفحة 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ مَوَالِيهم حُكْمُهم عندَ أحمدَ، رَحِمَه اللَّه. وقال أكْثَرُ أهْلِ العِلْم: يَجُوزُ الدَّفْعُ إليهم؛ لأنَّهم لَيْسُوا بقَرابَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يُمْنَعُوا الصَّدَقَةَ، كسائِرِ النَّاسِ. ولَنا، ما روَىْ أبو رافِعٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث رجلًا مِن بَنِى مَخْزُومٍ على الصَّدَقَةِ، فقال لأبى رافِعٍ: اصْحَبْنِى كَيْما تُصِيبَ منها. فقال: لا، حتى آتِىَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأسْألَه. فانْطَلَقَ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسَأَلَه، فقال: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقةُ، وَإنَّ مَوَالِىَ القَوْمِ مِنْهُمْ». أخرَجَه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمذِىُّ (¬1)، وقال: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الصدقة على بنى هاشم، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 384. والنسائى، في: باب مولى القوم فهم، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 80. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 158، 159. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 8، 9، 10، 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّهم ممَّن يَرِثُه بنو هاشِم بالتَّعْصِيبِ، فلم يَجُزْ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إليهم، كبَنِى هاشِمٍ. وقولُهم: إنَّهم لَيْسُوا بقَرابَةٍ. قُلْنا: هم بمَنْزِلَةِ القرابَةِ، بدَلِيلِ قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» (¬1). ويَثْبُتُ فيهم حُكْمُ القَرابَةِ مِن الإِرْثِ والعَقْلِ والنَّفَقَةِ، فلا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فيهم. فصل: وروَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه عن ابْنِ أبى مُلَيْكَةَ، أنَّ خالِدَ بنَ سَعِيدِ ابن العاصِ بَعَث إلى عائشةَ سُفْرَةً مِن صَدَقَةٍ، فرَدَّتْها، وقالت: إنَّا آل محمدٍ لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ (¬2). وهذا يَدُلُّ على تَحْرِيمِها على أزْوَاجِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من أعتق مملوكا له، من كتاب الولاء. السنن الكبرى 10/ 292. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال لا تحل الصدقة على بنى هاشم، من كتاب الزكاة. المصنف 3/ 214.

1024 - مسألة: (ويجوز لبنى هاشم الأخذ من صدقة التطوع، ووصايا الفقراء، والنذر. وفى الكفارة وجهان)

وَيَجُوزُ لِبَنِى هَاشِمٍ الأَخْذُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَوَصَايَا الْفُقَرَاءِ، وَالنَّذْرِ. وَفِى الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 1024 - مسألة: (ويَجُوزُ لبَنِى هاشِمٍ الأخْذُ مِن صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، ووَصايا الفُقَراءِ، والنَّذْرِ. وفى الكَفّارَةِ وَجْهان) قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، في رِوايَةِ ابنِ القاسِمِ: إنَّما لا يُعْطَوْن مِن الصَّدَقَةِ المَفْرُوضَةِ، فأمّا التَّطَوُّعُ فلا. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّهم يُمْنَعُون مِن الصَّدَقَةِ التَّطوُّعِ أيضًا؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلامُ: «إنَّا لَا تَحِل لَنَا الصَّدَقَةُ» (¬1). والأوَّلُ أظْهَرُ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ صَدَقَةٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (¬2). وقال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬3) ولا خلافَ في إباحَةِ إيصالِ المَعْرُوفِ إلى الهاشِمِىِّ، والعَفْوِ عنه، وإنْظارِه. وقال إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} (¬4). والخبرُ أُرِيدَ به صَدَقَةُ الفَرْضِ؛ لأنَّ الطَّلَبَ كان لها، والألِفُ واللَّامُ تَعُودُ إلى المَعْهُودِ. وروَى جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه (¬5)، أنَّه كان يَشْرَبُ مِن سِقاياتٍ بينَ مكةَ والمَدِينَةِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كل معروف صدقة، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 13. ومسلم، في: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 697. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المعونة للمسلم، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 584. والترمذى، في: باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر، من أبواب البر. عارضة الأحوذى 8/ 146. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 344، 360، 4/ 307، 5/ 383، 397، 398، 405. (¬2) سورة المائدة 45. (¬3) سورة البقرة 280. (¬4) سورة يوسف 88. (¬5) بعده في م: «عن جده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقلتُ له: أتَشْرَبُ مِن الصَّدَقَةِ؟ فقال: إنَّما حُرِّمَتْ علينا الصَّدَقَةُ المَفْرُوضَةُ (¬1). ويَجُوزُ أن يَأْخُذُوا مِن الوَصايَا للفُقَراءِ، ومِن النُّذُورِ؛ لأنَّهما تَطَوُّعٌ، فأشْبَهَ ما لو وَصَّى لهم. وفى الكَفَّارَةِ وَجْهان؛ أحَدُهما، يجوزُ؛ لأنَّها ليست بزكاةٍ، ولا هى أوْساخُ الناسِ، فأشْبَهَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. والثانِى، لا يجوزُ؛ لأنَّها واجِبَة لإِيجابِه على نَفْسِه، أشْبَهَتِ الزَّكاةَ. ولو أهْدَى المِسْكِينُ ممَّا تُصُدِّقَ به عليه إلى الهاشِمِىِّ، حَلَّ له؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أكَل ممّا تُصُدِّقَ به على أُمِّ عَطِيَّةَ، وقال: «إنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فصل: وِكُلُّ مَن حُرِم صَدَقَةَ الفَرْضِ مِن الأغْنِياءِ، وقَرابَةِ المُتَصَدِّقِ، والكافِرِ، وغيْرِهم، يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إليهم، ولهم أخْذُها، قال اللَّهُ تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتيمًا وَأسِيرًا} (¬3). ¬

(¬1) أخرج البيهقى آخره، في: باب لا تحرم على آل محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقة التطوع، من كتاب الصدقات. السنن الكبرى 7/ 32. بدون إسناد، حيث قال: روى عن أبى جعفر محمد بن على أنه قال. . . (¬2) أخرجه البخارى، في: باب إذا تحولت الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب قبول الهدية، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 2/ 158، 3/ 204. ومسلم، في: باب إباحة الهدية للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 755. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 407، 408. (¬3) سورة الإنسان 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يكنِ الأسِيرُ يَوْمَئِذٍ إلَّا كافِرًا. وعن أسماءَ بنتِ أبى بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قالت: قَدِمَتْ علىِّ أُمِّى وهى مُشْرِكَةٌ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّى قَدِمَت علىَّ وهى راغِبَة، أفأصِلُها؟ قال: «نعم، صِلِى أُمَّكِ» (¬1). وكَسا عُمَرُ أخًا له مُشْرِكًا حُلَّةً كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطاه إيّاها (¬2). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لسَعْدٍ: «إنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى أهْلِكَ صَدَقَةٌ، وإنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأتُكَ صَدَقَة». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الهدية للمشركين، من كتاب الهبة، وفى: باب حدثنا عبدان، من كتاب الجزية، وفى: باب صلة المرأة أمها ولها زوج، وباب صلة الوالد المشرك، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 3/ 215، 4/ 126، 8/ 5. ومسلم، في: باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين. . .، من كتاب الزكاة 2/ 696. وأبو داود، في: باب الصدقة على أهل الذمة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 388. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 344، 347، 355. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب يلبس أحسن ما يجد، من كتاب الجمعة، وفى: باب هدية ما يكره لبسها، وباب الهدية للمشركين من كتاب الهبة. صحيح البخارى 2/ 4، 5، 3/ 213، 215. ومسلم، في: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال. . .، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1638. وأبو داود، في: باب اللبس للجمعة، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 247. والنسائى، في: باب الهيئة للجمعة، من كتاب الجمعة، وفى: باب ذكر النهى عن لبس السيراء، من كتاب الزينة. المجتبى 3/ 78، 8/ 173. والإمام مالك، في: باب ما جاء في لبس الثياب، من كتاب اللباس. الموطأ 7/ 917، 918. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 103. (¬3) أخرجه البخارى، في باب رثى النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن خولة، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 103، ومسلم، في: باب الوصية بالثلث، من كتاب الوصايا. صحيح مسلم 3/ 1253. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فالظَّاهِرُ أنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَها كانت مُحَرَّمَةً عليه، فَرْضَها ونَفْلَها؛ لأنَّ اجْتِنابَها كان مِن دَلائِلِ نُبُوَّتِه، فلم يكنْ ليُخِلَّ بذلك، بدَلِيلِ أنَّ في حديثِ سَلْمانَ الفارِسِىِّ، أنَّ الذى أخْبَرَه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ووَصَفَه له، قال: إنَّه يَأْكلُ الهَدِيَّةَ، ولا يَأْكلُ الصَّدَقَةَ (¬1). وقال أبو هُرَيْرَةَ: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أُتِى بطَعامٍ سأل عنه؟ فإن قِيلَ: صَدَقَةٌ. قال لأصحابِه: «كُلُوا». ولم يَأْكلْ، وإن قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَب بيَدَيْه، وأكل معهم. أخْرَجَه البخارىُّ (¬2). وقال في لَحْمٍ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يذكر في الصدقة للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة، وفى: باب قبول الهبة، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 2/ 157، 3/ 203. ومسلم، في: باب قبول النبى الهدية ورده للصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 756. والترمذى في: باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهل بيته ومواليه، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 157. والنسائى، في: باب الصدقة لا تحل للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 81. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 302، 305، 338، 406، 492، 3/ 490، 5/ 442. (¬2) في: باب قبول الهدية، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 3/ 203. كما أخرجه مسلم، في: باب قبول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- الهدية ورده الصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 756. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 302، 305، 338، 406، 492.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُصُدِّقَ به على بَرِيرَةَ (¬1): «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» (¬2). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أشْرَفَ الخَلْقِ، وكان له مِن المَغانِمِ خُمْسُ الخُمْسِ والصَّفِىُّ فحُرِمَ نَوْعَىِ الصَّدَقَةِ، فَرْضَها ونَفْلَها، والُه دُونَه في الشَّرَفِ، ولهم خُمْسُ الخُمْسِ وَحْدَه، فحُرِمُوا أحَدَ نَوْعَيْها، وهو الفَرْضُ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لم تكنْ مُحَرَّمَةً عليه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، إن شْاء اللَّهُ تعالى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ. واللَّهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) بريرة: مولاة عائشة أم المؤمنين، رضى اللَّه عنها. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الصدقة على موالى أزواج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، وباب إذا تحولت الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب قبول الهدية، من كتاب الهبة، وفى: باب الحرة تحت العبد، من كتاب النكاح، وفى: باب لا يكون بيع الأمة طلاقا، وباب حدثنا عبد اللَّه بن رجاء، من كتاب الطلاق، وفى: باب الأدْم، من كتاب الأطعمة، وفى: باب الولاء لمن أعتق وميراث اللقيط، من كتاب الفرائض. صحيح البخارى 2/ 158، 3/ 203، 7/ 11، 61، 62، 100، 8/ 191. ومسلم، في: باب إباحة الهدية للنبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة، وفى: باب إنما الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 755، 1143 - 1145. وأبو داود، في: باب الفقير يُهدى للغنى من الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 385. والنسائى، في: باب إذا تحولت الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب خيار الأمة، وباب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، من كتاب الطلاق، وفى: باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، من كتاب العمرى، وفى: باب البيع يكون فيه الشرط الفاسد، من كتاب البيوع. المجتبى 5/ 81، 6/ 132، 133، 135، 237، 7/ 264. وابن ماجه، في: باب خيار الأمة إذا أعتقت، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 671. والدارمى، في: باب في تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 169. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الخيار، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 562. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 281، 361، 3/ 117، 130، 180، 276، 6/ 46، 115، 123، 150، 172، 175، 178، 180، 191، 207.

1025 - مسألة: (وهل يجوز دفعها إلى سائر من تلزمه مؤنته من أقاربه، أو إلى الزوج، أو بنى المطلب؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى سَائِرِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ إِلَى الزَّوْجِ، أوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1025 - مسألة: (وهل يَجُوزُ دَفْعُها إلى سائِرِ مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه مِن أقارِبِه، أو إلى الزَّوْجِ، أو بَنِى المُطَّلِبِ؟ على رِوايَتَيْن) الأقارِبُ غيرُ الوالِدَيْن قِسْمان؛ مَن لا يَرِثُ منهم، يجوزُ دَفْعُ الزَّكاةِ إليه، سَواءٌ كان انْتِفاءُ الإِرْثِ لانْتِفاءِ سَبَبِه؛ لكَوْنِه بَعِيدَ القَرابَةِ ليس مِن أهْلِ المِيراثِ في حالٍ، أو كان لمانِعٍ، مثلَ أن يَكُونَ مَحْجُوبًا عن الميراثِ، كالأخِ المَحْجُوبِ بالابْنِ، والعَمِّ المَحْجُوبِ بالأخِ وابْنِه، فيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكاةِ إليه؛ لأنَّه لا قَرابَةَ جُزْئِيَّةً بينَهما ولا مِيراثَ، فأشْبَها الأجانِبَ. والثانِى، مَن يَرِثُ، كالأخَوَيْن اللَّذَيْن يَرِث كلُّ واحِدٍ منهما الآخَرَ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، يَجُوزُ لكلِّ واحِدٍ منهما دَفعُ زَكاتِه إلى الآخَرِ. وهى الظاهِرَةُ عنه، رَواها عنه الجماعَةُ. قال في رِوايَةِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ، وإسحاقَ ابنِ مَنْصُورٍ، وقد سألَه: يُعْطِى الأخَ والأخْتَ والخَالَةَ مِن الزَّكاةِ؟ قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْطِى كُلَّ القَرابَةِ إلَّا الأبَوَيْن والوَلَدَ. وهذا قولُ أكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَة، وَهِىَ لِذِى الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَة وَصِلة» (¬1). فلم يَشْتَرِطْ نافِلَةً ولا فَرِيضَة، ولم يُفَرِّقْ بينَ الوارِثِ وغيرِه. ولأنَّه ليس مِن عَمُودَىْ نَسَبِه، فأشْبَهَ الأجْنَبِىَّ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، لا يَجُوزُ دَفْعُها إلى المَوْرُوثِ. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ على الوارِثِ مُؤْنَةَ المَوْرُوثِ، فإذا دَفَع إليه الزَّكاةَ أغْناه عن مُؤْنَثِه، فيَعُودُ نَفْعُ زَكاتِه إليه، فلم يَجُزْ، كدَفْعِها إلى والِدِه، أو قَضاءِ دَيْنِه بها، والحَدِيثُ يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، فيُحْمَلُ عليها. فعلى هذا إن كان أحَدهما يَرِثُ الآخَرَ، ولا يَرِثُه الآخَرُ، كالعَمَّةِ مع ابنِ أخِيها، والعَتِيقِ مع مُعْتِقِه، فعلى الوارِثِ منهما نَفَقَةُ مَوْرُوثِه، وليس له دَفْعُ زَكاتِه إليه على هذه الرِّوايَةِ، وليس على المَوْرُوثِ منهما نَفَقَةُ وارِثِه، ولا يُمْنَغ مِن دَفْع الزَّكاةِ إليه، لانْتِفاءِ المُقْتَضِى للمَنْع. ولو كان أخَوان، لأحَدِهما ابْن، والآخَر لا وَلَدَ له، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 280.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى أبى الابْنِ نَفَقَةُ أخِيه، وليس له دَفْعُ زَكاتِه إليه، وللذى لا وَلَدَ له دَفْعُ زَكاتِه إلى أخِيه، ولا تَلْزَمُه نَفَقَتُه؛ لأنَّه مَحْجُوبٌ عن مِيراثِه. ونحوُ هذا قولُ الثَّوْرِىِّ. فأمّا ذوو الأرْحامِ في الحالِ التى يَرِثُون فيها، فيَجُوزُ دَفْعُها إليهم، في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّ قَرابَتَهم ضَعِيفة، لا يَرِثُ بها مع عَصَبَةٍ، ولا ذى فَرْضٍ، غيرِ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فلم يَمْنَعْ دَفْعَ الزَّكاةِ، كقَرابَةِ سائِرِ المسلمين، فإنَّ مالَه يَصِيرُ إليهم عندَ عَدَمِ الوارِثِ. فصل: فإن كان في عائِلَتِه مَن لا يَجِبُ عليه الإِنْفاقُ عليه، كيَتِيمٍ أجْنَبِىٍّ، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّه لا يَجوزُ له (¬1) دَفْعُ زَكاتِه إليه؛ لأنَّه يَنْتَفِعُ بدَفْعِها إليه، لإغْنائِه بها عن مُؤْنَتِه. والصَّحيحُ، إن شاء اللَّهُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَوازُ دَفْعِها إليه؛ لأنَّه داخِلٌ في الأصْنافِ المُسْتَحِقِّين للزكاةِ، ولم يَرِدْ في مَنْعِه نَصٌّ ولا إجْماعٌ ولا قِياسٌ صَحِيحٌ، فلم يَجُزْ إخْراجُه عن عُمُومِ النَّصِّ بغيرِ دَلِيلٍ. وقد روَى البخارىُّ (¬1)، أنَّ امرأةَ عبدِ اللَّهِ سألَتِ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بَنِى أخٍ لها أيْتامٍ، في حَجْرِها، أفتُعْطِيهم زَكاتَها؟ قال: «نَعَمْ». فإن قِيلَ: فهو يَنْتَفِعُ بدَفْعِها إليه. قُلْنا: قد لا يَنْتَفِعُ به، لإِمْكانِ صَرْفِها في مَصالِحِه التى لا يَقومُ بها الدّافِعُ. وإن قُدِّرَ الانْتِفاعُ به، فإنَّه نَفْعٌ لا يُسْقِطُ به واجِبًا عليه ولا يَجْتَلِبُ به مالًا إليه، فلم يَمْنَعْ ذلك الدَّفْعَ، كما لو لم يكنْ مِن عائِلَتِه. ¬

(¬1) في: باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 150، 151. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 694، 695. والنسائى، في: باب الصدقة على الأقارب، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 69. وابن ماجه، في: باب الصدقة على ذى القربى، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 587. والدارمى، في: باب أى الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 389. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أن يُعْطِىَ الإِنسانُ ذا قَرابَتِه مِن الزَّكاةِ؛ لكَوْنِه غارِمًا، أو مُؤَلَّفًا، أو عامِلًا، أو غارِمًا لإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، ولا يُعْطِى لغيرِ ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفى دَفْع الزَّكاةِ إلى الزَّوْجِ رِوايَتان؛ إحْداهما، لا يَجُوزُ دَفْعُها إليه. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه أحَدُ الزَّوْجَيْن، فلم يَجُزْ دَفْعُ الزَّكاةِ إليه، كالآخَرِ، ولأنَّها تَنْتَفِعُ بدَفْعِها إليه؛ لأنَّه إن كان عاجزًا عن الإِنْفاقِ عليها تَمَكَّنَ بَأخْذِ الزَّكاةِ مِن الإِنْفاقِ، فيَلْزَمُه، وإن لم يَكُنْ عاجِزًا، لكنَّه أيْسَرَ بها، فلَزِمَتْه نَفَقَةُ المُوسِرِينَ، فيَنْتَفِعُ بها في الحالَيْن، فلم يَجُزْ لها ذلك، كما لو دَفَعَتْها في أُجْرَةِ دارٍ، أو نَفَقَةِ رَقِيقِها أو بَهائِمِها. فإن قِيلَ: فيُلْزَمُ على هذا الغَرِيمُ، فإنَّه يَجُوزُ له دَفْعُ زَكاتِه إلى غَرِيمِه، ويُلْزَمُ الآخِذُ بذلك وفاءَ دَيْنِه. قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ في النَّفَقَةِ آكَدُ مِن حَقِّ الغَرِيمِ؛ بدَلِيلِ أنَّ نَفَقَةَ المرأةِ مُقَدَّمَةٌ في مالِ المُفْلِس على وفاءِ دَيْنِه، وأنَّها تَمْلِكُ أخْذَها مِن مالِه بغيرِ عِلْمِه إذا امْتَنَعَ مِن أدائِها. والثانِى، أنَّ المرأةَ تَنْبَسِطُ في مالِ زَوْجِها بحُكْمِ العادَةِ، ويُعَدُّ مالُ كلِّ واحِدٍ منهما مالًا للآخَرِ، ولهذا قال ابنُ مسعودٍ، في عَبْدٍ سَرَق مِرْآةَ امْرَأةِ سَيِّدِه: عَبْدُكم سَرَق مالَكم. ولم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْطَعْه. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ (¬1). والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، يَجُوزُ للمرأةِ دَفْعُ زَكاتِها إلى زَوْجِها. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وطائِفَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّ زَيْنَبَ امْرَأةَ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ قالت: يا رسولَ اللَّه، إنَّك أمَرْتَ اليَوْمَ بالصَّدَقَةِ، وكان عِنْدِى حُلِىٌّ لى، فأرَدْتُ أن أتُصَدَّقَ به، فزَعَمَ ابْنُ مسعودٍ أنَّه هو ووَلَدَه أحَقُّ مَن تَصَدَّقْتُ عليهم. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ». رَواه البخارىُّ (¬2). ولأنَّه لا تَجِبُ نَفَقَتُه، فلم يُمْنَعْ دَفْع الزَّكاةِ إليه، كالأجْنَبِىِّ، وبهذا فارَقَ الزَّوْجَةَ، فإنَّ نَفَقَتَها واجِبَة عليه، ولأنَّ الأصْلَ جَوازُ الدَّفْع إلى الزَّوْجِ؛ لدُخُولِه في عُمُومِ الأصْنافِ المُسَمَّيْن في الزَّكاةِ، ¬

(¬1) أخرجهما عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 210، 211. (¬2) في: باب الزكاة على الأقارب، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس في المَنْع نَصٌّ ولا إجْماعٌ، وقِياسُه على مَن يَثْبُتُ المَنْعُ في حَقِّه لا يَصِحُّ؛ لوُضُوحِ الفَرْقِ بينَهما، فيَبْقَى جَوازُ الدَّفْعِ ثابِتًا. والاسْتِدْلالُ بهذا أقْوَى مِن الاسْتِدْلالِ بحديثِ ابنِ مسعودٍ، لأنَّه في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لقولِها: أرَدْتُ أن أتَصَدَّقَ بحُلِىٍّ لى. ولا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بالحُلِىِّ، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِم». والوَلَدُ لا تُدْفَعُ إليه الزكاةُ. فصل: وهل يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكاةِ إلى بَنِى المُطَّلِبِ؟ على رِوايَتَيْن؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما، ليس لهم ذلك. نَقَلَها عنه عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ، وغيرُه؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِى جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَئٌ وَاحِدٌ» (¬1). وفى لَفظٍ رَواه الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬2): «إنَّما بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُطَّلِبِ شَئٌ وَاحِدٌ» وشَبَّكَ بينَ أصَابِعِه. ولأنَّهم يَسْتَحِقُّون مِن خُمْسِ الخُمْسِ فمُنِعُوا مِن الزَّكاةِ، كبَنِى هاشِمٍ، وقد أكَّد ذلك ما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّلَ مَنْعَهم مِن الصَّدَقَةِ باسْتِغْنائِهم عنها بخُمْسِ الخُمْسِ، فقال: «ألَيْسَ فِى خُمْسِ الخُمْسِ مَا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوى القربى، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 132، والنسائى، في: أول كتاب الفئ. المجتبى 7/ 119. (¬2) المسند 2/ 125. كما أخرجه البخارى، في: باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب مناقب قريش، من كتاب المناقب، وفى: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 111، 218، 5/ 174. وأبو داود، في: باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوى القربى، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 131. والنسائى، في: أول كتاب الفئ. المجتبى 7/ 118، 119. وابن ماجه، في: باب قسمة الخمس، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 961. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 85.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُغْنِيكُمْ» (¬1). والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لهم الأخْذُ منها. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لدُخُولِهم في عُمُومِ الصَّدَقاتِ، لكنْ خَرَج بَنُو هاشِم لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِى لِآلِ مُحَمَّدٍ» (¬2). فوَجَبَ أن يَخْتَصَّ المَنْعُ بهم، ولا يَصِحُّ قِياسُهم على بنى هاشِم؛ لأنَّ بَنِى هاشِمٍ أقْرَبُ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأشْرَفُ، وهم آل النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومُشارَكَةُ بنى المُطَّلِبِ لهم في خُمْسِ الخُمْسِ ما اسْتَحَقُّوه بمُجَرَّدِ القَرابَةِ؛ بدَلِيلِ أنَّ بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ وبنى نَوْفَلٍ يُساوُونهم في القَرابَةِ، ولم يُعْطَوْا شيئًا، وإنَّما شارَكُوهم بالنُّصْرَةِ، أو بهما جميعًا، والنُّصْرَةُ لا تَقتَضِى مَنْعَ الزَّكاةِ. ¬

(¬1) أخرجه الطبرانى، في: المعجم الكبير 11/ 217. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 224.

1026 - مسألة؛ (وإن دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم، ثم علم، لم يجزئه، إلا الغنى إذا طنه فقيرا، فى إحدى الروايتين)

وَإنْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ عَلِمَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، إِلَّا الْغَنِىَّ إِذَا ظَنَّهُ فَقِيرًا، فِى إِحْدَى الرِّوَايتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1026 - مسألة؛ (وإن دَفَعَها إلى مَن لا يَسْتَحِقُّها وهو لا يَعْلَمُ، ثم عَلِم، لم يُجْزِئْه، إلَّا الغَنِىَّ إذا طنَّه فَقِيرًا، في إحْدَى الرِّوَايَتَيْن) إذا دفع الزَّكاةَ إلى مَن لا يَسْتَحِقُّها جاهِلًا بحالِه، كالعَبْدِ، والكافِرِ، والهاشِمِىِّ، وقَرابَةِ المُعْطِى مِمَّن لا يَجُوزُ دَفْعُها إليه، لم يُجْزِئْه رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّه ليس بمُسْتَحِقٍّ، ولا يَخْفَى حالُه غالِبًا، فلم يُجْزِئْه الدَّفْعُ إليه، كدُيُونِ الآدَمِيِّين. فأمّا إن أعْطَى مَن يَظنّه فَقِيرًا، فبانَ غَنِيًّا، ففيه رِوايتان، إحْدَاهما، يُجْزِئُه. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهو قولُ الحسنِ، وأبى عُبَيْدٍ، وأبى حنيفةَ، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى الرَّجُلَيْن الجَلْدَيْن، وقال: «إنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شِئْتُمَا أعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِىٍّ، وَلَا لِقَوِىٍّ مُكْتَسِبٍ» (¬1). وقال للرجلِ الذى سَألَه مِن الصَّدَقَةِ: «إنْ كُنْتَ من تِلْكَ الأجْزَاءِ أعطيْتُكَ حَقَّكَ» (¬2). ولو اعْتَبَرَ حقيقةَ الغِنَى لَما اكْتَفَى بقَوْلِهم. وروَى أبو هُرَيْرَةَ، عنِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «قال رجُلٌ: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِه، فوَضَعَهَا فِى يَدِ غَنِىٍّ، فَأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ. فأُتِىَ فَقِيلَ لَهُ: أمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِىَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ ممّا أعْطاهُ اللَّهُ». رَواه النَّسائِىُّ (¬3). والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّه دَفَع الواجِبَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 215. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬3) في: باب إذا أعطاها غنيا وهو لا يشعر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 42. كما أخرجه البخارى، في: باب إذا تصدق على غنى وهو لا يعلم، من كتاب الزكاة. صحيح البخارى 2/ 137، 138. ومسلم، في، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 709. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 322، 350.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى غيرِ مُسْتَحِقِّه، فلم يَخْرُجْ مِن عُهْدَتِه، كما لو دَفَعَها إلى كافِرٍ، أو ذِى قرابَةٍ، وكدُيُونِ الآدَمِيِّين. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ، وأبى يُوسُف، وابنِ المُنْذِرِ. وللشافعىِّ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. والأوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ الفَقْرَ والغِنَى يَعْسُرُ الاطِّلاعُ عليه والمَعْرِفَةُ بحَقِيقَتِه، قال اللَّهُ تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (¬1). فاكْتَفَى بظُهورِ الفَقْرِ، ودَعْواه بخِلافِ غيرِه. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سورة البقرة 273.

فصل

فَصْلٌ: وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ) في جميعِ الأوْقاتِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (¬1). وأمَر بالصَّدَقَةِ في آياتٍ كثِيرَةٍ، وحَثَّ عليها، ورَغَّبَ فيها. وروَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طيَبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ إلَّا طَيِّبٌ، فإنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّى أحَدُكُم فَلُوَّهُ (¬2)، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وصَدَقَةُ السِّرِّ أفْضَلُ مِن العَلانِيَةِ، لقولِ اللَّهِ تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬4). وروَى أبو هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «سَبْعَةٌ ¬

(¬1) سورة البقرة 245. (¬2) الفلو: المهر يفصل عن أمه. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا عبد اللَّه بن منير، من كتاب الزكاة، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 2/ 134، 5/ 154. ومسلم، في: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 702. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل الصدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 163. والنسائى، في: باب الصدقة من غلول، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 43. وابن ماجه، في: باب فضل الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 590. والدارمى، في: باب في فضل الصدقة، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 395. والإمام مالك، في: باب الترغيب في الصدقة، من كتاب الصدقة. الموطأ 2/ 995. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 331، 381، 382، 404، 418، 419، 431، 471، 538، 541. (¬4) سورة البقرة 271.

1027 - مسألة: (وأفضل ما تكون فى شهر رمضان، وأوقات الحاجات)

وَهِىَ أَفْضَلُ فِى شَهْر رَمَضَانَ، وَأوْقَاتِ الْحَاجَاتِ. وَالصَّدَقَةُ عَلَى ذِى الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّه يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» ذَكَر منهم رجلًا «تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوِىَ عنه، عليه الصلاةُ والسلامُ، أنَّه قال: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِىُّ غَضَبَ الرَّبِّ». رَواه التِّرْمذِىُّ (¬2). 1027 - مسألة: (وأفْضَلُ ما تكونُ في شهرِ رمضانَ، وأوْقاتِ الحاجاتِ) لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (¬3). ولأنَّ الحَسَناتِ تُضاعَفُ في شهرِ رمضانَ، وفيها إعانَةٌ على أداءِ الصَّوْمِ المَفْرُوضِ. ومَن فَطَّرَ صائِمًا كان له مِثْلُ أجْرِهِ. وتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ على ذِى القَرابَةِ؛ لقولِه سبحانه: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (¬4). وقال ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، من كتاب الأذان، وفى: باب الصدقة باليمين، من كتاب الزكاة. وفى: باب البكاء من خشية اللَّه، من كتاب الرقاق، وفى: باب فضل من ترك الفواحش، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 1/ 168، 2/ 138، 8/ 126، 203. ومسلم، في: باب فضل إخفاء الصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 715. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الحب في اللَّه، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى 9/ 236، 237. والنسائى، في: باب الإمام العادل، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 196. والإمام مالك، في: باب ما جاء في المتحابين في اللَّه، من كتاب الشعر. الموطأ 2/ 952. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 439. (¬2) في: باب ما جاء في فضل الصدقة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 168. (¬3) سورة البلد 14. (¬4) سورة البلد 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِى الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وصِلَةٌ» (¬1). وهو حديثٌ حسنٌ. وسألتْ زينبُ امْرَأَةُ ابنِ مسعودٍ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هل يَسَعُها أن تَضَعَ صَدَقَتَها في زَوْجِها وبَنِى أخٍ لها يَتامَى؟ قال: «نَعَمْ، لَهَا أجْرَانِ؛ أجْرُ القَرَابَةِ، وأجْرُ الصَّدَقَةِ». رَواه النَّسائِىُّ (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يَخُصَّ بالصَّدَقَةِ مَن اشْتَدَّتْ حاجَتُه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 280. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 302. (¬3) سورة البلد 16.

1028 - مسألة: (وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه)

وَتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ بِالفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ. وَإنْ تَصَدَّقَ بِمَا يَنْقُصُ مُؤْنَةَ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَثِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1028 - مسألة: (وتُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ بالفاضِلِ عن كِفايَتِه وكِفايَةِ مَن يَمُونُه) على الدَّوامِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). (فإن تَصَدَّقَ بما يَنْقُصُ مُؤْنَةَ مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، أثِمَ) لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْء إِثْمًا أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ». وروَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أمَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: بالصَّدَقَةِ، فقامَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ عندِى دِينارٌ. فقال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 339.

1029 - مسألة: (ومن أراد الصدقة بماله كله، وهو يعلم من نفسه

وَمَنْ أرَادَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ. . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ». فقاد: عِنْدِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ». قال: عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ». قال: عِنْدِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ». قال: عِنْدِى آخَرُ. قال: «أنْتَ أبْصَرُ». رَواهما أبو داودَ (¬1). فإن وافَقَه عِيالُه على الإِيثارِ فهو أفْضَلُ؛ لقولِه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إلَى فَقِيرٍ فِى السِّرِّ» (¬3). 1029 - مسألة: (ومن أراد الصَّدَقَةَ بمالِه كلِّه، وهو يَعْلَمُ مِن نَفْسِه ¬

(¬1) أخرج الأول، في: باب في صلة الرحم، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 393. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 160، 193، 194، 195. والثانى تقدم تخريجه في صفحة 94. (¬2) سورة الحشر 9. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب طول القيام، من كتاب الوتر، وفى: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 334، 390. والنسائى، في: باب جهد المقل، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 44، والدارمى، في: باب أى الصلاة أفضل، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 331. الإمام أحمد، في: المسند 2/ 358، 3/ 412، 5/ 178، 179، 265.

وَالصَّبْرَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإنْ لَمْ يَثقْ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حُسْنَ التَّوَكُّلِ والصَّبْرَ عن المَسْأَلَةِ، فله ذلك، وإن لم يَثِقْ مِن نَفْسِه بذلك كُرِه له) مَن أراد الصَّدَقَةَ بجميعِ مالِه، وكان وَحْدَه، أو كان لمَن يَمُونُه كفايَتُهم، وكان مُكْتَسِبًا، أو واثِقًا مِن نفسِه بحُسْنِ التَّوَكُّلِ، والصَّبْرِ على الفَقْرِ، والتَّعَفُّفِ عن المَسْألَةِ، فله ذلك، لِما ذَكَرْنا مِن الآيةِ والخَبَرِ في المَسْألَةِ قبلَها، ولِما روَى عُمَرُ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَتَصَدَّقَ، فوافَقَ ذلك مالًا عِنْدِى فقلتُ: اليَوْمَ أسْبِقُ أبا بكرٍ إن سَبَقْتُه يَوْمًا. فجِئْتُ بنِصْفِ مالِى، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا أبْقَيْتَ لأهْلِكَ؟». قلتُ: أبْقَيْتُ لهم مِثْلَه. فأتَى أبو بكرٍ بكلِّ ما عِنْدَه، فقال له: «مَا أبْقَيْتَ لأهْلِكَ؟». قال: أبْقَيْت لهم اللَّهَ ورسولَه. فقلتُ: لا أُسابِقُكَ إلى شئٍ أبدًا (¬1). فكان هذا فَضِيلَةً في حَقِّ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لقُوَّةِ يَقِيِنه، وكَمال إيمانِه، وكان تاجِرًا ذا مَكْسَبٍ، فإنَّه قال حينَ وَلِىَ: قد عَلِم النَّاسُ أنَّ مَكْسَبِى لم يَكُنْ ليَعْجِزَ عن مُؤْنَةِ عِيالِى. وإن لم يُوجَدْ في المُتَصَدِّقِ أحَدُ هذَيْن، كُرِهَ له؛ لِما روَى ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في ذلك [أى في الرجل يخرج عن ماله]، عن كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 390. والترمذى، في: باب في مناقب أبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 183، 139. والدارمى، في: باب الرجل يتصدق بجميع ما عهده، من كتاب الزكاة. سنن الدارمى 1/ 391، 392.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1)، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: كُنَّا عندَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذ جاء رجلٌ بمِثْلِ بَيْضَةٍ مِن ذَهَبٍ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أصَبْتُ هذه مِن مَعْدِنٍ، خُذْها فهى صَدَقَةٌ، ما أمْلِكُ غيرَها. فأعْرَضَ عنه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أتاه مِن قِبَلِ رُكْنِه الأيْمنِ، فقال مِثْلَ ذلك، فأعْرَضَ عنه، ثم أتاه مِن قِبَلِ رُكْنِه الأيسَرِ، فأعْرَضَ عنه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أتاه مِن خَلْفِه، فأخَذَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحذَفَه بها، فلو أصابَتْه لعَقَرَتْه، أو لأوْجَعَتْه، وقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يَأْتِى أحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، فيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَان عَنْ ظَهْرِ غِنًى». فقد نَبَّه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على المَعْنَى الذى كَرَّه الصَّدَقَةَ بجَمِيعِ مالِه، وهو أن يَسْتَكِفَّ النَّاسَ، أى يَتَعَرَّضَ للصَّدَقَةِ، فيَأخُذَها ببَطنِ كَفِّه، يقال: تَكَفَّفَ، واسْتَكَفَّ إذا فَعَل ذلك. وروَى النَّسائِىُّ (¬2)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى رجلًا ثَوْبَيْن مِن الصَّدَقَةِ، ثم حَثَّ على الصَّدَقَةِ، فطرَحَ الرجلُ أحَدَ ثَوْبَيْه، فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَلَمْ تَرَوْا إلَى هَذَا، دَخَلَ بِهَيئةٍ بَذَّةٍ فأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيْن، ثُمَّ قُلْتُ: تَصَدَّقُوا. فَطرَحَ أحَدَ ثَوْبَيْهِ، خُذْ ثَوْبَكَ». وانْتَهَرَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 339. (¬2) في: باب حث الإمام على الصدقة يوم الجمعة في خطبته، من كتاب الجمعة، وفى: باب إذا تصدق وهو محتاج اليه هل ورد عليه؟ من كتاب الزكاة. المجتبى 3/ 87، 5/ 47. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يخرج من ماله، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 389. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 25.

1030 - مسألة: (ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه من الكفاية التامة)

وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الضِّيقِ أنْ يَنْقُصَ نَفْسَهُ عَنِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الإِنْسانَ إذا أخْرَجَ جَمِيعَ مالِه لا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الفَقْرِ، وشِدَّةَ نِزاعِ النَّفْسِ إلى ما خَرَج منه، فيَنْدَمُ، فيَذْهَبُ مالُه ويَبْطُل أجْرُه، ويَصِيرُ كَلًّا على الناسِ. 1030 - مسألة: (ويُكْرَهُ لمَن لا صَبْرَ له على الضِّيقِ أن يَنْقُصَ نَفْسَه مِن الكِفايَةِ التّامَّةِ). واللَّهُ أعلمُ.

كتاب الصيام

كِتَابُ الصِّيَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الصِّيَامِ الصِّيامُ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عن الإِمْساكِ، يُقالُ: صام النَّهارُ. إذا وَقَف سَيْرُ الشَّمْسِ. وقال سبحانه وتعالى حِكايةً عن مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (¬1). أى: إمْساكًا عن الكَلامِ، وقال الشاعرُ (¬2): خَيْلٌ صِيَامٌ وخيلٌ غيرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا يَعْنِى بالصَّائِمَةِ: المُمْسِكَةَ عن الصَّهِيلِ. وهو في الشَّرعِ: عِبارَةٌ عن الإِمْساكِ عن أشْياءَ مَخْصُوصَةٍ، في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ يَأْتِى بَيانُه إن شاء اللَّهُ. وصومُ رمضانَ واجِبٌ، الأصْلُ في وُجُوبِه الكِتابُ، والسُّنَّةُ، ¬

(¬1) سورة مريم 26. (¬2) هو النابغة الذبيانى. ديوانه «صنعة ابن السكيت» 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِجْماعُ، أمّا الكِتابُ فقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. إلى قَوْلِه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1). وأمّا السُّنَّةُ، فقَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «بُنِىَ الْإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ». ذَكَرَ منها صَومَ رمضانَ. وعن طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أنَّ أعْرابِيًّا جاء إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثائِرَ الرَّأْسِ، فقالَ: يا رسولَ اللَّه (2)، أخْبِرْنِى ماذا فَرَض اللَّهُ عَلَىَّ مِن الصِّيامِ؟ فقالَ: «شَهْرَ رَمَضَانَ». فقالَ: هل عَلَىَّ غيرُه؛ قال: «لَا، إلَّا أنْ تَتَطَوَّعَ شَيْئًا». قال: فأخْبِرْنِى ماذا فَرَضَ اللَّهُ (¬2) عَلَىَّ مِن الزَّكاةِ؟ فأخبَرَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بشَرائِعِ الإِسْلامِ. فقالَ: والذى أَكْرَمَكَ لا أتَطَوَّعُ شَيْئًا، ولا أَنْقُصُ مِمّا فَرَض اللَّه عَلَىَّ شَيْئًا. فقالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أفلَحَ إنْ صَدَقَ». أو: «دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). وأجْمَعَ المسلمون على وُجُوبِ صومِ شَهْرِ رمضانَ. فصل: رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا جَاءَ رمضانُ فُتِحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ورُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه ¬

(¬1) سورة البقرة 183 - 185. (¬2) سقط من: م. (¬3) الأول تقدم تخريجه في 3/ 6، والثانى تقدم تخريجه في 3/ 126. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، من كتاب الصوم، وفى: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الحلق. صحيح البخارى 3/ 32، 4/ 150. ومسلم، في: باب فضل شهر رمضان، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 758. كما أخرجه النسائى، في: باب فضل شهر رمضان، وفى: باب ذكر الاختلاف على الزهرى فيه، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاء اللَّهِ تَعَالَى» (¬1). فيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هذا على أنَّه لا يُقالُ ذلك غيرَ مُقْتَرِنٍ بما يَدُلُّ على إرادَةِ الشَّهْرِ، لئَلَّا يُخالِفَ الأحادِيثَ الصَّحيحةَ. والمُسْتَحَبُّ مع ذلك أن يَقولَ: شَهْرُ رمضانَ، كما قال اللَّهُ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬2). واخْتُلِفَ في المَعْنَى الذى سُمِّىَ لأجْلِه رمضانَ، فروَى أنَسٌ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّمَا سُمِّىَ رمضانَ؛ لأنَّه يَحْرِقُ الذُّنُوبَ» (¬3). فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّه شُرِع صَوْمُه دونَ غيرِه، ليُوافِقَ اسْمُه مَعْناه. وقِيلَ: هو اسْمٌ مَوْضُوعٌ لغَيْرِ مَعْنًى، كسائِرِ الشُّهُورِ. وقِيلَ غيرُ ذلك. فصل: والصومُ المَشْروعُ هو الإِمْساكُ عن المُفْطِراتِ، مِن طُلُوعِ الفَجْرِ الثّانِى إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ. رُوِى مَعْنَى ذلك عن عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وبه قال عَطاءٌ، وعَوامُّ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه لمّا صَلَّى الفَجْرَ قال: الآنَ حينَ يَتَبَيَّنُ الخَيْطُ ¬

= الصيام. المجتبى 4/ 101 - 103. والدارمى، في: باب في فضل شهر رمضان، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 26. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 357. (¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما روى في كراهة قول القائل. . .، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 201، 202. وابن عدى، في الكامل 7/ 2517. وذكره ابن الجوزى في الموضوعات 2/ 187. (¬2) سورة البقرة 185. (¬3) ذكره السيوطى في الجامع الصغير، وفيه: «يرمض الذنوب» بدل: «يحرق الذنوب». وعزاه لمحمد بن منصور والسمعانى، أبى زكريا يحيى بن منده، ورمز له بالضعف. وذكر المناوى أن أبا الشيخ رواه أيضًا. فيض القدير 3/ 2.

1031 - مسألة؛ قال: (ويجب صوم رمضان برؤية الهلال، فإن لم ير مع الصحو، أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، ثم صاموا. فإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين، وجب صيامه بنية رمضان فى

يَجبُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ لَمْ يُرَ مَعَ الصَّحْوِ، أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ صَامُوا. وَإن حَالَ دُونَ مَنْظرِهِ غَيْمٌ أوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَجَبَ صِيَامُهُ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأسْوَدِ. وعن ابنِ مسعودٍ نَحْوُه (¬1). وقال مَسْرُوقٌ: لم يَكُونُوا يَعُدُّون الفَجْرَ فَجْرَكم، إنَّما كانُوا يَعُدُّون الفَجْرَ الذى يَمْلَأُ البُيوتَ والطُّرُقَ. وهذا قَوْلُ الأَعْمَش. ولنا، قَوْلُ اللَّه تِعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2). يَعْنِى بَياضَ النَّهارِ مِن سَوادِ اللَّيْلِ. وهذا يَحْصُلُ (¬3) بطُلوعِ الفَجْرِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُوذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» (¬4). دلِيل على أنَّ الخَيْطَ الأبْيَضَ هو الصَّباحُ، وأنَّ السُّحُورَ لا يَكُونُ إلَّا قبلَ الفَجْرِ. وهذا إجْماعٌ لم يُخالِفْ فيه إلَّا الأعْمَشُ وَحْدَه، فشَذَّ ولم يُعَرِّجْ أحَدٌ على قَوْلِه. والنَّهارُ الذى يَجِبُ صِيامُه مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ. قال: هذا قولُ جَماعَةِ عُلَماءِ المسلمين. 1031 - مسألة؛ قال: (ويَجِبُ صومُ رمضانَ برُؤْيَةِ الهِلالِ، فإِن لم يُرَ مع الصَّحْوِ، أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبانَ ثَلاِثين يَوْمًا، ثم صامُوا. فإن حال دُونَ مَنْظَرِه غَيْمٌ أو قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلاثِين، وَجَب صِيامُه بنِيَّةِ رمضانَ في ¬

(¬1) أخرجهما الطبرى في تفسيره 2/ 173، 174. (¬2) سورة البقرة 187. (¬3) في الأصل: «يصلح». (¬4) تقدم تخريجه ق 3/ 90.

فِى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ. وَعَنْهُ، النَّاسُ تَبَعٌ لِلْإِمَام، فَإِنْ صَامَ صَامُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِ المَذْهَبِ. وعنه، لا يَجِبُ. وعنه، النّاسُ تَبَعٌ للإِمامِ، فإِن صام صامُوا) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ صومَ شَهْرِ رمضانَ يَجِبُ بأحَدِ ثَلاثَةِ أَشْياءَ؛ أحَدُها، رُؤْيَةُ هِلال رمضانَ، يَجِبُ به الصومُ إِجْماعًا؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). الثَّانِى، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا رأيتم الهلال فصوموا. . .، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 35. ومسلم، في: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 759، 762. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء لا تقدموا الشهر بصوم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 200. والنسائى، في: باب إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 107. والدارمى، في: باب الصوم لرؤية الهلال، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 3. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 259، 263، 281، 287، 415، 430، 438، 454، 456، 469، 497. كلهم من حديث أبى هريرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَمالُ شَعبانَ ثَلاِثينَ يَوْمًا، يَجِبُ به الصومُ؛ لأنَّه يُتَيَقَّنُ به دُخُولُ شَهْرِ رمضانَ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويُسْتَحَبُّ للنّاسِ تَرائِى الهِلالِ لَيْلَةَ الثَّلاثِين مِن شعبانَ؛ ليَحْتاطُوا لصيامِهم، ويَسْلَمُوا مِن الاخْتِلافِ. وقد روَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِىُّ (¬1) عن أبى هُرَيْرَةَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أحْصُوا هِلَالَ شَعْبانَ لِرَمَضَانَ». ¬

(¬1) في: باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ لمن رَأَى الهِلالَ أن يَقُولَ ما روَى ابنُ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رَأَى الهِلالَ قال: «اللَّهُ أكبَرُ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بالأمْنِ والإِيمَانِ، والسَّلامَةِ والإِسْلَامِ، والتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ». رَواه الأثْرَمُ (¬1). الثالِثُ، أنْ يَحُولَ دُونَ مَنْظَرِه لَيْلَةَ ¬

(¬1) وأخرجه الدارمى، في: باب ما يقال عند رؤية الهلال، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 3، 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّلاِثِين مِن شعبانَ غَيْمٌ أو قَتَرٌ، فيَجِبُ صِيامُه في ظاهِرِ المَذْهَبِ، ويُجْزِئُه إن كان مِن شَهْرِ رمضانَ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ، وأكْثَرُ شُيوخِ أصْحابِنا. وهو مَذْهَبُ عُمَرَ، وابْنِه، وعَمْرِو بنِ العاصِ، وأبِى هُرَيْرَةَ، وأنَسٍ، ومُعاوِيةَ، وعائشةَ وأسماءَ ابْنَتَىْ أبى بكْرٍ. وبه قال بَكْرُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُزَنِىُّ، وأبو عثمانَ النَّهْدِىُّ (¬1)، وابنُ أبى مَرْيَمَ (¬2)، ومُطَرِّفٌ، ومَيْمُونُ ابنُ مِهْرانَ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، لا يَجِبُ صَوْمُه، ولا يُجْزِئُه عن رمضانَ إن صامَه. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وكَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ». رَواه البخارِىُّ (¬3). وعن ابنِ عُمَرَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقدُرُوا لَهُ ثَلاثِينَ». رَواه مسلمٌ (¬4). وقد صَحَّ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ (¬5). ¬

(¬1) أبو عثمان عبد الرحمن بن مَلٌ بن عمرو النَّهْدِىّ، أدرك الجاهلية، وأسلم على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يلقه، وكان ثقة، توفى سنة خمس وتسعين، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة. تهذيب التهذيب 6/ 277، 278. (¬2) بُريْد بن أبى مريم مالك بن ربيعة السلولى البصرى، تابعى ثقة، توفى سنة أربع وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 432. (¬3) تقدم تخريجه في أول المسألة. (¬4) في: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 759. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر الاختلاف على الزهرى في هذا الحديث، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 108. والدارمى، في: باب الصوم لرؤية الهلال، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 3. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال فصوموا. . .، من كتاب الصوم. صحيح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهَذا يومُ شَكٍّ. ولأنَّ الأصْلَ بَقاءُ شعبانَ، فلا يُنْتَقَلُ عنه بالشَّكِّ. وعنه رِوايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِلإمام، فإن صام صامُوا، وِإن أفْطَرَ أفْطَرُوا. وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ؛ لقولِ النَّبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» (¬1). قيل: مَعْناه أنَّ الصَّوْمَ والفِطْرَ مع الجَماعَةِ وعُظْمِ (¬2) النَّاسِ. قال التِّرْمِذِىُّ: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى ما رَوَى نافِعٌ عن ابنَ عُمَرَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ». قال نافِعٌ: كان عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ إذا مَضَى من شعبانَ تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ يَوْمًا، يَبْعَثُ مَن يَنْظُرُ له الهِلالَ، فإن رَأَى فَذاك، وإن لم يَرَ ولم يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِه سحابٌ ولا قَتَرٌ أصْبَحَ مُفْطِرًا، وإن حالَ دُونَ مَنْظَرِه سَحابٌ أو قَتَرٌ أصْبَحَ صائِمًا (¬3). ومَعْنَى اقْدِرُوا له: أى ضَيِّقُوا له، مِن قَوْلِه تَعالَى: {وَمِنَ ¬

= البخارى 3/ 34. وأبو داود، في: باب كراهية صوم يوم الشك، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 545. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 202. والنسائى، في: باب صيام ويوم الشك، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 126. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام يوم الشك، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 527. (¬1) تقدم تخريجه في 5/ 320. (¬2) في م: «ومعظم». وعظم الشئ: أكثره. (¬3) الحديث بهذا اللفظ رواه أبو داود. في: باب الشهر كون تسعًا وعشرين، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 542. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5، 13. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (¬1). أى ضُيِّقَ عليه. وقَوْلِه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (¬2). والتَّضْيِيقُ له أن يُجْعَلَ شعبانُ تِسْعَةً وعِشْرِين يَوْمًا، وقد فَسَّرَه ابنُ عُمَرَ بفِعْلِه، وهو راوِيه واعلَمُ بمَعْناه، فيَجِبُ الرُّجُوعُ إلى تَفْسِيرِه، كما رُجِعَ إليه في تَفْسِيرِ التَّفَرُّقِ في خِيارِ المُتَبايِعَيْن. ولأنَّه شَكٌّ في أحَدِ طَرَفَىِ الشَّهْرِ لم يَظْهَرْ فيه أنَّه مِن غيرِ رمضانَ، فوَجَبَ الصَّومُ، كالطَّرَفِ الآخرِ. قال علىٌّ، وأبو هُرَيْرَةَ، وعائشةُ: لأنْ أصُومَ يَوْمًا مِن شعبانَ، أحَبُّ إلىَّ مِن أن أُفْطِرَ يَوْمًا مِن رمضانَ (¬3). ولأنَّ الصومَ يُحْتاطُ له، ولذلك وَجَب الصومُ بخَبَرِ واحِدٍ، ولم يُفْطِرُوا إلَّا بشَهادَةِ اثْنَيْن. فأمَّا خَبَرُ أبى هُرَيْرَةَ الذى احْتَجُّوا به، فإنَّه يَرْوِيه محمدُ بنُ زِيادٍ، وقد خالَفَه سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، فرَواه عن أبى هُرَيْرَةَ: «فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ» (¬4). ورِوايَتُه أَولَى؛ لإِمامَتِه واشْتِهارِ ثِقَتِه وعَدالَتِه ومُوافَقَتِه لرَأْىِ أبى هريرةَ ومَذْهبِه، ولخَبَرِ ابنِ عُمَرَ الذى رَوَيْناه. ويُمْكِنُ حَمْلُه على ما إذا غُمَّ في طَرَفَىِ الشَّهْرِ. ورِوايَةُ ابنِ عُمَرَ: «فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاِثِينَ». ¬

= كما أخرجه دون ذكر فعل ابن عمر البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال فصوموا. . .، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 34. ومسلم، في: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 760. والنسائى، في: باب إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 108. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 529. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 63، 145. (¬1) سورة الطلاق 7. (¬2) سورة الرعد 26. (¬3) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى 4/ 211. (¬4) في رواية مسلم والنسائى في تخريجه المتقدم في الصفحة السابقة، ومسند أحمد 2/ 263.

1032 - مسألة: (وإذا رئى الهلال نهارا، قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المقبلة)

وَإذَا رُئِىَ الْهِلَالُ نَهَارًا، قَبْلَ الزَّوَالِ أوْ بَعْدَهُ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُخالِفَة للرِّوايَةِ الصَّحِيحَةِ المُتَّفَقِ عليها، ولِمَذْهَبِ ابنِ عُمَرَ. ورِوايَةُ النَّهْى عن صومِ يَوْمِ الشَّكِّ مَحْمُولٌ على حالِ الصَّحْوِ، جَمْعًا بَيْنَه وبَيْنَ ما ذَكَرْنا. 1032 - مسألة: (وِإذا رُئِىَ الهِلالُ نَهارًا، قبلَ الزَّوالِ أو بعدَه، فهو للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ) المَشْهُورُ عن أحمدَ، أنَّ الهِلالَ إذا رُئِىَ نَهارًا قَبْلَ الزَّوالِ أو بعدَه، وكانَ ذلك في آخِرِ رمضانَ، لم يُفْطِرُوا برُؤْيَتِه. وهذا قولُ عُمَرَ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، وأنسٍ، والأوزاعِىِّ، ومالكٍ، واللَّيْثِ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. وحُكِىَ عن أحمدَ، أنَّه إن رُئِىَ قَبْلَ الزَّوالِ فهو للماضِيَةِ، وإن كان بعدَه فهو للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ. ورُوِىَ ذلك عنِ عُمَرَ، رضى اللَّهُ عنه، رَواه عنه سعيدٌ (¬1). وبه قال الثَّوْرِىُّ، وأبو يُوسُفَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». وقد رَأَوْه، فيَجِبُ الصومُ والفِطْرُ، ولأنَّ ما قَبْلَ الزَّوالِ أقْرَبُ إلى الماضِيَةِ. ولنا، ما روَى ¬

(¬1) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى 4/ 213.

1033 - مسألة: (وإذا رأى الهلال أهل بلد؛ لزم الناس كلهم الصوم)

وَإذَا رَأى الْهِلَالَ أهْلُ بَلَدٍ، لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الصَّوْمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو وائِلٍ، قال: جاءَنا كِتابُ عُمَرَ، ونحن بخانِقِينَ (¬1)، أنَّ الأَهِلَّةَ بَعْضُها أقْرَبُ مِن بَعْضٍ، فإذا رَأَيتُم الهِلالَ نَهارًا فلا تُفْطِرُوا حتى تُمْسُوا، أو يَشْهَدَ رَجُلان أنَّهما رَأَياه بالأمْسِ عَشِيَّةً (¬2). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابَةِ. وخَبَرُهم مَحْمُولٌ على ما إذا رُئِىَ عَشِيَّةً، بدَلِيلِ ما لو رُئِىَ بعدَ الزَّوالِ، ثم إنَّ الخَبَرَ إنَّما يَقْتَضِى الصَّومَ والفِطْرَ مِن الغَدِ، بدَلِيلِ ما لو رآه عَشِيَّةً. فأمّا إن كانَتِ الرُّؤْيَةُ في أوَّلِ رمضانَ فالصَّحِيحُ أيضًا أنَّها للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه للماضِيَةِ. فعلى هذا يَلْزَمُ قَضاءُ ذلك اليَوْمِ، وإمْساكُ بَقِيَّتِه احْتِياطًا للعِبادَةِ؛ لأنَّ ما كان للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ في آخِرِه، فهو لها في أوَّلِه، كما لو رُئِىَ بعدَ العَصْرِ. 1033 - مسألة: (وإذا رَأى الهِلالَ أهْلُ بَلَدٍ؛ لَزِم النَّاسَ كلَّهم الصومُ) هذا قولُ اللَّيْثِ، وبَعْضِ أصحاب الشافعىِّ. وقال بَعْضهم: ¬

(¬1) خانقين: بلدة في طريق همذان من بغداد. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب الهلال يرى بالنهار، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 213. وعبد الرزاق، في: باب أصبح الناس صيامًا وقد رؤى الهلال، من كتاب الصوم. المصنف 4/ 162، 163. وابن أبى شيبة، في: باب في الهلال يرى نهارًا أيفطر أم لا، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان بينَ البَلَدَيْن مسافَةٌ قَرِيبَةٌ، لا تَخْتَلِفُ المَطالِعُ لأجْلِها، كبَغْدادَ والبَصْرَةِ، لَزِم أهْلَهما الصومُ برُؤْيَةِ الهِلالِ في أحَدِهما، وإن كان بينَهما بُعْدٌ، كالحِجازِ والعِراقِ والشّامِ، فلكلِّ أهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهم. ورُوِىَ عن عِكْرِمَةَ، أنَّه قال: لكلِّ أهلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهم. وهو مَذْهَبُ القاسِمِ، وسالِمٍ، وإسحاقَ، لِما روَى كُرَيْبٌ، قال: قَدِمْتُ الشّامَ، واسْتَهَلَّ علىَّ هِلالُ رمضانَ وأنا بالشّامِ، فرَأْيْنا الهِلالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، ثم قَدِمْتُ المدينةَ في آخِرِ الشَّهْرِ، فسَألَنِى ابنُ عباس، ثم ذَكَر الهِلالَ، فقال: متى رَأَيْتُمُ الهِلالَ؟ فقُلْتُ: رَأْيناه لَيْلَةَ الجُمُعَةِ. فقال: أنت رَأَيْتَه لَيْلَةَ الجُمُعَةِ؟ فقُلْتُ: نعم، ورَآه النّاسُ، وصامُوا، وصام مُعاوِيَةُ. فقال: لكنْ رَأْيناه لَيْلَةَ السَّبْتِ، فلا نَزالُ نَصُومُ حتى نُكْمِلَ ثَلاثِين أو نَراه. فقُلْتُ: ألا تكتَفِى برُؤْيَةِ مُعاوِيَةَ وصِيامِه؟ فقال: لا، هكذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواه مسلمٌ (¬1). ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعْرابِىِّ لَمّا قال له: آللَّه أمَرَك أن تَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِن السَّنَةِ؟ قال: «نعَمْ» (¬3). وأجْمَعَ المسلمون على وُجُوب صومِ شَهْرِ رمضانَ، وقد ثَبَت أنَّ هذا اليَوْمَ مِن شَهْرِ رمضانَ، بشَهادَةِ الثِّقاتِ، فوَجَبَ صَوْمُه على جَمِيعِ المسلمين، ولأنَّ شَهْرَ رمضانَ ما بينَ الهِلالَيْن، وقد ثَبَت أنَّ هذا اليَوْمَ منه في سائِرِ الأحْكامِ؛ مِن حُلُولِ الدَّيْنِ، ووُقُوعِ الطَّلاقِ والعَتاقِ، ووُجُوب النَّذْرِ، وغيرِ ذلك مِن الأحْكامِ، فيَجِبُ صِيامُه بالنَّصِّ والإِجْماعِ، ولأنَّ ¬

(¬1) في: باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 765. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 213. والنسائى، في: باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤيا، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 105، 106. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 306. (¬2) سورة البقرة 185. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب ما جاء في العلم، من كتاب العلم. صحيح البخارى 1/ 24، 25. ومسلم، في: باب السؤال عن أركان الإسلام، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 41، 42. والترمذى، في: باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 98، 99. والنسائى، في: باب وجوب الصيام، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 98 - 100 والدارمى، في: باب فرض الوضوء والصلاة، من كتاب الطهارة. سنن الدارمى 1/ 164.

1034 - مسألة (ويقبل فى هلال رمضان قول عدل واحد، ولا يقبل فى سائر الشهور إلا عدلان)

وَيُقْبَلُ في هِلَالِ رَمَضَانَ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُقْبَلُ في سَائِرِ الشُّهُورِ إِلَّا عَدْلَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيِّنَةَ العادِلَةَ شَهِدَتْ برُؤْيَةِ الهِلالِ، فيجبُ الصَّوْمُ, كما لو تَقارَبَتِ البُلْدانُ. فأمّا حديثُ كُرَيْبٍ فإنَّما دَلَّ على أنَّهم لا يُفْطِرُون بقولِ كُرَيْبٍ وحْدَه، ونحن نقولُ به، وإنَّما مَحَلُّ الخِلافِ وُجُوبُ قَضاءِ اليَوْمِ الأوَّلِ، وليس هو في الحديثِ. فإن قِيلَ: فقد قُلْتُم: إنَّ النّاسَ إذا صامُوا بشَهادَةِ واحِدٍ ثَلاثِين يَوْمًا، أفْطَرُوا في أحَدِ الوَجْهَيْن. قُلْنا: الجَوابُ عنه مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّنا إنَّما قُلْنا يُفْطِرُون إذا صامُوا بشَهادَتِه، فيَكُونُ فِطْرُهم مَبْنِيًّا على صَوْمِهم بشَهادَتِه، وههُنا لم يَصُومُوا بقَوْلِه، فلم يُوجَدْ ما يَجُوزُ بِناءُ الفِطْرِ عليه. الثَّانِى، أنَّ الحديثَ دَلَّ على صِحَّةِ الوَجْهِ الآخَرِ. 1034 - مسألة (ويُقْبَلُ في هِلالِ رمضانَ قولُ عَدْلٍ واحِدٍ، ولا يُقْبَلُ في سائِرِ الشُّهُورِ إلَّا عَدْلان) المَشْهُورُ عن أحمدَ، أنَّه يُقْبَلُ في هِلالِ رمضانَ قولُ عَدْلٍ واحِدٍ، ويَلْزَمُ النّاسَ الصَّوْمُ بقَوْلِه. وهو قولُ عُمَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلىٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ المُبارَكِ، والشافعىِّ في الصَّحِيحِ عنه. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: اثْنَيْن أعْجَبُ إلىَّ. وقال أبو بكرٍ، إن رَآه وَحْدَه، ثم قَدِم المِصْرَ، صام النّاسُ بقَوْلِه، على ما رُوِى في الحديثِ (¬1). وإن كان الواحِدُ في جَماعَةِ النّاسِ فذَكَرَ أنَّه رَآه دُونهم، لم يُقْبَلْ إلَّا قولُ اثْنَيْن؛ لأنَّهم يُعايِنُون ما عايَنَ. ورُوِىَ عن عُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا يُقْبَلُ إلَّا شَهادَةُ اثْنَيْن. وهو قولُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ؛ لِما روَى عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ الخَطّابِ، أنَّه خَطَب النّاسَ في اليَوْمِ الذى يشكُّ فيه، فقال: إنِّى جالَسْتُ أصحابَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَأَلْتُهَم، وإنَّهم حَدَّثُونِى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَانْسُكُوا لَهَا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا ثَلَاثِين، وَإنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ذَوَا عَدْلٍ، فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا». رَواه النَّسائِىُّ (¬2). ولأنَّ هذه شَهادَةٌ على ¬

(¬1) يشير إلى حديث الأعرابى الآتى بعد قليل وكذلك حديث ابن عمر الذى بعده. (¬2) في: باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 107. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُؤْيَةِ الهِلالِ، أشْبَهَتِ الشَّهادَةَ على هِلالِ شَوّالٍ. وقال أبو حنيفةَ في الغَيْمِ كقَوْلِنا، وفى الصَّحْوِ: لا يُقْبَلُ إلَّا الاسْتِفاضَةُ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ أن يَنْظرَ الجَماعَةُ إلى مَطْلَعِ الهِلالِ، وأبْصارُهم صَحِيحَةٌ (¬1)، والمَوانِعُ مُنْتَفِيَةٌ، فيرَاه واحِدٌ دُونَ الباقِين. ولَنا، ما روَى ابنُ عباس، قال: جاء أعْرابِىٌّ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: رَأيْتُ الهِلالَ. قال: «أتَشْهَدُ أن لا إِلهَ إلَّا اللَّهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟» قال: نعم. قال: «يا بِلَالُ أذِّنْ في النَّاسِ، فَلْيَصُومُوا غَدًا». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2). ¬

(¬1) سقط من النسخ وأثبتناها كما في المغنى 4/ 417، ليستقيم السياق. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 547. والترمذى، في: باب ما جاء في الصوم بالشهادة، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 206. والنسائى، في: باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 106. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 529. والدارمى، في: باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى ابنُ عُمَرَ، قال: تَراءَى النّاسُ الهِلالَ، فَأخْبَرْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنِّى رَأيْتُه. فصام، وأمَرَ النّاسَ بصِيامِه. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه خبَرٌ عن وَقْتِ الفَرِيضَةِ فيما طَرِيقُه المُشاهَدَةُ، فقُبِلَ فيه قولُ واحِدٍ، كالخَبَرِ بدُخُولِ وَقْتِ الصَّلاةِ، ولأنَّه خَبَرٌ دِينىٌّ يَشْتَرِكُ فيه المُخْبِرُ والمُخْبَرُ، فقُبِلَ مِنِ عَدْلٍ واحِدٍ كالرِّوايَةِ. وخبَرُهم إنَّما يَدُلُّ بمَفْهُومِه، وخبَرُنا يَدُلُّ بمَنطُوقِه، وهو أشْهَرُ منه، فيَجِبُ تَقْدِيمُه، ويُفارِقُ الخَبَرَ عن هِلالِ شَوّالٍ، فإنَّه خُرُوجٌ مِن العِبادَةِ، وهذا دُخُولٌ فيها، ويُتَّهَمُ في هِلالِ شَوّالٍ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وما ذَكَرَه أبو بكرٍ وأبو حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَجُوزُ انْفِرادُ الواحِدِ به مع لَطافَةِ المَرْئِىِّ وبُعْدِه، ويَجُوزُ أن تَخْتَلِفَ مَعْرِفَتُهم بالمَطْلَعِ، ومَواضِعُ قَصْدِهم، وحِدَّةُ نَظرِهم، ولهذا لو حَكَم حاكِمٌ بشَهادَةِ واحِدٍ، جاز، ولو شَهِدَ شاهِدان، وَجَب قَبُولُ شهادَتِهما عندَ أبى بكرٍ، ولو كان مُمْتَنِعًا على ما قالُوه لم يَصِحَّ فيه حُكْمُ حاكِمٍ، ¬

(¬1) في: باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 547. كما أخرجه الدارمى، في: باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، من كتاب الصيام. سنن الدارمى 2/ 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَثْبُتُ بشهادَةِ اثْنَيْن. ومَن مَنَع ثُبُوتَه بشَهادَةِ اثْنَيْن، رَدَّ عليه الخَبَرُ الأوَّلُ، وقِياسُه على سائِرِ الحُقُوقِ، وسائِرِ الشُّهُورِ، ولو أنَّ جَماعَةً في مَحْفِلٍ، وشَهِد منهم اثْنان على رجلٍ أنَّه طَلَّقَ زَوْجَتَه، أو أعْتَقَ عَبْدَه، قُبِلَت شَهادَتُهما، ولو أنَّ اثْنَيْن مِن أهْلِ الجُمُعَةِ شَهِدا على الخَطِيبِ أنَّه قال على المِنْبَرِ في الخُطْبَةِ شيئًا، لم يَشْهَدْ به غيرُهما، لقُبِلَت شَهادَتُهما، وكذلك لو شَهِدَا عليه بفِعْلٍ، وإن كان (¬1) غيرُهما يُشارِكُهما في سَلامَةِ السَّمْعِ، وصِحَّةِ البَصَرِ، كذا ههُنا. فصل: وإن أخْبَرَه برُؤْيَةِ الِهِلالِ مَن يَثِقُ بقَوْلِه، لَزِمَه الصومُ، وإن لم يَثْبُتْ ذلك عندَ الحاكِمِ؛ لأنَّه خَبَرٌ بوَقْتِ العِبادَةِ، يَشْتَرِكُ فيه المُخْبِرُ والمُخْبَرُ، أشْبَهَ الخَبَرَ عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخَبَرَ عن دُخُولِ وَقْتِ الصَّلاةِ. ذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ. ومُقْتَضَى هذا أنَّه يَلْزَمُه قَبُولُ خَبَرِه وإن رَدَّه الحاكِمُ؛ لأنَّ رَدَّ الحاكِمِ يَجُوزُ أن يكونَ لعَدَمِ عِلْمِه بحالِ المُخْبِرِ، ولا يَتَعَيَّنُ ذلك في عَدَمِ العَدالَةِ، وقد يَجْهَلُ الحَاكِمُ عَدالَةَ مَن يَعْلَمُ غيرُه عَدَالَتَه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المُخْبِرُ امرأةً فقِياسُ المَذْهَبِ قَبُولُ قَوْلِها. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه خبَرٌ دِينِىٌّ، أشْبَهَ الرِّوايَةَ، والخَبَرَ عن القِبْلَةِ، ودُخُولِ وَقْتِ الصَّلاةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ فيه قولُ امرأةٍ، كهِلالِ شَوّالٍ. فصل: فأمّا هِلالُ شَوّالٍ وغيرِه مِن الشُّهُورِ فلا يُقْبَلُ فيه إلَّا شَهادَةُ عَدْلَيْن في قولِ الجَمِيعِ، إلَّا أبا ثَوْرٍ، فإنَّه قال: يُقْبَلُ في هِلالِ شَوّالٍ قولُ واحِدٍ؛ لأنَّه أحَدُ طَرَفىْ شَهْرِ رمضانَ، أشْبَهَ الأوَّلَ، ولأنَّه خَبَرٌ يَسْتَوِى فيه المُخْبَرُ، أشْبَهَ الرِّوايَةَ وأخْبارَ الدِّياناتِ. ولَنا، خَبَرُ عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ الخَطّاب. وعن ابنِ عُمَرَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه أجاز شَهادَةَ رجل واحِدٍ على رُويَةِ الهِلالِ، وكان لا يُجِيزُ على شَهادَةِ الإِفْطارِ إلَّا شَهادَةَ رَجُلَيْن (¬1). ولأنَّها شَهادَةٌ على هِلالٍ لا يُدْخَلُ بها في العِبادَةِ، أشْبَهَ سائِرَ الشُّهُورِ، وهذا يُفارِقُ الخَبَر؛ لأنَّ الخَبَرَ يُقْبَلُ فيه قولُ المُخْبِرِ مع وُجُودِ المُخْبَرِ عنه، وفُلانٌ عن فُلانٍ، وهذا لا يُقْبَلُ فيه ذلك، فافْتَرَقا. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى في: أول كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 156. والبيهقى، في: باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 212.

1035 - مسألة: (وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما فلم يروا الهلال، أفطروا)

وَإذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ. اثْنَيْنِ ثَلَاِثينَ يَوْمًا فَلَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ، أَفْطَرُوا. وَإنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُقْبَلُ فيه شَهادَةُ رجل وامْرَأتَيْن، ولا شَهادَةُ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ وإن كَثُرْنَ، وكذلك سائِرُ الشُّهُورِ؛ لأنَّه ممّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ، وليس بمالٍ، ولا يُقْصَدُ به المالُ، أشْبَهَ القِصاصَ، وكان القِياسُ يَقْتَضِى مِثْلَ ذلك في رمضانَ، لكنْ تَرَكْناه احْتِياطًا للعِبادَةِ. واللَّهُ أعلمُ. 1035 - مسألة: (وإذا صامُوا بشَهادَةِ اثْنَيْن ثَلاثِيِن يَوْمًا فلم يَرَوُا الهِلالَ، أفْطَرُوا) وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ الشَّهْرَ لا يَزِيدُ على ثَلاِثِين، ولحديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ الخَطّابِ. 1036 - مسألة: (وإن صامُوا بشَهادَةِ واحِدٍ) فلم يَرَوُا الهِلالَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فعلىِ وَجْهَيْن) أحَدُهما، لا يُفطِرُون؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ فصُومُوا وَأفْطِرُوا» (¬1). ولأنَّه فِطْرٌ، فلم يَجُزْ أن يَسْتَنِدَ إلى شَهادَةِ واحِدٍ، كما لو شَهِد بهِلالِ شَوّالٍ. والثانى، يُفْطِرُون. وهو مَنْصُوصُ الشافعىِّ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ؛ لأنَّ الصومَ إذا وَجَب وَجَب الفِطْرُ لاسْتِكْمالِ العِدَّةِ، لا بالشَّهادَةِ، وقد يَثْبُتُ تَبَعًا ما لا يَثْبُتُ أصْلًا، بدَلِيلِ أنَّ النَّسَبَ لا يَثْبُتُ بشَهادَةِ النِّساءِ، وتَثْبُتُ بها الوِلادَةُ، ويَثْبُتُ النَّسَبُ تَبَعًا لها، كذا ههُنا. ¬

(¬1) هو جزء من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب المتقدم.

1037 - مسألة: (فإن صاموا لأجل الغيم، لم يفطروا)

وَإنْ صَامُوا لأَجْلِ الْغَيْمِ، لَمْ يُفْطِرُوا. وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، لَزِمَهُ الصَّوْمُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1037 - مسألة: (فإن صامُوا لأجْلِ الغيْمِ، لم يُفْطِرُوا) وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ الصومَ إنَّما كان على وَجْهِ الاحْتِياطِ، فلا يَجُوزُ الخُرُوجُ منه للاحْتِياطِ أيضًا. 1038 - مسألة: (ومَن رَأى هِلالَ رمضانَ وَحْدَه ورُدَّت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَتُه، لَزِمَه الصومُ) هذا المَشْهُورُ في المَذْهَبِ، وسَواءٌ كان عَدْلًا أو فاسِقًا، شَهِد عندَ الحاكِمِ أو لم يَشْهَدْ، قُبِلَت شَهادَتُه أو رُدَّت. وهذا قولُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ. وقال إسحاقُ، وعطاءٌ: لا يَصُومُ. وروَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ: لا يَصُوِمُ إلَّا في جَماعَةِ النّاسِ. ورُوِىَ نَحْوُه عن الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ؛ لأنَّه يَوْمٌ مَحْكُومٌ به مِنَ شعبانَ فأشْبَهَ التّاسِعَ والعِشْرِين. ولَنا، أنَّه تَيَقَّنَ أنَّه مِن رمضانَ فلَزِمَه صَوْمُه, لو حَكَم به الحاكِمُ. وكَوْنُه مَحْكُومًا به مِن شعبانَ ظاهِرٌ في حَقِّ غيرِه، وأمّا في الباطِنِ، فهو يَعْلَمُ أنَّه مِن رمضانَ، فلَزِمَه صِيامُه كالعدْلِ.

1039 - مسألة: (وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر)

وَإنْ رَأى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، لَمْ يُفْطِرْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1039 - مسألة: (وإن رأى هِلالَ شَوّالٍ وَحْدَه، لم يفْطِرْ). رُوِى ذلك عن مالكٍ، واللَّيْثِ. وقال الشافعىُّ: يَحِلُّ له أن يَأْكُلَ بحيثُ لا يَراه أحَدٌ؛ لأنَّه تَيَقَّنَه مِن شَوّالٍ، فجازَ له الأكْلُ, كما لو قامتْ به بَيِّنَةٌ. ولَنا، ما روَى أبو رَجاءَ عن أبى قِلابَةَ، أنَّ رَجُلَيْن قَدِما المَدِينَةَ وقد رَأَيا الهِلالَ، وقد أصْبَحَ النّاسُ صِيامًا، فأتَيا عُمَرَ، فذَكَرا ذلك له، فقال لأحَدِهما: أصائِمٌ أنت؟ قال: بل مُفْطِرٌ. قال: ما حَمَلَك على هذا؟ قال: لم أكُنْ لأصُومَ وقد رأيْتُ الهِلالَ. وقال للآخَرِ، قال: أنا صائِمٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: ما حَمَلَك على هذا؟ قال: لم أكُنْ لأُفْطِرَ والنّاسُ صِيامٌ. فقال للذى أفْطَرَ: لولا مَكانُ هذا لأوْجَعْتُ رَأْسَك. ثم نُودِىَ في النّاسِ: أنِ اخْرُجُوا. أَخْرَجَه سَعِيدٌ، عن ابن عُلَيَّةَ (¬1) عن أيُّوبَ، عن أبى رَجاءَ (¬2). وإنَّما أرادَ ضَرْبَه لإِفْطارِه برُؤْيَتِه وَحْدَه، ودَفَع عنه الضَّرْبَ لكَمالِ الشَّهادَةِ به وبصاحِبه، ولو جاز له الفِطْرُ لَما أنْكَرَ عليه, ولا تَوَعَّدَه. وقالتْ عائشةُ: إنَّما يُفْطِرُ يومَ الفِطْرِ الإِمامُ وجَماعَةُ المسلمين. ولم يُعْرَف لهما مُخالِفٌ في عَصْرِهما، فكان إجْماعًا، ولأنَّه محْكُومٌ به مِن رمضانَ، أشْبَهَ اليومَ الذى قبلَه، وفارَقَ ما إذا ثَبَت ببَيِّنَةٍ؛ لأنَّه مَحْكُومٌ به مِن شَوّالٍ، بخِلافِ هذا. قَوْلُهم: إنَّه يَتَيَقَّنُ أنَّه مِن شَوّالٍ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ خُيِّلَ إليه ذلك فرَأى شيئًا، أو شَعَرَةً مِن حاجبه ظَنَّها هِلالًا ولم تَكُنْ. فصل: فإن رآه اثْنان، فلم يَشْهَدا عندَ الحاكِمِ، جاز لمَن سَمِع ¬

(¬1) في م: «عيينة». (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب أصبح الناس صياما وقد رئى الهلال، عن كتاب الصيام. المصنف 4/ 165.

1040 - مسألة: (وإن اشتبهت الأشهر على الأسير، تحرى

وَإِذَا اشْتَبَهَتِ الْأَشْهُرُ عَلَى الْأَسِيرِ، تَحَرَّى وَصَامَ، فَإِنْ وَافَقَ الشَّهْرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَتَهما الفِطْرُ، إذا عَرَف عَدالَتَهما، ولكلِّ واحِدٍ منهما أن يُفْطِرَ بقَوْلِهما إذا عَرَف عَدالَةَ الآخَرِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِذَا شَهِدَ اثْنَان فَصُومُوا وَأفْطِروا» (¬1). وإن شَهِدا عندَ الحاكِمِ، فرَدَّ شَهادَتَهما؛ لجَهْلِه بحالِهما، فلمَن عَلِم عَدالَتَهما الفِطْرُ؛ لأنَّ رَدَّ الحاكِم ههُنا ليس بحُكْمٍ منه، وإنَّما هو تَوَقُّفٌ لعَدَمِ عِلْمِه، فهو كالوُقُوفِ عن الحُكْمِ انْتِظارًا للبَيِّنةِ، ولهذا لو ثَبَتَتْ عَدالَتُهما بعدَ ذلك حُكِم بها، وإن لم يَعْرِفْ أحَدُهما عَدالَةَ صاحِبِه، لم يَجُزْ له الفِطْر، إلَّا أن يَحْكُمَ بذلك الحاكِمُ؛ لأنَّه يَكُونُ مُفْطِرًا برُؤْيَتِه وَحْدَه. 1040 - مسألة: (وإنِ اشْتَبَهَتِ الأشْهُرُ على الأسِيرِ، تَحَرَّى ¬

(¬1) تقدم في حديث عبد الرحمن بن زيد ين الخطاب في صفحة 339.

أَو ما بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ وَافَقَ قَبْلَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصام، فإن وافَقَ الشَّهْرَ، أو ما بعدَه، أجْزَأه، وإن وافَقَ قبلَه، لم يُجْزِئه). إذا كان الأسِيرُ مَحْبوسًا، أو مَطْمُورًا (¬1)، أو في بَعْضِ النَّواحِى النّائِيَةِ عن الأَمْصارِ، لا يُمكِنُه تَعَرُّفُ الأشْهُرِ بالخَبَرِ، فاشْتَبَهَتْ عليه الأشْهُرُ، فإنَّه يَتَحَرَّى ويَجْتَهِدُ، فإذا غَلَب على ظَنِّه عن أمارَةٍ تَقُومُ في نَفْسِه دُخُولُ شَهْرِ رمضانَ، صامَه، ولا يَخْلُو مِن أرْبَعَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن لا يَنْكَشِفَ له الحالُ، فيَصِحَّ صَوْمُه، ويُجْزِئَه، لأنَّه أدَّى فَرْضَه باجْتِهادِه، فأجْزَأه, كما لو صَلَّى في يَوْمِ الغَيْمِ بالاجْتِهادِ. الثانى، أن يَنْكَشِفَ أنَّه وافَقَ الشَّهْرَ, أو ما بعدَه، فيُجْزِئَه في قولِ عامَّةِ العُلماءِ. وحُكِىَ عن الحسنِ بنِ صالِحٍ، أنَّه لا يُجْزِئُه في الحالَتَيْن؛ لأنَّه صامه على الشَّكِّ، فلم يُجْزِئْه, كما لو صامَ يومَ الشَّكِّ، فبان مِن رمضانَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه أدَّى فَرْضَه بالاجْتِهادِ في مَحَلِّه، فإذا أصاب أو لم يَعْلَمِ الحالَ أجْزَأه، كالقِبْلَةِ إذا اشْتَبَهَت، أو الصَّلاةِ في يَوْمِ الغَيْمِ إذا اشْتَبَهَ ¬

(¬1) أى مسجونا في مكان خفى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقْتُها، وفارَقَ يومَ الشَّكِّ، فإنَّه ليس بمَحَلٍّ للاجْتِهادِ، فإنَّ الشَّرْعَ أمَرَ بصومِه عندَ أمارَةٍ عَيَّنَها، فما لم تُوجَدْ لم يَجُزِ الصومُ. الحالُ الثّالِثُ، وافَقَ قبلَ الشَّهْرِ، فلا يُجْزِئُه، في قولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ. وقال بعضُ الشافعيةِ: يُجْزِئُه في أحَدِ القَوْلَيْن، كما لو اشْتَبَهَ يومُ عَرَفَةَ فوَقَفُوا قبلَه. ولَنا، أنَّه أتَى بالعِبادَةِ قبلَ وَقْتِها، فلم يُجْزِئْه، كالصلاةِ في يومِ الغَيْمِ. وأمّا الحَجُّ فلا نُسَلِّمُه إلَّا فيما إذا أخْطَأَ النّاسُ كُلُّهم، لعِظَم المَشَقَّةِ عليهم (¬1)، وإن وَقَع ذلك لبَعْضِهم لم يُجْزِئْهم؛ ولأنَّ ذلك لا يُؤْمَنُ مِثْلُه في القَضاءِ، بخِلافِ الصوم. الحالُ الرّابعُ، أن يُوافِقَ بعضُه رمضانَ دُونَ بَعْضٍ، فما وافَقَ رمضانَ أَو بعدَه أجْزَأه، وما وافَقَ قبلَه لم يُجْزِئْه. فصل: وإذا وافَقَ صومُه بعدَ الشَّهْرِ، اعْتُبِرَ أن يَكُونَ ما صامَه بعَدَدِ أيّامِ شَهْرِه الذى فاتَه، سَواءٌ وافَقَ ما بينَ الهِلالَيْن، أو لم يوافِقْ، وسَواءٌ كان الشَّهْران تامَّيْنِ أو ناقِصَيْن، ولا يُجْزِئُه أقَلُّ مِن ذلك. وقال القاضى: ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه إذا وافَقَ شَهْرًا بينَ هِلالَيْن أجْزَأه، سَواءٌ كان الشَّهْران تامَّيْن أو ناقِصَيْن، أو أحَدُهما تامًّا والآخرُ ناقِصًا. وليس بصَحِيحٍ؛ فإنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهَ تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). ولأنَّه فاتَه شَهْرُ رمضانَ، فوَجَبَ أن يَكُونَ صِيامُه بعَدَدِ ما فاتَه، كالمَرِيضِ والمُسافِرِ. وليس في كَلامِ الخِرَقِىِّ تَعَرُّضٌ لهذا التَّفْصِيلِ، فلا يَجُوزُ حَمْلُ كَلامِه على ما يُخالِفُ الكِتابَ والصَّوابَ. فإن قِيلَ: أليس إذا نَذَر صومَ شَهْرٍ يُجْزِئُه ما بينَ الهِلالَيْن؟ قُلْنا: الإِطْلاقُ يُحْمَلُ على ما تَناوَلَه الاسْمُ، والاسْمُ يَتَناوَلُ ما بينَ الهِلالَيْن، وههُنا يَجِبُ قَضاءُ ما تَرَك، فيَجِبُ أن يُراعَى فيه عِدَّةُ المَتْرُوكِ, كما أنَّ مَن نَذَر صلاةً أجْزَأه رَكْعَتان، ولو تَرَك صلاةً وَجَب قَضاؤُها بعَدَدِ رَكَعاتِها، كذلك ههُنا الواجِبُ بعَدَدِ ما فاتَه مِن الأَيَّامِ، سَواءٌ كان ما صامه بينَ هِلالَيْن أو مِن (¬2) شَهْرَيْن، فإن دَخَل في صيامِه يومُ عِيدٍ لم يُعْتَدَّ به، وإن وافَقَ أيَّامٍ التَّشْرِيقِ، فهل يُعْتَدُّ بها؟ على رِوايَتَيْن، بِناءً على صِحَّةِ صَومِها عن الفَرْضِ. فصل: فإن لم يَغْلِبْ على ظَنِّ الأسِيرِ دُخُولُ رمضانَ فصامَ، لم يُجْزِئْه وإن وافَقَ الشَّهْرَ؛ لأنَّه صامَه على الشَّكِّ، فلم يُجْزِئْه, كما لو نَوَى لَيْلَةَ ¬

(¬1) سورة البقرة 185. (¬2) في م: «بين».

1041 - مسألة: (ولا يجب الصوم إلا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم، ولا يجب على كافر ولا مجنون ولا

وَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا صَبِىٍّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّكِّ، إن كان غَدًا مِن رمضانَ فهو فَرْضِى. وإن غَلَب على ظَنِّه مِن غيرِ أمارَةٍ، فقال القاضى: عليه الصيامُ، ويَقْضِى إذا عَرَف الشَّهْرَ، كالذى خَفِيَتْ عليه دَلائِلُ القِبْلَةِ فصلَّى على حَسَبِ حالِه، فإنَّه يُعِيدُ. وذَكَرِ أبو بكرٍ في مَن خَفِيَتْ عليه دَلائِلُ القِبْلَةِ هل يُعِيدُ؟ على وَجْهَيْن. كذلك يُخَرَّجُ على قَوْلِه ههُنا. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه يَتَحَرَّى، فمتى غَلَب على ظَنِّه دُخُولُ الشَّهْرِ صَحَّ صَوْمُه وإن لم يَبْنِ على دَلِيلٍ؛ لأنَّه ليس في وُسْعِه مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها. فصل: وإذا صام تَطَوعًا، فوافَقَ شَهْرَ رمضانَ، لم يُجْزِئْه. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أصحابُ الرَّأْى: يُجْزِئُه. وهو مَبْنِىٌّ على وُجُوبِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لرمضانَ، وسنَذْكُرُه، إن شاء اللَّه تعالى. 1041 - مسألة: (ولا يَجِبُ الصومُ إلَّا على المُسْلِمِ البالِغِ العاقِل القادرِ على الصومِ، ولا يَجِبُ على كافِر ولا مَجْنُونٍ ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَبِىٍّ) يَجِبُ الصومُ على مَن وُجِدَتْ فيه هذه الشُّرُوطُ بغيرِ خِلافٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، ولا يَجِبُ على كافِرٍ، أصْلِيًّا كان أو مُرتدًّا، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَب؛ لأنَّه عِبادَةٌ لا تَصِحُّ منه في حالِ كُفْرِه، ولا يَجبُ عليه قَضاؤُها إذا أَسْلَمَ؛ لقَوْلِه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القَضاءَ يَجِبُ على المُرْتَدِّ إذا أَسْلَمَ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه قد اعْتَقَدَ وُجُوبَها عليه، بخِلافِ الكافِرِ الأصْلِىِّ. فعلى هذا يَجِبُ عليه في حالِ رِدَّتِه؛ لعُمُومِ الأدِلَّةِ. وسنَذْكُرُ ذلك في بابِ المُرْتَدِّ، إن شاء اللَّه تعالى. ولا يَجِبُ على مَجْنونٍ؛ لقَوْلِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» (¬2). ولا يَصِحُّ منه؛ لأنَّه غيرُ عاقِلٍ، أشْبَهَ الطِّفْلَ. ¬

(¬1) سورة الأنفال 38. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الصَّبِىُّ العاقِلُ الذى يُطِيقُ الصَّوْمَ، فيَصِحُّ منه، ولا يَجبُ عليه حتى يَبلُغَ، وكذلك الجارِيَةُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا قولُ أكثرِ أهَل العِلْمِ. وذهَب بَعْضُ أصحابِه إلى أنَّه يَجِبُ على الغُلامِ الذى يُطِيقُه إذا بَلَغ عَشْرًا؛ لِما روَى ابنُ جُرَيج عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبى لَبِيبَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا أطَاقَ الغُلَامُ صِيامَ ثلاثةِ أيَّامٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رمضِانَ» (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، أشْبَهَتِ الصلاةَ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. قال القاضى: المَذْهَبُ عندِى، رِوايَةً واحِدَةً، أنَّ الصلاةَ والصومَ لا تَجِبُ حتى يَبْلُغَ، وما قالَه أحمدُ في مَن تَرَك الصلاةَ يَقْضِيها، نَحْمِلُه على الاسْتِحْباب؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ولأنَّها عِبادَةٌ، فلم تَجِبْ على الصَّبِىِّ، كالحَجِّ. وحديثُهم مُرْسَلٌ، ويُمْكِنُ حَمْلُه على الاسْتِحْبابِ، وسَمّاه واجِبًا تأكيدًا، كقَوْلِه عليه السلامُ: «غُسْلُ الجُمُعَةِ (¬2) وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحتَلِمٍ» (¬3). وفى ذلك جَمْعٌ بينَ الحَدِيثَيْن، فكان أوْلَى، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب متى يؤمر الصبى بالصيام، من كتاب الصيام. المصنف 4/ 154، 155. (¬2) في م: «يوم الجمعة». (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 269.

1042 - مسألة: (ويؤمر به إذا أطاقه، ويضرب عليه ليعتاده)

وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِهِ إِذَا أَطَاقَهُ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهِ لِيَعْتَادَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1042 - مسألة: (ويُؤْمَرُ به إذا أطاقَه، ويُضْرَبُ عليه ليَعْتادَه) يَجِبُ على الوَلِىِّ أمْرُ الصَّبِىِّ بالصِّيامِ إذا أطاقَه، ويَضْرِبُه عليه؛ ليَتَمَرَّنَ عليه ويَعْتادَه؛ لِما ذَكَرْنا في الصَّلاةِ (¬1). ومِمَّن ذَهَب إلى أنَّه يُؤْمَرُ بالصيامِ إذا أطاقَه عَطاءٌ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادَةُ، والشافعىُّ. وقال الأوْزاعِىُّ: إذا أطاقَ صيامَ ثَلَاثةِ أيّامِ تِباعًا، لا يَخُورُ فيهِنَّ ولا يَضْعُفُ، حُمِّلَ صومَ شَهْر رمضانَ. وقال الخِرَقِىُّ: إذا كان للغُلامِ عَشْرُ سِنِين، وأطاقَ الصِّيامَ، أُخِذَ به. وقال إسحاقُ: إذا بَلَغ ثِنْتَىْ عَشَرَةَ أُحِبُّ أن يُكَلَّفَ الصومَ للعادَةِ. قال شيخُنا (¬2)، رَحِمَه اللَّهُ: ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 3/ 21، 22. (¬2) في: المغنى 4/ 413.

1043 - مسألة: (وإذا قامت البينة بالرؤية فى أثناء النهار، لزمهم الإمساك والقضاء)

وَإذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ في أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَزِمَهُمُ الإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعْتِبارُه بالعَشْرِ أوْلَى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ بالضَّرْبِ على الصَّلاةِ عندَها (¬1). واعْتِبارُ الصومِ بالصلاةِ أحْسَنُ؛ لقُرْبِ إحْداهما مِن الأخْرَى في كَوْنِهما عِبادَتَيْن بَدَنِيَتّيْن مِن أرْكانِ الإِسْلامِ، إلَّا أنَّ الصومَ أشَقُّ، فاعْتُبِرَتْ له الطّاقَةُ؛ لأنَّه قد يُطِيقُ الصلاةَ مَنْ لا يُطِيقُ الصيامَ. 1043 - مسألة: (وإذا قامَتِ البَيِّنَةُ بالرُّؤْيَةِ في أثْناءِ النَّهارِ، لَزِمَهم الإِمْساكُ والقَضاءُ) وهذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، أنَّه لا يَجِبُ عليه الإِمْساكُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا نَعْلَمُ أحَدًا قالَه غيرَ عَطاءٍ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ ذلك رِوايَةً عن أحمدَ، قِياسًا على المُسافِرِ إذا قَدِم. قال شيخُنا (¬2)، رَحِمَه اللَّهُ: ولم نَعْلَمْ أحَدًا ذَكَرَها غيرَه، وأظُنُّ هذا غَلَطًا؛ فإنَّ أحمدَ نصَّ على إيجابِ الكَفّارَةِ على مَن وَطِئَ ثم كَفَّرَ ثم عاد فوَطِئَ في يَوْمِه؛ لأنَّ حُرْمَةَ الصوم لم تَذْهَبْ، فإذا أوْجَبَ الكَفّارَةَ على غيرِ الصائمِ لحُرْمَةِ اليومِ، فكيَف يُبِيحُ الأكْلَ، ولا يَصِحُّ قِياسُ هذا على ¬

(¬1) الحديث تقدم تخريجه في 3/ 19. (¬2) في: المغنى 4/ 387.

1044 - مسألة: (وإن بلغ صبى، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، فكذلك. وعنه، لا يلزمهم شئ)

وَإنْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ بَلَغَ صَبِىٌّ، فَكَذَلِكَ. وَعَنْهُ، لَا يَلْزَمُهُمْ شَىْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسافِرِ إذا قَدِم وهو مُفْطِرٌ وأشباهِه؛ لأنَّه كان له الفِطْرُ ظاهِرًا وباطِنًا، وهذا لم يَكُنْ له الفِطْرُ في الباطِنِ مُباحًا، أشْبَهَ مَن أكَلَ يَظُنُّ أنَّ الفَجْرَ لم يَطْلُعْ، وكان قد طَلَع. فصل: وكلُّ مَن أفْطَرَ والصومُ يَجِبُ عليه، كالمُفْطِرِ لغيرِ عُذْرٍ، ومَن ظَنَّ أنَّ الفَجْرَ لم يَطْلُعْ وقد طَلَع، أو أنَّ الشَّمْسَ قد غابَتْ ولم تَغِبْ، والنّاسِى للنِّيَّةِ، ونحْوِهم، يَلْزَمُهم الإِمْساكُ بغيرِ خِلافٍ بينَهم إلَّا أنَّه يُخَرَّجُ على قولِ عَطاءٍ في المَعْذُورِ في الفِطْرِ إباحَةُ فِطْرِ بَقِيَّةِ يومِه، كالمسألةِ قبلَها، وهو قولٌ شاذٌّ، لم يُعَرِّجْ عليه العُلماءُ. 1044 - مسألة: (وإن بَلَغ صَبِىٌّ، أو أسْلَمَ كافِرٌ، أو أفاقَ مَجْنُونٌ، فكذلك. وعنه، لا يَلْزَمُهم شئٌ) إذا بَلَغ الصَّبِىُّ في أثْناءِ النَّهارِ وهو مُفْطِرٌ، أو أفاقَ المَجْنونُ، أو أسْلَمَ الكافِرُ، لَزِمَهم الإِمْساكُ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، والحسنِ بن صالِحٍ، والعَنْبَرِىِّ؛ لأنَّه مَعْنًى لو وُجِدَ قبلَ الفَجْرِ أوْجَبَ الصيامَ، فإذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَرَأ أوْجَبَ الإِمْساكَ، كقِيامِ البَيِّنَةِ بالرُّؤْيَةِ. والثّانِيَةُ، لا يَلْزَمُهم الإِمْساكُ. وإليه ذَهَب مالكٌ، والشافعىُّ. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه قال: مَن أَكَل أوَّلَ النَّهارِ فلْيَأْكُلْ آخِرَه؛ لأنَّه أُبِيحَ له الفِطْرُ أوَّلَ النَّهارِ ظاهِرًا وباطِنًا، فإذا أفْطَرَ كان له اسْتِدامَةُ الفِطْرِ، كما لو دامَ العُذْرُ. وهل يَجِبُ عليهم القَضاءُ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَجِبُ؛ لأنَّهم أدْرَكُوا بعضَ وَقْتِ العِبادَةِ، فلَزِمَهم القَضاءُ, كما لو أدْرَكُوا بعضَ وقتِ الصَّلاةِ. وهذا قولُ إسحاقَ في الكافِرِ إذا أسْلَمَ. والثانيةُ، لا يَلْزَمُهم. وهو قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ في الكافِرِ إذا أسْلَمَ. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لأنَّهم لم يُدْرِكُوا وَقْتًا يُمْكِنُهم التَّلَبُّسُ بالعِبادَةِ فيه، أشْبَهَ ما لو زالَ عُذْرُهم بعدَ خُروجِ الوَقْتِ. فصل: ويَجِبُ على الكافِرِ صومُ ما يَسْتَقْبِلُ مِن الشَّهْرِ بغيرِ خِلافٍ، ولا يَجِبُ قَضاءُ ما مَضَى في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ. وقال عَطَاءٌ: عليه القَضاءُ. وعن الحسنِ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ انْقَضَت في حالِ

1045 - مسألة: (وإن بلغ الصبى صائما أتم، ولا قضاء عليه عند القاضى. وعند أبى الخطاب، عليه القضاء)

وَإنْ بَلَغَ الصِّبِىُّ صَائِمًا أَتَمِّ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِى. وَعِنْدَ أَبِى الْخَطِّابِ، عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كُفْرِه، فلم يَجِبْ قَضاؤُها، كالرمضانِ الماضِى. 1045 - مسألة: (وإن بَلَغ الصَّبِىُّ صائِمًا أتَمَّ، ولا قَضاءَ عليه عندَ القاضى. وعندَ أبى الخَطّابِ، عليه القَضاءُ) إذا نَوَى الصَّبِىُّ الصومَ مِن اللَّيْلِ، فبَلَغ في أثْناءِ النَّهارِ بالاحْتِلامِ أو السِّنِّ، أتَمَّ صومَه، ولا قَضاءَ عليه. قالَه القاضى؛ لأنَّه نَوَى الصومَ مِن اللَّيْلِ، فأجْزَأتْه، كالبالِغِ، ولا يَمْتَنِعُ أن يَكُونَ أوَّلُ الصومِ نَفْلًا وباقِيه فَرْضًا, كما لو شَرَع في صومٍ تَطَوُّعًا، ثم نَذَر إتْمامَه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ وُجُوبَ القَضاءِ عليه؛ لأنَّها عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ بَلَغ في أثْنائِها بعدَ مُضِىِّ بعض أرْكانِها، فَلزِمَتْه إعادَتُها، كالصلاةِ، والحَجِّ إذا بَلَغ بعدَ الوُقُوفِ، يُحَقِّقُ ذلك أنَّه ببُلُوغِه يَلْزَمُه صَوْمُ جَمِيعِه، والماضِى قبل بُلُوغِه نَفْلٌ، فلم يُجْزِئُ عن الفَرْضِ، ولهذا لو نَذَر صومَ يومِ يَقْدَمُ فُلانٌ، فقَدِمَ والنّاذِرُ صائِمٌ، لَزِمَه القَضاءُ.

1046 - مسألة: (وإن طهرت حائض، أو نفساء، أو قدم المسافر مفطرا، فعليهم القضاء. وفى الإمساك روايتان)

وَإِنْ طَهُرَتْ حَائِضٌ، أَوْ نُفَسَاءُ، أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ مُفْطِرًا، فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ. وَفِى الْإِمْسَاكِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا ما مَضَى مِن الشَّهْرِ قبلَ بُلُوغِه، فلا يَجِبُ عليه قَضاؤُه، سَواءٌ كان صامَه أوْ لا، في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ. وقال الأوْزاعِىُّ: يَقْضِيه إن كان أفْطَرَه وهو مُطِيقٌ لصِيامِه. ولَنا، أنَّه زَمَنٌ مَضَى في حالِ صِباه، فلم يَلْزَمْه قَضاءُ الصومِ فيه, كما لو بَلَغ بعدَ انْسِلاخِ رمضانَ. 1046 - مسألة: (وإن طَهُرَت حائِضٌ، أو نُفَساءُ، أو قَدِم المُسافِرُ مُفْطِرًا، فعليهم القَضاءُ. وفى الإِمْساكِ رِوايَتان) أمّا وُجُوبُ القَضاءِ عليهم فلا خِلافَ فيه؛ لقولِ اللَّه تِعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). والتَّقْدِيرُ فأفْطَرَ. ولقول عائشةَ: ¬

(¬1) سورة البقرة 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كُنّا نَحِيضُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنُؤْمَرُ بقَضاءِ الصومِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وكذلك الحُكْمُ في المَرِيضِ إذا صَحَّ في أثْناءِ النَّهارِ، وكان مُفْطِرًا. وفى وُجُوبِ الإِمْساكِ عليهم رِوايَتان، ذَكَرْنا وَجْهَهما، والاخْتِلافَ في ذلك في مسألةِ الصَّبِى، والكافِرِ إذا أسْلَمَ، والمَجْنُونِ إذا أفاقَ، فكذلك الحُكْمُ في هؤلاء. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 366، 367.

1047 - مسألة: (ومن عجز عن الصوم لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا)

وَمَنْ عَجَزَ عَن الصَّوْمِ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1047 - مسألة: (ومَن عَجَز عن الصومِ لكِبَرٍ، أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، أفْطَرَ وأطْعَمَ عن كلِّ يومٍ مِسْكِينًا) الشَّيْخُ الكَبِيرُ، والعَجُوزُ، إذا كان الصومُ يُجْهِدُهما ويَشُقُّ عليهما مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فلهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يُفْطِرا ويُطْعِما لكلِّ يومٍ مِسْكِينًا. وهذا قولُ علىٍّ، وابنِ عباسٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وأنَسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ جُبيْرٍ، وطاوُسٌ، وأبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ. وقال مالكٌ: لا يَجِبُ عليه شئٌ؛ لأنَّه تَرَك الصومَ لعَجْزِه، فلم يَجِبْ فِدْيَةٌ, كما لو تَرَكَه لمَرَضٍ اتَّصَلَ به المَوْتُ. وللشافعىِّ قَوْلان كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، الآيَةُ. قال ابنُ عباسٍ في تَفْسِيرِها: نَزَلَتْ رُخْصَةً للشَّيْخِ الكَبِيرِ (¬1). ولأَنَّ الأداءَ صومٌ واجِبٌ، فجاز أن يَسْقُطَ إلى الكَفّارَةِ، كالقَضاءِ. وأمّا المَرِيضُ، فإن كان لا يُرْجَى بُرْؤُه فهو كمَسْألَتِنا، وإن كان يُرْجَى بُرْؤُه فإنَّما لم يَجِبْ عليه الإِطْعامُ؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّى إلى أن يَجِبَ على المَيِّتِ ابْتِداءً، بخِلافِ مَسْألَتِنا، فإنَّ وُجُوبَ الإِطْعامِ يَسْتَنِدُ إلى حالِ الحَياةِ، والشَّيخُ الهِمُّ (¬2) له ذِمَّة صَحِيحَةٌ، فإن كان عاجِزًا عن الإِطْعامِ، فلا شئَ عليه، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها. والمَرِيضُ الذى لا يُرْجَى بُرْؤُه، حُكْمُه حُكْمُ الشَّيْخِ فيما ذَكَرْنا. وذَكَر السّامَرِّىّ أنَّها تَبْقَى في ذِمَّتِه، ولا تَسْقُطُ، كسائِرِ الدُّيُونِ. وكذلك قال فيما يَجِبُ على الحَامِلِ والمُرْضِعِ، إذا أفْطرَتَا خَوْفًا على وَلَدَيْهما، أنَّه لا يَسْقُطُ الإِطْعامُ عنهما بالعَجْزِ عنه، لأنَّه في مَعْناه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من قال هى مثبتة للشيخ والحبلى، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 541. (¬2) الهِمُّ، بكسر الهاء: الكبير الفانى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، في مَن به شَهْوَةُ الجِماعِ غالِبَةٌ، لا يَمْلِكُ نَفْسَه، ويَخَافُ أن تَنْشَقَّ أُنْثَياه: يُطْعِمُ. أباحَ له الفِطْرَ؛ لأنَّه يَخافُ على نَفْسِه، فهو كالمَرِيضِ. ومَن يخافُ على نَفْسِه الهَلاكَ لعَطَشٍ، أو نَحْوِه، أوْجَبَ الإِطْعامَ بَدَلًا مِن الصِّيامِ. وهذا مَحْمُولٌ مِن كَلامِه على مَن لا يَرْجُو إِمْكانَ القَضاءِ، فإن رَجا ذلك فلا فِدْيَةَ عليه. والواجِبُ انْتِظارُ القَضاءِ وفِعْلُه إذا قَدَر عليه؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وإنَّما يُصارُ إلى الفِدْيَةِ عندَ اليَأْسِ مِن القَضاءِ. فإن أطْعَمَ معِ إياسِه، ثم قَدَر على القَضاءِ، احْتَمَلَ أن لا يَلْزَمَه؛ لأنَّ ذِمَّتَه قد بَرِئَت بأَداءِ الفِدْيَةِ الواجِبَةِ عليه، فلم تَعُدْ إلى الشُّغْلِ، كالمَعْضُوبِ (¬1) إذا أقامَ مَن يَحُجُّ عنه، ثم عُوفِىَ. واحْتَمَلَ أن يَلْزَمَه ¬

(¬1) المعضوب: الذى لا حراك به.

1048 - مسألة: (والمريض إذا خاف الضرر، والمسافر، استحب لهما الفطر، فإن صاما أجزأهما)

وَالْمَرِيضُ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ، وَالْمُسَافِرُ، اسْتُحِبَّ لَهُمَا الْفِطْرُ، فَإِنْ صَامَا أَجزَأَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ القَضاءُ؛ لأنَّ الإِطْعامَ بَدَلُ إياسٍ، وقد بَيَّنّا ذَهابَ الإِياسِ، فأشْبَهَ مَن اعْتَدَّت بالشُّهُورِ عندَ اليَأْسِ مِن الحَيْضِ، فيما إذا ارْتَفَع حَيْضُها لا تَدْرِى ما رَفَعَه، ثم حاضَتْ. 1048 - مسألة: (والمَرِيضُ إذا خاف الضَّرَرَ، والمُسافِرُ، اسْتُحِبَّ لهما الفِطْرُ، فإن صاما أجْزَأهما) أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على إِباحَةِ الفِطْرِ للمَرِيضِ في الجُمْلَةِ. والأصْلُ فيه قَوْلُه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. والمَرَضُ المُبِيحُ للفِطْرِ هو الذى يَزِيدُ بالصومِ، أو يُخْشَى تَباطُؤُ بُرْئِه. قِيلَ لأحمدَ: متى يُفْطِرُ المَرِيضُ؟ قال: إذا لم يَسْتَطِعْ. قيل: مِثْلُ الحُمَّى؟ قال: وأىُّ مَرَضٍ أشَدُّ مِن الحُمَّى! وحُكِىَ عن بعضِ السَّلَفِ، أنَّه أباحَ الفِطْرَ بكلِّ مَرَضٍ، حتى مِن وَجَعِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِصْبَعِ والضِّرْسِ؛ لعُمُومِ الآيَةِ، ولأنَّ المُسافِرَ يُباحُ له الفِطْرُ مِن غيرِ حاجَةٍ إليه، فكذلك المَرِيضُ. ولَنا، أنَّه شاهِدٌ للشَّهْرِ، لا يُؤْذِيه الصومُ، فلَزِمَه، كالصَّحِيحِ، والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ في المُسافِرِ والمَرِيضِ جَمِيعًا؛ بدَلِيلِ أنَّ المُسافِرَ لا يُباحُ له الفِطْرُ في السَّفَرِ القَصِيرِ، والفَرْقُ بينَ المُسافِرِ والمَرِيضِ، أنَّ السَّفَرَ اعْتُبِرَت فيه المَظِنَّةُ، وهو السَّفَرُ الطَّوِيلُ، حيثُ لم يُمْكِنِ اعْتِبارُ الحِكْمَةِ بنَفْسِها، فإنَّ قَلِيلَ المَشَقَّةِ لا يُبِيحُ، وكَثِيرُها لا ضابِطَ له في نَفْسِه، فاعْتُبِرَت بمظِنَّتِها، وهو السَّفَرُ الطَّوِيلُ، فدارَ الحُكْمُ مع المَظِنَّةِ وُجُودًا وعَدَمًا، والمَرَضُ لا ضابِطَ له؛ فإنَّ الأمْراضَ تَخْتَلِفُ؛ منها ما يَضُرُّ صاحِبَه الصومُ، ومنها ما لا أثَرَ للصومِ فيه، كوَجَعِ الضِّرْسِ، وجُرْحٍ في الإِصْبَعِ، والدُّمَّلِ، والجَرَبِ، وأشْباهِ ذلك، فلم يَصْلُحِ المَرَضُ ضابِطًا، وأمْكَنَ اعْتِبارُ الحِكْمَةِ، وهو ما يُخافُ منه الضَّرَرُ، فوَجَبَ اعْتِبارُه بذلك. إذا ثَبَت هذا، فإن تَحَمَّلَ المَرِيضُ وصام مع هذا، فقد فَعَل مَكْرُوهًا؛ لِما يَتَضَمَّنُه مِن الإِضْرارِ بنَفْسِه، وتَرْكِه تَخْفِيفَ اللَّهِ وقَبُولَ رُخْصَتِه، ويَصِحُّ صومُه، ويُجْزِئه؛ لأنَّه عَزِيمَةٌ أُبِيحَ تَرْكُها رُخْصَةً، فإذا تَحَمَّلَه أجْزَأه، كالمَرِيضِ الذى يُباحُ له تَرْكُ الجُمُعَةِ إذا حَضَرَها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والصَّحِيحُ الذى يَخْشَى المَرَضَ بالصيامِ، كالمَرِيضِ الذى يَخافُ زِيادَةَ المَرَضِ في إباحَةِ الفِطْرِ؛ لأنَّ المَرِيضَ إنَّما أُبِيحَ له الفِطْرُ خَوْفًا مِمّا يَتَجَدَّدُ بصِيامِه مِن زِيادَةِ المَرَضِ وتَطاوُلِه، فالخَوْفُ مِن تَجَدُّدِ المَرَضِ في مَعْناه. قال أحمدُ، في مَن به شَهْوَةٌ غالِبَةٌ للجِماعِ، يَخافُ أن تَنْشَقَّ أُنْثَياه: فله الفِطْرُ. وقال في الجارِيَةِ: تَصُومُ إذا حاضَتْ، فإن جَهَدَها الصومُ فلْتُفْطِرْ، ولْتَقْضِ. يَعْنِى إذا حاضَتْ وهى صَغِيرَةٌ. قال القاضى: هذا إذا كانتْ تَخافُ المَرَضَ بالصِّيامِ، يُباحُ لها الفِطْرُ، وإلَّا فلا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن أُبِيحَ له الفِطْرُ لشِدَّةِ شَبَقِه، إن أمْكَنَه اسْتِدْفاعُ الشَّهْوَةِ بغيرِ الجِماعِ، كالاسْتِمْناءِ بيَدِه، أو يَدِ امْرأَتِه أو جارِيَتِه، لمِ يَجُزْ له الجِماعُ؛ لأنَّه أفْطَرَ للضَّرُورَةِ، فلم يُبَحْ له الزِّيادةُ على ما تنْدَفِعُ به. الضَّرُورَةُ، كأكْلِ المَيْتَةِ عندَ الضَّرُورَةِ. فإن جامَعَ فعليه الكَفّارَةُ. وكذلك إن أمْكَنَه دَفْعُها بما لا يُفْسِدُ صومَ غيرِه، كوطْءِ زَوْجَتِه أو أَمَتِه الصَّغِيرَةِ أو الكِتابِيَّةِ، أو المُباشَرَةِ للكَبِيرَةِ المُسْلِمَةِ دُونَ الفَرْجِ، أو الاسْتِمْناءِ بِيَدِها أو بِيَدِه، لم يُبَحْ له إفْسادُ صَوْمِ غيرِه؛ لأنَّ الضَّرُورَةَ إذا انْدَفَعَتْ لم يُبَحْ ما وَراءَها، كالشِّبَعِ مِن المَيْتَةِ إذا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ بسَدِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّمَقِ. وإن لم تَنْدَفِعِ الضَّرُورَةُ إلَّا بإفْسادِ صومِ غيرِه، أُبِيحَ ذلك؛ لأنَّه مِمّا تَدْعُوِ الضَّرُورَةُ إليه، فأُبِيحَ، كفِطْرِه، وكالحامِلِ، والمُرْضِعِ يُفْطِران خوْفًا على وَلَدَيْهما. فإن كان له امْرَأَتان، حائِضٌ، وطاهِرٌ صائِمَةٌ، وَدَعَتْه الضَّرُورَةُ إلى وَطْءِ إحْداهما، احْتَمَلَ وَجْهيْن؛ أحَدُهما، وَطْءُ الصائِمَةِ أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى نَصَّ على النَّهْى عن وَطْءِ الحائِضِ في كتابِه. والثّانِى، يَتَخَيَّرُ؛ لأنَّ وَطْءَ الصائِمَةِ يُفْسِدُ صِيامَها، فتَتَعارَضُ المَفْسَدَتان، ويَتَساوَيان. فصل: وحُكْمُ المُسافِرِ حُكْمُ المَرِيضِ، في إباحَةِ الفِطْرِ وكَراهِيَةِ الصومِ، وإجْزائِه إذا فَعَلَه. وإباحَةُ الفِطْرِ للمُسافرِ ثابِتَةٌ بالنَّصِّ، والإِجْماعِ؛ وأكْثَرُ أهلِ العِلْمِ على أنَّه إن صام أجْزَأه. ورُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ، أنّه لا يَصِحُّ صومُ المُسافِرِ. قال أحمدُ: عُمَرُ، وأبو هُرَيْرَةَ يَأْمُرانِه بالإِعادَةِ. وروَى الزُّهْرِىُّ عن أبى سَلَمَةَ، عن أبيهِ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: الصائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ (¬1). وهو قولُ بعضِ أهلِ الظّاهِرِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأَنَّه عليه السَّلامُ أفْطَرَ في السَّفَرِ، فلمَّا بَلَغَه أنَّ قَوْمًا صامُوا، قال: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» (¬3). ورَوَى ابنُ ماجه (¬4)، بإسْنادِه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الصَّائِمُ في رَمَضَانَ في السَّفَرِ، كَالمُفْطِرِ في الْحَضَرِ». وعامَّةُ أهلِ العِلْمِ على خِلافِ هذا القولِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا قولٌ يُرْوَى عن عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، هَجَرَه الفُقَهاءُ كلُّهم، والسُّنَّةُ تَرُدُّه، وحُجَّتُهم ما رُوِى عن حَمْزَةَ بنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِىِّ، ¬

(¬1) أخرجه النسائى موقوفا، في: باب ذكر قوله: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر»، من كتاب الصوم. المجتبى 4/ 154. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر. . .، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 44. ومسلم، في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 774. كما أخرجه أبو داود، في: باب اختيار الفطر، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 561. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 231. والنسائى، في: باب ما يكره من الصيام في السفر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 146 - 148. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الإفطار في السفر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 532. والدارمى، في: باب الصوم في السفر، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 9. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 299، 317، 319، 352، 399، 5/ 434. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 232. والترمذى، في: كتاب ما جاء في كراهية الصوم في السفر. من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 230. والنسائى، في: باب ذكر اسم الرجل، من كتاب الصوم. المجتبى 4/ 148. (¬4) في: باب ما جاء في الإفطار في السفر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 532.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أصُومُ في السَّفَرِ؟ وكان كَثِيرَ الصيامِ، قال: «إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفى لَفْظٍ رَواه النَّسائِىُّ، أنَّه قال للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أجِدُ قُوَّةً على الصيامِ في السَّفَرِ، فهل عَلَىَّ جُناحٌ؟ قال: «هِىَ رُخْصَةٌ، فَمَنْ أخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». وقال أنَسٌ: كُنّا نُسافِرُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يَعِبِ الصائِمُ على المُفْطِرِ، ولا المُفْطِرُ على الصائِمِ. مُتَّفقٌ عليه (¬2). وأحاديثُهم مَحْمُولَةٌ على تَفْضِيلِ الفِطْرِ على الصيامِ. فصل: والفِطْرُ في السَّفَرِ أفْضَلُ، وهو مَذْهَبُ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِىِّ، والأوْزاعِىِّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: الصومُ أفْضَلُ لمَن قَوِىَ عليه. يُرْوى ذلك ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الصوم في السفر والإفطار، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 43. ومسلم، في: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 789، 790. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصوم في السفر، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 560. والنسائى، في: باب الصيام في السفر، وباب ذكر الاختلاف على عروة في حديث حمزة فيه، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 156, 157, 158. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في الصوم في السفر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 232. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الصوم في السفر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 531. والدارمى، في: باب الصوم في السفر، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 8. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الصيام في السفر، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 259. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 46، 193، 202، 207. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب لم يعب أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضهم بعضا في الصوم والإفطار، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 44. ومسلم، في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 787. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الصيام في السفر، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 295.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أنَسٍ، وعثمانَ بنِ أبى العاصِ؛ لِما روَى سَلَمَةُ بنُ المُحَبَّقِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِى إلَى شِبَعٍ، فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أدْرَكَهُ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ مَن خُيِّرَ بينَ الصومِ والفِطْرِ، كان الصومُ أفْضَلَ، كالتَّطَوُّعِ. وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: أفْضَلُ الأمْرَيْن أيْسَرُهما؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (¬2). ولِما روى أبو داودَ، عن حَمْزَةَ بنِ عَمْرٍو، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّى صاحِبُ ظَهْرٍ، أُعالِجُه وأُسافِرُ عليه، وأكْرِيه، وإنَّه رُبَّما صادَفَنِى هذا الشَّهْرُ، يَعْنِى رمضانَ، وأنا أجِدُ القُوَّةَ، وأنا شابٌّ، وأجِدُنِى أن أصومَ، يا رسولَ اللَّهِ، أهْوَنَ عَلَىَّ مِن أن أُؤَخِّرَ، فيَكونَ دَيْنًا عَلَىَّ، أفأَصُومُ يا رسولَ اللَّه أعْظَمُ لأجْرِى، أو أُفْطِرُ؟ قال: «أىَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ» (¬3). ولَنا، ما تَقَدَّمَ مِن الأخْبارِ في الفَصْلِ الذى قبلَه، ¬

(¬1) في: باب من اختار الصيام، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 562. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 476. (¬2) سورة البقرة 185. (¬3) انظر تخريجه المتقدم بتمامه في الصفحة السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «خَيْركُمُ الَّذِى يُفْطِر في السَّفَرِ وَيَقْصُرُ» (¬1). ولأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ، فكان أفْضَلَ، كالقَصْرِ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالمَرِيضِ، وبصومِ الأيّامِ المَكْرُوهِ صومُها. فصل: وإنَّما يُباحُ الفِطْرُ في السَّفَرِ الطَّوِيلِ الذى يُبِيحُ القَصْرَ، وقد ذَكَرْنا ذلك فيما مَضَى في الصَّلاةِ (¬2). ثم لا يَخْلُو المُسافِر مِن ثَلَاَثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يَدْخلَ عليه شَهْرُ رمضانَ في السَّفَرِ، فلا خِلافَ في إباحَةِ الفِطْرِ له فيما نَعْلَمُ. الثّانى، أن يُسافِرَ في أثْناءِ الشَّهْرِ لَيْلًا، فله الفِطْرُ في صَبِيحَةِ الليْلَةِ التى يَخْرجُ فيَها، وما بعدَها، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. وقال عَبِيدَةُ السَّلْمانِىُّ، وأبو مِجْلَزٍ، وسُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ (¬3): لا يُفْطِر مَن سافَرَ بعدَ دُخُولِ، لشَّهْرِ؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهذا شاهِدٌ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وروَى ابن عباسٍ، قال: خَرَج رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عامَ الفَتْحِ في شَهْرِ رمضانَ، فصامَ جتى بَلَغ الكَدِيدَ (¬4)، ثم ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يقصر الصلاة، من كتاب الصلاة. المصنف 2/ 449. (¬2) انظر ما تقدم في الجزء الرابع صفحة 36. (¬3) أبو أمية سويد بن غفلة بن عوسجة الجعفى الكوفى، قدم المدينة حين نفضت الأيدى من دفن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد فتح اليرموك، ثقة، توفى سنة ثمانين. تهذيب التهذيب 4/ 278، 279. (¬4) الكديد: موضع على اثنين وأربعين ميلًا من مكة. معجم البلدان 4/ 245.

1049 - مسألة: (ولا يجوز أن يصوما فى رمضان عن غيره)

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَا في رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أفْطرَ، وأفْطَرَ النّاسُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه مُسافِرٌ فأُبِيحَ له الفِطْرُ, كما لو سافَرَ قبلَ الشَّهْرِ، والآيَةُ مَحْمُولَةٌ على مَن شَهِد الشهرَ كلَّه، وهذا لم يَشْهَدْه كلَّه. الثّالِثُ، أن يُسافِرَ في أثْناءِ يومٍ مِن رمضانَ، وسَيَأْتِى ذِكْرُ ذلك، إن شاء اللَّهُ. 1049 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أن يَصُوما في رمضانَ عن غيرِه) لا يَجُوزُ للمَرِيضِ، ولا للمُسافِرِ سَفَرًا طَوِيلًا، أن يَصُومَ في رمضانَ عن نَذْرٍ، ولا قَضاءٍ، وِلا غيرِهما؛ لأنَّ الفِطْرَ أُبِيحَ رُخْصَةً وِتَخْفِيفًا، فإذا لم يُرِدِ التَّخْفِيفَ عن نفْسِه، لَزِمَه أَنْ يَأْتِىَ بالأصْلِ. فإن نوَى صَوْمًا غيرَ رمضانَ، لم يَصِحَّ صَوْمُه عن رمضانَ، ولا عمّا نَواه، في الصَّحِيحِ مِن ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر، من كتاب الصوم. وفى: باب الخروج في رمضان، من كتاب الجهاد. وفى: باب غزوة الفتح في رمضان، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 43، 4/ 60، 5/ 185. ومسلم، في: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. . . , من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 784. كما أخرجه النسائى، في: باب الرخصة للمسافر أن يصوم بعضا ويفطر بعضا، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 160. والدارمى، في: باب الصوم في السفر، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 8، 9. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الصيام في السفر، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 219، 261، 266، 334، 344 , 5/ 376.

وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ في سَفَرِهِ، فَلَهُ الْفِطْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَذْهَبِ، وهو قَوْلُ أكثرِ العُلماءِ. وقال أبو حنيفةَ في المُسافِرِ: يَقَعُ ما نَواه إذا كان واجِبًا؛ لأنَّه زَمَنٌ أُبِيحَ له فِطْرُه، فكان له صَوْمُه عن واجِبٍ عليه، كغيرِ شهرِ رمضانَ. ولَنا، أنَّه أُبِيحَ له الفِطْرُ للعُذْرِ، فلم يَجُزْ أن يَصُومَه عن غيرِ رمضانَ، كالمَرِيضِ، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه، ويَنْتَقِضُ أيضًا بصومِ التَّطَوُّعِ. قال صالِحٌ: قِيلَ لأبى: مَن صام شَهْرَ رمضانَ، وهو يَنْوِى به تَطَوُّعًا، يُجْزِئُه؟ فقال: أوَ يَفْعَلُ هذا مُسْلِمٌ. فصل: (ومَن نَوَى الصومَ في سَفَرِه، فله الفِطْرُ) واخْتَلَفَ قولُ الشافعىِّ فيه، فقال مَرَّةً: لا يَجُوزُ له الفِطْرُ. وقال مَرَّةً: إن صَحَّ حديثُ الكَدِيدِ لم أرَ به بَأْسًا. وقال مالكٌ: إن أفْطَرَ فعليه القَضاءُ والكَفّارَةُ. ولَنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثُ ابنِ عباسٍ، وهو صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه. وروَى جابِرٌ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج عامَ الفَتْحِ، فصام حتى بَلَغ كُراعَ الغَمِيمِ (¬1)، وصام النّاسُ معه، فقِيلَ له: إنَّ النَّاسَ قد شَقَّ عليهم الصيامُ، وإنَّ النّاسَ يَنْظُرُون فيما فَعَلْتَ. فدَعا بقَدَحٍ مِن ماءٍ بعدَ العَصْرِ، فشَرِبَ والنّاسُ يَنْظُرُون، فأفْطَرَ بَعْضُهم، وصام بَعْضُهم، فبَلَغَه أنَّ ناسًا صامُوا، فقالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ». رَواه مسلم (¬2). وهذا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يُعَرَّجُ على ما خالَفَه. ¬

(¬1) كراع الغميم: بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرة يمتد إليه. معجم البلدان 4/ 247. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 372.

1050 - مسألة: (وإن نوى الحاضر صوم يوم، ثم سافر فى أثنائه، فله الفطر. وعنه، لا يباح)

وَإنْ نَوَى الْحَاضِرُ صَوْمَ يَوْمٍ، ثُمَّ سَافَرَ في أَثْنَائِهِ، فَلَهُ الْفِطْرُ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1050 - مسألة: (وإن نَوَى الحاضِرُ صومَ يَوْمٍ، ثم سافَرَ في أثْنائِه، فله الفِطْرُ. وعنه، لا يُباحُ) إذا سافَرَ في أثْناءِ يَوْمٍ مِن رمضانَ، فهل له فِطْرُ ذلك اليومِ؟ فيه رِوايَتان؛ أصَحُّهما، جَوازُ الفِطْرِ. وهو قولُ عَمْرِو ابنِ شُرَحْبِيلَ، والشَّعْبِىِّ، وإسحاقَ، وداودَ، وابنِ المُنْذِرِ. والثانيةُ، لا يُباحُ له فِطْرُ ذلك اليوم. وهو قولُ مَكْحُولٍ، والزُّهْرِىِّ، ويَحْيَى الأنْصارِىِّ، ومالكٍ، والأَوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ الصومَ عِبادَةٌ تَخْتَلِفُ بالحَضَرِ والسَّفَرِ، فإذا اجْتَمَعا فيها غَلَب حُكْمُ الحَضَرِ، كالصلاةِ. ولَنا، ما روَى عُبَيْدُ بنُ جُبَيْرٍ، قال: رَكِبْتُ مع أبى بَصْرَةَ الغِفارِىِّ في سَفِينَةٍ مِن الفُسْطاطِ في شَهْرِ رمضانَ، فدَفَعَ، ثم قُرِّبَ غَداه، فلم يُجاوِزِ البُيُوتَ حتى دَعا بالسُّفْرَةِ، ثم قال: اقْتَرِبْ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْتُ: ألستَ تَرَى البُيُوتَ؟ قال أبو بَصْرَةَ: أتَرْغَبُ عن سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه أحَدُ الأمْرَيْن المَنْصُوصِ عليهما في إباحَةِ الفِطْرِ، فإذا وُجِد في أثْناءِ النَّهارِ أباحَه، كالمَرَضِ، وقِياسُهم على الصَّلاةِ لا يَصِحُّ، فإنَّ الصومَ يُفارِقُ الصلاةَ؛ لأنَّ الصلاةَ يَلْزَمُ إتْمامُها بنِيَّتِها، بخِلافِ الصومِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُباحُ له الفِطْرُ حتى يُخَلِّفَ البُيوتَ وراء ظَهْرِه، ويَخْرُجَ مِن بينِ بُنْيانِها. وقال الحسنُ: يُفْطِرُ في بَيْتِه إن شاء يومَ يُرِيدُ الخُروجَ. ورُوِىَ نَحْوُه عن عَطاءٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: قولُ الحسنِ قولٌ شاذٌّ، وقد رُوِى عنه خِلافُه. ووَجْهُه ما روَى محمدُ بنُ كَعْبٍ، قال: أتَيْتُ أنَسَ بنَ مالكٍ في رمضانَ، وهو يُرِيدُ سَفَرًا، وقد رُحِّلَتْ له راحِلَتُه، ولَبِس ثِيابَ السَّفَرِ، فدَعا بطَعام فأكَلَ، فَقُلْتُ له: سُنَّةٌ؟ فقالَ: سُنَّةٌ. ثم رَكِب. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ولَنا، قولُه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهذا شاهِدٌ، ولا يُوصَفُ بكَوْنِه مُسافِرًا حتى يَخْرُجَ مِن البَلَدِ، ومَهْما كان في البَلَدِ فله أحْكامُ الحاضِرِين، ولذلك لا يَقْصُرُ الصلاةَ. فأمّا أنَسٌ فيَحْتَمِلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 44. (¬2) في: باب من أكل ثم خرج يريد سفرًا، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 12، 13.

1051 - مسألة: (والحامل والمرضع إذا خافتا)

وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ اذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، أَفْطَرَتَا، وَقَضَتَا، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، أَفْطَرَتَا، وَقَضَتَا، وَأَطْعَمَتَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه كان بَرَز (¬1) مِن البَلَدِ خارِجًا منه، فأتاه محمدُ بنُ كَعْبٍ في ذلك المَنْزِلِ. 1051 - مسألة: (والحامِلُ والمُرْضِعُ إذا خافَتا) الضَّرَرَ (على أنْفُسِهما، أفْطَرَتَا، وقَضَتا، وإن خافَتا على وَلَدَيْهما، أفْطَرَتا، وقَضَتا، وأطْعَمَتا عن كل يومٍ مِسْكِينًا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الحامِلَ والمُرْضِعَ إذا خافَتا على أنْفُسِهما إذا صامَتا، فلهما الفِطْرُ، وعليهما القَضاءُ لا غيرُ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّهُما بمَنْزِلَةِ المَرِيضِ الخائِفِ على نَفْسِه. وإن خافَتا على وَلَدَيْهِما، أفْطَرتا، وعليهما القَضاءُ، وإطْعامُ مِسْكِينٍ لكلِّ يومٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «نزر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِى ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وهو المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ الشافعىِّ. وقال اللَّيْثُ: الكَفّارَةُ على المُرضِعِ دُونَ الحامِلِ. وهو إحْدَى الرِّوايَتَيْن عن مالكٍ؛ لأنَّ المُرْضِعَ يُمْكِنُها أن تَسْتَرْضِعَ لوَلَدِها، بخِلافِ الحامِلِ، ولأنَّ الحَمْلَ مُتَّصِلٌ بالحامِلِ، والخَوْفُ عليه كالخَوْفِ على بعضِ أعضائِها. وقال الحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا كَفّارَةَ عليهما؛ لِما روَى أنَسُ بنُ مالكٍ، رجلٌ مِن بنِى كَعْبٍ (¬1)، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ، أوِ الصِّيَامَ». واللَّهِ لقد قالَهما رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحَدَهما أو كِلَيْهما. رَواه النّسائِىُّ، ¬

(¬1) أنس بن مالك الكعبى أبو أمية، نزل البصرة، ليس له عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا هذا الحديث وله فيه قصة. الإصابة 1/ 129. أسد الغابة 1/ 150.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حديثٌ حسنٌ. ولم يَأْمُرْ بكَفّارَةٍ، ولأنَّه فِطْرٌ أُبِيحَ لعُذْرٍ فلم يَجِبْ به كَفّارَةٌ، كالفِطْرِ للمَرَضِ. ولَنا، قولُ الله تِعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬2). وهما داخِلَتان في عُمُوم الآيَةِ. قال ابنُ عباسٍ: كانت رُخْصَةً للشَّيْخِ الكَبِيرِ والمرأةِ الكَبِيرَةَ، وهما يُطِيقان الصيامَ، أن يُفْطِرا، أو يُطْعِما مَكانَ كلِّ يومٍ مِسْكِينًا، والحُبلَى والمُرْضِعُ إذا خافَتَا على أوْلادِهما أفْطَرَتا، وأَطْعَمَتا. رَواه أبو داودَ (¬3). ورُوِىَ ذلك عن ابنَ عُمَرَ (¬4)، ولا مُخالِفَ لهما في الصحابةِ. ولأنَّه فِطْرٌ بسَبَبِ نَفْسٍ عاجِزَةٍ مِن طريقِ الخِلْقَةِ، فوَجَبَتْ به الكَفّارَةُ، كالشَّيْخِ الهِمِّ (¬5)، وخَبَرُهم لم يَتَعَرَّضْ للكَفّارَةِ، فكانت ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 235. والنسائي، في: باب ذكر وضع الصيام عن المسافر. . . . إلخ، وباب ذكر اختلاف معاوية ابن سلام وعلى بن المبارك في هذا الحديث، وباب وضع الصيام عن الحبلى والمرضع، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 149, 151, 160. كما أخرجه أبو داود، في: باب اختيار الفطر، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 561. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 533. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 347، 5/ 29. (¬2) سورة البقرة 184. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 365. (¬4) انظر: تفسير الطبري 2/ 133. (¬5) في الأصل: «الهرم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْقُوفَةً على الدلِيلِ، كالقَضاءِ، فإنَّ الحديثَ لم يَتَعَرَّضْ له، والمَرِيضُ أخَفُّ حالًا مِن هاتَيْن؛ لأنَّه يُفْطِرُ بسَبَبِ نَفْسِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الواجِبَ في طعامِ المِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ، أو نِصْفُ صاعِ شَعِيرٍ. والخِلافُ فيه كالخِلافِ في إطعامِ المساكينِ في كَفّارَةِ الجِماعِ، على ما يُذْكَرُ في مَوْضِعِه. فصل: ويَجِبُ عليهما القَضاءُ مع الإِطْعامِ. وقال ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ: لا قَضاءَ عليهما؛ لأنَّ الآيَةَ تَناوَلَتْهما، وليس فيها إلَّا الِإطعامُ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ». ولَنا، أنَّهما يُطِيقانِ القضاءَ، فلَزِمَهما، كالحائِضِ والنُّفَساءِ، والآيَةُ أوْجَبَتِ الإِطْعامَ، ولم تَتَعَرَّضْ للقَضاءِ، وأخَذْناه مِن دَلِيلٍ آخَرَ. والمُرادُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوَضْعِ الصومِ، وَضْعُه في مُدَّةِ عُذْرِهما, كما جاء في حديثِ عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ» (¬1). ولا يُشْبِهان الشيخَ الهِمَّ (¬2)؛ لأنَّه عاجِزٌ عن القَضاءِ، وهما يَقْدِران عليه. قال أحمدُ: أذْهَبُ إلى حديثِ أبي هُرَيْرَةَ. يَعْنِى، ولا أقولُ بقولِ ابنِ عُمَرَ وابنِ عباسٍ في مَنْعِ القَضاءِ. فصل: فإن عَجَزَتا عن الإِطْعامِ، سَقَط عنهما بالعَجْزِ، ككَفّارَةِ الوَطْءِ، بل السُّقُوطُ ههُنا أوْلَى؛ لوُجُودِ العُذْرِ. ذَكَره شيخُنا في «الكافِى». وقِيلَ: لا يَسْقُطُ. وقد ذَكَرْناه. وقال صاحِبُ ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب ذكر وضع الصيام عن المسافر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 149، 150. (¬2) في الأصل: «الهرم».

1052 - مسألة: (ومن نوى قبل الفجر، ثم جن، أو أغمى عليه جميع النهار، لم يصح صومه. وإن أفاق جزءا منه، صح صومه)

وَمَنْ نَوَى قَبْلَ الْفَجْر، ثُمَّ جُنَّ، أَوْ أُغْمِىَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ. وَإِنْ أَفاقَ جُزْءًا مِنْهُ، صَحَّ صَوْمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «المُحَرَّرِ»: يَسْقُطُ ههُنا، ولا يَسْقُطُ عن الكَبِيرِ العاجِزِ، والمَرِيضِ الذى لا يُرْجَى بُرْؤُه؛ لأنَّهما بَدَلٌ عن نَفْسِ الصومِ، وتلك جُبْرانٌ لنَقْصِ الصوم. واللهُ أعلمُ. 1052 - مسألة: (ومَن نَوَى قبلَ الفَجْرِ، ثم جُنَّ، أو أُغْمِىَ عليه جَمِيعَ النَّهارِ، لم يَصِحَّ صومُه. وإن أفاق جُزْءًا منه، صَحَّ صومُه) متى نَوَى الصومَ قبلَ الفَجْرِ، ثم جُنَّ، أو أُغْمِىَ عليه جَمِيعَ النَّهارِ، لم يَصِحَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صومُه. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ؛ لأنَّ النِّيَّةَ قد صَحَّتْ، وزَوالُ الاسْتِشْعارِ بعدَ ذلك لا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصومِ، كالنَّوْمِ. ولَنا، أنَّ الصومَ هو الإِمْساكُ مع النِّيَّةِ، قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ، فإنَّهُ لِى، وَأنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أجْلِى» (¬1). فأضاف تَرْكَ الطَّعامِ والشَّراب إليه، والمَجْنُونُ والمُغْمَى عليه لا يُضافُ الإِمْساكُ إليه، فلم يُجْزِئْه. ولأَنَّ النِّيَّةَ أحَدُ رُكْنَىِ الصومِ، فلم تُجْزِئْ وَحْدَها، كالإِمْساكِ وَحْدَه، أمّا النَّوْمُ فإنَّه عادَةٌ، ولا يُزِيلُ الإِحْساسَ بالكُلِّيَّةِ، ومتى نُبِّهَ انْتَبَه. فصل: ومتى أفاق المُغْمَى عليه في جُزْءٍ مِن النَّهارِ، صَحَّ صَوْمُه، سَواءٌ كان في أوَّلِه أو في آخِرِه. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: تُعْتَبَرُ الإِفاقَةُ في أوَّلِ النَّهارِ؛ ليَحْصُلَ حُكْمُ النِّيَّةِ في أوَّلِه. ولَنا، أنَّ الإِفاقَةَ حَصَلَتْ في جُزْءٍ مِن النَّهارِ، فأجْزَأ, كما لو وُجِدَتْ في أوَّلِه، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ ¬

(¬1) انظر تخريج حديث: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» المتقدم في 1/ 241، وهو في البخارى في الجزء التاسع وليس الثامن، وكذلك ليس الحديث عند أبي داود.

1053 - مسألة: (وإن نام جميع النهار، صح صومه)

وَإِنْ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهُ. وَيَلْزَمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْمَجْنُونِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ النِّيِّةَ قد حَصَلَتْ مِن اللَّيْلِ، فيُسْتَغْنَى عن ذِكْرِها في النَّهارِ, كما لو نام أو غَفَل عن الصومِ، ولو كانَتِ النِّيَّةُ إنَّما تَحْصُلُ بالإِفاقَةِ في أوَّلِ النَّهارِ، لَما صَحَّ منه صومُ الفَرْضِ بالإِفاقَةِ، لأنَّه لا يُجْزِئُ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ. وحُكْمُ المَجْنُونِ حُكْمُ المُغْمَى عليه في ذلك. وقال الشافعىُّ: إذا وُجِد الجُنُونُ في جُزْءٍ مِن النَّهارِ أفْسَدَ الصومَ؛ لأنَّه مَعْنًى يَمْنَعُ وُجُوبَ الصومِ، فأفْسَدَه وُجُودُه في بَعْضِه، كالحَيْضِ. ولَنا، أنَّه زَوالُ عَقْلٍ في بعضِ النَّهارِ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الصومِ، كالإِغْماءِ، ويُفارِقُ الحَيْضَ؛ فإنَّ الحَيْضَ لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، وإنَّما يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، ويُحَرِّمُ فِعْلَ الصومِ، ويَتَعَلَّقُ به وُجُوبُ الغُسْلِ وتَحْرِيمُ الصلاةِ والقِراءَةِ واللُّبْثِ في المَسْجِدِ والوَطْءِ، فلا يَصِحُّ القِياسُ عليه. 1053 - مسألة: (وإن نام جَمِيعَ النَّهارِ، صَحَّ صومُه) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه عادَةٌ، ولا يُزِيلُ الإِحْساسَ بالكُلِّيَّةِ. 1054 - مسألة: (ويَلْزَمُ المُغْمَى عليه القَضاءُ دُونَ المَجْنونِ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ القَضاءِ على المُغْمَى عليه؛ لأنَّ مُدَّتَه لا تتَطاوَلُ غالِبًا، ولا تَثْبُتُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوِلايَةُ على صاحِبِه، فلم يَزُلْ (¬1) به التَّكْلِيفُ، كالنَّوْمِ. فأمّا المَجْنُونُ، فلا يَلْزَمُه قَضاءُ ما مَضَى. وبه قال أبو ثَوْرٍ، والشافعىُّ في الجَدِيدِ. وقال مالكٌ: يَقْضِى وإن مَضَى عليه سِنُون. وعن أحمدَ مِثْلُه. وهو قولُ الشافعىِّ في القَدِيمِ؛ لأنَّه مَعْنًى يُزيلُ العَقْلَ، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَ الصومِ، كالإِغْماءِ. وقال أبو حنيفةَ: إن جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ فلا قَضاءَ عليه، وإن أفاق في أثْنائِه قَضَى ما مَضَى؛ لأنَّ الجُنُون لا يُنافِى الصومَ، بدَلِيلِ أنَّه لو جُنَّ في أثْناءِ الصومِ لم يَفْسُدْ، فإذا وُجِد في بعضِ الشَّهْرِ وَجَب القَضاءُ، كالإِغْماءِ، ولأنَّه أدْرَكَ جُزْءًا مِن رمضانَ وهو عاقِلٌ، فلَزِمَه صِيامُه, كما لو أفاق في جُزْءٍ مِن اليومِ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ، فلم يَجِبِ القَضاءُ في زَمانِه، كالصِّغَرِ والكُفْرِ. ونَخُصُّ أبا حنيفةَ بأنَّه مَعْنًى لو وُجِد في جَمِيعِ الشَّهْرِ أسْقَطَ القَضاءَ، فإذا وُجِد في بعضِه أسْقَطَه، كالصَّبيِّ والكُفْرِ، فأمّا إذا أفاق في بعض اليومِ، فلنا فيه مَنْعٌ، وإن سَلَّمْناه، فلأنَّه قد أدْرَكَ بعضَ وَقْتِ العِبادَةِ، فلَزِمَتْه، كالصَّبِىِّ إذا بَلَغ، والكافِرِ إذا أسْلَمَ في بعضِ النَّهارِ، وكما لو أدْرَكَ بعضَ وَقْتِ الصلاةِ. ¬

(¬1) في م: «يلزم».

فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ وَاجِبٍ، إِلَّا أنْ يَنْوِيَهُ مِنَ اللَّيْلِ مُعَيِّنًا. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال: (ولا يَصِحُّ صومُ واجِبٍ، إلَّا أن يَنْوِيَه مِن اللَّيْلِ مُعَيِّنًا. وعنه، لا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لرمضانَ) لا يَصِحُّ صومٌ إلَّا بنِيَّةٍ بالإِجْماعِ، فَرْضًا كان أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّه عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ، كالصلاةِ. فإن كان فَرْضًا، كصيامِ رمضانَ في أَدائِه أو قَضائِه، والنَّذْرِ، والكَفّارَةِ، اشْتُرِطَ أن يَنْوِيَه مِن اللَّيْلِ. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُ صيامُ رمضانَ، وكلُّ صومٍ مُتَعَيِّنٍ بنِيَّةٍ (¬1) مِن النَّهارِ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْسَلَ غَداةَ عاشُوراءَ إلى قُرَى الأنْصارِ التى حولَ المَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصبَحَ مُفْطِرًا فَلْيَصُمْ (¬2) بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أكَلَ فَلْيَصُمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وكان صومًا واجِبًا مُتَعَيِّنًا، ولأنَّه غيرُ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ، فهو كالتَّطَوُّعِ. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «بنيته». (¬2) في م: «فليتم». (¬3) أخرجه البخارى، في: باب صيام يوم عاشوراء، وباب إذا نوى بالنهار صوما، وباب صوم الصبيان، من كتاب الصوم، وفى: باب ما كان يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمراء والرسل. . . .، من كتاب الآحاد. صحيع البخارى 3/ 38، 48، 58، 9/ 111. ومسلم، في: باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 798. كما أخرجه النسائى، في: باب إذا لم يجمع من الليل. . . .، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 163. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 232، 3/ 484، 4/ 47، 48، 50، 6/ 359، 467.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما روَى ابنُ جُرَيْجٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن سالِمٍ، عن أبيه، عن حَفْصَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -, أنَّه قال: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». وفى لَفْظِ ابنِ حَزْم: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ، والنَّسائِىُّ (¬1). وروَى الدَّارَقُطنِىُّ (¬2)، بإسْنادِه، عن عَمْرَةَ، عن عائِشةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَن لَم يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». وقال: إسْنادُه كلُّهم ثِقاتٌ. وقال: حديثُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب النية في الصيام، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 571. والترمذى، في: باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل, من أبواب الصيام. عارضة الأحوذى 3/ 263. والنسائى، في: باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في النية في الصيام، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 166 - 168. كما أخرجه الدارمى، في: باب من لم يجمع الصيام من الليل، من كتاب الصيام. سنن الدارمى 2/ 7. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 287. (¬2) في: باب الشهادة على رؤية الهلال، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَفْصَةَ رَفَعَه عبدُ اللهِ بنُ أبي بَكْرٍ، عن الزُّهْرِىِّ، وهو مِن الثِّقاتِ. ولأنَّه صومُ فَرْضٍ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ مِن اللَّيْلِ، كالقَضاءِ. فأمّا صومُ عاشُوراءَ فلم يَثْبُتْ وُجُوبُه، فإنَّ مُعاوِيَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ الله عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وإنَّما سُمِّىَ الإِمْساكُ صِيامًا تَجَوُّزًا، كما روَى البُخارِىُّ، أنَّ رسولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ رجلًا أنْ أذِّنْ في النَّاسِ، أنَّ مَنْ كَانَ أكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِه (¬2). وإِمْساكُ بَقِيَّةِ اليَوْمِ بعدَ الأكْلِ ليس بصيامٍ شَرْعِىٍّ، فسَماه صيامًا تَجَوُّزًا، ثم لو ثَبَت أنَّه صِيامٌ، فالفَرْقُ بينَ ذلك وبينَ رمضانَ، أنَّ وُجُوبَ الصِّيامِ تَجَدَّدَ في أثْناءِ النَّهارِ، فأجْزَأتْه النِّيَّةُ حينَ تَجَدَّدَ الوُجوبُ، كمَن كان صائِمًا تَطَوُّعًا، فنَذَرَ في أثْناءِ النَّهارِ صومَ بَقِيَّةِ يَوْمِه، فإنَّه تُجْزِئُه نِيَّتُه عندَ نَذْرِه، بخِلافِ ما إذا كان النَّذْرُ مُتَقَدِّمًا. والفَرْقُ بينَ التَّطَوُّعِ والفَرْضِ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 57. ومسلم، في: باب صوم يوم عاشواء، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 795. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 299. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 95. (¬2) انظر رواية البخارى لحديث عاشوراء المتقدم صفحة 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ التَّطَوُّعَ يُمْكِنُ الإِتْيانُ به في بعضِ النَّهارِ، بشَرْطِ عَدَمِ المُفْطِراتِ في أوَّلِه، بدَلِيلِ قَوْلِه عليه السَّلامُ، في حديث عاشُوراءَ: «فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ». فإذا نَوَى صومَ التَّطَوُّعِ مِن النهارِ، كان صائِمًا بَقِيَّةَ النَّهارِ دُونَ أوَّلِه، والفَرْضُ يَجِبُ في جميعِ النَّهارِ، ولا يَكُونُ صاِئمًا بغيرِ نِيَّةٍ. والثانِى، أنَّ التَّطَوُّعَ سُومِحَ في نِيَّتِه مِن اللَّيْلِ تَكْثِيرًا له، فإنَّه قد يَبْدُو له الصومُ في النَّهارِ، فاشْتِراطُ النِّيَّةِ في اللَّيْلِ يَمْنَعُ ذلك فسامَحَ الشَّرْعُ فيها، كمُسامَحَتِه في تَرْكِ القِيامِ في صلاةِ التَّطَوُّعِ، بخِلافِ الفَرْضِ. إذا ثَبَت هذا ففى أىِّ جُزْءٍ مِن اللَّيْلِ نَوَى أجْزَأه، وسَواءٌ فَعَل بعدَ النِّيَّةِ ما يُنافِى الصومَ، مِن الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ، أو لم يَفْعَلْ. واشْتَرَطَ بعضُ أصحابِ الشافعىِّ أن لا يَأْتِىَ بعدَ النِّيَّةِ بما يُنافِى الصومَ. واشْتَرَطَ بعْضُهم وُجُودَ النِّيَّةِ في النِّصْفِ الأخِيرِ مِن اللَّيْلِ، كأذانِ الصُّبْحِ، والدَّفْعِ مِن مُزْدَلِفَةَ. ولَنا، مَفْهُومُ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلٍ» (¬1). مِن غيرِ تَفْصِيلٍ. ولأنَّه نَوَى مِن اللَّيْلِ، فصَحَّ صَوْمُه, كما لو (¬2) نوَى في النِّصْفِ الأخِيرِ، وكما لو لم يَفْعَلْ ما يُنافِى الصومَ، ولأنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بالنِّصْفِ الأخِيرِ يُفْضِى إلى تَفْوِيتِ الصومِ؛ لأنَّه وَقْتُ النَّوْمِ، وكَثِيرٌ مِن النّاسِ لا يَنْتَبِهُ فيه، ولا يَذْكُرُ الصومَ، والشارِعُ إنَّما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الصفحة قبل السابقة. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَخَّصَ في تَقْدِيمِ النِّيَّةِ على ابْتِدائِه لحَرَجِ اعْتِبارِها عندَه، فلا يَخُصُّها بمَحَلٍّ لا تَنْدَفِعُ المَشَقَّةُ بتَخْصِيصِها به، ولأنَّ تَخْصِيصَها بالنِّصْفِ الأخِيرِ تَحَكُّمٌ مِن غيرِ دَلِيلٍ، واعْتِبارُ الصومِ بالأذانِ والدَّفْعِ مِن مُزْدَلِفَةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّهما يَجُوزان بعدَ الفَجْرِ، فلا يُفْضِى مَنْعُهما في النِّصْفِ الأوَّلِ إلى فَواتِهما، بخِلافِ نِيَّةِ الصومِ، ولأنَّ اخْتِصاصَهما بالنِّصْفِ الأخِيرِ بمَعْنَى تَجْوِيزِهما فيه، واشْتِراطُ النِّيَّةِ بمَعْنَى الإِيجابِ والتَّحَتُّمِ وفَواتِ الصومِ بفَواتِها، فيه، وهذا فيه مَشَقَّةٌ ومَضَرَّةٌ، بخِلافِ التَّجْوِيزِ. فأمّا إن فَسَخ النِّيَّةَ، مثلَ إن نَوَى الفِطْرَ بعدَ نِيَّةِ الصيامِ، لم تُجْزِئْه تلك النِّيَّةُ المَفْسُوخَةُ؛ لأنَّها زالت حُكْمًا وحَقِيقَةً. فصل: وإن نَوَى مِن النَّهارِ صومَ الغَدِ، لم يُجْزِئْه، إلَّا أن يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ إلى جُزْءٍ مِن اللَّيْلِ. وقد روَى ابنُ مَنْصُورٍ، عن أحمدَ: مَن نَوَى الصومَ عن قَضاءِ رمضانَ بالنَّهارِ، ولم يَنْوِ من اللَّيْلِ، فلا بَأْسَ، إلَّا أن يَكُونَ فَسَخ النِّيَّةَ بعدَ ذلك. فظاهِرُ هذا حُصُولُ الإِجْزاءِ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، إلَّا أنَّ القاضىَ قال: هذا مَحْمُولٌ على أنَّه اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إلى اللَّيْلِ. وهذا صَحِيحٌ؛ لظاهِر قَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ». ولأنَّه لم يَنْوِ عندَ ابْتِداءِ العِبادَةِ، ولا قَرِيبًا منها، فلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحَّ, كما لو نَوَىْ مِن اللَّيْلِ صومَ بعدِ الغَدِ. فصل: وتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لكلِّ يومٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، أنَّه تُجْزِئُه نِيَّةٌ واحِدَةٌ لجمِيعِ الشَّهْرِ، إذا نَوَى صومَ جَميعِه. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، وإسحاقَ؛ لأنَّه نوَى في زَمَنٍ يَصْلُحُ جِنْسُه لنِيَّةِ الصوم، فجاز, كما لو نَوَى كلَّ يومٍ في لَيْلَته. ولَنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فوَجَبَ أَن يَنْوِىَ كُلَّ يَومٍ مِن لَيْلَتِه، كالقَضاءِ، ولأنَّ هذه الأيَّامَ عِباداتٌ لا يَفْسُدُ بعضُها بفَسادِ بعضٍ، ويَتَخَلَّلُها ما يُنافِيها، أشْبَهَتِ القَضاءَ، وبهذا فارَقَتِ اليومَ الأوَّلَ. وعلى قِياسِ رمضانَ إذا نَذَر صومَ شَهْرٍ بعَيْنِه، خُرِّجَ فيه مثلُ ما ذَكَرْنا في رمضانَ. فصل: ومَعْنَى النِّيَّةِ القَصْدُ، وهو اعْتِقادُ القَلْبِ فِعْلَ الشئِ وعَزْمُه عليه مِن غيرِ تَرَدُّدٍ. فمتى خَطَر بقَلْبِه في اللَّيْلِ أنَّ غَدًا مِن رمضانَ، وأنَّه صائِمٌ فيه، فقد نوَى. وإن شَكَّ في أنَّه مِن رمضانَ، ولم يَكُنْ له أصْلٌ يَبْنِى عليه، مثلَ لَيْلَةِ الثَّلاِثِين مِن شعبانَ، ولم يَحُلْ دُونَ مَطْلَعِ الهِلالِ غَيْمٌ ولا قَتَرٌ، فعَزَمَ أن يَصُومَ غَدًا مِن رمضانَ، لم تَصِحَّ النِّيَّةُ، ولم يُجْزِئْه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صيامُ ذلك اليَوْمِ؛ لأنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ يَتْبَعُ العِلْمَ، وما لا يَعْلَمُه ولا دَلِيلَ على وُجُودِه، لا يَصحُّ قَصْدُه. وبهذا قال حَمّادٌ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، وابنُ أبي لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالِحٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ: يَصحُّ إذا نَواه مِن اللَّيْلِ، كاليومِ الثانى. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّه لم يَجْزِمِ النِّيَّةَ بصَوْمِه مِن رمضانَ، فلم يَصحَّ، كما لو لم يَعْلَمْ إلَّا بعدَ خُرُوجِه. وكذلك إن بَنَى على قولِ المُنَجِّمِين وأهلِ الحِسابِ، فوافَقَ الصَّوابَ، لم يَصحَّ صومُه، وإن كَثُرَتْ إصابَتُهم؛ لأنَّه ليس بدَلِيلٍ شَرْعِىٍّ يَجُوزُ البِناءُ عليه، ولا العَمَلُ به، فكان وُجُودُه كعَدَمِه، قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». وفى رِوايَةٍ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» (¬1). فأمّا لَيْلَةُ الثَّلاِثِين مِن رمضانَ، فتَصِحُّ نِيَّتُه، وإنِ احْتَمَلَ أن يَكُونَ مِن شَوّالٍ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ رمضانَ، ولِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. فإن قال: إن كان غَدًا مِن رمضانَ فأنا صائِمٌ، وإن كان مِن شَوّالٍ فأنا مُفْطِرٌ. فقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَصحُّ صومُه؛ لأنَّه لم يَجْزِمْ بنَيَّةِ الصومِ، والنِّيَّةُ اعْتِقادٌ جازِمٌ. ويَحْتَمِلُ أن يَصحَّ؛ لأنَّ هذا شَرْطٌ واقِعٌ، والأصْلُ بَقاءُ رمضانَ. فصل: ويَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ في كلِّ صومٍ واجِبٍ، فيَعْتَقِدُ أنَّه يصومُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غدًا مِن رمضانَ، أو مِن قَضائِه، أو مِن كفّارتِه، أو نَذْرِه. نَصَّ عليه في رِوايةِ الأثْرَم، فإنَّه قال: يا أبا عبدِ اللهِ، أسِيرٌ صام في أرضِ الرُّومِ شَهْرَ رمضانَ، ولا يَعْلَمُ أنَّه رمضانُ، فنَوَى التَّطَوُّعَ؟ قال: لا يُجْزِئُه إِلَّا بعَزِيمَةِ أنَّه مِن رمضانَ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، رِوايَةٌ أُخْرَى، أَنَّه لا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لرمضانَ. قال المَرُّوذِىُّ: رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: يَكُونُ يَوْمُ الشَّكِّ يومَ غَيْمٍ، إذا أجْمَعْنا على أنَّنا نُصْبِحُ صِيامًا، يُجْزِئُنا مِن رمضانَ، وإن لم نَعْتَقِدْ أنَّه مِن رمضانَ؟ قال: نعم. فقُلْتُ: فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» (¬1). أليَس يُرِيدُ أن يَنْوِىَ أنَّه مِن رمضانَ؟ قال: لا، إذا نَوَى مِن اللَّيْلِ أنَّه صائِمٌ أجْزَأه. وحَكَى أبو حَفْصٍ العُكْبَرِىُّ، عن بعضِ أصحابِنا أنَّه قال: ولو نَوَى أن يَصُومَ تَطَوُّعًا لَيْلَةَ الثَّلاِثِينْ مِن رمضانَ، فوافَقَ رمضانَ، أجْزَأه. قال القاضى: وَجَدْتُ هذا الكَلامَ اخْتِيارًا لأبِى القاسِمِ، ذَكَرَه في شَرْحِه. وقال أبو حَفْصٍ: لا يُجْزِئُه، إلَّا أن يَعْتَقِدَ مِن اللَّيْلِ بلا شَكٍّ وِلا تَلَوُّمٍ (¬2). فعلى القولِ الثانِى، لو نَوَى في رمضانَ الصومَ مُطْلَقًا، أو نوَى نَفْلًا، وَقَع عن رمضانَ، وصَحَّ صَوْمُه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ إذا كان مُقِيمًا؛ لأنَّه فَرْضٌ مُسْتَحَقٌّ في زَمَنٍ بعَيْنِه، فلا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ له، كطَوافِ الزِّيارَةِ. ولنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فوَجَبَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) في الأصل: «يلزم». والتلوم: التمكُّث.

1055 - مسألة: (ولا يحتاج إلى نية الفرضية. وقال ابن حامد: يجب ذلك)

وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَجِبُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْيِينُ النِّيَّةِ له، كالقَضاءِ. وطَوافُ الزِّيارَةِ عندَنا كهذه المَسْألَةِ في افْتِقارِه إلى التَّعْيِينِ، فلو نَوَى طَوافَ الوَداعِ، أو طَوافًا مُطْلَقًا، لم يُجْزِئْه عن طَوافِ الزِّيارَةِ. ثم الحَجُّ مُخالِفٌ للصومِ، ولهذا يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا، ويَنْصَرِفُ إلى الفَرْضِ. ولو حَجَّ عن غيرِه، ولم يَكُنْ حَجَّ عن نَفْسِه، وَقَع عن نَفْسِه. ولو نَوَى الِإحْرامَ بمثلِ ما أحْرَمَ به فُلَانٌ، صَحَّ، ويَنْعَقِدُ فَاسِدًا، بخِلافِ الصومِ. 1055 - مسألة: (ولا يَحْتاجُ إلى نِيَّةِ الفَرْضِيَّةِ. وقال ابنُ حامِدٍ: يَجِبُ ذلك) إذا عَيَّنَ النِّيَّةَ عنِ صومِ رمضانَ، أو قَضائِه، أو نَذْرِه، أو كَفّارَةٍ، لم يَحْتَجْ أن يَنْوِىَ أنَّه فَرْضٌ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ يُجْزِئُ عن نِيَّةِ الفَرْضِيَّةِ. وقال ابنُ حامِدٍ: يَجِبُ ذلك. وقد ذَكَرْنا ذلك في كِتابِ الصلاةِ (¬1). ¬

(¬1) تقدم في 3/ 361.

1056 - مسألة: (ولو نوى، إن كان غدا من رمضان، فهو فرضى، وإلا فهو نفل. لم يجزئه)

وَلَوْ نَوَى، إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضِى، وَإلَّا فَهُوَ نَفْلٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1056 - مسألة: (ولو نَوَى، إن كان غَدًا مِن رمضانَ، فهو فَرْضِى، وإلَّا فهو نَفْلٌ. لم يُجْزِئْه) على الرِّوايَةِ المَشْهُورَةِ؛ لأنَّه لم يُعَيِّنِ الصومَ مِن رمضانَ جَزْمًا (وعنه، يُجْزِئه) لأنَّه قد نَوَى الصومَ. ولو كان

1057 - مسألة: (ومن نوى الإفطار، أفطر)

وَمَنْ نَوَى الإِفْطَارَ، أَفْطَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه صومٌ مِن سَنَةِ خَمْسٍ، فنَوَى أنَّه يَصُومُ عن سَنَةِ سِتٍّ، أو نَوَى الصومَ عن يَوْمِ الأحَدِ، وكان غيرَه، أو ظَنَّ أنَّ غَدًا الأحَدَ، فَنَواه، وكان الاثْنَيْنَ، صَحَّ صَوْمُه؛ لأنَّ نِيَّةَ الصومِ لم تَخْتَلَّ، إنَّما أخْطَأَ في الوَقْتِ. 1057 - مسألة: (ومَن نَوَى الإِفْطارَ، أفْطَرَ) إذَا نَوَى الإِفْطارَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في صومِ الفَرْضِ أفْطَرَ، وفَسَد صومُه. هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ، وقولُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: إن عاد فنَوَى قبلَ أن يَنْتَصِفَ النَّهارُ، أجْزَأه. بِناءً على أصْلِهم أنَّ الصومَ المُعَيَّنَ يُجْزِىُّ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ. وحُكِىَ عن ابنِ حامِدٍ، أنَّ الصومَ لا يَفْسُدُ بذلك؛ لأنَّها عِبادَةٌ: يَلْزَمُ المُضِىُّ في فاسِدِها، فلم تَفْسُدْ بنِيَّةِ الخُرُوجِ منها، كالحَجِّ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ مِن شَرْطِها النِّيَّةُ، ففَسَدَتْ بنِيَّةِ الخُرُوجِ منها، كالصلاةِ، ولأنَّ اعْتِبارَ النِّيَّةِ في جميعِ أجْزاءِ العِبادَةِ، لكنْ لَمّا شَقَّ اعْتِبارُ حَقِيقَتِها اعْتُبِرَ بَقاءُ حُكْمِها، وهو أن لا يَنْوِىَ قَطْعَها، فإذا نَواه زالت حَقِيقَةً وحُكْمًا، ففَسَدَ الصومُ؛ لزَوالِ شَرْطِه. وما ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ لا يَطَّرِدُ في غيرِ رمضانَ، ولا يَصِحُّ القِياسُ على الحَجَّ؛ فإنَّه يَصِحُّ بنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ ومُبْهَمَةٍ، وبالنِّيَّةِ عن غيرِه إذا لم يَكُنْ حَجَّ عن نَفْسِه، فافْتَرَقا. فصل: فأمّا صومُ النَّفْلِ، فإن نَوَى الفِطْرَ، ثم لم يَنْوِ الصومَ بعدَ ذلك، لم يَصِحَّ صَوْمُه؛ لأنَّ النِّيَّةَ انْقَطَعَتْ، ولم تُوجَدْ نِيَّةٌ غيرَها، أشْبَهَ مَن لم يَنْوِ أصْلًا. وإن عاد فنَوَى الصومَ، صَحَّ، كما لو أصْبَحَ غيرَ ناوٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصومِ؛ لأنَّ نِيَّةَ الفِطْرِ إنَّما أبْطَلَتِ الفَرْضَ [2/ 205 ظـ] لقَطْعِها النِّيَّةَ المُشْتَرَطَةَ في جَمِيعِ النَّهارِ حُكْمًا، وخُلُوِّ بعضِ أجْزاءِ النَّهارِ عنها، والنَّفْلُ بخِلافِ ذلك، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الصومِ نِيَّةُ الفِطْرِ في زَمَن لا يُشْتَرَطُ وُجُودُ نِيَّةِ الصومِ فيه؛ لأنّ نِيَّةَ الفِطْرِ لا تَزِيدُ على عَدَمِ النَّيَّةِ في ذلك الوَقْتِ، وعَدَمُها لا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصومِ إذا نَوَى بعدَ ذلك، فكذلك إذا نَوَى الفِطْرَ، ثم نَوَى الصومَ بعدَه. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا أصْبحَ صائِمًا، ثم عَزَم على الفِطْرِ، فلم يُفْطِرْ حتى بَدا له، ثم قال: لا، بل أُتِمُّ صَوْمِى مِن الواجبِ. لم يُجْزِئْه حتى يَكُونَ عازِمًا على الصومِ يَوْمَه كلَّه، ولو كان تَطَوُّعًا كان أسهَلَ. وظاهِرُ هذا مُوافِقٌ لِما ذَكَرْناه. وقد دَلَّ على صِحَّتِه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْألُ أهْلَه: «هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟» فإن قالوا: لا. قال: «إنِّى إذًا صَائِمٌ» (¬1). فصل: فإن نَوَى أنَّه سيُفْطِرُ ساعَةً أُخْرَى، فقال ابنُ عَقِيلٍ: هو كنِيَّةِ الفِطْرِ في وَقْتِه. وإن تَرَدَّدَ في الفِطْرِ، فعلى وَجْهَيْن، ذَكَرْنا في الصلاةِ (¬2). وإن نَوَى، إنَّنى إن وَجَدْتُ طَعامًا أفْطَرْتُ، وإلَّا أتْمَمْتُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب جواز صوم النافلة بنية من النهار. . . . إلخ، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 808، 809. وأبو داود، في: باب الرخصة في ذلك (النية من النهار)، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 571. والترمذى، في: باب صيام المتطوع بغير تبييت، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 269، 270. والنسائى، في: باب النية في الصيام، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 163. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 207. (¬2) انظر ما تقدم في 3/ 368، 369.

1058 - مسألة: (ويصح صوم النفل بنية من النهار، قبل الزوال وبعده. وقال القاضي: لا يجزئ بعد الزوال)

وَيَصِحُّ صَوْمُ النَّفْلِ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يُجْزِئُ بَعْدَ الزَّوَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَوْمِى. خُرِّجَ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُفْطِرُ؛ لأنَّه لم يَبْقَ جازِمًا بنِيَّةِ الصومِ، ولذلك لا يَصِحُّ ابْتِداءُ النِّيَّةِ بمِثْلِ هذا. والثّانِى، لا يُفْطِرُ؛ لأنَّه لم يَنْوِ الفِطْرَ نِيَّةً صَحِيحَةً، لأنَّ النِّيَّةَ لا يَصِحُّ تَعْلِيقُها على شَرْطٍ، ولذلك لا يَنْعَقِدُ الصومُ بمِثْلِ هذة النِّيَّةِ. فصل: ومَن ارْتَدَّ عن الِإسْلامِ، أفْطَرَ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. إذا ارْتَدَّ في أثْناءِ الصومِ فعليه قَضاءُ ذلك اليومِ إذا عاد إلى الِإسْلامِ، سَواءٌ أسْلَمَ في أثْناء اليومِ، أو بعدَ انْقِضائِه، وسَواءٌ كانت رِدَّتُه باعْتِقادِه ما يَكْفُرُ به، أو شَكِّه، أو النُّطْقِ بكَلِمَةِ الكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا أو غيرَ مُسْتَهْزِئٍ؛ لأنَّها عِبادَةٌ مِن شَرْطِها النِّيَّةُ، أشْبَهَتِ الصلاةَ والحَجَّ. 1058 - مسألة: (ويَصِحُّ صومُ النَّفْلِ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، قبلَ الزَّوالِ وبعدَه. وقال القاضي: لا يُجْزِئُ بعدَ الزَّوالِ) يَصِحُّ صومُ التَّطَوُّعِ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. ورُوِىَ ذلك عن أبى الدَّرْداءِ، وأبِى طَلْحَةَ، وابنِ مسعودٍ، وحُذَيْفَةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىِّ. وقال مالكٌ، وداودُ: لا يَجُوزُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِن اللَّيْلِ؛ لقولِه عليه السَّلامُ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» (¬1). ولأنَّ الصلاةَ يَتَّفِقُ نِيَّةُ نَفْلِها وفرْضِها، فكذلك الصومُ. ولَنا، ما رَوَتْ عائشةُ رَضىَ اللهُ عنها، قالت: دَخَل علىَّ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يَوْمٍ، فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَئٌ؟» قُلْنا: لا. قال: «فَإنَّى إذًا صَائِمٌ». أخْرَجَه مسلمٌ، وأبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬2). ويَدُلُّ عليه أيضًا حديثُ عاشُوراءَ (¬3). ولأنَّ الصلاةَ يُخَفَّفُ نَفْلُها عن فَرْضِها في سُقُوطِ القِيامِ، وجَوازِها في السَّفَرِ على الرّاحِلَةِ إلى غيرِ القِبْلَةِ، فكذلك الصِّيامُ. وحَدِيثُهم نَخُصُّه بحدِيثنِا، ولو تَعارَضا قُدِّمَ حَدِيثُنا؛ لأنَّه أصَحُّ مِن حَدِيثِهم، فإنَّه مِن رِوايَةِ ابنَ لَهِيعَةَ، ويحيى بنَ أيُّوبَ (¬4). قال المَيْمُونِىُّ: سَألْتُ أحمدَ عنه، فقالَ: أُخْبِرُك ما له عندى ذاك الِإسنادُ، إلَّا أنَّه عنِ ابنِ عُمَرَ وحَفْصَةَ، إسْنادان جَيِّدان. والصلاةُ يَتَّفِقُ وَقْتُ النَّيَّةِ لنَفْلِها وفرْضِها؛ لأنَّ اشْتِراطَ النَّيَّةِ في أوَّلِ الصلاةِ لا يُفْضِى إلى تَقْلِيلِها، بخِلافِ الصومِ، فإنَّه يُعَيَّنُ له الصومُ مِن النَّهارِ، فعُفِىَ عنه، جَوَّزْنا التَّنَفُّلَ قَاعِدًا لهذه العِلَّةِ. إذا ثَبَت ذلك، فأىَّ وَقْتٍ مِن النَّهارِ نَوَى أجْزَأه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 391. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 402. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 390. (¬4) يحيى بن أيوب الغافقى المصري أبو العباس، صدوق ربما أخطأ، توفى سنة ثمان وستين ومائة. تهذيب التهذيب 11/ 186 - 188. تقريب التهذيب 2/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، والخِرَقِىِّ. وهو ظاهِرُ قولِ ابنِ مسعودٍ. ويُرْوَى عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. واخْتارَ القاضي، في «المُجَرَّدِ» أنَّه لا تُجْزِئُه النِّيَّةُ بعدَ الزَّوالِ. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ، والمَشْهُورُ مِن قَوْلَى الشافعىَّ؛ لأنَّ مُعْظَمَ النَّهارِ مَضَىَ بغيرِ نِيَّةٍ، بخِلافِ النّاوِى قبلَ الزَّوالِ، فإنَّه قد أدْرَكَ مُعْظَمَ العِبادَةِ، ولهذا تَأْثِيرٌ في الأصُولِ، بدلِيلِ أنَّ مَن أدْرَكَ الإِمامَ في الرُّكُوعِ أدْرَكَ الرَّكْعَةَ؛ لِإدْراكِه مُعْظَمَها، ولو أدْرَكَه بعدَ الرَّفعِ لم يَكُنْ مُدرِكًا لها، وكذلك مَن أدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ يَكُونُ مُدْرِكًا لها؛ لأنَّها تَزِيدُ بالتَّشَهُّدِ، ولا يُدْرِكُها بدُونِ الرَّكْعَةِ لذلك. ولَنا، أنَّه نَوَى في جُزْءٍ مِن النَّهارِ، أشْبَهَ ما لو نوَى في أوَّلِه، ولأنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ وَقْتٌ لنِيَّةِ الفَرْضِ، فكذلك جَمِيعُ النَّهارِ وَقْتٌ لنِيَّةِ النَّفْلِ، ولأنَّ صومَ النَّفْلِ إنَّما جَوَّزْناه بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ طَلبًا لتَكْثِيرِه، وهذا أبْلَغُ في التَّكْثِيرِ. فصل: وإنَّما يُحْكَمُ له بالصومِ الشَّرْعِىَّ المُثابِ عليه مِن وَقْتِ النِّيَّةِ، في المَنْصُوصِ عن أحمدَ، فإنَّه قال: مَن نوَى في التَّطَوُّعِ مِن النَّهارِ، كُتِب له بَقِيَّة يومِه، وإذا أجْمَعَ مِن اللَّيْل كِان له يومُه. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ. وقال أبو الخَطّابِ، في «الهِدايَةِ»: يُحْكَمُ بذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أوَّلِ النَّهارِ. وهو قولُ بعضِ الشافِعِيَّةِ؛ لأنَّ الصومَ لا يَتَبَعَّضُ في اليومِ؛ بدَلِيلِ ما لو أكَل في بعضِه، لم يُجْزِئْه صِيامُ باقِيه، فإذا وُجِد في بعضِ اليومِ دَلَّ على أنَّه صائِمٌ مِن أوَّلِه، ولا يَمْتَنِعُ الحُكْمُ بالصوم مِن غيرِ نِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، كما لو نَسِىَ الصومَ بعدَ نِيَّتِه، أو غَفَل عنه، ولأنَّه لو أدرَكَ بعضَ الرَّكْعَةِ، أو بعضَ الجَماعَةِ كان مُدْرِكًا لجَمِيعِها. ولَنا، أنَّ ما قبلَ النِّيَّةِ لم يَنْوِ صِيامَه، فلا يَحْصُلُ له صِيامُه؛ لقَولِه عليه السلامُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). ولأنَّ الصومَ عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فلا يُوجَدُ بغيرِ نِيَّةٍ، كسائِرِ العِباداتِ المَحْضَةِ. ودَعْوَى أنَّ الصومَ لا يَتَبَعَّضُ، دَعْوَى مَحَلِّ النِّزاعِ، وإنَّما يُشْتَرَطُ لصومِ البعضِ أن لا تُوجَدَ المُفْطِراتُ في شيءٍ مِن اليومِ، ولهذا قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديثِ عاشُوراءَ: «فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» (¬2). وأمّا إذا نَسِىَ النِّيَّةَ بعدَ وُجُودِها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَكُونُ مُسْتَصْحِبًا لحُكْمِها، بخِلافِ ما قبلَها، فإنَّها لم تُوجَدْ حُكْمًا، ولا حَقِيقَةً، ولهذا لو نَوَى الفَرْضَ مِن اللَّيْلِ، ونَسِيَه في النَّهارِ، صَحَّ صَوْمُه، ولو لم يَنْوِ مِن اللَّيْلِ، لم يَصِحَّ صومُه. وأمّا إدْراكُ الرَّكْعَةِ والجَماعَةِ، فإنَّما مَعْناه أنَّه لا يَحْتاجُ إلى قَضاءِ رَكْعَةٍ، ويَنْوِى أنَّه مَأْمُومٌ، وليس هذا مُسْتَحِيلًا، أمّا أن يَكُونَ ما صلَّى الإمامُ قبلَه مِن الرَّكَعاتِ مَحْسُوبًا له، بحيث يُجْزِئُه عن فِعْلِه، فكَلَّا، ولأنَّ مُدْرِكَ الرُّكُوعِ مُدْرِكٌ لجَمِيعِ أرْكانِ الرَّكْعَةِ، لأنَّ القِيامَ وُجِد حينَ كَبَّرَ وفَعَل سائِرَ الأرْكانِ مع الإِمامِ. وأمّا الصومُ فإنَّ النِّيَّةَ شَرْط له، أو رُكْنٌ فيه، فلا يُتَصَوَّرُ وُجُودُه بدُونِ شَرْطِه ورُكْنِه. فصل: وإنَّما يَصِحُّ (¬1) الصومُ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، بشَرْطِ أن لا يَكُونَ طَعِم قبلَ النِّيَّةِ، ولا فَعَل ما يُفْطِرُه. فإن فَعَل شيئًا مِن ذلك، لم يُجْزِئْه الصيامُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. والله عَزَّ وجَلَّ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «يصوم».

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة

بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ [57 و] وِمَنْ أَكَلَ، أوْ شَرِبَ، أَوِ اسْتَعَطَ، أَوِ احْتَقَنَ، أَوْ دَاوَى الْجَائِفةَ بِمَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ، أَوِ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ، أوْ دَاوَى الْمَأمُومَةَ، أوْ قَطَرَ في أُذُنِهِ مَا يَصِلُ إِلَى دِمَاغِهِ، أَوْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ أىِّ مَوْضِعٍ كَانَ، أوِ اسْتَقَاءَ، أوِ اسْتَمْنَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ما يُفْسِدُ الصومَ، ويُوجِبُ الكَفّارَةَ (ومَن أكَلَ، أو شَرِب، أو اسْتَعَطَ (¬1)، أو احْتَقَنَ، أو داوَى الجائِفةَ (¬2) بما يَصِلُ إلى جَوْفِه، أو اكْتَحَلَ بما يَصِلُ إلى حَلْقِه، أو داوَى المَأْمُومَةَ (¬3)، أو قَطَر في أُذُنِه ما يَصِلُ إلى دِماغِه، أو أدْخَلَ في جَوْفِه شَيْئًا مِن أىِّ مَوْضِعٍ كان، أو اسْتَقاءَ، أو اسْتَمْنَى، أو قَبَّل أو لَمَس فأمْنَى أو ¬

(¬1) استعط: أدخل الدواء في أنفه. (¬2) الجائفة: الجراحة تصل إلى الجوف. (¬3) المأمومة: الجراحة تصل إلى أم الدماغ، وهي أشد الشجاج.

أوْ قَبَّلَ أوْ لَمَسَ فَأَمْنَى أوْ أَمْذَى، أوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ، أَوْ حَجَمَ، أَو احْتَجَمَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ يَفْسُدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْذَى، أو كَرَّرَ النَّظَرَ فأنْزَلَ، أو حَجَم، أو احْتَجَمَ عامِدًا ذاكِرًا لصومِه، فَسَد صَوْمُه، وإن كان مُكْرَهًا أو ناسِيًا، لم يَفْسُدْ) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على الإِفْطارِ بالأكْلِ والشُّرْبِ لِما يُتَغَذَّى به، وقد دَلَّ عليه قَوْلُه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) مَدَّ (¬2) إباحَةَ الأكْلِ والشُّرْبِ إلى تَبَيُّنِ الفَجْرِ، ثم أمَرَ بالصيامِ عنهما، وفى الحديثِ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِى» (¬3). فأمّا أكْلُ ما لا يُتَغَذَّى به فيَحْصُلُ به الفِطْرُ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وقال الحسنُ بنُ صالِحٍ: لا يُفْطِرُ بما ليس بطعام ولا شَرابٍ. وحُكِىَ عن أَبِى طَلْحَةَ الأنْصارِىِّ، أنَّه كان يَأْكُلُ ¬

(¬1) سورة البقرة 187. (¬2) في م: «مدة». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 387.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَرَدَ (¬1) في الصومِ، ويَقُولُ: ليس بطَعامٍ ولا شَرابٍ (¬2). ولَعَلَّ مَن يَذْهَبُ إلى ذلك يَحْتَجُّ بأَنَّ الكتابَ والسُّنَّةَ إنَّما حَرَّما الأكْلَ والشُّرْبَ المُعْتادَ، فما عَداهما يَبْقى على أَصْلِ الإِباحَةِ. ولَنا، دَلالَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ على تَحْرِيمِ الأكْلِ والشُّرْبِ على العُمُوم، فيَدْخُلُ فيه مَحَلُّ النِّزاعِ، ولم يَثْبُتْ عندَنا ما نُقِل عن أبى طَلْحَةَ، فلا يُعَدُّ خِلافًا. فصل: ويُفْطِرُ بكلِّ ما أدْخَلَه إلى جَوْفِه، أو مُجَوَّفٍ في جَسَدِه، كدِماغِه، وحَلْقِه، ونحْوِ ذلك، ممّا يَنْفُذُ إلى مَعِدَتِه، إذا وَصَل باخْتِيارِه، وكان مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، سَواءٌ وَصَل مِن الفَمِ على العادَةِ أو غيرِها، كالوَجُورِ (¬3) واللَّدُودِ (¬4)، أو مِن الأنْف، كالسَّعُوطِ، أو ما يَدْخُلُ مِن الأُذُنِ إلى الدِّماغِ، أو ما يَدْخُل مِن العَيْنِ إلى الحَلْقِ، كالكُحْلِ، أو ما يَدْخُلُ إلى الجَوْفِ مِن الدُّبُرِ بالحُقْنَةِ، أو ما يَصِلُ مِن مُداوَاةِ الجائِفَةِ، أو مِن دَواءِ المَأْمُومَةِ، وكذلك إن جَرَح نَفْسَه، أو جَرَحَه غيرُه بإذْنِه، فوَصَلَ إلى جَوْفِه، سَواءٌ اسْتَقَرَّ في جَوْفِه، أو عاد فخَرَجَ منه؛ ¬

(¬1) البرد: الماء الجامد ينزل من السحاب قطعا صغارا، ويسمى حب الغمام. (¬2) عزاه الهيثمي إلى أبى يعلى والبزار. مجمع الزوائد 3/ 171، 172. (¬3) الوجور: الدواء يصب في الحلق. (¬4) اللدود: الدواء يصب من الإناء في أحد شقى الفم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّه واصِلٌ إلى الجَوْفِ باخْتِيارِه، فأشْبَهَ الأكْلَ، وبهذا كُلِّه قال الشافعىٌّ، إلَّا في الكُحْلِ. وقال مالكٌ: لا يُفْطِرُ بالسَّعُوطِ، إلَّا أن يَنْزِلَ إلى حَلْقِه، ولا يُفْطِرُ إذا داوَى المَأْمُومَةَ والجَائِفَةَ. واخْتُلِفَ عنه في الحُقْنَةِ، واحْتَجَّ بأنَّه لم يَصِلْ إلى الحَلْقِ منه شَئٌ، أشْبَهَ ما لم يَصِلْ إلى الدِّماغِ ولا الجَوْفِ. ولَنا، أنَّه واصِلٌ إلى جَوْفِ الصائِمِ باخْتِيارِه، فيُفْطِرُه، كالواصِلِ إلى الحَلْقِ، ولأنَّ الدِّماغَ جَوْفٌ، والواصِلُ إليه يُغَذِّيه، فيُفْطِرُ، كجَوْفِ البَدَنِ (¬1). فصل: فأمّا الكُحْلُ، فإن وَجَد طَعْمَه في حَلْقِه، أو عَلِم وُصُولَه إليه، فَطَّرَه، وإلَّا لم يُفَطِّرْه. نصَّ عليه أحمدُ. وقال ابنُ أبي موسى: إنِ اكْتَحَلَ بما يَجِدُ طَعْمَه، كالذَّرُورِ والصَّبِرِ والقَطُورِ (¬2)، أفْطَرَ. وإنِ اكْتَحَلَ باليَسيرِ مِن الِإثْمِدِ غيرِ المُطَيَّبِ، لم يُفْطِرْ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إن كان الكُحْلُ حادًّا، فَطَّرَه، وإلَّا فلا. ونَحْوَ ما ذَكَرْناه قال أصحابُ مالكٍ. وعن ابنِ أبى لَيْلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، أن الكُحْلَ يُفَطِّرُ ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية، بعد أن ذكر تنازع أهل العلم في أمر الكحل والحقنة وما يقطر في الإحليل ومداواة المأمومة والجائفة: والأظهر أنه لا يفطر بشئ من ذلك. واستدل لقوله هذا بكلام طويل، راجعه في الفتاوى 25/ 233 - 237. (¬2) الذرور: ما يذر في العين وعلى الجرح من دواء يابس. والصبر، بكسر الباء: عصارة شجر مر، واحدته صَبِرَةٌ. والقطور، بفتح القاف: سائل يقطر في العين للعلاج أو الغسل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصائِمَ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: لا يُفَطَّرُ؛ لِما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه اكْتَحَلَ في رمضانَ وهو صائِمٌ (¬1). ولأن العَيْنَ ليست مَنْفَذًا، فلم يُفْطِرْ بالدّاخِلِ منها، كما لو دَهَن رَأْسَه. ولَنا، أنَّه أوْصَلَ إلى حَلْقِه ما هو مَمْنُوعٌ مِن تَناوُلِه بفِيه فأفْطَرَ به، كما لو أوْصَلَه مِن أنْفِه، وما رَوَوْه لم يَصِحَّ، قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): لم يَصِحَّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في بابِ الكُحْلِ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في السواك والكحل للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 536. والبيهقى، في: باب الصائم يكتحل، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 262. وليس فيهما أنه كان في رمضان. (¬2) انظر: عارضة الأحوذى 3/ 258.

1059 - مسألة: (أو استقاء، أو استمنى)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصّائِمِ شيءٌ. ثم نَحْمِلُه على (¬1) أنَّه اكْتَحَلَ بما لا يَصِلُ. وقَوْلُهم: ليستِ العَيْنُ مَنْفَذًا. لا يَصِحُّ؛ فإنَّه يُوجَدُ طَعْمُه في الحَلْقِ، ويَكْتَحِلُ بالِإثْمِدِ فيَتَنَخَّعُه. قال أحمدُ: حَدَّثَنِى إنْسانٌ أنَّه اكْتَحَلَ باللَّيْلِ فتَنَخَّعَه بالنَّهارِ. ثمِ لا يُعْتَبَرُ في الواصِلِ أن يَكُونَ مِن مَنْفَذٍ، بِدَلِيلِ ما لو جَرَح نَفْسَه جائِفَةً، فإنَّه يُفْطِرُ. 1059 - مسألة: (أو اسْتَقاءَ، أو اسْتَمْنَى) مَعْنَى اسْتَقاءَ: اسْتَدْعَى القَىْءَ. ويُفْطِرُ به في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على إبْطالِ صومِ مَن اسْتَقاءَ عامِدًا. وحُكِىَ عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، أنَّ القَىْءَ لا يُفْطِرُ. ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلَاثٌ لا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ؛ الحِجَامَةُ، والقَىْءُ، والاحتِلامُ» (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب في الصائم يذرعه القئ، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 243.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اسْتَقاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ». قال التِّرْمِذىُّ: هذا حديث حسنٌ. ورَواه أبو داودَ (¬1). وحديثُهم غيرُ مَحْفُوظٍ، يَرْوِيه عبدُ الرحمنِ بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ، وهو ضَعِيفٌ، قالَه التِّرْمِذِىُّ. فصل: وقَلِيلُ القَىْءِ وكَثِيرُه سَواءٌ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وفيه رِوايَةٌ ثانيةٌ، لا يُفْطِرُ إلَّا بمِلْءِ الفَمِ؛ لأَنَّه رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «وَلَكِنْ دَسْعَةٌ تَمْلأُ الْفَمَ» (¬2). ولأنَّ اليَسِيرَ لا يَنْقُضُ الوُضوءَ، فلا يُفطِرُ كالبَلْغَمِ. وفيه رِوايَةٌ ثالثةٌ، أنَّه نِصْفُ الفَمِ؛ لأنَّه يَنْقُضُ الوُضُوءَ، فأفْطَرَ به، كالكثيرِ. والأُولَى أوْلَى؛ لظاهِرِ الحديثِ الذي رَوَيْناه، ولأنَّ سائِرَ المُفْطِراتِ لا فَرْقَ بينَ قَلِيلِها وِكَثِيرِها، كذلك هذا، وحديثُ الرِّوايَةِ الثّانِيةِ لا نَعْرِفُ له أصْلًا. ولا فرْقَ بينَ كَوْنِ القَىْءِ طَعامًا، أو مُرارًا (¬3)، أو بَلْغَمًا، أو دَمًا، أو غيرَه؛ لأنَّ الجَمِيعَ داخِلٌ في الحديثِ. ¬

(¬1) في: باب الصائم يستقئ عامدا، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 555. والترمذى، في: باب ما جاء في من استقاء عمدا، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 244. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الصائم يقئ، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 536. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 498. (¬2) الدسعة: الدفعة الواحدة من القئ. يقال: دسع فلان بقيئه. إذا رمى به. وقد عزا الزيلعى هذا اللفظ إلى البيهقي في الخلافيات في ذكر ما يوجب الوضوء من كلام علي بن أبى طالب. ولم نجده مرفوعا. قال ابن الأثير: وجعله الزمخشرى حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: نصب الراية 1/ 44. والنهاية في غريب الحديث 2/ 117. والفائق في غريب الحديث 1/ 423. (¬3) المرار: شجر مر. واستعمل هنا لما يقيئه مرا.

1060 - مسألة؛ قال: (أو قبل أو لمس فأمنى أو مذى)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اسْتَمْنَى بيَدِه، فقدِ فَعَل مُحَرَّمًا، ولا يَفْسُدُ صَومُه بمُجَرَّدِه. فإن أنْزَلَ فَسَد صَوْمُه؛ لأنَّه في مَعْنَى القُبْلَةِ في إثارَةِ الشَّهْوَةِ. وكذلك إن مَذَى به في قِياسِ المَذْهَبِ، قِياسًا على القُبْلَةِ. فأمّا إن أنْزَلَ لغيرِ شَهْوَةٍ، كالذى يَخْرُجُ منه المَنِىُّ أو المَذىُ لمَرَضٍ، فلا شىَء عليه؛ لأنَّه خارِجٌ لغيرِ شَهْوَةٍ، أشْبَهَ البَوْلَ، ولأَنَّه يَخْرُجُ عن غيرِ اخْتِيارٍ منه ولا سَبَبٍ (¬1)، أشْبَهَ الاحْتِلامَ. ولو جامَعَ باللَّيْلِ فأنْزَلَ بعدَما أصْبَحَ، لم يُفْطِرْ؛ لأَنَّه لم يَتَسَبَّبْ إليه في النَّهارِ، فأشْبَهَ ما لو أكَلَ شيئًا في اللَّيْلِ فذَرَعَه القَىْءُ في النَّهارِ. 1060 - مسألة؛ قال: (أو قَبَّلَ أو لَمَس فأمْنَى أو مَذَى) إذا قَبَّلَ أو لَمَس، لم يَخْلُ مِن ثَلاَثةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن لا يُنْزِلَ ولا يُمْذِىَ، فلا يَفْسُدُ صَومُه بذلك، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلُ وهو صائِمٌ، وكان أمْلَكَكم لإِرْبِه. رَواه البُخارِىُّ (¬2). ¬

(¬1) في م: «بسبب». (¬2) في: باب المباشرة للصائم، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 39. كما أخرجه مسلم، في: باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 777. والترمذى، في: باب ما جاء في المباشرة للصائم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 260. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المباشرة للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 538. والإمام مالك، في: باب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 293. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 40، 42، 44، 98، 113، 126، 128، 156، 201، 216، 230، 266.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ بتَحْرِيكِ الرَّاءِ وسُكُونِها، قال الخَطّابِىُّ (¬1): مَعْنَى ذلك حاجَةُ النَّفْسِ ووَطَرُها. وقِيلَ: بالتَّسْكِينِ العُضْوُ، وبالتَّحْرِيكِ الحاجَةُ. ورُوِىَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: هَشَشْتُ فقَبَّلْتُ وأنا صائِمٌ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، صَنَعْتُ اليَوْمَ أمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وأنا صائِمٌ. قال: «أرَأيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنْ إنَاءٍ وَأنْتَ صَائِمٌ؟» قُلْتُ: لا بَأْسَ به. قال: «فَمَهْ؟». رَواه أبو داودَ (¬2). شَبَّهَ القُبْلَةَ بالمَضْمَضَةِ مِن حيث إنَّها مِن مُقَدِّماتِ الشَّهْوَةِ، فإنَّ المَضْمَضَةَ إذا لم يَكُنْ معها نُزُولُ الماءِ لم تُفْطِرْ، وإن كان معها نُزُولُه أفْطَرَهْ إلَّا أنَّ أحمدَ ضَعَّف هذا الحديثَ، وقال: هذا رِيحٌ، ليس مِن هذا شئٌ. الحالُ الثانى، أن يُمْنِىَ، فَيُفْطِرَ، بغير خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لِما ذَكَرْناه مِن إيماءِ الخَبَرَيْن، ولأنَّه إنْزالٌ بمُباشَرَةٍ، أشْبَهَ الإِنْزالَ بجِماعٍ دُونَ الفَرْجِ. الحالُ الثالثُ، أن يُمْذِىَ، فيُفْطِرَ. ¬

(¬1) في: معالم السنن 2/ 113. (¬2) في: باب القبلة للصائم، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 556. كما أخرجه الدارمي، في: باب الرخصة في القبلة للصائم، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 13. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 21. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمه». أي: فماذا. للاستفهام، فأبدل الألف هاء للوقف والسكت.

1061 - مسألة: (أو كرر النظر فأنزل)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: لا يُفْطِرُ. ورُوِىَ ذلك عن الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، والأوْزاعِىِّ؛ لأنَّه خارِجٌ لا يُوجِبُ الغُسْلَ، أشْبَهَ البَوْلَ. ولَنا، أنَّه خارِجٌ تَخَلَّلَه الشَّهْوَةُ، خَرَج بالمُباشَرَةِ، أشْبَهَ المَنِىَّ، وبهذا فارَقَ البَوْلَ. 1061 - مسألة: (أو كَرَّرَ النَّظَرَ فأنْزَلَ) لتَكْرارِ النَّظَرِ ثَلاَثةُ أحْوالٍ أيضا؛ أحَدُها، أن لا يَقْتَرِنَ به إنْزالٌ، فلا يَفْسُدُ الصومُ بغيرِ اخْتِلافٍ. الثانِى، أن يَنْزِلَ المَنِىُّ به، فيَفْسُدَ الصومُ. وبه قال عَطاءٌ، والحسنُ، ومالكٌ. وقال جابِرُ بنُ زيدٍ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَفْسُدُ؛ لأنَّه عن غيرِ مُباشَرَةٍ، أشْبَهَ الإنْزالَ [بالفِكْرِ. ولَنا، أنَّه إنْزالٌ بفِعْل يَتَلَذَّذُ به، يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ الإِنْزَالَ] (¬1) باللَّمْسِ. والفِكْرُ لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، بخِلافِ تَكْرارِ النَّظَرِ. الثالثُ، مَذَى بذلك، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنّه لا يُفْطِرُ به؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1062 - مسألة؛ قال: (أو حجم، أو احتجم)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَصَّ في الفِطْرِ به، ولا يَصِحُّ قِياسُه على إنْزالِ المَنِىِّ؛ لمُخالَفَتِه إيّاه في الأحْكام، فيَبْقَى على الأصْلِ. وفيه قولٌ آخَرُ، أنّه يُفْطِرُ؛ لأنَّه خارِجٌ بسَبَبِ الشَّهْوَةِ، أشْبَهَ المَنِىَّ، ولأنَّ السَّبَبَ الضَّعِيفَ إذا تَكَرَّرَ تَنَزَّلَ بمَنْزِلَةِ السَّبَبِ القَوِىِّ، فإنَّ مَن أعاد الضَّرْبَ بعَصًا صغيرةٍ فقَتَلَ، وَجَب عليه القِصاصُ، كالضَّرْبِ بالعَصا الكَبِيرَةِ. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ. فصل: فأمّا إن صَرَف نَظَرَه لم يَفْسُدْ صَومُه، أنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ. وقال مالكٌ: يَفْسُدُ صومُه إن أنْزَلَ، كما لو كَرَّرَه. ولَنا، أنَّ النَّظْرَةَ الأُولَى لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منها، فلا يُفْسِدُ الصومَ ما أفْضَتْ إليه، كالفِكْرَةِ، وعليه يُخَرَّجُ التَّكْرارُ. 1062 - مسألة؛ قال: (أو حَجَم، أو احْتَجمَ) الحِجامَةُ يُفْطِرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها الحاجِمُ والمَحْجُومُ. وبه قال إسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، ومحمدُ بنُ إسحاقَ بنِ (¬1) خُزَيْمَةَ، وعَطاءٌ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىٍّ. وكان مَسْرُوقٌ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، لا يَرَوْنَ للصائِمِ أن يَحْتَجِمَ. وكان جماعةٌ من الصحابةِ يَحْتَجِمُونَ لَيْلًا في الصومِ؛ منهم ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، وأبو موسى، وأنَسُ بنُ مالكٍ. ورَخَّصَ فيها أبو سعيدٍ الخُدْرِىُّ، وابنُ مسعودٍ، وأمُّ سَلَمَةَ، والحسين بنُ علىٍّ، وعُرْوَةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ: يَجُوزُ للصائِمِ أن يَحتَجمَ، ولا يُفْطِرُ؛ لِما روَى البُخارِىُّ (¬2)، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو صائِمٌ. ولأنَّه دَمٌ خارِج مِن البَدَنِ، أشْبَهَ الفَصْدَ. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «وابن». وهو محمد بن إسحاق بن خزيمة السُّلمى النيسابورى أبو بكر شيخ الإسلام، صاحب التصانيف، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وعنى في حداثته بالحديث والفقه حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، ولقب بإمام الأئمة، وتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 365 - 382. (¬2) في: باب الحجامة والقئ للصائم، وفى: باب أي ساعة يحتجم، من كتاب الطب. صحيح البخاري 3/ 42، 43, 7/ 161. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرخصة في ذلك (في الحجامة)، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 553، 554. والترمذى، في: باب ما جاء من الرخصة في ذلك (في الحجامة)، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 305. وابن ماجه بألفاظ مختلفة، في: باب ما جاء في الحجامة للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 537. والامام أحمد، في: المسند 1/ 244، 248، 286، 344.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» (¬1). رَواه عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، قال أحمدُ: حديثُ شَدّادِ بنِ أوْسٍ مِن أصَحِّ حديثٍ يُرْوَى في هذا البابِ، وإسْنادُ حديثِ رافِع إسْنادٌ جَيِّدٌ. وقال: حديثُ ثَوْبانَ وشَدّادٍ صَحِيحانِ. وقال علىُّ بنُ المَدِينِىِّ: أصَحُّ شيءٍ في هذا البابِ حديثُ شَدّادٍ وثَوْبانَ. وحديثُهم مَنْسُوخٌ بحَدِيثِنا، بدَلِيلِ ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّه قال: احْتَجَمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالقاحَةِ (¬2) بقَرْنٍ ونابٍ، وهو مُحْرِمٌ صائِمٌ، فوَجَدَ لذلك ضَعْفًا شَدِيدًا، فنَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْتَجِمَ الصائِمُ. رَواه أبو إسحاقَ الجُوزَجانِىُّ في «المُتَرْجَمِ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الحجامة والقئ للصائم، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 42. وأبو داود، في: باب في الصائم يحتجم، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 552، 553. والترمذى، في: باب كراهية الحجامة للصائم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 303. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الحجامة للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 537. والدارمى، في: باب الحجامة تفطر الصائم، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 14. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 364، 3/ 465، 474، 480، 4/ 123 - 125، 5/ 210، 276، 277، 280، 282، 283, 6/ 12، 157، 258. (¬2) القاحة: موضع على ثلاث مراحل من المدينة، قبل السقيا بنحة ميل. معجم البلدان 4/ 5. (¬3) وانظر رواية الإمام أحمد في: المسند 1/ 248. وتقدم تخريجه قريبا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن الحَكَمِ، قال: احْتجَمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فضَعُفَ، ثم كُرِهَتِ الحِجامَةُ للصائِمِ. وكان ابنُ عباسٍ، وهو راوى حَدِيثِهم، يُعِدُّ الحَجّامَ والمَحاجِمَ، فإذا غابَتِ الشمسُ احْتَجَمَ. كذلك رَواه الجُوزَجانِىُّ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه عَلِم نَسْخَ الحَدِيثِ الذي رَواه. ويَحْتَمِلُ أنَّه احْتَجَمَ فأفْطَرَ، كما رُوِىَ عنه، عليه السَّلامُ، أنَّه قاء فأفْطَرَ (¬1). فإن قِيلَ: فقد رُوِىَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى الحاجِمَ والمُحْتَجِمَ يَغْتابانِ، فقالَ ذلك. قُلْنا: لم تَثْبُتْ صِحَّةُ هذه الرِّوايَةِ، مع أنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِن السَّبَبِ، فيَجِبُ الأَخْذُ بعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، على أنَّنا قد ذَكَرْنا الحَدِيثَ الذي فيه بَيانُ عِلَّةِ النَّهْىِ عن الحِجامَةِ، وهي الخَوْفُ مِن الضَّعْفِ، فيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ بما سِواه، أو تَكُونُ كلُّ واحِدَةٍ منهما عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. على أنَّ الغِيبَةَ لا تُفَطِّرُ الصائِمَ إجْماعًا، فلا يَصِحُّ حَمْلُ الحديثِ عليها. قال أحمدُ: لَأن يكونَ الحديثُ على ما جاء عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ». أحَبُّ إلينا مِن أن يَكُونَ مِن الغِيبَةِ؛ لأنَّ مَن أراد أن يَمْتَنِعَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الصائم يستقئ عامدًا، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 555. والدارمى، في: باب القئ للصائم، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 14. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 195، 276، 277، 283، 6/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الحِجامَةِ امْتَنَعَ، وهذا أَشَدُّ على النّاسِ، مَن يَسْلَمُ مِن الغِيبَةِ! فإن قِيلَ: إذا كانت عِلَّةُ النَّهْىِ ضَعْفَ الصائِمِ بها فلا يَقْتَضِى ذلك الفِطْرَ، إنما يَقْتَضِى الكَراهَةَ، ومَعْنَى قولِه: «أفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ». أي قَرُبَا مِن الفِطْرِ. قُلْنا: هذا تَأْوِيلٌ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، مع أنَّه لا يَصِحُّ في حَقِّ الحاجِمِ؛ لأنَّه لا يُضْعِفُه. فصل: وإنَّما يُفْطِرُ بما ذَكَرْنا إذا فَعَلَه (عامِدًا، ذاكِرًا لصَوْمِه، وإن فَعَل) شيئًا مِن ذلك (ناسِيًا لم يَفْسُدْ) صومُه. رُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ الله عنه: لا شئَ على مَن أكَلَ ناسِيًا. وهو قولُ أبي هُرَيْرَةَ، وابنِ عُمَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعطاءٍ، وطاوُسٍ، وابنِ أبى ذِئْبٍ، والأوْزاعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، وإسحاقَ. وقال رَبِيعَةُ، ومالكٌ: يُفْطِرُ؛ لأنَّ ما لا يَصِحُّ الصومُ مع شيءٍ مِن جِنْسِه عَمْدًا، لا يَجُوزُ مع سَهْوِه، كالجماعِ، وتَرْكِ النِّيَّةِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ أوْ شَرِبَ نَاسِيًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ». مُتَّفَقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وفى لَفْظٍ: «مَنْ أكلَ أوْ شَرِبَ نَاسِيًا، [فَلَا يُفْطِرْ] (¬2)، فَإنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ» (¬3). ولأنَّها عِبادَةٌ ذاتُ تَحْلِيلٍ وتَحْرِيمٍ، فكان في مَحْظُوراتِها ما يَخْتَلِفُ عَمْدُه وسَهْوُه، كالصلاةِ والحَجَّ. فأمَّا النِّيَّةُ فليس ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا. من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 40. ومسلم، في: باب أكل الناسى وشربه وجماعه لا يفطر. من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 809. كما أخرجه أبو داود، في: باب من أكل ناسيا، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 559. والدارمى، في: باب في من أكل ناسيا، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 13. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من أفطر ناسيا، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 535. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 425، 489، 491، 493. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيا، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 246، 247.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرْكُها فِعْلًا، ولأنَّها شَرْطٌ، والشُّرُوطُ لا تَسْقُطُ بالسَّهْوِ، بخِلافِ المُبْطِلاتِ، والجِماعُ حُكْمُه أغْلَظُ، ويُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه.

1063 - مسألة: (فإن فكر فأنزل، لم يفسد صومه)

وَإِنْ طَارَ إِلَى حَلْقِهِ ذُبَابٌ أوْ غُبَارٌ، أوْ قَطَرَ في إِحْلِيلِهِ، أوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، أو احْتَلَمَ، أوْ ذَرَعَهُ الْقَئُ، أوْ أصْبَحَ وَفِى فِيهِ طَعَامٌ فَلَفَظَهُ، أوِ اغْتَسَلَ، أوْ تَمَضْمَضَ، أوِ اسْتَنْشقَ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ. وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أو بَاِلَغَ فِيهِمَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1063 - مسألة: (فإن فَكَّرَ فأنْزَلَ، لم يَفْسُدْ صومُه). وحُكِىَ عن أبى حَفْصٍ البَرْمَكِىِّ، أنَّه يَفْسُدُ. واخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ الفِكْرَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُسْتَحْضَرُ، فتَدْخُلُ تحتَ الاخْتِيارِ، لأنَّ اللهَ تعالى مَدَح الذين يَتَفَكَّرُون في خَلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ (¬1)، ونَهَى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن التَّفَكُّرِ في ذاتِ اللهِ (¬2)، ولو كانت غيرَ مَقْدُورٍ عليها لم يَتَعَلَّقْ بها ذلك، كالاحْتِلامِ. فأمّا إن خَطَر بقَلْبِه صُورَةُ ذلك الفِعْلِ، فأنْزَلَ، لم يَفْسُدْ صَوْمُه، كالاحْتِلامِ. ولَنا، قَوْلُه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «عُفِىَ لأُمَّتِى عَمّا حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ، أوْ تَعْمَلْ بِهِ» (¬3). ولأنَّه لا نَصَّ في الفِطْرِ به ولا إجْماعَ، ولا يُمْكِنُ قِياسُه على تَكْرارِ النَّظَرِ، لأنَّه دُونَه في اسْتِدْعاءِ الشَّهْوَةِ، وإفْضائِه إلى الإِنْزالِ، ويُخالِفُه في التَّحْرِيمِ إذا تَعَلَّقَ بأجْنَبِيَّةٍ، أو الكَراهَةِ إن كان في زَوْجَةٍ، فبَقِىَ على الأصْلِ. إذا ثَبَتَ ذلك في الأكْلِ والشُّرْبِ، ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في الآيتين 190, 191 من سورة آل عمران. (¬2) أخرجه الطبرانى في الأوسط من حديث ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». وفيه راو متروك. وبنحوه عن ابن عباس أخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة برقم (2). (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون. . . . إلخ، من كتاب الطلاق، وفى: باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان. . . . إلخ، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 7/ 59، 8/ 168. ومسلم، في: باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 116. وأبو داود، في: باب في الوسوسة بالطلاق، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 512. والترمذى، في: باب ما جاء في من يحدث نفسه بطلاق امرأته، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 155، 156. والنسائى، في: باب من طلق في نفسه، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 127، 128. وابن ماجه، في: باب من طلق في نفسه ولم يتكلم، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 658. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 255، 393، 425، 474، 481، 491.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَت في سائِرِ ما ذَكَرْنا قِياسًا عليه، ولَنا في الجِماعِ مَنْعٌ. فصل: وإن فَعَل شيئًا مِن ذلك وهو نائِمٌ، لم يَفْسُدْ صومُه؛ لأنَّه لا قَصْدَ له ولا عِلْمَ بالصومِ، فهو أعْذَرُ مِن النّاسِى. فإن فَعَلَه جاهِلًا بتَحْرِيمِه، فذَكَرَ أبو الخَطّابِ، أنَّه لا يُفْطِرُ (¬1)، كالنّاسِى. قال شيخُنا (¬2): ولم أرَه عن غيرِه. وقولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (¬3). في حَقِّ الرَّجُلَيْن اللَّذَيْن رَآهما يَحْجِمُ أحَدُهما صاحِبَه، مِن جَهْلِهما بتَحْرِيمِه، يَدُلُّ على أنَّ الجَهْلَ لا يُعْذَرُ به، ولأنَّه نَوْعُ جَهْلٍ، فلم يَمْنَعِ الفِطْرَ، كالجَهْلِ بالوَقْتِ في حَقِّ مَن أكَلَ يَظُنُّ أنَّ الفَجْرَ لم يَطْلُعْ، وتَبَيَّنَ بخِلافِه. فصل: فإن فَعَلَه مُكْرَهًا بالوَعِيدِ، فقالَ ابنُ عَقِيلٍ: قال أصحابُنا: لا يُفْطِرُ به، لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِىَ لأُمَّتِى عَنِ الْخَطأ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬4). قال: ويَحْتَمِلُ عندى أن يُفْطِرَ؛ لأنَّه فَعَل المُفْطِرَ لدَفْعِ الضَّرَرِ عن نَفْسِه، أَشْبَهَ المَرِيضَ، ومَن شَرِب لدَفْعِ العَطَشِ، فأمّا المُلْجَأُ فلا يُفْطِرُ؛ لأَنَّه خَرَج بذلك عن حَيِّزِ الفِعْلِ، ولذلك لا يُضافُ إليه، ولذلك افْتَرَقا فيما إذا أُكْرِهَ على قَتْلِ آدَمِىٍّ فقَتَلَه، ¬

(¬1) في م: «يفطره». (¬2) في: المغنى 4/ 368. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 421. (¬4) تقدم تخريجه في 1/ 276.

1064 - مسألة: (وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو قطر في إحليله، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو ذرعه القئ، أو أصبح وفى فيه طعام فلفظه، أو اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء حلقه، لم يفسد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أُلقِىَ عليه. 1064 - مسألة: (وإن طار إلى حَلْقِه ذُبابٌ أو غُبارٌ، أو قَطَرَ في إحْلِيلِه، أو فَكَّرَ فأنْزَلَ، أو احْتَلَمَ، أو ذَرَعَه القَىْءُ، أو أصْبَحَ وفى فِيه طَعامٌ فلَفَظَه، أو اغْتَسَلَ، أو تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْشَقَ فدَخَلَ الماءُ حَلْقَه، لم يَفْسُدْ صَوْمُه، وإن زاد على الثَّلاثِ أو بالَغَ فيهما، فعلى وَجْهَيْن) إذا دَخَل حَلْقَه غُبارٌ مِن غيرِ قَصْدٍ، كغُبارِ الطَّرِيقِ، ونَخْلِ الدَّقِيقِ، أو الذُّبابَةُ تَدْخُلُ حَلْقَه، أو يُرَشُّ عليه الماءُ فيَدْخُلُ مسامِعَه أو حَلْقَه، أو يُلْقَى في ماءٍ فيَصِلُ إلى جَوْفِه، أو يَدْخُلُ حَلْقَه بغيرِ اخْتِيارِه، أو تُداوَى (¬1) جائِفَتُه أو مَأْمُومَتُه بغيرِ اخْتِيارِه، أو يُحْجَمُ كُرْهًا، أو تُقَبِّلُه امْرأَةٌ بغيِرِ اخْتِيارِه فيُنْزِلُ، وما أشْبَهَ ذلك، لا يَفْسُدُ صَوْمُه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ ما لو دَخَل حَلْقَه شئٌ وهو نائِمٌ. وكذلك الاحْتِلامُ؛ لأنَّه عن غيرِ اخْتِيارٍ منه، فأشْبَهَ ما ذَكَرْنا. وفى معنى ذلك إذا ذَرَعَه القَىْءُ؛ لأنَّه بغيرِ اخْتِيارِه، فهو كالاحْتِلام. فصل: فإن قَطَرَ في إحْلِيلِه دُهْنًا، لم يُفْطِرْ به، سَواءٌ وَصَل إلى المَثانَةِ ¬

(¬1) في م: «يداوى».

1065 - مسألة؛ قال: (أو أصبح وفى فيه طعام فلفظه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أم لا. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يُفْطِرُ؛ لأنَّه أوْصَلَ الدُّهْنَ إلى جَوْفٍ في جَسَدِه، فأفْطَرَ، كما لو داوَى الجائِفَةَ، ولأنَّ المَنِىَّ يَخْرُجُ مِن الذَّكَرِ فيُفَطرِّه، وما أفْطرَ بالخارِجِ منه جاز أن يُفْطِر بالدّاخِلِ منه، كالفَمِ. ولَنا، أنَّه ليس بينَ باطِنِ الذَّكَرِ والجَوْفِ مَنْفَذٌ، وإنَّما يَخْرُجُ البَوْلُ رَشْحًا، فالذى يَتْرُكُه فيه لا يَصِلُ إلى الجَوْفِ، فلا يُفْطِرُه، كالذى يَتْرُكُهْ في فِيهِ ولا يَبْلَعُه. 1065 - مسألة؛ قال: (أو أصْبَحَ وفى فِيه طَعامٌ فلَفَظَه) إذا أَصْبَحَ في فِيه شئٌ مِن الطَّعامِ، لم يَخْلُ مِن حالَيْنِ؛ أحدُهما، أن يَكُونَ يَسِيرًا لا يُمْكِنُه لَفْظُه فيَزَدَرِدَه (¬1)، فإنَّه لا يُفْطِرُ به؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، ¬

(¬1) ازدرد اللقمة: ابتلعها.

1066 - مسألة؛ قال: (أو اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء حلقه، لم يفسد صومه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ الرِّيقَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ على ذلك أهْلُ العِلْمِ. الثانِى، أن يَكُونَ كَثِيرًا يُمْكِنُه لَفْظُه، فإن لَفَظَه فلا شئَ عليه، وكذلك إن دَخَل حَلْقَه بغيرِ اخْتِيارِه؛ لمَشَقَّةِ الاحْتِرازِ منه، وإنِ ابْتَلَعَه عامِدًا، فَسَد صَومُه. وهو قولُ الأكْثَرين. وقال أبو حنيفةَ: لا يَفْسُدُ؛ لأَنَّه لا بُدَّ أن يَبْقَى بينَ أسْنانِه شيءٌ ممّا يَأْكُلُه، فلم يُفْطِرْ بابْتِلاعِه، كالرِّيقِ. ولَنا، أنَّه بَلَع طَعامًا يُمْكِنُه لَفْظُه باخْتِياره ذاكِرًا لصَومِه، فأفْطَرَ به، كما لو ابْتَلَعَ ابْتِداءً مِن خارِجٍ، ويُخالِفُ ما يَجْرِى به الرِّيقُ، فإنَّه لا يُمْكِنُه لفْظُه. فإن قِيلَ: يُمْكِنُه أن يَبْصُقَ. قُلْنا: لا يَخْرُجُ جَمِيعُ الرِّيقِ ببُصاقِه، وإن مُنِع مِن ابْتِلاعِ رِيقِه كلِّه، لم يُمْكِنْه. 1066 - مسألة؛ قال: (أو اغْتَسَلَ، أو تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْشَقَ فدَخَلَ الماءُ حَلْقَه، لم يَفْسُدْ صَومُه) المَضْمَضَةُ والاسْتِنْشاقُ لا تُفْطِرُ بغيرِ خِلافٍ، سَواءٌ كان في طهارةٍ أو غيرِها، وقد رُوِىَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ سَألَه عن القُبْلَةِ للصّائِمِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنْ إنَاءٍ وَأنْتَ صَائِمٌ». قُلْتُ: لا بَأْسَ. قال: «فَمَه؟» (¬1). ولأنَّ الفَمَ في حُكْمِ الظاهِرِ، فلا يَبْطُلُ الصومُ بالواصِلِ إليه، كالأنْفِ والعَيْنِ. فإن تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْشَقَ في الطهارةِ، فسَبَقَ الماءُ إلى حَلْقِه مِن غيرِ قَصْدٍ ولا إسْرافٍ، فلا شئَ عليه. وهذا قولُ الأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ، والشافعىِّ، في أحَدِ قَوْلَيْه. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: يُفْطِرُ؛ لأنَّه أوْصَلَ الماءَ إلى حَلْقِه ذاكِرًا لصَومِه، فأفْطَرَ، كما لو تَعَمَّدَ شُرْبَه. ولَنا، أنَّه وَصَل إلى حَلْقِه مِن غيرِ قَصْدٍ ولا إسْرافٍ، أَشْبَهَ ما لو طارَتْ ذُبابَةٌ إلى حَلْقِه، وبهذا فارَقَ المُتَعَمِّدَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 417.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا (إن زاد على الثَّلاثِ، [أو بالغَ] (¬1) في الاسْتِنْشاقِ والمَضْمَضَةِ، فقد فَعَل مَكْرُوهًا؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - للَقِيطِ بنِ صَبِرَةَ: «وَبَالِغْ في الِاسْتِنْشَاقِ، إلَّا أن تَكُونَ صَائِمًا» (¬2). فإن دَخَل الماءُ حَلْقَه، فقالَ أحمدُ: يُعْجِبُنِى أن يُعِيدَ الصومَ. وفيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُفْطِرُ؛ لأنَّه فَعَل مَكْرُوهًا تَعَرَّضَ به إلى إيصالِ الماءِ إلى حَلْقِه، أشْبَهَ مَن أنْزَلَ بالمُباشَرَةِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُبالَغَةِ حِفْظًا للصومِ، فدَلَّ على أنَّه يُفْطِرُ به، ولأنَّه وَصَل بفِعْلٍ مَنْهِىٍّ عنه، أشْبَهَ التَّعَمُّدَ (¬3). ¬

(¬1) في م: «وبالغ». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 282. (¬3) في م: «العمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِى، لا يُفْطِرُه؛ لأنَّه وَصَل مِن غيرِ قَصْدٍ، أشْبَهَ غُبارَ الدَّقِيقِ إذا دَخَل حَلْقَه وَقْتَ نَخْلِه. فأمّا المَضْمَضَةُ لغيرِ طهارةٍ، فإن كانت لحاجَةٍ، كغَسْلِ فَمِه عندَ الحاجَةِ إليه ونَحوِه، فحُكْمُه حُكْمُ المَضْمَضَةِ للطهارةِ. وإن كان عَبَثًا، أو تَمَضْمَضَ مِن أجْلِ العَطَشِ، كُرِه. وسُئِل أحمدُ عن الصائِمِ يَعْطَشُ فيُمَضْمِضُ ثم يَمُجُّه، قال: يَرُشُّ على صَدْرِه أحَبُّ إلَىَّ. فإن فَعَل فوَصَلَ الماءُ إلى حَلْقِه، أو تَرَك الماءَ في فِيه عابِثًا، أو للتَّبَرُّدِ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في الزائِدِ على الثَّلاثِ؛ لأنَّه مَكْرُوهٌ. فصل: ولا بَأْسَ أن يَصُبَّ الماءَ على رَأْسِه مِن الحَرِّ والعَطَشِ؛ لِما رُوِىَ عن بعضِ أصحابِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد رَأَيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْجِ (¬1) يَصُبُّ على رَأْسِه الماءَ وهو صائِمٌ مِن العَطَشِ أو مِن الحَرِّ. رَواه أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) العرج: قرية على طريق مكة من المدينة. معجم ما استعجم 3/ 930. (¬2) في: باب الصائم يصب عليه الماء من العطش. . . .، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 552. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 96، 143، 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ أن يَغْتَسِلَ الصائِمُ؛ فإنَّ عائشةَ، وأُمَّ سَلَمَةَ، قالَتا: نَشْهَدُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إن كان ليُصْبِحُ جُنُبًا مِن (¬1) غيرِ احْتِلامٍ، ثم يَغْتَسِلُ، ثم يَصُومُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو بكرٍ، بإسْنادِه، أنَّ ابنَ عباسٍ دَخَل الحَمّامَ وهو صائِمٌ، هو وأصحابٌ له في شهرِ رمضانَ. فأمَّا الغَوْصُ في الماءِ، فقالَ أحمدُ، في الصائِمِ يَنْغَمِسُ في الماءِ: إذا لم يَخَفْ أن يَدْخُلَ في مَسامِعِه. وكَرِه الحسنُ، والشَّعْبِىُّ أن يَنْغَمِسَ في الماءِ، خَوْفًا أن يَدْخُلَ في مَسامِعِه. فإن دَخَل إلى مَسامِعِه في الغُسْلِ الِمَشْرُوعِ، مِن غيرِ قَصْدٍ ولا إسْرافٍ، لم يُفْطِرْ، كالمَضْمَضَةِ في الوُضُوءِ. وإن غاصَ في الماءِ، أو أسْرَفَ، أو كان عابِثًا، فحُكْمُه حُكْمُ الدّاخِلِ إلى الحَلْقِ مِن المُبالَغَةِ والزِّيادَةِ على الثَّلاثِ، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) تقدم تخريجه في 5/ 115.

1067 - مسألة: (وإن أكل شاكا في طلوع الفجر، فلا قضاء عليه)

وَمَنْ أَكَلَ شَاكًّا في طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1067 - مسألة: (وإن أكَلَ شاكًّا في طُلُوعِ الفَجْرِ، فلا قَضاءَ عليه) إذا أكَلَ وهو يَشُكُّ في طُلُوعِ الفَجْرِ، وِ لم يَتَبَيَّنْ له الحالُ، فلا قَضاءَ عليه، وله الأكْلُ حتى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الفَجْرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. ورُوِىَ مَعْنَى ذلك عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، [وابنِ عُمَرَ] (¬1)، رَضِىَ الله عنهم. وقال مالكٌ: يَجبُ القضاءُ، كما لو أكَلَ شَاكًّا في غُرُوبِ الشمس. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2). مَدَّ الأكْلَ إلى غايَةِ التَّبَيُّنِ، وقد يكونُ شاكًّا قبلَ التبَّيُّنِ، فلو لَزِمَه القَضاءُ لحرُمَ عليه الأكْلُ، وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا،. حَتَّى يُؤذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» (¬3). وكان رجلًا أعْمَى، لا يُؤذِّنُ حتى يُقالَ له: أصْبَحْتَ، أصبحتَ (¬4). ولأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 187. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 90. (¬4) تقدم هذا من قول ابن عمر في 3/ 60.

1068 - مسألة: (وإن أكل شاكا في غروب الشمس، فعليه القضاء)

وَإنْ أَكلَ شَاكًّا في غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصْلَ بَقاءُ اللَّيْلِ، فيَكُونُ زَمَنُ الشَّكِّ منه ما لم يُعْلَمْ يَقِينُ (¬1) زَوالِه، بخِلافِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فإنَّ الأصْلَ بَقاءُ النَّهارِ، فبَنَى عليه. 1068 - مسألة: (وإن أكَلَ شاكًّا في غُرُوبِ الشمسِ، فعليه القَضاءُ) إذا لم يَتَبَيَّنْ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النَّهارِ. فإن كان حينَ الأكْلِ ظانًّا أنَّ الشمسَ قد غَرَبَتْ، ثم شَكَّ بعدَ الأكْلِ، ولم يَتَبَيَّنْ، فلا قَضاءَ عليه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ يَقِينٌ أزال ذلك الظَّنَّ الذي بَنَى عليه، فأشْبَهَ ما لو صَلَّى بالاجْتِهادِ ثم شَكَّ في الإصابةِ بعدَ صلاتِه.

1069 - مسألة: (ومن أكل معتقدا أنه ليل فبان نهارا، فعليه القضاء)

وَإنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1069 - مسألة: (ومَن أكَلَ مُعْتَقِدًا أنَّه لَيْلٌ فبان نَهارًا، فعليه القَضاءُ) وذلك أن يَظُنَّ أنَّ الشمسَ قد غابَتْ، ولم تَغِبْ، أو أنَّ الفَجْرَ لم يَطْلُعْ، وقد طَلَعَ، فيَجِبُ عليه القَضاءُ. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن عُرْوَةَ، ومُجاهِدٍ، والحسنِ، وإسحاقَ: لا قَضاءَ عليهم؛ لِما روَى زيدُ بنُ وَهْبٍ، قال: كُنْتُ جالِسًا في مَسْجِدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ، في زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، فأُتِينَا بعِساسٍ (¬1) فيها شَرابٌ مِن بَيْتِ حَفْصَةَ، فشَرِبْنا، ونحن نَرَى أنَّه مِن اللَّيْلِ، ثِم انْكَشَفَ السَّحابُ، فإذا الشمسُ طالِعَةٌ، قال: فجَعَلَ الناسُ يَقُولُونَ: نقْضِى يَوْمًا مَكانَه. فقالَ عُمَرُ: واللهِ لا نَقْضِيه، ما تَجَانَفْنَا لإِثْمٍ (¬2). ولأنَّه لم يَقْصِدِ الأكْلَ في الصومِ، فلم يَلْزَمْه القَضاءُ، كالنّاسِى. ولَنا، أنَّه أَكَلِ مُخْتارًا ذاكِرًا للصومِ، فأَفْطَرَ، كما لو أكَلَ يومَ الشَّكِّ، ولأنَّه جَهِل وَقْت الصيام فلم يُعْذَرْ به، كالجَهْلِ بأوَّلِ رمضانَ، ولأَنَّه يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، فأشْبَهَ أكْلَ العامِدِ، وفارَقَ الناسِىَ؛ فإنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. وأمّا الخَبَرُ، فرَواه الأثْرَمُ، أَنَّ عُمَرَ قال: مَن أكَلَ فَلْيَقْضِ يَوْمًا مَكانَه (¬3). ¬

(¬1) العساس: جمع العُسّ، وهو القدح الكبير. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يرى أن الشمس قد غربت، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 24. والبيهقى، في السنن الكبرى 4/ 217. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة في سياق مغاير، والبيهقى، كلاهما في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه مالكٌ في «المُوَطَّأ» (¬1)، أنَّ عُمَرَ قال: الخَطْبُ يَسِيرٌ. يَعْنِى خِفَّةَ القَضاءِ. وروَى هِشامُ بنُ عُرْوَةَ، عن فاطِمةَ امْرَأتِه، عن أسْماءَ قالَتْ: أفْطَرْنا على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في يَوْمِ غَيْمٍ، ثم طَلَعَتِ الشمسُ. قِيلَ لهِشامٍ: أُمِرُوا بالقَضاءِ؟ قال: لا بُدَّ مِن قَضاءٍ. رَواه البخارىُّ (¬2). فصل: ويَجُوزُ للجُنُبِ في اللَّيْلِ أن يُؤخِّرَ الغُسْلَ حتى يُصْبِحَ، ويُتِمُّ صَوْمَه. وهو قولُ علىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وزيدٍ، وأبى الدَّرْداءِ، وأبى ذَرٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعائشةَ، وأُمِّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، في أهلِ الحِجازِ، والثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، في أهلِ العِراقِ، والأوْزاعِىِّ، في أهلِ الشامِ، واللَّيْثِ، في أهلِ مصرَ، وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، وأهلِ الظّاهِرِ. وكان أبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لا صَوْمَ له. ويَرْوِى ذلك عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم رَجَعَ عنه (¬3). قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: رَجَع أبو هُرَيْرَةَ عن فُتْياه (¬4). وحُكِىَ عن الحَسَنِ، وسالِمِ بن ¬

(¬1) في: باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 303. (¬2) في: باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 47. كما أخرجه أبو داود، في: باب الفطر قبل غروب الشمس، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 551. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من أفطر ناسيا، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 535. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 346. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 115. (¬4) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 4/ 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ اللهِ، يُتِمُّ صومَه، ويَقْضِى. وعن النَّخَعِىِّ: يَقْضِى في الفَرْضِ دُونَ التَّطَوُّعِ. وعن عُرْوَةَ، وطاوُسٍ: إن عَلِم بجَنابَتِه في رمضانَ، فلم يَغْتَسِلْ حتى أصْبَحَ، فهو مُفْطِرٌ، وإن لم يَعْلَمْ، فهو صائِمٌ. وحُجَّتُهم حديثُ أبى هُرَيْرَةَ. ولَنا، ما روَى أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشامٍ، قال: ذَهَبْتُ أنا وأبى حتى دَخَلْنا على عائشةَ، فقالَتْ: أشْهَدُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إن كان ليُصْبِحُ جُنُبًا، مِن جِماع، مِن غيرِ احْتِلامٍ، ثم يَصُومُه. ثم دَخَلْنا على أُمِّ سَلَمَةَ، فقالَتْ مثلَ ذلك، ثم أتَيْنَا أبا هُرَيْرَةَ، فأخْبَرْناه بذلك، فقال: هما أعْلَمُ بذلك، إنَّما حَدَّثَنِيه الفَضْلُ بنُ العباسِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال الخَطّابِىُّ (¬2): أحْسَنُ ما سَمِعْتُ في خَبَرِ أبي هريرةَ أنَّه مَنْسُوخٌ؛ لأنَّ الجِماعَ كان مُحَرَّمًا على الصائِمِ بعدَ النَّوْمِ، فلَمّا أباح اللهُ سبحانه الجِماعَ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ، جاز للجُنُب إذا أصْبَحَ قبلَ أن يَغْتَسِلَ أن يَصُومَ. ورَوَتْ عائشةُ أنَّ رجلًا قال للنبىَّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّى أُصْبِحُ جُنُبًا، وأنا أُرِيدُ الصيامَ. فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَنَا أُصْبِحُ جُنبًا، وَأنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ». فقالَ له الرجلُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّك لست مِثْلَنا، قد غَفَر اللهُ لك ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ. فغَضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «إنِّى لَأرْجُو أنْ أكُونَ أخْشَاكُمْ للهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أتَّقِى». رَواه مسلمٌ، ومالكٌ في «المُوَطَّأ» (¬3). ¬

(¬1) انظر رواية مسلم في تخريجه المتقدم في 5/ 115. (¬2) في: معالم السنن 2/ 115. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 114.

فَصْلٌ: وَإذَا جَامَعَ في نَهَارِ رَمَضَانَ في الْفَرْجِ، قُبُلًا كَانَ أَوْ دُبُرًا، [57 ظ] فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، عَامِدًا كَانَ أو سَاهِيًا. وَعَنْهُ، لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَعَ الإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ المرأةِ إذا انْقَطَعَ حَيْضُها مِن اللَّيْلِ وأخَّرَتِ الغُسْلَ حتى أصْبَحَتْ، حُكْمُ الجُنُبِ، يَصِحُّ صَوْمُها، إذا نَوَتْ مِن اللَّيْلِ بعدَ انْقِطاعِه. وقال الأوْزاعِىُّ، والحسنُ بنُ حَىٍّ، وعبدُ المَلك بنُ الماجشُون: تَقْضِى، فَرَّطَت في الاغْتِسالِ، أو لم تُفَرَّطْ؛ لأنَّ حَدَثَ الحَيْضِ يَمْنَعُ الصومَ، بخِلافِ الجَنابَةِ. ولَنا، أنَّه حَدَثٌ يُوجِبُ الغُسْلَ، فتَأْخِيرُ الغُسْلِ منه إلى أن يُصْبِحَ لا يَمْنعُ صِحَّةَ الصومِ، كالجَنابَةِ، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ، فإنَّ مَن طَهُرَتْ مِن الحَيْضِ غيرُ حائِضٍ، وإنَّما عليها حَدَثٌ مُوجِبٌ للغُسْلِ، فهي كالجُنُبِ، فإنَّ الجِماعَ المُوجِبَ للغُسْلِ لو وُجِد في الصومِ أفْسَدَه، كالحَيْضِ، وبَقاءُ وُجُوبِ الغُسْلِ منه، كبقَاءِ وُجُوبِ الغُسْلِ مِن الحَيْضِ. واللهُ أعْلَمُ. (فصل: وإذا جامَعَ في نَهارِ رمضانَ في الفَرْجِ، قُبُلًا كان أو دُبُرًا، فعليه القَضاءُ والكَفّارَةُ، عامِدًا كان أو ساهِيًا. وعنه، لا كَفّارَةَ عليه مع الإكراهِ والنِّسْيانِ) هذه المسألةُ تَشْتَمِلُ على خَمْسَةِ أُمُورٍ؛ أحَدُها، أنَّ مَن جامَعَ في نَهارِ رمضانَ في الفَرْجِ، فأنْزَلَ. أو لم يُنْزِلْ، أو دُونَ الفَرْجِ فأنْزَلَ عامِدًا، فَسَد صَوْمُه بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، وقد دَلَّتِ الأخْبارُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّحِيحَةُ على ذلك. الثانِى، أنَّه يَجِبُ عليه القَضاءُ في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَجِبُ القَضاءُ على مَن لَزِمَتْه الكَفّارَةُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَأْمُرِ الأعْرابِىَّ بالقَضاءِ (¬1). وحُكِىَ عن الشافعىِّ (¬2) أنَّه قال: إن كَفَّرَ بالصيامِ فلا قَضاءَ عليه؛ لأنَّه صام شَهْرَيْن مُتَتابِعَيْن. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للمُجامِعِ: «وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ». رَواهُ أبو داودَ بإسْنادِه، وابنُ ماجه، والأثْرَمُ (¬3). ولأَنَّه. أفْسَدَ يَوْمًا مِن رمضانَ، فلَزِمَه قَضاؤُه، كما لو أَفْسَدَه بالأكْلِ، ولأنَّه صومٌ واجِبٌ أفْسَدَه بالجِماعِ، فوَجَبَ عليه القَضاءُ، كغيرِ رمضانَ. ¬

(¬1) يأتى بعد قليل من حدث أبى هريرة. (¬2) انظر: المجموع 6/ 331. وفي المغنى 4/ 372 «الأوزاعي» بدل «الشافعي». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب كفارة من أتى أهله في رمضان، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 558. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 534.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جامَعَ في غيرِ صومِ رمضانَ عامِدًا، أفْسَدَه، ويَجِبُ عليه القَضاءُ إن كان واجِبًا، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وإن كان نَفْلًا ففيه اخْتِلافٌ. نَذْكُرُه إن شاء الله تعالى. الثالثُ، أنَّ مَن جامَعَ في الفَرْجِ في رمضانَ عامِدًا، تَجِبُ عليه الكَفّارَةُ، أنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وعن الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: أنَّه لا كَفارَةَ عليه؛ لأنَّها عِبادَةٌ لا تَجِبُ الكَفّارَةُ بإفْسادِ قَضائِها، فلم تَجِبْ في إفْسادِ أدائِها، كالصلاةِ. ولَنا، ما رُوِىَ عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: بَيْنا نحن جُلُوسٌ عندَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءَه رجلٌ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، هَلَكْتُ، قال: «مَا لَكَ؟». قال: وَقَعْتُ على امرأتِى وأنا صائِمٌ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟». قال: لا. قال: فمَكَثَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبَيْنا نحن على ذلك أُتِىَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَقٍ فيه تَمْرٌ. والعَرَقُ: المِكْتَل (¬1). فقالَ: «أيْنَ السَّائِلُ؟». فقالَ: أنا. فقالَ: «خُذْ هذَا فتَصَدَّقْ بِهِ». فقالَ الرجلُ: على أفْقَرَ مِنِّى يا رسولَ اللهِ؟ فواللهِ ما بينَ لَابَتَيْها (¬2) أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِن بَيْتِى. فضَحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى بَدَتْ أنْيابُه، ثم قال: «أَطعِمْهُ أهْلَكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولا يَجُوزُ اعْتِبارُ الأداءِ في ذلك ¬

(¬1) المكتل: قُفَّةٌ تعمل من الخوص. (¬2) اللابتان: مثنى لابة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. والمدينة المنورة تقع بين لابتين، وهما المشار إليهما في هذا السياق. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب إذا جامع في رمضان. . . .، وباب المجامع في رمضان هل يطعم. . . .، من كتاب الصوم. وفى: باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت، من كتاب الهبة. وفى: باب نفقة المعسر على أهله، من كتاب النفقات. وفى: باب التبسم والضحك، وباب ما جاء في قول الرجل: ويلك، من كتاب الأدب. وفى: باب قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. . . .}، وباب من أعان المعسر في الكفارة، وباب يعطِى في الكفارة عشرة. . . .، من كتاب الكفارات، وفى: باب من أصاب ذنبا. . . .، من كتاب الحدود. صحيح البخاري 3/ 41، 42، 210، 7/ 86، 8/ 29، 47، 180، 181، 206. ومسلم، في: باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 781، 782. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كفارة من أتى أهله في رمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 557. والترمذى، في: باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 250. والإمام مالك، في: باب كفارة من أفطر من رمضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 296، 297. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 208، 241، 273، 281، 516.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقَضاءِ؛ لأنَّ الأداءَ يَتَعَلَّقُ بزَمَنٍ مَخْصُوصٍ يَتَعَيَّنُ به، والقَضاءُ مَحَلُّه الذِّمَّةُ، والصلاة، يَدْخُلُ في جُبْرانِها المالُ، بخِلافِ مسألتِنا. الرابعُ، أنَّ مَن جامَعَ ناسِيًا، فحُكْمُه حُكْم العامِدِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عَطاءٍ، وابنِ الماجِشُونَ. وروَى أبو داودَ، عن أحمدَ، أنَّه تَوَقَّفَ عن الجَوابِ، وقال: أجْبُنُ أن أقولَ فيه شَيْئًا. وفيه رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه يَجِبُ عليه القَضاءُ دُونَ الكَفّارَةِ. وهذا قولُ مالكٍ، والأوْزاعِىِّ، واللَّيْثِ؛ لأنَّ الكَفّارَةَ لرَفْعِ الإِثْمِ، وهو مَحْطُوطٌ عن النّاسِى. وفيه رِوايَةٌ ثالثةٌ، نَقَلها عنه ابن القاسِمِ، أنَّه قال: كلُّ أمْرٍ غُلِب عليه الصّائِمُ، فليس عليه قَضاءٌ ولا غيرُه. وهذا يَدُلُّ على إسْقاطِ القَضاء والكَفّارَةِ عن المُكْرَهِ والنّاسِى. وهو قول الحسنِ، ومُجاهِدٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ؛ لأنَّه مَعْنًى حَرَّمَه الصَّوْمُ، فإذا وُجِد منه مُكْرَهًا أو ناسِيًا، لم يُفْسِدْه، كالأكْلِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ الذي قال: وَقَعْتُ على امرأتِى. بالكَفّارَةِ، ولم يَسْتَفْصِلْه، ولو افْتَرَقَ الحالُ لسَألَ واسْتَفْصَلَ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، ولأنَّه يَجِبُ التَّعْلِيلُ بما تَنَاوَلَه لَفْظُ السّائِلِ، وهو الوُقُوعُ على المرأةِ في الصومِ، ولأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّؤالَ كالمُعادِ في الجَوابِ، فكأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن وَقَع على أهْلِه في نَهارِ رمضانَ فلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. فإن قيلَ: ففي الحديثِ ما يَدُلُّ على العَمْدِ، وهو قَوْلُه: هلكْتُ. ورُوِىَ: احْتَرَقتُ. قُلْنا: يَجُوزُ أن يُخْبِرَ عن هَلَكَتِه لِما يَعْتَقِدُه في الجِماعِ مع النِّسْيانِ، وخَوْفِه مِن غيرِ ذلك، ولأنَّ الصومَ عِبادَةٌ تُحَرِّمُ الوَطْءَ، فاسْتَوَى فيها عَمْدُه وسَهْوُه، كالحَجِّ، ولأنَّ إفْسادَ الصومِ ووُجُودَ الكَفّارَةِ حُكْمان يَتَعَلَّقان بالجِماعِ، لا تُسْقِطُهُما الشُّبْهَةُ، فاسْتَوَى فيهما العَمْدُ والسَّهْوُ، كسائِرِ أحْكامِه. الخامسُ، أنَّه لا فَرْقَ بينَ كوْنِ الفَرْجِ قُبُلًا أو دُبُرًا، مِن ذَكَرٍ أو أُنْثَى. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، في أَشْهَرِ الرِّوايَتَيْن: لا كَفّارَةَ بالوَطْءِ في الدُّبُرِ؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ به الإحْلالُ، ولا الإحْصانُ، فلا يُوجِبُ الكَفّارَةَ، كالوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ. ولَنا، أنَّه أَفْسَدَ صومَ رمضانَ بجِماعٍ في الفَرْجِ، فأوْجَبَ الكَفّارَةَ، كالوَطْءِ في القُبُلِ. وأمّا الوَطْءُ دُونَ الفَرْجِ، فلنا فيه مَنْعٌ، وإن سَلَّمْنا؛ فلأنّ الجِماعَ دُونَ الفَرْجِ لا يُفْسِدُ الصومَ بمُجَرَّدِه، بخِلافِ الوَطْءِ في الدُّبُرِ.

1070 - مسألة: (ولا يلزم المرأة كفارة مع العذر. وهل يلزمها مع عدمه؟ على روايتين)

وَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأةَ كَفَّارَةٌ مَعَ الْعُذْرِ. وَهَل يَلْزَمُهَا مَعَ عَدَمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1070 - مسألة: (ولا يَلْزَمُ المرأةَ كَفّارَةٌ مع العُذْرِ. وهل يَلْزَمُها مع عَدَمِه؟ على رِوايَتَيْن) حُكْمُ الوَطْءِ في رمضانَ في حَقِّ المرأةِ، كحُكْمِه في حَقِّ الرجلِ، في إفْسادِ الصومِ، ووُجُوبِ القَضاءِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه في المَذْهَبِ؛ لأَنَّه نَوْعٌ مِن المُفْطِراتِ، فاسْتَوَى فيه الرجلُ والمرأةُ، كالأكْلِ. ولا يَجِبُ على المرأةِ كَفّارَةٌ مع العُذْرِ، لِما نَذْكُرُه. وهل يَجِبُ عليها الكَفّارَةُ مع عدَمِ العُذْرِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَجِبُ عليها. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها هَتَكَتْ (¬1) صومَ رمضانَ بالجِماعِ، فوَجَبَتْ عليها الكَفّارَةُ، كالرجلِ. والثانيةُ، لا كفّارَةَ عليها. قال أبو داودَ: سُئِل أحمدُ عمَّن أتَى أهْلَه في رمضانَ، أعليها كَفّارَةٌ؟ قال: ما سَمِعْنا أنَّ على امرأةٍ كَفّارَةً. وهذا قولُ الحسنِ. وللشافعىِّ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. ووَجْهُ ذلك أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر الواطِئِ في رمضانَ أن يُعْتِقَ رَقَبَةً، ولم يَأْمُرْ في المرأةِ بشيءٍ مع عِلْمِه بوُجُودِ ذلك منها، ولأنَّه حَقُّ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بالوَطْءِ مِن بينِ جِنْسِه، فكان على الرجلِ، كالمَهْرِ. ¬

(¬1) في م: «هتك».

1071 - مسألة؛ قال: (وكل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة)

وَعَنْهُ، كُلُّ أمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ الصَّائِمُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مَعَ الإكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1071 - مسألة؛ قال: (وكلُّ أمْرٍ غُلِب عليه الصّائِمُ فليس عليه قَضاءٌ ولا كَفّارَةٌ) هذه الرِّوايَةُ نَقَلَها عنه ابنُ القاسِمِ (وهي تَدُلُّ على إسْقاطِ القَضاءِ والكَفّارَةِ مع الِإكْراهِ والنِّسْيانِ) وكذلك قال أبو الخَطّابِ. وقد ذَكَرْنا حُكْمَ النّاسِى. فأمّا حُكْمُ الِإكْراهِ، فإن أُكْرِهَتِ المرأةُ على الجِماعِ، فلا كَفّارَةَ عليها، رِوايَةً واحِدَةً، وعليها القَضاءُ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. قال مُهَنَّا: سَألْتُ أحمدَ عن امرأةٍ غَصَبَهَا رجلٌ نَفْسَها، فجامَعَها، أعليها القَضاءُ؟ قال: نعم. قُلْتُ: وعليها الكَفّارَةُ؟ قال: لا. وهذا قولُ الحسنِ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وعلى قِياسِ ذلك النّائِمَةُ. وقال مالكٌ في النَّائِمَةِ: عليها القَضاءُ بلا كَفّارَةٍ، والمُكْرَهَةُ عليها القَضاءُ والكَفّارَةُ. وقال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: إن كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإكْراهُ بوَعِيدٍ حتى فَعَلَتْ، كقَوْلِنا. وإن كان إلْجاءً، أو كانت نائِمَةً لم تُفْطِرْ. وهذا مُقْتَضَى قولِ أحمدَ، في هذه الرِّوايَةِ التي رَواها ابنُ القاسِمِ؛ لأنَّها لم يُوجَدْ منها فِعْلٌ، فلم تُفْطِرْ، كما لو صُبَّ في حَلْقِها ماءٌ بغيرِ اخْتِيارِها. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّه جِماعٌ في الفَرْجِ، فأفْسَدَ، كما لو أُكْرِهَت بالوَعِيدِ، ولأنَّه عِبادَةٌ يُفْسِدُها الوَطْءُ ففسَدَت به على كلِّ حالٍ، كالصلاةِ، والحَجِّ. فصل: فإن جامَعَتِ المرأةُ ناسِيَةً، فقالَ أبو الخَطّابِ: حُكْمُ النِّسْيانِ حُكْمُ الإكْراهِ، يُوجِبُ القَضاءَ دُونَ الكَفّارَةِ، قِياسًا على الرجلِ في أنَّ الجِماعَ يُفْطِرُه معِ النِّسْيانِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَها القَضاءُ؛ لأنَّه مُفْسِدٌ لا يُوجِبُ الكَفّارَةَ، أشْبَهَ الأكْلَ. فصل: فإن أُكْرِهَ الرجلُ فجامَعَ، فَسَد صَوْمُه على الصَّحِيحِ؛ لأنَّه إذا أفْسَدَ صوم المرأةِ، فالرجلُ أوْلَى. فأمّا الكَفّارَةُ، فقالَ القاضِى: تَجِبُ عليه؛ لأن الإِكْراهَ على الوَطْءِ لا يُمْكِنُ، لأنَّه لا يَطَأُ حتى يَنْتَشِرَ، ولا يَنْتَشِرُ إلَّا عن شَهْوَةٍ، فهو كغيرِ المُكْرَهِ. وقال أبو الخَطّابِ: فيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا كفارةَ عليه. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ الكَفّارَةَ إمّا عُقُوبَةٌ، أو ماحِيَةٌ للذَّنْبِ، والمُكْرَهُ غيرُ آثِمٍ، ولا مُذْنِبٍ، ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِىَ لأُمَّتِى عَنِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬1). والرِّوايَةُ الثانِيَةُ، عليه الكَفّارَةُ، لِما ذَكَرْنا. فأمَّا إن كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276.

1072 - مسألة: (وإن جامع فيما دون الفرج فأنزل، أو وطئ

وَإنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ فَأنْزَلَ، أو وَطِئَ بَهِيمَةً في الْفَرْجِ، أَفْطَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نائِمًا فانْتَشَرَ، فاسْتَدْخَلَتْه امْرَأتُه، أو غَلَبَتْه على نَفْسِه في حالِ يَقَظَتِه، فقالَ ابنُ عَقِيلٍ: لا قَضاءَ عليه، ولا كَفّارَةَ. وهو ظاهِرُ قولِ أحمدَ، في رِوايَةِ ابنِ القاسِمِ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مَعْنًى حَرَّمَه الصومُ، حَصَل بغيرِ اخْتِيارِه، فلم يُفْطِرْ به، كما لو طار إلى حَلْقِه ذُبابَةٌ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ عليه القَضاءَ. وقد ذَكَرْناه؛ لأنَّ الصومَ عِبادَةٌ يُفْسِدُها الجِماعُ، فاسْتَوَى فيه حالَةُ الاخْتِيارِ والإكْراهِ، كالحَجِّ، ولا يَصِحُّ قِياسُ الجِماعِ على غيرِه في عَدَمِ الإِفْسادِ؛ لتَأكُّدِه بإيجابِ الكَفّارَةِ، وإفْسادِ الحَجِّ مِن بينِ سائِرِ مَحْظُوراتِه. واللهُ أعلمُ. فصل: فإن تَساحَقَتِ امْرَأتانِ، فَسَد صَوْمُهما إن أنْزَلَتا. فإن أنْزَلَتْ إحْداهما، فَسَد صومُها وَحْدَها دُونَ الأُخْرَىِ. وهل يَكُونُ حُكْمُهما حُكْمَ المُجامِعِ دُونَ الفَرْجِ إذا أنْزَلَ، أو لا يَلْزَمُهما كَفّارَةٌ بحالٍ؟ فيه وَجْهانِ مَبْنِيّان على أنَّ الجِماعَ مِن المرأةِ هل يُوجِبُ الكَفّارَةَ؟ على رِوايَتَيْن. والصَّحِيحُ أنَّه لا كَفّارَةَ عليهما؛ لأنَّ ذلك ليس بمَنْصُوصٍ عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ عليه، فيَبْقَى على الأَصْلِ. فإن أنْزَلَ المَجْبُوبُ بالمُساحَقَةِ، فحُكْمُه حُكْمُ المُجامِعِ دُونَ الفَرْجِ إذا أنْزَلَ. واللهُ أعلمُ. 1072 - مسألة: (وإن جامَعَ فيما دُونَ الفَرْجِ فأنْزَلَ، أو وَطِئَ

وَفِى الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَهِيمَةً في الفَرْجِ أفْطَرَ. وفى الكَفّارَةِ وَجْهان) إذا جامَعَ فيما دُونَ الفَرْجِ عامِدًا فأنْزَل، فسَد صَوْمُه بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وهل تَجِبُ عليه الكَفّارَةُ؟ فيه عن أحمدَ رِوايَتان؛ إحْداهُماِ، تَجِبُ. وبه قال مالكٌ، وعَطاءٌ، والحسنُ، وابنُ المُبارَكِ، وإسحاقُ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ، والقاضى؛ لأنَّه أفْطَرَ بجِماعٍ، فوَجَبَت به الكَفّارَةُ، كالوَطْءِ في الفَرْجِ. والثانيةُ، لا كَفّارَةَ عليه. وهو مَذْهَبُ (¬1) أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه فِطْرٌ بغيرِ جِماعٍ تامٍّ، أشْبَهَ القُبْلَةَ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا إجْماعَ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ؛ لأنَّ الجِماعَ في الفَرْجِ أبْلَغُ، بدَلِيلِ تَعَلُّقِ الكَفَّارَةِ به مِن غيرِ إنْزالٍ، ويَجبُ به الحَدُّ، ويَتَعَلَّقُ به اثْنا عَشَرَ حُكْمًا، فلا يَصحُّ القِياسُ عليه. ولأنَّ العِلًّةَ في الأصْلِ الجِماعُ بدُونِ الإِنْزالِ، والجِماعُ ههُنا بدُونِ إنْزالٍ غيرُ مُوجِبٍ بالإِجْماعِ، فلا يَصحُّ الاعْتِبارُ به. وهذه أصَحُّ, إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في م: «قول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأَمّا الوَطْءُ في فَرْجِ البَهِيمَةِ، فذَكَرَ القاضي أنَّه مُوجِبٌ للكَفّارَةِ. وذَكَرَ أبو بكرٍ ذلك عن أحمدَ، نَقَلَها عنه ابنُ مَنْصورٍ؛ لأنَّه وَطْءٌ في فَرْجٍ، مُوجِبٌ للغُسْلِ، مُفْسِدٌ للصومِ، أشْبَهَ وَطْءَ الآدَمِيَّةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يُوجِبُ الكَفّارَةَ. ذَكَرَه أبو الخَطّاب؛ لأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ، فإنَّه مُخالِفٌ لوَطْءِ الآدَمِيَّةِ في إيجابِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدِّ، على إِحْدَى الرِّوايَتَيْن، وفى كَثِيرٍ مِن أحْكَامِه. فصل: فإن قَبَّلَ أو لمَسَ فأنْزَلَ، فَسَد صَوْمُه. وفى الكَفّارَةِ رِوايَتان؛ أصَحُّهما، أنَّها لا تَجبُ. نَقَلَها عنه الأَثْرَمُ، وأبو طالِبٍ. واخْتارَها الخِرَقِىُّ. وهو قول الشافعىِّ، وأبى حنيفةَ؛ لأنَّه إنْزَالٌ بغيرِ وَطْءٍ، أشْبَهَ الإِنْزالَ بتَكْرارِ النَّظَرِ. ولا يَصِحُّ قِياسُه على الوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ؛ لأنَّ الاسْتِمْتاعَ بالوَطْءِ فيما دُونَ الفَرْجِ أَقْوَى وأَبْلَغُ مِن القُبْلَةِ؛ لكَوْنِه وَطْأً في الجُمْلَةِ. والثانيةُ، عليه الكَفّارَةُ. نَقَلَها حَنْبَلٌ؛ لأنَّه إنْزالٌ عن مُباشَرَةٍ، أشْبَهَ الِإنزَالَ بالوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ، ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المَوْطُوءَةِ زَوْجَةً أو أَجنَبِيَّةً، صَغِيرَةً أو كَبِيرَةً؛ لأنَّه إذا وَجَب بوَطْءِ الزَّوْجَةِ، فبوَطْءِ الأجْنَبِيَّةِ أوْلَى.

1073 - مسألة: (وإن جامع في يوم رأى الهلال في ليلته وردت شهادته، فعليه القضاء والكفارة)

وَإنْ جَامَعَ في يَوْمٍ رَأى الْهِلَالَ في لَيْلَتِهِ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1073 - مسألة: (وإن جامَعَ في يومٍ رَأى الهِلالَ في لَيْلَتِه ورُدَّت شَهادَتُه، فعليه القَضاءُ والكَفّارَةُ) وهو قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَجبُ؛ لأنَّها عُقُوبَةٌ؛ فلم تَجِبْ بفِعْلٍ مُخْتَلَفٍ فيه، كالحَدِّ. ولَنا،

1074 - مسألة: (وإن جامع فى يومين ولم يكفر، فهل تلزمه كفارة أو كفارتان؟ على وجهين)

وَإِنْ جَامَعَ فِى يَوْمَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أَوْ كفَّارَتَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أفْطَرَ يَوْمًا مِن رمضانَ بجِماعٍ، فوَجَبَت عليه الكَفّارَةُ، كما لو قُبِلَت شَهادَتُه، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الكَفّارَةَ عُقُوبَةٌ، ثم قِياسُهم يَنْتَقِضُ بوُجُوبِ الكَفَّارَةِ بالجِماعِ في السَّفَرِ القَصِيرِ، مع وُقُوعِ الخِلافِ فيه. 1074 - مسألة: (وإن جامَعَ في يَوْمَيْن ولم يُكَفِّرْ، فهل تَلْزَمُه كَفّارَةٌ أو كَفّارَتان؟ على وَجْهَيْن) إذا جامَعَ مَرَّتَيْن، ولم يُكَفِّرْ عن الأوَّلِ، فإن كان في يَوْمٍ واحدٍ أجْزَأَتْه كَفّارَةٌ واحدَةٌ بغيرِ خِلافٍ. وإن كان في يَوْمَيْن، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تُجْزِئُه كَفّارَةٌ واحِدَةٌ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيارُ أبى بكرٍ. وإليه ذَهَب الزُّهْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْىِ؛ لأنَّها جَزاءٌ عن جِنايَةٍ تَكَرَّرَ سَبَبُها قبلَ اسْتِيفائِها، فيَجِبُ أن تَتَداخَلَ، كالحَدِّ. والثانى، يَلْزَمُه كَفّارَتان. اخْتارَه القَاضِى. وهو قولُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، ومَكْحُولٍ؛ لأنَّ كلَّ يَوْمٍ عِبادَةٌ مُفْرَدَةٌ، فإذا وَجَبَتِ الكَفّارَةُ بإفْسادِه لم تَتَداخَلْ، كرَمَضانَيْن وكالحَجَّتَيْن.

1075 - مسألة: (وإن جامع ثم كفر ثم جامع فى يومه، فعليه كفارة ثانية. نص عليه. وكذلك كل من لزمه الإمساك، إذا جامع)

وَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فِى يَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ، إِذَا جَامَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1075 - مسألة: (وإن جامَعَ ثم كَفَّرَ ثم جامَعَ في يومِه، فعليه كَفّارَةٌ ثانِيَةٌ. نَصَّ عليه. وكذلك كلُّ مَن لَزِمَه الإِمْساكُ، إذا جامَعَ) إذا كَفَّرَ ثم جامَعَ ثانِيَةً، فإن كان في يَوْمَيْن، فعليه كَفّارَةٌ ثانِيَةٌ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، وإن كان في يومٍ واحِدٍ، فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ. وهكذا يُخَرَّجُ في كلِّ مَن لَزِمَه الإِمْساكُ، وحُرِّمَ عليه الجِماعُ في نَهارِ رمضانَ، وإِن لم يَكُنْ صائِمًا، كمن لم يَعْلَمْ برُؤْيَةِ الهِلالِ إلَّا بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، أو نسِىَ النِّيَّةَ، أو أكَل عامِدًا ثم جامَعَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا شئَ عليه بذلك الجِماعِ؛ لأنَّه لم يُصادِفِ الصومَ، ولم يَمْنَعْ صِحَّتَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُوجِبْ شيئًا، كالجِماعِ في اللَّيْلِ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ تَجِبُ الكَفّارَةُ بالجماعِ فيها، فتَكَرَّرَتْ بتَكَرُّرِ الوَطْءِ إذا كان بعدَ التَّكْفِيرِ، كالحَجِّ، ولأَنَّه وَطْءٌ مُحَرَّمٌ لحُرْمَةِ رمضانَ، فأوْجَبَ الكَفَّارَةَ، كالأوَّلِ، وفارَقَ الوَطْءَ في اللَّيْلِ, لأنَّهُ مُباحٌ. فإن قِيلَ: الوَطْءُ الأوَّلُ تَضَمَّنَ هَتْكَ الصومِ، وهو مُؤَثِّرٌ في الإِيجابِ، فلا يَصِحُّ قِياسُ غيرِه عليه. قُلْنا: هو مَلْغِىٌّ بمَن طَلَع عليه الفَجْرُ وهو مُجامِعٌ فاسْتَدامَ، فإنَّه يَلْزَمُه الكَفّارَةُ، مع أنَّه لم يَهْتِكِ الصومَ. فصل: وإذا بَلَغ صَبِىٌّ، أو أسْلَمَ كافِرٌ، أو أفاق مَجْنُونٌ، أو طَهُرَتْ حائِضٌ أو نُفَساءُ، أو قَدِم المُسافِرُ مُفْطِرًا في نَهارِ رمضانَ، فقد ذَكَرْنا في وُجُوبِ الإِمْساكِ عليهم رِوايَتَيْن. فإن قُلْنا بوُجُوبِ الِإِمْساكِ، وَجَبَتِ الكَفّارَةُ على المُجامِعِ. وإن قُلْنا: لا يَجِبُ. فلا شئَ عليهم؛ لأنَّ الفِطْرَ مُباحٌ لهم، أشْبَهَ المُجامِعَ باللَّيْلِ. فأمَّا إن نَوَى الصومَ في مَرَضِه أو سَفَرِه أو صِغَرِه، ثم زال عُذْرُه في أثْناءِ النَّهارِ، لم يَجُزْ له الفِطْرُ، رِوايَةً واحِدَةً، وعليه الكَفّارَةُ إن وَطِئَ. وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ: في المُسافِرِ خاصَّةً

1076 - مسألة: (وإن جامع وهو صحيح، ثم مرض أو جن أو سافر، لم تسقط عنه)

وَلَوْ جَامَعَ وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهان؛ أحَدُهما، له الفِطْرُ؛ لأَنَّه أُبِيحَ له الفِطْرُ ظاهِرًا أو باطِنًا في أوَّلِ النَّهارِ، فكانت له اسْتِدامَتُه، كما لو قَدِم مُفْطِرًا. ولا يَصحُّ ذلك؛ لأنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ زال قبلَ التَّرَخُّصِ، فلم يَكُنْ له ذلك، كما لو قَدِمَتْ به السَّفِينَةُ قبلَ قَصْرِ الصلاةِ، وكالصَّبِىِّ يَبْلُغُ، والمَرِيضِ يَبْرَأُ. وهذا يَنْقُضُ (¬1) ما ذَكَرُوه. وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. ولو عَلِم الصَّبِىُّ أنَّه يَبْلُغُ في أثْناءِ النَّهارِ بالسِّنِّ، أو عَلِم المُسافِرُ أنَّه يَقْدَمُ، لم يَلْزَمْهما الصيامُ قبلَ زَوالِ عُذْرِهما؛ لأنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ مَوْجُودٌ، فثبَتَ حُكْمُها، كما لو لم يَعْلَما ذلك. 1076 - مسألة: (وإن جامَعَ وهو صَحِيحٌ، ثم مَرِض أو جُنَّ أو سافَرَ، لم تَسْقُطْ عنه) إذا جامَعَ في أوَّلِ النَّهارِ، ثم مَرِض أو جُنَّ، أو كانَتِ امرأةً فحاضَتْ أو نَفِسَتْ في أثْناءِ النَّهارِ، لم تَسْقُطِ الكَفّارَةُ. وبه قال مالكٌ، واللَّيْثُ، وابنُ الماجِشُونَ، وإسحاقُ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: لا كَفّارَةَ عليهم. وللشافعىِّ قَوْلان، كالمَذْهَبَيْن. واحْتَجُّوا بأنَّ صومَ هذا اليَوْمِ خَرَج عن كَوْنِه مُسْتَحَقًّا، فلم يَجِبْ بالوَطْءِ فيه كَفّارَةٌ، كصومِ المُسافِرِ، أو كما لو تَبَيَّنَ أنَّه مِن شَوّالٍ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى طَرَأ بعدَ وُجُوبِ ¬

(¬1) في الأصل: «نقيض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَفّارَةِ، فلم يُسْقِطْها، كالسَّفَرِ، ولأَنَّه أفْسَدَ صومًا واجبًا مِن رمضانَ بجِماعٍ تامٍّ، فاسْتَقَرَّتِ الكَفّارَةُ عليه، كما لو لم يَطْرَأ العُذْرُ، والوَطْءُ في صومِ المُسافِرِ مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ فالوَطْءُ ثَمَّ مُباحٌ؛ لأنَّه في صومٍ أُبِيحَ الفِطْرُ فيه، بخِلافِ مسألتِنا. وكذا إذا تَبَيَّنَ أنَّه مِن شَوَّالٍ؛ لأنَّه تَبَيَّنَ أنَّ الوَطْءَ لم يُصادِفْ رمضانَ، والمُوجِبُ إنَّما هو الوَطْءُ المُفْسِدُ لصومِ رمضانَ. فأمّا إن جامَعَ في نَهارِ رمضانَ، ثم سافَرَ في أثْناءِ النَّهارِ، لم تَسْقُطِ الكَفّارَةُ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى أنَّ كُلَّ مَن جامَعَ أمْكَنَه إسْقَاطُ الكَفّارَةِ عنه بالسَّفَرِ في النَّهارِ، وهو غيرُ جائِزٍ. فصل: إذا طَلَع الفَجْرُ وهو مُجامِعٌ، فاسْتَدامَ الجِماعَ، فعليه القَضاءُ والكَفّارَةُ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ القَضاءُ دُونَ الكَفّارَةِ؛ لأنَّ وَطْأَه لم يُصادِفْ صومًا صَحِيحًا، فلم يُوجِبِ الكَفّارَةَ، كما لو تَرَك النِّيَّةَ وجامَعَ. ولَنا، أنَّه تَرَك صومَ رمضانَ بجِماعٍ أثِمَ به؛ لحُرْمَةِ الصومِ، فوَجَبَتْ به الكَفّارَةُ، كما لو وَطِئَ بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. فأمّا إن نَزَع في الحالِ مع أوَّلِ طُلُوعِ الفَجْرِ، فقالَ ابنُ حامِدٍ، والقاضى: عليه الكَفّارَةُ؛ لأنَّ النَّزْعَ جِماعٌ يَلْتَذُّ به، أشْبَهَ الإِيلاجَ. وقال أبو حَفْصٍ: لا قَضاءَ عليه، ولا كَفَّارَةَ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه تَرَك الجِماعَ، فلا يَتَعَلَّقُ

1077 - مسألة: (وإن نوى الصوم فى سفره، ثم جامع، فلا

وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ فِى سَفَرِهِ، ثُمَّ جَامَعَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به ما يَتَعَلَّقُ بالجِماعِ، كما لو حَلَف لا يَدْخلُ دَارًا، وهو فيها، فخَرَجَ منها. وقال مالكٌ: يَبْطُلُ صَوْمُه، ولا كَفّارَةَ عليه؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على أكْثَرَ مِمّا فَعَلَه مِن تَرْكِ الجِماعِ، أشْبَهَ المُكْرَهَ. قال شيخُنا (¬1): وهذه المسألةُ تَقْرُبُ مِن الاسْتِحالَةِ، إذ لا يَكادُ يَعْلَمُ أَوَّلَ طُلُوعِ الفَجْرِ على وَجْهٍ يَتَعَقَّبُه النَّزْعُ مِن غيرِ أن يَكُونَ قبلَه شيءٌ مِن الجِماعِ، فلا حاجَةَ إلى فَرْضِها، والكَلامِ فيها. فصل: ومَن جامَعَ يَظُنُّ أنَّ الفَجْرَ لم يَطْلُعْ، فَتَبَيَّنَ أنَّه كان طَلَع، فعليه القَضاءُ والكَفَّارَةُ. وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ: لا كَفّارَةَ عليه، ولو عَلِم في أثْناءِ الوَطْءِ، فاسْتَدامَ ذلك، فلا كَفّارَةَ عليه أيضًا؛ لأنَّه إذا لم يَعْلَمْ لم يَأْثَمْ، أَشْبَهَ النَّاسِىَ، وإن عَلِم فاسْتَدامَ، فقد حَصَل الذى أثِمَ به في غيرِ صَوْمٍ. ولَنا.، حديثُ المُجامِعِ، حيث أمَرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بالكَفّارَةِ ولم يَسْتَفْصِلْ (¬2). ولأنَّه أفْسَدَ صومَ رمضانَ بجِماعٍ تامٍّ، فوَجَبَت عليه الكَفّارَةُ، كما لو عَلِم، ووَطْءُ النَّاسِى مَمْنُوعٌ. ثم إنَّه لا يَحْصُلُ به الفِطْرُ على الرِّوايَةِ الأُخرَى. 1077 - مسألة: (وإن نَوَى الصومَ في سَفَرِه، ثم جامَعَ، فلا ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 379. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 445.

وَعَنْهُ، عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفّارَةَ عليه. وعنه، عليه الكَفّارَةُ) إذا نَوَى الصومَ في سَفَرِه، ثم أفْطَرَ بالجِماعِ، ففى الكَفّارَةِ رِوايَتان؛ إحْداهما، تَجِبُ. اخْتارَها القاضى؛ لأنَّه أفْطَرَ بجِماعٍ، فلَزِمَتْه الكَفّارَةُ، كالحاضِرِ. والثانيةُ، لا كَفّارَةَ عليه. اخْتارَها شيخُنا (¬1)، وهى الصَّحِيحَةُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه صومٌ لا يَجِبُ المُضِىُّ فيه، فلم تَجِبِ الكَفّارَةُ بالجِماعِ فيه، كالتَّطَوُّعِ، وفارَقَ الحاضِرَ الصَّحِيحَ، فإنَّه يَجِبُ عليه المُضِىُّ في الصومِ، وإن كان مَرِيضًا يُباحُ له الفِطْرُ، فهو كالمُسافِرِ قِياسًا عليه، ولأَنَّه يُفْطِرُ بنِيَّةِ الفِطْرِ، فيَقَعُ الجِماعُ بعدَ حُصُولِ الفِطْرِ، أشْبَهَ ما لو أكلَ ثم جامَعَ. ومتى أفْطَرَ المُسافِرُ فله فِعْلُ جَمِيعِ ما يُنافِى الصومَ مِن الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ وغيرِه؛ لأنَّ حُرْمَتَها بالصومِ، فيَزُولُ بزَوالِه، كمَجِئِ اللَّيْلِ. ¬

(¬1) انظر المغنى 4/ 348.

1078 - مسألة: (ولا تجب الكفارة بغير الجماع فى نهار رمضان)

وَلَا تَجِبُ [58 و] الْكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ فِى صِيَامِ رَمَضَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1078 - مسألة: (ولا تَجِبُ الكَفَّارَةُ بغيرِ الجِماعِ في نَهارِ رمضانَ) إذا جامَعَ في غيرِ صومِ رمضانَ لم تَجِبْ عليه الكَفّارَةُ، في قولِ جُمْهُورِ العُلَماءِ. وقال قَتادَةُ: تَجِبُ على مَن وَطِئَ في قَضاءِ رمضانَ؛ لأنَّه عِبادَةٌ تَجِبُ الكَفّارَةُ في أدائِها، فوَجَبَتْ في قَضائِها، كالحَجِّ. ولَنا، أنَّه جامَعَ في غيرِ رمضانَ، فلم يَلْزَمْه كَفّارَةٌ، كما لو جامَعَ في صِيامِ الكَفّارَةِ، والقَضاءُ يُفارِقُ الأداءَ؛ لأنَّه مُتَعَيِّنٌ بزَمانٍ مُحْتَرَمٍ، فالجِماعُ فيه هَتْكٌ له، بخِلافِ القَضاءِ. فصل: ولا تَجِبُ الكَفّارَةُ بإفْسادِ الصومِ بغيرِ الجِماعِ. وعن أحمدَ في المُحْتَجِمِ، إن كان عالِمًا بالنَّهْىِ فعليه الكَفّارَةُ. وقال عَطاءٌ في المُحْتَجِمِ: عليه الكَفّارَةُ. وقال مالكٌ: تَجِبُ الكَفّارَةُ بكلِّ ما كان هَتْكًا للصومِ، إلَّا الرِّدَّةَ، قِياسًا على الإِفْطارِ بالجِماعِ. وحُكِىَ عن عَطاءٍ، والحسنِ، والزُّهْرِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وإسحاقَ، أنَّ الفِطْرَ بالأكْلِ والشُّرْبِ يُوجِبُ ما يُوجِبُ الجِماعُ. وبه قال أبو حنيفةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أنَّه اعْتَبَرَ ما يُتَغَذَّى به، أو يُتَداوَى به، فلو ابْتَلَعَ حَصاةً أو نَواةً أو فُسْتُقَةً بقِشْرِها، فلا كَفّارَةَ عليه. واحْتَجَّ بأنَّه أفْطَرَ بأعلى ما في البابِ مِن جِنْسِه، فوَجَبَتْ عليه الكَفّارَةُ، كالمُجامِعِ. ولَنا، أنَّه أفْطَرَ بغيرِ جِماعٍ، فلم يُوجِبِ الكَفّارَةَ، كبَلْعِ الحَصاةِ، وكالرِّدَّةِ عندَ مالكٍ، ولأنَّه لا نَصَّ في إيجابِ الكَفّارَةِ بهذا, ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الجِماعِ؛ لأنَّ الحاجَةَ إلى الزَّجْرِ عنه أمَسُّ، والحِكمةَ في التَّعَدِّى (¬1) به آكَدُ، ولهذا يَجِبُ به الحَدُّ إذا كان مُحَرَّمًا، ويَخْتَصُّ بإفْسادِ الحَجِّ دُونَ سائرِ مَحْظُوراتِه، ويُفْسِدُ صومَ اثْنَيْن في الغالِبِ، دُونَ غَيرِه. ¬

(¬1) في الأصل: «التغذى».

1079 - مسألة: (والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا)

وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1079 - مسألة: (والكَفّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فإن لم يَجِدْ فصِيامُ شَهْرَيْن مُتَتابِعَيْن، فإن لم يَسْتَطِعْ فإطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ كَفّارَةَ الوَطْءِ في رمضانَ مُرَتَّبَةٌ، ككَفارَةِ الظِّهارِ، يَلْزَمُه العِتْقُ، فإن عَجَز عنه انْتَقَلَ إلى الصيامِ، فإن عَجَز انْتَقَلَ إلى الإِطْعامِ المَذْكُورِ. وهذا قولُ أكثرِ العُلَماءِ؛ منهم الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وعن أحمدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّها على التَّخْيِيرِ بينَ هذه الثَّلاثَةِ، فبِأيِّها كَفَّرَ أجْزَأه. وهى رِوايَةٌ عن مالكٍ؛ لِما روَى مالكٌ، وابنُ جُرَيْجٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ رجلاً أفْطَرَ في رمضانَ، فأمَرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُكَفِّرَ بعِتْقِ رَقَبَةٍ، أو صِيامِ شَهْرَيْن مُتَتابِعَيْن، أو إطْعامِ سِتِّين مِسْكِينًا (¬1). و «أو» حَرْفُ تَخْيِيرٍ. ولأنَّها تَجِبُ بالمُخالَفَةِ، فكانت على التَّخْيِيرِ، ككَفَّارَةِ اليَمِينِ. وعن مالكٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 445. ورواية التخيير أخرجها مسلم، في: باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 783. والإمام مالك، في: باب كفارة من أفطر في رمضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 296. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 273، 516.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه قال: الذى نَأْخُذُ به في الذى يُصِيبُ أهْلَه في شهرِ رمضانَ، إطْعامُ سِتِّين مِسْكِينًا، وصِيامُ ذلك اليَوْمِ، وليس التَّحْرِيرُ والصيامُ مِن كفّارَةِ رمضانَ في شئٍ. وهذا القولُ مُخالِفٌ للحديثِ الصَّحيحِ، مع أنَّه ليس له أصْلٌ يَعْتَمِدُ عليه، ولا شئٌ يَسْتَنِدُ إليه، وسُنَّةُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى الحديثُ الصَّحِيحُ، رَواه مَعْمَرٌ، ويُونُسُ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ، وموسى بنُ عُقْبَةَ، وعُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وعِراكُ بنُ مالكٍ، وغيرُهم، عن الزُّهْرِىِّ، عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال للواقِعِ على أهْلِه: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟». قال: لا. وذَكَر سائِرَ الحدِيثِ، وهذا لَفْظُ التَّرْتِيبِ، والأخْذُ به أوْلَى مِن رِوايَةِ مالكٍ؛ لأنَّ أصحابَ الزُّهْرِىِّ اتَّفَقُوا على رِوايَتِه هكذا, سِوَى مالكٍ وابنِ جُرَيْجٍ، فيما عَلِمْنا، واحْتِمالُ الغَلَطِ فيهما أكْثَرُ مِن احْتِمالِه في سائِرِ أصحابِه، ولأنَّ التَّرْتِيبَ زِيادَةٌ، والأخْذُ بالزِّيادَةِ مُتَعَيِّنٌ، ولأنَّ حديثَنا لَفْظُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، وحَدِيثُهم لَفْظُ الرَّاوِى، ويَحْتَمِلُ أنَّه رَواه بـ «أو» لاعتِقادِه أنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْن سَواءٌ، ولأنَّها كَفّارَةٌ فيها صومُ شَهْرَيْن مُتَتابِعَيْن، فكانت مُرَتَّبَةً، كالظِّهارِ والقَتْلِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فعلى هذه الرِّوايةِ، إذا عَدِم الرَّقَبَةَ انْتَقَلَ إلى الصومِ المَذْكورِ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في دُخولِ الصومِ في هذه الكَفّارَةِ، إلَّا قَوْلًا شاذًّا يُخالِفُ السُّنَّةَ الثابِتَةَ، وقد ذَكَرْناه. ولا خِلافَ بينَ مَن أوْجَبَه أنَّه شَهْران مُتَتابعان؛ للخَبَرِ. فإن لم يَشْرَعْ في الصيامِ حتى وَجَد الرَّقَبَةَ لَزِمَه العِتْقُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَألَ المُواقِعَ عن ما يَقْدِرُ عليه حينَ أخْبَرَه بالعِتْقِ، ولم يَسْألْه عن ما كان يَقْدِرُ عليه حالَةَ المُواقَعَةِ، وهى حالَةُ الوُجُوبِ، ولأَنَّه وَجَد المُبْدَلَ قبلَ التَّلَبُّسِ بالبَدَلِ، فلَزِمَه، كما لو وَجَدَه حالَ الوُجُوبِ. وإن شَرَع في الصومِ قبلَ القُدْرَةِ على الإِعْتاقِ، ثم قَدَر عليه، لم يَلْزَمْه الخُرُوجُ إليه، إلَّا أن يشاءَ أن يُعْتِقَ، فيُجْزِئُه، ويَكُونُ قد فَعَل الأوْلَى. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه العِتْقُ؛ لأنَّه قَدَر على الأصْلِ قبلَ أدْاءِ فَرْضِه بالبَدَلِ، فبَطَلَ حُكْمُ البَدَلِ، كالمُتَيمِّمِ يَرَى الماءَ. ولَنا، أنّه شَرَع في الكَفّارَةِ الواجِبَةِ عليه، فأجْزَأَتْه، كما لو اسْتَمَرَّ العَجْزُ، وفارَقَ العِتْقُ التَّيَمُّمَ، لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ التَّيَمُّمَ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ وإنَّما يَسْتُرُه؛ فإذا وُجِد الماءُ ظَهَر حُكْمُه، بخِلافِ الصومِ؛ فإنَّه يَرْفَعُ حُكْمَ الجِماعِ بالكُلِّيَّةِ. الثانِى، أنَّ الصيامَ تَطُولُ مُدَّتُه، فيَشُقُّ إلْزامُه الجَمْعَ بينَه وبينَ العِتْقِ، بخِلافِ الوُضُوءِ والتَّيَمُّمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (فإن لم يَسْتَطِعْ فإطعامُ سِتِّين مِسْكِينًا) قال شيخُنا (¬1) رَحِمَه الله: ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ، في دُخُولِ الإِطْعامِ في كَفّارَةِ الوَطْءِ في رمضانَ في الجُمْلَةِ، وهو مَذْكُورٌ في الخَبَرِ. ولأَنَّه إطْعامٌ في كَفّارَةٍ فيها صومُ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْن، فكان سِتِّين مِسْكِينًا، ككَفّارةِ الظِّهارِ. وقَدْرُ المُطْعَمِ خَمْسَةَ عَشَرَ صاعًا مِن البُرِّ، لكلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ؛ وهو رُبْعُ الصَّاعِ، أو ثلاثون صاعًا مِن التَّمْرِ أو الشَّعِيرِ، لكل مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ. وقال أبو حنيفةَ: مِن البُرِّ لكلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ، ومن غيرِه صاعٌ لكلِّ مِسْكِينٍ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ: «فأطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ». رَواه أبو داودَ (¬2). وقال أبو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِن أىِّ الأنْواعِ شاء. وبهذا قال عَطاءٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ في حَدِيثِ المُجامِعِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ بمِكْتَلٍ مِن تَمْرٍ، قَدْرُه خَمْسَةَ عَشَرَ صاعًا، فقالَ: «خُذْ هذا، فَأطْعِمْهُ عَنْكَ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولَنا، ما روَى أحمدُ (¬4): حَدَّثنا إسْماعِيلُ، ثنا أيُّوبُ، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 382. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 276. (¬3) في: باب كفارة من أتى أهله في رمضان، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 558. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 534. والإمام مالك، في: باب كفارة من أفطر في رمضان، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 297. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب لا يجزئ أن يطعم أقل من ستين. . . .، من كتاب الظهار. السنن الكبرى 7/ 392. وانظر إرواء الغليل 7/ 181.

1080 - مسألة: (فإن لم يجد سقطت عنه. وعنه، لا تسقط. وعنه، أن الكفارة على التخيير، فبأيها كفر أجزأه)

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ عَنْهُ. وَعَنْهُ، لَا تَسْقُطُ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَبِأَيِّهَا كَفَّرَ أَجْزَأَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبى يَزِيدٍ (¬1) المَدَنِىِّ، قال: جاءَتِ امرأةٌ مِن بنى بَياضَةَ بنِصْفِ وَسْقِ شَعِيرٍ، فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - للمُظاهِرِ (¬2): «أَطْعِمْ هذا، فَإنَّ مُدَّىْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» (¬3). ولأنَّ فِدْيَةَ الأذَى نِصْفُ صاعٍ مِن التَّمْرِ والشَّعِيرِ بلا خِلافٍ، فكذا هذا. والمُدُّ مِن البُرِّ يَقُومُ مَقامَ نِصْفِ صاعٍ مِن غيرِه، بدَلِيلِ هذا الحديثِ، ولأنَّه قولُ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وزيدٍ، ولا مُخالِفَ لهم في الصحابةِ. وأمّا حديثُ سَلَمَةَ بنِ صَخرٍ، فقد اخْتُلِفَ فيه، وحديثُ أصحابِ الشافعىِّ يَجُوزُ أن يَكُونَ الذى أُتِىَ به النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - قاصِرًا عن الواجِبِ، فاجْتُزِئَ به لعَجْزِ المُكَفِّرِ عن ما سِواه. 1080 - مسألة: (فإن لم يَجدْ سَقَطَت عنه. وعنه، لا تَسْقُطُ. وعنه، أنَّ الكَفّارَةَ على التَّخْيِيرِ، فبِأيِّها كَفَّرَ أجْزَأَه) ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ المُجامِعَ في رمضانَ إذا عَجَز عن العِتْقِ والصِّيامِ والإِطْعامِ، أنَّ الكَفّارَةَ ¬

(¬1) في النسختين: «زيد». وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 34/ 409، 410. (¬2) سقط من: م. (¬3) لم نهتد إليه في المسند. وانظر إرواء الغليل 7/ 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْقُطُ عنه. وهذا قولُ الأوْزاعِىِّ. وقال الزُّهْرِىُّ: لا بُدَّ مِن التَّكْفِيرِ، بدَلِيلِ أنَّ الأعْرابِىَّ أَخْبَرَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - بإعْسارِهِ قبلَ أن يَدْفَعَ إليه العَرَقَ، ولم يُسْقِطْها عنه، ولأنَّها كَفّارَةٌ واجِبَةٌ فلم تَسْقُطْ بالعَجْزِ عنها، كسائِرِ الكَفّاراتِ. وهذه الرِّوايَةُ الثانيةُ عن أحمدَ. وهو قِياسُ قول أبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنًّ الأعْرابِىَّ لَمّا دَفَع إليه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - التَّمْرَ، فأخْبَرَهْ بحاجَتِه، قال: «أطْعِمْهُ أَهْلَكَ» (¬1). ولم يَأْمُرْه بكَفّارَةٍ أُخْرَى. قَوْلُهم: إنَّه أخْبَرَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - بعَجْزِه فلم يُسْقِطْها. قُلْنا: قد أسْقَطَها عنه بعدَ ذلك، وهذا آخِرُ الأمْرَيْن مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا القِياسُ على سائِرِ الكَفّاراتِ، فلا يَصِحُّ؛ لمُخالَفَتِه النَّصَّ. والاعتبارُ بالعَجْزِ في حالَةِ الوُجُوبِ، وهو حالَةُ الوَطْءِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 445.

باب ما يكره وما يستحب، وحكم القضاء

بَابُ مَا يُكْرَهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ، وَحُكْمُ الْقَضَاءِ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَجْمَعَ رِيقَهُ فَيَبْلَعَهُ، وَأنْ يَبْتَلِعَ النُّخَامَةَ. وَهَلْ يُفْطِرُ بِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ما يُكْرَهُ وما يُسْتَحَبُّ، وحُكْمُ القَضاءِ 1081 - مسألة: (ويُكْرَهُ للصّائِمِ أن يَجْمَعَ رِيقَه فيَبْلَعَه، وأن يَبْتلعَ النُّخامَةَ. وهل يُفْطِرُ بهما؟ على وَجْهَيْن) لا يُفَطِّرُ ابْتِلاعُ الرِّيقِ إذا لم يَجْمَعْه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ غُبارَ الطّرِيقِ. ويُكْرَهُ للصّائِمِ جَمْعُ رِيقِه وابْتِلاعُه؛ لإِمْكانِ التَّحَرُّزِ منه. فإن جَمَعَه ثم ابْتَلَعَه قَصْدًا، لم يُفَطِّرْه؛ لأنَّه يَصِلُ إلى جَوْفِه مِن مَعِدَتِه، أشْبَهَ إذا لم يَجْمَعْه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُفَطِّرُه؛ لأنَّه أمْكَنَه التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ ما لو قَصَد ابْتِلاعَ غُبارِ الطرَّيقِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ الرِّيقَ لا يُفَطِّر إذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَجْمَعْه، وإن قَصَد ابْتِلاعَه، فكذلك إذا جَمَعَه، بخِلافِ غُبارِ الطَّريقِ. فإن خَرَج ريقُه إلى ثَوْبِه، أو بينَ أَصابِعِه، أو بينَ شَفَتَيْه، ثم عاد فابْتَلَعَه، أو بَلَع رِيقَ غيرِه، أفْطَرَ؛ لأنَّه ابْتَلَعَه مِن غيرِ فَمِه، أشْبَهَ غيرَ الرِّيقِ. فإن قِيلَ: فقد رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلُها وهو صائِمٌ, ويَمُصُّ لِسانَها. رَواه أبو داودَ (¬1). قُلْنا: قد رُوِىَ عن أبى داودَ أنَّه قال: هذا إسْنادٌ ليس بصَحِيحٍ. ويَجُوزُ أن يَكُونَ يُقَبِّلُ في الصوم، ويَمُصُّ لِسانَها في غيرِه. ويَجُوزُ أن يَمُصَّه ثم لا يَبْتَلِعُه، ولأنَّه لم يَتَحَقَّقِ انْفِصالُ ما على لِسانِها مِن البَلَلِ إلى فَمِه، فأشْبَهَ ما لو تَرَك حَصاةً مَبْلُولَةً في فيه، أو لو تَمَضْمَضَ بماءٍ ثم مَجَّه. ولو تَرَك في فَمِه حَصاةً أو دِرْهَمًا فأخْرَجَه وعليه بِلَّةٌ مِن الرِّيقِ، ثم أعادَه في فِيه، نَظَرْتَ؛ فإن كان ما عليه مِن الرِّيقِ كَثِيرًا فابْتَلَعَه، أفْطَرَ، وإن كان يَسِيرًا لم يُفْطِرْ بابْتِلاعِ رِيقِه. وقال بعضُ أصحابِنا: يُفْطِرُ لابْتِلاعِه ذلك البَلَلَ الذى كان على الجِسْمِ. ¬

(¬1) في: باب الصائم يبلع الريق، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 556. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 123، 234.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه لا يَتَحَقَّقُ انْفِصالُ ذلك البَلَلِ ودُخُولُه إلى حَلْقِه، كالمَضْمَضَةِ، والتَّسَوُّكِ بالسِّواكِ الرَّطْبِ والمَبْلُولِ. ويُقَوِّى ذلك حديثُ عائشةَ في مَصِّ لِسانِها. ولو أخْرَجَ لِسانَه وعليه بِلَّةٌ، ثم عاد فأدْخَلَه وابْتَلَعَ رِيقَه، لم يُفْطِرْ. فصل: وإنِ ابْتَلَعَ النُّخامَةَ، فقد. روَى حَنْبَلٌ، قال: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يَقُولُ: إذا تَنَخَّمَ ثم ازْدَرَدَه، فقد أفْطَرَ؛ لأنَّ النُّخامَةَ تَنْزِلُ مِن الرَّأْسِ، والرِّيقُ مِن الفَمِ. ولو تَنَخَّعَ مِن جَوْفِه ثم ازْدَرَدَه، أفْطَرَ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه أمْكَنَ التَّحَرُّزُ منها، أشْبَهَ الدَّمَ، ولأنَّها مِن غيرِ الفَمِ، أشْبَهَ القَئَ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، لا يُفْطِرُ. فإنَّه قال، في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ:

1082 - مسألة: (ويكره ذوق الطعام، وإن وجد طعمه فى

وَيُكْرَهُ ذَوْقُ الطَّعَامِ، وَإنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِى حَلْقِهِ، أَفْطَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس عليك قَضاءٌ إذا ابْتَلَعْتَ النُّخاعَةَ وأنت صائمٌ. لأنَّه مُعْتَادٌ في الفَمِ، أشْبَهَ الرِّيقَ. فصل: فإن سال فَمُه دَمًا، أو خَرَج إليه قَلْسٌ (¬1) أو قَىْءٌ فازْدَرَدَه، أفْطَرَ وإن كان يَسِيرًا؛ لأنَّ الفَمَ في حُكْمِ الظّاهِرِ، والأصْلُ حُصُولُ الفِطْرِ بكلِّ واصِلٍ منه، لكنْ عُفِىَ عن الرِّيقِ، لعَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه، فيَبْقَى فيما عَداه على الأصْلِ. وإن ألْقاه مِن فِيه، وبَقِىَ فَمُه نَجِسًا، أو تَنَجَّسَ فَمُه بشئٍ مِن خارِجٍ، فابْتَلَعَ رِيقَه، فإن كان معه جُزْءٌ مِن المُنَجَّسِ أفْطَرَ بذلك الجُزْءِ، وإلَّا فلا. 1082 - مسألة: (ويُكْرَهُ ذَوْقُ الطَّعامِ، وإن وَجَد طَعْمَه في ¬

(¬1) القلس: ما يخرج من البطن إلى الفم وليس بقئ, فإن غلب فهو قئ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَلْقِه، أفْطَرَ) قال أحمدُ: أحَبُّ إلىَّ أن يَجْتَنِبَ ذَوْقَ الطَّعامِ، فإن فَعَل لم يَضُرَّه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ مِن غيرِ حاجَةٍ؛ لأنَّه رُبَّما دَخَل حَلْقَه فأفْطَرَ، ولا بَأْسَ به مع الحاجَةِ؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: لا بَأْسَ أن يَذوقَ الطَّعامَ الخَلَّ، والشَّئَ يُرِيدُ شِراءَه (¬1). والحسنُ كان يَمْضَغُ الجَوْزَ لابنِ ابنِه وهو صائِمٌ (¬2). ورَخَّصَ فيه إبراهيمُ. فإن فَعَل فوَجَدَ طَعْمَه في حَلْقِه أفْطَرَ، وإلَّا لم يُفْطِرْ. فصل: ولا بَأْسَ بالسِّواكِ للصَّائِمِ قبلَ الزَّوالِ. قال أحمدُ: لا بَأْسَ به؛ لِما روَى عامِرُ بنُ رَبِيعةَ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ما لا أُحْصِى، يَتَسَوَّكُ وهو صائِمٌ (¬3). حديث حسنٌ. ولكنَّه يَكُونُ عُودًا ذاوِيًا. وهل يُكْرَهُ السِّواكُ للصّائِمِ بعدَ الزّوالِ؟ على رِوايَتَيْن، ذَكَرْناهما في بابِ الوُضُوءِ (¬4). ويُكْرَهُ للصائِمِ السِّواكُ بالعُودِ الرَّطْبِ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الصائم يتطعم بالشئ، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 47. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المرأة تمضغ لصبيها وهى صائمة وتذوق الشئ، من كتاب الصيام. مصنف عبد الرزاق 4/ 207. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 242. (¬4) انظر: 1/ 241، 242.

1083 - مسألة: (ويكره مضغ العلك الذى لا يتحلل منه أجزاء، ولا يجوز مضغ ما يتحلل منه أجزاء إلا أن لا يبلع ريقه، وإن وجد طعمه فى حلقه، أفطر)

وَيُكْرَهُ مَضْغُ الْعِلْكِ. الَّذِى لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ أجْزَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ مَضْغُ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ أجْزَاءٌ، إِلَّا أنْ لَا يَبْلَعَ رِيقَهُ، وَمَتَى وَجَدَ طَعْمَهُ فِى حَلْقِهِ، أَفْطَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ قَتادَةَ، والشَّعْبِىِّ، وإسحاقَ، ومالكٍ في رِوايَةٍ؛ لأنَّه مُغَرِّرٌ بصوْمِه؛ لكَوْنِه رُبَّما يَتحَلَّلُ منه أجْزَاءٌ تَصِلُ إلى حَلْقِه، فيُفَطِّرُه. وعنه، لا يُكْرَهُ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ؛ لأنَّه يُرْوَى عن علىٍّ، وابنِ عُمَر، وعُرْوَةَ، ومُجاهِدٍ، ولِما رَوَيْنا مِن الحديثِ واللهُ أعْلَمُ. 1083 - مسألة: (ويُكْرَهُ مَضْغُ العِلْكِ الذى لا يَتَحَلَّلُ منه أجْزاءٌ، ولا يَجُوزُ مَضْغُ ما يَتَحَلَّلُ منه أجْزاءٌ إلَّا أن لا يَبْلَعَ رِيقَه، وإن وَجَدَ طَعْمَه في حَلْقِه، أفْطَرَ) المَنْقُولُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، كَراهَةُ مَضْغِ العِلْكِ. قال إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لأحمدَ: الصّائِمُ يَمْضَغُ العِلْكَ؟ قال: لا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أصحابُنا: العِلْكُ ضَرْبان؛ أحَدُهما، ما يَتَحَلَّلُ منه أجْزاءٌ وهو الرَّدِئُ الذى يَتَحَلَّلُ بالمَضْغِ، فلا يَجْوزُ مَضْغُه، إلَّا أن لا يَبْلَعَ رِيقَه، فإن فَعَل فنَزَلَ إلى حَلْقِه منه شئٌ، أفْطَرَ به، كما لو تَعَمَّدَ أَكْلَه. والثانِى، القَوِىُّ الذى يَصْلُبُ بالمَضْغِ، فهذا يُكْرَهُ مَضْغه ولا يَحْرُمُ. ومِمَّن كَرِهَه الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، ومحمدُ بنُ علىٍّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ؛ وذلك لأنَّه يَحْلُبُ الفَمَ، ويَجْمَعُ الرِّيقَ، ويُورِث العَطَشَ. ورَخَّصَتْ عائشةُ في مَضْغِه. وبه قال عَطاءٌ؛ لأنَّه لا يَصِلُ إلى الجَوْفِ منه شئٌ، فهو كوَضْعِ الحَصاةِ في فِيه. ومتى مَضَغَه ولم يَجِدْ طَعْمَه في حَلْقِه، لم يُفْطِرْ. وإن وَجَد طَعْمَه في حَلْقِه ففيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، يُفَطِّره، كالكُحْلِ إذا وَجَد طَعْمَه في حَلْقِه. والثانى، لا يُفَطِّرُه؛ لأنَّه لا يُتْرَكُ منه شئٌ، ومجَرَّدُ الطَّعْمِ لا يُفَطِّرُ؛ بدَلِيلِ أنَّه قد قِيلَ: إنَّ مَن لَطَخ باطِنَ قَدَمِه بالحَنْظَلِ وَجَد طَعْمَه، ولا يُفْطِرُ. بخِلافِ الكُحْلِ، فإنَّ أَجْزاءَه

1084 - مسألة: (وتكره القبلة، إلا أن يكون ممن لا تحرك شهوته، فى إحدى الروايتين)

وَتُكْرَهُ الْقُبْلَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَصِلُ إلى الحَلْقِ، ويُشَاهَدُ إذا تَنَخَّعَ. قال أحمدُ: مَن وَضَعَ في فِيه دِرْهَمًا أو دِينارًا وهو صائِمٌ، فلا بَأْسَ به، ما لم يَجِدْ طَعْمَه في حَلْقِه، وما يَجِدُ طَعْمَه فلا يُعْجِبُنِى. وقال عبدُ اللهِ: سَألْتُ أبى عن الصّائِمِ يَفْتِلُ الخُيُوطَ، قال: يُعْجِبُنِى أن يَبْزُقَ. 1084 - مسألة: (وتُكْرَهُ القُبْلَةُ، إلَّا أن يَكُونَ ممَّن لا تُحَرِّكُ شَهْوَتَه، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) وجُمْلَتُه أنَّ المُقَبِّلَ لا يَخْلُو مِن ثَلاثَةِ أقْسَامٍ؛ أحَدُها، أن يَكُونَ ذا شَهْوَةٍ مُفْرِطَةٍ، يَغْلِبُ على ظَنِّه أنَّه إذا قَبَّلَ أنْزَلَ أو مَذَى، فهذا تَحْرُمُ عليه القُبْلَةُ؛ لأنَّها مُفْسِدَةٌ لصَوْمِه، أشْبَهَتِ الأكْلَ. الثانِى، أن يَكُونَ ذا شَهْوَةٍ، لكنَّه لا يَغْلِبُ على ظَنِّه ذلك، فيُكْرَهُ له التَّقْبِيلُ, لأنَّه يُعَرِّضُ صَوْمَه للفِطْرِ، ولا يَأْمَنُ عليه الفَسادَ؛ لِما رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المَنامِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأعْرَضَ عَنِّى، فقُلْتُ له: [ما لى] (¬1)؟ فقال: «إنَّكَ تُقَبِّلُ وَأنْتَ صَائِمٌ» (¬2). ولأنَّ العِبادَةَ إذا مَنَعَتِ الوَطْءَ مَنَعَت دَواعِيَه، كالإِحْرامِ. ولا تَحْرُمُ القُبْلَةُ في هذه الحال؛ لِما رُوِىَ أنَّ رجلاً قَبَّلَ وهو صائِمٌ، فأرْسَلَ امْرَأتَه، فسَألَتِ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْبَرَها النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يُقَبِّلُ وهو صائِمٌ، فقالَ الرجلُ: إنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليس مِثْلَنا، قد غَفَر اللهُ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تَأخَّرَ. فغَضِبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «إنِّى لَأخْشَاكُمْ لِلّهِ، وَأعْلَمُكُمْ بِمَا أتَّقِى». رَواه مسلمٌ بمَعْناه (¬3). ورُوِىَ عن عُمَرَ، أنَّه قال: هَشَشْتُ فقَبَّلْتُ وأنا صائِمٌ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ صَنَعْتُ ¬

(¬1) في م: «ما بالى». (¬2) أخرجه البيهقى, في: باب كراهية القبلة لمن حركت شهوته، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 232. وابن أبى شيبة، في: باب من رخص في القبلة للصائم، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 62. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 114.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَوْمَ أمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وأنا صائِمٌ. قال: «أرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنْ إنَاءٍ وَأنْتَ صَائِمٌ؟» قُلْتُ: لا بَأْسَ به. قال: «فَمَهْ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّ إفْضَاءَه إلى إفْسادِ الصومِ مَشْكُوكٌ فيه، ولا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بالشَّكِّ. الثالثُ، أن يَكُونَ مِمَّن لا تُحَرِّكُ القُبْلَةُ شَهْوَتَه، كالشَّيْخِ الكَبِيرِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تُكْرَهُ له. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلُ وهو صائِمٌ، لَمّا كان مالِكًا لإِرْبِهِ، وغيرُ ذِى الشَّهْوَةِ في مَعْناه. وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رجلاً سَألَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - عن المُباشَرَةِ للصائِمِ، فرَخَّصَ له، فأتاه آخَرُ فسَألَه (¬2)، فنَهاه، فإذا الذى رَخَّصَ له شيخٌ، والذى نَهاه شابٌّ. أخْرَجَه أبو داودَ (¬3). ولأنَّها مُباشَرَةٌ لغيرِ شَهْوَةٍ، أشْبَهَتْ لَمْسَ اليَدِ لحاجَةٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 417. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب كراهيته للشاب، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 556.

1085 - مسألة: (ويجب عليه اجتناب الكذب والغيبة

وَيَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ, فَإِنْ شُتِمَ اسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: إِنِّى صَائِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، يُكْرَهُ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ حُدُوثَ الشَّهْوَةِ، ولأنَّ الصومَ عِبادَةٌ تَمْنَعُ الوَطْءَ، فاسْتَوَى في القُبْلَةِ فيها مَن تُحَرِّكُ شَهْوَتَه ومَن لا تُحَرِّكُ، كالإِحرامِ. فأمّا اللَّمْسُ لغيرِ شَهْوَةٍ، كلَمْسِ اليَدِ ليَعْرِفَ مَرَضَها، ونحوِه، فليس بمكْرُوهٍ بحالٍ؛ لأنَّ ذلك لا يُكْرَهُ في الإِحْرامِ، أشْبَهَ لَمْسَ ثَوْبِها. 1085 - مسألة: (ويَجِبُ عليه اجْتِنابُ الكَذِبِ والغِيبَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّتْمِ، فإن شُتِمَ اسْتُحِبَّ أن يَقُولَ: إنِّى صائِمٌ) يَجِبُ على الصّائِمِ أن يُنَزِّهَ صَوْمَه عن هذه الأشْياءِ. قال أحمدُ: يَنْبَغِى للصّائِمِ أن يَتَعاهَدَ صَوْمَه مِن لِسانِه، ولا يُمارِىَ، ويَصُونَ صومَه، كانُوا إذا صامُوا قَعَدُوا في المَساجِدِ، فقالُوا: نَحْفَظُ صَوْمَنا, ولا نَغْتابُ أحَدًا. ولا يَعْمَلَ عَمَلًا يَجْرَحُ به صَوْمَه. وقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، والعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلّهِ حِاجَةٌ فِى أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». وقال أبو هُرَيْرَةَ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إلَّا الصِّيامَ، فَإنَّهُ لِى وَأنَا أجْزِى بِهِ، الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، للِصَّائِمِ فَرْحَتانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ¬

(¬1) الأول أخرجه البخارى، في: باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، من كتاب الصوم. وفى: باب قول الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 3/ 33، 8/ 21. ولم نجده عند مسلم، انظر: تحفة الأشراف 10/ 307، 308. وعزاه ابن حجر إلى البخارى وأصحاب السنن. تلخيص الحبير 2/ 201. كما أخرجه أبو داود، في: باب الغيبة للصائم، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 551. والترمذى، في: باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 226. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 539. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 452, 453, 505. والثانى تقدم تخريجه في صفحة 387.

1086 - مسألة: (ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وأن يفطر على التمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وأن يقول عند فطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل منى، إنك أنت السميع العليم)

فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَأَنْ يُفْطِرَ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ فِطْرِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ [58 ظ] أَفْطَرْتُ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّى، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1086 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تعجِيلُ الإِفْطارِ وتأخيرُ السَّحورِ، وأن يُفْطِرَ على التَّمْرِ، فإن لم يَجِدْ فعلى الماءِ، وأنَّ يَقُولَ عندَ فِطْرِه: اللَّهُمَّ لك صُمْتُ، وعلى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ، سبحانك وبحَمْدِك، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّى، إنَّك أنت السَّمِيعُ العَلِيمُ) يُسْتَحَبُّ تَعجيلُ الإِفْطارِ. وهو قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ لِما روَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ السّاعِدِىُّ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن أبى عَطِيَّةَ، قال: دَخَلْتُ أنا ومَسْرُوقٌ على عائشةَ، فقالَ مَسْرُوقٌ: رَجُلان مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أحَدُهما يُعَجِّلُ الإِفْطارَ ويُعَجِّلُ المَغْرِبَ، والآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطارَ ويُؤَخِّرُ المَغْرِبَ. قالت: مَن الذى يُعَجِّلُ الإِفْطارَ ويُعَجِّلُ المَغْرِبَ. قال: عبدُ اللهِ (¬2). قالت: هكذا كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه مسلمٌ (¬3). وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقولُ اللهُ تَعَالَى: أحَبُّ عِبَادِى إلَىَّ أسْرَعُهُمْ فِطْرًا». قال ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب تعجيل الإفطار، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 47. ومسلم، في: باب فضل السحور. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 771. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تعجيل الإفطار، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 218. وابن ماجه، في: باب ما جاء في تعجيل الإفطار، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 541. والدارمى، في: باب في تعجيل الإفطار، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 7. والإمام مالك، في: باب ما جاء في تعجيل الفطر، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 288. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 334، 336, 337، 339. (¬2) يعنى ابن مسعود. (¬3) في: باب فضل السحور. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 771، 772. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يستحب من تعجيل الفطر، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 550. والترمذى، في: باب ما جاء في تعجيل الإفطار، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 220. والنسائى، في: باب قدر ما بين السحور وبين صلاة الصبح، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 117، 118. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 48، 173.

1087 - مسألة: (و)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حسنٌ. ويُسْتَحَبُّ أن يُفْطِرَ قبلَ الصلاةِ؛ لِما روَى أنَسٌ، قال: ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى حتى يُفْطِرَ، ولو على شَرْبَةٍ مِن ماءٍ. رَواه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2). 1087 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (تَأْخِيرُ السَّحُورِ) الكَلامُ في السَّحُورِ في أُمُورٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُها، في اسْتِحْبابِه، ولا نَعْلَمُ بينَ العُلماءِ خِلافًا في اسْتِحْبابِه؛ لِما روَى أنَسٌ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن عَمْرِو بنِ العاصِ، قال: قال ¬

(¬1) في: باب ما جاء في تعجيل الإفطار، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 219. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 329. (¬2) انظر. الهيثمى، في: باب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، من كتاب الصيام. مجمع الزوائد 3/ 155. وعزاه لأبى يعلى والبزار والطبرانى في الأوسط. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب بركة السحور من غير إيجاب، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 38. ومسلم، في: باب فضل السحور وتأكيد استحبابه. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 770. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل السحور، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 227. والنسائى، في: باب الحث على السحور، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 115. وابن ماجه، في: باب ما جاء في السحور، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 540. والدارمى، في: باب في فضل السحور، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 6. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 215، 229، 243, 258, 281.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَصْلُ (¬1) مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أهْلِ الْكِتَابِ أكْلَةُ السَّحَرِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وعن أبى سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «السَّحُورُ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أنْ يَجْرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإنَّ اللهَ وَمَلَاِئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). الثانِى، في وَقْتِه. قال أحمدُ: يُعْجِبُنِى تَأْخِيرُ السَّحُورِ؛ لِما روَى زيدُ بنُ ثابتٍ، قال: تَسَحَّرْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قُمْنا إلى الصلاةِ. قُلْتُ: كم كان قَدْرُ ذلك؟ قال: خَمْسِينَ آيةً. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) في م: «فضل». (¬2) في: باب فضل السحور. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 771. كما أخرجه أبو داود، في: باب في توكيد السحور، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 547. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل السحور، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 228. والنسائى، في: باب فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 120. والدارمى، في: باب في فضل السحور، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 6. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 197، 202. (¬3) في: المسند 3/ 12, 44. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، من كتاب الصوم، صحيح البخارى 3/ 37. ومسلم، في: باب فضل السحور. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 771. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تأخير السحور، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 221. والنسائى، في باب قدر ما بين السحور وبين صلاة الصبح، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 117. وابن ماجه، في: باب ما جاء في تأخير السحور، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 540، والدارمى، في: باب ما يستحب من تأخير السحور، من كتاب الصوم. سنن الدارمى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى العِرْباضُ بنُ سارِيَةَ، قال: دعانِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى السَّحُورِ، فقالَ: «هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ». رَواه أبو داودَ (¬1). سَمّاه غَداءً لقُرْبِ وَقْتِه منه. ولأنَّ المَقْصُودَ بالسَّحُورِ التَّقَوِّى على الصومِ، وما كان أقْرَبَ إلى الفَجْرِ كان أعْوَنَ على الصومِ. قال أبو داودَ، قال أبو عبدِ اللهِ: إذا شَكَّ في الفَجْرِ يَأْكُلُ حتى يَسْتَيْقِنَ طُلُوعَه. وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، والأوْزاعِىِّ. قال أحمدُ: يَقُولُ اللهُ تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2). وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَمْنَعْكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أذَانُ بلَالٍ، ولا الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ، ولَكِنِ الفَجْرُ (¬3) المُسْتَطِيرُ في الأُفُقِ» (¬4). حديثٌ حسنٌ. ¬

= 2/ 6. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 182، 185، 186، 188. (¬1) في: باب من سمى السحور الغداء، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 548. كما أخرجه النسائى، في: باب دعوة السحور، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 119. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 126، 127. (¬2) سورة البقرة 187. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في بيان الفجر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى أبو قِلابَةَ قال: قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِىَ اللهُ عنه، وهو يَتَسَحَّرُ: يا غُلامُ، أَجِفْ (¬1)، لا يَفْجَأْنا الصُّبْحُ. وقال رجلٌ لابنِ عباسٍ: إنِّى أتَسَحَّرُ؛ فإذا شَكَكْتُ أمْسَكْتُ. فقالَ ابنُ عباسٍ: كُلْ ما شَكَكْتَ حتى لا تَشُكَّ (¬2). فأمّا الجِماعُ فلا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُه؛ لأَنَّه ليس مِمّا يُتَقَوَّى به، وفيه خَطَرُ وُجُوبِ الكَفّارَةِ، والفِطْرِ به. الثالثُ، فيما يُتَسَحَّرُ به. كلُّ ما حَصَل مِن أكْلٍ أو شُرْبٍ، حَصَل به فَضِيلَةُ السَّحُورِ؛ لقولِه عليه السَّلامُ: «وَلَوْ أنْ يَجْرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ». وروَى أبو داود (¬3) عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ». ¬

(¬1) في النسخ: «أخف». وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 4/ 234 بلفظ: «أجيفوا الباب». وفى المغنى 4/ 434: «أجف الباب». (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من أكل وهو شاك في طلوع الفجر، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 221. وعبد الرزاق، في: باب الطعام والشراب مع الشك، من كتاب الصيام. المصنف 4/ 172. (¬3) في: باب من سمى السحور الغداء، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 548.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فيما يُسْتَحَبُّ أن يُفْطِرَ عليه. يُسْتَحَبُّ أن يُفْطِرَ على رُطَباتٍ، فإن لم يَكُنْ فعلى تَمَراتٍ، فإن لم يَكُنْ فعلى الماءِ؛ لِما روَى أنَسٌ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ على رُطَباتٍ قبلَ أن يُصَلِّىَ، فإن لم يَكُنْ فعلى تَمَراتٍ، فإن لم يَكُنْ تَمَراتٌ حَسَا حَسَواتٍ (¬1) مِن ماءٍ. رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حسنٌ غريبٌ. وعن سَلْمانَ (¬3) بنِ عامِرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أفْطَرَ أحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ (¬4)، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ». أخْرَجَه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬5). ¬

(¬1) أى شرب ثلاث مرات. وقال ابن الأثير: الحسوة، بالضم: الجرعة من الشراب بقدر ما يحسى مرة واحدة. والحسوة بالفتح: المرة. انظر: عون المعبود 2/ 278. (¬2) أخرجه أبو داود, في: باب ما يفطر عليه، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 550. والترمذى، في: باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 214. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 164. (¬3) في م: «سليمان». وهو سلمان بن عامر بن أوس الضبى، سكن البصرة ومات في خلافة معاوية. تهذيب التهذيب 4/ 137. (¬4) في م: «تمرات». (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب ما يفطر عليه، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 550. والترمذى، في: باب ما جاء في الصدقة على ذى القرابة، من أبواب الزكاة. وفى: باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 160، 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: روَى ابنُ عباسٍ، قال: كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أفْطَرَ قال: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا، وَعَلَى رِزْقِكَ أفْطَرْنَا، فَتَقَبَّلْ مِنَّا، إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». وعن ابنِ عُمَرَ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أفْطَرَ قال: «ذهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَوَجَبَ الْأجْرُ إنْ شَاءَ اللهُ». وإسْنادُه حسنٌ. ذَكَرَهما الدّارَقُطْنِىُّ (¬1). فصل: ويُسْتَحَبُّ تَفْطِيرُ الصائِمِ؛ لِما روَى زيدُ بنُ خالِدٍ الجُهَنِىُّ، ¬

= كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء على ما يستحب الفطر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 542. والدارمى، في: باب ما يستحب الإفطار عليه، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 7. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 17 - 19، 213، 214. (¬1) أخرجهما الدارقطنى، في: باب القبلة للصائم، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 185. كما أخرج الثانى أبو داود، في: باب القول عند الإفطار، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 550. وسند الأول ضعيف كما في التلخيص 2/ 202، إرواء الغليل 4/ 36.

1088 - مسألة: (يستحب التتابع فى قضاء رمضان، ولا يجب)

وَيُسْتَحَبُّ التَّتَابُعُ فِى قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلَا يَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، [كَانَ لَهُ] (¬1) مِثْلُ أجْرِه، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجْرِ الصَّائِمِ شىْءٌ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. 1088 - مسألة: (يُسْتَحَبُّ التَّتابُعُ في قَضاءِ رمضانَ، ولا يَجبُ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في اسْتِحْبابِ التَّتابُع في قَضاءِ رمضانَ, لأنَّه أشْبَهُ بالَأداءِ، وفيه خُرُوجٌ مِن الخِلافِ، ولا يَجِبُ. هذا قولُ ابنِ عباسٍ، وأنَسِ ابنِ مالكٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وأبى قِلابَةَ، ومُجاهِدٍ، وأهلِ المدينةِ، ¬

(¬1) في م: «فله». (¬2) في: باب ما جاء في فضل من فطر صائما، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 20. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في ثواب من فطر صائما، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 555. والدارمى، في: باب الفضل لمن فطر صائما، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 7. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 114 - 116، 5/ 192.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٍ، وأبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، والشَّافِعِىِّ، وإسحاقَ، وغيرِهم (¬1). وحُكِىَ وُجُوبُ التَّتابُعِ عن علىٍّ، وابنِ عُمَرَ، والنَّخَعِىِّ، والشَّعْبِىِّ. وقال داودُ: يَجِبُ، ولا يُشْتَرَطُ؛ لِما روَى ابنُ المُنْذِرِ بإسْنادِه، عن أبى هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ، فَلْيَسْرُدْهُ، وَلَا يَقْطَعْهُ» (¬2). ولَنا، قَوْلُه (¬3) تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬4). غيرُ مُقَيَّدٍ بالتَّتابُعِ. فإن قِيلَ: فقد رُوِىَ عن عائشةَ، أنَّها قالت: نَزَلَتْ: (فَعِدَّةٌ منْ أيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ). فسَقَطَت «مُتَتَابِعاتٍ» (¬5). قُلْنا: هذا لم تَثْبُتْ عندَنا صِحَّتُه، ولو صَحَّ فقد سَقَطَتِ اللَّفْظَةُ المُحْتَجُّ بها. وأيضًا قولُ الصحابةِ، قال ابنُ عُمَرَ: إن سافَرَ؛ إن شاء فَرَّقَ، وإن شاء تابَعَ. ورُوِىَ مَرْفُوعًا (¬6). وقال أبو عُبَيْدَةَ (¬7)، في ¬

(¬1) في م: «وغيرهما». (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب القبلة للصائم. من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 191، 192. والبيهقى، في: باب قضاء شهر رمضان. . . .، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 259. (¬3) في م: «لقوله». (¬4) سورة البقرة 185. (¬5) أخرجه الدارقطنى، في: باب القبلة للصائم، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 192. والبيهقى، في: باب قضاء شهر رمضان، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 258. وانظر تفسير القرطبى 2/ 281. (¬6) أخرجه الدارقطنى، في: الباب السابق. سنن الدارقطنى 2/ 193. (¬7) أى: ابن الجراح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَضاءِ رمضانَ: اللهُ لم يُرَخِّصْ لكم في فِطْرِه، وهو يُرِيدُ أن يَشُقَّ عليكم في قَضائِه (¬1). وعن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، أنَّه قال: بَلَغَنِى أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن تَقْطِيعِ قَضاءِ رمضانَ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَ عَلَى أحَدِكُمْ دَيْنٌ فقَضَاهُ مِنَ الدِّرْهَمِ و (¬2) الدِّرْهَمَيْن، حَتَّى يَقْضِىَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ قَاضِيًا دَيْنَهُ؟» قالُوا: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: «فاللهُ أحَقُّ بِالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُزِ مِنْكُمْ». رَواه الأثْرَمُ (¬3). ولأنَّه صومٌ لا يَتَعَلَّقُ بزَمانٍ بعَيْنِه، فلم يَجِبْ فيه التَّتابُعُ، كالنَّذْرِ المُطْلَقِ، وخَبَرُهم لم تَثْبُتْ صِحَّتُه، ولم يَذْكُرْه أَصحابُ السُّنَنِ، ولو صَحَّ حَمَلْناه على الاسْتِحْبابِ؛ جَمْعًا بَيْنَه وبينَ ما ذَكَرْناه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب قضاء شهر رمضان. . . . إلخ، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 258. (¬2) في م: «أو». (¬3) أخرجه الدارقطنى في: باب القبلة للصائم، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 194. والبيهقى، في: باب قضاء شهر رمضان. . . . إلخ، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 259.

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (ولا يَجُوزُ تَأْخِيرُ قَضاءِ رمضانَ إلى رمضانَ آخَرَ مِن غيرِ عُذْرٍ) وجُمْلَتُه أنَّ مَن عليه صومٌ مِن رمضانَ، فله تَأْخِيرُه ما لم يَدْخُلْ رمضانُ آخَرُ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، قالت: كان يكونُ علىَّ الصيامُ مِن شهرِ رمضانَ، فما أقْضِيه حتى يَجِئَ شعبانُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولا يجوزُ تَأْخِيرُه إلى رمضانَ آخَرَ مِن غيرِ عُذْرٍ؛ لأنَّ عائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب متى يقضى قضاء رمضان، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 45. ومسلم، في: باب قضاء رمضان في شعبان، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 802، 803. كما أخرجه أبو داود، في: باب تأخير قضاء رمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 559. والنسائى، في: باب وضع الصيام عن الحائض، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 162. وابن ماجه، في: باب ما جاء في قضاء رمضان، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 533. والإمام مالك، في: باب جامع قضاء الصيام، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 308. كما أخرجه بنحوه الترمذى، في: باب ما جاء في تأخير قضاء رمضان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 310. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 124، 131، 179.

1089 - مسألة: (فإن فعل، فعليه القضاء، وإطعام مسكين لكل يوم)

فَإِنْ فَعَلَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تُؤَخِّرْه إلى ذلك، ولو أمْكَنَها لأَخَّرَتْه، ولأنَّ الصومَ عِبادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فلم يَجُزْ [تَأْخِيرُ الأُولَى] (¬1) عن الثانيةِ، كالصَّلواتِ (¬2) المَفْرُوضَةِ. 1089 - مسألة: (فإن فَعَل، فعليه القضاءُ، وإطْعامُ مِسْكِينٍ لكلِّ يَوْمٍ) إذا أخَّرَ قَضاءَ رمضانَ حتى أدْرَكَه رمضانُ آخَرُ لعُذْرٍ، فليس عليه إلَّا القَضاءُ؛ لعُمومِ الآيَةِ. وإن كان لغيرِ عُذْرٍ، فعليه مع القَضاءِ إطعامُ مِسْكِينٍ لكلِّ يَوْمٍ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وأبى هُرَيْرَةَ، ومجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. وقال الحسنُ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّه صومٌ واحبٌ، فلم يَجِبْ عليه في تَأْخِيرِه كَفّارَةٌ، كالأداءِ والنَّذْرِ. ولنا، أنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابةِ، ولم يُرْوَ عن غيرِهم خلافُهم. ورُوِىَ مُسْنَدًا مِن طريقٍ ضَعِيفٍ (¬3)، ولأنَّ تَأْخِيرَ صومِ رمضانَ عن وَقْتِه إذا لم يُوجِبِ القَضاءَ أوْجَبَ الفِدْيَةَ، كالشَّيْخِ الكَبِيرِ. فصل: فإن أخَّرَه لعُذْرٍ حتى أدْرَكَه رَمضانان أو أكْثَرُ، لم يَكُنْ عليه ¬

(¬1) في م: «تأخيره». (¬2) في م: «كالصلاة». (¬3) انظر ما يأتى في صفحة 502 من حديث ابن عمر.

1090 - مسألة: (وإن أخره لعذر فلا شئ عليه، وإن مات)

وَإِنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثرُ مِن فِدْيَةٍ مع القَضاءِ؛ لأنَّ كَثْرَةَ التَّأْخِيرِ لا يَزْدادُ بها الواجِبُ، كما لو أخَّرَ الحَجَّ الواجِبَ سِنِينَ، لم يَكُنْ عليه أكثرُ مِن فِعْلِه. 1090 - مسألة: (وإن أخَّرَه لعُذْرٍ فلا شئَ عليه، وإن مات) مَن مات وعليه صِيامٌ مِن رمضانَ قبلَ إمْكانِ الصِّيامِ، إمّا لضِيقِ الوَقْتِ، أو لعُذْرٍ مِن مَرَضٍ، أو سَفَرٍ، أو عَجْزٍ عن الصومِ، فلا شئَ عليه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن طاوُسٍ، وقَتادَةَ أَنَّهما قالا: يَجِبُ الإِطْعامُ عنه؛ لأنَّه صومٌ واجِبٌ سَقَط بالعَجْزِ عنه، فوَجَبَ الإِطْعامُ عنه، كالشَّيْخِ الهِمِّ (1) إذا تركَ الصيامَ لعَجْزِه عنه. ولَنا، أنَّه حَقٌّ للهِ تعالى وَجَب بالشَّرْعِ، مات مَن يَجِبُ عليه قبلَ إمْكانِ فِعْلِه، فسَقَطَ إلى غيرِ بَدَلٍ، كالحَجِّ، ويُفارِقُ الشَّيْخَ الهِمَّ (¬1)؛ فإنَّهُ يَجُوزُ ابْتِداءُ الوُجُوبِ عليه، بخِلافِ المَيِّتِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الهرم».

1091 - مسألة: (وإن أخره لغير عذر، فمات قبل أن أدركه رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكين. ومن مات بعد أن أدركه رمضان آخر، فهل يطعم عنه لكل يوم مسكين أو اثنان؟ على وجهين)

وَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَمَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ آخَرَ، أُطْعِمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمِ مِسْكِينٌ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، فَهَلْ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ أَوِ اثْنَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1091 - مسألة: (وإن أخَّرَه لغيرِ عُذْرٍ، فمات قبلَ أن أدْرَكَه رمضانُ آخَرُ، أُطْعِمَ عنه لكلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ. ومَن مات بعدَ أن أدْرَكَه رمضانُ آخَرُ، فهل يُطْعَمُ عنه لكلِّ يومٍ مِسْكينٌ أو اثْنان؟ على وَجْهَيْن) إذا أخَّرَ قَضاءَ رمضانَ مع إمْكانِ القَضاءِ، فمات، أُطْعِمَ عنه لكلِّ يومٍ مسكينٌ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. رُوِىَ ذلك عن عائشةَ، وابنِ عباسٍ. وبه قال مالكٌ، واللَّيْثُ، والَأوْزاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وابنُ عُلَيَّةَ، وأبو عُبَيْدٍ، في الصَّحِيحِ عنهم. وقال أبو ثَوْرٍ: يُصامُ عنه. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ نحْوَه (¬2). ولَنا، ما روَى ابنُ ماجه، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من مات وعليه صوم، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 46. ومسلم، في: باب قضاء الصيام عن الميت، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 803. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من مات وعليه صيام، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 559. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 69. (¬2) حديث ابن عباس أخرجه البخارى في الموضع السابق. ومسلم، في: الباب السابق. صحيح مسلم 2/ 804.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» (¬1). رَواه التِّرْمِذِىُّ، وقال: الصَّحِيحُ عن ابنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ. وعن عائشةَ أيضًا، قالت: يُطْعَمُ عنه في قَضاءِ رمضانَ، ولا يُصامُ (¬2). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه سُئِل عن رجلٍ مات وعليه نَذْرٌ يَصُومُ شَهْرًا، وعليه صومُ رمضانَ؟ قال: أمّا رمضانُ فيُطْعَمُ عنه، وأمّا النَّذْرُ فيُصامُ عنه (¬3). رَواه الأثْرَمُ في السُّنَنِ. ولأنَّ الصومَ لا تَدْخُلُه النِّيابَةُ حالَ الحَياةِ، فكذلك بعدَ الوَفاةِ، كالصلاةِ. فأمّا حَدِيثُهم فهو في النَّذْرِ؛ لأنَّه قد جاء مُصَرَّحًا به في بعضِ الألْفاظِ، كذلك رَواه البخارىُّ، عن ابنِ عباسٍ (¬4)، قال: ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الكفارة، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 241. وابن ماجه، في: باب من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 558. (¬2) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر 10/ 172. (¬3) أخرجه بمعناه أبو داود، في: باب في من مات وعليه صوم، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 560. وأخرجه البيهقى، في: باب من قال إذا فرط في القضاء بعد الإمكان. . . . إلخ، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 254 (¬4) انظر تخريجه المتقدم قريبًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالَتِ امرأةٌ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّى ماتَتْ وعليها صومُ نَذْرٍ، أفأقْضِيه عنها؟ قال: «أرَأيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أكَانَ يُؤَدِّى ذَلِكَ عَنْهَا؟» قالت: نعم. قال: «فَصُومِى عَنْ أُمِّكِ». وقالت عائشةُ، وابنُ عباسٍ كقَوْلِنا، وهما راوِيا حَدِيثِهم، فدَلَّ على ما ذَكَرْنا. فصل: فإن مات المُفَرِّطُ بعدَ أن أدْرَكَه رمضانُ آخَرُ، لم يَجِبْ عليه أكْثَرُ مِن إطْعامِ مِسْكِينٍ لكلِّ يَوْمٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، فيما رَواه عنه أبو داودَ، أنَّ رجلاً سَألَه عن امرأةٍ أفْطَرَتْ رمضانَ، ثم أدْرَكَها رمضانُ آخَرُ، ثم ماتَتْ؟ قال: يُطْعَمُ عنها. قال له السّائِلُ: كم أُطْعِمُ؟ قال: كم أفْطَرَتْ؟ قال: ثَلاثِين يَوْمًا. قال: اجْمَعْ ثلاثِين مِسْكِينًا، وأطْعِمْهم مَرَّةً واحِدَةً، وأشْبِعْهم. قال: ما أطْعِمُهم؟ قال: خُبْزًا ولَحْمًا إن قَدَرْتَ مِن أوْسَطِ طَعامِكم. وذلك لأنَّه بإخْراجِ كَفَّارَةٍ واحِدَةٍ، زال تَفْرِيطُه بالتَّأْخِيرِ، فصار كما لو مات مِن غيرِ تَفْرِيطٍ. وقال أبو الخَطّابِ: يُطْعَمُ عنه لكلِّ يومٍ مِسْكِينان؛ لأنَّ المَوْتَ بعدَ التَّفْرِيطِ بدُونِ التَّأْخِيرِ عن رمَضانَ آخَرَ يُوجِبُ كَفّارَةً، والتَّأْخِيرُ بدُونِ المَوْتِ يُوجِبُ كَفّارَةً، فإذا اجْتَمَعَا وَجَب كَفَّارَتان، كما لو فَرَّطَ في يَوْمَيْن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في جَوازِ التَّطَوُّعِ بالصومِ مِمَّن عليه صومُ فَرْضٍ؛ فنَقَلَ عنه حَنْبَلٌ، أنَّه لا يَجُوزُ، بل يَبْدَأُ بالفَرْضِ حتى يَقْضِيَه؛ إن كان عليه نَذْرٌ صامَه، يَعْنِى بعد الفَرْضِ. وروَى حَنْبَلٌ، [عن أحمدَ] (¬1)، بإسْنادِه، عن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا، وعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَىْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ». ولأنَّه عِبادَةٌ يَدْخُلُ في جُبْرانِها المالُ، فلم يَصِحَّ التَّطَوُّعُ قبلَ أَداءِ فَرْضِها، كالحَجِّ. ورُوِىَ عنه، أنَّه يَجُوزُ له التَّطَوُّعُ؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَتَعَلَّقُ بوَقْتٍ مُوَسَّعٍ، فجاز التَّطَوُّعُ في وَقْتِها قبلَ فِعْلِها، كالصلاةِ يُتَطَوَّعُ في وَقْتِها قبلَ فِعْلِها، وعليه يُخَرَّجُ الحَجُّ. ولأنَّ التَّطَوُّعَ بالحَجِّ يَمْنَعُ فِعْلَ واجِبِه المُتَعَيَّنِ، فأشْبَهَ صومَ التَّطَوُّعِ في رمضانَ، على أنَّ لنا في الحَجِّ مَنْعًا. والحَدِيثُ يَرْوِيه ابنُ لَهيعَةَ، وهو ضَعِيفٌ، وفى سِياقِه ما هو مَتْرُوكٌ، فإنَّه قال في آخِرِه: «وَمَنْ أدْرَكَهُ رَمَضَانُ، وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَىْءٌ، لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ». ويُخَرَّجُ في التَّطَوُّعِ بالصلاةِ في حَقِّ مَن عليه القَضاءُ مثلُ ما ذَكَرْنا في الصومِ، بل عَدَمُ الصِّحَّةِ في الصلاةِ أوْلَى؛ لأنَّها تَجِبُ على الفَوْرِ، بخِلافِ الصومَ. ¬

(¬1) زيادة من المغنى 4/ 402. والحديث في المسند 2/ 352.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في كَراهِيَةِ القَضاءِ في عَشْرِ ذى الحِجَّةِ، فرُوِىَ أنَّه لا يُكْرَهُ. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والشافعىِّ، وإسحاقَ؛ لِما رُوِىَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه كان يَسْتَحِبُّ قَضاءَ رمضانَ في العَشْرِ، ولأنَّه أيَّامُ عِبادَةٍ، فلم يُكْرَهِ القَضاءُ فيه، كعَشْرِ المُحَرَّم. والثانيةُ، يُكْرَهُ. رُوِىَ ذلك عن الحَسَنِ، والزُّهْرِىِّ؛ لأنَّه يُرْوَى عَن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه كَرِهَه. ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ أيَامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذِهِ الْأيَّامِ». يَعْنِى أيّامَ العَشْرِ. قالُوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلاً خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَىْءٍ» (¬1). فاسْتُحِبَّ إخْلاؤُها للتَّطَوُّعِ لينالَ (2) فَضِيلَتَها، ويَجْعَلُ القَضاءَ في غيرِها. وقالْ بعضُ أصحابِنا: هاتان الرِّوايَتان مَبْنِيَّتان على الرِّوايَتَيْن في إباحَةِ التَّطَوُّعِ قبلَ صومِ الفَرْضِ وتَحْرِيمِه، فمنَ أباحَه كَرِه القَضاءَ فيها؛ لتَوْفِيرِها على التَّطَوُّعِ لينالَ (¬2) فَضْلَه فيها مع فَضْلِ القَضاءِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 515. (¬2) في الأصل: «لبيان».

1092 - مسألة: (ومن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف، فعله عنه وليه. وإن كانت صلاة منذورة، فعلى روايتين)

وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أوْ حَجٌّ أَوِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، فَعَلَهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مَنْذُورَةٌ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَن حَرَّمَه لم يَكْرَهْه، بل اسْتَحَبَّ فِعْلَه فيها, لِئَلَّا تَخْلُوَ مِنِ العِبادَةِ بالكُلِّيَّةِ. قال شَيْخُنا (¬1): ويَقْوَى عندِى أنَّ هاتَيْن الرِّوايَتَيْن فرْعٌ على إباحَةِ التَّطَوُّعِ قبلَ القَضاءِ، أمّا على رِوايَةِ التَّحْرِيمِ، فيَكُونُ صَوْمُها تَطَوُّعًا قبلَ الفَرْضِ مُحَرَّمًا، وذلك أبْلَغُ مِن الكَراهَةِ. واللهُ أعلمُ. 1092 - مسألة: (ومَن مات وعليه صومٌ مَنْذُورٌ أو حَجٌّ أو اعْتِكافٌ، فَعَلَه عنه وَلِيُّه. وإن كانت صلاةً مَنْذُورَةً، فعلى رِوَايَتَيْن) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن مات وعليه صومُ نَذْرٍ، ففَعَلَه عنه وَلِيُّه، أجْزَأ عنه. ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 403.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، واللَّيْثِ، وأبى عُبَيْدٍ، وأبى ثَوْرٍ. وقال مالكٌ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ عُلَيَّةَ: يُطْعِمُ عنه؛ لِما ذَكَرْنا في صومِ رمضانَ. ولَنا، الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ التى رَوَيْناها مِن قبلِ هذا، وسُنَّةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ بالاتِّباعِ، وفيها غِنًى عن كلِّ قولٍ، والفَرْقُ بينَ النَّذْرِ وغيرِه أنَّ النِّيابَةَ تَدْخُلُ العِبادَةَ بحَسَبِ خِفَّتِها، والنَّذْرُ أخَفُّ حُكْمًا لكَوْنِه لم يَجِبْ بأصْلِ الشَّرْعِ، وإنَّما أَوْجَبَه الناذِرُ على نَفْسِه. فصل: ولا يَجِبُ على الوَلِىِّ فِعْلُه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - شَبَّهَه بالدَّيْنِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجِبُ على الوَلِىِّ قَضاءُ دَيْنِ المَيِّتِ إذا لم يُخَلِّفْ تَرِكَةً، كذلك هذا، لكنْ يُسْتَحَبُّ له أن يَصُومَ عنه لتَفْرِيغِ ذِمَّتِه، وكذلك يُسْتَحَبُّ له قَضاءُ الدَّيْنِ عنه، ولا يَخْتَصُّ ذلك بالوَلِىِّ، بل كلُّ مَن قَضَى (¬1) عنه وصام عنه ¬

(¬1) في م: «قضاه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْزَأ؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ. فأمّا الاعْتِكافُ فلا يَجِبُ إلَّا بالنَّذْرِ، فمَن مات وعليه اعْتِكافٌ واجِبٌ، فقَضاه وَلِيُّه، أجْزَأ، قِياسًا على الصومِ، ولأنَّ الكَفّارَةَ تَجِبُ بتَرْكِه في الجُمْلَةِ. أشْبَهَ الصومَ. وأمّا الحَجُّ فتَجُوزُ النِّيابَةُ فيه عندَ العَجزِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، وأن يَفْعَلَه عنه غيرُه في حالِ الحَياةِ، فبعدَ المَوْتِ أوْلَى، ولا فَرْقَ في الحَجِّ بينَ النَّذْرِ وحَجَّةِ الإِسْلامِ؛ لحديثِ الخَثْعَمِيَّةِ (¬1) الذى يُذْكَرُ في الحَجِّ، إن شاء اللهُ تعالَى، وغيرِه مِن الأحادِيثِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفى الصلاةِ المَنْذُورَةِ رِوايَتان؛ إحداهُما، حُكْمُها حُكْمُ الصومِ فيما ذَكَرْنا قِياسًا عليه. والثّانِيَةُ، لا يُجْزئُ عنه فِعْلُ الوَلِىِّ؛ لأنَّها عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ لا يَدْخُلُ المالُ في جُبْرانِها بحالٍ، فلا يَصِحُّ قِياسُها على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصومِ. فعلى هذا يُكَفِّرُ عنه كَفّارَةَ يَمِينٍ، لتَرْكِه النَّذْرَ واللهُ تعالى أعلمُ. وسوف نَذْكُرُه في النَّذْرِ بأبْسَطَ مِن هذا، إن شاء اللهُ تعالى.

باب صوم التطوع

بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَأَفْضَلُهُ صِيَامُ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ 1093 - مسألة: (وأفْضَلُه صِيامُ داودَ، عليه السَّلامُ، كان يَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمًا) لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال له: «صُمْ يَوْمًا، وَأفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ». فقُلْتُ: إنِّى أُطِيقُ أفْضَلَ مِن ذلك، فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب صوم الدهر، وباب حق الأهل في الصوم، وباب صوم داود عليه السلام، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 52، 53. ومسلم، في: باب النهى عن صوم الدهر. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 812 - 818. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم الدهر تطوعا، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 565، 566. والنسائى، في: باب صوم النبى - صلى الله عليه وسلم -. . . .، وباب صوم عشرة أيام من الشهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 183. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام الدهر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 544. والإِمام أحمد, في: المسند 2/ 158، 160، 164، 189، 190, 195, 198 - 201, 205, 212, 225.

1094 - مسألة: (ويستحب صيام أيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس)

وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَوْمُ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1094 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ صِيامُ أيّامِ البِيضِ مِن كلِّ شَهْرٍ، وصومُ الاثْنَيْنِ والخَمِيسِ) صِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، بدَلِيلِ ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أوْصَانِى خَلِيلِى بثَلاثٍ؛ صِيامِ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، ورَكْعَتَىِ الضُّحَى، وأن أُوتِرَ قبلَ أن أنامَ. وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، فَإنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ويُسْتَحَبُّ أنْ يَجْعَلَ هذه الثَّلاثَةَ أيّامَ [البِيضِ، وهى] (¬2) ثلاثَ عَشْرَةَ، وأرْبَعَ عَشْرَةَ، وخَمْسَ عَشْرَةَ؛ لِما روَى أبو ذَرٍّ، قال: قال ¬

(¬1) الأول تقدم تخريجه في 4/ 205. والثانى تقدم تخريجه قبل قليل، من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) في م: «والبيض هى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةً، فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وأَربَعَ عَشْرَةَ، وخَمْسَ عَشْرَةَ» (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. وروَى النَّسائِىُّ (¬2)، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأعْرابِىٍّ: «كُلْ». قال: إنِّى صائِمٌ. قال: «صَوْمُ مَاذا؟». قال: صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّام مِن الشَّهْرِ. قال: «إنْ كُنْتَ صَائِمًا فعَلَيْكَ بِالغُرِّ الْبِيضِ، ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأرْبَعَ عَشْرَةَ، وخَمْسَ عَشْرَةَ». وعن مِلْحانَ القَيْسِىِّ، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنا أن نَصُومَ البِيضَ؛ ثلاثَ عَشْرَةَ، وأرْبَعَ عَشْرَةَ، وخمْسَ عَشْرَةَ، وقال: «هُوَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ». أخْرجه أبو داودَ (¬3). وسُمِّيَتْ أيّامَ البِيضِ لابْيِضاضِ لَيْلِها، والتَّقْدِيرُ: أيّامَ اللَّيالِى البِيضِ. وذَكَر أبو الحسنِ التَّمِيمِىُّ أنَّ اللهَ سُبْحَانَه تاب على آدمَ فيها، وبَيَّضَ صحِيفَتَه. ورَوى أسامَةُ ابنُ زَيْدٍ أنَّ نبىَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَصُومُ يومَ الاثْنَيْنِ والخَمِيسِ، فسُئِلَ عن ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 292. والنسائى، في: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 192. والإِمام أحمد، في: المسند 5/ 162. (¬2) في: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 192. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 2/ 336، 346. (¬3) في: باب في صوم الثلاث من كل شهر، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 570. كما أخرجه النسائى، في: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 194. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 544, 545.

1095 - مسألة: (ومن صام رمضان، وأتبعه بست من شوال، فكأنما صام الدهر)

وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ، [59 و] وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، فقالَ: «إنَّ أعْمَالَ النَّاسِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ». رَواه أبو داودَ (¬1)، وفى لَفْظٍ: «فَأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ». 1095 - مسألة: (ومَن صام رمضانَ، وأتْبَعَه بسِتٍّ مِن شَوّالٍ، فكَأنَّما صام الدَّهْرَ) صَوْمُ سِتَّةِ أَيّامٍ مِن شَوّالٍ مُسْتَحَبٌّ، عندَ كَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، رُوِىَ عن كَعْبِ الأحْبارِ (¬2)، والشَّعْبِىِّ، ومَيْمُونِ بنِ مِهْران، والشافِعِىِّ. وكَرِهَه مالكٌ، وقال: ما رَأَيْتُ أحَدًا مِن أَهْلِ الفِقْهِ يَصُومُها، ولم يَبْلُغْنى ذلك عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ، وإنَّ أهْلَ العِلْمِ يَكْرَهُون ذلك، ويخافُون بِدْعَتَه، وأن يُلْحَقَ برمضانَ ما ليس منه. ولَنا، ما روَى ¬

(¬1) في: باب في صوم الاثنين والخميس، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 568. كما رواه الإمام أحمد، في: 5/ 200، 205، 206، 208، 209. (¬2) هو كعب بن ماتع الحميرى اليمانى، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وقدم المدينة في أيام عمر، وسكن الشام في آخر عمره وكان يغزو مع الصحابة، وتوفى في طريقه للغزو في أواخر خلافة عثمان. سير أعلام النبلاء 3/ 489 - 494.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو أيُّوبَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ». رواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. قال أحمدُ: هو مِن ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَجْرِى مَجْرَى التَّقْدِيمِ لرمضانَ؛ لأنَّ يَوْمَ العِيدِ فاصِلٌ. وروَى سعيدٌ بإسْنادِه عن ثَوْبانَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، شَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصَامَ سِتَّةَ أيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ، وَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ» (¬2). يَعْنِي أنَّ الحَسَنَةَ بعَشْرِ أمْثالِها، فالشَّهْرُ بعَشَرَةٍ، والسِّتَّةُ بسِتِّينَ يَوْمًا. فذلك سَنَةٌ كامِلَةٌ. فإن قِيلَ: فالحَدِيثُ لا يَدُلُّ على فَضِيلَتِها؛ لأَنَّه شَبَّهَ صِيامَها بصِيامِ الدَّهْرِ، وهو مَكْرُوهٌ. قُلْنا: إنَّما كُرِهَ صَوْمُ الدَّهْرِ؛ لِما فيه مِن الضَّعْفِ، والتَّشَبُّهِ بالتَّبَتُّلِ، لولا ذلك لكانَ فَضْلًا عَظِيمًا؛ لاسْتِغْراقِه الزَّمانَ بالعبادَةِ والطَّاعَةِ، والمرادُ بالخَبَرِ التَّشْبِيهُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في صوم ستة أيام من شوال، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 567. والترمذي، في: باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 290. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب صوم ستة أيام من شوال، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 822. وابن ماجه، في: باب صيام ستة أيام من شوال، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 547. والدارمى، في: باب صيام الستة من شوال، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 21. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 417، 419. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب صيام ستة أيام من شوال، من كتاب الصوم. سنن ابن ماجه 1/ 547. والدارمى، في: باب صيام الستة من شوال، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 21.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به في حُصولِ العِبادَةِ به على وَجْهٍ لا مَشَقَّةَ فيه، كما قال عليه السَّلامُ: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ» (¬1). مع أنَّ ذلك لا يُكْرَهُ، بل يُسْتَحَبُّ بغيرِ خِلافٍ. وكذلك نَهَى عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْروٍ عن قِراءَةِ القُرْآنِ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ. وقال: «مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَكَأنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» (¬2). أرادَ التَّشْبِيهَ بثُلُثِ القُرْآنِ في الفَضْلِ، لا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 292. والنسائى، في: باب صوم ثلاثة أيام من الشهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 188. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 544. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، من كتاب المسافرين. صحيح مسلم 1/ 556. وأبو داود، في: باب في سورة الصمد، من كتاب الوتر. سنن أبي داود 1/ 337. والترمذي، في: باب ما جاء في سورة الإخلاص، من أبواب ثواب القرآن. عارضة الأحوذى 11/ 24 - 26. والنسائى، في: باب الفضل في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، من كتاب الافتتاح. المجتبى 2/ 133. وابن ماجه، في: باب ثواب القرآن، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1244، 1245. والدارمى، في: باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدارمى 2/ 459، 460. والإمام مالك، في: باب ما جاء في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. . . .، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 208، 209. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 173، 3/ 8، 23، 4/ 122، 5/ 141، 418، 6/ 404، 447.

1096 - مسألة: (وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين. ولا يستحب لمن كان بعرفة)

وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِعَرَفَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في كَراهَةِ الزِّيادَةِ عليه. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ كَوْنِها مُتَتابِعَةً أو مُتَفَرِّقَةً، في أَوَّلِ الشَّهْرِ أو في آخِرِه؛ لأنَّ الحَدِيثَ وَرَد مُطْلَقًا مِن غيرِ تَقْيِيدٍ، ولأنَّ فَضِيلَتَها لكَوْنِها تَصِيرُ مع الشَّهْرِ عُشْرَ السَّنَةِ، والحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثالِها، فيكونُ كَأنَّه صام السَّنَةَ كُلَّها، فإِذا وُجِد ذلك في كُلِّ سَنَةٍ صار كصيامِ الدَّهْرِ كُلِّه. وهذا المَعْنَى يَحْصُلُ مع التَّفْرِيقِ. واللهُ أَعْلَمُ. 1096 - مسألة: (وصِيامُ يَوْمِ عاشُوراءَ كَفّارَةُ سَنَةٍ، ويَوْمِ عَرَفَةَ كَفّارَةُ سَنَتَيْن. ولا يُسْتَحَبُّ لمَن كان بعَرَفَةَ) صِيامُ هذَيْن اليَوْمَيْن مُسْتَحَبٌّ؛ لِما روَى أبو قَتادَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال في صِيامِ عَرَفَةَ: «إنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب استحباب صيام ثلاثة أيام. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 819. وأبو داود، في: باب في صوم الدهر تطوعا، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 565. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل صوم يوم عرفة، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 282. وابن ماجه، في: باب صيام يوم عرفة، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 551. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 295، 304، 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في صِيامِ عاشُوراءَ: «إنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). فصل: يَوْمُ عاشُوراءَ هو اليَوْمُ العاشِرُ مِن المُحَرَّمِ. هذا قولُ سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: أمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بصَوْمِ يومِ عاشُوراءَ، العاشِرِ مِن المُحَرَّمِ. أخْرَجَه التِّرْمِذِىُّ (¬2). وقال: حسنٌ صحيحٌ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أَنَّه قال: التّاسِعُ. ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَصُومُ التّاسِعَ. أخْرَجَه مسلمٌ بمَعْناه (¬3). وروَى عنه عَطاءٌ، أنَّه قال: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ (¬4). فعلى هذا يُسْتَحَبُّ صومُ التَّاسِعِ والعاشِرِ، نَصَّ عليه أحمدُ، وهو قولُ إسحاقَ. قال أحمدُ: فإنِ اشْتَبَهَ عليه أوَّلُ الشَّهْرِ صام ثَلاثَةَ أيَّامٍ. وإنَّما يَفْعَلُ ذلك ليَحْصُلَ له التّاسِعُ والعاشِرُ يَقِينًا. فصل: واخْتُلِفَ في صَوْمِ عاشُوراءَ، هل كان واجِبًا؟ فذَهَبَ القاضى إلى أنَّه لم يَكُنْ واجِبًا، وقال: هذا قِياسُ المَذْهَبِ، واسْتَدَلَّ بأمْرَيْن؛ ¬

(¬1) في: باب استحباب صيام ثلاثة أيام. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 819. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم الدهر تطوعا، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 565. والترمذي، في: باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 284. (¬2) في: باب ما جاء عاشوراء أي يوم هو، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 286. (¬3) في: باب أي يوم يصام في عاشوراء، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 797. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. المصنف 4/ 287. وعنه البيهقى في سننه 4/ 287.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، أمَر مَن لم يَأْكُلْ بالصومِ. والنِّيَّةُ في اللَّيْلِ شَرْطٌ في الواجِبِ. والثانى، أنَّه لم يأْمُرْ مَن أكَل بالقَضاءِ، ويَشْهَدُ لهذا ما روَى مُعاوِيَةُ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ هذَا يَوْمُ عاشُوراءَ، لم يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيامَهُ، فَمَنْ شاءَ فَلْيَصُمْ، ومَنْ شاءَ فلْيُفْطِرْ» (¬1). وهو حديثٌ صحَيحٌ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه كان مَفْرُوضًا؛ لِما رَوَتْ عائِشَةُ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صامَه، وأَمَر بصِيامِه، فلمّا افْتُرِضَ رمضانُ كان هو الفَرِيضَةَ، وتَرَك عاشُوراءَ، فمَن شاء صامَه، ومَن شاء تَرَكَه (¬2). حديثٌ صحيحٌ. وحَدِيثُ مُعاوِيةَ مَحْمُولٌ على أنَّه أرادَ، ليس هو مكْتُوبًا عليكم الآنَ. وأمَّا تَصْحِيحُه بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، وتَرْكُ الأمْرِ بقَضائِه، فيَحْتَمِلُ أن يَقُولَ: مَن لم يُدْرِكِ اليومَ بكَمالِه لم يَلْزَمْه قَضاؤُه. كما قُلْنا في مَن أَسْلَمَ وبَلَغ في أثْناءِ يومٍ من رمضانَ. على أنَّه قد روَى ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 57. ومسلم، في: باب صوم يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 795. والإمام مالك، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 299. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 95. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب وجوب صوم رمضان، وباب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصوم. وفي: باب أيام الجاهلية، من كتاب المناقب. وفي: باب سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخاري 3/ 31، 57، 5/ 51، 6/ 29. ومسلم، في: باب صوم يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 792، 793. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في ترك صوم يوم عاشوراء من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 285. والإمام مالك، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 299. والدارمى، في: باب في صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصوم سنن الدارمى 2/ 23. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 30، 50، 162، 244، 248.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1)، أنَّ أَسْلَمَ (¬2) أتَتِ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هذَا؟»، قالُوا: لا. قال: «فَأتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ». فصل: فأمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ، فهو اليَوْمُ التّاسِعُ مِن ذى الحِجَّةِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. سُمِّىَ بذلك؛ لأنَّ الوُقُوفَ بعَرَفَةَ فيه. وقيل: سُمِّىَ بذلك؛ لأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أُرِىَ في المَنامِ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ أَنَّه يُؤْمَرُ بذَبْحِ ابْنِه، فأصْبَحَ يَوْمَه يَتَرَوَّى، هل هذا مِن اللهِ أو حُلْمٌ. فسُمِّىَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فلمّا كانتِ اللَّيْلَةُ الثانيةُ رَآه أيضًا، فأصْبَحَ فعَرَفَ أنَّه مِن اللهِ، فسُمِّىَ يومَ عَرَفَةَ. وهو يومٌ شَرِيفٌ عَظِيمٌ، وفَضْلُه كَبِيرٌ. فصل: ولا يُسْتَحَبُّ لمَن كان بعَرَفَةَ أن يَصُومَه؛ ليَتَقَوَّى على الدُّعاءِ عندَ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ، وكانت عائشةُ وابنُ الزُّبَيْرِ يَصُومانِه، وقال قَتادَةُ: لا بَأْسَ به إذا لم يَضْعُفْ عن الدُّعاءِ، وقال عَطاءٌ: أصُومُ في الشتاءِ، ولا أصُومُ في الصَّيْفِ؛ لأنَّ كَراهَةَ صومِه إنَّما هى مُعَلَّلَةٌ بالضَّعْفِ عن الدُّعاءِ، فإذا قَوِىَ عليه، أو كان في الشتاءِ لم يَضْعُفْ، فتَزُولُ الكَراهَةُ. ولَنا، ما رُوِىَ عن أمِّ الفَضْلِ بنتِ الحارِثِ، أنَّ ناسًا تَمارَوْا بينَ يَدَيْها يومَ عَرَفَةَ في رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ بَعْضُهم: صائِمٌ. وقال بَعْضُهم: ليس بصائِمٍ. فأرْسَلَتْ إليه بقَدَحٍ مِن لَبَنٍ، وهو واقِفٌ على بَعِيرِه بعَرَفَاتٍ، ¬

(¬1) في: باب في فضل صومه، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 570. (¬2) أي قبيلة أسلم. انظر معجم قبائل العرب 1/ 25، 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فشَرِبَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال ابنُ عُمَرَ: حَجَجْتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَصُمْه - يَعْنى يومَ عَرَفَةَ - ومع أبي بكرٍ فلم يَصُمْه، ومع عُمَرَ فلم يَصُمْه، ومع عثمانَ فلم يَصُمْه، وأنا لا أصُومُه، ولا آمُرُ به، ولا أنْهَى عنه (¬2). قال التِّرْمِذِىُّ: حديثٌ حسنٌ. وعن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صِيامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بعَرَفَةَ. رَواه أبو داودَ (¬3). لأنَّ الصومَ يُضْعِفُه، ويَمْنَعُه مِن الدُّعاءِ في هذا اليومِ المُعَظَّمِ، الذي يُسْتَجابُ فيه الدُّعاءُ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الوقوف على الدابة بعرفة، من كتاب الحج. وفي: باب صوم يوم عرفة، من كتاب الصوم. وفي: باب الشرب في الأقداح، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 2/ 198، 3/ 55، 7/ 147. ومسلم، في: باب. استحباب الفطر للحاج يوم عرفة، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 791. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم يوم عرفة بعرفة، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 569. والإمام مالك، في: باب صيام يوم عرفة، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 375. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 283. كما أخرجه الدارمى، في: باب في صيام يوم عرفة، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 23. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 73. (¬3) في: باب في صوم يوم عرفة بعرفة، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 568. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب صيام يوم عرفة، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 551. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 304، 446.

1097 - مسألة: (ويستحب صيام عشر ذى الحجة)

وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ عَشْرِ ذِى الْحِجَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذلك المَوْقِفِ الشَّرِيفِ، الذي يُقْصَدُ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، رَجاءَ فَضْلِ اللهِ فيه، وإجابَةِ دُعائِه، فكانَ تَرْكُه أفْضَلَ. 1097 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ صِيامُ عَشْرِ ذِى الحِجَّةِ) أيّامُ عَشْرِ ذِى الحِجَّةِ كُلُّها شَرِيفَةٌ مُفَضَّلَةٌ، يُضاعَفُ العَمَلُ الصّالِحُ فيها، ويُسْتَحَبُّ صومُها، والاجْتِهادُ في العِبادَةِ فيها؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فيهِنَّ أحَبُّ إلَى اللهِ مِن هذهِ الأيَّامِ». يَعنِي أيّامَ العَشْرِ. قالُوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجهادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلَّا رجلاً خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ» (¬1). حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن أبي هُرَيْرَةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 383.

1098 - مسألة: (وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم)

وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ما مِنْ أيَّامٍ أحَبُّ إلَى اللهِ بِأَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فيها مِنْ عَشْرِ ذِى الحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ القَدْرِ». أخْرَجَه التِّرْمِذِىُّ (¬1). وقال: غريبٌ. وروَى أبو داودَ (¬2) عن بَعْضِ أزْواجِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ تِسْعَ ذِى الحِجَّةِ، ويومَ عاشُوراءَ. 1098 - مسألة: (وأفْضَلُ الصِّيامِ بعدَ شَهْرِ رمضانَ شهرُ اللهِ المُحَرَّمُ) وذلك لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ». رَواه أبو داودَ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في العمل في أيام العشر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 289. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب صيام العشر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 551. (¬2) في: باب في صوم العشر، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 568. كما أخرجه النسائي، في: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من كتاب الصيام. سنن النسائي 4/ 189. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 271، 6/ 288، 423.

1099 - مسألة: (ويكره إفراد رجب بالصوم)

وَيُكْرَهُ إِفْرَادُ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والتِّرْمِذِىُّ (¬1). وقال: حديثٌ حسنٌ. 1099 - مسألة: (ويُكْرَهُ إفْرادُ رَجَبٍ بالصومِ) قال أحمدُ: إن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في صوم المحرم، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 566. والترمذي، في: باب ما جاء في فضل صلاة الليل، من أبواب الصلاة، وفي: باب ما جاء في صوم المحرم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 2/ 227، 3/ 276. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل صوم المحرم. من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 821. والنسائي، في: باب فضل صلاة الليل، من كتاب قيام الليل. المجتبى 3/ 168. والدارمى، في: باب في صيام المحرم، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 21. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 342، 344، 535.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صام رجلٌ أفْطَرَ فيه يَوْمًا أو أيّامًا، بقَدْرِ ما لا يَصُومُه كلَّه. وذلك لِما روَى أحمدُ، بإسْنادِه عن خَرَشَةَ بنِ الحُرِّ، قال: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أكُفَّ المُتَرَجِّبِين، حتى يَضَعُوها في الطَّعامِ، ويقولُ: كُلُوا، فإنَّما هو شَهْرٌ كانت تُعَظِّمُه الجاهِلِيَّةُ (¬1). وبإسْنادِه عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان إذا رَأَى النّاسَ، وما يُعِدُّونَه لرَجَبٍ، كَرِهَه، وقال: صُومُوا منه، وأفْطِرُوا (¬2). وعن ابنِ عباسٍ نحوُه، وبإسْنادِه عن أبي بَكْرَةَ، أنَّه دَخَل على أَهْلِهِ وعندَهم سِلالٌ جُدُدٌ وكِيزانٌ، فقالَ: ما هذا؟ فقالُوا: رَجَبٌ نَصُومُه. فقالَ: أجَعَلْتُمْ رَجَبًا رمضانَ، فأكْفَأَ السِّلالَ، وكَسَر الكِيزانَ. قال أحمدُ: مَن كان يَصُومُ السَّنَةَ صامَه، وإلَّا فلا يَصُومُه مُتَوالِيًا، بل يُفْطِرُ فيه، ولا يُشَبِّهُه برمضانَ. ¬

(¬1) عزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد 3/ 191. وأورده صاحب الفتح الربانى في الزوائد التي ليست في المسند. بلوغ الأمانى شرح الفتح الربانى 10/ 193. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 102 بسند صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق بدون قوله: صوموا منه وأفطروا.

1100 - مسألة: (و)

وَإِفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ السَّبْتِ، وَيَوْمِ الشَّكِّ، وَيَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، إِلَّا أَنْ يُوافِقَ عَادَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1100 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (إفْرادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ، ويَوْمِ السَّبْتِ، ويَوْمِ الشَّكِّ، ويَوْمِ النَّيْرُوزِ (¬1)، والمِهْرَجانِ (¬2)، إلَّا أن يُوافِقَ عادَةً) وجُمْلَتُه أنَّه يُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ بالصومِ، إلَّا أن يُوافِقَ عادَةً، مثلَ مَن يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا، فيوافِقُ صومُه يومَ الجُمُعَةِ، أو مَن عادَتُه صَوْمُ أوَّلِ يومٍ مِن (¬3) الشَّهْرِ أو آخِرِه، أو يومِ نِصْفِه (¬4) ونحوِ ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأَثْرَمِ، قال: قيل لأبى عبدِ اللهِ: صِيامُ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ فذَكَرَ حديثَ النَّهْىِ أن يُفْرَدَ، ثمَّ قال: إلَّا أن يَكُونَ في صِيامٍ كان يَصُومُه، أمَّا أن يُفْرَدَ فَلَا. قال: قُلْتُ: رَجُلٌ كان يَصُومُ يومًا ويُفْطِرُ يَوْمًا، فوَقَعَ ¬

(¬1) النيروز: أول يوم من السنة الشمسية الفارسية، وأكبر أعيادهم، ويوافق الحادى والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية. (¬2) يوم المهرجان: عيد تقيمه الفرس احتفالا بالاعتدال الخريفى. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «لضعفه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِطْرُه يومَ الخَمِيسِ، وصَوْمُه يومَ الجُمُعَةِ، وفِطْرُه يومَ السَّبْتِ، فصامَ الجُمُعَةَ مُفْرَدًا، فقالَ: هذا الآنَ لم يَتَعَمَّدْ صَوْمَه خاصَّةً، إنّما كُرِهَ أن يَتَعَمَّدَ الجُمُعَةَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يُكْرَهُ إفْرادُ الجُمُعَةِ؛ لأنَّه يومٌ، فأَشْبَهَ سائِرَ الأَيَّامِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «لا يَصُومّنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إلَّا أنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أو يَوْمًا بَعْدَهُ». وقال محمدُ بنُ عَبَّادٍ: سَأَلْتُ جابِرًا: أنَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صومِ يومِ الجُمُعَةِ؟ قال: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وعن جُوَيْرِيَةَ بنتِ الحارِثِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل عليها يومَ الجُمُعَةِ، وهي صائِمَةٌ فقالَ: «أصُمْتِ أمْسِ؟». قالت: لا. قال: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا؟». قالت: لا. قال: «فَأَفْطِرِى». رَواه البخارىُّ (¬2). وسُنَّةُ ¬

(¬1) الأول أخرجه البخاري، في: باب صوم يوم الجمعة. . . .، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 54. ومسلم، في: باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 81. كما أخرجه أبو داود، في: باب النهى أن يخص يوم الجمعة بصوم. من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 564. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده. من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 279. وابن ماجه، في: باب في صيام يوم الجمعة، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 549. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 303، 422، 458، 495، 526، 532. والثانى أخرجه البخاري، في: الباب السابق. ومسلم، في: الباب الذي سبق ذكره. كما أخرجه الدارمى، في: باب في النهى عن الصيام يوم الجمعة، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 19. (¬2) في: باب صوم يوم الجمعة. . . .، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 54. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 564. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 324، 430.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ المَكْرُوهَ إفْرادُه؛ لأنَّ نَهْيَه مُعَلَّلٌ بكَوْنِها لم تَصُمْ أمْسِ ولا غَدًا. فصل: ويُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ السَّبْتِ بالصومِ. ذَكَرَه أَصحابُنا؛ لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. ورُوِىَ أيضًا عن عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ، عن أُخْتِه الصَّمَّاءِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحاءَ عِنَبٍ، أوْ عُودَ شَجَرَةٍ، فَلْيَمْضُغْهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). قال: اسمُ أخْتِ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ هُجَيْمَةُ (¬3) أو جُهَيْمَةُ. قال الأثْرَمُ: قال أبو عبدِ اللهِ: أمّا صِيامُ يومِ السَّبْتِ يَنْفَرِدُ به، فقد جاء فيه ¬

(¬1) لم نجد هذا عند الترمذي، وإنما روى الحديث الآتى عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء. والحديث أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام يوم السبت، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 550. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 189. (¬2) في: باب النهى أن يخص يوم السبت بصوم، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 564. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في صوم يوم السبت، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 279. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام يوم السبت، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 550. والدارمى، في: باب في صيام يوم السبت، من كتاب الصيام. سنن الدارمى 2/ 19. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 368. (¬3) ذكره ابن حجر، في الإِصابة 8/ 146. وقال: قيل هو اسم الصماء أخت عبد الله بن بسر. وذكر ابن حجر أيضًا، في الإصابة 7/ 539 أن اسمها بهية، بالتشديد مصغرة، ويقال: بهيمة. بالميم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثُ الصَّمّاءِ. والمَكْرُوهُ إفْرادُه، فإن صام معه غيرَه لم يُكْرَهْ؛ لحديثِ أبى هُرَيْرَةَ، وجُوَيْرِيَةَ. وإن وافَقَ صَوْمًا لإِنْسانٍ لم يُكْرَهْ؛ لِما قَدَّمْناه. فصل: ويُكْرَهُ صِيامُ يَوْمِ الشَّكِّ، وهو يَوْمُ الثَّلاثِينَ مِن شَعْبانَ إذا كانت السَّماءُ مُصْحِيَةً ولم يَرَوُا الهِلالَ، إلَّا أن يُوافِقَ صَوْمًا كان يَصُومُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كمَن عادَتُه صومُ يَوْمٍ وفِطْرُ يومٍ، أو صومُ يَوْمِ الخَمِيسِ، أو صومُ آخِرِ يومٍ مِن الشَّهْرِ، وشِبْهُ ذلك، أو مَن صام قبلَ ذلك بأيّامٍ، فلا بَأْسَ بصومِه، لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رمضانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويَحْتَمِلُ أن يَحْرُمَ؛ لقَوْلِ عَمّارٍ: مَن صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عَصَى أبا القاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 35، 36. ومسلم، في: باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 762. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من يصل شعبان برمضان، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 545. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقدموا الشهر بصوم، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 200، 201. والنسائي، في: باب التقدم قبل شهر رمضان، وباب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير ومحمد ابن عمرو على أبى سلمة فيه، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 122، 123. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى أن يتقدم رمضان بصوم، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 528. والدارمى، في: باب النهى عن التقدم في الصيام قبل الرؤية، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 4. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 234، 281، 347، 408، 438، 477، 497، 513، 521، 4/ 314. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتم الهلال فصوموا، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 34. وأبو داود، في: باب كراهية صوم يوم الشك، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 545. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 202. والنسائي، في: باب صيام يوم الشك، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 126. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صيام يوم الشك، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 527.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، والمِهْرَجانِ بالصومِ. ذَكَرَه أصحابُنا؛ لأنَّهُما يَوْمان يُعَظِّمُهُما الكُفّارُ، فيَكُونُ تَخْصِيصُهما بالصِّيامِ دونَ غيرِهما مُوافَقَةً لهم في تَعْظِيمِهما، فكُرِهَ، كيومِ السَّبْتِ. وعلى قِياسِ هذا، كلُّ عِيدٍ للكُفّارِ، أو يومٍ يُفْرِدُونَه بالتَّعْظِيمِ، يُكْرَهُ إفْرادُه بالصومِ، لِما ذَكَرْنا، إلَّا أن يُوافِقَ عادَةً، فلا يُكْرَهُ؛ لما ذَكَرْنا في الفُصُولِ المُتَقَدِّمَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في الوِصالِ: وهو أن لا يُفْطِرَ بينَ اليَوْمَيْن أو الأَيّامِ بأكْلٍ وشُرْبٍ. وهو مَكْرُوهٌ في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن ابنِ الزُّبَيْرِ أنَّه كان يُواصِلُ اقْتِداءً برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ، قال: واصَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ، فواصَلَ الناسُ، فنَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصالِ، فقالُوا: إنَّكَ تُواصِلُ. فقالَ: «إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وأُسْقَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا يَقْتَضِى اخْتِصاصَه بذلك، ومَنْعَ إلْحاقِ غيرِه به، وقولُه: «إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» يَحْتَمِلُ أنَّه أَرادَ: إنِّي أُعانُ على الصيامِ، ويُغْنِيه اللهُ تعالى عن الشَّرابِ والطَّعامِ، بمَنْزِلَةِ مَن طَعِمَ وشَرِبَ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ: إنِّي أُطْعَمُ حَقِيقَةً، وأُسْقَي حَقِيقَةً، حَمْلاً ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بركة السحور من غير إيجاب، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 37. ومسلم، في: باب النهى عن الوصال في الصوم، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 774. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الوصال، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 551. والإمام مالك، في: باب النهى عن الوصال في الصيام، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 300. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 21، 23، 102، 112، 143، 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للَّفْظِ على حَقِيقَتِه، والأوَّلُ أَظْهَرُ، لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه لو طَعمَ وشَرِب حقِيقَةً لم يَكُنْ مُواصِلاً، وقد أقَرَّهُم على قَوْلِهم: إنَّكَ تُواصِلُ. والثانى، أنَّه قد رُوِىَ أنَّه قال: «إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّى وَيَسْقِينِى» (¬1). وهذا يَقْتَضِى أنَّه في النَّهارِ، ولا يَجُوزُ الأَكْلُ في النَّهارِ له ولا لغيرِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الوِصالَ غيرُ مُحَرَّمٍ. وظاهِرُ قَوْلِ الشافعىِّ أنَّه حَرامٌ؛ لظاهِرِ النَّهْىِ. ولَنا، أنَّه تَرَك الأَكْلَ والشُّرْبَ المُباحَ، فلم يَكُنْ مُحَرَّمًا، كما لو تَرَكَه في حالِ الفِطْرِ، فإن قِيلَ: فصومُ يومِ العِيدِ مُحَرَّمٌ مع كَوْنِه تَرْكًا للأَكْلِ والشُّرْبِ المُباحِ. قُلْنا: ما حُرِّمَ تَرْكُ الأَكْلِ والشُّرْبِ بنَفْسِه، وإنّما حُرِّمَ بنِيَّةِ الصومِ، ولهذا لو تَرَكَه مِن غيرِ نِيَّةِ الصومِ لم يَكُنْ مُحَرَّمًا. وأمَّا النَّهْىُ، فإنَّما أتَى به رَحْمَةً لهم، ورِفْقًا بهم؛ لِما فيه مِن المَشَقَّةِ عليهم. كما نَهَى عبدَ اللهِ بنَ عَمْروٍ عن صِيامِ النَّهارِ وقِيامِ اللَّيْلِ، وعن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يجوز من اللو، من كتاب التمنى. صحيح البخاري 9/ 106. ومسلم، في: باب النهى عن الوصال في الصوم. من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 776. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 23، 253، 257، 377، 496.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِراءَةِ القُرآنِ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ. وقالت عائشةُ: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصالِ رَحْمَةً لهم (¬1). وهذه قَرِينَةٌ صارِفَةٌ عن التَّحْرِيمِ، ولهذا لم يَفْهَمْ منه أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّحْرِيمَ؛ بدَلِيلِ أنَّهُم واصَلُوا بَعْدَه، ولو فَهِمُوا منه التَّحْرِيمَ لَما فَعَلُوه. قال أبو هُرَيْرَةَ: نَهَى رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصالِ، فلمّا أبَوْا أن يَنْتَهُوا، واصَلَ بهم يومًا ويَوْمًا، ثمَّ رَأَوُا الهِلالَ، فقالَ: «لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ»، كالمُنَكِّلِ لهم حينَ أَبَوْا أن يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فإن واصَلَ إلى السَّحَرِ جازَ؛ لِما روَى أبو سَعِيدٍ، أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أرَادَ أنْ يُواصِلَ فَلْيُواصِلْ إلَى السَّحَرِ». أَخْرَجَه البخاريُّ (¬3). وتَعْجِيلُ الفِطْرِ أَفْضَلُ لِما قَدَّمْناه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 48. ومسلم، في: باب النهى عن الوصال في الصوم، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 776. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب كم التعزير والأدب، من كتاب الحدود. وفي: باب ما يجوز من اللو، من كتاب التمنى. وفي: باب ما يكره من التعمق. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 8/ 216، 9/ 106، 119. ومسلم، في: باب النهى عن الوصال في الصوم، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 774. كما أخرجه الدارمى، في: باب النهى عن الوصال في الصوم، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 8. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 281، 516. (¬3) في: باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 48. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الوصال، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 551. والدارمى، في: باب النهى عن الوصال في الصوم. من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 8. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 8، 87، 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في صومِ الدَّهْرِ: روَى أبو قَتادَةَ، قال: قِيلَ يا رسولَ اللهِ، فكيف بمَن صام الدَّهْرَ؟ قال: «لَا صَامَ، وَلَا أفْطَرَ، أوْ لَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُفْطِرْ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حسنٌ. وعن أبي موسى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ» (¬2). قال الأثْرَمُ: قِيلَ لأبِى عبدِ اللهِ: فَسَّرَ مُسَدَّدٌ حَدِيثَ أبى موسى: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ» فلا يَدْخُلُها، فضَحِكَ، وقال: مَن قال هذا؟ وأين حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَرِه ذلك، وما فيه مِن الأحادِيثِ؟ قال أبو الخَطّابِ: إنَّما يُكْرَهُ إذا أدْخَلَ فيه يَوْمَىِ العِيدَيْن، وأيّامَ التَّشْرِيقِ؛ لأنَّ أحمدَ قال: إذا أفْطَرَ يَوْمَىِ العِيدَيْن، وأيّامَ التَّشْرِيقِ رَجَوْتُ أن لا يَكُونَ بذلك بَأْسٌ. وَرُوِىَ نَحْوُ هذا عن مالكٍ، وهو قَوْلُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ جَماعَةً مِن الصحابَةِ كانُوا يَسْرُدُون الصومَ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في صوم الدهر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 297. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 818، 819. وأبو داود، في: باب صوم الدهر تطوعا، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 565. والنسائي، في: باب النهى عن صيام الدهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 176. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 297، 311. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 414. والبيهقى، في: باب من لم ير بسرد الصيام بأسا، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم أبو طَلْحَةَ، قِيلَ: إنَّه صام بعدَ مَوْتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أرْبَعِين سَنَةً. قال شيخُنا (¬1): ويَقْوَى عِنْدِى أنَّ صومَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ، وإن لم يَصُمْ هذه الأيّامَ، فإن صامَها فقد فَعَل مُحَرَّمًا، وإنّما كُرهَ صومُ الدَّهْرِ؛ لما فيه مِن المَشَقَّةِ والضَّعْفِ وشِبْهِ التَّبَتُّلِ المَنْهِىِّ عنه؛ لأَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعبدِ اللهِ ابنِ عَمْروٍ: «إنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ!» قُلْتُ: نعم. قال: «إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ هَجَمَتْ (¬2) لَهُ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ (¬3) لَهُ النَّفْسُ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ». وذَكَر الحَدِيثَ. رَواه البخارىُّ (¬4). ¬

(¬1) في المغنى: 4/ 430. (¬2) هجمت: غارت. (¬3) نفهت: أعيت. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 515.

1101 - مسألة: (ولا يجوز صوم العيدين عن فرض ولا

وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمَىِ الْعِيدَيْنِ عَنْ فَرْضٍ وَلَا تَطَوُّعٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ اسْتِقْبالُ رمضانَ باليومِ واليَوْمَيْن؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وما وافَقَ مِن هذا كُلِّه عادَةً فلا بَأْسَ؛ لهذا الحَدِيثِ، وقد دَلَّ هذا الحَدِيثُ بمَفْهُومِه على جَوازِ التَّقَدُّمِ بأكْثَرَ مِن يَوْمَيْن. ورُوِىَ عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ، فأمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» (¬2). وهذا حديثٌ حسنٌ. فيُحْمَلُ الأَوَّلُ على الجَوازِ، وهذا على نَفْىِ الفَضِيلَةِ، جَمْعًا بينَهما. 1101 - مسألة: (ولا يَجُوزُ صومُ العِيدَيْن عن فَرْضٍ ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه قي صفحة 534. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب في كراهية الصوم في النصف الثانى من شعبان، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 274. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية وصل شعبان برمضان، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 546. والدارمى، في: باب النهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 17. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 442.

وَإِنْ قَصَدَ صِيَامَهُمَا كَانَ عَاصِيًا، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرْضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطَوُّعٍ، وإن قَصَد صِيامَهما. كان عاصِيًا، ولم يُجْزِئْه عن الفَرْضِ) اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ صومَ يَوْمَىِ العِيدَيْنِ مُحَرَّمٌ في التَّطَوُّعِ، والنَّذْرِ المُطْلَقِ، والقَضاءِ، والكَفّارَةِ. وذلك لما روَى أبو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابنِ أَزْهَرَ، قال: شَهِدْتُ العِيدَ مع عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، فجاءَ فصَلَّى، ثمَّ انْصَرَفَ فخَطَبَ الناسَ، فقالَ: إنَّ هذَيْن يَوْمَان نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صِيامِهما، يَوْمُ فِطْرِكُم مِن صِيامِكُم، والآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُون فيه مِن نُسُكِكُمْ. وعن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صِيامِ يَوْمَيْن؛ يومِ فِطْرٍ، ويومِ أضْحَى. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). والنَّهْىُ يَقْتَضِى فَسَادَ المَنْهِىِّ ¬

(¬1) الأول، أخرجه البخاري، في: باب صوم يوم الفطر، من كتاب الصوم، وفي: باب ما يؤكل من لحوم الأضاحى وما يتزود منها، من كتاب الأضاحى. صحيح البخاري 3/ 55، 7/ 134. ومسلم، في: باب النهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 799. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم العيدين، من كتاب الصوم. سنن أبي داود 1/ 563. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الصوم يوم الفطر والنحر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 300. وابن ماجه، في: باب في النهى عن صيام يوم الفطر والأضحى، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 549. والإمام مالك، في: باب الأمر بالصلاة قبل الخطبة في العيدين، من كتاب العيدين. الموطأ 1/ 178. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 24، 34، 40. والثاني، أخرجه البخاري، في: باب الصوم يوم النحر، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 55، 56. ومسلم، في: باب النهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 799. والإمام مالك، في: باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر، من كتاب الصيام. وفي: باب ما جاء في صيام أيام منى، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 300، 376. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 511، 529.

1102 - مسألة: (ولا يجوز صيام أيام التشريق تطوعا، وفي صيامها عن الفرض روايتان)

وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَطَوُّعًا، وَفِي صِيَامِهَا عَنِ الفَرْضِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه وتَحْرِيمَه، أمَّا صَوْمُهما عن النَّذْرِ المُعَيَّنِ، ففيه خِلافٌ نَذْكُرُه في بابِ النَّذْرِ، إن شاء اللهُ تعالى. 1102 - مسألة: (ولا يَجُوزُ صِيامُ أيّامِ التَّشْرِيقِ تَطَوُّعًا، وفي صِيامِها عن الفَرْضِ رِوايَتان) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ أَيّامَ التَّشْرِيقِ مَنْهِىٌّ عن صيامِها؛ لِما روَى نُبَيْشَةُ الهُذَلِىُّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عَمْرِو بنِ العَاصِ، أنَّه قال: هذه الأيّامُ التي كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنا بإفْطارِها، ويَنْهَى عن صيامِها. قال مالكٌ: وهي أَيّامُ التَّشْرِيقِ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولا يَحِلُّ صِيامُها تَطَوُّعًا في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وعن ¬

(¬1) في: باب تحريم صوم أيام التشريق، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 800. كما أخرجه أبو داود، في: باب في حبس لحوم الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 90. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 75، 76. (¬2) في: باب صيام أيام التشريق، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 563، 564. كما أخرجه الدارمى، في: باب النهى عن صيام أيام التشريق، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 24. والإمام مالك، في: باب ما جاء في صيام أيام منى، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 377.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه كان يَصُومُها. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، والأسْوَدِ ابنِ يَزِيدَ. وعن أبي طَلْحَةَ، أنَّه كان لا يُفْطِرُ إلَّا يَوْمَىِ العِيدَيْن. والظّاهِرُ أنَّ هؤلاء لم يَبْلُغْهم نَهْىُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صيامِها، ولو بَلَغَهم لم يَعْدُوه إلى غيرِه. وأمَّا صَوْمُها عن الفَرْضِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه مَنْهِىٌّ عن صِيامِها، فأَشْبَهَتْ يَوْمَىِ العِيدَيْن. والثّانِيَةُ، يَجُوزُ؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، أنَّهما قالا: لم يُرَخَّصْ في أَيّامِ التَّشْرِيقِ إلَّا لمَن لم يَجِدِ الهَدْىَ، أنْ يُصمْنَ (¬1). وهو حَدِيثٌ صحيحٌ. ويُقاسُ عليه سائِرُ المَفْرُوضِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب صيام أيام التشريق، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 56. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب صيام التمتع، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 426.

1103 - مسألة: (ومن شرع في صوم أو صلاة تطوعا، استحب له إتمامه، ولا يلزمه، فإن أفسده فلا قضاء عليه)

وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ تَطَوُّعًا، اسْتُحِبَّ لَهُ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَجِبْ، فَإِنْ أَفْسَدَهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1103 - مسألة: (ومَن شَرَع في صومٍ أو صلاةٍ تَطَوُّعًا، اسْتُحِبَّ له إتْمامُه، ولا يَلْزَمُه، فإن أفْسَدَه فلا قَضاءَ عليه) لِما رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، أنَّهما أَصْبَحا صائِمَيْن، ثمَّ أفْطَرا. وقال ابنُ عُمَرَ: لا بَأْسَ به، ما لم يَكُنْ نَذْرًا، أو قَضاءَ رمضانَ. وقال ابنُ عباسٍ: إذا صام الرجلُ تَطَوُّعًا، ثمَّ شاء أن يَقْطَعَه، قَطَعَه، وإذا دَخَل في صلاةٍ تَطَوُّعًا، ثمَّ شاء أن يَقْطَعَها، قَطَعَهَا (¬1). وقال ابنُ مسعودٍ: متى أَصْبَحْتَ تُرِيدُ الصومَ، فأَنت على خَيْرِ النَّظَرَيْن، إن شِئْتَ صُمْتَ، وإن شِئْتَ أَفْطَرْتَ (¬2). هذا ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب صيام التطوع والخروج منه قبل تمامه، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 277. وأخرج نحوه عبد الرزاق، في: باب في إفطار التطوع وصومه إذا لم يبيته، من كتاب الصوم. المصنف 4/ 271. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُ أحمدَ، والثَّوْرِىِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. وقد روَى حَنْبَلٌ، عن أحمدَ، إذا أجْمَعَ على الصِّيامِ، فأوْجَبَه على نَفْسِه، فأَفْطَرَ مِن غيرِ عُذْرٍ، أعادَ ذلك اليَوْمَ. وهذا مَحْمُولٌ على أنَّه اسْتَحَبَّ ذلك، أو نَذَرَه؛ ليَكُونَ موافِقًا لسائِرِ الرِّواياتِ عنه. وقال النَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَلْزَمُ بالشُّرُوعِ فيه، ولا يَخْرُجُ منه إلَّا بعُذْرٍ، فإن خَرَج قَضَى. وعن مالكٍ، لا قَضاءَ عليه. واحْتَجَّ مَن أوْجَبَ القَضاءَ بما رُوِىَ عن عائِشَةَ، أنَّها قالت:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَصْبَحْتُ أنا وحَفْصَةُ صائِمَتَيْن مُتَطَوِّعَتَيْن، فأُهْدِىَ لنا حَيْسٌ (¬1)، فأفْطَرْنا، ثمَّ سَأَلْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» (¬2). ولأنَّها عِبادَةٌ تَلْزَمُ بالنَّذْرِ، فلَزِمَتْ بالشُّرُوعِ فيها، كالحَجِّ والعُمْرَةِ. ولَنا، ما روَى مسلمٌ، وأبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬3)، عن عِائِشَةَ، قالت: دَخَل علىَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، فقالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ». فقُلْتُ: لا. قال: «فَإِنِّى صَائِمٌ». ثمَّ مَرَّ بى بعدَ ذلك اليومِ وقد أُهْدِىَ لنا حَيْسٌ، فخَبَأْتُ له منه، وكان يُحِبُّ الحَيْسَ. قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّه أُهْدِىَ لنا حَيْسٌ، فخَبَأْتُ لك منه، قال: «أَدْنِيهِ، أَمَا إنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا صَائِمٌ». فأَكَلَ منه. ثمَّ قال: «إنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ؛ فَإنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإنْ شَاءَ حَبَسَهَا». هذا ¬

(¬1) الحيس: تمر وسمن ودقيق تخلط وتعجن وتسوى كالثريد. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من رأى عليه القضاء، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 572. والترمذي، في: باب ما جاء في ايجاب القضاء عليه، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 270. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب جواز صوم النافلة بنية من النهار، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 808، 809. وأبو داود، في: باب في الرخصة في ذلك، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 571. والنسائى، في: باب النية في الصيام. من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 163.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَفْظُ رِوايَةِ النَّسَائِىِّ، وهو أَتَمُّ مِن غَيْرِه. ورَوَتْ أمُّ هانِئٍ، قالت: دَخَلْتُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأُتِىَ بشَرابٍ، فناوَلَنِيه فشَرِبْتُ منه، ثم قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ لقد أفْطَرْتُ وكُنْتُ صائِمَةً. فقالَ لها: «أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا؟». قالت: لا. قال: «فَلَا يَضُرُّكِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا». رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ (¬1)، والأثْرَمُ. وفى لَفْظٍ، قالت: قُلْتُ: إنِّى صائِمَةٌ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المُتَطَوِّعَ أمِيرُ نَفْسِهِ، فَإنْ شِئْتِ فَصُومِى، وَإنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِى» (¬2). ولأَنَّ كلَّ صَوْمٍ لو أَتَمَّه كان تَطَوُّعًا، إذا خَرَج منه لم يَجِبْ قَضاؤُه، كما لو اعْتَقَدَ أنّه مِن رمضانَ، فبانَ مِن شعبانَ. فأمّا خَبَرُهم، فقالَ أبو داودَ: لا يَثْبُتُ. وقال التِّرْمِذِىُّ: فيه مَقالٌ. وضَعَّفَه الجُوزْجانِىُّ وغيرُه، ثم هو مَحْمُولٌ على الاسْتِحْبابِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسْتَحَبُّ له إتمامُه، وإن خَرَج منه اسْتُحِبَّ قَضاؤُه؛ للخُرُوجِ مِن الخِلافِ، وعَمَلًا بالخَبَرِ الذى رَوَوْه. ¬

(¬1) في: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الصيام. سنن أبى داود 1/ 572. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 267، 268. والدارمى، في: باب في من يصبح صائما تطوعا ثم يفطر، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 16. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 424. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 268، 269. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 343، 424.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وسائِرُ النَّوافِلِ مِن الأعْمالِ حُكْمُها حُكْمُ الصِّيامِ، في أنَّها لا تَلْزَمُ بالشُّرُوعِ، ولا يَجِبُ قَضاؤُها إذا أَفْسَدَها، إلَّا الحَجَّ والعُمْرَةَ، فإنَّهُما يُخالِفان سائِرَ العِباداتِ في هذا؛ لتَأكُّدِ إحْرامِهما، ولا يَخْرُجُ منهما بإفْسادِهِما، ولو اعْتَقَدَ أنَّهُما واجِبان، ولم يَكُونا واجِبَيْن، لم يَكُنْ له الخُرُوجُ منهما. وقد رُوِىَ عن أحمدَ في الصلاةِ ما يَدُلُّ على أنَّها تَلْزَمُ بالشُّروعِ. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبِى عبدِ اللهِ: الرَّجُلُ يُصْبِحُ صائِمًا مُتَطَوِّعًا، أَيَكُونُ بالخيارِ؟ والرجلُ يَدْخُلُ في الصلاةِ أله أن يَقْطَعَها؟ قال: الصلاةُ أشَدُّ، أمَّا الصلاةُ فلا يَقْطَعُها. قِيلَ له: فإن قَطَعَها قَضاها؟ قال: إن قَضَاهَا فليس فيه اخْتِلافٌ. ومالَ أبو إسحاقَ الجُوزْجانِيُّ إلى هذا القولِ، وقال: الصلاةُ ذاتُ إِحْرامٍ وإحْلالٍ، فلَزِمَتْ بالشُّرُوعِ فيها، كالحَجِّ. وأكثرُ أصحابِنا على أنَّها لا تَلْزَمُ أيْضًا. وهو قولُ ابنِ عباسٍ؛ لأنَّ ما جاز تَرْكُ جَمِيعِه جاز تَرْكُ بعضِه، كالصَّدَقَةِ. والحَجُّ والعُمْرَةُ يُخالِفان غيرَهما بما ذَكَرْنا. فصل: فإن دَخَل في صومٍ واجِبٍ؛ كقَضاءِ رمضانَ، أو نَذْرٍ

1104 - مسألة: (وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وليالى الوتر آكدها)

وَتُطْلَبُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَيَالِى الْوِتْرِ آكَدُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعَيَّنٍ، أو مُطْلَقٍ، أو صِيامِ كَفّارَةٍ، لمِ يَجُزْ له الخُروجُ منه؛ لأنَّ المُتَعَيِّنَ وَجَب الدُّخُولُ فيه، وغيرَ المُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ بدُخُولِه فيه، فصارَ بمَنْزِلَةِ المُتَعَيِّنِ. وهذا لا خِلافَ فيه بحَمْدِ اللهِ. 1104 - مسألة: (وتُطْلَبُ لَيْلَةُ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ، ولَيالِى الوِتْرِ آكَدُها) لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ مُبارَكَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُفَضَّلَةٌ، قال اللهُ تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (¬1). قِيلَ: مَعْناه، العَمَلُ فيها خَيْرٌ مِن العَمَلِ في أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها لَيْلَةُ القَدْرِ. وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». ¬

(¬1) سورة القدر 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قِيلَ: إنَّما سُمِّيَتْ لَيْلَةَ القَدْرِ؛ لأَنَّه يُقَدَّرُ فيها ما يَكُونُ في تلك السَّنَةِ مِن خَيْرٍ ومُصِيبَةٍ، ورِزْقٍ وبَرَكَةٍ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عباسٍ. قال اللهُ تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬2). وسَمّاها مُبارَكَةً، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬3). وهي لَيْلَةُ القَدْرِ؛ بدَلِيلِ قَوْلِه سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬4). وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬5). يُرْوَى أنَّ جِبْرِيلَ نَزَل به مِن بَيْتِ العِزّةِ إلى سَماءِ الدُّنْيَا في لَيْلَةِ القَدْرِ، ثمَّ نَزَل به على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - نُجُومًا في ثَلاثٍ وعِشْرِينَ سَنَةً (¬6). وهي باقِيَةٌ لم تُرْفَعْ؛ لِما روَى أبو ذَرٍّ، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، لَيْلَةُ القَدْرِ رُفِعَتْ مع الأَنْبِياءِ، أو هى باقيَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ؟ فقالَ: «بَاقِيَةٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». قُلْتُ: في رمضانَ أو في غيرِه؟ قال: «في رَمَضَانَ». فقُلْتُ: في العَشْرِ الأوَّلِ، أو الثانِي، أو الآخِرِ؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قيام ليلة القدر من الإيمان، من كتاب الإيمان. وفي: باب فضل ليلة القدر، من كتاب ليلة القدر. صحيح البخاري 1/ 15، 3/ 59. ومسلم، في: باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 524. كما أخرجه النسائي، في: باب من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 131. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 241، 347، 408، 423، 473، 503. (¬2) سورة الدخان 4. (¬3) سورة الدخان 3. (¬4) سورة القدر 1. (¬5) سورة البقرة 185. (¬6) انظر تفسير القرطبي 20/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالَ: «فِي العَشْرِ الآخِرِ» (¬1). وأكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ على أَنَّها في رمضانَ، وكان ابنُ مسعودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الحَوْلَ يُصِبْها. يُشِيرُ إلى أنَّها في السَّنَةِ كُلِّها. وفي كتابِ اللهِ تعالى ما يُبَيِّنُ أنَّها في رمضانَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أَخْبَرَ أنَّه أَنْزَلَ القُرْآنَ في لَيْلَةِ القَدْرِ، وأَنَّه أَنْزَلَه في رمضانَ، فيَجبُ أن تَكُونَ في رمضانَ، لئَلَّا يَتَناقَضَ الخَبَران، ولأَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر أَنَّها في رمضانَ في حَدِيثِ أبى ذَرٍّ، وقال: «الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي كُلِّ وِتْرٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال أُبَىُّ بنُ كَعْبٍ: واللهِ لقد عَلِم ابنُ مسعودٍ أنَّها في رمضانَ، ولكِنَّه كَرِهَ أن يُخْبِرَكُم، فَتَتَّكِلُوا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسْتَحَبُّ طَلَبُها في جَمِيعِ لَيالِى رمضانَ، وفي العَشْرِ الأَواخِرِ آكَدُ، وفي لَيالِى الوِتْرِ آكَدُ. قال أحمدُ: في العَشْرِ الأواخِرِ، في وِتْرٍ مِن اللَّيالِى، لا يُخْطِئُ إن شاء اللهُ. كذا رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ تِسْعٍ بَقِينَ» (¬3). وروَى سالِمٌ عن أبيه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الدليل على أنها في كل رمضان، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 307. (¬2) لم يرد هذا اللفظ من حديث أبي ذر، وإنما من حديث أبي سعيد الآتى تخريجه في صفحة 557. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في ليلة القدر واختلافهم فيها، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 75، 76.

1105 - مسألة: (وأرجاها ليلة سبع وعشرين)

وَأَرْجَاهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَوَاطَأَتْ عَلَى أنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَواخِرِ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي الوِتْرِ مِنْهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقالت عائِشَةُ: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجاوِرُ في الْعَشْرِ الأَواخِرِ مِن رمضانَ (¬2). وفي لَفْظٍ للبُخارِىِّ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ، فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» (¬3). والأَحادِيثُ في ذلك كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ. 1105 - مسألة: (وأرْجاها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِين) اخْتَلَفَ أهلُ العِلْمِ في أرْجَى هذه اللَّيالِى، فقالَ أُبَىُّ بنُ كَعْبٍ، وعبدُ اللهِ ابنُ عباسٍ: هى لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِين. قال زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ: قُلْتُ لأُبَىِّ ابنِ كَعْبٍ: أما عَلِمْتَ أبا المُنْذِرِ، أَنَّها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ؟ قال: أخْبَرَنَا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التواطؤ على الرؤيا، من كتاب التعبير. صحيح البخاري 9/ 40. ومسلم، في: باب فضل ليلة القدر. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 823. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 8. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب تحرى ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، من كتاب ليلة القدر. صحيح البخاري 3/ 61. والترمذى، في: باب ما جاء في ليلة القدر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 6. (¬3) أخرجه البخاري، في الباب السابق. صحيح البخاري 3/ 60. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّها لَيْلَةٌ صَبِيحَتَها تَطْلُعُ الشمسُ ليس لها شُعاعٌ. فعَدَدْنا، وحَفِظْنا، واللهِ لقد عَلِم ابنُ مسعودٍ أنَّها في رمضانَ، وأنَّها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِين، ولَكنَّه كَرِهَ أن يُخْبِرَكُم، فَتَتَّكِلُوا. قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وروَى أبو ذَرٍّ في حَدِيثٍ أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُمْ بهم في رمضانَ حتىِ بَقِىَ سَبْعٌ، فقامَ بهم حتى مَضَى نَحْوٌ مِن ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثمَّ قام بهم في لَيْلَةِ خَمْسٍ وعِشْرِينَ حتى مَضَى نحوٌ مِن شَطْرِ اللَّيْلِ، حتى كانت لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ، فجَمَعَ نِساءَه وأَهْلَه، واجْتَمَعَ الناسُ، قال: فقامَ بهم حتى خَشِينَا أن يَفُوتَنا الفَلاحُ. يَعْنِي السَّحُورَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ليلة القدر، من أبواب الصوم. وفي: باب من سورة القدر، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 4/ 9، 12/ 254. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل ليلة القدر. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 828، وأبو داود، في: باب في ليلة القدر، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 318. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 130 - 132. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 163. ولم نجده عند البخاري ولا مسلم. انظر تحفة الأشراف 9/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: سُورَةُ القَدْرِ ثَلاثُون كَلِمَةً، السّابِعَةُ والعِشْرُون منها {هِيَ} (¬1). وروَى أبو دَاوُدَ (¬2) بإسْنادِه، عن مُعاوِيَةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، في لَيْلَةِ القَدْرِ، قال: «لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». وقِيلَ: آكَدُها لَيْلَةُ ثَلاثٍ وعِشْرِين؛ لأنَّه رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُنَيْسٍ سَأَلَه، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أكُونُ ببادِيَةٍ يُقالُ لها الوَطَاةُ (¬3)، وإنِّى بحَمْدِ اللهِ أُصَلِّى بهم، فمُرْنِي بلَيْلَةٍ مِن هذا الشَّهْرِ أنْزِلُها في المَسْجِدِ، فأُصَلِّيها فيه. فقال: «انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلِّهَا فِيهِ، وإنْ أحْبَبْتَ أنْ تَسْتَتِمَّ آخِرَ هذا الشَّهْرِ فَافْعَلْ، وَإنْ أَحْبَبْتَ فَكُفَّ». فكانَ إذا صَلَّى العَصْرَ دَخَل المَسْجِدَ، فلم يَخْرُجْ إلَّا في حاجَةٍ، حتى يُصَلِّىَ الصُّبْحَ، ¬

(¬1) أشار ابن حجر إلى هذا بقوله: «وزعم ابن قدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، وقد وافق قوله فيها هى سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكية، وبالغ في إنكاره. نقله ابن عطية في تفسيره، وقال: إنه من ملح التفسير وليس من متين العلم» في كلام كثير. انظره في: فتح البارى 4/ 265. (¬2) في: باب من قال: سبع وعشرون، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 320. (¬3) في عون المعبود 1/ 523 أنه يقال لها: الوطاءة. ولم يحدد موضعها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا صَلَّى الصُّبْحَ كانت دابَّتُه ببابِ المَسْجدِ. رَواه أبو داودَ مُخْتَصَرًا (¬1). وقِيلَ: آكَدُها لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وعِشْرِين؛ لأَنَّه رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِن السَّبْعِ الأوَاخِرِ» (¬2). ورُوِىَ عن بعضِ الصحابَةِ أنَّه قال: لم نَكُنْ نَعُدُّ عَدَدَكُم هذا، وإنَّما نَعُدُّ مِن آخِرِ الشَّهْرِ. يَعْنِي أنَّ السابِعَةَ والعِشْرِينَ هى أوَّلُ لَيْلَةٍ مِن السَّبْعِ الأواخِرِ. وقيل: آكَدُها لَيْلَةُ إحْدَى وعِشْرِين؛ لِما روَى أبو سَعِيدٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثمَّ أُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي الْوِتْرِ، وَإنِّى رَأَيْتُ أنِّى أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ». قال: ¬

(¬1) في: باب في ليلة القدر، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 318. كما أخرجه البيهقى، في: باب الترغيب في طلبها ليلة ثلاث وعشرين، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 309، 310. (¬2) أخرج البيهقى معناه، في: باب الترغيب في طلبها ليلة ثلاث وعشرين، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجاءَتْ سَحَابَةٌ، فمَطَرَتْ حتى سال سَقْفُ المَسْجِدِ، وكان مِن جَرِيدِ النَّخْلِ، فأُقِيمَتِ الصلاةُ، فرَأَيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ في الماءِ والطِّينِ، حتى رَأَيْتُ أثَرَ الماءِ والطِّينِ في جَبْهَتِه. وفي حَدِيثٍ: «فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): قد رُوِىَ أنَّها لَيْلَةُ إِحْدَى وعِشْرِينَ، وليلةُ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ، وليلةُ خَمْسٍ وعِشْرِين، ولَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِين، وليلةُ تِسْعٍ وعِشْرِين، وآخِرُ ليلةٍ. وقال أبو قِلابَةَ: إنَّها تَنْتَقِلُ في لَيالِى العَشْرِ. قال الشافعىُّ: كان هذا عِنْدِى، واللهُ أعْلَمُ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُجِيبُ على نَحْوِ ما يُسْأَلُ. فعلى هذا كانَتْ في السَّنَةِ التي رَأَى أبو سعيدٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ في الماءِ والطِّينِ ليلةَ إحْدَى وعِشْرِين، وفي السَّنَةِ التي أمَر عبدَ اللهِ بنَ أُنَيْسٍ ليلةَ ثَلاثٍ وعِشْرِين، وفي السَّنَةِ التي رَأَى ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الاعتكاف في العشر الأواخر. . . .، وباب الاعتكاف وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيحة عشرين، وباب من خرج من اعتكافه عند الصبح، من كتاب الاعتكاف. وفي: باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، وباب تحرى ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر فيه، من كتاب ليلة القدر. صحيح البخاري 3/ 59، 60، 62، 64 - 66. ومسلم، في: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 824، 825. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من قال: ليلة إحدى وعشرين، من باب تفريع أبواب شهر رمضان، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 319. والنسائي، في: باب ترك مسح الجبهة بعد التسليم، من كتاب السهو 3/ 67. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ليلة القدر، من كتاب الاعتكاف. الموطأ 1/ 319. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 7، 24، 60. (¬2) في: باب ما جاء في ليلة القدر، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 7، 8. وفيه كلام أبي قلابة والشافعى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُبَىُّ بنُ كَعْبٍ عَلامَتَها، ليلةَ سَبْعٍ وعِشْرِين، وقد تُرى عَلامَتُها في غيرِ هذه اللَّيالِى. قال بعضُ أهْلِ العِلْمِ: أبْهَمَ اللهُ هَذه الليلةَ على الأُمَّةِ؛ ليَجْتَهِدُوا في طَلَبِها، ويَجِدُّوا في العِبادَةِ في الشَّهْرِ كُلِّه، طَمَعًا في إدْراكِها، كما أَخْفَى ساعَةَ الإِجابَةِ في يَوْمِ الجُمُعَةِ؛ ليُكْثِرُوا مِن الدُّعاءِ في اليَوْمِ كُلِّه، وأخْفَى اسْمَه الأعْظَمَ في الأسْماءِ، ورِضاه في الطّاعاتِ؛ ليَجْتَهِدُوا في جَمِيعِها، وأخْفَى الأَجَلَ وقِيامَ السّاعَةِ، ليَجِدَّ الناسُ في العَمَلِ، حَذَرًا منها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَشْهُورُ مِن عَلامَتِها ما ذَكَرَه أُبَىُّ بنُ كعبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِن صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها. وفي بَعْضِ الأحادِيثِ: «بَيْضَاءَ مِثْلَ الطَّسْتِ» (¬1). ورُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّها لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ (¬2) سَمْحَةٌ، لا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ صَبِيحَتِهَا لَا شُعَاعَ لَهَا (¬3). ¬

(¬1) انظر تخريج حديث أبي بن كعب المتقدم في صفحة 554. (¬2) بلجة: أى مشرقة. (¬3) أخرجه الطبرانى، في: المعجم الكبير 22/ 59. وذكره الهيثمى وقال: وفيه بشر بن عون عن بكار بن تميم، وكلاهما ضعيف. مجمع الزوائد 3/ 178، 179. وأخرجه ابن أبى شيبة موقوفا عن الحسن البصري. المصنف 3/ 77.

1106 - مسألة: ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء (ويدعو فيها بما روى عن عائشة، أنها قالت: يا رسول الله، إن وافقتها بم أدعو؟ قال: «قولى: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني»)

وَيَدْعُو فِيهَا بِمَا رُوِىَ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عَنْهَا، [59 ظ] أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ وَافَقْتُهَا فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: «قُولِى: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّى». ـــــــــــــــــــــــــــــ 1106 - مسألة: ويُسْتَحَبُّ أن يَجْتَهِدَ فيها في الدُّعاءِ (ويَدْعُوَ فيها بما رُوِىَ عن عائِشةَ، أنَّها قالت: يا رسولَ اللهِ، إن وافَقْتُها بِمَ أَدْعُو؟ قال: «قُولِى: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي») (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا يوسف بن عيسى، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 13/ 45. وابن ماجه، في: باب الدعاء بالعفو والعافية، من كتاب الدعاء. سنن ابن ماجه 2/ 1265. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 171، 182، 183، 208، 258.

كتاب الاعتكاف

كِتَابُ الاِعْتِكَافِ وَهُوَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الاعْتِكافِ (وهو لُزُومُ المَسْجِدِ لطاعَةِ اللهِ تَعالَى) الاعْتِكافُ في اللُّغَةِ: لُزُومُ الشئِ، وحَبْسُ النَّفْسِ عليه، بِرًّا كان أو غيرَه، ومنه قَوْلُه تَعالَى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬1). قال الخَلِيلُ: عَكَف يَعْكُفُ ويَعْكِفُ. وهو في الشَّرْعِ: الإِقامَةُ في المَسْجِدِ لطاعَةِ اللهِ تَعالَى على صِفَةٍ نَذْكُرُها، وهو قُرْبَةٌ وطاعَةٌ. قال اللهُ تَعالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} (¬2)، وقالت عائِشَةُ: كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَواخِرَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وروَى ابنُ ماجه، في «سُنَنِه» (¬4) عن ابنِ ¬

(¬1) سورة الأعراف 138. (¬2) سورة البقرة 125. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها، وباب اعتكاف النساء، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 3/ 62، 63. ومسلم، في: باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، من كتاب الاعتكاف. صحيح مسلم 2/ 830. كما أخرجه أبو داود، في: باب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 573، 574. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 50، 92، 168، 169، 232، 279. (¬4) في: باب في ثواب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 567.

1107 - مسألة: (وهو سنة، إلا أن ينذره، فيجب)

وَهُوَ سُنَّةٌ، إِلَّا أَنْ يَنْذِرَهُ، فَيَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عباسٍ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في المُعْتَكِفِ: «هُوَ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ، ويُجْرَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا». إلَّا أنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ، فيه فَرْقَدُ السَّبَخِىُّ (¬1). قال أبو داودَ: قُلْتُ لأحْمَدَ، رَحِمَه اللهُ: تَعْرِفُ في فَضْلِ الاعْتِكافِ شيئًا؟ قال: لا، إلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا. 1107 - مسألة: (وهو سُنَّةٌ، إلَّا أن يَنْذِرَه، فيَجِبُ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في اسْتِحْبابِه، وأنَّه إذا نَذَرَه وَجَب عليه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على أنَّ الاعْتكافَ لا يَجِبُ على الناس فَرْضًا، إلَّا أن يُوجِبَ المَرْءُ على نَفْسِه الاعْتِكافَ نَذْرًا، فيَجِبُ عليه. ويَدُلُّ على أنَّه سُنَّةٌ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه، وداوَمَ عليه تَقَرُّبًا إلى اللهِ وطَلَبًا لثَوابِه، واعْتَكَفَ أزْواجُه بعدَه ومعه، ويَدُلُّ على أَنَّه غيرُ واجِبٍ، أنَّ أصحابَه لم يَعْتَكِفُوا، ولا أَمَرَهُم النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - به، إلَّا مَن أرادَه. وقال عليه السَّلامُ: «مَنْ أَرَادَ أنْ يَعْتَكِفَ، فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» (¬2). ولو كان واجِبًا لم يُعَلِّقْه بالإِرادَةِ. وأمَّا ¬

(¬1) في النسخ: «السنجى» خطأ. وانظر ترجمته في: تهذيب الكمال 23/ 164 - 170. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب فضل ليلة القدر، من كتاب الاعتكاف. صحيح مسلم 2/ 825. من حديث أبي سعيد الخدرى في حديث طويل بلفظ: «من أحب أن يعتكف فليعتكف». وأخرج البخاري الحديث بدون هذا اللفظ، في: باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 3/ 63. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ليلة القدر، من كتاب الاعتكاف. الموطأ 1/ 319.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا نَذَرَه فيَجِبُ؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ». وعن عُمَرَ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرامِ. فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». رَواهُما البخارىُّ (¬1). فصل: فإن نَوَى الاعْتِكافَ مُدَّةً، لم تَلْزَمْه، فإن شَرَع فيها، فله إتْمامُها والخُروجُ منها متى شاء. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: يَلْزَمُه بالنِّيَّةِ مع الدُّخُولِ فيه، فإن قَطَعَه فعليه قَضاؤُه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): لا يَخْتَلِفُ في ذلك الفُقَهاءُ، ويَلْزَمُه القَضاءُ عندَ جَمِيعِ العُلَماءِ. وقال: ¬

(¬1) الأول، أخرجه في: باب النذر في الطاعة وما أنفقتم من نفقة، وباب النذر فيما لا يملك وفي معصية، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 8/ 177. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في النذر في المعصية، من كتاب الأيمان. سنن أبي داود 2/ 208. والترمذي، في: باب من نذر أن يطيع الله فليطعه، من أبواب النذور. عارضة الأحوذى 7/ 5. والنسائي، في: باب النذر في الطاعة، وباب النذر في المعصية، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 16، 17. وابن ماجه، في: باب النذر في المعصية، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 687. والدارمى، في: باب لا نذر في معصية الله، من كتاب النذور. سنن الدارمى 2/ 184. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله، من كتاب النذور. الموطأ 2/ 476. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 36، 41، 224. والثانى، أخرجه في: باب الاعتكاف ليلا، وباب من لم ير عليه صوما إذا اعتكف، وباب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم. من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 3/ 63، 66، 67. كما أخرجه مسلم، في: باب نذر الكافر وما يفعله فيه إذا أسلم، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1277. وأبو داود، في: باب من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإِسلام. من كتاب الأيمان. سنن أبي داود 2/ 217. والترمذي، في: باب ما جاء في وفاء النذر، من أبواب النذور. عارضة الأحوذى 7/ 22، 23. وابن ماجه، في: باب الوفاء بالنذر، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 687. (¬2) في: الاستذكار 10/ 306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يَدْخُلْ فيه، فالقَضاءُ مُسْتَحَبٌّ. ومِن العُلَماءِ مَن أَوْجَبَه، وإن لم يَدْخُلْ فيه، واحْتَجَّ بما رُوِىَ عن عائِشَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، كان يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، فاسْتَأْذَنَتْه عائِشَةُ، فأَذِنَ لها، فأمَرَتْ ببِنائِها فضُرِبَ، وسَألتْ حَفْصَةُ أن تَسْتَأْذِنَ لها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ففَعَلَتْ، فأَمَرَتْ ببِنائِها فضُرِبَ، فلَمّا رَأَتْ ذلك زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ ببِنائِها فضُرِبَ. قال: فكان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَل مُعْتَكَفَهُ، فلَمّا صَلَّى الصُّبْحَ انْصَرَفَ، فبَصُرَ بالأبْنِيَةِ، فقالَ: «مَا هَذا؟». فقالُوا: بِناءُ عائِشةَ، وحَفْصَةَ، وزَيْنَبَ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبِرَّ أَرَدْتُنَّ؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ». فرَجَعَ، فلمّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِن شَوّالٍ. مُتَّفَقٌ على مَعْناه (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ تَتَعَلَّقُ بالمَسْجِدِ، فلَزِمَتْ بالدُّخُولِ فيها، كالحَجِّ. وما ذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ فليس بشئٍ، فإنَّ هذا ليس بإجْماعٍ، ولا يُعْرَفُ هذا القَوْلُ عن أحَدٍ سِواه، وقد قال الشافعىُّ: كُلُّ عَمَلٍ لك أن لا تَدْخُلَ فيه، فإذا دَخَلْتَ فيه فخَرَجْتَ منه، فليس عليك أن تَقْضِىَ، إلَّا الحَجَّ والعُمْرَةَ. ولم يَقَعِ الإِجْماعُ على لُزُومِ نافِلَةٍ بالشُّرُوعِ فيها، سوى الحَجِّ والعُمْرَةِ، وإذا كانتِ العِباداتُ التي لها أصْلٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 3/ 67. ومسلم، في: باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه، من كتاب الاعتكاف. صحيح مسلم 2/ 831. كما أخرجه أبو داود، في: باب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 573. والنسائي، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوُجُوبِ لا تَلْزَمُ بالشُّرُوعِ، فما ليس له أصْلٌ في الوُجُوبِ أَوْلَى، وقد انْعَقَدَ الإِجْماعُ على أنَّ الإِنْسانَ لو نَوَى الصَّدَقَةَ بمالٍ مُقَدَّرٍ، وشَرَع في الصَّدَقَةِ به، فأَخْرَجَ بَعْضَه، لم تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بباقِيه، وهو نَظِيرٌ للاعْتِكافِ، لأنَّه غيرُ مُقَدَّرٍ بالشَّرْعِ، فأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ، وما ذَكَرَه مِن الحَدِيثِ حُجَّةٌ عليه؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، تَرَك اعْتِكافَه، ولو كان واجِبًا ما تَرَكَه، وأزْواجُه تَرَكْنَ الاعْتِكافَ بعدَ نِيَّتِه وضَرْبِ الأبْنِيَةِ له، ولم يُوجَدْ عُذْرٌ يَمْنَعُ فِعْلَ الواجِبِ، ولا أُمِرْنَ بالقَضاءِ، وقَضاءُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكُنْ لوُجُوبِه عليه، وإنَّما فَعَلَه تَطَوُّعًا؛ لأنَّه كان إذا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَه، فكانَ فِعْلُه لقَضائِه على سَبِيلِ التَّطَوُّعِ، كما قَضَى السُّنَّةَ التي فاتَتْه بعدَ الظُّهْرِ وقبلَ الفَجْرِ، فتَرْكُه دَلِيلٌ على عَدَمِ وُجُوبِه، وقَضاؤُه لا يَدُلُّ على الوُجُوبِ؛ لأنَّ قَضاءَ السُّنَنِ مَشْرُوعٌ. فإن قِيلَ: إنَّما جاز تَرْكُه، ولم يُؤْمَرْ تارِكُه مِن النِّساءِ بقَضائِه، لتَرْكِهِنَّ إيّاه قبلَ الشُّرُوعِ. قُلْنا: فقد سَقَط الاحْتِجاجُ؛ لاتِّفاقِنا على أَنَّه لا يَلْزَمُ قبلَ شُرُوعِه فيه، فلم يَكُنِ القَضاءُ دَلِيلاً على الوُجُوبِ، مع الاتِّفاقِ على انْتِفائِه. ولا يَصِحُّ قِياسُه على الحَجِّ والعُمْرَةِ؛ لأنَّ الوُصولَ إلَيْهِما لا يَحْصُلُ في الغالِبِ إلَّا بعدَ كُلْفَةٍ عظيمةٍ، ومَشَقَّةٍ شديدَةٍ، وإنْفاقِ مالٍ كَثِيرٍ، ففى إبْطالِهما تَضْيِيعٌ لمالِه، وإبْطالٌ ¬

_ = في: باب ضرب الخباء في المساجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 35. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من يبتدئ الاعتكاف وقضاء الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 563. والإمام مالك، في: باب قضاء الاعتكاف، من كتاب الاعتكاف. الموطأ 1/ 316. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 84، 226.

1108 - مسألة: (ويصح بغير صوم. وعنه، لا يصح. فعلى هذا، لا يصح في ليلة مفردة، ولا بعض يوم)

وَيَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَصِحُّ فِي لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَعْمالِه الكثيرَةِ، وقد نُهِينا عن إضاعَةِ المالِ، وإبْطالِ الأعْمالِ، وليس في تَرْكِ الاعْتِكافِ بعدَ الشُّرُوعِ فيه مالٌ يَضِيعُ، ولا عَمَلٌ يَبْطُلُ، فإنَّ ما مَضَى مِن اعْتِكافِه لا يَبْطُلُ بتَرْكِ اعْتِكافِ المُسْتَقْبَلِ، ولأنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بالمَسْجِدِ الحَرامِ على الخُصُوصِ، والاعْتِكَافُ بخِلافِه. 1108 - مسألة: (ويَصِحُّ بغيرِ صومٍ. وعنه، لا يَصِحُّ. فعلى هذا، لا يَصِحُّ في ليلةٍ مُفْرَدَةٍ، ولا بعضِ يومٍ) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ الاعْتِكافَ يَصِحُّ بغيرِ صومٍ، يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والحسنِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصومَ شَرْطٌ فيه، قال: إذا اعْتَكَفَ يَجِبُ عليه الصومُ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعائِشَةَ. وبه قال الزُّهْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، والحسنُ بنُ حَىٍّ (¬1)؛ لِما رُوِىَ عن عائشةَ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ» (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ جَعَل عليه أن يَعْتَكِفَ في الجاهِلِيَّةِ، فسَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «اعْتَكِفْ، وصُمْ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأَنَّه لُبْثٌ في مَكانٍ مَخْصُوصٍ، فلم يَكُنْ بمُجَرَّدِه قُرْبَةً، كالوُقُوفِ. ولَنا، ما رُوِىَ عن عُمَرَ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أعْتَكِفَ ليلةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». رَواه البخارىُّ (¬4). ولو كان الصومُ شَرْطًا، لَمَا صَحَّ اعْتِكافُ ¬

(¬1) هو الحسن بن صالح بن حى الهمدانى الكوفى، الفقيه العابد، قال ابن حبان: كان فقيها ورعا من المتقشفة وممن تجرد للعبادة ورفض الرياسة، على تشيع فيه. ولد سنة مائة، وتوفى سنة تسع وستين ومائة. تهذيب الكمال 7/ 361 - 371. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: باب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن الدارقطني 2/ 200. وقال: تفرد به سويد عن سفيان بن حسين. وأخرجه البيهقى، في: باب المعتكف يصوم، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 317. وقال: هذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد بن عبد العزيز، وسويد بن عبد العزيز ضعيف بمرة لا يقبل منه ما تفرد به. (¬3) في: باب المعتكف يعود المريض، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 576. وحكى البيهقى تضعيفه. انظر: السنن الكبرى 4/ 316، 317. وقال ابن حجر: من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف. فتح البارى 4/ 274. كما أخرجه الدارقطني، في: باب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 200. وقال: تفرد به ابن بديل عن عمرو، وهو ضعيف الحديث. (¬4) تقدم تخريجه قي صفحة 563.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّيْلِ (¬1)؛ لأَنَّه لا صِيامَ فيه، ولأَنَّه عِبادَةٌ تَصِحُّ في اللَّيْلِ، فلم يُشْتَرَطْ له الصيامُ، كالصلاةِ، وسائِرِ العِباداتِ، ولأنَّ إيجابَ الصومِ حُكْمٌ لا يَثْبُتُ إلَّا بالشَّرْعِ، ولم يَصِحَّ فيه نَصٌّ ولا إجْماعٌ، فإنَّ أحادِيثَهم لا تَصِحُّ. أمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فتَفَرَّدَ به ابنُ بُدَيْلٍ (¬2). وهو ضَعِيفٌ. قال أبو بَكْرٍ النَّيْسابُورِىُّ: هذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. والصَّحِيحُ ما رَوَيْناه. أخْرَجَه البخارىُّ، والنَّسَائِىُّ، وغيرُهما. وحَدِيثُ عائِشَةَ مَوْقُوفٌ عليها، ومَن رَفَعَه فقد وَهِمَ، ثمَّ لو صَحَّ فالمُرادُ به الاسْتِحْبابُ؛ فإنَّ الصومَ فيه أَفْضَلُ، ¬

(¬1) وقع في رواية شعبة عن عبيد الله عند مسلم: يوما. انظر صحيح مسلم 3/ 1277. (¬2) هو عبد الله بن بديل بن ورقاء، صدوق يخطئ. تقريب التهذيب 1/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقِياسُهم يَنْقَلِبُ عليهم، فإنَّه لُبْثٌ في مَكانٍ مَخْصُوصٍ، فلم يُشْتَرَطْ له الصومُ، كالوُقُوفِ، ثمَّ نَقُولُ بمُوجِبِه، فإنَّه لا يَكُونُ قُرْبَةً بمُجَرَّدِه، بل بالنِّيَّةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسْتَحَبُّ أن يَصُومَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَعْتَكِفُ وهو صائِمٌ، ولأنَّ المُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ له التَّشاغُلُ بالعِباداتِ والقُرَبِ، والصومُ مِن أَفْضَلِها، ويَتَفَرَّغُ به مِمَّا يَشْغَلُه عن العِباداتِ، ويَخْرُجُ به مِن الخِلافِ. فصل: وإذا قُلْنا باشْتِراطِ الصومِ، لم يَصِحَّ اعْتِكافُ لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ، ولا بعضِ يَوْمٍ، ولا ليلةٍ وبعضِ يَوْمٍ؛ لأنَّ الصومَ المُشْتَرَطَ لا يَصِحُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أقَلَّ مِن يومٍ، ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ في بَعْضِ اليومِ، إذا صام اليومَ كُلَّه؛ لأنَّ الصومَ المَشْرُوطَ وُجِد في زمانِ الاعْتِكافِ، ولا يُعْتَبَرُ وُجُودُ المَشْرُوطِ في زَمَنِ الشَّرْطِ كُلِّه.

1109 - مسألة: (وليس للمرأة الاعتكاف إلا بإذن زوجها، ولا للعبد إلا بإذن سيده)

وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ لِلْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَا لِعَبْدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1109 - مسألة: (وليس للمرأَةِ الاعْتِكافُ إلَّا بإذنِ زَوْجِها، ولا للعَبْدِ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه) وذلك لأنَّ مَنافِعَهُما مَمْلُوكَةٌ لغيرِهِما، والاعْتِكافُ يُفَوِّتُها ويَمْنَعُ اسْتِيفَاءَها، وليس بواجِبٍ عليهما بالشَّرْعِ، فكانَ لهما المَنْعُ منه. وأُمُّ الوَلَدِ والمُدَبَّرُ كالقِنِّ في هذا؛ لأنَّ المِلْكَ باقٍ فيهما لهما.

1110 - مسألة: (فإن شرعا فيه بغير إذن، فلهما تحليلهما، وإن كان بإذن، فلهما تحليلهما إن كان تطوعا، وإلا فلا)

فَإِنْ شَرَعَا فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ، فَلَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1110 - مسألة: (فإن شَرَعا فيه بغيرِ إذنٍ، فلهما تَحْلِيلُهما، وإن كان بإذْنٍ، فلهما تَحْلِيلُهما إن كان تَطَوُّعًا، وإلَّا فلا) إذا اعْتَكَفَتِ الزَّوْجَةُ بغيرِ إذْنِ زَوْجِها، أو العَبْدُ بغيرِ إذْنِ السَّيِّدِ، فلهما مَنْعُهما منه، وإن كان فَرْضًا؛ لأَنَّه يَتَضَمَّنُ تَفْوِيتَ حَقِّ غَيْرِهما بغيرِ إذْنِه، فكانَ لصاحِبِ الحَقِّ المَنْعُ منه، كالغَصْبِ، وإذا أَذِن السَّيِّدُ، والزَّوْجُ في الاعْتِكافِ، ثمَّ أرادا إخْرَاجَهُما منه بعدَ شُرُوعِهِما فيه، فلهما ذلك في التَّطَوُّعِ. وبه قال الشافعىُّ، وأبو حنيفةَ في العَبْدِ، وقال في الزَّوْجَةِ: ليس لزَوْجِها إخْراجُها؛ لأنَّها تَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ، فبالإِذْنِ أسْقَطَ حَقَّه مِن مَنافِعِها، وأَذِنَ لها في اسْتِيفَائِها، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ فيها، كما لو أَذِن لها في الحَجِّ،

1111 - مسألة: (وللمكاتب أن يعتكف ويحج بغير إذن)

وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَحُجَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأحْرَمَتْ به، بخِلافِ العَبْدِ؛ فإنَّه لا يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ. وقال مالكٌ: ليس له تَحْلِيلُهما؛ لأنَّهُما عَقَدا على أَنْفسِهما تَمْلِيكَ مَنافِعَ كانا يَمْلِكانِها لحَقِّ اللهِ تَعالَى، فلم يَجُزِ الرُّجُوعُ فيها، كما لو أحْرَمَا بالحَجِّ بإذْنِهما. ولَنا، أنَّ لهما المَنْعَ منه ابْتِدَاءً، فكانَ لهما المَنْعُ منه دَوامًا، كالعارِيَّةِ، ويُخالِفُ الحَجَّ؛ فإنَّه يَلْزَمُ بالشُّرُوعِ فيه، ويَجِبُ المُضِىُّ في فاسِدِه، بخِلافِ الاعْتِكافِ، على ما مَضَى مِن الاخْتِلافِ. فصل: وإن كان ما أَذِنا فيه مَنْذُورًا، لم يَكُنْ لهما تَحْلِيلُهما منه؛ لأنَّه يَتَعَيَّنُ بالشُّرُوعِ فيه، وَيَجِبُ إِتْمامُه، فيَصِيرُ كالحَجِّ إذا أَحْرَما به، فأمّا إن نَذَر الاعْتِكافَ، فأرادَ السَّيِّدُ والزَّوْجُ مَنْعَهما الدُّخُولَ فيه، فإن كان النَّذْرُ بإذْنِهِما، وكان مُعَيَّنًا، لم يَمْلِكا مَنْعَهُما منه؛ لأنَّه وَجَب بإِذْنِهما، وإن كان النَّذْرُ المَأْذُونُ فيه غيرَ معيَّنٍ، فشَرَعا فيه بإذْنِهِما، لم يَمْلِكا مَنْعَهُما منه؛ لأَنَّه يَتَعَيَّنُ بالدُّخُولِ فيه، فهو كالمُعَيَّنِ بالنَّذْرِ. وإن كان النَّذْرُ بإذْنٍ، وكان غيرَ مُعَيَّنٍ، والشُّرُوعُ بغيرِ إذْنٍ، لم يَجُزْ تَحْلِيلُهما، كما لو أذِنَ في الشُّرُوعِ خاصَّةً، ويَحْتَمِلُ أنَّ لهما تَحْلِيلَهُما. 1111 - مسألة: (وللمُكاتَبِ أن يَعْتَكِفَ ويَحُجَّ بغيرِ إذْنٍ)

1112 - مسألة: (ومن بعضه حر، إن كان بينهما مهايأة

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، إِنْ كانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَحُجَّ فِي نَوْبَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ كان فَرْضًا أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّ السَّيِّدَ لا يَسْتَحِقُّ مَنافِعَه، ولا يَمْلِكُ إجْبارَه على الكَسْبِ، وإنَّما له دَيْنٌ في ذِمَّتِه، فهو كالحُرِّ المَدِينِ. 1112 - مسألة: (ومَن بعضُه حُرٌّ، إن كان بينَهُما مُهايَأَةٌ (¬1)، فله أن يَعْتَكِفَ في نَوْبَتِه) بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّ مَنافِعَه غيرُ مَمْلُوكَةٍ لسَيِّدِه في ذلك الزَّمَنِ، وحُكْمُه في نَوْبَةِ سَيِّدِه حُكْمُ القِنِّ. فإن لم يَكُنْ بَيْنَهُما ¬

(¬1) المهايأة: أن يكون لسيده يوما ولنفسه يوما.

1113 - مسألة: (ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، إلا المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها)

وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فِيهِ، إِلَّا الْمَرْأَةَ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا مَسْجِدَ بَيْتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُهايَأَةٌ، فلسَيِّدِه مَنْعُه؛ لأَنَّ له مِلْكًا في منافِعِه في جَمِيعِ الأَوْقاتِ. فصل: ولا يَصِحُّ بغيرِ نِيَّةٍ؛ لأنَّه عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، أَشْبَهَ الصومَ. وإن كان فَرضًا لَزِمَه نِيَّةُ الفَرْضِيَّةِ؛ ليَتَمَيَّزَ عن التَّطَوُّعِ، فإن نَوَى الخُرُوجَ منه، ففيه وَجْهان؛ أَحَدُهما، يَبْطُلُ، كما لو قَطَع نِيَّةَ الصومِ. والثانى، لا يَبْطُلُ؛ لأنَّها قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بمَكانٍ، فلا يَخْرُجُ منها بنِيَّةِ الخُرُوجِ، كالحَجِّ. 1113 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الاعْتِكافُ إلَّا في مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فيه، إلَّا المَرْأَةَ لها الاعْتِكافُ في كلِّ مسجدٍ إلَّا مسجدَ بَيْتِها) لا يَجُوزُ للرجلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاعْتِكافُ في غيرِ مَسْجِدٍ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا بينَ أهْلِ العلمِ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬1). فخَصَّها بذلك، ولو صَحَّ الاعْتِكافُ في غيرِها، لم يَخْتَصَّ بتَحْرِيمِ المُباشَرَةِ فيها؛ فإنَّ المُباشَرَةَ مُحَرَّمَةٌ في الاعْتِكافِ مُطْلَقًا. وفي حَدِيثِ عائِشَةَ، قالت: إن كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليُدْخِلُ إِلىَّ رَأْسَه وهو في المَسْجِدِ، فأُرَجِّلُه، وكان لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلَّا لحاجَةٍ إذا كان مُعْتَكِفًا (¬2). وقَوْلُه: إلَّا في مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فيه. أي تُقامُ فيه الجَماعَةُ. وإنَّما اشْتَرَطَ ذلك؛ لأنَّ الجَماعَةَ واجِبَةٌ، فاعْتِكافُ الرجلِ في مَسْجِدٍ لا تُقامُ فيه يُفْضِى إلى أحَدِ أمْرَيْن؛ إمّا تَرْكُ الجَماعَةِ الواجِبَةِ، وإمّا خُرُوجُه إليها، فيَتَكَرَّرُ ذلك منه كَثِيرًا، مع إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه، وذلك مُنافٍ للاعْتِكافِ، إذ هو لُزُومُ الإِقامَةِ في المَسْجِدِ على طاعَةِ اللهِ. فعلى هذا يجوزُ الاعْتِكافُ في كلِّ مَسْجِدٍ تُقامُ فيه الجَماعَةُ. ورُوِىَ عن حُذَيْفَةَ، وعائِشَةَ، والزُّهْرِىِّ، ما يَدُلُّ على هذا. واعْتَكَفَ أبو قِلابَةَ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ في مَسْجِدِ حَيِّهما. ورُوِىَ عن عائِشَةَ، والزُّهْرِىِّ، أنَّه لا يَصِحُّ إلَّا في مَساجِدِ الجماعاتِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 187. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب لا يدخل البيت إلا لحاجة، من كتاب الاعتكاف. صحيح البخاري 3/ 63. ومسلم، في: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها. . . .، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 244. والترمذى، في: باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 4/ 16. والإمام مالك، في: باب ذكر الاعتكاف، من كتاب الاعتكاف. الموطأ 1/ 312. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 81، 104، 181، 189، 204، 234، 235، 247، 262، 264، 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قَوْلُ الشافعىِّ، إذا كانتِ الجُمُعَةُ تَتَخَلَّلُ اعْتِكافَه؛ لئَلَّا يَلْتَزِمَ الخُرُوجَ مِن مُعْتَكَفِهِ لِما يُمْكِنُه التَّحَرُّزُ مِن الخُرُوجِ إليه. ورُوِىَ عن حُذَيْفَةَ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: لا يَجُوزُ الاعْتِكافُ إلَّا في مَسْجِدِ نَبِىٍّ (¬1). وحُكِىَ عن حُذَيْفَةَ، أنَّ الاعْتِكافَ لا يَصِحُّ إلَّا في أحَدِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ. قال سَعِيدٌ: ثَنَا مُغِيرَةُ، عن إبراهيمَ، قال: دَخَل حُذَيْفَةُ مَسْجِدَ الكُوفَةِ، فإذا هو بِأبْنِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ، فسَألَ عنها، فقيل: قَوْمٌ مُعْتَكِفُون. فانْطَلَقَ إلى ابنِ مسعودٍ، فقال: ألَا تَعْجَبُ مِن قَوْمٍ يَزْعُمُون أنَّهُم مُعْتَكِفُون بينَ دارِك ودارِ الأشْعَرِىِّ؟ فقال عبدُ اللهِ: لَعَلَّهُم أصابُوا وأخْطَأْتَ، وحَفِظُوا ونَسِيتَ. فقال حُذَيْفَةُ: لقد عَلِمْتُ ما الاعْتِكافُ إِلَّا في ثلاثَةِ مَساجِدَ؛ المَسْجِدِ الحرامِ، والمَسْجِدِ الأَقْصَى، ومَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال مالكٌ: يَصِحُّ الاعْتِكافُ في كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لعُمومِ قولِه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. وهو قَوْلُ الشافعىِّ إذا لم يَتَخَلَّلِ اعْتِكافَه جُمُعَةٌ. ولنا، ما روَى الدّارَقُطْنِىُّ (¬3) بإسْنادِه، عن الزُّهْرِىِّ، عن ¬

(¬1) انظر مصنف ابن أبي شيبة 3/ 90 - 92. فقد أخرج هذه الآثار وغيرها. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 91. وعبد الرزاق في مصنفه 4/ 347، 348. وعزاه الهيثمي إلى الطبرانى في الكبير، وقال: إبراهيم لم يدرك حذيفة. مجمع الزوائد 3/ 173. وأخرجه عبد الرزاق عن أبي وائل عن حذيفة. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في الموضع السابق أيضًا عن عبد الله بن مسعود، أنه كان لا يرى رأى حذيفة، ولعل هذا ما قصده بقوله له في الأثر المتقدم: لعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: باب الاعتكاف، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 201. والبيهقي، في: باب الاعتكاف في المسجد، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 315. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُرْوَةَ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عن عائِشَةَ، أنَّ السُّنَّةَ للمُعْتَكِفِ أن لا يَخْرُجَ إلَّا لحاجَةِ الِإنْسانِ، ولا اعْتِكافَ إلَّا في مَسْجِدِ جَماعَةٍ. وهو يَنْصَرِف إلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى سَعِيدٌ: ثَنَا هُشَيْمٌ، أنا جُوَيْبِرُ (¬1)، عن الضَّحّاكِ، عن حُذَيْفَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مَسْجدٍ لَهُ إِمَامٌ وَمُؤذِّنٌ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» (¬2). ولأنَّ قَوْلَه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. يَقْتَضِى إباحَةَ الاعْتِكافِ في كلِّ مَسْجِدٍ، إلَّا أنَّه يُقَيَّدُ بما تُقامُ فيه الجَماعَةُ بالأخْبارِ والمَعْنَى الذى ذَكَرْناه، فيَبْقَى على العُمُومِ فيما عَداه. واشْتَرَطَ الشافعىُّ أن يكونَ المَسْجِدُ مِمّا تُقامُ فيه الجُمُعَةُ، وهذا مُخالِفٌ للأخْبارِ المَذْكُورةِ، والجُمُعَةُ لا تَتَكَرَّرُ، فلا يَصِحُّ قِياسُها على الجَماعَةِ، ولا يَضُرُّ الخُرُوجُ إليها، كاعْتِكافِ المرأةِ مُدَّةً يتَخَلَّلُها أيَّامُ حَيْضِها. ولو كان الجامِعُ تُقامُ فيه الجُمُعَةُ وَحْدَها، لم يَجُزِ اعْتِكافُ الرجلِ فيه عندَنا. ويَصِحُّ عند مالكٍ، والشافعىِّ. ومَبْنَى ذلك ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب المعتكف يعود المريض، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 575، 576. وعنده: «مسجد جامع» بدل «مسجد جماعة». والحديث إسناده صحيح. انظر إرواء الغليل 4/ 139، 140. (¬1) في النسخ: «جرير» خطأ. والصواب من سنن الدارقطنى. وهو جويبر بن سعيد الأزدى. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 123. (¬2) أخرجه الدارقطنى في الباب السابق. سنن الدارقطنى 2/ 200. وقال: الضحاك لم يسمع من حذيفة. وأورده السيوطى في الجامع الصغير ورمز لضعفه، ونقل صاحب فيض القدير عن الذهبى أن هذا الحديث في نهاية الضعف، وفيه راو متهم بوضع الحديث. فيض القدير 5/ 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّ الجَماعَةَ واجِبَةٌ عندنا، فَيَلْزَمُ الخُروجُ إليها، وليست واجِبَةً عندَهم. فصل: فإن كان اعْتِكافُه في مدَّةٍ غيرِ وَقْتِ الصلاةِ؛ كلَيْلَةٍ أو بَعْضِ يَوْمٍ، جاز في كلِّ مَسْجِدٍ؛ لعَدَمِ المانِعِ. وإن كان تُقامُ فيه في بَعْض الزَّمانِ، جاز الاعْتِكافُ فيه في ذلك الزَّمَنِ دُونَ غيرِه. وإن كان المُعْتَكِفُ مِمَّنْ لا تَلْزَمُه الجماعَةُ؛ كالمَرِيضِ، والمَعْذُورِ، ومَنْ هو في قَرْيَةٍ لا يُصَلِّى فيها غيرُه، جاز اعْتِكافُه في كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لأنَّ الجَماعَةَ ساقِطَةٌ عنه، أشْبَهَ المرأةَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ ذلك للمَرِيضِ، والمَعْذُورِ؛ لأنَّه مِن أهْلِ الجَماعَةِ، فأشْبَهَ مَن تَجِبُ عليه، ولأنَّه إذا الْتَزَمَ الاعْتِكافَ، وكَلَّفَه نَفْسَه، فيَنبَغِى أن يَجْعَلَه في مكانٍ تُصَلَّى فيه الجَماعَةُ، ولأن من الْتَزَمَ ما لا يَلْزَمُه، لا يَصِحُّ بدُونِ شَرْطِه، كالمُتَطَوِّعِ بالصلاةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ مَن لا تَجِبُ عليه الجَماعَةُ لا يَجِبُ عليه الخُروجُ إليها، فلا يَفُوتُ شَرْطُ الاعْتِكافِ. ولو اعْتَكَفَ اثْنان أو أكْثَرُ في مَسْجِدٍ لا تُقامُ فيه الجَماعَةُ، فأقَاما الجَماعَةَ، صَحَّ اعْتِكافُهُم، لأنَّهُما أقاما الجَماعَةَ، أشْبَهَ ما لو أقامَها غيرُهما. فصل: فأمّا المرأةُ، فيَجُوزُ اعْتِكافُها في كلِّ مَسْجِدٍ؛ لأنَّ الجَماعَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَجِبُ عليها. وبهذا قال الشافعىُّ. وليس لها الاعْتِكافُ في بَيْتِها. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: لها الاعْتِكافُ في مَسْجِدِ بَيْتِها، وهو المَكانُ الذى جَعَلَتْه للصلاةِ منه (¬1). واعْتِكافُها فيه أفْضَلُ، كصلاِتها فيه. وحُكِىَ عن أبى حَنِيفَةَ، أنَّه لا يَصِحُّ اعْتِكافُها في مَسْجِدِ الجَماعَةِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَك الاعْتِكافَ في المَسْجِدِ، لمّا رَأى أبنِيَةَ أزْواجِه فيه، وقال: «آلْبِرَّ أرَدْتُنَّ؟» (¬2). ولأنَّ مَسْجِدَ بَيْتِها مَوْضِعُ فَضِيلَةِ صلاتِها، فكان مَوْضِعَ اعْتِكافِها، كالمَسْجدِ في حَقَّ الرجلِ. ولنا، قَوْلُه تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. والمُرادُ بها المَواضِعُ التى بُنِيَتْ للصلاةِ فيها، ومَوْضِعُ صلاِتها في بَيْتِها ليس بمَسْجدٍ؛ لأنَّه لم يُبْنَ للصلاةِ فيه، وتَسْمِيَتُه مَسْجِدًا مَجازٌ، فلا يَثْبُتُ له أحْكاَمُ المَساجِدِ الحَقِيقِيَّةِ، بدَلِيل جَوازِ لُبْثِ الجُنُبِ فيه، وصار كقَوْلِه عليه السلامُ: «جُعِلَتْ لِىَ الأرْضُ مَسْجِدًا» (¬3). ولأنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ اسْتَأْذَنَه أزْواجُه في الاعتِكافِ في ¬

(¬1) في الأصل: «فيه». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 564. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْجِدِ أذِن لهُنَّ، ولو لم يَكُنْ مَوْضِعًا لاعْتِكافِهِنَّ، لَمَا أذِن فيه، ولو كان الاعْتِكافُ في غيرِه أفْضَلَ، لنَبَّهَهُنَّ عليه، ولأنَّ الاعْتِكافَ قُرْبَة يُشْتَرَطُ لها المَسْجِدُ في حَقِّ الرَّجُلِ، فيُشْتَرَطُ في حَقِّ المرأةِ، كالطَّوافِ. وحَدِيثُ عائِشَةَ قد بَيَّنّا أنَّهُ حُجَّةٌ لنا، وإنَّما كَرِه اعْتِكافَهُنَّ في تلك الحالِ، حيث كثُرَتْ أبنِيَتُهُنَّ؛ لِما رَأى مِن مُنافَسَتِهِنَّ، فكَرِهَه لَهُنَّ؛ خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِن فَسادِ نِيَّتهِنَّ، ولذلك قال: «آلْبِرَّ أردْتُنَّ؟» مُنْكِرًا لذلك، أى لم تَفْعَلْنَ ذلك تَبَرُّرًا، ولو كان للمَعْنَى الذى ذَكَرُوه، لأمَرَهُنَّ بالاعْتِكافِ في بُيُوتِهِنَّ، ولم يَأْذَنْ لَهُنَّ في المَسْجِدِ. وأمّا الصلاةُ، فلا يَصِحُّ اعْتِبارُ الاعْتِكافِ بها، فإنَّ صلاةَ النّافِلَةِ للرَّجُلِ في بَيْتِه أفْضَل، ولا يَصِحُّ اعْتِكافُه فيه بالاتِّفاقِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اعْتَكَفَتِ المرأةُ في المَسْجِدِ، اسْتُحِبَّ لها أن تَسْتَتِرَ بشَئٍ؛ لأنَّ أزْواجَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أرَدْنَ الاعْتِكافَ أمَرْنَ بأبْنِيَتهِنَّ فَضُرِبَتْ في المَسْجِدِ، ولأنَّ المَسْجِدَ يَحْضُرُه الرِّجالُ، وخَيْرٌ لهم وللنِّساءِ أن لا يَرَى بَعْضُهم بَعْضًا. وإذا ضَرَبَتْ بِناءً جَعَلَتْه في مكانٍ لا يُصَلِّى فيه الرِّجالُ، لِئَلَّا تَقْطَعَ صُفُوفَهم، وتُضَيِّقَ عليهم. ولا بَأْسَ أنْ يَسْتَتِرَ الرجلُ أيضًا؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر ببِنائِه فضُرِبَ، ولأنَّه أَسْتَرُ لها وأخْفَى لعَمَلِه. وروَى ابنُ ماجه (¬1)، عن أبى سَعِيدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، على سُدَّتِها (¬2) قِطْعَةُ حَصِيرٍ. قال: فأخَذَ الحَصِيرَ بِيدِه، فنَحَّاها في ناحِيَةِ القُبَّةِ، ثم أطْلَعَ رَأْسَه، فكَلَّمَ النّاسَ. ¬

(¬1) في: كتاب الاعتكاف في خيمة المسجد، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 564. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل ليلة القدر. . . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 825. (¬2) السدة: باب الدار.

1114 - مسألة: (والأفضل الاعتكاف فى الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله)

وَالْأفْضَلُ الِاعْتِكَافُ فِى الْجَامِعِ إذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ تَتَخَلَّلُهُ. وَمَن نَذَرَ الِاعْتِكَافَ أوِ الصَّلَاةَ فِى مَسْجِدٍ، فَلَهُ فِعْلُهُ فِى غَيْرِه، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1114 - مسألة: (والأفْضَلُ الاعْتِكافُ في الجامِعِ إذا كانتِ الجُمُعَةُ تَتَخَلَّلُه) إذا كانتِ الجُمُعَةُ تَتَخَلَّل الاعْتِكافَ، فالأفْضَلُ أن يكونَ في المَسْجِدِ الذى تُقامُ فيه الجُمُعَةُ، لئَلَّا يَحْتاجَ إلى الخُروجِ إليها فيَتْرُكَ الاعْتِكافَ، مع إمْكانِ التَّحَرُّزِ مِن ذلك، ولأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ، على ما ذَكرناه، ولأنَّ ثَوابَ الجَماعَةِ فيه أكْثَرُ. 1115 - مسألة: (وإذا نَذَر الاعْتِكافَ أو الصلاةَ في مَسْجِدٍ،

إِلَا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاَثةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فله فِعْلُه في غَيْرِه) ولا كَفّارَةَ عليه (إِلَّا المَساجدَ الثَّلاثَةَ) وجُمْلَةُ ذلك أَنَّه لا يَتَعَيَّنُ شئٌ مِن المَساجِدِ بنَذرِه الاعْتِكافَ أو الصلاةَ فيه، إلَّا المَساجِدَ الثَّلاثَةَ، وهى المَسْجِدُ الحَرامُ، ومَسْجِدُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمَسْجِدُ الأقْصَى؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ؛ المسجِدِ الحَرامِ، والمسجِدِ الأقْصَى، ومسجِدِى هذا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1)، ولو تَعَيَّنَ غَيْرُها بتَعْيِينِه لَزِمَه المُضِىُّ إليه، واحْتاجَ إلى شَدِّ الرَّحْلِ لقضاءِ نَذْرِه فيه، ولأنَّ اللهَ تعالى لم يُعَيِّنْ لِعبادَتِه مَكانًا، فلم يَتَعَيَّنْ بتَعْيِينِ غيرِه، وإنَّما تَعَيَّنَتْ هذه المَسَاجِدُ للخَبَرِ الوارِدِ فيها، ولأنَّ العِبادَةَ فيها أفْضَلُ، فإذا عَيَّنَ ما فيه فَضِيلَةٌ لَزِمَتْه، كأنْواعِ العِبادَةِ. وبهذا (¬2) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 34. (¬2) في م: «ولهذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعىُّ، في صَحِيحِ قَوْلَيْه. وقال في الآخَرِ: لا يَتَعَيَّنُ المَسْجِدُ الأقْصَى؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «صَلَاةٌ فِى مَسْجِدِى هذا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وهذا ¬

(¬1) في: باب فضل الصلاة بمسجدى مكة والمدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم. 2/ 1012 - 1014. كما أخرجه البخارى، في: باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، من كتاب مسجد مكة. صحيح البخارى 2/ 76. والترمذى، في: باب ما جاء في أى المساجد أفضل، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذى 2/ 122. وابن ماجه، في: باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام. . . .، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 450، 451. والنسائى، في: باب فضل الصلاة في المسجد الحرام، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 168، 169. والدارمى، في: باب فضل الصلاة في مسجد النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 330. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 16، 29، 53، 54، 68، 102، 239، 251، 256، 277، 278، 386، 397، 466، 468، 473، 484، 485، 499، 4/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدُلُّ على التَّسْوِيَةِ، فيما عَدا هذَيْن المَسْجدَيْن؛ لأنَّ المَسْجِدَ الأقْصَى لو فُضِّلَتِ الصلاةُ فيه على غَيْرِه، يَلْزَمُ أحَدُ أَمْرَيْن؛ إمّا خُرُوجُه مِن عُمُومِ هذا الحَدِيثِ، وإمّا كَوْنُ فَضِيلَتِه بألْفٍ مُخْتَصًّا بالمسْجِدِ الأقْصَى. ولَنا، أنَّه مِنِ المَساجِدِ التى تُشَدُّ الرِّحالُ إليها، فَتَعَيَّنَ بالتَّعْيينِ في النَّذْرِ، كالآخرَيْن، وما ذَكَرَه لا يَلْزَمُ، فإنَّه إذا فُضِّلَ الفاضِلُ بألْفٍ، فقد فُضِّلَ المَفْضُولُ بها أيْضًا.

1116 - مسألة: (وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم)

وَأَفْضَلُهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ [60 و] , ثُمَّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ الْأَقْصَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1116 - مسألة: (وأفْضَلُها المَسْجِدُ الحَرامُ، ثم مَسْجدُ المَدِينَةِ، ثم) المَسْجِدُ (الأقْصَى) وقال قوْمٌ: مَسْجدُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أفْضَلُ مِن المَسْجِدِ الحرامِ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما دُفِنَ في خَيْرِ البقاعِ، وقد نَقَلَه اللهُ تعالى مِن مَكَّةَ إلى المَدِينةِ، فَدَلَّ على أنَّها أفْضَلُ. ولَنا، قَوْلُه عليه السلامُ: «صَلَاةٌ في مَسْجِدِى هذا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». وروَى ابنُ ماجَه (¬1)، بإِسْنادِه عن النَّبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «صلَاةٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أفْضَلُ مِن مِائَةِ ألْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» فيَدْخُلُ في عُمُومِه مَسْجِدُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام. . . .، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 451.

1117 - مسألة: (فإن نذره فى الأفضل، لم)

فَإِذَا نَذَرَهُ فِى الْأَفْضَلِ، لَمْ يَجُزْ فِى غَيْرِهِ، وَإنْ نَذَرَهُ فِى غَيْرِهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ فِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1117 - مسألة: (فإن نَذَرَه في الأَفْضَلِ، لم) يكُنْ له فِعْلُه (في غَيْرِه، وإن نَذَرَه في غيرِه، فله فِعْلُه فيه) إذا نَذَر الاعْتِكافَ في المَسْجِدِ الحَرامِ لَزِمَه، ولم يكُنْ له الاعْتِكافُ فيما سِواهُ؛ لأَنَّ عُمَرَ نَذَر أن يَعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، فسَألَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أوْفِ بنَذْرِكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وإن نَذَر أن يَعْتَكِف في مَسْجِدِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، جاز أن يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرامِ؛ لأنَّه أفْضَلُ، ولم يَجُزْ له أن يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الأقْصَى؛ لأَنَّ مَسْجِدَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أفْضَلُ منه، فلم يَجُز له تَفْوِيتُ فَضِيلَتِه، وإن نَذَر الاعْتِكافَ في المَسْجِدِ الأقْصَى، جاز به أن يَعْتَكِفَ في المَسْجِدَيْن الآخَرَيْن؛ لأنَّهُما أفْضَلُ منه. وروَى الإِمامُ أحمدُ في «مُسْنَدِه» (¬2)، عن رجالٍ مِن الأنْصارِ، مِن أصحابِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 563. (¬2) المسند 3/ 363، 5/ 373. كما أخرجه أبو داود، في: باب من نذر أن يصلى في بيت المقدس، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 211. والدارمى، في: باب من نذر أن يصلى في بيت المقدس. . . .، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمى 2/ 184، 185.

1118 - مسألة: (وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه الشروع فيه قبل دخول ليلته إلى انقضائه)

وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ الشُّرُوعُ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِ لَيْلَتِهِ إِلَى انْقِضَائِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلًا جاء إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، يومَ الفَتْحِ، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَجْلِسٍ قَرِيبًا مِن المَقامِ، فسَلَّمَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا نَبِىَّ اللهِ، إنِّى نَذَرْتُ إن فَتَح اللهُ للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - والمُؤْمِنِين مَكَّةَ، لأُصَلِّيَنَّ فِى بَيْتِ المَقْدِسِ، وإنِّى وَجَدْتُ رجلًا مِن أهلِ الشام ههُنا في قُرَيْشٍ، مُقْبِلًا مَعِى ومُدْبِرًا. فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ههُنا فَصَلِّ». فقال الرجلُ قَوْلَه هذا ثَلاثَ مَرّاتٍ، كلُّ ذلك يقُولُ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ههُنَا فَصَلِّ». ثم قال الرّابِعَةَ مَقالَتَه هذه، فقال النبىُّ: «اذْهَبْ، فَصَلِّ فِيهِ، فَوَالَّذِى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ ههُنَا لَقَضَى عَنْكَ ذلِكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». فصل: وإن نَذَر الاعْتِكافَ في غيرِ هذه المَساجِدِ، فدَخَلَ فيه، ثم انْهَدَم مُعْتَكَفُه، ولم يُمْكِنِ المُقامُ فيه، لَزِمَه إتْمامُ الاعْتِكافِ في غيرِه، ولم يَبْطُلِ اعْتِكافُه. 1118 - مسألة: (وإن نَذَر اعْتِكافَ شَهْرٍ بعَيْنهِ، لَزِمَه الشُّرُوعُ فيه قبلَ دُخُولِ لَيْلَتِه إلى انْقِضائِه) إذَا عَيَّنَ بنَذْرِه زَمَنًا تَعَيَّنَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَيَّنَ للعِبادَةِ زَمَنًا، فَتَعَيَّنَ بتَعْيِينِ العَبْدِ، ويَلْزَمُه الشُّرُوعُ فيه قبلَ دُخُولِ لَيْلَتِه إلى انْقِضائِه. وهذا قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ. وحَكَى ابنُ أبى مُوسَى، عن أحمدَ، رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه يَدْخُلُ في مُعْتَكَفِه قبلَ طُلوعِ الفَجْرِ مِن أوَّلِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قَوْلُ اللَّيْثِ، وزُفَرَ؛ لأَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أرادَ أن يَعْتَكِفَ صَلّى الصُّبْحَ، ثم دَخَل مُعْتَكَفَه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. ولا يَلْزَمُ الصَّوْمُ إلَّا مِن قَبْلِ طُلُوعِ الفَجْرِ. ولأنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ في الاعْتِكافِ، فلم يَجِبِ ابْتِداؤُه قبلَ شَرْطِه. ولَنا، أنَّه نَذَر الشَّهْرَ، وأوَّلُه غُروبُ الشَّمْسِ؛ بدَلِيلِ حَلِّ الديونِ المُعَلَّقَةِ به، ووُقُوعِ الطَّلاقِ والعَتاقِ المُعَلَّقَيْن به، فوَجَبَ أن يَدْخُلَ قبلَ الغُرُوبِ، ليَسْتَوْفِىَ جميعَ الشَّهْرِ، فإنَّه لا يُمْكِنُ إلَّا بذلك، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ، كإمْساكِ جُزْءٍ مِن اللَّيْلِ في الصَّوْمِ. وأمّا الصَّوْمُ فمَحَلُّه النَّهارُ، فلا يَدْخُلُ فيه شَئٌ مِن اللَّيلِ في أثْنائِه، ولا ابْتِدائِه، إلَّا ما حَصَل ضَرُورَةً، بخِلافِ الاعْتِكافِ. وأمّا الحَدِيثُ، فقال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا أعْلَمُ أحَدًا مِن الفُقَهاءِ قال به. على أنَّ الخَبَرَ إنَّما هو في التَّطَوُّعِ، فمتى شاء دَخَل (¬2)، وفى مَسْألَتِنا نَذَر شَهْرًا، فَيَلْزَمُه اعْتِكافُ شَهْرٍ كامِلٍ، ولا يَحْصُلُ إلَّا أن يَدْخُلَ فيه قبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِن أوَّلِه، ويَخْرُجَ بعدَ غُرُوبِها مِن آخِرِه، فأشْبَهَ ما لو نَذَر اعْتِكافَ يومٍ، فإنَّه، يَلْزَمُه الدُّخُولُ فيه قبلَ طُلُوعِ فَجْرِه، ويخرُجُ بعدَ غُروبِ شَمْسِه. وقولُه: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 564، 565، من حديث عائشة. (¬2) آخر الجزء الثانى من نسخة مكتبة محمد بن فيصل آل سعود المشار إليها بالرمز «ص». ومن هنا إلى أول كتاب المناسك لم يتيسر من النسخ الخطية ما يغطيها، ولذلك سنسترشد في تحقيق ما بقى من كتاب الاعتكاف بكتاب «المبدع شرح المقنع» لابن مفلح مع «المغنى» لابن قدامة. والله الموفق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ الاعْتِكافَ لا يَصِحُّ بغيرِ صَوْمٍ. قد أَجَبْنا عنه فيما مَضَى. فصل: وإن أحَبَّ اعْتِكافَ العَشْرِ الأواخِرِ تَطَوُّعًا، ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، يَدْخُلُ قبلَ غُروبِ الشَّمْسِ مِن لَيْلَةِ إحْدَى وعِشْرِينَ؛ لِما رُوِىَ عن أبى سعيدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوْسَطَ مِن رمضانَ، حتى إذا كان لَيْلَةُ إحْدَى وعِشْرِين، وهى اللَّيْلَةُ التى يَخْرُجُ مِن صَبِيحَتِها مِن اعْتِكافِه، قال: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ (¬1) معِى، فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأوَاخِرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأَنَّ العَشْرَ بغَيْرِ هاءٍ عَدَدُ اللَّيَالِى، فإنّها عَدَدُ المُؤَنَّثِ، قال اللهُ تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (¬3). وأولُ اللَّيالِى العَشْرِ لَيْلَةُ إحْدَى وعِشْرِينَ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، يَدْخُلُ بعد صَلاةِ الصُّبْحِ، قال حَنْبَلٌ، قال أحمدُ: أحَبُّ إلَىَّ أن يَدْخُلَ قبلَ اللَّيْلِ. ولكنْ حَدِيثُ عائِشَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّى الفَجْرَ، ثم يَدْخُلُ مُعْتَكَفَه. وبهذا قال الأوْزاعِىُّ، وإسحاقُ. ووَجْهُه ما رَوَتْ عَمْرَةُ، عن عائِشَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَل مُعْتَكَفَه. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وإن نَذَر اعْتِكافَ العَشْرِ، فَفى وَقتِ دُخُولِه الرِّوايَتان. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 562. (¬3) سورة الفجر 2. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 564، 565 من حديث عائشة.

1119 - مسألة: (وإن نذر شهرا مطلقا، لزمه شهر متتابع)

وَإِنْ نَذَرَ شَهْرًا مُطْلَقًا، لَزِمَهُ شَهْرٌ مُتَتَابِعٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن اعْتَكَفَ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، اسْتُحِبَّ أن يَبِيتَ لَيْلَةَ العِيدِ في مُعْتَكَفِه. نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِىَ عن النَّخَعِىِّ، وأبى مِجْلَزٍ، وأبى بَكْرِ بنِ عبدِ الرحمنِ، والمُطَّلِبِ بنِ حَنْطَبٍ، وأبى قِلابَةَ، أنَّهُم كانُوا يَسْتَحِبُّون ذلك. وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن أيُّوبَ، عن أبى قِلابَةَ، أنَّه كان يَبِيتُ في المَسْجِدِ لَيْلَةَ الفِطْرِ، ثم يَغْدُو كما هو إلى العِيدِ، وكان، يَعْنِى في اعْتِكافِه، لا يُلْقَى له حَصِيرٌ، ولا مُصَلَّى يَجْلِسُ عليه، كان يَجْلِسُ كَأنَّه بَعْضُ القَوْمِ. قال: فأتَيْتُه في يومِ الفِطْرِ، فإذا في حِجْرِه جُوَيْرِيَةٌ مُزَيَّنَةٌ، ما ظَنَنْتُها إلَّا بَعْض بَناتِه، فإذا هى أمَةٌ له، فأعْتَقَها، وغدا كما هو إلى العِيدِ. وقال إبراهيمُ: كانوا يُحِبُّون لمَن اعْتَكَفَ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، أن يَبِيتَ لَيْلَةَ الفِطْرِ في المَسْجِدِ، ثم يَغْدُوَ إلى المُصَلَّى مِن المَسْجِدِ (¬1). 1119 - مسألة: (وإن نَذَر شَهْرًا مُطْلَقًا، لَزِمَه شَهْرٌ مُتَتابعٌ) إذا ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو من مسجده إلى المصلى، من كتاب الصيام. مصنف ابن أبى شيبة 3/ 92. وأخرج أثر أبى مجلز وأبى قلابة في الموضع نفسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَذَر اعْتِكافَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ، فهل يَلْزَمُه التَّتابُعُ؟ فيه وَجْهان، بِناءً على الرَّوايَتَين في نَذْرِ الصَّوْم؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مَعْنًى يَصِحُّ فيه التَّفْرِيقُ، فلا يَجِبُ فيه التَّتابُعُ بمُطْلَقِ النَّذْرِ، كالصِّيامِ. والثّانِى، يَلْزَمُه التَّتابُعُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ. وقال القاضى: يَلزَمُه التَّتابُعُ وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه مَعْنًى يَحْصُل في الليْلِ والنَّهارِ، فإذا أطْلَقَه اقْتَضَى التَّتابُعَ، كما لو حَلَفَ لا يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا، وكَمُدَّةِ الإِيلاءِ والعِدَّةِ، وبهذا فارَقَ الصيامَ، فإن أَتَى بشَهْرٍ بينَ هِلالَيْن أجْزَأه ذلك وإن كان ناقِصًا، وإنِ اعْتَكَفَ ثَلاثِينَ يَوْمًا مِن شَهْرَيْن جاز، فتَدْخُلُ فيه اللَّيالِى؛ لأنَّ الشَّهْرَ عِبارَةٌ عنهما، ولا يُجْزِئُه أقَلُّ مِن ذلك، وإن قال: للهِ عَلَىَّ (¬1) أن أعْتَكِفَ أيامَ هذا الشهْرِ، أو لَيالِى هذا الشهْرِ. لَزِمَه ما نَذَر، ولم يَدْخُلْ فيه غيرُه، وكذلك إن قال: شَهْرًا في النَّهارِ، أو في اللَّيْلِ. ¬

(¬1) في م: «تعالى».

1120 - مسألة: (وإن نذر أياما معدودة، فله تفريقها، إلا عند القاضى)

وَإِنْ نَذَرَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَلَهُ تَفْرِيقُهَا، إلَّا عِنْدَ الْقَاضِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1120 - مسألة: (وإن نَذَر أيَّامًا مَعْدُودَةً، فله تَفْرِيقُها، إلَّا عند القاضِى) إذا قال: للهِ عَلَىَّ أن أعْتَكِفَ ثَلاِثين يَوْمًا. يَلْزَمُه التَّتابُعُ، كما لو نَذَر شَهْرًا مُطْلَقًا. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَقتَضِى تَناوُلَه، والأيامُ المُطْلَقَةُ تُوجَدُ بدونِ التَّتابُعِ، فلا يَلْزَمُه، كما لو نَذَر صَوْمَ ثَلاثِين يَوْمًا، فعلى قَوْلِ القاضى، تَدْخُلُ فيه اللَّيالِى الدّاخِلَةُ في الأيَّامِ المَنْذُورَةِ، كما لو نَذَر شَهْرًا، ومَن لم يُوجِبِ التَّتابُعَ لا يُدْخِلُ اللَّيْلَ فيه، إلَّا أن يَنْوِيَه، فإن نَوى التَّتابُعَ، أو شَرَطَه، وَجَب.

1121 - مسألة: (وإن نذر أياما أو ليالى متتابعة، لزمه ما يتخللها من ليل أو نهار)

وإِنْ نَذَرَ أيَّامًا أوْ لَيَالِىَ مُتَتَابِعَةً، لَزِمَهُ مَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ لَيْلٍ أو نَهَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1121 - مسألة: (وإن نَذَرَ أيَّامًا أو لَيالِىَ مُتَتابِعَةً، لَزِمَه ما يَتَخَلَّلُها مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ) متى شَرَط التَّتابُعَ في نَذْرِه، أو نَواه، دَخَل الليلُ (¬1) فيه، ويَلْزَمُه ما بينَ الأيّامِ مِن اللَّيالِى، وإن نَذَر اللَّيالِىَ لَزِمَه ما بينَها مِن الأيّامِ حَسْبُ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُه مِن اللَّيالِى بعَدَدِ الأيَّامِ إذا كان على وَجْهِ الجَمْعِ أو التَّثْنِيَةِ، يدخُلُ فيه مِثْلُه مِن اللَّيالِى، واللَّيالِى تَدْخُلُ معها الأيَّامُ، بدَلِيلِ قَوْلِه تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (¬2). وقال في مَوْضِع آخَرَ: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (¬3). ولَنا، أنَّ اليومَ اسمٌ لبَياضِ النَّهارِ، واللَّيْلَةَ اسْمٌ لسَوادِ اللَّيْلِ، والتَّثْنِيَةُ والجَمْعُ تَكْرارٌ للواحِدِ، وإنَّما تَدْخُلُ اللَّيالى تَبَعًا لوُجُوبِ التَّتابُعِ ضِمْنًا، وبهذا يحصُلُ ما بينَ الأيَّام خاصَّةً، فاكْتُفِىَ به. وأمّا ¬

(¬1) في م: «الليالى». (¬2) سورة مريم 10. (¬3) سورة آل عمران 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآيَةُ، فإنَّ اللهَ تعالى نصَّ على الليلِ في موضعٍ، والنَّهارِ في مَوْضِعٍ، فصارَ مَنْصُوصًا عليهما. فعلى هذا إنْ نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، لَزِمَه يَوْمان ولَيْلَةٌ بينَهما، وإن نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُطْلَقًا، فكذلك عند القاضى. وكذلك لو نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَتَيْن، لَزِمَه اليَوْمُ الذى بَيْنَهُما عند القاضِى. وعند أبى الخَطّابِ لا يَلْزَمُه ما بينَهما، إلَّا بلَفْظٍ، أو بِنِيَّةٍ. ويَتَخَرَّجُ أنَّه إذا نَذَر اعْتِكافَ يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، أن لا تَلْزَمَه اللَّيْلَةُ التى بينَهما، كاللَّيْلَةِ التى قَبْلَهما، وكذلك إذا نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَتَيْن لا يَلْزَمُه اليومُ الذى بينَهما، كاليَوْمِ الذى قَبْلَهما. اخْتارَه الشَّيْخُ أبو حَكِيمٍ. فصل: وإن نَذَر اعْتِكافَ يَوْمٍ، لَزِمَه أن يَدْخلَ مُعْتَكَفَه قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ويَخْرُجَ منه بعدَ غُرُوبِ الشَّمسِ. وقال مالِكٌ: يَدْخُلُ مُعْتَكَفَه قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ويَخْرُجُ منه بعدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِن لَيْلَةِ ذلك اليَوْمِ. كقَوْلِنا في الشَّهْرِ؛ لأنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهارَ، بدَلِيلِ ما لو كان مُتَتابِعًا. ولنا، أنَّ اللَّيْلَةَ ليست مِن اليَوْمِ، وهى مِن الشَّهْرِ، قال الخَلِيلُ: اليَوْمُ اسمٌ لما بينَ طُلُوعِ الفَجْرِ وغُرُوبِ الشَّمْسِ. وإنَّما دَخَل الليْلُ في المُتَتابِعِ ضِمْنًا، ولَهذا خَصصْناه بما بينَ الأيّامِ. وإن نَذَر اعْتِكافَ لَيْلَةٍ، لَزِمَه دُخولُ مُعْتَكَفِه قبلَ غُروبِ الشَّمْسِ، ويَخْرُجُ منه بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ، وليس له تَفْرِيقُ الاعْتِكافِ. وظاهِرُ كلامِ الشافعىِّ، جَوازُ التَّفْرِيقِ قِياسًا على الشَّهْرِ. ولنا، أنَّ إطْلاقَ اليَوْمِ يُفْهَمُ منه التَّتابُعُ، فلَزِمَه، كما لو قال: مُتَتابِعًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفارَقَ الشَّهْرَ، فإنَّه اسْمٌ لما بينَ هِلالَيْن، واسْمٌ لثَلاِثين يَوْمًا، واليَوْمُ لا يَقَعُ في الظّاهِرِ إلَّا على ما ذَكَرْنا. وإن قال في وَسَطِ النَّهارِ: للهِ عَلَىَّ أن أعْتَكِفَ يَوْمًا مِن وَقْتِى هذا. لَزِمَه الاعْتِكافُ مِن ذلك الوَقْتِ إلى مثْلِه، ويدخلُ فيه اللَّيْلُ؛ لأَنَّه في خلالِ نَذْرِه، فصارَ كما لو نَذَر يَوْمَيْن مُتَتابِعَيْن، وإنَّما لَزِمَه بَعْضُ يَوْمَيْن لتَعْيِينِه ذلك بنَذْرِه، فعَلِمْنا أنَّه أرادَ ذلك، ولم يُرِد يومًا صَحِيحًا. فصل: وإن نَذَر اعْتِكافًا مُطْلَقًا، لَزِمَه ما يُسَمَّى به مُعْتَكِفًا، ولو ساعَةً مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ، إلَّا على قَوْلِنا بوُجُوبِ الصَّوْمِ في الاعْتِكافِ، فيَلْزَمُه يَوْمٌ كامِلٌ، فأمّا اللَّحْظَةُ، وما لا يُسَمَّى به مُعْتَكِفًا، فلا يُجْزِئُه على الرِّوايَتَيْن جَمِيعًا. فصل: إذا نَذَر اعْتِكافَ يَوْمِ يَقْدَمُ فلانٌ، صَحَّ نَذْره، فإنَّ ذلك مُمْكِنٌ، فإن قَدِمَ في بَعْضِ اِلنَّهارِ، لَزِمَه اعْتِكافُ الباقِى منه، ولم يَلْزَمْه قَضاءُ ما فات، لأنَّه فات قبلَ شرْطِ الوُجُوبِ فلم يَجِبْ، كما لو نَذَر اعْتِكافَ زَمَنٍ ماضٍ، لكِنْ إن قُلْنا: شَرْطُ صِحَّةِ الاعْتِكافِ الصَّوْمُ. لَزِمَه قَضاءُ يَوْمٍ كامِلٍ، لأنَّه لا يُمْكِنُه أن يَأتِىَ بالاعْتِكافِ في الصَّوْمِ فيما بَقِىَ مِن النَّهارِ، ولا قَضاؤُه مُمَيَّزًا ممّا قبله، فَلَزِمَه يَوْمٌ كامِلٌ ضَرُورَةً، كما لو نَذَر صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلانٌ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئَه اعْتِكافُ ما بَقِىَ منه إذا كان

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَالطَّهَارَةِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالنَّفِيرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَالشَّهَادَةِ الْوَاجِبَةِ، وَالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةٍ، أوْ مَرَض، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَنَحْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صائِمًا؛ لأنَّه قد وُجِد اعْتِكافٌ مع الصَّوْمِ. وإن قدِم لَيْلًا لم يَلْزَمْه شئٌ؛ لأنَّ ما الْتَزَمَه بالنَّذْرِ لم يُوجَدْ، فإنْ كان للنَّاذِرِ عُذْرٌ يَمْنَعُه الاعْتِكافَ عند قدُومِ فلانٍ؛ مِن حَبْسٍ أو مَرَضٍ، [قَضَى وكَفَّرَ] (¬1)، لِفَواتِ النَّذْرِ في وَقْتِه، ويَقْضِى بَقِيَّةَ اليَوْمِ فقط؛ لأنَّه الذى كان يَلْزَمُ في الأداءِ، على الروايَةِ المنصورةِ، وفى الأُخْرَى يَقْضِى يَوْمًا كامِلًا، بناءً على اشْتِراطِ الصَّوْمِ في الاعْتِكافِ. فصل: قال الشَّيْخُ، رحمه الله: (ولا يَجُوزُ للمُعْتَكِفِ الخُرُوجُ إلّا لما لا بدَّ له منه؛ كحاجَةِ الإِنْسانِ، والطَّهارَةِ، والجُمُعَةِ، والنفِيرِ المُتَعَيِّنِ، والشَّهادَةِ الواجِبَةِ، والخَوْفِ مِن فِتْنَةٍ، أو مَرَضٍ، والحَيْضِ، والنَّفاسِ، وعِدَّةِ الوَفاةِ، ونَحْوِه) وجُمْلَتُه، أنَّه ليس للمُعْتَكِفِ الخُرُوجُ ¬

(¬1) في م: «قضى أو كفر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن مُعْتَكَفِه، إلَّا لما لا بدَّ منه، قالت عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها وعن أبِيها: السُّنَّةُ للمُعْتَكِفِ أن لا يَخْرُجَ إلَّا لما لا بدَّ منه. رَواه أبو داود (¬1). وقالت أيْضًا: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَكَفَ يُدْنِى إلىَّ رَأسَه فأُرَجِّلُه، وكان لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلاَّ لحاجةِ الإِنسانِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2) ولا خِلافَ في أنَّ له الخُرُوجَ لما لا بدَّ منه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ للمُعْتَكِفِ أن يَخْرُجَ مِن مُعْتَكَفِه للغائِطِ والبَوْلِ. ولأنَّ هذا لا يُمْكِنُ فِعْلُه في المَسْجِدِ، ولو بَطَل الاعْتِكافُ بالخُروجِ إليه لم يَصِحَّ لأحَدٍ اعْتِكافٌ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَعْتَكِفُ، وقد عَلِمْنا أنَّه كان يَخْرُجُ لقَضاءِ حاجَتِه، والمُرادُ بحاجَةِ الإِنْسانِ البَوْلُ والغائِطُ، كَنَى بذلك عنهما؛ لأنَّ كل إنْسانٍ يحْتاجُ إلى فِعْلِهِما. وفى مَعْناه الحاجَةُ إلى المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ، إذا لم يَكُنْ له مَن يَأْتِيه به، فله الخُرُوجُ إليه عندَ الحاجَةِ إليه، وإنْ بَغَتَه القَىْءُ، فله أن يَخْرُجَ ليَتَقَيَّأَ خارِجَ المَسْجِد، وكُلُّ ما لا بُدَّ له منه، ولا يُمْكِنُ فِعْلُه في المَسْجِدِ، فله الخُرُوجُ إليه، ولا يَفْسُدُ اعْتِكافُه وهو عليه، ما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 577. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُطِلْ. وكذلك له الخُروجُ إلى ما أوْجَبَه اللهُ تعالى عليه؛ مثلَ مَن يَعْتَكِفُ في مَسْجِدٍ لا جُمُعَةَ فيه، فيَحْتاجُ إلى الخُرُوجِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، ولا يَبْطُلُ اعْتِكافُه به. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وقال الشافعىُّ في مَن نَذَر اعْتِكافًا متَتابِعًا، فخَرَجَ منه لصلاةِ الجُمُعَةِ: بَطَل اعْتِكافُه، وعليه الاسْتِئْنافُ؛ لأنَّه أمْكَنَه فَرْضُه بحيث لا يَخْرُجُ منه، فبَطَلَ بالخُرُوجِ، كالمُكَفِّرٍ إذا ابْتَدَأ صَوْمَ الشَّهْرَيْن المُتَتابِعَيْن في شعبانَ، أو ذِى الحِجَّةِ. ولَنا، أنَّه خرَج لواجِبٍ، فلم يَبْطُلِ اعْتِكافُه، كالمُعْتَدَّةِ تَخْرُجُ لقَضاءِ العِدَّةِ، وكالخارِجِ لإِنْقاذِ غَرِيقٍ، وإطْفاء حَرِيقٍ، وأداءِ شَهادَةٍ تعَيَّنَتْ عليه، ولأنَّه إذا نَذَر أيَامًا فيها جُمُعَةٌ، فكأنَّه اسْتَثْنَى الجُمُعَةَ بلَفْظِه، ثم يَبْطُلُ بما إذا نَذَرَتِ المرأةُ أيَّامًا فيها عادَةُ حَيْضِها، فإنَّه يَصِحُّ مع إمْكانِ فَرْضِها في غيرِها، والأصْلُ مَمْنُوعٌ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا خَرَج لواجِبٍ، فهو على اعْتِكافِه ما لم يُطِلْ؛ لأنَّه خُرُوجٌ لا بُدّ منه، أشْبَهَ الخُرُوجَ لحاجَةِ الإنْسانِ. فإن كان خُرُوجُه لصلاةِ الجُمُعَةِ فله أن يتَعَجَّلَ. قال الإِمامُ أحمدُ: أرْجُو أن يكونَ له؛ لأنَّه خرُوجٌ جائِزٌ، فجازَ تعْجيلُه، كالخرُوجِ لِحاجَةِ الإَنسانِ. فإذا صَلَّى الجُمُعَة، فأحَبَّ أن يَعْتَكِفَ في الجامِعِ، فله ذلك؛ لأنه مَحَلٌّ للاعْتِكافِ، والمَكانُ لا يَتَعَيَّنُ للاعْتِكافِ بتَعْيِينِه، فمع عَدَمِ ذلك أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أحَبَّ الرُّجُوعَ إلى مُعْتَكَفِه، فله ذلك، كما لو خَرَج إلى غيرِ الجُمُعَةِ. قال بعضُ أصْحابِنا: يُسْتَحَبُّ له الإِسْراعُ إلى مُعتَكَفِه. وقال أبو داودَ: قلتُ لأحمدَ: يَرْكَعُ، يَعْنِى المُعْتَكِفَ، يَوْمَ الجُمُعَة بعدَ الصلاةِ في المَسْجِدِ؟ قال: نعم، بقَدْرِ ما كان يَرْكَعُ. قال شَيْخُنَا (¬1)، رَحِمَه اللهُ: ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الخِيَرَةُ إليه في تَعْجِيلِ الرُّجُوعِ وتَأْخِيرِه؛ لأنَّه في مكانٍ يَصْلُحُ للاعْتِكافِ، فأشْبَهَ ما لو نَوَى الاعْتِكافَ فيه. فأمّا إن خَرَج ابْتِداءً إلى مَسْجِدٍ آخَرَ، أو إلى الجامِعِ مِن غيرِ حاجَةٍ، أو كان المسجدُ أبْعَدَ مِن مَوْضِعِ حاجَتِه فمَضَى إليه، لم يَجُزْ له ذلك؛ لأنَّه خُرُوجٌ لغيرِ حاجَةٍ، أشْبَهَ ما لو خَرَج لغيرِ المَسْجِدِ، فإن كان المَسْجِدانِ مُتَلاصِقيْن، يَخْرُجُ مِن أحَدِهما فيَصِيرُ في الآخَرِ، فله الانْتِقالُ مِن أحَدِهما إلى الآخَرِ؛ لأنَّهما كمسجدٍ واحِدٍ، يَنْتَقِلُ مِن إحْدَى زاوِيَتَيْه إلى الأُخْرَى. وإن كان يَمْشِى بينَهما في غيرِهما، لم يَجُزْ له الخُرُوجُ وإن قرُبَ؛ لأَنَّه خُرُوجٌ مِن المسْجِدِ لغيرِ حاجَةٍ. ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 467.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا خَرَج لما لا بُدَّ منه، فليس عليه أن يَتَعَجَّلَ في مَشْيِه، لكن يَمْشِى على حَسَبِ عادَتِه؛ لأنَّ عليه مَشَقَّةً في إلْزامِه غيرَ ذلك، فليس له الإِقامَةُ بعد قَضاءِ حاجَتِه لأكْلٍ ولا لغيرِه. وقال ابنُ حامِدٍ: يجوزُ أن يَأْكُلَ اليَسِيرَ في بَيْتِه، كاللُّقْمَةِ والثَّنْتَيْن، ولا يَأْكُلُ جَمِيعَ أكْلِه. وقال القاضى: يَتَوَجَّهُ أنَّ له الأكْلَ في بَيْتِه، والخُرُوجَ إليه ابْتِداءً؛ لأنَّ الأكْلَ في المَسْجِدِ دَناءَةٌ، وقد يُخْفِى جِنْسَ قُوتِه عن النّاسِ، وقد يكونُ في المَسْجِدِ غيرُه فيَسْتَحِى منه أن يَأْكُلَ دُونَه، وإنْ أطْعَمَه لم يَكْفِهِما. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلّا لحاجَةِ الإِنْسانِ. وهذا كِنايَةٌ عن الحَدَثِ، ولأنَّه خُرُوجٌ لما له منه بُدٌّ، ولُبْثٌ في غيرِ مُعْتَكَفِه لما له منه بُدٌّ، فأبْطَلَ الاعْتِكَافَ، كمُحادَثَةِ أهلِه، وما ذَكَرَه القاضِى ليس بعُذْرٍ يُبيحُ الخُرُوجَ ولا الإِقامَةَ، ولو ساغ ذلك لساغ الخُرُوجُ للنَّوْمِ وأشْباهِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ خَرَجَ لحاجَةِ الإِنْسانِ، وبقُرْبِ المَسْجِدِ سِقايَةٌ أقْرَبُ مِن مَنْزِلِه لا يَحْتَشِمُ مِن دُخُولِها، ويُمْكِنُه التنَّظُّفُ فيها، لم يكُنْ له المُضِىُّ إلى مَنْزِلِه؛ لأنَّ له مِن ذلك بُدًّا. وإن كان يَحْتَشِمُ مِن دُخُولِها، أو فيه نَقِيصَةٌ عليه، أو مُخالَفَةٌ لعادَتِه، أو لا يُمْكِنُه التَّنَظُّفُ فيها، فله المُضِىُّ إلى مَنْزِلِه، لما عليه مِن المَشَقَّةِ في تَرْكِ المُرُوءَةِ. وكذلك إن كان لَه مَنْزِلانِ، أحَدُهما أقْرَبُ مِن الآخَرِ، يُمْكِنُه الوُضُوءُ في الأقْرَبِ بلا ضَرَرٍ، فليس له قَصْدُ الأبعَدِ. وإن بَذَل له صَدِيقُه أو غيرُه الوَضُوءَ في مَنْزِلِه القَرِيبِ، لم يَلْزَمْه؛ لِما عليه مِن المَشَقَّةِ بتَرْكِ المُرُوءَةِ والاحْتِشامِ مِن صاحِبِه. قال المَرُّوذِىُّ: سَألْتُ أبا عبدِ الله عِن الاعْتِكافِ في المَسْجِدِ الكَبِيرِ، أعْجَبُ إليك أو مَسْجِدِ الحَىِّ؟ قال: المَسْجِدُ الكَبِيرُ. وأرْخَص لي أن أعْتَكِفَ في غيرِه. قلت: فَأيْنَ تَرَى أن أعْتَكِفَ، في هذا الجانِبِ، أو في ذلك الجانِبِ؟ قال: في ذاك الجانِبِ، هو أصْلَحُ مِن أجْلِ السِّقايَةِ. قلتُ: فمَن اعْتَكَفَ في هذا الجانِبِ تَرَى أن يَخْرُجَ إلى الشَّطِّ يَتَهَيّأُ؟ قال: إذا كان له حاجَةٌ لا بدَّ له مِن ذلك. قلتُ: يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ في المَسْجِدِ؟ قال: لا يُعْجِبُنِى أن يَتَوَضَّأَ في المَسْجِدِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا احْتِيجَ إليه في النَّفِيرِ، إذا عَمَّ، أو حَضَر عَدُوٌّ يَخافُون كَلَبَه (¬1)، واحْتِيجَ إلى خُرُوجِ المُعْتَكِفِ، لَزِمَه الخُرُوجُ؛ لأنَّه واجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، فكان عليه الخُرُوجُ إليه، كالخُرُوجِ إلى الجُمُعَةِ. وكذلك الشَّهادَةُ الواجِبَةُ عليه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن وَقَعَتْ فِتْنَةٌ خاف منها على نَفْسِه إذا قام في المَسْجِدِ، أو على مالِه، أو خاف نَهْبًا، أو حَرِيقًا، فله تَرْكُ الاعْتِكافِ، والخُرُوجُ؛ لأنَّ هذا ممَّا أباحَ اللهُ تعالى لأجْلِه تَرْكَ الواجِبِ بأصْلِ الشَّرْعِ، وهو الجُمُعَةُ، فأوْلَى أنْ يُباحَ لأجْلِه تَرْكُ ما أوْجَبَه على نَفْسِه، وكذلك إن تَعَذَّرَ عليه المُقامُ في المَسْجِدِ؛ لمَرَضٍ لا يُمْكِنُه المُقامُ معه، كالقِيامِ المُتدارَكِ، أو سَلَسِ البَوْلِ، أو الإِغْماءِ، أو لا يُمْكِنُه المُقامُ إلَّا بمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، مثلَ أن يحتاجَ إلى خِدْمَةٍ وفِراشٍ، فله الخُرُوجُ. وإن كان المَرَضُ خَفِيفًا؛ كالصُّداعِ، ووَجَعِ الضِّرْسِ ونَحْوِه، فليس له الخُرُوجُ، فإن خَرَج بَطَل اعْتِكافُه؛ لأنَّه خُرُوجٌ لما له منه بُدٌّ. ¬

(¬1) كلبه: أذاه وشره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حاضَتِ المُعْتَكِفَةُ، أو نَفِسَتْ، وَجَب عليها الخُرُوجُ مِن المَسْجِدِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه حَدَثٌ يَمْنَعُ اللُّبْثَ في المَسْجِدِ. وعن عائِشَةَ، رَضِى اللهُ عنها، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ، وَلَا جُنُبٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). والنِّفاسُ في مَعْنَى الحَيْضِ، فثَبَتَ فيه حُكْمُه. قال الخِرَقِىُّ: تَخْرُجُ مِن المَسْجِدِ، وتَضْرِبُ خِباءً في الرَّحْبَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا إن كان للمَسْجدِ رَحْبَةٌ، فإن لم يكُنْ رَجَعَتْ إلى بَيْتِها، فإذا طَهُرَتْ عادَتْ فأتَمَّتِ اعْتِكَافَها وقَضَتْ ما فاتَها، ولا كَفّارَةَ عليها؛ لأنَّه خُروجٌ مُعْتادٌ، أشْبَهَ الخُرُوجَ للجُمُعَةِ. وإن كان للمَسْجِدِ رَحْبَةٌ خارِجَة مِن المَسْجِدِ يُمْكِنُ ضَرْبُ خِبائِها فيه، ضَرَبَتْ خِباءَها فيه مُدَّةَ حَيْضِها. وهو قَوْلُ أبى قِلابةَ. وقال النَّخعِىُّ: تَضْرِبُ فُسْطاطَها في دارِها، فإذا طَهُرَتْ قَضَتْ تِلْكَ الأيَّامَ، وإن دَخَلَتْ بَيْتًا أو سَقْفًا اسْتَأْنَفَتْ. وقال الزُّهْرِىُّ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ: تَرْجِعُ إلى مَنْزِلِها؛ لأنَّه وَجَب عليها الخُرُوجُ مِن المَسْجِدِ، فلم تَلْزَمْها الإِقامَةُ في رَحْبَتِه، كالخارِجَةِ لعِدَّةٍ، أو خوْفِ فِتْنَةٍ. ووَجْهُ قَوْل الخِرَقِىِّ ما روَى المِقْدامُ بنُ شُرَيْحٍ، عن عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: كُنَّ المُعْتَكِفاتُ (¬1) إذا حِضْنَ أمَر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بإخْراجهِنَّ مِن المَسْجِدِ، وأن يَضْرِبْنَ الأخْبِيَةَ في رَحْبَةِ المَسْجِدِ. رَواه أَبو حَفْصٍ (¬2) بإسْنادِه. وفارَقَ المُعْتَدَّةَ، فإنَّ خُرُوجَها ¬

(¬1) في م: «معتكفات». (¬2) لعله، يعنى ابن شاهين. انظر ترجمته في 3/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لتَعْتَدَّ في بَيْتِها وتُقِيمَ فيه، ولا يَحْصُلُ ذلك مع الكَوْنِ في الرَّحْبَةِ، وكذلك الخائِفَةُ مِن الفِتْنَةِ خُرُوجُها لِتَسْلَمَ منها، فلا تُقِيمُ في مَوْضِعٍ لا تَحْصُلُ السَّلامَةُ بالإِقامَةِ فيه. قال (¬1): والظّاهِرُ أنَّ إقامَتَها في الرَّحْبَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، وليس بواجِبٍ. وإن لم تُقِمْ في الرَّحْبَةِ رَجَعَتْ إلى مَنْزِلِها أو غيرِه، ولا شئَ عليها إلَّا القَضاءَ لأيامِ حَيْضِها، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا إلَّا قولَ إبراهيمَ، وهو تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه. فصل: فأمّا الاسْتِحاضَةُ فلا تَمْنَعُ الاعْتِكافَ؛ لكَوْنِها لا تَمْنَعُ الصلاةَ، وقد قالت عائِشَةُ، رضى اللهُ عنها: اعْتَكَفَتْ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ مِن أزْواجِه مُسْتَحاضَةٌ، فكانت تَرَى الحُمْرَةَ والصُّفْرَةَ، ورُبَّما وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَها وهى تُصَلِّى. أخْرَجَه البخارىُّ (¬2). ويَجِبُ عليها أن تَتَحَفَّظَ وتَتَلَجَّمَ، لئَلَّا تُلَوِّثَ المَسْجدَ، فإن لم يُمْكِنْ صِيانَتُه منها خَرَجَتْ مِن المَسْجِدِ؛ لأنَّه عُذْرٌ وخُرُوجٌ لحِفْظِ المَسْجِدِ مِن نَجاسَتِها، أشْبَهَ الخُرُوجَ لقَضاءِ الحاجَةِ. ¬

(¬1) أى الشيخ ابن قدامة. انظر المغنى 4/ 487، 488. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 457.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُتَوَفَّى عنها يَجِبُ عليها أن تَخْرُجَ لقَضاءِ العِدَّةِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال رَبِيعَةُ، ومالكٌ، وابنُ المُنْذِرِ: تَمْضِى في اعْتِكافِها، حتى تَفْرَغَ منه، ثم تَرْجِعُ إلى بَيْتِ زَوْجِها فتَعْتَدُّ فيه؛ لأنَّ الاعْتِكافَ المَنْذُورَ واجِبٌ، والاعْتِدادَ في البَيْتِ واجِبٌ، فقد تعارَضَ واجِبانِ، فيُقَدَّمُ أسْبَقُهما. ولنا، أنَّ الاعْتِدادَ في بَيْتِ زَوْجِها واجِبٌ، فلَزِمَها الخُرُوجُ إليه، كالجُمُعَةِ في حَقِّ الرجلِ. ودَلِيلُهم يَنْتَقِضُ بالخُرُوجِ إلى الجُمُعَةِ وسائِرِ الواجِباتِ.

1122 - مسألة: (ولا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، إلا أن يشترطه، فيجوز. وعنه، له ذلك من غير شرط)

وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً، إِلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ، فَيَجُوزُ. وَعَنْهُ، لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1122 - مسألة: (ولا يَعُودُ مَرِيضًا، ولا يَشْهَدُ جِنازَةً، إلَّا أن يَشْتَرِطَه، فيَجُوزُ. وعنه، له ذلك مِن غير شَرْطٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن الإمامِ أحمدَ في الخُرُوجِ لعِيادَةِ المَرِيضِ وشُهُودِ الجِنازَةِ، مع عَدَمِ الشَّرْطِ، فرُوِىَ عنه، ليس له فِعْلُه. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ عَطاءٍ، وعُرْوَةَ، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِىَّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وعنه، أنَّ له عِيادَةَ المَرِيضِ، وشُهُودَ الجِنازَةِ، ثم يعودُ إلى مُعْتَكَفِه. نَقَلَها عنه الأثْرَمُ، ومحمدُ بنُ الحَكَمِ. وهو قولُ علىٍّ. وبه قال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، والحَسَنُ؛ لما روَى عاصِمُ بنُ ضَمْرَةَ، عن علىٍّ، قال: إذا اعْتَكَفَ الرجلُ فَلْيَشْهَدِ الجُمُعَةَ، ولْيَعُدِ المَرِيضَ، ولْيَحْضُرِ الجنازَةَ، وَلْيَأْتِ أهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهم بالحاجَةِ وهو قائِمٌ. رَواه الإِمامُ أَحمدُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأثْرَمُ (¬1). قال أحمدُ: عاصِمُ بنُ ضَمْرَةَ (¬2) عندِى حُجَّةٌ. ووَجْهُ الأُولَى ما رُوِىَ عن عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَكَفَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلَّا لحاجَةِ الإِنْسانِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعنها أنَّها قالت: السُّنَّةُ على المُعْتَكِفِ، أن لا يَعُودَ مَرِيضًا، ولا يَشْهَدَ جِنازَةً، ولا يَمَسَّ امرأةً، ولا يُباشِرَها، ولا يَخْرُجَ لحاجَةٍ إلَّا لِما لا بدَّ منه (¬4). وعنها قالت: كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ بالمَرِيضِ، وهو مُعْتَكِفٌ، فيَمُرُّ كما هو، ولا يُعَرِّجُ يَسْألُ عنه. رَواهما أبو داودَ (¬5). ولأَنَّ هذا ليس بواجِبٍ، فلا يَجُوزُ تَرْكُ الاعْتِكافِ الواجِبِ له، كالمَشْىِ في حاجَةِ أخِيهِ ليَقْضِيَها، فإن تَعَيَّنَتْ عليه صلاةُ الجِنازَةِ، فأمْكَنَه فِعْلُها في المَسْجِدِ، لم يَجُزِ الخُرُوجُ إليها، وإن لم يُمْكِنْه ذلك، فله الخُرُوجُ إليها، وإن تَعَيَّن عليه دَفْنُ المَيِّتِ أو تَغْسِيلُه فله الخُرُوجُ؛ لأنَّ هذا واجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، فيُقَدَّمُ على الاعْتِكافِ، كصلاةِ الجُمُعَةِ. فصل: فأمّا إن كان تَطَوُّعًا، فأحَبَّ الخُرُوجَ منه لعيادَةِ مَرِيضٍ، ¬

(¬1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق، في: باب سنة الاعتكاف، من كتاب الاعتكاف. مصنف عبد الرزاق 4/ 356. وابن أبى شيبة في مصنفه 3/ 87، 88. (¬2) عاصم بن ضمرة السلولى الكوفى، تابعى ثقة، توفى في ولاية بشر بن مروان سنة أربع وسبعين ومائة. تهذيب التهذيب 5/ 45 - 46. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 576. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 577. (¬5) أخرجهما أبو داود، في: باب المعتكف يعود المريض، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 575.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو شُهُودِ جنازَةٍ، جاز؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما تَطَوُّعٌ، فلا يَتَحَتَّمُ واحِدٌ منهما، لكَنَّ الأفْضَلَ المُقامُ على اعْتِكافِه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يُعَرِّجُ على المَريضِ، ولم يَكُنْ الاعْتِكافُ واجِبًا عليه. فصل: فإن شَرَط فِعْلَ ذلك في الاعْتِكافِ، فله فِعْلُه، واجِبًا كان الاعتكافُ أو تَطَوُّعًا. وكذلك ما كان قُرْبَةً، كزِيارةِ أهلِه، أو رجلٍ صالِحٍ، أو عالِمٍ، وكذلك ما كان مُباحًا، ممّا يَحْتاجُ إليه، كالعَشاءِ في مَنْزلِه، والمَبِيتِ فيه، فله فِعْلُه. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ الله يُسْألُ عن المُعْتَكِف يَشْتَرِطُ أن يَأْكُلَ في أهْلِه؟ قال: فإنِ اشْتَرَط فنعم. قُلْتُ له: فيَبِيتُ في أهلِه؟ قال: إذا كان تَطَوُّعًا جاز. وممَّن أجاز أن يَشْتَرِطَ العَشاءَ في أهْلِه الحَسَنُ، والعلاءُ بنُ زِيادٍ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ. ومَنَع منه أبو مِجْلَزٍ، ومالِكٌ، والأوْزاعِىُّ. قال مالكٌ: لا يَكُونُ في الاعْتِكافِ شَرْطٌ. ولنا، أنَّه يَجِبُ بعَقْدِه، فكان الشَّرْطُ إليه فيه، كالوقفِ، ولأنَّ الاعْتِكافَ لا يَخْتَصُّ بقَدْرٍ، وإذا شَرَط الخُرُوجَ فكَأنَّه نَذَر القَدْرَ الذى أقامَه، وإن قال: متى مَرِضْتُ أو عَرَض لى عارِضٌ خَرَجْتُ، جاز شَرْطُه. فصل: وإن شَرَط الوَطْءَ فِى اعْتِكافِه، أو الفُرْجَةَ، أو النُّزْهَةَ، أو البَيْعَ للتجارَةِ، أو التَّكَسُّبَ بالصِّناعَةِ في المَسْجِدِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ هذا يُنافِى الاعْتكافَ، أشْبَهَ إذا شَرَط تَرْكَ الإِقامَةِ في المَسْجِدِ، ولأنَّ اللهَ تعالى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬1). فاشْتِراطُ ذلك كاشْتِراطِ المَعْصِيَةِ، والصِّناعَة في المَسْجِدِ مَنْهِىٌّ عنها في غيرِ الاعْتِكافِ، ففى الاعْتِكافِ أوْلَى، وسائِرُ ما ذَكَرْنا يُشْبِهُ ذلك، ولا حاجَةَ إليه. وإنِ احْتاجَ إليه فلا يَعْتَكِفُ؛ لأَنَّ تَرْكَ الاعْتِكافِ أوْلَى مِن فِعْلِ المَنْهِىِّ عنه. قال أبو طالِبٍ: سَألْتُ أحمدَ عن المُعْتَكِفِ يَعْمَلُ عَمَلَه مِن الخَيّاطِ وغيرِه؟ قال: ما يُعْجبُنِى أن يَعْمَلَ. قلتُ: إن كان يَحْتاجُ؟ قال: إن كان يَحْتاجُ لا يَعْتَكِفُ. فصل: وللمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ المَسْجِدِ؛ لأنَّه مِن جُمْلَتِه، ولهذا يُمْنَعُ الجُنُبُ مِن اللُّبْثِ فيه. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ. لا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، ويَجُوزُ أن يَبِيتَ فيه. فصل: ورَحْبَةُ المَسْجِدِ ليستْ منه، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ. فعلى هذا ليس للمُعْتَكِفِ الخُرُوجُ إليها. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على هذا. وروَى المَرُّوذِىُّ، أنَّ المُعْتَكِفَ يَخرُجُ إلى رَحْبَةِ المَسْجِدِ، هى مِن المَسْجِدِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 187.

1123 - مسألة: (وله السؤال عن المريض فى طريقه ما لم يعرج)

وَلَهُ السُّؤَالُ عَنِ الْمَرِيضِ فِى طَرِيقِهِ مَا لَمْ يُعَرِّجْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَمَع القاضى بينَ الرِّوايَتَيْن، فقال: إن كان عليها حائِطٌ وبابٌ فهى كالمَسْجِدِ؛ لأنَّها معه وتابِعَةٌ له، وإن لم تَكُنْ مَحُوطَةً لم يَثْبُتْ لها حُكْمُ المَسْجِدِ. فإن خَرَج إلى مَنارَةٍ خارجَ المَسْجِدِ، فَسَد اعْتِكافُه. قال أبو الخَطّابِ: ويَحْتَمِلُ أن لا يَبْطُلَ؛ لأنَّ مَنارَةَ المَسْجِدِ كالمُتَّصِلَةِ به. 1123 - مسألة: (وله السُّؤالُ عن المَرِيضِ في طَرِيقِه ما لم يُعَرِّجْ) لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَفْعَلُه. ورَوَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: إن كنتُ لأدْخُلُ البَيْتَ للحاجَةِ، والمَرِيضُ فيه، فما أسْألُ عنه، إلا وأنا مَارَّةٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وليس له الوُقُوفُ؛ لأنَّ فيه تَرْكَ الاعْتِكافِ ¬

(¬1) هذا اللفظ ليس عند البخارى. وأخرجه مسلم، في: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها. . . . إلخ، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 244. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في المعتكف يعود المريض ويشهد الجنائز، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 565. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 81.

1124 - مسألة: (فإن خرج لما لا بد منه خروجا معتادا، كحاجة

وَالدُّخُولُ إِلَى مَسْجِدٍ يُتِمُّ اعْتِكَافَهُ فِيهِ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ خُرُوجًا مُعْتَادًا كَحَاجَةِ الإِنْسَانِ [60 ظ] وَالطَّهَارَةِ، فَلَا شَىْءَ فِيهِ وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ الْمُعْتَادِ فِى الْمُتَتَابِعِ وَتَطَاوَلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (و) له (الدُّخُولُ إلى مَسْجِدٍ يُتِمُّ اعْتِكافَه فيه) لأنَّه مَحَلٌّ للاعْتِكافِ، والمكانُ لا يَتَعَيَّنُ للاعْتِكافِ بنَذْرِه وتَعْيِينِه، فمع عدمِ ذلك أوْلَى، وقد ذَكَرْنا تَفْصِيلَ ذلك. 1124 - مسألة: (فإن خَرَج لِما لا بدَّ منه خُرُوجًا مُعْتادًا، كحاجَةِ (¬1) الإِنْسانِ، فلا شئَ عليه) لأنَّه لا بُدَّ له منه، فلو بَطَل اعْتِكافُه بخُرُوجِه إليه، لم يَصِحَّ لأحَدٍ الاعْتِكافُ. وقد كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ لحاجَتِه وهو مُعْتَكِفٌ، وكذلك خُرُوجُ المرأةِ لحَيْضِها؛ لأنَّها خَرَجَتْ بإذْنِ الشَّرْعِ، ولا يَجِبُ عليها كَفّارَةٌ؛ لأنَّه خُرُوجٌ لعُذْرٍ مُعْتادٍ، أشْبَهَ الخُرُوجَ لقَضاءِ الحاجَةِ، وحُكْمُ النِّفاسِ حُكْمُ الحَيْضِ؛ لأنَّه في مَعْناه. 1125 - مسألة: (وإن خَرَج لغيرِ المُعْتادِ في المُتتابِعِ وتَطاوَلَ، ¬

(¬1) في م: «لحاجة».

خُيِّرَ بَيْنَ اسْتِئْنَافِهِ وإِتْمَامِهِ مَعَ كَفارَةِ يَمِين، وَإنْ فَعَلَهُ فِى مُتَعَيِّنٍ, قَضَى. وَفِى الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خُيِّرَ بينَ اسْتِئْنافِه وإتْمامِه مع كَفّارَةِ يَمِينٍ، وإن فَعَلَه في مُعَيَّنٍ قَضَى. وفى الكفَّارةِ وَجْهان) إذا خَرَج المُعْتَكِفُ لغيرِ المُعْتادِ؛ كالخُرُوجِ إلى النَّفِيرِ المُتَعَيِّنِ، والشَّهادَةِ الواجِبَةِ، والخَوْفِ مِن الفِتْنَةِ، والمَرَضِ، وعِدَّةِ الوَفاةِ، ونَحْوِ ذلك، ولم يَتَطاوَلْ، فهو على اعْتِكافِه؛ لأنَّه خُرُوجٌ يَسِيرٌ مُباحٌ أو واجِبٌ، فلم يَبْطُلْ به الاعْتِكافُ، كحاجَةِ الإِنْسانِ، وإن تَطاوَلَ، ثم زال عُذْرُه، وكان الاعْتِكافُ تَطَوُّعًا، فهو مُخَيَّرٌ إن شاء رَجَع إلى مُعْتَكَفِه، وإن شاء لم يَرْجِعْ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ بالشُّرُوعِ. وإن كان واجِبًا رَجَع إلى مُعْتَكَفِه، فبَنَى على ما مَضَى مِن اعْتِكافِه، ثم لا يَخْلُو مِن ثَلاَثةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يَكُونَ نَذَر اعْتِكافًا في أيَّامٍ غيرِ مُتَتابِعَةٍ ولا مُعَيَّنَةٍ، فهذا يَلْزَمُه أن يُتِمَّ ما بَقِىَ عليه، لكن يَبْتَدِئُ اليومَ الذى خَرَج فيه مِن أوَّلِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليَكُونَ مُتَتابِعًا، ولا كَفّارَةَ عليه؛ لأنَّه أتَى بالمَنْذُورِ على وَجْهِه، فلم تَلْزَمْه كَفّارَةٌ، كما لو لم يَخْرُجْ. الثّانِى، أن يَكُونَ مُعَيَّنًا، كشَهْرِ رمضانَ، فعليه قَضاءُ ما تَرَك، وكَفّارَةُ يَمِينٍ؛ لتَرْكِه النَّذْرَ في وَقْتِه. وفيه وَجْهٌ آخرُ، لا كَفّارَةَ عليه. وقد رُوِىَ ذلك عن أحمدَ. الثّالثُ، نَذَر أيَّامًا مُتَتابِعَةً، فهو مُخيَّرٌ بينَ البِناءِ والقَضاءِ مع التَّكْفِيرِ، وبينَ الاسْتِئْنافِ، ولا كفّارةَ عليه؛ لأنَّه أتَى بالمَنْذُورِ على وَجهِه، فلم تَلْزَمْه كَفّارَةٌ، كما لو أتَى به مِن غيرِ أن يَسْبِقَه الاعْتِكافُ الذى خرَج منه. وذَكَر الخِرَقِىُّ مثلَ هذا، قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن نَذَر أن يَصُومَ شَهْرًا مُتَتابِعًا فلم يُسَمِّه، فمَرِضَ في بَعْضِه، فإذا عُوفِىَ بَنَى على ما مَضَى مِن صِيامِه، وقَضَى ما تَرَكَه، وكَفَّرَ كفّارةَ يَمِينٍ، وإن أحَبَّ أتَى بشَهْرٍ مُتَتابعٍ، ولا كَفّارَةَ عليه. وقال أبو الخَطّابِ في مَن تَرَك الصِّيامَ المَنْذُورَ لعُذْرٍ: فعن أحمدَ فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، لا كَفّارَةَ عليه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّ المَنْذُورَ كالمَشْرُوعِ ابْتِداءً. ولو أفْطَرَ في رِمضانَ لعُذْرٍ لم يَلْزَمْه شئٌ، فكذلك المَنْذُورُ. وقال القاضِى: إن خرَج لواجِبٍ، كجِهادٍ تَعَيَّنَ، أو شَهادَةٍ واجِبَةٍ، أو عِدَّةِ الوَفاةِ، فلا كَفّارَةَ عليه؛ لأنَّه خُرُوجٌ واجِبٌ لِحَقِّ اللهِ تعالى، فلم يَجِبْ

1126 - مسألة: (وإن خرج لما له منه بد فى المتتابع، لزمه استئنافه، وإن فعله فى معين، فعليه الكفارة، وفى الاستئناف وجهان)

وَإِنْ خَرَجَ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فِى الْمُتَتَابِعِ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَإنْ فَعَلَهُ فِى مُعَيَّنٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَفِى الِاسْتِئْنَافِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه شئٌ، كالمرأةِ تَخْرُجُ لحَيْضِها ونِفاسِها، فيَقْتَضِى قولُه: إنَّ الخُروجَ إذا لم يَكُنْ واجِبًا، بل كان مُباحًا، كخُرُوجٍ مِن خَوْفِ الفِتْنَةِ ونَحْوِه، يُوجِبُ الكَفّارَةَ؛ لأنَّه خَرَج لحاجَةِ نفْسِه خُرُوجًا غيرَ مُعْتادٍ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ وُجُوبُ الكَفّارَةِ؛ لأنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ، ومَن حَلَف على فِعْلِ شئٍ فحَنِثَ لَزِمَتْه الكَفّارَةُ، سواءٌ كان لعُذْرٍ أو لغيرِه، وسواءٌ كانتِ المُخالَقةُ واجبَةً أو لم تَكُنْ، وفارَقَ صومَ رمضانَ من حيثُ إنَّ الفِطْرَ لا يُوجِبُ كَفَّارَةً، سواءٌ كان لعُذْرٍ أو لغيرِه، وفارَقَ الحَيْضَ، فإنَّه يَتَكَرَّرُ، ويُظَنُّ وُجُودُه في زَمَنِ النَّذْرِ، فيَصِيرُ كالخُرُوجِ لحاجَةِ الإِنْسانِ. 1126 - مسألة: (وإن خَرَج لِما لَه منه بُدٌّ في المُتتابِعِ، لَزِمَه استِئْنافُه، وإن فَعَلَه في مُعَيَّنٍ، فعليه الكَفّارَةُ، وفى الاستِئْنافِ وَجْهان)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا خَرَج لِما له منه بُدٌّ عامِدًا، بَطَل اعْتِكافُه، إلَّا أن يَشْتَرِطَه، على ما ذَكَرْناه. وإن خَرَج ناسِيًا فقال القاضِى: لا يَفْسُدُ اعْتِكافُه؛ لأنَّه فَعَل المَنْهِىَّ عنه ناسِيًا، فلم تَفْسُدْ به العِبادَةُ، كالأكْلِ في الصَّوْمِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَفْسُدُ؛ لأنَّه تَرَك الاعْتِكافَ، وهو لُزُومُ المَسْجِدِ، والتَّرْكُ يَسْتَوِى عَمْدُه وسَهْوُه، كتَرْكِ النَّيَّةِ في الصَّوْم. فإن أخرَجَ بَعْضَ جَسَدِه لم يَفْسُدِ اعْتِكافُه وإن كان عَمْدًا؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُخْرِجُ رَأْسَه مِن المَسْجِدِ، وهو مُعْتَكِفٌ إلى عائِشَةَ، فتَغْسِلُه، وهى حائِضٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فصل: ويَبْطُلُ اعتكافُه بالخُروجِ وإنْ قلَّ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: لا يَبْطُلُ حتى يَكُونَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثَرَ مِن نِصْفِ يَوْمٍ؛ لأنَّ اليَسِيرَ مَعْفُوٌّ عنه، لأنَّ صَفِيَّةَ أتَتِ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزُورُه في مُعْتَكَفِه، فلمَّا خَرَجَتْ لتَنْقَلِبَ خَرَج معها ليَقْلِبَها (¬1). ولأنَّ اليَسِيرَ مَعْفُوٌّ عنه، بدَلِيلِ ما لو تَأنَّى في مَشْيِه. ولنا، أَّنه خُرُوجٌ مِن مُعْتَكَفِه لغيرِ حاجَةٍ، فأبْطَلَه، كما لو أقام أكثرَ مِن نِصْفِ يَوْمٍ، وأمّا خرُوجُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - فيَحْتَمِلُ أنَّه لم يَكُنْ له منه بُدٌّ؛ لأنَّه كان لَيْلًا، فلم يَأْمَنْ عليها، ويَحْتَمِلُ أَّنَّه فَعَل ذلك لكَوْنِ اعْتِكافِه تَطَوُّعًا، له تَرْكُ جَمِيعِه، فكان له تَرْكُ بَعْضِه، ولذلك تَرَكَه لَمّا أراد نِساؤُه الاعْتِكافَ معه، وأمّا المَشْىُ فتَخْتَلِفُ فيه طِباعُ النّاسِ، وَعليه في تَغْيِيرِ مَشْيِه مَشَقَّةٌ، ولا كذلك ههُنا، فإنَّه لا حاجَةَ به إلى الخُرُوجِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه إن فَعَلَه في مُتَتابِعٍ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، من كتاب الاعتكاف. وفي: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخارى 3/ 64، 4/ 150. ومسلم، في: باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة. . . .، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1712، 1713. وأبو داود، في: باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، من كتاب الصيام. وفي: باب حسن الظن، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 1/ 575، 2/ 595. وابن ماجه، في: كتاب في المعتكف يزوره أهله في المسجد، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 566. والدارمى، في: باب اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 27. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 337.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَزِمَه الاسْتِئْنافُ؛ لأنَّه أمْكَنَه الإِتْيانُ بالمَنْذُورِ على صِفَتِه، أشْبَهَ حالَةَ الابْتِداءِ، وإن فَعَلَه في مُعَيَّنٍ لَزِمَه الكفّارَةُ؛ لتَرْكِه النَّذْرَ لغيرِ عُذْرٍ، وفى الاستِئْنافِ وَجْهان؛ أحدُهما، يَلْزَمُه، كالمُتَتابِعِ، ولأنَّه كان يَلْزَمُه التَّتابُعُ مع التَّعَيُّنِ، فإن تَعَذَّرَ التَّعَيُّنُ لَزِمَه التَّتابُعُ، لإِمْكانِه، ومِن ضَرُورَتِه الاستِئْنافُ. والوَجْهُ الثّانِى، لا يَلْزَمُه الاسْتِئْنافُ؛ لأنَّ ما مَضَى منه قد أدَّى العبادةَ فيه أداءً صحيحًا، فلم تَبْطُلْ بتَرْكِها في غيرِه، كما لو أفْطَرَ في أثْناءِ شهرِ رمضانَ، ولأنَّ التَّتابُعَ ههُنا حَصَل ضَرُورَةَ التَّعْيِينِ، مُصَرَّحٌ به، فإذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن الإِخْلالِ بأحَدِهما، ففيما حَصَل ضَرُورَةً أوْلَى، ولأنَّ وُجُوبَ التَّتابُعِ مِن حيث الوَقْتُ، لا مِن حيث النَّذْرُ، فالخُروجُ في بَعْضِه لا يُبْطِلُ ما مَضَى منه، كصَوْمِ رمضانَ إذا أفْطَرَ لغيرِ عُذْرٍ، فعلى هذا يَقْضِى ما أفْسَدَ فيه حَسْبُ، ويُكفِّرُ على كلا الوَجْهَيْن، لأصلِ الوَجْهَيْن في مَن نَذَر صَوْمًا مُعَيَّنًا، فأفْطَرَ في بَعْضِه، فإنَّ فيه رِوايَتَيْن، كالوَجْهَيْن اللَّذَيْن ذَكَرْناهُما. وكذلك الحُكْمُ في كلِّ مَن أفْسَدَ اعتكافَه بجِماعٍ أو غيرِه، فإن كان الاعتكافُ تَطَوُّعًا، فلا قَضاءَ عليه؛ لأنَّ التَّطَوُّعَ لا يَلْزَمُ بالشُّرُوعِ فيه في غيرِ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: فإن نَذَر اعتكافَ أيّامٍ مُتَتابِعَةٍ بصَوْمٍ فأفْطَرَ يوْمًا، أفْسَدَ تَتابُعَه

1127 - مسألة: (وإن وطئ المعتكف فى الفرج، فسد اعتكافه، ولا كفارة عليه، إلا لترك نذره. وقال أبو بكر: عليه كفارة يمين. وقال القاضى: عليه كفارة الظهار)

وَإِنْ وَطِئَ الْمُعْتَكِفُ فِى الْفَرْجِ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إِلَّا لِتَرْكِ نَذْرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ الْقَاضِى: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجَبَ الاسْتِئْنافُ؛ لإِخْلالِه بالإِتْيانِ بما نَذَرَه على صِفَتِه. واللهُ أعلمُ. 1127 - مسألة: (وإن وَطِئَ المُعْتَكِفُ في الفَرْجِ، فَسَد اعْتِكافُه، ولا كَفّارَةَ عليه، إلَّا لتَرْكِ نَذْرِه. وقال أبو بَكْرٍ: عليه كَفّارَةُ يَمِين. وقال القاضِى: عليه كَفّارَةُ الظِّهارِ) الوَطْءُ في الاعْتكافِ مُحَرَّمٌ بالإِجماعِ، والأصْلُ فيه قولُ الله تِعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. فإنْ وَطِئَ في الفَرْجِ مُتَعَمِّدًا أفْسَدَ اعْتِكافَه بإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ولأنَّ الوَطْءَ إذا حُرِّمَ في العِبادَةِ أفْسَدَها، كالحَجِّ والصومِ، وإن كان ناسِيًا أفْسَدَه أيضًا. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ. وقال الشافعىُّ: لا يَفْسُدُ؛ لأنَّها مُباشَرَةٌ لا تُفْسِدُ الصومَ، فلا تُفْسِدُ الاعتكافَ، كالمُباشَرَةِ فيما دُونَ الفَرْجِ. ولَنا، أنَّ ما حُرِّمَ في الاعتكافِ اسْتَوَى عَمْدُه وسَهْوُه في إفْسادِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالخُرُوجِ مِن المَسْجِدِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّها لا تُفْسِدُ الصَّومَ، ولأنَّ المُباشَرَةَ دُونَ الفَرْجِ لا تُفْسِدُ الاعتكافَ، إلَّا إذا اقْتَرَنَ بها الإِنْزالُ. إذا ثَبَت هذا، فلا تَجِبُ الكَفّارَةُ بالوَطْءِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، وقولُ عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، وأهْلِ المَدِينَةِ، ومالكٍ، وأهلِ العِراقِ، والثَّوْرِىِّ، وأهلِ الشّامِ، والأوْزاعِىِّ. ونَقَل حَنْبَلٌ عن الإِمامِ أحمدَ، أنَّ عليه كَفّارَةً. وهو قولُ الحَسَنِ، والزُّهْرِىِّ، واخْتِيارُ القاضِى؛ لأنَّها عِبادَةٌ يُفْسِدُها الوَطْءُ بعَيْنِه، فوَجَبَتِ الكَفّارَةُ بالوَطْء فيها، كالحَجِّ، وصَومِ رمضانَ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ لا تَجِبُ بأصْلِ الشَّرْعِ، فلم تَجِبْ بإفْسادِها كَفّارَةٌ، كالنَّوافِلِ، ولأنَّها عِبادَةٌ لا يَدْخُلُ المالُ في جُبْرانِها، فلم تَجِبِ الكَفّارَةُ بإفْسادِها، كالصَّلاةِ، ولأنَّ وُجُوبَ الكَفّارَةِ إنَّما يَثْبُتُ بالشَّرْعِ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ بإيجابِها، فيَبْقَى على الأصْلِ. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالصلاةِ، وبالصومِ في غيرِ رمضانَ. والقِياسُ على الحَجِّ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه مُباينٌ لسائِرِ العِباداتِ، ولهذا يَمْضِى في فاسِدِه، ويَلْزَمُ بالشُّرُوعِ فيه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجِبُ بالوَطْءِ فيه بَدَنَةٌ، بخِلافِ غيرِه. ولأنَّه لو وَجَبَتِ الكَفّارَةُ ههُنا بالقِياسِ عليه، لَزِم أن تَكُونَ بَدَنَةً، لأنَّ الحُكْمَ في الفَرْعِ يَثْبُتُ على صِفَةِ الحُكْمِ في الأصْلِ، إذْ كان القِياسُ إنَّما هو تَوْسِعَةُ مَجْرَى الحُكْمِ، فيَصِيرُ النَّصُّ الوارِدُ في الأصْلِ وارِدًا في الفَرْعِ، فيَثْبُتُ فيه الحُكْمُ الثّابِتُ في الأصْلِ بعَيْنِه. وأمّا القِياسُ على الصَّومِ فهو دالٌّ على نَفْىِ الكَفّارَةِ؛ لأنَّ الصومَ كلَّه لا يَجِبُ بالوَطْءِ فيه كَفّارَةٌ، سِوَى رمضانَ، والاعْتِكافُ أشْبَهُ بغيرِ رمضانَ؛ لأنَّه نافِلَةٌ لا يَجِبُ إلَّا بالنَّذْرِ، ثم لا يَصِحُّ قِياسُه على رمضانَ أيضًا؛ لأن الوَطْءَ فيه إنَّما أوْجَبَ الكَفّارَةَ لحُرْمَةِ رمضانَ، ولذلك تَجِبُ على كلِّ مَن لَزِمَه الإِمْساكُ، وإن لم يُفْسِدْ به صَوْمًا. واخْتَلَفَ مُوجِبُو الكَفّارَةِ فيها، فقال القاضِى: تَجِبُ كَفّارَةُ الظِّهارِ. وهو قولُ الحَسَنِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِىَّ، وظاهِرُ كلام أحمدَ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ. قال أبو عبدِ اللهِ: إذا كان نَهارًا وَجَبَتْ عليه الكَفّارَةُ. قال الشَّيْخُ (¬1)، رَحِمَه اللهُ: ويَحْتَمِلُ أنَّ أبا عبدِ اللهِ إنَّما أوْجَبَ عليه الكَفّارَةَ إذا فَعَل ذلك في رمضانَ؛ لأنَّه اعْتَبَرَ ذلك في النَّهارِ لأجْلِ الصومِ، ولو كان بمُجَرَّدِ الاعْتِكافِ لما اخْتَصَّ الوُجُوبُ بالنَّهارِ، كما لم يَخْتَصَّ الفَسادُ به. وحُكِىَ عن أبى بَكْرٍ، أنَّ عليه كَفَّارَةَ يَمِين. قال شَيْخُنا (¬2): ولم أرَ هذا عن أبى بَكْرٍ في كتابِ «الشّافِى»، ولَعَلَّ أبا بَكْرٍ إنَّما أوْجَبَ عليه الكَفّارَةَ في مَوْضِعٍ تَضَمَّنَ الإِفْسادُ الإِخْلالَ بالنَّذْرِ، فوَجَبَ لتَرْكِه نَذْرَه. وهى كَفّارَةُ يَمِين، وأمّا في غيرِ ذلك فلا؛ لأنَّ الكَفّارَةَ إنَّما تَجِبُ بنَصٍّ، أو إجْماعٍ، أو قِياسٍ، وليس ههُنا نَصٌّ، ولا إجْماعٌ، ولا قِياسٌ، فإنَّ نَظِيرَ الاعتكافِ الصومُ، ولا تَجِبُ بإفْسادِه كَفّارَةٌ إذا كان تَطَوُّعًا ولا مَنْذُورًا (¬3)، ما لم يَتَضَمَّنِ الإِخْلالَ بنَذْرِه، ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 474. (¬2) في: المغنى 4/ 475. (¬3) أى: ولا يجب بإفساده كفارة إذا كان منذورًا.

1128 - مسألة: (وإن باشر فيما دون الفرج فأنزل، فسد اعتكافه، وإلا فلا)

وَإِنْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأنْزَلَ، فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَجِبُ به كَفّارَةُ يَمِينٍ، كذلك ههُنا. فأمّا إن كان مَنْذُورًا فأفْسَدَه بالوَطْءِ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذاْ أفْسَدَه بالخُرُوجِ لِما له منه بُدٌّ؛ لأنَّه في مَعْناه. وقد ذَكَرْنا ما فيه مِن التَّفْصِيلِ. 1128 - مسألة: (وإن باشَرَ فيما دُونَ الفَرْجِ فأنْزَلَ، فَسَد اعْتِكافُه، وإلَّا فلا) إذا كانَتِ المُباشَرَةُ دُونَ الفَرْجِ لغيرِ شهْوَةٍ، فلا بَأْسَ بها، مثلَ أن تَغْسِلَ رَأسَه، أو تَفْلِيَه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عائِشَةَ (¬1). وإن كانت لشَهْوَةٍ، فهى مُحَرَّمَةٌ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. ولقَوْلِ عائِشَةَ، رَضِىَ الله عنها: السُّنَّةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُعْتَكِفِ أن لا يَعُودَ مَرِيضًا، ولا يَشْهَدَ جِنازَةً، ولا يَمسَّ امرأةً، ولا يُباشِرَها. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه لا يَأْمَنُ إفْضاءَها إلى إفْسادِ الاعتكافِ، وما أفْضَى إلى الحَرامِ حَرامٌ. فإن فَعَل فأنْزَلَ، فَسَد اعْتِكافُه، وإن لم يُنْزِلْ لم يَفْسُدْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال في الآخرِ: يَفْسُدُ في الحالَيْن. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّها مُباشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فأفْسَدَتْ الاعْتِكافَ، كما لو أنْزَلَ. ولَنا، أنَّها مُباشَرَةٌ لا تُفْسِدُ صَوْمًا ولا حَجًّا، فلم تُفْسِدْ الاعْتِكافَ، كالمُباشَرَةِ لغيرِ شَهْوَةٍ، وفارَقَ التى أنْزَلَ بها؛ لأنَّها تُفْسِدُ الصومَ، ولا كَفّارَةَ عليه، إلَّا على رِوايَةِ حَنْبَلٍ. فصل: وإنِ ارْتَدَّ، فَسَد اعْتِكافُه، لقَوْلِ اللهِ تعالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬2). ولأنَّه خَرَج بالرِّدَّةِ عن كَوْنِه مِن أهْل. ¬

(¬1) في: باب المعتكف يعود المريض، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 575. (¬2) سورة الزمر 65.

1129 - مسألة: (ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشاغُلُ بِفِعْلِ الْقُرَبِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيهِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ الاعْتِكافِ. وإن شَرِب ما أسْكَرَه فَسَد اعْتِكافُهْ بخُرُوجه عن كَوْنِه مِن أهلِ المَسْجِدِ. ومتى أفْسَدَ اعْتِكافَه فلا كَفّارة عليه، إلَّا أَن يَكُونَ واجِبًا، وقد ذَكَرْناه. 1129 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ للمُعْتَكِفِ التَّشاغُلُ بفِعْلِ القُرَب (¬1)، واجْتِناب ما لا يَعْنِيه) يُسْتَحَبُّ للمُعْتَكِف التَّشاغُلُ بالصلاةِ، وقِراءَةِ القُرْآنِ، وذِكرِ اللهِ تعالى، ونحْوِ ذلك مِن الطّاعاتِ المَحْضَةِ، ويَجْتَنِبُ ما لا يَعْنِيه مِن الأقْوالِ والأفْعالِ؛ لأنَّ مَن كَثُرَ كلامُه كَثُرَ سَقَطُه، وفى الحديثِ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» (¬2). ويَجْتَنِبُ الجِدالَ والمِراءَ والسِّبابَ والفُحْشَ، فإنَّ ذلك مكرُوهٌ في غيرِ الاعْتِكافِ، ففيه أوْلَى، ولا يَبْطُلُ الاعْتِكافُ بشَئٍ مِن ذلك؛ لأنَّه لمّا لم يَبْطُلْ بمُباحِ الكلامِ لم يَبْطُلْ بمَحْظُوراتِه، وعَكْسُه الوَطْءُ، ولا بَأْسَ بالكَلامِ بمُحادَثَتِه، ¬

(¬1) في م: «القربة». (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا سليمان بن عبد الجبار. . . .، من أبواب الزهد، عارضة الأحوذى 1/ 196، 197. وابن ماجه، في: باب كف اللسان في الفتنة، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1316. والإمام مالك، في: باب ما جاء في حسن الخلق، من كتاب حسن الخلق. الموطأ 2/ 903. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُحادَثَةِ غيرِه، فإنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُه لأزُورَه لَيْلًا، فحَدَّثْتُه، ثم قُمْتُ، فانْقَلَبْتُ، فقامَ معى ليَقْلِبَنى (¬1) - وكان مَسْكَنُها في دارِ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ - فمَرَّ رجلانِ مِن الأنْصارِ، فلمّا رَأيا النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أسْرَعا، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ». فقالا: سُبْحانَ اللهِ يا رسولَ اللهِ! قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم، وإنِّى خَشِيتُ أن يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُما شَرًّا». أو قال: «شَيْئًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه: أيُّما رجلٍ مُعْتَكِفٍ فلا يُسابَّ، ولا يَرْفُثْ في الحَدِيثِ، ويَأْمُرُ أهلَه بالحاجَةِ - أى وهوَ يَمْشِى - ولا يَجْلِسْ عندَهم. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). فصل: ويَجْتَنِبُ المُعْتَكِفُ البَيْعَ والشِّراءَ إلَّا ما لا بُدَّ له منه، قال حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يَقُولُ: المُعْتَكِفُ لا يَبِيعُ ولا يَشْتَرِى إلَّا ما لا بُدَّ له منه، طَعامٌ أو نحوُ ذلك، فأمّا التِّجارَةُ والأخْذُ والعطاءُ، فلا يَجُوزُ. وقال الشافعىُّ: لا بَأْسَ أن يَبِيعَ ويَشْتَرِىَ ويَخِيطَ ويَتَحَدَّثَ، ما لم يَكُنْ مَأْثَمًا. ولَنا، ما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيهِ، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) أى: ليعيدنى إلى المنزل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 620. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 610.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البَيْعِ والشِّراءِ في المَسْجِدِ. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ورَأى عِمْرانُ القَصِيرُ (¬2) رجلًا يَبِيعُ في المَسْجِدِ، فقال: يا هذا، إنَّ هذا سُوقُ الآخِرَةِ، فإن أرَدْتَ البَيْعَ فاخْرُجْ إلى سُوقِ الدُّنْيا. وإذا مُنِع مِن البَيْعِ والشِّراءِ في غيرِ حالِ الاعتكافِ، ففيه أوْلَى. فأمّا الصَّنْعَةُ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه لا يَجُوزُ منها ما يَتكَسَّبُ به، لأنَّه (¬3) بمَنْزِلَةِ البَيْعِ والشِّراءِ. ويَجُوزُ ما يَعْمَلُه لنَفْسِه، كخِياطَةِ قَمِيصِه ونَحْوِه. وقد روَى المَرُّوذِىُّ، قال: سَألْتُ أبا عبدِ اللهِ عن المُعْتَكِفِ، تَرَى له أن يَخِيطَ؟ قال: لا يَنْبَغِى له أن يَعْتَكِفَ إذا كان يُرِيدُ أن يَفْعَلَ. وقال القاضى: لا تَجُوزُ الخِياطَةُ في المَسْجِدِ، سواء كان مُحْتاجًا إليها أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ ذلك مَعِيشَةٌ وتَشَغُّلٌ عن الاعْتِكافِ، فأشْبَهَ البَيْعَ والشِّراءَ فيه. قال شَيْخُنا (¬4): والأوْلَى أن يُباحَ له ما يَحْتاجُ إليه مِن ذلك، إذا كان يَسِيرًا، مثلَ أن يَنْشَقَّ قَمِيصُه فيَخِيطَه، أو يَنْحَلَّ شئٌ يَحْتاجُ إلى رَبْطِه فيَرْبِطَه؛ لأنَّ هذا يَسِير تَدْعُو الحاجَةُ إليه، فجَرَى مَجْرَى لُبْسِ قَمِيصِه وعِمامَتِه. فصل: وليس الصَّمْتُ مِن شريعَةِ الإِسلامِ، وظاهرُ الأخبارِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 120. وهو في الترمذى 2/ 118. وليس 1/ 118 كما ورد هناك. (¬2) عمران بن مسلم البصرى، أبو بكر القصير، ثقة، رأى أنسا ولم يسمع منه، وروى عن التابعين. تهذيب التهذيب 8/ 137 - 139. (¬3) في م: «ولأنه»، وانظر المغنى 4/ 479. (¬4) في: المغنى 4/ 479.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحريمُه. قال قَيْس بنُ مسلمٍ (¬1): دَخَل أبو بَكْرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، على امرأةٍ مِن أحْمَسَ، يُقال لها: زينبُ، فرَآها لا تَتَكَلَّمُ، فقال: ما لها لا تَتَكَلَّمُ؟ قالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. فقال لها: تَكَلَّمِى، هذا لا يَحِلُّ، هذا مِن عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ. فتَكَلَّمَتْ. رَواه البخارِىُّ (¬2). وروَى أبو داودَ (¬3) بإسْنادِه عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: حَفِظْتُ عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ». ورُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن صوْمِ الصَّمْتِ (¬4). فإن نَذَر ذلك لم يَلْزَمْه الوَفاءُ به. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ، وابنُ المُنْذِرِ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: بَيْنا النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، إذا هو برجلٍ قائِمٍ، فَسَألَ عنه، فقالوا: أبو إسْرائِيلَ، نَذَر أن يَقُومَ في الشَّمْسِ ولا يَقْعُدَ، ولا يَسْتَظِلَّ، ولا يَتَكَلَّمَ، ويَصُومَ. فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَه». رَواه البخارىُّ (¬5). ولأنَّه نَذَرَ فِعْلَ مَنْهِىٍّ عنه، ¬

(¬1) كذا في م، المغنى. وفى البخارى أنه قيس بن أبى حازم. واسم أبى حازم حصين بن عوف. انظر تهذيب التهذيب 8/ 376. (¬2) في: باب أيام الجاهلية، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 5/ 52. (¬3) في: باب ما جاء متى ينقطع اليتم، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 104. (¬4) انظر ما يأتى في قصة أبى إسرائيل. (¬5) في: باب النذر فيما لا يملك وفى معصية، من كتاب الأيمان. صحيح البخارى 8/ 177. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في النذر في المعصية، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 208. وابن ماجه، في: باب من خلط في نذره طاعة بمعصية، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 690. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله، من كتاب النذور. الموطأ 2/ 475. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يلْزَمْه، كنَذْرِ المُباشَرَةِ في المَسْجِدِ، وإن أرادَ فِعْلَه لم يَكُنْ له ذلك، سواءٌ نَذَرَه أو لم يَنْذُرْه. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: له فِعْلُه إذا كان أسْلَمَ. ولَنا، النَّهْىُ عنه، وظاهِرُه التَّحْرِيمُ، والأمْرُ بالكلامِ ومُقْتَضاهُ الوُجُوبُ، وقولُ أبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللهُ عنه: إنّ هذا لا يَحِلُّ، هذا مِن عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ. وهذا صَرِيحٌ، ولم يُخالِفْه أحَدٌ مِن الصَّحابَةِ فيما عَلِمْناه، واتِّباعُ ذلك أوْلَى. فصل: ولا يَجُوزُ أن يَجْعَلَ القُرْآنَ بَدَلًا مِن الكلامِ؛ لأنَّه اسْتِعْمالٌ له في غيرِ ما هو له، أَشْبَهَ اسْتِعْمالَ المُصْحَفِ في التَّوَسُّدِ ونَحْوِه، وقد جاءَ: لا تُناظِرُوا بكتابِ الله (¬1). قيل: مَعْناه لا تَتَكَلَّمْ به عندَ الشئِ تَراه، كأنْ تَرَى رجلًا قد جاءَ في وَقْتِه، فتَقُول: و {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} (¬2). ونحوَه. ذَكَر أبو عُبَيْدٍ نَحْوَ هذا المَعْنَىَ. ¬

(¬1) أورده أبو عبيد، في غريب الحديث 4/ 475، والزمخشرى، في الفائق 3/ 446. من كلام الزهرى. (¬2) سورة طه 40.

1130 - مسألة: (ولا يستحب له إقراء القرآن والعلم، والمناظرة فيه، إلا عند [أبى الخطاب]

وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْم، وَالْمُنَاظَرَةُ فِيهِ، إِلَّا عِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ، إِذَا قَصَدَ بِهِ الطَّاعَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1130 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ له إقْراءُ القُرْآنِ والعِلْمِ، والمُناظَرَةُ فيه، إلَّا عندَ [أبى الخطّابِ] (¬1)، إذا قَصَد به الطّاعَةَ) أكْثَرُ أصحابِنا لا يَسْتَحِبُّون للمُعْتَكِفِ إقْراءَ القُرْآنِ، وتَدْرِيسَ العِلْمِ، ومُناظَرَةَ الفُقَهاءِ، ومُجالَسَتَهم، وكِتابَةَ الحَدِيثِ، ونَحْوَ ذلك مِمّا يَتَعَدَّى نَفْعُه. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. وقال أبو الحَسَنِ الآمدىُّ: في اسْتِحْبابِ ذلك رِوايَتان. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه مُسْتَحَبٌّ إذا قَصَد به طاعةَ اللهِ تعالى، لا المُباهاةَ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ ذلك أفْضَلُ العِباداتِ، ونَفْعُه يَتَعَدَّى، فكان أوْلَى مِن تَرْكِه، كالصلاةِ. واحْتَجَّ أصحابُنا بأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَعْتَكِفُ، فلم يُنْقَلْ عنه الاشْتِغالُ بغيرِ العِباداتِ المُخْتَصَّةِ به، ولأنَّ الاعْتِكافَ عِبادَةٌ مِن شَرْطِها المَسْجِدُ، فلم يُسْتَحَبَّ فيها ذلك، ¬

(¬1) في م: «الخطاب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالطَّوافِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بعيادَةِ المَرْضَى، وشُهُودِ الجنازَةِ. فعلى هذا القَوْلِ، فِعْلُه لهذه الأفْعالِ أفْضَلُ مِن الاعْتِكافِ. قال المَرُّوذِىُّ: قُلْتُ لأبِى عَبْدِ اللهِ: إنَّ رجلًا يُقْرِئُ في المَسْجِدِ، وهو يُرِيدُ أن يَعْتَكِفَ، ولَعَلَّه أن يَخْتِمَ في كُلِّ يَوْمٍ. فقال: إذا فَعَل هذا كان لنَفْسِه، وإذا قَعَد في المَسْجدِ كان له ولغيرِه، يُقْرِئُ أحَبُّ إلىَّ. وسُئِلَ: أيُّما أحَبُّ إليك؛ الاعتكَافُ، أو الخُرُوجُ إلى عَبّادانَ (¬1)؟ فقال: ليس يَعْدِلُ الجِهادَ عندِى شئٌ. يَعْنِى أنَّ الخُرُوجَ إلى عبّادانَ أفْضَلُ مِن الاعْتِكافِ. فصل: ولا بَأْسَ أن يَتَزَوَّجَ المُعْتَكِفُ، ويَشْهَدَ النِّكاحَ في المَسْجِدِ؛ لأنَّه عِبادَةٌ لا تُحَرِّمُ الطيبَ، فلا تُحَرِّمُ النِّكاحَ، كالصومِ، ولأنَّ النِّكاحَ طاعَةٌ، وحُضُورَه قُرْبَةٌ، ومُدَّتُه لا تَتَطاوَلُ، فلم يُكْرَهْ، كتَشْمِيتِ العاطِسِ، ورَدِّ السلامِ. ¬

(¬1) عبَّادان: تحت البصرة قرب البحر، وكانت رباطا. انظر: معجم البلدان 3/ 597، 598.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ أن يَتَنَظَّفَ بأنْواعِ التَّنَظُّفِ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُرَجِّلُ رَأْسَه وهو مُعْتَكِفٌ. وله أن يَتَطَيَّبَ، ويَلْبَسَ الرَّفِيعَ مِن الثِّيابِ، وليس ذلك بمُسْتَحَبٍّ. قال الإِمامُ أحمدُ: لا يُعْجِبُنِى أن يَتَطَيَّبَ؛ وذلك لأنَّ الاعْتِكافَ عِبادَةٌ تَخْتَصُّ مَكانًا، فكان تَرْكُ الطِّيبِ فيها مَشْرُوعًا، كالحَجَّ، وليس ذلك بمُحَرَّمٍ؛ لأنَّه لا يُحَرِّمُ اللِّباس ولا النِّكاحَ، أشْبَهَ الصَّوْمَ. فصل: ولا بَأْسَ أن يَأْكُلَ المُعْتَكِفُ في المَسْجِدِ، ويَضَعُ سُفْرَةً يَسْقُط عليها ما يَقَعُ منه، كَيْلا يَتَلَوَّثَ المَسْجِدُ، ويَغْسِلُ يَدَه في الطَّسْتِ ليُفَرَّغَ خارِجَ المَسْجِدِ، ولا يَجُوزُ أن يَخْرُجَ ليَغْسِلَ يَدَه؛ لأنَّ له (¬1) من ذلك بُدًّا. وهل يُكْرَهُ تَجْدِيدُ الطَّهارةِ في المَسْجِدِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا يُكْرَهُ؛ لأنَّ أبا العالِيَةِ قال: حَدَّثَنِى مَن كان يَخْدُمُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: أمّا ما حَفِظْتُ لكم منه، أنَّه كان يَتَوَضَّأُ في المَسْجِدِ (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) رواه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 364. وابن أبى شيبة في المصنف 1/ 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يَتَوَضَّأُ في المَسْجِدِ الحَرامِ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، الرِّجالُ والنِّساءُ (¬1). وعن ابنِ سِيرينَ، قال: كان أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، والخُلَفاءُ، رَضِىَ اللهُ عنهم، يَتَوَضَّئُون في المَسْجِدِ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، وابنِ جُرَيْجٍ (¬2). والثّانِيَةُ، يُكْرَهُ؛ لأنَّه لا يَسْلَمُ مِن أن يَبْصُقَ في المَسْجدِ أو يَتَمَخَّطَ، والبُصاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، ولأنَّه يَبُلُّ مِن المَسْجِدِ مكَانًا يَمْنَعُ المُصَلِّينَ مِن الصلاةِ فيه. وإن خَرَج مِن المَسْجِدِ للوُضُوءِ، وكان تَجْدِيدًا، بَطَل؛ لأنَّهُ خُرُوجٌ لِما له منه بُدٌّ، وإن كان وُضُوءًا عن حَدَثٍ لم يَبْطُلْ؛ لأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه، سواءٌ كان في وَقْتِ الصلاةِ أو قَبْلَها، لأنَّه لا بدَّ مِن الوُضُوءِ للحَدَثِ، وإنَّما يَتَقَدَّمُ عن وقتِ الحاجَةِ إليه لمَصْلَحَةٍ، وهو كَوْنُه على وُضُوءٍ، رُبَّما يَحْتاجُ إلى صلاةِ النّافِلَةِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب وضوء الرجل مع امرأته. . . .، من كتاب الوضوء. صحيح البخارى 1/ 60. (¬2) انظر ما أخرجه ابن أبى شيبة عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس، في: باب في الوضوء في المسجد، من كتاب الطهارات. المصنف 1/ 36، 37. وعبد الرزاق في مصنفه 1/ 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أرادَ أن يَبُولَ في المسجدِ في طَسْتٍ، لم يُبَحْ له ذلك؛ لأنَّ المَساجِدَ لم تُبْنَ لهذا، وهو ممّا يَقْبُحُ ويَفْحُشُ ويُسْتَخَفُّ به، فوَجَبَ صِيانَةُ المَسْجِدِ عنه، كما لو أرادَ أن يَبُولَ في أرْضِه ثم يَغْسِلَه، وإن أرادَ الفَصْدَ والحِجامَةَ فيه، فكذلك. ذَكَرَه القاضِى؛ لأنَّه إِراقَةُ نَجاسَةٍ في المَسْجِدِ، فَأشْبَهَ البَوْلَ فيه. وإن دَعَتْ إليه حاجَةٌ كَبِيرَةٌ خرَج مِن المَسْجِدِ ففَعَلَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنِ اسْتَغْنَى [عنه، لم يَكُنْ] (¬1) له الخُرُوجُ إليه، كالمرضِ الذي يُمْكِنُ احْتِمالُه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ الفَصْدُ في المَسْجِدِ في طَسْتٍ؛ بدَلِيلِ أنَّ المُسْتَحاضَةَ يَجُوزُ لها الاعْتِكافُ، ويَكُونُ تَحْتَها شئٌ يَقَعُ فيه الدَّمُ. قالت عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها: اعْتَكَفَتْ مع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ مِن أزْواجِه مُسْتَحاضَةٌ، فكانت تَرَى الحُمْرَةَ والصُّفْرَةَ، ورُبَّما وَضَعْنا الطَّسْتَ تَحْتَها وهي تُصَلِّى. رَواه البخاريُّ (¬2). والأوَّلُ أوْلَى، والفَرْقُ بينَهما أنَّ المُسْتَحاضَةَ لا يُمْكِنُها التَّحَرُّزُ مِن ذلك إلَّا بتَرْكِ الاعْتِكافِ، بخِلافِ الفَصْدِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 457.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب المناسك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْمَنَاسِكِ يَجِبُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِى العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ المَناسِكِ (¬1) 1131 - مسألة: (يَجِبُ الحَجُّ والعُمْرَةُ في العُمُرِ مَرةً واحِدَةً، بخَمْسَةِ شُرُوطٍ) الحَجُّ في اللُّغَةِ: القَصْدُ. وعن الخَليلِ، قال: الحَجُّ كَثْرَةُ القَصْدِ إلى مَن تُعَظِّمُه. قال الشاعِرُ (¬2): وأَشْهَدَ مِن عَوْفٍ حُوُولًا (¬3) كَثِيرَةَ … يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرقانِ المُزَعْفَرا أي يَقْصِدُون. والسِّبُّ: العِمامَةُ. وفي الحجَّ لُغَتان: الحَجُّ والحِجُّ، بفَتْحِ الحاءِ وكَسْرِها. والحَجُّ في الشَّرْعِ: اسْمٌ لأفْعالٍ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِى ¬

(¬1) بداية الجزء الثالث من نسخة المكتبة العامة السعودية بالرياض، وتجد أرقام صفحاتها في مواضعها من التحقيق. وهي المشار إليها على أنها الأصل، إلى آخر كتاب الجهاد. (¬2) هو المخبل السعدى. والبيت في: البيان والتبيين 3/ 97، إصلاح المنطق 372، كنز الحفاظ في تهذيب كتاب الألفاظ 563، اللسان (س ب ب) 1/ 457، تاج العروس (س ب ب) 1/ 293، وعجزه في: جمهرة اللغة 1/ 31، وسمط اللآلى 418. (¬3) في م: «حئولا». وفى المراجع السابقة: «حلولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِكْرُها، إن شاء اللهُ تعالى. وهو أحَدُ أرْكان الإِسْلامِ الخَمْسَةِ، والدَّلِيلُ على وُجُوبِه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقولُه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1). رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ: ومَن كَفَر باعْتِقادِه أنَّه غيرُ واجِبٍ (¬2). وقال اللهُ تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬3). وأمّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِىَ الْإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ» (¬4): وذَكَر فيها الحَجَّ. فصل: وإنَّما يَجِب مَرَّةً واحِدَةً في العُمُرِ؛ لِما روَى مسلمٌ (¬5) بإسْنادِه، عنِ أبي هُرَيْرَةَ، قال: خَطَبَنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فرَضَ اللهُ (¬6) عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا». فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ فسَكَتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حتَّى قالها ثلاثًا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَما اسْتَطَعْتُمْ». ثم قال: «ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، إِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَئٍ (¬7) فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ¬

(¬1) سورة آل عمران 97. (¬2) انظر تفسير الطبرى 4/ 19. (¬3) سورة البقرة 196. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 6. (¬5) تقدم تخريجه في 1/ 363. (¬6) سقط من: م. (¬7) سقط من: النسخ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَئٍ فَدَعُوه». في أخْبارٍ سِوَى هذَيْن كَثِيرَةٍ، وأجْمَعَتِ الأُمُّةُ على وُجُوبِ الحَجِّ على المسْتَطِيعِ في العُمُرِ مَرَّةً واحِدَةً. فصل: وتَجِبُ العُمْرَةُ على مَن يَجِبُ عليه الحَجُّ في إحْدَى الرَّوايَتَيْن. يُرْوَى ذلك عن عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وزَيْدِ بنِ ثابِتٍ، وابنِ عُمَرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ في أحَدِ قَوْلَيْه. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، ليست واجِبَةً. رُوِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وبه قال مالكٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ؛ لِما رَوَى جابرٌ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن العُمْرَةِ، أواجِبَةٌ هي؟ قال: «لَا، وَأنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ». أخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن طَلْحَةَ، أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). ولأنَّه نُسُكٌ غيرُ مُؤَقَّتٍ، فلم يَكُنْ واجبًا، كالطَّوافِ المُجَرَّدِ. ووَجْهُ الأُولى قولُ الله تِعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. ومُقْتَضَى الأمْرِ الوُجُوبُ، ثم إنَّه عَطَفَها على الحَجِّ، والأصْلُ التَّساوِى بينَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عليه، قال ابنُ عباسٍ: إنَّها لَقَرِينَةُ الحَجِّ في ¬

(¬1) في: باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 162. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 316. (¬2) في: باب العمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجة 2/ 995. وإسناده ضعيف. كما أخرجه البيهقى عن أبي صالح الحنفى، في: باب من قال العمرة تطوع، من كتاب الحج. السنن الكبرى 4/ 348. وأخرجه الطبرانى في الكبير 11/ 442. من حديث ابن عباس مرفوعًا، وفى إسناده كذاب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابِ اللهِ. وعن الصُّبَىِّ (¬1) بن مَعْبَدٍ، قال: أتَيْتُ عُمَرَ، فقُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنين، إنِّى أسْلَمْتُ، وإنِّى وَجَدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْن علىَّ فأهْلَلْتُ بهما. فقالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لسُنَّةِ نَبِيِّك محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه أبو داودَ، والنَّسائيُّ (¬2). وعن أبي (¬3) رَزِينٍ، أَنَّه أتَى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ اللهِ: إنَّ أبي شَيْخٌ كَبِيرٌ، ولا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ، ولا العُمْرَةَ، ولا الظَّعْنَ. فقالَ: «حُجَّ عَنْ أبِيكَ وَاعْتَمِرْ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائىُّ، والتِّرْمِذيُّ (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وذَكَرَه أحمدُ، ثم قال: وحديثٌ يَرْوِيه سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الجُمَحِيُّ، عن عُبَيْدِ اللهِ (¬5)، عن ¬

(¬1) في م: «الضبي» بالضاد المعجمة. وكذا جاء في المغنى، وهو خطأ. وهو الصُّبَيُّ، بالصاد مصغرًا، ابن معبد التغلبى الكوفي، تابعي ثقة مخضرم، رأى عمر بن الخطاب وعامة أصحاب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. تهذيب التهذيب 4/ 409، 410. تقريب التهذيب 1/ 365. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 417، 418. والنسائى، في: باب القران، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 113، 114. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من قرن الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 989. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 14، 25، 34، 37، 53. (¬3) في م: «ابن». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يحج عن غيره، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 420. والترمذي، في: باب منه (ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت)، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 160. والنسائي، في: باب العمرة عن الرجل الذى لا يستطيع، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 88. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الحج عن الحى إذا لم يستطع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 970. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 10، 11، 12. (¬5) في م: «عبد الله»، وهو عبيد الله بن عمر بن حفص العدوى. انظر تهذيب التهذيب 7/ 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قال: جاء رجلٌ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أوْصِنِى. قال: «تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ، وَتَعْتَمِرُ». وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن أبي بَكْرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلى أهْلِ اليَمَنِ، وكان في الكِتابِ: «إنَّ العُمْرَةَ هِىَ الْحَجُّ الأصْغَرُ» (¬1). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابَةِ، لم نَعْلَمْ لهم مُخالِفًا، إلَّا ابنَ مسعودٍ، وقد اخْتُلِفَ عنه. وأمّا حديثُ جابِرٍ، فقالَ التِّرْمِذىُّ: قال الشافعيُّ: هو ضَعِيفٌ لا تَقُومُ بمِثْلِه الحُجَّةُ، وليس في العُمْرَةِ شئٌ ثابِتٌ بأنَّها تَطَوُّعٌ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: رُوِىَ ذلك بأسانِيدَ لا تَصِحُّ، ولا تَقُومُ بمِثلِها الحُجَّةُ. ثم نَحْمِلُه على المَعْهُودِ، وهو العُمْرَةُ التى قَضَوْها حينَ أُحْصِرُوا في الحُدَيْبيَّةِ، أو على العُمْرَةِ التى اعْتَمَرُوها مع حَجَّتِهم مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّها لم تَكُنْ واجبَةً على مَن اعْتَمَر، أو على ما زادَ على العُمْرَةِ الواحِدَةِ. وتُفارِقُ العُمْرَةُ الطَّوافَ؛ لأنَّ مِن شَرْطِها الإِحْرامَ، بخِلافِ الطَّوافِ. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 285. والبيهقى، في: السنن الكبرى 4/ 89، 90، 352.

1132 - مسألة: (وإنما يجب الحج والعمرة بخمسة شروط؛ الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة)

الْإِسْلَامِ، وَالْعَقْلِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا. وَالْبُلُوغِ، وَالْحُرَّيَّةِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى صَبِىٍّ وَلَا عَبْدٍ، وَيَصِحُّ مِنْهُمَا، [61 و] وَلَا يُجْزِئُهُمَا إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل (¬1): وليس على أهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ. نَصّ عليه أحمدُ، وقال: كان ابنُ عباسٍ يَرَى العُمْرَةَ واجبَةً، ويَقُولُ: يا أهْلَ مَكَّةَ، ليس عليكم عُمْرَةٌ، وإنَّما عُمْرَتُكُمْ طَوافُكمَ بالبَيْتِ. وبهذا قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ. قال عَطاءٌ: ليس أحَدٌ مِن خَلْقِ اللهِ إلّا عليه حَجٌّ وعُمْرَةٌ واجِبان، لا بُدَّ منهما لمَن اسْتَطاعَ إليهما سَبِيلًا، إلَّا أهلَ مَكَّةَ، فإنَّ عليهم حَجَّةً، وليس عليهم عُمْرَةٌ، مِن أجْلِ طَوافِهم بالبَيْتِ. ووَجْهُ ذلك أنَّ رُكْنَ العُمْرَةِ ومُعْظَمَها الطَّوافُ بالبَيْتِ، وهم يَفْعَلُونَه، فأجْزَأ عنهم. وحَمَل القاضِى كَلامَ الإِمامِ أحمدَ على أنَّه لا عُمْرَةَ عليهم مع الحَجّةِ؛ لأنَّه يَتَقَدَّمُ منهم فِعْلُها في غيرِ وَقْتِ الحَجِّ. قال الشَّيخُ (¬2)، رَحِمَه اللهُ: والأمْرُ على ما قُلْنا. 1132 - مسألة: (وإنَّما يَجِبُ الحَجُّ والعُمْرَةُ بخَمْسَةِ شُرُوطٍ؛ الإِسْلامِ، والعَقْلِ، والبُلُوغِ، والحُرِّيَّةِ، والاسْتِطاعَةِ) لا نَعْلَمُ في هذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغنى 5/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّه خِلافًا. أمّا الصَّبِىُّ والمَجْنُونُ فلأنَّهُما غيرُ مُكَلَّفَيْن؛ لِما روَى علىُّ ابنُ أبي طالبٍ، رَضِىَ اللهُ عَنه، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاَثةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَشِبَّ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ». رواه أبو داودَ، وابنُ ماجه، والتِّرْمذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وأمّا العَبْدُ فلا تَجِبُ عليه؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَطُولُ مُدَّتُها، وتَتَعَلَّقُ بقَطْعِ مَسافَةٍ، ويُشْتَرَطُ لها الاسْتِطاعَةُ بالزّادِ والرّاحِلَةِ، وتَضِيعُ حُقُوقُ السَّيِّدِ المُتَعَلِّقَةُ به، فلم تَجِبْ عليه، كالجِهادِ. وغيرُ المُسْتَطِيعِ لا يَجِبُ عليه؛ لأنَّ اللهَ تعالى خَصَّ المُسْتَطِيعَ بالإِيجابِ عليه، وقال اللهُ تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2). وأمّا الكافِرُ فلأنَّه ليس مِن أهلِ العِباداتِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15. (¬2) سورة البقرة 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهذه الشُّرُوطُ تَنْقَسِمُ ثَلاَثةَ أقْسامٍ؛ منها ما هو شَرْطٌ للوُجُوبِ والصِّحَّةِ، وهما الإِسْلامُ والعَقْلُ، فلا يَجِبُ على كافِرٍ ولا مَجْنُونٍ، ولا يَصِحُّ منهما لكَوْنِهما ليسا مِن أهْلِ العِباداتِ. ومنها ما هو شَرْطٌ للوُجُوبِ والإِجْزاءِ، وهو البُلُوغُ والحُرِّيَّةُ، وليس شَرْطًا للصِّحَّةِ، فلو حَجَّ الصَّبِىُّ والعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُما، ولم يُجْزِئْهما عن حَجَّةِ الإِسلامِ إن بَلَغ الصَّبِيُّ أو عَتَق العَبْدُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ، إلَّا مَن شَذَّ عنهم، ممَّن لا يُعْتَدُّ بخِلافِه، على أنَّ الصَّبِىَّ إذا حَجَّ في حالِ صِغَرِه، والعَبْدَ إذا حَجَّ في حالِ رِقِّه، ثم بَلَغ الصَّبِىُّ، وعَتَق العَبْدُ، أنَّ عليهِما حَجَّةَ الإِسْلامِ إذا وَجَدا إليها سَبيلًا. كذلك قال ابنُ عباسٍ، وعَطاءٌ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والثَّورِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال التِّرْمذِيُّ: وقد أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عليه. وقال الإِمام أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، عن محمدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِىِّ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّى أُرِيدُ أن أُجَدِّدَ فِى صُدُورِ المُؤْمِنِينَ عَهْدًا؛ أيُّمَا صَبِىٍّ حَجَّ بِهِ أهْلُهُ فَمَاتَ، أجْزَأتْ عَنْهُ، فَإنْ أدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ». رَواه سعيدٌ في سُنَنِه (¬1)، والشافعىُّ في «مُسْنَدِه» عن ابنِ عباسٍ مِن قَوْلِه (¬2). ولأنَّ الحَجَّ عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَعَلَهَا قبلَ وَقْتِ وُجُوبِها، فلم يَمْنَعْ ذلك وُجُوبَها عليه في وَقْتِها، كما لو صَلَّى قبلَ الوَقْتِ، أو كما لو صَلَّى ثم بَلَغ في الوَقْتِ. ومنها [ما هو] (¬3) شَرْطٌ للوُجُوبِ، وذلك الاسْتِطاعَةُ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: أول كتاب الحج. مراسيل أبي داود 121. (¬2) ترتيب مسند الشافعي 1/ 283. والبيهقى في: السنن الكبرى 5/ 178، 179. (¬3) سقط من: الأصل.

1133 - مسألة: (إلا أن يبلغ ويعتق في الحج قبل الخروج من عرفة، وفى [العمرة قبل]

إِلَّا أن يَبْلُغَ وَيَعْتِقَ فِى الْحَجِّ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ عَرَفَةَ، وَفِى الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوَافِهَا، فَيُجْزِئُهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1133 - مسألة: (إلَّا أن يَبْلُغَ ويَعْتِقَ في الحَجِّ قبلَ الخرُوجِ مِن عَرَفَةَ، وفى [العُمْرَةِ قبلَ] (¬1) طوافِها، فيُجْزِئُهما) إذا بَلَغِ الصَّبِىُّ، أو عَتَق العَبْدُ بعَرَفَةَ أو قبلَها، غيرَ مُحْرِمَيْن، فأحْرَما ووَقَفا بعَرَفةَ فأتَمَّا المَناسِكَ، أجْزَأهما عن حَجَّةِ الإسْلامِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّهما لم يَفُتْهما شيءٌ مِن أرْكانِ الحَجِّ، ولا فَعَلا منها شيئًا قبلَ وُجُوبِه. وإن كان البُلُوغُ والعِتْقُ وهما مُحْرِمان، أجْزَأهما أيضًا عن حَجَّةِ الإِسْلامِ. كذلك قال ابنُ عباسٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ، وإسحاقَ. وهو قولُ الحسنِ في العَبْدِ. وقال مالكٌ: لا يُجْزِئُهُما. اخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: لا يُجْزِئُ العَبْدَ، فأمّا الصَّبِىُّ، فإن جَدَّدَ إحْرامًا بعدَ أنِ احْتَلَمَ قبلَ الوُقُوفِ، أجْزَأه، وإلَّا فلا؛ لأنَّ إحْرامَهما لم يَنْعَقِدْ واجِبًا، فلا يُجْزِئُ عن الواجِبِ، كما لو بَقِيا على حالِهِما. ولَنا، أنَّه أدْرَكَ الوُقُوفَ حُرًّا بالِغًا، فأجْزَأه، كما لو أحْرمَ تلك الساعَةَ. قال أحمدُ: قال (¬2) طاوسٌ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابنِ عباسٍ: إذا أُعْتِقَ العَبْدُ بعَرَفَةَ، أجْزَأتْ عنه حَجَّتُه، فإن أُعْتِقَ بِجَمْعٍ (¬1)، لم تُجْزِئْ عنه. وهؤلاء يَقُولُون: لا تُجْزِئُ. ومالكٌ يَقُولُه أيضًا. وكيف لا يُجْزِئُه، وهو لو أحْرَمَ تلك السّاعَةَ كان حَجُّه تَامًّا، وما أعْلَمُ أحَدًا قال لا يُجْزِئُه إلَّا هؤلاء. فصل: والحُكْمُ فيما إذا أُعْتِقَ العَبْدُ (¬2) وبَلَغ الصَّبِيُّ بعدَ خُرُوجِهما مِن عَرَفَةَ، فعادا إليها قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، كالحُكْمِ فيما إذا كانا فيها؛ لأنَّهما قد أدْرَكا مِن الوَقْتِ ما يُجْزِئُ، ولو كان لَحْظَةً. وإن لم يَعُودا، أو كان ذلك بعدَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِن يومِ النَّحْرِ، لم يُجْزِئْهما عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، ويُتِمّان حَجَّتَهما تَطَوُّعًا؛ لفَواتِ الوُقُوفِ المَفْرُوضِ، ولا دَمَ عليهما؛ لأنَّهما حَجَّا تَطَوُّعًا بإحْرامٍ صَحِيحٍ مِن المِيقاتِ، فأشْبَها البالِغَ الذي يَحُجُّ تَطَوُّعًا. فإن قِيلَ: فلِمَ لا قُلْتُم: إنَّ الوُقوفَ الذي (¬3) فَعَلَاه يَصِيرُ فَرْضًا، كما قُلْتُم في الإِحْرامِ الذي أحْرَمَ به قبلَ البُلُوغِ: إنَّه يَصِيرُ بعدَ بُلُوغِه فَرْضًا؟ قُلْنا: إنَّما اعْتَدَدْنا له بإحْرامِه المَوْجُودِ بعدَ ¬

(¬1) أي المزدلفة. (¬2) في م: «للعبد». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُلُوغِه، وما قبلَه تَطَوُّعٌ لم يَنْقَلِبْ فَرْضًا، ولا اعْتُدَّ له به، فالوُقُوفُ مثلُه، فنَظِيرُه (¬1) أن يَبْلُغَ (¬2) وهو واقِفٌ بعَرَفَةَ، فإنَّهُ يُعْتَدُّ له بما أدْرَكَ مِن الوُقُوفِ، ويَصِيرُ فَرْضًا دُونَ ما مَضَى. فصل: إذا بَلَغ الصَّبِىُّ، أو عَتَق العَبْدُ قبلَ الوُقُوفِ، أو في وَقْتِه، وأمْكَنَهما الإِتْيانُ بالحَجِّ، لَزِمَهما ذلك؛ لأنَّ الحَجَّ واجِبٌ على الفَوْرِ، فلا يَجُوزُ تَأْخِيرُه مع إمْكانِه، كالبالِغِ الحُرِّ. وإن فاتَهما الحَجُّ لَزِمَتْهما العُمْرَة عندَ مَن أوْجَبَها (¬3)؛ لأنَّها واجِبَةٌ أمْكَنَ فِعْلُها، فأشْبَهَتِ الحَجَّ. ومتى أمْكَنَهما ذلك فلم يَفْعلا، اسْتَقَرَّ الوُجُوبُ عليهما، سَواءٌ كانا [مُوسِرَيْن أو مُعْسِرَيْن] (¬4)؛ لأنَّ ذلك وَجَب عليهما بإمْكانِه في مَوْضِعِه، فلم ¬

(¬1) في م: «فنظير». (¬2) في الأصل: «بلغ». (¬3) في م: «أوجبهما». (¬4) في م: «وسرين أو معشرين».

1134 - مسألة: (ويحرم الصبى المميز بإذن وليه، وغير المميز يحرم عنه وليه، ويفعل عنه

وَيُحْرِمُ الصَّبِىُّ الْمُمَيِّزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَيَفْعَلُ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْقُطْ بفَواتِ القُدْرَةِ بعدَه. فصل: والحُكْمُ في الكافِرِ يُسْلِمُ، والمَجْنُونِ يُفِيقُ، حُكْمُ الصَّبِىَّ يبلُغُ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّ هَذَيْن لا يَصِحُّ منهما إحْرامٌ، ولو أحْرَما لم يَنْعَقِدْ إحْرامُهما؛ لأنَّهُما مِن غيرِ أهلِ العِباداتِ، وحُكْمُهما حُكْمُ مَن لم يُحْرِمْ. 1134 - مسألة: (ويُحْرِمُ الصَّبِىُّ المُمَيِّزُ بإذْنِ وَلِيِّه، وغيرُ المُمَيِّزِ يُحْرِمُ عنه وَلِيُّه، ويَفْعَلُ عنه (¬1) ما يَعْجزُ عنه مِن عَمَلِه) حَجُّ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ، فإن كان مُمَيِّزًا أحْرَمَ بإذْنِ وَلِيِّه، وإن لم يَكُنْ مُمَيِّزًا أحْرَمَ عنه وَلِيُّه، فَيَصِيرُ مُحْرِمًا بذلك. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، ورُوِىَ عن عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْعَقِدُ إحْرامُ الصَّبِيِّ، ولا يَصِيرُ مُحْرِمًا بإحْرامِ وَلِيِّه؛ لأنَّ الإِحْرامَ سَبَبٌ يلْزَمُ به حُكْمٌ، فلم يَصِحَّ مِن الصَّبِىِّ، كالنَّذْرِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: رَفَعَتِ امرأةٌ صَبِيًّا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ، ألِهذا حَجٌّ؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ». رَواه مسلمٌ وغيرُه مِن الأَئِمَّةِ (¬1). وروَى البخارىُّ (¬2) عن السّائِبِ بنِ يَزِيدَ، قال: حُجَّ بي مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنُ سَبْعِ سِنِين. ولأنَّ أبا حنيفةَ قال: يَجْتَنِبُ ما يَجْتَنِبُه المُحْرِمُ. ومَن اجْتَنَبَ ما يَجْتَنِبُه المُحْرِمُ كان إحْرامُه صَحِيحًا. والنَّذْرُ لا يَجِبُ به شئٌ، بخِلافِ مَسْألتِنا. والكَلامُ في حَجِّ الصّبِىِّ في فُصولٍ أرْبَعَةٍ؛ في الإِحْرامِ عنه أو منه، وفيما يَفْعَلُه بنَفْسِه أو بغيرِه، وفى حُكْمِ جِناياتِه على إحْرامِه، وفيما يَلْزَمُه مِن القَضاءِ والكَفّارَةِ. الفَصْلُ الأوَّلُ في إحْرامِه: فإن كان مُمَيِّزًا أحْرَمَ بإذْنِ وَلِيِّه، ولا يَصِحُّ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 974. وأبو داود، في: باب في الصبي يحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 403. والنسائي، في: باب الحج بالصغير، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 91، 92. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 219، 288، 244، 343، 344. (¬2) في: باب حج الصبيان، من كتاب الحج. صحيح البخارى 3/ 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّه عَقْدٌ يُؤَدِّى إلى لُزُومِ مالٍ، فلم يَنْعَقِدْ مِن الصَّبِىِّ بنَفْسِه، كالبَيْعِ. وإن كان غيرَ مُمَيِّزٍ، فأحْرَمَ عنه مَن له وِلايَةٌ على مالِه، كالأبِ والوَصِىِّ وأمِينِ الحاكِمِ، صَحَّ. ومَعْنَى إحْرامِه عنه، أنَّه يَعْقِدُ له الإِحْرامَ، فيَصِحُّ للصَّبِىِّ دُونَ الوَلِىِّ، كما يَعْقِدُ له النِّكاحَ. فعلى هذا يَصِحُّ عَقْدُ الإِحْرامِ عنه، سَواءٌ كان الوَلِىُّ مُحْرِمًا أو حَلالًا، ممَّن عليه حَجَّةُ الإِسْلامِ أو غيرِه. فإن أحْرَمَتْ عنه أُمُّه، صَحَّ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِ أجْرٌ». ولا يُضافُ الأجْرُ إليها إلَّا لكَوْنِه تَبَعًا لها في الإِحْرامِ. قال الإمامُ أحمدُ، في رِوايَةِ حَنْبَلٍ: يُحْرِمُ عنه أبواه (¬1) أو وَلِيُّه. واخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ، وقال: المالُ الذي يَلْزَمُ بالإِحْرامِ لا يَلْزَمُ الصَّبِىَّ، وإنَّما يَلْزَمُ مَن أدْخَلَه ¬

(¬1) في م: «أبوه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الإِحْرامِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن. وقال القاضي: ظاهِرُ كَلام أحمدَ أنَّه لا يُحْرِمُ عنه إلَّا وَلِيُّه؛ لأنَّه لا وِلايةَ للأُمِّ على مالِه، والإِحْرامُ يَتَعَلَّقُ به إلْزامُ مالٍ، فلا يَصِحُّ مِن غيرِ ذِى وِلايَةٍ، كشِراءِ شَئٍ له. فأمّا غيرُ الأُمِّ والوَلِىَّ مِن الأقارِبِ؛ كالأخِ والعَمِّ وابْنِه، فيُخَرَّجُ فيهم وَجْهان، بِناءً على القولِ في الأُمِّ. أمّا الأجانِبُ فلا يَصِحُّ إحْرامُهم عنه، وَجْهًا واحِدًا. الفَصْلُ الثَّانِي: أنَّ كلَّ ما أمْكَنَه فِعْلُه بنَفْسِه، لَزِمَه فِعْلُه، ولا يَنُوبُ عنه غيرُه فيه، كالوُقُوفِ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، ونحْوِهما، وما عَجَز عنه عَمِلَه الوَلِيُّ عنه. قال جابِرٌ: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حُجّاجًا، ومعنا النِّساءُ والصِّبْيانُ، فأحْرَمْنا عن الصِّبْيانِ. رَواه سعيدٌ، في «سُنَنِه». ورَواه ابنُ ماجه (¬1)، وفيه: فَلبَّيْنا عن الصِّبْيانِ، ورَمَيْنا عنهم. ورَواه التِّرْمِذيُّ (¬2)، قال: فَكُنَّا نُلَبِّى عن النِّساءِ، ونَرْمِى عن ¬

(¬1) في: باب الرمى عن الصبيان، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1010. (¬2) في: باب حدثنا محمَّد بن إسماعيل. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّبْيانِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ يَرَى الرَّمْىَ عن الصَّبِىِّ الذي لا يَقْدِرُ على الرَّمْىِ، كان ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذلك. وبه قال عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يُحَجِّجُ (¬1) صِبْيانَه وهم صِغارٌ، فمَن اسْتَطاعَ منهم أن يَرْمِىَ رَمَى، ومَن لم يَسْتَطِعْ أن يَرْمِىَ رَمَى عنه. وعن أبي إسْحاقَ، أنَّ أبا بَكْرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، طاف بابْنِه في خِرْقَةٍ. رَواهما الأثْرَمُ (¬2). قال الإِمامُ أحمدُ: يَرْمِى عن الصُّبِىِّ أبُوه أو وَلِيُّه. قال القاضي: إنْ أمْكَنَه أن يُناوِلَ (¬3) النّائِبَ الحَصَا ناوَلَه، وإن لم يُمْكِنْه اسْتُحِبَّ أن تُوضَعَ الحَصَاةُ في يَدِه، ثم تُؤْخَذَ منه فتُرْمى عنه. وإن وَضَعَها في يَدِ الصَّغِيرِ ورَمَى بها، فجَعَلَ يَدَه كالآلَةِ فحسنٌ. ولا يَجُوزُ أن يَرْمِىَ عنه (¬4) إلَّا مَن قد رَمَى عن نَفْسِه؛ ¬

(¬1) في م: «يحج». (¬2) الأوَّل أخرجه أبو داود في مسائل أحمد: 116. وأخرج الثاني عبد الرَّزاق، في: باب أي حين يكره الطواف. . . .، من كتاب المناسك. المصنف 5/ 70. (¬3) في الأصل: «يناوله». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يَجُوزُ أن يَنُوبَ عن الغيرِ وعليه فَرْضُ نَفْسِه، كالحَجِّ. وأمّا الطَّوافُ، فإنَّه إن أمْكَنَه المَشْىُ مَشَى، وإلَّا طِيفَ به مَحْمُولًا، أو راكِبًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ أبي بكرٍ، ولأنَّ الطَّوافَ بالكَبِيرِ مَحْمُولًا لعُذْرٍ يَجُوزُ، فالصَّغِيرُ أوْلَى. ولا فَرْقَ بينَ أن يَكُونَ الحامِلُ له حَلالًا أو حَرامًا، ممَّن أسْقَطَ الفَرْضَ عن نَفْسِه أو لم يُسْقِطْه؛ لأنَّ الطَّوافَ للمَحْمُولِ لا للحامِلِ، ولذلك صَحَّ أن يَطُوفَ راكِبًا على بَعِيرٍ. وإن طِيفَ به مَحْمُولًا أو راكِبًا، وهو يَقْدِرُ على الطَّوافِ بنَفْسِه، ففيه رِوايَتان، نَذْكُرُهما فيما بعدُ، إن شاء اللهُ تعالى (¬1). ومتى طاف بالصَّبِىِّ اعْتُبِرَتِ النِّيَّةُ مِن الطّائِفِ. فإن لم يَنْوِ الطَّوافَ عن الصَّبِىِّ، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّه لمّا لم تُعْتَبَرِ النِّيَّةُ مِن الصَّبِىِّ اعْتُبِرَت مِن غيرِه، كما في الإِحْرامِ. فإن نَوَى الطَّوافَ عنه وعن الصَّبِىِّ، احْتَمَلَ وُقُوعُه عن نَفْسِه، كالحَجِّ إذا نَوَى عنه وعن غيرِه، واحْتَمَلَ أن يَقَعَ عن الصَّبِىِّ، كما لو طاف بكَبِيرٍ، ونَوَى كلُّ واحِدٍ عن نَفْسِه؛ لكَوْنِ المَحْمُولِ ¬

(¬1) انظر ما يأتي في 9/ 105.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى، واحْتَمَلَ أن يَلْغُوَ لعَدَمِ التَّعْيِينِ؛ لكَوْنِ الطَّوافِ لا يَقَعُ عن غيرِ مُعَيَّنٍ. وأمّا الإِحْرامُ فإنَّ الصَّبِىَّ يُجَرَّدُ كما يُجَرَّدُ الكَبِيرُ. وقد رُوىَ عن عائشةَ رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّها كانت تُجَرِّدُ الصِّبْيانَ إذا دَنَوْا مِن الحَرَمِ (¬1). قال عَطاءٌ: يَفْعَلُ بالصَّغِيرِ كما يَفْعَلُ بالكَبِيرِ (¬2)، ويَشْهَدُ به المَناسِكَ كلَّها إلَّا (¬3) أنَّه لا يُصَلَّى عنه. الفَصْلُ الثَّالِثُ في مَحْظُوراتِ الإِحْرامِ: وهي قِسْمان؛ ما يَخْتَلِفُ عَمْدُه وسَهْوُه، كاللِّباسِ والطِّيبِ، وما لا يَخْتَلِفُ، كالصَّيْدِ وحَلْقِ الشَّعَرِ. فالأوَّلُ، لا فِدْيَةَ على الصَّبِىِّ فيه؛ لأنَّ عَمْدَه خَطَأٌ. والثاني، عليه فيه الفِدْيَةُ، وإن وَطِئَ أفْسَدَ حَجَّه، ويَمْضِى في فاسِدِه. وفى وجُوبِ القَضاءِ عليه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجِبُ؛ لِئَلَّا تَجبَ عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ على غيرِ مُكَلَّفٍ. والثاني، يَجِبُ؛ لأنَّه إفْسادٌ مُوجِبٌ للبَدَنَةِ، فأوْجَبَ القَضاءَ، كَوَطْءِ البالِغِ. فإن قَضَى بعدَ البُلُوغِ بَدَأ بحَجَّةِ الإِسْلامِ. فإن أحْرَمَ بالقَضاءِ قبلَها، انْصَرَفَ إلى حَجَّةِ الإِسْلامِ. وهل تُجْزِئُه عن القَضاءِ؟ يُنْظرُ، فإن كانَتِ الفاسِدَةُ قد أدْرَكَ فيها شَيْئًا مِن الوُقُوفِ بعدَ بُلُوغِه، أجْزَأ عنهما جميعًا، وإلَّا لم يُجْزِئْه، وكذلك حُكْمُ العَبْدِ، واللهُ أعْلَمُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في الجزء الملحق 407. (¬2) في م: «الكبير». (¬3) في م: «لا».

1135 - مسألة: (ونفقة الحج وكفاراته في مال وليه. وعنه، في مال الصبى)

وَنَفَقَةُ الْحَجِّ وَكَفَّارَاتُهُ فِى مَالِ وَلِيِّهِ. وَعَنْهُ، فِى مَالِ الصَّبِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1135 - مسألة: (ونَفَقَةُ الحَجِّ وكفّاراتُه في مالِ وَلِيِّهِ. وعنه، في مالِ الصَّبِىِّ) أمّا نَفَقَةُ الحَجِّ، فقالَ القاضي: ما زاد على نَفَقَةِ الحَضَرِ، فهو (¬1) في مالِ الوَلِىِّ؛ لأنَّه كَلَّفَه ذلك عن غيرِ حاجَةٍ بالصَّبِىِّ إليه. اخْتاره أبو الخَطّابِ. وحُكِىَ عن (¬2) القاضي، أنَّه ذَكَر في «الخِلافِ» أنَّ جَميعَ النَّفَقَةِ على الصَّبِىِّ؛ لأنَّ الحَجَّ له، فنَفَقَتُه عليه، كالبالِغِ، ولأنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «فهى». (¬2) في الأصل: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له فيه مَصْلَحَةً بتَحْصِيلِ الثَّوابِ له، ويَتَمَرَّنُ عليه، فصارَ كأجْرِ المُعَلِّمِ والطَّبِيبِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ هذا لا يَجِبُ في العُمُرِ إلَّا مَرَّةً، فلا حاجَةَ إلى التَّمَرُّنِ عليه، ولأنَّه قد لا يَجِبُ، فلا يَجُوزُ تَكْلِيفُه بَذْلَ مالِه مِن غيرِ حاجَةٍ إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أُغْمِىَ على البالِغِ، فأحْرَمَ عنه رَفِيقُه، لم يَصِحَّ. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ. وقال أبو حَنِيفةَ: يَصِيرُ مُحْرِمًا بإحْرامِ رَفِيقِه عنه، اسْتِحْسَانًا. ولَنا، أنَّه بالِغٌ، فلم يَصِرْ مُحْرِمًا بإحْرامِ رَفِيقِه، كالنّائِمِ، ولأنَّه لو أذِنَ في ذلك وأجازَه لم يَصِحَّ، فمع عَدَمِه أوْلَى.

1136 - مسألة: (وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيده، ولا للمرأة الإحرام نفلا إلا بإذن زوجها)

وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْإِحْرَامُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ الْإِحْرَامُ نَفْلًا إِلَّا بِإِذْنِ زَوجِهَا، فَإِنْ فَعَلَا، فَلَهُمَا تَحْلِيلُهُمَا وَيَكُونَانِ كَالْمُحْصَرِ، وَإِنْ أَحْرَمَا بِإِذْنٍ، لَمْ يَجُزْ تَحْلِيلُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1136 - مسألة: (وليس للعَبْدِ الإِحْرامُ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، ولا للمَرْأةِ الإِحْرامُ نَفْلًا إلَّا بإذْنِ زَوْجِها) فإن شَرَعا فيه بغيرِ إذْنٍ (فلهما تَحْلِيلُهما، ويَكُونان كالمُحْصَرِ) وإن كان بإذْنٍ (لم يَجُزْ تَحْلِيلُهما) وجُمْلَتُه أنَّه ليس للعَبْدِ الإِحْرامُ [بدُونِ إذْنِ] (¬1) سَيِّدِه؛ لأنَّه تَفُوتُ به حُقُوقُ سَيِّدِه الواجِبَةُ عليه بالْتِزامِ ما ليس بواجِبٍ، فإن فَعَل، انْعَقَدَ إحْرامُه صَحِيحًا؛ لأنَّها عِبادَة بَدَنِيَّةٌ، فأشْبَهَتِ الصلاةَ والصومَ. ولسَيِّدِه تَحْلِيلُه، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن. اخْتارَها ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّ في بَقائِه عليه تَفْوِيتًا لحَقِّهِ بغيرِ إذْنِه، فلم يَلْزَمْ ذلك لسَيِّدِه، كالصومِ المُضِرِّ ببَدَنِه. والثانيةُ، ليس له تَحْلِيلُه. اخْتارَها أبو بَكْرٍ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ (¬2) التَّحَلُّلَ مِن تَطَوُّعِ نَفْسِه، فلم يَمْلِكْ تَحْلِيلَ عَبْدِه. والأوَّلُ أصَحُّ. وإنَّما لم يَمْلِكْ تَحْلِيلَ نَفْسِه؛ لأنَّه الْتَزَمَ التَّطَوُّعَ باخْتِيارِه، فنَظِيرُه أن يُحْرِمَ عبدُه بإذْنِه، وفى مَسْألتنا يَفُوتُ حَقُّه الواجِبُ بغيرِ اخْتِيارِه. فأمّا إن أحْرَمَ بإذْنِ سَيِّدِه، ¬

(¬1) في م: «إلا بإذن». (¬2) في م: «يمكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَكُنْ له تَحْلِيلُه. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: له ذلك؛ لأنَّه مَلَّكَه مَنافِعَ نَفْسِه، فكانَ له الرُّجُوعُ فيها، كالمُعِيرِ يَرْجِعُ في العارِيَّةِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ عَقَده (¬1) بإذْنِ سَيِّدِه، فلم يَكُنْ لسَيِّدِه فَسخُه، كالنِّكاحِ، ولا يَلْزَمُ عليه العارِيَّةُ، لأنَّها ليست لازِمَةً. ولو أعارَه شَيْئًا ليَرْهَنَه، فرَهَنَه، لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ فيه. فإن باعَه سَيِّدُه بعدَ ما أحْرَمَ، فحُكْمُ مُشْتَرِيه في تَحْلِيلِه حُكْمُ بائِعِه؛ لأنَّه اشتراه مَسْلُوبَ المَنْفَعَةِ، أشْبَهَ الأمَةَ المُزَوَّجَةَ والمُسْتَأْجَرَةَ. فإن عَلِم المُشْتَرِى بذلك، فلا خِيارَ له، كما لو اشترَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَه، وإن لم يَعْلمْ فله الفَسْخُ، لأنَّه يَتَضَرَّرُ بمُضِىِّ العَبْدِ في حَجِّه لفَوَاتِ منافِعِه، إلَّا أن يَكُونَ إحْرامُه بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، ونَقُولُ: له تَحْلِيلُه. فلا فَسْخَ له؛ لأنَّه يُمْكِنُه دَفْعُ الضَّرَرِ عنه. ولو أذِنَ له سَيِّدُه في الإِحْرامِ، وعَلِم العَبْدُ برُجُوعِه قبلَ إحْرامِه، فهو كمَن لم يُؤْذَنْ له، وإن لم يَعْلَمْ ففيه وَجْهان، بِناءً على الوَكِيلِ؛ هل يَنْعَزِلُ بالعَزْلِ قبلَ العِلمِ؟ على رِوايَتَيْن. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا نَذَر العَبْدُ الحَجَّ، صَحَّ نَذْرُه؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ، فصَحَّ نَذْرُه، كالحُرِّ. ولسَيِّدِه مَنْعُه مِن المُضِىِّ فيه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّ سَيِّدِه الواجِبَ، فمُنِعَ منه، كما لو لم يَنْذُرْ. ذَكَرَه القاضي، وابنُ حامِدٍ. ورُوِىَ عن أَحمدَ، أَنَّه قال: لا يُعْجِبُنى مَنْعُه مِن الوَفاءِ به. وذلك لِما فيه مِن أداءِ الواجِبِ، فيَحْتَمِلُ أن ذلك على الكَراهَةِ، لا على التَّحْرِيمِ؛ لِما ذَكَرْنا. ويَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ؛ لأنَّه واجِبٌ، فلا يَمْلِكُ مَنْعَه منه، كسائِرِ الواجباتَ. والأوَّلُ أوْلَى. فإن أُعْتِقَ، لَزِمَه الوفاءُ به بعدَ حَجَّةِ الإِسْلامِ. فإن أحْرَمَ به أوَّلًا انْصَرَفَ إلى حَجَّةِ الإِسْلامِ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ، كالحُرِّ إذا نَذَر حَجًّا. فصلٌ في جِناياتِه: وما جَنَى على إحْرامِه لَزِمَه حُكْمُه. وحُكْمُه فيما يَلْزَمُه حُكْمُ الحُرِّ المُعْسِرِ، فَرْضُه الصيامُ. وإن تَحَلَّلَ بحَصْرِ عَدُوٍّ، أو حَلَّلَه سَيِّدُه، فعليه الصيامُ، لا يَتَحَلَّلُ قبلَ فِعْلِه، كالحُرِّ، وليس لسَيِّدِه أن يَحُولَ بينَه وبينَ الصومِ. نَصَّ عليه, لأنَّه صومٌ واجِبٌ، أشْبَهَ صومَ رمضانَ. فإن مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا، وأذِنَ له في إهْدائِه، وقُلْنا: إنَّه يَمْلِكُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كالواجِدِ (¬1) للهَدْىِ، لا يَتَحَلَّلُ إلَّا به. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُه. ففَرْضُه الصيامُ. وإن أذِنَ له سَيِّدُه في تَمَتُّعٍ أو قِرانٍ، فعليه الصيامُ بَدَلًا عن الهَدْىِ الواجِبِ بهما. وذَكَر القاضي، أنَّ على سَيِّدِه تَحَمُّلَ ذلك عنه؛ لأنَّه بإذْنِه، فكانَ على مَن أذِنَ فيه، كما لو فَعَلَه النّائِبُ بإذْنِ المُسْتَنِيبِ. قال شيخُنا (¬2): وليس بجَيِّدٍ؛ لأنَّ الحَجَّ للعَبْدِ، وهذا مِن مُوجِباتِه، فيَكُونُ عليه، كالمَرْأةِ إذا حَجَّت بإذْنِ زَوْجِها، ويُفارِقُ مَن يَحُجُّ عن غيرِه؛ فإنَّ الحَجَّ للمُسْتَنِيبِ، فمُوجِبُه عليه. وإن تَمَتَّعَ أو قَرَن (¬3) بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، فالصيامُ عليه بغيرِ خِلافٍ، وإن أفْسَدَ حَجَّهُ، فعليه أن يَصُومَ لذلك؛ لأنَّه لا مالَ له، فهو كالمُعْسِرِ الحُرِّ. ¬

(¬1) في م: «كالواجب». (¬2) في: المغنى 5/ 49. (¬3) في م: «قارن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَطِئَ قبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ، فَسَد نُسُكُه، ويَلْزَمُه المُضِىُّ في فاسِدِه، كالحُرِّ، لكن إن كان الإِحْرامُ مأَذُونًا فيه، فليس لسَيِّدِه إخْراجُه منه؛ لأنَّه ليس له مَنْعُه مِن صَحِيحِه، فلم يَمْلِكْ مَنْعَه مِن فاسِدِه، وإن كان بغيرِ إذْنِه، فله تَحْلِيلُه منه؛ لأنَّ له تَحْلِيلَه مِن صَحِيحِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالفاسِدُ أوْلَى، وعليه القَضاءُ؛ سَواءٌ كان الإحْرامُ مَأْذُونًا فيه، أو غيرَ مَأْذُونٍ. ويصِحُّ القَضاءُ في حالِ رِقِّه؛ لأنَّه وَجَب فيه، فصَحَّ، كالصلاةِ والصيامِ. ثم إن كان الإِحْرامُ الذي أفْسَدَه مَأْذُونًا فيه، فليس له مَنْعُه مِن قَضائِه؛ لأنَّ إذْنَه في الحَجِّ الأوَّلِ إذْنٌ في مُوجِبِه ومُقْتَضاه، ومِن مُوجِبِه القَضاءُ لِما أفْسَدَه. فإن كان الأوَّلُ غيرَ مَأذُونٍ فيه، احْتَمَلَ أن لا يَمْلِكَ مَنْعَه مِن قَضائِه؛ لأنَّه واجِبٌ، وليس للسَّيِّدِ مَنْعُه مِن الواجِباتِ، واحْتَمَلَ أنَّ له مَنْعَه منه؛ لأنَّه يَمْلِكُ مَنْعَه مِن الحَجِّ الذي شَرَع فيه بغيرِ إذْنِه، فكذلك هذا. فإن أُعْتِقَ قبلَ القَضاءِ، فليس له فِعْلُه قبلَ حَجَّةِ الإِسْلامِ؛ لأنَّها آكَدُ. فإن أحْرَمَ بالقَضاءِ، انْصَرَفَ إلى حَجَّةِ الإِسْلامِ، في الصَّحِيحِ مِنَ المَذْهَبِ، وبَقِىَ القَضاءُ في ذِمَّتهِ، وإن عَتَق في أثناءِ الحَجَّةِ الفاسِدَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأدْرَكَ مِن الوُقُوفِ ما يُجْزِئُه، أجْزَأه القَضاءُ عن حَجَّةِ الإسْلامِ؛ لأنَّ المَقْضِىَّ لو كان صَحِيحًا أجْزَأه، فكذلك قَضاؤه. [فإن أُعْتِقَ بعدَ ذلك] (¬1) لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ المَقْضِىَّ لم (¬2) يُجْزِئْه، فكذلك القَضاءُ. والمُدَبَّرُ والمُعَلَّقُ عِتْقُه بِصِفَةٍ وأُمُّ الوَلَدِ والمُعْتَقُ بَعْضُه، حُكْمُه حُكْمُ القِنِّ فيما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في الأصل: «وإلا». (¬2) في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أحْرَمَتِ المَرْأةُ بحَجًّ أو عُمْرَةٍ تَطَوُّعًا، فلِزَوْجِها تَحْلِيلُها ومَنْعُها منه، في ظاهِرِ المَذْهَب. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. وقال القاضي: ليس له تَحْلِيلُها؛ لأنَّ الحَجَّ يَلْزَمُ بالشُّرُوعِ فيه، فلم يَمْلِكْ تَحْلِيلَها منه، كالمَنْذُورِ. قال: وحُكِىَ من أحمدَ، في امْرَأةٍ تَحْلِفُ بالصومِ أو بالحَجِّ: لها أن تَصومَ بغيرِ إذْنِ زَوْجِها، قد ابْتُلِيَتْ، وابْتُلِىَ زَوْجُها. ولَنا، أنَّه تَطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ غَيرِها منها (¬1)، أحْرَمَت به (¬2) بغيرِ إذْنِه، فمَلَكَ تَحْلِيلَها، كالأمَةِ إذا أحْرَمَتْ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، والمَدِينَةِ تُحْرِمُ بغيرِ إذْنِ غَرِيمِها على وَجْهٍ يَمْنَعه إيفاءَ دَيْنِه الحالِّ عليها. ولأنَّ العِدَّةَ تَمْنَعُ المُضِىَّ في الإِحْرامِ لحَقَّ اللهِ عَزَّ وَجلَّ، فحَقُّ الآدَمِىَّ أوْلَى؛ لأنَّ حَقَّه أضْيَق؛ لشُحِّه وحاجَتِه، وكَرَمِ اللهِ وغِناه. وكَلام أحمدَ لا يَتَناوَلُ مَحَلَّ النِّزاعِ، بل قد خالَفَه مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أَنَّه في الصومِ، وتَأْثِيرُ الصومِ في مَنْعِ حَقِّ الزَّوْجِ يَسِيرٌ؛ لكَوْنِه في النَّهارِ دونَ اللَّيْلِ. الثّانى، أنَّ الصومَ إذا وَجَب صار كالمَنْذورِ، والشُّرُوغ هَهُنا على وَجْهٍ غيرِ مَشْرُوعٍ، فلم يَكُنْ له حرْمَةٌ بالنِّسْبَةِ إلى صاحِبِ الحَقِّ. ¬

(¬1) في م: «منه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانَتْ حَجَّةَ الإِسْلامِ، لكن إن (¬1) لم تَكْمُلْ شُرُوطُها لعَدَمِ الاسْتِطاعَةِ، فله مَنْعُها مِن الخُرُوجِ إليها والتَّلَبُّس بها؛ لأنَّها غيرُ واجِبَةٍ عليها. فإن أحْرَمَت بها بغيرِ إذْنٍ، لم يَمْلِكْ تَحْلِيلَها؛ لأنَّ ما أحْرَمَت ¬

(¬1) سقط من: م.

1137 - مسألة: (وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض، ولا تحليلها إن أحرمت به)

وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرأَتِهِ مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَلَا تَحْلِيلُهَا إنْ أحرَمَتْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به يَقَعُ عن حَجَّةِ الإِسْلامِ الواجِبَةِ بأصْلِ الشَّرْعِ، كالمَرِيضِ إذا تَكَلَّفَ حُضُورَ الجُمُعَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ له تَحْلِيلَها؛ لفُقْدانِ شَرْطِها، فأشْبَهَتِ الأمَةَ والصَّغِيرَةَ، فإنَّه لَمَّا فَقَدَتِ الحُرِّيَّةَ والبُلُوغَ مَلَك مَنْعَها، [ولأنَّها] (¬1) ليست واجِبَةً عليها، أشْبَهَت سائِرَ التَّطَوُّعِ. فأمّا الخُرُوجُ إلى حَجِّ التَّطَوُّعِ والإِحْرامُ به، فله مَنْعُها منه. 1137 - مسألة: (وليس للرجلِ مَنْعُ امرأتِه مِن حَجِّ الفَرْضِ، ولا تَحْلِيلُها إن أحْرَمَت به) بغيرِ خِلافٍ، حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. فإن أذِنَ لها، فله الرُّجُوعُ ما لم تَتَلبَّسْ بالإِحْرامِ. ومتى قُلْنا: له تَحْلِيلُها. ¬

(¬1) في الأصل: «لأنها». بدون الواو.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَلَّلهَا، فحُكْمُها حُكْمُ المُحْصَرِ، يَلْزَمُها الهَدْىُ، أو الصومُ إن لم تَجِدْه، كسائِرِ المُحْصَرِين. ليس للرجلِ (¬1) منْعُ امرأتِه مِن المُضِىِّ إلى الحَجِّ الواجِبِ عليها، إذا كَمَلَت شُرُوطُه، وكان لها مَحْرَمٌ يَخْرُجُ معها؛ لأنَّه واجِبٌ، وليس له مَنْعُها مِن الواجِباتِ، كالصومِ والصلاةِ. وهذا قولُ النَّخَعِىِّ، وإسْحاقَ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وهو الصَّحِيحُ مِن قَوْلَى الشافعيِّ. وله قولٌ آخَرُ: أنَّ له مَنْعَها؛ بِناءً على أنَّ الحَجَّ على التَّراخِى. ووَجْهُ ذلك ما تَقَدَّمَ. ويُسْتَحَبُّ لها اسْتِئْذانُه. نَصَّ عليه. فإن أذِنَ لها، وإلَّا خَرَجَت بغيرِ إذْنِه. فصل: ولا تَخْرُجُ إلى الحَجَّ في عِدَّةِ الوَفاةِ. نَصَّ عليه. ولها الخُرُوجُ إذا كانَتْ مَبْتُوتَةً؛ لأنَّ المَبِيتَ ولُزُومَ مَنْزِلِها واجِبٌ في عِدَّةِ الوَفاةِ دُون المَبْتُوتَةِ، فإنَّه لا يَجبُ عليها ذلك، وقُدِّمَ على الحَجَّ؛ لأنَّه يَفُوتُ. وأمّا الرَّجْعيَّةُ فحُكْمُها حُكْمُ الزَّوْجَةِ، فإن خَرَجَتْ للحَجِّ فَتُوُفِّىَ زَوْجُها في الطَّرِيقِ، فسَنَذْكُر ذلك في العِدَدِ، إن شاء اللهُ تعالى، واللهُ أعْلَمُ. وإن لم (¬2) تَكْمُل شُرُوطُه، فله مَنْعُها مِن المُضِىِّ إليه والشُّرُوعِ فيه؛ لأنَّه يُفوِّتُ حَقِّه بما ليس بواجِبٍ عليها، فمَلَكَ مَنْعَها منه، كصومِ التَّطَوُّعِ. فصل: فإن أَحْرَمَتْ بالحَجِّ الواجِبِ عليها، لم يَكُنْ له مَنْعُها، وكذلك ¬

(¬1) في م: «للزوج». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن أحْرَمَتْ بالعُمْرَةِ الواجِبَةِ، ولا تَحْلِيلُها إذا أحْرَمَتْ بها (¬1) في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم النَّخَعِيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحاب الرَّأْىِ. وبه قال الشافعىُّ أصَحِّ قوْلَيْه، وقال في الآخَرِ: له مَنْعُها. لأنَّ الحَجَّ عندَه على التَّراخِى، فلا يَتَعَيَّنُ في هذا العام. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الحَجَّ الواجِبَ يَتَعَيَّن بالشُّرُوعِ فيه، فصارَ كالصلاةِ إذا أحْرَمَتْ بها في أوَّلِ وَقتِها، وقَضاءِ رَمضانَ إذا شَرَعَتْ فيه، ولأنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُسْتَمِرٌّ على الدَّوَامِ، فلو مَلَك مَنْعَها في هذا العامِ، مَلَكَه في كلِّ عامٍ، فيُفْضِى إلى إسْقاطِ أحَدِ أرْكانِ الإِسْلامِ. فصل: فإن أحْرَمَتْ بواجِبٍ، فحَلَفَ عليها زَوْجُها بالطَّلاقِ الثَّلاثِ أن لا تَحُجَّ العامَ، فليس لها أن تَحِلَّ؛ لأنَّ الطَّلاقَ مُباحٌ، وليس لها تَرْكُ الفَضِيلَةِ لأجْلِه. ونَقَل مُهَنّا، من أحمدَ، أنَّه سُئِل عن هذه المَسْألةِ، فقالَ: قال عَطاءٌ: الطَّلاقُ هَلاكٌ، وهي بمَنْزِلَةِ المُحْصَرِ. فاحْتَجَّ بقولِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءٍ، فلَعَلَّه ذَهَب إليه؛ لأنَّ ضَرَرَ الطَّلاقِ عَظيمٌ؛ لِما فيه مِن خُرُوجِها مِن بَيْتِها، ومُفارَقَةِ زَوْجِها ووَلَدِها، وقد يَكُونُ ذلك أعْظَمَ مِن ذَهابِ مالِها، ولذلك سَمّاه عَطاءٌ هَلاكًا. ولأنَّه لو مَنَعَها عَدُوٌّ مِن الحَجِّ إلَّا أن تَدْفَعَ إليه مالَها، كان ذلك حَصْرًا، فهذا أوْلَى. فصل: وليس للوالِدِ مَنْعُ وَلَدِه مِن حَجِّ الفَرْضِ والنَّذْرِ، ولا تَحْلِيلُه مِن إحْرامِه، وليس للوَلَدِ طاعَتُه في تَرْكِه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى» (¬1). فأمّا التَّطَوُّعُ فله مَنْعُه مِن الخُرُوجِ إليه (¬2)؛ لأنَّ له مَنْعَه مِن الغزْوِ، وهو مِن فرُوضِ الكِفاياتِ، فالتَّطَوُّعُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب وجوب طاعة الأمراء. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1469. وأبو داود، في: باب في الطاعة، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 38. والنسائي، في: باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 142. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 131، 4/ 426، 427، 432، 436، 5/ 66، 67، 70. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. فإن أحْرَمَ بغيرِ إذْنِه، لم يَمْلِكْ تَحْلِيلَه؛ لأنَّه وَجَب بالدُّخُولِ فيه، فصارَ كالواجِبِ ابْتِداءً، أو كالنَّذْرِ. فصل: فإن أحْرَمَتِ المرأةُ بحَجَّةِ النَّذْرِ بغيرِ إذْنٍ، فهل لزَوْجِها مَنْعُها؟ على رِوايَتَيْن، حَكاهما القاضي أبو (¬1) الحسينِ؛ إحْداهما، ليس له مَنْعُها، كحَجَّةِ الإِسْلامِ. والثّانِيَة، له مَنْعُها؛ لأنَّه وَجَب عليها بإيجابِها، أشْبَهَ حَجَّ التَّطَوُّعِ إذْا أحْرَمَتْ به. ¬

(¬1) في م: «وأبو».

فَصْلٌ: الشَّرْطُ الْخَامِسُ، الِاسْتِطَاعَةُ؛ وَهُوَ أن يَمْلِكَ زَادًا وَرَاحِلَةً صَالِحَةً لِمِثْلِهِ بِآلَتِهَا الصَّالِحَةِ لِمِثْلِهِ، أَوْ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ، فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ، وَخَادِمٍ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (الشَّرْطُ الخامِسُ، الاسْتِطاعَةُ؛ وهي أن يَمْلِكَ زادًا وراحِلَةً صَالِحَةً لِمثْلِه بآلَتِها الصّالِحَةِ لمِثْلِه، أو ما يَقْدِرُ به على تَحْصِيلِ ذلك، فاضِلًا عَمّا يَحْتاجُ إليه مِن مَسْكَنٍ، وخادِمٍ، وقَضاءِ دَيْنِه، ومُؤْنَتِه ومُؤْنَةِ عِيالِه على الدَّوامِ) الاسْتِطاعَةُ المُشْتَرَطَةُ لوُجُوبِ الحَجِّ والعُمْرَةِ مِلْكُ الزادِ والراحِلَةِ. وبه قال الحسنُ، ومجاهِدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشافعيُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسْحاقُ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): والعَمَلُ عليه عندَ أهْلِ العِلْمِ. وقال عِكْرِمَةُ: هي الصِّحَّةُ. وقال الضَّحَّاكُ: إن كان شابًّا فلْيُؤاجِرْ نفْسَه بأكْلِه وعَقِبِه، حتَّى يَقْضِىَ نُسُكَه. وعن مالكٍ، إن كان يُمْكِنُه المَشْىُ، وعادَتُه سُؤالُ النّاسِ، لَزِمَه الحَجُّ؛ لأنَّ هذه الاسْتِطاعَةَ في حَقِّه، فهو كواجِدِ الزادِ والراحِلَةِ. ولَنا، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الاسْتِطاعَةَ بالزّادِ والراحِلَةِ، فوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى تَفْسِيرِه، فرَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬2)، بإسْنادِه عن جابِرٍ، ¬

(¬1) انظر: عارضة الأحوذى 4/ 28. (¬2) في: أول كتاب الحج. سنن الدارقطني 2/ 215 - 218. كما أخرجه البيهقى، عن أنس وعائشة وابن عمر، في: باب الرجل يطيق الحج ماشيًا، من كتاب الحج. السنن الكبرى 4/ 330. وأخرجه عن ابن عمر الترمذي وابن ماجه. انظر التخريج التالي. وانظر الكلام على طرقه وأسانيده في: إرواء الغليل 4/ 160 - 167.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وأنَسٍ، وعائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: ما السَّبِيلُ؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». وروَى ابنُ عُمَرَ، قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما يُوجِبُ الحَجَّ؟ قال: «الزَّاد وَالرَّاحِلَةُ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وروَى الإِمامُ أحمد (¬2)، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن يُونُسَ، عن الحسنِ، قال: لَمّا نَزَلَتْ هذه الآيَةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬3). قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، ما السَّبِيلُ؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». ولأنَّها عِبادَةٌ تَتَعَلَّقُ بقَطْعِ مسافَةٍ بَعِيدَةٍ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة، من أبواب الحج، وفى: باب تفسير سورة آل عمران، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 4/ 27، 11/ 124، 125. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يوجب الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 967. (¬2) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله 2/ 675. ومن رواية أبي داود 97. كما أخرجه البيهقى، في: باب بيان السبيل، من كتاب الحج. السنن الكبرى 4/ 327. (¬3) سورة آل عمران 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فاشْتُرِطَ لوُجُوبِها الزَّادُ والرَّاحِلَةُ، كالجِهادِ. وما ذَكَرُوه ليس باسْتِطاعَةٍ، فإنَّه شاقٌّ وإن كان عادَةً. والاعْتِبارُ بعُمُومِ الأحْوالِ دُونَ خُصُوصِها، كما أنَّ رُخَصَ السَّفَرِ تَعُمُّ مَن يَشُقُّ عليه ومَن لا يَشُقُّ عليه. وكذلك مَن كان له ما يَقْدِرُ به على تَحْصِيلِ الزَّادِ والرَّاحِلَةِ بالشُّرُوطِ المَذْكُورَةِ؛ لأنَّه في مَعْنَى مِلْك الزَّادِ والرَّاحِلَةِ. ولأنَّ القُدْرَةَ على ما تَحْصُلُ به الرَّقَبَةُ في الكَفّارَةِ كمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فكذلك هَهُنا. فصل: ويَخْتَصُّ اشْتِراطُ الرَّاحِلَةِ بالبَعِيدِ الذي بينَه وبينَ البَيْتِ مَسافَةُ القَصْرِ، فأمّا القَرِيبُ الذي يُمْكِنُه المَشْىُ، فلا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الراحِلَةِ في حَقِّه؛ لأنَّها مَسافَةٌ قرِيبَةٌ، يُمْكِنُه السَّعْىُ إليها، فلزِمَة، كالسَّعْىِ إلى الجُمُعَةِ، وإن كان مِمَّنْ لا يُمْكِنُه المَشْىُ، كالشَّيْخِ الكَبِيرِ، اعْتُبِرَ وُجُودُ الحُمُولَةِ في حَقِّه، لأنَّه عاجِزٌ عن المَشْىِ إليه (¬1)، أشْبَهَ البَعِيدَ. وأمّا الزّادُ، فلا بُدَّ منه، فإن لم يَجِدْ زَادًا، ولا قَدَر على كَسْبِه، لم يَلْزَمْه الحَجُّ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والزّادُ الذي تُشْتَرَطُ القُدْرَةُ عليه، هو ما يَحْتاجُ إليه في ذَهابِه ورُجُوعِه، مِن مَأْكُولٍ ومَشْرُوبٍ وكُسْوَةٍ، فإن كان يَمْلِكُه، أو وَجَدَه يُباعُ بثَمَنِ المثْلِ في الغَلاءِ والرُّخْصِ، أو بزِيادَةٍ يَسِيرَةٍ لا تُجْحِفُ بمالِه، لَزِمَه شِراؤه، وإن كانَتْ تُجْحِفُ به (¬1) لم يَلْزَمْه، كما قُلْنا في شِراءِ الماءِ للوُضُوءِ. وإذا كان يَجِدُ الزّادَ في كلِّ مَنْزِلٍ، لم يَلْزَمْه حَمْلُه، وإن لم يَجِدْه كذلك، لَزِمَه حَمْلُه، وأمّا الماءُ وعَلَفُ البَهائِمِ فسَنَذْكُرُه، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: ويُشْتَرَطُ أن يَجِدَ راحِلَةً تَصْلُحُ لمِثْلِه؛ إمّا بشِراءٍ أو كِراءٍ، لذَهابِه ورُجُوعِه، ويَجِدَ ما يَحْتاجُ إليه مِن آلتِها التى تَصْلُحُ لِمثْلِه، فإن كان مِمَّن يَكْفِيه الرَّحْلُ والقَتَبُ، ولا يَخْشَى السُّقُوطَ، اكْتَفَى بذلك. ¬

(¬1) في م: «بماله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان مِمَّن لم تَجْرِ عادَتُه بذلك، أو يَخْشَى السُّقُوطَ عنهما، اعْتُبِر وجُودُ مَحْمِلٍ وما أشْبَهَه، ممّا (¬1) لا يُخْشى سُقُوطُه عنه، ولا مَشَقَّةَ فيها؛ لأنَّ اعْتِبارَ الرَّاحِلَةِ في حَقِّ القادِرِ على المَشْىِ، إنَّما كان لدَفْعِ المَشَقَّةِ، فيَجِبُ أن يُعْتَبَرَ هَهُنا ما تَنْدَفعُ به المَشَقَّةُ، وإن كان مِمَّن لا يَقْدِرُ على خِدْمَةِ نَفْسِه والقِيامِ بأمْرِه، اعْتُبِرَتِ القدْرَة على مَن يَخدِمُه؛ لأنَّه مِن سَبِيلِه. فصل: ويُعْتَبَرُ أن يَكُونَ هذا فاضِلًا عمّا يَحْتاجُ إليه لنَفَقَةِ عِيالِه الذين تَلْزَمُه مُؤْنَتُهُم، في مُضِيِّه ورُجُوعِه؛ لأنَّ النَّفَقَةَ تَتَعَلَّقُ بها حُقُوقُ الآدَمِيِّين، وهم أحْوَجُ، وحَقُّهُم آكَدُ. وقد روَى عبدُ اللهِ بنُ عَمْرو، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أن يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وأن يَكُونَ فاضِلاً عمّا يَحْتاجُ هو وأهْلُه إليه، مِن مَسْكَنٍ ¬

(¬1) في م: «ممن». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 317.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخادِمٍ وما لا بُدَّ منه، وأن يَكُونَ فاضِلًا عن قَضاءِ دَيْنِه؛ لأنَّ قَضاءَ الدِّيْنِ مِن حوائِجِه الأصْلِيَّةِ، ويَتَعَلَّقُ به حُقُوقُ الآدَمِيِّين، فهو آكَدُ، وكذلك مَنْعُ الزكاةِ مع تَعَلُّقِ حُقُوقِ الفُقَراءِ بها، وحاجَتِهم إليها، فالحَجُّ الذي هو خالِصُ حَقِّ الله تِعالى أوْلَى، وسَواءٌ كان الدَّيْنُ لآدَمِىًّ مُعَيَّنٍ، أو مِن حُقُوقِ اللهِ تعالى، كزكاةٍ في ذِمَّتِه، أو كفّاراتٍ ونحْوِها. وإنِ احْتاجَ إلى النِّكاحِ، وخاف على نَفْسِه العَنَتَ، قَدَّمَ التَّزْوِيجَ؛ لأنَّه واجِبٌ عليه، لا غِنًى (¬1) به عنه، فهو كنَفَقَتِه، وإن لم يَخَفْ قَدَّمَ الحَجَّ؛ لأنَّ النِّكاحَ تَطَوُّعٌ، فلا يُقَدَّمُ على الحَجِّ الواجِب. وإن حَجَّ مَن تَلْزَمُه هذه الحُقُوقُ وضَيَّعَها، صَحَّ حَجُّه؛ لأنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بذِمَّتِه، فلا تَمْنَعُ صِحَّةَ حَجِّهِ. فصل: ومَن له دارٌ يَسْكُنُها، أو يَسْكُنُها عِيالُه، أو يَحْتاجُ إلى أُجْرَتِها لنَفَقَةِ نَفْسِه أو عِيالِه، أو بِضاعَةٌ متى نَقَصَها اخْتَلَّ رِبْحُها، فلم تَكْفِهِم، ¬

(¬1) في م: «غناء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو سائِمَةٌ يَحْتاجُون إليها، لم يَلْزَمْه الحَجُّ؛ لِما ذَكَرْنا. وإن كان له مِن ذلك شَئٌ فاضِلٌ عن حاجَتِه لَزِمَه بَيْعُه في الحَجِّ. فإن كان له مَسْكَنٌ واسِعٌ يَفْضُلُ عن حاجَتِه، وأمْكَنَه بَيْعُه وشِراءُ ما يَكْفِيه، ويَفْضُلُ قَدْرُ ما يَحُجُّ (¬1) به، لَزِمَه. وإن كانَتْ له كُتُبٌ يَحْتاجُ إليها، لم يَلْزَمْه بَيْعُها في الحَجَّ، وإلَّا لَزِمَه. وإن كان له بكتابٍ نُسْخَتان، يَسْتَغْنِى بإحْدَاهما، باعَ الأُخْرَى. وإن كان له دَيْنٌ على مَلِئٍ باذلٍ له يَكْفِيه في الحَجِّ، لَزِمَه؛ لأنَّه قادِرٌ، وإن كان على مُعْسِرٍ، أو تَعَذَّرَ اسْتِيفاؤه لم يَلْزَمْه. فصل: فإن تَكَلَّفَ الحَجَّ مَن لا يَلْزَمُه، وأمْكَنَه ذلك مِن غيرِ ضرَرٍ يَلْحَقُ بغيرِه، مثلَ مَن [يَمْشِى و] (¬2) يَكْتَسِبُ بصِناعَةٍ كالخَرْزِ، أو مُعاوَنَةِ مَن ينفِقُ عليه، أو يُكْتَرَى لزادِه ولا يَسْألُ النّاسَ، اسْتُحِبَّ له الحَجُّ؛ ¬

(¬1) في م: «يحتاج». (¬2) سقط من: م.

1138 - مسألة: (ولا يصير مستطيعا ببذل غيره بحال)

وَلَا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِبَذْلِ غَيْرِهِ بِحَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقولِ اللهِ تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬1). فقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجالِ. ولأنَّ فيه مُبالَغةً في طاعَةِ اللهِ، وخُرُوجًا مِن الخِلافِ. وإن كان يَسْألُ النَّاسَ، كُرِهَ الحَجُّ له؛ لأنَّه يُضَيِّقُ على النّاسِ، ويَحْصُلُ كَلًّا عليهم في الْتِزامِ ما لا يَلْزَمُه. وسُئِلَ أحمدُ عمَّن يدْخُلُ البادِيَةَ بلا زادٍ ولا راحِلَةٍ؟ فقالَ: لا أُحِبُّ له ذلك، هذا يَتَوَكَّلُ على أزْوادِ النّاسِ. 1138 - مسألة: (ولا يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا ببَذلِ غيرِه بحالٍ) لا يَلْزَمُه الحَجُّ ببَذْلِ غيرِه له، ولا يَصِيرُ مُسْتَطيعًا بذلك، سَواءٌ كان الباذِلُ قَرِيبًا أو أجْنَبِيًّا، وسَواءٌ بَذَل له الرُّكُوبَ والزَّادَ، أو بَذَل له مالًا. وهو قولُ الأكْثَرِين. وعن الشافعىِّ، أنَّه إذا بَذَلَ له وَلَدُه ما يَتَمَكَّنُ به مِن الحَجِّ لَزِمَه؛ لأنَّه أمْكَنَه الحَجُّ مِن غيرِ مِنَّةٍ تَلْزَمُه، ولا ضَرَرٍ يَلحَقُه، فلَزِمَه الحَجُّ، كما لو مَلَك الزّادَ والرّاحِلَةَ. ولَنا، أنَّ قولَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يُوجِبُ الْحَجِّ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» (¬2). يَتَعَيَّنُ فيه تَقْدِيرُ مِلْكِ ذلك، أو مِلْكِ ما يحْصُلُ به، بدَلِيلِ ما لو كان أجْنَبِيًّا، ولأنَّه ليس بمالِكٍ للزّادِ والرَّاحِلَةِ، ولا ثَمَنِهما، فلم يَلْزَمْه الحَجُّ، كما لو بَذَل له والِدُه. ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَلْزَمُه مِنَّةٌ، ولو ¬

(¬1) سورة الحج 27. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 43.

1139 - مسألة: (فمن كملت له هذه الشروط، وجب عليه الحج على الفور)

فَمَنْ كَمَلَتْ لَهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ، وَجب عَلَيْهِ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَلَّمْناه فيَبْطُلُ ببَذْلِ الوالِدَةِ (¬1)، وبَذْلِ مَن للمَبْذُولِ له (¬2) عليه أيادٍ كَثِيرَةٌ ونِعَمٌ. 1139 - مسألة: (فمَن كَمَلَتْ له هذه الشُّرُوطُ، وَجَب عليه الحَجُّ على الفَوْرِ) مَنْ كَمَلَتْ فيه هذه الشُّرُوطُ وَجَب عليه الحَجُّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، ويَجبُ عليه على الفَوْرِ، إذا أمْكَنَه فِعْلُه، ولم يَجُزْ له تَأْخِيرُه. وبه قال مالكٌ. وقال الشافعيُّ: يَجِبُ الحَجُّ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وله تَأْخِيرُه. وحَكَى ابنُ أبي موسى وَجْهًا مثلَ قولِه. وحَكاه ابنُ حامِدٍ عن الإِمامِ أحمدَ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّرَ أبا بكرٍ، رَضِىَ الله عنه، على الحَجِّ (¬3)، وتَخَلَّفَ بالمَدِينَةِ، غيرَ مُحارِبٍ ولا مَشْغُولٍ بشَئٍ، ¬

(¬1) في م: «الوالد». (¬2) سقط من: م. (¬3) حديث تأمير أبي بكر على الحج أخرجه البُخاريّ، في: باب ما يستر من العورة، من كتاب الصَّلاة، وفى: باب لا يطوف بالبيت عريان. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، من كتاب الجزية، وفى: باب حج أبي بكر بالنَّاس في سنة تسع، من كتاب المغازى، وفى: باب قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}، وباب قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} وباب: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، في تفسير سورة براءة، من كتاب التفسير. صحيح البُخاريّ 1/ 103، 2/ 188، 4/ 134، 5/ 212، 6/ 80، 81. ومسلم، في: باب لا يحج البيت مشرك. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 982. وأبو داود، في: باب يوم الحج الأكبر، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 451. والنسائي، في: باب قوله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، من كتاب المناسك المجتبى 5/ 186، والإمام أحمد، في: المسند 1/ 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتخَلَّفَ أكْثَرُ المسلمين قادِرين على الحَجِّ، ولأنَّه إذا أخَّرَه ثم فعَله في السَّنَةِ الأُخْرَى، لم يَكُنْ قاضِيًا، دَلَّ على أنَّ وُجُوبَه على التَّراخِى. ولَنا، قول اللهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). وقَوْلُه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2). والأمْر على الفَوْرِ. ورُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: «مَنْ أرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ (¬3)». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجه (¬4). وفى رِوايَةِ أحمدَ، وابن، ماجه: «فَإنَّه قَدْ يَمْرَض الْمَرِيضُ، وتَضِلُّ الضّالَّةُ، وتَعْرِض الْحَاجَة». قال أحمدُ: ورَواه الثَّوْرِىُّ، ووَكِيعٌ، عن أبي إسرائيلَ، عن فُضَيْلِ بنِ عَمْرو، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن أخِيه الفَضْلِ، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. وعن عليٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَلَم يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أن يَمُوتَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرَانِيًّا». قال التِّرْمِذِىُّ (¬5): لا نَعْرِفه إلَّا مِن هذا الوَجْهِ، وفى ¬

(¬1) سورة آل عمران 97. (¬2) سورة البقرة 196. (¬3) في النسخ: «فليعجل» والمثبت من كتب السنة. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب حدّثنا مسدد. . . .، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 402. وابن ماجه، في: باب الخروج إلى الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجة 2/ 962. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 214، 225، 314، 323، 355. (¬5) في: باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 27. وللحديث طرق مختلفة، انظر الكلام عليها في تلخيص الحبير 2/ 222، 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إسْنادِه مَقالٌ. وروَى سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، بإسْنادِه (¬1)، عن عبدِ الرحمنِ ابنِ سابِطٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلَامِ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ (¬2)، أو سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، فلْيَمُتْ عَلَى أىِّ حَالٍ شَاءَ، يَهُودِيًّا أوْ نَصْرَانِيًّا». وعن عُمَرَ نَحْوُه من قوْلِه. وكذلك عنِ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهم. ولأنَّه أحَدُ أرْكانِ الإِسْلامِ، فكانَ واجِبًا على الفَوْرِ، كالصيام، ولأنَّ وُجُوبَه بصِفَةِ التَّوَسُّعِ يُخْرِجُه (¬3) عن رُتْبَةِ الواجِباتِ؛ لأنَّه يُؤَخَّرُ إلى غيرِ غايَةٍ ولا يَأْثَمُ بالمَوْتِ قبلَ فِعْلِه؛ لكَوْنِه فَعَل ما يَجُوزُ له فِعْلُه، وليس على المَوْتِ أمارَةٌ يَقْدِرُ بعدَها على فِعْلِه. فأمّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنّما فَتَح مَكَّةَ سنةَ ثمانٍ، وإنَّما أخَّرَه سنةَ تِسْعٍ، فيَحْتَمِلُ أنَّه كان له عُذْرٌ؛ مِن عَدَمِ الاسْتِطاعَةِ، أو كُرْهِ رُؤيَةِ المُشْرِكين عُراةً حولَ البَيْتِ، فأخَّرَ الحَجَّ حتَّى بَعَث أبا بكرٍ يُنادِى: «أن لا يَحُجَّ بعدَ العام مُشْركٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيانٌ» (¬4). ويَحْتَمِلُ أنَّه أخَّرَه بأمْرِ الله تِعالى؛ لتَكُونَ حَجَّتُه حَجَّة الوَداعِ، في السَّنَةِ التى اسْتَدارَ فيها الزَّمانُ كهَيْئَتِه يومَ خَلَق الله السماواتِ والأرْضَ، ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة، في: باب إمكان الحج، من كتاب الحج. السنن الكبرى 4/ 334. وابن الجوزى، في: الموضوعات 2/ 210. (¬2) بعده في الأصل: «له». (¬3) في م: «بخروجه». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 50.

1140 - مسألة: (فإن عجز عنه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه، ويعتمر من بلده، وقد أجزأ عنه وإن عوفى)

فَإِنْ عَجَزَ عَنِ [61 ظ] السَّعْىِ إِلَيْهِ لِكِبَرٍ، أو مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَيَعْتَمِرُ مِنْ بَلَدِهِ، وَقَدْ أجزَأَ عَنْهُ وَإنْ عُوفِىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ و [تُصادِفَ وَقْفَتُه] (¬1) الجُمُعَةَ، ويُكْمِلَ اللهُ دِينَه. ويُقالُ: إنَّه اجْتَمَعَ يَوْمَئِذٍ أعْيادُ أهْلِ كلِّ دينٍ، ولم يَجْتَمِعْ قبلَه ولا بعدَه. فأمّا تَسْمِيَةُ فِعْل الحَجِّ قَضاءً، فإنَّه يُسَمَّى بذلك، قال اللهُ تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬2). وعلى أنَّه لا يَلْزَمُ مِن الوُجُوبِ على الفَوْرِ تَسْمِيَةُ الفِعْلِ إذا أخَّرَه قَضاءً، بدَلِيلِ الزَّكاةِ، فإنَّها تَجِبُ على الفَوْرِ، ولو أخَّرَها لا تُسَمَّى قَضاءً، والقَضاءُ الواجِبُ على الفَوْرِ إذا أخَّرَه لا يُقالُ: قضاءُ (¬3) القَضاءِ. ولو غَلَب على ظَنِّه في الحَجِّ أنَّه لا يَعِيشُ إلى سَنَةٍ أُخْرَى، لم يَجُزْ له تَأْخِيرُه، وإذا أخَّرَه لا يُسَمَّى قَضاءً. 1140 - مسألة: (فإن عَجَز عنه لكِبَرٍ، أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، لَزِمَه أن يُقِيمَ مَن يَحُجُّ عنه، ويَعْتَمِرُ مِن بَلَدِه، وقد أجْزَأ عنه وإن عُوفِىَ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن وُجِدَتْ فيه شرائِطُ وُجُوبِ الحَجِّ، وكان عاجِزًا عنه لمانِعٍ مَأْيُوسٍ مِن زَوالِه، كزَمانَةٍ، أو مَرَضٍ لا يُرْجَى زَوالُه، ¬

(¬1) في م: «يصادف وقفة». (¬2) سورة الحج 29. (¬3) في الأصل: «قضى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كان نِضْوَ (¬1) الخَلْقِ، لا يقْدِرُ على الثُّبُوتِ على الرَّاحِلَةِ إلَّا بمَشَقَّةٍ غيرِ مُحْتَمَلةٍ، والشَّيْخُ الفانِى، ونَحْوُهم، متى وَجَد مَن يَنُوبُ عنه في الحَجِّ، وما يَسْتنِيبُه به، لَزِمَه ذلك. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: لا حَجَّ عليه، إلَّا أن يَسْتَطِيعَ بنَفْسِه، ولا أرَى له ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى، قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2). وهو غيرُ مُسْتَطِيعٍ، ولأنَّها عِبادَةٌ لا تدْخُلُها النِّيابَةُ مع القُدْرَةِ، فلا تَدْخُلُها مع العَجْزِ، كالصوم والصَّلاةِ. ولَنا، حديثُ أبي رَزِينٍ (¬3)، حيث أمَرَه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَحُجَّ عن أبيه وِيَعْتَمِرَ. وروَى ابنُ عباسٍ، أنَّ امرأةً مِن خَثْعَمٍ قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فرِيضَةَ الله عِلى عِبادِه في الحَجِّ أدْرَكَتْ أبي شَيْخًا كبيرًا، لا يَسْتَطِيعُ أن يَثْبُتَ علي الرَّاحِلَةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: «نَعَمْ». وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وفى لَفْظٍ لمسلمٍ، قالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي شَيْخٌ كبيرٌ (¬5) عليه فَرِيضَةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يَسْتَطِيعُ أن يَسْتَوِىَ على ظَهْرِ بَعِيرِه. فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَحُجِّى عَنْهُ». وسُئِلَ علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه، عن شَيْخٍ لا يَجِدُ الاسْتِطاعةَ، قال: يُجَهَّزُ عنه. ¬

(¬1) النَّضو: المهزول. (¬2) سورة آل عمران 97. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 260. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ هذه عِبادَةٌ تَجِبُ بإفْسادِها الكَفّارَةُ، فجاز أن يَقُومَ غيرُ فِعْلِه فيها مَقامَ فِعْلِه، كالصوم إذا عَجَز عنه افْتدَى، بخِلافِ الصلاةِ. ويَلْزَمُه أن يَسْتَنِيبَ على الفَوْرِ إذا أمْكَنَه، كما يَلْزَمُه ذلك بنَفْسِه. فصل: ويُسْتَنابُ (¬1) مَن يَحُجُّ عنه مِن حيثُ وَجَب عليه، إمّا مِن بَلَدِه، أو مِن المَوْضِعِ الذي أْيسَرَ (¬2) فيه، كالاسْتِنابَةِ عن المَيِّتِ، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: فإن لم يَجِدْ مالًا يَسْتَنِيبُ به، فلا حَجَّ عليه، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ الصَّحِيحَ العادِمَ [إذا لم يَجِدْ] (¬3) ما يَحُجُّ به، لا يَلْزَمُه الحَجُّ، فالمَرِيضُ أوْلَى. وإِن وَجَد مالًا، ولم يَجِدْ نائِبًا، فقِياسُ المَذْهَبِ أنَّه يَنْبَنِى على الرِّوايَتَيْن في إمْكانِ السَّيْرِ؛ هل هو مِن شَرائِطِ الوجوبِ، أو مِن شَرائِطِ وجُوبِ السَّعْىِ؟ فإن قُلْنا: مِن شَرائِطِ لُزُومِ السَّعْىِ. ثَبَت الحَجُّ في ذِمَّتِه، يُحَجُّ عنه بعدَ مَوْتِه. وإن قُلْنا: مِن شَرائِطِ الوُجُوبِ. لم يَجِبْ عليه (¬4) شئٌ. ¬

(¬1) بعده في م: «عنه». (¬2) في م: «يسر». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اسْتَنابَ مَن حَجَّ عنه ثم عُوفِىَ، لم يَجِبْ عليه حَجٌّ آخَرُ. وهذا قولُ إسْحاقَ. وقال الشَّافعيُّ، وأصحابُ الرَّأىِ، وابنُ المُنْذِرِ: يَلْزَمُه؛ لأنَّ هذا بَدَلُ إياسٍ، فإذا بَرَأ، تَبَيَّنّا أَنَّه لم يَكُنْ مَأْيُوسًا منه، فلَزِمَه الأصْلُ، كالآيِسَةِ تَعْتَدُّ بالشُّهُورِ، ثم تَحِيضُ، يَلْزَمُها العِدَّةُ بالحَيْضِ. ولَنا، أنَّه أتَى بما أُمِرَ به، فخَرَجَ عن العُهْدَةِ، كما لو لم يَبْرَأْ، أو نَقُولُ: أدَّى حَجَّةَ الإِسْلامِ بأمْرِ الشَّرْعِ، فلم يَلْزَمْه حَجٌّ ثانٍ، كما لو حَجَّ عن نَفْسِه. ولأنَّ هذا يُفْضِى إلى إيجابِ حَجَّتَيْن عليه، ولم يُوجِبِ اللهُ عليه إلَّا حَجَّةً واحِدَةً. وقَوْلُهم: لم يَكُنْ مَأْيُوسًا مِن بُرْئِه. قُلْنا: لو لم يَكُنْ مَأْيُوسًا مِن بُرْئِه لَما أُبِيحَ له أن يَسْتَنِيبَ، فإنَّه شَرْط لجَوازِ الاسْتِنابَةِ، فأمّا الآيِسَةُ إذا اعْتَدَّتْ بالشُّهُورِ، فلا يُتَصَوَّرُ عَوْدُ حَيْضِها، فإن رَأَتْ دَمًا، فليس بحَيْضٍ، ولا يَبْطُلُ به اعْتِدادُها، لكنْ مَن ارْتَفَعَ حَيْضُها لا تَدْرِى ما رَفَعَه، إذا اعْتَدَّتْ سَنَةً ثم عاد حَيْضُها، لم يَبطُل اعْتِدادُها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عُوفِىَ قبلَ فَراغِ النّائِبِ مِن الحَجِّ، فيَنْبَغِى أن لا يُجْزِئَه الحَجُّ؛ لأنَّه قَدَر علي الأصْلِ قبلَ تَمامِ البَدَلِ، فلَزِمَه، كالصَّغِيرَةِ، ومَن ارْتَفعَ حَيْضُها قبلَ إتْمامِ عِدَّتِها بالشُّهُورِ، وكالمُتَيَمِّمِ إذا رَأى الماءَ في صَلاِته. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئَه، كالمُتَمَتِّعِ إذا شَرَع في الصَّومِ، ثم قَدَر على الهَدْىِ، والمُكَفِّرِ إذا قَدَر على الأصْلِ بعدَ الشُّرُوعِ في البَدَلِ. وإن بَرَأ قبلَ إحْرام النَّائِبِ لم يُجْزِئْه بحالٍ. فصل: فأَمّا مَن يُرْجَى زَوالُ مَرَضِه، والمَحْبُوسُ، ونَحْوُه، فليس له أن يَسْتَنِيبَ. فإن فَعَل لم يُجْزِئْه وإن لم يَبْرأْ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: له الاسْتِنابَةُ، ويَكُونُ ذلك مُراعًى، فإن قَدَر على الحَجِّ بنَفْسِه، لَزِمَه، وإلَّا أجْزَأه ذلك (1)، كالمَأْيُوسِ مِن بُرْئِه. ولَنا، أنَّه يَرْجُو القُدْرَةَ على الحَجِّ (¬1) بنَفْسِه، فلم يَكُنْ له الاسْتِنابَةُ، ولا تُجْزِئُه إن فَعَل، كالفَقِيرِ. وفارَقَ المَأْيُوسَ مِن بُرْئِه؛ لأنَّه عاجِزٌ على الإِطْلاقِ، آيِسٌ مِن القُدْرَةِ على الأصْلِ، فأشْبَهَ المَيِّتَ، ولأنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد في الحَجِّ عن الشَّيْخِ الكَبِيرِ، وهو ممَّن لا يُرجَى منه الحَجُّ بنَفْسِه، فلا يَصِحُّ قِياسُ غيرِه عليه، إلَّا إذا كان مِثْلَه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا القادِرُ على الحَجِّ بنَفْسِه، فلا يَجُوزُ له (¬1) أن يَسْتَنِيبَ في الحَجِّ الواجِبِ إجْماعًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ مَن عليه حَجَّةُ الإِسْلامِ، وهو قادِرٌ على الحَجِّ، لا يُجْزِئُ عنه أن يَحُجَّ غيرُه عنه. والحَجُّ المَنْذُورُ كحَجَّةِ الإِسْلامِ [في إباحَةِ الاسْتِنابَةِ عندَ العَجْزِ، والمنعِ منها مع القُدْرَةِ؛ لأنَّها حَجَّةٌ واجِبَةٌ، فهى كحَجَّةِ الإِسلامِ] (¬2). فصل: وهل يَصِحُّ الاسْتِئْجارُ على الحَجِّ؟ فيه رِوايَتان؛ أشْهَرُهما، لا يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، وإسْحاقَ. والثّانِيَةُ، يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه يَجُوزُ أخْذُ النَّفَقَةِ عليه، فجاز الاسْتِئْجارُ عليه، كبناءِ المساجِدِ والقَناطِرِ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ يَخْتَصُّ فاعِلُها أن يَكُونَ مُسْلِمًا، فلم يَجُزْ أخْذُ الأُجْرَةِ عليها، كالصلاةِ. فأمّا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِناءُ المساجِدِ، فيَجُوزُ أن يَقَعَ قُرْبَةً وغيرَ قُرْبَةٍ، فإذا وَقَع بأُجْرَةٍ لم يَكُنْ عِبادَةً ولا قُرْبَةً، وهذا لا يَصِحُّ أن يَقَعِ إلَّا عِبادَةً، ولا يَجُوزُ الاشْتِراكُ في العِبادةِ، فمتى فَعَلَه مِن أجْلِ الأُجْرَةِ خرَج عن كَوْنِه عِبادَةً، فلم يَصِحَّ. ولا يَلْزَمُ مِن جَوازِ أخْذِ النَّفَقَةِ جَوازُ أخْذِ الأُجْرَةِ؛ بدَلِيلِ الإِمامَةِ والقَضاءِ، يَجُوزُ أخْذُ الرِّزْقِ عليهما مِن بَيْتِ المالِ، وهو نَفَقَةٌ في المَعْنَى، بخِلافِ الأُجْرَةِ. وفائِدَةُ الخِلافِ أنَّه متى لم يَجُزْ أخْذُ الأُجْرَةِ عليها، فلا يَكُونُ إلَّا نائِبًا مَحْضًا، وما يُدْفَعُ إليه مِن المالِ يَكُونُ نَفَقَةً لطَرِيقهِ، فلو ماتَ، أو أُحْصِرَ، أو مَرِض، أو ضلَّ عن الطَّرِيقِ، لم يَلْزَمْه الضمانُ لِما أنْفَقَ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه إنْفاقٌ بإذْنِ صاحِب المالِ، فأشْبَهَ ما لو أذِن له في سَدِّ بَثْقٍ (¬1) فَانْبَثَقَ ولم يَنْسَدَّ. فإذا ناب عنه آَخَرُ، فإنَّه يَحُجُّ عنه مِن حيث بَلَغ النّائِبُ الأوَّلُ مِن الطَّرِيقِ، لحُصُولِ قَطْعِ هذه المسافةِ بمالِ المَنُوبِ عنه، فلم يَحْتَجْ إلى الإِنْفاقِ دَفْعَةً أُخْرَى، كما لو حَجَّ بنَفْسِه فماتَ في الطَّرِيقِ، فإنَّه يُحَجُّ عنه مِن حيث انْتَهَى. وما فَضَل معه مِن المالِ رَدَّه، ¬

(¬1) البثق: مرضع اندفاع الماء من نهر ونحوه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يُؤْذَنَ له في أخْذِه، ويُنْفِقُ عليه بقَدْرِ الحاجَةِ، مِن غيرِ إسْرافٍ ولا تَقْتِيرٍ، وليس له التَّبَرُّعُ بشئٍ منه، إلَّا أن يُؤْذَنَ له في ذلك. قال أحمدُ، في الذى يَأُخُذُ دَراهِمَ للحَجِّ: لا يَمْشِى، ولا يُقَتِّرُ في النَّفَقَةِ، ولا يُسْرِفُ. وقال في رجل أخَذَ حَجَّةً عن مَيِّتٍ، ففَضَلَتْ معه فَضْلَةٌ: يَرُدُّها، ولا يُناهِدُ (¬1) أحَدًا إلَّا بقَدْرِ ما لا يَكُونُ سَرَفًا، ولا يَدْعُو إلى طَعامِه، ولا يَتَفَضَّلُ. ثم قال: أمَّا إذا أُعْطِىَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أو كذا وكذا، فقِيلَ له: حُجَّ بهذه. فله أن يَتَوَسَّعَ فيها، وإن فَضَل شئٌ فهو له. وإذا قال المَيِّتُ: حُجُّوا عَنِّى حَجَّةً بألْفٍ. فدَفَعُوها إلى رجلٍ، فله أن يَتَوَسَّعَ فيها، وما فَضَل فهو له. وإن قُلْنا بجَوازِ الاسْتِئْجارِ على الحَجِّ، جاز أن يَسْتَنِيبَ مِن غيرِ اسْتِئْجارٍ، فيَكُونُ الحُكْمُ على ما ذَكَرْنا، وأنْ يَسْتَأْجِرَ. فإنِ اسْتَأْجَرَ مَن يَحُجُّ عنه، أو عن مَيِّتٍ، اعْتَبَرَ فيه شُرُوطَ الإِجارَةِ، وما يَأْخُذُه (¬2) أُجْرَةً، يَمْلِكُه، ويُباحُ له التَّصَرُّفُ فيه، والتَّوَسُّعُ في النَّفَقَةِ وغيرِها، وما فَضَل فهو له. وإن أُحْصِرَ، أو ضَلَّ عن الطَّرِيقِ، أو ضاعتِ النَّفَقَةُ منه، فهو مِن ضَمانِه، وعليه الحَجُّ. وإن مات انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ؛ لتَلَفِ المَعْقُودِ عليه، كما لو ماتَتِ البَهِيمَةُ المُسْتَأْجَرَةُ، ويَكُونُ الحَجُّ أيضًا مِن المَوْضِعِ الذى بَلَغ إليه، وما لَزِمَه مِن الدِّماءِ، فعليه؛ لأنَّ الحَجَّ عليه. ¬

(¬1) تناهد الرفقة في السفر: أخرجوا من النفقة بالسوية. (¬2) في م: «يأخُذُ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والنّائِبُ غيرُ المُسْتَأْجَرِ، فما لَزِمَه مِن الدِّماءِ بفِعْلٍ مَحْظُورٍ، فعليه في مالِه؛ لأنَّه لم يُؤْذَنْ له في الجِنايَةِ، فكانَ مُوجبُها عليه، كما لو لم يَكُنْ نائِبًا، ودَمُ المُتْعَةِ والقِرانِ، إن لم يُؤذَنْ له فيهما، عليه؛ لأنَّه كجِنايَتِه. وإن أُذِنَ له فيهما، فالدَّمُ على المُسْتَنِيبِ؛ لأنَّه أذِنَ له (¬1) في سَبَبِهما، ودَمُ الإِحْصارِ على المُسْتَنِيب؛ لأنَّه للتَّخَلُّصِ مِن مَشَقَّةِ السَّفَرِ، فهو كنَفَقَةِ الرُّجُوعِ. فإن أفْسَدَ حَجَّه، فالقَضاءُ عليه، ويَرُدُّ ما أخَذَ؛ لأنَّ الحَجَّةَ لم تُجْزِئْ عن المُسْتَنِيبِ؛ لتَفْرِيطِه وجِنايَتِه. وكذلك إن فاتَه الحَجُّ بتَفْرِيطِه. وإن فات بغيرِ تَفْرِيطٍ، احْتُسِبَ له بالنَّفَقَةِ؛ لأنَّه لم يَفُتْ بفِعْلِه، فلم يَكُنْ مُخالِفًا، كما لو مات. وإن قُلْنا بوُجُوبِ القَضاءِ، فهو عليه في مالِه، كما لو دَخَل في حَجٍّ ظنَّ أنَّه عليه، فلم يَكُنْ عليه، وفاتَه. فصل: وإذا سَلَك النّائِبُ طَرِيقًا يُمْكِنُه سُلُوكُ أقْرَبَ منه بغيرِ ضَرَرٍ، ففاضِلُ النَّفَقَةِ في مالِه. وإن تَعَجَّلَ عَجَلَةً يُمْكِنُه تَرْكُها فكذلك. وإن أقامَ بمَكَّةَ أكْثرَ مِن مُدَّةِ القَصْرِ، بعدَ إمْكانِ السَّفَرِ للرُّجُوعِ، أنْفَقَ مِن مالِه؛ لأنَّه غيرُ مَأْذُونٍ له فيه. فإن لم يُمْكِنْه الخرُوجُ قبلَ ذلك، فله النَّفَقَةُ؛ لأنَّه مَأْذُونٌ فيه، وله نَفَقَةُ الرُّجُوعِ، وإن طالَتْ إقامَتُه بمَكَّةَ، ما لم يَتَّخِذْها دارًا، فإنِ اتَّخَذَها دَارًا، ولو ساعَةً، لم يَكُنْ له نَفَقَةٌ لرُجُوعِه؛ لأنَّه صار بنيَّةِ الإِقامَةِ مَكِّيًّا، فسَقَطَتْ نَفَقَتُه، فلم تُعَدَّ. وإن مَرِض في الطَّرِيقِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعاد [فله نَفَقَةُ رُجُوعِه؛ لأنَّه لا بُدَّ له منه، وقد حَصَل بغيرِ تَفْرِيطِه، فأشْبَهَ ما لو قُطِعَ عليه الطَّرِيقُ] (¬1)، أو أُحْصِرَ. وإن قال: خِفْتُ المرَضَ، فرَجَعْتُ. فعليه الضَّمانُ؛ لأنَّه مُتَوَهِّمٌ. وعن الإِمامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في مَن مَرِض في الكُوفَةِ، فرَجَعَ: يَرُدُّ جَمِيعَ ما أخَذَ. وفى جَمِيعِ ذلك إذا أذِنَ له في النَّفَقَةِ، فله ذلك؛ لأنُّ المالَ للمُسْتَنِيبِ، فجاز ما أذِنَ فيه. وإن شَرَط أحَدُهما أنَّ الدِّماءَ الواجِبَةَ عليه على غيرِه، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ؛ لأنَّ ذلك مِن مُوجِباتِ فِعْلِه، أو الحَجِّ الواجِبِ عليه، فلم يَصِحَّ شَرْطُه على غيرِه، كما لو شَرَطَه على أجْنَبِيٍّ. فصل: يَجُوزُ أن يَنُوبَ الرجلُ عن الرجلِ والمرأةِ، والمرأةُ عن المرأةِ والرجلِ في الحَجِّ، في قولِ عَوامِّ أهْلِ العِلْمِ. لا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، إلَّا الحسنَ بنَ صالِحٍ، فإنَّه كَرِه حَجَّ المرأةِ عن الرجلِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذه غَفْلَةٌ عن ظاهِرِ السُّنَّةِ، فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ المرأةَ الخَثْعَمِيَّةَ أن تَحُجَّ عن أبيها (¬2). وعليه يَعْتَمِدُ مَن أجاز حَجَّ المَرْءِ عن غيرِه. وفى البابِ حديثُ أبي رَزِينٍ (¬3)، وأحادِيثُ سِواه. فصل: ولا يَجُوزُ الحَجُّ والعُمْرَةُ عن حَيٍّ إلَّا بإذْنِه، فَرْضًا كان أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَدْخُلُها النِّيابَةُ، فلم تَجُزْ عن البالِغِ العاقِلِ بغيرِ إذْنِه، كالزكاةِ. فأمّا المَيِّتُ فيَجُوزُ عنه بغيرِ إذْنٍ، واجِبًا كان أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 260. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بالحَجِّ عن المَيِّتِ، وقد عَلِم أنَّه لا إذْنَ له، وما جاز فَرْضُه جاز نَفْلُه، كالصَّدَقَةِ. فعلى هذا كلُّ ما يَفْعَلُه النّائِبُ عن المُسْتَنِيب ممّا لم يُؤْمَرْ به، مثلَ أن يُؤْمَرَ بحَجًّ فيَعْتَمِرَ، أو بعُمْرَةٍ فيَحُجَّ، يَقَعُ عن المَيِّتِ؛ لأنَّه يَصِحُّ عنه مِن غيرِ إذْنِه، ولا يَقَعُ عن الحَىِّ؛ لعَدَمِ إذْنِه فيه، ويَقَعُ عمَّن فَعَلَه، لأنَّه لمّا تَعَذَّرَ وُقُوعُه عن المَنْوِىِّ عنه، وَقَع عن نَفْسِه، كما لو اسْتَنابَه رجلان، فأحْرَمَ عنهما جميعًا، وعليه رَدُّ النَّفَقَةِ؛ لأنَّه لم يَفْعَلْ ما أُمِرَ به، فأشْبَهَ ما لو لم يَفْعَلْ شَيْئًا. فُصُولٌ في مُخالَفَةِ النّائِبِ: إذا أمَرَه بحَجٍّ، فَتَمَتَّعَ أو اعْتَمَرَ لنَفْسِه مِن المِيقاتِ، ثم حَجَّ، نَظَرْتَ؛ فإن خَرَج إلى المِيقاتِ فأحْرَمَ منه بالحَجِّ، جاز، ولا شئَ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وإن أحْرَمَ مِن مَكَّةَ، فعليه دَمٌ؛ لتَرْكِ مِيقاتِه، ويَرُدُّ مِن النَّفَقَةِ بقَدْرِ ما تَرَك مِن إحْرامِ الحَجِّ فيما بينَ المِيقاتِ ومَكَّةَ. وقال القاضى: لا يَقَعُ فِعْلُه عن الآمِرِ، ويَرُدُّ جَمِيعَ النَّفَقَةِ؛ لأنَّه أتَى بغيرِ ما أُمِرَ به. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ. ولَنا، أنَّه أحْرَمَ بالحَجِّ مِن المِيقاتِ، فقد أتى بالحَجِّ صَحِيحًا مِن مِيقاتِه، أشْبَهَ ما لو لم يُحْرِمْ بالعُمْرَةِ، وإن أحْرَمَ به مِن مَكَّةَ، فما أخَلَّ إلَّا بما يَجْبُرُه الدَّمُ، فلم تَسْقُطْ نَفَقَتُه، كما لو تَجَاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، فأحْرَمَ دُونَه. فإن أمَرَه بالإِفْرادِ فَقَرنَ، لم يَضْمَنْ شَيْئًا. وهو مَذْهَبُ (¬1) الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَضْمَنُ (¬2)؛ ¬

(¬1) في م: «قول». (¬2) في الأصل: «لا يضمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مُخالِفٌ. ولَنا، أنَّه أتى بما أُمِرَ به وزيادَةٍ، فصَحَّ [ولم يَضْمَنْ] (¬1)، كما لو أمَرَه بشِراءِ شاةٍ بدِينارٍ، فاشْتَرى به شاتَيْن تُساوِى إحْداهما دِينارًا. ثم إن كان أمَرَه بالعُمْرَةِ بعدَ الحَجِّ، ففَعَلَها، فلا شئَ عليه، وإن لم يَفْعَلْ، رَدَّ مِن النَّفَقَةِ بقَدْرِها. فصل: فإن أمَرَه بالتَّمتُّعِ، فقَرَنَ، وَقَع عن الآمِرِ؛ لأنَّه أمَرَ بهما، وإنَّما خالَفَ في أنَّه أمَرَه بالإِحْرامِ بالحَجِّ مِن مَكَّةَ، فأحْرَمَ به مِن المِيقاتِ. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّه لا يَرُدُّ شَيْئًا مِن النَّفَقَةِ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال القاضى: يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لأنَّ غَرَضَه في عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ، وقد خالَفَه في ذلك وفَوَّتَه عليه. فإن أفْرَدَ وَقَع عن المُسْتَنِيبِ أيضًا، ويَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لأنَّه أخَلَّ بالإِحْرامِ بالعُمْرَةِ مِن المِيقاتِ، وقد أمَرَه به، وإحْرامُه بالحَجِّ مِن المِيقاتِ زِيادَةٌ لا يَسْتَحِقُّ به شَيْئًا. فصل: فإن أمَرَه بالقِرانِ فأفْرَدَ أو تَمَتَّعَ، صَحَّ، ووَقَع النُّسُكان عن الآمِرِ، ويَرُدُّ مِن النَّفَقَةِ بقَدْرِ ما تَرَك مِن إحْرامِ النُّسُكِ الذى تَرَكَه مِن المِيقاتِ. وفى جَمِيعِ ذلك، إذا أمَرَه بالنُّسُكَيْن، ففَعَلَ أحَدَهما دُونَ الآخَرِ، رَدَّ مِن النَّفَقَةِ بقَدْرِ ما تَرَك، ووَقَع المفْعُولُ عن الآمِرِ، وللنّائِبِ مِن النَّفَقَةِ بقَدْرِه. فصل: وإنِ اسْتَنابَهُ رجلٌ في الحَجِّ، و (¬2) آخَرُ في العُمْرَةِ، وأذِنا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له في القِرانِ، ففَعَلَ، جاز؛ لأنَّه نُسُكٌ مَشْرُوعٌ. وإن قَرَن مِن غيرِ إذْنِهما، صَحَّ، ووَقَع عنهما، ويَرُدُّ مِن نَفَقَةِ كلَّ واحِدٍ منهما نصْفَها؛ لأنَّه جَعَل السَّفَرَ عنهما بغيرِ إذْنِهما. وإن أذِنَ أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، رَدَّ على غيرِ الآمِرِ نِصْف نَفَقَتِه (¬1) وحْدَه. وقال القاضى: إذا لم يَأْذَنا (¬2) له، ضَمِن الجميعَ؛ لأنَّه أُمِرَ بنُسُكٍ مُفْرَدٍ، ولم يَأْتِ به، فكانَ مُخالِفًا، كما لو أُمِرَ بحَجٍّ فاعْتَمَرَ. ولَنا، أنَّه أتَى بما أُمِرَ به، وإنَّما خالَفَ في صِفَتِه، لا في أصْلِه، أشْبَهَ مَن أُمِرَ بالتَّمتُّعِ فَقَرنَ (¬3). ولو أُمِرَ بأحَدِ النُّسُكَيْن، فقَرَنَ بينَه وبينَ النُّسُكِ (¬4) الآخَرِ لنَفْسِه، فالحُكْمُ فيه كذلك. ودَمُ القِرانِ علِى النّائِبِ إذا لم يُؤْذَنْ له فيه؛ لعَدَمِ الإِذْنِ في سَبَبِه، وإن أذِنَ أحَدُهما دُونَ الآخرِ، فعلى الآذِنِ نِصْفُ الدمِ، ونِصْفُه على النّائِبِ. فصل: وإن أُمِرَ بالحَجِّ، فحَجِّ، ثم اعْتَمَرَ لنَفْسِه، أو أُمِرَ بالعُمْرَةِ، فاعْتَمَرَ، ثم حَجَّ عن نَفْسِه، صَحَّ، ولم يَرُدَّ شيْئًا مِن النَّفَقَةِ؛ لأنَّه أتَى بما أُمِرَ به على وَجْهِه. وإن أمَرَه بالإِحْرام مِن مِيقاتٍ (¬5)، فأحْرَمَ مِن غيرِه، جاز؛ لأنَّهُما سَواءٌ في الإِجْزاءِ. وإن أمَرَه بالإِحْرام مِن بَلَدِه، فأحْرَمَ مِن المِيقاتِ، جاز؛ لأنَّه الأفْضَلُ. وإن أمَرَه بالإِحْرامِ مِن المِيقاتِ، فأحْرَمَ ¬

(¬1) في الأصل: «نفقة». (¬2) في الأصل: «يأذن». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «الميقات».

1141 - مسألة: (ومن قدر على السعى، لزمه ذلك إذا كان فى

وَإِنْ أَمْكَنَهُ السَّعْىُ إلَيْهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِى وَقْتِ الْمَسيرِ، وَوَجَدَ طَرِيقًا آمِنًا لَا خَفَارَةَ فِيهِ، يُوجَدُ فِيهِ الْمَاءُ وَالْعَلَفُ عَلَى الْمُعْتَادِ. وَعَنْهُ، أَنَّ إمْكَانَ الْمَسِيرِ وَتَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ كَانَتِ الْخَفَارَةُ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَزِمَهُ بَذْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن بَلَدِه، جاز؛ لأنَّه زِيادَةٌ لا تَضرُّ. وإن أمَرَه بالحَجِّ في سَنَةٍ، أو الاعْتِمارِ في شَهْرٍ، ففَعَلَه في غيرِه، جازَ؛ لأنَّه مَأْذُونٌ فيه في الجُمْلَةِ. 1141 - مسألة: (ومَن قَدَر على السَّعْىِ، لَزِمَه ذلك إذا كان في (¬1) وقْتِ المَسِيرِ، ووَجَد طَرِيقًا آمِنًا لا خَفارَةَ فيه، يُوجَدُ فيه الماءُ والعَلَفُ على المُعْتادِ. وعنه، أنَّ إمْكانَ المَسِيرِ وتَخْلِيَةَ الطَّرِيق مِن شَرائِطِ الوُجُوبِ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كانَتِ الخَفارَةُ لا تُجْحِفُ بمالِه، لَزِمَه بَذْلُها) متى كَمَلَتِ الشُّرُوطُ المَذْكُورَةُ وَجَب عليه الحَجُّ على الفَوْرِ؛ لِما ذَكَرْناه، ولَزِمَه السَّعْىُ إليه؛ لأنَّ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به واجِبٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه سَعْىٌ إلى فَرِيضَةٍ، فكانَ واجِبًا، كالسَّعْىِ إلى الجُمُعَةِ. وِإنَّما يَجبُ عليه السَّعْىُ إذا كان في (¬1) وقْتِ المَسِيرِ، وهو كَوْنُ الوَقْتِ مُتَّسِعًا يُمكِنُه الخُرُوجُ إليه فيه، وأمْكَنَه المَسِيرُ إليه بما جَرَتْ به العادَةُ، فلو أمْكَنَه بأن يَسِيرَ سَيْرًا يُجاوِزُ العادَةَ، لم يَلْزَمْه السَّعْىُ. ويُشْتَرَطُ أن يَجِدَ طَرِيقًا مَسْلُوكَةً لا مانِعَ فيها، بَعِيدَةً كانَتْ أو قَرِيبَةً، بَرًّا كان أو بَحْرًا، إذا كان الغالِبُ فيها السَّلامَةَ، فإن لم يَكُنِ الغالِبُ منه السَّلامَةَ، لم يَلْزَمْه سُلُوكُه، فإن كان في الطَّرِيقِ عَدُوٌّ يَطْلُبُ خَفارَةً، لم يَلْزَمْه سُلُوكُه، ويَسْقُطُ عنه السَّعْىُ، يَسِيرَةً كانَتْ أو كَثِيرَةً. ذَكَرَه القاضى؛ لأنَّها رِشْوَةٌ فلم يَلْزَمْه بَذْلُها في العبادَةِ، كالكَبِيرةِ (¬2). وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان ذلك ممّا لا يُجْحِفُ بمالِه، لَزِمَه الحَجُّ؛ لأنَّها غَرامَةٌ يَقِفُ إمْكانُ الحَجِّ على بَذْلِها، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كالكثيرة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَمْنَعِ الوُجُوبَ مع إمْكانِ بَذْلِها، كثَمَنِ الماءِ، وعَلَفِ البَهائِمِ. ويُشْتَرَطُ أن يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا، فإن كان مَخُوفًا، لم يَلْزَمْه سُلُوكُه؛ لأنَّ فيه تَغْرِيرًا بنَفْسِه ومالِه، ويُشْتَرَطُ أن يُوجَدَ فيه الماءُ والعَلَفُ، كما جَرَتْ به العادَةُ، بحيث يُوجَدُ الماءُ وعَلَفُ البَهائِمِ في المَنازِلِ التى يَنْزِلُها على حَسَبِ العادَةِ، ولا يَلْزَمُه حَمْلُه مِن بَلَدِه، ولا مِن أقْرَبِ البُلْدانِ إلى مَكَّةَ، كأطْرافِ الشّامِ ونَحْوِها؛ لأنَّ هذا يَشُقُّ، ولم تَجْرِ العادَةُ به، ولا يَتَمَكَّنُ مِن حَمْلِ الماءِ والعَلَفِ لبَهائِمِه في جَميعِ الطَّرِيقِ، بخِلافِ زادِ نَفْسِه. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في إمْكانِ المَسِيرِ، وتَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، فرُوِىَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهما مِن شَرائِطِ الوُجُوبِ، لا يَجِبُ الحَجُّ بدُونِهما؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى إنَّما فَرَض الحَجَّ على المُسْتَطِيعِ، وهذا غيرُ مُسْتَطِيعٍ، ولأنَّ هذا يَتَعَذَّرُ معه فِعْل الحَجِّ، فكانَ شَرْطًا، كالزَّادِ والرّاحِلَةِ. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ والشافعىِّ. ورُوِىَ أنَّهما مِن شَرائِطِ لُزُومِ الأداءِ، فلو كَمَلَتِ الشُّرُوطُ الخَمْسَةُ، ثم مات قبلَ وُجُودِ هذَيْن الشَّرْطَيْن، حُجَّ عنه بعدَ مَوْتِه، وإن أعْسَرَ قبلَ (¬1) وُجُودِهما بَقِىَ في ذِمَّتِه. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، وذلك لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا سُئِلَ: ما يُوجِبُ الحَجَّ؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» (¬2). حديث حسنٌ. ولأنَّه عُذْرٌ يَمْنَعُ نَفْسَ الأداءِ، فلم يَمْنَعِ الوُجُوبَ، كالعَضَبِ (¬3)، ولأنَّ إمْكانَ الأداءِ ليس بشَرْطٍ في وُجُوبِ العِباداتِ، بدَلِيلِ ما لو طَهُرَتِ الحائِضُ، أو بَلَغ الصَّبِىُّ، أو أفاقَ المَجْنُونُ، ولم يَبْقَ مِن وَقْتِ الصلاةِ ما يُمْكِنُ أداؤُها فيه، والاسْتِطاعَةُ مُفَسَّرَةٌ بالزّاد والرّاحِلَةِ في الحَدِيثِ، فيَجِبُ المَصِيرُ إليه، والفَرْقُ بينَ هذَيْن وبينَ الزّادِ والرّاحِلَةِ أنَّه يَتَعَذَّرُ مع فَقْدِهِما الأداءُ دُونَ القضاءِ، وفَقْدُ الزّادِ والرّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ معه الجَمِيعُ. ¬

(¬1) في م: «بعد». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 43. (¬3) العضب: الضعف والزمانة.

1142 - مسألة: (ومن وجب عليه الحج [فتوفى قبله، أخرج]

وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَتُوُفِّىَ قَبْلَهُ، أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1142 - مسألة: (ومَن وَجَب عليه الحَجُّ [فتُوفِّىَ قبلَه، أُخْرِجَ] (¬1) عنه مِن جَميعِ مالِه حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن وَجَب ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الحَجُّ، ولم يَحُجَّ، وَجَب أن يُخْرَجَ عنه مِن جَمِيعِ مالِه ما يُحَجُّ به عنه ويُعْتَمَرُ، سَواءٌ فاتَه بتَفْرِيطِه أو بغيرِ تَفْرِيطِه. وبهذا قال الحسنُ، وطاوُسٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَسْقُطُ بالمَوْتِ، فإن وَصَّى بها فهى مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّه عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فتَسْقُطُ بالمَوْتِ، كالصلاةِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ امرأةً سألَتِ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -عن أبيها، مات ولم يَحُجَّ؟ قال: «حُجِّى عَنْ أبيكِ». وعنه، أنَّ امرأةً نَذَرَتْ أن تَحُجَّ، فماتَتْ، فأتَى أخُوها النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك، فقالَ: «أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ أكُنْتَ قَاضِيَهُ؟». قال: نَعَمْ. قال: «فَاقْضُوا اللهَ، فهُو أحَقُّ بالقضَاءِ (¬1)». رَواهما النَّسائِىُّ (¬2). ولأنَّه حَقٌّ اسْتَقَرَّ عليه، ¬

(¬1) في المجتبى: «بالوفاء». (¬2) الحديث الأول تقدم تخريجه في 6/ 260. وأخرج الثانى، في: باب الحج عن الميت الذى نذر أن يحج، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْخُلُه النِّيابَةُ، فلم يَسْقُطْ بالمَوْتِ، كالدَّيْنِ. وبهذا فارَقَ الصلاةَ، فإنَّها لا تَدْخُلُها النِّيابَةُ. والعُمْرَةُ كالحَجِّ فيما ذَكَرْنا، إذا قُلْنا بوُجُوبِها. ويَكُونُ ما يُحَجُّ به ويُعْتَمَرُ مِن جَمِيعِ مالِه؛ لأنَّه دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ، فكانَ مِن جَمِيعِ المالِ، كدَيْنَ الآدَمِىِّ. فصل: ويُسْتَنابُ مَن يَحُجُّ عنه مِن حيثُ وَجَب عليه، إمّا مِن بَلَدِه أو مِن المَوْضِعِ الذى أيْسَرَ فيه. وبهذا قال الحسنُ، ومالكٌ، وإسحاقُ، في النَّذْرِ. وقال عَطاءٌ، في النّاذِرِ: إن لم يَكُنْ نَوَى مَكانًا، فمِن مِيقاتِه. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ. وقال الشافعىُّ، في مَن عليه حَجَّةُ الإِسْلامِ: يُسْتَأْجَرُ مَن يَحُجُّ عنه مِن المِيقاتِ؛ لأنَّ الإِحْرامَ لا يَجِبُ مِن دُونِه. ولَنا، أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَجَّ وَجَب [على المَيِّتِ] (¬1) مِن بَلَدِه، فوَجَبَ أن يَنُوبَ عنه منه؛ لأنَّ القَضاءَ يَكُونُ على صِفَةِ الأداءِ، كقَضاءِ الصلاةِ والصومِ، كذلك الحُكْمُ في [حَجِّ النَّذْرِ] (¬2) والقَضاءِ قِياسًا عليه. فإن كان له وَطَنان اسْتُنِيبَ مِن أقْرَبِهما؛ فإن وَجَب عليه الحَجُّ بخُراسانَ، فماتَ ببَغْدادَ، أو (¬3) بالعَكْسِ، فقالَ أحمدُ: يَحُجُّ عنه مِن حيث وَجَب عليه، لا مِن حيث مَوْتُه. ويَحْتَمِلُ أن يَحُجَّ عنه مِن أقْرَبِ المَكانَيْن؛ لأنَّه لو كانَ حَيًّا في أقْرَبِ المَكانَيْن، لم يَجِبْ عليه الحَجُّ مِن أبْعَدَ منه، فكذلك نائِبُه. فإن أُحِجَّ (¬4) عنه مِن دُونِ ذلك، فقالَ القاضى: إن كان دُونَ مسافَةِ القَصْرِ أجْزَأه؛ لأنَّه في حُكْمِ القَرِيبِ، وإلَّا لم يُجْزِئْه؛ لأَّنه لم يُؤَدِّ الواجِبَ بكَمالِه. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئَه، ويَكونُ مُسِيئًا، كمَن وَجَب عليه الإِحْرامُ مِن المِيقاتِ، فأحْرَمَ مِن دُونِه. واللهُ أعْلَمُ. فصل: فإن خَرَج للحَجِّ فماتَ في الطَّرِيقِ، حُجَّ عنه مِن حيثُ ماتَ؛ لأنَّه أسْقَطَ بعضَ ما وَجَب عليه، فلم يَجِبْ ثانِيًا (¬5). وكذلك إن مات نائِبُه استُنِيبَ (¬6) مِن حيث مات كذلك. ولو أحْرَمَ بالحَجِّ ثم ماتَ، ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) في م: «حج والنذر». (¬3) في م: «و». (¬4) في م: «حج». (¬5) في الأصل: «نائبا». (¬6) في م: «فاستنيب».

1143 - مسألة: (فإن ضاق ماله عن ذلك، أو كان عليه دين، أخذ للحج بحصته، وحج به من حيث يبلغ)

فَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أُخِذَ لِلْحَجِّ بِحِصَّتِهِ، وَحُجَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتِ النِّيابَةُ عنه فيما بَقِىَ مِن النُّسُكِ، سَواءٌ كان إحْرامُه لنَفْسِه أو غيرِه. نَصَّ عليه؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَدْخُلُها النِّيابَةُ، فإذا ماتَ بعدَ فِعْلِ بعضِها قَضَى عنه باقِيَها، كالزَّكاةِ. 1143 - مسألة: (فإن ضاق مالُه عن ذلك، أو كان عليه دَيْنٌ، أُخِذَ للحَجِّ بحِصَّتِه، وحُجَّ به مِن حيث يَبْلُغُ) إذا لم يُخَلِّفِ المَيِّتُ ما يَكْفِى للحَجِّ مِن بَلَدِه، حُجَّ عنه مِن حيث يَبْلُغُ. وإن كان عليه دَيْنٌ لآدَمِىٍّ، تَحاصّا، ويُؤْخَذُ للحَجِّ بحِصَّتِه، فَيُحَجُّ بها من حيث يَبْلُغ. قال الإِمامُ أحمدُ في رجلٍ أوْصَى أن يُحَجَّ عنه، ولا تَبْلُغُ النَّفَقَةُ؟ قال: يُحَجُّ عنه مِن حيث تَبْلُغُ النَّفَقَةُ للرّاكِبِ مِن غيرِ مَدينَتِه. وذلك لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). ولأنَّه قَدَر على أداءِ بعضِ الواجِبِ، فلَزِمَه، كالزكاةِ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ الحَجَّ يَسْقُطُ؛ لأنَّه قال في رجلٍ أوْصَى بحَحَّةٍ واجِبَةٍ، ولم يُخَلِّفْ ما يَتِمُّ به حَجُّهُ، هل ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحَجُّ عنه مِن المَدِينَةِ، أو مِن حيث تَتِمُّ الحَجَّةُ؟ فقالَ: ما يَكُونُ الحَجُّ عِنْدِى إلَّا مِن حيث وَجَب عليه. وهذا تَنْبِيهٌ على سُقُوطِه عمَّن عليه دَيْنٌ لا تَفِى تَرِكَتُه به وبالحَجِّ، فإنَّه إذا أسْقَطَه مع عدَمِ المعارِضِ، فمع المُعارَضَةِ بحَقِّ الآدَمِىِّ المُؤكَّدِ أوْلَى. ويَحْتمِلُ أن يَسْقُطَ عمَّن عليه دَيْنٌ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ حَقَّ الآدَمِىِّ المُعَيَّنِ أوْلَى بالتَّقْدِيمِ لتَأكُّدِه، وحَقُّه (¬1) حَقُّ اللهِ تعالى، مع عدَمِ إمْكانِه على الوَجْهِ الواجِبِ. فصل (¬2): وإن وَصَّى بحَجِّ تَطَوُّعٍ، ولم يَفِ ثُلُثُه بالحَجِّ مِن بَلَدِه، حُجَّ به مِن حيث يَبْلُغُ، أو يُعانُ به في الحَجِّ. نَصَّ عليه، وقال: التَّطَوُّعُ ما يُبالَى مِن أين (¬3) كان. ويُسْتَنابُ عن المَيِّتِ ثِقَةٌ بأقَلِّ ما يُوجَدُ، إلَّا أن يَرْضَى الوَرَثَةُ بزِيادَةٍ، أو يَكُونَ قد أوْصَى بشئٍ، فيَجُوزُ ما أوْصَى به، ما لم [يَزِدْ على] (¬4) الثُّلُثِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَحُجَّ الإِنْسانُ عن اُبَوَيْه، إذا كانا مَيِّتَيْن أو عاجِزَيْن؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -أمَرَ أبا رَزِينٍ، فقالَ: «حُجَّ عَنْ أبِيكَ، ¬

(¬1) في م: «خفة». (¬2) في م: «مسألة». وليس هذا من متن المقنع. (¬3) في م: «حيث». (¬4) في الأصل: «يرد إلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَاعْتَمِرْ» (¬1). وسَألَتِ امْرَأةٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أبِيهَا، مات ولم يَحُجَّ؟ قال: «حُجِّى عَنْ أبِيكِ» (¬2). ويُسْتَحَبُّ البدَايةُ (¬3) بالحَجِّ عن الأُمِّ، إن كان تَطَوُّعًا أو واجِبًا عليهما. نَصَّ عليه أحمدُ في التَّطَوُّعِ؛ لأنَّ الأُمِّ مُقَدَّمَةٌ في البِرِّ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: مَن أحَقُّ النّاسِ بحُسْنِ صَحابَتِى؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «أُمُّكَ». قال: ثم مَن؟ قال: «أبُوكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وإن كان الحَجُّ واجِبًا على الأبِ دُونَها، بَدَأ به؛ لأنَّه واجِبٌ، فكانَ أوْلَى مِن التَّطَوُّعِ. وقد روَى زيدُ بن أرْقَمَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَج الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ تُقُبِّلَ مِنْهُ ومِنْهُما وَاسْتَبْشَرَتْ أرْوَاحُهُمَا فِى السَّمَاءِ، وَكُتِبَ عِنْدَ اللهِ بَرًّا». وعن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ عَنْ أبوَيْهِ، أوْ قَضَى عَنْهُمَا مَغْرَمًا، بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الأبْرَار». وعن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ عَنْ أبِيهِ أوْ أُمِّهِ، فَقَدْ قَضَى عَنْه (¬5) حَجَّتَهُ، وَكَانَ لَهُ فَضْلُ عَشْرِ حِجَجٍ». رَواهُنَّ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬6). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 260. (¬3) في م: «البداءة». (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 94. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 259، 260. وذكر الهيثمى حديث ابن عباس وقال: رواه الطبرانى في الأوسط، وفيه جبلة بن سليمان، وهو متروك. مجمع الزوائد 8/ 146.

فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأةِ وُجُودُ مَحْرَمِهَا؛ وَهُوَ زَوْجُهَا، أو مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، إِذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا. وَعَنْهُ، أنَّ الْمَحْرَمَ مِنْ شَرَائِطِ لُزُومِ الْأدَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ويُشْتَرَطُ لوُجُوبِ الحَجِّ على المَرْأةِ وُجُودُ مَحْرَمِها؛ وهو زَوْجُها، أو مَن تَحْرُمُ عليه على التَّأْبِيدِ بنَسَبٍ أو سَبَبٍ مُباحٍ، إذا كان بالِغًا عاقِلًا. وعنه، أنَّ المَحْرَمَ مِن شَرائِطِ لُزُومِ الأداءِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في وُجُودِ المَحْرَمِ في حَقِّ المرأةِ؛ فرُوِىَ عنه، أنَّ الحَجَّ لا يَجِبُ على المرأةِ إذا لم تَجِدْ مَحْرَمًا. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. وقال أبو داودَ: قُلْتُ لأحمدَ: امرأةٌ مُوسِرَةٌ لم يَكُنْ لها مَحْرَمٌ، هل وَجَب عليها الحَجُّ؟ قال: لا. وقال: المَحْرَمُ مِن السَّبِيلِ. وهذا قولُ الحسنِ، والنَّخَعِىِّ، وإسْحاقَ، وأصحابِ الرَّأْىِ، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عنه أنَّه مِن شَرائِطِ لُزُومِ السَّعْىِ دُونَ الوُجُوبِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذه الرِّوايَةِ متى كَمَلَت لها الشَّرائِطُ الخَمْسُ، وفاتَها الحَجُّ بمَوْتٍ أو مَرضٍ لا يُرْجَى بُرْؤه، أُخْرِجَ عنها حَجَّةٌ؛ لأنَّ شُرُوطَ الحَجِّ المُخْتَصَّةَ بها (¬1) قد كَمَلَتْ، وإنَّما المَحْرَمُ لحِفْظِها، فهو كتَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، وإمْكانِ. المَسِيرِ. وعنه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّ المَحْرَمَ ليس بشَرْطٍ في الحَجِّ الواجِبِ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْت أحمدَ يُسْألُ: هل يَكُونُ الرجلُ مَحْرَمًا لأُمِّ امرأتِه، يُخْرِجُها إلى الحَجَّ؟ فقالَ: أمّا في حَجَّةِ الفَرِيضَةِ فأرْجُو (¬2)؛ لأنَّها تَخْرُجُ إليها مع النِّساءِ، ومع كلِّ مَن أمِنَتْه، وأمّا في غيرِها فلا. والمَذْهَبُ الأوَّل. وقال ابنُ سِيرينَ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ: ليس المَحْرَمُ شَرْطًا في حَجِّها بحالٍ. قال ابنُ سِيرِينَ: تَخْرُجُ مع رجلٍ مِن المسلمين لا بَأْسَ به. وقال مالكٌ: تَخْرُجُ مع جَماعَةِ النِّساءِ. ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) في الأصل: «فإنه سواء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعىُّ: تَخْرُجُ معِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ثِقَةٍ. وقال الأوْزاعِىُّ: تَخْرُجُ معِ قَوْمٍ عُدُولٍ، تَتَّخِذُ سُلَّمًا تصْعَدُ عليه وتَنْزِلُ، ولا يَقْرَبُها رجلٌ إلَّا أن يَأْخُذَ برَأْسِ البَعِيرِ، ويَضَعَ (¬1) رِجْلَه (¬2) على ذِرَاعِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: تَرَكُوا القولَ بظاهِر الحديثِ، واشْتَرَطَ كلُّ واحِدٍ منهم شَرْطًا لا حُجَّةَ معه عليه، واحْتَجُّوا بأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الاسْتِطاعَةَ بالزَّادِ والرّاحِلةِ (¬3)، وقال لعَدِىِّ ابنِ حاتِمٍ: «يُوشِكُ أنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ تَؤُمُّ الْبَيْتَ، لَا جِوارَ مَعَهَا، لَا تَخافُ إلَّا اللهَ» (¬4). ولأنَّه سَفَرٌ واجبٌ، فلم يُشْتَرَطْ له المَحْرَمُ، كالمُسْلِمَةِ إذا تَخَلَّصَتْ مِن أيْدِى الكُفَّارِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ». وعن ابنِ عباسٍ، قال: ¬

(¬1) في م: «تضع». (¬2) كذا في النسختين: الأصل، م. وفى المغنى 5/ 31: «رجلها» ولعله الصواب. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 42. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب علامات النبوة في الإِسلام، من كتاب المناقب، صحيح البخارى 4/ 239. والترمذى، في: باب تفسير سورة الفاتحة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 72 - 74. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 257، 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، [وَلَا تُسَافِرُ امْرَأةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ] (¬1)». فقامَ رجلٌ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنِّى اكْتُتِبْتُ (¬2) في غَزْوَةِ كذا، وانْطَلَقَتِ امْرِأتِى حاجَّةً، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأتِكَ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). وروَى ابنُ عُمَرَ، وأبو سعيدٍ نَحْوًا مِن حديثِ أبى هُرَيْرَةَ (¬4). قال أبو عبدِ اللهِ: أمّا أبو هُرَيْرَةَ، فيَقُولُ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ». ويُرْوَى عن أبى هُرَيْرَةَ: «لَا تُسَافِرُ سَفَرًا». أيضًا. وأمّا حديثُ أبي سعيدٍ، فيَقولُ: «ثَلاَثَة أيّامٍ». قُلْتُ: ما تقولُ أنت؟ قال: لا تُسَافِرُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كنت». ومعنى اكتتبت: أى كُتِبَ اسْمِى في أسماء من عين لتلك الغزوة. (¬3) الحديث الأول تقدم تخريجه في 5/ 41. والثاني أخرجه البخارى، في: باب حج النساء، من كتاب المحصر، وفى: باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، من كتاب الجهاد، وفى: باب لا يخلون رجل بامرأة. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 3/ 24، 4/ 72، 7/ 48. ومسلم، في: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 978. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 222. (¬4) انظر تخريج الحديث في 5/ 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَفَرًا قَلِيلًا ولا كَثِيرًا إلَّا مع ذى مَحْرَمٍ. وروَى الدَّارَقُطْنِيُّ (¬1) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ». وهذا نَصٌّ صَرِيحٌ في الحُكْمِ. ولأنَّها أنشأتْ سَفَرًا في دارِ الإِسْلامِ، فلم يَجُزْ بغيرِ مَحْرَمٍ، كحَجِّ التَّطَوُّعِ. وحديثُهم مَحْمُولٌ على الرجلِ، بدَلِيلِ أنَّهم شَرَطُوا خُرُوجَ غيرِها معها، فجَعْلُ ذلك الغيرِ المَحْرَمَ الذى بَيَّنَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في أحادِيثِنا أوْلَى مِمّا اشْتَرَطُوه بالتَّحَكُّمِ مِن غيرِ دَلِيلٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ الزّادَ والرَّاحِلَةَ تُوجِبُ الحَجَّ مع كَمالِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ، ولذلك اشْتَرَطُوا تَخْلِيَةَ الطَّرِيقِ، وإمْكانَ المَسِيرِ، وقَضاءَ الدَّيْنِ، ونَفَقَةَ العِيالِ. واشْتَرَطَ مالكٌ إمْكانَ الثُّبُوتِ على الرّاحِلَةِ، وهى غيرُ مَذْكُورَةٍ في الحديثِ. واشْتَرَطَ كلُّ واحِدٍ منهم شَرْطًا في مَحَلِّ النِّزاعِ مِن عندِ نَفْسِه، لا مِن كِتابٍ، ولا من سُنَّةٍ، فما ذَكَرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أوْلَى بالاشْتِراطِ، ولو قُدِّرَ التَّعارُضُ، فحديثُنا أصَحُّ وأخَصُّ وأوْلَى بالتَّقْدِيمِ. ¬

(¬1) في: أول كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحديثُ عَدِىٍّ يَدُلُّ على وُجُودِ السَّفَرِ، لا على جَوازِه، ولذلك لم يَجُزْ (¬1) في غيرِ الحَجِّ المَفْرُوضِ، ولم يَذْكُرْ فيه خرُوجَ غيرِها معها. وأمّا الأسِيرَةُ إذا تَخَلَّصَتْ مِن أيْدِى الكفَّارِ، فإنَّ سَفَرَها (¬2) سَفَرُ ضَرُورَةٍ، لا يُقاسُ عليه حالَةُ الاخْتِيارِ، ولذلك تَخْرُجُ فيه وَحْدَها؛ ولأنَّها تَدْفَعُ ضَرَرًا مُتَيَقَّنًا بتَحَمُّلِ الضَّرَرِ المُتَوَهَّمِ، فلا يَلْزَمُ تَحَمُّلُ ذلك مِن غيرِ ضَرَرٍ أصْلًا. فصل: والمَحْرَمُ زَوْجُها، أو من تَحْرُمُ عليه على التَّأْبِيدِ بنَسَبٍ أو سَبَبٍ. مُبَاحٍ؛ كأبِيها، وابنِهَا، وأخِيهَا مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ، ورَبِيبِها ¬

(¬1) في م: «يجزه». (¬2) في الأصل: «سفر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورابِّها (¬1)؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله وِالْيَوْمِ الآخِرِ، أنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثةَ أيّامٍ فَصَاعِدًا، إلَّا وَمَعَهَا أبُوهَا، أو ابْنُهَا، أوْ زَوْجُهَا، أوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا (¬2)». رَواه مسلم (¬3). وكذلك مَن تَحْرُمُ عليه بالمُصاهَرَةِ بسَبَبٍ مُباحٍ؛ لأنَّها مُحَرَّمَةٌ عليه على التَّأْبِيدِ، أشْبَهَ التَّحْرِيمَ بالنَّسَبِ. قال أحمدُ: ويَكُونُ زَوْجُ أُمِّ المرْأةِ مَحْرَمًا لها، يَحُجُّ بها، ويُسافِرُ الرجلُ مع أمِّ وَلَدِ جَدِّه، وإذا كان أخُوها مِن الرَّضاعَةِ خَرَجَتْ معه. وقال في أُمِّ امْرَأتِه: يَكُونُ مَحْرَمًا لها في حَجِّ (¬4) الفَرْضِ دُونَ غيرِه. قال الأثْرَمُ: كأنَّه ذَهَب إلى أنَّها لم تُذْكَرْ في قولِه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (¬5). الآية. فأمّا مَن تَحِلُّ له في حالٍ، كزَوْجِ أُختِها، فليس بمَحْرَمٍ لها. نَصَّ عليه. لأنَّه ليس بحَرامٍ عليها على التَّأْبِيدِ، ولا يُباحُ له النَّظَرُ إليها. وليد العَبْدُ مَحْرَمًا لسَيِّدَتِه. ¬

(¬1) الرابّ: زوج الأم يربى ابنها من غيره. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 977. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تحج بغير محرم، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 401. والترمذى، في: باب كراهية أن تسافر المرأة وحدها، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 117. وابن ماجه، في: باب المرأة تحج بغير ولى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 968. (¬4) سقط من: م. (¬5) سورة النور 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعىُّ: هو مَحْرَمٌ لها. وحَكاه بعضُ أصحابِنا عن أحمدَ؛ لأنَّه يُباحُ له النَّظَرُ إليها، فكانَ مَحْرَمًا لها، كذِى رَحِمِها. ولَنا، ما روَى سعيدٌ في «سُنَنِه» بإسْنادِه، عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «سَفَرُ المَرْأةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ» (¬1). ولأنَّه غيرُ مَأْمُونٍ عليها، ولا تَحْرُمُ، عليه على التَّأْبِيدِ، أشْبَهَ الأجْنَبِىَّ، وقِياسُه على ذى الرَّحِمِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه مَأْمُونٌ عليها، بخِلافِ العَبْدِ، ولا يَلْزَمُ مِن إباحَةِ النَّظَرِ إلَيها أن يَكُونَ مَحْرَمًا لها (¬2)، فإنَّه يَجُوزُ النَّظَرُ إلى القَواعِدِ مِن النِّساءِ، ويَجُوزُ لغَيْرِ أُولِى الإِرْبَةِ النَّظَرُ إلى الأجْنَبِيَّةِ، وليس مَحْرَمًا لها. فصل: وأمُّ (¬3) المَوْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ، والمَزْنِىِّ بها، وابنتُهما (¬4)، فليس بمَحْرَمٍ لهما. وعنه، أنَّه مَحْرَمٌ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ تَحْرِيمَهما (¬5) بسَبَبٍ غيرِ مُباحٍ، فلم يَثْبُتْ به حُكْمُ المحْرَمِيَّةِ، كالتَّحْرِيمِ الثّابِتِ باللِّعانِ، ¬

(¬1) عزاه الهيثمى للبزار والطبرانى في الأوسط وقال: فيه بزيع بن عبد الرحمن، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد 3/ 214. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أما». (¬4) في م: «ابنتها». (¬5) في م: «تحريمها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس له (¬1) الخَلْوَةُ بهما، والنَّظَرُ إليهما لذلك. والكافِرُ ليس بمَحْرَمٍ للمُسْلِمَةِ، وإن كانَتِ ابْنَتَه. قال الإِمامُ أحمدُ، في يَهُودِىٍّ أو نَصْرانِىٍّ أسْلَمَتِ ابْنَتُه: لا يُزَوِّجُها، ولا يُسافِرُ بها، ليس هو لها بمَحْرَمٍ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: هو مَحْرَمٌ لها؛ لأنَّها مُحَرَّمَةٌ عليه على التَّأْبِيدِ. ولَنا، أنَّ إثْباتَ المَحْرَمِيَّةِ يَقْتَضِى الخَلْوَةَ بها، فوَجَبَ أن لا يَثْبُتَ لكافِرٍ على مُسْلِمَةٍ، كالحَضانَةِ للطِّفْلِ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ عليها أن يفْتِنَها عن دِينِها كالطِّفْلِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالمُحَرَّمَةِ باللِّعانِ، وبالمَجُوسِىِّ مع ابْنَتِه، ولا يَنْبَغىِ أن يَكُونَ في المَجُوسِىِّ خِلافٌ؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ عليها، ويَعْتَقِدُ حِلَّها. نَصَّ عليه أحمدُ في مَواضِعَ (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «المحرم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُشْتَرطُ في المَحْرَمِ أن يَكُونَ بالِغًا عاقِلًا. قِيلَ لأحمدَ: فيَكُونُ الصَّبِىُّ مَحْرَمًا؟ قال: لا، حتى يَحْتَلِمَ؛ لأنَّه لا يَقُومُ بنَفْسِه، فكيفَ تَخْرُجُ معه امْرَأةٌ. وذلك لأنَّ المقْصُودَ بالمحْرَمِ حِفْظُ المرأةِ، ولا يَحْصُلُ ذلك مِن غيرِ البالِغِ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى حِفْظٍ، فلا يَقْدِرُ على حِفْظِ غيرِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ونَفَقَةُ المَحْرَمِ في الحَجِّ عليها. نَصَّ عليه أحمدُ، لأنَّه مِن سَبِيلِها، فكانَ عليها نَفَقَتُه، كالرّاحِلَةِ. فعلى هذا يُعْتَبَرُ في اسْتِطاعَتِها أن تَمْلِكَ زادًا وراحِلَةً لها ولمَحْرَمِها. فإنِ امْتَنَعَ مَحْرَمُها مِن الحَجِّ معها، مع بَذْلِها له نَفَقَتَه، فهى كمَن لا مَحْرَمَ لها. وهل يَلْزَمُه إجابَتُها إلى ذلك؟

1144 - مسألة: (فإن مات المحرم فى الطريق، مضت فى حجها، ولم تصر محصرة)

وَإِنْ مَاتَ الْمَحْرَمُ فِى الطَّرِيقِ، مَضَتْ فِى حَجِّهَا، وَلَمْ تَصِرْ. مُحْصَرَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ على رِوايَتَيْن. والصَّحِيحُ أنَّه لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ في الحَجِّ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وكُلْفَةً عَظِيمَةً، فلا يَلْزَمُ أحَدًا لأجْلِ غيرِه، كما لم يَلْزَمْه أن يَحُجَّ عنها إذا كانَتْ مَرِيضَةً. 1144 - مسألة: (فإن مات المَحْرَمُ في الطَّرِيقِ، مَضَتْ في حَجِّها، ولم تَصِرْ مُحْصَرَةً) إذا مات مَحْرَمُ المرأةِ في الطَّرِيقِ، فقالَ الإِمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: إذا تَباعَدَت مَضَتْ، فقَضَتِ الحَجَّ. [قيلَ له: قَدِمَت مِن خراسانَ، فمات وَلِيُّها ببَغْدادَ؟ فقالَ: تَمْضِى إلى الحَجِّ، وإذا كان الفَرض] (¬1) خاصَّةً، فهو آكَدُ. ثم قال: بُدٌّ (¬2) لها مِن أن تَرجِعَ. وهذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لا بد».

1145 - مسألة: (ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره، ولا نذره، ولا نافلة، فإن فعل، انصرف إلى حجة الإسلام. وعنه، يقع ما نواه)

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا نَذْرِهِ، وَلَا نَافِلَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ، [62 و] انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَعَنْهُ، يَقَعُ مَا نَوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنها (¬1) لا بُدَّ لها مِن السَّفَرِ بغيرِ مَحْرَمٍ، فمُضِيُّها إلى قَضاءِ حَجَّتِها (¬2) أوْلَى. لكِنْ إن كان حَجُّها تَطَوُّعًا، وأمْكَنَها الإِقامَةُ ببَلَدٍ، فهو أوْلَى مِن السَّفَرِ بغيرِ مَحْرَمٍ. وإن مات وهى قَرِيبَةٌ، رَجَعَتْ لِتَقْضِىَ العِدَّةَ في مَنْزِلِها؛ لأنَّها في حُكْمِ المُقيمِ. 1145 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لمَن لم يَحُجَّ عن نَفْسِه أن يَحُجَّ عن غيرِه، ولا نَذْرِه، ولا نافِلَةٍ، فإن فَعَل، انْصَرَفَ إلى حَجَّةِ الإِسْلامِ. وعنه، يَقَعُ ما نَواه) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه ليس لمَن لم يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ أن يَحُجَّ عن غيرِه، فإن فَعَل وَقَع إحْرامُه عن حَجَّةِ الإِسْلامِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حاجتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وقال أبو بكرٍ (¬1) عبدُ العزيزِ: يَقَعُ الحَجُّ باطِلًا، ولا يَصِحُّ عنه ولا عن غيرِه. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ؛ لأنَّه لَمّا كان مِن شَرْطِ طَوافِ الزِّيارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فمتى نَواه لغيرِه، لم يَقَعْ لنَفْسِه، ولهذا لو طافَ حامِلًا لغيرِه، ولم يَنْوِه لنَفْسِه، لم يَقَعْ عن نَفْسِه. وقال الحسنُ، وإبراهيمُ، وأيُّوبُ السَّخْتِيانِيُّ، وجَعْفَرُ ابنُ محمدٍ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ: يَجُوزُ أن يَحُجَّ عن غيرِه مَن لم يَحُجَّ عن نَفْسِه. وعن أحمدَ مِثلُ ذلك. وقال الثَّوْرِيُّ: إن كان يَقْدِرُ على الحَجِّ عن نَفْسِه حَجَّ عن نَفْسِه، وإن لم يَقْدِرْ حَجَّ عن غَيْرِه. واحْتَجُّوا بأنَّ الحَجَّ مِمّا تَدْخُلُه النِّيابَةُ، فجاز أن يُؤَدِّيَه عن غيرِه مَن لم يُؤَدِّ فَرْضَه عن نَفْسِه، كالزكاةِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، سَمِع رجلًا يَقُولُ: ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ابن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَبَّيْكَ عن شُبْرُمَةَ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟». قال: قَريِبٌ لى. قال: «هَلْ حَجَجْتَ قَطُّ؟». قال: لا. قال: «فَاجْعَلْ هذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1)، وهذا لَفْظُه. ولأنَّه حَجَّ عن غيرِه قبلَ أن يَحُجَّ عن نَفسِه، فلم يَقَعْ عن الغيرِ، كما لو كان صَبِيًّا. ويُفارِقُ الزكاةَ، فإنَّه يَجُوزُ أن يَنُوبَ عن الغيرِ وقد بَقِىَ عليه بعضُها، وههُنا لا يَجُوزُ أن يَحُجَّ (¬2) عنِ الغيرِ مَن شَرَع في الحَجِّ قبلَ إتْمامِه، ولا يَطُوفَ [عن غيرِه مَن يَطُوفُ] (¬3) عن نَفْسِه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يحج عن غيره، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 420. وابن ماجه، في: باب الحج عن الميت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 1/ 969. وأورده صاحب الفتح الرباني في الزيادات وعزاه لأبي داود وابن ماجه. الفتح الرباني 11/ 27. ولم يعزه ابن حجر للإمام أحمد. تلخيص الحبير 2/ 223. وقد احتج به الإمام وذكره بدون إسناد. مسائل أحمد لابن هانئ 1/ 177. (¬2) في م: «ينوب». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أحْرَمَ بالمَنْذُورَةِ مَن عليه حَجَّةُ الإِسْلامِ، وَقَع عن حَجَّةِ الإِسْلامِ؛ لأنَّها آكَدُ. وعنه، يَقَعُ عن المَنْذُورَةِ؛ لقَوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوَى» (¬1). فإذا قُلْنا: يَقَعُ عن حَجَّةِ (¬2) الإِسْلامِ. بَقِيَتِ المَنْذُورَةُ في ذِمَّتِه، ولم تَسْقُطْ عنه. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وأنَسٍ، وعَطاءٍ؛ لأنَّها حَجَّةٌ واحِدَةٌ فلم تُجْزِئْ عن حَجَّتَيْن، كما لو نَذَر حَجَّتَيْن، فحَجَّ واحِدَةً. وقد نَقَل أبو طالبٍ (¬3) عن أحمدَ، في مَن نَذَر أن يَحُجَّ وعليه حَجَّةٌ مَفْرُوضَةٌ، فأحْرَمَ عن النَّذْرِ: وَقَعَتْ عن المَفْرُوضَةِ، ولا يَجِبُ عليه شَئٌ آخَرُ. وصار كمَن نَذَر صومَ يَوْمِ يَقْدَمُ زيدٌ (¬4)، فقَدِمَ في يومٍ مِن رمضانَ، فنَواه عن فَرْضِه ونَذْرِه، فإنَّه يُجْزِئُه في رِوايَةٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «الخَطاب». (¬4) في م: «فلان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، وعِكْرِمَةَ. رَواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ عنهما. ورُوِىَ أنَّ عِكْرِمَةَ سُئِلَ عن ذلك، فقالَ: تَقْضِى حَجَّتُه عن نَذْرِه وعن حَجَّةِ الإِسْلامِ، أرَأيْتُم لو أنَّ رَجلًا نَذَر أن يُصَلِّىَ أرْبَعَ رَكَعاتٍ، فصَلَّى العَصْرَ، أليس ذلك يُجْزِئُه منهما؟ قال: وذَكَرْت ذلك لابنِ عباسٍ، فقالَ: أصَبْتَ - أو -: أحْسَنْتَ. فصل: فإن أحْرَمَ بتَطَوُّعٍ أو نَذْرٍ مَن عليه حَجَّةُ الإِسْلامِ، وَقَع عن حَجَّةِ الإِسْلامِ. وبه قال ابنُ عُمَرَ، وأنَسٌ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ: يَقَعُ ما نَواه. وهى رِوايَةٌ عن أحمدَ، وقوِلُ أبى بكرٍ؛ لِما تَقَدَّمَ. ولَنا، أَّنه أحْرَمَ بالحَجِّ وعليه فَرِيضَةٌ، فوَقَعَ عن فَرْضِه، كالمطْلَقِ. ولو أحْرَمَ بتَطَوُّعٍ، وعليه مَنْذُورَةٌ، وقَعَتْ عن المَنْذُورَةِ؛ لأنَّها واجِبَةٌ، أشْبَهَتْ حَجَّةَ الإِسْلامِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعْمْرَةُ كالحَجِّ فيما ذَكَرْنا؛ لأنَّها أحَدُ النُّسُكَيْن أشْبَهَتِ الآخَرَ، والنّائِبُ كالمَنُوبِ عنه في هذا، فمتى أحْرَمَ النّائِبُ بتَطَوُّعٍ أو نَذْرٍ عمّن لم يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ وَقَع عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، [سَواءٌ حَجَّ عن مَيِّتٍ أو حَىٍّ؛ لأنَّ النّائِبَ يَجْرِى مَجْرَى المَنُوب عنه. وإنِ اسْتَنابَ رَجُلَيْن في حَجَّةِ الإِسْلامِ، ومَنْذُورٍ أو تَطَوُّعٍ، فأَيُّهما سَبَق بالإِحْرامِ، وَقَعَتْ حَجَّتُه عن حَجَّةِ الإِسْلامِ] (¬1). [وَتقَعُ الأُخْرَى عن المَنْذُورِ، أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّه لا يَقَعُ الإِحْرامُ عن غيرِ حَجَّةِ الإِسْلامِ مِمَّن هى عليه، فكذلك مِن نائِبه] (¬2). فصل: وإذا كان الرجلُ قد أسْقَطَ فَرْضَ أحَدِ النُّسُكَيْن عنه، جاز أن يَنُوبَ عن غيرِه فيه دُونَ الآخَرِ. وليس للصَّبِيِّ والعبدِ أن يَنُوبا في الحَجِّ عن غيرِهما؛ لأنَّهما لم يُسْقِطا عن أنفُسِهما، فهما كالحُرِّ البالغِ في ذلك. ويَحْتَمِلُ أنَّ لهما النِّيابَةَ في حَجِّ التَّطَوُّعِ دُونَ الفَرْضِ؛ لأنَّهُما مِن أهْلِ التَّطَوُّعِ دُونَ الفَرْضِ، ولا يُمْكِنُ أن تَقَعَ الحَجَّةُ التى نابا فيها عن فَرْضِهما (¬3)، لكَوْنِهما ليسا مِن أهْلِه، فبَقِيَتْ لمن (¬4) فُعِلَتْ عنه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فرضها». (¬4) في الأصل: «إن».

1146 - مسألة: (وهل يجوز لمن يقدر على الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أنْ يَسْتَنِيبَ فِى حَجِّ التَّطَوُّعِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1146 - مسألة: (وهل يَجُوزُ لمَن يَقْدِرُ على الحَجِّ بنَفْسِه أن يَسْتَنِيبَ في حَجِّ التَّطَوُّعِ؟ على رِوايَتَيْنِ) الاسْتِنَابَةُ في حَجِّ التَّطَوُّعِ تَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ؛ أحَدُها، أن يَكُون ممَّن لم يُؤدِّ حَجَّةَ الإسْلامِ، فلا يَصِحُّ أن يَسْتَنِيبَ في حَجِّ التَّطَوُّعِ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ أن يَفْعَلَه بنَفْسِه، فبنائِبه أوْلَى. الثّانِى، أن يَكُونَ ممَّن قد أدَّى حَجَّةَ الإِسْلامِ، وهو عاجِزٌ عن الحَجَّ بنَفْسِه، فيَجُوزُ أن يَسْتَنِيبَ في التَّطَوُّعِ، فإنَّ ما جازَتْ الاسْتِنابَةُ في فرْضِه، جازَتْ في نَفْلِه، كالصَّدَقَةِ. الثّالِثُ، أن يَكُونَ قادِرًا على الحَجِّ، وقد أسْقَطَ فَرْضَه، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما (¬1)، يَجُوزُ. وهو قولُ أبِى حنيفةَ؛ لأنَّها حَجَّةٌ لا تَلْزَمُه بنَفْسِه، فجاز أن يَسْتَنِيبَ فيها، ¬

(¬1) في الأصل: «أحدها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَعْضُوبِ. والثّانِيَةُ، لا يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه قادِرٌ على الحَجِّ بنَفْسِه، فلم يَجُزْ أن يَسْتَنِيبَ فيه، كالفَرْضِ. فصل: فإن عَجَز عنه عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوالِ، كالمَريضِ الذى يُرْجَى بُرْؤه، والمَحْبُوسِ، جاز أن يَستَنِيبَ فيه؛ لأنَّه حَجٌّ لا يَلْزَمُه، عَجَز عن فِعْلِه بنَفْسِه، فجاز له (¬1) أن يَسْتَنِيبَ فيه، كالشَّيْخِ الكَبِيرِ. والفَرْقُ بينَه وبينَ الفَرْضِ، أنَّ الفَرْضَ عِبادَةُ العُمُرِ، فلا يَفُوتُ بتَأْخِيرِه عن هذا العام، والتَّطَوُّعَ مَشْرُوعٌ في كلِّ عامٍ، فيَفُوتُ حَجُّ هذا العامِ بتَأْخِيرِه، ولأنَّ حَجَّ الفَرْضِ إذا ماتَ قبلَ فِعْلِه فُعِلَ عنه بعدَ مَوْتِه، بخِلافِ التَّطَوُّعِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

باب المواقيت

بَابُ الْمَوَاقِيتِ وَمِيقَاتُ أهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَأهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المَواقيتِ 1147 - مسألة: (مِيقاتُ أهْلِ المَدِينَةِ مِن ذِى الحُلَيْفَةِ، وأهْلِ الشّامِ ومِصْرَ والمَغْرِبِ الجُحْفَةُ، وأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ، وأهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وأهْلِ المَشْرِقِ ذاتُ عِرْقٍ) للحَجِّ مِيقاتان؛ مِيقاتُ زمانٍ، ومِيقاتُ مَكانٍ؛ فأمّا مَواقِيتُ المَكانِ فهى الخَمْسَةُ المَذْكُورَةُ، وقد أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أرْبَعَةٍ منها، وهى: ذُو الحُلَيْفَةِ (¬1)، والجُحْفَةُ (¬2)، وقَرْنٌ (¬3)، ويَلمْلَمُ (¬4)، واتَّفَقَ أئِمَّةُ النَّقْلِ على صِحَّةِ الحديثِ عن النبىِّ ¬

(¬1) ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة. معجم البلدان 2/ 324. (¬2) الجحفة: قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل. معجم البلدان 2/ 35. (¬3) قال القاضى عياض: قرن المنازل وهو قرن الثعالب، بسكون الراء، ميقات أهل نجد، تلقاء مكة، على يوم وليلة. انظر الكلام فيه في معجم البلدان 4/ 71، 72. (¬4) يلملم: موضع على ليلتين من مكة. معجم البلدان 4/ 1025.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - فيها، فرَوَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: وَقَّتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولأهْلِ الشّام الجُحْفَةَ، ولأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ. قال: «فهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَىِ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ مُهَلُّهُ منْ أهْلِهِ، وَكَذَلكَ أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا». وعن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الحُلَيْفَةِ، وأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ». قالَ ابنُ عُمَرَ: وذُكِرَ لى ولم أسْمَعْه أنَّه قالَ: «وَأهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وذاتُ عِرْقٍ (¬2) ¬

(¬1) أخرج الأول البخارى، في: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، وباب مهل أهل الشام، وباب مهل من كان دون المواقيت، وباب مهل أهل اليمن، وباب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 165، 166، 3/ 21. ومسلم، في: باب مواقيت الحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 838، 839. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 403. والنسائي، في: باب ميقات أهل اليمن، وباب من كان أهله دون الميقات، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 94، 95، 96. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 238، 249، 252، 332، 339. وأخرج الثانى البخارى، في: باب ميقات أهل المدينة، وباب مهل أهل نجد، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 165، 166. ومسلم، في: باب مواقيت الحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 839، 840. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 403. والنسائي، في: باب ميقات أهل المدينة، وباب ميقات أهل الشام، وباب ميقات أهل نجد، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 93، 95. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 11، 48، 55، 65، 151. (¬2) ذات عرق: هى الحد بين نجد وتهامة. معجم البلدان 3/ 651.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِيقاتُ أهْلِ المَشْرقِ، في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، منهم؛ مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ إحْرامَ العراقِىِّ مِن ذاتِ عِرْقٍ إحْرامٌ مِن المِيقاتِ. وقد رُوِىَ عن أنَسٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه كان يُحْرِمُ مِن العَقِيقِ (¬2). واسْتَحْسَنَه الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ. وكان الحسنُ بنُ صالِحٍ يُحْرِمُ مِن الرَّبَذَةِ (¬3). ورُوِىَ ذلك عن خُصَيْفٍ (¬4)، والقاسِمِ بن عبدِ الرحمنِ. وروَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ المشْرِقِ العَقِيقَ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬5): هو حديثٌ حسنٌ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬6): هو أوْلَى وأحْوَطُ مِن ذاتِ عِرْقٍ، وذاتُ عِرْقٍ مِيقاتُهم بإجْماعٍ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في مَن وَقَّتَ ذاتَ عِرْقٍ، فرَوَي أبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬7)، وغيرُهما ¬

(¬1) انظر: الاستذكار 11/ 76. (¬2) العقيق: واد عليه أموال أهل المدينة، ومهل أهل العراق هو الذى ببطن وادى ذى الحليفة. معجم البلدان 3/ 701. (¬3) الربذة: من قرى المدينة عل ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق. معجم البلدان 2/ 748، 749. (¬4) في م: «حصين»، وفى الأصل: «حصيف»، وفى المغنى 5/ 57: «خصيف». ولعله خصيف بن عبد الرحمن الجزرى، حيث ترجم له الذهبي بقوله: الإمام الفقيه. . . . إلخ. سير أعلام النبلاء 6/ 145، 146 (¬5) في: باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 50، 51. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 440. (¬6) انظر: الاستذكار 11/ 79. (¬7) أخرجه أبو داود، في: باب في المواقيت، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 404. والنسائي، في: باب ميقات أهل مصر، وباب ميقات أهل العراق، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 94، 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِهم عن عائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ العِراقِ ذاتَ عِرْقٍ. وعن أبِى الزُّبَيْرِ، أنَّه سَمِعَ جابِرًا سُئِل عن المُهَلِّ؟ فقالَ: سَمِعْتُه - أحْسَبُه رَفَع إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مُهَلُّ أهْلِ الْمَدِينَةِ مِن ذىِ الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الآخَرُ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ». رَواه مسلمٌ (¬1). وقال قومٌ آخَرُون: إنَّما وَقَّتَها عُمَرُ، رَضِىَ اللهُ عنه، فرَوَى البخاريُّ (¬2)، بإسْنادِه، عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، قال: لَمّا فُتِحَ هذان المِصْرانِ، أَتَوْا عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، فقالُوا: يا أمِيرَ المُؤْمِنين، إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ (¬3) عن طرِيقِنا، وإنَّا إن أرَدْنا قَرْنًا شَقَّ علينا. ¬

(¬1) في: باب مواقيت الحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 841. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب مواقيت أهل الآفاق، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 972، 973 بنحوه. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 333، 336. (¬2) في: باب ذات عرق لأهل العراق، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 166. (¬3) أى مائل.

1148 - مسألة: (فهذه المواقيت لأهلها، ولمن مر عليها من غيرهم)

وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا، وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: انْظُرُوا حَذْوَها مِن طَرِيقِكُم. فحَدَّ لهم ذاتَ عِرْقٍ. ويَجُوزُ أن يَكُونَ عُمَرُ ومَن سَألَه لم يَعْلَمُوا تَوْقِيتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ عِرْقٍ، فقالَ ذلك برَأْيِه، فأصابَ ما وَقَّتَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان مُوَفَّقًا للصَّوابِ، رَضِىَ اللهُ عنه. وإذا ثَبَت تَوْقِيتُها عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن عُمَرَ، فالإِحْرامُ منه أوْلَى. فصل: وإذا كان المِيقاتُ قَرْيَةً، فانْتَقَلَتْ إلى مَكانٍ آخَرَ، فمَوْضِعُ الإِحْرامِ مِن الأُولَى وإنِ انْتَقَلَ الاسْمُ إلى الثّانِيَةِ؛ لأنَّ الحُكْمَ تَعَلَّقَ بذلك المَوْضِعِ، فلا يَزُولُ بخَرابِه. وِقد رَأى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ رجلًا يُريدُ أن يُحْرِمَ مِن ذاتِ عِرْقٍ، فأخَذَه حتى خرَج مِن البُيُوتِ، وَقَطَع الوادِىَ، فأَتَى به المَقابِرَ، فقال: هذه ذاتُ عِرْقٍ الأُولَى. 1148 - مسألة: (فهذه المواقِيتُ لأهْلِها، ولمَن مَرَّ عليها مِن غيرِهم) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن سَلَكْ طَرِيقًا فيها مِيقاتٌ، فهو مِيقاتُه إن أرادَ الحَجَّ أو العُمْرَةَ، فإذا حَجَّ الشّامِىُّ مِن المَدِينَةِ فمَرَّ بذِى الحُلَيْفَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهى مِيقاتُه، وإن حَجَّ مِن اليَمَنِ، فمِيقاتُه يَلَمْلَمُ، وإن حَجَّ مِن العِراقِ فمِيقاتُه ذاتُ عِرْقٍ. وهكذا كلُّ مَن مَرَّ على مِيقاتٍ غيرِ مِيقاتِ بَلَدِه صار مِيقاتًا له. سُئِلَ الإِمامُ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ تعالى، عن الشّامِىِّ يَمُرُّ بالمَدِينَةِ يُرِيدُ الحَجَّ، مِن أين يُهِلُّ؟ قال: مِن ذِى الحُلَيْفَةِ. قِيلَ: فإنَّ بَعْضَ النّاسِ يَقُولُ (¬1): يُهِلُّ مِن مِيقاتِه، مِن الجُحْفَةِ. فقالَ: سبحان اللهِ! أليس يَرْوِى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ» (¬2). وهذا قولُ الشافعىِّ، وإسْحاقَ. وقال أبو ثَوْرٍ في الشّامِىِّ يُحْرِمُ بالمَدِينَةِ: له أن يُحْرِمَ مِن الجُحْفَةِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْىِ. وكانَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، إذا أرادَتِ الحَجَّ أحْرَمَتْ مِن ذِى الحُلَيْفَةِ، وإذا أرادَتِ العُمْرَةَ أحْرَمَتْ مِن الجُحْفَةِ (¬3). ولَعَلَّهُم يَحْتَجُّون بأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ». ولأنَّه مِيقاتٌ، فلم يَجُزْ تَجاوُزُه بغيرِ إحْرام لمَن يُريدُ النُّسُكَ، كسائِرِ المَواقِيتِ. وخَبَرُهم أُرِيدَ به مَن لم يَمُرَّ على مِيقاتٍ آخَرَ، بدَلِيلِ ما لو مَرَّ بمِيقاتٍ غيرِ ذِى الحُلَيْفَةِ، لم يَجُزْ تَجاوُزُه بغيرِ إحْرامٍ، بغيرِ خِلافٍ. ¬

(¬1) في م: «يقولون». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 104. (¬3) انظر: الاستذكار 11/ 84.

1149 - مسألة: (ومن منزله دون الميقات، فميقاته من

وَمَنْ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد روَى سعيدٌ، عن سُفْيانَ، عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبِيهِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لمَن ساحَلَ مِن أهْلِ الشّامِ الجُحْفَةَ. والحَجُّ والعُمْرَةُ سَواءٌ في هذا؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَهُنّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ حَجًّا أوْ عُمْرَةً». فصل: فإن مَرَّ مِن غيرِ طَرِيقِ ذِى الحُلَيْفَةِ، فمِيقاتُه الجُحْفَةُ، سَواءٌ كان شامِيًّا أو مَدَنِيًّا؛ لِما روَى أبو الزُّبَيْرِ، أنَّه سَمِع جابِرًا يُسْألُ عن المُهَلِّ، فقالَ: سَمِعْتُه، أحْسَبُه رَفع إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «مُهَلُّ أهْلِ المَدِينَةِ مِنْ ذى الحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الآخَرُ مِنَ الجُحْفَةِ». رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّهَ مَرَّ على أحَدِ المَواقِيتِ دُونَ غيرِه، فلم يَلْزَمْه الإِحْرامُ قبلَه، كسائِرِ المَواقِيتِ. ولَعَلَّ أبا قَتادَةَ حينَ أحْرَمَ أصحابُه دُونَه - في قِصَّةِ صَيْدِ الحِمارِ الوَحْشِىِّ - إنَّما تَرَك الإِحْرامَ؛ لأنَّه لم يَمُرَّ على ذِى الحُلَيْفَةِ، فأخَّرَ إحْرامَه إلى الجُحْفَةِ. ويُمْكِنُ حَمْلُ حديثِ عائِشَةَ في تَأْخِيرِها إحْرامَ العُمْرَةِ إلى الجُحْفَةِ على هذا، وأنَّها لا تَمُرُّ في طَرِيقِها على ذِى الحُلَيْفَةِ، لِئَلَّا يَكُونَ فِعْلُها مُخالِفًا لقَولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. 1149 - مسألة: (ومَن مَنْزِلُه دُونَ المِيقاتِ، فمِيقاتُه مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 106.

1150 - مسألة: (وأهل مكة إذا أرادوا العمرة، فمن الحل، وإن

وَأَهْلُ مَكَّةَ إِذَا أَرَادُوا الْعُمْرَةَ، فَمِنَ الْحِلِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْضِعِه) يَعْنِى إذا كان مَسْكَنُه أقْرَبَ إلى مَكَّةَ مِن المِيقاتِ، كان مِيقاتُه مَسْكَنَه. هذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، منهم؛ مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وعن مُجاهِدٍ، قال: يُهِلُّ مِن مَكَّةَ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال في حديثِ ابنِ عباسٍ: «فَمَنْ كَانَ دُونهُنَّ مُهَلُّهُ مِنْ أهْلِهِ». وهذا صَرِيحٌ، فالعَمَلُ به أوْلَى. فصل: إذا كانْ مَسْكَنُه قَرْيَةً، فالأفْضَلُ أن يُحْرِمَ مِن أْبْعدِ جانِبَيْها. وإن أحْرَمَ مِن أقْرَبِ جانِبَيْها، جاز. وهكذا القولُ في المواقِيتِ التى وَقَّتَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذا كانت قَرِيبَةً. والحِلَّةُ (¬1) كالقَرْيَةِ، فيما ذَكَرْنا. وإن كان مَسْكَنُه مُنْفَرِدًا، فمِيقاتُه مَسْكَنُه أو حَذْوُه، وكلُّ مِيقاتٍ فحَذْوُه بمَنْزِلَتِه. ثم إن كان مَسْكَنُه في الحِلِّ، فإحْرامُه منه للحَجِّ والعُمْرَةِ مَعًا، وإن كان في الحَرَمِ، فإحْرامُه للعُمْرَةِ مِن الحِلِّ؛ لِيَجْمَعَ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، كالمَكِّىِّ، وأمّا الحَجُّ فيَنْبَغِى أن يَجُوزَ له الإِحْرامُ مِن أىِّ الحَرَمِ شاء، كالمَكِّىِّ. 1150 - مسألة: (وأهْلُ مَكَّةَ إذا أرادُوا العُمْرَةَ، فمِن الحِلِّ، وإن ¬

(¬1) الحلة، بكسر الحاء: القوم النازلون، وتطلق على البيوت مجازًا، وهي مائة بيت فأكثر. المصباح المنير 1/ 179.

وَإِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ، فَمِنْ مَكَّةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرادُوا الحَجَّ، فمِن مَكَّةَ) أهْلُ مَكَّةَ، مَن كان بها؛ سَواءٌ كان مُقِيمًا بها، أو غيرَ مُقِيمٍ؛ لأنَّ كلَّ مَن أتَى على مِيقاتٍ كان مِيقاتًا له؛ لِما ذَكَرْنا، فكذلك كلُّ مَن كان بمَكَّةَ فهى مِيقاتُه للحَجِّ. وإن أرادَ العُمْرَةَ، فمِن الحِلِّ. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ولذلك أمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرَّحمنِ بنَ أبى بَكْرٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أن يُعْمِرَ عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، مِن التَّنْعِيمِ (¬1). وكانت بمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ، وهذا لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى أَهْلُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كيف تهل الحائض والنفساء. . . .، وباب طواف القارن، من كتاب الحج، وفى: باب حجة الوداع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 172، 191، 192، 5/ 221. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 874 - 881. وأبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 412 - 414. والنسائي، في: باب في المهلة بالعمرة تحيض وتخاف فوت الحج، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 128، 129. والإمام أحمد، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» (¬1). يَعْنى للحَجِّ. وقال أيضًا: «وَمَنْ كَانَ أهْلُهُ دُونَ المِيقَاتِ فَمِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ (¬2)، حَتَّى يَأْتِىَ ذلِكَ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ». وهذا في الحَجِّ. فأمّا في العُمْرَةِ فمِيقاتُها في حَقِّهم الحِلُّ، مِن أىِّ جَوانِبِ الحَرَمِ شاءَ؛ لحَدِيثِ عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، حينَ أعْمَرَها مِن التَّنْعِيم، وهو أدْنَى الحِلِّ. قال ابنُ سِيرِينَ: بَلَغَنِى أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ (¬3). وقال ابنُ عباسٍ: يا أهْلَ مَكَّةَ، مَن أتَى منكم العُمْرَةَ، فَلْيَجْعَلْ بينَه وبينَها بَطْنَ مُحَسِّرٍ (¬4). يَعْنِى إذا أحْرَمَ بها مِن ناحِيَةِ المُزْدَلِفَةِ. وإنَّما لَزِم الإِحْرامُ مِن الحِلِّ ليَجْمَعَ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، فإنَّه لو أحْرَمَ مِن الحَرَمِ، لَمَا جَمَع بينَهما فيه؛ لأنَّ أفْعالَ العُمْرَةِ كلَّها في الحَرَمِ، بخِلافِ الحَجِّ، فإنَّه يَفْتَقِرُ إلى الخُرُوجِ إلى عَرَفَةَ؛ ليُجْمَعَ له الحِلُّ والحَرَمُ. ومِن أىِّ الحِلِّ أحْرَمَ، جازَ. وإنَّما أعْمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، مِن التَّنْعِيمَ؛ لأنَّه أقْرَبُ الحِلِّ إلى مَكَّةَ. ¬

= المسند 3/ 309، 394 عن جابر، وفى: 6/ 243 عن عائشة. (¬1) تقدم تخريجه في صفحة 104. (¬2) في الأصل: «يمشى». (¬3) أخرجه أبو داود في المراسيل 121. (¬4) بطن مُحَسَّر: هو وادى المزدلفة. معجم البلدان 1/ 667.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد رُوِىَ عن الإِمامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ تعالى، في المَكِّىِّ: كلَّما تَباعَدَ في العُمْرَةِ فهو أعْظَمُ للأجْرِ، علىْ قَدْرِ تَعَبِها. وأمّا إذا أرادَ المَكِّى الإِحْرامَ بالحَجِّ، فمِن مَكَّةَ؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ، ولأنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا فَسَخُوا الحَجَّ، أمرَهُم فأحْرَمُوا مِن مَكَّةَ. قال جابِرٌ، رَضِىَ اللهُ عنه: أمَرَنا النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُحْرِمَ إذا تَوَجَّهْنا مِن الأبطَحِ. رَواه مسلمٌ (¬1). وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا فَرْقَ بينَ قاطِنِى مَكَّةَ وغيرِهم مِمَّن هو بها، كالمُتَمتِّعِ إذا حَلَّ، ومَن فَسَخ حَجَّهُ بها. ونُقِلَ عن الإِمامِ أحمدَ، رَحِمه اللهُ تعالى، في مَن اعْتَمَر في أشْهُرِ الحَجِّ مِن أهْلِ مَكَّةَ، أنَّه يُهِلُّ بالحَجِّ مِن المِيقاتِ، فإنْ لم يَفْعَلْ، فعليه دَمٌ. والصَّحِيحُ ما ذَكَرْنا أوَّلًا، وقد دُلَّتْ عليه الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ إنَّما أرادَ أن الدَّمَ يَسْقُطُ عنه إذا خَرَج إلى المِيقاتِ فأحْرَمَ، ولا يَسْقُطُ إذا أحْرَمَ مِن مَكَّةَ. وهذا في غيرِ المَكِّيِّ، أمّا المَكِّيُّ فلا يَجِبُ عليه دَمُ مُتْعَةٍ بحالٍ؛ لقولِه تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬2). وذَكَر القاضى، في مَن دَخَل مَكَّةَ يَحُجُّ عن غيرِه، ثم أرادَ أن يَعْتَمِرَ بعدَه لنَفْسِه، أو بالعَكْسِ، ¬

(¬1) في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 882. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 318، 378. (¬2) سورة البقرة 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو دَخَل بعُمْرَةٍ لنَفْسِه، ثم أرادَ أن يَحُجَّ أو يَعْتَمِرَ لغيرِه، أو دَخَل بعُمْرَةٍ لغيرِه، ثم أرادَ أن يَحُجَّ أو يَعْتَمِرَ لنَفْسِه، أنَّه في جَمِيعِ ذلك يَخْرُجُ إلى المِيقاتِ، فيُحْرِمُ منه، فإن لم يَفْعَلْ، فعليه دَمٌ. قال: وقد قال الإِمامُ أحمدُ، في رِوايَةِ عبدِ اللهِ: إذا اعْتَمَر عن غيرِه، ثم أرادَ الحَجَّ لنَفْسِه، يَخْرُجُ إلى المِيقاتِ، أو اعْتَمَرَ عن نَفْسِه يَخْرُجُ إلى المِيقاتِ، فإن دَخَل مَكَّةَ بغَيْرِ إحْرامٍ، ثم أرادَ الحَجَّ يَخْرُجُ إلى المِيقاتِ. واحْتَجَّ له القاضِى، بأنَّه جاوَزَ المِيقاتَ مُرِيدًا للنُّسُكِ، غيرَ مُحْرِمٍ لنَفْسِه، فَلزِمَه دَمٌ إذا أحْرَمَ دُونَه، كمَن جاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ. وعلى هذا لو حَجَّ عن شَخْصٍ واعْتَمَرَ عن آخَرَ، أو اعْتَمَرَ عن إنْسانٍ ثم حَجَّ أو اعْتَمَرَ عن آخَرَ، فكذلك. والذى ذَكَرَه شيخُنا (¬1) رَحِمَه اللهُ تعالى، أنَّه لا يَلْزَمُه الخُرُوجُ إلى الِمِيقاتِ في هذا كلِّه. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، رَحِمَه اللهُ تعالى؛ لِما ذَكَرْنا؛ لأنَّ كلَّ مَن كان بمَكَّةَ، كالقاطِنِ بها، وهذا قد حَصَل بمَكَّة حَلالًا، على وَجْهٍ مُباحٍ، فأشْبَهَ المَكِّىَّ. وما ذَكَرَه القاضى تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ، والمَعْنَى الذى ذَكَرَه لا يَصِحُّ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّه لا يَلْزَمُ أن يَكُونَ مُرِيدًا للنُّسُكِ لنَفْسِه حالَ مُجاوَزَتِه المِيقاتَ؛ لأنَّه قد يَبْدُو له بعدَ ذلك. الثّانِى، أنَّ هذا لا يَتَناوَلُ مَن أحْرَمَ عن غيرِه. الثّالِثُ، أنَّه لو وَجَب بهذا الخُرُوجُ إلى المِيقاتِ، للَزِمَ المُتَمَتِّعَ والمُفْرِدَ؛ لأنَّهما جاوزَا المِيقاتَ غيرَ ¬

(¬1) انظر المغني 5/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُريدَيْن للنُّسُكِ الذى أحْرَما به. الرّابعُ، أنَّ المَعْنَى في الذى تَجاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، أنَّه فَعَل ما لا يَحِلُّ له فِعْلُه، وتَرَك الإِحْرامَ الواجِبَ عليه في مَوْضِعِه، فأحْرَمَ مِن دُونِه. فصل: ومِن أىِّ الحَرَمِ أحْرَمَ بالحَجِّ، جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ مِن الإِحْرامِ به منه (¬1) الجَمْعُ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، وهو حاصِلٌ بالإِحْرامِ مِن أيِّ مَوْضِعٍ كان مِن الحَرَم، فجاز، كما يَجُوزُ الإحْرامُ بالعُمْرَةِ مِن أىِّ مَوْضِعٍ كانَ مِن الحِلِّ، وكَذلك قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه في حَجَّةِ الوَداعِ: «إذَا أرَدْتُمْ أنْ تَنْطَلِقُوا إلَى مِنًى، فأَهِلُّوا مِنَ الْبَطْحَاءِ» (¬2). ولأنَّ ما اعْتُبِرَ فيه الحَرَمُ اسْتَوَتِ البَلْدَةُ وغيرُها فيه، كالنَّحْرِ. فصل: وإن أحْرَمَ بالحَجِّ مِن الحِلِّ الذى يَلِى المَوْقِفَ، فعليه دَمٌ؛ ¬

(¬1) في م: «عنه». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 882. والبيهقي، في: باب ما يستحب من الإهلال عند التوجه. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 31. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 318، 319.

1151 - مسألة: (ومن لم يكن طريقه على ميقات، فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه، أحرم)

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ عَلَى مِيقَاتٍ، فَإِذَا حَاذَى أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إِلَيْهِ، أَحْرَمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه أحْرَمَ مِن دُونِ المِيقاتِ، وإن أحْرَمَ مِن الجانِبِ الآخَرِ، ثم سَلَك الحَرَمَ، فلا شئَ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن أحْرَمَ بالحَجِّ مِن التَّنْعِيمِ، فقالَ: ليس عليه شئٌ. لأنَّه أحْرَمَ قبلَ مِيقاتِه، [فكانَ كالمُحْرِمِ] (¬1) قبلَ بَقِيَّةِ المَواقِيتِ. وإن لم يَسْلُكِ الحَرَمَ، فعليه دَمٌ؛ لكونِه لم يَجْمَعْ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ. 1151 - مسألة: (ومَن لم يَكُنْ طَرِيقُه على مِيقاتٍ، فإذا حاذَى أقْرَبَ المَواقِيتِ إليه، أحْرَمَ) ومَن سَلَك طَرِيقًا بينَ مِيقاتَيْن، اجْتَهَدَ حتى يَكُونَ إحْرامُه بحَذْوِ المِيقاتِ الذى هو أقْرَبُ إلى طَرِيقِه؛ لأنَّ أهْلَ العراقِ حينَ قالُوا لعُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه: إنَّ قَرْنًا جَوْرٌ عن طَريقِنا. قال: انْظُروا حَذْوَها مِن طَرِيقِكُم. فوَقَّتَ لهم ذاتَ عِرْقٍ (¬2). ولأنَّ هذا مِمّا يُعْرَفُ بالاجْتِهادِ والتَّقْدِيرِ، فإنِ اشْتَبَهَ دَخَلَه الاجْتِهادُ، كالقِبْلَةِ. وإن ¬

(¬1) في الأصل: «فأشبه المحرم». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 106.

1152 - مسألة: (ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام، إلا لقتال مباح، أو حاجة متكررة؛ كالحطاب ونحوه،

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّة تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ بِغيْرِ إِحْرَامٍ، إِلَّا لِقِتَالٍ مُبَاحٍ، أَوْ حَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ؛ كَالْحَطَّابِ وَنَحْوِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَعْرِفْ حَذْوَ المِيقاتِ المُقارِبِ لطَرِيقِه، احْتاطَ، فأحْرَمَ مِن بُعْدٍ، بحيث يَتَيَقَّنُ أنَّه لم يُجاوِزِ المِيقاتَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لأنَّ الإِحْرامَ قبلَ (¬1) المِيقاتِ جائِزٌ، وتَأْخِيرَه عنه غيرُ جائِزٍ، فالاحْتِياطُ فِعْلُ ما ذَكَرْنا. ولا يَلْزَمُه الإِحْرامُ حتى يَعْلَمَ أنَّه قد حاذاه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ وُجُوبِه، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ (¬2). فإن أحْرَمَ، ثم عَلِم بعدُ أنَّه قد جاوَزَ ما يُحاذِى المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، فعليه دَمٌ. وإن شَكَّ في أقْرَبِ المِيقاتَيْن إليه، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في المسألةِ قبلَها، فإن كانا مُتساوِيَيْن في القُرْبِ إليه أحْرَمَ مِن حَذْوِ أبْعَدِهما. 1152 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لِمَن أرادَ دُخُولَ مَكَّةَ تَجاوُزُ المِيقاتِ بغيرِ إحْرامٍ، إلَّا لقِتالٍ مُباحٍ، أو حاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ؛ كالحَطّابِ ونحوِه، ¬

(¬1) في الأصل: «من». (¬2) في م: «بالنسك».

ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ النُّسُكُ، أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم إن بَدا له النُّسُكُ، أحْرَمَ مِن مَوْضِعِه) مَن تَجاوَزَ المِيقاتَ مِمَّن لا يُرِيدُ النُّسُكَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ أحَدُهما، مَن لا يُرِيدُ دُخُولَ الحَرَمِ، فهذا لا يَلْزَمُه الإِحرامُ بغيرِ خِلافٍ، ولا شئَ عليه في تَرْكِه، فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه أتَوْا بَدْرًا مَرَّتَيْن، وكانُوا يُسافِرُون للجهادِ وغيرِه، فيَمُرُّون بذِى الحُلَيْفَةِ غيرَ مُحْرِمِين، ولا يَرَوْن بذلك بَأْسًا. فإن بَدَا لهذا الإِحْرامُ، أحْرَمَ مِن مَوْضِعِه، ولا شئَ عليه. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. وبه يَقُولُ مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وصاحِبا أبى حنيفةَ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن الإِمامِ أحمدَ، رَحِمَه الله تعالى، في الرجلِ يَخْرُجُ لحاجَةٍ وهو لا يُرِيدُ الحَجَّ، فجاوَزَ ذا الحُلَيْفَةِ، ثم أرادَ الحَجَّ: يَرْجِعُ إلى ذِى الحُلَيْفَةِ، فيُحْرِمُ. وبه قال إسْحاقُ؛ لأنَّه أحْرَمَ مِن دُونِ المِيقاتِ، فلَزِمَه الدَّمُ، كالذى يُرِيدُ دُخُولَ الحَرَم. والأوَّلُ أصَحُّ، وكَلامُ أحمدَ يُحْمَلُ على مَن يُجاوِزُ المِيقات، مِمَّن يَجِبُ عليه الإِحْرامُ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ أوِ العُمْرَةَ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه حَصَل دُونَ المِيقاتِ على وَجْهٍ مُباحٍ، فكانَ له الِإحْرامُ منه، كأهْلِ ذلك المَكانِ، ولأنَّ هذا القولَ يُفْضِى إلى أنَّ (¬1) مَن كان مَنْزِلُه دُونَ المِيقاتِ، إذا خَرَج إلى المِيقاتِ ثم عاد إلى مَنْزِلِه وأرادَ الإِحْرامَ، لَزِمَه الخُروجُ إلى المِيقاتِ، ولا قائِلَ به، ولأنَّه مُخالِفٌ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُه دُونَ المِيقَاتِ فَمُهَلُّهُ مِنْ أهْلِهِ». القِسْمُ الثّانِى، مَن يُرِيدُ دُخولَ الحَرَمِ إلى مَكَّةَ أو غَيرِها، وهم على ثَلاثَةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، مَن يَدْخُلُها لقتالٍ مُباحٍ، أو مِن خَوْفٍ، أو لحاجَةٍ؛ كالحَطّابِ، والحَشّاشِ، وناقِلِ المِيرَةِ (¬2)، والفَيْجِ (¬3)، ومَن كانَتْ له ضَيْعَةٌ يَتَكَرَّرُ دُخُولُه وخُرُوجُه إليها، فلا إحْرامَ عليهم؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل يومَ فَتْحِ مَكَّةَ حَلالًا وعلى رَأْسِه المِغْفَرُ، وكذلك أصحابُه، ولم يُعْلَمْ أنَّ أحَدًا منهمِ أحْرَمَ، ولأنَّا لو أوْجَبْنا الإِحْرامَ على مَن يَتَكَرَّرُ دُخُولُه أفْضَى إلى أن يَكُونَ في جَمِيعِ زَمَنِه مُحْرِمًا، فسَقَطَ للحَرَجِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ لأحَدٍ دُخُولُ الحَرَمِ بغيرِ إحْرامٍ، إلَّا مَن كان دُونَ المِيقاتِ؛ لأنَّه يُجاوِزُ المِيقاتَ مُرِيدًا للحَرَمِ، فلم يَجُزْ بغيرِ إحْرامٍ. ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) المِيرة: الطعام يجمع للسفر ونحوه. (¬3) في النسختين: «الفيح» بالحاء. والفيج: رسول السلطان على رجله، أو الذى يسعى بالكتب. ويأتي في الإنصاف في صفحة 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن النصِّ والمَعْنَى. وقد روَى التِّرْمِذِيُّ (¬1)، بإسْنادِه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل يومَ فَتْحِ مَكَّةَ، وعلى رَأْسِه عِمامَةٌ سَوْداءُ. وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ومتى أرادَ هذا النُّسُكَ بعدَ مُجاوَزَةِ المِيقاتِ، أحْرَمَ مِن مَوْضِعِه، كالقِسْمِ الذى قبلَه، وفيه مِن الخِلافِ ما فيه. الضَّرْبُ الثانِى، مَن لا يَجِبُ عليه الحَجُّ؛ كالعَبْدِ، والصَّبِىِّ، والكافِرِ إذا أسْلَمَ بعدَ تَجاوُزِ المِيقاتِ، أو عَتَقَ العَبْدُ، أو بَلَغ الصَّبِىُّ، وأرادُوا الإِحْرامَ، فإنَّهم يُحْرِمُون مِن مَوْضِعِهم، ولا دَمَ عليهم. وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ. وبه قال أصْحابُ الرَّأْىِ في الكافِرِ يُسْلِمُ، والصَّبِىِّ يَبْلُغُ، وقالُوا في العَبْدِ: عليه دَمٌ. وقال الشافعىُّ في جَمِيعِهم: على كلِّ واحِدٍ منهم دَمٌ. وعن أحمدَ، في الكافِرِ يُسْلِمُ، كقَوْلِه. واخْتارَها أبو بَكْرٍ. وقال القاضى: وهى أصَحُّ. ويَتَخَرَّجُ في الصَّبِىِّ والعَبْدِ كذلك؛ قِياسًا على الكافِرِ يُسْلِمُ؛ لأنَّهم تَجاوَزُوا المِيقاتَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الألوية، من أبواب الجهاد، وفى: باب ما جاء في العمامة السوداء، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 177، 243. كما أخرجه مسلم، في: باب جواز دخول مكة بغير إحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 990. وأبو داود، في: باب في العمائم، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 376. والنسائي، في: باب دخول مكة بغير إحرام، من كتاب المناسك، وفى: باب لبس العمائم السود، من كتاب الزينة. المجتبى 5/ 159، 8/ 186. وابن ماجه، في: باب لبس العمائم في الحرب، من كتاب الجهاد، وفى: باب العمامة السوداء، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 942، 1186. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 363، 387.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ إحْرامٍ، وأحْرَمُوا دُونَه، فوَجَبَ الدَّمُ، كالمُسْلِمِ البالِغِ العاقِلِ. ولَنا، أنَّهم أحْرَمُوا مِن المَوْضِعِ الذى وَجَب عليهم الإِحْرامُ منه، فأشْبَهُوا المَكِّىَّ ومَن قَرْيَتُه دُونَ المِيقاتِ إذا أحْرَمَ منها، وفارَقَ مَن يَجِبُ عليه الإِحْرامُ إذا تَرَكه؛ لأنَّه تَرَك الواجبَ عليه. الضَّرْبُ الثّالِثُ، المُكَلَّفُ الذي يَدْخُلُ لغيرِ قِتالٍ ولا حاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ، فلا يَجُوزُ له تَجاوُزُ المِيقاتِ غيرَ مُحْرِمٍ. وبه قال أبو حنيفةَ، وبعضُ أصحابِ الشافعىِّ. وقال بَعْضُهم: لا يَجِبُ الإِحْرامُ عليه. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على ذلك؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّه دَخَلَها بغيرِ إحْرامٍ (¬1). ولأنَّه أحَدُ الحَرَمَين أشْبَهَ (¬2) حرَمَ المَدِينَةِ، ولأنَّ الوُجُوبَ مِن الشّارِعِ، ولم يَرِدْ به إيجابُ ذلك على كلِّ داخِلٍ، فيَبْقَى على الأصْلِ. ولَنا، أنَّه لو نَذَر دُخُولَها، لَزِمَه الإِحْرامُ، ولو لم يَكُنْ واجِبًا لم يَجِبْ بنَذْرِ الدُّخُولِ، كسائِرِ البُلْدانِ. إذا ثَبَت ذلك، فمَتَى أرادَ الإِحْرامَ بعدَ تجاوُزِ المِيقاتِ، فالحُكْمُ فيه كمَن تَجاوَزَه مُرِيدًا لنُسُكٍ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من رخص في دخولها بغير إحرام، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 178. (¬2) في م: «شبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن دَخَل الحَرَمَ بغيرِ إحْرامٍ، مِمَّن يُرِيدُ الإِحْرامَ، فلا قَضاءَ عليه. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ عليه أن يَأْتِىَ بحَجٍّ أو عُمْرَةٍ، فإن أتَى بحَجَّةِ الإِسْلامِ في سَنَتِه، أو مَنْذُورَةٍ، أو عُمْرَةٍ (¬1)، أجْزَأه عن عُمْرَةِ الدُّخُولِ اسْتِحْسانًا؛ لأنَّ مُرُورَه على المِيقاتِ مُريدًا للحَرَمِ يُوجِبُ الإِحْرامَ، فإذا لم يَأْتِ به وَجَب قَضاؤه، كالنَّذْرِ. ولَنا، أنَّه مَشْرُوعٌ لتَحِيَّةِ البُقْعَةِ (¬2)، فإذا لم يَأْتِ به سَقَط، ¬

(¬1) في م: «أعمره». (¬2) في النسخ: «المنفعة» خطأ. وانظر المغنى 5/ 72.

1153 - مسألة: (ومن جاوزه مريدا للنسك)

وَمَنْ جَاوَزَهُ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ، رَجَعَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَإِنْ أحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ رَجَعَ مُحْرِمًا إِلَى الْمِيقَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتَحِيَّةِ المَسْجِدِ. فإن قِيلَ: تَحِيَّةُ المَسْجِدِ غيرُ واجِبَةٍ. قُلْنا: إلَّا أنَّ النَّوافِلَ المُرَتَّباتِ تُقْضَى، وإنَّما سَقَط القَضاءُ لِما ذَكَرْنا. فأمَّا إن تجاوَزَ المِيقاتَ، ورَجَع قبلَ دُخُولِ الحَرَمِ، فلا قَضاءَ عليهَ، بغيرِ خِلافٍ، سَواءٌ أرادَ النُّسُكَ أو لا. فصل: ومَن كان مَنْزِلُه دُونَ المِيقاتِ خارِجًا مِن الحَرَمِ، فحُكْمُه في مُجاوَزَةِ قَرْيَتِه إلى ما يَلِى الحَرَمَ حُكْمُ المُجاوِزِ للمِيقاتِ في الأحْوالِ الثَّلاثِ؛ لأنَّ مَوْضِعَه مِيقاتُه، فهو في حَقِّه كالمَواقِيتِ لأهْلِ الآفاقِ. 1153 - مسألة: (ومَن جاوَزَه مُرِيدًا للنُّسُكِ) غيرَ مُحْرِمٍ، (رَجَع) مِن المِيقاتِ (فأحْرَمَ منه، فإن أحْرَمَ مِن مَوْضِعِه، فعليه دَمٌ، وإن رَجَع إلى المِيقاتِ) وجُمْلَتُه أنَّ مَن جاوَزَ المِيقاتَ مُرِيدًا للنُّسُكِ غيرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحْرِمٍ، يَجِبُ عليه أن يَرْجِعَ إلى المِيقاتِ ليُحْرِمَ منه إذا أمْكَنَه؛ لأنَّه واجِبٌ أمْكَنَه فِعْلُه، فلَزِمَه، كسائِرِ (¬1) الوَاجِباتِ، وسَواءٌ تجاوَزَه عالِمًا به أو جاهلًا، عَلِم تَحْرِيمَ ذلك أو جَهِلَه. فإن رَجَع إليه فأحْرَمَ منه، فلا شَئَ عليه. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وبه قال جابِرُ بنُ زَيْدٍ، والحسنُ، وسعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ؛ لأنَّه أحْرَمَ مِن المِيقاتِ الذي أُمِرَ بالإِحْرامِ منه، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو لم يَتَجاوَزْه. وإن أحْرَمَ مِن دُونِ المِيقاتِ فعليه دَمٌ، سَواءٌ رَجَع إلى المِيقاتِ أو لم يَرْجِعْ. وبه قال مالكٌ، وابنُ المبارَكِ. وظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ، أنَّه إن رَجَع إلى المِيقاتِ فلا دَمَ عليه، إلَّا أن يَكُونَ قد تَلَبَّسَ بشئٍ مِن أفْعالِ الحَجِّ؛ كالوُقُوفِ، وطَوافِ القُدُومِ، فيَسْتَقِرُّ الدَّمُ عليه. قالوا: لأنَّه حَصَل مُحْرِمًا في المِيقاتِ قبلَ التَّلَبُّسِ بأفْعالِ الحَجِّ، فلم يَلْزَمْه دَمٌ، كما لو أحْرَمَ منه (¬2). وعن أبى ¬

(¬1) في م: «كسائه». (¬2) في م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ: إن رَجَع إلى المِيقاتِ فلَبَّى سَقَط عنه الدَّمُ، وإن لمِ يُلَبِّ لم يَسْقُطْ عنه. وعن عطاءٍ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ: لا شئَ على مَن ترَك المِيقاتَ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ». رُوِىَ مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا (¬1). ولأنَّه أحْرَمَ دُونَ مِيقاتِه، واسْتَقَرَّ عليه الدَّمُ، كما لو لم يَرْجِعْ، أو كما لو طاف، عندَ الشافعىِّ، وكما لو لم يُلَبِّ، عندَ أبي حنيفةَ. ولأنَّ الدَّمَ وَجَب بتَرْكِه الإِحرامَ مِن المِيقاتِ، ولا يَزولُ هذا برُجُوعِه ولا بتَلْبِيَتِه؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ ما وَجَب، وفارَقَ ما إذا رَجَع قبلَ إحْرامِه فأحْرَمَ منه، فإنَّه لم يَتْرُكِ الإِحْرامَ منه، ولم يَهْتِكْه. فصل: ولو أفْسَدَ المُحْرِمُ مِن دُونِ المِيقاتِ حَجَّه، لم يَسْقُطْ عنه الدَّمُ. وبه قال الشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) الموقوف أخرجه الإمام مالك، في: باب ما يفعل من نسى من نسكه شيئا، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 419. والدارقطنى في سننه 2/ 244. والبيهقى، في: باب من مرَّ بالميقات يريد حجًّا أو عمرة. . . .، وباب من ترك شيئًا من الرمى. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 30، 152. والمرفوع عزاه ابن حجر، في: كتاب المواقيت، من كتاب الحج، لابن حزم. تلخيص الحبير 2/ 229.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ: يَسْقُطُ؛ لأنَّ القَضاءَ واجِبٌ. ولَنا، أنَّه وَجَب عليه بمُوجِبِ هذا الإِحْرامِ، فلم يَسْقُطْ بوُجُوبِ القَضاءِ، كبَقِيَّةِ المَناسِكِ، وكجزَاءِ الصَّيْدِ. فصل: وإن جاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، وخَشِىَ إن رَجَع إلى المِيقاتِ فَواتَ الحَجِّ، جاز أن يُحْرِمَ مِن مَوْضِعِه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، ويُجْزِئُه الحَجُّ. إلَّا أنَّه رُوِىَ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: مَن تَرَك المِيقاتَ فلا حَجَّ له. والأوَّلُ مَذْهَبُ الجُمْهورِ؛ لأنَّه لو كان مِن أرْكانِ الحَجِّ، لم يَخْتَلِفْ باخْتِلافِ النّاسِ والأماكِنَ، كالوُقُوفِ والطَّوافِ. وإذا أحْرَمَ مِن دُونِ المِيقاتِ عندَ خوْفِ الفَواتِ، فعليه دَمٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا عندَ مَن أوْجَبَ الإِحْرامَ مِن المِيقاتِ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ. وإنَّما أبَحْنا له الإِحْرامَ مِن مَوْضِعِه؛ مُراعاةً لإِدْراكِ الحَجِّ، فإنَّ مُراعاةَ ذلك أوْلَى مِن مُراعاةِ واجِبٍ فيه مع فَواتِه، ومَن لم يُمْكِنْه الرُّجُوعُ، لعَدَمِ الرُّفْقَةِ، أو الخَوْفِ مِن عَدُوٍّ أو لِصٍّ أو مَرَضٍ، أو لا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ، ونحْوِ هذا مِمّا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فهو كالخائِفِ الفَواتَ، في أنَّه يُحْرِمُ مِن مَوْضِعِه، وعليه دَمٌ.

1154 - مسألة: (والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته، ولا يحرم بالحج قبل أشهره، فإن فعل فهو محرم)

وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يُحْرِمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ، وَلَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ [62 ظ] مُحْرِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1154 - مسألة: (والاخْتِيارُ أن لا يُحْرِمَ قبلَ مِيقاتِه، ولا يُحْرِمَ بالحَجِّ قبلَ أشْهُرِه، فإن فَعَل فهو مُحْرِمٌ) الأفْضلُ الإِحْرامُ مِن المِيقاتِ، ويُكْرَهُ قبلَه. رُوِىَ نَحْوُ ذلك عن عُمَرَ، وعثمانَ، رَضِىَ الله عَنهما. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، ومالكٌ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: الأفْضلُ الإِحْرامُ مِن بَلَدِه. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. وكان عَلْقَمَةُ، والأسْوَدُ، وعبدُ الرحمنِ يُحْرِمُون مِن بُيُوتِهم. واحْتَجُّوا بما رَوت أُمُّ سَلَمَةَ، زَوْجُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّها سَمِعَت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أوْ عُمْرةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى إلَى الْمَسْجدِ الْحَرَامِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ - أو - وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ». شَكَّ عبدُ اللهِ أيَّتَهما قال. رَواه أبو داودَ (¬1). وأحْرَمَ ابنُ عُمَرَ من إيليَاءَ (¬2). وروَى النَّسائِيُّ، ¬

(¬1) في: باب في المواقيت، من كتاب الحج. سنن أبي داود 1/ 404. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 299. (¬2) إيلياء: مدينة القدس. وأخرجه الإمام مالك، في: باب مواقيت الإهلال بالحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 331. والبيهقى، في: باب فضل من أهل من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 30. والإمام الشافعى، في: باب الإهلال من دون الميقات، من كتاب اختلاف مالك. الأم 7/ 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو داودَ (¬1)، بإسْنادِهِما. عن الصُّبَىِّ (¬2) بنِ مَعْبَدٍ، قال: أهْلَلْتُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ، فَلمَّا أتَيْتُ العُذَيْبَ لَقِيَنِى سَلْمانُ بنُ رَبِيعَةَ، وزَيْدُ بنُ صُوحانَ، وأنا أُهِلُّ بهما، فقالَ أحَدُهُما: ما هذا بأفْقَهَ مِن بَعِيرِه. فأتَيْتُ عُمَرَ، فذَكَرْتُ ذلك له، فقالَ لى: هُدِيتَ لسُنَّةِ نَبيِّكَ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا إحْرامٌ به قبلَ المِيقاتِ. ورُوِىَ عن عُمَرَ، وعليٍّ، رَضِىَ اللهُ عنهما، في قوْلِه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬3). إنما هو (¬4) أن تُحْرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِك (¬5). ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأصْحابَه أحْرَمُوا مِن المِيقاتِ، ولا يَفْعَلُون إلَّا الأفْضَلَ. فإن قِيلَ: إنَّما فعَل ليُبَيِّنَ الجَوازَ. قُلْنا: قد حَصَل بَيانُ الجَوازِ بقَوْلِه، كما في سائِرِ المَواقِيتِ. ثم لو كان كذلك، لكانَ أصْحابُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وخُلفاؤه يُحْرِمُون مِن بُيُوتِهم، ولَما تَواطَأُوا على تَرْكِ الأفْضَلِ واخْتِيارِ الأدْنَى، وهم أفْضَلُ الخَلْقِ، ولهم مِن الحِرْصِ على الفضائِلِ والدَّرَجاتِ ما لهم. وروَى أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، بإسْنادِه، عن أبى أيُّوبَ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬2) في م: «الضبى». وانظر ما تقدم في الكلام عليه في صفحة 8. (¬3) سورة البقرة 196. (¬4) في الأصل: «إنما هما». وانظر المغنى 5/ 66. (¬5) أخرجه عنهما الشافعي، في: باب الإهلال من دون الميقات، من كتاب اختلاف مالك. الأم 7/ 235. وأخرجه عن على الحاكم، في: تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. المستدرك 2/ 276. والبيهقى، في: باب من استحب الإحرام من دويرة أهله. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 30. والطبرى عن علي في تفسيره 2/ 207.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «يَسْتَمْتِعُ أحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّه لَا يَدْرِى مَا يَعْرِضُ لَهُ فِى إحْرامِهِ» (¬1). وروَى الحسنُ، أنَّ عِمْرانَ بنَ حُصَيْنٍ أحْرَمَ مِن مِصْرِه، فبَلَغَ ذلك عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، فغَضِبَ، وقال: يَتَسامَعُ النّاسُ أنَّ رجلًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحْرَمَ مِن مِصْرِه. وقال: إنَّ عبدَ اللهِ بنَ عامِرٍ أحْرَمَ مِن خُراسانَ، فلَمّا قَدِم على عثمانَ، رَضِىَ الله عنه، لامَه فيما صَنَع، وكَرِهَه له. رَواهما سعيدٌ، والأثْرَمُ (¬2). وقال البخاريُّ (¬3): كَرِه عثمانُ أن يُحْرِمَ مِن خُراسانَ أو كِرْمانَ. ولأنَّه أحْرَمَ قبلَ المِيقاتِ، فكُرِهَ، كالإِحْرامِ بالحَجِّ قبل أشْهُرِه. ولأنَّه تَغْرِيرٌ بالإِحْرامِ، وتَعْرِيضٌ لفِعْلِ مَحْظُوراتِه، وفيه مَشَقَّةٌ على النَّفْسِ، فكُرِهَ، كالوصالِ في الصَّوْمِ. قال عَطاءٌ: انْظُرُوا هذه المَواقِيتَ التي وَقَّتَ لكم، فخُذُوا برُخَصِ اللهِ فيها، فإنَّه عَسَى أن يُصِيبَ أحَدُكم ذَنْبًا في إحْرامِه، فيَكُونَ أعْظَمَ لوِزْرِه، فإنَّ الذَّنْبَ في الإِحْرامِ أعْظَمُ مِن ذلك. فأمّا حديثُ الإِحْرامِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ (¬4)، ففيه ضَعْفٌ، يَرْوِيه ابنُ أبى فُدَيْكٍ، ومحمدُ بنُ إسْحاقَ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من استحب الإحرام من دويرة أهله. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 30، 31. وقد ضعَّف إسناده. (¬2) الأول، أخرجه الطبراني في الكبير 18/ 107. قال الهيثمى: رجاله رجال الصحيح إلا أن الحسن لم يسمع من عمر. مجمع الزوائد 3/ 217. والثانى، أخرجه البيهقى، في: باب من استحب الإحرام من دويرة أهله. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 31. (¬3) في: باب قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 173. (¬4) حديث الإحرام من بيت المقدس تقدم تخريجه في صفحة 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيهما مَقالٌ. ويَحْتَمِلُ اخْتِصاصَ هذا ببَيْتِ المَقْدِس دُونَ غيرِه؛ ليَجْمَعَ بينَ الصلاةِ في المَسْجِدَيْن في إحْرامٍ واحِدٍ، ولذلك أحْرَمَ ابنُ عُمَرَ منه، ولم يَكُنْ يُحْرِمُ مِن غيرِه، إلَّا مِن المِيقاتِ. وقولُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، للصُّبَىِّ (¬1): هُدِيتَ لسُنَّةِ نَبِيِّك. يَعْنِى في الجَمْعِ بينَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، لا في الإِحْرامِ مِن قَبلِ المِيقاتِ، فإنَّ سُنَّةَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - الإِحْرامُ مِن المِيقاتِ، بيَّنَ ذلك بفِعْلِه وقَوْلِه، وقد تَبَيَّنَ أنَّه لم يُرِدْ ذلك بإنْكارِه على عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، حينَ أحْرَمَ مِن مِصْرِه. وأمّا قولُ عُمَرَ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنهما، فإنَّما قالا: إتْمامُ العُمْرَةِ أن تنْشِئَها مِن بَلَدِك. يَعْنِى أن تنْشِئَ لها سَفَرًا مِن بلَدِك، تَقصِدُ له، ليسِ أن تُحْرِمَ بها مِن أهْلِك. قال أحمدُ: كان سُفْيان يُفَسِّرُه بهذا. وكذلك فَسَّرَه به أحمدُ. ولا يَصِحُّ أن يُفَسَّرَ بنَفْسِ الإِحْرامِ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه ما أحْرَمُوا بها مِن بُيُوتِهم، وقد أمَرَهم اللهُ سبحانه بإتْمامِ العُمْرَةِ، فلو حُمِل قَوْلُهم على ذلك لكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه تَارِكين الأمْرَ. ثم إنَّ عُمَرَ وعليًّا ما كانا يُحْرِمان إلَّا مِن المِيقاتِ، أفَتَراهما يَرَيان أنَّ ذلك ليس بإتْمامٍ لها، ويَفْعَلانه؟! هذا لا يَنْبَغى أن يَتَوَهَّمَه أحَدٌ. ولذلك أنْكَرَ عُمَرُ على عِمْرانَ إحْرامَه مِن مِصْرِه، واشْتَدَّ عليه، وكَرِه أن يَتَسامَعَ النّاسُ، مَخافَةَ أن يُؤْخَذَ به، أفتراه كَرِه إتْمامَ العُمْرَةِ، واشْتَدَّ عليه أن يَأْخُذَ النّاسُ بالأفْضَلِ؟! هذا لا يَجُوزُ، فتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهما على ما حَمَلَه عليه الأئِمَّةُ. ¬

(¬1) في م: «للضبي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ الإِحْرامُ بالحَجِّ قبلَ أشْهُرِه، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لكَوْنِه إحْرامًا به قبلَ وَقْتِه، فأشْبَهَ الإِحْرامَ به قبلَ مِيقاتِه، بل الكَراهَةُ هنا أشَدُّ؛ لأنَّ في صِحَّتِه اخْتِلافًا. فإن أحْرَمَ بالحَجِّ قبلَ مِيقاتِ المَكانِ صَحَّ إحْرامُه بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، إلَّا أنَّه يُكْرَهُ ذلك، وقد ذَكَرْناه. وإن أحْرَمَ به قبلَ أشْهُرِه، صَحَّ أيضًا، إذا بَقِىَ على إحْرامِه إلى وَقْتِ الحَجِّ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ جَماعَةٍ. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، والثَّوْرِىِّ، وأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وإسْحاقَ. وقال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، والشافعيُّ: يَجْعَلُه عُمْرَةً. وذَكَر القاضى في «الشَّرْحِ» رِوايَةً مثلَ ذلك. واخْتارَها ابنُ حامِدٍ، لقولِ اللهِ تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1). تَقْدِيرُه وَقْتُ الحَجِّ، أو أشْهُرُ الحَجِّ، مِن قَبِيلِ حَذْفِ المُضافِ، وإقامَةِ المُضافِ إليه مُقامَه. وإذا ثَبَت أنَّه وَقْتُه لم يَصِحَّ تَقْدِيمُه عليه، كأوْقاتِ الصَّلَواتِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 197.

1155 - مسألة: (وأشهر الحج؛ شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة)

وَأَشْهُرُ الْحَجِّ؛ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، قَوْلُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1). يَدُلُّ على أنَّ جميعَ الأَشْهُرِ مِيقاتٌ. ولأنَّه أحَدُ النُّسُكَيْن، فجاز الإِحْرامُ به في جَمِيعِ السَّنَةِ، كالعُمْرَةِ، وأحدِ المِيقاتَيْن، فَصَحَّ الإِحْرامُ قبلَه، كمِيقاتِ المكانِ، والآيَةُ مَحْمُولَةٌ على أنَّ الإِحْرامَ به إنَّما يُسْتَحَبُّ فيها. 1155 - مسألة: (وأشْهُرُ الحَجِّ؛ شَوّالٌ، وذُو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ مِن ذِى الحِجَّةِ) وهو مِيقاتُ الزَّمانِ للحَجِّ. هذا قولُ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، والحسنِ، ¬

(¬1) سورة البقرة 189.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. ورُوِىَ عن عُمَرَ، وابنِه، وابنِ عباسٍ: أشْهُرُ الحَجِّ؛ شَوّالٌ، وذُو القَعْدَةِ، وذو الحِجَّةِ (¬1). وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ أقَلَّ الجَمْعِ ثَلاثَةٌ. وقال الشافعيُّ: آخِرُ أشْهُرِ الحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ، وليسِ يومُ النَّحْرِ منها؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}. ولا يُمْكِنُ فَرْضُه بعدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ». رَواه أبو داودَ (¬2). فكيفَ يَجُوزُ أن يَكُونَ يومُ الحَجِّ الأكْبَرِ ليس مِن أشْهُرِه؟ ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابَةِ، ولأنَّ يومَ النَّحْرِ فيه رُكْنُ الحَجِّ، وهو طَوافُ الزِّيارَةِ، وفيه رَمْىُ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، والحَلْقُ، والنَّحْرُ، والسَّعْىُ، والرُّجُوعُ إلى ¬

(¬1) خبر عمر، ذكره السيوطى عند قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقال: أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر. الدر المنثور 1/ 218. وهو في: سنن سعيد بن منصور (قسم التفسير) المجلد الثالث صفحة 791. أما خبر ابن عمر، فأخرجه البخارى تعليقا، في: باب قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 173. والدارقطنى، في: أول كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 226. والإمام مالك، في: باب ما جاء في التمتع، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 344. والحاكم، في: باب تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. المستدرك 2/ 276. وأخرج خبر ابن عباس، الدارقطنى، في: أول كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 226. (¬2) في: باب يوم الحج الأكبر، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 451. كما أخرجه البخارى تعليقا، في: باب الخطبة أيام منى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 217. والترمذى، في: باب سورة التوبة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 1/ 230. وابن ماجه، في: باب الخطبة يوم النحر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1016، 1017. والدارقطنى، في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 285.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنًى، وما بعدَه ليس مِن أشْهُرِه؛ لأنَّه ليس بوَقْتٍ لإِحْرامِه، ولا لأرْكانِه، فهو كالمُحْرِمِ، ولا يَمْنَعُ التَّعْبِيرُ بلَفْظِ الجَمْعِ عن شَيْئَيْن وبعضِ الثّالِثِ، فقد قال اللهُ تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). والقُرْءُ الطُّهْرُ عند مالكٍ، ولو طَلَّقَها في طُهْرٍ احْتَسَبَتْ ببَقِيَّتِه (¬2). وتَقُولُ العَرَبُ: ثَلاثٌ خَلَوْنَ مِن ذِى الحِجَّةِ، وهم في الثّالِثَةِ، وقَوْلُه تعالى: {فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}. أى في أكْثَرَهِنَّ. واللهُ تعالى أعْلَمُ. فصل: فأمّا العُمْرَةُ فكلُّ الزمانِ مِيقاتٌ لها، ولا يُكْرَهُ الإِحْرامُ بها في يومِ النَّحْرِ وعَرَفَةَ وأيّامِ التَّشْرِيقِ، في أشْهَرِ الرِّوايَتَيْن. وعنه، يُكْرَهُ. وبه قال أبو حنيفةَ. ولَنا، أنَّه زَمانٌ لإِحْرامِ الحَجِّ، فلم يُكْرَهْ فيه إحْرامُ العُمْرَةِ، كغيرِه. ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) في م: «بنفسه».

باب الإحرام

بَابُ الْإِحْرَامِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ، وَيَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ نَظِيفَيْنِ؛ إِزَارًا وَرِدَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الإِحْرامِ 1156 - مسألة: (يُسْتَحَبُّ لمَن أرادَ الإحْرامَ أن يَغْتَسِلَ، ويَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ، ويَلْبَسَ ثَوْبَيْن أبْيَضَيْن نَظِيفَيْن؛ إزارًا [ورِداءً] (¬1) ¬

(¬1) في م: «أو رداء».

وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الْمَخِيطِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَتَجَرَّدَ عن المَخِيط) يُسْتَحَبُّ لمَن أرادَ الإِحْرامَ أن يَغْتَسِلَ قبلَه. وهو قولُ طاوُسٍ، والنَّخَعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ؛ لِما روَى زيدُ بن ثابِتٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه رَأى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإِهْلالِه، واغْتَسَلَ. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وثَبَت أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أسماءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وهى نُفَساءُ، أن تَغْتَسِلَ عندَ الإِحْرامِ (¬2). ولأنَّ هذه العِبادَةَ يَجْتَمِعُ لها النّاسُ، فسُنَّ لها الاغْتِسالُ، كالجُمْعَةِ. وليس ذلك واجِبًا في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال ابن المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ الإِحْرامَ جائِزٌ بغيرِ اغْتِسالٍ، وأنَّه غيرُ واجِبٍ. وحُكِىَ عن الحسنِ أنَّه قال: إذا نَسِىَ الغُسْلَ، يَغْتَسِلُ إذا ذَكَر. قال الأثْرَمُ: سَمِعْت أبا عبدِ اللهِ قِيلَ له عن بعضِ أهْلِ المَدِينَةِ: مَن تَرَك الاغْتِسالَ عندَ الإِحْرامِ فعليه دَمٌ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسْماءَ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 124. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب إحرام النفساء. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 869. وأبو داود، في: باب الحائض تهل بالحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 404. والنسائى، في: باب الاغتسال من النفاس، من كتاب الطهارة، وفى: باب ما تفعل النفساء عند الإحرام، من كتاب الحيض، وفى: باب إهلال النفساء، من كتاب الحج. المجتبى 101/ 1، 160، 5/ 127، 128. وابن ماجه، في: باب النفساء والحائض تهل بالحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 971، 972. والإمام مالك، في: باب الغسل للإهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 322. وانظر تخريج حديث جابر الآتى في صفة الحج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «اغْتَسِلِي». فكيفَ الطّاهِرُ؟ فأظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِن هذا القولِ. وكان ابنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ أحْيانًا، ويَتَوَضَّأُ أحْيانًا. وأيُّ ذلك فَعَل أجْزَأه، ولا أوْجَبَ الاغْتِسَالَ، ولا أمَرَ به، إلَّا لحائِضٍ أو نُفَساءَ، ولو كان واجِبًا لأمَرَ به غيرَهما. ولأنَّه لأمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، فأشْبَهَ غُسْلَ الجُمُعَةِ. فإن لم يَجِدْ ماءً، فقالَ القاضى: يَتَيَمَّمُ؛ لأنَّه غُسْلٌ مَشْرُوعٌ، فنابَ التَّيَمُّمُ عنه، كالواجِبِ. والصَّحِيحُ أنَّه غيرُ مَسْنُونٍ؛ لأنَّه غُسْلٌ غيرُ واجِبٍ، فلم يُسْتَحَبَّ التَّيَمُّمُ عندَ عَدَمِه، كغُسْلِ الجُمُعَةِ. وما ذَكَرَه مُنْتَقِضٌ بغُسْلِ الجُمُعَةِ. والفَرْقُ بينَ الواجِبِ والمَسْنُونِ أنَّ الواجِبَ شُرِعَ لإِباحَةِ الصلاةِ، والتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقامَه في ذلك، والمَسْنُونَ يُرادُ للتَّنْظِيفِ وقَطْعِ الرّائِحَةِ، والتَّيَمُّمُ لا يُحَصِّلُ هذا، بل يُحَصِّلُ شَعَثًا وتَغْبِيرًا؛ ولذلك افْتَرَقا في الطَّهارَةِ الصُّغْرَى، فلم يُشْرَعْ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ، ولا تَكْرارُ المَسْحِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ للمَرْأةِ الغُسْلُ، كالرجلِ، وإن كانت حائِضًا أو نُفَساءَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أسماءَ بنتَ عُمَيْسٍ، وهى نُفَساءُ، أن تَغتَسِلَ. رَواه مسلمٌ. وأمَرَ عائِشَةَ أن تَغْتَسِلَ لإِهْلالِ الحَجِّ، وهى حائِضٌ (¬1). ¬

(¬1) انظر حديثها المتقدم في صفحة 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن رَجَتِ الحائِضُ أو النُّفَساءُ الطُّهْرَ قبلِ الخُرُوجِ مِن المِيقاتِ اسْتُحِبَّ لهما تَأْخِيرُ الاغْتِسالِ حتى يَطْهُرا؛ ليَكُون أكْمَلَ لهما، وإلَّا اغْتَسَلَتا؛ لِما ذَكَرْناه. فصل: ويُسْتَحَبُّ التَّنْظِيفُ بإزالَةِ الشَّعَرِ، وقَطْعِ الرّائِحَةِ، ونَتْفِ الإِبْطِ، وقَصِّ الشاربِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، وحَلْقِ العانَةِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُسَنُّ له الاغْتِسالُ والطِّبُ، فسُنَّ له هذا، كالجُمُعَةِ، ولأنَّ الإِحْرامَ يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّعَرِ وتَقْلِيمَ الأظْفارِ، فاسْتُحِبَّ له فِعْلُه قبلَه؛ لئَلَّا يَحْتاجَ إليه في إحْرامِه، فلا يَتَمَكَّنُ منه. فصل: ويُسْتَحَبُّ لمن أرادَ الإِحْرامَ أن يَتَطَيَّبَ في بَدَنِه خاصَّةً، ولا فَرْقَ بينَ ما تَبْقَى عَيْنُه، كالمِسْكِ، أو أثرُه، كالعُودِ والبَخُورِ وماءِ الوَرْدِ. هذا قولُ ابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وسَعْدِ بنِ أبِى وَقَّاصٍ، وعائِشَةَ، وأُمِّ حَبِيبَةَ، ومُعاويَةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم. ورُوِىَ عن ابنِ الحَنَفِيَّةِ، وأبِى سعيدٍ، وعُرْوَةَ، والقاسِمِ، والشَّعْبِىِّ، وابنِ جُرَيْجٍ. وكان عَطاءٌ يَكْرَهُ ذلك. وهو قولُ مالكٍ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وعثمانَ، وابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهم. واحْتَجَّ مالكٌ بما روَى يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ، أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، كيف تَرَى في رجلٍ أحْرَمَ بعُمْرَةٍ وهو مُتَضَمِّخٌ بطِيبٍ؟ فسَكَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، يَعْنِى ساعَةً، ثم قال: «اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ -ثَلاثَ مَرّاتٍ- وانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِى حَجِّك». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه يُمْنَعُ مِن ابْتِدائِه، فمُنِعَ مِن اسْتِدامَتِه، كاللُّبْسِ. ولَنا، قولُ عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها: كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرامِه قبلَ أن يُحْرِمَ، ولِحِلِّه قبلَ أن يَطوفَ بالبَيْتِ. وقالَتْ: كأنِّي أنْظُرُ إلى وَبِيصِ (¬2) الطِّيبِ في مَفارِقِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفى لَفْظٍ لمسلمٍ: طَيَّبْتُهُ بِأطْيَبِ الطِّيبِ. وقالت: بطِيبٍ فيهِ مِسْكٌ. وحديثُهم في بعضِ ألفاظِه: عليه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، من كتاب الحج، وفى: باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج، من كتاب العمرة. صحيح البخارى 2/ 167، 3/ 6، 7، 5/ 198، 224. ومسلم، في: باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 836 - 838. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يحرم في ثيابه، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 422، 423. والترمذى، في: باب ما جاء في الذى يحرم وعليه قميص أو جبة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 58، 59. والنسائي، في: باب الجبة في الإحرام، وباب في الخلوق للمحرم. من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 99، 100، 110. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 222، 224، (¬2) الوبيص: مثل البريق وزنًا ومعنًى. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الطيب عند الإحرام، وباب الطيب بعد رمى الجمار. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب الفرق، وكاب تطييب المرأة زوجها بيديها، وباب الطيب في الرأس واللحية، وباب ما يستحب من الطيب، وباب الذريرة، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 2/ 168، 220، 7/ 209، 210، 211. ومسلم، في: باب الطيب للمحرم عند الإحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 846 - 850. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُبَّةٌ بها أثَرُ الخَلُوقِ (¬1). رواه مسلمٌ. وفي بعضِها: وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بالخَلُوقِ. وفي بعضِها: عليه رَدْعٌ (¬2) مِن زَعْفَران. وهذا يَدُلُّ على أنَّ طِيبَ الرجلِ كان مِن الزَّعْفَرانِ، وهو مَنْهِيٌّ عنه للرجالِ في غيرِ الإِحْرامِ، ففيه أوْلَى. وقد روَى البخاريُّ (¬3)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أن يتَزَعْفَرَ الرجلُ. ولأنَّ حديثَهم في سَنَةِ ثَمانٍ، وحديثُنا في سَنَةِ عَشْرٍ. قال ابنُ جُرَيْجٍ: كان شَأْنُ صاحِبِ الجُبَّةِ قبلَ حَجَّةِ الوَداعِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا خِلافَ بينَ جَماعَةِ أهْلِ العِلْمِ بالسِّيَرِ والآثارِ، أنَّ قِصَّةَ صاحِبِ الجُبَّةِ ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب الطيب عند الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 405. والترمذى، في: باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 149. والنسائي، في: باب إباحة الطيب عند الإحرام، وباب موضع الطيب، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 105 - 109. وابن ماجه، في: باب الطيب عند الإحرام، وباب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 976، 1011. والدارمي، في: باب الطيب عند الإحرام، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 32، 33. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الطيب في الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 328. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 39، 98، 107، 109، 124، 128، 130، 162، 173، 175، 181، 186، 191، 192، 200، 207، 209، 212، 214، 216، 224، 230، 237، 238، 244، 245، 250، 254، 258، 264، 267، 280. (¬1) الخَلُوق: نوع من الطيب، أعظم أجزائه الزعفران. (¬2) ردع: شئ من زعفران في مواضع شتى. (¬3) في: باب التزعفر للرجال، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 7/ 197. كما أخرجه مسلم، في: باب نهي الرجل عن التزعفر، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1662، 1663. وأبو داود، في: باب في الخلوق للرجال، من كتاب الترجل. سنن أبى داود 2/ 398. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية التزعفر والخلوق للرجال، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 257. والنسائي، في: باب الزعفران للمحرم، من كتاب الحج، وفى: كتاب التزعفر، من كتاب الزينة. المجتبى 5/ 109، 110، 8/ 165. الإمام أحمد، في: المسند 3/ 101. كلهم من حدث أنس بن مالك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت عامَ خَيْبَرَ، بالجِعْرانَةِ (¬1)، سَنَةَ ثمانٍ، وحديثُ عائِشَةَ في حَجَّةِ الوَداعِ سَنَةَ عَشْرٍ. فعندَ ذلك إن قُدِّرَ التَّعارُضُ، فحديثُنا ناسِخٌ لحديثِهم. فإن قِيلَ: فقد روَى محمدُ بنُ المُنْتَشِرِ، قال: سَألْتُ ابنَ عُمَرَ عن الطِّيبِ عندَ الإِحْرامِ، فقال: لأن أُطْلَى بالقَطِرانِ أحَبُّ إلَيَّ مِن ذلك. قُلْنا: تَمامُ الحديثِ، قال: فذَكَرْتُ ذلك لعائشةَ، فقالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ أبا عبدِ الرحمنِ، قد كنتُ أُطَيِّبُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيَطُوفُ في نِسائِه، ثم يُصْبِحُ يَنْضَحُ طِيبًا (¬2). فإذًا صار الخَبَرُ حُجَّةً على مَن احْتَجَّ به، فإنَّ فِعْلَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حُجَّةٌ على ابنِ عُمَرَ وغيرِه، وقِياسُهم يَبْطُلُ بالنِّكاحِ، فإنَّ الإِحْرامَ يَمْنَعُ ابْتداءَه دُونَ اسْتِدامَتِه. فصل: فإن طَيَّبَ ثَوْبَه، فله اسْتِدامَةُ لُبْسِه، ما لم يَنْزِعْه، فإن نَزَعَه فليس له لُبْسُه، فإن لَبِسَه افْتَدَى؛ لأنَّ الإِحْرامَ يَمْنَعُ ابْتِداءَ الطِّيبِ ولُبْسَ المُطَيَّبِ، دُونَ الاسْتِدامَةِ. وكذا إن نَقَل الطِّيبَ مِن مَوْضِعٍ مِن بَدَنِه إلى مَوْضِعٍ، يَفْتَدِى؛ لأنَّه ابْتَدَأ الطِّيبَ. وكذا إن تَعَمَّدَ مَسَّه بيَدِه، أو نَحّاه عن مَوْضِعِه ثم رَدَّه إليه. فأمّا إن عَرِق الطِّيبُ، أو ذابَ بالشَّمْسِ، فسال إلى مَوْضِعٍ آخَرَ، فلا شئَ عليه؛ لأنَّه ليس مِن فِعْلِه. قالَتْ عائِشَةُ، ¬

(¬1) ماء بين الطائف ومكة، وهى إلى مكة أدنى. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب إذا جامع ثم عاد، من كتاب الطهارة. صحيح البخارى 1/ 75. ومسلم، في: باب الطيب للمحرم عند الإحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 849، 850. والنسائي، في: باب الطواف على النساء في غسل واحد، من كتاب الغسل. وفى: باب موضع الطيب، من كتاب الحج. المجتبى 1/ 1172، 5/ 109.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللهُ عنها: كُنّا نَخْرُجُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى مَكَّةَ فنُضَمِّدُ جِباهَنا بالمِسْكِ عندَ الإِحْرامِ، فإذا عَرِقَتْ إحْدانا سالَ على وَجْهِها، فيَرانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَنْهانا. رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَلْبَسَ ثَوْبَيْن أبْيَضَيْن نَظِيفَيْن؛ إزارًا ورِداءً؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَلْيُحْرِمْ أحَدُكُمْ فِى إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ» (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يَكُونا نَظِيفَيْن، إمّا جَدِيدَيْن، أو مَغْسُولَيْن؛ لأنَّا أحْبَبْنا له التَّنْظِيفَ في بَدَنِه، فكذلك في ثِيابه، كشاهِدِ الجُمُعَةِ. والأوْلَى أن يَكُونا أبْيَضَيْن؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضُ، فَألْبِسُوهَا أحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ». رَواه النَّسائِىُّ (¬3) بمَعْناه. فصل: ويَتَجرَّدُ عن المَخِيطِ إن كان رجلًا، فأمّا المَرْأةُ فلها لُبْسُ المَخِيطِ في الإِحْرامِ؛ لأنَّ المُحْرِمَ مَمْنوعٌ مِن لُبْسِه في شئٍ مِن بَدَنِه، وهو كلُّ ما يُخاطُ على قَدْرِ المَلبُوسِ عليه، كالقَمِيصِ والسَّراوِيلِ والبُرْنُسِ. ولو لَبِس إزارًا مُوَصَّلًا، أو اتَّشَحَ بثَوْبٍ مَخِيطٍ كان جائِزًا. وسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 425. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في: المسند 2/ 34. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 274.

1157 - مسألة: (ويصلى ركعتين، ويحرم عقيبهما)

وَيُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ، وَيُحْرِمَ عَقِيبَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1157 - مسألة: (ويُصَلِّىَ رَكْعَتَيْن، ويُحْرِمَ عَقِيبَهما) المُسْتَحَبُّ أن يُحْرِمَ عَقِيبَ الصلاةِ، فإن حَضَرَتْ صلاةٌ مَكْتُوبَةٌ، أحْرَمَ عَقِيبَها، وإلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْن تَطَوُّعًا وأحْرَمَ عَقِيبَهما. وهذا قولُ عَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومالكٍ، والشافعىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأبي حنيفةَ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ، ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عباسٍ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ الإِحْرامَ عَقِيبَ الصلاةِ، وإذا اسْتَوَتْ به راحِلَتُه، وإذا بَدَأ بالسَّيْرِ، سَواءٌ؛ لأنَّ الجَمِيعَ مَرْوِىُّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن طُرُقٍ صَحِيحَةٍ. قال الأثْرَمُ: سَألْتُ أبا عبدِ اللهِ: أيُّما أحَبُّ إليك؛ الإِحْرامُ في دُبُرِ الصلاةِ، أو إذا اسْتَوَت به راحِلَتُه (¬1)؟ قال: كلُّ ذلك (¬2) قد جاء، في دُبُرِ الصلاةِ، وإذا عَلا البَيْداءَ، وإذا اسْتَوَتْ به راحِلَتُه. فوَسَّعَ في ذلك كلِّه. قال ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنهما: أهَلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ اسْتَوَتْ به راحِلَتُه قائِمَةً. ¬

(¬1) في م: «راحته». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى ابنُ عباسٍ، وأنَسٌ، رَضِىَ الله عنهما، نَحْوَه. رَواهُنَّ البخاريُّ (¬1). والأوْلَى الإِحْرامُ عَقِيبَ الصلاةِ؛ لِما روَى سعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ، قال: ذَكَرْتُ لابنِ عباسٍ إهْلالَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: أوْجَبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الإِحْرامَ حينَ فَرَغ مِن صَلاِته، ثم خَرَج، فلَمّا رَكِب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - راحِلَتَه، وَاسْتَوَتْ به قائِمَةً، أهَلَّ، فأدْرَكَ ذلك منه قومٌ، فقالُوا: أهَلَّ حينَ اسْتَوَتْ به راحِلَتُه. وذلك أنَّهُم لم يُدْرِكُوا إلَّا ذلك، ثم سارَ حتى عَلا البَيْداءَ، فأهَلَّ، فأدْرَكَ ذلك منه ناسٌ، فقالُوا: أهَلَّ حينَ عَلا البَيْداءَ. رَواه أبو داودَ (¬2)، والأثْرَمُ. وهذا لَفظُه. وهذا فيه بَيانٌ وزِيادَةُ عِلْمٍ، فتَعَيَّنَ حَمْلُ الأمْرِ عليه، ولو لم يَقُلْه ابنُ عباسٍ، ¬

(¬1) حديث ابن عباس أخرجه البخارى، في: باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 169. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 260. وحديث أنس أخرجه البخارى، في: باب من بات بذى الحليفة حتى أصبح، وباب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 170، 171. كما أخرجه أبو داود، في: باب قبل الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 411. وحديث ابن عمر أخرجه البخارى، في: باب من أهل حين استوت به راحلته، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 171. كما أخرجه مسلم، في: باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 845. وأبو داود، في: باب في وقت الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 410، 411. والنسائي، في: باب العمل في الإهلال، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 127. وابن ماجه، في: باب الإحرام، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 973/ 2. والإمام مالك، في: باب العمل في الإهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 332، 333. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 17، 18، 29، 36، 37. (¬2) في: باب في وقت الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 410.

1158 - مسألة: (وينوى الإحرام بنسك معين، ولا ينعقد إلا بالنية)

وَيَنوِى الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لتَعَيَّن حَمْلُ الأمْرِ عليه؛ جمْعًا بينَ الأخْبارِ المُخْتَلِفَةِ، وعلى سَبِيلِ الاسْتِحْبابِ. وكيفما أحْرَمَ جاز، لا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ في ذلك. 1158 - مسألة: (ويَنْوِى الإِحْرامَ بنُسُكٍ مُعَيَّنٍ، ولا يَنْعَقِدُ إلَّا بالنِّيَّةِ) يُسْتَحَبُّ أن يُعَيِّنَ ما يُحْرِمُ به مِن الأنْساكِ. وبه قال مالكٌ. وِقال الشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: الإِطْلاقُ أوْلَى؛ لِما روَى طاوُسٌ، قال: خرَج رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن المَدِينَةِ، لا يُسَمِّى حَجًّا، يَنتظِرُ القَضاءَ، فنَزَلَ عليه القَضاءُ، وهو بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فأمَرَ أصحابَه مَن كان منهم أهَلَّ، ولم يَكُنْ معه هَدْىٌ، أن يَجْعَلُوها عُمْرَةً (¬1). ولأنَّ ذلك أحْوَطُ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ الإِحْصارَ، أو تَعذُّر فِعْلِ الحَجِّ، فيَجْعَلَها عُمْرَةً. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أصْحابَه بالإِحْرامِ بنُسُكٍ مُعَيَّنٍ، فقالَ: «مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ، [وعُمْرَةٍ] (¬2)، فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أرَادَ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أرَادَ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» (¬3). والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه إنَّما أحْرَمُوا بمُعَيَّنٍ؛ لِما نَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولأنَّ أصْحابَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - الذين كانُوا معه في صُحبَتِه يَطَّلِعُون على أحوالِه ويَقتَدُون به، أعْلَمُ ¬

(¬1) أخرجه الإمام الشافعى في مسنده، انظر: الباب السابع في الإفراد والقران والتمتع، من كتاب الحج، في ترتيب السندى لمسند الشافعى 1/ 372. (¬2) في م: «أو عمرة». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 111 من حديث عائشة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به مِن طاوُسٍ، ثم إنَّ حديثَه مُرْسَلٌ، والشافعيُّ لا يَحْتَجُّ بالمراسِيلِ، فكيفَ صار إليه مع مُخالَفَةِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ المُسْنَدَةِ، والاحْتِياطُ مُمْكِنٌ، بأن يَجْعَلَها عُمْرَةً، فإن شاء كان مُتَمَتِّعًا، وإن شاء أدْخَلَ عليها الحَجَّ، فصار قَارِنًا. فصل: ويَنْوِى الإِحْرامَ بقَلْبِه، ولا يَنْعَقِدُ إلَّا بالنِّيَّةِ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فافْتَقَرَتْ إلى النَّيَّةِ، كالصلاةِ. فإن لَبَّى مِن غيرِ نِيَّةٍ لم يَصِرْ مُحْرِمًا؛ لِما ذَكَرْنا. وإنِ اقْتَصَرَ على النِّيَّةِ، كَفاه ذلك. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْعَقِدُ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حتى يُضافَ إلهِا التَّلْبيَةُ، أو سَوْقُ الهَدْىِ؛ لِما روَى خَلَّادُ بنُ السّائِبِ الأنْصارِىُّ، عن أبيه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «جَاءَنِى جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أصحَابَكَ أنْ يَرْفَعُوا أصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ». قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): هذا حديثٌ حسنٌ. ولأنَّها عِبادَةٌ ذاتُ تَحْرِيمٍ وتَحْلِيلٍ، فكانَ لها نُطْقٌ واجِبٌ، كالصلاةِ، ولأنَّ الهَدْىَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) في: باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 47. كما أخرجه أبو داود، في: باب كيف التلبية، من كتاب الحج. سنن أبي داود 1/ 421. والنسائي، في: باب رفع الصوت بالإهلال، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 125، 126. وابن ماجه، في: باب رفع الصوت بالتلبية، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 975. والدارمى، في: باب في رفع الصوت بالتلبية، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 34. والإمام مالك، في: باب رفع الصوت بالإِهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 334. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 55.

1159 - مسألة: (ويشترط، فيقول: اللهم إنى أريد النسك

وَيَشْتَرِطُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّى أُرِيدُ النُّسُكَ الْفُلَانِى، فَيَسِّرْهُ لِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُضْحِيَةَ لا يَجِبان بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كذلك النُّسُكُ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ ليس في آخِرِها نُطْقٌ واجِبٌ، فلم يَكُنْ في أوَّلِها، كالصيامِ. والخَبَرُ المُرادُ به الاسْتِحْبابُ، فإنَّ مَنْطُوقَه رَفْعُ الصَّوْتِ، ولا خِلافَ في عَدَمِ وُجُوبِه، فما هو مِن ضَرُورَتِه أوْلَى، ولو وَجَب النُّطْقُ لم يَلْزَمْ كَوْنُه شَرْطًا، فإنَّ كَثِيرًا مِن واجِباتِ الحَجِّ غيرُ مُشْتَرَطَةٍ فيه، والصلاةُ في آخِرِها نُطْقٌ واجِبٌ، بخِلافِ الحَجِّ والعُمْرَةِ. وأمّا الهَدْىُ والأُضْحِيَةُ فإيجابُ مالٍ، فهو يُشْبِهُ النَّذْرَ، بخِلافِ الحَجِّ؛ لأنَّه عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فعلى هذا لو نَطَق بغيرِ ما نَواه، نَحْوَ أن يَنْوِىَ العُمْرَةَ، فيَسْبِقَ لسانُه إلى الحَجِّ، أو بالعَكْسِ، انْعَقَدَ ما نَواه دُونَ ما لَفَظ به. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على هذا. وذلك لأنَّ الواجِبَ النِّيَّةُ، وعليها الاعْتِمادُ، واللَّفْظُ لا عِبْرَةَ به، فلم يُؤَثِّرْ، كما لا يُؤَثِّرُ اخْتلافُ النِّيَّةِ فيما يُعْتَبَرُ له اللَّفْظُ دُونَ النِّيَّةِ. فإن لَبَّى، أو ساق الهَدْىَ مِن غيرِ نِيَّةٍ، لم يَنْعَقِدْ إحْرامُه؛ لأنَّ ما اعْتُبِرَت له النِّيَّةُ لا يَنْعَقِدُ بدُونِها، كالصومِ والصلاةِ. 1159 - مسألة: (ويَشْتَرِطُ، فيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّى أُرِيدُ النُّسُكَ

وَتَقَبَّلْهُ مِنِّى، فَإِنْ حَبَسَنِى حَابِسٌ، فَمَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفُلانِيَّ، فيَسِّرْه لى، وتَقَبُّلْه مِنِّى، وإن حَبَسَنِى حابِسٌ، فمَحِلِّى حيث حَبَسْتَنِى) فإن أرادَ التَّمَتُّعَ قال: اللَّهُمَّ إنِّى أُرِيدُ العُمْرَةَ، فيَسِّرْها لى، وتَقَبَّلْها مِنِّى، وإن حَبَسَنِى حابِسٌ فمَحِلِّى حيث حَبَسْتَنِى. وإن أرادَ الإِفْرادَ، قال: اللَّهُمَّ إنِّى أُريدُ الحَجَّ فيَسِّرْه لى وتَقَبَّلْه مِنِّى. ويَشْتَرِطُ. وإن أرادَ القِرانَ قال: اللَّهُمَّ إنِّى أُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ فيَسِّرْهما لى، وتَقَبَّلْهما مِنِّى. ويَشْتَرِطُ. وهذا الاشْتِراطُ مُسْتَحَبٌّ. ويُفِيدُ هذا الشَّرْطُ شَيْئَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه إذا عاقه عَدُوٌّ أو مَرَضٌ أو ذَهابُ نَفَقَةٍ ونَحْوُه، أنَّ له التَّحَلُّلَ. والثّانِي، أنَّه متى حَلَّ بذلك فلا شئَ عليه. ومِمَّن رَأى الاشْترِاط في الإِحْرامِ؛ عُمَرُ، وعليٌّ، وابنُ مسعودٍ، وعَمّارٌ، رَضِىَ اللهُ عنهم. وبه قال عَبِيدَةُ السَّلْمانِىُّ، وعَلْقَمَةُ، والأسْوَدُ، وشُرَيْحٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، والشافعيُّ بالعراقِ. وأنْكَرَه ابنُ عُمَرَ، وطاوُسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ. وعن أبِى حنيفةَ، أنَّ الاشْتِراطَ يُفِيدُ سُقُوطَ الدَّمِ، فأمّا التَّحَلُّلُ فهو ثابِتٌ عندَه بكلِّ إحْصارٍ. واحْتَجُّوا بأنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُنكِرُ الاشْتِراطَ، ويَقُولُ: حَسْبُكم سُنَّةُ نَبِيِّكُم - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّها عِبادَةٌ تَجِبُ بأصْلِ الشَّرْعِ، فلم يُفِدْ الاشْتِراطُ فيها، كالصومِ والصلاةِ. ولَنا، ما رَوَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالَت: دَخَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ضُباعَةَ بنتِ الزُّبَيْرِ، فقالَتْ: يا رسولَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ، إنِّى أُريدُ الحَجَّ، وأنا شاكِيَةٌ. فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّى، وَاشْتَرِطِى أنَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى». مُتَّفقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ ضُباعَةَ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنِّى أُرِيدُ الحَجَّ، فكيفَ أقُولُ؟ قالَ: «قُولِى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، ومَحِلِّى مِنَ الأرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنى، فإن لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثنيْتِ». رَواه مسلمٌ (¬2). ولا قولَ لأحَدٍ مع قولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكيفَ يُعارَضُ بقَوْلِ ابنِ عُمَرَ، ولو لم يَكُنْ فيه حديثٌ لكانَ قولُ الخَلِيفَتَيْن الرّاشِدَيْن مع مَن قد ذَكَرْنا قولَه مِن فُقَهاءِ الصحابةِ أوْلَى مِن قولِ ابنِ عُمَرَ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الأكفاء في الدين. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 9. ومسلم، في: باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 867، 868. كما أخرجه النسائي، في: باب كيف يقول إذا اشترط، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 131. وابن ماجه، في: باب الشرط في الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 979، 980. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 164، 202، 349، 360، 420. (¬2) في: باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 868. كما أخرجه أبو داود، في: باب الاشتراط في الحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 411. والترمذى، في: باب ما جاء في الاشتراط في الحج، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 170. والنسائي، في: باب كيف إذا اشترط، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 130. وابن ماجه، في: باب الشرط في الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 980. والدارمى، في: باب الاشتراط في الحج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 35. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 337، 352.

1160 - مسألة: (وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران)

وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالإفْرَادِ وَالْقِرَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَت هذا، فإنَّ غيرَ هذا اللَّفظِ مِمّا يُؤَدِّى مَعْناه، يَقُومُ مَقامَه؛ لأنَّ المَقْصُودَ المَعْنَى، واللَّفْظُ إنَّما أُريدَ لتَأْدِيَةِ المَعْنَى. قال إبراهيمُ: خَرَجْنا مع عَلْقَمَةَ وهو يُرِيدُ العُمْرَةَ، فقالَ: اللَّهُمَّ إنِّى أُرِيدُ العُمْرَةَ، إن تَيَسَّرَت، وإلَّا فلا حَرَج علىَّ. وكان شُرَيْحٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قد عَرَفْتَ نِيَّتِى، وما أُرِيدُ، فإن كان أمْرًا تُتِمُّه فهو أحَبُّ إليَّ، وإلَّا فلا حَرَج علىَّ. وقالَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، لعُرْوَةَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أُرِيدُ الحَجَّ، وإيّاهُ نَوَيْتُ، فإن تَيَسَّرَ، والأ فعُمْرَةٌ. فإن نَوَى الاشْتِراطَ ولم يَتَلَفَّظْ به، احْتَمَلَ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه تابعٌ لعَقْدِ الإحْرام، والإحْرامُ يَنْعَقِدُ بالنيَّةِ، فكذلك تابِعُه، واحْتَمَلَ أنه لابدَّ مِن القولِ؛ لأنَّه اشْتِرَاطٌ، فاعْتُبِرَ فيه القولُ، كالاشْتِراطِ في النَّذْرِ والاعْتِكافِ والوُقُوفِ، ويَدُل عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابن عباس: «قُولِى مَحِلِّى مِنَ الأرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِى». 1160 - مسألة: (وهو مُخَيَّرٌ بينَ التَّمتُّعِ والإفْرادِ والقِرانِ) لا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ في جَوازِ الإحْرامِ بأىِّ الأنْساكِ الثَّلاَثةِ شاء، وقد دَلَّ على ذلك قولُ عائِشَةَ، رَضِىَ الله عنها: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،

1161 - مسألة: (وأفضلها التمتع، ثم الإفراد)

وَأفْضَلُهَا التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الْإفْرَادُ. وَعَنْهُ، إنْ سَاقَ الْهَدْىَ، فَالْقِرَانُ أفْضَلُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فمِنَّا مَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومِنّا مَن أهَل بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، ومنّا مَن أهَلَّ بحَجٍّ. مُتفَقٌ عليه (¬1). فذَكَرَتِ التَّمَتُّعَ والقِرانَ والإِفْرادَ. 1161 - مسألة: (وأفْضَلُها التَّمَتُّعُ، ثم الإفْرادُ) ثم القِرانُ (وعنه، إن ساق الهَدْىَ، فالقِرانُ أفْضَلُ، ثم التَّمَتُّعُ) أفْضَلُ الأنْساكِ التَّمَتُّعُ، ثم الإفْرادُ، ثم القِرانُ. ومِمَّن رُوِىَ عنه اخْتِيارُ التمَتُّعِ؛ ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، وابنُ الزُّبَيْرِ، وعائِشَةُ، والحسنُ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، وسالِمٌ، والقاسِمُ، وعِكْرِمَةُ، وأحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ. وروَى المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ، إن ساقَ الهَدْىَ، فالقِرانُ أفْضَلُ، وإن لم يَسُقْه، فالتَّمَتُّعُ أفْضَلُ؛ لأن النبىَّ - صلي الله عليه وسلم - قَرَن حينَ ساقَ الهَدْىَ، ومَنَع كلَّ مَن ساق الهَدْىَ مِن الحِلِّ حتى يَنْحَرَ هَدْيَه. وذَهَب الثَّوْرِىُّ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، من كتاب الحيض، وفى: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب حجة الوداع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 1/ 87، 2/ 175، 5/ 225. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 870 - 873. كما أخرجه أبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 412. والإمام مالكٌ، في: باب إفراد الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 335. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 119. وتقدم بعضه في صفحة 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأْىِ إلى اخْتِيارِ القِرانِ؛ لِما روَى أنَسٌ، -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - أهَلَّ بهما جَمِيعًا: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1) وحديثُ الصُّبَىِّ (¬2) بنِ مَعْبَدٍ، حينَ أحْرَمَ بهما، فأتَى عُمَرَ فسَأله، فقالَ: هُدِيتَ لسُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلي الله عليه وسلم - (¬3). ورُوِىَ عن مَرْوانَ ابنِ الحَكَمِ، قال: كُنْتُ جالِسًا عندَ عثمانَ بنِ عَفّانَ، فسَمِعَ عليًّا يُلبِّى بعُمْرَةٍ وحَجٍّ، فأرْسَلَ إليه، فقالَ: ألم نَكُنْ نَهَيْنا عن هذا؟ قال: بلى، ولكنْ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - يُلبِّى بهما جَمِيعًا، فلم أكُنْ أدَعُ قولَ (¬4) رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لقَوْلِكَ. رَواه سعيدٌ (¬5). ولأن القِرانَ مُبادَرَةٌ إلى فِعْل ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب بعث على بن أبى طالب. . . . إلى اليمن، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 208/ 5. ومسلم، في: باب في الإفراد والقران، وباب إهلال النبى - صلى الله عليه وسلم - وهديه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 905، 915. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 417/ 1. والترمذى، في: باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 38/ 4. والنسائى، في: باب القران، من كتاب المناسك. المجتبى 116/ 5، 117. وابن ماجه، في: باب الإحرام، وباب من قرن الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 973، 989. والدارمى، في: باب في القران، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 53/ 2، 99/ 3، 100، 187. (¬2) في م: «الضبى». (¬3) تقدم تخريجه صفحة 8. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) وأخرجه البخارى، في: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 175/ 2، 176. والنسائى، في: باب القران، من كتاب المناسك. المجتبى 115/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِبادَةِ، وإحْرامٌ بالنُّسُكَيْن مِن المِيقاتِ، وفيه زِيادَةُ نُسُكٍ هو الدَّمُ، فكانَ أوْلَى. وذَهَب مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ إلى اخْتِيارِ الإفْرادِ. وهو ظاهِر مَذْهَبِ الشافعىِّ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وعثمانَ، وابنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، وعائشَةَ، رَضِىِ الله عنهم؛ لِما رَوَتْ عائِشَةُ، وجابِرٌ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أفْرَدَ الحَج. مُتَّفق عليهما (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ مثلُ ذلك. مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). ولأنَّه يَأْتِي بالحَجِّ تامًّا مِن غيرِ احْتِياجٍ إلى جَبْرٍ، فكانَ أوْلَى. قال عثمانُ: ألا إنَّ الحَجَّ التامَّ مِن أهْلِيكُم، والعُمْرَةَ التامَّةَ مِن أهْلِيكُم. وقال إبراهيمُ: إنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ وابنَ مسعودٍ وعائِشَةَ، كانُوا يُجَرِّدُون الحَجَّ. ولَنا، ما روَى ابن عباس، وجابِرٌ، وأبو موسى، وعائِشَة، رَضِىَ اللهُ عنهم، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أصحابَه لَمّا طافُوا بالبَيْتِ، أنْ يَحِلوا، ويَجْعَلُوها عُمْرَةً (¬3). فنَقَلَهم مِن الإفْرادِ والقِرانِ إلى المُتْعَةِ. ¬

(¬1) أخرجهما البخارى في: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 175، 176. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 871، 873، 875، 881. (¬2) في النسخ: «عليه» والمثبت من المغنى. وأخرج حديث ابن عمر البخارى، في: باب في بعث على بن أبى طالب. . . . إلى اليمن. . . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 208. ومسلم، في: باب الإفراد والقران، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 904، 905.كما أخرج حديث ابن عباس البخارى، في: باب التمتع والإقران والإفراد كالحج. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 175. ومسلم، في: باب جواز العمرة في أشهر الحج، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 909. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب كم أقام النبى - صلى الله عليه وسلم - في حجته، من كتاب التقصير، وفى: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب أيام الجاهلية، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 2/ 54، 175، 5/ 51، 52. ومسلم، في: باب جواز العمرة في أشهر الحج، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 909 - 911. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليها، ولا يَنْقُلُهم إلَّا إلى الأفْضَلِ، ولم يُخْتَلَفْ عن النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - أنَّه لَمّا قَدِم مَكَّةَ أمَرَ أصحابَه أنَّ يَحِلُّوا، إلَّا مَن ساق هَدْيًا، وثَبَت على إحْرامِه، وقال: «لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْىَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَة». قال جابِرٌ: حَجَجْنا مع النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - يومَ ساقَ البُدْنَ معه، وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقالَ لهم: «حِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً». فقالُوا: كيفَ نَجْعَلُها عُمْرَةً وقد سَمَّيْنا الحَجَّ؟ فقالَ: «افْعَلُوا مَا أمَرْتُكُم بِه، فَلَوْلَا أنِّى سُقْتُ الهَدْىَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أمَرْتُكُمْ بِهِ». وفى لَفْظٍ: فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «قَدْ عَلِمتُمِ أنِّى أتْقَاكُمْ لِلهِ، وَأصْدَقُكُمْ، وأبرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَو اسْتَقبَلْتُ مِنْ أمْرِىْ مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ». فحَلَلْنا، وسَمِعْنا وأطعْنا. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). فنَقَلَهُم إلى التَّمَتُّعِ وتَأسَّفَ إذْ لم يُمْكِنْه ذلك، فدَلَّ على ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 415. والنسائى: في: باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسبق الهدى، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 141، 142. (¬1) أخرج الأول البخارى، في: باب تقضى الحائض المناسك كلها. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب عمرة التنعيم، من كتاب العمرة، وفى: باب الاشتراك في الهدى. . . .، من كتاب الشركة، وفى: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، من كتاب التمنى، وفى: باب نهى النبى - صلي الله عليه وسلم - عن التحريم إلا ما تعرف إباحته، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 2/ 195، 196، 3/ 4، 5، 185، 9/ 103، 137، 138. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 879. كما أخرجه أبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 415. وابن ماجه، في: باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1023، 1024. والدارمى، في: باب في سنة الحاج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 46. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 253، 259، 3/ 148، 266، 305، 317، 320، 364، 366. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَضْلِه. ولأنَّ التَّمَتُّعَ مَنْصُوصٌ عليه في كتاب اللهِ تعالى، بقوْلِه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (¬1). دُونَ سائِرِ الأَنْساكِ. ولأنَّ التَّمَتُّعَ يَجْتَمِعُ له الحَجُّ والعُمْرَةُ في أشْهُرِ الحَجِّ، مع كَمالِهما وكَمالِ أفْعالِهما على وَجْهِ اليُسْرِ والسُّهُولَةِ، مع زِيادَةِ نُسُكٍ، فكانَ أوْلَى، فأمّا القِرانُ فإنَّما يُؤْتَى فيه بأفْعالِ الحَجِّ، وتَدْخُلُ أفْعالُ العُمْرَةِ فيه، والمُفْرِدُ إنَّما يَأْتِى بالحَجِّ وَحْدَه، وإنِ اعْتَمَرَ بعدَه مِن أدْنَى الحِلِّ، فقد اخْتُلِفَ في إجْزائِها عن عُمْرَةِ الإسْلامِ، وكذلك اخْتُلِفَ في إجْزاءِ عُمْرَةِ القارِنِ، ولا خِلافَ في إجْزاءِ عُمْرَةِ المُتَمَتعِ، فكان أوْلَى. فأمّا حُجَّتُهم بفِعْلِ النبىِّ - صلي الله عليه وسلم -، ففيها أجْوِبَة: أحَدُها، مَنْعُ أنَّ يَكُونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْرِمًا بغيرِ التَّمَتُّعِ؛ لأمُورٍ؛ أوَّلُها، أنَّ رُواةَ أحاديثِهم قد رَوَوْا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَمَتَّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، رَواه ابنُ عُمَرَ، وعائِشَةُ، وجابِرٌ، رَضِىَ الله عنهم، مِن طُرُق صِحاحٍ، فسَقَطَ الاحْتِجاجُ بها. وثانِيها، أنَّ رِوايَتَهم اخْتَلَفَتْ، فرَوَوْا مَرَّةً أنَّه أفْرَدَ، ومَرَّةً أنَّه تمَتَّعَ، ومَرةً أنَّه قَرَن، والقَضِيَّةُ واحِدَةٌ، ¬

= والحديث الثانى أخرجه البخارى، ق: باب التمتع والإقران والإفراد. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 176. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 884، 885. (¬1) سورة البقرة 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَها، فوجَبَ اطِّراحُ الكلِّ، وأحادِيثُهم في القِرانِ أصَحُّها حديثُ أنَسٍ، وقد أنكَرَه ابنُ عُمَرَ، فقالَ: رَحِمَ الله أنَسًا، ذَهَل أنَسٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفى رِوايَة: كان أنَسٌ يَتَوَلَّجُ على النِّساءِ. أى كان صَغِيرًا. وحديثُ علىٍّ (¬2) رواه حَفْصُ بنُ أبى داودَ، وهو ضَعِيفٌ، عن ابنِ أبِى لَيْلَى، وهو كَثِيرُ الوَهْمِ. قاله الدَّارَقُطنيُّ. وثالِثُها، أنَّ أكْثَرَ الرِّواياتِ، أنَّ النبىَّ - صلي الله عليه وسلم -، كان مُتَمَتِّعًا. روَى ذلك عُمَرُ، وعَلىٌّ، وعثمانُ، وسَعْدُ بنُ أبِى وَقَّاصٍ، وابنُ عباس، وابنُ عُمَرَ، ومُعاويَةُ، وأبو موسى، وجابِرٌ، وعائِشَةُ، وحَفْصَةُ، بأحادِيثَ صِحاحٍ. وإنَّما مَنَعَه مِن الحِلِّ الهَدْىُ الذى كان معه، ففى حديثِ عُمَرَ (¬3)، أنَّه قال: إنِّى لأنْهاكُمْ (¬4) عن المُتْعَةِ، وإنَّها لفى كتابِ اللهِ، ولقد صَنَعَها رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - (¬5). يَعْنى العُمرَةَ في الحَجِّ. وفى حديثِ عليٍّ، أنَّه اخْتَلَفَ هو وعثمانُ في المُتْعَةِ بعُسْفانَ (¬6)، فقالَ علىٌّ: ما تُرِيدُ الى أمْرٍ فَعَلَه رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - تَنْهَى عنه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 152. وقوله: يرحم الله أنسًا، ذهل أنس. لم نجده، وعند مسلم والنسائى والدارمي: قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، أى بحديث أنس، فقال: لبى بالحج وحده. فلقيت أنسًا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا!!. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 152. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «لا أنهاكم». (¬5) أخرجه النسائي، في: باب التمتع، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 119. (¬6) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. معجم البلدان 3/ 673.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وللنَّسائِيِّ (¬2)، قال عليٌّ لعثمانَ: ألم تَسْمَعْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَمَتَّعَ؟ قال: بلى. وعن ابنَ عُمَرَ، قال: تَمَتَّعَ رسولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ. وعنه أنَّ حَفْصَةَ قالت للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما شَأْنُ النّاسِ حَلُّوا مِن عُمْرَتِهم، ولم تَحْلِلْ أنت مِن عُمْرَتِك؛ قال: «إنِّى لَبَّدْتُ رَاسِى، وَقَلدْتُ هَدْيىِ، فَلَا أَحلْ حَتّى أنْحَرَ» مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). وقال سعدٌ: صَنَعَها رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -، وصَنَعْناها معه (¬4). وهذه الأحاديثُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند البخارى والنسائى في صفحة 152. وأخرجه مسلم، في: باب جواز التمتع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 897. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 57، 60. وعند مسلم 2/ 896، والإِمام أحمد 4/ 61 عن عبد الله بن شقيق بنحوه. (¬2) في: باب التمتع، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 118. (¬3) أخرج الأول البخارى، في: باب من ساق البدن معه، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 205. ومسلم، في: باب وجوب الدم على المتمتع. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 901. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 419. والنسائى، في: باب التمتع، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 117، 118. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 139، 140. وأخرج الثانى البخارى، في: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج. . . .، وباب فتل القلائد للبدن والبقر، وباب من لبد رأسه عند الإحرام وحلق، من كتاب الحج، وفى: باب حجة الرداع، من كتاب المغازى، وفى: باب التلبيد، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 2/ 175، 207، 213، 5/ 222، 7/ 209. ومسلم، في: باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 902، 903. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 420. والنسائي، في: باب التلبيد عند الإحرام، وباب تقليد الهدى، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 104، 134. وابن ماجه، في: باب من لبد رأسه، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1012، 1013. والإمام مالك، في: باب ما جاء في النحر في الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 393، 394. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 124، 6/ 283، 284، 285. (¬4) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في التمتع، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 39. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راجِحَةٌ؛ لأنَّ رُواتَها اكْثرُ وأعلَمُ، وِلأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخْبَرَ بالمُتْعَةِ عن نَفْسِه في حديثِ حَفْصَةَ، فلا يُعارِضُ خبَرَه غيرُه. ولأنَّه يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَ الأحاديثِ، بأن يَكُونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحْرَمَ بالمُتْعَةِ، ثم لم يَحِلَّ منها لأجْل هَدْيِه حتى أحْرَمَ بالحَجِّ، فصار قارِنًا، وسَمّاه مَن سَمّاه مُفْرِدًا؛ لأنَّه اشْتَغلَ بأفْعالِ الحَجِّ وَحْدَها بعدَ فَراغِه مِن أفْعالِ العُمْرَةِ، فإنَّ الجَمْعَ بينَ الأحادِيثِ مهما أمْكَنَ أوْلَى مِن حَمْلِها على التَّعارُضِ. الوَجْهُ الثّانِى مِن الجوابِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَ أصحابَه بالانْتِقالِ الى المُتْعَةِ عن الإِفْرادِ والقِرانِ، ولا يَأْمُرُهم إلَّا بالانْتقالِ الى الأفْضَلِ، فإنَّه مِن المُحالِ أنَّ يَنْقُلَهم مِن الأفْضَلِ الى الأدْنَى، وهو الدّاعِى الى الخَيْرِ، الهادِى (¬1) إلى الفَضْلِ، ثم أكَّدَ ذلك بتَأسُّفِه على فَواتِ ذلك في حَقِّه، ولأنَّه لم يَقْدِرْ على انْتِقالِه وحِلِّه؛ لسَوقِه الهَدْىَ، وهذا ظاهِرُ الدَّلالَةِ. الثّالِثُ، أنَّ ما ذَكَزناه قولُ النبىِّ - صلي الله عليه وسلم -، وهم يَحْتَجُّون بفِعْلِه، وعندَ التَّعارُضِ يَجِبُ تَقْدِيمُ القولِ؛ لاحْتِمالِ اختِصاصِه بفِعْلِه دُونَ غيرِه، كنَهْيِه عن الوصالِ مع فِعْلِه له، ونكاحِه بغيرِ وَليٍّ مع قَوْله: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلىٍّ» (¬2). فإن قِيلَ: فقد قال أبو ذَرٍّ: كانت مُتْعَةُ الحَجِّ لأصحابِ ¬

= والنسائي، في: باب التمتع، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 118. والإمام مالك، في: باب ما جاء في االتمتع، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 344. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 174. (¬1) في الأصل: «الداعى». (¬2) ذكره البخارى في الترجمة، في: باب من قال لا نكاح الا بولى، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 19. وأخرجه أبو داود، في: باب الولى، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 481. والترمذى، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً. رَواه مسلم (¬1). قُلْنا: هذا قولُ صحابيِّ، يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ والإجْماعَ وقولَ مَن هو خَيْرٌ منه (¬2) وأعْلَمُ. أمّا الكِتابُ فَقَوْلُه سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (¬3). وهذا عامٌّ. وأجْمَعَ المسلمون على إباحَةِ التَّمَتُّعِ. وأمّا السُّنَّةُ، فرَوَى سعيدٌ، بإسْنادِه، أنَّ سُراقَةَ بنَ مالك سَأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: المُتْعَةُ لنا خاصَّةً، أم هى للأبَدِ؟ قال: «بَلْ هِىَ لِلأبَدِ». وفى لَفظٍ، قال: هى لعامِنا، أو للأبَدِ؟ قال: «بَلْ لأبَدِ الأبدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إلَى يَوْم الْقِيَامَةِ» (¬4). وفى حديثِ جابِر الذى رَواه مسلمٌ (¬5) في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - نَحْوُ هذا. ¬

= في: كتاب ما جاء لا نكاح إلا بولى، وباب ما جاء في استثمار البكر والثيب، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 26. وابن ماجه، في: باب لا نكاح إلا بولى، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 605. والدارمى، في: باب النهى عن النكاح بغير ولى، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 137. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 250، 4/ 394، 413، 418، 6/ 260 (¬1) في: كتاب جواز التمتع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 897. كما أخرجه النسائى، في: باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدى، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 140، 141. واين ماجه، في: باب من قال كان فسخ الحج لهم خاصة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 994. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 469. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 196. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب عمرة التنعيم، من كتاب العمرة، وفى: باب الاشترك في الهدى والبدن. . . .، من كتاب الشركة، وفى: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، من كتاب التمنى. صحيح البخارى 5/ 3، 185، 6/ 103. ومسلم، في: باب حجة النبى - صلي الله عليه وسلم -، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 888. وابن ماجه، في: باب فسخ الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 992، 993. (¬5) يأتي تخريجه في باب صفة الحج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَعْناه، واللهُ أعْلَمُ، أنَّ الجاهِلِيَّةَ كانُوا لا يُجِيزُون التَّمتُّعَ، ويَرُوْن العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِن أفْجَرِ الفُجُورِ، فبَيَّنَ النبىُّ - صلي الله عليه وسلم - أنَّ اللهَ تعالى قد شَرَع العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ، وجَوَّز المُتْعَةَ إلى يومِ القِيامَةِ. وقد خالَفَ أبا ذَرٍّ عليٌّ، وسعدٌ، وابنُ عباس، وابنُ عُمَرَ، وعِمرانُ بنُ حُصَيْن، وسائِرُ المسلمين. قال عِمْرانُ: تَمَتَّعْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونَزَل فيه القُرْآنُ، ولم يَنْهَنا عنه رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -، ولم يَنْسَخْها شئٌ، فقالَ فيها رجلٌ برَأْيِه ما شاءَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال سعدُ بنُ أبِي وَقَّاص: فَعَلْناها مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِى المُتْعَةَ - وهذا يَوْمَئِذٍ كافِرٌ بالعُرُشِ (¬2). يَعْنِى النّاهِىَ عَنْها. والعُرُشُ: بُيُوتُ مَكَّةَ. قال أحمدُ، حينَ ذُكِرَ له حديثُ أبى ذَرٍّ: أفيقُولُ بهذا أحَدٌ؟ المُتْعَةُ في كِتابِ اللهِ تعالى، وقد أجْمَعَ المُسْلِمُون على جَوازها. فإن قِيلَ: فقد روَى أبو داودَ (¬3)، بإسْنادِه، أنَّ رجلًا مِن أصْحابِ النبى - صلي الله عليه وسلم - أتَى عُمَرَ، فشَهِدَ عندَه أنَّه سَمِع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن العُمْرَةِ قبلَ الحَجِّ. قُلْنا: هذا حالُه في مُخالَفَةِ الكِتابِ والسُّنةِ والإجْماعِ كحالِ حديثِ أبى ذَرٍّ، بل هو أدْنَى حالًا، فإنَّ في ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب التمتع، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 176. ومسلم، في: باب جواز التمتع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 899، 900. كما أخرجه النسائي، في: باب القران، وباب التمتع، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 116، 120. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 438، 439. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب جواز التمتع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 898. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 181. (¬3) في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 416.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إسْنادِه مقالًا. فإن قِيلَ: فقد نَهَىِ عنها عُمَرُ، وعثمانُ، ومُعاويَةُ. قُلْنا: فقد أنْكَرَ عليهم عُلَماءُ الصحابةِ نهْيَهم عنها، وخالَفُوهم في فِعْلِها، وقد ذَكَرْنا إنْكارَ عليٍّ على عثمانَ، واعْتِرافَ عثمانَ له، وقولَ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ مُنْكِرًا لنَهْىِ مَن نَهَى، وقولَ سَعْدٍ عاتِبًّا على مُعاوِيَةَ نَهْيَه عنها، وَرَدَّهم عليهم بحُجَجٍ لم يَكُنْ لهم عنها جَوابٌ، بل ذَكَر بعضُ مَن نَهَى في كَلامِه الحُجَّةَ عليه، فقالَ عُمَرُ، رَضِىَ الله عنه: والله إنِّى لأنهاكُم عن المُتْعَةِ، وإنَّها لفى كِتابِ الله، وقد صَنَعَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولا خِلافَ في أنَّ مَن خالَفَ كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه حَقِيقٌ بأن لا يُقبَلَ نَهْيُه، ولا يُحْتَجَّ به، مع أنَّه قد سئِلِ سالِمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، أنهَى عُمَرُ عن المُتْعَةِ؟ قال: لا، والله ما نهَي عنها عُمَرُ، ولكن قد نهَى عنها عثمانُ. ولَمّا نَهَى مُعاوِيَةُ عن المُتْعةِ أمَرَت عائِشَةُ حَشَمَها ومَواليَها أنَّ يُهِلُّوا بها، فقالَ مُعاويَةُ: مَن هؤلاء؟ فقِيل: حَشَمُ أو مَوالِى عائِشَةَ. فأرْسَلَ إليها: ما حَمَلَكِ على ذلك؟ فقالَت: أحْبَبْتُ أنَّ يُعْلَمَ أنَّ الذى قُلْتَ ليس كما قُلْتَ. وقِيلَ لابنِ عباسٍ: إنَّ فُلانًا نَهَى عن المُتْعَةِ. قال: انْظُرُوا في كتابِ الله، فإن وَجَدْتُمُوها فيه، فقد كَذَب على اللهِ، وعلى رسول، وإن لم تَجِدُوها فقد صَدَق. فأيُّ الفَرِيقَيْن أحَقُّ بالاتِّباعِ وأوْلَى بالصَّوابِ؟ الذين معهم كتابُ الله وسُنَّةُ رسول، أم الذين يُخالِفُونهما؟ ثم قد ثَبَتَ عن النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - الذى قَوْلُه حُجَّةٌ على الخَلْقِ أجْمَعِين، فكيفَ يُعارَضُ بقَوْلِ غيرِه؟ قال سعيدُ ¬

(¬1) حديث عمر تقدم في صفحة 156.

1162 - مسألة: (وصفة التمتع؛ أن يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، ويفرغ منها، ويحرم بالحج من مكة أو من قريب منها فى عامه. والإفراد أن يحرم بالحج مفردا. والقران أن يحرم بهما جميعا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج. ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، لم يصح إحرامه بها)

وَصِفَةُ التَّمَتُّعِ؛ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَفْرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهَا فِى عَامِهِ. وَالإِفْرَادُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ. وَلَوْ أحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ جُبَيْر، عن ابنِ عباس، قال: تَمَتعَ رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -. فقالَ عُرْوَةُ: نَهَى أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، رَضِىَ الله عنهما، عن المُتْعَةِ. فقالَ ابنُ عباسٍ: أراهم سَيَهْلِكُون. أقُولُ: قال النبىُّ - صلي الله عليه وسلم -، ويَقُولُون (¬1) نَهَى عنها أبو بَكْرٍ وعُمَرُ. وسُئِل ابنُ عُمَرَ عن مُتْعَةِ الحَجِّ، فأمَرَ بها، فقالَ (¬2): إنَّكَ تُخالِفُ أباكَ. فقالَ: عُمَرُ لم يَقُلِ الذى تَقُولُون. فإذا أكْثرُوا عليه، قال: أفكِتابُ اللهِ أحَق أنَّ تَتَّبِعُوا أم عُمَرُ؟ (¬3). روَى الأْثْرَمُ هذا كُلَّه. 1162 - مسألة: (وصِفَةُ التَّمَتُّعِ؛ أنَّ يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ، ويَفْرَغَ منها، ويُحْرِمَ بالحَج مِن مَكَّةَ أو مِن قَريبٍ منها في عامِه. والإِفرادُ أنَّ يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفرَدًا. والقِرانُ أنَّ يُحْرِمَ بهما جَمِيعًا، أو يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ ثم يُدْخِلَ عليها الحَجَّ. ولو أحْرَمَ بالحَجِّ ثم أدْخَلَ عليه العُمْرَةَ، لم يَصِحَّ إحْرامُه بها) إذا أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ قبلَ طَوافِها مِن ¬

(¬1) في الأصل: «يقول». (¬2) أى السائل. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب كراهية من كره القران والتمتع. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 21.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ خَوْفِ الفَواتِ، جاز، وكان قارِنًا بغيرِ خِلافٍ. وقد فَعَل ذلك ابنُ عُمَرَ، ورَواه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فأمّا بعدَ الطَّوافِ فليس له ذلك، ولا ¬

(¬1) حديث ابن عمر تقدم تخريجه في صفحة 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِيرُ قارِنًا. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. ورُوِى عن عَطاءٍ. وقال مالكٌ: يَصِيرُ قارِنًا. وحُكِىَ ذلك عن أبى حنيفةَ؛ لأنَّه أدْخَلَ الحَجَّ على إحْرامِ العُمْرَةِ، فصَحَّ، كما قبلَ الطَّوافِ. ولَنا، أنَّه قد شَرَع في التَّحَلُّلِ مِن العُمْرَةِ، فلم يَجُزْ إدْخالُ الحَجِّ عليها، كما بعدَ السَّعْىِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إلَّا أنَّ يَكُونَ معه هَدْىٌ، فله ذلك؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ حتى يَنْحَرَ هَدْيَه؛ لقَوْله سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1). فلا يَتَحَلَّلُ بطَوافِه، ويَتَعَيَّنُ عليه إدْخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ؛ لِئلَّا يَفُوتَه الحَجُّ، ويَصِيرُ قارِنًا، بخِلافِ غيرِه. ¬

(¬1) سورة البقرة 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا إدْخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ فلا يَجُوزُ، وإن فَعَل، لم يَصِحَّ، ولم يَصِرْ قارِنًا. رُوِىَ ذلك عن عليٍّ، رَضِىَ. اللهُ عنه. وبه قال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ ويَصِيرُ قارِنًا؛ لأنَّه أحَدُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النُّسُكَيْن، فجاز إدْخالُه على الآخَرِ، كالآخَرِ. ولَنا، أنَّه قولُ علي رَضِىَ الله عنه. رَواه عنه الأثْرَمُ. ولأنَّ إدْخالَ العُمْرَةِ على الحَجَّ لا يُفِيدُ (¬1) إلَّا ما أفادَه العَقدُ الأوَّلُ، فلم يَصِحَّ، كما لو اسْتَأجَرَه على عَمَلٍ، ثم اسْتَأجَرَه عليه ثانِيًا، وعَكْسُه إذا أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يفيده».

1163 - مسألة: (ويجب على المتمتع والقارن دم نسك، إذا لم يكونا من حاضرى المسجد الحرام؛ وهم أهل مكة، ومن كان منها دون مسافة القصر)

وَيَجِبُ عَلىَ الْمُتَمتِّعِ وَالْقَارِنِ [63 و] دَمُ نُسُكٍ، إذَا لَم يَكُونَا مِن حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ وَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ كَان مِنْهَا دُون مَسَافَةِ الْقَصْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1163 - مسألة: (ويَجِبُ على المُتَمَتِّعِ والقارنِ دَمُ نُسُكٍ، إذا لم يَكُونا مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ؛ وهم أهْلُ مَكةً، ومَن كان منها دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ) يَجِبُ الدِّمُ على المُتَمَتعِ في الجُمْلَةِ بالإجْماعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ مَن أهَلَّ بعُمرَةٍ في أشهُرِ الحَجَّ مِن أهْلِ الآفاقِ مِن المِيقاتِ، وقَدِم مَكَّةَ ففَرَغَ منها وأقامَ بها فحَجَّ مِن عامِه، أنَّه متَمَتعٌ، وعليه الهَدْىُ إن وَجَدَ، وإلَّا فالصِّيامُ. وقد نصَّ الله سبحانه عليه بقَوْلِه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ} الآية. وقال ابنُ عُمَرَ: تَمَتع الناسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -بالعُمْرَةِ الى الحَجِّ، فلَمّا قَدِم رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم -، قال للنّاسِ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَطُف بِالْبَيْتِ، وَبالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، ثُمِّ لْيُهِل بالحَجِّ، وَيُهْدِى، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَليَصُمْ ثَلَاَثةَ أيَّامٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحَجِّ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعنَ أبى جَمْرَةَ (¬2)، قال: سَألْتُ ابنَ عباس عن المُتْعَةِ، فأمَرَنِى بها، وسَألْتُه عن الهَدْىِ، فقالَ: فيها جَزُورٌ أو بَقَرَة أو شِرْكٌ (¬3) في دَمٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). فصل (¬5): والدَّمُ الواجِبُ شاةٌ، أو سُبْع بَدَنَةٍ، أو بَقَرَةٍ (¬6)، فإنْ نَحَرَ بَدَنَةً، أو ذَبَح بَقَرَةً، فقد زادَ خَيْرًا. وبه قال الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وقال مالكٌ: لا يُجزِيءُ إلَّا بَقَرَةٌ (6)؛ لأنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 157. (¬2) في م: «حمزة». (¬3) أى مشاركة في دم، حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب التمتع والإقران. . . .، وباب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 176، 204. ومسلم، في: باب جواز العمرة في أشهر الحج، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 911. (¬5) في م: «مسألة». (¬6) في م: «بدنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبى - صلي الله عليه وسلم - لَمّا تَمَتعَ ساق بَدَنَةً. والذى ذَكَره تَرْكٌ لظاهِرِ القُرْآنِ؛ لأنَّه سبْحانَه قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.واطِّراحُ الآثارِ الثّابِتَةِ. وما احْتَجُّوا به فلا حُجَّةَ فيه؛ فإنَّ إهْداءَ النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - للبَدَنةِ لا يَمْنَعُ إجْزاءَ ما ذونَها، فإنَّ النبىَّ - صلي الله عليه وسلم - قد ساق مائَةَ بَدَنَةٍ، ولا خِلافَ في أنَّ ذلك ليس بواجب، فلا يَجِبُ أنَّ تَكونَ البَدَنَة التى (¬1) يَذْبَحُها على صِفَةِ بُدْنِ النبىِّ - صلي الله عليه وسلم -، ثم إنَّهم يقُولُون: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُفْرِدًا في حَجَّتِه. ولذلك ذَهَبُوا إلى تَفْضِيلِ الإفْرادِ، فكيفَ يَكون سَوْقه للبَدَنةِ دَلِيلًا لهم في التَّمَتُّعِ، ولم يَكنْ متَمَتِّعًا! فصل: وإنَّما يَجِبُ الدم بشُروطٍ خَمْسَةٍ؛ أوَّلُها، أنَّ يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشْهرِ الحَجِّ، فإن أحْرَمَ بها في غيرِ أشْهُرِه لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، ولا يَلْزَمُه دَمٌ، سَواءٌ وَقَعَت أفْعالها في أشْهُرِ الحَجِّ، أو في غيرِه. نَصَّ عليه. قال الأثْرَمُ: سَمِعْت أبا عَبدِ اللهِ، سُئِلَ عن (¬2) مَنْ أهَل بعُمْرَةٍ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ثم قَدِم في شَوّالٍ، أيَحِلُّ في عُمْرَتِه مِن شوالٍ، أو يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؟ ¬

(¬1) في م: «الذى». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: لا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. واحْتَجَّ بحديثِ جابِر (¬1)، وذَكَر إسْنادَه عن أبِى الزُّبَيْرِ، أنَه سَمِع جابِر بنَ عبدِ اللهِ، يُسْألُ عن امْرَأةٍ تَجْعَلُ على نَفْسِها عُمْرَةً في شهر مُسَمًّى،. ثم يَخْلُو إلَّا لَيْلَةً واحِدَةً، ثم تَحِيضُ؟ قال: لتَخْرُجْ، ثم لتُهِلَّ بعُمْرَةٍ، ثم لتَنتَظِرْ حتى تَطْهُرَ، ثم لتَطُفْ بالبَيْتِ. قال أبو عبدِ اللهِ: فجَعَلَ عُمْرَتَها في الشَّهْرِ الذى حَلَّتْ فيه. ولا نَعْلَمُ بينَ أهْلِ العِلْمِ خِلافًا أنَّ مَن اعْتَمَرَ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، وفَرَغ مِن عُمْرَتِه قبلَ أشْهُرِ الحَجِّ، أنَّه لا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، إلَّا قَوْلَين شاذَّين؛ أحَدُهما، عن طاوُسٍ، أنَّه قال: إذا اعْتَمَرْت في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ثم أقَمْتَ حتى الحَجِّ، فأنْتَ مُتَمَتِّعٌ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب نذر العمرة في شهر مسمى، من كتاب الحج. السنن الكبرى 85/ 10.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والآخَرُ، عن الحسنِ، أنَّه قال: مَن اعْتَمَرَ بعدَ النَّحْرِ، فهى مُتْعَةٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلَمُ أحَدًا قال بواحِدٍ مِن هذَيْن القَوْلَيْن. فأمّا إن أحْرَمَ بالعُمْرَةِ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ثم حَلَّ منها في أشْهُرِ الحَجِّ، فإنَّه لا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، على ما ذَكَرْناه عن أحمدَ. ونُقِلَ مَعْنَى ذلك عن جابِرٍ، وأبِى عِياضٍ (¬1). وهو قولُ إسْحاقَ، وأحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ. وقال طاوُمن: عُمْرَتُه في الشهْرِ الذى يَدْخُلُ فيه الحَرَمَ. وقال الحسنُ، والحَكَمُ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: عُمْرَته في الشَّهْرِ الذى يَطُوفُ فيه. وقال عَطاءٌ: عُمْرَتُه في الشَّهْرِ الذى يَحِلُّ فيه. ¬

(¬1) عمرو بن الأسود العنسى أبو عياض، تابعى من العلماء الثقات، توفى في خلافة معاوية. تهذيب التهذيب 8/ 4 - 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن طاف للعُمْرَةِ أرْبَعَةَ أشْواطٍ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ فليس بمُتَمَتِّعٍ، وإن طاف الأرْبَعَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ فهو مُتَمَتِّعٌ؛ لأن العُمْرَةَ صَحَّتْ في أشْهُرِ الحَجِّ، بدَلِيلِ أنَّه لو وَطِى أفْسَدَها، أشْبَهَ إذا أحْرَمَ بها في أشْهُرِ الحَجِّ. ولَنا، ما ذَكَرْناه عن جابِر، ولأنَّه أتَى بنُسُكٍ لا تَتِمُّ العُمْرَةُ إلَّا به في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، فلم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، كما لو طاف. ويُخَرَّجُ. عليه ما قاسُوا عليه. الثّانِى، أنَّ يَحُجَّ من عامِه، فإنِ اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ فلم يَحُجَّ ذلك العامَ، بل حَجَّ من العامِ القابِلِ، فليس بمُتَمَتِّع. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا قولًا شاذًّا عن الحسنِ في مَن اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ، فهو مُتَمَتِّعٌ، حَجَّ أو لم يَحُجَّ. والجُمْهُورُ على خِلافِ هذا؛ لأن اللهَ تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. وهذا يَقْتَضِى المُوالاةَ بينَهما، ولأنَّهم إذا أجْمَعُوا على أنَّ مَن اعْتَمَرَ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ثم حَجَّ مِن عامِه، فليس بمُتَمَتِّعٍ، فهذا أوْلَى؛ لأنَّ التَّباعُدَ بينَهما أكْثَرُ. الثّالِثُ، أنَّ لا يُسافِرَ بينَ العُمْرَةِ والحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ في مِثْلِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ. نَصَّ عليه. ورُوِىَ ذلك عن عَطاءٍ، [والمُغِيرَةِ المدينىِّ] (¬1)، وإسْحاقَ. وقال الشافعىُّ: إن رَجَع إلى المِيقاتِ فلا دَمَ عليه. وقال أصْحابُ الرَّأْىِ: إن رَجَع مِن مِصْرِه بَطَلَتْ مُتْعَتُه، وإلَّا فلا. وقال مالكٌ: إن رَجَع إلى مِصْرِه أو إلى غيرِه أبْعَدَ مِن مِصْرِه بَطَلَتْ مُتْعَتُه، وإلَّا فلا. وقال الحسنُ: هوِ مُتَمَتِّعٌ وإن رَجَع إلى بَلَدِه. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لعُمُومِ قَوْلِه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية. ولَنا، ما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه قال: إذا اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ ثم أقامَ، فهو مُتَمَتِّعٌ، فإن خرَج ورَجع، فليس بمُتَمَتِّعٍ. وعن ابنِ عُمَرَ نحوُ ذلك. ¬

(¬1) في م: «والمغيرة والمدينى». وهو المغيرة بن عبد الرحمن المخزومى، فقيه المدينة بعد مالك، ومات بعده بسبع سنين. انظر ترجمته ق تهذيب التهذيب 10/ 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه إذا رَجَع إلى المِيقاتِ أو ما دُونَه لَزِمَه الإحْرامُ منه، فإذا كان بَعِيدًا، فقد أنْشَأ سَفَرًا بَعِيدًا لحَجِّه، فلم يَتَرَفَّهْ بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرَيْن، فلم يَلْزَمْه دَمٌ، كموضِعِ الوِ فاق. والآيَةُ تَناوَلَتِ المُتَمَتِّعَ، وهذا ليس بمُتَمَتِّعٍ؛ بدَلِيلِ قولِ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنه. الرّابعُ، أنَّ يَحِل مِن إحْرامِ العُمْرَةِ قبلَ إحْرامِه بالحَجِّ، فإن أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ قبلَ حِلِّه منها، كما فَعَل النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه يَصِيرُ قارِنًا، ولا يَلْزَمُه دَمُ المُتْعَةِ. قالَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها: خَرَجْنا مع النبىِّ - صلي الله عليه وسلم - عامَ حَجَّةِ الوَداعِ، فأهْلَلْنا بعُمْرَةٍ، فقَدِمْتُ مَكَّةَ وأنا حائِضٌ، لم أطُفْ بالبَيْتِ، ولا بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذلك إلى النبىِّ - صلي الله عليه وسلم -، فقالَ: «انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأهِلِّى بالْحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَةَ». قالَتْ: ففَعَلْتُ، فلَمّا قَضَيْنا الحَجَّ أرْسَلَنِى رسولُ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - مع عبدِ الرحمنِ بنِ أبِى بَكْر إلى التَّنْعِيمِ، فاعْتَمَرْتُ معه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالَ: «هذِهِ عُمْرَة مَكَانَ عُمْرَتِكِ». قال عُرْوَةُ: فقَضَى اللهُ حَجتَها وعُمْرَتَها، ولم يَكُنْ في شئٍ مِن ذلك هَدْيٌ ولا صَوْمٌ ولا صَدَقَةٌ. مُتُّفَقٌ عليه (¬1). ولكن عليه دَمٌ للقِرانِ؛ لأنَّه صار قارِنًا، وتَرَفَّهَ بسُقُوطِ أحَدِ السَّفَرَيْن. فأمّا قولُ عُرْوَةَ: لم يَكُنْ في ذلك هَدْيٌ. يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ لم يَكُنْ فيه هَدْيٌ للمُتْعَةِ، إذ قد ثَبَت أنَّ رسولَ اللهِ - صلي الله عليه وسلم - ذَبَح عن نِسائِه بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ (¬2). الخامِسُ، أنَّ لا يَكُونَ مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ. ولا خِلافَ بين أهْلِ العِلْمِ في أنَّ دَمَ المُتْعَةِ لا يَجِبُ على حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرام؛ لقولِه تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.والمَعْنَى في ذلك أنَّ حاضِرَ المَسْجدِ الحَرامِ مِيقاته مَكَّةُ، ولا يَحْصُلُ له الترَّفُّهُ بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرَيْن، ولأنه أَحْرَمَ مِن مِيقاتِه، أشْبَهَ المُفْرِدَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 111. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في هدى البقرة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 406. وابن ماجه، في: باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة، من كتاب الأضاحى. سنن اين ماجه 2/ 1047.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحاضِرُو (¬1) المَسْجِدِ الحَرامِ أهْلُ الحَرَمِ، ومَن بينَه وبين مَكَّةَ دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِىَ ذلك عن عَطاءٍ، وبه قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: هم أهْلُ مَكَّةَ. وقال مُجاهِدٌ: هم أهْلُ الحَرَم. ورُوِىَ ذلك عن طاوُسٍ. ورُوِىَ عن مَكْحُولٍ وأصْحابِ الرَّأْىِ: مَن دُون المَواقِيتِ؛ لأنَّه مَوْضِغ شرِعَ فيه النُّسُكُ، فاشبَهَ الحَرَمَ. ولَنا، أنَّ حاضِرَ الشَّئِ مَن دَنا منه، ومَن دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ قَرِيبٌ مِن حُكْمِ الحاضِرِ، بدَلِيلِ أْنَّه إذا قَصَدَه لا يَتَرَخَّصُ رُخَصَ المُسافِرِ؛ مِن القَصْرِ، والفِطْرِ، فيَكُونُ مِن حاضِرِيه. وتَحْدِيدُه بالمِيقاتِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه قد يَكُونُ بَعِيدًا يَثْبُتُ له حُكْمُ السَّفَرِ البَعِيدِ إذا قَصَدَه، ولأنَّ ذلك يُفْضِى إلى جَعْلِ البَعِيدِ مِن حاضِرِيه، والقَرِيبِ مِن غيرِ حاضِرِيه؛ لتَفاوُتِ المَواقِيتِ في القُرْبِ والبُعْدِ. واعْتِبارُه بما ذَكَرْناه أوْلَى؛ لأنَّ الشّارِعَ حَدَّ الحاضِرَ دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ، بنَفْى أحْكامِ المُسافِرِين عنه، فكانَ الاعْتِبارُ به أوْلَى مِن الاعْتِبارِ بالنُّسُك؛ لوُجُودِ لَفْظِ الحُضُورِ في الآيَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «وحاضِرى» علي حكاية لفظ الآية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كان للمُتَمَتِّعِ قَرْيَتانِ؛ قَريَبةٌ، وبَعِيدَةٌ، فهو مِن حاضِرى المَسْجِدِ الحَرامِ؛ لأنَّه إذا كان بعضُ أهْلِه قرِييًا لم يُوجَدْ فيه الشَّرْطُ، وهو أنَّ لا يَكُونَ أهْلُه مِن حاضِرِى المسْجِدِ الحَرام، ولأنَّ له أنَّ يُحْرِمَ مِن القَرِييَةِ، فلم يَكُنْ بالتَّمَتُّعِ مُتَرَفِّهًا بِتَرْكِ أحَدِ السَّفَرَيْن. وقال القاضى: له حُكْمُ القَرْيَةِ التى يُقِيمُ بها أكْثَرً، فإنِ اسْتَوَيا، فمِن التى مالُه بها أكْثَرُ، فإنِ اسْتَوَيا، فمِن التى يَنْوِى الإقامَةَ بها أكْثَرَ، فإنِ اسْتَوَيا، فله حُكْمُ القَرْيَةِ التى أحْرَمَ منها. وقد ذَكَرْنا دَلِيلَ ما قُلْناه. فصل: فإنْ دَخَل الآفاقِىُّ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا ناوِيًا الإقامَةَ بها بعدَ تَمَتعِه، فعليه دَمُ المُتْعَةِ. قال ابنُ المُنْذِرٍ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ. ولو كان الرجلُ مَنْشَؤُه بمَكَّةَ، فخَرَجَ عنها مُنْتَقِلًا مُقِيمًا بغيرِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم عاد إليها مُتَمَتِّعًا، ناوِيًا للإقامَةِ بها أو غيرَ ناوٍ، فَعَلَيْه دَمُ مُتْعَةٍ؛ لأنَّه خَرَج بالانْتِقالِ عنها عن أن يَكُونَ مِن أهْلِها. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ؛ وذلك لأنَّ حُضُورَ المسْجِدِ الحَرامِ إنَّما حَصَل بنيَّةِ الإِقامَةِ وفِعْلِها، وهذا إنَّما نَوَى الإِقامَةَ إذا فَرَغ مِن أفْعالِ الحَجِّ؛ لأنَّه إذا فَرَغ مِن عُمْرَتِه فهو ناوٍ للخُرُوجِ إلى الحَجِّ، فكَأنَّه إنَّما نَوَى أن يُقِيمَ بعدَ وُجُوبِ الدَّمِ عليه، فأمّا إن سافَرَ المَكِّىُّ غيرَ منْتَقِلٍ، ثم عاد فاعْتَمَرَ مِن المِيقاتِ، وحَجَّ مِن عامِه، فلا دَمَ عليه، لأنَّه لم يَخْرُجْ بذلك عن كَوْنِ أهْلِه مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ. فصل: وهذا الشَّرْطُ الخامِسُ شَرْطٌ لوُجُوبِ الدَّمِ عليه، وليس بشَرْطٍ لكَوْنِه مُتَمَتِّعًا، فإنَّ مُتْعَةَ المَكِّىِّ صَحِيحَةٌ؛ لأنَّ التَّمَتُّع أحَدُ الأنْساكِ الثَّلاَثةِ، فَصَحَّ مِن المَكِّىِّ، كالنُّسُكَيْن الآخَرَيْن. ولأنَّ حَقِيقَةَ التَّمَتُّعِ أن يَعْتَمِرَ في أشْهُرِ الحَجِّ ثم يَحُجَّ من عامِه. وهذا مَوْجُودٌ في المَكِّىِّ. وقد نُقِل عن أحمدَ: ليس علىِ أهْلِ مَكَّةَ مُتْعَةٌ. ومَعْناه ليس عليهم دَمُ مُتْعَةٍ؛ لأنَّ المُتْعَةَ له لا عليه، فتَعَيَّنَ حَمْلُه على ما ذَكَرْناه. فصل: إذا تَرَك الآفاقِىُّ الإِحْرامَ مِن المِيقاتِ، وأحْرَمَ مِن دُونِه بعُمْرَةٍ، ثم حَلَّ منها، وأحْرَمَ بالحَجِّ مِن مَكَّةَ مِن عامِه، فهو مُتَمَتِّعٌ، وعليه دَمان؛ دَمُ المُتْعَةِ، ودَمِّ لإِحْرامِه مِن دُونِ المِيقاتِ. قال ابنُ المُنْذِرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): أجْمَعَ العُلَماءُ على أنَّ مَن أحْرَمَ في أشْهُرِ الحَجِّ بعُمْرَةٍ، وحَلَّ منها، ولم يَكُنْ مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ (¬2)، ثم أقامَ بمَكَّةَ حَلالًا، ثم حَجَّ مِن عامِه، أنَّه مُتَمَتِّعٌ عليه دَمٌ. وقال القاضى: إذا تَجاوَزَ المِيقاتَ، حتى صار بينَه وبينَ مَكَّةَ أقَلُّ مِن مَسافَةِ القَصْرِ، فأحْرَمَ منه، فلا دَمَ عليه للمُتْعَةِ، لأنَّه مِن حاضِرِى المسْجِدِ الحَرامِ. وليس بِجَيِّدٍ، فإن حُضُورَ المَسْجِدِ الحَرام إنَّما يَحْصُلُ بالإِقامَةِ به، ونِيَّةِ ذلك، وهذا لم تَحْصُلْ منه الإِقامَةُ، ولا نِيَّتُها. ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وهذا يَقْتَضِى أن يَكُونَ المانِعُ مِن الدَّمِ السُّكْنَى به، وهذا ليس بساكِنٍ. وإن أحْرَمَ الآفاقِىُّ بعُمْرَةٍ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ثم أقامَ بمَكَّةَ، واعْتَمَرَ مِن التَّنْعِيمِ في أشْهُرِ الحَجِّ، وحَجَّ مِن عامِه، فهو مُتَمَتِّعٌ. نَصَّ عليه أحمدُ (¬3). وعليه دَمٌ. وفى تَنْصِيصِه على هذه الصُّورَةِ تَنْبِيهٌ على إيجابِ الدَّم في الصُّورَةِ الأُولَى بطَرِيقِ الأوْلَى. ¬

(¬1) الاستذكار 214/ 11. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر القاضى شَرْطًا سادِسًا لوُجُوبِ الدَّم، وهو أن يَنْوِىَ في ابْتِداءِ العُمْرَةِ، أو (¬1) أثْنائِها أنَّه مُتَمَتِّعٌ. وظاهِر النَّصِّ يَدُلُّ على أنَّ هذا غير مُشتَرَطٍ، فإنَّه لم يَذْكرْه، وكذلك الإِجْماعُ الذى ذَكَرْناه مُخالِفٌ لهذا القولِ، لأنَّه قد حَصَل له التَّرَفُّةُ بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرَيْن، فلَزِمَه الدَّمُ، كَمَن نوى. فَصْلٌ في وَقْتِ وُجُوب الهَدْىِ وذَبْحِه: أمّا وَقْتُ وُجُوبِه، فعن أحمدَ، أنَّه يَجِبُ إذا أحْرَمَ بالحَجِّ. وهو قولُ أبِى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. وهذا قد فَعَل ذلك، ولأنَّ ما جُعِلَ غايَةٌ فوُجُودُ أوَّلِهْ كافٍ، كقَوْلِه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2). وعنه، أنَّه يَجِبُ الدَّمُ إذا وَقَف بعَرَفَةَ. اخْتارَه القاضى. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ التَّمَتُّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ إنَّما يَحْصُلُ بعدَ وجُودِ الحَجِّ منه، ولا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بالوُقُوفِ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» (¬3). ولأنَّه قبلَ ذلك ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سورة البقرة 187. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من لم يدرك عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 451، 452. والترمذى، في: باب تفسير سورة البقرة، الآية {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ. . . .}، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 98، 99. والنسائى، في: باب فرض الوقوف يعرفة، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 206. وابن ماجه، في: باب من أتى عرفة. . . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1003. والدارمى، في: باب بما يتم الحج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 59. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 309، 310، 335.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْرِضُ الفَواتُ، فلا يَحْصُلُ التَّمَتُّعُ، ولأنَّه لو أحْرَمَ بالحَجِّ، ثم أُحْصِرَ (¬1) أو فاتَه الحَجُّ، لم يَلْزَمْه دَمُ المُتْعَةِ، ولا كان مُتَمَتِّعًا، ولو وَجَب الدَّمُ لما سَقَط. وقال عَطاءٌ: يَجِبُ إذا رَمَى الجَمْرَةَ. ونحوُه قولُ أبِى الخَطّابِ، قال: يَجِبُ إذا طَلَع الفَجْرُ يومَ النَّحْرِ؛ لأنَّه وَقْتُ ذَبْحِه، فكانَ وَقْتَ وُجُوبِه. وأمّا وَقْتُ ذَبْحِه، فيَوْمُ النَّحْرِ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّ ما قبلَ يومِ النَّحْرِ لا يَجُوزُ ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ فيه، فلا يَجُوزُ ذَبْحُ الهَدْىِ الذى للتَّمَتُّعِ (¬2) كما قبلَ التَّحَلُّلِ مِن العُمْرَةِ. وقال [أبو طالِبٍ] (¬3): سَمِعْتُ أحمدَ قال -في الرجلِ يَدْخُلُ مَكَّةَ في شَوّالٍ، ومعه هَدْىٌ- قال: يَنْحَرُ بمَكَّةَ، وإن قَدِم قبلَ العَشْرِ نَحَرَه، لا يَضِيعُ أو يَمُوتُ أو يُسْرَقُ. وكذا قال عَطاءٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «حضر». (¬2) في م: «للمتمتع». (¬3) في م: «أبو الخطاب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قَدِم في العَشْرِ لم يَنْحَرْه حتى يَنْحَرَه بمِنًى؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابَه قَدِمُوا في العَشْرِ فلم يَنْحَرُوا حتى نَحَرُوا بمِنًى. ومَن جاء قبلَ ذلك نَحَرَه عن عُمْرَتِه، وأقامَ على إحْرامِه، وكان قارِنًا. وقال الشافعىُّ: يَجُوزُ نَحْرُه بعدَ الإِحْرام بالحَجِّ. قولًا واحِدًا، وفيما قبلَ ذلك بعدَ حِلِّه مِن العُمْرَةِ احْتِمالان. وَوَجْهُ جَوازِه، أنَّه دَمٌ يَتَعَلَّقُ بالإِحْرامِ، ويَنُوبُ عنه الصِّيامُ، فجاز قبلَ يومِ النَّحْرِ، كدَمِ الطِّيبِ، ولأنَّه يَجُوزُ إذا بَدَّلَه قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فجازَ أداؤُه قبلَه، كسائِرِ الفِدْياتِ. فصل: ويَجِبُ الدَّمُ على القارِنِ في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا عن داودَ؛ لأنَّه قال: لا دَمَ عليه. ورُوِىَ عن طاوُسٍ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ أنَّ ابنَ داودَ لَمّا دَخَل مَكَّةَ سُئِلَ عن القارِنِ، هل يَجِبُ عليه دَمٌ؟ فقالَ: لا. فجَرُّوا برَحْلِه. وهذا يَدُلُّ على شُهْرَةِ الأمْرِ بَيْنَهُم. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. وهذا مُتَمَتِّعٌ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ؛ بدَلِيلِ أنَّ عَلِيًّا لَمّا سَمِع عثمانَ يَنْهَى عن المُتْعَةِ أهَلَّ بالعُمْرَةِ والحَجِّ؛ ليَعْلمَ النّاس أنَّه ليس بمَنْهىٍّ عنه. وقال ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنهما: إنَّما القِرانُ لأهْلِ الآفاقِ، وتَلا قَوْلَه تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وقد رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجَّتِه وَعُمْرَتِهِ (¬1) فَلْيُهْرقْ دَمًا» (¬2). ولأنَّه تَرَفَّهَ بسُقُوطِ أحَدِ السَّفَرَيْن، فأشْبَهَ المُتَمَتِّعَ. فإن عَدِم الدَّمَ، فعليه صيامٌ، كصِيامِ المُتَمَتِّعِ، سواءٌ. ومِن شَرْطِ وُجُوبِ الدَّمِ عليه أن لا يَكُونَ مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ، في قولِ جُمْهُورِ العُلَماءِ. وقال ابنُ الماجِشُونَ: عليه دَمٌ؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما أسْقَطَ الدَّمَ عن المُتَمَتِّعِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) لم نجده.

1164 - مسألة: (ومن كان مفردا أو قارنا، أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة؛ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، إلا أن يكون معه هدى، فيكون على إحرامه)

وَمَنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا، أَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَيَجْعَلَهَا عُمْرَةً؛ لِأَمْرِ رَسُولٍ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ بِذلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَاقَ مَعَهُ هَدْيًا، فَيَكُون عَلَى إِحْرَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس هذا مُتَمَتِّعًا. وِالصَّحِيحُ الأوَّلُ، فإنَّنا قد ذَكَرْنا أنَّه مُتَمَتِّعٌ، وإن لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فهو فرْعٌ عليه، ووُجُوبُ الدَّمِ على القارِنِ إنَّما كان مَعْنى النَّصِّ على المُتَمَتِّعِ، ولا يَجُوزُ أن يُخالِفَ الفَرْعُ عليه. 1164 - مسألة: (ومَن كان مُفْرِدًا أو قارِنًا، أحْبَبْنا له أن يَفْسَخَ إذا طاف وَسَعى ويَجْعَلَها عُمْرَةً؛ لأمْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه بذلك، إلَّا أن يَكُونَ معه هَدْىٌ، فيَكُونَ على إحْرامِه) إذا كان مع المُفْرِدِ والقارِنِ هَدْىٌ، فليس له أن يَحِلَّ مِن إحْرامِه ويَجْعَلَه عُمْرَةً، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قَدِم مَكَّةَ، قال للنّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أهْدَى فإنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَئٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُم (¬1) أهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ (¬2) هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاَثةَ أيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فأمّا مَن لا هَدْىَ معه، فيُسْتَحَبُّ له إذا طاف وسَعَى أن يَفْسَخَ نِيَّتَه بالحَجِّ، ويَنْوِىَ عُمْرِةً مُفْرَدَةً، فَيُقَصِّرَ ويَحِلَّ مِن إحْرامِه؛ ليَصِيرَ مُتَمَتِّعًا، إن لم يَكُنْ وقَف بعَرَفَةَ. وكان ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، يَرَى أنَّ مَن طافَ بالبَيْتِ وسَعَى فقد حَلَّ، وِإن لم يَنْوِ ذلك. وبهذا الذى ذَكَرْناه قال مُجاهِدٌ، والحسنُ، وداودُ. وذَهَب أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ إلى (¬4) أنَّه لا يَجُوزُ له ذلك؛ لأنَّ الحَجَّ أحَدُ النُّسُكَيْن، فلم يَجُزْ فَسْخُهُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يحل». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 157. (¬4) في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعُمْرَةِ. وروَى ابنُ ماجه (¬1) عن بِلالِ بنِ الحارِثِ المُزَنِىِّ، عن أبِيهِ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، فَسْخُ الحَجِّ لَنا خاصَّةً، أو لِمن يَأْتِىِ؟ قال: «لَنَا خَاصَّةً». ورُوِىَ أيضًا عن المُرَقِّعِ الأَسَدِىِّ (¬2)، عن أبِى ذرٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: كان ما أذِنَ لَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ دَخَلْنا مَكَّةَ أن نَجْعَلَها عُمْرَةً، ونَحِلَّ مِن كلِّ شَئٍ، أنَّ تلك كانَتْ لَنا خاصَّةً، رُخْصَةً مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، دُونَ جَمِيعِ النّاسِ (¬3). ولَنا، أنَّه قد ثَبَت عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمَرَ أصْحابَه في حَجَّةِ الوَداعِ الذين أفْرَدُوا الحَجَّ وقَرَنُوا أن يَحِلُّوا كلُّهم، ويَجْعَلُوها عُمْرَةً، إلَّا مَن كان معه الهَدْىُ، في أحاديثَ كَثِيرَةٍ مُتَّفَقٍ عليها، بحيثُ يَقْرُبُ مِن المُتَواتِرِ، ولم يَخْتَلِفْ في صِحَّةِ ذلك وثُبُوتِه عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ مِن أهْلِ العِلْمِ عَلِمْناه. وذَكَر أبو حَفْصٍ، في «شَرْحِه» ¬

(¬1) في: باب من قال كان فسخ الحج لهم خاصة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 994. كما أخرجه أبو داود في: باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، من كتاب المناسك. سنن أبو داود 1/ 420. والنسائى، في: باب إباحة فسخ الحج. . . .، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 140. والدارمى، في: باب في فسخ الحج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 50. (¬2) كذا بالنسخ. وردت هذه النسبة هكذا في التاريخ الكبير للبخارى 8/ 58، وفى أصول الثقات لابن حبان، كما في حاشية 5/ 460، وفى أصول المغنى، كما في حاشية 5/ 252. وقد ضبطها ابن ماكولا، والسمعانى، «الأُسَيِّدَى». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب جواز التمتع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 897. والنسائى، في: باب إباحة فسخ الحج. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 141. وابن ماجه، في: باب من قال كان فسخ الحج لهم خاصة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 994. كلهم عن إبراهيم التيمى، عن أبيه في يد بن شريك. ورواية المرقع أخرجها الحميدى في مسنده برقم (132).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه عن إبراهيمَ الحَرْبِىِّ (¬1)، وقد سُئِلَ عن فَسْخِ الحَجِّ (¬2) إلى العُمْرَةِ، فقالَ: قال سَلَمَةُ بنُ شَبِيبٍ لأحمدَ بنِ حَنبلٍ: يا أبا عبدِ اللهِ، كلُّ شئٍ منك حسنٌ جَمِيلٌ، إلَّا خَلَّةً واحِدَةً. فقالَ: وما هى؟ قال: تَقُولُ بفَسْخِ (¬3) الحَجِّ. قال أحمدُ: قد كُنْتُ أرَى أنَّ لك عَقْلًا، عندِى ثمانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا صِحاحًا جِيادًا، كلُّها في فَسْخِ الحَجِّ، أتْرُكُها لقَوْلِك! وقد روَى فَسْخَ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، وجابِرٌ، وعائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنهم، وأحاديثُهم مُتَّفَقٌ عليها. ورَواه غيرُهم مِن وُجوهٍ صِحاحٍ. قال جابِرٌ: أهْلَلْنا - أصْحابَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحَجِّ خالِصًا وَحْدَه وليس معه عُمْرَةٌ (¬4)، فقَدِمَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - صُبْحَ رابِعَةٍ مَضَتْ مِن ذِى الحَجَّةِ، فلَمّا قَدِمْنا أمَرَنا النبى - صلى الله عليه وسلم - أن نَحِلَّ، قال: «أحِلُّوا وَأصِيبُوا مِنَ النِّساءِ». قال: فبَلَغَه عَنّا أنَّا نَقُولُ: لم يَكُنْ بينَنا وبينَ عَرَفَةَ إلَّا خمْسُ لَيالٍ، أمَرَنا أن نَحِلَّ إلى نِسائِنا، فنَأْتِىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذاكِيرُنا ¬

(¬1) في م: «الخرقى». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «نفسخ». (¬4) في م: «غيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَنِىِّ. قال: فقامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «قَدْ عَلِمْتُمْ أنِّى أتْقَاكُمْ للهِ وَأصْدَقُكُمْ وَأُبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِى تَحَلَّلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ». قال: فحَلَلْنا، وسَمِعْنا وأطَعْنا. قال: فقالَ سُراقَةُ بنُ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ المُدْلِجىُّ: مُتْعَتُنا هذه يا رسولَ اللهِ لعامِنا هذا، أم للآبَدِ؟ فَظَنَّه محمدُ بنُ بَكْرٍ (¬1)، أنَّه قال: «لِلأبَدِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فأمّا حديثُهم، فقالَ أحمدُ: روَى هذا الحديث الحارِثُ بنُ بِلالٍ، فمَن الحارِثُ بنُ بلالٍ؟ يَعنِى أنَّه مَجْهُولٌ. ولم يَرْوِه إلَّا الدَّرَاوَرْدِىُّ (¬3)، وحديثُ أبى ذَرٍّ رَواه مُرَقِّعٌ الأَسَدِىُّ (¬4)، ¬

(¬1) في م: «أبى بكر». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب تقضى الحائض المناسك كلها. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب عمرة التنعيم، من كتاب العمرة، وفى: باب الاشتراك في الهدى. . . .، من كتاب الشركة، وفى: باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت. . . .، من كتاب الثمنى، وفى: باب نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - على التحريم. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 2/ 195، 196، 3/ 4، 5، 185، 9/ 103، 137. ومسلم، في: باب وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 883، 884. كما أخرجه أبو داود، في: باب إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 415. والنسائى، في: باب إباحة فسخ الحج. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 140. وابن ماجه، في: باب فسخ الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 992. الإمام أحمد، في: المسند 3/ 305، 317، 366. (¬3) في م: «الداروردى». (¬4) في النسخ: «الأسيدى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَن مُرَقِّعٌ الأسَدِىُّ؟ شاعِرٌ مِن أهْلِ الكُوفَةِ لم يَلْقَ أبا ذَرٍّ. فقِيلَ له: أفليس قد روَى الأعْمَشُ، عن إبراهيمَ التَّيْمِىِّ، عن أبيه، عن أبِى ذَرٍّ، قالَ: كانَت مُتْعَةُ الحَجِّ لَنا خاصَّةً - أصْحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أفيَقُولُ هذا أحَدٌ؟ المُتْعَةُ في كتابِ اللهِ، وقد أجْمَعَ النّاسُ على أنَّها جائِزَةٌ. قال الجُوزْجانِىُّ: مُرَقِّعٌ الأَسَدِىُّ ليس بالمَشْهُورِ، ومثلُ هذه الأحاديثِ في ضَعْفِها وجَهالةِ رُواتِها لا تُقْبَلُ إذا انْفَردَتْ، فكيفَ تُقْبَلُ في رَدِّ حُكْمٍ ثابِتٍ بالتَّواتُرِ، مع أنَّ قولَ أبى ذَرٍّ مِن رَأْيِه، وقد خالَفَه مَنٍ هو أعْلَمُ منه، وقد شَذَّ به عن الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللهُ عنهم، فلا يَكُونُ حُجَّةٌ. وأمّا قِياسُهم فلا يُقْبَل في مُقابَلَةِ النَّصِّ الصَّحِيحِ، على أنَّ قِياسَ الحَجِّ على العُمْرَةِ في هذا لا يَصِحُّ، فإنَّه يَجُوز قَلْبُ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ في حَقِّ مَن فاتَه الحَجُّ ومَن حُصِرَ عن عَرَفَةَ، والعُمْرَةُ لا تَصِيرُ حَجًّا بحالٍ، ولأنَّ فَسْخَ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ يَصِيرُ به مُتَمَتِّعًا، فحَصَّلَ الفَضِيلَةَ، وفَسْخُ العُمْرَةِ إلى الحَجِّ يُفَوِّتُ الفَضِيلَةَ، ولا يَلْزَمُ مِن مَشْرُوعِيَّةِ ما يُحَصِّلُ الفَضِيلَةَ مَشْرُوعِيَّة ما يُفوِّتُها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا فَسَخ الحَجَّ إلى العُمْرَةِ صار مُتَمَتِّعًا، حُكْمُه حُكْمُ المُتَمَتِّعِين، في وُجُوبِ الدَّمِ وغيرِه. وقال القاضى: لا يَجبُ الدَّمُ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ وُجُوبِه أن يَنْوِىَ في ابْتِداءِ العُمْرَةِ أو في أثنائِها (¬1) أنَّه مُتَمَتِّعٌ. وهذه دَعْوَى لا دَلِيلَ عليها، تُخالِفُ عُمُومَ الكِتابِ وصَرِيحَ السُّنَّةِ الثّابِتَةِ، فإنَّ اللهَ تَعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). وفى حديثِ ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُم أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بالْبَيْتِ وَبالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ ولْيُهْدِ، ومَنْ لم يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُم ثَلَاَثَةَ أيّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأنَّ وُجُوبَ دَمِ المُتْعَةِ ¬

(¬1) في النسخ: «انتهائها». وانظر المغنى 5/ 255. (¬2) سورة البقرة 196. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 157.

1165 - مسألة: (ولو ساق المتمتع الهدى، لم يكن له أن يحل)

وَلَوْ سَاقَ الْمُتَمَتِّعِّ هَدْيًا، لَمْ يَكنْ لَهُ أنْ يَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للتَّرَفُّهِ بسُقُوطِ أحَدِ السَّفَرَيْنِ، وهذا المَعْنَى لا يَخْتَلِفُ بالنِّيَّةِ وعَدَمِها، فوَجَبَ أن لا يَخْتَلِفَ في الوُجُوب، على أنَّه لو ثَبَت أنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فقد وُجِدَت، فإنه ما حَلَّ حتى نوَى أنَّه يَحِلٌ ثم يُحْرِمُ بالحَجِّ. 1165 - مسألة: (ولو ساق المُتَمَتِّعُ الهَدْىَ، لم يَكُنْ له أن يَحِلَّ) لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. ولِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، قال: تَمَتَّعَ النّاسُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ الى الحَجِّ، فلما قَدِمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قال للنّاسِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فإنَّه لَا يَحِلُّ مِنْ شَئٍ حَرُمَ منْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّه (¬1)». مُتَّفَقٌ عليه. وهذا مَذْهَبُ أبِى حَنِيفَةَ. وقال مالكٌ، ¬

(¬1) في م: «حجته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ في قولٍ: له التَّحَلُّلُ، ويَنْحَرُ هَدْيَه عندَ المَرْوَةِ. ويَحْتَمِلُه كَلامُ الخِرَقِىِّ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن الآيَةِ، وحديثُ ابنِ عُمَرَ، ورَوَتْ حَفْصَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّها قالَتْ: يا رسولَ اللهِ، ما شَأْنُ النّاس حَلُّوا مِن العُمْرَةِ، ولم تَحِلَّ أنْتَ مِن عُمْرَتِك؟ قال: «إنِّى لَبَّدْتُ رَأْسَى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلَا أحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والأحادِيثُ في ذلك كثيرةٌ. وعن أحمدَ، في مَن قَدِم مُتَمَتِّعًا في أشْهُرِ الحَجِّ وساق الهَدْىَ، قال: إن دَخَلَها في العَشْرِ، لم يَنْحَرِ الهَدْىَ حتى يَنْحَرَه يومَ النَّحْرِ، وإن قَدِم قبلَ العَشْرِ نَحَر الهَدْىَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُتَمَتِّعَ إذا قَدِم قبلَ العَشْرِ حَلَّ وإن كان معه هَدْىٌ. وهذا قولُ عَطاءٍ. رَواه حَنبلٌ في «المَناسِكِ». وقال: مَن لَبَّدَ أو ضَفَرَ، فهو بمَنْزِلَةِ مَن ساق الهَدْىَ؛ لحديثِ حَفصَةَ. والرِّوايَةُ الأُولَى أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ الصَّحِيحِ، وهو أوْلَى بالاتِّباعِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 157.

1166 - مسألة: (والمرأة إذا دخلت متمتعة

وَالْمَرأةُ إِذَا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ، فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ، أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ، وَصَارَتْ قَارِنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا المُعْتَمِرُ غيرُ المُتَمَتِّعِ، فإنَّه يَحِلُّ بكلِّ حالٍ في أشْهُرِ الحَجِّ وغيرِها، كان معه هَدْىٌ أولم يَكُنْ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ سِوَى عُمْرَتِه التىِ مع حَجَّتِه، بَعْضُهُنَّ في ذِى القَعْدَةِ، فكانَ يحِلُّ. فإن كان معه هَدْىٌ نحَرَه عندَ المَرْوَةِ، وحيث نَحَرَه مِن الحَرَمِ جاز؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1). 1166 - مسألة: (والمَرْأةُ إذا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً (¬2) فحاضَتْ، فخَشِيَتْ فَواتَ الحَجِّ، أحْرَمَتْ بالحَجِّ، وصارَتْ قارِنَةً) إذا حاضَتِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة يجمع، من كتاب المناسك، وفى: باب إذا أخطأ القوم الهلال، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 449، 543. وابن ماجه، في: باب الذبح، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1013. كما أخرجه الدارمى، في: باب عرفة كلها موقف، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 57. والإمام مالك، في: باب ما جاء في النحر. . . .، من كتاب الحج. الموطأ 393/ 1. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 326. (¬2) في م: «ممتعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَمَتِّعَةُ قبلَ طوافِ العُمْرَةِ لم يَكُنْ لها أن تَطُوفَ بالبَيْتِ؛ لأنَّه صلاةٌ، ولأنَّها مَمْنُوعَةٌ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ، ولا يُمْكِنُها أن تَحِلَّ مِن عُمْرَتِها قبل الطَّوافِ. فإذا خَشِيَتْ فَواتَ الحَجِّ، أحْرَمَتْ بالحَجِّ مِن عُمْرَتِها، وصارَتْ قارِنَةً. هذا قولُ مالكٍ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وكَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ. وقال أبو حنيفةَ: قد رَفَضَتِ العُمْرَةَ، وصار حَجًّا. وما قال هذا أحَدٌ غيرُ أبى حنيفةَ، وحُجَّتُه ما روَى عُرْوَةُ، عن عائِشَةَ، رَضِىَ الله عنها، قالت: أهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ، فقَدِمْتُ مَكَّةَ وأنا حائِضٌ، لم أطُفْ بالبَيْتِ، ولا بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ، فشَكَوْتُ ذلك إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: «انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأهِلِّى بالحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَةَ». قالَتْ: ففَعَلْتُ، فلَمّا قَضَيْنا الحَجَّ أرْسَلَنى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مع عبدِ الرحمنِ بنِ أبِى بَكْرٍ إلى التَّنْعِيمِ، فاعْتَمَرْتُ معه، فقالَ: «هَذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِكِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ففيه دَلِيلٌ على أنَّها رَفَضَتْ عُمْرَتَهَا، وأحْرَمَتْ بحَجٍّ، مِن وجُوهٍ؛ أحَدُها قَوْلُه: «دَعِي عُمْرَتَكِ» والثّانِى قَوْلُه: «وَامْتَشِطِى». والثّالِث قَوْلُه: «هذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِكِ». ولَنا ما رَوَى جابِرٌ، قال: أقْبَلَتْ عائِشَةُ بعُمْرَةٍ، حتى إذا كانت بِسَرِفٍ (¬2) عَرَكَتْ (¬3)، ثم دَخَل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عائِشَةَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 111. (¬2) سَرِف: موضع بين الحرمين، قريب من مكة. (¬3) عَرَكتِ المرأة: حاضت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَدَها تَبْكِى، فقالَ: «مَا شَأْنُكِ؟». قالَتْ: شَأْنِى أنِّى قد حِضْتُ، وقد حَلَّ النّاسُ ولم أحِلَّ، ولم أطُفْ بالبَيْتِ، والنّاسُ يَذْهَبُون إلى الحَجِّ الآن. فقالَ: «إنَّ هَذَا أمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِى ثُمَّ أهِلِّى بالْحَجِّ». ففَعَلَتْ، ووَقَفَتِ المواقِفَ، حتى إذا طَهُرَتْ طافَت بالكَعْبَةِ وبالصَّفا والمَرْوَةِ، ثم قال: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ». قالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنِّى أجِدُ في نَفْسِى أنِّى لم أطُفْ بالبَيْتِ حتى حَجَجْتُ. قال: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ». وروَى طاوُسٌ، عن عائِشَةَ، أنَّها قالَتْ: أهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ، فقَدِمْتُ ولم أطُفْ حتى حِضْتُ، فنَسَكْتُ المَناسِكَ كلَّها، وقد أهْلَلْتُ بالحَجِّ. فقالَ لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ النَّفْرِ: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ». فأبَتْ، فبَعَثَ معها عبدَ الرحمنِ بنَ أبِى بَكْر، فأعْمَرَها مِن التَّنْعِيمِ. رَواهما مسلمٌ (¬1). وهما يَدُلَّان على جَمِيعِ ما ذَكَرْنا. ولأنَّ إدْخالَ الحَجِّ على العُمْرَةِ جائِزٌ بالإجْماعِ مِن غيرِ خَشْيَةِ الفَواتِ، فمع خَشْيَتِه أوْلَى. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، أنَّ لِمَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ، ما لم يَفْتَتِحِ الطَّوافَ بالبَيْتِ. وقد أمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَن كان ¬

(¬1) الأول، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم. 2/ 881. كما أخرجه أبو داود، في: باب إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 414. والنسائى، في: باب في المهلَّة بالعمرة تحيض. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 128. والثانى تقدم تخريجه في صفحة 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معه هَدْىٌ في حَجَّةِ الوَداء، أن يُهِلَّ بالحَجِّ مع العُمْرَةِ، ومع إمْكانِ الحَجِّ مع بَقاءِ العُمْرَةِ لا يَجُوزُ رَفْضُها، كغيرِ الحائِضِ. فأمّا حديثُ عُرْوَةَ، فإنَّ قَوْلَه: «انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَدَعِى الْعُمْرَةَ». انْفَرَدَ به عُرْوَةُ، وخالَفَ به كلَّ مَن روَى عن عائِشَةَ حينَ حاضَت، وقد روَى ذلك طاوُسٌ، والقاسِمُ، والأسْوَدُ، وعَمْرَةُ (¬1)، عن عائِشَةَ، فلم يَذْكُرُوا ذلك (¬2). وحديثُ جابِرٍ، وطاوُس مُخالِفان لهذه الزِّيادَةِ. وقد روَى حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبِيهِ، عن عائِشَةَ، حديثَ حَيْضِها، فقالَ فيه: حَدَّثَنِى غيرُ واحِدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «دَعِى عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى». وذَكَر تَمامَ الحديثِ. وهذا يَدُلٌ على أنَّه لم يَسْمَعْ مِن عائِشَةَ هذه الزِّيادَةَ، وهو مع ما ذَكَرْنا مِن مُخالَفَةِ بَقِيَّةِ الرُّواةِ يَدُلُّ على الوَهْمِ، مع مُخالَفَتِها للكِتابِ والأصُولِ، إذ ليس لَنا مَوْضِعٌ آخَرُ يَجُوزُ فيه رَفْضُ العُمْرَةِ مع إمْكانِ إتْمامِها، ويَحْتَمِلُ أنَّ قَوْلَه: «دَعِى الْعُمْرَةَ». أى دَعِيها بِحالِها، وأهِلِّى بالحَجِّ معها، أو دَعِى أفْعالَ العُمْرَةِ، فإنَّها تَدْخُلُ في أفْعالِ الحَجِّ. فأمّا العُمْرَةُ مِن التَّنْعِيمِ، فلم يَأْمُرْها بها النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما قالَتْ للنبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّى أجِدُ في نَفْسِى أنِّى لم أطُفْ بالبَيْتِ حتى حَجَجْتُ. قال: «فَاذْهَبْ ¬

(¬1) في م: «وغيره». (¬2) روايات كل من؛ طاوس والقاسم والأسود وعَمْرَة أخرجها مسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 873 - 879.

1167 - مسألة: (ومن أحرم مطلقا، صح، وله صرفه إلى ما شاء)

وَمَنْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا، صَحَّ، وَلَهُ صَرْفُهُ إلَى مَا شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِها يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ، فأعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ». وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن الأسْودِ، عن عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قال: قُلْتُ: اعْتَمَرْتِ بعدَ الحَجِّ؟ قالَتْ: واللهِ ما كانَتْ عُمْرَةً، ما كانَتْ إلَّا زِيارَةً ورَبِّ البَيْتِ، إنَّما هى مِثْلُ نَفَقَتِها. قال أحمدُ: إنَّما أعْمَرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عائِشَةَ حينَ ألَحَّتْ عليه، فقالت: يَرْجِعُ النّاسُ بنُسُكَيْن، وأرْجِعُ بنُسُكٍ. فقالَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أعْمِرْهَا». فنَظَرَ إلى أدْنَى الحِلِّ، فأعْمَرَها منه. 1167 - مسألة: (ومَن أحْرَمَ مُطْلَقًا، صَحَّ، وله صَرْفُه إلى ما شاء) يَصِحُّ الإِحْرامُ بالنُّسُكِ المُطْلَقِ، وهو أن لا يُعَيِّنَ حَجَّا ولا عُمْرَةً؛ لأنَّه إذا صَحَّ الإِحْرامُ مع الإبْهامِ، صَحَّ مع الإِطْلاقِ، قِياسًا عليه. فإذا أحْرَمَ مُطْلَقًا، فله صَرْفُه إلى ما شاء مِن الأنْساكِ؛ لأنَّ له أن يَبْتَدِئَ الإحْرامَ بأيِّها شاء، فكانَ له صَرْفُ المُطْلَق إلى ذلك. والأوْلَى صَرْفُه إلى العُمْرَةِ؛ لأنَّه إن كان في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ، فالإِحْرامُ بالحَجِّ مَكرُوةٌ أو مُمْتَنِعٌ، وإن كان في أشْهُرٍ الحَجِّ، فالعُمْرَةُ أوْلَى؛ لأنَّ التَّمَتُّعَ أفْضَلُ. وقد قال أحمدُ: يَجْعَلُه عُمْرَةً؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أبا موسى حينَ أحْرَمَ بما أهَلَّ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَجْعَلَها عُمْرَةً. كذا هذا.

1168 - مسألة: (وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان، انعقد إحرامه بمثله)

وإنْ أَحْرَمَ بِمِثْلِ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِمِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1168 - مسألة: (وإن أحْرَمَ بمِثْلِ ما أحْرَمَ به فُلانٌ، انْعَقَدَ إحْرامُه بمِثلِه) يَصِحُّ إبْهامُ الإِحْرامِ، وهو أن يُحْرِمَ بما أحْرَمَ به فُلانٌ، لِما روَى أبو موسى، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُنِيخٌ بالبَطْحاءِ، فقالَ لى: «بِمَ أهْلَلْتَ؟». فقُلْتُ: لَبَّيْتُ بإهْلالٍ كإهْلالِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فقالَ: «أحْسَنْتَ». فأمَرَنِى فطُفْتُ بالبَيْتِ، وبالصَّفا والمَرْوَةِ، ثم قال: «حِلَّ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى جابرٌ، وأنَسٌ، أنَّ عليًّا قَدِم مِن اليَمَنِ على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ له النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بِمَ أهْلَلْتَ؟». فقالَ: أهْلَلْتُ بما أهَلَّ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال جابِرٌ في حديثِه: قال: «فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرامًا (¬2)». وقال أنَسٌ: ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الذيح قبل الحلق، من كتاب الحج، وفى: باب متى يحل المعتمر، من كتاب العمرة، وفى: باب بعث أبى موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 212، 213، 3/ 8، 5/ 205. ومسلم، في: باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 896. كما أخرجه النسائى، في: باب الحج بغير نية يقصده المحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 121، 122. والدارمى، في: باب في التمتع، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 36. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 395. (¬2) في م: «إحرامًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا أنَّ مَعِىَ هَدْيًا لَحَلَلْتُ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولا يَخْلُو مَن أبْهَمَ إحْرامَه مِن أرْبَعَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يَعْلَمَ ما أحْرَمَ به فلانٌ، فيَنْعَقِدُ إحْرامُه بمِثْلِه؛ فإنَّ عليًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، قال له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟». قال: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إنِّى أُهِلُّ بما أهَلَّ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال: «فإنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ فَلَا تَحِلَّ» (¬2). الثّانِى، أن لا يَعْلَمَ ما أحْرَمَ به فُلانٌ، فيَكُون حُكْمُه حُكْمَ الناسِى، على ما سَنَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. الثّالِثُ، أن يَكُونَ فُلانٌ قد أحْرَمَ مُطْلَقًا، فيَكُونَ حُكْمُه حُكْمَ الفَصْلِ الذى قَبْلَه. الرّابِعُ، أن لا يَعْلَمَ هل أحْرَمَ فُلانٌ أوْ لا، فحُكْمُه حُكْمُ مَن لم يُحْرِمْ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ إحْرامِه، فيَكُونُ إحْرامُه ههُنا مُطْلَقًا، يَصْرِفُه إلى ما شاءَ، فإن صَرَفه قبلَ الطَّوافِ، وَقَع طَوافُه عَمّا صَرَفَه (¬3) إليه، وإن طاف قبلَ صَرْفِه، لم يُعْتَدَّ ¬

(¬1) حديث جابر تقدم تخريجه صفحة 188. وحديث أنس أخرجه البخارى، في: باب من أهل في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - كإهلال النبى - صلى الله عليه وسلم -. . . .، وباب تقضى الحائض المناسك كلها. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 172، 196. ومسلم، في: باب إهلال النبى - صلى الله عليه وسلم - وهديه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 914.كما أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا عبد الوارث. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 179. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 185. (¬2) هذا لفظ النسائى عن جابر. انظر تخريج الحديث السابق. (¬3) في م: «صرف».

1169 - مسألة: (وإن أحرم بحجتين أو عمرتين، انعقد إحرامه بإحداهما)

وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْن أَوْ عُمْرَتَيْن، انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بطوافِه؛ لأنَّه طاف لا في حَجٍّ ولا عُمْرَةٍ. 1169 - مسألة: (وإن أحْرَمَ بحَجَّتَيْن أو عُمْرَتَيْن، انْعَقَدَ إحْرامُه بإحْداهما) إذا أحْرَمَ بحَجَّتَيْن أو عُمْرَتَيْن، انْعَقَدَ بإحْداهما، ولَغَتِ الأُخْرَى. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَنْعَقِدُ بهما، وعليه قَضاءُ إحْداهما؛ لأنَّه أحْرَمَ بها (¬1) ولم يُتِمَّها. ولَنا، أنَّهما عِبادَتان لا يَلْزَمُه المضِىُّ فيهما، فَلم يَصِحَّ الإِحْرامُ بهما، كالصلاَتيْن. وعلى هذا ¬

(¬1) في الأصل: «بهما».

1170 - مسألة: (وإن أحرم بنسك ونسيه، جعله عمرة. وقال القاضى: يصرفه إلى ما شاء)

وَإِنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ وَنَسِيَهُ، جَعَلَهُ عُمْرَةً. وَقَالَ الْقَاضِى: يَصْرِفُهُ إِلَى مَا شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أفْسَدَ حَجَّه وعُمْرَتَه، لم يَلْزَمْه إلَّا قضاوها. وعندَ أبِى حنيفةَ، يَلْزَمُه قَضاؤهما مَعًا؛ بناءً على صِحَّةِ إحْرامِه بهما. 1170 - مسألة: (وإن أحْرَمَ بنُسُكٍ ونَسِيَه، جَعَلَه عُمْرَةً. وقال القاضى: يَصْرِفُه إلى ما شاء) أمّا إذا أحْرَمَ بنُسُكٍ، ونَسِيَه قبلَ الطَّوافِ، فله صَرْفُه إلى أىِّ الأنْساكِ شاء، فإنَّه إن صَرَفَه إلى عُمْرَةٍ، وكان المَنْسِىُّ عُمْرَةً، فقد أصابَ، وإن كان حَجًّا مُفْرَدًا أو قِرانًا (¬1)، فله فَسْخُهما إلى العُمْرَةِ على ما ذَكَرْناه. وإن صَرَفَه إلى القِرانِ، وكان المَنْسِىُّ قِرانًا، فقد أصابَ، وإن كان عُمْرَةً، فإدْخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ جائِزٌ قبلَ الطَّوافِ، فيَصِيرُ قارِنًا، وإن كان مُفْرِدًا لَغا إحْرامُه بالعُمْرَةِ، وصَحَّ حَجُّه، وسَقَط فَرْضُه، وإن صَرَفَه إلى الإِفْرادِ، وكان مُفْرِدًا، فقد أصابَ، وإن كان ¬

(¬1) في م: «قارِنًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَمَتِّعًا، فقد أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ، وصار قارِنًا في الحُكْمِ وفيما بينَه وبينَ اللهِ تِعالى، وهو يَظُنُّ أنَّه مُفْرِدٌ، وإن كان قارِنًا فكذلك. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ أنَّه يَجْعَلُهُ عُمْرَةً. قال القاضى: هذا على سَبِيلِ الاسْتِحْبابِ؛ لأنَّه إذا اسْتُحِبَّ ذلك مع العِلْمِ، فمَع عَدَمِه أوْلَى. وقال أبو حنيفةَ: يَصْرِفُه إلى القِرانِ. وهو قولُ الشافعىِّ الجَدِيدُ، وقال في القَدِيمِ: يَتَحَرَّى، فيَبْنِى على غالِبِ ظَنِّه؛ لأنَّه مِن شَرائِطِ العِبادَةِ، فيَدْخُلُه التَّحَرِّى، كالقِبْلَةِ. ومَبْنَى الخِلافِ على فَسْخِ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ، فإنَّه جائِزٌ عندَنا، ولا يَجُوزُ عندَهم، فعلى هذا إن صَرَفَه إلى المُتْعَةِ، فهو مُتَمَتِّعٌ، عليه دَمُ المُتْعَةِ، ويُجْزِئُه عن الحَجِّ والعُمْرَةِ جَمِيعًا، وإن صَرَفَه إلى إفْرادٍ أو قِرانٍ، لم يُجْزِئْه عن العُمْرَةِ؛ إذ مِن المُحْتَمَلِ أن يَكُونَ المَنْسِىُّ حَجُّا مفرَدًا، وليس له إدْخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، فتَكُونُ صِحَّةُ العُمْرَةِ مَشْكُوكًا فيها، فلا تَسْقُطُ بالشَّكِّ، ولا دَمَ عليه لذلك؛ فإنَّه لم يَثْبُتْ حُكْمُ القِرانِ يَقِينًا، فلا يَجِبُ الدَّمُ مع الشَّكِّ في سبَبِه. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ. وأمّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن شَكَّ بعدَ الطَّوافِ، لم يَجُزْ صَرْفُه إلَّا إلى العُمْرَةِ؛ لأن إدْخالَ الحَجٍّ على العُمْرَةِ بعدَ الطوافِ غيرُ جائِز، إلَّا أن يَكُونَ معه هَدْىٌ. فإن صَرَفه إلى حَجٍّ أو قِرانٍ، فإنَّه يَتَحَلَّلُ بفِعْلِ الحَجِّ، ولا يُجْزِئُه واحِدٌ مِن النُّسُكَيْن؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ حَجًّا، وإدْخالُ العُمْرَةِ عليه غيرُ جائِزٍ، فلم يُجْزِئْه عن واحِدٍ منهما مع الشَّكِّ، ولا دَمَ عليه؛ للشَّكِّ فيما يُوجِبُ الدَّمَ، ولا قَضَاءَ عليه؛ للشَّكِّ (¬1) فيما يُوجِبُه. وإن شَكَّ وهو في الوُقُوفِ بعدَ الطَّوافِ والسَّعْىِ، جَعَلَه عُمْرَةً، فقَصَّرَ ثم أحْرَمَ بالحَجِّ، فإنَّه إن كان المَنْسِى عُمْرَةً (¬2) فقد أصابَ، وكان مُتَمَتِّعًا، وإن كان إفرادًا أو قِرانًا لم يَنْفَسِخْ بتَقْصِيرِه، وعليه دَمٌ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه لا يَخْلُو إمّا أن يَكُونَ مُتَمَتِّعًا عليه دَمُ المُتْعَةِ، أو غيرَ مُتَمَتِّع، فلَزِمَه دَمٌ لتَقْصِيرِه. وإن شَكَّ، ولم يَكُنْ طاف وسَعَى، جَعَله قِرانًا؛ لأنَّه إن كان قِرانًا فقد أصابَ، وإن كان مُعْتَمِرًا فقد أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ وصار قارِنًا، وإن كان مفرِدًا لَغا إحْرامُه بالعُمْرَةِ، وصَحَّ إحْرامُه بالحَجِّ، وإن صَرَفَه إلى الحَجٍّ جاز أيضًا، ولا يُجْزِئُه عن العُمْرَةِ في هذه المواضِعِ؛ لاحْتِمالِ أن يَكُون مُفْرِدًا، وإدْخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ غيرُ جائِزٍ، ولا دَمَ عليه؛ للشَّكِّ في وُجُودِ (¬3) سَبَبِه. ¬

(¬1) في النسخ: «للنُّسُكِ» خطأ. وانظر المغنى 5/ 99. (¬2) في الأصل: «عمرته». (¬3) في الأصل: «وجوب».

1171 - مسألة: (وإن أحرم عن رجلين، وقع عن نفسه)

وَإنْ أَحْرَمَ عَنْ رَجُلَيْنِ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْيهِ، وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَصْرِفُهُ إِلَى أَيِّهمَا شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1171 - مسألة: (وإن أحْرَمَ عن رَجُلَيْن، وَقَع عن نَفْسِه) إذا اسْتَنابَه اثْنانِ في النُّسُكِ، فأحْرَمَ عنهما به، وَقَع عن نَفسِه دُونَهما؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ وُقُوعُه عنهما، وليس أحَدُهما أوْلَى به مِن الآخَرِ، وإن أحْرَمَ عن نَفْسِه وِغيرِه، وَقَع عن نَفْسِه؛ لأنَّه إذا وَقَع عن نَفْسِه ولم يَنْوِها، فمعَ نِيَّتِه أوْلَى. 1172 - مسألة: (وإن أحْرَمَ عن أحَدِهما لا بعَيْنه، وَقَع عن نَفْسِه. وقال أبو الخَطّابِ: له صَرْفُه إلى أيِّهما شاء) أما إذا أحْرَمَ عن أحَدِهما غيرَ مُعَيَّنٍ، فإنَّه يَقَعُ عن نَفْسِه أيضًا؛ لأنَّ أحَدَهما ليس أوْلَى مِن الآخَرِ، أشْبَهَ المَسْألَةَ قبلَها. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ، وله صَرْفُه إلى أيِّهما

1173 - مسألة: (وإذا استوى على راحلته، لبى تلبية رسول الله

وَإِذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، لَبَّى تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ شاء. اخْتارَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ الإِحْرامَ يَصِحُّ بالمَجْهولِ، فصَحَّ عن المَجْهولِ، كما لو أحْرَمَ مُطْلَقًا، فإن لم يَفْعَلْ حتى طاف شَوْطًا، وَقَع عن نَفْسِه، ولم يَكُنْ له صَرْفُه إلى أحَدِهما؛ لأنَّ الطَّوافَ لا يَقَعُ عن غيرِ مُعَيَّنٍ. 1173 - مسألة: (وإذا اسْتَوَى على راحِلَتِه، لَبَّى تَلْبِيَةَ رسولِ اللهِ

لَبَّيْكَ، [63 ظ] لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ (¬1) لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ) تُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ إذا اسْتَوَى على راحِلَتِه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَها، وأمَرَ بها. وأدْنَى أحْوالِ الأمْرِ الاسْتِحْبابُ. وروَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّى، إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِه مِنْ حَجَرٍ أوْ شَجَرٍ أوْ مَدَرٍ (¬2)، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأرْضُ مِنْ هَهُنا وَهَهُنا» (¬3). وتُسْتَحَبُّ البدايَة بها إذا اسْتَوَى على راحِلَتِة؛ لِما روَى أنَسٌ، وابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا رَكِب راحِلَتَه واسْتَوَتْ به، أهَلَّ. رَواهما البخارىُّ (¬4). وقال ابنُ عباس، رَضِىَ اللهُ عنهما: أوْجَبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الإِحْرامَ حينَ فَرَغ مِن صَلاِته، فلَمّا رَكِب راحِلَتَه واسْتَوَتْ به قائِمَةً أهَلَّ (¬5). يَعْنِى، لَبَّى. ومَعْنَى الإِهْلالِ، رَفْعُ الصَّوْتِ، مِن قَوْلِهم: اسْتَهَلَّ الصَّبِىُّ. إذا صاحَ. والأصْلُ فيه أنَّهم كانوا إذا رَأوُا الهِلالَ صاحُوا. فقيلَ لكلِّ صائِحٍ: مُسْتهِلٌّ، وإنَّما يَرْفَعُ بالتَّلْبِيَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) المدر: التراب المتلبد، أو قطع الطين. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 44. وابن ماجه، في: باب التلبية، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 9741/ 2، 975. (¬4) تقدم تخريجه عنهما في صفحة 144. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذه تَلْبِيَةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، روَى (¬1) ابنُ عُمَرَ في المُتَّفَقِ عليه (¬2)، أنَّ. تَلْبيَةَ رسولِ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». رَواه مسلمٌ عن جابِرٍ (¬3). والتَّلْبِيَةُ مَأْخُوذَةً مِن لَبَّ بالمَكانِ إذا لَزِمَه، فكأنَّه قال: أنا مُقِيمٌ (¬4) على طاعَتِكَ وأمْرِك، غيرُ خارِجٍ عن ذلك، ولا شارِدٌ عليك. هذا ونحوُه. وثَنَّوْها وكَرَّرُوها؛ لأنَّهُم أرادُوا إقامَةً بعد إقامَةٍ، كما لو قالوا: حَنانَيْكَ. أى رَحْمَة بعدَ رَحْمَةٍ، أو رَحْمَة مع رَحْمَةٍ، أو ما أشْبَهَه. وقال جَماعَةٌ مِن العُلماءِ: مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إجابَةُ نِداءِ إبراهيمَ عليه السلامُ، حينَ نادَى بالحَجِّ. ورُوِىَ عن ابنِ عباس، رَضِىَ الله عنهما، قال: لَمّا فَرَغ إبراهيمُ عليه السلامُ مِن بناءِ البَيْتِ، قِيلَ له: أذِّنْ في النّاسِ بالحَجِّ. قال: رَبِّ وما يَبْلُغُ صَوْتِى. قال: أذِّنْ، وعَلَىَّ البَلَاغُ. فنادَى إبراهيمُ: أيُّها النّاسُ، كُتِبَ عليكم الحَجُّ. فسَمِعَه ما بينَ السماءِ والأرْضِ، أفلا ¬

(¬1) في م: «وكما روى». (¬2) أخرجه البخارى، في: كتاب التلبية، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 170. ومسلم، في: باب التلبية وصفتها وقتها، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 841، 842. كما أخرجه أبو داود، في: باب كيف التلبية، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 421. والترمذى، في: باب ما جاء في التلبية، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 41 - 43. والإمام مالك، في: باب العمل في الإهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 331، 332. (¬3) في: باب حجة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 887. (¬4) في م: «أقيم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرَى النّاسَ يَجِيئُون مِن أقْطارِ الأرْضِ يُلَبُّون (¬1). ويَقُولُون: لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ -بكسرِ الهمزَةِ-. نَصَّ عليه أحمدُ. والفَتْحُ جائِزٌ، والكَسْرُ أجْوَدُ. قال ثَعْلَبٌ: مَن قال «أنَّ» بالفَتْحِ فقد خصَّ، ومَن قال بكَسْرِ الألِفِ، فقد عَمَّ. يعنى، أى أنَّ مَن كَسَر فقد جَعَل الْحَمْدَ للهِ على كلِّ حالٍ، ومَن فَتَح فمَعْناه لَبَّيْكَ؛ لأنَّ الْحَمْدَ لَكَ، أى لهذا السَّبَبِ. فصل: ولا تُسْتَحَبُّ الزِّيادَةُ على تَلْبِيَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا تُكْرهُ. ونحوَه قال (¬2) الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لقولِ جابِرٍ: فأهَلَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّوْحِيدِ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». وأهَلَّ النّاسُ بهذا الذى يُهِلُّون، ولَزِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبيَتَه. وكان ابنُ عُمَرَ يُلَبِّى بتَلْبِيَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويَزِيدُ مع هذا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بيَدَيْكَ، والرَّغْباءُ (¬3) إليكَ والعَمَلُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وزادَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عنه: لَبَّيْكَ ذا النَّعْماءِ والفَضْلِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، مَرْهُوبًا ومَرْغُوبًا إليك، لَبَّيْكَ. هذا مَعْناه. رَواه الأثْرَمُ (¬5). ويُرْوَى أنَّ أنَسًا كان يَزِيدُ: لَبَّيْكَ ¬

(¬1) قال ابن حجر: أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد ابن منيع في مسنده وابن أبى حاتم من طريق قابوس بن أبى ظبيان عن أبيه عنه قال:. . . .، وذكر كلام ابن عباس. فتح البارى 3/ 409. وأورده في المطالب العالية في أول كتاب الحج 1/ 311. (¬2) في م: «وقال». (¬3) معناه الطلب والمسألة إلى من بيده الخير. (¬4) انظر تخريج حديث ابن عمر في تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتقدم في صفحة 208. (¬5) أخرجه ابن أبى شيبة، وزاد: ذا النعماء والفضل الحسن. عزاه له ابن حجر في الفتح 3/ 410.

1174 - مسألة: (والتلبية سنة، ويستحب رفع الصوت بها، والإكثار منها، والدعاء بعدها)

وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، وَالْإِكْثَارُ مِنْهَا، وَالدُّعَاءُ بَعْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقَّا حَقًّا، تَعَبُّدًا ورِقًّا (¬1). ففى هذا دَلِيلٌ على أنَّه لا بَأْسَ بالزِّيادَةِ، ولا تُسْتَحَبُّ، لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَزِم تَلْبِيَتَه، فَكَرَّرَها، ولم يَزِدْ عليها. وقد رُوِىَ أنَّ سَعْدًا سَمِع بعضَ بَنِى أخِيه وهو يُلَبِّى: ياذا المَعارِجِ. فقالَ: إنَّه لذُو المَعارِجِ، وما هكذا كُنّا نُلَبِّى على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 1174 - مسألة: (والتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ، ويُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بها، والإِكثارُ منها، والدُّعاءُ بعدَها) التَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ، كما ذَكَرْنا، وليست واجِبَةً. وبه قال الشافعىُّ. وعن أصْحابِ مالكٍ أنَّها واجِبَةٌ، يَجِبُ الدَّمُ بتَرْكِها. وعن الثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، أنَّها مِن شَرْطِ الإِحْرامِ، لا يَصِحُّ إلَّا بها، ¬

(¬1) أورده الهيثمى في: باب الإهلال، من كتاب الحج. كشف الأستار عن زوائد البزار 2/ 13. وقال الهيثمى: رواه البزار مرفوعًا وموقوفًا ولم يسم شيخه في المرفوع. مجمع الزوائد 3/ 223. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 172. قال الهيثمى: رجاله رجال الصحبح إلا أن عبد الله -هو عبد الله ابن أبى سلمة الراوى عن سعد- لم يسمع من سعد. مجمع الزوائد 3/ 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالتَّكْبيرِ للصلاةِ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ قال في قَوْلِه تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}. قال: الإِهْلالُ. وعن عَطاءٍ، وطاوُسٍ، وعِكْرِمَةَ: هو التَّلْبِيَةُ. ولأنَّ النُّسُكَ عِبادَةٌ ذاتُ إحْرامٍ وإحْلالٍ فكانَ في أوَّلِها ذِكْرٌ واجِبٌ، كالصلاةِ. ولَنا، أنَّها ذِكْرٌ، فلم تَجِبْ في الحَجِّ، كسائِرِ الأذْكارِ، وفارَقَ الصلاةَ، فإنَّ النُّطْقَ في آخِرِها يَجبُ، فوَجَبَ في أوَّلِها، بخِلافِ الحَجِّ. ويُسْتحَبُّ رَفْعُ الصَّوْب بها؛ لأَنَّ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أىُّ الحَجِّ أفْضَلُ؟ قال: «العَجُّ والثَّجُّ» (¬1). حديثٌ غرِيبٌ. العَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبِيَةِ، والثَّجُّ إسالَةُ الدِّماءِ بالذَّبْحِ والنَّحْرِ. وروَى التِّرْمِذِىُّ (¬2) بإسْنادِه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «أتَانِى جِبْرِيلُ يَأمُرُنِى أنْ آمُرَ أصْحَابِى أنْ يَرْفَعُوا أصْوَاتَهُم بِالتَّلْبِيَةِ». وهو حديث حسنٌ صَحِيحٌ. وقال أنَسٌ: ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 44. والدارمى، في: باب أى الحج أفضل، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 31. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمِعْتُهُم يَصْرُخُون بهما صُراخًا (¬1). وقال أبو حازِمٍ: كان أصْحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَبْلُغُون الروحاءَ (¬2)، حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهم مِن التَّلْبِيَةِ. وقال سالِمٌ: كان ابنُ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَه بالتَّلْبِيَةِ، فلا يَأْتِى الرَّوْحاءَ حتى يَصْحَل (¬3) صَوْتُه. ولا يُجْهِدُ نفْسَه في رَفْعِ الصَّوْتِ زِيادَةً على الطَّاقَةِ؛ لئَلَّا يَنْقَطِعَ صَوْتُه وتَلْبِيَتُه. فصل: ويُسْتَحَبُّ الإِكْثارُ منها على كلِّ حالٍ؛ لِما روَى ابنُ ماجه، عن عبدِ اللهِ بنِ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ، رَضِىَ اللهُ عَنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِم يَضْحَى للهِ، يُلَبِّى حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، إلَّا غابَتْ بذُنُوبِه، فعادَ كَمَا وَلَدَتْه أُمُّه». رَواه ابنُ ماجه (¬4). فصل: ولا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بها في مَساجِدِ الأمْصارِ، ولا في الأمْصارِ، إلَّا في مَكَّةَ والمَسْجِدِ الحَرامِ؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب رفع الصوت بالإهلال، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 170. وتقدم حديثه بتمامه في صفحة 152. (¬2) الروحاء: بين مكة والمدينة، على نحو من أربعين ميلاً. معجم البلدان 2/ 828، 829. (¬3) يصحل: يُبَحُّ. (¬4) في: باب الظلال للمحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 976.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِع رجلًا يُلَبِّى بالمَدِينَةِ، فقالَ: إنَّ هذا لمَجْنُونِّ، إنَّما التَّلْبِيَةُ إذا بَرَزْتَ. وهذا قولُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ: يُلَبِّى في المساجِدِ كلِّها، ويَرْفَعُ صَوْتَه؛ لعُمُومِ الحديثِ. ولَنا، قولُ ابنِ عباس، ولأنَّ المساجِدَ إنَّما بُنِيَتْ للصلاةِ، وجاءَتِ الكَراهَةُ لِرَفْعِ الصَّوْتِ عامًّا (¬1)، إلَّا الإِمامَ خاصَّةً، فوَجَبَ إبْقاؤها على عُمُومِها. فأمّا مَكَّةُ فتُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ فيها؛ لأنَّها مَحَلُّ النُّسُكِ، وكذلك المَسْجِدُ الحَرامُ وسائِرُ مساجِدِ الحَرَمِ، كمَسْجِدِ مِنًى، وفى عَرَفاتٍ أيضًا. فصل: ويُسْتَحَبُّ الدُّعاءُ يعدَها، فيَسْألُ اللهَ الجَنَّةَ، ويَسْتَعِيذُ به مِن النّارِ، ويَدْعُو بما أحَبَّ؛ لِما روَى الدّارَقُطْنِىُّ (¬2) بإسْنادِه، عن خُزَيْمَةَ ابنِ ثابِتٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فَرَغ مِن تَلْبِيَتِه سَأل اللهَ مَغْفِرَتَه ورِضْوانَه، واسْتَعاذَه برَحْمَتِه مِن النّارِ. وقال القاسِمُ بنُ محمدٍ: يُسْتَحَبُّ للرجلِ إذا فَرَغ مِن تَلْبِيَيه أن يُصَلِّىَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. لأنَّه مَوْضِعٌ شُرِع فيه ذِكْرُ الله تِعالى، فشُرِعَ فيه الدُّعاءُ، ولأنَّ الدُّعاءَ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا، فتأكَّدَتْ مَشْرُوعِيَّتُه بعدَ ذِكْرِ الله تِعالى. ويُسْتَحَبُّ أن يُصَلِّىَ على ¬

(¬1) في م: «عامة». (¬2) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَها؛ لأنَّه مَوْضِعٌ شُرِعَ فيه ذِكْرُ اللهِ تعالى، فشُرِعَتْ فيه الصلاةُ على رسولِه، كالصلاةِ، أو فشُرِعَ فيه ذِكْرُ رسولِه، كالأذانِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ ذِكْرُ ما أحْرَمَ به في تَلْبِيَيه. قال أحمدُ: إن شِئْتَ لَبَّيْتَ بالحَجِّ، وإن شِئْتَ لَبَّيْتَ بعُمْرَةٍ، وإن شِئْتَ لَبَّيْتَ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فقُلْتَ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ. وقال أبو الخَطّابِ: لاَ يُستَحَبُّ. ويُرْوَى عنِ ابنِ عُمَرَ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ جابِرًا قال: ما سَمَّى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في تَلْبِيَيه حَجًّا ولا عُمْرَةً. وسَمِع ابنُ عُمَرَ رجلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ بعُمْرَةٍ. فضَرَبَ صَدْرَه، وقال: تُعْلِمُه ما في نَفْسِك (¬1). ولَنا، ما روَى أنَسٌ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا». وقال جابِرٌ: قَدِمْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نَقُولُ: لَبَّيْكَ بالحَجِّ. وقال ابنُ عباسٍ: قَدِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابُه وهم يُلَبُّون بالحَجِّ. وقال ابنُ عُمَرَ: بَدَأ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأهَلَّ بالعمْرَةِ، ثم أهَلَّ بالحَجِّ. مُتَّفَقٌ على هذه الأحاديثِ (¬2). وقال أنَسٌ: سَمِعْتُهم يَصْرُخُون بهما صُراخًا. رَواه البخارىُّ (¬3). وهذه الأحاديثُ أصَحُّ مِن حديثِهم ¬

(¬1) أخرجهما البيهقى، في: باب من قال لا يسمى في إهلالِه حجًّا ولا عمرة. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 40. (¬2) تقدم تخريج حديث أنس في صفحة 152. وحديث جابر، أخرجه البخارى، في: باب من لبّى بالحج وسماه، من كتاب الحج. صحيح البخارى 176/ 2. ومسلم، في: باب في المتعة بالحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 886. أما حديث ابن عباس فتقدم تخريجه في صفحة 153. وحديث ابن عمر تقدم تخريجه في صفحة 153. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 212.

1175 - مسألة: (ويلبى إذا علا نشزا، أو هبط واديا، وفى دبر

وَيُلَبِّى إِذَا عَلَا نَشزًا، أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِى دُبُرِ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكْثَرُ. وقولُ ابنِ عُمَرَ يُخالِفُه قولُ أبِيه، فإنَّ النَّسائِىَّ روَى بإسْنادِه، عن الصُّبَىِّ (¬1) بنِ مَعْبَدٍ، أنَّه أوَّلَ ما حَجَّ لَبَّى بالحَجِّ والعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثم ذَكَر ذلك لعُمَرَ، فقالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وإن لم يذكُرْ ذلك في تَلْبيَتِه، فلا بَأْسَ، فإنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّها القَلْبُ، واللهُ سبحانه عالِمٌ بها. فَصل: ولا يُلَبِّى بغيرِ العَرَبِيَّةِ، إلَّا أن يَعْجِزَ عنها؛ لأنَّه ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فلا يُشْرَعُ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ، كالأذانِ والأذْكارِ المَشْرُوعَةِ في الصلاةِ. فصل: وإن حَجَّ عن غيرِه، كَفاه مُجَرَّدُ النِّيَّةِ عنه. قال أحمدُ: لا بَأْسَ بالحَجِّ عن الرجلِ، ولا يُسَمِّيه. وإن ذَكَره في التَّلْبِيَةِ فحسنٌ. قال أحمدُ: إذا حَجَّ عن رجلٍ يَقُولُ أوَّلَ ما يُفمى: عن فُلانٍ. ثم لا يُبالِى أن لايَقُولَ بعدَ ذلك؛ لِقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - للذى سَمِعَه يُلَبِّى عن شُبْرُمَةَ: «لَبِّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ لَبِّ عَنْ شُبْرُمَةَ» (¬3). ومتى لَبَّى بالحَجِّ والعُمْرَةِ بَدَأ بذِكْرِ العُمْرَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ وذلك لقولِ أنَسٍ: إنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» (¬4). 1175 - مسألة: (ويُلَبِّى إذا عَلا نَشْزًا، أوْ هَبَطَ وادِيًا، وفى دُبُرِ ¬

(¬1) في م: «الضبى». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 91. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 152.

وَإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِذَا الْتَقَتِ الرِّفَاقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ، وإقْبالِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وإذا الْتَقَتِ الرِّفاقُ) التَّلْبِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ في جَمِيعِ الأوْقاتِ، ويَتأكَّدُ اسْتِحْبابُها في ثَمانِيَةِ مَواضِعَ؛ منها السِّتَّةُ المَذْكُورَةُ، والسّابعُ إذا فعل مَحْظُورًا ناسِيًا، الثّامنُ إذا سَمِع مُلَبِّيًا؛ لِما روَى جابِرٌ، قال: كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّى في حَجَّتِه إذا لَقِىَ راكِبًا، أو عَلا أكَمَةً (¬1)، أو هَبَط وادِيًا، وفى دُبُرِ الصَّلَواتِ المَكْتُوبَةِ، ومِن آخِرِ اللَّيْلِ (¬2). وقال إبراهيمُ النَّخَعِىُّ: كانُوا يَسْتَحِبُّون التَّلْبِيَةَ دُبُرَ الصلاةِ المَكْتُوبَةِ، وإذا هَبَط وادِيًا، وإذا عَلا نَشْزًا (¬3)، وإذا لَقِى راكِبًا، وإذا اسْتَوتْ به راحِلَتُه. وبهذا قال الشافعىُّ، وقد كان قبلُ يَقُولُ مِثْلَ قولِ مالكٍ: لا يُلَبِّى عندَ اصْطِدامِ الرِّفاقِ. والحديثُ يَدُلُّ عليه، وكذلك قولُ النَّخَعِىِّ. فصل: ويُجْزِىُّ مِن التَّلْبِيَةِ في (¬4) دُبُرِ الصلاةِ مَرَّةٌ واحِدَةٌ. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبى عبدِ اللهِ: ما شئٌ يَفْعَلُه العامَّةُ، يُلَبُّون في دُبُرِ الصلاةِ ¬

(¬1) الأكمة: التل. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب، وبيض له النووى والمنذرى، وقد رواه ابن عساكر في تخريجه لأحاديث المهذب. انظر: تلخيص الحبير 2/ 239. وانظر المجموع 7/ 240. (¬3) النشز: المرتفع من الأرض. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثًا؟ فتَبَسَّمَ، وقال: ما أدْرِى مِن أين جاءُوا به؟ قُلْتُ: أليس يُجْزِئُه مَرَّةٌ واحِدَةٌ؟ قال: بلى. وذلك لأنَّ المَرْوِىَّ التَّلْبِيَةُ مُطْلَقًا، مِن غيرِ تَقْيِيدٍ، وذلك يَحْصُلُ بمرَّةٍ واحِدَةٍ، وهكذا التَّكْبِيرُ في أدْبارِ الصَّلَواتِ، في أيّام الأضْحَى، وأيّام التَّشْرِيقِ. وإن زادَ فلا بَأْسَ؛ لأنَّ ذلك زِيادَةُ ذِكْرٍ وخَيْرٍ، وتَكْرارُه ثَلاًثا حسنٌ، فإنَّ اللهَ وِتْر يُحِبُّ الوِتْرَ. فصل: ولا بَأْسَ بالتَّلْبِيَةِ في طَوافِ القُدُومِ. وبه قال ابنُ عباسٍ، وعَطاءُ بنُ السّائِبِ، ورَبِيعَةُ بنُ عبدِ الرحمن، وابنُ أبِى لَيْلَى، وداودُ، والشافعىُّ. ورُوِىَ عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّه قال: لا يُلَبِّى حولَ البَيْتِ. وقال ابنُ عُيَيْنَةَ: ما رَأيْنا أحَدًا يُقْتَدَى به يُلَبِّى حولَ البَيْتِ، إلَّا عَطاءَ بنَ السّائِبِ. وقال أبو الخَطّابِ: لا يُلَبِّى. وهو قولٌ للشافعىِّ؛ لأنَّه مُشْتَغِلٌ بذِكْر يَخُصُّه، فكانَ أوْلَى. ولَنا، أنَّه زَمَنُ التَّلْبِيَةِ، فلم يُكْرَهْ له، كما لو لم يَكُنْ حولَ البَيْتِ، ويُمْكِنُ الجَمْعُ بينَ التَّلْبِيَةِ والذِّكْرِ المشْرُوعِ في الطَّوافِ. ويُكْرَهُ له رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبِيَةِ حولَ البَيْتِ؛ لئَلَّا يَشْغَلَ الطَّائِفِين عن طَوافِهم وأذْكارِهِم. فصل: ولا بَأْسَ أن يُلَبِّىَ الحَلالُ. وبه قال الحسنُ، والنَّخَعِىُّ، وعَطاءُ ابنُ السّائِبِ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وكَرِه هذا مالكٌ. ولَنا، أنَّه ذِكْرٌ مُسْتَحَبُّ للمُحْرِمِ، فَلم يُكْرَهْ لغيرِه، كسائِرِ الأذْكارِ.

1176 - مسألة: (ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، إلا بقدر ما تسمع نفسها)

وَلَا تَرْفَعُ الْمَرأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، إِلَّا بِقَدْرِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1176 - مسألة: (ولا تَرْفَعُ المَرْأةُ صَوْتَها بالتَّلْبيَةِ، إلَّا بِقَدْرِ ما تُسْمِعُ نَفْسَهَا) (¬1) قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ العُلَماءُ على أنَّ السُّنَّةَ في المَرْأةِ أن لا ترْفَعَ صَوْتَها، وإنَّما عليها أن تُسْمِع نَفْسَها. وبهذا قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِىٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. ورُوِىَ عن سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ، أنَّه قال: السُّنَّةُ عندَهم أنَّ المَرْأةَ لا تَرْفَعُ صَوْتَها بالإِهْلالِ. وإنَّما كُرِهَ لها رَفْعُ الصَّوْتِ مَخافَةَ الفِتْنَةِ بها، ولهذا لا يُسَنُّ لها أذانٌ ولا إقامَةٌ، والمَسْنُونُ لها في التَّنْبِيهِ في الصلاةِ التَّصْفِيقُ دُونَ التَّسْبِيحِ. ¬

(¬1) كذا في النسختين؛ المطبوعة والمخطوطة. وفى نسخ المقنع والإنصاف: «رفيقتها». وعليه شرح صاحب المبدع، وكذا في متن الخرقى. انظر المبدع 3/ 134، 135، المغنى 5/ 160.

باب محظورات الإحرام

بَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَهِىَ تِسْعَةٌ؛ حَلْقُ الشَّعَرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ مَحْظُوراتِ الإِحْرامَ (وهى تِسْعَةٌ) 1177 - مسألة: (حَلْقُ الشَّعَرِ) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّه لا يَجُوزُ للمُحْرِم أخْذُ شيءٍ مِن شَعَرِه، إلَّا مِن عُذْرٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1). وروَى كَعْبُ ابنُ عُجْرَةَ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَعَلَّكَ يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟». قال: نعم يا رسولَ اللهِ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاَثةَ أيّام، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أوِ انْسُكْ شَاةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ففيه دَلِيلٌ على أنَّ الحَلْقَ كان مُحَرَّمًا قبلَ ذلك. فصل: فإن كان له عُذْرٌ مِن مَرَضٍ أو قَمْلٍ أو غيرِه، ممّا يَتَضَرَّرُ بإبْقاءِ الشَّعَرِ، فله إزاالَتُه؛ لقَوْله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ¬

(¬1) سورة البقرة 196. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 145، وهو عند البخارى 5/ 164 بدلا من 1/ 164.

1178 - مسألة: (وتقليم الأظفار)

وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وللحديثِ المَذْكُور. قال ابنُ عباس، رَضِىَ اللهُ عنه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}. أى برَأْسِه قُرُوحٌ، {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}. أى قَمْلٌ. 1178 - مسألة: (وتَقْلِيمُ الأظْفارِ) أجْمَعَ العُلَماءُ على أنَّ المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِن تَقْلِيمِ أظْفارِه، إلَّا مِن عُذْرٍ؛ لأنَّه إزالَةُ جُزْءٍ مِن بَدَنِه يَتَرَفَّهُ به، أشْبَهَ الشَّعَرَ. فإنِ انْكَسَر، فله إزالَتُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ للمُحْرِمِ أن يُزِيلَ ظُفْرَه بنَفْسِه إذا

1179 - مسألة: (فمن حلق أو قلم ثلاثة، فعليه دم. وعنه، لا يجب إلا فى أربع فصاعدا)

فَمَنْ حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةً، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ إِلَّا فِى أَرْبَعٍ فَصَاعِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ انْكَسَرَ؛ لأنَّ (¬1) بقاءَه يُؤْلِمُه، أشْبَهَ الشَّعَرَ النّابِتَ في عَيْنِه. 1179 - مسألة: (فمَن حَلَق أو قَلَّمَ ثَلاثَةً، فعليه دَمٌ. وعنه، لا يَجِبُ إلَّا في أرْبَعٍ فصاعِدًا) الكَلامُ في هذه المسْألَةِ في فَصْلَيْن؛ أحَدُهما، في وُجُوبِ الفِدْيَةِ بحَلْقِ شَعَرِ رَأْسِه، ولا خِلافَ في ذلك إذا كان لغيرِ عُذْرٍ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على وُجُوبِ الفِدْيَةِ على مَن حَلَق وهو مُحْرِمٌ لغيرِ عِلَّةٍ. والأصْلُ في وُجُوبِها ما ذَكَرْنا مِن الآيَةِ والخَبَرِ. وظاهِرُ كَلامِ شيخِنا ههُنا يَدُلُّ على أنَّه لا فَرْقَ بينَ أن يَقْطَعَ شَعَرَه لعُذْرٍ أو غيرِه، أو كان عامِدًا أو مُخْطِئًا، أنَّه يَجِبُ به الفِدْيَةُ. وقد دَلَّ عليه ظاهِرُ الآيَةِ، والخَبَرُ، وهو ظاهِرُ المَذْهَبِ. وبه قال الشافعىُّ. ونحوُه عن الثَّوْرِىِّ. وفيه وَجْةٌ آخَرُ، أنَّه لا فِدْيَةَ على النّاسِى. وهو قولُ إسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «عُفِىَ لأُمَّتِى عنِ الْخَطَإِ والنِّسْيَانِ» (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «ولأن». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه إتْلافٌ، فاسْتَوَى عَمْدُه وسَهْوُه، كإتْلافِ مالِ الآدَمِىِّ. ولأنَّ الآيةَ قد دَلَّتْ على وُجُوبِ الفِدْيَةِ على مَن حَلَق رَأْسَه للأذَى، وهو مَعْذُورٌ، فكانَ تَنْبِيهًا على وُجُوبِها على غيرِ المَعْذُورِ، وفيها دَلِيلٌ على وُجُوبِها على المَعْذُورِ بغيرِ الأذَى، مِثْلَ المُحْتَجِمِ الذى يَحْلِقُ مَوْضِعَ مَحاجِمِه، أو شَعَرًا عن شَجَّتِه. وفى مَعْنَى النّاسِى النّائمُ (¬1) الذى يَقْلَعُ شَعَرَه، أو يُصَوِّبُ رَأْسَه إلى نارٍ، فيَحْرِقُ لَهَبُها شَعَرَه، ونحوُ ذلك. الفصل الثّانِى في القَدْرِ الذى تَجِبُ به الفِدْيَةُ، وذلك ثَلاثُ شَعَراتٍ فما زادَ. قال القاضى: هذا المَذْهَبُ. وهو قولُ الحَسنِ، وعَطاءٍ، وابنِ عُيَيْنَةَ، والشافعىِّ، وأبِى ثَوْرٍ؛ لأنَّه شَعَرُ آدَمِىٍّ يَقَعُ عليه الجَمْعُ المُطْلَقُ، أشْبَهَ رُبْعَ الرَّأْسِ. وفيه روايَةٌ أُخْرَى ذَكَرَها الخِرَقِىُّ، أنَّه لا يَجبُ إلَّا في أرْبَعٍ فصاعِدًا؛ لأنَّ الأرْبَعَ كثِيرٌ أشْبَهَتْ رُبْعَ الرَّأْسِ، أمّا الثَّلاثُ فهى آخِرُ القِلَّةِ، وآخِرُ الشئِ منه، فأشْبَهَتْ ما كان دُونَها. وذَكَر ابنُ أبى موسى رِوايَةً، أنَّه لا يَجِبُ فيما دُونَ الخَمْس. ولا نَعْلَمُ وَجْهًا لذلك. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجِبُ الدَّمُ بدُونِ رُبْعِ الرَّأسَ؛ لأنَّه يَقُومُ مَقامَ الكلِّ، ولهذا إذا رَأى رجلًا يَقُولُ: رَأْيتُ فُلانًا. وإنَّما أُرِىَ إحْدَى جِهاتِه. وقال مالكٌ: ¬

(¬1) في النسخ: «والنائم». خطأ. وانظر المغنى 5/ 382.

1180 - مسألة: (وفيما دون ذلك فى كل واحد مد من طعام. وعنه، قبضة. وعنه، درهم)

وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مُدٌّ مِنْ طَعَام. وَعَنْهُ، قَبْضَةٌ. وَعَنْهُ، دِرْهَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا حَلَق مِن رَأْسِه ما أماطَ به الأذَى وَجَب الدَّمُ. وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على ما ذَهَبْنا إليه. وقولُ أبِى حنيفةَ: إنَّ الرُّبْعَ يَقَعُ عليه اسمُ الكلِّ. مَمْنُوعٌ، وما ذَكَرَه مِن المثالِ غيرُ مُقَيَّدٍ بالرُّبْعِ، بل هو مَجازٌ يَتَناوَلُ القَلِيلَ والكَثِيرَ. وهل يَجِبُ الدَّمُ بقَصِّ ثَلاَثةِ أظْفارٍ، أو لا يَجِبُ إلَّا في أرْبَعٍ؟ يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَيْن في الشَّعَرِ؛ لأنَّه في مَعْناه، وعلى ما حَكاه ابنُ أبى موسى، لا يَجِبُ إلَّا في خَمْسَةِ أظْفارٍ، قياسًا على الشَّعَرِ. واللهُ أعْلَمُ. 1180 - مسألة: (وفيما دُونَ ذلك في كلِّ واحِدٍ مُدٌّ مِن طَعامٍ. وعنه، قَبْضَةٌ. وعنه، دِرْهَمٌ) يَعْنِى إذا حَلَق أقَلَّ مِن ثَلاثِ شَعَراتٍ، أو أقَلَّ مِن أرْبَعٍ، على الرِّوايَةِ الأُخْرَى، فعليه مُدٌّ مِن طَعامٍ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو الذى ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الحسنِ، وابنِ عُيَيْنَةَ، والشافعىِّ. وعن أحمدَ: في الشَّعَرَةِ دِرْهَمٌ، وفى الشَّعَرَتَيْن دِرْهَمان. وعنه: في كلِّ شَعَرَةٍ قَبْضَةٌ مِن طَعامٍ. رُوِىَ ذلك عن عَطاءٍ، ونحوُه عن مالكٍ وأصْحابِ الرَّأْىِ. قال أصْحابُ الرَّأْىِ: يَتَصَدَّقُ بشَئٍ قَلِيلٍ. وقال مالكٌ: فيما قَلَّ مِن الشَّعَرِ إطْعامُ طعامٍ. ووَجْهُه أنَّه لا تَقْدِيرَ فيه، فيَجِبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه أقَلُّ ما يَقَعُ عليه اسْمُ الصَّدَقَةِ. وعن مالكٍ، في مَن أزالَ شَعَرًا يَسِيرًا: لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ النَّصَّ إنَّما أوْجَبَ الفِدْيَةَ في حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وألْحَقْنا به ما يَقَعُ عليه اسْمُ الرَّأْسِ. ولَنا، أنَّ ما ضُمِنَتْ جُمْلَتُه ضُمِنَتْ أبْعاضُه، كالصَّيْدِ. والأوْلَى وُجُوبُ الإِطْعامِ؛ لأنَّ الشّارِعَ إنَّما عَدَل عن الحَيَوانِ إلى الإِطْعامِ في جَزاءِ الصَّيْدِ، وههُنا أوْجَبَ الإِطْعامَ مع الحَيَوانِ على وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فيَجِبُ أن يَرْجِعَ إليه فيما لا يَجِبُ فيه الدَّمُ، والأوْلَى مُدُّ؛ لأنَّه أقَلُّ ما وَجَب بالشَّرْعِ فِدْيَةً، فكانَ واجِبًا في أقَلِّ الشَّعَرِ، والطَّعامُ الذى يُجْزِئُ إخْراجُه في الفِطرَةِ مِن البُرِّ والشَّعِيرِ والتَّمْرِ والزَّبِيبِ، كالذى يُجْزِئُ في الأرْبَعِ مِن الشَّعَرِ. فصل: وحُكْمُ الأظْفارِ حُكْمُ الشَّعَرِ فيما ذَكَرْنا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِن أخْذِ أظْفارِه، وعليه الفِدْيَةُ بِأخْذِها في قولِ أكْثَرِهم؛ منهم حَمّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، لا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ فيه بفِدْيَةٍ. ولَنا، أنَّه أزالَ ما مُنِعَ إزالَتَه لأجْلِ التَّرفُّهِ، فوَجَبَتْ عليه الفِدْيَةُ، كحَلْقِ الشَّعَرِ. وعَدَمُ النَّصِّ لا يَمْنَعُ قياسَه على المَنْصُوصِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كشَعَرِ البَدَنِ مع شَعَرِ الرَّأْسِ. والحُكْمُ في فِدْيَةِ الأظْفارِ، وفيما يَجِبُ فيما دُونَ الثَّلاثِ منها، أو الأرْبَعِ على الرِّوايَةِ الأُخْرَى، وفيما يَجبُ في الأرْبَعِ والثَّلاثِ كالحُكْمِ في الشَّعَرِ، على ما ذَكَرْنا مِن التَّفصِيلِ والاخْتِلافِ فيه. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبِى ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بتَقْلِيم أظْفارِ يَدٍ كامِلَةٍ. فلو قَلَّمَ مِن كلِّ يَدٍ أرْبَعَةً، لم يَجِبْ عليه دَمٌ عندَه؛ لأَنَّه لم يَسْتَكْمِلْ مَنْفَعَةَ اليَدِ، أشْبَهَ ما دُونَ الثَّلاثِ. ولَنا، أنَّه قَلَّمَ مَا يَقَعُ عليه اسْمُ الجَمْعِ، أشْبَهَ ما لو قَلَّمَ خَمْسًا مِن يَدٍ واحِدَةٍ، وقَوْلُهم يَبْطُلُ بما إذا حَلَق رُبْعَ رَأْسِه، فإنَّه لم يَسْتَوْفِ مَنْفَعَةَ العُضْوِ، ويَجِبُ به الدَّمُ، وقَوْلُهم يُفْضِى إلى وُجُوبِ الدَّمِ في القَلِيلِ دُونَ الكَثِيرِ. فصل: وفى قَصِّ بعضِ الظُّفْر ما في جَمِيعِه، وكذلك في قَطْعِ بَعْضِ الشَّعَرَةِ ما في قَطْعِ جَمِيعِها؛ لأنَّ الفِدْيَةِ تَجِبُ في الشَّعَرِ والظُّفْرِ، سَواءٌ طال أو قَصُر، وليس بمُقَدَّرٍ (¬1) بمساحَةٍ فيَتَقَدَّرُ الضَّمانُ عليه، ¬

(¬1) في م: «يقدر».

1181 - مسألة: (وإن حلق رأسه بإذنه، فالفدية عليه، وإن كان مكرها أو نائما، فالفدية على الحالق)

وَإنْ حُلِقَ رَأْسُهُ بِإِذْنِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بل هو كالموضِحَةِ، يَجِبُ في الصَّغِيرَةِ منها ما يَجِبُ في الكَبِيرَةِ. وخَرَّجَ ابنُ عَقِيلٍ وَجْهًا، أنَّه يَجِبُ بحِسابِ المُتْلَفِ، كالإِصْبَعِ يَجِبُ في أُنْمُلتِهَا ثُلُثُ دِيَتِها. 1181 - مسألة: (وإن حُلِق رَأْسُه بإذْنِه، فالفِدْيَةُ عليه، وإن كان مُكْرَهًا أو نائِمًا، فالفِدْيَةُ على الحالِقِ) إذا حَلَق مُحْرِمٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ بإذْنِه، أو حَلَقَه حَلالٌ بإذْنِه، فالفِدْيَةُ على المَحْلُوقِ رَأْسُه؛ لأن اللهَ تعالى قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}. الآية. وقد عَلِم أنَّ غَيْرَه هو الذى يَحْلِقُه، فأضافَ الفِعْلَ إليه، وجَعَل الفِدْيَةَ عليه. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ الضَّمانُ على الحالِقِ؛ لأنَّه شَعَرٌ مُحْتَرَمٌ، أشْبَهَ شَعَرَ الصَّيْدِ. ذَكَرَه ابنُ عقيلٍ في الفُصُولِ. وإن حَلَق رَأْسَه وهو ساكِتٌ لم يَنْهَه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما،

1182 - مسألة: (وإن حلق محرم رأس حلال، فلا فدية عليه)

وَإِنْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ حَلَالٍ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجبُ علي الحالِقِ، كما لو أتْلَفَ مالَه وهو ساكِتٌ. والثّانِى، على المُحْرِم؛ لأَنَّه أمانَةٌ عندَه، فهو كما لو أتْلَفَ إنْسانٌ الوَدِيعَةَ فلم يَنْهَه. وإن حَلَقَه مُكْرَهًا أو نائِمًا، فلا فِدْيَةَ على المَحْلُوقِ رأْسُه. وبه قال إسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ القاسِمِ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: عليه الفِدْيَةُ. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّه لم يَحْلِقْ رَأْسَه، ولم يُحْلَقْ بإذْنِه، فأشْبَهَ ما لو انْقَطَعَ الشَّعَرُ بنَفْسِه. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ الفِدْيَةَ تَجِبُ على الحالِقِ، مُحْرِمًا كان أو حَلالًا. وقال أصْحابُ الرَّأْىِ: على الحَلال صَدَقَةٌ. وقال عَطاءٌ: عليهما الفِدْيَةُ. ولَنا، أنَّه أزالَ ما مُنِعَ مِن إزالَتِه لأَجْلِ الإِحْرامِ، فكانَتِ الفِدْيَةُ عليه، كالمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِه. 1182 - مسألة: (وإن حَلَق مُحْرِمٌ رَأْسَ حَلالٍ، فلا فِدْيَةَ عليه)

1183 - مسألة: (وقطع الشعر ونتفه كحلقه، وشعر الرأس والبدن واحد. وعنه، لكل واحد حكم مفرد)

وَقَطْعُ الشَّعَرِ وَنَتْفُهُ كَحَلْقهِ، وَشَعَرُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ وَاحِدٌ. وَعَنْهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمٌ مُفْرَدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن قَلَّمَ أظْفارَه. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، والشافعَىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، في مُحْرِمٍ قَصَّ شارِبَ حَلالٍ: يَتَصَدَّقُ بدِرْهَمٍ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه صَدَقَةٌ؛ لأنَّه مُحْرِمٌ أتْلَفَ شَعَرًا، أشْبَهَ شَعَرَ المُحْرِمِ. ولَنا، أنَّه شَعَرٌ مُباحُ الإِتْلافِ، فلم يَجِبْ بإتْلافِه شئٌ، كشَعَرِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ. 1183 - مسألة: (وقَطْعُ الشَّعَرِ ونَتْفُه كحَلْقِه، وشَعَرُ الرَّأْسِ والبَدَنِ واحِدٌ. وعنه، لكلِّ واحِدٍ حُكْمٌ مُفْرَدٌ) لا فَرْقَ بينَ حَلْقِ الشَّعَرِ، وإزالَتِه بالنُّورَةِ، أو قَصِّه، أو غيرِ ذلك. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك القولُ في الأظْفارِ. وشَعَرُ الرَّأْسِ والبَدَنِ واحِدٌ، سَواءٌ في وُجُوبِ الفِدْيَةِ، في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو قولُ الأكْثَرِين، خِلافًا لداودَ؛ لأنَّه شَعَرٌ يَحْصُلُ به التَّرَفُّهُ والتَّنْطِيفُ، أشْبَهَ الرَّأْسَ. فإن حَلَق. شَعَرَ رَأْسِه وبَدَنِه، ففى الجَمِيع فِدْيَةٌ واحِدَةٌ، وإن حَلَق مِن رَأْسِه شَعَرَتَيْن، ومِن بَدَنه كذلك، فعليه دَمٌ. هذا اخْتِيارُ أبى الخَطّابِ، وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، ومَذْهَبُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه إذا قَلَع مِن رَأْسِه وبَدَنِه ما يَجِبُ الدَّمُ بكلِّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا، فعليه دَمان. وهذا الذى ذَكَرَه القاضى، وابنُ عَقيلٍ. وعلى هذه الرِّوايَةِ، لو قَطَع مِن رَأْسِه شَعَرَتَيْن، ومِن بَدَنِه كذلك، لم يَجِبْ عليه دَمٌ؛ لأنَّ الرَّأْسَ يُخالِفُ البَدَنَ بحُصُولِ

1184 - مسألة: (وإن خرج فى عينيه شعر فقلعه، أو نزل شعره فغطى عينيه فقصه، أو انكسر ظفره فقصه، أو قلع جلدا عليه شعر، فلا فدية عليه)

وَإِنْ خَرَجَ فِى عَيْنَيْهِ شَعَرٌ فَقَلَعَهُ، أَوْ نَزَلَ شَعَرُهُ فَغَطَّى عَيْنَيْهِ فَقَصَّهُ، أَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَقَصَّهُ، أَوْ قَلَعَ جِلْدًا عَلَيْهِ شَعَرٌ، [64 و] فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّحَلُّلِ بحَلْقِه دُونَ شَعَرِ البَدَنِ. ولَنا، أنَّ الشَّعَرَ كلَّه جِنْسٌ واحِدٌ في البَدَنِ، فلم تَتَعَدَّدِ الفِدْيَةُ بتَعَدُّدِه فيه، بخِلافِ مَواضِعِه، كسائِرِ البَدَنِ، وكما لو لَبِس قَمِيصًا وسَراوِيلَ. 1184 - مسألة: (وإن خَرَج في عَيْنَيْهِ شَعَرٌ فقَلعَه، أو نَزَل شَعَرُه فغَطَّى عَيْنَيْه فقَصَّهُ، أو انْكَسَرَ ظُفْرُه فقَصَّه، أو قَلَعِ جِلْدًا عليه شَعَرٌ، فلا فِدْيَةَ عليه) إذا خَرَج في عَيْنَيْهِ شَعَرٌ، أو اسْتَرْسَلَ شعَرُ حاجِبَيْهِ على عَيْنَيْه فغَطّاهما، فله إزالَتُه، وكذلك إنِ انْكَسَر ظُفْرُه، فله قَصُّ ما انْكَسَرَ منه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا شئَ عليه؛ لأنَّه إزالَةٌ لأذاه، فلم يَكُنْ عليه فِدْيَةٌ، كقَتْلِ الصَّيْدِ الصّائِلِ، وكذلك إن قَطَع جِلْدَةً عليها شَعَرٌ، لم يَكُنْ عليه فِدْيَةٌ؛ لأنَّه زال تَبَعًا لغيرِه، والتّابعُ لا يُضمَنُ، كما لو قَلَعَ أشْعارَ عَيْنَىْ إنْسانٍ، فإنَّه لا يَضْمَنُ أهْدابَهما. فأمّا إن كان الأذى مِن غيرِ الشَّعَرِ، كالقَمْلِ، والقُرُوحِ، والصُّداعِ، وشِدَّةِ الحَرِّ عليه لكَثْرَةِ الشَّعَرِ، فله إزالَتُه، وعليه الفِدْيَةُ، كما لو احْتاجَ إلى أكْلِ الصَّيْدِ في حالِ المَخْمَصَةِ، وكذلك إنِ احْتاجَ إلى مُداواةِ قُرْحَةٍ لا يُمْكِنُه مُداواتُها إلّا بقَصِّ ظُفْرِه، فله قَصُّه، وعليه الفِدْيَةُ؛ لِما ذَكَرْنا. وقال ابنُ القاسِمِ، صاحِبُ مالكٍ: لا فِدْيَةَ عليه. ولَنا، أنَّه أزالَ ما مُنِعَ إزالَتَه لضَرَرٍ في غيرِه، أشْبَهَ حَلْقَ رَأْسِه دَفْعًا لضَرَرِ القَمْلِ. وإن وَقَع في أظْفارِه مَرَضٌ، فأزالَها لذلك المَرَضِ، فلا شئَ عليه؛ لأنَّه أزالَها لإزالَةِ مَرَضِها، أشْبَهَ قَصَّ الظُّفْرِ لكَسْرِه. والله تعالى أعْلَمُ. وإنِ انْكَسَرَ ظُفْرُه، فأزالَ أكثرَ ممّا انْكَسَرَ، فعليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه لا حاجَةَ إلى إزالَتِه.

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ؛ فَمَتَى غَطَّاهُ بِعِمَامَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وِإن خَلَّلَ شَعَرَه، فسَقَطَتْ شَعَرَةٌ، فإن كانَتْ مَيِّتةً فلا شئَ عليه، وإن كانتْ مِن الشَّعَرِ النابِتِ، ففيها الفِدْيَة؛ لأنَّه أزالَها بفِعْلِه، فإن شَكَّ فيها، فلا فِدْيَةَ؛ لأنَّ الأصْلَ نَفْىُ الضَّمانِ، وبَراءَة الذِّمَّةِ، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ، وإن قَطَع إصْبَعًا عليها ظُفْرٌ، فلا شئَ عليه؛ لأنَّه تبَعٌ. والله أعْلمُ. فصل: قال رَحِمَه اللهُ: (الثّالِثُ، تَغْطِيَةُ رَأْسِه، فمتى غَطّاهُ بعِمامَةٍ

أَوْ قِرْطَاسٍ فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ عَصَبَهُ، أَوْ طَيَّنهُ بِطِينٍ أَوْ حِنَّاءٍ أَوْ غَيْرِه، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو خِرْقَةٍ، أو قِرْطاس فيه دَواءٌ أو غيرُه، أو عَصَبَه، أو طَيَّنَه بطِينٍ أو حِنّاءٍ أو غيره، فعليه الفِدْيَةُ) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِن تَغْطِيَةِ رَأْسِه. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ. وقد دَلَّ عليه نَهْىُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - المُحْرِمَ عن لُبْسِ العَمائِمِ والبَرانِسِ (¬1). وقَوْلُه عليه السلامُ في المُحْرِمِ الذى وَقَصَتْهُ راحِلَتُه: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَه، فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مُلَبِّيًا» (¬2). فعَلَّلَ مَنْعَ تَخْمِيرِ رَأْسِه ببَقائِه على إحْرامِه، فعُلِمَ أنَّ المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ منه. وكان ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، يَقُولُ: إحْرامُ الرَّجُلِ في رَأْسِه. وذَكَر القاضى، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِى رَأْسِهِ، وَإحْرَامُ الْمَرْأةِ في وَجْهِهَا» (¬3). وأنَّه عليه السلامُ نَهَى أن يَشُدَّ المُحْرِمُ رَأْسَه (¬4) بالسَّيْرِ (¬5). فصل: والأُذُنانِ مِن الرَّأْسِ، تَحْرُمُ. تَغْطِيتُهما، كسائِرِ الرَّأْسِ. ¬

(¬1) يأتى تخريجه من حديث ابن عمر في صفحة 245. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 87. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 294. والبيهقى، في باب المرأة لا تنتقب. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 47. وانظر نصب الراية 2/ 272. (¬4) سقط من: م. (¬5) لم نجده.

1185 - مسألة: (وإن استظل بالمحمل، ففيه روايتان)

وَإِنِ اسْتَظَلَّ بِالْمَحْمِلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأباحَ ذلك الشافعىُّ. ولَنا، قَوْلُه - صلى الله عليه وسلم -: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» (¬1). وقد ذَكَرْناه في الطَّهارَةِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يُمْنَعُ مِن تَغْطِيَةِ بعضِ رَأْسِه، كما يُمْنَعُ تَغْطِيَةَ جَمِيعِه؛ لأنَّ المَنْهِىَّ عنه يَحْرُمُ بَعْضُه، كما يَحْرُمُ جَمِيعُه، ولذلك لَمّا قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (¬2). حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِه. وسَواءٌ غَطّاه بالمَلْبُوسِ المُعْتادِ، أو بغيرِه، مثلَ أن عَصَبَه بعِصابَةٍ، أو شَدَّه بسَيْرٍ، أو جَعَل عليه قِرْطاسًا فيه دَواءٌ، أو لا دَواءَ فيه، أو خَضَبَهُ بحِنَّاءٍ أو طَلاه بِطِينٍ، أو نُورَةٍ، أو جَعَل عليه دَواءً، فإنَّ جَمِيعَ ذلك سَتْرٌ له وتَغْطِيَةٌ، وهو مَمْنُوعٌ منه. وسَواءٌ كان ذلك لعُذْرٍ أو غيرِه، تَجِبُ به الفِدْيَةُ؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}. الآية. ولحديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ (¬3). وبهذا كلِّه قال الشافعىُّ. وكان عَطاءٌ يُرَخِّصُ في العِصابَةِ مِن الضَّرُورَةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، كما لو لَبِس قَلَنْسُوَةً للبردِ. 1185 - مسألة: (وإنِ اسْتَظَلَّ بالمَحْمِلِ، ففيه رِوايتان) كَرِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 288. (¬2) سورة البقرة 196. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، للمُحْرِمِ الاسْتِظْلَالَ بالمحْمِلِ وما كان في مَعْناه، كالهَوْدَجِ والعَمّارِيَّةِ ونحوِ ذلك على البَعِيرِ، رِوايَةً واحِدَةً. ويُرْوَى كَراهَتُه عن ابنِ عُمَرَ، ومالكٍ، وعبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِىٍّ، وأهْلِ المَدِينَةِ. وكان سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لا يَسْتَظِلُّ البَتَّةَ. ورَخَّصَ فيه رَبِيعَةُ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ. ورُوِىَ ذلك عن عُثمانَ، وعَطاءٍ؛ لِما رَوَتْ أُمُّ الحُصَيْنِ، قالت: حَجَجْتُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الوَادعِ، فرَأيْتُ أُسامَةَ وبِلالًا، وأحَدُهما آخِذٌ بخِطامِ ناقَةِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، والآخَرُ رافِعٌ ثَوْبَه يَسْتُرُه مِن الحَرِّ، حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ. رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّه يُباحُ له التَّظَللُ في البَيْتِ والخِباءِ، فجاز في حالِ الرُّكُوبِ، كالحَلالِ. ¬

(¬1) في: باب استحباب رمى جمرة العقبة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 944. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المحرم يظلل، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 425، 426. والنسائى، في: باب الركوب إلى الجمار. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 219.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحْتَجَّ أحمدُ، بأنَّ عَطاءً روَى أنَّ ابنَ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنه، رَأى على رَحْلِ عُمَرَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبِي رَبِيعَةَ عُودًا يَسْتُرُه مِن الشَّمسِ، فنَهاه. وعن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه رَأى رجلًا مُحْرِمًا على رَحْلٍ، وقد رَفَع عليه ثَوْبًا على عُودٍ يَسْتُرُه مِن الشَّمسِ، فقالَ: أضْحِ لمن أحْرَمْتَ له. أى ابرُزْ للشمسِ. رَواهما الأثْرَمُ (¬1). ولأنَّه يَسْتُرُه بما يَقْصِدُ به التَّرَفُّهَ أشْبَهَ ما لو غَطّاهُ. والحديثُ الذى اسْتَدَلُّوا به قد ذَهَب إليه أحمدُ، ولم يَكْرَهْ الاسْتِتَارَ بالثَّوْبِ، فإنَّ ذلك لا يَقْصِدُ الاسْتِدامَةَ، والهَوْدَجُ بخِلافِه، والخَيْمَةُ والبَيْتُ يُرادان لجَمْعِ الرَّحْلِ وحِفْظِه، لا للتَّرَفُّهِ. إذا ثَبَت ذلك فإنَّ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، إنَّما كَرِه ذلك كَراهَةَ تَنْزِيهٍ في الظاهِرِ ¬

(¬1) وأخرجهما البيهقى، في: باب من استحب للمحرم أن يضحى. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 70.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه؛ لوُقُوعِ الخِلافِ فيه، وقولِ ابنِ عُمَرَ، ولم يَرَ ذلك حَرامًا ولا مُوجِبًا للفِدْيَةِ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن المُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ على المَحمِلِ؟ قال: لا. وذَكَر حديثَ ابنِ عُمَرَ. قيلَ له: فإن فَعَل، يُهَرِيقُ دَمًا؟ قال: أمّا الدَّمُ فلا. وعنه، أنَّه تَجِبُ عليه الفِدْيَةُ. اختارَه الخِرَقِىُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ أهْلِ المَدِينَةِ؛ لأنَّه سَتَر رَأْسَه بما يُسْتَدامُ ويُلازِمُه غالِبًا، أشْبَهَ ما لو سَتَرَه بشئٍ يُلاقِيه. ويُرْوَى عن الرِّياشِىِّ (¬1)، قال: رَأيْتُ أحمدَ بنَ المَعَذَّلِ (¬2) في الموقِفِ في يوم شَدِيدِ الحَرِّ، وقد ضَحَى للشمسِ، فقُلْتُ له: يا أبا الفَضْلِ، هذا أمْرٌ قد اخْتُلِفَ فيه، فلو أخَذْتَ بالتَّوْسِعَةِ. فأنْشأ يَقُولُ: ضَحَيْتُ له كى أسْتَظِلَّ بظِلِّه … إذا الظِّلُّ أضْحَى في القِيامَةِ قالِصَا فوا أسَفا إن كان سَعْيُك باطِلًا … وواحَسْرَتا إن كان حَجُّكَ ناقِصَا ¬

(¬1) أبو الفصل العباس بن الفرج، كان إماما في اللغة والنحو إخباريًا، قتله الزنج بالبصرة سنة سبع وخمسين ومائتين. العبر 2/ 14. والقصة والبيتان في ترتيب المدارك 2/ 553، وفيه: «المبرد» مكان: «الرياشى». (¬2) أحمد بن المعذل بن غيلان العبدى البصرى، فقيه مالكى متكلم، وكان ورعا متبعًا للسنة، من رجال القرن الثالث. طبقات الفقهاء للشيرازى 164، ترتيب المدارك 2/ 550 - 558، الديياج المذهب 1/ 143 - 141.

1186 - مسألة: (وإن حمل على رأسه شيئا، أو نصب حياله ثوبا، أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت، فلا شئ عليه)

وَإنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا، أَوْ نَصَبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا، أوِ اسْتَظَلَّ بِخَيْمَةٍ أوْ شَجَرَةٍ أوْ بَيْتٍ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1186 - مسألة: (وإن حَمَل على رَأْسِه شَيْئًا، أو نَصَب حِيالَه ثَوْبًا، أو اسْتَظَلَّ بخَيْمَةٍ أو شَجَرَةٍ أو بَيْتٍ، فلا شئَ عليه) إذا حَمَل على رَأْسِه طَبَقًا أو مِكْتَلًا أو نحوَه، فلا فِدْيَةَ عليه. وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ. وقال الشافعىُّ: عليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه سَتَرَه. ولَنا، أن هذا لا يُقْصَدُ به السِّتْرُ غَالِبًا، فلم تَجِبْ به الفِدْيَةُ، كما لو وَضَع يَدَيْه على رَأْسِه. وسَواءٌ قَصَد به السِّتْرَ أولم يَقْصِدْ؛ لأنَّ ما تَجِبُ به الفِدْيَةُ لا يَخْتَلِفُ بالقَصْدِ وعَدَمِه، فكذلك ما لا تَجِبُ به. واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ وُجُوبَ الفِدْيَةِ إذا قَصَد به السِّتْرَ؛ لأنَّ الحِيَلَ لا تُحِيلُ الحُقُوقَ. ولأنَّه لو جَلَس عند العَطَّارِ لقَصْدِ شَمِّ إلطِّيب، وَجَبَتْ عليه الفِدْيَةُ، وإن لم يَقْصِدْ لم تَجِبْ، كذلك هذا. وإن سَتَرَ رَأْسَه ببَدَنِه فلا شئَ عليه؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ السِّتْرَ ببَعْضِ بَدَنِه لا يَثْبُتُ لهْ حُكْمُ السِّتْرِ، ولذلك (¬1) لو وَضَع يَدَه على فَرْجِه، لم تُجْزِئْه في السّتْرِ، ولأنَّ المُحْرِمَ مَأْمُورٌ بمَسْحِ رَأْسِه، وذلك يَكُونُ بوَضْعِ يَدِه ¬

(¬1) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وإن طَلا رَأْسَه بغِسْلٍ (¬1) أو صَمْغ؛ ليَجْتَمِعَ الشَّعَرُ وَيَتَلَبَّدَ فلا يَدْخُلُه الغُبارُ ولا يُصِيبُه الشَّعَثُ ولا يَقَعُ فيه الدَّبِيبُ، جاز، وهذا التَّلْبيدُ الذى جاء في حديثِ ابنِ عُمَرَ: رَأْيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلَبِّدًا. مُتَّفَّقٌ عليه (¬2). وإن كان في رَأْسِه طِيبٌ ممّا جَعَلَه فيه قبلَ الإِحْرامِ فلا بَأْسَ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ، رَضِىَ الله عنه، قال: كأنِّى أنْظُرُ إلى وَبِيصِ المِسْكِ في مَفْرِقِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ (¬3). فصل: ولا بَأْسَ أن يَسْتَظِلَّ بالسَّقْفِ والحائِطِ والشَّجَرَةِ والخِباءِ، وإن نَزَل تحتَ شَجَرَةٍ، وطَرَح عليها شَيْئًا يَسْتَظِلُّ به، فلا بَأْسَ به عندَ جَميعِ أهْلِ العِلْمِ، وقد صَحَّ به النَّقْلُ. قال جابِرٌ، رَضِىَ اللهُ عنه، في حديثِ حَجَّةِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ، فَضُرِبَتْ له بنَمِرَةَ، فنَزَلَ بها، حتى إذا زاغتِ الشمسُ. رَواه مسلمٌ (¬4). ولا بَأْسَ ¬

(¬1) هكذا في النسخنين بالغين، وفى المغنى 5/ 1152 «بعسل». بالعين غير منقوطة. والغِسل بكسر الغين: ما يغسل به الرأس مع الماء، كالصابون ونحوه. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أهل ملبدا، من كتاب الحج، وفى: باب التلبيد، من كتاب اللباس. صحبح البخارى 2/ 168، 7/ 209. ومسلم، في: باب التلبية وصفها ووقتها، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 842. كما أخرجه أبو داود، في: باب التلبيد، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 405. والنسائى، في: باب التلبيد عند الإحرام، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 104، 105. وابن ماجه، في: باب من لبد رأسه، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1013. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 120، 131. (¬3) الحديث لعائشة، وليس لابن عباس، وهو المتقدم في صفحة 139. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 154.

1187 - مسألة: (وفى تغطية الوجه روايتان)

وَفِى تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَنْصُبَ حِيالَه ثَوْبًا يَقِيهِ الحَرَّ والبَرْدَ، إمّا أن يُمْسِكَه إنْسانٌ، أو يَرْفَعَه على عودٍ، على نحوِ ما رُوِىَ في حديثِ أمِّ الحُصَيْنِ، أنَّ بِلالًا أو (¬1) أُسامَةَ كان رافِعًا ثَوْبَه يَسْتُرُ به النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ولأنَّ ذلك لا يُقْصَدُ به الاسْتِدامَةُ، فلم يَكُنْ به بَأْسٌ، كالاسْتِظْلالِ بحائِطٍ. 1187 - مسألة: (وفى تَغْطِيَةِ الوَجْهِ رِوايَتان) إحْداهما، يُباحُ. رُوِىَ ذلك عن عُثْمانَ بنِ عفّانَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، وزَيْدِ بنِ ثابِتٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وسَعْدِ بنِ أبِى وَقاصٍ، وجابِر، والقاسِمِ، وطاوُسٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ. والثّانِيَةُ، لا يُبَاحُ. وهو مَذْهَبُ أبِى حنيفةَ، ومالكٍ؛ لِما رُوِىَ عن [ابنِ عباسٍ] (¬3)، أنَّ رجلًا وَقَع عن ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 237. (¬3) في م: «ابن عامر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راحِلَتِه، فأقْعَصَتْهُ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا رَأْسَه، فَإنَّهُ يُيْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلبِّيًا» (¬1). ولأَّنه مُحَرَّمٌ على المَرْأةِ، فَحُرِّمَ على الرجلِ، كالطِّيبِ. ولَنا، قولُ مَن ذَكَرْنا مِن الصَّحابَةِ، ولا نَعْرِفُ لهم مُخالفًا في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا، ولما رُوِىَ عنه عليه السلامُ، أنَّه قال: «إحْرامُ الرَّجُلِ فِى رَأْسِه، وإحْرَامُ الْمَرْأةِ فِى وَجْهِهَا» (¬2). وحديثُ ابنِ عباسٍ المَشْهُورُ فيه: «وَلَا تُخمِّرُوا رَأْسَهُ». هذا المُتَّفَقُ عليه، وقَوْلُه: «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ». فقالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِيه أبو بِشْرٍ، ثم سَأْلتُه عنه بعدَ عَشْرِ سِنين، فجاء بالحديثِ كما كان يُحَدِّثُ، إلَّا أنَّه قال: «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ». ففى قَولِه دَلِيلٌ على أنَّه ضَعَّفَ هذه الزِّيادَةَ. وقد رُوِىَ في بعضِ ألْفاظِه: «خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ». فتَعَارَضَ الرِّوايتان، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بلُبْسِ القُفّازَيْن. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 87/ 6. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 235.

1188 - مسألة: (الرابع، لبس المخيط والخفين)

فَصْلٌ: الرَّابعُ، لُبْسُ الْمَخِيطِ وَالْخُفَّيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1188 - مسألة: (الرَّابِعُ، لُبْسُ المَخِيطِ والخُفَّيْن) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أن المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِن لُبْسِ القَمِيصِ، والعَمائِمِ، والسَّراوِيلاتِ، والبَرانِس، والخِفافِ. والأصْلُ في هذا ما روَى ابنُ عُمَر، رَضِىَ الله عنهما، أنَّ رجلًا سألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ما يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِن الثِّيابِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أحَدًا لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقطَعْهُمَا أسْفَلَ مِن الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ (¬1)». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) الورس: نبت يستعمل لتلوين الملابس الحريرية. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، من كتاب الحلم، وفى: باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، من كناب الصلاة، وفى: باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، وباب البرانس، وباب السراويل، وباب العمائم، من كتاب الحج، وفى: باب النعال السبتية وغيرها، من كناب اللباس. صحيح البخارى 1/ 45، 102، 3/ 20، 21، 7/ 187، 198. ومسلم، في: باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 834، 835. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داو د 1/ 423. والنسائى، في: باب النهى عن لبس القميص للمحرم، وباب النهى عن لبس السراويل في الإحرام، وباب النهى عن أن تنتقب المرأة الحرام، وباب النهى عن لبس البرانس في الإحرام، وباب النهى عن لبس العمامة في الإحرام، وباب النهى عن لبس الخفين في الإحرام، وباب الرخصة في لبس الخفين في الإحرام لمن لا يجد نعلين، وباب قطعهما أسفل من الكعبين، وباب النهى عن أن تلبس المحرمة القفازين، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 100 - 104. وابن ماجه، في: باب ما يلبس المحرم من الثياب، وباب السراويل والحفين للمحرم إذا يجد إزارا أو نعلين، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 977، 978. والدارمى، في: باب ما يلبس المحرم من الثياب، من كتاب المناسك. سنن =

1189 - مسألة: (إلا أن لا يجد إزارا، فليلبس

إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، أَوْ لا يَجِدَ نَعْلَيْن, فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلَا يَقْطَعْهُمَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأشْياءِ، وألْحَقَ بها أهْلُ العِلْمِ ما في مَعْناه، مِثْلَ الجُبَّةِ، والدُّرّاعَةِ (¬1)، والتُّبّانِ، وأشْباهِ ذلك. فلا يَجُوزُ للمُحْرِمِ سَتْرُ بَدَنِه بما عُمِل على قَدْرِه، ولا سَتْرُ عُضْوٍ مِن أعْضائِه بما عُمِلَ على قَدْرِه، كالقَمِيصِ للبَدَنِ، والسَّراوِيلِ لبعضِ البَدَنِ، والقُفَّازَيْن، لليَدَيْن، والخفَّيْن للرِّجْلَيْن، ونحوِ ذلك. وليس في هذا اخْتِلافٌ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لايَجُوز لُبْسُ شئٍ مِن المَخِيطِ عندَ جَميعِ أهْلِ العِلْمِ، وأجْمَعُوا على أن المرادَ بهذا الذُّكُورُ دُونَ الإِناثِ. 1189 - مسألة: (إِلَّا أن لا يَجِدَ إزارًا، فلْيَلْبَسْ (¬2) سَراوِيلَ، أو لا يَجِدَ نَعْلَيْن، فَلْيَلْبَسْ (2) خُفَّيْن، ولا يَقْطَعْهما، ولا فِدْيَةَ عليه) إذا لم يَجِدِ المُحْرِمُ إزارًا، فله أن يَلْبَسَ سَراوِيلَ، وإذا لم يَجِدِ النَّعْلَيْن، فله لبْسُ الخفَّيْن. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. والأصْلُ فيه ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: ¬

= الدارمى 2/ 32. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 3، 4، 29، 32، 41، 47، 54، 63، 65، 66، 73، 77، 74، 81، 111، 119، 139. (¬1) الدراعة: جبة مشقوقة المقدم. (¬2) في م: «فيلبس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَمِعْتُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بعَرَفاتٍ، يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِم» مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولا فِدْيَةَ عليه في لُبْسِهما عندَ ذلك في قولِ عَطاء، وعِكرِمَةَ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ، إلَّا مالكًا، وأبا حنيفةَ، قالا: على مَن لبِس السَّراوِيلَ الفِدْيَةُ؛ لحديثِ ابنِ عُمَرَ الذى قَدَّمْناه، ولأنَّ ما وَجَبَتِ الفِدْيَةُ بلُبْسِه مع وُجُودِ الإِزارِ، وَجَبَتْ مع عَدَمِه، كالقَمِيصِ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حديثِ ابنِ عباسٍ، وهو صَرِيحٌ في الإِباحَةِ، ظاهِرٌ في إسْقاطِ الفِدْيَةِ؛ لأنَّه أمَرَ بلُبْسِه، ولم يَذْكُرْ فِدْيَة، ولأنَّه يَخْتَصُّ لُبْسُه بحالَةِ عَدَمِ غيْرِه، فلم تَجِبْ به فِدْيَةٌ، كالخُفَّيْنِ المَقْطُوعَيْن. وحديثُ ابنِ عُمَرَ مَخْصُوصٌ بحديثِ ابنِ عباسٍ. وأمّا القَمِيصُ فيُمْكِنُه أن يَأْتَزِرَ به مِن غيرِ لُبْسٍ، ويَحْصُلُ به السَّتْرُ، بخِلافِ السَّراوِيلِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد نعلين، من كتاب الحج، وفى: باب السراويل، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 3/ 20، 7/ 187. ومسلم، في: باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، ومالا يباح. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 835. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 424. والترمذى، في: باب ما جاء في لبس السراويل، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 57. والنسائي، في: باب الرخصة في لبس السراويل لمن لا يجد الإزار، وباب الرخصة في لبس الحفين في الإحرام لمن لا يجد نعلين، من كتاب مناسك الحج, وفى: باب لبس السراويل، من كتاب الزينة. المجتبى 5/ 101، 103، 8/ 181، 182. وابن ماجه، في: باب السراويل والحفين للمحرم إذا لم يجد إزارًا أو نعلين، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 977. والدارمى، في: باب ما يلبس المحرم من الثياب، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 32. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 215، 221، 228، 279، 285، 337.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا لَبِس الخُفَّيْن، مع عَدَمِ النَّعْلَيْن، لم يَلْزَمْه قَطْعُهما، في أشْهَرِ الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ. يُرْوَى ذلك عن علىِّ بنِ أبِى طالِبٍ، رَضِىَ اللهُ عنه. وبه قال عَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ. والرِّوايَةُ الأُخْرَى، أَّنه يَقْطَعُهما حَتَّى يَكُونا أسْفَلَ مِن الكَعْبَيْن. فعلى هذه الرِّوايَةِ، إن لَبسَهما مِن غيرِ قَطْعٍ افْتَدَى. وبه قال عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْىِ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا أسْفَلَ مِن الْكَعْبَيْنِ». مُتَّفَقٌ عليه. وهو مُتَضَمِّنٌ لزِيادَةٍ على حديثِ ابنِ عباسٍ وجابِرٍ، والزِّيادَةُ مِن الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. قال الخَطّابِيُّ (¬1): العَجَبُ مِن أحمدَ في هذا، فإنَّه لا يكادُ يُخالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُه، وقَفتْ سُنَّة لم تَبْلُغْه. ووَجْهُ الأُولَي حديثُ ابنِ عباس، وجابِرٍ: «وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفيْنِ» (¬2). مع ¬

(¬1) في: معالم السنن 176/ 2، 177. (¬2) حديث ابن عباس تقدم قبل قليل. وحدث جابر أخرجه مسلم، في: باب ما يباح للمحرم. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 836. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 323، 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولِ علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه: وقَطْعُ الخُفَّيْنِ فَسادٌ، يَلْبَسُهما كما هما. مع مُوافَقَةِ القِياسِ، فإنَّه مَلْبُوسٌ أُبِيحَ مع عَدَمِ غَيْرِه، أشْبَهَ السَّراوِيلَ، ولأن قَطْعَه لا يُخْرِجُه عن حالَةِ الحَظْرِ، فإنَّ لُبْسَ المَقْطُوع مُحَرَّمٌ مع القُدْرَةِ على النَّعْلَيْن، كلُبْسِ الصحِيحِ، وفيه إتْلاف مالِه، وقد نَهَى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَتِه. فأمّا حديثُ ابنِ عُمَرَ، فقد قِيلَ: إنَّ قَوْلَه: «فَلْيَقْطَعْهُمَا». مِن كَلام نافِعٍ. كذلك رُوِىَ في «أمالِى أبى القاسِمِ ابنِ بِشْران (¬1)» بإسْنادٍ صَحِيحٍ، أنَّ نافِعًا قال بعدَ رِوايَتِه للحديثِ: ولْيَقْطَعِ الخُفَّيْنِ أسْفَلَ مِن الكَعْبَيْن. وروَى ابنُ أبِى موسى، عن صَفِيَّةَ بنتِ أبِى عُبَيْدٍ، عن عائِشَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ للمُحْرِمِ أن يَلْبَسَ الخُفَّيْن، ولا يَقْطَعَهما. وكان ابنُ عُمَرَ يُفْتِى بقَطْعِهما. قالَتْ صَفِيَّةُ: فلما أخْبَرْتُه بهذا رَجَع (¬2). وروَى أبو حَفصٍ، بإسْنادِه، ¬

(¬1) أبو القاسم عبد الملك بن عمد بن عبد الله بن بشران الأموى، المحدث الثقة، توفى سنة ثلاثين وأربعمائة، ونسخة أماله في الظاهرية. تاريخ التراث العربى 1/ 1/ 478. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 425/ 1. والبيهقى، في: باب ما تلبس المرأة المحرمة من الثياب، من كتاب الحج. السنن الكرى 52/ 5. والإمام أحمد، في: المسند 35/ 6. والحديث في هذه المصادر عن الترخيص للمحرمة أن تلبس خفيها ولا تقطعهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «شرحه» عن عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه طاف وعليه خُفّان، فقالَ له عُمَرُ، رَضِىَ اللهُ عنه: والخُفّانِ مع القَباءِ! فقالَ: قد لَبِسْتُهما مع مَن هو خيْرٌ مِنْكَ (¬1). يَعْنِي رسولَ - صلى الله عليه وسلم -. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ الأمْرُ بقَطْعِهما مَنْسُوخًا، فإن عَمْرَو بنَ دِينارٍ روَى الحديثَيْن جَمِيعًا، وقال: انْظُرُوا أيَّهما كان قَبْلُ. قال الدّارَقُطنِيُّ (¬2): قال أبو بَكْرٍ النَّيْسابُورىُّ: حديثُ ابنِ عُمَرَ قَبْلُ؛ لأنَّه قد جاء في بعضِ رِواياتِه، قال: نادَى رجلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو في المَسْجِدِ، يعنى بالمَدِينَةِ، فكأنَّه كان قبلَ الإحْرامِ. وفى حديثِ ابنِ عباسٍ، يَقُولُ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَخطُبُ بِعَرَفاتٍ يَقُولُ: «مَنْ تمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» (¬3)، فيَدُلُّ على تَأخُّرِه عن حديثِ ابن عُمَرَ، فيَكُونُ ناسِخًا له، لأنَّه لو كان القَطْعُ واجبًا لبَيَّنَه للنّاسِ، فإنَّه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن. وقْتِ الحاجَةِ إليه، والمَفْهُومُ مِن إطْلاقِ لُبْسِهما لُبْسُهُما على حالِهما، مِن غيرِ قَطْعٍ. قال شيخُنا (¬4): والأوُلَى قَطْعُهما؛ عَمَلًا بالحديثِ الصَّحِيحِ، وخُرُوجًا مِن الخِلافِ، وأخْذًا بالاحْتِياطِ. والذى قالَه صَحِيحٌ. ¬

(¬1) أخرجه الإِمامِ أحمد في: المسند 1/ 192. (¬2) انظر: سنن الدارقطنى 2/ 130. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 247. (¬4) في: المغنى 5/ 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لَبِس (¬1) المَقْطُوعَ مع وُجُودِ النَّعْلِ، لم يَجُزْ له، وعليه الفِدْيَةُ. نَصَّ عليه. وبه قال مالكٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّه لو كان لُبْسُه مُحَرَّمًا وفيه فِدْيَةٌ لَما أُمِرَ بقَطْعِه؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ فيه. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - شَرَط لإباحَةِ لُبْسِهما عَدَمَ النَّعْلَيْن، فَدَلَّ على أنَّه لا يَجُوزُ مع وُجُودِهما، ولأنه مَخِيطٌ لِعُضْوٍ على قدْرِه، فوَجَبَ على المُحْرِمِ الفِدْيَة بلُبْسِه، كالقُفّازَيْن. فصل: وقِياسُ قولِ أحمدَ في اللَّالِكَةِ (¬2)، والجُمْجُمِ (¬3)، ونحوِهما، أنَّه لا يَلْبَسُهما، فإنَّه قال: لا يَلْبَسُ النَّعْلَ التى لها قَيْدٌ. وهذا أشَدُّ منها. وقد قال في رَأْسِ الخُفِّ الصَّغِيرِ: لا يَلْبَسُه. وذلك لأنَّه يَسْتُرُ القَدَمَ، وقد عُمِل لها على قَدْرِها فأشْبَهَ الخُفَّ، فإن عَدِم النَّعْلَيْن، فله لُبْسُ ذلك، ولا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أباحَ لُبْسَ الخُفِّ عندَ ذلك، فما دُونَ الخُفِّ أوْلَى. فصل: فأمّا النَّعْلُ فيُباحُ لُبْسُها كيفما كانَتْ، ولا ¬

(¬1) في م: «وجد». (¬2) اللالكة: النعال المصنوعة من الجلد المدبوغ. (¬3) الجمجم: المداس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ قَطْعُ شَئٍ منها؛ لأنَّ إباحَتَها وَرَدَت مُطْلَقًا. ورُوِيَ عن أحمدَ في القَيْدِ في النَّعْلِ: يَفْتَدِى؛ لأنَّنا لا نَعْرِفُ النِّعالَ هكذا. وقال: إذا أحْرَمْتَ فاقْطَعِ المَحْمَلَ الذى على النِّعالِ، والعَقِبَ الذى يُجْعَلُ للنَّعْلِ، فقد كان عطاءٌ يَقُولُ: فيه دَمٌ. وقال ابنُ أبِى موسى في «الإرْشادِ»: في القَيْدِ والعَقِبِ الفِدْيَةُ. والقَيْدُ: هو السَّيْرُ المُعْتَرِضُ على الزِّمامِ. قال القاضى: إنَّما كَرِهَهما إذا كانا عَرِيضَيْن. وهذا هو الصَّحِيحُ، فإنَّه لم يَجِبْ قَطْعُ الخُفَّيْن السّاتِرَيْن للقَدَمَيْن والسَّاقَيْن، فقَطْعُ سَيْرِ النَّعْلِ أوْلَى أن لا يَجِبَ. ولأن ذلك مُعْتادٌ في النَّعْلِ، فلم يَجِبْ إزالَتُه، كسائِرِ سُيُورِها، ولأنَّ قَطْعَ القَيْدِ والعَقِبِ رُبَّما تَعَذَّرَ معه المَشْىُ في النَّعْلَيْن؛ لسُقُوطِهما بِزَوالِ ذلك، فلم يَجِبْ، كقَطْع القِبالِ (¬1). فصل: فإن وَجَد نَعْلًا لم يُمْكِنْه لُبْسُها، فله لُبْسُ الخُفِّ، ولا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّ ما لا يُمْكِنُ اسْتِعْمالُه كالمَعْدُومِ، فأشْبَهَ ما لو كانَتِ النَّعْلُ ¬

(¬1) القبال من النعل: الزمام الذى يكون بين الإصبع الوسطى والتى تليها.

1190 - مسألة: (ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره، إلا إزاره وهميانه الذى فيه نفقته، إذا لم يثبت إلا بالعقد)

وَلَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ مِنْطَقَةً ولا رِدَاءً وَلَا غَيْرَهُ، إِلَّا إِزَارَهُ وَهِمْيَانَهُ الَّذِى فِيهِ نَفَقَتُهُ، إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيرِه، وكالماءِ في التَّيمُّمِ، والرَّقَبَةِ التى لا يُمْكِنُه عِتْقُها، ولأنَّ العَجْزَ عن لُبْسِها قام مقامَ العَدَمِ في إباحَةِ لُبْسِ الخُفِّ، فكذلك في إسْقاطِ الفِدْيَةِ. ونَصَّ أحمدُ على وُجُوبِ الفِدْيَةِ؛ لِقَوْلِه عليه السلامُ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْن، فَيَلْبَسَ الخُفَّيْن». وهذا واجِدٌ. 1190 - مسألة: (ولا يَعْقِدُ عليه مِنْطَقَةً ولا رِداءً ولا غيرَه، إلَّا إزارَه وهِمْيانَه الذى فيه نَفَقَتُه، إذا لم يَثْبُتْ إلَّا بالعَقْدِ) ليس للمُحْرِمِ أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْقِدَ عليه الرِّداءَ ولا غيرَه، إلَّا الإزارَ والهِمْيانَ (¬1)، وليس له أن يَجْعَلَ لذلك زِرًّا وعُرْوَةً، ولا يخَلِّلَه بشَوْكَةٍ ولا إبْرَةٍ ولا خَيْطٍ، ولا يَغْرِزَه في إزارِه؛ لأنَّه في حُكْمِ المَخِيطِ. وروَى الأثْرَمُ عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ رجلًا سَأَلَه: أُخالِفُ بين طَرَفَىْ ثَوْبى مِن وَرائِى، ثم أعقِدُه؟ - وهو مُحْرِمٌ- فقالَ ابنُ عُمَرَ: لا تَعْقِدْ عليك شَيْئًا (¬2). وعن أبِى مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابنِ عباسٍ، أنَّ ابنَ عباس قال له: يا أبا مَعْبَدٍ، زرَّ عليَّ طَيْلَسانِي. -وهو مُحْرِمٌ- فقالَ له: كُنْتَ تَكْرَهُ هذا. فقالَ: إنِّىَ أُرِيدُ أن أفْتَدِىَ. ولا بَأْسَ أن يَتَّشِحَ بالقَمِيصِ، ويَرْتَدِىَ به، وبرِداءٍ مُوَصَّلٍ، ولا يَعْقِدُه؛ لأنَّ المَنْهِىَّ عنه المخِيطُ على قَدْرِ العُضْوِ. ¬

(¬1) الهميان: كيسٌ للنفقة يُشد في الوسط. (¬2) أخرجه الببيهقي، في: باب لا يعقد المحرم رداءه. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 51. وابن أبى شيبة، في: باب في المحرم يعقد على بطنه. . . .، من كتاب الحج. مصنف ابن أبى شيبة 4/ 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الإِزارُ، فيَجُوزُ عَقدُه؛ لأنَّه يَحْتاجُ إليه لسَتْرِ العَوْرَةِ، فأُبِيحَ، كاللِّباسِ للمرأةِ (¬1). وإن شَدَّ وَسَطَه بالمِنْدِيلِ أو نحوِه، كالحَبْلِ، جاز إذا لم يَعْقِدْه. قال أحمدُ في مُحْرِم حَزَم عِمامَةً على وَسَطِه: لا يَعْقِدُها، ويُدْخِلُ بعضَها في بعضٍ. قال طَاوُسٌ: رأيتُ ابنَ عُمَرَ يَطُوفُ بالبَيْتِ، وعليه عِمامَةٌ قد شَدَّها على وَسَطِه، فأدْخَلَها هكذا. ولا يَجُوزُ أن يَشُقَّ أسْفَلَ إزارِه نِصْفَيْن، ويَعْقِدَ كلَّ نِصْفٍ على ساقٍ؛ لأنَّه يُشْبِهُ السَّراوِيلَ. ولا يَلْبَسُ الرَّأْنَ (¬2)؛ لأنَّه في مَعْنَى الخُفِّ. فصل: فأمّا الهِمْيانُ، فهو مُباحٌ للمُحْرِمِ، في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ منهم ابنُ عباسٍ، وابنُ عُمَرَ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وطاوُسٌ، والقاسِمُ، والنَّخَعِىُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجاز ذلك جَماعَةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ، مُتَقَدِّمُوهم ومُتَأخِّرُوهم. ومتى ثَبَت بغيرِ العَقْدِ، مثلَ أن يُدْخِلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الرأن: كالخف إلا أنه لا قدم له، وهو أطول من الخف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّيُورَ بعضَها في بعضٍ، لم يَعْقِدْه؛ لأنَّه لا حاجَةَ إليه، فإن لم يَثْبُتْ إلَّا بالعَقْدِ جاز، نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ إسْحاقَ. قال إبراهيمُ: كانوا يُرَخِّصُون في عَقْدِ الهِمْيانِ للمُحْرِمِ، ولا يُرَخِّصُون في عَقْدِ غيرِه. وقالَتْ عائِشَةُ: أوْثِقْ عليك نَفَقَتَك (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: أوْثِقُوا عليكم نَفَقاتِكم. وذَكَر القاضى في «الشَّرْحِ» أنَّ ابنَ عباسٍ قال: رَخَّصَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للمُحْرِمِ في الهِمْيانِ أن يَرْبِطَه، إذا كانَتْ فيه نَفَقَتُه. وقال مُجاهِدٌ: سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عن المُحْرِمِ يَشُدُّ الهِمْيانَ عليه؟ فقالَ: لا بَأْسَ به إذا كانَتْ فيه نَفَقَتُه، يَسْتَوْثِقُ مِن نفَقَتِه (¬2). ولأنَّه ممّا تَدْعُو الحاجَةُ إليه، فجاز، كعَقْدِ الإِزارِ. فصل: فإن لم يَكُنْ في الهِمْيانِ نَفَقَةٌ، لم يَجُزْ عَقْدُه؛ لعَدَمِ الحاجَةِ إليه، وكذلك المِنْطَقَةُ. وقد رُوِىَ عن (¬3) ابنِ عُمَرَ، أنَّه كَرِه المِنْطَقَةَ والهِمْيانَ للمُحْرِم. وهو مَحْمُولٌ على ما ليس فيه نَفَقَةٌ، على ما تَقَدَّمَ مِن الرُّخْصَةِ فيما فيه النَّفَقَةُ. وسُئِلَ أحمدُ عن المُحْرِمِ يَلْبَسُ المِنْطَقَةَ مِن وَجَعِ الظَّهْرِ، أو لِحاجَةٍ إليها؟ فقالَ: يَفْتَدِى. فقِيلَ له: أفلا يَكُون مثلَ الهِمْيانِ؟ قال: لا. وعن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كَرِه المِنْطَقَةَ للمُحْرِمِ، وأباحَ شَدَّ الهِمْيانِ، إذا كانَتْ فيه نَفَقَةٌ. والفَرْقُ بينَهما أنَّ الهِمْيانَ يَكُونُ فيه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الهميان للمحرم، من كتاب الحج. المصنف 4/ 50. (¬2) أخرجه بنحره الطبراني في الكبير (10806). (¬3) زيادة ليستقيم بها المعنى.

1191 - مسألة: (وإن طرح على كتفيه قباء، فعليه الفدية. وقال الخرقى: لا فدية عليه، إلا أن يدخل يديه فى كميه)

وَإنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفَيْهِ قَبَاءً، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ الْخِرَلِىُّ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، إِلَّا أنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِى كُمَّيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفَقَةُ، والمِنْطَقَةُ لا نَفَقَةَ فيها، فأُبِيحَ شَدُّ ما فيه النَّفَقَةُ للحاجَةِ إلى حِفْظِها، وٍ لم يُبَحْ شَدُّ غيرِها. فإن كان في المِنْطَقَةِ نَفَقَةٌ، أو لم يَكُنْ في الهِمْيانِ نفقَةٌ، فهما سَواءٌ. وقد ذَكَرْنا أنَّ أحمدَ لم يُبِحْ شَدَّ المِنْطَقَةِ لوَجَعِ الظَّهْرِ، إلَّا أن يَفْتَدِىَ؛ لأنَّ المِنْطَقَةَ ليست مُعَدَّةً لذلك، ولأَّنه فَعَل المَحْظُورَ في الإحْرامِ لدَفْعِ الضَّرَرِ عن نَفْسِه، أشْبَهَ مَن لَبِس المَخِيطَ لدَفْعِ البَرْدِ، أو تَطَيَّبَ للمَرَضِ. فإن فَعَل ما لا يُباحُ له فِعْلُه؛ مِن عَقْدِ غيرِ الهِمْيانِ والإزارِ ونحوِه، فعليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه فَعَل مَحْظُورًا في الإحْرامِ. 1191 - مسألة: (وإن طَرَح على كَتِفَيْه قَباءً، فعليه الفِدْيَةُ. وقال الخِرَقِى: لا فِدْيَةَ عليه، إلَّا أن يُدْخِلَ يَدَيْهِ في كُمَّيْه) إذا طَرَح على كَتِفَيْه قَباءً أو نحوَه، وأدْخَلَ كَتِفَيْه فيه، فعليه الفِدْيَةُ، وإن لم تَدْخُلْ يَداه في الكُمَّيْن. هذا مَذهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّه مَخِيط لبِسَه المُحْرِمُ على العادَةِ في لُبْسِه، فأشْبَهَ القَمِيصَ. وقد روَى ابنُ المُنْذِرِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -

1192 - مسألة: (ويتقلد بالسيف عند الضرورة)

وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عَنْدَ الضَّرُورَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَهَى عن لُبْسِ الأقْبِيَةِ (¬1). وقال الخِرَقِىُّ: لا فِدْيَةَ عليه إذا لم يُدْخِلْ يَدَيْهِ في كُمَّيْه. وهو قولُ الحسنِ، وعَطاءٍ، وإبراهيمَ، وأبى حنيفةَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ (¬2) في مَسألةِ الخُفَّيْن إذا لم يَجِدْ نَعْلَيْن. ولأنَّ القَباءَ لا يُحِيطُ بالبَدَنِ، فلم تَلْزَمْه الفِدْيَةُ بوَضْعِه علي كَتِفَيْه إذا لم يُدْخِلْ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ، كالقَمِيصِ يَتَّشِحُ به، وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالرِّداءِ المُوَصَّلِ، والخَبَرُ مَحْمُولٌ على لُبْسِه مع إدْخالِ يَدَيْهِ في الكُمَّيْن. 1192 - مسألة: (ويَتَقَلَّدُ بالسَّيْفِ عندَ الضَّرُورَةِ) إذا احْتاجَ المُحْرِمُ إلى أن يَتَقَلَّدَ بالسَّيْفِ، فله ذلك. وبه قال عَطاءٌ، والشافعيُّ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما يلبس المحرم من الثياب، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 50. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٌ (¬1). وكَرِهَه الحسنُ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه عن البراءِ، قال: لَمّا صالَحَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ الحُدَيْبِيَةِ صالحَهم على أن لا يَدْخُلُوها إلَّا بجُلْبانِ السِّلاحِ -القِرَابُ بما فِيه-. وهذا ظاهِرٌ في إباحَةِ حَمْلِه عندَ الحاجَةِ، لأنَّهم لم يَكُونُوا يَأْمَنُون أهْلَ مَكَّةَ أن يَنْقضُوا العَهْدَ، فاشْتَرَطُوا حَمْلَ السِّلاحِ في قِرابِه. فأمّا مِن غيرِ خَوْفٍ، فقد قال أحمدُ: لا، إلَّا مِن ضَرُورَةٍ. وإنَّما مَنَع منه؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ قال: لا يَحْمِلُ المُحْرِمُ السِّلاحَ في الحَرَمِ. قال شيخُنا (¬3): والقِياسُ إباحَتُه؛ لأنَّ ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب المحرم يحمل السلاح، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 425. كما أخرجه البخارى، في: باب كيف بكتب هذا (الصلح). . . .، وباب الصلح مع المشركين. . . .، من كتاب الصلح. صحيح البخارى 3/ 241، 242. ومسلم، في: باب صلح الحديبية. . . .، من كتاب الجهاد والسر. صحيح مسلم 3/ 1409، 1410. والإمام أحمد، في: المسند 291/ 4. (¬3) في: المغنى 5/ 128.

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، الطِّيبُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تطْيِيبُ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ، وَشَمُّ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبةِ، وَالادِّهَانُ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس هو في مَعْنَى المَلْبُوسِ المَنْصُوصِ على تَحْرِيمِه، ولذلك لو حَمَل قِرْبَة في عُنُقِه لم يَحْرُمْ ذلك، ولم تَجِبْ به الفِدْيَةُ. وقد سُئِلَ أحمدُ عن المُحْرِمِ يُلْقِى جِرابَه في عُنُقِه، كهَيْئَةِ القِرْبَةِ، فقالَ: أرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأسٌ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (الخامِسُ، الطِّيبُ، فيَحْرُمُ عليه تَطيبُ بَدَنِه وثِيابِه، وشَمُّ الأدهانِ المُطَيِّبةِ والادِّهانُ بها) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِن الطِّيبِ، وقد دَلَّ عليه قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في المُحْرِمِ الذى وَقَصتْه راحِلَتُه: «لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ». رواه مسلمٌ. وفى لَفْظٍ: «وَلَا تُحَنِّطُوهُ (¬1)». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فلمّا مُنِعَ المَيِّتُ مِن الطِّيبِ لإِحْرامِه، فالحَيُّ أوْلَى. ومتى تَطَيَّبَ فعليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه فَعَل ما حَرَّمَه الإِحْرامُ، فلَزِمَتْه الفِدْيَةُ، كاللِّباسِ، فيَحْرُمُ عليه تَطْيِيبُ بَدَنِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، وتَطيبُ ثِيابِه، فلا يَجُوزُ له لُبْسُ ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ. وهذا قولُ ¬

(¬1) في م: «تخيطوه». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جابِر، وابنِ عُمَرَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبِى ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُلْبَسُ مِنَ الثِّيابِ شَئٌ مَسَّهُ الزَّعْفَران، وَلَا الْوَرْسُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فكلُّ ما صُبغَ بزَعْفَرانَ أو وَرْسٍ، أو غُمِسَ في ماءِ وَرْدٍ، أو بُخِّرَ بعُودٍ، فليس للمُحْرِمِ لُبْسُه، ولا الجُلُوسُ عليه، ولا النَّوْمُ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. لأنَّه اسْتِعْمالٌ له، فأشْبَهَ لُبْسَه. ومتى لَبِسَه، أو اسْتَعْمَلَه، فعليه الفِدْيَة. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان رَطْبًا يَلى بَدَنَهْ، أو يابِسًا يُنْفَضُ، فعليه الفِدْيَة، وإلَّا فلا؛ لأنَّه ليس بمُطَيَّبٍ. ولَنا، أنَّه مَنْهِىٌّ عنه لأجْلِ الإِحْرام، فلَزِمَتْه الفِدْيَة به، كاسْتِعْمالِ الطَّيبِ في بَدَنِه، وقِياسًا على الثَّوْبِ المُطَيَّبِ. فإن غَسَلَه حتى ذَهَب ما فيه مِن ذلك، فلا بَأْسَ به عندَ جَميعِ العُلَماءِ. وإن فَرَش فوقَ المُطَيَّبِ ثَوْبًا صَفِيقًا يَمْنعُ الرّائِحَةَ والمُباشَرَةَ، فلا فِدْيَةَ بالنَّوْمِ عليه؛ لأنَّه لم يَسْتَعْمِلِ الطِّيبَ، ولم يُباشِرْه. فصل: وليس له شَمُّ الأدْهانِ المُطَيِّبةِ، كدُهْنِ الوَرْدِ والبَنَفْسَجِ، والخِيريِّ (¬2)، والزَّنْبَقِ (¬3) ونحوِها، ولا الادِّهانُ بها، وليس في تَحْرِيمَ ذلك خِلافٌ في المَذْهَبِ. وكَرِه مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ الادِّهانَ بدُهْنِ البَنَفْسَجِ. وقال الشافعىُّ: ليس بطِيبٍ. ولَنا، أنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 245. (¬2) الخيرى: نبت له زهر، وغلب علي أصفره. يستخرج منه دهن. (¬3) الزنبق: دهن الياسمين.

1193 - مسألة: (وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس، والتبخر

وَشَمُّ الْمِسْكِ ؤِالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ [64 ظ] وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ، وَالتَّبَخِّرُ بِالْعُودِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلُ مَا فِيهِ طِيبٌ يَظْهَرُ طَعْمُهُ أَو رِيحُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُقْصَدُ رائِحَته، ويُتَّخَذُ للطِّيبِ، أشْبَهَ ماءَ الوَرْدِ. 1193 - مسألة: (وشَمُّ المِسْكِ والكافُورِ والعَنْبَرِ والزَّعْفَرانِ والوَرْسِ، والتَّبَخُّرُ (¬1) بالعودِ، وأكْلُ ما فيه الطِّيبُ، يَظْهَر طَعْمُه أو رِيحُه) يَحْرُمُ عليه شَمُّ كلِّ ما تَطِيبُ رائِحَته ويُتَّخَذُ للشَّمِّ، كالمِسْكِ والعَنْبَرِ والكافُورِ والغالِيَةِ (¬2) والزَّعْفَرانِ والوَرْسِ وماءِ الوَرْدِ؛ لأنَّه اسْتِعْمالٌ للطِّيبِ، وكذلك التَّبَخُّرُ بالعُودِ؛ لأنَّه طِيبٌ. فصل: ومتي جُعِلَ شئٌ مِن الطِّيبِ في مَأْكولٍ أو مَشْرُوبٍ، كالمِسْكِ والزَّعْفَرانِ، فلم تَذْهَبْ رائِحَتُه، لم يُبَحْ للمُحْرِم تَناوُلُه؛ نِيئًا كان أو قد مَسَّتْه النارُ. وبهذا قال الشافعىُّ. وكان مالكٌ، وَأصْحابُ الرأْى لا يَرَوْن بما مَسَّتِ النّارُ من الطَّعامِ بَأْسًا وإن بَقِيَتْ رَائِحَتُه وطَعْمُه ولَونَه؛ لأنَّه بالطَّبْخِ اسْتَحالَ عن كَوْنِه طِيبًا. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وعَطاءٍ، ومُجاهدٍ، ¬

(¬1) في م: «المبخر». (¬2) الغالي: أخلاط من الطيب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أنَّهم لم يَكُونُوا يَرَوْن بأكْلِ الخُشْكَنانَجِ (¬1) الأصْفَرِ بَأْسًا. وكَرِهَه القاسِمُ بنُ محمدٍ. ولَنا، أنَّ الاسْتِمْتاعَ والتَّرَفُّهَ به حاصِلٌ، أشْبَهَ النِّئَ، ولأنَّ المَقْصُودَ مِن الطِّيبِ رائِحَتُه، وهى باقِيَةٌ. وقولُ مَن أباحَ الخُشْكَنانَجَ الأصْفَرَ مَحْمُولٌ على ما ذَهَبَتْ رائِحَتُه، فإنَّ ما ذَهَبَتْ راِئحَتُه وطَعْمُه، ولم يَيْقَ فيه إلَّا اللَّوْنُ ممّا مَسَّتْه النّارُ، لا بَأْسَ بأكْلِه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا ما رُوِىَ عن القاسِمِ، وجَعْفَرِ بنِ محمدٍ، أنَّهما كَرِهَا الخُشْكَنانَجَ الأصْفَرَ. ويُمْكِنُ حَمْلُه على ما بَقِيَتْ رائِحَتُه؛ ليَزُولَ الخِلافُ. فإن لم تَمَسَّه النّارُ، لكنْ ذَهَبَت رائِحَتُه وَطعْمُه، فلا بَأْسَ به. وهر قولُ الشافعىِّ. وكَرِه مالكٌ، والحَمَيْدِىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأىِ المِلْحَ الأصْفَرَ، وفَرَّقُوا بينَ ما مَسَّتْه النّارُ، وما لم تَمَسَّه. ولَنا، أنَّ المَقْصُودَ الرائِحَةُ دُونَ اللَّوْنِ، فإنَّ الطِّيب إنَّما كان طِيبًا لراِئحَتِه، لا للَوْنِه، فوَجَبَ دَوَرانُ الحُكْمِ معها دُونَه. فصل: فإن ذَهَبَتْ رائِحَتُه وبَقِىَ طَعْمُه، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، في رِوايَةِ صالِحٍ، تَحْرِيمُه. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ، لأنَّ الطَّعْمَ لا يَكادُ يَنْفَكُّ عن الرّائِحَةِ، فمتى وُجِدَ الطَّعْمُ دَلَّ على وُجُودِ بَقاءِ الرّائِحَةِ. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ إباحَتُه؛ لأن المَقْصُودَ الرّائِحَةُ، فيَزُولُ المَنْعُ بزَوالِها. ¬

(¬1) هكذا ورد بزيادة الجيم في آخره. والخشكنان: خُبزة تصنع من خالص دقيق الحنطة وتملأ بالسكر واللوز أو الفستق وماء الورد، وتقلى.

1194 - مسألة: (وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده، فلا فدية عليه)

وَإنْ مَسَّ مِنَ الطِّيب مَا لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. الْعُودِ وَالْفَوَاكِهِ وَالشِّيحِ وَالْخُزَامَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ أن يَأْكُلَ طِيبًا، ولا يَكْتَحِلَ به، ولا يَسْتَعِطَ به، ولا يَحْتَقِنَ به؛ لأنَّه اسْتِعْمالٌ للطِّيبِ، أشْبَهَ شَمَّه. 1194 - مسألة: (وإن مَسَّ مِن الطِّيبِ ما لا يَعْلَقُ بيدِه، فلا فِدْيَةَ عليه) إذا مَسَّ مِن الطِّيبِ ما لا يَعْلَقُ بيَدِه، كالمِسْكِ غيرِ المَسْحُوقِ، وقِطَعِ الكافورِ والعَنْبَرِ، فلا فِدْيَةَ فيه؛ لأنَّه غيرُ مُسْتَعْمِلٍ للطِّيب، فإن شَمَّه فعليه الفِدْيَةُ، لأنَّه هكذا يُسْتَعْمَلُ. وإن شَمَّ العُودَ، فلا فِدْيَة عليه؛ لأنَّه لا يُتَطيَّبُ به هكذا. وإن كان الطَّيبُ يَعْلقُ بيَدِه، كالغالِيَةِ وماء الوَرْدِ والمِسْكِ المَسْحُوقِ الذى يَعْلَقُ بأصابِعِه، فعليه الفِدْيَة؛ لأنَّه مُسْتَعْمِلٌ للطِّيبِ. 1195 - مسألة: (وله شَمُّ العُودِ والفَواكِهِ والشِّيحِ والخُزامَى) (¬1) ¬

(¬1) زهر طويل العيدان، زهره أحمر، طيب الرائحة.

1196 - مسألة: (وفى شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج

وَفِى شَمِّ الرَّيْحَانِ وَالنَّرْجِسِ وَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْبَرَمِ وَنَحْوِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُحْرِمِ شَمُّ العُودِ، ولا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّه لا يُتَطَيَّبُ به هكذا، إنَّما يُقصَدُ منه التَّبخِيرُ، وكذلك الفَواكِهُ كلُّها؛ مِن الأُتْرُجِّ والتُّفّاحِ والسَّفَرْجَلِ وغيرِها، وكذلك نَباتُ الصّحراءِ؛ كالشِّيحِ والقَيْصُومِ (¬1) والخُزامَى الذى تُسْتَطابُ رائِحَتُه، وما يَشَمُّه الآدَمِيُّون لغيرِ قَصْدِ الطِّيبِ؛ كالحِنّاءِ والعُصْفُرِ، فمُباحٌ شَمُّه، ولا فِدْيَةَ في شئٍ مِن ذلك. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا ما رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَكْرَهُ للمُحْرِمِ أن يَشَمَّ شَيْئًا مِن نَبْتِ الأرْضِ مِن الشِّيحِ والقَيْصُومِ وغيرِهما. ولا نَعْلَمُ أحَدًا أوْجَبَ في ذلك شَيْئًا؛ لأنَّه لا يُقْصَدُ للطِّيبِ، ولا يُتَّخَذُ منه الطِّيبُ، أشْبَهَ سائِرَ نَبْتِ الأرْضَ. وقد رُوِىَ أنَّ أزْواجَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، كُنَّ يُحْرِمْنَ في المُعَصْفَراتِ (¬2). 1196 - مسألة: (وفى شَمِّ الريْحانِ والنَّرْجِسِ والوَرْدِ والبَنَفْسَجِ ¬

(¬1) شجر على أطرافه زهر مستدير ذهبى اللون طيب الرائحة. (¬2) أخرجه البخارى عن عائشة تعليقا، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 169. ووصله البيهقى، في: باب العصفر ليس بطيب، من كتاب الحج. السنن الكبرى 59/ 5. وأخرجه الإمام مالك، عن أسماء بنت أبى بكر، في: باب لبس الثياب المصبغة، من كتاب الحج. الموطأ 326/ 1. والبيهقى في الموضع السابق.

وَالِادِّهَانِ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيِّبٍ فِى رَأْسِهِ، رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبَرَمِ (¬1) ونحوِها، والادِّهانِ بدُهْنٍ غيرِ مُطِّيِّبٍ في رَأْسِه، روايَتان) المذكورُ في هذه المسألَةِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ أحَدُهما، ما يُنْبِتُه الآدَمِيُّون للطِّيبِ، ولا يُتَّخَذُ منه طِيبٌ، كالرَّيْحانِ الفارِسِىِّ والمَرْدَشوشِ (¬2) والنَّرْجِسِ والبَرمِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يُباحُ بغيرِ فِدْيَةٍ. وهو قولُ عثمانَ، وابنِ عباس، والحسنِ، ومُجاهِدٍ، وإسْحاقَ؛ لأنَّه إذا يَبِس ذَهَبَت رائِحَتُه، أشْبَهَ نَبْتَ البَرِّيَّةِ، ولأنَّه لا يُتَّخَذُ منه طِيبٌ، أشْبَهَ العُصْفُرَ. والثّانِيَةُ، يَحْرُمُ شَمُّه، فإن فَعَل، فعليه الفِدْيَةُ. وهو قولُ جابِرٍ، وابنِ عُمَرَ، والشافعىِّ، وأبِى ثَوْرٍ؛ لأنَّه يُتَّخَذُ للطِّبِ، أشْبَهَ الوَرْدَ. وكَرهَه مالكٌ وأصْحابُ الرَّأْىِ، ولم يُوجِبُوا فيه شيئًا. وكَلامُ ¬

(¬1) البَرَم: زهر أصفر طيب الرائحة لشجرة تسمى شجرة إبراهيم. تكملة المعاجم العربية لدوزى. النسخة العربية 1/ 311. (¬2) في م: «المرشوش». ويقال أيضًا: مرزنجوش، ومرزجوش، ومردقوش، فارسى معّرب، واسمه السمسق بالعربية، نبات طيب الرائحة. جامع مفردات الأدوية 4/ 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ مُحْتَمِلٌ لهذا، فإنَّه قال في الرَّيْحانِ: ليس مِن آلةِ المُحْرِمِ. ولم يَذْكُرْ فيه فِدْيَةً. الثّانِى، ما يَنْبُتُ للطِّيبِ، ويُتَّخَذُ منه طِيبٌ، كالوَرْدِ والبَنَفْسَجِ والياسَمِينِ والخِيرِىِّ، فهذا إذا اسْتَعْمَلَه وشَمَّه، ففيه الفِدْيَةُ؛ لأنَّ الفِدْيَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجِبُ فيما يُتخَذُ منه، كماءِ الوَرْدِ، فكذلك أصْلُه. وعن أحمدَ رِ وايَةٌ أُخْرَى في الوَرْدِ، لا شَئَ في شَمِّه؛ لأنَّه زَهْرٌ، أشْبَهَ سائِرَ الشَّجَرِ. وقد ذَكَر شيخُنا فيه ههُنا رِوايَتَيْن. وكذلك ذَكَر أبو الخَطّابِ. والأوْلَى تَحْرِيمُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووُجُوبُ الفِدْيَةِ فيه؛ لأنَّه يَنْبُتُ للطِّيبِ، ويُتَّخَذُ منه، أشْبَهَ الزَّعْفَرانَ والعَنْبَرَ. قال القاضى: يُقالُ، إنَّ العَنْبَرَ ثَمَرُ شَجَرَةٍ، وكذلك الكافُورُ. فصل: فأمّا الادِّهانُ بدُهْنٍ لا طِيبَ فيه، كالزَّيْتِ، والشَّيْرَجِ، والسَّمْنِ، والشَّحمِ، ودُهْنِ البانِ (¬1) السّاذَجِ، فنَقَلَ الأثْرَمُ، قال: سَمِعْتُ أبا عبدِ الله يُسْألُ عن المُحْرِمِ يَدَّهِنُ بالزَّيْتِ والشَّيْرَجِ؟ فقالَ: ¬

(¬1) البان: شجر سبط القوام لين، ورقه كورق الصفصاف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نعم، يَدَّهِنُ به إذا احْتاجَ إليه، ويَتَداوَى المُحْرِمُ بما يأْكُلُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ أهْلِ العِلْمِ على أنَّ للمُحْرِمِ أن يَدْهُنَ بَدَنه بالشَّحْمِ والزَّيْتِ والسَّمْنِ. ونُقِلَ جوازُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وأبِى ذَرٍّ، والأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ، وعَطاءٍ، والضَّحّاكِ. نَقَلَه الأثْرَمُ. ونَقَل أبو داودَ عن أحمدَ، أنَّه قال: الزَّيْتُ الذى يُؤْكَلُ لا يَدْهُنُ المُحْرِمُ به رَأْسَه. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يَدْهُنُ رَأْسَه بشئٍ مِن الأدْهانِ. وهو قولُ عَطاء، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبِى ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْىِ؛ لأنَّه يُزِيلُ الشَّعَثَ، ويُسَكِّنُ الشَّعَرَ. فصل: فأمّا دَهْنُ سائِرِ البَدَنِ، فلا نَعْلَمُ عن أحمدَ فيه مَنْعًا، وقد أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على إباحَتِه في اليَدَيْنِ، وإنَّما الكَراهَةُ في الرَّأْسِ خاصَّةً؛ فإنَّه مَحَلُّ الشَّعَرِ. وقال القاضى: في إباحَتِه في جَمِيعِ البَدَنِ رِوايَتان. فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلَه فلا فِدْيَةَ فيه، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ، سَواءٌ دَهْنُ رَأْسِه وغيرِه، إلَّا أن يَكُونَ مُطَيِّبًا. وقد رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه صُدِعَ وهو مُحْرِمٌ، فقالُوا: ألا نَدهُنُك بالسَّمْنِ؟ قال: لا. قالُوا: أليس تَأْكُلُه؟ قال: ليس أكْلُه كالادِّهانِ به. وعن مُجاهِدٍ، أنَّه إن تَداوَى به فعليه الكَفّارَةُ. وقال مَن مَنَع مِن دَهْنِ الرَّأْسِ: فيه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه مُزِيلٌ للشَّعَثِ، أشْبَهَ ما لو كان مُطَيِّبًا. ولَنا، أنَّ وُجُوبَ الفِدْيَةِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، ولا دَلِيلَ فيه مِن نَصٍّ ولا إجْماعٍ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الطِّيبِ، فإنَّ الطَّيبَ يُوجِبُ الفِدْيَةَ وإن لم يُزِلْ شَعَثًا، ويَسْتَوِى فيه الرَّأْسُ وغيرُه، والدُّهْنُ بخِلافِه، ولأنَّه مانِعٌ لا تجِبُ الفِدْيَة باسْتِعْمالِه في البَدَنِ، فلم تجِبْ باسْتِعْمالِه في الرَّأْسَ، كالماءِ.

1197 - مسألة: (وإن جلس عند العطار، أو فى موضع ليشم الطيب، فشمه، فعليه الفدية، وإلا فلا)

وَإِنْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ، أَوْ فِى مَوْضِعٍ لِيَشَمَّ الطِّيبَ.، فَشَمَّهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1197 - مسألة: (وإن جَلَس عندَ العَطَّارِ، أو في مَوْضِعٍ ليَشَمَّ الطِّيبَ، فشَمَّه، فعليه الفِدْيَةُ، وإلَّا فلا) متى قَصَد شَمَّ الطِّيبِ مِن غيرِه بفِعْلٍ منه، نحوَ أن يَجْلِسَ عندَ العَطّارِين لذلك، أو يَدْخُلَ الكَعْبَةَ حالَ تَجْمِيرِها ليَشَمَّ طِيبَها، أو يَحْمِلَ معه عُقْدَةً فيها مِسْكٌ ليَجِدَ رِيحَها. قال أحمدُ: سُبْحَانَ اللهِ! كيف يَجُوزُ هذا؟ وأباحَ الشافعىُّ ذلك، إلَّا العُقْدَةَ تَكُونُ معه يَشَمُّها، فإن أصْحابَه اخْتَلَفُوا فيها. قال: لأنَّه شَمُّ الطِّيبَ مِن غيرِه، أشْبَهَ ما لو لم يَقْصِدْه. ولَنا، أنَّه قَصَد شَمَّ الطِّيبِ مُبْتَدِئًا به وهو مُحْرِمٌ، فحَرُمَ، كما لو باشَرَه، يُحَقِّقُ ذلك أنَّ القَصْدَ شَمُّ الطِّيبِ، لا مُباشَرَتُه، بدَلِيلِ أنَّه لو مَسَّ اليابِسَ الذى لا يَعْلَقُ بيَدِه، لم يَكُنْ عليه شئٌ، ولو رَفَعَه بخرْقَةٍ وشَمَّه، وجَبَتْ عليه الفِدْيَةُ، وإن لم يُباشِرْه.

فَصْلٌ: السَّادِسُ، قَتْلُ صَيْدِ الْبَرِّ وَاصْطِيَادُهُ؛ وَهُوَ مَا كَانَ وَحْشِيًّا مَأْكُولَا، أوْ مُتَوِّلدًا مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا إن لم يَقْصِدْ شَمَّه، كالجالِسِ عندَ العَطَّارِ لحاجَتِه، وداخِلِ السُّوقِ، أو داخِل الكَعْبَةِ للتبَّرُّكِ بها (¬1)، ومَن يَشْتَرِى طِيبًا لنَفْسِه، أو للتِّجارَةِ ولا يَمَسُّه، فغيرُ مَمْنُوعٍ منه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، فعُفِىَ عنه. فإن حَمَل الطِّيبَ، فقالَ ابنُ عَقِيلٍ: إن كان رِيحُه ظاهِرًا لم يَجُزْ، وإن لم يكُنْ ظاهِرًا جازَ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (السّادِسُ، قَتْلُ صَيْدِ البَرِّ واصْطِادُه؛ وهو ما كان وَحْشِيًّا مَأْكُولًا، أو مُتَوَلِّدًا منه ومِن غيرِه) لا ¬

(¬1) هكذا قال، رحمه الله، مع أنه لا يجوز التبرك بالمخلوق، ولا الكعبة ولا غيرها، وما صح من تبرك الصحابة، رضوان الله عليهم، بما انفصل من جسم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كعرقه وشعره وريقه، فهذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في حياته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ في تَحْرِيمِ قَتْل صَيْدِ البَرِّ واصْطِادِه على المُحْرِمِ. والأصْلُ فيه قولُ اللهِ سُبْحانَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1). وقَوْلُه تَعالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2). والصَّيْدُ المُحَرَّمُ على المُحْرِمِ ما جَمَع ثَلاَثةَ أشْياءَ؛ أحَدُها، أن يَكُونَ وَحْشِيًّا، وما ليس بوَحْشِيٍّ لا يَحْرُمُ على المُحْرِمِ أكْلُه، ولا ذَبْحُه؛ كبَهِيمَةِ الأنعامِ والخَيْلِ والدَّجاجِ، ونحوها. لا نَعْلَمُ بينَ أهْلِ العِلْمِ فيه خِلافًا. والاعْتِبارُ في ذلك بالأصْلِ، لا بالحالِ، فلو اسْتَأْنَسَ الوَحْشِيُّ، وَجَب فيه الجَزاءُ، كالحَمامِ يَجِبُ الجَزاءُ في أهْلِيِّه وَوَحْشِيِّه اعْتِبارًا بالأصْلِ. ولو تَوَحَّشَ الأهْلِيُّ، لم يَجبْ فيه شَئٌ. قال أحمدُ في بَقَرَةٍ صارَتْ وَحْشِيَّةً: لا شَئَ فيها؛ لأنَّ الأَصْلَ فيها الإِنْسِيَّةُ. فإن تَوَلَّدَ بينَ الوَحْشِىِّ والأهْلِىِّ وَلَدٌ، ففيه الجَزاءُ؛ تَغْلِيبًا للتَّحْرِيمِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الدَّجاجِ السِّنْدِىِّ، هل فيه جَزاءٌ؟ على رِوايَتَيْن. وروَى مُهَنَّا، عن أحمدَ، في البَطِّ: يَذْبَحُه المُحْرِمُ إذا لم يَكُنْ صَيْدًا. والصَّحِيحُ أنَّه يَحْرُمُ عليه ذَبْحُه، وَفيه الجَزاءُ؛ لأنَّ الأصْلَ فيه الوَحْشِىُّ، فهو كالحَمامِ. الثّانِى، أن يَكُونَ مَأْكُولًا، فأمّا ما ليس بمَأْكُولٍ، كسِباعِ البَهائِم ¬

(¬1) سورة المائدة 95. (¬2) سورة المائدة 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُسْتَخْبَثِ مِن الحَشَراتِ والطَّيْرِ وسائِرِ المُحَرَّماتِ، فلا جَزاءَ فيه. قال أحمدُ، رَحِمَه الله: إنَّما جُعِلَتِ الكَفَّارَة في الصَّيْدِ المُحَلَّلِ أكْلُه. وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا أنَّهم أوْجَبُوا الجَزاءَ في المُتَوَلِّدِ بينَ المَأْكُولِ وغيرِه، كالسِّمْعِ المُتَوَلِّدِ بينَ الضَّبُعِ والذِّئْبِ؛ تَغْلِيبًا لتَحْرِيم قتلِه، كما غَلَّبُوا التَّحْريمَ في أكْلِه. وقال بعضُ أصْحابِنا: في أُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ. وهى دابَّةٌ مُنْتَفِخَةُ البَطْنِ. وهذا خِلافُ القِياس، فإنَّ أُمَّ حُبَيْنٍ مُسْتَخْبَثَة عندَ العَرَبِ لا تُؤْكَلُ. وقد حُكِىَ أنَّ رجلًا مِن البَدْوِ سُئِلَ: ما تَأْكُلُون؟ فقالَ: ما دَبَّ ودَرَج إلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ. فقالَ السّائِل: ليَهْنِ أُمَّ حُبَيْنٍ العافِيَةُ. وإنَّما تَبِعُوا فيها قَضِيَّةَ عُثمانَ، فإنَّه قَضَى فيها بحُلَّان (¬1)، وهو الجَدْىُ. والصَّحِيحُ أنَّه لا شَئَ فيها. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الثَّعْلَبِ، فعنْه، فيه الجَزاءُ. وهو المَشْهُورُ. وبه قال طاوسٌ، وقتادَةُ، ومالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ: لا شَئَ فيه. وهو قولُ الزُّهْرِىِّ، وعَمْرِو بنِ دِينارٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه سَبُعٌ. وقد نَهَى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكْلِ كلِّ ذِى نابٍ مِن السِّباعِ (¬2). واخْتَلَفَتِ الرِّوايَة في السِّنَّوْرِ الوَحْشِىِّ ¬

(¬1) في م: «بحملان». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 178.

1198 - مسألة: (فمن أتلفه، أو تلف في يده، أو أتلف جزءا منه، فعليه جزاؤه)

فَمَنْ أَتْلَفَهُ، أَوْ تَلِفَ فِى يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والأهْلِىِّ، والصَّحِيحُ أنَّه لا جَزاءَ في الأهْلِىِّ؛ لأنَّه ليس وَحْشِيًّا ولا مَأْكُولَا. وأمّا الوَحْشِيُّ، فاخْتارَ القاضى أنَّه لا شَئَ فيه؛ لأنَّه سَبُعٌ. وقال الثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ: في الوَحْشِىِّ حُكُومَةٌ. والاخْتِلافُ فيه مَبْنِيٌّ على الاخْتِلافِ في إباحَتِه. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الهُدْهُدِ والصُّرَدِ (¬1)؛ لاختِلافِ الرِّوايَتَيْن في إباحَتِهما. وكلُّ ما اخْتُلِفَ في إباحَتِه اخْتُلِفَ (¬2) في جَزائِه. فأمّا ما يُحَرَّمُ، فالصَّحِيحُ أنَّه لا جَزاءَ فيه؛ لعَدَم النَّصِّ فيه، وهو مُخالِفٌ للقِياسِ. الثّالِثُ، أن يَكُونَ مِن صَيْدِ البَرِّ. فأمَّا صَيْدُ البَحْرِ فلا يَحْرُمُ على المُحْرِم بغيرِ خِلافٍ؛ لقَوْلِه سُبْحانَه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما: طعامُه ما لَفَظَه (¬3). 1198 - مسألة: (فمَن أتْلَفَه، أو تَلِف في يَدِه، أو أتْلَفَ جُزْءًا منه، فعليه جَزاؤه) مَن أتْلَف صَيْدًا وهو مُحْرِمٌ، فعليه جَزاؤه، بإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ. وقد دَلَّ عليه قَوْلُه سُبْحانَه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ ¬

(¬1) الصُّرَدُ: وزان عُمَر: نوع من الغربان، الجمع صِرْدان. (¬2) في الأصل: «يختلف». (¬3) أخرجه عنه ابن جرير في تفسيره 7/ 65.

1199 - مسألة: (ويضمن ما دل عليه، أو أشار إليه، أو أعان

وَيَضْمَنُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ أشَارَ إِلَيْهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَى ذَبْحِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. قال شيخُنا (¬1)، رَضِىَ الله عنه: ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ في قَتْلِ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا، أنَّ فيه الجَزاءَ، إلَّا الحسنَ، ومُجاهِدًا، قالا: يَجِبُ في الخَطإِ والنِّسْيانِ، ولا يَجِبُ في العَمْدِ. وهذا خِلافُ النَّصِّ، فلا يُلْتَفَتُ إليه. وقَتْلُ الصَّيْدِ نَوْعان؛ مُباحٌ ومُحَرَّمٌ، فالمُحَرَّمُ أن يَقْتُلَه ابْتِداءً مِن غيرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَه، ففيه الجَزاءُ؛ لِما ذَكَرْنا. والمُباحُ ثَلاَثَةُ أنْواعٍ؛ أحَدُها، أن يُضْطَرَّ إليه. والثّانِى، أن يَصُولَ عليه الصَّيْدُ. والثّالِثُ، إذا أرادَ تَخْلِيصَه مِن سَبُعٍ أو شَبَكَةٍ أو نحوِه. وسَنَذْكُرُ ذلك إن شاء اللهُ تعالى. فصل: ويَضْمَنُ ما تَلِف في يَدِه، وإن صادَه لم يَمْلِكْه؛ لأنَّ ما حَرُمَ لحقِّ غيرِه، لا يُمْلَكُ بالأخْذِ مِن غيرِ إذْنِه، كمالِ غيرِه، وعليه إرْسالُه في مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ فيه، فإنْ لم يَفْعَلْ، فَتَلِفَ، ضَمِنَه، كمالِ الآدَمِىِّ إذا أخَذَه بغيرِ حَقٍّ فَتَلِفَ في يَدِه، وإن كان مَمْلُوكًا لآدَمِىٍّ، فعليه رَدُّه إليه؛ لكَوْنِه غَصَبَه منه. فصل: وإن أتْلَفَ جُزْءًا مِن الصَّيْدِ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّ جُمْلَتَه مَضْمُونَةٌ، فكان بعضُه مَضْمُونًا، كالآدَمِىِّ والأمْوالِ. 1199 - مسألة: (ويَضْمَنُ ما دَلَّ عليه، أو أشارَ إليه، أو أعانَ ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 395.

أَوْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِى ذَبْحِهِ؛ مِثْلَ أَنْ يُعِيرَهُ سِكِّينًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا، فَيَكُونَ جَزَاؤُهُ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ذَبْحِه، أو كان لة أثَرٌ في ذَبْحِه، مثلَ أن يُعِيرَه سِكِّينًا، إلَّا أن يَكُونَ القاتِلُ مُحْرِمًا، فيَكُونَ جَزاؤه بينَهما) يَحْرُمُ على المُحْرِمِ الدَّلالَة على الصَّيْدِ، والإِشارَةُ إليه، فإنَّ في حديثِ أبِى قَتَادَةَ (¬1)، لَمّا صادَ الحِمارَ الوَحْشِىَّ، وأصْحابُه مُحرِمُون، قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مِنْكم أحَدٌ أمَرَه أن يَحْمِلَ عَلَيْهَا، [3 ل/42 ظ] أوْ أشَارَ إلَيْها؟». وفي لَفْظٍ: فأبْصَروا حِمارًا وَحْشِيًّا، وأنا مَشْغولٌ أخْصِفُ (¬2) نَعْلِى، فلم يُؤْذِنُونِي، وأحَبُّوا لو أنِّى أبْصَرْتُه. وهذا يَدُلُّ على تَعَلُّقِ (¬3) التَّحْرِيمِ بذلك، لو وُجِدَ منهم. ولأنَّه سَبَبٌ إلى إتْلافِ صَيْدٍ مُحَرَّمٍ عليه، فحَرُمَ، كنَصْبِ الشَّرَكِ. فصل: وليس له الإِعانَةُ على الصَّيْدِ بشئٍ، فإنَّ في حديثِ أبِى قَتادَةَ المُتَّفَقِ عليه: ثمَّ رَكِبْت ونَسِيتُ السَّوْطَ والرُّمْحَ، فقلت لهم: ناوِلُونِى السَّوْطَ والرُّمْحَ، قالُوا: واللهِ لا نُعِينُك عليه. وفى رِوايَةٍ: فاسْتَعَنتُهم، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: بابا من استوهب من أصحابه. . . .، من كتاب الهبة وفضلها. صحيح البخارى 3/ 201. ومسلم، في: باب تحريم الصيد للمحرم، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 851 - 854. وأبو داود، في: باب لحم الصيد للمحرم، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 429. والنسائى، في: باب إذا ضحك المحرم. . . . , وباب إذا أشار المحرم. . . .، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 145، 146. (¬2) أخْصِف نعلى: أخرُزُها. (¬3) في م: «تعليق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأبَوْا أن يُعِينُونِى. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الإعانَةِ، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أقَرَّهم علي كل ذلك. ولأنَّه، إعانَةٌ على مُحَرَّمٍ، فَحُرِّمَ، كالإِعانَةِ على قَتْلِ الآدَمِىِّ. ويَضْمَنُه بالدَّلالَةِ عليه، فإذا دَلَّ المُحْرِمُ حلالًا على الصَّيْدِ فأتْلَفَه، فالجزاءُ على المُحْرِمِ. رُوِىَ ذلك عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وبَكْرٍ المُزَنِىِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ: لا شئَ على الدّالِّ؛ لأنَّه يُضْمَنُ بالجِنايَةِ، فلا يُضْمَنُ بالدَّلالَةِ، كالآدَمِيِّ. ولَنا، حديثُ أبِى قَتادَةَ، ولأنَّه سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ به إلى إتْلافِ الصَّيْدِ، فتَعَلَّقَ به الضمانُ، كما لو نَصَب أُحْبُولَةً، ولأنَّه قولُ علىٍّ، وابنِ عباسٍ، رَضِىَ الله عنهما، ولا مُخالِفَ لهما في الصَّحابَةِ. وإن أشارَ اليه، فهو كما لو دَلَّ عليه؛ لأنَّه في مَعْناه. فصل: فإن دَلَّ مُحْرِمًا على الصَّيْدِ، فقَتَلَه، فالجَزاءُ بينَهما. وبه قال عَطاءٌ، وحَمّادُ بنُ أبِى سُليْمانَ. وقال الشَّعْبِىُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأىِ: على كلِّ واحِدٍ جَزاءٌ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الفِعْلَيْن يَسْتَقِلُّ بالجَزاءِ إذا انْفَرَدَ، فكذلك إذا لم يَضْمَنْه غيرُه. وقال مالكٌ والشافعىُّ: لا شَئَ على الدّالِّ. ولَنا، أنَّ الواجِبَ جَزاءُ المُتْلَفِ، وهوِ واحِدٌ، فيَكُونُ الجَزاءُ واحِدًا، وعلى مالكٍ والشافعىِّ ما سَبَق. ولا فَرْقَ في جَمِيعِ [الصُّوَرِ بَيْنَ] (¬1) كَوْنِ المَدْلُولِ عليه ظاهِرًا، أو خَفِيًّا لا يَراه إلَّا بالدَّلَالَةِ عليه. ولو دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا على صَيْدٍ، ثم دَلَّ الآخَرُ آخَرَ، ثم كذلك إلى عَشَرَةٍ، فقَتَلَه العاشِرُ، كان الجَزاءُ على جَمِيعِهم. وِإن قَتَلَه الأوَّلُ فلا شئَ على غيرِه؛ لأنَّه لم يَدُلَّه عليه أحَدٌ، فلا يُشارِكُه في ضَمانِه أحَدٌ. ولو كان المَدْلُولُ رَأَى الصَّيْدَ قبلَ الدَّلالَه والإِشارَةِ، فلا شئَ على الدّالِّ والمُشِيرِ؛ لأنَّ ذلك لم يَكُنْ سَبَبًا في تَلَفِه، ولأنَّ هذه ليستْ دَلالَةً على الحَقِيقَةِ، وكذلك إن وُجِدَ مِن المُحْرِمِ حَدَثٌ عندَ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ؛ مِن ¬

(¬1) في م: «الصورتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَحِكٍ، أو اسْتِشْرافٍ، فَفَطِنَ له غيرُه فصاده، فلا شئَ على المُحْرِمِ؛ فإنَّ في حديثِ أبِى قَتادَةَ (¬1)، قال: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كُنّا بالقاحَةِ (¬2)، ومِنّا المُحْرِمُ، ومِنّا غيرُ المُحْرِمِ، إذ بَصُرْتُ بأصْحابِى يَتراءَون شيئًا، فنَظرتُ، فإذا حِمارُ وَحْشٍ. وفى لَفْظٍ: فبَيْنا أنا مع أصْحابِى، فضَحِكَ بعضُهم، إذ نَظَرْتُ، إذا أنا بحِمارِ وَحْشٍ. وفى لَفْظٍ: فلَمّا كُنّا بالصِّفاحٍ (¬3)، إذا هم يَتَراءَون. فقُلْتُ: أىَّ شئٍ تَنْظُرُون؟ فلم يُخْبِرُونِي. مُتَّفَقٌ عليه. فصل: فإن أعارَ قاتِلَ الصَّيْدِ سِلاحًا، فقَتَلَه به، فهو كما لو دَلَّهُ عليه؛ سَواءٌ كان المُسْتَعارُ ممّا لا يَتِمُّ قَتْلُه إلَّا به، أو أعارَه شَيْئًا هو مُسْتَغْنٍ عنه، مثلَ أن يُعِيرَه رُمْحًا ومعه رُمْحٌ، وكذلك لو أعانَه عليه بمُناوَلَتِه سِلاحَه أو سَوْطَه، أو أمَرَه باصْطِادِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبِى قَتادَةَ، وقولِ أصْحابِه: واللهِ لا نُعِينُكَ عليه بشئٍ. وقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أوْ أشَارَ إلَيْهَا؟». وكذلك إن أعارَه سِكِّينًا فذَبَحَه بها. فأمّا إن أعارَه آلةً لِيَسْتَعْمِلَها في غيرِ الصَّيْدِ، فاسْتَعْمَلَها في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 278. (¬2) القاحة: مدينة على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا بنحو ميل. معجم البلدان 4/ 5. (¬3) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسْرة الداخل الى مكة من مشاش. معجم البلدان 3/ 398.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّيْدِ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ ذلك غيرُ مُحَرَّمٍ عليه، أشْبَهَ ما لو ضَحِك عندَ رُؤيَةِ الصَّيْدِ، ففَطِنَ له إنْسانٌ، فصادَه. فصل: فإن دَلَّ الحَلالُ مُحْرِمًا على صَيْدٍ، فقَتَلَه، فلا شئَ على الحَلالِ؛ لأنَّه لا يَضْمَنُ الصَّيدَ بالإِتْلافِ، فبالدَّلالَةِ عليه (¬1) أوْلَي، إلَّا أن يَكُونَ ذلك في الحَرَمِ، فيَشتَرِكان في الجَزاءِ، كالمُحْرِمَيْن، لأنَّ صَيْدَ الحَرَمِ حَرامٌ على الحَلالِ والمُحْرِمِ. فإنِ اشتَرَكَ في قَتْلِ الصَّيْدِ حَلالٌ ومُحْرِمٌ في الحِلِّ، فعلى المُحْرِمِ الجَزاءُ جَمِيعُه، على ظاهِرِ قولِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: عليه نِصْفُ الجَزاءِ، كما لو كانا مُحْرِمَيْن. ولَنا، أنَّه اشْتَرَك في قَتْلِه مَن يَجِبُ عليه الضَّمانُ، ومَن لا يَجِبُ، فاخْتَصَّ الجَزاءُ بمَن يَجِبُ عليه، كما لو دَلَّ الحَلالُ مُحْرِمًا على صَيْدٍ، فعليه. ولأنَّه اجْتَمَعَ مُوجِبٌ ومُسْقِطٌ، فغلَبَ الإِيجابُ، كما لو قَتَل صَيْدًا بعضُه في الحَرَمِ وبَعْضُه في الحِلِّ. ذَكَر هذه المسألةَ القاضى أبو الحُسَيْنَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك إن كان شَرِيكُه سَبُعًا، ثم إن كان جَرْحُ أحَدِهما قبلَ صاحِبِه، والسّابِقُ الحَلالُ أو السَّبُعُ، فعلى المُحْرِمِ جَزاؤه مَجْرُوحًا، وإن كان السّابِقُ المُحْرِمَ فعليه أرْشُ جَرْحِه، على ما ذَكَرْنا. وإن كان جَرْحُهما في حالٍ واحِدَةٍ، أو جَرَحاه ومات منهما، فالجَزاءُ كلُّه على المُحْرِمِ. وفيه وَجْهٌ لنا، كقولِ أصْحابِ الشافعىِّ: إنَّ على المُحْرِمِ نِصْفهَ، كالمُحْرِمَيْن.

1200 - مسألة: (ويحرم عليه الأكل من ذلك كله، وأكل ما صيد لأجله، ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك)

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الأَكلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَكلُ مَا صِيدَ لأَجْلِهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1200 - مسألة: (ويَحْرُمُ عليه الأكْلُ مِن ذلك كلِّه، وأكْلُ ما صِيدَ لأجْلِه، ولا يَحْرُمُ عليه الأكْلُ مِن غيرِ ذلك) لا خِلافَ في تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِمِ إذا صادَه أو ذبَحَه؛ لقَوْلِه تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1). وإن صادَه حَلالٌ، أو ذَبحَه، وكان مِن المُحْرِمِ إعانَةٌ فيه، أو دَلالَةٌ، أو إشارَةٌ إليه، لم يُيَحْ أيْضًا؛ لأنَّه أعانَ عليه، أشْبَهَ ما لو ذَبَحَه. وإن صِيدَ مِن أجْلِه، حَرُمَ عليه أكْلُه. يُرْوَى ذلك عن عثمانَ بنِ عَفّانَ، رَضِىَ اللهُ عنه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: له أكْلُ ماصِيدَ لأجْلِه؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبِى قَتادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ، أوْ أشَارَ إلَيْهِ بِشَئٍ؟». قالُوا: لا. قال: «كُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فدَلَّ على أنَّ التَّحْرِيمَ ¬

(¬1) سورة المائدة 96. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 278.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما يَتَعَلَّقُ بالاشارَةِ والأمْرِ والإِعانَةِ، ولأنَّه صَيْدٌ مُذَكَّى، لم يَحْصُلْ فيه ولا في سَبَبِه مَنْعٌ منه، فلم يَحْرُمْ عليه أكْلُه، كما لولم يُصَدْ له. ولَنا، ما روَى ابنُ عباس، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثّامَةَ اللَّيْثِىَّ أهْدَى إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حِمارًا وَحْشِيُّا، وهو بِالأبْواءِ (¬1) أو بوَدَّانَ (¬2)، فرَدَّه عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلَمّا رَأى ما في وَجْهِه قال: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أنَّا حُرُمٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وروَى جابِرٌ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوه، أوْ يُصَدْ لَكُم». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمِذِيُّ (¬4). وقال: هو أحسَنُ ¬

(¬1) الأيواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. معجم البلدان 1/ 100. (¬2) ودان: موضع بين مكة والمدينة، وهى قرية جامعة من نواحى الفرع بينها وبين هرشة ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة. معجم البلدان 4/ 910. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب إذا أهدى للمحرم. . . .، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب قبول هدية الصيد، وباب من لم يقبل الهدية. . . .، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 3/ 16، 203، 208. ومسلم، في: باب تحريم الصيد للمحرم، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 850، 851. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية لحم الصيد. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 78. والنسائى، في: باب ما لا يجوز للمحرم. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 144. وابن ماجه، في: باب ما ينهى عنه المحرم. . . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1032. والدارمي، في: باب في أكل لحم الصيد. . . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 39. والإمام مالك، في: باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 353. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 216، 362، 4/ 37، 38، 71 - 73. (¬4) أخرجه أدو داود، في: باب لحم الصيد للمحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 429. والترمذى، في: باب ما جاء في أكل الصيد. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 75. والنسائى، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٍ في البابِ. وهذا فيه تَحْرِيمُ ما صِيدَ للمُحْرِمِ، وفيه إباحَةُ ما لم يَصِدْه ولم يُصَدْ له. فصل: ولا يَحْرُمُ عليه الأكْلُ مِن غيرِ ذلك. وهذاْ مَذْهَبُ الشافعىِّ، وأبِى حنيفةَ، ومالكٍ. ويُرْوَى ذلك عن طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ. وحُكِىَ عن عليٍّ (¬1)، وابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، وابنِ عباس، رَضِىَ اللهُ عنهم، أنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ على المُحْرِمِ بكلِّ حالٍ. وبه قال طاوسٌ وكَرِهَه الثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ؛ لعُمُومِ قَوْلِه سُبْحانَه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. ولِما ذَكَرْنا مِن حديثِ الصَّعْبِ بنِ جَثّامَةَ. وروَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه، عن عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ، عن أبِيه، قال: كان الحارِث خَلِيفَةَ عثمانَ على الطّائِفِ، فصَنَعَ له طَعامًا، وصَنَع فيه الحَجَلَ (¬3) واليَعاقِيبَ (¬4) ولَحْمَ الوَحْشِ، فبَعَثَ إلى علىِّ بنِ أبِى طالبٍ، فجاءَه، فقالَ: أطْعِمُوه قومًا حَلالًا، إنَّا حُرُمٌ. ثم قال عليٌّ: أنْشُدُ اللهَ مَن كان هَهُنا مِن أشْجَعَ، أتَعْلَمُون أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أهْدَى إليه رجلٌ حِمارَ وَحْشٍ، فأبَى أن يَأْكُلَه؟ قالُوا: نعم. ولأنَّه لَحْمُ صَيْدٍ فحَرُمَ على ¬

= في: باب إذا أشار المحرم إلى الصيد، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 147. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 387. (¬1) في م: «عطاء». (¬2) في: باب لحم الصيد للمحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 428. (¬3) الحجل: طائر عل قدر الحمام، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر. (¬4) اليعقوب: هو ذكر الحجل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحْرِمِ، كما لو دَلَّ عليه. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبِى قَتادَةَ، وجابِرٍ، فإنَّهما صَرِيحان في الحُكْمِ، وفى ذلك جَمْعٌ بينَ الأحاديثِ وبَيانُ المُخْتَلِفِ منها، بأن يُحْمَلَ تَرْكُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - الأكْلَ في حديثِ الصَّعْبِ بنِ جَثّامَةَ؛ لِعلْمِه، أو ظَنِّه أنَّه صِيدَ مِن أجْلِه، ويَتَعَيَّن حَمْلُه على ذلك؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثَيْن، فإنَّ الجَمْعَ بينَ الأحاديثِ أوْلَى مِن التَّعارُضِ والتَّناقضِ. وروَى مالكٌ في «الموَطَّإِ» (¬1) أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَج يُرِيدُ مَكَّةَ، وهو مُحْرِمٌ، حتى إذا كان بالرَّوْحاءِ، إذا حِمارٌ وَحْشِىٌّ عَقِيرٌ، فجاءَ البَهْزِيُّ، وهو صاحِبُه، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، شَأْنَكُم بهذا الحِمارِ. فأمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أبا بَكْرٍ فقَسَمَه بينَ الرِّفاقِ فصل: وَما حَرمَ على المُحْرِم لكَوْنِه دَلَّ عليه أو أعانَ عليه أو صِيدَ مِن أجْلِه، لا يَحْرُمُ على الحَلال أكْلُهَ؛ لقَوْلِ عليٍّ رَضِىَ اللهُ عنه: أطْعِمُوه حَلالًا. وقد بَيَّنَا حَمْلَه على أنَّه صِيدَ مِن أجْلِهم، وحديثِ الصَّعْب بنِ جَثّامَةَ، حينَ رَدَّ [3 لم 44 و] النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّيْدَ عليه، لم يَنْهَه عن أكْلِه، ¬

(¬1) في: باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 351. كما أخرجه النسائي، في: باب ما يجوز للمحرم أكله، من كتاب المناسك، وفى: باب إباحة أكل لحوم حمر الوحش، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 5/ 143، 7/ 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه صَيْدٌ حَلالٌ، فأُبِيحَ لِلحَلالِ أكْلُه، كما لو صِيدَ لهم. وهل يُباحُ أكْلُه لمُحْرِمٍ آخَرَ؟ فيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، يُباحُ؛ فإنَّ ظاهِرَ حديثِ جابِرٍ إباحَتُه. وهو قولُ عثمانَ، رَضِىَ اللهُ عنه؛ لأنَّه يُرْوَى: أنَّه أُهْدِىَ له صَيْدٌ، فقالَ لأصْحابِه: كُلُوا. ولم يَأْكُلْ، وقال: إنَّما صِيدَ مِن أجْلِى (¬1). ولأنَّه لم يُصَدْ مِن أجْلِه، فحَلَّ له، كما لو صادَه الحَلالُ لِنَفْسه. ويَحْتَمِلُ أن يَحْرُمَ. وهو قولُ علىٍّ، رَضِىَ الله عنه؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبِى قَتادَةَ (¬2): «هَلْ مِنكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أن (¬3) يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أوْ أشَارَ إلَيْها؟» قالوا: لا. قال (¬4): «فَكُلُوهُ». فمَفْهُومُه أنَّ إشارَةَ واحِدٍ منهم تُحَرِّمُه عليهم. والأوَّلُ أوْلَى. فصل: واذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ، ثم أكَلَه، ضَمِنَه للقَتْلِ دُونَ الأكْلِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال عَطاءٌ، وأبو حنيفةَ: يَضْمَنُه للأكْلِ أيضًا؛ لأنَّه أكَلَ مِن صَيْد مُحَرَّمٍ عليه، فضَمِنَه، كما لو صِيدَ ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 354. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 278. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجْلِه. ولَنا، أنَّه صَيْدٌ مَضْمُونٌ بالجَزاءِ، فلم يُضْمَنْ ثانِيًا، كما لو أتْلَفَه بغيرِ الأكْلِ، وكَصَيْدِ الحَرَمِ (¬1) إذا قَتَلَه الحَلالُ وأكَلَه، وكذلك إن قَتَلَه مُحْرِمٌ آخَرُ، ثم أكَلَ هذا منه، لم يَجِبْ عليه الجَزاءُ؛ لِما ذَكَرْنا. ولأنَّ تَحْرِيمَه لكَوْنِه مَيْتَةً، والمَيْتَةُ لا تُضْمَنُ بالجَزاءِ، وكذلك إن حُرِّمَ عليه أكْلُه بالدَّلالَةِ عليه، أو (¬2) الإِعانَةِ عليه، فأكَلَ منه، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه صَيْدٌ مَضْمُونٌ بالجَزاءِ مَرَّةً، فلم يَجِبْ به جَزاءٌ ثانٍ، كما لو أتْلَفَه. فإن أكَلَ مِمّا صِيدَ لأجْلِه ضَمِنَه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ في القَدِيمِ. وقال في الجَدِيدِ: لا جَزاءَ عليه؛ لأنَّه أكْلٌ للصَّيْدِ، فلم يَجِبْ به الجَزاءُ، كما لو قَتَلَه، ثم أكَلَه. ولَنا، أنَّه إتْلافٌ مَمْنُوعٌ منه لحُرْمَةِ الإحْرامِ، فتَعَلَّقَ به الضَّمانُ، كالقَتْلِ. أمّا إذا قَتَلَه، ثم أكَلَه، لا يُحَرَّمُ للإْتْلافِ، إنَّما حُرِّمَ لكَوْنِه مَيْتَةً. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَضْمَنُه بمِثْلِه مِن اللَّحْمِ؛ لأنَّ أصْلَه مَضْمُونٌ بمِثْلِه مِن النَّعَمِ، فكذلك أبْعاضُه تُضْمَنُ بمِثْلِها، بخِلافِ حَيَوانِ الآدَمِىِّ، فإنَّه يُضْمَنُ جَمِيعُه بالقِيمَةِ، فكذلك أبْعاضُه. فصل: وإذا ذَبَح المُحْرِمُ الصَّيْدَ، صار مَيْتَةً، يَحْرُمُ أكْلُه على جَمِيع النّاسِ. وهذا قولُ الحسنِ، والقاسِمِ، وسالِمٍ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، ¬

(¬1) في م: «المحرم». (¬2) في م: «و».

1201 - مسألة: (وإن أتلف بيض صيد، أو نقله إلى موضع آخر ففسد، فعليه ضمانه بقيمته)

وَإنْ أَتلَفَ بَيْضَ صَيْدٍ، أَوْ نَقَلَهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَفَسَدَ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ [65 و] بِقِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وقال الحَكَمُ، والثَّوْرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ: لا بَأْسَ بأكْلِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: هو بمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السّارِقِ. وقال عَمْرُو بنُ دِينارٍ، وأيُّوبُ السَّخْتِيانِيُّ: يَأْكُلُه الحَلالُ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ قولٌ قَدِيمٌ، أَّنه يَحِلُّ لغيرِه الأكْلُ منه؛ لأنَّ مَن أباحَتْ ذَكاتُه غيرَ الصَّيْدِ أباحَتِ الصَّيْدَ، كالحَلالِ. ولَنا، أَّنه حَيَوان حُرمَ عليهِ ذَبْحُه لحَقِّ اللهِ تعالى، فلم يَحِلَّ بذَبْحِه، كالمَجوسِىٌ، وبهذا فارَقَ سائِرَ الحَيوانَاتِ، وفارَقَ غيرَ الصَّيْدِ، فإنَّه لا يُحَرَّمُ ذَبْحُه. وكذلك الحُكْمُ في صَيْدِ المُحْرِمِ إذا ذَبَحَه مُحْرِمٌ أو حَلالٌ. وبعضُ الحَنَفِيَّةِ يَقُولُ: هو مُباحٌ. ولَنا، ما ذَكَرْناه. 1201 - مسألة: (وإن أتْلَفَ بَيْضَ صَيْدٍ، أو نَقَلَه إلى مَوْضِع آخَرَ ففَسَدَ، فعليه ضَمانُه بقِيمَتِه) إذا أتْلَفَ بَيْضَ صَيْدٍ ضَمِنَه بقِيمَتِه، أىَّ صَيْدٍ كان. قال ابنُ عباسٍ: في بَيْضِ النَّعامِ قِيمَتُه. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابن مَسْعُودٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما. وبه قال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ؛ لأنَّه رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال- في بَيْضِ النعامِ يُصِيبُه المُحْرِمُ-: «ثَمَنُهُ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). وإذا وَجَب في بَيْضِ النَّعامِ قِيمَتُه، مع أنَّه مِن ذَواتِ الأمْثالِ، فغيرُه أوْلَى، ولأنَّ البَيْضَ لا مِثْلَ له، فيَجِبُ فيه قِيمَتُه، كصِغارِ الطَّيْرِ. فإن لم يَكُنْ له قِيمَة، لكَوْنِه مَذِرًا (¬2)، أو لأنَّ فَرْخَه مَيِّتٌ، فلا شئَ فيه. قال أصْحابُنا: إلَّا بَيْضَ النَّعام، فإنَّ لقِشْرِه قِيمَةً. والصَّحِيحُ أنَّه لا شئَ فيه؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ فيه حَيَوانٌ، ولا مآله إلى أن يَصِيرَ فيه. حَيوانٌ، صار كالأحْجارٍ والخَشَبِ، وسائِرِ ما له قِيمَةٌ مِن غيرِ الصَّيْدِ، ألا تَرَى أنَّه لو نَقَبَ بَيْضَةً، فأخْرَجَ ما فيها، لَزِمَه جَزاءُ جَمِيعِها، ثم لو كَسَرَها هو أو غيرُه، لم يَلْزَمْه لذلك شئٌ؟ ومَن كَسَر بَيْضَةً، فخَرَجَ منها فَرْخٌ حَيٌّ، فعاشَ؛ فلا شئَ فيه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن يَضْمَنَه، إلَّا أن يَحْفَظَهُ مِن الجارِحِ إلى أن يَنْهَضَ، فيَطِيرَ؛ لأنَّه صار في يَده مَضْمُونًا، وتَخْلِيَتُه غيرَ مُمْتَنِعٍ ليس بردٍّ تامٍّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَضْمَنَه؛ لأنَّه لم يَجْعَلْه غيرَ مُمْتَنِعٍ بعدَ أن كان مُمْتَنِعًا، بل تَرَكَه على صِفَتِه، فهو كما لو أمْسَكَ طائِرًا أعْرَجَ، ثم تَرَكَه. وإن مات، ففيه ما في صِغارِ أوْلادِ المُتْلَفِ بَيْضُهُ، ففى فَرخِ ¬

(¬1) في: باب جزاء الصيد يصيبه المحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1031. (¬2) مَدرَ البيض مَذَرًا: فَسَدَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمام صَغِيرُ أوْلادِ الغنَمِ. وفى فَرْخِ النَّعامَةِ حُوارٌ (¬1)، وفيما عَداهما قِيمَة، إلَّا ما كان أكْبَرَ مِن الحَمامِ، ففيه ما نَذكُرُه مِن الخِلافِ في أُمَّهاتِه إن شاء اللهُ تعالى. ولا يَحِلُّ لمُحْرِمٍ أكْلُ بَيْضِ الصَّيْدِ إذا كَسَرَه هو أو مُحْرِمٌ سِواه. وإن كَسَرَه حَلالٌ فهو كلَحْمِ الصَّيْدِ، إن كان أخَذَه لأجْلِ المُحْرِمِ لم يُبْحْ أكْلُه، وإلَّا أُبِيحَ. وإن كَسَر المُحْرِمُ بَيْضَ صَيْدٍ، لم يُحَرَّمْ على الحَلالِ؛ لأنَّ حِلَّهُ له لا يَقِفُ على كَسْرِه، ولا يُعْتَبَر له أهْلِيَّتُه، بل لو كَسَرَه مَجُوسِيٌّ أو وَثَنيُّ، أو بغيرِ تَسْمِيَةٍ، لم يحَرَّمْ، فأشْبَهَ قَطْعَ اللَّحْمِ وَطبْخَه. وقال القاضى: يُحَرَّمُ على الحَلالِ أكْلُه، كالصَّيْدِ؛ لأنَّ كَسْرَه جَرَى مَجْرَى الذَّبْحِ، بدَلِيلِ حِلِّه للمُحْرِمِ بكَسْرِ الحَلالِ له، وتَحْرِيمِه عليه بِكَسرِ المُحْرِمِ. فصل: وإن نَقَل بَيْضَ صَيْدٍ، فجَعَلَه تَحْتَ آخَرَ، أو تَرَك مع بَيْضِ الصيْدِ بَيْضًا آخَرَ، أو شَيْئًا، فنَفَرَ عن بَيْضِه حتى فَسَد، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه تَلِف بسَبَبِه. وإن صَحَّ وفَرَّخَ، فلا ضَمانَ عليه. وإن باضَ الصَّيْدُ على فِراشِه، فنَقَلَه بِرفقٍ، ففسَدَ، ففيه وَجْهان؛ بناءً على الجَرادِ إذا انْفَرَشَ في طَرِيقهِ، وحُكْمُ بَيْضِ الجَرادِ حُكْمُ الجَرادِ، وكذلك بَيْضُ كلِّ حيَوانٍ حُكْمُه حُكْمُه؛ لأنَّه جُزءٌ منه أشْبَهَ الأصْلَ. وانِ احْتَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ ففيه قِيمَتُه، كما لو حَلَب لَبَنَ حَيَوانٍ مَغْصُوبٍ. ¬

(¬1) الحُوار: ولد الناقة ساعةَ تضعُه أو إلي أن يفصلَ عن أمِّه.

1202 - مسألة: (ولا يملك الصيد بغير الإرث. وقيل: لا يملكه

وَلَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِغَيْرِ الإِرْثِ. وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُهُ بِهِ أيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1202 - مسألة: (ولا يَمْلِكُ الصَّيدَ بغَيرِ الإِرْثِ. وقِيلَ: لا يَمْلِكُه (¬1) به أيضًا) لا يَمْلِكُ المُحْرِمُ الصَّيدَ ابْتداءً بالبَيْع ولا بالهِبَةِ، ونحْوِهما مِن الأسْبابِ، فإنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثّامَةَ أهْدَى إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حِمارًا وَحْشِيًّا، فرَدَّه عليه، وقال: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أنَّا حُرُمٌ» (¬2). فإن أخَذَه بأحَدِ هذه الأسْبابِ، ثم تَلِف، فعليه جَزاؤه، وإن كان مَبِيعًا، فعليه القِيمَةُ لمالِكِه مع الجَزاءِ؛ لأنَّ مِلْكَه لم يَزُلْ عنه، وإن أخَذَه رَهْنًا، فلا شئَ عليه سِوَى الجَزاءِ؛ لأنَّه أمانَةٌ، فإن لم يَتْلَفْ فعليه رَدُّه إلى مالكِه، ¬

(¬1) في الأصل: «يملك». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أرْسَلَه، فعليه ضَمانُه لمالِكِه، وليس عليه جَزاءٌ، وعليه رَدُّ المَبِيع أيْضًا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه إرْسالُه، كما لو كان مَمْلُوكًا، ولأنَّه لا يَجُوزُ له إثْباتُ يَدِه المُشاهَدَةِ على الصَّيْدِ. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. ولا يَسْتَرِدُّ المُحْرِمُ الصَّيْدَ الذى باعَهُ وهو حَلالٌ بخِيارٍ ولا عَيْبٍ في ثَمَنِه، ولا غيرِ ذلك؛ لأنَّه ابْتِداءُ مِلْكٍ على الصَّيْدِ، وهو مَمْنُوعٌ منه. وإن رَدَّه المُشْتَرِى عليه بِعَيْبٍ أو خِيارٍ، فله ذلك؛ لأنَّ سَبَبَ الرَّدِّ مُحَقَّقٌ، ثم لا يَدْخُلُ في مِلْكِ المُحْرِمِ، ويَلْزَمُه إرْسالُه. فصل: وإن وَرِثه المُحْرِمُ مَلَكَه (¬1)؛ لأن المِلْكَ بالإِرْثِ ليس بفِعْلٍ مِن جِهتِه، وإنَّما يَدْخُلُ في مِلْكهِ حُكْمًا، اخْتارَ ذلك أو كَرِهَه، ولهذا يَدْخُلُ في مِلْكِ الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ، ويَدْخُلُ به المُسْلِمُ في مِلْكِ الكافِرِ، ¬

(¬1) في م: «ورثه».

1203 - مسألة: (وإن أمسك صيدا حتى تحلل، ثم تلف أو ذبحه، ضمنه، وكان ميتة. وقال أبو الخطاب: له أكله

وَإِنْ أَمْسَكَ صَيْدًا حَتّي تَحَلَّلَ، ثُمَّ تَلِفَ أَوْ ذَبَحَهُ، ضَمِنَهُ، وَكَانَ مَيْتَةً. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ أَكْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فجَرَى مَجْرَى الاسْتِدامَةِ. وقِيلَ: لا يَمْلِكُ به أيضًا؛ لأنَّه جِهَةٌ مِن جِهاتِ التَّمْلِيكِ، أشْبَهَ البَيْعَ وغيرَه، فعلى هذا يَكُون أحَقَّ به مِن غيرِ ثُبُوتِ مِلْكِه عليه، فإذا حَلَّ مَلَكَه. 1203 - مسألة: (وإن أمْسَكَ صَيْدًا حتى تَحَلَّل، ثم تَلِف أو ذَبَحَه، ضَمِنَه، وكان مَيْتَةً. وقال أبو الخَطّابِ: له أكْلُه) (¬1) إذا صادَ المُحْرِمُ صَيْدًا لم يَمْلِكْه، فإن أمْسَكَه حتى حَلَّ، لَزِمَه إرْسالُه، وليس له ذَبْحُه، فإن تَلِف فعليه ضَمانه؛ لأنَّه لا يَحِلُّ له إمْساكه، أشْبَهَ الغاصِبَ. وإن ¬

(¬1) في الأصل: «كله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَبَحَه ضَمِنَه لذلك، وحَرُمَ أكْلُه؛ لأنَّه صَيْدٌ ضَمِنَه بحُرْمَةِ الإحْرامِ، فلم يُبَحْ أكْلُه، كما لو ذَبَحَه حالَ إحْرامِه. ولأنَّها ذَكاةٌ مُنِعَ منها بسَبَبِ الإِحْرام، فأشْبَهَ ما لو كان الإحْرامُ باقِيًا. واخْتارَ أبو الخَطّاب، أنَّ له أكْلَه، وعَليه ضَمانُه؛ لأنَّه ذَبَحَه وهو مِن أهْلِ ذَبْحِ الصَّيدِ، فأشْبَهَ ما لو صادَه بعدَ (¬1) الحِلِّ. والفَرْقُ ظاهِرٌ؛ لأنَّ هذا يَلْزَمُه ضَمانُه، بخِلافِ الذى صادَه بعدَ الحِلِّ. روَى ابنُ أبِى موسى، عن أحمدَ: إذا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا في الحَرَمِ، فوَجَدَ فيه صَيْدًا مَيْتًا، فَداه احْتِياطًا. والقِياسُ أنَّه لا يَجِبُ عليه فِداؤه؛ لأنَّ (¬2) الأصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ولأن».

1204 - مسألة: (وإن أحرم وفى يده صيد، أو دخل الحرم بصيد، لزمه إزالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه، فإن لم يفعل، فتلف، ضمنه، وإن أرسله إنسان من يده قهرا، فلا ضمان على المرسل)

وَإنْ أَحْرَمَ وَفِى يَدِهِ صَيْدٌ، أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ، لَزِمَهُ إِزَالَةُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل، فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ، وَإنْ أرْسَلَهُ إِنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا، فَلَا ضَمَان عَلَى الْمُرْسِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1204 - مسألة: (وإن أحْرَمَ وفى يَدِه صَيْدٌ، أو دَخَل الحَرَمَ بصَيْدٍ، لَزِمَه إزالَةُ يَدِه المُشاهَدَةِ دُونَ الحُكْمِيَّةِ عنه، فإن لم يَفْعَلْ، فتَلِفَ، ضَمِنَه، وإن أرْسَلَه إنْسانٌ مِن يَدِه قَهْرًا، فلا ضَمانَ على المُرْسِلِ) إذا أحْرَمَ وفى مِلْكِه صَيْدٌ، لم يَزُلْ مِلْكُه عنه، ولا يَدُه الحُكْمِيَّةُ، مِثْلَ أن يَكُونَ في بَلَدِه، أو في يَدِ نائِبٍ (¬1) له في غيرِ مَكانِه. ولا شئَ عليه إن مات، وله التَّصَرُّفُ فيه بالبَيْع والهِبَةِ وغيرِهما. وإن غَصَبَه غاصِبٌ لَزِمَه رَدُّه، ويَلْزَمُه إزالَةُ يَدِه المشاهَدَةِ عنه. ومَعْناه: إذا كان في قَبْضَتِه، أو خَيْمَتِه، أو رَحْلِه، أو قَفَصٍ معه، أو مَرْبُوطًا بحَبْلٍ معه، لَزِمَه إرْسالُه. ¬

(¬1) في م: «ثابت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالك، وأصحابُ الرَّأيِ. وقال الثَّوْرِيُّ: هو ضامِنٌ لِما في بَيْتِه أَيضًا. وحُكِيَ نحوُ ذلك عن الشافعيِّ. وقال أبو ثَوْرٍ: ليس عليه إرْسالُ ما في يَدِه. وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشافعيِّ؛ كما لأنَّه في يَدِه، ولم يَجِبْ إرْسالُه، كما لو كان في يَدِه الحُكْمِيَّة, ولأنَّه لا يَلزَمُ مِن مَنْع ابْتداءِ الصيدِ المَنْعُ مِنَ استدامَتِه، بدَلِيلِ الصَّيْدِ في الحَرَمِ. ولَنا على أنَّه لا يَلزَمُه إزالَةُ يَدِه الحُكْمِيّة، أنَّه لم يَفْعَل في الصيدِ فِعْلاً، فلم يَلزَمْه شئٌ, كما كما لو كان في مِلكِ غيرِه. وعَكْسُ هذا إذا كان في يَدِه المُشاهَدَةِكما لأنَّه فَعَل الإِمْساكَ في الصَّيْدِ، فكانَ مَمْنُوعًا منه، وكحالَةِ الإبتداء، فإنَّ استِدامَةَ الإمْساكِ إمْساكٌ؛ كما بدَلِيلِ أنَّه لو حَلَف لا يُمْسِكُ (¬1) شَيْئاً، فاسْتَدَامَ إمْساكُه، حَنِث. والأصْل المَقِيسُ عليه مَمْنُوع، والحُكْمُ فيه ما ذَكَرْنا قِياسًا عليه. ¬

(¬1) في م: «يملك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَت هذا، فإنّه متى أرْسَلَه لم يَزُلْ مِلْكُه عنه، ومَن أخَذَه رَدَّه عليه إذا حَلَّ، ومَن قَتَلَه ضَمِنَه له؛ لأنّ مِلكَه كان عليه، وإزالَةُ يَدِه لا تُزِيلُ المِلْك، بدَلِيلِ الغَصْبِ والعارِيَّةِ. فإن تَلِفَ في يَدِه قبلَ إرْسالِه مع إمْكانِه، ضَمِنَه؛ لأنه تَلِفَ تحتَ اليَدِ العادِيَة، فلَزِمَه ضَمانُه، كمالِ الآدَمِيِّ. ولا يَلْزَمُه ضَمانُه قبلَ إمْكانِ الإرْسالِ؛ لعَدَم التَّفْرِيطِ والتعَدِّي. فإن أرسَلَه إنْسانٌ مِن يَدِه قَهْراً، فلا ضَمانَ عليه؛ لأَنَّه فَعَل ما له فِعْلُه؛ ولأنَّ اليَدَ قد زالَ حُكْمُها وحُرْمَتُها. فإن أمْسَكَه حتَّى حَلَّ، فمِلْكُه باقٍ عليه؛ لأن مِلْكَه لم يَزُل بالإحْرامِ، إنّما زالَ حُكْم المُشاهَدَةِ، فصارَ كالعَصِيرِ يَتَخَمَّرُ ثم يَتَخَلَّلُ قبلَ إراقَتِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن مَلَك صَيْداً في الحِلِّ، فأدْخَلَه الحَرَمَ، لَزِمَه رَفْعُ يَدِه وإرْسالُه، فإن تَلِف في يَدِه، أو أتلَفَه، فعليه ضَمانُه، كصَيْدِ الحِلِّ في حَقِّ المُحْرِمِ. قال عَطاء: إن ذَبَحَه، فعليه الجَزاءُ. ورُوىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وممَّن كَرِه إدْخالَ الصَّيْدِ الحَرَمَ، ابنُ عُمَرَ، وابن عباس، وعائِشَةُ، وعَطاء، وطاوسٌ، وأصْحاب الرَّأيِ. ورَخَّصَ فيه جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، ورُوِيَتْ عنه الكَراهَةُ. قال هِشامُ بنُ عُرْوَةَ: كان ابن الزُّبَيرِ تِسْعَ سِنِين يَراها في الأقْفاص، وأصْحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَرَوْن به بأسًا. ورَخَّصَ فيه سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومُجاهِدٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابن المُنْذِرِ؛ لأنه مَلَكَه خارِجًا، وحَلَّ له التَّصَرُّفُ فيه، فجازَ له ذلك في الحَرَم، كصَيْدِ المَدِينَةِ. ولَنا، أن الحَرَمَ سَبَبٌ مُحَرِّمٌ للصِّيْدِ، يُوجِبُ ضَمانَه، فحَرَّمَ اسْتِدامَةَ إمْساكِه، كالإحْرامِ، ولأنَّه صَيْدٌ ذَبَحَه في الحَرَمِ، فلَزِمَه جزاؤه، لو صادَه منه، وصَيْدُ المَدِينَةِ لا جَزاءَ فيه، بخِلافِ صَيْدِ الحَرَمِ.

1205 - مسألة: (وإن قتل صيدا صائلا عليه دفعا عن نفسه، أو

وَإنْ قَتَلَ صَيْدًا صَائلاً عَلَيْهِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أمْسَكَ صَيْدًا في الحَرَمِ، فأخْرَجَه [إلى الحِلِّ] (¬1)، لزِمَه إرْسالُه مِن يَدِه، كالمُحْرِمِ إذا أمْسَكَ الصيدَ حتَّى حَلَّ، فإن تَرَكَه، فتَلِفَ، فعليه ضَمانُه، كالمُحْرِمِ إذا أمْسَكَه حتى تَحَلَّلَ. 1205 - مسألة: (وإن قَتَل صَيْدًا صائِلاً عليه دَفْعًا عن نَفْسِه، أو ¬

(¬1) سقط من: م.

أوْ بِتَخْلِيصِهِ مِنْ سَبُع، أوْ شَبَكَةٍ لِيُطْلِقَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَقِيلَ: يَضْمَنُهُ فِيهمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِتَخْلِيصِه مِن سَبُع، أو شَبَكَةٍ ليُطْلِقَه، فتَلِفَ، لم يَضْمَنْه. وقِيلَ: يَضْمَنُه فيهما) إذا صالَ عليه صَيْدٌ، فلم يَقْدِرْ على دَفْعِه إلَّا بقَتْلِه، فله قَتْلُه، ولا ضَمانَ عليه. وبهذا قال الشَّافعيّ. وقال أبو بَكْرٍ: عليه الجَزاءُ. وهو قولُ أبِي حنيفة؛ لأنَّه قَتَلَه لحاجَةِ نَفْسِه، أشْبَهَ قَتْلَه لحاجَتِه إلى أكْلِه. ولَنا، أنَّه حَيَوان قتَله لدَفع شَرِّه، فلم يَضْمَنْه، كالآدَمِيٍّ الصّائِلِ، ولأنَّه التَحَقَ بالمُؤْذِياتِ طَبْعًا، فصارَ كالكَلْب العَقُورِ. ولا فرْقَ بينَ أن يَخْشَى منه التَّلَفَ أو مَضَرَّةً، كجَرْحِه (¬1)، أوَ إتْلافِ مالِه، أو بعض حَيَواناتِه. فصل: فإن خَلَّصَ صَيْدًا مِن سَبُع، أو شَبَكَةٍ، أو أخَذَه لِيُخَلِّصَ مِن رِجْلِه خَيْطًا ونحوَه، فَتَلِفَ بذلك، فلا ضَمانَ عليه. وبه قال عَطاءٌ. ¬

(¬1) في م: «لجرحه».

1206 - مسألة: (ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسى، ولا محرم الأكل، إلا القمل)

وَلا تَأثِيرَ لِلْحَرَمِ وَلا لِلْإحْرَامِ في تَحْرِيمِ حَيَوَانٍ إنْسِيٍّ، وَلا مُحَرَّمِ الْأَكْلِ.، إلَّا الْقَمْلَ في رِوَايَةٍ. وَأيُّ شَيءٍ تَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ خَيْرًا مِنه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيلَ: عليه الضَّمانُ. وهو قولُ قَتادَةَكما لعُمُومِ الآيَة. ولأنَّ غايَةَ ما فيه أنَّه عَدِم القَصْدَ إلى قَتْلِه، فأشْبَهَ قَتْلَ الخطأ. ولَنا، أنَّه فِعْلٌ أُبِيحَ لحاجَةِ الحَيَوانِ، فلم يَضْمَنْ ما تَلِف به، كما لو داوى وَلِي الصَّبِيِّ الصَّبِيَّ، فمات بذلك، وهذا ليس بمُتَعَمِّدٍ، ولا تَناوَلُه الآيَةُ. 1206 - مسألة: (ولا تَأْثِيرَ للحَرَم ولا للإحْرامِ في تَحْرِيمِ حَيَوانٍ إنسىٍّ، ولا مُحَرَّمِ الأكْلِ، إلَّا القَمْلَ) على المُحْرِمِ في رِوايَةِ. وأيُّ شئٍ تَصَدَّقَ به، كان خَيْراً منه) لا تَأثِيرَ للحَرَمِ ولا للإحْرامِ في تَحْرِيم شيئٍ مِن الحَيَوانِ الأهْلِيِّ؛ كبَهِيمةِ الأنعامِ، والخَيلِ، والدجاجِ، ونحوِها؛ لأنَّه ليس بِصَيْدٍ، وإنَّما حَرَّمَ الله سُبْحانَه الصَّيْدَ. وقد كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْبَح البُدْنَ في احْرامِه في الحَرَمِ، يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ سُبْحانَه بذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال عليه السلامُ: «أفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ والثَّجُّ» (¬1). يعني إسالَةَ الدِّماءِ بالذَّبْحِ والنَّحْرِ. وهذا لا خِلافَ فيه. فإن كان مُتَولِّدًا بينَ وَحْشِىٍّ وأهلىٍّ، غَلَب جانِبُ التَّحْرِيمِ. فصل: فأمّا المُحَرَّمُ أكلُه فهو ثَلاثةُ أقْسام؛ أحَدُها، الخَمْسُ الفَواسِق التي أباحَ الشّارِعُ قَتْلَها في الحِلِّ والحَرَمِ، وهي الحِدَأةُ، والغُرابُ، والفَأرَةُ، والعَقْرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ. وفي بعض ألْفاظ الحديثِ: الحَيَّةُ مَكانَ العَقْرَبِ. فيُباحُ قَتْلُهُنَّ في الإحْرام والحَرَمِ. وهذا قولُ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ منهم؛ الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْيِ، وإسْحاقُ. وحُكِيَ عن النَّخَعِيِّ أنَّه مَنَع قَتْلَ الفَأْرَةِ. والحديثُ صَريحٌ في حِلِّ قَتْلِها، فلا تَعْوِيلَ على ما خالَفَه. والمُرادُ بالغُرابِ الأبقَعُ وغُرابُ البَيْنِ. وقال قَوْمٌ: لا يُباحُ قَتْلُ غُراب البَيْنِ؛ لأنَّه رُوِىَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ في الحِلِّ وَالْحَرَمِ؛ الحَيًّةُ، وَالْغُرَابُ الأبقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا». رَواه مسلمٌ (¬2). وهذا يُقَيِّدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 211. (¬2) في: باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب، من كتاب الحج. صحيح مسلم 856/ 2 - 859. كما أخرجه البخارى، في: باب ما يقتل المحرمُ من الدواب، من كتاب جزاء الصيد. صحيح البخارى 3/ 17. والنسائى، في: باب مايقتل في الحرم من الدواب، وباب قتل الحيَّةِ في الحرم، وباب قتل الحِدَاةِ في الحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 163/ 5، 165. وابن ماجه، في: باب ما يقتل المحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1031. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 122، 164.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُطْلَقَ ذِكْرِ الغُرابِ في الحديثِ الآخَرِ، ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على العُمُومِ، بدَلِيلِ أنَّ المُباحَ مِن الغِرْبانِ لا يَحِلُّ قَتْلُه. ولَنا، ما رَوَتْ عائشَةُ، رَضِيَ اللهُ عنها، قالَتْ: أمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِ خَمس فَواسِقَ في الحَرَمِ؛ الحِدَأةُ، والغُرابُ، والفَأْرَةُ، والعَقْرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ. وعن ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ جُنَاحٌ في قَتْلِهِنَّ». وذَكَر مثلَ حديثِ عائشَةَ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وهذا عامٌّ في الغُرابِ، وهو أَصَحُّ مِن الحديثِ الآخَرِ. ولأنَّ غُرابَ البَيْنِ مُحَرَّم الأكْلِ، يَعْدُو على أمْوالِ النّاس، ولا وَجْهَ لإخْراجِه مِن العُمُومِ. وفارَقَ ما أُبِيحَ أكْلُه، فإنَّه ليس في مَعْنى ما أُبِيحَ قَتْلُه، فلا يَلْزَمُ مِن تَخْصِيصِه تَخْصِيصُ ما ليس في مَعْناه. القِسْم الثّانِي مِن المُحَرَّمِ أكلُه، ما كان طَبْعُه الأَذَى، وإن لم يُوجَدْ منه أذًى؛ كالأسَدِ، ¬

(¬1) الأول أخرجه البخارى، في: باب ما يقتل المحرم من الدواب، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى 3/ 17. ومسلم، في: باب ما يندب للمحرم. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 856، 857. كما أخرجه النسائى، في: باب ما يقتل المحرم من الدواب، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 148. وابن ماجه، في: باب ما يقتل المحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 1031/ 2. والثاني أخرجه البخارى، في: باب ما قتل المحرم من الدواب، من كتاب المحصر وجزاء الصيد: صحيح البخارى 3/ 17. ومسلم، في: باب ما يندب للمحرم. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 856 - 859. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما قتل المحرم من الدواب، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 428. والنسائي، في: باب ما يقتل المحرم من الدواب، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 147، 149. والإمام مالك، في: كتاب ما قتل المحرم من الدواب، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 356. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 8، 32، 37، 48، 50، 52، 54، 65، 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّمِرِ، والفهْدِ، والذِّئْبِ، وما في مَعْناه، فيُباحُ قَتْلُه ايضُاً , ولا جَزاء فيه. قال مالكٌ: الكَلْبُ العَقُور، ما عَقَر النّاسَ وعَدا عليهم، مِثلَ الأسَدِ، والذِّئْبِ، والنَّمِرِ، والفهْدِ. فعلى هذا يُباحُ قَتْلُ كلِّ ما فيه أذًى للنّاسِ في أنفُسِهم وأمْوالهِم، مِثْلَ سِباعِ البَهائِمِ كلِّها، الحَرام أكْلُها، وجَوارِحِ الطَّيْرِ؛ كالبازِيِّ، والصَّقْرِ، والشّاهِينِ، والعُقابِ، ونحوِها، والحشَراتِ المُؤْذِيَة، والزُّنْبُورِ، والبَقِّ، والبَعُوضِ، والبَراغِيثِ، والذُّبابِ. وبه قال الشَّافعيُّ. وقال أصْحابُ الرايِ: يُقْتَلُ ما جاء في الحديثِ، والذِّئْبُ قِياسًا عليه. ولَنا، أنَّ الخَبَرَ نَصَّ مِن كلِّ جِنْسٍ على صُورَةٍ مِن أدْناه؛ تَنْبِيهًا على ما هو أعْلَى منها، ودَلالَةً على ما كان في مَعْناها، فنَصُّه على الغُرابِ والحِدَأةِ تَنْبِيهٌ على البازِيِّ ونحوِه، وعلى الفَارَةِ تَنْبِيهٌ على الحَشراتِ، وعلى العَقْرَبِ تَنْبية على الحَيَّة، وقد ذُكِرَتْ في بعضِ الأحاديثِ، وعلى الكَلْبِ العَقُورِ تَنْبيهٌ على السِّباعِ التي هي أعْلَى منه، ولأنَّ ما لا يُضْمَنُ بقِيمَتِه ولا مِثْلِه، لا يُضْمَنُ بشئٍ، كالحَشراتِ. القِسْمُ الثّالِثُ مِن المُحَرَّمِ الأكْلِ، ما لا يُؤْذِي بِطبعِه، كالرَّخَمِ، والدِّيدانِ، فلا أثَرَ للحرَمِ ولا للإحْرامِ فيه، ولا جَزَاءَ فيه إن قَتَلَه. وبه قال الشافعيّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالكٌ: يحرُمُ قَتْلُها، فإن قَتَلَها فَداها، وكذلك كل سَبُعٍ لا يَعْدُو على النّاسِ. فإذا وَطِئَ الذُّبابَ، أو النَّمْلَ، أو الذَّرَّ، أو قَتَل الزُّنبُورَ، تَصَدَّقَ بشَئٍ مِن الطَّعام. وقال ابنُ عَقِيل: في النَّمْلَةِ لُقْمَةٌ أو تَمْرَةٌ إذا لم تُؤْذِه. ويَتَخَرَّجُ في النًّحْلَةِ مثلُ ذلك؛ لأنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قتل النَّمْلَةِ والنَّحْلَةِ (¬1). وحَكَى ابنُ أبي موسى: في الضِّفْدَعِ حُكُومَةٌ. ولَنا، أنَّ الله سُبْحانَه إنَّما أوْجَبَ الجَزاءَ في الصَّيْدِ، وليس هذا بِصَيْدٍ. قال بعضُ أهْلِ العِلْمِ: الصَّيدُ ما جَمَع ثلاًثةَ أشْياءَ؛ أنْ يَكُونَ مُباحاً مُمْتَنِعًا (¬2). ولأنَّه لا مِثْلَ له ولا قِيمَةَ، والضَّمَانُ إنّما يَكُونُ بأحَدِ هذين ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في قتل الذَّرِّ، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 656. وابن ماجه، في: باب ما يُنهى عن قتله، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1074. والدارمي، في: كتاب النهى عن قتل الضفادع والنحلة، من كتاب الأضاحى. سنن الدَّارميّ 2/ 89. والإمام مالك، في: باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو. من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 448. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 332، 347. (¬2) ذكر هنا شيئين وزاد عليهما صاحب المغني: وحشيا. المغني 5/ 177.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بأسَ من أن يُقَرِّدَ المُحْرِمُ بَعِيرَه. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، رَضىَ الله عنهما، أنَّه قَرَّدَ بَعِيرَه بالسُّقْيَا (¬1)، أي نَزَع القُرادَ (¬2) عنه، فرَماه. وهذا قولُ ابن عباسٍ، وجابِرِ بنِ زَيْدٍ (¬3)، وعَطاءٍ. وقال مالكٌ: لا يَجُوزُ. وكَرِهَه عِكْرِمَةُ. ولَنا، أنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ، ولأنَّه مُؤْذٍ فأبِيحَ قَتْلُه، كالحَيَّه والعَقْرَبِ. فصل: فأمّا القَمْلُ، ففيه روايَتان؛ إحْداهما، إباحَةُ قَتْلِه؛ لأنَّه مِن ¬

(¬1) السقيا: منزل بين مكة والمدينة، قيل: هي على يومين من المدينة. (¬2) القُراد: دويبة متطفلة، تعيش على الدواب والطيور، وتمتص دمها. (¬3) في الأصل: «يزيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثرِ الهَوامِّ أذًى، فأُبِيحَ قَتْلُه، كالبَراغِيثِ، وسائِرِ ما يُؤْذِي. والثّانِيَةُ، أنَّ قَتْلَه مُحَرَّم. وهو ظاهِرُ كَلام الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه يَتَرَفَّهُ بإزالَتِه، فَحُرِّمَ، كقَطْع الشَّعَرِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى كَعْبَ بنَ عُجْرَةَ والقَمْلُ يَتَناثَرُ على وَجْهِه، فقالَ له: «احْلِقْ رَأسَك» (¬1). فلو كان قَتْلُ القَمْلِ وإزالته مُباحًا لم يَكُن كَعبٌ ليَتْرُكَه حتَّى يَصِيرَ كذلك، ولكانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه بإزالَتِه خاصَّة. والصِّئبانُ كالقَمْلِ؛ لأنَّه بَيْضُه، ولا فَرْقَ بينَ قَتْلِ القَمْل ورَمْيه، أو قَتْلِه بالزِّئبَقِ، لحُصُولِ التَّرَفُّهِ به. قال القاضي: إنَّما الرِّوايَتان فيما أَزالَه مِن شَعَرِه، أمّا ما ألْقاه مِن ظاهِرِ بَدَنِه وثَوْبِه، فلا شئَ فيه، رِوايَةً واحِدَةً. وظاهِرُ كَلامِ شيخِنا ههُنا يَقْتَضِي العُمُومَ. ويَجُوزُ له حَكُّ رَاسِه برِفْقٍ؛ كَيْلا يَقْطَعَ شَعَرًا، أو يَقْتُلَ قَمْلاً، فإن حَكَّ فرَأى في يَدِه شَعَرًا اسْتُحِبَّ له أن يَفدِيَه (¬2) احْتِياطًا, ولا يَجِبُ حَتى يَسْتَيْقِنَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 145. (¬2) في م: «يعيده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَفَلَّى المُحْرِمُ، أو قَتَل قَمْلاً، فلا فِدْيَةَ فيه، فإنَّ كَعْبَ ابنَ عُجْرَةَ حينَ حَلَق رَأْسَه قد أذْهَبَ قَمْلاً كَثِيرًا، ولم يَجِبْ عليه لذلك شيئٌ، إنَّما أوْجَبَ الفِدْيَةَ بحَلْقِ الشَّعَرِ، ولأنَّ القَمْلَ لا قِيمَةَ له، فأشْبَهَ البَعُوضَ والبَراغِيثَ، ولأنَّه ليس بصَيْدٍ، ولا هو مَأكُول. حُكِيَ عن ابن عُمَرَ، قال: هي أهْوَنُ مَقْتُول. وسُئلَ ابنُ عباس، عن (¬1) مُحْرِم ألْقَى قَمْلَةً، ثم طَلَبَها فلم يَجِدْها، قال: تلك (¬2) ضالَّة لا تُبْتَغَى. وهذا قولُ طاووسٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعطَاءٍ، وأبِي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ -في مَن قَتَل قَمْلَةً- قال: يُطْعِمُ شَيْئًا. فعلى هذا، أيُّ شئٍ تَصَدَّقَ به أجْزَأهُ، سَواءٌ قَتَل قَلِيلاً أو كثيرًا. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْيِ. وقال إسْحاقُ: تَمْرَةٌ فما فَوْقَها. وقال مالكٌ: حَفْنَة مِن طَعامٍ. ورُوِي ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وهذه الأقْوالُ كلُّها قَرِيبٌ مِن قَوْلِنا، فإنَّهُم لم يُرِيدُوا بذلك التَّقْدِيرَ، وإنَّما هو على التَّقْرِيبِ لأقَلِّ ما يُتَصَدَّقُ به. ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في م: «مالك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخِلافُ إنَّما هو في قَتْلِه للمُحْرِمِ، أمّا في الحَرَمِ فيُباحُ قَتْلُ القَمْلِ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه إنَّما حُرِّمَ في حَقِّ المُحْرِمِ؛ لِما فيه مِن التَّرَفُّهِ، فهو كقَطْعِ الشَّعَرِ,، ومَن كان في الحَرَمِ غيرَ مُحرِمٍ، فمُباحٌ له قَطْعُ الشَّعَرِ، وتَقْلِيم الأظْفارِ، والطِّيبُ، وسائرُ ما يُتَرَفَّهُ به. فصل: ولا بَأسَ بغسْلِ المُحْرِمِ رَأْسَه وبَدَنَه برِفْقٍ. فَعَل ذلك عُمَرُ، وابْنُه، ورَخَّصَ فيه علىٌّ، وجابِرٌ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. وكَرِه مالك للمُحْرِمِ أن يَغْطِسَ في الماءِ، ويُغيِّبَ فيه رَأسَه، ولَعَلَّه ذَهَب إلى أنَّ ذلك سِتْرٌ له. والصَّحِيحُ أَنَّه لا بَأْسَ بذلك؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ذلك ليس بسِتْرٍ، ولهذا لا يَقُومُ مَقامَ السُّتْرَةِ في الصلاةِ. وقد رُوِيَ عن ابنِ عباس، قال: رُبَّما قال لي عُمَرُ ونحن مُحْرِمُون بالجُحْفَةِ: تعالَ أُباقِيك (¬1) أيُّنا أطْوَلُ نَفَسًا في الماءِ. رَواه سعيد (¬2). ولأنّه ليس بسِتْرٍ مُعْتادٍ، وأشْبَهَ صَبَّ الماءِ عليه، ووَضْعَ يَدِه عليه. وقد روَى عبد اللهِ بنُ حُنَيْنٍ، قال: أرْسَلَنِي ابنُ عباسٍ إلى أبِي أَيوبَ الأنْصارِيِّ، فأتَيْتُه وهو يَغْتَسِلُ، فسَلَّمْتُ عليه، فقالَ: مَن هذا؟ فقلتُ (¬3): أنا عبد اللهِ بنُ حُنَيْنٍ، أرْسَلَنِي إليك عبد اللهِ بنُ عباس لم يَسْألك: كيف كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأسَه وهو مُحْرمٌ. فوَضَعَ أبو أيُّوبَ يَدَه على الثوْبِ، فطَأْطَأه حتَّى بَدا لي رَأسُه، ثم قال لإنْسانٍ يَصُبُّ عليه الماءَ: صُبَّ. فصَبَّ على ¬

(¬1) يعني: ننظر أينا أبقى. (¬2) أخرجه البيهقي في: باب الاغتسال بعد الإحرام، من كتاب الحج. السنن الكبرى 63/ 5. (¬3) في الأصل: «فقال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأْسِه، ثم حَرَّكَ رَأْسَه بيَدَيْه، فأقْبَلَ بهما وأدْبَرَ، ثم قال: هكذا رَأَيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يفْعَلُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فصل: ويُكْرَهُ له غَسْلُ رَأَسِه بالسِّدْرِ والخِطْمِيِّ (¬2) ونحوِهما؛ لِما فيه من إزالَةِ الشَّعَثِ، والتعَرُّضِ لقَطْع الشعَرِ. وكَرِهَه جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرأيِ. فإن فَعَل فلا فِدْيَةَ عليه. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْر، وابن المُنْذِرِ. وعن أحمدَ رَحِمَه اللهُ: عليه الفِدْيَةُ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الاغتسال للمحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى. 3/ 20. ومسلم، في: باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 864. كما أخرجه أبو داود، في: باب المحرم يغتسل، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 426، 427. والنَّسائيّ، في: باب غسل المحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 98/ 5. وابن ماجه، في: باب المحرم يغسل رأسه، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 978، 979. والدارمي، في: باب الإغتسال في الإحرام، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 30. والإمام مالك، في: باب غسل المحرم، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 323. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 421. (¬2) الخطْمِيُّ، بفتح الحاء وكسرها: نبات من الفصيلة الخبازية، يدق ورقه يابساً، ويجعل غسلاً للرأس فينقِّيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال صاحِباه: عليه صَدَقَةٌ؛ لأنَّ الخِطْمِيَّ يُسْتَلَذُّ بِرائِحَتِه، ويُزيلُ الشَّعَثَ، ويَقْتُلُ الهَوامَّ، فوَجَبَتْ به الفِدْيَةُ، كالوَرْس. ولَنا، أنًّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال، في المُحْرِمِ الذي وقَصَه بَعِيرُه: «اغْسِلُوُه بمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ؛ فإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيا». مُتَّفقٌ عليه (¬1). فأمَرَ بِغَسْلِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسِّدْرِ، مع إثْباتِ حُكْمِ الإحْرامِ في حَقِّه، والخِطْمِىُّ كالسِّدْرِ. ولأنَّه ليس بطِيبٍ، فلم تَجِبِ الفِدْيَةُ باسْتِعْمالِه، كالتُّرابِ. وقَوْلُهم: تُسْتَلَذُّ رائِحَتُه. مَمْنُوعٌ، ثم يبطُلُ بالفاكِهَةِ وبعضِ التُّرابِ. وإزالَةُ الشعَثِ يَحْصُلُ بذلك أَيضًا. وقَتْلُ الهَوامِّ لا يُعْلَمُ حُصُولُه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الوَرْس؛ لأنه طِيبٌ. ولذلك لو اسْتَعْمَلَه في غيرِ الغسْلِ، أو في ثَوْبِه، مُنِعَ منه، بخِلافِ مسْألتِنا.

1207 - مسألة: (ولا يحرم صيد البحر على المحرم، وفي إباحته في الحرم روايتان، لا يحرم صيد البحر على المحرم، بغير خلاف، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة}

وَلا يَحْرُمُ صَيْدُ الْبَحْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَفِي إبَاحَتِهِ في الْحَرَمِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1207 - مسألة: (ولا يَحْرُمُ صَيْد البَحْرِ على المُحْرِمِ، وفي إباحَتِه في الحَرَمِ رِوايَتان، لا يَحْرُمُ صَيْدُ البَحْرِ على المُحْرم، بغيرِ خِلافٍ، لقَوْلِه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْد الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬1). قال ابنُ عباس، وابنُ عُمَرَ: طَعامُه ما ألْقاه. وعن ابنِ عباس: طعامُه مِلْحُه. ولا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ في جَوازِ أكْلِه وبَيْعِه وشِرائه. ولا فَرْقَ بينَ حَيَوانِ البَحْرِ المِلْحِ، وبينَ ما في الأنْهارِ والعُيُونِ، فإنَّ اسم البَحْرِ يَتَناوَلُ الكلَّ، قال اللهُ سُبحانَه: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬2). ولأنَّ الله تعالى قابَلَه بصَيْدِ البَرِّ بقَولِه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ}. فدَلَّ على أن ما ليس مِن صَيْدِ البَرِّ فهو مِن صَيْدِ البَحْرِ. ¬

(¬1) سورة المائدة 96. (¬2) سورة فاطر 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَيَوان البَحْرِ ما كان يَعِيشُ في الماءِ، ويُفْرِخُ فيه، ويَبِيضُ فيه. فإن كان مما لا يَعِيشُ إلَّا في الماءِ، كالسَّمَكِ ونحوِه، فهذا لا خِلافَ فيه، وإن كان ممّا يَعِيشُ في البَرِّ، كالسُّلَحْفاةِ، والسَّرَطانِ، فهو كالسَّمَكِ، لا جَزاءَ فيه. وقال عَطاءٌ: فيه الجَزاءُ، وفي الضِّفْدَعِ، وكلِّ ما يَعِيشُ في البَرِّ. ولَنا، أنه يفرِخُ في الماءِ، ويَبِيضُ فيه، فكانَ مِن حَيَوانِه، كالسَّمَكِ. فأمّا طَيْرُ الماءِ، ففيه الجَزاءُ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الأوْزاعِي، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأيِ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا غيرَ ما حُكِيَ عن عَطاء، أنَّه قال: حَيْثُما يَكُونُ أكْثَرَ فهو مِن صَيدِه. ولَنا، أنَّه إنَّما يُفْرِخُ في البَرِّ، ويَبيضُ فيه، وإنَّما يدخلُ الماءَ ليَتَعَيَّشَ فيه، ويَكْتَسِبَ منه، فهو كصَيَّادِ الآدَمِيِّين. فإن كان جنْسٌ مِن الحَيَوانِ، نَوْعٌ منه في البَرِّ، ونَوْعٌ منه في البَحْرِ، كالسلَحْفاةِ، فلِكلِّ نَوْعٍ حُكْمُ نَفْسِه، كالبَقَرِ، منها الوَحْشِيُّ مُحَرَّمٌ، والأهْلِيُّ مُباحٌ. فصل: وهل يُباحُ صَيْدُ البَحْرِ في الحَرَمِ؟ فيه رِوايَتان؛ أصَحُّهما،

1208 - مسألة: (ويضمن الجراد بقيمته، فإن انفرش في

وَيَضْمَن الجَرَادَ بِقِيمَتِهِ، فَإنِ انْفَرَشَ في طَرِيقِهِ، فَقَتَلَهُ بِالْمَشْىِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنَّه لا يُباحُ، فلا يَحِلُّ الصيدُ مِن آبارِ الحَرمِ وعُيُونِه، كَرِهَه جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، رَضِيَ الله عنه؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» (¬1). ولأنّ الحُرْمَةَ تَثْبُتُ للصيدِ بحُرْمَةِ المَكانِ، وهو شامِلٌ لكلِّ صَيْدٍ. والثانيةُ، أنَّه مُباحٌ؛ لأنَّ الإحْرامَ لا يُحَرِّمُه، فلم يُحَرِّمْه الحَرَمُ، كالسِّباعِ، والحَيَوانِ الأهْلِيِّ. 1208 - مسألة: (ويَضْمَن الجَرادَ بقِيمَتِه، فإن انْفَرَش في ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الإذخر. . . .، من كتاب الجنائز، وفي: باب فضل الحرم. . . .، وباب لا يحل القتال بمكة. . . .، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفي: باب ما قيل في الصواغ. . . .، من كتاب البيوع، وفي: باب كيف تعرف لقطة. . . .، من كتاب اللقطة، وفي: باب إثم الغادر للبر والفاجر، من كتاب الوصايا. صحيح البخارى 2/ 115، 116، 181، 3/ 18، 79، 164، 4/ 127. ومسلم، في: باب تحريم مكة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 986. كما أخرجه النسائى، في: باب حرمة مكة، وباب تحريم القتال، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 2/ 160، 161. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 253، 259، 315، 316، 318.

عَلَيْهِ، فَفِي الْجَزَاءِ وَجْهَانِ. وَعَنْهُ، لا ضَمَانَ في الْجَرَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَرِيقه، فقَتَلَه بالمَشْيِ عليه، ففي الجَزاءِ وَجْهان. وعنه، لا ضَمانَ في الجَرادِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الجَرادِ، فعنه، هو مِن (¬1) صَيْدِ البَحْرِ، لا جَزاءَ فيه. وهو مَذْهَبُ أبي سعيدٍ. قال ابن المُنْذِرِ: قال ابنُ عباسٍ، وكَعْبٌ: هو مِن صَيْدِ البَحْرِ. قال عُرْوَةُ: هو مِن نثرةِ حُوتٍ. ورُوِيَ عن أبِي هُرَيرةَ، قال: أصابَنا ضَرْبٌ مِن جَرادٍ، فكانَ الرجُلُ مِنّا يَضْرِبُ بِسَوْطِه وهو مُحْرِمٌ. فقِيلَ له: إنَّ هذا لا يَصْلُحُ. فذُكِرَ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: «إنَّ هذَا مِنْ صيدِ الْبَحْرِ». وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الجَرَادُ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ». رَواهما أبو داودَ (¬2). والرِّوايَة الثّانِيَة، أنَّه مِن صَيْدِ البَرِّ، وفيه الجَزاءُ. وهو قول الأكْثَرِين؛ لما رُوِيَ أن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، قال لكَعْبٍ في جَرادَتَيْن: ما جَعَلْتَ في نَفْسِك؟ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب في الجراد للمحرم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 429. كما أخرج الأول الترمذي، في: باب ما جاء في صيد البحر للمحرم، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 83. وابن ماجه، في: باب صيد الحيتان والجراد. من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1074.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال دِرْهمان. قال: بَخٍ، دِرْهمان خَيْرٌ مِن مائَةِ جَرادَةٍ. رَواه الشافعيُّ في «مُسْنَدِه» (¬1). ولأنَّه طَيْرٌ يُشاهَدُ طَيَرانُه في البَرِّ، ويُهْلِكُه الماءُ إذا وَقَع فيه، أشْبَهَ العَصافِيرَ. فأمّا الحديثان اللَّذان ذَكَرْناهما للرِّوايةِ الأولَى، فوَهْمٌ. قاله أبو داودَ. فعلى هذا يَضْمَنُه بقِيمَتِه؛ لأنَّه لا مِثْلَ له. وهذا قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ: يَتَصَدَّقُ بتَمْرَةٍ عن الجَرادَة. وهذا يُرْوَى عن عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ. وقال ابنُ عباسٍ: قَبْضَة مِن طَعامٍ. قال القاضي: كَلامُ أحمدَ وغيرِه مَحْمُولٌ على أنَّه أوْجَبَ ذلك على طَرِيقِ القِيمَةِ. والظّاهِرُ أنَّهم لم يُرِيدُوا بذلك التقْدِيرَ، وإنَّما أرادُوا أنَّ (¬2) فيه أقلَّ شئٍ. فصل: فإنِ افْتَرَش الجَرادُ في طَرِيقه، فقَتَلَه بالمَشْيِ عليه، بحيثُ لا ¬

(¬1) في: باب ما يباح للمحرم وما يحرم. . . .، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعي 327/ 1. (¬2) سقط من: م.

1209 - مسألة: (ومن اضطر إلى أكل الصيد، أو احتاج

وَمَنِ اضْطرُّ إِلَى أكلِ الصَّيْدِ، أوِ احْتَاجَ إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ، فَلَهُ فِعْلُهُ، وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُه التَّحَرُّزُ منه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَجِبُ جَزاؤه؛ لأنَّه أتْلَفَه لِنَفْعِ نَفْسِه، فضَمِنَه، كالمُضطَرِّ يَقْتُلُ صَيْدًا يَأْكُلُه. والثّانِي، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه اضْطَرَّه إلى إتْلافِه، أشْبَهَ الصّائِلَ عليه. 1209 - مسألة: (ومَنِ اضْطُرَّ إلى أكْلِ الصَّيْدِ، أوِ احْتاجَ (¬1) إلى شئٍ مِن هذه المَحْظُوراتِ، فله فِعْلُه، وعليه الفِداءُ) إذا اضْطُرَّ إلى أكْلِ ¬

(¬1) في م: «واحتاج»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّيْدِ، أُبِيحَ له ذلك، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لقَوْلِه سُبْحانَه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). وتَرْك الأكْلِ مع القُدْرَةِ عندَ الضَّرُورَةِ، إلْقاءٌ بيَدِه إلى التَّهْلُكَةِ. ومتى قَتَلَه لَزِمَه ضَمانُه، سَواءٌ وَجَد غيرَه أو لم يَجِدْ. وقال الأوْزاعِيُّ: لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه مُباحٌ، أشبهَ صَيْدَ البَحْرِ. ولَنا، عُمُومُ الآية، ولأنَّه قَتَلَه مِن غيرِ مَعْنى حَدَث مِنَ الصيدِ يَقْتَضِي قتلَه، فضَمِنَه كغيرِه، ولأنَّه أتلَفَه لدَفْع الأَذَى عن نَفْسِه، لا لمَعْنى منه، أشْبَهَ حَلْقَ الشَّعَرِ لاذى برَاسِه. وكذلك إنِ احْتاجَ إلى حَلْقِ شَعَرِه للمَرَض أو القَمْلِ [أو قَطْع] (¬2) شَعَرِه لمُداواةِ جُرْح أو نحوِه، أو تَغطِيَة رَأَسِه، أو لُبْس المَخِيطِ، أو شئٍ مِن المَحْظُوراتِ، فله فِعْلُه، كما جاز حَلْقُ رَأْسِه للحاجَةِ، فإن فَعَلَه فعليه الفِدْيَةُ؛ لأن الفِدْيَةَ تَثْبُتُ في حَلْقِ الرَّأْسِ للعُذْرِ؛ للحاجة، وحديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، وقِسْنا عليه سائرَ المَحْظُوراتِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 194. (¬2) في م: «وقطع».

فَصْلٌ: السَّابع، عَقْد النِّكَاحِ لا يَصِحُّ مِنْهُ. وَفِي الرَّجْعَةِ رِوَايَتَانِ. وَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ في شَيءٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه الله: (السّابع، عَقْدُ النِّكاحِ لا يَصِحُّ منه. وفى الرَّجْعَةِ رِوايَتان. ولا، فِدْيَةَ عليه في شئٍ منهما) لا يَجُوزُ للمُحْرِمِ أن يَتَزَوَّجَ لنَفْسِه، ولا يَكُونُ وَلِيًّا في النِّكاحِ، ولا وَكِيلاً فيه، ولا يَجُوزُ تَزْوِيجُ المُحْرِمَةِ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وابْنِه، وزَيْدِ بنِ ثابِتٍ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال سعيدُ بن المُسَيَّب، وسُلَيْمانُ بنُ يسارٍ، والزُّهْرِىُّ، والأوْزاعِيُّ، ومالك، والشافعىُّ. وأجازَه ابنُ عباسٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قول أبِي حنيفةَ؛ لِما روَى ابنُ عباس، أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوجَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ. مُتفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه عَقْدٌ يَمْلِكُ به الاسْتِمْتاعَ، فلم يُحَرِّمْه الإحْرامُ، كشِراءِ الإماء. ولَنا، ما روَى عثمانُ بنُ عَفانَ، رَضىَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَنْكِح المُحْرِمُ، وَلا يُنْكِحُ، وَلا يَخْطُبُ». رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّ الإحْرامَ يُحَرم الطِّيبَ، فيُحَرِّم النِّكاحَ، كالعِدَّةِ. فأمّا حديثُ ابن عباس، فقد روَى يزيدُ بن الأصَمِّ، عن مَيْمُونةَ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب تزويج المحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفي: باب عمرة القضاء. . . .، من كتاب المغازي. صحيح البخارى 3/ 19، 5/ 181. ومسلم، في: باب تحريم نكاح المحرم. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1031، 1032.كما أخرجه أبو داود، في: باب المحرم يتزوج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 427. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الرخصة في ذلك (تزويج المحرم)، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 72. والنسائي، في: باب الرخصة في النكاح للمحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 150. والدارمي، في: باب تزويج المحرم، من كتاب المناسك، سنن الدارمي 2/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 245/ 1، 266، 275، 283، 285، 286، 330، 336، 346، 354، 360. (¬2) في: باب تحريم نكاح المحرم، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1030، 1031. كما أخرجه أبو داود، في: باب المحرم يتزوج، من كتاب المناسك، سنن أبي داود 1/ 427. والنَّسائيّ، في: باب النهى عن ذلك (النكاح للمحرم)، من كتاب مناسك الحج، وفي: باب النهي عن نكاع المحرم، من كتاب النكاح. المجتبى 151/ 5، 6/ 73 وابن ماجه، في: باب المحرم يتزوج، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 632/ 1. والإمام مالك، في: باب نكاح المحرم، من كتاب الحج. الموطأ 348/ 1 , 349. والإمام أحمد، في: المسند 57/ 1، 64، 65، 68، 73. وانظر ما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 71/ 1. والدارمي، في: باب تزوج المحرم، من كتاب المناسك، وفي: باب في نكاح المحرم. من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 37، 38، 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِيَ الله عنها، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَها حَلالاً، وبَنَى بها حَلالاً، وماتَتْ بسَرِفٍ، في الظُّلَّةِ التي بَنَى بها فيها. رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ (¬1). وعن أبِي رافِعٍ، قال: تَزَوَّجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ وهو حَلالٌ، وبَنَى بها وهو حَلالٌ، وكنت أنا الرسول بينهما (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وميمونة أعلم بحال نفسها، وأبو رافع صاحب القصة، وهو السَّفِيرُ فيها، فهما أعْلَمُ بذلك مِن ابنِ عباسٍ، وأوْلَى بالتَّقْدِيمِ لو كان ابنُ عباسٍ كَبِيرًا، فكيفَ وقد كان صَغِيرًا لا يَعْرِفُ حَقائقَ الأُمُورِ. وقد أُنْكِرَ عليه هذا القولُ، فقالَ سعيدُ بن المُسَيبِ: وَهِمَ ابنُ عباسٍ، ما تَزَوَّجَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا حَلالاً. فكيف يُعْمَلُ بحديثٍ هذا حالُه؟ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب المحرم يتزوج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 427. كما أخرجه مسلم، في: كتاب تحريم نكاح المحرم، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1032. والترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في ذلك، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 74. وابن ماجه، في: باب المحرم يتزوج، من كتاب النكاح، سنن ابن ماجه 1/ 632. والدارمي، في: باب في تزويج المحرم , من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 38.، والإمام أحمد، في: المسند 6/ 332. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 71. والدارمي، في: باب في تزويج المحرم، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 38. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 392، 393.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِه: وهو مُحْرِمٌ. أي في الشَّهْرِ الحَرامِ، أو في البَلَدِ الحَرام، كما قِيلَ: * قتلُوا ابنَ عَفّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِماً * (¬1) وقِيلَ: تَزَوَّجَها حَلالاً وظهَرَ (¬2) أمْرُ تَزْوِيجِها وهو مُحْرِمٌ. ثم لو تَعارَضَ الحديثان، كان تَقْدِيمُ حديثنا أوْلَى؛ لأنَّه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فِعْلُه، والقولُ آكَدُ؛ لأنه يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ مُخْتَصًّا بما فَعَلَه. وعَقْدُ النِّكاحِ يُخالِفُ شراءَ الأمَةِكما لأنَّه يَحْرُمُ بالعِدَّةِ والرِّدَّةِ واخْتِلافِ الدِّينِ، وكَوْنِ المَنْكُوحَةِ أُخْتًا له مِن الرَّضاعِ، ولأنَّ النِّكاحَ إنّما يُرادُ للوَطْءِ غالِبًا، بخِلافِ الشِّراءِ، فإنّه يرادُ للخِدْمَةِ والتِّجارَةِ، وغيرِ ذلك، فافْتَرَقا. ¬

(¬1) صدر بيت للراعى النميرى، عجزه: * ودعا قلم أرَ مثْلَه مخزولا * شعر الراعي النميرى وأخباره 144. (¬2) في م: «أظهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَكَّلَ المُحْرِمُ حَلالاً في النِّكاحِ، فعَقَدَ له النِّكاحَ بعدَ تَحَلُّلِ المُوكِّلِ، صَحَّ العَقْدُ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بحالَةِ العَقْدِ. وإن وَكَّلَه وهو حَلالٌ، فلم يَعْقِدْ له العَقْدَ حتَّى أحْرَمَ، لم يَصِحَّ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن أحْرَمَ الإمامُ الأعْظَمُ مُنِعَ مِن التَّزوِيجِ، لنَفْسِه، وتَزْوِيجِ أقارِبِه، وهل يُمْنَعُ مِن أن يُزَوِّجَ بالوِلاية العامّةِ؛ فيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، يُمْنَعُ، كما لو باشَرَ العَقْدَ. والثّانِي، لا يُمْنَعُ؛ لأنَّ فيه حَرَجاً على النّاس، وتَضْيِيقاً عليهم في سائِرِ البِلادِ؛ لأنَّ مَن يُزَوَّجُ مِن الحُكّام إنَّما يُزَوِّجُونَه بإذْنِه ووِلايته. ذَكَر ذلك ابنُ عَقِيلٍ، واخْتارَ الجَوازَ؛ لأنَّه حالَ ولايَتِه كان حَلالاً، والاسْتِدامَةُ أقوَى مِن الإبتداءِ؛ لأنَّ الإمامَةَ العُظْمَى مِن شَرْطِها العَدالَةُ، ولا تَبْطُلُ بالفِسْقِ الطّارِئ. فصل: وإذا وكَّلَ الحَلالُ مُحِلاًّ في النِّكاحِ، فعَقَدَ النِّكاحَ، وأحْرَمَ المُوَكِّلُ، فقالتِ الزَّوْجَةُ: وَقَع العَقْدُ بعدَ الإحْرامِ، فلم يَصِحَّ. وقال الزَّوْجُ: بل قبلَه. فالقَوْلُ قوْلُه. وإن كان الاخْتِلافُ بالعَكْسِ، فالقَوْلُ قَوْلُه أيضاً؛ لأنَّه يَمْلِكُ فَسْخَ العَقْدِ، فمَلَكَ الإقْرارَ به، لكنْ يَجِبُ عليه نِصْفُ الصَّداقِ. فصل: فإن تزَوَّجَ، أو زَوَّجَ، أو زُوِّجَتِ المُحْرِمَةُ، لم يَصِحَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحُ، سَواءٌ كان الكلُّ مُحْرِمِين أو بعضُهم؛ لأنَّه مَنْهِىٌّ عنه، فلم يَصِحَّ، كنِكاحِ المَرْأةِ على عَمَّتِها وخالَتِها. وقال ابنُ أبِى موسى: إذا زَوَّجَ المُحرِمُ غيرَه، صَحَّ في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. ورُوِىَ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، أنَّه قال: إن زَوَّج المُحْرِمُ لم يَنْفَسِخَ النِّكاحُ. قال بعضُ أصْحابِنَا: هذا يَدُلُّ على أنَّه إذا كان الوَلِىُّ بمُفْرَدِه أو الوَكِيلُ مُحْرِماً، لم يَفْسُدِ النِّكاحُ؛ لأنَّه سَبَبٌ يُبِيحُ مَحْظُوراً للحَلالِ، فلم يَمْنَعْ منه الإِحْرامُ، كما لو حَلَق المُحْرِمُ رَأسَ حَلالٍ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ للحديثِ. وكَلامُ أحمدَ يُحْمَلُ على أنَّه لم يفسَخْه لكَوْنِه مُخْتَلَفاً فيه. قال القاضى: ويُفَرَّقُ بينَهما بطَلْقَةٍ. وكذلكَ كلُّ نِكاحٍ مُخْتَلَفٍ فيه، كالنكاحِ بلا وَلِىّ؛ ليُباحَ تَزْوِيجُها بيَقِينٍ. وفى الرَّجْعَةِ رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدٌ وُضِعَ لإباحَةِ البُضْعِ، أشْبَهَ النِّكَاحَ. والثّانِيَةُ، تَصِحُّ، وتُباحُ. وهو قولُ أكثَر أهْلِ العِلْمِ، واخْتِيارُ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّها إمْساكٌ للزَّوْجَةِ؛ لقَوْلِه تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {فأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1). ولأنَّها تَجُوزُ بلا وَلِيٍّ، ولا شُهُودٍ، ولا إذْنِها، فلم تَحْرُمْ، كإمْساكِها بتَرْكِ الطلاقِ. ولأنَّ الصَّحِيحَ مِن المَذْهَبِ أنَّ الرجْعِيَةَ مُباحَة قبلَ الرَّجْعَةِ، فلا يَحْصُلُ بها إحْلالٌ، ولو قُلْنا: إنَّها مُحَرَّمَةٌ. لم يَكُنْ ذلك مانِعًا مِن رَجْعَتِها، كالتَّكْفِيرِ للمُظاهِرِ. وهذه الرِّوايَةُ هي الصَّحِيحَةُ إن شاءَ اللهُ تعالى. ويُباحُ شِراءُ الإماءِ للتَّسَرِّي وغيرِه، ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، واللهُ أعْلَمُ. فصل: ويُكْرَهُ للمُحْرِمِ الخِطبةُ، وخِطبةُ المُحْرِمَةِ، ويُكْرَهُ للمُحْرِمِ أن يَخْطُبَ للمُحِلِّين؛ لقَوْلِه عليه السلامُ في حديثِ عثمانَ: «وَلا يَخْطُبُ» (¬2). ولأنَّه تَسَبُّبٌ إلى الحَرامِ، أشْبَهَ الإشارَةَ إلى الصَّيدِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 231. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 325.

فَصْلٌ: الثَّامِنُ، الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ، قُبُلاً كَانَ أَوْ دُبُرًا، مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ والإحْرام الفاسِدُ كالصَّحِيحِ في مَنْع النِّكاحِ، وسائرِ المَحْظُوراتِ؛ لأنَّ حُكْمَه باق في وُجُوبِ ما يَجِبُ بالاحْرامِ، فكذلك في ما يَحْرُمُ به. فصل: ويُكْرَهُ أن يَشْهَدَ في النِّكاحِ؛ لأنَّه مَعُونَةٌ على النِّكاحِ، أشْبَهَ الخِطْبَةَ. وإن شَهِد أو خَطَب، لم يَفْسُدِ النِّكاح. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: لا يَنْعَقِد النِّكاحُ بِشَهادَةِ مُحْرِمِين؛ لأنَّ في بعْضِ الرِّواياتِ: «لا يَشْهَدُ». ولَنا، انَّه لا مَدْخَلَ للشّاهِدِ في العَقْدِ، فأشْبَهَ الخَطِيبَ، وهذه الزِّيادَةُ غيرُ مَعْرُوفَةٍ، فلا يَثْبُتُ بها حُكْمٌ. ومتى تَزَوَّجَ المُحْرِمُ أو المُحْرِمَةُ، أو زَوَّج، لم يَجِبْ عليه فِدْيَةٌ؛ لأنَّه فَسَد لأجْلِ الإحْرامِ , فلم يَجِبْ به فِدْيَة، كشِراءِ الصَّيْدِ. ولا فرقَ بينَ الإحْرامِ الفاسِدِ والصَّحِيحِ فيما ذَكَرْنا؛ لأنَّه يَمْنَعُ ما يَمْنَعُه في الصَّحِيحِ، كحَلْقِ الشعَرِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، وغيرِ ذلك، كذلك التَّزْوِيجُ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللهُ: (الثّامِنُ، الجِماعُ في الفَرْجِ؛ قُبُلاً

آدَمِيّ أوْ غَيْرهِ. فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَسَدَ نُسُكُهُ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أو دُبُرًا، مِن آدَمِيّ أو غيرِه. فمتى فَعَل ذلك قبلَ التَّحَلُّلِ، فَسَد نُسُكُه، عامِدًا كان أو ساهِيًا) يَفْسُد الحَجُّ بالوَطْءِ، في الجُمْلَةِ، بغيرِ خِلافٍ. قال ابن المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ الحَجَّ لا يَفْسُدُ بإتْيانِ شئٍ في حالِ الإحْرام، إلَّا الجماعَ. والأصْلُ فيه ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، أن رجَلاً سَأله فقالَ: إنِّي وَقَعْتُ بامْرأتِي ونحنُ مُحْرِمان. فقالَ: أفْسَدْتَ حَجَّكَ، انْطَلِقْ أَنْتَ وأهْلُك مع النّاس، فاقْضُوا ما يَقْضُون، وخِلَّ إذا حَلُّوا، فإذا كان العام المُقْبِلُ فاحْجُجْ أَنْتَ وامْرأتُك، وأهْدِيَا هَدْيًا، فإن لم تجدا، فصُوما ثَلاثةَ أيَّام في الحَجِّ، وسَبْعَةً إذا رَجَعْتُم. وكذلك قال ابنُ عباسٍ، وابنُ عَمْرٍو (¬1)، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم، فكان إجماعًا. رَواه الأثْرَمُ في «سُنَنِه» (¬2). وفي حديثِ ابنِ عباس: ويَتَفَرَّقانِ مِن حيثُ يُحْرِمان، حتَّى يَقْضِيا حَجَّهما. قال ابن المُنْذِرِ: قول ابنِ عباس أعْلَى شيءٍ رُوِيَ في مَن وَطِيء في حَجِّه. ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب ما يفسد الحج، من كتاب الحج. السنن الكبرى. 167/ 5 , 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، وعَطاء، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحاب الرَّأْيِ. فصل: ومتى كان قبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ فَسَد الحَجُّ؛ سَواءٌ كان قبلَ الوُقُوفِ، أو بعدَه في قولِ الأكْثَرِين. وقال أبو حنيفةَ، وأصْحابُ الرَّأْيِ: إن جامَعَ قبلَ الوُقُوفِ فَسَد حَجُّه، وإن جامَعَ بعدَه لم يَفسُدْ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» (¬1). ولأنَّه مَعْنًى يأمَنُ به الفَواتَ، فأمِنَ به الإفْسادَ، كَالتَّحلُّلِ. ولَنا، قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابَةِ، فإنَّ قَوْلَهم مُطْلَقٌ (في مَن) (¬2) جامَعَ وهو مُحْرِمٌ، ولأنَّه جِماعٌ صادَفَ إحْرامًا تامًّا، فأفْسَدَه، قبلَ الوُقوفِ. وقَوْلُه عليه السّلامُ:، «الْحَجُّ عَرَفَةُ». يَعْنِي: مُعْظَمُه، أو أنَّه رُكْنٌ مُتَأكَّدٌ فيه. ولا يَلْزَمُ مِن أمْنِ الفَواتِ أمْنُ الفَسادِ؛ بدَلِيلِ العُمْرَةِ. فصل: ولا فَرْقَ بينَ الوَطْءِ في القُبُلِ والدُّبُرِ، مِن آدَمِيٍّ أو بَهِيمَةٍ. وبه قال الشافعىُّ، وَأبو ثَوْرٍ. ويَتَخَرَّجُ في (¬3) وَطْءِ البَهِيمَةِ أنَّه لا يُفْسِدُ الحَجَّ، إذا قُلْنا: لا يَجِبُ به الحَدُّ. وهو قولُ مالكٍ، وأبِي حنيفةَ؛ لأنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 181. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُوجِبُ الحَدَّ، أشْبَهَ الوَطْءَ دُونَ الفَرْجِ. وحَكَى أبو ثَوْرٍ عن أبِي حنيفةَ، أن اللِّواطَ والوَطْءَ في دُبُرِ المَرْأةِ لا يُفْسِد الحَج؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ به الإحْصانُ، أشبهَ الوَطْءَ دُونَ الفَرْجِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ في فرْج يُوجِبُ الغُسْلَ، فأفْسَدَ الحَجَّ، كالوَطْءِ في قُبُلِ الآدَمِيَّةِ، ويُفارِق الوَطْءَ دُونَ الفَرْجِ، فإنَّه ليس مِن الكَبَائرِ في الأجْنَبِيَّةِ, ولا يُوجِبُ مَهْراً, ولا عِدَّةً، ولا حَداً, ولا غُسْلاً، وإن أنزلَ به، فهو كمسألتِنا، في رِوايةٍ. فصل: والعَمْدُ والنِّسْيانُ فيما ذَكَرْنا سَواء. نَصَّ عليه أحمدُ، فقالَ: إذا جامَعَ أهْلَه بَطَل حَجُّهُ؛ لأنَّه شيءٌ لا يَقْدِرُ على رَدِّهِ، والشَّعَرُ إذا حَلَقَه فقد ذَهَب، لا يَقْدِرُ على رَدِّه، والصَّيْدُ إذا قَتَلَه فقد ذَهَب، لا يَقْدِرُ على رَدِّه، فهذه الثَّلاثةُ العَمْدُ والنِّسْيانُ فيها سَواء. والجاهِلُ بالتَّحْرِيمِ والمُكْرَهُ في حُكْمِ النّاسِي؛ لأنَّه مَعْذُورٌ، ومِمّن قال: إنَّ عَمْدَ الوَاطِئ (¬1) ونِسْيانَه سَواءٌ. أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ في القَدِيمِ، وقال في الجَدِيدِ: لا يَفْسُد الحَجُّ، ولا يَجِبُ عليه مع النِّسْيانِ شيءٌ. وحَكَى ابنُ عَقِيل في الفُصُولِ رِوايَة، لا يَفْسُدُ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «عُفِيَ لِأُمَتى عَنِ الخَطَإِ وَالنِّسْيانِ» (¬2). والجَهْلُ في مَعْناه؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَجِبُ بإفْسادِها الكَفَّارَةُ، ¬

(¬1) في م: «الوطء». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فافْتَرَقَ فيها وَطْءُ العامِدِ والسّاهِي، كالصَّوْمِ. ولَنا، أنَّ الصَّحابَةَ، رَضىَ الله عنهم، لم يَستفْصِلُوا السّائِلَ عن العَمْدِ والنسْيانِ، حينَ سَألهم عن حُكْمِ الوَطْءِ، ولأنَّه سَبَب يَتَعَلَّقُ به وُجُوبُ القَضاءِ في الحَجِّ، فاسْتَوَى عَمْدُه وسهْوُه، كالفَواتِ. والصومُ مَمْنُوعٌ. فصل: ويَجِبُ به بَدَنَةٌ، رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، وطاوسٍ، ومُجاهِدٍ، ومالكٍ، والشافعيِّ. وقال الثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ: عليه بَدَنَةٌ، فإن لم يَجِدْ فشاةٌ. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ: إن كان قبلَ الوُقُوفِ، فَسَد حَجُّه، وعليه شاةٌ، وإن كان بعدَه، فحَجُّه صَحِيحٌ؛ لأنَّه قبلَ الوُقُوفِ مَعْنًى يُوجِبُ القَضاءَ، فلم يَجِبْ به بَدَنَةٌ، كالفَواتِ. ولَنا، أنَّه جِماعٌ صادَفَ إحْرامًا تامًّا، فوَجَبَتْ به البَدَنَةُ، كبَعدِ الوُقُوفِ، ولأنَّه قولُ مَن سَميْنا مِن الصَّحابَةِ، ولم يُفَرِّقُوا بينَ ما قبلَ الوُقُوفِ وبعدَه. أمّا الفَواتُ، فهو مُفارِقٌ للجِماعِ، وأمّا فَساد الحَجِّ، فلا فَرْقَ فيه بينَ حالِ الإكْراهِ والمُطاوَعَةِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّهُم لا يُوجِبُون فيه الشاةَ، بخِلافِ الجِماعِ. فصل: وحُكْمُ المَرْأةِ حُكْمُ الرَّجُلِ في فَسادِ الحَجِّ؛ لأنَّ الجِماعَ وُجِدَ

1210 - مسألة: (وعليهما المضي في فاسده، والقضاء على الفور من حيث أحرما أولا. ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت، وإن أكرهت فعلى الزوج)

وَعَلَيْهِمَا الْمُضِيُّ في فَاسِدِهِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ حَيْث أحرَمَا اوَّلاً. وَنَفَقَةُ الْمَرأةِ في الْقَضَاءِ عَلَيْهَا إِنْ طَاوَعَتْ، وَإنْ أُكْرِهَتْ فَعَلَى الزَّوَجِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما، فاستَوَيا فيه، وحُكْمُ المُكْرَهَةِ (¬1) والنّائمَةِ حُكْمُ المُطاوِعَةِ، ولا فَرْقَ فيما بعدَ يَوْمِ النَّحْرِ وقبلَه؛ لأنَّه وَطْءٌ قبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ، أشْبَهَ قبلَ يوم النَّحْرِ. 1210 - مسألة: (وعليهما المُضِيُّ في فاسِدِه، والقَضاءُ على الفَوْرِ مِن حيثُ أحْرَما أوَّلاً. ونَفَقَةُ المَرْأةِ في القَضاءِ عليها إن طاوَعَتْ، وإن أُكْرِهَتْ فعلى الزَّوْجِ) لا يَفْسُد الحَجُّ بغيرِ الجِماعِ، فإذا فَسَد فعليه إتْمامُه، وليس له الخُرُوجُ منه. رُوِيَ ذلك عن عُمرَ، وعليّ، وأبى هُرَيرةَ، وابنِ عباسٍ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال الحسنُ، ومالكٌ: يَجْعَلُ الحَجَّةَ عُمْرَةً، ولا يُقيمُ على حَجَّةٍ فاسِدَةٍ. وقال داودُ: يَخْرُجُ بالإفْسادِ مِنِ الحَجِّ والعُمْرَةِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْس عَلَيْهِ أمْرُنَا فهُوَ رَدُّ» (¬2). ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه تعالى: ¬

(¬1) في الأصل: «المكره». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب النجش. . . .، من كتاب البيوع، وفي: باب إذا اصطلحوا على صلح. . . .، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1). ولأَّنه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفاً ولأنَّه مَعْنًى يَجِبُ به القَضاءُ، فلم يَخْرُجْ منه، كالفَوات. والخَبَرُ لا يُلْزِمُنا, لأن المُضِيَّ (¬2) فيه بأمْرِ اللهِ، وإنَّما وَجَب القَضاءُ؛ لأنَّه لم يَأتِ به على الوَجْهِ الذي يَلْزَمُه بالإحْرامِ. ونَخُصُّ مالكًا بأنَّها حَجَّةٌ لا يُمْكِنُه الخُرُوجُ منها بالإِخْراجِ (¬3)، فلا يَخْرُجُ منها إلى عُمْرَةٍ، كالصَّحِيحَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَجِبُ عليه أن يَفْعَلَ بعدَ الإفْسادِ كما يَفْعَلُ قبلَه، مِن الوُقُوفِ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، والرَّمْيِ، ويَجْتَنِبُ بعدَ الفَسادِ ما يَجْتَنِبُه قبلَه، مِن الوَطْءِ ثانِيًا، وقَتْلِ الصَّيْدِ، والطِّيبِ، ¬

= من كتاب الصلح، وفي: باب إذا اجهد العامل. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 3/ 91، 241، 9/ 132. ومسلم، في: باب نقض الأحكام. . . .، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1343، 1344.، وأبو داود، في: باب في لزوم السنة، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 506. وابن ماجه، في: باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 7. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 146، 180، 256. (¬1) سورة البقرة 196. (¬2) في م: «المعنى». (¬3) في م: «بالإحرام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللِّباس، ونحوِه، وعليه الفِدْيَة بالجِنايَةِ على الإِحْرامِ الفاسِدِ، كالإِحْرامِ الصَّحِيحِ. ويَلْزَمه القَضاء مِن قابِلٍ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه قول ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباس، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، رَضِيَ الله عنهم. فإن كانَتِ الحَجَّةُ التي أفْسَدَها واجِبَةً بأصْلِ الشَّرعِ، أو بالنَّذْرِ، أو قَضاءً، كانَتِ الحَجَّةُ مِن قابِلٍ مُجْزِئةً؛ لأنَّ الفاسِدَ إذا انْضَمَّ إليه القَضاء أجْزَأ عمّا يُجْزِئُّ عنه الأوَّلُ لولم يُفْسِدْه، وإن كانَتْ تَطَوُّعًا وَجَب قَضاؤها أيْضًا؛ لأنَّه بالدُّخولِ في الإحْرامِ صارَ الإحْرام عليه واجِبًا، فإذا أفْسَدَه وَجَب قَضاؤه، كالمَنْذُورِ. ويَكُون القَضاء على الفَوْرِ. ولا نَعْلَمُ فيه مخالِفًا؛ لأنَّ الحَجَّ الأَصْليُّ (¬1) يَجبُ على الفَوْرِ، فهذا أوْلَى؛ لأنَّه قد تَعَيَّنَ بالدُّخولِ فيه، والواجِب بأصْلِ الشَّرْعِ لم يَتَعَيَّن بذلك. فصل:، ويُحْرِمُ بالقَضاءِ مِن أُبعَدِ المَوْضعَيْن؛ المِيقاتِ، أو مَوْضِع إحْرامِه الأوَّلِ؛ لأنَّه إن كان المِيقات أبعَدَ، فلا يَجوز تَجاوُزُ المِيقاتِ بغيرِ إحْرامٍ، وإن كان مَوْضِع إحْرامِه أبْعَدَ، فعليه الإحْرامُ بالقَضاءِ ¬

(¬1) في م: «الأصل».

1211 - مسألة: (ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل

وَيَتَفَرَّقَانِ في الْقَضَاءِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أصَابَهَا فِيهِ إلَى أنْ يَحِلَّا. وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أوْ مُسْتَحَبٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه الله؛ ليَكُونَ القَضاءُ على صِفَةِ الأداءِ. ولأنَّه قولُ ابنِ عباسٍ. وبه يَقُولُ سعيدُ بن المُسَيَّبِ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وابن المُنْذِرِ. وقال النَّخَعِيُّ: يُحْرِمُ مِن مَوْضِع الجِماعِ؛ لأنَّه مَوْضِعُ الإفسادِ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ، فكانَ قَضاؤها على حَسَبِ أدائُها، كالصلاةِ. فصل: ونَفَقَةُ المَرْأةِ في القَضاءِ عليها إن طاوَعَتْ؛ لأنَّها أفْسَدَتْ حَجَّتَها مُتَعَمِّدَةً، فكانتْ نَفَقَةُ القَضاء عليها، كالرجلِ، وإن كانَتْ مُكْرَهَةً فعلى الزَّوْجِ؛ لأنَّه الذي أفْسَدَ حَجًّتَها، فكانَتِ النَّفَقَةُ عليه، كنَفَقَةِ حَجِّه (¬1) 1211 - مسألة: (ويَتَفَرَّقان في القَضاءِ مِن الموضِع الذي أصابَها فيه إلى أن يَحِلَّا. وهل (¬2) هو واجِبٌ أو مُسْتَحبٌّ؟ على وَجْهَيْن) إذا ¬

(¬1) في م: «حجته». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَضَيَا يُفَرَّقان مِن مَوْضِع الجِماعِ، حتى يَقْضِيا حَجَّهما. رُوِيَ هذا عن عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما، فرَوَى سعيدٌ والأثرمُ (¬1)، بإسْنادِهما، أنَّ عُمَرَ سُئِلَ عن رجل وَقَع بامْرَأتِه وهما مُحْرِمان، فقالَ: أتِمَّا حَجَّكما، فإذا كان عامٌ قابِلٌ، فحُجّا، وأهْدِيا، حتى إذا بَلَغْتُما المَكانَ الذي أصبْتُما فيه ما أصَبْتُما، فتَفَرَّقا حتى تَحِلَّا. ورُوِيَ عن ابنِ عباس مثلُ ذلك (¬2). وبه قال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرأيِ. ورُوِيَ عن أحمدَ، رَضِيَ الله عَنه، انَهما يَتَفَرَّقان مِن حيثُ يُحْرِمان إلى أن يَحِلَّا. رَواه مالك في ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى: في: باب ما يفسد الحج، من كتاب الحج. السنن الكبرى 167/ 5. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 332.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُوطَّإ (¬1) عن علىٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. ورُوِيَ عن ابنِ عباس. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ التَّفْرِيقَ بينَهما خَوْفًا مِن مُعاوَدَةِ المَحْظُورِ، وهو يُوجَدُ في جَمِيع إحْرامِهما (¬2). ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ ما قبلَ مَوْضِع الإفْسادِ كان إحْرامُهما فيه صَحِيحًا، فلم يَجِبِ التَّفْرِيقُ فيه، كالذى لم يَفْسُدْ، وإنَّما اخْتَصَّ التَّفْرِيقُ بمَوْضِع الجِماعِ؛ لأنَّه رُبَّما يَذْكُرُه برُؤْيَةِ مَكانِه، فيَدْعُوه ذلك إلى فِعْلِه. ومَعْنَى التَّفْرِيقِ أن لا يَرْكَبَ معها في مَحْمِلٍ، ولا يَنْزِلَ معها في فُسْطاطٍ ونحوِه. قال أحمدُ: يَفْتَرِقان في النُّزُوِل، وفي المَحْمِلِ، والفُسْطاطِ (¬3)، ولكن يَكُونُ بقُرْبِها. وهل يَجبُ التَّفْرِيقُ، أو يُسْتَحَبُّ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجِبُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لا يَجِبُ التَّفْرِيقُ في قَضاءِ رمضانَ إذا أفْسَدَه، كذلك الحَجُّ. والثَّانى، يَجِبُ؛ لأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ. وقد ¬

(¬1) في: كتاب هدى المحرم. . . .، من كتاب الحج. الوطأ. 1/ 381، 382. (¬2) في م: «إحرامها». (¬3) في م: «البساط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَرُوا به، ولأنَّ الاجْتِماعَ في ذلك المَوْضع يُذَكِّر الجِماعَ، فيَكُون مِن دَواعِيهِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ حِكْمَةَ التفْرِيقِ؛ للصِّيانَةِ عمّا يُتَوَهَّمُ مِن مُعاوَدَةِ الوِقاعِ عندَ تَذَكُّرِه برُؤْيَةِ مَكانِه، وهذا وَهْمٌ بَعِيدٌ لا يَقْتَضِي الإيجابَ. والعُمْرَةُ فيما ذَكَرْناه كالحَجِّ؛ لأنَّها أحَد النُّسُكَيْن، فأشْبَهَ الآخَرَ. فإن كان المُعْتَمِرُ مَكِّيًّا قد أحْرَمَ بها مِن الحِلِّ، أحْرَمَ للقَضاءِ مِن الحِلِّ. وإن كان أحْرَمَ بها مِن الحَرَمِ، أحْرَمَ للقَضاءِ مِن الحِلِّ؛ لأنَّه مِيقاتُها. ولا فرقَ بينَ المَكِّيِّ ومَن حَصَل بها مِن المُجاوِرِين. وإن أفْسَدَ المُتَمَتِّع عُمْرَتَه، ومَضَى في فاسِدِها، فأتَمَّها، فقالَ أحمد: يَخْرج إلى المِيقاتِ، فيحْرِم منه للحَجِّ، فإن خَشِيَ الفَواتَ أحْرَمَ مِن مَكَّةَ، وعليه دَمٌ، فإذا فَرَغ مِن حَجِّهِ، خَرَج إلى المِيقاتِ، فأحْرَمَ منه بعُمْرَةٍ مَكانَ التي أفْسَدَها، وعليه هَدْىٌ يَذْبَحه إذا قَدِم مَكَّةَ لِما أفْسَدَ مِن عُمْرَتِه. ولو أفْسَدَ المفْرِدُ حَجَّتَه، وأتمَّ، فله الإحْرام بالعُمْرَةِ مِن أدْنَى الحِلِّ، كالمَكِّيِّين. فصل: وإذا أفْسَدَ القارِنُ نسُكَه، فعليه فِداءٌ واحِدٌ. وبه قال عَطاءٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ جُرَيْجٍ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الحَكَمُ: عليه هَدْيان. ويَتَخَرَّجُ لَنا أن يَلْزَمه بَدَنَةٌ للحَجِّ، وشاةٌ للعمْرَةِ، إذا قُلْنا: يَلْزَمُه طَوافان وسَعْيان. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ: إن وَطِئَ قبلَ الوقُوفِ، فَسَد نُسُكُه، وعليه شاتان للحَجِّ والعُمْرَةِ. ولَنا، أنَّ الصَّحابَةَ الذين سُئلُوا عمَّن أفْسَدَ نُسكَه، لم يَأْمُرُوه إلَّا بفِداءٍ واحِدٍ، ولم يفَرِّقوا، ولأنَّه أحَد الأنْساكِ الثَّلاثةِ، فلم يَجِبْ في إفْسادِه أكْثَرُ مِن فِدْيةٍ واحِدَةٍ، كالآخَرَيْن. وسائر مَحْظُوراتِ الإحْرامِ، واللُّبْسُ، والطِّيبُ، وغيرُهما، لا يَجِبُ في كلِّ واحِدٍ منهما أكْثَر مِن فِدْيةٍ واحِدَةٍ،؛ لو كان مُفْرِدًا. فصل: وحكْم العُمْرَةِ حُكْم الحَجِّ في فَسادِها بالوَطْءِ قبلَ الفَراغِ مِن السَّعْيِ، ووُجُوبِ المُضِيِّ في فاسِدِها، ووجُوبِ القَضاءِ، قِياسًا على الحَج، إلَّا أنَّه لا يَجِب؛ بإفْسادِها إلَّا شاةٌ. وقال الشافعيُّ: عليه القَضاءُ وبَدَنَةٌ، كالحَجِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن وَطِئ قبلَ أن يَطُوفَ أرْبَعَةَ أشْواطٍ، كقَوْلِنا، وإن وَطِئَ بعدَ ذلك لم تَفْسُدْ عُمْرَتُه، وعليه شاةٌ. ولَنا على الشافعيِّ، أنَّها عِبادَةٌ لا وقوفَ فيها، فلم تَجبْ فيها بَدَنَةٌ، كما لو قَرَنَها بالحَجِّ، ولأنَّ العُمْرَةَ دُونَ الحَجِّ، فيَجِبُ أن يكونَ حُكْمُها دُونَ حُكْمِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا على أبي حنيفةَ، أنَّ الجِماعَ مِن مَحْظُوراتِ الإحْرامِ، فاسْتَوَى فيه ما قبل الطَّوافِ وبعدَه، كسائِرِ المَحْظُوراتِ، ولأنَّه وَطْءٌ صادَفَ إحْرامًا تامًّا، فأفْسَدَه، كما قبلَ الطَّوافِ. فصل: إذا أفْسَدَ القارِنُ والمُتَمَتِّعُ نُسُكَهما، لم يَسْقُطِ الدَّمُ عنهما. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ. وعن أحمدَ، رَحِمَه الله، مِثْلُه؛ لأنَّه لم يَحْصُلِ التَّرفُّهُ بسُقُوطِ أحَدِ السَّفَرَيْن. وقال القاضي في القارِنِ: إذا قُلْنا: إنَّ عليه للإفْسادِ دَمَيْن، سَقَط (¬1) دَمُ القِرانِ. ولَنا، أنَّ ما وَجَب في النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَب في الفاسِدِ، كالأفْعالِ، ولأنَّهُ دَمٌ وَجَب عليه، فلم يَسْقُط بالإفْسادِ، كالدَّمِ الواجِبِ لتَرْكِ المِيقاتِ. فإن أفْسَدَ القارِنُ نُسُكَه، ثم قَضَى مُفْرِدًا، لم يَلْزَمْه في القَضاءِ دَمّ. وقال الشافعيُّ: يَلزَمُه؛ لأنَّه يَجِبُ في القَضاءِ ما يَجِبُ في الأداءِ. ولَنا، أنَّ الإفْرادَ أفْضَلُ مِن القِرانِ مع الدَّمِ، فإذا أتَى به فقد أتَى بما هو ¬

(¬1) في م: «فسد».

1212 - مسألة: (وإن جامع بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه،

وَإنْ جَامَعَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كمَن لَزِمَتْه الصلاةُ بتَيَمُّم، فقَضَى بوُضُوءٍ. 1212 - مسألة: (وإن جامَعَ بعدَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ لم يَفْسُدْ نُسُكُه،

وَيَمْضِى إلَى التَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ؛ لِيَطُوفَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أوْ شَاةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَمْضِى إلى التَّنعِيمِ فيُحْرِمُ؛ ليَطوفَ وهو مُحْرِم. وهل يَلْزَمُه بَدَنَةٌ أو شاةٌ؟ على رِوايَتَيْن) في هذه المسألة ثَلاثَةُ فُصُول؛ أحَدُها، أنَّ الوَطْءَ بعدَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ لا يُفْسِدُ الحَجَّ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وعِكْرِمَةَ، وعَطاءٍ، والشعْبِىِّ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وقال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وحَمّاد: عليه حَجٌّ مِن قابِل؛ لأنَّ الوَطْءَ صادَفَ إحْرامًا تامًّا بالحَجِّ، فأفْسَدَه، كالوَطْءِ قبلَ الرَّمْىٍ. ولَنا، قولُ النبىٍّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاَتنَا هَذه، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتى نَدْفعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» (¬1). ولأنَّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من لم يدرك عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 452. والترمذى، في: باب من أدرك الإمام بجمع. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 128، 129. والنسائى، في: باب في من لم يدرك صلاة الصبح. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 213، 214. وابن ماجه، في: باب من أتى عرفة قبل الفجر. . . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1004. والدارمى، في: باب بما يتم الحج. من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 59 والإمام أحمد، في: المسند 4/ 15، 261، 262.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنَ عباس قال، في رجل أصابَ أهْلَه قبلَ أن يُفيضَ يومَ النَّحْرِ: يَنْحَران جَزُورًا بينَهما , وليس عليه الحَجُّ مِن قابِلٍ (¬1). ولا نَعْرِفُ له في الصَّحابَةِ مُخالِفًا. ولأنَّها عِبادَة لها تَحَلُّلان، فوُجُود المُفْسِدِ بعدَ تَحَلُّلِها الأوَّلِ لا يُفْسِدُها، كما بعدَ التَّسْلِيمَةِ الأولَى في الصلاةِ، وبهذا فارَقَ ما قبلَ التَّحَلُّلِ الأولِ. الفصل الثّانِي، أن يَفْسُدَ الإحْرامُ بالوَطْءِ بعدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فيَلْزَمُه أن يُحْرِمَ مِن الحِلِّ. وبذلك قال عِكْرِمَةُ، ورَبِيعَةُ، وإسْحاقُ. وقال ابنُ عباسٍ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والشافعيُّ: حَجُّه صَحِيح، ولا يَلْزَمُه إحْرام؛ لأنَّه إحْرامٌ لم يَفْسُدْ جَمِيعُه، فلم يَفْسُدْ بَعْضُه، كما بعدَ التَّحَلُّلِ الثّانِي. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ صادَفَ إحْرامًا، فأفْسَدَه، كالإحْرام التّامِّ. وإذا فَسَد إحْرامُه، فعليه أن يُحْرِمَ؛ ليَأتىَ بالطّوافِ في إحْرامٍ صَحِيحٍ؛ لأنَّ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الرجل يصيب امرأته بعد التحلل الأول. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 171/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّوافَ رُكْنٌ، فيَجِبُ أن يَأْتِيَ به في إحْرامٍ صَحِيحٍ، كالوُقُوفِ. ويَلْزَمُه الإحْرامُ مِن الحِلِّ؛ لأنَّ الإحْرامَ يَنْبَغِي أن يَجْمَعَ فيه بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، فلو أبحْنا له الإحْرامَ مِن الحَرَمِ، لم يَجْمَعْ بينَهما؛ لأنَّ أفْعالَه كلَّها تَقَعُ في الحَرَمِ، أشبهَ المُعْتَمِرَ. وإذا أحْرَمَ، طافَ للزِّيارَةِ، وسَعَى إن لم يَكُنْ سَعَى، وتَحَلَّل؛ لأنَّ الذي بَقِيَ عليه بَقِيَّةُ أفْعالِ الحَجِّ. وإنَّما وَجَب عليه الإحْرامُ ليَأتِيَ بها في إحْرام صَحِيحٍ، هذا ظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، ومَن وافَقَه مِن الأئمَّةِ، أنَّه يَعْتَمِرُ، فيَحْتَمِلُ، أنَّهم أرادُوا هذا أَيضًا، وسَمُّوْه عُمْرَةً؛ لأنَّ هذه أفْعالُ العُمْرَةِ، ويَحْتَمِلُ أنَّهم أرادُوا عُمْرَةً حَقِيقَةً، فيَلْزَمُه سَعْىٌ وتَقْصِيرٌ. والأوَّلُ أصَحُّ. وقَوْلُه: يُحْرِمُ مِن التَّنعِيمِ. لم يَذْكُرْه لوُجُوبِ الإحْرامِ منه، بل لأنَّه حِلٌّ، فمَن أتى الحِلَّ وأحْرَمَ، جاز، كالمُعْتَمِرِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى وَطِيء بعدَ رَمْيِ الجَمْرَةِ لم يَفْسُدْ حَجُّه؛ حَلَق أو لم يَحْلِقْ. هذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، والخِرَقِيِّ، ومَن سَمَّيْنا مِن الأئمَّةِ؛ لتَرْتِيبِهم هذا الحُكْمَ على الوَطْءِ بعدَ مُجَرَّدِ الرَّمْيِ، مِن غيرِ اعْتِبارِ أمْرٍ زائدٍ. فصل: فإن طاف للزِّيارَةِ، ولم يَرْمِ، ثم وَطِيء، لم يَفْسُدْ حَجُّه بحالٍ؛ لأنَّ الحَجَّ قد تَمَّتْ أرْكانُه كلُّها , ولا يَلْزَمُه إحْرامٌ مِن الحِلِّ؛ فإنَّ الرمْىَ ليس برُكْنٍ، ولا يَلْزَمُه دَمٌ؛ لِما ذَكَرْنا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لأنَّه وَطِيء قبلَ وُجُودِ ما يَتمُّ به التَّحَلُّل، أشْبَهَ مَن وَطِيء بعدَ الرَّمْيِ، قبلَ الطَّوافِ. فصل: والقارِنُ كالمُفْرِدِ، في أنَّه إذا وَطِيء بعدَ الرَّمْيِ لم يَفْسُدْ حَجُّه ولا عُمْرَتُه؛ لأنَّ الحُكْمَ للحَجِّ، ألا تَرَى أنَّه لا يَحِلُّ مِن عُمْرَتِه قبلَ الطَّوافِ، ويَفْعَلُ ذلك إذا كان قارِنًا , ولأنَّ التَّرتِيبَ للحَجِّ دُونَها، والحَجُّ لا يَفْسُدُ قبلَ الطَّوافِ، كذلك العُمْرَةُ. وقال أحمدُ، في مَن وَطِيء بعدَ الطَّوافِ يَوْمَ النَّحْرِ، قبلَ أن يَرْكَعَ: ما عليه شيءٌ. قال أبو طالِبٍ: سَألْتُ أحمدَ عن الرجلِ يُقَبِّلُ بعدَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، قبلَ أن يَزُورَ البَيْتَ؟ قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس عليه شيءٌ، قد قَضَى المَناسِكَ. فعلى هذا ليس في غيرِ الوَطْءِ في الفَرْجِ شيءٌ. الفصلُ الثّالِثُ، فيما يَجِبُ عليه فِدْيَةً للوَطْءِ، وهو شاةٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ عِكْرمَةَ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، وإسْحاقَ. وفيه رِوايَة أخْرَى، أنَّ عليه بَدَنَةً. وهو قولُ ابنِ عباس (¬1)، وعَطاءٍ، والشَّعبِيِّ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأيِ؛ لأنَّه وَطْءٌ في الحَجِّ، فوَجَبَتْ به بَدَنَةٌ، قبلَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ. ووَجْهُ الأُوْلَى، أنَّه وَطْءٌ لم يُفْسِدِ الحَجَّ، فلم يُوجِبْ بَدَنَةً، كالوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ، إذا لم يُنْزِلْ، ولأنَّ حُكْمَ الإحْرامِ خَفَّ بالتَّحَلُّلِ الأولِ، فيَنْبَغِي أن يَنْقُصَ مُوجِبُه عن الإحْرامَ التّامِّ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الرجل يصيب امرأته بعد التحلل الأول، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 171.

فَصْلٌ: التَّاسِع، الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أفْسَدَ القَضاءَ لم يَجِبْ عليه قَضاؤه، وإنَّما يَقْضِي عن الحَجِّ الأولِ، كما لو أفْسَدَ قَضاءَ الصلاةِ والصيامِ، وَجَب القَضاءُ للأصْلِ دُونَ القَضاءِ، كذا ههُنا. وذلك لأنَّ الواجِبَ لا يَزْدادُ بفَواته، وإنَّما يَبْقَى ما كان واجِبًا في الذِّمَّةِ على ما كان عليه، فيَعُودُ (¬1) به القَضاءُ. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (التّاسِعُ، المُباشَرَةُ فيما دُونَ الفَرْجِ لشَهْوَةٍ، فإن فَعَل فأنزلَ، فعليه بَدَنَةٌ. وهل يَفْسُدُ ¬

(¬1) في الأصل: «فرد».

وَهَلْ يَفْسُدُ نُسُكُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإنْ لَمْ يُنْزِلْ، لَمْ يَفْسُدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نُسُكُه؟ على رِوايَتَيْن. وإن لم يُنْزِلْ، لم يَفْسُدْ) إذا وَطِيء فيما دُونَ الفَرْجِ، أو قَبَّلَ، أو لَمَس بشَهْوَةٍ، فأنْزَلَ، فعليه بَدَنَةٌ. وبذلك قال الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْيِ، وابن المُنْذِرِ: عليه شاةٌ؛ لأنَّه مُباشَرَةٌ دُونَ الفرْجِ، أشْبَهَ ما لو لم يُنْزِلْ. ولَنا، أنَّها مُباشَرَةٌ أوْجَبَتِ الغُسْلَ، فأوْجَبت بَدَنَةً، كالوَطْءِ في الفَرْجِ. فصل: وفي فسادِ النُّسُكِ به رِوايَتان؛ إحْداهما، يَفْسُدُ. اخْتارَها أبو بَكْرٍ، والخِرَقِيُّ، فيما إذا وَطِيء دُونَ الفَرْجِ فأنزلَ. وهو قولُ الحسنِ، وعَطاءٍ، والقاسِمِ بنِ محمدٍ، ومالكٍ، وإسْحاقَ؛ لأنَّها عِبادَةٌ يُفْسِدُها الوَطْءُ، فأفْسَدَها الإِنْزالُ عن مُباشَرَةٍ، كالصيامِ. والثّانِيَةُ، لا يَفْسُدُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الشافعيِّ، وأصْحابِ الرأيِ، وابنِ المُنْذِرِ، وهو الصَّحِيحُ، إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه اسْتِمْتاع لا يَجِبُ بنَوْعِه الحَدُّ، فلم يُفْسِدِ الحَجَّ، كما لو لم يُنزِلْ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على المَنْصُوص عليه؛ لأنَّ الوَطْءَ في الفَرْجِ يَجِبُ بنَوْعِه الحَدُّ، ولا يَفْتَرِقُ الحالُ فيه بينَ الإنْزالِ وعَدَمِه، بخِلافِ المُباشَرَةِ. والصيامُ بخِلافِ الحَجِّ في المُفْسِداتِ، ولذلك يَفْسُدُ إذا أنْزَلَ بتَكْرَارِ النَّظرَ وسائرِ مَحْظُوراتِه، والحجُّ لا يَفْسُدُ بشئٍ مِن مَحْظوراتِه غيرِ الجِماعِ، فافْتَرَقا. والمَرْأةُ كالرجلِ في هذا، إذا كانَتْ ذاتَ شَهْوَةٍ، وإلَّا فلا شئَ عليها، كالرجلِ إذا لم يَكُنْ له شَهْوةٌ. وإن لم يُنْزِلْ لم يَفْسُدْ حَجُّه بذلك. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّها كلُ مباشَرَةٌ دُونَ الفَرْجِ عَرِيَتْ عن الإنْزالِ، فلم يَفْسُدْ بها الحَجُّ، قِياسًا عليه. وقد رُوِيَ عن ابنِ عباس، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال لرجل قبَّلَ زَوْجَتَهَ: أفْسَدْتَ حَجَّكَ. ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وهو مَحْمُولٌ على ما إذا أنْزَلَ.

فصْلٌ: وَالْمَرْأةُ إحْرَامُهَا في وَجْهِهَا، وَيَحْرُمُ [66 و]، عَلَيْهَا مَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ، إِلَّا في اللِّبَاس، وَتَظْلِيلِ الْمَحْمَلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كَرَّرَ النَّظَرَ، فأنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ، لم يَفْسُدْ حَجُّه. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباس. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وروىَ عن الحسنِ، وعَطاءٍ، ومالكٍ، في مَن رَدَّدَ النَّظَرَ حتى أمْنَى، عليه حَجٌّ قابِلٌ؛ لأنَّه أنزل بفِعْلٍ مَحْظُورٍ، أشْبَهَ الإنْزالَ بالمُباشَرَةِ. ولَنا، أنَّه إنْزالٌ مِن غيرِ مُباشَرَةٍ، أشْبَهَ الإْنزالَ بالفِكْرِ والاحْتِلام، والأصْلُ الذي قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. ثم إن المُباشَرَةَ أبلَغُ في اللَّذَّةِ، وَآ كَدُ في اسْتِدْعاءِ الشَّهْوَةِ، فلا يَصِح القِياسُ عليها. وإن لم يُنْزِلْ لم يَفْسُدْ حَجُّه. لا نَعْلَمُ أحَدًا قال بخِلافِ ذلك؛ لأنَّه لا يُمْكِن التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ الفِكْرَ، واللهُ أعْلَمُ. فصل: قال،، رَضِيَ اللهُ عنه: (والمَرْأةُ إحْرامُها في وَجْهِها، ويَحْرُمُ عليها ما يَحْرُمُ على الرجلِ، إلَّا في اللِّباسِ، وتَظْلِيلِ المَحْمَلِ) يَحْرُمُ على المَرْأةِ تَغْطَيةُ وَجْهِها في إحْرامِها. لا نَعْلَمُ في هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافًا، إلَّا ما رُوِيَ عن أسماءَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها كانَتْ تُغَطِّي وَجْهَها (¬1). فيَحْتَمِلُ أنَّها كانَتْ تُغَطِّيه بالسُّدْلِ (¬2) عندَ الحاجَةِ، ولا يَكُون اخْتِلافًا. قال ابن المُنْذِرِ: كَراهِيَةُ البرقُع ثابِتَةٌ عن سعدٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعائشَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ فيه. والأصْلُ فيه ما روَى البخاريُّ وغيرُه (¬3)، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وَلا تَنْتَقِبُ الْمَرْأةُ، وَلا تَلْبَس القُفَّازَيْنِ». ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إحْرَام الرَّجُل في رَأسِهِ، وإحْرَام المَرْأةِ في وَجْهِهَا» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الإِمام مالك، في: باب تخمير المحرم وجهه، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 328. (¬2) السدل بالضم والكسر: السَّتر. وبالفتح: سدْل الثوب. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب ما ينهى من الطيب للمحرم. . . .، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى 3/ 19. وأبو داود، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبو داود 1/ 424. والترمذي، في: باب ما جاء فيما لا يجوز للمحرم. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 53/ 4 , 54. والنسائي، في: باب النهى عن أن تنتقب المرأة الحرام، وباب النهى عن أن تلبس المحرمة القفازين، من كتاب المناسك. المجتبي 101/ 5، 104. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 22. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن احْتاجَتْ إلى سَتْرِ وَجْهِها؛ لمُرُورِ الرجالِ قَرِيبًا منها، فإنَّها تَسْدِلُ الثَّوْبَ فوقَ رَأسِها على وَجْهِها. رُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وعائشَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال عَطاء، ومالك، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، ومحمدُ بن الحسنِ، ولا نَعْلَم فيه خِلافًا؛ لِما رُوِيَ عن عائشَةَ، رَضِيَ الله عنها، قالَتْ: كان الرُّكْبانُ يَمُرُّون بِنا، ونحن مُحْرِمات مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حاذَوْنا سَدَلَتْ إحْدانا جِلْبابَها علي وَجْهِها، فإذا جاوَزُونا كَشَفْناه. رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ (¬1). ولأن بالمَرْأةِ حاجَةً إلى سَتْرِ وَجْهِها، فلم يَحْرُمْ عليها. سَتْرُه على الإطْلاقِ، كالعَوْرَةِ. وذَكَر القاضي: أنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ مُتجافِيًا عن وَجْهِها، بحيثُ لا يُصِيبُ البَشَرَةَ، فإن أصابَها ثم زال أو أزالَتْه بسرعَةٍ، فلا شئَ عليها، كما لو أطارَتِ الرِّيحُ الثَّوْبَ عن عَوْرَةِ المُصَلِّي ثم عاد بسُرْعَةٍ، لا تَبْطُلُ الصلاةُ. وإن لم تَرْفعْه مع القُدْرَةِ، فَدَتْ؛ لأنَّها اسْتَدامَتِ السَّتْرَ. قال شيخُنا (¬2): ولم أُر هذا الشَّرْطَ عن أحمدَ، ولا هو في الخَبَرِ، مع أنَّ الظاهِرَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في المحرمة تغطى وجهَها، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 425. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 30. (¬2) في: المغنى 5/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافه، فإنَّ الثَّوْبَ المَسْدولَ لا يَكاد يَسْلَمُ مِن إصابَةِ البَشَرَةِ، فلو كان هذا شَرْطًا لبُيِّنَ. وإنَّما مُنِعَتِ المَرْأة مِن البُرْقُعِ والنِّقابِ ونحوِه، ممّا يعَدُّ لسَتْرِ الوَجْهِ. قال أحمد: إنَّما لها أن تَسْدِلَ على وَجْهِها مِن فوق، وليس لها أن تَرْفَعَ الثَّوْبَ مِن أسفلَ. كأنه يَقول: إن النِّقابَ مِن أسفلَ على وَجْهِها. فصل: ويَجْتَمِع في حَقِّ المُحْرِمَةِ وُجوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وتَحرِيمُ تَغْطِية الوَجْهِ. ولا يُمْكِن تَغْطِيَة جَمِيع الرَّأْسِ إلَّا بجُزْءٍ مِن الوَجْهِ، ولا كَشْفُ جَمِيع الوَجْهِ إلَّا بكَشْفِ جزْءٍ مِن الرَّأْسِ، فعندَ ذلك سَتْرُ الرَّأْسِ كلِّه أوْلَى؛ لأنَّه آكَدُ، إذ هو عَوْرَةٌ، ولا يَخْتَصُّ بحالَةِ الإحْرامِ، وكَشْفُ الوَجْهِ بخِلافِه، وقد أَبحْنا سَتْرَ جُمْلَتِه للحاجَةِ، العارِضَةِ، فسَتْرُ جُزْءٍ منه لسَتْرِ العَوْرَةِ أوْلَى. فصل: ولا بَأْسَ للمَرْأةِ أن تَطوفَ منْتَقِبَةً، إن لم تَكنْ مُحْرِمَةً. فَعَلَتْه عائشَة، رَضىَ الله عنها. وكَرِه ذلك عَطاءٌ، ثم رَجَع عنه، وذَكَر أبو عبدِ اللهِ حديثَ ابنِ جُرَيْجٍ، أنَّ عَطاءً كان يَكْرَهُ لغيْرِ المُحْرِمَةِ أن تَطُوفَ منْتَقِبَةً، حتى حَدَّثْتُه عن الحسنِ بنِ مسلمٍ، عن صَفِيَّةَ بنتِ شَيْبَةَ، أنَّ عائشَةَ طافَتْ وهي مُنْتَقِبَةٌ. فأخَذَ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْرُمُ عليها ما يَحْرُمُ على الرجلِ؛ مِن قَطْع الشَّعَرِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، والطِّيبِ، وقَتْلِ الصَّيْدِ، وسائرِ المَحْظُوراتِ، إلَّا لُبْسَ المَخيطِ، وتَظْلِيلَ المَحْمَلِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، على أنَّ المَرْأةَ مَمْنُوعَةٌ ممّا مُنِعَ منه الرجالُ، إلَّا بعضَ اللِّباس. وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ، على أن للمُحْرِمَةِ لُبْسَ القُمُصِ (¬1) والدرُوعِ والسَّراوِيلاتِ والخُمُرِ والخِفافِ. وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّ أمْرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المُحْرِمَ بأمْرٍ وحُكْمَهُ عليه، يدخلُ فيه الرِّجالُ والنِّساءُ، إنَّما اسْتَثْنَى منه اللِّباسَ للحاجَةِ إلى سَتْر المَرْأةِ؛ لكَوْنِها عَوْرَةً، إلَّا وَجْهَها، فتَجَرُّدُها يُفْضِي إلى انْكِشافِها، فأُبِيحَ لها اللِّباسُ للسَّترِ، أبِيحَ للرجلِ عَقْد الإزارِ؛ كيلا يَسْقُطَ، فتَنْكَشِفَ عَوْرَتُه، ولم يُبِحْ عَقْدَ الرِّداءِ. وقد روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى النِّساءَ في إحْرامِهِنّ عن القُفازَيْن والنِّقابِ، وما مَس الوَرْسَ والزَّعْفَرانَ مِن الثِّيابِ ولْتَلْبَس بعدَ ذلك ما أحَبَّتْ مِن ألْوانِ الثِّيابِ؛ مِن مُعَصْفَرٍ أو خَزٍّ أو حَلْى أو سَراوِيلَ أو قَمِصٍ أو خُفٍّ (¬2). وهذا صَرِيحٌ. والمرادُ باللِّباسِ ههُنا المَخِيطُ مِن القُمُصِ والدُّرُوعِ والسَّراوِيلاتِ والخِفافِ، وما يَسْتُرُ الرَّأْسَ، ونَحْوَه. ¬

(¬1) في الأصل: «القميص». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما يلبس المحرم، من كتاب المناسك. سنن أبو داود 1/ 424.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 22.

1213 - مسألة: (ولا تلبس القفازين، ولا الخلخال، ولا تكتحل بالإثمد)

وَلَا تَلْبَسُ الْقُفازَيْنِ وَالْخَلْخَالَ وَنَحْوَهُ، وَلَا تَكْتَحِلُ بِالإِثْمِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُستحَبُّ للمَرْأةِ عندَ الإحْرامِ ما يُسْتَحَبُّ للرجلِ؛ مِن الغُسْلِ، والطِّيبِ. قالَتْ عائِشَةُ رَضِىَ اللهُ عنها، كُنّا نَخْرُجُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَنُضَمِّدُ جِباهَنا بالمِسْكِ والطِّيبِ عندَ الإحْرامِ، فإذا عَرِقَتْ إحْدانا، سال على وَجْهِها، فيراها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُنْكِرُ عليها (¬1). والشّابَّةُ والكَبِيرَةُ سَواءٌ في هذا، فإنَّ عائِشَةَ كانَتْ شابَّةً. فإن قِيلَ: أليس قد كُرِهَ ذلك في الجُمُعَةِ؟ قُلْنا: لأنَّها في الجُمُعَةِ تَقْرُبُ مِن الرِّجالِ، فيُخافُ الافْتِتانُ بها، بخِلافِ مَسْألَتِنا، ولهذا يَلْزَمُ الحَجُّ النِّساءَ، ولا تَلْزَمُهُنَّ الجُمُعَةُ. وكذلك يُسْتَحَبُّ لها قِلَّةُ الكَلامِ، إلا فيما يَنْفَعُ، والاشْتِغالُ بالتَّلْبِيَةِ وذِكْرِ اللهِ تعالى. 1213 - مسألة: (ولا تَلْبَسُ القُفَّازَيْن، ولا الخَلْخالَ، ولا تَكْتَحِلُ بالإِثمِدِ) القُفّازان شئٌ يُعْمَلُ لليَدَيْن، يُدْخِلُهما فيهما مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَرْقٍ، يَسْتُرُهما مِن الحَرِّ، مثْلَ ما يُعْمَلُ للبُزاةِ، يَحْرُمُ على المَرْأةِ لُبْسُه في حالِ إحْرامِها. هذا قولُ ابنِ عُمَرَ. وبه قال عَطاءٌ، وطاوسٌ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، وإسْحاقُ. وكان سعدُ بنُ أبِى وَقّاصٍ يُلْبِسُ بَناتِه القُفّازَيْن وهُنَّ مُحْرِماتٌ. ورَخَّصَ فيه علىٌّ، وعائِشَةُ، وعَطاءٌ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وللشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. واحْتَجُّوا بما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إحْرَامُ الْمَرْأةِ فِى وَجْهِهَا» (¬1). ولأنَّه عُضْوٌ يَجُوزُ سَتْرُه بغيرِ المَخِيطِ، فجاز سَتْرُه به، كالرِّجْلَيْن. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ». رَواه البخاريُّ (¬2). وحديثُهم المُرادُ به الكَشْفُ، فأمّا السَّتْرُ بغيرِ المَخِيطِ، فيَجُوزُ للرجلِ، ولا يَجُوزُ بالمَخِيطِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 235. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الخَلْخالُ، وما أشْبَهَه مِن الحَلْىِ، كالسِّوارِ، فظاهِرُ كَلامِ شيخِنا ههُنا أنَّه لا يَجُوزُ لُبْسُه. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. وقد قال أحمدُ: المُحْرِمَةُ، والمُتوَفَّى عنها زَوْجُها، يَتْرُكان الطِّيبَ والزِّينَةَ، ولهما ما سِوَى ذلك. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، أنَّه كان يَكْرَهُ للمُحْرِمَةِ الحَرِيرَ والحَلْىَ. وكَرِهَه الثَّوْرِيُّ. ورُوِىَ عن قَتادَةَ، أنَّه كان لا يَرَى بَأْسًا أن تَلْبَسَ المَرْأةُ الخاتِمَ والقُرْطَ وهى مُحْرِمَةٌ، وكَرِهَ السِّوارَيْن والخَلْخالَيْن والدُّمْلُجَيْن (¬1). وظاهِرُ المَذْهَبِ الرُّخْصَةُ فيه. وهو قولُ ابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وهو الصَّحِيحُ. قال أحمدُ، في رِوايةِ حَنْبَلٍ: تَلْبَسُ المُحْرِمَةُ الحَلْىَ والمُعَصْفَرَ. وقال: عن نافِعٍ، كان نِساءُ ابنِ عُمَرَ وبَناتُهُ يَلْبَسْنَ الحَلْىَ والمُعَصْفَرَ وهُنَّ مُحْرِماتٌ، لا يُنْكِرُ عبدُ اللهِ ذلك. ¬

(¬1) الدُّمْلُج، والدُّمْلُوج: سوار يحيط بالعضد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذَكَرْنا حديثَ ابنِ عُمَرَ (¬1)، وفيه: «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أحَبَّتْ مِن ألْوانِ الثِّيَابِ؛ مِنْ مُعَصْفَرٍ، أوْ خَزٍّ، أوْ حَلْيٍ» قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَجُوزُ المَنْعُ منه بغيرِ حُجَّةٍ. ويُحْمَلُ كَلامُ أحمدَ في المَنْعِ على الكَراهَةِ؛ لِما فيه مِن الزِّينَةِ، وشِبْهِه بالكُحْلِ بالإِثْمِدِ. ولا فِدْيَةَ فيه، كما لا فِدْيَةَ في الكُحْلِ. فأمّا لُبْسُ القُفّازَيْن، ففيه الفِدْيَةُ؛ لأنَّها لَبِسَتْ ما نُهِيَتْ عن لُبْسِه في الإحْرامِ، فَلزِمَتْها الفِدْيَةُ، كالنِّقابِ (¬2). وقال القاضى: يَحْرُمُ عليها شَدُّ يَدَيْها بخِرْقَةٍ؛ لأنَّة سَتْرٌ ليَدَيْها بما يَخْتَصُّ بها، أشْبَهَ القُفّازَيْن، وكما لو شَدَّ الرجلُ على جَسَدِه شَيئًا. وإن لَفَّتْ يَدَيْها مِن غيرِ شَدٍّ، فلا فِدْيَةَ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ هو اللُّبْسُ، لا تَغْطتُهما، كبَدَنِ الرجلِ. فصل: والكُحْلُ بالإِثْمِدِ في الإِحْرامِ مَكْرُوهٌ للمَرْأةِ والرجلِ، وإنَّما ¬

(¬1) حديث ابن عمر تقدم تخريجه في صفحة 358. (¬2) في م: «بالنقاب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُصَّتِ المَرْأةُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّها مَحَلُّ الزِّينَةِ، والكراهَةُ في حَقِّها أكْثَرُ مِن الرجلِ. يُرْوَى هذا عن عطاءٍ، والحسنِ، ومُجاهِدٍ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّه قال: يَكْتَحِلُ المُحْرِمُ بكلِّ كُحْلٍ ليس فيه طِيبٌ. ورَخّصَ فيه مالكٌ في الحَرِّ يَجِدُه (¬1) المُحْرِمُ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: يَكْتَحِلُ المُحْرِمُ بما لم يُرَدْ به الزِّينَةُ. قِيلَ له: الرجالُ والنِّساءُ؟ قال: نعم. وَوَجْهُ كَراهَتِه ما رُوِىَ عن جابرٍ، أنَّ عليًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، قَدِم مِن اليَمَنِ، فوَجَدَ فاطِمَةَ ممَّن حَلَّ، فلَبِسَتْ ثِيابًا صَبِيغًا، واكْتَحَلَتْ، فأنْكَرَ ذلك عليها، فقالَتْ: أبِى أمَرَنى بهذا. فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ». رَواه مسلمٌ وغيرُه (¬2). وهذا يَدُلُّ على أنَّها كانَتْ مَمْنُوعَةً مِن ذلك. ورُوِىَ عن عائِشَةَ أنَّها قالَتْ لامْرَأةٍ: اكْتَحلِى ¬

(¬1) أى في عينيه. انظر المغنى 5/ 156. (¬2) هذا من حديث جابر الطويل، والحديث أخرجه مسلم، في: باب حجة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج. صحيح مسلم 886/ 2 - 892. وأبو داود، في: باب صفة حجة النبى - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 440 - 443. والنسائي، في: باب الأذان لمن يجمع بين الصلاتين. . . .، من كتاب الأذان. وباب الكراهية في الثياب المصبغة، من كتاب المناسك. المجتبى 13/ 2، 14، 111/ 5. وابن ماجه، في: باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 1024/ 2 - 1026. والدارمى، في: باب في سنة الحاج، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 45/ 2 - 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأىِّ كُحْلٍ شِئْتِ، غيرَ الِإثْمِدِ أو الأسْوَدِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الكُحْلَ بالإثْمِدِ مَكْرُوهٌ، ولا فِدْيَةَ فيه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ورَوَتْ شُمَيْسَةُ، عن عائِشَةَ، قالَتْ: اشْتَكَيْتُ عَيْنَىَّ وأنا مُحْرِمَة، فسَألْتُ عائِشَةَ، فقالَتْ: اكْتَحِلِى بأىِّ كُحْلٍ شِئْتِ، غيرَ الإثْمِدِ (¬1). أما إَّنه ليس بِحَرام، ولكنَّه زِينَةٌ، [فنحنُ نكرَهُه] (¬2). قال الشافعيُّ: إن فَعَلا فلا أعْلَمُ عليهما فيه فِدْيَةً بشئٍ. فصل: فأمّا الكحْلُ بغيرِ الإثْمِدِ والأسْوَدِ، فلا كَراهَةَ فيه، إذا لم يَكُنْ مُطَيَّبًا؛ لِما ذَكَرْنا من حديثِ عائِشَةَ، وقولِ ابنِ عُمَرَ. وقد روَى مسمٌ (¬3)، عن نُبَيْهِ بنِ وَهْبٍ، قال: خَرَجْنا مع أبان بنِ عثمان، حتى إذا كُنّا بِمَلَلٍ (¬4)، اشْتَكَى عُمَرُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ عَيْنَيْه، فأرْسَلَ إلى أبانَ بنِ عثمانَ لِيَسْألَه، فقالَ: اضْمِدْهما بالصَّبِرِ، فإنَّ عثمانَ حَدَّثَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب المحرم يكتحل بما ليس بطيب، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 63. (¬2) في م: «فيجب تركه». (¬3) في: باب جواز مداواة المحرم عينيه، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 863. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يكتحل المحرم، من محاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 426. والترمذى، في: كتاب ما جاء في المحرم يشتكى. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 176. والبيهقى، في: باب المحرم يكتحل بما ليس. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبري 5/ 62. (¬4) ملل: موضع على ثمانية عَشَرَ ميلًا من المدينة.

1214 - مسألة: (ويجوز لبس المعصفر والكحلي، والخضاب بالحناء، والنظر في المرآة لهما جميعا)

وَيَجُوزُ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْكُحْلِىِّ، وَالْخِضَابُ بِالْحِنَّاءِ، وَالنَّظَرُ فِى الْمِرْآةِ لَهُمَا جَمِيعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الرجلِ إذا اشْتَكَى عَيْنَيْه وهو مُحْرِمٌ، يُضَمِّدُهما بالصَّبِرِ. ففيه دَلِيلٌ على إباحَةِ ما أشْبَهَه، ممّا ليس فيه زِينَة ولا طِيبٌ. وكان إبراهيمُ لا يَرَى بالذَّرُورِ (¬1) الأحْمَرِ بأْسًا. فصل: وإذا أحْرَمَ الخُنْثَى المُشْكِلُ، لم يَلْزَمْهُ اجْتِنابُ المَخِيطِ؛ لأنَّا لا نَتَيَقَّنُ كَوْنَه رجلًا. وقال ابنُ المُبارَكِ: يُغَطِّى رَأْسَه ويُكَفِّرُ. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه لا شئَ عليه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ، فلا يَجِبُ بالشُّكِّ، فإن غَطَّى وَجْهَهُ وجَسَدَه، لم يَلْزَمْه فِدْيَةٌ لذلك. وإن جَمَع بينَ تَغْطِيَة وَجْهِه بنِقابٍ أو بُرْقُعٍ، وغَطَّي رَأْسَه، أو لَبِس المَخِيطَ، لَزِمَتْه الفِدْيَةُ؛ لأنُّه لا يَخْلُو أن يَكُونَ رَجُلًا أو امْرأةً، واللهُ أعْلَمُ. 1214 - مسألة: (ويَجُوزُ لُبْسُ المُعَصْفَرِ والكُحْلِيِّ، والخِضابُ بالحِنّاءِ، والنَّظَرُ في المِرْآةِ لهما جَمِيعًا) لا بَأسَ بما صُبغَ بالعُصْفُرِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) الذرور: ما يذر في العين وعلى الجرح من دواء يابس. (¬2) في: المغنى 5/ 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بطِيبٍ، ولِا بَأسَ باسْتِعْمالِه وشَمِّه. هذا قولُ جابِرٍ، وابنِ عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ جَعْفرٍ، وعَقِيلِ بنِ أبِى طالِبٍ، رَضِىَ اللهُ عنهم. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وكَرِهَه مالكٌ، إذا كان يَنْتَفِضُ (¬1) في جَسَدِه، ولم يُوجِبْ فيه فِدْيَةً. ومَنَع منه الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ، وشَبَّهُوه بالمُوَرَّسِ والمُزَعْفَرِ؛ لأنَّه صِبْغٌ طيِّبُ الرّائِحَةِ. ولَنا، أنَّ في حديثِ ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في المُحْرِمَةِ: «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أحَبَّتْ مِنْ ألْوَانِ الثِّيابِ؛ مِن مُعَصْفرٍ، أوْ خَزٍّ، أوْ حَلْىٍ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن عائِشَةَ، وأَسماءَ، وأزْواجِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَهُنَّ كُنَّ يُحْرِمْنَ في المُعَصْفَراتِ (¬3). ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِف لهم مُخالِفًا، ولأنَّه ليس بطِيبٍ، فلم يُكْرَهِ المَصْبُوغُ به، كالسَّوادِ. ¬

(¬1) في الأصل: «ينفض». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 358. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا الوَرْسُ والزَّعْفرانُ، فإنَّه طِيبٌ. ولا بَأسَ بالمُمَشَّقِ، وهو المصْبُوغُ بالمَغْرَة (¬1)؛ لأنَّه مَصْبُوغٌ بطِينٍ، وكذلك سائِرُ الأصْباغِ، سِوَى ما ذَكرْنا؛ لأنَّ الأصْلَ الإباحَةُ إلَّا ما وَرَد الشَّرْعُ بتَحْرِيمِه، أو ما كان في مَعْناه. وليس هذا كذلك. فأمّا المصْبُوغُ بالرَّياحِينِ، فهو مَبْنىٌّ على الرَّياحِينِ في نَفْسِها، فما مُنِعَ المُحْرِمُ مِن اسْتِعْمالِه مُنِعَ لُبْسَ المصْبُوغِ به، إذا ظَهَرَتْ رائِحَتُه، وإلَّا فلا. إلَّا أنَّه يُكْرَهُ للرجلِ لُبْسُ المُعَصْفَرِ في غيرِ الإحْرامِ، فكذلك فيه، وقد ذَكَرْنا ذلك في الصلاةِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ للمَرْأةِ أن تَخْتَضِبَ بالحِنّاءِ عندَ الإحْرامِ؛ لِما رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: مِن السُّنَّةِ أن تَدْلُكَ المَرْأةُ يَدَيْها في حِنّاءٍ (¬2). ولأنَّه مِن الزِّينَةِ، فاسْتُحِبَّ عندَ الإِحْرامِ، كالطِّيبِ، ولا بَأْسَ بالخِضابِ في حالِ إحْرامِها. وقال القاضى: يُكْرَهُ؛ لكَوْنِه مِن الزِّينَةِ، فأشْبَهَ الكُحْلَ بالإثْمِدِ. فإن فَعَلَتْ، ولم تَشُدَّ يَدَيْها بالخِرَقِ، فلا فِدْيَةَ عليها. وبه قال ¬

(¬1) المَغرَة: الطين الأحمر يُصبغ به. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب المرأة تختضب قبل إحرامها وتمتشط بالطيب، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وكان مالكٌ، ومحمدُ بنُ الحسنِ يَكْرهان الخِضابَ للمُحْرِمَةِ، وألْزَماها الفِدْيَةَ. ولَنا، ما روَى عِكْرِمَةُ، أنَّه قال: كانَتْ عائِشَةُ، وأزْواجُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، يَخْتَضِبْن بالحِنّاءِ، وهُنَّ حُرُمٌ. ولا بَأْسَ بذلك للرجلِ فيما لا تَشَبُّهَ فيه بالنِّساءِ؛ لأنَّ الأصْلَ الإباحَةُ، وليس ههُنا دَلِيلق يَمْنَعُ، مِن نَصٍّ، ولا إجْماعٍ، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ. فصل: ولا بَأْسَ بالنَّظرَ في المِرْآةِ للحاجَةِ، كمُداواةِ جُرْح، أو إزالةِ شَعَرةٍ نَبَتَتْ في عَيْنِه، ونحوِ ذلك ممّا أباحَ الشَّرْعُ له فِعْلَه. وقد رُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، أنَّهما كانا يَنْظران في المِرْآةِ وهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحْرِمان. ويُكْرَهُ أن يَنظرُ فيها لإزالَةِ شَعَثٍ، أو تَسْوِيَةِ شَعَرٍ، أو شئٍ مِن الزِّينَةِ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: لا بَأْسَ أن يَنْظُرَ في المِرْآةِ، ولا يُصْلِحُ شَعرًا، ولا يَنْفُضُ عنه غُبارًا. وقال أيضًا: إذا كان يُرِيدُ زِينَةً، فلا. قِيلَ: فكيف يُرِيدُ زِينَةً؟ قال: يَرَى شَعَرَةً فَيُسَوِّيها. رُوِىَ نحوُ ذلك عن عَطاءٍ؛ لأنَّه قد رُوِىَ في حديثٍ: «إنَّ المُحْرِمَ الأشْعَثَ الأغْبَرَ». وفى آخَرَ: «إنَّ اللهَ يُبَاهِى بِأهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ، فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِى، انْظُرُوا إلَى عِبَادِى، قَدْ اتُوْنِى شُعْثًا غُبْرًا، ضَاحِينَ» (¬1). أو كما جاء. ولا فِدْيَةَ بالنَّظَرَ في المِرْآةِ بحالٍ، وإنَّما ذلك أدَبٌ لا شئَ على فاعِلِه. لا نَعْلَمُ أحَدًا أوْجَبَ في ذلك شيئًا. فصل: وللمُحْرِمِ أن يَحْتَجِمَ، ولا فِدْيَةَ عليه، إذا لم يَقْطَعْ شَعَرًا، في قولِ الجُمْهُورِ؛ لأنَّه تَداوٍ بإخْراجِ دَمٍ، أشْبَهَ الفَصْدَ، وَبَطَّ الجُرْحِ (¬2). وقال مالكٌ: لا يَحْتَجِمُ إلَّا مِن ضَرُورَةٍ. وكان الحسنُ يَرَى في الحِجامَةِ ¬

(¬1) ضاحين: بارزين للشمس. والحديث أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 224، 305. (¬2) بطَّ الجُرح: شقه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَمًا. ولَنا، أنَّ ابنَ عباسٍ روَى أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولم يَذْكُرْ فِدْيَةً. ولأنَّه لا يَتَرَفَّهُ بذلك، أشْبَهَ شُرْبَ الأدْوِيَةِ. وكذلك الحُكْمُ في قَطْعِ العُضْوِ عندَ الحاجَةِ، والخِتانِ، كلُّ ذلك مُباحٌ مِن غيرِ فِدْيَةٍ، فإن احْتَاجَ في الحِجامَةِ إلى قَطْع شَعَرٍ، فله قَطْعُه؛ لِما روَى عَبْدُ اللهِ اينُ بُحَيْنَةَ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ بِلَحْىِ جَمَلٍ (¬2)، في طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَسَطَ رَأسِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ومِن ضَرُورَةِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الحجامة للمحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب الحجامة والقئ للصائم، من كتاب الصوم، وفى: باب الحجم في السفر والإحرام، من كتاب الطب. صحيح البخارى 3/ 19، 43، 7/ 161. ومسلم، في: باب جواز الحجامة للمحرم، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 862، 863. كما أخرجه أبو داود، في: باب المحرم يحتجم، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 426. والترمذى، في: باب كراهية الحجامة للصائم، من أبواب الصوم، وفى: باب ما جاء في الحجامة للمحرم، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 3/ 305، 4/ 69. والنسائي، في: باب الحجامة للمحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 152. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الحجامة للصائم، من كتاب الصيام، وفى: باب الحجامة للمحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 1/ 537، 2/ 1029. والدارمى، في: باب الحجامة للمحرم، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 215، 346، 344، 333، 315، 292، 286، 248، 244، 236، 222، 221، 351، 372، 374. (¬2) لحى جمل: موضع بين مكة والمدينة. فتح البارى 4/ 51. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الحجامة للمحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب الحجامة على الرأس، من كتاب الطب. صحيح البخارى 3/ 19، 7/ 162. ومسلم، في: باب جواز الحجامة للمحرم، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 863. كما أخرجه النسائي، في: باب حجامة المحرم وسط رأسه، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 153. وابن ماجه، في: باب موضع الحجامة، من كتاب الطب. سنن اين ماجه 2/ 1152. والإمام أحمد، في: المسند 345/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك قَطْعُ الشَّعَرِ. ولأنَّه يُباحُ حَلْقُ الشَّعَرِ لِإزَالَةِ أذَى القَمْلِ، فكذلك هذا، وعليه الفِدْيَةُ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَتَصَدَّقُ بشَئٍ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} (¬1) الآية. ولأنَّه حَلَق شَعَرًا لإِزالَةِ ضَرَرٍ غيرِه، فَلَزِمَتْه الفِدْيَةُ، كما لو حَلَقَه لإِزالَةِ قَمْلِهِ. فصل: ويَجْتَنِبُ المُحْرِمُ ما نَهاه اللهُ تَعالى عنه، بقَوْلِه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬2). وهذا صِيغَتُه صِيغَةُ النَّفْىِ، والمُرادُ به النَّهْىُ، كقَوْلِه تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (¬3). والرَّفَثُ الجِمَاعُ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: الرَّفَثُ، غِشْيانُ النِّساءِ، والتَّقْبِيلُ، والغَمْزُ، وأن يَعْرِضَ لها بالفُحْشِ مِن الكَلامِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 196. (¬2) سورة البقرة 197. (¬3) سورة البقرة 233.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ لَغا الكَلامِ. وأنْشَدَ قولَ العَجَّاجِ (¬1): * عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ * وقِيلَ: الرَّفَثُ هو ما يُكْنَى عنه مِن ذِكْرِ الجِماعِ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه أنْشَدَ بَيْتًا فيه التَّصرِيحُ بما يُكْنَى عنه مِن الجِماعِ وهو مُحْرِمٌ (¬2)، فقِيلَ له في ذلك، فقالَ: إنَّما الرَّفَثُ ما رُوجِعَ به النِّساءُ. وفى لَفْظٍ: ما قِيلَ مِن ذلك عندَ النِّساءِ. وفى الجُمْلَةِ، كلُّ ما فُسَر به الرَّفَثُ يَنْبَغِى للمُحْرِمِ أن يَجْتَنِبَه، إلَّا أنَّه في الجِماعِ أظْهَرُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن تَفْسِيرِ الأئِمَّةِ، ولأنَّه قد جاء في مَوْضعٍ آخَرَ، وأُرِيدَ به الجماعُ، وهو قَوْلُه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬3). أمّا الفُسُوقُ: فهو السِّبابُ؛ لقولي النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ».مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وقِيلَ: الفُسُوقُ المعاصِى. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) ديوان العجاج 296. وفى اللسان (ل غ ا) 15/ 250، أنه لرؤبة. قال: ونسبه ابن برى للعجاج. (¬2) البيت في الفلائق 4/ 114، واللسان (رف ث) 2/ 154، والتاج (رف ث) 5/ 263 (الكويت). وانظر تفسير الطبرى 4/ 125 - 134. (¬3) سورة البقرة 187. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ عُمَرَ، وعطاءٍ، وإبراهيمَ. وقالوا أيضًا: الجِدالُ المِراءُ. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ الله عنه: هو أن تُمارِىَ صاحِبَك حتى تُغْضِبَه. والمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِن ذلك كلِّه، قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدتْهُ أُمُّهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال مُجاهِدٌ، في قَوْلِه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. أى: لا مُجادَلَةَ. وقولُ الجُمْهُورِ أوْلَى. فصل: ويُسْتَحَبُّ له قِلَّةُ الكَلامِ، إلَّا فيما يَنْفَعُ؛ صِيانَةً لنَفْسِه عن اللَّغوِ والوُقُوعِ في الكَذِب وما لا يَحِلُّ، فإنَّ مَن كَثُرَ كَلامُه كَثُرَ سَقَطُه. وعن أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِىَ الله عنه، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ». مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل الحج المبرور، وباب قول الله عز وجل {وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 164، 3/ 14. ومسلم، في: باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 983، 984. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، من أبواب. الحج. عارضة الأحوذى 4/ 26. والنسائى، في: باب فضل الحج، من كتاب الجج. المجتبى 5/ 85. وابن ماجه، في: باب فضل الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 965. والدارمى، في: باب فضل الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 31. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 229، 248، 410، 484، 494.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ، تَرْكُه مَا لَا يَعْنِيهِ» (¬2). قال أبو داودَ: أُصُولُ السُّنَنِ أرْبَعَةُ أحاديثَ، هذا أحَدُها. وهذا في حالِ الإحْرام أشَدُّ اسْتِحْبابًا؛ لأنَّه حالُ عِبادَةٍ واسْتِشْعارٍ بطاعَةٍ، فهو يُشْبِهُ الاعْتِكاَفَ. وقد احْتَجَّ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، على ذلك، بأنَّ شُرَيْحًا، رَحِمَه اللهُ، كان إذا أحْرَمَ كأنَّه حَيَّةٌ صَمّاءُ. فيُسْتَحَبُّ للمُحْرِمِ أن يَشْتَغِلَ بالتَّلْبيَةِ، وذِكْرِ اللهِ تعالى، وقِراءةِ القرْآنِ، أو أمْرٍ بمَعْرُوفٍ، أو نَهْى عن مُنْكَرٍ، أو تَعْلِيمِ جاهِلٍ، أو يَأْمُرَ بحاجَتِه، أو يَسْكُتَ، فإن تَكَلَّم بما لا إثْمَ فيه، أو أنْشَدَ شِعْرًا لا يَقْبُحُ، فهو مُباحٌ، ولا يُكْثِرُ، فقد رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه كان على ناقَةٍ له (¬3) وهو مُحْرِمٌ، فجَعَلَ يَقُولُ: كأنَّ راكِبَها غُصْنٌ بِمَرْوَحَةٍ … إذا تَدَلَّتْ به أو شارِبٌ ثَمِلُ (¬4) ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، وباب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه. . . .، من كتاب الأدب، وفى: باب حفظ اللسان. . . .، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى 13/ 8، 39، 125. ومسلم، في: باب الحث على إكرام الجار. . . .، من كتاب الإيمان، وفى: باب الضيافة ونحوها، من كتاب اللقطة. صحيح مسلم 1/ 68، 3/ 1353. أخرجه أبو داود، في: باب في حق الجوار، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 632. والترمذى، في: باب حدثنا سويد. . . .، من أبواب القيامة. عارضة الأحوذى 9/ 309. والإمام مالك، في: باب جامع ما جاء في الطعام والشراب، من كتاب صفة النبى - صلى الله عليه وسلم -. الموطأ 2/ 929. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 174، 267، 433، 31/ 4، 6/ 69، 384، 385. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 628. (¬3) سقط من: م. (¬4) المروحة: المفازة، وهى الموضع الذى تحترقه الريح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ أكْبَرُ، الله أكْبَرُ (¬1). وهذا يدُل على الإباحَةِ. والفَضِيلَةُ ما ذَكَرْناه أوَّلًا، واللهُ أعْلَمُ. فصل: ويَجُوزُ للمُحْرِمِ أن يَتَّجِرَ، ويَصْنَعَ الصنَّائِعَ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما: كان ذُو المَجازِ وعُكاظٌ مَتْجَرَ النّاسِ في الجاهِلِيَّةِ، فلَمّا جاء الإسْلامُ كأنَّهم كَرِهُوا ذلك، حتى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬2). يَعْنِى في مَواسِمِ الحَجِّ (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب لا يضيق على واحد منهما أن يتكلم بما لا يأثم فيه من شعر أو غيره، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 68. (¬2) سورة البقرة 198. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب التجارة أيام الموسم. . . .، من كتاب الحج، وفى: باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}. . . .، وباب الأسواق التى كانت في الجاهلية. . . .، من كتاب البيوع، وفى: باب تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 222، 223، 3/ 69، 81، 82، 6/ 34.

باب الفدية

بَابُ الْفِدْيَةِ وَهِىَ عَلَى ثَلَاَثةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُهَا، مَا هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أحَدُهُمَا، يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنِ صِيَام ثَلَاَثَةِ أيَّام، أوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِين مُدُّ بُرٍّ، اوْ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أوْ ذَبْحِ شَاةٍ، وَهِىَ فِدْيَةُ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَتَقْلِيمِ الْأظْفَار، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَاللُّبْسِ، وَالطِّيبِ. وَعَنْهُ، يَجِبُ الدَّمُ، إِلَّا أَنْ يَفْعَلَهُ لِعُذْرٍ، فَيُخَيَّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الفِدْيَةِ (وهى عَلَى ثَلاَثةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، ما هو على التَّخْييرِ، وهو نَوْعان؛ أحَدُهما، يُخَيَّر فيه بينَ صِيام ثَلاثَةِ أيّامٍ، أوْ إطْعامِ سِتَّةِ مَساكِينَ، [لكلِّ مِسْكِينٍ] (¬1) مُدُّ بُرٍّ، أوْ نِصْفُ صاعِ تَمْرٍ أو شَعِيرٍ، أو ذَبْحِ شاةٍ، وهى فِدْيَةُ حَلْقِ الرَّأْسِ، وتَقْلِيمِ الأظْفارِ، وتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، واللُّبْسِ، والطِّيبِ. وعنه، يَجِبُ الدَّمُ، إلَّا أن يَفْعَلَه لعُذْرٍ، فيُخَيَّرَ) (¬2) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسخ: «فيجب». خطأ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَلامُ في هذه المَسْألةِ في فُصُولٍ؛ أحَدُها، في أنَّ فِدْيَةَ هذه المَحْظُوراتِ على التَّخْيِيرِ، أيُّها شاء فَعَل. والأصْلُ في ذلك قَوْلُه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1). ذَكَرَه بلَفْظِ «أوْ»، وهى للتَّخْيِيرِ. وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَ امُّكَ؟». قال: نعم يا رسولَ اللهِ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاَثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أوِ انْسُكْ شَاةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لَفْظٍ: «أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ». فدَلَّتِ الآيَةُ والخَبَرُ على وُجُوبِ الفِدْيَةِ على صِفَةِ التَّخْيِيرِ بينَ الذَّبْحِ والإطْعامِ والصيامِ في حَلْقِ ¬

(¬1) سورة البقرة 196. (¬2) تقدم تخريجه في 145/ 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّعَرِ، وقِسْنا عليه تَقْلِيمَ الأظْفارِ، واللُّبْسَ، والطِّيبَ؛ لأنَّه حُرِّمَ في الإحْرامِ لأجْلِ التَّرَفُّهِ، فأشْبَهَ حَلْقَ الشَّعَرِ. ولا فَرْق في الحَلْقِ بينَ المَعْذُورِ وغيرِه، في ظاهِرِ المَذْهَب، والعامِدِ والمُخْطِيءِ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ. وعن أحمدَ، أنَّه إذا حَلَق لغيرِ عُذرٍ، فعليه دَمٌ مِن غيرِ تَخْيِيرٍ. اختارَه ابنُ عقيلٍ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى خَيَّرَ بشَرْطِ العُذْرِ، فإذا عُدِم العُذْرُ، زال التَّخْيِيرُ. ولَنا، أنَّ الحُكْمَ ثَبَت في غيرِ المَعْذُورِ بطرَيقِ التَّنْبِيهِ تَبَعًا له، والتبَّعَ لا يُخالِفُ أصْلَه. ولأنَّ كلَّ كَفّارَةٍ ثَبَت التَّخْييرُ فيها مع العُذْرِ، ثَبَت مع عَدَمِه، كجَزاءِ الصَّيْدِ، لا فَرْقَ بينَ قَتْلِه للضَّرُورَةِ إلى أكْلِه، أو لغيرِ ذلك، وإنَّما الشَّرْطُ لجوازِ الحَلْقِ، لا للتَّخْيِيرِ. الفَصْلُ الثّانِى، أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ الثَّلاثَةِ المَذْكُورَةِ في الحديثِ، وهى صِيامُ ثَلاَثةِ أيامٍ، أو إطْعامُ سِتَّةِ مساكِينَ، لكلِّ مِسْكِين مُدُّ بُرٍّ، أو نِصْفُ صاعِ تَمْرٍ أو شَعِيرٍ، أو ذَبْخُ شاةٍ، وقد دَلَّ الحديثُ المَذْكُورُ على ذلك. وفى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَفْظٍ: «أوْ أطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ». وفى لَفْظٍ: «فَضُمْ ثَلَاَثةَ أيَّام، وَإنْ شِئْتَ، فَتَصَدَّقْ بِثَلَاَثةِ آصُعٍ مِن تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ». رَواه أبو داودَ (¬1). وبهذا قال مُجاهِدٌ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ. وقال الحسنُ، وعِكْرِمَةُ، ونافِعٌ: الصِّيامُ عَشَرَةُ أيّامٍ، والصَّدَقَةُ على عَشَرَةِ مَساكِينَ. ويُرْوَى عن الثَّوْرِيِّ وأصحابِ الرَّأْىِ، قالوا: يُجْزِئُ مِن البُرِّ نِصْفُ صاعٍ ومِن التَّمْرِ والشَّعِيرِ صاعٌ. فصل: والحديثُ إنَّما ذُكِرَ فيه التَّمْرُ، ويُقاسُ عليه البُرُّ والشَّعِيرُ والزَّبِيبُ؛ لأنَّ كلَّ مَوْضعٍ أجْزَأ فيه التَّمْرُ، أجْزَأ ذلك فيه، كالفِطْرَةِ، وكَفّارَةِ اليَمينِ. وقد روَى أبو داودَ في حديثِ كَعْبِ بنِ عُجْزَةَ، قال: فدَعانِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لى: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاَثَةَ أيَّام، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِن زَبِيبٍ، أوِ انْسُكْ شَاةً». ولا يُجْزِئُ مِن هذه الأصْنافِ أقَلُّ مِن ثَلاَثَةِ آصُعٍ، إلَّا البُرَّ ففيه رِوايَتانِ؛ ¬

(¬1) انظر تخريج حديث كعب بن عجرة في 2/ 145.

1215 - مسألة: النوع (الثانى، جزاء الصيد؛ يتخير فيه بين المثل وتقويمه بدراهم يشترى بها طعاما، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم عن كل مد يوما، وإن كان مما لا مثل لة، خير بين الإطعام والصيام. وعنه، أن جزاء الصيد على الترتيب، فيجب المثل، فإن لم يجد، لزمه الإطعام، فإن لم يجد، صام)

الثَّانِى، جَزَاءُ الصَّيْدِ؛ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْمِثْلِ أوْ تَقْوِيمِهِ بِدَرَاهِمَ يَشْتَرِى بِهَا طَعَامًا، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِين مُدًّا، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، خُيِّرَ بَيْنَ الإطْعَامِ وَالصِّيَامِ. وَعَنْهُ، أنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ، فَإِن لَمْ يَجِدْ، لَزِمَهُ الإطْعَامُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، صَامَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهما، يُجزِى مُدُّ بُرٍّ لكلِّ مِسْكِينٍ مكانَ نِصْفِ صاعٍ مِن غيرِه، كما في كَفّارَةِ اليَمِينِ. والثّانِيَةُ، لا يُجْزِئُ إلَّا نِصْفُ صاعٍ؛ لأنَّ الحُكْمَ ثَبَت فيه بطرَيقِ التَّنْبِيهِ أو القِياسِ، والفَرْعُ يُماثِلُ أصْلَه، ولا يُخالِفُه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. فصل: ومَن أبِيحَ له حَلْقُ رَأْسِه، جاز له تَقْدِيمُ الكَفّارَةِ على الحَلْقِ، فَعَلَه علىٌّ رَضِىَ الله عنه، ولأنَّها كَفّارَةٌ، فجاز تَقْدِيمُها على وُجُوبِها، ككَفّارَةِ اليَمِينِ. الفَصْلُ الثّالِثُ، أنَّهْ لا فَرْقَ بينَ فِعْلِها لعُذْرٍ أو غيرِه، وقد ذَكَرْناه. 1215 - مسألة: النَّوْعُ (الثّانِى، جَزاءُ الصَّيْدِ؛ يَتَخَيَّرُ فيه بينَ المِثْلِ وتَقْويمِه بدَرَاهِمَ يَشْتَرِى بها طَعامًا، فيُطْعِمُ لكلِّ مِسْكِين مُدًّا، أو يَصُومُ عن كلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وإن كان ممّا لا مِثْلَ لة، خُيِّرَ بينَ الإطْعامِ والصِّيامِ. وعنه، أنَّ جَزاءَ الصَّيْدِ على التَّرْتِيبِ، فيَجِبُ المِثْلُ، فإن لم يَجدْ، لَزِمَه الإطْعامُ، فإن لم يَجِدْ، صام) الكَلامُ في هذه المسألةِ في فُصُولٍ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، في وُجُوبِ الجَزاءِ على المُحْرِمِ في قَتْلِ الصَّيدِ، وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على وُجُوبِه في الجُمْلَةِ، وقد نَصَّ الله تعالى عليه بقَوْلِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). نَصَّ على وُجُوبِ الجَزاءِ على المُتَعَمِّدِ. وقد ذكَرناه. الفَصْلُ الثّانِى، أنَّه على التَّخْيِيرِ بينَ الأشْياءِ المَذْكُورَةِ، بأيِّها شاء كَفَّرَ، مُوسِرًا كان، أو مُعْسِرًا. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، أنَّها على التَّرْتِيبِ، فيَجِبُ المِثْلُ أوَّلًا، فإن لم يَجِدْ أطْعَمَ، فإن لم يَجِدْ صام. رُوِىَ هذا عن ابنِ عباسٍ، والثَّوْرِىِّ، ولأنَّ هَدْىَ المُتْعَةِ على التَّرْتِيبِ، وهذا آكَدُ منه؛ لأنَّه بفِعْلِ مَحْظورٍ. وعنه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه لا إطْعامَ في كَفّارَةِ الصَّيْدِ؛ وإنَّما ذَكَرَه في الآيَةِ ليَعْدِلَ به الصِّيامَ، لأنَّ مَن قَدَر على الإِطْعامِ قَدَر على الذَّبْحِ. ¬

(¬1) سورة المائدة 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هكذا قال ابنُ عباسٍ. وهذا قولُ الشافعىِّ. ولَنا، قَوْلُه سُبْحانَه: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. و «أوْ» في الأمْرِ للتَّخْيِيرِ. رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: كلُّ شئٍ «أوْ» فهو مُخَيَّرٌ، وأمّا ما كان «فإنْ لَمْ يَجِدْ» فهو الأوَّلُ فالأوَّلُ] (¬1). ولأنَّه عَطَف هذه الخِصالَ بَعْضَها على بَعْض بـ «أو»، فكانَ مُخَيَّرًا في جَمِيعِها، كفِدْيَةِ الأذَى. وقد سمَّى الله تعالى الطَّعامَ كَفّارَةً، ولا يَكُونُ كَفّارَةً ما لم يَجِبْ إخْراجُه وجَعْلُه طَعامًا للمَساكِينِ، وما لا يَجُوزُ صَرْفُه إليهم لا يَكُونُ طَعامًا لهم. ولأنَّها كَفّارَةٌ ذَكَر فيها الطَّعامَ، فكانَ من خِصالِها كسائِرِ الكَفّاراتِ، وقَوْلُهم: إنَّها وَجَبَتْ بفِعْلِ مَحْظورٍ. يَبْطُلُ بفِدْيَةِ الأذَى. على أنَّ لَفْظَ النَّصِّ صَرِيحٌ في التَّخْيِيرِ، فليس تَرْكُ مَدْلُولِه قِياسًا على هَدْىِ المُتْعَةِ بأوْلَى مِن العَكْسِ، فكما لا يَجُوزُ ثَمَّ، لا يَجُوزُ هنا. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اخْتارَ المِثْلَ، ذَبَحَه وتَصَدَّقَ به على فُقَراءِ الحَرَمِ، ولا يُجْزِئُه أن يَتَصَدَّقَ به حَيًّا على المَساكِينِ؛ لأنَّ اللهَ سُبْحانَه سَمّاهُ هَدْيًا، والهَدْىُ يَجِبُ ذَبْحُه، ش له ذَبْحُه أىَّ وَقْتٍ شاء، ولا يَخْتَصُّ (¬1) ذلك بأيَّام النَّحْرِ؛ لأنَّ الأمْرَ به مُطْلَقٌ. الَفَصْلُ الثّالِثُ، أنَّه مَتَى اخْتارَ الِإطْعامَ، فإنَّه يُقَوِّمُ المِثْلَ بدَرَاهِمَ، والدَّراهِمَ بطَعامٍ، ويَتَصَدَّق به على المَساكِينِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: يُقَوِّمُ الصَّيْدَ، لا المِثْلَ. وحَكَى ابنُ أبي موسى رِوايَةً مِثْلَ ذلك. وحَكَى رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه إن شاء اشْتَرَى بالدَّراهِمِ طَعامًا، فَتَصَدَّقَ به، وإن شاء تَصَدَّقَ بالدَّراهِمِ. وَجْهُ قولِ مالكٍ، أنَّ التَّقْوِيمَ إذا وَجَب لأجْلِ الإتْلافِ قُوِّمَ المُتْلَفُ، كالذى لا مِثْلَ له. ولَنا على مالكٍ، أنَّ كلَّ مُتْلَفٍ وَجَب فيه المِثْلُ، إذا قُوِّمَ وَجَبَتْ قِيمَةُ مِثْلِه، كالمِثْلِىِّ مِن مالِ الآدَمِىِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «يخص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى أنَّه لا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ بالدَّراهِمِ، أنَّ اللهَ سُبْحانَه إنَّما ذَكَر في الآيَةِ التَّخْيِيرَ بينَ ثَلاَثَةِ أشْياءَ، وهذا ليسَ منها. والطَّعامُ المُخْرَجُ هو الذى يُخْرَجُ في الفِطرةِ وفِدْيَةِ الأذَى مِن التَّمْرِ والزَّبِيبِ. والبُرُّ والشَّعِيرُ، قياسًا عليه، ويَحْتَمِل أن يُجزِئَ كلُّ ما يُسَمَّى طَعامًا؛ لدُخُولِه في إطْلاقِ اللَّفْظِ. الفَصْلُ الرّابعُ، أنَّه يُطْعِمُ كلَّ مِسْكِينٍ مِن البُرِّ مُدًّا، يَدْفَعُ إليه في كَفّارَةِ اليَمِينِ، ومِن سائِرِ الأصْنافِ، نِصْفَ صاعٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه اللهُ تَعالى، في إطعامِ المَساكِينِ، في الفِدْيَةِ والجَزاءِ وكَفّارَةِ اليَمِينِ: إن أطْعَمَ بُرًّا، فمُدٌّ لكلِّ مِسْكِين، وإن أطْعَمَ تَمْرًا، فنِصْفُ صاعٍ لكلِّ مِسْكِينٍ. ولَفْظُ شيخِنا ههُنا مُطْلقٌ في أنَّه يُطْعِمُ لكلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، ولم يُفَرِّقْ بينَ الأصْنافِ. وكذلك ذَكَرَه الخِرَقِىُّ مُطلَقًا. والأوْلَى أنَّه لا يَجْتَزِئُ مِن غيرِ البُرِّ بأقَلَّ مِن نِصْفِ صاعٍ؛ لأنَّه لم يَرِدِ الشرعُ في مَوْضِعٍ بأقَلَّ مِن ذلك في طُعْمَةِ المَساكِينِ، وهذا لا تَوْقِيفَ فيه، فيُرَدُّ إلى نُظرَائِه. ولا يُجْزِئُ إخْراجُ الطَّعامِ إلَّا على مَساكِينِ الحَرَمِ؛ لأنَّه قائِمٌ مَقامَ الهَدْىِ الواجِبِ لهم، فيَكُونُ أيْضًا لهم، كقِيمَةِ المِثْلِىِّ مِن مالِ الآدَمِىِّ. الفَصْلُ الخامِسُ، أنَّه يَصُومُ عن كلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وهو قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءٍ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّها كَفّارَة دَخَلَها الصِّيامُ والإطْعامُ، فكانَ اليَوْمُ في مُقابَلَةِ المُدِّ، ككَفّارَةِ الظِّهارِ. وعن أحمدَ، رَحِمَه الله، أنَّه يَصُومُ عن كلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ، وابنِ المُنْذِرِ. قال القاضى: المسألةُ رِوايَةٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدَةٌ، واليَوْمُ عن مُدِّ بُرٍّ، أو نِصْفِ صاعٍ مِن غيرِه. وكَلامُ أحمدَ في الرِّوايَتَيْن مَحْمولٌ على اخْتِلافِ الحالَيْن؛ لأنَّ صَوْمَ اليَوْمِ مُقابِلُ إطْعام المِسْكِينِ، وإطْعامُ المِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ، أو نِصْفُ صاعٍ مِن غيرِه، ولأنَّ اللهَ تعالى جَعَل اليَوْمَ في كَفّارَةِ الظِّهارِ في مُقابَلَةِ إطْعامِ المِسْكِينِ، فكذا ههُنا. وروَى أبو ثَوْرٍ، أنَّ كَفّارَةَ الصَّيْدِ مِن الإطْعامِ والصِّيامِ مِثْلُ كَفّارَةِ الاَدَمِيِّ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ رَضِىَ اللهُ عنهما. ولَنا، أنَّه جَزاءٌ عن مُتْلَفٍ، فاخْتَلَفَ باخْتِلافِه، كبَدَلِ مالِ الآدَمِىِّ. ولأنَّ الصحابَةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم، حينَ قَضَوْا في الصَّيدِ قَضَوْا فيه مُخْتَلِفًا. فصل: فإن بَقِىَ مِن الطَّعامِ ما لَا يَعْدِلُ يَوْمًا، كدُونِ المُدِّ، صام عنه يومًا كامِلًا. كذلك قال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، وحَمّادٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَهم؛ لأنَّ الصَّوْمَ لا يَتَبَعَّضُ، فيَجِبُ تَكْمِيلُه. ولا يَجِبُ التَّتابُعُ في الصِّيامِ. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأىِ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحانَه أمَرَ به مُطْلَقًا، فلا يَتَقَيَّدُ بالتَّتابُعِ مِن غيرِ دَلِيلٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجُوزُ أن يَصُومَ عن بعضِ الجَزاءِ، ويُطْعِمَ عن بَعْضٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ (¬1)، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وجَوَّزَه محمدُ بنُ الحسنِ، إذا عَجَز عن بعضِ الإطْعامِ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّها كَفّارَةٌ واحِدَةٌ، فلم يَجُزْ فيها ذلك، كسائِرِ الكَفّاراتِ. فصل: وإن كان ممّا لا مِثْلَ له مِن الصَّيْدِ، يُخَيَّرُ قاتِلُهُ، بينَ أن يَشْتَرِىَ بقِيمَتِه طَعامًا، فيُطْعِمَه للمَساكِينِ، وبينَ أن يَصُومَ، لتَعَذُّرِ المِثْلِ. وهل يَجُوزُ إخْراجُ القِيمَةِ؟ فيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، فإنَّه قال: إذا أصاب المُحْرِمُ صَيْدًا، ولم يُصِبْ له عَدْلَ حُكْمٍ عليه، قَوَّمَ طَعامًا، إن قَدَر على طَعامٍ، وإلَّا صام لكلِّ نصْفِ صاعٍ يومًا. هكذا يُرْوَى عن ابنِ عباسٍ. ولأنَّه جَزاءُ صَيْدٍ، فلم يَجُزْ إخْراجُ القِيمَةِ فيه، كالذى له مِثْلٌ، ولأن اللهَ تعالى خَيرَّ بَينَ ثَلاَثَةِ ¬

(¬1) سقط من: م.

[66 ظ] فصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِى عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهُوَ ثَلاَثةُ أنْوَاعٍ؛ أحَدُهَا، دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَيَجِبُ الْهَدْىُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ ثَلَاَثَةِ أَيَّام فِى الْحَجِّ، وَالأفْضَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَإنْ صَامَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَجْزأَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْياءَ، ليس منها القِيمَةُ، فإذا عَدِم أحَدَ الثَّلاثَةِ، يَبْقَى التَّخْيِيرُ بينَ الشَّيئَيْن الباقِيَيْن، فأمّا إيجابُ شئٍ غيرِ المَنْصُوصِ عليه فلا. والثّانِى، يَجُوزُ إخْراجُ القِيمَةِ؛ لأنًّ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنه، قال لكَعْبٍ: ما جَعَلْتَ على نَفْسِك؟ قال: دِرْهَمَيْن. قال: اجْعَلْ ما جَعَلْتَ على نَفْسِك (¬1). وقال. عَطاءٌ: في العُصْفُورِ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وظاهِرُه إخْراجُ الدّراهِمِ الواجِبَةِ. وعنه، أنَّ جَزاءَ الصَّيْدِ على التَّرْتِيبِ. وقد ذَكَرْناه. فصل: قال رَضِىَ الله عنه: (الضَّرْبُ الثّانِي على التَّرْتِيبِ، وهو ثَلاَثةُ أنْواعٍ، أحَدُها، دمُ المُتْعَةِ والقِرانِ، فيَجبُ الهَدْىُ، فإن لم يَجِدْ، فصِيامُ ثَلاثَةِ أيّام في الحَجِّ، والأفْضَلُ أن يَكُونَ آَخِرُها يومَ عَرَفَةَ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَع إلى أهْلِه، وإن صامَهُا قبلَ ذلك، أجْزَأه) لا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ الدَّمِ على المُتَمَتِّع والقارِنِ، وقد ذَكَرْناه فيما مَضَى، وذَكَرْنا شُرُوطَ وُجُوبِ الدَّمِ، فإن لم يَجِدْ فصِيامُ ثَلاَثةِ أيّامٍ في الحَجِّ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَع إلى أهْلِه؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1). وتُعْتَبَرُ القدْرَةُ على الهَدْىِ في مَوْضِعِه، فمتى عَدِمَه في مَوْضِعِهِ، جاز له الانْتِقالُ إلى الصِّيامِ، وإن كان قادِرًا عليه في بَلَدِه؛ لأنَّ وُجُوبَه مُوَقَّت، فاعْتبِرَت له القدْرَة عليه في مَوْضِعِه، كالماءِ في الطّهارَةِ، إذا عَدِمَه في مَكانِه انتقَلَ إلى التُّرابِ. فصل: ولكلِّ واحِدٍ مِن صَوْم الثَّلاثَةِ والسَّبعَةِ وَقْتان؛ وَقْتُ اسْتِحْبابٍ، وَوَقْتُ جَوازٍ. فأمّا الثَّلاَثَةُ، فالأفْضَلُ أن يَكونَ آخِرها يَوْمَ عَرَفَةَ. يُرْوَى ذلك عن عَطاءٍ، وطاوُسٍ، والشَّعْبِىِّ، ومُجاهِدٍ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعَلْقَمَةَ، وأصحابِ الرَّأْىِ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، رَضِىَ الله عنهما، أنَّه يَصُومُهُنَّ ما بينَ إهْلالِه بالحَجِّ ويَوْمِ عَرَفَةَ. وظاهِرُ هذا أنَّه يَجْعَل آخِرَها يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؛ لأنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بعَرَفَةَ غير مُسْتَحَبٍّ. وذَكَر القاضى في «المُجَرَّدِ» ذلك مَذْهَبُ أحمدَ. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ ما ذَكَرْناه أولًا، وإنَّما أوْجَبْنا له صَوْمَ ¬

(¬1) سورة البقرة 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَوْمِ عرَفَةَ ههُنا لمَوْضِعِ الحاجَةِ. وعلى هذا القَوْلِ، يُسْتَحَبُّ له تَقْدِيمُ الإحْرامِ بالحَجِّ قبلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ ليَصُومَها في الحَجِّ، فإن صام منها شَيْئًا قبلَ إحْرامِه بالحَجِّ، جاز. نَصَّ عليه. فأمّا وَقْتُ جَوازِ صِيامِها، فإذا أحْرَمَ بالعُمْرَةِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وعن أحمدَ: إذا حَلَّ مِن العُمْرَةِ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: لا يَجُوزُ إلَّا بعدَ الإحْرامِ بالحَجِّ. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وهو قولُ إسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. ولأنَّه صِيامٌ واجِبٌ، فلم يَجُزْ تَقْدِيمُه على وَقْتِ وُجُوبِه، كسائِرِ الصِّيامِ الواجِبِ. ولأنَّ ما قَبْلَه وَقْتٌ لا يَجُوزُ فيه المُبْدَلُ، فلم يَجُزْ فيه البَدَلُ، كقَبْلِ الإِحْرامِ بالعُمْرَةِ. وقال الثَّوْرِيُّ والأوْزاعِىُّ: يَصُومُهُنَّ مِن أوَّلِ العَشْرِ إلى يومِ عَرَفَةَ. ولَنا، أنَّ إحْرامَ العُمْرَةِ أحَدُ إحْرامَىِ التَّمَتُّعِ، فجاز الصَّوْمُ بعدَه، كإحْرامِ الحَجِّ. وأمّا قَوْلُه: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. فقِيلَ: مَعْناه في أشْهُرِ الحَجِّ، فإنَّه لابُدَّ فيه مِن إضْمارٍ، إذا كان الحَجُّ أفْعالًا لا يُصامُ فيها، إنَّما يُصامُ في وَقْتِها، أو في أشْهُرِها، فهو كقَوْلِه سُبْحانَه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1). وأمّا تَقْدِيمُه على وَقْتِ الوُجُوبِ، فيَجُوزُ إذا وُجِدَ السَّبَبُ، ¬

(¬1) سورة البقرة 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ على الحِنْثِ وزُهُوقِ النَّفْسِ، وأمّا كَوْنُه بَدَلًا فلا يُقَدَّمُ على المُبْدَلِ، فقد ذَكَرْنا رِوايَةً في جَوازِ تَقدِيمِ الهَدْىِ على الإِحْرامِ بالحَجِّ، فكذلك الصومُ. فصل: فأمّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ على إحْرامِ العُمْرَةِ، فلا يَجُوزُ. لا نَعْلَمُ قائِلًا بجَوازِه. إلَّا رِوايَةً عن أحمدَ، حَكاها بعضُ الأصحابِ، وليس بشئٍ؛ لأنَّه تَقدِيمُ الصومِ على سَبَبِه ووُجُوبِه، ومُخالِفٌ لقولِ أهْلِ العِلْمِ. وأحمدُ، رَحِمَه الله، يُنَزَّهُ عن هذا. وأمّا السَّبْعَةُ فلها وَقْتان؛ وَقْتُ اخْتِيارٍ، وَوَقْتُ جَوازٍ، أمّا وَقْتُ الاخْتِيارِ فإذا رَجَع إلى أهْلِه؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضىَ الله عنهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ فِى الْحَجِّ، وسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وأمّا وَقْتُ الجَوازِ، فإذا مَضَتْ أيّامُ التَّشْرِيقِ، قال الأثْرَمُ: سُئِلَ أحمدُ: هل يَصُومُ بالطَّرِيقِ أو بمَكَّةَ؟ قال: كيف شاء. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وعن عَطاءٍ، ومُجاهِدٍ: يَصُومُها في الطَّريقِ. وهو قولُ إسْحاقَ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: يَصُومُها إذا رَجَع إلى أهْلِه؛ للخَبَرِ. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وهو قولٌ للشافعىِّ. وله قولٌ كقَوْلِنا، وكقَوْلِ إسْحاقَ. ولَنا، أنَّ كلَّ صوْم لَزِمَه وجاز في وَطَنِه، جاز قبلَ ذلك، كسائِرِ الفُرُوضِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 157.

1216 - مسألة: (فإن لم يصم قبل يوم النحر، صام أيام منى. وعنه، لا يصومها، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام، وعليه دم)

فَإِنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى. وَعَنْهُ، لَا يَصُومُهَا، وَيَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّام، وَعَلَيْهِ دَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا الآيَةُ، فإنَّ اللهَ سُبْحانَه جَوَّزَ له تَأْخِيرَ الصِّيامِ الواجِبِ؛ تَخْفِيفًا عنه، فلا يَمْنَعُ ذلك الإِجْزاءَ قَبلَه، كتَأْخِيرِ صَوْمِ رمضانَ في السَّفَرِ والمَرَضِ، بقَوْلِه سُبْحانَه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). لأَنَّ الصَّوْمَ وُجِدَ مِن أهْلِه بعدَ وُجُودِ سَبَبِه، فأجْزأ، كصَوْمِ المُسافِرِ والمَرِيضِ. 1216 - مسألة: (فإن لم يَصُمْ قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ، صام أيَّامَ مِنًى. وعنه، لا يَصُومُها، ويَصُومُ بعدَ ذلك عَشَرَةَ أيَّامٍ، وعليه دَمٌ) إذا لم يَصُم المُتَمَتِّعُ الثَّلاثَةَ الأيَّامِ في الحَجِّ؛ فإنَّه يَصُومُها بعدَ ذلك. وبهذا قال علىٌّ، وابنُ عُمَرَ، وعائشةُ، وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. ويُرْوَى عن ابنِ عباسٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ: إذا فاته الصومُ في العَشْرِ، ¬

(¬1) سورة البقرة 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَصُمْ بعدَه، واسْتَقَرَّ الهَدْىُ في ذِمَّتِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى، قال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. ولأنَّه بَدَلٌ مُوَقَّتٌ، فيَسْقُطُ بخُرُوجِ وَقْتِه، كالجُمُعَةِ. ولَنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فلم يَسْقُطْ بخُرُوجِ وَقْتِه، كصَوْمِ رمضانَ. والآيَةُ تَدُلُّ على وُجُوبِه في الحَجِّ، لا على سُقوطِه، والقياسُ مُنتقِضٌ بصَوْمِ الظِّهارِ، إذا قَدَّمَ المَسِيسَ عليه، والجُمُعَةُ ليست بَدَلًا، إنَّما هى الأصْلُ، وإنَّما سَقَطَتْ لأنَّ الوَقْتَ جُعِلَ شَرْطًا لها، كالجَماعَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَصُومُ أيَّامَ مِنًى. وهذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، وعُرْوَةَ، وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، وإسْحاقَ، والشافعىِّ في القَدِيمِ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، وعائِشَة، رَضِىَ اللهُ عنهما، قالا: لم يُرَخَّصْ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ أن يُصَمْنَ إلَّا لمن لم يَجِدِ الهَدْىَ. رَواه البخارىُّ (¬1). وهذا يَنْصَرِفُ إلى تَرْخِيصِ ¬

(¬1) في: باب من ساق البدن معه، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 205، 206.

وَعَنْهُ، إنْ تَرَكَ الصّوْمَ لِعُذْرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَضَاؤُهُ، وَإنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ الله تعالى أمَرَ بصِيامِ هذه الأيّامِ الثَّلاثَةِ في الحَجِّ، ولم يَبْقَ مِن الحَجِّ إلَّا هذه الإيَّامُ، فيَتَعَيَّينُ الصومُ فيها، فإذا صام هذه الأيّامَ، فحُكْمُه حُكْمُ مَن صام قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه لا يَصُومُ أيَّامَ مِنًى. رُوِىَ ذلك عن عليٍّ، والحسنِ، وعَطاءٍ وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صومِ سِتَّةِ أيَّامٍ، ذَكَر منها أيَّامَ التَّشْرِيقِ (¬1)، ولأنَّها لا يَجُوزُ فيها صَوْمُ النَّفْلِ، فلا يَصُومُها عن الفَرْضِ، كيَوْم النَّحْرِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ يَصُومُ بعدَ ذلك عَشْرَةَ أيَّامٍ. وكذلك الحُكْمُ إذا قُلْنا بِصَوْمِ أيَّامِ مِنًى، فلم يَصُمْها. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في وُجُوبِ الدَّمِ عليه، فعنه، عليه دَمٌ، لأنَّه أخَّرَ الواجِبَ مِن مَناسِكِ الحَجِّ عن وَقْتِه، فلَزِمَه دَمٌ، كرَمْىِ الجِمارِ، ولا فَرْقَ بينَ المُؤَخِّرِ لعُذْرٍ أو لغَيْرِه؛ لِما ذَكَرْنا. وقال القاضى: إنَّما يَجبُ الدَّمُ إذا أخَّرَه لغيرِ عُذْرٍ، [فإن أخَّرَه لعُذْرٍ] (¬2)، فليس عليه إلَّا قَضاؤُه؛ لأنَّ الدَّمَ الذى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 543. (¬2) سقط من: م.

1217 - مسألة: (وقال أبو الخطاب: إن أخر الصوم أو الهدى لعذر، لم يلزمه إلا قضاؤه، وإن أخر الهدى لغير عذر، فهل يلزمه دم آخر؟ على روايتين. قال: وعندى أنه لا يلزمه مع

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ أَخَّرَ الْهَدْىَ أوِ الصَّوْمَ لعُذْرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَضَاؤُهُ، وَإنْ أَخَّرَ الْهَدْىَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ آخَرُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. قَالَ: وَعِنْدِى أنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَعَ الصَّوْمِ دَمٌ بِحَالٍ، وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِى الصِّيَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو المُبْدَلُ، لو أخَّرَه لعُذْرٍ لم يَكُنْ عليه دَمٌ لتَأْخِيرِه، فالبَدَلُ أوْلَى. ورُوِىَ ذلك عن أحمدَ. 1217 - مسألة: (وقال أبو الخَطّاب: إن أخَّر الصَّوْمَ أو الهَدْىَ لعُذْرٍ، لم يَلْزَمْه إلَّا قَضاؤه، وإن أخَّرَ الهَدْىَ لغَيْرِ عُذْرٍ، فهل يَلْزَمُه دَمٌ آخَرُ؟ على رِوايَتَيْن. قال: وعندى أنَّه لا يَلْزَمُه مع (¬1) الصَّوْمِ دَمٌ بحالٍ، ولا يَجِبُ التَّتابُعُ في الصيامِ) إذا أخَّرَ الهَدْىَ الواجِبَ لعُذْرٍ، مِثْلَ أن ¬

(¬1) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضاعَتْ نَفَقَتُه، فليس عليه إلَّا قَضاؤُه، كسائِرِ الهَدايا الواجِبَةِ. وإن أخَّرَه لغيرِ عُذْرٍ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، ليس عليه إلّا قَضاؤه، كسائِرِ الهَدايا. والثّانِيَةُ، عليه هَدْيٌ آخَرُ؛ لأنَّه نُسُكٌ مُوَقَّتٌ، فَلَزِمَه الدَّمُ بتَأخِيرِه عن وَقْتِه، كرَمْىِ الجِمارِ. قال أحمدُ: مَن تَمَتَّعَ، فلم يُهْدِ إلى قابِلٍ، يُهدى هَدْيَيْن. كذلك قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنه. وأمّا إذا أخَّرَ الصومَ، فقد ذَكَرْنا أنَّه يَجِبُ عليه الدَّمُ، إذا كان تَأْخِيرُه لغيرِ عُذْرٍ. اخْتاره القاضى. وإن كان لعُذْرٍ، ففيه رِوايتان. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه لا يَلْزَمُه مع الصَّوْمِ دَمٌ بحالٍ. وهذا اخْتِيارُ أبي الخَطّابِ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه صَوْمٌ واجِبٌ يَجِبُ القَضاءُ بفَواتِه، فلم يَجِبْ بفَواتِه دَمٌ، كصَوْمِ رَمضانَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ التَّتابُعُ في صِيامِ التَّمَتُّع، لا في الثَّلاثةِ، ولا في السَّبْعَةِ، ولا التَّفْرِيقُ (¬1). نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه اللهُ،؛ لأنَّ الأمْرَ وَرَد بها مُطْلَقًا، وذلك لا يَقْتَضِى جَمْعًا (¬2) ولا تَفْرِيقًا. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ وإسْحاقَ وغيرِهما. وقال بعضُ الشافعيَّةِ: إذا أخَّرَ الثَّلاثَةَ وصام السَّبْعَةَ، فعليه التَّفْرِيقُ؛ لأنَّه وَجَب مِن حيثُ الفِعْلُ، وما وَجَب التَّفْرِيقُ فيه مِن حيثُ الفِعْلُ لا يَسْقُطُ بفَواتِ وَقْتِه، كأفْعالِ الصلاةِ مِن الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. ولَنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فَعَلَه في زَمَن يَصِحُّ الصَّوْمُ فيه، فلم يَجِبْ تَفْرِيقُه، كسائِرِ الصَّوْمِ، ولا نُسَلِّمُ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ في الأداءِ، فإنَّه إذا صام أيّامَ مِنًى، وأتْبَعَها السَّبْعَةَ، فما حَصَل التَّفْرِيقُ. وإن سَلَّمْنا وُجُوبَ التَّفْرِيقِ في الأداءِ، فإنَّما كان مِن حيثُ الوَقْتُ، فإذا فات الوَقْتُ سَقَط، كالتَّفْرِيقِ بينَ الصلاَتَيْن. فصل: ووَقْتُ وُجُوبِ الصومِ وَقْتُ وُجُوبِ الهَدْىِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عنه، ¬

(¬1) في م: «في التفريق». (¬2) في م: «حجًّا».

1218 - مسألة: (ومتى وجب عليه الصوم، فشرع فيه، ثم قدر على الهدى، لم يلزمه الانتقال إليه، إلا أن يشاء)

وَمَتَى وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، فَشَرَعَ فِيهِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْىِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ سائِرَ الأبْدالِ، فإن قِيلَ: فكيفَ جَوَّزْتُم الانْتِقالَ إلى الصومِ قبلَ زَوالِ وُجُوبِ المُبْدَلِ، فلم يَتَحَقَّقِ العَجْزُ عن المُبْدَلِ؛ لأنَّه إنَّما يَتَحَقَّقُ العَجْزُ المُجَوِّزُ للانْتِقالِ إلى المُبْدَلِ زمنَ الوُجُوبِ، فكيفَ جَوَّزْتُم الصومَ قبلَ وُجُوبِه؟ قُلْنا: إنَّما جَوَّزْنا له الانْتِقالَ إلى المُبْدَلِ؛ بناءً على العَجْزِ الظّاهِرِ، فإن الظّاهِرَ مِن المعْسِرِ اسْتِمْرارُ إعسارِه وعَجْزِه، كما جَوَّزْنا التَّكْفِيرَ قبلَ وُجُوبِ المُبْدَلِ، وأمّا تَجْوِيزُ الصومِ قبلَ وُجُوبِه، فقد ذَكَرْناه. 1218 - مسألة: (ومتى وَجَب عليه الصومُ، فشَرَعَ فيه، ثم قَدَر على الهَدْىِ، لم يَلْزَمْه الانْتِقالُ إليه، إلَّا أن يشاء) هذا قولُ الحسنِ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقال ابن أبِى نَجِيحٍ (¬1)، وحَمّادٌ، ¬

(¬1) أبو يسار، عبد الله بن أبي نَجِيحٍ، واسم أبيه يسار مولى الأخنس بن شريق الصحابي، كان مفتى مكة بعد عطاء، وأخذ التفسير عن مجاهد، وكان أخص الناس به. مات سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائة. انظر طبقات الفقهاء للشيرازى 70. سير أعلام النبلاء 6/ 125، 126.

1219 - مسألة: (وإن وجب، ولم يشرع، فهل يلزمه الانتقال؟ على روايتين)

وَإنْ وَجَبَ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيُّ: إن أيْسَرَ قبلَ أن يُكْمِلَ الثَّلاثَةَ، فعليه الهَدْىُ، فإن كَمَّلَ الثَّلاثَةَ، صام السَّبْعَةَ. وقيلَ: متى قَدَر على الهَدْىِ قبلَ يَوْم النَّحْرِ، انتقَلَ إليه، صام أو لم يَصُمْ، وإن وَجَده بعدَ أن مَضَتْ أيّامٌ النًّحْرِ، أجْزَأه الصيامُ، قَدَر على الهَدْىِ أو لم يَقْدِرْ؛ لأنَّه قَدَر على المُبْدَلِ في زَمَنِ وُجُوبِه، فلم يُجْزِئْه البَدَلُ، كما لو لم يَصُمْ. ولَنا، أنَّه صومٌ دَخَل فيه لعَدَمِ الهَدْىِ، فإذا وَجَد الهَدْىَ، لم يَلْزَمْه الخُرُوجُ إليه، كصَوْمِ السَّبْعَةِ. وعلى هذا يُخَرَّجُ الأصْلُ الذى قاسُوا عليه، فإنَّه ما شرع في الصيام. فأمّا إن اخْتارَ الانْتِقالَ إلى الهَدْىِ، جاز؛ لأنَّه أكمَلُ. 1219 - مسألة: (وإن وَجَب، ولم يَشْرَعْ، فهل يَلْزَمُه الانْتِقالُ؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، لا يَلْزَمُه الانتِقالُ إليه. قال في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ: إذا لم يَصُمْ في الحَجِّ، فلْيَصُمْ إذا رَجَع، ولا يَرْجِعُ إلى الدَّمِ، قد انْتَقَلَ فَرْضُه إلى الصيامِ؛ وذلك لأنَّ الصيامَ استقَرَّ في ذِمَّتِه لوُجُوبِه حالَ وُجُودَ السَّبَبِ المُتَّصِلِ بشَرْطِه، وهو عَدَمُ الهَدْىِ. والثّانِيَةُ، يَلْزَمُه الانْتِقالُ إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال يَعْقُوبُ: سَألْتُ أحمدَ عن المُتَمَتِّع إذا لم يَصُمْ قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ؟ قال: عليه هَدْيانِ، يبْعَثُ بهما إلى مَكَّةَ. أوْجَبَ عليه الهَدْىَ الأصْلِىَّ لتَأْخِيرِ الصومِ عن وَقْتِه؛ لَأنَّه قَدَر على المُبْدَلِ قبلَ شُرُوعِه في البَدلِ، فَلَزِمَه الانْتِقالُ إليه، كالمُتَيَمِّمِ إذا وَجَد الماءَ. فصل: ومَن لَزِمَه صومُ المُتْعَةِ، فمات قبلَ أن يَأْتىَ به لعُذْرٍ مَنَعَه الصومَ، فلا شئَ عليه. وإن كان لغيرِ عُذْرٍ، أطْعَمَ عنه،؛ يُطْعِمُ عن صومِ رمضانَ؛ لأنَّه صومٌ وَجَب بأصْلِ الشَّرْعِ، أشْبَهَ صومَ رمضانَ.

1220 - مسألة: (النوع الثانى، المحصر، يلزمه الهدى، فإن لم يجد، صام عشرة أيام، ثم حل)

النَّوْعُ [67 و] الثَّانِى، الْمُحْصَرُ، يَلْزَمُهُ الْهَدْىُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، صَامَ عَشَرَةَ أيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1220 - مسألة: (النَّوْعُ الثّانِى، المُحصَرُ، يَلْزَمُه الهَدْىُ، فإن لم يَجِدْ، صام عَشَرَةَ أيَّامٍ، ثمّ حَلَّ) لا خِلافَ في وُجُوبِ الهَدْىِ على المُحْصَرِ، وقد دَلَّ عليه قَوْلُه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1). فإن لم يَجِدِ الهدْىَ صام عَشَرَةَ أيَّامٍ، ثم حَلَّ، قِياسًا على هَدْىِ المُتَمَتعِّ، وليس له التَّحَلُّلُ قبلَ ذلك، وفيه اخْتِلافٌ، نَذْكُرُه في بابِ الإحْصارِ، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) سورة البقرة 196.

1221 - مسألة: (النوع الثالث، فدية الوطء، تجب به بدنة، فإن لم يجد، صام عشرة أيام؛ ثلاثة فى الحج، وسبعة إذا رجع، كدم المتعة؛ لقضاء الصحابة)

النَّوْعُ الثَّالِثُ، فِدْيَةُ الْوَطْءِ، تَجِبُ بِهِ بَدَنَةٌ، فَان لَمْ يَجِدْ، صَامَ عَشَرَةَ أيَّام؛ ثَلَاثَةً فِى الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ؛ كَدَمِ الْمُتْعَةِ؛ لِقَضَاء الصَّحَابَةِ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1221 - مسألة: (النَّوْعُ الثّالِثُ، فِدْيَةُ الوَطْءِ، تَجِبُ به بَدَنَةٌ، فإن لم يَجِدْ، صام عَشَرَةَ أيَّامٍ؛ ثَلاَثةً في الحَجِّ، وسَبْعَةً إذا رَجَع، كدَمِ المُتْعَةِ؛ لقَضاءِ الصحابَةِ) رَضِىَ الله عنهم (به) وقد ذَكَرْناه في البابِ الذى قَبْلَه. قاله عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، وعبدُ اللهِ بنُ عباسٍ. رَواه عنهم الأثْرَمُ (¬1). ولم يَظهَرْ لهم في الصحابَةِ مُخَالِفٌ، فيَكُونُ إجْماعًا، فيَكُونُ بَدَلُه مَقِيسًا على بدَلِ دَمِ المُتْعَةِ. هذا هو الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ؛ لأنَّا إنَّما أوْجَبْنا البَدَنَةَ بقولِ الصحابَةِ، رَضِىَ الله عنهم، فكذلك في بَدَلِها. ¬

(¬1) تقدم حديثهم في صفحة 332.

وَقَالَ القَاضِى: إنْ لَمْ يَجِدِ الْبَدَنَةَ، أخْرَجَ بَقَرَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَسَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ، أخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَإنْ لَمْ يَجِدْ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِىِّ، أنَّهُ مُخَيَّرٌ فِى هَذِهِ الْخَمْسَةِ، فَبِأَيِّهَا كَفَّر أجْزَأَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال القاضى: يُخْرِجُ بَدَنَةً، فإن لم يَجِدْ، أخْرَجَ بَقَرَةً، فإن لم يَجِدْ فسَبْعًا مِن الغَنَمِ، فإن لم يَجِدْ، أخْرَجَ بقِيمَتِها طَعامًا، [فإن لم يَجِدْ، صامَ عن كل مُدٍّ يومًا. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه يُخَيَّرُ في هذه الخَمْسَةِ] (¬1)، فبأيِّها كَفَّرَ أجْزَأه) وَجْهُ قولِ القاضى: يَجِبُ بالوَطْءِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَدَنَةٌ. لِما ذَكَرْنا مِن قولِ الصحابَةِ رَضِىَ اللهُ عنهم، فإن لم يَجدِ البَدَنَةَ أخْرَجَ بَقَرَةً؛ لأنَّها تساوِيها في الهَدْىِ والأضاحِى. وقد روَى أَبو الزُّبَيْرِ [عن جابِرٍ] (¬1) رَضِىَ الله عنه، قال: كُنّا نَنْحَرُ البَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ. فقِيلَ له: والبَقَرَةُ؟ قال: وهل هى إلَّا مِن البُدْنِ (¬2)! فإن لم يَجِدْ أخْرَجَ سَبْعًا مِن الغَنَمِ؛ لأنَّها تَقُومُ مَقامَ البَدَنَةِ في الهَدْىِ والأضاحِى، ولِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: أتَى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقالَ: إنِّى عَلَىَّ بَدَنَةٌ، وأنا مُوسِرٌ لها، ولا أجِدُها فأشْتَرِيَها. فأمَرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَبْتاعَ سَبْعَ شِياهٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الاشتراك في الهدى. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 955.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَيَذْبَحَهُنَّ. رَواه ابنُ ماجه (¬1). وإن لم يَجِدْ، أخْرَجَ بقِيمَتِها طَعامًا، فإن لم يَجِدْ، صام عن كلِّ مُدٍّ يَوْمًا، كقَوْلِنا في جَزاءِ الصَّيْدِ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن، في أنَّه لا يَنْتَقِلُ إلى (¬2) الِإطْعامِ مع وُجُودِ المِثْلِ، ولا إلى الصيامِ مع القُدْرَةِ على الإطْعامِ. قال شيخُنا: وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه مُخَيَّرٌ في هذه الخَمْسَةِ، فبأيِّها كَفَّرَ أجْزَأه. والخِرَقِىُّ إنَّما صَرحَ بإجْزاءِ ¬

(¬1) في: باب كم تجزئ من الغنم عن البدنة، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1048. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 311، 312. (¬2) في الأصل: «إلا إلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبْعٍ مِن الغَنَمِ مع وُجُودِ البَدَنَةِ. هكذا ذَكَر في كِتابِه. ولَعَلَّ ذلك نَقَله بعضُ الأصحابِ عنه في غيرِ كتابِه «المختصر». وَوَجْهُ قوْلِه، أنَّها كَفّارَةٌ تَجِبُ بفِعْلِ مَحْظُورٍ، فيُخَيَّر فيها بينَ الدَّمِ والإطْعامِ والصيامِ، كفِدْيَةِ الأذَى.

1222 - مسألة: (ويجب بالوطء فى الفرج بدنة، إن كان فى الحج، وشاة، إن كان فى العمرة)

وَيَجِبُ بِالْوَطْءِ فِى الْفَرْجِ بَدَنَةٌ، إِنْ كَانَ فِى الْحَجِّ، وَشَاةٌ، إنْ كَانَ فِى الْعُمْرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1222 - مسألة: (ويَجِبُ بالوَطْءِ في الفَرْجِ بَدَنَة، إن كان في الحَجِّ، وشاةٌ، إن كان في العُمْرَةِ) قد ذَكَرْنا ذلك في بابِ مَحْظُوراتِ الإحْرامِ مُفَصَّلًا، فيما إذا كان الوَطْءُ قبلَ التَّحَللِ الأوَّلِ وبعدَه، وذَكَرْنا الخِلافَ فيه بما يُغْنِى عن إعادَتِه (¬1). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 331.

1223 - مسألة: (ويجب على المرأة مثل ذلك، إن كانت مطاوعة، وإن كانت مكرهة، فلا فدية عليها. وقيل: عليها كفارة يتحملها الزوج عنها)

وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً، وَإنْ كَانَتْ مُكرَهَةً، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: تَلْزَمُهَا كَفَّارَةٌ يَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1223 - مسألة: (ويَجِبُ على المَرْأةِ مِثْلُ ذلك، إن كانَتْ مُطاوِعَةً، وإن كانَتْ مُكْرَهَة، فلا فِدْيَةَ عليها. وقِيلَ: عليها كَفّارَةٌ يَتَحَمَّلُها الزَّوْجُ عنها)، إذا جامَع امْرَأتَه في الحَجِّ وهى مطاوِعَةٌ، فحُكْمُها حُكْمُه؛ على كلِّ واحِدٍ منهما بَدَنَةٌ، إن كان قبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ. وممّن أوْجَبَ عليها بَدَنَةً ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ. ولأنَّ ابنَ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: أهْدِ ناقَةً (¬1). ولأنَّها إحْدَى المُتَجامِعَيْن مِن غيرِ إكْراهٍ، فأشْبَهَتِ الرجلَ. وعنه، أنَّه قال: أرْجُو أن يُجْزِئَهما هَدْيٌ واحِدٌ. رُوِىَ ذلك عن عَطاءٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه جِماعٌ واحِدٌ، فلم يُوجِبْ أكْثَرَ مِن بَدَنَةٍ، كحالَةِ الإكْراهِ. فأمّا المُكْرَهَةُ على الجِماعِ، فلا فِدْيَةَ عليها، ولا على الواطِئِ أن يَفْدِىَ عنها. ¬

(¬1) انظر تخريج حديث ابن عباس وابن عمر وابن عمرو في صفحة 332.

فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّالِثُ، الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ لِلْفَوَاتِ، أَوْ لِتَركِ وَاجِبٍ، أَوْ لِلْمُبَاشَرَةِ فِى غَيْرِ الْفَرْجِ؛ فَمَا أَوْجَبَ مِنْهُ بَدَنَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه جِماعٌ يُوجِبُ الكَفّارَةَ، فلم يُوجِبْ حالَ الإِكْراهِ أكْثَرَ مِن كَفّارَةٍ واحِدَةٍ، كما في الصيامِ. وهذا قولُ إسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ عليه أن يُهْدِىَ عنها. وهو قولُ عَطاءٍ، ومالكٍ؛ لأنَّ إفْسادَ الحَجِّ وُجِدَ منه في حَقِّهما، فكانَ عليه لإفْسادِ حَجِّها هَدْيٌ، كإفْسادِ حَجِّه. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّ الهَدْىَ عليها. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْىِ؛ لأنَّ فسادَ الحَجِّ ثَبَت بالنِّسْبَةِ إليها فكانَ الهَدْىُ عليها، كما لو طاوَعَتْه، ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ الهَدْىَ عليه، يَتَحَمَّلُه الرَّوْجُ عنها، فلا يَكُونُ رِوايَةً ثالِثَةً. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (الضَّرْبُ الثّالِثُ، الدِّماءُ الواجِبَةُ للفَواتِ، أو لتَرْكِ واجِبٍ، أو للمُباشَرَةِ في غيرِ الفَرْجِ؛ فما أوْجَبَ منها

فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْوَطْءِ فِى الْفَرْجِ. وَمَا عَدَاهُ، فَقَالَ [67 ظ] الْقَاضِى: مَا وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مُلْحَق بِدَمِ الْمُتْعَةِ، وَمَا وَجَبَ لِلْمُبَاشَرَةِ مُلْحَقٌ بِفِدْيَةِ الأَذَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَدَنَةً، فحُكْمُها (¬1) حُكْمُ البَدَنَةِ الواجِبَةِ بالوَطْءِ في الفَرْجِ. وما عَداه، فقالَ القاضى: ما وَجَب لتَرْكِ واجِبٍ مُلحَقٌ بدَمِ المُتْعَةِ، وما وَجَب لمُباشَرَةٍ مُلْحَقٌ بفِدْيَةِ الأذَى) إذا فاتَه الحَجُّ وَجَب عليه دَمٌ، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن. وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاء اللهُ تعالى. وكذلك إذا تَرَك شَيْئًا مِن واجِباتِ الحَجِّ؛ كالإحْرامِ مِن المِيقاتِ، والوُقُوفِ بعَرَفَةَ إلى اللَّيْلِ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، وسائِرِ الواجِباتِ المُتَّفَقِ على وُجُوبِها. والهَدْىُ الواجِبُ بغيرِ النَّذْرِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ مَنْصُوصٌ عليه ومَقِيسٌ على المَنْصُوصِ عليه. ¬

(¬1) في م: «فحكمهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمَنْصُوصُ عليه فِدْيَةُ الأذَى، وجَزاءُ الصَّيْدِ، ودَمُ الإِحْصارِ، ودَمُ المُتْعَةِ، والبَدَنَةُ الواجِبَةُ بالوَطْءِ في الفَرْجِ؛ لقَضاءِ الصحابَةِ رَضِىَ الله عنهمِ بها، وما سِوى ذلك مَقِيسٌ عليه. فالبَدَنَةُ الواجِبَةُ بالمُباشَرَةِ فيما دُون الفَرْجِ مَقِيسةٌ على الواجِبَةِ بالوَطْءِ بالفَرْجِ؛ لأنَّه دَمٌ وَجَب بسبَبِ المُباشَرَةِ، أشْبَهَ الواجِبَ بالوَطْءِ في الفَرْجِ، وهكذا القِرانُ يُقاسُ على هَدْىِ التَّمَتُّعِ؛ لأنَّه وَجَب للتَّرَفُّهِ بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرَيْن، أشْبَه دَمَ المُتْعَةِ، ويُقاسُ عليه أيْضًا دَمُ الفَواتِ، فيَجِبُ عليه مِثْلُ دَم المُتْعَةِ، وبَدلُه مِثْلُ بدَلِه، وهو صِيامُ عَشَرَةِ أيَّامٍ، إلَّا أنَّه لا يُمْكِنُ أن يَكُونَ منها ثَلاَثَةٌ قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لأنَّ الفَواتَ إنَّما يَكُونُ بفَواتِ لَيْلَةِ النَّحْرِ؛ لأنَّه تَرَك بعضَ ما اقْتَضاه إحْرامُه، فصار كالتارِكِ لأحَدِ السَّفَرَيْن. فإن قِيلَ: فهَلَّا ألْحَقْتُموه بهَدْىِ الإحْصارِ، فإنَّه أشْبَهُ به، إذ هو إحْلالٌ مِن إحْرامِه قبل إتْمامِه؟ قُلْنا:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمّا الهَدْىُ فقد اسْتَوَيا نجيه، وأمّا البَدَلُ فإنَّ الإِحْصارَ ليس بمَنْصُوصٍ على البَدَلِ فيه، وإنَّما ثَبَت قِياسًا، وقِياسُه على الأصْلِ المَنْصُوصِ عليه أوْلَى مِن قِياسِه على فَرْعِه، على أنَّ الصيامَ ههُنا مِثْلُ الصيامِ عن دَمِ الإِحْصارِ في العَدَدِ، إلَّا أن صِيامَ الإحْصارِ يَجِبُ قبلَ الحِلِّ، وهذا يَجُوزُ قبلَ الحِلِّ وبعدَه. وأمّا الخِرَقِىُّ، فإنَّه جَعَل الصومَ عن دَمِ الفَواتِ كالصَّوْمِ عن جزاءِ الصَّيْدِ، عن كلِّ مُدٍّ يَوْمًا. والمرْوِىُّ عن عُمَرَ وابْنِه، رَضِىَ اللهُ عنهما، مِثْلُ ما ذَكَرْنا. ويُقاسُ عليه أيْضًا كلُّ دَمٍ وَجَب لتَرْكِ واجِبٍ، كتَرْكِ الإحْرامِ مِن المِيقاتِ، والوُقُوفِ بعَرَفَةَ إلى غُرُوبِ الشمسِ، والمبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، وطَوافِ الوَداعِ، فالواجِبُ فيه ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْىِ، فإن لم يَجِدْ فصِيامُ عَشَرَةِ أيّامٍ؛ لأنَّ المُتَمَتِّعَ تَرَك الإحْرامَ مِن المِيقاتِ بالحَجِّ، وكان يَقْتَضِى أن يَكُون واجِبًا، فوَجَبَ عليه الهَدْىُ لذلك، فقِسْنا عليه تَرْكَ الواجِبِ. ويُقاسُ على فِدْيَةِ الأذَى ما وَجَب بفِعْلِ مَحْظُورٍ يُتَرَفَّهُ به، كتَقْلِيم الأظْفارِ، واللُّبْسِ، والطِّيبِ. وكلُّ اسْتِمْتاعٍ

1224 - مسألة: (ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج، فعليه بدنة، وإن لم ينزل، فعليه شاة. وعنه، بدنة)

وَمَتَى أَنْزَلَ بِالْمُبَاشَرَةِ دُوِن الْفَرْجِ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِنْ لَم يُنْزِلْ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَعَنْهُ، بَدَنةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن النِّساءِ يُوجِبُ شاةً، كالوَطء في العُمْرَةِ، وبعدَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ في الحَجِّ، والمُباشَرَةِ مِن غيرِ إنْزالٍ، فإنَّه في مَعْنَى فِدْيَةِ الأذَى مِن الوَجْهِ الذى ذَكَرْناه، فيُقاسُ عليه، ويُلْحَقُ به. وقد قال ابن عباسٍ، في مَن وَقَع على امْرأتِه في العُمْرَةِ قبلَ التَّقْصِير: عليه فِدْيَةٌ مِن صِيام أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ. رَواه الأثْرَمُ (¬1). 1224 - مسألة: (ومتى أنْزَلَ بالمُباشَرَةِ دُونَ الفَرْجِ، فعليه بَدَنَةٌ، وإن لم يُنْزِلْ، فعليه شاةٌ. وعنه، بَدَنَةٌ) أمّا إذا أنْزَلَ بالمُباشَرَةِ، فإنَّ عليه بَدَنَةً؛ لأئه اسْتِمْتاعٌ أوْجَبَ الغُسْلَ، فأوْجَبَ بَدَنَةً، كالوَطْءِ في الفَرْجِ، وإن لم يُنْزِلْ، فعليه شاةٌ، في الصَّحِيحِ. كذلك ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وابن سِيرينَ، والزُّهْرِىُّ، ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب المعتمر لا يقرب امرأته، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَتادَةُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ؛ لأنَّها مُلامَسَةٌ لا تُفْسِدُ الحَجَّ، عَرِيَتْ عن الإِنْزالِ، فلم تُوجِبْ بَدَنَةً، كاللَّمْسِ لغيرِ شَهْوَةٍ. وعنه، يَجِبُ عليه بَدَنَةٌ. وقال الحسنُ، في مَن ضَرَب بيَدِه على فَرْجِ جارِيَتِه: عليه بَدنَةٌ. وعن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: إذا نال منها ما دُونَ الجِماعِ، ذَبَح بَقَرَةً؛ لأنَّها مُباشَرَة مَحْظُورَةٌ بالإحْرامِ، أشْبَهَتْ ما اقْتَرَنَ به الإنزالُ. ولَنا، أنَّها مُلامَسَةٌ مِن غيرِ إنْزالٍ، فأشْبَهَتْ لَمْسَ غيرِ الفَرْجِ. ويَجِبُ به شاةٌ؛ لِما روَى الأثْرَمُ، أن عُمَرَ بنَ [عُبَيدِ الله] (¬1) قَبَّلَ عائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ مُحْرِمًا، فسَألَ، فأُجْمِعَ له على أن يُهَرِيقَ دَمًا، والظَّاهِرُ أنَّه لم يَكُنْ أنْزَلَ؛ لأنَّه لم يُذْكَرْ. وسَواءٌ مَذَى أو لم يَمْذِ، قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: إن قَبَّلَ، فمَذَى، أو لم يَمْذِ، فعليه دَمٌ. وسائِرُ اللَّمْسِ لشَهْوَةٍ كالقُبْلَةِ فيما ذَكَرْنا؛ لأَّنه اسْتِمْتاعٌ يَلْتَذُّ به، كالقُبْلَةِ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، في مَن قَبَض على فَرْجِ امْرَأتِه، وهو مُحْرِمٌ: فإنَّه يُهَرِيقُ دَمًا. ¬

(¬1) في النسخ: «عبد الله».

1225 - مسألة: (وإن كرر النظر فأنزل، أو استمنى، فعليه دم، هل هو شاة أو بدنة؟ على روايتين. وإن مذى بذلك، فعليه شاة)

وَإنْ كَرَّرَ النَّظرً فَأَنْزَلَ، أوِ اسْتَمْنَى، فَعَلَيْهِ دَمٌ، هَلْ هُوَ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإنْ مَذَى بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال عَطاءٌ؛ لأنَّه اسْتِمْتاعٌ مَحْظُورٌ في الإحْرامِ، أشْبَهَ الوَطْءَ فيما دُونَ الفَرْجِ. 1225 - مسألة: (وإن كَرَّرَ النَّظَر فأنْزَلَ، أو اسْتَمْنَى، فعليه دَمٌ، هل هو شاةٌ أو بَدَنَةٌ؟ على رِوايَتَيْن. وإن مَذَى بذلك، فعليه شاةٌ) إذا كَرَّرَ النَّظَرَ فأنْزَلَ، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، عليه بَدنَةٌ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. والثّانِيَةُ، عليه شاةٌ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. ورُوِىَ أيْضًا عن ابنِ عباسٍ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا شئَ عليه. وحُكِىَ عن أبي حنيفةَ، والشافعىِّ، لأنَّه ليس بمُباشَرَةٍ، أشْبَهَ الفِكْرَ. ولَنا، أنَّه إنْزالٌ بفِعْلِ مَحْظُورٍ، فأوْجَبَ الفِدْيَةَ، كاللَّمْسِ. وقد روَى الأثْرَمُ عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّه قال له رجلٌ: فَعَل اللهُ بهذِه وفَعَل، إنَّها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطَيَّبَتْ لِى، فكَلَّمَتْنِى، وحَدَّثَتْنِى، حتى سَبَقَتْنِى الشَّهْوَةُ. فقالَ ابنُ عباسٍ: أتْمِمْ حَجَّكَ وأهْرِقْ دَمًا (¬1). والاسْتِمْناءُ في مَعْنَى تَكْرارِ النَّظَرِ فيُقاسُ عليه، فإن كَرَّرَ النَّظَرَ فمَذَى، فعليه شاةٌ، وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه جُزْءٌ من المَنِىِّ؛ لكَوْنِه خارِجًا بسَبَبِ الشَّهْوَةِ، ولأنَّه حَصَل به الْتِذاذٌ، فهو كاللَّمْسِ، فإن لم يَقْتَرِنْ به مَنِىٌّ ولا مَذْىٌ، فلا شئَ عليه، كَرَّرَ النَّظَرَ أو لم يُكَرِّرْه. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، في مَن جَرَّدَ امْرَأتَه، ولم يَكُنْ منه غيرُ التَّجْرِيدِ، أنَّ عليه شاةً، وهو مَحْمُولٌ على أنَّه لَمْسٌ، فإنَّ التَّجْرِيدَ لا يَخْلُو عن اللَّمْسِ ظاهِرًا، أو على أنَّه أمْنَى، أو أمْذَى، أمّا مُجَرَّدُ النَّظَرِ فلا شَئَ فيه، فقد كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إلى نِسَائِه وهو مُحْرِمٌ، وكذلك أصحابُه. ¬

(¬1) انظر ما أخرجه البيهقى، في: باب المحرم يصيب امرأته. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 168.

1226 - مسألة: (فإن فكر فأنزل، فلا شئ عليه)

وَإنْ فَكَّرَ فَانزَلَ، فَلَا فِديَةَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَظرَ ولم يُكَرِّرِ النَّظَرَ، فأمنَى، فعليه شاة؛ لأنَّه فِعْلٌ يَحْصُلُ به اللَّذَّةُ، أوْجَبَ الإنْزالَ، أشْبَهَ اللَّمْسَ، وإلَّا فلا شئَ عليه؛ لأنَّه لا يمكِنُ التَّحَرُّزُ عنه، أشْبَة الفِكْرَ والاحْتِلامَ. 1226 - مسألة: (فإنْ فَكَّرَ فأنزلَ، فلا شئَ عليه) وحَكَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حَفْص البَرْمَكِىُّ، وابنُ عَقِيل، أن حُكْمَه حُكْمُ تَكْرارِ النَّظَرِ إذا اقْتَرَن به الإِنْزالُ، في إفْسادِ الصومِ، فيَحتَمِلُ أن يَجِبَ به ههُنا دَمٌ، قِياسًا عليه. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِىَ لأمَّتِى عَنِ الْخَطإِ وَالنِّسْيَانِ». «وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أنفُسَها، مَا لَمْ تعمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على تَكْرارِ النَّظَرِ؛ لأنَّه دُونَه في اسْتِدعاءِ الشَّهْوَةِ، وإفْضائِه إلى الإنْزالِ، ويُخالِفُه في التَّحْرِيمِ إذا تَعَلَّقَ بأجْنَبِيَّةٍ، أو الكَراهةِ إن كان في زَوْجَتِه، فيَبْقَى على الأصْلِ. فصل: والعَمدُ والنِّسْيانُ في الوَطْءِ سَواءٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقد ذَكرناه، فأمّا القُبْلَةُ، واللمسُ، وتَكْرارُ النظَرِ، فلم يَذْكُز شيخُنا حُكْمَ النِّسْيانِ فيه في الحَجِّ، لكنْ ذَكًره في مُفْسِداتِ الصَّوْمِ (¬2)، وفَرَّقَ بينَ العَمدِ والسَّهْوِ، فيَنبغِى أن يَكُونَ ههُنا مِثْلَه، وكذلك ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. والفرقُ بينهما، أنَّ الوَطْءَ لا يَكادُ يَتَطَرَّقُ النِّسْيانُ إليه، بخِلافِ ما دُونَه، ولأنَّ، الجِماعَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ بمُجَرَّدِه دُونَ غَيْرِه. والجاهِلُ بالتحرِيمِ (¬3)، والمُكْرهُ، في حُكْمِ النّاسِى؛ لأنَّه مَعْذُورٌ. ¬

(¬1) هما حديثان؛ الأول أخرجه ابن ماجه فقط وتقدم تخريجه في 1/ 276، والثاني تقدم في 7/ 428. (¬2) انظر ما تقدم في 7/ 427. (¬3) في النسختين: «في التحريم».

فَصْلٌ: وَمَنْ كَرَّرَ مَحْظُورًا مِنْ جِنْسٍ، مِثْلَ أَنْ حَلَقَ ثُمَّ حَلَقَ، أَوْ وَطِئَ ثُمَّ وَطِئَ، قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْأوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ كَفَّرَ عَنِ الْأوَّلِ، لَزِمَتْهُ لِلثَّانِى كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَضِىَ اللهُ عنه: (ومن كَرَّرَ مَحْظُورًا مِن جِنْسٍ، مِثْلَ أن حَلَق ثم حَلَق، أو وَطِئَ ثم وَطئَ، قبلَ التَّكْفِيرِ عن الأوَّلِ، فكَفّارَةٌ واحِدَةٌ. وإن كَفَّرَ عن الأوَّل، فعليه للثّانِى كَفّارَةٌ) إذا حَلَق ثم حَلَق، فالواجِبُ فِدْيَةٌ واحِدَةٌ، ما لم يُكَفِّرْ عن الأوَّلِ قبلَ فِعْلِ الثّانِى، فإن كَفَّرَ عن الأوَّلِ، ثم حَلَق ثانِيًا، فعليه للثّانِى كَفّارَةٌ أيْضًا، وكذلك الحُكْمُ فيما إذا وَطِئَ ثم وَطِئَ، أو لَبِس ثم لَبِس، أو تَطَيَّبَ ثم تَطَيَّبَ، وكذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سائِرُ مَحْظُورِاتِ الإحْرامِ، إذا كَرَّرَها، ما خَلا قَتْلَ الصَّيْدِ، وسواءٌ فَعَلَه مُتَتابِعًا أو مُتَفرِّقًا فإنَّ فِعْلَها مُجْتَمِعَة كفِعْلِها مُتَفَرِّقَةً في وُجُوبِ الفِدْيَةِ، ما لم يُكَفِّرْ عن الأوَّلِ قبلَ فعل الثّانى. وعنه، أنَّ لكلِّ وَطْء كَفّارَةً، وإن لم يُكَفِّرْ عن الأوَّلِ؛ لأنَّه سَبَبٌ للكَفّارَةِ.، فأوْجَبَها، كالأوَّلِ. وعنه، أنَّه إن كَرَّرَ لأسْبابٍ، مِثْلَ أن لَبِس للبَرْدِ، ثم لَبِس للحَرِّ، ثم لَبِس للمَرَضِ، فكَفّاراتٌ، وإن كان لسَبَبٍ واحِدٍ، فكَفّارَةَ واحِدَةٌ. وروَى عنه الأثْرَمُ، في مَن لَبِس قَمِيصًا وجُبَّةً وعِمامَةً وغيرَ ذلك لعِلَّةٍ واحِدَةٍ، كَفّارَةٌ واحدةٌ. فإنِ اعْتَلَّ فلَبِسَ جُبَّة، ثم بَرَأ، ثم اعْتَلَّ فلَبِسَ جُبَّة، فقالَ: لا، هذا عليه كَفّارَتان. وقال ابنُ أبى موسى في «الإرْشادِ»: إذا لَبِس وغَطَّى رَأْسَه مُتَفَرِّقًا وَجَب عليه دَمان، وإن كان في وَقْتٍ واحِدٍ، فعلى رِوايَتَيْن. وعن الشافعىِّ كقَوْلِنا. وعنه، لا يَتَداخَلُ. وقال مالكٌ: تَتَداخَلُ (¬1) كَفّارَةُ ¬

(¬1) في الأصل: «لا تتداخل».

1227 - مسألة: (وإن قتل صيدا بعد صيد، فعليه جزاؤهما. وعنه، عليه جزاء واحد)

وإنْ قَتَل صَيْدًا بَعدَ صَيْدٍ، فَعَلَيْهِ جَزَاوهُمَا. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَطْءِ دُونَ غيرِه. وقال أبو حنيفةَ: إن كَرَّرَه في مَجْلِس واحِدٍ، فكَفّارَةٌ واحِدًة، وإن كان في مجالِسَ، فكَفّارَات. وقال في تَكْرارِ الوَطْءِ: عليه للثّانى شاةٌ إلَّا أن يَفْعَلَه في مَجْلِس واحِدٍ على وَجْهِ الرَّفض للإِحْرامِ. ولَنا، أنَّ ما يَتَداخَلُ إذا كان مُتَتابعًا، يَتَداخَلُ وإن تَفَرقَ، كالحُدُودِ وكَفّاراتِ الأيمانِ، ولأنَّ الله تعالى أَوْجَبَ في حَلْقِ الرَّأْسِ فديَةً واحِدَةً، ولم يُفَرِّقْ بينَ ما وَقَع في دُفْعَةٍ أو في دُفَعاتٍ، والقَوْلُ بأنه لا يَتَداخَلُ لا يَصِحُّ، فإنَّه إذا حَلَق لا يمكِنُ إلاَّ شيئًا بعدَ شئٍ. ولَنا على أنَّه لا يَتَداخَلُ إذا كَفَّرَ عن الأوَّلِ، أنَّه سَببٌ للكَفّارَةِ، فإذا كَفَّرَ عن الأوَّلِ وَجَب عليه للثّانِي كَفّارَةٌ، كالأيمانِ. أو نَقُولُ: سَبَب يُوجِبُ عُقوبةً، فيُكَررُ بتَكَرُّره بعدَ التَّطهِيرِ، كالحُدُودِ. 1227 - مسألة: (وإن قَتَل صَيْدًا بعدَ صَيْدٍ، فعليه جَزاؤهما. وعنه، عليه جَزاءٌ واحِدٌ) إذا قَتَل صَيْدَيْن، فعليه جَزاؤهما؛

1228 - مسألة: (كان فعل مخظورا من أجناس، فعليه لكل واحد فداء. وعنه، عليه فنية واحدة)

وَإِنْ فَعَلَ مَحْظُوراً مِنْ أَجْنَاس، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِدَاءٌ. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سواءٌ قَتَلَهما دُفْعَةً واحِدَةً، أو واحِدَةً بعدَ واحِدَةٍ. وعن أحمدَ، أنَّه يَتَداخَلُ إذا كان مُتَفَرِّقًا، فيَجِبُ عليه جَزاءٌ واحِدٌ، كالمَحْظُوراتِ غيرَ قتْلِ الصَّيْدِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). ومِثلُ الصَّيْدَيْن لا يَكُونُ مِثلَ أحَدِهما، ولأنَّه لو قَتَل صَيْدَيْن دُفْعَة واحِدَةً وَجَب جَزاؤهما، فإذا تَفَرَّقا، كان الوُجُوبُ أوْلَى؛ لأنَّ حالَةَ التَّفْرِيقِ لا تَنْقُصُ عن حالَةِ الاجْتِماعِ، كسائِرِ المَحْظُوراتِ. 1228 - مسألة: (كان فَعَل مَخظورًا مِن أجْناسٍ، فعليه لكلِّ واحِدٍ فِداءٌ. وعنه، عليه فِنيَةٌ واحِدَةٌ) إذا فَعَل مَحْظُورًا مِن أجْناسٍ، ¬

(¬1) سورة المائدة 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كحَلْقٍ ولُبْس وتَطُّيبٍ ووَطْءٍ، فعليه لكلِّ واحِدٍ فِديَةٌ، سواءٌ فَعَلَه مُجْتَمِعًا أو مُتَفَرِّقًا. وهذا مَذْهبُ الشافعىِّ. وعن أحمدَ، أنَّ في الطِّيبِ واللُّبْسِ والحَلْقِ فِديَةً واحِدَةً، إذا كانا في وَقْتٍ واحِدٍ، كان فَعَل ذلك واحِدًا بعدَ واحِدٍ، فعليه لكلِّ واحِدٍ دَمٌ. وهو قولُ إسْحاقَ. وقال عَطاءٌ، وعَمرُو ابنُ دِينارٍ: إذا حَلَق، ثم اختاجَ إلى الطِّيبِ، أو إلى قَلَنْسُوَةٍ، أو إليهِما، ففَعَلَ ذلك، فليس عليه إلَّا فِديَةٌ واحِدَةٌ. وقال الحسنُ: إن لَبِس القَمِيصَ وتَعمَّمَ وتطَيَّبَ، فَعَل ذلك جَمِيعًا، فليس عليه إلَّا فِديَةٌ واحِدَةٌ. ولَنا، أنَّها مَحْظُورات مُخْتَلِفَةُ الأجْناسِ، فلم يَتَداخَلْ جَزاؤها (¬1)، كالحُدُودِ المُخْتَلِفَةِ، والأيْمانِ المُخْتَلِفَةِ، وعَكْسُه إذا كانتْ مِن جِنْسٍ واحِدٍ. ¬

(¬1) في م: «جزاؤهما».

1229 - مسألة: (كان حلق، أو قلم، أو وطئ، أو قتل صيدا عامدا أو مخطئا، فعليه الكفارة. وعنه فى الصيد، لا كفارة عليه إلا فى العمد، ويتخرج فى الحلق مثله)

وَإنْ حَلَقَ، أَوْ قَلَّمَ، أَوْ وَطِئَ، أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَامِدًا أوْ مُخْطِئًا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعَنْهُ فِى الصَّيْدِ، لَا كَفَّارَةَ إلَّا فِى الْعَمدِ. وَيُخَرَّجُ فِى الْحَلْقِ مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1229 - مسألة: (كان حَلق، أو قَلَّمَ، أو وَطِئَ، أو قَتل صَيْدًا عامِدًا أو مُخْطِئًا، فعليه الكَفّارَةُ. وعنه في الصَّيْدِ، لا كَفّارَةَ عليه إلَّا في العَمدِ، ويَتَخَرَّجُ في الحَلْقِ مِثْلُه) أنها الوَطْءُ، فقد ذَكَرْناه. وجُمْلَتُه أنَّه لا فرقَ بينَ العَمدِ والخَطإِ في الحَلْقِ والتَّقْلِيمِ، ومَن له عُذْرٌ، ومَن لا عُذْرَ له، في ظاهِرِ المَذْهبِ. وهو قولُ الشافعىِّ. ونحوه عن الثَّوْرِىِّ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا فِديَةَ على النّاسِى. وهو قولُ إسْحاقَ (¬1)، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «عُفِىَ لأِمَّتِى عَنِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ» (¬2). ولَنا، أنَّه إتْلافٌ، فاسْتَوَى عَمدُه وسَهْوُه، كإتْلافِ مالِ الآدمِىِّ، ولأنَّ الله تعالى أوْجَبَ الفِديَةَ على مَن حَلَق رأْسَه لأذًى به، وهو مَعذُورٌ، فكان تَنْبِيهًا على وُجُوبِها على غيرِ المَغذُورِ، ودَلِيلًا على وُجُوبِها على المَعْذُورِ بنَوْعٍ آخَرَ، كالمحتَجِمِ يحلِقُ مَوْضِعَ مَحاجِمِه، أو شَعَرَ شَجَّتِه. وفى مَعْنَى ¬

(¬1) في النسختين: «أبى إسحاق». وانظر المغنى 5/ 381. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسِى النائِمُ الذى يَقْلَعُ شَعَرَه، أو يُصَوِّبُ رَأْسَه إلى تَنُّورٍ، فيَحْرِقُ اللَّهَبُ شَعَرَه، ونحوُ ذلك. فصل: وقَتْلُ الصَّيْدِ يَسْتَوِى عَمده وسَهْوه أْيضًا. هذا ظاهِرُ المَذْهبِ. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. قال الزُّهْرِىُّ: على المُتَعَمِّدِ بالكِتابِ، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ. وعنه، لا كَفّارَةَ على المُخْطِئ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وطاوُسٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وداودَ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّدًا}. فيَدُلُّ بمَفْهُومه على أنَّه لا جَزاءَ على

1230 - مسألة: (وإن لبس، أو تطيب، أو غطى رأسه ناسيا، فلا كفارة فيه. وعنه، عليه الكفارة)

وَإنْ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ، أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخاطِئَ، ولأنَّ الأصلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه، فلا يَشْغَلُها إلَّا بدَلِيل، ولأنَّه محظورٌ بالإحرامِ لا يَفْسُدُ به، فَفُرِّقَ بينَ عَمده وخَطَئِه، كاللُّبْسِ. ووَجْهُ الأُولَى قَوْلُ جابِرٍ رَضِىَ الله عنه: جَعَل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الضَّبُعِ يَصِيدُه المُحرِمُ كَبْشًا. وقال عليه السلامُ، في بَيضِ النَّعامِ يُصِيبُه المُحرِمُ: «ثَمَنُه». ولم يُفَرِّقْ بينَ العَمدِ والخَطإِ. رَواهما ابنُ ماجه (¬1). ولأنَّه ضَمانُ إتْلافٍ، فاسْتوَى عَمده وخَطَؤُه، كمالِ الآدَمِىِّ. 1230 - مسألة: (وإن لَبس، أو تَطَيَّبَ، أو غَطَّى رَأْسَه ناسِيًا، فلا كَفّارَةَ فيه. وعنه، عليه الكَفَّارَةُ) أنها إذا لَبِس، أو تَطَيَّبَ، أو غَطَّى رَأْسَه عامِدًا، فإنَّ عليه الفِديَةَ بغيرِ خِلافٍ عَلِمناه؛ لأنَّه تَرَفَّه بمَحْظُورٍ في إحرامِه عامِدًا، فأشْبَهَ حَلْقَ الشَّعَرِ. ويسْتَوِى في ذلك قَلِيلُ الطِّيبِ ¬

(¬1) الأول أخرجه ابن ماجه في: كتاب جزاء الصيد يصيبه المحرم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1031. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أكل الضبع، من كتاب الأطعمة، سنن أبي داود 2/ 319. والثاني تقدم تخريجه في صفحة 292.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكَثِيرُه، وقَلِيلُ اللُّبْسِ وكَثِيرُه. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بتَطْيِيبِ عُضْوٍ كامِلٍ، وفى اللّباسِ بلباس يَوْم ولَيْلَةٍ، ولا شئَ فيما دُونَ ذلك؛ لأنَّه لم يَلْبَسْ لُبْسًا مُغتادًا، أشْبَة ما لو ائْتزَرَ بالقَمِيصِ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى حَصَل به الاسْتفتاعُ بالمَحْظُورِ، فاغتُبِر بمُجَرَّدِ الفِعْلِ، كالوَطْءِ، أو مَحْظُورٌ فلا تَتَقَدَّرُ فِدْيَتُه بالزَّمَنِ، كسائِرِ المَحْظُوراتِ، وما ذَكَرُوه مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ النّاس يَخْتَلِفُون في اللُّبْسِ في العادَةِ، وما ذَكَرُوه تَقدِيرٌ، والتَّقْدِيراتُ بابُها التَّوْقِيفُ، وتَقدِيرُهم بعضْوٍ ويوم ولَيْلَةٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وأمّا إذا ائْتزَرَ بقَمِيصٍ فليس ذلك بلُبْسِ مَخِيطٍ، ولذلك لا يَحْرُمُ عليه وإن طال، والمُخْتَلَفُ فيه مُحَرَّمٌ لُبْسُه. فصل: ويَلْزَمُه غَسْلُ الطِّيبِ، وخَلْعُ اللِّباسِ؛ لأنَّه فِغلٌ مَخظُورٌ، فلَزِمَتْه إزالَتُه وقَطعُ اسْتِدامَتِه، كسائِرِ المَحْظوراتِ. والمُسْتَحَبُّ أن يَسْتَعِينَ في غَسْلِ الطِّيبِ بحَلالٍ؛ لئَلَّا يُباشِرَ المُخرِمُ الطيبَ بنَفْسِه.، كان وَلِيَه بنَفْسِه، فلا بَأْسَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للذى عليه طِيبٌ: «اغْسِلْ عَنْكَ الطِّيبَ» (¬1). ولأنَّه تارِكٌ له. فإن لم يَجِن ما يَغْسِلُه به مَسَحَه بخِرْقَةٍ، أو حَكَّهُ بتُرابٍ أو غيرِه؛ لأنَّ الذى عليه أن يُزِيلَه حَسَبَ الإِمْكانِ، وقد فَعَلَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان معه ماءٌ، وهو مُحْتاجٌ إلى الوُضُوءِ، والماءُ لا يَكْفِيهما، غَسَل به الطِّيبَ، وتَيَمَّمَ للحَدَثِ؛ لأنَّه لا رُخْصَةَ في إبْقاءِ الطِّيبِ، وتَزكُ الوُضُوءِ إلى التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ، فإن قَدَر على قَطْعِ رائِحَةِ الطِّيبِ بغيرِ الماءِ، فَعَل، وتَوَضَّأ؛ لأنَّ المَقْصُودَ مِن إزالَةِ الطِّيبِ قَطْعُ رائِحَتِه، فلا يَتَعَيَّن الماءُ، والوُضُوءُ بخِلافِه. فإن لَبِس قَمِيصًا وسَراوِيلَ وعِمامَةً وخُفَّيْن كَفاه فِديَةٌ واحِدَةٌ؛ لأنَّ الجَمِيعَ لُبْسٌ، فأشْبَهَ الطِّيبَ في رَأسِه وبَدَنِه. وفيه خِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى (¬1). فصل: فأمّا إن فَعَل ذلك ناسِيًا، فلا فِديَةَ عليه. هذا ظاهِرُ المَذْهبِ. والجاهِلُ في مَغنَى النّاسِى. وهذا قولُ عَطاءٍ، والثَّوْرِىِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. قال أحمدُ: قال سُفْيانُ: ثَلاَثَةٌ في الحَجِّ العَمْدُ والنِّسْيانُ سَواءٌ؛ إذا أتُى أهْلَه، وإذا أصابَ صَيْدًا، وإذا حَلَق رَأْسَه. قال أحمدُ: ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا جامَعَ أهْلَه بَطَل حَجُّه. لأنَّه شئٌ لا يَقْدِرُ على رَدِّه، والصَّيْدُ إذا قَتَلَه، فقد ذَهب لا يَقْدِرُ على رَدِّه، والشَّعَرُ إذا حَلَقَه فقد ذَهب، فهذه الثَّلاثَةُ، العَمْدُ والخَطَأُ والنِّسْيانُ فيه سَواءٌ. وكلُّ شَئٍ مِن النِّسْيانِ بعدَ الثَّلاثَةِ فهو يَقْدِرُ على رَدِّه، مثلَ إذا غَطَّى المُحرِمُ رَأسَه، ثم ذَكَر، ألْقاه عن رَأْسِه وليس عليه شئٌ، أو لَبِس خُفَّا، نَزَعَه، وليس عليه شئٌ. وعنه رِوايَةٌ أْخْرَى، أنَّ عليه الفِديَةَ في كلِّ حالٍ. وهو مَذْهبُ مالكٍ؛ واللَّيْثِ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّه هتَك حُرمَةَ الإحرامِ، فاسْتَوَى عَمدُه وسَهْوُه، كالحَلْقِ والتَّقْلِيمِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السلامُ: «عُفِىَ لأمَّتِى عَنِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وروَى يَغلَى بنُ أُمَيَّةَ، أنَّ رجلًا أتَى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالجِعرانَةِ، وعليه جُبَّةٌ، وعليه أثر خَلُوقٍ، أو قال (¬1): أثر صُفْرَةٍ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، كيف تَأْمُرُنى أن أصْنَعَ في عُمرَتِى؟ قال: «اخْلَعْ عَنْكَ هذه الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ أثَرَ الخَلُوقِ - أو قال: أثَرَ الصُّفْرَةِ- وَاصنَغ في عُمرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ في حَجِّكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لَفظٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أحْرَمْتُ بالعُمرَةِ وعلىَّ هذه الجُبَّةُ. فلم يأْمُرْه بالفِدْيَةِ، مع مَسْألَتِه عَمّا يَصنَعُ، وتَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ غيرُ جائِزٍ، دَلَّ على أنَّه عَذَره لجَهْلِه. والنّاسِى في مَعناه. ولأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَجَّ عِبادَةٌ يَجِبُ بإفْسادِها الكَفّارَةُ، فكانَ في مَحْظُوراتِه ما يُفَرَّقُ فيه بينَ عَمْدِه وسَهْوه، كالصَّوْمِ. وأمّا الحَلْقُ وقَتْل الصَّيْدِ فهو إتْلاف، ولا يُمْكِن تَلافِيه. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه متى ذَكَر فعليه خَلْعُ اللِّباسِ وغَسْلُ الطيِّبِ في الحالِ، فإن أخَّرَ ذلك عن زَمَنِ الإمْكانِ، فعليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه تَطَيَّبَ ولَبِس مِن غيرِ عُذْرٍ، فأشْبَة المبْتَدِئَ. وإن مَسَّ طِيبًا يَظُنُّه يابِسًا، فبان رَطْبًا، ففيه وَجْهَان؛ أحَدُهما، عليه الفِدْيَةُ؛ لأنَّه قَصَد مَسَّ الطِّيب. والثّانِى، لا فِدْيَةَ عليه؛ لأنَّه جَهِل تَحْرِيمَه، فأشْبَة مَن جَهِل تَحْرِيمَ الطّيِبِ. وإن طُيِّبَ بإذْنِه فعليه الفِدْيَة؛ لأنَّه مَنْسُوبٌ إليه. فإن قِيلَ: فلِمَ لا يَجُوز له اسْتِدامَة الطيِّبِ ههُنا، كالذى تطَيَّبَ قبلَ إحْرامِه؟ قُلْنا: ذلك فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إليه، فكانَ له اسْتِدامَته، وههُنا هو مُحَرَّمٌ، وإنَّما سَقَط حُكْمُه بالنِّسْيانِ والجَهْلِ، فإذا زالا ظَهَر حُكْمه، وإن تَعَذَّرَ عليه إزالتُه لإكْراهٍ أو عِلَّةٍ، ولم يَجِدْ مَن يُزِيلُه، فلا فِدْيَةَ عليه، وجَرَى مَجْرَى المُكْرهِ على ابْتِداءِ الطِّيبِ. وحُكْمُ الجاهِل إذا عَلِم حُكْمُ النّاسِى إذا ذَكَر، وحُكْمُ المكْرَهِ حُكْمُ النّاسِى؛ لأنَّه مَقْرون به في الحديثِ الدّالِّ على العَفْوِ. ويُسْتَحَبُّ له أن يُلبِّىَ إذا فَعَل ذلك؛ اسْتِذْكارًا للحَجِّ، واسْتِشْعارًا بإقامَتِه

1231 - مسألة: (ومن رفض إحرامه، ثم فعل محظورا، فعليه فداؤه)

وَمَنْ رَفَضَ [68 و] إحْرَامَهُ، ثُمَّ فَعَلَ محْظُورًا، فَعَلَيْهِ فِدَاؤُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه ورُجُوعِه إليه. ويُروَى هذا القولُ عن إبراهيمَ النَّخَعِىِّ. وقد ذَكَره الخِرَقِىُّ. 1231 - مسألة: (ومَن رَفَض إحْرامَه، ثم فَعَل مَحْظُورًا، فعليه فِداؤه) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ التَّحَلُّل مِن الحَجِّ لا يَحْصُلُ إلَّا بأحَدِ ثَلاثَةِ أشْياءَ؛ كمالُ أفْعالِه، أو التَّحَلُّلُ عندَ الحَصْرِ، أو بالعُذْرِ إذا شَرَط. وما عدا هذا فليس له أن يَتَحَلَّل به. ولو نَوَى التَّحَلُّلَ لم يَحِلَّ، ولا يَفسُدُ الإحْرامُ برَفْضِه؛ لأنَّها عِبادَةٌ لا يَخْرُجُ منها بالفَسادِ، فلم يَخْرُجْ برَفْضِها، بخِلافِ سائِرِ العباداتِ. ويَكُونُ الإحْرامُ باقِيًا في حَقِّه، يَلْزَمُه أحْكَامُه، ويَلْزَمُه جَزاءُ كلِّ جِنايَةٍ جَناها. وإن وَطِئَ أفْسَدَ حَجَّه، وعليه لذلك بَدَنَةٌ مع ما

1232 - مسألة: (ومن تطيب قبل إحرامه فى بدنه، فله استدامة ذلك فى إحرامه، وليس له لبس ثوب مطيب)

ومَنْ تَطَيَّبَ قَبْلَ إحْرَامِهِ فِى بَدَنِهِ، فَلَهُ اسْتِدَامَةُ ذَلِكَ فِى إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لَهُ لُبْسُ ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَب عليه مِن الدِّماءِ، سواءٌ كان الوَطْءُ قبلَ الجِناياتِ أو بعدَها، فإنَّ الجِنايَةَ على الإحْرامِ الفاسِدِ كالجِنايَةِ على الإحْرامِ الصَّحِيحِ، وليس عليه لرَفْضِ الإحْرامِ شئٌ؛ لأنَّه مُجَرَّدُ نِيَّةٍ لم تُؤَثِّرْ شَيْئًا. 1232 - مسألة: (ومَن تَطَيَّبَ قبلَ إحْرامِه في بَدَنِه، فله اسْتِدامَةُ ذلك في إحْرامِهْ، وليسٍ له لُبْسُ ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ) يُسْتَحَبُّ لمن أرادَ الإِحْرامَ أن يَتَطَيَّبَ في بَدَنِه خاصَّة، وقد ذَكَرْناه في بابِ الإحْرام (¬1). وله اسْتِدامَةُ الطِّيبِ في إحْرامِه. قالت عائِشَةُ، رَضِىَ اللهُ عنها: كُنْتُ أُطيِّبُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لإحْرامِه، قبلَ أن يُحْرِمَ. وقالَتْ: كأنّى أنظر إلى وَبِيص الطِّيبِ في مفارِقِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مُحْرمٌ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لفظٍ للنَّسائىِّ: كأنِّىْ أنْظُرُ إلى وَبِيص طِيبِ المِسْكِ في مَفْرِقِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 266. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 139.

1233 - مسألة: (وإن أحرم وعليه قميص، خلعه ولم يشقه،

وَإنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، خَلَعَهُ وَلَم يَشُقَّهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قالتْ عائِشَةُ، رَضِىَ الله عنها: كُنّا نَخْرُجُ مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى مَكَّةَ فنُضَمِّدُ جِباهَنا بالمِسْكِ المُطَيَّب عندَ الإحْرامِ، فإذا عَرِقَت إحْدانا سال على وَجْهِها، فيَراها النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَنْهاها. رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: وليس له لُبْسُ مُطَيَّب بعدَ إحْرامِه، بغيرِ خِلافٍ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرانُ وَلَا الْوَرسُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فإن لَبس ثَوْبًا مُطَيَّباً، ثم أحْرَمَ، فله اسْتِدامَةُ لُبْسِه، ما لم يَنْزِعْه، فإن نَزَعَه لم يَكَنْ له أن يَلْبَسَه، فإن فَعَل، فعليه الفِدْيَة؛ لأنَّ الإحْرامَ يَمْنَعُ ابْتِداءَ الطّيِبِ ولُبْسَ المُطَيَّبِ، دُونَ اسْتِدامَتِه. وقد ذَكَرْناه، والله تعالى أعْلَمُ. 1233 - مسألة: (وإن أحْرَمَ وعليه قَمِيصٌ، خَلَعَه ولم يَشُقَّه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 142. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 245.

1234 - مسألة: (وإن لبس ثوبا كان

فَإنِ اسْتَدَامَ لُبْسَهُ، فعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَإنْ لَبِس ثَوْبًا كَانَ مُطَيَّبًا، وَانْقَطَعَ رِيحُ الطِّيبِ مِنْهُ، وَكَانَ بِحَيْثُ إِذَا رُشَّ فِيهِ مَاءٌ فَاحَ رِيحُهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِ اسْتَدامَ لُبْسَه، فعليه الفِدْيَةُ) إذا أحْرَمَ وعليه قمِيصٌ أو سَراوِيلُ أو جُبَّةٌ، خَلَعَه ولم يَشُقَّه، ولا فِدْيَةَ عليه. وبه قال أكْثرُ أهْلِ العِلْم. وقال بعضُهم: إنَّه يَشُقُّ ثِيابَه؛ لئَلَّا يَتَغَطَّى رأْاسُه حينَ ينزِعُ القَمِيصَ منه. ولَنا، ما ذَكَرْناه مِن حديثِ يَعْلَى بنِ أمَيَّةَ، أن رَجلًا أتى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالجِعْرانَةِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، أحْرَمْتُ بالعُمْرَةِ، وعلىَّ هذه الجُبَّةُ. فأمَرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بخَلْعِها (¬1). ولو وَجَب شَقُّها، أو وَجَبَتْ عليه فِدْيَة لأمَرَ بها؛ لأنَّه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ. فإنِ اسْتدامَ لُبْسَه، فعليه الفِديَةُ؛ لأنَّ خَلْعَه واجِبٌ؛ لأمْرِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - به، ولأنَّه مَحْظُورٌ مِن مَحْظُوراتِ الإحرامِ، فوَجَبَ عليه دَمٌ لفِعْلِه، كما لو حَلَق رَأْسَه. 1234 - مسألة: (وإن لَبِس ثَوْبًا كان (¬2) مُطيَّبًا، فانْقَطَعَ رِيحُ الطّيبِ منه، وكان بحيثُ إذا رُشَّ فيه الماءُ فاحَ رِيحُه، فعليه الفِدْيَةُ) لأنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 139. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُطَيَّبٌ، بدَلِيلِ أنَّ رائِحَتَه تَظْهَرُ عندَ رَشِّ الماءِ، والماءُ لا رائِحَةَ له، وإنَّما

فَصْلٌ: وَكُلُّ هَدْىٍ أَوْ إِطْعَام، فَهُوَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، إِنْ قَدَرَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِم، إِلَّا فِدْيَةَ الأَذَى وَاللُّبْسِ وَنَحْوَهَا، إِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا فِى الْحِلِّ، فيُفَرِّقُهَا حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهَا. وَدَمُ الإِحْصَارِ يُخْرِجُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو مِن الطِّيبِ الذى فيه، فلَزِمَتْه الفِدْيَةُ، كما لو ظَهَرَتْ بنَفْسِها. فصلْ: قال رَحِمَه الله: (وكلُّ هَدْىٍ أو إطْعام، فهو لمساكِينِ الحَرَمِ، إذا قَدَر على إيصالِه إليهم، إلَّا فِدْيَةَ الأذَى واللُّبْسِ ونَحْوَها، إذا وُجدَ سَبَبُها في الحِلِّ، فيُفَرِّقُها حيثُ وحدَ سَبَبُها. ودَمُ الإحْصارِ يُخْرِجُه حيثُ أُحْصِرَ) الهَدايا والضَّحايا مُخْتَصَّةٌ بمَساكِينِ الحَرَمِ؛ لقَوْلِه تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1). وكذلك جَزاءُ المَحْظُوراتِ، إذا فَعَلَها في الحَرَمِ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه الله، فقالَ: أمّا إذا كان بمَكَّةَ، أو كان مِن الصَّيْدِ، فكلُّه بمَكَّةَ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2). وذَكَر القاضى في قَتْلِ الصَّيْدِ رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه يَفدِى حيثُ قَتَلَه، كحَلْقِ الرَّأُسِ. وهذا يُخالِفُ نصَّ الكِتابِ، ¬

(¬1) سورة الحج 33. (¬2) سورة المائدة 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَنْصُوصَ أحمدَ، فلا يُعَوَّلُ عليه. وما وَجَب لتَرْكِ نُسُكٍ أو فَواتٍ فهو لمساكِينِ الحَرَمِ دُونَ غيرِهم؛ لأنَّه هَدْىٌ وَجَب لتَرْكِ نُسُكٍ، أشْبَهَ دَمَ القِرانِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ، في مَن فَعَل المَحْظُورَ لغيرِ سَبَبٍ يُبِيحُه: إنَّه يَخْتَصُّ ذَبْحُه وتَفْرِقَةُ لَحْمِه بفُقَراءِ الحَرَمِ، كسائِرِ الهَدْىِ. فصل: وما وَجَب نحْره بالحَرَمِ، وَجَب تَفْرِقَةُ لَحْمِه به. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: إذا ذَبَحَها في الحَرَمِ، جاز تَفْرِقَةُ لَحْمِها في الحِلِّ. ولَنا، أنَّه أحَدُ مَقْصُودَىِ النُّسُكِ، فاخْتَصَّ بالحَرَمِ، كالذَّبْحِ، ولأنَّ المَقْصُودَ مِن ذَبْحِه بالحَرَمِ التَّوْسِعَةُ على مَساكِينِه، ولا يَحْصُلُ بإعْطائِه غيرَهم. والطَّعامُ كالهَدْىِ في اخْتِصاصِه بفُقَراءِ الحَرَمِ، فيما يَخْتَصُّ الهَدْىُ به. وقال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ: الهَدْىُ بمَكَّةَ، وما كان مِن طَعام أو صِيام، فحيثُ شاء. ويَقْتَضِيه مَذْهبُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ. ولَنا، قولُ ابنِ عباسٍ، رَضِىَ الله عنهما: الهَدْىُ والإطْعامُ بمَكَّةَ، والصَّوْمُ حيثُ شاء. ولأنَّه نُسُكٌ يَتَعَدَّى نَفْعُه إلى المساكِينِ، فاخْتصَّ بالحَرَمِ، كالهَدْىِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَساكِين الحَرَمِ مَن كان فيه مِن أهْلِه، ومَن وَرَد إليه مِنِ الحاجِّ وغيرِهم، وهم الذين تُدْفَع إليهم الزكاة لحاجَتِهم (¬1). فإن دَفَع إلى فَقِيرٍ في ظَنِّه، فبان غَنِيًّا، خُرِّجَ فيه وَجْهان، كالزكاةِ. وللشافعىِّ فيه قَوْلان. وما جَاز تَفْرِقَتُه بغيرِ الحَرَم، لم يَجُزْ دَفْعُه إلى فقَراءِ أهْلِ الذِّمَّةِ. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وجَوًّزه أصحابُ الرَّأُىِ. ولَنا، أنَّه كافِرٌ، فلم يَجُزْ الدَّفْعُ إليه، كالحَرْبىِّ. فصل: فإن عَجَز عن إيصالِه إلى فقَراء الحَرَمِ، جاز ذَبْحُه وتَفْرِيقُه في غيرِه، لقَوْلِه سُبْحانَه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2). فإن مُنِع النّاذِرُ الوُصُولَ بنَفْسِه، وأمْكَنَه تَنفِيذُه، لَزِمَه. وقال ابن عَقِيلٍ: ¬

(¬1) في م: «لخاصتهم». (¬2) سورة البقرة 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُخَرَّجُ في الهَدْىِ المَنْذُورِ إذا عَجَز عن إيصالِه رِوايَتان، كدِماءِ الحَجِّ. والصَّحِيحُ الجَوازُ. فصل: فأمّا فِدْيَة الأذَى، إذا وُجِدَ سَبَبُها في الحِل، فيَجُوزُ في المَوْضِع الذى حَلَق فيه. نصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعىُّ: لا يَجُوزُ إلَّا في الحَرَمِ؛ لقَوْلِه تعالى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ كَعْبَ بنَ عُجْرةَ بالفِدْيَةِ بالحُدَيْبيِة، وهى مِن الحِلِّ، ولم يَأمُرْه ببَعْثِه إلى الحَرَمِ (¬1). وروَى الأثْرَم والجُوزْجانىُّ، في كِتابَيْهما، عن أبى أسْماءَ، ¬

(¬1) حديث كعب بن عجرة تقدم في 2/ 145.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْلَى عبدِ اللهِ بنِ جعْفَرٍ، رَضِىَ الله عنهما، قال: كُنْتُ مع عثمانَ وعلىِّ وحُسَيْنِ بنِ علىٍّ، رَضِىَ الله عنهم، حُجّاجًا، فاشْتَكَى حُسَيْنُ بنُ علىٍّ بالسُّقْيَا، فأوْمَأ بيَدِه إلى رَأْسِه فحَلَقه علىًّ، ونَحَر عنه جَزُورًا بالسُّقْيا. وهذا لفظُ رِوايَةِ الأثْرَمِ. ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ. والآيَةُ وَرَدَتْ في الهَدْىِ. وحُكْمُ اللُّبْسِ والطِّيبِ حُكْمُ الحَلْقِ إذا وُجِدَ في الحِلِّ. ذَكَرَه القاضى قِياسًا عليه، وقال: فيه وفى الحَلْقِ رِوايَتان؛ إحْداهما، يَفْدِى حيثُ وُجِدَ سَبَبُه، والثّانِيَةُ، مَحِلُّ الجمِيعِ الحَرَمُ. حَكاهما ابنُ أبى موسى في «الإرْشاد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا دَمُ الإحْصارِ، فيُخْرِجُه حيث إحْصِر؛ مِن حِلٍّ أو حَرَمٍ. نَص عليه أحمدُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. فإن كان قادِرًا على أطرافِ الحَرَمِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه نَحْره فيه؛ لأنَّ الحَرَمَ كلَّه مَنْحَرٌ، وقد قَدَر عليه. والثّاني، يَنْحَره في مَوْضِعِه؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَحَر هَدْيَه في مَوْضِعِه (¬1). وعن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ: ليس للمُحْصَرِ نَحْرُ هَدْيِه إلَّا في الحَرَم، فيَبْعَثُه إلى الحَرَمِ، ويُواطِى رجلًا على نَحْرِه في وَقتِ يَتَحَلَّلُ. وهذا يُرْوَى عن ابنِ مَسْعُودٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، في مَن لُدِغَ في الطَّرِيقِ. ورُوِىَ ذلك عن الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، وعَطاءٍ، لأنَّه أمْكَنَه النَّحْرُ في الحَرَمِ، أشبهَ ما لو حُصِرَ فيه. قال شيخُنا (¬2): وهذا، والله أعْلَمُ، في مَن كان حَصْرُه خاصًّا، أمّا الحَصْرُ العامُّ فلا يَنْبَغِى أن يَقُولَه أحَدٌ؛ لأنَّ ذلك يُفْضِى إلى تَعَذرِ الحِل، لِتَعَذرِ وُصُولِ الهَدْىِ إلى مَحلهِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابَه نَحَرُوا هَداياهم بالحُدَيْبِيةِ، وهى مِن الحِلِّ. قال ¬

(¬1) انظر ما أخرجه البيهقى، في: باب المحصر يذبح حيث أحصر، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 317. (¬2) في: المغنى 5/ 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاريُّ، ومالكٌ (¬1): إن النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه حَلَقُوا، وحَلُّوا مِن كلِّ شئٍ، قبلَ الطَّوافِ، وقبلَ أن يَصِلَ الهَدْىُ إلى البَيْتِ. ولم يُذْكَرْ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أحَدًا أن يَقْضِىَ شيئًا، ولا أن يَعُودَ له. ويروَى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نَحَر هَدْيَه عندَ الشجَرَةِ التى كانَتْ تَحتَها بَيْعَةُ الرضْوانِ. وهي مِن الحِلِّ بِاتِّفاقِ أهْلِ السيرِ والنقْلِ. وقد دَلَّ عليه قَولُه سُبْحانَه: {وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬2). ولأنَّه مَوْضِعُ حِلِّه، فكانَ مَوْضِعَ نحْرِه، كالحَرَمِ. فإن قِيلَ: فقد قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رءُوسَكُمْ حَتى يبلُغ الْهَدْىُ مَحِلهُ}. وقال: {ثم مَحِلهَآ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق}. ولأنَّه ذبْحٌ يَتَعَلَّقُ بالإحْرامِ، فلم يَجُزْ في غيرِ الحَرَمِ، كجَزاءِ الصَّيْدِ. قُلْنا: الآيةُ في حَقِّ غيرِ المُحْصَر، وَلا يُمْكِنُ قِياسُ المُحْصَرِ عليه؛ لأنَّ تحَلُّلَ المُحْصَرِ في الحِل، وتَحَلُّلَ غيرِه في الحَرَمِ، وكلُّ منهما يَنْحَرُ في مَوْضع تَحَلُّلِه. وقد قِيلَ في قَوْلِه تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. أى حتى يُذْبَحَ. وذَبْحُه في حَقِّ المُحْصَرِ في مَوْضع حِلِّه؛ اقْتِداءً بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يلبس المحرم. . . .، وباب متى يحل المعتمر، وباب من قال ليس عل المحصر بدل، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 169، 170، 3/ 7، 12. ومالك، في: باب ما جاء في من أحصر بعدو، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 360. كما أخرجه مسلم، في: باب بيان جواز التحلل بالإحصار، من كتاب الحج. صحح مسلم 2/ 903. وأبو داود، في: باب الإحصار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 431. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 327. (¬2) سورة الفتح 25.

1235 - مسألة: (وأما الصيام، فيجزئه بكل مكان)

وَأما الصِّيَامُ، فَيُجْزِئُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَكُلُّ دَمٍ ذَكَرْنَاهُ، يُجْزِئُ فِيهِ شَاةٌ أوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ. وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، أَجْرأَتْهُ بَقَرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1235 - مسألة: (وأمّا الصيامُ، فَيُجْزِئُه بكلِّ مَكانٍ) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. كذلك قال ابنُ عباس، وعَطاءٌ، والنخَعِىُّ، وغيرُهم؛ وذلك لأنَّ الصيامَ لا يَتَعَدَّى نَفْعُه إلي أحَدٍ، فلا مَعْنَى لتَخْصِيصِه بمَكانٍ، بخِلافِ الهَدْىِ والإطْعامِ، فإن نَفْعَه يَتَعَدَّى إلى المُعْطَى. والله تعالى أعْلَمُ. 1236 - مسألة: (وكلُّ دَمِ ذَكَرْناه، يُجْزِئُ فيه شاةٌ أو سُبْعُ بَدَنَةٍ. ومَن وَجَبَتْ عليه بَدَنَةٌ، أجْزأتْه بَقَرَةٌ) كلُّ مَن وَجَب عليه دَمٌ، أجْزَأهُ ذَبْحُ شاةٍ، أو سُبْعُ بَدَئةٍ، أو بَقَرَةٍ؛ لقَوْلِه سُبْحانَه في المُتَمَتِّعِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما: شاةٌ، أو شِرْكٌ في دَمٍ. وقال تعالى في فِدْية الأذَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. وفَسَّرَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، بذَبْحِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شاةٍ. وما سِوَى هذَيْن مَقِيسٌ عليهما، فإنِ اخْتارَ ذَبْحَ بَدَنَةٍ، فهو أفْضَلُ؛ لأنَّها أوْفَرُ لَحْمًا، وأنفَعُ للفُقَراءِ. وهل تَكُونُ كلُّها واجِبَةً؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، تكونُ واجِبَةً. اختاره ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّه اختار الأعْلَى لأداءِ فَرضِه، فكان كلُّه واجِبًا، كا لو اخْتارَ الأعْلَى مِن خِصالِ الكَفّارَةِ. والثّانِى، يَكُونُ سُبْعُها واجِبًا، والباقِى تَطَوُّعٌ، له أكْلُه وهدِيته؛ لأنَّ الزّائِدَ على السُّبْع يَجُوزُ تَركُه مِن غيرِ شَرطٍ ولا بَدَلٍ، أشْبَهَ ما لو ذَبَح سَبْعَ شياهٍ. فصل: ولا يُجزِئُه إلاَّ الجَذَعُ مِن الضَّأنِ، والثَّنِىُّ مِن غيرِه. والجَذَعُ، ما له سِتَّةُ أشْهُرٍ، والثَّنِىُّ مِن المَعزِ، ما له سَنَةٌ، ومِن البَقَرِ ما له سَنَتان، ومِن الإِبِلِ ما له خمسُ سِنِين. وبه قال مالك، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وقال ابنُ عُمَرَ، والزُّهْرِىُّ: لا يُجْزئ إلاَّ الثَّنِىُّ مِن كلِّ شَئ. وقال عَطاءٌ، والأوْزاعِىُّ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْزِئُ الجَذَعُ مِن الكلِّ إلاَّ المَعْزَ. ولَنا على الزُّهْرِىِّ، ما رُوِىَ عن [أمِّ بِلالٍ] (¬1) بنتِ هِلالٍ، عن أبِيها، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «يَجُوزُ الجَذَعُ مِن الضَّأْنِ أُضْحِيَة». وعن عاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، عن أبِيهِ، قال: كُنّا مع رجلٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يُقالُ له: مُجاشِعُ بنُ سُلَيْم، فعَزَّتِ الغَنَمُ، فأمَرَ مُنادِيًا، فنادَى: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَقُولُ: «إنَّ الجَذَعَ يُوفِى مِما تُوفِى مِنْهُ الثَّنِيَّةُ». رَواهما ابنُ ماجه (¬2). وعن جابِرٍ، رَضِىَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - له: «لَا تذْبَحُوا إلاَّ مُسنةً، إلاَّ أنْ يَعسُرَ علَيْكُف فَتَذْبَحُوا جَذَعًا مِنَ الضَّأنِ». رَواه مسلمٌ (¬3). وهذا حُجَّةً على عَطاءٍ، والأوْزاعِىِّ. وحديثُ أبى بُرْدَةَ بنِ نِيَارٍ، قال: ¬

(¬1) في النسخ: «أم هلال». والمثبت من سنن ابن ماجه 2/ 1049. (¬2) في: باب ما تجزئ من الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1049.كما أخرج الأول الإمام أحمد، في: المسند 6/ 368. وأخرج الثاني أبو داود، في: باب ما يجوز في الضحايا من السن، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 87. والنسائي، في: باب المسنة والجذعة، من كتاب الأضاحى. المجتبي 7/ 193. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 368. (¬3) في: باب سن الأضحية، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1555.كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يجوز في الضحايا من السن، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 86. والنسائي، في: باب المسنة والجذعة، من كتاب الضحايا. المجتبى 192/ 7. وابن ماجه، في: باب ما تجزئ من الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1049. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 213، 312، 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يا رسولَ الله، إنَّ عِنْدِى عَناقًا جَذَعًا، هى خَيْرٌ مِن شاتَىْ لَحْمٍ. قال: «تُجْزِئُكَ، وَلَا تُجْزئُ أحَدًا بَعْدَكَ». رَواه أبو داودَ والنَّسائيُّ (¬1). ولا يُجْزئ فيها المَعِيبُ الذى يَمنعُ مِن الإجْزاءِ في الهدىِ والأضاحِى، قِياسًا (¬2) عليها. فصل: ومَن وَجَبَتْ عليه بَدَنَة، أجْزَأتْه بَقَرَةٌ إذا كان في غيرِ النَّذْرِ وجَزاءِ الصيدِ؛ لِما روَى أبو الزُّبَيْرِ، عن جابِر، قال: كُنّا نَنْحَرُ البَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ. فقيلَ له: والبَقَرَة؟ قال: وهل هى إلَّا مِن البُدْنِ. رَواه مسلم (¬3). فأمّا في النَّذْرِ، فقالَ ابنُ عَقِيلٍ: يَلْزَمُه ما نَواه. فإن أطْلَقَ، ففيه رِوايَتان؛ إحداهُما، هو مُخير؛ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ. والأُخْرَى، لا تُجْزِئُه، إلاَّ مع عَدَمِ البَدَنَةِ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنها بَدَل، فاشْتُرِطَ عَدَمُ المُبْدَلِ لها. قال شيخُنا (¬4): والأولَى أوْلَى؛ للخَبَرِ، ولأنَّ ما أجْزَأ عن سَبْعَةٍ في الهدايا ودَمِ المُتْعَةِ، أجْزَأ في النَّذْرِ بلَفْظِ البَدَنَةِ، كالجَزُورِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 444. (¬2) في م: «قياسها». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 406. (¬4) في: المغنى 5/ 459.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان في جَزاءِ الصَّيْدِ أجْزَأتْ أيْضًا؛ لحديثِ جابرٍ. اخْتاره شيخُنا. ويَحْتَمِلُ أن لا تُجْزِى؛ لأنَّ البَقَرَةَ لا تُشْبِهُ النعامَةَ. ومَن وَجَبَتْ عليه بَدَنَةٌ، أجْزَأه سَبْع مِن الغَنَمِ. ذَكَره الخِرَقِىُّ. سَواء كانَتْ مِن جَزاءِ الصَّيْدِ، أو مَنْذُورَةً، أو فديَةَ الوَطْءِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إنّما تُجْزِئُ عنها عندَ عَدَمِها في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ، رَحِمَه الله؛ لأنَّه بدَل، فلا يُصارُ إليه مع وُجُودِها، كسائِرِ الأبدالِ. فأمّا عندَ عَدَمِها فيَجُوزُ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ الله عنه، قال: أتى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقالَ: إنَّ علىَّ بَدَنَةً، وأنا مُوسِرٌ لها، ولا أجِدُها فأشْتَرِيَها. فأمَره النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَبْتاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فيَذْبَحَهُنَّ. رَواه ابنُ ماجه (¬1). وعنه، لا يُجْزِئُه أقَلُّ مِن عَشْرِ شِياهٍ؛ لأنَّهم كانُوا يَعدِلُونها في الغَنِيمَةِ بعَشْرٍ كذلك. هذا، والأوَّلُ أوْلَى؛ للخَبَرِ. ولَنا، أنَّ الشاةَ معدُولَةٌ بِسُبْعِ بَدُنَةٍ، وهىٍ أطْيَبُ لَحمًا، فإذا عَدَل إلى الأعْلَى، أجْزَأه، كما لو ذَبَح عن الشَّاةِ بَدَنَة. فصل: ومَن وَجَبَتْ عليه سَبْعٌ مِن الغَنَمِ أجْزأتْه بَدَنَةٌ أو بَقَرَةٌ، إن كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في كَفّارَةِ مَحْظُورٍ؛ لأنَّ الواجِبَ فيه ما اسْتَيْسَرَ مِن الهدي، وهو شاةٌ أو سُبْعُ بَدنةٍ، وقد كان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَتَّعُون، فيَذْبَحُون البَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ. قال جابِرٌ: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن نَشْتَرِكَ في الإبِلِ والبَقَرِ، كلُّ سَبْع منّا في بَدَنَةٍ. رَواه مسلم (¬1). فأمّا إن وَجَب عليه سَبع مِن الغنَمِ في جَزاءِ الصيدِ، فقالَ شيخُنا (¬2): لا تُجْزِئُه البَدَنةُ في الظّاهِرِ؛ لأنَّ الغنَمَ أطْيَبُ لَحْمًا، فلا يَعدِلُ عن الأعلَى إلى الأدْنَى. فصل: ومَن وَجَبَتْ عليه بَقَرَةٌ، أجْزَأتْه بَدَنَة؛ لأنَّها أكْثَرُ لَحْمًا وأوْفَرُ. ويُجْزِئُه سَبْعٌ مِن الغَنَمِ، إذا قُلْنا: يُجْزئُ عن البَدَنَةِ. بطَرِيقِ الأوْلَى. وإن كانَتِ البَقَرَةُ مَنْذُورَةً، احتَمَلَ، على ما حَكاه ابنُ عَقِيلٍ، أن لا تُجْزِئَه سَبْع مِن الغنَمِ مع وُجُودِها،؛ لو كان المَنْذُورُ بَدَنةً. والله تعالى أعلَمُ. ¬

(¬1) في: كتاب الاشتراك في الهدى. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 956/ 2. كما أخرجه أبو داود، في: باب في البقر والجزور عن كم تجزئ، من كتاب الأضاحى. سنن أبي داود 2/ 89. والنسائي، في: كتاب ما تجزئ عنه البقرة في الضحايا، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 195. والإمام أحمد، في: المسند 304/ 3، 318. (¬2) في: المغنى 5/ 458.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب جزاء الصيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَهُوَ ضَربَانِ، أَحَدُهُمَا، لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، فَيَجِبُ فِيهِ مِثْلُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا، مَا قَضَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ، فَفِيهِ [68 ظ] مَا قَضَتْ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ جَزاءِ الصَّيْدِ (وهو ضَربان؛ أحَدُهما، له مِثْلٌ مِن النَّعَمِ، فَيَجِبُ مِثْلُه. وهو نَوْعان؛ أحَدُهما، قَضَتْ فيه الصَّحابَةُ، ففيه ما قَضَتْ) يَجِبُ على المُحْرِمِ الجَزاءُ بقَتْلِ صيْدِ البَرِّ بمِثْلِه مِن النَّعَمِ، إن كان له مِثْلٌ. هذا قولُ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ، منهم الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: الواجِبُ القِيمَةُ، ويَجُوزُ صَرْفُها إلى المِثْلِ؛ لأنَّ الصَّيْدَ ليس بمِثْلِىٍّ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). وجَعَل النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كَبْشًا (¬2). وأجْمَعَ الصَّحابَةُ، رَضِىَ اللهُ عنهم، على إيجابِ المِثْلِ، فقال ¬

(¬1) سورة المائدة 95. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 428.

فَفِى النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ، وعلىٌّ، وعثمانُ، وزَيْدٌ، وابنُ عباسٍ، ومُعاوِيَةُ: في النَّعامَةِ بَدَنَةٌ. وحَكَم عُمَرُ وعلىٌّ في الظَّبْىِ بِشاةٍ. وحَكَم عُمَرُ في حِمارِ الوَحْشِ ببَقَرَةٍ. حَكَمُوا بذلك في الأزْمِنَةِ المُخْتَلِفَةِ، والبُلْدانِ المُتَفَرِّقَةِ، فدَلَّ على أنَّ ذلك ليس على وَجْهِ القِيمَةِ؛ لأنَّه لو كان على وَجْهِ القِيمَةِ لاعتَبَرُوا صِفَةَ المُتْلَفِ التى تَخْتَلِفُ بها (¬1) القِيمَةُ، إمّا برُؤْيَةٍ أو إخْبارٍ، ولم يُنْقَلْ عنهم السُّؤالُ عن ذلك حالَ الحُكْمِ، ولأنَّهم حَكَمُوا في الحَمامِ بشاةٍ، والحَمَامَةُ لا تَبْلُغُ قِيمَةَ الشّاةِ غالِبًا. إذا ثَبَت هذا، فليس المُرادُ حَقِيقَةَ المُماثَلَةِ، فإنَّها لا تَتَحَقَّقُ بينَ الأنْعامِ والصَّيْدِ، لكنْ أُرِيدَ المُماثَلَةُ مِن حيثُ الصُّورَةُ. والمِثْلِىُّ مِن الصَّيْدِ قِسمان؛ أحَدُهما، قَضَتْ فيه الصَّحابَةُ، فيَجِبُ قيه ما قَضَتْ. وبه قال عَطاءٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وقال مالكٍ: يُسْتَأنَفُ الحُكْمُ فيه؛ لأنَّ الله تعالى قال: {يحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدلٍ منكُم}. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أصْحَابِى ¬

(¬1) سقط من: م.

وَفِى حِمَارِ الْوَحْشِ، وبَقَرَتِهِ، وَالأَيِّلِ، وَالثَّيْتَلِ، وَالْوَعْلِ بَقَرَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (¬1). وقال: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنَ مِنْ بَعْدِى، أبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ» (¬2). ولأنَّهم أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، وأبْصَرُ بالعِلْمِ، فكانَ حُكْمُهم حُجَّةً على غيرِهم، كالعالِمِ مع العامِّىِّ، فالذى بَلَغَنا قَضاؤهم فيه النَّعامَةُ. حَكَم فيها عُمَرُ، وعلىٌّ، وعثمانُ، وزَيْدٌ، وابنُ عباسٍ، ومُعاوِيَةُ، رَضِىَ الله عنهم، بِبَدَنَةٍ. وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأكْثَرُ العُلَماءِ. وحُكِىَ عن النَّخَعِىِّ، أنَّ فيها قِيمَتَها. وبه قال أبو حنيفةَ. وخالَفَه في ذلك صاحِباه. واتِّباعُ النَّصِّ والآثارِ أوْلَى. ولأنَّ النَّعامَةَ تُشْبِهُ البَعِيرَ في خَلْقِه، فكانَ مِثْلًا لها، فيَدخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ. وفى حِمارِ الوَحشِ بَقَرَةٌ. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ. وبه قال عُروَةُ، ومُجاهِدٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، فيه بَدَنَةٌ. رُوِىَ ذلك عن أبِى عُبَيْدَةَ، وابنِ عباس. وبه قال عَطاء، والنَّخَعِىُّ. وفى بَقَرَةِ الوَحْشِ بَقَرَةٌ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وعَطاءٍ، وعُروةَ، وقَتَادَةَ، والشافعىِّ. والأيِّلُ (¬3) فيه ¬

(¬1) قال البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم -. وانظر لطرقه ورواياته تلخيص الحبير 4/ 190، 191. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب في مناقب أبى بكر وعمر. . . .، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 129. وابن ماجه، في: باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 382، 385، 399، 402. (¬3) الأيل: ذكر الأوعال، وهى التيوس الجبلية.

وَفِى الضَّبُعِ كَبْشٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَقَرَةٌ، قاله ابنُ عباسٍ. قال أصْحابُنا: في الثَّيْتَلِ (¬1) والوَعْلِ بقَرَةٌ كالأيِّلِ. والأرْوَى (¬2) فيها بَقَرَةٌ. قاله ابنُ عُمَرَ. وقال القاضى: فيها عَضْبٌ؛ وهو مِن أوْلادِ البَقَرِ ما بَلَغ أن يُقْبَضَ (¬3) على قَرْنِه، ولم يَبْلُغْ أن يَكُونَ ثَوْرًا. وفى الضَّبُعِ كَبْشٌ لِما روَى أبو داودَ (¬4) عن جابِرٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل في الضَّبُعِ يَصِيدُها المُحْرِمُ كَبْشًا. قال أحمدُ: حَكَم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الضَّبُعِ بكَبْشٍ، وقَضى به عُمَرُ، وابنُ عباسٍ. وبه ¬

(¬1) الثيتل: الذكر المسن من الأوعال. (¬2) الأروى: أنثى الوعل، وهى شاةٌ. (¬3) في م: «يعتض». (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 428.

وَفِى الْغَزَالِ وَالثَّعْلَبِ عَنْزٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال عَطاءٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الأوْزاعِىُّ: كان العُلَماءُ بالشّام يَعُدُّونها مِن السِّباعِ، ويَكْرَهُون أكْلَها. وهو القِياسُ، إلَّا أنَّ اتِّباعَ السُّنَّةِ والآثارِ أوْلَى. وفى الغَزالِ شاةٌ. ثَبَت ذلك عن عُمَرَ. ورُوِىَ عن علىٍّ. وبه قال عَطاءٌ، وعُرْوَةُ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا يُحْفَظُ عن غيرِهم خِلافُهم. وقد روَى جابِرٌ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «فِى الظَّبْىِ شَاةٌ، وَفِى الأرْنَبِ عَنَاقٌ (¬1)، وَفِى الْيَرْبُوعِ (¬2) جَفْرَةٌ». قال ابنُ الزُّبَيْرِ: والجَفْرَةُ التى قد فُطِمَتْ ورَعَتْ. رَواه الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3). وفى الثَّعْلَبِ شاةٌ أيْضًا؛ لأنَّه يُشْبِهُ الغَزالَ. وممَّن قال: فيه الجَزاءُ؛ قَتادَةُ، ¬

(¬1) العناق: الأنثى من ولد المعز. (¬2) اليربوع: حيوان طويل الرجلين، قصر اليدين جدا، لونه كلون الغزال. (¬3) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطني 2/ 246، 247. كما أخرجه البيهقى، في: باب فدية الضبع، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 183.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وطاوُسٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، لا شَئَ فيه؛ لأنَّه سَبُعٌ.

وَفِى الْوَبْرِ وَالضَّبِّ جَدْىٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا الوَبْرُ (¬1)، فقالَ القاضى: فيه جَفْرَةٌ؛ لأنَّه ليس بأكْبَرَ منها. وهو قولُ الشافعىِّ. وقيلَ: فيه شاةٌ. رُوِىَ ذلك عن مُجاهِدٍ، وعَطاءٍ. وفى الضَّبِّ جَدْىٌ. قَضَى به عُمَرُ، وأرْبَدُ (¬2). وبه قال الشافعىُّ. وعن أحمدَ، فيه شاةٌ، لأنَّ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ، وعَطاءً، قال فيه ذلك. وقال مُجاهِدٌ: حَفْنَةٌ مِن طَعام. [وقال قَتادَةُ: صاعٌ. وقال مالكٌ: قِيمَتُه مِن الطَّعامِ] (¬3). والأُولَى أوْلَى؛ لأنَّ قَضاءَ عُمَرَ أوْلَى مِن قَضاءِ غيرِه. ¬

(¬1) الوبر: حيوان من ذوات الحرافر في حجم الأرنب. (¬2) في م: «زيد». وأربد يأتى ذكره في الحديث الذى أخرجه الشافعى في مسنده بعد قليل. (¬3) سقط من: م.

وَفِى الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ لَها أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والجَدْىُ أقرَبُ إليه مِن الشّاةِ. (وفى اليَرْبُوعِ جَفْرَةٌ) لِما ذَكرْنا مِن حديثِ جابِرٍ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مَسْعُودٍ. وبه قال عَطاءٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال النَّخَعِىُّ: فيه (¬1) ثَمَنُه. وقال مالكٌ: قِيمَتُه مِن الطَّعام. وقال عَمْرُو بنُ دِينارٍ: ما سَمِعْنا أنَّ الضَّبَّ واليَرْبُوعَ يُودَيان. واتِّباعُ الآثارِ أوْلَى. والجَفْرَةُ يَكُونُ لها أرْبَعَةُ أشْهُرٍ مِن المَعْزِ. وقال ¬

(¬1) سقط من: م.

وَفِى الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِى الْحَمَامِ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ، شَاةٌ، وَقَالَ الْكِسَائِىُّ: كُلُّ مُطَوَّقٍ حَمَامٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو الزُّبَيْرِ: هى التى فُطِمَت ورَعَتْ. وقِيلَ: هى الطِّفْلَةُ التى يَرُوحُ بها الرّاعِى على يَدَيْه. (وفى الأرْنَبِ عَنَاقٌ) لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ جابِرٍ، وقَضَى به عُمَرُ أيضًا. وبه قال الشافعىُّ. وقال ابنُ عباس: فيه حَمَلٌ. وقال عَطاءٌ: فيه شاةٌ. وقَضاءُ عُمَرَ أوْلَى. والعَناقُ، الأُنْثَى مِن أوْلادِ المَعْزِ، أصْغَرُ مِن الجَفْرَةِ. والذَّكَرُ جَدْىٌ. (وفى الحَمامِ؛ وهو كلُّ ما عبَّ وهَدَر، شاةٌ) حَكَم به عُمَرُ، وعثمانُ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، ونافِعُ بنُ عبدِ الحارِثِ (¬1)، ¬

(¬1) نافع بن عبد الحارث بن خالد الخزاعى، أسلم يوم الفتح، وأمره عمر على مكة. الإصابة 6/ 408. تهذيب التهذيب 10/ 406.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حَمامِ الحَرَمِ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وعُرْوَةُ، وقَتادَةُ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: فيه قِيمَتُه. إلَّا أنَّ مالكًا وافَقَ في حَمامِ الحَرَمِ دُونَ الإحْرامِ؛ لأنَّ القِياسَ يَقْتَضِى القِيمَةَ في كلِّ الطَّيْرِ، تَرَكْناه (¬1) في حَمامِ الحَرَمِ بحُكْمِ الصَّحابَةِ، ففيما عَداه يَبْقَى على الأصْلِ. قُلْنا: قد رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ في الحَمامِ في حالِ الإحْرامِ، كقَوْلِنا. ولأنَّها حَمامَةٌ مَضْمُونَةٌ لحَقِّ اللهِ تعالى، فضُمِنَتْ بشاةٍ، كحَمامَةِ الحَرَمِ، ولأنَّها متى كانَتِ الشّاةُ مِثْلًا لها في الحَرَمِ، فكذلك في الحِلِّ، فيَجِبُ ضَمانُها بها؛ لقول اللهِ تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬2). وقِياسُ الحَمامِ على جِنْسِه أوْلَى مِن قِياسِه على غيرِه. والحَمامُ كل ما عبَّ الماءَ، أى وَضَع مِنْقارَه فيه، فيَكْرَعُ كما تَكْرَعُ الشّاةُ، ولا يَأْخُذُ قَطْرَةً قَطْرَةً، كالدَّجاجِ والعَصافِيرِ. وإنَّما أوْجَبُوا فيه شاةً؛ لشِبْهِه بها في كَرْعِ الماءِ، ولا يَشْرَبُ كشُرْب بَقِيَّةِ الطُّيُورِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ القاسِمِ وسِندِىٍّ: كلُّ طَيْرٍ يَعُبُّ الماء ¬

(¬1) هذا من تتمة استدلال الإمام مالك. (¬2) سورة المائدة 95.

1237 - مسألة: (النوع الثانى، ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة، ويجوز أن يكون القاتل

النَّوْعُ الثَّانِى، مَالَمْ تَقْضِ فِيهِ الصَّحَابَةُ، رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَشْرَبُ مِثْلَ الحَمامِ، ففيه شاةٌ. فيَدْخُلُ فيه الفَواخِتُ (¬1)، والوراشِينُ (¬2)، والشَّفانِينُ (¬3)، والقُمْرىُّ (¬4)، والدُّبسِىُّ (¬5)، والقَطا (¬6). ولأنَّ كلَّ واحِدٍ منها تُسَمِّيه العَرَبُ حَمامًا. (وقاِل الكسائىُّ: كل مُطَوَّقٍ حَمامٌ) وعلى هذا القولِ الحَجَلُ (¬7) حَمنامٌ؛ لأنَّه مُطَوَّقٌ. 1237 - مسألة: (النَّوْعُ الثّانِى، ما لم تَقْضِ فيه الصَّحابَةُ، فَيُرْجَعُ فيه إلى قولِ عَدْلَيْن مِن أهْلِ الخِبْرَةِ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ القاتِلُ ¬

(¬1) الفواخت: جمع فاختة، وهى من ذوات الأطواق، وزعموا أنَّ الحيّات تهرب من صوتها. (¬2) في م: «الدواشين». وفى الأصل: «الرواشين». وهى الوَراشين؛ جمع ورشان، وهو ذكر القمارى، ويوصف بالحنو على أولاده. (¬3) في م: «السفاهين». وفى الأصل: «السفانين». وهى الشفانين؛ جمع شفنين، وهو طائر تسميه العامة اليمام. (¬4) القُمْرى: طائر حسن الصوت، وكنيته أبو ذكرى، الأنثى قمرية، وجمعها قمارى، وقمر. (¬5) في م: «الدسبى». والدبسى؛ طائر صغير، وهو الذى في لونه غبرة بين السواد والحمرة، وقيل: ذكر اليمام. (¬6) القطا: جمع قطاة، نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، يطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعة. (¬7) الحجل: طائر على قدر الحمام، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدَهما) وذلك لقولِ اللهِ تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). فيَحْكُمان فيه بأشْبَهِ الأشْياءِ به مِن النَّعَمِ، مِن حيثُ الخِلْقَةُ، لا مِن حيثُ القِيمَةُ؛ بدَلِيلِ أنَّ قَضاءَ الصَّحابَةِ لم يَكُنْ بالمِثْلِ في القِيمَةِ. وليس مِن شَرْطِ الحَكَمِ أن يَكُونَ فَقِيهًا؛ لأنَّ ذلك زِيادَةٌ على أمْرِ الله تِعالى به، وقد أمَر عُمَرُ أرْبَدَ أن يَحْكُمَ في الضَّبِّ، ولم يَسْألْ أفَقِيهٌ أمْ لا؟ لكنْ تُعْتَبَرُ العَدالَةُ؛ لأنَّها مَنْصُوصٌ عليها. وتُعْتَبَرُ الخِبْرَةُ؛ لأنَّه لا يَتَمَكَّنُ مِن الحُكْمِ بالمِثْلِ إلَّا مَن له خِبْرَةٌ، ولأنَّ الخِبْرَةَ بما يَحْكُمُ به شَرْطٌ في سائِرِ الحُكّامِ. ويَجُوزُ أن يَكُونَ القاتِلُ أحَدَ العَدْلَيْن. وبه قال الشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ، والنَّخَعِىُّ: ليس له ذلك. لأنَّ الإنْسانَ لا يَحْكُمُ لنَفْسِه. وكذلك يَجُوزُ أن يَكُونَ الحاكِمان القاتِلَيْن. وبه قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا يَجُوزُ. حَكاه أبو الحُسَيْنِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه سبحانه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}. والقَاتِلُ مع غَيْرِه ذَوَا عَدْلٍ مِنّا. وقد روَى الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬2)، عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: خَرَجْنا حُجَّاجًا، فأوْطَأ رجلٌ مِنّا -يُقالُ له: أرْبَدُ- ضَبُّا، ففَقَرَ ظَهْرَه، فقَدِمْنا على عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، فسَألَه أرْبَدُ، فقالَ: احْكُمْ يا أرْبدُ فيه. قال: أنْتَ خَيْرٌ مِنِّى يا أمِيرَ المُؤْمِنين. قال: إنَّما أمَرْتُك أن تَحْكُمَ، ولم آمُرْك ¬

(¬1) سورة المائدة 95. (¬2) في: باب فيما يباح للمحرم وما يحرم. . . .، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعى 1/ 332.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تُزَكِّيَنِى. فقالَ أرْبدُ: أرَى فيه جَدْيًا قد جَمَع الماءَ والشَّجَرَ. فقالَ عُمَرُ: فذلك فيه. فأمَرَه عُمَرُ أن يَحْكُمَ وهو القاتِلُ، وأمَرَ أيضًا كَعْبَ الأحْبار أن يَحْكُمَ على نَفْسِه في الجَرادَتَيْن اللتَيْن صادَهما وهو مُحْرِمٌ (¬1). ولأنَّه مال يُخْرَجُ في حَق اللهِ تعالى، فجازَ أن يَكُونَ مَن وَجَب عليه أمِينًا فيه، كالزكاةِ. قال ابنُ عَقِيل: إنَّما يَحْكُمُ القاتِلُ إذا قَتَل خَطَأً؛ لأنَّ القَتْلَ عَمْدًا يُنافِى العَدالَةَ، فيَخْرُجُ عن أن يَكُون من أهلِ الحُكْمِ، إلَّا أنْ يكونَ (¬2) قد قَتَلَه جاهِلاً بالتَّحْرِيمِ، فلا يَمْتَنِعُ أن يَحْكُمَ؛ لأنَّه لا يَفْسُقُ بذلك، والله أَعْلَمُ. وعلى قِياسِ ذلك، إذا قَتَلَه عندَ الحاجَةِ إلى أكْلِه؛ لأنَّ قَتْلَه مُباحُ، لكنْ يَجِبُ فيه الجَزاءُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 321. (¬2) سقط من: م.

1238 - مسألة: (ويجب فى كل واحد من الصغير والكبير، والصحيح والمعيب مثله، إلا الماخض تفدى بقيمة مثلها. وقال أبو الخطاب: يجب فيها مثلها)

وَيَجِبُ فِى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ مِثْلُهُ، الَّا الْمَاخِضَ تُفْدَى بِقِيمَةِ مِثْلِها. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجِبُ فِيها مِثْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1238 - مسألة: (ويَجبُ في كلِّ واحِدٍ مِن الصّغِيرِ والكبيرِ، والصَّحِيحِ والمَعِيبِ مِثْلُه، إَلَّا الماخِضَ تُفْدَى بقِيمَةِ مِثْلِها. وقال أبو الخَطّابِ: يَجِبُ فيها مِثْلُها) يَجِبُ في كَبِيرِ الصَّيْدِ كَبِير مِثْلُه، وفى الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وفى الصَّحِيحِ صَحِيحٌ، وفى المَعيبِ مَعِيبٌ؛، وفى الذَّكَرِ ذَكَر، وفى الأنْثَى أنْثَى. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا يُجْزِئُ إلاَّ كَبِيرٌ صَحِيحٌ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. ولا يُجْزِئُ في الهدىِ صَغِيرٌ ولا مَعِيبٌ، ولأنَّها كَفّارَةٌ مُتَعَلِّقَة بقَتْلِ حَيَوانٍ، فلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْتَلِفْ بصِغَرِه وكِبَرِه، كقَتْلِ الآدَمِىِّ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. ومِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، ومِثْلُ المَعِيبِ مَعِيبٌ، ولأنَّ ما ضُمِنَ باليَدِ والجِنايَةِ اخْتَلَفَ ضَمانُه بالصِّغَرِ والكِبَرِ، كالبَهِيمَةِ. والهدىُ في الآيَةِ مُقَيّدٌ بالمِثْلِ. وقد أجْمَعَ الصَّحابَةُ، رِضْوانُ الله عِليهم، على إيجابِ ما لا يَصْلُحُ هديًا، كالجَفْرَةِ والعَناقِ والجَدىِ. وكَفّارَةُ الآدَمِىِّ ليست بَدَلاً عنه، ولا تَجْرِى مَجْرَى الضَّمانِ؛ بدَلِيلِ أنَّها لا تَتَبَعَّضُ في أبعاضِه. فإن فَدَى المَعِيبَ بصَحِيحٍ، فهو أفْضَلُ. فأمّا الماخِضُ؛ وهى الحامِلُ، فقالَ القاضى: يَضْمَنُها بقِيمَةِ مِثْلِها. وهو مَذْهبُ الشافعىِّ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ قِيمَتَها أكْثَرُ مِن قِيمَةِ لَحْمِها. وقال أبو الخَطّابِ: يَضْمَنُها بماخِض مِثْلِها؛ للآيَةِ، ولأنَّ إيجابَ القِيمَةِ عُدُول عن المِثْلِ معِ إمْكانِه. فإن فَداها بغيرِ ماخِض، احتَمَلَ الجَوازَ؛ لأنَّ هذه الصِّفَةَ لا تزِيدُ في لَحْمِها، بل رُبَّما نَقَصَتْها، فلا يُشْتَرَط وُجُودُها في المِثْلِ، كاللوْنِ. وإن جَنَى على ماخِض فأتْلَفَ جَنِينَها، وخَرَج مَيِّتًا، ففيه ما نَقَصَتْ أمُّه،؛ كما لو جَرَحَها، وإن خَرَج جَيًّا لوَقْتٍ يَعِيشُ لمِثْلِه، ثم مات، ضَمِنَه بمِثْلِه، وإن كان لوَقتٍ لا يَعِيش لمِثْلِه، فهو كالمَيِّتِ، كجَنِينِ الآدَميَّةِ.

1239 - مسألة: (ويجوز فداء أعور من عين بأعور من أخرى، وفداء الذكر بالأنثى، وفى فدائها به وجهان)

وَيَجُوزُ فِدَاءُ أَعوَرَ مِنْ عَيْنٍ بأعوَرَ مِنْ عَيْنٍ أُخْرَى، وَفِدَاءُ الذَّكَرِ بِالأُنْثَى، وَفِى فِدَائِها بِهِ وَجْهانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1239 - مسألة: (ويَجُوزُ فِداءُ أعوَرَ مِن عَيْن بأعوَرَ مِن أُخْرَى، وفِداءُ الذكَرِ بالأنْثَى، وفى فِدائِها به وَجْهان) إذا فَدَى المَعِيبَ بمِثْلِه، جاز؛ لِما ذَكرنا. وإنِ اخْتَلَفَ العَيْبُ، مِثْلَ فِداءِ الأعوَرِ بأعْرَجَ، والأعْرَجِ بأعْوَرَ، لم يَجُزْ؛ لعَدَمِ المُماثَلَةِ. وإن فَدَى أعْوَرَ مِن إحْدَى العَيْنَيْن بأعْوَرَ مِن أخْرَى، أو أعْرَجَ مِن قائِمَةٍ بأعْرَجَ مِن أخْرَى، جاز؛ لأنَّ هذا اخْتِلاف يَسِيرٌ، ونوْعَ العَيْبِ واحِدٌ، وإنَّما اخْتَلَفَ مَحِله. وإن فَدَى الذَّكَرَ بالأُنْثَى، جاز؛ لأنَّ لَحمَها أطْيَبُ وأرطَبُ. وإن فَداها به؛ ففيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، يَجُوزُ؛ لأنَّ لَحْمَه أوْفَرُ، فتَساوَيا. والآخَرُ، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ زِيادَتَه عليها ليست مِن جِنْسِ

1240 - مسألة: (الضرب الثانى، ما لا مثل له؛ وهو سائر الطير فيجب؛ فيه قيمته، إلا ما كان أكبر من الحمام، فهل تجب؛ فيه قيمته أو شاة؟ على وجهين)

فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِى، مَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ وَهُوَ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ، إِلا مَا كَانَ أكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ، فَهَلْ تَجبُ فِيهِ قِيمَتُهُ أوْ شَاةٌ؟ عَلَى وَجْهيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زِيادَتِها، فأشْبَهَ فِداءَ المَعِيبِ مِن نَوْع بالمَعِيبِ مِن نَوْعٍ آخَرَ، ولأنَّه لا يُجْزئُ عنها في الزكاةِ، كذلك ههنا. 1240 - مسألة: (الضَّرْب الثّانِى، ما لا مِثْلَ له؛ وهو سائِر الطيْرِ فيَجب؛ فيه قِيمَته، إلَّا ما كان أكْبَرَ مِن الحَمامِ، فهل تَجب؛ فيه قِيمَتُه أو شاةَ؟ على وَجْهيْن) يَجب؛ فداء ما لا مِثْلَ له بقِيمَتِه في مَوْضعِه الذى أتْلَفَه فيه، كإتْلافِ مالِ (¬1) الآدَمِىِّ. ولا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ في وجوبِ ضَمانِ الصيْدِ مِن الطَّيْرِ، إلاَّ ما حكِىَ عن داودَ، ما كان أصغَرَ مِن الحَمامِ لا يضْمَنُ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وهذا لا مِثْلَ له. ولَنا، عموم قَوْلِه تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. ¬

(¬1) في م: «فصال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد قِيلَ في قَوْلِه تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} (¬1): يعنِى الفَرخَ والبَيْضَ، وما لا يَقْدِرُ أن يفِر مِن صِغارِ الصَّيْدِ، {وَرِمَاحُكُمْ}: يَغنِى الكِبارَ. وقد رُوِىَ عن عُمَرَ وابنِ عباس، رَضِىَ الله عنهما، أنهُما. حَكَما في الجَرادِ بجَزاءٍ (¬2). ودَلالَةُ الآيَةِ على وُجُوبِ جَزاءِ غيرِه لا يَمنَعُ مِن وُجُوبِ الجَزاءِ في هذا بدَلِيل آخرَ، ويُفْدَى بقِيمَتِه؛ لأنَّ الأصلَ أن يُضْمَنَ بقِيمَتِه، كا لو أتْلَفَه لآدَمىٍّ (¬3)، لكنْ تَرَكْنا هذا الأصلَ لدَلِيل، ففيما عَداه تَجِبُ القِيمَةُ بقَضِيَّةِ الأصْلِ. فصل: فأمّا ما كان أكْبَرَ مِن الحَمامِ، كالإوَزِّ، والحُبارَى (¬4)، والكُركِىِّ (¬5)، والحَجَلِ، والكَبِيرِ مِن طَيْرِ الماءِ، ففيه وَجْهان؛ ¬

(¬1) سورة المائدة 94. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الهرّ والجراد، من كتاب المناسك. المصنف 410/ 4، 411. (¬3) في م: «الآدمى». (¬4) الحبارى: طائر طويل العنق، رمادى اللون على شكل الإوزة، في منقاره طول. (¬5) الكُركى: طائر كبر، أغبر اللون طويل العنق والرجلين، أبتر الذنب، قليل اللحم، يأوى الى الماء أحيانًا.

1241 - مسألة: (ومن أتلف جزءا من صيد، فعليه ما نقص من قيمته، أو قيمة مثله إن كان مثليا)

وَمَنْ أتْلَفَ جُزْءًا [69 و] مِنْ صَيْدٍ، فَفِيهِ مَا نَقصْ قِيمَتِهِ، أوْ قِيمَةِ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، يَجِبُ فيه شاةٌ؛ لأنَّه يُروَى عن ابن عباسٍ، وعَطاءٍ، وجابِر، أنَّهم قالُوا: في الحَجَلَةِ والقَطاةِ والحُبارَى شاةَ. وزادَ عَطاءٌ: في الكُركِىِّ، والكَروانِ، وابنِ الماءِ، ودَجاجَةِ الحَبَشِ، والخَرَبِ شاةٌ شاةٌ (¬1). والخَرَبُ: هو فَرخُ الحُبارَى. ولأنَّ إيجابَ الشّاةِ في الحَمامِ تَنْبِيهٌ على إيجابها فيما هو أكْبَرُ منه. والوَجْهُ الثّانِى، فيه قِيمَتُه. وهو مَذْهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ القِياسَ يَقْتَضِى وُجُوبَها في جَمِيعِ الطَّيْرِ، تَرَكْناه في الحَمامِ؛ لإجْماعِ الصَّحابَةِ، ففى غيرِه يَبْقَى على أصلِ القِياسِ. 1241 - مسألة: (ومَن أتْلَفَ جُزْءًا مِن صَيْدٍ، فعليه ما نَقَص مِن قِيمَتِه، أو قِيمَةِ مِثْلِه إن كان مِثْلِيًّا) أنها ما لا مِثْلَ له، فإذا أتلَفَ جُزْءًا منه، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في جزاء الحمام وما في معناه، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمِنَه بقِيمَتِه؛ لأنَّ جُملَتَه تُضْمَنُ بقِيمَتِه، فكذلك أجْزاؤه، كما لو كان لآدَمِىٍّ. وإن كان له مِثْل، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُضْمَنُ بمِثْلِه مِن مِثْلِه؛ لأنَّ ما وَجَب ضَمانُ جُملَتِه بالمِثْلِ وَجَب في بَعضِه مِثْلُه، كالمَكِيلاتِ. والآخَرُ، تَجِبُ قِيمَةُ مِقْدارِه مِن مِثْلِه؛ لأنَّ الجُزْءَ يَشُقُّ إخْراجُه، فيُمنَعُ إيجابُه، ولهذا عَدَل الشارِعُ عن إيجابِ جُزْءٍ مِن بَعِيرٍ في خمسٍ مِن الإبِلِ إلى إيجابِ شاةٍ. والأوّلُ أوْلَى بآلأنَّ المَشقَّةَ ههُنا غيرُ ثابِتَةٍ؛ لوُجُودِ الخِيَرةِ له في العُدُولِ عن المِثلِ إلى عَدلِه مِن الطّعام أو الصيامِ، فيَنْتَفِى المانِعُ، فيَثْبُتُ مُقْتَضَى الأصلِ. هذا إذا انْدَمَلَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا.

1242 - مسألة: (وإن نفر صيدا، فتلف بشئ، ضمنه)

وَإنْ نَفَّرَ صَيْدًا، فَتَلِف بِشَىْءٍ، ضَمِنَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1242 - مسألة: (وإن نَفَّرَ صَيْدًا، فتَلِفَ بِشَئٍ، ضَمِنَه) إذا نَفَّرَ صَيْدًا، فتَلِفَ في حالِ نُفُورِه، ضَمِنَه، وكذلك إن جَرَح صَيْدًا، فتَحامَلَ فوَقَع (¬1) في شئٍ تَلِف به؛ لأنَّه تَلِف بسَبَبِه. فإن نَفَّرَه فسَكَنَ في مَكانٍ، وأمِنَ مِن نُفُورِه، ثم تَلِف، لم يَضْمَنْه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَضْمَنُه إذا تلف في المكانِ الذى انتقَلَ إليه؛ لِما رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه دَخَل دارَ النَّنوَةِ، فألْقَى رِداءَه على واقِفٍ في البَيْتِ، فوَقَعَ عليه طَيْر مِن هذا الحَمامِ، فأطاره، فوَ قَعَ على واقِفٍ آخَرَ، فانْتَهزَتْه حَيَّةٌ، فقَتَلَتْه، فقالَ لعثمانَ، ونافِع بنِ عبدِ الحارِثِ: إنِّى وَجَدتُ في نَفْسِى أنِّى أطَرْتُه مِن مَنْزِل كان فيه آمِنًا إلى مَوْقع كان فيه حَتْفُه (¬2). فقالَ نافِعٌ لعثمانَ: كيف تَرَى في عَنْز ثَنيةٍ عَفرَاءَ، يُحْكَمُ بها على أميرِ المُؤْمِنين؟ فقالَ عثمانُ: أرَى ذلك. فأمَرَ بها عُمَرُ، رَضِىَ الله عنه. رَواه الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬3). ¬

(¬1) في م: «إن وقع». (¬2) في م: «حية». (¬3) في: باب فيما يباح للمحرم وما يحرم. . . .، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعى 1/ 333.

1243 - مسألة: (وإن جرحه فغاب ولم يعلم خبره، فعليه ما نقصه، وكذلك إن وجده ميتا ولم يعلم موته بجنايته. وإن اندمل غير ممتنع، فعليه جزاء جميعه)

وَإنْ جَرحَهُ فَغَابَ وَلَم يَعْلَمْ خَبَرَهُ، فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَدَهُ مَيِّتًا وَلَم يعلم مَوْتَهُ بِجِنَايَتِهِ. وَإنِ انْدَمَلَ غَيْرَ مُمْتَنِع، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1243 - مسألة: (وإن جَرَحَه فغابَ ولم يَعْلَمْ خَبَرَه، فعليه ما نَقَصَه، وكذلك إن وَجَدَه مَيتا ولم يَعلم مَوْتَه بجِنايته. وإنِ انْدَمَلَ غيرَ مُمْتَنعٍ، فعليه جَزاءُ جَمِيعِه) إذا جَرَح صَيْدًا فغابَ غيرَ مُنْدَمِلٍ، والجِراحَةُ مُوجِبَةٌ لا تَبْقَى الحَياةُ معها غالِبًا، فعليه جَزاءُ جَمِيعِه، كما لو قَتَلَه، وإن كانت غيرَ مُوجِبةٍ، فعليه ضَمانُ ما نَقَص؛ لأَّنا لا نَعلَمُ حُصُولَ التَّلَفِ بفِعلِه، إلَّا أنَه يُقَوِّمُه صَحِيحًا وجَرِيحًا جِراحَةً غيرَ مُنْدَمِلَةٍ، فيَعتَبِرُ ما بينَهما؛ لأنَّا لا نَعلَمُ هل يَنْدَمِلُ أم لا؟ وكذلك إن وجَدَه مَيِّتًا، ولم يَعْلَمْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمات مِن الجِنايَة أم مِن غيرها؟ لِما ذَكرنا. ويَحتَمِلُ أن يَلْزَمَه ضَمانُ جَمِيعِه ههُنا؛ لأنَّه وُجِد سَبَبُ إتْلافِه منه، ولم نَعلم له سَبَبًا آخَرَ، فوَجَبَ إحالَتُه على السَّبَبَ المَعلُوم، كما لو وَقَع في الماءِ نجَاسَةٌ، فوجَدَه مُتَغَيرا تَغَيًّرا يَصْلُحُ أن يَكُونَ منها، فإنَّا نَحْكُمُ بنَجاسَتِه. وكذلك لو رَمَى صَيْدًا، فغابَ عن عَيْنه، ثم وَجَده مَيِّتًا لا أثَرَ به غيرَ سَهْمِه، حَلَّ أكْلُه. وهذا أقْيَسُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ انْدَمَلَ الصَّيْدُ غيرَ مُمْتَنِعٍ، ضَمِنَه جَمِيعَه؛ لأنَّه عَطَّلَه، فصارَ كالتّالِفِ، ولأنَّه يُفْضِي إلى تَلَفِه، فصار كما لو جَرَحَه جُرْحًا يَتَيَقَّنُ مَوْتَه به. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ. ويَتَخَرَّجُ أن يَضْمَنَه بما نَقَص؛ لأنَّه لا يَضْمَنُ إلَّا ما أتْلَفَ، ولم يُتْلِفْ جَمِيعَه؛ بدَلِيلِ ما لو قَتَلَه مُحْرِمٌ آخَرُ (¬1) لَزِمَه الجَزاءُ. والصَّحِيحُ أنَّ على المُشْتَرِكِين جَزاءً واحِدًا، وضَمانُه بجَزاءٍ كامِل يُفْضِي إلى إيجابِ جَزاءَيْن. وإن صَيَّرَتْه الجِنايَةُ غيرَ مُمْتَنِعٍ، فلم يَعْلَمْ أصارَ مُمْتَنِعًا أم لا، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الامْتِناعِ. فصل: وكلُّ ما يَضْمَنُ به الآدَمِيَّ يَضْمَنُ به الصَّيْدَ؛ مِن مُباشَرَةٍ أو سَبَبٍ، وكذلك ما جَنَتْ دابَّتُه بيَدِها أو فَمِها، فأتْلَفَتْ صَيْدًا، فالضَّمانُ على راكِبها، أو قائِدِها، أو سائِقِها، وما جَنَتْ برِجْلِها فلا ضَمانَ فيه. وقال القاضى: يَضْمَنُ السّائِقُ جَمِيعَ جِنايتِها؛ لأنَّ يَدَه عليها ويُشاهِدُ رِجْلَها. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا ضَمان في الرِّجْلِ؛ لقولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) سقط من: م.

1244 - مسألة: (وإن نتف ريشه فعاد، فلا شئ عليه. وقيل

وَإنْ نَتَفَ رِيشَهُ فَعَادَ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الرِّيشِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «الرِّجْلُ جُبَارٌ» (¬1). وإنِ انْفَلَتَتْ فأتْلَفَتْ صَيْدًا، لم يَضْمَنْه؛ لأَنَّه لا يَدَ له عليها. وقد قال النبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» (¬2). ولذلك لو أتْلَفَتْ آدَمِيًّا لم يَضْمَنْه، ولو نَصَب شَبَكَةً، أو حَفَر بئْرًا، فوَقَعَ فيها صَيْدٌ، ضَمِنَه؛ لأنَّه بسَبَبِه، كما يَضْمَنُ الآدَمِيَّ، إلَّا أن يَكُونَ حَفَر البِئْرَ بحَقٍّ، كحَفْرِه في دارِه، أو في طرِيقٍ واسِعٍ يَنْتَفِعُ بها المُسْلِمُون، فيَنْبَغِي أن لا يَضْمَنَ، كالآدَمِيِّ. وإن نَصَب شَبَكَةً قبلَ إحْرامِه، فوَقَعَ فيها صَيْدٌ بعدَ إحْرامِه، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه بعدَ إحْرامِه تَسَبُّبٌ إلى إتْلافِه، أشْبَهَ ما لو صادَه قبلَ إحْرامِه وتَرَكَه في مَنْنرلِه، فتَلِفَ بعدَ إحْرامِه. 1244 - مسألة: (وإن نَتَف رِيشَه فعادَ، فلا شئَ عليه. وقِيلَ: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الدابة تنفح برجلها، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 502. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 587، 588.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه قِيمَةُ الرِّيشِ) إذا نَتَف رِيشَ طائِرٍ، ثم حَفِظَه، فأطْعَمَه وسَقاه، حتى عاد رِيشُه، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ النَّقْصَ زال. وقِيلَ: عليه قِيمَةُ الرِّيشِ؛ لأنَّ الثّانِي غيرُ الأوَّلِ. فإن صار غيرَ مُمْتَنِعٍ بنَتْفِ رِيشِه، فهو كالجُرحِ، وقد ذَكَرْناه. وإن غابَ، ففيه ما نَقَص. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وأوْجَبَ مالكٌ، وأبو حنيفةَ فيه الجَزاءَ جَمِيعَه. ولَنا، أَنَّه نَقْصٌ يُمْكِنُ زَوالُه، فلم يَضْمَنْه بكَمالِه، كما لو جَرَحَه ولم يَعْلَمْ حالَه.

1245 - مسألة: (وكلما قتل صيدا حكم عليه)

وَكُلَّمَا قَتَلَ صَيْدًا حُكِمَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1245 - مسألة: (وكُلَّما قَتَل صَيْدًا حُكِمَ عليه) يَعْنِي يَجِبُ الجَزاءُ بقَتْلِ الصَّيْدِ الثّانِي، كما يَجِبُ إذا قَتَلَه ابْتِداءً. هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ. قال أبو بَكْرٍ: وهذا أوْلَى القَوْلَيْن بأبِي عبدِ اللهِ. وبه قال عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وابنُ المُنْذِرِ. وفيه رِوايَةٌ ثانِيَة، أنَّه لا يَجِبُ إلَّا في المَرَّةِ الأُولَى. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وبه قال شُرَيْحٌ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (¬1). ولم يُوجِبْ جَزاءً. وفيه رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، إن كَفَّرَ عن الأوَّلِ، فعليه للثّانِي كَفّارَةٌ، وإلَّا فلا. وقد ذَكَرْناها. ولَنا، أنَّها كَفّارَةٌ عن قَتْلٍ، فاسْتَوَى فيها المُبْتَدِئُ والعائِدُ، كقَتْلِ الآدَمِيِّ، ولأنَّها بَدَلُ مُتْلَفٍ يَجِبُ به المِثْلُ أو القِيمَةُ، فأشْبَهَ بَدَلَ مالِ الآدَمِيِّ. قال أحمدُ: رُوِيَ عن عُمَرَ وغيرِه، أنَّهم حَكَمُوا في الخَطَإِ، وفي مَن قَتَل، ولم يَسْألُوه هل كان قبل هذا قَتَل أو لا؟ والآيَةُ اقْتَضَتِ الجَزاءَ على العائِدِ بعُمُومِها. وذِكْرُ العُقُوبَةِ في الثّانِى لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، كما قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة المائدة 95. (¬2) سورة البقرة 275.

1246 - مسألة: (وإن اشترك جماعة فى قتل صيد، فعليهم جزاء واحد. وعنه، على كل واحد جزاء. وعنه، إن كفروا بالمال، فكفارة واحدة، وإن كفروا بالصيام، فعلى كل واحد كفارة)

وَإنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ في قَتْلِ صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَعَنْهُ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ. وَعَنْهُ، إِنْ كَفَّرُوا بِالْمَالِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإنْ كَفَّرُوا بِالصِّيَامِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ثَبَت أنَّ العائِدَ لو انتهَى، كان له ما سَلَف وأمْرُه إلى اللهِ. فصل: ويَجُوزُ إخْراجُ جَزاءِ الصَّيْدِ بعدَ جَرْحِه وقبلَ مَوْتِه. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه الله؛ لأنَّها كَفّارَةُ قَتْلٍ، فجاز تَقْدِيمُها على المَوْتِ؛ ككَفّارَةِ قَتْلِ الآدَمىِّ (¬1). ولأنَّها كَفّارَةٌ، أشْبَهَتْ كَفّارَةَ الظِّهارِ واليَمينِ. 1246 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَكَ جَماعَةٌ في قَتْلِ صَيْدٍ، فعليهم جَزاءٌ واحِدٌ. وعنه، على كلِّ واحِدٍ جَزاءٌ. وعنه، إن كَفَّرُوا بالمالِ، فكَفّارَةٌ واحِدَةٌ، وإن كَفَّرُوا بالصيِّامِ، فعلى كلِّ واحِدٍ كَفّارَةٌ) رُوِىَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في هذه المسألةِ ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، أنَّ الواجِبَ جَزاءٌ واحِدٌ. وهو الصَّحِيحُ. يُرْوَى هذا عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، وابْنِه، وابنِ عباسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال عَطاءٌ، والزهْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ، ¬

(¬1) فيما إذا جرحه خطأ وتأخر موته، فإنه يجوز إخراج كفارة القتل حينئذ قبل موت الجريح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّعْبِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. والثّانِيَةُ، على كلِّ واحِدٍ جَزاءٌ. ذَكَرَها ابنُ أبى مُوسى. اخْتارَها أبو بَكْرٍ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ. ويُرْوَى عن الحسنِ؛ لأنَّها كَفّارَةُ قَتْلٍ يَدْخُلُها الصومُ، أشْبَهَتْ كَفّارَةَ قَتْلِ الآدَمِىِّ. والثّالِثَةُ، إن كان صومًا، فعلى كلِّ واحِدٍ منهم صومٌ تامٌّ، وإن كان غيرَه فجَزاءٌ واحِدٌ. وإن أهْدَى أحَدُهما أو أطْعَمَ، وصام الآخَرُ، فعلى المُهْدِى بحِصَّتِه، وعلى الآخَرِ صِيامٌ تامٌّ؛ لأنَّ الجَزاءَ ليس بكَفّارَةٍ، وإنَّما هو بَدَلٌ، بدَلِيلِ أنَّ الله تعالى عَطَف عليه الكَفّارَةَ، فقال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ. . . . أَوْ كَفَّارَةٌ}. والصومُ كَفّارَةٌ، فيُكْمَلُ، ككَفّارَةِ قَتْلِ الآدَمِىِّ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. والجَماعَةُ إنَّما قَتَلُوا صَيْدًا، فلَزِمَهم مِثْلُه، والزائِدُ خارِجٌ عن المِثْلِ، فلا يَجِبُ. ومتى ثَبَت اتِّحادُ الجَزاءِ في الهَدْىِ، وَجَب اتِّحادُه في الصيامِ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. والاتِّفاقِ حاصِلٌ على أنَّه مَعْدُولٌ بالقِيمَةِ؛ إمّا قِيمَةُ المُتْلَفِ، أو قِيمَةُ مِثْلِه، فإيجابُ الزّائِدِ على عَدْلِ القِيمَةِ خلافُ النَّصِّ، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخَالِفًا, ولأنَّه جَزاءٌ عن مَقْتُولٍ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِه، فكانَ واحِدًا، كالدِّيَةِ. وكَفّارَةُ الآدَمِىِّ لنا فيها مَنْعٌ، فلا تَتَبَعَّضُ في أبْعاضِه، ولا تَخْتَلِفُ باخْتِلافِه، فلم تَتَبَعَّضْ على الجَماعَةِ، بخِلافِ مَسْألتِنا. فصل: فإن كان شَرِيكُ المُحْرِمِ حَلالًا أو سَبُعًا، فالجَزاءُ كلُّه على المُحْرِمِ في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ على المُحْرِمِ بحِصَّتِه، كالمُحْرِمَيْن. وقد ذَكَرْناه. فصل: وإنِ اشْتَرَكَ حَلالٌ ومُحْرِمٌ في قَتْلِ صَيْدٍ حَرَمِىٍّ، فالجَزاء بينَهما نِصْفَيْن؛ لأنَّ الِإتْلافَ يُنْسَبُ إلى كلِّ واحِدٍ منهما نِصْفُه، ولا يَزْدادُ الواجِبُ على المُحرِمِ باجْتِماعِ حُرْمَةِ الِإحْرامِ والحَرَمِ. وهذا الاشْتِراكُ الذى هذا حُكْمُه هو الذى يَقَعُ الفِعْلُ منهما معًا، أو يَجْرَحُه أحَدُهما قبلَ الآخَرِ، ويَمُوتُ منهما. فإن جَرَحَه أحَدُهما، وقَتَلَه الآخَرُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الجارِحِ ما نَقَصَه، على ما مَضَى، وعلى القاتِلِ جَزاؤه مَجْرُوحًا. فصل: وإن قَتَل صَيْدًا مَمْلُوكًا، ضَمِنَه بالقِيمَةِ لمالِكِه، والجَزاءُ للهِ تعالى؛ لأنَّه حَيَوانٌ مَضْمُونٌ بالكَفّارَةِ، فجاز أن يَجْتَمِعَ التَّقْوِيمُ في التَّكْفِيرِ في ضَمانِه، كالعَبْدِ. فصل: وإذا قَتَل القارِنُ صَيْدًا، فعليه جَزاءٌ واحِدٌ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقالَ: إذا قَتَل القارِنُ صَيْدًا، فعليه جَزاءٌ واحِدٌ، وهؤلاء يَقُولُون: جَزَاءان. فيَلْزَمُهم أن يَقُولُوا في صَيْدِ الحَرَمِ ثَلَاثةً؛ لأنَّهم يقُولُون في الحِلِّ اثْنَيْن، ففى الحَرَمِ يَنْبَغِي أن يَكُونَ ثَلَاثَةً. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال أصحابُ الرَّأىِ: جَزَاءان. وكذلك إذا تَطيَّبَ، أو لَبِس. قال القاضى: وإذا قُلْنا: على القارِنِ طَوافان. لَزِمَه جَزَاءان. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. ومَن أوْجَبَ جَزاءَيْن، فقد أوْجَبَ مِثْلَيْن. ولأنَّه صَيْدٌ واحِدٌ، فلم يَجِبْ فيه جَزَاءان، كما لو قَتَل المُحْرِمُ في الحَرَمِ صَيْدًا.

باب صيد الحرم ونباته

بَابُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَنَبَاتِهِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ، فَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ صَيْدِهِ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْرِمِ فِى مِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صَيْدِ الحَرَمِ ونَباتِه 1247 - مسألة: (وهو حَرامٌ على الحَلالِ والمُحْرِمِ، فمَن أتْلَفَ مِن صَيْدِه شَيْئًا، فعليه ما على المُحْرِمِ في مِثْلِه) الأصْلُ في تَحْرِيمِه النَّصُّ والإجْماعُ؛ أمّا النَّصُّ، فما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا (¬1)، وَلَا يُعْضَدُ (¬2) شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتهَا، إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا». فقالَ العَبّاسُ: يَا رسولَ اللهِ، إلَّا الِإذْخِرَ (¬3)، فإنَّه لِقَيْنِهِم (¬4) وبُيُوتِهم. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا الِإذْخِرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ على تَحْرِيمِ صَيْدِ الحَرَم على الحَلالِ والمُحْرِم. فصَل: وفيه الجَزاءُ علىَ مَن يَقْتُلُه، بمثْلِ ما يُجْزَى به الصَّيْدُ في الِإحْرام. وحُكِىَ عن داودَ، أنَّه لا جَزاءَ فيه؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، ولم يَرِدْ فيه نَصٌّ، فيبْقَى بحالِه. ولَنا، أنَّ الصحابَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهمِ، قَضَوْا في حَمامِ الحَرمِ بشَاةٍ شاة. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وعثمانَ، ¬

(¬1) الخلا: الرطب من الكلأ. (¬2) يعضد: يقطع. (¬3) الإذخر: نبت طيب الرائحة. (¬4) القين: الحداد والصائغ. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب الإذخر. . . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب فضل الحرم. . . .، وباب لا يحل القتال بمكة. . . .، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب ما قيل في الصواغ. . . .، من كتاب البيوع، وفى: باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، من كتاب اللقطة، وفى: باب إثم الغادر للبر والفاجر، من كتاب الوصايا. صحيح البخارى 2/ 115، 116، 181، 3/ 18، 79، 164، 4/ 127. ومسلم، في: باب تحريم مكة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 986. كما أخرجه النسائى، في: باب حرمة مكة، وباب تحريم القتال، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 160، 161. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 253، 259، 315، 316، 318.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، ولم يُنْقَلْ عن غيرِهم خِلافُهم، فيَكونُ إجْماعًا، ولأنَّه صَيْدٌ مَمْنُوعٌ منه لحقِّ اللهِ تعالى، أشْبَهَ الصَّيْدَ في حَقِّ المُحْرِمِ. فصل: للصَّوْم مَدْخَلٌ في ضَمانِ صَيْدِ الحَرَمِ عندَ الأكْثَرِينَ، خِلافًا لأبى حنيفةَ. ولَنا، أنَّه يُضْمَنُ بالِإطْعامِ، فيُضْمَنُ بالصِّيامِ، كالصَّيْدِ في الإحْرامَ. فصل: ويَجِبُ في حَمامِ الحَرَم شاةٌ. وقال أبو حنيفةَ: فيه في الحَرَمِ شاةٌ، وفى حَمامِ الحِلِّ في الحَرَمِ حُكُومَةٌ. وفى حَمامِ الحَرَم، في الحِلِّ رِوايَتَان؛ إحْداهُما، حُكُومَةٌ، والثانيةُ، شاةٌ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن قَضاءِ الصَّحابَةِ، ولم يُفَرِّقُوا. ذَكَرَ هذيْن الفَصْلَيْن القاضِى أبو الحَسَنِ. فصل: وكُلُّ ما يُضْمَنُ في الإحْرام يُضْمَنُ في الحَرَمِ، إلَّا القَمْلَ، فإنَّه يُباحُ في الحَرَمِ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه حُرِّمَ في حَقِّ المُحْرِمِ لأجْلِ التَّرَفُّهِ، وهو مُباحٌ في الحَرَمِ، كإباحَةِ الطِّيبِ واللُّبْسِ. فصل: ويُضْمَنُ صَيْدُ الحَرَمِ في حَقِّ المُسْلِمِ والكافِرِ، والكَبِيرِ والصَّغِيرِ، والحُرِّ والعَبْدِ. وقال أبو حَنيفةَ: لا يَضْمَنُه الصَّغِيرُ، ولا الكافِرُ. ولَنا، أنَّ الحُرْمَةَ تَعَلَّقَت بمَحَلِّه بالنِّسْبَةِ إلى الجَمِيع، فوَجَبَ ضَمانُه، كالآدَمِىِّ. فصل: ويُضْمَنُ صَيْدُ الحَرَمِ بالدَّلالَةِ والإشارَةِ، كصَيْدِ الإحْرامِ،

1248 - مسألة: (وإن رمى الحلال من الحل صيدا فى الحرم، أو أرسل كلبه عليه، أو قتل صيدا على غصن فى الحرم أصله فى الحل أو

وَإنْ رَمَى الْحَلَالُ مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا في الْحَرَمِ، أَوْ أَرسَل كَلْبَهُ عَلَيْهِ، أو قَتَلَ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ في الْحَرَمِ أصْلُهُ في الْحِلِّ، أو أَمْسَكَ طَائِرًا ـــــــــــــــــــــــــــــ والواجِبُ عليهما جَزاءٌ واحِدٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. وظاهِرُ كلامِه أنَّه لا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الدَّلالَةِ في الحِلِّ والحَرَمِ. وقال القاضى: لا جَزاءَ على الدَّالِّ، إذا كان في الحِلِّ، والجَزاءُ على المَدْلُولِ وَحْدَه، كالحَلالِ إذا دَلَّ مُحْرِمًا. ولَنا، أنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ الحَرَمِىِّ حَرامٌ على الدَّالِّ، فيُضْمَنُ بالدَّلالَةِ، كما لو كان في الحَرَمِ، يُحَقِّقُه أنَّ صَيْدَ الحَرَمِ مُحَرَّمٌ على كُلِّ أحَدٍ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا». وفى لَفْظٍ: «لَا يُصَادُ صَيْدُهَا». وهذا عامٌّ في حَقِّ (¬1) كلِّ أحَدٍ، ولأنَّ صَيْدَ الحَرَمِ مَعْصُومٌ بمَحَلِّه، فحُرِّمَ قَتْلُه عليهما، كالمُلْتَجِىَ إلى الحَرَم. وإذا ثَبَت تَحْرِيمُه عليهما فيُضْمَنُ بالدَّلالَةِ مِمَّن يَحْرُمُ عليه قَتْلُه، كما يُضْمَنُ بدَلالَةِ المُحْرِمِ عليه. وكلُّ ما يُضْمَنُ به في الإِحْرامِ يُضْمَنُ به في الحَرَمِ، وما لا فلا؛ لأنَّه صَيْدٌ مَمْنُوعٌ منه لحَقِّ الله تِعالى، فيُضْمَنُ بكلِّ ما [يُضْمَنُ] به في الإِحْرامِ، وكان حُكْمُه حُكْمَه في وُجُوبِ الضَّمانِ وعَدَمِه، قِياسًا عليه. 1248 - مسألة: (وإن رَمَى الحَلالُ مِن الحِلِّ صَيْدًا في الحَرَمِ، أو أرْسَلَ كَلْبَه عليه، أو قَتَلَ صَيْدًا على غُصْنٍ في الحَرَمِ أصْلُه في الحِلِّ أو ¬

(¬1) سقط من: م.

فِى الْحِلِّ فَهَلَكَ فِرَاخُهُ في الْحَرَمِ، ضَمِنَ فِى أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْسَكَ طَائِرًا في الحِلِّ، فَهَلَكَ فِراخُه في الحَرَمِ، ضَمِنَ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن) إذا رَمَى الحَلالُ مِن الحِلِّ صَيْدًا في الحَرَمِ، أو أرْسَلَ جارِحًا عليه، فَقَتَلَه، أو قَتَلَ صَيْدًا على غُصْنٍ في الحَرَمِ أصْلُه في الحِلِّ، ضَمِنَه. وبه قال الشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أخْرَى، لا جَزاءَ عليه؛ لأنَّ القاتِلَ حَلالٌ في الحِلِّ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا». ولم يُفَرِّقْ بينَ مَن هو في الحِلِّ والحَرَمِ، وقد أجْمَعَ المُسْلِمُونَ على تَحْرِيمِ صَيْدِ الحَرَمِ، وهذا مِن صَيْدِه، ولأنَّ صَيْدَ الحَرَمِ مَعْصُومٌ بمَحَلِّه لحُرْمَةِ الحَرَمِ، فلا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُه بمَن في الحَرَمِ كالملْتَجِئِ، وكذلك الحُكْمُ لو أمْسَكَ طائِرًا في

1249 - مسألة: (وإن قتل من الحرم صيدا فى الحل بسهمه، أو كلبه، أو صيدا على غصن فى الحل أصله فى الحرم، أو أمسك حمامة فى الحرم، فهلك فراخها فى الحل، لم يضمن، فى أصح الروايتين)

وَإنْ قَتَلَ مِنَ الْحَرَمِ صَيْدًا في الْحِلِّ بِسَهْمِهِ، أوْ كَلْبِهِ، أوْ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ في الْحِلِّ أصْلُهُ في الْحَرَمِ، أوْ أمْسَكَ حَمَامَةً في الْحَرَمِ، فَهَلَكَ فِرَاخُهَا في الْحِلِّ، لَمْ يَضْمَنْ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِلِّ، فَهَلَكَ فِراخُه في الحَرَمِ، فإنَّه يَضْمَنُ الفِراخَ؛ لِما ذَكَرْنا، دُونَ الأمِّ؛ لأنَّها مِن صَيْدِ الحِلِّ، وهى حَلالٌ. 1249 - مسألة: (وإن قَتَل مِن الحَرَمِ صَيْدًا في الحِلِّ بسَهْمِه، أو كَلْبِه، أو صَيْدًا على غُصْنٍ في الحِلِّ أصْلُه في الحَرَمِ، أو أمْسَكَ حَمامَةً في الْحَرَمِ، فهَلَكَ فِراخُها في الْحِلِّ، لَمْ يَضْمَنْ، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه المسائِلُ عَكْسُ التى قَبْلَها، والصَّحِيحُ أنَّه لا ضَمانَ في ذلك؛ لأنَّه ليس مِن صَيْدِ الحَرَمِ. قال أحمدُ، في مَن أرْسَلَ كَلْبَه في الحَرَمِ، فصادَ في الحِلِّ: فلا شئَ عليه. وعنه رِوايَةٌ أخْرَى، عليه الضَّمانُ في جَمِيع الصُّوَرِ. وعن الشافعىِّ ما يَدُلُّ عليه. وذَهَب الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، في مَن قَتَل طائِرًا على غُصْنٍ في الحِلِّ أصْلُه في الحَرَمِ: لا جَزاءَ عليه. وهو ظاهِرُ قولِ أصحابِ الرَّأْىِ. وقال إسحاقُ، وابنُ الماجِشُون: عليه الجَزاءُ؛ لأنَّ الغُصْنَ تابعٌ للأصْلِ، وهو في الحَرَمِ. ولَنا، أنَّ الأصْلَ حِلُّ الصَّيْدِ، حُرِّم صَيْدُ الحَرَمِ بالنَّصِّ والِإجْماعِ، فبَقِيَ ما عَداه على الأصْلِ، ولأنَّه صَيْدُ حِلٍّ أصابَه حَلالٌ، فلم يُحَرَّمْ، كما لو كانا في الحِلِّ، ولأنَّ الجَزاءَ إنَّما يَجِبُ في صَيْدِ الحَرَمِ، أو صَيْدِ المُحْرِمِ، وليس هذا واحِدًا منهما.

1250 - مسألة: (وإن أرسل كلبه من الحل على صيد فى الحل،

وَإنْ أَرسَلَ كَلْبَهُ مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِى الْحِلِّ، فَقَتَلَ صَيْدًا فِى ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان الصَّيْدُ والصَّائِدُ في الحِلِّ، فرَماه بسَهْمِه، أو أرْسَلَ كَلْبَه عليه، فدَخَلَ الحَرَمَ، ثم خَرَج، فقَتَلَ الصَّيْدَ في الحِلِّ، فلا جَزاءَ فيه. وبه قال أصحابُ الرَّأْىِ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ، أنَّ عليه الجَزاءَ. ولَنا، ما ذَكَرْناه. قال القاضى: لا يَزِيدُ سَهْمُه على نَفْسِه، ولو عَدَا بنَفْسِه، فسَلَكَ الحَرَمَ في طَرِيقِه، ثم قَتَل صَيْدًا في الحِلِّ، لم يَكُنْ عليه شئٌ، فسَهْمُه أوْلَى. 1250 - مسألة: (وإن أرْسَلَ كَلْبَه مِن الحِلِّ على صَيْدٍ في الحِلِّ،

الْحَرَمِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَإنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَهْمِهِ، ضَمِنَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقَتَلَ صَيْدًا في الحَرَمِ، فعلى وَجْهَيْنِ. وإن فَعَلَ ذلك بِسَهْمِه، ضَمِنَه) أمّا إذا رَمَى مِن الحِلِّ صَيْدًا فيه، فقَتَلَ صَيْدًا في الحَرَمِ، فعليه جزاؤُه. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرأْىِ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا جَزاءَ عليه. ولَنا، أنَّه قَتَل صَيْدًا حَرَمِيًّا، فلَزمَه جَزاؤُه، كما لو رَمَى حَجَرًا في الحَرَمِ، فقَتَلَ صَيْدًا. يُحَقِّقُه أنَّ الخَطَأَ كالعَمْدِ في وُجُوبِ الجَزاءِ، وهذا لا يَخْرُجُ عن أحَدِهما. فأمّا إن أرْسَلَ كَلْبَه على صَيْدٍ في الحِلِّ، فقَتَلَه في الحَرَمِ، فنَصَّ أحمدُ على أَنَّه لا يَضْمَنُه. وهو قولُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه لم يُرْسِلِ الكَلْبَ على صَيْدٍ في الحَرَم، وإنَّما دَخَلَ باخْتِيارِ نَفْسِه، أشْبَهَ ما لو اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِه. وقال عَطاءٌ، وأبو حنيفةَ، وصاحِباه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الجَزاءُ؛ لأنَّه قَتَل صَيْدًا حَرَمِيًّا بإرْسالِ كَلْبه عليه، فضَمِنَه، كما لو قَتَلَه بسَهْمِه. وهذا اخْتِيارُ أبى بَكْرٍ عبدِ العزيزِ. وحَكَى صالِحٌ، عن أحمدَ، أنَّه إن كان الصَّيْدُ قرِيبًا مِن الحَرَمِ، ضمِنَه؛ لأنَّه فرّط بإرْسَالِه، وإلَّا لم يَضْمَنْه. وهذا قَوْلُ مالكٍ. فإن قَتَل صَيْدًا غيرَه لم يَضْمَنْه. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه لم يُرْسِلِ الكَلْبَ على ذلك الصَّيْدِ، فأشْبَهَ ما لو اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِه. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه يَضْمَنُ إن كان الصَّيْدُ قَرِيبًا مِن الحَرَمِ؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ، فأشْبَهَ المسألةَ التى قَبْلَها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يَأكُلُ الصَّيْدَ في هذه المَواضِع كُلِّها، ضَمِنَه أو لَا؛ لأنَّه صَيْدٌ حَرَمِىٌّ قُتِلَ في الحَرَمِ، كما لو ضَمِنَه، ولأنَّنَا إذا ألْغَيْنا فِعْلَ الآدَمِىِّ صارَ الكَلْبُ كأنَّه اسْتَرْسَلَ بنَفْسِه، فقَتَلَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَمَى الحَلالُ مِن الحِلِّ صَيْدًا فيه فجَرَحَه، فتَحامَلَ الصَّيْدُ، فدَخَلَ الحَرَمَ، فماتَ فيه، حَلَّ أَكْلُه، ولا جَزاءَ فيه؛ لأنَّ الذَّكاةَ حَصَلَتْ في الحِلِّ، فأشْبَهَ ما لو جَرَح صَيْدًا ثم أحْرَمَ، فماتَ الصَّيْدُ بعدَ إحْرامِه. ويُكْرَهُ أكْلُه؛ لمَوْتِه في الحَرَم. فصل: وإن وَقف صَيْدٌ، بعضُ قَوائِمِهَ في الحِلِّ، وبعضُها في الحَرَمِ، فقَتَلَه قاتِلٌ، ضَمِنَه، تَغْلِيبًا للحَرَمِ. وبه قال أصحابُ الرَّأْىِ، وأبو ثَوْرٍ. وإن نَفَّرَ صَيْدًا مِن الحَرَمِ، فأصابه شئٌ في حالِ نُفُورِه، ضَمِنَه؛ لأنَّه تَسَبَّبَ إلى إتْلافِه، فأشْبَهَ ما لو تَلِف بشَرَكِه أو شَبَكَتِه، وإن سَكَن مِن نُفُورِه ثم أصَابَه شئٌ لم يَضْمَنْه. نَصَّ عليه. وهو قَوْلُ الثَّوْرِىِّ؛ لأنَّه لم يَكُنْ سَبَبًا لِإتْلافِه. وقد رُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه وَقَع على رِدائِه حَمامَةٌ، فأطَارَهَا، فوَقَعَتْ على واقِفٍ فانتهَزَتْها حَيَّةٌ، فاسْتَشارَ عثمانَ ونافِعَ بنَ عبدِ الحارِثِ، فحَكَما عليه بشاةٍ (¬1). وهذا يَدُلُّ على أَنَّهُم رَأوْا عليه الضَّمانَ بعدَ سُكُونِه. فإنِ انتقَلَ عن المكانِ الثانى، فأصابَه شئٌ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 26.

فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ قَطْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ وَحَشِيشِهِ، إِلَّا الْيَابِسَ وَالإذْخِرَ، وَمَا زَرَعَهُ الْآدَمِىُّ. وَفِى جَوَازِ الرَّعْىِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه خَرَج عن المكانِ الذى طُرِدَ إليه، وقَوْلُ الثَّوْرِىِّ وأحمدَ يَدُلّ على هذا. قال سُفْيانُ: إذا طَرَدْتَ في الحَرَمِ شَيْئًا، فأصابَ شَيْئًا قبلَ أن يَقَعَ أو حينَ وَقَع، ضَمِنْتَ، وإنْ وَقَعَ مِن ذلك المكانِ إلى مَكانٍ آخَرَ، فليس عليك شئٌ. فقال أحمدُ، رَحِمَهْ الله: جَيِّدٌ. فصل: قال المُصَنِّفُ، رَحِمَه الله: (ويَحْرُمُ قَطْعُ (¬1) شَجَرِ الحَرَمِ وحَشِيشِه، إلَّا اليابِسَ والإذْخِرَ، ومما زَرَعَه الآدَمىُّ. وفى جَوازِ الرَّعْىِ وَجْهان) أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على تَحْرِيمِ قَطْع شَجَرِ الحَرَمِ البَرِّىِّ، الذى لم يُنْبِتْه الآدَمِىُّ، وعلى إباحَةِ أخْذِ الِإذْخِرِ وما انبتَه الآدَمِىُّ مِن البُقُولِ والزُّرُوعِ والرَّيَاحِينِ. حَكَى ذلك ابنُ المُنْذِرِ، والأصْلُ ما رَوَيْنا مِن حَدِيثِ ابنِ عباسٍ. وروَى أبو شُرَيْحٍ، وأبو هُرَيْرَةَ بنَحْوِه، والكُلُّ مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) في م: «قلع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها (¬1). وفى حَدِيثِ أبى هُرَيْرَةَ: «ألَا وَإنَّهَا سَاعَتِى هذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا». وروَى الأثْرَمُ حَدِيثَ أبى هُرَيْرَةَ، وفيه: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُها، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا». فأمّا ما أنْبتَه الآدَمِىُّ مِن الشَّجَرِ، فقال أبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ: له قَلْعُه مِن غيرِ ضَمانٍ، كالزَّرْعِ. وقال القاضى: ما نَبَت في الحِلِّ، ثم غُرِسَ ¬

(¬1) حديث ابن عباس تقدم تخريجه في صفحة 38. وحديث أبى شريح أخرجه البخارى في: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، من كتاب العلم، وفى: باب لا يعضد شجر الحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى باب حدثنى محمد بن بشار. . . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 1/ 37، 38، 3/ 17، 18، 5/ 189، 190. ومسلم، في: باب تحريم مكة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 987. كما أخرجه النسائى، في: باب تحريم القتال، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 161. والترمذى، في: باب ما جاء في حرمة مكة، من أبواب الحج، وفى: باب ما جاء في حكم ولى القتيل. . . .، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 4/ 22، 6/ 177. وحدث أبى هريرة، أخرجه البخارى، في: باب كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، من كتاب اللقطة، وفى: باب من قتل له قيل. . . .، من كتاب الديات. صحيح البخارى 1/ 38، 39، 3/ 164، 165، 9/ 6، 7. ومسلم، في: كتاب تحريم مكة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحَرَمِ، فلا جَزاءَ فيه، وما نَبَت أصْلُه في الحَرَمِ، ففيه الجَزاءُ بكلِّ حالٍ. وقال الشافعىُّ: في شَجَرِ الحَرَمِ الجَزاءُ بكلِّ حالٍ، أنْبتَه الآدَمِيُّون أو نَبَت بنَفْسِه. وحَكَى ابنُ البَنَّا في «الخصالِ» مثلَ ذلك؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلامُ: «وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا». وقال أبو حنيفةَ: لا جَزاءَ فيما أنْبَتَ الآدَمِيُّونَ جنْسَه، كالجَوْز واللَّوْز والنَّخْل ونحْوه، ولا فيما أنْبَتَه الآدَمِىُّ مِن غيرِه، كالدَّوْحِ وَالسَّلَمَ ونحوِه؛ لأنَّ الحَرَمَ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُه ما كانَ وَحْشِيًّا مِن الصَّيْدِ، كذلك الشَّجَرُ. وقولُ شيخِنا: وما زَرَعَه الآدَمِىُّ. يَحْتَمِلُ اخْتِصاصَه بالزَّرْعِ دُونَ الشَّجَرِ، فيكونُ كما حَكَاهُ ابنُ البَنَّا. وهو قولُ الشافعىِّ. ويَحْتَمِلُ أن يَعُمَّ جَمِيعَ ما يُزْرَعُ، كقَوْلِ أبى الخَطّابِ. ويَحْتَمِلُ أن يُرِيدَ ما أنْبتَ الآدَمِيُّون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَشِيشَه. قال شيخُنا (1): والأوْلَى الأخْذُ بعُمُومِ الحَدِيثِ في تحْرِيم الشَّجَرِ كُلِّه، إلَّا ما أنْبتَه الآدَمِيُّونَ مِن جِنْسِ شَجَرِهم، بالقِياسِ على ما أنْبَتُوه مِن الزَّرْعِ، والأهْلِىِّ مِن الحَيَوانِ، فإنَّنا إنَّما أخْرَجْنا مِن الصَّيْدِ ما كان أصْلُه إنْسِيًّا دُونَ ما تَأنَّسَ مِن الوَحْشِىِّ، كذا ههُنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ والعَوْسَجِ (¬1). وقال القاضى، وأبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ: لا يَحْرُمُ. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، ومُجاهدٍ، وعَمْرِو بنِ دينارٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّه يُؤْذِى بطَبْعِه، أشْبَهَ السِّباعَ مِن الحَيَوانِ. ولَنا، قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» (¬2). وفى حديثِ أبى هُرَيْرَةَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا». وهذا صَرِيحٌ، وهو راجِحٌ على القِياسِ. فصل: ولا بَأْسَ بقَطْعِ اليابِسِ مِن الشَّجَرِ والحَشِيشِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ المَيِّتِ، ولا بقَطْعِ ما انْكَسَرَ ولم يَبِنْ؛ لأنَّه قد تَّلِف، فهو بمَنْزِلَةِ الظُّفْرِ المُنْكَسِرِ. ولا بَأْسَ بالانْتِفاعِ بما انْكَسَرَ مِن الأغْصانِ، وانْقَلَعَ مِن الشَّجَرِ بغيرِ فِعْلِ آدَمِىٍّ، ولا فيما سَقَط مِن الوَرَقِ. نَصَّ عليه. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ الخَبَرَ إنَّما وَرَد في القَطْعِ، وهذا لم يُقْطَعْ. فأمَّا إذا قَطَعَه آدَمِىّ، فقال أحمدُ: لم أسْمَعْ، إذا قُطِعَ يُنْتَفَعُ به. وقال في الدَّوْحَةِ تُقْطَعُ: ¬

(¬1) العوسج: من شجر الشوك، له ثمر مدور. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن شَبَّهَه بالصَّيْدِ لم يَنْتَفِعْ بحَطَبِها. لأنَّه مَمْنُوِعٌ مِن إتْلافِه؛ لحُرْمَةِ الحَرَمِ، فإذا قَطَعَه مَن يَحْرُمُ عليه قَطْعُه، لم يُنْتَفعْ به، كالصَّيْدِ يَذْبَحُه المُحْرِمُ. ويَحْتَمِلُ أن يُباحَ لغيرِ القاطِعِ (¬1) الانْتِفاعُ به؛ لأنَّه انْقَطَعَ بغيرِ فِعْلِه، فأُبِيحَ له الانْتِفاعُ به، كما لو قَلَعَتْه الرِّيحُ، ويُفارِقُ الصَّيْدَ الذى ذَبَحَه؛ لأنَّ الذَّكاةَ يُعْتَبَرُ لها الأهْلِيَّةُ، ولهذا لا يَحْصُلُ بفِعْلِ البَهِيمَةِ، بخِلافِ هذا. فصل: وليس له أخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ. وقال الشافعىُّ: له أخْذُه؛ لأنَّه لا يَضُرُّ به. وكان عَطاءٌ يُرَخِّصُ في أخْذِ وَرَقِ السَّنَى (¬2)، يُسْتَمْشَى به، ولا يُنْزَعُ مِن أصْلِه. ورَخَّصَ فيه عَمْرُو بنُ دِينارٍ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا». رَواه مسلم (¬3). ولأنَّ ما حُرِّمَ أخْذُه جُرِّمَ كل شئٍ منه، كرِيشِ الطّائِرِ. وقوْلُهم: لا يَضُرُّ به. مَمْنُوعٌ، فإنَّه يُضْعِفُه، ورُبَّما آل إلى تَلَفِه. فصل: ويَحْرُمُ قَطْعُ حَشِيشِ الحَرَمِ، إلَّا ما اسْتَثْناه الشَّرعُ مِن ¬

(¬1) في م: «القطع». (¬2) السنى: نبت مسهل للصفراء والسوداء والبلغم. (¬3) في: باب تحريم مكة وصيدها. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 989. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 2/ 256.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِذْخِرِ، وما أنْبتَهُ الآدَمِيُّون، واليابِسَ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «لَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا». وفى اسْتِثْنائِه الإذْخِرَ دَلِيلٌ على تَحْرِيمِ ما عَداه. وفى جَوازِ رَعْيِه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّ ما حَرُمَ إتْلافُه، لم يَجُزْ أن يُرْسَلَ عليه ما يُتْلِفُه، كالصَّيْدِ. والثانى، يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ عَطاءٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّ الهَدَايا كانت تَدْخُلُ الحَرَمَ، فتَكْثُرُ فيه، فلم يُنْقَلْ أنَّها كانت تُسَدُّ أفْواهُها, ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه،

1251 - مسألة: (ومن قطعه ضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والحشيش بقيمته، والغصن بما نقص

وَمَنْ قَلَعَهُ ضَمِنَ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَالْحَشِيشَ بِقِيمَتِهِ، وَالْغُصْنَ بِما نَقَصَ. فَإِنِ اسْتَخْلَفَ سَقَطَ الضَّمَانُ، في أحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ قَطْعَ الِإذْخِرِ، ويُباحُ أخْذُ الكَمْأةِ (¬1) مِن الحَرَمِ، وكذلك الفَقْعُ (¬2)؛ لأنَّه لا أَصْلَ له، فأشْبَهَ الثّمَرَةَ. وروَى حَنْبَلٌ، قال: يُؤْكَلُ مِن شَجَرِ الحَرَمِ الضَّغابِيسُ (¬3)، والعِشْرِقُ (¬4)، وما سَقَطَ مِن الشَّجَرِ، وما أنْبَتَ النَّاسُ. 1251 - مسألة: (ومَن قَطَعه ضَمِن الشَّجَرَةَ الكَبِيرَةَ ببَقَرَةٍ، والصَّغِيرَةَ بشاةٍ، والحَشِيشَ بقِيمَتِه، والغُصْنَ بما نَقَصَ (¬5). فإنِ اسْتَخْلَفَ سَقَط الضَّمانُ، في أحَدِ الوَجْهَيْن) يَجِبُ الضَّمانُ في إتْلافِ شَجَرِ الحَرَمِ وحَشِيشِه. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وقال مالكٌ، ¬

(¬1) الكمأة: فُطُر أرضية تنتفخ فتجنى وتؤكل مطبوخة. (¬2) الفقع من الكمأة: أردأ أنواعها. (¬3) الضغبوس: القثاءة الصغيرة. (¬4) العشرق: نبت يخالط الحنطة وغيرها في الزراعة. (¬5) في م: «نقصه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو [ثَورٍ، و] (¬1) داودُ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَضْمَنُ؛ لأنَّ المُحْرِمَ لا يَضْمَنُه في الحِلِّ، فلا يَضْمَنُ في الحَرَمِ، كالزَّرْعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أجِدُ دَلالَةً أُوجِبُ بها في شَجَرِ الحَرَمِ فَرْضًا؛ مِن كتابٍ، ولا سُنَّةٍ، ولا إجْماعٍ، وأقولُ كما قال مالكٌ: نَسْتَغْفِرُ الله تعالى. ولَنا، ما روَى أبو هَشِيمَةَ، قال: رَأْيتُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ، رَضِيَ الله عَنه، أمَر بشَجَرٍ كان في المَسْجِدِ يَضُرُّ بأهْلِ الطَّوافِ، فقُطِعَ، وفُدِىَ. قال: وذَكَر البَقَرَةَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه حَنْبَلٌ في «المَناسِك». وعن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ الله عنهما، أنَّه قال: في الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وفى الجَزْلَةِ شاةٌ. قال: والدَّوْحَةُ: الشَّجَرَةُ العَظِيمَةُ، والجَزْلَةُ: الصَّغِيرَةُ. ونحوُه عن عَطاءٍ. ولأنَّه مَمْنُوعٌ منه؛ لحُرْمَةِ الحَرَمِ، فضُمِن، كالصَّيْدِ، ويُخالِفُ المُحْرِمَ، فإنَّه لا يُمْنَعُ مِن قَطْع شَجَرِ الحِلِّ، ولا زَرْعِ الحَرَم. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الكَبِيرَةَ ببَقَرَةٍ، والصَّغِيرَةَ بشَاةٍ، والحَشِيشَ بقِيمَتِه، والغُصْنَ بما نَقَص، كأعْضاءِ الحَيَوانِ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: يَضْمَنُ الكُلَّ بقِيمَتِه. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. وعنه، في الغُصْنِ الكَبِيرِ شاةٌ. ولَنا، قولُ ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، ولأنَّه أحَدُ نَوْعَىْ ما يَحْرُمُ إتْلافُه، فكان فيه ما يُضْمَنُ بمُقَدَّرٍ، كالصَّيْدِ. فإن قَطَع غُصْنًا أو حَشِيشًا، فاسْتَخْلَفَ، سَقَط ضَمانُه، كما لو قَطَع شَعَرَ آدَمِىٍّ فنَبَتَ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَسْقُطُ؛ لأنَّ الثانِىَ غيرُ الأوَّلِ، فهو كما لو حَلَق المُحْرِمُ شَعَرًا، فعادَ. فصل: ومَن قَلَع شَجَرَةً مِن الحَرَمِ، فغَرَسَها في مَكانٍ آخَرَ، فيَبِسَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّه أتْلَفَها. وإن غَرَسَها في الحَرَمِ، فنَبَتَتْ، لم يَضْمَنْها؛ لأنَّه لم يُتْلِفْها، ولم يُزِلْ حُرْمَتَها، وإن نَقَصَتْ، ضَمِنَ نَقْصَها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن غَرَسَها في الحِلِّ فَنَبَتَتْ، فعليه رَدُّها إليه؛ لأنَّه أزَالَ حُرْمَتَها. فإن تَعَذَّرَ رَدُّها، أو رَدَّها فيَبِسَتْ، ضَمِنَها. وإنْ قَلَعَها غيرُه مِن الحِلِّ، فقال القاضى: الضَّمانُ على الثانى؛ لأنَّه أتْلَفَهَا. فإن قِيلَ: فلِمَ لا يَجِبُ على المُخْرِجِ، كالصَّيْدِ إذا نَفَّرَه إنْسَانٌ مِن الحَرَمِ، فقَتَلَه إنْسانٌ في الحِلِّ،

1252 - مسألة: (وإن قطع غصنا فى الحل أصله فى الحرم، ضمنه. وإن قطع غصنا فى الحرم أصله فى الحل، لم يضمنه، فى أحد

وَمَنْ قَطع غُصْنًا في الْحِلِّ أصْلُهُ في الْحَرَمِ، ضَمِنَهُ. فَإِنْ قَطَعَهُ في الْحَرَمِ وَأَصْلُهُ في الْحِلِّ، لَمْ يَضْمَنْهُ، فِى أحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الضَّمانَ على المُنَفِّرِ؟ قُلْنا: الشَّجَرُ لا يَنْتَقِلُ بنَفْسِه، ولا تَزُولُ حُرْمَتُه بإخْراجِه، ولهذا وَجَب على مُخْرِجِه رَدُّه, والصَّيْدُ يكونُ تارَةً في الحَرَمِ، وتارَةً في الحِلِّ، فمَن نَفَّرَه فقد فَوَّتَ حُرْمَتَه، فلَزِمَه جَزاؤُه، وهذا لم يُفوِّتْ حُرْمَتَه (¬1) بالِإخْرَاجِ، فكان الجَزاءُ على المُتْلِفِ؛ لأنَّه أتْلَفَ شَجَرًا حَرَمِيًّا مُحَرَّمًا إتْلافُه. 1252 - مسألة: (وإن قَطَع غُصْنًا في الحِلِّ أصْلُه في الحَرَمِ، ضَمِنَه. وإن قَطَع غُصْنًا في الحَرَمِ أصْلُه في الحِلِّ، لم يَضْمَنْه، في أحَدِ ¬

(¬1) في م: «حرمتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَيْن) إذا كانتِ الشَّجَرَةُ في الحَرَمِ غُصْنُها في الحِلِّ، فعلى قاطِعِه الضَّمانُ؛ لأنَّه تابِعٌ لأصْلِه، وإن كانت في الحِلِّ وغُصْنُها في الحَرَمِ، لم يَضْمَنْه، في أحَدِ الوَجْهَيْن. اخْتارَه القاضى؛ لأنَّه تابعٌ لأصْلِه، فهى كالتى قَبْلَها. وفى الآخَرِ، يَضْمَنُه. اخْتارَه ابنُ أبى موسى؛ لأنَّه في الحَرَم. فإن كان بعضُ الأصْلِ في الحَرَمِ، وبعضُه في الحِلِّ، ضَمِنَ الغُصْنَ، سَوَاءٌ كان في الحِلِّ، أو في الحَرَمِ، تَغْلِيبًا لحُرْمَةِ الحَرَمِ، كالصيدِ الواقِفِ بعضُه في الحِلِّ، وبعضُه في الحَرَم. فصل: يُكْرَهُ إخْراجُ تُرابَ الحَرَمِ وحَصاه؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ وابنَ عمرَ كَرِهاه. ولا يُكْرَهُ إخْراجُ ماءِ زَمْزَمَ؛ لأنَّه يُسْتَخْلَفُ، فهو كالثّمَرَةِ.

فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَشَجَرُهَا وَحَشِيشُهَا، إِلَّا مَا تَدْعُو ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه الله: (ويَحرُمُ صَيْدُ المَدِينَةِ وشَجَرُها وحَشِيشُها،

الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ شَجَرِهَا لِلرَّحْلِ وَالْعَارِضَةِ وَالْقَائِمَةِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْ حَشِيشِهَا لِلْعَلَفِ. وَمَنْ أَدْخَلَ إِلَيْهَا صَيْدًا, فَلَهُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا ما تَدْعُو الحاجَةُ إليه مِن شَجَرِها للرَّحْلِ والعارِضَةِ القائِمَةِ ونَحْوِها، ومِن حَشِيشِها للعَلَفِ. ومَن أدْخَلَ إليها صَيْدًا، فله إمْساكُه وذَبْحُه). صَيْدُ المَدِينَةِ وشَجَرُها وحَشِيشُها حَرامٌ. وبه قال مالك، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْرُمُ؛ لأنَّه لو كان مُحَرَّمًا لَبَيَّنه النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - بَيانًا عامًا، ولَوَجَبَ فيه الجَزاءُ، كصَيْدِ الحَرَمِ. ولَنا، ما روَى على، رَضِىَ الله عنه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «المَدِينَةُ حَرَمٌ، [مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عَيْرٍ] (¬1)». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى تَحْرِيمَ المَدِينَةِ أبو هُرَيْرَةَ، ورافِعٌ، وعبدُ اللهِ بنُ زَيْدٍ في ¬

(¬1) قال القاضى عياض: قال مصعب بن الزبير وغيره: ليس بالمدينة عير ولا ثور، قالوا: وإنما ثور بمكة. قال: وقال الزبير: عير جبل بناحية المدينة. قال القاضى: أكثر الرواة في كتاب البخارى ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا؛ لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ. شرح النووى على صحيح مسلم 9/ 143. وفى عون المعبود 2/ 166، 167، عن صاحب القاموس: ثور جبل بمكة وجبل بالمدينة. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب حرم المدينة، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب إثم من عاهد ثم غدر. . . .، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 3/ 26، 4/ 124، 125. ومسلم، في: باب فضل المدينة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 994، 995. كما أخرجه أبو داود، في: باب تحريم المدينة، من كتاب المناسك. سنن أبو داود 1/ 469. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 398، 526.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَّفَقِ عليه (¬1)، ورَواه مسلمٌ (¬2) عن سَعْدٍ، وجابِرٍ، وأنَسٍ، رَضِىَ الله عنهم. وهذا يَدُلُّ على تَعْمِيمِ البَيانِ، وليس هو في الدَّرَجَةِ دُونَ أخْبارِ تَحْرِيمِ الحَرَم، وقد قبِلُوه وأثْبَتُوا أحْكامَه، على أنَّه ليس بمُمْتَنعٍ أن يُبَيِّنَه بَيانًا خاصًّا، أَو بَيَّنَهَ بَيانًا عامًّا، فيُنْقَلُ خاصًّا، كصِفَةِ الأذانِ والوِتْرِ والإقامَةِ. فصل: ويُفارِقُ حَرَمُ المَدِينَةِ حَرَمَ مَكَّةَ في شَيْئَيْن؛ أحدُهما، أنَّه يَجُوزُ أن يُؤْخَذَ مِن شَجَرِ حَرَمِ المَدِينَةِ ما تَدْعُو الحاجَةُ إليه، للمَسانِدِ والوَسائِدِ والرَّحْلِ، ومِن حَشِيشِها ما يُحْتاجُ إليه للعَلَفِ؛ لِما روَى الِإمامُ أحمدُ (¬3)، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَرَّمَ المَدِينَةَ، قالوا: يَا رسولَ اللهِ، إنَّا أصحابُ عَمَلٍ، وأصحابُ نَضحٍ (¬4)، وإنَّا لا ¬

(¬1) يأتى تخرج حديث أبى هريرة في المسألة بعد القادمة. أما حديث رافع فقد أخرجه مسلم، في: باب فضل المدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 991، 992. ولم يخرجه البخارى. انظر: تحفة الأشراف 151/ 3، 157. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 141. وحديث عبد الله بن زيد أخرجه البخارى، في: باب بركة صاع النبى - صلى الله عليه وسلم - ومده، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 88. ومسلم، في: باب فضل المدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 991. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 4/ 40. (¬2) في: الباب السابق. صحيح مسلم 2/ 992 - 914. كما أخرج حديث سعد الإمام أحمد، في: المسند 181/ 1، 183 - 185. (¬3) لم يجده في المسند ونسبه السمهودى لابن زبالة. ولعله في كتابه «أخبار المدينة». انظر وفاء الرفا 1/ 111. (¬4) النضح: حمل الماء من نهر أو بئر لسقى الزرع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَسْتَطِيعُ أرْضًا غيرَ أرْضِنا، فَرَخِّصْ لنا. فقال: «القَائِمَتَانِ، وَالوِسَادَةُ، وَالعَارِضَةُ، وَالمَسَدُ (1)، فأمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا يُخْبَطُ مِنْهَا شَئٌ». قِيلَ: المَسَدُ (¬1) مِرْوَدُ البَكَرَةِ. فاسْتَثْنَى ذلك، وجَعَلَه مُباحًا، كاسْتِثْناءِ الإِذْخِرِ بمَكَّةَ. وعن علىٍّ رَضِىَ اللهُ عنه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «المَدِينَةُ حَرَامٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ (¬2) إلَى ثَوْرٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يَصْلُحُ أنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ، إلَّا أنْ يَعْلِفَ زَجُل بَعِيرَهُ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّ المَدِينَةَ يَقْرُبُ منها شَجَرٌ وزَرْعٌ، فلو مَنَعْنا مِن احْتِشاشِها، أفْضَى إلى الضَّرَرِ، بخِلافِ مَكَّةَ. الثانى، أن مَن صادَ مِن خارِجِ المدينَةِ صَيْدًا، ثم أدْخَلَه إليها لم يَلْزَمْه إرْسَالُه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ: «يَا أَبا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» (¬4). وهو طائِرٌ صَغِيرٌ. فظاهِرُ هذا أنَّه أباحَ إمْساكَه بالمَدِينَةِ، ¬

(¬1) في النسخ: «المسند». وانظر المغنى 5/ 193. والمسد: المحرر الذى تدور عليه البكرة. (¬2) عائر: جبل بالمدينة. وتقدم في الصفحة قبل السابقة بلفظ: «عير». (¬3) في: باب في تحريم المدينة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 469. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب الانبساط إلى الناس. . . .، وباب: الكنية للصبى. . . .، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 37، 55. ومسلم، في: باب استحباب تحنيك المولود. . . .، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1692، 1693. وأبو داود في: باب ما جاء في الرجل يتكنى وليس له ولد، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 589/ 2. والترمذى، في: باب الصلاة على البسط، من أبواب الصلاة، وفى: كتاب ما جاء في المزاح، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 2/ 128، 8/ 156، 157. وابن ماجه، في: باب المزاح، من كتاب الأب. سنن ابن ماجه 2/ 1226. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 115، 119، 171، 190، 201، 212، 223، 278، 288.

1253 - مسألة: (ولا جزاء فى صيد المدينة. وعنه، جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه)

وَلَا جَزَاءَ في صَيْدِ الْمَدِينَةِ. وَعَنْهُ، جَزَاؤُهُ سَلَبُ الْقَاتِلِ لِمَنْ أخَذَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُنْكِرْ ذلك. وحُرْمَة مَكَّةَ أعْظَمُ مِن حُرْمَةِ المَدِينَةِ، بدَلِيلِ أنَّه لا يَدْخُلُها إلَّا مُحْرِمٌ، وإذا جازَ إمْساكُ الصَّيْدِ فيها، جازَ ذَبْحُه فيها، كغيرِها. 1253 - مسألة: (ولا جَزاءَ في صَيْدِ المَدِينَةِ. وعنه، جَزاؤُه سَلَبُ القاتِلِ لمَن أخَذَه) ليس في صَيْدِ المَدينَةِ وشَجَرِها جَزاءٌ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وهو قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّه مَوْضِغ يَجُوزُ دُخُولُه بغيرِ إحْرامٍ، فلم يَجِبْ فيه جَزاءٌ، كصَيْدِ وَجٍّ (¬1). والثانيةُ، فيه الجَزاءُ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ أبى ذِئْبٍ. وهو قَوْلُ الشافعىِّ القَدِيمُ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إنِّى أُحَرِّمُ المَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» (¬2). ونَهَى أن يُعْضَدَ شَجَرُها، ويُؤْخَذَ طَيْرُها (¬3)، فوَجبَ في هذا ¬

(¬1) وج: واد بالطائف. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب بركة صاع النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - ومده، من كتاب البيوع، وفى: باب فضل الخدمة في الغزو، وباب من غزا بصبى للخدمة، من كتاب الجهاد والسير، وفى: باب حدثنا موسى بن إسماعيل، من كتاب الأنبياء، وفى: باب أحد يحبنا. . . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 88، 89، 4/ 42، 43، 177، 5/ 132. ومسلم، في: باب فضل المدينة، وباب الترغيب في سكنى، المدينة، من كتاب الحج. . . . صحيح مسلم 2/ 991، 1001. والتِّرمذىّ، في: باب ما جاء في فضل المدينة، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 278. وابن ماجه، في: باب فضل المدينة، من كتاب الحج. سنن ابن ماجه 2/ 1039. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 149، 243، 393، 4/ 40، 141. (¬3) انظر ما تقدم في صفحة 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرَمِ الجَزاءُ، كما وَجَبَ في ذلك، إذ لم يَظْهَرْ بَيْنَهما فَرْقٌ. وجَزاؤُه إباحَةُ سَلَبِ القاتِلِ، لِمَن (¬1) أخَذَه؛ لِما روَى مسلمٌ (¬2)، بإسْنادِه، عن عامِرِ بنِ سَعْدٍ، أنَّ سَعدًا، رَضِىَ الله عَنه، رَكِبَ إلى قَصْرِه بالعَقِيقِ، فوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا ويَخْبِطُه، فسَلَبَه، فلمّا جاءَ سَعْدٌ جاءَه أهْلُ العَبْدِ، فكَلَّمُوه أن يَرُدَّ على غُلامِهِم أو عليهم، فقال: مَعاذَ اللهِ أن أرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وأربى أن يَرُدَّ عليهم. وعن سعدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , قال: «مَنْ وَجَدَ أحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ». رَواه أبو داودَ (¬3). فعلى هذا ¬

(¬1) في م: «لما». (¬2) في: باب فضل المدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 993. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 168. (¬3) في باب في تحريم المدينة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 470. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 170.

1254 - مسألة: (وحد حرمها بين ثور إلى عير. وجعل النبى - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة اثنى عشر ميلا حمى)

وَحَدُّ حَرَمِهَا مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إِلَى عَيْرٍ، وَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَىْ عَشَرَ مِيلًا حِمًى. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُباحُ لمَن وَجَد آخِذَ الصَّيْدِ، أو قاتِلَه، أو قاطِعَ الشَّجَرِ، سَلَبُه، وهو أخْذُ جَمِيعِ ثِيابِه، حتى السَّرَاوِيلِ. فإن كان على دابَّةٍ لم يَمْلِكْ أخْذَها؛ لأنَّ الدَّابَّةَ ليست مِن السَّلَبِ، وإنَّما أَخَذَها قاتِلُ الكافِرِ في الجهادِ؛ لأنَّها يُسْتَعانُ بها على (¬1) الحَرْبِ، بخِلافِ مسألتِنا. فإن لم يَسْلُبُه أحَدٌ، فلا شئَ عليه سوى التَّوْبَةِ. 1254 - مسألة: (وحَدُّ حَرَمِها بينَ ثَوْرٍ إلى عَيْرٍ. وجَعَل النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَوْلَ المَدِينَةِ اثْنَىْ عَشرً مِيلًا حِمًى) حَدُّ حَرَمِ المَدِيتَةِ ما بَيْنَ لابَتَيْها؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا ¬

(¬1) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). واللَّابَةُ: الحَرَّةُ، وهى أرْضٌ بِها حِجارَةٌ سُودٌ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: ما بينَ لابتَيْها حَرامٌ. بريدٌ في بَرِيدٍ، كذا فَسَّرَه مالكُ بنُ أنَسٍ. والبَرِيدُ أرْبَعَةُ فَرَاسِخَ. وروَى أبو هُرَيْرةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل حَوْلَ المَدينَةِ اثْنَىْ عَشَرَ مِيلًا حِمًى. رَواه مسلمٌ (¬2). وقد روَى علىٌّ، رَضِىَ الله عنه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «حَرَمُ المدِينَةِ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عَيْرٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). قال أهْلُ العِلْمِ بالمَدِينَةِ: ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب حرم المدينة، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى 26/ 3. ومسلم، في: باب فضل المدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 999، 1000. كما أخرجه الترمذى، في: باب في فضل المدينة، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 277. وابن ماجه، في: باب فضل المدينة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1039. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 236. (¬2) في الموضع السابق. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَعْرِف بها ثَوْرًا ولا عَيْرًا، وإنَّما هُما جَبلان بمَكَّةَ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَرادَ قَدْرَ ما بينَ ثَوْرٍ وعَيْرٍ، ويَحْتَمِلُ أنَّه أَرادَ جَبَلَيْن بالمَدِينَةِ، وسَمّاهُما ثَوْرًا وعَيْرًا تَجَوُّزًا (¬1). واللهُ تَعالَى أعْلَمُ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في حاشية 1 في صفحة 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَحْرُمُ صَيْدُ وَجٍّ ولا شَجَرُه، وهو وادٍ بالطّائِفِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: يَحْرُمُ؛ لأنّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «صَيْدُ وَجٍّ وَعِضَاهُهَا مُحَرَّمٌ». رَواه الإِمامُ أحْمَدُ (¬1). ولَنا، أنَّ الأصْلَ الإِباحَةُ، والحَدِيثُ ¬

(¬1) في: المسند 1/ 165. كما أخرجه أبو داود، في: باب في دخول الكعبة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 468.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَعَّفَه أحمدُ، ذَكَرَه أبو بكْرٍ الخَلَّالُ، في كتابِ «العِلَلِ» (¬1). ¬

(¬1) ذكره الذهبى، في تذكرة الحفاظ 785/ 3. وقال: في عدة مجلدات.

باب ذكر دخول مكة

بَابُ ذِكْرِ دُخُولَ مَكَّةَ يُسْتَحَبُّ أنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ أعْلَاهَا، مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ذِكرِ دُخُولِ مَكَّةَ يُسْتَحَبُّ الاغْتِسَالُ لدُخُولِ مَكَّةَ؛ لأنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ كان إذا دَخَل أدْنَى الحَرَمِ أمْسَكَ عن التَّلْبِيَةِ، ثم يَبِيتُ بذِى طُوَى، ثم يُصَلِّى به الصُّبْحَ ويَغْتَسِلُ، ويُحَدِّثُ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، كان يَفْعَلُ ذلك. رَواه البخارىُّ (¬1). ولأنَّ مَكَّةَ مَجْمَعُ أهْلِ النُّسُكِ، فإذا قَصَدَها اسْتُحِبَّ له الاغْتِسَالُ، كالخارِجِ إلى الجُمُعَةِ. والمَرْأةُ كالرَّجُلِ، وإن كانت حائِضًا، لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ، وقد حاضَتْ: «افْعَلِى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أنْ لَا تَطوفِى بِالْبَيْتِ» (¬2). ولأنَّ الغُسْلَ يُرادُ للتَّنْظِيفِ، وهو يَحْصُلُ مع الحَيْضِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وفَعَلَه عُرْوَةُ، والأسْوَدُ بنُ يَزِيدَ، وعَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ، والحارثُ بنُ سُوَيْدٍ (¬3). 1255 - مسألة (ويُسْتَحَبُّ أن يَدْخلَ مَكَّةَ مِن أعْلَاها، مِن ثَنِيَّةِ ¬

(¬1) في: باب من نزل بذى طوى. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 222/ 2. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 111. (¬3) الحارث بن سويد التيمى الكوفى، أبو عائشة، إمام ثقة من علية أصحاب ابن مسعود، أثنى عليه الإِمام أحمد وعظمه. توفى في خلافة ابن الزبير. سير أعلام النبلاء 4/ 156. تهذيب التهذيب 2/ 143.

ثُمَّ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِى شَيْبَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَدَاءٍ، ثم يَدْخُلَ المَسْجِدَ مِن بابِ بَنِى شَيْبَةَ) لِما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل مَكَّةَ مِن الثَّنِيَّةِ العُلْيَا التى بالبَطْحَاءِ، وخَرَجَ مِن السُّفْلَى. ورَوَتْ عائِشَةُ، أنّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا جاءَ مَكَّةَ دَخَلَ مِن أعْلاهَا، وخَرَجَ بِن أسْفَلِها. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولا بَأْسَ بدُخُولِها لَيْلًا ونَهارًا. لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل مَكَّةَ لَيْلًا ونَهارًا، رَواهما النَّسائىُّ (¬2). فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَدْخُلَ المَسْجدَ مِن بابِ بَنِى شَيْبَةَ؛ لِما روَى ¬

(¬1) أخرجهما البخارى، في: باب من أين يدخل مكة، وباب من أين يخرج من مكة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 178. ومسلم، في: باب استحباب دخول مكة من الثنية. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 918. كما أخرجهما أبو داود، في: باب دخول مكة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 432. والأول أخرجه النسائى، في: باب من أين يدخل مكة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 158. وابن ماجه، في: باب دخول مكة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 981. والدارمى، في: باب في أى طريق يدخل مكة، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 71 , والإمام أحمد، في: المسند 2/ 14، 21، 59, 142, 157. وأخرج الترمذى الثانى، في: باب ما جاء في دخول النبى - صلى الله عليه وسلم - مكة. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 86. (¬2) في: باب دخول مكة، وباب دخول مكة ليلًا، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 157، 158.

1256 - مسألة: (فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، وزد من عظمه

فَإِذَا رَأى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ، وقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَعْظِيمًا وَتَشْريفًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ، مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ جابِرٌ في حَدِيثِه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ ارْتِفاعَ الضُّحَى، وأناخَ راحِلَتَه عندَ بابِ بَنِى شَيْبَةَ، ودَخَلَ المَسْجِدَ. رَواهُ مسلمٌ وغيرُه (¬1). 1256 - مسألة: (فإذا رَأى البَيْت رَفَعَ يَدَيْه وَكَبَّرَ، وقال: اللَّهُمَّ أنْتَ السّلامُ، ومِنْكَ السَّلامُ، حَيِّنا رَبَّنَا بالسَّلامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هذا البَيْتَ تَعْظِيمًا وتَشريفًا وتَكْرِيمًا ومَهابَةً وبِرًّا، وزِدْ مَن عَظَّمَه ¬

(¬1) لم نجد هذا من حديث جابر في مسلم وغيره، أما دخوله - صلى الله عليه وسلم - من باب بنى شيبة فتجده في السنن الكبرى. للبيهقى 5/ 72. وانظر تلخيص الحبير 2/ 243.

تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، الْحَمْدُ لِلّه رِبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ، وَالحَمْدُ لِلّه اِلَّذِى بَلَّغَنِى بَيْتَهُ، وَرَآنِى لِذَلِكَ أهْلًا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللهُمَّ إِنَّكَ دَعَوْتَ إلَى حَجِّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَقَدْ جِئْتُكَ لِذَلِكَ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّى، وَاعْفُ عَنِّى، وَأصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ. يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَرّفَه، مِمَّن حَجَّه واعْتَمَرَه تَعْظِيمًا وتَشْرِيفًا وتَكْرِيمًا ومَهابَةً وبرًّا، الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ كَثِيرًا كما هو أهْلُه، وكما يَنْبَغِى لكَرَم وَجْهِه وعِزِّ جَلالِه) وعَظِيمِ شَأْنِه (الحمدُ للهِ الذى بَلَّغَنِي بَيْتَه، ورَآنِى لذلك أهْلًا، والحمدُ لله عِلى كُلِّ حالٍ، اللهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ إلى حَجِّ بَيْتِكَ الحَرامِ، وقد جِئْتُك لذلك، اللهُمّ تَقَبَّلْ مِنِّى، واعْفُ عَنِّى، وأصلِحْ لى شَأنِى كُلّه، لا إله إلَّا أَنْتَ. يَرْفَعُ بذلك صَوْتَه) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ اليَدَيْن عندَ رُؤْيَةِ البَيْتِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يروَى ذلك عن ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وابنُ المُبارَكِ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. وكان مالكٌ لا يَرَى رَفْعَ اليَدَيْنِ؛ لِما رُوِىَ عن المُهاجِرِ المَكِّىِّ قال: سُئِلَ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، عن الرجلِ يَرَى البَيْتَ، أيَرْفَعُ يَدَيْه؟ فقال: ما كُنْتُ أظُنُّ أحَدًا يَفْعَلُ هذا إلَّا اليَهُودَ، حَجَجْنَا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم نَكُنْ نَفْعَلُه. رَواه النَّسائىُّ (¬1). ولَنا، ما روَى ابنُ المُنْذِرِ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا تُرفَعُ الأيدِى إلَّا فِى سَبْعَةِ مَوَاطِنَ؛ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، واسْتِقْبَالِ البَيْتِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَعَلَى المَوْقِفَيْنِ، وَالجَمْرَتَيْنِ» (¬2). وهذا قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - , وذلك قولُ جابِرٍ وخَبَرُه عن ظَنِّه وفِعْلِه، وقد خالَفَه ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ. ولأنَّ الدُّعاءَ مُسْتَحَبٌّ عندَ رُؤْيَةِ البَيْتِ، وقَدْ أُمِرَ برَفْع اليَدَيْن عندَ الدُّعَاءِ. ¬

(¬1) في: باب رفع اليدين عند رؤية البيت، من كتاب المناسك، المجتبى 167/ 5. كما أخرجه أبو داود، في: باب في رفع اليد إذا رأى البيت، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 432/ 1. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية رفع اليد عند رؤية البيت، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 87/ 4. (¬2) أورده الهيثمى في مجمع الزوائد 3/ 238. وقال: رواه الطبرانى في الكبير والأوسط. وهو في الكبير (12072). وانظر ما قاله الزيلعى، في: باب صفة الصلاة، من كتاب الصلاة. نصب الراية 1/ 389 - 392.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَدْعُوَ عندَ رُؤْيَةِ البَيْتِ بالدُّعاءِ الذى ذَكَرْناه؛ لِما روَى ابنُ جُرَيْجٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَأى البَيْتَ رَفَعَ يَدَيْه، وقال: «اللهُمَّ زِدْ هذَا البَيْتَ تَشْرِيفًا وتَكْرِيمًا وتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَه تَشْرِيفًا وتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا». وعن سعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ، أنَّه كان حينَ يَنْظُرُ إلى البَيْتِ، يقولُ: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بالسَّلَامِ. رَواهُما الشافعىُّ بإسْنادِه (¬1). وباقِى الدُّعاءِ ذَكَرَه الأثْرَمُ وإبْرَاهِيمُ الحَرْبِى. قال بعضُ أصحابِنا: ويَرْفَعُ بذلك صَوْتَه، وما زادَ في الدُّعاءِ فحَسَنٌ. فصل: إذا دَخَل المَسْجِدَ، فذَكَرَ صلاةً مَفْرُوضَةً أو فائِتَةً، أو أُقِيمَتِ الصلاةُ المَكْتُوبَةُ، قَدَّمَهما على الطَّوافِ؛ لأنَّ ذلك فَرْضٌ، والطَّوافُ تَحِيَّةٌ، ولأنَّه لو أُقِيمَتِ الصلاةُ وهو في طَوافِه، قَطَعَه لأجْلِها، فَلَأن يَبْدَأَ بها أوْلَى. وإن خافَ فَواتَ رَكْعَتَىِ الفَجْرِ، أو الوِتْرِ، أو حَضَرَتْ جِنازَةٌ، قَدَّمَها؛ لأنَّها تَفُوتُ، بخِلافِ الطَّوافِ. ¬

(¬1) ترتيب مسند الشافعى 1/ 339.

1257 - مسألة: (ثم يبتدئ بطواف العمرة، إن كان معتمرا، وبطواف القدوم، إن كان مفردا أو قارنا)

ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ، إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أوْ طَوَافِ الْقُدُومِ، إنْ كَانَ مُفْرِدًا أوْ قَارِنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1257 - مسألة: (ثم يَبْتَدِئُ بطوافِ العُمْرَةِ، إن كان مُعْتَمِرًا، وبطوافِ القُدومِ، إن كان مُفْرِدًا أو قارِنًا) يُسْتَحَبُّ لمَن دَخَل المَسْجِدَ أن يَبْدَأ بالطَّوافِ بالبَيْتِ اقْتِداءً برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ جابِرًا قال في حَدِيِثه: حتى أتَيْنَا البَيْتَ معه، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فرَمَلَ ثَلاثًا، ومَشَى أرْبَعًا (¬1). وعن عائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -، حينَ قَدِمَ مَكَّةَ، تَوَضَّأ، ثم طافَ بالبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وغيرِهم. ولأنَّ الطوافَ تَحِيَّةُ المَسْجِدِ الحَرامِ، فاسْتُحِبَّ البِدايَةُ به، كما اسْتُحِبَّ لداخِلِ غيرِه مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 163/ 8. (¬2) أخرجه البخارى، في: كتاب من طاف بالبيت، وكتاب الطواف على وضوء، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 186، 187، 192، 193. ومسلم، في: باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل كالطواف. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 907.

1258 - مسألة: (ويضطبع بردائه، فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر)

وَيَضْطَبع بِرِدَائِهِ، فَيَجْعَلُ وَسَطَهُ تَحْتَ عَاتِقِهِ الأيْمَنِ، وَطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المساجِدِ البِدايَةُ بتَحِيَّةِ المَسْجدِ بصلاةِ رَكْعَتَيْن. فإنْ كان مُعْتَمِرًا، بَدَأ بطوافِ العُمْرَةِ، ولم يَحْتَجْ إلًّا أن يَطوفَ لها طَوافَ قُدُومٍ؛ لأنَّ المَقْصُودَ به تَحِيَّةُ المَسْجِدِ، ومَن دَخَل المَسْجِدَ وقد قامَتِ الصلاةُ، اشْتَغَلَ بها، وأجْزَأتْ عن تَحِيَّةِ المَسْجِدِ، كذلك ههُنا. وإن كان مُفْرِدًا أو قارِنًا بَدَأ بطَوافِ القُدُومِ، وهو سُنَّةٌ بغَيْرِ خِلافٍ. 1258 - مسألة: (ويَضْطَبعُ برِدائِه، فيَجْعَلُ وَسَطَه تحتَ عاتِقِه الأيمَنِ، وَطَرَفَيْه على عاتِقِه الأيْسَرِ) صِفَةُ الاضْطِباعِ ما ذَكَرَه ههُنا، وهو مَأخُوذٌ مِن الضَّبْع، وهو عَضُدُ الإنسانِ، افْتِعالٌ منه، وكان أصْلُه اضْتَبَعَ، فقَلَبُوا التّاءَ طاءً؛ لأنَّ التَّاءَ متى وَقَعَتْ بعد صادٍ أو ضادٍ أو طاءٍ ساكِنَةٍ قُلِبَتْ طَاءً. وهو مُسْتَحَبٌّ في طَوافِ القُدُومِ, وطَوافِ العُمْرَةِ للمُتَمَتِّعِ، ومَن في مَعْناه؛ لِما روَى أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬1)، عن يَعْلَى ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الاضطباع في الطواف، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 435. وابن ماجه، في: باب الاضطباع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 984. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في استلام الحجر. . . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 91. والدارمى، في: كتاب الاضطباع في الرمل، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 43. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 223، 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ أُمَيَّةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ مُضْطَبِعًا. ورَوَيَا (¬1) عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه اعْتَمَرُوا مِن الجِعْرانَةِ، فرَمَلُوا بالبَيْتِ، وجَعَلُوا أرْدِيَتَهم تحتَ آباطِهم، ثم قَذَفُوها على عَواتِقِهم اليُسْرَى. وبه قال الشافعىّ، وكَثِيرٌ مِن أهلِ العِلْمِ. وقال مالكٌ: ليس الاضْطِباعُ بسُنَّةٍ. وقال: لم أسْمَعْ أحَدًا ببلدِنا يَذْكُرُ أنَّ الاضْطِباعَ سُنَّة. وقد ثَبَت بما رَوَيْنا أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه فَعَلُوه، وقد أمَرَ اللهُ تَعالى باتِّبَاعِه. وقد روَى أسْلَمُ (¬2) عن عمرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه اضْطَبَعَ ورَمَلَ، وقال: ففيمَ الرَّمَلُ؟ ولِمَ نُبْدِى مَناكِبَنا وقد نَفَى الله المُشْرِكِينَ؟ بل لن نَدَعَ شَيْئًا فَعَلْناه على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه أبو داودَ (¬3). فصل: فإذا فَرَغ مِن الطَّوافِ سَوَّى رِداءَه؛ لأنَّ الاضْطِباعَ غيرُ مُسْتَحَبٍّ في الصلاةِ. وقال الأثْرَمُ: يُزِيلُ الاضْطِباعَ إذا فَرَغ مِن الرَّمَلِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ قولَه: طافَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَبِعًا. يَنْصَرِفُ إلى جَمِيعِه. ولا يَضْطَبعُ في السَّعْىِ. وقال الشَّافعىُّ: يَضْطَبعُ؛ لأنَّه أحَدُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الاضطباع في الطواف، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 435. وابن ماجه، في: باب الرمل حول البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 984. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 295، 306، 371. (¬2) في م: «مسلم». (¬3) في: باب في الرمل، من كتاب المناسك، سنن أبى داود 1/ 436. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الرمل حول البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 984.

1259 - مسألة: (ثم يبتدئ من الحجر الأسود، فيحاذيه بجميع بدنه، ثم يستلمه، ويقبله، وإن شاء استلمه وقبل يده، وإن شاء أشار إليه، ثم يقول: الله أكبر إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. كلما استلمه)

ثُمَّ يَبْتَدِئُ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَيُحاذِيهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، ثُمَّ يَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُهُ، وَإنْ شَاءَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَإنْ شَاءَ أشَارَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَالله أَكْبَرُ، إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. كُلَّمَا اسْتَلَمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّوافَيْن، فأشْبَهَ الطَّوافَ بالبَيْتِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَضْطَبع فيه، والسُّنَّةُ في الاقْتِداءِ به. قال أحمدُ، رَحِمَه الله: ما سَمِعْنا فيه شَيْئًا. ولا يَصِحُّ القِياسُ إلَّا فيما عُقِلَ مَعْناه، وهذا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ. 1259 - مسألة: (ثم يَبْتَدِئُ مِن الحَجَرِ الأسْوَدِ، فيُحاذِيه بجَمِيع بَدَنِه، ثم يَسْتَلِمُه، ويُقَبِّلُه، وإن شاء اسْتَلَمَه وقَبَّلَ يَدَه، وإن شاءَ أشارَ إليه، ثم يقولُ: اللهُ أكْبَرُ إيمانًا بك، وتَصْدِيقًا بكِتابِكَ، ووَفَاءً بعَهْدِكَ، واتِّباعًا لسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. كُلَّمَا اسْتَلَمَه) يَبْتَدِئُ الطَّوافَ مِن الحَجَرِ الأسْوَدِ، فيُحاذِيه بجَمِيعِ بَدَنِه، فإن حاذاه ببعضِه احْتَمَلَ أن يُجْزِئَه؛ لأنَّه حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بالبَدَنِ، فأجْزَأ فيه بَعْضُه، كالحَدِّ، ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَه؛ لأنّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَقْبَلَ الحَجَرَ، واسْتَلَمَه. وظاهِرُ هذا أنَّه اسْتَقْبَلَه بجَمِيع بَدَنِه، ولأنَّ ما لَزِمَه اسْتِقْبالُه لَزِمَه بجَمِيع بَدَنِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقِبْلَةِ. فإذا قُلْنا بوُجُوبِ ذلك، فلم يَفْعَلْه، أول بَدَأ بالطَّوافِ مِن دُونِ الرُّكْنِ، كالبابِ ونحوِه، لم يُحْتَسَبْ له بذلك الشَّوْطِ، ويُحْتَسَبُ بالشَّوْطِ الثانِى وما بعدَه، ويَصِيرُ الثانِى أوَّلَه؛ لأنَّه قد حاذَى فيه الحَجَرَ بجَمِيع بَدَنِه، وأتَى على جَمِيعِه، فمتَى أكمَلَ سَبْعَةَ أشْوَاطٍ غيرَ الأوَّلِ صَحَّ طَوافُه، وأجْزَأه، وإلَا فلا. فصل: ثم يَسْتَلِمُه، ويُقَبِّلُه، ومَعْنَى الاسْتِلامِ المَسْحُ باليَدِ، مَأْخُوذٌ مِن السِّلَامِ، وهى الحِجَارَةُ، فإذا مَسَح الحَجَرَ، قِيلَ: اسْتَلَمَ. أى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسَّ السِّلامَ. قالَه ابنُ قُتَيْبَةَ (¬1)، وذلك لِما روَى أسْلَمُ، قال: رَأيْتُ عمرَ ابنَ الخَطّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، قَبَّلَ الحَجَرَ، وقال: إنِّي لأعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أنِّى رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى ابنُ ماجَه (¬3)، عن ابنِ عمرَ، رَضِىَ الله عنه، قال: اسْتَقْبَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحَجَرَ ثم وَضَعَ شَفَتَيْه عليه يَبْكِى طَوِيلًا، ثم الْتَفَتَ، فإذا هو بعمرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، يَبْكِى، فقال: «يَا عُمَرُ، ههُنا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ». فإن لم يَكُنِ الحَجَرُ مَوْجُودًا - والعِياذُ باللهِ- فإَّنه يَقفُ مُقابِلًا لمكانِه، ويَسْتَلِمُ الرُّكْنَ. فإن شَقَّ اسْتِلامُه ¬

(¬1) في: غريب الحديث 1/ 221. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب تقبيل الحجر، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 186. ومسلم، في: باب استحباب تقبيل الحجر. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 925، 926. كما أخرجه أبو داود، في: باب تقبيل الحجر، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 433. والنسائى، في: باب تقبيل الحجر، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 180. وابن ماجه، في: باب استلام الحجر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 981. (¬3) في: باب استلام الحجر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 982. وقال في الزوائد: في إسناده محمد ابن عوف الخراسانى، ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما. وانظر نصب الراية 3/ 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَقْبِيلُه، اسْتَلَمَه وقَبَّلَ يَدَه. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وجابِرٍ، وأبى هُرَيْرَة، وأبى سعيدٍ، وابنِ عباسٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وقال مالكٌ: يَضَعُ يَدَه على فِيهِ مِن غيرِ تَقْبِيلٍ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَلَمَه، وقَبَّلَ يَدَه. رَواهُ مسلمٌ (¬1). فإن شَقَّ عليه، اسْتَلَمَه بشئٍ في يَدِه، وقَبَّلَه. رَواهُ ابنُ عباسٍ مَرْفُوعًا. أخْرَجَه مسلم (¬2). وإلَّا قامَ بحِذَائِه واسْتَقْبَلَه بوَجْهِه، وأشارَ إليه، وكَبَّرَ وهَلَّل. وكذا إنْ طافَ راكِبًا، لِما روَى البُخَارِىُّ (¬3)، عن ابنِ عباسٍ، قال: طافَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن عمر، في: باب استحباب استلام الركنين. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 924. (¬2) حديث ابن عباس في مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستلم الركن بمحجن. وسيأتى بعد قليل وليس فيه أنه قبل المحجن. وإنما هذا اللفظ عنده من حديث أبى الطفيل، في: باب جواز الطواف على بعير. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 926، 927. (¬3) في: باب من أشار إلى الركن. . . .، وباب التكبير عند الركن، وباب المريض يطوف راكبًا، من كتاب الحج، وفى: باب الإشارة في الطلاق. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 2/ 1806، 190، 7/ 66. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الطواف راكبًا، من أبواب الحج. عارضه الأحوذى 4/ 41. والنسائى، في: كتاب استلام الركن بمحجن، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 185، 186. والدارمى، في: باب الطواف على الراحلة، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 43. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 264.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على بَعِيرٍ كُلَّما أتَى الحَجَرَ أشارَ إليه بشَئٍ في يَدِه وَكَبَّرَ. فإن أمْكَنَه اسْتِلامُه بشئٍ في يَدِه كالعَصَا ونحوِه، فَعَل، فقد روَى ابنُ عباسٍ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ في حَجَّةِ الوَداعِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ (¬1). وهذا كُلُّه مُسْتَحَبٌّ. ويُسْتَحَبُّ أن يقولَ عندَه ما روَى عبدُ اللهِ بنُ السائِبِ، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) المحجن: عصا محنية الرأس. والحديث أخرجه البخارى، في: باب استلام الركن بالمحجن، من كتاب الحج. صحيح البخارى 185/ 2. ومسلم، في: كتاب جواز الطواف على بعير. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 926. وأبو داود، في: باب الطواف الواجب، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 434. والنسائى، في: باب إدخال البعير المساجد، من كتاب المساجد، وفى: باب استلام الركن بمحجن، من كتاب المناسك. المجتبى 2/ 36، 5/ 185، 186. وابن ماجه، في: باب من استلم الركن بمحجنه، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 983. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 214، 237، 304.

1260 - مسألة: (ثم يأخذ على يمينه، ويجعل البيت على يساره)

ثُمَّ يَأْخُذُ عَلَى يَمِينِهِ، ويَجْعَلُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ. فَإِذَا أتَى عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِىِّ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - قال عندَ اسْتِلامِه: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أكْبَرُ، إيمَانًا بكَ، وتَصْدِيقًا بكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِك، وَاتِّباعًا لسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). يقولُ ذلك كُلَّما اسْتَلَمَه. 1260 - مسألة: (ثم يَأْخُذُ على يَمِينِه، ويَجْعَلُ البَيْتَ على يسارِه) لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ كذلك، وقد قال: «لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُم» (¬2). ولأنَّ الله تعالى أمَر بالطَّوافِ مُجْمَلًا، وَبَيَّنَهَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بفِعْلِه. 1261 - مسألة: (فإذا أتَى على الرُّكْنِ اليَمانىِّ اسْتَلَمَه وقَبَّلَ يَدَه) ¬

(¬1) انظر: باب دخول مكة، من كتاب الحج. في تلخيص الحبير 2/ 247. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استحباب رمى جمرة العقبة. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 943. وأبو داود، في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 456. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّكْن اليَمانِىُّ قِبْلَة أهْلِ اليَمَنِ، وهو آخِر ما يمرُّ عليه مِن الأرْكَانِ في طَوِافِه؛ لأنَّه يَبْدأُ بالرُّكْنِ الذى فيه الحَجَرُ الأسْوَدُ، وهو قِبْلَةُ أهْلِ خرَاسان، ثم يَأْخُذُ على يَمِينِ نَفْسِه، فيَنْتَهِى إلى الرُّكْن الثانى، وهو العِراقِىُّ، ثم يَمُرُّ بالثالِثِ، وهو الشّامِىُّ، وهذان الرُّكْنان يليانِ الحِجْرَ، ثم يَأْتِى على الرَّابعِ، وهو الرُّكْنُ اليَمانِىُّ، واسْتِلامُه مُسْتَحَبٌّ، ولا يُسْتَحَبُّ تقبيلُه. وقال الخِرَقِىُّ: يُقَبِّلُه. والصَّحِيحُ عن أحمدَ الأوَّلُ. وهو قولُ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ. وحُكِىَ عن أبى حَنيفةَ، أنَّه لا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ اليَمانِىَّ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): جائِزٌ عندَ أهْلِ العِلْمِ أن يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ اليَمانِىَّ، والرُّكْنَ الأسْوَدَ، لا يَخْتَلِفُونَ في شئٍ مِن ذلك، وإنَّما الذى فَرَّقُوا به بينَهما التَّقْبيلُ، فرَأوْا تَقْبِيلَ الأسْودِ، ولم يَرَوْا تَقْبِيلَ اليَمانِىِّ، وأمّا اسْتِلامُهما، فأَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عليه. قال: وقد روَى مُجاهِدٌ، عن ابنِ عباسٍ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ اليَمانِىَّ قَبَّلَه ووَضَع خَدَّه الأيمَنَ عليه (¬2). قال: ¬

= والنسائى، في: باب الركوب إلى الجمار. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 219. وابن ماجه، في: باب الوقوف بجمع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1006. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 301، 318، 332، 337، 366، 367، 378. (¬1) في الاستذكار 12/ 147. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب استلام الركن اليمانى بيده، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 76. وانظر ما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان إذا استلم الركن اليمانى وضع خده عليه، من كتاب الحج. مصنف ابن أبى شيبة 4/ 40.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا لا يَصِحُّ، إنَّما يُعْرَفُ التَّقْبِيلُ في الحَجَرِ الأسْوَدِ وَحْدَه، وقد روَى ابنُ عمرَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَسْتَلِمُ إلَّا الحَجَرَ والرُّكْنَ اليَمانِىَّ. وقال ابنُ عمرَ: ما تَرَكْتُ اسْتِلامَهما منذُ رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهما، في شِدَّةٍ ولا رَخاءٍ. رَواهما مسلمٌ (¬1). ولأنَّ الرُّكْنَ اليَمانِىَّ مَبْنِىٌّ على قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فسُنَّ اسْتِلامُه، كالرُّكْنِ الأسودِ. فأمَّا تَقْبِيلُه، فلم يَصِحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُسَنُّ. فصل: وأمّا العِراقِىُّ، والشّامِىُّ، وهما الرُّكْنان اللَّذان يَلِيان الحِجْرَ فلا يُسَنُّ اسْتِلامُهما في قَوْلِ الأكْثَرِينَ. ورُوِىَ عن أنَسٍ، ومُعاوِيَةَ، وجابِرٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، والحسنِ، والحسينِ، رَضِىَ اللهُ عنهم، اسْتِلامُهما. قال مُعاوِيَةُ: ليس شئٌ مِن البَيْتِ مَهْجُورًا. ولَنا، قولُ ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما: إنَّ رسولَ اللهِ في كان لا يَسْتَلِمُ إلَّا الحَجَرَ، والرُّكْنَ اليَمَانِيَّ. وقال: ما أرَاه- يَعْنِى النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَلِمَ الرُّكْنَيْن اللَّذَيْن يَلِيان الحِجْرَ، إلَّا لأنَّ البَيْتَ لم يَتِمَّ على قَواعِدِ إبراهيمَ، ولا طافَ ¬

(¬1) الأول، في: باب استحباب استلام الركنين اليمانيين. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 924. كما أخرجه النسائى، في: باب استلام الركنين في كل طواف، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 184. والثانى، في: الباب السابق، نفس الموضع. كما أخرجه البخارى، في: باب الرمل في الحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 185. والنسائى، في: باب استحباب استلام الركنين الآخرين، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 185.

1262 - مسألة: (ويطوف سبعا، يرمل فى الثلاثة الأول منها؛ وهو إسراع المشى مع تقارب الخطى، ولا يثب وثبا، ويمشى أربعا)

وَيَطُوفُ سَبْعًا، يَرْمُلُ في الثَّلَاثَةِ الأُوَلِ مِنْهَا، وَهُوَ إِسْرَاعُ الْمَشْى مَعَ تَقَارُبِ الخُطَى، وَلَا يَثِبُ وَثْبًا، وَيَمْشِى أرْبَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسُ مِن وَراءِ الحِجْرِ إلَّا لذلك (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ (¬2)، أنَّ مُعاوِيَةَ طافَ، فجَعَلَ يَسْتَلِمُ الأرْكانَ كُلَّها، فقال له ابنُ عباسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هذَيْن الرُّكْنَيْن، ولم يَكُنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهما؟ فقال مُعاوِيَةُ: ليس شئٌ مِن هذا البَيْتِ مَهْجُورًا. فقال ابنُ عباسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3). فقال مُعاوِيَةُ: صَدَقْتَ. ولأنَّهُما لم يَتِمَّا على قَواعِدِ إبراهيمَ، عليه السلامُ، فلم يُسْنُّ اسْتِلامُهما، كالحائِطِ الذى يَلى الحِجْرَ. 1262 - مسألة: (ويَطُوفُ سَبْعًا، يَرْمُلُ في الثَّلاثَةِ الأْوَلِ منها؛ وهو إسْرَاعُ المَشْىِ مع تَقارُب الخُطىَ، ولا يَثِبُ وَثْبًا، ويَمْشِى أرْبَعًا) ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل مكة وبنيانها. . .، وباب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، - من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 179، 186. وأخرجه مسلم مقتصرًا على أوله، في: باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 924. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في استلام الحجر والركن اليمانى دون ما سواها، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 217، 246، 332، 372. (¬3) سورة الأحزاب 21.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ الطَّوافُ سَبْعًا؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ سَبْعًا. ويَرْمُلُ في الثَّلاثَةِ الأُوَلِ منها مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، ومَعْنَى الرَّمَلِ: إسْراعُ المَشْىِ مع مُقارَبَةِ الخَطْوِ مِن غيرِ وَثْبٍ. وهو سُنَّةٌ في الأشْواطِ الثَّلاثَةِ مِن طَوافِ القُدُومِ، وطَوافِ العُمْرَةِ للمُتَمَتِّعِ. لا نَعْلَمُ بينَ أهْلِ العِلْمِ فيه خِلافًا. ويَمْشِى أرْبَعَةَ أشْواطٍ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَل ثَلاثَةَ أشْواطٍ، ومَشَى أرْبَعًا. رَوِاه جابِرٌ، وابنُ عباسٍ، وابنُ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنهم. وأحادِيثُهم مُتَّفقٌ عليها (¬1). فإن قِيلَ: إنَّما رَمَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه لإِظْهارِ الجَلَدِ ¬

(¬1) تقدم تخرج حديث جابر الطويل في 8/ 363. وأخرج حديثه في الرمل النسائى، في: باب الرمل من الحجر إلى الحجر، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 183. وابن ماجه، في: باب الرمل حول البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 983. والدارمى، في: باب من رمل ثلاثًا. . . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 42. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 340. وأخرج حديث ابن عباس وابن عمر، البخارى، في: باب كيف كان بدء الرمل، وباب الرمل في الحج والعمرة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 184، 185 ومسلم، في: باب استحباب الرمل في الطواف. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 920 - 923. كما أخرج حديثهما ابن ماجه، في: باب. الرمل حول البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 983، 984. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 295، 306، 314، 2/ 13، 14. وأخرج حديث ابن عباس، أبو داود، في: باب في الرمل، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 436. وأخرج حديث ابن عمر النسائى، في: باب الرمل في الحج والعمرة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 183. والدارمى، في: باب من رمل ثلاثا. . . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 42، 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُشْرِكِين، ولم يَبْقَ ذلك المَعْنَى، إذْ قد نَفَى اللهُ المُشْرِكِين، فَلِمَ قُلْتُم: إنَّ الحُكْمَ يَيْقَى بعدَ زَوالِ عِلَّتِه؟ قُلْنا: قد رَمَلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابُه واضْطَبَعَ في حَجَّةِ الوَداعِ بعد الفَتْحِ، فثَبَتَ أنَّها سُنَّةٌ ثابِتَةٌ. وقال ابنُ عباس: رَمَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عُمَرِه كُلِّها، وفى حَجِّه، وأبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعثمانُ، والخُلَفاءُ مِن بعدِه. رَواه الإِمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬1). وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ عمرَ. إذا ثَبَت أنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ في الأشْواطِ الثَّلاثَةِ، فإنَّه يرمُلُ مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، لا يَمْشِى في شئٍ منها. رُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، واييه، وابنِ مسعودٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، رَضِىَ اللهُ عنهم. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وقال طاوُسٌ، وعطاءٌ، والحسنُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والقاسِمُ، وسالِمُ بنُ عبدِ اللهِ: يَمْشِى ما بينَ الرُّكْنَيْن؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، قال: قَدِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه مَكَّةَ، وقد وَهَنَتْهم الحُمَّى، فقال المُشْرِكُون: إنَّه يَقْدَمُ عليكم قَوْمٌ قد وَهَنَتْهم حُمَّى يَثْرِبَ، ولَقَوْا منها شَرًّا. فأطْلَعَ الله نَبِيَّه - صلى الله عليه وسلم - على ما قَالُوا، فلَمّا قَدِمُوا قَعَد المُشْرِكُونَ مِمّا يَلِى الحِجْرَ، فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه أن يَرْمُلُوا الأشْواطَ الثَّلاثَةَ، ويَمْشُوا ما بينَ الرُّكْنَيْن؛ ليَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم، فلَمّا رَأوْهم رَمَلُوا، قال المُشْرِكُونَ: هؤلاء الذين زَعَمْتُم أنَّ الحُمَّى قد وَهَنَتْهم! هؤلاء أجْلَدُ منَّا. قال ابنُ عباسٍ: ولم يَمْنَعْه أن يَأْمُرَهم ¬

(¬1) المسند 1/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَرْمُلُوا الأشْواطَ كُلَّها إلَّا الإِبقاءُ عليهم. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَل مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ (¬2). ومن رِوايَةِ مسلمٍ (¬3) عن جابِرٍ، قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَل مِن الحَجَرِ حتى انْتَهَى إليه. وهذا يُقَدَّمُ على حديثِ ابنِ عباسٍ؛ لوُجُوهٍ، منها: أنَّ هذا إثْباتٌ، ومنها: أنَّ رِوايَةَ ابنِ عباسٍ إخْبارٌ عن عُمْرَةِ القضيَّةِ، وهذا إخْبارٌ عن فِعْلِه في حَجَّةِ الوَداعِ، فيكونُ مُتَأخِّرًا، فيَجِبُ تَقْدِيمُه، ومنها: أنَّ ابنَ عباسٍ كان صَغِيرًا في تلك الحالِ، وجابرٌ وابنُ عُمَرَ كانا رَجُلَيْن يَتَّبعان أفْعالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويَحْرِصَان على حِفْظِها، فهما أعْلَمُ. ويَحْتَمِلُ أَن يكونَ ما قالَه ابنُ عباسٍ اخْتَصَّ بالذِينَ كانُوا في عُمْرَةِ القَضيَّةِ لضَعْفِهم والإِبقاءِ عليهم، وما رُوِّيناه سُنَّةٌ في سائِرِ النّاسِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كيف كان بدء الرمل، من كتاب الحج، وفى: باب عمرة القضاء. . . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 184، 5/ 181. ومسلم، في: باب استحباب الرمل في الطواف. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 921، 922. كما أخرجه أبو داود، في؛ باب في الرمل، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 436. والنسائى، في: باب العلة التى من أجلها سعى النبى - صلى الله عليه وسلم - بالبيت، من كتاب المناسلث. المجتبى 5/ 183. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 290، 294، 295. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استحباب الرمل. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 921. وأبو داود، في: باب في الرمل، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 436. وابن ماجه، في: باب الرمل حول البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 983. والإمام مالك، في: باب الرمل في الطواف، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 365. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 40، 59، 71، 100، 114، 123، 155، 157. (¬3) في: باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 921.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُسَنُّ الرَّمَلُ في غيرِ الأشْواطِ الثَّلاثَةِ الأُوَلِ مِن طَوافِ القُدُومِ، [أوْ طَوافِ] (¬1) العُمْرَةِ، فإن تَرَك الرَّمَلَ والاضْطِباعَ فيها لم يَقْضِه في الأرْبَعَةِ الباقِيَةِ؛ لأنَّها هَيْئَةٌ فاتَ موضِعُها، فسَقَطَتْ، كالجَهْرِ في الرَّكْعَتَيْن الأوَّلَتَيْن، ولأنَّ المَشْىَ هَيْئَةٌ في الأرْبَعَةِ، كما أنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ في الثَّلاثَةِ، فإذا رَمَل في الأرْبَعَةِ الأخِيرَةِ كان تارِكًا للهَيْئَةِ في جَمِيع طَوافِه، كمَن تَرَكَ الجَهْرَ في الأوَّلَتَيْن مِن العِشاءِ، وجَهَر في الآخِرَتَيْنِ. فإن تَرَكَ الرَّمَلَ في شَوْطٍ مِن الثَّلاثَةِ الأُوَلِ أتَى به في الاثْنَيْن الباقِيَيْن، وإن تَرَكَه في اثْنَيْن أتَى به في الثالِثِ. كذلك قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ؛ لأنَّ تَرْكَه للهَيْئَةِ في بعضِ مَحلِّها لا يُسْقِطها في بَقِيَّةِ مَحلِّها، كتاركِ الجَهْرِ في إحْدَى الرَّكْعَتَيْن الأوَّلَتَيْن، لا يُسْقِطه في الثانِيَةِ. فصل: وإن نَسِىَ الرَّمَلَ، فليس عليه إعادَةٌ؛ لأنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ، فلم تَجِبِ الإعادَةُ بتَرْكِه، كهَيْئاتِ الصلاةِ، وكالاضْطِباعِ في الطَّوافِ. ولو تَرَكَه عَمْدًا، لم يَلْزَمْه. شئٌ. وبه قال عامَّةُ العُلَماءِ. وحُكِىَ عن الحسنِ، ¬

(¬1) في م: «وطراف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، وابنِ الماجِشُون، أنَّ عليه دَمًا؛ لأنَّه نُسُكٌ. وقد جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ» (¬1). ولَنا، أنَّها هَيْئَةٌ فلم يَجِبْ بتَرْكِها شئٌ، كالاضْطِباعِ. والحَدِيثُ إنَّما يَصِحُّ عن ابنِ عباسٍ، وقد قال: مَن تَرَك الرَّمَلَ فلا شئَ عليه. ثم قد خُصَّ بالاضْطِباعِ. فصل: ويُسْتَحَبُّ الدُّنُوُّ مِن البَيْتِ في الطَّوافِ؛ لأنَّه المَقْصُودُ، فإن كان قُرْبَه زِحامٌ، فظَنَّ أنَّه إذا وَقَف لم يُؤْذِ أحَدًا، وتَمَكَّنَ مِن الرَّمَلِ، وَقَف ليَجْمَعَ بينَ الرَّمَلِ والدُّنُوِّ مِن البَيْتِ، وإن لم يَظنَّ ذلك، وظَنَّ أنَّه إذا كان في (¬2) حاشِيَةِ النّاسِ تَمَكَّنَ مِن الرَّمَلِ، فَعَل، وكان أوْلَى مِن الدُّنُوِّ. وإن كان لا يَتَمَكَّنُ مِن الرَّمَلِ أيضًا، أو يَخْتَلِطُ بالنِّساءِ، فالدُّنُوُّ أوْلَى، ويَطُوفُ كيفما أمْكَنَه، فإذا وَجَد فُرْجَةً رَمَلَ فيها، وإن تَباعَدَ مِن البَيْتِ أجْزَأه، ما لم يَخْرُجْ مِن المَسْجِدِ، سَواءٌ حالَ بينَه وبينَ البَيْتِ حائِلٌ مِن قُبَّةٍ أو غيرِه، أو لم يَحُلْ؛ لأنَّ الحائِلَ لا يَضُرُّ في المَسْجِدِ، كما لو صَلَّى مُؤْتَمًّا بالإمامِ مِن وراءِ حائِلٍ، فقد رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 125. (¬2) زيادة من المغنى.

1263 - مسألة: (وكلما حاذى الحجر والركن اليمانى، استلمهما أو أشار إليهما. ويقول كلما حاذى الحجر: لا إله إلا الله والله أكبر)

وَكُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِىَّ، اسْتَلَمَهُمَا أوْ أشَارَ إِلَيْهِمَا. وَيَقُولُ كُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ: اللهُ أكْبَرُ وَلَا إِلهَ إِلَّا اللهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: شَكَوْتُ إلى رسولِ - صلى الله عليه وسلم - أنِّى أشْتَكِى، فقال: «طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ». قالت: فَطُفْتُ ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ يُصَلِّى إلى جَنْبِ البَيْتِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). 1263 - مسألة: (وكُلَّمَا حاذَى الحَجَرَ والرُّكْنَ اليَمانِىَّ، اسْتَلَمَهُما أو أشارَ إليهما. ويقولُ كُلَّمَا حاذَى الحَجَرَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكْبَرُ) يُسْتَحَبُّ اسْتِلامُ الحَجَرِ والرُّكْنِ اليَمَانِيِّ في طَوافِه؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَدَعُ أن يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ اليَمانِىَّ والحَجَرَ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إدخال البعير في المسجد. . . .، من كتاب الصلاة، وفى: باب طواف النساء. . . .، وباب من صلى ركعتى الطواف. . . .، و: باب المريض يطوف راكبا، من كتاب الحج. صحيح البخارى 1/ 125، 2/ 188، 190، 191. ومسلم، في: باب جواز الطواف على بعير. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 927. كما أخرجه أبو داود، في: باب الطواف الواجب، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 434، 435. والنسائى، في: باب كيف طواف المريض؟، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 176، 177. وابن ماجه، في: باب المريض يطوف راكبا، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 987.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في كُلِّ طَوْفَةٍ. قال نافِعٌ: وكان ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُه. رَواه أبو داودَ (¬1). فإن شَقَّ عليه اسْتِلامُهما، أشارَ إليهما؛ لما روَى البخارىُّ (¬2)، بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، قال: طافَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على بَعِيرٍ، كُلَّمَا أتَى الرُّكْنَ أشارَ بِيَدِه، وكَبَّرَ. فصل: ويُكَبِّرُ كُلَّمَا حاذَى الحَجَرَ الأسْوَدَ؛ لِما رَوَيْناه، ويقولُ: لا إلهَ إلَّا الله واللهُ أكْبَرُ. قالت عائشةُ رَضِىَ اللهُ عنها: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في: باب استلام الأركان، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 433، 434. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب استلام الركنين. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 924. والنسائى، في: باب استلام الركنين. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 184. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 115. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 86.

1264 - مسألة: (و)

وَبَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْىُ الجِمَارِ، لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». رَواه الأثْرَمُ، وابنُ المُنْذِرِ (¬1). 1264 - مسألة: (و) يقولُ (بينَ الرُّكْنَيْن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}) لِما روَى أحمدُ في ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب في الرمل، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 436. والترمذى، في: باب ما جاء كيف ترمى الجمار، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 135. والدارمى، في: باب الذكر في الطواف والسعى. . . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 50. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 64، 75، 139.

1265 - مسألة: (و)

وَفِى سَائِرِ الطَّوَافِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وسَعْيًا مَشْكُورًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ «المَناسِكِ» (¬1)، عن عبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ، أنَّه سَمِعَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ قيما بينَ رُكْنِ بَنِى جُمَحَ والرُّكْنِ الأسْوَدِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وعن أبى هُرَيْرَةَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وَكَّلَ اللهُ بهِ -يَعْنِى الرُّكْنَ اليَمَانِىَّ-[سَبْعِينَ ألْفَ] (¬2) مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ. إنىٍ أسْالك العَفْوَ وَالعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرةِ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. قالُوا: آمِينَ» (¬3). 1265 - مسألة: (و) يقول (في سائِرِ طوافِه: اللَّهُمَّ اجْعَلْه حَجًّا ¬

(¬1) وأخرجه في: المسند 3/ 411. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب الدعاء في الطواف، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 437. (¬2) في سنن ابن ماجه: «سبعون ملكًا». (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب فضل الطواف، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 985.

وَذَنْبًا مَغْفُورًا، رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، وَأَنْتَ الأَعَزُّ الْأَكْرَمُ. وَيَدْعُو بِمَا أحَبَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَبْرُورًا، وسَعْيًا مَشْكُورًا، وذَنْبًا مَغْفُورًا، رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ، وتجاوَزْ عَمّا تَعْلَمُ، وأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَمُ) وكان عبدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ يقولُ: رَبِّ قِنِى شُحَّ نَفْسِى. وعن عُرْوَةَ، قال: كان أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لَا إلهَ إلَّا الله أنْتَا، وأنْتَ تُحْيىِ بَعْدَ مَا أمَتَّا. (ويَدْعُو بما أحَبَّ) ويُكْثِرُ مِن ذِكْرِ اللهِ تعالَى، ويُكْثِرُ الدُّعاءَ؛ لأنَّ ذلك مُسْتَحَبٌّ في جميع الأحْوالِ، ففى حالِ تَلبُّسِه بهذهِ العِبادَةِ أوْلَى، ويُصَلِّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويَدَعُ الحَدِيثَ إلَّا ذِكْرَ اللهِ تَعالَى، أو قِراءَةَ القُرآنِ، أو أمْرًا بمَعْرُوفٍ أو نَهْيًا عن مُنْكَرٍ، أو ما لا بُدَّ له منه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الكلام في الطواف، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 182. والدارمى، في: باب الكلام في الطواف، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بقِراءَةِ القُرْآنِ في الطَّوافِ. وبه قال مُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ المُبارَكِ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وعن أحمدَ كَراهَتُه. ورُوِىَ ذلك عن الحسنِ، وعُرْوَةَ، ومالكٍ. ولَنا، ما روت عائشةُ، رَضِىَ الله عنها، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ في طَوافِه: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬1). وكان عمرُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ يَقُولان ذلك في الطَّوافِ، وهو قرآنٌ، ولأنَّ الطَّوافَ صلاةٌ، ولا تُكْرَهُ القِراءَةُ في الصلاةِ. قال ابنُ المُبارَكِ: ليس شئٌ أفْضَلَ مِن القُرْآنِ. فصل: والمَرْأةُ كالرَّجُلِ في البِدايَةِ بالطَّوافِ، وفيما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّها إذا قَدِمَتْ مَكَّةَ نَهارًا، ولم تَخْشَ مجِئَ الحَيْضِ، اسْتُحِبَّ لها تَأْخِيرُ الطَّوافِ إلى اللَّيْلِ؛ لأنَّه أسْتَرُ. ولا يُسْتَحَبُّ لها مُزاحَمَةُ الرِّجالِ لتَسْتَلِمَ الحَجَرَ، لكن تُشِيرُ إليه بِيَدِها، كالذى لا يُمْكِنُه الوُصُولُ إليه. قال عَطاءٌ: ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الذكر في الطواف، من كتاب الحج. المصنف 5/ 49، 50.

1266 - مسألة: (وليس على النساء ولا أهل مكة رمل ولا اضطباع. وليس فى غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع)

وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا أهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ وَلَا اضْطِبَاعٌ. وَلَيْسَ في غيْرِ هَذَا الطَّوَافِ رَمَلٌ وَلَا اضْطِبَاعٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت عائِشَةُ تَطُوفُ حُجْزَةً (¬1) مِن الرِّجالِ، لا تُخَالِطُهُم، فقالتِ امْرأةٌ: انْطَلِقِى نَسْتَلِمْ يا أُمَّ المُؤْمِنِين، فقالت: انْطَلِقِى عَنْكِ (¬2). وأبَتْ (¬3). فإن خَشِيَتِ الحَيْضَ أو النِّفَاسَ، اسْتُحِبَّ لها تَعْجِيلُ الطَّوافِ، كى لا يَفُوتَها. 1266 - مسألة: (وليس على النِّساءِ ولا أهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ ولا اضْطِباعٌ. وليس في غيرِ هذا الطَّوافِ رَمَلٌ ولا اضْطِبَاعٌ) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّه لا رَمَلَ على النِّساءِ حولَ البَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، وليس عليهنَّ اضْطِباعٌ؛ وذلك لأنَّ الأصْلَ فيها إظْهارُ الجَلَدِ، ولا يُقْصَدُ ذلك مِن النِّساءِ، إنَّما يُقْصَدُ فيهِنَّ السَّتّرُ، وفى الرَّمَلِ والاضْطِاعِ تَعَرُّضٌ للانْكِشافِ. فصل: وليس على أهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ. وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، رَضِىَ الله عنهما. وكان ابنُ عمرَ إذا أحْرَمَ مِن مَكَّةَ لم يَرْمُلْ؛ لأنَّ الرَّمَلَ ¬

(¬1) أى محجوزا بينها وبين الرجال يثوب. وفى رواية للبخارى: «حجرة» بفتح الحاء وضعها، أى معتزلة. انظر فتح البارى 3/ 481. (¬2) أي: عن جهة نفسك ولأجلك. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب طواف النساء مع الرجال، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما شُرِعَ في الأصْلِ لإظْهارِ الجَلَدِ والقُوَّةِ لأهْلِ البَلَدِ، وهذا المَعْنَى مَعْدُومٌ في أهْلِ البَلَدِ، والحُكْمُ في مَن أحْرَمَ مِن مَكَّةَ حُكْمُ أهْلِ مَكَّةَ؛ لِما ذَكَرْنا عن ابنِ عمرَ، ولأنَّه أحْرَمَ مِن مَكَّةَ، أشْبَهَ أهْلَ البَلَدِ. وليس عليهم اضْطِبَاعٌ؛ لأنَّ مَن لا يُشْرَعُ له الرَّمَلُ لا يُشْرَعُ له الاضْطِباعُ، كالنِّساءِ. والمُتَمَتِّعُ إذا أحْرَمَ بالحَجِّ مِن مَكَّةَ ثم عاد، وقُلْنا: يُشْرَعُ له طَوافُ القُدُومِ. لم يَرْمُلْ فيه. قال أحمدُ رَحِمَه اللهُ،: ليس على أهْلِ مَكَّةَ رَمَلُ البَيْتِ، ولا بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. فصل: وليس في غيرِ هذا الطَّوافِ رَمَلٌ ولا اضْطِبَاعٌ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه، إنَّما رَمَلُو اواضْطَبَعُو افى ذلك. وذَكَر القاضى أن مَن تَرَك الرَّ مَل والاضْطِباعَ في طَوافِ القُدُومِ، أرتى بهما في طَوافِ الزِّيارَةِ؛ لأنَّهُما سُنَّة أمْكَنَ قَضاوها، فتُقْضَى، بهسُنَنِ الصلاةِ. وليصر بصَحِيع؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ مَن تَرَكَه في الثَّلاثَةِ الأوَلِ لا يَقْضِيه في الأرْبَعَةِ، وكذلك مَن تَرَك

1267 - مسألة: (ومن طاف راكبا أو محمولا، أجزأه. وعنه، لا يجزئه إلا لعذر. ولا يجزئ عن الحامل)

وَمَنْ طَافَ رَاكِبًا أوْ مَحْمُولًا، أجْزَأهُ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا لِعُذْرٍ. وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْحَامِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَهْرَ في صلاةِ الفَجْرِ لا يَقْضِيه في صَلاةِ الظُّهْرِ، ولا يَقْتَضِى القِياسُ أن يَقْضِىَ هَيْئَةَ عِبادَةٍ في عِبادَةٍ أُخْرَى. قال القاضى: ولو طافَ فرَمَلَ، واضْطَبَعَ، ولم يَسْعَ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فإذا طافَ بعدَ ذلك رَمَل في طَوافِه؛ لأنَّه يَرْمُلُ في السَّعْىِ بَعْدَه، وهو تَبَعٌ في الطَّوافِ، فلو قُلْنا: لا يَرْمُلُ في الطَّوافِ. أفْضَى إلى كَوْنِ التَّبَعِ أكْمَلَ مِن المَتْبُوعِ. وهذا قولُ مُجاهِدٍ، والشافعيِّ. قال شيخُنا (¬1): وهذا لا يَثْبُتُ بمثلِ هذا الرَّأْىِ الضَّعِيفِ؛ فإنَّ المَتْبُوعَ لا تَتَغَير هَيْئَاتُه تَبَعًا لتَبَعِه، ولو كانَا مُتلازِمَيْن، كان تَرْكُ الرَّمَلِ في السَّعْىِ تَبَعًا لعَدَمِه في الطوافِ أوْلَى مِن الرَّمَلِ في الطَّوَافِ تَبَعًا للسَّعْى. 1267 - مسألة: (ومَن طافَ رَاكِبًا أو مَحْمُولًا، أجْزَأه. وعنه، لا يُجْزِئُه إلَّا لعُذْرٍ. ولا يُجْزِئُ عن الحامِلِ) يَصِحُّ طَوافُ الرَّاكِبِ للعُذْرِ ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ روَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه طافَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ على بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ. وعن أُمِّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: شَكَوْتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنِّى أشْتَكِى، فقال: «طُوفي مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَأنْتِ رَاكِبَةٌ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وقال جابِرٌ، رَضِىَ اللهُ عنه: طافَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على راحِلَتِه بالبَيْتِ، وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، ليَراه النّاسُ، وليُشْرِفَ عليهم، ليَسْألُوه (¬2)، فإنَّ النّاسَ غَشُوه (¬3). والمَحْمُولُ كالرَّاكِبِ، فيما ذَكَرْنا، قِياسًا عليه. فصل: فإن فَعَل ذلك لغيرِ عُذْرٍ فعن أحمدَ فيه ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، لا يُجْزِئُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ¬

(¬1) تقدم تخريج الأول في صفحة 86. كما تقدم تخريج الثانى في صفحة 96. (¬2) في م: «يسألوه». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب جواز الطواف على بعير. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 926، 927. وأبو داود، في: باب الطواف الواجب، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 434. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 317، 333، 334.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ» (¬1). ولأنَّها عِبادَة تَتَعَلَّقُ بالبَيْتِ فلم يَجُزْ فِعْلُها راكِبًا لغَيْرِ عُذْرٍ، كالصلاةِ. والثانِيَةُ، يُجْزِئُه، ويَجْبُرُه بدَمٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، إلَّا أنَّه قال: يُعِيدُ ما كانَ بمَكَّةَ، فإن رَجَع جَبَرَه بدَمٍ؛ لأنَّه تَرَك صِفَةً واجِبَةً في رُكْنِ الحَجِّ، أشْبَهَ ما لو دَفَع مِن عَرَفَةَ قبلَ الغُروبِ. والثالِثَةُ، يُجْزِئُ، ولا شئَ عليه. اخْتارَها أبو بَكْرٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، وابنِ المنْذِرِ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ راكِبًا (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: لا قَوْلَ لأحَدٍ مع فِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّ اللهَ تَعالَى أمَر بالطَّوافِ مُطْلَقًا، فكَيْفَما أتَى به أجْزَأه، ولا يَجُوز تَقْيِيدُ المُطْلَقِ بغيرِ دَلِيلٍ. فصل: والطَّوافُ راجِلًا أفْضَلُ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - في غيرِ حَجَّةِ الوَداعِ طافَ ماشِيًا، وأصحابُه طافُوا مُشاةً. وفى قولِ أُمِّ سَلَمَةَ: شَكَوْتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنِّى أشْتَكِى، فقالَ: «طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأنْتِ رَاكِبَةٌ» (¬3). دَلِيلٌ على أنَّ الطَّوافَ إنَّما يَكونُ مَشْيًا، وإنَّما طافَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - راكِبًا لعُذْرٍ، فإنَّ ابنَ عباسٍ روَى أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَثُرَ عليه النّاسُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 100. (¬2) أخرجه مسلم، في: الباب السابق. وأبو داود، في: الباب السابق. والنسائى، في: باب الطواف بين الصفا والمروة. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 193. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 297، 369. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقُولُون: هذا محمدٌ، هذا محمدٌ. حتى خَرَج العَواتِقُ مِن البُيُوتِ، وكان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لا يُضْرَبُ النّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فلَمّا كَثُرُوا عليه رَكِبَ. رَواه مسلمٌ (¬1). وكذلك في حَدِيثِ جابِرٍ: فإنَّ النّاسَ غَشُوه. ورُوِىَ (¬2) عن ابنِ عباسٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طافَ راكِبًا؛ لشَكاةٍ به (¬3). وبهذا يَعْتَذِرُ مَنْ مَنَعَ الطَّوافَ راكِبًا عن طَوافِ النبىِّ، والحَدِيثُ الأوَّلُ أثْبَتُ. فعلى هذا يكونُ كَثْرَةُ النّاسِ وشِدَّةُ الزِّحامِ عُذْرًا. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَد تَعْلِيمَ النّاسِ، فلا يَتَمَكَّنُ إلَّا بالرُّكُوبِ. ¬

(¬1) في: باب استحباب الرمل في الطواف. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 921، 922. (¬2) في النسخ: «رواه». وانظر المغني 5/ 251. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الطواف الواجب، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 434.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا طافَ راكِبًا أو مَحْمُولًا، فلا رمَلَ فيه. وقال القاضى: يَخُبُّ به بَعِيرُه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَفْعَلْه، ولا أمَرَ به، ولا يَتَحَقَّقُ فيه مَعْنَى الرَّمَلِ. فصل: فأمّا السَّعْىُ مَحْمُولًا وراكِبًا، فيُجْزِئُه لعُذْرٍ ولغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأنَّ المَعْنَى الذى مَنَع الطَّوافَ راكِبًا غيرُ مَوْجُودٍ فيه. فصل: ومَن طِيفَ به مَحْمُولًا، لم يَخْلُ مِن ثَلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَنْوِيَا جَمِيعًا عن المَحْمُولِ، أو يَنْوِىَ المَحْمُولُ عن نَفْسِه، ولا يَنْوِىَ الحامِلُ شَيْئًا، فيَقَعُ عنه دُونَ الحامِلِ، بغيرِ خِلافٍ. الثانى، أن يَقْصِدا عن الحامِلِ، فيَقَعَ عنه، ولا شئَ للمَحْمُولِ، وكذلك إن نَوَى الحامِلُ عن نَفْسِه، ولم يَنْوِ المَحْمُولُ. الثالِثُ، أن يَقْصِدَ كلُّ واحِدٍ عن نَفْسِه، فيَقَعُ للمَحْمُولِ دُونَ الحامِلِ. وهذا أحَدُ قَوْلَىِ الشافعيِّ. والقَوْلُ الآخَرُ، يَقَعُ للحامِلِ؛ لأنَّه الفاعِلُ. وقال أبو حنيفةَ: يَقَعُ لهما؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما طائِف بنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فأجْزَأ الطَّوافُ عنه، كما لو لم يَنْوِ صاحِبُه شَيْئًا، ولأنَّه لو حَمَلَه بعَرَفَاتٍ لكانَ الوُقُوفُ عنهما، كذا هذا. قال شيخُنا (¬1): وهو قَوْلٌ حَسَنٌ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه طَواف أجْزَأ عن المَحْمُولِ، فلم يَقَعْ عن الحامِلِ، كما لو نَوَيا جَمِيعًا، ولأنَّه طَوافٌ واحِدٌ فلم يَقَعْ عن شَخْصَيْن، كالرّاكِبِ، أمّا إذا حَمَلَه بعَرَفَةَ، فما حَصَل الوُقُوفُ بالحَمْلِ، فإنَّ المَقْصُودَ الكَونُ في عَرَفَاتٍ، وهما كائِنانِ بها، والمَقْصُودُ ههُنا الفِعْلُ، وهو واحِدٌ، فلا يَقَعُ عن شَخْصَيْن، ووُقُوعُه عن المَحْمُولِ أوْلَى؛ لأنَّه لم يَنْوِ بطَوافِه إلَّا لنَفْسِه، والحامِلُ لم يَخْلُصْ قَصْدُه بالطَّوافِ لنَفْسِه، فإنَّه لولم يَقْصِدِ الطَّوافَ بالمَحْمُولِ لَما حَمَلَه، فإنَّ تَمَكُّنَه مِن الطَّوافِ لاِ يَقفُ على حَمْلِه، فصارَ المَحْمُولُ مَقْصُودًا لهما، ولم يَخْلُصْ ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 55.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَصْدُ الحامِلِ لنَفْسِه، فلم يَقَعْ لعَدَمِ التَّعْيينِ. وقال أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ: لا يُجْزِئُ الطَّوافُ عن واحِدٍ منهما؛ لأَنَّ فِعْلًا واحِدًا لا يَقَعُ عن اثْنَيْن، وليس أحَدُهما أوْلَى به مِن الآخَرِ. وقد ذَكَرْنا أنَّ المَحْمُولَ أوْلَى بخُلُوصِ نِيَّتِه لنَفْسِه، وقَصْدِ الحامِلِ له. فإن عُدِمَتِ النِّيَّةُ منهما، أو نَوَى كلُّ واحِدٍ منهما عن الآخَرِ، لم تَصِحَّ لواحِدٍ منهما.

1268 - مسألة: (وإن طاف منكسا، أو على جدار الحجر، أو شاذروان الكعبة، أو ترك شيئا من طوافه، وإن قل، أو لم ينوه، لم يجزئه)

وَإنْ طَافَ مُنْكِسًا، أوْ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ، أوْ شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ، أوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الطَّوَافِ، وَإنْ قَلَّ، أوْ لَمْ يَنْوِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1268 - مسألة: (وإن طافَ مُنْكِسًا، أو على جِدارِ الحِجْرِ، أو شَاذَرْوَانِ الكَعْبَةِ، أو تَرَكَ شَيْئًا مِن طَوافِه، وإن قَلَّ، أو لم يَنْوِه، لم يُجْزِئْه) إذا نَكَسَ الطَّوافَ، فَجَعَلَ البَيْتَ على يَمِينِه، لم يُجْزِئْه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُعِيدُ، ما كانَ بمَكَّةَ، فإن رَجَع جَبَرَه بدَمٍ؛ لأنَّه تَرَك هَيْئَةً، فلم تَمنَع الإِجْزاءَ، كتَرْكِ الرَّمَلِ والاضْطِباعِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ البَيْتَ في الطَّوافِ على يَسارِه، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بالبَيْتِ، فكان التَّرْتِيبُ شَرْطًا لصِحَّتِها، كالصلاةِ، وما قاسُوا عليه مُخالِفٌ لِما ذَكَرْنا، كما اخْتَلَفَ حُكْمُ هَيْئاتِ الصلاةِ وتَرْتِيبِها. فصل: ويَطوفُ مِن وَراءِ الحِجْرِ (¬2)؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬3). والحِجْرُ منه، فمَن لم يَطُفْ به، لم يُعْتَدَّ بِطوافِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬2) الحجر: الحطيم المدار بالكعبة، شرفها الله تعالى، من جانب الشمال. (¬3) سورة الحج 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: إن كان بمَكَّةَ قَضَى ما بَقِىَ، وإن رَجَعَ إلى الكُوفَةِ فعليه دَمٌ. ونحوُه قولُ الحسنِ. ولَنا، أنَّه مِن البَيْتِ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: سَألْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن الحِجرِ، فقال: «هُوَ مِنَ البَيْتِ». وعنها، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ البَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِم بِالشِّرْكِ، أعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهَا، فإنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِى أنْ يَبْنُوا، فهَلُمِّى لأرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهَا». فأرَاها قَرِيبًا مِن سَبْعَةِ أذْرُعٍ. رَواهما مسلمٌ (¬1). وعنها، قالت: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّى نَذَرْتُ أن أُصَلِّىَ في البَيْتِ. قال: «صَلِّى في الحِجْرِ، فإنَّ الحِجْرَ مِنَ البَيْتِ». رَواه التُّرْمِذِيُّ (¬2). وقال: حسنٌ صحيحٌ. ¬

(¬1) في: باب جدر الكعبة وبابها، وباب نقض الكعبة وبنائها، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 971، 972، 973. كما أخرج الأول البخارى، في: باب فضل مكة، وبنيانها. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 180. وابن ماجه، في: باب الطواف بالحجر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 985. (¬2) في: باب ما جاء في الصلاة. . . .، من أبواب الحجَ. عارضة الأحوذى 4/ 105. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة في الحجر، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 467. والنسائى، في: باب الصلاة في الحجر، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَن تَرَك الطَّوافَ بالحِجْرِ لم يَطُفْ بالبَيْتِ جَمِيعِه، فلم يَصِحَّ، كما لو تَرَكَ الطَّوافَ ببعضِ البِناءِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - طافَ مِن ورَاءِ الحِجْرِ، وقال: «لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ». فصل: ولو طافَ على جِدارِ الحِجْرِ، أو شَاذَرْوَانِ الكَعْبَةِ، وهو ما فَضَل مِن جدارِها، لم يَجُزْ؛ لأنَّ ذلك مِن البَيْتِ، فإذا لم يَطُفْ به، لم يَطُفْ بكلِّ البَيْتِ. وكذلك إن تَرَك شَيْئًا مِن طَوافِه، وإن قَلَّ، لم يُجزِئْه؛ لأنَّه لم يَطُفْ بجَمِيع البَيْتِ، وقد طافَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وَراءِ ذلك، وطافَ بجَمِيعِ البَيْتِ مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ. فصل: والنِّيَّةُ شَرْطٌ في الطَّوافِ، إن تَرَكَها لم يَصِحَّ؛ لأنَّها عِبادَةٌ تَتَعَلَّقُ بالبَيْتِ، فاشْتُرِطَتْ لها النِّيَّةُ، كالصلاةِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:

1269 - مسألة: (وإن طاف محدثا، أو نجسا، أو عريانا، لم يجزئه. وعنه، يجزئه، ويجبره بدم)

وَإنْ طَافَ مُحْدِثًا، أوْ نَجِسًا، أوْ عُرْيَانًا، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ، وَيَجْبُرُه بِدَمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاة» (¬1). والصلاةُ لا تَصِحُّ بدُونِ النِّيَّةِ. 1269 - مسألة: (وإن طافَ مُحْدِثًا، أو نَجِسًا، أو عُرْيَانًا، لم يُجْزِئْه. وعنه، يُجْزِئُه، ويَجْبُرُه بدَمٍ) الطَّهَارَةُ مِن الحَدَثِ والنَّجاسَةِ، والسِّتارَةُ، شَرائِطُ لصِحَّةِ الطَّوافِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّ الطهارَةَ ليست شَرْطًا، فمتى طاف للزِّيارَةِ غيرَ مُتَطَهِّرٍ، أعادَ، ما كان بمَكَّةَ، فإن خَرَج إلى بَلَدِه جَبَرَه بدَمٍ. وكذلك يُخَرَّجُ في الطهارَةِ مِن النَّجَسِ والسِّتارَةِ. وعنه، في مَن طاف للزِّيارَةِ، وهو ناسٍ للطهارةِ: لا شئَ عليه. وقال أبو حنيفةَ: ليس شئٌ مِن ذلك شَرْطًا. واخْتَلَفَ أصحابُه، فقال بَعْضُهم: هو واجِبٌ. وقال بعضُهم: هو سُنَّةٌ؛ لأنَّ الطَّوافَ رُكْنٌ للحَجِّ، فلم تُشْتَرَطْ له الطهارةُ، كالوُقُوفِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، رَضىَ اللهُ عنه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إلَّا أنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ». رَواه التِّرْمِذِىُّ، والأثْرَمُ. وعن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ الله عنه، بَعَثَه في الحَجَّةِ التى أمَّرَه عليها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قبلَ حَجَّةِ. الوَداعِ يومَ النَّحْرِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 100.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤَذِّنُ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ العام مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ». مُتَّفَقٌ علية (¬1). ولأنَّها عِبادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بالبَيْتِ، فكانتِ الطَّهارَةُ والسِّتارَةُ فيها شَرْطًا، كالصلاةِ، وعَكْسُه الوُقُوفُ. ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشةَ حين حاضَتْ: «افْعَلِى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أنْ لَا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ» (¬2). فصل: وإذا شَكَّ في الطهارةِ وهو في الطَّوافِ، لم يَصِحَّ طَوافُه؛ لأنِّه شَكَّ في شَرْطِ العِبادَةِ قبلَ الفَراغِ منها، أشْبَهَ ما لو شَكَّ في الطهارةِ وهو في الصلاةِ. وإن شَكَّ بعدَ الفَراغِ منه، لم يَلْزَمْه شئٌ؛ لأنِّ الشَّكَّ في شَرْطِ العِبادَةِ بغدَ فَراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها. وإن شَكَّ في عَدَدِ الطِّوافِ، بَنَى على اليَقِينِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على ذلك؛ لأنَّها عِبادَة، فمتى شَكَّ فيها وهو فيها، بَنَى على اليَقِينِ، كالصلاةِ. فإن أخْبَرَه ثِقَةٌ عن عَدَدِ طَوافِه قَبِل قولَه إن كان عَدْلًا. وإن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 50. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَكَّ في عَدَدِه بعدَ الفَراغِ منه، لم يَلْتَفِتْ إليه، كمَن شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بعدَ فَراغِ الصلاةِ. قال أحمدُ: إذا كان رجلان يَطوفَانِ، فاخْتَلَفَا في الطَّوافِ، بَنَيَا على اليَقِينِ. قال شيخُنا (¬1): وهو مَحْمُول علىِ أنَّهما شَكَّا، فإن كان أحَدُهما يَتَيَقَّنُ حالَ نَفْسِه، لم يَلْتَفِتْ إلى قَوْلِ غيْرِه. فصل: إذا فَرَغ المُتَمَتِّعُ، ثم عَلِم أنَّه كان على غيرِ طهارةٍ في أحَدِ الطَّوافَيْن، لا بعَيْنِه، بَنَى الأمْرَ على الأَشَدِّ، وهو أنَّه كان مُحْدِثًا في طَوافِ العُمْرَةِ، فلم تَصِحَّ، ولم يَحِلَّ منها، فيَلْزَمُه دَمٌ للحَلْقِ، ويكونُ قد أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ، فيَصِيرُ قارِنًا، ويُجْزِئُه الطَّوافُ للحَجِّ عن النُّسُكَيْن، ولو قَدَّرْناه مِن الحَجِّ لَزِمَه إعادَةُ الطَّوافِ، ويَلْزَمُه إعادَةُ السَّعْى على التَّقْدِيرَيْن؛ لأنَّه وُجِدَ بعدَ طَوافٍ غيرِ مُعْتَدٌّ به. وإن كان وَطِئَ بعدَ حِلِّه مِن العُمْرَةِ، حَكَمْنا بأنَّه أدْخَلَ حَجًّا على عُمْرَةٍ فاسِدَةٍ، فلا يَصِحُّ، ويَلْغُو ما فَعَلَه مِن أفْعالِ الحَجِّ، وَيَتَحَلَّلُ بالطَّوافِ الذى قَصَدَه للحَجِّ مِن عُمْرَتِه الفاسِدَةِ، وعليه دَمٌ للحَلْقِ، ودَمٌ للمُضِيِّ في عُمْرَتِه، ولا يَحْصُلُ له حَجٌّ ولا عُمْرَةٌ. ولو قَدَّرْناه مِن الحَجِّ، لم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن إعادَةِ الطَّوافِ والسَّعْىِ، ويَحْصُلُ له الحَجُّ والعُمْرَةُ. ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 225.

1270 - مسألة: (وإن أحدث فى بعض طوافه، أو قطعه بفصل طويل، ابتدأه)

وَإنْ أحْدَثَ في بَعْضِ طَوَافِهِ، أوْ قَطَعَهُ بِفَصْلٍ طَوِيلٍ، ابْتَدَأهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1270 - مسألة: (وإنْ أحْدَثَ في بَعْضِ طَوافِه، أو قَطَعَه بفَصْلٍ طَوِيلٍ، ابْتَدَأه) إذا أحْدَثَ في الطَّوافِ عَمْدًا، ابْتَدَأ الطَّوافَ؛ لأنَّ الطَّهارَةَ شَرْطٌ له، فإذا أحْدَثَ عَمْدًا، أبْطَلَه، كالصلاةِ. وإن سَبَقَه الحَدَثُ، ففيه رِوايَتَان؛ إحْداهُما، يَبْتَدِئُ أيضًا. وهو قولُ مالكٍ، والحسنِ، قِياسًا على الصلاةِ. والثانيةُ، يَتَوَضَّأُ، ويَبْنِى. وبها قال الشافعىُّ، وإسحاقُ. وقال حَنْبَلٌ، عن أحمدَ، في مَن طافَ ثَلاَثةَ أشْواطٍ أو أكْثَرَ: يَتَوَضَّأُ، فإن شاءَ بَنَى، وإن شاءَ اسْتَأْنَفَ. قال أبو عبدِ اللهِ: يَبْنِى إذا لم يُحْدِثْ حَدَثًا إلَّا الوُضُوءَ. فإن عَمِل عَمَلًا غيرَ ذلك، اسْتَقْبَلَ الطَّوَافَ وذلك لأنَّ المُوالَاةَ تَسْقُطُ عندَ العُذْرِ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن، وهذا عُذْرٌ، فأمّا إنِ اشْتَغَلَ بغيرِ الوُضُوءِ، لَزِمَه الابتِداءُ؛ لأنَّه تَرَك المُوالَاةَ لغيرِ عُذْرٍ. وهذا إذا كان الطَّوافُ فَرْضًا، فأمّا النَّفْلُ فلا تَجِبُ إعادَتُه، كالصلاةِ المَسْنُونَةِ إذا بَطَلَتْ. فصل: والمُوالَاةُ شَرْطٌ في الطَّوَافِ، فمتى قَطَعَه بفَصْلٍ طَوِيلٍ ابْتَدَأه، سَواءٌ كان عَمْدًا أو سَهْوَا، مثلَ أن يَتْرُكَ شَوْطًا مِن الطَّوافِ، يَظنُّ أنَّه قد أتَمَّه. وقال أصحابُ الرَّأْىِ، في مَن طافَ ثَلاَثَةَ أشْواطٍ مِن طَوافِ الزِّيارَةِ،

1271 - مسألة: (ولو كان يسيرا، أو أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة، صلى، وبنى. ويتخرج أن الموالاة سنة)

وَإنْ كَانَ يَسِيرًا، أوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، أوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ، صَلَّى، وَبَنَى. وَيَتَخَرَّجُ أنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم رَجَع إلى بَلَدِه: عليه أن يَعُودَ، فيَطُوفَ ما بَقِىَ. ولَنا، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالَى بينَ طَوافِه، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ولأنَّه صلاةٌ، فاشْتُرِطَتْ له المُوالَاةُ، كسائِرِ الصَّلَواتِ، أو نقولُ: عِبادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بالبَيْتِ، فاشْتُرِطَتْ لها المُوالَاةُ، كالصلاةِ. والمَرْجِعُ في طولِ الفَصْلِ وقِصَرِه إلى العُرْفِ. وقد رُوِىَ عن أبي عبدِ اللهِ، رَحِمَه اللهُ، رِوايَةٌ أُخْرَى، إذا كان له عُذْرٌ يَشْغَلُه بَنَى، وإن قَطَعَه لغيرِ عُذْرٍ أو لحاجَةٍ، اسْتَقْبَلَ الطَّوافَ. وقال: إذا أعْيَى في الطَّوافِ لا بَأْسَ أن يَسْتَرِيحَ. وقال: الحسنُ غُشِىَ عليه، فحُمِلَ إلى أهْلِه، فلَمَّا أفاقَ أتَمَّه. لأنَّه قَطَعَه للعُذْرِ، فجازَ البِناءُ عليه، كما لو قَطَعَه للصلاةِ. 1271 - مسألة: (ولو كان يَسِيرًا، أو أُقِيمَتِ الصلاةُ، أو حَضَرَتْ جِنازَةٌ، صَلَّى، وبَنَى. وَيَتَخَرَّجُ أنَّ المُوالَاةَ سُنَّةٌ) أمّا إذا لم يَطُلِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَصْلُ، فإنَّه يَبْنِى على طَوافِه؛ لأنَّه يَسِيرٌ، فعُفِىَ عنه. وكذلك إن أُقِيمَتِ الصلاةُ المَكْتُوبَةُ، فإنه يَقْطعُ الطَّوافَ، ويُصَلِّى جَماعَةً، في قولِ كثيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ. وقال مالكٌ: يَمضِى في طَوافِه، ولا يَقْطَعُه، إلَّا أن يَخافَ أن يَضُرَّ بوَقْتِ الصلاةِ؛ لأنَّه صَلَاةٌ، فلا يَقْطَعُه لصلاةٍ أُخْرَى. ولَنا، قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أُقيِمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إلَّا المَكْتُوبَةُ» (¬1). والطَّوافُ صلاةٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ. وإذا صَلَّى بَنَى على طَوافِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ في ذلك إلَّا الحَسَنَ، فإنَّه قال: يَسْتَأْنِفُ. وقولُ الجُمْهُورِ أوْلَى؛ لأنَّ هذا فِعْلٌ مَشْرُوعٌ في أثْناءِ الطَّوافِ، فلم يَقْطَعْه، كاليَسِيرِ. وكذلك الحُكْمُ في الجِنازَةِ إذا حَضَرَتْ، يُصَلِّى عليها، ثم يَبْنِى على طَوافِه؛ لأنَّها تَفُوتُ بالتَّشَاغُلِ عنها. قال أحمدُ: ويكُونُ ابْتِداؤُه مِن الحَجَرِ. أنَّه يَبْتَدِئُ بالحَجَرِ الشَّوْطَ الذى قَطَعَه مِن الحَجَرِ حينَ يَشْرعُ في البِناءِ. وحُكْمُ السَّعْىِ حُكْمُ الطَّوافِ فيما ذَكَرْنا؛ لأنَّه إذا ثَبَت ذلك في الطَّوافِ، مع تَأكُّدِه، ففى السَّعْىِ بطرَيقِ الأوْلَى، ولأنَّ ذلك يروَى عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، ولا يُعْرَفُ له في الصحابَةِ مُخالِفٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 288.

1272 - مسألة: (ثم يصلى ركعتين، والأفضل أن تكون خلف المقام، يقرأ فيهما: {قل ياأيها الكافرون}. [و {قل هو الله أحد}. بعد الفاتحة)

ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، والأَفْضَلُ أن تَكُونَ خَلْفَ الْمَقَامِ يَقْرَأُ فِيهِمَا {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بَعْدَ «الْفَاتِحَةِ» ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ عَطاءٍ، والشافعيِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافهم. ويَتَخَرَّجُ أنَّ المُوالَاةَ في الطَّوافِ سُنَّةٌ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْىِ، قِياسًا على الصَّفَا والمَرْوَةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرنا. 1272 - مسألة: (ثم يُصَلِّى رَكْعَتَيْن، والأفْضَلُ أن تكونَ خلفَ المَقامِ، يَقْرَأُ فيهما: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. [و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. بعدَ الفاتحةِ) يُسْتَحَبُّ لمَن قَضَى الطَّوافَ أن يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْن خلفَ المَقامِ؛ لقولِه تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1). ويُسَنُّ أن يقرأَ فيهما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}] (¬2) في الأُولَى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. في الثانية، فإنَّ جابِرًا، رَضِىَ الله عنه، روَى في صِفَةِ حَجِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: حتى أتَيْنَا البَيْتَ معه، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلاثًا، ¬

(¬1) سورة البقرة 125. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَشَى أرْبَعًا، ثم تَقَدَّمَ إلى مَقامِ إبراهيمَ، فَقَرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. فجَعَلَ المَقامَ بَيْنَه وبينَ البَيْتِ. قال محمدُ بنُ علىٍّ (¬1): ولا أعْلَمُهُ إلَّا ذَكَرَه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كان يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬2). وحيثُ رَكَعَهُما ومهما قَرَأ فيهما، جازَ؛ فإنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، رَكَعَهما بذِى طُوًى. ورُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال لأُمِّ سَلَمَةَ: «إذَا أُقِيمتْ صَلَاةُ الصُّبْحَ فَطُوفِى عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ» (¬3) فَفَعَلَتْ ذلك، فلم تُصَلِّ حتىِ خَرَجَت. ولا بَأْسَ أن يُصَلِّيَهُما إلى غيرِ سُتْرَةٍ، وَيمُرَّ بينَ يَدَيْه الطَّائِفُون مِن الرِّجالِ والنِّسَاءِ؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهُما والطُّوّافُ بينَ يَدَيْه، ليس بينهما شئٌ (¬4). وكان ابنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّى والطُّوَّافُ بينَ يَدَيْه، فتَمُرُّ المرأةُ بينَ يَدَيْه، يَنْتَظِرُها حتى تَرْفَعَ رِجْلَها، ثم يَسْجُدُ (¬5). وكذلك سائِرُ الصَّلَواتِ بمَكَّةَ، لا يُعْتَبَرُ لها سُتْرَةٌ، وقد ذَكَرْنا ذلك (¬6). فصل: والرَّكْعَتان فيه سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غيرُ واجِبَةٍ. وبه قال مالكٌ. ¬

(¬1) راوى الحديث عن جابر. (¬2) تقدم تخرج حديث جابر في 8/ 363. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب من صلى ركعتى الطواف خارجًا. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 189. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 35. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في الموضع السابق. (¬6) انظر ما تقدم في 3/ 645.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشافعيِّ قَوْلان؛ أحدُهما، أنَّهما واجِبَتان؛ لأنَّهما تابِعَتان للطَّوافِ، فكانا واجِبَتَيْن، كالسَّعْىِ. ولَنا، قولُه عليه السلامُ للأعْرابىِّ، حينَ سَأَلَه عن الفَرائِضِ، فذَكَرَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، فقال: هل علىَّ غَيْرُها؟ قال: «لَا، إِلَّا أنْ تَطَوَّعَ» (¬1). ولأنَّها صلاةٌ لم يُشْرَعْ لها جَماعةٌ، فلم تَكُنْ واجِبَةً، كسائِرِ النَّوافِلِ. وأمّا السَّعْىُ، فلم يَجِبْ، لكَوْنِه تابِعًا، ولا هو مَشْرُوعٌ مع كلِّ طَوافٍ، بخِلافِ الرَّكْعَتَيْن، فإنَّهما يُشْرَعان عَقِيبَ كُلِّ طَوافٍ. فصل: فإن صَلَّى المَكْتُوبَةَ بعدَ طَوافِه، أجْزَأتْه عن رَكْعَتَىِ الطَّوافِ. رُوِىَ نَحْوُه عن ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، وجابِرِ بنِ زَيْدٍ، والحسنِ، وسعيدِ ابنِ جُبَيْرٍ، وإسحاقَ. وعنه، أنَّه يُصَلِّى رَكْعَتَىِ الطَّوافِ بعدَ المَكْتُوبَةِ. قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: هو أقْيسُ. وبه قال الزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأىِ؛ لأنَّه سُنَّةٌ، فلم تُجْزِئْ عنها المَكْتُوبَةُ، كرَكْعَتَىِ الفَجْرِ. ولَنا، أنَّهما رَكْعَتان شُرِعَتَا للنُّسُكِ، فأجْزَأتْ عنهما المَكْتُوبَةُ، كرَكْعَتَىِ الإحْرامَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ أن يَجْمَعَ بينَ الأسَابِيع (¬1)، فإذا فَرَغ منها رَكَع لكلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْن. فَعَلَتْه عائشةُ، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ (¬2). وبه قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. وكَرِهَه ابنُ عُمَرَ، والحسنُ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَفْعَلْه، ولأنَّ تَأْخِيرَ الرَّكْعَتَيْن عن طَوافِهما يُخِلُّ بالمُوالَاةِ بينَهما. ولَنا، أنَّ الطَّوافَ يَجْرِى مَجْرَى الصلاةِ، يَجُوزُ جَمْعُها ويُؤَخِّرُ ما بينَها، فيُصَلِّيها بعدَها، كذلك ههُنا. وكَوْنُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَفْعَلْه لا يُوجبُ كراهَتَه؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَطُفْ أُسْبُوعَيْن ولا ثلاثةً، وذلك غيرُ مكْرُوهٍ بالاتِّفاقِ، والمُوالَاةُ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ بينَ الطَّوافِ والرَّكْعَتَيْن، بدَلِيلِ أنَّ عُمَرَ صَلَّاهما بذِى طُوًى، وأخَّرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَكْعَتَىِ الطَّوافِ حينَ طافَتْ راكِبَةً بأمْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وإن رَكَع لكلِّ أُسْبُوع عَقِيبَه، كان أوْلَى، وفيه اقْتِداءٌ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخُرُوجٌ مِن الخِلافِ. فصل: والمُشْتَرَطُ لصِحَّةِ الطَّوافِ تِسْعَةُ أشْياءَ؛ الطَّهارَةُ مِن الحَدَثِ والنَّجاسَةِ، وسَتْرُ العَوْرَةِ، والنِّيَّةُ، والطَّوافُ بجَمِيعِ البَيْتِ، وأن يُكْمِلَ سَبْعَةَ أشْواطٍ، ومُحاذَاةُ الحَجَرِ بجَمِيعِ بَدَنِه، والتَّرْتِيبُ، وهو أن يَطُوفَ على يَمِينِه، والمُوالَاةُ. وسُنَنُه اسْتِلامُ الرُّكْنِ وتَقْبِيلُه أو ما قامَ ¬

(¬1) أى الطواف سبعًا سبعًا. (¬2) المسور بن مخرمة بن نوفل الزهرى، صحابى جليل ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، فقُدم به المدينة في عقب ذى الحجة منة ثمان، ومات سنة أربع وستين. تهذيب التهذيب 10/ 151.

1273 - مسألة: (ثم يعود إلى الركن فيسمتلمه)

ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الرُّكْنِ فَيَسْتَلِمُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَقامَه مِن الإِشارَةِ، واسْتِلامُ الرُّكْنِ اليَمانِيِّ، والاضْطِباعُ، والرَّمَلُ، والمَشْىُ في مواضِعِه، والدُّعاءُ والذِّكْرُ، وركْعَتَا الطَّوافِ، والطَّوافُ ماشِيًا، والدُّنُوُّ مِن البَيْتِ، وفى ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. 1273 - مسألة: (ثم يَعُودُ إلى الرُّكْنِ فيَسمْتَلِمُه) إذا فَرَغ مِن رَكْعَتَىِ الطَّوافِ، وأرادَ الخُرُوجَ إلى الصَّفَا، اسْتُحِبَّ أن يَعُودَ، فيَسْتَلِمَ الحَجَرَ.

1274 - مسألة: (ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويسعى سبعا، يبدأ بالصفا، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله، ويكبر ثلاثا، ويقول: الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له

ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ. وَيَسْعَى سَبْعًا، يَبْدَأُ بِالصَّفَا، فَيَرْقَى عَلَيْهِ حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ فَيَسْتَقْبلُهُ، وَيُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ: الْحَمْدُ للهِ عَلَى مَاهَدَانَا. لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك، ذَكَرَه جابِرٌ (¬1) في صِفَةِ حَجِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُه. وبه قال النَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. 1274 - مسألة: (ثم يَخْرُجُ إلى الصَّفَا مِن بابِه، ويَسْعَى سَبْعًا، يَبْدَأُ بالصَّفَا، فيَرْقَى عليه حتى يَرَى البَيْتَ فيَسْتَقْبِلُه، ويُكَبَر ثَلاثًا، ويقولُ: الحَمْدُ للهِ على ما هَدانَا، لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له ¬

(¬1) تقدم تخريج حديثه في 8/ 363.

الْحَمْدُ، يُحْيِى وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَىٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ. لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأحزَابَ وَحْدَهُ، لَا إِله إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. ثُمَّ يُلَبِّى وَيَدْعُو بِمَا أحَبَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُلْكُ وله الحَمْدُ، يُحْىِ ويُمِيتُ، وهو حَى لا يَمُوتُ، بيَدِه الخَيْرُ، وهو على كل شئٍ قَدِيرٌ، لا إلهَ إلَّا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ له، صَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه، لا إلهَ إلَّا اللهُ، لا نَعْبُدُ إلَّا إيّاه، مُخْلِصِينَ له الدِّينَ. ولو كَرِه الكافِرُون. ثم يُلبِّى ويَدْعُو بما أحَبَّ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه إذا فَرَغ مِن طَوافِه، واسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فالمُسْتَحَبُّ أن يَخْرُجَ إلى الصَّفَا مِن بابِه، فيَأتِىَ الصَّفَا، فيَرْقَى عليه حتى يَرَى الكَعْبَه، فيَسْتَقْبِلَها، فيُكَبِّر اللهَ عَزَّ وجَلَّ، ويُهَلِّلَه، ويَدْعُوَ بِدُعاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وما أحَبَّ من خَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. قال جابِرٌ، رَضِىَ اللهُ عنه، في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: ثم رَجَعَ إلى الرُّكنِ، فاسْتَلَمَه، ثم خَرَج مِن الباب إلى الصَّفَا، فلَمّا دَنَا مِن الصَّفَا قَرَأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. «نَبْدَأُ بما بَدَأ اللهُ به». فبَدَأ بالصَّفَا، فَرقَى عليه حتى رَأى البَيْتَ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَه، وقال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، لا إلهَ إلَّا الله وَحْدَه، أنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه». ثم دَعَا بينَ ذلك، وقال مثلَ هذا ثلاثَ مَرَّاتٍ. قال أحمدُ، رَحِمَه الله: ويَدْعُو بدُعاءِ ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ الله عنهما. ورَواه إسْماعِيلُ، عن أَيُّوبَ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان يَخْرُجُ إلى الصَّفَا مِن البابِ الأعْظَمِ، فيَقُومُ عليه، فَيُكَبِّرُ سَبْعَ مِرارٍ، ثلًاثًا ثَلاثًا يُكَبِّرُ، ثم يقولُ: لا إلهَ إلَّا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كلِّ شئٍ قَدِيرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، لا نَعْبُدُ إلَّا إيّاه، مُخْلِصِينَ له الدِّينَ ولو كَرِهَ الكَافِرُون. ثم يَدْعُو، فيَقُولُ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِى بديِنك وطَواعِيَتك وطَواعِيَةِ رسولِك، اللهُمَّ جَنِّبْنِى حُدُودَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِمَّن يُحِبُّكَ، ويُحِبُّ مَلائِكَتَك وأنْبِيَاءَكَ ورُسُلَكَ وعِبادَكَ الصَّالِحِينَ، اللهُمَّ حَبِّبْنِى إليكَ، وإلى مَلَائِكَتِكَ وإلى رُسُلِكَ وإلى عِبادِكَ الصَّالِحِينَ، اللهُمَّ يَسِّرْنِى لليُسْرَى، وَجَنِّبْنِى العُسْرَى، واغْفِرْ لى في الآخِرَةِ والأُولَى، واجْعَلْنِى مِن أئِمَّةِ المُتَّقِينَ، واجْعَلْنِى. مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، واغْفِرْ لى خَطيئَتِى يومَ الدِّينِ، اللهُمَّ قُلْتَ، وقَوْلُكَ الحَقُّ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1). وإنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ، اللهُمَّ إذْ هَدَيْتَنِى للإِسْلامِ فلا تَنْزِعْنِى منه، ولا تَنْزِعْهُ مِنِّى، حتى تَوَفَّانِى على الإِسْلامِ، اللَّهُمَّ لا تُقَدِّمْنِى إلى العَذَابِ، ولا تُؤَخِّرْنِى لسُوءِ الفِتَنِ. قال: ويَدْعُو دُعاءً كَثِيرًا، حتى إنَّه لَيُمِلُّنَا، وإنَّا لشَبابٌ، وكان إذا أتَى على المَسْعَى سَعَى وكَبَّرَ (¬2). وكُلُّ ما دَعَا به فحَسَنٌ. فصل: فإن لم يَرْقَ على الصَّفَا، فلا شئَ عليه. قال القاضى: لكنْ يَجِبُ عليه أن يَسْتَوْعِبَ ما بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فيُلْصِقَ عَقِبَيْهِ بأسْفَلِ الصَّفَا، ثم يَسْعَى إلى المَرْوَةِ، فإن لم يَصْعَدْ عليها، ألْصَقَ أصابعَ رِجْلَيْه بأسْفَلِ المَرْوَةِ، والصُّعُودُ عليهما أوْلَى، اقْتِداءً بفِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فإن تَرَكَ مِمّا بينَهما شَيْئًا، ولو ذِراعًا، لم يُجْزِئْه حتى يَأْتِىَ به. وحُكْمُ المَرْأةِ في ذلك حُكْمُ الرَّجُلِ، إلَّا أنَّها لا تَرْقَى؛ لئَلَّا تُزاحِمَ الرِّجالَ، ولأنَّه أسْتَرُ لها. ¬

(¬1) سورة غافر 60. (¬2) أنظر ما أخرجه الإمام مالك، في: باب البدء بالصفا في السعى، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 372، 373. والبيهقى، في: باب الخروج إلى الصفا والمروة والسعى بينهما، والذكر عليهما، من كتاب المناسك. السنن الكبرى 5/ 94. وانظر أيضا: الفتح الربانى 12/ 87.

1275 - مسألة: (ثم ينزل، فيمشى حتى يأتى العلم، فيسعى سعيا شديدا إلى العلم)

ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا، وَيَمْشِى حَتَّى يأْتِىَ الْعَلَمَ، فَيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا إلَى الْعَلَمِ، ثُمَّ يَمْشِى حَتَّىِ يَأْتِىَ الْمَرْوَةَ، فَيَفْعَلُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ يَنْزِلُ، فيَمْشِى في مَوْضِعِ مَشْيِهِ، وَيَسْعَى في مَوْضِعِ سَعْيِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعًا، يَحْتَسِبُ بِالذَّهَابِ سَعْيَةً، وَبِالرُّجُوعِ سَعْيَةً، يَفْتَتِحُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ. فَإنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، لَمْ يَحْتَسِبْ بِذَلِكَ الشَّوْطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1275 - مسألة: (ثم يَنْزِلُ، فيَمْشِى حتى يَأْتِىَ العَلَمَ، فيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا إلى العَلَمِ) الآخَرِ (ثم يَمْشِى حتى يَأْتِىَ المَرْوَةَ، فيَفْعَلُ عليها كما فَعَل على الصَّفَا، ثم يَنْزِلُ، فيَمْشِى في مَوْضِع مَشْيِه، ويَسْعَى في مَوْضع سَعْيِه، يَفْعَلُ ذلك سَبْعًا، يَحْتَسِبُ بالذَّهَابِ سَعْيَةً، وبالرُّجُوعِ سَعْيَةً، يَفْتَتِحُ بالصَّفَا، ويَختِمُ بالمَرْوَةِ. فإنِ افْتَتَحَ بالمَرْوَةِ، لم يَحْتَسِبْ بذلك الشَّوْطِ) هذا وَصْفُ السَّعْىِ، وهو أن يَنْزِلَ مِن الصَّفَا، فيَمْشِىَ حتى يَأْتِىَ العَلَمَ، أى يُحاذِيَه، وهو المِيلُ الأخْضَرُ في رُكْنِ المَسْجِدِ، فإذا كان منه نحوًا مِن سِتَّةِ أذْرُعٍ، سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا حتى يُحاذِىَ العَلَمَ الآخَرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهما المِيلانِ الأخْضَرَان بفِناءِ المَسْجِدِ وحِذاءِ دارِ العَبّاسِ، ثم يَتْرُكُ السَّعْىَ فيَمْشِى حتى يَأْتِىَ المَرْوَةَ، فيَرْقَى عليها، ويسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ويَدْعُو بمثلِ دُعائِه على الصَّفَا. ومهما دَعَا به فلا بَأْسَ، وليس في الدُّعاءِ شئٌ مُؤَقَّتٌ. ثم يَنْزِلُ فيَمْشِى في مَوْضِع مَشْيِه، ويَسْعَى في مَوْضِع سَعْيِه، ويُكْثِرُ مِن الدُّعاءِ والذِّكْرِ فيما بينَ ذلك. قال أبو عبدِ اللهِ: كان ابنُ مسعودٍ إذا سَعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ قال: رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ، واعْفُ (¬1) عَمَّا تَعْلَمُ، وأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَمُ. وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْىُ الجِمَارِ، وَالسَّعْىُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ؛ لإِقامَةِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (¬2). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ولا يَزالُ حتى يُكْمِلَ سَبْعَةَ أشْواطٍ، يَحْتَسِبُ بالذَّهابِ سَعْيَةً، وبالرُّجُوعِ سَعْيَةً. وحُكِىَ عن ابنِ جَرِيرٍ، وبعضِ الشافعيةِ، أنَّهم قالُوا: ذَهابُه ورُجُوعُه سَعْيَةٌ. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ جابِرًا قال في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: ثم نَزَل إلى المَرْوةِ، حتى ¬

(¬1) في م: «وتجاوز». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا انْصَبَّتْ (¬1) قَدَماه، رَمَل في بَطنِ الوَادِى، حتى إذا صَعِدَتا مَشَى، حتى إذا أُتِى المَرْوَةَ فَعَل على المَرْوَةِ كما فَعَلى على الصَّفَا، فلمّا كان آخِرُ طَوافِه على المَرْوَةِ قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَم أَسُقِ الهَدْىَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». وهذا يَقْتَضِى أنَّه آخِرُ طَوافِه، ولو كان على ما ذَكَرُوه، كان آخِرُه عندَ الصَّفَا، في المَوْضِعِ الذى بَدَأ منه، ولأنَّه في كُلِّ مَرَّةٍ طائِفٌ بهما، فاحْتَسَبَ بذلك مَرَّةً، كما إذا طافَ بجَمِيعِ البَيْتِ، احْتَسَبَ به مَرَّةً. فصل: ويَفْتَتِحُ بالصَّفَا، ويَخْتِمُ بالمَرْوَةِ؛ لأنَّ الترتِيبَ شَرْطٌ في السَّعْىِ كذلك، فإن بَدَأَ بالمَرْوَةِ لم يَحْتَسِبْ بذلك الشَّوْطِ، فإذا صارَ إلى الصَّفَا اعْتَدَّ بما يَأْتِى به بعدَ ذلك؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - بَدَأ بالصَّفَا، وقال: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأ اللهُ بهِ». وهذا قَوْلُ الحسنِ، ومالكٍ، والشافعيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. فبَدَأ بالصَّفَا، وقال: اتَّبِعُوا القُرْآنَ، فما بَدَأ اللهُ به، فابْدَءُوا به. ¬

(¬1) في النسخ: «انفضت». والمثبت من صحيح مسلم، وكذلك في سنن ابن ماجه.

1276 - مسألة: (ويستحب أن يسعى طاهرا مستترا متواليا. وعنه، أن ذلك من شرائطه)

وَيُسْتَحَبُّ انْ يَسْعَى طاهِرًا مُسْتَتِرًا مُتَوَالِيًا. وَعَنْهُ، أنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والرَّمَلُ في السَّعْىِ سُنَّةٌ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَعَى، وسَعَى أصحابُه، فرَوَتْ صَفِيَّةُ بنتُ شَيْبَةَ، عن أُمِّ وَلَدِ شَيْبَةَ، قالت: رَأيْتُ رسوِلَ اللهِ في يَسْعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ويقولُ: «لَا يُقْطَعُ الأبْطَحُ إلَّا شَدًّا». وليس ذلك بواجِبٍ، ولا شئَ على تارِكِه؛ فإنَّ ابنَ عُمَرَ قال: إن أسْعَ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فقد رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْعَى، وإن أمْشِ، فقد رَأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِى، وأنا شَيْخٌ كَبِيرٌ. رَواهما ابنُ ماجَه، وأبو داودَ (¬1). ولأنَّ تَرْكَ الرَّمَلِ في الطَّوافِ بالبَيْتِ لا شئَ فيه، فبينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أوْلَى. 1276 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَسْعَى طاهِرًا مُسْتَتِرًا مُتَوالِيًا. وعنه، أنَّ ذلك مِن شَرائِطِه) المُسْتَحَبُّ لمَن قَدَر على الطَّهارَةِ أن لا يَسْعَى ¬

(¬1) أخرجهما ابن ماجه، في: باب السعى ين الصفا والمروة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 995. ولم نجد الأول عند أبي داود، وأخرج الثانى، في: باب أمر الصفا والمروة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 439. وكذلك أخرجه النسائى، في: باب السعى في بطن المسيل، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 194.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا مُتَطَهِّرًا مِن الحَدَثِ والنَّجاسَةِ، وكذلك جَمِيعُ المَناسِكِ. فإن سَعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ على غيرِ طهارةٍ كُرِهَ له ذلك وأجْزَأه، في قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم عَطاءٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وكان الحَسَنُ يقولُ: إن ذَكَر قبلَ أن يَحِلَّ فلْيُعِدِ الطَّوافَ، وإن ذَكَر بعدَ ما حَلَّ، فلا شئَ عليه. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، حينَ حاضَتْ: «اقْضِى مَا يَقْضِى الحَاجُّ غَيْرَ أنْ لَا تَطُوفِى بِالبَيْتِ» (¬1). ولأنَّ ذلك عِبادَةٌ لا تَتَعَلَّقُ بالبَيْتِ، أشْبَهَتِ الوُقُوفَ بعَرَفَةَ. قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ يقولُ: إذا طافَتِ المَرْأةُ بِالبَيْتِ، ثم حاضَتْ، سَعَتْ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثم نَفَرَتْ. ورُوِىَ عن عائشة، وأُمِّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، أنَّهُما قالَتا: إذا طافَتِ المَرْأةُ بالبَيْتِ، وصَلَّتْ رَكْعَتَيْن، ثم حاضَتْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصَلَّتْ رَكْعَتَيْن، ثم حاضَتْ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ (¬1) فَلْتَطُفْ بالصَّفَا والمَرْوَةِ. رَواه الأثْرَمُ. ولا تُشْتَرَطُ الطهارةُ مِن النَّجاسَةِ أيْضًا ولا السِّتارَةُ للسَّعْىِ؛ لأنَّه إذا لم تُشْتَرطِ الطهارةُ مِن الحَدَثِ، وهى آكَدُ، فغيرُها أوْلَى. وقد ذَكَر بعضُ أصحابِنا رِوَايَةً عن أحمدَ، أنَّه كالطَّوافِ في اشْتِراطِ الطهارةِ والسِّتارَةِ قِياسًا عليه. ولا عَمَلَ عليه. فصل: والمُوالَاةُ في السَّعْىِ غيرُ مُشْتَرَطَةٍ في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ؛ فإنَّه قال في رجلٍ كان بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فلَقِيَه قادِمٌ يَعْرِفُه (¬2)، لَقفُ يُسَلِّمُ عليه، ويَسْألُه؟ قال: نعم، أمْرُ الصَّفَا سَهْلٌ، إنّما كان يُكْرَهُ الوُقُوفُ في الطَّوافِ بالبَيْتِ، فأمّا بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ فلا بَأْسَ. وقال القاضى: تُشْتَرَطُ المُوالَاةُ فيه، قِياسًا على الطَّوافِ. وحُكِىَ رِوايَةً عن أحمدَ. والأوَّلُ أصَحٌّ؛ فإنَّه نُسُكٌ لا يَتَعَلَّقُ بِالبَيْتِ، فلم تُشْتَرَطْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بعرفة».

1277 - مسألة: (والمرأة لا ترمل ولا ترقى)

وَالْمَرْأةُ لَا تَرْقَى وَلَا تَرْمُلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له المُوالَاةُ، كالرَّمْىِ والحِلَاقِ. وقد روَى الأثْرَمُ، أنَّ سَوْدَةَ بنتَ عبدِ اللهِ ابنِ عمرَ، امرأةَ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، سَعَتْ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فقَضَتْ طَوافَها في ثَلاَثَةِ أيّامٍ، وكانت ضَخْمَةً. وكان عَطاءً لا يَرَى بَأْسًا أن يَسْتَرِيحَ بينَهما. ولا يَصِحُّ قِياسُه على الطَّوافِ؛ لأنَّ الطَّوافَ يَتَعَلَّقُ بالبَيْتِ، وهو صَلاةٌ، وتُشْتَرَطُ له الطهارةُ والسِّتارَةُ، فاشْتُرِطَتْ له المُوالَاةُ، بخِلافِ السَّعْيِ. 1277 - مسألة: (والمَرْأةُ لا تَرْمُلُ ولا تَرْقَى) لا يُسَنُّ للمَرْأةِ أن تَرْقَى على المَرْوَةِ؛ لِئَلَّا تُزاحِمَ الرِّجالَ، ولأنَّ ذلك أسْتَرُ لها، ولا يُسَنُّ لها الرَّمَلُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّه لا رَمَلَ على النِّساءِ حولَ البَيْتِ، ولا بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. وذلك لأنَّ الأصْلَ في ذلك إظْهارُ الجَلَدِ، ولا يُقْصَدُ ذلك في حَقِّهِنَّ، ولأنَّ النِّساءَ يُقْصَدُ منهُنَّ السَّتْرُ، وفى ذلك تَعَرُّضٌ للانكِشَافِ، فلم يُسْتَحَبَّ لهُنَّ. فصل: والسَّعْىُ تَبَعٌ للطَّوافِ، لا يَصِحُّ إلَّا بعدَ الطَّوَافِ، فإن سَعَى قَبْلَه، لم يَصِحَّ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وقال

1278 - مسألة: (فإذا فرغ من السعى، فإذا كان معتمرا، قصر من شعره، وتحلل، إلا أن يكون قد ساق)

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْىِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، قَصَّرَ مِنْ شَعَرِهِ، وَتَحَلَّلَ، إلَّا أنْ يَكُونَ الْمُتَمَتِّعُ قَدْ سَاقَ هَدْيًا، فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَحُجَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءٌ: يُجْزِئُه. وعن أحمدَ، يُجْزِئُه إن نَسِىَ، وإلَّا فَلَا؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سُئِلَ عن التَّقَدُّم والتَّأخُّرِ في حالِ الجَهْلِ والنِّسْيانِ، قال: «لَا حَرَج» (¬1). ولَنا، أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما سَعَى بعدَ الطَّوافِ، وقال: «لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬2). فعلى هذا، إن سَعَى بعدَ طَوافِه، ثم عَلِم نَه طافَ غيرَ مُتَطَهِّرٍ أعادَ السَّعْىَ. وإن سَعَى المُفْرِدُ والقارِنُ بعدَ طَوافِ القُدُومِ، لم يَلْزَمْهُما سَعْىٌ بعدَ ذلك. ولا تَجِبُ المُوالَاةُ بينَ الطَّوافِ والسَّعْىِ. رُوِىَ ذلك عن الحَسَنِ وعَطاءٍ، قالا: لا بَأْسَ أن يَطُوفَ أوَّلَ النَّهارِ ويَسْعَى آخِرَه. وفَعَلَه القاسِمُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ؛ لأنَّ المُوالَاةَ إذا لم تَجِبْ في نَفْسى السَّعْىِ، ففيما بينَه وبينَ الطَّوافِ أوْلَى. 1278 - مسألة: (فإذا فَرَغ مِن السَّعْىِ، فإذا كان مُعْتَمِرًا، قَصَّرَ مِن شَعَرِه، وتَحَلَّلَ، إلَّا أن يكونَ قد ساقَ) معه (هَدْيًا، فلا يَحِلَّ حتى يَحُجَّ) إذا طافَ المُتَمَتِّعُ، وسَعَى قَصَّرَ أو حَلَق، وقد حَلَّ مِن عُمْرَتِه، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا رمى بعد ما أمسى. . . .، وباب الفتيا على البداية. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 214، 215. ومسلم، في: باب من حلق قبل النحر. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 950. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 258، 269، 291، 300. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن لم يَكُنْ معه هَدْىٌ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللهُ عنهما، قال: تَمَتَّعَ النّاسُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فلَمّا قَدِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قال للنّاسِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَإنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ (¬1)، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْى، فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ولا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التحَلُّلِ. قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ، سُئِلَ عمَّن دَخَلَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فلم يُقَصِّرْ حتى كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، عليه شئٌ؟ قال: هذا لم يَحِلَّ حتى يُقَصِّرْ، ثم يُهِلُّ بالحَجِّ، وليس عليه شئٌ، وبِئْسَ ما صَنَع. فصل: فأمَّا مَن معه الهَدْىُ، فليس له أن يَتَحَلَّلَ، لكن يُقِيمُ على إِحْرامِه، ويُدْخِلُ الحَجَّ على العُمْرَةِ، ثم لا يَحِلُّ حتى يَحِلَّ منهما جَمِيعًا. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وعنٍ أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَحِلُّ له التَّقْصِيرُ مِن شَعَرِ رَأْسِه خاصَّةً، ولا يَمَسُّ مِن أظْفَارِه وشارِبِه شَيْئًا. ¬

(¬1) في م: «حجته». (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وهو قولُ عَطاءٍ؛ لِما رُوِىَ عن مُعاوِيَةَ، قال: قَصَّرْتُ مِن رَأْسِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمِشْقَصٍ (¬1) عندَ المَرْوَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال مالكٌ، والشافعىُّ في قولٍ: له التَّحَلُّلُ، ونَحْرُ هَدْيِه عندَ المَرْوَةِ. ويَحْتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، ورَوَتْ عائشةُ، قالت: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدعَ، فأهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ، ولم أكُنْ سُقْتُ الهَدْىَ، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» (¬3). وعن حَفْصَةَ، أنَّها قالت: يا رسولَ اللهِ، ما شَأْنُ النّاسِ حَلَّوا مِن العُمْرَةِ، ¬

(¬1) المشقص؛ كمنبر: نصل عريض أو سهم فيه ذلك. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الحلق والتقصير. . . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 214. ومسلم، في: باب التقصير في العمرة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 913. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 419. والنسائى، في: باب كيف يقصر؟ من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 96 - 98. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب كيف تهل الحائض والنفساء. . . .، وباب طواف القارن، من كتاب الحج، وفى: باب حجة الوداع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 172، 191، 192، 5/ 221. ومسلم، في: باب بيان وجوه الإحرام. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 870، 871. وأبو داود، في: باب في إفراد الحج، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 412. والنسائى، في: كتاب في المهلة بالعمرة. . . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 129. والإمام مالك، في: باب دخول الحائض مكة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 410، 411. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 243.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم تَحْلِلْ أنت مِن عُمْرَتِك؟ قال: «إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أنْحَرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والأحَادِيثُ فيه كَثِيرَةٌ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، في مَن قَدِم مُتَمَتِّعًا في أشْهُرِ الحَجِّ، وساقَ الهَدْىَ، قال: إن دَخَلَها في العَشْرِ لم يَنْحَرِ الهَدْىَ حتى يَنْحَرَه يومَ النَّحْرِ، وإن قَدِم قبلَ العَشْرِ نَحَر الهَدْىَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُتَمَتِّعَ إذا قَدِم قبلَ العَشْرِ حَلَّ، وإن كان معه. هَدْىٌ، وإن قَدِم في العَشْرِ لم يَحِلَّ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ. رَواه حَنْبَلٌ «المَناسِكِ». وقال في مَن لَبَّدَ، أو ضَفَّرَ: هو بمَنْزِلَةِ مَن ساقَ الهَدْىَ؛ لحَدِيثِ حَفْصَةَ. والرِّوايَةُ الأولَى أوْلَى؛ لِما فيها مِن الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فهى أوْلَى بالاتِّباعِ. فصل: فأمَّا المُعْتَمِرُ غيرُ المُتَمَتِّعِ، فإنَّه يَحِلُّ، سَواءٌ كان معه هَدْىٌ أو لم يَكُنْ، وسَواءٌ كان في أشْهُرِ الحَجِّ أو في غَيْرِها؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ سِوَى عُمْرَتِه التى مع حَجَّتِه، بَعْضُهُنَّ في ذِى القَعْدَةِ. وقيلَ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كُلُّهُنّ في ذِى القَعْدَةِ. وكان يَحِلُّ. فإن كان معه هَدْىٌ نَحَرَه عندَ المَرْوَةِ، وحيثُ نَحَرَه مِن الحَرَمِ جازَ؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). فصل: وقَوْلُ المُصَنِّفِ، رَحِمَه اللهُ: قَصَّرَ مِن شَعَرِه. يَدُلُّ على أنَّ المُسْتَحَبَّ في حَقِّ المُتَمَتِّعِ إذا حَلَّ مِن عُمْرَتِه التَّقْصِيرُ؛ ليُؤَخِّرَ الحَلْقَ إلى الحَجِّ. قال أحمدُ، رَحِمَه الله، في رِوايَةِ أبي داودَ: يُعْجِبُنِى إذا دَخَل مُتَمَتِّعًا أن يُقَصِّرَ؛ ليَكُونَ الحَلْقُ للحَجِّ. ولم يَأْمُرِ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إلَّا بالتَّقْصِيرِ، فقال في حديثِ جابِرٍ: «حِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وقَصِّرُوا» (¬2). وفى حديثِ ابنِ عُمَرَ، أنه قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ» مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وإن حَلَق جَازَ؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكَيْن، فجازَ فيه كلُّ واحِدٍ منهما. وفى الحَدِيثِ دَلِيلٌ على أنَّه لا يَحِلُّ إلَّا بالتَّقْصِيرِ، وهذا يَنْبَنِى على أنَّ التَّقْصِيرَ هل هو نُسُكٌ أو لَا؟ وسَنَذْكُرُ ذلك إن شاءَ الله تعالَى. فإن أحْرَمَ بالحَجِّ قبلَ التَّقْصِيرِ، وقُلْنا: هو نُسُكٌ. فقد أدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ، وصار قارِنًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 194. (¬2) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬3) تقدم تخريجه في 8/ 157.

1279 - مسألة: (ومن كان متمتعا، قطع التلبية إذا وصل

وَمَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إِذَا وَصَلَ الْبَيْتَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَرَك التَّقْصِيرَ أو الحَلْقَ، وقُلْنا: هو نُسُكٌ. فعليه دَمٌ. فإنْ وَطِئَ قبلَ التَّقْصِيرِ، فعليه دَمٌ، وعُمْرَتُه صَحِيحَةٌ. وبهذا قال مالكٌ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وحُكِىَ عن أصحابِ الشافعيِّ أن عُمْرَتَه تَفْسُدُ؛ لأنَّه وَطِئَ قبلَ حِلِّه مِن عُمْرَتِه. وعن عَطاءٍ، قال: يَسْتَغْفِرُ اللهَ. ولَنا، ما رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ الله عنهما، أنَّه سُئِلَ عن امْرَأةٍ مُعْتَمِرَةٍ، وَقَع عليها زَوْجُها قبلَ أن تُقَصِّرَ. قال: مَن تَرَك مِن مَناسِكِه شَيْئًا، أو نَسِيَه، فَلْيُهَرِقْ دَمًا. قيلَ: إنَّها مُوسِرَةٌ. قال: فَلْتنْحرْ ناقَةً (¬1). ولأنَّ التَّقْصِيرَ ليس برُكْنٍ، فلا يَفْسُدُ النُّسُكُ بتَرْكِه، ولا بالوَطْءِ قبلَه، كالرَّمْىِ في الحَجِّ. قال أحمدُ، في مَن وَقَع على امْرَأتِه قبلَ تَقْصِيرِها مِن عُمْرَتِها: تَذْبَحُ شاةً. قيلَ: عليها أو عليه؟ قال: عليها هى. وهو مَحْمُولٌ على أنَّها طاوَعَتْه. فإن أكْرَهَها، فالدَّمُ عليه. وقد ذُكِرَ ذلك على ما فيه مِن الخِلافِ. واللهُ تعالَى أعْلَمُ. 1279 - مسألة: (ومَن كان مُتَمَتِّعًا، قَطَع التَّلْبِيَةَ إذا وَصَل (¬2) البَيْتَ) قال أبو عبدِ اللهِ: يَقْطَعُ المُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ إذا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ. وبهذا ¬

(¬1) أخرج القصة البيهقى في السنن الكبرى 5/ 171. وتقدم تخريج قوله: «من ترك نسكًا فعليه دم» في 8/ 125. (¬2) بعده في م: «إلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عباسٍ، وعَطاءٌ، وعَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ، وطاوُسٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْىِ. وقال ابنُ عُمَرَ، وعُرْوَةُ، والحَسَنُ: يَقْطَعُها إذا دَخَل الحَرَمَ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، يَقْطَعُها حينَ يَرَى عُرُشَ مَكَّةَ (¬1). وعن مالكٍ، أنَّه إن أحْرَمَ مِن المِيقاتِ قَطَع التَّلْبِيَةَ إذا وَصَل الحَرَمَ، وإن أحْرَمَ بها مِن أدْنَى الحِلِّ قَطَع التَّلْبِيَةَ حينَ يَرَى البَيْتَ. ولَنا، ما رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ الله عنهما، يَرْفَعُ الحَدِيثَ: كان يُمْسِكُ عن التَّلْبِيَةِ في العُمْرَةِ إذا اسْتَلَمَ الحَجَرَ (¬2). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وروَى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيهِ، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -. اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ، ولم يَزَلْ يُلَبِّى حتى اسْتَلَمَ الحَجَرَ (¬3). ولأنَّ التَّلْبِيَةَ إجَابَةٌ إلى العِبادَةِ، وشِعارٌ للإقامَةِ عليها. ¬

(¬1) عرش مكة: بيوتها القديمة. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء حتى يقطع التلبية في العمرة، من أبواب الحج. عارضه الأحوذى 4/ 151. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 180.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما يَتْرُكُها إذا شَرَع فيما يُنافِيها، وهو التَّحَلُّلُ منها، والتَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بالطَّوافِ والسَّعْىِ، فإذا شَرَع في الطَّوافِ، فقد أخَذَ في التَّحَلُّلِ، فيَنْبَغِى أن يَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ، كالحاجِّ يَقْطَعُها إذا شَرَع في رَمْىِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ؛ لحُصُولِ التَّحَلُّلِ بها. وأمّا قبلَ ذلك فلم يَشْرَعْ فيما يُنافِيها، فلا مَعْنَى لقَطْعِها. واللهُ تعالى أعلمُ.

باب صفة الحج

بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ صِفَةِ الحَجِّ نَذْكُرُ في هذا البابِ صِفَةَ الحَجِّ، بعدَ جِلِّ المُتَمَتِّع مِن عُمْرَتِه، والأوْلَى أن نَبْدَأَ بذِكْرِ حَدِيثِ جابِرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، في صِفَةِ حَجٍّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونَقْتَصِرُ منه على ما يَخْتَصُّ بهذا البابِ، وقد ذَكَرْنا بعضَه مُتَفرِّقًا في الأبْوابِ المُتَقَدِّمَةِ، وهو صَحِيحٌ، رَواه مسلمٌ وغيرُه (¬1) بالإِسْنادِ عن جابِرٍ، وذَكَر الحَدِيثَ قال: فحَلَّ النّاسُ كلُّهم، وقَصِّرُوا، إلَّا النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ومَن كان معه هَدْىٌ، فلَمّا كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكِب النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، إلى مِنًى، فصَلَّى بها الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشاءَ والفَجْرَ، ثم مَكَث قَلِيلًا حتى طَلَعَتِ الشمسُ، وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ، فضُرِبَتْ له بنَمِرَةَ، فسارَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عندَ المَشْعَرِ الحَرَام، كما كانت قرَيش تَصْنَعُ في الجاهِلِيَّةِ، فأجازَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا أتَى عَرَفَةَ فوَجَدَ القُبَّةَ قد ضُرِبَتْ له بنَمِرَةَ، فنَزَلَ بها حتى إذا زالَتِ الشمسُ أمَر بالقَصْواءِ فرحِلَتْ له، فأتَى بَطْنَ الوَادِى، فخَطَبَ النّاسَ، وقال: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ حَرَامٌ، كَحْرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، ألَا إنَّ كلَّ شَئٍ مِنْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءَ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإنَّ أوَّلَ دَم أضَعُهُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ -كانَ مُسْتَرْضَعًا في بَنِى سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ- وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأوَّلُ رِبًا أضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسٍ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ، فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ (¬1) اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنّ ألّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدًا تَكْرهُونَهُ، فَإنْ فَعَلْنَ ذلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَير مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكُسْوَتُهُن بِالمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُبْم مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللهِ، وَأنتمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَد بَلَّغْتَ، وأدَّيْتَ، ونَصَحْت. فقالَ بإصْبَعِه السَّبَّابَةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءِ، وَينْكُبُها (¬2) إلى النّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ». ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثم أذَّنَ، ثم أقامَ فصَلَّى الظُّهْرَ، ثم أقامَ فصَلَّى العَصْرَ، ولم يُصَلِّ بينَهما شَيْئًا، ثم رَكِب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أتَى المَوْقِفَ، فجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِه القَصْواءِ إلى الصَّخَراتِ، وجَعَل حَبْلَ المُشَاةِ بينَ يَدَيْهِ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فلم يَزَلْ واقِفًا حتى غَرَبَتِ الشمسُ، وذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حتى غابَ القُرْصُ، وأرْدَفَ أُسامَةَ خلفَه، ودَفَع رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد شَنَقَ (¬3) للقَصْواءِ الزِّمامَ؛ حتى إنَّ رَأْسَها ليُصِيبُ ¬

(¬1) في صحيح مسلم: «بأمان». (¬2) ينكبها: يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم. وروى: «ينكتها» انظر شرح النووى على صحيح مسلم 8/ 184. (¬3) شنق: ضم وضيق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْرِكَ (¬1) رَحْلِه، ويقولُ بيَدِه اليُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ». كُلَّمَا أتَى حَبْلًا (¬2) مِن الحِبالِ أرْخَى لها قَلِيلًا حتى تَصْعَدَ، حتى أتَى المُزْدَلِفَةَ، فصَلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ، بأذانٍ واحِدٍ وإقامَتَيْن، ولم يُسَبِّحْ بينَهما شَيْئًا، ثم اضْطَجَعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى طَلَع الفَجْرُ، فصَلَّى الصُّبْحَ حينَ تَبَيَّنَ له الصُّبْحُ بأذانٍ وإقامَةٍ، ثم رَكِب القَصْواءَ حتى أتَى المَشْعَرَ الحَرامَ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فدَعَا اللهَ وكَبَّرَه وهَلَّلَهُ ووَحَّدَه، ولم يَزَلْ واقِفًا حتى أسْفَرَ جِدًّا، فدَفَعٍ قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ، وأرْدَفَ الفَضْلَ ابنَ العباسٍ، وكان رجلاً حَسَنَ الشَّعَرِ أبيضَ وَسِيمًا، فلَمّا دَفَع رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ به ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فطَفِقَ الفَضْلُ يَنْظرٌ إلَيْهِنَّ، فوَضَعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَه على وَجْهِ الفَضْلِ، فحَوَّلَ وَجْهَه إلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظرُ، فحَوَّلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَه مِن الشِّقِّ الآخَرِ على وَجْهِ الفَضْلِ، فصَرَفَ وَجْهَه مِن الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ، حتى أتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فحَرَّكَ قَلِيلًا، ثم سَلَك الطرِيقَ الوُسْطىَ التى تَخْرُجُ على الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حتى أتَى الجَمْرَةَ التى عندَ الشَّجَرَةِ، فرَمَاها بسَبْع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصاةٍ منها، مثل حَصَا الخَذْفِ (¬3)، رَمَى مِن بَطنِ الوَادِى، ثم انْصَرَفَ إلى المَنْحَرِ، فنَحَرَ ثَلاثًا وستِّينَ بَدَنَةً بيَدِه، ثمّ أعْطىَ عَلِيًّا فَنَحَر ما غَبَرَ (¬4)، وأشْرَكَه في ¬

(¬1) مورك الرحل: هو الموضع الذى يثنى الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب. (¬2) الحبل هنا: التل اللطيف من الرمل. (¬3) حصى الحذف: مثل حبة الباقلاء. (¬4) ما غبر: ما بقى. وهو تمام المائة.

1280 - مسألة: (يستحب للمتمتع الذى حل، وغيره من المحلين بمكة، الإحرام بالحج يوم التروية -وهو الثامن من ذى الحجة- من مكة، ومن حيث أحرم من الحرم، جاز)

يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّع الَّذِى حَلَّ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُحِلِّينَ بِمَكَّةَ، الإحْرَامُ بِالْحَجِّ يَوْم التَّرْوِيَة -وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ- مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَدْيِه، ثم أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ ببِضْعَةٍ (¬1) فجُعِلَتْ في قِدْرٍ فطُبخَتْ، فأكَلَا مِن لَحْمِها، وشَرِبَا مِن مَرَقِها، ثم رَكِب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأفَاضَ إلى البَيْتِ، فصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ، فأتَى بنِى عبدِ المُطَّلِبِ وهم يَسْقُونَ على زمْزَمَ، فقال: «انْزِعُوا بَنى عَبْدِ المُطَّلِبِ، فلَوْلَا أنْ تَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لنَزَعْتُ مَعَكُمْ». فنَاوَلُوه دَلْوًا شَرِب منه. قال عَطاءٌ: كان مَنْزِلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمِنًى بالخَيْفِ. 1280 - مسألة: (يُسْتَحَبُّ للمُتَمَتِّع الذىْ حَلَّ، وغيرِه مِن المُحِلِّينَ بمَكَّةَ، الإحْرامُ بالحَجِّ يومَ التَّرْوِيَةِ -وهو الثامِنُ مِن ذِى الحِجَّةِ- مِن مَكَّةَ، ومِن حيثُ أحْرَمَ مِن الحَرَمِ، جاز) سُمِّىَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ بهذا الاسْمِ؛ لأنَّهُم كانُوا يَتَرَوَّوْنَ مِن الماءِ فيه، يُعِدُّونَه ليومِ عَرَفَةَ، وقِيلَ: ¬

(¬1) البضعة: القطعة من اللحم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُمِّىَ بذلك؛ لأنَّ إبْراهِيمَ، عليه السلامُ، رَأى لَيْلَتَئِذٍ (¬1) في المَنامِ ذَبْحَ ابنه، فأصْبَحَ يَرْوِى في نَفْسِه أهو حُلْمٌ أم مِن اللَّه تِعالَى؟ فَسُمِّىَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فلمّا كانت لَيْلَةُ عَرَفَةَ رَأَى ذلك أيضًا، فعَرَفَ أنَّه مِن اللَّه، فسُمِّىَ يَوْمَ عَرَفَةَ، واللَّهُ تَعالَى أعْلَمُ. والمُسْتَحَبُّ لمَن كان بمَكَّةَ مِن المُتَمَتِّعِينَ الذين حَلُّوا مِن عُمْرَتِهم، أو كان مُقِيمًا بمَكَّةَ مِن أهْلِها أو مِن غيرِهم وهو حَلالٌ، أن يُحْرِمُوا يومَ التَّروِيَةِ حينَ يَتَوَجَّهُونَ إلى مِنًى. وبهذا قال ابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وإسحاقُ. وقد رُوِى عن عُمَرَ، رضي اللَّه عنه، أنَّه قال لأهْلِ مَكَّةَ: ما لَكُمْ يَقْدَمُ النّاسُ عليكم شُعْثًا! إذا رَأَيْتُم الهِلالَ فأهِلُّوا بالحَجِّ. وهذا مَذْهَبُ ابنِ الزُّبَيْرِ. وقال مالكٌ: مَن كان بمَكَّةَ، فأُحبُّ أن يُهِلَّ مِن المَسْجِدِ لهِلالِ ذِى الحِجَّةِ. ولَنا، قَوْلُ جابِرٍ: فلمّا كان يَوْمُ التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ. وفى لَفظٍ عن جابِرٍ، رضي اللَّه عنه، قال: أمَرَنا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا حَلَلْنَا، ¬

(¬1) في م: «ليلته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن نُحْرِمَ إذا تَوَجَّهْنا إلى مِنًى فأهْلَلْنا مِن الأبْطَحِ، حتى إذا كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وجَعَلْنا مَكَّةَ بظَهْرٍ، أهْلَلْنَا بالحَجِّ. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن عُبَيْدِ ابن جُرَيْجٍ، أنه قال لابن عُمَرَ: رَأَيْتُكَ إذا كُنْتَ بمَكَّةَ، أهَلَّ النّاسُ ولم تُهِلَّ أنت، حتى يكونَ يومُ التَّرْوِيَةِ؟ فقال عبدُ اللَّه بنُ عُمَرَ: أمَّا الإِهْلالُ، فإنِّى لم أر رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُهِلُّ حتى تَنْبَعِثَ به راحِلَتُه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه مِيقاتٌ للإحْرامِ، فاسْتَوَى فيه أهْلُ مَكَّةَ وغيرُهم، كمِيقاتِ المَكانِ. وإن أحْرَمَ قبلَ ذلك، جازَ. فصل: والأفْضَلُ أن يُحْرِمَ مِن مَكَّةَ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَواقِيتِ: «حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» (¬3). ومِن أيها أحْرَمَ جازَ؛ للحَدِيثِ. وإن أحْرَمَ خارجًا منها مِن الحَرَم، جازَ؛ لقَوْلِ جابِرٍ: فأهْلَلْنَا مِن الأبْطَحِ. ¬

(¬1) في: باب بيان وجوه الإحرام. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 882، 885. كما أخرجه البخارى، في: باب الإهلال من البطحاء. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 197. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 318، 378. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 144. (¬3) تقدم تخريجه في 8/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ المَقْصُودَ أن يَجْمَعَ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، وذلك حاصِلٌ بإِحْرامِه مِن جَمِيع الحَرَمِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَفْعَلَ عندَ إحْرامِه هذا ما يَفْعَلُه عندَ الإِحْرامِ مِن المِيقاتِ؛ مِن الغُسْلِ والتَّنْظِيفِ، ويَتَجَرَّدُ عن المَخِيطِ، ويَطُوفُ سَبْعًا، ويُصَلِّى رَكْعَتَيْن، ثم يُحْرِمُ عَقِيبَهما. ومِمَّن اسْتَحَبَّ ذلك عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا يُسَنُّ أن يَطُوفَ بعدَ إحْرامِه. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّه عنه: لا أرَى لأهْلِ مَكَّةَ أن يَطُوفوا بعدَ أن يُحْرِمُوا بالحَجِّ، ولا أن يَطُوفُوا بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ حتى يَرْجِعُوا. وهذا مَذْهَبُ عَطاءٍ، ومالكٍ، وإسحاقَ. وإن طافَ بعدَ إحْرامِه ثم سَعى، لم يُجْزِئْه عن السَّعْىِ الواجِبِ.

1281 - مسألة: (ثم يخرج إلى منى، فيبيت فيها)

ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى مِنًى فَيُصَلِّى بِهَا الظُّهْرَ، وَيَبِيتُ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ: يُجْزِئُهُ. فَعَلَه ابنُ الزُّبَيْرِ. وهو قولُ القاسمِ بنِ محمدٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه سَعَى في الحَجِّ مَرَّةً فأجْزَأه، كما لو سَعَى بعدَ رُجُوعِه مِن مِنًى، وكما لو سَعَى بعدَ طَوافِ القُدُومِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر أصحابَه أن يُهِلُّوا بالحَجِّ إذا خَرَجُوا إلى مِنًى. ولو شُرِعَ لهم الطَّوافُ، لم يَتَّفِقُوا على تَرْكِه. وقالت عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها: خَرَجْنا مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فطافَ الذين أهَلُّوا بالعُمْرَةِ بالبَيْتِ، وبين الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثم حَلُّوا، ثمّ طافُوا طَوافًا آخَرَ بعدَ أن رَجَعُوا مِن مِنًى (¬1)، 1281 - مسألة: (ثم يَخْرُجُ إلى مِنًى، فيَبِيتُ فيها) يُسْتَحَبُّ أن يَخْرُجَ مُحْرِمًا مِن مَكَّةَ يومَ التروِيه، فيُصَلِّى الظُّهْرَ بمِنًى، ثم يُقيمَ حتى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُصَلِّى بها الصَّلَواتِ الخَمْسَ، ويَبِيتَ بها، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل ذلك، كا جاءَ في حَدِيثِ جابِرٍ. وهذا قولُ سُفْيانَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وليس ذلك واجِبًا عندَ الجَمِيعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا أحْفَظُ عن غيرِهم خِلافَهم. وقد تَخَلَّفَتْ عائشةُ لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ حتى ذَهَب ثُلُثَا اللَّيْلِ، وصَلَّى ابنُ الزُّبَيْرِ بمَكَّةَ. فصل: فإن صادَفَ يومُ التَّرْوِيَةِ يومَ جُمُعَةٍ، فمَن كان مُقِيمًا بمَكَّةَ حتى زالَتِ الشمسُ، مِمَّن تَجِبُ عليه الجُمُعَةُ، لم يَخْرُجْ حتى يُصَلِّيَها؛ لأنَّ الجُمُعَةَ فَرْضٌ، والخرُوجُ إلى مِنًى في هذا الوَقْتِ ليس بفَرْض. فأمَّا قبلَ الزَّوالِ، فإن شاءَ خَرَج، وإن شاءَ أقامَ حتى يُصلِّىَ، فقد رُوِىَ أنَّ ذلك وُجِدَ في أيَّامِ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ فخَرَجَ إلى مِنًى. وقال عَطاءٌ: كُلُّ مَن أدْرَكْتُ يَصْنَعُونَه، أدْرَكتهم يجمعُ بمَكَّةَ إمامُهم ويَخْطُبُ، وَمَرَّةً لا يُجَمِّعُ ولا يَخْطُبُ. فعلى هذا، إذا خَرَج الإِمامُ، أمَرَ بعضَ (¬1) مَن تَخَلَّفَ أن يُصَلِّىَ بالنّاسِ الجُمُعَةَ. وقال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: إذا كان وَالِى مَكَّةَ بمَكَّةَ يومَ الجُمُعَةِ، يُجَمِّعُ بهم. قِيلَ له: يَرْكَبُ إلى مِنًى، فيَجئُ إلى مَكَّةَ، يُجَمِّعُ بهم؟ قال: لا، إذا كان هو بعدُ بمَكَّةَ. ¬

(¬1) زيادة من المغنى 5/ 262.

1282 - مسألة: (فإذا طلعت الشمس، سار إلى عرفة، فأقام بنمرة حتى تزول الشمس)

فَإذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، سَارَ إِلَى عَرَفَةَ، فَأَقَامَ بِنَمِرَةَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1282 - مسألة: (فإذا طَلَعَتِ الشمسُ، سارَ إلى عَرَفَةَ، فأقامَ بنَمِرَةَ حتى تَزُولَ الشمسُ) يُسْتَحَبُّ أن يَدْفَعَ إلى المَوْقِفِ مِن مِنًى إذا طَلَعَتِ الشمسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فيُقِيمَ بنَمِرَةَ، لِما تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ جابِرٍ، وإن شاءَ أقامَ بعَرَفَةَ.

1283 - مسألة: (ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها الوقوف ووقته، والدفع منه، والمبيت بمزدلفة، ثم ينزل فيصلى بهم الظهر والعصر، يجمع بينهما بأذان وإقامتين)

ثُمَّ يَخْطُبُ الإمَامُ خُطْبَةً يعَلِّمُهُمْ فِيهَا الْوُقُوفَ وَوَقْتَهُ، وَالدَّفْعَ مِنْهُ، وَالْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإقَامَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1283 - مسألة: (ثم يَخْطُبُ الإِمامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُهم فيها الوُقُوفَ وَوَقْتَه، والدَّفْعَ منه، والمَبِيتَ بمُزْدَلِفَةَ، ثم يَنْزِلُ فيُصَلِّى بهم الظُّهْرَ والعَصْرَ، يَجْمَعُ بَيْنَهما بأذانٍ وإقامَتَيْن) إذا زالَتِ الشمس اسْتُحِبَّ للإِمامِ أن يَخْطُبَ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النّاسَ فيها مَناسِكَهم؛ مِن مَوْضِع الوُقُوفِ ووَقْتِه، والدَّفْع مِن عَرَفاتٍ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، وأخْذِ الحَصَا لرَمْىِ الجِمارِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ جابِرٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل ذلك. ثمَّ يأمُرُ بالأذانِ، فيَنْزِلُ فيُصَلِّى الظُّهْرَ والعَصر، يَجْمَعُ بينَهما، ويقيمُ لكلِّ صلاةٍ إقامَةً. وقال أبو ثَوْرٍ: يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ إذا صَعِد الإِمامُ المِنْبَرَ فجَلَسَ، فإذا فَرَغ المُؤَذِّنُ، قام الإِمامُ فخَطَبَ. وقِيلَ: يُؤَذِّنُ في آخِر خُطْبَةِ الإِمامِ. وحَدِيثُ جابِرٍ يَدلُّ على أنه أذنَ بعدَ فَراغَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن خُطْبَتِه. وكيفما فَعَل فحَسَنٌ. فصل: والأَوْلَى أن يُؤَذِّنَ للأُولَى، وإن لم يُؤَذِّنْ، فلا بَأْسَ. هكذا قال أحمدُ؛ لأن كلُّا مَرْوِىٌّ عن رسولَ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والأذانُ أوْلَى. وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْىِ. وقال مالك: يُؤَذِّنُ لكلِّ صلاةٍ. واتِّباعُ السُّنَّةِ أوْلَى مع مُوافَقَةِ القِياس على سائِرِ المَجْمُوعاتِ والفَوائِتِ. فصل: والسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الصَّلاةِ حينَ تَزُولُ الشمسُ، وأن تُقَصَّرَ الخُطْبَةُ، ثم يَرُوحُ إلى المَوْقفِ؛ لِما رُوِى أن سالِمًا قال للحَجَّاجِ يومَ عَرَفَةَ: إن كُنْتَ تُرِيدُ أن تُصِيبَ السُّنَّةَ فقَصِّرِ الخُطْبَةَ، وعَجِّلِ الصلاةَ. فقالَ ابنُ عُمَرَ: صَدَق. رَواه البخارىُّ (¬1). ولأنَّ تَطْوِيلَ ذلك يَمْنَعُ الرَّواحَ إلى المَوْقفِ في أوَّلِ وَقْتِ الزَّوالِ، والسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ في ذلك، فقد روَى سالِمٌ (¬2)، أنَّ الحَجَّاجَ أرْسَلَ إلى ابنِ عُمَرَ: أيَّةَ (¬3) ساعَةٍ كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرُوحُ في هذا اليَوْمِ؟ قال: إذا كان ذلك رُحْنَا. فلَمَّا أرادَ ابنُ عُمَرَ أن يَرُوحَ، قال: أزاغَتِ الشمسُ؟ قالُوا: لم تَزِغْ. فَلَمّا قالُوا: قد زاغَتْ. ارْتَحَلَ. رَواه أبو داودَ (¬4). قال ابنُ عُمَرَ: غَدَا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن مِنًى حينَ صَلَّى الصُّبْحَ، صَبِيحَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ، حتى أتى عَرَفَةَ، فنَزَلَ بنَمِرَةَ، حتى إذا كان عندَ صلاةِ الظُّهْرِ، راحَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُهَجِّرًا، ¬

(¬1) في: باب التهجير بالرواح يوم عرفة، و: باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 198، 199. كما أخرجه النسائى، في: باب قصر الخطبة بعرفة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 204. (¬2) الذى في سنن أبى داود وابن ماجه، أن راوى الحديث عن ابن عمر هو سعيد بن حسان. (¬3) في م: «أى». (¬4) في: باب الرواح إلى عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 445. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب المنزلة بعرفة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1001.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجَمَعَ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، ثم خَطَب النّاسَ، ثم راحَ، فوَقَفَ على المَوْقِفِ مِن عَرَفَةَ (¬1). وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ جابِرٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): هذا كُلُّه مِمّا لا خِلافَ فيه بينَ عُلَماءِ المسلمين. فصل: ويَجُوزُ الجَمْعُ لمَن بعَرَفَةَ مِن مَكِّىٍّ وغيرِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على أن الإِمامَ يَجْمَعُ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ بعَرَفَةَ، وكذلك كُلُّ مَن صَلَّى مع الإِمامِ. وذَكَرَ أصحابُنا أنه لا يَجُوزُ الجَمْعُ إلَّا لمَن بينَه وبينَ وَطَنِه سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، إلْحاقًا له بالقَصْرِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع معه مَن حَضَر مِن المَكِّيِّين وغيرِهم، فلم يَأْمُرْهم بتَرْكِ الجَمْعِ, أمَرَهم بتَرْكِ القَصْرِ، حينَ قال: «أتِمُّوا، فَإنَّا سَفْرٌ» (¬3). ولو حُرِّمَ لَبَيَنّهَ لهم؛ لأنَّه لا يَجُوزُ تأخِيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، ولا يُقِرُّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على الخَطَإِ. وقد كان عثمانُ (¬4)، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يُتِمُّ الصلاةَ؛ لأنَّه اتخَذَ أهْلًا بمَكَّةَ (¬5)، ولم يَتْرُكِ الجَمْعَ. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ. وكان عمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ والِىَ مَكَّةَ، فخَرَجَ فجَمَعَ بينَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الخروج إلى عرفة، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 445. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 129. (¬2) الاستذكار 13/ 135. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 60. (¬4) في الأصل: «عمر». (¬5) سقط من: م.

1284 - مسألة: (ثم يروح إلى الموقف، وعرفة كلها موقف إلا

ثُمَّ يَرُوحُ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطنَ عُرَنَةَ -وَهِىَ مِنَ الْجَبَلِ الْمُشْرِفِ عَلَى عَرَفَةَ إِلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلَاتَيْن. ولم يَبْلُغْنا عن أحَدٍ مِن المُتَقَدِّمِين الخِلافُ في الجَمْعِ بعَرَفَةَ والمُزْدَلِفَةِ، بل وافَقَ عليه مَن لا يَرَى الجَمْعَ في غيرِه، فالحَقُّ فيما أجْمَعُوا عليه، فلا يُعَرَّجُ على غيرِه. فأمَّا القَصْرُ، فلا يَجُوزُ لأهْلِ مَكَّةَ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والزُّهْرِىُّ، وابنُ جُرَيْج، والثَّوْرِىُّ، ويَحْيَى القَطَّانُ (¬1)، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. وقال القاسِمُ، وسالِمٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ: لهم القَصْرُ؛ لأنَّ لهم الجَمْعَ، فكان لهم القَصْرُ، كغيرِهم. ولَنا، أنَّهُم في غيرِ سَفَرٍ بَعِيدٍ، فلم يَجُزْ لهم القَصْرُ، كغيرِ مَن بعَرَفَةَ ومُزْدَلِفَةَ. قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ، رَحِمَه اللَّهُ: فرجلٌ أقامَ بمَكَّةَ، ثم خَرَج إلى الحَجِّ؟ قال: إن كان لا يُرِيدُ أن يقيمَ بمَكَّةَ إذا رَجَع صَلَّى ثَمَّ (¬2) رَكْعَتَيْن. وذَكَر فِعْلَ ابنِ عُمَرَ، قال: لأنَّ خُرُوجَه إلى مِنًى وعَرَفةَ ابتداءُ سَفَرٍ، فإن عَزَم على أن يَرْجِعَ، ويُقيم بمَكَّةَ، أَتَمَّ بمِنًى وعَرَفَةَ. 1284 - مسألة: (ثم يَرُوحُ إلى المَوْقِفِ، وعَرَفَةُ كلُّها مَوْقِفٌ إلَّا ¬

(¬1) يحيى بن سعيد بن فروخ التميمى القطان أبو سعيد، الإمام الكبير، ولد في أول سنة عشرين ومائة، وعنى بطلب الحديث ورحل فيه وساد الأقران وانتهى إليه الحفظ. توفى سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 175 - 188. (¬2) سقط من: م.

مَا يلى حَوَائِطَ بنى عَامِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَطْنَ عُرَنَةَ (¬1)، وهى مِن الجَبَلِ المُشْرِفِ على عَرَفَةَ إلى الجِبالِ المُقابِلَةِ له إلى ما يَلِى حَوائِطَ بنى عامِرٍ) يَعْنِى إذا صَلَّى الصَّلَاتَيْن صارَ إلى المَوْقِفِ بعَرَفَةَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ جابِرٍ وابنِ عُمَرَ (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يَغْتَسِلَ للمَوْقِفِ؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، كان يَفْعَلُه. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال الشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه مَكانٌ يَجْتَمِعُ فيه الناسُ للعِبادَةِ، فاستحِبَّ له الاغْتِسَالُ، كالعِيدِ، والجُمُعَةِ. فصل: وعَرَفَةُ كلُّها مَوْقِف؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «قَدْ وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِف». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬3). وعن يَزِيدَ بنِ شَيْبانَ، قال: أتانَا ابنُ مِرْبَعٍ الأنْصارِىُّ، ونحن بعَرَفَةَ في مَكانٍ ¬

(¬1) بطن عرنة: واد بإزاء عرفات. (¬2) تقدم تخريج حديث جابر الطويل في 8/ 363. وتقدم تخريج حديث ابن عمر في صفحة 157. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب صفة حجة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، و: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 443، 449. وابن ماجه، في: باب الموقف بعرفات، وباب الذبح، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1001، 1013. كما أخرجه مسلم، في: باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 893. والترمذى، في: باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 119. والدارمى، في: باب عرفة كلها موقف، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 57. والإمام مالك، في: باب الوقوف بعرفة والمزدلفة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 388. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 72، 76 , 81 , 157 , 3/ 321 , 326، 4/ 82.

1285 - مسألة: (ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكبا. وقيل: الراجل أفضل)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عَنْدَ الصَّخَرَاتِ وَجَبَلِ الرَّحْمَةِ رَاكِبًا. وَقِيلَ: الرَّاجِلُ أَفْضَلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُباعِدُه عَمْروٌ عن الإِمامِ، فقالَ: إنِّى رسولُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَيْكُم، يقولُ: «كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» (¬1). فصل: وليس وادِى عُرَنَةَ مِن المَوْقِفِ، ولا يُجْزِئُه الوُقُوفُ به. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ الفُقَهاءُ على أنَّ مَن وَقَف به لا يُجْزِئُه. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّه يُجْزِئُه، وعليه دَمٌ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ». رَواه ابنُ ماجَه (¬2). ولأنَّه لم يَقِفْ بعَرَفَةَ، فلم يُجْزِئْه، كما لو وَقَفَ بمُزْدَلِفَةَ. وحَدُّ عَرَفَةَ مِن الجَبَلِ المُشْرِفِ على عُرَنَةَ إلى الجِبالِ المُقابِلَةِ له، إلى ما يَلى حَوائِطَ بَنى عامِرٍ. 1285 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يقفَ عندَ الصَّخَراتِ وجَبَلِ الرَّحْمَةِ راكِبًا. وقِيلَ: الرَّاجِلُ أفْضَلُ) المُسْتَحَبُّ أن يَقِفَ عندَ الصَّخَراتِ وجَبَلِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب موضح الوقوف بعرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 446 والترمذى، في: باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء بها، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 114. وابن ماجه، في: باب الموقف بعرفات، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1001، 1002. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 137. (¬2) في: باب الموقف بعرفات، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1002. وفيه: «بطن عرفة». كما أخرجه الإمام مالك، في: باب الوقوف بعرفة والمزدلفة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 388. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّحْمَةِ، ويَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ؛ لِما جاءَ في حَدِيثِ جابِرٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل بَطْنَ ناقَتِه القَصْواءِ إلى الصَّخَراتِ، وجَعَل حَبْلَ المُشَاةِ بينَ يَدَيْه، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ (¬1). والأفْضَلُ أن يَقِفَ راكِبًا، كما فَعَلَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حيثُ وَقَف على راحِلَتِه. وقِيلَ: الرَّاجِلُ أفْضَلُ؛ لأنَّه أخَفُّ على الرَّاحِلَةِ. ويَحْتَمِلُ التسْوِيَةَ بينَهما. والوُقُوفُ بعَرَفَةَ رُكْنٌ لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به إجْماعًا، نَذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) انظر تخريج حديثه الطويل في 8/ 363.

1286 - مسألة: (ويكثر من الدعاء، ومن قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شئ قدير. اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى بصرى نورا، وفى سمعى نورا، ويسر لى أمرى)

وَيُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَمِنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْده لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَه الْحَمْدُ، يُحْيِى وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَىٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَده الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1286 - مسألة: (ويُكْثِرَ مِن الدُّعاءِ، ومِن قَوْلِ: لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَحْدَه لَا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، يُحْيِى ويُمِيتُ، وهو على كُلِّ شئٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وفى بَصَرِى نُورًا، وفى سَمْعِى نُورًا، ويَسِّرْ لِى أمْرِى) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه يُسْتَحَبُّ الإِكثارُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ تعالى والدُّعاءِ يومَ عَرَفَةَ؛ فإنَّه يَوْمٌ تُرْجَى فيه الإِجابَةُ، ولذلك أحْبَبْنَا له الفِطر، ليَتقَوَّى به على الدُّعاءِ، مع أنَّ صَوْمَه بغيرِ عَرَفَة يَعْدِلُ سَنَتَيْن. وروَى ابنُ ماجه في «سُنَنِه» (¬1)، قال: قالت عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنهَا: إنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُبَاهِى بِكُمُ المَلَائِكَةَ، فيَقُولُ: مَا أرَادَ هَؤُلَاءِ». ويُسْتَحَبُّ أن يَخْتارَ المَأْثُورَ مِن ¬

(¬1) في: باب الدعاء بعرفة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1003. كما أخرجه مسلم، في: باب في فضل الحج والعمرة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 983. والنسائى، في: باب ما ذكر في يوم عرفة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَدْعِيَةِ، مثلَ ما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَكْثَرُ دُعَاءِ الأنْبِيَاءِ قَبْلِى، وَدُعَائِى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِى وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِير، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَيَسِّرْ لِى أمْرِى» (¬1). وكان ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنهما، يقول: اللَّه أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، وللَّهِ الحَمْدُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، وللَّهِ الحَمْدُ، اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، وللَّهِ الحَمْدُ، لَا إلهَ إلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، اللَّهُمَّ اهْدِنِى بالهُدَى، وقِنى بالتَّقْوَى، واغْفِرْ لِى في الآخِرَةِ والأُولَى. ويَرُدُّ يَدَيْه، ويَسْكُتُ قَدْرَ ما كان إنْسانٌ قارِئًا فاتِحَةَ الكِتَابِ، ثم يَعُودُ فيَرْفَعُ يَدَيْه، ويقولُ مثلَ ذلك، ولم يَزَلْ يَفْعَلُ ذلك حتى أفاضَ. وسُئِلَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أفْضَلِ الدُّعاءِ يومَ عَرَفَةَ؟ فقالَ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كُلِّ شئٍ قَدِيرٌ. فقِيلَ له: هذا ثَناءٌ وليس بدُعَاءٍ. فقالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشّاعِرِ (¬2): أَأَذْكُرُ حَاجَتِى أم قَدْ كَفَانِى … حَيَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَك الحَيَاءُ إذا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا … كَفَاهُ مِن تَعَرُّضِه الثَّنَاءُ ورُوِىَ أنَّ مِن دُعاءِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعَرَفَةَ: «اللَّهُمَّ إنَّكَ تَرَى مَكَانِى، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب أفضل الدعاء. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 117. وضعف إسناده. (¬2) هو أمية بن أبى الصلت من قصيدة يمدح بها عبد اللَّه بن جدعان. والبيتان في: الاشتقاق 143، والأغانى 8/ 328، والأول في: طبقات فحول الشعراء 1/ 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَتَسْمَعُ كَلَامِى، وَتَعْلَمُ سِرِّى وَعَلَانِيَتى، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَئٌ مِنْ أمْرِى، أنَا البَائِسُ الفَقِيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجِيرُ، الوَجِلُ المُشْفِقُ، المُقِرُّ المُعْتَرِفُ بِذَنْبِه، أسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ المِسْكِينِ، وأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتهَالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ المُسْتجِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ (¬1) لَكَ رَقَبَتُه، وذَلَّ لَكَ جَسَدُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنُهُ، وَرَغَمَ (¬2) لَكَ أنْفُهُ» (¬3). ورُوِّينا عن سُفْيانَ الثَّوْرِىِّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ أعْرابِيًّا، وهو مُسْتَلْقٍ بعَرَفَةَ، يقولُ: إلهِى مَنْ أوْلَى بِالزَّلَلِ والتَّقْصِيرِ مِنِّى وقد خَلَقْتَنِى ضَعِيفًا، ومَنْ أوْلَى بالعَفْوِ عَنِّى مِنْكَ وعِلْمُكَ فىَّ سابِقٌ، وأمْرُكَ بى مُحِيطٌ، أطَعْتُكَ بإذْنِكَ والمِنَّةُ لك، وعَصيْتُكَ بعِلْمِكَ والحُجَّةُ لك، فأسْألُكَ بوُجُوبِ حُجَّتِكَ وانْقِطَاعِ حُجَّتِى، وبفَقْرِى إليكَ، وغِنَاكَ عَنِّى، أن تَغْفِرَ لِى وتَرْحَمَنِى. إلهِى لم أُحْسِنْ حتى أعْطَيْتَنِى، ولم أُسِئْ، حتى قَضَيْتَ علىَّ، اللَّهُمَّ أطعْتُكَ بنِعْمَتِكَ في أحب الأشْياءِ إليك، شَهَادَةِ أن لا إلهَ إلَّا اللَّه، ولم أعْصِكَ في أبْغَضِ الأشْياءِ إليك، الشِّرْكِ بك، فاغْفِرْ لى ما بينَهما، اللَّهُمَّ أنت أُنْسُ المُؤْنِسينَ لأوْلِيَائِك، وأقْرَبُهم بالكِفَايَةِ مِن المُتَوكِّلين عليك، تُشَاهِدُهم في ضَمائِرِهم، وتَطَّلِعُ على سَرائِرِهم، وسِرِّى اللَّهُمَّ لك مَكْشُوفٌ، وأنا إليك مَلْهُوفٌ، إذا أوْحَشَتْنِى الغُرْبَةُ ¬

(¬1) في الأصل: «خشعت». (¬2) رغم: مثلثة الغين: ذل. (¬3) أورده الهيثمى في: مجمع الزوائد 3/ 253. وعزاه إلى الطبرانى في الكبير والصغير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آنَسنِى ذِكْرُكَ، وإذا أصْمَتْ (¬1) على الهُمُومُ لجَأْتُ إليك، اسْتِجَارَةً بك، عِلْمًا بأنَّ أزِمَّةَ الأُمُورِ بيَدَيْكَ، ومَصْدَرَها عن قَضَائِكَ. وكان إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الحَرْبىُّ يقولُ: اللَّهُمَّ قد آوَيْتَنِى مِن ضَناىَ، وبَصَّرْتَنِى مِن عَمَاىَ، وأنْقَذْتَنِى مِن جَهْلِى وجَفَاىَ، أسْألكَ ما يَتِمُّ به فَوْزِى، وما أُؤمِّلُ في عاجِلِ دُنْياىَ ودِينِى، ومَأْمُولِ أجَلِى ومَعَادِى، ثم ما لا أَبْلُغُ أداءَ شُكْرِه، ولا أنالُ إحْصاءَه وذِكْرَه، إلَّا بتَوْفِيقِكَ وإلْهامِكَ، أنْ هَيَّجْتَ قَلْبِىَ القَاسِىَ على الشُّخُوصِ إلى حَرَمِك، وقَوَّيْتَ أرْكانِىَ الضَّعِيفَةَ لزِيارَةِ عَتِيقِ بَيْتك، ونَقَلْتَ بَدَنِى لإِشْهَادِى مَواقِفَ حَرَمِكَ، اقْتِدَاءً بسُنَّةِ خَلِيلِكَ، واحْتِذاءً على مِثالِ رسولِكَ، واتباعًا لآثارِ خِيرَتِكَ وأنبِيائِكَ وأصْفِيائِكَ، صلّى اللَّهُ عليهم، وأدْعُوكَ في مَواقِفِ الأنْبِيَاءِ، عليهم السلامُ، ومَناسِكِ السُّعداءِ، ومَشاهِدِ الشُّهَداءِ، دُعاءَ مَن أتَاكَ لرَحْمَتِك رَاجيًا، وعن وَطَنِه نائِيًا، ولِقَضاءِ نُسُكِه مُؤَدِّيًا، ولفَرائِضِك قاضيًا، ولكِتابِك تالِيًا، ولرِّبه عَزَّ وجَلَّ دَاعِيًا مُلبيًا، ولقَلْبِه شاكِيًا، ولذَنْبِه خاشِيًا، ولحَظِّه مُخْطِئًا، ولرَهْنِه مُغْلِقًا، ولنَفْسِه ظالِمًا، ولجُرْمِه عالِمًا، دُعاءَ مَن عَمَّتْ عُيُوبُه، وكَثُرَتْ ذُنُوبُه، وتَصَرَّمَتْ أيّامُه، واشْتَدَّتْ فاقَتُه، وانْقَطَعَتْ مُدَّتُه، دُعاءَ مَن ليس لذَنْبِه سواكَ غافِرًا، ولا لعَيْبِه غَيْرُكَ مُصْلِحًا، ولا لضَعْفِه غَيْرُكَ مُقَوِّيًا، ولا لكَسْرِه غَيْرُكَ جابِرًا، ولا لمَأْمُولِ خَيْرٍ غَيْرُكَ مُعْطِيًا، اللَّهُمَّ وقد أصْبَحْتُ في بَلَدٍ حَرامٍ، ويَوْمٍ حَرامٍ في شَهْرٍ حَرامٍ، ¬

(¬1) أصمى الأمر فلانًا: حل به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قِيامٍ مِن خَيْرِ الأنامِ، أسْأَلُكَ أن لا تَجْعَلَنِى أشْقَى خَلْقِكَ المُذْنِبينَ عندَك، ولا أخْيَبَ الرَّاجِين لَدَيْكَ، ولا أحْرَمَ الآمِلِينَ لرَحْمَتِك الزَّائِرِين لبَيْتك، ولا أخْسَرَ المُنْقَلِبِين مِن بلادِكَ، اللَّهُمَّ وقد كان مِن تَقْصِيرِى ما قد عَرَفْتَ، ومِن تَوْبِيقِى نَفْسِى ما قد عَلِمْتَ، ومِن مَظالِمِى ما قد أحْصَيْتَ، فكَم مِن كَرْبٍ منه قد نَجَّيْت، وكم مِن غَم قد جَلَّيْتَ، ومِن هَمٍّ قد فَرَّجْتَ، ودُعاءٍ قد اسْتَجَبْتَ، وشِدَّةٍ قد أزَلْتَ، ورَجاءٍ قد أنَلْتَ، مِنْكَ النَّعْماءُ، وحُسْنُ القَضاءِ، ومِنِّى الجَفاءُ، وطولُ الاسْتِقْصَاءِ، والتَّقْصِيرُ عن أداءِ شُكْرِكَ، لك النَّعْماءُ يا مَحْمُودُ، فلا يَمْنَعُكَ يا مَحْمُودُ مِن إعْطائِى مسألَتِى مِن حاجَتِى إلى حيثُ انْتَهَى لها سُؤْلِى ما تَعْرِف مِن تَقْصِيرِى، وما تَعْلَمُ مِن ذُنُوبِى وعُيُوبِى، اللَّهُمَّ فأدْعُوكَ راغِبًا، وأنْصِبُ لَكَ وَجْهِى طالِبًا، وأضَعُ لَكَ خَدِّى مُذْنِبًا راهِبًا، فَتَقَبَّلْ دُعائِى، وارْحَمْ ضَعْفِى، وأصْلِحِ الفَسادَ مِن أمْرِى، واقْطعْ مِن الدُّنْيَا هَمِّى، واجْعَلْ فيما عندَك رَغْبَتِى، اللَّهُمَّ واقْلِبْنِى مُنْقَلَبَ المُدْرِكِين لرَجائِهم، المَقْبُولِ دُعاؤُهم، المَفْلُوجِ حُجَّتُهُم (¬1)، المَبْرُورِ حَجُّهم، المَغْفُورِ ذَنْبُهم، المَحْطُوطِ خَطَايَاهُم، المَمْحُوِّ سَيِّئَاتُهم، المَرْشُودِ أمْرُهُم، مُنْقَلَبَ مَن لا يَعْصِى لَكَ بَعْدَه أمْرًا، ولا يَأْتِى مِن بَعْدَه مَأْثَمًا، ولا يَرْكَبُ بَعْدَه جَهْلًا، ولا يَحْمِلُ بَعْدَه وِزْرًا، مُنْقَلَبَ مَن عَمَّرْتَ قَلْبَه بذِكْرِكَ، ولِسَانَه بشُكْرِك، وطَهَّرْتَ الأدْناسَ مِن بَدَنِه، واسْتَوْدَعْتَ ¬

(¬1) المفلوج حجتهم: المثبتة حجتهم.

وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوع الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، فمَنْ حَصَلَ بِعَرَفةَ فِى شَىْءٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ عَاقِلٌ، تَمَّ حَجُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهُدَى قَلْبَه، وشَرَحْتَ بالإِسْلامِ صَدْرَه، وأقْرَرْتَ بعَفْوِكَ قبلَ المَمَاتِ عَيْنَه، وأغْضَضْتَ عن المَآثِمِ بَصَرَه، واسْتُشْهِدَتْ في سَبِيلِكَ نَفْسُه، يا أرْحَمَ الرَّاحِمِين، وَصلَّى اللَّهُ على سَيِّدِنا محمدٍ وعلى آلِه وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، كما يُحِبُّ رَبُنا ويَرْضَى، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللَّه العَلِىِّ العَظِيمِ. ويَدْعُو بما أحَبَّ مِن الدُّعاءِ والذِّكْرِ إلى غُرُوبِ الشمسِ. فصل: (ووَقْتُ الوُقُوفِ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ يومَ عَرَفَةَ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ يومَ النَّحْرِ، فمَن حَصَل بعَرَفَةَ في شئٍ مِن هذا الوَقْتِ وهو عاقِل، تَمَّ حَجُّه) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ العُلَماءِ، أنَّ آخِرَ وَقْتِ الوُقُوفِ طُلُوعُ الفَجْرِ مِن يومِ النَّحْرِ. قال جابِر، رَضِىَ اللَّه عنه: لا يَفُوتُ الحَجُّ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ مِن لَيْلَةِ جَمْع. قال أبو الزُّبَيْرِ: فقُلْتُ له: أقَالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك؟ قال: نَعَمْ. رَواه الأثْرَمُ (¬1). وأمّا أوَّلُه فمِن طُلُوعِ الفَجْرِ يومَ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى بنحوه، في: باب إدراك الحج بإدراك عرفة. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَرَفةَ، فمتى حَصَل بعَرَفَةَ في شئٍ مِن هذا الوَقْتِ وهو عاقِلٌ، فقد تَمَّ حَجُّه. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: أوَّلُ وَقْتِه زَوالُ الشمس يومَ عَرَفَةَ. واخْتاره أبو حَفْص العُكْبَرِىُّ. وحَكَى ابنُ عبدِ البَرِّ ذلك إجْماعًا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما وَقَف بعدَ الزَّوَالِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنا هَذِه، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» (¬1). ولأنَّه مِن يومِ عَرَفَةَ، فكانَ وَقْتًا للوُقُوفِ، كما بعدَ الزَّوالِ، وتَرْكُ الوُقُوفِ فيه لا يَمْنَعُ كَوْنَه وَقْتًا له، كما بعدَ العِشاءِ. وإنَّما وَقَفُوا في وَقْتِ الفَضِيلَةِ، ولم يَسْتَوْعِبُوا وَقْتَ الوُقُوفِ. فصل: وكيفما حَصَل بعَرَفَةَ وهو عاقل أجْزَأه؛ قائِمًا، أو جالِسًا، أو راكِبًا، أو نائِمًا وإن مَرَّ بها مُجْتازًا (¬2)، فلم يَعْلَمْ أنَّها عَرَفَةُ، أجْزأَه أيضًا. وبه قال مالك، والشافعىُّ، وأبو حنيفةَ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يُجْزِئُه، لأنَّه لا يكونُ واقِفًا إلَّا بالإرادَةِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السلامُ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 346. (¬2) في النسخ: «مختارًا». وانظر المغنى 5/ 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «وَقَدْ أَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أوْ نَهَارًا». ولأنَّه حَصَل بعَرَفَةَ في زَمَنِ الوُقُوفِ وهو عاقِلٌ، فأجْزَأه، كما لو عَلِم. وإن وَقَف وهو مُغْمًى عليه أو مَجْنُونٌ، ولم يُفِقْ حتى خَرَج منها، لم يُجْزِئْه. وهو قولُ الحسنِ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال عَطاءٌ في المُغْمَى عليه: يُجْزِئُه. وهو قولُ مالكٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وقد تَوَقَّفَ أحمدُ في هذه المسألةِ، وقال: الحَسَنُ يَقُولُ: بَطَل حَجُّه، وعَطاء يُرَخِّصُ فيه. وذلك لأنَّه لا يُعْتَبَرُ له نِيَّةٌ ولا طَهارَةٌ، ويَصِحُّ مِن النّائِمِ، فصَحَّ مِن المُغْمَى عليه، كالمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه رُكْنٌ مِن أرْكانِ الحَجّ، فلم يَصِحَّ مِن المُغْمَى عليه، كسائِرِ أرْكانِه. قال ابنُ عَقِيلٍ: والسَّكْرانُ كالمُغْمَى عليه؛ لأنَّه زائِلُ العَقْلِ بغيرِ نَوْم. فأمّا النّائِمُ فهو في حُكْمِ المُسْتَيْقِظِ، يُجْزِئُه الوُقُوفُ. فصل: وتُسَنُّ له الطَّهارَةُ. قال أحمدُ: يُسْتَحَبُّ أن يَشْهَدَ المَنَاسِكَ كلَّها على وُضُوءٍ، كان عَطاءٌ يقولُ: لا يُقْضَى شئٌ مِن المَناسِكِ إلَّا على وُضُوءٍ. ولا يَجِبُ ذلك. وحَكَاه ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. وفى قولِ النبىِّ

1287 - مسألة: (ومن فاته ذلك، فاته الحج)

وَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ، فَاتَهُ الْحَجُّ. وَمَنْ وَقَفَ بِهَا نَهَارًا، وَدَفَعَ قَبْلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها: «افْعَلِى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ» (¬1). دَلِيلٌ على أنَّ الوُقُوفَ بعَرَفَةَ جائِزٌ على غيرِ طهارةٍ. ووَقَفَتْ عائشةُ بعَرَفَةَ حائِضًا، بأمْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولا يُشْتَرَطُ سِتارَةٌ، ولا اسْتِقْبالٌ، ولا نِيَّةٌ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لا تُشْتَرَطُ له الطهارةُ، فلم يُشْتَرَطْ له شئٌ مِن ذلك، قِياسًا عليها. 1287 - مسألة: (ومَن فاتَه ذلك، فاتَهُ الحَجُّ) لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْع، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). يَدُلُّ على فَواتِه بخُرُوجِ لَيْلَةِ جَمْعٍ. ولحَديثِ جابِرٍ الذى ذَكَرْناه. ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، ولأنَّه رُكْنٌ للعِبادَةِ، فلم يَتمَّ بدُونِه، كسائِرِ العِباداتِ. 1288 - مسألة: (ومَن وَقَف بها نَهارًا، ودَفَع قبلَ غُرُوبِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 111. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 181.

غُرُوبِ الشَّمْسِ، فعَليْهِ دَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشمسِ، فعليه دَمٌ) يَعْنِى أنَّه يَجِبُ عليه الوُقُوفُ إلى غُرُوبِ الشمسِ؛ ليَجْمَعَ بينَ اللَّيْلِ والنَّهارِ في الوُقُوفِ بعَرَفَةَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل ذلك. رَواه جابِرٌ وغيرُه. وقال عليه السلامُ: «خُذُوا عنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). فإن دَفَع قبلَ الغُرُوبِ، فحَجُّه صَحِيحٌ في قولِ جَماعَةِ الفُقهاءِ، إلَّا مالكًا، فإنَّه قال: لا حَجَّ له. قال ابنُ عبد البَرِّ (¬2): لا نَعْلَمُ أحَدًا مِن العُلَماءِ قال بقولِ مالكٍ، ووَجْهُ قولِه ما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ أدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ، فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَات بِلَيْلى، فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ، فَلْيُحْلِلْ بعُمْرَةٍ، وعَلَيْهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» (¬3). ولَنا، ما روَى عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّسٍ، قال: أَتَيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمُزْدَلِفَةِ، حينَ خَرَج إلى الصَّلاةِ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّه، إنِّى جِئْتُ مِن جَبَلِ طَىٍّ، أكْلَلْتُ راحِلَتِى، واتعَبْتُ نَفْسِى، واللَّهِ ما تَرَكْتُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬2) انظر الاستذكار 13/ 34. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 241. وقال: رحمة بن مصعب ضعيف ولم يأت به غيره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جَبَلٍ إلَّا وقَفْتُ عليه، فهل لى مِن حَجٍّ؟ فقالَ رسوِلُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هذِه، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفعَ، وَقَدْ وَقَف بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَيْلًا أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» (¬1). قال التِّرْمِذِىّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ولأنَّه وَقَف في زَمَنِ الوُقُوفِ، أشْبَهَ اللَّيْلَ. فأمَّا خَبَرُه، فإنَّما خَصَّ اللَّيْلَ؛ لأنَّ الفَواتَ يَتَعَلَّقُ به إذا كان بعدَ النَّهارِ، فهو آخِرُ وَقْتِ الوُقُوفِ، كما قال عليه السلامُ: «مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمس فَقَدْ أدْرَكَهَا» (¬2). وعلى مَن دَفَع قبلَ الغُرُوبِ دَمٌ في قَوْلِ أكثرِ العُلَماءِ؛ منهم عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى، ومَن تَبِعَهم؛ لقَوْلِ ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: مَن تَرَك نُسُكًا فعليه دَمٌ (¬3). ويُجْزِئُه شاة. وقال ابنُ جُرَيْجٍ: عليه بَدَنَةٌ. ونَحْوُه قولُ الحسنِ. ولَنا، أنَّه واجِبٌ لا يَفْسُدُ الحَجُّ بفَواتِه، فلم يُوجِبْ بَدَنَةً، كالإِحْرامِ مِن المِيقاتِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 346. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 149. (¬3) تقدم تخريجه في 8/ 125.

1289 - مسألة: (ومن وافاها ليلا فوقف بها، فلا دم عليه)

وَإنْ وَافَاهَا لَيْلًا فَوَقَفَ بِهَا، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن دَفَع قبلَ الغُرُوبِ، ثم عادَ نَهارًا، فوَقَفَ حتى غَرَبَتِ الشمسُ فلا دَمَ عليه. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال الكُوفِيُّونَ، وأبو ثَوْرٍ: عليه دَمٌ؛ لأنَّه بالدَّفْع لَزِمَه الدَّمُ، فلم يَسْقُطْ برُجُوعِه، كما لو عادَ بعدَ الغُرُوبِ. ولَنا، أنَّه أتى بالواجِبِ، وهو الوُقُوفُ في اللَّيْلِ والنَّهارِ، فلم يَجِبْ عليه دَمٌ، كمَن تجاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، ثم رَجَع فأحْرَمَ منه. فإن لم يَعُدْ حتى غَرَبَتِ الشمسُ فعليه دَمٌ؛ لأنَّ عليه الوُقُوفَ حالَ الغُرُوبِ، وقد فاتَه بخُرُوجِه، فأشْبَهَ مَن تَجاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِم، فأحْرَمَ دُونَه، ثم عادَ إليه. 1289 - مسألة: (ومَن وافَاها لَيْلًا فوَقَفَ بها، فلا دَمَ عليه) إذا

1290 - مسألة: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة، وعليه السكينة)

ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً أَسْرَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَأْتِ عَرَفةَ حتى غابَتِ الشمسُ، ولم يُدْرِكْ جُزْءًا مِن النَّهارِ، فوَقَفَ بها لَيْلًا، فقد تَمَّ حَجُّه، ولا شئَ عليه. لا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ، فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ» (¬1). ولأنَّه لم يُدْرِكْ جُزْءًا مِن النَّهارِ، فأشْبَهَ مَن مَنْزِلُه دُونَ المِيقاتِ إذا أَحْرَمَ منه. 1290 - مسألة: (ثم يَدْفَعُ بعدَ غُرُوبِ الشمسِ إلى مُزْدَلِفَةَ، وعليه السَّكِينَةُ) والوَقارُ (فإذا وَجَد فَجْوَةً أسرعَ) لقَوْلِ جابِرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في حَدِيثِه: فلم يَزَلْ واقِفًا حتى غَرَبَتِ الشمسُ وذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حتى غابَ القُرْصُ، فأرْدَفَ أسامَةَ خَلْفَه، ودَفع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد شَنَق القَصْواءَ بالزِّمامِ، حتى إنَّ رَأسَها ليُصِيبُ مَورِكَ رَحْلِه، ويقول بيَدِه اليُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» (¬2). وقال أُسامَةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسِيرُ العَنَقَ (¬3)، فإذا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. يَعْنِى أسْرَعَ. قال هِشامٌ: النَّصُّ فوقَ العَنَقِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 171. (¬2) تقدم تخريج حديث جابر في 8/ 363. (¬3) العنق: ضرب من السير فسيح سريع. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب السير إذا دفع من عرفة، من كتاب الحج، وفى: باب السرعة في السير، من كتاب الجهاد، وفى: باب حجة الوداع، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 200، 4/ 70، 5/ 226. ومسلم، في: باب الإفاضة من عرفات. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 936 =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يكونَ دَفْعُه مع الإِمامِ، أو الوَالِى الذى إليه أمْرُ الحَجِّ مِن قِبَلِه، ولا يَنْبَغِى للنَّاسِ أن يَدْفَعُوا حتىِ يَدْفَعَ. قال أحمدُ: ما يُعْجِبُنِى أن يَدْفَعَ إلَّا مع الإِمامِ. وسُئِلَ عن رجل دَفع قبلَ الإِمامِ بعدَ غُرُوبِ الشمسِ، قال: ما وَجَدْتُ عن أحَدٍ أنه سَهَّلَ فيه، كُلُّهم يُشَدِّدُ فيه. فصل: ويكونُ مُلَبِّيًا ذاكِرًا للَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ ذِكْرَ اللَّه مُسْتَحَبٌّ في كلِّ الأوْقاتِ، وهو في هذا الوَقْتِ أشَدُّ تَأْكيدًا، لقَوْلِ اللَّه تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (¬1). الآية. ولأنَّه زَمَنُ الاسْتِشْعارِ بطاعَةِ اللَّه تعالى، والتَّلَبُّس بعِبادَتِه، والسَّعْى إلى شَعائِرِه. ويُسْتَحَبُّ التَّلْبِيَةُ. وقال قَوْم: لا يُلَبِّى. ولَنا، ما روَى الفَضْلُ بنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَزَلْ يُلَبِّى حتى رَمَى الجَمْرَةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب الدفعة من عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 447. والنسائى، في: باب كيف السير من عرفة، وباب الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 208، 216. وابن ماجه، في: باب الدفع من عرفة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1004. والإمام مالك، في: باب السير في الدفعة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 392. (¬1) سورة البقرة 198. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب التلبية والتكبير. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 204. ومسلم، في: باب استحباب إدامة الحاج التلبية. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 931، 932. كما أخرجه أبو داود، في: باب متى يقطع التلبية، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 421. والترمذى، في: باب ما جاء متى تقطع التلبية في الحج، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 150. والنسائى، في: باب التلبية في السير، و: باب التكبير مع كل حصاة، و: باب قطع المحرم التلبية. . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 217، 224. وابن ماجه، في: باب متى يقطع الحاج التلبية، من كتاب =

1291 - مسألة: (فإذا وصل مزدلفة، صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال)

فَإِذَا وَصَلَ مُزْدَلِفةَ، صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُستَحَبُّ أن يَمْضِىَ على طَرِيقِ المَأْزِمَيْن (¬1)؛ لأنَّه رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَكَها (¬2). وإن سَلَك غيرَها، جازَ؛ لحُصُولِ المَقْصُودِ به. 1291 - مسألة: (فإذا وَصَل مُزْدَلِفَةَ، صَلَّى المَغْرِبَ والعِشاءَ قبلَ حَطِّ الرِّحالِ) السُّنَّةُ لمَن دَفَع مِن عَرَفَةَ أن لا يُصَلِّىَ المَغْرِبَ حتى يَصِلَ مُزْدَلِفَةَ، فيَجْمَعَ بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ، بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ، لا اخْتِلافَ بينَهم، أنَّ السُّنَّةَ أن يَجْمَعَ الحاجُّ بجَمْعٍ بينَ المَغْرِبِ والعِشاءِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع بينَهما. رواه جابِرٌ، وابنُ عُمَرَ، وأسامَةُ (¬3)، وغيرُهم. وأحادِيثُهم صِحاحٌ. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَجْمَعَ قبلَ حَطِّ الرِّحالِ، وأن يقيِمَ لكلِّ صلاةٍ إقامَةً؛ لِما روَى أُسامَةُ بنُ زَيْدٍ، رَضِىَ اللَّه عنهما، قال: دَفع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن عَرَفَةَ، حتى إذا كان بالشِّعْبِ نَزَل فَبَالَ، ثم تَوَضَّأَ، فقُلْتُ له: ¬

= المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1011. والدارمى، في: باب في رمى الجمار يرميها راكبا، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 62، 63. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 210، 214، 226. (¬1) المأزمان: موضع بمكة ين المشعر الحرام وعرفة، وهو شعب بين جبلين، يفضى آخره الى بطن عرفة. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 131. (¬3) تقدم تخريج حديث جابر في 8/ 363. وحديث ابن عمر، أخرجه البخارى، في: باب يصلى المغرب ثلاثا. . .، من كتاب تقصير الصلاة، وفى: باب النزول بين عرفة وجمع، و: باب من جمع بينهما ولم يتطوع، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 55، 200، 201. ومسلم، في: باب الإفاضة من عرفات الى المزدلفة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 1/ 488، 489، 2/ 937، 938. وأبو داود، في: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 448. والنسائى، في: باب الوقت الذى يحمع فيه. . .، و: باب الحالة التى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةَ يا رسولَ اللَّه. فقال: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ». فرَكِبَ، فلَمَّا جاءَ مُزْدَلِفَةَ نَزَل فتَوَضَّأَ فأسْبَغَ الوُضُوءَ، ثم أُقِيمَتِ الصلاةُ، فصَلَّى المَغْرِبَ، ثم أناخَ كلُّ إنْسانٍ بَعِيرَه في مَنْزِلِه، ثم أقِيمَتِ الصلاةُ، فصَلَّى، ولم يُصَلِّ بينَهما. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ومِمَّن رُوِى عنه أنَّه يَجْمَعُ بينَهما بإقامَتَيْن بلا أذانٍ؛ ابنُ عُمَرَ، وسالِمٌ، والقاسِمُ بنُ محمدٍ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. وإنِ اقْتَصَرَ على إقامَةٍ للأولَى فلا بَأْسَ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ عُمَرَ أيضًا. وبه قال الثَّوْرِىُّ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنهما، قال: جَمَع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بجَمْع، صَلَّى المَغْرِبَ ثَلاثًا، والعِشاءَ رَكْعَتَيْن، بإِقامَةٍ واحِدَةٍ. رَواه مسلمٌ (¬2). وإن أذَّنَ للأولَى وأقامَ للثانِيَةِ، فحَسَنٌ؛ فإنَّه مَرْوِىٌّ في حَدِيثِ جابِرٍ، وهو مُتَضَمِّنٌ للزِّيادَةِ، وهو مُعْتَبَرٌ بسائِرِ الفَوائِتِ والمَجْمُوعاتِ. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ، وأبى ثَوْرٍ. واخْتارَ ¬

= يجمع فيها. . .، من كتاب المواقيت، وفى: باب الإقامة لمن جمع بين الصلاتين، من كتاب الأذان، باب الجمع بين الصلاتين. . .، من كتاب الحج. المجتبى 1/ 230، 231، 233، 2/ 14، 15، 5/ 210. وحديث أسامة، أخرجه البخارى، في: باب إسباغ الوضوء. . .، من كتاب الطهارة، وفى: باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 1/ 47، 2/ 201. ومسلم، في باب الإفاضة من عرفات الى المزدلفة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 934، 935، 936. وأبو داود، في: باب الدفعة من عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 446، 447. والنسائى في: باب كيف الجمع، من كتاب المواقيت، وفى: باب الجمع بين الصلاتين. . .، من كتاب المناسك. المجتبى 1/ 235، 5/ 210. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 200، 202، 208، 210. (¬1) انظر تخريج حديث أسامة السابق. (¬2) انظر تخريج حديث ابن عمر السابق.

1292 - مسألة: (وإن صلى المغرب فى الطريق، ترك السنة، وأجزأه)

وَإنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِى الطرَّيقِ، تَرَكَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِىُّ القولَ الأوَّلَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هو آخِرُ قَوْلَىْ أحمدَ؛ لأنَّ رَاوِيَه أُسامَةُ، وهو أعْلَمُ بحالِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنَّه كان رَدِيفَه، وإنَّما لم يُؤَذَّنْ للأولَى ههُنا؛ لأنَّها في غيرِ وَقْتِها، بخِلافِ المَجْمُوعَتَيْن بعَرَفَةَ. وقال مالكٌ: يَجْمَعُ بينَهما بأذانَيْن (¬1) وإقامَتَيْن. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِه، وابنِ مسعودٍ. واتباعُ السنَّةِ أوْلَى. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): لا أعْلَمُ فيما قالَه مالكٌ حَدِيثًا مَرْفُوعًا بوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ. وقال قَوْمٌ: إنَّما أمَرَ عمرُ بالتَّأْذِينِ للثَّانِيَةِ؛ لأنَّ النّاسَ كانُوا قد تَفَرَّقُوا لعَشائِهِم، فأذَّنَ لجَمْعِهم، وكذلك ابنُ مسعودٍ، فإنَّه كان يَجْعَلُ العَشاءَ بمُزْدَلِفَةَ بينَ الصَّلَاتيْن. فصل: والسُّنَّةُ أن لا يَتَطَوَّعَ بينَهما. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُهم يَخْتَلِفُونَ في ذلك. وقد رُوِى عن ابن مسعودٍ، أنه يَتَطَوَّعُ بينَهما. ورَواه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ولَنا، حَدِيثُ أُسامَةَ وابنِ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصَلِّ بينَهما. وحَدِيثُهما أصَحُّ. 1292 - مسألة: (وإن صَلَّى المَغْرِبَ في الطرَّيقِ، تَرَك السُّنَّةَ، وأجْزَأه) وبه قال عَطاء، وعُرْوَةُ، والقاسِمُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو يُوسُفَ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو ¬

(¬1) في م: «بأذان». (¬2) في الاستذكار 13/ 152. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 202.

1293 - مسألة: (ومن فاتته الصلاة مع الإمام بعرفة أو بمزدلفة، جمع وحده)

وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الإِمَامِ بِمُزْدَلِفَةَ أوْ بِعَرَفَةَ، جَمَعَ وَحْدَه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع بينَ الصَّلَاتيْن، فكان نُسُكًا، وقد قال عليه السلامُ: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ولَنا، أنَّ كلَّ صَلاتَيْن جازَ الجَمْعُ بينَهما جازَ التَّفْرِيقُ بينَهما، كالظُّهْرِ والعَصْرِ بعَرَفةَ، وفِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَحْمُولٌ على الأفْضَلِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُل بالجَمْعِ بعَرَفَةَ. 1293 - مسألة: (ومَن فاَتَتْه الصلاةُ مع الإِمامِ بعَرَفَةَ أو بمُزْدَلِفَةَ، جَمَع وَحْدَه) لا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّه إذا فاتَه الجَمْعُ مع الإِمامِ بمُزْدَلِفَةَ، أنَّه يَجْمَعُ وَحْدَه؛ لأنَّ الثانِيَةَ منهما تُصَلَّى في وَقتِها. وكذلك لو فَرَّقَ بينَهما، لم يَبْطُلِ الجَمْعُ. وقد روَى أسامَةُ، قال: ثم أُقِيمَتِ الصلاةُ، فصَلَّى المَغْرِبَ، ثم أناخَ كلُّ إنْسانٍ بَعِيرَه في مَنْزِلِه، ثم أُقِيمتِ العِشَاءُ، فصَلَّاها (¬2). وكذلك حُكْمُ مَن فاتَه الجَمْعُ مع الإِمامِ بعَرَفَةَ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، فإنَّه يَجْمَعُ وَحْدَه أيضًا. فَعَلَه ابنُ عُمَرَ. وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال النَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا يَجْمَعُ إلَّا مع الإِمامِ؛ لأنَّ لكلِّ صلاةٍ وَقْتًا مَحْدُودًا، وإنَّما تُرِكَ ذلك في الجَمْعِ مع الإِمامِ، فإذا لم يَكُنْ إِمامٌ، رَجَعْنَا إلى الأصْلِ. ولَنا، فِعْلُ ابنِ عُمَرَ، ولأنَّ كلَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬2) تقدم تخريج حديث أسامة في صفحة 176.

1294 - مسألة: (ثم يبيت بها، فإن دفع قبل نصف الليل، فعليه دم، وإن دفع بعده، فلا شئ عليه، وإن وافاها بعد نصف الليل، فلا شئ عليه، وإن جاء بعد الفجر، فعليه دم. وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادى محسر)

ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا، فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَعَلَيْهِ دَم، وَإنْ دَفَعَ بَعْدَهُ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَإنْ وَافَاهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَإنْ جَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَحَدُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَا بَينَ الْمَأْزِمَيْنِ وَوَادِى مُحَسِّرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمْعٍ جازَ مع الإِمامِ جازَ مُنْفَرِدًا، كالجَمْعِ بينَ العِشاءَيْن بجَمْعٍ. قَوْلُهم: إنَّما جازَ الجَمْعُ في الجماعَةِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّهم قد سَلَّمُوا أنَّ الإِمامَ يَجْمَعُ، وإن كان مُنْفَرِدًا. 1294 - مسألة: (ثم يَبِيتُ بها، فإن دَفَع قبلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فعليه دَمٌ، وإن دَفَع بعدَه، فلا شئَ عليه، وإن وافَاها بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فلا شئَ عليه، وإن جاءَ بعدَ الفَجْرِ، فعليه دَمٌ. وحَدُّ المُزْدَلِفَةِ ما بَيْنَ المَأْزِمَيْنِ ووادِى مُحَسِّرٍ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ المَبِيتَ بمُزدَلِفَةَ واجِبٌ، مَن تَرَكَه فعليه دَمٌ. هذا قولُ عَطاءٍ , والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى عُبَيْدٍ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- باتَ بها، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ». وقال عَلْقَمَةُ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ: مَن فاتَه جَمْعٌ، فاتَه الحَجُّ؛ لقَوْلِه تَعالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬1). وقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنا هَذِهِ، وَوَقف مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ¬

(¬1) سورة البقرة 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَلِكَ، لَيْلًا أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» (¬1). ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» (¬2). يَعْنِى مَن جاءَ عَرَفَةَ. وما احْتَجُّوا به مِن الآية والخَبَرِ، فالمَنْطُوقُ فيهما ليس برُكْنٍ في الحَجِّ إجْماعًا، فإنَّه لو باتَ بجَمْعٍ، ولم يَذْكُرِ اللَّهَ تعالى، ولم يَشْهَدِ الصلاةَ، صَحَّ حَجُّه، فما هو من ضَرُوَرةِ ذلك أوْلَى، ولأنَّ المَبِيتَ ليس مِن ضَرُوِرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالَى بها، وكذلكْ شُهُودُ صلاةِ الفَجْرِ، فإنَّه لو أفاضَ مِن عَرَفةَ في (¬3) آخِرِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، أمْكَنَه ذلك، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ ذلك على الإِيجابِ، أو الفَضِيلَةِ و (¬4) الاسْتِحْبابِ. فصل: وليس له الدَّفْعُ قبلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فإن فَعَل، فعليه دَمٌ، وإن دَفَع بعدَه، فلا شئَ عليه. وبه قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: إن مَرَّ بها فلم يَنْزِلْ، فعليه دَمٌ، وإن نَزَل فلا دَمَ عليه متى ما دَفَع. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- باتَ بها، وقال: «خُذُوا (¬5) عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ». وإنَّما أُبِيحَ الدَّفْعُ بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ بما وَرَد مِن الرُّخْصَةِ فيه، فرَوَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: كُنْتُ في مَن قَدَّمَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ضَعَفَةِ أهْلِه مِن مُزْدَلِفَةَ إلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 346. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 181. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أو». (¬5) في م: «لتأخذوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنًى. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّه عنها، قالت: أرْسَلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأُمِّ سَلَمَة لَيْلَةَ النَّحْرِ، فرَمَتِ الجَمْرَةَ قبلَ الفَجْرِ، ثم مَضَتْ فأفاضَتْ. رَواه أبو داودَ (¬2). فمَن دَفَع مِن مُزْدَلِفَةَ قبلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، ولم يَعُدْ في اللَّيْلِ، فعليه دَمٌ، وإن عادَ، فلا دَمَ، كالذى دَفع مِن عَرَفَةَ نَهارًا، ثم عادَ نَهارًا. فصل: ويَجِبُ الدَّمُ على مَن دَفَع قبلَ نِصْفِ اللَّيْلِ ولم يَرْجِعْ في اللَّيْلِ، وعلى مَن تَرَك المَبِيتَ بمِنًى، سَواءٌ فَعَل ذلك عامِدًا أو ساهِيًا، عالِمًا (¬3) أو جاهِلًا؛ لأنَّه تَرَك نُسُكًا، والنِّسْيانُ أثره في جَعْلِ المَوْجُودِ كالمَعْدُومِ، لا في جَعْلِ المَعْدُومِ كالمَوْجُودِ، إلَّا أنه رُخِّصَ لأهْلِ السِّقايَة والرِّعاءِ في تَرْكِ البَيْتُوتَةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَخَّصَ للرُّعاةِ في تَرْكِ البَيْتُوتَةِ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من قدم ضعفة أهله بليل. . . . , من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 202. ومسلم، في: باب استحباب تقديم دفع الضعفة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 941. كما أخرجه أبو داود، في: باب التعجيل من جمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 450. وابن ماجه، في: باب من تقدم من جمع. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1007. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 221، 222. (¬2) في: باب التعجيل من جمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 450. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 456، 457. والترمذى، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى حَدِيثِ عَدِىٍّ (¬1). وأرْخَصَ للعباسِ في تَرْكِ المَبِيتِ لأجْلِ سِقَايتِه (¬2). ولأنَّ عليهم مَشَقَّةً في المَبِيتِ؛ لحاجَتِهم إلى حِفْظِ مَواشِيهم، وسَقْى الحاجِّ، فكان لهم تَركُ المَبِيتِ، كلَيَالِى مِنًى. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ المَبِيت بمُزْدَلِفَةَ غيرُ واجِبٍ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. فصل: فإن وَافَاها بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فلا شئَ عليه؛ لأنَّه لم يُدْرِكْ جُزْءًا مِن النِّصْفِ الأوَّلِ، فلم يَتَعَلَّقْ به حُكْمُه، كمَن أدْرَكَ اللَّيْلَ بعَرَفَاتٍ دُونَ النَّهارِ. وإن جاءَ بعدَ الفَجْرِ، فعليه دَم؛ لتَرْكِه الواجِبَ، وهو المَبِيتُ. والمُستحَبُّ الاقْتِداءُ برسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمَبِيتُ إلى أن يُصْبِحَ، ثم يقف حتى يُسْفِرَ. ولا بَأْسَ بتَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ والنِّساءِ. ومِمَّن كان يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أهْلِه؛ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وعائشةُ. وبه قال عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ فيه رِفْقًا بهم، ودَفْعًا لمَشَقَّةِ الزِّحامِ عنهم، والاقْتِداءَ بنَبِيِّهم عليه الصلاةُ والسلامُ. فصل: وللمُزْدَلِفَةِ ثَلَاثةُ أسماءٍ؛ مُزْدَلِفَةُ، وجَمْعٌ، والمَشْعَرُ الحَرامُ. ¬

= في: باب ما جاء في الرخصة للرعاء. . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 179. والنسائى، في: باب رمى الرعاة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 221. وابن ماجه، في: باب تأخير رمى الجمار. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1010. والإمام مالك، في: باب الرخصة في رمى الجمار، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 408. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 450. (¬1) انظر تخريجه في التخريج السابق. (¬2) سيأتى تخريجه من حديث ابن عمر صفحة 236.

1295 - مسألة: (فإذا أصبح بها، صلى الصبح، ثم يأتى المشعر الحرام فيرقى عليه، أو يقف عنده، ويحمد الله تعالى، ويكبر، ويدعو)

فَإِذَا أصْبَحَ بِهَا، صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ يَأتِى الْمَشْعَرَ الْحَامَ فَيَرْقَى عَلَيْهِ، أَوْ يَقِفُ عِنْدَه، وَيَحمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيَدْعُو، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَدُّها مِن مَأْزِمَىْ عَرَفَةَ إلى قَرْنِ مُحَسِّرٍ، وما على يَمِينِ ذلك وشِمالِه مِن الشِّعابِ، ففى أىِّ مَوْضِعٍ وَقَف منها أجْزَأه؛ لِقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ المُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1). وعن جابرٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: «وَقَفْتُ ههُنا بجَمْعٍ، وجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ» (¬2). وليس وَادِى مُحَسِّرٍ مِن مُزْدَلِفَةَ؛ لقولِه: «وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ» (¬3). 1295 - مسألة: (فإذا أصْبَحَ بها، صَلَّى الصُّبْحَ، ثم يَأتِى المَشْعَرَ الحَرامَ فيَرْقَى عليه، أو يقفُ عندَه، ويَحْمَدُ اللَّهَ تعالى، ويُكَبَر، ويَدْعُو) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب صفة حجة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، و: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 443، 449. وابن ماجه، في: باب الموقف بعرفات، و: باب الذبح، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1002، 1013. كما أخرجه الدارمى، في: باب عرفة كلها موقف، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 57. والإمام مالك، في: باب الوقوف بعرفة والمزدلفة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 388. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 72، 76، 81، 3/ 321، 326، 4/ 82. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 893. وأبو داود، في: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 449. والترمذى، في: باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 120. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 75، 157. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب الموقف بعرفات، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1002. والإمام مالك، في: باب الوقوف بعرفة والمزدلفة، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 388. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 82.

1296 - مسألة: (ثم يدفع قبل طلوع الشمس)

فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ كَمَا وَقَّفْتَنَا فِيهِ وَأَرَيْتَنَا إِيَّاهُ، فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بقَوْلِكَ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِلَى أَنْ يُسْفِرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَحَبُّ أن يُعَجِّلَ صلاةَ الصُّبْحِ؛ ليَتَّسِعَ وَقْتُ الوُقُوفِ عندَ المَشْعَرِ الحَرامِ، لقولِ جابِرٍ (¬1): إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى الصُّبْحَ حينَ تَبَيَّنَ له الصُّبْحُ. ثم إذا صَلَّى أتى المَشْعَرَ الحَرامَ فوَقَفَ عندَه، أو رَقِىَ عليه إن أمْكَنَه، فذَكَرَ اللَّهَ تعالى، ودَعاه، واجْتَهَدَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}. وفى حَدِيثِ جابِرٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتى المَشْعَرَ الحَرامَ، فَرَقِىَ عليه، فحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَه وهَلَّلَه ووَحَّدَه. وفى لَفْظٍ: ثم رَكِب القَصْواءَ حتى أتَى المَشْعَرَ الحَرامَ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فدَعَا اللَّهَ، وهَلَّلَه وكَبَّرَه واجْتَهَدَ. ويُسْتَحَبُّ أن يكون مِن دُعائِه: (اللَّهُمَّ كَمَا وَقَّفْتَنا فيه وأرَيْتَنَا إيَّاه، فوَفِّقْنَا لذِكْرِك كما هَدَيْتَنَا، واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا كما وَعَدْتَنا بقَوْلِكَ، وقَوْلُك الحَقُّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} -إلى- {غَفُورٌ رَحِيمٌ}) (¬2) الآيَتَيْن. (إلى أن يُسْفِرَ) لأنَّ في حَدِيثِ جابِرٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَزَلْ واقِفًا حتى أسْفَرَ جِدًّا. 1296 - مسألة: (ثم يَدْفَعُ قبلَ طُلُوعِ الشمس) لا نَعْلَمُ خِلافًا ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث جابر في 8/ 363. (¬2) سورة البقرة 198، 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في اسْتِحْبابِ الدَّفْع قبلَ طُلُوعِ الشمس؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَفْعَلُه. قال عُمَرُ (¬1)، رَضِىَ اللَّهُ عنه: إنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا لا يُفِيضُونَ، ويَقُولُون؛ أشْرِقْ ثَبِيرُ (¬2)، كيما نُغِيرُ. وإنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خالَفَهم، فأفاضَ قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ. رَواه البخارىُّ (¬3). والسُّنَّة الإِسْفارُ جِدًّا. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وكان مالكٌ يَرَى الدَّفْعَ قبلَ الإِسْفارِ. ولَنا، حَدِيثُ جابِرٍ الذى ذَكَرْناه. وعن نافِعٍ، أنَّ ابنَ الزُّبَيْرِ أخَّرَ في الوَقْتِ حتى كادَت الشمسُ تَطْلُعُ. فقالَ ابنُ عُمَرَ: إنِّى أراه يُريدُ أن يَصْنَعَ كما صَنَع أهلُ الجاهِلِيَّةِ. فدَفعَ ودَفَع النّاسُ معه. وكان ابنُ مسعودٍ يَدْفَعُ كانْصِرافِ القَوْمِ المُسْفِرِينَ مِن صلاةِ الغَداةِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَسِيرَ وعليه السَّكِينَةُ. قال ابنُ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: ثم أرْدَفَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الفَضْلَ ابنَ عباسٍ، وقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ البِرَّ لَيْسَ بإيجَافِ الخَيْلِ وَالإِبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ» (¬4). فما رَأيتُها رافِعَةً يَدَيْها حتى أتَى مِنًى. ¬

(¬1) في النسخ: «ابن عمر». والمثبت من مصادر التخريج. (¬2) ثبير: جبل بمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى. (¬3) في: باب متى يدفع من جمع، من كتاب الحج. وفى: باب أيام الجاهلية، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح البخارى 2/ 204، 5/ 53. وليس فيه: «كيما نغير». كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة بجمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 449، 450. والترمذى، في: باب ما جاء أن الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 132. والنسائى، في: باب وقت الإفاضة من جمع، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 215. وابن ماجه، في: باب الوقوف بجمع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1006. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب أمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسكينة. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 201. وأبو داود، في: باب الدفعة بن عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 446. والنسائى، في: باب =

1297 - مسألة: (فإذا بلغ محسرا، أسرع قدر رمية بحجر)

فَإِذَا بَلَغ مُحَسِّرًا، أَسْرَعَ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ. وَيَأْخُذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ طَرِيقِهِ، أوْ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1297 - مسألة: (فإذا بَلَغ مُحَسِّرًا، أسْرَعَ قَدْرَ رَمْيَةٍ بحَجَرٍ) يُسْتَحَبُّ الإِسْراعُ في وادِى مُحَسِّرٍ، وهو ما بينَ المُزْدَلِفَةِ ومِنًى، فإن كان ماشِيًا أسْرَعَ، وإن كان راكِبًا حَرَّكَ دَابَّتَه؛ لأنَّ جابِرًا قال في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّه لَمَّا أتُى بَطنَ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ قَلِيلًا. ويُرْوَى أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لمَّا أتَى مُحَسرًا أسْرَعَ، وقال: إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضمِينُها (¬1) مُخالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُها مُعْتَرِضًا في بَطْنِهَا جَنِينُهَا وذلك قَدْرُ رَمْيَةٍ بحَجَرٍ، ويكونُ مُلَبِّيًا في طَرِيقه، فإنَّ الفَضْلَ بنَ عباسٍ روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَزَلْ يُلَبِّى حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّ التَّلْبِيَةَ مِن شِعارِ الحَجِّ، فلا تُقْطَعُ إلَّا بالشُّرُوعِ في الإِحْلالِ، وأوَّلُه رَمْىُ جَمْرَةِ العَقَبَةِ. 1298 - مسألة: (ثم يَأْخُذُ حَصَى الجِمارِ مِن طَرِيقه، أو مِن ¬

= الوقوف بعرفة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 207. والدارمى، في: باب الوضع في وادى محسر، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 60. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 269، 277. (¬1) الرجز في اللسان (وض ن) 13/ 450. والوضين: بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 175.

مُزْدَلِفَةَ, وَمِنْ حَيْثُ أَخَذَهُ، جَازَ. وَيَكُونُ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ مُزْدَلِفَةَ، ومِن حيث أخَذَه، جازَ. ويكونُ أكْبَرَ مِن الحِمَّصِ ودُونَ البُنْدُقِ) إنَّما يُسْتَحَبُّ أخْذُ حَصَى الجِمارِ قبلَ أن يَصِلَ مِنًى؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عندَ قُدُومِه بشئٍ قبلَ الرَّمْىِ؛ لأنَّها تَحِيَّة له, كما أنَّ الطَّوافَ تَحِيَّة المَسْجِدِ، فلا يَبْدَأُ بشئٍ قبلَه. وكان ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، يَأْخُذُ حَصَى الجِمارِ مِن جَمْعٍ. وفَعَله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وقال: كانُوا يَتَزَوَّدُونَ الحَصَى مِن جَمْعٍ. واسْتَحَبَّه الشافعىُّ. وقال أحمدُ: خُذِ الحَصَى من حيثُ شِئْتَ. اخْتارَه عَطاءٌ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو أصَحُّ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غداةَ العَقَبَةِ، وهو على ناقَتِه: «الْقُطْ لِى حَصًى». فلَقَطْتُ له سَبعَ حَصَياتٍ مِن حَصَى الخَذْفِ، فجَعَلَ يَقْبِضُهُنَّ في كَفِّه، ويقولُ: «أمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا». ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِى الدِّينِ، فَإنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ فِى الدِّينِ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). وكان ذلك بمِنًى، ولا خِلافَ أنَّه يُجْزِئُه أخْذُه مِن حيث كان. والْتِقاطُه أوْلَى مِن تَكْسِيرِه؛ لهذا الخَبَرِ، ¬

(¬1) في: باب قدر حصى الرمى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1008. كما أخرجه النسائى، في: باب التقاط الحصى، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 218. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 218، 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه لا يُؤْمَنُ في تَكْسِيرِه أن يَطِيرَ إلى وَجْهِه شئٌ يُؤْذِيه. ويُسْتَحَبُّ أن يكونَ كحَصَى الخَذْفِ؛ للخَبَرِ، ولقولِ جابِرٍ في حَدِيثه (¬1): كُلُّ حَصَاةٍ منها مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ. وروَى سُليمانُ بنُ عَمْرِو بنِ الأحْوَصِ، عن أُمِّه، قالت: قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إذَا رَمَيْتُمُ الجَمْرَةَ فَارْمُوا بمِثْلِ حَصَى الخَذْفِ». رَواه أبو داودَ (¬2). قال الأثْرَمُ: يَكُونُ أكْبَرَ مِن الحِمَّصِ ودُونَ البُنْدُقِ. وكان ابنُ عُمَرَ يَرْمِى بمِثْلِ بَعْرِ الغَنَمِ. فإن رَمَى بحَجَرٍ كَبِيرٍ، فقال أصحابُنا: يُجْزِئُه، مع تَرْكِ السُّنَّةِ؛ لأنَّه قد رَمَى بحَجَرٍ. وكذلك الحُكْمُ في الصَّغِيرِ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: لا يَجُوزُ حتى يَأْتِىَ بالحَصَى على ما فَعَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّه أمَرَ بهذا القَدْرِ، ونَهَى عن تَجاوُزِه، والأمْرُ يَقْتَضِى الوُجُوبَ، والنَّهْىُ يَقْتَضِى فَسادَ المَنْهِىِّ عنه. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في اسْتِحْبابِ غَسْلِهَ، فرُوِىَ عنه أنَّه مُسْتَحَبٌّ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. لأنَّه رُوِى عن ابنِ عُمَرَ، وكان طاوُسٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363. (¬2) في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 455. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب قدر حصى الرمى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1008. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 503، 6/ 379.

1299 - مسألة: (وعدده سبعون حصاة)

وَعَدَدُهُ سَبْعُونَ حَصَاةً. فَإِذَا وَصَلَ مِنًى، وَحَدُّهَا مِنْ وَادِى مُحَسِّرٍ إِلَى الْعَقَبَةِ، بَدَأ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَرْفَعُ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطِهِ، وَلَا يَقِف عِنْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْعَلُه، وكان ابنُ عُمَرَ يَتَحَرَّى سُنَّةَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعن أحمدَ، أنَّه لا يُسْتَحَبُّ. وقال: لم يَبْلُغْنا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه. وهذا الصَّحِيحُ. وهو قولُ عَطاءٍ، ومالكٍ، وكثيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا لُقِطَتْ له الحَصَى، وهو راكِبٌ على بَعِيرِه، جَعَل يَقْبِضُهُنَّ في يَدِه، لم يَغْسِلْهُنَّ، ولا أمَرَ بغَسْلِهِنَّ، ولا فيه مَعْنًى يَقْتَضِيه. فإن رَمَى بحَجَرٍ نَجِسٍ أجْزَأه؛ لأنَّه حَصَاةٌ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَه؛ لأنَّه يُؤَدِّى به العِبادَةَ، فاعْتُبِرَتْ طهارتُه، كحَجَرِ الاسْتِجْمارِ، وتُرابِ التَّيَمُّمِ. وإن غَسَلَه ورَمَى به، أجْزَأه، وَجْهًا واحِدًا. واللَّهُ تعالى أعْلَمُ. 1299 - مسألة: (وعَدَدُه سَبْعُونَ حَصَاةً) يَرْمِى منها بسَبعٍ يومَ النَّحْرِ، وباقِيها في أيامِ مِنًى، كلَّ يَوْم بإحْدَى وعِشْرِينَ (فإذا وَصَل مِنًى، وحَدُّها مِن وادِى مُحَسِّرٍ إلى العَقَبَةِ، بَدَأ بجَمْرَةِ العَقَبَةِ، فرَمَاهَا بسَبْعِ حَصَياتٍ، واحِدَةً بعدَ واحِدَةٍ، يُكَبر مع كلِّ حَصاةٍ، ويَرْفَعُ يَدَه حتى يُرَى بَياضُ إبْطِه) حَدُّ مِنًى ما بينَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ ووادِى مُحَسِّرٍ. كذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال عَطاءٌ، والشافعىُّ. وليس مُحَسِّرٌ والعَقَبَةُ مِن مِنًى. ويُسْتَحَبُّ سُلُوكُ الطرَّيقِ الوُسْطَى التى تَخْرُجُ على الجَمْرَةِ الكُبْرَى، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَكَها. كذا في حَدِيثِ جابِرٍ. فإذا وَصَل مِنًى بَدَأ بجَمْرَةِ العَقَبَةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَدَأ بها، ولأنَّها تَحِيَّةُ مِنًى، فلم يَتَقَدَّمْها شئٌ، كالطَّوافِ في المَسْجِدِ، وهى آخِرُ الجَمَراتِ مِمّا يلى مِنًى، وأوَّلُها مِمّا يَلى مَكَّةَ، وهى عندَ العَقَبَةِ، لذلك سُميَت بهذا، فَيَرْميها بسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ، ويَسْتَبْطِنُ الوادِى، ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ثم يَنْصَرِفُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ولا يَقِفُ) وهذا بجُمْلَتِه قولُ مَن عَلِمْنا قولَه مِن أهلِ العِلْمِ. وإن رَماها مِن فوقِها جازَ، ولأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، جاءَ والزِّحَامُ عندَ الجَمْرَةِ، فرَماها مِن فوقِها. والأوَّلُ أفْضَلُ؛ لِما روَى عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ، أنه مَشَى مع عبدِ اللَّه، وهو يَرْمِى الجَمْرَةَ، فلَمَّا كانَ في بَطْنِ الوَادِى اعْتَرَضَها، فرَماها، فقِيلَ له: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَها مِن فوقِها. فقالَ: مِن ههُنا، والذى لا إلهَ غيرُه، رَأَيْتُ الذى أُنْزِلَ عليه سُورَةُ البَقَرَةِ رَمَاهَا. مُتَّفَقٌ عليه. وفى لَفْظٍ: لَمّا أتَى عبدُ اللَّه جَمْرَةَ العَقَبَةِ اسْتَبْطنَ الوادِى، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وجَعَل يَرْمِى الجَمْرَةَ على حاجِبِه الأَيْمَنِ، ثم رَمَى جَمْرَةً بسَبْع حَصَياتٍ، ثم قال: والذى لا إلهَ إلَّا هو، مِن ههنا رَمَى الذى أُنْزِلَت عليه سُورَةُ البَقَرَةِ (¬1). قال التِّرمِذِىُّ: هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ولا يُسَنُّ الوُقُوفُ ¬

(¬1) اللفظ الأول، أخرجه البخارى، في: باب رمى الجمار من بطن الوادى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 217. ومسلم، في: باب رمى جمرة العقبة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 942، 943. كما أخرجه النسائى، في: باب المكان الذى ترمى منه جمرة العقبة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 222. واللفظ الثانى، أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء كيف ترمى الجمار، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 135. وابن ماجه، في: باب من أين ترمى جمرة العقبة، من باب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1008.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَها؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ، وابنَ عباسٍ رَوَيَا أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ انْصَرَفَ ولم يَقِفْ. رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ويُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ؛ لأنَّ جابِرًا قال: فرَماها بسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ معِ كلِّ حَصاةٍ. وإن قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْه حَجًّا مَبْرُورًا، وذَنبًا مَغْفُورًا، وعَمَلَا مَشْكُورًا. فحَسَنٌ؛ فإنَّ ابنَ مسعودٍ، وابنَ عُمَرَ، كانا يَقُولَان نَحْوَ ذلك. وروَى حَنْبَلٌ في «المَنَاسِكِ» بإسْنادِه عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ، قال: رَأَيْتُ سالِمَ بنَ عبدِ اللَّه اسْتَبْطنَ الوَادِى، ورَمَى الجَمْرَةَ بسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّه أَكْبَرُ. ثم قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْه حَجًّا مَبْرُورًا، وذَنْبًا مَغْفُورًا، وعَمَلًا مَشْكُورًا. فسَأَلْتُه عَمّا صَنَع؟ فقال: حَدَّثَنِى أبى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى الجَمْرَةَ مِن هذا المَكانِ، ويقولُ كُلَّمَا رَمَى حَصاةً مثلَ ما قُلْتُ (¬2). ويَرْمِى الحَصَى واحِدَةً بعدَ واحِدَةٍ, كما ذُكِرَ. وإن رَمَاها دَفْعَةً واحِدَةً، لم يُجْزِئْه إلَّا عن واحِدَةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ مالكٍ، ¬

(¬1) في: باب إذا رمى جمرة العقبة. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1009. كما أخرجه البخارى، عن ابن عمر، في: باب إذا رمى الجمرتين. . .، و: باب رفع اليدين عند الجمرتين. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 218، 219. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب رمى الجمر من بطن الوادى. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 129. وتقدم بلفظ آخر عند البخارى. انظر الحاشية السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال عَطاءٌ: يُجْزِئُه، ويُكَبِّرُ لكُلِّ حَصَاةٍ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى سَبْعَ رَمَياتٍ، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ويَرْفَعُ يَدَه حتى يُرَى بَياضُ إبْطِه. قاله بعضُ أصحابِنا. فصل: ويَرْمِيها راجِلًا وراكِبًا، وكيفما شاءَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَاهَا على راحِلَتِه. رَواه جابرٌ، وابنُ عُمَرَ، وغيرُهما. قال جابِر، رَضِىَ اللَّهُ عنه: رَأَيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْمِى على رَاحِلَتِه يَوْمَ النَّحْرِ، ويقولُ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّى مَناسِكَكُمْ، فإنِّى لَا أَدْرِى لَعَلِّى لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هذِه». رَواه مسلمٌ. وقال نافِعٌ: كان ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، يَرْمِى جَمْرَةَ العَقَبَةِ على دَابَّتِه يومَ النَّحْرِ، وكان لا يَأْتِى سائِرَها بعدَ ذلك إلَّا ماشِيًا، ذاهِبًا ورَاجِعًا، وزَعَم أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانَ لا يَأْتِيها إلَّا ذاهِبًا وراجِعًا. رَواه أحمدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «المُسْنَدِ» (¬1). وفى هذا بَيانٌ للتَّفْرِيقِ بينَ هذه الجَمْرَةِ وغيرِها. ولأنَّ رَمْىَ هذه الجَمْرةِ مِمّا تُسْتَحَبُّ البِدايَةُ به، وهى في هذا اليَوْمِ عندَ قُدُومِه، ولا يُسَنُّ عندَها وُقُوفٌ، فلو سُنَّ له المَشْىُ إليها، لشَغَلَه النُّزُولُ عن الابْتِداءِ بها والتَّعْجِيلِ إليها، بخِلافِ سائِرِها. فصل: ولا يُجْزِئُه الرَّمْىُ إلَّا أن يَقَعَ الحَصَى في المَرْمَى، فإن وَقَع دُونَه لم يُجْزِئْه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك إن وَضَعَها بِيَدِه في المَرْمَى، لا يُجْزِئُه في قَوْلِهم جَمِيعًا؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بالرَّمْى ولم يَرْمِ. وإن طَرَحَها طَرْحًا، أجْزَأه؛ لأنَّه يُسَمَّى رَمْيًا. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْى. وقال ابنُ القاسِمِ: لا يُجْزِئُه. وإن رَمَى حَصاةً، فوَقَعَتْ في غيرِ المَرْمَى، فأَطارَتْ حَصَاةً أُخْرَى، فوَقَعَتْ في المَرْمَى، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ التى رَماها لم تَقَعْ في المَرْمَى. ¬

(¬1) المسند 2/ 156. كما أخرجه أبو داود، في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 455، 456. والترمذى، في: باب ما جاء في رمى الجمار. . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 134. ورواية الإمام أحمد وأبى داود: «بعد يوم النحر».

1300 - مسألة: (ويقطع التلبية مع ابتداء الرمى)

وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْىِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رَمَى حَصَاةً، فالْتَقَطَها طائِر قبلَ وُصُولِها، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّها لم تَقَعْ في المَرْمَى. وإن وَقَعَتْ على مَوْضِع صُلْبٍ في غيرِ المَرْمَى، ثم تَدَحْرَجَتْ إلى المَرْمَى، أو على ثَوْبِ إنْسانٍ، ثم طارَتْ فوَقَعَت في المَرْمَى، أجْزَأتْه؛ لأنَّ حُصُولَها في المَرْمَى بفِعْلِه. وإن نَفَضَها الإِنْسانُ عن ثَوْبِه، فوَقَعَتْ في المَرْمَى، فعن أحمدَ، أنَّها تجزِئُه؛ لأنَّه انْفَرَدَ برَمْيِها. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لا تُجْزِئُه؛ لأنَّ حُصُولَها في المَرْمَى بفِعْل الثَّانِى، فأشْبَهَ ما لو أخَذَها بيَدِه فرَمَى بها. وإن رَمَى حَصَاةً، فشَكَّ هل وَقَعَت في المَرْمَى أو لَا؟ لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الرَّمْىِ في ذِمَّتِه، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ. وعنه، يُجْزِئه. ذَكَرَه ابنُ البَنَّا في «الخِصالِ». وإن غَلَب على ظَنِّه أنَّها وَقَعَتْ فيه، أجْزَأتْه؛ لأنَّ الظاهِرَ دَلِيلٌ. 1300 - مسألة: (ويَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مع ابْتِداءِ الرَّمْى) يُرْوَى ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباس، ومَيْمُونَةَ، رَضِىَ اللَّه عَنهم. وبه قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْى. ورُوِىَ عن سعدِ (¬1) بنِ أبى وَقَّاصٍ، وعائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: يَقْطَعُ التَّلْبيَةَ إذا راحَ إلى (¬2) المَوْقف. وعن علىٍّ، وأُمِّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهُما كانا يُلَبِّيان حتى تَزُولَ الشمس يومَ عَرَفَةَ. وقال مالكٌ: يَقْطعُ التَّلْبِيَةَ إذا راحَ إلى (2) المَسْجِدِ. وكان الحسنُ يقولُ: يُلَبِّى حتى يُصَلِّىَ الغَداةَ يومَ عَرَفَةَ. ولَنا، أنَّ الفَضْلَ بنَ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَزَلْ يُلَبِّى حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ (¬3). وكان رَدِيفَه يَوْمَئِذٍ، وهو أعْلَمُ بحَالِه مِن غيرِه، وفِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَدَّمُ على ما خالَفَه. ويُسْتَحَبُّ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ عندَ أوَّلِ حَصَاةٍ، للخَبَرِ، وفى بعضِ ألفاظِه: حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ قَطَعَ عندَ أوَّلِ حَصَاةٍ. رَواه حَنْبَلٌ في «المَناسِكِ». وهذا بيانٌ يَتَعَيَّنُ الأخْذُ به. وفى رِوايَةِ مَن روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ، دَلِيلٌ على أنَّه لم يَكُنْ يُلَبِّى، ولأنَّه يَتَحَلَّلُ بالرَّمْىِ، وإذا شَرَع فيه قَطَع التَّلْبِيَةَ، كالمُعْتَمِرِ يَقْطعُ التَّلْبِيَةَ بالشُّرُوعَ في الطَّوافِ. ¬

(¬1) في م: «سعيد». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 175.

1301 - مسألة: (وإن رمى بذهب، أو فضة، أو غير الحصى، أو)

فَإِنْ رَمَى بِذَهَبٍ، أو فِضَّةٍ، أو غَيْرِ الْحَصَى، أو حَجَرٍ قَدْ رُمِىَ بِهِ مَرَّةً، لَمْ يُجْزِئْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1301 - مسألة: (وإن رَمَى بذَهَبٍ، أو فِضَّةٍ، أو غيرِ الحَصَى، أو) رَمَى (بحَجَرٍ رُمِىَ به مَرَّةً، لم يُجْزِئْه) يُجْزِئُ الرَّمْىُ بكلِّ ما يُسَمَّى حَصًى، وهى الحِجَارَةُ الصِّغَارُ، سَواءٌ كان أسودَ، أو أبيضَ، أو أحمرَ، مِن المَرْمَرِ، أو البرام (¬1)، أو المَرْوِ، وهو الصَّوَّانُ، أو الرُّخَام، أو الكَذَّانِ (¬2)، أو حَجَرِ المِسَنِّ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال القاضى: لا يُجْزِئُ الرُّخامُ، والبرامُ، والكَذّانُ. ومُقْتَضَى قولِه، أن لا يُجْزِئُ المَرْوُ ولا حَجَرُ المِسَنِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُ بالطِّينِ والمَدَرِ (¬3)، وما كان من جنْسِ الأرْضِ. ونَحْوُه قولُ الثَّوْرِىِّ. ورُوِىَ عن سُكَيْنَةَ بنتِ الحُسَيْنِ، أنَّها رَمَتِ الجَمْرَةَ ورجلٌ يُناوِلُها الحَصَى، ¬

(¬1) كذا ورد، والبرام بفتح الباء وكسرها: جبل في بلاد بنى سليم. انظر: تاج العروس (ب ر م) 8/ 199. والبَرَم: قنان من الجبال. (¬2) الكذان: الحجارة التى ليست بصلبة. تاج العروس (ك ذ ن) 9/ 320. (¬3) المدر: قطع الطين اليابس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَقَطَتْ حَصَاةٌ، فرَمَتْ بخاتَمِها. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى بالحَصَى، وأمَرَ بالرَّمْى بمثلِ حَصَى الخَذْفِ. فلا يَتَناوَلُ غيرَ الحَصَى، وَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أنْواعِه، فلا يَجُوزُ تَخْصِيصُه بغيرِ دَلِيلٍ، ولا إلحاقُ غيرِه به، والذَّهَبُ والفِضَّةُ لا يَتَناوَلُه اسمُ الحَصَى. فصل: وإن رَمَى بحَجَرٍ أُخِذَ من المَرْمِىِّ لم يُجْزِئْه. وقال الشافعىُّ: يُجْزِئُه؛ لأنَّه حَصًا، فيَدْخُلُ في العُمُومِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَذَه مِن غيرِ المَرْمِىِّ. وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ولأنَّه لو جازَ الرَّمْىُ بما رُمِىَ به، لما احْتاجَ أحَدٌ إلى أخْذِ الحَصَى مِن غيرِ مَكانِه، ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكْسِيرِه، ولأنَّ ابنَ عباسٍ، قال: ما تُقُبِّلَ منه رُفِعَ. وإن رَمَى بخاتَمِ فِضَّةٍ [فيه] حَجَرٌ، لم يُجْزِئْه، في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه تَبَعٌ، والرَّمْىُ بالمَتْبُوعِ لا بالتَّابعِ.

1302 - مسألة: (ويرمى بعد طلوع الشمس، فإن رمى بعد نصف الليل، أجزأه)

وَيَرْمِى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أَجْزَأَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1302 - مسألة: (ويَرْمِى بعدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فإن رَمَى بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أجْزَأَه) وجُمْلته أنَّ لرَمْى هذه الجَمْرَةِ وَقْتَيْن؛ وَقْتُ فَضِيلَةٍ، ووَقْتُ إجْزَاءٍ، فأمَّا وَقْتُ الفَضِيلَةِ فعندَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ علماءُ المسلِمين على أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما رَمَاهَا ضُحَى ذلك اليومِ. وقال جابِرٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْمِى الجَمْرَةَ ضُحَى يومِ النَحْرِ وَحْدَه. أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وأمَّا وَقْتُ الجَوازِ، فأوَّلُهُ نِصْفُ اللَّيْلِ ¬

(¬1) في: باب بيان وقت استحباب الرمى، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 945. كما أخرجه الدارمى، في: باب في جمرة العقبة. . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 312، 313. (¬2) في: المسند 1/ 234، 311، 343. كما أخرجه أبو داود، في: باب التعجيل من جمع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 450. والنسائى، في: باب النهى عن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 220. وابن ماجه، في: باب من تقدم من جمع. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1007.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن لَيْلَةِ النَّحْرِ. وبذلك قال عَطاءٌ، وابنُ أبى لَيْلَى، والشافعىُّ. وعن أحمدَ أنَّه يُجْزِئُ بعدَ الفَجْرِ، قبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وهو قولُ مالكٍ، وأصحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ. وقال مُجاهِدٌ، والثَّوْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ: لا يَرْمِيها إلَّا بعدَ طُلُوعِ الشمسِ؛ لحَدِيثِ ابنِ عباسٍ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬1)، عن عائشةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فرَمَتْ جَمْرَةَ العَقَبَةِ قبلَ الفَجْرِ، ثم مَضَتْ، فأفَاضَتْ. ورُوِىَ أنَّه أمَرَها أن تُعَجِّلَ الإِفاضَةَ، وتُوَافِىَ مَكَّةَ معِ صلاةِ الصُّبْحِ. احْتَجَّ به أحمدُ. ولأنَّه وَقْتٌ للدَّفْعِ مِن المُزْدَلِفَةِ، فكان وَقْتًا للرَّمْىِ، كبعدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، والأخْبارُ المَذْكُورَةُ مَحْمُولَةٌ على الاسْتِحْبابِ. فصل: وإن أخَّرَ الرَّمْىَ إلى آخِرِ النَّهارِ، جازَ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ مَن رَماها يومَ النَّحْرِ قبلَ المَغِيبِ، فقد رَماهَا في وَقْتٍ لها، وإن لم يَكُنْ ذلك مُسْتَحَبًّا. وروَى ابنُ عباسٍ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 182.

1303 - مسألة: (ثم ينحر هديا، إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره. وعنه، يجزئه بعضه، كالمسح)

ثُمَّ يَنْحَرُ هَدْيًا، إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَيَحْلِقُ أوْ يُقَصِّرُ مِنْ جَمِيعِ شَعَرِهِ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ بَعْضُهُ، كَالْمَسْحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْألُ يومَ النَّحْرِ بِمنًى، قال رَجُلٌ: رَمَيْتُ بعدَ ما أمْسَيْتُ؟ قال: «لَا حَرَجَ». رَواه البخارىُّ (¬1). فإنْ أخَّرَها إلى اللَّيْلِ، لم يَرْمِها حتى تَزُولَ الشمسُ مِن الغَدِ. وبه قال أبو حنيفةَ، وإسحاقُ. وقال الشافعىُّ، ومحمدٌ، وأبو يُوسُفَ، وابنُ المُنْذِرِ: يَرْمِى لَيْلًا؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ارْم وَلَا حَرَجَ». ولَنا، أنَّ ابنَ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: مَن فاتَه الرَّمْىُ حتى تَغِيبَ الشمسُ، فلا يَرْمِ حتى تَزُولَ الشمسُ مِن الغَدِ. وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ». إنَّما كان في النَّهارِ؛ لأنَّه سَأَلَه في يَوْمِ النَّحْرِ، ولا يَكُونُ اليَوْمُ إلَّا قبلَ مَغِيبِ الشمسِ. وقال مالكٌ: يَرْمِى لَيْلًا، وعليه دَمٌ. ومَرَّةً قال: لَا دَمَ عليه. وإذا رَمَى انْصَرَفَ ولم يَقِفْ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَقِفْ عندَها. 1303 - مسألة: (ثم يَنْحَرُ هَدْيًا، إن كان معه، ويَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ مِن جَمِيعِ شَعرِه. وعنه، يُجْزِئُه بعضُه، كالمَسْحِ) إذا فَرَغ مِن رَمْى ¬

(¬1) في: باب الذبح قبل الحلق، وباب إذا رمى بعدما أمسى. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 212, 214, 215. كما أخرجه أبو داود، في: باب الحلق والتقصير، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 458. والنسائى، في: باب الرمى بعد المساء، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 221. وابن ماجه، في: باب من قدم نسكًا قبل نسك، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1013.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمْرَةِ يومَ النَّحْرِ لم يَقِفْ وانْصَرَفَ، فأوَّلُ شئٍ يَبْدَأُ به نَحْرُ الهَدْىِ، إن كان معه هَدْىٌ، واجِبًا كانَ أو تَطَوُّعًا. فإن لم يَكُنْ معه هَدْىٌ، وعليه هَدْىٌ واجِبٌ، اشْتَراه. وإن لم يَكُنْ عليه واجِب، فأحَبَّ أن يُضَحِّىَ، اشْتَرَى ما يُضَحِّى به. ويَنْحَرُ الإِبِلَ ويَذْبَحُ ما سواها. والمُسْتَحَبُّ أن يَتَوَلَّى ذلك بيَدِه، ويَجُوزُ أن يَسْتَنِيبَ فيه. هذا قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وذلك لِما روَى جابِرٌ في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه رَمَى مِن بَطنِ الوَادِى، ثم انْصَرَفَ إلى المَنْحَرِ، فنَحَرَ ثَلاثًا وستينَ بَدَنَةً بيَدِه، ثم أعْطَى عَلِيًّا، فنَحَرَ ما غَبَر منها، وأشْرَكَه في هَدْيِه (¬1). ويُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُ الذَّبيحَةِ إلى القِبْلَةِ، ويقولُ: بسمِ اللَّه واللَّهُ أكبرُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا ذَبَحَ يقولُ: «بِسْمِ اللَّه واللَّهُ أكْبَرُ» (¬2). فصل: وإذا نَحَر الهَدْىَ فَرَّقَه على مَسَاكِينِ الحَرَمِ، وهم مَن كان في الحَرَم. وإن أطْلَقَها لهم، جازَ, كما روَى أنس، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَر خَمْسَ بَدَنَاتٍ، ثم قال: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ». رَواه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استحباب الضحية. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1557. وأبو داود في: باب ما يستحب من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 86. والترمذى، في: باب حدثنا الحسن بن على الخلال. . .، من أيواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 318. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ (¬1). وإن قَسَمَها فهو أحْسَنُ وأفْضَلُ؛ لأنَّه بقَسْمِها يَتَيَقَّنُ إيصالَها إلى مُسْتَحِقِّها، ويَكْفِى المَساكِينَ تَعَبَ النَّهْبِ والزِّحامِ. ويَقْسِمُ جُلُودَها وجِلالَها (¬2)؛ لِما روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: أمَرَنِى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أقُومَ على بُدْنِه، وأن أقْسِمَ بُدْنَه كُلَّها؛ جُلُودَها، وجِلالَها، وأن لا نُعْطِىَ الجازِرَ منها شَيْئًا، وقال: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» (¬3). وإنَّما لَزِمَه قَسْمُ جِلالِها؛ للخَبَرِ، ولأنَّه سَاقَها للَّهِ على تلك الصِّفةِ، فلا يَأْخُذُ شَيْئًا مِمّا جَعَلَه للَّهِ تعالَى. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَلْزمُه إعْطاءُ جِلالِها؛ لأنَّه إنَّما أهْدَى الحَيَوانَ دُونَ ما عليه. والسُّنَّةُ النَّحْرُ بِمنًى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَر بها. وحيثُ نَحَر مِن الحَرَمِ أجْزَأَه؛ لقولِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَطَرِيقٌ». رَواه أبو داودَ (¬4). فصل: يَلْزَمُه الحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ مِن جَمِيع شَعَرِه، وكذلك المَرْأَةُ. ¬

(¬1) في: باب في الهدى. . .، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 409، وروايته فيه عن عبد اللَّه بن قرط، وليس عن أنس. وانظر: تحفة الأشراف 6/ 405. وأخرج الحديث أيضًا عن عبد اللَّه بن قرط، النسائى في السنن الكبرى. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 350. (¬2) الجل للدابة، كثوب الإنسان، يلبسه يقيه البرد. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب لا يعطى الجزار. . .، وباب يتصدق بجلود الهدى، وباب يتصدق بجلال الهدى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 210، 211. ومسلم، في: باب في الصدقة بلحوم الهدايا، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 954. وأبو داود، في: باب كيف تنحر البدن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 409، 410. وابن ماجه، في: باب من جلل البدنة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1035. والدارمى، في: باب كيف تنحر البدن، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 74. (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 194.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالكٌ. وعنه، يُجْزِئُه بَعْضُه، كالمَسْحِ. كذلك قال ابنُ حامِدٍ. وقال الشافعىُّ: يُجْزِئُه التَّقْصِيرُ مِن ثَلاثِ شَعَراتٍ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: يُجْزِئُه ما يَقَعُ عليه اسمُ التَّقْصِيرِ؛ لتَنَاوُلِ اللَّفْظِ له. ولَنا، قولُه تعالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} (¬1). وهذا عامٌّ في جَمِيعِه، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَلَق جَمِيعَ رَأْسِه، تَفْسِيرًا لمُطْلَقِ الأمْرِ به، فيَجِبُ الرُّجُوعُ إليه. فإن كان الشَّعَرُ مَضْفُورًا قَصَّرَ مِن رُءُوس ضَفائِرِه. كذلك قال مالكٌ: تُقَصِّرُ المَرْأَةُ مِن جَمِيع قُرونِها. ولا يَجبُ التَّقْصِيرُ مِن كلِّ شَعَرِه؛ لأنَّ ذلك لا يُعْلَمُ إلَّا بحَلْقِه. وأَىُّ قَدْرٍ قَصَّرَ منه أجْزَأَ؛ لأنَّ الأمْرَ مُطْلق، فيَتَناوَلُ أقَلَّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ. قال أحمدُ: يُقَصر قَدْرَ الأُنْمُلَةِ. وهو قولُ ابنِ عُمَرَ، والشافعىِّ. وهو مَحْمُولٌ على الاسْتِحْباب. وبأىِّ شئٍ قَصَّرَ الشَّعَرَ أجْزَأَه. وكذلك إن نَتَفَه، أو أزالَه بنُورَةٍ؛ لأنَّ القَصْدَ إزالَتُه، ولَكِنَّ السُّنَّةَ الحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَلَق رَأْسَه، فروَى أنَسٌ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ يومَ النَّحْر، ثم رَجَع إلى مَنْزله بمِنًى، ¬

(¬1) سورة الفتح 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فدَعَا بذِبْحٍ، فذَبَحَ، ثم دَعَا بالحَلَّاقِ، فأخَذَ شِقَّ رَأسِه الأَيْمَنَ، فحَلَقَه، فجَعَل يَقْسِمُ بينَ مَن يلِيهِ الشَّعَرَةَ والشَّعَرَتَيْن، ثم أخَذَ (¬1) شِقَّ رَأْسِه الأيْسَرَ، فحَلَقَه، ثم قال: «هَهُنا أَبُو طَلْحَةَ؟». فدَفَعَه إلى أبى طَلْحَةَ. رَواه أبو داودَ (¬2). والسُّنَّةُ أن يَبْدأ بشِقِّ رَأْسِه الأيْمَنِ، ثم الأيْسَرِ؛ لهذا الخَبَرِ، فإن لم يَفْعَلْ أجْزَأَه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ؛ لأنَّ خيرَ المَجالِسِ ما اسْتُقْبِلَ به القِبْلَةُ. ويُكَبِّرُ وَقْتَ الحَلْقِ؛ لأنَّه نُسُكٌ، ويكونُ ذلك بعدَ النَّحْرِ. فصل: وهو مُخَيَّرٌ بينَ الحَلْقِ والتَّقْصِير، في قولِ الجُمْهُورِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ. يَعْنِى في حَقِّ مَن لم يُوجَدْ منه مَعْنًى يَقْتَضِى وُجُوبَ الحَلْقِ عليه، إلَّا أنَّه يُرْوَى عن الحَسَنِ، أنَّه كان يُوجِبُ الحَلْقَ في الحَجَّةِ الأُولَى. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالَى قال: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}. ولم يُفَرِّقْ. والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «رَحِمَ اللَّه المُحَلِّقِينَ وَالمُقَصِّرِينَ». وقد كان معه مَن قَصَّرَ فَلم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُنْكِرْ عليه. والحَلْقُ أفْضَلُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، وقال: «رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ». قالُوا: يا رسولَ اللَّه، والمُقَصِّرِينَ؛ قال: «رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ». قالُوا: والمُقَصِّرِينَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: «رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ وَالمُقَصِّرِينَ». رَواه مسلم (¬1). فأمَّا مَن لَبَّدَ، أو عَقَص، أو ضَفَر، فقال أحمدُ: مَن فَعَل ذلك فلْيَحْلِقْ. وهو قولُ النَّخَعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. وكان ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يقولُ: مَن لَبَّدَ، أو قَصَّرَ، أو عَقَدَ، أو فَتَلَ، أو عَقَصَ، فهو على ما نَوَى، إن نَوَى الحَلْقَ فلْيَحْلِقْ، وإلَّا فلا يَلْزَمُه. وقال أصحابُ الرَّأْى: هو مُخَيَّرٌ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ ما ذَكَرْنَاه يَقْتَضِى التَّخْيِيرَ على العُمُوم، ولم يَثْبُتْ في خِلافِ ذلك دَلِيلٌ. ووَجْهُ القولَ الأوَّلَ، ما رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ لَبَّدَ فَلْيَحْلِقْ» (¬2). وثَبَت عن عُمَرَ، وابنهِ، أنَّهُما أمَرا مَن لَبَّدَ رَأْسَه أن ¬

(¬1) في: باب تفضيل الحلق على التقصير. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 945، 946. كما أخرجه البخارى، في: باب الحلق والتقصير. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 213. وأبو داود، في: باب الحلق والتقصير، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 457. وابن ماجه، في: باب الحلق، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1012. والدارمى، في: باب فضل الحلق. . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 64. والإمام مالك، في: باب الحلاق، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 395. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 353، 2/ 16، 79، 119، 138، 141، 5/ 381، 6/ 402. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من لبد أو ضفر. . .، من كتاب. الحج. السنن الكبرى 5/ 135.

1304 - مسألة: (والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة)

وَالْمَرْأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعَرِهَا قَدْرَ الأُنْمُلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْلِقَه، والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَبَّدَ رَأْسَه وحَلَقَ. والصَّحِيحُ أَنَّه مُخَيَّرٌ، إلَّا أن يَثْبُتَ الخَبَرُ. وقولُ عُمَرَ وابنهِ قد خالَفَهما فيه ابنُ عباسٍ، وفِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَدُلُّ على وُجُوبِه بعدَ ما بَيَّنَ جَوازَ الأمْرَيْن. واللَّهُ أعْلَمُ. 1304 - مسألة: (والمَرْأةُ تُقَصِّرُ مِن شَعَرِها قَدْرَ الأُنْمُلَةِ) والأُنْمُلَةُ: رَأْسُ الإِصْبَعِ مِن المَفْصِلِ الأعْلَى. والمَشْرُوعُ للمَرْأةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الحَلْقِ، بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا أهلُ العِلْمِ. لأنَّ الحَلْقَ في حَقِّهِنَّ مُثْلَةٌ. وقد روَى ابنُ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إنَّما عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تَحْلِقَ المَرْأةُ رَأْسَها رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬2). وكان أحمدُ يقولُ: ¬

(¬1) في: باب الحلق والتقصير، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 458. كما أخرجه الدارمى، في: باب من قال ليس على النساء حلق، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 64. (¬2) في: باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 147. كما أخرجه النسائى، في: باب النهى عن حلق المرأة رأسها، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 112، 113.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُقَصِّرُ مِن كلِّ قَرْنٍ قَدْرَ الأُنْمُلَةِ. وهو قولُ ابنِ عُمَرَ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وقال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ، سُئِلَ عن المَرْأةِ تُقَصِّرُ مِن كلِّ رَأْسِها؟ قال: نعم، تَجْمَعُ شَعَرَها إلى مُقَدَّم رَأْسِها، ثم تَأْخُذُ مِن أطْرافِ شَعَرِها قَدْرَ الأُنْمُلَةِ. والرجلُ الذى يُقَصِّرُ كالمَرْأةِ في ذلك. وقد ذَكَرْنا فيه خِلافًا. فصل: والأصْلَعُ الذى ليس على رَأْسِه شَعَرٌ، يُسْتَحَبُّ أن يُمِرَّ المُوسَى على رَأْسِه. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وبه قال مَسْرُوقٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم. وليس بواجِبٍ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا أمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). وهذا لو كان ذا شَعَرٍ وَجَبَ عليه إزالَتُه وإمْرارُ المُوسَى على رَأْسِه، فإذا سَقَط أحَدُهما لتَعَذُّرِه، بَقِىَ الآخَرُ. ولَنا، أنَّ الحَلْقَ مَحِلُّه الشَّعَرُ، فسَقَطَ بعَدَمِه، كما يَسْقُطُ وُجُوبُ غَسْلِ العُضْوِ في الوُضُوءِ بفَقْدِه. ولأنَّه إمْرارٌ لو فَعَلَه في الإِحْرامِ لم يَجِبْ به دَمٌ، فلم يَجِبْ عندَ التَّحَلُّلِ، كإمْرارِه على الشَّعَرِ مِن غيرِ حَلْقٍ. فصل: ويُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ أظْفارِه، والأَخْذُ مِن شارِبه. قال ابنُ المُنْذِرِ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 363.

1305 - مسألة: (ثم قد حل له كل شئ إلا النساء. وعنه، إلا الوطء فى الفرج)

ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَىْءٍ إلَّا النِّسَاءَ. وَعَنْهُ، إلَّا الْوَطْءَ فِى الْفَرْجِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَت أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا حَلَق رَأْسَه قَلَّمَ أظْفَارَه (¬1). وكان ابنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِن شارِبِه وأظْفارِه. وكان عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والشافعىُّ، يُحِبُّونَ لو أخَذَ مِن لِحْيَتِه شَيْئًا. ويُسْتَحَبُّ إذا حَلَق، أن يَبْلُغَ العَظْمَ الذى عندَ مُنْقَطَعِ الصُّدْغِ مِن الوَجْهِ. كان ابنُ عُمَرَ يقولُ للحالِقِ: ابْلُغِ العَظْمَيْن، افْصِلِ الرَّأْسَ مِن اللِّحْيَةِ. وكان عَطاءٌ يقولُ: مِن السُّنَّةِ إذا حَلَق أن يَبْلُغَ العَظْمَيْن. 1305 - مسألة: (ثم قد حَلَّ له كلُّ شَئٍ إلَّا النِّساءَ. وعنه، إلَّا الوَطْءَ في الفَرْجِ) وجُمْلَتُه أنَّ المُحْرِمَ إذا رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، ثم حَلَق أو قَصَّر، حَلَّ له كلُّ ما كانَ مُحَرَّمًا بالإِحْرامِ، إلَّا النِّساءَ. هذا الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. فيَبْقَى ما كان مُحَرَّمًا عليه مِن النِّساءِ؛ مِن الوَطْءِ، والقُبْلَةِ، واللَّمْسِ بشَهْوَةٍ، وعَقْدِ النِّكاحِ، ويَحِلُّ له ما سِوَى ذلك. هذا قولُ ابنِ الزُّبَيْرِ، وعائشةَ، وعَلْقَمَةَ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسالِمٍ، والنَّخَعِىِّ، وعبدِ اللَّهِ بنِ الحسنِ، وخارِجَةَ بنِ زَيْدٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ. وعن (¬1) أحمدَ، أنَّه يَحِلُّ له كُلُّ شَئٍ إلَّا الوَطْءَ في الفَرْجِ؛ لأنَّه أغْلَظُ المُحَرَّماتِ، ويُفْسِدُ النُّسُكَ، بخِلافِ غيرِه. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّه عنه: يَحِلُّ له كلُّ شَئٍ، إلَّا النِّساءَ، والطِّيبَ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِه، وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، وغيرِهما؛ لأنَّه مِن دَوَاعِى الوَطْءِ، أشْبَهَ القُبْلَةَ. وعن عُرْوَةَ، أنَّه لا يَلْبَسُ القَمِيصَ، ولا العِمامَةَ، ولا يَتَطَيَّبُ. ورُوِىَ في ذلك عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدِيثٌ ولَنا، ما رَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللَّه عنها، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ، وَالثِّيَابُ، وَكُلُّ شَئٍ، إلَّا النِّسَاءَ». رَواه سعيدٌ (¬2). وقالت عائشةُ: طَيَّبْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لحُرْمِهِ (¬3) حينَ أحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قبلَ أن يَطُوفَ بالبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وعن سالِمٍ، عن أبيهِ، قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إذَا رَمَيْتُم الجَمْرَةَ بسَبْعِ حَصَياتٍ، وذَبَحْتُمْ، وحَلَقْتُمْ، فقد حَلَّ لكُمْ كُلُّ شَئٍ إلَّا الطِّيبَ. فقالت عائشةُ: أنا طَيَّبْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) سقط من الأصل. (¬2) وأخرجه أبو داود في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 457. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 143. (¬3) لحرمه: أى لإحرامه. (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 139.

1306 - مسألة: (والحلاق

وَالْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ نُسُكٌ، إِنْ أخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ مِنًى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. رَواهُ سعيدٌ (¬1). [وعن] (¬2) ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: إذا رَمَيْتُمُ الجَمْرَةَ، فقد حَلَّ لكم كلُّ شَئٍ، النِّساءَ. فقال له رجلٌ: والطِّيبُ؟ فقال: أمَّا أنا فقد رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُضَمِّخُ رَأْسَه بالمِسْكِ، أفطِيبٌ هو ذاك أم لا؟ رَواه ابنُ ماجَه (¬3). وقال مالكٌ: لا يَحِلُّ له النِّساءُ، ولا الطِّيبُ، ولا قَتْلُ الصَّيْدِ؛ لقَوْلِه سبحانه: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬4). وهذا حَرامٌ. وقد ذَكَرْنا ما يَرُدُّ هذا القولَ، ويَمْنَعُ أنَّه مُحْرِمٌ، وإنَّما بَقِىَ بعضُ أحكامِ الإِحْرامِ. 1306 - مسألة: (والحِلاقُ (¬5) والتَّقْصِيرُ نُسُكٌ، إن أخَّرَه عن ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب ما يحل بالتحلل الأول. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 135، 136. والإمام الشافعى، في: باب فيما يلزم المحرم عند تلبسه بالإحرام، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعى 1/ 298، 299. (¬2) في م: «عن». (¬3) في: باب ما يحل للرجل إذا رمى. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1011. كما أخرجه النسائى، في: باب ما يحل للمحرم. . .، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 225. (¬4) سورة المائدة 95. (¬5) في م: «الحلق».

عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَعَنْهُ، أنَّهُ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ، لَا شَىْءَ فِى تَرْكِهِ. وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِالرَّمْى وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيّامِ مِنًى، فهل يَلزَمُه دَمٌ؟ على رِوايَتَيْن. وعنه، أنَّه إطْلَاقٌ مِن مَحْظُورٍ، لا شئَ في تَرْكِه. ويَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بالرَّمْىِ وَحْدَه) الحَلْقُ والتَّقْصِيرُ نُسُكٌ في الحَجِّ والعُمْرَةِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وعن أحمدَ، أنَّه ليس بنُسُكٍ، وإنَّما هو إطْلاقٌ مِن مَحْظُورٍ كان مُحَرَّمًا عليه بالإِحْرامِ، فأُطْلِقَ فيه بالحِلِّ، كاللِّباسِ، وسائِرِ مَحْظوراتِ الإِحْرامِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ لا شئَ على تارِكِه، ويَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بدُونِه. ووَجْهُها، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ بالحِلِّ مِن العُمْرَةِ قَبْلَه، فروَى أبو موسى، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: قَدِمْتُ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟» قُلْتُ: لَبَّيْكَ بإهْلَالٍ كإهْلَالِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «أَحْسَنْتَ». وأمَرَنِى فطُفْتُ بالبَيْتِ، وبينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثم قال لى: «أَحِلَّ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن جابِرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، قال: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً». رَواه مسلمٌ (¬1). ولأنَّ ما كان مُحَرَّمًا في الإِحْرام، إذا أُبِيحَ كان إطْلاقًا مِن مَحْظُورٍ، كسائِرِ مُحَرَّماتِه. والرِّوايَةُ الأُولَى أصَحُّ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ به، فروَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ» (¬2). وعن جابِرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أُحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا». وأمْرُه يَقْتَضِى الوُجُوبَ. ولأنَّ اللَّهَ تعالى وَصَفَهم بقَوْلِه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (¬3). ولو لم يَكُنْ مِن المَناسِكِ لَما وَصَفهم به، كاللُّبْسِ وقَتْلِ الصَّيْدِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَرَحَّمَ على المُحَلِّقِينَ ثَلاثًا، وعلى المُقَصِّرِينَ مَرَّةً، ولو لم يَكُنْ مِن المَناسِكِ، لَما دَخَلَه التَّفْضِيلُ، كالمُباحَاتِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه فَعَلُوه في جَمِيع حَجِّهِم وعُمَرِهم، لم يُخِلُّوا به، ولو لم يَكُنْ نُسُكًا لَما دَاوَمُوا عليه، بل لم يَفْعَلُوه إلَّا نادِرًا؛ لأنَّه لم يَكُنْ مِن عادَتِهم فيَفْعَلُوه عادَةً، ولا فيه فَضْل فيَفْعَلُوه لفَضْلِه. فأمَّا أمْرُه بالحِلِّ، فإنَّما مَعْنَاه، واللَّه أعْلَمُ، الحِلُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 157. (¬3) سورة الفتح 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْعَلُه؛ لأنَّ ذلك كان مَشْهُورًا عندَهم، فاسْتُغْنِىَ عن ذِكْرِه، ولا يَمْنَعُ الحِلُّ مِن العِبادَةِ بما كان مُحَرَّمًا فيها، كالسلامِ في الصَّلاةِ. فصل: فإذا قُلْنا: إنَّه نُسُكٌ. جاز تَأْخِيرُه إلى آخِرِ أيَّامِ النَّحْرِ؛ لأنَّه إذا جازَ تَأْخِيرُ النَّحْرِ المُقَدَّمِ عليه، فتَأْخِيرُه أوْلَى، فإن أخَّرَه عن ذلك، فلا دَمَ عليه، في إحْدَى الرِّوَايَتَيْن؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالَى بَيَّنَ أوَّلَ وَقْتِه، ولم يُبَيِّنْ آخِرَه، فمتى أتَى به أجْزَأ، كالطَّوافِ للزِّيارَةِ والسَّعْى. والثّانِيَةُ، عليه دَمٌ، لأنَّه نُسُكٌ أخَّرَه عن مَحِلِّه. ومَن تَرَك نُسُكًا فعليه دَمٌ. ولا فَرْقَ في التَّأخِيرِ بينَ القَلِيلِ والكَثِيرِ، والعامِدِ والسَّاهِى. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ: مَن تَرَكَه حتى حَلَّ، فعليه دَمٌ؛ لأنَّه نُسُكٌ، فوَجَبَ أن يَأْتِىَ به قبلَ الحِلِّ، كسائِرِ مَناسِكِه. ولَنا، ما تَقَدَّمَ. وهل يَحِلُّ قبلَه؟ فيه رِوَايَتان؛ إحداهُما، أنَّ التَّحَلُّلَ إنَّما يَحْصُلُ بالحَلْقِ والرَّمْى مَعًا. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، وقولُ الشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا رَمَيْتُمْ، وحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَئٍ، إلَّا النِّسَاءَ» (¬1). وتَرْتِيبُ الحِلِّ عليهما دَلِيلٌ على حُصُولِه بهما، ولأنَّهما نُسُكان يَتَعَقَّبُهما الحِلُّ، فكان حاصِلًا بهما، كالطَّوافِ والسَّعْى في العُمْرَةِ. والثانِيَةُ، يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بالرَّمْى وَحْدَه. وهذا قولُ عَطاءٍ، ومالكٍ، وأبى ثَوْرٍ. قال شيخُنا (¬2): وهو الصَّحِيحُ، إن شاءَ اللَّهُ تَعالَى؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 212. (¬2) في: المغنى 5/ 310.

1307 - مسألة: (وإن قدم الحلق على الرمى والنحر، جاهلا أو

فَإِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْى أَوِ النَّحْرِ، جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، فَلَا شَىْءَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لقولِه في حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إذَا رَمَيْتُمُ الجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَئٍ، إلَّا النِّسَاءَ». وكذلك قال ابنُ عباسٍ. قال بعضُ أصحابِنا: هذا يَنْبَنِى على الخِلافِ في الحَلْقِ، إن قُلْنا: هو نُسُكٌ. حَصَل الحِلُّ، وإلَّا حَصَل بالرَّمْى وَحْدَه، وهو الذى ذَكَرَه شيخُنا في كتابِه المَشْرُوحِ. 1307 - مسألة: (وإن قَدَّمَ الحَلْقَ على الرَّمْى والنَّحْرِ، جاهِلًا أو

عَلَيْهِ. وَإنْ كَانَ عَالِمًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ناسِيًا، فلا شئَ عليه. وإن كان عالِمًا، فهل يَلْزَمُه دَمٌ؟ على رِوايَتَيْن) السُّنَّةُ في يَوْمِ النَّحْرِ أن يَرْمِىَ، ثم يَنْحَرَ، ثم يَحْلِقَ، ثم يَطُوفَ، تَرتِيبُها هكذا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَتَّبَهَا كذلك، فروَى أنَسٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى، ثم نَحَر، ثم حَلَق. رَواه أبو داودَ (¬1). فإن أخَلَّ بتَرْتِيبِها ناسِيًا أو جاهِلًا، فلا شئَ عليه. هذا قولُ الحسنِ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وداودَ، ومحمدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن قَدَّمَ الحَلْقَ على الرَّمْى، أو على النَّحْرِ، فعليه دَمٌ، فإن كان قارِنًا فعليه دَمان. وقال زُفَرُ: عليه ثَلاثَةُ دِماءٍ؛ لأنَّه لم يُوجَدِ التَّحَلُّلُ الأوَّلُ، أشْبَهَ ما لو حَلَق قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ. ولَنا، ما روَى عبدُ اللَّه بِنُ عَمْرٍو، قال: قال رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قبلَ أن أذْبَحَ؟ قال: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ». فقالَ آخَرُ: ذَبَحْتُ قبلَ أن أرْمِىَ؟ قال: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفى لَفْظٍ، قال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، وباب السؤال والفتيا عند رمى الجمار، من كتاب العلم، وفى: باب الفتيا على الدابة. . .، من كتاب الحج، وفى: باب إذا حنث ناسيا. . .، من كتاب الأيمان. صحيح البخارى 1/ 31، 43، 2/ 215، 8/ 169. ومسلم، في: باب من حلق قبل النحر. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 948 - 950. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجاءَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، لم أشْعُرْ، فحَلَقْتُ قبلَ أن أذْبَحَ. وذَكَر الحَدِيثَ. قال: فما سَمِعْتُه يُسْألُ يَوْمَئِذٍ عن أمْرٍ مِمّا يَنْسَى المرءُ أو يَجْهَلُ، مِن تَقْدِيمِ بعضِ الأمُورِ على بَعْضٍ وأشباهِها، إلَّا قال: «افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ». رَواه مسلم. وعن ابنِ عباسٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قيلَ له يومَ النَّحْرِ، وهو بمِنًى: في النَّحْرٍ، والحَلْقِ، والرَّمْى، والتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، [فقالَ: «لَا حَرَجَ»] (¬1). مُتَّفقٌ عليه (¬2). ورَواه عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن عيسى بنِ طَلْحَةَ، عن عبدِ اللَّه بِن عَمْرٍو، وفيه: فحَلَقْتُ قبلَ أن أَرْمِىَ. وسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحَقُّ أن تُتَبَّعَ. فأمَّا إن فَعَلَه عامِدًا، عالِمًا مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ، فإنَّه لا دَمَ عليه، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وهو قولُ عَطاءٍ، وإسحاقَ؛ لإطْلاقِ حَدِيثِ ابنِ عباسٍ، وكذلك حديثُ عبدِ اللَّهِ ابنِ عَمْرٍو، مِن رِوايَةِ سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ. والثانيةُ، عليه دَمٌ. رُوِى نَحْوُ ذلك عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وجابرِ بنِ زَيْدٍ، وقتادَةَ، والنَّخَعِىِّ؛ لأنَّ اللَّهَ ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب في من قدم شيئًا قبل شئ. . .، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 464. والترمذى، في: باب ما جاء فيمن حلق قبل أن يذبح. . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 148. وابن ماجه، في: باب من قدم نسكا قبل نسك، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1014. والدارمى، في: باب في من قدم نسكه شيئًا قبل شئ، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 64، 65. والإمام مالك، في: باب جامع الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 421. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 159، 160، 192، 202، 210، 217. (¬1) سقط من النسختين، وأثبتناه من مصادر التخريج. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 136.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَتَّبَ، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬2). والحديثُ المُطْلَقُ قد جاء مُقَيَّدًا، فيُحْمَلُ المُطْلَقُ على المُقَيَّدِ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يُسْألُ عن رجلٍ حَلَق قبلَ أن يَذْبَحَ؟ فقال: إن كان جاهِلًا، فليس عليه دَمٌ، فأمَّا مع التَّعَمُّدِ فلا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَألَه رجلٌ، فقال: لم أشْعُرْ. قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ لا يقولُ: لم أشْعُرْ. فقالَ: نَعَمْ، ولكنَّ مالكًا والناسَ عن الزُّهْرِىِّ (¬3): لم أشْعُرْ. وهو في الحَدِيثِ. وقال مالكٌ: إن قَدَّمَ الحَلْقَ على الرَّمْى، فعليه دَمٌ، وإن قَدَّمَه على النَّحْرِ، أو النَّحْرَ على الرَّمْى، فلا شَئَ عليه؛ لأنَّه بالإجْماعِ مَمْنُوعٌ مِن حَلْقِ شَعَرِه قبلَ التَّحَلُّلِ الأوَّلِ، ولا يَحْصُلُ إلَّا برَمْى الجَمْرَةِ، فأمَّا النَّحْرُ قبلَ الرَّمْى، فجائِزٌ؛ لأنَّ الهَدْىَ قد بَلَغَ مَحِلَّه. ولَنا الحَدِيثُ، فإنَّه لم يُفَرِّقْ بَيْنَهما، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قيلَ له: في الحَلْقِ، والنَّحْرِ، والتَّقْدِيمِ، والتَّأْخِيرِ. فقال: «لَا حَرَجَ». ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَهم في أنَّ مُخالَفَةَ التَّرْتِيبِ لا تُخْرِجُ هذه الأفْعالَ عن الإِجْزاءِ، ولا تَمْنَعُ وُقُوعَها ¬

(¬1) سورة البقرة 196. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬3) أى: يقولون.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْقِعَها، وإنَّما اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الدَّمِ على ما ذَكَرْنا. فصل: فإن قَدَّمَ الإِفاضَةَ على الرَّمْى، أجْزَأ طَوافُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا تُجْزِئُه الإِفاضَةُ، فلْيَرْمِ، ثم لْيَنْحَرْ، ثم لْيُقَصِّرْ. وكان ابنُ عُمَرَ يقولُ في مَن أفاضَ قبلَ أن يَحْلِقَ: يَرْجِعُ فيَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ، ثم يُفِيضُ. ولَنا، ما روَى عَطاءٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له رجلٌ: أفَضْتُ قبلَ أن أَرْمِىَ؟ قال: «ارْم وَلَا حَرَجَ». وعنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا قَبْلَ شَئٍ فَلَا حَرَجَ». رَواهما سعيدٌ في «سُنَنِه». ورُوِىَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أتاه آخَرُ، فقالَ: إنِّى أفَضْتُ إلى البَيْتِ قبلَ أن أرْمِىَ؟ فقالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ». فما سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شئٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلَّا قال: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1). ولأنَّه أتَى بالرَّمْى في وَقْتِه، فأجْزَأه، كما لو رَتَّبَ. ومُقْتَضَى كَلامِ أصحابِنا أنَّه يَحْصُلُ له بالإِفاضَةِ قبلَ الرَّمْى التَّحَلُّلُ الأوَّلُ، كمَن رَمَى ولم يُفِضْ. فعلى هذا لو واقَعَ أهلَه قبلَ الرَّمْى بعدَ الإِفاضَةِ، فعليه دَمٌ، ولا يَفْسُدُ حَجُّه. وكذلك قال الأوْزاعِىُّ. فإن رَجَع إلى أهْلِه ولم يَرْمِ، فعليه دَمٌ لتَرْكِ الرَّمْى، وحَجُّه صَحيحٌ؛ فإنَّ ابنَ عباسٍ قال: مَن نَسِىَ أو تَرَك شَيْئًا مِن نُسُكِه، فَلْيُهَرِقْ لذلك دَمًا (¬2). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 219. ورواية النسائى له في السنن الكبرى 2/ 446، 447. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 125.

1308 - مسألة: (ثم يخطب الإمام خطبة، يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمى)

ثُمَّ يَخْطُبُ الإِمَامُ خُطْبَةً، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا النَّحْرَ وَالإفَاضَةَ وَالرَّمْىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1308 - مسألة: (ثم يَخْطُبُ الإِمامُ خُطبَةً، يُعَلِّمُهم فيها النَّحْرَ والإِفاضَةَ والرَّمْى) يُسْتَحَبُّ أن يَخْطُبَ الإِمامُ بمِنًى يومَ النَّحْرِ خُطْبَةً، يُعَلِّمُهُم فيها النَّحْرَ والإِفاضَةَ والرَّمْى. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وذَكَر بعضُ أصحابِنا أنَّه لا يَخْطُبُ يَوْمَئِذٍ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ؛ لأنَّها تُسَنُّ في اليَوْمِ الذى قبلَه، فلا تُسَنُّ فيه. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، خَطَب الناسَ يومَ النَّحْرِ، يَعْنِى بمِنًى. أخْرَجَه البخارىُّ (¬1). وعن رافِعِ بنِ عَمْرٍ والمُزَنِىِّ قال: رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ الناسَ بمِنًى، حينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، على بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ وعلىٌّ يُعَبِّرُ عنه (¬2)، والناسُ بينَ قائمٍ وقاعِدٍ. وقال أبو أُمَامَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: سَمِعْتُ خُطْبَةَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمِنًى يومَ النَّحْرِ. وقال عبدُ الرحمنِ بنُ مُعاذٍ: خَطَبَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن بمِنًى، ففُتِحَتْ (¬3) أسْماعُنا، حتى كُنَّا نَسْمَعُ ونحن في مَنازِلنا، فطَفِقَ يُعَلِّمُهم مَنَاسِكَهُم حتى بَلَغ الجِمارَ. رَواهُنَّ أبو داودَ (¬4) غيرَ حَدِيثِ ¬

(¬1) في: باب الخطبة أيام منى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 215. (¬2) يعبر عنه: أى يبلغ حديثه من هو بعيد عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) في م: «ففتحنا». (¬4) الأول، في: باب أى وقت يخطب يوم النحر، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 453. والثانى، في: باب من قال: خطب يوم النحر، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 453. والثالث في: باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 453. كما أخرجه النسائى، في: باب ما ذكر في منى، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 200. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عباسٍ. ولأنَّه يَوْمٌ تَكْثُرُ فيه أفعالُ الحَجِّ، ويَحْتاجُ إلى تَعْلِيمِ الناسِ أحْكامَ ذلك، فاحْتِيجَ إلى الخُطْبَةِ مِن أجْلِه، كيوم عَرَفَةَ. فصل: يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ يومُ النَّحْرِ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خُطْبَتِه يومَ النَّحْرِ: «هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ». رَواه البخارىُّ (¬1). وسُمِّىَ بذلك لكَثْرَةِ أفْعالِ الحَجِّ فيه؛ مِن الوُقُوفِ بالمَشْعَرِ، والدَّفْعِ منه إلى مِنًى، ¬

(¬1) في: باب الخطبة أيام منى، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 217. كما أخرجه أبو داود، في: باب يوم الحج الأكبر، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 451. وابن ماجه، في: باب الخطبة يوم النحر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1016. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 412.

1309 - مسألة: (ثم يفيض إلى مكة، ويطوف للزيارة، ويعينه بالنية، وهو الطواف الواجب الذى به تمام الحج)

ثُمَّ يفيضُ إلَى مَكَّةَ، وَيَطُوفُ لِلزِّيَارَةِ، وَيُعَيِّنُهُ بِالنِّيَّةِ؛ وَهُوَ الطَّوَافُ الْوَاجِبُ الَّذِى بِهِ تَمَامُ الْحَجِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرَّمْى، والنَّحْرِ، والحَلْقِ، وطَوافِ الإِفاضَةِ، والرُّجُوعِ إلى مِنًى ليَبِيتَ بها، وليس في غيرِه مِثْلُه، وهو مع ذلك يَوْمُ عِيدٍ، ويومٌ يَحِلُّ فيه مِن أفْعالِ الحَجِّ. 1309 - مسألة: (ثم يُفِيضُ إلى مَكَّةَ، ويَطُوفُ للزِّيارَةِ، ويُعَيِّنُه بالنِّيَّةِ، وهو الطَّوافُ الواجِبُ الذى به تمامُ الحَجِّ) وجُمْلَةُ ذلك أنَّه إذا رَمَى رنَحَر وحَلَقَ، أفاضَ إلى مَكَّةَ يومَ النَّحْرِ، فطافَ طَوافَ الزِّيارَةِ، وسُمِّىَ بذلك؛ لأنَّه يَأْتِى مِن مِنًى فيَزُورُ البَيْتَ، ولا يقيمُ بمَكَّةَ، بل يَرْجِعُ إلى مِنًى، ويُسَمَّى طَوافَ الإِفاضَةِ؛ لكَوْنِه يَأْتِى به عندَ إفاضَتِه مِن مِنًى إلى مَكَّةَ. وصِفَةُ هذا الطَّوافِ، كصِفَةِ طَوافِ القُدُومِ، إلَّا أنَّه يَنْوِى به طَوافَ الزِّيارَةِ، ويُعَيِّنُهُ بالنِّيَّةِ. ولا رَمَلَ فيه، ولا اضْطِباعَ؛ لقَوْلِ ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّه عنهما: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَرْمُلْ في السَّبْعِ الذى أفاضَ فيه (¬1). والنِّيَّةُ شَرْطٌ في هذا الطَّوَافِ. هذا قولُ إسحاقَ، وابنِ القاسمِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الإفاضة في الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 462. وابن ماجه، في: باب زيارة البيت، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1017.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِ مالكٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى: يُجْزِئُه، وإن لم يَنْوِ الفَرْضَ الذى عليه. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). ولأنَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمَّاه صلاةً، والصلاةُ لا تَصِحُّ إلَّا بِنيَّةٍ اتِّفاقًا. وهذا الطَّوافُ رُكْنٌ للحَجِّ، لا يَتِمُّ إلَّا به، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هو مِن فرائِضِ الحَجِّ، لا خِلافَ في ذلك بينَ العُلَماءِ. قال اللَّه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). وعن عائشةَ، قالت: حَحجْنَا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأفَضْنَا يومَ النَّحْرِ، فحاضَتْ صَفِيَّةُ، فأرادَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منها ما يُرِيدُ الرجلُ مِن أهْلِه، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّها حائِضٌ. فقال: «أحَابِسَتُنَا هِىَ؟». قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّها قد أفاضَتْ يومَ النَّحْرِ. قال: «اخْرُجُوا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فدَلَّ على أنَّ هذا الطَّوافَ لا بُدَّ منه، وأنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) سورة الحج 29. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الزيارة يوم النحر، وباب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت، وباب الإدلاج من المحصب، من كتاب الحج، وفى: باب قول اللَّه تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ. . .}، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 2/ 214، 220، 223، 7/ 75. ومسلم، في: باب وجوب طواف الوداع. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 964، 965. كما أخرجه أبو داود، في: باب الحائض تخرج بعد الإفاضة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 462. والترمذى، في: باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 171. وابن ماجه، في: باب الحائض تنفر قبل أن تودع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1021. والإمام مالك، في: باب إفاضة الحائض، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 412، 413. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 38، 39، 82، 85، 99، 122، 164، 175، 193، 202، 207، 213، 224، 253، 431.

1310 - مسألة: (وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، والأفضل فعله يوم النحر، فإن أخره عنه وعن أيام منى، جاز)

وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ وَعَنْ أَيَّامِ مِنًى، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حابِسٌ لمَن لم يَأْتِ به. 1310 - مسألة: (وأوَّلُ وَقْتِه بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِن لَيْلَةِ النَّحْرِ، والأفْضَلُ فِعْلُه يومَ النَّحْرِ، فإن أخَّرَه عنه وعن أيَّامِ مِنًى، جازَ) لهذا الطَّوافِ وَقْتانِ؛ وَقْتُ فَضِيلَةٍ، ووَقْتُ إجْزاءٍ؛ فأمَّا وَقْتُ الفَضِيلَةِ، فيَوْمُ النَّحْرِ بعدَ الرَّمْى والنَّحْرِ والحَلْقِ؛ لقولِ جابِرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ النَّحْرِ: فأفاضَ إلى البَيْتِ، فصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ (¬1). وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ عائشةَ، قالت: فَأفَضْنَا يومَ النَّحْرِ. وقال ابنُ عُمَرَ: أفاضَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). وإن أخَّرَه إلى اللَّيْلِ فلا بَأْسَ؛ فإنَّ ابنَ عباسٍ، وعائشةَ، رَوَيَا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَّرَ طَوافَ الزِّيارَةِ إلى اللَّيْلِ. رَواهما أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬3). وأمَّا وَقْتُ ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬2) تقدم آنفًا حديث عائشة، أما حديث ابن عمر فلم يروه البخارى. انظر اللؤلؤ والمرجان 2/ 73. وتحفة الأشراف 6/ 155. وأخرجه مسلم، في: باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 950. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإفاضة في الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 34. (¬3) أخرجهما أبو داود، في: باب الإفاضة في الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 462. والترمذى، في: باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 152. =

1311 - مسألة: (ثم يسعى بين الصفا والمروة، إن كان متمتعا،

ثُمَّ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، إِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، أوْ لَمْ يَكُنْ سَعَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَوازِ، فأوَّلُه مِن نِصْفِ اللَّيْلِ مِن لَيْلَةِ النَّحْرِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: أوَّلُه طُلوعُ الفَجْرِ يومَ النَّحْرِ، وآخِرُه آخِرُ أيَّامِ النَّحْرِ. وهذا مَبْنِىٌّ على أوَّلِ وَقْتِ الرَّمْى، وقد مَضَى الكَلامُ فيه. واحْتجَّ على آخِرِ وَقْتِه بأنَّه نُسُكٌ يُفْعَلُ في الحَجِّ، فكان آخِرُه مَحْدُودًا، كالوُقُوفِ والرَّمْى. والصَّحِيحُ أنَّ آخِرَ وَقْتِه غيرُ مَحْدُودٍ؛ لأنَّه متى أتَى به صَحَّ بغيرِ خِلافٍ، وإنَّما الخِلافُ في وُجُوبِ الدَّمِ، فنقولُ: طافَ فيما بعدَ أيَّامِ النَّحْرِ طَوافًا صَحِيحًا، فلم يَلْزَمْه دَمٌ، كما لو طَافَ في أيَّامِ النَّحْرِ. وأمَّا الوُقُوفُ والرَّمْىُ، فإنَّهُما لَمّا كانا مُوَقَّتَيْن كان لهما وَقْتٌ يَفُوتان بفَواتِه، وليس كذلك الطَّوافُ، فإنَّه متى أتَى به صَحَّ. 1311 - مسألة: (ثم يَسْعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، إن كان مُتَمَتِّعًا، ¬

_ = كما أخرجهما ابن ماجه، في: باب زيارة الليل، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1017. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 288، 309، 6/ 215.

مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَإنْ كَانَ قَدْ سَعَى، لَمْ يَسْعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لم يَكُنْ سَعَى مع طَوافِ القُدُومِ، وإن كان قد سَعَى، لم يَسْعَ) لأنَّ السَّعْىَ الذى سَعَاه المُتَمَتِّعُ إنَّما كان للعُمْرَةِ، فيُشْرَعُ له أن يَسْعَى للحَجِّ. وإن كان المُفْرِدُ والقارِنُ لم يَسْعَيَا مع طَوافِ القُدُومِ، سَعَيَا بعدَ طَوافِ الزِّيارَةِ؛ لأنَّ السَّعْىَ لا يكُونُ إلَّا بعدَ الطَّوافِ، لكَوْنِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما سَعَى بعدَ الطَّوافِ، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). وإن كان قد سَعَى مع طَوافِ القُدُومِ، لم يَسْع؛ فإنَّه لا يُسْتَحَبُّ التَّطَوُّعُ بالسَّعْى، كسائِرِ الأنْساكِ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، فأمَّا الطَّوافُ فيُسْتَحَبُّ التَّطوُّعُ به؛ لأنَّه صلاةٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

1312 - مسألة: (ثم قد حل له كل شئ)

ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَىْءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1312 - مسألة: (ثم قد حَلَّ له كلُّ شئٍ). يَعْنِى إذَا طافَ للزِّيارَةِ بعدَ الرَّمْى والنَّحْرِ والحَلْقِ، وكان قد سَعَى، حَلَّ له كلُّ شئٍ حَرَّمَه الإِحْرامُ. وقد ذَكَرْنا أنَّه لم يَكُنْ بَقِىَ عليه مِن المَحْظُوراتِ سِوَى النِّساءِ، فبهذا الطَّوافِ حَلَّ له النِّساءُ. قال ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنهما: لم يَحِلَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن شئٍ حَرُمَ منه، حتى قَضَى حَجَّه، ونَحَر هَدْيَه يَوْمَ النَّحْرِ، فأفاضَ بالبَيْتِ، ثم حَلَّ مِن كلِّ شئٍ حَرُمَ منه. وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، مثلُه. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ولا نَعْلَمُ خِلافًا في حُصُولِ الحِلِّ بما ذَكَرْناه على هذا التَّرْتِيبِ، فإن طافَ ولم يَكُنْ سَعَى، لم يَحِلَّ حتى يَسْعَى، إن قُلْنا: إنَّ السَّعْىَ رُكْنٌ. وإن قُلْنا: هو سُنَّةٌ. فهل يَحِلُّ قبلَه؟ على وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، يَحِلُّ؛ لأنَّه لم يَبْقَ عليه شئٌ مِن واجِباتِه. والثانى، لا يَحِلُّ؛ لأنَّه مِن أفْعالِ الحَجِّ، فيَأْتى به في إحْرامِ الحَجِّ، كالسَّعْىِ في العُمْرَةِ. فصل: قال الخِرَقِىُّ: يُسْتَحَبُّ للمُتَمَتِّعِ إذا دَخَل مَكَّةَ لطَوافِ الزِّيارَةِ، أن يَطُوفَ طَوافًا يَنْوِى به القُدُومَ، ثم يَسْعَى بينَ الصَّفَا ¬

(¬1) أخرجهما البخارى، في: باب من ساق البدن معه، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 205، 206. ومسلم، في: باب وجوب الدم على المتمتع. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 901. كما أخرج حديث ابن عمر أبو داود، في: باب في الإقران، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 419. والنسائى، في: باب التمتع، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 117، 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَرْوَةِ، ثم يَطُوفَ طَوافَ الزِّيارَةِ؛ لأنَّ المُتَمَتِّعَ لم يَأْتِ به قبلَ ذلك، فإنَّ الطَّوافَ الذى طافَه في الأوَّلِ كان طَوافَ العُمْرَةِ. وقد نَصَّ أحمدُ، رَحِمَه اللَّه، على ذلك في رِوايَةِ الأثْرَمِ. قال: قُلْتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: فإذَا رَجَع -يَعْنِى المُتَمَتِّعَ- كم يَطُوفُ ويَسْعَى؟ قال: يَطُوفُ ويَسْعَى لحَجِّه، ويَطُوفُ طَوافًا آخَرَ للزِّيارَةِ. عاوَدْناه في هذا غيرَ مَرَّةٍ، فثَبَتَ عليه. وكذلك الحُكْمُ في القارِنِ والمُفْرِدِ، إذا لم يَكُونَا أتَيَا مَكَّةَ قبلَ يومِ النَّحْرِ، ولا طافا طَوافَ القُدُومِ، فإنَّهُما يَبْدآن بطَوافِ القُدُومِ قبلَ طَوافِ الزِّيارَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ أيضًا. واحْتَجَّ بما رَوَتْ عائشةُ، رَضىَ اللَّه عنها، قالت: فطافَ الذين أهَلُّوا بالعُمْرَةِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثم حَلُّوا، ثم طافُوا طَوافًا آخَرَ بعدَ أن رَجَعُوا مِن مِنًى لحَجِّهم، وأمَّا الذين جَمَعُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإنَّما طافُوا طَوافًا واحِدًا (¬1). فحَمَلَ أحمدُ، رَضِىَ اللَّه عنه، قولَ عائشةَ على أنَّ طَوافَهم لحَجِّهم هو طَوافُ القُدُومِ، ولأنَّه قد ثَبَت أنَّ طَوافَ القُدُومِ مَشْرُوعٌ، فلم يَكُنْ طَوافُ الزِّيارَةِ مُسْقِطًا له، كتَحِيَّةِ المَسْجِدِ عندَ دُخُولِه قبلَ التَّلبُّسِ بصلاةِ الفَرْضِ. قال شيخُنا (¬2)، رَحِمَه اللَّه: ولم أعْلَمْ أحَدًا وَافَقَ أبا عبدِ اللَّهِ على هذا الطَّوافِ الذى ذَكَرَه الخِرَقِىُّ، بل المَشْرُوعُ طَوافٌ واحِدٌ للزِّيارَةِ، كمَن دَخَل المَسْجِدَ، وأُقِيمَتِ الصلاةُ، فإنَّه يَكْتَفِى بها مِن تَحِيَّةِ المَسْجِدِ. ولأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 138. (¬2) في: المغنى 5/ 315.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أصحابِه الذين تَمَتَّعُوا معه في حَجَّةِ الوادعِ، ولا أمَرَ به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا، وحَدِيثُ عائشةَ دَلِيلٌ على هذا، فإنَّها قالت: طافُوا طَوافًا واحِدًا بعدَ أن رَجَعُوا مِن مِنًى لحَجَّتِهم. وهذا هو طَوافُ الزِّيارَةِ، ولم تَذْكُرْ طَوافًا آخَرَ، ولو كان هذا الذى ذَكَرَتْه طَوافَ القُدُومِ، لكانَتْ قد أخَلَّتْ بذِكْرِ طَوافِ الزِّيارَةِ الذى هو رُكْنُ الحَجِّ، لا يَتِمُّ إلَّا به، وذَكَرَتْ ما يُسْتَغْنَى عنه، وعلى كلِّ حالٍ فما ذَكَرَتْ إلَّا طَوافًا واحِدًا، فمِن أين يُسْتَدَلُّ على طَوافَيْن؟ وأيضًا فإنَّها لَمَّا حاضَتْ، فقَرَنَتِ الحَجَّ إلى العُمْرَةِ بأمْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم تَكُنْ طافَتْ للقُدُومِ، لم تَطُفْ للقُدُومِ، ولا أمَرَها به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّ طَوافَ القُدُومِ لو لم يَسْقُطْ بالطَّوافِ الواجبِ، لَشُرِعَ في حَقِّ المُعْتَمِرِ طوافٌ للقُدُومِ مع طَوافِ العُمْرَةِ، ولأنَّه أوَّلُ قُدُومِه إلى البَيْتِ، فهو به أوْلَى مِن المُتَمَتِّعِ الذى يَعُودُ إلى البَيْتِ بعدَ رُؤْيَتِه وطَوافِه. وفى الجُمْلَةِ، هذا الطَّوافُ المُخْتَلَفُ فيه ليس بواجِبٍ، إنَّما الواجِبُ طَوافٌ واحِدٌ، وهو طَوافُ الزِّيارَةِ، وهو في حَقِّ المُتَمَتِّعِ كهو في حَقِّ القارِنِ والمُفْرِدِ، لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به. فصل: والأطْوِفَةُ المَشْرُوعَةُ في الحَجِّ ثَلَاَثَةٌ؛ طَوافُ الزِّيارَةِ، وهو رُكْنٌ لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به، بغيرِ خِلافٍ. وطوافُ القُدُومِ، وهو سُنَّةٌ، لا شئَ على تَارِكِه. وطَوافُ الوَداعِ، واجِبٌ، يَجِبُ بتَرْكِه دَمٌ. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه. وقال مالكٌ: على تارِكِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَوافِ القُدُوم دَمٌ، ولا شئَ على تارِكِ طَوافِ الوداعِ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ كقولِنا في طَوافِ الوَداعِ، وكقولِه في طَوافِ القُدُومِ. وما زادَ على هذه الأطْوِفَةِ فهو نَفْلٌ، ولا يُشْرَعُ في حَقِّهِ أكثرُ مِن سَعْىٍ واحِدٍ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال جابِرٌ: لم يَطُفِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أصحابُه بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إلَّا طَوافًا واحِدًا، طَوافَه الأوَّلَ. رَواه مسلمٌ (¬1). ولا يكونُ السَّعْىُ إلَّا بعدَ طَوافٍ، وقد ذَكَرناه. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَدْخُلَ البَيْتَ، فيُكَبِّرَ في نَواحِيهِ، ويُصَلِّىَ فيه رَكْعَتَيْن، ويَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ. قال ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: دَخَل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَيْتَ، وبِلالٌ، وأُسامَةُ بنُ زَيْدٍ، فقُلْتُ لبلالٍ: هل صَلَّى فيه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم. قُلْتُ: أين؟ قال: بينَ العَمُودَيْن تِلْقَاءَ وَجْهِه. قال: ونَسِيتُ أن أسْألَه كم صَلَّى. وقال ابنُ عباسٍ (¬2): أخْبَرَنِى أُسَامَةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا دَخَل البَيْتَ، دَعَا في نَواحِيه كلِّها، ولم يُصَلِّ فيه حتى خَرَج. مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). فقَدَّمَ أهْلُ العِلمِ رِوايَةَ بِلالٍ على رِوايَةِ أُسامَةَ؛ ¬

(¬1) في: باب بيان وجوه الإحرام. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 883. كما أخرجه أبو داود، في: باب طواف القارن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 437. (¬2) في النسخ: «أسامة» خطأ. (¬3) الأول أخرجه البخارى، في: باب الأبواب والْغَلَقِ للكعبة والمساجد، وباب الصلاة بين السوارى في غير جماعة، من كتاب الصلاة، وفى: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من كتاب التهجد. صحيح البخارى 1/ 126، 134، 2/ 70. ومسلم، في: باب استحباب دخول الكعبة للحاج. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 966، 967. كما أخرجه أبو داود، في: باب الصلاة في الكعبة، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 466، 467. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مُثْبِتٌ، وأُسامَةُ نافٍ، ولأنَّ أُسامَةَ كان حَدِيثَ السِّنِّ، فيَجُوزُ أن يكونَ اشْتَغَلَ بالنَّظَر إلى ما في الكَعْبَةِ عن صلاةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وإن لم يَدْخُلِ البَيْتَ، فلا بَأْسَ، فإنَّ إسْماعِيلَ بنَ أبى (¬1) خالدٍ قال: قُلْتُ لعبدِ اللَّهِ ابِن أبى أوفَى: دَخَل النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- البَيْتَ في عُمْرَتِه؟ قال: لا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّه عَنها، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ مِن عندِها وهو مَسْرُورٌ، ثم رَجَعَ وهو كَئِيبٌ. فقال: «إنِّى دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا، إنِّى أَخَافُ أنْ أكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِى» (¬3). ¬

= والنسائى، في: باب الصلاة في الكعبة، وباب مقدار ذلك، من كتاب الصلاة، وفى: باب دخول البيت، وباب موضع الصلاة في البيت، من كتاب المناسك. المجتبى 2/ 27، 28، 49، 5/ 171، 172. وابن ماجه، في: باب دخول الكعبة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1018. والثانى أخرجه البخارى، في: باب قول تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 110. ومسلم، في: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 968. والنسائى، في: باب موضع الصلاة في الببت، وباب موضع الصلاة من الكعبة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 172، 174. (¬1) سقط من النسخ. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من لم يدخل الكعبة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 184. ومسلم، في: باب استحباب دخول الكعبة للحاج. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 968. كما أخرجه أبو داود، في: باب أمر الصفا والمروة، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 439. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 355. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في دخول الكعبة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 467، 468. والترمذى، في: باب ما جاء في دخول الكعبة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 102. وابن ماجه، في: باب دخول الكعبة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1018، 1019. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 137.

1313 - مسألة: ويستحب أن (يأتى زمزم، فيشرب من مائها لما أحب، ويتضلع

ثُمَّ يَأْتِى زَمْزَمَ، فَيَشْرَبُ مِنْهَا لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعُ مِنْهُ، وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَرِيًّا وَشِبَعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِى، وَامْلأهُ مِنْ خَشْيَتِكَ وَحِكْمَتِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1313 - مسألة: ويُسْتَحَبُّ أن (يأْتِىَ زَمْزَمَ، فيَشْربُ مِن مائِها لِما أحَبَّ، ويَتَضَلَّعُ (¬1) منه) قال جابِرٌ في صِفَةِ حَجِّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثم أتَى بنى عبدِ المُطَّلِبِ وهم يَسْقُونَ، فَنَاوَلُوه دَلْوًا، فشَرِبَ منه (¬2). ورُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (¬3). وعن [محمدِ بنِ] (¬4) عبدِ الرحمنِ بنِ أبىِ بكرٍ، قال: كُنْتُ عندَ ابنِ عباسٍ جالِسًا، فجاءَه رجلٌ، فقالَ: مِن أينَ جِئْتَ؟ قال: مِن زَمْزَمَ. قال: فَشَرِبْتَ منها كما يَنْبَغى؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شَرِبْتَ منها، فاسْتَقْبِلِ الكَعْبَةَ، واذْكُرِ اسمَ اللَّهِ، وتَنَفَّسْ ثَلَاثًا مِن زَمْزَمَ، وتَضَلَّعْ منها، فإذَا فَرَغْتَ فاحْمَدِ اللَّهَ، فإنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ، أنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ». رَواهما ابنُ ماجه (¬5). (ويَقُولُ) عندَ الشُّرْبِ (بِسْمِ اللَّه، اللَّهُمَّ اجْعَلْه لَنا عِلْمًا نافِعًا، ورِزْقًا واسِعًا، ورِيًّا وشِبَعًا، وشِفَاءً مِن كلِّ ¬

(¬1) يتضلع: يرتوى حتى يبلغ الماء أضلاعه. (¬2) تقدم تخريج حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬3) صحيح بمجموع طرقه. انظر إرواء الغليل 4/ 320 - 325. (¬4) سقط من: م. (¬5) في: باب الشرب من زمزم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1017، 1018.

فصل

فَصْلٌ: ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مِنًى، وَلَا يَبِيتُ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى، ـــــــــــــــــــــــــــــ دَاءٍ، واغْسِلْ به قَلْبِى، وامْلَأه مِن خشْيَتِكَ وحِكْمَتِكَ). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّه: (ثم يَرْجِعُ إلى مِنًى، ولا يَبِيتُ بمَكَّةَ لَيالِىَ مِنًى) السُّنَّةُ لمَن أفاضَ يومَ النَّحْرِ أن يَرْجِعَ إلى مِنًى؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أفاضَ يومَ النَّحْرِ، ثم رَجَع، فصَلَّى الظُّهْرَ بمِنًى. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والمَبِيتُ بمِنًى في لَيالِيها واجِبٌ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. رُوِى ذلك عن ابنِ عباسٍ، وهو قَوْلُ عُرْوَةَ، ومُجاهِدٍ، وإبراهيمَ، وعَطاءٍ. ورُوِىَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. والثانيةُ، ليس بواجِبٍ. رُوِى ذلك عن الحسنِ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ: إذا رَمَيْتَ الجَمْرَةَ فبِتْ حيثُ شِئْتَ، ولأنَّه قد حَلَّ مِن حَجِّه، فلم يَجِبْ عليه المَبِيتُ بمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، كلَيْلَةِ الحَصْبةِ (¬2). ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنّ ابنَ عُمَرَ روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَخَّصَ للعباسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ أن يَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى، مِن أجْلِ سِقَايَتِه. مُتّفَقٌ عليه (¬3). وتَخْصِيصُ العباسِ بالرُّخْصَةِ ¬

(¬1) ذكره البخارى تعليقًا، في: باب الزيارة قبل النحر، من كتاب الحج، وقال: ورفعه عبد الرزاق. صحيح البخارى 2/ 214. وأخرجه مسلم، في: باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 950. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإفاضة في الحج، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 461. (¬2) ليلة الحصبة: التى بعد أيام التشريق. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب سقاية الحاج، وباب هل يبيت أصحاب السقاية. . .، من كتاب الحج. =

1314 - مسألة: (ويرمى الجمرات بها فى أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة بسبع حصيات، فيبدأ بالجمرة الأولى، وهى أبعدهن من مكة، وتلى مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره، ويرميها

ويَرْمِى الْجَمَرَاتِ بِهَا فِى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بعْدَ الزَّوَالِ، كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَيَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَهِىَ أَبْعَدُهُنَّ مِنْ مَكَّةَ، وَتَلِى مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعٍ، ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ لعُذْرِه دَلِيلٌ على أنَّه لا رُخْصَةَ لغيرِه. وعن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: لم يُرَخِّصِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحَدٍ يَبِيتُ بمَكَّةَ إلَّا للعباسِ؛ مِن أجْلِ سِقايَتِه. رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه نُسُكًا، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬2). 1314 - مسألة: (ويَرْمِى الجَمَراتِ بها في أيَّامِ التَّشْرِيقِ بعدَ الزَّوَالِ، كلَّ جَمْرَةٍ بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فيَبْدَأُ بالجَمْرَةِ الأُولَى، وهى أبْعَدُهُنَّ مِن مَكَّةَ، وتَلِى مَسْجِدَ الخَيْفِ، فيَجْعَلُها عن يَسَارِه، ويَرْمِيها ¬

= صحيح البخارى 2/ 191، 217. ومسلم، في: باب وجوب المبيت بمنى. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 953. كما أخرجه أبو داود، في: باب يبيت بمكة ليالى منى، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 454. وابن ماجه، في: باب البيتوتة بمكة ليالى منى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1019. والدارمى، في: باب في من يبيت بمكة ليالى منى، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 75. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 19، 22، 28، 88. (¬1) في: باب البيتوتة بمكة ليالى منى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1019. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87.

يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا، فَيَقِفُ يَدْعُو اللَّه وَيُطيلُ، ثُمَّ يَأْتِى الْوُسْطَى فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعٍ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا فَيَدْعُو، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعٍ، وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِىَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِى الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بسَبْعٍ، ثم يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا، فيَقِفُ يَدْعُو اللَّهَ تعالى ويُطِيلُ، ثم يَأْتِى الوُسْطَى، فيَجْعَلُها عن يَمِينِه، ويَرْمِيها بسَبْعٍ، ويَقِفُ عِنْدَها فيَدْعُو، ثم يَرْمِى جَمْرَةَ العَقَبَةِ بسَبْعٍ، ويَسْتَبْطِنُ الوَادِىَ، ولا يَقِفُ عندَها، ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ في الجَمَرَاتِ كُلِّها) قد ذَكَرْنا أنَّ جُمْلَةَ ما يَرْمِى به الحاجُّ سَبْعُونَ حَصَاةً؛ سَبْعَةٌ منها يَرْمِى بها يومَ النَّحْرِ بعدَ طُلُوعِ الشمسِ، وبَاقِيها في أيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ بعدَ زَوالِ الشمسِ، كلَّ يَوْمٍ إحْدَى وعِشْرِينَ حَصَاةً، لثَلاثِ جَمَرَاتٍ، يَبْدَأُ بالجَمْرَةِ الأُولَى، وهى أبعدُ الجَمَراتِ مِن مَكَّةَ، قَرِيبًا مِن مَسْجِدِ الخَيْفِ، فيَجْعَلُها عن يَسَارِه، ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ويَرْمِيها بسَبْعٍ حَصَيَاتٍ، كما وَصَفْنا في رَمْىِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، ثم يَتَقَدَّمُ منها إلى مَكانٍ لا يُصِيبُه الحَصَى، فيَقِفُ طَوِيلًا يَدْعُو اللَّهَ تَعالَى رافِعًا يَدَيْه، ثم يَتَقَدَّمُ إلى الوُسْطَى، فيَجْعَلُها عن يَمِينهِ، ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ويَرْمِيها بسَبْعٍ، ويَفْعَلُ مِن الوُقُوفِ والدُّعَاءِ كما فَعَل في الأُولَى، ثم يَرْمِى جَمْرَةَ العَقَبَةِ بسَبْعٍ، ويَسْتَبْطِنُ الوادِىَ، ويَسْتَقْبِلُ القِبلَةَ، ولا يَقِفُ عِندَها. هذا قولُ الشافعىِّ. ولا نَعْلَمُ في جميعِ ذلك خِلافًا، إلَّا أنَّ مالِكًا قال: ليس بمَوْضِعٍ لرَفْعِ اليَدَيْنِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه عندَ رُؤْيَةِ البَيْتِ (¬1). وقال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يُسْألُ، أيَقُومُ الرجل عندَ الجَمْرَتَيْن إذا رَمَى؟ قال: إى لعَمْرِى شَدِيدًا، ويُطِيلُ القِيامَ أيضًا. قيلَ: فإلَى أين يَتَوَجَّهُ في قِيامِه؟ قال: إلى القِبْلَةِ. ويَرْمِيها مِن بَطنِ الوَادِى. والأصْلُ في هذا ما رَوَتْ عائشةُ، قالت: أفاضَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن آخِرِ يَوْمِه حينَ صلَّى الظُّهْرَ، ثم رَجَع إلى مِنًى، فمَكَثَ بها لَيَالِىَ أيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِى الجَمْرَةَ إذا زَالَتِ الشمسُ، كلَّ جَمْرَةٍ بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ، ويَقِفُ عندَ الأُولَى والثانيةِ ويَتَضَرَّعُ، ويَرْمِى الثالثةَ، ولا يَقِفُ عندَها. رَواه أبو داودَ (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان يَرْمِى الجَمْرَةَ الأُولَى بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ على إثْرِ كلِّ حَصَاةٍ، ثم يَتَقَدَّمُ، ويَسْتَهِلُّ، ويَقُومُ قِيامًا طَوِيلًا، ويَرْفَعُ يَدَيْه، ثم يَرْمِى الوُسْطَى، ويَأْخُذُ بذاتِ الشِّمالِ، ويَسْتَهِلُّ، ويَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ قِيامًا طويلًا، ثم يَرْفَعُ يَدَيْه، ويَقُومُ طويلًا، ثم يَرْمِى جَمْرَةَ ¬

(¬1) تقدم هذا في صفحة 77. (¬2) في: باب في رمى الجمار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 456. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 90.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَقَبَةِ مِن بَطْنِ الوَادِى، ولا يَقِفُ عندَها، ثم ينْصَرِفُ، ويقولُ: هكذا رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَلُه. رَواه البخارىُّ (¬1). وروَى أبو داودَ، أنَّ ابنَ عُمَرَ كان يَدْعُو بدُعَائِه الذى دَعَا به بعَرَفَةَ ويَزِيدُ: وأصْلِحْ وأتِمَّ لَنَا مَنَاسِكَنَا. وقال ابنُ المُنْذِرِ: كان ابنُ عُمَرَ، وابنُ مَسْعُودٍ يَقُولَانِ عندَ الرَّمْى: اللَّهُمَّ اجْعَلْه حَجًّا مَبْرُورًا، وذَنْبًا مَغْفُورًا (¬2). وروَى عبدُ الرحمنِ ابنُ يَزِيدَ (¬3) قال: أفَضْتُ مع عبدِ اللَّهِ، فرَمَى بسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مع كلِّ حَصَاةٍ، ويَسْتَبْطِنُ الوَادِىَ، حتى إذا فَرَغ، قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْه حَجًّا مَبْرُورًا، وذَنْبًا مَغْفُورًا. ثم قال: هكذا رَأيْتُ الذى أُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ البَقَرَةِ صَنَع. رَواه الأثْرَمُ (¬4). فصل: ولا يَرْمِى إلَّا بعدَ الزَّوالِ، فإن رَمَى قبلَ الزَّوالِ أعادَ. نَصَّ عليه. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وبه قال مالكٌ، والثَّورِىُّ، والشافعىُّ، ¬

(¬1) في: باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى، وباب الدعاء عند الجمرتين، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 218، 219. كما أخرجه النسائى، في: باب الدعاء بعد رمى الجمار، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 225. والدارمى، في: باب الرمى من بطن الوادى. . .، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 63. (¬2) بعده في م: «وسعيًا مشكورًا». (¬3) في النسخ: «زيد». والمثبت من مسند الإمام أحمد. وهو اليماني الأبناوى القاص. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/ 300. (¬4) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى، وعَطاءٌ، إلَّا أنَّ إسحاقَ، وأصحابَ الرَّأْى، رَخَّصُوا في الرَّمْى يومَ النَّفْرِ قبلَ الزَّوَالِ. ولا يَنْفُرُ إلَّا بعدَ الزَّوالِ. وعن أحمدَ مِثْلُه. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما رَمَى بعدَ الزَّوالِ؛ لقولِ جابِرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْمِى الجَمْرَةَ ضُحَى يَوْم النَّحْرِ، ورَمَى بعدَ ذلك بعدَ زَوالِ الشمسِ (¬1). وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬2). وقال ابنُ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ إذا زَالَتِ الشمسُ رَمَيْنا. وأىَّ وَقْتٍ رَمَى بعدَ الزَّوالِ أجْزأه؛ إلَّا أنَّ المُسْتَحَبَّ المُبادَرَةُ إليها حينَ الزَّوالِ، كما قال ابنُ عُمَرَ. وقال ابنُ عباسٍ: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْمِى الجِمارَ إذا زَالَتِ الشمسُ، قَدْرَ ما إذا فَرَغ مِن رَمْيِه صَلَّى الظُّهْرَ. رَواه ابنُ ماجَه (¬3). فصل: فإن تَرَك الوُقُوفَ عندَها والدُّعَاءَ، تَرَك السُّنَّةَ، ولا شئَ عليه. وبه قال الشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ. وعن الثَّوْرِىِّ، أنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬3) في: باب رمى الجمار أيام التشريق، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1014. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرمى بعد زوال الشمس، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 133.

1315 - مسألة: (والترتيب شرط فى الرمى. وفى عدد الحصى روايتان؛ إحداهما سبع. والأخرى، يجزئه خمس)

وَالتَّرتِيبُ شَرْطٌ فِى الرَّمْى. وَفِى عَدَدِ الْحَصَى رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، سَبْعٌ. وَالْأُخْرَى، يُجْزِئُهُ خَمْسٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: يُطْعِمُ شيئًا، وإن أراقَ دَمًا أحَبُّ إلىَّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، فيكونُ نُسُكًا. ولَنا، أنَّه دُعاءٌ ووُقُوفٌ مَشْرُوعٌ، فلم يَجِبْ بتَرْكِه دَمٌ، كحالَةِ رُؤْيَةِ البَيْتِ، وكسائِرِ الأدْعِيَةِ، والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَلُ الواجِباتِ والمَنْدُوباتِ، وقد ذَكَرْنا الدَّلِيلَ على أنَّه مَنْدُوبٌ. 1315 - مسألة: (والتَّرْتِيبُ شَرْطٌ في الرَّمْى. وفى عَدَدِ الحَصَى رِوايَتان؛ إحداْهُما سَبْعٌ. والأُخْرَى، يُجْزِئُه خَمْسٌ) التَّرْتِيبُ في هذه الجَمَراتِ واجِبٌ، على ما ذَكَرْناه. فإن نَكَسَ، فبَدَأ بجَمْرَةِ العَقَبَةِ، ثم الثَّانيةِ، ثم الأُولَى، أو بَدَأ بالوُسْطَى، ورَمَى الثَّلاثَ، لم يُجْزِئْه إلَّا الأُولَى، وأعادَ الوُسْطَى والقُصْوَى. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن رَمَى القُصْوَى، ثم الأُولَى، ثم الوُسْطَى، أعادَ القُصْوَى وَحْدَها. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال الحَسَنُ، وعَطاءٌ: لا يَجِبُ التَّرْتِيبُ. وهو قَوْلُ أبى حنيفةَ، فإنَّه قال: إذا رَمَى مُنْكِسًا، يُعِيدُ، فإن لم يَفْعَلْ أجْزَأه. واحْتَجَّ بعضُهم بما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا بَيْنَ يَدَىْ نُسُكٍ فَلَا حَرَجَ» (¬1). ولأنَّها مَناسِكُ مُتَكَرِّرَةٌ، وفى أمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ في وَقْتٍ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى في: باب التقديم والتأخير في عمل يوم النحر، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ، ليس بعضُها تَابِعًا لبعضٍ، فلم يُشْتَرَطِ التَّرْتِيبُ فيها، كالرَّمْى، والذَّبْحِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَتَّبَها في الرَّمْى، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (¬1). ولأنَّه نُسُكٌ مُتَكَرِّرٌ، فاشْتُرِطَ التَّرْتِيبُ فيه، كالسَّعْى. وحَدِيثُهم إنَّما هو في مَن يُقَدِّمُ نُسُكًا على نُسُكٍ، لا في مَن يُقَدِّمُ بعضَ النُّسُكِ على بعضٍ. وقِياسُهم يَبْطُلُ بالطَّوَافِ والسَّعْى. فصل: والأَوْلَى في الرَّمْى أن لا يَنْقُصَ عن سَبْعِ حَصيَاتٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى بسَبْعٍ، فإن نَقَص حَصَاةً أو حَصَاتَيْن، فلا بَأْسَ، ولا يَنْقُصُ أكْثَرَ مِن ذلك. نَصَّ عليه. وهو قولُ مُجاهِدٍ، وإسحاقَ. وعنه، إن رَمَى بسِتٍّ نَاسِيًا، فلا شئ عليه، ولا يَنْبَغِى أن يَتَعَمَّدَه، فإن تَعَمَّدَ ذلك، تَصَدَّقَ بشئٍ. وكان ابنُ عُمَرَ يقولُ: ما أُبالِى، رَمَيْتُ بسِتٍّ أو سَبْعٍ. قال ابنُ عباسٍ: ما أدْرِى، رَمَاها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسِتٍّ أو بسَبْعٍ. وعن أحمدَ، أنَّ عَدَدَ السَّبْعِ شَرْطٌ. ويُشْبِهُ مَذْهَبَ الشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى بسَبْعٍ. وقال أبو حَيَّةَ: لا بَأْسَ بما رَمَى به الرجلُ مِن الحَصا. فقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو: صَدَقَ أبو حَيَّةَ. وكان أبو حَيَّةَ بَدْرِيًّا. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، ما روَى ابنُ أبى نَجِيحٍ، قال: سُئِلَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87.

1316 - مسألة: (فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى، لم يصح رمى الثانية)

فَإِنْ أَخَلَّ بِحَصَاةٍ وَاجِبَةٍ مِنَ الْأُولَى، لَمْ يَصِحَّ رَمْىُ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَىِّ الْجِمَارِ تَرَكَهَا، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طاوُسٌ عن رجلٍ تَرَك حَصَاةً؟ قال: يَتَصَدَّقُ بتَمْرَةٍ أو لُقْمَةٍ. فذَكَرْتُ ذلك لمُجاهِدٍ، فقالَ: إنَّ أبا عبدِ الرحمنِ لم يَسْمَعْ قولَ سَعْدٍ، قال سَعْدٌ: رَجَعْنَا مِن الحَجَّةِ (¬1) مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بعضُنا يَقُولُ: رَمَيْتُ بسِتٍّ. وبعضُنا: بسَبْعٍ. فلم يَعِبْ ذلك بعضُنا على بعضٍ. رَواه الأثْرَمُ وغيرُه (¬2). 1316 - مسألة: (فإن أخَلَّ بحَصاةٍ واجِبَةٍ مِن الأُولَى، لم يَصِحَّ رَمْىُ الثَّانيةِ) حتى يُكْمِلَ الأُولَى؛ لإِخْلالِه بالتَّرْتِيبِ (فإن لم يَعْلَمْ مِن أىِّ الجِمارِ تَرَكَها، بَنَى على اليَقِينِ) ليَتَيَقَّنَ بَراءَةَ الذِّمَّةِ. فإن أخَلَّ بحَصاةٍ غيرِ واجِبَةٍ، لم يُؤَثِّرْ تَرْكُها. ¬

(¬1) في الأصل: «الجحفة». (¬2) أخرجه النسائى، في: باب عدد الحصى التى يرمى بها الجمار، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 223.

1317 - مسألة: (وإن أخر الرمى كله، فرماه فى آخر أيام التشريق، أجزأه، ويرتبه بنيته. وإن أخره عن أيام التشريق، أو ترك المبيت بمنى فى لياليها، فعليه دم، وفى حصاة أو ليلة واحدة ما فى حلق شعره)

وَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْىَ كُلَّهُ، فَرَمَاهُ فِى آخِرِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، أَجْزَأَهُ، وَيُرَتِّبُهُ بِنِيَّتِهِ. وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ تَرَكَ الْمَبِيت بِمِنًى فِى لَيَالِيهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَفِى حَصَاةٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَا فِى حَلْقِ شَعَرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1317 - مسألة: (وإنْ أخَّرَ الرَّمْىَ كلَّه، فرَمَاه في آخِرِ أيامِ التَّشْرِيقِ، أجْزَأه، ويُرَتِّبُه بنِيَّتِه. وإن أخَّرَه عن أيَّامِ التَّشْرِيقِ، أو تَرَكَ المَبِيتَ بمِنًى في لَيالِيها، فعليه دَمٌ، وفى حَصَاةٍ أو لَيْلَةٍ واحِدَةٍ ما في حَلْقِ شَعَرِه) إذا أخَّرَ رَمْىَ يَوْمٍ إلى ما بَعْدَه، أو أخَّرَ الرَّمْىَ كلَّه إلى آخِرِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، تَرَك السُّنَّةَ، ولا شئَ عليه، إلَّا أنَّه يُقَدِّمُ بالنِّيَّةِ رَمْىَ اليومِ الأولِ، ثم الثَّانِى، ثم الثالِث. وبذلك قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن تَرَك حَصاةً أو حَصاتَيْن أو ثلاثًا إلى الغدِ، رماها، وعليه لكلِّ حَصاةٍ نِصْفُ صاعٍ، وإن تَرَك أرْبَعًا، رَمَاها، وعليه دَمٌ. ولَنا، أنَّ أيَّامَ التَّشرِيق وَقْتٌ للرَّمْىِ، فإذا أخَّرَه مِن أوَّلِ وَقْتِه إلى آخِره، لم يَلْزَمْه شئٌ، كما لو أخَّرَ الوُقُوفَ بعَرَفَةَ إلى آخِرِ وَقْتِه. قال القاضى: ولا يَكُونُ رَمْيُه في اليومِ الثانى قَضاءً؛ لأنَّه وَقْتٌ واحِدٌ. فإن سُمِّىَ قَضاءً، فالمُرَادُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به الفِعْلُ، كقولِه تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬1). وقَوْلِهم: قَضَيْتُ الدَّيْنَ. والحُكْمُ في رَمْى جَمْرَةِ العَقَبَةِ إذا أخَّرَها، كالحُكْمِ في رَمْى أيَّامِ التَّشْرِيقِ، في أنَّها إذا لم تُرْمَ يَوْمَ النَّحْرِ رُمِيَتْ مِن الغَدِ. وإنَّما قُلْنا: يَلْزَمُه التَّرْتِيبُ بنِيَّتِه؛ لأنَّها عِبادَةٌ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فيها إذا فَعَلَها في أيَّامِها، فوَجَبَ تَرْتِيبُها مَجْمُوعَةً، كالمَجْمُوعَتَيْن والفَوائِتِ مِن الصَّلَواتِ. فصل: فإن أخَّرَه عن أيَّامِ التَّشْرِيقِ، فعليه دَمٌ؛ لأنَّه تَرَك نُسُكًا واجبًا، فيَجِبُ عليه دَمٌ؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: مَن تَرَك نُسُكًا، أو نَسِيَه فإنَّه يُهْرِقُ دَمًا (¬2). ولأنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْى آخِرُ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، فمتى خَرَجَتْ قبلَ رَمْيِه فاتَ وَقْتُه، واسْتَقَرَّ عليه الفِداءُ الواجِبُ في تَرْكِ الرَّمْى. ¬

(¬1) سورة الحج 29. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 125.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. وعن عطاءٍ، في مَن رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، وخَرَج إلى إبلِه في لَيْلَةِ أرْبَعَ عَشْرَةَ، ثم رَمَى قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، أجْزَأه، فإن لم يَرْمِ، فعليه دَمٌ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ مَحَلَّ الرَّمْى النَّهارُ، فيَخْرُجُ وَقْتُ الرَّمْى بخُرُوجِ النَّهارِ، وكذلك إن تَرَك المَبِيتَ بمِنًى في لَيالِيها. وهذا مَبْنِىٌّ على الرِّوايَةِ في وُجُوبِ المَبِيتِ بمِنًى. وعن أحمدَ، أنَّه لا شئَ عليه، وقد أساءَ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ فيه بشئٍ. وعنه، يُطْعِمُ شَيْئًا. وخَفَّفَه، ثم قال: قد قال بعضُهم: ليس عليه. وقال إبراهيمُ: عليه دَمٌ. وضَحِكَ، ثم قال: دَمٌ بمرةٍ. شَدَّدَ «بمَرَّةٍ» (¬1). قُلْتُ: ليس إلَّا أن يُطْعِمَ شيئًا؟ قال: نعم، يُطْعِمُ شيئًا، تَمْرًا أو نحوَه. فعلى هذا، أىُّ شئٍ تَصَدَّقَ به أجْزَأه. ولا فَرْقَ بينَ لَيْلَةٍ أو أكْثَرَ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «وبمرة». وانظر المغنى 5/ 325.

1318 - مسألة: (وليس على أهل سقاية الحاج ولا الرعاء مبيت

وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّعَاءِ مَبِيتٌ بِمِنًى. فَإِنْ غَرَبَتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَقْدِيرَ فيه. وفيما دُونَ الثَّلاثِ ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، في كلِّ واحِدَةٍ مُدٌّ. والثانيةُ، دِرْهَمٌ. والثالثةُ، نِصْف دِرْهَمٍ. قال الشَّيْخُ (¬1)، رَحِمَه اللَّه: وهذا لا نَظِيرَ له، فإنَّا لا نَعْلَمُ في تَرْكِ شئٍ مِن المناسِكِ دِرْهَمًا، ولا نِصْفًا، فإيجابُه بغيرِ نَصَّ تَحَكُّمٌ لا وَجْهَ له. وفى تَرْكِ حَصَاةٍ مِن رَمْى الجِمارِ كذلك، ولأنَّه في مَعْناهُ، وقد ذَكَرْنا ما في حَلْقِ الشَّعَرَةِ فيما مَضَى، وذكرنا الخِلَافَ فيه (¬2). 1318 - مسألة: (وليس على أهْلِ سِقَايَةِ الحاجِّ ولا الرِّعاءِ مَبِيتٌ ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 326. (¬2) سقط من: م.

الشَّمْسُ، وَهُمْ بِمِنًى، لَزِمَ الرِّعَاءَ الْمَبِيتُ، دَونَ أَهْلِ السِّقَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِنًى، فإن غَرَبَتِ الشمسُ، وهم بمِنًى، لَزِمَ الرِّعَاءَ المَبِيتُ، دُونَ أهْلِ السِّقَايَةِ) لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنّ العباسَ اسْتَأْذَنَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أن يَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِن أجْل سِقَايَتِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقد روَىَ مالكٌ بإسْنادِه، عن أبى البدَّاحِ بنِ عاصِمٍ، عن أبيه، قال: رَخَّصَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لرِعاءِ الإِبِلِ في البَيْتُوتَةِ أن يَرْمُوا يومَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رَمْىَ يَوْمَيْن بعدَ يَوْمِ النَّحْر، يَرْمُونَه في أحَدِهما. قال مالكٌ: ظَنَنْتُ أنَّه قال: في أوَّلِ يومٍ منهما، ثم يَرْمُونَ يومَ النَّفْرِ. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ. ورَواهُ ابنُ عُيَيْنَةَ، قال: رَخَّصَ للرِّعاءِ أن يَرْمُوا يَوْمًا ويَدَعُوا يَوْمًا. وكذلك الحُكْمُ في أهْلِ سِقَايَةِ الحاجِّ، إلَّا أنَّ الفَرْقَ بينَ الرِّعاءِ وأهْلِ السِّقَايَةِ، أنَّ الرِّعاءَ إذا قامُوا حتى غَرَبَتِ الشمسُ، لَزِمَهم المَبِيتُ، إذا قُلْنا بوُجُوبِه، وأهلُ السِّقَايَةِ لا يَلْزَمُهُم؛ لأنَّ الرِّعَاءَ إنَّما رَعْيُهمِ بالنَّهارِ، فإذا غَرَبَتِ الشمسُ انْقَضَى وَقْتُ الرَّعْى، وأهلُ السِّقَايَةِ يَسْتَقُونَ باللَّيْلِ، وصارَ الرِّعاءُ كالمَرِيضِ الذى يَسْقُطُ عنه حُضُورُ الجُمُعَةِ لمَرَضِه، فإذا حَضَرَها تَعَيَّنَتْ عليه، كذلك الرِّعاءُ، أُبيحَ لهم تَرْكُ المَبِيتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 236. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجْلِ الرَّعْى، فإذا فات وَقْتُه، وَجَب المَبِيتُ. وِأهْلُ الأعْذارِ مِن غيرِ الرِّعاءِ، كالمَرْضَى، ومن له مالٌ يَخافُ ضَياعَه، ونحْوِهم، كالرِّعاءِ في تَرْكِ البَيْتُوتَة؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَخَّصَ لهؤلاء تَنْبِيهًا على غيرِهم، فوَجَبَ إلْحاقُهم بهم لوُجُودِ المَعْنَى فيهم. فصل: ومَن كانَ مَرِيضًا، أو مَحْبُوسًا، أو له عُذْرٌ، جاز أن يَسْتَنِيبَ مَن يَرْمِى عنه. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: إذا رَمَى عنه الجِمارَ، يَشْهَدُ هو ذاك، أم يكونُ في رَحْلِه؟ قال: يُعْجِبُنِى أن يَشْهَدَ ذاك إن قَدَر حينَ يَرْمِى عنه. قُلْتُ: فإن ضَعُفَ عن ذلك، يكونُ في رَحْلِه ويَبْعَثُ مَن يَرْمِى عنه؟ قال: نعم. قال القاضى: المُسْتَحَبُّ أن يَضَعَ الحَصَى في يَدِ النّائِبِ، ليكونَ له عَمَلٌ في الرَّمْى. وإن أُغْمِىَ على المُسْتَنِيبِ لم تَنْقَطِعِ النِّيَابَةُ، وللنّائِبِ الرَّمْىُ عنه، كما لو اسْتَنَابَه في الحَجِّ ثم أُغْمِىَ عليه. وبما ذَكَرْنا في هذه المسألةِ قال الشافعىُّ. ونحوه قال مالكٌ، إلَّا أنَّه قال (¬1): يَتَحَرَّى المَرِيضُ حينَ رَمْيِهِم، فيُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيراتٍ. فصل: ومَن تَرَك الرَّمْىَ مِن غيرِ عُذْرٍ، فعليه دَمٌ. قال أحمدُ: أعْجَبُ إلىَّ إذا تَرَك رَمْىَ الأيَّام كلِّها، كان عليه دَمٌ. وفى ترْكِ جَمْرَةٍ واحِدَةٍ دَمٌ أيضًا. نصَّ عليه أحمدُ. وبه قال عَطاءٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّه عليه في جَمْرَةٍ وفى الجَمَرَاتِ كلِّها بَدَنَةٌ. وقال الحسنُ: مَنْ نَسِىَ جَمْرَةً واحِدَةً يَتَصَدَّقُ على مِسْكِينٍ. ولَنا، قولُ ابنِ عباسٍ: مَن تَرَك شَيْئًا مِن مَناسِكِه، فعليه دَمٌ (¬1). ولأنَّه تَرَك مِن مَناسِكِه ما لا يَفْسُدُ الحَجُّ بتَرْكِه، فكان الواجبُ عليه شاةً، كالمَبِيتِ. وإن تَرَك أقَلَّ مِن جَمْرَةٍ، فالظَّاهِرُ عن أحمدَ، أنَّه لا شئَ في حَصَاةٍ ولا حَصَاتَيْن. وعنه، أنَّه يَجِبُ الرَّمْىُ بسَبْعٍ. فإن تَرَك شَيئًا مِن ذلك تَصَدَّقَ بشئٍ، أىِّ شئٍ كانَ. وعنه، أنَّ في حَصاةٍ دَمًا. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، واللَّيْثِ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: مَن تَرَك شيئًا مِن مَنَاسِكِه، فعليه دَمٌ. وعنه، في الثلَاثَةِ دَمٌ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وفيما دُونَ ذلك، في كلِّ حَصَاةٍ مُدٌّ. وعنه، دِرْهَمٌ. وعنه، نِصْفُ دِرْهَمٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن تَرَك جَمْرَةَ. العَقَبَةِ أو (¬2) الجِمارَ كلَّها، فعليه دَمٌ، وإن تَرَك أقَلَّ مِن ذلك، فعليه في كلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صاعٍ، إلى أن يَبْلُغَ دَمًا. وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن لا يَدَع الصلاةَ مع الإِمَامِ في مَسْجِدِ مِنًى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه كانُوا يُصَلُّونَ بمِنًى. قال ابنُ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 125. (¬2) في م: «و».

1319 - مسألة: (ويخطب الإمام فى اليوم الثانى من أيام التشريق، خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير، وتوديعهم)

وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِى مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَوْدِيعِهِمْ. فَمَنْ أَحَبَّ أنْ يَتَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ، خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ غَرَبَتْ وَهُوَ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه: صَلَّيْتُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْعَتَيْن، ومع أبى بَكْرٍ رَكْعَتَيْن، ومع عُمَرَ، وعثمانَ رَكْعَتَيْن صَدْرًا مِن إمارَتِه (¬1). فإن كان الإِمامُ غيرَ مَرْضِىٍّ صَلَّى المَرْءُ برُفْقَتِه في رَحْلِه. 1319 - مسألة: (ويَخْطُبُ الإِمامُ في اليَوْمِ الثَّانِى مِن أيَّامِ التَّشْرِيقِ، خُطْبَةً يُعَلِّمُهُم فيها حُكْمَ التَّعْجيلِ والتَّأْخِيرِ، وتَوْدِيعِهم). وبهذا قال الشافعىُّ وابنُ المُنْذِرِ. وقال أَبو حنيفةَ: لا يُسْتَحَبُّ، قِياسًا على اليَوْمَيْن الآخَرَيْن. ولَنا، ما رُوِى عن رَجُلَيْن مِن بَنِى بَكْرٍ، قالا: رَأيْنا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ بينَ أواسِطِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، ونحن عندَ راحِلَتِه. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّ بالنَّاسِ حاجَةً إلى أن يُعَلِّمَهم كيفَ يَتَعَجَّلُونَ، وكيفَ يُوَدِّعُونَ، بخلافِ اليَوْمِ الأوَّلِ والثالِثِ. 1320 - مسألة: (فمَن أحَبَّ أن يَتَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، خَرَج قبلَ غُرُوبِ الشمسِ، فإن غَرَبَتِ الشمسُ، وهو بمِنًى لزِمَهُ المَبِيتُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 49. (¬2) في: باب أى يوم يخطب بمنى، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 452.

لَزِمَهُ المَبِيتُ وَالرَّمْىُ مِنَ الْغَدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرَّمْىُ مِن الغَدِ) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ مَن أرادَ الخُرُوجَ مِن مِنًى، شاخِصًا عن الحَرَمِ غيرَ مُقِيمٍ بمَكَّةَ، أنَّ له أن يَنْفِرَ بعدَ الزَّوَالِ في اليَوْمِ الثَّانِى مِن أيَّامِ التَّشْرِيقِ، فإن أحَبَّ الإِقامَةَ بمَكَّةَ، فقالَ أحمدُ: لا يُعْجبُنِى لمن نَفَرَ النَّفْرَ الأوَّلَ أن يُقِيمَ بمَكَّةَ. وكان (¬1) مالكٌ يقولُ في أهْلِ مَكَّةَ: مَن كان له عُذْرٌ، فله أن يَتَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، فإن أرادَ التَّخْفِيفَ عن نَفْسِه مِن أمْرِ الحَجِّ، فلا. واحْتَجَّ مَن ذَهَب إلى هذا بقَوْلِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه: مَن شاءَ مِن النَّاسِ كُلِّهم أن يَنْفِرَ في النَّفْرِ الأوَّلِ، إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ، فلا يَنْفِرُوا إلَّا في النَّفْرِ الآخِرِ. جَعَل أحمدُ، وإسْحاقُ مَعْنَى قولِ عُمَرَ: إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ. أى أنَّهُم أهلُ الحَرَمِ. والمَذْهَبُ جَواز النَّفْرِ في النَّفْرِ الأوَّلِ لكلِّ أحَدٍ. وهو قولُ عامَّةِ العُلَماءِ؛ لقولِ اللَّهِ تَعالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬2). قال عَطاءٌ: هى للنَّاسِ عامَّةً. وروَى أبو داودَ وابنُ ماجَه (¬3)، عن يَحْيَى ¬

(¬1) في النسخ: «قال». وانظر المغنى 5/ 331. (¬2) سورة البقرة 203. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من لم يدرك عرفة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 451، 452. وابن ماجه، في: باب من أتى عرفة. . .، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1003. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 309، 310، 335.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن يَعْمُرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ [فِى يَوْمَيْنِ] (¬1) فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ». قال ابنُ عُيَيْنَةَ: هذا أجْودُ حَدِيثٍ رَواه سُفْيانُ. وقال وَكِيعٌ: هذا الحَدِيثُ أُمُّ المَنَاسِكِ، وفيه زِيادَةٌ أنا اخْتَصَرْتُه. ولأنَّه دَفْعٌ مِن مَكانٍ، فاسْتَوَى فيه أهْلُ مَكَّةَ وغيرُهم، كالدَّفْعِ مِن عَرَفَةَ ومُزْدَلِفَةَ. وكَلامُ أحمدَ في هذا أرادَ به الاسْتِحْبابَ، مُوَافَقَةً لقَوْلِ عُمَرَ. فمَن أحَبَّ التَّعْجِيلَ في النَّفْرِ الأوَّلِ، خَرَج قبلَ غُرُوبِ الشمسِ، فإن غَرَبَتْ قبلَ خُرُوجِه مِن مِنًى، لم يَنْفِرْ، سَواءٌ كان ارْتَحَل أو لم يَرْتَحِلْ. هذا قولُ ابنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: له أن يَنْفِرَ ما لم يَطْلُعْ فَجْرُ اليَوْمِ الثالِثِ؛ لأنَّه لم يَدْخُلْ وَقْتُ رَمْى اليومِ الآخِرِ، فجازَ له النَّفْرُ، كما قبلَ الغُرُوبِ. ولَنا، قولُه سُبْحَانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. واليومُ اسْمٌ للنَّهارِ، فمَن أدْرَكَه اللَّيْلُ فما تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن. قال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه قال: مَن أدْرَكَه المَسَاءُ في اليَوْمِ الثَّانِى، فَلْيُقِمْ إلى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغدِ حتى يَنْفِرَ مع النّاسِ (¬1). وما قاسُوا عليه لا يُشْبِهُ ما نحن فيه، فإنَّه تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن. فصل: قال بعضُ أصحابِنا: يُسْتَحَبُّ لمَن نَفَر أن يَأْتِىَ المُحَصَّبَ، وهو الأَبْطَحُ، وحَدُّه ما بينَ الجَبَلَيْن إلى المَقْبَرَةِ، فيُصَلِّىَ به الظُّهْرَ والعصرَ والمَغْرِبَ والعِشاءَ، ثم يَهْجَعَ يَسِيرًا، ثم يَدْخُلَ مَكَّةَ. وكان ابنُ عُمَرَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً. قال ابنُ المُنْذِرِ: كان ابنُ عُمَرَ يُصَلِّى بالمُحَصَّب الظُّهْرَ والعَصرَ والمَغْرِبَ والعِشاءَ، وكان كَثِيرَ الاتِّبَاعِ لسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان طاوُسٌ يُحَصِّبُ في شِعْبِ الخُوزِ (¬2). وكان ابنُ عباسٍ، وعائشةُ، لا يَرَيان ذلك سُنَّةً، قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: التَّحْصِيبُ ليس بشئٍ، إنَّما هو مَنْزِلٌ نَزَله رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّ نُزُولَ الأَبْطَحِ ليسَ بسُنَّةٍ، إنَّما نَزَلَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليكونَ أسْمَحَ لخُرُوجِه إذا خَرَج. مُتَّفَقٌ عليهما (¬3). ومَن اسْتَحَبَّ ذلك فلاتِّباعِ رسولِ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى في: باب من غربت له الشمس. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 152. قال البيهقى: روى مرفوعًا، ورفعه ضعيف. (¬2) في م: «الجور» وفى الأصل غير منقوطة. وانظر المغنى 5/ 335. وشعب الخوز بمكة، سمى بهذا الاسم، لأن نافع بن الخوزى نزله، وكان أول من بنى فيه. معجم البلدان 3/ 295. (¬3) أخرجهما البخارى، في: باب المحصب، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 222. ومسلم، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّه كان يَنْزِلُه. قال نافِعٌ: كان ابنُ عُمَرَ يُصَلِّى بها الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِب والعِشَاءَ، ويَهْجَعُ هَجْعَةً، ويَذْكُرُ ذلك عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال ابنُ عُمَرَ: كان رسولُ اللَّهِ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعثمانُ يَنْزِلُونَ الأبطَحَ. قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حَدِيثٌ حَسنٌ غَرِيبٌ. ولا خِلافَ أنَّه لا يَجِبُ، ولا شئَ على تارِكِه. فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن حَجَّ أن يَدْخُلَ البَيْتَ، وقد ذَكَرْناه، ولا يَدْخُلُه بنَعْلَيْه ولا خُفَّيْه، ولا إلى الحِجْرِ؛ لأنَّه مِن البَيْتِ، ولا يَدْخُلُ الكَعْبَةَ بسِلاحٍ. قال أحمدُ: وثِيابُ الكَعْبَةِ إذا نُزِعَتْ يُتَصَدَّقُ بها. وقال (¬3): إذا أرادَ أن يَسْتَشْفِىَ بشئٍ مِن طِيبِ الكَعْبَةِ، فيَأْتِ بطِيبٍ، مِن عندِه، فيُلْزِقَه على البَيْتِ بحيثُ يَأْخُذُه، ولا يَأْخُذْ مِن طِيبِ البَيْتِ شيئًا. ولا يُخْرِجْ مِن تُرابِ الحَرَمِ، ولا يُدْخِلْ فيه مِن الحِلِّ. كذلك قال ابنُ عُمَرَ، ¬

= باب استحباب النزول بالمحصب. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 952. كما أخرجهما الترمذى، في: باب ما جاء في نزول الأبطح، وباب من نزل الأبطح، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 153، 154. وأخرج الثانى ابن ماجه، في: باب نزول المحصب، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1019. (¬1) أخرجه البخارى، في: باب النزول بذى طوى. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 222. ومسلم، في: باب استحباب النزول بالمحصب. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 951. كما أخرجه أبو داود، في: باب التحصيب، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 464. (¬2) في: باب ما جاء في نزول الأبطح، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 152. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب نزول المحصب، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1020. (¬3) هذا شئ مبتدع، لم يثبت في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والشفاء إنَّما يطلب من اللَّه، وبفعل الأسباب المشروعة والمباحة، كالدعاء والرقية بالقرآن والتداوى بالأدوية المباحة. واللَّه أعلم.

1321 - مسألة: (فإذا أتى مكة، لم يخرج حتى يودع البيت

فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافَ، إِذَا فَرَغَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ عباسٍ. ولا يُخْرِجْ مِن حجارَةِ مَكَّةَ إلى الحِلِّ، والخُرُوجُ أشَدُّ، إلَّا أنَّ ماءَ زَمْزَمَ أخْرَجَه كَعْبٌ. فصل: قال أحمدُ، رَضِىَ اللَّه عَنه: كيفَ لنا بالجِوارِ بمَكَّةَ! قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لأحَبُّ البِقَاعِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّى أُخرِجْتُ مِنْكِ مَا خرَجْتُ» (¬1). وإنَّما كَرِه عُمَرُ الجِوارَ بمَكَّةَ، لمَن هاجَرَ منها، وجابِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ جاوَرَ بمَكَّةَ وجميعُ أهَلِ البلادِ، ومَن كان مِن أهْلِ اليَمَنِ ليس بمَنْزِلَةِ مَن يَخْرُجُ ويُهاجِرُ. أى لا بَأْس به. وابنُ عُمَرَ كان يُقِيمُ بمَكَّةَ. قال: والمُقامُ بالمَدِينَةِ أحَبُّ إلَىَّ مِن المُقام بمَكَّةَ، لمَن قَوِىَ عليه؛ لأنَّها مُهاجَرُ المُسْلِمينَ، وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَصْبِرُ أحَدٌ عَلَى لَأوَائِهَا وَشِدَّتِهَا إلَّا كُنْتُ له شَفِيعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» (¬2). 1321 - مسألة: (فإذا أتَى مَكَّةَ، لم يَخْرُجْ حتى يُوَدِّعَ البَيْتَ ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب في فضل مكة، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 280. وابن ماجه، في: باب فضل مكة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1037. والدارمى، في: باب إخراج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكة، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 239. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب الترغيب في سكنى المدينة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 1003. والترمذى، في: باب في فضل المدينة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 13/ 275. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 113، 119، 133، 288، 338، 343، 397، 439، 447، 3/ 58، 6/ 370.

مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالطَّوافِ، إذا فَرَغ مِن جَمِيعِ أُمُورِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن أتَى مَكَّةَ فلا يَخْلُو؛ إمَّا أن يُرِيدَ الإِقامَةَ بها، أو الخُرُوجَ منها، فإن أقامَ بها فلا وَداعَ عليه؛ لأنَّ الوَداعَ مِن المُفارِقِ، وسَواءٌ نَوَى الإِقامَةَ قبلَ النَّفْرِ أو بعدَه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن نَوَى الإِقامَةَ بعدَ أن حَلَّ له النَّفْرُ، لم يَسْقُطْ عنه الطَّوافُ. ولَنا، أنَّه غيرُ مُفارِقٍ، فلا يَلْزَمُه وَداعٌ، كمَنِ نَواها قبلَ حِلِّ النَّفْرِ، وإنَّما قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَنْفِرَنَّ أحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ» (¬1). وهذا ليس بنافِرٍ. فأمَّا الخارِجُ مِن مَكَّةَ، فليس له الخُرُوجُ حتى يُوَدِّعَ البَيْتَ بطَوافِ سَبْعٍ، وهو واجِبٌ يَجِبُ بتَرْكِه دَمٌ. وبه قال الحسنُ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الشافعىُّ في قولٍ: لا يَجِبُ بتَرْكِه شئٌ؛ لأنَّه يَسْقُطُ عن الحائِضِ، فلم يَكُنْ واجِبًا، كطَوافِ القُدُومِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: أُمِرَ النّاسُ أن يكونَ آخِرُ عَهْدِهم بالبَيْتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عن المَرْأةِ الحائِضِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولمسلمٍ، قال: كان النّاسُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 963. وأبو داود، في: باب الوداع، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 462. وابن ماجه، في: باب طواف الوداع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1020. والدارمى، في: باب في طواف الوداع، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 72. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 222. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب طواف الوداع، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 220. ومسلم، في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْصَرِفُونَ كلَّ وَجْهٍ، فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَنْفِرَنَّ أحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ». وسُقُوطُه عن المَعْذُورِ لا يُوجِبُ سُقُوطَه عن غيرِه، كالصلاةِ تَسْقُطُ عن الحائِضِ، وتَجِبُ على غيرِها، بل تَخْصِيصُ الحائِضِ بإسْقاطِه عنها دَلِيلٌ على وُجُوبِه على غيرِها، إذ لو كان ساقِطًا عن الكلِّ، لم يَكُنْ لتَخْصِيصِها بذلك مَعْنًى. إذا ثَبَت وُجُوبُه، فإنَّه ليس برُكْنٍ، بغيرِ خِلافٍ، ويُسَمَّى طَوافَ الوَداعِ؛ لأنَّه لتَوْدِيعِ البَيْتِ، وطَوافَ الصَّدَرِ؛ لأنَّه عندَ صُدُورِ النّاسِ مِن مَكَّةَ. ووَقْتُه بعدَ فَراغِ الحاجِّ مِن جَمِيعِ أمْرِه؛ ليَكُونَ آخِرُ عَهْدِه بالبَيْتِ، كما جَرَتِ العادَةُ في تَوْدِيعِ المُسافِرِ أهْلَه وإخْوانَه، ولذلك قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِه بِالبَيْتِ». فصل (¬1): ولا وَداعَ على مَن مَنْزِله بالحَرَمِ؛ لأنَّه كالمَكِّىِّ، فإن كان مَنْزِلُه خارِجَ الحَرَمِ قَرِيبًا منه، فعليه الوَداعُ. وهو ظاهِرُ كَلام الخِرَقِىِّ. وهذا قولُ أبى ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى في أهلَ بُسْتانِ ابنِ عامِرٍ (¬2)، وأهلِ المَواقِيتِ: إنَّهم بمَنْزِلةِ أهلِ مَكَّةَ في طَوافِ الوَداعِ؛ لأنَّهم مَعْدُودُون مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرامِ، بدَلِيلِ سُقُوطِ دَمِ المُتْعَةِ عنهم. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السلامُ: «لَا يَنْفِرَنَّ أحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ ¬

(¬1) هذا الفصل غر موجود: في النسخة المطبوعة. (¬2) هو بستان ابن معمر، وهذه تسمية العامة له، وهو مجتمع النخلتين النخلة اليمانية والنخلة الشامية. وقيل: بستان ابن معمر غير بستان ابن عامر، الأول هو الذى يعرف ببطن نخلة، والثانى موضع آخر قريب من الجحفة. معجم البلدان 1/ 610.

1322 - مسألة: (فإن ودع ثم اشتغل فى تجارة، أو أقام، أعاد الوداع)

فَإِنْ وَدَّعَ ثُمَّ اشْتَغَلَ فِى تِجَارَةٍ، أَوْ أَقَامَ، أعَادَ الْوَداعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ». ولأنَّه خارِجٌ مِن الحَرَمِ، فلَزِمَه التَّوْدِيعُ، كالبَعِيدِ. 1322 - مسألة: (فإن وَدَّعَ ثم اشْتَغَلَ في تِجارَةٍ، أو أقامَ، أعادَ الوَداعَ) لأنَّ طَوافَ الوَداعِ إنَّما يَكُونُ عندَ خُرُوجِه؛ ليكُونَ آخِرُ عَهْدِه بالبَيْتِ. فإنِ اشْتَغَلَ بَعْدَه بتِجارَةٍ أو إقامَةٍ، فعليه إعادَتُه. هذا قولُ عَطاءٍ، ومالكٍ، والثُّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى: إذا طَافَ للوَداعِ، أو طافَ تَطَوُّعًا بعدَ ما حَلَّ له النَّفْرُ، أجْزأه عن طَوافِ الوَدَاعِ، وإن أقامَ شَهْرًا؛ لأنَّه طافَ بعدَ ما حَلَّ له النَّفْرُ، فلم تَلْزَمْه إعادَتُه، كما لو نَفَر عَقِيبَه. ولَنا، قَوْلُه عليه السلامُ: «لَا يَنْفِرَنُّ أحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِه بِالْبَيْتِ» (¬1). ولأنَّه إذا قامَ بعدَه، خَرَج عن أن يَكُون ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 258.

1323 - مسألة: (فإن أخر طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، أجزأه عن طواف الوداع)

وَمَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، فَطَافَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَداعًا في العادَةِ، فلم يُجْزِئْه. كما لو طافَه قبلَ حِلِّ النَّفْرِ. فأمَّا إن قَضَى حاجَةً في طَرِيقِه، أو اشْتَرَى زادًا أو شيئًا لنَفْسِه في طَرِيقِه، لم يُعِدْه؛ لأنَّ ذلك ليس بإقامَةٍ تُخْرِجُ طَوافَه عن أن يكونَ آخِرَ عَهْدِه بالبَيْتِ. وبهذا قال مالكٌ والشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. 1323 - مسألة: (فإن أخَّرَ طَوافَ الزِّيارَةِ، فطافَه عندَ الخُرُوجِ، أجْزأه عن طَوافِ الوَداعِ) هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لأنَّه أُمِرَ أن يكونَ آخِرُ عَهْدِه بالبَيْتِ وقد فَعَل، ولأنَّ ما شُرِع لتَحِيَّةِ المَسْجِدِ أجْزَأ عنه الواجِبُ مِن جِنْسِه، كتَحِيَّةِ المَسْجِدِ برَكْعَتَيْن، تُجْزِئُ عنهما المَكْتُوبَةُ، ورَكْعَتَا الطَّوافِ والإِحْرَامِ تُجْزِئُ عنهما المَكْتُوبَةُ. وعنه،

1324 - مسألة: (فإن خرج قبل الوداع، رجع إليه. فإن لم يمكنه، فعليه دم، إلا الحائض والنفساء، لا وداع عليهما)

فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الْوَدَاعِ، رَجَعَ إِلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، إِلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ، لَا وَدَاعَ عَلَيْهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُجْزِئُ عن طَوافِ الوَداعِ؛ لأنَّهما عِبادَتان واجِبتان، فلم تُجْزِئْ إحْداهُما عن الأُخْرَى، كالصلاتَيْن الوَاجِبَتَيْن. فأمَّا إنْ نَوَى بِطَوَافِه الوَدَاعَ، لِم يُجْزِئْه عن طَوَافِ الزِّيارَةِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «وَإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوَى» (¬1). وحُكْمُه حُكْمُ مَن تَرَك طَوافَ الزِّيارَةِ، على ما نَذْكُرُه، إن شاءَ اللَّهُ تَعالَى (¬2). 1324 - مسألة: (فإن خَرَج قبلَ الوَداعِ، رَجَع إليه. فإن لمِ يُمْكِنْه، فعليه دَمٌ، إلَّا الحائِضَ والنُّفَساءَ، لا وَداعَ عليهما) مَن خَرَج قبلَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) انظر ما يأتى في صفحة 271، 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَداعِ فعليه الرُّجُوعُ، إن كان قَرِيبًا، وإن أبعدَ فعليه دَمٌ. هذا قولُ عَطاءٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. والقَرِيبُ مَن كان مِن مَكَّةَ دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ، والبَعِيدُ مَسافَةُ القَصْرِ فما زادَ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافعىِّ. وكان عَطاءٌ يَرَى الطائِفَ قَرِيبًا. وقال الثَّوْرِىُّ: حَدُّ ذلك الحَرَمُ، فمَن كان فيه فهو قَرِيبٌ، ومن خرَج منه فهو بَعِيدٌ. ولَنا، أنَّ مَن دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ في حُكْمِ الحاضِرِ، في أنَّه لا يُفْطِرُ ولا يَقْصُرُ، ولذلك عَدَدْناه مِن حاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَن لم يُمْكِنْه الرُّجُوعُ لعُذْرٍ، فهو كالبَعِيدِ. ولو لِم يَرْجِعِ القَرِيبُ الذى يُمْكِنُه الرُّجُوعُ، لم يَكُنْ عليه أكْثَرُ مِن دَمٍ. ولا فرْقَ بينَ تَرْكِه عَمْدًا أو خَطَأً، لعُذْرٍ أو غيرِه؛ لأنَّه مِن واجِباتِ الحَجِّ، فاسْتَوَى عَمْدُه وخَطَؤُه، والمَعْذُورُ وغيرُه، كسائِرِ واجِباتِه. فإن رَجَع البَعِيدُ، فطافَ للوَداعِ. فقال القاضى: لا يَسْقُطُ عنه الدَّمُ؛ لأنَّه قد اسْتَقَرَّ عليه ببُلُوغِه مَسافَةَ القَصْرِ، فلم يَسْقُطْ برُجُوعِه، كمَن تَجاوَزَ المِيقاتَ غيرَ مُحْرِمٍ، فأحْرَمَ دُونَه ثم رَجع إليه. وإن رَجَع القَرِيبُ فطافَ، فلا دَمَ عليه، سَواءٌ كان مِمَّن له عُذْرٌ يُسْقِطُ عنه الرُّجُوعَ، أو لَا؛ لأنَّ الدَّمَ لم يَسْتَقِرَّ عليه؛ لكَوْنِه في حُكْمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاضِرِ (¬1). ويَحْتَمِلُ سُقُوطُ الدَّمِ عن البَعِيدِ برُجُوعِه؛ لأنَّه واجِبٌ أتَى به، فلم يَجِبْ عليهِ بَدَلُه، كالقَرِيبِ. فصل: وإذا رَجَع البعِيدُ، فيَنْبَغِى أن لا يَجُوزَ له تَجاوُزُ المِيقاتِ إن كان تَجاوَزَه، إلَّا مُحْرِمًا؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ الأعْذَارِ، فيَلْزَمُه طَوافٌ لإحْرامِه بالعُمْرَةِ والسَّعْى، وطَوافُ الوَداعِ، وفى سُقُوطِ الدَّمِ عنه الخِلافُ المَذْكُورُ. وإن كان مِن دُونِ المِيقاتِ، أحْرَم من مَوْضِعِه. فأمَّا إن رَجَع القَرِيبُ، فظاهِرُ قولِ مَن ذَكَرْنا قولَه، أنَّه لا يَلْزَمُه إحْرامٌ لأنَّه رَجَع لإِتْمامِ نُسُكٍ مَأْمُورٍ به، فأشْبَهَ مَن رَجَع لطَوافِ الزِّيارَةِ، فأمَّا إن وَدَّعَ وخَرَج، ثم دَخَل مَكَّةَ لحاجَةٍ، فقالَ أحمدُ: أحَبُّ إلىَّ أن لا يَدْخُلَ إلَّا مُحْرِمًا، وأحَبُّ إلىَّ إذا خَرَج أن يُوَدِّعَ البَيْتَ بالطَّوافِ. وهذا لأنَّه لم يَدْخُلْ لإِتْمامِ النُّسُكِ، إنَّما دَخَل لحاجَةٍ غيرِ مُتَكَرِّرَةٍ، أشْبَهَ مَن يَدْخُلُها للإِقامَةِ بها. ¬

(¬1) في النسخ: «الحائض». وانظر: المغنى 5/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والحائِضُ والنُّفَساءُ لا وَداعَ عليهما، ولا فِدْيَةَ كذلك. هذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. وقد رُوِى عن عُمَرَ، وابنِه، رَضِىَ اللَّه عنهما، أنَّهما أمَرا الحائِضَ بالمُقامِ لطَوافِ الوَداعِ، وكان زيدُ بنُ ثابتٍ يقولُ به، ثم رَجَع عنه. فرَوَى مسلمٌ (¬1) أنَّ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ خالَفَ ابنَ عباسٍ في هذا. قال طاوُسٌ: كُنْتُ مع ابنِ عباسٍ، إذْ قال زَيدُ بنُ ثابِتٍ: تُفْتِى أن لا تَصْدُرَ الحائِضُ حتى يكونَ آخِرُ عَهْدِها بالبَيْتِ. فقال له ابنُ عباسٍ: إمَّا لا، تَسْألُ فُلانَةَ الأنْصَارِيَّةَ، هل أمَرَها بهذا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: فرَجَعَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ إلى ابنِ عباسٍ يَضْحَكُ، وهو يقولُ: ما أرَاكَ إلَّا قد صَدَقْتَ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه رَجَع إلى قولِ الجَماعَةِ أيضًا. وقد ثَبَت التَّخْفِيفُ عن الحائِضِ بحديثِ صَفِيَّةَ حينَ قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّها حائِضٌ. فقال: «أحَابِسَتُنَا هِى؟» قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّها قد أفاضَتْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب وجوب طواف الوداع. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 963، 964.

1325 - مسألة: (فإذا فرغ من الوداع، وقف فى الملتزم بين الركن والباب)

وَإذَا فَرَغَ مِنَ الْوَدَاعِ، وَقَفَ فِى الْمُلْتَزَمِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يومَ النَّحْرِ. قال: «فَلْتَنْفِرْ إذًا» (¬1). ولم يَأْمُرْها بفِدْيَةٍ ولا غيرِها. وفى حدِيثِ ابنِ عباسٍ: إلَّا أنَّه خَفَّفَ عن المَرْأةِ الحائِضِ (¬2). وحُكْمُ النُّفَسَاءِ حُكْمُ الحائِضِ؛ لأنَّ أحْكامَ النِّفاسِ أحْكامُ الحَيْضِ، فيما يَجِب ويَسْقُطُ. فصل: إذا نَفَرَتِ الحائِضُ بغيرِ وَداعٍ، فطَهُرَتْ قبلَ مُفارَقَةِ البُنْيَانِ، رَجَعَتْ فاغْتَسَلَتْ ووَدَّعَتْ؛ لأنَّها في حُكْمِ الإِقامَةِ [بدَلِيلِ أنَّها] (¬3) لا تَسْتَبِيحُ الرُّخَصَ. فإن لم تُمَكِنْها الإِقامَةُ فمَضَتْ، أو مَضَتْ لغيرِ عُذْرٍ، فعليها دَمٌ. فأمَّا إن فارَقَتِ البُنْيَانَ، لم يَجِبْ عليها الرُّجُوعُ؛ لخُرُوجِها عن حُكْمِ الحاضِرِ. فإن قيلَ: فلِمَ لا يَجِبُ الرُّجُوعُ ما دَامَتْ قَرِيبَةً، كالخارِجِ لغيرِ عُذْرٍ؟ قُلْنا: هناك تَرَكَ واجِبًا، فلم يَسْقُطْ بخُرُوجِه حتى يَصِيرَ إلى مَسافَةِ القَصْرِ؛ لأنَّه يكونُ إنْشاءَ سَفَرٍ طَوِيلٍ غيرِ الأوَّلِ، وههُنا لم يَكُنْ واجِبًا، ولا يَثْبُتُ وُجُوبُه ابْتِداءً إلَّا في حَقِّ مَن كان مُقِيمًا. 1325 - مسألة: (فإذا فَرَغ مِن الوَداعِ، وَقَف في المُلْتَزَمِ بينَ الرُّكْنِ والبابِ) يُسْتَحَبُّ أن يَقِفَ المُوَدِّعُ في المُلتَزَمِ، وهو ما بين الحَجَرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 226. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 258. (¬3) في م: «لأنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسْوَدِ وبابِ الكَعْبَةِ، فيَلْتَزِمَه، ويُلْصِقَ به صَدْرَه ووَجْهَه، ويَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ؛ لِما روَى أبو داودَ (¬1) عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه، قال: طُفْتُ مع عبدِ اللَّهِ، فلمّا جاءَ دُبُرَ الكَعْبَةِ، قُلْتُ: ألا تَتَعَوَّذُ. قال: نَعُوذُ باللَّهِ مِن النّارِ. ثم مَضى حتى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فقامَ بينَ الرُّكْنِ والبابِ، فوضَعَ صَدْرَه ووَجْهَه وذِرَاعَيْه وكَفَّيْه هكذا، وبَسَطَها بَسْطًا، وقال: هكذا رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَلُه. وعن عبدِ الرَّحْمنِ بنِ صَفْوانَ، قال: لمّا فَتَح رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ انْطَلَقْتُ فرَأْيتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد خَرَج مِن الكَعْبَةِ هو وأصحابُه، وقد اسْتَلَمُوا الرُّكْنَ مِن البابِ إلى الحَطِيمِ، ووَضَعُوا خُدُودَهم على البَيْتِ، ورسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسَطَهم. رَواه أبو داودَ (¬2). وقال منصورٌ: سَأَلْتُ مُجاهِدًا إذا أرَدْتُ الوَدَاعَ، ¬

(¬1) في: باب الملتزم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 438. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الملتزم، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 987. (¬2) في: باب الملتزم، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 438. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في «مجموع الفتاوى» 26/ 142 - 143: وإن أحب أن يأتى الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب، فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه كفيه، ويدعو، ويسأل اللَّه تعالى حاجته، =

فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ، وَأنَا عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِى عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِى مِنْ خَلْقِكَ، وَسَيَّرْتَنِى فِى بِلَادِكَ، حَتَّى بَلَّغْتَنِى بِنِعْمَتِكَ إِلَى بَيْتِكَ، وَأعَنْتَنِى عَلَى أدَاءِ نُسُكِى، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّى، فَازْدَدْ عَنِّى رِضًا، وَإلَّا فَمُنَّ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى ـــــــــــــــــــــــــــــ كيفَ أصْنَعُ؟ قال: تَطُوفُ سَبْعًا، وتُصَلِّى رَكْعَتَيْن خَلْفَ المَقامِ، ثم تَأْتِى زَمْزَمَ فتَشْرَبُ منها، ثم تَأْتِى المُلْتَزَمَ، ما بينَ البابِ والحَجَرِ، فتَسْتَلِمُه، ثم تَدْعُو، ثم تَسْأَلُ حاجَتَكَ، ثم تَسْتَلِمُ الحَجَرَ، وتَنْصَرِفُ. وقال بعضُ أصحابِنا: يقُولُ في دُعائِه: (اللَّهُمَّ هذا بَيْتُكَ، وأنا عَبْدُكَ، وابنُ عَبْدِكَ، وابنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِى على ما سَخَّرْتَ لى مِن خَلْقِك، وسَيَّرْتَنِى في بِلادِكَ، حتى بَلَّغْتَنِى بنِعْمَتِكَ إلى بَيْتِكَ، وأعَنْتَنِى على أداءِ نُسُكِى، فإن كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّى، فازْدَدْ عَنِّى رِضًا، وإلَّا فمُنَّ الآنَ قبلَ ¬

_ = فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع؛ فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة. إلى أن قال: ولو وقف عند الباب، ودعا هناك من غير التزام للبيت، لكان حسنا. وقال ابن القيم، في «زاد المعاد» 5/ 298: وأما المسألة الثانية، وهى وقوفه في الملتزم، فالذى روى عنه أنه فعله يوم الفتح. وذكر حديث عبد الرحمن بن صفوان، ثم ذكر فعل ابن عمر، وقال: فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع، وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعى بعده وغيرهما: إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع، ويدعو. انتهى.

عَنْ بَيْتِكَ دَارِى، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِى إِنْ أَذنْتَ لِى، غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ، وَلَا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلَا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ فَأَصحِبْنِى الْعَافِيَةَ فِى بَدَنِى، وَالصِّحَّةَ فِى جسْمِى، وَالْعِصْمَةَ فِى دِينِى، وَأَحسِنْ مُنْقَلَبِى، وَارْزُقْنِى طَاعَتَكَ مَا أَبقَيْتَنِى، وَاجمَعْ لِى بَيْنَ خَيْرَىِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تَنْأَى عن بَيْتِك دارِى، فهذا أوانُ انْصِرَافِى إن أَذِنْتَ لى، غيرَ مُسْتَبْدِلٍ بك ولا ببَيْتِكَ، ولا راغِبٍ عنك ولا عن بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ فأصْحِبْنِى العافِيَةَ في بَدَنِى، والصَّحَّةَ في جسْمِى، والعِصْمَةَ في دِينى، وأحْسِنْ مُنْقَلَبِى، وارْزُقْنِى طَاعَتَك) أبَدًا (ما أبْقَيْتَنِى، واجْمَعْ لى بين خَيْرَىِ (¬1) الدُّنْيَا والآخِرَةِ، إنَّكَ على كلِّ شئٍ قَدِيرٌ). وعن طَاوُسٍ قال: رَأيْتُ أَعْرابِيًّا أتَى المُلْتَزَمَ، فَتَعَلَّقَ بأسْتَارِ الكَعْبَةِ، فقال: بك أعُوذُ، وبك ألُوذُ، اللَّهُمَّ فاجْعَلْ لى في اللَّهَفِ إلى جُودِكَ والرِّضَا. بضَمانِكَ مَنْدُوحًا عن مَنْعِ البَاخِلِينَ، وغِنًى عَمَّا في أيْدِى المُسْتَأْثِرِينَ، اللَّهُمَّ فَرَجَك القَرِيبَ، وَمْعُروفَكَ التّامَّ، وعادَتَك الحَسَنَةَ. ثم أضَلَّنِى في الناسِ، فألْفَيْتُه بعَرَفَاتٍ قائِمًا، وهو يقولُ: اللَّهُمَّ إن كُنْتَ لم تَقْبَلْ حَجَّتِى وتَعَبِى ونَصَبِى، فلا تَحْرِمْنِى أجْرَ المُصابِ على مُصِيبَتِه، فلا أعْلَمُ أعْظَمَ مُصِيبَةً مِمَّن وَرَدَ ¬

(¬1) في الأصل: «خير».

وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ، وَيُصَلِّى عَلَى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ـــــــــــــــــــــــــــــ حَوْضَكَ، وانْصَرَفَ مَحْرُومًا مِن وَجْهِ رَغْبَتِك (¬1). وقال آخَرُ: يا خَيْرَ مَوْفُودٍ إليه، قد ضَعُفَتْ قوَّتِى، وذَهَبَتْ مُنَّتِى (¬2)، وأتَيْتُ إليك بذُنُوبٍ لا تَسَعُها البِحارُ، أسْتَجِيرُ برِضاكَ مِن سَخَطِكَ، وبعفْوِكَ مِن عُقُوبَتِك، رَبِّ ارْحَمْ مَن شَمِلَتْه الخَطَايَا، وغَمَرَتْه الذُّنُوبُ، وظَهَرَتْ منه العُيُوبُ، ارْحَمْ أسِيرَ ضُرٍّ، وطَرِيدَ فقرٍ، أسْألَك أن تَهَبَ لى عظيمَ جُرْمِى، يا مُسْتَزادًا مِن نِعَمِه، ومُسْتَعاذًا مِن نِقَمِه، ارْحَمْ صوتَ حزينٍ دَعاك بزَفيرٍ وشَهِيقٍ، اللَّهُمَّ إن كُنْتُ بَسَطْتُ إلَيْكَ يَدَىَّ دَاعِيًا، فطَالَمَا كَفَيْتَنِى ساهِيًا، فنِعْمَتُكَ التى تَظَاهَرَتْ عَلىَّ عندَ الغَفْلَةِ، لا أيْأَسُ منها عندَ التَّوْبَةِ، فلا تَقْطَعْ رَجَائِى مِنْكَ لِما قَدَّمْتُ مِن اقْتِرَافٍ، وهَبْ لىَ الإِصْلاحَ في الوَلَدِ، والأمْنَ في البَلَدِ، والعَافِيةَ في الجَسَدِ، إنَّكَ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، اللَّهُمَّ إنَّ لكَ علىَّ حُقُوقًا، فتَصَدَّقْ بها علىَّ، وللنَّاس قِبَلى تَبِعَاتٍ، فتَحَمَّلْها عَنِّى، وقد أوْجَبْتَ لكلِّ ضَيْفٍ قِرًى، وأنا ضَيْفُكَ اللَّيْلَةَ، فاجْعَلْ قِرَاىَ الجَنَّةَ، اللَّهُمَّ إنَّ سائِلَك عندَ بابِكَ، مَن (¬3) ذَهَبَتْ أيَّامُه، وبَقِيَتْ آثامُه، وانْقَطَعَتْ شَهْوَتُه، وبَقِيَتْ تَبِعَتُه، فارْضَ عنه، وإن لم تَرْضَ عنه فاعْفُ عنه، فقد يَعْفُو السِّيِّدُ عن عَبْدِه، وهو غيرُ راض عنه. ثم يُصَلِّى على ¬

(¬1) قوله: «من وجه رغبتك» كذا في الأصل، والمعنى غير واضح، والأصل في الدعاء أن يكون بالألفاظ الواردة والمشروعة. (¬2) المنة: القوة. (¬3) سقط من: الأصل.

إِلَّا أنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، لَمْ تَدْخُلِ الْمَسْجِدَ، بَلْ وَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ فَدَعَتْ بِذَلِك. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (إلَّا أنَّ المَرْأةَ إذا كانت حائِضًا) أو نُفَساءَ (لم تَدْخُلِ المَسْجِدَ، ووَقَفتْ على بابِه فدَعَتْ بذلك). فصل: قال أحمدُ: إذا وَدَّعَ البَيْتَ، يقومُ عندَ البابِ إذا خَرَج ويَدْعُو، فإذا تَلَا لا يَقِفُ ولا يَلْتَفِتُ، فإنِ الْتَفَتَ رَجَع ووَدَّعَ. وروَى حَنْبَلٌ في «المَناسِكِ» عن المُهاجِرِ (¬1)، قال: قُلْتُ لجابِرٍ بنِ عبدِ اللَّهِ: الرجلُ يَطُوفُ بالبَيْتِ ويُصَلِّى، فإذا انْصَرَفَ خَرَج، ثم اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فقامَ؟ فقالَ: ما كُنْتُ أحْسَبُ يَصْنَعُ هذا إلَّا اليَهُودُ والنَّصَارَى. قال أبو عبدِ اللَّهِ: أكْرَهُ ذلك. وقولُ أبى عبدِ اللَّهِ: إنِ الْتَفَتَ رَجَع فوَدَّعَ. على سَبِيلِ الاسْتِحْسانِ، إذْ لا نَعْلَمُ لإِيجابِ ذلك عليه دَلِيلًا. وقد قال مُجَاهِدٌ: هذا إذا كِدْتَ تَخْرُجُ مِن بابِ المَسْجِدِ فالْتَفِتْ، ثم انْظُرْ إلى الكَعْبَةِ، ثم قُلْ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْه آخِرَ العَهْدِ. فصل: فإن خَرَج قبلَ طَوافِ الزِّيارَةِ، رَجَع حَرامًا حتى يَطُوفَ بالبَيْتِ؛ لأنَّه رُكْن لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به، ولا يَحِل مِن إحْرامِه حتى يَفْعَلَه، فمتَى لم يَفْعَلْه، لم يَنْفَكَّ إحْرامُه، ورَجَع متى أمْكَنَه مُحْرِمًا، لا يُجْزِئُه غيرُ ذلك. وبذلك قال عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الحسنُ: ¬

(¬1) هو المهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن المخزومى. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحُجُّ مِن العامِ المُقْبِلِ. وحُكِىَ نَحْوُ ذلك عن عَطاءٍ أيضًا. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ ذُكِرَ له أنَّ صَفِيَّةَ حاضَتْ، قال: «أحَابِسَتُنَا هِىَ؟» قيلَ: إنَّها قد أفاضَتْ يومَ النَّحْرِ. قال: «فَلْتَنْفِرْ إذًا» (¬1). يَدُلُّ على أنَّ هذا الطَّوافَ لا بُدَّ منه، وأنَّه حابِسٌ لمَن لم يَأْتِ به. فإن نَوَى التَّحَلُّلَ، ورَفَض إحْرامَه، لم يَحِلَّ بذلك؛ لأنَّ الإِحْرامَ لا يُخْرَجُ منه بنِيَّةِ الخُرُوجِ. ومتى رَجَع إلى مَكَّةَ، فَطافَ بالبَيْتِ، حَلَّ بطوافِه؛ لأنَّ الطَّوافَ لا يَفُوتُ وَقْتُه، علىَ ما قَدَّمْنَاه. فصل: وتَرْكُ بعضِ الطَّوافِ كتَرْكِ الجَمِيعِ فيما ذَكَرْنا. وسَواءٌ تَرَك شَوْطًا أو أقَلَّ أو أكْثَرَ. وهذا قولُ عَطاءٍ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى: مَن طافَ أرْبَعَةَ أشْواطٍ مِن طَوافِ الزِّيارَةِ وَطَوافِ العُمْرَةِ، وسَعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثم رَجَع إلى الكُوفَةِ، إنَّ سَعْيَه يُجْزِئُه، وعليه دَمٌ لِما تَرَك مِن الطَّوافِ بالبَيْتِ. ولَنا، أنَّ ما أتَى به لا يُجْزِئُه إذا كان بمَكَّةَ، فلم يُجْزِئْه إذا خَرَج منها، كما لو طَافَ دُونَ أرْبَعَةِ أشْواطٍ. فصل: فإن تَرَك طَوافَ الزِّيارَةِ بعدَ رَمْى جَمْرَةِ العَقَبَةِ، لم يَبْقَ مُحْرِمًا، إلَّا عن النِّساءِ خاصَّةً؛ لأنَّه قد حَصَل له التَّحَلُّلُ الأوَّلُ برَمْى الجَمْرَةِ، فحَلَّ له كلُّ شئٍ إلَّا النِّساءَ، فإن وَطِئَ لم يَفْسُدْ حَجُّه، ولم تَجِبْ عليه بَدَنةٌ، لكنْ عليه دَمٌ، ويُجَدِّدُ إحْرامَه ليَطُوفَ في إحْرامٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 226.

1326 - مسألة: (فإذا فرغ من الحج، استحب زيارة قبر النبى -صلى الله عليه وسلم- وقبر صاحبيه، رضى الله عنهما)

فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ، اسْتُحِبَّ لَهُ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صحِيحٍ. وفى ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْنَاه فيما مَضَى. 1326 - مسألة: (فإذا فَرَغ مِن الحَجِّ، اسْتُحِبَّ زيارَةُ قَبْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَبْرِ صاحِبَيْه، رَضِىَ اللَّه عنهما) تسْتَحَبُّ زيارَةُ قَبْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِما روَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬1) بإسْنادِه عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِى بَعْدَ وَفَاتِى، فَكَأنَّمَا زَارَنِى فِى حَيَاتِى». وفى رِوايَةٍ: «مَنْ زَارَ قَبْرِى وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِى». رَواه باللَّفْظِ الأوَّلِ سَعِيدٌ. وقال أحمدُ (¬2)، في رِوايَةِ عبدِ اللَّهِ، عن يَزِيدَ ابنِ قُسَيْطٍ، عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ عِنْدَ قَبْرِى إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ». قال: وإذا حَجَّ الذى لم يَحُجَّ قَطُّ، يَعْنِى مِن غيرِ طَربقِ الشَّامِ، لا يَأْخُذُ على طَرِيقِ المَدِينَةِ؛ لأنِّى أخافُ أن يَحْدُثَ به حَدَثٌ، فَيَنْبَغِى أن يَقْصِدَ مَكَّةَ مِن أقْصَدِ الطُّرُقِ، ولا يَتَشَاغَلُ بغيرِه. ¬

(¬1) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 278. وانظر تلخيص الحبير 2/ 266، 267. (¬2) في مسنده: 2/ 527. كما أخرجه أبو داود، في: باب زيارة القبور، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 470.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُرْوَى عن العُتْبِىِّ (¬1) قال: كُنْتُ جالِسًا عندَ قَبْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فجاءَ أعْرَابىٌّ، فقالَ: السلامُ عليك يا رسولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يقولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬2). وقد جئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِن ذَنْبِى، مُسْتَشْفِعًا بك إلى رَبِّى، ثم أنْشَأ يقولُ: يا خَيْرَ مَن دُفِنَت بالقَاعِ أعْظُمُه … فطابَ مِن طِيبِهنَّ البانُ والأَكَمُ نَفْسِى الفِدَاءُ لقَبْرٍ أنْتَ ساكِنُه … فيه العَفَافُ وفيه الجُودُ والكَرَمُ ثم انْصَرَفَ الأعرابىُّ، فحَمَلَتْنِى عَيْنِى، فرأَيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «يا عُتْبِىُّ الْحَقِ الأعْرَابِىَّ فَبَشِّرْهُ أنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ» (¬3). ويُسْتَحَبُّ لمَن ¬

(¬1) زيارة قبر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- تستحب لأجل السلام عليه. وبشرط أن تكون بدون سفر، بل تشرع لمن كان في المدينة، أو سافر لزيارة المسجد النبوى والصلاة فيه، فإنها تدخل تبعا. والديل على مشروعيتها عموم الدليل على مشروعية زيارة القبور، ولم يثبت بخصوص زيارة قبره عليه الصلاة والسلام حديث، وكل الأحاديث الواردة بخصوص زيارة قبره عليه الصلاة والسلام إما ضعيفة شديدة الضعف، أو موضوعة، كما نبه على ذلك الحفاظ، كالدارقطنى والبيهقى وابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن عبد الهادى وغيرهم، فلا يجوز الاحتجاج بها. والحكاية التى ذكرها عن العتبى، لا يحتج بها عند أهل العلم، والمصنف رحمه اللَّه ساقها بصيغة التمريض، حيث قال: ويروى. إلخ. قال الحافظ ابن عبد الهادى، في «الصارم المنكى» صفحة 212 - 213: وفى الجملة ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابى مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف ولفظها مختلف أيضا، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم وباللَّه التوفيق. انتهى. (¬2) سورة النساء 64. (¬3) وردت هذه القصة والأبيات في تفسير ابن كثير 2/ 306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَخَل المَسْجِدَ أن يُقَدِّمَ رِجْلَه اليُمْنَى، ثم يقولُ: بسمِ اللَّهِ والصلاةُ على رسولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لى، وافْتَحْ لى أبْوابَ رَحْمَتِك. فإذا خَرَج قَدَّمَ رِجْلَه اليُسْرَى، وقال مثلَ ذلك، إلَّا أنَّه يقولُ: وافْتَحْ لى أبْوابَ فَضْلِكَ. لِما رُوِى عن فاطِمَةَ بنتِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّمَها أن تَقُولَ ذلك إذا دَخَلَتِ المَسْجِدَ (¬1). ثم تَأْتِى القَبْرَ (¬2) فَتُوَلِّى ظَهْرَكَ القِبْلَةَ، وتَسْتَقْبِلُ وَسَطَه، وتقولُ: السلامُ عليك أيُّها النبىَّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه، السلامُ عليك يا نَبِىَّ اللَّهِ وخِيرَتَه مِن خَلْقِه وعبادِه، أشْهَدُ أنْ لا إله إلَّا اللَّه وَحْدَه لا شَرِيكَ له، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، وأشْهَدُ أنَّكَ قد بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّك، ونَصَحْتَ لأُمَّتِكَ، ودَعَوْتَ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وعَبَدْتَ اللَّهَ حتى أتاك اليَقِينُ، فصَلى اللَّهُ عليك كَثِيرًا كما يُحِبُّ رَبُّنا ويَرْضَى، اللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا نَبِيَّنا أفْضَلَ ما جَزَيْتَ أحَدًا مِن النَّبِيينَ والمرْسَلِين، وابْعَثْهُ المَقامَ المَحْمُودَ الذى وَعَدْتَه، يَغْبِطُه الأوَّلُونَ والآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، ¬

(¬1) لم نجده عن طريق فاطمة رضى اللَّه عنها، وأخرجه عن طريق أبى حميد أو أبى أسيد مسلم، في: باب ما يقول إذا دخل المسجد، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 494. وأبو داود، في: باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، من كتاب الصلاة. سنن أبى داود 1/ 109. والنسائى، في: باب القول عند دخول المسجد وعند الخروج منه، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 41. والدارمى، في: باب ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 293. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 497، 5/ 425. (¬2) يعنى بعد صلاة تحية المسجد، بأن يصلى ركعتين في المسجد، وإن صلاهما في الروضة الشريفة فهو أفضل، ثم بعد الصلاة يزور قبر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما صَلَّيْتَ على إبْراهِيمَ، وآلِ إبْراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وبَارِكْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بَارَكْتَ على إبْراهِيمَ وآلِ إبْراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ إنَّكَ قُلْتَ (¬1)، وقَوْلُكَ الحَقُّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. وقد أَتَيْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِن ذُنُوبى، مُسْتَشْفِعًا بِك إلى رَبِّى، فأسْألُكَ يارَبِّ أن تُوجِبَ لى المَغْفِرَةَ، كما أوْجَبْتَها لمَن أتاه في حَياتِه، اللَّهُمَّ اجْعَلْه أوَّلَ الشافِعِينَ، وأنْجَحَ السائِلِينَ، وأكْرَمَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، برَحْمَتِك يا أرْحَمَ الرَّاحِمين. ثم يَدْعُو لوَالِدَيْه ولإِخوانِه، وللمُسْلِمِينَ أجْمَعِين، ثم يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا، ويقولُ: السلامُ عليك يا أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، السلامُ عليك يا عمرُ الفارُوقُ، السلامُ عليكما يا صَاحِبَىْ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وضَجِيعَيْه ¬

(¬1) هذا فيه نظر من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الآية يقصد بها المجئ إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته، ليستغفر للمذنبين، أما بعد موته فلا يطلب منه شئ لا الاستغفار ولا غيره، ولا يستغفر عند قبره، كما ذكر المصنف رحمه اللَّه؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون هذا عند قبره، وهم أعلم الأمة بمعنى الآية الكريمة. الوجه الثانى، أن الدعاء لا يشرع عند قبره -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما يشرع في مسجده، والمشروع عند قبره وقبرى صاحبيه السلام فقط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه، في «مجموع الفتاوى» 1/ 229 - 230: فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين، أن الداعى إذا سلم على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أراد أن يدعو لنفسه، فإنه يستقبل القبلة، ويدعْو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء، كمالك في إحدى الروايتين، والشافعى، وأحمد، وغيرهم، وعند أصحاب أبى حنيفة، لا يستقبل القبر وقت السلام أيضا، ثم منهم من قال: يجعل الحجرة عن يساره. وقد رواه ابن وهب عن مالك، ويسلم عليه. ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة، ويسلم عليه. وهذا هو المشهور عندهم. انتهى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووزِيرَيْه، ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه، اللَّهُمَّ اجْزِهما عن نَبيِّهما وعن الإِسْلَامِ خَيْرًا {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬1). اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْه آخِرَ العَهْدِ مِن قَبْرِ نَبِيِّكَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومِن حَرَمِ مَسْجِدِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فصل: ولا يُسْتَحَبُّ التَمَسُّحُ بحائِطِ قَبْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا تَقْبِيلُه. قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: ما أعْرِفُ هذا. قال الأثْرَمُ: رَأيْتُ أهْلَ العِلْمِ مِن أهلِ المَدِينَةِ لا يَمَسُّونَ قَبْرَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَقُومُون مِن ناحِيَةٍ فَيُسلِّمُونَ. قال أبو عبدِ اللَّهِ: وهكذا كان ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، يَفْعَلُ. قال: أمَّا المِنْبَرُ، فقد جاءَ فيه ما رَواه إبراهيمُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عَبْدٍ القارىُّ (¬2)، أنَّه نَظَر إلى ابنِ عُمَرَ، وهو يَضَعُ يَدَه على مَقْعَدِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن المِنْبَرِ، ثم يَضَعُها على وَجْهِه. فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن رَجَع مِن الحَجِّ أن يَقُولَ ما روَى البخارىُّ (¬3)، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ ¬

(¬1) سورة الرعد 24. (¬2) نسبة إلى القارة: بطن من العرب، وترجمة إبراهيم في: الأنساب 10/ 16. (¬3) في: باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، من كتاب العمرة، وفى: باب غزوة الخندق وهى الأحزاب، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 8، 9، 5/ 142. كما أخرجه مسلم، في: باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 980. وأبو داود، في: باب التكبير على كل شرف في المسير، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 79، 80. والإمام مالك، في: باب جامع الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 421. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5، 10، 15، 63، 105.

فصل فى صفة العمرة

فَصْلٌ فِى صِفَةِ الْعُمْرَةِ: مَنْ كَانَ فِى الْحَرَمِ، خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ، فأَحْرَمَ مِنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قَفَل مِن غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ على كلِّ شَرَفٍ مِن الأرْضِ، ثم يقولُ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» وصلَّى اللَّهُ على مُحَمِّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. روَى سعيدٌ: حدثنا هُشَيمٌ، أنا لَيْثٌ، عن كثيرِ بنِ جَعْفَرٍ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: يُقالُ إذا قَدِمَ الحاجُّ: تَقَبَّلَ اللَّهُ نُسُكَكَ، وأعْظَمَ أجْرَكَ، وأخْلَفَ نَفَقَتَكَ. (فصل في صِفَةِ العُمْرَةِ) قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (مَن كانَ في الحَرَمِ، خَرَج إلى الحِلِّ، فأحْرَمَ منه) مَن أرادَ العُمْرَةَ مِن أهْلِ

وَالأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ التَّنْعِيمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرَمِ، خَرَج إلى الحِلِّ، فأحْرَمَ منه، وكان مِيقاتًا له. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا (والأَفْضَلُ أن يُحْرِمَ مِن التَّنْعِيمِ) لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر عبدَ الرَّحْمنِ بنَ أبى بَكْرٍ أن يُعْمِرَ عائشةَ مِن التَّنْعِيمِ (¬1). وقال ابنُ سِيرينَ: بَلَغنِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لأهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ (¬2). وإنَّما لَزِم الإِحْرَامُ مِن الحِلِّ؛ ليَجْمَعَ في النُّسُكِ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ. ومِن أىِّ الحِلِّ أحْرَمَ، جازَ. وإنَّما أعْمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشةَ مِن التَّنْعِيمِ؛ لأنَّه أقْرَبُ الحِلِّ إلى مَكَّةَ. وقد رُوِى عن أحمدَ في المَكِّىِّ، كُلَّمَا تَبَاعَدَ في العُمْرَةِ، فهو أعْظَمُ للأجْرِ، هى على قَدْرِ تَعَبِها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 111. (¬2) أخرجه أبو داود في المراسيل 121.

1327 - مسألة: (فإن أحرم من الحرم، لم يجز، وينعقد، وعليه دم)

فَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ، لَمْ يَجُزْ، وَيَنْعَقِدُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1327 - مسألة: (فإن أحْرَمَ مِن الحَرَمِ، لم يَجُزْ، ويَنْعَقِدُ، وعليه دَمٌ) وذلك لتَرْكِه الإِحْرامَ مِن المِيقاتِ. فإن خَرَج قبلَ الطَّوافِ، ثم عادَ، أجْزَأه؛ لأنَّه قد جَمَع بينَ الحِلِّ والحَرَمِ. وإن لم يَخْرُجْ حتى قَضَى عُمْرَتَه، صَحَّ أيْضًا؛ لأنَّه قد أتَى بأرْكَانِها، وإنَّما أحَلَّ بالإِحْرامِ مِن مِيقَاتِها، وقد جَبَرَه، فأشْبَهَ مَن أحْرَمَ دُونَ المِيقاتِ بالحَجِّ. وهذا قولُ أبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. والقَوْلُ الثَّانِى، لا تَصِحُّ عُمْرَتُه؛ لأنَّه نُسُكٌ، فكانَ مِن شَرْطِه الجَمْعُ بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، كالحَجِّ. فعلى هذا، وُجُودُ هذا الطَّوافِ كعَدَمِه، وهو باقٍ على إحْرامِه حتى يَخْرُجَ إلى الحِلِّ، ثم يَطُوفُ بعدَ ذلك ويَسْعَى. وإن حَلَق قبلَ ذلك،

1328 - مسألة: (ثم يطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر، ثم قد حل)

ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى، ثُمَّ يَحْلِقُ أوْ يُقَصِّرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَّ. وَهَلْ يَحِلُّ قَبْلَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعليه دَمٌ. وكذلك كلُّ ما فَعَلَه مِن مَحْظُورَاتِ إحْرامِه عليه فِدْيَةٌ. وإن وَطِئ أفْسَدَ عُمْرَتَه، ويَمْضِى في فاسِدِها، وعليه دَمٌ لإفْسَادِها، ويَقْضِيها بعُمْرَةٍ مِن الحِلِّ. فإن كانتِ العُمْرَةُ التى أفْسَدَها عُمْرَةَ الإِسْلامِ، أجْزَأه قَضاؤُها عن عُمْرَةِ الإِسْلام، وإلَّا فلا. 1328 - مسألة: (ثم يَطُوفُ ويَسْعَى، ثم يَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ، ثم قد حَلَّ) لأنَّ هذه أفعالُ العُمْرَةِ، فحَلَّ بفِعْلِها، كحِلِّهِ مِن الحَجِّ بأفْعالِه (وهل يَحِلُّ قبلَ الحَلْقِ والتَّقْصِيرِ؟ على رِوَايَتَيْن) أصْلُهما، هل الحَلْقُ

1329 - مسألة: (وتجزئ عمرة القارن، والعمرة من التنعيم، عن عمرة الإسلام، فى أصح الروايتين)

وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْقَارِنِ، وَالْعُمْرَةُ مِنَ التَّنْعِيمِ، عَنْ عُمْرَةِ الإِسْلَامِ فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّقْصِيرُ نُسُكٌ، أو ليس بنُسُكٍ؟ فإن قُلْنا: إنَّه نُسُكٌ. لم يَحِلَّ قبلَه، كالرَّمْى. وإن قُلْنا: ليس بنُسُكٍ، بل إطْلاقٌ مِن مَحْظُورٍ. حَلَّ قَبْلَه، كاللُّبْسِ والطِّبِ. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك في الحَجِّ، وهذا مُقاسٌ عليه. 1329 - مسألة: (وتُجْزِئُ عُمْرَةُ القارِنِ، والعُمْرَةُ مِن التَّنْعِيمِ، عن عُمْرَةِ الإِسْلامِ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْن) لا نَعْلَمُ في إجْزاءِ عُمْرَةِ المُتَمَتِّعِ خِلافًا. كذلك قال ابنُ عُمَرَ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، ولا نَعْلَمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن غيرِهم خِلافَهم. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ عُمْرَةَ القارِنِ لا تُجْزِئُ. اخْتَارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْمَرَ عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، حينَ حاضَتْ مِن التَّنْعِيمِ (¬1). ولو كانت عُمْرَتُها في قِرانِها أجْزَأتْها، لَمَا أعْمَرَها بعدَها. ولأنَّها ليست عُمْرَةً تامَّةً؛ لأنَّه لا طَوافَ لها. وعنه، أنَّ العُمْرَةَ مِن أدْنَى الحِلِّ لا تُجْزِئُ عن العُمْرَةِ الواجِبَةِ، قال: إنَّما هى مِن أرْبَعَةِ أمْيَالٍ، وثَوابُها على قَدْرِ تَعَبِها. ورُوِىَ عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّها قالت: واللَّهِ ما كانَتْ عُمْرَةً، إنَّما كانت زِيارَةً. وإذا لم تَكُنْ تامَّةً لم تُجْزِئُ؛ لقولِه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2). قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: إتمامُهما أن تَأْتِىَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ. ووَجْهُ الأُولَى قولُ الصُّبَىِّ (¬3) بنِ مَعْبَدٍ: إنِّى وَجَدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْن علىَّ، فأهْلَلْتُ بهما. فقالَ عُمَرُ، رَضِىَ اللَّه عنه: هُدِيتَ لسُنَّةِ نَبِيِّكَ (¬4). وحديثُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 111. (¬2) سورة البقرة 196. (¬3) في م: «الضبى». (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةَ، حينَ قَرَنَتِ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فقال لها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ حَلَّتْ منهما: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ». وإنَّما أعْمَرَها مِن التَّنْعِيمِ قَصْدًا لتَطْيِيبِ قَلْبِها، وإجابَةِ مَسْألَتِها، لا لأنَّها كانت واجبَةً عليها. ثم إن لم تَكُنْ أجْزَأتْها عُمْرَةُ القِرانِ، فقد أجْزَأتْها العُمْرَةُ بِن أدْنَى الحِلِّ، وهى أحَدُ ما قَصَدْنا الدَّلَالَةَ عليه. ولأن الواجِبَ عُمْرَة واحِدَة، وقد أتَى بها صَحِيحَةً، فأجْزَأتْه، كعُمْرَةِ المُتَمَتِّعِ. ولأنَّ عُمْرَةَ القارِنِ أحَدُ النُّسُكَيْن للقارِنِ، فأجْزَأتْ، كالحَجِّ، ولأنَّ الحَجَّ مِن مَكَّةَ يُجْزِئُ في حَقِّ المُتَمَتِّعِ، فالعُمْرَةُ مِن أدْنَى الحِلِّ في حَقِّ المُفْرِدِ أوْلَى. وإذا كان الطَّوافُ المُجَرَّدُ يُجْزِئُ عن العُمْرَةِ في حَقِّ المَكِّىِّ، فلَأن تُجْزِئُ العُمْرَةُ المُشْتَمِلَةُ على الطَّوافِ وغيرِه أوْلَى. فصل: ولا بَأْسَ أن يَعْتَمِرَ في السَّنَةِ مِرَارًا. رُوِى ذلك عن علىٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وأنَسٍ، وعائشةَ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، وعِكْرِمَةَ، والشافعىِّ. وكَرِهَ العُمْرَةَ في السَّنَةِ مَرَّتَيْن الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ. قال النَّخَعِىُّ: ما كانُوا يَعْتَمِرُونَ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. ولأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْعَلْه. ولَنا، أنَّ عائشةَ اعْتَمَرَتْ في شَهْرٍ مَرَّتَيْن بأمْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ عُمْرَةً مع قِرانِها، وعُمْرَةً بعدَ حَجِّها. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال علىٌّ، رَضِىَ اللَّه عنه: في كلِّ شَهْرٍ مَرَّةً. وكان أنَسٌ إذا حَمَّمَ رَأسُه (¬2) خَرَج فاعْتَمَرَ. رَواهما الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬3). وقال عِكْرمَةُ: يَعْتَمِرُ إذا مَكَّنَ المُوسَى مِن شَعَرِه. وقال عَطاءٌ: إن شاءَ اعْتَمَرَ في كلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْن. فأمَّا الإكْثارُ مِن الاعْتِمارِ، والمُوالَاةُ بَيْنَهما، فلا يُسْتَحَبُّ في ظاهِرِ قولِ السَّلَفِ الذى حَكَيْنَاه. وكذلك قال أحمدُ: إذا اعْتَمَرَ فلا بُدَّ أنْ يَحْلِقَ أو يُقَصِّرَ، وفى عَشَرَةِ أيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرأسِ. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يُسْتَحَبُّ أن يَعْتَمِرَ في أقَلَّ مِن عَشَرَةِ أيَّامٍ. وقال في رِوَايَةِ الأثْرَمِ: إن شاءَ اعْتَمَرَ في كلِّ شَهْرٍ (¬4). وقال بعضُ أصحابِنا: يُسْتَحَبُّ الإكْثارُ مِن الاعْتِمارِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: أول باب العمرة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 3/ 2. ومسلم، في: ياب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 983. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما ذكر في فضل العمرة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 165. والنسائى، في: باب فضل الحج المبرور، وباب فضل العمرة، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 84، 86. وابن ماجه، في: باب فضل الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 964. والإمام مالك، في: باب جامع ما جاء في العمرة، من كتاب الحج الموطأ 1/ 346. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 286، 461، 462. (¬2) حمّم رأسه: نبت شعره بعد ما حلق. (¬3) في: باب فيما جاء في العمرة، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعى 1/ 379. (¬4) في م: «سنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالطَّوافِ. قال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللَّهُ: وأحْوالُ السَّلَفِ وأقْوالُهم على ما قُلْناه، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم تُنْقَلْ عنه المُوالَاةُ بينَهما، وإنَّما نُقِلَ عن السَّلَفِ إنْكارُ ذلك، والحَقُّ في اتِّباعِهم. قال طاوُسٌ: الذين يَعْتَمِرُونَ مِن التَّنْعِيم ما أدْرِى يُؤْجَرُونَ عليها أم يُعَذَّبُونَ. قيلَ له: فلِمَ يُعَذَّبُونَ؟ قال: لأنَّه يَدَعُ الطَّوافَ بالبَيْتِ، ويَخْرُجُ إلى أرْبَعَةِ أمْيَالٍ ويَجِئَ، وإلى أن يَجِئَ مِن أرْبَعَةِ أمْيَالٍ قد طافَ مائةَ طَوافٍ، وكُلَّمَا طافَ بالبَيْتِ، كان أفْضَلَ مِن أن يَمْشِىَ في غيرِ شئٍ. فصل: روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عُمْرَةٌ فِى رَمَضَانَ تعْدِلُ حَجَّةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال أحمدُ: ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 17. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب عمرة في رمضان، وباب حج النساء، من كتاب الحج. صحيح البخارى 3/ 4، 24. ومسلم، في: باب فضل العمرة في رمضان، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 917. كما أخرجه أبو داود، في: باب العمرة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 459، 460. وابن ماجه، في: باب العمرة في رمضان، من كتاب المناسك. عنن ابن ماجه 2/ 996. والدارمى، في: باب فضل العمرة في رمضان، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 51. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن أدْرَكَ يَوْمًا مِن رمضانَ، فقد أدْرَكَ عُمْرَةَ رمضانَ. وقال إسحاقُ: مَعْنَى هذا الحَدِيثِ مثلُ ما رُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ، فَقَدْ قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ» (¬1). وقال أنَسٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: حَجَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَّةً واحِدَةً، واعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمَرٍ؛ واحِدَةً في ذِى القَعْدَةِ، وعُمْرَةَ الحُدَيْبِيَةِ، وعُمْرَةً مع حَجَّتِه، وعُمْرَةَ الجعْرانَةِ، إذ قَسَّمَ غَنائِمَ حُنَيْنٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال أحمدُ: حَجَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَّةَ الوَدَاعِ. قال: ورُوِىَ عن مُجاهِدٍ، أنَّه قال: حَجَّ قبلَ ذلك حَجَّةً أُخْرَى. وما هو يَثْبُتُ عندى. ورُوِىَ عن جابرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: حَجَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلاثَ حِجَجٍ؛ حَجَّتَيْن فبلَ أن يُهاجِرَ، وحَجَّةً بعدَ ما هاجَرَ (¬3). وهذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 520. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب كم اعتمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الحج، وفى: باب غزوة الحديبية، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 3، 5/ 155. ومسلم، في: باب بيان عدد عمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 916. كما أخرجه أبو داود، في: باب العمرة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 460. والترمذى، في: باب ما جاء كم حج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 31. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 134، 256. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء كم حج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 30 وابن ماجه، في: باب حجة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1027.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ورُوِىَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): حَسَنٌ صَحِيحٌ. وعن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْه أُمُّهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 26. وأخرجه أيضا النسائى، في: باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 87. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 387. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب فضل الحج المبرور، وباب قول اللَّه عز وجل {وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 164، 3/ 14. ومسلم، في: باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 983، 984. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 26. والنسائى، في: باب فضل الحج، من كتاب الحج. المجتبى 5/ 85. وابن ماجه، في: باب فضل الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 965. والدارمى، في: باب فضل الحج والعمرة، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 31. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 229، 248، 410، 484، 494.

فصل

فَصْلٌ: أرْكَانُ الْحَجِّ؛ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا أَرْبَعَة؛ الْوُقُوفُ، وَالإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْىُ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ، وَأنَّ السَّعْىَ سُنَّةٌ. وَاخْتَارَ الْقَاضِى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَضِىَ اللَّهُ عنه: (أرْكانُ الحَجِّ؛ الوُقُوفُ بعَرَفَةَ، وطَوافُ الزِّيارَةِ. وعنه، أنَّها أرْبَعَةٌ؛ الوُقُوفُ، والطَّوافُ، والإِحْرَامُ، والسَّعىُ. وعنه، أنَّها ثَلَاثَةٌ، وأنَّ السَّعْىَ سُنَّةٌ. واخْتارَ القَاضِى أنَّه واجِبٌ، وليس برُكْنٍ) الوُقُوفُ بعَرَفَةَ رُكْنٌ لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به إجْماعًا. وقد روَى الثَّوْرِىُّ عن بُكَيْرِ بنِ عَطاءٍ اللَّيْثىِّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يَعْمُرَ الدِّيلىِّ، قال: أتَيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعَرَفَةَ، فجاءه نَفَرٌ مِن أهْلِ نَجْدٍ، فقالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، كَيْفَ الحَجُّ؟ قال: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْع فَقَدْ تمَّ حَجُّهُ». رَواه أبو داودَ (¬1). قال محمدُ بنُ يَحْيَى: ما أرَى للثَّوْرِىِّ حَدِيثًا أشْرَفَ منه. وطَوافُ الزِّيارَةِ أيْضًا رُكْنٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للحَجِّ لا يَتِمُّ إلَّا به. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هو مِن فرائِض الحَجِّ، لا خِلاف في ذلك بينَ العُلَمَاءِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1). فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الإِحْرامِ والسَّعْى، فرُوِىَ عنه أنَّ الإِحْرامَ رُكْنٌ؛ لأنَّه عِبارَة عنْ نِيَّةِ الدُّخُولِ في الحَجِّ، فلم يَتِمَّ بدُونِها؛ لقولِه عليه السلامُ: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنياتِ» (¬2). وكسائِرِ العِباداتِ. وعنه، أنَّه ليس برُكْنٍ؛ لحَدِيثِ الثَّوْرِىِّ الذى ذَكَرْناه. وأمَّا السَّعْىُ، فرُوِىَ عنه أنَّه رُكْنٌ لا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا به. وهو قولُ عائشةَ، وعُرْوَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لِما رُوِى عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: طافَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطافَ المُسْلِمُونَ، يَعْنِى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فكانت سُنَّةً، ¬

(¬1) سورة الحج 29. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَعَمْرِى ما أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لم يَطُفْ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن حَبِيبَةَ بنتِ أبى تَجْرَاةَ (¬2)؛ إحْدَى نِساءِ بنى عبدِ الدَّارِ، قالت: دَخَلْتُ مع نِسْوَةٍ مِن قُرَيْشٍ دارَ آلِ أبى حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يَسْعَى بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، وإنَّ مِئْزَرَه ليَدُورُ في وَسَطِه مِن شِدَّةِ سَعْيهِ، حتى إنِّى أقولُ: إنِّى لأرَى رُكْبَتَيْهِ، وسَمِعْتُه يقولُ: «اسْعَوْا فإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْىَ». رَواه ابنُ ماجه (¬3). ولأنَّه نُسُكٌ في الحَجِّ والعُمْرَةِ فكانَ رُكْنًا فيهما (¬4)، كالطَّوافِ بالبَيْتِ. وعن أحمدَ، أنَّه سُنَّةٌ لا دَمَ في تَرْكِه. رُوِى ذلك عن ابنِ عباسٍ، وأنَسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وابِنِ سِيرِينَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬5). ونَفْىُ ¬

(¬1) في: باب ببان أن السعى بين الصفا والمروة ركن. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 928، 929. كما أخرجه البخارى، في: باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج، من كتاب العمرة. صحيح البخارى 3/ 7. وابن ماجه، في: باب السعى بين الصفا والمروة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 994، 995. (¬2) هى العبدرية، يقولون: إنهم من الأزد حلفاء بنى عبد الدار، صحابية. انظر ترجمتها في: الطبقات الكبرى، لابن سعد 8/ 180، حاشية المشتبه 112. (¬3) ليس في سنن ابن ماجه، وقد نبه إلى هذا الألبانى، في إرواء الغليل 4/ 270. والحديث أخرجه البيهقى، في: باب وجوب الطواف بين الصفا والمروة، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 97، 98. الإمام أحمد، في: المسند 6/ 422. والدارقطنى، في: كتاب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 256. والحاكم، في: باب ذكر حبيبة بنت أبى تجراة، من كتاب معرفة الصحابة. المستدرك 4/ 70. (¬4) في م: «فيها». (¬5) سورة البقرة 158.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرَجِ عن فاعِلِه دَلِيلٌ على عَدَمِ وُجُوبِه، فإنَّ هذا رُتْبَةُ المُباحِ، وإنَّما تَثْبُتُ سُنَّتُه بقولِه: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. ورُوِىَ أنَّ في مُصْحَفِ أُبَىٍّ، وابنِ مَسْعودٍ: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهمَا». وهذا إن لم يَكُنْ قُرْآنًا، فلا يَنْحَطُّ عن رُتْبَةِ الخَبَرِ؛ لأنَّهُما يَرْوِيانِه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّه نُسُكٌ مَعْدُودٌ لا يَتَعَلَّقُ بالبَيْتِ، فلم يَكنْ رُكْنًا، كالرَّمْى. واخْتارَ القَاضِى أنَّه واجِبٌ وليس برُكْنٍ، لكن يَجِبُ بتَركِه دَمٌ. وهو قولُ الحسنِ، وأبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ. وهذا أوْلَى؛ لأنَّ دَلِيلَ مَن أوْجَبَه دَلَّ على مُطْلَقِ الوُجُوبِ، لا على أنَّه لا يَتِمُّ الحَجُّ (¬1) إلَّا به. وقولُ عائشةَ في ذلك مُعارَضٌ بقولِ مَن خالَفَها مِن الصَّحَابَةِ. وحَدِيثُ بِنْتِ أبى تَجْراةَ يَرْوِيه عبدُ اللَّهِ ابنُ المُؤَمَّلِ، وقد تَكَلَّمُوا في حَدِيثه. ثم هو يَدُلُّ على أنَّه مَكْتُوبٌ، وهو الوَاجِبُ. فأمَّا الآيةُ، فإنَّما نَزَلَتْ لَمّا تَحَرَّجَ ناسٌ مِن السَّعْى في الإِسْلامِ، لِما كانُوا يَطُوفُونَ بينَهما في الجَاهِلِيَّةِ لأجْلِ صَنَمَيْنِ كانا على الصَّفَا والمَرْوَةِ. كذلك قالَتْ عائشةُ. وهذا أوْسَطُ الأقْوالِ. وهو اخْتِيارُ شيخِنا (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغنى 5/ 239.

1330 - مسألة: (وواجباته سبعة؛ الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمى، والحلاق

وَوَاجِبَاتُهُ سَبْعَةٌ، الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إلَى اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى، وَالرَّمْىُ، وَالْحِلَاقُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1330 - مسألة: (وواجِبَاتُه سَبْعَةٌ؛ الإِحْرامُ مِن المِيقَاتِ، والوُقُوفُ بعَرَفَةَ إلى اللَّيْلِ، والمَبِيتُ بمُزْدَلِفَةَ إلى بعدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، والمَبِيتُ بمِنًى، والرَّمْىُ، والحِلَاقُ) (¬1) أو التَّقْصِيرُ (وطَوافُ الوَداعِ) ¬

(¬1) في م: «الحلق».

وَمَا عَدَا هَذَا سُنَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى، وذَكَرْنا الدَّلِيلَ عليه (وما عَدَا هذا سُنَنٌ) وهو الاغْتِسالُ، وطَوافُ القُدُومِ، والرَّمَلُ، والاضْطِباعُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واسْتِلامُ الرُّكْنَيْن، وتَقْبِيلُ الحَجَرِ، والإِسْراعُ، والمَشْىُ والسَّعْىُّ (¬1) في مَواضِعِها، والخُطَبُ، والأذْكارُ، والدُّعاءُ، والصُّعُودُ على الصَّفَا ¬

(¬1) سقط من: م.

وَأرْكَانُ الْعُمْرَةِ؛ الطَّوَافُ. وَفِى الْإِحْرَامِ وَالسَّعْى رِوَايَتَانِ. وَوَاجِبَاتُهَا، الْحِلَاقُ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. فمَنْ تَرَكَ رُكْنًا، لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ إِلَّا بِهِ، وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَرْوَةِ، وسائِرُ ما ذَكَرْناه غيرَ الأرْكانِ والوَاجِبَاتِ (وأرْكانُ العُمْرَةِ؛ الطَّوافُ) قِياسًا على الحَجِّ (وفى الإِحْرامِ والسَّعْى رِوايَتان) على ما ذَكَرْنا في الحَجِّ (وواجِبُها، الحِلاقُ) (¬1) والتَّقْصِيرُ (في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) بناءً على الحَلْقِ في الحَجٍّ. وسُنَنُها؛ الغُسْلُ، والدُّعَاءُ، والذِّكْرُ، والسُّنَنُ التى في الطَّوافِ (فمَن ترَك رُكْنًا، لم يَتمَّ نُسُكُه إلَّا به، ومَن تَرَك واجِبًا، فعليه دَمٌ) وقد ذَكَرْنا ذلك في مَوَاضِعِه مُفَصَّلًا (ومَن تَرَك سُنَّةً، فلا شئَ عليه) ¬

(¬1) في م: «الحلق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها ليست واجِبَةً، فلم يَجِبْ جَبْرُها، كسُنَنِ سائِرِ العِباداتِ. واللَّهُ تعالى أعْلَمُ.

باب الفوات والإحصار

بَابُ الْفَوَاتِ وَالإِحْصَارِ وَمَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَيَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْىٍ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِحْرَامُهُ لِعُمْرَةٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ القَضَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الفَواتِ والإِحْصارِ 1331 - مسألة: (ومَن طَلَع عليه الفَجْرُ يومَ النَّحْرِ ولم يَقِفْ بعَرَفَةَ، فقد فاته الحَجُّ، ويَتَحَلَّلُ بطَوافٍ وسَعْىٍ. وعنه، أنَّه (¬1) يَنْقَلِبُ إحْرامُه لعُمْرَةٍ، ولا قَضاءَ عليه، إلَّا أن يكونَ فَرْضًا. وعنه، عليه القَضاءُ) الكلامُ في هذه المسألةِ في ثَلَاثَةِ أُمُورٍ؛ أوَّلُها، أنَّ آخِرَ وَقْتِ الوُقُوفِ آخِرُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، فمَن لم يُدْرِكِ الوُقُوفَ حتى طَلَع الفَجْرُ يَوْمَئِذٍ، فاتَه الحَجُّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. قال جابِرٌ، رَضِىَ اللَّه عنه: لا يَفُوتُ الحَجُّ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ مِن لَيْلَةِ جَمْعٍ. قال أبو الزُّبيْرِ: فقُلْتُ له: أقَالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك؟ قال: نعم. رَواه الأثْرَمُ (¬1). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّه» (¬2). يَدُلُّ على فَواتِه بخُرُوجِ لَيْلَةِ جَمْع. الثَّانِى، أنَّ مَن فاتَه الحَج يَتَحَلَّلُ بَطوافٍ وسَعْىٍ وحِلاقٍ (¬3). هذا الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ. رُوِى ذلك عن عُمَرَ ابنِ الخَطَّابِ، وابنِه، وزَيْدِ بنِ ثابِتٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال ابنُ أبى مُوسَى: في المَسْألَةِ رِوايَتان؛ إحْداهُما، كما ذَكَرْنا. والثانِيَةُ، يَمْضِى في حَجٍّ فاسِدٍ. وهو قولُ المُزَنِىِّ، قال: يَلْزَمُه جَمِيعُ (¬4) ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب إدراك الحج بإدراك عرفة. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 174 (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 181. (¬3) في م: «حلق». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أفْعالِ الحَجِّ؛ لأنَّ سُقُوطَ ما فاتَ وَقْتُه لا يَمْنَعُ وُجُوبَ ما لم يَفُتْ. ولَنا، قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحَابَةِ، ولم نَعْرِفْ له مُخالِفًا، فكان إجْماعًا. وروَى الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬1) أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال لأبى أيُّوبَ، حينَ فاتَه الحَجُّ: اصْنَعْ ما يَصنَعُ المُعْتَمِرُ، ثم قد حَلَلْتَ، فإن أدْرَكْتَ الحَجَّ قابِلًا فحُجَّ، وأهْدِ ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْى. وروَى النَّجَّادُ بإسْنادِه عن عَطاءٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، ولْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، وَلْيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ» (¬2). ولأنَّه يَجُوزُ فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ مِن غيرِ فَواتٍ، فمع الفَواتِ أوْلَى. إذا ثَبَت هذا، فظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه يَجْعَلُ إحْرامَه بعُمْرَةٍ. وقد نَصَّ عليه أحمدُ. واختارَه أبو بَكْرٍ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وعَطاءٍ، وأصحابِ الرَّأْى. ¬

(¬1) في: الباب التاسع في أحكام المحصر ومن فاته الحج، من كتاب الحج. كما روى عن ابن عمر نحوه. ترتيب مسند الشافعى للسندى 1/ 384. كما أخرجه الإمام ملك، في: باب هدى من فاته الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 383. والبيهقى، في: باب ما يفعل من فاته الحج، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 174. (¬2) وأخرجه الدارقطنى عن عطاء عن ابن عباس عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، بمعناه، في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 241.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، لا يَصِيرُ إحْرامُه بعُمْرَةٍ، بل يَتَحَلَّلُ بطَوافٍ وسَعْىٍ وحَلْقٍ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّ إحْرامَه انْعَقَدَ بأحَدِ النُّسُكَيْن، فلم يَنْقَلِبْ إلى الآخَرِ، كما لو أحْرَمَ بالعُمْرَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ مَن قال؛ يَجْعَلُ إحْرامَه بعُمْرَةٍ. أرادَ أنَّه يَفْعَلُ فِعْلَ المُعْتَمِرِ، مِن الطَّوافِ والسَّعْى، فلا يكونُ بينَ القَوْلَيْن خِلافٌ. ويَحْتَمِلُ أنَّه يَصِيرُ إحْرامُه بحَجٍّ إحْرامًا بعُمْرَةٍ، بحيثُ تجْزِئُه عن عُمْرَةِ الإِسْلامِ، إن لم يَكُنِ اعْتَمَرَ، ولو أدْخَلَ الحَجَّ عليها لصارَ قارِنًا، إلَّا أنَّه لا يُمْكِنُه الحَجُّ بذلك الإِحْرامِ، إلَّا أنَّه يَصِيرُ مُحْرِمًا به في غيرِ أشْهُرِه، فيكونُ كمَن أحْرَمَ بالحَجِّ في غيرِ أشْهُرِه، ولأنَّ قَلْبَ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ يَجُوزُ مِن غيرِ سَبَبٍ على ما قَرَّرْناه في فَسْخِ الحَجِّ، فمع الحاجَةِ أوْلَى، ويُخَرَّجُ على هذا قَلْبُ العُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فإنَّه لا يَجُوزُ، ولأنَّ العُمْرَةَ لا يَفُوتُ وَقْتُها، ولا حاجَةَ إلى انْقِلابِ إحْرامِها بخِلافِ الحجِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمْرُ الثالِثُ، في وُجُوبِ القَضاءِ، وفيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، يَجِبُ، سَواءٌ كان الفائِتُ واجِبًا أوَ تَطَوُّعًا. اخْتارَه الخِرَقِىُّ. ويُرْوَى ذلك عن عُمَرَ، وابنِه، وزَيْدٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، ومَرْوَانَ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. والثانِيَة، لا قَضاءَ عليه، بل إن كانت فَرْضًا فَعَلَها بالوُجُوبِ السابقِ، وتَسْقُطُ إن كانت نَفْلًا. رُوِى هذا عن عَطاءٍ، وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْن عن مالكٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا سُئِلَ عن الحَجِّ أكثرَ مِن مَرَّةٍ، قال: «مَرَّةً وَاحِدَةً» (¬1). ولو أوْجَبْنا القَضاءَ، كان أكثرَ مِن مَرَّةٍ، ولأنَّه مَعْذُورٌ في تَرْكِ إتْمامِ حَجِّه، فلم يَلْزَمْه القضاءُ، كالمُحْصَرِ، ولأنَّها عِبَادَةُ تَطَوُّعٍ، فلم يَجِبْ قَضاؤُها إذا فاتَتْ، كسائِرِ التَّطَوُّعاتِ. ووَجْهُ الأُولَى ما ذَكَرْناه مِن الحَدِيثِ وإجْماعِ الصَّحَابَةِ، وروَى الدَّارَقُطنِىُّ (¬2)، بإسْنادِه، عن ابنِ عباس، رَضِىَ اللَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب فرض الحج، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 400. وابن ماجه، في: باب فرض الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 963. (¬2) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 241.

1332 - مسألة: (وهل يلزمه هدى؟ على روايتين؛ إحداهما،

وَهَلْ يَلْزَمُهُ هَدْىٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَات فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَتَحَلَّلْ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ». ولأنَّ الحَجَّ يَلْزَمُ (¬1) بالشُّرُوعِ فيه، فيَصِيرُ كالمَنْذُورِ، بخِلافِ سائِرِ التَّطَوُّعاتِ. وأمَّا الحَدِيثُ فإنَّه أرادَ الوَاجِبَ بأصْلِ الشَّرْعِ حَجَّة واحِدَةً، وهذه إنَّما تَجِبُ بإيجابِه لها بالشُّرُوعِ فيها، فهى كالمَنْذُورَةِ، وأمَّا المُحْصَرُ فإنَّه غيرُ مَنْسُوبٍ إليه التَّفْرِيطُ، بخِلافِ مَن فاتَه الحَجُّ، على أنَّ في المُحْصَرِ رِوايَةً، أنَّه يَجِبُ عليه القَضاءُ، فهو كمَسْألتِنا. وإذا قَضَى، أجْزَأه القَضاءُ عن الحَجَّةِ الواجِبَةِ. لا نَعْلَمُ فيهِ خِلافًا؛ لأنَّ الحَجَّةَ المَقْضِيَّةَ لو تَمَّتْ لأجْزَأتْ عن الواجِبَةِ عليه، فكذلك قضاؤُها؛ لأنَّ القَضاءَ يَقُومُ مَقامَ الأدَاءِ. 1332 - مسألة: (وهل يَلْزَمُه هَدْىٌ؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، ¬

(¬1) في م: «يلزمه».

إحْدَاهُمَا، عَلَيْهِ هَدْىٌ يَذْبَحُهُ فِى حَجَّةِ الْقَضَاءِ، إِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَإلَّا ذَبَحَهُ فِى عَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه هَدْىٌ يَذْبَحُه في حَجَّةِ القَضاءِ، إن قُلْنا: عليه قَضاءٌ. وإلَّا ذَبَحَه في عامِه) يَجِبُ الهَدْىُ على مَن فاتَه الحَجُّ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْن. وهو قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحَابَةِ والفُقَهاءِ، إلَّا أصحابَ الرَّأْى، فإنَّهُم قالُوا: لا هَدْىَ عليه. وهى الرِّوايَةُ الثانِيَةُ عن أحمدَ؛ لأنَّه لو كان الفَواتُ سَبَبًا لوُجُوبِ الهَدْى، لَزِم المُحْصَرَ هَدْيانِ؛ للفَواتِ والإِحْصَارِ. ولَنا، حَدِيثُ عَطاءٍ، وإجْماعُ الصَّحَابَةِ، ولأنَّه حَلَّ مِن إحْرامِه قبلَ إتْمامِه، فلَزِمَه هَدْىٌ، كالمُحْصَرِ، والمُحْصَرُ لم يَفُتْ حَجُّه؛ لأنَّه يَحِل قبلَ فَواتِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُخْرِجُ الهَدْىَ في سَنَةِ القَضاءِ، إِن قُلْنا بوُجُوبِه، وإلَّا أخْرَجَه في عامِه. وإذا كان معه هَدْىٌ قد سَاقَه، نحَرَه، ولا يُجْزِئُه إن قُلْنا بوُجُوبِ القَضاءِ، بل عليه في السَّنَةِ الثانِيَةِ هَدْىٌ أيضًا. نَصَّ عليه أحمدُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِمَا روَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، أنَّ هَبَّارَ بنَ الأسْوَدِ (¬1) حَجَّ مِن الشامِ، فقَدِمَ يومَ النَّحْرِ، فقال له عُمَرُ: ما حَبَسَكَ؟ قال: حَسِبْتُ أنَّ اليَوْمَ يومُ عَرَفَةَ. قال: فانْطَلِقْ إلى البَيْتِ فَطُفْ به سَبْعًا، وإن كان مَعَكَ هَدْيَةٌ فانْحَرْها، ثم إذا كان عامٌ قابلٌ فاحْجُجْ، فإن وَجَدْتَ سَعَةً فأهْدِ، فإن لم تَجِدْ فصُمْ ثَلَاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ، وسَبْعَةً إذا رَجَعْتَ، إن شاءَ اللَّهُ (¬2). والهَدْىُ: ما اسْتَيْسَرَ، مثل هَدْىِ المُتْعَةِ؛ لحَدِيثِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. والمُتَمَتِّعُ والمُفْرِدُ والقارِنُ والمَكِّىُّ وغيرُه سَواءٌ فيما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) هو هَبُار بن الأسود بن المطلب بن أسد، القرشى، أسلم بعد الفتح، وحسن إسلامه، وصحب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. أسد الغابة 5/ 384. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب هدى من فاته الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 383.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اخْتارَ مَن فاتَه الحَجُّ البَقاءَ على إحْرامِه للحَجِّ مِن قابِلٍ، فله ذلك. رُوِىَ ذلك عن مالكٍ؛ لأنَّ تَطَاوُلَ المُدَّةِ بينَ الإِحْرامِ وفِعْل النُّسُكِ لا تَمْنَعُ إتْمامَه، كالعُمْرَةِ، والمُحْرِمِ بالحَجِّ في غيرِ أشْهُرِه. ويَحْتَمِلُ أنَّه ليس له ذلك. وهو قولُ الشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ، ورِوَايَةٌ عن مالكٍ؛ لظاهِرِ الخَبَرِ. وقولِ الصَّحَابَةِ، ولكَوْنِ إحْرام الحَجِّ يَصِيرُ في غيرِ أشْهُرِه، فصارَ كالمُحْرِمِ بالعِبادَةِ قبلَ وَقْتِها. فصل: فإن كان الذى فاتَه الحَجُّ قارِنًا، حَلَّ، وعليه مثلُ ما أهَلَّ به مِن قابِلٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وإسحاقَ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئَه ما فَعَلَه عن عُمْرَةِ الإِسْلامِ، ولا يَلْزَمُه إلَّا قَضاءُ الحَجِّ؛ لأنَّه لم يَفُتْه غَيْرُه. وقال الثَّوْرِىُّ وأصحابُ الرَّأْى: يَطُوفُ

1333 - مسألة: (وإن أخطأ الناس، فوقفوا فى غير يوم عرفة، أجزأهم. وإن أخطأ بعضهم، فقد فاته الحج)

وَإِنْ أَخْطَأَ النَّاسُ، فَوَقَفُوا فِى غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَجْزَأَهُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَسْعَى لعُمْرَتِه، ثم لا يَحِلُّ حتى يَطُوفَ ويَسْعَى لحَجِّه. إلَّا أنَّ سُفْيانَ قال: ويُهَرِيقُ دَمًا. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّه يَجِبُ القَضاءُ على حَسَبِ الأداءِ في صُورَتِه ومَعْناه، فيَجِبُ أن يكونَ ههُنا كذلك، ويَلْزَمُه هَدْيان؛ لقِرانِه وفواتِه. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقيلَ: يَلْزَمُه هَدْىٌ ثالثٌ للقَضاءِ. وليس بشئٍ، فإنَ القَضاءَ لا يَجِبُ له شئٌ، وإنَّما الهَدْىُ الذى في سَنَةِ القَضاءِ للفَواتِ، ولذلك لم يَأْمُرْه الصَّحَابَةُ بأكثرَ مِن هَدْىٍ واحِدٍ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. 1333 - مسألة: (وإن أخْطَأَ الناسُ، فوَقَفُوا في غيرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، أجْزَأهم. وإن أخْطَأ بعضُهم، فقد فاتَه الحَجُّ) إذا أخْطَأ الناسُ، فَوَقَفُوا في غيرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، ظنًّا منهم أنَّه يومُ عَرَفَةَ، أجْزَأهم؛ لِما روَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّرَقُطْنىُّ (¬1) بإسْنادِه، عن عبدِ العزيزِ بن عبدِ اللَّهِ بنِ جابِرِ بنِ أُسَيْدٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِى يُعَرِّفُ النَّاسُ فِيهِ». وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «فِطْرُكُمْ (¬2) يَوْمَ تفْطِرُونَ، وَأضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ». رَواه الدَّارَقُطْنِىُّ وغيرُه (¬3). ولأنَّه لا يُؤْمَنُ مثلُ ذلك في القَضاءِ. فإنِ اخْتَلَفُوا، فأصابَ بعضٌ وأخْطَأ بعضٌ، لم يُجْزِئُ مَن أخْطَأ؛ لأنَّهم غيرُ مَعْذُورِينَ في ذلك، وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ هَبَّارٍ (¬4)، حينَ قال لعُمَرَ: ظَنَنْتُ أنَّ اليومَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فلم يُعْذَرْ بذلك. ¬

(¬1) في: كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 223، 224. (¬2) في م: «يوم فطركم». (¬3) في: كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 224، 225. وتقدم تخريجه من رواية غيره في 5/ 320. (¬4) تقدم في صفحة 306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان عَبْدًا لم يَلْزَمْه الهَدْىُ؛ لأنَّه عاجِزٌ عنه، بكَوْنِه لا مالَ له، فهو كالمُعْسِرِ، ويَجِبُ عليه الصَّوْمُ بدلَ الهَدْى. فإن أذِنَ له سَيِّدُه في الهَدْى، لم يَكُنْ له أن يُهْدِىَ في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ، ولا يُجْزِئُه إلَّا الصِّيامُ. هذا قولُ الثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، والشافعىِّ. حَكاه ابنُ المُنْذِرِ عنهم في الصَّيْدِ. وعلى قِياسِ هذا كلُّ دَمٍ لَزِمَه في الإِحْرامِ، لا يُجْزِئُه عنه إلَّا الصِّيَامُ. وقال غيرُ الخِرَقِىِّ مِن أصحابِنا: إن مَلَّكَه السَّيِّدُ هَدْيًا، وأذِنَ له في ذَبْحِه، خُرِّجَ على الرِّوَايَتَيْن في مِلْكِ العَبْدِ بالتَّمْلِيكِ. فإن قُلْنا: يَمْلِكُ. لَزِمَه الهَدْىُ، وأجْزَأ عنه؛ لأنَّه قادِرٌ عليه، مالكٌ له، أشْبَهَ الحُرَّ. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُ. لم يُجْزِئْه إلَّا الصِّيامُ؛ لأنَّه ليس بمالكٍ، ولا سَبِيلَ له إلى المِلْكِ، فهو كالمُعْسِرِ. وإذا صامَ فإنَّه يَصُومُ عن كلِّ مُا مِن قِيمَةِ الشاةِ يَوْمًا. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. ويَنْبَغِى أن يُخَرَّجَ فيه مِن الخِلافِ ما ذَكَرْناه في الصَّيْدِ. فإن بَقِىَ مِن قِيمَتِها دُونَ المُدِّ، صامَ عنه يَوْمًا؛ لأنَّ الصَّومَ لا يَتَبَعَّضُ، فيَجِبُ تَكْمِلَتُه. قال شيخُنا (¬1): ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 430.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأَوْلَى أن يكونَ الواجِبُ مِن الصَّوْمِ عَشَرَةَ أيَّامٍ، كصَوْمِ المُتْعَةِ، كما جاءَ في حَدِيثِ عُمَرَ، أنَّه قال لهَبَّارِ بن الأسْوَدِ: فإن وَجَدْتَ سَعَةً فأهْدِ، فإن لم تَجِدْ سَعَةً، فصُمْ ثَلَاثَّةَ أيَّامٍ في الحَجِّ، وسَبْعَةً إذا رَجَعْتَ، إن شاءَ اللَّه. وروَى الشافعىُّ (¬1)، عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، مثلَ ذلك. وأحمدُ ذَهَب إلى حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، واحْتَجَّ به. ولأنَّه صَوْمٌ وَجَب لحِلِّه مِن إحْرامِه قبلَ إتمامِه، فكان عَشَرَةَ أيَّامٍ، كصَوْمِ المُحْصَرِ. والمُعْسِرُ في الصَّوْمِ كالعَبْدِ، ولذلك قال عُمَرُ، رَضِى اللَّه عنه، لهَبَّارٍ: إن وَجَدْتَ سَعَةً فأهْدِ، وإن لم تَجِدْ فصُمْ. ويُعْتَبَرُ اليَسارُ والإِعْسَارُ في زَمَنِ الوُجُوبِ، وهو في سَنَةِ القَضاءِ إن قُلْنا بوُجُوبِه، أو في سنَةِ الفَواتِ إن قُلْنَا: لا يَجِبُ القَضاءُ. وقال الخِرَقِىُّ في العَبْدِ: ثم يُقَصِّرُ، ويَحِلُّ. يُرِيدُ أنَّ العَبْدَ لا يَحْلِقُ؛ لأنَّ الحَلْقَ يُزِيلُ الشَّعَرَ الذى يَزِيدُ في قِيمَتِه ومَالِيَّتِه، وهو مِلْكٌ لسَيِّدِه، ولم يَتَعَيَّن إزالَتُه، فلم يَكُنْ له ذلك، كغيرِ حالَةِ الإِحْرامِ. فإن أذِنَ له سَيِّدُه فيه، جازَ؛ لأنَّ المَنْعَ منه لحَقِّه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 301.

1334 - مسألة: (ومن أحرم فحصره عدو، ولم يكن له طريق إلى الحج، نحر هديا فى موضعه، وحل)

وَمَنْ أَحْرَمَ فَحَصَرَهُ عَدُوٌّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْحَجِّ، ذَبَحَ هَدْيًا فِى مَوْضِعِهِ، وَحَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1334 - مسألة: (ومَن أحْرَمَ فحَصَرَه عَدُوٌّ، ولم يَكُنْ له طَرِيقٌ إلى الحَجِّ، نَحَر هَدْيًا في مَوْضِعِه، وحَلَّ) لا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ، أنَّ المُحْصَرَ إذا حَصَرَه عَدُوٌّ، ومَنَعُوه الوُصُولَ إلى البَيْتِ، ولم يَجدْ طَرِيقًا آمِنًا، أنَّ له التَّحَلُّلَ، مُشْرِكًا كان العَدُوُّ أو مُسْلِمًا؛ لقولِه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ أصْحَابَه حينَ حُصِرُوا في الحُدَيْبِيَةِ أن يَنْحَرُوا ويَحْلِقُوا ويَحِلُّوا (¬2). وسَواءٌ كان الإِحْرامُ بحَجٍّ، أو عُمْرَةٍ، أو بهما. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّ المُعْتَمِرَ لا يَتَحَلَّلُ؛ لأنَّه لا يَخافُ الفَواتَ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ الآيَةَ إنَّما نَزَلَتْ في حَصْرِ الحُدَيْبِيَةِ، وإنَّما كانُوا مُحْرِمِينَ بعُمْرَةٍ، فحَلُّوا (¬3) جَمِيعًا. وعلى مَن تَحَلَّلَ بالإِحْصَار الهَدْىُ، في قولِ الأكْثَرَينَ. وعن مالكٍ، ليس عليه هَدْىٌ؛ لأنَّه تَحَلُّل أُبِيحَ له مِن غيرِ ¬

(¬1) سورة البقرة 196. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يلبس المحرم. . .، وباب متى يحل المعتمر، وباب من قال: ليس على المحصر بدل، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى 2/ 169، 170، 3/ 7، 12. ومسلم، في: باب بيان جواز التحلل بالإحصار، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 903. وأبو داود، في: باب الإحصار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 431. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 327. (¬3) في م: «فحلقوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَفْرِيطٍ، أشْبَهَ مَن أتَمَّ حَجَّه. ولَنا، قولُه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. قال الشافعىُّ: لا خِلافَ بينَ أهْلِ التَّفْسِيرِ أنَّ هذه الآيَةَ نزَلَتْ في حَصْرِ الحُدَيْبِيَةِ. ولأنَّه أُبِيحَ له التَّحَلُّلُ قبلَ إتْمامِ نُسُكِه، أشْبَهَ مَن فاتَه الحَجُّ، وبهذا فارَقَ مَن أتَمَّ حَجَّه. فصل: ولا فَرْقَ بينَ الحَصْرِ العامِّ في حَقِّ كلِّ الحاجِّ، وبينَ الخاصِّ في حَقِّ شَخْصٍ واحِدٍ، مثلَ أن يُحْبسَ (¬1) بغيرِ حَقٍّ، أو تَأْخُذَه اللُّصُوصُ؛ لعُمُومِ النَّصِّ، ووُجُودِ المَعْنَى في الكلِّ. فأمَّا مَن حُبِسَ بحَقٍّ عليه يُمْكِنُه الخُرُوجُ منه، فلا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ في الحَبْسِ فإن كان عاجِزًا عن أدائِه، فحُبِسَ بغيرِ حَقٍّ، فله التَّحَلُّلُ، كمَن ذَكَرْناه. وإن كانَ عليه دَيْن مُؤَجَّل يَحِلُّ قبلَ تُدُومِ الحاجِّ، فمَنَعَه صاحِبُه مِن الحَجِّ، فله التَّحَلُّلُ؛ لأنَّه مَعْذُورٌ. ولو أحْرَمَ العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، أو المَرْأةُ للتَّطَوُّعِ بغيرِ إذْنِ زَوْجِها، فلهما مَنْعُهما، وحُكْمُهُما حُكْمُ المُحْصَرِ. فصل: فإن أمْكَنَ المُحْصَرَ الوُصُولُ مِن طَرِيقٍ أُخْرَى، لم يُبَحْ لَه التَّحَلُّلُ، ولَزِمَه سُلُوكُها، بَعُدَتْ أو قَرُبَتْ، خَشِىَ الفَواتَ أو لم يَخْشَه، فإن كان مُحْرِمًا بعُمْرَةٍ لم تَفُتْ، وإن كان بحَجٍّ ففاتَه، تَحَلَّلَ بعُمْرَةٍ، وكذا لو لم يَتَحَلَّلِ المُحْصَرُ حتى زالَ الحَصْرُ، لَزِمَه السَّعْىُ وإن كان بعدَ فَواتِ الحَجِّ، ليَتَحَلَّلَ بعُمْرَةٍ. ثم هل يَلْزَمُه القَضاءُ إن فاتَه الحَجُّ؟ فيه ¬

(¬1) في م: «يجلس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتان؛ إحْداهُما، يَلْزَمُه، كمَن فاتَه بخَطَأ الطَّرِيقِ. والثانِيَةُ، لا يَجِبُ؛ لأنَّ سَبَبَ الفَواتِ الحَصْرُ، أشْبَهَ مَن لم يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى، وبهذا فارَقَ المُخْطِئَ. فصل: وإذا كان العَدُوُّ الذين حَصَرُوا الحاجَّ مُسْلِمينَ، فأمْكَنَه الانْصِرافُ، كان أوْلَى مِن قِتالِهم؛ لأنَّ في قِتالِهم المُخاطَرَةَ بالنَّفْسِ والمالِ وقَتْلَ مُسْلمٍ، فكان تَرْكُه أوْلَى. ويَجُوزُ قِتالُهم؛ لأنَّهُم تَعَدَّوْا على المُسْلِمينَ لمَنْعِهِم طَرِيقَهم، فأشْبَهُوا سائِرَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وإن كانُوا مُشْركِينَ، لم يَجِبْ قِتالُهم؛ لأنَّه إنَّما يَجِبُ بأحَدِ أمْرَيْن؛ إذا بَدَءُوا بالقِتالِ، أو وَقَع النَّفِيرُ، فاحْتِيجَ إلى مَدَدٍ، وليس ههُنا واحِدٌ منهما. لكن إن غَلَب على ظَنِّ المُسْلِمينَ الظَّفَرُ، اسْتُحِبَّ قِتالُهم؛ لِما فيه مِن الجِهادِ، وحُصولِ النَّصْرِ، وإتمامِ النُّسُكِ. وإن كان بالعَكْسِ، فالأوْلَى الانْصِرافُ؛ لِئَلَّا يُغَرِّرُوا بالمُسْلِمينَ. ومتى احْتَاجُوا في القِتالِ إلى لُبْسِ ما تَجِبُ فيه الفِدْيَةُ، فلهم فِعْلُه، وعليهم الفِدْيَةُ؛ لأنَّ لُبسَهم لأجْلِ أنْفُسِهِم، فأشْبَهَ ما لو لَبِسُوا للاسْتِدْفاء مِن بَرْدٍ. فإن أذِنَ لهم العَدُوُّ في العُبُورِ فلم يَثِقُوا بهم، فلهم الانْصِرافُ؛ لأَنَّهُم خائِفُونَ على أنْفُسِهم، فكَأنَّهُم لم يُؤَمِّنُوهم، وإن وَثِقوا بأمانِهِم، وكانُوا مَعْرُوفِينَ بالوَفاءِ، لَزِمَهم المُضِىُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على إحْرامِهِم؛ لأنَّه قد زالَ حَصْرُهم، وإن طَلَب العَدُوُّ خُفارَةً (¬1) على تَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، وكان مِمَّن لا يُؤْمَنُ بأَمانهِ، لم يَلْزَمْهُم بَذْلُه؛ لأن الخَوْفَ باقٍ مع البَذْلِ، وإن كان مَوْثُوقًا بأمانِه، والخُفارَةُ كَثِيرَةٌ، لم يَجِبْ بَذْلُه، بل يُكْرَهُ إن كان العَدُوُّ كافِرًا؛ لأنَّ فيه صَغارًا وتَقْوِيَةً للكافِرِ، وإن كانَتْ يَسِيرَةً، فقِياسُ المَذْهَبِ وُجُوبُ بَذْلِه، كالزِّيادَةِ في ثَمَنِ الماءِ للوُضُوءِ. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَجِبُ بَذْلُ خُفارَةٍ بحالٍ، وله التَّحَلُّلُ، كما في ابْتِداءِ الحَجِّ لا يَلْزَمُه إذا لم يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا مِن غيرِ خُفارَةٍ. فصل: متى قَدَرَ المُحْصَرُ على الهَدْى، فليس له التَّحَلُّلُ قبلَ ذَبْحِه. فإن كان معه هَدْىٌ قد ساقَه، أجْزَأه، وإن لم يَكُنْ معه، لَزِمَه شِراؤُه إن أمْكَنَه، ويُجْزِئُه أدْنَى الهَدْى، وهو شَاةٌ، أو سُبْعُ بَدَنَةٍ؛ لقولِه تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. وله نَحْرُه في مَوْضِعِ حَصْرِه، مِن حِلٍّ أو حَرَمٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، إلَّا أن يكونَ قادِرًا على أطْرافِ الحَرَمِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه نَحْرُه فيه؛ لأنَّ الحَرَمَ كلَّه مَنْحَرٌ، وقد قَدَر عليه. والثانِى، يَنْحَرُه في مَوْضِعِه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَر هَدْيَه في مَوْضِعِه. وعن أحمدَ، ليس للمُحْصَرِ نَحْرُ هَدْيهِ إلَّا في الحَرَمِ، ويُواطِئُ رجلًا على نَحْرِه في وَقْتٍ يَتَحَلَّلُ فيه. يُرْوَى هذا عن ابنِ مسعودٍ، في مَن لُدِغَ في الطَّرِيقِ. ¬

(¬1) الخفارة: بالضم: أجرة الخفير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وعَطاءٍ. قال شيخُنا (¬1): وهذا، واللَّهُ أعْلمُ، في مَن كان حَصْرُه خاصًّا، وأمَّا الحَصرُ العامُّ، فلا يَنْبَغِى أن يَقُولَه أحَدٌ؛ لأنَّ ذلك يُفْضِى إلى تَعَذُّر الحِلِّ، لتَعَذُّر وُصُولِ الهَدْى إلى مَحِلِّه، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه نَحَرُوا هَدَايَاهُم في الحُدَيْبيَةِ، وهى مِن الحِلِّ. قال البخارىُّ: قال مالكٌ (¬2) وغيرُه: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه حَلَقُوا وحَلُّوا مِن كلِّ شئٍ قبلَ الطَّوافِ، وقبلَ أن يَصِلَ الهَدْىُ إلى البَيْتِ. ولم يُذْكَرْ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ أحَدًا أن يَقْضِىَ شيئًا، ولا أن يَعُودُوا له. ويُرْوَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَر هَدْيَهُ عندَ الشَّجَرَةِ التى كان تَحْتَها بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ (¬3). وهى مِن الحِلِّ باتِّفاقِ أهْلِ السِّيَرِ. وقد دَلَّ عليه قَوْلُه تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬4). ولأنَّه مَوْضِعُ حِلِّه، فكانَ مَوْضِعَ نَحْرِه، كالحَرَمِ. فإن قِيلَ: فقد قال اللَّهُ تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬5). وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬6). ولأنَّه ذَبْحٌ يَتَعَلَّقُ بالإِحْرامِ، فلم يَجُزْ في غيرِ الحَرَمِ، كدَمِ الطِّيبِ واللُّبْسِ. قُلْنا: الآيَة في غيرِ ¬

(¬1) في: المغنى 5/ 197. (¬2) انظر الموطأ 1/ 360. (¬3) تقدم تخريجه في 8/ 444. (¬4) سورة الفتح 25. (¬5) سورة البقرة 196. (¬6) سورة الحج 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحْصَرِ، ولا يَصِحُّ قِياسُ المُحْصَرِ عليه؛ لأنَّ تَحَلُّلَ المُحْصَرِ في الحِلِّ، وتَحَلُّلَ غيرِه في الحَرَمِ، فكلُّ واحِدٍ منهما يَنْحَرُ في مَوضِعِ تَحَلُّلِهِ. وقد قِيلَ في قَوْلِه تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}: حتى يُذْبَحَ. وذَبْحُه في حَقِّ المُحْصَرِ في مَوْضِعِ حِلِّهِ، اقْتِداءً بالنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما قَاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. فصل: وإذا أُحْصِرَ المُعْتَمِرُ، فله التَّحَلُّلُ ونَحْرُ هَدْيِه وَقْتَ حَصْرِه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابهَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، حَلُّوا ونَحَرُوا هَدَايَاهُمْ قبلَ يَوْمِ النَّحْرِ (¬1). وإن كان مُفْرِدًا أو قارِنًا، فكذلك، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكَيْن، أشْبَهَ العُمْرَةَ، ولأنَّ العُمْرَةَ لا تَفُوتُ، وجَمِيعُ الزَّمانِ وَقْتٌ لها، فإذا جاز الحِلُّ منها ونَحْرُ هَدْيِها مِن غيرِ خَشْيَةِ فَواتِها، فالحَجُّ الذى يُخْشَى فَواتُه أوْلَى. والثانِيَةُ، لا يَحِلُّ، ولا يَنْحَرُ هَدْيَه إلى يَوْمِ النَّحْرِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه في رِوايَةِ الأثْرَمِ، وحَنْبَلٍ؛ لأنَّ للهَدْىِ مَحِلَّ زَمانٍ ومَحِلَّ مَكانٍ، فإذا سَقَط مَحِلُّ المَكَانِ للعَجْزِ عنه، بَقِىَ مَحِلُّ الزَّمَانِ واجبًا؛ لإِمْكانِه، وإذا لم يَجُزْ له نَحْرُ الهَدْى قبلَ يومِ النَّحْرِ، لم يَجُزْ له التَّحَلُّلُ؛ لقولِه سُبْحانَه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. وإذا قُلْنا بجَوازِ التَّحَلُّلِ قبلَ يومِ النَّحْرِ، فالمُسْتَحَبُّ له الإِقامَةُ على إحْرامِه، رَجاءَ زَوالِ الحَصْرِ، ومتى زَالَ قبلَ تَحَلُّلِه، فعليه المُضِىُّ لإِتْمامِ نُسُكِه، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال ابنُ المُنْذِرِ: قال كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ: إنَّ مَن يَئِسَ أن يَصِلَ إلى البَيْتِ، فجازَ له الحِلُّ، فلم يَحِلَّ حتى خُلِّىَ سَبِيلُه، أنَّ عليه أن يَقْضِىَ مَناسِكَه. وإن زالَ الحَصْرُ بعدَ فَواتِ الحَجِّ، تَحَلَّلَ بعُمْرَةٍ، فإن فاتَ الحَجُّ قبلَ زَوالِ الحَصْرِ، تَحَلَّلَ بهَدْىٍ. وقد قِيلَ: إنَّ عليه ههُنا هَدْيَيْن؛ هَدْىٌ للفَواتِ، وهَدْىٌ للإِحْصَارِ. ولم يَذْكُرْ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، في رِوايَةِ الأثرَمِ، هَدْيًا ثانِيًا في حَقِّ مَن لم يَتَحَلَّلْ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ.

1335 - مسألة: (فإن لم يجد، صام عشرة أيام، ثم حل، ولو نوى التحلل قبل ذلك، لم يحل)

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، صَامَ عَشَرَةَ أيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ. وَلَوْ نَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ ذلِكَ، لَمْ يَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1335 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ، صام عَشَرَةَ أيَّامٍ، ثم حَلَّ، ولو نَوَى التَّحَلُّلَ قبلَ ذلك، لم يَحِلَّ) إذا عَجَز المُحْصَرُ عن الهَدْى، انْتَقَلَ إلى صَوْمِ عَشَرَةِ أيَّامٍ، ثم حَلَّ. وبه قال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا بَدَلَ له؛ لأنَّه لم يُذْكَرْ في القُرْآنِ. ولَنا، أنَّه دَمٌ واجِبٌ للإِحْرامِ، فكان له بَدَلٌ، كدَمِ التَّمَتُّعِ والطِّيبِ واللِّبَاسِ، وتَرْكُ النَّصِّ عليه لا يَمْنَعُ قِياسَه على غَيْرِه، ويَتَعَيَّنُ الانْتِقَالُ إلى صِيامِ عَشَرَةِ أيَّام، كبَدَلِ هَدْىِ التَّمَتُّعِ، وليس له أن يَتَحَلَّلَ إلَّا بعدَ الصِّيامِ،؛ لا يَتَحَلَّلُ واجِدُ الهَدْى إلَّا بنَحْرِه. وهل يَلْزَمُه الحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ مع ذَبْحِ الهَدْى والصيامِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحداهُما، لا يَلْزَمُه. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَر الهَدْى وَحْدَه، ولم يَشْرُطْ سِوَاهُ. والثانيةُ، عليه الحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ؛ لأن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَلَق يومَ الحُدَيْبِيَةِ، وفِعْلُه في النُّسُكِ دَالٌّ على الوُجُوبِ، ولَعَلَّ هذا يَنْبَنِى على الخِلافِ في الحَلْقِ، هل هو نُسُكٌ أو إطْلاقٌ مِن مَحْظورٍ، وفيه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى (¬1). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 8/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَتَحَلَّلُ إلَّا بالنِّيَّةِ مع ما ذَكَرْنا، فيَحْصُلُ الحِلُّ بشَيْئَيْنِ؛ النَّحْرِ، والصَّوْمِ، مع النِّيَّةِ، على قَوْلِنا: إنَّ الحِلاقَ ليس بنُسُكٍ. وإنْ قُلْنَا: هو نُسُكٌ. حَصَلَ بثَلَاثَةِ أشْيَاءَ؛ الحِلاقُ مع ما ذَكَرْنا. فإن قيلَ: فلِمَ اعْتَبَرْتُم النِّيَّةَ ههُنا ولم تَعْتَبِرُوها في غيرِ المُحْصَرِ؟ قُلْنَا: لأنَّ مَن أتَى بأفْعالِ النُّسُكِ، فقد أتَى بما عليه، فيَحِل منها بإكْمالِها، فلم يَحْتَجْ إلى نِيَّةٍ، بخِلافِ المُحْصَرِ، فإنَّه يُرِيدُ الخُروجَ مِن العِبادَةِ قبلَ إكْمالِها، فافْتَقَرَ إلى قَصْدِه، ولأنَّ الذَّبْحَ قد يكونُ لغيرِ الحِلِّ، فلم يَتَخَصَّصْ إلَّا بقَصْدِه، بخِلافِ الرَّمْى، فإنَّه لا يكونُ إلَّا للنُّسُكِ، فلم يَحْتَجْ إلى قَصْدٍ.

1336 - مسألة: (وفى وجوب القضاء على المحصور روايتان)

وَفِى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُحْصَرِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَوَى التَّحَلُّلَ قبلَ الهَدْى أو الصِّيامِ، لم يَحِلَّ، وكان على إحْرامِه حتى يَنْحَرَ الهَدْى أو يَصُومَ؛ لأَنَّهُما أُقِيمَا مُقامَ أفْعالِ الحَجِّ، فلم يَحِلَّ قبلَهما، كما لا يَتَحَلَّلُ القادِرُ على أفْعالِ الحَجِّ قبلَها. وليس عليه في نِيَّةِ الحِلِّ فِدْيَةٌ؛ لأنَّها لم تُؤَثِّرْ في العِبادَةِ، فإن فَعَل شيئًا مِن مَحْظُوراتِ الإِحْرامِ قبلَ ذلك، فعليه فِدْيَتُه، كما لو فَعَل القادِرُ ذلك قبلَ أفْعالِ الحَجِّ. 1336 - مسألة: (وفى وُجُوبِ القَضاءِ على المَحْصُورِ رِوايَتان)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهما، لا قَضاءَ عليه، إلَّا أن يكونَ واجِبًا، فيَفْعَلُه بالوُجُوبِ السَّابِقِ. هذا هو الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. والثانيةُ، عليه القَضاءُ. رُوِى ذلك عن مُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، والشَّعْبِىِّ. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا تَحلَّلَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ قَضَى مِن قابِلٍ، وسُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضِيَّةِ، ولأنَّه حَلَّ مِن إحْرامِه قبلَ إتْمامِه، فَلَزِمَه القَضاءُ، كما لو فاتَه الحَجُّ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنَّه تَطَوُّعٌ جازَ التَّحَلُّلُ منه مع صَلاحِ الوَقْتِ له، فلم يَجِبْ قَضاؤُه، كما لو دَخَل في الصَّوْم يَعْتَقِدُ أنَّه واجِبٌ فلم يَكُنْ، فأمَّا الخَبَرُ، فإنَّ الذين صُدُّوا كانوا ألْفًا وأربَعَمائَةٍ، والذين اعْتَمَرُوا مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانُوا نَفَرًا يَسِيرًا، ولم يُنْقَلْ إلينا أنَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر أحَدًا بالقَضاءِ، وأمَّا تَسْمِيَتُها عُمْرَةَ القَضِيَّةِ، فإنَّما يَعْنِى بها القَضِيَّةَ التى اصْطَلَحُوا عليها، واتَّفَقُوا عليها، ولو أرادُوا غيرَ ذلك لقالُوا: عُمْرَةَ القَضاءِ. ويُفارِقُ الفَواتَ، فإنَّه مُفَرِّطٌ بخِلافِ مسألتِنا.

1337 - مسألة: (فإن صد عن عرفة دون البيت، تحلل بعمرة، ولا شئ عليه)

فَإِنْ صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ دُونَ الْبَيْتِ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1337 - مسألة: (فإن صدَّ عن عَرَفَةَ دُونَ البَيْتِ، تَحَلَّلَ بعُمْرَةٍ، ولا شَئَ عليه) إذا تَمَكَّنَ مِن الوُصُولِ إلى البَيْتِ، وصُدَّ عن عَرَفَةَ، فله أن يَفْسَخَ نِيَّةَ الحَجِّ، ويَجْعَلَه عُمْرَةً، ولا هَدْىَ عليه؛ لأنَّنا أَبَحْنا له ذلك فِي غيرِ حَصْرٍ، فمع الحَصْرِ أوْلَى. فإن كان قد طافَ وسَعَى للقُدُوم، ثم أُحْصِرَ أو مَرِضَ حتى فاتَه الحَجُّ، تَحَلَّلَ بطَوافٍ وسَعْىٍ آخَرَ؛ لأَنَّ الأوَّلَ لم يَقْصِدْ به طَوافَ العُمْرَةِ ولا سَعْيَها، وليس عليه أن يُجَدِّدَ إحْرامًا. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الزُّهْرِىُّ: لا بُدَّ أن يَقِفَ بعَرَفَةَ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: لا يكُونُ مُحْصَرًا بمَكَّةَ. ورُوِىَ ذلك عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ؛ لأنَّه إنَّما جازَ له التَّحَلُّلُ بعُمْرَةٍ في مَوْضِع يُمْكِنُه أن يَحُجَّ مِن عامِه، فيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا، وهذا مَمْنُوعٌ مِن الحَجِّ، ولا يُمْكِنُه أن يَصِيرَ مُتَمَتِّعًا. فعلى هذا يُقِيمُ على إحْرامِه حتى يَفُوتَه الحَجُّ، ثم يَتَحَلَّلُ بعُمْرَةٍ، فإن فاتَه الحَجُّ فحُكْمُه حُكْمُ مَن فاتَه بغيرِ حَصْرٍ. وقال مالكٌ: يَخْرُجُ إلى الحِلِّ، ويَفْعَلُ ما يَفْعَلُ المُعْتَمِرُ. فإن أحَبَّ أن يَسْتَنِيبَ مَن يُتَمِّمُ عنه أفْعالَ الحَجِّ، جازَ في التَّطَوُّعِ؛ لأنَّه جازَ أن يَسْتَنِيبَ في جُمْلَتِه، فجازَ في بَعْضِه، ولا يَجُوزُ في حَجِّ الفَرْضِ، إلَّا أن يَيْأسَ مِن القُدْرَةِ عليه في جَمِيعِ العُمُرِ، كما في الحَجِّ كلِّه. فصل: فإن أُحْصِرَ عن البَيْتِ بعدَ الوُقُوفِ بعَرَفَةَ، فله التَّحَلُّلُ؛ لأنَّ

1338 - مسألة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَصْرَ يُفْسِدُ التَّحَلُّلَ مِن جَمِيعِه، فأفادَ التَّحَلُّلَ مِن بَعْضِه. وإن كان ما حُصِرَ عنه ليس مِن أرْكانِ الحَجِّ، كالرَّمْى، وطَوافِ الوَداعِ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، أو بمِنًى في لَياليها، فليس له التَّحَلُّلُ؛ لأنَّ صِحَّةَ الحَجِّ لا تَقِفُ على ذلك، ويكونُ عليه دَمٌ؛ لتَرْكِه ذلك، وحَجُّه صَحِيحٌ، كما لو تَرَكَه مِن غيرِ حَصْرٍ، وإن حُصِرَ عن طَوافِ الإِفاضَةِ بعدَ رَمْى الجَمْرَةِ، فليس له أن يَتَحَلَّلَ أيضًا؛ لأنَّ إحْرامَه إنَّما هو عن النِّساءِ، والشَّرْعُ إنَّما وَرَد بالتَّحَلُّلِ عن الإِحْرامِ التامِّ الذى يُحَرِّمُ جَمِيعَ مَحْظُوراتِه، فلا يَثْبُتُ بما ليس مثلَه، ومتى زالَ الحَصْرُ أتَى بالطَّوافِ، وتَمَّ حَجُّهُ. 1338 - مسألة (¬1): وإذا تَحَلَّلَ المُحْصَرُ مِن الحَجِّ، فزَالَ الحَصْرُ، وأمْكَنَه الحَجُّ، لَزِمَه ذلك إن كانت حَجَّةَ الإِسْلامِ، أو كانت واجبَةً في الجُمْلَةِ، أو قُلْنا بوُجُوبِ القَضاءِ؛ لأنَّ الحَجَّ يَجِبُ على الفَوْرِ، فأمًّا إن كانت تَطَوُّعًا، ولم نَقُلْ بوُجُوبِ القَضاءِ، فلا شئَ عليه، كمَن لم يُحْرِمْ. فصل: فإن أُحْصِرَ في حَجٍّ فاسِدٍ، فله التَّحَلُّلُ؛ لأنَّه إذا أُبِيحَ له في الحَجِّ الصَّحِيحِ، فالفَاسِدِ بطَرِيقِ الأَوْلَى. فإن حَلَّ ثمَ زَالَ الحَصْرُ، ¬

(¬1) هكذا وردت، وليس هذا من متن المقنع.

1339 - مسألة: (ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة، لم يكن له التحلل)

وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحَلُّلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى الوَقْتِ سَعَةٌ، فله أن يَقْضِىَ في ذلك العامِ، وليس يُتَصَوَّرُ القَضَاءُ في العامِ الذى أفْسَدَ فيه الحَجَّ، في غيرِ هذه المسألةِ. 1339 - مسألة: (ومَن أُحْصِرَ بمَرَضٍ أو ذَهابِ نَفَقَةٍ، لم يَكُنْ له التَّحَلُّلُ) في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. اخْتَارَها الخِرَقِىُّ. رُوِى ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، ومَرْوانَ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ. والثانِيَةُ، له التَّحَلُّلُ بذلك. ورُوِىَ نَحْوُه عن ابنِ مسعودٍ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ كُسِرَ، أوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّة أُخْرَى». رَواه النَّسَائِىُّ (¬1). ولأنَّه مَحْصُورٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ قَوْلِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). يُحَقِّقُه أنَّ لَفْظَ الإِحْصارِ إنَّما هو للمَرَضِ ¬

(¬1) في: باب في من أحصر بعدو، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 156، 157. كما أخرجه أبو داود في: باب الإحصار، من كتاب المناسك. سننن أبى داود 1/ 431. والترمذى، في: باب ما جاء في الذى ينهل. . .، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 168. وابن ماجه، في: باب المحصر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1028. والدارمى، في: باب في المحصر بعدو، من كتاب المناسك. سننن الدارمى 2/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 450. (¬2) سورة البقرة 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَحْوِه، يُقالُ: أحْصَرَه المَرَضُ إحْصارًا، فهو مُحْصَرٌ، وحَصَرَه العَدُوُّ، فهو مَحْصُورٌ. فيكونُ اللَّفْظُ صَرِيحًا في مَحَلِّ النِّزاعِ، وحَصْرُ العَدُوِّ مَقِيسٌ عليه. ولأنَّه مَصْدُودٌ عن البَيْتِ، أشْبَهَ مَن صَدَّه العَدُوُّ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنَّه لا يَسْتَفِيدُ بالإِحْلالِ الانْتِقالَ مِن حَالِه، ولا التَّخَلُّصَ مِن الأَذَى الذى به، بخِلافِ حَصْرِ العَدُوِّ. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ على ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فقالت: إنِّى أُرِيدُ الحَجَّ، وأنا شاكِيَةٌ، فقال:

وَإنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ كَمَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «حُجِّى، وَاشْتَرِطِى أنَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى» (¬1). فلو كان المَرَضُ يُبِيحُ الحِلَّ، ما احْتَاجَتْ إلى شَرْطٍ. وحَدِيثُهم مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فإنَّ مُجَرَّدَ الكَسْرِ والعَرَجِ لا يَصِيرُ به حَلالًا، فإن حَمَلُوه على أنَّه يُبِيحُ له التَّحَلُّلَ، حَمَلْناه على ما إذا اشْتَرَطَ الحِلَّ، على أنَّ في حَدِيثِهم كَلامًا؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ يَرْوِيهِ، ومَذْهَبُه بخِلافِه. فإذا قُلْنا: يَتَحَلَّلُ. فحُكْمُه حُكْمُ مَن حَصَرَه العَدُوُّ، على ما مَضَى. وإن قُلْنا: لا يَتَحَلَّلُ. فإنَّه يُقِيمُ على إحْرامِه، ويَيْعَثُ ما معه مِن الهَدْى، ليُذْبَحَ بالحَرَمِ، وليس له نَحْرُه في مَكانِه؛ لأنَّه لم يَتَحَلَّلْ (فإن فاتَه الحَجُّ، تَحَلَّلَ بعُمْرَةٍ) كغَيْرِ المَرِيضِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 149.

1340 - مسألة: (ومن شرط فى ابتداء إحرامه؛ أن محلى حيث حبستنى، فله التحلل بجميع ذلك، ولا شئ عليه)

وَمَنْ شَرَطَ فِى ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ؛ أنَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1340 - مسألة: (ومَن شَرَط في ابْتِداءِ إحْرامِه؛ أنَّ مَحِلِّى حيثُ حَبَسْتَنِى، فله التَّحَلُّلُ بجَمِيعِ ذلك، ولا شئَ عليه) إذا شَرَط في وَقْتِ إحْرامِه أن يحِلَّ متى مَرِضَ، أو ضاعَتْ نَفَقَتُه، أو نَفِدَتْ، أو نحوَه، أو قال: إن حَبَسَنِى حابِسٌ فمَحِلِّى حيثُ حَبَسْتَنِى. فله التَحَلُّلُ متى وَجَد ذلك، وليس عليه هَدْىٌ ولا صَوْمٌ ولا قَضاءٌ، ولا غيرُه، فإنَّ للشَّرْطِ تَأْثِيرًا في العِبادَاتِ، بدَلِيلِ أنَّه لو قال: إن شَفَى اللَّهُ مَرِيضى صُمْتُ شَهْرًا مُتَتابِعًا، أو: مُتَفَرِّقًا. كان على شَرْطِه، وإنَّما لم يَلْزَمْه هَدْىٌ ولا قَضاءٌ؛ لأَنَّه إذا شَرَط شَرْطًا كان إحْرامُه الذى فَعَلَه إلى حينِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فصارَ بمَنْزِلَةِ مَن أَكْمَلَ أفْعالَ الحَجِّ. ثم يُنْظَرُ في صِيغَةِ الشَّرْطِ، فإن قال: إن مَرِضْتُ فلى أن أحِلَّ. أو: إن حَبَسَنِى حابِسٌ، فمَحِلِّى حيثُ حَبَسْتَنِى. فإذا حُبِسَ كان بالخِيارِ بينَ الحِلِّ وبينَ البَقاءِ على الإِحْرامِ، وإن قال: إن مَرِضْتُ فأنا حلالٌ. فمتى وُجِدَ الشَّرْطُ حَلَّ بوُجُودِه؛ لأنَّه شَرْطٌ صَحِيحٌ، فكانَ على ما شَرَط، وفى هذه المسألةِ اخْتِلافٌ ذَكَرْناه في بابِ الإِحْرَامَ.

باب الهدى والأضاحى

بَابُ الْهَدْى وَالْأَضَاحِى ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الهَدْى والأضَاحِى الأَصْلُ في مَشْرُوعِيَّةِ الأُضْحِيَةِ، الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ، فقَوْلُه تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬1). قال بَعْضُ أهْلِ التَّفْسِيرِ: والمُرَادُ به الأُضْحِيَةُ بعدَ صَلاةِ العِيدِ. وأمَّا السُّنَّةُ، فإنَّه رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِه، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَه على صِفاحِهِما. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). الأمْلَحُ: الذى فيه بَياضٌ وسَوَادٌ، وبَيَاضُه أكْثَرُ. قاله الكِسَائِىُّ. وقال ابنُ الأعْرَابِىِّ: هو النَّقِىُّ البَيَاضِ. قال الشاعِرُ (¬3): ¬

(¬1) سورة الكوثر 2. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب نحر البدن قائمة، من كتاب الحج، وفى: باب في أضحية النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، وباب من ذبح الأضاحى بيده، وباب وضع القدم على صفح الذبيحة، وباب التكبير عند الذبح، من كتاب الأضاحى. صحيح البخارى 2/ 210، 7/ 130، 131، 133. ومسلم، في: باب استحباب الضحية. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1556. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يستحب من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 86. والترمذى، في: باب ما جاء في الأضحية بكبشين، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 290. والنسائى، في: باب الكبش، وباب وضع الرجل على صفحة الضحية، وباب تسمية اللَّه عز وجل، وباب ذبح الرجل أضحيته بيده، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 194، 203، 204. وابن ماجه، في: باب أضاحى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1043. والدارمى، في: باب السنة في الأضحية، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 75. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 115. (¬3) الرجز لمعروف بن عبد الرحمن. انظر: معجم الشواهد النحوية 2/ 441.

1341 - مسألة: (والأفضل فيهما الإبل، ثم البقر، ثم الغنم. والذكر والأنثى سواء)

وَالْأَفْضَلُ فِيهِمَا الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْغَنَمُ. وَالذَّكَرُ وَالأنْثَى سَوَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا … أَمْلَحَ لا لذًّا وَلَا مُحَبَّبَا وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ على مَشْرُوعِيَّةِ الأُضْحِيَةِ. ويُسْتَحَبُّ لمَن أتَى مَكَّةَ أن يُهْدِىَ هَدْيًا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أهْدَى في حَجَّتِه مائَةَ بَدَنَةٍ (¬1)، وقد كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْعَثُ الهَدْى، ويُقِيمُ بالمَدِينَةِ. 1341 - مسألة: (والأَفْضَلُ فيهما الإِبِلُ، ثم البَقَرُ، ثم الغَنَمُ. والذَّكَرُ والأُنْثَى سَواءٌ) أفْضَلُ الهَدَايَا والأضَاحِى الإِبِلُ، ثم البَقَرُ، ثم الغَنَمُ، ثم شِرْكٌ في بَدَنةٍ، ثم شِرْكٌ في بَقَرَةٍ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363 من حديث جابر الطويل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال به مالكٌ في الهَدْى. وقال في الأُضْحِيَةِ: الأَفْضَلُ الجَذَعُ، ثم الضَّأْنُ، ثم البَقَرَةُ، ثم البَدَنَةُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بكَبْشَيْنِ، ولا يَفْعَلُ إلَّا الأفْضَلَ، ولو عَلِمَ اللَّهُ سُبْحانَه خَيْرًا منه لفَدَى به إسحاقَ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه ذَبْحٌ يُتَقَرَّبُ به إلى اللَّهِ تَعالَى، فكانتِ البَدَنَةُ فيه أفْضَلَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالهَدْىِ، ولأنَّها أكثرُ ثَمَنًا ولَحْمًا، وأنْفَعُ للفُقَرَاءِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أىُّ الرِّقابِ أفْضَلُ؟ فقال: «أَغلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» (¬1). والإِبِلُ أَغْلَى ثَمَنًا وأَنْفَسُ مِن الغَنَمِ. فأَمَّا التَّضْحِيَةُ بالكَبْشِ، فلأنَّه أفْضَلُ أجْناسِ الغَنَمِ، وكذلك حُصُولُ الفِداء به أفْضَلُ، والشّاةُ أفْضَلُ مِن شِرْكٍ في بَدَنَةٍ؛ لأنَّ إراقَةَ الدَّمِ مَقْصُودٌ في الأُضْحِيَةِ، والمُنْفَرِدُ يَتَقَرَّبُ بإرَاقَتِه كلِّه. فصل: والذَّكَرُ والأُنْثَى سَواءٌ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬2). وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬3). ولم يَقُلْ: ذَكَرًا ولا أُنْثَى. ومِمَّن أجَازَ ذُكْرانَ الإِبِلِ في الهَدْى ابنُ المُسيَّبِ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، ومالكٌ، وعَطاءٌ، والشافعىُّ. وعن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهما، قال: ما رَأَيْتُ أحَدًا فاعِلًا ذلك، وأن أَنْحَرَ أُنْثَى أَحَبُّ إلَىَّ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنا مِن النَّصِّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 133. (¬2) سورة الحج 34. (¬3) سورة الحج 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ثَبَت أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أهْدَى جَمَلًا لأبى جَهْلٍ، في أنْفِه بُرَةٌ (¬1) مِن فِضَّةٍ. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬2). ولأنَّه يَجُوزُ ذبْحُ الذَّكَرِ مِن سائِرِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، فكذلك مِن الإِبِلِ، ولأنَّ القَصْدَ اللَّحْمُ، ولَحْمُ الذَّكَرِ أوْفَرُ، ولَحْمُ الأُنْثَى أَرطَبُ، فتَسَاوَيَا. قال أحمدُ: الخَصِىُّ أحَبُّ إلَيْنا مِن النَّعْجَةِ؛ لأنَّ لَحْمَه أوْفَرُ وأطْيَبُ. قال شيخُنا (¬3): والكَبْشُ في الأُضْحِيَةِ أفْضَلُ النَّعَمِ؛ لأنَّها أُضْحِيَةُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذَكَرَه ابنُ أبى مُوسَى. والضَّأْنُ أفْضَلُ مِن المَعْزِ؛ لأنَّه أطْيَبُ لَحْمًا. وقال القاضى: جَذَعُ الضَّأنِ أفْضَلُ مِن ثَنِىِّ المَعْزِ؛ لذلك، ولِما رُوى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «نِعْمَ الأُضْحِيَةُ الجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ» (¬4). حَدِيث غَرِيبٌ. قال شيخُنا (¬5) رَحِمَه اللَّهُ: ويَحْتَمِلُ أنَّ الثَّنِىَّ مِنٍ المَعْزِ أفْضَلُ مِن الجَذَعِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، فإنْ عَسُرَ عَلَيْكُمْ، فَاذْبَحُوا الجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ» رَواه مسلمٌ (¬6). وهذا يَدُلُّ على فَضْلِ الثَّنِىِّ على الجَذَعِ، لكَوْنِه جَعَل ¬

(¬1) البرة: الحلقة تجعل في أنف البعير. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الهدى، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 405. وابن ماجه في: باب الهدى من الإناث والذكور، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1035. (¬3) انظر المغنى 13/ 366. ولفظه: والكبش أفضل الغنم. (¬4) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الجذع من الضأن. . .، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 298، 299. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 445. (¬5) في: المغنى 13/ 367. (¬6) تقدم تخريجه في 8/ 447.

1342 - مسألة: (ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن؛ وهو ما له

وَلَا يُجْزِئُ إِلَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ؛ وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِىُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّنِىَّ أصْلًا، والجَذَعَ بَدَلًا، لا يُنْتَقلُ إليه إلَّا عندَ عَدَمِ الثَّنِىِّ. فصل: ويُسَنُّ اسْتِسْمَانُها واسْتِحْسَانُها؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1). قال ابنُ عباسٍ: تَعْظِيمُها اسْتِسْمانُها واسْتِعْظَامُها واسْتِحْسَانُها (¬2). ولأنَّ ذلك أعْظَمُ لأجْرِها، وأعْظَمُ لنَفْعِها. والأفْضَلُ في لَوْنِ الغَنَمِ البَيَاضُ؛ لِما رُوِى عن مَوْلَاةِ أبى ورقَةَ بنِ سعيدٍ، قالت: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «دَمُ عَفْرَاءَ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دَم سَوْدَاوَيْن». رَواه أحمدُ بمَعْنَاه (¬3). وقال أبو هُرَيْرَةَ: دَمُ بَيْضَاءَ أَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْن (¬4). ولأنَّه لَوْنُ أُضْحِيَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم ما كان أحْسَنَ لَوْنًا فهو أَفْضَلُ. 1342 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ إلَّا الجَذَعُ مِن الضَّأْنِ؛ وهو ما له ¬

(¬1) سورة الحج 32. (¬2) أخرجه الطبرى، في: تفسيره 17/ 156. (¬3) عزاه الهيثمى للطبرانى في الكبير، وقال: فيه محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف. وأخرجه الإمام أحمد من حديث أبى هريرة مرفوعا بلفظ: «دم عفراء أحب إلىَّ من سوداوين». المسند 2/ 417. وقال الهيثمى: وفيه أبو ثفال، قال البخارى: فيه نظر. مجمع الزوائد 4/ 18. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب فضل الضحايا والهدى. . .، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 387، 388.

مِمَّا سِوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سِتَّةُ أشْهُرٍ، والثَّنِىُّ مِمّا سِوَاه) وهو قولُ مالكٍ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال ابنُ عُمَرَ، والزُّهْرِىُّ: لا يُجْزِئُ الجَذَعُ؛ لأنَّه لا يُجْزِئُ مِن غيرِ الضَّأْنِ، فلا يُجْزِئُ منه، كالحَمَلِ. وعن عطاءٍ، والأوْزَاعِىِّ، أنَّهُما قالا: يُجْزِئُ الجَذَعُ مِن جَمِيعِ الأجْنَاسِ؛ لِما روَى مُجَاشِعُ بنُ سُلَيْمٍ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقول: «إنَّ الجَذَعَ يُوفِى بِمَا يُوفِى بِهِ الثَّنِىُّ». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، وابنُ ماجه (¬1). ولأنَّه يُجْزِئُ مِن بَعْضِ الأجْناسِ، فأجْزَأ مِن جَمِيعِها، كالثَّنِىِّ. ولَنا على إجْزاءِ الجَذَعِ مِن الضَّأْنِ، حَدِيث مُجاشِعٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وعلى أنَّ الجَذَعَةَ مِن غيرِها لا تُجْزِئُ، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، فإنْ عَسُرَ عَلَيْكُمْ فَاذْبَحُوا الجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ». وقال أبو بُرْدَةَ بنُ نِيَارٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: عِنْدِى جَذَعَةٌ مِن المَعْزِ أحَبُّ إلَىَّ مِن شَاتَيْن، فهل تُجْزِئُ عَنِّى؟ قال: «نَعَمْ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وحَدِيثُهم مَحْمُولٌ على الجَذَعِ مِن الضَّأْنِ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 447. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 444.

1343 - مسألة: (وثنى الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر

وَثَنِىُّ الإِبِلِ مَا كَمَلَ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَمِنَ الْبَقَرِ مَا لَهُ سَنَتَانِ، وَمِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما ذَكَرْنا. قال إبراهيمُ الحَرْبِىُّ: إنَّما يُجْزِئُ الجَذَعُ مِن الضَّأْنِ؛ لأنَّه يَنْزُو فيَلْقَحُ، فإذا كان مِن المَعْزِ لم يَلْقَحْ حتى يكون ثَنِيًّا. فصل: ولا يُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ غيرُ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ، وإن كان أحَدُ أبَوَيْه وَحْشِيًّا. وحُكِىَ عن الحسنِ بنِ صالِحٍ، أنَّ بَقرَة الوَحْشِ تُجْزِئُ عن سَبْعَةٍ، والظَّبْىَ عن واحِدٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى: يُجْزِئُ وَلَدُ البَقَرَةِ الإِنْسِيَّةِ إذا كان أبوه وَحْشِيًّا. وقال أبو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ إذا كان مَنْسُوبًا إلى بَهِيمَةِ الأنْعَام. ولَنا، قَوْلُه سبحانه: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1). وهى الإِبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ. وعلى أصحاب الرَّأْى، أنَّه مُتَوَلِّدٌ بينَ ما يُجْزِئُ وبينَ ما لَا يُجْزِئُ، أشْبَهَ ما لو كانَتِ الأُمُّ وَحْشِيَّةً. والجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ ما له سِتَّةُ أشْهُرٍ. قال وَكِيعٌ: الجَذَعُ مِن الضَّأْنِ يكونُ ابنَ سَبْعَةِ أشْهُرٍ، أو سِتَّةِ أشْهُرٍ. قال الخِرَقِىُّ: وسَمِعْتُ أبى يقولُ: سَأَلْتُ بعضَ أهْلٍ البادِيَةِ: كيف تَعْرِفُونَ الضَّأْنَ إذا أجْذَعَ؟ قالُوا: لا تَزالُ الصُّوفَةُ قائِمَةً على ظَهْرِه ما دامَ حَمَلًا، فإذا نامَتِ الصُّوفَةُ على ظَهْرِه عُلِمَ أنَّه قد أجْذَعَ. وفيه قولٌ، أنَّ الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ ما له ثَمانِيَةُ أشْهُرٍ. ذَكَرَه ابنُ أبى مُوسَى. 1343 - مسألة: (وثَنِىُّ الإبِلِ ما كَمَلَ له خَمْسُ سِنِينَ، ومِن البَقَرِ ¬

(¬1) سورة الحج 34.

الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما له سَنَتَانِ، ومِن المَعْزِ ما له سَنَةٌ) قال الأصْمَعِىُّ، وأبو زيادٍ الكِلابِىُّ، وأبو زيدٍ الأنصارِىُّ: إذا مَضَتِ السنةُ الخامسة على البَعِيرِ، ودَخَل في السادسةِ، وأَلْقَى ثَنِيَّتَه، فهو حِينئِذٍ ثَنِىٌّ. ويُرْوَى أنَّه يُسَمَّى ثَنِيًّا لأنَّه ألْقى ثَنِيَّتَه. وأمَّا البَقَرَةُ، فهى التى لها سَنَتان. وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً». ومُسِنَّةُ البَقَرِ التى لها سَنَتَان، على ما ذَكَرْنا في الزَّكاةِ (¬1). وثَنِىُّ المَعْزِ ما له سَنَةٌ. وقال ابنُ أبى مُوسَى: فيه قَوْلٌ، أنَّ ثَنِىَّ البَقَرِ ما دَخَل في السنَّةَ الرَّابِعَةِ. والأوَّلُ المَشْهُورُ في المَذْهَبِ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 6/ 436.

1344 - مسألة: (وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، سواء أراد جميعهم القربة، أو بعضهم والباقون اللحم)

وَتُجْزِئُ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، سَوَاءٌ أَرَادَ جَمِيعُهُمُ الْقُرْبَةَ، أَوْ بَعْضُهُمْ وَالْبَاقُونَ اللَّحْمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1344 - مسألة: (وتُجْزِئُ الشاةُ عن واحِدٍ، والبَدَنَةُ والبَقَرَةُ عن سَبْعَةٍ، سَواءٌ أرادَ جَمِيعُهم القُرْبَةَ، أو بَعْضُهم والباقُون اللَّحْمَ) أمَّا إجْزاءُ الشَّاةِ عن واحِدٍ، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وقد روَى أبو أيُّوبَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: كان الرجلُ في عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُضَحِّى بالشَّاةِ عنه وعن أهْلِ بَيْتِه، فَيَأْكُلُونَ ويُطْعِمُونَ (¬1). حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وتُجْزِئُ البَدَنَة والبَقَرَةُ عن سَبْعَةٍ. وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. رُوِى ذلك عن علىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وعائِشَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وسالِمٌ، والحسنُ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، والثَّوْرىُّ، والأوْزَاعِىُّ، ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 304. وابن ماجه، في: باب من ضحى بشاة عن أهله، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1051. والإمام مالك، في: باب الشركة في الضحايا. . .، من كتاب الضحايا. الموطأ 2/ 486.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وعن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّه قال: لا تُجْزِئُ نَفْسٌ واحِدَةٌ عن سَبْعَةٍ. ونَحْوُه قولُ مالكٍ، إلَّا أن يَذْبَحَ عنه وعن أهْلِ بَيْتِه. قال أحمدُ: ما عَلِمْتُ أنَّ أحَدًا لا يُرَخِّصُ في ذلك إلَّا ابنَ عُمَرَ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّ الجَزُورَ عن عَشَرَةٍ، والبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ. وبه قال إسحاقُ؛ لِما روَى رافِعٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم فعَدَلَ عن عَشَرَةٍ مِن الغَنَمِ ببَعِيرٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، قال: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَفَرٍ، فحَضَرَ الأضْحَى، فاشْتَرَكْنَا في الجَزُورِ عن عَشَرَةٍ، والبَقَرَةِ عن سَبْعَةٍ. رَواه ابنُ ماجه (¬2). ولَنا، ما ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قسمة الغنيمة، وباب من عدل عشرا، من كتاب الشركة، وفى: باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره، وباب ما يكره من ذبح الإبل والغنم، من كتاب الجهاد، وفى: باب التسمية على الذبيحة. . .، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 3/ 181، 185، 4/ 89، 91، 7/ 118. ومسلم، في: باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1559. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الذبيحة بالمروة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 92. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية النهبة، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 101. والنسائى، في: باب الإنسية تستوحش، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 169. وابن ماجه، في: باب كم تجزئ من الغنم عن البدنة، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1048. (¬2) في: باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة؟ من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1047. كما أخرجه أبو داود، في: باب في البقر والجزور، عن كم تجزئ؟، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 89. والترمذى، في: باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى جابِرٌ، قال: نَحَرْنَا بالحُدَيْبِيَةِ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ، والبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ (¬1). وقال أيضًا: كنّا نَتَمَتَّعُ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنَذْبَحُ البَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ، نَشْتَرِكُ فيها. رَواه مسلمٌ (¬2). وهذا أصَحُّ مِن حَدِيثهم. وأمّا حَدِيثُ رَافعٍ، فهو في القِسْمَةِ، لا في الأُضْحِيَةِ. إذا ثَبَت هذا، فسَواءٌ كان المشْتَرِكُونَ مِن أهْلِ بَيْتٍ، أو لم يَكُونوا، مُتَطَوِّعِينَ أو مُفْتَرِضِينَ، أو كان بَعْضهم يُرِيدُ القُرْبَةَ، وبعضُهم يُرِيدُ اللَّحْمَ. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ إذا كانُوا كلُّهم مُتَقَرِّبينَ، ولا يَجُوز إذا لم يُرِدْ بعضهم القُرْبَةَ. ولَنا، أنَّ الجُزْءَ المُجْزِئُ لا يَنقُصُ بإرَادَةِ الشَّرِيكِ غيرَ القُرْبَةِ، فجازَ, كما لو اخْتَلَفَت جهاتُ القُرَبِ، فأرادَ بَعْضهم المُتْعَةَ، والآخَرُ القِرانَ، ولأنَّ كُلَّ إنْسَانٍ إنَّما يُجْزِئُ عنه نَصِيبُه، فلا يَضُرُّه نِيَّةُ غَيْرِه في نَصِيبه. ويَجُوزُ أن يَقْتَسِمُوا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب الاشتراك في الهدى،. . . من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 955. وأبو داود، في: باب في البقر والجزور، عن كم تجزئ؟، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 89. والترمذى، في: باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة، من أبواب الحج، وفى: باب ما جاء في الاشتراك في الضحية، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 4/ 136، 137، 6/ 302. وابن ماجه، في: باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1047. والدارمى، في: باب البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 78. والإمام مالك، في: باب الشركة في الضحايا،. . .، من كتاب الضحايا. الموطأ 2/ 486. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 293، 294، 316، 353، 396. (¬2) في: الباب السابق. صحيح مسلم 2/ 956.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّحْمَ؛ لأنَّ القِسْمَةَ إفْرازُ (¬1) حَقٍّ، وليست بَيْعًا. ومَنَعَ منه أصْحابُ الشافعىِّ في وَجْهٍ، بناءً على أنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ، وبَيْعُ لَحْمِ الهَدْى والأُضْحِيَةِ غيرُ جائِزٍ. ولَنا، أنَّ أمْرَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالاشْتِراكِ، مع أنَّ سُنَّةَ الهَدْى والأُضْحِيَةِ الأكْلُ منها، دَلِيلٌ على تَجْوِيزِ القِسْمَةِ، إذ به يُتَمَكَّنُ مِنْ الأكْلِ، وكذلك الصَّدَقَةُ والهَدِيَّة. فصل: ولا بَأْسَ أن يَذْبَحَ الرجلُ عن أهْلِ بَيْتِه شاةً واحِدَةً، أو بَدَنَةً، أو بَقَرَةً، يُضَحِّى بها. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال مالكٌ، واللَّيْثُ، والأوْزَاعِىُّ، وإسحاقُ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وأبى هُرَيْرَةَ. قال صالِحٌ: قُلْتُ لأبى: يُضَحِّى بالشَّاةِ عن أهْلِ البَيْتِ؟ قال: نعم، لا بَأْسَ، قد ذَبَحَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَبْشَيْن، قال: «بِسْمِ اللَّهِ، هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِه». وقَرَّبَ الآخَرَ، وقال: «اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَمَّنْ وَحَّدَكَ مِنْ أُمَّتِى» (¬2). وحُكِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يُضَحِّى ¬

(¬1) في الأصل: «إقرار». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما يستحب من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 86. وابن ماجه، في: باب أضاحى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1043. والدارمى، في: باب السنة في الأضحية، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 75، 766. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشَّاةِ، فتَجِئُ ابْنَتُه، فتَقُولُ: عَنِّى؟ فيقُولُ: وعنك. وكَرِهَ ذلك الثَّوْرِىُّ، وأبَو حنيفةَ؛ لأنَّ الشاةَ لا تُجْزِئُ عن أكْثَرَ مِن واحِدٍ، فإذا اشْتَرَكَ فيها اثْنانِ لم تُجْزِئ عنهما، كالأجْنَبِيَّيْن. ولَنا، الحَدِيثُ الذى ذَكَرَه أحمدُ، وروَى جابِرٌ، قال: ذَبَح رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ الذَّبْحِ كَبْشَيْن أقْرَنَيْن أمْلَحَيْن مَوْجُوءَيْنِ (¬1)، فلَمَّا وَجَّهَهُما، قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِىَ للَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاِتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَن مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِه، بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ». ثم ذَبَح. رَواه أبو داودَ (¬2). وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ أبى أيُّوبَ في أوَّلِ المسألةِ. ¬

(¬1) موجوءين: خصيين. (¬2) انظر التخريج السابق.

1345 - مسألة: (ولا يجزئ فيهما

وَلَا يُجْزِئُ فِيهِمَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا؛ وَهِىَ الَّتِى انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا، وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِى لَا تُنْقِى، وَهِىَ الْهَزِيلَةُ الَّتِى لَا مُخَّ فِيهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْمَشْىِ مَعَ الْغَنَمِ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَضْبَاءُ؛ وَهِىَ الَّتِى ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أوْ قَرْنِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1345 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ فيهما (¬1) العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُها؛ وهى التى انْخَسَفَتْ عَيْنُها، ولا العَجْفَاءُ التى لا تُنْقِى؛ وهى الهَزِيلَةُ التى لا مُخَّ فيها، ولا العَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا، فلا تَقْدِرُ على المَشْىِ مع الغَنَمِ، ولا المَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُها، ولا العَضْبَاءُ؛ وهى التى ذَهَبَ أكْثَرُ أُذُنِها أو قَرْنِها) أمَّا العُيُوبُ الأرْبَعَةُ الأُوَلُ، فلا نَعْلَمُ بينَ أهْلِ العِلْمِ خِلافًا في أنَّها تَمْنَعُ الإِجْزاءَ في الهَدْى والأُضْحِيَةِ؛ لِما روَى البَراءُ بنُ عازِبٍ، رَضِىَ ¬

(¬1) في م: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهُ عنه، قال: قامَ فِينَا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ في الأَضَاحِى؛ العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا، والعَجْفَاءُ التى لا تُنْقِى». رَواه أبو داودَ، والنَّسَائِىُّ (¬1). نَصَّ على الأَضَاحِى، والهَدْىُ في مَعْنَاهَا. ومَعْنَى العَوْرَاءِ البَيِّنِ عَوَرُها: التى قد انْخَسَفَتْ عَيْنُها، والعَيْنُ عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فإن كان على عَيْنِها بَيَاضٌ، ولم تَذْهَبْ، جازَتِ التَّضْحِيَةُ بِها؛ لأنَّ عَوَرَها ليس بِبَيِّنٍ، ولا يَنْقُصُ ذلك لَحْمَها. والعَجْفَاءُ: المَهْزُولَةُ، والتى لا تُنْقِى، هى التى لا مُخَّ فيها في عِظَامِها؛ لهُزالِها، والنِّقْىُ: المُخُّ. قال الشاعِرُ (¬2): لا يَشْتَكِينَ عملًا ما أنْقَينْ مَا دَامَ مُخٌّ في سُلامَى أو عَيْنْ (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما يكره من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 87، 88. والنسائى، في: باب العرجاء، من كتاب الأضاحى. المجتبى 7/ 189. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يكره أن يضحى به، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1050, 1051. (¬2) هو النضر بن سلمة العجلى. (¬3) الرجز في: مقاييس اللغة 1/ 206، واللسان والتاج (م خ خ)، واللسان (س ل م).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذه لا تُجْزِئُ؛ لأنَّه لا مُخَّ (¬1) فيها، إنَّما هى عِظامٌ مُجْتَمِعَةٌ. وأمَّا العَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُها، فهى التى بها عَرَجٌ فاحِشٌ، وذلك يَمْنَعُها مِن اللَّحاقِ بالغَنَمِ، فَيَسْبِقْنَها إلى الكَلَأ، فيَرْعَيْنَه، لا تُدْرِكُهُنَّ، فَيَنْقُصُ لَحْمُها، فإن كان عَرَجًا يَسِيرًا لا يُفْضِى بها إلى ذلك، أجْزَأتْ. وأمَّا المَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُها، فقال الخِرَقِىُّ: هى التى لا يُرْجَى بُرْؤُها؛ لأنَّ ذلك يَنْقُصُ قِيمَتَها ولَحْمَها نَقْصًا كَثِيرًا. وقال القاضى: هى الجَرْباءُ؛ لأنَّ الجَرَبَ إذا كَثُرَ يُهْزِلُ ويُفْسِدُ اللَّحْمَ. وهذا قولُ أصحابِ الشافعىِّ. قال شيخُنا (¬2): والذى في الحَدِيثِ: «المَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا». وهو الذى يَبِينُ أثَرُه عليها، لأنَّ ذلك يَنْقُصُ لَحْمَها ويُفْسِدُه. وهذا أوْلَى مِمّا ذَكَرَه الخِرَقِىُّ، والقاضى؛ لأنَّه تَقْيِيدٌ للمُطْلَقِ، وتَخْصِيصٌ للعُمُومِ بلا دَلِيلٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «لحم». (¬2) في: المغنى 13/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَعْنَى يَقْتَضِى العُمُومَ, كما يَقْتَضِيه اللَّفْظُ [فإن كان المرضُ الظاهرُ يُفسِدُ اللَّحمَ ويَنْقُصُه، فلا مَعْنَى للخُصُوصِ مع عُمُومِ اللَّفْظِ] (¬1) والمَعْنَى. وأمَّا العَضَبُ فهو ذَهابُ أكْثَر مِن نِصْفِ القَرْنِ أو الأُذُنِ، وذلك يَمْنَعُ الإِجْزاءَ أيْضًا. وبه قال النَّخَعِىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: تُجْزِئُ مَكْسُورَةُ القَرْنِ. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن علىٍّ، وعَمّارٍ، وابنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ. وقال مالكٌ: إن كان قَرْنُها يَدْمَى لم تُجْزِئْ، وإلَّا أجْزَأتْ. وعن أحمدَ: لا تُجْزِئُ ما ذَهَب ثُلُثُ أُذُنِها. وهو قَوْلُ أبى حنيفةَ. وقال عَطاءٌ، ومالكٌ: إذا ذَهَبَتِ الأُذُنُ كُلُّهَا لم تُجْزِئْ، وإن ذَهَب يَسِيرٌ، جازَ. واحْتَجُّوا بأنَّ قَوْلَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَرْبَعٌ لا تَجُوزُ في الأَضَاحِى». يَدُلُّ على أنَّ غَيْرَها يُجْزِئْ، ولأنَّ في حَدِيثِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَراءِ، عن عُبَيْدِ بنِ فَيْرُوزَ، قال: قلت للبَرَاءِ: فإنِّى أَكْرَهُ النَّقْصَ مِن القَرْنِ والذَّنَبِ. قال: اكْرَهْ لِنَفْسِكَ ما شِئْتَ، ولا تُضَيِّقْ على النّاسِ. ولأنَّ المَقْصُودَ اللَّحْمُ، وهذا لا يُؤَثِّرُ فيه. ولَنا، ما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُضَحَّى بأعْضَبِ الأُذُنِ والقَرْنِ. قال قَتَادَةُ: فسألْتُ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ، فقال: نعم، العضَبُ النِّصْفُ فأكْثَرُ مِن ذلك. رَواه النَّسائِىُّ، وابنُ ماجه (¬1). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ والأُذُنَ. رَواه أبو داودَ، والنَّسَائِىُّ (¬2). وهذا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ على المَفْهُومِ. فصل: ولا تُجْزِى العَمْيَاءُ؛ لأنَّ النَّهْىَ عن العَوْراءِ تَنْبِيهٌ على العَمْيَاءِ، ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب العضباء، من كتاب الأضاحى. المجتبى 7/ 191، 192. وابن ماجه، في: باب ما يكره أن يضحى به، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1050. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يكره من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 88. والترمذى، في: باب في الضحية بعضباء القرن والأذن، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 303. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 80، 83، 109، 127، 137، 150. (¬2) أخرجه أبو داود، في: كتاب ما يكره من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 88. والنسائى، في: باب المقابلة وهى ما قطع طرف أذنها، وباب المدابرة وهى ما قطع من مؤخر أذنها، وباب الخرقاء وهى التى تخرق أذنها، من كتاب الأضاحى. المجتبى 7/ 190، 191. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما يكره من الأضاحى، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 296، 297. وابن ماجه، في: باب ما يكره أن يضحى به، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1050.

وَتُكْرَهُ الْمَعِيبَةُ الأُذُنِ بِخَرْقٍ أَوْ شَقٍّ أَوْ قَطْعٍ لِأَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تُجْزِئُ، وإن لم يَكُنْ عَمَاهَا بَيِّنًا؛ لأنَّ العَمَى يَمْنَعُ مَشْيَها مع الغَنَمِ ومُشَارَكَتَها في العَلَفِ. ولا تُجْزِئُ ما قُطِعَ منها عُضْوٌ، كالألْيَةِ والأطبَاءِ (¬1)؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: لا تَجُوزُ العَجْفَاءُ، ولا الجَدّاءُ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ. هى التى قد يَبِسَ ضَرْعُها. ولأنَّه أبْلَغُ في الإِخْلَالِ بالمَقْصُودِ مِن ذَهابِ شَحْمَةِ العَيْنِ. فصل: (وتُكْرَهُ المَعِيبَةُ الأُذُنِ بخَرْقٍ أو شَقٍّ أو قَطْعٍ لأقَلَّ مِن النِّصْفِ) لِمَا روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّه عنه، قال: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ والأُذُنَ، ولا نُضَحِّىَ بمقابَلَةٍ، ولا مُدابَرَةٍ، ولا شَرْقَاءَ، ¬

(¬1) الأطباء: حلمات الضرع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا خَرْقَاءَ. قال زُهَيْرٌ: قُلْتُ لأبى إسحاقَ: ما المُقابَلَةُ؟ قال: تُقْطَعُ طَرَفُ الأُذُنِ. قُلْتُ: فَمَا المدابَرَةُ؟ قال: تُقْطَعُ مِن مُؤَخَّرِ الأُذُنِ. قلتُ: فما الخَرْقَاءُ؟ قال: شَقُّ الأُذُنِ. قلتُ: فَمَا الشَّرْقَاءُ؟ قال: تُشَقُّ أُذُنُها للسِّمَةِ. رَواه أبو داودَ (¬1). وقال القاضى: الخَرْقاءُ، التى قد انْثَقَبَتْ أُذُنُها، والشَّرْقَاءُ، التى تُشَقُّ أُذُنُها ويَبْقَى كالشّاخِتَيْن (¬2). وهذا نَهْىُ تَنْزِيهٍ. ويَحْصُلُ الإِجْزاءُ بها؛ لأنَّ اشْتِراطَ السَّلَامَةِ مِن ذلك يَشُقُّ، ¬

(¬1) انظر التخريج السابق. (¬2) في م: «كالشتاخين» والشاخت: الدقيق الضامر من غير هزال.

1346 - مسألة: (وتجزئ الجماء والبتراء والخصى. وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء)

وَتُجْزِئُ الْجَمَّاءُ وَالْبَتْرَاءُ وَالْخَصِىُّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تُجْزِئُ الْجَمَّاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَكادُ يُوجَدُ سالِمٌ مِن هذا كُلِّه. وذَكَر ابنُ أبى مُوسَى في «الإِرْشادِ» أنَّها لا تُجْزِئٌ؛ لظاهِرِ الحَدِيثِ. والجُمْهُورُ على خِلافِ هذا؛ للمَشَقَّةِ. 1346 - مسألة: (وتُجْزِئُ الجَمَّاءُ والبَتْرَاءُ والخَصِىُّ. وقال ابنُ حامِدٍ: لا تُجْزِئُ الجَمّاءُ) تُجْزِئُ الجَمَّاءُ، وهى التى لم يُخْلَقْ لها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَرْنٌ، والصَّمْعَاءُ، وهى الصَّغِيرَةُ الأُذُنِ، والبَتْرَاءُ، وهى التى لا ذَنَبَ لها، سَواءٌ كان خِلْقَةً أو مَقْطُوعًا. ومَن لم يَرَ بالبَتْرَاءِ بَأْسًا ابنُ عُمَرَ، وسعيدُ ابنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ. وكَرِهَ اللَّيْثُ أن يُضَحَّى بالبَتْرَاءِ ما فوقَ القَبْضَةِ. وقال ابنُ حامِدٍ: لا تُجْزِئُ الجَمَّاءُ؛ لأنَّ ذَهابَ أكْثَرَ مِن نِصْفِ القَرْنِ يَمْنَعُ، فذَهابُ جَمِيعِة أوْلَى، ولأنَّ ما مَنَع منه العَوَرُ مَنَع منه العَمَى، فكذلك ما مَنَعَ منه العَضَبُ يَمْنَعُ منه كَوْنُه أجَمَّ. ولَنا، أنَّ هذا نَقْصٌ لا يَنْقُصُ اللَّحْمَ، ولا يُخِلُّ بالمَقْصُودِ، ولم يَرِدْ به نَهْىٌ، فوَجَبَ أن يُجْزِئَ؛ وفارَقَ العَضَبَ؛ فإنَّه قد نُهِىَ عنه، وهو عَيْبٌ، فإنَّه رُبَّما دَمِىَ وآلمَ الشّاةَ، فيكونُ كمَرَضِها، ويُقَبِّحُ مَنْظَرَها، بخِلافِ الأجَمِّ، فإنَّه ليس بمَرَضٍ ولا عَيْبٍ. وما كان كامِلَ الخِلْقَةِ فهو أفْضَلُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بكَبْشٍ أقْرَنَ فَحيلٍ (¬1)، وقال: «خَيْرُ الأُضْحِيَةِ الكَبْشُ الأقْرَنُ» (¬2). فصل: ويُجْزِئُ الخَصِىُّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ مَوْجُوءَيْن (¬3). والوَجْأُ رَضُّ الخُصْيَتَيْنِ، وما قُطِعَتْ خُصْيَتَاهُ أو سُلَّتَا في ¬

(¬1) في م: «كحيل». وأخرجه أبو داود، في: باب ما يستحب من الضحايا، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 86. والترمذى، في: باب ما جاء ما يستحب من الأضاحى، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 293. والنسائى، في: باب الكبش، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 195. وابن ماجه، في: باب ما يستحب من الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1046. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا سلمة بن شبيب. . .، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 317. وابن ماجه، في: باب ما يستحب من الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1046. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 331.

1347 - مسألة: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فيطعنها بالحربة فى الوهدة التى بين أصل العنق والصدر، ويذبح البقر والغنم)

وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى، فَيَطْعَنُهَا بِالْحَرْبَةِ في الْوَهْدَةِ الَّتِى بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ، وَيَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْنَاه، ولأنَّ الخَصْىَ إذْهابُ عُضْوٍ غيرِ مُسْتَطَابٍ، يَطِيبُ اللَّحْمُ بذَهابِه ويَسْمَنُ. قال الشَّعْبِىُّ: ما زَادَ في لَحْمِه وشَحْمِه أكثَرُ مِمّا ذَهَب منه. وبهذا قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. 1347 - مسألة: (والسُّنَّةُ نَحْرُ الإِبِلِ قائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا اليُسْرَى، فيَطْعَنُها بالحَربَةِ في الوَهْدَةِ التى بينَ أصْلِ العُنُقِ والصَّدْرِ، ويَذْبَحُ البَقَرَ والغَنَمَ) السُّنَّةُ نَحْرُ الإِبِلِ كما ذَكَر. ومِمَّن اسْتَحَبَّ ذلك مالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال عَطاءٌ: يُسْتَحَبُّ وهى بارِكَةٌ. وجَوَّزَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى كِلَا الأمْرَيْن. ولَنا، ما روَى زِيادُ بنُ جُبَيْرٍ، قال: رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ أتَى على رجلٍ أناخَ بَدَنَتَه ليَنْحَرَها، فقال: ابْعَثْهَا قِيامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةً مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ (¬3)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه كانُوا يَنْحَرُونَ البَدَنَةَ مَعْقُولَةَ اليُسْرَى، قائِمَةً على ما بَقِىَ مِن قَوائِمِها. وفى قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (¬4). دَلِيلٌ على أنَّها تُنْحَرُ قائِمَةً. وقِيلَ في تَفْسِيرِ قَوْلِه تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (4) أى قِيامًا. وكَيْفَما نَحَر أجْزَأه. قال أحمدُ: ويَنْحَرُ الإِبِلَ مَعْقُولَةً على ثَلاثِ قَوائِمَ، فإن خَشِىَ عَلَيْها أن تَنْفِرَ أنَاخَها. ويَذْبَحُ البَقَرَ والغَنَمَ، قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬5). وروَى أنَسٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِه (¬6). فإن ذَبَح ما يُنْحَرُ، أو نَحَر ما يُذْبَحُ، جاز، وأُبِيحَ؛ لأنَّه لم يَتَجَاوَزْ مَحِلَّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب نحر الإبل مقيدة، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 210. ومسلم، في: باب نحر البدن قيامًا مقيدة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 956. كما أخرجه أبو داود، في: باب كيف تنحر البدن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 409. والدارمى، في: باب في نحر البدن قياما، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 66. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 3، 139. (¬2) في: باب كيف تنحر البدن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 409. (¬3) في م: «ساباط». (¬4) سورة الحج 36. (¬5) سورة البقرة 67. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 331.

1348 - مسألة: (ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك)

وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذا مِنْكَ وَلَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذَّبْحِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ (¬1) عَلَيْهِ فَكُلْ» (¬2). وقد رُوِى عن أحمدَ أنَّه تَوَقَّفَ في أكْلِ البَعِيرِ إذا ذُبِحَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا. 1348 - مسألة: (ويقولُ عندَ ذلك: بسمِ اللَّه واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ هذا مِنْكَ وَلَكَ) يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُ الذَّبِيحَةِ إلى القِبْلَةِ، وأن يقولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أكْبَرُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ثَبَت أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا ذَبَح يقولُ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أكْبَرُ». وإن قال ما وَرَدَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمّا زَادَ على ذلك فحَسَنٌ، فقد روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قسمة الغنم، وباب من عدل عشرا، من كتاب الشركة، وفى: باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، من كتاب الجهاد، وفى: باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدا، وباب ما أنهر الدم، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخارى 3/ 181، 186، 4/ 91، 7/ 118، 119. وأو داود، في: باب في الذبيحة بالمروة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 91، 92. والترمذى، في: باب ما جاء في الذكاة بالقصب وغيره، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذى 6/ 286. والنسائى، في: باب النهى عن الذبح كالظفر، وباب في الذبح بالسن، وباب المنفلتة التى لا يقدر على أخذها، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 199، 201. وابن ماجه، في: باب ما يذكى به، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1061. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 463، 464، 4/ 140, 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَبَح يومَ العِيدِ كَبْشَيْنِ، ثم قال حينَ وَجَّهَهُما: «وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاِتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ. بِسْمِ اللَّه واللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ». رَواه أبو داودَ (¬1). فإنِ اقْتَصَر على التَّسْمِيَةِ، أو وَجَّهَ الذَّبِيحَةَ إلى غيرِ القِبْلَةِ، تَرَكَ الأَفْضَلَ، وأجْزَأه. هذا قولُ القاسِمِ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وكَرِهَ ابنُ عُمَرَ، وابنُ سِيرِينَ الأكْلَ مِن الذَّبِيحَةِ إذا وُجِّهَتْ إلى غيرِ القِبْلَةِ. والصَّحِيحُ أنَّه غيرُ واجِبٍ؛ لأنَّه لم يَقُمْ عليه دَلِيلٌ. فصل: إذا قال: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّى ومِن فُلانٍ. بعدَ قَوْلِه: اللَّهُمَّ هذا مِنْكَ ولك. فحَسَنٌ. وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ. وقال أبو حنيفةَ: يُكْرَهُ أن يَذْكُرَ اسمَ غيرِ اللَّهِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬2). ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-». رَواه مسلمٌ (¬3). وهذا نَصٌّ لا يُعَرَّجُ على خِلافِه، وليس عليه أن يقولَ عمَّن، فإنَّ النِّيَّةَ تُجْزِئُ بغيرِ خِلافٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 343. (¬2) سورة البقرة 173. (¬3) في: باب استحباب الضحية. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1557. وانظر تخريج =

1349 - مسألة: (ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم، وإن ذبحها بيده كان أفضل، فإن لم يفعل، استحب أن يشهدها)

وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا إِلَّا مُسْلِمٌ، فَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَشْهَدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1349 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ أن يَذْبَحَها إلَّا مُسْلِمٌ، وإن ذَبَحَها بيَدِه كانَ أفْضَلَ، فإن لم يَفْعَلْ، اسْتُحِبَّ أن يَشْهَدَها) يُسْتَحَبُّ أن لا يَذْبَحَ الأُضْحِيَةَ إلَّا مُسْلِمٌ؛ لأنَّها قُرْبَةٌ، فلا يَلِيها غيرُ أهْلِ القُرْبَةِ. فإنِ اسْتَنَابَ ذِمِّيًّا في ذَبْحِها، أجْزَأتْ مع الكَرَاهَةِ. وهو قَوْلُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، لا يَجُوزُ أن يَذْبَحَها إلَّا مُسْلِمٌ. وهو قَوْلُ مالكٍ. ومِمَّن كَرِهَ ذلك؛ علىٌّ، وابنُ عباسٍ، وجابرٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ. قال جابِرٌ: لا يَذبَحُ النُّسُكَ إلَّا مُسْلِمٌ. لأنَّ في حَدِيثِ ابنِ عباسٍ الطَّوِيلِ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَلَا يَذْبَحُ ضَحَايَاكُمْ إلَّا طَاهِرٌ» (¬1). ولأنَّ الشُّحُومَ تَحْرُمُ علينا مِمّا يَذْبَحُونَه، على رِوَايَةٍ، فيكونُ ذلك بمَنْزِلَةِ إتْلافِه. وحَكَى ابنُ أبى موسى رِوايَةً ثالِثَةً، أنَّه إن كان بَعِيرًا لم يُنْحَرْ، وإلَّا أجْزَأ في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْن. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّ مَن جاز له ذَبْحُ غيرِ الأُضْحِيَةِ، جازَ له ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ، كالمُسْلِمِ، ويَجُوزُ أن يَتَوَلَّى الكافِرُ ما كان قُرْبَةً للمُسْلِمِ، ¬

= الحديث السابق. (¬1) لم نجده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كبِناءِ المَسَاجِدِ والقَناطِرِ، ولا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ علينا بِذَبْحِهم، والحدِيثُ مَحْمُولٌ على الاسْتِحْبابِ، والأَوْلَى أن يَذْبَحَها المُسْلِمُ؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ. وذَبْحُها بيَدِه أفْضَلُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى بكَبْشَيْنِ أقْرَنَيْن أمْلَحَيْن، ذَبَحَهُما بِيَدِه، وسَمَّى، وَوَضَع رِجْلَه على صِفاحِهِما (¬1). ونَحَرَ البَدَناتِ السِّتَّ بيَدِه (¬2). [ونَحَر في البُدْنِ] (¬3) التى ساقَها في حَجَّتِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 331. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬3) سقط من النسخ، وأثبتناها من المغنى 13/ 389.

1350 - مسألة: (ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها، إلى آخر يومين من أيام التشريق)

وَوَقْتُ الذَّبْحِ يَوْمُ الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أوْ قَدْرِهَا، إِلَى آخِرِ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثًا وسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِه (¬1). ولأنَّ فِعْلَه قُرْبَةٌ، وتَوَلِّى القُرْبَةِ بِنَفْسِه أوْلَى مِن الاسْتِنَابَةِ فيها، والاسْتِنَابَةُ جائِزَةٌ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَنَابَ مَن نَحَر ما بَقِىَ مِن بُدْنِه. وهذا لا خِلافَ فيه. وإن لم يَذْبَحْها بيَدِه، اسْتُحِبَّ أن يَحْضُرَ ذَبْحَها؛ لأنَّ في حَدِيثِ ابنِ عباسٍ الطَّوِيلِ: «وَاحْضُرُوهَا إذَا ذَبَحْتُمْ، فَإنَّه يُغْفَرُ لَكُمْ عِنْدَ أوَّلِ قَطرةٍ مِنْ دَمِهَا». ورُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لفَاطِمَةَ: «احْضُرِى أُضْحِيَتَكِ يُغْفرْ لَك بأَوَّلِ قَطرةٍ مِنْ دَمِهَا» (¬2). 1350 - مسألة: (ووَقتُ الذَّبْحِ يومُ العِيدِ بعدَ الصَّلاةِ أو قدرِها، إلى آخِرِ يَوْمَيْنِ مِن أيامِ التَّشْرِيقِ) الكَلامُ في وَقْتِ الذَّبْحِ في ثلاثةِ أشْياءَ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب فضل الضحايا. . .، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 388. والبيهقى، في: باب ما يستحب من ذبح النسيكة. . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوَّلِه، وآخِرِه، وعُمُومِ وقتِه أو خُصُوصِه. أمّا أوَّلُه، فظاهِرُ كلامِه ههُنا إذا دَخَل وَقْتُ صلاةِ العِيدِ ومَضَى قَدْرُ الصَّلاةِ التَّامَّةِ، فقد دَخَل وَقْتُ الذَّبْحِ، ولا يُعْتَبَرُ نَفْسُ الصَّلاةِ، لا فَرْقَ في هذا بينَ أهْلِ الأمْصَارِ والقُرَى مِمَّن يُصَلِّى العِيدَ وغيرِهم. وهذا قولُ الخِرَقِىِّ، إلَّا أنَّه قال: مِقْدارُ الصَّلاةِ والخُطْبَةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّها عِبادَةٌ يَتَعَلَّقُ آخِرُها بالوَقْتِ، فَتَعَلَّقَ أوَّلُها به، كالصِّيَامِ. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّه مِن شَرْطِ جَوازِ التَّضْحِيَةِ في حَقِّ أهْلِ المِصْرِ صلاةُ الإِمامَ وخُطْبَتُه. وعلى قِياسِ قَوْلِه كُلُّ مَوْضِعٍ يُصَلَّى فيه العِيدُ. رُوِى نَحْوُ هذا عن الحسنِ، والأوْزَاعِىِّ، ومالكٍ، وأبى حنيفةَ، وإسحاقَ؛ لِمَا روَى جُنْدَبُ بنُ عبدِ اللَّهِ البَجَلِىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّى فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى» (¬1). وعن البَراءِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى صَلَاتنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْل أنْ يُصَلِّى، فَلْيُعِدْ مَكَانَها أُخْرَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وظاهِرُ هذا اعْتِبارُ نَفْسِ الصَّلاةِ. فإن ذَبَحَ بعدَ الصَّلاةِ وقبلَ الخُطْبَةِ، أجْزَأ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّقَ المَنْعَ على فِعْلِ الصَّلاةِ، فلا يَتَعَلَّقُ بغيرِه، ولأنَّ الخُطْبَةَ غيرُ واجِبَةٍ، فلا تكونُ شَرْطًا. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ. وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللَّهُ تَعالَى؛ لمُوافَقَةِ ظاهِرِ الحَدِيثِ. فأمَّا غيرُ أهْلِ الأمْصَارِ والقُرَى، فأوَّلُ الوَقْتِ في حَقِّهم قَدْرُ الصلاةِ والخُطْبَةِ بعدَ حِلِّ الصَّلاةِ، في قولِ الخِرَقِىِّ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: فليذبح على اسم اللَّه، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخارى 7/ 118. ومسلم، في: باب وقتها، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1552. والنسائى، في: باب ذبح الناس بالمصلى، من كتاب الذبائح والصيد. المجتبى 7/ 188. وابن ماجه، في: باب النهى عن ذبح الأضحية قبل الصلاة، من كتاب الأضاحى 2/ 1053. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الأكل يوم النحر، وباب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد، وباب كلام الإمام الناس. . .، من كتاب العيدين، وفى: باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، من كتاب الأضاحى. صحيح البخارى 2/ 21، 26، 28، 7/ 132، 133. ومسلم، في: باب وقتها، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1553. كما أخرجه النسائى، في: باب الخطبة يوم العيد، وباب حث الإمام الناس على الصدقة، من كتاب العيدين، وفى: باب ذبح الضحية قبل الإمام، من كتاب الذبائح والصيد. المجتبى 3/ 148، 149، 155، 7/ 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ ما ذَكَره شيخُنا في كتابِ «المُقْنِعِ» أنَّ أوَّلَ الوَقْتِ في حَقِّهِم قَدْرُ الصلاةِ بعدَ حِلِّ الصَّلاةِ؛ لأنَّه لا صلاةَ في حَقِّهم تُعْتَبَرُ، فوَجَبَ الاعْتِبارُ بقَدْرِها. وقال عَطاءٌ: وَقْتُها إذا طَلَعَتِ الشمسُ. وقال أبو حنيفةَ: أوَّلُ وَقْتِها في حَقِّهِم إذا طَلَع الفَجْرُ الثَّانِى؛ لأنَّه مِن يومِ النَّحْرِ، فكانَ وَقْتًا لها، كسائِرِ اليَوْمِ. ولَنا، أنَّها عِبادَةٌ وَقْتُها في حَقِّ أهْلِ المِصْرِ بعدَ إشْراقِ الشمسِ، فلا يَتَقَدَّمُ وَقْتُها في حَقِّ غَيْرِهم، كصلاةِ العِيدِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُل بأهْلِ المِصْرِ، فإن لم يُصَلِّ الإِمامُ في المِصْرِ, لم يَجُزِ الذَّبْحُ حتى تَزُولَ الشمسُ عندَ مَن اعْتَبَرَ نَفْسَ الصَّلاةِ؛ لأنَّها حِينَئِذٍ تَسْقُطُ، فكَأنَّه قد صَلَّى. وسَواءٌ تَرَك الصلاةَ عَمْدًا أو خَطأً، لعُذْرٍ أو غيرِ عُذْرٍ. فأمَّا الذَّبْحُ في اليومِ الثَّانِى والثالِثِ، فيَجُوزُ في أوَّلِ النَّهارِ؛ لأنَّ الصلاةَ فيه غيرُ واجِبَةٍ، ولأنَّ الوَقْتَ قد دَخَل في اليَوْمِ الأوَّلِ، وهذا مِن أثنائِه، فلم تُعْتَبَرْ فيه صلاةٌ ولا غيرُها. فإن صَلَّى الإِمامُ في المُصَلَّى، واسْتَخْلَفَ مَن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلَّى في المَسْجِدِ، فمتى صَلَّى في أحَدِ المَوْضِعَيْن جازَ الذَّبْحُ؛ لوُجُودِ الصَّلاةِ التى يَسْقُطُ بها الفَرْضُ عن سائِرِ الناسِ. ولا يُسْتَحَبُّ أن يَذْبَحَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الإِمام، فإن فَعَل أجْزَأه. وقال ابنُ أبى موسى: لا تُجْزِئُه. ويُرْوَى عن مالكٍ. والصَّحِيحُ أنَّها تُجْزِئُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِن الأحَادِيثِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الثَّانِى في آخِرِ وَقْتِ الذَّبْحِ، وآخِرُه آخِرُ اليَوْم الثَّانِى مِن أيّام التَّشْرِيقِ، فتَكُون أيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةً؛ يَوْمُ النَّحْرِ ويَوْمانِ بَعْدَه. وهذا قولُ عُمُر، وعلىٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وأَنَسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. قال أحمدُ: أيّامُ النَّحْرِ ثَلاثَةٌ عن غيرِ واحِدٍ مِن أصحاب رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفى رِوَايَةٍ قال: خَمْسَةٌ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولم يَذْكُرْ أَنَسًا. وإليه ذَهَب مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: آخِرُه آخِرُ أيّامِ التَّشْرِيقِ. وبه قال عَطاءٌ، والحسنُ، والشافعىُّ؛ لأنَّه رُوِى عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعَم، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ» (¬1). ولأنَّها أيّامُ تَكْبِيرٍ وإفْطارٍ، فكانت مَحِلًّا للنَّحْرِ، كالأوَّلَيْن (¬2). وقال ابنُ سِيرِينَ: لا يَجُوزُ إلَّا في يَوْمِ النَّحْرِ خاصَّةً؛ لأنَّها وَظِيفَةُ عِيدٍ، فاخْتَصَّتْ بيومِ العِيدِ، كالصلاةِ وأداءِ الفِطْرَةِ يومَ الفِطْرِ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وجابِرُ بنُ زَيْدٍ كقَوْلِ ابنِ سِيرِينَ في أهْلِ الأمْصارِ، وكقَوْلِنا في أهْلِ مِنًى. وعن أبى سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، وعَطاءِ بنِ يَسارٍ: تَجُوزُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 194. (¬2) في م: «الأوليين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّضْحِيَةُ إلى هِلالِ المُحَرَّمِ؛ لِمَا روَى أبو أُمامَةَ سَهْلُ بنُ حُنَيفٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: كان الرجلُ مِن المسلمين يَشْتَرِى أُضْحِيَتَه، فيُسَمِّنُها، حتى يكونَ آخِرُ ذِى الحِجَّةِ، فيُضَحِّىَ بها. رَواه الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه (¬1). وقال: هذا حدِيِثٌ عَجِيبٌ. وقال: أيَّامُ الأضْحَى التى أُجْمِعَ عليها ثَلاثَةُ أيَّامٍ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ادِّخَارِ لُحُومِ الأضَاحِى فوقَ ثَلاثٍ (¬2). ولا يَجُوزُ الذَّبْحُ قى وَقْتٍ لا يَجُوزُ ادِّخَارُ الأُضْحِيَةِ إليه، ولأنَّ اليومَ الرَّابعَ لا يَجِبُ الرَّمْىُ فيه، فلم تَجُزِ التَّضْحِيَةُ فيه، كاليومِ الذى بعدَه، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابةِ، ولا مُخَالِفِ لهم إلَّا رِوَايَةً عن علىٍّ، وقد رُوِى عنه مثلُ مَذْهَبِنا، وحَدِيثُهم إنَّما هو: «وَمِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ». وليس فيه ذِكْرُ الأيَّامِ، والتَّكْبِيرُ أعَمُّ مِن الذَّبْحِ، وكذلك الإِفْطارُ، بدَلِيلِ أوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ. ¬

(¬1) لم نجده في: «مسنده»، وأخرجه البخارى، في: باب في أضحية النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بكبشين. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح البخارى 7/ 130. وعزاه في الفتح 10/ 10 إلى أبى نعيم في المستخرج من طريق أحمد. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يؤكل من لحوم الأضاحى. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح البخارى 7/ 134. ومسلم، في: باب بيان ما كان النهى عن أكل لحوم الأضاحى. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1560. وأبو داود، في: باب في حبس لحوم الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 90. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية أكل الأضحية، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 308. والنسائى، في: باب النهى عن الأكل من لحوم الأضاحى. . .، من كتاب الأضاحى. المجتبى 7/ 205. والدارمى، في: باب في لحوم الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 78. والإمام مالك، في: باب ادخار لحوم الأضاحى، من كتاب الأضاحى. الموطأ 2/ 484. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 9، 16، 34، 37.

1351 - مسألة: (ولا تجزى فى ليلتيهما، فى قول الخرقى. وقال غيره: يجزئ)

وَلَا تُجْزِئُ في لَيْلَتِهِمَا، في قَوْلِ الْخِرَقِىِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُجْزِئُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1351 - مسألة: (ولا تُجْزِىُ في لَيْلَتَيْهما، في قولِ الخِرَقِىِّ. وقال غَيْرُه: يُجْزِئُ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ في الذَّبْحِ في لَيْلَتَىْ يَوْمَى التَّشْرِيقِ، فعنه، لا يُجْزِئُ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَضِىَ اللَّه عنه، في روايَةِ الأثْرَم. وهو قَوْلُ مالكٍ؛ لقَوْلِ اللَّه تِعالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1). ولأنَّه رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه نَهَى عن الذَّبْحِ باللَّيْل (¬2). ولأنَّه لَيْلُ يَوْم يَجُوزُ الذَّبْحُ فيه، فأشْبَهَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، ولأنَّ اللَّيْلَ تَتَعَذَّرُ فيه تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ في الغالِبِ، ولا يُفَرَّقُ طَرِيًّا، فَيَفُوتُ بعضُ المَقْصُودِ؛ ولهذا قالُوا: يُكْرَهُ الذَّبْحُ فيه. فعلى هذا إن ذَبَح لَيْلًا يُجْزِئْه عن الواجِبِ، وإن كانت تَطَوُّعًا، فذبَحَها لَيْلًا، كانتْ شاةَ لَحْمٍ، ولم تَكُنْ أُضْحِيَةً، فإن فَرَّقَها حَصَلَتِ القُرْبَةُ بتَفْرِيقِها لا بذَبْحِها. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّ الذَّبْحَ يَجُوزُ لَيْلًا. اخْتَارَه أصحابُنا ¬

(¬1) سورة الحج 28. (¬2) عزاه الهيثمى إلى الطبرانى في الكبير، من حديث ابن عباس. مجمع الزوائد 4/ 23، وقال: فيه سليمان بن أبى سلمة الخبائرى وهو متروك.

1352 - مسألة: (فإن فات الوقت، ذبح الواجب قضاء، وسقط التطوع)

فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، ذَبَحَ الْوَاجِبَ قَضَاءً، وَسَقَط التَّطَوُّعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَأَخِّرُونَ. وبه قال الشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه؛ لأنَّ اللَّيْلَ زَمَنٌ يَصِحُّ فيه الرَّمْىُ، فأشْبَهَ النَّهارَ، ولأنَّ اللَّيْلَ داخِلٌ في مُدَّةِ الذَّبْحِ، فجازَ الذَّبْحُ فيه، كالأَيَّام. 1352 - مسألة: (فإن فاتَ الوَقْتُ، ذَبَح الواجِبَ قَضاءً، وسَقَط التَّطَوُّعُ) إذا فاتَ وَقْتُ الذَّبْحِ، ذَبَح الواجبَ قَضاءً، وصَنَع به ما يَصْنَعُ بالمَذْبُوحِ في وَقْتِه، لأنَّ حُكْمَ القَضاءِ حُكْمُ الأدَاءِ. فأمَّا التَّطَوُّعُ، فهو مُخَيَّرٌ فيه، فإن فَرَّقَ لَحْمَها كانتِ القُرْبَةُ بذلك دُونَ الذَّبْحِ؛ لأنَّها شاةُ لحْمٍ وليست أُضْحِيَةً. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُسَلِّمُها إلى الفُقَراء ولا يَذْبَحُها، فإن ذَبَحَها فَرَّقَ لَحْمَها، وعليه أرْشُ ما نَقَصَها الذَّبْحُ؛ لأَنَّ الذَّبْحَ قد سَقَط بفَوات وَقْتِه، كالوُقُوفِ والرَّمْى. ولَنا، أنَّ الذَّبْحَ أحَدُ مَقْصُودَى الأُضْحِيَةِ، فلم يَسْقُطْ بفَواتِ وَقْتِه، كتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ، ولأنَّه لو ذَبَحَها في الوَقْتِ، ثم خَرَج قبلَ تَفْرِقَتِها، فَرَّقَها بعدَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. وبهذا فارَقَ الوُقُوفَ والرَّمْى، ولأنَّ الأُضْحِيَةَ لا تَسْقُطُ بفَواتِها، بخِلافِ ذلك. فإن ضَلَّتِ الأُضْحِيَةُ التى وَجَبَتْ بإيجَابِه لها، أو سُرِقَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ منه، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّها أمانَةٌ في يَدِه، فإن عادَتْ بعدَ الوَقْتِ ذَبَحَها، على ما ذَكرنَاه. فصل: فإن ذَبَحَها قبلَ وَقْتِها، لم تُجْزِئْه، وعليه بَدَلُها إن كانت واجِبَةً بنَذْرٍ أو تَعْيِينٍ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّى، فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى» (¬1). ولأنَّها نَسِيكَةٌ واجِبَةٌ ذَبَحَها قبلَ وَقْتِها، فَلَزِمَه بَدَلُها، كالهَدْىِ إذا ذَبَحه قبلَ مَحِلِّه. ويَجِبُ أن يكونَ بَدَلُها مِثلَها أو خَيْرًا منها؛ لأنَّه أتْلَفَها، فإن كانت غيرَ واجِبَةٍ، فهى شاةُ لَحْمٍ، ولا بَدَلَ عليه، إلَّا أن يَشاءَ؛ لأنَّه قَصَد التَّطَوُّعَ فأفْسَدَه، فلم يَجِبْ عليه بَدَلُه, كما لو خَرَج بصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ فدَفَعَها إلى غيرِ مُسْتَحِقِّها. فعلى هذا، يُحْمَلُ الحَدِيثُ على النَّدْبِ، أو على ما إذا كانتْ واجِبَةً. والشّاةُ المَذْبُوحَةُ شاةُ لَحْمٍ كما وَصَفَها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَعْناه: يَصْنَعُ بها ما شاءَ، كشاةٍ ذَبَحَها للَحْمِها، لا لغيرِ ذلك؛ لأنَّها إن كانت واجِبَةً فقد لَزِمَه إبْدَالُها وذَبْحُ ما يَقُومُ مَقامَها، فخَرَجَتْ هذه عن كَوْنِها واجِبَةً، كالهَدْىِ الواجِبِ إذا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّه، وإن كانت تَطَوُّعًا فقد أخْرَجَها بذَبْحِه إيَّاهَا عن القُرْبَةِ، فبَقِيَتْ مُجَرَّدَ شَاةِ لَحْمٍ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ حُكْمُها حُكْمَ الأُضْحِيَةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 363.

1353 - مسألة: (ويتعين الهدى بقوله: هذا هدى. أو تقليده، أو إشعاره مع النية. والأضحية بقوله: هذه أضحية. ولو نوى حال الشراء، لم تتعين بذلك)

وَيَتَعَيَّنُ الْهَدْىُ بِقَوْلِهِ: هَذَا هَدْىٌ. أوْ تَقْلِيدِهِ وَإشْعَارِهِ مَعَ النِّيَّةِ. وَالأُضْحِيَةُ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ أُضْحِيَةٌ. وَلَوْ نَوَى حَالَ الشِّرَاءِ، لَمْ تَتَعَيَّنْ بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالهَدْىِ إذا عَطِب، ولا يَخْرُجُ عن حُكْمِ الهَدْى على رِوايَةٍ، ويكونُ مَعْنَى قَوْلِه: «شاةُ لَحْمٍ». يَعْنِى أنَّها تُفَارِقُها في فَضْلِها وثَوَابِها خَاصَّةً دُونَ ما يُصْنَعُ بها. 1353 - مسألة: (ويَتَعَيَّنُ الهَدْىُ بقوْلِه: هذا هَدْىٌ. أو تَقْلِيدِه، أو إشْعارِه مع النِّيَّةِ. والأُضْحِيَةُ بقَوْلِه: هذه أُضْحِيَةٌ. ولو نَوَى حالَ الشِّراءِ، لم تَتَعَيَّنْ بذلك) يَتَعَيَّنُ الهَدْىُ بقوْلِه: هَذا هَدْىٌ. أو تَقْلِيدِه، أو إشْعارِه مع النِّيَّةِ. وبهذا قال الثَّوْرىُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّ الفِعْلَ مع النِّيَّةِ يَقُومُ مَقامَ اللَّفْظِ، إذا كان الفِعْلُ يَدُلُّ على المَقْصُودِ، كمَن بَنَى مَسْجدًا وأذِنَ في الصَّلاةِ فيه، وكذلك الأُضْحِيَةُ تَتَعَيَّنُ بقَوْلِه: هذه أُضْحِيَةٌ. فتَصِيرُ واجِبَةً بذلك, كما يَعْتِقُ العَبْدُ بقَوْلِ سَيِّدِه: هذا حُرٌّ. ولا يَتَعَيَّنُ بالنِّيَّةِ. هذا مَقْصُودُ الشافعىِّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: إذا اشْتَرَاها بنِيَّةِ الأُضْحِيَةِ صارَتْ أُضْحِيَةً؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بشِراءِ أُضْحِيَةٍ، فإذا اشْتَرَاها بالنِّيَّةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَعَتْ عنه، كالوَكِيلِ. قال صاحِبُ «المُحَرَّرِ»: وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللَّه، فيما نَقَلَه عنه الحسنُ بنُ ثَواب، وأبو الحارِثِ, كما يَتَعَيَّنُ الهَدْىُ بالإِشْعارِ. ولَنا، أنَّه إزَالَةُ مِلْكٍ على وَجْهُ القُرْبَةِ، فلم تُؤَثِّرْ فيه النِّيَّةُ المُقارِنَةُ للشِّراءِ، كالعِتْقِ والوَقْفِ، ويُفارِقُ البَيْعَ، فإنَّه لا يُمْكِنُه جَعْلُه لمُوَكِّلِه بعدَ إيقاعِه، وههُنا بعدَ الشِّراءِ يُمْكِنُه جَعْلُها أُضْحِيَةً. فصل: فإن عَيَّنَها وهى ناقِصَةٌ نَقْصًا يَمْنَعُ الإِجْزاءَ، وَجَب عليه ذَبْحُها, كما لو نَذَر ذَبْحَها، ولأنَّ إيجابَها كنَذْرِ هَدْىٍ مِن غيرِ بَهِيمَةِ الأنْعام، يَلْزَمُه الوَفاءُ به، ولا يُجْزِئُه عن الأُضْحِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ في الأَضَاحِى» (¬1). الحَدِيث. ولكنَّه يَذْبَحُها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 346.

1354 - مسألة: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها، إلا أن يبدلها

وَإِذَا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا وَلَا هِبَتُهَا، إِلَّا أَنْ يُبْدِلَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُثابُ على ما يَتَصَدَّقُ به منها, كما يُثابُ على الصَّدَقَةِ بما لا يَصْلُحُ أن يكونَ هَدْيًا، وكما لو أعْتَقَ عن كَفَّارَتِه عَبْدًا لا يُجْزِئُ في الكَفَّارَةِ، إلَّا أنَّه ههُنا لا يَلْزَمُه بَدَلُها؛ لأنَّ الأُضْحِيَةَ في الأصْلِ غيرُ واجِبَةٍ، ولم يُوجَدْ منه ما يوُجِبُها، فإن زَالَ عَيْبُها المانِعُ مِن الإِجْزاءِ، كبُرْءِ المَرِيضَةِ والعَرْجَاءِ، وزَوالِ الهُزالِ، فقال القاضِى: تُجْزِئُ في قِياسِ المَذْهَبِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: لا تُجْزِئُ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بحالِ إيجابها، ولأنَّ الزِّيَادَةَ فيها كانت للمَسَاكِينِ, كما أنَّها لو نَقَصَتْ بعدَ إيجابِها، كان عليهم، ولا يَمْنَعُ كَوْنَها أُضْحِيَةً. ولَنا، أنَّها أُضْحِيَةٌ يُجْزِئُ مثلُها، فأجْزَأتْ, كما لو لم يُوجِبْها إلَّا بعدَ زَوالِ عَيْبِها. 1354 - مسألة: (وإذا تَعَيَّنَتْ لم يَجُزْ بَيْعُها ولا هِبَتُها، إلَّا أن يُبْدِلَها

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بخَيْرٍ منها. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَجُوزُ أيْضًا) إذَا تَعَيَّنَتْ لم يَجُزْ بَيْعُها ولا هِبَتُها. وقال القاضى: يَجُوزُ أن يَبِيعَها ويَشْتَرِىَ خَيْرًا منها. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وأبى حنيفةَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ساقَ في حَجَّتِه مائَةَ بَدَنَةٍ، وقَدِمَ علىٌّ مِن اليَمَنِ فأشْرَكَهُ في بُدْنِه. رَواه مسلمٌ (¬1). والاشْتِرَاكُ نَوْعٌ مِن البَيْع أو الهِبَةِ، ولأنَّه يَجُوزُ إبْدَالُها بخَيْرٍ منها، والإِبدَالُ نَوْعٌ مِن البَيْع. ولَنا، أنَّه قد تَعَيَّنَ ذَبْحُها، فلم يَجُزْ بَيْعُها, كما لو نَذَر ذَبْحَها بعَيْنِها، ولأنَّه جَعَلَها للَّهِ، فلم يَجُزْ بَيْعُها، كالوَقْفِ، وإنَّما جَازَ إبْدالُها بجِنْسِها؛ لأنَّه لم يَزُلِ الحَقُّ فيها عن جِنْسِها، وإنَّما انْتَقَلَ إلى خَيْرٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منها، فكان في المَعْنَى ضَمُّ زِيَادَةٍ إليها، وقد جازَ إبْدَالُ المُصْحَفِ، ولم يَجُزْ بَيْعُه. وأمَّا الحَدِيثُ فيَحْتَمِلُ أنَّه أشْرَكَ عَلِيًّا فيها قبلَ إيجابِها، ويَحْتَمِلُ أنَّ إشْرَاكَه فيها بمَعْنَى أنَّ عَلِيًّا جاءَ ببُدْنٍ، فاشْتَرَكَا في الجَمِيع، فكان بمَعْنَى الإِبدَالِ، لا بمَعْنَى البَيْع. ويَجُوزُ أن تَكُونَ الشَّرِكَة في ثَوابِها وأجْرِها. فأمَّا إبْدَالُها بخَيْرٍ منها، فقد نَصَّ أحمدُ على جَوازِه. وهو اختِيارُ الخِرَقِىِّ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. واخْتَارَ أبو الخَطّابِ أنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّ أحمدَ نَصَّ في الهَدْى إذا عَطِبَ، أنَّه يُجْزِئُ عنه، وفى الأُضْحِيَةِ إذا هَلَكَت، أو (¬1) ذَبَحَها فسُرِقَتْ، لا بَدَلَ عليه، ولو كان مِلْكُه ما زالَ عنها، لَزِمَه بَدَلُها في هذه المَسائِلِ، ولِما ذَكَرْنا في عَدَمِ جَوازِ بَيْعِها. وهذا ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَذْهَبُ أبى يُوسُفَ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. ولأنَّه زالَ مِلْكُهْ عنها للَّهِ تعالى، فلم يَجُزْ إبْدَالُها، كالوَقْفِ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وقد تَأوَّلْنَاه على مَعْنَى الإِبْدَالِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْله عليه؛ لاتِّفاقِنا على تَحْرِيمِ بَيْعِها وهِبَتِها، ولأنَّه عَدَل عن العَيْنِ إلى خَيْرٍ منها مِن جِنْسِها، فجازَ, كما لو أخْرَجَ عن بِنْتِ لَبُونٍ حِقَّةً في الزَّكاةِ، ولأنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ على أُصُولِها في الفُرُوضِ، وفى الفُرُوضِ يَجُوزُ إخْرَاجُ البَدَلِ في الزَّكاةِ، فكذلك في النُّذُورِ. وقولُه: قد زال مِلْكُه. مَمْنُوعٌ، بل تَعَلَّقَ بها حَقُّ اللَّهِ تعالى مع بَقاءِ مِلْكِه عليها، بِدَلِيلِ أنَّه لو غَيَّرَ الواجِبَ في ذِمَّتِه، فعَطِبَ أو تَعَيَّبَ، كان له اسْتِرْجَاعُه، ولو زَالَ مِلْكُه عنه لم يَعُدْ إليه، كالوَقْفِ، والفَرْقُ بينَ الإِبدَالِ والبَيْعِ، أنَّ الإبدَالَ لا يُزِيلُ الحَقَّ المُتَعَلِّقَ بها مِن جِنْسِها، والبدَلُ قائِمٌ مَقامَها، فكَأنَّها لم تَزُلْ في المَعْنَى. وقولُه: إلَّا أن يُبْدِلَها بخَيْرٍ منها. يَدُلُّ على أنَّه لا يجوزُ بدُونِها؛ لأنَّه تَفْوِيتُ جُزْءٍ منها، فلم يَجُزْ، كإتْلافِه. وهذا لا خِلافَ فيه، ويَدُلُّ على أنَّه لا يَجُوزُ إبْدالُها بمِثْلِها، لعَدَمِ الفائِدَةِ فيه. وقال القاضى: في إبْدالِها بمِثْلِها احْتِمالانِ؛

1355 - مسألة: (وله ركوبها عند الحاجة، ما لم يضر بها)

وَلَهُ رُكُوبُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، لا يَجُوزُ؛ لذلك. والثانى، يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يَنْقُصُ مِمّا وَجَب عليه شئٌ. ولَنا، أنَّه يُغَيِّرُ (¬1) ما وَجَب عليه لغيرِ فائِدَةٍ، فلم يَجُزْ، كإبْدالِها بدُونِها. فصل: وإذا عَينَّهَا ثم ماتَ وعليه دَيْنٌ، لم يَجُزْ بَيْعُها فيه، سَواءٌ كان له وَفاءٌ أو لم يَكُنْ. وبه قال أبو ثَوْرٍ. ويُشْبِهُ مَذهَبَ الشافعىِّ. وقال الأوْزَاعِىُّ: تُباعُ إذا لم يَكُنْ لدَايْنِه وَفاءٌ إلَّا منها. وقال مالكٌ: إن تَشاجَرَ الوَرَثَةُ فيها باعُوها. ولَنا، أنَّه تَعَيَّنَ ذَبْحُها، فلم تُبَعْ في دَيْنِه, كما لو كان حَيًّا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ وَرَثَتَه يَقُومُونَ مَقامَه في الأكْلِ والصدقةِ والهَدِيَّةِ؛ لأنَّهُم يَقُومُونَ مَقامَ مَوْرُوثِهم فيما له وعليه. 1355 - مسألة: (وله رُكُوبُها عندَ الحاجِةِ، ما لم يَضُرَّ بها) قال ¬

(¬1) في النسخ: «يعتبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: لا يَرْكَبُها إلَّا عندَ الضَّرُورَةِ. وهو قولُ الشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه تَعَلَّقَ بها حَقٌّ للمَساكِينِ، فلم يَجُزْ رُكُوبُها مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، كمِلْكِهم. وإنَّما جَوَّزْنَاه عندَ الضَّرُورَةِ؛ للحَدِيثِ. فإن نَقَصَها الرُّكُوبُ، ضَمِنَ النَّقْصَ؛ لأنَّه تَعَلَّقَ بها حَقُّ غيرِه. فأمَّا رُكُوبُها مع عَدَمِ الحاجَةِ، ففيه رِوَايَتَان؛ إحداهما، لا يَجُوزُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثانيةُ، يَجُوزُ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى رجلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فقال: «ارْكَبْها». فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّها بَدَنَة. فقال: «ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ». في الثانِيَة أو في الثالِثَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) في: باب في ركوب البدن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 408. كما أخرجه مسلم؛ في: باب جواز ركوب البدنة المهداة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 961. والنسائى، في: باب ركوب البدنة بالمعروف، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 139. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ركوب البدن. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 205. ومسلم، في: باب جواز ركوب البدنة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 960. كما أخرجه أبو داود، في: باب في ركوب البدن، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 408. والترمذى، في: باب ما جاء في ركوب البدنة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 145. الإمام مالك، في: باب ما يجوز من الهدى، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 377.

1356 - مسألة: (وإن ولدت ذبح ولدها معها، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها)

وَإِنْ وَلَدَتْ، ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا. وَلَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1356 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ ذَبَحَ وَلَدَها معها، ولا يَشْرَبُ مِن لَبَنِها إلَّا ما فَضَلَ عن وَلَدِها) إذا عَيَّنَ أُضْحِيَةً، فوَلَدَتْ، فحُكْمُ وَلَدِها حُكْمُها، سَواءٌ كان حَمْلًا حالَ التَّعْيِينِ، أو حَدَثَ بعدَه. وبهذا قال الشافعىُّ. وعن أبى حنيفةَ: لا يَذْبَحُه، ويَدْفَعُه إلى المساكينِ حيًّا، فإن ذَبَحَه دَفَعَه إليهم مَذْبُوحًا، وأرْشَ ما نَقَصَهُ الذَّبْحُ؛ لأنَّه مِن نَمائِها، فيَلْزَمُه دَفْعُه إليهم على صِفَتِه، كصُوفِها وشَعَرِها. ولَنا، أنَّ اسْتِحْقَاقَ وَلَدِها حُكْمٌ ثَبَتَ للوَلَدِ بطريقِ السِّرايَةِ مِن الأُمِّ، فثَبَتَ له ما ثَبَت لها، كَولَدِ أُمِّ الوَلَدِ، والمُدَبَّرَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَذْبَحُه كما ذَبَحَها؛ لأنَّه صارَ أُضْحِيَةً على وَجْهِ التَّبَعِ لأُمِّه، ولا يَجُوزُ ذَبْحُه قبلَ وَقْت ذَبْحِ أُمِّه، ولا تَأْخِيرُه عن آخِرِ الوَقْتِ، كأُمِّه. وقد رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رَجُلًا سَأَلَه، فقال: يا أَمِيرَ المُؤْمِنين, إنِّى اشْتَرَيْتُ هذه البَقَرَةَ لأُضَحِّىَ بها، وإنَّها وَضَعَتْ هذا العِجْلَ؟ فقال علىٌّ: لا تَحْلِبْها إلَّا ما فَضَل عن تَيْسِيرِ وَلَدِها، فإذا كان يومُ الأَضْحَى، فاذْبَحْها ووَلَدَها عن سَبْعَةٍ. رَواه سعيدٌ، والأثْرَمُ (¬1). ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في ولد الأضحية ولبنها، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ووَلَدُ الهَدْيَةِ بِمَنْزِلَتِها أيضًا، كوَلَدِ الأُضْحِيَةِ إن أمْكَنَ سَوْقُه، وإلَّا حَمَلَه على ظَهْرِها، وسَقَاهُ مِن لَبَنِها، فإن لم يُمْكِنْه سَوْقُه ولا حَمْلُه، صَنَع به ما يَصْنَعُ بالهَدْىِ إذا عَطِبَ، ولا فَرْقَ في ذلك بينَ ما عَيَّنَه ابْتِداءً، وبينَ ما عَيَّنَه عن الواجِبِ في ذِمَّتِه. وقال القاضِى في المُعَيَّنِ بَدَلًا عن الواجِبِ: يَحْتَمِلُ أن لا يَتْبَعَها وَلَدُها؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ واحِدٌ، فلا يَلْزَمُه اثْنَانِ. والصَّحِيحُ أنَّه يَتْبَعُ أُمَّه في الوُجُوبِ؛ فإنَّه وَلَدُ هَدْىٍ واجبٍ، فتَبِعَه، كالمُعَيَّنِ ابْتِداءً، ولِمَا ذُكِرَ مِن حَدِيثِ علىٍّ. فإن تَعَيَّبتِ المُعَيَنَّةَ عن واجِبٍ في الذِّمَّةِ، وقُلْنا: يَذْبَحُها. ذَبَح وَلَدَها معها؛ لأنَّه تَبَعٌ لَهَا. وإن قُلْنَا: يَبْطُلُ تَعْيينُها، وتُرَدُّ إلى مالِكِها. احْتَمَلَ أن يَبْطُلَ التَّعْيِينُ في وَلَدِها تَبَعًا، كما ثَبَتَ تَبَعًا، قِياسًا على نَمائِها المُتَّصِلِ بها، واحْتَمَلَ أن لا يَبْطُلَ، ويَكُونَ للفُقَرَاءِ؛ لأنَّه تَبِعَها في الوُجُوبِ حالَ اتِّصَالِه بِها، ولم. يَتْبَعْها في زَوَالِه؛ لأنَّه صارَ مُنْفَصِلًا عنها، فهو كوَلَدِ المَبِيع المَعِيبِ إذا وَلَدَ عندَ المُشْتَرِى، ثم رَدَّه، لا يَبْطُلُ البَيْعُ في وَلَدِها، والمُدَبَّرَةُ إذا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا، فَبَطَلَ تَدْبِيرُها، لا يَبْطُلُ في وَلَدِها. وحُكْمُ الأُضْحِيَةِ المُعَينَّةَ عَمّا في الذِّمَّةِ إذا تَعَيَّبَتْ (¬1) وَوَلَدَت، كذلك، على قِياسِ الهَدْيَ؛ لأنَّها في مَعْنَاهَا. فصل: ولا يَشْرَبُ مِن لَبَنِها إلَّا الفاضِلَ عن وَلَدِها، فإن لم يَفْضُلْ عنه شئٌ، أو كان الحَلْبُ يَضُرُّ بها [أو يَنْقُصُ] (¬2) لَحْمَها، لم يَكُنْ له ¬

(¬1) في م: «تعينت». (¬2) في م: «وينقص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْذُه، وإلَّا فله أخْذُه والانْتِفاعُ به. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْلِبُها، وَيَرُشُّ على الضَّرْعِ الماءَ حتى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ، فإنِ احْتَلَبَها، تَصَدَّقَ به؛ لأنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِن الأُضْحِيَةِ الوَاجبَةِ، فلم يَجُزْ للمُضَحِّى الانْتِفاعُ به، كالوَلَدِ. ولَنا، قَوْلُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا يَحْلِبُها إلَّا فَضْلًا عن تَيْسِيرِ وَلَدِها. ولأنَّه انْتِفاعٌ لا يَضُرُّ بها ولا بوَلدِها، فأشْبَهَ الرُّكُوبَ، ويُفارِقُ الوَلَدَ، فإنَّه يُمْكِنُ إيصالُه إلى مَحِلِّه، أمَّا اللَّبَنُ، فإن حَلَبَه وتَرَكَه فَسَد، وإن لم يَحْلِبْه تَعَقَّدَ الضَّرْعُ وأضَرَّ بها، فجُوِّزَ له شُرْبُه، وإن تَصَدَّقَ به كان أفْضَلَ؛ لأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ. وإنِ احْتَلَبَ (¬1) ما يَضُرُّ بها أو بوَلَدِها، لم يَجُزْ له, وعليه الصَّدَقَةُ به، وإن شَرِبَه ضَمِنَه؛ لأنَّه تَعَدَّى بأخْذِه. وهكذا الحُكْمُ في الهَدْيَةِ. فإن قيلَ: فصُوفُها وشَعَرُها إذا جَزَّه تَصَدَّقَ به، ولم يَنْتَفِعْ به، فلِمَ جَوَّزْتُم له الانْتِفَاعَ باللَّبَنِ؟ قُلْنَا: الفَرْقُ بينَهما مِن وَجْهَيْنِ؛ أحدُهما، أنَّ لَبَنَها يَتَوَلَّدُ مِن غِذائِها وعَلَفِها، وهو القائِمُ به، فجازَ صَرْفُه إليه, كما أنَّ المُرْتَهِنَ إذا عَلَف الرَّهْنَ، كان له أن يَرْكَبَ ويَحْلِبَ، وليس له أن يأْخُذَ الصُّوفَ ولا الشَّعَرَ. الثانى، أنَّ الصُّوفَ والشَّعَرَ يُنْتَفَعُ به على الدَّوامِ، فجَرَى مَجْرَى جِلْدِها وأجْزائِها، واللَّبَنُ يُشْرْبُ ويُؤْخَذُ شيئًا فشيئًا، فجَرَى مَجْرَى مَنافِعِها ورُكُوبِها، ولأن اللَّبَنَ يَتَجَدَّدُ كلَّ يومٍ، والصُّوفَ والشَّعَرَ عَيْن مَوْجُودَة دَائِمَةٌ في جَمِيعِ الحَوْلِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أحلب».

1357 - مسألة: (و)

ويَجُزُّ صُوفَهَا وَوَبَرَهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، إِنْ كَانَ أَنْفَعَ لَهَا. وَلا يُعْطِى الْجَازِرَ بِأُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1357 - مسألة: (و) له أن (يَجُزَّ صُوفَها ووَبَرَها، إذا كان أنْفَعَ لها) مثلَ أن تَكُونَ في زَمَنٍ تَخِفُّ بجَزِّه وتَسْمَنُ، ويَتَصَدَّقُ به، وإن كان لا يَضُرُّ بها لقُرْبِ مُدَّةِ الذَّبْحِ، أو كان بَقاؤُه أنْفَعَ لها؛ لكَوْنِه يَقِيها الحَرَّ والبَرْدَ، لم يَجُزْ له جَزُّه، كما لا يَجُوزُ أخْذُ بعضِ أعْضائِها. 1358 - مسألة: (ولا يُعْطِى الجازِرَ بأُجْرَتِه شَيئًا منها) وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. ورَخَّصَ الحسنُ، وعبدُ اللَّهِ بنُ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ (¬1)، في إعْطائِه الجلْدَ. ولَنا، ما روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: أمَرَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أقُومَ على بُدْنِه، وأن أقْسِمَ جُلُودَها ¬

(¬1) أبو هاشم، كان من علماء المكيين، روى عن عائشة وابن عباس وابن عمر. توفى سنة ثلاث عشرة ومائة بمكة. سير أعلام النبلاء 4/ 157, 158.

1359 - مسألة: (وله أن ينتفع بجلدها وجلها

وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِهَا وَجُلِّهَا. وَلَا يَبِيعُهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجِلالَها، وأن لا أُعْطِىَ الجازِرَ منها شيئًا، وقال: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ ما يَدْفَعُه إلى الجَزَّارِ عِوَضٌ عن عَمَلِه وجِزارَتِه، ولا تَجُوزُ المُعاوضةُ بشئٍ منها. فأمَّا إن دَفَع إليه صَدَقَةً أو هِبَةً، فلا بَأْسَ؛ لأنَّه مُسْتَحِقٌّ للأَخْذِ، فهو كغيرِه، بل هو أوْلَى؛ لأنَّه باشَرَهَا وتَاقَتْ نَفْسُه إليها. 1359 - مسألة: (وله أن يَنْتَفِعَ بجِلْدِها وجُلِّها (¬2)، ولا يَبِيعُه، ولا شَيْئًا منها) لا خِلافَ في جَوازِ الانْتِفاعِ بجُلُودِها وجِلالِها؛ لأنَّ الجِلْدَ جُزْءٌ منها، فجاز للمُضَحِّى الانْتِفاعُ به، كاللَّحْمِ. وكان عَلْقَمَةُ، ومَسْرُوقٌ يَدْبُغان جِلْدَ أُضْحِيَتِهما، ويُصَلِّيان عليه. وعن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قد كانُوا يَنْتَفِعُونَ مِن ضَحايَاهُم، يَحْمِلُونَ منها الوَدَكَ (¬3)، ويَتَّخِذُونَ منها الأسْقِيَةَ. قال: «وَمَا ذَاكَ؟» قالت: نَهَيْتَ عن إمْساكِ لُحُومِ الأَضَاحِى بعدَ ثَلاثٍ. فقال: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدّافَّةِ (¬4) الَّتِى دَفَّتْ، فَكُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَتَصَدَّقوا». ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬2) جُل الدابة: ما تلبسه لتصان به. (¬3) الودك: الشحم. (¬4) الدافة: قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا. والمراد: جموع الأعراب التى وفدت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٌ صحيحٌ (¬1). ولأنَّه انْتِفاعٌ به، فجازَ، كلَحْمِها. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ شئٍ مِن الأُضْحِيَةِ، واجِبَةً كانت أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّها تَعَيَّنَتْ بالذَّبْحِ. قال أحمدُ: لا يَبِيعُها، ولا يَبِيعُ شَيْئًا منها. وقال: سبحان اللَّهِ، كيف يَبِيعُها، وقد جَعَلَها للَّه تِبارَكَ وتعالى! قال المَيْمُونِىُّ: قالُوا لأبى عبدِ اللَّهِ: فجِلْدُ الأُضْحِيَةِ، نُعْطِيهِ السَّلَّاخَ؟ قال: لَا. وحَكَى قولَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يُعْطَ في جِزَارَتِها شيئًا منها» (¬2). ثم قال: إسْنادٌ جَيِّدٌ. وبه قال الشافعىُّ. ورُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ. ورَخَّصَ الحَسَنُ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1561. والنسائى، في: باب الادخار في الأضاحى، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 207، 208. والإمام مالك، في: باب ادخار لحوم الأضاحى، من كتاب الضحايا. الموطأ 3/ 485. (¬2) هو الذى تقدم في أول صفحة 383.

1360 - مسألة: (فإن ذبحها فسرقت، فلا شئ عليه)

وَإِنْ ذَبَحَهَا فَسُرِقَتْ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِىُّ في الجِلْدِ أن يَبِيعَه ويَشْتَرِىَ به الغِرْبَالَ والمُنْخُلَ وآلةَ البَيْتِ. ورُوِىَ نَحْوُ ذلك عن الأوْزاعِىِّ؛ لأنَّه يَنْتَفِعُ به هو وغيرُه، فجَرَى مَجْرَى تَفرِيقِ لَحْمِها. وقال أبو حنيفةَ: يَبِيعُ ما شاءَ منها، ويَتَصَدَّقُ بثَمَنِه. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهما، أنَّه يبيعُ الجِلْدَ، ويَتَصَدَّقُ بثَمَنِه. وحَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ وإسحاقَ. ولَنا، أمْرُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَسْمِ جُلُودِها وجِلالِها، وأن لا يُعْطى الجازِرُ شَيْئًا منها، وفيه دَلِيلٌ على وُجُوبِ الصَّدَقَةِ بالجِلالِ، وعلى تَسْوِيَتِها بالجُلُودِ. ولأنَّه جَعَلَه للَّهِ تعالَى، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كالوَقْفِ، وما ذَكَرُوه في شِراءِ آلةِ البَيْتِ يَبْطُلُ باللَّحْمِ، لا يَجُوزُ بَيْعُه لشِراءِ الآلةِ، وإن كان يَنْتَفِعُ به. 1360 - مسألة: (فإنْ ذَبَحَها فَسُرِقَتْ، فلا شئَ عليه) لأنَّها

1361 - مسألة: (وإن ذبحها ذابح فى وقتها بغير إذن، أجزأت، ولا ضمان على ذابحها)

وَإنْ ذَبَحَهَا ذَابِحٌ في وَقْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، أَجْزَأَتْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمانَةٌ في يَدِه، فإذا تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطِه لم يَضْمَنْها، كالوَدِيعَةِ. 1361 - مسألة: (وإن ذَبَحَهَا ذابِحٌ في وَقْتِها بغيرِ إذْنٍ، أجْزَأتْ، ولا ضَمانَ على ذابِحِها) وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال مالكٌ: هى شاةُ لَحْمٍ، لمالِكِها أرْشُها، وعليه بَدَلُها؛ لأنَّ الذَّبْحَ عِبادَةٌ، فإذَا فَعَلَها غيرُ صاحِبِها عنه بغيرِ إذْنِه، لم تَقَعِ المَوْقِعَ، كالزَّكاةِ. وقال الشافعىُّ: يُجْزِئُ، وله على ذابِحِها أرْشُ ما بينَ قِيمَتِها صَحِيحَةً ومَذْبُوحَةً، لأنَّ الذَّبْحَ أحَدُ مَقْصُودَىِ الهَدْى، فإذا فَعَلَه فاعِلٌ بغيرِ إذْنِ المُضَحِّى ضَمِنَه، كتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ. ولَنا، على مالكٍ، أنَّه فِعْلٌ لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ، فإذا فَعَلَه غيرُ الصاحِبِ أجْزَأ عنه، كغَسْلِ ثَوْبِه مِن النَّجَاسَةِ. وعلى الشافعىِّ، أنَّها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُضْحِيَةٌ أجْزَأتْ عن صاحِبِها، ووَقَعَتْ مَوْقِعَها، فلم يَضْمَنْ ذابِحُها، كما لو كان بإذْنٍ، ولأنَّه إرَاقَةُ دَمٍ تَعَينَّتْ إرَاقَتُه لحَقِّ اللَّهِ تَعالَى، فلم يَضْمَنْ مُرِيقُه، كقاتِلِ المُرْتَدِّ بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، ولأنَّ الأَرْشَ لو وَجَب فإنَّما يَجِبُ ما بينَ كَوْنِها مُسْتَحِقَّةَ الذَّبْحِ في هذه الأيّامِ، مُتَعَيِّنَةً له، وما بينَها مَذْبُوحَةً، ولا قِيمَةَ لهذه الحَياةِ، ولا تَفَاوُتَ بينَ القِيمَتَيْن، فتَعَذَّرَ وُجُودُ الأَرْشِ ووُجُوبُه، ولأنَّه لو وَجَب الأرْشُ لم يَخْلُ؛ إمَّا أن يَجِبَ للمُضَحِّى، أو للفُقَراءِ، لا جائِزٌ أن يَجِبَ للفُقَراءِ؛ لأنَّهُم إنَّما يَسْتَحِقُّونَها مَذْبُوحَةً، ولو دَفَعها إليهم في الحياةِ لم يَجُزْ، ولا جائِزٌ أن يَجِبَ له؛ لأنَّه بَدَلُ شئٍ منها، فلم يَجُزْ أن يَأْخُذَه، كبَدَلِ عُضْوٍ مِن أعْضَائِها، ولأنَّهُم وافَقُونَا في أنَّ الأَرْشَ لا يُدْفَعُ إليه، فتَعَذَّرَ إيجابُه؛ لعَدَمِ مُسْتَحِقِّه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَرَى أُضْحِيَةً، فلم يُوجِبْها حتى عَلِمَ بها عَيْبًا، فإن شاء رَدَّهَا، وإن شاء أخَذَ أَرْشَها، ثم إن كان عَيْبُها يَمْنَعُ الإِجْزاءَ، لم يَكُنْ له التَّضْحِيَةُ بها، وإن لم يَمْنَعْ، فله ذلك، والأَرْشُ له. فإن أوْجَبَها، ثم عَلِم أنَّها مَعِيبَةٌ، فذَكَر القاضِى، أنَّه مُخَير بينَ رَدِّها، وأخْذِ أرْشِها، فإن أخَذَ أرْشَها، فحُكْمُه حُكْمُ الزّائِدِ عن قِيمَةِ الأُضْحِيَةِ، على ما نَذْكُرُه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ الأَرْشُ له؛ لأنَّ الإِيجابَ إنَّما صادَفَها بدُونِ الذى أخَذَ أرْشَه، فلم يَتَعَلَّقِ الإيجابُ بالأرْش، ولا بمُبْدَلِه، فأشْبَهَ ما لو تَصَدَّقَ بها، ثم أخَذَ أرْشَها. وعلى قولِ أبى الخَطّابِ، لا يَمْلِكُ رَدَّها؛ لأنَّه قد زالَ مِلْكُه عنها بإيجابِها، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى عَبْدًا مَعِيبًا، فأعْتَقَه، ثم عَلِم عَيْبَه.

1362 - مسألة: (وإن أتلفها أجنبى، ضمنها بقيمتها، وإن أتلفها صاحبها، ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها. فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة، جاز، ويشترى به شاة أو سبع بدنة، فإن لم يبلغ،

وَإنْ أتلَفَهَا أجنَبِىٌّ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَإنْ أتلَفَهَا صَاحِبُهَا، ضَمِنَهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مِثْلِهَا أوْ قِيمَتِهَا. فَإِنْ ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا وَأَخْرَجَ فَضْلَ الْقِيمَةِ، جَازَ، وَيَشْتَرِى بِهِ شَاةً أوْ سُبْعَ بَدَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ، اشْتَرَى بِهِ لَحْمًا فَتَصَدَّقَ بِهِ، أو يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. فعلى هذا يَتَعَيَّنُ أخْذُ الأَرْشِ. وفى كَوْنِ الأَرْشِ للمُشْتَرِى، ووُجُوبِه في التَّضْحِيَةِ، وَجْهان. ثم يُنْظر، فإن كان عَيْبُها لا يَمْنَعُ إجْزاءَها، فقد صَحَّ إيجابُها والتَّضْحِيَةُ بها، وإن كان يَمْنَعُ إجْزاءَها، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو أوْجَبَها عالِمًا بعَيْبِها، على ما ذَكَرْناه. 1362 - مسألة: (وإن أَتْلَفَها أجْنَبىٌّ، ضَمِنها بقِيمَتِها، وإن أتْلَفَها صاحِبُها، ضمنَها بأكثَرِ الأَمْرَيْن مِن قِيمَتِها أو مثلِها. فإن ضَمِنَها بمثلِها وأخْرَجَ فَضْلَ القِيمَةِ، جازَ، ويَشْتَرِى به شاةً أو سُبْعَ بَدَنَةٍ، فإن لم يَبْلُغ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرَى به لَحْمًا فتَصَدَّقَ به، أو يَتَصَدَّقُ بالفَضْلِ) إذا أتلَفَ الأُضْحِيَةَ الواجِبَةَ صاحِبُها، فعليه قِيمَتُها، لأنَّها مِن المُتَقَوَّماتِ، وتُعتَبَرُ القِيمَة يومَ أتْلَفَها، فإن غَلَتِ الغَنَمُ بعدَ ذلك، فصارَ مِثلُها خيرًا مِن قِيمَتِها، فقال أبو الخَطّابِ: يَلْزَمُه مثلُها؛ لأنَّها أكثرُ الأَمْرَيْنِ، ولأنَّه يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ اللَّهِ تَعالَى في ذَبْحِها، فَوَجَبَ عليه مثلُها؛ ليُوفِىَ بحَقِّ اللَّهِ تَعالَى، بخِلافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَجْنَبِىِّ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وظاهِرُ قولِ القاضِى، أنَّه لا يَلْزَمُه إلَّا القِيمَةُ يومَ الإِتْلافِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه إتلاف أوجبَ القِيمَةَ، فلم يَجِبْ به أكثرُ مِن القيمةِ يومَ الإِتلافِ، كما لو أتلَفَها أجْنَبِىٌّ، وكسائِرِ المَضْمُونَاتِ. فإن رَخُصَتِ الغَنَمُ، فزَادَتْ قِيمَتُها على مِثلها، مثلَ أن كانت قِيمَتُها عندَ إتْلافِها عَشَرَةً، فصارَتْ قِيمَةُ مثلِها خَمْسَةً، فعليه عَشَرَةٌ، وَجْهًا واحِدًا، فإن شاء اشْتَرَى بها أضْحِيَةً واحِدَةً تُسَاوِى عشَرَةً، وإن شاءَ اشْتَرَى اثْنَتَيْن، فإنِ اشْتَرَى واحِدَةً وفَضَل مِن العَشَرَةِ ما لا يَجِئُ به أُضْحِيَةٌ، اشْتَرَى به شِرْكًا في بَدَنَةٍ، فإن لم يَتَّسِعْ لذلك، أو لم تُمْكِنْه المُشَارَكَةُ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، يَشْتَرِى لَحْمًا، ويَتَصَدَّقُ به؛ لأنَّ الذَّبْحَ وتَفْرِقَةَ اللَّحْمِ مَقْصُودان، فإن تَعَذَّرَ أحَدُهما وَجَب الآخرُ.

1363 - مسألة: (فإن تلفت بغير تفريطه)

فَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، لَمْ يَضْمَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، يَتَصَدَّقُ بالفَضْلِ؛ لأنَّه إذا لم يَحْصُلْ له التَّقَرُّبُ بالإِرَاقَةِ، كان اللَّحْمُ وثَمَنُه سَواءً. وإن أتلَفَها أجْنَبِىٌّ، فعليه قِيمَتُها يومَ تَلَفِها، وَجْهًا واحِدًا، ويَلْزَمُه دَفْعُها إلى صاحِبِها، فإن زادَ على ثَمَنِ مِثْلِها، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو أتلَفَها صاحِبُها، وإن لم تَبْلُغ القِيمَةُ ثَمَنَ أُضْحِية، فالحُكْمُ فيه على ما مَضَى فيما إذا زادَ على ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ في حَقِّ (¬1) المُضَحِّى. 1363 - مسألة: (فإن تَلِفَتْ بغير تَفْرِيطِه) أو سُرِقَتْ، أو ضَلَّتْ، فلا شئَ عليه؛ لأنَّها أمانَةٌ في يَدِه (فلم يَضْمَنْها) إذا لم يُفرِّطْ، كالوَدِيعَةِ. ¬

(¬1) في م: «حج».

1364 - مسألة: (وإن عطب الهدى فى الطريق، نحره فى موضعه، وصبغ نعله التى فى عنقه فى دمه، وضرب بها صفحة سنامه؛ ليعرفه الفقراء، فيأخذوه. ولا يأكل منه هو، ولا أحد من أهل رفقته)

وَإنْ عَطِبَ الْهَدْىُ فِى الطَّرِيقِ، نَحَرَهُ مَوْضِعَهُ، وَصَبَغَ نَعْلَهُ الَّتِى فِى عُنُقِهِ فِى دَمِهِ، وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَتَهُ؛ لِيَعْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ فَيَأْخُذُوهُ. وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1364 - مسألة: (وإن عَطِبَ الهَدْىُ في الطَّرِيقِ، نَحَرَه في مَوْضِعِه، وصَبَغ نَعْلَه التى في عُنُقِه في دَمِه، وضَرَب بها صَفْحَةَ سَنامِه؛ ليعْرِفَه الفُقَراءُ، فيَأْخُذُوه. ولا يَأْكُلُ منه هو، ولَا أحَدٌ مِن أهْلِ رُفْقَتِه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن تَطَوَّعَ بهَدْىٍ غيرِ واجِبٍ، لم يَخْلُ مِن حالَيْن؛ أحَدُهُما، أن يَنْوِيَه هَدْيًا، ولا يُوجِبَه بلِسانِه ولا تَقْلِيدِه وإشعارِه، فهذا لا يَلْزَمُه إمْضاؤه، وله أولادُه ونماؤُه، والرُّجُوعُ فيه متى شاءَ، ما لم يَذْبَحْه؛ لأنَّه نَوَى الصَّدَقَةَ بشئٍ مِن مالِه، أشْبَهَ ما لو نَوَى الصَّدَقَةَ بدِرْهَمٍ. الثانى، أن يُوجِبَه بلِسَانِه أو يُقَلِّدَه ويُشْعِرَه مع النِّيَّةِ، فيَصِيرَ واجِبًا مُعَينًا، يَتَعَلَّقُ الوُجُوبُ بعَيْنه دُونَ ذِمَّةِ صاحِبِه، ويكونُ في يَدِ صاحِبِه كالوَدِيعَةِ، يَلْزَمُه حِفْظُه وإيصالُه إلى مَحِلِّه، فإن تَلف بغيرِ تَفْرِيطٍ منه، أو سُرِقَ، أو ضَلَّ، فلا ضَمانَ عليه، كالوَدِيعَةِ؛ لأنَّ الحَقَّ إنَّما تَعَلَّقَ بالعَيْنِ، فسَقَطَ بتَلَفِها. وقد روَى الدّارَقُطْنِىُّ (¬1)، بإسْنادهِ، عن ابنِ عُمَرَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا ثُمَّ ضَلَّتْ، فلَيْسَ عَلَيْهِ البَدَلُ، إلَّا أنْ يَشاءَ، فإنْ كَانَ نَذْرًا فَعَلَيْةِ البَدَلُ». فأمَّا إن أتلَفَها، أو تَلِفَتْ بتَفرِيطِه، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه أتْلَفَ واجِبًا لغيرِه، فضَمِنَه، كالوَدِيعَةِ. وإن خافَ عَطَبَه، أو عَجْزَه عن المَشْى وصُحْبَةِ الرِّفاقِ، نَحَرَه مَوْضِعَه، وخَلَّى بينَه وبينَ المساكِينِ، ولم يُبَحْ له أكْلُ شئٍ منه، ولا لأحَدٍ مِن صحابتهِ، وإن كانُوا فُقَراءَ. ويُسْتَحَبُّ له أن يَصْبُغ نَعْلَ الهَدْى المُقَلَّدِ في عُنُقِه، ثم يَضْرِبَ بها صَفْحَتَه؛ ليَعْرِفَه الفُقَراءُ، فيَعْلَمُوا أنَّه هَدْىٌ، ¬

(¬1) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَيَأْخُذُوه. وبهذا قال الشافعىُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه أكَلَ من هَدْيه الذى عَطِبَ، ولم يَقْضِ مَكانَه (¬1). وقال مالكٌ: يُباحُ لرُفْقَتِه ولسائِرِ النَّاس، غيرَ صاحِبِه أو سائِقِه، ولا يَأمُرُ أحَدًا يَأْكُلُ منه، فإن أكَل، أو أمَرَ مَن أكَلَ، أو ادَّخَرَ شَيْئًا مِن لَحْمِه، ضَمِنَه؛ لِما روَى هِشامُ بنُ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن ناجِيةَ بنِ كَعْبٍ (¬2) صاحِبِ بُدْنِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: يا رسولَ اللَّهِ، كيفَ أصْنَعُ بما عَطِبَ مِن الهَدْى؟ قال: «انْحَرْه، ثُمَّ اغْمِس قَلَائِدَهُ فِى دَمِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ عُنُقِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» (¬3). فيَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه: «خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاس». رُفْقَتُه وغيرُهم. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ ذُويْبًا أبا قَبِيصَةَ (¬4) حَدَّثَه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ¬

(¬1) في الأصل: «ضمانه». (¬2) هو ناجية بن كعب بن جندب الخزاعى، روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان صاحب بدنه، انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 399. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الهدى إذا عطب قبل أن يبلغ، من كتاب المناسك. عن أبى داود 1/ 408. والترمذى، في: باب ما جاء إذا عطب الهدى ما يصنع به، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 144. واين ماجه، في: باب في الهدى إذا عطب، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1036. والدارمى، في: باب سنة البدنة إذا عطبت، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 65. والإمام مالك، في: باب العمل في الهدى إذا عطب أو ضل، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 380. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 338. (¬4) هو ذؤيب بن حلحلة، وقيل: ابن حبيب بن حلحلة، كان يسكن قُدَيْدًا، وهو موضع قرب مكة، وله دار بالمدينة، شهد الفتح، وعاش إلى زمن معاوية. أسد الغابة 2/ 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْعَثُ معه بالبُدْنِ، ثم يقولُ: «إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَئٌ فخَشِيتَ عَلَيْهَا، فانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمس نَعْلَها فِى دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، ولَا تَطْعَمْهَا أنْتَ وَلَا أحَدٌ مِنْ أهْلِ رُفْقَتِكَ». رَواه مسلمٌ (¬1) وفى لَفْظٍ: «ويُخَلِّيها وَالنَّاسَ، وَلَا يَطْعَمُ مِنْهَا هُوَ وَلَا أحَدٌ مِنْ أصْحَابِهِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وهذا صَحِيحٌ مُتَضَمِّن للزِّيادَةِ ومَعْنًى خاصٍّ، فيَجِبُ تَقْدِيمُه على عُمُومِ ما خالَفَه، ولا يَصِحُّ قِياسُ رُفْقَتِه على غيرِهم؛ لأنَّ الإِنْسانَ يُشْفِقُ على رُفْقَتِه، ويُحِبُّ التَّوْسِعَةَ عليهم، ورُبَّما وَسَّعَ عليهم مِن مُؤْنَتِه. وإنَّما مُنِعَ السّائِقُ ورُفْقَتُه مِن الأَكْلِ منها؛ لئلَّا يُقَصر في حِفْظِها، فيُعْطِبَها، ليَأْكُلَ هو ورُفْقَتُه منها، فتَلْحَقَه التُّهْمَةُ في عَطَبِها لنَفْسِه ورُفْقَتِه، فحُرِمُوها لذلك. فإن أكَلَ منها، أو باعَ، أو أطْعَمَ غَنِيًّا، أو رُفْقَتَه، ضَمِنَه بمثلِه لَحْمًا. وإن أتلَفَهَا، أو تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه، أو خافَ عَطَبَها، فلم يَنْحَرْها حتى هَلَكَتْ، فعليه ضَمانُها يُوصِلُه إلى فُقَراءِ الحَرَمِ؛ لأنَّه لا يَتَعَذَّرُ عليه إيصالُ الضَّمانِ إليهم، بخِلافِ العاطِبِ. وإن أطْعَمَ منها فَقِيرًا، أو أمَرَه ¬

(¬1) في: باب ما يفعل بالهدى إذا عطب في الطريق، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 963. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب في الهدى إذا عطب، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1036 والإمام أحمد، في: المسند 4/ 225. (¬2) في: المسند 4/ 225. ولفظه عنده: «ويخليهما للناس». في حديثه عن بدنتين.

1365 - مسألة: (وإن تعيبت، ذبحها، وأجزأته، إلا أن تكون واجبة فى ذمته قبل التعيين، كالفدية والمنذور فى الذمة، فعليه بدلها)

وإنْ تَعَيَّبَتْ، ذَبَحَهَا، وَأَجْزَأَتْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُوِنَ وَاجِبَةً فِى ذِمَّتِهِ قَبْلَ التَّعْيِينِ، كَالْفِدْدة وَالْمَنْذُورِ فِى الذِّمَّةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأَكْلِ منها، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى مُسْتَحِقِّه، فأشْبَهَ ما لو فَعَلَ ذلك بعدَ بُلُوغِ الهَدْى مَحِلَّه، وإن تَعَيَّبَ ذَبَحَه، وأجْزَأه. وقال أبو حنيفةَ: لا يُجْزِئُه. ولَنا، أنه لو عَطِبَ لم يَلْزَمْه شئٌ، فالعَيْبُ أوْلَى؛ لأنَّه أقَلُّ، وكما لو حَدَث به العَيْبُ حالَ إضجاعِه، فإنَّه قد سَلَّمَه. وإن تَعَيَّبَ بفِعْلِ آدَمِىٍّ، فعليه ما نَقَصَه مِن القِيمَةِ، يَتَصَدَّقُ به. وقال أبو حنيفةَ: يُباعُ جَمِيعُه، ويُشْتَرَى بالجميعِ هَدْىٌ. وبَنَى ذلك على أنَّه لا يُجْزِئُ، وقد بَيَّنَّا أنه يُجْزِئُ. 1365 - مسألة: (وإن تَعَيَّبَتْ، ذَبَحَها، وأجْزَأته، إلَّا أن تَكونَ واجبَةً في ذِمَّتِه قبلَ التَّعْيينِ، كالفِدْيةِ والمَنْذُورِ في الذِّمَّةِ، فعليه بَدَلُها) إذا أَوْجَبَ أُضْحِيَةً سَلِيمَةً، ثم حَدَث بها عَيْبٌ يَمْنَعُ الإِجْزاءَ، ذَبَحَها، وأجْزَأته. رُوِى هذا عن عَطاءٍ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا تُجْزِئُ. لأنَّ الأُضْحِيَةَ عندَهم واجِبَة، فلا يَبْرأ منها إلَّا بإِراقَةِ دَمِها سَلِيمَةً، كما لو أوْجَبَها في ذِمَّتِه، ثم عَيَّنَهَا، فعابَتْ. ولَنا، ما روَى أبو سعيدٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: ابْتَعْنَا كَبْشًا نُضَحِّى به، فأصابَ الذِّئْبُ مِن ألْيَتِه، فسَألْنَا النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأَمَرَنَا أن نُضَحِّىَ به. رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّه عَيْبٌ حَدَث في الأُضْحِيَةِ الواجبَةِ، فلم يَمْنَعِ الإِجْزاءَ، كما لو حَدَث بها عَيْبٌ بمُعالَجَةِ الذَّبْحِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّها واجِبَةٌ في الذِّمَّةِ، وإنَّما تَعَلَّقَ الوُجُوبُ بعَيْنها. فأمَّا إن تَعَيَّبَتْ بفِعْلِه، فعليه بَدَلُها. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا عالَجَ ذَبْحَها، فقَلَعَتِ السِّكِّينُ عَيْنَها، أجْزَأتِ، اسْتِحْسَانًا. ولَنا، أنَّه عَيْبٌ أحْدَثَه قبلَ ذَبْحِها (¬2)، فلم يُجْزِئْه، كما لو كان قبلَ مُعالَجَةِ الذَّبْحِ. ¬

(¬1) في: باب من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شئ، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1051. كما أخرجه الامام أحمد، في: المسند 3/ 32. (¬2) في م: «ذبحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والواجِبُ في الذِّمَّةِ مِن الهَدْى قِسْمان؛ أحَدُهما، وَجَب بالنَّذْرِ في ذِمَّتِه. والثانى، وَجَب بغيرِه، كهَدْىِ المُتْعَةِ والقِرانِ، والدِّماءِ الواجِبَةِ في النُّسُكِ بتَرْكِ واجِبٍ، أو فِعْلِ مَحْظُورٍ. فمتَى عَيَّنَ عمّا في ذِمَّتِه شيْئًا، فقال: هذا الواجِبُ علىَّ. فإنَّه يَتَعَيَّنُ الوُجُوبُ فيه مِن غيرِ (¬1) أن تَبْرَأ الذِّمَّةُ؛ لأَنه لو أوْجب هَدْيًا ولا هَدْىَ عليه لَتَعَيَّنَ، فكذلك إذا كان واجبًا فعَيَّنَه، إلَّا أنَّه مَضْمُونٌ عليه. فإن عَطِبَ، أو سُرِقَ، أو نَحْوُ ذلك، لم يُجْزِئْه، وعاد الوُجُوبُ إلى ذِمَّتِه، كما لو كان لرجلٍ عليه دَيْنٌ، فاشْتَرَى به مَكِيلًا، فتَلِفَ قبلَ قَبْضِه، انْفَسَخَ البَيْعُ، وعاد الدَّيْنُ إلى ذِمَّتِه، ولأنَّ ذِمته لم تَبْرأْ مِن الواجِبِ بتَعْيِينِه، وإنَّما تَعَلَّقَ الوُجُوبُ بمحِلٍّ آخَرَ، فصارَ كالدَّيْنِ يَضْمَنُه ضامِنٌ، أو يَرْهَنُ به رَهْنًا، فإنَّه يَتَعَلَّقُ الحَقُّ بالضَّامِنِ والرَّهْنِ مع بَقائِه في ذِمَّةِ المَدِينِ، فمتَى تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤه مِن الضَّامِنِ، أو تَلِفَ الرَّهْنُ، بَقِىَ الحَقُّ في الذِّمَّةِ بحالِه. فأمَّا إن ساقَ الهَدْى يَنْوِى به الواجِبَ الذى في ذِمَّتِه، ولم يُعَيِّنْه بالقَوْلِ، فهذا لا يَزُولُ مِلْكُه عنه إلَّا بذَبْحِه ودَفْعِه إلى أهْلِه، ¬

(¬1) بعده في م: «أى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وله التَّصَرُّفُ فيه بما شاءَ مِن بَيْعٍ وهِبَةٍ وأكْلٍ وغيرِ ذلك؛ لأنَّه لم يَتَعَلَّقْ به حَقٌّ لغيرِه، وله نماؤُه، وإن عَطِبَ تَلِفَ مِن مالِه، وإن تَعَيَّبَ لم يُجْزِئْه ذَبْحُه، وعليه الهَدْىُ الذى كان واجِبًا، ولا يَبْرَأُ إلَّا بإيصالِه إلى مُسْتَحِقِّه، بمَنْزِلَةِ مَن عليه دَيْنٌ، فحَمَلَه إلى مُسْتَحِقِّهِ، يَقْصِدُ دَفْعَه إليه، فتَلِفَ قبلَ أن يُوصِلَه إليه. ومتى عَيَّنَه بالقَوْلِ تَعَيَّنَ، فإن ذَبَحَه، فسُرِقَ، أو عَطِبَ، فلا شئَ عليه. قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: إذا نَحَر فلم يُطْعِمْه حتى سُرِقَ، لا شئَ عليه، فإنَّه إذا نَحَر فقد فَرَغ. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وابنُ القاسِمِ صاحِبُ مالكٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الشافعىُّ: عليه الإِعادَةُ؛ لأنَّه لم يُوصِلِ الحَقَّ إلى مُسْتَحِقِّه، فأشْبَهَ ما لو لم يَذْبَحْه. ولَنا، أنه أدَّى الواجِبَ عليه، فبَرِئَ منه، كما لو فَرَّقَه. ودَلِيلُ أنَّه أدَّى الواجِبَ، أنَّه لم يَبْقَ إلَّا التَّفْرِقَةُ، وليست وَاجِبَةً؛ لأنَّه لو خَلَّى بينَه وبينَ الفُقَراءِ أجْزَأه، ولذلك لَمّا نَحَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَدَناتِ، قال: «مَنْ شَاءَ اقْتَطعَ» (¬1). وإذا عَطِبَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 205.

1366 - مسألة: (وهل له استرجاع هذا العاطب والمعيب؟ على روايتين)

وَهَلْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ هَذَا الْعَاطِبِ وَالْمَعِيبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا المُعَيَّنُ، أو تَعَيَّبَ عَيْبًا يَمْنَعُ الإِجْزاءَ، لم يُجْزِئْه ذَبْحُه عَمّا في الذِّمَّةِ؛ لأنَّ عليه هَدْيًا سَلِيمًا، ولم يُوجَدْ، وكذلك إذا عَيَّنَ عن الأُضْحِيَةِ التى في الذِّمَّةِ شاةً، فهَلَكَتْ، أو تَعَيَّبَتْ بما يَمْنَعُ الإِجْزاءَ، لم تُجْزِئُ؛ لأنَّ ذِمَته لم تَبْرَأْ إلَّا بِذَبْحِ شاةٍ سَلِيمَةٍ، كما لو نَذَر عِتْقَ رَقَبَةٍ، أو كان عليه عِتْقُ رَقَبَةٍ في كَفّارَةٍ، فاشْتَرَاها سَلِيمَةً ثم عابَتْ عندَه، لم تُجْزِئْه عمّا في ذِمَّتِه، بخِلافِ ما لو نَذَر عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، فعابَ، فإنَّه يُجْزِئُ عنه. 1366 - مسألة: (وهل له اسْتِرْجَاعُ هذا العاطِبِ والمَعِيبِ؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهُما، له اسْتِرْجاعُه إلى مِلْكِه، فيَصْنَعُ به ما شاءَ. هذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ. ورَواه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. ونَحْوُه عن عَطاء؛ لأنَّه إنَّما عَينَّهَ عمّا في ذِمَّتِه، فإذَا لم يَقَعْ عنه عادَ إلى صاحِبهِ، كمَن أخْرَجَ زَكاتَه، فبانَ أنَّها غيرُ واجِبَةٍ. وقال مالكٌ: يَأْكُلُ، ويُطْعِمُ مَن أحَبَّ مِن الأغْنِياء والفُقَراءِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَبِيعُ منه شَيْئًا. ولَنا، ما روَى سعيدٌ بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّه قال: إذا أهْدَيْتَ هَدْيًا واجِبًا فعَطِبَ، فانْحَرْه، ثم كُلْه إن شِئْتَ، وأهْدِه إن شِئْتَ، وبِعْه إن شِئْتَ وتَقَوَّمْ به في هَدْىٍ آخَرَ. ولأنَّه متى كان له أن يَأْكُلَ ويُطْعِمَ الأغْنِياءَ، كان له بَيْعُه؛ لأنَّه مِلْكُه. والثانيةُ، لا يَرْجِعُ المُعَيَّنُ إلى مِلْكِه؛ لأنَّه قد تَعَلَّقَ به حَقُّ الفُقَراءِ بتَعْيينِه، فلَزِمَ ذَبْحُه، كما لو عَيَّنَه بنَذْرِه ابْتداءً. فصل: فإن عَيَّنَ مَعِيبًا عَمّا في ذِمَّتِه، لم يُجْزِئْه، ويَلْزَمُه ذَبْحُه على قِياسِ قَوْلِه في الأُضْحِيَةِ، إذا عَيَّنَهَا مَعِيبَةً لَزِمَه ذَبْحُها، ولم يُجْزِئْه. وإن عَيَّنَ صَحِيحًا فهَلَكَ أو تَعَيَّبَ بغَير تَفْرِيطِه، لم يَلْزَمْه أكثرُ مِمّا كان واجِبًا في الذِّمَّةِ؛ لأنَّ الزَّائِدَ لم يَجِبْ في الذِّمَّةِ، وإنَّما تَعَلَّقَ بالعَيْنِ، فسَقَطَ بتَلَفِها، كأصْلِ الهَدْى إذا لم يَجِبْ بغيرِ التَّعْيينِ. وإذا أتْلَفَه، أو تَلِفَ بتَفْرِيطِه، لَزِمَه مثلُ المُعَيَّنِ إن كان زائِدًا عمّا في الذِّمَّة؛ لأنَّ الزَّائِدَ تَعَلَّقَ به حَقُّ اللَّهِ تَعالَى، فإذا فَوَّتَه لَزِمه ضمانُه، كالهَدْى المُعَيَّنِ ابْتِداءً.

1367 - مسألة: (وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها)

وَكَذَلِكَ إِنْ ضَلَّتْ فَذَبَحَ بَدَلَهَا ثُمَّ وَجَدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1367 - مسألة: (وكذلك إن ضَلَّتْ فذَبَحَ بَدَلَها ثم وَجَدَها) إذا ضَلَّ المُعَيَّنُ، فذَبَحَ غيرَه، ثم وَجَدَه، أو عَيَّنَ غيرَ الضّالِّ بَدَلًا عَمّا في الذِّمَّةِ، ثم وَجَد الضّالَّ، ذَبَحَهما معًا. رُوِى ذلك عن عُمَرَ، وابنِه، وابنِ عباسٍ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ؛ لِمَا رُوِى عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّها أهْدَتْ هَدْيَيْن، فأضَلَّتْهُما، فبَعَثَ إليها ابنُ الزُّبَيْرِ بهَدْيَيْن، فنَحَرَتْهُما، ثم عادَ الضَّالَّانِ فنَحَرَتْهما، وقالت: هذه سُنَّةُ الهَدْى. رَواه الدَّارَقُطْنِىُّ (¬1). وهذا يَنْصَرِفُ إلى سُنَّةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّه تَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ تعالَى بهِما، بإيجابِهِما، أو ذَبْحِ أحَدِهما وإيجابِ الآخَرِ. ويَتَخَرَّجُ أن يَرْجِعَ إلى مِلْكِه أحَدُهما، بِناءً على المسألةِ التى قبلَها، فيما إذا عَيَّنَ عَمّا في الذِّمَّةِ شاةً فعَطِبَتْ أو تَعَيَّبَتْ، أنَّها تَرْجِعُ إلى مِلْكِه، لأنَّه قد ذَبَح عَمّا في الذِّمَّةِ، فلم يَلْزَمْه شئٌ آخَرُ، كما لو عَطِبَ المُعَيَّنُ. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْى. فصل: إذا غَصَب شاةً، فذَبَحَها عمّا في ذِمَّتِه، لم يُجْزِئْه، وإن رَضِىَ ¬

(¬1) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطنى 2/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِكُها، وسَواءً عَوَّضَه عنها أو لم يُعَوِّضْه. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه إن رَضِىَ مالِكُها. ولَنا، أنَّ هذا لم يَكُنْ قُرْبَةً في ابْتِدائِه، فلم يَصِرْ قُرْبَةً في أثْنائِه، كما لو ذَبَحَها للأَكْلِ ثمْ نَوَى بها التَّقَرُّبَ، وكما لو أعْتَقَ عَبْدًا ثم نَواه عن كَفّارَتِه. فصل: ولا يَبْرَأُ مِن الهَدْى إلَّا بذَبْحِه أو نَحْرِه، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَر هَدْيَهُ. فإن نحره بنَفْسِه، أو وَكَّلَ مَن نَحَرَه، أجْزَأه، وكذلك إن نَحَرَه إنْسانٌ بغيرِ إذْنِه في وَقْتِه، وفيه اخْتِلاف ذَكَرْناه. وإن دَفَعَه إلى الفُقَراءِ سَلِيمًا فنَحَرُوه، أجْزَأ عنه (¬1)؛ لأنَّه حَصَل المَقْصُودُ بفِعْلِهِم، فأجْزَأه؛ كما لو ذَبَحَه غيرُهم، وإن لم يَنْحَرُوه، فعليه أن يَسْتَرِدَّه منهم ويَنْحَرَه، فإن لم يَفْعَلْ، أو لم يَقْدِرْ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه فَوَّتَه بتَفْرِيطِه في دَفْعِه إليهم سَلِيمًا. فصل: ويُباحُ للفُقَراءِ الأَخْذُ مِن الهَدْى إذا لم يَدْفَعْه إليهم بأحَدِ شَيْئَيْن؛ أحَدُهما، الإِذْنُ فيه لَفْظًا، كما قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ». والثانى، دَلَالَةُ الحالِ على الإِذْنِ، كالتَّخْلِيَة بينَهم وبينَه. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يباحُ إلَّا باللَّفْظِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اصْبُغْ نَعْلَها فِى دَمِهَا وَاضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا» (¬2). دَلِيلٌ على أنَّ ذلك وشِبْهَهُ كافٍ مِن ¬

(¬1) في النسخ: «عنهم». وانظر المغنى 5/ 443. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 397.

فصل

فَصْلٌ: سَوْقُ الْهَدْى مَسْنونٌ، لَا يَجِبُ إِلَّا بِالنَّذْرِ. وَيُسْتحَبُّ أنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ، وَيَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ لَفْظٍ، ولولَا ذلك لم يَكُنْ هذا مُفِيدًا. (فصل): قال، رَحِمَه اللَّهُ: (سَوْقُ الهَدْى مَسْنُون، لا يَجِبُ إلَّا بالنَّذْرِ) لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، فساقَ في حَجَّتِه مائَةَ بَدَنَةٍ، وكان يَبْعَثُ بهَدْيِه وهو بالمَدِينَةِ. وليس بواجِبٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَأْمُرْ به، والأَصْلُ عدَمُ الوُجُوبِ، فإن نَذَرَه، وَجَبَ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» (¬1). ولأنَّه نَذْرُ طَاعَةٍ، فوَجَبَ الوَفاءُ به، كنُذُورِ الطَّاعَاتِ. 1368 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقِفَه بعَرَفَةَ، ويَجْمَعَ فيه (¬2) بينَ الحِلِّ والحَرَمِ، ولا يَجِبُ ذلك) رُوِى اسْتِحْبابُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وكان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬2) سقط من: م.

1369 - مسألة: (ويسن إشعار البدنة

وَيسَنُّ إِشْعَارُ الْبَدَنَةِ، وَهُوَ أنْ يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا حَتَّى يَسِيل الدَّمُ، وَيُقَلِّدُهَا، وَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ النَّعْلَ وَآذَانَ الْقِرَبِ والْعُرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن عُمَرَ لا يَرَى الهَدْى إلَّا ما عُرِفَ به. ونَحْوُه عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وقال مالكٌ: أُحِبُّ للقارِنِ يَسُوقُ هَدْيَه مِنِ حَيْثُ يُحْرِمُ، فإنِ ابْتَاعَه مِن دُونِ ذلك، مِمَّا يَلِى مَكَّةَ، بعدَ أن يقفَه بعَرَفةَ، جازَ. وقال في هَدْى المجامعِ: إن لم يَكُنْ ساقَه فَلْيَشْتَرِه مِن مَكَّةَ، ثم لْيُخْرِجْه إلى الحِلِّ، ولْيَسُقْه إلى مَكَّةَ. ولَنا، أنَّ المُرادَ مِن الهَدْى نَحْرُه وَنَفْعُ المَساكِينِ بلَحمِه، وهذا لا يَقِفُ على شئٍ مِمّا ذَكَرُوه، ولم يَرِدْ بما قالُوه دَلِيلٌ يُوجِبُه، فبَقِىَ على أصْلِه. 1369 - مسألة: (ويُسَنُّ إشْعارُ البَدَنَةِ (¬1)، وهو أن يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِها حتى يَسِيلَ الدَّمُ، ويُقَلِّدُها، ويُقَلِّدُ الغَنَمَ النَّعْلَ وآذانَ القِرَبِ والعُرَى) يُسَنُّ تَقْلِيدُ الإبِلِ والبَقَرِ، وإشْعارُها، وهو أن يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامها الأَيْمَنَ حتى يُدْمِيَها، في قَوْلِ أهْلِ العِلْمِ. وقال أبو حنيفةَ: ¬

(¬1) في م: «البدن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا مُثْلَةٌ غيرُ جائِزٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن تَعْذِيبِ الحَيَوانِ (¬1). ولأنَّه إيلامٌ، فهو كقَطْع عُضْوٍ منه. وقال مالك: إن كانتِ البَقَرَةُ ذاتَ سَنامٍ، فلا بَأْسَ بإشْعارِها، وإلَّا فلا. ولَنا، ما رَوَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أشْعَرَها وقَلَّدَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفَعَلَه الصَّحَابَةُ، فيَجِبُ تَقْدِيمُه على عُمُومِ ما احْتَجُّوا به، ولأنَّه إيلامٌ لغَرَضٍ صَحِيحٍ، فجازَ، كالكَىِّ، والوَسْمِ، والحِجامَةِ. وفائِدَتُه أن لا تَخْتَلِطَ بغيرِها، وأن يَتَوَقَّاهَا اللِّصُّ، ولا يَحْصُلُ ذلك بالتَّقْلِيدِ بمُفْرَدِه؛ لأنَّه يَحْتَمِل أن يَنْحَلَّ وَيَذْهَبَ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالكَىِّ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يكره من المثلة والمصبورة، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 7/ 122. ومسلم، في: باب النهى عن صبر البهائم، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1549، 1550. والنسائى، في: باب النهى عن المجثمة، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 210. والدارمى، في: باب النهى عن مثلة الحيوان، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 83. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 43، 103. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من أشعر وقلد بذى الحليفة ثم أحرم، وباب إشعار البدن. . .، من كتاب الحج، وفى: باب الوكالة في البدن. . .، من كتاب الوكالة. صحيح البخارى 2/ 207، 3/ 934. ومسلم، في: باب استحباب بعث الهدى. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 957، 958. كما خرجه أبو داود، في: باب من بعث بهديه وأقام، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 407. والنسائى، في: باب تقليد الإبل، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 135. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 78، 224، 238.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُشْعِرُ البَقَرَةَ، لأنَّها مِن البُدْنِ، فتُشْعَرُ كذَاتِ السَّنَامِ. أمَّا الغَنَمُ فلا يُسَنُّ إشْعارُها؛ لأنَّها ضَعِيفَة، وصُوفُها وشَعَرُها يَسْتُرُ مَوْضِعَ إشْعارِها. إذا ثَبَت هذا، فالسُّنَّةُ الإِشْعارُ في صَفْحَتِها اليُمْنَى. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالِكٌ، وأبو يُوسُفَ: بل يُشْعِرُها في صَفْحَتِها اليُسْرَى. وعن أحمدَ مثلُه؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ فَعَلَه. ولَنا، ما روَى ابنُ عباس، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بذِى الحُلَيْفَةِ، ثم دَعَا ببَدَنَةٍ وأشْعَرَها مِن صَفْحَةِ سَنَامِها الأيْمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ عنها بيَدِه. رَواه مسلمٌ (¬1). وأمَّا ابنُ عُمَرَ فقد رُوِى عنه كمَذْهَبِنا. رَواه البخارىُّ (¬2). ثم فِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى مِن فِعْلِ ابنِ عُمَرَ ¬

(¬1) في: باب تقليد الهدى. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 912. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الإشعار، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 406. والنسائى، في: باب أى الشقين يشعر، وباب سلت الدم عن البدن، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 132، 133. والترمذى، في: باب ما جاء في إشعار البدن، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 139. وابن ماجه، في: باب إشعار البدن، من كتاب المناسك 2/ 1034. والدارمى، في: باب في الإشعار كيف يشعر، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 65، 66. (¬2) في: باب من أشعر وقلد بذى الحليفة ثم أحرم، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 206.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خِلافٍ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُعْجِبُه التَّيَمُّنُ في شَأْنِه كُلِّه (¬1). وإذا ساقَ الهَدْى مِن قِبَلِ المِيقاتِ، استُحِبَّ إشعارُه وتَقْلِيلُده مِن المِيقاتِ؛ لحَدِيث ابنِ عباسٍ. وإن كانت غَنَمًا اسْتُحِبَّ أن يُقَلِّدَها نَعْلًا، أو آذانَ القِرَبِ، أو عِلاقَةَ إداوَةٍ، أو عُرْوَةً. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يُسَنُّ تَقْلِيدُ الغَنَمِ؛ لأنَّه لو كان سُنَّةً لنُقِلَ كما نُقِلَ في الإِبِلِ. ولَنا، ما رُوِى أنَّ عائِشَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: كُنْتُ أفْتِلُ القَلائِدَ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-[فيُقَلِّدُ الغَنَمَ ويُقِيمُ في أهْلِه حَلالًا. وفى لَفْظٍ: كُنْتُ أفْتِلُ قَلائِدَ الغَنَمِ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2). رَواه البخارىُّ (¬3). ولأنَّه إذا سُنَّ تَقْلِيدُ الإبِلِ مع أنَّه يُمْكِنُ تَعْرِيفُها بالإشْعارِ، فالغَنَمُ أوْلَى. وإن تَرَك التَّقْلِيدَ والإِشْعارَ فلا شئَ عليه؛ لأنَّه غيرُ واجِبٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 73. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب فتل القلائد للبدن البقر، وباب إشعار البدن باب تقليد الغنم، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 207، 208. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب بعث الهدى إلى الحرم. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 957، 958. وأبو داود، في: باب من بعث بهديه وأقام، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 407. والنسائى، في: باب فتل القلائد، وباب هل يوجب تقليد الهدى إحراما، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 133، 137. وابن ماجه، في: باب تقليد البدن، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1034. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 191، 236.

1370 - مسألة: (وإذا نذر هديا مطلقا، فأقل ما يجزئه شاة، أو سبع بدنة)

وَإذَا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا، فَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1370 - مسألة: (وإذا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا، فأقَلُّ ماْ يُجْزِئُه شاةٌ، أو سُبْعُ بَدَنَةٍ) أو بَقَرَةٍ؛ لأنَّ المُطْلَقَ في النُّذُورِ يُحْمَلُ على المَعْهُودِ الشَّرْعِىِّ، والهَدْىُ الواجِبُ في الشرعِ إنَّما هو مِن النَّعَمِ، وأقَلُّه ما ذَكَرْناه، فحُمِلَ عليه؛ ولهذا لَمّا قالَ اللَّهُ تَعالَى في المُتْعَةِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1). حُمِلَ على ما قُلْنَا. فإنِ اخْتارَ إخْراجَ بَدَنَةٍ كامِلَةٍ فهو أفْضَلُ، وهل تكونُ كُلُّها واجِبَةً؟ على وَجْهَيْنِ، ذَكَرْنَاهُما في بابِ الفِدْيةِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 196.

1371 - مسألة: (ومن نذر بدنة، أجزأته بقرة)

وإنْ نَذَرَ بَدَنَةً، أَجْزَأَتْهُ بَقَرَة. فَإن عَيَّنَ بِنَذْرِهِ، أَجْزأَهُ مَا عَيَّنَهُ، صَغِيرًا كَانَ أو كبِيرًا، مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِه، وَعَلَيْهِ إيصَالُهُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، إِلَّا أنْ يُعَينهُ بِمَوْضِعٍ سِوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1371 - مسألة: (ومَن نَذَرَ بَدَنَةً، أَجْزَأَتْه بَقَرَة) قد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الفِدْيَةِ. 1372 - مسألة: (فإن عَيَّنَ بنَذْرِه، أجْزَأه ما عَيَّنَه، صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا، مِن الحَيوانِ وغيرِه، وعليه إيصالُه إلى فُقَراءِ الحَرَم، إلَّا أنْ يُعَيِّنَه بمَوْضِعٍ سِواهُ) إذا عَيَّنَ الهَدْى بشئٍ لَزِمَه ما عَيَّنَه، وأجْزَأَه، سَواءٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ أو مِن غيرِها، وسَواءٌ كان حَيَوانًا أو غيرَه، مِمّا يُنْقَلُ أو مِمّا لا يُنقَلُ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ رَاحَ -يَعْنِى إلَى الجُمُعَةِ- في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِى السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً» (¬1). فذَكَرَ الدَّجَاجَةَ والبَيْضَةَ في الهَدْى. وعليه إيصَالُه إلى فقَراءِ الحَرَمِ؛ لأنَّه سَمَّاه هَدْيًا وأطْلَقَ، فيُحْمَلُ على مَحِلِّ الهَدْى المَشْرُوعِ، وقد قال سُبحانَه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). فإن كان مِمّا لا (¬3) يُنْقَلُ، كالعَقَارِ، باعَه، وبَعَث ثَمَنَه إلى الحَرَمِ، فيَتَصدَّقُ به فيه. وكذلك إذا نَذَر هَدْيًا مُطْلَقًا أو مُعَينًا وأطْلَقَ مَكانَه، وَجَب عليه إيصالُه إلى فقَراءِ الحَرَمِ. وجَوَّزَ أبو حنيفةَ ذَبْحَه حيثُ شاءَ، كما لو نَذَر الصَّدَقَةَ بشاةٍ. ولَنا، قولُه تَعالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. ولأنَّ النَّذْرَ يُحْمَلُ على المَعْهُودِ شَرْعًا، والمَعْهُودُ في الهَدْى الوَاجِبِ بالشَّرَعِ، كهَدْىِ المُتْعَةِ وشِبْهِه، أنَّ ذَبْحَه يكونُ في الحَرَم، كذا ههُنا. فإن عَيَّنَ نَذرَه بمَوْضِع غيرِ الحَرَمِ، لَزِمَ ذَبْحُه فيه، ويُفَرِّقُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 276. (¬2) سورة الحج 33. (¬3) سقط من: م.

1373 - مسألة: (ويستحب أن يأكل من هديه، ولا يأكل من

وَيُسْتَحَبُّ أنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِهِ، وَلَا يَأْكُلَ مِنْ وَاجِبٍ، إِلَّا مِنْ دَمِ ـــــــــــــــــــــــــــــ لَحْمَه على مَسَاكِينه، أو إطْلاقُه لهم؛ لِما رُوِى أنَّ رجلًا أتَى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إنِّى نَذَرْتُ أن أنْحَرَ ببُوَانَةَ (¬1). قال: «أبِهَا صَنَمٌ؟». قال: لَا. قال: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». رَواه أبو داودَ (¬2). فإن نَذَر الذَّبْحَ بمَوْضِعٍ فيه صَنَمٌ أو شئٌ مِن الكُفْرِ أو المَعاصِى، كبُيُوتِ النّارِ والكَنائِسِ والبِيَعِ، وأشْباهِ ذلك، لم يَصِحَّ نَذْرُه؛ لعُمُومِ هذا الحَدِيثِ، ولأنَّه نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فلا يُوفَى به؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ» (¬3). ولقَوْلِه عليه السلامُ: «مَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِىَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» (¬4). 1373 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَأْكُلَ مِن هَدْيهِ، ولا يَأْكُلُ مِن ¬

(¬1) بوانة: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. معجم البلدان 1/ 754. (¬2) في: باب ما يؤمر من الوفاء عن النذر، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 213. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الوفاء بالنذر، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 688. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 64، 6/ 366. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب لا وفاء لنذر في معصية اللَّه. . .، من كتاب النذر. صحيح مسلم 3/ 1262. وأبو داود، في: باب ما يؤمر به من الوفاء عن النذر، وباب في النذر فيما لا يملك، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 213، 215. والنسائى، في: باب كفارة النذر، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 27، 28. والدارمى، في: باب لا نذر في معصية اللَّه، من كتاب النذور. سنن الدارمى 2/ 184. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 430. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 563.

الْمُتْعَةِ وَالْقِرَان. ـــــــــــــــــــــــــــــ واجِبٍ، إلَّا مِن دَمِ المُتْعَةِ والقِرانِ) يُسْتَحَبُّ أن يَأكُلَ مِن هَدْيهِ، وسَواءٌ في ذلك ما أوْجَبَه بالتَّعْيينِ مِن غيرِ أن يكونَ واجِبًا في ذِمَّتِه، وما نَحَرَه تَطَوُّعًا مِن غيرِ أن يُوجِبه؛ لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} (¬1). وأقَلُّ أحْوالِ الأمْرِ الاسْتِحْبَابُ. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكَلَ مِن بُدْنِه. وقال جابِرٌ: كُنَّا لا نَأْكُلُ مِن بُدْنِنَا فوقَ ثَلاثٍ، فرَخَّصَ لَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا». فأكَلْنَا وتَزَوَّدْتا. رَواه البخارىُّ (¬2). والمُسْتَحَبُّ أن يَأْكُلَ اليَسِيرَ، كما روَى جابِرٌ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ ببِضْعَةٍ، فجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فأكَلَا منها، وحَسَيَا مِن مَرَقِها (¬3). ولأنَّه نُسُكٌ، فاسْتُحبَّ الأَكْلُ منه، كالأُضْحِيَةِ. وله التَّزَوُّدُ والأكْلُ كثيرًا، كما جاءَ في حَدِيثِ جابرٍ. وتُجْزِئُه الصَّدَقَةُ باليَسِيرِ منها، كما في الأُضْحِيَةِ. ¬

(¬1) سورة الحج 28. (¬2) في: باب ما يأكل من البدن وما يتصدق. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 211. كما أخرجه مسلم، في: باب بيان ما كان من النبى. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1562. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 317. (¬3) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أكَلَها كُلَّها ضَمِنَ المَشْرُوعَ للصَّدَقَةِ منها، كما في الأُضْحِيَةِ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: حُكْمُه في الأَكْلِ والتَّفْرِيقِ حُكْمُ الأُضْحِيَةِ. وحَدِيثُ جابِرٍ في أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما أمَرَ مِن كُلِّ جَزُورٍ ببِضْعَةٍ، يَدُلُّ على خِلافِ قولِه، ولأنَّ الهَدْى يَكْثُرُ، بخِلافِ الأُضْحِيَةِ. وإن لم يَأْكُلْ فحَسَن، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا نَحَرَ البَدَنَاتِ الخَمْسَ، قال: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» (¬1). وظاهِرُه أنه لم يَأكُلْ منهُنَّ شَيْئًا. وقال بعضُ أهْلِ العِلْمِ: يَجِبُ الأكْلُ منها، لظاهِرِ الأَمْرِ. ولَنا، الحَدِيثُ المَذْكُورُ، ولأنَّها ذَبِيحَة يُتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ تعالَى بها، فلم يَجِبِ الأكْلُ منها، كالعَقِيقَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وَلَا يَأْكُلُ مِن واجِبٍ، إلَّا دَمَ المُتْعَةِ والقِرانِ دُونَ ما سِواهُما. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ سَبَبَهُما غيرُ مَحْظورٍ، فأشْبَهَا هَدْىَ التَّطوُّعِ. وهذا قَوْلُ أصحابِ الرَّأْى. وعن أحمدَ، أنَّه يَحْرُمُ الأَكْلُ مِن النُّذُورِ وجَزاءِ الصَّيْدِ، ويَأْكُلُ مِمّا سِواهُما. وهو قَوْلُ ابنِ عَمرَ، وعَطاءٍ، والحَسَنِ، وإسحاقَ؛ لأنَّ جَزاءَ الصَّيْدِ بَدَل، والنَّذْرُ جَعَلَه للَّهِ تَعالَى، بخِلافِ غيرِهما. وقال ابنُ أبى مُوسى: لا يَأْكُلُ أيضًا مِن الكَفَّارةِ، ويَأْكُلُ مِمّا سِوَى الثَّلاثَةِ. ونَحْوُه مَذْهَبُ مالكٍ؛ لأنَّ ما سِوَى الثَّلاثَةِ لم يُسَمِّه للمَسَاكِينِ، ولا مَدْخَلَ للإِطْعَامِ فيه، فأَشْبَهَ التَّطَوُّعَ. وقال الشافعىُّ: لا يَأْكُلُ مِن واجِبٍ؛ لأنَّه هَدْىٌ وَجَب بالإِحْرامِ، فلم يَجُزِ الأَكْلُ منه، كدَمِ الكَفَّارَةِ. ولَنا، أن أزْوَاجَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَمَتَّعْنَ معه في حَجَّةِ الوَدَاعِ (¬1). وأدْخَلَتْ عائشةُ الحَجَّ على العُمْرَةِ، فصارَتْ قارِنَةً (¬2)، ثم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 157. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَبَحَ عنهُنَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَقَرَةَ، فأكَلْنَ مِن لُحُومِها. قال أحمدُ: قد أكَلَ مِن البَقَرِ أزْوَاجُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في حَدِيثِ عائشةَ خاصَّةً (¬1). وقالت عائشةُ: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ مَن لم يَكُنْ معه هَدْى إذا طافَ بالبَيْتِ، أن يَحِلَّ، فدُخِلَ علينا يومَ النَّحْرِ بلَحْمِ بَقَر، فَقُلْتُ: ما هذا؟ فقِيلَ: ذَبَحَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أزْوَاجِه (¬2). وقال ابنُ عُمَرَ: تَمَتَّعَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فساقَ الهَدْى مِن ذِى الحُلَيْفَةِ. مُتَّفقٌ عليه (¬3). وقد ثَبَت أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِيِضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فأكَلَ هو وَعَلِىٌّ مِن لَحْمِها، وشَرِبَا مِن مَرَقِها. رَواه مسلمٌ (¬4). ولأنَّهما دَمَا نُسُكٍ، أشْبَها التَّطَوُّعَ. ولا يَجُوزُ الأَكْلُ مِن غيرِهِما؛ لأنَّه وَجَب بفِعْلِ مَحْظُورٍ، أشْبَهَ جَزاءَ الصَّيْدِ. فصل: فإن أكَلَ مِمّا مُنِعَ مِن أكْلِه، ضَمِنَه بمِثْلِه لَحْمًا؛ لأنَّ الجَمِيعَ مَضْمُونٌ عليه بمثلِه حَيَوانًا، فكذلك أبعاضُه. وكذلك إن أعْطَى الجازِرَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يأكل من البدن. . .، من كتاب الحج، وفى: باب الخروج آخر الشهر. . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 2/ 211، 212، 4/ 59، 60. ومسلم، في: باب بيان وجوة الإحرام. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 876. وابن ماجه، في: باب فسخ الحج، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 992، 993. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 194، 273. (¬3) تقدم تخريجه في 8/ 157. (¬4) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363.

فصل

فَصْلٌ: وَالأُضْحِيَة سُنَّةٌ مؤكَّدَةٌ. وَلَا تَجِبُ إِلَّا بِالنَّذْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منها شَيْئًا ضَمِنَه بمثلِه. فإن أطْعَمَ غَنِيًّا منها على سَبِيلِ الهَدِيَّة، جازَ، كما يَجُوزُ له ذلك في الأُضْحِيَةِ؛ لأنَّ ما مَلَك أكْلَه مَلَك هَدِيَّتَه. وإن باعَ شَيْئًا منها أو أتْلَفَه، ضَمِنَه بمثلِه؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن ذلك، فأشْبَهَ عَطِيَّتَه للجَازِرِ. وإن أتْلَفَ أجْنَبِىٌّ منه شيئًا، ضَمِنَه بقِيمَتِه؛ لأنَّه مِن غيرِ ذَواتِ الأمْثالِ، فضَمِنَه بقِيمَتِه، كما لو أتلَفَ لَحْمًا لآدَمِىٍّ مُعَيَّنٍ. (فصل): قال، رَحِمَه اللَّهُ: (والأُضْحِيَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لا تَجِبُ إلَّا بالنَّذْرِ) أكثرُ أهْلِ العِلْمِ يَرَوْنَ الأُضْحِيَةَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً غيرَ واجِبَةٍ. رُوِى ذلك عن أبى بَكْرٍ، وعُمَرَ، وابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال سُوَيْدُ ابنُ غَفَلَةَ، وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَلْقَمَةُ، والأسْوَدُ، وعَطاءٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال رَبِيعَةُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، والأوزَاعِىُّ، وأبو حنيفةَ: هى واجِبَةٌ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» (¬1). وعن مِخْنَفِ بنِ سُلَيْمٍ، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب الأضاحى واجبة هى أم لا؟، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1044. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ في كُلِّ عَامٍ أُضْحَاةً وعَتِيرَةً» (¬1). ولَنا، ما روَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬2)، بإسْنَادِه عن ابنِ عباسٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «ثَلَاثٌ كُتِبْنَ عَلىَّ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطوُّعٌ». وفى رِوايةٍ: «الْوِتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ». ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ أَرَادَ أنْ يُضَحِّىَ فَدَخَلَ الْعَشْرُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِه وَلَا بَشَرَتِهِ شَيْئًا». رَواه مسلمٌ (¬3). عَلَّقَه على الإِرادَةِ. والواجِبُ لا يُعَلَّقُ على الإِرادَةِ، ولأنَّها ذَبِيحَةٌ لم يَجِبْ تَفْرِيقُ لَحْمِها، فلم تَكُنْ وَاجِبَةً، كالعَقِيقَةِ، وحَدِيثُهم قد ضَعَّفَه أصحابُ الحَدِيثِ، ثم نَحْمِلُه على الاسْتِحْبَابِ، كما ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في إيجاب الأضاحى، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 84. والترمذى، في: باب حدثنا أحمد بن منيع. . .، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 317. والنسائى، في: كتاب الفرع والعتيرة. المجتبى 7/ 148. وابن ماجه، في: باب الأضاحى واجبة هى أم لا؟ من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1045. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 215، 5/ 76. والعتيرة: هى ما يسميه الناس الرَّجبيَّة. (¬2) في: باب صفة الوتر وأنه ليس بفرض. . .، من كتاب الوتر. سنن الدارقطنى 2/ 21. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 231. (¬3) في: باب نهى من دخل عليه عشر ذى الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1565. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحى، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 85. والنسائى، في: أول كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 187.

1374 - مسألة: (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها)

وَذَبْحُهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «غُسْلُ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِم» (¬1). وقال: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» (¬2). وقد رُوِى عن أحمدَ، في اليَتِيمِ: يُضَحِّى عنه وَلِيُّه إذا كان مُوسِرًا. قال أبو الخَطَّابِ: وهذا يَدُلُّ على أنَّها واجِبَةٌ. والصَّحِيح أنَّ هذا على وَجْهِ التَّوْسِعَةِ عليه، لا على سَبيلِ الإِيجابِ. فإن نَذَرَها، وَجَبَتْ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» (¬3). وهذا نَذْرُ طاعَةٍ. 1374 - مسألة: (وذَبْحُها أفْضَلُ مِن الصَّدَقَةِ بثَمَنِها) نَصَّ عليه. وبهذا قال رَبِيعَةُ، وأبو الزِّنادِ (¬4). ورُوِىَ عن بلال أنه قال: ما أبالِى ألَّا أُضَحِّىَ إلَّا بدِيكٍ؛ ولأنْ أضَعَه في يَتِيمٍ قد تَرِبَ فُوهُ، أحَبُّ إلَىَّ مِن أن أُضَحِّىَ (¬5). وبهذا قال الشَّعْبِىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقالت عائشةُ: لأن أتَصَدَّقَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 269. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 110. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬4) عبد اللَّه بن ذكوان، الإمام الفقيه، أبو عبد الرحمن القرشى المدنى، من علماء التابعين وأئمة الاجتهاد، توفى سنة ثلاثين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 445 - 451. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الضحايا، من كتاب المناسك 4/ 385.

1375 - مسألة: (ويستحب أن يأكل ثلثها، ويهدى ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أكل أكثر، جاز)

وَالسُّنَّةُ أنْ يَأْكُلَ ثُلُثَهَا، وَيُهْدِىَ ثُلُثَهَا، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا، فَإِنْ أَكَلَ أَكْثَرَ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بخاتَمِى هذا أحَبُّ إلَىَّ مِن أنْ أهْدِىَ إلى البَيْتِ ألْفًا. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى والخُلَفَاءُ بعدَه، ولو عَلِمُوا أنَّ الصَّدَقَةَ أفْضَلُ لَعَدَلُوا إليها. ورَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أحَبَّ إلَى اللَّه مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ، وَإنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقُرُونِها وَأظْلَافِهَا وَأشْعَارِهَا، وَإنَّ الدَّمَ ليَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّ إيثارَ الصَّدَقَةِ على الأُضْحِيَةِ يُفْضِى إلى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقولُ عائشةَ في الهَدْى لا في الأُضْحِيَةِ. 1375 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَأْكُلَ ثُلُثَها، ويُهِدىَ ثُلُثَها، ويَتَصَدَّقَ بثُلُثِها، وإن أكل أكثرَ، جازَ) قال أحمدُ: نحن نَذْهَبُ إلى حَدِيثِ ¬

(¬1) في: باب ثواب الأضحية، من كتاب الأضاحى. سنن ابن ماجه 2/ 1045. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في فضل الأضحية، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 289.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ اللَّهِ؛ يَأْكُلُ هو الثُّلُثَ، ويُطْعِمُ مَن أرادَ الثُّلُثَ، ويَتَصَدَّقُ على المَسَاكِينِ بالثُّلُثِ. قال عَلْقَمَةُ: بَعَث معى عبدُ اللَّهِ بِهَدْيِه، فأمَرَنِى أن آكُلَ ثُلُثَها، وأن أُرْسِلَ إلى أهْلِ أخِيه بثُلُثٍ، وأن أتصَدَّقَ بثُلُثٍ. وعن ابنِ عُمَرَ، قال: الضَّحَايَا والهَدَايَا، ثُلُثٌ لَكَ، وثُلُثٌ لأهْلِكَ، وثُلُثٌ للمَسَاكِينِ. وهذا قولُ إسْحاقَ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: يَجْعَلُها نِصْفَيْن؛ يَأْكُلُ نِصْفًا (¬1)، ويَتَصَدَّقُ بنِصْفٍ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬2). وقال أصحابُ الرَّأْى: ما كَثُرَ مِن الصَّدَقَةِ فهو أَفْضَلُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أهْدَى مائَةَ بَدَنَةٍ، وأمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فأَكَلَ هو وعَلِىٌّ مِن لَحْمِها، وحَسَيَا مِن مَرَقِها (¬3). ونَحَرَ خَمس بَدَناتٍ أو سِتَّ بَدَناتٍ، وقال: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ». ولم يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا (¬4). ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ في صِفَةِ ¬

(¬1) في م: «نصفها». (¬2) سورة الحج 28. (¬3) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُضْحِيَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: ويُطْعِمُ أهْلَ بَيْته الثُّلُثَ، ويُطْعِمُ فُقَراءَ جِيرانِه الثُّلُثَ، ويَتَصَدَّقُ على السُّؤالِ بالثُّلُثِ. رَواه الحافِظُ أبو مُوسَى (¬1) في «الوَظائِفِ»، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ولأنَّه قَوْلُ ابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، ولم يُعْرَفْ لهما مُخَالِفٌ في الصحابةِ. ولأنَّ اللَّهَ تَعالَى: قال {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬2). والقَانِعُ: السَّائِلُ. يُقالُ: قَنَعَ قُنُوعًا. إذا سَألَ. والمُعْتَرُّ: الذى يَعْتَرِيكَ. أى يَتَعَرَّضُ لَكَ لتُطْعِمَه، ¬

(¬1) محمد بن عمر بن أحمد أبو موسى، ابن المدينى، الشافعى، الحافظ، صاحب التصانيف، منها كتابه «الوظائف»، توفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. طبقات الشافعية الكبرى 6/ 160 - 163. (¬2) سورة الحج 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَسْألُ، فذَكَرَ ثَلَاثَةَ أصْنَافٍ، فيَنْبَغِى أن يُقْسَمَ بينَهم أثْلاثًا. وأمَّا الآيَةُ التى احْتَجَّ بها أصحابُ الشافعىِّ، فإنَّ اللَّهَ تَعالَى لم يُبَيِّنْ قَدْرَ المَأْكُولِ منها والمُتَصَدَّقِ به، وقد نَبَّهَ عليه في آيَتِنا، وفَسَّرَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بفِعْلِه، وابنُ عُمَرَ بقَوْلِه. وأمَّا خَبَرُ أصحاب الرَّأْى، فهو في الهَدْى، والهَدْىُ يَكْثُرُ، فلا يَتَمَكَّنُ الإِنْسانُ مِن قَسْمِه وَأخْذِ ثُلُثِه، فتَتَعَيَّنُ الصَّدَقَةُ. والأمْرُ في هذا واسِعٌ، فلو تَصَدَّقَ بها كلِّها، أو بأكْثَرِها، جَازَ، وإن أكَلَها كلَّها إلَّا أُوقِيَّةً تَصَدَّقَ بها، أجْزَأ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالَى أمَرَ بالأكْلِ والإطْعَامِ منها، ولم يُقَيِّدْه بشَئٍ، فمتى أكَلَ وأطْعَمَ، فقد أتَى بما أُمِرَ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: يَجُوزُ أكْلُها كلِّها. ولَنا، أنَّ اللَّهَ تَعالَى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. وظاهِرُ الأَمْرِ الوُجُوبُ. وقال بعضُ أهْلِ العِلْمِ: يَجبُ الأَكْلُ منها، ولا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ بجَمِيعِها؛ للأمْرِ بالأكْلِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحَرَ خَمْسَ بَدَناتٍ، وقال: «مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَأْكُلْ مِنْهُنَّ شَيْئًا (¬1). ولأنَّها ذَبِيحَة يُتَقَرَّبُ بها إلى اللَّهِ تَعالَى، فلم يَجِبِ الأكْلُ منها، كالعَقِيقَةِ، فيكونُ الأَمْرُ للاسْتِحْبابِ أو للإباحَةِ، كالأمْرِ بالأَكْلِ مِن الثِّمارِ والزُّرُوعِ، والنَّظَرِ إليها. فصل: ويَجُوزُ أن يُطْعِمَ منها كافِرًا. وبهذا قال الحَسَنُ، وأبو ثَوْرِ، وأصحابُ الرَّأْى. وكَرِهَ مالك، واللَّيْثُ إعْطاءَ النَّصْرَانِىِّ جلْدَ الأُضْحِيَةِ. وقال مالكٌ: غيرُهم أحَبُّ إلينا. ولَنا، أنَّه طَعامٌ له أكْلُهَ، فجازَ إطْعامُه الذِّمِّىَّ، كسائِرِ طَعامِه، ولأنَّه صَدَقَةُ تَطوُّعٍ، فأشْبَهَ سائِرَ صَدَقَةِ التَّطوُّعِ. وأمّا الصَّدَقَةُ الواجِبَةُ منها، فلا يُجْزِئُ دفْعُها (¬2) إلى كافِرٍ؛ لأنَّها واجِبَةٌ، فأشْبَهَتِ الزَّكَاةَ وكَفَّارَةَ اليَمِين. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬2) في النسخ: «دفعه» وانظر: المغنى 13/ 381.

1376 - مسألة: (فإن أكلها كلها، ضمن أقل ما يجزئ فى الصدقة منها)

وَإنْ أَكلَهَا كُلَّهَا، ضَمِنَ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ فِى الصَّدَقَةِ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1376 - مسألة: (فإن أكلَها كُلَّها، ضَمِنَ أقَلَّ ما يُجْزِئُ في الصَّدَقَةِ منها) لقَوْلِ اللَّهِ تعالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. والأمْرُ يَقْتَضِى الوُجُوب. ولأنَّ ما أُبِيحَ له أكْلُه لا يَلْزَمُه غَرامَتُه، ويَلْزَمُ غُرْمُ ما وَجَبَتْ به الصَّدَقَةُ؛ لأنَّه حَق يَجِبُ عليه مع بَقَائِه، فلَزِمَتْه غَرَامَتُه إذا أتْلَفَه، كالوَدِيعَةِ، ويَضْمَنُه بمثلِه لَحْمًا؛ لأنَّ ما ضُمِنَ جَمِيعُه بحَيوانٍ، ضُمِنَ بَعْضُه بمثلِه. وفيه قول آخَرُ، أنه يَجِبُ عليه ضَمانُ ثُلُثِها. ذَكَرَه صاحِبُ «المُحَرَّر». والأوَّلُ أقْيَسُ وأصَحُّ. فصل: وإذا نَذَر أُضْحِيَةً في ذِمَّتِه، ثم ذَبَحَها، فله أن يَأْكُلَ منها. وقال القاضى: مِن أصحابِنا مَن (¬1) يَمْنَعُ مِن الأكْلِ منها. وهو ظاهِرُ كَلامِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، وَبناه على الهَدْى المَنْذُورِ. ولَنا، أن النَّذْرَ مَحْمُولٌ على المَعْهُودِ، والمَعْهُودُ مِن الأُضْحِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُها، والأكْلُ منها، والنَّذْرُ لا يُغَيَّرُ مِن صِفَةِ المَنْذُورِ إلَّا الإيجابَ، وفارَقَ الهَدْى، فإنَّ الهَدْى الواجِبَ بأصْلِ الشَّرْعِ لا يَجُوزُ الأَكْلُ منه، فالمَنْذُورُ مَحْمُولٌ عليه. فصل: ويَجُوزُ ادِّخارُ لُحومِ الأضاحِى فوقَ ثَلاثٍ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. ولم يُجِزْه على، وابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ادِّخارِ لُحُومِ الأضاحِى فوقَ ثلاثٍ (¬1). ولَنا، أنّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضَاحِى فَوْقَ ثَلاثٍ، فأمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ». رَواه مسلمٌ (¬2). ورَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللَّه عنها، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِى دَفَّتْ، فَكُلُوا، وتَزَوَّدُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا» (¬3). قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّه: فيه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 368. (¬2) في: باب استئذان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، من كتاب الجنائز، وفى: باب بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 1/ 672، 3/ 1564. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الأوعية، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 298. والنسائى، في: باب الإذن في ذلك، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 207. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 350، 355، 357، 359. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 385.

1377 - مسألة: (ومن أراد أن يضحى، فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا)

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّىَ، فَدَخَلَ الْعَشْرُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرَتِهِ شَيْئًا. وَهَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسَانِيدُ صِحاحٌ. فأمَّا علىٌّ، وابنُ عُمَرَ، فلم تَبْلُغْهُما الرُّخْصَةُ، وقد كانَا سَمِعَا النَّهْىَ، فرَوَيَاه على ما سَمِعُوه. فصل: ولا يُضَحِّى عَمّا في البَطْنِ. رُوِى ذلك عن ابنِ عُمَرَ. وبه قال الشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وليس للعَبْدِ والمُدَبَّرِ والمُكاتَبِ وأُمِّ الوَلَدِ أن يُضَحُّوا إلَّا بإذْنِ سادَتِهم؛ لأنَّهُم مَمْنُوعُونَ مِن التَّصَرُّفِ بغيرِ إذْنهِم، والمُكاتَبُ مَمْنُوع مِن التَّبَرُّعِ، والأُضْحِيَةُ تَبَرُّعٌ. فأمَّا مَن نِصْفُه حُرٌّ إذا مَلَكَ بِجُزْئِه الحُرِّ، فله أن يُضَحِّىَ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّ له التَّبَرُّعَ بغيرِ إِذْنِه (¬1). 1377 - مسألة: (ومَن أرادَ أن يُضَحِّىَ، فدَخَلَ العَشْرُ، فلا يَأْخُذْ مِن شَعَرِه ولا بَشَرَتِه شَيْئًا) حتى يُضَحِّىَ (وهل ذلك حَرَامٌ؟ على وَجْهَيْن) ¬

(¬1) في م: «إذن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما رَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَأرادَ أحَدُكُمْ أنْ يُضَحِّىَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ وَلَا مِنْ أظْفَارِه شَيْئًا حَتَّى يُضَحىَ». رَواه مسلم. وفى رِواية: «وَلَا مِنْ بَشَرَتِهِ». رَواه مسلمٌ (¬1). ظاهِرُ هذا التَّحْرِيمُ. وهو قولُ بعضِ أصحابِنا. وحَكَاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، وإسحاقَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وقال القاضى وجَماعَةٌ مِن أصحابِنا: هو مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٌ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ؛ لقولِ عائشةَ: كُنْتُ أفْتِلُ قَلائِدَ هَدْىِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم يُقَلِّدُها بِيَدِه، ثم يَبْعَثُ بها، ولا يَحْرُمُ عليه شئٌ أحَلَّهُ اللَّهُ له حتى يَنْحَرَ الهَدْى. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال أبو حنيفةَ: لا يُكْرَهُ ذلك؛ لأنَّه لا يَحْرُمُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 420. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 410.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الوَطْءُ واللِّباسُ، فلا يُكْرَهُ له حَلْقُ الشَّعَرِ وتَقْلِيمُ الأظْفارِ، كما لو لم يُرِدْ أن يُضَحِّىَ. ولَنا، الحَدِيثُ المَذْكُورُ، وظاهِرُه التَّحْرِيمُ، وهذا يَرُدُّ القِياسَ، وحَدِيثُهم عامٌّ، وهذا خاصٌّ يَجِبُ تَقْدِيمُه، وتَنْزِيلُ العامِّ على ما عَدا ما تَنَاوَلَه الحَدِيثُ الخاصُّ، ولأنَّه يَجِبُ حَمْلُ حَدِيثهم على غيرِ ما تَنَاوَلَه مَحَلُّ النِّزاعِ؛ لوُجُوه؛ منها، أنَّ أقَلَّ أحْوالِ النَّهْى الكَراهَةُ، والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُنْ ليَفْعَلَ ما نَهَى عنه وإن كان مَكْرُوهًا، قال اللَّه تَعالَى إخْبارًا عن شُعَيْبٍ، عليه السلامُ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (¬1). ومنها، أنَّ عائشةَ إنَّما تَعْلَمُ ظاهِرًا ما يُباشِرُها به مِن المُباشَرَةِ، أو ما يَفْعَلُه دائِمًا، كاللِّباس والطِّيب، أمَّا قَصُّ الشَّعَرِ وتَقْلِيمُ الأظْفَارِ مِمَّا لا يَفْعَلُه في الأيَّامِ إلَّا مَرَّةً، فالظاهِرُ أنَّها لم تُرِدْه بخَبَرِها، فإنِ احْتَمَلَ إرَادَتَه، فهو احْتِمالٌ بَعِيد، وما كان هكذا، فاحْتِمالُ تَخْصِيصِه ¬

(¬1) سورة هود 88.

فصل

فَصْلٌ: وَالْعَقِيقَةُ سنَّةٌ مُؤكَّدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَرِيبٌ، فيَكْفِى فيه أدْنَى دَلِيلٍ، وخَبَرُنا دَلِيلٌ قَوِىٌّ، فكانَ أوْلَى بالتَّخْصِيصِ، ولأنَّ عائشةَ تُخْبِرُ عن فِعْلِه، وأمَّ سَلَمَةَ تُخْبِرُ عن قَوْلِه، والقَوْلُ يُقَدَّمُ على الفِعْلِ؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ فِعْلُه خَاصًّا له. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَتْرُكُ قَطْعَ الشَّعَرِ وتَقْلِيمَ الأظْفَارِ، فإن فَعَل اسْتَغْفَرَ اللَّهَ. ولا فِدْيَةَ عليه إجْمَاعًا، سَواءٌ فَعَلَه عَمْدًا أو ناسِيًا. فصل: قال ابنُ أبى مُوسَى: يُسْتَحَبُّ أن يَحْلِقَ رَأسَه عَقِيبَ الذَّبْحِ. ولم يَذْكُرْ له وَجْهًا، واللَّهُ أعْلَمُ، ولَعَلَّه لَمَّا كان مَمْنُوعًا منه قبلَ الذَّبْحِ، اسْتُحِبَّ له ذلك، كالمُحْرِم. (فصل): قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (والعَقِيقَة سُنَّةٌ مَؤَكَّدَةٌ) العَقِيقَةُ: الذَّبِيحَةُ التى تُذْبَحُ عن المَوْلُودِ. وقيلَ: هى الطَّعامُ الذى يُصْنَعُ ويُدْعَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه مِن أجْلِ المَوْلُودِ. قال أبو عُبَيْدٍ (¬1): العَقِيقَةُ الشَّعَر الذى على المَوْلُودِ، وجَمْعُها عَقَائِقُ، ثم إنَّ العَرَبَ سَمَّتِ الذَّبِيحَةَ عندَ حَلْق شَعَرِ المَوْلُودِ عَقِيقَةً على عادَتِهم في تَسْمِيَةِ الشئِ باسْمِ سَبَبِه أو ما يُجاوِرُه، ثم اشْتُهِرَ ذلك حتى صارَ مِن الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ، بحيثُ لا يُفْهَمُ مِن العَقِيقَةِ عندَ الإطْلاقِ إلَّا الذَّبِيحَةُ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: أنْكَرَ أحمدُ هذا التَّفْسِيرَ، وقال: إنَّما العَقِيقَةُ الذَّبْحُ نَفْسُه. ووَجْهُه أنَّ أصْلَ العَقِّ القَطْعُ، ومنه عَقَّ وَالِدَيْه، إذا قَطَعَهما. والذَّبْحُ قَطْعُ الحُلْقُومِ والمَرِئِ والوَدَجَيْنِ. والعَقِيقَةُ سُنَّةٌ في قولِ عامَّةِ أهْلِ العلمِ؛ منهم ابنُ عباسٍ، وابنُ عُمَرَ، وعائشةُ، وفُقَهاءُ التَّابِعِينَ، وأئِمَّةُ الأمْصَارِ. وقال أصحابُ الرَّأْى: ليست سُنَّةً، وهى مِن أمْرِ الجاهِليَّة؛ لِما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عن العَقِيقَةِ، فقال: «إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْعُقُوقَ» (¬2). فكأنَّه كَرِهَ الاسْمَ، وقال: «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ، فَأحب أنْ يَنْسُكَ عَنْهُ، فَلْيَفْعَلْ». رَواه مالكٌ في «المُوَطَّإِ» (¬3). وقال الحسنُ، وداودُ: هى واجِبَةً. ورُوِىَ عن بُرَيْدَةَ، أنَّ الناسَ يُعْرَضُونَ عليها كما يُعْرَضُونَ على الصَّلواتِ الخَمْسِ؛ لِما ¬

(¬1) في: غريب الحديث 2/ 284، 285. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 182. (¬3) في: باب ما جاء في العقيقة، من كتاب العقيقة. الموطأ 2/ 500. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 96. والنسائى، في: باب أخبرنا أحمد بن سليمان. . .، من كتاب العقيقة. المجتبى 7/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 182، 183، 194، 5/ 369، 430.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روى سَمُرَةُ (¬1) بنُ جُنْدُبٍ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُسَمَّى، وَيُحْلَقُ رَأسُهُ» (¬2). وعن أَبي هُرَيْرَةَ مثلُه (¬3). قال أحمدُ: إسْنادُه جَيِّدٌ. وروَى حَدِيثَ سَمُرَةَ الأثْرَمُ، وأبو داودَ. وعن عائشةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَهُم عن الغُلامِ بشَاتَيْن مكافِئَتَيْن، وعن الجارِيَة بشاةٍ (¬4). وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ. ولَنا على أنها مُسْتَحَبَّة، هذه الأحادِيثُ، وعن أُمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ، قالت: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَة شَاةٌ». وفى لَفْظٍ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مِثْلَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَة شَاةٌ». رَواه أبو داودَ (¬5). وقد دَلَّ على اسْتِحْبابِها الإِجْماعُ. قال أبو الزِّنادِ: مِن ¬

(¬1) في النسخ: «سلمة» خطأ. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 95. والترمذى، في: باب في العقيقة، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 319. والنسائى، في: باب متى يعق؟، من كتاب العقيقة. المجتبى 17/ 147. وابن ماجه، في: باب في العقيقة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 12/ 1057. والدارمى، في: باب السنة في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 81. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 7، 8، 12، 17، 22. (¬3) أخرجه بنحوه البيهقى، في: باب ما يعق عن الغلام وما يعق عن الجارية، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 302. وانظر: باب ما جاء في العقيقة، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 314. (¬4) حديث عائشة، أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في العقيقة، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 314. وابن ماجه، في: باب العقيقة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1056. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 31، 158، 251. (¬5) في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 95. كما أخرجه النسائى، في: باب العقيقة عن الجارية، وباب العقيقة عن الغلام، من كتاب العقيقة. المجتبى =

1378 - مسألة: (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة)

وَالْمَشْرُوعُ ان يَذْبَحَ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْرِ الناير كانُوا يَكْرَهُونَ تَرْكَه. وقال أحمدُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: العَقِيقَة سُنَّةٌ عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قد عَقَّ عن الحَسنِ والحسينِ، وفَعَلَه أصحابُه. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ» وهو إسْنادٌ جَيِّدٌ يَرْوِيه أبو هُرَيْرَةَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومَن جَعَلَها مِن أمْرِ الجاهِلِيَّة، فهو لأنَّ هذه الأخْبارَ لم تَبْلُغْه. والدَّلِيلُ على عَدَمِ وُجُوبِها، ما احْتَجَّ به أصحابُ الرَّأْى مِن الخَبَرِ، وما رُوِى فيها مِن الأخْبارِ مَحْمُولَة على تَأْكِيدِ الاسْتِحْبابِ، جَمْعًا بينَ الأخْبَارِ، فإنَّه أوْلَى مِن التَّعَارُضِ، ولأنَّها ذَبِيحَة لسُرُورٍ حادِثٍ، فلم تَكُنْ واجِبَةً، كالوَلِيمَةِ. فصل: وهى أفْضَلُ مِن الصَّدَقَةِ (¬1) بقِيمتِها. نَصَّ عليه أحمدُ، قال: إذا لم يَكُنْ عندَه ما يَعُقُّ، فاسْتَقْرَضَ، رَجَوْتُ أن يُخْلِفَ اللَّه عليه، أحْيَا سُنَّةً. قال [ابنُ المُنْذِرِ: صَدَقَ] (¬2) أحمدُ، إحْياءُ السُّنَنِ واتِّباعُها أفْضَلُ. وقد وَرَد فيها مِن تَأْكِيدِ الأحَادِيثِ التى رَوَيْناها ما لم يَرِدْ في غيرِها. 1378 - مسألة: (عن الغُلامِ شَاتان، وعن الجارِيَةِ شاةٌ) يُرْوَى ¬

= 7/ 146. وابن ماجه، في: باب العقيقة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1056. والدارمى، في: باب السنة في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 81. (¬1) في م: «التصدق». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وعائشةَ. وهو قولُ أكثرَ القَائِلِينَ بها؛ منهم الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وكان ابنُ عُمَرَ يقولُ: شاةٌ شاةٌ عن الغُلامِ والجارِيَةِ (¬1). لِما رُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقَّ عن الحَسنِ شاةً، وعن الحسينِ شاةً. رَواه أبو داودَ (¬2). وكان الحسنُ، وقَتَادَةُ، لا يَرَيَان عن الجارِيَة عَقِيقَةً، لأنَّ العَقِيقَةَ شُكْرٌ للنِّعْمَةِ الحاصِلَةِ بالوَلَدِ، والجارِيَةُ لا يَحْصُلُ بها سُرُورٌ، فلا يُشْرَعُ لها عَقِيقَةٌ. ولَنا، حَدِيثُ عائشةَ، وأُمِّ كُرْزٍ، وما رَوَوْه مَحْمُولٌ على الجَوازِ. إذا ثَبَت هذا، فيُسْتَحَبُّ أن تكونَ الشَّاتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْن؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «شَاتَانِ مُكافِئَتَانِ». وفى رِوَايةٍ: «مِثْلَانِ». قال أحمدُ: يَعْنِى مُتَقَاربَتَيْن، أو مُتَسَاوِيَتَيْن؛ لِما جاءَ مِن الحَدِيثِ فيه. ويَجُوزُ فيها الذَّكَرُ والأُنْثَى؛ لأنَّه رُوِى في حديثِ أُمِّ كُرْزٍ، أنَّها سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقولُ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافئتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَة شَاةٌ، وَلَا بَأْسَ أن تَكونَ ذُكُورًا أوْ إنَاثًا». رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ (¬3). والذَّكَرُ أفْضَلُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقَّ عن الحسنِ والحسينِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العقيقة، من كتاب العقيقة؛ المصنف 4/ 331. وابن أبى شيبة، في: باب من قال: يسوى بين الغلام والجارية، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 239. (¬2) في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 92 بلفظ: «كبشا كبشا». كما أخرجه الترمذى، في: باب العقيقة بشاة، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 317. والنسائى، في: باب أخبرنا الحسين بن حريث. . .، من كتاب العقيقة. المجتبى 7/ 125. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 355، 361. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 434.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكَبْشٍ كَبْشٍ، وضَحَّى بكَبْشَيْنِ. والعَقِيقَةُ تَجْرِى مَجْرَى الأُضْحِيَةِ. والأفْضَلُ في لَوْنِها البَياضُ. ويُسْتَحَبُّ اسْتِحْسانُها واسْتِسْمَانُها واسْتِعْظَامُها؛ لِما ذَكَرْنا في الأُضْحِيَةِ؛ لأنَّها تُشْبِهُهَا. فإن خالَفَ ذلك، أو عَقَّ بكَبْش واحِدٍ، أجْزَأ؛ لِما رَوَيْنا مِن حَدِيثِ الحسنِ والحسينِ.

1379 - مسألة: (وتذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه ورقا. فإن فات، ففى أربع عشرة، فإن فات، ففى إحدى وعشرين)

تُذْبَح يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِهِ وَرِقًا. فَإِنْ فَاتَ، فَفِى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَإِنْ فَاتَ، فَفِى إِحْدَى وَعِشْرِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1379 - مسألة: (وتُذْبَحُ يومَ سابِعِه، ويُحْلَقُ رَأْسُه، ويُتَصَدَّقُ بوَزْنه وَرِقًا. فإن فاتَ، ففى أربَعَ عَشْرَةَ، فإن فاتَ، ففى إحْدَى وعِشْرِينَ) السُّنَّةُ أن تُذْبَحَ العَقِيقَةُ يومَ السَّابعِ، لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ سَمُرَةَ. قال شيخُنا (¬1): ولا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العِلْمِ القَائِلِينَ بمَشْرُوعِيَّتِها في اسْتِحْبابِ ذَبْحِها يومَ السابِعِ. ويُسْتَحَبُّ أن يُحْلَقَ رَأسُ الصَّبِىِّ يَومَ السابعِ، ويُسَمَّى، لحَدِيثِ سَمُرَةَ، وأن يُتَصَدَّقَ بوَزْنِ شَعَرِه مِن الفِضَّةِ؛ لِما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال لفاطِمَةَ، لَمّا وَلَدَتِ الحَسَنَ: «احْلِقِى رَأسَهُ، وَتَصَدَّقِى بوَزْنِ شَعَرِهِ فِضَّةً عَلَى المَسَاكِينِ والأوْفاضِ (¬2)». يَعْنِى أهْلَ الصُّفَّةِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). وروَى سعيدٌ في «سُنَنِه» عن محمدِ بنِ علىٍّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عقَّ عن الحسنِ والحسينِ بكَبْشٍ كَبْشٍ، وأنَّه تَصَدَّقَ بوَزْنِ شُعُورِهما وَرِقًا، وأنَّ فاطِمَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، كانت إذا وَلَدَتْ وَلَدًا حَلَقَتْ شَعَرَه، وتَصدَّقَتْ ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 396. (¬2) في م: «الأوقاص». (¬3) في: المسند 6/ 390، 392. كما أخرجه الترمذى، في: باب العقيقة بشاة، من أبواب الأضاحى. عارضة الأحوذى 6/ 317.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوَزْنِ شَعَرِه وَرِقًا (¬1). وإن سَمَّاه قبلَ السّابع، فحَسنٌ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وُلِدَ لِىَ اللَّيْلَةَ وَلَدٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِى إبْرَاهِيمَ» (¬2). والغُلامُ الذى جاءَ به أنَسُ بنُ مالكٍ، فحنَّكَه، وسَمَّاه عبدَ اللَّهِ (¬3). ويُسْتَحَبُّ أن يُحْسِنَ اسْمَه؛ لأنَّه رُوىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ». رَواه أبو داودَ (¬4). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «أحبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّه، وَعَبْدُ الرَّحْمنِ». رَواه مسلمٌ (¬5). وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه قال: أحَبُّ الأسمَاءِ إلى اللَّهِ أسْماءُ ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب العتق يوم سابعه، من كتاب العقيقة. المصنف 4/ 333، 334. وابن أبى شيبة، في: باب في أى يوم تذبح العقيقة، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 241. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال. . .، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1807. وأبو داود، في: باب في البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. سنن أبى داود 2/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 194. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده، من كتاب الزكاة، وفى: باب تسمية المولود، من كتاب العقيقة. صحيح البخارى 2/ 160، 7/ 109. ومسلم، في: باب استحباب تحنيك المولود. . .، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1689. (¬4) في: باب في تغيير الأسماء، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 584. كما أخرجه الدارمى، في: باب في حسن الأسماء، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 194. (¬5) في: باب النهى عن التكنى بأبى القاسم،. . .، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1682. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء ما يستحب من الأسماء، من أبواب الآدب. عارضة الأحوذى 10/ 275. وابن ماجه، في: باب ما يستحب من الأسماء، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1229. والدارمى، في: باب ما يستحب من الأسماء، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 24، 128.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنْبياءِ. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «تَسَمَّوْا بِاسْمِى، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى» (¬1). وفى رِوايَةٍ: «لَا تَجْمعُوا بَيْنَ اسْمِى وكُنْيَتى» (¬2). فصل: فإن فاتَ الذَّبْحُ في السابعِ، ففى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فإن فاتَ، ففى إحْدَى وعِشْرِينَ. وهذا قولُ إسحاقَ؛ لأنَّه رُوِى عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها. والظاهِرُ أنَّها لا تَقُولُه إلَّا تَوْقِيفًا. فإن ذَبَح قبلَ ذلك أو بعدَه، أجْزَأَ؛ لحُصُولِ المَقْصُودِ بذلك. فإن تجاوَزَ إحْدَى وعشرين، احْتَمَلَ أن يُسْتَحَبَّ في كلِّ سابعٍ، فيَجْعَلَه في ثمانٍ وعِشْرِينَ، فإن لم يَكُنْ، ففى خَمْس وثَلاثِينَ، وعلى هذا، قِياسًا على ما قَبْلَه، واحْتَمَلَ أن يَجُوْزَ في كلِّ وَقْتٍ، لأنَّ هذا قَضاءُ فائِتٍ، فلم يَتَوَقف، كقَضَاءِ الأُضْحِيَةِ وغيرِها. فإن لم يَعُقَّ أصْلًا، فبَلَغَ الغُلامُ وكَسَب، فقد سُئِلَ أحمدُ عن هذه المسألةِ، فقال: ذلك على الوَالِدِ. يَعْنِى لا يَعُقُ عن نَفْسِه؛ لأنَّ السُّنَّةَ في حَقِّ غيرِه. وقال عَطاءٌ، والحسنُ: يَعُقُّ عن نَفْسِه؛ لأنَّها مَشْرُوعَةٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إثم من كذب على النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب العلم، وفى: باب كنية النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب المناقب، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: سموا باسمى ولا تكتنوا بكنيتى، وباب من سمى بأسماء الأنبياء، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 1/ 38، 4/ 226، 8/ 53، 54. ومسلم، في: باب النهى عن التكنى بأبى القاسم،. . .، من كتاب الأدب. صحيح مسلم 3/ 1682، 1683. وابن ماجه، في: باب الجمع بين اسم النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وكنيته، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1230، 1231. والدارمى، في: باب تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتى، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 294. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 364.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، ولأنَّه مُرْتَهَنٌ بها، فيَنْبَغِى أن يُشْرَعَ له فِكاكُ نَفْسِه. ولَنا، أنَّها مَشْرُوعَةٌ في حَقِّ الوَالِدِ، فلا يَفْعَلُها غيرُه، كالأجْنَبِىِّ، وكصَدَقَةِ الفِطْرِ. فصل: يُكْرَهُ أن يُلَطَّخَ رَأسُ الصَّبِىِّ بدَمٍ، عندَ (¬1) أحمدَ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وحُكِىَ عن الحسن، وقَتادَةَ، أنَّه مُسْتَحَبٌّ. وحَكاه ابنُ أبى مُوسَى قَوْلًا في المَذْهَبِ؛ لما رُوِى في حَدِيثِ سَمُرَةَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، ويُدْمَى» (¬2). رَواه هَمّامٌ، عن قَتادَةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا أعْلَمُ أحَدًا قال هذا إلَّا الحسنَ، وقَتادَةَ، وأَنْكَرَه سائِرُ أهْلِ العِلْمِ، وكَرهُوه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَعَ الْغُلَامِ الْعَقِيقَةُ، فَهَرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وأميطُوا عَنْهُ الأَذَى». رَواه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) تقدم تخريج حديث سمرة في صفحة 434. (¬3) في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 95، 96. كما أخرجه البخارى، في: باب إماطة الأذى عن الصبى في العقيقة، من كتاب العقيقة. صحيح البخارى 7/ 109. والنسائى، في: باب العقيقة عن الغلام، من كتاب العقيقة. المجتبى 7/ 145، 146. وابن ماجه، في: باب العقيقة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1056. والدارمى، في: باب السنة في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 81. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 18، 214، 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا يَقْتَضِى أن لا يُمَسَّ بدَمٍ؛ لأنَّه أذًى. وروَى يَزِيدُ بنُ عبدٍ المُزَنِىُّ، عن أبيه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ، وَلَا يُمَسُّ رَأسُهُ بِدَمٍ» -قال مُهَنّا: ذَكَرْتُ هذا الحَدِيثَ لأحمدَ، فقال: ما أظْرَفَه. رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولم يَقُلْ: عن أبِيه. ولأنَّ هذا تَنْجِيسٌ له، فلا يُشْرَعُ، كلَطْخِه بغيرِه مِن النَّجَاسَاتِ. وقال بُرَيْدَةُ: كُنّا في الجَاهِليَّةِ، إذا وُلِدَ لأحَدِنَا غُلامٌ، ذَبَح شاةً، ويُلَطِّخُ رَأسَه بدَمِها، فَلمّا جاءَ الإِسْلامُ، كُنَّا نَذْبَحُ شاةً، ونَحْلِقُ رَأسَهُ، ونُلَطِّخُه بزَعْفَران. رَواه أبو داودَ (¬2). فأمَّا رِوايَةُ مَن روَى: «وَيُدْمَى». فقال أبو داودَ (¬3): ¬

(¬1) في: باب في العقيقة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 7/ 1057. (¬2) في: باب في العقيقة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 96. (¬3) انظر: سنن أبى داود 2/ 95.

1380 - مسألة: (وينزعها أعضاء، ولا يكسر عظمها، وحكمها حكم الأضحية)

وَيَنْزِعُهَا أَعْضَاءً، وَلَا يَكْسِرُ عَظْمَهَا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الأُضْحِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ «وَيُسَمَّى» أصَحُّ. هكذا قال سَلَّامُ بنُ أبى مُطِيعٍ عن قَتادَةَ، وإياسُ بنُ دَغْفَلٍ عن الحسنِ، ووَهِمَ هَمّامٌ، وقال: «وَيُدْمَى». قال أحمدُ: قال فيه ابنُ أبى عَرُوبَةَ: «يُسَمَّى». وقال هَمّام: «يُدْمَى». وما أراه إلَّا خَطَأً. وقيلَ: هو تَصْحِيفٌ مِن الرَّاوِى. 1380 - مسألة: (ويَنْزِعُها أعْضاءً، ولا يَكْسِرُ عَظْمَها، وحُكْمُها حُكْمُ الأُضْحِيَةِ) يُسْتَحَبُّ أن يَفْصِلَها أعْضَاءً، ولا يَكْسِرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِظَامَها؛ لِما رُوِى عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّها قالت: السُّنَّةُ شَاتَانِ مُكافِئتَانِ عن الغُلامِ، وعن الجارِيةِ شَاة، تُطْبَخُ جُدُولًا، لا يُكْسَرُ عَظْمٌ، وَيأْكُلُ، ويُطْعِمُ، ويَتَصَدَّقُ، وذلك يومَ السَّابعِ (¬1). قال أبو عُبَيْدٍ الهَرَوِىُّ (¬2) في العَقِيقَةِ: تُطْبَخُ جُدُولًا، لا يُكْسَرُ لها عَظْم. أى عُضْوًا عُضْوًا، وهو الجَدْلُ بالدّالِ غيرِ المُعْجَمَةِ، والإِرْبُ، والشِّلْوُ، والعُضْوُ، والوصْلُ، كُلُّه واحِدٌ. إنَّما فُعِل بها ذلك؛ لأنَّها أوَّلُ ذَبِيحَةٍ ذُبِحَتْ عن الغُلامِ، فاسْتُحِبَّ ذلك تَفاؤُلًا بالسَّلَامَةِ. كذلك قالت عائشةُ. ورُوِىَ أيضًا عن عَطاءٍ، وابنِ جُرَيْج. وبه قال الشافعىُّ. فصل: وحُكْمُها حُكْمُ الأُضْحِيَةِ، في سِنِّها، وما يُجْزِئُ منها، وما لا يُجْزِئُ، ويُسْتَحَبُّ فيها مِن الصِّفَةِ ما يُسْتَحَبُّ فيها. وكانت عائشةُ تقولُ: ائْتُونِى به أعْيَنَ أقْرَنَ. قال عَطاءٌ: الذَّكَرُ أحبُّ إلىَّ مِن الأُنْثَى، والضَّأْنُ أحَبُّ إلَيْنا مِن المَعْزِ. ويُكْرَهُ فيها ما يُكْرَهُ في الأُضْحِيَةِ، وهى: ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، في: باب طريق العقيقة وأيامها، من كتاب الذبائح. المستدرك 4/ 238، 239. وابن أبى شيبة، في: باب في العقيقة كم عن الغلام وكم عن الجارية، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 239. (¬2) في: الغريبين 1/ 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْقاءُ، والخَرْقاءُ، والمُقابَلَةُ، والمُدابَرَةُ. ويُسْتَحَبُّ اسْتشْرَافُ العَيْنِ والأُذُنِ، كما ذَكَرْنا في الأُضْحِيَةِ سَواءً؛ لأنَّها تُشْبِهُهَا، فتُقاسُ عليها. وحُكْمُها في الأَكْلِ والهَديَّةِ والصَّدَقَةِ حُكْمُ الأُضْحِيَةِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال ابنُ سِيرينَ: اصْنَعْ بلَحْمِها كيف شئْتَ. وقال ابنُ جُرَيْجٍ: تُطْبَخُ بماءٍ ومِلْحٍ، وتُهْدَى في الجيرانِ والصَّديقِ، ولا يُتَصَدَّقُ منها بشئٍ. وسُئِلَ أحمدُ عنها، فحَكَى قولَ ابنِ سيرِينَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه ذَهَب إليه. وسُئِلَ هل يَأْكُلُها كلَّها؟ قال: لم (¬1) أقُلْ يَأْكُلُها كُلَّها ولا يَتَصَدَّقُ منها بشئٍ. والأشْبَهُ قِياسُها على الأُضْحِيَةَ؛ لأنَّها نَسِيكَة مَشْرُوعَة غيرُ واجِبَةٍ، أشْبَهَتِ الأُضْحِيَةَ، ولأنَّها أشْبَهَتْها في صِفَتِها وسِنِّها وقَدْرِها وشُرُوطِها، فكذلك في مَصْرِفِها. وإن طَبَخَها ودَعَا مَن أكَلَها، فحَسَنٌ. ¬

(¬1) في م: «ألم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّه: يُباعُ الجِلْدُ والرَّأْسُ والسِّقْطُ، ويُتَصَدَّقُ به. ونَصَّ في الأُضْحِيَةِ على خِلافِ هذا، وهو أقْيَسُ في مَذْهَبِه؛ لأنَّها ذَبِيحَةٌ للَّهِ، فلا يُباعُ منها شئٌ، كالهَدْىِ، ولأنَّه يُمْكِنُ الصَّدَقَةُ به، فلا حاجَةَ إلى بَيْعِه. وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أن يُنْقَلَ حُكْمُ إحْداهُما إلى الأُخْرَى. فيُخَرَّجُ في المسألتين رِوايَتان، ويَحْتَمِلُ أن يُفَرَّقَ بينَهما من حيثُ إنَّ الأُضْحِيَةَ ذَبِيحة شُرِعَتْ يومَ النَّحْرِ، فأشْبَهَتِ الهَدْى، والعَقِيقَةُ شُرِعَتْ عندَ سُرُورٍ حادِثٍ وتَجَدُّدِ نِعْمَةٍ، أشْبَهَتِ الذَّبْحَ في الوَلِيمَةِ، ولأنَّ الذَّبِيحَةَ ههنا لم تَخْرُجْ عن مِلْكِه، فكانَ له أن يَفْعَلَ بها ما شاءَ، مِن بَيْعٍ وغيرِه، والصَّدَقَةُ بثَمَنِ ما يَبِيعُ منها، بمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ به في فَضْلِها وثَوابِها وحُصُولِ النَّفْع به، فكانَ له ذلك. فصل: قال بعضُ أهْلِ العِلمِ: يُسْتَحَبُّ للوَالِدِ أن يُؤَذِّنَ في أذُنِ ابْنِه

1381 - مسألة: (ولا تسن الفرعة؛ وهى ذبح أول ولد الناقة،

وَلَا تُسَنُّ الْفَرَعَةُ؛ وَهِىَ ذَبْحُ أَوَّلِ وَلَدِ النَّاقَةِ، وَلَا الْعَتِيرَةُ؛ وَهِىَ ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَ يُولدُ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ رافِعٍ، عن أبيهِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أذَّنَ في أُذُنِ الحسنِ حينَ وَلَدَتْه فاطِمَةُ (¬1). وعن عمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، أنَّه كان إذا وُلِدَ له موْلُودٌ أخَذَه في خِرْقَةٍ، فأذَّنَ في أذُنِه اليُمْنَى، وأقامَ في اليُسْرَى، وسَماهُ. ورُوِّينا أنَّ رجلًا قال لرجل عندَ الحسنِ يُهَنِّئُه بابْن: ليَهْنِكَ الفارِسُ. فقال الحسنُ: وما يُدْرِيكَ أفارِسٌ هو أو حِمارٌ؟ فقال: كيف نقولُ؟ قال: قُلْ: بُورِكَ لك في المَوْهُوب، وشَكَرْتَ الواهِبَ، وبَلَغَ أشُدَّه، ورُزِقْتَ بِرَّه. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يُحَنِّك أوْلادَ الأنْصارِ بالتَّمْرِ (¬2). وروَى أنَسٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: ذُهِبَ بعبدِ اللَّهِ بنِ أبى طَلْحَةَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حينَ وُلِدَ، قال: «هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ؟». فَناوَلْتُه تَمَراتٍ، فلَاكَهُنَّ، ثم فَغَرَ فاهُ، ثم مَجهُ فيه، فجَعَلَ يَتَلمَّظُ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «[انْظروا إلى] (¬3) حُبِّ الأنْصَارِ التَّمْرَ». وسَمَّاه عبدَ اللَّهِ. 1381 - مسألة: (ولا تُسَنُّ الفَرَعَةُ؛ وهى ذَبْحُ أوَّلِ وَلَدِ النَّاقَةِ، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الصبى يولد فيؤذن في أذنه، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 621. والترمذى، في: باب الأذان في أذن المولود، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 315. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 9، 391، 392. (¬2) تحنيك الأطفال بالتمر رواه مسلم، في: باب حكم بول الطفل الرضيع. . .، من كتاب الطهارة. صحيح مسلم 1/ 237. وأبو داود، في: باب في الصبى يولد فيؤذن في أذنه، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 622 والإمام أحمد، في: المسند 6/ 212. وانظر: حديث أنس التالى. (¬3) غير موجود بمصادر التخريج. وانظر: شرح النووى لمسلم 14/ 133. وتقدم في صفحة 439.

ذَبِيحَةُ رَجَبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا العَتِيرَةُ؛ وهى ذَبِيحَةُ رَجَبٍ) هذا قولُ عُلماءِ الأمْصارِ، سِوَى ابنِ سِيرِينَ، فإنَّه كان يَذْبَحُ العَتِيرَةَ في رَجب، ويَرْوِى فيها شيئًا. والفَرَعَة والفَرَعُ، بفَتْحِ الرّاءِ: أوَّلُ وَلَدِ النّاقَةِ. كانُوا يَذْبَحُونَه لآلِهَتِهم في الجاهِليَّة، فنُهُوا عنها. قال ذلك أبو عَمْرٍو الشَّيْبانِىُّ. وقال أبو عُبَيْدٍ: العَتِيرَةُ هى الرَّجَبِيَّةُ، كان أهْلُ الجاهِليَّة إذا طَلَب أحَدُهم أمْرًا نَذَر أن يَذْبَحَ مِن غَنَمِه شَاةً في رَجَبٍ، هى العَتائِرُ. والصَّحيحُ، إن شاء اللَّهُ تعالى، أنَّهم كانُوا يَذْبَحُونَها في رَجَبٍ مِن غيرِ نَذْرٍ، جَعَلُوا ذلك سُنَّةً فيما بينَهمِ، كالأُضْحِيَةِ في الأَضْحَى، وكان منهم مَن يَنْذُرُها كما قد يَنْذِرُ الأُضْحِيَةَ، بدَلِيلِ قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عَلَى كُلِّ أهْلِ بَيْتٍ أُضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» (¬1). وهذا الذى قالَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَدْءِ الإِسْلامِ تَقْرِير لِما كان في الجَاهِليَّة، وهو يَقْتَضِى ثُبُوتَها بغيرِ نَذْرٍ، ثم نُسِخَ بعدُ. ولأنَّ العَتِيرَةَ لو كانتْ هى المَنْذُورَةَ، لم تَكُنْ مَنْسُوخَةً، فإنَّ الإِنْسانَ لو نَذَر ذَبْحَ شاةٍ في أىِّ وَقْتٍ كان، لَزِمَه الوَفاءُ بنَذْرِه. ورُوِىَ عن عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: أمَرَنَا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفَرَعَةِ مِن كلِّ خَمْسِينَ واحِدَةٌ (¬2). قال ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 420. (¬2) أخرجه البيهقى، في باب ما جاء في الفرع والعتيرة، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ المُنْذِرِ: هذا حَدِيثٌ ثابتٌ. ولَنا، على أنَّها لا تُسَنُّ، ما روَى أبوِ هُرَيْرةَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا الحَدِيثُ مُتَأخِّرٌ على الأمْر بها، فيكونُ ناسِخًا، ودَلِيلُ تَأخُّرِه أمْرَانِ؛ أحَدُهُما، أنَّ رَاوِيَه أبو هُرَيْرَةَ، وهو مُتَأَخِّرُ الإِسْلامِ، فإنَّ إسْلَامَه في سَنَةِ فَتْحِ خَيْبَرَ، وهى السَّنَةُ السابِعَةُ مِن الهِجْرَةِ. والثانِى، أنَّ الفَرَعَ والعَتِيرَةَ كان فِعْلُها أمْرًا مُتَقَدِّمًا على الإِسْلامِ، فالظّاهِرُ بَقاؤُهم عليه إلى حينِ نَسْخِه، واسْتِمْرارُ النَّسْخِ مِن غيرِ رَفْعٍ له، ولو قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ النَّهْى عن الأمْرِ بها، لكانت قد نُسِخَتْ، ثم نُسِخَ ناسِخُها، وهذا خِلافُ الظاهِرِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ المُرادَ بالخَبَرِ نَفْىُ كَوْنِها سُنَّةً، لا تَحْرِيمُ فِعلِها، ولا كَرَاهَتُه، فلو ذَبَحَ إنْسانٌ ذَبِيحَةً في رَجَبٍ، أو ذَبَح وَلَدَ الناقةِ؛ لحاجَتِه إلى ذلك، أو للصَّدَقَةِ به وإطْعامِه، لم يَكُنْ ذلك مَكْرُوهًا. واللَّه تَعالى أعلمُ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الفرع والعتيرة، من كتاب العقيقة. صحيح البخارى 7/ 110. ومسلم، في: باب الفرع والعتيرة، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1564. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العتيرة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 94. والترمذى، في: باب ما جاء في الفرع والعتيرة، من أبواب الأضحية. عارضة الأحوذى 6/ 312. والنسائى، في: باب أخبرنا إسحاق بن إبراهيم. . .، من كتاب الفرع. المجتبى 7/ 147. وابن ماجه، في: باب الفرعة والعتيرة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1058. والدارمى، في: باب الفرع والعتيرة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 80، والإمام أحمد، في: المسند 2/ 239، 279، 490.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الجهاد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الجِهَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الجِهَادِ روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَاد فِى سَبِيلى، وإيمَانٌ بِى، وتَصْدِيقٌ بِرَسُولِى، فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ أنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أو أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولمسلمٍ (¬2): «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ». وعن أنَسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: كتاب الجهاد من الإيمان، من كتاب الإيمان. صحيح البخارى 1/ 15، 16. ومسلم، في: باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللَّه، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1495، 1496. كما أخرجه النسائى، في: باب ما تكفل اللَّه عز وجل لمن يجاهد في سبيله، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 15. والإمام أحمد في: المسند 2/ 231، 384، 494. (¬2) في: باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1498. كما أخرجه البخارى، في: باب أفضل الناس مؤمن يجاهد. . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 18، 19. والنسائى، في: باب ما تكفل اللَّه عز وجل لمن يجاهد في سبيله، وباب مثل المجاهد، في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 15، 16، 17. وابن ماجه، في: باب فضل الجهاد في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 920، 921. والإمام مالك، في: باب الترغيب في الجهاد، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 443.

1382 - مسألة: (وهو فرض كفاية

وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». رَواه البخارىُّ (¬1). 1382 - مسألة: (وهو فَرْضُ كِفايَةٍ) (¬2) معنى فَرْضِ الكِفايةِ، الذى إذا قام به مَن يَكْفِى، سَقَط عن سائِرِ النَّاسِ، وإن لم يَقُمْ به مَن يَكْفِى، أثِمَ النّاسُ كلُّهم. فالخِطابُ في ابْتِدائِه يَتناولُ الجميعَ، كفَرْضِ الأعيانِ، ثم يَخْتَلِفان في أنَّ فَرْضَ الكِفايةِ يسْقُطُ بفِعْلِ البعضِ، وفَرْضُ الأعْيانِ لا يَسْقُطُ عن أحَدٍ بفِعْلِ غيرِه. والجِهادُ مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ، في قولِ عَوامِّ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن ابنِ المُسَيَّبِ، أنَّه فَرْضُ عَيْنٍ؛ لقولِه تَعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3). ثم قال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬4). وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (¬5). وروَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَنْ مَاتَ وَلم يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، ¬

(¬1) في: باب الغدوة والروحة، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 20. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1499. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل اللَّه، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 155. وابن ماجه، في: باب فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه عز وجل، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 921. والإمام أحمد في: المسند 3/ 132، 141، 153. (¬2) بعده في م: «إذا قام به قوم سقط عن الباقين». ولم نجدها في المقنع أو المبدع. (¬3) سورة التوبة 41. كذا قال. والآية التالية سابقة في الترتيب. (¬4) سورة التوبة 39. (¬5) سورة البقرة 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولَنا، قولُ اللَّهِ تَعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬2). وهذا يَدُلُّ على أنَّ القاعِدِينَ غيِرُ آثِمِين مِع جِهادِ غيرِهم، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (¬3). ولأنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَبْعَثُ السَّرايا ويُقِيمُ هو وأصحابُه. فأمَّا الآيةُ التى احْتَجَّ (¬4) بها، فقد قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهما: نَسَخَها قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}. رَواه الأَثْرَمُ، وأبو داودَ (¬5). ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ حينَ اسْتَنْفَرَهم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى غَزْوَةِ تبوكَ، وكانت إجابَتُهم إلى ذلك واجبَةً عليهم، ولذلك هَجَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَعْبَ بنَ مالكٍ وأصحابَه الذين خُلِّفُوا حتى تاب اللَّهُ عليهم (¬6). وكذلك يَجِبُ على مَن اسْتَنْفَرَه ¬

(¬1) في: باب كراهية ترك الغزو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 10. كما أخرجه مسلم، في: باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1517. والنسائى، في: باب التشديد في ترك الجهاد، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 7، 8. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 374. (¬2) سورة النساء 95. (¬3) سورة التوبة 122. (¬4) في م: «احتجوا». (¬5) في: باب نسخ نفر العامة بالخاصة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 10. (¬6) أخرجه البخارى، في: باب حديث كعب بن مالك. . .، من كتاب المغازى, وفى: باب: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ. . .}، وباب: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. . .} في تفسير سورة براءة، من كتاب التفسير، وفى: باب إذا أهدى ماله على وجه التوبة والنذر، من كتاب الإيمان. صحيح البخارى 6/ 3 - 9، 87، 88، 8/ 175. =

1383 - مسألة: (ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف مستطيع؛

وَلَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمامُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ومعنى الكِفايَةِ في الجِهادِ، أن يَنْهَضَ للجِهادِ قومٌ يَكْفُون في قِتالِهم؛ إمَّا أن يَكُونُوا جُنْدًا لَهم دَواوِينُ مِن أجْلِ ذلك، أو يَكُونُوا قد أعَدُّوا أنْفُسَهم له تَبَرُّعًا، بحيث إذا قَصَدَهمُ العَدُوُّ حصَلَتِ المَنَعَةُ بهم، ويكونُ في الثُّغُورِ مَن يَدْفَعُ العَدُوَّ عنها، ويُبْعَثُ في كلِّ سَنَةٍ جيشٌ يُغِيرُونَ على العَدُوِّ [في بِلادِهِم] (¬2). 1383 - مسألة: (ولا يَجِبُ إلَّا على ذَكَرٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ؛ ¬

= ومسلم، في: باب حديث توبة كعب بن مالك، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2120 - 2129. والنسائى، في: باب الرخصة في الجلوس فيه والخروج منه بغير صلاة، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 42، 43. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 456. وعبد الرزاق، في: باب حديث الثلاثة الذين خلفوا، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 397 - 405. وابن أبى شيبة، في: باب ما حفظ أبو بكر في غزوة تبوك، من كتاب المغازى. المصنف 14/ 540 - 545. (¬1) أخرجه البخارى، في: باب لا يحل القتال بمكة، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب فضل الجهاد، وباب وجوب النفير. . .، وباب لا هجرة بعد الفتح، من كتاب الجهاد، وفى: باب إثم الغادر للبر والفاجر، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 3/ 18، 4/ 18، 28، 92، 127. ومسلم، في: باب تحريم مكة وصيدها وخلاها. . .، من كتاب الحج، وفى: باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام. . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 2/ 986، 3/ 1487. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الهجرة، هل انقطعت؟ من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 4. والترمذى، في: باب ما جاء في الهجرة، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 88. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 131. وابن ماجه، في: باب الخروج في النفير، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 926. والدارمى، في: باب لا هجرة بعد الفتح، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 239. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 226، 266، 316، 355، 2/ 215، 3/ 22، 401، 5/ 71، 187، 6/ 466. (¬2) سقط من: م.

الْوَاجِدُ لِزَادِهِ وَمَا يَحْمِلُهُ إِذَا كَانَ بَعِيدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو الصَّحِيحُ الواجِدُ لزادِه وما يَحْمِلُه إذا كان بَعِيدًا) يُشْتَرَطُ لوُجوبِ الجِهادِ سبعةُ شُرُوطٍ؛ الإِسلامُ، والبُلُوغُ، والعَقْلُ، والحُرِّيَّةُ، والذُّكُورِيَّةُ، والسَّلامَةُ مِن الضَّرَرِ، ووُجودُ النَّفَقَةِ. فأمَّا الإسْلامُ والبُلُوغُ والعَقْلُ، فهى شُرُوطٌ لوُجُوبِ سائِر الفُروعِ، ولأنَّ الكافِرَ غيرُ مَأمُونٍ في الجِهادِ، والمَجْنُونَ لا يَتَأتى منه الجهادُ، والصَّبِىَّ ضَعِيفُ البِنْيَةِ. وقد رُوِى عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: عُرِضْتُ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ أُحُدٍ وأنا ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ، فلم يُجِزْنِى في المُقاتِلَةِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، من كتاب الشهادات، وفى: باب غزوة الخندق وهى الأحزاب، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 232، 5/ 137. ومسلم، في: باب بيان سن البلوغ، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1490. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغلام يصيب الحد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 453. وابن ماجه، في: باب من لا يجب عليه الحد، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 850. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا الحُرِّيَّةُ فتُشْتَرَطُ؛ لِما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُبايعُ الحُرَّ على الإِسْلامِ والجِهادِ، ويُبايعُ العبدَ على الإِسْلامِ دُونَ الجِهادِ (¬1). ولأنَّ الجِهادَ عِبادَةٌ تتَعَلَّقُ بقَطْعِ مَسافَةٍ، فلم تَجِبْ على العبدِ، كالحَجِّ. وأمَّا الذُّكُورِيَّةُ، فتُشْتَرَطُ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللَّه عَنها، قالت: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ هل على النِّساءِ جهادٌ؟ فقال: «جِهَادٌ لَا قِتَالَ فيه؛ الحَجُّ، والعُمْرَةُ» (¬2). ولأنَّها ليستْ مِن أهلِ القِتالِ؛ لضَعْفِها وخَوَرِها، ولذلك لا يُسْهَمُ لها. ولا يَجبُ على خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كونُه ذكرًا، فلا يجبُ عليه مع الشَّكِّ في شَرْطِه. وأمَّا السَّلامَةُ مِن الضَّرَرِ، فمعناه السَّلامَةُ مِن العَمَى والعَرَجِ والمرضِ، وذلك شرطٌ؛ ¬

(¬1) عزاه ابن حجر في: تلخيص الحبير للنسائى، ولم نجده بهذا اللفظ. انظر تلخيص الحبير 4/ 91، 92. (¬2) أخرج نحوه البخارى، في: باب حج النساء، من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وفى: باب جهاد النساء، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 3/ 24، 4/ 39. وابن ماجه، في: باب الحج جهاد النساء، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقولِ اللَّهِ سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (¬1). ولأنَّ هذه الأعْذارَ تَمْنَعُه مِن الجِهادِ؛ فأمَّا العَمَى فمعْرُوفٌ، وأمَّا العَرَجُ، فالمانِعُ منهُ هو الفاحِشُ الذى يَمْنَعُ المشْىَ الجَيِّدَ والرُّكُوبَ، كالزَّمانَةِ ونحوِها، أمَّا اليَسِيرُ الذى يَتَمَكَّنُ معه مِن الرُّكُوب والمَشْى، وإنَّما يتَعَذَّرُ عليه شِدَّةُ العَدْوِ، فلا يَمْنَعُ وُجُوبَ الجِهادِ، لأَنَّه مُمْكِنٌ منه، فأشْبَهَ الأعْوَرَ. والمرضُ المانِعُ هو الشَّدِيدُ، فأمَّا اليَسِيرُ الذى لا يَمْنَعُ الجِهادَ، كوجَعِ الضِّرْسِ، والصُّدَاعِ الخفيفِ، فلا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، كالعَوَرِ. وأمَّا وُجُودُ النَّفَقَةِ، فيُشْتَرَطُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2). ولأنَّ الجِهادَ ¬

= المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 968. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 75، 79، 166. (¬1) سورة النور 61، وسورة الفتح 17. (¬2) سورة التوبة 91.

1384 - مسألة: (وأقل ما يفعل مرة فى كل عام، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره)

وَأقَلُّ مَا يُفْعَلُ مَرَّةً فِى كُلِّ عَامٍ، إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ حَاجَةٌ إِلَى تَأْخِيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُمكِنُ إلَّا بآلةٍ، فاعْتُبِرَتِ القُدْرَةُ عليها. فإنْ كان الجِهادُ على مَسافةٍ قَرِيبةٍ؛ اشْتُرِطَ أن يَجِدَ الزَّادَ، ونَفَقَةَ عِيالِه في مُدَّةِ غَيْبَتِه، وسلاحًا يُقاتِلُ به، ولا تُعْتَبَرُ الرّاحِلَةُ؛ لقُرْبِ السَّفَرِ. وإن كانتِ المسافةُ تُقْصَرُ فيها الصَّلاةُ، اعْتُبِرَ مع ذلك الرّاحِلَةُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (¬1). 1384 - مسألة: (وأقلُّ ما يُفْعَلُ مَرَّةً في كلِّ عامٍ، إلَّا أن تَدْعُوَ الحاجَةُ إِلى تَأْخيرِه) أقلُّ ما يُفْعَلُ الجِهادُ في كلِّ عامٍ مَرَّةً؛ لأنَّ الجِزْيَةَ ¬

(¬1) سورة التوبة 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجِبُ على أهلِ الذِّمَّةِ مَرَّةً في كلِّ عامٍ، وهى بَدَلٌ عن النُّصْرَةِ، فكذلك مُبْدَلُها وهو الجِهادُ. فإنْ دَعَتِ الحاجَةُ إلى تأخيرهِ، مثلَ أن يكونَ بالمُسْلِمين ضَعْفٌ في عَدَدٍ أو عُدَّةٍ، أو يكونَ مُنْتَظِرًا لمَدَدٍ يسْتَعِينُ به، أو يكونَ في الطَّرِيقِ إليهم مانِعٌ، أو ليس فيها عَلَفٌ أو ماءٌ، أو يَعْلَمَ مِن عَدُوِّه حُسْنَ الرَّأْى في الإِسْلامِ، ويَطْمَعَ في إسْلامِهم إن أخَّرَ قِتالَهم، ونحوَ ذلك ممّا يَرَى المصْلَحَةَ معه في تَرْكِ القِتالِ، فيَجُوزُ تَرْكُه بِهُدْنَةٍ وبغيرِ هُدْنَةٍ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد صالَحَ قُرَيْشًا عشرَ سنينَ، وأخَّرَ قتالَهم حتى نَقَضُوا عَهْدَه (¬1)، وأخَّرَ قتالَ قبائلَ مِن العَربِ بغيرِ هُدْنَةٍ. وإن دَعَتِ الحاجَةُ إلى القِتالِ في عامٍ أكثرَ مِن مَرَّةٍ، وَجَب؛ لأنَّه فَرْضُ كِفايَةٍ، فوَجَبَ منه ما تَدْعُو الحاجةُ إليه. ¬

(¬1) انظر ما ذكره الواقدى في: المغازى 2/ 611، 780.

وَمَنْ حَضَرَ الصَّفَّ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ، أَوْ حَصَرَ الْعَدُوُّ بَلَدَهُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ومَن حَضَر الصَّفَّ مِن أهلِ فَرْضِ الجِهادِ، أو حَضَر العَدُوُّ بَلَدَه، تَعَيَّنَ عليه) وجملةُ ذلك، أنَّ الجِهادَ يتَعَيَّنُ في ثلاثةِ مواضعَ؛ أحدُها، إذا الْتَقى الزَّحْفانِ وتَقابَلَ الصَّفّانِ، يَحْرُمُ على مَن حَضَر الانْصِرافُ، ويتَعَيَّنُ عليه المُقامُ، لقولِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (¬1). وقولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (¬2) الآية. الثانى، إذا نزلَ الكُفَّارُ ببَلَدٍ، تَعَيَّنَ على أهْلِه قتالُهم ودَفْعُهم. الثالثُ، إذا اسْتَنْفَرَ الإِمامُ ¬

(¬1) سورة الأنفال 45. (¬2) سورة الأنفال 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قومًا لَزِمَهم النَّفِيرُ معه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ

1385 - مسألة: (وأفضل ما يتطوع به الجهاد)

وَأفْضَلُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ الْجِهَادُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (¬1) الآية. ولقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). 1385 - مسألة: (وأفْضَلُ ما يُتَطَوَّعُ به الجهادُ) قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّه: لا أعْلَمُ شيئًا مِن العملِ بعدَ الفَرائِضِ أفضَلَ مِن الجِهادِ. روَى ذلك عنه جماعةٌ مِن أصحابِه. قال الأثْرَمُ: قال أحمدُ: لا نعلمُ شيئًا مِن أبوابِ البِرِّ أفْضَلَ مِن السَّبِيلِ. وقال الفَضْلُ بنُ زِيادٍ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ، وذُكِرَ له أمْرُ الغَزْوِ، فَجَعَلَ يَبْكِى، ويقولُ: ما مِن أعْمالِ البِرِّ أفْضَلُ منه. وقال عنه غيرُه: ليس يَعْدِلُ لقاءَ العَدُوِّ شَئٌ. ومباشَرَةُ ¬

(¬1) سورة التوبة 38. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القتالِ بنفْسِه أفْضَلُ الأعمالِ، والذين يُقاتِلونَ العَدُوَّ، هم الذين يَدْفَعُونَ عن الإِسْلامِ وعن حَرِيمِهم، فأىُّ عَمَلٍ أفضلُ منه! الناسُ آمِنونَ وهم خائِفونَ، قد بذَلُوا مُهَجَ أنْفُسِهِم. وقد روَى ابنُ مَسْعُودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سألتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أىُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قال: «الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتهَا». قلتُ: ثم أىُّ؟ قال: «بِرُّ الْوَالِدَيْن». قلتُ: ثم أىُّ؟ قال: «الجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» (¬1). مُتَّفَقٌ على مَعْناه، وقال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ. وروَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أىُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ أو: أىُّ الأعْمالِ خَيْرٌ؟ قال: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ ورَسُولِه». قِيلَ: ثم أىُّ شئٍ؟ قال: «الجِهَادُ سَنَامُ العمَلِ». قِيلَ: ثم أىُّ؟ قال: «حَجٌ مَبْرُورٌ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حديثٌ حَسَنٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل الصلاة لوقتها، من كتاب مواقيت الصلاة، وفى: باب فضل الجهاد والسير، من كتاب الجهاد، وفى: باب قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} من كتاب الأدب. صحيح البخارى 1/ 140، 4/ 17، 8/ 1. ومسلم، في: باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 89، 90. والترمذى، في: باب ما جاء في بر الوالدين، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 94. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 409، 410، 5/ 368. (¬2) في: باب ما جاء أى الأعمال أفضل، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 159. كما أخرجه البخارى، في: باب فضل الحج المبرور، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 164. والنسائى، في: باب ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 17. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 287.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ. وروَى أبو سعيدٍ، قال: قِيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أىُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قال: «مَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ ومَالِه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). [وعن ابنِ عَبّاسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ألا أخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حديث حسَنٌ صَحِيحٌ] (¬3). وروَى الخَلَّالُ بإسْنادِه عن الحَسنِ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مِنْ عَمَلٍ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 18. ومسلم، في: باب فضل الجهاد والرباط، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1503. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب العزلة، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1316، 1317. (¬2) في: باب ما جاء أى الناس خير، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 155. كما أخرجه النسائى، في: باب من يسأل باللَّه عز وجل ولا يعطى به، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 62. والدارمى، في: باب أفضل الناس رجل ممسك برأس فرسه في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 201، 202. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 226، 311. (¬3) سقط من: الأصل.

1386 - مسألة: (وغزو البحر أفضل من غزو البر)

وَغَزْوُ الْبَحْرِ أفضلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أفْضَلُ مِنْ جِهَادٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أو حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ، لا رَفَثَ فِيها ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ». ولأنَّ الجهادَ بَذْلُ المُهْجَةِ والمالِ، ونَفْعَه يَعُمُّ المسلمين كُلَّهم، صغيرَهم وكبيرَهم، وقَوِيَّهم وضَعِيفَهم، ذَكَرَهم وأُنْثَاهُم، وغيرَه لا يُساوِيه في نفْعِه وخطَرِه، فلا يُساوِيه في فَضْلِه. 1386 - مسألة: (وغَزْوُ البَحْرِ أفْضَلُ مِن غَزْوِ البَرِّ) غَزْوُ البَحْرِ مشْروعٌ، وفضْلُه كبيرٌ. قال أنَسُ بنُ مالكٍ: نام رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم اسْتَيْقَظَ وهو يضْحَكُ، قالت أمُّ حَرامٍ: فقُلْتُ: ما يُضْحِكُكَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ (¬1) هذَا البَحْرِ، مُلُوكًا علَى الأسِرَّةِ، أو مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ». مُتَّفَق عليه (¬2). قال ابنُ عبدِ البَر: أمُّ حرامٍ بنتُ مِلْحانَ أُخْتُ ¬

(¬1) ثبج البحر: وسطه ومعظمه. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الدعاء بالجهاد والشهادة. . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب من زار قوما فقال عندهم، من كتاب الاستئذان، وفى: باب الرؤيا بالنهار، من كتاب التعبير. صحيح البخارى 4/ 19، 8/ 78، 9/ 43، 44. ومسلم، في: باب فضل الغزو في البحر، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1518، 1519. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب فضل الغزو في البحر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 6. والترمذى، في: باب ما جاء في غزو البحر، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 146، 147. والنسائى، في: باب فضل الجهاد في البحر، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 34، 35. وابن ماجه، في: باب فضل غزو البحر، من كتاب الجهاد. سنن ابن ما جه 2/ 927. والدارمى، في: باب فضل غزاة البحر، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 464.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمِّ سُلَيْمٍ خَالةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن الرَّضاعَةِ، أرْضَعَتْه أخْتٌ لهما ثالثةٌ. ولم نَرَ (¬1) هذا عن أحدٍ سِوَاه، وأظُنُّه إنَّما قال هذا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ينامُ في بيْتها، وينْظُرُ إلى شعَرِها (¬2)، ولَعَلَّ هذا كان قبلَ نُزُول الحِجابِ. وروَى أبو داودَ (¬3) بإسْنادِه عن أُمِّ حَرامٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الْمَائِدُ (¬4) فِى الْبَحْرِ، الَّذِى يُصِيبُه القَئُ، لَهُ أجْرُ شَهِيدٍ، والغَرِقُ لَهُ أجْرُ شَهِيدَيْنَ». وروَى ابنُ ماجَه (¬5) بإسْنادِه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «شَهِيدُ الْبَحرِ مِثْلُ شَهِيدَىِ البَرِّ، والْمَائِدُ فِى الْبَحْرِ كالمُتَشَحِّطِ (¬6) فِى دَمِه فِى الْبَرِّ، ومَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِى طَاعَةِ اللَّهِ، وإنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الأرْوَاحِ، إلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فإنَّه يَتَوَلَّى قَبْضَ أرْوَاحِهِمْ، ويَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الدَّيْنَ، ويَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ والدَّيْنَ». ولأنَّ البحرَ أعْظَمُ خَطَرًا ومَشَقَّة، فإنَّه بينَ خَطَرِ العَدُوِّ وخَطَرِ الغَرَقِ، ولا يتَمَكَّنُ مِن الفِرَارِ إلَّا مع أصحابِه، فكان أفْضَلَ مِن غيرِه. فصل: وقِتالُ أهْلِ الكتابِ أفْضَلُ مِن قتالِ غيرِهم. وكان ابنُ المُبارَكِ، ¬

(¬1) في م: «يرو». (¬2) رجح ابن حجر أن هذا من خصوصياته -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر فتح البارى 11/ 78، 79. (¬3) في: باب فضل الغزو في البحر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 7. (¬4) المائد: الذى يأخذه دوار البحر. (¬5) في: باب فضل غزو البحر، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 928. (¬6) تشحط بالدم: تضرَّج به واضطرب فيه.

1387 - مسألة: (ويغزى مع كل بر وفاجر)

وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه، يأْتِى مِن مَرْوَ (¬1) لغَزْوِ الرُّومِ. فقيل له في ذلك. فقال: إنَّ هؤلاء يُقاتِلون على دِينٍ. وقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال لأُمِّ خَلَّادٍ: «إنَّ ابْنَكِ لَهُ أجْرُ شَهِيدَيْنِ». قالت: ولِمَ ذاكَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «لأنَّه قَتَلهُ أهْلُ الْكِتَابِ». رَواه أبو داودَ (¬2). 1387 - مسألة: (ويُغْزَى مع كلِّ بَرٍ وفاجِرٍ) يعْنِى مع كلِّ إمامٍ، بَرًّا كان أو فاجِرًا. وقد سُئِلَ أحمدُ عن الرجلِ يقول: أنا لا أغزُو ويَأْخذُه ولَدُ العبّاسِ، إنَّما يُوَفَّرُ الفئُ عليهم! فقال: سبحان اللَّهِ، هؤلاء قَوْمُ سَوْءٍ، هؤلاء القَعَدَةُ، مُثَبِّطُونَ جُهّالٌ، فيُقالُ: أرَأْيتُم لو أنَّ الناسَ كلَّهم قَعَدُوا كما قعَدْتُم، مَن كان يَغْزُو؟ أليس كان قد ذَهَب الإِسْلامُ؟ ما كانت تصْنَعُ الرُّومُ؟. وقد روَى أبو داودَ (¬3)، بإسْنادِه عن أبى هُريْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عليكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ؛ بَرًّا كَانَ، أو فَاجرًا». وبإِسنادِه (¬4) عن أنسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ مِنْ أصْلِ الإِيمان؛ الكَفُّ عمَّنْ قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللَّه. لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، والْجِهَادُ ¬

(¬1) مرو: هى مرو الشاهجان، أشهر مدن خراسان، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخا. معجم البلدان 4/ 507. (¬2) في: باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 5. (¬3) في: باب في الغزو مع أئمة الجور، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 17، 18. (¬4) في الباب السابق.

1388 - مسألة: (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو)

وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَليهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِى اللَّهُ إلَى أنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِى الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ، والإِيمانُ بالأَقْدَارِ». ولأنَّ تَرْكَ الجهادِ مع الفاجِرِ يُفْضِى إلى قَطْعِه، وظُهورِ الكُفَّارِ على المسلمين واسْتِئْصالِهم، وظُهورِ كلمةِ الكُفّارِ، وفيه فسادٌ عظيم، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (¬1). فصل: قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنى أن يخْرُجَ مع الإِمامِ أو القائِدِ إذا عُرِفَ بالهَزِيمَةِ وتَضْيِيعِ المُسْلِمِين، وإنَّما يَغْزُو مع مَن له شَفَقَةٌ وحَيْطَةٌ على المُسْلِمين، فإن كان يُعْرَفُ بشُرْبِ الخَمْرِ والغُلولِ، يُغْزَى معه، إنَّما ذلك في نفْسِه، ويُرْوَى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (¬2). 1388 - مسألة: (ويُقاتِلُ كلُّ قَوْمٍ مَن يَليهِم مِن العَدُوِّ) [الأصْلُ في هذا قولُ] (¬3) اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ ¬

(¬1) سورة البقرة 251. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، من كتاب الجهاد، وفى: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى، وفى: باب العمل بالخواتيم، من كتاب القدر. صحيح البخارى 4/ 88، 5/ 169، 8/ 155. ومسلم، في: باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 105، 106. والدارمى، في: باب إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 241. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 309. (¬3) في الأصل: «لقول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْكُفَّارِ} (¬1). ولأنَّ الأقْرَبَ أكثرُ ضَرَرًا، وفى قِتالِه دَفْعُ ضَرَرهِ عن المُقابِلِ (¬2) له، وعمَّن وراءَه، ولأنَّ الاشْتِغالَ بالبعيدِ عنه يُمَكِّنُه مِن انْتِهازِ الفُرْصَةِ في المُسْلِمِين؛ لاشْتِغَالِهم عنه. قِيلَ لأحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ: يحْكُون عن ابنِ المُبارَكِ أنَّه قيل له: تَرَكْتَ قِتالَ العَدُوِّ عندَك، وجِئْتَ إلى ههُنا؟ قال: هؤلاء أهْلُ كتابٍ. فقال أبو عبدِ اللَّهِ: سبحان اللَّهِ، ما أدْرِى ما هذا القَوْلُ! يتْرُكُ العَدُوَّ عندَه، ويجئُ إلى ههُنا، أفَيَكُونُ هذا؟ أوَيَسْتَقِيمُ هذا؟ وقد قال اللَّه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}. ولو أنَّ أهلَ خُراسانَ كلَّهم عَمِلُوا على هذا، لم يُجاهِدِ التُّرْكَ أحدٌ. وهذا، واللَّه أعلمُ، إنَّما فَعَلَه ابنُ المُبارَكِ لكَوْنِه مُتَبَرِّعًا بالجِهادِ، والكِفايةُ حاصِلَةٌ بغَيْرِه مِن أهلِ الدِّيوانِ وأجْنادِ المسلمين، والمُتَبَرِّعُ له تَرْكُ الجِهادِ بالكُلِّيَّةِ، فكان له أنْ يُجاهِدَ حيث شاءَ، ومع مَن شاءَ. إذا ثَبَت هذا، فإنْ كان له عُذْرٌ في البدَايةِ بالأْبعَدِ؛ لِكَوْنِه أخْوَفَ، أو لمَصْلَحَةٍ في البِدايَةِ به؛ لقُرْبِه وإمْكَانِ الفُرْصَةِ منه، أو لكَوْنِ الأقْرَبِ مُهادِنًا، أو يَمْنَعُ مانِعٌ مِن قِتالِه، فلا بَأْسَ بالبدايَةِ بالأْبعَدِ؛ للحاجَةِ. فصل: وأمْرُ الجِهادِ مَوْكُولٌ إلى الإِمامِ واجْتِهادِه، ويَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طاعَتُه فيما يَراه مِن ذلك. ويَنْبَغِى أن يَبْتَدِئَ بتَرْتِيبِ قَوْمٍ في أطْرافِ البلادِ يكُفُّونَ مَن بإزائِهِم مِن المُشْركين، ويأمُرَ بعَمَلِ حُصُونِهم، وحَفْر ¬

(¬1) سورة التوبة 123. (¬2) في م: «المقاتل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خنادِقِهم، وحميعِ مصالِحهم، ويُؤَمِّرَ في كلِّ ناحِيَةٍ أمِيرًا، يُقَلِّدُهُم أمْرَ الحَرْبِ، وتدبيرَ الجِهادِ، ويَكُونُ ممَّن له رَأىٌ وعَقْلٌ ونَجْدَةٌ وبَصَرٌ بالحَرْبِ ومُكايَدَةِ العَدُوِّ، مع أمانَةٍ ورِفْقٍ بالمُسْلِمين ونُصْحٍ لهم، وإنما يَبْدأُ بذلك؛ لأنَّه لا يأْمَنُ عليها مِن المُشْرِكين. ويَغْزُو (¬1) كلُّ قَوْمٍ مَن يَليهم، إلَّا أن يكونَ في بعضِ الجِهاتِ مَن لا يَكْفِيه مَن يَليه، فيَنْجُدَهم بقَوْمٍ آخَرِينَ، ويَكُونُون معهم، ويُوصِى مَن يُؤَمِّرُه أن لا يَحْمِلَ المُسْلِمين على مَهْلَكَةٍ، ولا يَأْمُرَهم بدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخافُ أن يُقْتَلُوا تحتَها، فإن فَعَل ذلك، فقد أساءَ، ويَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تعالى، ولا عَقْلٌ عليه ولا كَفّارَةٌ إذا أُصِيبَ واحِدٌ منهم بطاعَتِه (¬2)؛ لأنَّه فَعَل ذلك باخْتِيارِه. فإن عُدِمَ الإِمامُ، لم يُؤَخَّرِ الجِهادُ؛ لأنَّ مصلحتَهُ تَفُوتُ بتَأْخِيرِه. وإن حصَلَتْ غَنِيمَةٌ، قَسَمُوها على مُوجَبِ الشَّرْعِ. قال القاضى: وتُؤَخَّرُ قِسْمَةُ الإِماءِ حتى يَقُومَ إمَامٌ؛ احْتِياطًا للفُروجِ. فإن بَعَثَ الإِمامُ جَيْشًا، وأمَّرَ عليهم أمِيرًا، فقُتِلَ أو ماتَ، فللجَيْش أن يُؤَمِّرُوا أحَدَهم، كما فَعَل أصحابُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَيْشِ مُؤْتَةَ: لَمّا قُتِلَ أُمَراؤهم، أمَّرُوا عليهم خالِدَ بنَ الوليدِ، فبَلَغ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرَضِىَ أمْرَهُم، وصَوَّبَ رَأيَهم، وسَمَّى خالِدًا يومئذٍ: «سَيْفَ اللَّهِ» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «يغزى». (¬2) أى بسبب طاعته. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب مناقب خالد بن الوليد، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب غزوة مؤتة من أرض الشام، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 34، 182. والترمذى، في: باب مناقب لخالد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّه عنه: وَفِّرُوا الأظْفارَ في أرْضِ العَدُوِّ، فإنَّه سِلاحٌ (¬1). قال أحمدُ: يُحْتاجُ إليها في أرْضِ العَدُوِّ، ألا تَرَى أنَّه إذا أرادَ أنْ يَحُلَّ الحبْلَ أو الشئَ، فإذا لم يكُنْ له أظْفار لم يَسْتَطِعْ. وقال: عن الحكمِ (¬2) بنِ عمرٍو: أمَرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ لا نُحْفِىَ الأظْفارَ في الجِهادِ، فإنَّ القوَّةَ الأظْفارُ. فصل: قال أحمدُ: يُشَيَّعُ الرجلُ إذا خَرَج، ولا يتلقَّوْنَه، شَيَّعَ علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، ولم يتَلَقَّه. ورُوِىَ عن أبى بكرٍ الصدِّيقِ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه شَيَّعَ يزيدَ بنَ أبى سُفْيانَ حينَ بعثَه إلى الشامِ، ويزيدُ راكبٌ، وأبو بكرٍ، رَضِىَ اللَّه عنه، يَمْشِى، فقال له يزيدُ: يا خليفةَ رسولِ اللَّه إِمَّا أن تَرْكَبَ، وإمَّا أن أنْزِلَ أنا فأمْشِىَ معك. فقال: لا أركَبُ ولا تنزِلُ، إنِّى أحْتَسِبُ خُطاىَ هذه في سبيلِ اللَّهِ تعالى (¬3). وشَيَّعَ أبو عبدِ اللَّهِ أبا الحارثِ الصَّائِغَ ونَعلاه في يَدَيْه، وذَهَب إلى فِعْلِ أبى بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أرادَ أن تُغَبَّرَ قَدَماهُ في سبيلِ اللَّهِ. وقال: ¬

= ابن الوليد، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 234. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 8، 204، 4/ 90، 5/ 299، 301. (¬1) أورده ابن حجر، في: باب الأمر بتحسين السلاح وإعداده للجهاد، من كتاب الجهاد. المطالب العالية 2/ 165. (¬2) في الأصل: «الحكيم». (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب النهى عن قتل النساء والولدان في الغزو، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 447، 448. وسعيد بن منصور، في: باب ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 148، 149. وعبد الرزاق، في: باب عقر الشجر بأرض العدو، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 199، 200. وابن أبى شيبة، =

1389 - مسألة: (وتمام الرباط أربعون يوما، وهو لزوم الثغر للجهاد)

وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُوَ لُزُومُ الثَّغْرِ لِلْجِهَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عَوْفِ بنِ مالكٍ الخَثْعَمِىِّ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (¬1). قال أحمدُ: ليس للخَثْعَمِىِّ صُحْبَةٌ، وهو قديمٌ. 1389 - مسألة: (وتَمامُ الرِّباطِ أرْبَعُونَ يَوْمًا، وهو لُزُومُ الثَّغْرِ للجِهادِ) معنى الرِّباطِ: الإِقامةُ بالثَّغْرِ، مُقَوِّيًا للمُسْلِمين على الكُفّارِ. والثَّغْرُ، كلُّ مكانٍ يُخِيفُ أهلُه العَدُوَّ ويُخِيفُهم. وأصلُه مِن رِباطِ الخيلِ؛ لأنَّ هؤلاء يَرْبُطُونَ خُيولَهم، وهؤلاء يَرْبُطُونَ خُيولَهم، كُلٌّ يُعِدُّ لصَاحِبِه، فسُمِّىَ المُقامُ بالثَّغْرِ رِباطًا وإن لم يكُنْ خَيْلٌ. وفيه فَضْلٌ عظيمٌ، وأجْرٌ كبيرٌ. قال أحمدُ: ليس يَعْدِلُ الجهادَ والرِّباطَ شئٌ، والرِّباطُ دَفعٌ عن المسلمين، وعن حَرِيمِهم، وقُوَّةٌ لأَهْلِ الثَّغْرِ ولأهلِ الغَزْوِ، فالرِّباطُ عندِى أصلُ الجِهادِ وَفَرْعُه، والجِهادُ أفْضلُ منه؛ للعَناءِ والتَّعَبِ والمشَقَّةِ. وقد رُوِى في فَضْلِ الرِّباطِ أخبارٌ؛ منها ما روَى سَلْمَانُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وقِيَامِهِ، فَإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُ، وأُجْرِىَ ¬

= في: باب من ينهى عن قتله في دار الحرب، من كتاب الجهاد 12/ 383، 384. والبيهقى، في: باب من ترك قتل من لا قتال فيه. . . من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 89 - 91. (¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 226. عن مالك بن عبد اللَّه الخثعمى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وأمِنَ الفُتَّانَ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعن فَضالَةَ بنِ عُبَيْدٍ رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إلَّا المُرَابِطَ فِى سبِيلِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ويُؤْمَنُ مِنْ فُتَّانِ القَبْرِ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حديث حسَنٌ صَحِيحٌ. وعن عثمانَ بنِ عَفَّانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال على المِنْبرِ: إنِّى كنتُ كتَمْتُكم حديثًا سَمِعْتُه مِن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كراهِيَةَ تَفَرُّقِكُم عنِّى (¬3)، ثم بَدا لى أنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ؛ ليخْتارَ امرؤٌ منكم لنفْسِه، سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ منَ المَنَازِلِ». رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ، وغيرُهما (¬4). إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الرِّباطَ يَقِلُّ ويَكْثُرُ، فكلُّ مُدَّةٍ أقامَها بنِيَّةِ الرِّباطِ، فهى ¬

(¬1) في: باب فضل الرباط في سبيل اللَّه عز وجل، من كتاب الإِمارة. صحيح مسلم 3/ 1520. كما أخرجه النسائى، في: باب فضل الرباط. من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 33. وابن ماجه، في: باب فضل الرباط في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 924. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 440، 441. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب فضل الرباط، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 9. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل من مات مرابطا، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 123. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 20. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) لم نجد الحديث في سنن أبى داود، وأخرجه الترمذى، في: باب فضل المرابط، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 163. والنسائى، في: باب فضل الرباط، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 33، 34. وابن ماجه، في: باب فضل الرباط في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 924. والدارمى، في: باب فضل من رابط يوما وليلة، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 211. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 61، 64، 65، 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِباطٌ، قَلَّتْ أو كَثُرَتْ؛ ولهذا قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رِبَاطُ يَوْمٍ»، و: «رِبَاطُ لَيْلَةٍ». قال أحمدُ: يومٌ رِباطٌ، وليلةٌ رِباطٌ، وساعةٌ رِباطٌ. وقال: عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: مَن رَابَطَ يَوْمًا في سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَ له أجْرُ الصَّائِمِ القَائِمِ، ومَنْ زَادَ زَادَه اللَّهُ (¬1). وروَى سعيدٌ (¬2)، بإسْنادِه، عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: رِباطُ يَوْمٍ في سبِيلِ اللَّهِ، أحَبُّ إلَىَّ من أن أُوَافِقَ لَيْلَةَ القَدْرِ في أحَدِ المَسْجِدَيْنِ؛ مَسْجدِ الحَرَام، ومَسْجِدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَنْ رَابَطَ أرْبَعِين يومًا، فقد استَكْمَلَ الرِّباطَ، وتَمامُ الرِّباطِ أربعون يومًا. رُوِى ذلك عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقد ذَكَرْنا خَبَر أبى هُرَيْرَةَ. وروَى أبو الشَّيْخِ (¬3)، في «كتابِ الثَّوابِ»، بإسْنادِه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «تَمَامُ الرِّباطِ أرْبَعُونَ يومًا» (¬4). وروَى نافِعٌ، عن ابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّه قَدِمَ على عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ مِن الرِّباطِ، فقال له: كم رابَطْتَ؟ قال: ثلاثين يومًا. قال: عَزَمْتُ عليك إلَّا رَجَعْتَ حتى تُتِمَّها أربعين يومًا. فإن رَابَطَ أكْثَرَ، فله أجْرُه. كما قال أبو هُرَيْرَةَ: ومَن زادَ زادَه اللَّهُ. ¬

(¬1) أخرج السيوطى نحوه عن غير أبى هريرة. انظر: الجامع الكبير 1/ 779. (¬2) في: باب ما جاء في فضل الرباط، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 159. كما أخرج بعضه عبد الرزاق، في: باب الرباط، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 281. (¬3) عبد اللَّه بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهانى أبو الشيخ، محدث مفسر ثقة، صاحب التصانيف، توفى سنة تسع وستين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 276 - 280. النجوم الزاهرة 4/ 136. (¬4) أخرجه الطبرانى، في الكبير 8/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأفْضَلُ الرِّباطِ المُقامُ بأشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لأنَّهم أحْوَجُ، ومُقامُه به أنْفَعُ. قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: أفْضَلُ الرِّباطِ أشَدُّهم كَلَبًا. وقيل لأبى عبدِ اللَّهِ: فأينَ أحَبُّ إليك أن ينزِلَ الرَّجُلُ بأهْلِه؟ قال: كلُّ مَدِينَةٍ مَعْقِلٌ للمُسْلِمين، مثلَ دِمَشْقَ. وقال: أرضُ الشامِ أرضُ المَحْشَرِ، ودِمَشْقُ موضِعٌ يجْتَمِعُ الناسُ إليه إذا غَلَبَتِ الرُّومُ. قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: فهذه الأحاديثُ التى جاءَت: «إنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِى بالشَّامِ» (¬1). ونحو هذا؟ قال: ما أكْثَرَ ما جاءَ فيه. وقيل له: إنَّ هذا في الثُّغُورِ. فأنْكَرَه، وقال: أرضُ القُدْسِ أينَ هى؟ «ولَا يَزَالُ أهْلُ الغَرْبِ ظَاهِرِينَ» هم أهلُ الشام. ففَسَّرَ أحمدُ الغَرْبَ في هذا الحديثِ بالشَّامِ، وهو صَحِيحٌ، روَاه مسلم (¬2). وإنَّما فسَّره بذلك؛ لأنَّ الشَّامَ يُسَمَّى مغرِبًا، لأنَّه مغرِبٌ للعِراقِ، كما يُسَمَّى العِراقُ مَشْرِقًا، ولهذا قِيلَ: ولأهْلِ المَشْرِقِ ذاتُ عِرْقٍ. وقد جاء في حديثٍ مُصَرَّحًا به: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأتِىَ أمْرُ اللَّهِ وَهُمْ بِالشَّامِ». وفى حديثِ مالكِ بنِ يُخامِرَ، عن مُعاذٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: «وَهُمْ بِالشَّامِ». رَواه البخارىُّ (¬3). وروَى في «تاريخه» عن ¬

(¬1) في م: «بأهل الشام». والحديث أخرجه أبو داود، في: باب في سكنى الشام، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 4. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 33، 34. وفيه: «بالشام وأهله». (¬2) في: باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى. . .»، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1525. (¬3) في: باب حدثنى محمد بن المثنى. . .، من كتاب المناقب، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يزال. . .». من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. صحيح البخارى 4/ 252، 9/ 125. كما أخرجه مسلم، في: باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تزال طائفة. . .»، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ بِدِمَشْقَ ظَاهِرِينَ» (¬1). وقد رُوِى في الشّامِ أخْبَارٌ كثيرةٌ؛ منها حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ حَوالَةَ الأزْدِىِّ، رَضِى اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «سَتُجَنَّدُونَ أجْنَادًا؛ جُنْدًا بالشَّامِ، وجُنْدًا بِالْعِرَاقِ، وجُنْدًا بِالْيَمَنِ». فقلتُ: خِرْ لى يا رسولَ اللَّهِ. قال: «عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فإنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أرْضِهِ، يَجْتَبِى إلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فمَنْ أبى، فَلْيَلْحَقْ بِاليَمَنِ، ويُسْقَ (¬2) مِنْ غُدُرِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِى بِالشَّامِ وأهْلِهِ». رَواه أبو داودَ بمَعْناه (¬3)، وكان أبو إدْرِيسَ إذا روَى هذا الحديثَ قال: ومَن تَكَفَّلَ اللَّه به، فلا ضَيْعَةَ عليه. ورُوِىَ عن الأوْزَاعِىِّ، قال: أتَيْتُ المدينةَ، فسألْتُ: مَن بِها مِن العُلَماءِ؟ فقيل: محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ، ومحمدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِى، ومحمدُ ابنُ علىِّ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ العباسِ، ومحمدُ بنُ علىِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ علىِّ ابنِ أبى طالبٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. فقلتُ: واللَّهِ لأبدَأنَّ بهذا قبلَهم، فَدَخَلْتُ إليه، فأخَذَ بِيَدِى، وقال: مِن أىِّ إخْوانِنا أنتَ؟ قلتُ: مِن أهْلِ الشَّامِ. قال: مِن أيِّهم؟ قلتُ: مِن أهْلِ دِمَشْقَ. قال: حَدَّثَنِى أبى، عن جَدِّى، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُ ¬

= 3/ 1523. والترمذى، في: باب ما جاء في الشام، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذى 9/ 45. والإمام أحمد , في: المسند 4/ 101، 5/ 279. (¬1) التاريخ الكبير 3/ 35. (¬2) في م: «ويشق». وهو أمر بالسقيا من الأحواض. (¬3) تقدم في الصفحة السابقة.

1390 - مسألة: (ولا يستحب نقل أهله إليه. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رباط يوم فى سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل»)

وَلَا يُسْتَحَبُّ نَقْلُ أَهْلِهِ إِلَيْهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خيْرٌ مِنْ أَلفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ». ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعَاقِلَ؛ فمَعْقِلُهُمْ فِى المَلْحَمَةِ الْكُبْرَى، الَّتِى تَكُونُ بِعُمْقِ أنْطاكِيَةَ (¬1)، دِمَشْقُ، ومَعْقِلُهُمْ مِنَ الدَّجَّالِ بَيْتُ المَقْدِسِ، ومَعْقِلُهُمْ مِنْ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ طُورُ سَيْناءَ». رَواه أبو نُعَيْمٍ، في «الحِلْيةِ» (¬2). وعن أبى الدَّرْداءِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِن خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ». رَواه أبو داودَ (¬3). 1390 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ نَقْلُ أهْلِه إليهِ. وقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهَ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ فِيما سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ») قد ذَكَرْنا هذا الحديثَ، وهو صَحِيحٌ، رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬4). وأرادَ بالثَّغْرِ ههُنا الثَّغْرَ المَخُوفَ. وهذا قولُ الحَسنِ، ¬

(¬1) أنطاكية: من مدن الشام. انظر: معجم البلدان 1/ 382. (¬2) الحلية 6/ 146. (¬3) في: باب في المعقل من الملاحم، من كتاب الملاحم. سنن أبى داود 2/ 426. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 197. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزَاعِىِّ؛ لِما روَى يزيدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا تُنْزِلُوا المُسْلِمِينَ ضَفَّةَ البَحْرِ. رَواه الأثْرَمُ (¬1). ولأنَّ الثُّغُورَ المَخُوفَةَ لا يُؤْمَنُ ظَفَرُ العَدُوِّ بها، وبمَن فيها، واسْتِيلاؤهم على الذُّرِّيَّةِ والنِّساءِ. قِيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ، رَحِمَه اللَّه: فتخافُ على المُنْتَقِلِ بعِيالِه إلى الثَّغْرِ الإِثْمَ؟ قال: كيف لا أخافُ الإِثْمَ، وهو يُعَرِّضُ ذُريَته للمُشْرِكِينَ؟ وقال: كُنتُ آمُرُ بالتَّحَوُّلِ بالأهْلِ والعيالِ إلى الشامِ قبلَ اليَوْمِ، فأنَا أنْهَى عنه الآن؛ لأنَّ الأمْرَ قد اقْتَرَبَ. وقال: لا بُدَّ لهؤلاءِ القومِ مِن يومٍ. قيل: فذلك في آخِرِ الزَّمَانِ. قال: فهذا آخِرُ الزمانِ. قيل له: فالنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُقْرِعُ بينَ نِسائِه، فأيَّتُهُنَّ خَرَج سَهْمُها خرَج بها (¬2). قال: هذا للْواحِدَةِ، ليس الذُّرِّيَّةَ. قال الشَّيْخُ (¬3)، رَحِمَه اللَّه: وهذا مِن كلامِ ¬

(¬1) وأخرج عبد الرزاق نحوه، في: باب الغزو في البحر، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 283، 284. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب هبة المرأة لغير زوجها. . .، من كتاب الهبة، وفى: باب تعديل النساء بعضهن بعضا، من كتاب الشهادات، وفى: باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه، من كتاب الجهاد، وفى: باب حديث الإفك، من كتاب المغازى، وفى: باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرا، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 3/ 208، 227، 4/ 60، 5/ 148، 149، 7/ 43. ومسلم، في: باب في فضل عائشة رضى اللَّه عنها، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 1894، 2130. وابن ماجه، في: باب القسمة بين النساء، من كتاب النكاح، وفى: باب القضاء بالقرعة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 1/ 633، 2/ 786. والدارمى، في: باب الرجل يكون عنده النسوة، من كتاب النكاح، وفى: باب خروج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- مع بعض نسائه في الغزو، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 144، 211. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 114، 117، 197، 269. (¬3) في: المغنى 13/ 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ مَحْمُولٌ على أنَّ غيرَ أهلِ الثَّغْرِ لا يُسْتَحَبُّ لهم الانْتِقالُ بأهْلِهم إلى ثَغْرٍ مَخُوفٍ، فأمَّا أهْلُ الثَّغْرِ، فلا بُدَّ لهم مِن السُّكْنَى بأهْلِهم، لولا ذلك لخَرِبَتِ الثُّغُورُ وتَعَطَّلَتْ. وخَصَّ الثَّغْرَ المَخُوفَ بالكَراهَةِ؛ لأنَّ الخَوْفَ عليها أكْثَرُ، ولأنَّ الغالبَ مِن غيرِ المَخُوفَةِ سَلامَتُها وسَلامةُ أهْلِها. فصل: ويُسْتَحَبُّ لأهْلِ الثَّغْرِ أن يجْتَمِعُوا في مَسْجِدٍ واحدٍ، بحيثُ إذا حَضَر النَّفِيرُ صادَفَهم مُجْتَمِعِين، فيبْلُغُ الخبرُ جميعَهم، ويراهُم عينُ الكُفَّارِ، فيَعلمُ كثْرَتَهم، فيُخَوِّفُ بهم؛ لأنَّهم إذا كانوا مُتَفَرِّقِينَ رأى الجاسُوسُ قِلَّتَهم. ورُوِىَ عن الأوْزَاعِىِّ، أنَّه قال في المساجِدِ التى بالثَّغْرِ: لو أنَّ لى عليها ولايةً لَسَمَّرْتُ أبوابَها، حتى تكونَ صَلاتُهم في مَسْجدٍ واحدٍ، حتى إذا جاءَ النَّفِير وهم مُتَفَرِّقُون، لم يَكُونوا مثلَهم إذا كانوا في موْضِعٍ واحدٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في الحرَسِ في سبيلِ اللَّهِ: وفيه ثَوابٌ عَظيمٌ، وفَضْلٌ كبيرٌ. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبيلِ اللَّهِ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسَنٌ غريبٌ. وعن سَهْلِ بنِ الحَنْظَلِيَّةِ، أنَّهم سارُوا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حُنَيْنٍ، فأطْنَبُوا السَّيْرَ حتى كان عَشِيَّةً، قال: «مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟» قال أنَسُ بنُ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِىُّ: أنَا يا رسولَ اللَّهِ. قال: «فَارْكَبْ». فرَكِبَ فَرَسًا له، وجاءَ إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال له: «اسْتَقْبِلْ هذَا الشِّعْبَ، حَتَّى تَكُونَ فِى أعْلَاهُ، وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ». فلمّا أصْبَحْنا جاءَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مُصَلَّاهُ، فرَكَعَ ركْعَتَيْن، ثم قال: «هَلْ أحْسَسْتُم فَارِسَكُمْ؟» قالوا: لا. فثُوِّبَ بالصَّلاةِ، فجَعَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّى وهو يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ، حتى إذا قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «أبشِرُوا، قَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ». فإذا هو قد جاءَ حتى إذا وَقَف على رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: إنِّى انْطَلَقْتُ حتى كنتُ في أعْلَى هذا الشِّعْبِ، حيث أمَرَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلمّا أصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْن كِلَيْهِما، فنَظَرْتُ، فلم أرَ أحدًا. فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟». قال: لا، إلَّا مُصَلِّيًا أو قاضِىَ حاجَةٍ. فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قَدْ أوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل اللَّه، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 138.

1391 - مسألة: (وتجب. الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه فى دار الحرب، وتستحب لمن قدر عليه)

وَتَجِبُ الْهِجْرَةُ عَلَى مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِى دَارِ الْحَرْبِ، وَتُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْ لا تَعْمَلَ بَعْدَها». رَواه أبو داود (¬1). وعن عُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رِسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «حَرَسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، أفْضَلُ مِنْ ألفِ لَيْلَةٍ، قِيَامِ لَيْلِهَا، وصِيَامِ نَهَارِهَا». روَاه ابنُ سَنْجَرَ (¬2). 1391 - مسألة: (وتَجِبُ. الهِجْرَةُ على مَن يَعْجِزُ عن إظْهارِ دِينِه في دارِ الحَرْبِ، وتُسْتَحَبُّ لِمَن قَدَر عليه) الهجرةُ: هى الخروجُ مِن دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإِسْلامِ. قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (¬3) الآيات. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) في: باب في فضل الحرس في سبيل اللَّه عز وجل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 9، 10. (¬2) هو محمد بن سنجر، أو محمد بن عبد اللَّه بن سنجر الجرجانى، صاحب المسند، المتوفى سنة ثمان وخمسين ومائتين. قال الذهبى: ويعزُّ وقوع حديثه لنا. تذكرة الحفاظ 2/ 578، 579. والحديث أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 61، 64، 65. (¬3) سورة النساء 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: «أنا بَرِئٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِين». رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، والتِّرْمذِىُّ (¬1). ومَعْناه: لا يكونُ بموْضِعٍ يَرى نارَهم ويَرَوْنَ نارَه إذا أُوقِدَتْ. في آىٍ وأخْبارٍ سِوَى هذَيْن كثيرٍ. فصل: وحُكْمُ الهِجْرَةِ باقٍ، لا يَنْقَطِعُ إلى يوم القِيامَةِ. في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ. وقال قومٌ: قد انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا هِجْرةَ بَعْدَ الفَتْحِ» (¬2). وقال: «قَدِ انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ، ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» (2). ورُوِىَ أنَّ صَفْوانَ بنَ امَيَّةَ لمّا أسْلَمَ، قيل له: لا دِينَ لِمَن لم يُهاجِرْ. فأتَى المدينةَ، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا جَاءَ بِكَ أبا وَهْبٍ؟» قال: قيل: إنَّه لا دِينَ لِمَن لم يُهاجِرْ. قال: «ارْجِعْ أُبا وَهْبٍ إلَى أباطِحِ مَكَّةَ، أَقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ، فَقدِ انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ». روَى ذلك كلَّه سعيدٌ (¬3). ولَنا، ما روَى مُعاوِيَةُ، رَضِىَ اللَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب النهى عن قتل من اعتصم بالسجود، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 43. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 104، 105.والنسائى، في: باب القود بغير حديدة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 32. (¬2) انظر تخريج حديث: «وإذا استنفرتم فانفروا» المتقدم في صفحة 8. (¬3) في: باب من قال: انقطعت الهجرة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 137. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: «لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَاْ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». رَواه أبو داودَ (¬1). ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ مَا كَانَ الجِهَادُ». رَواه سعيدٌ (¬2)، وغيرُه. مع إطْلاقِ الآياتِ والأخْبارِ الدَّالَّةِ عليها، وتحقُّقِ المعْنَى المُقْتَضِى لها في كلِّ زمانٍ. وأمَّا الأحادِيثُ الأُوَلُ، فأرادَ بها: لا هِجْرَةَ بعدَ الفَتْحِ مِن بَلَدٍ قد فُتِح. وقَوْلُه لِصَفْوانَ: «إنَّ الهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ». يَعْنِى مِن مَكَّةِ؛ لأنَّ الهِجْرَةَ الخُروجُ مِن بَلَدِ الكُفّارِ، فإذا فُتِحَ لم يَيْقَ بَلَدَ الكُفّارِ، فلا تَبْقَى منه هِجْرَة. وهكذا كلُّ بَلَدٍ فُتِحَ لا تَبْقَى منه هِجْرَةٌ، إنَّما الهِجْرَةُ النِّيَّةُ. فصل: والنّاسُ في الهِجْرَةِ على ثَلَاثةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، مَن تَجِبُ عليه، وهو مَن يَقْدِرُ عليها، ولا يُمْكِنُه إظْهارُ دِينه، أوْ لا يُمْكِنُه إقامَةُ ¬

(¬1) في: باب في الهجرة، هل انقطعت؟، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 3. كما أخرجه الدارمى، في: باب أن الهجرة لاتنقطع، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 240. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 99. (¬2) في: باب من قال: انقطعت الهجرة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 138. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 131. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 192، 4/ 62، 5/ 270، 363، 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَاجباتِ دِينه مع المُقامِ بينَ الكُفّارِ، فهذا تَجِبُ عليه الهِجْرَةُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). وهذا وَعِيدٌ شديدٌ يَدُلُّ على الوُجُوبِ. ولأنَّ القِيامَ بواجِبِ دِينِه واجِبٌ على مَن قَدَر عليه، والهِجْرَةُ مِن ضَرُورَةِ الواجِبِ وتَتِمَّتِه، وما لا يَتمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ. والثانى، مَن لا هِجْرَةَ عليه، وهو مَن يَعْجِزُ عنها، إمّا لمَرضٍ، أو إكراهٍ على الإِقامَةِ، أو ضَعْفٍ؛ مِن النِّساءِ والوِلْدَانِ وشِبْهِهم، فهذا لا هِجْرَةَ عليه؛ لقولِ اللَّه تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} (¬2). فهذه لا تُوصَفُ باسْتِحْبابٍ؛ لعَدَمِ القُدْرَةِ عليها. الثالثُ، مَن تُسْتَحَبُّ له، ولا تَجِبُ ¬

(¬1) سورة النساء 97. (¬2) سورة النساء 98.

1392 - مسألة: (ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له، ومن أحد

وَلَا يُجَاهِدُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ، وَمَن أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، إِلَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، وهو مَن يَقدِرُ عليها، لكِنَّه يتَمَكَّنُ مِن إظهارِ دِينِه مع إقامَتهِ في دارِ الكُفْرِ (¬1)، فيُسْتَحَبُّ له؛ ليَتَمَكَّنَ (¬2) مِن جِهادِهم وتَكْثِيرِ المُسلِمِين ومَعُونَتِهم، ويتَخَلَّصَ مِن تَكْثِيرِ الكُفَّارِ ومُخالَطتهم ورُؤيَةِ المُنْكَرِ بينَهم. ولا تَجِبُ عليه؛ لإمْكانِ إقامَةِ واجِبِ دينِه بدُونِ الهِجْرَةِ. وقد كان العَبّاسُ عَمُّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَضِىَ اللَّهُ عنه، مُقِيمًا بمَكَّةَ مع إسْلامِه. ورُوِىَ أنَّ نُعَيْمَ النَّحّامَ، حينَ أرادَ أن يُهاجِرَ، جاءَه قوْمُه بنو عَدِىٍّ، فقالوا له: أقِمْ عندَنا، وأنْت على دِينِكَ، ونحنُ نَمْنَعُكَ مِمن يُرِيدُ أذَاكَ، واكْفِنا ما كُنْتَ تَكْفِينا. وكان يقومُ بيَتامَى بنى عَدِىٍّ وأرامِلِهم، فتَخَلَّفَ عن الهِجْرَةِ مُدَّةً، ثم هاجَرَ بعدُ، وقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قَوْمُكَ كَانُوا خَيْرًا لَكَ مِنْ قَوْمِى لِى؛ قَوْمِى أخْرَجُونِى، وأرَادُوا قَتْلِى، وقَوْمُكَ حَفِظُوكَ وَمَنَعُوكَ». فقال: يا رسولَ اللَّهِ قوْمُكَ أخْرَجُوكَ إلى طاعَةِ اللَّهِ، وجِهادِ عَدُوِّه، وقَوْمِى ثَبَّطُونِى عن الهِجْرَةِ، وطاعةِ اللَّهِ. أو نحوَ هذا القَوْلِ (¬3). 1392 - مسألة: (ولا يُجاهِدُ مَن عليهِ دَيْنٌ لا وَفاءَ له، ومَن أحَدُ ¬

(¬1) في م: «الكفار». (¬2) في الأصل: «التمكن». (¬3) انظر: الإصابة 6/ 459.

بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، وَأَبِيهِ، إِلَّا أنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِى تَرْكِ فَرِيضَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبَوَيْه مُسْلِمٌ، إلَّا بإذْنِ غَرِيمِه، وأبِيهِ، إلَّا أن يَتَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، فإنَّه لَا طَاعَةَ لَهُما في تَرْكِ فَرِيضَةٍ) مَن كان عليه دَيْنٌ حالٌّ أو مُؤَجَّلٌ، لم يَجُزْ له الخُروجُ إلى الغَزْوِ إلَّا بإذْنِ غَرِيمِه، إلَّا أنْ يَتْرُكَ وَفاءً، أو يُقِيمَ به كفِيلًا، أو يُوَثِّقَه برَهْنٍ. وبهذا قال الشافعى. ورَخَّصَ مالكٌ في الغَزْوِ لِمَن لا يَقْدِرُ على قَضاءِ دَيْنهِ؛ لأنَّه لا تَتَوَجَّهُ عليه المُطالَبَةُ به ولا حَبْسُه مِن أجْلِه، فلم يُمْنَعْ مِن الغَزْوِ، كما لو لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ. ولَنا، أن الجِهادَ تُقْصَدُ منه الشَّهادَة التى تَفُوتُ بها النَّفْسُ، فيَفُوتُ الحَقُّ بفَواتِها، وقد رُوِى أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللَّهِ صابِرًا مُحْتَسِبًا، يُكَفِّرُ عنى خَطاياىَ؟ قال: «نَعَمْ، إلَّا الدَّيْنَ، فَإنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لى ذَلِكَ» (¬1). وأمَّا إذا تَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، فلا إذْنَ لِغَرِيمِه؛ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه إلا الدين، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1501. والترمذى، في: باب في من يستشهد وعليه دين، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 205. والنسائى؛ في: باب من قاتل في سبيل اللَّه تعالى وعليه دين، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 28، 29، 30. والدارمى، في: باب في من قاتل في سبيل اللَّه صابرًا محتسبًا، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 207. والإمام مالك، في: باب الشهداء في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 325, 352, 373, 5/ 297, 304, 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه تَعَلَّقَ بعَيْنِه، فكان مُقَدَّمًا على ما في ذِمَّتِه، كسائِرِ فُرُوضِ الأعْيانِ، ولكنْ يُسْتَحَبُّ له أن لا يتَعَرَّضَ لِمَظانِّ القَتْلِ؛ مِن المُبارَزَةِ، والوُقُوفِ في أوَّلِ المُقاتِلَةِ؛ لأنَّ فيه تَغْريرًا بتَفْوِيتِ الحَقِّ. فإن تَرَك وفاءً، أو أقامَ كفِيلًا، فله الغَزْوُ بغيرِ إذْنٍ. نصَّ عليه أحمدُ في مَن تَرك وَفاءً؛ لأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرو بنِ حَرامٍ، خَرَج إلى أُحُدٍ، وعليه دَيْنٌ كثيرٌ، فاسْتُشْهِدَ، وقَضاهُ عنه ابنُه جابرٌ بعِلْمِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَلُمْه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ذلك، ولم يُنْكِرْ فِعْلَه، بل مَدَحَه، وقال: «مَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» (¬1). وقال لابنهِ جابرٍ: «أشَعَرْتَ أنَّ اللَّهَ أحْيَا أباكَ، وكَلَّمَهُ كِفَاحًا (¬2)». ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا على بن عبد اللَّه. . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب ظل الملائكة على الشهيد، من كتاب الجهاد، وفى: باب من قتل من المسلمين يوم أحد، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 102، 4/ 26، 5/ 131. ومسلم، في: باب من فضائل عبد اللَّه بن عمرو بن حرام. . .، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1917، 1918. والنسائى، في: باب تسجية الميت، وباب في البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 10، 11، 12. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 298، 307. (¬2) كفاحًا: أى مواجة. والحديث أخرجه الترمذى، في: تفسير سورة آل عمران، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 138، 139. وابن ماجه، في: باب فيما أنكرت الجهمية، من المقدمة، وفى: باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 1/ 68، 2/ 936.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن كان أبَواه مُسْلِمَيْن، لم يُجاهِدْ بغيرِ إذْنِهما تَطَوُّعًا. رُوِى نحوُ ذلك عن (¬1) عُمَرَ، وعثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وسائِرُ أهْلِ العِلْمِ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أُجاهِدُ؟ قال: «ألَكَ أبَوَانِ؟». قال: نعم. قال: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ». وروَى ابنُ عَبّاسٍ نحوَه. قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وفى رِوايَةٍ، قال: جِئْتُ أُبايِعُكَ على الهِجْرَةِ، وتَرَكْتُ أُبوَىَّ يَبْكِيان. قال: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أبكَيْتَهُمَا». وعن أبى سعيدٍ، أنَّ رَجُلًا هاجَرَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هَلْ لَكَ بِالْيَمَنِ أحَدٌ؟» قال: نعم، أَبَواىَ. قال: «أذِنَا لَكَ؟». قال: لا. قال: «فَارْجِعْ، فَاسْتَأذِنْهُمَا، فَإِنْ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أذِنَا لكَ فَجَاهِدْ، وإلَّا فَبِرَّهُمَا». رَواهُنَّ أبو داودَ (¬1). ولأنَّ بِرَّ الوالدَيْن فَرْضُ عَيْنٍ، والجِهادَ فَرْضُ كِفايَةٍ، وفرضُ العَيْنِ يُقَدَّمُ. وكذلك إن كان أحَدُهما مُسْلِمًا، لم يُجاهِدْ بغيرِ إذْنهِ؛ لأنَّ بِرَّه فَرْضُ عَيْنٍ، فقُدِّمَ على الجِهادِ، كالأبَوَيْن. فأمَّا إن كانَا غيرَ مُسْلِمَيْن، فلا إذْنَ لهما. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال الثَّوْرِىُّ: لا يَغْزُو إلَّا بإذْنِهما؛ لعُمُومِ الأخْبارِ. ولَنا، أنَّ أصحابَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانُوا يُجاهِدُونَ، وفيهم مَن أبَواه كافِرانِ، ولم يَسْتَأذِنْهُما؛ منهم أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وأبو حُذَيْفَةَ بنُ عُتْبَةَ، كان مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ بَدْرٍ، وأبوه رئيسُ المُشْرِكِين يوْمَئِذٍ، وأبو عُبَيْدَةَ، قَتَل أباه في الجهادِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2) الآية. وهذا يَخُصُّ عُمُومَ الأخْبارِ. فإن كانا رَقِيقَيْن، ¬

(¬1) في: باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 16، 17. كما أخرج حديث عبد اللَّه بن عمرو بلفظ: «ففيهما فجاهد» البخارى، في: باب الجهاد بإذن الأبوين، من كتاب الجهاد، وفى: باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 4/ 71، 8/ 3. ومسلم، في: باب بر الوالدين وأنهما أحق به، من كتاب البر والصلة والآداب. صحيح مسلم 4/ 1975. والنسائى، في: باب الرخصة في التخلف لمن له والدان، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 10. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 165، 188، 193، 197، 221. وبلفظ: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» النسائى، في: باب في البيعة على الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 129. وابن ماجه، في: باب الرجل يغزو وله أبوان، من كتاب الجهاد، سنن ابن ماجه 2/ 930. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 160، 194، 198، 204. وأخرج حديث أبى سعيد، الإمام أحمد، في: المسند 3/ 75، 76. (¬2) سورة المجادلة 22. وانظر: تفسير القرطبى 17/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعُمُومُ كلامِه ههُنا يَقْتَضِى وُجُوبَ اسْتِئْذَانِهما. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لظاهِرِ الأخْبارِ، ولأنَّهما مُسْلِمان، أشبَها الحُرَّيْنِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُعْتَبَرَ إذْنُهما؛ لأنَّه لا وِلَايةَ لهما. فإنْ كانا مَجْنُونَيْن، فلا إذْنَ لهما؛ لعَدَمِ اعْتِبارِ قَوْلِهما. فصل: فإن تَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، سَقَط إذْنُهما، وكذلك كلُّ فَرائِضِ الأعْيانِ، لا طَاعَةَ لهما في تَرْكِها؛ لأنَّ تَرْكَها مَعْصِيَةٌ، ولا طاعَةَ لأحَدٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وكذلك كلُّ ما وَجَب، كالحَجِّ، وصَلاةِ الجَماعَةِ والجُمَعِ، والسَّفَرِ للعِلْمِ الواجِبِ؛ لأنَّها فَرْضُ عَيْنٍ، فلم يُعْتَبَرْ إذْنُ الأبَوَيْنِ فيها، كالصَّلاةِ، ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). ولم يَشْتَرِطْ إذْنَ الوَالِدَيْن. ¬

(¬1) سورة آل عمران 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن خَرَج في جِهادِ تَطَوُّعٍ بإذْنِهما، فمَنَعاه منه بعدَ سَيْرِه وقبلَ تَعَيُّنه عليه، فعليه الرجُوعُ؛ لأنَّه معنًى لو وُجِدَ في الابتدَاءِ مَنَع، فمَنَعَ إذا وُجِدَ في أثْنائِه، كسائِرِ المَوانِعِ، إلَّا أن يَخافَ على نفْسِه في الرُّجُوعِ، أو يَحْدُثَ له عُذْرٌ مِن مَرَضٍ أو نحوِه، فإن أمْكَنَه الإِقامَةُ في الطرِيقِ، وإلَّا مَضَى مع الجَيْشِ وإذا حَضَر الصَّفَّ تَعَيَّنَ عليه؛ لحُضُورِه، وسَقَط إذْنُهما. وإن كان رُجُوعُهما عن الإِذْنِ بعدَ تَعَيُّن الجِهادِ عليه، لم يُؤَثِّرْ شيئًا. وإن كانا كافِرَيْن، فأسْلَما ومَنَعَاه، كان كمَنْعِهما بعدَ إذْنِهما، سواءٌ. وحُكْمُ الغَرِيمِ يأذَنُ في الجِهادِ ثم يَمْنَعُ منه، حُكْمُ الوالدِ على ما فَصَّلْناه. فأمَّا إن حَدَث للإِنْسانِ في نفْسِه مَرَضٌ أو عَمًى أو عَرَجٌ، فله الانْصِرافُ، سواءٌ الْتَقَى الصَّفَّانِ أوْ لا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه القِتالُ، فلا فائِدَةَ في مُقامِه. فصل: فإن أذِنَ له والداه في الجِهادِ، وشَرَطا عليه أن لا يُقاتِلَ، فحَضَرَ القِتالَ، تَعَيَّنَ عليه، وسَقَط شَرْطُهما. كذلك قال الأوْزَاعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه صارَ واجِبًا عليه، فلم يَبْقَ لهما في تَرْكِه طاعةٌ. ولو خَرَج بغيرِ إذْنِهما، فحَضَرَ القِتالَ، ثم بَدا له الرجُوعُ، لم يَجُزْ له ذلك (¬1). ¬

(¬1) في الأصل: «كذلك».

1393 - مسألة: (ولا يجوز للمسلمين الفرار من ضعفهم، إلا متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، فإن زاد الكفار، فلهم الفرار، إلا أن يغلب على ظنهم الظفر)

وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ الْفِرَارُ مِنْ ضِعْفِهِمْ، إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، أوْ مْتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإنْ زَادَ الكُفَّارُ، فَلَهُمُ الْفِرَارُ، إِلَّا أنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الظَّفَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1393 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للمسلمين الفِرارُ مِن ضِعْفِهم، إلَّا مُتَحَرِّفِين لقِتالٍ، أو مُتَحَيِّزِين إلى فِئَةٍ، فإن زاد الكُفَّارُ، فلهم الفِرارُ، إلَّا أن يَغْلِبَ على ظَنِّهِم الظَّفَرُ) وجملةُ ذلك أنَّه إذا الْتَقَى المسلمون والكُفَّارُ، وَجَب الثَّباتُ، وحَرُمَ الفِرارُ؛ لقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (¬1). وقولِه سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (¬2) الآية. وقد عَدَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الفِرارَ يومَ (¬3) الزَّحْفِ مِن الكبائِرِ (¬4). وحُكِىَ عن الحَسَنِ، والضَّحاكِ، أنَّ هذا كان يومَ بَدْرٍ خاصَّةً، ولا يَجِبُ في غيرِها. ولَنا، أنَّ الأمْرَ مُطْلَق، ¬

(¬1) سورة الأنفال 45. (¬2) سورة الأنفال 15. (¬3) في م: «من». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى. . .}، من كتاب الوصايا، وفى: باب رمى المحصنات، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 4/ 12، 8/ 218. ومسلم، في: باب بيان الكبائر وأكبرها، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 92. وأبو داود، في: باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخبرُ عامٌّ، فلا يجوزُ التَقْيِيدُ والتَّخْصِيصُ إلَّا بدليلٍ. وإنَّما يَجِبُ الثَّباتُ، بشَرْطَيْن، أحدُهما، أن لا يزيدَ الكُفَّارُ على ضِعْفِ المُسْلِمِين، فإنْ زادُوا، جازَ الفِرارُ، لقولِ اللَّهِ تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬1). وهذا وإن كان لفظُه لَفْظَ الخبرِ، فهو أمْرٌ، بدَلِيلِ قولِه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}. ولو كان خَبرًا على حَقِيقَتِه، لم يكُنْ رَدُّنا مِن غَلَبَةِ الواحِدِ للعشرةِ إلى غَلَبَةِ الاثْنَيْن تَخْفِيفًا، ولأنَّ خَبَرَ اللَّهِ تعالى صِدْقٌ لا يَقعُ بخِلافِ مُخْبِرِه، وقد عُلِمَ أنَّ الظَّفَرَ والغَلَبَةَ لا يَحْصُلُ للمُسْلِمِين في كل مَوْطِن يَكُونُ العَدُوُّ فيه ضِعْفَ المسلمين فما دُونَ، فعُلِمَ أنَّه أمْرٌ وفَرْضٌ، ولم يَأْتِ شئٌ يَنْسَخُ هذه الآيةَ في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فوَجَبَ الحُكْمُ بها. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. فشَقَّ ذلك على المسلمين حينَ فُرِضَ عليهم أن لا يَفِرَّ واحدٌ مِن عشرةٍ، ثم جاء تَخْفِيفٌ، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}. إلى قولِه: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فلمَّا خَفَّف اللَّهُ عنهم مِن العَدَدِ، نقَصَ مِن ¬

(¬1) سورة الأنفال 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّبْرِ بقَدْرِ ما خَفَّفَ مِن العَدَدِ. رَواه أبو داودَ (¬1). وقال ابنُ عباسٍ: مَن فَرَّ مِن اثْنَيْنِ فقد فَرَّ، ومَن فَرَّ مِن ثَلاثةٍ فما فَرَّ. الثانى، أنْ لا يَقْصِدَ بفِرارِه التَّحَيُّزَ إلى فِئَةٍ، ولا التَّحَرُّفَ لقتالٍ، فإن قَصَد أحَدَ هذَيْن، أُبِيحَ له؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} (¬2). ومَعْنَى التَّحَرُّفِ للقِتالِ: أن ينْحازَ إلى مَوْضِعٍ يكونُ القِتالُ فيه أمْكَنَ، مثل أن ينْحازَ مِن مُواجَهَةِ الشَّمْسِ أو الرِّيحِ إلى اسْتِدْبارِهما، أو مِن نُزولٍ إلى عُلُو، أو مِنِ مَعْطَشَةٍ إلى مَوْضِعِ ماء، أو يَفِرَّ بينَ أيْدِيهم لتَنْتَقِضَ صُفُوفُهم، أو تَنْفرِدَ خَيْلُهم مِن رجّالَتِهم، أو لِيَجِدَ فيهم فُرْصَةً، أو ليَسْتَنِدَ إلى جَبَلٍ، ونحوِ ذلك ممّا جَرَتْ به عادَةُ أهْلِ الحرْبِ. وقد رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يومًا في خُطبتِهِ إذ قال: يا سارِيَةُ بن زُنَيْمٍ، ¬

(¬1) في: باب في التولى يوم الزحف، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 43. كما أخرجه البيهقى، في: باب تحريم الفرار من الزحف. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 76. وانظر حاشية مصنف عبد الرزاق 5/ 352. (¬2) سورة الأنفال 16.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَبَلَ، ظَلَمَ الذِّئْبَ مَن اسْتَرْعاه الغَنَمَ. فأنْكَرَها النّاسُ، فقال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: دَعُوه. فلمّا نَزَل سألوه عمّا قال لهم، فلم يَعْتَرِفْ به، وكان بَعَث سارِيَةَ إلى ناحِيَةِ العِراقِ لغَزْوِهم، فلمّا قَدِمَ ذلك الجيشُ أخْبَرُوا أنَّهم لَقُوا عَدُوَّهم يومَ الجُمُعَةِ، وظَهَرَ (¬1) عليهم، فسَمِعُوا صوتَ عُمَرَ، فتَحَيَّزُوا إلى الجبلِ، فنَجَوْا مِن عَدُوِّهم وانْتَصَرُوا عليهم (¬2). وأمَّا التَّحَيُّزُ إلى فِئَةٍ: فهو أن يَصِيرَ إلى فِئَةٍ مِن المسلمين؛ ليكُونَ معهم، فيَقْوَى بهم على عَدُوِّه. وسواءٌ بَعُدَتِ المسافَةُ أو قَرُبَتْ. قال القاضى: لو كانتِ الفِئَة بخُراسانَ، والفِئَةُ بالحِجَازِ، جازَ التَّحَيُّزُ إليها. ونحوَه ذكَرَ أصحابُ الشافعىِّ؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬

(¬1) في م: «فظفر». (¬2) ذكر طرقه في كنز العمال 12/ 571 - 574.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنى فِئَةٌ لَكُمْ». وكانُوا بمكانٍ بعيدٍ عنه. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: أنا فِئَةُ كلِّ مُسْلمٍ. وكان بالمدينةِ وجُيوشُه بمصرَ والشامِ والعِراقِ وخُراسان. رَواهما سعيدٌ (¬1). وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: رَحِمَ اللَّهُ أبا عُبَيْدَةَ، لو كان تَحَيَّزَ إلىَّ، لكُنْتُ له فِئَةً (¬2). وإذا خَشِىَ الأسْرَ، فالأوْلَى أن يُقاتِلَ حتى يُقْتَلَ، ولا يُسَلِّمَ نَفْسَه للأسْرِ؛ لأنَّه يَفُوزُ بالثَّوابِ والدَّرجَةِ الرَّفِيعَةِ، ويَسْلَمُ مِن تَحَكمِ الكُفَّارِ عليه بالتَّعْذِيبِ والاسْتِخْدامِ والفِتْنَةِ. فإنِ اسْتأْسرَ جازَ؛ لما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث عَشَرَةً عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابِتٍ، فنَفَرَتْ إليهم هُذَيْلٌ بقريبٍ مِن مائَةِ رَجُلٍ رامٍ، فلمّا أحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه، لَجَئُوا إلى فَدْفَدٍ (¬3)، فقالوا لهم: انْزِلُوا فأعْطُونا أيْدِيَكم، ولكم العَهْدُ والمِيثاقُ أنْ ¬

(¬1) في: باب من قال: الإمام فئة كل مسلم، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 209، 210. كما أخرجهما البيهقى، في: باب من تولى متحرفًا لقتال. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 76، 77. وأخرج الأول أبو داود، في: باب في التولى يوم الزحف، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 43. والترمذى، في: باب ما جاء في الفرار من الزحف، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 213. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 58، 70، 99، 100، 111. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من تولى متحرفًا لقتال. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 77. (¬3) الفدفد: المكان الصلب الغليظ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَقْتُلَ منكم أحدًا. فقال عاصمٌ: أمَّا أنَا فلا أنْزِلُ في ذِمَّةِ مُشْرِكٍ. فرَمَوْهُم بالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عاصِمًا مع سبعةٍ معه، ونزَل إليهم ثَلاثةٌ على العَهْدِ والمِيثاقِ، منهم خُبَيْبٌ، وزيدُ بنُ الدَّثِنَةِ، فلمّا اسْتَمْكَنُوا منهم أطْلَقُوا أوْتارَ قِسِيِّهم، فرَبَطُوهم بها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فعاصِمٌ أخَذَ بالعَزِيمَةِ، وخُبَيْبٌ وزيدٌ أخَذَا بالرُّخْصَةِ، وكلُّهم مَحْمودٌ غيرُ مَذْمُومٍ ولا مَلُومٍ. فصل: فإنْ كان العَدُوُّ أكثرَ مِن ضِعْفِ المُسْلِمِين، فغَلَب على ظَنِّ المسلمين الظَّفَرُ، فالأوْلَى لهم الثَّباتُ؛ لِما في ذلك من المَصْلَحَةِ، ويجوزُ لهم الانْصرافُ؛ لأنَّهم لا يَأْمَنُون العَطَبَ , والحُكْمُ عُلِّقَ على مَظِنَّتِه، وهو كَوْنُهم أقَلَّ مِن نِصْفِ عَدُوِّهم، ولذلك لَزِمَهم الثَّباتُ إذا كانُوا أكثرَ مِن النِّصْفِ، وإن كان غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ فيه. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَهم الثَّباتُ إذا غَلَب على ظَنِّهِم الظَّفَرُ؛ لِما فيه مِن المَصْلَحَةِ. فإن غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ في الإِقامَةِ، والسَّلامَةُ في الانْصِرافِ، فالأوْلَى لهم الانْصِرافُ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر. . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب حدثنى عبد اللَّه بن محمد الجعفى. . .، وباب غزوة الرجيع ورعل وذكوان. . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 82، 83، 5/ 100، 101، 132، 133. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يستأسر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 47. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 294، 310. ولم نجده في صحيح مسلم. وانظر: تحفة الأشراف 10/ 289.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن ثَبَتُوا جازَ؛ لأنَّ لهم غَرَضًا في الشَّهادةِ، مع جَوازِ الغَلَبَةِ أيضًا. وإن غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ في الإِقامَةِ والانْصِرافِ، فالأوْلَى لهم الثَّباتُ؛ ليَنالُوا دَرَجَةَ الشُّهَداء المُقْبلِين على القِتال مُحْتَسِبين، فيكونوا أفْضَلَ مِن المُوَلِّين، ولأنَّه يجوزُ أن يَغْلِبُوا أيضًا، فقد قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1) الآية. ولذلك صَبَر عاصمٌ وأصحابُه، فقاتَلُوا حتى أكرَمَهُم اللَّه بالشَّهادَةِ. فصل: فإن جاءَ العَدُوُّ بَلَدًا، فلأهْلِه التَّحَصُّنُ منهم، وإن كانُوا أكْثَرَ مِن نِصْفِهم؛ ليَلْحَقَهم مَدَدٌ أو قُوَّةٌ، ولا يكُونُ ذلك تَوَلِّيًا ولا فِرارًا، إنَّما التَّوَلِّى بعدَ اللِّقاءِ. فإن لَقُوهم خارِجَ الحِصْنِ، فلهُم التَّحَيُّزُ إلى الحِصْنِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ للقِتالِ، أو التَّحَيُّزِ إلى فِئَةٍ. وإن غَزَوْا فذَهَبَتْ دَوابُّهم، فليس ذلك عُذْرًا في الْفِرارِ؛ لأنَّ القِتالَ مُمْكِنٌ للرَّجّالَةِ. وإن تَحَيَّزُوا إلى جَبَلٍ ليُقاتِلُوا فيه رَجَّالَةً، فلا بَأْسَ؛ لأنَّه تَحَرُّفٌ للقِتالِ. وإن ذَهَب سِلاحُهم، فتَحَيَّزُوا إلى مكانٍ يُمْكِنُهم القِتالُ فيه بالحجارَةِ، ¬

(¬1) سورة البقرة 249.

1394 - مسألة: (فإن ألقى فى مركبهم نار)

وإنْ أُلقِىَ فِى مَرْكَبِهِمْ نَارٌ، فَعَلُوا مَا يَرَوْنَ السَّلَامَةَ فِيهِ، فَإنْ شَكُّوا، فَعَلُوا مَا شَاءُوا مِنَ الْمُقَامِ أوْ إلْقَاءِ نُفُوسِهِمْ فِى المَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّستُّرُ بالشَّجَرِ ونحوهِ، أو لهم في التَّحَيُّزِ إليه فائِدَةٌ، جازَ. فصل: وإنْ فَرُّوا قبلَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ، فلا شئَ لهم إذا أحْرَزَها غيرُهم؛ لأنَّ مِلْكَها لمَن أحْرَزَها. وإنِ ادَّعَوْا أنَّهم فَرُّوا مُتَحَيزِين إلى فِئَةٍ، أو مُتَحَرِّفين للقتالِ، فلا شئَ لهم أيضًا؛ لذلك. وإن فَرُّوا بعدَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ، لم يسْقُطْ سهْمُهم منها؛ لأنَّهم مَلكُوا الغَنِيمَةَ بحِيازَتِها، فلم يَزُلْ مِلْكُهم عنها بفِرارِهم. 1394 - مسألة: (فإن أُلقِىَ فِى مَرْكَبِهم نَارٌ) فاشْتَعَلَتْ فيه، فالذى يَغْلِبُ على ظَنِّهم السَّلامَةُ فيه (مِن المُقامِ، أو إلْقاءِ أنْفُسِهِم في الماءِ)

فصل

وَعَنْهُ، يَلْزَمُهُمُ الْمُقَامُ. فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَبْيِيتُ الْكُفَّارِ، وَرَمْيُهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَقَطْعُ الْمِيَاهِ عَنْهُمْ، وَهَدْمُ حُصُونِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَالأَوْلَى لَهم فِعْلُه. وإنِ اسْتَوَى عندَهم الأمْران، فقال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: كيف شاءَ صَنَع. قال الأوْزاعِىُّ: هما مَوْتَتان، فاخْتَرْ أيْسَرَهما. (وعنه، يَلْزَمُهم المُقامُ) ذَكَرَها أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّهم إذا رَمَوْا أنْفُسَهم بالماءِ، كان مَوْتُهم بفِعْلِهم، وإذا أقامُوا فموْتُهُم بفِعْلِ غيرِهم. فصل: قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (ويجوزُ تَبْيِيتُ الكُفَّارِ، ورَمْيُهم بالمَنْجَنِيقِ، وقَطْعُ المياهِ عنهم، وهَدْمُ حُصُونِهم) معنى تَبْيِيتِ الكُفَّارِ: كَبْسُهم ليلًا، وقَتْلُهم وهم غَارُّون. قال أحمدُ: لا بَأْسَ بالبَياتِ، وهل غَزْوُ الرُّومِ إلَّا بِالبَياتِ؟ قال: ولا نَعْلَمُ أحَدًا كَرِهَ بَياتَ العَدُوِّ؛ وذلك لِما روَى الصَّعْبُ بنُ جَثّامَةَ اللَّيْثىُّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسْأَلُ عن الدِّيارِ مِن دِيارِ المُشْرِكِين، يُبَيَّتون فيُصِيبُونَ مِن نِسائِهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَرارِيِّهم؟ فقال: «هُمْ مِنْهُمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقد قال سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: أمَّرَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فَغَزَوْنا ناسًا مِن المُشْرِكين، فبَيَّتْناهم. رَواه أبو داودَ (¬2). فإن قِيلَ: فقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قَتْلِ النِّساءِ والذُّرِّيَّةِ. قُلْنا: هذا مَحْمُولٌ على التَّعَمُّدِ لقَتْلِهم. قال أحمدُ: أمَّا أن يتَعَمَّدَ قَتْلَهم، فلا. قال: وحديثُ الصَّعْبِ بعدَ نَهْيِه عن قَتْلِ النِّساء؛ لأنَّ نَهْيَه عن قَتْلِ النِّساءِ حينَ بَعَث إلى ابنِ أبى الحُقَيْقِ. وعلى أنَّ الجَمْعَ بينَهما مُمْكِنٌ (¬3)، يُحْمَلُ النَّهْىُ على التَّعَمُّدِ، والإِباحَةُ على ما عَداهُ. ويجوزُ رَمْيهُم بالمَنْجَنِيقِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نصَبَ المَنْجَنِيقَ على أهْلِ الطَّائِفِ (¬4). وظاهِرُ كلامِه ههُنا أنَّه يجوزُ مع الحاجةِ وعَدَمِها؛ للحديثِ. وممَّن رأى ذلك الثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقد رُوِى عن عمرِو بنِ العاصِ، أنَّه نَصَب المَنجَنِيقَ على الإِسْكَنْدَرِيَّةِ (¬5). ولأنَّ القِتالَ به مُعْتادٌ، أشْبَهَ الرَّمْىَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب أهل الدار يبيتون، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 74. ومسلم، في: باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1364، 1365. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب في قتل النساء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 50. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن قتل النساء والصبيان، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 65. وابن ماجه، في: باب الغارة والبيات. . .، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 947. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 38. (¬2) في: باب في البيات، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 41. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 947. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب قطع الشجر وحرق المنازل، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 84. (¬5) انظر: فتوح مصر، لابن عبد الحكم 77.

1395 - مسألة: (ولا يجوز إحراق نحل، ولا تغريقه)

وَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ نَحْلٍ، وَلَا تَغْرِيقُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسِّهامِ. ويجوزُ رَمْيُهم بالنّارِ، وهَدْمُ حُصُونِهم، وقَطْعُ المياهِ عنهم، وإن تَضَمَّنَ ذلك إتْلافَ النّساءِ والصِّبْيانِ؛ لحديثِ الصَّعْبِ بنِ جَثّامَةَ في البَياتِ، وهذا في مَعْناه؛ ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَصَب المَنْجَنِيقَ، وهو يَهْدِمُ الحُصُونَ عادَةً. 1395 - مسألة: (ولَا يَجُوزُ إحْرَاقُ نَحْلٍ، ولَا تَغْرِيقُه) هذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ. وقِيلَ لمالِكٍ: أنُحَرِّقُ بُيوتَ نَحْلِهم؟ فقال: أمَّا النَّحْلُ فلا أدْرِى ما هو. ومُقْتَضَى مَذْهَبِ أبى حنيفةَ إباحَتُه؛ لأنَّ فيه غَيْظًا لهم وإضْعافًا، فأشْبَهَ قَتْلَ بهائِمِهم حالَ قِتالِهم. ولَنا، ما رُوِى عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال ليزيدَ بنِ أبى سفيانَ، حينَ بعَثَه أمِيرًا على القِتالِ بالشامِ: ولا تُحَرِّقَنَّ نَحْلًا، ولا تُغَرِّقَنَّه. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَدِمَ عليه ابنُ أخيه مِن غَزاةٍ غَزاها، فقال: لَعَلَّكَ حَرَّقْتَ حَرْثًا؟ قال: نعم. قال: لَعَلَّكَ حَرَّقْتَ نَحْلًا؟ قال: نعم. قال: لَعَلَّك قَتَلْتَ صَبِيًّا؟ قال: نعم. قال: لِيَكُنْ غَزْوُك كِفافًا. أخْرَجَهُما سعيدٌ (¬1). ونحوُ ذلك ¬

(¬1) تقدم خبر أبى بكر مع يزيد في صفحة 25. وأخرج سعيد خبر ابن مسعود، في باب ما جاء في قتل النساء والولدان، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 240.

1396 - مسألة: (ولا)

وَلَا عَقْرُ دَابَّةٍ وَلَا شَاةٍ، إِلَّا لِأَكْلٍ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ثَوْبانَ (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن قَتْلِ النَّحْلَةِ (¬2). ولأنَّه إفْسادٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬3). ولأنَّه حيوانٌ ذو رُوحٍ، فلم يَجُزْ قَتْلُه لِيَغِيظَهم، كنِسائِهم وصِبْيانِهم. فأمَّا أخْذُ العَسَلِ وأكلُه فمُباحٌ، لأنَّه مِن الطَّعامِ المُباحِ. وهل يجوزُ أخْذُ الشَّهْدِ كلِّه؟ فيه رِوايتان، إحْدَاهما، لا يجوزُ، لأن فيه هَلاكَ النَّحْلِ. والثانيةُ، يجوزُ، لأنَّ هَلاكَه إنَّما يَحْصُلُ ضِمنًا غيرَ مَقْصودٍ، فأشْبَهَ قَتْلَ النِّساءِ في البَياتِ. 1396 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ (عَقْرُ دابَّةٍ ولا) ذَبْحُ (شاةٍ، إلَّا لأكْلٍ يُحْتاجُ إليه) أمَّا عَقْرُ دَوابِّهم في غيرِ حالِ الحربِ؛ لمُغايَظَتِهم، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 276. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في قتل الذَّرِّ، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 656. وابن ماجه، في: باب ما ينهى عن قتله، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1074. والدارمى، في: باب النهى عن قتل الضفادع والنحلة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 89. والإمام مالك، في: باب النهى عن قتل النساء والولدان في الغزو، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 448. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 332، 347. (¬3) سورة البقرة 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِفْسادِ عليهم، فلا يجوزُ، سَواءٌ خِفْنا أخْذَهم لها أو لم نَخَف. وبهذا قال اللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يجوزُ؛ لأنَّ فيه غَيْظًا لهم، وإضْعافًا لقُوَّتِهم، فأشْبَهَ قَتْلَها حالَ قِتالِهم. ولَنا، أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال في وَصِيَّته ليزيِدَ، حينَ بعَثَه أميرًا: يا يزيدُ، لا تَقْتُلْ صَبِيًّا ولا امرأةً، ولا هَرِمًا، ولا تُخَرِّبَنَّ عامِرًا، ولا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، ولا دَابَّةً عَجْماءَ، ولا شاةً، إلَّا لمأكَلَةٍ، ولا تُحرِّقَنَّ نَحْلًا، ولا تُغَرِّقَنَه، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُنْ. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن قَتْلِ شئٍ مِن الدَّوابِّ صَبْرًا (¬1). ولأنَّه حيوانٌ ذو حُرْمَةٍ، فأشْبَهَ قَتْلَ النِّساءِ والصِّبْيانِ. فأمَّا حالُ الحَرْبِ، فيجوزُ فيها قَتْلُ المُشرِكِين كيف أمْكَنَ، بخِلافِ حالِهم إذا قُدِرَ عليهم، ولهذا جازَ قَتْلُ النِّساءِ والصِّبْيانِ في البَياتِ، وفى المَطْمُورَةِ (¬2)، إذا لم يتَعَمَّدْ قَتْلهم مُنْفرِدِين، بخِلافِ حالَةِ القُدْرَةِ عليهم، وقتلُ بهائِمِهم حالَ القِتالِ يتوَصَّلُ به إلى قَتْلِهم ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يكره من المثلة. . .، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 7/ 121، 122. ومسلم، في: باب النهى عن صبر البهائم، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1549، 1550. وأبو داود، في: باب في النهى أن تصبر البهائم، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 91. والنسائى، في: باب النهى عن المجثمة، من كتاب الضحايا, المجتبى 7/ 210. وابن ماجه، في: باب النهى عن صبر البهائم وعن المثلة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1063، 1064. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 94، 3/ 318، 321، 322، 329. (¬2) المطمورة: الحفيرة تحت الأرض. وهى ما يعرف اليوم بالخندق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهَزِيمَتِهم. وقد رُوِى أنَّ حَنْظَلَةَ بنَ الرّاهِبِ، عَقَر فَرَسَ أبى سفيانَ به يومَ أُحُدٍ، فرمَتْ به، فخَلَّصَه ابنُ شَعُوب (¬1). وليس في هذا خِلافٌ. فصل: فأمَّا عَقْرُها للأَكْلِ، فإن كانتِ الحاجَةُ داعِيَةً إليه، ولا بُدَّ منه، فمباحٌ؛ لأنَّ الحاجَةَ تُبِيحُ مالَ المَعْصُومِ، فمالُ الكُفَّارِ أوْلَى. وإن لم تكُنِ الحاجَةُ داعِيَةً، وكان الحيوانُ لا يُرادُ إلَّا للأكلِ، كالدَّجاجِ والحَمامِ وسائِرِ الطَّيْرِ والصُّيُودِ، فحكمُه حُكْمُ الطَّعامِ، في قولِ الجميعِ؛ لأنَّه لا يُرادُ لغيرِ الأَكْلِ، وتَقِلُّ قِيمَتُه، فأشْبَهَ الطَّعامَ. وإن كان ممّا يُحْتاجُ إليه في القِتالِ، كالخيلِ، لم يَجُزْ ذَبْحُه للأَكْلِ، في قولِهم جميعًا. وإن كان غيرَ ذلك، كالبَقَرِ والغَنَمِ، لم يُبَحْ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وقال القاضى: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ إباحَتُه؛ لأنَّ هذا الحيوانَ في بابِ الأكْلِ مثلُ الطَّعامِ، فكانَ مِثْلَه في إباحَتِه، كالطَّيْرِ. وإذا ذَبَح الحيوانَ، أكَل لَحْمَه، وليس له الانْتِفاعُ بجِلْدِه؛ لأنَّه إنَّما أبِيحَ له ما يأكُلُه دُونَ غيرِه. قال عبدُ الرحمن بنُ مُعاذٍ: كُلوا لحمَ الشاةِ، ورُدُّوا إهابَها ¬

(¬1) هو الأسود بن شعوب. وذكر القصة الواقدى، في: المغازى 1/ 273. وذكر ابن حجر في: تلخيص الحبير 4/ 112، أن البيهقى ذكرها من طريق الشافعى بغير إسناد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المَغْنَمِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، ما روَى سعيدٌ (¬1)، عن أبى الأحْوَصِ، عن سِماكِ بنِ حَرْب، عن ثَعْلَبَةَ بنِ الحَكَم، قال: أصَبْنَا غَنَمًا للعَدُوِّ، فانْتَهَبْناها، فنَصَبْنا قُدُورَنا، فمرَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقُدُورِ وهى تَغْلِى، فَأمَرَ بها فأُكْفِئَتْ، ثم قال لهم: «إِنَّ النُّهْبَةَ لَا تَحِلُّ». ولأنَّ هذه الحيواناتِ تَكْثُرُ قِيمَتُها، وتَشِحُّ بها أنْفُسُ الغانِمين، ويُمْكِنُ حَمْلُها إلى دارِ الإِسْلامِ، بخِلافِ الطَّيْرِ والطَّعامِ، لكنْ إن أذِنَ الأمِيرُ فيها، جازَ؛ لِما روَى عَطِيَّةُ ابنُ قَيْسٍ، قال: كُنَّا إذا خَرَجْنا في سَرِيَّةٍ فأصَبْنا غَنَمًا، نادَى مُنادِى الإِمامِ: ألَا مَن أرادَ أن يَتناوَلَ شَيْئًا مِن هذه الغَنَمِ فلْيَتَناولْ، إنَّا لا نَسْتَطِيعُ سِياقَتَها. رَواه سعيدٌ (¬2). وكذلك قَسْمُها؛ لِما روَى مُعاذٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: غَزَوْنا مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ، فأصَبْنا غَنَمًا، فقسَم بيْنَنا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- طائِفَةً، وجَعَل بَقِيَتّهَا في المَغْنَمِ. رَواه أبو داودَ (¬3). وروَى سعيدٌ (¬4)، بإسْنادِه، أنَّ رَجُلًا نَحَر جَزُورًا بأرْضِ الرُّومِ، فلمّا بَرَدَت، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في النهى عن النهبة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 241. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب النهى عن النهبة: من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1299. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 194، 367. (¬2) في الباب السابق. السنن 2/ 242. (¬3) في: باب في بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 61. (¬4) في الباب السابق 2/ 241، 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أَيُّها الناسُ، خُذُوا مِن لَحْمِ هذا الجَزُورِ، فقد أذِنَّا لكُم. فقال مكحولٌ: يا غَسَّانِىُّ، ألا تَأْتِينا مِن لَحْمِ هذا الجَزُورِ؟ فقال: يا أبا عبدِ اللَّهِ ألا تَرَى ما عليها مِن النُّهْبَى؟ قال مَكْحُولٌ: لا نُهْبَى في المَأْذُونِ فيه. قال شيخُنا (¬1): ولم يُفَرِّقْ أصْحابُنا بينَ جميعِ البهائِمِ في هذه المسألَةِ، ويَقْوَى عندِى أنَّ ما عَجَزَ المسلمون عن سياقَتِه وأخذِه، إن كان ممَّا يسْتَعِينُ به الكُفَّارُ، كالخَيْلِ، جازَ عَقْرُه وإتْلافُه؛ لأنَّه ممّا يَحْرُمُ إيصالُه إلى الكُفَّارِ بالبَيْعِ، فتَرْكُه لهم بغيرِ عِوَضٍ أوْلَى بالتَّحْرِيمِ، وإن كان ممَّا يَصْلُحُ للأَكْلِ، فللمسلمين ذَبْحُه، والأَكْلُ منه، مع الحاجَةِ وعَدَمِها، وما عدا هذَيْن القِسْمَيْن، لا يَجُوزُ إتْلافُه؛ لأنَّه مُجَرَّدُ إفْسادٍ وإتْلافٍ، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذَبْحِ الحيوانِ لغيرِ مَأْكَلَةٍ (¬2). ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 146. (¬2) أخرجه مالك، في: باب النهى عن قتل النساء والولدان في الغزو، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 447، 448. والبيهقى، في: باب ترك قتال من لا قتال فيه من الرهبان. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 89، 90. وابن أبى شيبة، في: باب من ينهى عن قتله في دار الحرب، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 383، 384.

1397 - مسألة: (وفى حرق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان؛ إحداهما، يجوز، إن لم يضر بالمسلمين. والأخرى، لا يجوز، إلا أن لا يقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا، وكذلك رميهم بالنار، وفتح الماء ليغرقهم)

وَفِى حَرْقِ شَجَرِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَقَطْعِهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، يَجُوزُ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ. وَالأُخْرَى، لَا يَجُوزُ، إِلَّا أنْ لَا يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِهِ، أوْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَه بِنَا، وَكَذَلِكَ رَمْيُهُمْ بِالنَّارِ، وَفَتْحُ الْمَاءِ لِيُغْرِقَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1397 - مسألة: (وَفِى حَرْقِ شَجَرِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَقَطْعِهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، يَجُوزُ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ. وَالأُخْرَى، لَا يَجُوزُ، إِلَّا أنْ لَا يُقدَرَ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِهِ، أوْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَه بِنَا، وَكَذَلِكَ رَمْيُهُمْ بِالنَّارِ، وَفَتْحُ الْمَاءِ لِيُغْرِقَهُمْ) وحملةُ ذلك، أنَّ الزَّرْعَ والشَّجَرَ ينْقَسِمُ ثلاثةَ أقْسامٍ؛ أحَدُها، ما تدْعُو الحاجَةُ إلى إتْلافِه، كالذى يَقْرُبُ مِن حُصُونِهم، ويَمْنَعُ مِن قِتالِهم، أو يَسْتَتِرُون به مِن المسلمين، أو يُحْتاجُ إلى قَطْعِه؛ لتَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أو تَمَكُّن مِن قِتالٍ، أو سَدِّ شئٍ، أو إصْلاحِ طَرِيقٍ، أو سِتارَةِ مَنْجَنِيقٍ، أو غيرِه، أو لا يُقْدَرُ عليهم إلَّا به، أو يَكُونُون يفْعلُون ذلك بنا، فيُفْعَلُ ذلك بهم؛ ليَنْتَهُوا، فهذا يجوزُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. الثانى، ما يتَضَرَّرُ المسلمون بقَطْعِه؛ لكَوْنِهم يَنْتَفِعُونَ ببَقائِه لعَلُوفَتِهم، أو يَسْتَظِلُّون به، أو يَأْكُلُون مِن ثَمَرِه، أو تَكُونُ العادَةُ لم تَجْرِ بذلك بَيْنَنا وبينَ عَدُوِّنا، فإذا فعَلْناه بهم فَعَلُوه بنا، فهذا يَحْرُمُ؛ لِما فيه مِن الإِضْرارِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمسلمين. الثالثُ، ما عَدا هذَيْن القِسْمَيْن، ممّا لا ضَرَرَ فيه بالمسلمين، ولا نَفْعٌ سِوَى غَيْظِ الكُفّارِ، والإِضْرارِ بهم، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، لا يجوزُ؛ لحديثِ أبى بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ووَصِيَّتِه (¬1)، وقد رُوِى نحوُ ذلك مَرْفُوعًا إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّ فيه إتْلافًا مَحْضًا، فلم يَجُزْ، كعَقْرِ الحيوانِ. وبه قال الأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، وأبو ثَوْرٍ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، يجوزُ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. قال إسْحاقُ: التَّحْرِيقُ سُنَّةٌ، إذا كان أنْكَى في العَدُوِّ، ولقولِ اللَّهِ تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (¬2). وروَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وقَطَعَ، وهى البُوَيْرَةُ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}. ولها يقولُ حَسّان (¬3): وَهانَ على سَراةِ بَنِى لُؤَىٍّ … حَرِيق بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 25. (¬2) سورة الحشر 5. (¬3) البيت له، في سيرة ابن هشام 3/ 272، وفتوح البلدان 1/ 19، ومعجم ما استعجم 1/ 285، ومعجم البلدان 1/ 765. وهو بغير نسبة في: اللسان والتاج (ط ى ر). وانظر حاشية الديوان 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن الزُّهْرِىِّ، قال: فحدَّثَنى عُرْوَةُ، قال: فحَدَّثَنِى أُسامَةُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عَهِدَ إليه، فقال: «أغِرْ عَلَى أُبْنَى (¬2) صَبَاحًا، وحَرِّقْ». رَواه أبو داودَ (¬3). قيل لأبِى مُسْهِرٍ: أُبْنَى (2)؟ قال: نحن أعْلمُ، هى يُبْنا فِلَسْطِين. والصَّحيحُ أنَّها أُبْنَى (2) كما جاءَتِ الرِّوايةُ، وهى قريبةٌ مِن أرْضِ الكَرْكِ، في أطْرافِ الشامِ، في النَّاحِيَةِ التى قُتِلَ فيها أَبُوه، فأمَّا يُبْنا فهى مِن أرضِ فِلَسْطِين، وَلم يَكُنْ اُسامَةُ ليَصِلَ إليها، ولا أمَرَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإِغارَةِ عليها؛ لبُعْدِها، والخَطَرِ بالمصيرِ إليها، لتَوَسُّطها في البلادِ، وبُعْدِها مِن أطْرافِ الشامِ، فما كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليَأْمُرَه بالتَّغْرِيرِ بالمسلمين، فكيف يُحْمَلُ الخبرُ عليها، مع مُخالَفَةِ لَفْظِ الرِّوايَةِ، وفَسادِ المَعْنَى! ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قطع الشجر والنخيل، من كتاب الحرث والمزارعة، وفى باب قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا. . .}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 3/ 136، 137، 6/ 184. ومسلم، في: باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1365. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الحرق في بلاد العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 36. والترمذى، في: باب ومن سورة الحشر، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 187، 188. وابن ماجه، في: باب التحريق بأرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 948، 949. (¬2) في م: «أبناء». (¬3) في: باب في الحرق في بلاد العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 36. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب التحريق بأرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 948.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى قُدِرَ على العَدُوِّ، لم يَجُزْ تَحْرِيقُه بالنَّارِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وقد كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يَأْمُرُ بتحْرِيقِ أهلِ الرِّدَّةِ بالنّارِ (¬1). وفَعَلَه خالدُ بنُ الوليدِ بأمْرِه. فأمَّا اليومَ فلا نعلمُ فيه خِلافًا بينَ النّاسِ. وقد روَى حَمْزَةُ الأَسْلَمِىُّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّرَه على سَرِيَّةٍ، قال: فَخَرَجْتُ فيها، فقال: «إنْ أخَذْتُمْ فُلَانًا، فأحْرِقُوه بِالنَّارِ». فوَلَّيْتُ، فنادانِى، فرَجَعْتُ، فقاك: «إِنْ أَخَذْتُمْ فُلَانًا، فَاقْتُلُوهُ، ولَا تُحْرِقُوهُ؛ فَإنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ». رَواه أبو داودَ، وسعيدٌ (¬2). وروَى البخارىُّ (¬3)، عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوَ حديثِ حمزةَ. فأمَّا رَمْيُهم بالنَّارِ قبلَ أخْذِهم، فإن أمْكَنَ أخْذُهم بدُونِها، لم يَجُزْ؛ لأنَّهم في مَعْنى المَقْدورِ عليه، وأمَّا عندَ العَجْزِ عنهم بغيرِها، فجائِزٌ في قولِ أَكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الأوْزَاعِىُّ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال. . .، من كتاب قتال أهل البغى. السنن الكبرى 8/ 178. وعبد الرزاق، في: باب القتل بالنار، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 212. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية حرق العدو بالنار، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 50. وسعيد بن منصور، في: باب كراهية أن يعذب بالنار، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 243. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 494. (¬3) في: باب لا يعذب بعذاب اللَّه، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 75. كما أخرجه أبو داود، في: الباب السابق. سنن أبى داود 2/ 51. والترمذى، في: باب حدثنا قتيبة. . .، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 66. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 307، 338، 453.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ. وقد روَى سعيدٌ (¬1) بإسْنادِه، عن صَفْوانَ بن عمرٍو، وجَرِيرِ بنِ عُثمانَ، أنَّ جُنادَةَ بنَ أبى أُمَيَّةَ الأزْدِىَّ، وعبدَ اللَّهِ بنَ قَيْسٍ الفَزَارِىَّ، وغيرَهما مِن وُلاةِ البَحْرِ، ومَن بعدَهم، كانُوا يَرْمُون العَدُوَّ مِن الرُّومِ وغيرِهم بالنَّارِ، ويُحَرِّقونَهم، هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء. قال عبدُ اللَّهِ بنُ قَيْسٍ: ولم يَزَلْ أمْرُ المسلمين على ذلك. وكذلك الحُكْمُ في فَتْحِ البُثُوقِ عليهم؛ لغَرَقِهم. وإِن قُدِرَ عليهم بغيرِه، لم يَجُزْ، إذا تَضَمَّنَ ذلك إتْلافَ النِّساءِ والذُّرِّيَّةِ، الذين يَحْرُمُ إتْلافُهم قَصْدًا، وإن لم يُقْدَرْ عليهم إلَّا به، جازَ كما يجوزُ البَياتُ المُتَضَمِّنُ لذلك. فصل: قال الأوْزَاعِىُّ: إذا كان العَدُوُّ في المَطْمُورَةِ، فعَلِمْتَ أنَّكَ تَقْدِرُ عليهم بغيرِ النّارِ، فأحَبُّ إلىَّ، أن يَكُفَّ عن النّارِ، وإن لم يُمْكِنْ ذلك، وأَبَوْا أن يَخْرُجُوا، فلا أرَى بَأْسًا، وإن كان معهم ذُرِّيَّةٌ، قد كان المسلمون يُقاتِلُون بها. ونحوَ ذلك قال سفيانُ، وهشامٌ: ويُدَخَّنُ عليهم. قال أحمدُ: أهلُ الشامِ أعْلَمُ بهذا. ¬

(¬1) في باب كراهية أن يعذب بالنار، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 244.

1398 - مسألة: (وإذا ظفر بهم، لم يقتل صبى، ولا امرأة، ولا راهب، ولا شيخ فان، ولا زمن، ولا أعمى، لا رأى لهم، إلا أن يقاتلوا)

وَإذَا ظُفِرَ بِهِمْ، لَمْ يُقْتَل صَبِىٌّ، وَلَا امْرَأةٌ، وَلَا رَاهِبٌ، وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، لَا رَأْىَ لَهُمْ، إِلَّا أنْ يُقَاتِلُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1398 - مسألة: (وَإذَا ظُفِرَ بِهِمْ، لَمْ يُقْتَل صَبِىٌّ، وَلَا امْرَأةٌ، وَلَا رَاهِبٌ، وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، لَا رَأْىَ لَهُمْ، إِلَّا أنْ يُقَاتِلُوا) إذا ظَفِرَ بالكُفَّارِ، لم يَجُزْ قَتْلُ صَبِىٍّ لم يبْلُغْ، بغيرِ خِلافٍ؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن قَتْلِ النِّساءِ والصِّبْيانِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1) ولأنَّ الصَّبِىَّ يَصِيرُ رَقِيقًا بنَفْسِ السَّبْى، ففى قَتْلِه إتْلافُ المالِ، وإذا سُبِىَ مُنْفَرِدًا صارَ مُسْلِمًا، فإتْلافُه إتْلافُ مَن يُمْكِنُ جَعْلُه مسلمًا. والبُلُوغ يحصُلُ [بأحَدِ ثَلاثةِ] (¬2) أشْياءَ؛ الاحْتِلامُ، وهو خُروجُ المَنِىِّ مِن ذَكَرِ الرجلِ أو قُبُلِ المرأةِ في يَقَظَةٍ أو مَنامٍ. ولا خِلافَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قتل الصبيان في الحرب، وباب قتل النساء في الحرب، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 74. ومسلم، في: باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1364. كما أخرجه أبو داود، في: باب في دعاء المشركين، وباب في قتل النساء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 36، 49. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن قتل النساء والصبيان، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 64. وابن ماجه، في: باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 947. والدارمى، في: باب النهى عن قتل النساء والصبيان، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 223. والإمام مالك، في: باب النهى عن قتل النساء والولدان. . .، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 447. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 256، 2/ 22، 23، 76، 91، 100، 115، 3/ 488، 4/ 178. (¬2) في م: «بثلاثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعَاذٍ: «خُذْ مِن كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا». وقال: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَام». رَواهما أبو داودَ (¬2). والثانى، نَباتُ الشَّعَرِ الخَشِنِ حَوْلَ القُبُلِ، وهو علامَةٌ على البُلُوغِ؛ لِما روَى عَطِيَّةُ القُرَظِىُّ، قال: كنْتُ مِن سَبْى قرَيْظَةَ، فكانُوا يَنْظُرُون، فمَن أنْبَتَ الشَّعَرَ قُتِلَ، ومَن لم يُنْبِتْ لم يُقْتَلْ، فكُنْتُ في مَن لم يُنْبِتْ. رَواه التِّرْمِذىُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ. وعن كَثِيرِ بنِ السَّائِبِ، قال: حدَّثَنى أَبْناءُ قُريظةَ، أنَّهم عُرِضُوا على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمَن كانَ منهم مُحْتَلِمًا أو نَبَتَتْ عانَتُه قُتِلَ، ومَن لا، تُرِكَ. أخْرَجَه الأثْرَمُ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ، أنَّ هذا بُلُوغٌ في حَقِّ الكُفّارِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلى قولِهم في الاحْتِلامِ وعَدَدِ السِّنين، وليس بعلامَةٍ عليه في المسلمين؛ لإِمْكانِ ذلك فيهم. ولَنا، قولُ أبى بَصْرَةَ، وعُقْبَةَ بنِ عامرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهما، حينَ ¬

(¬1) سورة النورة 59. (¬2) الأول تقدم تخريجه في 6/ 422. والثانى أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء متى ينقطع اليتيم، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 104. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 294. (¬3) في: باب ما جاء في النزول على الحكم، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 82. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الغلام يصيب الحد، من كتاب الحدود 2/ 453. وابن ماجه في: باب من لا يجب عليه الحد، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 849. والدارمى، في: باب حد الصبى متى يقتل، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 310، 383، 5/ 311، 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتُلِفَ في بُلوغِ [تَميمِ بنِ فِرَعٍ] (¬1) المَهْرِىِّ: انظرُوا، فإن كان قد أشْعَرَ، فاقْسِمُوا له. فنَظَرَ إليه بعضُ القوم، فإذا هو قد أنْبَتَ، فقَسَمُوا له. ولم يَظْهَرْ خِلافُه، فكان إجْماعًا. ولَأنَّ ما كان عَلَمًا على البُلُوغِ في حَقِّ الكافِرِ، كان عَلَمًا عليه في حَقِّ المُسْلِمِ، كالاحْتِلامِ، والسِّنِّ. وقولُهم: إنَّه يَتَعَذَّرُ في حَقِّ الكافرِ مَعْرِفَةُ الاحْتِلامِ والسِّنِّ. قُلْنا: لا تَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ السِّنِّ في الذِّمِّىِّ النّاشِئ بينَ المسلمين، ثم تَعَذُّرُ المَعْرِفَةِ لا يُوِجِبُ جَعْلَ ما ليس بعلامَةٍ علامَةً، [كغيرِ الإِنْباتِ] (¬2). الثالثُ، بُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سنةً؛ لِما روَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: عُرِضْتُ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا ابنُ أربعَ عَشْرَةَ، فلم يُجِزْنِى في القتالِ، وعُرِضْتُ عليه وأنا ابنُ خمسَ عَشْرَةَ، فأجَازَنى في المُقاتِلةِ. قال نافِعٌ: فحدَّثْتُ عُمَرَ ابنَ عبدِ العزِيزِ بهذا الحَدِيثِ، فقال: هذا فَصْلُ ما بينَ الرِّجال وبينَ الغِلْمانِ. مُتَّفقٌ عليه (¬3). وهذه العَلاماتُ الثَّلاثُ في حَقِّ الذَّكَرِ والأُنْثَى، تَزِيدُ الأُنْثَى بالحَمْلِ والحَيْضِ، فمَن لم يُوجَدْ فيه علامَةٌ منهُنَّ، فهو صَبِىٌّ يَحْرُمُ قَتْلُه. ¬

(¬1) في م: «قرع». وانظر: حاشية المشتبه 508. وذكر ابن عبد الحكم قصته، وقال: إنه شهد فتح الإسكندرية في المرة الثانية. فتوح مصر 178. (¬2) في م: «بغير الإثبات». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 9. وأثر نافع أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في حد بلوغ الرجل ومتى يفرض له، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 204. والإمام الشافعى، في: أول كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعى 2/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُقْتَلُ امْرَأةٌ، ولا شَيْخٌ فانٍ. وبذلك قال مالكٌ، وأصحابُ الرَّأْى. ورُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، ومُجاهدٍ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، في قولِه تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} (¬1). يقولُ: تَقْتُلوا النِّساءَ والصِّبْيان والشَّيْخَ الكَبِيرَ (¬2). وقال الشافعىُّ، في أحدِ قَوْلَيْه، وابنُ المُنْذِرِ: يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِين، واسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ (¬3)». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ. ولأنَّه يَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬5). [قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْرِفُ حُجَّةً في قولِ قَتْلِ الشُّيُوخِ، يُسْتَثْنَى بها مِن عُمُومِ قَوْلِه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}] (¬6). ولأنَّه كافِرٌ لا نَفْعَ في حياتِه، فيُقْتَلُ، كالشَّابِّ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأةً». رَواه أبو داودَ (¬7). ورُوِىَ عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه أوْصَى يزيدَ حينَ وَجَّهَه ¬

(¬1) سورة البقرة 190. (¬2) أخرجه ابن جرير في تفسيره 2/ 190. (¬3) شرخ: جمع شارخ، وهو الشاب. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في قتل النساء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 50. والترمذى، في: باب ما جاء في النزول على الحكم، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 81. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 12، 20. (¬5) سورة التوبة 5. (¬6) سقط من: م. (¬7) في: باب في دعاء المشركين، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الشامِ، فقال: لا تَقْتُلِ امْرأةً، ولا صَبِيًّا، ولا هَرِمًا. وعن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه أوْصَى سَلَمَةَ بنَ قَيْسٍ، فقال: لا تَقْتُلُوا (¬1) امْرَأَةً، ولا صَبِيًّا، ولا شَيْخًا هَرِمًا. رَواهما سعيدٌ (¬2). ولأنَّه ليس مِن أهلِ القِتالِ، فلا يُقْتَلُ، كالمرْأةِ. وقد أوْمَأَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذه العِلَّةِ في المرأةِ، فقال: «مَا بَالُهَا قُتِلَتْ وَهِىَ لَا تُقَاتِلُ؟» (¬3). والآيةُ مَخصُوصَةٌ بما رَوَيْنا، ولأنَّه قد خَرَج عن عُمُومِها المرأةُ، والشَّيْخُ الهَرِمُ في معْناها. وحدِيثُهم أرادَ به الشُّيوخَ الذين فيهم قُوَّةٌ على القِتالِ، ومَعُونَةٌ عليه، برَأْيٍ أو تَدْبِيرٍ، جَمْعًا بينَ الأحاديثِ، ولأنَّ حدِيثَنا خاصٌّ في [الشَّيْخِ الهَرِمِ] (¬4)، وحدِيثَهم عامٌّ في الشُّيُوخِ، والخاصُّ يُقَدَّمُ على العامِّ، وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بالعَجُوزِ التى لا نَفْعَ فيها. ولا يُقْتَلُ خُنْثَى مُشْكِلٌ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كوْنُه رَجُلًا. فصل: ولا يُقْتَلُ زَمِنٌ، ولا أعْمَى، ولا راهِبٌ، والخِلافُ فيهم كالخِلافِ في الشَّيْخِ و [حُجَّتُهم ههُنا] (¬5) حُجَّتُهم فيه. ولَنا، أنَّ الزَّمِنَ ¬

(¬1) في م: «تقتل». (¬2) الأول تقدم تخريجه في صفحة 25. والثانى لم نجده فيما بين أيدينا من سنن سعيد. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في قتل النساء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 49، 50. وابن ماجه، في: باب الغارة والبيات وقتل النساء. . .، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 948. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 112، 3/ 488، 4/ 178. (¬4) في الأصل: «الشيوخ الهم». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعْمَى، لَيْسَا مِن أهْلِ القِتالِ، أشْبَهَا المرأةَ، ولأنَّ في حديثِ أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: وسَتَمُرُّونَ على أقْوام في صَوَامِعَ لهم، احْتَسَبُوا أنْفُسَهم فيها، فدَعْهُم حتَّى يُمِيتَهم اللَّهُ عَلى ضَلَالَتِهم. ولأنَّهم لا يُقاتِلُون تَدَيُّنًا، فأَشبَهُوا مَن لا يَقدِرُ على القِتالِ. فصل: ولا يُقْتَلُ العَبيدُ. وبه قال الشافعىُّ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أدْرِكُوا خَالِدًا، فَمُرُوهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ ذُرْيَّةً -وَلَا عَسِيفًا» (¬1). وهم العَبِيدُ، ولأنَّهم يصيرونَ رَقِيقًا للمسلمين بنَفْسِ السَّبْىِ، أشْبَهُوا النِّساءَ والصِّبْيانَ. فصل: ومَن قاتَلَ ممَّن (¬2) ذَكَرْنا جَميعِهم، جازَ قَتْلُه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَلَ يومَ قُرَيْظَةَ امرأةً ألْقَتْ رَحًا على محمودِ بنِ مَسْلَمَةَ (¬3). ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهما، قال: مَرَّ النبىُّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في قتل النساء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 50. وابن ماجه، في: باب الغارة والبيات. . .، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 948. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 488، 4/ 178. (¬2) في م: «مما». (¬3) في م: «سلمة». وانظر ما أخرجه الواقدى، في المغازى 2/ 645، 658. وابن حجر، في الإصابة 6/ 43، فقد ذكرا أن هذا كان يوم خيبر، لا يوم بنى قريظة، وأن الذى ألقى عليه الحجر مرحب. والذي قتلته المرأة يوم بنى قريظة هو خلاد بن سويد. انظر السيرة، لابن هشام 2/ 242، والسيرة الحلبية 2/ 668.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- بامرأةٍ مَقْتُولَةٍ يومَ الخَنْدَقِ، فقال: «مَنْ قَتَلَ هذِهِ؟». قال رَجُلٌ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ. قال: «وَلِمَ؟». قال: نازَعَتْنِى قائِمَ سَيْفِى. قال: فسَكَتَ (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَفَ على امرأةٍ مَقْتُولَةٍ، فقال: «مَا بَالُهَا قُتِلَتْ، وَهِى لَا تُقَاتِلُ؟» (¬2). وفيه دَلِيلٌ على أنَّه إنَّما نَهَى عن قَتْلِ المرأةِ إذا لم تُقاتِلْ، وكذلك مَن كان مِن هؤلاء الرِّجالِ المذْكُورِين ذا رَأْىٍ يُعينُ به في الحرْبِ، جازَ قَتْلُه؛ لأنَّ دُرَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يومَ حُنَيْنٍ، وهو شَيْخٌ لا قِتالَ فيه، وكانوا خَرَجُوا به معهم يتَيَمَّنُون به، ويَسْتَعِينُون برأْيِه، فلم يُنْكِرِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتْلَه (¬3). ولأنَّ الرَّأْى مِن أعْظَمِ المَعُونَةِ في الحَرْبِ، ورُبَّما كان أَبلَغَ مِن القِتالِ كما قال المتنبى (¬4): الرَّأْىُ قبلَ شجاعَةِ الشُّجْعَانِ … هو أوَّلٌ وهْى المحلُّ الثّانِى فإذا هما اجْتَمَعا لنَفْس مُرَّةٍ … بلَغَت مِن العَلْيَاءِ كلَّ مكانِ ولَرُبَّما طَعَنَ الفَتَى أقْرانَه … بالرَّأْىِ قبلَ تَطاعُنِ الفُرْسانِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 256. وعبد الرزاق، في: باب عقر الشجر بأرض العدو، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 201، 202. وابن أبى شيبة، في: باب ما يمتنع به من القتل. . .، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 384، 385. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 71. (¬3) انظر ما أخرجه البخارى، في: باب غزاة أوطاس، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 197. والبيهقى، في: باب قتل من لا قتال فيه من الكفار جائز. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 91، 92. (¬4) في: ديوانه 412.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد جاء عن مُعاوِيَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال لمَرْوانَ والأسْوَدِ: أمْدَدْتُما عَلِيًّا بقَيْسِ بنِ سعدٍ (¬1)، وبرأْيِه ومُكايَدَتِه، فوَاللَّهِ لو أنَّكما أمْدَدْتُما بثمانِيَةِ آلافِ مُقاتلٍ، ما كان بأغْيَظَ لِى مِن ذلك (¬2). فأمَّا المَرِيضُ فيُقْتَلُ إذا كان ممَّن لو كان صَحِيحًا قاتَلَ؛ لأنَّه كالإِجْهازِ على الجَرِيحِ، فإن كان مَأْيُوسًا مِن بُرْئهِ، فهو بمَنْزِلَةِ الزَّمِنِ، فلا يُقْتَلُ؛ لأنَّه لا يُخافُ منه أن يصيرَ إلى حالٍ يُقاتِلُ فيها. فصل: فأمّا الفَلَّاحُ الَّذى لا يُقاتِلُ، فيَنْبَغِى أن لا يُقْتَلَ؛ لِما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: اتَّقُوا اللَّهَ في الفَلَّاحِين، الذين لا يَنْصِبُون لكم الحَرْبَ (¬3). وقال الأوْزَاعِىُّ: لا يُقْتَلُ الحَرّاثُ، إذا عُلِمَ أنَّه ليس مِنَ المُقاتِلَةِ. وقال الشافعىُّ: يُقْتَلُ؛ إلَّا أن يُؤَدِّىَ الجِزْيَةَ؛ لدُخُولِه في عُمُومِ المُشْرِكين. ولَنا، قولُ عُمَرَ، ولأنَّ الصحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، لم ¬

(¬1) هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصارى، وكان من النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، وكان من دهاة العرب، وكان على مقدمة على يوم صفين، ثم هرب من معاوية سنة ثمان وخمسين، وسكن تفليس، ومات بها في ولاية عبد الملك بن مروان. تهذيب التهذيب 8/ 395، 396. (¬2) الخبر في: سير أعلام النبلاء 3/ 110. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ترك قتل من لا خال فيه. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 91. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في قتل النساء والولدان، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 239.

1399 - مسألة: (فإن تترسوا بهم، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة)

فَإِنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ، جَازَ رَمْيُهُمْ، وَيَقْصِدُ الْمُقَاتِلَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْتُلُوهم حينَ فَتَحُوا البِلادَ، ولأنَّهم لا يُقاتِلُون، أشْبَهُوا الشُّيُوخَ والرُّهْبانَ. 1399 - مسألة: (فَإن تَتَرَّسُوا بهم، جازَ رَمْيُهم، ويَقْصِدُ المُقاتِلَةَ) إذا تَتَرَّسُوا في الحرب بالنِّساء والصِّبْيانِ ومَن لا يجوزُ قَتْلُه، جازَ رَمْيُهم، ويَقْصِدُ المُقاتِلَةَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَماهُم بالمَنْجَنِيقِ ومعهم النِّساءُ والصِّبْيانُ، ولأنَّ كَفَّ المُسْلِمِين عنهم يُفْضِى إلى تَعْطِيلِ الجِهادِ؛ لأنَّهم متى عَلِمُوا ذلك تَتَرَّسُوا بهم عندَ خَوْفِهم، وسَواءٌ كانتِ الحربُ مُلْتَحِمَةَ أوْ لَا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يتَحَيَّنُ بالرَّمْى حالَ الْتِحامِ الحَرْبِ. فصل: ولو وَقَفَتِ امرأةٌ في صَفِّ الكُفّارِ، أو على حِصْنِهم، فشَتَمَتِ المسلمين، أو تَكشَّفَتْ لهم، جازَ رَمْيُها قَصْدًا؛ لِما روَى سعيدٌ (¬1): حدَّثَنا حَمّادُ بنُ زيدٍ، عن أيُّوبَ، عن عِكْرِمَةَ، قال: لمّا حاصَرَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الطّائِفَ، أشْرَفَتِ امرأةٌ، فكَشَفَتْ عن قُبُلِها، فقالتْ: هادُونَكُمْ فارْمُوا. فرَمَاها رَجُلٌ مِن المسلمين، فما أخْطأ ذاك منها. ويجوزُ النَّظَرُ إلى فَرْجِها للحاجَةِ إلى رَمْيِها؛ لأنَّه مِن ضَرُورَتِه. وكذلك يجوزُ رَمْيُها إذا كانت تَلْتَقِطُ لهم السِّهامَ، أو تَسْقِيهمُ الماءَ، أو تُحَرِّضُهم على القِتالِ؛ لأنَّها في مَعْنَى المُقاتِلِ. وكذلك الحُكْمُ في الصَّبِىِّ ¬

(¬1) في: باب جامع الشهادة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 311. كما أخرجه البيهقى: باب المرأة تقاتل فتقتل، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 82.

1400 - مسألة: (وإن تترسوا بمسلمين، لم يجز رميهم، إلا أن يخاف على المسلمين، فيرميهم، ويقصد الكفار)

وَإِن تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، إِلَّا أَنْ يخافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْمِيَهُمْ، وَيَقْصِدُ الْكُفَّارَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّيْخِ وسائِرِ مَن مَنَعْنا قَتْلَه منهم. 1400 - مسألة: (وَإِن تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ، إِلَّا أَنْ يخافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْمِيَهُمْ، وَيَقْصِدُ الْكُفَّارَ) إذا تَتَرَّسُوا بمسلمٍ، ولم تَدْعُ حاجَةٌ إلى رَمْيِهم؛ لكَوْنِ الحَرْبِ غيرَ قائِمَةٍ، أو لإِمْكانِ القُدْرَةِ عليهم بدُونِه، أو للأمْنِ مِن شَرِّهم، لم يَجُزْ رَمْيُهُم. فإن رَماهُم فأصابَ مُسْلِمًا، فعليه ضَمانُه. وإن دَعَتِ الحاجَةُ إلى رَمْيِهم للخَوْفِ على المسلمين، جازَ رَمْيُهم للضَّرُورَةِ، ويَقْصِدُ الكُفّارَ. فإن لم يَخَفْ على المسلمين، لكنْ لم يُقْدَرْ عليهم إلَّا بالرَّمْى، فقال الأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ: لا يجوزُ رَمْيُهم. وهو ظاهِرُ كلامِه في هذا الكِتابِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى:

1401 - مسألة: (ومن أسر أسيرا، لم يجز له قتله حتى يأتى به الإمام، إلا أن يمتنع من السير معه ولا يمكنه إكراهه)

وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ قَتْلُهُ حَتَّى يَأْتِىَ بِهِ الإمَامَ، إِلَّا أنْ يَمْتَنِعَ مِنَ السَّيْرِ مَعَهُ وَلَا يُمْكِنَهُ إكْرَاهُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} (¬1) الآية. قال اللَّيْثُ: تَرْكُ فَتْحِ حِصْن يُقْدَرُ على فَتْحِهِ، أفْضَلُ مِن قَتْلِ مسلم بغيرِ حَقٍّ. وقال القاضى: يجوزُ رَمْيُهم حالَ قِيامِ الحَرْبِ؛ لأنَّ تَرْكَه يُفْضِى إلى تَعْطِيلِ الجِهادِ. فعلى هذا، إن قَتَلَ مسلمًا، فعليه الكَفّارَةُ، وفى وُجُوبِ الدِّيَةِ على العاقِلَةِ رِوايتان، ووَجْهُهما يُذْكَرُ في مَوْضِعِه. وقال أبو حنيفةَ: لا دِيَةَ له (¬2)، ولا كَفَّارَةَ فيه؛ لأنَّه رَمْى أُبِيحَ مع العِلْمِ بحَقِيقَةِ الحالِ، فلم يُوجِبْ شَيْئًا، كرَمْى مَنْ أُبِيحَ رَمْيُه. ولَنا، قولُه تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬3). ولأنَّه قَتَلَ مَعْصُومًا بالإِيمانِ، وهو مِن أهْلِ الضَّمانِ، أشْبَهَ ما لو لم يُتَتَرَّسْ به. 1401 - مسألة: (وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ قَتْلُهُ حَتَّى يَأْتِىَ بِهِ الإمَامَ، إِلَّا أنْ يَمْتَنِعَ مِنَ السَّيْرِ مَعَهُ وَلَا يُمْكِنَهُ إكْرَاهُهُ) لا يجوزُ لمَن أسَرَ ¬

(¬1) سورة الفتح 25. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة النساء 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسِيرًا قَتْلُه حتَّى يَأْتِىَ بهِ الإِمامَ، فيرَى فيه رَأْيَه؛ لأنَّه إذا صارَ أَسِيرًا، فالْخِيَرَةُ فيه إلى الإِمامِ. وقد رُوِى عن أحمدَ كلامٌ يَدُلُّ على إباحَةِ قَتْلِه، فإنَّه قال: لا يَقْتُلُ أسِيرَ غيرِه إلَّا أن يشاءَ الوالِى. فمَفْهُومُه أنَّ له قَتْلَ أسِيرِه بغيرِ إذْنِ الوالِى؛ لأنَّ له أن يَقْتُلَه ابْتِداءً، فكان له قَتْلُه دَوامًا، كما لو هَرَب منه أو قاتَلَه. فإنِ امْتَنَعَ الأسِيرُ أن ينْقادَ معه، فله إكْراهُه بالضَّرْبِ وغيرِه، فإن لم يُمْكِنْ إكْراهُه، فله قَتْلُه. وكَذلك إن خافَه، أو خافَ هَرَبَه. وإنِ امْتَنَعَ مِن الانْقِيادِ معه بجُرْحٍ أو مرضٍ، فله قَتْلُه. وتَوَقَّفَ أحمدُ عن قَتْلِه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، كالتَّذْفِيفِ (¬1) على الجَرِيحِ، ولأنَّ تَرْكَه حَيًّا ضَرَرٌ على المسلمين، وتَقْوِيَةٌ للكُفَّارِ، فتَعَيَّنَ القَتْلُ، كحالَةِ الابتِداءِ، وكَجَرِيحِهم إذا لم يأْسِرْه. فأمَّا أسِيرُ غيرِه، فلا يجوزُ قَتْلُه إلَّا أن يَصِيرَ إلى حالٍ يجوزُ قَتْلُه لمَن أسَرَه. وقد روَى يحيى بنُ أبى كَثِيرٍ (¬2)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا يَتَعَاطَيَنَّ أحَدُكُمْ أسِيرَ صَاحِبِه إذَا أخَذَه فَيَقْتُلَهُ». رَواه سعيدٌ (¬3). فإن قَتَل أسِيرَه، أو أسِيرَ غيرِه قبلَ ذلك، أساءَ، ولا ضَمانَ ¬

(¬1) ذفَّف على الجريح: أجهز عليه. (¬2) في النسح: «بكير». والمثبت من سنن سعيد، وانظر: المغنى 13/ 52. (¬3) في: باب قتل الأسارى والنهى عن المثلة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 252. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وبه قال الشافعىُّ. وقال الأوْزَاعِىُّ: إن قَتَلَه قبلَ أن يَأْتِىَ به الإِمامَ، لم يَضْمَنْه، وإن قَتَلَه بعدَ ذلك، ضَمِنَه؛ لأنَّه أتْلَفَ مِن الغَنِيمَةِ ما لَه قِيمِةٌ، فضَمِنَه بقِيمَتِه، كما لو قَتَلَ امرأةً. ولنَا، أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عَوْفٍ أَسَرَ أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ وابنَه عليًّا يومَ بَدْرٍ، فرآهما بلالٌ، فاسْتَصْرَخَ الأنْصارَ عليهما حتَّى قَتَلُوهما، ولم يَغْرَمُوا شيئًا (¬1). ولأنَّه أتْلَفَ ما ليس بمالٍ، فلم يَغْرَمْه، كما لو أتْلَفَه قبلَ أن يَأْتِىَ به الإِمامَ، ولأنَّه أتْلَفَ ما لا قِيمَةَ له قبلَ أن يَأْتِىَ به الإِمامَ، فلم يَغْرَمْه، كما لو أتْلَفَ كَلْبًا، فأمَّا إن قَتَل امرأةً أو صَبِيًّا، ضَمِنَه؛ لأنه صارَ رَقِيقًا بنَفْسِ السَّبْى. فصل: ومَن أمَرَ أسِيرًا، فادَّعى أنَّه كان مسلمًا، لم يُقْبَلْ قولُه إلَّا بِبَيِّنةٍ؛ لأنَّه يَدَّعِى أمْرًا الظَّاهِرُ خلافُه، يتَعَلَّقُ به إسْقاطُ حَقٍّ تَعَلَّقَ برَقَبَتِه. فإنْ شَهِدَ له واحدٌ، حَلَف معه، وخُلِّىَ سَبِيلُه. وقال الشافعىُّ: لا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْن؛ لأنَّه ليس بمالٍ، ولا يُقْصَدُ منه المالُ. ولَنا، ما روَى ¬

(¬1) أخرجه البخارى بمعناه، في: باب قتل أبى جهل، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 96. وذكر الواقدى خبرهما بتمامه، في: المغازى 1/ 82 - 84.

1402 - مسألة: (ويخير الأمير فى الأسرى؛ بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء بمسلم، أو بمال. وعنه، لا يجوز بمال، إلا غير الكتابى، ففى استرقاقه روايتان. ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين)

وَيُخَيَّرُ الْأَميرُ في الْأَسْرَى؛ بَيْنَ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ، وَالْفِدَاءِ بِمُسْلِمٍ، أو بِمَالٍ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ بِمَالٍ، إلَّا غيْرَ الْكِتَابِىِّ، فَفِى اسْتِرْقَاقِهِ رِوَايَتَانِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ إِلَّا الأصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال يومَ بَدْرٍ: «لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أحَدٌ إلَّا أنْ يُفْدَى، أوْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ». فقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: إلَّا سُهَيْلَ بنَ بَيْضاءَ، فإنِّى سَمِعْتُه يذْكُرُ الإِسْلامَ. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إلَّا سُهيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» (¬1). فقَبِلَ شَهادةَ عبدِ اللَّهِ وحدَه. 1402 - مسألة: (وَيُخَيَّرُ الْأمِيرُ في الْأَسْرَى؛ بَيْنَ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ، وَالْفِدَاءِ بِمُسْلِمٍ، أو بِمَالٍ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ بِمَالٍ، إلَّا غيْرَ الْكِتَابِىِّ، فَفِى اسْتِرْقَاقِهِ رِوَايَتَانِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ إِلَّا الأصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ) وحملةُ ذلك، أنَّ مَن اسِرَ مِن دارِ الحَرْبِ على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب سورة الأنفال، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 217 - 219. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 383، 384.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُها، النِّساءُ والصِّبْيانُ، فلا يجوزُ قَتْلُهم، بغيرِ خِلافٍ، ويَصِيرُونَ رَقِيقًا للمسلمين بنَفْسِ السَّبْى، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن قَتْل النِّساءِ والوِلْدانِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يَسْتَرِقُّهم إذا سَباهم. الثانى، الرجالُ مِنْ أهْلِ الكِتابِ. والمَجُوسِ الذين يُقَرُّون بالجِزْيَةِ، فيتَخَيَّرُ الإِمامُ فيهم بينَ أربعةِ أشْياءَ، القتلُ، والمَنُّ بغيرِ عِوَضٍ، والمُفاداةُ بِهم، واسْتِرْقاقُهم. الثالثُ، الرِّجالُ ممَّن لا يُقَرُّ بالجِزْيَةِ، فيُخَيَّرُ الإِمامُ فيهم بينَ القَتْلِ والمَنِّ والفِداءِ، ولا يجوزُ اسْتِرْقاقُهم، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. اخْتارَها الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الشافعىِّ. والثانيةُ، يجوزُ اسْتِرْقاقُهم، لأنَّه كافِرٌ أصْلِىٌّ، أشْبَهَ أهْلَ الكِتابِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ جَوازُ اسْتِرْقاقِهم مَبْنِيًّا على أخْذِ الجِزْيَةِ منهم، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قُلْنا بجوازِها، جازَ اسْتِرْقاقُهم، وإلَّا فلا. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ في العَجَمِ دُونَ العَرَبِ. بِناءً على قولِه في أخْذِ الجِزْيَةِ منهم. ولَنا، أنَّه كافِرٌ لا يُقَرُّ بالجِزْيَةِ، فلم يَجُزِ اسْتِرْقاقُه، كالمُرْتَدِّ، والدَّليلُ على أنَّه لا يُقَرُّ بالجِزْيَةِ يُذْكَرُ في بابِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، إن شاء اللَّه تعالى. فصل: وبما ذَكَرْنا في أهْلِ الكتابِ قال الأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وعن مالِكٍ كمَذْهَبِنا. وعنه، لا يجوزُ المَنُّ بغيرِ عِوَضٍ؛ لأنَّه لا مَصْلَحَةَ فيه، وإنَّما يجوزُ للإِمامِ فِعْلُ ما فيه المَصْلَحَةُ. وحُكِىَ عن الحَسنِ، وعَطَاءٍ، وسعيدِ بن جُبَيْرِ، كرَاهِيَةُ قَتْلِ الأسْرَى، وقالوا: لو مَنَّ عليه أو فاداه كما صُنِعَ بأُسارَى بَدْرٍ. ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬1). فخَيَّرَه بعدَ الأسْرٍ بَينَ هَذَيْن لا غيرُ. وقال أصحابُ الرَّأْى: إن شاءَ قَتَلَهم، وإن شاءَ اسْتَرَقَّهم، ¬

(¬1) سورة محمد 4

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا غير، ولا فِدَاءَ، لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1). بعدَ قوْلِه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. وكان عمرُ ابنُ عبدِ العزيزِ، وعِياضُ بنُ عُقْبَةَ يَقْتُلان الأُسارَى. ولَنا على جَوازِ المَنِّ والفِداءِ، الآيةُ المذْكُورةُ، وأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنَّ على ثُمامَةَ بنَ أُثالٍ (¬2)، وأبى عَزَّةَ الشاعِرِ (¬3)، وأبى العاصِ بنِ الرَّبِيعِ (¬4)، وقال في أُسارَى بدرٍ: «لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأْلَنِى في (¬5) هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، ¬

(¬1) سورة التوبة 5. (¬2) أخرج حديث ثمامة، البخارى، في: باب الأسر أو الغريم يربط في المسجد؛ وباب دخول المشرك المسجد، من كتاب الصلاة، وفى: باب وفد بنى حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، من كتاب المغازى، صحيح البخارى 1/ 125، 127، 5/ 214، 215. ومسلم، في: باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 186. وأبو داود، في: باب في الأسير يوثق، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 52. والنسائى مختصرا، في: باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم، من كتاب الطهارة. وفى: باب ربط الأسر بسارية المسجد، من كتاب الصلاة. المجتبى 1/ 91، 92، 2/ 36. والبيهقى، في: باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 65، 66. (¬3) سيأتى أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قتله يوم أحد وأخرجه البيهقى، في الباب السابق. السنن الكبرى 9/ 65، وذكر الواقدى قصته، في: المغازى 1/ 110، 111، 142، 201، 308، 309. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في فداء الأسير بالمال، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود، 2/ 56، 57. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ» (¬1). وفادَى أُسارَى بَدْرٍ (¬2)، وفادَى يومَ بَدْرٍ (¬3) رَجُلًا برَجُلَيْن (¬4)، وصاحِبَ العَضْباءِ برَجُلَيْن (¬5). وأمَّا القَتْلُ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَل رجالَ بنى قُرَيْظَةَ (¬6)، وقَتَل يومَ بَدْرٍ النَّضْرَ بنَ الحارِثِ، وعُقْبَةَ بنَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما مَنَّ النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأسارى من غير أن يخمس، من كتاب فرض الخمس. صحيح البخارى 4/ 111. وأبو داود، في: باب في المن على الأسير بغير فداء، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 56. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 80. وعبد الرزاق، في: باب قتل أهل الشرك صبرا وفداء الأسرى، من كتاب الجهاد. المصنف 2/ 209. والبيهقى، في: باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 67. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المنّ على الأسير بغير فداء، من كتاب. الجهاد. سنن أبى داود 2/ 56. (¬3) سقط من: الأصل، وفى م: «أحد». وانظر: المغنى 13/ 46. (¬4) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 63. والدارمى، في: باب في فداء الأسارى، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 426، 432. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب لا وفاء لنذر في معصية اللَّه ولا فيما لا يملك العبد، من كتاب النذر. صحيح مسلم 3/ 1262، 1263. وأبو داود، في باب النذر فيما لا يملك، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبى داود 2/ 214. والدارمى، في: باب إذا أحرز العدو من مال المسلمين، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 236، 237. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 430، 433، 434. (¬6) أخرجه البخارى، في: باب إذا نزل العدو على حكم رجل، من كتاب الجهاد. وفى: باب مناقب سعد ابن معاذ، من كتاب مناقب الأنصار. وفى: باب مرجع النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب، من كتاب المغازى. وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قوموا الى سيدكم»، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 4/ 81، 82، 5/ 44، 143، 8/ 72. ومسلم، في: باب جواز قتال من نقض العهد، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1388، 1389. والترمذى، في: باب ما جاء في النزول على الحكم، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 78، 79. والدارمى، في: باب نزول أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 238. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 22، 71، 350، 6/ 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى مُعَيْطٍ صَبْرًا (¬1)، وقَتَلَ أبا عَزَّةَ يومَ أُحُدٍ. وهذه قصصٌ اشْتُهِرَتْ وعُلِمَتْ، وفَعَلَها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّاتٍ، وهو دليل على جَوازِها. ولأنَّ كلَّ خَصْلَةٍ يِن هذه الخِصالِ قد تَكُونُ أصْلَحَ في بَعْضِ الأسْرَى؛ فإنَّ فيهم مَن له قُوَّة ونِكايَةٌ في المسلمين، فقَتْلُه أصْلَحُ، ومنهم الضَّعِيفُ الَّذى له مالٌ كثيرٌ، ففِداؤُه أصْلَحُ، ومنهم حَسَنُ الرَّأْى في المسلمين، يُرْجَى إسْلامُه بالمَنِّ عليه، أو مَعُونَتُه للمسلمين بتَخْلِيصِ أَسْراهم، أو الدَّفْعِ عنهم، فالمَنُّ عليه أصْلَحُ، ومنهم مَن يُنْتَفَعُ بخِدْمَتِه، ويُؤْمَنُ شَرُّه، فاسْتِرْقاقُه أصْلَحُ، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ، والإِمامُ أعْلَمُ بالمَصْلَحَةِ، ففُوِّضَ ذلك إليه. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ هذا تَخْييرُ مَصْلَحَةٍ واجْتِهادٍ، لا تَخْييرُ شَهْوَةٍ، فمتى رَأى المَصْلَحَةَ في خَصْلَةٍ، لم يَجُزِ اخْتِيارُ غيرِها؛ لأنَّه يتَصَرَّف لهم على سَبِيلِ النَّظَرِ لهم، فلم يَجُزْ له تَرْكُ ما في الحَظُّ، كوَلِىِّ اليَتِيمِ. ومتى حَصَل عندَه تَرَدُّدٌ في هذه الخِصالِ، فالقَتْلُ أوْلَى. قال مُجاهِدٌ في أمِيرَيْن، أحَدُهما، يَقْتُلُ الأسْرَى: وهو أفْضَلُ. وكذلك قال مالِكٌ. ¬

(¬1) أخرج حديث قتل النضر وعقبة، ابن أبى شيبة، في: باب غزوة بدر الكبرى، من كتاب المغازى. المصنف 14/ 372. والبيهقى، في: باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 64، 65. وأخرج حديث قتل عقبة أبو داود، في: باب في قتل الأسير صبرا، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 55. وعبد الرزاق، في: باب في قتل أهل الشرك صبرا وفداء الأسرى، وباب من أسر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل بدر، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 205، 206، 352.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال إسْحاقُ: الإِثْخانُ أُحَبُّ إلىَّ إلَّا أن يكونَ معروفًا يَطْمَعُ به في الكَثيرِ. فمتى رَأْى القَتْلَ، ضَرَب عُنُقَه بالسَّيْفِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ بِضَرْب أعْناقِ الذين قَتَلَهم. ولا يجوزُ التَّمْثِيلُ بهِ؛ لِما روَى بُرَيْدَةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أمَّرَ رَجُلًا على جَيْشٍ أو سَرِيَّةٍ، قال: «اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، ولا تُعَذِّبُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا» (¬2). وإنِ اخْتارَ الفِداءَ، جازَ أن يَفْدِىَ بهم أُسارَى المسلمين، وجازَ بالمالِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَ الأمْرَيْنِ. وفيه رِواية أُخْرَى، أنَّه لا يجوزُ بمالٍ، كما لا يَجُوزُ بَيْعُ رَقِيقِ المسلمين للكُفّارِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن، ولأنَّه إذا لم يَجُزْ أن نَبِيعَهم السِّلاحَ؛ لِما ¬

(¬1) سورة محمد 4. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث. . . إلخ، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1357، 1358. وأبو داود، في: باب في دعاء المشركين، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 35، 36. والترمذى، في: باب ما جاء في وصيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في القتال، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 118، 119. وابن ماجه، في: باب وصية الإمام، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 953، 954. والدارمى، في: باب وصية الإمام في السرايا من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 215 - 217. والإمام مالك، في: باب النهى عن قتل النساء والولدان في الغزو، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 448. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 300، 4/ 240، 5/ 352، 358.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه مِن تَقْوِيَتهم على المسلمين، فبَيْعُ أنْفُسِهم أوْلَى. ومَنَع أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، مِن فداءِ النِّساءِ بالمالِ؛ لأنَّ في بَقائِهنَّ تَعْرِيضًا لهُنَّ للإِسْلامِ، لبَقائِهِنَّ عندَ المسلمين، وجَوَّزَ أن يُفادَى بِهنَّ أُسارَى المُسْلِمِين؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فادَى بالمرأةِ التى أخَذَها مِن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ (¬1). ولأنَّ في ذلك اسْتِنْقاذَ مُسْلمٍ مُتَحَقِّقٍ إسْلامُه، فاحْتَمَلَ تَفْوِيتَ غَرَضِيَّةِ الإِسْلامِ مِن أجْلِه، ولا يَلْزَمُ مِن ذلك احْتِمالُ فِدائِها لتَحْصيلِ المالِ. فأمَّا الصِّبْيانُ، فقال أحمدُ: لا يُفادَى بهم؛ لأنَّ الصَّبِىَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا بإسْلامِ سابِيه، فلا يَجُوزُ رَدُّه إلى المُشْرِكِين، وكذلك المرأةُ إذا أسْلَمَتْ، لا يَجُوزُ رَدُّها إلى الكُفَّارِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). وإن كان الصَّبِىُّ غيرَ مَحْكُومٍ بإسْلامِه، كمَن سُبِىَ مع أبوَيْهِ، لم يَجُزْ فِدَاؤُه بمالٍ، كالمرأةِ، ويجوزُ فِداؤُه بمسلمٍ، في أحَدِ الوَجْهَيْن. فصل: ومَن اسْتُرِقَّ منهم أو (¬3) فُودِىَ بمالٍ، كان الرَّقِيقُ والمالُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1375، 1376. وأبو داود، في: باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 58، 59. وابن ماجه، في: باب فداء الأسارى، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 949. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 46، 47، 51. (¬2) سورة الممتحنة 10. (¬3) بعده في م: «بلغ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للغانِمينَ، حُكْمُه حُكْمُ الغنيمةِ، لا نعلمُ في هذا خِلافًا، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم فِداءَ أُسارَى بَدْرٍ بينَ الغانِمين (¬1). ولأنَّه مالٌ غَنِمَه المسلمون، أشْبَهَ الخيلَ والسِّلاحَ. فإن قِيلَ: فالأسِيرُ لم يكُنْ للغانِمين فيه حَقٌّ، فكيفَ تَعَلَّقَ حَقُّهم ببَدَلِه؟ قُلْنا: إنَّما يَفْعْلُ الإِمامُ في الأسيرِ ما يَرَى فيه المصْلَحَةَ؛ لأنَّه لم يَصِرْ مالًا، فإذا صارَ مالًا، تَعَلَّقَ حَقُّ الغانِمين به؛ لأنَّهم أسَرُوه وقَهَرُوه، وهذا غيرُ مُمْتَنِعٍ، ألا تَرَى أنَّ مَن عليه دَيْنٌ، إذ، قُتِلَ قَتْلًا يُوجِبُ القِصاصَ، كان لوَرَثَتِه الخيارُ بينَ القَتْلِ والعَفْوِ إلى الدِّيَةِ، فإذا اخْتارُوا الدِّيَةَ تَعَلَّقَ حَقُّ الغُرماءِ بها. فصل: فإن سأَلَ الأُسارَى مِن أهْلِ الكتابِ تخْلِيَتَهم على إعْطاءِ الجِزْيَةِ، لم يَجُزْ ذلك في صِبْيانِهم ونِسائِهم؛ لأنَّهم صارُوا غَنِيمَةً بالسَّبْى، ويَجُوزُ في الرِّجالِ، ولا يزولُ التَّخْيِيرُ الثابِتُ فيهم وقال أصحابُ الشافعىِّ: يَحْرُمُ قَتْلُهم، كما لو أسْلَمُوا. ولَنا، أنَّه بَدلٌ [لا تَلْزَمُ] (¬2) الإِجابَةُ إليه، فلم يَحْرُمْ قَتْلُهم، كبَدَلِ عَبَدَةِ الأوْثَانِ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في فداء أسارى بدر في صفحة 84. (¬2) في م: «تجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أُسِرَ العَبْدُ، صارَ رَقِيقًا للمسلمين؛ لأنَّه مالٌ لهم اسْتُولِىَ عليه، فكان للغانِمين، كالبَهِيمَةِ، فإن رَأَى الإِمامُ قَتْلَه لضَرَرٍ في إبْقائِه، جازَ، لأنَّ مثلَ هذا لا قِيمَةَ له، فهو كالمُرْتَدِّ، وأمَّا مَن يَحْرُمُ قَتْلُهم غيرَ النِّساءِ والصِّبْيانِ، كالشَّيْخِ والزَّمِنِ والأعْمَى والرَّاهِبِ، فلا يَحِلُّ سَبْيُهم؛ لأنَّ قَتْلَهم حرامٌ، ولا نَفْعَ في اقْتِنائِهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ذكر أبو بكرٍ أنَّ الكافِرَ إذا كان مَوْلَى مُسْلمٍ، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُه؛ لأنَّ في اسْتِرْقاقِه تفوِيتَ ولاءِ المُسْلمِ المَعْصُومِ. وعلى قَوْلِه، لا يُسْتَرَقُّ ولَدُه أيضًا إذا كان عليه وَلاءٌ؛ لذلك. وإن كان مُعْتِقُه ذِمِّيًّا، جازَ اسْتِرْقاقُه؛ لأنَّ سَيِّدَه يَجُوزُ اسْتِرْقاقُه، فاسْتِرْقاقُ مَوْلاه أوْلَى. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ جوازُ اسْتِرْقاقِه؛ لأنَّه لا يجوزُ قَتْلُه، وهو مِن أهْلِ الكتابِ، فجازَ اسْتِرْقاقُه، كغيرِه، ولأنَّ سَبَبَ جوازِ الاسْتِرْقاقِ قد تحقَّقَ فيه، وهو الاسْتِيلاءُ عليه، مع كونِ مَصْلَحَةِ المسلمين في اسْتِرْقاقِه، ولأنَّه إنْ كان المَسْبِىُّ امرأةً أو صَبِيًّا، لم يَجُزْ فيه سِوَى الاسْتِرْقاقِ، فيَتَعَيَّنُ ذلك فيه. وما ذكرُوه يَبْطُلُ بالقَتْلِ؛ فإنَّه يُفَوِّتُ الوَلاءَ، وهو جائِزٌ فيه، وكذلك يجوزُ اسْتِرْقاقُ مَن عليه وَلاء لذِمِّىٍّ.

1403 - مسألة: (فإن أسلموا رقوا فى الحال)

فَإنْ أسْلَمُوا رَقُّوا في الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوْلُه: إنَّ سَيِّدَه الذِّمِّىَّ يَجُوزُ اسْتِرْقاقُه. غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ الذِّمِّىَّ لا يَجُوزُ اسْتِرْقاقُه، ولا تَفْوِيتُ حُقُوقِه، وقد قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: إِنَّما بذَلُوا الجِزْيَةَ لتكونَ دِماؤُهم كدِمائِنا، وأموالُهم كأمْوالِنا (¬1). 1403 - مسألة: (فَإنْ أسْلَمُوا رَقُّوا في الْحَالِ) يَعْنِى إذا أسْلَمَ الأسِير صارَ رَقيقًا في الحالِ، وزالَ التَّخْيِير فيه، وصارَ حُكْمُهُ حُكْمُ النِّساءِ. وبه قال الشافعىُّ في أَحَدِ قَوْلَيْه؛ لأنَّه أسيرٌ مُحَرَّمٌ قَتْلُه، فصارَ رقيقًا، كالمرأةِ. وفيه قولٌ آخر، أنَّه يَحْرمُ قَتْلُه؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ دَمْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحْدَى ثلَاثٍ» (¬2). ويَتَخَيَّرُ بينَ الخِصَالِ ¬

(¬1) انظر: نصب الراية 3/ 381. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 31.

1404 - مسألة: (ومن سبى من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه،

وَمَنْ سُبِىَ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ أَحدِ أَبوَيْهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّلاثِ الباقيةِ؛ المَنِّ، والفِداءِ، والاسْتِرْقاقِ. وهو القولُ الثانى للشافعىِّ؛ لأنَّه إذا جازَ المَنُّ عليه في حالِ كُفْرِه، ففى حالِ إسْلامِه أوْلَى؛ لأنَّ الإِسْلامَ حَسَنَةٌ يقْتَضِى إكْرامَه، والإِنْعامَ عليه، لا مَنعَ ذلك في حَقِّه. وهذا هو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ولا يَجُوزُ رَدُّه إلى الكُفّارِ، إلَّا أن يكونَ له مَن يَمْنَعُه مِن المشركين، مِن عَشِيرَةٍ أو نحوِها، وإنَّما جازَ فِداؤُه؛ لأنَّه يتَخَلَّصُ به مِن الرِّقِّ. فأمَّا إن أسْلَمَ قبلَ أسْرِه، حَرُمَ قَتْلُه واسْتِرْقاقُه والمُفاداةُ به، سَواءٌ أسْلَمَ وهو في حِصْنٍ، أو جَوْفٍ، أو مَضِيقٍ، أو غيرِ ذلك؛ لأنَّه لم يحْصُلْ في أَيْدِى الغانِمين. 1404 - مسألة: (وَمَنْ سُبِىَ مِنْ أَطْفَالِهِمْ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ أَحدِ أَبَوَيْهِ،

وَإنْ سُبِىَ مَعَ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو مُسْلِمٌ. ومَن سُبِىَ معَ أَبَوَيْه، فهو على دِينِهما) المَسْبِىُّ مِن أطْفالِ المُشْرِكِين ينقَسِمُ ثلاثةَ أقْسامٍ؛ أحدُها، أنْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا عن أَبَوَيْه، فيصيرَ مُسْلِمًا بالإِجْماعِ؛ لأنَّ الدِّينَ إنَّما يثْبُتُ له تَبَعًا، وقد انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُه لأَبوَيْه؛ لانْقطاعِه عنهما، وإخْراجِه عن دارِهما، ومصيرِه إلى دارِ الإِسْلامِ تَبَعًا لسابِيه المُسْلمِ، فكان تابعًا له في دِينهِ. الثانى، أن يُسْبَى مع أَحَدِ أَبَوَيْه، فيُحْكَمَ بإسْلامِه أَيضًا. وبه قال الأوْزَاعِىُّ. وقال أبو الخطَّابِ: يَتْبَعُ أباه. وقال القاضى: في رِوايَتان؛ أشْهَرُهما، أنَّه يُحْكَمُ بإسْلامِه. والثانيةُ، يَتْبَعُ أباه. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: يكونُ تابِعًا لأبِيه في الكُفْرِ؛ لأنَّه لم يَنْفَرِدْ عن أَحَدِ أَبَوَيْه، فلم يُحْكَمْ بإسْلامِه، كما لو سُبِىَ معَهما. وقال مالكٌ: إن سُبِىَ مع أبِيه تَبِعَه؛ لأنَّ الوَلَدَ يَتْبَعُ أباه في الدِّينِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يَتْبَعُه في النَّسَبِ، وإن سُبِىَ مع أُمِّه فهو مُسْلِمٌ؛ لأنَّه لا يَتْبَعُها في النَّسَبِ، فكذلك في الدِّينِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِه أوْ يُنَصِّرَانِه، أوْ يُمَجِّسَانِهِ». رَواه مالكٌ (¬1). فمَفْهُومُه أنَّه لا يَتْبَعُ أحَدَهما؛ لأنَّ الحُكْمَ متى عُلِّقَ بشَيْئَيْن لا يَثْبُتُ بأحَدِهما، ولأنَّه يَتْبَعُ سَابِيَه مُنْفَرِدًا، فيَتْبَعُه مع أحَدِ أَبَوَيْه، قياسًا على ما ¬

(¬1) في، باب جامع الجنائز، من كتاب الجنائز. الموطأ 1/ 241. كما أخرجه البخارى، في: باب إذا أسلم الصبى، وباب ما قيل في أولاد المشركين، من كتاب الجنائز، وفى: باب تفسير سورة الروم، من كتاب التفسير، وفى: باب اللَّه أعلم بما كانوا عاملين، من كتاب القدر. صحيح البخارى 2/ 125، 6/ 143، 8/ 153. ومسلم، في: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2047، 2048. وأبو داود، في: باب في ذرارى المشركين، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 531. والترمذى، في: باب ما جاء في كل مولود يولد على الفطرة، من أبواب القدر. عارضة الأحوذى 8/ 303. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 233، 275، 282، 315، 4/ 24.

1405 - مسألة: (ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين، وإن سبيت المرأة وحدها، انفسخ نكاحها، وحلت لسابيها)

وَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِاسْتِرْقَاقِ الزَّوْجَيْنِ، وَإنْ سُبِيَتِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَحَلَّتْ لِسَابِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أسْلَمَ أحَدُ الأبَوَيْن، تَحْقِيقُه أنَّ كلَّ شخْصٍ غُلِّبَ حُكْمُ إسْلامِهِ مُنْفَرِدًا غُلِّبَ مع أحَدِ الأبَوَيْن، كالمُسْلِمِ مِن الأبَوَيْن. الثالثُ، أن يُسْبَى مع (¬1) أَبَوَيْه، فيَكونُ على دِينِهما. وبه قال أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعىُّ. وقال الأوْزَاعِىُّ: يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لأنَّ السابِىَ أحَقُّ به، لكَوْنِه مَلَكه بالسَّبْى، وزالت وِلايَةُ أبَوَيْه عنه، وانْقَطَعَ مِيراثُهما منه ومِيراثُه منهما، فكان أوْلَى به منهما. ولَنا، قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدانِه ويُنَصِّرَانِه ويُمَجِّسَانِه». وهما معه، ومِلْكُ السّابِى له لا يَمْنَعُ اتِّباعَه لأَبَوَيْه، بدلِيلِ ما لو وُلِدَ في مِلْكِه مِن عَبْدِه وأمَتِه الكافِرَيْن. 1405 - مسألة: (ولا يَنْفَسِخُ النِّكاحُ بِاسْتِرْقاقِ الزَّوْجَيْنِ، وإن سُبِيَتِ المرأةُ وَحْدَها، انْفَسَخَ نِكاحُهَا، وحَلَّتْ لِسابِيها) إذا سُبِىَ المُتَزَوِّجُ مِن الكُفَّارِ، لم يَخْلُ مِن ثلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يُسْبَى الزَّوْجانِ معًا، ¬

(¬1) بعده في م: «أحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَنْفَسِخُ نِكاحُهما. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والأوْزَاعِىُّ. ويَحْتَمِلُ أن يَنْفَسِخَ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1). والمُحْصَناتُ: المُتَزَوِّجاتُ {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بالسَّبْى. قال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِىُّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: نَزَلَتْ هذه الآية في سَبْىِ أوْطاسَ (¬2). وقال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: إلَّا ذَواتِ الأزْواجِ مِن المَسْبِيّاتِ. ولأنَّه اسْتَوْلَى على محلِّ حَقِّ الكافِرِ، فزالَ مِلْكُه، كما لو سَباها وَحْدَها. ولَنا، أنَّ الرِّقَّ مَعْنًى لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ النِّكاحِ، فلا يَقْطَعُ اسْتِدامَتَه، كالعِتْقِ، والآيةُ نزَلَتْ في سَبايا أوْطاسَ، وكانوا أخَذُوا النِّساءَ دُونَ أزْواجِهِنَّ، وعُمُومُ الآيةِ مخْصُوصٌ بالمَمْلُوكَةِ المُزَوَّجَةِ في دارِ الإِسْلامِ، فيُخَصُّ منه محلُّ النِّزاعِ بالقياسِ عليه. الحالُ الثَّانِى، أن تُسْبَى المرأةُ وحدَها، فينْفسِخُ النِّكاحُ، بلا خِلافٍ عَلِمْناه. والآيَةُ دَالَّةٌ عليه، ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) أوطاس: واد في ديار هوازن، كانت فيه وقعة حنين. معجم البلدان 1/ 405. وانظر لقول أبى سعيد وقول ابن عباس ما أخرجه الطبري في تفسير الآية. تفسير الطبري (المعارف) 8/ 151 - 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد روَى أبو سعيدٍ الخُدْرِىُّ، قال: أصَبْنا سَبايا يومَ أوْطاسَ، ولَهُنَّ أزْواجٌ في قَوْمِهِنَّ، فذَكَرُوا ذلك لرَسُولِ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَزَلَت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حَسَنٌ. إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: إذا سبِيَتِ المرأةُ وحدَها، ثم سُبِىَ زَوْجُهَا بعدَها بيَوْمٍ، لم يَنْفَسِخِ النِّكاحُ. ولَنا، أنَّ السَّبْىَ المُقْتَضِىَ للفَسْخِ وُجِدَ، فانْفَسَخَ النِّكاحُ، كما لو سُبِيَتْ قبلَه بشَهْرٍ. الحالُ الثالثُ، سُبِىَ الرَّجُلُ وحدَه، فلا يَنْفَسِخُ النِّكاحُ؛ لأنَّه لا نصَّ فيه، ولا القياسُ يَقْتَضِيه، وقد سَبَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبْعِين رجلًا مِن الكُفّارِ يومَ بَدْرٍ، فمَنَّ على بعْضِهم، وفادَى بعْضًا، فلم يَحْكُمْ عليهم بفَسْخِ أنْكِحَتِهم. ولأنَّنا إذا لم نَحْكُمْ بفَسْخِ النِّكاحِ فيما إذا سُبِيَا معًا مع الاسْتِيلاءِ على مَحَلِّ حَقِّه، فلأن لا ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الرجل يسبى الأمة ولها زوج. . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 65. كما أخرجه أبو داود، في: باب وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 497.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْفَسِخَ نِكاحُه مع عَدَمِ الاسْتِيلاءِ عليه أوْلَى. وقال أبو الخَطّابِ: إذا سُبِىَ أحَدُ الزَّوْجَين، انْفَسَخَ النِّكاحُ. ولم يُفَرِّقْ. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ الزَّوْجَيْن افْتَرَقَتْ بهما الدَّارُ، وطَرَأَ المِلْكُ على أحَدِهما، فانْفَسَخَ النِّكاحُ، كما لو سُبِيَتِ المرأةُ وحدَها. وقال الشافعىُّ: إن سُبِىَ واسْتُرِقَّ، انْفَسَخَ نِكاحُه، وإن مُنَّ عليه أو فُودِىَ، لم يَنْفَسِخْ. ولَنا، ما ذَكَرْناه، وأنَّ السَّبْىَ لم يُزِلْ مِلْكَه عن مالِه في دارِ الحَرْبِ، فلم يَزُلْ عن زَوْجَتِه، كما لم (¬1) يَزُلْ عن أمَتِه. فصل: ولم يُفَرِّقْ أصْحابُنا في سَبْىِ الزَّوْجَيْنِ، بينَ أن يَسْبِيَهما رجلٌ واحدٌ أو رجلان. ويَنْبَغِى أنْ يُفَرَّقَ بينَهما، فإنَّهما إذا كانا مع رَجُلَيْن، كان مالِكُ المرأةِ مُنْفَرِدًا بها، ولا زوجَ معها، فتَحِلُّ له؛ لقَوْلِه تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. وذَكَر الأوْزَاعِىُّ، أنَّ الزَّوْجَيْنِ إذا سُبِيا، فهما على النِّكاحِ في المَقاسِمِ، فإنِ اشْتَراهُما رجلٌ، فله أن يُفرِّقَ بينَهما إن شاءَ، أو يُقِرَّهما على النِّكاحِ. ولَنا، أنَّ تَجَدُّدَ المِلْكِ في الزَّوْجَيْن لرجلٍ لا يَقْتَضى جَوازَ الفَسْخِ، كما لو اشْتَرى زَوْجَيْن مُسْلِمَيْن. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بينَهما في القِسْمَةِ والبَيْعِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بذلك. ¬

(¬1) في م: «لو لم».

1406 - مسألة: (وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ مَن اسْتُرِقَّ مِنْهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1406 - مسألة: (وهل يَجُوزُ بَيْعُ مَن اسْتُرِقَّ منهم للمُشْرِكِين؟ على رِوايَتَيْن) لا يجوزُ بَيْعُ شئٍ مِن رقيقِ المسلمين لكافِرٍ، سواءٌ كانُ مُسْلِمًا أو كافرًا. وهذا قولُ الحسنِ. وقال أحمدُ: ليس لأهْلِ الذِّمَّةِ أن يَشْتَرُوا ممَّا سَبَى المسلمون. قال: وكَتَب عُمَرُ بنُ الخَطّابِ يَنْهَى عنه أُمَراءَ الأمْصارِ. هكذا حَكَى أهْلُ الشامِ. وعنه، أنَّه يَجُوزُ ذلك. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ مِن إثْباتِ يَدِه عليه، فلا يَمْنَعُ مِن ابْتِدائِه، كالمُسْلمِ، ولأنَّه رَدَّ الكافِرَ إلى الكُفَّارِ، فجازَ، كالمُفاداةِ بهم قبلَ الاسْتِرْقاقِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه قولُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولم

1407 - مسألة: (ولا يفرق فى البيع بين ذوى رحم محرم، إلا بعد البلوغ، على إحدى الروايتين)

وَلَا يُفَرَّقُ في الْبَيْعِ بَيْنَ ذَوِى رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّ فيه تَفْوِيتًا للإِسْلامِ الَّذى يَظْهَرُ وُجُودُه، فإنَّه إذا بَقِىَ رَقِيقًا للمسلمين، الظَّاهِرُ أنَّه يُسْلِمُ، فيَفُوت ذلك ببَيْعِه لكافرِ، بخِلافِ ما إذا كان رَقِيقًا لكافرٍ في ابْتِدائِه، فإنَّه لم تَثْبُتْ له هذه الغَرَضِيَّةُ. 1407 - مسألة: (ولا يُفَرَّقُ في البَيْعِ بينَ ذوى رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إلَّا بعدَ الْبُلُوغِ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ التَّفْرِيقَ بينَ الأُمِّ ووَلَدِها الطِّفْلِ غيرُ جائِزٌ، منهم مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى، وغيرُهم، لِما روَى أبو أَيُّوبَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تُوَلَّهُ (¬2) وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» (¬3). قال أحمدُ: لا يُفَرَّقُ بينَ الأُمِّ ووَلَدِها وإن رَضِيَتْ. وذلك، واللَّهُ أَعلمُ، لِما فيه مِن الإِضْرَارِ بالوَلَدِ، ولأنَّ المرأةَ قد تَرْضَى بما فيه ضَرَرُها، ثم يَتَغَيَّرُ قَلْبُها فتَنْدَمُ. ولا يجوزُ التَّفْرِيقُ بينَ الأبِ ووَلدِه. هذا قولُ أصحابِ الرَّأْى، والشافعىِّ. وقال مالكٌ، واللَّيْثُ: يجوزُ. وِبه قال بعضُ الشافعيَّةِ، لأَنَّه ليس مِن أهْلِ الحَضَانَةِ بنَفْسِه، ولأنَّه لا نصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المنْصُوصِ عليه، لأنَّ الأُمَّ أشْفَقُ منه. ولَنا، أنَّه أحَدُ الأبَوَيْن، أشْبَهَ الأُمَّ، ولا نُسَلِّمُ أنَّه ليس مِن أهْلِ الحضَانَةِ. ولا فَرْقَ بينَ أن يَكُونَ الوَلَدُ بالِغًا أو طِفْلًا، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ، وإحْدَى الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ، لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّ الوالِدَةَ تتضَرَّرُ بمُفَارَقَةِ وَلَدِها الكبيرِ، ولهذا حَرُمَ عليه ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين. . .، من أبواب البيوع، وفى: باب في كراهية التفريق بين السبى، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 5/ 283، 7/ 61. كما أخرجه الدارمى، في: باب النهى عن التفريق بين الوالدة وولدها، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 228. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 413، 414. (¬2) أي لا يُفَرَّق بينهما في البيع. وكل أنثى فارقت ولدها فهى والهٌ. النهاية في غريب الحديث 5/ 227. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب الأم تتزوج فيسقط حقها من حضانة الولد. . .، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 8/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجهادُ إلَّا بإذْنِها. والثانيةُ، يَخْتَصُّ تَحْرِيمُ التَّفْرِيقِ بالصَّغِيرِ. وهو قولُ الأكثَرِينَ؛ منهم مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، وأبو ثَوْرٍ. وهو قولُ الشافعىِّ، لأنَّ سَلَمَةَ بنَ الأكْوَعِ أتَى بامْرأةٍ وابْنَتِها، فنَفَّلَه أبو بكْرِ ابْنَتَها، فاسْتَوْهَبها منه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوَهَبَها له، ولم يُنْكِرِ التَّفْرِيقَ بينَهما (¬1). ولأنَّ الأحْرارَ يتفرَّقُونَ بعدَ الكِبَرِ، فإنَّ المرأةَ تُزَوِّجُ ابْنَتَها وتُفارِقُها، فالعَبِيدُ أوْلَى. واخْتَلَفُوا في حَدِّ الكِبَرِ الَّذى يُجَوِّزُ التَّفْرِيقَ، فعن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدُّه بُلُوغُ الوَلَدِ. وهو قولُ سعيدِ بنِ عبدِ العزِيزِ، وأصحابِ الرَّأْى، وقَوْلٌ للشافعىِّ. وقال مالكٌ: إذا أثْغَرَ. وقال الأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ: إذا اسْتَغْنَى عن أُمِّه، ونَفَع نفْسَه. وللشافعىِّ قولٌ: إذا صارَ ابنَ سبعٍ أو ثمانٍ. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا كان يَلْبَسُ وَحْدَه، ويَتَوَضَّأُ وحدَه؛ لأنَّه إذا كان كذلك، اسْتَغْنَى عن أُمِّه، ولذلك خُيِّرَ الغُلامُ بينَ أُمِّه وأبِيه إذا صار (¬2) كذلك، ولأنَّه جازَ التَّفْرِيقُ بينَهما بتَخْييرِه، فجازَ ببَيْعِه وقِسْمَتِه. ولَنا، ما رُوِى عن عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬2) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا». فقيل: إلى مَتَى؟ قال: «حَتَّى يَبْلُغَ الغُلامُ، وتَحِيضَ الجَارِيَةُ» (¬1). ولأنَّ مَن دُونَ البُلُوغِ يُوَلَّى عليه، أشْبَهَ الطِّفْلَ. فصل: فإن فُرِّقَ بينَهما بالبَيْعِ، فالبَيْعُ فاسِدٌ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ البَيْعُ؛ لأنَّ النَّهْىَ لِمَعْنًى في غيرِ المَعْقُودِ عليه، فأشْبَهَ البَيْعَ في وقتِ النِّداءِ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ، في «سُنَنِه» (¬2)، عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه فَرَّقَ بينَ الأُمِّ ووَلَدِها، فنَهاهُ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، ورَدَّ البَيْعَ. والأصْلُ ممنوعٌ، وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ، فإنَّه نَهَى عنه لِما يَلْحَقُ المَبِيعَ مِن الضَّرَرِ، فهو لمعنًى فيه. فصل: والجَدُّ والجَدَّةُ، في تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ بينَهما وبينَ وَلَدِ ولدِهما، كالأبوَيْن؛ لأنَّ الجَدَّ أَبٌ، والجَدَّةَ أُمٌّ، ولذلك يقُومان مَقامَ الأَبَوَيْنِ في اسْتِحْقاقِ الحضانَةِ والمِيراثِ والنَّفَقَةِ، فقاما مَقامَهما في تحْرِيمِ التَّفْرِيقِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الوقت الذى يجوز فيه التفريق، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 128. (¬2) في: باب في التفريق بين السبى، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 58.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويسْتَوِى في ذلك الجَدُّ والجَدَّةُ مِن قِبَلِ الأبِ والأمِّ، لأنَّ لهم وِلادَةً ومَحْرَمِيَّةً، فاسْتَوَوْا في ذلك، كاسْتِوائِهم في مَنْعِ شَهادَةِ بَعْضِهم لبَعْضٍ. فصل: ويَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بينَ الإِخْوَةِ في القِسْمَةِ والبَيْعِ أيضًا، كما يَحْرُمُ بينَ الوَلَدِ ووالِدِه. وبهذا قال أصحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَحْرُمُ، لأنَّها قَرابَةٌ لا تَمْنَعُ قَبولَ شَهادَتِه، فلم يَحْرُمِ التَّفْرِيقُ، كابنِ العَمِّ. ولَنا، ما رُوىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: وَهَب لِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غُلامَيْن أخَوَين، فبِعْتُ أحَدَهما، فقال لى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا فَعَلَ غُلَامُكَ؟» فأخْبَرْتُه، فقال: «رُدَّهُ، رُدَّهُ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسَنٌ غَرِيبٌ. وروَى عبدُ الرحمنِ بنُ فَرُّوِخٍ، عن أبيه، قال: كتَب إلينا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا تُفرِّقُوا بينَ الأَخَوَيْن، ولا بينَ الأُمِّ ووَلدِها في البَيْعِ (¬2). ولأنَّه ذو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فحَرُمَ التَّفْرِيقُ بينَهما، كالوالدِ والوَلَدِ. وإنَّما يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بينَهما في حال الصِّغَرِ، وما بعدَه فيه الرِّوايَتان كالأصْلِ. والأَوْلَى الجوازُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُهْدِيَتْ له مارِيَةُ وأُخْتُها سِيرِينُ، فأمْسَكَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين. . .، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 283، 284 (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب تفريق السبى بين الوالد وولده والقرابات، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 247.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مارِيَةَ، ووَهَب سِيرِينَ لحسّان بنِ ثابتٍ (¬1). فصل: فأمّا سائِرُ الأقارِبِ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، جَوازُ التَّفْرِيقِ بينَهم. وقال غيرُه مِن أصحابِنا: لا يجوزُ التَّفْرِيقُ بينَ ذَوِى رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كالعَمَّةِ مع ابنِ أخِيها، والخالَةِ مع ابنِ أُخْتِها، لِما ذَكَرْنا مِن القِياسِ. والأَوْلَى جوازُ التَّفْرِيقِ؛ لأنَّ الأصْلَ حِلُّ البَيْعِ والتَّفْرِيقِ، ولَاِ يَصِحُّ القياسُ على الإِخْوَةِ، لأنَّهم أقْرَبُ، ولذلك يَحْجُبُونَ غيرَهم عن المِيرَاثِ، وهم أقْرَبُ، فيَبْقَى مَن عداهم على الأصْلِ. فأمَّا مَن ليس بينَهما رَحِمٌ مَحْرَمٌ، فلا يُمْنَعُ مِن التَّفْرِيقِ بينَهم (¬2) عندَ أحَدٍ عَلِمْناه؛ لعَدَمِ النَّصِّ فيهم، وامْتِناعِ قِياسِهم على المنْصُوصِ. وكذلك يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بينَ الأُمِّ مِن الرَّضاعِ ووَلَدِها، والأُخْتِ وِأخِيها، لمَا ذَكَرْنا، ولأنَّ قَرابَةَ الرَّضاعِ لا تُوجِبُ عِتْقَ أحَدِهما على الآخرِ، ولا نَفَقَةً، ولا مِيراثًا، فأشْبَهَتِ الصَّداقَةَ. ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام 3/ 306، والإصابة 7/ 722، 723. (¬2) في م: «بينهما».

1408 - مسألة: (وإذا حصر الإمام حصنا، لزمه مصابرته، إذا رأى المصلحة فيها)

وَإذَا حَصَرَ الإِمَامُ حِصْنًا، لَزِمَهُ مُصَابَرَتُهُ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1408 - مسألة: (وَإذَا حَصَرَ الإِمَامُ حِصْنًا، لَزِمَهُ مُصَابَرَتُهُ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا) إذا حَصَر الإِمامُ حِصْنًا، لزم مُصابَرَتُه، ولا يَنْصَرِفُ عنه إلَّا بخَصْلَةٍ مِن خِصَالٍ خَمْسٍ؛ أحدُها، أن يُسْلِمُوا، فيُحْرِزُوا بالإِسْلام دماءَهم وأمْوالَهم، لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُوَلُوَا: لَا إِلَهَ إلَّا اللَّه. فإذَا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» (¬1). الثَّانيةُ، أن يَبْذُلُوا مالًا على المُوادَعَةِ، فيَجُوزَ قَبُولُه منهم، سواءٌ أعْطَوْه جُمْلَةً، أو جَعَلُوه خَراجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ منهم كلَّ عامٍ. فإن كانوا ممَّن تُقْبَلُ منهم الجِزْيَةُ، فبَذَلُوها، لَزِمَ قَبُولُها منهم، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 31.

1409 - مسألة: ([فإن أسلموا، أو]

فَإِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، أَحْرَزَ دَمَهُ وَمَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَرُمَ قِتالُهم؛ لقولِه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). فإن بَذَلُوا مالًا على غيرِ وَجْهِ الجِزْيَةِ، فرَأَى المَصْلَحَةَ في قَبُولِه له، قَبِلَه، ولا يَلْزَمُه إذا لم يَرَ المَصْلَحَةَ. الثَّالثةُ، أن يَفْتَحَهُ. الرابعةُ، أن يَرَى المَصْلَحَةَ في الانْصِرافِ، إمّا لضَرَرٍ في الإِقامَةِ، وإمّا لليَأْس منه، أو لغيرِ ذلك، فيَنْصَرِفَ عنهم؛ لما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَاصَرَ أهْلَ الطَّائِفِ، فلم يَنَلْ منهم شيئًا، فقال: «إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا». فقال المُسْلِمُون: أنَرْجِعُ ولم نَفْتَحْه؟ فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اغْدُوا عَلَى القِتَالِ». فَغَدَوْا عليه، فأصابَهم الجِراحُ، فقال لهم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّا قَافِلُونَ غَدًا». فأعْجَبَهم، فقَفَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). الخامسةُ، أن يَنْزِلُوا على حُكْمِ حاكمٍ. وسَنذْكُرُه في مَوْضِعه إن شاءَ اللَّهُ. 1409 - مسألة: ([فإن أسْلَمُوا، أو] (¬3) مَن أسْلَمَ منهم، أَحْرَزَ ¬

(¬1) سورة التوبة 29. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب غزوة الطائف، من كتاب المغازى، وفى: باب قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ. . .}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 5/ 198، 9/ 172. ومسلم، في: باب غزوة الطائف، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1403. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 11. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَمَهُ ومالَه وأوْلادَه الصِّغارَ) متى أسْلَمَ أهْلُ الحِصْنِ أو بعْضُهم، أحْرَزَ دَمَه ومالَه وأوْلادَه الصِّغارَ، كما ذَكَر؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديثِ المذْكُورِ: «فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّهَا». ويُحْرِزُ أولادَه الصِّغارَ مِن السَّبْى؛ لأنَّهم تَبَعٌ له، ولذلك يُحكَمُ بإسْلامِهم تَبَعًا لإِسْلامِه. وكذلك كلُّ مَن أسْلَمَ في دارِ الحرْبِ. وإن دَخَل دارَ الإِسْلامِ فأسْلَمَ، وله أوْلادٌ صِغارٌ في دارِ الحَرْبِ، صارُوا مُسْلِمِين، ولم يَجُزْ سَبْيُهم. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، والأوْزَاعِىُّ. وقال أبو حنيفةَ: ما كان في يَدِه مِن مالِه ورَقِيقِه ومَتاعِه ووَلَدِه الصِّغارِ، تُرِكَ له، وما كان مِن أوْلادِه وأمْوالِه بدارِ الحَرْبِ، جازَ سَبْيُهم؛ لأنَّهم لم يَثْبُتْ إسْلامُهم بإسْلامِه، لاخْتِلافِ الدّارَيْن بينَهم، ولهذا إذا سُبِىَ الطِّفْلُ، وأبواه في دارِ الكُفْرِ، لم يَتْبَعْهُما وتَبعَ سابِيَه في الإِسْلامِ، وما كان مِن أرضٍ أو دارٍ، فهو فَىْءٌ، وكذلك زوْجَتُه إذا كانتْ كافِرَةَ، وما في (¬1) بَطْنِها فَىْءٌ. ولَنا، أنَّ أوْلادَه أوْلادُ مُسْلمٍ، فوَجَبَ أن يَتْبَعُوه في الإِسْلامِ، كما لو كانوا معه في الدَّارِ، ولأنَّ مالَه مالُ مُسْلمٍ، ولا يَجُوزُ اغْتِنامُه، كما لو كان في دارِ الإِسْلامِ، وبذلك يُفارِقُ مالَ الحَرْبِىِّ وأولادَه. وما ذَكَرَه أبو حنيفةَ لا يَلْزَمُ، فإنَّا نَجْعَلُه تَبَعًا للسَّابِى؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ بقاءَ أَبَوَيْه. فأمّا أوْلادُه الكِبارُ، فلا يَعْصِمُهم؛ لأنَّهم لا يَتْبَعُونَه، ولا يَعْصِمُ زوْجتَه؛ لذلك، فإن سُبِيَتْ صارَتْ رَقِيقَةً، ولم ينْفَسِخْ نِكاحُه برِقِّها، ولكنْ يَكونُ حُكْمُها في النِّكاحِ وفَسْخِه ¬

(¬1) في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمَ ما لو لم تُسْبَ، على ما نَذْكُرُ في نكاحِ أهلِ الشِّرْكِ. فإن كانتْ حامِلًا مِن زَوْجِها، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُ الحَمْلِ، وكان حُرًّا مُسْلِمًا. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُحْكَمُ بِرِقِّه مع أُمِّه؛ لأنَّ ما سَرَى إليه العِتْقُ سَرَى إليه الرِّقُّ، كسائِرِ أعْضائِها. ولَنا، أنَّه مَحْكُومٌ بحُرِّيَّتِه وإسْلامِه، فلم يَجُزِ اسْتِرْقاقُه، كالمُنْفَصلِ، بخِلافِ الأعْضاءِ؛ فإنَّها لا تَنْفَرِدُ عن حُكْمِ الأصْلِ. فصل: إذا أسْلَمَ الحَرْبِىُّ في دارِ الحَرْبِ وله مالٌ وعَقارٌ، أو دَخَل إليها مُسْلِمٌ فابْتاعَ عَقارًا ومالًا، فظهرَ المسْلِمُون على مالِه وعَقارِه، لم يَمْلِكُوه، وكان له. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُغْنَمُ العَقارُ، وأمّا غيرُه، فما كان في يَدِه أو يَدِ مُسْلِمٍ، لم يُغْنَمْ. واحْتَجَّ بأنَّهَا بُقْعَةٌ مِن دارِ الحَرْبِ، فجازَ اغْتِنامُها، كما لو كانتْ لحَرْبِىٍّ. ولَنا، أنَّه مالُ مُسْلِمٍ، فأشْبَهَ ما لو كانتْ في دارِ الإِسْلامِ. فصل: إذا اسْتَأْجَرَ المُسْلِمُ أرْضًا مِن حَرْبِىٍّ، ثم اسْتَوْلَى عليها المُسْلِمُون، فهى غَنِيمَةٌ، ومَنافِعُها للمُسْتَأْجِرِ؛ لأنَّ المنافِعَ مِلْكُ المُسْلِمِ. فإن قيلَ؛ فلِمَ أجَزْتُمُ اسْتِرْقاقَ الكافِرَةِ الحَرْبِيَّةِ إذا كان قد أسْلَمَ زَوْجُها. وفى اسْتِرْقاقِها إبْطالُ حَقِّ زَوْجِها؟ قُلْنا: يَجُوزُ اسْتِرْقاقُها؛ لأنَّها كافِرَةٌ، ولا أمانَ لها، فجازَ اسْتِرْقاقُها، كما لو لم تَكُنْ زَوْجَةَ مُسْلِمٍ، ولا يَبْطُلُ نِكاحُه، بل هو باقٍ، ولأنَّ منْفَعَةَ النِّكاحِ لا تَجْرِى مَجْرَى الأمْوالِ، بدَلِيلِ أنَّها لا تُضْمَنُ باليَدِ، فلا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنها، بخِلافِ حَقِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِجارَةِ. فصل: إذا أسْلَمَ عبدُ الحَرْبِىِّ أو أمَتُه، وخَرَج إلينا، فهو حُرٌّ، وإن أسَرَ سَيِّدَه وأولادَه، وخَرَج إلينا، فهو حُرٌّ، والمالُ له، والسَّبْىُ رَقِيقُه. وإن أسْلَمَ وأقامَ بدارِ الحَرْبِ، فهو على رِقِّه. وإن أسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الحَرْبِىِّ، وخَرَجَتْ إلينا، عَتَقَتْ، واسْتَبْرَأْت نَفْسَها. وهذا قولُ أكثرِ العُلماء. قال ابنُ المُنْذِرِ: وقال به كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ؛ إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال في أُمِّ الوَلَدِ: تُزَوَّجُ إن شاءتْ مِن غيرِ اسْتِبرْاءٍ. وأهْلُ العِلْمِ على خِلافِه، لأنَّها أُمُّ وَلَدٍ عَتَقَتْ فلم يَجُزْ أن تُزَوَّجَ قبلَ الاسْتِبْراءِ، كما لو كانتْ لِذِمِّىٍّ، وروَى سعيدُ بنُ مَنْصورٍ (¬1)، بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتِقُ العَبِيدَ إذا جاءُوا قبلَ مَوالِيهم. وعن أبى سعيدٍ الأعْسَمِ، قال: قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في العَبْدِ وسَيِّدِه قَضِيَتّيْن؛ قَضَى أنَّ العَبْدَ إذا خَرَج مِن دارِ الحَرْبِ قبلَ سَيِّدِه أنَّه حُرٌّ، فإن خَرَج سَيِّدُه بعدُ لم يُرَدَّ عليه، وقَضَى أنَّ السَّيِّدَ إذا خَرَج قبلَ العَبْدِ، ثم خَرَج العبدُ، رُدَّ على سَيِّدِه. رَواه سعيدٌ (¬2). وعن الشَّعْبِىِّ، عن رَجُلٍ مِن ثَقِيفٍ، قال: سأَلْنا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَرُدَّ علينا أبا بَكْرَةَ، وكان عبدًا لنا أتَى إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مُحاصِرٌ ثَقِيفًا، فأسْلَمَ، فأبَى أنْ ¬

(¬1) في: باب العبد ومولاه من العدو يخرجان من أرض العدو، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 290. كما أخرجه البيهقى، في: باب من جاء من عبيد أهل الحرب مسلما، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 229، 230. (¬2) في الموضع السابق.

1410 - مسألة: (وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره، جاز، إن كانت المصلحة فيه)

وَإنْ سَأَلُوا الْمُوَادَعَةَ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَازَ، إِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ. وَإنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، جَازَ، إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، حُرًّا، بَالِغًا، عَاقِلًا، مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرُدَّه علينا، وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، ثُمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ». فلم يَرُدَّه علينا (¬1). 1410 - مسألة: (وإنْ سَألُوا المُوَادَعَةَ بِمَالٍ أوْ غَيْرِهِ، جازَ، إن كانتِ المَصْلَحَةُ فيه) وقد ذَكَرْنا ذلك. 1411 - مسألة: (وإن نَزَلُوا على حُكْمِ حاكِمٍ، جازَ، إذا كان حُرًّا، مُسْلِمًا، بالِغًا، عاقِلًا، مِن أهْلِ الاجْتِهادِ) إذا نَزَل أهْلُ الحِصْنِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 168، 310.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على حُكْمِ حاكمٍ، جازَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمّا حاصَرَ بنى قُرَيْظَةَ، ورَضُوا بأن ينْزِلُوا على حُكْمِ سعدِ بنِ مُعاذٍ، فأجابَهُم إلى ذلك (¬1). والكلامُ فيه في فصْلَيْن؛ أحدُهُما، في صِفَةِ الحاكِمِ. والثانِى، في صِفَةِ الحُكْمِ. فأمّا الحاكِمُ، فيَتَعَيَّنُ فيه سبعةُ أوْصافٍ؛ الإِسْلامُ، والحُرِّيَّةُ، والذّكُورِيَّةُ، والعَقْلُ، والبُلُوغُ، والعَدَالَةُ، والاجْتِهادُ، كما يُشْتَرَطُ في حاكِمِ المسلمين. ولا يُشْتَرَطُ البَصَرُ؛ لأنَّ عَدَمَه لا يَضُرُّ في مسألتِنا؛ لأنَّ المقْصُودَ رَأْيُهُ، ومَعْرِفَتُه المَصْلَحَةَ في أحَدِ أقْسامِ الحُكْمِ، وهذا لا يَضُرُّ عَدَمُ البَصَرِ فيه، بخِلافِ القَضاءِ، فإِنَّه لا يَسْتَغْنِى عن البَصَرِ، ليَعْرِفَ المُدَّعِىَ مِن المُدَّعَى عليه، والشاهِدَ مِن المشْهُودِ عليه، والمُقِرَّ مِن المُقَرِّ له. ويُعْتَبَرُ مِن الفِقْهِ ما يَتَعَلَّقُ به هذا الحُكْمُ، ممّا يَجُوزُ فيه، ويُعْتَبَرُ له، ونحوِ (¬2) ذلك، ولا يُحْتاجُ أن يَكُونَ مُجْتَهِدًا في جميعِ الأحْكامِ التى لا تَعَلُّقَ لها بهذا، وقد حُكِّمَ سعدُ بنُ مُعاذٍ، ولم يثْبُتْ أنَّه كان عالِمًا بجميعَ الأحْكامِ، فإن حَكَّم رَجُلَيْن، جازَ، ويكونُ الحُكْمُ ما اجْتَمَعا عليه. وإن جَعَلُوا الحُكْمَ إلى رَجُلٍ يُعَيِّنُه الإِمامُ، جازَ؛ لأنَّه لا يَخْتارُ إلَّا مَن يَصْلُحُ. وإن نَزَلُوا على حُكْمِ رَجُلٍ منهم، أو جَعَلُوا التَّعْيِينَ إليهم، لم يَجُزْ؛ لأنَّهم ربَّما اخْتارُوا مَن لا يَصْلُحُ، وإن عَيَنوا رَجُلًا يصْلُحُ، فرَضِيَه الإِمامُ، جازَ؛ لأنَّ بَنى قُرَيْظَةَ عيَّنُوا سعدَ بنَ مُعاذٍ، فرَضِيَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأجازَ حُكْمَه، وقال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 84. (¬2) في النسح: «يجوز». خطأ، وانظر: المغنى 13/ 182.

1412 - مسألة: (ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين؛ من القتل، والسبى، والفداء، فإن حكم بالمن، لزم قبوله، فى أحد الوجهين)

وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا فِيهِ حَظٌّ لِلْمُسْلِمِينَ؛ مِنَ الْقَتْلِ، وَالسَّبْىِ، وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ، لَزِمَ قَبُولُهُ، في أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «لَقَدْ حَكَمْتَ بحُكْمِ اللَّهِ». وإن ماتَ مَن اتَّفَقُوا عليه، فاتَّفَقُوا على غيرِه ممَّن يصْلُحُ، قامَ مَقامَه، وإن لم يتَّفِقُوا وطَلَبُوا حَكَمًا لا يصْلُحُ، رَدَّهم إلى مَأْمَنِهم، وكانُوا على الحِصارِ حتَّى يتَّفِقُوا، وكذلك إن رَضُوا باثْنَيْن، فماتَ أحَدُهما، فاتَّفَقُوا على مَن يقومُ مَقامَه، جازَ، وإلَّا رُدُّوا إلى مَأْمَنِهم. وكذلك إذا رَضُوا بتَحْكِيمِ مَن لا تَجْتَمِعُ الشَّرائِطُ فيه، ووافَقَهم الإِمامُ عليه، ثم بان أنَّه لا يَصْلُحُ، لم يُحَكَّمْ، ويُرَدُّونَ إلى مَأْمَنِهم كما كانُوا. 1412 - مسألة: (وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ؛ مِنَ الْقَتْلِ، وَالسَّبْىِ، وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ، لَزِمَ قَبُولُهُ، في أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ) إذا حَكَم بقَتْلِ مُقاتِلَتِهم، وسَبْىِ ذَرارِيِّهم، نُفِّذَ حُكْمُه، لأنَّ سعدَ بنَ مُعاذٍ، حَكَم في قُرَيْظَةَ بذلك، فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ». وإن حَكَم بالفِداءِ، جازَ؛ لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمامَ يُخَيَّرُ في الأسْرَى بينَ القَتْلِ والمَنِّ والفِداءِ والاسْتِرْقاقِ، فكذلك الحاكِمُ، وإن حَكَم عليهم بإعْطاءِ الجِزْيَةِ، لم يَلْزَمْ حُكْمُه؛ لأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلا يَثْبُتُ إلَّا بالتَّراضِى، ولذلك لا يَمْلِكُ الإِمامُ إجْبارَ الأسِيرِ على إعْطاءِ الجزْيَةِ، وإن حَكَم بالمَنِّ على المُقاتِلَةِ، وسَبْىِ الذُّرِّيَّةِ، فقال القاضى: يَلْزَمُ حُكْمُه. وهو مذهبُ الشافعىِّ، لأنَّ الحُكمَ إليه فيما يَرَى المَصْلَحَةَ فيه، فكان له المَنُّ، كالإمام في الأسْرَى. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّ حُكْمَه لا يَلْزَمُ؛ لأنَّ عليه أَن يَحكُمَ بما فيه الحَظُّ، ولا حَظَّ في المَنِّ. وإن حَكَم بالمَنِّ على الذُّرِّيَّةِ، فيَنْبَغِى أن لا يَجُوزَ، لأنَّ الإِمامَ لا يَمْلِكُ المَنَّ على الذُّرِّيَّةِ إذا سُبُوا، فكذلك الحاكِمُ، ويَحْتَمِلُ الجوازَ؛ لأنَّ هؤلاء لا يتَعَيَّنُ السَّبْىُ فيهم، بخِلافِ مَن سُبِىَ، فإنَّه يَصِيرُ رَقِيقًا بنَفْسِ السَّبْى.

1413 - مسألة: (وإن حكم بقتل، أو سبى، فأسلموا، عصموا دماءهم، فى استرقاقهم وجهان)

وَإِنْ حَكَمَ بِقَتْلٍ، أَوْ سَبْىٍ،، فَأَسْلَمُوا، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ، وَفِى اسْتِرْقَاقِهِمْ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1413 - مسألة: (وَإِنْ حَكَمَ بِقَتْلٍ، أَوْ سَبْىٍ، فَأَسْلَمُوا، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ، في اسْتِرْقَاقِهِمْ وَجْهَانِ) إذا حَكَم عليهم بالقَتْلِ والسَّبْىِ، جازَ للإِمامِ المَنُّ على بعْضِهم، لأنَّ ثابِتَ بنَ قَيْسٍ سَألَ في الزُّبَيْرِ بنِ بَاطا، مِن قُرَيْظَةَ، ومالِه وأولادِه رسولَ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجابَه (¬1). ويُخالفُ مالَ الغَنِيمَةِ إذا حازَه الإِمامُ؛ لأنَّ مِلْكَهُم قد اسْتَقَرَّ عليه. ومتى أسْلَمُوا قبلَ الحُكْمِ عليهم عَصَمُوا دِماءَهم وأمْوالَهم، لأنَّهم [أسْلَمُوا وهم أحرارٌ، وأموالُهم لهم] (¬2)، فلم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، بخِلافِ الأسِيرِ. وإن أسْلَمُوا بعدَ الحُكْمِ عليهم بالقَتْلِ، سَقَط، لأنَّ مَن أسْلَمَ فقد عَصَم دَمَه، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، لأنَّهم أسْلَمُوا قبلَ اسْتِرْقاقِهم. قال أبو الخَطّابِ: ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما يفعله بالرجال البالغين من من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 66. وذكره الواقدى، في المغازى 2/ 516، 517. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ، كما لو أسْلَمُوا بعدَ الأَسْرِ، ويَكُونُ المالُ على ما حَكَم فيه. وإن حَكَم بأنَّ المالَ للمسلمين، كان غَنِيمَةً، لأنَّهم أخَذُوه بالقَهْرِ والحَصْرِ.

باب ما يلزم الإمام والجيش

بَابُ مَا يَلْزَمُ الإِمَامَ وَالْجَيْشَ يَلْزَمُ الإِمَامَ عِنْدَ مَسِيرِ الْجَيْشِ تَعَاهُدُ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ، فَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْحَرْبِ، يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ مَا يَلْزَمُ الإِمَامَ وَالْجَيْشَ 1414 - مسألة: (يَلْزَمُ الإِمَامَ عِنْدَ مَسِيرِ الْجَيْشِ تَعَاهُدُ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ، فَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْحَرْبِ، يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ) يُسْتَحَبُّ للإِمامِ أو الأميرِ إذا أرادَ الغَزْوَ أن يَعْرِضَ الجَيْشَ، ويَتعاهدَ الخَيْلَ والرِّجَالَ، فلا يَدَعُ فَرَسًا حَطِمًا، وهو الكَسِيرُ، ولا قَحْمًا، وهو الكبيرُ، ولا ضَرِعًا، وهو الصغيرُ، ولا هَزِيلًا، يدْخُلُ معه أرضَ العَدُوِّ؛ لئلَّا ينْقَطِعَ فيها، ورُبَّما كان سببًا للهزيمةِ.

1415 - مسألة: (ويمنع المخذل، والمرجف)

وَيَمْنَعُ الْمُخَذِّلَ، وَالْمُرْجِف، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1415 - مسألة: (ويَمْنَعُ المُخَذِّلَ، والمُرْجِفَ) والمُخَذِّلُ، هو الَّذى يُفَنِّدُ الناسَ عن الغَزْوِ، ويُزَهِّدُهم في الخُروجِ إليه والقتالِ، ومثلُ مَن يقولُ: الحَرُّ -أو- البَرْدُ شديدٌ، والمَشَقَّةُ شديدةٌ، ولا يُؤْمَنُ هَزِيمَةُ هذا الجيشِ. ونحوَ هذا. والمُرْجِفُ، هو الَّذى يقولُ: قد هَلَكَت سَرِيَّةُ المسلمين، وما لَهُم مَدَدٌ، ولا طاقَةَ لهم بالكُفَّار، والكُفَّارُ لهم قُوَّةٌ ومَدَدٌ وصَبْرٌ، ولا يثْبُتُ لهم أحَدٌ. وأشْباهُ هذا. ولا يأْذَنُ لمَن يُعِينُ على المسلمين بالتَّجَسُّسِ للكُفَّارِ، وإطْلاعِهِم على عَوْراتِ المسلمين، ولا لمَن يُوقِعُ العَداوَةَ بينَ المسلمين، ويَسْعَى بالفَسادِ بينَهم، ولا لِمَن يُعْرَفُ بالنِّفاقِ والزَّنْدَقَةِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} (¬1). وقولِه تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (¬2). قيلَ: معناه لأوْقَعُوا بينَكم الاخْتِلافَ. وقيلَ: لأسْرَعُوا في ¬

(¬1) سورة التوبة 83. (¬2) سورة التوبة 46، 47.

1416 - مسألة: (و)

وَالنِّسَاءَ، إِلَّا طَاعِنَةً في السِّنِّ، لِسَقْى الْمَاءِ، وَمُعَالَجَةِ الْجَرْحَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَفْرِيقِ جَمْعِكُم. ولأنَّ في حُضُورِهم ضَرَرًا، فيَجِبُ صِيانَةُ المسلمين عنه. ولا يأْذَنُ لطِفْلٍ، ولا مجْنُونٍ؛ لأنَّ دُخُولَهم تَعَرُّضٌ للهَلاكِ بغيرِ فائدَةٍ، ويَجُوزُ أن يأْذَنُ لمَن اشْتَدَّ مِن الصِّبْيانِ؛ لأنَّ فيهم مَعُونَةً ونَفْعًا. 1416 - مسألة: (و) يَمْنَعُ (النِّساءَ، إلَّا طاعِنَةً في السِّنِّ، لسَقْىِ الماء، ومُعالَجَةِ الجَرْحَى) يُكْرَهُ دُخُولُ النِّساءِ الشَّوَابِّ أَرْضَ العَدُو؛ لأنَّهُنَّ لَسْنَ مِن أهْلِ القِتالِ، وقَلَّما يُنْتَفَعُ بِهِنَّ فيه، لاسْتِيلاءِ الجُبْنِ والخَوَرِ علَيْهِنَّ، ولا يُؤْمَنُ ظَفَرُ العَدُوِّ بهنَّ، فيَسْتَحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ مِنْهُنَّ. وقد روَى حَشْرَجُ بنُ زِيادٍ، عن جَدَّتِه أُمِّ أَبِيه، أنَّها خَرَجَتْ مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةَ خيْبَرَ سادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبَعَثَ إلينا، فجئْنا، فَرَأَيْنا فيه الغَضَبَ، فقال: «مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟» فَقُلْنَا: يا رسولَ اللَّهِ، خرَجْنا نَغْزِلُ الشَّعَرَ، ونُعِينُ به في سَبِيلِ اللَّهِ، ومَعنا دَواءٌ للجَرْحَى، ونُناوِلُ السِّهامَ، ونَسْقِى السَّوِيقَ. فقال: «قُمْنَ». حتى إذا فَتَح اللَّهُ خَيْبَرَ، أسْهَمَ لنا، كما أسْهَمَ للرِّجالِ. قلتُ لها: يا جَدَّةُ ما كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذاك؟ قالت: تَمْرًا (¬1). قِيلَ للأوْزاعِىِّ: هل كانُوا يَغْزُونَ معهم بالنِّساءِ في الصَّوائِفِ (¬2)؟ قال: لا، إلَّا بالجَوارِى. فأمَّا المرأةُ الطَّاعِنَةُ في السِّنِّ، وهى الكَبِيرةُ، إذا كان فيها نَفْعٌ، مثلَ سَقْىِ الماءِ، ومُعالَجَةِ الجَرْحَى، فلا بَأْسَ به؛ لِما رَوَيْنا مِن الخَبَرِ. وقد كانت أُمُّ سُلَيْمٍ، ونَسِيبَةُ بنْتُ كَعْبٍ، تَغْزُوان مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَّا نَسِيبَةُ فكانتْ تُقاتِلُ، وقُطِعَتْ يدُها يومَ اليَمامَةِ (¬3). وقالتِ الرُّبَيِّعُ: كُنَّا نَغزُو مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِسَقْىِ الماءِ، ومُعالَجَةِ الجَرْحَى (¬4). وقال أنَسٌ: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَغْزُو بأُمِّ سُلَيْمٍ ونِسْوَةٍ معها مِن الأنْصارِ، يَسْقِينَ الماءَ، ويُداوِينَ الجَرْحَى. قال التِّرْمِذِىُّ (¬5): هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فإن قِيلَ: فقد كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْرِجُ معه مَن تَقَعُ عليه القُرْعَةُ مِن نِسائِه. قُلْنا: تِلك امْرَأةٌ واحدَةٌ، يأْخُذُها للحاجَةِ إليها، ويَجُوزُ مثلُ ذلك للأميرِ عندَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 688. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 271، 6/ 371. (¬2) الصوائف: الغزوات التى تقع في الصيف. (¬3) انظر لخبر أم سليم: حديث أنس الآتى، ولها مع نسيبة وغيرها: المغازى، للواقدى 2/ 685 في غزوة خيبر، ولخبر نسيبة في اليمامة: المغازى 1/ 268، 269، والإصابة 8/ 140. (¬4) حديث الربيع بنت معوذ، أخرجه البخارى، في: باب مداواة النساء الجرحى في الغزو، وباب رد النساء الجرحى والقتلى، من كتاب الجهاد. وفى: باب هل يداوى الرجل المرأة والمرأة الرجل؟ من كتاب الطب. صحيح البخارى 4/ 41، 7/ 158. (¬5) في: باب ما جاء في خروج النساء في الحرب، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 70. كما أخرجه مسلم، في: باب غزوة النساء مع الرجال، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1443. وأبو داود، في: باب في النساء يغزون، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 17.

1417 - مسألة: (ولا يستعين بمشرك، إلا عند الحاجة إليه)

وَلا يَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ، إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حاجَتِه، ولا يُرَخَّصُ لسائِرِ الرَّعِيَّةِ؛ لئلَّا يُفْضِىَ إلى ما ذَكَرْنا. 1417 - مسألة: (ولا يَسْتَعِين بِمُشْركٍ، إلَّا عندَ الحَاجَةِ إليه) لِما روَتْ عائشةُ، قالت: خَرَج رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بَدْرٍ، حتى إذا كان بحَرَّةِ الوَبَرَةِ (¬1)، أدْرَكَه رَجُلٌ مِن المُشْرِكِين، كان يُذْكَرُ منه. جُرأةٌ ونَجْدَةٌ، فسُرَّ المسلمون به، فقال [لرسولِ اللَّهِ] (¬2): جِئْتُ لأتْبَعَنَكَ، وأُصِيبَ معك. فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَتؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قال: لا. قال: «فَارْجِعْ فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ». ثم مَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى إذا كان بالبَيْداءِ أدْرَكَه ذلك الرجلُ، فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟». قال: نعم. قال: «فَانْطَلِقْ». متَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) في النسخ: «الوبر». وهو موضع على نحو أربعة أميال من المدينة. ويضبطه بعضهم بإسكان الباء. انظر شرح النووى لصحيح مسلم 12/ 198. (¬2) في م: «يا رسول اللَّه». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، من كتاب الجهاد والسير. صحيح 3/ 1449، 1450. ولم يخرجه البخارى، انظر: تحفة الأشراف 12/ 12. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المشرك يسهم له، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 69. والترمذى، في: باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى الإِمامُ أحمدُ (¬1)، بإسْنادِه، عن عبدِ الرحمنِ بنِ خُبَيْبٍ (¬2)، قال: أتَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يُرِيدُ غَزْوَةً، أنا ورَجُلٌ مِن قومِى، ولم نُسْلِمْ، فقُلْنا: إنَّا نَسْتَحِى أنْ يَشْهَدَ قَوْمُنا مَشْهدًا لا نَشْهَدُه معهم. قال: «فَاسْلَمْتُمَا؟». قُلْنا: لا. قال: «فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالمُشْرِكِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ». قال: فأسْلَمْنا وشَهِدْنا معه. وهذا اخْتِيارُ ابنِ المُنْذِرِ، والجُوزْجانِىِّ، في جماعةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على جوازِ الاسْتِعانَةِ بهم. وكَلامُ الخِرَقِىِّ يَدُلُّ على جَوازِ الاسْتِعانَةِ بهم عندَ الحاجَةِ، وهو الذى ذَكَرَه شيخُنا في هذا الكِتابِ. وبه قال الشافعىُّ؛ لِما روَى الزُّهْرِىُّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتعانَ بناس مِن اليَهُودِ في حَرْبِه، فأسْهَمَ ¬

(¬1) في: المسند 4/ 454. كما أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 37. وهو في طبقات ابن سعد 3/ 534. (¬2) في النسخ: «حبيب». وفى المصادر السابقة: عن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم. رَواه سعيدٌ (¬1). ورُوِىَ أنَّ صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ خَرَج مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حُنَيْنٍ، وهو على شِرْكِه، [فأسْهم له، وأعْطاهُ مِن سَهْمِ المُؤَلَّفَةِ] (¬2)، وذَكَر الحدِيثَ. إذا ثبتَ هذا، فيُشْتَرَطُ أن يَكُونَ مَن يُسْتعانُ به حَسَنَ الرَّأْى في المسلمين، فإن كان غيرَ مأْمُونٍ عليهم، لم تَجُزْ الاسْتِعانَةُ بهم؛ لأنَّنا إذا مَنَعْنا الاسْتِعانَةَ بمَن لا يُؤْمَنُ مِن المسلمين، كالمُخَذِّلِ والمُرْجِفِ، فالكافِرُ أوْلَى. فصل: ويُسْتَحَبُّ أن يَخْرُجَ يومَ الخميس؛ لِما روَى كعبُ بنُ مالكٍ، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في سهمان النساء، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 284. كما أخرجه البيهقى، في: باب الرضخ لمن يستعان به من أهل الذمة. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 53. وابن أبى شيبة، في: باب من غزا بالمشركين وأسهم لهم، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 395. (¬2) سقط من: الأصل. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 232، ويضاف إليه، والترمذى، في: باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 171.

1418 - مسألة: (ويرفق بهم فى السير)

وَيَرْفُقُ بِهِمْ فِى السَّيْرِ، وَيُعِدُّ لَهُمُ الزَّادَ، وَيُقَوِّى نُفُوسَهُمْ بِمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَيُعَرفُ عَلَيْهِمُ الْعُرَفَاءَ، وَيَعْقِدُ لَهُمُ الْأَلْويَةَ وَالرَّايَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: قلَّما كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخْرُجُ في سَفَرٍ إلَّا يَوْمَ الخميسِ (¬1). 1418 - مسألة: (ويَرْفُقُ بِهم في السَّيْرِ) فيَسِيرُ بهم سَيْرَ أضْعَفِهم؛ لِئلَّا يَشُقَّ عليهم، فإن دَعَتِ الحَاجَةُ إلى الجِدِّ في السَّيْرِ، جازَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَدَّ في السَّيْرِ حينَ بَلَغَه قولُ عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَىٍّ: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (¬2). ليَشْغَلَ النَّاسَ عن الخَوْضِ فيه (¬3) (ويُعِدُّ لهم الزَّادَ) لأنَّه لا بُدَّ منه في الغَزْوِ وفى غيرِه، وبه قِوامُهم (ويُقَوِّى نُفُوسَهم بما يُخَيِّلُ إليهم مِن أسْباب النَّصْرِ) لأنَّه ممّا يُطَمعُهم في عَدُوِّهم (ويُعَرِّفُ عليهم العُرَفَاءَ) وهو أنَ يَجْعَلَ (¬4) لكلِّ طائِفَةٍ مَن يكونُ كالمُقَدَّمِ عليهم، يَنْظُرُ في حالِهم، ويَتَفَقَّدُهم (¬5) (ويعْقِدُ لهم الألوِيَةَ والرّاياتِ) ويَجْعَلُ لكلِّ طائِفَةٍ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من أراد غزوة فورى بغيرها. . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 59. وأبو داود، في: باب في أى يوم يستحب السفر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 34. والدارمى، في: باب في الخروج يوم الخميس، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 214. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 455، 456، 6/ 390. (¬2) سورة المنافقون 8. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ومن سورة المنافقين، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 199 - 206. ولم يذكر الترمذى اشتداد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في السير، وذكره الواقدى، في المغازى 2/ 418. (¬4) في م: «يكون». (¬5) في م: «يفتقدهم».

وَيَجْعَلُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شِعَارًا يَتَدَاعَوْنَ بِهِ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَيَتَخَيَّرُ لَهُمُ الْمَنَازِلَ، وَيَتَتَبَّعُ مَكَامِنَهَا فَيَحْفَظُهَا، وَيَبْعَثُ الْعُيُونَ عَلَى الْعَدُوِّ؛ حَتَّى لَا يَخْفى علَيْهِ أَمْرُهُمْ، وَيَمْنَعُ جَيْشَهُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْمَعَاِصِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ لِواءً؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ أبا سُفيانَ حينَ أسْلَمَ، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للعباسِ: «احْبسْهُ عَلَى الوَادِى حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ، فَيرَاهَا». قال: فحبَسْتُه حيثُ أمَرَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَرَّتْ به القبائلُ على راياتِها (¬1). وهو مُخَيَّرٌ في ألوانِها، لكنَّه يُغايرُ ألوانَها؛ ليَعْرِفَ كلُّ قَوْم رايَتَهم (ويَجْعَلُ لكُلِّ طائِفَةٍ شِعارًا يَتداعَوْن به عندَ الحربِ) لئلَّا يَقَعَ بعْضُهم على بعضٍ، وهى علامةٌ بينَهم يَعْرِفُونها (ويَتَخَيَّرُ لهم المنازِلَ) أصْلَحَها لهم (ويتَتَبَّعُ مكامِنَها (¬2) فيَحْفَظُها) لئلَّا يُؤْتَوْا منها، ولا يَغْفُلُ الحَرَسَ والطلائِعَ؛ ليَحْفَظَهم مِن البَياتِ (ويَبْعَثُ العُيونَ على العَدُوِّ؛ حتى لا يَخْفَى عليه أمْرُهم) فيَحْتَرِزَ منهم، ويتَمَكَّنَ مِن الفُرْصَةِ فيهم (ويَمْنَعُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب أين ركز النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 186. (¬2) في م: «مكانها».

وَيَعِدُ ذَا الصَّبْرِ بالأَجْرِ وَالنَّفَلِ، وَيُشَاوِرُ ذَا الرَّأْى، وَيَصُفُّ جَيْشَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ جَيْشَه مِن الفَسادِ والمعاصِى) ومِن التِّجارَةِ المانِعَةِ مِن القِتالِ، ولأنَّ المعاصِىَ مِن أسْبابِ الخُذْلانِ (ويَعِدُ ذا الصَّبْرِ بالأجْرِ والنَّفَلِ) تَرْغِيبًا في الجِهادِ. ويُخْفِى مِن أمْرِه ما أمْكَنَ إخْفاؤُه؛ لئلَّا يعْلَمَ به عدُوُّه، فقد كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أرادَ غَزْوَةً ورَّى بغَيْرِها (¬1) (ويُشاوِرُ ذا الرَّأْى) منهم؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬2). وكان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكْثَرَ الناسِ مُشاوَرَةً لأصْحابِه. فصل: وإذا وَجَدَ رَجُلٌ رجلًا قد أُصِيبَتْ فَرَسُه، ومعه فَرَسٌ فَضْلٌ، اسْتُحِبَّ حَمْلُه، ولم يَجِبْ. نَصَّ عليه. فإن خافَ تَلَفَه، فقال القاضى: يَجِبُ عليه بَذْلُ فَضْلِ مَرْكُوبِه؛ ليُحْيِىَ به صاحِبَه، كما يَلْزَمُه بَذْلُ فَضْل طَعامِه للمُضْطَر إليه، وتخْلِيصُه مِن عَدُوه (ويَصُفُّ جَيْشَه) لقولِ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من أراد غزوة فورّى بغيرها. . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب حديث كعب بن مالك. . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 59، 4/ 5. ومسلم، في: باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2128. وأبو داود، في: باب المكر في الحرب، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 41. والدارمى، في: باب في الحرب خدعة، من كتاب السير. سنن الدارمى 9/ 212. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 456، 457، 6/ 387. (¬2) سورة آل عمران 159.

وَيَجْعَلُ فِى كُلِّ جَنْبَةٍ كُفُؤًا، وَلَا يَمِيلُ مَعَ قَرِيبِهِ وَذِى مَذْهَبِهِ على غَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬1). (ويَجْعَلُ في كلِّ جَنْبَةٍ كُفُؤًا) لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: كنتُ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجَعَلَ خالِدًا على إحْدَى الجَنْبَتَيْن، وجَعَل الزُّبَيْرَ على الأُخْرَى، وجَعَل أبا عُبَيْدَةَ على السّاقَةِ (¬2). ولأنَّ ذلك أحْوَطُ للحَرْبِ، وأبْلَغُ في إرْهابِ العَدُوِّ (ولا يَمِيلُ مع قَرِيبهِ وذِى مَذْهَبِه على غيرِه) لئلَّا تَنْكَسِرَ قُلُوبُهم، فيَخْذُلُوه عندَ الحاجَةِ، ويُراعِي أصْحابَه، ويَرْزُقُ كلَّ واحدٍ بقَدْرِ حاجَتهِ. فصل: ويُقاتَلُ أهْلُ الكِتابِ والمَجُوسُ، حتى يُسْلِمُوا أو يُعْطُوا الجِزْيَةَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3). والمَجُوسُ حُكْمُهم في قَبُولِ الجِزْيَةِ منهم حُكْمُ أهْلِ الكِتابِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتَابِ» (¬4). ولا نعلمُ بينَ أهْل العِلْمِ خلافًا في هذَيْن القِسْمَيْن. فأمَّا مَن سِواهم مِن الكُفَّارِ، كعَبَدَةِ الأوْثانِ، ونحوِهم، ¬

(¬1) سورة الصف 4. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب فتح مكة، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1407. (¬3) سورة التوبة 29. (¬4) أخرجه مالك، في: باب جزية أهل الكتاب والمجوس، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 278.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يُقْبَلُ منهم إلَّا الإِسْلامُ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، وفيه اخْتِلافٌ يُذْكَرُ في بابِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: ومَن بَلَغَتْه الدَّعوَةُ مِن الكُفَّارِ يجوزُ قِتالُه مِن غيرِ دُعاءٍ، ومَن لم تَبْلُغْه الدَّعْوَةُ، يُدْعَى قبلَ القِتالِ، ولا يجوزُ قِتالُهم قبلَ الدُّعاءِ؛ لِما روَى بُرَيْدَةُ، قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا بَعَث أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أمَرَه بتَقْوَى اللَّه فِى خاصَّتِه، وبِمَن معه مِن المسلمين، وقال: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى إحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أجَابُوكَ إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ؛ ادْعُهُمْ إلَى الإِسْلَامِ، فإنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فإنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إِلَى إعْطَاءِ الجِزْيَةِ، فَإنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فَإنْ أبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ». رَواه مسلمٌ (¬1). وهذا، واللَّهُ أعْلمُ، كان في بَدءِ الأَمْرِ، قبلَ انْتِشارِ الدَّعْوَةِ، وظُهُورِ الإِسْلامِ، فأمَّا اليومَ، فقد انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ واسْتُغْنِىَ بذلك عن الدُّعاءِ عندَ القِتالِ. قال أحمدُ: إنَّ الدَّعْوَةَ قد بَلَغَتْ وانْتَشَرتْ، ولكنْ إن جازَ أن يَكُونَ قَوْمٌ خلفَ الرُّومِ وخلفَ التُّرْكِ بهذه الصِّفَةِ، لم يَجُزْ قِتالُهم قبلَ الدَّعْوَةِ، ومَن بَلَغَتْه الدَّعْوَةُ يَجُوزُ قِتالُهم قبلَ ذلك. وإن دَعاهُم فحَسَنٌ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. وقد رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ عليًّا -حينَ أعْطاهُ الرَّايَةَ يومَ خَيْبَرَ وأمَرَه بقِتالِهم- أن يَدْعُوَهُم، وهم ممَّن قد بَلَغَتْه الدَّعْوَةُ. رَواه البُخَارِىُّ (¬2). ودَعا خالدُ بنُ الوليدِ طُلَيْحَةَ، حينَ ادَّعَى النبوَّةَ، فلم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 86. (¬2) في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 171.

1419 - مسألة: (ويجوز أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق، أو قلعة، أو ماء. ويجب أن يكون معلوما، إلا أن يكون من مال الكفار، فيجوز)

وَيَجُوزُ أنْ يَبْذُلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقٍ، أوْ قَلْعَةٍ، أَوْ مَاءٍ. وَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، إِلَّا أنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، فَيَجُوزُ مَجْهُولًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْجِعْ، فأظْهَرَهُ اللَّهُ عليه (¬1). ودَعا سَلْمانُ أهْلَ فارسَ (¬2). 1419 - مسألة: (ويَجُوزُ أن يَبْذُلَ جُعْلًا لِمَن يَدُلُّه على طَريقٍ، أو قَلْعَةٍ، أو ماءٍ. ويَجِبُ أن يَكُونَ مَعْلُومًا، إلَّا أن يَكُونَ مِن مالِ الكُفَّارِ، فيَجُوزُ) أن يَكُونَ (مَجْهُولًا) لا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّه يَجُوزُ للإمامِ ونائِبِه أن يبْذُلَ جُعْلًا لِمَن يدُلُّه على ما فيه مَصْلَحَةٌ للمسلمين، مثلَ طريقٍ سَهْلٍ، أو ماءٍ في مَفازَةٍ، أو قَلْعَةٍ يَفْتَحُها، أو مالٍ يَأْخُذُه، أوَ عَدُوٍّ يُغِيرُ عليه، أو ثَغْرَةٍ يَدْخُلُ منها. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّه جُعْلٌ في مَصْلَحَةٍ، فجازَ، كأُجْرَةِ الدَّليلِ، وقد اسْتَأْجَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في الهِجْرَةِ مَن دَلَّهم على الطَّرِيقِ (¬3). ويَسْتَحِقُّ الجُعْلَ بفِعْلِ ما جُعِلَ له فيه، سَواءٌ كان مُسْلِمًا أو كافرًا، مِن الجَيْشِ أو مِن غيرِه. فإن جُعِلَ له الجُعْلُ ممّا في يَدِه، وَجَب أن يَكُونَ مَعْلُومًا؛ لأنَّها جَعالَةٌ ¬

(¬1) انظر: ما أخرجه البيهقى، في: باب من قال في المرتد: يستتاب مكانه، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 26. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في دعاء المشركين قبل أن يقاتلوا، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 361. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب استئجار المشركين عند الضرورة. . .، وباب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام. . .، من كتاب الإجارة، وفى: باب هجرة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 3/ 116، 5/ 76.

1420 - مسألة: (فإن شرط له جارية)

فَإِنْ جَعَلَ لَهُ جَارِيَةً مِنْهُمْ، فَمَاتَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَلَا شَىْءَ لَهُ، وَإِنْ أسْلَمَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَلَهُ قِيمَتُهَا، وَإنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ، سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، إِلَّا أنْ يَكُون كَافِرًا، فَلَهُ قِيمَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضٍ مِن مالٍ مَعْلومٍ، فوَجَبَ أن يَكُونَ مَعْلُومًا، كالجَعالَةِ في رَدِّ الآبِقِ. فإن كان الجُعْلُ مِن مالِ الكُفَّارِ، جازَ أن يكونَ [مَجْهُولًا لا يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، ولا يُفْضِى إلى التَّنازُعِ] (¬1)؛ لأن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل للسَّرِيَّةِ الثُّلُثَ، والرُّبْعَ ممّا غَنِمُوه، وهو مجْهُولٌ؛ لأنَّ الغَنِيمةَ كلَّها مجْهُولَةٌ، ولأنَّه ممّا تَدْعُو الحاجَةُ إليه، والجَعالَةُ إنَّما تجوزُ بحسَبِ الحاجَةِ. 1420 - مسألة: (فإن شَرَطَ له جَارِيَةً) مُعَيَّنَةً على قَلْعَةٍ يَفْتَحُهَا، نحوَ أن يَشْرُطَ له بِنْتَ فُلانٍ مِن أهْلِ القَلْعَةِ، لَم يَسْتَحِقَّ شَيْئًا حتى يَفتَحَ القَلْعَةَ؛ لأنَّ جَعالَةَ شئٍ منها اقْتَضَى (¬2) اشْتِراطَ فَتْحِها، فمتى فتِحَتِ القَلْعَةُ عَنْوَةً، سُلِّمَتْ إليه (فإن ماتَتْ قبلَ الفَتْحِ) أو بعدَه (فلا شئَ له) لأنَّه تَعَلَّقَ حَقُّه بمُعَيَّنٍ، وقد تَلِفَ بغيرِ تفْرِيطٍ، فسَقَطَ حَقُّه، كالوَدِيعَةِ (وإن أسْلَمَتْ قبلَ الفَتْحِ، فله قِيمَتُها) لأنَّها عَصَمَتْ نَفْسَها ¬

(¬1) كذا في النسختين، وفى المغنى 13/ 58: «مجهولا جهالة لا تمنع التسليم ولا تفضى إلى التنازع». (¬2) في م: «اقتضت».

1421 - مسألة: (وإن فتحت صلحا، ولم يشترطوا الجارية، فله قيمتها)

وَإنْ فُتِحَتْ صُلْحًا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْجَارِيَةَ، فَلَهُ قِيمَتُهَا، فَإنْ أَبَى إِلَّا الْجَارِيَةَ، وَامْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِهَا، فُسِخَ الصُّلْحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْلامِها، فتَعَذَّرَ دَفْعُها إليه، فاسْتَحَقَّ القِيمَةَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا صالَحَ أهْلَ مَكَّةَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ على أنَّ مَن جاءَه مُسْلِمًا رَدَّه إليهم، فجاءَه نِساءٌ مُسْلِمات، فمَنَعَه اللَّهُ مِن رَدِّهِنَّ (¬1). وكذلك لو كان الجُعْلُ رَجُلًا، فأسْلَمَ قبلَ الفَتْحِ؛ لأنَّه عَصَم نفسَه، فلم يَجُزْ دَفْعُه إليه، وله قِيمَتُه؛ كالجارِيَةِ. وإن كان إسْلامُهُما بعدَ الفَتْحِ، سُلِّما إليه، إن كان مُسْلِمًا؛ لأنَّهُما أسْلَما بعدَ أسْرِهما، فصارا رَقِيقَيْن. وإن كان كافرًا، فله قِيمَتُهما؛ لأنَّه لا يجوزُ للكافِرِ أن يَبْتَدِئَ المِلْكَ على المُسْلِمِ، وإنَّما لم تَجِبْ له القِيمَةُ إذا ماتا، وتَجِبُ إذا أسْلَمَا؛ لأنَّ، تَسْلِيمَهُما مُمْكِنٌ إذا أسْلَما، لكنْ مَنَع الشَّرْعُ منه. 1421 - مسألة: (وإن فُتِحَتْ صُلْحًا، ولم يَشْتَرِطُوا الجارِيَةَ، فله قِيمَتُها) إن رَضِىَ بها (وإن أبَى إلَّا الجارِيَةَ) وأبَى صاحِبُ القَلْعَةِ تَسْلِيمَها، فقالَ القاضِى: يُفْسَخُ الصُّلْحُ؛ لأنَّه قد تَعَذَّرَ إمْضاءُ الصُّلْحِ؛ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، من كتاب الشروط، وفى: باب غزوة الحديبية =

وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِلَّا قِيمَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ حَقَّ صاحِبِ الجُعْلِ سابِقٌ، ولا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَه وبينَ الصُّلْحِ. ونحوُ هذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. ولصاحِبِ القَلْعَةِ أن يُحَصِّنَها مثلَما كانتْ مِن غيرِ زيادَةٍ (ويَحْتَمِلُ أن لا يَكُونَ له إلَّا قِيمَتُها) ويَمْضِىَ الصُّلْحُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ دَفْعُها إليه مع بَقائِها، فدُفِعَتْ إليه القِيمَةُ، كما لو أسْلَمَتْ قبلَ الفَتْحِ. قولُهم: إنَّ حَقَّ صاحِبِ الجُعْلِ سابِقٌ. قُلْنا: إلَّا أنَّ المَفْسَدَةَ في فَسْخِ الصُّلْحِ أعْظَمُ؛ لأنَّ ضَرَرَه يَعُودُ على الجَيْشِ كلِّه، ورُبَّما تَعَدَّى إلى غيرِه مِن المسلمين في كوْنِ هذه القَلْعَةِ يَتَعَذَّرُ فَتْحُها بعدَ ذلك، ويَبْقَى ضَرَرُها على المسلمين، ولا يجوزُ تَحَمُّلُ هذه المَضَرَّةِ لدَفْعِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ عن واحدٍ، فإنَّ ضَرَرَ صاحِبِ الجُعْلِ إنَّما هو في فَواتِ عَيْنِ الجُعْلِ، ¬

_ = من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 246، 247، 5/ 161، 162. وأبو داود، في: باب في صلح العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 77، 78. والبيهقى، في: باب نقض الصلح فيما لا يجوز. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 228. وانظر: الدر المنثور 6/ 205، 206.

1422 - مسألة: (وله أن ينقل فى البدأة الربع بعد الخمس، وفى الرجعة الثلث بعده، وذلك

وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ فِى الْبَدْأَةِ الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمْسٍ، وَفِى الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ الْجَيْشُ بَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ، وَإذَا رَجَعَ بَعَثَ أُخْرَى، فَمَا أتَتْ بِهِ أَخْرَجَ خُمْسَهُ، وَأَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لهَا، وَقَسَمَ الْبَاقِىَ فِى السَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ مَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَفاوُتُ ما بينَ عَيْنِ الشئِ وقِيمَتِه يَسِيرٌ، لا سِيَّما وهو في حَقِّ شَخْصٍ واحدٍ، ومُراعاةُ حَقِّ المسلمين بدَفْع، الضَّرَرِ الكثيرِ عنهم أوْلَى مِن دَفعِ الضَّرَرِ اليَسِير عن واحدٍ منهم أو مِن غيرِهم، ولهذا قُلْنا لمَن وَجَد مالَه قبلَ قَسْمِه: إنَّه أحَقُّ به. فإن وَجَده بعدَ قَسْمِه، لم يَأْخُذْه إلَّا بثَمَنِه (¬1)؛ لئلَّا يُؤَدِّىَ إلى الضَّرَرِ بنَقْضِ القِسْمَةِ، أو حِرْمانِ مَن وَقَع ذلك في سَهْمِه. 1422 - مسألة: (وله أن يُنَقِّلَ في البَدْأةِ الرُّبْعَ بعدَ الخُمْسِ، وفى الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ بَعْدَه، وذلك (¬2) إذا دَخَل الجَيْشُ بَعَث سَرِيَّةً تُغِيرُ، وإذَا رَجَعَ بَعَث أُخْرَى، فَمَا أتَتْ به أخْرَجَ خُمْسَه، وأعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَها، وقَسَم الباقِىَ لِلجَيْشِ والسَّرِيَّةِ مَعًا) النَّفَلُ: الزِّيادَةُ على السَّهْمِ المُسْتَحَقِّ، ومنه نَفْلُ الصَّلاةِ، وهو ما زِيدَ على الفَرْضِ، وقولُ اللَّهِ تعالى: ¬

(¬1) في م: «بثمن». (¬2) بعده في م: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} (¬1). كأنَّه سألَ اللَّهَ ولدًا، فأعْطاه ما سألَ وزادَه ولدَ الوَلَدِ، والمُرادُ بالبَدْأةِ هُنا، ابْتداءُ دُخُولِ دارِ الحَرْبِ، والرَّجْعَةِ، رُجُوعُه عنها. والنَّفَلُ في الغَزْوِ ينْقَسِمُ ثلاثةَ أقسامٍ؛ أحدُها، هذا؛ وهو أنَّ الإمامَ أو نائِبَه إذا دَخَل دارَ الحَرْبِ غازيًا، بَعَث بينَ يدَيْه سَرِيَّةً تُغِيرُ على العَدُوِّ، ويَجْعَلُ لهم الرُّبْعَ بعدَ الخُمْسِ، فما قَدِمَتْ به السَّرِيَّةُ أخْرَجَ خُمْسَه، ثم أعْطَى السَّرِيَّةَ ما جَعَلَ لهم، وهو رُبْعُ الباقى، ثم قَسَم ما بَقِىَ في الجَيْشِ والسَّرِيَّةِ معًا. فإذا قَفَل، بَعَث سَرِيَّة تُغِيرُ، وجَعَل لهم الثُّلُثَ بعدَ الخُمْسِ، فما قَدِمَتْ به السَّرِيَّةُ أخْرَجَ خُمْسَه، ثم أعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ ما بَقِىَ، ثم قَسَم سائِرَه في الجَيْشِ والسَّريَّةِ معه. وبهذا قال حبيبُ بنُ مَسْلَمَةَ (¬2)، والحسنُ، والأوْزَاعِىُّ، وجماعةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، أنَّه لا نَفَلَ بعدَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولَعَلَّه احْتَجَّ بقولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3). فخَصَّه بها، وكان ابنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ يقولان: لا نَفَلَ إلَّا مِن الخُمْسِ. وقال الشافعىُّ: يُخْرَجُ مِن خُمْسِ الخُمْسِ؛ لِما ¬

(¬1) سورة الأنبياء 72. (¬2) حبيب بن مسلمة بن مالك الفهرى القرشى، أبو عبد الرحمن، له صحبة ورواية يسيرة، كان في غزوة تبوك ابن إحدى عشرة سنة، وجاهد في خلافة أبى بكر، وشهد اليرموك أميرًا، وكان ذا نكاية قوية في العدو. توفى سنة اثنتين وأربعين، وكان واليًّا على أرمينية لمعاوية. سير أعلام النبلاء 3/ 188، 189. (¬3) سورة الأنفال 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ، -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث سَرِيَّةً فيها عبدُ اللَّهِ ابنُ عُمَرَ، فغَنِمُوا إبِلًا كثيرًا، فكَانت سُهْمانُهم اثْنَىْ عَشَرَ بعيرًا، ونُفِّلُوا بعيرًا بعيرًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولو أعْطاهم مِن أربعةِ أخْماسِ الغَنِيمَةِ التى هى لهم، لم يَكُنْ نَفَلًا، وكان من سُهْمانِهم. ولَنا، ما روَى حبيبُ بنُ مَسْلَمَةَ الفِهْرِىُّ، قال: شَهِدْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفَّلَ الرُّبْعَ في البَدْأةِ، والثُّلُثَ في الرَّجْعَةِ. وفى لفْظٍ: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُنَفِّلُ الرُّبْعَ بعدَ الخُمْسِ، والثُّلُثَ بعدَ الخُمْسِ إذا قَفَل. رَواهُما أبو داودَ (¬2). وعن عُبادَةَ بنِ الصّامِتِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُنَفِّلُ في البَدْأةِ الرُّبْعَ، وفى القُفُولِ الثُّلُثَ. رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: حديث حسَنٌ غَريبٌ. وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ البَجَلِىِّ، أنَّه لمّا قَدِمَ على عُمَرَ في قَوْمِه، قال له عُمَرُ: هل لكَ أن تَأْتِىَ الكُوفَةَ، ولك الثُّلُثُ بعدَ الخُمْسِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب السرية التى قِبَلَ نجد، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 203. ومسلم، في: باب الأنفال، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1368. كما أخرجه أبو داود، في: باب في نفل السرية تخرج من المعسكر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 71، 72. والدارمى، في: باب في أن النفل إلى الإمام، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 228. والإمام مالك، في: باب جامع النفل في الغزو، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 450. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 62. (¬2) في: باب في من قال: الخمس قبل النفل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 72، 73. كما أخرج الثانى ابن ماجه، في: باب النفل، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 951. والدارمى، في: باب النفل بعد الخمس، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 229. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 159، 160. (¬3) في: باب في النفل، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 52. كما أخرجه الدارمى، في: باب في أن ينفل في البدأة الربع. . .، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 329. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 324.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن كلِّ أرضٍ وشئٍ؟. فأمَّا قولُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، فإنَّ مَكْحُولًا قال له حينَ قال: لا نَفَلَ بعدَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذكرَ له حديثَ حَبِيبِ بنِ مَسْلَمَةَ: شَغلَك أكْلُ الزَّبِيبِ بالطَّائِفِ. وما ثَبَت للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثَبَت للأئِمَّةِ بعدَه، ما لم يَقُمْ على تخْصِيصِه به دَلِيلٌ. وأمَّا حديثُ ابنِ عُمَرَ، فهو حُجَّةٌ عليهم، فإنَّ بعيرًا علِى اثْنَىْ عَشَرَ، يَكُونُ جُزْءًا مِن ثَلاثَةَ عَشَرَ، وخُمْسُ الخُمْسِ جزءٌ مِن خَمْسَةٍ وعِشْرِين جزءًا، وجزءٌ مِن ثَلاثَةَ عَشَرَ أكثرُ، فلا يُتَصَوَّرُ أخْذُ الشئِ مِن أقلَّ منه، فيَتَعَيَّنُ أن يَكُونَ مِن غيرِه، أَوْ أنَّ النَّفَلَ كان للسَّرِيَّةِ دُونَ سائِرِ الجَيْشِ. على أنَّ ما رَوَيْناه صَرِيحٌ في الحُكْمِ، ولا يُعارَضُ بشئٍ مُسْتَنبطٍ، يَحْتَمِلُ غيرَ ما حَمَلَه عليه مَن اسْتَنْبَطَه. إذا ثَبَت هذا، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّهم إنَّما يَسْتَحِقُّونَ هذا بالشَّرْطِ السّابِقِ، فإن لم يَكُنْ شَرَطَه لهم فلا. قِيلَ له: أليس قد نَفَّلَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في البَدْأةَ الرُّبْعَ، وفى الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ؟ قال: نعم، ذاك إذا نَفَّلَ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ فيه. فعلى هذا، إن رَأَى الإِمامُ أن لا يُنَفِّلَهم، فله ذلك، وإن رَأى أن يُنَفِّلَهم دُونَ الثُّلُثِ والرُّبْعِ، فله ذلك؛ لأنَّه إذا جازَ تَرْكُ النَّفَلِ كلِّه، جازَ تَرْكُ البعضِ. ولا يجوزُ أن يُنَفِّلَ أكثرَ مِن الثُّلُثِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا قولُ مَكْحُولٍ، والأوْزَاعِىِّ، وجُمْهورِ العُلَماءِ. وقال الشافعىُّ: لا حَدَّ للنَّفَلِ، بل هو مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ الإِمامِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نفَّلَ مَرَّةً الثُّلُثَ، ومَرَّةً الرُّبْعَ. وفى حديثِ ابنِ عُمَرَ نَفَّلَ نِصْف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسِ. فهذا يدُلُّ على أنَّه ليس للنَّفَلِ حَدٌّ لا يتجاوزُه الإِمامُ، فيَنْبَغِى أن يَكُونَ مَوْكُولًا إلى اجْتِهادِه. ولَنا، أنَ نَفَلَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- انْتَهى إلى الثُّلُثِ، فيَنْبَغِى أن لا يتَجاوزَه، وما ذَكَرَه الشافعىُّ يَدُلُّ على أنَّه ليس لأقَلِّ النَّفَلِ حَدٌّ، وأنَّه يجوزُ أنْ يُنَفِّلَ أقَلَّ مِن الثُّلُثِ والرُّبْعِ، ونحن نقولُ به، على أن هذا القولَ مع قوْلِه: إنَّ النَّفَلَ مِن خُمْسِ الخُمْسِ. تناقُضٌ. فإن شَرَطَ لهم الإِمامُ زِيادَةً على الثُّلُثِ، رُدُّوا إليه. وقال الأوْزَاعِىُّ: لا يَنْبَغِى أن يَشْتَرِطَ النِّصْفَ، فإن زادَهم على ذلك، فلْيَفِ لهم به، ويَجْعَلْ ذلك مِن الخُمْسِ. وإنَّما زِيدَ في الرَّجْعَةِ على البَدْأةِ في النَّفَلِ؛ لمَشَقَّتِها، فإنَّ الجَيْشَ في البَدْأةِ رِدْءٌ للسَّرِيَّةِ، تابعٌ لها، والعَدُوُّ خائِفٌ، ورُبَّما كان غارًّا، وفى الرَّجْعَةِ لا رِدْءَ للسَّرِيَّةِ؛ لأنَّ الجَيْشَ مُنْصَرِفٌ عنهم، والعَدُوَّ مُسْتَيْقِظٌ كَلِبٌ. قال أحمدُ: في البَدْأةِ إذا كان ذاهِبًا الرُّبْعُ، وفى القَفْلَةِ إذا كان في الرُّجُوعِ الثُّلُثُ؛ لأنَّهم يشْتاقُون إلى أهليهم، فهذا أكثرُ. القسمُ الثَّانِى، أن يُنَفِّلَ الإِمامُ بعضَ الجَيْشِ؛ لغَنائِه وبَأْسِه وبَلائِه، أو لمَكْروهٍ تحمَّلَه دُونَ سائِرِ الجَيْشِ. قال أحمدُ، في الرجلِ يأمرُه الأمِيرُ يَكُونُ طَليعةً، أو عندَه، يدفعُ إليه رأسًا مِن السَّبْى أو دابَّةً، قال: إذا كان رجلٌ له غَناءٌ، أو يُقاتِلُ، فلا بَأْسَ، ذلك أنْفَعُ لهم، يُحَرَّضُ هو وغيرُه، ويُقاتِلُونَ ويَغْنَمُون. وقال: إذا نَفَّذَ الإِمامُ صَبِيحَةَ المَغارِ الخيلَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُصِيبُ بعضُهم، وبعضُهم لا يَأْتِى بشئٍ، فللْوالِى أن يَخُصَّ بعضَ هؤلاء الذين جاءُوا بشئٍ دُونَ هؤلاء. وظاهِرُ هذا، أنَّ له إعْطاءَ مَن هذا حالُه مِن غيرِ شَرْطٍ. وحُجَّةُ هذا حديثُ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، أنَّه قال: أغارَ عبدُ الرحمنِ بنُ عُيَيْنَةَ على إبِلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاتَّبَعْتُهم، فذَكَرَ الحديثَ، فأعْطَانِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَ الفارِسِ والرّاجلِ. رَواه مسلمٌ (¬1). وعنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّرَ أبا بكرٍ، قال: فبَيَّتْنا عَدُوَّنا، فقَتَلْت ليْلَتَئِذٍ تِسْعَةَ أهْلِ أبْياتٍ، وأخذْتُ منهم امرأةً، فنَفَّلَنِيها أبو بكرٍ، فلمّا قَدِمْتُ المدينةَ، اسْتَوْهَبَنِيها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوَهَبْتُها له. رَواه مسلمٌ (¬2). القسمُ الثالثُ، أن يَقُولَ الأميرُ: مَن طَلَع هذا الحِصْنَ -أو- هَدَم هذا السُّورَ -أو- نَقَب هذا النَّقْبَ -أو- فَعَل كذا، فله كذا. أو: ¬

(¬1) في: باب غزوة ذى قرد وغيرها، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1432، 1439 - 1441. كما أخرجه أبو داود، في: باب في السرية تردُّ على أهل العسكر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 73، 74. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 52، 53. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن جاء بأسِيرٍ فله كذا. فهذا جائِزٌ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، منهم الثَّوْرِىُّ. قال أحمدُ: إذا قال: من جاءَ بعَشْرِ دَوابَّ -أو- بَقَرٍ -أو- غَنَمٍ، فلَه واحِدٌ. فمَن جاءَ بخَمْسةٍ أعْطاه نِصْفَ ما قالَ لهم، ومَن جاءَ بشئٍ أعْطاه بقَدْرِه. قيل له: إذا [قال: مَن جاءَ] (¬1) بعِلْجٍ، فله كذا وكذا. فجاءَ بعِلْجٍ، يَطِيبُ له ما يُعْطَى؟ قال: نعم. وكَرِهَ مالكٌ هذا القَسْمَ، ولم يَرَه، وقال: قِتالُهم على هذا الوَجْهِ إنَّما هو للدُّنْيا. وقال هو وأصْحابُه: لا نَفَلَ إلَّا بعدَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ. وقال مالكٌ: ولم يَقُلْ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬2). إلَّا بعدَ أن بَرَد القِتالُ. ولَنا، ما تَقَدَّمَ مِن حديثِ حَبيبٍ، وعُبادَةَ، وما شَرَطَه عُمَرُ لجَرِيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ». ولأنَّ فيه تَحْرِيضًا على القِتالِ، فجازَ، كاسْتِحْقاقِ الغَنِيمَةِ، وزِيادَةِ السَّهْمِ للفارسِ، واسْتِحْقاقِ السَّلَبِ، وما ذَكَرَه يَبْطُلُ بهذه المسائِلِ. وقولُه: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما جَعَلَ السَّلَبَ للقاتِلِ بعدَ أن بَرَد القِتالُ. قُلْنا: قولُه ذلك ثابِتُ الحُكْمِ فيما يأْتِى مِن الغَزَواتِ بعدَ قولِه، فهو بالنِّسْبَةِ إليها كالمَشْرُوطِ في أوَّلِ الغَزاةِ. قال القاضى: لا يَجُوزُ هذا إلَّا إذا كان فيه مَصْلَحَةٌ للمسلمين، فإن لم تَكُنْ فيه فائِدَةٌ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه إنَّما يَخْرُجُ على وَجْهِ المَصْلَحَةِ، فاعْتُبِرَتِ الحاجَةُ فيه، كأُجْرَةِ الحَمّالِ والحافظِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ النَّفَلَ لا يخْتَصُّ بنَوْعٍ مِن المالِ. وذَكَر الخَلَّالُ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) يأتى تخريجه في حديث أبى قتادة المسألة رقم 1427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَفَلَ في الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ؛ لأنَّ القاتِلَ لا يَسْتَحِقُّ شيئًا منها، فكذلك غيرُه. ولَنا، حديثُ حَبِيبِ بنِ مَسْلَمَةَ، وعُبادَةَ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل لهم الثُّلُثَ والرُّبْعَ، وهو عامٌّ في كلِّ ما غَنِمُوه، ولأنَّه نَوْعُ مالٍ، فجازَ النَّفَلُ فيه، كسائِرِ الأمْوالِ. وأمّا القاتِلُ، فإنَّما نُفِّلَ السَّلَبَ، وليستِ الدَّراهمُ والدَّنانِيرُ مِن السَّلَبِ، فلم يَسْتَحِقَّ غيرَ ما جُعِلَ له. فصل: نَقَل أبو داودَ، عن أحمدَ، أنَّه قال له: إذا قالَ: مَن رَجَع إلى السّاقَةِ فله دينارٌ. والرجلُ يَعْمَلُ في سِياقَةِ الغَنَمِ؟ قال: لم يَزَلْ أهْلُ الشَّامِ يفعلُون هذا، وقد يكونُ في رُجُوعِهم إلى السّاقَةِ وسِياقَةِ الغَنَمِ مَنْفَعَةٌ. قيلَ له: فإنْ أغارَ على قَرْيَةٍ فنَزَلَ فيها، والسَّبْىُ والدَّوابُّ والخُرْثِىُّ (¬1) معهم في القريةِ، ويمْنَعُ الناسَ مِن جَمْعِه الكَسَلُ، لا يخافُون عليه العَدُوَّ، فيَقُولُ الإِمامُ: مَن جاءَ بعَشَرَةِ أثْوابٍ فله ثَوْبٌ، ومَن جاءَ بعَشَرَةِ رُءُوسٍ فله رأْسٌ؟ قال: أرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأْسٌ. قيلَ له: فإن قال (¬2): مَن جاءَ بعِدْلٍ مِن دَقِيقِ الرُّومِ فلَهُ دِينارٌ. يُرِيدُه لطَعامِ السَّبْى، ما تَرَى في أخْذِ الدِّينارِ؟ فما رَأى به بأْسًا. قيل: فالإِمامُ يُخْرِجُ السَّرِيَّةَ وقد نَفَّلَهم جميعًا، فلمّا كان يَوْمُ المَغارِ نادَى: مَن جاءَ بعَشَرَةِ رُءُوسٍ فله رأْسٌ، ومَن جاءَ بكذا فله كذا. فذَهَبَ النّاسُ فطَلَبُوا، فما تَرَى في هذا النَّفَلِ؟ قال: لا بَأْسَ به إذا كان يُحَرِّضُهم على ذلك، ما ¬

(¬1) الخرثي: أثاث البيت وأردأ المتاع والغنائم. (¬2) في م: «قيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يسْتَغْرِقِ الثُّلُثَ. قلتُ: لا بأْسَ بنَفَلَيْن في شئٍ واحدٍ؟ قال: نعم، ما لم يَسْتَغْرِقِ الثُّلُثَ. سَمِعْتُه غيرَ مَرَّةٍ يقولُ ذلك. فصل: قال أحمدُ: والنَّفَلُ مِن أرْبعةِ أخْماسِ الغَنِيمَةِ. هذا قولُ أنَسِ ابنِ مالكٍ، وفُقَهاءِ الشامِ؛ منهم رجاءُ بنُ حَيْوَةَ (¬1)، وعُبادَةُ بنُ نُسَىٍّ، وعَدِىُّ بنُ عَدِىٍّ (¬2)، ومَكْحُولٌ، والقاسِمُ بنُ عبدِ الرحمنِ، ويزيدُ بنُ أبى مالكٍ (¬3)، ويحيى بنُ جابِرٍ (¬4)، والأوْزَاعِىُّ. وبه قال إسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ. قال أبو عُبَيْدٍ: والناسُ اليومَ على هذا. قال أحمدُ: وكان سعيدُ ابنُ المُسَيَّبِ، ومالكُ بنُ أنَسٍ، يقولان: لا نَفَلَ إلَّا مِن الخُمْسِ. فكيفَ خَفِىَ عنهما هذا مع عِلْمِهِما؟، قالَ النَّخَعِىُّ، وطائِفَةٌ: إن شاءَ الإِمامُ نَفَّلَهم قبلَ الخُمْسِ، وإنْ شاءَ بعدَه. وقال أبو ثَوْرٍ: إنَّما النَّفَلُ قبلَ الخُمْسِ. واحْتَجَّ مَن ذهَب إلى هذا بحدِيثِ ابنِ عُمَرَ الذى أوْرَدْناه. ولَنا، ما روَى مَعْنُ بنُ يَزِيدَ السُّلَمِىُّ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا نَفَلَ إلَّا بَعْدَ الخُمْسِ». رَواه أبو داودَ (¬5)، وابنُ عبدِ البَرِّ. ¬

(¬1) هو رجاء بن حيوة بن جرول، أبو نصر الكندى، العالم الفقيه، كان من جلة التابعين. توفى سنة اثنتى عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 557 - 561. (¬2) عدى بن عدى بن عميرة الكندى، سيد أهل الجزيرة، كان ناسكا فقيها ثقة، توفى سنة عشرين ومائة. تهذيب التهذيب 7/ 168، 169. (¬3) يزيد بن عبد الرحمن بن أبى مالك، العلامة قاضى دمشق. توفى سنة ثلاثين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 437، 438. (¬4) يحيى بن جابر الطائى أبو عمرو الحمصى القاضى، توفى سنة ست وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 11/ 191. (¬5) في: باب في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 74. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 470.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا صريحٌ. وحديثُ حَبِيبِ بنِ (¬1) مَسْلَمَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُنَفِّلُ الرُّبْعَ بعدَ الخُمْسِ، والثُّلُثَ بعدَ الخُمْسِ. وحدِيثُ جَرِيرٍ حينَ قال له عُمَرُ: لك الثُّلُثُ بعدَ الخُمْسِ. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفَّلَ الثُّلُثَ، ولا يُتَصَوَّرُ إخْراجُه مِن الخُمْسِ. ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬2). يَقْتَضِى أن يَكُونَ الخُمْسُ خارجًا مِن الغَنِيمَةِ كلِّها. وأمّا حديثُ ابنِ عُمَرَ، فقد رَواه شُعَيْبٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قال: بَعَثَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ، وابْتَعَثْتُ (¬3) السَّرِيَّةً مِن الجَيْشِ، فكان سُهْمانُ الجيشِ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا، ونَفَلُ أهلِ السَّرِيَّةِ بعيرًا بعيرًا، فكانتْ سُهْمانُهم ثَلاثَةَ عَشَرَ بعيرًا (¬4). فهذا يُمْكِنُ أن يَكُونَ نَفَّلَهم مِن أرْبَعَةِ أخْماسِ الغَنِيمَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الجَيْشِ، كما يُنَفِّلُ (¬5) السَّرايَا. ويتَعَيَّنُ حَمْلُ هذا الخَبَرِ على هذا؛ لأنَّه لو أعْطَى جميعَ الجَيْشِ، لم يَكُنْ ذلك نَفَلًا، وكان قد قَسَمَ لهم أكثرَ مِن أرْبَعةِ الأخْماسِ، وهو خلافُ الآيَةِ والأخْبارِ. فصل: وكلامُ أحمدَ في أنَّ النَّفَلَ مِن أرْبَعةِ الأخْماسِ عامٌّ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ فيه، ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْن مِن النَّفَلِ. فأمَّا ¬

(¬1) في النسخ: «بن أبى». وانظر مصادر التخريج في صفحة 135. (¬2) سورة الأنفال 41. (¬3) في م: «ابتعث». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 135. (¬5) في م: «يفعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسْمُ الثالِثُ، وهو أن يَقُولَ: مَن جاءَ بشئٍ فلَه كذا. أو: مَن جاءَ بعَشَرَةِ رُءُوس فلَه رأْسٌ منها. فَيَحْتَمِلُ أن يَسْتَحِقَّ ذلك مِن الغَنِيمَةِ كلِّها؛ لأنَّه يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الجُعْلِ، فأشْبَهَ السَّلَبَ، فإنَّه غيرُ مَخْمُوس. ويَحْتَمِلُ في القسمِ الثانى، وهو زِيادَةُ بعضِ الغانِمين على سَهْمِه، أن يَكُونَ مِن خُمْسِ الخُمْسِ المُعَدِّ للمَصالِحِ؛ لأنَّ عَطيَّةَ هذا مِن المَصالِحِ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لأنَّ عَطِيَّةَ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ سَهْمَ الفارسِ زِيادَةً على سَهْمِه، إنَّما كان مِن أرْبعةِ الأخْماسِ. فصل: قال الخِرَقِىُّ: ويَرُدُّ مَن نُفِّلَ على مَن معه في السَّرِيَّةِ، إذْ بقُوَّتِهم صارَ إليه. ومعْناه: إذا بَعَث سَرِيَّةً ونَفَّلَها الثُّلُثَ أو الرُّبْعَ، فخَصَّ به بعضَهم، أو جاءَ بعضُهم بشئٍ فنفَّلَه، ولم يأْتِ بعضُهم بشئٍ فلم يُنَفِّلْه، شارَكَ مَن نُفِّلَ مَن لم يُنَفَّلْ. وقد نَصَّ أحمدُ على هذا؛ لأنَّ هؤلاء إنَّما أخَذُوا بقُوَّةِ هؤلاء، ولأنَّهم اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ على وَجْهِ الإشاعَةِ بينَهم بالشَّرْطِ السّابقِ، فلم يخْتَصَّ واحِدٌ منهم، كالغَنِيمَةِ. فأمَّا النَّفَلُ في القِسْمَيْنِ الأخِيرَيْن، مثلَ أن يَخُصَّ بعضَ الجيش بنَفَلٍ؛ لغَنائِه، أو لجَعْلِه له، كقَوْلِه: مَن جاءَ بعَشَرَةِ رُءُوس فله رأسٌ. فجاءَ واحِدٌ بعَشَرَةٍ دُونَ سائِرِ الجَيْشِ، فيَخْتَصُّ بنَفَلِه دُونَ غيره؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا خَصَّ مَن قَتَل بسَلَبِ قَتِيلِه اخْتَصَّ به (¬1)، ولمّا خَصَّ سَلَمَةَ بنَ الأكْوَعِ بسَهْمِ الفارسِ والرّاجِلِ اخْتَصَّ به (¬2). ولذلك اخْتَصَّ بالمرأةِ التى نَفَّلَها إيّاه ¬

(¬1) يأتى تخريجه في المسألة رقم 1427. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 138.

فصل

فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْجَيْشَ طَاعَةُ الْأَمِيرِ، وَالنُّصْحُ لَهُ، وَالصَّبْرُ مَعَهُ. وَلَا يَجُوزُ لأَحَدٍ أنْ يَتَعَلَّفَ، وَلَا يَحْتَطِبَ، وَلَا يُبَارِزَ، وَلَا يَخْرُجَ مِنَ الْمُعَسْكَرِ، وَلَا يُحْدِثَ حَدَثًا، إِلَّا بِإِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بكرٍ دُونَ النّاسِ (¬1)، ولأن هذا جُعِلَ تحْرِيضًا على القِتالِ، وَحَثًّا على فِعْلِ ما يَحْتاجُ المُسْلِمُون إليه؛ لتَحَمُّلِ فاعِلِه كُلْفَةَ فِعْلِه، رَغْبَةً فيما جُعِلَ له، فلو لم يَخْتَصَّ به فاعِلُه، ما خَاطَرَ أحدٌ بنَفْسِه فيه، ولا حصَلَتْ مَصْلَحَةُ النَّفَلِ، فوَجَبَ أن يَخْتَصَّ الفاعِلُ لذلك بنَفَلِه، كثَوابِ الآخِرَةِ. فصل: قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (ويَلْزَمُ الجَيْشَ طاعَةُ الأميرِ، والنُّصْحُ له، والصَّبْرُ معه) لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2). وقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أطَاعَنِى فَقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أطَاعِ أمِيرِى فَقَدْ أطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أمِيرى فقَدْ عَصَانِى». رَواه النَّسائِىُّ (¬3). 1423 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لأحَدٍ أن يَتَعَلَّفَ، ولا يَحْتَطِبَ، ولا يُبارِزَ، ولا يَخْرُجَ مِن المُعَسْكَرِ، ولا يُحْدِثَ حَدَثًا، إلَّا بِإذنِ الأمِيرِ) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 138. (¬2) سورة النساء 59. (¬3) في: باب الترغيب في طاعة الإمام، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 138. كما أخرجه البخارى، في: باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، من كتاب الجهاد، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 4/ 60، 61، 9/ 77. ومسلم، في: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1466. وابن ماجه، في: باب طاعة الإمام، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 954. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 93، 244، 252، 270، 313، 342، 382، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْنِى لا يَخْرُجُ لتَعَلُّفٍ، وهو تَحْصِيلُ العَلَفِ، ولا احْتِطابٍ، ولا غيرِه، إلَّا بإذْنِ الأمِيرِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (¬1). ولأنَّ الأمِيرَ أعْرَفُ بحالِ الناسِ، وحالِ العَدُوِّ، ومَكامِنِهم، وقُرْبِهم، وبُعْدِهم، فإذا خَرَج أحَدٌ بغيرِ إذْنِه، لم يَأْمَنْ أن يُصادِفَ كَمِينًا للعَدُوِّ، أو طَلِيعَةً لهم، فيَأْخُذُوه، أو يَرْحَلَ الأميرُ ويَدَعَه فيَهْلِكَ، فإذا كان بإذْنِ الأمِيرِ، لم يأْذَنْ لهم إلَّا إلى مَكانٍ آمِنٍ، ورُبَّما يَبْعَث معهم مِن الجيشِ مَن يَحْرُسُهم. فصل: فأمَّا المُبارَزَةُ، فتجُوزُ بإذْنِ الأميرِ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا الحَسَنَ، فإنَّه كَرِهَها. ولَنا، أنَّ حَمْزَةَ وعَلِيًّا وعُبَيْدَةَ بنَ الحارِثِ بارَزُوا يومَ بَدْرٍ بإِذْنِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وبارَزَ علىٌّ عَمْرَو بنَ عَبْدِ وُدٍّ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ (¬3). وبارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ. وقيل: بارَزَه محمدُ بنُ مَسْلَمَةَ (¬4). وبارَزَ البَراءُ بنُ مالكٍ مَرْزُبانَ الزَّأْرةِ (¬5) فَقَتَلَه، وأخَذَ سَلَبَه، ¬

= 416، 467، 471، 511. (¬1) سورة النور 62. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قتل أبى جهل، من كتاب المغازى، وفى: باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}، من سورة الحج، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 5/ 95، 96، 6/ 124. ومسلم، في: باب قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}، من كتاب التفسير. صحيح مسلم 4/ 2323. وابن ماجه، في: باب المبارزة والسلب، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 946. (¬3) انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 332 - 334. (¬4) انظر: المغازى، للواقدى 2/ 470، 471. (¬5) في م: «المرازبه». والزأرة: الموضع كثير الشجر. والمرزبان: رئيس القوم من العجم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبَلَغَ ثَلاثينَ ألفًا (¬1). ورُوِىَ عنه أنَّه قال: قَتَلْتُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ رَئِيسًا مِن المُشْرِكِين مُبارَزَةً، سِوَى مَن شارَكْتُ فيه (¬2). ولم يَزَلْ أصحابُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُبارِزُون في عَصْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومِن بعدِه، لم يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا، وكان أبوِ ذَرٍّ يُقْسِمُ أنَّ قَوْلَه تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (¬3). نَزَلَتْ في الذين تَبارَزُوا يومَ بَدْرٍ، وهم حَمْزَةُ وعَلِىٌّ وعُبَيْدَةُ، بارَزُوا عُتْبَةَ وشَيْبَةَ والوَلِيدَ بنَ عُتْبَةَ. رَواه البخارىُّ (¬4). إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَنْبَغِى أن يُسْتَأْذَنَ الأمِيرُ في المُبارَزَةِ إذا أمْكَنَ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ. ورَخَّصَ فيها مالِكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ أبا قَتادَةَ، قال: بارَزْتُ رَجُلًا يومَ حُنَيْنٍ وقَتَلْتُه (¬5). ولم يُعْلَمْ أنَّه اسْتَأْذَنَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك أكثرُ مَن حَكَيْنا عنهم المُبارَزَةَ، لم نَعْلَمْ منهم اسْتِئْذانًا. ولَنا، أنَّ الإِمامَ أعْلَمُ بفُرْسانِه وفُرْسانِ عَدُوِّه، ومَتى بَرَزَ الإِنْسانُ إلى مَن لا يُطِيقُه، كان مُعَرِّضًا نفْسَه للهَلاكِ، فيَكْسِرُ (¬6) قلوبَ المُسْلِمِين، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في تخميس السلب، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 310، 311. وسعيد بن منصور، في: باب ما يخمَّس في النفل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 263، 264. وعبد الرزاق، في: باب السلب والمبارزة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 233. وابن أبى شيبة، في: باب من جعل السلب للقاتل، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 371، 372. (¬2) في م: «فيهم». والحديث أخرجه عبد الرزاق، في: باب السلب والمبارزة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 233، 234. وفيه: «مائة» مكان: «تسعة وتسعين». (¬3) سورة الحج 19. (¬4) انظر حاشية (2) في الصفحة السابقة. (¬5) حديث أبى قتادة يأتى بتمامه في صفحة 152. ويأتى تخريجه هناك. وهو بهذا اللفظ عند عبد الرزاق، في: باب السلب والمبارزة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 236. (¬6) في م: «فتنكسر».

1424 - مسألة: (فإن دعا كافر إلى البراز، استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن يبارزه بإذن الأمير)

فَإِنْ دَعَا كَافِرٌ إِلَى الْبِرَازِ، اسْتُحِبَّ، لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ مُبَارَزَتُهُ بِإِذْنِ اْلأَمِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَنْبَغِى أن يُفَوَّضَ ذلك إلى الإِمامِ، ليَخْتَارَ للمُبارَزَةِ مَن يَرْضاهُ لها، فيَكُونَ أقْرَبَ إلى الظَّفَرِ، وجَبْرِ قُلوبِ المُسْلِمِين، وكَسْرِ قُلوبِ الكافِرِين. فإن قيل: فقد أبَحْتُم له أن ينْغَمِسَ في الكُفّارِ، وهو سَبَبُ قَتْلِه. قُلْنا: إذا كان مُبارِزًا تعَلَّقَتْ قُلوبُ الجَيْشِ به، وارْتَقَبُوا ظَفَرَهُ، فإنْ ظَفِرَ جَبَرَ قُلُوبَهم وسَرَّهم، وكَسَرَ قُلُوبَ الكافِرِين، وإن قُتِلَ كان بالعكسِ، والمُنْغَمِسُ يطْلُبُ الشَّهادَةَ، لا يُتَرَقَّبُ منه ظَفَرٌ، ولا مُقاوَمةٌ، فافْتَرَقا. وأمَّا مُبارَزَةُ أبى قَتادَةَ، فغَيْرُ لازِمَةٍ، فإنَّها كانتْ بعدَ الْتِحامِ الحَرْبِ، رَأى رَجُلًا يُرِيدُ أن يَقْتُلَ مُسْلِمًا، فضَرَبَه أبو قتادَةَ، فالْتَفَتَ إلى أبى قَتادَةَ، فضَمَّه ضَمَّةً كاد يَقْتُلُه. وليس هذا هو المُبارَزَةَ المُخْتَلَفَ فيها، بل المبارَزَةُ المُخْتَلَفُ فيها أنْ يَبْرُزَ رَجُلٌ بينَ الصَّفَّيْن قبلَ الْتِحامِ الحَرْبِ، يدْعُو إلى المُبارَزَةِ، فهذا هو الذى يَتَعَيَّنُ له إذْنُ الإِمامِ؛ لأنَّ أعْيُنَ الطَّائِفَتَيْن تَمْتَدُّ إليهما، وقُلُوبَ الفَرِيقَيْن تَتَعَلَّقُ بهما، بخِلافِ غيرِ ذلك. 1424 - مسألة: (فإن دَعا كافرٌ إلى البِرازِ، اسْتُحِبَّ لمَن يَعْلَمُ مِن نَفْسِه القُوَّةَ والشَّجاعَةَ أن يُبارِزَه بإِذْنِ الأمِيرِ) المُبارَزَةُ تَنْقَسِمُ ثلَاثَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقْسامٍ؛ مُسْتَحَبَّةٌ، ومُباحَةٌ، ومَكْرُوهَةٌ، فالمُسْتَحَبَّةُ؛ إذا خَرَج كافِرٌ يَطْلُبُ البِرازَ، فيُسْتَحَبُّ لمَن يعْلَمُ مِن نفْسِه القُوَّةَ والشَّجاعَةَ أن يُبارِزَه بإذْنِ الأمِيرِ؛ لأنَّ فيه رَدًّا عن المُسْلِمِين، وإظْهارًا لقُوَّتِهم. والمُباحَةُ؛ أن يَبْتَدِئَ الرَّجلُ الشُّجاعُ فيَطْلُبَها، فتُباحُ، ولا تُسْتَحَبُّ؛ لأنَّه لا حاجَةَ إليها، ولا يُؤْمَنُ أن يُغْلَبَ، فيَكْسِرَ قُلُوبَ المُسْلِمِين، إلَّا أنَّه لمّا كان شُجاعًا واثِقًا مِن نفْسِه، أُبِيحَتْ له؛ لأنَّه بحُكْمِ الظّاهِرِ غالِبٌ. والمَكْرُوهَةُ؛ أن يَبْرُزَ الضَّعِيفُ المُنَّةِ (¬1)، الذى لا يَثِقُ مِن نفْسِه، فتُكْرَهُ له المُبارَزَةُ؛ لِما فيه مِن كَسْرِ قُلُوبِ المُسْلِمِين بقَتْلِه ظاهِرًا. ¬

(¬1) في م: «البنية». والمنة: القوة.

1425 - مسألة: (فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه، فله شرطه)

فَإنْ شَرَطَ الْكَافِرُ أَنْ لا يُقَاتِلَهُ غَيْرُ الْخَارِجِ إِلَيْهِ، فَلَهُ شَرْطُهُ، فَإنِ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُ، أوْ أُثْخِنَ بِالْجِرَاحِ، جَازَ الدَّفْعُ عَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1425 - مسألة: (فإن شَرَطَ الكافِرُ أن لا يُقاتِلَه غيرُ الخارِجِ إليه، فلَه شَرْطُه) إذا خَرَج كافِرٌ يَطْلُبُ البِرازَ، فشَرَطَ أن لا يُعِينَ الذى يُبارِزُه غيرُه، فله شَرْطُه؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1). ولقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» (¬2). ويجُوزُ رَمْيُه وقَتْلُه قبلَ المُبارَزَةِ؛ لأنَّه كافِرٌ لا عَهْدَ له ولا أمانَ، فأُبِيحَ قَتْلُه كغَيْرِه، إلَّا أن تَكُونَ العادَةُ جارِيَةً بينَهم أن مَن خَرَج يطْلُبُ المُبارَزَة لا يُعْرَضُ له، فيَجْرِى ذلك مَجْرَى الشَّرْطِ. 1426 - مسألة: (فَإنِ انْهَزَمَ المُسْلِمُ، أو أُثْخِنَ بالجِراحِ، جازَ الدَّفْعُ عنه) إذا انهَزَمَ المُسْلِمُ تارِكًا للقِتالِ، أو مُثْخَنًا بالجِراحِ، جازَ لكُلِّ أحَدٍ قِتالُ الكافِرِ؛ لأن المُسْلِمَ إذا صارَ إلى هذه الحالِ، فقد انْقَضَى قِتالُه، والأمانُ إنَّما كان حالَ القِتالِ، وقد زالَ. وإن كان المُسْلِمُ شَرَط ¬

(¬1) سورة المائدة 1. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب أجر السمسرة، من كتاب الإجارة. صحيح البخارى 3/ 120، معلقا. وأبو داود، في: باب في الصلح، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 273. والترمذى، في: باب ما ذكر في الصلح بين الناس، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه أن لا يُقاتِلَ حتى يَرْجِعَ إلى صَفِّه، وَفَّى له بالشَّرْطِ، إلَّا أن يَتْرُكَ قِتالَه، أو يُثْخِنَه بالجِراحِ، فيَتْبَعَه ليَقْتُلَه أو يُجْهِزَ عليه، فيَجُوزُ أن يَحُولُوا بينَه وبينَه، وإن قاتَلَهم قاتَلُوه، لأنَّه إذا مَنَعهم إنْقاذَه فقد نَقَض أمانَه، وإن أعانَ الكُفّارُ صاحِبَهم، فعلى المُسْلِمِين أن يُعِينُوا صاحِبَهم، ويُقاتِلُوا مَن أعانَ عليه، ولا يُقاتِلُون المُبارِزَ، لأنَّه ليس بسَبَبٍ مِن جِهَتِه، فإن كان قد اسْتَنْجَدَهم، أو عُلِمَ منه الرِّضا بفِعْلِهم، انْتَقَضَ أمانُه، وجازَ قَتْلُه. وذَكَر الأوْزَاعِىُّ، أنَّه ليس للمُسْلِمِين مُعاوَنَةُ صاحِبِهم، وإن أُثْخِنَ بالجِراحِ. قيل له: فخافَ المُسْلِمُون على صاحِبِهم؟ قال: وإن؛ لأنَّ المُبارَزَةَ إنَّما تَكُونُ هكذا، ولكنْ لو حَجَزُوا بينَهما، وخَلَّوْا سَبِيلَ العِلْجِ. قال: فإن عان العَدُوُّ صاحِبَهم، فلا بَأْسَ أن يُعِينَ المسلمون صاحِبَهم. ولَنا، أنَّ حَمْزَةَ وعَلِيًّا أعانا عُبَيْدَةَ بنَ الحارِثِ على قَتْلِ شَيْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، حين أُثْخِنَ عُبَيْدَةُ. فصل: وتجُوزُ الخُدْعَةُ في الحَرْبِ، للمُبارِزِ وغيرِه، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» (¬1). وهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ورُوِىَ أنَّ عَمْرَو بنَ عَبْدِ وُدٍّ لمّا بارَزَ عَلِيًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال علىٌّ: ما بَرَزْتُ لأُقاتِلَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الحرب خدعة، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 77، 78. ومسلم، في: باب جواز الخداع في الحرب، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1361، 1362.وأبو داود، في: باب المكر في الحرب، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 41. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 171. وابن ماجه، في: باب الخديعة في الحرب، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 945، 946. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 90، 113، 126، 2/ 312، 314، 3/ 224، 297، 308، 6/ 387، 459.

1427 - مسألة: (وإن قتله المسلم، فله سلبه)

وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ، فَلَهُ سَلَبُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ اثْنَيْن. فالْتَفَتَ عَمْرٌو، فوَثَبَ عليه فضَرَبَه، فقال عَمْرٌو: خَدَعْتَنِى. فقال: الحَرْبُ خُدْعَةٌ. فصل: قال أحمدُ: وإذا غَزَوْا في البَحْرِ، فأرادَ رجلٌ أن يُقِيمَ بالسّاحِلِ، يَسْتأْذِنُ الوالِىَ الذى هو على جميعِ المَراكِبِ، ولا يَكْفِيه أن يَسْتأْذِنَ الوالِىَ الذى في مَرْكَبِه. 1427 - مسألة: (وإن قَتَلَه المُسْلِمُ، فله سَلَبُه) أمَّا اسْتِحْقاقُ سَلَبِ القَتِيلِ في الجملةِ، فلا نعلمُ فيه خِلافًا، وقد دَلَّ عليه قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ». رَواه جماعةٌ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، منهم أنَسٌ، وسَمُرَةُ بنُ جُنْدُبٍ، وغيرُهما (¬1). وروَى أبو قتادَةَ، قال: خَرَجْنا مع رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عامَ حُنَيْنٍ، فلمّا التَقَيْنا، رأيتُ رجُلًا مِن المُشْرِكِينَ قد عَلَا رجُلًا مِن المُسْلِمِين، فاسْتَدَرْتُ له حتى أتَيْتُه مِن وَرائِه، فضَرَبْتُه بالسُّيْفِ على حَبْلِ عاتِقهِ ضَرْبةً، فأدْرَكَه الموتُ، ثم إنَّ النّاسَ رجَعُوا، وقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ». قال: فقُمْتُ فقُلْتُ: مَن يشْهَدُ لى؟ فقال لى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

(¬1) هذا حديث أبى طلحة، الذى يأتى قريبا في المسألة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «ما لَكَ يا أبا قَتادَةَ؟». فاقْتَصَصْتُ عليه القِصَّةَ، فقال رجلٌ مِن القَوْمِ: صَدَق يا رسولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذلك القتيلِ عندِى، فأرْضِه منه، فقال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: لا هَا اللَّهِ (¬1)، إذًا يَعْمِدُ (¬2) إلى أسَدٍ مِن أُسْدِ اللَّهِ، يُقاتِلُ عن اللَّهِ وعن رسول اللَّهِ، يُعْطِيكَ سَلَبَه. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَدَقَ، فَأَسْلِمْهُ إلَيْهِ». قال: فأعْطانِيه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن أنَسٍ، قال: قال ¬

(¬1) أى: لا واللَّه. (¬2) في الصحيحين: «لا يعمد». وانظر الكلام على «إذًا» في شرح النووى على مسلم 12/ 60. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب من لم يخمس الأسلاب. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب قول اللَّه تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. . .}، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 112، 113، 5/ 196، 197. ومسلم، في: باب استحقاق القاتل سلب القتيل، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1370، 1371. وأبو داود، في: باب السلب يعطى القاتل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 64، =

1428 - مسألة: (وكل من قتل قتيلا، فله سلبه غير مخموس، إذا قتله حال الحرب منهمكا على القتال، غير مثخن، وغرر بنفسه فى قتله. وعنه، لا يستحقه إلا من شرط له)

وَكُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ غَيْرَ مَخْمُوسٍ، إِذَا قَتَلَهُ حَالَ الْحَرْبِ مُنْهَمِكًا عَلَى الْقِتَالِ، غَيْرَ مُثْخَنٍ، وغَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِى قَتْلِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مِنْ شُرِط لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حُنَيْن: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ». فقَتَلَ أبو طَلْحَةَ يومَئِذٍ عِشرين رجلًا، فأخَذَ أسْلابَهم. رَواه أبو داودَ (¬1). 1428 - مسألة: (وكلُّ مَن قَتَلَ قَتِيلًا، فله سَلَبُهُ غيرَ مَخْمُوسٍ، إذا قَتَلَه حالَ الحَرْبِ مُنْهَمِكًا على القِتالِ، غيرَ مُثْخَنٍ، وغَرَّرَ بنَفْسِه في قَتْلِه. وعنه، لا يَسْتَحِقُّه إلَّا مَن شُرِط له) الكلامُ في هذه المَسْألةِ في فُصولٍ؛ أحَدُها، في أنَّ القاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، وقد ذَكَرْناه. ¬

= 65. والترمذى، في: باب ما جاء من قتل قتيلا فله سلبه، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 57. وابن ماجه، في: باب المبارزة والسلب، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 947. والدارمى، في: باب من قتل قتيلا فله سلبه، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 229. والإمام مالك، في: باب ما جاء في السلب، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 454، 455. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 114، 123، 190، 279، 2/ 15، 295، 306. (¬1) في: باب في السلب يعطى القاتل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 65. كما أخرجه الدارمى، في: باب من قتل قتيلا فله سلبه، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 229. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 114، 123، 190، 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى، أنَّ السَّلَبَ لكلِّ قاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أو الرَّضْخَ، كالعَبْدِ، والمرأةِ، والصبىِّ، والمُشْرِكِ. وقال ابنُ أبى موسى: مَن بارَزَ بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، لم يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ. ذَكَرَه في «الإِرْشَادِ». ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّ العبدَ إذا بارَزَ بإذْنِ مَوْلاه، لم يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ، ويُرْضَخُ له منه. وللشافعىِّ في مَن لا سهمَ له قَوْلان؛ أحدُهما، لا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ؛ لأنَّ السَّهْمَ آكَدُ منه، للإِجْماعِ عليه، فإذا لم يسْتَحِقَّه، فالسَّلَبُ أوْلَى. ولَنا، عُمُومُ الخبرِ، ولأنَّه قاتِلٌ مِن أهْلِ الغَنِيمَةِ، فاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، كذِى السَّهْمِ، ولأنَّ الأمِيرَ لو جَعَل جُعْلًا لمَن صَنَع (¬1) شيْئًا فيه نفْعٌ للمُسْلِمِين، لاسْتَحَقَّه فاعِلُه مِن هؤلاء، فالذى جَعَلَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى. وفارَقَ السهمَ؛ لأنَّه عُلِّقَ على المَظِنَّةِ، ولهذا يُسْتَحَقُّ بالحُضُورِ، ويَسْتَوِى فيه الفاعِلُ وغيرُه، والسَّلَبُ يُسْتَحَقُّ بحَقِيقَةِ الفِعْلِ، وقد وُجِدَ منه ذلك، فاسْتَحَقَّه، كالمَجْعُولِ له جُعْلًا على فِعْلٍ إذا فَعَلَه. فإن كان القاتِلُ ممَّن لا يَسْتَحِقُّ سَهْمًا ولا رَضْخًا، كالمُرْجِفِ والمُخَذِّلِ والمُعِينِ على المُسْلِمِين، لم يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ وإن قَتَل (¬2). وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «منع». (¬2) في م: «قل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس مِن أهْلِ الجِهادِ. وكذلك إن بارَزَ العَبْدُ بغيرِ إذْنِ مَوْلاه، لا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ؛ لأنَّه عاصٍ. وكذلك كلُّ عاصٍ، مثلَ مَن دَخَل بغيرِ إذْنِ الأمِيرِ. وعن أحمدَ في مَن دَخَل بغيرِ إذْنٍ، أنَّه يُؤْخَذُ منه الخُمْسُ، وباقِيه له، كالغَنِيمَةِ. ويُخَرَّجُ مثلُ ذلك في العَبْدِ المُبارِزِ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ سَلَبُ قَتِيلِ العبدِ له على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ ما كان له فهو لسَيِّدِه، ففى حِرْمانِه حِرْمانُ سَيِّدِه، ولم يَعْصِ. الفصلُ الثالثُ، السَّلَبُ للقاتِلِ في كُلِّ حالٍ، إلَّا أن يَنْهَزِمَ العَدُوُّ. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثورٍ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مَسْرُوقٌ: إذا الْتَقَى الزَّحْفان، فلا سَلَب له، إنَّما النَّفَلُ قبلُ وبعدُ. ونحوُه قَوْلُ نافعٍ. وكذلك قال الأوْزَاعِىُّ، وسعيدُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، وأبو بَكْرِ ابنُ أبى مريمَ: السَّلَبُ للقاتِلِ، ما لم تَمْتَدَّ الصُّفُوفُ بعضُها إلى بعضٍ، فإذا كان كذلك، فلا سَلَبَ لأحَدٍ. ولَنا، عُمُومُ قوْلِه عليه السلامُ: «مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ». ولأنَّ أبا قَتادَةَ إنَّما قَتَل الذى أخَذَ سَلَبَه في حالِ الْتِقاءِ الزَّحْفَيْن، ألا تَراه يَقُولُ: فلمّا الْتَقَيْنا رأيتُ رجلًا مِن المُشْرِكِين قد عَلا رَجُلًا مِن المسلمين؟ وكذلك قولُ أنَسٍ: قَتَل أبو طَلْحَةَ يومَئِذٍ عشرين رجُلًا، وأخَذَ أسْلابَهم. وكان ذلك بعدَ الْتِقاءِ الزَّحْفيْن؛ لأنَّ هَوازِنَ لَقُوا المسلمين فَجْأةً، فألْحَمُوا الحَرْبَ قبلَ تَقَدُّمِ مُبارَزَةٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الرابعُ، أنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بشُرُوطٍ أربعةٍ؛ أحدُها، أن يَكُونَ المَقْتُولُ مِن المُقاتِلَةِ الذين يجُوزُ قَتْلُهم، فأمَّا إن قَتَل امرأةً، أو صَبِيًّا، أو شَيْخًا فانِيًا، أو ضَعِيفًا مَهِينًا، ونحوَهم ممَّن لا يُقاتِلُ، لم يسْتَحِقَّ سَلَبَه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وإن كان أحَدُ هؤلاء يُقاتِلُ، اسْتَحَقَّ قاتِلُه سَلَبَه؛ لجَوازِ قَتْلِه، ومَن قَتَل أسِيرًا له أو لغيرِه، لم يَسْتَحِقَّ سَلَبَه؛ لذلك. الثانى، أن يَكُونَ المَقْتُولُ فيه مَنَعَةٌ، غيرَ مُثْخنٍ بالجراحِ، فإن كان مُثْخَنًا، فليس لقاتِلِه شئٌ مِن سَلَبِه. وبهذا قال مَكْحُولْ، وَحرِيزُ (¬1) بنُ عُثْمَانَ، والشافعىُّ؛ لأن مُعاذَ بنَ عمرِو بنِ الجَمُوحِ أثْبَتَ أبا جَهْلٍ، وذَفَّفَ عليه ابنُ مسعودٍ، فقَضَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسَلَبِه لمُعاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ، ولم يُعْطِ ابنَ مسعودٍ شيئًا (¬2). الثالثُ، أن يَقْتُلَه أو يُثْخِنَه بالجِراحِ، فيَجْعَلَه في حُكْمِ المَقْتُولِ، فيَسْتَحِقَّ سَلَبَه؛ لحديثِ مُعاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ. الرابعُ، أن يُغرِّرَ بنَفْسِه في قَتْلِه، فإن رَماه بسَهْمٍ مِن صَفِّ المسلمين فَقَتَلَه، فلا سَلَبَ له. قال أحمدُ: السَّلَبُ للقاتِلِ إنَّما هو في المُبارَزَةِ، لا يَكُونُ في الهَزِيمَةِ. وإن حَمَل جَماعةٌ مِن المسلمين ¬

(¬1) في النسخ: «وجرير» تصحيف. وهو حريز بن عثمان بن جبر الرحبى المِشْرَقى، تابعى ثبت، ولد سنة ثمانين، وتوفى سنة ثلاث وستين ومائة. تهذيب التهذيب 2/ 237 - 241. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من لم يخمس الأسلاب، من كتاب فرض الخمس، وفى: باب قتل أبى جهل، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 112، 94/ 5، 95. ومسلم، في: باب استحقاق القاتل سلب القتيل، وباب قتل أبى جهل، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1372، 1424.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على واحِدٍ فقَتَلُوه، فسَلَبُه غَنِيمَةٌ؛ لأنَّهم لم يُغَرِّرُوا بأنْفُسِهم في قَتْلِه. فصل: وإنَّما يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إذا قَتَلَه حالَ الحَرْب، فإنِ انْهَزَمَ الكُفّارُ كلُّهم، فأدْرَكَ إنْسانًا مُنْهَزِمًا فقَتَلَه، فلا سَلَبَ له؛ لأنَّه لم يُغَرِّرْ في قَتْلِه، وإن كانتِ الحَرْبُ قائِمَةً، فانْهَزَمَ أحَدُهم، فقَتَلَه إنْسانٌ، فله سَلَبُه؛ لأنَّ الحَرْبَ كَرٌّ وفَرٌّ، وقد قَتَل سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ طَلِيعةً للكفّارِ وهو مُنْهَزِمٌ، وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَله؟» قالوا: ابن الأكْوَعِ. قال: «لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ» (¬1). وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو ثَوْرٍ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ: السَّلَبُ لكلِّ قاتلٍ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، واحْتِجاجًا بحديث سَلَمَةَ هذا. ولَنا، أنَّ ابنَ مسعودٍ ذَفَّفَ على أبى جَهْلٍ، فلم يُعْطِه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَبَه، وأمَرَ بقَتْلِ عُقْبَةَ بنِ أبى مُعَيْطٍ، والنَّضْرِ بنِ الحارِثِ صَبْرًا، ولم يُعْطِ سَلَبَهما مَن قَتَلَهما، وقَتَل بنى قُرَيْظَةَ صَبْرًا (¬2)، فلم يُعْطِ مَن قَتَلَهم أسْلابَهم، وإنَّما أعْطَى السَّلَبَ مَن قَتَل مُبارِزًا، أو كفَى المسلمين شَرَّه، وغَرَّرَ في قَتْلِه، والمُنْهَزِمُ بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، قد كفَى المسلمين شَرَّ نَفْسِه، ولم يُغَرِّرْ قاتِلُه بنَفْسِه في قَتْلِه، فهو كالأسيرِ. وأمَّا الذى قَتَلَه سَلَمَةُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب استحقاق القاتل سلب القتيل، من كتاب إلجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1374، 1375. وأبو داود، في: باب في الجاسوس المستأمن، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 45، 46. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 46. (¬2) انظر لكل ذلك ما تقدم في صفحة 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ. وكذلك مَن قُتِلَ حالَ قِيامِ الحَرْبِ، فإنَّه وإن كان مُنْهَزِمًا فهو مُتَحَيِّزٌ إلى فِئَةٍ، وراجِعٌ إلى القِتالِ، فأشْبَهَ الكارَّ، فإنَّ القِتالَ كَرٌّ وفَرٌّ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُشْتَرَطُ في اسْتِحْقاقِ السَّلَبِ أن تَكُونَ المُبارَزَةُ بإذْنِ الأمِيرِ؛ لأن كلَّ مَن قُضِىَ له بالسَّلَب في عَصْرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس فيهم مَن نُقِلَ إلينا أنَّه أُذِنَ له في المُبارَزَةِ، مع أنَّ عُمُومَ الخَبَرِ يقْتَضِى اسْتِحْقاقَ السَّلَبِ لكلِّ قاتلٍ، إلَّا مَن خَصَّه الدَّليلُ. الفصلُ الخامسُ، أنَّ السَّلَبَ لا يُخَمَّسُ. رُوِى ذلك عن سَعْدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ عباسٍ: يُخمَّسُ. وبه فال الأوْزَاعِىُّ، ومَكْحُولٌ؛ لعُمُوم قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). وقال إسحاقُ: إنِ اسْتَكْثَرَ الإِمامُ السَّلَبَ خَمَّسَهُ، وذلك إليه؛ لِما روَى ابنُ سِيرِينَ، أنَّ البَراءَ بنَ مالكٍ بارَزَ مَرْزُبانَ الزَّأْرةِ (¬2) بالبَحْرَيْن، فطَعَنَه فدَقَّ صُلْبَه، وأخَذَ سِوارَيْه وسَلَبَه، فلمّا صَلَّى عُمَرُ الظُّهْرَ، أتَى أبا طَلْحَةَ في دارِه، فقال: إنَّا كُنَّا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وإنُّ سَلَبَ الْبَراءِ قد بَلَغ مالًا، وأنا خَامِسُه. فكان أوَّلُ سَلَب خُمِّسَ في الإِسْلامِ سَلَبَ البَراءِ. رَواه سعيدٌ في «السُّنَنِ» (¬3). وفيها أنَّ سَلَبَ البَراءِ بَلَغ ثلاثين ألفًا. ولَنا، ما روَى ¬

(¬1) سورة الأنفال 41. (¬2) في م: «المرازبة». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَوْفُ بنُ مالكٍ، وخالِدُ بنُ الوليدِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى في السَّلَبِ للقاتِل، ولم يُخَمِّسِ السَّلَبَ. رَواه أبو داودَ (¬1). وخبرُ عُمَرَ حُجَّةٌ لنا، فإنَّه قال: إنَّا كُنَّا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. وقولُ الرَّاوِى: كان أوَّلُ سَلَبٍ خُمِّسَ في الإِسْلامِ. يَعْنِى أن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبا بكرٍ، وعُمَرَ صَدْرًا مِن خِلافَتِه، لم يُخَمِّسُوا سَلَبًا، واتِّباعُهم أوْلَى. قال الجُوزْجانِىُّ: لا أظُنُّه يجُوزُ لأحَدٍ في شئٍ سَبَق فيه مِن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شئٌ إلَّا اتِّباعُه، ولا حُجَّةَ في قولِ أحَدٍ مع قولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما ذَكَرْناه يَصْلُحُ أن يُخصَّصَ به عُمومُ الآيةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ السَّلَبَ مِن أصْلِ الغَنِيمَةِ. وقال مالكٌ: يُحْسَبُ مِن خُمْسِ الخُمْسِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى به للقاتِل مُطْلَقًا، ولم يُنْقَلْ عنه أنَّه احْتَسَب به مِن خُمْسِ الخُمْسِ، ولأنَّه لو احْتَسَبَ به مِن خُمْسِ الخُمْسِ، احْتِيجَ إلى مَعْرِفَةِ قِيمَتِه وقَدْرِه، ولم يُنْقَلْ ذلك، ولأنَّ سَبَبَه لا يفْتَقِرُ إلى اجْتهادِ الإِمامِ، فلم يَكُنْ مِن خُمْسِ الخُمْسِ، كسَهْمِ الفارسِ والرّاجِلِ. الفصلُ السادسُ، أنَّ القاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، قال الإِمامُ ذلك أو لم يَقُلْه. وبه قال الأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: لا يسْتَحِقُّه إلَّا أن يَشْرُطَه الإِمامُ. وكذلك قال مالكٌ. ولم يَرَ أن يَقُولَ الإِمامُ ذلك إلَّا بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، ¬

(¬1) في: باب في السلب يخمَّس، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 66. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 90، 6/ 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما تَقَدَّمَ مِن مَذْهَبِه في النَّفَلِ، وجَعَلُوا السَّلَبَ ههُنا مِن جُمْلَةِ الأنْفالِ. وقد رُوِى عن أحمدَ مثلُ قوْلِهم. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ؛ لِما روَى عَوْفُ ابنُ مالكٍ، أنَّ مَدَدِيًّا اتَّبَعَهُم، فقَتَلَ عِلْجًا، فأخَذَ خالدٌ بعضَ سَلَبِه، وأعْطاهُ بعضَه، فذَكَرَ ذلك لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ». رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ (¬1) بمعْناه بأطْوَلَ مِن هذا. ورُوِّينا بإسْنادِهما، عن شَبْرِ بنِ عَلْقَمَةَ، قال: بارَزْتُ رجلًا يومَ القادِسِيَّةِ، فقَتَلْتُه، وأخَذْتُ سَلَبَه، فأتَيْتُ به سعدًا، فخَطَبَ سعدٌ أصحابَه، وقال: إنَّ هذا سَلَبُ شَبْرٍ، خَيْرٌ مِن اثْنَىْ عَشَرَ ألفًا، وإنَّا قد نَفَّلْناه إيَّاه (¬2). ولو كان حقًّا، لم يَحْتَجْ أن يُنَفِّلَه. ولأنَّ عُمَرَ أخَذَ الخُمْسَ مِن سَلَبِ البَراءِ، ولو كان حَقًّا له، لم يَجُزْ أن يأْخُذَ منه شيئًا، ولأن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَفَع سَلَبَ أبى قَتادَةَ إليه مِن غيرِ بَيِّنةٍ ولا يَمِينٍ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلبُهُ». وهذا من قَضايا رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَشْهُورَةِ، التى ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى. . .، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 65، 66. وسعيد بن منصور، في: باب النفل والسلب في الغزو والجهاد، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 260، 261. كما أخرجه مسلم، في: باب استحقاق القاتل سلب القتيل، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 373، 1374. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 26. (¬2) أخرجه، البيهقى، في: باب ما جاء في تخميس السلب، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 311. وسعيد بن منصور، في: باب النفل في الغزو والجهاد، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 258. وعبد الرزاق، في: باب السلب والمبارزة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 235، 236. وابن أبى شيبة، في: باب من جعل السلب للقاتل، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 370، 371، 373.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمِلَ بها الخُلفاءُ بعدَه، وأخْبارُهم التى احْتَجُّوا بها تَدُلُّ على ذلك؛ فإنَّ عَوْفَ بنَ مالكٍ احْتَجَّ على خالِدٍ حينَ أخَذَ بعضَ سَلَبِ المَدَدِىِّ، فقال له عَوْفٌ: أما تَعْلَمُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بالسَّلَبِ للقاتِلِ؟ قال: بلى. وقولُ عُمَرَ: إنَّا كُنَّا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ. يَدُلُّ على أنَّ هذه قَضِيَّةٌ عامَّةٌ في كل غَزْوَةٍ، وحُكمٌ مُسْتَمِرٌّ لكلِّ قاتلٍ، وإنَّما أمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خالِدًا أن لا يَرُدَّ على المَدَدِىِّ عُقوبةً، حينَ أغْضَبَهُ عَوْفٌ بتَقْرِيعِه خالِدًا بينَ يَدَيْه، وقولُه: قد أنْجَزْتُ لك ما ذَكَرْتُ لك مِن أمْرِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأمَّا خَبَرُ شَبْرٍ، فإنَّما أنْفَذَ له سعدٌ ما قَضَى له به رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَمَّاهْ نَفَلًا؛ لأنَّه في الحَقِيقَةِ نَفَلٌ، لأنَّه زيادةٌ على سَهْمِه. وأمَّا أبو قَتادَةَ، فإنَّ خَصْمَه اعْتَرَفَ له به، وصدَّقَه، فجَرَى مَجْرَى البَيِّنَةِ، ولأنَّ السَّلَبَ مأْخُوذٌ مِن الغَنِيمَةِ بغيرِ تَقْدِيرِ الإِمامِ واجْتهادِه، فلم يَفْتَقِرْ إلى شَرْطِه، كالسَّهْمِ (¬1). إذا ثَبَت هذا، فإنَّ أحمدَ قال: لا يُعْجِبُنِى أن يأْخُذَ السَّلَبَ إلَّا بإذْنِ الإِمامِ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ. وقال ابنُ المُنْذِرِ، والشافعىُّ: له أخْذُه بغيرِ إذْنٍ؛ لأنَّه اسْتَحَقَّه بجَعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- له ذلك، ولا يَأْمَنُ إن أظْهَرَه عليه أن لا يُعْطاهُ. ووَجْهُ قولِ أحمدَ، أنَّه فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فيه، فلم ينْفُذْ أمرُه فيه إلَّا بإذْنِ الإِمامِ، كأخْذِ سَهْمِه. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ هذا مِن أحمدَ على سبيلِ الاسْتِحْبابِ؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ، لا على سَبِيلِ الإِيجابِ. فعلى هذا، إن أخَذَه بغيرِ إذْنٍ، ترَك الفَضِيلَةَ، وله ما أخَذَه. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 152، 159، 160.

1429 - مسألة: (وإن قطع أربعته، وقتله آخر، فسلبه للقاطع)

وَإنْ قَطَعَ أَرْبَعَتَهُ، وَقَتَلَهُ آخَرُ، فَسَلَبُهُ لِلْقَاطِعِ، وَإِنْ قَتَلَهُ اثْنَانِ، فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِى: هُوَ لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1429 - مسألة: (وإن قَطَع أرْبَعَتَه، وقَتَلَه آخَرُ، فسَلَبُه للقاطِعِ) دُونَ القاتِلِ؛ لأنَّ القاطِعَ هو الذى كَفَى المُسْلِمِين شَرَّه، ولأنَّ مُعاذَ بنَ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ أثْبَتَ أبا جَهْلٍ، وذَفَّفَ عليه ابنُ مسعودٍ، فقَضَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسَلَبِه لمُعاذٍ (¬1). 1430 - مسألة: (وإن قَتَلَه اثْنان، فَسَلَبُه غَنِيمَةٌ) هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، فإِنَّه قال، في رِوايةِ حَرْبٍ: له السَّلَبُ إذا انْفَرَدَ بقَتْلِه. وقال القاضى: إنَّهما يشتَرِكان في سَلَبِه؛ لقَوْلِه: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ». وهو يَتَناوَلُ الاثْنَيْن، ولأنَّهما اشْتَركا في السَّبَبِ، فاشْتَركا في السَّلَبِ. ولَنا، أنَّ السَّلَبَ إنَّما يُسْتَحَقُّ بالتَّغْرِيرِ في قَتْلِه، ولا يحْصُلُ ذلك بقَتْلِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 156.

1431 - مسألة: (وإن أسره، وقتله الإمام، فسلبه غنيمة)

وَإنْ أَسَرَهُ، فَقَتَلَهُ الإِمَامُ، فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِى: هُوَ لِمَنْ أَسَرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاثْنَيْن، أشْبَهَ ما لو قَتَلَه جماعةٌ، ولم يَبْلُغْنا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرَّكَ بينَ اثْنَيْن في سَلَبٍ. فإنِ اشْتَرَكَ اثْنانِ في ضَرْبِه، وكان أحَدُهما أبْلَغَ في قَتْلِه مِن الآخَرِ، فالسَّلَبُ له؛ لأنَّ مُعاذَ بنَ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ، ومُعاذَ بنَ عَفْراءَ، ضَرَبا أبا جَهْلٍ، وأتَيَا النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخْبَراه، فقال: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ». وقَضَى بسَلَبِه لمُعاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ. 1431 - مسألة: (وإن أسَرَه، وقتَلَه الإِمامُ، فسَلَبُه غَنِيمَةٌ) إذا أسَرَ رَجُلًا، لم يسْتَحِق سَلَبَه، سواءٌ قَتَلَه الإِمامُ أو لم يَقْتُلْه. وقال مَكْحُولٌ: لا يَكُونُ السَّلَبُ إلَّا لمَن أسَرَ عِلْجًا أو قَتَلَه. وقال القاضى: إذا أسَرَ رَجُلًا، فقَتَلَه الإِمامُ صَبْرًا، فسَلَبُه لمَن أسَرَه؛ لأنَّ الأسْرَ أصْعَبُ مِن القَتْلِ، فإذا اسْتَحَقَّ سَلَبَه بالقَتْلِ، كان تَنْبِيهًا على اسْتِحْقاقِه بالأسْرِ. قال: وإنِ اسْتَبْقاه الإِمامُ، كان له فِداؤُه، أو رقبتُه وسَلَبُه؛ لأنَّه كَفَى المُسْلِمِين شَرَّه. ولَنا، أنَّ المُسْلِمِين أسَرُوا أسْرَى يومَ بَدْرٍ، فقَتَلَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُقْبَةَ والنَّضْرَ بن الحارِثِ، واسْتَبْقَى سائِرَهم، فلم يُعْطِ مَن أسَرَهم أسْلابَهم، ولا فِداءَهم، وكان فِداؤُهم غنيمةً. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما جَعَل السَّلَبَ للقاتلِ، وليس الأسْرُ بقَتْلٍ، ولأنَّ الإِمامَ مُخَيَّرٌ في الأسْرَى، ولو كان لمَن أسَرَه، كان أمْرُه إليه دُونَ الإمامَ.

1432 - مسألة: (وإن قطع يده ورجله، وقتله آخر، فسلبه غنيمة. وقيل: هو للقاتل)

وَإنْ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَقَتَلَهُ آخَرُ، فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْقَاتِل. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1432 - مسألة: (وإن قَطَع يَدَه ورِجْلَه، وقَتَلَه آخَرُ، فسَلَبُه غَنِيمَةٌ. وقيل: هو للقاتِلِ) إذا قَطَع يَدَه ورِجْلَه، وقَتَلَه آخرُ، فالسَّلَبُ للقاطِعِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه عَطَّلَه، فأشْبَهَ الذى قَتَلَه. والثانى، هو غنِيمَةٌ؛ لأنَّه لم يَنْفَرِدْ أحَدُهما بقَتْلِه، ولا يَسْتَحِقُّه القاتِلُ؛ لأنَّه مُثْخَنٌ بالجِراحِ. وقيلَ: هو للقاتِلِ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ. وكذلك إن قَطَع يَدَيْه، أو رِجْلَيْه. وإن قَطَع إحْدَى يَدَيْه، أو إحْدَى رِجْلَيْه، ثم قَتَلَه آخرُ، احْتَمَلَ أن يَكُونَ سَلَبُه غَنِيمَةً؛ لأنَّهما اشْتَرَكا في قَتْلِه، فلم ينْفَرِدْ به أحَدُهما. واحْتَمَلَ أنَّه للقاتلِ؛ لأنَّه قَتَل مَن لم يَكْتَفِ المُسْلِمُون شَرَّه. وإن عانَقَ رَجُلًا، فقَتَلَه آخرُ، فالسَّلَبُ للقاتِلِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال الأوْزَاعِىُّ: هو للمُعانِقِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ» (¬1). ولأنَّه كَفَى المُسْلِمِين شَرَّه، أشْبَهَ ما لو لم يُعانِقْه الآخرُ. وكذلك لو كان الكافِرُ مُقْبِلًا على رجلٍ يُقاتِلُه، فجاءَ آخرُ من ورائِه، فضَرَبَه فقَتَلَه، فسَلَبُه لقاتِلِه، بدَلِيلِ قَضِيَّةِ (¬2) قتيلِ أبى قتادَةَ (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 153. (¬2) في م: «قصة». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 152.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُقْبَلُ دَعْوَى القَتْل إلَّا ببَيِّنةٍ. وقال الأوْزَاعِىُّ: يُعْطَى السَّلَبَ إذا قال: أنا قَتَلْتُه. ولا يُسْألُ بَيِّنةً؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبِلَ قولَ أبى قَتادَةَ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَلَهُ سَلَبُهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وأمّا أبو قتادَةَ فإنَّ خَصْمَه اعْتَرَفَ له، فاكْتُفِىَ بإقْرارِه. قال أحمدُ: لا يُقْبَلُ إلَّا شاهِدان. وقالت طائفةٌ مِن أهْلِ الحديثِ: يُقْبَلُ شاهِدٌ ويَمِينٌ؛ لأنَّها دَعْوَى في المالِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ شاهِدٌ بغيرِ يَمِينٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبِلَ قولَ الذى شَهِدَ لأبى قتادةَ مِن غيرِ يمينٍ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اعْتَبَرَ البَيِّنَةَ، وإطْلاقُها ينْصَرِفُ إلى شاهِدَيْن، ولأنَّها دَعْوَى للقَتْلِ، فاعْتُبِرَ شاهِدان، كدَعْوَى قَتْلِ العَمْدِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 152.

1433 - مسألة: (والسلب ما كان عليه؛ من ثياب، وحلى، وسلاح، والدابة بآلتها. وعنه، أن الدابة ليست من السلب. ونفقته، وخيمته، ورحله غنيمة)

وَالسَّلَبُ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ مِنْ ثِيَابٍ، وَحَلْىٍ، وَسِلَاحٍ، وَالدَّابَّةُ بِآلتِهَا. وَعَنْهُ، أنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ. وَنفَقَتُهُ، وَخَيْمَتُهُ، وَرَحْلُهُ غَنِيمَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1433 - مسألة: (والسَّلَبُ ما كانَ عليه؛ مِن ثِيَابٍ، وحَلْىٍ، وسلاحٍ، والدُّابَّةُ بآلتِها. وعنه، أنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ. ونَفَقَتُه، وخَيْمَتُه، ورَحْلُه غَنِيمَةٌ) سَلَبُ القَتِيلِ ما كان لابِسَهُ؛ مِن ثِيابٍ، وعِمامَةٍ، وقَلَنْسُوَةٍ، ومِنْطقَةٍ، ودِرْعٍ، ومِغْفَرٍ، وبَيْضَةٍ، وتاجٍ، وأسْوِرَةٍ، ورَأنٍ (¬1)، وخُفٍّ، بما في ذلك مِن حِلْيَةٍ؛ لأنَّ المَفْهُومَ مِن السَّلَبِ اللِّبَاسُ، وكذلك السِّلاحُ؛ مِن السَّيْفِ، والرُّمْحِ، واللُّتِّ (¬2)، والقَوْسِ، ونحوِه؛ لأنَّه يسْتَعِينُ به في قِتالِه، فهو أوْلَى بالأخْذِ مِن اللِّباسِ. فأمَّا المالُ الذى معه في هِمْيانِه وخَرِيطَتِه، فليس بسَلَبٍ؛ لأنَّه ليس مِن المَلْبُوسِ، ولا ممّا يَسْتَعِينُ به في الحَرْبِ، وكذلك رَحْلُه وإناؤُه، وما ليستْ يدُه عليه مِن مالِه. وبه قال الأوْزَاعِىُّ، ومَكْحُولٌ، ¬

(¬1) الرأن: كالخُف، إلا أنه لا قدم له، وهو أطول من الخف. (¬2) اللت: بضم اللام، نوع من آلة السلاح، وهو لفظ مولد، ليس من كلام العرب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، إلَّا أنَّ الشافعىَّ قال: ما لا يَحْتاجُ إليه في الحَرْبِ، كالتَّاجِ، والسِّوارِ، والطَّوْقِ والهِمْيانِ الذى للنَّفَقَةِ، ليس مِن السَّلَبَ في أحَدِ القَوْلَيْن؛ لأنَّه ممّا لا يُسْتَعَانُ به في الحَرْبِ، فأشْبَهَ المالَ الذى في خَرِيطَتِه. ولَنا، أنَّ البَراءَ بارَزَ مَرْزُبانَ الزَّأْرةِ (¬1)، فقَتَلَه، فبَلَغَ سِوارُه ومِنْطَقَتُه ثلاثين ألْفًا، فخَمَّسَه عُمَرُ، ودَفَعَه إليه. وفى حديثِ عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكَرِبَ، أنَّه حَمَل على أُسْوارٍ (¬2)، فطَعَنَه، فدَقَّ صُلْبَه فَصَرَعَه، فنَزَلَ إليه فقَطَع يَدَه، وأخَذَ سِوارَيْن كانا عليه، ويَلْمَقًا (¬3) مِن دِيباجٍ، وسَيْفًا، ومِنْطَقَةً، فسُلِّمَ ذلك إليه (¬4). ولأنَّه مِن مَلْبُوسِه، أشْبَهَ ثِيابَه، ولأنَّه داخِلٌ في اسْمِ السَّلَبَ، أشْبَهَ الثِّيابَ والمِنْطَقَةَ، ويدْخُلُ في عُمُومِ قولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَلَهُ سَلَبُهُ». واخْتَلَفَتِ الروايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في الدَّابَّةِ، فنُقِلَ عنه أنَّها ليستْ مِن السَّلَبِ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّ السَّلَبَ ما كان على بَدَنِه، والدَّابَّةُ ليستْ كذلك، فلا تَدْخُلُ في الخبرِ. وذَكَر أبو عبدِ اللَّهِ حديثَ عمرِو بنِ مَعْدِيكَرِبَ، فأخَذَ سِوارَيْه، ومِنْطَقَتَه. ¬

(¬1) في م: «المرازبة». (¬2) في النسخ: «سوار». وانظر المغنى 13/ 73. (¬3) في م: «يلقا». واليلمق: القباء. (¬4) الخبر: في تاريخ الطبرى 3/ 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْنِى ولم يذْكُرِ الدَّابَّةَ. ونُقِلَ عنه أنَّها مِن السَّلَبِ. وهو ظاهرُ المَذْهَبِ. وبه قال الشافعىُّ؛ لِما روَى عوفُ بنُ مالكٍ، قال: خرجْتُ مع زيدِ بنِ حارِثَةَ، في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، ورافَقَنِى مَدَدِىٌّ مِن أهلِ اليَمَنٍ، فلَقِينا جُموعَ الرُّومِ، وفيهم رجلٌ على فَرَسٍ أشْقَرَ، عليه سَرْجٌ مُذهَّبٌ، وسِلاحٌ مُذَهَّبٌ، فجَعَلَ يُفْرِى (¬1) بالمسلمين، وقَعَد له المَدَدِىُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فمرَّ به الرُّومِى فعَرْقَبَ فرَسَه، فعَلاه فقَتَلَه، وحازَ فرَسَه وسِلاحَه، فلمّا فتحَ اللَّهُ للمسلمين، بَعَث إليه خالدُ بنُ الوليدِ، فأخَذَ مِن السَّلَب، قال عَوْفٌ: فأتَيْتُه، فقُلْتُ: يا خالدُ، أما عَلِمْتَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بالسَّلَبِ للقاتِلِ؟ قال: بَلَى. رَواه الأثْرَمُ (¬2). وفى حديثِ شَبْرِ بنِ عَلْقَمَةَ، أنَّه أخَذَ فَرسَه (¬3). كذلك قال أحمدُ: هو (¬4) فيه. ولأنَّ الفَرَسَ يُسْتعانُ بها في الحَرْبِ، فأشْبَهَتِ السِّلاحَ، وما ذَكَرُوه يبْطُلُ بالرُّمْحِ والقَوْسِ، واللُّتِّ، فإنَّها مِن السَّلَبِ وليستْ مَلْبُوسَةً. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الدَّابَّةَ وما عليها؛ مِن سَرْجِها، ولِجامِها، وتَجْفِيفِها (¬5)، وحِلْيَةٍ إن ¬

(¬1) أى يبالغ في النكاية والقتل: وفى م: «يغرى». أي يسلط الكفرة على المسلمين. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 159. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 160. (¬4) في م: «كقوله». (¬5) في م: «تحقيبها». وجفف الفرس: ألبسه التِّجْفاف، وهى آلة للحرب يُلبسها الفرس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت عليها (¬1)، وجميعِ آلتِها، مِن السَّلَبِ؛ لأنَّه تابعٌ لها، ويُسْتَعانُ به في الحَرْبِ، وإنَّما تَكُونُ مِن السَّلَبِ إذا كان راكِبًا عليها، فإن كانتْ في مَنْزِلِه، أو مع غيرِه، أو مُنْقَلِبَةً، لم تكُنْ مِن السَّلَبِ، كالسِّلاحِ الذى ليس معه. وإن كان عليها، فصَرَعَه عنها، أو أشْعَرَه (¬2) عليها، ثم قَتَلَه بعد نُزُولِه عنها، فهى مِن السَّلَبِ. وهذا قولُ الأوْزَاعِىِّ. وإن كان مُمْسِكًا بعِنانِها، غيرَ راكبٍ عليها، فعن أحمدَ فيها روايتان؛ إحْداهما، هى سَلَبٌ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مُتَمَكِّن مِن القِتالِ عليها، فأشبَهَتْ سَيْفه ورُمْحَه في يَدِه. والثانيةُ، ليستْ مِن السَّلَبِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه ليس براكبٍ عليها، فأشْبَهَ ما لو كانتْ مع غُلامِه. وإن كان على فرَسٍ، وفى يَدِه جَنِيبَةٌ، لم تكُنِ الجَنِيبَةُ مِن السَّلَبِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه رُكُوبُهُما معًا. فصل: ويجُوزُ سَلْبُ القَتْلَى وتَرْكُهم عُراةً. وهذا قولُ الأوْزَاعِىِّ. وكَرِهَه الثَّوْرِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ، لِما فيه مِن كَشْفِ عَوْرَاتِهم. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتيلِ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ: «لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ» (¬3). وقال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ». وهذا يتَناولُ جَميعَه. ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) أي ضربه. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ المُشْرِكِين مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، والمُثْلَةُ بقَتْلاهُم وتَعْذِيبُهم؛ لِما روَى سَمُرَةُ (¬1) بنُ جُنْدُبٍ قال: كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحُثُّنا على الصَّدَقَةِ، ويَنْهانا عن المُثْلَةِ. وعن عبدِ اللَّه قِال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ أعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أهْلُ الإيمَانِ». رَواهما أبو داودَ (¬2). وعن شَدَّادِ بنِ أوْس، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ». رَواه النِّسائِىُّ (¬3). وعن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ، أنَّه قَدِمَ على أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، برأسِ يَناقَ البِطْرِيقِ، فأنْكَرَ ذلك، فقال: يا خليفةَ رسولِ اللَّهِ، فإنَّهم يَفْعَلُون ذلك بِنَا. قال: فَاسْتِنَانٌ بفارِسَ ¬

(¬1) في م: «سلمة». (¬2) في: باب في النهى عن المثلة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 49. كما أخرج الأول البخارى، في: باب قصة عكل وعرينة، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 165. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 428، 5/ 12، 20. وأخرج الثانى ابن ماجه، في: باب أعف الناس قتلة أهل الإيمان، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 894. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 393. (¬3) في: باب الأمر بإحداد الشفرة، وباب ذكر المنفلتة التى لا يقدر على أخذها، وباب حسن الذبح، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 200 - 202. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1548. وأبو داود، في: باب في النهى أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، من كتاب الأضاحى. سنن أبى داود 2/ 90. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن المثلة، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 179. وابن ماجه، في: باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1058. والدارمى، في: باب في حسن الذبيحة، من كتاب الأضاحى. سنن الدارمى 2/ 82. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 123 - 125.

وَلَا يَجُوزُ الْغَزْوُ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، إِلَّا أنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوٌّ يَخَافوُنَ كَلَبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرُّومِ! لا يُحْمَلُ إلىَّ رَأْسٌ، فإنَّما يَكْفِى الكتابُ والخَبَرُ (¬1). وقال الزُّهْرِىُّ: لم يُحْمَلْ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رأْسٌ قَطُّ، وحُمِلَ إلى أبى بكرٍ فأنْكَرَه، وأوَّلُ مَن حُمِلَتْ إليه الرُّءُوسُ عبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ. ويُكْرَهُ رَمْيُها في المَنْجَنِيقِ. نصَّ عليه أحمدُ. وإنْ فَعَلُوا ذلك لمَصْلَحَةٍ جازَ؛ لِما رُوِّينا، أنَّ عَمْرَو بنَ العاص حينَ حاصَرَ الإِسْكَنْدَرِيَّةَ، ظَفِرَ أهْلُها برَجُلٍ مِن المسلمين، فأخَذُوا رَأْسَه، فجاءَ قوْمُه عَمْرًا مُتَغَضِّبِينَ، فقال لهم عَمْرو: خُذُوا رَجُلًا منهم فاقْطَعُوا رَأسَه، فارْمُوا به إليهم في المَنْجَنِيقِ، فَفَعَلُوا ذلك، فرَمَى أهْلُ الإسْكَنْدَرِيَّةِ رأسَ المُسْلِمِ إلى قَوْمِه (¬2). فصل: (ولا يجُوزُ الغَزْوُ إلَّا بإذْنِ الأميرِ، إلَّا أن يَفْجَأَهُم عَدُوٌّ يخافُونَ كَلَبَهُ) إذا جاءَ العَدُوُّ، لَزِمَ جميعَ الناس، ممَّن هو مِن أهْلِ القِتالِ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في نقل الرؤوس، من كتاب الجهاد. السنن الكبرى 9/ 132. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في حمل الرؤوس، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 245، 246. (¬2) ذكره ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأخبارها 76.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُرُوجُ إليهم، إذا احْتِيجَ إليهم، ولا يجوزُ لأحَدٍ التَّخَلفُ إلَّا مَن يُحْتاجُ إلى تَخَلُّفِه لحِفْظِ المَكانِ والأهْلِ والمالِ، ومَن يَمْنَعُه الأمِيرُ الخروجَ، ومَن لا قُدْرَةَ له على الخروجِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬1). وقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» (¬2). وقد ذَمَّ اللَّهُ تعالى الذين أرادُوا الرُّجُوعَ إلى منازِلِهم يومَ الأحْزابِ، فقال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (¬3). ولأنَّهم يصِيرُ الجِهادُ عليهم فَرْضَ عَيْنٍ إذا جاءَ العَدُوُّ، فلا يجُوزُ لأحَدٍ التُّخَلُّفُ عنه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّهم لا يخْرُجُونَ إلَّا بإذْنِ الأميرِ؛ لأنَّ أمْرَ الحَرْبِ مَوْكُولٌ إليه، وهو أعلمُ بكَثْرةِ العَدُوِّ وقِلَّتِهم، ومَكامِنِهم وكَيْدِهم، فيَنْبَغِى أن يُرْجَعَ إلى رَأْيِه؛ لأنَّه أحْوَطُ للمسلمين، إلَّا أن يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذانُه، لمُفاجَأةِ عَدُوهم، فلا يجبُ اسْتِئْذانُه حينَئِذٍ؛ لأنَّ المَصْلَحَةَ تَتَعَيَّنُ في قِتالِهم والخُرُوجِ إليهم، لِتَعَيُّنِ الفَسادِ في تَرْكِهم، ولذلك لَمّا أغارَ الكُفّارُ على لِقاحِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصادَفَهم سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ خارجًا مِن المدينةِ، تَبِعَهم، فقاتَلَهم مِن غيرِ إذْنٍ، فمَدَحَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: «خَيْرُ رَجَّالَتِنا (¬4) سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ». وأعْطاهُ سهمَ فارِسٍ ¬

(¬1) سورة التوبة 41. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬3) سورة الأحزاب 13. (¬4) في م: «رجالنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وراجلٍ (¬1). وكذلك إن عَرَضَتْ لهم فُرْصَةٌ يخافُون فَوْتَها إن تَرَكُوها حتى يَسْتَأْذِنوا الأمِيرَ، فلهم الخُرُوجُ بغيرِ إذْنِه؛ لئلَّا تَفُوتَهم. فصل: وسُئِل أحمدُ عن الإِمامِ إذا غَضِبَ على الرَّجُلِ، فقال: اخْرُجْ، عليك أن لا تَصْحَبَنِى. فنادَى بالنَّفِيرِ، يَكُونُ إذْنًا له؟ قال: لا، إنَّما قَصَد له وحدَه، فلا يَصْحَبُه حتى يأْذَنَ له. قال: وإذا نُودِىَ بالصلاةِ والنَّفِيرِ، فإن كان العَدُوُّ بالبُعْدِ، إنَّما جاءَهم طَلِيعَةُ العَدُوِّ، صَلَّوْا ونَفَرُوا إليهم، وإذا اسْتَغاثُوهم وقد جاءَ العَدُوُّ، أغاثُوا ونَصَرُوا وصَلَّوْا على ظُهورِ دَوابِّهم ويُومِئُون، والغِياثُ عندِى أفْضَلُ مِن صلاةِ الجماعَةِ، والطالِبُ والمطلوبُ في هذا الموضعِ يُصلِّى على ظَهْرِ دابَّتِه، وهو يسيرٌ إن شاءَ اللَّهُ. وإذا سَمِعَ النَّفِيرَ وقد أُقِيمَتِ الصلاةُ يُصَلِّى، ويُخَفِّفُ، ويُتِمُّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ، ويَقْرأُ بسُوَرٍ قِصارٍ، وقد نَفَر مِن أصْحابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو جُنُبٌ، يَعْنِى حَنْظَلَةَ بنَ الرَّاهِبِ غَسِيلَ الملائِكَةِ (¬2)، قال: ولا يقْطَعُ الصلاةَ إذا كان فيها. وإذا جاءَ النَّفِيرُ والإِمامُ يخْطُبُ يومَ الجُمُعَةِ، لا نَرَى أن ينْفِرُوا. قال: ولا تَنْفِرُ الخيلُ إلَّا على حقيقةٍ، ولا تَنْفِرُ على الغُلامِ إذا أبَقَ إذا نَفّرُوهم، ولا يكونُ هلاكُ الناسِ بسَبَبِ غُلام، وإذا نادَى الإِمامُ: الصلاةَ جامعة. لأمْرٍ يحْدُثُ، فيُشاوِرُ فيه، لم يتَخَلَّفْ عنه أحَدٌ إلَّا لعُذْرٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 138. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وسُئِلَ أحمدُ عن الرَّجُلَيْن يشْتَرِيان الفَرَسَ بينَهما، يَغْزُوانِ عليه، يركبُ هذا عُقْبَةً، وهذا عُقْبَةً، فقال: ما سَمِعْتُ فيه بشئٍ، وأرْجُو أن لا يكونَ به بَأْسٌ. قيل له: أيُّما أحَبُّ إليك، يعْتَزِلُ الرجلُ في الطَّعام أو يُرافِقُ؟ قال: يُرافِقُ، هذا أرْفَقُ، يتَعاوَنُون، وإذا كُنْتَ وَحْدَك لم يُمْكِنْكَ الطَّبْخُ ولا غيرُه، ولا بَأْسَ بالنِّهْدِ، قد تناهَدَ الصَّالحُون، كان الحسَنُ إذا سافَرَ ألْقَى معهم، ويَزِيدُ أيضًا بعدَ ما يُلْقِى. ومعنى النِّهْدِ، أن يُخْرِجَ كلُّ واحدٍ مِن الرُّفْقَةِ شيئًا مِن النَّفَقَةِ، يدْفَعُونَه إلى رجل يُنْفِقُ عليهم منه، ويأْكُلُونَ جميعًا، وكان الحسَنُ يدْفَعُ إلى وَكِيلِهم مثلَ واحِدٍ منهم، ثم يعودُ فيَأتِى سِرًّا بمثلِ ذلك، يدْفَعُه إليه. قال أحمدُ: ما أرَى أن يغْزُوَ ومعه مُصْحَفٌ. يعنى لا يدْخُلُ به أرْضَ العَدُوِّ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أرْضِ العَدُوِّ». رَواه أبو داودَ، والأثْرَمُ (¬1). فصل: ومَن أُعْطِىَ شيئًا يسْتَعِينُ به في غَزاتِه، فما فَضَل فهو له، إذا كان قد أُعْطِىَ لغَزْوَةٍ بعَيْنِها. هذا قولُ عطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وكان ابنُ عُمَرَ إذا أعْطى شيئًا في الغَزْوِ، يقولُ لصاحِبِه: إذا بَلَغْتَ وادِىَ القُرَى (¬2) فشَأْنُكَ به. ولأنَّه أعْطاه على سَبِيلِ المُعاوَنَةِ والنَّفَقَةِ، لا على سبيلِ الإجارَةِ، فكان الفاضِلُ له، كما لو وَصَّى له أن يحُجَّ عنه فلانٌ حجَّةً بألْفٍ. وإن أعْطاه شيئًا ليُنْفِقَه في سبيلِ اللَّهِ، أو في الغَزْوِ مطلقًا، ففَضَلَ منه فَضْلٌ، أنْفَقَه في غَزاةٍ أُخْرَى؛ لأنَّه أعْطاهُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 78. (¬2) وادى القرى: بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى. معجم البلدان 4/ 878.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمِيعَ ليُنْفِقَه في جِهَةِ قُرْبَةٍ، فلَزِمَه إنْفاقُ الجميعِ فيها، كما لو وَصَّى أن يحُجَّ عنه بألْفٍ. فصل: ومَن أُعْطِىَ شيئًا يسْتَعِينُ به في الغَزْوِ، فقال أحمدُ: لا يتْرُكُ لأهْلِه منه شيئًا؛ لأنَّه ليس يَمْلِكُه، إلَّا أن يَصِيرَ إلى رَأْسِ مَغْزاهُ، فيَكُونَ كهَيْئَةِ مالِه، فيَبْعَثُ إلى عِيالِه منه، ولا يتَصَرَّفُ فيه قبلَ الخُروجِ؛ لئلَّا يتَخَلَّفَ عن الغَزْوِ، فلا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِما أنْفَقَه، إلَّا أن يَشتَرِىَ منه سِلاحًا، أو آلةَ الغزْوِ. فإن قَصَد إعْطاءَه لمَن يغْزُو به، فقال أحمدُ: لا يتَّخِذُ منها سُفْرَةً فيها طَعام، فيُطْعِمَ منها أحدًا؛ لأنَّه إنَّما أُعْطِيَها ليُنْفِقَها في جِهَةٍ مخْصُوصَةٍ، وهى الجِهادُ. فصل: وإذا أُعْطِىَ الرجلُ دابَّةً ليَغْزُوَ عليها، فإذا غَزا عليها مَلَكَها، كما يمْلِكُ النَّفَقَةَ المدْفُوعَةَ إليه، إلَّا أن تَكُونَ عارِيَّةً، فتَكُونَ لصاحِبِها، أو حَبْسًا فيكونَ حَبْسًا بحالِه. قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: حَمَلْتُ على فَرَسٍ عَتِيقٍ في سبيلِ اللَّهِ، فأضاعَه صاحِبُه الذى كان عندَه، فأرَدْتُ أن أشْتَرِيَه، وظَنَنْتُ أنَّه بائِعُه بِرُخْصٍ، فسألتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «لَا تَشْتَرِه، وَلَا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ وَإنْ أعْطاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فإنَّ العَائِدَ في صَدَقَتِه كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا يدُلُّ على أنَّه مَلَكَه، لولا ذلك ما باعَه، ويدُلُّ على أنَّه مَلَكَه بعدَ الغزْوِ؛ لأنَّه أقامَه للبَيْعِ بالمدينةِ، ولم يكُنْ ليَأْخُذَه مِن عُمَرَ، ثم يُقِيمَه للبَيْعِ في الحالِ، فدَلَّ على أنَّه أقامَه للبَيْعِ بعدَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 544.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَزْوِه عليه. ذَكَرَ أحمدُ نحوَ هذا الكلامِ. وسُئِلَ: متى يَطِيبُ له الفَرَسُ؟ قال: إذا غَزا عليه. قيل له: فإنَّ العَدُوَّ جاءَنا فخَرَجَ على هذا الفَرَسِ في الطَّلَبِ إلى خمسةِ فَرَاسِخَ، ثم رَجَع؟ قال: لا، حتى يَكُونَ غَزا (¬1). قيل له: فحديثُ ابنِ عُمَرَ: إذا بَلَغْتَ وادِىَ القُرَى، فشَأْنُكَ به. قال: ابنُ عُمَرَ كان يصْنَعُ ذلك في مالِه، ورَأى (¬2) أنَّه إنَّما يسْتَحِقُّه إذا غَزَا عليه. وهذا قولُ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ، وسالمٌ، والقاسِمُ، والأنْصارِىُّ، واللَّيْثُ، والثَّوْرِىُّ. ونخوُه عن الأوْزَاعِىِّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولم أعْلَمْ أنَّ أحَدًا قال: إنَّ (¬3) له أن يَبِيعَه في مكانِه. وكان مالكٌ لا يَرَى أن يُنْتَفَعَ بثَمَنِه في غيرِ سبيل اللَّهِ، إلَّا أن يقولَ له: شَأْنُكَ به ما أرَدْتَ. ولَنا، أنَّ حديثَ عُمَرَ ليس فيه ما اشْتَرَطَ مالكٌ. فأمَّا إن قال: هى حَبِيسٌ. فلا يجُوزُ بَيْعُها، وسَنَذْكُرُ ذلك في الوَقْفِ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: قال أحمدُ: لا يَرْكَبُ دَوابَّ السَّبِيلِ في حاجةٍ، ويَرْكَبُها ويَسْتَعْمِلُها في سَبيلِ اللَّهِ، ولا يَرْكَبُ في الأمْصارِ والقُرَى، ولا بأْسَ (¬4) أن (¬5) يَرْكَبَها ويعْلِفَها، وأكْرَهُ سِياقَ الرَّمَكِ (¬6) على ¬

(¬1) في الأصل: «غزوا». (¬2) في م: «روى». (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسخ: «بأن». وانظر المغنى 43/ 13. (¬5) سقط من: م. (¬6) الرمك: جمع الرمكة، بالتحريك، وهى الفرس أو البرذونة تتخذ للنسل.

1434 - مسألة: (وإن دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا)

فَإِنْ دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَغَنِمُوا، فَغَنِيمَتُهُمْ فَىْءٌ. وَعَنْهُ، هِىَ لَهُمْ بَعْدَ الْخُمْسِ. وَعَنْهُ، هِىَ لَهُمْ لَا خُمْسَ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرَسِ الحبيسِ (¬1)، وسَهْمُ الفَرَسِ الحَبِيسِ لمَن غَزا عليه. وإذا أرادَ أن يَشْتَرِىَ فَرَسًا ليَحْمِلَ عليه، فقال أحمدُ: يُسْتَحَبُّ شِراؤُها مِن غيرِ الثَّغْرِ؛ ليَكُونَ تَوْسِعَةً على أهْلِ الثَّغْرِ، في الجَلَبِ. 1434 - مسألة: (وإن دَخَل قَوْمٌ لا مَنَعَةَ لهم دارَ الحَرْب بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، فَغَنِمُوا) فعَن أحمدَ فيها ثَلاثُ رِواياتٍ؛ إحداهُنَّ، أنَّ غَنِيمَتَهم كغَنِيمَةِ غيرِهم، يُخَمِّسُه الإِمامُ، ويَقْسِمُ باقِيَه بينَهم. هذا قولُ أكثرِ أهْلِ العلمِ، منهم الشافعىُّ؛ لعُمُومِ قولِه سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}. الآية. والقِياسُ على ما إذا دَخَلُوا بإذْنِ الإِمامِ. والثانيةُ، هو لهم مِن غيرِ أن يُخَمَّسَ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه اكْتِسابٌ مُباحٌ مِنِ غيرِ جِهادٍ، فأشْبَهَ الاحْتِطابَ، فإنَّ الجِهادَ بإذْنِ الإِمامِ، أو مِن طائِفةٍ لهم مَنَعَة وقُوَّةٌ، فأمَّا هذا فتَلَصُّصٌ وسَرِقَةٌ ومُجَرَّدُ اكْتِسابٍ. والثالثةُ، أنَّه لا حَقَّ لهم فيه. قال أحمدُ، في عَبْدٍ أبَقَ إلى الرُّومِ، ثم رَجَع ومعه مَتاعٌ: العَبْدُ لمَوْلاه، وما معه مِن المتاعِ والمالِ فهو للَمُسْلِمِين؛ لاُنَّهم عُصاةٌ بفِعْلِهِم، فلم يكُنْ لهم فيه حَق. والأُولَى أوْلَى. قال ¬

(¬1) في م: «الحبس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوْزَاعِىُّ: لمّا أقْفَلَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيرِ الجيشَ الذى (¬1) كانُوا مع مَسْلَمَةَ، كُسِرَ مَرْكَبُ بعضِهم، فأخَذَ المُشْرِكُونَ ناسًا مِن القِبْطِ، فكانُوا خَدَمًا لهم، فخرَجُوا يومًا إلى عيدٍ لهم، وخَلَّفُوا القِبْطَ في مَرْكَبِهم، وشَرِبَ الآخَرُونَ، ورَفَع القِبْطُ القِلَعَ، وفى المَرْكَبِ مَتاعُ الآخَرِينَ وسلاحُهم، فلم يضَعُوا قِلَعَهم حتى أتَوْا بيروتَ، فكُتِب في ذلك إلى عُمَرَ ابنِ عبدِ العَزِيزِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: نَفِّلُوهم القِلَعَ وكلَّ شئٍ جاءُوا به إلَّا الخُمْسَ. رَواه سعيدٌ، والأثْرَمُ (¬2). فإن كانتِ الطائِفَةُ ذاتَ مَنَعَةٍ، غَزَوْا بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، ففيهِم رِوايتان؛ إحْداهما، لا شَئَ لهم، وهو فَىْءُ المسلمين. والثانيةُ، يُخمَّسُ، والباقى لهم. وهى أصَحُّ. ووَجْهُ الرِّوايَتَيْن ما تَقَدَّمَ. ويُخَرَّجُ فيه وَجْه كالرِّوايَةِ الثَّالثةِ، وهو أنَّ الجميعَ لهم؛ لكَوْنِه اكْتِسابًا مُباحًا مِن غيرِ جِهادٍ. فصل: قال الخِرَقِىُّ: ولا يَتَزَوَّجُ في أرضِ العَدُوِّ، إلَّا أن تَغْلِبَ عليه ¬

(¬1) في م: «الذين». (¬2) أخرجه سعيد، في: باب ما يخمس في النفل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 264.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهْوةُ، فيَتَزَوَّجَ مُسلِمَةً، ويَعْزِلُ عنها، ولا يَتَزَوَّجُ منهم. ومَن اشْتَرى جارِيَةً لم يَطَأْها في الفَرْجِ. وهو في أرْضِهم. قال شيْخُنا (¬1)، رَحِمَه اللَّهُ تعالى: يريدُ، واللَّهُ أعْلمُ، مَن دَخَل أرْضَ العَدُوِّ بأمانٍ، فأمَّا إن كان في جَيْشِ المُسْلِمِين، فله أن يَتَزَوَّجَ؛ لِما رُوِى عن سعيدِ بنِ (¬2) أبى هلالٍ، أنَّه بَلَغَه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَوَّجَ أسْماءَ بنتَ عُمَيْسٍ أبا بكر، وهم تحتَ الرَّاياتِ. أخْرَجَه سعيدٌ (¬3). ولأنَّ الكُفّارَ لا يَدَ لهم عليه، أشبَهَ مَن في دارِ الإِسْلامِ. وأمَّا الأسِيرُ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يَحِلُّ له التَّزَوُّجُ ما دامَ أسِيرًا؛ لأنَّه مَنَعَه مِن وَطْءِ امْرَأتِه إذا أُسِرَتْ معه، مع صِحَّةِ نِكاحِهِما. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ، فإنَّه قال: لا يَحِلُّ للأسيرِ أن يتَزَوَّجَ ما كان في أرْضِ المُشْرِكِين. ولأنَّ الأسِيرَ إذا وُلِدَ لَه وَلَدٌ كان رقيقًا لهم، ولا يأْمَنُ أن يَطَأَ امْرَأتَه غيرُه منهم. وسُئِلَ أحمدُ عن أسِيرٍ أسِرَتْ معه امْرأتُه، ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 148. (¬2) في النسخ: «عن». وانظر: سنن سعيد بن منصور. (¬3) في: باب جامع الشهادة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 312.

1435 - مسألة: (ومن أخذ من دار الحرب طعاما، أو علفا،

وَمَنْ أَخَذَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ طَعَامًا، أَوْ عَلَفًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أيَطَؤُها؟ فقال: كيفَ يَطَؤُها، ولَعَلَّ غيرَه منهم يَطؤُها! قال الأثْرَمُ: قلتُ له: فلَعَلَّها تَعْلَقُ بوَلَدٍ، فيَكُونُ معهم. فقال: وهذا أيضًا. وأمَّا الذى يدْخُلُ إليهم بأمانٍ، كالتّاجِرِ ونحوِه، فهو الذى أرادَ الخِرَقِىُّ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، فلا يَنْبَغِى له أن يَتَزَوَّجَ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ أن تَأْتِىَ امْرَأتُه بوَلَدٍ، فيَسْتَوْلِىَ عليه الكُفّارُ، ورُبَّما نَشَأَ بينَهم، فيصيرُ على دينِهم. فإن غلَبَتْ عليه الشَّهْوَةُ، أُبِيحَ له نِكاجُ مُسْلِمَةٍ؛ لأنَّه حالُ ضَرُورَةٍ، ويَعْزِلُ عنها كيْلا تَأْتِىَ بوَلَدٍ. ولا يَتَزَوَّجُ منهم؛ لأنَّها تَغْلِبُه على وَلَدِها، فيَتْبَعُها على دِينِها. قال القاضى: قولُ الخِرَقِىِّ هذا نَهْىُ كَراهَةٍ، لا نَهْىُ تَحْريمٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬1). ولأنَّ الأصْلَ الحِلُّ، فلا يَحْرُمُ بالشَّكِّ والتَّوَهُّمِ، وإنَّما كَرِهْنا له التَّزَوُّجَ منهم مَخافَةَ أن يغْلِبُوا على وَلَدِه، فيَسْتَرِقُّوه، ويُعَلِّمُوه الكفرَ، ففى تَزْويجه تعْرِيضُه لهذا الفَسادِ العظيمِ، وازْدادَتِ الكَراهَةُ إذا تَزَوَّجَ منهم؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ امرأتَه تغْلِبُه على وَلدِها، فتُكَفِّرُه، كما أنَّ حُكْمَ الإِسْلامِ يَغْلِبُ للإسْلامِ فيما إذا أسْلَمَ أحَدُ الأبَوَيْن، أو تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً. وإذا اشْتَرَى منهم جارِيَةً، لم يَطَأْها في الفَرْجِ في أرْضِهم؛ مخَافَةَ أن يَغْلِبُوه على وَلَدِها، فيَسْتَرِقُّوه ويُكَفِّرُوه. 1435 - مسألة: (ومَن أخَذَ مِن دارِ الحَرْبِ طعامًا، أو عَلَفًا، ¬

(¬1) سورة النساء 24.

فَلَهُ أَكْلُهُ، وَعَلْفُ دَابَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ، فَإِنْ بَاعَهُ، رَدَّ ثَمَنَهُ في الْمَغْنَمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فله أكْلُهُ، وعَلْفُ دابَّتِه بغيرِ إذْنٍ، وليس له بَيْعُه، فإن باعَه، رَدَّ ثَمَنَه في المَغْنَمِ) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ، إلَّا مَن شَذَّ منهم، على أنَّ للغُزاةِ إذا دَخَلُوا أرْضَ الحَرْبِ، أن يَأْكُلُوا ما وَجَدُوا مِن الطَّعامِ، ويَعْلِفُوا دَوابَّهُم مِن عَلَفِهم؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والحسنُ، والشعبىُّ، والقاسمُ، وسالمٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الزُّهْرِىُّ: لا يُؤْخَذُ إلَّا بإذْنِ الإِمام. وقال سليمانُ ابنُ موسى: لا يُتْرَكُ إلَّا أن يَنْهَى عنه الإِمامُ، فيُتَّقَى (¬1) نَهْيُه. ولَنا، ما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ أبى أوْفَى، قال: أصَبْنَا طعامًا يومَ خيْبَرَ، فكانَ الرجلُ يأْخُذُ منه مِقْدارَ ما يَكْفِيه، ثم ينْصَرِفُ. رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ (¬2). ورُوِىَ أنَّ صاحِبَ جيشِ الشامِ، كَتَب إلى عُمَرَ: إنّا أصَبْنا أرْضًا كثيرةَ الطَّعامِ والعَلَفِ، وكَرِهْتُ أن أتَقَدَّمَ في شئٍ مِن ذلك. فكَتَبَ إليه: دَعِ النَّاسَ يَأْكُلُون ويَعْلِفُون، فمَن باعَ منهم شيئًا بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، ففيه ¬

(¬1) في م: «فيتبع». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في النهى عن النهبى إذا كان الطعام قلة في أرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 60. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في إباحة الطعام بأرض العدو من كتاب الجهاد. السنن 2/ 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُمْسُ اللَّهِ وسِهامُ المسلمين. رَواه سعيدٌ (¬1). وقد روَى عبدُ اللَّهِ ابنُ مُغَفَّلٍ، قال: دُلِّىَ جِرابٌ مِن شَحْم يومَ خَيْبَرَ، فالْتَزَمْتُه، وقلتُ: واللَّهِ لا أُعْطِى أحدًا منه شيئًا. فالْتَفَتُّ، فَإذا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَضْحَكُ، فاسْتَحْيَيْتُ منه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى هذا، وفى المَنْعِ مَضَرَّةٌ بالجيشِ وبدَوابِّهم، فإنَّه يعْسُرُ عليهم نَقْلُ الطعامِ والعَلَفِ مِن دارِ الإِسلامِ، ولا يَجِدُونَ بدارِ الحَرْبِ ما يَشْتَرُونَه، ولو وَجدُوه لم يَجِدُوا ثَمَنَه، ولا يُمْكِنُ قِسْمَةُ ما يأْخُذُه الواحدُ منهم، ولو قُسِمَ لم يَحْصُلْ للواحِدِ منهم شئٌ يَنْتَفِعُ به، ولا يَدْفَعُ به حاجَتَه، فأُبِيحَ لهم ذلك، فمَن أخَذَ مِن الطَّعامِ شيئًا ممّا يُقْتاتُ أو يصْلُحُ به القُوتُ، مِن الأُدْمِ أو غيرِه، أو العَلَفِ لدابَّتِه، فهو أحَقُّ به، سواء كان له ما يَسْتَغْنِى به عنه، أو لا، ويكُونُ أحَقَّ بما يأْخُذُه مِن غيرِه، فإن فَضَل منه ما لا حاجَةَ به إليه، رَدَّه على المسلمين؛ لأنَّه إنَّما أُبِيحَ له ما يحْتاجُ إليه. وإن أعْطاه أحَدٌ مِن أهْلِ الجيشِ ما يحْتاجُ إليه، جازَ له أخْذُه، وصارَ أحَقَّ به مِن غيرِه. وإن باع شيئًا مِن الطَّعامِ أو العَلَفِ، رَدَّ قِيمَتَه في الغَنِيمَةِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عُمَرَ. ¬

(¬1) في النسخ: «أبو سعيد» خطأ. وأخرجه سعيد، في: باب ما بيع من متاع العدو من ذهب أو فضة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 274، 275. كما أخرجه البيهقى، في: باب بيع الطعام في دار الحرب، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 60. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 156. وهو في البخارى 5/ 172 بدلا من 5/ 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال سُليمانُ بنُ موسى، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ. وكَرِهَ القاسِمُ، وسالمٌ، ومالكٌ بَيْعَه. وقال القاضى: لا يَخْلُو؛ إمَّا أن يَبِيعَه مِن غازٍ أو غيرِه، فإن باعَه لغيرِه، فالبَيْعُ باطِلٌ؛ لأنّهْ باعَ مالَ الغَنِيمَةِ بغيرِ وِلايةٍ ولا نِيابَةٍ، فيَجِبُ رَدُّ المَبِيعِ، ورَفْضُ البَيْعِ، فإن تَعَذَّرَ رَدُّه، رَدَّ قِيمَتَه، أو ثَمَنَه إن كان أكْثَرَ مِن قِيمَتِه إلى المَغْنَمِ. وإن باعَه لغازٍ، لم يَخْلُ مِن أن يُيْدِلَه بطَعام أو عَلَفٍ ممّا له الانْتِفاعُ به، أو بغيرِه، فإن باعَه بمِثْلِه، فليس هذا بَيْعًا في الحقِيقَةِ، إنَّما سَلَّم إليه مُباحًا وأخَذَ مِثْلَه مُباحًا، ولكلِّ واحدٍ منهما الانْتِفاعُ بما أخَذَه، وصار أحَقَّ به مِن غيرِه؛ لثُبُوتِ يَدِه عليه. فعلى هذا، لو باع صاعًا بصاعَيْن، أو افْتَرَقا قبلَ القَبْضِ، جازَ. وإن باعَه به نَسِيئَةً، أو أقْرَضَه إيّاه، فأخَذَه، فهو أحَقُّ به، ولا يَلْزَمُه إيفاؤُه، فإن وفّاه، ورَدَّه إليه، عادَتِ اليَدُ إليه، وإن باعَه بغيرِ الطَّعامِ والعَلَفِ، فالبَيْعُ غيرُ صَحِيحٍ، ويَصِيرُ المُشْتَرِى أحَقَّ به؛ لثُبُوتِ يَدِه عليه، ولا ثَمَنَ عليه، وإن أخَذَه منه، وَجَب رَدُّه إليه. فصل: وإن وَجَد دُهْنًا، فهو كسائِرِ الطَّعامِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ، ولأنَّه طَعامٌ، فأشْبَهَ البُرَّ والشَّعِيرَ. وإن كان غيرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مأْكُولٍ، فاحْتاجَ أن يَدَّهِنَ به، أو يَدْهُنَ دابَّتَه، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ جَوازُه، إذا كان مِن حاجَةٍ. قال في زَيْتِ الرُّومِ: إذا كان مِن ضَرورَةٍ أو صُدَاعٍ، فلا بَأْسَ، فأمَّا التَّزَيُّنُ فلا يُعْجِبُنى. وقال الشافعىُّ: ليس له دَهْنُ دابَّتِه مِن جَرَبٍ إلَّا بالقِيمَةِ؛ لأنَّ ذلك لا تَعُمُّ الحاجَةُ إليه. ويَحْتَمِلُ كلامُ أحمدَ مثلَ هذا؛ لأنَّه ليسِ بطَعامٍ ولا عَلَفٍ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ هذا ممّا يَحْتاجُ إليه لإصْلاحِ نفْسِه ودابَّتِه، أشْبَهَ الطَّعامَ والعَلَفَ. وله أكْلُ ما يتَداوى به، ويشْرَبُ الشَّرابَ مِن الجُلَّابِ (¬1) والسَّكَنْجَبِينِ (¬2) وغَيْرِهما، عندَ الحاجَةِ إليه؛ لأنَّه مِن الطَّعامِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: ليس له تَناولُهُ؛ لأنَّه ليس مِن القُوتِ، ولا يصْلُحُ به القُوتُ، ولأنَّه لا يُباحُ مع عَدَمِ الحاجَةِ إليه، فلم يُبَحْ مع الحاجَةِ، كغيرِ الطَّعامِ. ولَنا، أنَّه طَعامٌ احْتِيجَ إليه، أشْبَهَ الفَواكِهَ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالفاكِهَةِ، وإنَّما اعْتَبَرْنا الحاجَةَ ههُنا؛ لأنَّ هذا لا يُتَناوَلُ في العادَةِ إلَّا عندَ الحاجَةِ إليه. فصل: وللغازِى أن يُطْعِمَ دَوابَّه ورَقِيقَه ممّا يجُوزُ له الأكْلُ منه، سواءٌ كانوا لِلقُنْيَةِ أو للتِّجارَةِ. قال أبو داودَ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: يَشْتَرِى الرجلُ السَّبْىَ في بلادِ الرُّومِ، يُطْعِمُهم مِن طَعامِ الرُّومِ؟ قال: نعم. وروَى ¬

(¬1) الجلاب: ماء الورد. (¬2) السكنجبين: شراب مكون من حامض وحلو.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه ابنُه عبدُ اللَّهِ، أنَّه قال: سألتُ أبى عن الرجلِ يدْخُلُ بلادَ الرُّومِ، ومعه الجارِيَةُ والدَّابَّةُ للتِّجارَةِ، أيُطْعِمُهما؟ يعنى الجاريةَ وعَلَفَ الدَّابَّةِ. قال: لا يُعْجِبُنى ذلك. فإن لم يَكُنْ للتِّجارَةِ، فلم يَرَ به بَأْسًا. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يجُوزُ إطْعامُ ما كان للتِّجارَةِ؛ لأنَّه ليس ممّا يسْتَعِينُ به على الغَزْوِ. وقال الخَلَّالُ: رَجَع أحمدُ عن هذه الرِّوايَةِ. وروَى عنه جماعةٌ بعدَ هذا، أنَّه لا بَأْسَ به؛ وذلك لأنَّ الحاجَةَ دَاعِية إليه، فأشْبَهَ ما لا يُرادُ به التِّجارَةُ. فصل: قال أحمدُ: ولا يَغْسِلُ ثَوْبَه. بالصَّابُونِ؛ لأن ذلك ليس بطَعامٍ ولا عَلَفٍ، ويُرادُ للتَّحسينِ والزِّينَةِ، ولا يَكُونُ في معْناهما. ولو كان مِع الغازِى فَهْدٌ وكَلْبٌ للصَّيْدِ، لم يَكُنْ له إطْعامُه مِن الغَنِيمَةِ، فإن أطْعَمَه غرِمَ قِيمَةَ ما أطْعَمَه؛ لأنَّ هذا يُرادُ للتَّفَرُّجِ والزِّينَةِ، وليس ممّا يُحْتاجُ إليه في الغَزْوِ، بخِلافِ الدَّوابِّ. فصل: ولا يجُوزُ لُبْسُ الثِّيابِ، ولا رُكوبُ دابَّةٍ مِن دَوابِّ المَغْنَمِ؛ لِما روَى رُوَيْفِعُ بنُ ثابتٍ الأنْصارِىُّ، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمَ الآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَئِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمَ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَىْءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أخْلَقَه رَدَّهُ فِيهِ». رَواه سعيدٌ (¬1). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الغلول، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 267، 268. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشئ، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 61. والدارمى، في: باب النهى عن ركوب الدابة من المغنم. . .، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يجُوزُ الانْتِفاعُ بجُلُودِهم، واتِّخاذُ النَّعْلِ والجُرُبِ منها، ولا الخُيوطِ ولا الحِبالِ. وبهذا قال ابنُ مُحَيْرِيزٍ، ويحيى بنُ أبى كَثِيرٍ، وإسماعيلُ بنُ عَيّاش، والشافعىُّ. ورَخَّصَ في اتِّخاذِ الجُرُبِ مِن جُلُودِ الغَنَمِ سُليمانُ بنُ مُوسَى. ورَخَّصَ مالكٌ في الإِبْرَةِ، وفى الحَبْلِ يُتَّخَذُ مِن الشَّعَرِ، والنَّعْلِ والخُفِّ يُتَّخَذُ مِن جُلُودِ البَقَرِ. ولَنا، ما روَى قَيْسُ بنُ أبى حازِمٍ، أنَّ رَجُلًا أتَى رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بكُبَّةِ (¬1) شَعَر مِن المَغْنَمِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ إنَّا نَعْمَلُ الشَّعَرَ، فهَبْها لى. فقال: «نَصِيبِى مِنْهَا لَكَ». رَواه سعيدٌ (¬2). ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «أدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ؛ فَإنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَشَنَارٌ (¬3) يَومَ الْقِيَامَةِ» (¬4). ولأنَّ ذلك مِن الغَنِيمَةِ، ولا تَدْعُو إلى أخْذِه حاجَةٌ عامَّةٌ، فأشْبَهَ الثِّيابَ. ¬

(¬1) الكبة، بالضم، من الغزل: ما جمع منه على شكل كرة أو أسطوانة. (¬2) في: باب ما جاء في الغلول، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 268، 269. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 184. (¬3) الشنار: العيب والعار. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في فداء الأسير بالمال، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 57، 58. والنسائى، في: باب هبة المشاع، من كتاب الهبة. المجتبى 6/ 222. وابن ماجه، في: باب الغلول، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 950، 951. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الغلول، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 457، 458. والدارمى، في: باب ما جاء أنه قال: أدوا الخياط والمخيط، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 230. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 184، 4/ 128، 5/ 316، 318، 326، 330.

1436 - مسألة: (فإن فضل معه منه شئ فأدخله البلد، رده فى الغنيمة، إلا أن يكون يسيرا، فله أكله، فى إحدى الروايتين)

وَإنْ فَضَلَ مَعَهُ مِنْهُ شَىْءٌ فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ، رَدَّهُ في الْغَنِيمَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، فَلَهُ أَكْلُهُ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا كُتُبُهم، فإن كانتْ ممّا يُنْتَفَعُ به، ككُتُبِ الطِّبِّ واللُّغَةِ والشِّعْرِ، فهى غَنِيمَةٌ، وإن كانتْ ممَّا لا يُنْتَفَعُ به؛ ككُتُبِ التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ، وأمْكَنَ الانْتِفاعُ بجُلُودِها أو وَرَقِها بعدَ غَسْلِه، غُسِلَ، وهو غَنِيمَةٌ، وإلَّا فلا، ولا يجُوزُ بَيْعُها. فصل: وإن أخَذُوا مِن الكُفّارِ جَوارِحَ للصَّيْدِ، كالفُهُودِ والبُزاةِ، فهى غَنِيمَةٌ تُقْسَمُ. وإن كانتْ كِلابًا، لم يَجُزْ بَيْعُها. وإن لم يُرِدْها أحَدٌ مِن الغانِمينَ، جازَ إرْسالُها، وإعْطاؤُها غيرَ الغانِمِين، وإن رَغِبَ فيها بعضُ الغانِمين دُونَ بعضٍ، دُفِعَتْ إليه، ولم تُحْسَبْ عليه؛ لأنَّها لا قِيمَةَ لها، وإن رَغِبَ فيها الجميعُ، أبى جماعةٌ كثيرةٌ، فأمْكَنَ قِسْمَتُها، قُسِمَتْ عَدَدًا مِن غيرِ تَقْويمٍ، وإن تَعَذَّرَ ذلك، أو تَنازَعُوا في الجَيِّدِ منها، فطَلَبَه كلُّ واحِدٍ منهم، أَقْرِعَ بينَهم. وإن وجَدُوا خَنازِيرَ، قَتَلُوها؛ لأنَّها مُؤْذِيَةٌ، ولا نَفْعَ فيها. وإن وجَدُوا خَمْرًا، أراقُوه، فإن كان في أوْعِيتِه نَفْعٌ للمسلمين، أخَذُوها، وإلَّا كَسَرُوها؛ لئلَّا يَعُودُوا إلى اسْتِعْمالِها. 1436 - مسألة: (فإن فَضَل معه منه شئٌ فأدْخَلَه البَلَدَ، رَدَّه في الغَنِيمَةِ، إلَّا أن يَكُونَ يَسِيرًا، فله أكْلُه، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) أمّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكثيرُ، فيَجِبُ رَدُّه، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّ ما كان مُباحًا له في حالِ الحَرْبِ، فإذا أخَذَه على وَجْهٍ يَفْضُلُ منه كثيرٌ إلى دارِ الإِسْلامِ، فقد أخَذَ ما لا يحْتاجُ إليه، فيَلْزَمُه رَدُّه؛ لأنَّ الأصْلَ تَحْرِيمُه؛ لكَوْنِه مُشْتَرَكًا بينَ الغانِمِين، فهو كسائِرِ المالِ. وإنَّما أُبِيحَ منه ما دَعَتِ الحاجَةُ إليه، فما زادَ يَبْقَي على أصْلِ التَّحْريمِ، ولهذا لم يُبَحْ بَيْعُه. وأمَّا اليَسِيرُ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهُما، يجِبُ رَدُّه أيضًا. اخْتارَه أبو بكْرٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبى ثَوْرٍ، وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لِما ذَكَرْنا في الكثيرِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أدُّوا الْخَيْطَ والْمِخْيَطَ». ولأنَّه مِن الغَنِيمَةِ، ولم يُقْسَمْ، فلم يُبَحْ في دارِ الإِسْلامِ، كالكثيرِ، وكما لو أخَذَه في دارِ الإِسْلامِ. والثانيةُ، يُباحُ. وهو قولُ مَكْحُولٍ، وخالدِ بنِ مَعْدانَ (¬1)، وعَطاءٍ الخُراسانِىِّ (¬2)، ومالكٍ، والأوْزَاعِىِّ. قال أحمدُ: ¬

(¬1) خالد بن معدان بن أبى كريب الكلاعى أبو عبد اللَّه الحمصى، تابعى من أئمة الفقه. توفى سنة ثلاث ومائة سير أعلام النبلاء 4/ 536 - 541. (¬2) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى، المحدث الواعظ، قدم المدينة بعد وفاة عامة الصحابة. توفى سنة خمس وثلاثين ومائة ودفن ببيت المقدس. سير أعلام النبلاء 6/ 140 - 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلُ الشامِ يتَساهَلُون في هذه. وقد روَى القاسِمُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن بعضِ أصحابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: كُنّا نَأْكُلُ الجَزَرَ (¬1) في الغَزْوِ، ولا نَقْسِمُه، حتى إن كُنّا لَنَرْجِعُ إلى رِحالِنا وأخْرِجَتُنا منه مَمْلُوءَةٌ. رَواه أبو داودَ، وسعيدٌ (¬2). وعن عبدِ اللَّهِ بنِ يَسارٍ السُّلَمِىِّ، قال: دَخَلْتُ على رجل مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقَدَّمَ إلىَّ تُمَيْرًا (¬3) مِن تُمَيْرِ الرُّومِ، فقُلْتُ: لقد سَبَقْتَ النّاسَ بهذا. قال: ليس هذا مِن العامِ، هذا مِن العامِ الأوَّلِ. رَواه الأثْرَمُ في «سُنَنِه». وقال الأوْزَاعِىُّ: أدْرَكْتُ النّاسَ يَقْدَمُون بالقَدِيدِ، فيُهْدِيه بعضُهم إلى بعض، لا يُنْكِرُه إمامٌ ولا عامِل ولا جماعَةٌ. وهذا نَقْلٌ للإِجْماعِ. ولأنَّه أُبِيحَ إمْساكُه عن القِسْمَةِ، فأُبِيحَ في دارِ الإِسْلامِ، كمُباحاتِ دارِ الحَرْبِ التى لا قِيمَةَ لها فيها. ويُفارِقُ الكَثِيرَ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ إمْساكُه عن القِسْمَةِ، ولأنَّ اليَسِيرَ تَجْرى فيه المُسامَحَةُ، ونَفْعُه قليلٌ، بخِلافِ الكثيرِ. ¬

(¬1) الجزر؛ بالتحريك: الشاة السمينة، وما يذبح من الشاء. القاموس (ج ز ر). وانظر: عون المعبود 3/ 19. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب ما جاء في إباحة الطعام بأرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن سعيد ابن منصور 2/ 272. وعنه أبو داود، في: باب في حمل الطمام من أرض العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 61. (¬3) في حاشية الأصل: «التتمير: تقطيع اللحم على قريب من قدر الثمرة ويجفف، نوع من التقديد المعروف في اللحم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا جُمِدَتِ المغانِمُ وفيها طعامٌ أو عَلَفٌ، لم يَجُزْ لأحَدٍ أخْذُه إلَّا للضَّرورَةِ؛ لأنَّنا إنَّما أبَحْنا أخْذَه قبلَ جَمْعِه؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ فيه مِلكُ المسلمين بعدُ، فأشْبَهَ المُباحاتِ مِن الحَطَبِ والحشيشِ، فإذا جُمِعَتْ ثَبَت مِلْكُ المسلمين فيها، فخَرَجَتْ عن حَيِّزِ المُباحاتِ، وصارَتْ كسائِرِ أمْلاكِهم، فلم يَجُزِ الأكْلُ منها إلَّا لضَرُورَةٍ، وهو أن لا يَجِدُوا ما

1437 - مسألة: (ومن أخذ سلاحا، فله أن يقاتل به حتى تنقضى الحرب، ثم يرده. وليس له ركوب الفرس، فى إحدى الروايتين)

وَمَنْ أَخَذَ سِلَاحًا، فَلَهُ أنْ يُقَاتِلَ بِهِ حَتَّى تَنْقَضِىَ الْحَرْبُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ. وَلَيْسَ لَهُ رُكُوبُ الْفَرَسِ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يأْكُلُونَه، فحِينَئِذٍ يجوزُ، لأنَّ حِفْظَ نُفُوسِهم ودَوابِّهم أهَمُّ، وسواءٌ حِيزَتْ في دارِ الحَرْبِ أو في دارِ الإِسْلامِ. وقال القاضى: يجوزُ الأكْلُ منها ما كانتْ في دارِ الحَرْبِ، وإن حِيزَتْ، لأنَّ دارَ الحَرْبِ مَظِنَّةُ الحاجَةِ، لعُسْرِ نَقْلِ المِيْرَةِ إليها، بخِلافِ دارِ الإِسلامِ. والأوَّلُ أوْلَى، لأنَّ ما ثَبَت عليه أيْدِى المسلمين، وتَحَقَّقَ مِلْكُهم له، لا يَنْبَغِى أن يُؤْخَذَ إلَّا برِضاهم، كسائِرِ أمْلاكِهم، ولأنَّ حِيازَتَه في دارِ الحَرْبِ تُثْبِتُ المِلْكَ فيه، بدليل جَوازِ قِسْمَتِه، وثُبُوتِ أحْكامِ المِلْكِ فيه، بخِلافِ ما قبلَ الحِيازَةِ، فإنَّ المِلْكَ لم يَثْبُت فيه بعدُ. 1437 - مسألة: (ومَن أخَذَ سِلاحًا، فله أن يُقاتِلَ به حتى تَنْقَضِىَ الحَرْبُ، ثم يَرُدُّه. وليس له رُكُوبُ الفَرَسِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) إذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعَتِ الحاجةُ إلى القِتالِ بسِلاحِهِم، فلا بَأْسَ. قال أحمدُ: إذا كان أبْلَى فيهم، أو خافَ على نفْسِه، فنعم. وذَكَرَ ما رُوِى عن عبدِ اللَّه بِنِ مسعودٍ، قال: انْتَهَيْتُ إلى أبى جهل يومَ بَدْرٍ، وقد ضُرِبَتْ رِجْلُه، فقلتُ: الحمدُ للَّهِ الذى أخْزاك يا أبا جَهْلٍ، فأضْرِبُه بسَيْفٍ معى غيرِ طائلٍ، فوَقَعَ سَيْفُه مِن يَدِه، فأخَذْتُ سَيْفَه، فضَرَبْتُه به حتى بَرَد. رَواه الأثْرَمُ (¬1). ولأنَّهم أجْمَعُوا على أنَّه يجُوزُ أن يلْتَقِطَ النُّشّابَ ثم يَرْمِىَ به العَدُوَّ، وهذا أبْلَغُ مِنِ الذى يُقاتِلُ بسَيْفٍ ثم يَرُدُّه إلى المَغْنَمِ، أو يَطْعَنُ برُمْح ثم يَرُدُّه؛ لأنَّ النُّشّابَ يُرْمَى به فلا يَرْجِعُ إليه، والسَّيفَ يَرُدُّه في الغَنِيمَةِ. وفى رُكُوبِ الفَرَسِ للجِهادِ عليه رِوايتان؛ إحْداهما، يَجُوزُ، كالسِّلاحِ. والثانيةُ، ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب أخذ السلاح وغيره. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجُوزُ؛ لحديثِ رُوَيْفِعِ بنِ ثابتٍ (¬1)، ولأنها تتَعَرَّضُ للعَطَبِ غالبًا، وقِيمَتَها كثيرةٌ، بخِلافِ السِّلاحِ، واللَّهُ تعالى أعْلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 185.

باب قسمة الغنائم

بَابُ قِسْمَةِ الْغنَائِمِ الْغَنِيمَةُ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْمُشْركِينَ قَهْرًا بِالْقِتَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ قِسْمَةِ الغنائِمِ (الغَنِيمَةُ كلُّ مالٍ (¬1) أُخِذَ مِن المُشْرِكِين قَهْرًا بالقِتالِ) واشْتِقَاقُها مِن الغُنْمِ، وهى الفائِدةُ. وخُمْسُها لأهْلِ الخُمْسِ، وأرْبَعَةُ أخْماسِها للغانِمِين؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬2). أضافَها إليهم، ثم جَعَل خُمْسَها للَّهِ، فدَلَّ على أنَّ أرْبَعَةَ أخْماسِها لهم، ثم قال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬3). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَمَ الغنائِمَ كذلك. فصل: ولم تَكُنِ الغنائِمُ تَحِلُّ لمَن مَضَى؛ بدَليلِ قَوْلِه عليه السلامُ: «أعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِىٌّ قَبْلِى». فذَكَرَ منها: «أُحِلَّتْ لِىَ الغَنَائِمُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وعن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: قال ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) سورة الأنفال 41. (¬3) سورة الأنفال 69. (¬4) تقدم تخريجه في 1/ 34. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أحلت لى الغنائم» مفردًا، أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: أحلت لكم الغنائم، من كتاب الخمس. صحيح البخارى 4/ 104.

1438 - مسألة: (وإن أخذ منهم مال مسلم، فأدركه صاحبه قبل قسمه، فهو أحق به، وإن أدركه مقسوما، فهو أحق به بثمنه. وعنه، لا حق له

وَإنْ أُخِذَ مِنْهُمْ مَالُ مُسْلِمٍ؛ فَأدْرَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ قَسْمِهِ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ، وَإنْ أدْرَكَهُ مَقْسُومًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِثَمَنِهِ. وَعَنْهُ، لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَإنْ أخَذَهُ مِنْهُمْ أحَدُ الرَّعِيَّةِ بِثَمَنٍ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِثَمَنِهِ، وَإنْ أخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ بِغَيْرِ شَىْءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1) ثم كانَتْ في أوَّلِ الإِسْلامِ لرسولِ اللَّهِ؛ بقولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2). ثم صار أرْبَعَةُ أخماسِها للغانِمِين، وخُمْسُها لغيرِهم؛ لِما ذَكَرْنا. وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}. 1438 - مسألة: (وإن أُخِذَ منهم مالُ مُسْلِمٍ، فأدْرَكَه صاحِبُه قبلَ قَسْمِه، فهو أحَقُّ به، وإن أدْرَكَه مَقْسُومًا، فهو أحَقُّ به بِثَمَنِه. وعنه، لا حَقَّ له (¬3) فيه. وإن أخَذَه منهم أحَدُ الرَّعِيَّةِ بِثَمَنٍ، فصاحِبُه أحَقُّ به بِثَمَنِه، وإن أخَذَه بغيرِ عِوَضٍ، فصاحِبُه أحَقُّ به بغيرِ شئٍ) إذا أخَذَ الكُفّارُ ¬

(¬1) لم نجده في الصحيحين، وانظر: تحفة الأشراف 9/ 353. وأخرجه الترمذى، في: باب سورة الأنفال الآية 67، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 221، 222. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 252. (¬2) سورة الأنفال 1. (¬3) في م: «لهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْوالَ المسلمين، ثم أخَذَها المسلمون منهم قَهْرًا، فإن عُلِمَ صاحِبُها قبلَ قَسْمِها، رُدَّتْ إليه بغيرِ شئٍ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، منهم عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وسَلْمانُ بنُ رَبِيعةَ، وَعَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، واللَّيْثُ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الزُّهْرِىُّ: لا يُرَدُّ إليه، وهو للجَيْشِ. ونحوُه عن عَمْرِو بنِ دينَارٍ؛ لأنَّ الكُفّارَ مَلَكُوه باسْتِيلائِهم، فصار غَنِيمَةً، كسائِرِ أمْوالِهم. ولَنَا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ غُلامًا له أبَقَ إلى العَدُوّ، فظَهَرَ عليه المسلمون، فَردَّه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ابنِ عُمَرَ، ولم يُقْسَمْ. وعنه، قال: ذَهَب فَرَسٌ له، فأخَذَها العَدُوُّ، فظَهَرَ عليه المُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عليه في زَمَنِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواهما أبو داودَ (¬1). وعن رَجاءِ بنِ حَيْوَةَ، أنَّ أبا عُبَيْدَةَ كَتَب إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فيما أحْرَزَ المُشْرِكُون مِن المسلمين، ثم ظَهَر المسلمون عليه بعدُ. قال: مَن وَجَد مالَه بعَيْنِه، فهو أحَقُّ به ما لم يُقْسَمْ. رَواه سعيدٌ، ¬

(¬1) في: باب في المال يصيبه العدو من المسلمين ثم يدركه صاحبه. . .، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 59. كما أخرجهما البخارى، في: باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم، من كتاب الجهاد. صحح البخارى 4/ 89. الإمام مالك، في: باب ما يُرَدّ قبل أن يقع القسم. . .، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 452.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأثْرَمُ (¬1). وكذلك إن عَلِمَ الإِمامُ بمالِ مُسْلِمٍ قبلَ قَسْمِه فَقَسَمَه، وَجَب رَدُّه، وصاحِبُه أحَقُّ به بغيرِ شئٍ؛ لأنَّ قِسْمَتَه كانتْ باطِلةً مِن أصْلِها، فهو كما لو لم يُقْسَمْ. فأمَّا إن أدْرَكَه بعدَ القَسْمِ، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، يكونُ صاحِبُه أحَقَّ به بالثَّمَنِ الذى حُسِبَ به على آخِذِه، وكذلك إن بِيعَ ثم قُسِمَ ثَمَنُه، فهو أحَقُّ به بالثَّمنِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزَاعِىِّ، ومالكٍ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ، أن رَجُلًا وَجَد بَعِيرًا له كان المُشْرِكُون أصابُوه، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنْ أصَبْتَهُ قَبْلَ أنْ نَقْسِمَهُ، فَهُوَ لَكَ، وَإنْ أصَبْتَهُ بَعْدَ مَا قُسِمَ، أخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ» (¬2). ولأنَّه إنَّما امْتَنَعَ أخْذُه له [بغيرِ شئٍ] (¬3)؛ كَيْلا يُفْضِىَ إلى حِرْمانِ آخِذِه مِن الغَنِيمَةِ، أو تَضْيِيعِ الثَّمَنِ على المُشْتَرِى، وحقُّهما ينْجَبِرُ بالثَّمَنِ، فيَرْجِعُ صاحبُ المالِ في عَيْنِ مالِه، بمنْزِلَةِ مُشْتَرِى الشِّقْصِ المَشْفُوعِ. إلَّا أنَّ المَحْكِىَّ عن مالكٍ، وأبى حنيفةَ، أنَّه يَأْخُذُه ¬

(¬1) أخرجه سعيد، في: باب ما أحرزه المشركون من المسلسين. . .، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 287، 288. كما أخرجه البيهقى، في: باب من فرق بين وجوده قبل القسم. . .، وما جاء فيما اشترى من أيدى العدو، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 112. (¬2) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب السير. سنن الدارقطنى 4/ 114، 115. والبيهقى، في الباب السابق. السنن الكبرى 9/ 111. (¬3) في م: «بشئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقِيمَةِ. ونحوُه عن مُجاهدٍ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّه لا حَقَّ له فيه بعدَ القِسْمَةِ بِحالٍ. نَصّ عليه أحمدُ في رِوايةِ أبى داودَ وغيرِه. وهو قولُ عُمَرَ، وعلىٍّ، وسَلْمَانَ بنِ رَبِيعةَ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، واللَّيْثِ. قال أحمدُ: أمَّا قَوْلُ مَن قال: فهو أحَقُّ بهِ بالقِيمَةِ. فهو قولٌ ضعيفٌ عن مُجاهِدٍ. وقال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: يأْخُذُه صاحِبُه قبلَ القِسْمَةِ وبعدَها، ويُعْطَى مُشْتَرِيه ثَمَنَه مِن خُمْسِ المَصالحِ؛ لأنَّه لم يَزُلْ عن مِلْكِ صاحِبهِ، فَوَجَب أن يَسْتَحِقَّ أخْذَه بغيرِ شئٍ، كما قبلَ القِسْمَةِ، ويُعْطَى مَن حُسِبَ عليه القِيمَةَ؛ لئلَّا يُفْضِىَ إلى حِرْمانِ آخِذِه حَقَّه مِن الغَنِيمَةِ، وجُعِلَ مِن سَهْمِ المَصالحِ؛ لأنَّ هذا منها. ولَنا، ما روِىَ أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب إلى السّائِبِ: أيُّما رَجُلٍ مِن المسلمين أصابَ رَقِيقَه ومَتاعَه بعَيْنِه، فهو أحَقُّ به مِن غيرِه، وإن أصابَه في أيْدِى التُّجّارِ بعدَ ما اقْتُسِمَ، فلا سبيلَ إليه. وقال سَلْمانُ بنُ رَبِيعَةَ: إذا قُسِمَ فلا حَقَّ له فيه. رَواهُما سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬1). ولأنَّه إجْماعٌ. قال أحمدُ: إنَّما قال النّاسُ فيها قَوْلَيْن: ¬

(¬1) في: باب ما أحرزه المشركون من المسلمين. . .، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 288، 289. كما أخرج الأول البيهقى، في: الباب السابق. السنن الكبرى 9/ 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا اقْتُسِمَ فلا شئَ له. وقال قَوْمٌ: إذا اقْتُسِمَ فهو له بالثَّمنِ. فأمَّا أن يكُونَ له بعدَ القِسْمَةِ بغيرِ ذلك، فلم يَقُلْه أحَدٌ، ومتى انْقَسَمَ أهْلُ العَصْرِ على قوْلَيْن في حُكْمٍ، لم يَجُزْ إحْداثُ قولٍ ثالثٍ؛ لمُخالَفَتِه الإِجْماعَ. وقد روَى أصحابُنا عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ أدْرَكَ مَالَهُ قَبْلَ أنْ يُقْسَمَ، فَهُوَ لَهُ، وإنْ أدْرَكَهُ بَعْدَ أنْ قُسِمَ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَئٌ» (¬1). والمُعَوّلُ على ما ذَكَرْنا مِن الإِجْماعِ، وقوْلُهم: لم يَزُلْ مِلْكُ صاحِبِه. مَمْنوعٌ. فصل: فإن أخَذَه أحَدٌ مِن الرَّعِيَّةِ بِهِبَةٍ أو سَرقَةٍ أو بغيرِ شئٍ، فصاحِبُه أحَقُّ به بغيرِ شئٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَأْخُذه إِلَّا بقِيمَةٍ؛ لأنَّه صار مِلْكًا لواحِدٍ بعَيْنِه، أشْبَهَ ما لو قُسِمَ. ولَنا، ما رُوِى أنَّ قَوْمًا أغارُوا على سَرْحِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخَذوا ناقَةً، وجارِيَةً مِن الأنْصارِ، فأقامَتْ عنْدَهم أيّامًا، ¬

(¬1) أورده الهيثمى، في: باب في من غلب العدو على ماله ثم وجده، من كتاب الجهاد. وعزاه إلى الطبرانى في الأوسط. مجمع الزوائد 6/ 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم خَرَجَتْ في بعضِ اللَّيْلِ، قالت: فما وَضَعْتُ يَدِى على ناقةٍ إلَّا رَغَتْ حتى وضَعْتُها على ناقَةٍ ذَلُولٍ، فامْتَطَيْتُها، ثم تَوَجَّهْت إلى المدينةِ، ونَذَرْتُ إن نَجّانِى اللَّهُ عليها أن أنْحَرَها، فلمّا قَدِمْتُ المدينةَ، اسْتَعْرَفْتُ النّاقَةَ، فإذا هى ناقَةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخَذَها، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّى نَذَرْتُ أن أنْحَرَها. قال: «بِئْسَ مَا جَازَيْتهَا، لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ». وفى روايةٍ: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). ولأنَّه لم يحْصُلْ في يَدِه بِعوَضٍ؛ فكان صاحِبُه أحَقَّ به بغيرِ شئٍ، كما لو أدْرَكه في الغَنِيمَةِ قبلَ القِسْمَةِ. فأمَّا إنِ اشْتَراهُ رَجُلٌ مِن العَدُوِّ، فليس لصاحِبِه أخْذُه إلَّا بثَمَنِه. وقال القاضى: ما حَصَل في يَدِه بهِبَةٍ أو سَرِقَةٍ أو شِراءٍ، فهو كما لو وَجَدَه صاحِبُه بعدَ القِسْمَةِ، هل يكُونُ صاحِبُه أحَقَّ به بالقِيمَةِ؟ على رِوايَتَيْن. ولَنا، الحديثُ المذْكُورُ، وما روَى سعيدٌ (¬2)، بإسْنادِه، قال: أغارَ أهْلُ ماهَ (¬3) وجَلُولاءَ (¬4) على العَرَب، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 9/ 414. (¬2) هو الذى تقدم بعضه قريبًا في المسألة نفسها. (¬3) ماه: هى ماه دينار، مدينة نهاوند، وهى مدينة عظيمة، في قبلة همذان، بينهما ثلاثة أيام. معجم البلدان 4/ 406، 827. (¬4) جلولاء: ناحية من نواحى السواد في طريق خراسان، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ. معجم البلدان 2/ 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأصابُوا شيئًا مِن سَبايا العَرَبِ ورَقِيقًا ومَتاعًا، ثم إنَّ السّائِبَ بنَ الأكْوَعِ عامِلَ عُمَرَ غَزاهُم، ففَتَحَ ماهَ، فكَتَبَ إلى عُمَرَ في سَبايا المسلمين ورَقِيقِهم ومَتاعِهم، قد اشْتَراه التُّجّارُ مِن أهْلِ ماهَ، فَكَتَبَ إليه عُمَرُ: إنَّ المُسْلِمَ أخو المُسْلِمِ، لا يَخُونُه (¬1)، ولا يَخْذُلُه، فأيُّما رَجُلٍ مِن المسلمين أصابَ رَقِيقَه ومَتاعَه بعَيْنِه، فهو أحَقُّ به، وإن أصابَه في أيْدِى التُّجّارِ بعدَ ما اقْتُسِمَ، فلا سَبِيلَ إليه، وأيُّما حُرٍّ اشْتَراه التُّجّارُ، فإنَّه يُرَدُّ عليهم رُءُوسُ أمْوالِهم، فإنَّ الحُرَّ لا يُباعُ ولا يُشْتَرَى. فصل: وحُكْمُ أمْوالِ أهْلِ الذِّمَّةِ، إذا اسْتَوْلى عليها الكُفّارُ، ثم قُدِرَ عليها، حُكْمُ أمْوالِ المسلمين فيما ذَكَرْنا. قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: إنَّما بَذَلُوا الجزْيَةَ لتَكُونَ دِماؤُهم كدِمائِنا، وأمْوالُهم كأمْوالِنا. ولأنَّ أمْوالَهم مَعْصُومَة، فأشْبَهَتْ أمْوالَ المسلمين. فصل: فإن غَنِمَ المُسلمون مِن المُشْرِكِين شيئًا عليه علامةُ المسلمين، ولم يُعْلَمْ صاحِبُه، فهو غَنِيمَةٌ. قال أحمدُ، في مَراكِبَ تَجِئُ مِن مصرَ، يَقْطَعُ عليها الرُّومُ فيأخُذُونَها، ثم يَأْخُذُها المسلمون منهم: إن عُرِفَ ¬

(¬1) في م: «يحزنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبُها فلا يُؤْكَلُ منها. وهذا يدُلُّ على جَوازِ الأكْلِ منها إذا لم يُعْرَفْ صاحِبُها. ونحوُ هذا قولُ الثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، قالا (¬1) في المُصْحَفِ يَحْصُلُ في الغنائِمِ: يُباعُ. وقال الشافعىُّ: يُوقَفُ حتى يجئَ صاحِبُه. وإن وُجِدَ شئٌ مَوْسُومٌ عليه: حُبِّسَ في سَبِيلِ اللَّهِ. رُدَّ كما كان. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال الثَّوْرِىُّ: يُقْسَمُ، ما لم يَأْتِ صاحِبُه. ولَنا، أنَّ هذا قد عُرِفَ مَصْرِفُه، وهو الحُبُسُ، فهو بمَنْزِلَةِ ما لو عُرِفَ صاحِبُه. قيل لأحمدَ: فالجَوامِيسُ تُدْرَكُ وقد ساقَها العَدُوُّ للمسلمين، وقد رُدَّتْ، يُؤْكَلُ منها؟ قال: إذا عُرِفَ لمَن هى، فلا يُؤْكَلُ منها: قيل: فما حازَه العَدُوُّ للمسلمين، فأصابَه المسلمون، أعليهم أن يَقِفُوه حتى يَبِينَ صاحِبُه؟ قال: إذا عُرِفَ فقيل: هذا لفُلانٍ. وكان صاحِبُه بالقُرْبِ. قيل له: أُصِيب غُلامٌ في بِلادِ الرُّومِ، فقال: أنا ¬

(¬1) في م: «قال».

1439 - مسألة: (ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر. ذكره القاضى. وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها)

وَيَمْلِكُ الْكُفَّارُ أمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بالْقَهْرِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِى. وَقَالَ أبُو الْخَطَّاب: ظَاهِرُ كَلَامِ أحْمَدَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لفلانٍ. رَجُلٍ بمصرَ؟ قال: إذا عُرِفَ الرَّجُلُ، لم يُقْسَمْ، ورُدَّ على صاحِبِه. قيل له: أصَبْنا مَرْكَبًا في بلادِ الرُّوم، فيها النَّواتِيَّةْ (¬1)، قالوا: هذا لفُلانٍ، وهذا لفُلانٍ؟ قال: هذا قد عُرِفَ صاحِبُه، لا يُقْسَمُ. 1439 - مسألة: (ويَمْلِكُ الكُفَّارُ أمْوالَ المسلمين بالقَهْرِ. ذَكَرَه القاضِى. وقال أبو الخَطّابِ: ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّهم لا يَمْلِكُونَها) رُوِى عن أحمدَ في ذلك رِوايتان؛ إحْداهما، أنَّ الكُفّارَ يَمْلِكُونَ أمْوالَ المسلمين ¬

(¬1) النواتى: الملاح الذى يدير السفينة في البحر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقَهْرِ. هذا قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا يَمْلِكُونها. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لحديثِ ناقَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال أبو الخَطّابِ: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، حيث قال: إن أدْرَكَه صاحِبُه قبلَ القَسْمِ، فهو أحَقُّ به. قال: وإنَّما مَنَعَه أخْذَه بعدَ القِسْمَةِ؛ لأنَّ قِسْمَةَ الإِمامِ له تَجْرِى مَجْرَى الحُكْمِ، ومتى صادَفَ الحُكْمُ أمْرًا مُجْتَهَدًا فيه نَفَذ حُكْمُه. ولأنَّه مالٌ مَعْصُومٌ طَرَأتْ عليه يَدٌ عادِيَةٌ، فلم يُمْلَكْ بها، كالغَصْبِ، ولأنَّ مَن لا يَمْلِكُ رَقَبَةَ غيرِه بالقَهْرِ، لا يَمْلِكُ مالَه به، كالمُسْلِمِ مع المُسْلِمِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ القَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ به المُسْلِمُ مالَ الكافِرِ، فمَلَكَ به الكافِرُ مالَ المُسْلِمِ، كالبَيْعِ. فأمَّا الناقَةُ، فإنَّما أخَذَها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّه أدْرَكَها غيرَ مَقْسُومَةٍ ولا مُشْتَراةٍ. فعلى هذا، يَمْلِكُونها قبلَ حِيازَتها إلى دارِ الكُفْرِ. وهو قولُ مالكٍ. وذَكَر القاضى أنَّهم إنَّما يَمْلِكُونها بالحِيازَةِ إلى دارِهم. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وحُكِىَ عن أحمدَ في ذلك رِوايتان. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الاسْتِيلاءَ سَبَبٌ للمِلْكِ، فيَثْبُتُ قبلَ الحِيازَةِ إلى الدّارِ، كاسْتِيلاءِ المسلمين على مالِ الكافِرِ، ولأنَّ ما كان سَبَبًا للمِلْكِ، أثْبَتَهُ حيثُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجِدَ، كالهِبَةِ والبَيْعِ. وفائِدَةُ الخِلافِ في ثُبُوتِ المِلْكِ وعَدَمِه، أنَّ مَن أثْبَتَ المِلْكَ للكافِرِ في أمْوالِ المسلمين، أباحَ للمسلمين إذا ظَهَرُوا عليها قِسْمَتَها والتَّصَرُّفَ فيها، ما لم يَعْلَمُوا (¬1) صاحِبَها، وأنَّ الكافِر إذا أسْلَمَ وهى في يَدِه، فهو أحَقُّ بها. ومَن لم يُثْبِتِ المِلْكَ، اقْتَضَى مَذْهَبُه عَكْسَ ذلك. قال الشَّيْخُ (¬2)، رَحِمَه اللَّهُ: ولا أعلمُ خِلافًا في أنَّ الكافِرَ الحَرْبِىَّ إذا أسْلَمَ، أو دَخَل إلينا (¬3) بأمانٍ، بعدَ أنِ اسْتَوْلى على مالِ مُسْلِمٍ فأتْلَفَه، أنَّه لا يَلْزَمُه ضَمانُه. فإن أسْلَمَ وهو في يَدِه، فهو له بغيرِ خِلافٍ في المذهَبِ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أسْلَمَ عَلَى شَئٍ، فَهُوَ لَهُ» (¬4). وإن كان أخَذَه مِن المُسْتَوْلِى عليه بهِبَةٍ أو سَرِقَةٍ أو شِراءٍ، فكذلك؛ لأنَّه اسْتَوْلَى عليه في حالِ كُفْرِه، فأشْبَهَ ما لو اسْتَوْلَى عليه بقَهْرِه المُسْلِمَ. وعن أحمدَ، أنَّ صاحِبَه يَكُونُ أحَقَّ به بالقِيمَةِ. وإنِ اسْتَوْلَى على جارِيَةِ مُسْلمٍ فاسْتَوْلَدَها ثم أسْلَمَ، فهى له، وهى أُمُّ وَلَدِه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّها مالٌ، فأشْبَهَتْ سائِرَ الأمْوالِ. وإن غَنِمَها المسلمون وأولادَها ¬

(¬1) في م: «يعلم». (¬2) في: المغنى 13/ 122. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب من أسلم على شئ فهو له، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 113.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ إسلامِ سابِيها فعُلِمَ صاحِبُها، رُدَّتْ إليه، وكان أولادُها غَنِيمَةً؛ لأنَّهم أوْلادُ كافِرٍ حَدَثُوا بعدَ مِلْكِ الكافِرِ لها. فصل: وإنِ اسْتَوْلَوْا على حُرٍّ، لم يَمْلِكُوه، مُسْلِمًا كان أو ذِمِّيًّا. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لا يُضْمَنُ بالقِيمةِ، ولا تَثْبُتُ عليه اليَدُ بحالٍ. وإذا قَدَرَ المسلمون على أهْلِ الذِّمَّةِ بعدَ ذلك، وَجَب رَدُّهم إِلى ذِمَّتِهم، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، في قولِ عامَّةِ العُلَماءِ؛ منهم الشَّعْبِىُّ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا؛ لأنَّ ذِمتَّهَم باقِيَةٌ، ولم يُوجَدْ منهمِ ما يُوجِبُ نَقْضَها. وكلُّ ما يُضْمَنُ بالقِيمَةِ، كالعُروضِ، يَمْلِكُونه بالقَهْرِ. وكذلك العَبْدُ القِنُّ، والمُدَبَّرُ، والمُكاتَبُ، وأُمُّ الوَلَدِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَمْلِكُونَ المُكاتَبَ وأُمَّ الوَلَدِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يجوزُ نَقْلُ المِلْكِ فيهما، فهما كالحُرِّ. ولَنا، أنَّهما يُضْمَنانِ بالقِيمَةِ فمَلَكُوهما، كالقِنِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يمْلِكُوا أُمَّ الوَلَدِ؛ لأنَّها لا يجوزُ نَقْلُ المِلْكِ فيها، ولا يثْبُتُ فيها لغيرِ سَيِّدِها. وفائِدَةُ الخِلافِ، أنَّ مَن قال بثُبُوتِ المِلْكِ فيهما، قال: متى قُسِمَا أو اشْتَراهما إنْسانٌ، لم يكنْ لِسَيِّدِهما أخْذُهما إلَّا بالثَّمَنِ. قال الزُّهْرِىُّ، في أُمِّ الوَلَدِ: يأْخُذُها سَيِّدُها بقِيمَةِ عَدْلٍ. وقال مالكٌ: يَفْدِيها الإِمامُ، فإن لم يَفْعَلْ، يأْخُذُها سَيِّدُها بقِيمَةِ عَدْلٍ، ولا يَدَعُها يَسْتَحِلُّ فَرْجَها مَن لا تَحِلُّ له. ومَن قال: لا يثْبُتُ المِلْكُ فيهما. رُدَّا إلى ما كانا عليه على كلِّ حالٍ، كالحُرِّ. وإنِ إشْتَراهُما إنْسانٌ، فالحُكْمُ فيهما كالحُكْمِ في الحُرِّ إذا اشْتَراه، على ما نذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ تعالى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أبَقَ عَبْدُ المسلمِ إلى دارِ الحَرْبِ فأخَذُوه، ملَكُوه، كالدَّابَّةِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى يُوسُفَ، ومحمدٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَمْلِكُونَه. وعن أحمدَ مثلُ ذلك؛ لأنَّه إذا صار في دارِ الحَرْبِ، زالَتْ يَدُ مَوْلاه عنه، وصار في يَدِ نَفْسِه، فلم يُمْلَكْ، كالحُرِّ. ولَنا، أنَّه مالٌ لو أخَذُوه مِن دارِ الإسلامِ مَلَكُوه، فإذا أخَذُوه مِن دارِ الحَرْبِ مَلَكُوه، كالبَهِيمَةِ.

1440 - مسألة: (وما أخذ

وَمَا أُخِذَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ رِكَازٍ، أَوْ مُبَاحٍ لَهُ قِيمَةٌ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1440 - مسألة: (وما أُخِذَ (¬1) مِن دارِ الحَرْبِ؛ مِن رِكازٍ، أو مُباحٍ له قِيمَةٌ، فهو غَنِيمَةٌ) أمَّا الرِّكازُ إذا وَجَدَه في مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عليه بنَفْسِه، فهو له، كما لو وَجَدَه في دارِ الإِسلامِ، فيه الخُمْسُ وباقِيه له، وإن لم يَقْدِرْ عليه إلَّا بجَماعَةٍ مِن المسلمين، فهو غَنِيمَةٌ. ونحوُ هذا قولُ مالكٍ، والأوْزاعِىِّ، واللَّيْثِ. وقال الشافعىُّ: إن وَجَدَه في مَواتِهِم، فهو كما لو وَجَدَه في دارِ الإسلامِ. ولَنا، ما روَى عاصِمُ بنُ كُلَيْبٍ، عن أبى [الجُوَيْرِيَةِ الجَرْمِىِّ] (¬2)، قال: لَقِيتُ بأرْضِ الرُّومِ جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، في إمْرَةِ مُعاوِيَةَ، وعلينا مَعْنُ بنُ يَزيدَ السُّلَمِىُّ، فأتَيْتُه بها، فقَسَمَها بينَ المسلمين، وأعْطانِى مثلَ ما أعْطَى رَجُلًا منهم، ثم قال: لولا أنِّى سَمِعْت رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا نَفَلَ إلَّا بَعْدَ الخُمْسِ». لأعْطَيْتُك. ثم أخَذَ ¬

(¬1) في م: «أخذوا». (¬2) في م: «الجوين الحرمى». وفى الأصل: «الجويرة الحرمى». والتصويب من سنن أبى داود. واسمه حطان بن خفاف، تابعى مشهور. انظر: عون المعبود 3/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْرِضُ علىَّ مِن نَصِيبِه، فأبَيْتُ. أخْرَجَه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه مالٌ مُشْتَرَكٌ مَظْهُورٌ عليه بقُوَّةِ جَيْشِ المسلمين، فكان غَنِيمَةً، كأمْوالِهم الظّاهِرَةِ. فصل: ومَن وَجَدَ في دارِهم لُقَطَةً، فإن كانتْ مِن مَتاعِ المسلمين، فهو كما لو (¬2) وَجَدَه في غيرِ دارِ الحَرْبِ، وإن كانتْ مِن مَتاعِ المُشْرِكِين، فهى غَنِيمَةٌ، وإنِ احْتَمَلَ الأَمْرَيْن، عَرَّفَها حَوْلًا، ثم جَعَلها في الغَنِيمَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ويُعَرِّفُها في بَلَدِ المسلمين؛ لأنها تَحْتَمِلُ الأَمْرَيْن، فغُلِّبَ فيها حُكْمُ مالِ المسلمين في التَّعْرِيفِ، وحُكْمُ مالِ أهْلِ الحَرْبِ في كَوْنِها غَنِيمَةً احْتِياطًا. فصل: وأمّا غيرُ الرِّكازِ مِن المُباحِ، فما كان له قِيمَةٌ في دارِ الحَرْبِ، كالصُّيُودِ والحِجارَةِ والخَشَبِ، فالمسلمون شُرَكاؤُه فيه. وبه قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ. وقال الشافعىُّ: يَنْفَرِدُ آخِذُه بمِلْكِه؛ لأنَّه لو أخَذَه مِن دارِ الإِسلامِ مَلَكَه، فكذلك إذا أخَذَه مِن دارِ الحَرْبِ، كالشئِ التّافِهِ. وهذا قَوْلُ مَكْحُولٍ، والأوْزاعِىِّ. ونُقِلَ ذلك عن القاسمِ، ¬

(¬1) في: باب في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 74. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 470. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسالِمٍ. ولَنا، أنَّه مالٌ ذو قِيمَةٍ، مأْخُوذٌ مِن أرضِ (¬1) الحَرْبِ بقُوَّةِ المسلمين، فكان غَنِيمَةً، كالمَطْعُوماتِ، وفارَقَ ما أخَذَه مِن دارِ الإِسلامِ؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى الجَيْش في أخْذِه. فإنِ احْتاجَ إلى أكْلِه والانْتِفاعِ به، فله أكْلُه، ولا يَرُدُّه؛ لأَنَّه لو وَجَدَ طَعامًا ممْلُوكًا للكافِرِ، كان له أكْلُه إذا احْتاجَ إليه، فما أخَذَه مِن الصُّيُودِ والمُباحاتِ فهو أوْلَى. فصل: فإن أخَذَ ما لا قِيمَةَ له في أرْضِهم، كالمِسَنِّ، والأقْلامِ، والأدْوِيَةِ، فله أخْذُه، وهو أحَقُّ به، وإن صارَتْ له قِيمَةٌ بمُعالجَتِه أو نَقْلِه. نَصَّ أحمدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، على نحوِ هذا. وبه قال مَكْحُولٌ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال الثَّوْرِىُّ: إذا جاء به إلى دَارِ الإِسْلامِ رَدَّه في المَقْسِمِ، وإن عالجَه فصارَ له ثَمَنٌ، أُعْطِىَ بقَدْرِ عَمَلِه فيه، وبَقِيَّتُه في المَقْسِمِ. ولَنا، أنَّ القِيمَةَ إنّما صارَتْ له بعَمَلِه أو بنَقْلِه، فلم يَكُنْ غَنِيمَةً، كما لو لم تَصِرْ له قِيمَةٌ. فصل: وإن تَرَك صاحبُ المَقْسِمِ شيئًا مِن الغَنِيمَةِ، عَجْزًا عن حَمْلِه، فقال: مَن أخَذَ شيئًا فهو له. فمَن أخَذَ شيئًا مَلَكَه. نَصَّ عليه ¬

(¬1) في م: «دار».

1441 - مسألة: (وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها فى دار

وَتُمْلَكُ الْغَنِيمَةُ بِالاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا في دَارِ الْحَرْبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ. وسُئِلَ عن قومٍ غَنِمُوا غَنائِمَ كثيرةً، فَبَقِىَ خُرْثِىُّ المَتاعِ، ممّا لا يُباعُ ولا يُشْتَرَى، فيدَعُه الوالِى بمَنْزِلَةِ الفَخّارِ وما أشْبَهَ ذلك، أيَأْخُذُه الإِنْسانُ لنَفْسِه؟ قال: نعم، إذا تُرِكَ ولم يُشْتَرَ. ونحوُ هذا قولُ مالكٍ. ونَقَل عنه [أبو طالبٍ] (¬1)، في المتاعِ لا يَقْدِرُون على جَمْلِه: إذا حَمَلَه رَجُلٌ يُقْسَمُ. وهذا قولُ إبراهيمَ. قال الخلالُ: روَى أبو طالبٍ هذه في ثلاثِةِ مَواضِعَ؛ في مَوْضِعٍ منها وافَقَ أصحابَه، وفى موضِعٍ خالَفَهم. قال: ولا أشُكُّ أنَّ أبا عبدِ اللَّهِ قال هذا أوَّلًا، ثم تَبَيَّنَ له بعدَ ذلك أنّ للإِمامِ أن يُبيحَه وأن يُحَرِّمَه، وأنّ لهم أن يَأْخُذُوه إذا تَرَكَه الإِمامُ إذا لم يَجِدْ مَن يَحْمِلُه؛ لأنَّه إذا لم يَجِدْ مَن يَحْمِلُه، ولم يَقْدِرْ على حَمْلِه، بمَنْزِلَةِ ما لا قِيمَةَ له، فصار كالذى ذَكَرْناه في الفَصْلِ قبلَ هذا. 1441 - مسألة: (وتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بالاسْتِيلاءِ عليها في دارِ ¬

(¬1) في م: «أبو الخطاب».

وَيَجُوزُ قَسْمُهَا فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرْبِ، ويَجُوزُ قَسْمُها فيها) والدَّليلُ على ثُبُوتِ المِلْكِ عليها في دارِ الحَرْبِ ثلاثةُ أُمُورٍ؛ أحَدُها، أنَّ سَبَبَ المِلْكِ الاسْتِيلاءُ التّامُّ، وقد وُجِدَ، فإنَّ أيْدِيَنا قد ثَبَتَتْ عليها حَقِيقَةً، وقَهَرْناهُم ونَفَيْناهم عنها، والاسْتِيلاءُ يَدُلُّ على حاجَةِ المُسْتَوْلِى، فيَثْبُتُ به المِلْكُ، كما في المُباحاتِ. الثانى، أنَّ مِلْكَ الكُفّارِ قد زالَ عنها، بدليلِ أنَّه لا ينْفُذُ عِتْقُهم في العَبيدِ الذين حَصَلُوا في الغَنِيمَةِ، ولا ينْفُذُ تَصَرُّفُهم فيها، ولا يَزُولُ مِلْكُهمَ إلى غيرِ مالِكٍ، إذْ ليست في هذه الحالِ مُباحةً، عُلِمَ أنَّ مِلْكَهم زالَ إلى الغانِمِين. الثالثُ، أنَّه لو أسْلَمَ عبدُ الحَرْبِىِّ ولَحِقَ بجَيْشِ المسلمين، صار حُرًّا، وهذا يَدُلُّ على زَوالِ مِلْكِ الكافِرِ، وثُبُوتِ المِلْكِ لمَن قَهَرَه. فصل: وإذا ثَبَت المِلْكُ فيها، جازَتْ قِسْمَتُها. وبهذا قال مالكٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا يُقْسَمُ إلَّا في دارِ الإِسْلامِ؛ لأنَّ المِلْكَ لا يَتِمُّ عليها إلَّا بالاسْتِيلاءِ التَّامِّ، ولا يحْصُلُ إلَّا بإحْرازِها في دارِ الإِسْلامِ. فإن قُسِمَتْ أساءَ قاسِمُها، وجازَتْ قِسْمَتُه؛ لأنَّها مَسْألةٌ مُجْتَهَدٌ فيها، فإذا حَكَم فيها الإِمامُ بما يُوافِقُ قولَ بعضِ المُجْتَهِدِين، نَفَذ حُكْمُه. ولَنا، ما روَى أبو إسْحاقَ الفَزارِىُّ، قال: قلتُ للأوْزَاعِىِّ: هل قَسَم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا مِن الغنائِمِ بالمدينةِ؟ قال: لا أعْلَمُه، إنَّما كان الناسُ يبْتَغُون غَنائِمَهم، ويقْسِمُونَها في أرْضِ عَدُوِّهم، ولم يَقْفِلْ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن غَزاةٍ قَطُّ أصابَ فيها غَنِيمَةً إلَّا خَمَّسَه وقَسَمَه مِن قبلِ أن يَقْفِلَ؛ مِن ذلك غَزْوَةُ بنى المُصْطَلِقِ، وهوازِنَ، وخَيْبَرَ. ولأنَّ كلَّ دارٍ صَحَّتِ القِسْمَةُ فيها، جازَتْ، كدارِ الإِسْلامِ، ولأنَّ المِلْكَ ثَبَت فيها بالقَهْرِ بما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، فصَحَّتْ قِسْمَتُها، كما لو أُحْرِزَتْ بدارِ الإِسْلامِ. وبهذا يحْصُلُ الجوابُ عمّا ذَكَرُوه.

1442 - مسألة: (وهى لمن شهد الوقعة من أهل القتال، قاتل أو لم يقاتل، من تجار العسكر وأجرائهم، الذين يستعدون للقتال)

وَهِىَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْ أهْلِ الْقِتَالِ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، مِنْ تُجَّارِ الْعَسْكَرِ وَأُجَرَائِهِمُ، الَّذِينَ يَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1442 - مسألة: (وهى لِمن شَهِدَ الوَقْعَةَ مِن أهْلِ القِتالِ، قاتَلَ أو لم يُقاتِلْ، مِن تُجّارِ العَسْكَرِ وأُجَرائِهم، الذين يَسْتَعِدُّون لِلقِتالِ) قولُه: «وأُجَرائِهم». يعنى أُجراءَ التُّجّارِ، وإنَّما كانتِ الغَنِيمَةُ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ وإن لم يُقاتِلْ؛ لِما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ (¬1). ولأنَّ غيرَ المُقاتِلِ رِدْءٌ له مُعِين، فشَارَكَه، كَرِدْءِ المُحارِبِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب المدد يلحق بالمسلمين قبل أن ينقطع الحرب،. . .، من كتاب قسم الفئ والغنيمة، وفى: باب الغنيمة لمن شهد الوقعة، من كتاب السير. السنن الكبرى 6/ 335، 9/ 50. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في من يأتى بعد الفتح، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 285.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتّاجِرُ، والصّانِعُ؛ كالخيّاطِ والخَبّازِ والبَيطارِ ونحوِهم، يُسْهَمُ لهم إذا حَضَرُوا. نَصَّ عليه أحمدُ. قال أصحابُنا: قاتَلُوا أو لم يُقاتِلُوا. وبه قال في التّاجِرِ، الحَسَنُ، وابنُ سِيرِينَ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: لا يُسْهَمُ لهم، إلَّا أن يُقاتِلُوا. وعن الشافعىِّ: لا يُسْهَمُ لهم بحالٍ. قال القاضى، في التّاجِرِ والأجِيرِ إذا كانا مع المُجاهِدِين، وقَصْدُهما الجِهادُ، وإنَّما معه المَتاعُ إن طُلِبَ منه باعه، والأجيرُ قَصْدُه الجِهادُ أيضًا: فهذان يُسْهَمُ لهما؛ لأنَّهما غازِيان. والصُّنّاعُ بمنْزِلَةِ التُّجّارِ، متى كانوا مُسْتَعِدين للقِتالِ ومعهم السِّلاحُ فمتى عَرَضَ اشْتَغَلُوا به، أُسْهِمَ لهم؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عُمَرَ، ولأنَّهم في الجهادِ بمَنْزِلَةِ غيرِهم، وإنَّما يشْتَغِلُونَ بغيره عندَ فَراغِهم منه، وإن لم يكُونُوا مُسْتَعِدِّين للقِتالِ، لم يُسْهَمْ لهم؛ لأنَّهم لا نَفْعَ في حُضُورِهم، أشْبَهُوا المُخَذِّلَ.

1443 - مسألة: (فأما المريض العاجز عن القتال، والمخذل، والمرجف، والفرس الضعيف العجيف، فلا حق له)

فَأمَّا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الْقِتَالِ، وَالْمُخَذِّلُ، وَالْمُرْجِفُ، وَالْفَرَسُ الضَّعِيف العَجِيفُ، فَلَا حَقَّ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1443 - مسألة: (فأمَّا المَرِيضُ العاجِزُ عن القِتَالِ، والمُخَذِّلُ، والمُرْجِفُ، والفَرَسُ الضَّعِيفُ العَجِيفُ، فلا حَقَّ له) أمَّا المرِيضُ الذى لا يتَمَكَّنُ مِن القِتالِ، فإن خَرَج بمَرَضِه عن أهْلِيَّةِ الجِهادِ؛ كالزَّمِنِ والأشَلِّ والمَفْلُوجِ، فلا سَهْمَ له؛ لأنَّه لم يَبْقَ مِن أهْلِ الجِهادِ، وإن لم يَخْرُجْ بمَرَضِه عن ذلك، كالمَحْمُومِ، ومَن به الصُّداعُ، فإنَّه يُسْهَمُ له، ويُعِينُ بِرأْيِه وتَكْثِيرِه ودُعائِه. وكذلك المُخَذِّلُ والمُرْجِفُ، ومَن في مَعْناه ممَّن يَدُلُّ على عَوْراتِ المُسْلِمِين، ويُؤْوِى جَواسِيسَ الكُفّارِ، ويُوقِعُ بينَهم العَداوَةَ، لا يُسْهَمُ له وإن قاتَلَ؛ لأنَّ ضَرَرَه أكْثَرُ مِن نَفْعِه. وكذلك لا يُسْهَمُ لفَرَسٍ يَنْبَغِى للإمامِ مَنْعُه، كالحَطِمِ والصَّدِعِ والأعْجَفِ، وإن شَهِدَ عليه الوَقْعَةَ. وبهذا قال مالكٌ. وقال الشافعىُّ:

1444 - مسألة: (وإذا لحق مدد، أو هرب أسير، فأدركوا الحرب قبل تقضيها، أسهم لهم. وإن جاءوا بعد إحراز الغنيمة، فلا شئ لهم)

وَإذَا لَحِقَ مَدَدٌ، أو هَرَبَ أَسِيرٌ، فَأَدْرَكُوا الْحَرْبَ قَبْلَ تَقَضِّيهَا، أُسْهِمَ لَهُمْ، وَإنْ جَاءُوا بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا شَىْءَ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْهَمُ له كما يُسْهَمُ للمريضِ. ولَنا، أنَّه لا يُنْتَفَعُ به، فلم يُسْهَمْ له، كالمُخَذِّلِ والمُرْجِفِ، ولأنّه حَيَوانٌ يتَعَيَّنُ مَنْعُه مِن الدُّخُولِ، فلم يُسْهَمْ له، كالمُرْجِفِ. وأمَّا المَرِيضُ، فإنَّه يُعِينُ برَأْيِه، وتَكْثِيرِه، ودُعائِه، بخِلافِ الفَرَسِ. 1444 - مسألة: (وإذا لَحِقَ مَدَدٌ، أو هَرَب أسِيرٌ، فَأدْرَكُوا الحَرْبَ قبلَ تقَضِّيها، أُسْهِمَ لهم. وإن جاءُوا بعدَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ، فلا شَئَ لهم) وجملةُ ذلك أنَّ الغَنِيمَةَ إنَّما هى لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قولِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه؛ لأنَّهم إذا قَدِمُوا قبلَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، فقد شارَكُوا الغانِمِين في السَّبَبِ، فشارَكُوهم في الاسْتِحْقاقِ، كما لو قَدِمُوا قبلَ الحَرْب، فمَن تجَدَّدَ بعدَ ذلك مِن مَدَدٍ يَلْحَقُ بالمسلمين، أو أسِيرٍ يَنْفَلِتُ مِن الكُفَّارِ فيَلْحَقُ بجيشِ المسلمين، أو كافِرٍ يُسْلِمُ، فلا حَقَّ له فيها. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، في المَدَدِ يَلْحَقُهم قبلَ القِسْمَةِ أو إحْرازِها بدارِ الإسلامِ: شارَكَهم؛ لأنَّ مِلْكَها لا يَتِمُّ إلَّا بتَمامِ الاسْتِيلاءِ، وهو الإِحْرازُ إلى دارِ الإِسْلامِ، أو قَسْمُها، فمَن جاءَ قبلَ ذلك، فقد أدْرَكَها قبلَ مِلْكِها، فاسْتَحَقَّ منها، كما لو جاءَ في أثْناءِ الحَرْبِ. وإن ماتَ أحَدٌ مِن العَسْكَرِ قبلَ ذلك، فلا شئَ له؛ لِما ذَكَرْنا. وقد روَى الشَّعْبِىُّ، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب إلى سعدٍ: أسْهِمْ لمَن أتاكَ قبلَ أن تَتَفَقَّأَ (¬1) قَتْلَى فارِسٍ (¬2). ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ أبانَ بنَ سعيدِ بنِ ¬

(¬1) أى: تتشقق وتتفسخ. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب لمن الغنيمة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 303. وابن أبى شيبة، في: باب في القوم يجيئون بعد الوقعة. . .، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 410. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في من يأتى بعد الفتح، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 286. والبيهقى، في: باب الغنيمة لمن شهد الوقعة، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العاصِ وأصحابَه، قَدِمُوا على رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بخَيْبَرَ بعدَ أن فَتَحَها، فقال أبانُ: اقْسِمْ لَنا يا رسولَ اللَّهِ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اجْلِسْ يَا أبَانُ». ولم يَقْسِمْ له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواه أبو داودَ (¬1). وعن طارِقِ بنِ شِهابٍ، أنَّ أهْلَ البَصْرَةِ غَزَوْا نَهاوَنْدَ، فأمَدَّهم أهْلُ الكُوفَةِ، فكُتِبَ في ذلك إلى عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ الغَنِيمَةَ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ. رَواه سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬2). ورُوِىَ نحوُه عن عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في غَزْوَةِ أرْمِينِيةَ (¬3)، ولأنَّه مَدَدٌ لَحِقَ بعدُ تَقَضِّى الحَرْبِ، أشْبَهَ ما لو جاءَ بعدَ القِسْمَةِ، أو بعدَ إحْرازِها بدارِ الإِسْلامِ. وقولُهم: إنَّ مِلْكَها بإحْرازِها إلى دارِ الإِسْلامِ. مَمْنُوعٌ، بل هو بالاسْتِيلاءِ، وقد اسْتَوْلَى عليها الجَيْشُ قبلَ المَددِ، وحدِيثُ الشَّعْبِىِّ مُرْسَلٌ، يَرْوِيه مُجالِدٌ، وقد ¬

(¬1) في: باب في من جاء بعد الغنيمة لا سهم له، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 66، 67. كما أخرجه البخارى، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 176، 177. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬3) أرمينية: اسم لصقع عظيم في ناحية الشمال، وهى من برذعة إلى باب الأبواب، ومن الجهة الأخرى إلى بلاد الروم. معجم البلدان 1/ 219، 220. وما روى عن عثمان، أخرجه البيهقى، في: باب المدد يلحق بالمسلمين، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 335.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُكُلِّمَ فيه، ثم هم لا يَعْمَلُون به، ولا نحن، فقد حَصَل الإِجماعُ على خِلافِه، فكيفَ يُحْتَجُّ به؟. فصل: وحُكْمُ الأسِيرِ يهْرُبُ إلى المسلمين حُكْمُ المَدَدِ، سواءٌ قاتَلَ أو لم يُقاتِلْ، في أنَّه يَسْتَحِقُّ مِن الغَنيمَةِ إذا هَرَب قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُسْهَمُ له إلَّا أن يُقاتِلَ؛ لأنَّه لم يَأْتِ للقِتالِ، بخِلافِ المَدَدِ. ولَنا، أنَّ مَن اسْتَحَقَّ إذا قاتَلَ، اسْتَحَقَّ وإن لم يُقاتِلْ، كالمَدَدِ، وسائِرِ مَن حَضَر الوَقْعَةَ. فصل: فإن لَحِقَهُم المَدَدُ بعدَ تَقَضِّى الحربِ، وقبلَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ، أو جاءَهم الأسِيرُ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه يُشارِكُهم؛ لأنَّه جاءَ قبلَ إحْرازِها. وقال القاضى: تُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بانْقِضاءِ الحَرْبِ قبلَ حِيازَتِها. فعلى هذا، لا يُسْهَمُ لهم. وإن حازُوا الغَنِيمَةَ، ثم جاءَهم قَوْمٌ مِن الكُفّارِ يقاتِلُونَهم، فأدْرَكَهم المَدَدُ، فقاتَلُوا معهم، فقد قال أحمدُ: إذا غَنِمَ المسلمون غَنِيمَةً، فلَحِقَهُم العَدُوُّ، وجاءَ المُسْلِمِين مَدَدٌ، فقاتَلُوا العَدُوَّ معهم حتى سَلَّمُوا الغَنِيمَةَ، فلا شئَ لهم في الغَنِيمَةِ؛ لأنَّهم إنَّما قاتَلُوا عن أصحابِهم دُونَ الغَنِيمَةِ؛ لأنَّ الغَنِيمَةَ قد صارَتْ في أيْدِيهم وحَوَوْها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قيلَ له: فإنَّ أهلَ المَصِّيصَةِ (¬1) غَنِمُوا ثم اسْتَنْقَذَه منهم العَدُوُّ، فجاءَ أهْلُ طَرَسُوسَ (¬2)، فقاتَلُوا معهم حتى اسْتَنْقَذُوه؟ فقال: أحَبُّ إلىَّ أن يَصْطَلِحُوا. أمَّا في الصُّورَةِ الأُولَى، فإن الأوَّلِينَ قد أحْرَزُوا الغَنِيمَةَ ومَلَكُوها بحِيازَتها، فكانتْ لهم دُونَ مَن قاتَلَ معهم، وأمَّا في الصُّورَةِ الثَّانيةِ، فإنَّما حَصَلَتِ الغَنِيمَةُ بقِتالِ الذين اسْتَنْقَذُوها في المرَّةِ الثَّانيةِ، فيَنْبَغِى أن يشْتَرِكُوا فيها؛ لأنَّ الإِحْرازَ الأوَّلَ قد زالَ بأخْذِ الكُفّارِ لها. ويحْتَمِلُ أنَّ الأوَّلِينَ قد مَلَكُوها بالحيازَةِ الأُولَى، ولم يَزُلْ مِلْكُهم بأخْذِ الكُفّارِ لها منهم، فلهذا أحَبَّ أحمدُ أن يصْطَلِحُوا على هذا. فصل: ومَن بَعَثَه الأمِيرُ لمَصْلَحَةِ الجَيْشِ، مثلَ الرسولِ والدَّلِيل والجَاسُوسِ وأشْباهِهم، فإنَّه يُسْهَمُ له وإن لم يَحْضُرْه؛ لأنَّه في مَصْلَحَةِ الجَيْشِ، أشْبَهَ السَّرِيَّةَ، ولأنَّه إذا أُسْهِمَ للمُتَخَلِّفِ عن الجيشِ، فهؤلاء أوْلَى. وبهذا قال أبو بكرِ بنُ أبى مَرْيَمَ، وراشِدُ بنُ سَعْدٍ (¬3)، وعَطِيَّةُ بنُ قَيْسٍ (¬4)، قالوا: وقد تخَلَّفَ عثمانُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يومَ بَدْرٍ، فَأجْرَى ¬

(¬1) المصيصة: مدينة على شاطئ جيحان، من ثغور الشام، بين أنطاكية وبلاد الروم، تقارب طرسوس. معجم البلدان 4/ 558. (¬2) طرسوس: مدينة بثغور الشام، بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. معجم البلدان 3/ 526. (¬3) راشد بن سعد المقرائى، التابعى الفقيه، محدث حمص. توفى سنة ثلاث عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 490 - 491. (¬4) هو عطية بن قيس التابعى المقرئ كان قارئ الجند، وكان فيمن غزا القسططنية زمن معاوية. توفى سنة إحدى وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 324، 325.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمًا مِن الغَنِيمَةِ. ويُرْوَى عن [ابنِ عُمَرَ] (¬1)، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قام، يَعْنِى يومَ بدرٍ، فقال: «إنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ في حَاجَةِ اللَّهِ وحَاجَةِ رَسُولِه، وإنِّى أُبَايعُ لَهُ». فضَرَبَ له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسَهْمِه، ولم يَضْرِبْ لأحَدٍ غابَ غيرِه. رَواه أبو داودَ (¬2). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: إنَّما تَغَيَّبَ عُثْمانُ عن بَدْرٍ؛ لأنَّه كانت تحتَهْ ابنةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانتْ مَرِيضَةً، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ لَكَ أجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وسَهْمَهُ». رَواه البخارىُّ (¬3). فصل: وسُئِلَ أحمدُ عن قَوْمٍ خَلَّفَهم الأمِيرُ في بلادِ العَدُوِّ، وغَزَا وغَنِمَ ولم يَمُرَّ بهم، فرَجَعُوا، هل يُسْهَمُ لهم؟ قال: نعم، يُسْهَمُ لهم؛ لأنَّ الأمِيرَ خَلَّفَهم. قيل له: وإن نادَى الأميرُ: مَن كان صَبِيًّا فلْيَتَخَلَّفْ. فتَخَلَّفَ قومٌ فصارُوا إلى لُؤْلُؤَةٍ، وفَيها المسلمون، فأقامُوا حتى فَصَلُوا. فقال: إذا كانُوا قد الْتجَئُوا إلى مَأْمَنٍ لهم، لم يُسْهَمُ لهم، ولو تَخَلَّفُوا ¬

(¬1) في النسخ: «عمر». والمثبت من سنن أبى داود. (¬2) في: باب بن جاء بعد الغنيمة لأسهم له، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 67. (¬3) في: باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب مناقب عثمان بن عفان، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى}، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 108، 5/ 18، 126. كما أخرجه الترمذى، في: باب مناقب عثمان ابن عفان، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 160، 161. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 101، 120.

1445 - مسألة: (وإذا أراد القسمة، بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها)

وَإذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ، بَدَأ بِالْأَسْلَابِ فَدَفَعَهَا إِلَى أَهلِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ أُجْرَةَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنِيمَةَ، وَحَمَلُوهَا، وَحَفِظُوهَا. ثُمَّ يُخَمِّسُ الْبَاقِىَ، فَيَقْسِمُ خُمْسَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لِلَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقامُوا في مَوْضِعِ خَوْفٍ، أسْهَمَ لهم. وقال في قوم خَلَّفَهم الأمِيرُ، وأغارَ في جَلْدِ الخيْلِ، فقالَ: إن أقامُوا في بلدِ العَدُوِّ حتى رَجَع، أسْهَمَ لهم، وإن رجَعُوا حتى صارُوا إلى مَأْمَنِهم، فلا شئَ لهم. قيل له: فإنِ اعْتَلَّ رجلٌ، أو اعْتَلَّتْ دابَّتُه وقد أدْرَبَ (¬1)، فقال له الأمِيرُ: أقِمْ أُسْهِمْ لك، أو انْصَرِفْ إلى أهْلِك أُسْهِمْ لك. فكَرِهَه. وقال: هذا يَنْصَرِفُ إلى أهْلِه، فكيفَ يُسْهِمُ له! 1445 - مسألة: (وإذا أرادَ القِسْمَةَ، بَدَأ بالأسْلابِ فدَفَعَها إلى أهْلِها) وإن كان فيها مالٌ لمُسْلِم أو لذِمِّىٍّ دُفِع إليه؛ لأنَّ صاحِبَه مُتَعَيِّنٌ، ولأنَّه اسْتَحَقَّه بسَبَبٍ سابِقٍ، ثم بمُؤْنَةِ الغَنِيمَةِ؛ مِن أُجْرَةِ النَّقّالِ والجَمّالِ والحافِظِ والمُخَزِّنِ والحايسبِ؛ لأنَّه لمَصْلَحَةِ الغَنِيمَةِ، ثم بالرَّضْخِ في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ بالمُعاونَةِ في تحْصِيلِ الغَنِيمَةِ، أشْبَهَ أُجْرَةَ النَّقّالِينَ والحافِظينَ. وفى الآخَرِ، يَبْدَأُ بالخُمْسِ قبلَه؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ بحُضُورِ الوَقْعَةِ، فأشْبَهَ سِهامَ الغانِمِين. وهذا أقْيَسُ. وللشافعىِّ فيه (¬2) قَوْلان، كالرِّوايَتَيْن. 1446 - مسألة: (ثم يُخَمِّسُ الباقىَ، فيَقْسِمُ خمْسَه على خَمْسَةِ ¬

(¬1) أدرب: اجتاز الدرب للقتال. (¬2) سقط من: م.

تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَىْءِ، وَسَهْمٌ لِذَوِى الْقُرْبَى؛ وَهُمْ بَنُو هَاشمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ حَيْث كَانُوا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، غَنِيُّهُمْ وَفقِيرُهُمْ فِيهِ سَواءٌ، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاءِ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لأَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْهُمٍ؛ سَهْمٌ للَّهِ تعالى ولرسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُصْرَفُ مَصْرِفَ الفَىْءِ، وسَهْمٌ لِذَوِى القُرْبَى، وهم بَنُو هاشِمٍ وبنو المُطَّلِبِ حيث كانُوا، لِلذَّكرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، غَنِيُّهم وفَقِيرُهم فيه سَواءٌ، وسَهْمٌ لليَتامَى الفُقَراءِ، وسَهْمٌ للمَساكِينِ، وسَهْمٌ لأبْناءِ السَّبِيلِ مِن المُسْلِمِين) لا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ، في أنَّ الغَنِيمَةَ مخْمُوسَةٌ بقولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1) الآية. لكن اخْتُلِفَ في أشْياءَ؛ منها سَلَبُ القاتِلِ، والأكْثَرون على أنَّه مَخْمُوسٌ. ومنها إذا قال الإِمامُ: مَن جاءَ بعَشَرَةِ رُءُوسٍ فلَه رَأْسٌ، ومَن طَلَع الحِصْنَ فلَه كذا. والظاهِرُ أنَّ هذا غيرُ مَخْمُوسٍ؛ لأنَّه في معنى السَّلَبِ، وقد ذَكَرْنا الاخْتِلافَ في السَّلَبِ. ومنها إذا قال الإِمامُ: مَن أخَذَ شيئًا فهو له. وقُلْنا بجَوازِ ذلك. فقد قِيلَ: لا خُمْسَ فيه؛ لأنَّه في معنى ما قَبْلَه. قال شيْخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّ ¬

(¬1) سورة الأنفال 41. (¬2) في: المغنى 9/ 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُمسَ لا يَسْقُطُ ههُنا، لدُخُولِه في عُمُومِ الآيةِ، وليس هو في معنى السَّلَبِ والنَّفَلِ، لأنَّ تَرْكَ تَخْمِيسِها لا يُسْقِطُ خُمْسَ الغَنِيمَةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا يُسْقِطُه بالكُلِّيَّةِ، فلا يكونُ تَخْصِيصًا للآيةِ بل نَسْخًا لحُكْمِها، ونَسْخُها بالقِياسِ غيرُ جائزٍ اتِّفاقًا. ومنها، إن دَخَل قَوْمٌ لا مَنَعَةَ لهم دارَ الحَرْبِ، فغَنِمُوا بغيرِ إذْنِ الإِمامِ. وقد ذَكَرْناه. فصل: والخُمْسُ مَقْسُومٌ على خَمْسةِ أسْهُمٍ كما ذَكَرْنا ههُنا. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهدٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقتادَةُ، وابنُ جُرَيْجٍ، والشافعىُّ. وقيل: يُقْسَمُ على سِتَّةِ أسْهُمٍ، سهْمٌ للَّهِ تعالى، وسهْمٌ لرسولِه؛ لظاهرِ قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. فعَدَّ سِتَّةً، وجَعَل اللَّه تعالى لنَفْسِه سَهْمًا سادِسًا، وهو مَرْدُودٌ على عِبادِ اللَّه أهْلِ الحاجَةِ. وقال أبو العالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ هو أنَّه إذا عَزَل الخُمْسَ ضَرَب بيَدِه فيه، فما قَبَض عليه مِن شئٍ جَعَلَه للكَعْبَةِ، فهو الذى سَمَّى اللَّه، لا تَجْعَلُوا للَّهِ نَصِيبًا، فإنَّ للَّهِ الدُّنْيا والآخرةَ، ثم يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ الذى عَزَلَه على خَمْسَةِ أسْهُمٍ. ورُوِىَ عن الحسَنِ، وقَتادَةَ، في سَهْمِ ذَوِى القُرْبَى: كانتْ طُعْمَةً لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياتِه، فلما تُوُفِّىَ حَمَل عليه أبو بكرٍ وعُمَرُ في سبيلِ اللَّه (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب سهم ذوى القربى من الخمس، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 342، 343. وعبد الرزاق، في: باب ذكر الخمس وسهم ذوى القربى، من كتاب الجهاد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ أبا بكرِ وعُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قَسَّما الخُمْسَ على ثلاثةِ أسْهُمٍ (¬1). وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى، قالوا: يُقَسَّمُ الخُمْسُ على ثلاثةٍ؛ اليَتامَى، والمساكِينِ، وابنِ السَّبيلِ. وأسْقَطُوا سَهْمَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَوْتِه، وسَهْمَ قرابَتِه أيضًا. وقال مالكٌ: الفَىْءُ والخُمْسُ واحِدٌ، يُجْعَلان في بَيْتِ المالِ. قال ابنُ القاسمِ: وبَلَغَنى عَمَّن أثِقُ به، أنَّ مالِكًا قال: يُعْطِى الإِمامُ أقْرِباءَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما يَرَى. وقال الثَّوْرِىُّ: الخُمْسُ يَضَعُه الإِمامُ حيثُ أراه اللَّهُ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. وسَهْمُ اللَّهِ والرَّسولِ واحِدٌ. كذا قال عطاءٌ، والشعبىُّ. وقال الحسنُ بنُ محمدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ (¬2) وغيرُه: قولُه: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}. افْتِتاحُ كلامٍ. يَعْنِى أنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تعالى لافْتِتاحِ الكلامِ باسْمِه، تَبَرُّكًا به، لا لإِفْرادِه بسَهْمٍ، فإنَّ للَّه تِعالى الدُّنْيا والآخِرَةَ. وقد رُوِى عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، قالا: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَسِّمُ الخُمْسَ على ¬

= المصنف 5/ 238، 239. كلاهما عن الحسن. والطبرى في تفسير سورة الأنفال، الآية رقم 41. تفسير الطبرى 10/ 6، 7. عن الحسن وقتادة. (¬1) انظر نصب الراية، في كتاب السير 3/ 424. والطبرى، في: باب تفسير سورة الأنفال، الآية رقم 41، تفسير الطبرى 10/ 7. عن أبى بكر. (¬2) الحسن بن محمد ابن الحنفية الهاشمى العلوى، كان من عقلاء بنى هاشم وعلمائهم. توفى سنة إحدى ومائة. وقيل: في سنة خمس وتسعين. العبر 1/ 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسَةٍ (¬1). وما ذَكَرَه أبو العاليَةِ فشَئٌ لا يَدُلُّ عليه رَأْىٌ ولا يَقْتَضِيه قِياسٌ، فلا يُصارُ إليه إلَّا بنَصٍّ صَحِيحٍ، ولا نَعْلَمُ في ذلك أثَرًا صحِيحًا، سِوَى قولِه، فلا يُتْرَكُ ظاهِرُ النَّصِّ وقولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفِعْلُه مِن أجْلِ قولِ أبى العالِيَةِ، وما قالَه أبو حنيفةَ، فمُخالِفٌ لظاهِرِ الآيةِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى سَمَّى لرَسُولِه وقَرابَتِه شيئًا، وجَعَل لهما في الخُمْسِ حَقًّا، كما سَمَّى للثَّلاثةِ الأصْنافِ الباقِيَةِ، فمَن خالفَ ذلك، فقد خالفَ نَصَّ الكتابِ. وأمَّا حَمْلُ أبى بكرٍ وعُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، سَهْمَ ذِى القُرْبَى في سبيلِ اللَّهِ، فقد ذُكِرَ لأحمدَ، فسَكَتَ، ولم يذْهَبْ إليه، ورَأَى أنَّ قولَ ابنِ عباس ومَن وافَقَه أوْلَى؛ لمُوافَقَتِه كتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ رسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ ابنَ عباس لمّا سُئِلَ عن سَهْمِ ذِى القُرْبَى، فقال: إنَّا كُنَّا نَزْعُمُ أنَّه لنا، فأبَى ذلك علينا قَوْمُنا (¬2). ولَعَلَّه أرادَ بقولِه: أبَى ذلك علينا قوْمُنا. فِعْلَ أبى بكرٍ وعُمَرَ، في حَمْلِهما عليه في سبيلِ اللَّهِ، ومَن تَبِعَهما على ذلك. ومتى اخْتَلَفَ الصَّحابَةُ، وكان قولُ بعضِهم يُوافِقُ الكتابَ والسُّنَّةَ، كان أوْلَى. وقولُ ابنِ عباس مُوافِقٌ للكتابِ والسُّنَّةِ؛ فإنَّ جُبَيْرَ بِنَ مُطْعِمٍ روَى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَقْسِمْ لبَنى عبدِ شَمْسٍ ولا لِبَنِى نوْفَلٍ مِن ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 71. عن ابن عمر. والبيهقى، في: باب بيان مصرف الغنيمة في ابتداء الإسلام. . .، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 293. عن ابن عباس. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب سهم ذى القربى من الخمس، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُمْسِ شيئًا كما كان يَقْسِمُ لِبَنِى هاشِمٍ وبَنِى المُطَّلِبِ، وأنَّ أبا بكرٍ كان يَقْسِمُ الخُمْسَ نحوَ قَسْمِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، غيرَ أنَّه لم يَكُنْ يُعْطِى قُرْبَى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما كان يُعطِيهِم، وكان عُمَرُ يُعْطِيهم وعثمانُ مِن بَعْدِه. رَواه أحمدُ، في «مُسْنَدِهِ» (¬1). وقد تُكُلِّمَ في رِوايَةِ ابنِ عباسٍ عن أبى بكرٍ وعُمَرَ، أنَّهما حَمَلا على سَهْمِ ذِى القُرْبَى في سبيلِ اللَّهِ، فقِيلَ: إنَّه يَرْوِيه محمدُ بنُ مَرْوانَ، وهو ضَعِيفٌ، عن الكَلْبِىِّ، وهو ضَعِيفٌ أيضًا، ولا يَصِحُّ عندَ أهلِ النَّقْلِ. فإن قالوا: فالنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس بباقٍ، فكيف يَبْقَى سَهْمُه؟ قُلْنا: جِهَةُ صَرْفِه إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَصْلحَةُ المسلمين، والمصالِحُ باقِيَةٌ، قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا يَحِلُّ لِى مِمَّا أفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هذِهِ، إلَّا الخُمْسَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ». رَواه سعيدٌ (¬2). فصل: فسَهْمُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصْرَفُ في مصالِحِ المُسْلِمِين؛ لِما روَى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَناوَلَ بيَدِه وبَرَةً مِن بعيرٍ، ثم قال: «وَالَّذِى نفْسِى بِيَدِه مَا لِى مِمَّا أفَاءَ اللَّهُ إِلَّا الخُمْسَ، والخُمْسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ». فجَعَلَه لجميعِ المسلمين، ولا يُمْكِنُ صَرْفُه إلى جَمِيعِهم ¬

(¬1) المسند 4/ 83. وانظر ما تقدم في 7/ 307 وما بعدها. (¬2) في: باب ما جاء في قسمة الغنائم، من كتاب الجهاد. سنن سعيد بن منصور 2/ 276. كما أخرجه أبو داود، في: باب فداء الأسير بالمال، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 57. والنسائى، في: كتاب قسم الفئ. المجتبى 7/ 119. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الغلول، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 458. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 127، 128، 5/ 316، 319، 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بصَرْفِه في مصالِحِهم؛ مِن سَدِّ الثُّغُورِ، وكفايَةِ أهْلِها، وشِراء الكُراعِ والسِّلاحِ، ثم الأهَمِّ فالأهَمِّ، على ما نَذْكُرُه في الفَئِ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ونحوُه قولُ الشافعىِّ، فإنَّه قال: أخْتارُ أن يضَعَه الإِمامُ في كلِّ أمْرٍ خصَّ به الإِسْلامُ وأهلُه؛ مِن سَدِّ ثَغْرٍ، وإعدادِ كُراعٍ وسِلاحٍ، وإعْطائِه أهْلَ البلاءِ في الإِسْلامِ نَفَلًا عندَ الحربِ وغيرِ الحربِ. وعن أحمدَ، أنَّ سَهْمَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْتَصُّ بأهْلِ الدِّيوانِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَحَقَّه بحُصُولِ النُّصْرَةِ، فيكُونُ لمَن يَقُومُ مَقامَه في النُّصْرَةِ. وعنه، أنَّه يُصْرَفُ في الكُراعِ والسِّلاحِ؛ لأنَّ ذلك يُرْوَى عن أبى بكرٍ وعُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وهذا السَّهْمُ كان لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن الغنيمَةِ، حَضَر أو لم يَحْضُرْ، كما أنَّ بَقِيَّةَ أصحابِ الخُمْسِ يَسْتَحِقُّون وإن لم يَحْضُروا. وكان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصْنَعُ به ما شاءَ، فلمّا تُوُفِّىَ وَلِيَه أبو بكرٍ، ولم يَسْقُطْ بمَوْتِه. وقد قيلَ: إنَّما أضافَه اللَّهُ تعالى إلى نَفْسِه وإلى رَسُولِه؛ لِيُعْلَمَ أنَّ جِهَتَه جهةُ المَصْلَحَةِ، وأنَّه ليس بمُخْتَصٍّ بالنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيَسْقُطَ بمَوْتِه. وقد زَعَم قَوْم أنَّه سَقَط بمَوْتِه ويُرَدُّ على الأنْصِباءِ الباقِيَةِ مِن الخُمْسِ؛ لأنَّهم شُركاؤُه. وقال آخَرُونَ: بل يُرَدُّ على الغانِمِينَ؛ لأنَّهم اسْتَحَلُّوها بقِتالِهم، وجَرَتْ (¬1) منها سِهامٌ، منها سَهْمُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما دامَ حَيًّا، فلمّا مات وَجَب رَدُّه إلى مَن وُجِدَ فيه سَبَبُ الاسْتِحْقاقِ، كما أنَّ تَرِكَةَ المَيِّتِ إذا خرَج منها سَهْمٌ بوَصِيَّةٍ، ثم بَطَلَتِ الوَصِيَّةُ، رُدَّ إلى التَّرِكَةِ. وقالتْ ¬

(¬1) في م: «حرمت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طائفةٌ: هو للخَلِيفَةِ بعدَه؛ لأنَّ أبا بكر، رَضِىَ اللَّهُ عنه، روَى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إِذَا أطْعَمَ اللَّه نَبِيًّا طُعْمَةً، ثُمَّ قَبَضَه، فَهِىَ لِلَّذِى يَقُومُ بِهَا مِنْ بَعْدِه». وقد رأَيْتُ أنْ أرُدَّه على المسلمين (¬1). والصَّحِيحُ أنَّه باقٍ، وأنَّه يُصْرَفُ في مصالِحِ المُسْلِمِين، لكنَّ الإِمامَ يقُومُ مَقامَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صَرْفِه فيما يَرَى، فإنَّ أبا بكر، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: لا أدَعُ أمْرًا رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصْنَعُه فيه إلَّا صَنَعْتُه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). واتَّفَقَ هو وعُمَرُ والصحابةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، على وضْعِه في الخَيْلِ والعُدَّةِ في سبيلِ اللَّهِ. هكذا رُوِىَ عن الحسنِ بنِ محمدِ ابنِ الحَنَفيَّةِ. فصل: وكان لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن المَغْنَمِ الصَّفِىُّ، وهو شئٌ يخْتارُه مِن المَغْنَمِ قبلَ القِسْمَةِ، كالجارِيَةِ والعَبْدِ والثَّوْبِ والسَّيْفِ ونحوِه. هذا قولُ محمدِ بنِ سِيرِينَ، والشعبىِّ، وقتادَةَ، وغيرِهم مِن أهْلِ العِلْمِ. وقال أكْثَرُهم: إنَّ ذلك انْقَطَعَ بمَوْتِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال أحمدُ: الصَّفِىُّ إنَّما كان للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصًّا، لم يَبْقَ بعدَه. ولا نَعْلَمُ مُخالِفًا لهذا إلَّا أبا ثَوْرٍ، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في صفايا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأموال، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 130. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 4. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا نورث ما تركنا صدقة. من كتاب الفرائض. صحيح البخارى 5/ 178، 8/ 185. ومسلم، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: ولا نورث ما تركنا فهو صدقة. من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1380، 1381. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه قال: إن كان الصَّفِىُّ ثابِتًا للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فللإِمامِ أن يَأْخُذَه على نَحْوِ ماكان يأْخُذُه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَجْعَلَه مجْعَلَ سَهْمِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن خُمْسِ الخُمْسِ. فجَمَعَ بينَ الشَّكِّ فيه في حَياةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومُخالَفَةِ الإِجْماعِ في إبْقائِه بعدَ مَوْتِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ أحدًا سَبَق أبا ثَوْرٍ إلى هذا القولِ. وقد أنْكَرَ قَوْمٌ كَوْنَ الصَّفِىِّ لرسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واحْتَجُّوا بحديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ. وقد روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه (¬2) عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوَه. ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬3). فمَفْهُومُه أنَّ باقِيَها للغانِمِين. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَب إلى بَنِى زُهَيْرِ بن أُقَيْشٍ (¬4): «إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَآتيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأدَّيْتُمُ الخُمْسَ مِنَ المَغْنَمِ، وسَهْمَ الصَّفِىِّ، إِنَّكُمْ آمِنُونَ بأَمَانِ اللَّهِ ورَسُولِهِ». رَواه أبو داودَ (¬5). وفى حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ، الذى رَواه ابنُ عباسٍ: «وَأَنْ تُعْطُوا سَهْمَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- والصَّفِىِّ» (¬6). وقالت عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها: كانت صَفِيَّة مِن ¬

(¬1) في: باب في الإمام يستأثر بشئ من الفئ. . .، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 74، 75. من رواية عمرو بن عبسة. كما أخرجه النسائى، في: كتاب قسم الفئ. المجتبى 7/ 119. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 318، 319. من رواية أبى أمامة. (¬2) بعده في الأصل: «عند أبى أمامة». (¬3) سورة الأنفال 41. (¬4) في النسخ: «قيس». والتصويب من سنن أبى داود. (¬5) في: باب ما جاء في سهم الصفى، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 138. كما أخرجه النسائى، في: كتاب قسم الفئ. المجتبى 7/ 121. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 78، 363. (¬6) أخرجه البيهقى، في: باب سهم الصفى، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّفِىِّ. رَواه أبو داودَ (¬1). وأمّا انْقِطاعُه بعدَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فثابِتٌ بإجْماعِ الأمَّةِ قبلَ أبى ثَوْرٍ وبعدَه، وكَوْنِ الخُلفاءِ الرّاشِدين ومَن بعدَهم لم يَأْخُذُوه، ولا يُجْمِعُون إلَّا على الحَقِّ. فصل: والسَّهْمُ الثانى لذِى القُرْبَى، وهم بنُو هاشم وبنو المُطَّلِبِ حيثُ كانوا، غَنِيُّهم وفَقِيرُهم فيه سواءٌ، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن، وسَهْمُ ذَوِى القُرْبَى ثابِتٌ بعدَ مَوْتِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذَكَرْنا ذلك، والخلافَ فيه، وقد دَلَّ عليه ما روَى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، قال: وَضَع رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَ ذَوِى القُرْبَى في بَنِى هاشمٍ وبَنِى المُطَّلِبِ. وذَكَرِ الحديثَ، وهو حديثٌ صحيحٌ، رَواه أبو داودَ (¬2)، ولم يَأْتِ لذلك نسْخ ولا تَغْيِيرٌ، فوَجَبَ القولُ به، والعَمَلُ بحُكْمِه. فصل: وهم بنُو هاشم وبنُو المُطَّلِبِ ابنا عبدِ مَنافٍ دُونَ غيرِهم؛ لِما روَى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، قال: لمّا قَسَم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَ ذَوِى القُرْبَى مِن خَيْبَرَ (¬3) بينَ بنى هاشمٍ وبنى المُطَّلِبِ، أتَيْتُ أنا وعثمانُ بنُ عفّانَ، فقُلْنا: يا رسولَ اللَّهِ، أمّا بنُو هاشمٍ فلا نُنْكِرُ فضْلَهم، لمَكانِكَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في سهم الصفى، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 137. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 307. (¬3) في م: «حنين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى وَضَعَكَ اللَّهُ به منهم، فما بالُ إخْوانِنا مِن بنى المُطَّلِبِ أعْطَيْتَهُم وتَرَكْتَنا، وإنَّما نحنُ وهم منك بمَنْزِلَةٍ واحدةٍ؟ فقال: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِى في جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإنَّما بَنُو هَاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ شَئٌ وَاحِدٌ». وشَبَّكَ بينَ أصابِعِه. رَواه أحمدُ، والبُخارىُّ (¬1). فراعَى لهم النبىُّ نُصْرَتَهم ومُوافَقَتَهم بَنِى هاشمٍ. ولا يَسْتَحِقُّ مَن كانت أُمُّه منهم وأبُوه مِن غيرِهم؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَدْفَعْ إلى أقارِبِ أُمِّه، وهم بنو زُهْرَةَ، شيئًا، ولم يَدْفَعْ أيضًا إلى بنى عَمّاتِه، كالزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ وعبدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ ونحوِهم. فصل: ويَسْتَوِى فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، لدُخُولِهم في اسْمِ القَرابَةِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ في قَسْمِه بينَهم. فعن أحمدَ، أنَّه يُقْسَمُ للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن. هذا اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بالقَرابَةِ مِن الأبِ شَرْعًا، ففُضِّلَ فيه الذَّكَرُ على الأُنْثَى، كالمِيراثِ. ويفارِقُ الوَصِيَّةَ ووَلَدَ الأُمِّ؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ اسْتُحِقَّتْ بقَوْلِ المُوصِى، ووَلَدُ الأُمِّ اسْتَحَقُّوا المِيراثَ بقَرابَةِ الأُمِّ. وعنه، أنَّه يُساوَى بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ، والمُزَنِىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّهم ¬

(¬1) في م: «وروى البخارى». والحديث تقدم تخريجه في 7/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُعْطُوا باسمِ القَرابَةِ، والذَّكَرُ والأُنْثَى فيها سواءٌ، فأشْبَهَ ما لو وَقَف على قَرابَةِ فُلانٍ، ألَا تَرَى أنَّ الجَدَّ يأْخُذُ مع الأبِ، وابنَ الابنَ (¬1) يأْخُذُ مع الابنِ. وهذا يَدُلُّ على مُخالَفَةِ المَوارِيثِ، ولأنَّه سَهْمٌ مِن خُمْسِ الخُمْسِ لجماعةٍ، فاسْتَوى فيه الذَّكَرُ والأنْثَى، كسَهْمِ اليَتامَى، ويُسَوَّى بينَ الصَّغِيرِ والكبيرِ، على الرِّوايَتيْن؛ لاسْتِوائِهم في القَرابَةِ، وقِياسًا على المِيراثِ. فصل: ويَسْتَوِى فيه غَنِيُّهم وفقِيرُهم. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وقيلَ: يختصُّ بالفَقِيرِ، كبَقِيَّةِ السِّهامِ. ولَنا، عُمُومُ قوْلِه تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬2). وهو عامٌّ، ولا يَجُوزُ تَخْصِيصُه بغيرِ دَلِيلٍ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُعْطِى أقارِبَه كلَّهم، وفيهم الغَنِىُّ، كالعباسِ وغيرِه، ولم يُنْقَلْ عنه تَخْصِيصُ الفُقَراءِ منهم. ولأنَّه مالٌ مُسْتَحَقٌّ بالقَرابَةِ فاسْتَوَى فيه الغَنِىُّ والفَقِيرُ، كالمِيراثِ، والوَصِيَّةِ للأقارِبِ، ولأنَّ عثمانَ وجُبَيْرًا طَلَبا حَقَّهما، وسألا عن عِلَّةِ المَنْعِ لهما ولأقارِبِهما، ¬

(¬1) في م: «الأب». (¬2) سورة الأنفال 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهما مُوسِرانِ، فعَلَّلَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنُصْرَةِ بنِى المُطَّلِبِ دُونَهم، وكَوْنِهم مع بَنى هاشمٍ كالشَّئِ الواحِدِ، ولو كان اليَسارُ مانِعًا والفَقْرُ شَرْطًا، لم يَطْلُبا مع عَدَمِه، ولعَلَّلَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْعَهما بيَسارِهما وانْتِفاءِ فَقْرِهما. فصل: ويُفَرَّقُ فيهم حيث كانوا، ويَجِبُ تَعْمِيمُهم به حَسَبَ الإِمْكانِ. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال قَوْمٌ: يَخْتَصُّ أهْلُ كلِّ ناحيةٍ بخُمْسِ مَغْزاها الذى ليس لهم مَغْزًى سِواه، فما يُوجَدُ مِن مَغْزَى الرُّومِ، لأهْلِ الشامِ والعِراقِ، وما يُوجَدُ مِن مَغْزَى التُّرْكِ، لمَن في خُراسانَ مِن ذَوِى القُرْبَى؛ لِما يَلْحَقُ مِن المَشَقَّةِ في نَقْلِه، ولأنَّه يَتَعَذَّرُ تَعْمِيمُهم، فلم يَجِبْ، كأصْنافِ الزَّكاةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ بقَرابَةِ الأبِ، فوَجَبَ دَفْعُه إلى كلِّ المُسْتَحِقِّين، كالمِيراثِ. فعلى هذا، يَبْعَثُ الإِمامُ إلى عُمّالِه في الأقالِيم، ويَنْظُرُكم حَصَل مِن ذلك، فإنِ اسْتَوَتْ فيه، فَرَّقَ كلَّ خُمْسٍ في مَن قارَبَه، وإنِ اخْتَلَفَتْ، أمَرَ بحَمْلِ الفَضْلِ لِيُدْفَعَ إلى مُسْتَحِقِّه، كالمِيراثِ. وفارَقَ الصَّدَقَةَ، حيثُ لا تُنْقَلُ؛ لأنَّ كلَّ بَلَدٍ لا يَكادُ يَخْلُو مِن صَدَقَةٍ تُفَرَّقُ على فُقراءِ أهْلِه، والخُمْسُ يُوجَدُ في بعضِ الأقالِيمِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو لم يُنْقَلْ لأدَّى إلى إعْطاء البَعْضِ وحِرْمانِ البَعْضِ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ، إن شاءَ اللَّهُ، أنَّه لا يَجِبُ التَّعْمِيمُ؛ لأنَّه يتَعَذَّرُ، فلم يَجِبْ، كتَعْمِيمِ المَساكِينِ. وما ذُكِرَ مِن بَعْثِ الإِمامِ عُمّالَه، فهو مُتَعَذِّرٌ في زَمانِنا؛ لأنَّ الإِمامَ لم يَبْقَ له حُكْمٌ إلَّا في بعْضِ بلادِ الإِسْلامِ، ولم يَبْقَ له جِهَةٌ في الغَزْوِ، ولا له فيه أمْرٌ، ولأنَّ هذا سَهْمٌ مِن سِهامِ الخُمْسِ، فلم يَجِبْ تَعْمِيمُه، كسائِرِ سِهامِه. فعلى هذا، يُفَرِّقُه كلُّ سُلْطانٍ فيما أمْكَنَ مِن بلادِه. ¬

(¬1) في: المغنى 9/ 295.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والسَّهْمُ الثالثُ لليَتامَى. واليَتِيمُ: الذى لا أبَ له، ولم يَبْلُغِ الحُلُمَ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» (¬1). قال بعضُ أصحابِنا: لا يَسْتَحِقُّون إلَّا مع الفَقْرِ. وهو المشهورُ مِن مَذْهَبِ الشافعىِّ؛ لأنَّ ذا الأبِ لا يَسْتَحِقُّ، والمالُ أنْفَعُ مِن وُجُودِ الأبِ، ولأنَّه صُرِفَ إليهم لحاجَتِهم، فإنَّ اسْمَ اليَتِيمِ يُطْلَقُ عليهم في العُرْفِ للرَّحْمَةِ، ومَن كان إعْطاؤُه لذلك اعْتُبِرَتِ الحاجَةُ فيه (¬2)، وفارَقَ ذَوِى القُرْبَى؛ فإنَّهم اسْتَحَقُّوا لقُرْبِهم مِن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَكْرِمَةً لهم، والغنىُّ والفَقِيرُ في القُرْبِ سَواءٌ، فاسْتَويَا في الاستِحْقاقِ. قال شيخُنا (¬3): ولم أعْلَمْ هذا نَصًّا عن أحمدَ، والآيةُ تَقْتَضِى تَعْمِيمَهم. وقال بعضُ أصحابِ الشافعىِّ: له قولٌ آخرُ، أنَّه للغَنِىِّ والفقيرِ؛ لعُمُومِ النَّصِّ في كلِّ يَتِيمٍ، ولأنَّه لو خَصَّ به الفقيرَ، لكانَ داخِلًا في جُمْلَةِ المَساكِينِ الذين هم أصحابُ السَّهْمِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 68. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغنى 9/ 296، 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرّابعِ، وكان يُسْتَغْنَى عن ذِكْرِهم وتَسْمِيَتِهم. قال أصحابُنا: ويُفَرِّقُه الإِمامُ في جميعِ الأقْطارِ، ولا يَخْتَصُّ به أهْلُ ذلك المَغْزَى. والقولُ فيه كالقولِ في سَهْمِ ذِى القُرْبَى. وقد تَقَدَّمَ القولُ فيه. فصل: والسَّهْمُ الرابعُ للمَساكِينَ؛ للآيةِ، وهم أهْلُ الحاجَةِ، فيَدْخُلُ فيهم الفُقَراءُ، فالفُقَراءُ والمَساكِينُ صِنْفانِ في الزَّكاةِ، وصِنْفٌ واحدٌ ههُنا، وفى سائِرِ الأحْكامِ، وإنَّما يَقَعُ التَّمَيُّزُ بينَهما إذا جُمِعَ بينَهما بلَفْظَيْنِ، ولم يَرِدْ ذلك إلَّا في الزَّكاةِ، وقد ذَكَرْناهم في أصْنافِها. قال أصحابُنا: ويُعَمُّ بها جميعُهم في جميعِ البلادِ، كقولِهم في سَهْمِ ذِى القُرْبَى واليَتامَى. وقد تَقَدَّمَ القولُ في ذلك، ولأنَّ تَعْمِيمَهم يتَعَذَّرُ، فلم يَجِبْ، كما لا يَجِبُ تَعْمِيمُهم في الزَّكاةِ. فصل: والسَّهْمُ الخامِسُ لأبناءِ السَّبِيلِ، وقد ذَكَرْناه في الزَّكاةِ.

1447 - مسألة: (ثم يعطى النفل بعد ذلك)

ثُمَّ يُعْطِى النَّفَلَ بَعْدَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُعْطَى كلُّ واحدٍ منهم قَدْرَ ما يَصِلُ به إلى بَلَدِه، كما ذَكَرْنا في الزَّكاةِ. فإنِ اجْتَمَعَ في واحدٍ أسْبابٌ، كالمِسْكِينِ واليَتِيمِ وابنِ السَّبِيلِ، اسْتَحَقَّ بكلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّها أسْبابٌ لأحْكامٍ، فوَجَبَ أن تَثْبُتَ أحْكامُها، كما لو انْفَرَدَتْ. فإن أعْطاه ليُتْمِه، فزالَ فَقْرُه، لم يُعْطَ لفَقْرِه شيئًا. فصل: ولا حَقَّ في الخُمْسِ لكافِرٍ؛ لأنَّه عَطيَّةٌ مِن اللَّهِ تعالى، فلم يكُنْ لكافِرٍ فيه حَقٌ، كالزَّكاةِ، ولا لعَبْدٍ؛ لأنَّ ما يُعْطاه لسَيِّدِه، فكانتِ العَطِيَّةُ لسَيِّدِه دُونَه. 1447 - مسألة: (ثم يُعْطِى النَّفَلَ بعدَ ذلك) لأنَّه حَقٌّ يَنْفَرِدُ به بعض الغانِمِين، فقُدِّمَ على القِسْمَةِ، كالأسْلابِ. والنَّفَلُ مِن أربعةِ

1448 - مسألة: (ويرضخ لمن لا يسهم له؛ وهم العبيد، والنساء، والصبيان)

وَيَرْضَخُ لِمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ؛ وَهُمُ الْعَبِيدُ، وَالنِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْماسِ الغَنِيمَةِ، وفيه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. 1448 - مسألة: (ويَرْضَخُ لمَن لا يسهْمَ له؛ وهم العَبِيدُ، والنِّساءُ، والصِّبْيانُ) ومعنى الرَّضْخِ، أن يُعْطَوْا شيئًا مِن الغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ، ولا تَقْدِيرَ لِما يُعْطَوْنَه، بل ذلك إلى اجْتِهادِ الإِمام، فإن رَأَى التَّسْوِيَةَ بينَهم سَوَّى، وإِن رَأَى التَّفْضِيلَ فَضَّلَ. وهذا قولُ أكثَرِ العُلماءِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، وإسْحاقُ، والشافعىُّ. وبه قال مالكٌ، في المرأةِ والعَبْدِ، ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ. وقال أبو ثَوْرٍ: يُسْهَمُ للعَبْدِ. ورُوِىَ عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ؛ لِما رُوِى عن الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ، أنَّه شَهِدَ فَتْحَ القادِسِيَّةِ عَبِيدٌ، فضَرَبَ لهم سِهامَهم. ولأنَّ حُرْمَةَ العَبْدِ في الدِّينِ كحُرْمَةِ الحُرِّ، وفيه مِن الغَناءِ مثلُ ما فيه، فوَجَبَ أنْ يُسْهَمَ له، كالحُرِّ. وحُكِىَ عن الأوْزَاعِىِّ: ليسَ للعَبِيدِ سَهْمٌ ولا رَضْخٌ، إلَّا أن يَجِيئُوا بغَنِيمَةٍ، أو يكُونَ لهم غَناء، فيُرْضَخُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم. قال: ويُسْهَمُ للمرأةِ، لِما روَى حَشْرَجُ (¬1) بنُ زيادٍ، عن جَدَّتِه، أنَّها حضَرَتْ فَتْحَ خَيْبَرَ، قالت: فأسْهَمَ لنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أسْهَمَ للرِّجالِ (¬2). وأسْهَمَ أبو موسى في غَزْوَةِ تُسْتَرَ (¬3) لنِسْوَةٍ معه (¬4). وقال أبو بكرِ بنُ أبى مَرْيَمَ: أُسْهِمَ للنِّساءِ يومَ اليَرْمُوكِ. وروَى سعيدٌ (¬5)، بإسْنادِه عن [ابنِ شِبْلٍ] (¬6)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَرَب لسَهْلَةَ بنتِ عاصمٍ يومَ حُنَيْنٍ، فقال رجلٌ مِن القومِ: أُعْطِيَتْ سَهْلَةُ مثلَ سَهْمِى. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: كان رسولُ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَغْزُو بالنِّساءِ، فيُداوِينَ الجَرْحَى، ويُحْذَيْنَ مِن الغَنِيمَةِ، وأمَّا سَهْمٌ، فلم يَضْرِبْ لَهُنَّ. رَواه مسلمٌ (¬7). ¬

(¬1) في م: «جبير». وفى الأصل: «جبر». والتصويب من مصادر التخريج. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 120. (¬3) تستر: أعظم مدينة بخوزستان. معجم البلدان 1/ 847. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الغزو بالنساء، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 527. ولم يذكر أنه أسهم لهن. وأخرجه قبل هذا، في: باب في النساء والصبيان هل لهم من الغنيمة شئ؟ من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 409. ولم يذكر فيه تستر. (¬5) في: باب ما جاء في سهمان النساء، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 283. (¬6) في سنن سعيد: «شبل». (¬7) في: باب النساء الغازيات يرضخ لهن. . .، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1444. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 68. والترمذى، في: باب من يعطى الفئ، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 46. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى سعيدٌ (¬1)، عن يَزِيدَ بنِ هُرْمُزَ (¬2)، أنَّ نَجْدَةَ كَتَب إلى ابنِ عباسٍ، يسْألُه عن المرأةِ والمَمْلوكِ يحْضُران الفَتْحَ، ألَهُما مِن الغَنِيمَةِ شئٌ؟ [قال: يُحْذَيان، وليس لهما شئٌ] (¬3). وفى رِوايَةٍ: ليس لهما سَهْمٌ، وقد يُرْضَخُ لهما. وعن عُمَيْرٍ مَوْلَى آبى (¬4) اللَّحْمِ، قال: شَهِدْتُ خيْبَرَ مع سادَتِى، فكَلَّمُوا فىَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأُخْبِرَ أنِّى مَمْلُوكٌ، فأمَرَ لى بشئٍ مِن خُرْثِىِّ المتاعِ. رَواه أبو داودَ (¬5). واحْتَجَّ به أحمدُ. ولأنَّهما ليسا مِن أهْلِ وُجُوبِ القِتالِ، أشْبَها الصَّبِىَّ. فأمَّا ما رُوِى في سِهامِ النِّساءِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ الرَّاوِىَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بدَلِيلِ أنَّ في حديثِ حَشْرَجٍ، أنَّه جَعَل لَهُنِّ نَصِيبًا تَمْرًا. ولو كان سَهْمًا، ما اخْتَصَّ التَّمْرَ، ولأنَّ خيْبَرَ قُسِمَتْ على أهْلِ الحُدَيْبِيَةِ، نَفَرٍ مخصُوصِينَ في غيرِ حَدِيثِها، ولم يُذْكَرْنَ منهم. ويَحْتَمِلُ أنَّه أسْهَمَ لَهُنَّ مثلَ سَهْمِ الرِّجالِ ¬

(¬1) في: باب العبد والمرأة يحضران الفتح، من كتاب الجهاد. سنن سعيد 2/ 283. (¬2) في النسخ: «هارون». والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) سقط من النسخ. والمثبت من سنن سعيد. (¬4) في م: «أبى». وانظر: أسد الغابة 1/ 45. (¬5) في: باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 68. كما أخرجه الترمذى، في: باب هل يسهم للعبد؟، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 47. وابن ماجه، في: باب العبيد والنساء يشهدون مع المسلمين، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 952.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن التَّمْرِ خاصَّةً، أو مِن المتاعِ دُونَ الأرْضِ. وأمَّا حَدِيثُ سَهْلَةَ، فإنَّ في الحديثِ أنَّها وَلَدَتْ، فأعْطاها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لها ولوَلَدِها، فبَلَغَ رَضْخُهما سَهْمَ رَجُلٍ، ولذلك عَجِبَ الرجلُ [الذى قال] (¬1): أُعْطِيَتْ سَهْلَةُ مثلَ سَهْمِى. ولو كان هذا مَشْهُورًا مِن فِعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما عَجِبَ منه. فصل: والمُدَبَّرُ والمُكاتَبُ، كالقِنِّ؛ لأنَّهم عَبِيدٌ. فمَن عَتَق منهم قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ أُسْهِمَ له. وكذلك إن قُتِل سَيِّدُ المُدَبَّرِ قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ، فخَرَجَ مِن الثُّلُثِ. فأمَّا مَن بعضُه حُرٌّ، فقال أبو بكرٍ: يُرْضَخُ له بقَدْرِ ما فيه مِن الرِّقِّ، ويُسْهَمُ له بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ، فإذا كان نِصْفُه حُرًّا، أُعْطِىَ نِصْفَ سَهْمٍ، ونِصْفَ رَضْخٍ؛ لأنَّ هذا ممّا يُمْكِنُ تَبْعِيضُه، فقُسِمَ على قَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ والرِّقِّ، كالمِيراثِ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه يُرْضَخُ له؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ وُجُوبِ القِتالِ، فأشْبَهَ الرَّقِيقَ. فصل: والخُنْثَى المُشْكِلُ يُرْضَخُ له؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ أنَّه رجلٌ فيُسْهَمَ له، ولأنَّه ليس مِن أهلِ وُجُوبِ الجِهادِ، فأشْبَهَ المرْأةَ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ له نِصْفُ سَهْمٍ ونِصْفُ الرَّضْخِ، كالمِيراثِ. فإنِ انْكَشَفَ حالُه، فتَبَيَّنَ أنَّه رجلٌ، أُتِمَّ له سَهْمُ رَجُلٍ، سواءٌ انْكَشَفَ قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ أو بعدَه، أو قبلَ القِسْمَةِ أو بعدَها؛ لأنّا تَبَيَّنَا أنَّه كان مُسْتَحِقًّا للسَّهْمِ، وأنَّه أُعْطِىَ ¬

(¬1) في م: «فقال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ حَقِّه، فأشْبَهَ ما لو أُعْطِىَ بعضُ الرجالِ دُونَ حَقِّه غَلَطًا. فصل: والصَّبِى يُرْضَخُ له. وبه قال الثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وعن القاسِمِ، في الصَّبِىِّ [يُغْزَى به] (¬1)، ليس له شئٌ. وقال مالكٌ: يُسْهَمُ له إذا قاتَلَ وأطاق ذلك ومثلُه قد بَلَغ القِتالَ؛ لأنَّه حُرٌّ ذَكَرٌ مُقاتِلٌ، فيُسْهَمُ له، كالرجلِ. وقال الأوْزَاعِىُّ: يُسْهَمُ له. وقال: أسْهَمَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- للصِّبْيانِ بخيْبَرَ (¬2)، وأسْهَمَ أئِمَّةُ المُسْلِمِين لكلِّ مَوْلُودٍ وُلِدَ في أرْضِ الحَرْبِ. وروَى الجُوزْجانِىُّ، بإسْنادِه عن الوَضِينِ بنِ عَطاءٍ، قال: حدَّثَتْنِى جَدَّتِى، قالتْ: كُنْتُ مع حَبِيبِ بنِ مَسْلَمَةَ (¬3)، وكان يُسْهِمُ لأمَّهاتِ الأوْلادِ، لِما في بُطُونِهِنَّ. ولَنا، ما رُوى عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: كان الصِّبْيانُ والعبيدُ يُحْذَونَ مِن الغَنِيمَةِ إذا حَضَرُوا الغَزْوَ، في صَدْرِ هذه الأمَّةِ. وروَى الجُوزْجانِىُّ، بإسْنادِه، أنَّ تَمِيمَ بنَ فِرَعٍ (¬4) المَهْرِىَّ، كان في الجَيْشِ الذى فَتَح الإِسْكَنْدَرِيَّةَ في المَرَّةِ الأخِيرَةِ، قال: فلم يَقْسِمْ لى عمرٌو مِن الفَىْءٍ شيئًا، وقال: غُلامٌ لم يَحْتَلِمْ. حتى كادَ يكونُ بينَ قَوْمِى وبينَ أُناسٍ مِن قريشٍ لذلك ثائِرَةٌ، فقال بعضُ القومِ: فيكم أُناسٌ مِن أصحابِ رسولِ ¬

(¬1) في م: «يغزو أنه». (¬2) انظر ما تقدم من حديث سهلة. (¬3) في م: «سلمة». (¬4) في م: «قرع». وانظر ما تقدم في صفحة 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاسْأَلُوهم. فسأَلُوا أبا بَصْرَةَ (¬1) الغِفارِىَّ، وعُقْبَةَ بنَ عامرٍ، فقالوا: انْظُرُوا؛ فإن كان قد أشْعَرَ، فاقْسِمُوا له. فنَظَرَ إلىَّ بعضُ القَوْمِ، فإذا أنا قد أنْبَتُّ، فقَسَمَ لى. قال الجُوزْجانِىُّ: هذا مِن مَشاهِيرِ حديثِ مصرَ وجَيِّدِه. ولأنَّه ليس مِن أهْلِ القِتالِ، فلم يُسْهَمْ له، كالعَبْدِ، ولم يَثْبُتْ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم لِصَبىٍّ، بل كان لا يُجِيزُهم في القِتالِ، قال ابنُ عُمَرَ: عُرِضْتُ على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا ابنُ أربعَ عَشَرَةَ، فلم يُجِزْنِى في القِتالِ، وعُرِضْتُ عليه وأنا ابنُ خمْسَ عَشْرَةَ، فأَجازَنِى (¬2). وما ذَكَرُوه يَحْتَمِلُ أنَّ الرَّاوِىَ سَمَّى الرَّضْخَ سَهْمًا، بدليلِ ما ذَكَرْناه. فصل: فإنِ انْفَرَدَ بالغَنِيمَةِ مَن لا يُسْهَمُ له، مثل عَبِيدٍ دَخَلُوا دارَ الحَرْبِ فغَنِمُوا، أو صِبْيانٍ، أو عَبِيدٍ وصِبْيانٍ، أُخِذَ خُمْسُه، وما بَقِىَ لهم. فيَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ بينَهم؛ للفارِسِ ثلاثةُ أسْهُمٍ، وللرّاجِلَ سَهْمٌ؛ لأنَّهم تساوَوْا، فأشْبَهُوا الرِّجالَ الأحْرارَ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ بينَهم على ما يَراهُ الإِمامُ مِن المُفاضَلَةِ؛ لأنَّه لا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بينَهم مع غيرِهم، فلا تَجِبُ مع الانْفِرادِ، قياسًا لإِحْدَى الحالَتَيْن على الأُخْرَى. وإن كان فيهم رَجُلٌ حُرٌّ، أُعْطِىَ سَهْمًا، وفُضِّلَ عليهم، بقَدْرِ ما يُفَضَّلُ الأحْرارُ على العَبِيدِ والصِّبْيانِ في غيرِ هذا الموضِعِ، ويُقْسَمُ الباقِى بينَ مَن بَقِىَ على ما يَراه الإِمامُ مِن التَّفْضِيلِ؛ لأنَّ فيهم مَن له سَهْمٌ، بخِلافِ التى قبلَها. ¬

(¬1) في م: «نضرة». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9.

1449 - مسألة: (وفى الكافر روايتان؛ إحداهما، يرضخ له. والأخرى، يسهم له)

وَفِى الْكَافِرِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا يَرْضَخُ لَهُ، وَالأُخْرَى، يُسْهِمُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1449 - مسألة: (وفِى الكافِرِ رِوايَتانِ؛ إحْداهما، يَرْضَخُ له. والأُخْرَى، يُسْهِمُ له) اختلفتِ الرِّوايَةُ في الكافِرِ يَغْزُو مع الإِمامِ بإذْنِه، فرُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه يُسْهَمُ له كالمُسْلِمِ. وبهذا قال الزُّهْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ. قال الجُوزجانِىُّ: هذا قولُ أهْلِ الثُّغُورِ، وأهْلِ العِلْمِ بالصَّوَائِفِ والبُعُوثِ. وعن أحمدَ: لا يُسْهَمُ له. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه مِن غيرِ أهْلِ الجِهادِ، فلم يُسْهَمْ له، ولكنْ يُرْضَخُ له، كالعَبْدِ. ولَنا، ما روَى الزُّهْرِىُّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَعانَ بناسٍ مِن اليَهُودِ في حَرْبِه، فأسْهَمَ لهم. رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬1). ورُوِىَ أنَّ صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ خَرَج مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حُنَيْنٍ، وهو على شِرْكِه، فأسْهَمَ له، وأعْطاهُ مِن سَهْمِ المُؤَلَّفَةِ (¬2). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 123. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 232. وانظر ما تقدم في صفحة 123.

1450 - مسألة: (ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل، ولا

وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلرَّاجِلِ سَهْمَ رَاجِلٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الكُفْرَ نَقْصٌ في الدِّينِ، فلم يَمْنَعِ اسْتِحْقاقَ السَّهْمِ، كالفِسْقِ، وبهذا فارَقَ العَبْدَ؛ فإنَّ نَقْصَه في دُنْياه وأحْكامِه. وإن غَزَا بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، فلا سَهْمَ له؛ لأنَّه غيرُ مَأْمُونٍ على الدِّينِ، فهو كالمُرْجِفِ، وشَرٌّ منه. وإن غَزَا جماعَةٌ مِن الكُفّارِ وحدَهم فغَنِمُوا، احْتَمَلَ أن تَكُونَ غَنِيمَتُهم لهم، لا خُمْسَ فيها؛ لأنَّ هذا اكْتِسابٌ مُباحٌ، لم يُوجَدْ على وَجْهِ الجِهادِ، فكان لهم، لا خُمْسَ فيه، كالاحْتِشاشِ والاحْتِطابِ. ويَحْتَمِلُ أن يُؤْخَذَ خُمْسُه، والباقِى لهم؛ لأنَّه غَنِيمَةُ قومٍ مِن أهْلِ دارِ الإِسْلامِ، فأشْبَهَتْ غَنِيمَةَ المسلمين. 1450 - مسألة: (ولا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لِلرّاجِلِ سَهْمَ راجِلٍ، ولا

1451 - مسألة: (فإن تغيرت حالهم قبل تقضى الحرب، أسهم لهم)

وَلَا لِلْفَارِسِ سَهْمَ فَارِسٍ. فَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهُمْ قَبْلَ تَقَضِّى الْحَرْبِ، أُسْهِمَ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لِلفارِسِ سَهْمَ فارِسٍ) كما لا يَبْلُغُ بالتَّعْزِيرِ الحَدَّ، ولا بالحُكُومَةِ دِيَةَ العُضْوِ. ويَقْسِمُ الإِمامُ بينَ أهْلِ الرَّضْخِ كما يَرَى؛ فيُفَضِّلُ العَبْدَ المُقاتِلَ وذا البأْسِ على مَن ليس مثلَه، ويُفَضِّلُ المرأةَ المُقاتِلَةَ، والتى تَسْقِى الماءَ وتُداوِى الجَرْحَى وتَنْفَعُ على غيرِها. فإن قِيلَ: هلَّا سَوَّيْتُم بينَهم، كما سَوَّيْتُم بينَ أهْلِ السُّهْمانِ؟ قُلْنا: السَّهْمُ منْصُوصٌ عليه غيرُ مَوْكُولٍ إلى الاجْتِهادِ، فلم يَخْتَلِفْ، كالحَدِّ، ودِيَةِ الحُرِّ، والرَّضْخُ غيرُ مُقَدَّرٍ، بل هو مُجْتَهَدٌ فيه، مَرْدُودٌ إلى اجْتِهادِ الإِمامِ، فاخْتَلَفَ، كالتَّعْزِيرِ، وقِيمَةِ العَبْدِ. والرَّضْخُ بعدَ الخُمْسِ في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه مِن أصْلِ الغَنِيمَةِ. وقد ذَكَرْناه. 1451 - مسألة: (فإن تَغَيَّرَتْ حالُهم قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ، أُسْهِمَ لهم) يَعْنِى إن بَلَغ الصَّبِىُّ، أو عَتَق العَبْدُ، أو أسْلَمَ الكافِرُ، أُسْهِمَ لهم؛

1452 - مسألة: (وإن غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس، ورضخ للعبد)

وَإِنْ غَزَا الْعَبْدُ عَلَى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ، قُسِمَ لِلْفَرَسِ، وَرُضِخَ لِلْعَبْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّهم شَهِدُوا الوَقْعَةَ وهم مِن أهْلِ القِتالِ، فأُسْهِمَ لهم، كغيرِهم، ولقولِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ (¬1). 1452 - مسألة: (وإن غَزا العَبْدُ على فَرَسٍ لِسَيِّدِه، قُسِمَ للفَرَسِ، ورُضِخَ لِلْعَبْدِ) أمّا الرَّضْخُ للعَبْدِ، فلِما تَقَدَّمَ. وأمّا الفَرَسُ الذى تَحْتَه، فيَسْتَحِقُّ مالِكُها سَهْمَها. فإن كان معه فَرَسان أو أكثرُ، أُسْهِمَ لفَرَسَيْن، كما لو كانَتا مع السَّيِّدِ. ويُرْضَخُ للعَبْدِ. نَصَّ على هذا أحمدُ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ: لا يُسْهَمُ للفَرَسِ؛ لأنَّه تحتَ مَن لا يُسْهَمُ له، فلم يُسْهَمْ له، كما لو كان تحتَ مُخَذِّلٍ. ولَنا، أنَّه فَرَسٌ حَضَر الوَقْعَةَ، وقُوتِلَ عليه، فأُسْهِمَ له، كما لو كان السَّيِّدُ راكِبَه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْمَ الفَرَسِ ورَضْخَ العَبْدِ لسَيِّدِه؛ لأنَّه مالِكُه ومالكُ فَرَسِه، وسواءٌ حَضَر السَّيِّدُ القِتالَ أو غابَ عنه. وفارَقَ فَرَسَ المُخَذِّلِ؛ لأنَّ الفَرَسَ له، فإذا لم يَسْتَحِقَّ شيئًا بحُضُورِه، فلَأن لا يسْتَحِقَّ بحُضورِ فرَسِه أوْلَى. فصل: فإن غزا الصَّبِىُّ على فَرَسٍ، أو المرأةُ أو الكافِرُ -إذا قُلْنا: لا يُسْهَمُ له- لم يُسْهَمْ للفَرَسِ، في ظاهِرِ قولِ أصحابِنا؛ لأنَّهم قالوا: لا يَبْلُغُ بالرَّضْخِ للفَرَسِ سَهْمَ فارِسٍ. وظاهِرُ هذا أنَّه يُرْضَخُ له ولفَرَسِه، ما لم يَبْلُغْ سَهْمَ الفارِسِ، ولأنَّ سَهْمَ الفَرَسِ له، فإذا لم يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بحُضورِه، فبِفَرَسِه أوْلَى، بخِلافِ العَبْدِ، فإنَّ الفَرَسَ لغيرِه. فصل: وإن غَزا المُخَذِّلُ أو المُرْجِفُ على فرسٍ، فلا شئَ له ولا للفَرَسِ؛ لِما ذَكَرْنا. وإن غَزا العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، لم يُرْضَخْ له؛ لأنَّه عاصٍ بغَزْوِه، فهو كالمُخَذِّلِ والمُرْجِفِ. وإن غَزا الرجلُ بغيرِ إذْنِ والِدَيْه، أو بغيرِ إذْنِ غَرِيمِه، اسْتَحَقَّ السَّهْمَ؛ لأنَّ الجِهادَ تَعَيَّنَ عليه بحُضُورِ الصَّفِّ، فلا يَبْقَى عاصِيًا به، بخِلافِ العبدِ. فصل: ومَن اسْتَعارَ فَرَسًا ليَغْزُوَ عليه، ففَعَلَ (¬1)، فسَهْمُ الفَرَسِ للمُسْتَعِيرِ. وبهذا قال الشافعىُّ؛ لأنَّه مُتَمَكِّنٌ مِن الغَزْوِ عليه بإذْنٍ صَحِيحٍ شَرْعِىٍّ، أشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَه. وعن أحمدَ، أنَّ سَهْمَ الفَرَسِ لمالِكِه؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن نَمائِه، فأشْبَهَ وَلَدَه. وبهذا قال بعضُ الحَنَفِيَّةِ. وقال بعضُهِم: لا سَهْمَ للفَرسِ، لأنَّ مالِكَه لم يَسْتَحِقَّ سَهْمًا، فلم يَسْتَحِقَّ الفَرَسُ شيئًا، كالمُخَذِّلِ والمُرْجِفِ. والأوَّلُ أصَحُّ، لأنَّه فَرَسٌ قاتَلَ عليه مَن يَسْتَحِقُّ سَهْمًا، وهو مالكُ نَفْعِه، فاسْتَحَقَّ يسهْمَ الفَرَسِ، كالمُسْتَأْجِرِ، ولأنَّ سَهْمَ الفَرَسِ مُسْتَحَقٌّ بمَنْفَعَتِه، وهى للمُسْتَعِيرِ بإذْنِ المالِكِ فيها، وفارَقَ النَّماءَ، فإنَّه غيرُ مَأْذُونٍ فيه. فأمَّا إنِ اسْتعارَه لغيرِ الغَزْوِ، ثم غَزا عليه، فهو كالفَرَسِ المَغْصوبِ، على ما سَنَذْكُرُه، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: فإنِ اسْتَأْجَرَ فَرَسًا للغَزْوِ، فَغَزا عليه، فَسَهْمُ الفَرَسِ له. لا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لأنَّه مُسْتَحِقٌّ لنَفْعِه اسْتِحْقاقًا لازِمًا، أشْبَهَ المالِكَ. وإن كان المُسْتَأْجِرُ والمُسْتَعِيرُ ممَّن لا سَهْمَ له، إمَّا لكَوْنِه لا شئَ له، كالمُخَذِّلِ والمُرْجِفِ، أو ممَّن يُرْضَخُ له، كالصَّبِىِّ، فحُكْمُه حُكْمُ فَرَسِه، على ما ذَكَرْنا. وإن غَزا على فَرَسٍ حَبِيسٍ، فسَهْمُ الفَرَسِ له، كما لو اسْتَأْجَرَه. فصل: يَنْبَغِى أن يُقَدِّمَ قَسْمَ أرْبَعةِ الأخْماسِ على قَسْمِ الخُمْسِ؛ لأنَّ أهْلَها حاضِرُون، وأهلَ الخُمْسِ غائِبونَ، ولأنَّ رُجُوعَ الغانِمِين إلى أوْطانِهم يَقِفُ على قِسْمَةِ الغَنِيمَةِ، وأهْلُ الخُصْرِ في أوْطانِهم، ولأنَّ الغَنِيمَةَ حَصَلَتْ بتَحْصِيلِ الغانِمِين وتَعَبهم، وأهْلُ الخُمْسِ بخلافِ ذلك، فكان الغانِمُون أوْلَى بالتَّقْدِيمِ، ولأنَّ الغَنِيمَةَ إذا قُسِمَتْ بينَ الغانِمِين، أخَذَ كلُّ واحِدٍ نَصِيبَه، فكَفَى الإِمامَ هَمَّه ومُؤْنَتَه، بخِلافِ الخُمْسِ؛

1453 - مسألة: (ثم يقسم باقى الغنيمة؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له، وسهمان لفرسه)

ثُمَّ يَقْسِمُ بَاقِىَ الْغَنِيمَةِ؛ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإِنَّ الإِمامَ لا يَكْتَفِى مُؤْنَتَه بقَسْمِه، فلا تحْصُلُ الفائِدَةُ به، ولأنَّ الخُمْسَ لا يُمْكِنُ قَسْمُه بينَ أهْلِه كلِّهم؛ لأنَّه يُحْتاجُ إلى مَعْرِفَتِهم وعَدَدِهم، ولا يُمْكِنُ ذلك مع غَيْبَتِهم، ولأنَّ الغانِمِين ينْتَفِعُونَ بسِهامِهم، ويتَمَكَّنُون مِن التَّصَرُّفِ فيها. واللَّهُ تعالى أعلمُ. 1453 - مسألة: (ثم يَقْسِمُ باقِىَ الغَنِيمَةِ؛ للرّاجِلِ سَهْمٌ، وللفارِسِ ثَلاثةُ أسْهُمٍ؛ سَهمٌ له، وسَهْمان لِفَرَسِه) أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ للغانِمِين أرْبعةَ أخْماسِ الغَنِيمَةِ، وقد دَلَّ النَّصُّ على ذلك بقولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). يُفْهَمُ منه أنَّ أربعةَ أخْماسِها الباقِيَةَ لهم؛ لأنَّه أضافَها إليهم، ثم أخَذَ منها سَهْمًا لغيرِهم، فبَقِىَ سائِرُها لهم، كقولِه تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬2). فَفُهِمَ منه أنَّ الباقِىَ للأبِ. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِد الوَقْعَةَ. فصل: ويَقْسِمُ بينَهم، للرّاجِلِ (¬3) سَهْمٌ، وللفارِسِ ثَلاثةُ أسْهُمٍ؛ ¬

(¬1) سورة الأنفال 41. (¬2) سورة النساء 11. (¬3) في م: «للرجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْمٌ له، وسَهْمان لفَرَسِه. هذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، أنَّ الغَنِيمَةَ تُقْسَمُ للفارِسِ ثلاثةُ أسْهُمٍ؛ له سَهْمٌ، ولفَرَسِه سَهْمان، وللرّاجِلِ سَهْمٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا مَذْهَبُ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، وحَبِيبِ بنِ أبى ثابِتٍ، وعَوامِّ عُلماءِ الإِسلامِ في القَدِيم والحديثِ؛ منهم مالكٌ، ومَن تَبِعَه مِن أهْلِ المدينَةِ، والثَّوْرِىُّ ومَن وافَقَه مِن أهْلِ العِراقِ، واللَّيْثُ ومَن تَبِعَه مِن أهْلِ مصرَ، والشافعىُّ، وأحمدُ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: للفَرَسِ سَهْمٌ واحِدٌ؛ لِما روَى مُجَمِّعُ بنُ جارِيةَ (¬1)، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَمَ خَيْبَرَ على أهْلِ الحُدَيْبِيَةِ فأعْطىَ الفارِسَ سَهْمَيْن، وأعْطىَ الرّاجِلَ سَهْمًا. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه حيوانٌ ذو سَهْمٍ، فلم يَزِدْ على سَهْمٍ، كالآدَمِىِّ. ولَنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أسْهَمَ يومَ خيْبَرَ للفارسِ ثلاثَةَ أسْهُمٍ؛ سَهْمان لفَرَسِه، وسَهْمٌ له. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن أبى رُهْمٍ، وأخِيه، أنَّهما كانا فارِسَيْن يومَ خَيْبَرَ، فأُعْطِيا سِتَّةَ أسْهُمٍ؛ ¬

(¬1) في م: «حارثة». (¬2) في: باب من أسهم له سهما، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 69، 70. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب سهام الفرس، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 37. ومسلم، في: باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1383. كما أخرجه أبو داود، في: باب في سهمان الخيل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 69. والترمذى، في: باب في سهم الخيل، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 43. وابن ماجه، في: باب قسمة الغنائم، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 952. والدارمى، في: باب في سهمان الخيل، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 225، 226. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 2، 62، 72، 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أربعةَ أسْهُمٍ لفَرَسَيْهما، وسَهْمَيْن لهما. رَواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى الفارِسَ ثلاثةَ أسْهُمٍ، وأعْطَى الرّاجِلَ سَهْمًا (¬2). وقال خالدٌ الحَذّاءُ (¬3): لا يُخْتَلَفُ فيه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه أسْهَمَ هكذا؛ للفَرَسِ سَهْمَيْن، ولصاحِبِه سَهْمًا، وللرّاجِلِ سَهْمًا. وكَتَب عُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ إلى عبدِ الحميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ: أمّا بعدُ؛ فإنَّ سُهْمانَ الخيلِ ممّا (¬4) فَرَض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَيْن للفَرَسِ، وسَهْمًا للرّاجِلِ، ولعَمْرِى لقد كان حدِيثًا ما أشْعُرُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين هَمَّ بانْتِقاصِ ذلك، [فمَن هَمَّ بانْتِقاصِ ذلك] (¬5) فعاقِبْه (¬6)، والسلامُ عليك. رَواهما سعيدٌ، والأثْرَمُ (¬7). وهذا يَدُلُّ على ثُبُوتِ سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا، وأنَّه اجْمِعَ عليه، فلا يُعَوَّلُ على ما خالَفَه. فأمّا حديثُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في سهام الخيل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 278. كما أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في سهم الراجل والفارس، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 326. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الفارس كم يقسم له؟ من قال: ثلاثة أسهم، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 379. (¬3) خالد بن مهران الحذاء البصرى الحافظ، من كبار التابعين، وقد رأى أنسا، لم يحذ نعلا قط، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يجلس على دكان حذاء، توفى سنة اثنتين وأربعين ومائة. اللباب 1/ 286، العبر 1/ 192، 193. (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: م. (¬6) سقط من: النسخ. والمثبت من سنن سعيد. (¬7) حديث خالد الحذاء لم نجده في سنن سعيد، وأخرجه الدارقطنى، في: كتاب السير. سنن الدارقطنى 4/ 107. وأخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في سهم الفارس والراجل، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 327. وحديث عمر بن عبد العزيز، أخرجه سعيد، في: باب ما جاء في سهام الرجال والخيل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 277، 278.

1454 - مسألة: (إلا أن يكون فرسه هجينا أو برذونا؛ فيكون له سهم. وعنه، له سهمان، كالعربى)

إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ هَجِينًا أَوْ بِرْذَوْنًا؛ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمٌ. وَعَنْهُ، لَهُ سَهْمَانِ، كَالْعَرَبِىِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُجَمِّعٍ، فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ: أعْطَى الفارِسَ سَهْمَيْن لفَرَسِه، وأعْطَى الرّاجِلَ سَهْمًا، يعنى صاحِبَه، فيَكُونُ ثلاثةَ أسْهُمٍ، على أنَّ حديثَ ابنِ عُمَرَ أصَحُّ منه، وقد وافَقَه حديثُ أبى رُهْمٍ، وأخيه، وابنِ عباسٍ، وهؤلاء أحْفَظُ وأعْلَمُ، وابنُ عُمَرَ، وأبو رُهْمٍ، وأخُوه ممَّن شَهِدُوا وأخَذُوا السُّهْمانَ، وأخْبَرُوا عن أنْفُسِهم، فلا يُعارَضُ ذلك بخَبَرٍ شاذٍّ تَعَيَّنَ غَلَطُه، أو حَمْلُه على ما ذَكَرْنا، وقِياسُ الفَرَسِ على الآدَمِىِّ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ أثَرَها في الحَرْبِ أكثرُ، وكُلْفَتَها أعْظَمُ، فيَنْبَغِى أن يَكُونَ سَهْمُها أكثرَ. 1454 - مسألة: (إلَّا أن يَكُونَ فَرَسُه هَجِينًا أوْ بِرْذَوْنًا؛ فيَكُونُ له سَهْمٌ. وعنه، له سَهْمان، كالعَرَبِىِّ) الهَجِينُ: الذى أبُوه عرَبىٌّ وأُمُّه بِرْذَوْنَةٌ. والمُقْرِفُ (¬1) بالعَكْسِ. قالتْ هندُ بنتُ النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ (¬2): وما هِنْدُ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ … سَلِيلَةُ أفْراسٍ تَجَلَّلَها بَغْلُ فإنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فبالحَرَى … وإنْ يَكُ إقْرافٌ فما أنْجَبَ الفَحْلُ ¬

(¬1) في م: «العربى». (¬2) البيتان في: أدب الكاتب، لابن قتيبة 35، 36، والأغانى 16/ 54، وعزاهما لحميدة أخت هند. واللسان (هـ ج ن). والأول في: اللسان والتاج (س ل ل). وعجز الثانى في: اللسان (ق ر ف).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد حُكِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: الهَجِينُ: البِرْذَوْنُ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عنه في سُهْمانِها، فقال الخَلَّالُ: تواتَرَتِ الرِّواياتُ عن أبى عبدِ اللَّه فِى سِهامِ البِرْذَوْنِ، أنَّه سَهْمٌ واحِدٌ. واخْتارَه أبو بكرٍ، والخِرَقِىُّ. وهو قولُ الحسنِ. قال الخَلَّالُ: وروَى عنه ثلاثةٌ مُتَيَقِّظُون (¬1) أنَّه يُسْهَمُ للِبرْذَوْنِ سَهْمُ العَرَبِىِّ. اخْتارَه الخَلَّالُ. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالكٌ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} (¬2). وهذه مِن الخَيْلِ. ولأنَّ الرُّواةَ رَوَوْا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أسْهَمَ للفَرسِ سَهْمَيْن، ولصاحِبِه سَهْمًا. وهذا عامٌّ في كُلِّ فَرَس، ولأنَّه حيوانٌ ذو سَهْمٍ، فاسْتَوَى فيه العَرَبِىُّ وغيرُه، كالآدَمِىِّ. وحَكَى أبو بكرٍ عن أحمدَ رِوايَةً ثالثةً، أنَّ البَراذِينَ إن أدْرَكَتْ إدْراكَ العِرابِ، أُسْهِمَ لها مثلُ (¬3) سَهْمِ العَرَبِىِّ، وإلَّا فلا. وهذا قولُ ابنِ أبى شَيْبَةَ، وابنِ أبى خَيْثَمَةَ، وأبى أيُّوبَ، والجُوزْجانِىِّ؛ لأنَّها مِن الخَيْلِ، وقد عَمِلَتْ عَمَلَ العِرابِ، فأُعْطِيَتْ سَهْمًا، كالعَرَبِىِّ. وحَكَى القاضِى رِوايَةً رابعةً، أنَّها ¬

(¬1) في م: «منقطعون». (¬2) سورة النحل 8. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا سَهْمَ لها. وهو قولُ مالكِ بنِ عبدِ اللَّهِ الخَثْعَمِىِّ (¬1)؛ لأنَّه حيوانٌ لا يَعْمَلُ عَمَل الخَيْلِ العِرابِ، فأشْبَهَ البِغالَ. ويَحْتَمِلُ أن تكُونَ هذه الرِّوايَةُ فيما لا يُقارِبُ العِتاقَ منها؛ لِما روَى الجُوزْجانِىُّ، بإسْنادِه، عن أبى موسى، أنَّه كَتَب إلى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ: إنَّا وجَدْنا بالعِراقِ خَيْلًا عِراضًا (¬2) دُكْنًا، فما تَرَى يا أميرَ المؤمنين في سُهْمانِها؟ فكَتَب إليه: تِلْكَ البَراذِينُ، فما قارَبَ العِتاقَ منها، فاجْعَلْ له سَهْمًا واحدًا، وألْغِ ما سِوَى ذلك (¬3). ووَجْهُ الأُولَى، ما روَى سعيدٌ (¬4)، بإسْنادِه عن أبى الأقْمَرِ، قال: أغارَتِ الخَيْلُ على الشّامِ، فأدْرَكَتِ العِرابُ مِن يَوْمِها، وأدْرَكَتِ الكَوادِنُ (¬5) ضُحَى الغَدِ، وعلى الخَيْلِ رجلٌ مِن هَمْدانَ، يُقالُ له: ¬

(¬1) مالك بن عبد اللَّه الخثعمى، الذى يقال له: مالك الصوائف، وهو من أهل فلسطين، كان يغزو بلاد الروم، فيغنم غنائم كثيرة. انظر الكامل 3/ 515، 5/ 576. (¬2) في م: «عرابا». (¬3) وأخرج عبد الرزاق نحوه، في: باب السهام للخيل، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 187. (¬4) في: باب ما جاء في تفضيل الخيل على البراذين، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 280. كما أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في سهم البراذين. . .، من كتاب قسم الفئ والغنيمة، وفى: باب تفضيل الخيل، من كتاب السير. السنن الكبرى 6/ 328، 9/ 51. وعبد الرزاق، في: باب السهام للخيل، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 183، 184. وفى مصادر التخريج هذه: «بن أبى حمصة». والصواب ما أثبتناه. انظر: الإصابة 6/ 314. (¬5) الكوادن: البراذين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرُ بنُ أبى حُمَيْضَةَ، فقال: لا أجْعَلُ الذى أدْرَكَ مِن يومِه مثلَ الذى لم يُدْرِكْ. ففَضَّلَ الخيْلَ العِرابَ. فقال عُمَرُ: هَبِلَتِ الوادِعِىَّ أُمُّه، أمْضُوها على ما قال. ولم يُعْرَفْ عن الصحابةِ خلافُ هذا القوْلِ. وروَى مَكْحُولٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَى الفَرَسَ العَرَبِىَّ سَهْمَيْن، وأعْطىَ الهَجِينَ سَهْمًا. رَواه سعيدٌ (¬1). ولأنَّ نَفْعَ العَرَبِىِّ وأثرَه في الحَرْبِ أكثرُ، فيَكُونُ يسهْمُه أرْجَحُ، كتفاضُلِ مَن يُرْضَخُ له. وأمّا قولُهم: إنَّه مِن الخَيْلِ. قُلْنا: الخَيْلُ في أنْفُسِها تتَفاضَلُ، فتَتَفاضَلُ سِهامُها. وقوْلُهم: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم للفَرَسِ سَهْمَيْن، مِن غيرِ تَفْريقٍ. قُلْنا: هذه قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، لا عُمُومَ لها، فيَحْتَمِلُ أنَّه لم يَكُنْ فيها بِرْذَوْنٌ، وهو الظاهِرُ، فإنَّها مِن خَيْلِ العَرَبِ، ولا بَراذِينَ فيها، ويَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك، أنَّهم لمّا وَجَدُوا البَراذِينَ في العراقِ، أشْكَلَ عليهم أمْرُها، وأنَّ عُمَرَ فَرَض لها سَهْمًا واحِدًا، وأمْضَى ما قال المُنْذِرُ بنُ أبى حُمَيْضَةَ في تَفْضِيلِ العِرابِ عليها، ولو خالَفَه [لم يَسْكُتِ] (¬2) الصحابَةُ عن إنْكارِه عليه، سيَّما وابنُه هو راوِى الخَبَرِ، فكيف يَخْفَى عليه ذلك! ويَحْتَمِلُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في سهام الرجال والخيل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 279. (¬2) في م: «لما سكت».

1455 - مسألة: (ولا يسهم لأكثر من فرسين)

وَلَا يُسْهَمُ لأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه فَضَّلَ العِرابَ، فلم يَذْكُرِ الرّاوِى ذلك؛ لغَلَبَةِ العِرابِ، وقِلَّةِ البَراذِينِ، وقد دَلَّ على ذلك التَّأوِيلِ خبرُ مَكْحُولٍ الذى رَوَيْناه، وقِياسُها على الآدَمِىِّ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ العَرَبِىَّ منهم لا أثَرَ له في الحَرْبِ زِيادَةً على غيرِه، بخِلافِ العَرَبِىِّ مِن الخَيْلِ، فإنَّه يُفَضَّلُ على غيرِه. واللَّهُ أَعْلمُ. فصل: ويُعطَى الرّاجِلُ سَهْمًا. بغيرِ خِلافٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأخْبارِ، ولأنَّ الرّاجِلَ لا يَحْتاجُ إلى ما يَحْتاجُ إليه الفارِسُ مِن النَّفَقَةِ، ولا يُغْنِى كغَنائِه، فاقْتَضَى أن يَنْقُصَ سَهْمُه عن سَهْمِه، وسواءٌ كانتِ الغَنِيمَةُ مِن فَتْحِ مَدِينةٍ، أو [مِن جَيْشٍ] (¬1). وبه قال الشافعىُّ. وقال الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ: سألتُ الأوْزَاعِىَّ عن إسْهامِ الخَيْلِ مِن غنائِمِ الحُصُونِ، فقال: كانتِ الوُلاةُ قبلَ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ لا يُسْهِمُون للخَيْلِ مِن الحُصُونِ، ويَجْعَلُون النّاسَ كلَّهم رَجّالةً، حتى وَلِىَ عُمَرُ، فأنْكَرَ ذلك، وأمَرَ بإسْهامِ الخَيْلِ مِن الحُصُونِ والمَدائنِ. ووجْهُهُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم غنائِمَ خيْبَرَ، ففَضَّلَ الفارِسَ، وهى حُصونٌ، ولأنَّ الخَيْلَ رُبَّما احْتِيجَ إليها إن خَرَج أهْلُ الحِصْنِ، ويَلْزَمُ صاحِبَه مُؤْنَةٌ له، فأشْبَهَ الغَنِيمَةَ مِن غيرِ الحِصْنِ. 1455 - مسألة: (ولا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِن فَرَسَيْن) يَعْنِى إذا كان ¬

(¬1) في م: «حصن».

1456 - مسألة: (ولا يسهم لغير الخيل. وقال الخرقى: من غزا على بعير لا يقدر على غيره، قسم له ولبعيره سهمان)

وَلَا يُسْهَمُ لِغَيْرِ الْخَيْلِ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، قُسِمَ لَهُ وَلِبَعِيرِهِ سَهْمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مع الرجلِ خيلٌ، أُسْهِمَ لفَرَسَيْن أربعةُ أسْهُمٍ، ولصاحِبِهما سَهْمٌ، ولم يُزَدْ على ذلك. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِن فَرَسٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ أن يُقاتِلَ على أكْثَرَ منها، فلم يُسْهَمْ لِما زادَ عليها، كالزّائِدِ على الفَرَسَيْن. ولَنا، ما روَى الأوْزَاعِىُّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسْهِمُ للخَيْلِ، وكان لا يُسْهِمُ للرَّجُلِ فوقَ فرَسَيْن، وإن كانتْ معه عَشَرَةُ أفْرَاسٍ. وعن أزْهَرَ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنَّ عُمَرَ ابنَ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب إلى أبى عُبَيْدَةَ بنِ الجَرّاحِ، أن يُسْهِمَ للفَرَسِ سهْمَيْن، وللفَرَسَيْن أرْبَعَةَ أسْهُمٍ، ولصاحِبِها سَهْمًا، فذلك خَمْسَةُ أسْهُمٍ، وما كان فوقَ الفَرَسَيْن فهى جنائِبُ. رَواهما سعيدٌ (¬1). ولأنَّ به إلى الثَّانِى حاجَةً، فإنَّ إدامَةَ رُكوبِ واحدٍ تُضْعِفُه، وتَمْنَعُ القِتالَ عليه، فيُسْهَمُ له، كالأوَّلِ، بخِلافِ الثالثِ، فإنَّه مُسْتَغْنًى عنه. 1456 - مسألة: (ولا يُسْهَمُ لغيرِ الخَيْلِ. وقال الخِرَقِىُّ: مَن غَزا على بَعِيرٍ لا يَقْدِرُ على غيرِه، قُسِمَ له ولِبَعِيرِه سَهْمانِ) أمَّا ما عدا الخَيْلَ ¬

(¬1) في: باب من قال: لا سهم لأكثر من فرسين، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 281.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِبِلَ، مِن البِغالِ والحَمِيرِ والفِيَلَةِ وغيرِها، فلا سَهْمَ لها، وإن عَظُمَ غَناؤُها وقامَتْ مَقامَ الخَيْلِ. ذَكَر القاضِى أنَّ الفِيَلَةَ حُكْمُها حُكْمُ الهَجِينِ، لها سَهْمٌ. ذَكَره في «الأحْكام السُّلْطانِيَّةِ» (¬1). والأوَّلُ أوْلَى، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُسْهِمْ لها، ولا أحَدٌ مِن خُلَفائِه، ولأنَّها ممّا لا تَجُوزُ المُسابَقَةُ عليه بعِوَضٍ، فلم يُسْهَمْ لها، كالبَقَرِ. وأمّا الإِبِلُ، فقد رُوِى عن أحمدَ، أنَّه يُسْهَمُ للبَعِيرِ سَهْمٌ. ولم يَشْتَرِطْ عَجْزَ صاحِبهِ عن غيرِه. وحُكِىَ نحوُ هذا عن الحسنِ، لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (¬2). ولأنَّه حَيوانٌ (¬3) تَجُوزُ المُسابَقَة عليه بعِوَضٍ، فيُسْهَمُ له، كالفَرَسِ. يُحَقِّقُه أنَّ تجْوِيزَ المُسابَقَةِ ¬

(¬1) صفحة 151. (¬2) سورة الحشر 6. (¬3) في م: «خيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضٍ إنَّما أُبِيحَ في ثلَاثةِ أشْياءَ دُونَ غيرِها؛ لأنَّها آلاتُ الجِهادِ، فأُبِيحَ أخْذُ الرَّهْنِ في المُسابَقَةِ بها؛ تَحْرِيضًا على رِياضَتِها (¬1)، وتَعَلُّمِ الإِتْقانِ فيها. ورُوِىَ عن أحمدَ مثلُ ما ذَكَر الخِرَقِىُّ. وظاهِرُ ذلك، أن لا يُسْهَمَ للبعيرِ مع إمْكانِ الغَزْوِ على فَرَسٍ. إذا ثَبَت ذلك، فلا يُزادُ على سَهْمِ البِرْذَوْنِ؛ لأنَّه دُونَه، ولا يُسْهَمُ له إلَّا أن يَشْهَدَ الوَقْعَةَ عليه، ويكُونَ ممّا يُمْكِنُ القِتالُ عليه، فأمّا هذه الإِبِلُ الثَّقِيلَةُ التى لا تَصْلُحُ إلَّا للحَمْلِ، فلا تَسْتَحِقُّ شيئًا؛ لأنَّ راكِبَها لا يَكِرُّ ولا يَفِرُّ، فهو أدْنَى حالًا مِن الرّاجِلِ. ¬

(¬1) في م: «رباطها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه لا سَهْمَ له. وهو قولُ الأكْثَرِين. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، أنَّ مَن غَزا على بَعيرٍ، فله سَهْمُ راجِلٍ. كذلك قال الحسنُ، ومَكْحُولٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللَّه تعالى؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُنْقَلْ عنه أنَّه أسْهَمَ لغيرِ الخَيْلِ مِن البَهائِمِ، وقد كان معه يومَ بَدْرٍ سَبْعونَ بَعِيرًا، ولم تَخْلُ غَزْوَةٌ مِن غَزَواتِه مِن الإِبِلِ، بل هى كانتْ غالِبَ دَوابِّهم، فلم يُنْقَلْ أنَّه أسْهَمَ لها، ولو أسْهَمَ لها لَنُقِلَ، وكذلك مَن بعدَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن خُلَفائِه وغيرِهم، مع كَثْرَةِ غَزَواتِهمِ، لم يُنْقَلْ عن أحَدٍ منهم فيما عَلِمْناه أنَّه أسْهَمَ لبعيرٍ، ولو أسْهَمَ لم يَخْف ذلك، ولأنَّه يُمَكِّنُ صاحِبَه الكَرَّ والفَرَّ، فلم يُسْهَمْ له، كالبَغْلِ.

1457 - مسألة: (ومن دخل دار الحرب راجلا، ثم ملك فرسا، أو استعاره، أو استأجره، فشهد به الوقعة، فله سهم فارس. ومن دخل فارسا، فنفق فرسه، أو شرد حتى تقضى الحرب، فله سهم راجل)

وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا، ثُمَّ مَلَكَ فرَسًا، أَوِ اسْتَعَارَهُ، أَوِ اسْتَأْجَرَهُ، وَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ، فَلَهُ يسهْمُ فَارِسٍ. وَإِنْ دَخَلَ فَارِسًا، فَنَفَقَ فَرَسُهُ، أَوْ شَرَدَ حَتَّى تَقَضِّى الْحَرْبِ، فَلَهُ يسهْمُ رَاجِلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1457 - مسألة: (ومَن دَخَل دارَ الحَرْبِ راجِلًا، ثم مَلَك فَرَسًا، أو اسْتَعارَه، أو اسْتَأْجَرَه، فشَهِدَ به الوَقْعَةَ، فله سَهْمُ فارِسٍ. ومَن دَخَل فارِسًا، فنَفَقَ فَرَسُه، أو شَرَد حتى تَقَضِّى الحَرْب، فله سَهْمُ راجِلٍ) قال أحمدُ: أنا (¬1) أرَى أنَّ كلَّ مَن شَهِدَ الوَقْعَةَ على أَىِّ حالة كان يُعْطَى؛ إن كان فارِسًا ففارِسٌ، ؤإن كان راجِلًا فراجِلٌ، لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ (¬2). وبهذا قال الأوْزَاعِىُّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وإسْحاقُ. ونحوَه قال ابنُ عُمَرَ. وقال أبو حنيفةَ: الاعْتِبارُ بدُخُولِ دارِ الحَرْبِ، فإن دَخَل فارِسًا فله سَهْمُ فارِسٍ، وإن نَفَق فرَسُه قبلَ القِتالِ، وإن دَخَل رَاجِلًا فله سَهْمُ الرّاجلِ (¬1)، وإنِ اسْتَفادَ فَرَسًا فقاتَلَ عليه. وعنه رِوايةٌ أُخْرَى كقولِنا. قال أَحمدُ: كان سليمانُ ابنُ موسى يَعْرِضُهم إذا أدْرَبُوا (¬2)، الفارِسُ فارِسٌ، والرّاجِلُ راجلٌ؛ لأنَّه دَخَل في الحَرْبِ بنِيَّةِ القِتالِ، فلا يَتَغَيَّرُ سَهْمُه بذَهابِ دابَّتِه، أو حُصولِ ¬

(¬1) في م: «الرجال». (¬2) في م: «أدركوا». وأدربوا: جاوزوا الدرب إلى العدو.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دابَّةٍ له، كما لو كان بعدَ القِتالِ. وقال الخِرَقِىُّ: الاعْتِبارُ بحال إحْرازِ الغَنِيمَةِ، فإن أُحْرِزَتِ الغَنِيمَةُ وهو راجِلٌ، فله سَهْمُ راجلٍ، وإن أُحْرِزَتْ وهو فارِسٌ، فله سَهْمُ فارسٍ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بحِيازَةِ الغَنِيمَةِ الاسْتِيلاءَ عليها، فيكُونُ كما ذَكَرْنا. ويَحْتَمِلُ أن يكُونَ أراد جَمْعَ الغَنِيمَةِ وضَمَّها وإحْرازَها، وقد ذَكَرْنا فيما إذا لَحِقَ مدَدٌ أو هَرَب أسِيرٌ بعدَ تَقَضِّى الحَرْبِ، وقبلَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ، هل يُسْهَمُ له منها؟ على وَجْهَيْن، فيُخَرَّجُ ههُنا مثلُ ذلك. واللَّهُ أعلمُ. ولَنا، أنَّ الفَرَسَ حيوانٌ يُسْهَمُ له، فاعْتُبِرَ وُجُودُهُ حالَةَ القِتالِ، فيُسْهَمُ له مع (¬1) الوُجُودِ فيه، ولا يُسْهَمُ له مع العَدَمِ، كالآدَمِىِّ. والأصْلُ في هذا أنَّ حالةَ اسْتِحْقاقِ السَّهْمِ حالَ تَقَضِّى الحَرْبِ، بدَليلِ قولِ عُمَرَ: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِد الوَقْعَةَ. ولأنَّها الحالُ التى يَحْصُلُ فيها الاسْتِيلاءُ الذى هو سَبَبُ المِلْكِ، بخِلافِ ما قبلَ ذلك، فإنَّ الأمْوالَ في أيْدِى أصحابِها، فلا نَدْرِى هل يُظْفَرُ بهم أو لا؟ ولأنَّه لو ماتَ ¬

(¬1) في الأصل: «موضع».

1458 - مسألة: (ومن غصب فرسا فقاتل عليه، فسهم الفرس لمالكه)

وَمَنْ غَصَبَ فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضُ المُسْلِمِين قبلَ الاسْتِيلاءِ، لم يَسْتَحِقَّ شيئًا، ولو وُجِدَ مَدَدٌ في تلك الحالِ، اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ، فدَلَّ على أنَّ الاعْتِبارَ بحالَةِ الاسْتِيلاءِ، فوَجَبَ اعْتِبارُه دُونَ غيرِه. 1458 - مسألة: (ومَن غَصَب فَرَسًا فقاتَلَ عليه، فسَهْمُ الفَرَسِ لِمالِكِه) نَصَّ عليه أحمدُ. وقال بعضُ الحَنَفِيَّةِ: لا سَهْمَ للفَرَسِ. وهو وَجْهٌ لأصحابِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: سَهْمُ الفَرَسِ للغاصِبِ، وعليه أُجْرَتُه لمالِكِه؛ لأنَّه آلةٌ، فكان الحاصِلُ بها لمُسْتَعْمِلِها، كما لو غَصَبَ مِنْجَلًا فاحْتَشَّ بها، أو سَيْفًا فقاتَلَ به. ولَنا، أنَّه فَرَسٌ قاتَلَ عليه مَن يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، فاسْتَحَقَّ السَّهْمَ، كما لو كان مع صاحِبِه، وإذا ثَبَت أنَّ له سَهْمًا، كان لمالِكِه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل للفَرَسِ سَهْمَيْن، ولصاحِبِه سَهْمًا، وما كان للفَرَسِ كان لصاحِبِه، وفارَقَ ما يَحْتَشُّ به، فإنَّه لا شئَ له، ولأنَّ السَّهْمَ مُسْتَحَقٌّ بِنَفْعِ الفَرَسِ، ونَفْعُه لمالِكِه، فوَجَبَ أن يكُونَ ما يَسْتَحِقُّ به له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن [كان] (¬1) الغاصِبُ ممَّن لا سَهْمَ له؛ إمّا لكَوْنِه لا شئَ له، كالمُخَذِّلِ، أو مِمَّن يُرْضَخُ له، كالصَّبِىِّ، احْتَمَلَ أن يكُونَ حُكْمُ فرَسِه حُكْمَه، على ما ذَكَرْنا؛ لأنَّ الفَرَسَ تَتْبَعُ الفارِسَ في حُكْمِه، فتَتْبَعُه إذا كان مَغْصُوبًا، قياسًا على فرَسِه. واحْتَمَلَ أن يكُونَ سَهْمُ الفَرَسِ لمالِكِه؛ لأنَّ الجِنايَةَ مِن راكِبه، والنَّقْصَ فيه، فيُخَصُّ المَنْعُ به، وبما هو تابعٌ له، وفَرَسُه تابِعَةٌ له؛ لأَنَّ ما كان لها فهو له، والفَرسُ ههُنا لغيرِه، ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق.

1459 - مسألة: (وإذا قال الإمام: من أخذ شيئا فهو له. أو فضل بعض الغانمين على بعض، لم يجز، فى إحدى الروايتين، ويجوز فى الأخرى)

وَإذَا قَالَ الإِمَامُ: مَنْ أخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. أوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، لَمْ يَجُزْ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن، وَيَجُوزُ فِى الْأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَهْمُها لمالِكِها، فلا يَنْقُصُ سَهْمُها بنَقْصِ سَهْمِه، كما لو قاتَلَ العَبْدُ على فرَسٍ لسَيِّدِه. ولو قاتَلَ العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه علىِ فَرَسٍ لسَيِّدِه، خُرِّجَ فيه الاحْتِمالان اللَّذان ذَكَرْناهُما فيما إذا غَصَب فرَسًا فقاتَلَ عليه؛ لأنَّه ههُنا بمَنْزِلَةِ المغْصُوبِ. 1459 - مسألة: (وإذا قال الإِمامُ: مَن أخَذَ شيئًا فهو له. أو فَضَّلَ بعضَ الغانِمِينَ على بعضٍ، لم يَجُزْ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن، ويَجُوزُ في الأُخرَى) إذا قال الإِمامُ: مَن أخَذَ شيئًا فهو له. جازَ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وبه قال أبو حنيفةَ. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. قال أحمدُ -في السَّرِيَّةِ تَخْرُجُ فيقولُ الوالِى: مَن جاءَ بشئٍ فهو له، ومَن لم يجِئْ بشئٍ فلا شئَ له-: الأنْفالُ إلى الإِمامِ، ما فَعَل مِن شئٍ جازَ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال في يومِ بَدْرٍ: «مَنْ أخَذَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ» (¬1). ولأنَّهم على هذا غَزَوْا ورَضُوا به. والثانيةُ، لا يَجُوزُ. وهو القولُ الثَّانِى للشافعىِّ؛ ¬

(¬1) نقله البيهقى عن الإِمام الشافعى. انظر: باب الوجه الثالث من النفل، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 315.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقْسِمُ الغنائِمَ والخُلَفَاءُ بعدَه، ولأنَّ ذلك يُفْضِى إلى اشْتِغالِهم بالنَّهْبِ عن القِتالِ، وظَفَرِ العَدُوِّ بهم، فلا يَجُوزُ، ولأنَّ الاغْتِنامَ سَببٌ لاسْتِحْقاقِهم لها على سَبِيلِ التَّساوِى، فلا يَزُولُ ذلك بقولِ الإِمامِ، كسائِرِ الاكْتِسابِ. فأمّا قَضِيَّةُ بَدْرٍ، فإنَّها مَنْسُوخَةٌ، فإنَّهم اخْتَلَفُوا فيها، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) الآية. ¬

(¬1) سورة الأنفال 1.

1460 - مسألة: (ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد

وَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلْجِهَادِ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا تَفْضِيلُ بعضِ الغانِمِين على بعضٍ، فإن كان على سَبيلِ النَّفَلِ لبعضِهم زِيادَةً على سَهْمِه، فقد ذَكَرْناه في الأنْفالِ، فأمَّا غيرُ ذلك، فلا يَجُوزُ، لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم للفارِسِ ثلاثَةَ أسْهُمٍ، وللرّاجِلِ سَهْمًا، وسَوَّى بينَهم. ولأنَّهم اشْتَرَكُوا في الغَنِيمَةِ على سبيلِ التَّسْوِيَةِ، فتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بينَهم، كسائِرِ الشُّرَكاءِ، ولأنَّه يُفْضِى إلى إيقاعِ العَداوَةِ بينَهم، وإفْسادِ قُلُوبِهم. 1460 - مسألة: (ومَن اسْتُؤْجِرَ للجِهادِ ممَّن لا يَلْزَمُه مِن العَبِيدِ

فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الأُجْرَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والكُفّارِ، فليس له إلَّا الأُجْرَةُ) إذا اسْتَأْجَرَ الإِمامُ قَوْمًا يغْزُون مع المسلمين، لم يُسْهِمْ لهم، وأُعْطُوا ما اسْتُؤْجِرُوا به. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ جماعةٍ، فقال، في رِوايَةِ عبدِ اللَّهِ، وحَنْبَل، في الإِمامِ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بهم في بلادِ العَدُوِّ: لايُسْهِمُ لهم، ويُوفِى لهم بما اسْتُؤْجِرُوا عليه. وقال القاضِى: هذا مَحْمُولٌ على اسْتِئْجارِ مَن لا يَجِبُ عليه الجِهادُ، كالعَبِيدِ والكُفّارِ. أمّا الرِّجالُ المسلمون الأحْرارُ، فلا يَصِحُّ اسْتِئْجارُهم على الجِهادِ؛ لأنَّ الغَزْوَ يتَعَيَّنُ بحُضُورِه على مَن كان مِن أهْلِه، فإذا تَعَيَّنَ عليه الفَرْضُ، لم يَجُزْ أن يَفْعَلَه عنه غيرُه، كمَن عليه حِجَّةُ الإِسْلامِ، لا يَجُوزُ أن يَحُجَّ عنه غيرُه. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. قال شيْخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كلامُ أحمدَ على ظاهِرِه، في صِحَّةِ الاسْتِئْجارِ على الغَزْوِ لمَن لم يَتَعَيَّنْ عليه. وهو ظاهِرُ ما ذَكَرَه الخِرَقِىُّ؛ لِما روَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 164. (¬2) في: باب الرخصة في أخذ الجعائل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 16. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 2/ 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «لِلْغَازِى أجْرُهُ، ولِلْجَاعِلِ أجْرُهُ وَأجْرُ الغَازِى». وروَى سعيدُ ابنُ منصورٍ (¬1)، عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِى ويَأْخُذُونَ الْجُعْلَ، وَيَتَقَوَّوْنَ بهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، مَثَلُ أُمِّ مُوسَى، تُرْضِعُ وَلَدَها، وتَأْخُذُ أجْرَهَا». ولأنَّه أمْر لا يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكُونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فصَحَّ الاسْتِئْجارُ عليه، كبِناءِ المساجِدِ، أو لم يتَعَيَّنْ عليه الجهادُ، فصَحَّ أن يُؤْجِرَ نَفْسَه عليه، كالعَبْدِ. ويُفارِق الحَجَّ، حيثُ إنَّه ليس (¬2) بفرْضِ عَيْنٍ، وإنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه، وفى المَنْعِ مِن أخْذِ الجُعْلِ عليه تَعْطيلٌ له، ومَنْعٌ له ممّا للمسلمين فيه نَفْعٌ، وبهم إليه حاجَة، فيَنْبَغِى أن يجوزَ، بخِلافِ الحَجِّ. إذا ثَبَت هذا، فإن قُلْنا بالأوَّلِ، فالإِجارَةُ فاسِدَةٌ، وعليه رَدُّ الأُجْرَةِ، وله سَهْمُه؛ لأنَّ غَزْوَه بغيرِ أُجْرَةٍ. وإن قُلْنا بصِحَّةِ الإِجارَةِ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، والخِرَقِىِّ، أنَّه لا يُسْهَمُ له؛ لِما روَى أبو داودَ (¬3)، بإسْنادِه، عن يَعْلَى بنِ مُنْيَةَ (¬4)، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الرجل يغزو بالجعل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 141. كما أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في كراهية أخذ الجعائل، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 27. (¬2) في م: «ليست». (¬3) في: باب الرجل يغزو بأجر الخدمة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 16. والبيهقى، في: باب من استأجر إنسانا للخدمة في الغزو، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 29. (¬4) في م: «منير». والمثبت من مصادر التخريج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أذَّنَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالغَزْوِ وأنا شيْخٌ كبيرٌ ليس لى خادِمٌ، فالْتَمَسْتُ أجِيرًا يَكْفِينى، وأُجْرِىَ له سَهْمَه، فوَجَدْتُ رَجُلًا، فلما دَنا الرَّحِيلُ، قال: ما أدْرِى ما السُّهْمانُ؟ وما يَبْلُغُ سَهْمِى؟ فَسَمِّ لى شيئًا كان السَّهْمُ أو لم يَكُنْ. فسَمَّيْتُ له ثلاثةَ دنانيرَ، فلمّا حضَرَتْ غَنِيمَةٌ أرَدْتُ أن أُجْرِىَ له سَهْمَه، فذَكَرْتُ الدَّنانيرَ، فجِئْتُ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذَكَرْتُ له أمْرَه، فقال: «مَا أجِدُ لَهُ فِى غَزْوَتِه هذِهِ فِى الدُّنْيَا والآخِرَةِ إلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِى سَمَّى». ولأنَّ غَزْوَه بعِوَضٍ، فكأنَّه واقِعٌ مِن غيرِه، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا. ويَحْتَمِلُ أن يُسْهَمَ له. وهو اخْتيارُ الخَلَّالِ. قال: وروَى جماعةٌ عن أحمدَ، أنَّ للأجِيرِ السَّهْمَ إذا قاتَلَ. وروَى عنه جماعةٌ، أنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ القتالَ، فله السَّهْمُ إذا قاتَلَ. قال: وهذا أعْتَمِدُ عليه مِن قَوْلِ أبى عبدِ اللَّهِ. ووَجْهُه ما تَقَدَّمَ مِن حديثِ عبدِ اللَّه بِنِ عمرٍو، وحَدِيثِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، وقولِ عمرَ: الغَنِيمَةُ لمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ. ولأنَّه حَضَر الوَقْعَةَ وهو مِن أهْلِ القِتالِ، فيُسْهَمُ له، كغيرِ الأجيرِ. فأمّا الذين يُعْطَوْن مِن (¬1) حَقِّهم مِن الفَىْءِ، فلهم سِهامُهم، لأنَّ ذلك حَقٌّ جَعَلَه اللَّهُ لهم ليَغْزُوا، [لا أنَّه] (¬2) عِوَضٌ عن جِهادِهِم، بل نَفْعُ جهادِهم لهم لا لغيرِهم. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك مَن يُعْطَى مِن الصَّدَقاتِ للغَزْوِ، فإنَّهم يُعْطَوْن مَعُونَةً لهم، لا عِوَضًا، وكذلك إذا دَفَع دافِعٌ إلى الغُزاةِ ما يَتَقَوَّوْنَ به، ويَسْتَعِينُونَ به، كان له فيه الثَّوابُ، ولم يكُنْ عِوَضًا، فقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِهِ» (¬1). فصل: فأمّا الأجِيرُ للخِدْمَةِ في الغَزْوِ، والذى يَكْرِى دابَّةً له ويَخْرُجُ معها ويَشْهَدُ الوَقْعَةَ، فعن أحمدَ فيه رِوايتان؛ إحداهما، لا سَهْمَ له. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ، وإسْحاقَ، قالا: المُسْتَأجَرُ على خِدْمَةِ القوْمِ لا سَهْمَ له؛ لحديثِ يَعْلَى بنِ مُنْيَةَ. والثانيةُ، يُسْهَمُ له إذا شَهِدَ القِتالَ مع المسلمين. وهو قولُ مالكٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وبه قال اللَّيْثُ إذا قاتَلَ، وإنِ اشْتَغَلَ بالخِدْمَةِ فلا سَهْمَ له. واحْتَجَّ ابنُ المُنْذِرِ بحَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فضل من جهز غازيا. . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 32، 33. ومسلم، في: باب فضل إعانة الغازى في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1507. وأبو داود، في: باب ما يجزئ من الغزو، ص كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 11. والترمذى، في: باب ما جاء في فضل من جهز غازيا، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 127. والنسائى، في: باب فضل من جهز غازيا، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 38. وابن ماجه، في: باب من جهز غازيا، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 921، 922. والدارمى، في: باب في فضل من جهز غازيا، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 209. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 20، 53، 4/ 115، 116، 117، 5/ 192، 193.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه كان أجِيرًا لطَلْحَةَ حينَ أدْرَكَ عبدَ الرحمنِ بنَ عُيَيْنَةَ، حينَ أغارَ على سَرْحِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعْطاه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَ الفارِسِ والرّاجِلِ (¬1). وقال القاضِى: يُسْهَمُ له إذا كان مع المُجاهِدِين وقَصَد الجِهادَ، فأمّا لغيرِ ذلك فلا. وقال الثَّوْرِىُّ: يُسْهَمُ له إذا قاتَلَ، ويُرْفَعُ عمَّن اسْتأْجَرَه نَفَقَةُ ما اشْتَغَلَ عنه. فصل: ومَن أجَرَ نَفْسَه بعدَ أن غنِمُوا على حِفْظِ الغَنِيمَةِ وحَمْلِها، وسَوقِ الدَّوابِّ ورَعْيِها، أُبِيحَ له أخْذُ الأُجْرَةِ على ذلك، ولم يَسْقُطْ مِن سَهْمِه شئٌ؛ لأنَّ ذلك مِن مُؤْنَةِ الغَنِيمَةِ، فهو كعَلَفِ الدَّوابِّ وطعامِ السَّبْى؛ يَجُوزُ للإِمامِ بَذْلُه، ويُباحُ للأجِيرِ أخْذُ الأُجْرَةِ عليه؛ لأنَّه أجَرَ نَفْسَه لفِعْلٍ بالمسلمين إليه حاجَةٌ، فحلَّتْ له الأُجْرَةُ، كالدِّلالَةِ على الطريقِ. ولا يَجُوزُ له أنْ يَرْكَبَ مِن دَوابِّ المَغْنَمِ؛ لقَوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دابَّةً مِن فَىْءِ المُسْلِمِين حَتَّى إذَا أعْجَفَهَا رَدَّهَا» (¬2). قال أحمدُ: لا بَأْسَ أن يُؤْجِرَ الرجلُ نَفْسَه على دابَّتِه. وكَرِهَ أن يَسْتَأْجِرَ القَوْمَ على سِياقِ الرَّمَكِ (¬3) على فَرَسٍ حَبيسٍ؛ لأنَّه يَسْتَعْمِلُ الفَرَسَ الموْقُوفَةَ للجهادِ فيما يخْتَصُّ نَفْعُه بنَفْسِه. فإن أجر نَفْسَه، فرَكِبَ الدَّابَّةَ الحَبِيسَ، أو دابَّةً مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 138. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 185. (¬3) الرمكة؛ محركة: الفرس والبرذونة تتخذ للنسل.

1461 - مسألة: (ومن مات بعد انقضاء الحرب، فسهمه

وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، فَسَهْمُهُ لِوَارِثِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَغْنَمِ، لم تَطِبْ له أُجْرَةٌ؛ لأنَّ المُعِينَ له على العَمَلِ يخْتَصُّ نَفْعَ نفْسِه، فلا يَجُوزُ أن يَسْتَعْمِلَ فيه دَوابَّ المَغْنَمِ، ولا دَوابَّ الحَبْسِ. ويَنْبَغِى أن يَلْزَمَه بقَدْرِ أُجْرَةِ الدَّابَّةِ، تُرَدُّ في الغَنِيمَةِ إن كانتْ مِن الغَنِيمَةِ، أو تُصْرَفُ في نَفَقَةِ دوابِّ الجَيْشِ إن كانتْ حَبِيسًا (¬1). فإن شَرَط في الإِجارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِن الحَبْسٍ، لم يَجُزْ؛ لأنَّها إنَّما حُبِسَتْ على الجِهادِ، وليس هذا بجهادٍ، وإنَّما هو نفْعٌ لأهْلِ الغَنِيمَةِ. وإن شَرَط رُكُوبَ دابَّةٍ مِن الغَنِيمَةِ، جازَ؛ لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ أُجْرَةٍ تُدْفَعُ إليه مِن المَغْنَمِ. ولو أجَرَ نَفْسَه بِدابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِن المَغْنَمِ، صَحَّ، فإذا جُعِلَتْ أُجْرَتُه رُكوبَها، كان أوْلَى. ويُشْتَرطُ أن يكُونَ العَمَلُ مَعْلُومًا، فإن كان مَجهُولًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ إجارَتِها كَوْنَ عِوَضِها معْلُومًا. 1461 - مسألة: (ومَن ماتَ بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، فسَهْمُه ¬

(¬1) في م: «جيشًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِوارِثِه) إذا ماتَ الغازِى أو قُتِلَ قبلَ حِيازَةِ الغَنِيمَةِ، فلا سَهْمَ له، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه مات قبلَ ثُبُوتِ مِلْكِ المسلمين عليها، وسواءٌ ماتَ حالَ القِتالِ أو قبلَه. وإن ماتَ بعدَ ذلك، فسَهْمُه لوَرَثَتِه؛ لأنَّه ماتَ بعدَ ثبوتِ مِلْكِه عليها، فكان سَهْمُه لوَرَثَتِه، كسائِرِ أمْوالِه. وإن ماتَ بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ وقبلَ حيازَةِ الغَنِيمَةِ، فقال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ: متى حَضَر القِتالَ أُسْهِمَ له، سواءٌ ماتَ قبلَ حِيازَةِ الغَنِيمَةِ أو بعدَها، وإن لم يَحْضُرْ فلا سَهْمَ له. ونحوَه قال مالكٌ، واللَّيْثُ. والذى ذَكَره شَيْخُنا في هذا الكتابِ، أنَّه إذا ماتَ بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، أنَّه يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، ويَقْتَضيه كلامُ القاضِى؛ لأنَّه قال في الأسيرِ يَهْرُبُ بعدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ، وقبلَ حِيازَةِ الغَنِيمَةِ: لا يَسْتَحِقُّ شيئًا. فدَلَّ على أنَّهمِ يَمْلِكُونَها بالاسْتِيلاءِ عليها ونَفْىِ الكُفّارِ عنها. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه إذا مات قبلَ حِيَازَتها، فقد

1462 - مسألة: (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم)

وَيُشَارِكُ الْجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَتْ، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ماتَ قبلَ ثُبُوتِ اليَدِ عليها، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو ماتَ قبلَ انْقِضاءِ الحَرْبِ. وقال أبو حنيفةَ: إن ماتَ قبلَ إحْرازِ الغَنِيمَةِ في دارِ الإِسلامِ، أو قَسْمِها في دارِ الحَرْبِ، فلا شئَ له؛ لأنَّ مِلْكَ المسلمين لا يَتِمُّ عليها إلَّا بذلك. وقال الأوْزَاعِىُّ: إن ماتَ بعدَ ما يُدْرِبُ فاصِلًا في سبيلِ اللَّهِ، قبلُ أو بعدُ، أُسْهِمَ له. ولَنا، على أبى حنيفةَ، أنَّه ماتَ بعدَ الاسْتِيلاءِ عليها في حالٍ لو قُسِمَتْ صَحَّتْ قِسْمَتُها، وكان له سَهْمُه منها، فيَجِبُ أن يَسْتَحِقَّ سَهْمَه فيها، كما لو ماتَ بعدَ إحْرَازِها في دارِ الإسلامِ. وعلى الأوْزاعِىِّ، أنَّه ماتَ قبلَ الاسْتِيلاءِ عليها، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو ماتَ قبلَ دُخولِ الدَّرْبِ، وإن أُسِرَ أو ماتَ أو قُتِلَ قبلَ تَقَضِّى الحَرْبِ، فلا شئَ له، بغيرِ خلافٍ في المَذْهَبِ؛ لأنَّه لم يَمْلِكْ شيئًا. واللَّهُ أعلمُ. 1462 - مسألة: (ويُشارِكُ الجَيْشُ سَراياه فِيما غَنِمَتْ، وَيُشارِكُونَه فِيما غَنِمَ) وجُمْلةُ ذلك، أنَّ الجَيْشَ إذا فَصَل غازِيًا، فخَرَجَتْ منه سَرِيَّةٌ أو أكثرُ، فأيُّهما غَنِمَ، شارَكَه الآخَرُ. في قولِ عامَّةِ العُلماءِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، واللَّيْثُ، وحَمَّادٌ،

1463 - مسألة: (وإذا قسمت الغنيمة فى أرض الحرب،

وَإِذَا قُسِمَتِ الْغَنِيمَةُ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال النَّخَعِىُّ: إن شاءَ الإِمامُ خَمَّسَ ما تَأْتِى به السَّرِيَّةُ، وإن شاءَ نَفَّلَهُم إيّاه كلَّه. ولَنا، ما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا غَزا هَوازِنَ، بَعَث سَرِيَّةً مِن الجَيْشِ قِبَلَ أوْطاسَ، فغَنِمَتِ السَّرِيَّةُ، فأشْرَكَ بينَها وبينَ الجَيْشِ (¬1). قال ابنُ المُنْذِرِ: رُوِّينا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وتَرُدُّ سَرايَاهُم عَلَى قَعَدَتِهم» (¬2). وفى تَنْفِيلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في البَدْأَةِ الرُّبْعَ، وفى الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ، دليلٌ على اشْتِراكِهم فيما سِوَى ذلك؛ لأنَّهم لو اخْتَصُّوا بما غَنِموه، لمَا كان ثُلُثُه نَفَلًا، ولأنَّهم جَيْشٌ واحِدٌ، وكل واحدٍ منهم رِدْءٌ لصاحِبِه، فيَشْتَرِكُون، كما لو غَنِمَ أحَدُ جانِبَى الجيشِ. وإن أقام الأميرُ ببَلَدِ الإِسلامِ، وبَعَث سَرِيَّةً أو جَيْشًا، فما غَنِمَتِ السَّرِيَّةُ فهو لها وَحْدَها؛ لأنَّه إنَّما يشْتَرِكُ المجاهِدُون، والمُقِيمُ في بَلَدِ الإِسلامِ ليس بمُجاهِدٍ. وإن نَفَّذَ مِن بَلَدِ الإِسلامِ جَيْشَيْن أو سَرِيَتيْن، فكلُّ واحِدَةٍ تَنْفَرِدُ بما غَنِمَتْه؛ لأنَّ كلَّ واحِدَةٍ منهما انْفَرَدَت بالغَزْوِ، فانْفَرَدَت بالغَنِيمَةِ، بخِلافِ ما إذا فَصَل الجَيْشُ، فدَخَل بجُمْلَتِه بلادَ الكُفارِ، فإنَّ جَمِيعَهم اشْتَرَكُوا في الجِهادِ، فاشْتَرَكُوا في الغَنِيمَةِ. 1463 - مسألة: (وإذا قُسِمَتِ الغَنِيمَةُ في أرْضِ الحَرْبِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب غزاة أوطاس، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 5/ 197. (¬2) في م: «قعدهم». والحديث أخرج نحوه أبو داود، في: باب في السرية ترد على أهل العسكر، من كتاب الجهاد، وفى: باب =

فَتَبَايَعُوهَا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهَا الْعَدُوُّ، فَهِىَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِى، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ، وَصَاحِبُهُ. وَالْأُخْرَى، مِنْ مَالِ الْبَائِعَ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِىُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَبايَعُوها، ثم غَلَب عليها العَدُوُّ، فهى مالُ المُشْتَرِى في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. اخْتارها الخَلَّالُ، وصاحِبُه. والأُخْرَى، مِن مالِ البائِع. اخْتارَها الخِرَقِىُّ) يَجوزُ للأميرِ البَيْعُ في الغَنِيمَةِ قبلَ القِسْمَةِ للغانِمِين ولغيرِهم، إذا رأى المَصلَحَةَ فيه؛ لأنَّ الوِلايةَ ثابِتَةٌ له عليها، وقد تَدْعُو الحاجَةُ إلى ذلك؛ لإِزالَةِ كُلْفةِ نَقْلِها، أو تَعَذُّر قِسْمَتِها بعَيْنِها، ويَجُوزُ لكلِّ واحِدٍ مِن الغانِمين بَيْعُ ما يَحْصُلُ له بعدَ القَسْمِ، والتصرُّفُ فيه كيفَ شاءَ؛ لأنَّ مِلْكَه ثابِتٌ فيه، فإن باع الأمِيرُ أو بعضُ الغانِمِين في دارِ الحَرْبِ شيئًا، فغَلَبَ عليه العَدُوُّ قبلَ إخْراجِه إلى دارِ الإِسْلامِ، فإن كان التَّفْرِيطُ مِن المُشْتَرِى، مثلَ أن خرَج به مِن العَسْكَرِ، ونحوِ ذلك، فضَمانُه عليه؛ لأنَّ ذَهابَه حَصَل بتَفرِيطِه، فكان مِن ضَمانِه، كما لو أتْلَفَه، وإن كان بغيرِ تَفرِيطِه، ففيه رِوايتان؛ إحداهُما ينْفَسِخُ البيعُ، ويُرَدُّ الثَّمَنُ إلى المُشْتَرِى مِن الغَنِيمَةِ إن باعَه الإِمامُ، أو مِن مالِ البائِعَ، وإن كان الثَّمَنُ لم يُؤْخَذْ مِن المُشْتَرِى، سَقَط عنه. وهى اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّ القَبْضَ لم يَكْمُلْ، ¬

_ = أيقاد المسلم بالكافر؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 73، 488. وانظر تخريج حديث: «المسلمون تتكافأ دماؤهم». الذى سيأتى في صفحة 342.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكَوْنِ المالِ في دارِ الحَرْبِ غيرَ مُحْرَزٍ، وكَوْنِه على خَطَرٍ مِن العَدُوِّ، فأشْبَهَ الثَّمرَ المَبِيعَ على رُءُوسِ النَّخْلِ إذا تَلِفَ قبلَ الجِدادِ. والثانيةُ، هو مِن ضَمانِ المُشْتَرِى، وعليه ثَمَنُه. وهذا أكْثَرُ الرِّواياتِ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ. واخْتارَه الخَلَّالُ، وصاحِبُه أبو بكرٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مالٌ مَقْبُوضٌ، أُبِيحَ لمُشَتَرِيه، فكان عليه ضَمانُه، كما لو أُحْرِزَ إلى دارِ الإِسلامِ، ولأنَّ أخْذَ العَدُوِّ له تَلَفٌ، فلم يَضْمَنْه البائِعُ، كسائِرِ أنْواعِ التَّلَفِ، ولأنَّ نَماءَه للمُشْتَرِى، فكان ضَمانُه عليه؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» (¬1). وإنِ اشْتَراه مُشْتَرٍ مِن المُشْتَرِى الأوُّلِ، وقُلْنا: هو مِن ضَمانِ البائِعِ. رَجَع البائِعُ الثَّانِى على البائِعِ الأوَّلِ، بما رَجَع به عليه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في من اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبا، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 254، 255. والترمذى، في: باب ما جاء في من يشترى العبد فيستغله ثم يجد به عيبا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 285، 286. والنسائى، في: باب الخراج بالضمان، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 223. وابن ماجه، في: باب الخراج بالضمان، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 754. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 49، 208، 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في الرجلِ يَشْتَرِى الجارِيَةَ مِن المَغْنَمِ، معها حَلْىٌ في عُنُقِها والثِّيابُ: يَرُدُّ ذلك في المَغْنَمِ، إلَّا شيئًا تَلْبَسُه، مِن قَمِيصٍ ومِقْنَعَةٍ وإزارٍ. وهذا قولُ حَكِيمِ بنِ حِزامٍ، ومَكْحُولٍ، ويَزِيدَ بنِ أبى مالِكٍ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. ويُشْبِهُ قولَ الشافعىِّ. واحْتَجَّ إسْحاقُ بقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ» (¬1). وقال الشَّعْبِىُّ: يَجْعَلُه في بَيْتِ المالِ. وكان مالكٌ يُرَخِّصُ في اليَسِيرِ، كالقُرْطَيْنِ وأشْباهِهما، ولا يَرُدُّ ذلك في الكثيرِ. قال شَيْخُنا (¬2): ويُمْكِنُ التَّفْصِيلُ في ذلك، فيقالُ: ما كان ظاهِرًا، يُشاهِدُه البائِعُ والمُشْتَرِى، كالقُرْطِ والخاتَمِ والقِلادَةِ، فهو للمُشْتَرِى؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ البائِعَ إنَّما باعَها بما عليها، والمُشْتَرِىَ اشْتَراها بذلك، فيَدْخُلُ في البَيْعِ، كثيابِ البِذْلَةِ وحِلْيَةِ السَّيْفِ، وما خَفِىَ، فلم يَعْلَمْ به البائعُ، رَدَّه؛ لأنَّ البَيْعَ وَقَع عليها بدُونِه، فلم يَدْخُلْ في البَيْعِ، كجارِيَةٍ أُخرَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 303. (¬2) في: المغنى 13/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: لا يَجُوزُ لأميرِ الجَيْشِ أن يَشْتَرِىَ مِن مَغْنَمِ المُسْلِمِين شيئًا؛ لأنَّه يُحابَى، ولأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، رَدَّ ما اشْتَراه ابنُه في غَزْوَةِ جَلُولاءَ، وقال: إنَّه يُحابَى (¬1). احْتَجَّ به أحمدُ. ولأنَّه هو البائِعُ أو وَكِيلُه، فكأنَّه يَشْتَرِى مِن نَفسِه أو مِن وَكِيلِه. قال أبو داودَ: قيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: إذا قَوَّمَ أصحابُ المَقاسِمِ (¬2) شيئًا مَعْرُوفًا، فقالُوا في جُلُودِ الماعِزِ (¬3): بكذا. وفى جُلُودِ الخِرفانِ: بكذا. ويَحْتاجُ إليه، يأْخُذُه بتلك القِيمَةِ، ولا يَأْتِى المَقاسِمَ (¬4)؛ فرَخَّصَ فيه؛ لأنَّه يَشُقُّ الاسْتِئْذانُ فيه، فسُومِحَ فيه، كما سُومِحَ في دُخُولِ الحَمّامِ، ورُكوبِ سَفِينَةِ المَلَّاحِ، مِن غيرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ. فصل: ومَن اشْتَرَى مِن المَغْنَمِ اثْنَيْن أو أكْثَرَ، أو حُسِبُوا عليه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في أمر القادسية وجلولاء، من كتاب التاريخ. المصنف 2/ 576، 577. (¬2) في م: «المغانم». (¬3) في النسخ: «المعاعز». وانظر المغنى 13/ 138. (¬4) في م: «المغانم».

1464 - مسألة: [ومن]

وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ أَوْ لِوَلَدِهِ، أُدِّبَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بنَصِيبِه، بناءً على أنَّهم أقارِبُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بينَهم، فبانَ أنَّه لا نَسَبَ بينَهم، رَدَّ الفَضْلَ الذى فيهم على المغْنَمِ؛ لأنَّ قِيمَتَهم تَزِيدُ بذلك، فإنَّ مَن اشْتَرَى اثْنَتَيْن، بِناءً على أنَّ إحْداهما أُمُّ الأُخْرَى، لا يَحِلُّ له الجَمْعُ بينَهما في الوَطْء، ولا بَيْعُ إحْداهما دُونَ الأُخْرَى، كانتْ قِيمَتُهما قلِيلَةً لذلك، فإذا بانَ أنَّ إحْدَاهُما أجْنَبِيَّةٌ مِن الأُخْرَى، أُبِيحَ له وَطْؤُهما، وبَيْعُ إحْداهما، فتَكْثُرُ قِيمَتُهما، فيَجِبُ رَدُّ الفَضْلٍ، كما لو اشْتَراهُما فوَجَدَ معهما حَلْيًا أو ذَهَبًا، وكما لو أخَذَ دراهِمَ، فبانتْ أكْثَرَ ممّا حُسِبَ عليه. 1464 - مسألة: [ومَن] (¬1) وَطِئَ جارِيَةً مِن المَغْنَمِ مِمَّن له فيها ¬

(¬1) في م: «وإن».

وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَدَّ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا، إِلَّا أَنْ تَلِدَ مِنْهُ، فَيَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَتَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقٌّ أو لوَلَدِه، أُدِّبَ، ولم يَبْلُغْ به الحَدَّ، وعليه مَهْرُها، إلَّا أن تَلِدَ منه، فيكُونَ عليه قِيمَتُها، وتَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ له، والوَلَدُ حُرٌّ ثابِتُ النَّسَب) إذا وَطِئَ جاريَةً مِن المغْنَمِ وكان له في الغَنِيمَةِ حقٌّ أو لوَلَدِه، أُدِّبَ؛ لأنَّه فَعَل ما لا يَحِلُّ له، ولم يَبْلُغ به الحَدَّ، لأنَّ المِلْكَ ثَبَت للغانِمِين في الغنيمةِ، فيكونُ للواطِئَ حَقٌّ في الجارِيَةِ المَوْطُوءَةِ وإن قَلَّ، فيُدْرَأُ عنه الحَدُّ للشُّبْهَةِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو ثَورٍ: عليه الحَدُّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬1). وهذا زانٍ، ولأنَّه وَطِئَ في غيرِ مِلْكٍ، عامِدًا، عالِمًا بالتَّحْرِيمِ، فلَزِمَه الحَدُّ، كما لو وَطِئَ جارِيَةَ غيرِه. وقال الأوْزَاعِىُّ: كلُّ مَن سَلَف مِن عُلَمائِنا يقولُ: عليه أدْنَى الحَدَّيْنِ، مائَةُ جَلْدَةٍ. ومَنَع بعضُ الفُقَهاءِ ثُبُوتَ المِلْكِ في الغَنِيمَةِ، وقال: إنَّما يَثْبُتُ بالاحْتِيازِ (¬2)، بدليلِ ¬

(¬1) سورة النور 2. (¬2) في الأصل: «بالاختيار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ أحَدَهم لو قال: أسْقَطْتُ حَقِّى. سَقَط، ولو ثَبَت مِلْكُه، لم يَزُلْ بذلك، كالوارِثِ. ولَنا، أنَّ له فيها شُبْهَةَ مِلْكٍ، فلم يَجِبْ عليه الحَدُّ، كوَطْءِ جارِيَةٍ له فيها شِرْكٌ، والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بوَطْءِ الجاريَةِ المُشْتَرَكَةِ وجارِيَةِ ابْنِه، فنَقِيسُ عليه هذا، ومَنْعُ المِلْكِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مِلْكَ الكُفّارِ قد زالَ، ولا يَزُولُ إلَّا إلى مالِكٍ، ولأنَّه تَصِحُّ قِسْمَتُه، ويَمْلِكُ الغانِمُون طَلَبَ قِسْمَتِها، فأشْبَهَتْ حالَ الوارِثِ، وإنَّما كَثُرَ الغانِمُون فقَلَّ نَصِيبُ الواطِئ، ولم يَسْتَقِرَّ في شئٍ بعَيْنِه، وكان للإِمامِ تَعْيِينُ نَصِيبِ كلِّ واحِدٍ بغيرِ اختِيارِه، فلذلك جازَ أن يَسْقُطَ بالإِسْقاطِ، بخِلافِ الميراثِ، وضَعْفُ المِلْكِ لا يُخْرِجُه عن كَونِه شُبْهَةً في الحَدِّ الذى يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ولهذا أُسْقِطَ الحَدُّ بأَدْنَى شئٍ، وإن لم يَكُنْ حَقِيقَةَ المِلْكِ فهو شُبْهَة. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُعَزَّرُ، ولا يَبْلُغُ بالتَّعْزِيرِ الحَدَّ، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ تعالى، ويُؤْخَذُ منه مَهْرُها، فيُطْرَحُ في المَغْنَمِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال القاضِى: إنَّه يَسْقُطُ عنه مِن المَهْرِ قَدْرُ حِصَّتِه منها، وتَجِبُ عليه بَقِيَّتُه، كالجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ بينَه وبينَ غيرِه. ولا يَصِحُّ ذلك؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّنا إذا أسْقَطْنا عنه حِصَّتَه، وأخَذْنا الباقِىَ فطَرَ حْناه في المَغْنَمِ، ثم قَسَمْناه على الجَميعِ وهو فيهم، عادَ إليه سَهْمُه مِن حِصَّةِ غيرِه، ولأن حِصَّتَه قد لا يمْكِنُ مَعْرِفَتُها؛ لِقِلَّةِ المَهْرِ وكَثْرَةِ الغانِمِين، ثم إذا أخَذْناه، فإن قَسَمْناه مُفْرَدًا على مَن سِواه، لم يُمْكِنْ، وإن خَلَطْناه بالغَنِيمَةِ، ثم قَسَمْنا الجميعَ، أخَذَ سَهْمًا ممّا ليس فيه حَقُّه. فإنْ ولَدَتْ منه، فالوَلَدُ حُرٌّ، يَلْحَقُه نَسَبُه. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: هو رَقِيقٌ، لا يَلْحَقُه نَسَبُه؛ لأنَّ الغانِمِين إنَّما يَمْلِكُون بالقِسْمَةِ، فقد صادَفَ وَطْؤُه غيرَ مِلْكِه. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ سَقَط فيه الحَدُّ بشُبْهَةِ المِلْكِ، فيَلْحَقُ فيه النَّسَبُ، كوَطْءٍ جاريَةِ ابنهِ، وما ذَكَرَه غيرُ مُسَلَّمٍ، ثم يَبْطُلُ بوَطْءِ جارِيَةِ ابنِه. وفارَق الزِّنى؛ فإنَّه يُوجِبُ الحَدَّ. وإذا ثَبَت ذلك، فإنَّ الأمَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له في الحالِ. وقال الشافعىُّ: لا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له في الحالِ؛ لأنَّها ليستْ مِلْكًا له، فإذا مَلَكَها بعدَ ذلك، فهل تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له؛ فيها قَولان. ولَنا، أنَّه وَطءٌ يَلْحَقُ به النَّسَبُ لشُبْهَةِ المِلْكِ، فتَصِيرُ به أُمَّ وَلَدٍ، كوَطْءِ جارِيَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِه، وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه، ولا نُسَلِّمُ أنَّه ليس له فيها مِلْكٌ، فإَّنا قد تَبَيَّنّا أنَّ المِلْكَ قد ثَبَت في الغَنِيمَةِ بمُجَرَّدِ الاغْتِنامِ، وعليه قِيمَتُها، تُطْرحُ في المَغْنَمِ، لأنَّه فَوَّتَها عليهم بفِعْلِه، فلَزِمَتْه قِيمَتُها، كما لو قَتَلَها. فإن كان مُعْسِرًا، كان في ذِمَّتِه قِيمَتُها. وقال القاضِى: إن كان مُعسِرًا، حُسِبَ قَدْرُ حِصَّتِه مِن الغَنِيمَةِ، فصارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وباقِيها رَقِيقٌ للغانِمِين؛ لأنَّ كَوْنَها أُمَّ وَلَدٍ إنَّما يَثْبُتُ بالسِّرايَةِ إلى مِلْكِ غيرِه، فلم يَسْرِ في حَقِّ المُعْسِرِ، كالإِعْتاقِ. ولَنا، أنَّه اسْتِيلادٌ (¬1) جَعَلَ بَعْضَها أُمَّ وَلَدٍ، فيَجْعَلُ جميعَها أُمَّ وَلَدٍ، كاسْتِيلادِ (¬2) جارِيَةِ الابنِ، وفارَقَ العِتْقَ؛ لأنَّ الاسْتِيلادَ (¬3) أقْوَى؛ لكَوْنِه فِعْلًا، وينْفُذُ مِن المجْنُونِ. فأمّا قِيمَةُ الوَلَدِ، فقال أبو بكرٍ: فيها رِوايتان؛ إحداهما، تَلْزَمُه قِيمَتُه حينَ وَضْعِه، تُطْرَحُ في المَغْنَمِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «استيلاء». (¬2) في م: «كاستيلاء». (¬3) في م: «الاستيلاء».

1465 - مسألة: (ومن أعتق منهم عبدا، عتق عليه قدر حصته، وقوم عليه باقيه إن كان موسرا، وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه)

وَمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ عَبْدًا، عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ حَقِّهِ، وَقُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إنْ كَان مُوسِرًا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَوَّتَ رِقَّه، فأشْبَهَ وَلَدَ المَغْرُورِ. والثانيةُ، لا تَلْزَمُه؛ لأنَّه مَلَكَها حينَ عَلِقَتْ، ولم يَثْبُتْ مِلْكُ الغانِمِين في الوَلَدِ بحالٍ، فأشْبَهَ وَلَدَ الأبِ مِن جارِيَةِ ابنِه إذا وَطِئَها، ولأنَّه يَعْتِقُ حينَ عُلُوقِها به، ولا قِيمَةَ له حِينَئِذٍ. وقال القاضِى: إذا صار نِصْفُها أُمَّ وَلَدٍ، يكونُ الوَلَدُ كلُّه حُرًّا، وعليه قِيمَةُ نِصْفِه. 1465 - مسألة: (ومَن أعْتَقَ منهم عَبْدًا، عَتَقَ عليه قَدْرُ حِصَّتِه، وقُوِّمَ عليه باقِيه إن كان مُوسِرًا، وكذلك إن كان فيهم مَن يَعْتِقُ عليه) إذا أعْتَقَ بعضُ الغانِمِين أسِيرًا مِن الغَنِيمَةِ وكان رجلًا، لم يَعْتِقْ؛ لأنَّ العباسَ عَمَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَمَّ علىٍّ، وعَقِيلًا أخا عَلِىٍّ، كانا في أسْرَى بَدْرٍ، فلم يَعْتِقا عليهما. ولأنَّ الرجلَ لا يَصِيرُ رَقِيقًا بنَفْسِ السَّبْى. وإنِ اسْتُرِقَّ، وقُلنا بجوازِ اسْتِرْقاقِه، أو كان امرأةً أو صَبِيًّا، عَتَقَ منه قَدْرُ نَصِيبِه، وسَرَى إلى باقِيه إن كان مُوسِرًا، وإن كان مُعْسِرًا لم يَعْتِقْ عليه إلَّا ما مَلَكَه منه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُؤْخَذُ منه قيمَةُ باقِيه، تُطْرَحُ في المَغْنَمِ إذا كان موسِرًا، فإن كان بقَدْرِ حَقِّه مِن الغَنِيمَةِ عَتَقَ ولم يَأْخُذْ شيئًا، وإن كان دُونَ حَقِّه أخَذَ باقِىَ حَقِّه، فإن أعْتَقَ عَبْدًا ثانيًا، وفَضَل مِن حَقِّه عن الأوَّلِ شئٌ، عَتَقَ بقَدْرِه مِن الثَّانِى، وإنْ لم يَفْضُلْ شئٌ، لم يَعْتِقْ مِن الثَّانِى شئٌ. وكذلك الحُكْمُ إذا كان فيهم مَن يَعْتِقُ عليه؛ لأنَّه نُسِبَ إلى مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو اشْتَراه. وقال ابنُ أبى مُوسَى، في «الإِرْشادِ»: لا يَعْتِقُ إلَّا أن يَحْصُلَ في سَهْمِه أو بعْضِه. وقال الشافعىُّ: لا يَعْتِقُ منه شئٌ. وهذا مُقْتَضَى قولِ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لا يَملِكُه بمُجَرَّدِ الاغْتِنام، ولو مَلَك لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُه فيه، وإن قُسِمَ وحَصَل في نَصِيبِه، واخْتارَ تَمَلُّكَه، عَتَقَ عليه، وإلَّا فلا، وإن جُعِلَ له بعضُه، فاخْتارَ تَمَلُّكَه، عَتَقَ عليه، وقُوِّمَ عليه الباقِى. ولَنا، ما بَيَّنّاه مِن أنَّ المِلْكَ يَثْبُتُ للغانِمِين؛ لكَوْنِ الاسْتِيلاءِ التّامِّ وُجِدَ منهم، وهو سَبَبٌ للمِلْكِ، ولأنَّ مِلْكَ الكُفّارِ زالَ، ولا يَزُولُ إلَّا إلى المُسْلِمِين.

1466 - مسألة: (والغال من الغنيمة يحرق رحله كله، إلا السلاح والمصحف والحيوان)

وَالْغَالُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُحَرَّقُ رَحْلُهُ كُلُّهُ، إِلَّا السِّلَاحَ وَالْمُصْحَفَ وَالْحَيَوَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1466 - مسألة: (والغالُّ مِن الغَنِيمَةِ يُحَرَّقُ رَحْلُه كُلُّه، إلَّا السِّلاحَ والمُصْحَفَ والحَيَوانَ) الغالُّ: الذى يكْتُمُ ما يأْخُذُه مِن الغَنِيمَةِ، ولا يُطْلِعُ الإِمامَ عليه، ولا يَطْرَحُه في الغَنِيمَةِ، فحُكْمُه أن يُحَرَّقَ رَحْلُه كلُّه. وبه قال الحسنُ، وفُقَهاءُ الشامِ؛ منهم مَكْحُولٌ، والأوْزَاعِىُّ، والوَليدُ بنُ هِشامٍ (¬1)، ويَزيدُ بنُ يزيدَ بنِ جابِرٍ (¬2). وأُتِىَ سعيدُ بنُ عبدِ المَلِكِ بغالٍّ، فجَمَعَ مالَه وأحْرَقَه، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ حاضِرٌ، ¬

(¬1) الوليد بن هشام بن معاوية القرشى الأموى، أبو يعيش المعيطى، كان عاملًا لعمر بن عبد العزيز على قنسرين. كان حيا في خلافة مروان بن محمد. تهذيب الكمال 31/ 102 - 104. (¬2) الأزدى الدمشقى، من كبار الأئمة الأعلام. مات سنة أربع وثلاثين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 158، 159.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَعِبْه. وقال يزيدُ بنُ يزيدَ بنِ جابِرٍ: السُّنَّةُ في الذى يَغُلُّ أن يُحَرَّقَ رَحْلُه. رَواهما سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬1). وقال مالكٌ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى: لا يُحَرَّقُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُحَرِّقْ؛ فإنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو روَى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أصابَ غَنِيمَةً، أمَرَ بِلالًا فنادَى في الناسِ، فيَجِيئُون بغَنائِمِهم، فيُخَمِّسُه ويَقْسِمُه، فجاءَ رجلٌ بعدَ ذلك بزِمامٍ مِن شَعَرٍ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، هذا فيما كُنّا أصَبْنا مِن الغَنِيمَةِ. فقال: «سَمِعْتَ بِلالًا يُنَادِى؟» ثَلَاثًا. قال: نعم. قال: «فَمَا مَنَعَكَ أنْ تَجِئَ بهِ». فاعْتَذَرَ. فقال: «كُنْ أنْتَ تَجِئُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أقْبَلَهُ عَنْكَ (¬2)». أخْرَجَه أبو داودَ (¬3). ¬

(¬1) أخرج الأول، في: باب ما جاء في عقوبة من غل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 270. ولم نجد الثانى فيه. (¬2) في م: «منك». (¬3) في: باب في الغلول إذا كان يسيرًا. . .، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ إحْراقَ المتاعِ إضاعَةٌ له، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إضاعَةِ المالِ. ولَنا، ما روَى صالحُ بنُ محمدِ بنِ زائِدَةَ، قال: دخَلْتُ مع مَسْلَمَةَ أرْضَ الرُّومِ، فأُتِىَ برَجُلٍ قد غَلَّ، فسألَ سالِمًا عنه، فقال: سَمِعْتُ أبى يُحَدِّثُ، عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ، فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ، واضْرِبُوهُ». قال: فوَجَدْنا في مَتاعِه مُصْحَفًا، فسألَ سالِمًا عنه، فقال: بِعْه، وتَصَدَّقْ بثَمَنِه. رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ، والأثْرَمُ (¬1). وروَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكرٍ وعُمَرَ، أحْرَقُوا مَتاعَ الغالِّ. رَواه أبو داودَ (¬2). فأمّا حدِيثُهم، فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ فإنَّ الرجلَ لم يَعْتَرِفْ أنَّه أخَذَ ما أخَذَه على سبيلِ الغُلولِ، ولا أخَذَه لنَفْسِه، وإنَّما تَوانَى في المَجِئِ به، وليس الخِلافُ فيه، ولأنَّ الرجلَ جاءَ به مِن عندِ نفْسِه تائِبًا مُعْتَذِرًا، والتَّوْبَةُ تَجُبُّ ما قبلَها. وأمّا النَّهْىُ عن إضاعَةِ المالِ، فإنَّما نَهَى عنه إذا لم يكُنْ فيه مصْلَحَةٌ، فأمَّا إذا كان فيه مَصْلَحَةٌ، فلا بَأْسَ، ولا يُعَدُّ تَضْيِيعًا، كإلْقاءِ المتاعِ في البَحْرِ عندَ خَوْفِ الغَرَقِ، وقَطْعِ يدِ العَبْدِ السّارِقِ، مع أنَّ المالَ لا تكادُ المصْلَحَةُ تَحْصُلُ به إلَّا بذهابِه، فأكْلُه إتْلافُه، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في عقوبة الغال، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 63. وسعيد، في: باب في عقوبة من غل، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 269. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الغال ما يُصنع به، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 247. والدارمى، في: باب في عقوبة الغال، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 231. (¬2) في: باب في عقوبة الغال، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنفاقُه (¬1) إذْهابُه، ولا يُعَدُّ شئٌ مِن ذلك تَضْيِيعًا ولا إفْسادًا، ولا يُنْهَى عنه. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّ السِّلاحَ لا يُحَرَّقُ؛ لأنَّه يحْتاجُ إليه في القِتالِ، ولا نَفَقَتُه؛ لأنَّه ممّا لا يُحَرَّقُ عادةً. ولا يُحَرَّقُ المُصْحَفُ؛ لحُرْمَتِه، ولِما ذَكرْنا مِن حديثِ سالمٍ فيه. فعلى هذا يَحْتَمِلُ أن يُباعَ ويُتَصَدَّقَ بثَمَنِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ سالمٍ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ له، كالحيوانِ والسِّلاحِ، وكذلك الحيوانُ لا يُحَرَّقُ؛ لِنَهْى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُعَذِّبَ بالنّارِ إلَّا رَبُّها (¬2). ولحُرْمَةِ الحيوانِ في نفْسِه، ولأنَّه لا يَدْخُلُ في اسْمِ المَتاعِ المأْمورِ بإحْراقِه. وهذا لا خِلافَ فيه. ولا تُحَرَّقُ آلَةُ الدَّابَّةِ أيضًا. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه يحْتاجُ إليها للانْتِفاعِ بها، ولأنَّها تابِعَةٌ لِما لا يُحَرَّقُ، أشْبَهَ جِلْدَ المُصْحَفِ وكِيسَه. وقال الأوْزَاعِىُّ: يُحَرَّقُ سَرْجُه وإكافُه (¬3). ولَنا، أنَّه مَلْبُوسُ حيوانٍ، فلا يُحَرَّقُ، كثيابِ الغالِّ، فإنَّه لا تُحَرَّقُ ثيابُه التى عليه؛ لأنَّه لا يَجُوزُ أن يُتْرَكَ عُرْيانًا، ولا يُحَرَّقُ ما غَلَّ؛ لأنَّه مِن غَنِيمَةِ المُسْلِمِين. قيلَ لأحمدَ: فالذى أصابَ في الغُلولِ، أىُّ شئٍ يُصْنَعُ به؟ قال: يُرْفَعُ إلى المَغْنَمِ. وكذلك قال الأوْزَاعِىُّ. وجميعُ ما لا يُحَرَّق وما أبْقَتِ النّارُ مِن حديدٍ أو غيرِه، فهو لصاحِبِه؛ لأنَّ ¬

(¬1) في م: «إيقافه». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 65. (¬3) الإكاف: البرذعة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكَه كان ثابِتًا عليه، ولم يُوجَدْ ما يُزِيلُه (¬1)، وإنَّما عُوقِبَ بإحْراقِ مَتاعِه، فما لم يَحْتَرِقْ يَبْقَى على ما كان. وإن كان معه شئٌ مِن كُتُبِ العِلْمِ والحديثِ، فيَنْبَغِى أن لا يُحَرَّقَ أيضًا؛ لأنَّ نَفْعَ ذلك يَعُودُ إلى الدِّينِ، وليس المَقْصُودُ الإِضْرارَ به في دِينِه، وإنَّما القَصْدُ الإِضْرارُ به في بعضِ دُنْياه. فصل: فإن لم يُحَرَّقْ رَحْلُه حتى اسْتَحْدَثَ مَتاعًا آخَرَ، أو رَجَع إلى بلَدِه، احْرِقَ ما كان معه حالَ الغُلولِ. نَصَّ عليه أحمدُ في الذى يَرْجِعُ إلى بلَدِه. قال: يَنْبَغِى أن يُحَرَّقَ ما كانَ معه في أرْضِ العَدُوِّ. فإن مات قبلَ إحْراقِ رَحْلِه، لم يُحَرَّقْ. نَصَّ عليه؛ لأنَّه عُقُوبَةٌ، فيَسْقُطُ بالموتِ، كالحُدودِ، ولأنَّه بالموتِ انْتَقَلَ إلى وَرَثَتِه، وإحْراقُه عُقُوبةٌ لغيرِ الجانِى. وإن باعَ مَتاعَه، أو وَهَبَه، احْتَمَلَ أن لا يُحَرَّقَ؛ لأنَّه صارَ لغيرِه، أشْبَهَ انْتِقالَه بالموتِ. واحْتَمَلَ أن يُنْقَضَ البَيْعُ والهِبَةُ ويُحَرَّقَ؛ لأنَّه تَعَلَّقَ به حَقٌّ سابِقٌ على البَيْعِ والهِبَةِ، فوَجَبَ تَقْدِيمُه، كالقِصاصِ في حَقِّ الجانِى. فصل: وإن كان الغالُّ صَبِيًّا، لم يُحَرَّقْ مَتاعُه. وبه قال الأوْزاعِىُّ، لأنَّ الإِحْراقَ عُقُوبَةٌ، وليس هو مِن أهْلِها، فأشْبَهَ الحدَّ. وإن كان عبدًا، لم يُحَرَّقْ مَتاعُه، لأنَّه لسَيِّدِه، فلا يُعاقَبُ سَيِّدُه بجِنايَةِ عَبْدِه. وإنِ اسْتَهْلَكَ ما غَلَّه، فهو في رَقَبَتِه؛ لأنَّه مِن جِنايَتِه. وإن غَلَّتِ المرأةُ أو ذِمِّىٌّ أُحْرِقَ ¬

(¬1) في م: «يلزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَتاعُهُما؛ لأنَّهما مِن أهْلِ العُقُوبَةِ، ولذلك يُقْطَعان في السَّرِقَةِ، ويُحَدّانِ في الزِّنى. وإن أنْكَرَ الغُلولَ، وذَكَر أنَّه ابْتاعَ ما بيَدِه، لم يُحَرَّقْ مَتاعُه حتى يَثْبُتَ غُلولُه بِبَيِّنَةٍ أو إقْرارٍ، لأنَّه عُقُوبَةٌ، فلا يَجِبُ قبلَ ثُبُوتِه بذلك، كالحَدِّ، ولا يُقْبَلُ في بَيِّنَتِه إلَّا عَدْلان؛ لذلك. فصل ولا يُحْرَمُ الغالُّ سَهْمَه. وقال أبو بكرٍ: في ذلك رِوايتان؛ إحْداهما، يُحْرَمُ سَهْمَه، لأنَّه قد جاءَ في الحديثِ: «يُحْرَمُ سَهْمَه». فإن صَحَّ، فالحُكْمُ له. وقال الأوْزَاعِىُّ في الصَّبِىِّ يَغُل: يُحْرَمُ سَهْمَه، ولا يُحَرَّقُ مَتاعُه. ولَنا، أنَّ سَبَبَ الاسْتِحْقاقِ موْجُودٌ، فيَسْتَحِقُّ، كما لو لم يَغُلَّ، ولم يثْبُتْ حِرْمانُ سَهْمِه في خَبَرٍ، ولا يَدُلُّ عليه قِياسٌ، فيَبْقَى بحالِه. ولا يُحَرَّقُ سَهْمُه؛ لأنَّه ليس مِن رَحْلِه. فصل: إذا تابَ الغالُّ قبلَ القِسْمَةِ، رَدَّ ما أخَذَه في المَغْنَمِ (¬1)، بغيرِ ¬

(¬1) في م: «المقسم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافٍ؛ لأنَّه حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّه إلى أهْلِه. فإن تاب بعدَ القِسْمَةِ، فمُقْتَضَى المَذْهَبِ أن يُؤَدِّىَ خُمْسَه إلى الإِمامِ، ويَتَصَدَّقَ بالباقِى. وهذا قولُ الحسنَ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والأَوْزَاعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، واللَّيْثِ. وقال الشافعىُّ: لا أعْرِفُ للصَّدَقَةِ وَجْهًا، وحديثُ الغالِّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: «لَا أقْبَلُهُ مِنْكَ، حَتَّى تَجِئَ بِهِ إلىَّ يَوْمَ القِيَامَةِ». ولَنا، ما روَى سعيدُ بنُ منصورٍ (¬1)، عن عبدِ اللَّهِ بنِ المُبارَكِ، عن صَفْوانَ بنِ عمرٍو، عن حَوْشَبِ بنِ سَيْفٍ، قال: غَزا النّاسُ الرُّومَ، وعليهم عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ الوليدِ، فغَلَّ رَجُلٌ مائةَ دِينارٍ، فلمَّا قُسِمَتِ الغَنِيمَةُ وتَفَرَّقَ النّاسُ، نَدِمَ، فأتَى عبدَ الرحمنِ، فقال: قد غَلَلْتُ مائةَ دينارٍ، فاقْبِضْها (¬2). فقال: قد تَفَرَّقَ النّاسُ، فلَنْ أقْبِضَها منك حتَّى ¬

(¬1) في: باب ما جاء في من غلٍّ وندم، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 270. (¬2) في م: «فامضها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُوافِىَ اللَّهَ بها يومَ القِيامةِ. فأَتَى مُعاوِيَةَ، فذَكَرَ ذلك له، فقال له مثلَ ذلك، فخَرَجَ وهو يَبْكِى، فمَرَّ بعبدِ اللَّهِ بنِ الشاعرِ السَّكْسَكِىِّ، فقال: ما يُبْكِيكَ؟ فأخْبَرَه، فقال: إنَّا للَّه وِإنَّا إلَيْهِ راجِعُون، أمُطِيعٌ أنتَ يا عبدَ اللَّهِ؟ قال: نعم. قال: فانْطَلِقْ إلى مُعاوِيَةَ فقُلْ له: خُذْ مِنِّى خُمْسَكَ. فأعْطِه عشرين دينارًا، وانْظُرْ إلى الثمانين الباقيةِ، فتَصَدَّقْ بها عن ذلك الجَيْشِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى يَعْلَمُ أَسْماءَهم ومَكانَهم، وإنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عبادِه. فقال مُعاوِيَةُ: أحْسَنَ واللَّهِ، لأنْ أكونَ أنا أفْتَيْتُه بهذا، أحبُّ إلىَّ مِن أن يكونَ لى مثلُ كلِّ شئٍ امْتلَكْتُ. وعن ابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه رَأْى أن يُتَصَدَّقَ بالمالِ الَّذى لا يُعْرَفُ صاحِبُه. فقد قال به ابنُ مسعودٍ، ومُعاوِيَةُ، ومَن بعدَهم، ولا نعْرِفُ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم، فيكونُ

1467 - مسألة: (وما أخذ من الفدية، أو أهداه الكفار لأمير الجيش، أو بعض قواده، فهو غنيمة)

وَمَا أُخِذَ مِنَ الْفِدْيَةِ، أَوْ أهْدَاهُ الْكُفَّارُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، أَوْ بَعْضِ قُوَّادِهِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْماعًا. ولأنَّ تَرْكَه تَضْيِيعٌ له، وتعْطِيلٌ لمَنْفَعَتِه التى خُلِقَ لها، ولا يَتَخَفَّفُ به شئٌ مِن إثْمِ الغالِّ، وفى الصَّدقَةِ به نَفْعٌ لمَن يَصِلُ إليه مِن المَساكينِ، وما يَحْصُلُ مِن أجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلى صاحِبِه، فيذْهَبُ به الإِثْمُ عن الغالِّ، فيكونُ أوْلَى. 1467 - مسألة: (وَمَا أُخِذَ مِنَ الْفِدْيَةِ، أَوْ أهْدَاهُ الْكُفَّارُ لأمِيرِ الْجَيْشِ، أَوْ بَعْضِ قُوَّادِهِ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ) ما أُخِذَ مِن فِدْيَةِ الأسارَى، فهو غَنِيمَةٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم فِداءَ أُسارَى بَدْرٍ بينَ الغانِمِين. ولأنَّه مالٌ حَصَل بقُوَّةِ الجيشِ، أشْبَهَ الخَيْلَ والسِّلاحَ. وأمَّا الهَدِيَّةُ للإِمامِ والقُوّادِ، فإن كان في حالِ الغَزْوِ، فهى غَنِيمَةٌ. وهكذا ذَكَر أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لا يَفْعَلُ ذلك إلَّا لخَوْفٍ مِن المُسْلِمِين. فظاهِرُ هذا يَدُلُّ على أنَّ ما أُهْدِىَ لآحادِ الرَّعِيَّةِ فهو له. وقال القاضى: هو غَنِيمَةٌ؛ لِما ذَكَرْنَا. وإن كانتِ الهَدِيَّةُ مِن دارِ الحَرْبِ إلى دارِ الإِسلامِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهى لمَن أُهْدِيَتْ له، سواءٌ كان الإِمامُ أو غيرُه؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبِلَ هَدِيَّةَ المُقَوْقِسِ، فكانتْ له دُونَ غيرِه (¬1) وهذا قولُ الشافعىِّ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ: هو للمُهْدَى له بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه خُصَّ بها، أشْبَهَ ما إذا كان في دارِ الإِسلامِ. وحُكِىَ ذلك رِوايَةً عن أحمدَ. ولَنا، أنَّه أخَذَ ذلك بظَهْرِ الجَيْشِ، أشْبَهَ ما لو أخَذَه قَهْرًا، ولأنَّه إذا أُهْدِىَ إلى الإِمامِ أو أميرٍ، فالظَّاهِرُ أنَّه يُدارِى عن نفْسِه به، فأشْبَهَ ما أُخِذَ منه قَهْرًا، وأمّا الهَدِيَّةُ لآحادِ المُسْلِمِين، فلا يُقْصَدُ بها ذلك في الظَّاهِرِ؛ لعَدَمِ الخَوْفِ منه، فيكونُ كما لو أُهْدِىَ إليه إلى دارِ الإِسلامِ. ويَحْتَمِلُ أن يُنْظَرَ؛ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في هدايا المشركين، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 215. وابن أبى شيبة، في: باب قبول هدايا المشركين، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 470.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانت بينَهما مُهاداةٌ قبلَ ذلك، فله ما أُهْدِىَ إليه، وإن تجَدَّدَ ذلك بالدُّخُولِ إلى دارِهم، فهو للمُسْلِمِين، كقَوْلِنا في الهَدِيَّةِ إلى القاضِى.

باب حكم الأرضين المغنومة

بَابُ حُكْمِ الْأَرَضِينَ الْمَغْنُومَةِ وَهِىَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَا فُتِحَ عَنْوَةً؛ وَهِىَ مَا أُجْلِىَ عَنْهَا أَهْلُهَا بِالسَّيْفِ، فَيُخَيَّرُ الإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِىَ في يَدِهِ، يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا. وَعَنْهُ، تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ. وَعَنْهُ، تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ حُكْمِ الْأَرَضِينَ الْمَغْنُومَةِ (وَهِىَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحدُهَا، مَا فُتِحَ عَنْوَةً؛ وَهِىَ مَا أُجْلِىَ عَنْهَا أهْلُهَا بِالسَّيْفِ، فَيُخَيَّرُ الإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِىَ في يَدِهِ، يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا. وَعَنْهُ، تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ. وَعَنْهُ، تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) الأرَضُون المَغْنُومةُ تنْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ عَنْوةً وصُلْحٌ. فالعَنْوَةُ، ما أُجْلِىَ عنها أهْلُها بالسَّيْفِ، وهى نَوْعانِ؛ أحَدُهما، ما فُتِحَ ولم يُقْسَم بينَ الغانِمِين، فتَصِيرُ وَقْفًا للمُسْلِمِين، يُضْرَبُ عليها خَراج مَعْلُوم، يُؤْخذُ منها في كلِّ عامٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ أُجْرَةً لها، وتُقَرُّ بأيْدِى أرْبابِها ما دامُوا يُؤَدُّون خَراجَها، مُسْلِمِين كانوا أو مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، لا يسْقُطُ خَراجُها بإسْلامِ أرْبابِها، ولا بانْتِقالِها إلى مُسْلِمٍ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ أُجْرَتِها، ولم نَعْلَمْ أنَّ شيئًا ممّا فُتِحَ عَنْوَةً قُسِمَ بينَ الغانِمِين إلَّا خَيْبَرَ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم نِصْفَها، فصار لأهْلِه، لا خَراجَ عليه (¬1). وسائِرُ ما فُتِحَ عَنْوَةً ممَّا فَتَحه عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ومَن بعدَه، كأرْضِ الشامِ، والعِراقِ، ومِصْرَ، وغيرِها، لم يُقسَمْ منه شئٌ، فرَوَى أبو عُبَيْدٍ، في كتابِ «الأمْوالِ» (¬2) أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قَدِم الجابِيَةَ (¬3)، فأرادَ قَسْمَ الأرضِ بينَ المُسْلِمِين، فقال له مُعَاذٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: واللَّهِ، إِذًا ليكُونَنَّ ما تَكْرَهُ، إنَّك إن قَسَمْتَها اليَوْمَ، صار الرَّيْعُ العَظِيمُ في أَيدِى القَوْمِ، ثم يَبِيدُون فيَصِيرُ ذلك إلى الرجلِ الواحِدِ، والمرأةِ، ¬

(¬1) سيأتى تخريجه في صفحة 313. (¬2) الأموال 59. (¬3) الجابية: قرية من أعمال دمشق، من ناحية الجولان. معجم البلدان 2/ 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يَأْتِى مِن بَعْدِهم قَوْمٌ يَسُدُّون (¬1) مِن الإِسْلامِ مَسَدًّا وهم لا يجِدُون شَيْئًا، فانْظُرْ أمْرًا يَسَعُ أوَّلَهم وآخِرَهم. فصار عُمَرُ إلى قَوْلِ مُعاذٍ. وروَى أيضًا (¬2)، قال: قال الماجِشُون: قال بِلالٌ لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في القُرَى التى افْتَتَحُوها عَنْوَةً: اقْسِمْها بَيْنَنا، وخُذْ خُمْسَها. فقال عُمَرُ: لا، هذا عَيْنُ (¬3) المالِ، ولكنِّى أحْبِسُه فَيْئًا يَجْرِى عليهم وعلى المُسْلِمِين. فقال بِلالٌ وأصْحابُه: اقْسِمْها بَيْنَنا. فقال عُمَرُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِى بِلالًا وذَوِيه. قال: فما جاءَ الحَوْلُ وفيهم عَيْنٌ تَطْرِفُ. وروَى (¬4)، بإسْنادِه عن سُفْيانَ بنِ وَهْبٍ الخَوْلانِىِّ، قال: لَمَّا افْتَتَحَ عَمْرُو بنُ العاصِ مِصْرَ، قال الزُّبَيْرُ: يا عَمْرُو بنَ العاصِ، اقْسِمْها. فقال عَمْرٌو: لا أقْسِمُها. فقال الزُّبَيْرُ. لَتَقْسِمَنَّها كما قَسَّم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ. فقال عَمْرٌو: لا أقْسِمُها حتَّى أكتُبَ إلى أميرِ المُؤْمِنِينَ. فكَتَب إلى عُمَرَ، فكَتَب إليه [عُمَرُ، أنْ] (¬5) دَعْهَا حتَّى يَغْزُوَ منها حَبَلُ الحَبَلَةِ (¬6). ¬

(¬1) في م: «يمدون». (¬2) الأموال 58. (¬3) في م: «عن». (¬4) في: الأموال 58. (¬5) سقط من: م. (¬6) قال أبو عبيد، أراه أراد: أن تكون فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا، يرثه قرن عن قرن، فتكون قوة لهم على عدوهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضِى: ولم يُنْقَلْ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أحَدٍ مِن الصَّحابَةِ أنَّه قَسَم أرْضًا عَنْوَةً إلَّا خَيْبَرَ. فصل: قال أحمدُ: ومَن يَقُومُ على أرْضِ الصُّلْحِ وأرْضِ العَنْوَةِ؟ ومِن أيْنَ هى؟ وإلى أين هى؟ وقال: أرْضُ الشامِ عَنْوَةٌ إلَّا حِمْصَ ومَوْضِعًا آخَرَ. وقال: ما دُونَ النَّهْرِ صُلْحٌ، وما وراءَه عَنْوَةٌ. وقال: فَتَح المُسْلِمُون السَّوادَ عَنْوَةً، إلَّا ما كان منه صُلْحٌ، وهى أرْضُ الحِيرَةِ، وَأرْضُ بانِقْيَا (¬1). وقال: أرْضُ الرَّىِّ خَلَطُوا في أمْرِها، فأمَّا ما فُتِحَ عَنْوَةً فمِن نَهاوَنْدَ (¬2) وطَبَرِسْتانَ (¬3) خَراجٌ. وقال أبو عُبَيْدٍ: أرْضُ الشامِ عَنْوَةٌ، ما خَلا مُدُنَها، فإنَّها فُتِحَتْ صُلْحًا، إلَّا قَيْسارِيَّةَ (¬4)، افْتُتِحَتْ عَنْوَةً، وأرْضُ السَّوادِ والجَبَلِ، ونَهاوَنْدَ والأهْوازِ ومِصْرَ والمَغْرِب. وقال موسى بنُ علىِّ بنِ رَباحٍ (¬5)، عن أبِيه: المَغْرِبُ كلُّه عَنْوَةٌ. فأَمَّا أرْضُ ¬

(¬1) بانقيا: ناحية من نواحى الكوفة. (¬2) نهاوند: مدينة عظيمة، في قبلة همذان، بينهما ثلاثة أيام. معجم البلدان 4/ 827. (¬3) طبرستان: بلدان واسعة كثيرة، مجاورة لجيلان وديلمان، بين الرى وقومص والبحر وبلاد الديلم والجبل. معجم البلدان 3/ 502. (¬4) قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام، تعد في أعمال فلسطين. معجم البلدان 4/ 214. (¬5) في م: «رباع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصُّلْحِ، فأرْضُ هَجَرَ، والبَحْرَيْنِ، وأيْلَةَ (¬1)، ودُومَةَ الجَنْدَلِ (¬2)، وأذْرُحَ (¬3)، فهذه القُرَى التى أدَّتْ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجِزْيَةَ، ومُدُنُ الشّام ما خَلا أرَضِيها إلَّا قَيْسارِيَّةَ وبلادَ الجَزِيرَةِ كلَّها. وبلادُ خُراسانَ كلُّها أَو أكْثَرُها صُلْحٌ، وكُلُّ مَوْضِع فُتِحَ عَنْوَةً فإنَّه وَقْفٌ على المُسْلِمِين. النَّوْعُ الثَّانِى، ما اسْتَأْنَفَ المُسْلِمُون فَتْحَه عَنْوَةً، ففيه ثلاثُ رِواياتٍ؛ أحَدُها، أنَّ الإِمامَ مُخَيَّر بينَ قَسْمِها على الغَانِمِين وبينَ وَقْفِها على جَمِيعِ المُسْلِمِين، ويَضْرِبُ عليها خَراجًا مُسْتَمِرًّا، على ما ذَكَرْنا. هذا ظاهِرُ المَذْهَب؛ لأنَّ كِلا الأَمْرَيْن قد ثَبَت فيه حُجَّةٌ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَسَم نِصْفَ خيْبَرَ، ووَقَف نِصْفَها لنوائبِه (¬4). ووَقَف عُمَرُ الشامَ والعِراقَ ومِصْرَ وسَائِرَ ما فَتَحَه، وأقَرَّه على ذلك عُلَماءُ الصَّحابَةِ، وأشَارُوا عليه به، وكذلك مَن بعدَه مِن الخُلَفاءِ، ولم نَعْلَمْ أنَّ أحَدًا مِنهم قَسَمَ شيئًا مِن الأرْضِ التى افْتَتَحُوها. والثانيةُ، أنَّها تَصِيرُ وَقْفًا بنَفْسِ الاسْتِيلاء عليها؛ لاتِّفاقِ الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، عليه، وقِسْمَةُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ كانت في بَدْءِ الإِسْلامِ، وشِدَّةِ ¬

(¬1) أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم، مما يلى الشام. معجم البلدان 1/ 422. (¬2) دومة الجندل: على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. معجم البلدان 2/ 625. (¬3) أذرح: اسم بلد في أطراف الشام، من أعمال الشراة، ثم من نواحى البلقاء وعمان، مجاورة لأرض الحجاز. معجم البلدان 1/ 174. (¬4) رواه أبو عبيد، في: الأموال 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجَةِ، وكانتِ المَصْلَحَةُ فيه، وقد تَعَيَّنَتَ المَصْلَحَةُ فيما بعدَ ذلك في وَقفِ الأرْضَ، فكان هو الواجِبَ. والثالثةُ، أنَّ الواجِبَ قَسْمُها. وهو قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَل ذلك، وفِعْلُه أوْلَى مِن فِعْلِ غيرِه مع عُمُوم قَوْلِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). يُفْهَمُ مِن ذلك أنَّ أرْبَعَةَ أخْماسِها للغانِمِين. والرِّوايَةُ الأُولَى أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن فِعلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: لولا آخِرُ النَّاسِ لقَسَمْتُ الأرْضَ كما قَسَم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ (¬2). فقد وَقَف الأرْضَ مع عِلْمِه بفِعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدَلَّ على أنَّ فِعْلَه ذلك لم يكُنْ مُتَعَيِّنًا، كيف والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد وَقَف نِصْفَ خَيْبَبرَ! ولو كانت لِلْغانِمِين لم يَكُنْ له وَقْفُها. قال أبو عُبَيْدٍ (¬3): تَواتَرَتِ الأخْبارُ في افتِتَاحِ الأرْضِ عَنْوَةً بهَذَيْنِ الحُكْمَيْن؛ حُكْمِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خَيْبَرَ حينَ قَسَمَها، وبه أشَار بِلالٌ وأصْحابُه على عُمَرَ في أرْضِ الشامِ، والزُّبَيْرُ في ¬

(¬1) سورة الأنفال 41. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب أوقاف أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الحرث والمزارعة، وفى: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 139، 5/ 176. وأبو داود، في: باب ما جاء في حكم أرض خيبر، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 144. (¬3) في: الأموال 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْضِ مِصْرَ، وحُكْمِ عُمَرَ في أرْضِ السَّوادِ وغيرِه حينَ وَقَفَه، وبه أشَارَ علىٌّ ومُعاذٌ على عُمَرَ، وليس فِعْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَادًّا لفِعْلِ عُمَرَ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما اتَّبَعَ آيَةً مُحْكَمَةً، قال اللَّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}. وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (¬1) الآية. فكان كُلُّ واحِدٍ مِن الأَمْرَيْن جائِزًا، والنَّظَرُ في ذلك إلى الإِمامِ، فما رأَى [مِن ذلك فَعَله] (¬2). وهذا قَوْلُ الثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ التَّخْيِيرَ المُفَوَّضَ إلى الإِمامِ تخيِيرُ مَصْلَحَةٍ، لا تَخْيِيرُ تَشَهٍّ، فيَلْزَمُه فِعْلُ ما يَرَى فيه المَصْلَحَةَ، لا يجوزُ له العُدُولُ عنه، كالخِيَرَةِ في الأسْرَى بينَ القَتْلِ، والاسْتِرْقاقِ، والمَنِّ، والفِداءِ، ولا يَحْتاجُ إلى النُّطْقِ بالوَقْفِ، بل تَرْكُه لها مِن غيرِ قِسْمَةٍ وقْفٌ لها كما أنَّ قِسْمَتَها بينَ الغانِمِين لا يَحْتاجُ معه إلى لَفْظٍ، ولأنَّ عُمَرَ وغيرَه لم يُنْقَلْ عنهم في وَقْفِ الأرْضِ لَفْظٌ بالوَقْفِ، ولأنَّ معْنَى وَقْفِها ههنا، أنَّها باقِيَةٌ لجميعِ المسلمين، يُؤْخَذُ خَراجُها يُصْرَفُ في مصالِحِهم، ولا يُخَصُّ أحَدٌ بِمِلْكِ شئٍ منها، وهذا حاصِلٌ بتَرْكِها. فصل: وكُلُّ ما فَعَلَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن وَقْفٍ وقِسْمَةٍ، أو فَعَلَه الأئِمَّةُ بعدَه، فليس لأحَدٍ نَقْضُه، ولا تَغْيِيرُه، وإنَّما الرِّواياتُ فيما اسْتُؤْنِفَ فَتْحُه ¬

(¬1) سورة الحشر 7. (¬2) في م: «منه ذلك فعليه».

1468 - مسألة: الضرب (الثانى، ماجلا عنها أهلها خوفا)

الثَّانِى، مَا جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا، فَتَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا. وَعَنْهُ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْعَنْوَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما ذكَرْنا. والذي قُسِمَ بينَ الغانِمِين ليس عليه خَراجٌ، وكذلك ما أسْلَمَ أهْلُه عليه، كالمَدِينَةِ ونحوِها، فهى مِلْكٌ لأرْبابِها، لهم التَّصَرُّفُ فيها كيف شاءُوا، وكذلك ما صُولِحَ أهْلُه على أنَّ الأرْضَ لهم، كأرْضِ اليَمَنِ، والحِيرَةِ وبانِقْيا، وما أحْياه المسلمون، كأرْضِ البَصْرَةِ، كانت سَبْخَةً أحْيَاها غتْبَةُ بنُ غَزْوانَ (¬1)، وعُثمانُ بنُ أبى العاصِ. 1468 - مسألة: الضَّرْبُ (الثَّانِى، مَاجَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا) وفَزَعًا، فهذه (تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا) لأنَّ ذلك يتَعَيَّن فيها، لأنَّها ليست غَنِيمَةً فتُقْسَمَ، فكان حُكْمُها حُكْمَ الفَئِ، يكونُ لِلمسلمين كلِّهم. (وعنه) يكونُ (حُكْمُها حكمَ العَنْوَةِ) قِياسًا عليها، فعلى هذا لا تَصِيرُ وَقْفًا حتَّى يَقِفَها الإِمامُ؛ لأنَّ الوَقْفَ لا يثْبُتُ بنَفْسِه. الضَّرْبُ ¬

(¬1) عتبة بن غزوان بن جابر المازنى، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرا وولاه عمر في الفتوح. توفى سنة سبع عشرة. الإصابة 4/ 438، 439.

الثَّالِثُ، مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأرْضَ لَنَا، وَنُقِرَّهَا مَعَهُمْ بالْخَرَاج من، فَهَذِهِ تَصِيرُ وَقْفًا أيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثالثُ، ما صُولِحوا عليه، وهو قِسمان؛ أحدُهما، أن يُصالِحَهم على أنَّ الأرْضَ لنا، ونُقِرَّها معهم بالخَراجِ، فهذه تَصِيرُ وَقْفا أيضًا) حُكْمُها حُكْمُ ما ذكَرْنا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتَح خَيْبَرَ، وصالَحَ أهْلَها على أن يَعْمُرُوا أرْضَها، ولهم نِصْفُ ثَمَرَتِها، فكانت للمسلمين دُونَهم (¬1). وصالَحَ بنى النَّضِيرِ على أن يُجْلِيَهم مِن المدينةِ، ولهم ما أقَلَّتِ الإِبِلُ مِن الأمتِعَةِ (¬2) والأمْوَالِ، إلَّا الحَلْقَةَ، يعنى السِّلاحَ، وكانت ممَّا أفاءَ اللَّه على ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما، من كتاب الإجارة، وفى: باب المزارعة مع اليهود، وباب إذا لم يشترط السِّنِين في المزارعة، من كتاب الحرث والمزارعة، وفى: باب الشروط في المعاملة، من كتاب الشروط، وفى: باب معاملة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل خيبر، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 123، 138، 249، 5/ 179. ومسلم، في: باب المساقاة والمعاملة بجبزء من الثمر والزرع، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 186. وأبو داود، في: باب في المساقاة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 235. والترمذى، في: باب ما ذكر في المزارعة، من أبواب المزارعة. عارضة الأحوذى 6/ 135. وابن ماجه، في: باب معاملة النخيل والكرم، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 824، 825. والإمام مالك، في: باب ما جاء في المساقاة، من كتاب المساقاة. الموطأ 2/ 703. (¬2) في م: «المتعة».

الثَّانِى، أنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا، فَهَذِهِ مِلْكٌ لَهُمْ، خَرَاجُهَا كَالْجِزْيَةِ، إِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رسُولِه (¬1). القسمُ (الثَّانِى، أنْ يُصالِحَهُم على أنَّ (¬2) الأرْضَ لهم) ويُؤَدُّون إلَيْنا خَراجًا (¬3) مَعْلُومًا، (فهذه مِلْكٌ) لأرْبابِها، وهذا الخَراجُ في حُكْمِ الجِزْيَةِ، متى (أسْلَمُوا سَقَط عنهم) لأنَّ الخَراجَ الَّذى ضُرِبَ عليها إنَّما كان مِن أجْلِ كُفْرِهِم، فهو كالجِزْيَةِ على رُءُوسِهِم، فإذا أسْلَمُوا سَقَط، كما تَسْقُطُ الجِزْيَةُ، وتَبْقَى الأرْضُ مِلْكًا لهم، لا خَراجَ عليها، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في خبر النضير، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 140. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «خراجها».

1469 - مسألة: (ويقرون فيها بغير جزية؛ لأنهم فى غير دار الإسلام، بخلاف التى قبلها)

وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِم، فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ، وَيُقَرُّونَ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ في غَيْرِ دَارِ الإسْلَامِ، بِخِلَافِ الَّتِى قَبْلَهَا. وَالْمَرْجِعُ في الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى قَدْر الطَّاقَةِ. وَعَنْهُ، يُرْجَعُ إِلَى مَا ضَرَبَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ يتَصَرَّفُون فيها كيف شاءُوا، بالبَيْعِ والهِبَةِ والرَّهْنِ (وإنِ انْتَقَلَتْ إلى مُسْلِم، فلا خَراجَ عليه) لِما ذَكَرْنا. 1469 - مسألة: (ويُقَرُّون فيها بِغيرِ جِزْيَةٍ؛ لأنَّهم في غيرِ دارِ الإِسلامِ، بخِلافِ التى قبْلَها). 1470 - مسألة: (والمَرْجِعُ في الخراجِ والجِزْيَةِ إلى اجْتِهَادِ الإِمامِ في الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ على قَدْرِ الطّاقَةِ. وعنه، يُرْجَعُ إلى ما ضَرَبَهُ

عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ. وَعَنْهُ، تَجُوزُ الزِّيادَةُ دُونَ النَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عَنه، لا يُزَادُ ولا يُنْقَصُ. وعنه، تَجُوزُ الزِّيادَةُ دُونَ النَّقْصِ) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ المَرْجِعَ في الخَراجِ إلى اجْتِهادِ الإِمامِ. وهو اخْتِيارُ الخَلَّالِ، وعامَّةِ شُيُوخِنا؛ لأنَّه أُجْرَة، فلم يُقَدَّرْ بمِقْدارٍ لا يَخْتَلِفُ، كأُجْرَةِ المساكنِ. وفيه رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه يُرْجَعُ إلى ما ضَرَبَه عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لا يُزادُ عليه ولا يُنْقَصُ منه؛ لأنَّ اجْتِهادَ عمرَ أوْلَى مِن قَوْلِ غيرِه، كيف ولم يُنْكِرْه أحَدٌ مِن الصَّحابَةِ مع شُهْرتِه، فكان إجْماعًا. وعنه رِوايَةٌ ثالثَةٌ، أنَّ الزِّيادَةَ تجوزُ دُونَ النَّقْصِ؛ لِما روَى

قَالَ أحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى: أَعْلَى وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِي أَرْضِ السَّوَادِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ. يَعْنِى، أَنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا. وَقَدْرُ الْقَفِيزِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. يَعْنِى بِالْمَكِّىِّ، فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرُو (¬1) بنُ مَيْمُونٍ، أَنَّه سَمِع عُمَرَ يقول لخذَيْفَةَ وعُثمانَ بنِ حُنَيْفٍ: لَعَلَّكُما حَمَّلْتُما الأرْضَ ما لا تُطِيقُ؟ فقال عثمانُ: واللَّهِ لو زِدْتَ عليهم فلا تُجْهِدْهم (¬2). فدَلَّ على إباحَةِ الزِّيادَةِ ما لم تُجْهِدْهم. وأمّا الجِزْيَةُ فتُذْكَر في بابِ عقْدِ الذِّمَّةِ، إن شاءَ اللَّه تعالى. (قال أحمدُ) رَضِىَ اللَّهُ عنه، (وأبو عُبَيْدٍ) القاسِمُ بن سلَّام: (أعْلَى وأصَحُّ حديثٍ في أرْضِ السَّوادِ حَدِيثُ عمرِو بنِ مَيْمُونٍ (2). يعنى، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، وَضَع على كلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وقَفِيزًا. وقَدْرُ القَفِيزِ ثمانيةُ أرْطالٍ. يعْنِى بالمكِّىِّ) نَصَّ عليه أحمدُ. واخْتارَه القاضى. (فيكونُ سِتَّةَ عشَرَ ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) أخرجه أبو عبيد، في: الأموال 71.

بِالْعِرَاقِىِّ، وَالْجَرِيبُ عَشْرُ قَصَبَاتٍ في عَشْرِ قَصَبَاتٍ، وَالْقَصَبَةُ سِتَّةُ أذْرُعٍ، وَهُوَ ذِرَاعٌ وَسَطٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ رَطْلًا بالعِراقِىِّ) وقال أبو بكرٍ: قد قِيلَ: إنَّ قَدْرَه ثَلاثون رَطْلًا. ويَنْبَغِى أن يكونَ مِن جِنْسِ ما تُخْرِجُه الأرْضُ؛ لأنَّه رُوِى عن عمرَ، أنَّه ضَرَب على الطَّعامِ دِرْهَمًا وقَفِيزَ حِنْطَةٍ، وعلى الشَّعِيرِ دِرْهَمًا وقَفِيزَ شعيرٍ. ويُقاسُ عليه غيرُه مِن الحُبوبِ. (والجَرِيبُ عَشْرُ قَصَباتٍ في عَشْرِ قَصَباتٍ، والقَصَبَةُ سِتَّةُ أذْرُعٍ) بذِراعِ عمرَ (وهو ذِراعٌ وسَطٌ) لا

وَقَبْضَةٌ وَإِبْهَامٌ قَائِمَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أطْوَلُ ذراعٍ ولا أقْصَرُها (وقَبْضَةٌ وإبْهامٌ قائِمَةٌ) وما بينَ الشَّجَرِ مِن بَياضِ الأرْضِ تَبَعٌ لها، فإن ظُلِمَ في خَراجِه لم يَحْتَسِبْه مِن العُشْرِ؛ لأنَّه ظُلِمَ، فلم يَحْتَسِبْ به مِن العُشْرِ، كالغَصْبِ. وعنه، يَحْتَسِبُه مِن العُشْرِ؛ لأنَّ الأَخْذَ لهما واحِدٌ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وقد اخْتُلِفَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في قَدْرِ الخَراجِ، فرَوَى أبو عُبَيْدٍ (¬1)، بإسْنادِه عن الشَّعْبِىِّ، أنَّ عُمَرَ بَعَث ابنَ حُنَيْفٍ إلى السَّوَادِ، فضَرَب الخَراجَ على جَرِيبِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْن، وعلى جَرِيبِ الحِنْطَةِ أرْبَعَةَ دراهمَ، وعلى جَرِيبِ القَضْبِ، وهو الرَّطْبَةُ، سِتَّةَ دراهِمَ، وعلى جَرِيبِ النَّخْلِ ثمانيةَ درَاهِمَ، وعلى جَريبِ الكَرْمِ عشَرةَ دَراهِمَ، وعلى جَريبِ الزَّيْتُونِ اثْنَىْ عَشَرَ دِرْهَمًا. هذا ذَكَرَه أبو الخَطّابِ في كتابِ «الهِدَايَةِ»، وذَكَر بعدَه حديثَ عمرِو بنِ مَيْمُونٍ الَّذى ذكَرْناه، وهو أصَحُّ، على ما ذَكَرَه أحمدُ وأبو عُبَيْدٍ. ¬

(¬1) الأموال 69.

1471 - مسألة: (وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه، فلا خراج عليه)

وَمَا لَا يَنَالُهُ الْمَاءُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ، فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَمْكَنَ زَرْعُهُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَجَبَ نِصْفُ خَرَاجِهِ في كُلِّ عَامٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1471 - مسألة: (وَمَا لَا يَنَالُهُ الْمَاءُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ، فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ) لأنَّ الخَراجَ أُجْرَةُ الأرْضِ، وما لا مَنْفَعَةَ فيه لا أُجْرَةَ له. وعنه، يجبُ فيه الخراجُ إذا كان على صِفةٍ يُمْكِنُ إحْياؤُه، ليُحْيِيَه مَن هو في يَدِه، أو يَرْفَعُ يدَه عنه، فيُحْييه غيرُه ويَنْتَفِعُ به. 1472 - مسألة: (فَإِنْ أَمْكَنَ زَرْعُهُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَجَبَ نِصْفُ

1473 - مسألة: (و)

وَالْخَرَاجُ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَراجِه في كلِّ عامٍ) لأنَّ نَفْعَ هذه الأرْضِ على النِّصْفِ، فكذلك الخراجُ؛ لكَوْنِه في مُقابَلَةِ النَّفْعِ. 1473 - مسألة: (و) يَجِبُ (الخَراجُ على المَالِكِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ) لأنَّه يَجِبُ على رَقَبَةِ الأرْضِ، فكان على مالِكِها، كما تجِبُ الفِطْرَةُ على مالِكِ العَبْدِ. وعنه، أنَّه على الْمُسْتَأْجِرِ، كالعُشْرِ.

1474 - مسألة: (والخراج كالدين، يحبس به الموسر، وينظر به المعسر)

وَهُوَ كَالدَّيْنِ، يُحْبَسُ بِهِ الْمُوسِرُ، وَيُنْظَرُ بِهِ الْمُعْسِرُ. وَمَنْ عَجَزَ عَنْ عِمَارَةِ أرْضِهِ، أُجْبِرَ عَلَى إِجَارَتِهَا، أوْ رَفْعِ يَدِهِ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوَّلُ أصَحُّ. 1474 - مسألة: (وَالخراجُ كَالدَّيْنِ، يُحْبَسُ بِهِ الْمُوسِرُ، وَيُنْظَرُ بِهِ الْمُعْسِرُ) لأنَّه أُجْرَةٌ، أشْبَهَ أُجْرَةَ المساكنِ. 1475 - مسألة: (وَمَنْ عَجَزَ عَنْ عِمَارَةِ أرْضِهِ، أُجْبِرَ عَلَى إِجَارَتِهَا، أوْ رَفْعِ يَدِهِ عَنْهَا) مَن كانت في يَدِه أرْضٌ، فهو أحَقُّ بها بالخراجِ، كالمُسْتَأْجِرِ، وتَنْتَقِلُ إلى وَارِثِه بعدَه، على الوَجْهِ الَّذى كانت في يَدِ مَوْرُوثِه، فإن آثَرَ بها أحَدًا، صارَ الثانى أحَقَّ بها، فإن عَجَزَ مَن هى في يَدِه عن عِمَارَتِها، وأدَاءِ خَرَاجِها، أُجْبِرَ على رَفْعِ يَدِه عنها بإجارَةٍ أو غيرِها، ويَدْفَعُها إلى مَن يَعْمُرُها ويَقُومُ بخَراجِها؛ لأنَّ الأرْضَ للمسلمين، فلا يجوزُ تَعْطِيلُها عليهم. فصل: ويُكْرَهُ للمُسْلِمِ أَن يَشْتَرِىَ مِن أَرْضِ الخَراجِ المُزارَعِ؛ لأنَّ في الخَراجِ مَعْنى الذِّلَّةِ. وبهذا ورَدَتِ الأخْبارُ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وغيرِه. ومعْنى الشِّراءِ ههُنا أنْ يتَقَبَّلَ الأرْضَ بما عليها مِن خَراجِها؛ لأنَّ شِراءَ هذه الأرْضِ غيرُ جائِزٍ، أو يكونُ على الرِّوايَةِ التى أجازَتْ شِراءَها؛ لكَوْنِه اسْتِنْقاذًا لها، فهو كاسْتِنْقَاذِ الأسِيرِ.

1476 - مسألة: (ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل ليدفع عنه الظلم فى خراجه)

وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِلَ وَيُهْدِىَ لَهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الظُّلْمَ في خَرَاجِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِيَدَعَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا. وَإنْ رَأْى الإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ في إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ عَنْ إِنْسَانٍ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1476 - مسألة: (ويجوزُ لصاحِبِ الأرْضِ أنْ يَرْشُوَ العامِلَ ليَدْفَعَ عنه الظُّلْمَ في خَرَاجِه) لأنَّه يَتَوَصَّلُ بمالِه إلى كَفِّ اليَدِ العادِيَةِ عنه (ولا يجُوزُ له ذلك ليَدَعَ (¬1) له شيئًا) مِن خَراجِه؛ لأنَّه رِشْوَةٌ لإِبطالِ حَقٍّ، فحَرُمَتْ على الآخِذِ والمُعْطِى، كرِشْوَةِ الحَاكمِ ليَحْكُمَ له بغيرِ الحَقِّ. 1477 - مسألة: (وإن رَأَى الإِمامُ المَصْلَحَةَ في إسْقَاطِ الخَراجِ) ¬

(¬1) في النسح: «ليدفع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تَخْفِيفِه (عن إنْسَانٍ، جاز) لأنَّه فَىْءٌ، فكان النَّظَرُ فيه إلى الإِمام. ولأنَّه لو أخَذَ الخَراجَ وصارَ في يَدِه، جازَ له أن يَخُصَّ به شَخْصًا إذا رَأَى المصْلَحَةَ فيه، فجازَ له تَرْكُه بطرِيقِ الأُوْلَى.

باب الفئ

بَابُ الْفَىْءِ وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ كَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ، وَمَا تَرَكُوهُ فَزَعًا، وَخُمْسِ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَمَالِ مَنْ مَاتَ لَا وَارِثَ لَهُ، فَيُصْرَفُ في الْمَصَالِحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الفَىْءِ (وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ كَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ، وَمَا تَرَكُوهُ فَزَعًا، وَخُمْسِ (¬1) خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَمَالِ مَنْ مَاتَ لَا وَارِثَ لَهُ، فَيُصْرَفٌ (¬2) في مَصَالِحِ المسلمين) لهم كلِّهم فيه حَقٌّ، غَنِيِّهم وفقيرِهم، إلَّا العبيدَ. هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، والْخِرَقِىِّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «معروف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر أحمدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، الفَىْءَ، فقال: فيه حقٌّ لكلِّ المسلمين، وهو بينَ الغَنِىِّ والفقيرِ. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عَنه: ما مِن أحَدٍ مِن المسلمين إلَّا له في هذا المالِ نَصِيبٌ، إلَّا العبيدَ ليس لهم فيه شئٌ، وقرَأ عمرُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتَّى بَلغَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬1). فقال: هذه (¬2) اسْتَوْعَبَتِ المسلمين عامَّةً، ولَئِنْ عِشْتُ ليَأْتِيَنَّ الرَّاعِىَ [بسَرْوِ حِمْيَرَ] (¬3) نَصِيبُه منها، لم يَعْرَق فيه جَبِينُه (¬4). وذَكَر القاضى أنَّ الفَىْءَ مُخْتَصٌّ بأهلِ الجهادِ، مِن المُرابِطِين في الثُّغورِ، وجُنْدِ المسلمين، ومَن يقومُ بمصالِحِهم؛ لأنَّ ذلك كان للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياتِه، لحُصُولِ النُّصْرَةِ والمصْلَحَةِ به، فلمَّا ماتَ، صارت مخْتَصَّةً بالجُنْدِ، ¬

(¬1) سورة الحشر 7 - 10. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بستر وحمير». والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل، ومنه سرو حمير لمنازلهم بأرض اليمن، وهو عدة مواضع. انظر: معجم البلدان 3/ 89. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في قول أمير المؤمنين عمر. . .، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 352.

وَيَبْدَأُ بِالأَهَمِّ فَالأهَمِّ؛ مِنْ سَدِّ الثُّغُورِ، وَكِفَايَةِ أَهْلِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَن يَحْتاجُ إليه المسلمون، فصارَ لهم ذلك دُونَ غيرِهم. فأمّا الأعْرابُ ونحوُهم ممَّن لا يُعِدُّ نفْسَه للجهادِ، فلا حَقَّ لهم فيه. والذين يَغْزُون (¬1) إذا نَشِطُوا، يُعْطَوْن مِن سَهْمِ سبيلِ اللَّه مِن الصَّدَقَةِ. قال القاضى: ومعْنى كلامِ أحمدَ، أنَّه بينَ الغَنِىِّ والفقيرِ. يعْنى الغَنِىَّ (¬2) الَّذى فيه مصلحةُ المُسْلِمين مِن المُجاهِدين والقُضاةِ والفُقَهاءِ. قال: ويَحْتَمِلُ أن يكونَ معْنى كلامِه، أنَّ لجميعِ المسلمين الانْتِفاعَ بذلك المالِ؛ لكَوْنِه يُصْرَفُ إلى مَن يَعُودُ نَفْعُه إلى جميعِ المسلمين، وكذلك ينْتَفِعون بالعُبورِ على القناطِرِ والجُسورِ المعْقودَةِ بذلك المالِ، وبالأنْهارِ والطُّرُقاتِ التى أُصْلِحَتْ به. وسياقُ كلامِ أحمدَ يَدُلُّ على أنَّه غيرُ مُخْتَصٍّ بالجُنْدِ، وإنَّما هو مَصْرُوفٌ (¬3) في مصالِحِ المسلمين، لكنْ يبدأُ بجُنْدِ المسلمين؛ لأنَّهم أهَمُّ المصالِحِ، لكَوْنِهم يَحْفَظُون المسلمين، فيُعْطَوْن كِفَاياتِهم، فما فَضَل قُدِّمَ الأهَمُّ فالأهَمُّ؛ مِن عِمارَةِ الثُّغُورِ وكِفَايَتِها بالكُراعِ (¬4) ¬

(¬1) في النسخ: «يعرضون». وانظر المغنى 9/ 298. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «معروف». (¬4) الكراع: اسم يشمل الخيل والسلاح.

وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ الأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ؛ مِنْ سَدِّ الْبُثُوقِ، وَكَرْىِ الأَنْهَارِ، وَعَمَلِ الْقَنَاطِرِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والسِّلاحِ، وما يُحْتاجُ إليه، ثم الأهَمُّ فالأهَمُّ؛ مِن عِمارَةِ المساجدِ والقَناطِرِ، وإصْلاحِ الطُّرُقِ، وكِراءِ الأَنْهارِ، وسَدِّ بُثُوقِها، وأرْزاقِ القُضاةِ والأئمةِ والمُؤَذنين والفُقَهاءِ، وما يَحْتاجُ إليه المسلمون، وكلِّ ما يعودُ نَفْعُه على المسلمين، ثم يُقْسَمُ ما فَضَل على المسلمين، لِما ذَكَرْنا مِن الآيَةِ، وقَولِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وللشافعىِّ قَوْلان، كنحوِ ما ذَكَرْناه. واسْتَدَلُّوا على أنَّ أربعةَ أخْماسِ الفَىْءِ كان لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياتِه، بما روَى مالكُ ابنُ أوْسِ بنِ الحَدَثانِ، قال: سَمِعْتُ عمرَ بنَ الخَطَّاب، والعباسُ وعلىٌّ يخْتَصِمان إليه في أمْوالِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال عمرُ: كانت أَمْوالُ بنى النَّضِيرِ ممَّا أفاءَ اللَّهُ على رَسُولِه، ممَّا لم يُوجِفِ المسلمون (¬1) عليه بِخَيْلٍ ولا رِكَابٍ، وكانتْ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خالِصًا دونَ المسلمين، وكان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنْفِقُ منها على أهْلِه نَفَقَةَ سَنَةٍ، فما فَضَل جَعَلَه في الكُراعِ والسِّلاحِ، ثم تُوُفِّىَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوَلِيَها أبو بكر بمِثْلِ ما وَلِيَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم وَلِيتُها بمثلِ ما وَلِيَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكرٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). إلَّا أنّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه، من كتاب الجهاد، وفى: باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال، من كتاب النفقات، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا نورث ما تركنا صدقة، =

1478 - مسألة: (ولا يخمس. وقال الخرقى: يخمس؛ فيصرف خمسه إلى أهل الخمس، وباقيه للمصالح)

وَلَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: يُخَمَّسُ؛ فَيُصْرَفُ خُمسُهُ إِلَى أَهلِ الْخُمْسِ، وَبَاقِيَهُ لِلْمَصَالِحِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه: فيَجْعَلُ ما بَقِىَ أُسْوةَ المالِ. قال شيْخُنا (¬1): وظاهرُ أخْبارِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، تدُلُّ على أنَّ لجميعِ المسلمين في الفَىْءِ حَقًّا. وهو ظاهِرُ الآيَةِ، فإنَّه لمَّا قَرَأ الآيَةَ التى في سُورَةِ الحَشْرِ، قال: هذه اسْتَوْعَبَت جميعَ المسلمين. وقال: ما أحدٌ إلَّا له في هذا المالِ نَصِيبٌ. فأمَّا أمْوالُ بنى النَّضِيرِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُنْفِقُ منها على أهْلِه؛ لأنَّ ذلك مِن أهَمِّ المصالِحِ، فبَدَأ بهم، ثم جَعَل باقِيَه أُسْوةَ المالِ. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ أمْوالُ بنى النَّضِيرِ اختصَّ بها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الفَىْءِ، وتَرَك سائِرَه لمَن سُمِّىَ في الآيةِ. وهذا مُبَيَّن في قَوْلِ عمرَ: كانت لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خالِصًا دُونَ المُسْلِمِينَ. 1478 - مسألة: (وَلَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: يُخَمَّسُ؛ فَيُصْرَفُ خُمسُهُ إِلَى أَهلِ الْخُمْسِ، وَبَاقِيَهُ لِلْمَصَالِحِ) ظاهِرُ المَذْهَبِ ¬

= من كتاب الفرائض، وفى: باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 4/ 46، 7/ 81، 82، 8/ 185، 186، 9/ 121، 122، 123. ومسلم، في: باب حكم الفئ، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1379. كما أخرجه أبو داود، في: باب في صفايا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأموال، من على الإمارة. سنن أبى داود 2/ 125 - 127. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 25، 48، 60، 208، 209. (¬1) في: المغنى 9/ 299، 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ الفَىْءَ لا يُخَمَّسُ. نَقَلَها أبو طالبٍ، فقال: إنَّما تُخَمَّسُ الغَنِيمَةُ. وعنه، يُخَمَّسُ كما تُخمَّسُ الغَنِيمَةُ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1). فظاهِرُ هذا أنَّ جَمِيعَه لهؤلاءِ، وهم أهلُ الخُمْسِ، وجاءَتِ الأخْبارُ دَالَّةً على اشْتِراكِ جميعِ المسلمين فيه عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، مُسْتَدِلًّا بالآياتِ التى بعدَها، فوَجَبَ الجَمْعُ بينهما؛ كيلا تَتَناقَضَ الآيةُ والأخبارُ وتَتَعارَضَ، وفى إيجابِ الخُمْسِ فيه جَمْعٌ بينَهما وتَوْفِيقٌ (¬2)، فإنَّ خُمْسه لمَن سُمِّىَ في الآيةِ، وسائِرَه يُصْرَفُ إلى مَن (¬3) ذُكِر في الآيَتَين الأخيرتَين والأخْبارِ. وقد روَى البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، قال: لَقِيتُ خالِى ومعه الرّايَةُ، فقُلْتُ: إلى ¬

(¬1) سورة الحشر 7. (¬2) في م: «توقيف». (¬3) في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أين؟ قال: بَعَثَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُل عَرَّسَ بامْرأةِ أبِيه، أن أضْرِبَ عُنُقَه، وأُخَمِّسَ مالَه (¬1). والرِّوايَةُ الأُولَى هى المشْهُورَةُ. قال القاضى: لم أجِدْ بما قال الخِرَقِىُّ، مِن أنَّ الفَىْءَ مَخْمُوسٌ، نَصًّا فأحْكِيه، وإنَّما نُصَّ على أنَّه غيرُ مَخْموسٍ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يُحْفَظُ عن أحَدٍ قبلَ الشافعىِّ في أنَّ في الفَىْءِ خُمْسًا، كخُمْسِ الغَنِيمَةِ. والدَّلِيلُ على ذلك قولُه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} الآياتُ إلى قوْلِه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬2). فجَعَلَهَ كلَّه لهم، ولم يَذْكُرْ خُمْسًا. ولمَّا قَرَأ عُمَرُ هذه الآيةَ، قال: هذه اسْتَوْعَبَتْ جميعَ المسلمين. فصل: فإن قُلْنا: إنَّه يُخَمَّسُ. صُرِفَ خُمْسُه إلى أهلِ الخُمْسِ في الغَنِيمَةِ عندَ مَن يَرَى تَخْمِيسَ الفَىْءِ مِن أصْحابِنا، وأصحابِ الشافعىِّ، وحُكْمُهُما واحِدٌ، لا اخْتِلافَ بينهم في هذا؛ لأنَّه في مَعْنى خُمْسِ الغَنِيمَةِ. ثم يُصْرَفُ الباقى في مَصالِحِ المسلمين، على ما ذَكَرْنا، ويبْدَأَ بالأهَمِّ فالأهَمِّ مِن سَدِّ الثُّغُورِ، وأرْزاقِ الجُنْدِ، ونحوِ ذلك. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يزنى بحريمه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 467. والترمذى، في: باب في من تزوج امرأة أبيه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 117. وابن ماجه، في: باب من تزوج امرأة أبيه من بعده، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 869. (¬2) سورة الحشر 6 - 10

1479 - مسألة: (وإن فضل منه فضل، قسم بين المسلمين. ويبدأ بالمهاجرين، ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-)

وَإنْ فَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، قُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَبْدَأُ بِالْمُهَاجِرِينَ، وَيُقَدِّمُ الْأقْرَبَ فَالأَقْرَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، -صلى اللَّه عليه وسلم-، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1479 - مسألة: (وَإنْ فَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، قُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَبْدَأُ بِالْمُهَاجِرِينَ، وَيُقَدِّمُ الْأقْرَبَ فَالأَقْرَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، -صلى اللَّه عليه وسلم-)، يَنْبَغِى أن يَبْدَأُ في القِسْمَةِ بالمهاجِرِ بن، ويُقَدِّمَ الأقْرَبَ فالأقْرَبَ مِن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قَدِمَتْ على عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ثَمانُمِائَةِ ألفِ دِرْهمٍ، فلمَّا أصْبَحَ أرْسَلَ إلى نَفَرٍ مِن أصْحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال لهم: قد جاءَ النَّاسَ مالٌ لم يَأْتِهم مِثْلُه منذُ كان الإِسلامُ، أَشِيروا علىَّ بمَن أَبدَا. قالوا: بك يا أميرَ المؤمنين، إنَّك وَلِىُّ ذلك. قال: لا، ولكنْ أبْدَأُ برسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، [ثمَّ] الأقْرَبِ فالأقْرَبِ. فَوَضَعَ الدِّيوانَ على ذلك (¬1). ويَنبَغِى للإِمام أِن يَضَعَ دِيوانًا يكْتُبُ فيه أسْماءَ المُقاتِلَةِ. وقَدْرَ أَرْزاقِهم، ويَجْعَلَ لكلِّ طائِفَةٍ عَرِيفًا يقومُ بأمْرِهم، ويَجْمَعُهم وقْتَ العَطاءِ ووَقْتَ الغَزْوِ؛ لأنَّه يُرْوَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل عامَ خَيْبَرَ على كلِّ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى 6/ 364. وما بين المعقوفين منه.

1480 - مسألة: (ثم الأنصار، ثم سائر المسلمين. وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين)

ثُمَّ الْأَنْصَارَ، ثُمَّ سَائِرَ المُسْلِمِين. وَهَلْ يُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عشرةٍ عَرِيفًا. ويَجْعَلُ العَطاءَ في كلِّ عامٍ مرَّةً أو مَرَّتَيْن، ولا يَجْعَل في أقَلَّ مِن ذلك؛ لئلَّا يشْغَلَهم عن الغَزْوِ. ويَبْدَأُ ببنى هاشمٍ؛ لأنَّهم أقارِبُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِما ذَكَرْنا مِن خَبَرِ عُمَرَ، ثم ببَنِى المُطَّلِبِ؛ لقَوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِم وَبَنُو المُطَّلِبِ شَئٌ واحِدٌ». وشَبَّكَ بينَ أصابِعِه (¬1). ثم ببَنِى عبدِ شَمْسٍ؛ لأنَّه أخو هاشِم لأبِيه وأُمِّه، ثم بَنى نَوْفَلٍ؛ لأنَّه أخو هاشِمٍ لأبِيه، ثم يُعْطِى بنى عبدِ الدَّارِ، وعبدِ العُزَّى، ويُقَدِّمُ عبدَ العُزَّى؛ لأنَّ فيهم أصْهارَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ خَدِيجَةَ منهم، وعلى هذا يعْطِى الأقْرَبَ فالأقْرَبَ، حتَّى تَنْقَضِىَ قُرَيْشٌ، وهم بنو النَّضْرِ ابنِ كِنانَةَ، وقيلَ: بنو فِهْرِ بينِ مالِكٍ. 1480 - مسألة: (ثُمَّ الْأنْصَارَ، ثُمَّ سَائِرَ المُسْلِمِين. وَهَلْ يُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ) يُقَدِّمُ الأَنْصارَ بعدَ قُرَيْشٍ؛ لفَضْلِهم، وسابِقَتِهم، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وآثارِهم الجميلةِ، ثم سائِرَ العربِ، ثم العَجَمَ والمَوالِىَ، فإنِ اسْتَوى اثْنانِ في الدَّرَجَةِ، قَدَّم أسَنَّهما، ثم أقْدَمَهما هِجْرَةً وسابِقَةً، ويَخُصُّ في كلُّ ذا الحاجَةِ. فصل: واخْتَلَفَ الخُلَفاءُ الراشدونَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهم، في قَسْمِ الفَىْءِ بينَ أهْلِه، فذَهَبَ أبو بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، إلى التَّسْوِيَةِ بينَهم. وهو المَشْهُورُ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. فرُوِىَ أنَّ أبا بكرٍ سَوَّى بينَ الناسِ في العَطاءِ، وأدْخَلَ فيه العَبِيدَ، فقال له عمرُ: يا خليفةَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَجْعَل الذين جاهَدُوا في سَبِيْلِ اللَّهِ بأمْوالِهم وأنْفسِهم، وهَجَروا دِيارَهم له، كمَن إنَّما دَخَلُوا في الإِسْلامِ كَرْهًا! فقال أبو بكرٍ: إنَّما عَمِلُوا للَّهِ، وإنَّما أُجُورُهم على اللَّهِ، وإنَّما الدُّنْيا بَلَاغٌ. فلمَّا وَلِىَ عُمَر، رَضِىَ اللَّه عنه، فاضَلَ بينَهم، وأخْرَجَ العَبِيدَ، فلمَّا وَلِىَ علىّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، سَوَّى بينَهم، وأخْرَجَ العَبِيدَ. وذُكِرَ عن عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه فَضَّلَ بينَهم في القِسْمَةِ. فعلى هذا مذهبُ اثْنَيْن منهم، أبى بكرٍ وعلىٍّ، التَّسْويةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومذهَبُ اثْنَيْنِ، عمرَ وعُثمانَ، التَّفْضِيلُ. وقد رُوِى عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ [جَوازُ التَّفْضِيلِ] (¬1)، فرَوَى عنه الحسَنُ بنُ علىِّ بنِ الحسَنِ (¬2)، أنَّه قال: للإِمامِ أن يُفَضِّلَ قَوْمًا على قَوْمٍ؛ لأنَّ عمرَ قَسَمَ بينهم على السَّوابِقِ، وقال: لا أجْعَلُ مَن قاتَلَ على الإِسْلامِ، كمَن قُوتِلَ عليه. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَم النَّفَلَ بينَ أهْلِه مُتَفاضِلًا على قَدْرِ غَنائِهم (¬3). وهذا في مَعْناه. ورُوِىَ عنه، أنَّه لا يجوزُ التَّفْضِيلُ. قال أبو بكرٍ: اخْتارَ أبو عبدِ اللَّهِ أن لا يُفَضلوا. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ أبى بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. قال الشافعىُّ: إنى رأيْتُ اللَّهَ (¬4) قَسَمَ المَوارِيثَ على العَدَدِ، يكونُ الأخْوَةُ مُتَفاضِلِين في الغَناءِ عن المَيِّتِ، والصِّلَةِ في الحياةِ، والحِفْظِ بعدَ الموتِ، فلا يُفَضَّلُون، وقَسَم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعةَ أخْماسِ الغَنِيمَةِ على العَدَدِ، ومنهم مَن يُغْنِى غايةَ الغَناءِ، ويكونُ الفَتْحُ على يَدَيْه، ومنهم مَن يكونُ مَحْضَرُه إمَّا غيرُ نافِعٍ، وإمَّا ضَررٌ بالجُبْنِ والهزِيمَةِ، وذلك أنَّهم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) هو الحسن بن على بن الحسن الإسكافى، أبو على، جليل القدر، عنده عن الإمام أحمد مسائل صالحة حسان كبار، أغرب فيها على أصحابه. طبقات الحنابلة 1/ 136، 137. (¬3) انظر ما ذكره أبو عبيد، في الأموال 307، 316. (¬4) في م: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوَوْا سبَبِ الاسْتِحْقاقِ، وهو انْتِصابُهم للجِهادِ، فصاروا كالغانِمِين. قال شيْخُنا (¬1): والصَّحيحُ، إن شاءَ اللَّهُ، أنَّ ذلك مُفَوَّضٌ إلى اجْتهادِ الإِمام، يَفْعَلُ ما يَراه مِن تَسْوِيَةٍ وتَفْضِيلٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن فِعْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأَنْفَالِ، وهذا في مَعْناه. وقد رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه فَرَض للمُهاجِرِين مِن أهْلِ بَدْرٍ خمسةَ آلافٍ خمسةَ آلافٍ، ولأهْلِ بَدْرٍ مِن الأنْصارِ أربعةَ آلافٍ أربعةَ آلافٍ، وفَرَض لأهْلِ الحُدَيْبيَةِ ثلاثةَ آلافٍ ثلاثةَ آلافٍ، ولأهْلِ الفَتْحِ ألْفَيْن ألْفَيْن (¬2). فصل: قال القاضى: ويَتَعَرَّفُ قَدْرَ حاجَةِ أهْلِ العَطاءِ وكِفايَتِهِم، ويَزِيدُ ذا الوَلَدِ مِن أجْلِ ولَدِه، وذا الفَرَسِ مِن أجْلِ فَرَسِه. وإن كان له عَبِيدٌ في مصالِحِ الحَرْب، حُسِبَتْ مُؤْنَتُهم في كِفايهم، وإن كانُوا لِزينَةٍ أو تِجارَةٍ، لم تُحْسَبْ مُؤْنتَهم. ويَنْظُرُ في أسْعارِهم في بُلْدانِهم؛ لأنَّ أسْعارَ البلادِ تَخْتَلِفُ، والغَرَضُ الكِفايَةُ، ولهذا تُعْتَبَرُ الذُّرِّيَّةُ والوَلَدُ، فيَخْتَلِفُ عَطاؤُهم لاخْتلافِ ذلك. وإن كانوا سَواءً في الكِفايةِ، لا يُفَضِّلُ بعْضَهم ¬

(¬1) في: المغنى 9/ 301. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب التفضيل على السابقة والنسب، من كتاب قسم الفئ والغنيمة. السنن الكبرى 6/ 349، 350.

1481 - مسألة: (ومن مات بعد حلول وقت العطاء، دفع إلى ورثته حقه)

وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، دُفِعَ إِلَى وَرَثَتِهِ حَقُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على بعضٍ، وإنَّما تَتَفاضَلُ كِفايَتُهم، ويُعْطَوْن قَدْرَ كِفايَتِهم، في كلِّ عامٍ مَرَّةً. وهذا، واللَّه أعلمُ، على قَوْلِ مَن رَأْى التَّسْوِيَةَ. فأمَّا مَن رأى التَّفْضِيلَ، فإنَّه يُفَضِّلُ أهلَ السَّوابِقِ والغَناءِ في الإِسْلامِ على غيرِهم، بحَسَبِ ما يَراه كما فَعَل عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولم يُقَدِّرْ ذلك بالكِفايَةِ. والعَطاءُ الواجِبُ لا يكونُ إلَّا لبالغ يُطِيقُ مِثْلُه القِتالَ، ويكونُ عاقِلًا حُرًّا بَصِيرًا صحيحًا، ليس به مَرَضٌ يَمْنَعُه القِتالَ، فإن مَرِض الصَّحِيحُ مَرَضًا غيرَ مَرْجُوِّ الزَّوالِ، كالزَّمانَةِ ونحوِها، خرَج مِن المُقاتِلَةِ، وسَقَطَ يسهْمُه، فإن كان مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوالِ، كالحُمَّى والصُّدَاعِ والبِرْسامِ (¬1)، لم يَسْقُطْ عَطاؤُه؛ لأنَّه في حُكْمِ الصَّحيحِ، ولذلك لا يَستَنِيبُ في الحَجِّ، كالصَّحِيحِ. 1481 - مسألة: (وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، دُفِعَ إِلَى وَرَثَتِهِ حَقُّه) لأنَّه مات بعدَ الاسْتِحْقاقِ، فانْتَقَلَ حَقه إلى وارِثِه، كسائِرِ ¬

(¬1) البرسام: ذات الجنب، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة.

1482 - مسألة: (ومن مات من أجناد المسلمين، دفع إلى امرأته وأولاده الصغار ما يكفيهم)

وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، دُفِعَ إِلَى امْرأَتهِ وَأوْلَادِه الصِّغَارِ كِفَايَتُهُمْ، فَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُهُمْ، فَاخْتَارُوا أنْ يَكُونُوا في المُقَاتِلَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْرُوثاتِ. 1482 - مسألة: (ومَن مات مِن أجْنادِ المُسْلِمين، دُفِع إلى امْرَأتِه وأوْلادِه الصِّغارِ ما يَكْفِيهم) لأنَّ فيه تَطيِيبَ قُلوبِ المُجاهِدين، فمتى عَلِمُوا أنَّ عِيالَهم يُكْفَوْن المُؤْنَةَ بعدَ مَوْتِهم، توَفَّرُوا على الجِهادِ، وإذا عَلِمُوا خِلافَ ذلك، تَوَفَّرُوا على الكَسْبِ، وآثرُوُه على الجهادِ؛ مَخافَةَ الضَّيْعَةِ على عِيالِهم، ولهذا قال أبو خالدٍ القَنانِىُّ (¬1): لقد زادَ الحياةَ إلىَّ حُبًّا … بنَاتِى إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعافِ مَخافَةَ أن يَرَيْنَ الفَقْرَ بَعْدِى … وأن يَشْرَبْنَ رَنْقًا (¬2) بعدَ صَافِ وأن يَعْرَيْن إن كُسِىَ الجَوَارِى … فتَنْبُو العَيْنُ عن كَرَمٍ عِجَافِ ولَوْلا ذاك قد سَوَّمْتُ مُهْرِى … وفى الرِّحْمنِ للضُّعَفاءِ كافِ ومتى تَزَوَّجَتِ المرأةُ سَقَطَ حَقُّها؛ لأنَّها خرَجَتْ عن عِيالِ المَيِّتِ. 1483 - مسألة: (فإذا بَلَغ ذُكُورُهم، فاخْتارُوا أن يكُونُوا في ¬

(¬1) في النسخ: «الهنائى»، والأبيات في: الكامل 3/ 167. وانظر معجم الشواهد الشعرية 498. (¬2) الرنق: الماء الكدر.

فُرِضَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا، تُرِكُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُقاتِلَةِ، فُرِضَ لهم، وإن لم يَخْتَارُوا، تُرِكوا) ويَسْقُطُ حَقُّهم مِن عَطاءِ المُقاتِلَةِ.

باب الأمان

بَابُ الْأَمَانِ يَصِحُّ أَمَانُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ، ذَكَرًا كَانَ أو أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُطْلَقًا أو أَسِيرًا. وَفِى أَمَانِ الصَّبِىِّ الْمُمَيِّزِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْأَمَانِ (يَصِحُّ أمَانُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ، ذَكَرًا كَانَ أو أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُطْلَقًا أو أَسِيرًا. وَفِى أَمانِ الصَّبِىِّ الْمُمَيِّزِ رِوَايَتَانِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الأمانَ إذا أُعْطِىَ أهلَ الحَرْبِ، حَرُم قَتْلُهم ومالُهم والتَّعرُّضُ لهم. ويَصِحُّ مِن كلِّ مُسْلم بالغٍ عاقلٍ مُخْتارٍ، ذكرًا كان أَو أُنْثَى، حُرًّا أو عبدًا. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، والأوْزاعِىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ القاسمِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهُ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ: لا يَصِحُّ أمانُ العبدِ، إلَّا أن يكونَ مَأْذُونًا له في القِتالِ؛ لأنَّه لا يَجِبُ عليه الجِهادُ، فلا يَصِحُّ أمانُه، كالصَّبِىِّ، ولأنَّه مَجْلُوبٌ مِن دارِ الحَرْبِ، فلا يُؤْمَنُ أن يَنْظُرَ لهم في تقْدِيمِ مصْلَحَتِهم. ولَنا، ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ، فَمَنْ أخْفَر مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ صرْفٌ وَلَا عَدْلٌ». رواه البُخارِىُّ (¬1). والعبدُ إمّا أن يكونَ أدْناهُم، فيَصِحُّ أمانُه بالحَديثِ، أو يكونَ غيرُه أدْنَى منه، فيَصِحُّ أمانُه بطرَيقِ التَّنْبِيهِ. وروَى فُضَيْلُ بنُ يزيدَ الرَّقاشِىُّ، قال: جَهَّز عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ جَيْشًا، فكنت فيه، فحَصَرْنا مَوْضِعًا، فرَأَيْنَا أنَّا سنَفْتَحُها اليومَ، وجَعَلْنا نُقْبِلُ ونَروحُ، وبَقِىَ عَبْدٌ منّا، فراطَنَهم وراطَنُوه، فَكَتَب لهم الأمانَ في صَحِيفَةٍ، وشَدَّها على سَهْمٍ، ورَمَى بها إليهم، فأخَذُوها، وخَرَجُوا، فكَتَبَ بذلك إلى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، فقال: العَبْدُ المُسْلِمُ رجل مِن المسلمين، ذِمَّتُه ذِمَّتُهم. رَواه ¬

(¬1) في: باب حرم المدينة، من كتاب فضائل المدينة، وفى: باب ذمة المسلمين، من كتاب الجزية، وفى: باب إثم من تبرأ من مواليه، من كتاب الفرائض، وفى: باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم. . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 3/ 26، 4/ 122، 8/ 192، 9/ 120. كما أخرجه مسلم، في: باب فضل المدينة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 999. وأبو داود، في: باب تحريم المدينة، من كتاب المناسك، وفى: باب أيقاد المسلم بالكافر؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 1/ 469، 2/ 488. والنسائى، في: باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، وباب سقوط القود من المسلم للكافر، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 18، 21، 22. وابن ماجه، في: باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 895. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 119، 122، 126، 151، 2/ 180، 192، 211، 215، 398.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سعيدٌ (¬1). ولأنَّه مسلمٌ مُكَلَّفٌ، فصَحَّ أمانُه، كالحُرِّ والمَرْأةِ. وما ذَكَرُوه من التُّهْمَةِ يَبْطُلُ بما إذا أُذِن له في القِتالِ، فإنَّه يَصِحُّ أمانُه، وبالمرأةِ. فصل: ويَصِحُّ أمانُ المرأةِ، في قولِ الجميعِ. قالت عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها: إن كانتِ المرأةُ لتجِيرُ على المسلمين فيَجُوزُ. وعن أُمِّ هانِىٌّ، أنَّها قالت: يا رسولَ اللَّهِ، قد أجَرْتُ أحْمائِى، وأغْلَقْتُ عليهم، وإنَّ ابنَ أُمِّى أرادَ قَتْلَهم. فقال لها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قَدْ أَجرْنَا مَنْ أَجرْتِ يَا أُمِّ هَانِئٍ، إِنَّمَا يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدنَاهُم». رَواهما سعيدٌ (¬2). وأجارَت زينبُ بنتُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا العاصِ بنَ الرَّبِيعِ، فأمْضاهُ رسولُ اللَّهِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في أمان العبد، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 233. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجوار، وجوار العبد والمرأة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 222، 223. وابن أبى شيبة، في: باب في أمان المرأة والمملوك، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 453، 454. (¬2) في: باب المرأة تجير على القوم، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 234. كما أخرج الأول البيهقى، في: باب أمان المرأة، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 95. وعبد الرزاق، في: باب الجوار، وجوار العبد والمرأة، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 223. وأخرج الثانى البخارى، في: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، من كتاب الصلاة، وفى: باب أمان النساء وجوارهن، من كتاب الجزية، وفى: باب ما جاء في زعموا، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 1/ 100، 4/ 122، 8/ 46. ومسلم، في: باب استحباب صلاة الضحى، من كتاب صلاة المسافرين وقصرها. صحيح مسلم 1/ 498. وأبو داود، في: باب في أمان المرأة، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 77. والترمذى، في: باب ما جاء في أمان العبد والمرأة، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 75. والدارمى، في: باب صلاة الضحى، من كتاب الصلاة، وفى: باب يجير على المسلمين أدناهم، من كتاب السير. سنن الدارمى 1/ 339، 2/ 234. والإمام مالك، في: باب صلاة الضحى، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 152. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 341، 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). فصل: ويَصِحُّ أمانُ الأسِيرِ إذا عَقَدَه غيرَ مُكْرَهٍ؛ لدُخُولِه في عُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّه مسلمٌ مُكَلَّف مُخْتَارٌ، أشْبَهَ غيرَ الأسِيرِ. وكذلك يَصِحُّ أمانُ الأجِيرِ والتّاجِرِ في دارِ الحَرْبِ. وبهذا قال الشافعىّ. وقال الثَّوْرِىُّ: لا يَصِحُّ أمانُ أحَدٍ منهم. ولَنا، عُمُومُ الحديثِ، والقِياسُ. فأمَّا الصَّبِىُّ المُمَيِّزُ، ففيه رِوايَتان؛ إحداهُما، لا يَصِحُّ أمانُه. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، ولا يَلْزمُه بقَولِه حكْمٌ، فلا يَلْزَمُ غيرَه، كالمَجْنونِ. والثانيةُ، يَصِحُّ أمانُه. وهو قولُ مالكٍ. قال أبو بكرٍ: يَصِحُّ أمانُه، رِوايَةً واحدةً. وحَمَل رِوايةَ المَنْعِ على غيرِ المُمَيِّزِ (¬2)، واحْتَجَّ بعُمُومِ الحدِيثِ، ولأنَّه مسلمٌ عاقِلٌ، فصَحَّ أمانُه، كالبالِغِ، بخِلافِ المجنونِ، فإنَّه لا قَوْلَ له أصْلًا. فصل: ولا يَصِحُّ أمانُ كافِرٍ، وإن كان ذِمِّيًّا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ذِمَّةُ المسلمين وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ». فجَعَل الذِّمَّةَ للمسلمين، فلا تَحْصُلُ لغيرِهم، ولأنَّه مُتَّهمٌ على الإِسلامِ وأهْلِه، فأشْبَهَ الحَرْبِىَّ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب أمان المرأة، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 95. وعبد الرزاق، في: باب الجوار. . .، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 224، 225. (¬2) في م: «المكلف».

1484 - مسألة: (ويصح أمان الإمام لجميع الكفار)

وَيَصِحُّ أمَانُ الإِمَامِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَانُ الْأمِيرِ لِمَنْ جُعِلَ بِإِزَائِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَصِحُّ أمانُ مَجْنونٍ، ولا طِفْلٍ؛ لأنَّ كَلامَه غيرُ مُعْتَبَرٍ، فلا يَثْبُتُ به حُكْم. ولا يَصِحُّ أمانُ زائِلِ العَقْلِ بنَوْمٍ أو سُكْرٍ أو إغْماءٍ؛ لذلك، ولأنَّه لا يَعْرِفُ المَصْلَحَةَ مِن غيرِها، أشْبَهَ المَجْنونَ. ولا يَصِحُّ مِن مُكرَهٍ؛ لأنَّه قولٌ أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَصِحَّ، كالإِقْرارِ. 1484 - مسألة: (وَيَصِحُّ أمَانُ الإِمَامِ لِجَمِيعِ الكُفَّارِ) وآحادِهم؛ لأنَّ وِلايَتَه عامَّةٌ على المسلمين. (و) يصِحُّ (أمانُ الأميرِ لمَن

وَأَمَانُ أحَدِ الرَّعِيَّةِ لِلْوَاحِدِ، وَالْعَشَرَةِ، وَالْقَافِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جُعِل بإزائِه) مِن الكُفَّارِ، فأمَّا في حقِّ غيرِهم، فهو كآحادِ المسلمين، لأنَّ وِلايتَه على قتالِ أولئكَ دُونَ غيرِهم. (و) يَصِحُّ (أمانُ أحَدِ الرَّعِيَّةِ للواحِدِ، والعَشَرَةِ، والقافِلَةِ) الصَّغيرةِ، والحِصْنِ الصغيرِ، لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أجازَ أمانَ العَبْدِ لأهْلِ الحِصْنِ الَّذى ذَكَرْنا حَدِيثَه. ولا يَصِحُّ أمانُه لأهْلِ بَلْدَةٍ، ورُسْتاقٍ، وجَمْعٍ كثيرٍ، لأنَّ ذلك يُفْضِى إلى تَعْطيلِ الجهادِ، والافْتِياتِ على الإِمامِ. ويَصِحُّ أمانُ الإِمامِ للأسيرِ بعدَ الاسْتِيلاءِ عليه؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أمَّنَ الهُرْمُزانَ وهو أسيرٌ. رَواه سعيدٌ (¬1). ولأنَّ الأمانَ دُونَ المَنِّ عليه، وقد ¬

(¬1) في: باب قتل الأسارى، والنهى عن المثلة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 252. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الأمان ما هو كيف هو؟ من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 456، 457.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جازَ المَنُّ عليه. فأمَّا أحَدُ الرَّعِيَّةِ، فليس له ذلك. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ، أنَّه يَصِحُّ أمانُه؛ لأنَّ زينبَ بنتَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أجارَتْ زَوْجَها أبا العاصِ بعدَ أسْرِه، فأمْضاهُ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وحُكِىَ عن الأوْزاعِىِّ. ولَنا، أنَّ أمْرَ الأسِيرِ مُفَوَّضٌ إلى الإِمامِ، فلم يَجُر الافْتِياتُ عليه بما يَمْنَعُه ذلك، كقَتْلِه. وحَدِيثُ زينبَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، في أمانِها، إنَّمَا صَحَّ بإجازَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فصل: وإذا شَهِد للأسِيرِ اثْنان أوْ أكثرُ مِن المسلمين، أنَّهم أمَّنُوه، قُبِلَ، إذا كانُوا بصِفَةِ الشُّهودِ. وقال الشافعىُّ: لا تُقْبَلُ شَهادَتُهم؛ لأنَّهم يَشْهَدُون على فِعْلِ أنْفُسِهم. ولَنا، أنَّهم عُدولٌ مِن المسلمين، غيرُ مُتَّهَمِين، شَهِدُوا بأمَانِه، فوَجَبَ أن يُقْبَلَ، كما لو شَهِدُوا على غيرِهم أنَّه أمَّنَه. وما ذَكَره لا يَصِحُّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبِلَ شَهادَةَ المُرْضِعَةِ على فِعْلِها، في حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ (¬1). فإنْ شَهِد واحدٌ: إنِّى أمَّنْتُه. فقال ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب تفسير المشبهات، من كتاب البيوع، وفى: باب شهادة المرضعة، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 3/ 70، 7/ 13. والترمذى، في: باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 94. والنسائى، في: باب الشهادة في الرضاع، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 90. والدارمى، في: باب شهادة المرأة الواحدة على الرضاع، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 158، 159. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 7، 8، 384.

1485 - مسألة: (ومن قال لكافر: أنت آمن. أو: لا بأس عليك. أو: أجرتك. أو: قف. أو: ألق سلاحك. أو: مترس

وَمَنْ قَالَ لِكَافِرٍ: أَنْتَ آمِنٌ. أوْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ. أوْ: أَجَرْتُكَ. أَوْ: قِفْ. أوْ: أَلْقِ سِلَاحَكَ. أوْ: مَتَرْس. فَقَدْ أَمَّنَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضِى: قياسُ قَوْلِ أحمدَ، أنَّه يُقْبَلُ، كما لو قال الحاكِمُ بعدَ عَزْلِه: كُنْتُ حَكَمْتُ لفُلانٍ على فُلانٍ بحَقٍّ. فإنَّه يُقْبَلُ قوْلُه. وعلى قَوْلِ أبى الخَطّابِ: يَصِحُّ أمانُه، فقُبِلَ خبرُه به (¬1)، كالحاكِمِ في حَالِ وِلايَتِه. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ؛ لأنَّه ليس له أن يُؤَمِّنَه في الحالِ، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه به، كما لو أقَرَّ بحَقٍّ على غيرِه. وهذا قولُ الشافعىِّ. 1485 - مسألة: (ومَن قال لكافِرٍ: أنْتَ آمِنٌ. أو: لا بَأْسَ عَلَيك. أو: أجَرْتُكَ. أو: قِفْ. أو: ألْقِ سِلاحَكَ. أو: مترس (¬2). فَقَدْ أَمَّنَهُ) قد ذَكَرْنا مَن يصِحُّ أمانُه، وقد ذكَرْنا ههُنا صِفَةَ الأمانِ. والذى ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) أى: لا تخف. فارسية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَد به الشَّرْعُ لَفْظَتان؛ أجَرتُكَ، وأمَّنْتُكَ. قال اللَّهُ تَعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (¬1). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ، وأمَّنَّا مَنْ أمَّنْتِ» (¬2). وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» (¬3). وفى معنى ذلك قولُه: لا تَخَفْ. لا تَذْهَلْ. لا تَخْشَ. لا خوْفَ عَلَيك. لا بَأْسَ عَلَيك. وقد رُوِى عن عُمَرَ، أنَّه قال: إذا قُلْتُم: لا بَأْسَ. أو: لا تَذْهَلْ. أو: مترس. فقد أمَّنْتُموهم؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ (¬4). ورُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال للهُرْمُزانِ: تَكَلَّمْ، ولا بَأْسَ عليك. فلمَّا تَكَلَّمَ، أمرَ عُمَرُ بقَتْلِه، فقال أنَسُ بنُ مالكٍ: ليس لك إلى ذلك سبيلٌ، قد أمَّنْتَه. قال عُمَرُ: كلَّا. فقال الزُّبَيْرُ: إنَّك قد قُلْتَ: تَكَلَّمْ، ولا بأْسَ عليك. فدَرَأ عنه عُمَرُ القَتْلَ. روَاه سعيدٌ وغيرُه (¬5). ولا نعْلَمُ في هذا كلِّه خِلافًا. وأمَّا إن قال له: قِفْ. أو: قُمْ. أو: ألْقِ سِلاحَكَ. فقال أصْحابُنا: هو أمانٌ أيضًا؛ لأنَّ ¬

(¬1) سورة التوبة 6. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 343. من حديث أم هانئ. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب فتح مكة، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1408. وأبو داود، في: باب ما جاء في خبر مكة، من كتاب الامارة. سنن أبى داود 2/ 144. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 292، 538. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب كيف الأمان، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 96. وسعيد بن منصور، في: باب الإشارة إلى المشركين والوفاء بالعهد، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 230. وعبد الرزاق، في: باب دعاء العدو، من كتاب الجهاد. وفى: باب القضاة، من كتاب الجامع. المصنف 5/ 219، 220. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 346.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكافِرَ يَعْتَقِدُ هذا أمانًا، فأشْبَهَ قَوْلَه: أمَّنْتُك. وقال الأوْزَاعِىُّ: إنِ ادَّعَى الكافِرُ أنَّه أمانٌ، وقال: إنَّما وقَفْتُ لذلك. فهو آمِنٌ، وإن لم يَدَّعِ ذلك، فلا يُقْبَلُ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّ هذا ليس بأمانٍ؛ لأنَّ لَفْظَه لا يُشْعِرُ به، وهو يُسْتَعْمَلُ للإِرْهابِ والتَّخْوِيفِ، فأشْبَهَ قوْلَه: لأقْتُلَنَّك. لكن يُرْجَعُ إلى القائِلِ، فإن قال: نَوَيْتُ به الأمانَ. فهو أمانٌ. وإن قال: لم أُرِدْ أمانه. نَظَرْنا في الكافِرِ؛ فإن قال: اعْتَقَدْتُه أمانًا. رُدَّ إلى مَأْمَنِه، ولمِ يَجُزْ قَتْلُه، وإن لم يَعْتَقِدْه أمانًا فليس بأمانٍ، كما لو أشارَ إليهم بما اعْتَقَدُوه أمانًا. فصل: فإن أشارَ إليهم بما اعْتَقَدُوه أمانًا، وقال: أرَدْتُ به الأمانَ. فهو أمانٌ، وإن قال: لم أُرِدْ به الأمانَ. فالقَوْلُ قوْلُه؛ لأنَّه أعْلَمُ بنِيَّتِه. فإن خَرَج الكُفَّارُ مِن حِصْنِهم بِناءً على أنَّ هذه الإِشارَةَ أمان، لم يَجُزْ قَتْلُهم، ويُرَدُّون إلى مَأْمَنِهم. فقد قال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: واللَّهِ لو أنَّ أحَدَكُم أشارَ بإصْبَعِه إلى السَّمَاءِ إلى مُشْرِكٍ، فنَزَلَ بأمانِه، فقَتَلَه، لقَتَلْتُه به. رَواه سعيدٌ (¬2). وإن ماتَ المُسلمُ أو غابَ، فإنَّهم يُرَدُّون إلى مَأْمَنِهم. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. فإن قيل: فكيف صَحَّحْتُم الأمانَ بالإِشارَةِ، مع القُدْرَةِ على النُّطْقِ، بخِلافِ البَيْعِ والطَّلاقِ والعِتْقِ؟ قُلْنا: تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، كما حُقِنَ دَمُ مَن له شُبْهَةُ كتابٍ؛ تَغْلِيبًا لحَقْنِ دَمِه، ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 194. (¬2) في: باب الإشارة إلى المشركين والوفاء بالعهد، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 229.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الكُفَّارَ في الغالِبِ لا يَفْهَمُون كلامَ المسلمين، ولا يَفْهَمُ المسلمون كَلامَهم، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى الإِشارَةِ، بخِلافِ غيرِه. ومَن قال لكافِرٍ: أنْتَ آمِنٌ. فرَدَّ الأمانَ، لم يَنْعَقِدْ، لأنَّه إيجابُ حَقٍّ بعَقْدٍ، فلم يَصِحَّ مع الرَّدِّ، كالبَيْعِ، وإن قَبِلَه ثم رَدَّه انْتَقَضَ، لأنَّه حَقٌّ له، فسَقَطَ بإسْقاطِه، كالرِّقِّ. فصل: إذا سُبِيَتْ كافِرَةٌ، وجاءَ ابْنُها يَطْلُبُها، وقال: إنَّ عِنْدِى أسِيرًا مُسْلِمًا، فأطْلِقُوها حتَّى أُحْضِرَه. فقال الإِمامُ: أحْضِرْه. فأحْضَرَه، لَزِم إطْلاقُها؛ لأنَّ المفْهُومَ مِن هذا إجَابَتُه إلى ما سألَ. فإن قال الإِمامُ: لم أُرِدْ إجابَتَه. لم يُجْبَرْ على تَرْكِ أسِيرِه، ورُدَّ إلى مَأْمَنِه. وقال أصحابُ الشافعىِّ: يُطْلَقُ الأسِيرُ، ولا تُطْلَقُ المُشْرِكَةُ، لأنَّ المسلمَ حُرٌّ لا يجوزُ أن يكونَ ثَمَنَ مَمْلْوكَةٍ، ويُقالُ: إنِ اخْتَرْتَ شِراءَها، فَائْتِ بثَمَنِها. ولَنا، أنَّ هذا يُفْهَمُ منه الشَّرْطُ، فوَجَبَ الوَفاءُ به، كما لو صَرَّح به، ولأنَّ الكافِرَ فَهِم منه ذلك، وبَنَى عليه، فأشْبَهَ ما لو فَهِم الأمانَ مِن الإِشارَةِ. وقولُهم: لا يكونُ الحُرُّ ثَمَنَ مَمْلُوكَةٍ. قُلْنا: لكنْ يصْلُحُ أن يُفادَى بها، فقد فادَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأسِيرَةِ التى أخَذَها مِن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ رَجُلَيْن (¬1) مِن المسلمين (¬2)، وفادَى رَجُلَيْن (1) مِن المسلمين بأسِيرٍ مِن الكُفَّارِ (¬3)، ووَفَّى لهم برَدِّ مَن جاءَ مسلمًا، وقال: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ في ¬

(¬1) في م: «برجلين». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 87. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 84.

1486 - مسألة: (ومن جاء بمشرك، فادعى أنه أمنه، فأنكره، فالقول قوله. وعنه)

وَمَنْ جَاءَ بِمُشْرِكٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَأَنْكَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَعَنْهُ، قَوْلُ الأَسِيرِ. وَعَنْهُ، قَوْلُ مَنْ يَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دِينِنَا الْغَدْرُ» (¬1). وإن كان رَدُّ المسلمِ إليهم ليس بحَقٍّ لهم، ولأنَّه الْتَزَمَ إطْلاقَها، فلَزِمَه ذلك؛ لقوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬2). وقولِه: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ في دِينِنَا الْغَدْرُ». 1486 - مسألة: (ومَن جاء بمُشْرِكٍ، فادَّعَى أنَّه أمَّنَه، فأنْكَرَه، فالْقَوْلُ قَوْلُه. وعنه) القَوْلُ (قوْلُ الأسِيرِ. وعنه، قَوْلُ مَن يَدُلُّ الحَالُ على صِدْقِه) إذا جاء المسلمُ بمُشرِكٍ، فادَّعَى المُشْرِكُ أنَّه أمَّنَهَ، وادَّعَى المسلمُ أسْرَه، فَفِيه ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُن، القولُ قولُ المسلمِ؛ لأنَّ الأصْلَ إباحَةُ دَمِ الكافِرِ، وعَدَمُ الأمانِ. والثانيةُ، القَوْلُ قولُ الأسِيرِ؛ لأنَّ صِدْقَه مُحْتَمِلٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً تَمْنَعُ قَتْلَه. وهذا اخْتيارُ أبى بكرٍ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب. . .، من كتاب الشروط. صحيح البخارى 3/ 257. وأبو داود، في: باب في صلح العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 77، 78. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 331. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثالثةُ، يُرْجَعُ إلى قَوْلِ مَن يَدُلُّ ظاهِرُ الحالِ على صِدْقِه؛ فإن كان الكافِرُ ذا قُوَّةٍ، معه سِلاحُه، فالظاهِرُ صِدْقُه، وإن كان ضَعِيفًا مَسْلُوبَ السِّلاحِ، فالظاهِرُ كَذِبُه، فلا يُلْتَفَتُ إلى قَوْلِه. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: لا يُقْبَلُ قوْلُه وإن صَدَّقَه المسْلمُ؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على أمانِه، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه به. ولَنا، أنَّه كافِرٌ، لم يَثْبُتْ أسرُه، ولا نازَعَه فيه مُنازِعٌ، فقُبِلَ قَوْلُه في الأمانِ، كالرسولِ. فصل: ومَن طَلَب الأَمَانَ ليَسْمَع كلامَ اللَّهِ تعالى، ويَعْرِفَ شَرائِعَ الإِسلامِ، لَزِمَه إجابتُه، ثم يُرَدُّ إلى مَأْمَنِه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وبه قال قَتادَةُ، ومَكْحُولٌ، والأَوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ. وكَتَب بذلك عُمَرُ بنُ عبدِ العزِيزِ إلى النّاسِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬1). قال الأوْزَاعِىُّ: هى إلى يومِ القِيَامَةِ. ¬

(¬1) سورة التوبة 6.

1487 - مسألة: (ومن أعطى أمانا ليفتح حصنا، ففتحه، واشتبه علينا فيهم، حرم قتلهم واسترقاقهم)

وَمَنْ أُعْطِىَ أَمَانًا لِيَفْتَحَ حِصْنًا، فَفَتَحَهُ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْنَا فِيهِمْ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1487 - مسألة: (وَمَنْ أُعْطِىَ أَمَانًا لِيَفْتَحَ حِصْنًا، فَفَتَحَهُ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْنَا فِيهِمْ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ) إذا حَصَر السلمون حِصْنًا، فناداهُم رجلٌ: أمِّنُونِى أفْتَحْ لكم الحِصْنَ. جازَ أنْ يُعْطُوه أمانًا؛ فإنَّ زيادَ بنَ لَبِيدٍ لمّا حَصَر النُّجَيْرَ (¬1)، قال الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ: أعْطُونِى الأمانَ لعشرةٍ، أفْتَحْ لكم الحِصْنَ. ففَعَلُوا. فإن أشْكَلَ عليهم، وادَّعَى كلُّ واحدٍ مِن الحِصْنِ أنَّه الَّذى أمَّنُوه، لم يَجُزْ قَتْلُ واحِدٍ منهم؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم يَحْتَمِلُ صِدْقُه، وقد اشْتَبَهَ المُباحُ بالمُحَرَّمِ فيما لا ضَرُورَةَ إليه، فحَرُمَ الكُلُّ، كما لو اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بمُذَكَّاةٍ، وأختُه بأجْنَبِيَّاتٍ، أو زانٍ مُحْصَنٌ بمَعْصُومِين. وبهذا قال الشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويَحْرُمُ اسْتِرقاقُهم أيضًا في أحَدِ الوجْهَين. وذكر القاضى أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لِما ذَكَرْنا في تَحْرِيمِ القَتْلِ، فإنَّ اسْتِرقاقَ ¬

(¬1) في م: «النحير». والنجير: حصن قرب حضرموت منيع، لجأ إليه أهل الردة مع الأشعث بن قيس في أيام أبى بكر، رضى اللَّه عنه. معجم البلدان 4/ 762، 763. وخبر الأمان فيه.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُخْرَجُ وَاحِدٌ بِالْقُرْعَةِ، وَيُسْتَرَقُّ الْبَاقُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن لا يَحِلُّ اسْتِرْقاقُه مُحَرَّمٌ. والوَجْهُ الثَّانِى، يُقْرَعُ، فيُخْرَجُ صاحِبُ الأمانِ بالقُرْعَةِ، ويُسْتَرَقُّ الباقون. قاله أبو بكرٍ؛ لأنَّ الحَقَّ لواحِدٍ منهم غيرِ مَعْلومٍ، فأُخْرِجَ بالقُرْعَةِ، كما لو أعْتَقَ عَبْدًا مِن عَبيدِه وأشْكَلَ، ويُخالِفُ القَتْلَ؛ فإنَّه إراقَةُ دَمٍ يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، بخِلافِ الرِّقِّ، ولهذا يَمْتَنِعُ القَتْلُ في النِّساءِ والصِّبْيانِ دُونَ الاسْتِرْقاقِ. وقال الأوْزَاعِىُّ: إذا أسْلَمَ واحِدٌ مِن أهْلِ الحِصْنِ قَبْلَ فَتْحِه، أشْرَفَ علينا، ثم أشْكَلَ، فادَّعَى كلُّ واحدٍ منهم أنَّه الَّذى أسْلَمَ، يَسْعَى كلُّ واحدٍ منهم في قِيمَةِ نفْسِه، ويُتْرَكُ له عُشْرُ قِيمَتِه. وقياسُ المَذْهَبِ أنَّ فيها وجْهَيْن، كالتى قبلَها. فصل: قال أحمدُ: إذا قال الرجلُ: كُفَّ عنِّى حتَّى أدُلَّكَ على كذا. فبَعَثَ معه قَوْمًا ليدُلَّهم، فامْتَنَعَ مِن الدَّلالَةِ، فلهم ضَرْبُ عُنُقِه؛ لأنَّ أمانَه بشَرْطٍ، ولم يُوجَدْ. قال أحمدُ: إذا لَقِىٍ عِلْجًا وطَلَب منه الأمانَ، فلا يُؤَمِّنُه؛ لأنَّه يُخافُ شَرُّه، وإن كانوا سَرِيَّةً، فلهم أمانُه. يعنى، أنَّ السَّرِيَّةَ

1488 - مسألة: (ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن، ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية. وعند أبو الخطاب: لا يقيمون سنة إلا بجزية)

وَيَجُوزُ عَقْدُ الأَمَانِ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمِنِ، وَيُقِيمُونَ مُدَّةَ الْهُدْنَةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَقَالَ أبو الْخَطَّابِ: لَا يُقِيمُونَ سَنَةً وَاحِدَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَخافُون مِن غَدْرِ العِلْجِ، بخِلافِ الواحِدِ. وإن لَقِيَتِ السَّرِيَّةُ أعْلاجًا، فادَّعَوْا أنَّهم جاءُوا مُسْتَأْمِنين، فإن كان معهم سِلاحٌ، لم يُقْبَلْ منهم؛ لأنَّ حَمْلَهم السِّلاحَ يدُلُّ على مُحارَبَتِهم، وإن لم يكُنْ معهم سِلاحٌ، قُبِلَ قوْلُهم (¬1)؛ لأنَّه دليلٌ على صِدْقِهم. 1488 - مسألة: (وَيَجُوزُ عَقْدُ الأمَانِ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمِنِ، وَيُقِيمُونَ مُدَّةَ الْهُدْنَةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَعندَ أبو الْخَطَّابِ: لَا يُقِيمُونَ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ) يَجُوزُ عَقْدُ الأمانِ للرَّسُولِ والمُسْتَأْمِنِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُؤَمِّنُ رُسُلَ المُشْرِكِين. ولمّا جاءَه رَسُولًا مُسَيْلِمَةَ، قال: «لَوْلَا أنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا» (¬2). ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك؛ لأنَّنا لو قَتَلْنا رُسُلَهم، لَقَتَلُوا رُسُلَنا، فتَفُوتُ مَصْلَحَةُ المُراسَلَةِ. ويجوزُ عَقْدُ الأمانِ ¬

(¬1) في م: «قوله». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الرسل، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 76. والدارمى، في: باب في النهى عن قتل الرسل، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 235. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكلِّ واحدٍ منهما مُطْلَقًا ومُقَيَّدًا بمُدَّةٍ، سَواءٌ كانت طَوِيلةً أو قَصِيرَةً، بخِلافِ الهُدْنَةِ، فإنَّها لا تَجُوزُ إلَّا مُقَيَّدَةً؛ لأنَّ في جَوازِها مُطْلَقَةً تَرْكًا للجِهادِ، وهذا بخلافِه. ويَجُوزُ أنْ يُقِيمُوا مدَّةَ الهُدْنَةِ بغيرِ جزْيَةٍ. ذَكَرَه القاضى. قال أبو بكرٍ: هذا ظاهِر كلامِ أحمدَ. وقال أبو الخَطّابِ: عندِى أنَّه لا يَجُوزُ أن يُقِيمَ سَنَةً بغيرِ جِزْيَةٍ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه كافِرٌ أُبِيحَ له الإِقامَةُ في دارِ الإِسلامِ مِن غيرِ التِزامِ جِزْيَةٍ، فلم يَلْزَمْه جِزْيَةٌ (¬2)، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ، ولأنَّ الرَّسُولَ لو كان ممَّن لا يجوزُ أخْذُ الجِزْيَةِ منه، لاسْتَوَى في حَقِّه السَّنَةُ وما دُونَها، في أنَّ الجِزْيَةَ لا تُؤْخَذُ منه في المُدَّتَيْن، فإذا جازَتْ له الإِقامَة فِي إحْداهما، جازَتْ في الأُخْرَى، قياسًا لها عليها. وقَوْلُه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. أي يَلْتَزِمُونها، ولم يُرد حَقِيقَةَ الإِعْطاءِ، وهذا مَخْصُوصٌ منها بالاتِّفاقِ، فإنَّه يَجُوزُ له الإِقامَةُ مِن غيرِ التِزامٍ لها، ولأنَّ الآيةَ تَخصَّصَتْ بما دُونَ الحَوْلِ، فنَقِيسُ على المَحَلِّ المَخْصُوصَ. ¬

(¬1) سورة التوبة 29. (¬2) سقط من: م.

1489 - مسألة: (ومن دخل دار الإسلام بغير أمان، وادعى أنه رسول، أو تاجر ومعه متاع يبيعه، قبل منه)

وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الإِسْلَام بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ، أَوْ تَاجِرٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإنْ كَانَ جَاسُوسًا، خُيِّرَ الإِمَامُ فِيهِ كَالْأَسِيرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1489 - مسألة: (وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الإِسْلَام بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ، أَوْ تَاجِرٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِلَ مِنْهُ) إذا دَخَل حَرْبِىٌّ دارَ الإِسلامِ بغيرِ أمانٍ، وادَّعَى أنَّه رسولٌ، قُبِلَ منه، ولم يَجُزِ التَّعَرُّضُ له، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لرسُولَىْ مُسَيْلِمَةَ: «لَوْلَا أنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا». ولأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بذلك. وإنِ ادَّعَى أنَّه تاجِرٌ، وقد جَرَتِ العادَةُ بدُخُولِ تُجَّارِهم إلينا، لم يُعْرَضْ له إذا كان معه ما يَبِيعُه؛ لأنَّهم دَخَلُوا يَعْتَقِدُون الأمانَ، أشْبَهَ ما لو دَخَلُوا بإشارَةِ مسلمٍ. قال أحمدُ: إذا رَكِب القومُ في البَحْرِ، فاسْتَقْبَلَهم فيه تُجَّارٌ مُشْرِكُون مِن أرْضِ العَدُوِّ، ويُرِيدُون بِلادَ الإِسْلامِ، لم يَعْرِضُوا لهم، ولم يُقاتِلُوهم، وكلُّ مَن دَخَل بِلادَ المسلمين مِن أرْضِ الحَرْبِ بتِجارَةٍ، بُويعَ، ولم يُسْأَلْ عن شئٍ. وإن لم تكنْ معه تِجارَةٌ، فقال: جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا. لم يُقْبَلْ منه، وكان الإِمامُ فيه مُخَيَّرًا. ونحوُ هذا قولُ الأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ. (و) كذلك (إن كان جاسُوسًا)؛

وَإنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ في مَرْكَبٍ إِلَيْنَا، فَهُوَ لِمَنْ أَخذَهُ. وَعَنْهُ، يَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه حَرْبِىٌّ أُخِذَ بغيرِ أمانٍ، فأشْبَهَ المأْخُوذَ في حالِ الحَرْبِ. (وإن كان ممَّن ضَلَّ الطَّرِيقَ، أو حَمَلَتْه الرِّيحُ في مَرْكَبٍ إلينا، فهو لمَن أَخَذَه)، في إحْدَى الرِّوايَتَين؛ لأنَّه أُخِذَ بغيرِ قتالٍ في دارِ الإِسلام، فكان لآخِذِه، كالصَّيْدِ والحشيشِ. والأُخْرَى، (يكونُ فَيْئًا للمسلمين) لأنَّه أُخِذَ بغيرِ قتالٍ، أشْبَهَ ما لو أُخِذَ في دارِ الحَرْبِ. وقد رُوِى عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّه سُئِلَ في الدَّابَّةِ تَخْرُجُ مِن بَلَدِ الرُّومِ، أو تَنْفَلِتُ فتَدْخُلُ القَرْيَةَ، وعن القَوْمِ يَضِلُّون عن الطَّرِيقِ، فيَدْخُلُون القَرْيَةَ مِن قُرَى المسلمين، فَيَأْخُذُونَهم؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: يكونُ لأهْلِ القَرْيَةِ كُلِّهم، يتقاسَمونَهم (¬1). وسُئِلَ عنِ مَرْكَبٍ بَعَث به مَلِكُ الرُّومِ، وفيه رِجَالُه، فطَرَحَتْه الرِّيحُ إلى طَرَسُوسَ، فخَرَجَ إليه أهلُ طَرَسُوسَ، فقَتَلُوا الرَّجّالَةَ، وأخَذُوا الأمْوالَ؟ فقال: هذا فَئٌ للمسلمين، ممَّا أفاءَ اللَّهُ عليهم. وقال الزُّهْرِىُّ: هو غَنِيمَةٌ، وفيه الخُمْسُ. فصل: ومَن دَخَل دارَ الحَرْبِ رسُولًا أو تاجِرًا بأمانِهم، فخِيَانَتُهم مُحَرَّمَةٌ عليه؛ لأنَّهم إنَّما أعْطَوْه الأمانَ مَشْروطًا بتَرْكِ خِيانَتِهم، وأمنِه إيَّاهم مِن نَفْسِه، وإن لم يكُنْ ذلك مذْكُورًا في اللَّفْظِ، فهو معْلُومٌ في المعنى. وكذلك مَن جاءَنا منهم بأمانٍ فخانَنا، [كان ناقِضًا] (¬2) لأمانِه، ولأنَّ خِيانَتَهم غَدْرٌ، ولا يَصْلُحُ في دِينِنا الغَدْرُ. فإن خانَهم، أو سَرَق منهم، أو اقْتَرَض شيئًا، وَجَب عليه ردُّ ما أخَذَ إلى أرْبابِه، فإن جاء أرْبابُه إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فهو ناقض».

1490 - مسألة: (وإذا أودع المستأمن ماله مسلما، أو أقرضه إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، بقى الأمان فى ماله، يبعث إليه إن طلبه)

وَإِذَا أَوْدَعَ الْمُسْتَأْمَنُ مَالَهُ مُسْلِمًا، أَوْ أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ، ثَمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَقِىَ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ إِنْ طَلَبَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ دارِ الإِسْلامِ بأمانٍ، أو إيمانٍ، رَدَّه إليهم، وإلَّا بَعَث به إليهم؛ لأنَّه أخَذَه على وَجْهٍ يَحْرُمُ عليه أخْذُه، فلَزِمَه رَدُّه، كما لو أخَذَه مِن مالِ مُسْلِمٍ. 1490 - مسألة: (وإذا أوْدَعَ المُسْتَأْمَنُ مَالَهُ مُسْلِمًا، أو أقْرَضَهُ إيَّاه، ثمَّ عاد إلى دارِ الحَرْبِ، بَقِىَ الأمَانُ في مالِه، يُبْعَثُ إليه إن طَلَبَهُ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن دَخَل مِن أهْلِ الحَرْبِ إلى دارِ الإِسلامِ بأمانٍ، فأوْدَعَ مالَه مسلمًا أو ذِمِّيًّا، أو أقْرَضَهما إيَّاه، ثمَّ عادَ إلى دارِ الحَرْبِ لحاجَةٍ يَقْضِيَها، أو رَسُولًا، ثمَّ يعودُ إلى دارِ الإِسْلامِ، فهو على أمانِه في نَفْسِه ومالِه؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ بذلك عن نِيَّةِ الإِقامَةِ بدارِ الإِسْلامِ، فأشْبَهَ الذِّمِّىَّ إذا دَخَل لذلك، وإن دَخَل مُسْتَوْطِنًا، أو مُحارِبًا، بَطَل الأمانُ في نَفْسِه، وبَقِىَ في مالِه؛ لأنَّه بدُخُولِه دارَ الإِسلامِ بأمانٍ، ثَبَت الأمانُ لمالِه الذى معه تَبَعًا، فإذا بَطَلَ في نَفْسِه بدُخُولِه دارَ الحَرْبِ، بَقِىَ في مالِه؛

وَإِنْ مَاتَ، فَهُوَ لِوَارِثِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لاخْتِصاصِ المُبْطِلِ في نَفْسِه، فيَخْتَصُّ البُطْلانُ به. فإن قيل: إنَّما يَثْبُتُ الأمانُ لمالِه تَبَعًا، فإذا بَطَل في المَتْبُوعِ، بَطَل في التَّبَعِ. قُلْنا: بل يثْبُتُ له الأمانُ لمعنًى وُجِدَ فيه، وهو إدْخالُه معه، وهذا يَقْتَضِى ثُبُوتَ الأمانِ له، وإن لم يَثْبُتْ في نفْسِه، بدَلِيلِ ما لو بَعَثَه مع مُضارِبٍ له أو وكيلٍ، فإنَّه يَثْبُتُ له الأمانُ، وإن لم يَثْبُتْ في نفْسِه، ولم يُوجَدْ فيه ههُنا ما يَقْتَضِى نَقْضَ الأمانِ فيه، فبَقِىَ على ما كان عليه. فإن أخَذَه معه إلى دارِ الحَرْبِ، انْتَقَضَ الأمانُ فيه، كما انْتَقَضَ في نَفْسِه؛ لوُجُودِ المُبْطِلِ فيهما. إذا ثَبَت هذا، فإذا طَلَبَه صاحِبُه بُعِث إليه، وإنْ تَصَرَّفَ فيه ببَيْعٍ أو هِبَةٍ أو نحوِهما، صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه مَلَكَه. (وإن ماتَ) في دارِ الحربِ، انْتَقَلَ المالُ إلى وارِثِه، ولم يَبْطُلِ الأمانُ فيه. وقال أبو حنيفةَ: يَبْطُلُ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه قد صارَ لوارِثِه، ولم يَعْقِدْ فيه أمانًا، فوَجَب أنْ يَبْطُلَ فيه، كسائِرِ أمْوالِه. ولَنا، أنَّ الأمانَ حَقٌّ واجِبٌ لازِمٌ مُتَعَلِّقٌ بالمالِ، فإذا انْتَقَلَ إلى الوارِثِ، انْتَقَلَ بحَقِّه، كسائِرِ الحُقُوقِ؛ مِن الرَّهْنِ،

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَهُوَ فَىْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والضَّمِينِ، والشُّفْعَةِ. وهذا اخْتيارُ المُزَنِىِّ. ولأنَّه مالٌ له أمانٌ، فيَنْتَقِلُ إلى وارِثِه مع بقاءِ الأمانِ فيه، كالمالِ الذى مع مُضارِبِه. (وإن لم يكُنْ له وارِثٌ) صارَ فَيْئًا لبيتِ المالِ، كمالِ الذِّمِّىِّ إذا مات وليس له وارِثٌ. فإن كان له وارِثٌ في دارِ الإِسلامِ، لم يَرِثْه. ذَكَرَه القاضى؛ لاخْتِلافِ الدَّارَيْن. والأَوْلَى أنَّه يَرِثُه؛ لأنَّ مِلَّتَهما واحِدَةٌ، فوَرِثَه، كالمسلمين. فإن ماتَ المُسْتَأْمَنُ في دارِ الإِسْلامِ، فهو كموتِه في دارِ الحَرْبِ، سواءٌ؛ لأنَّ المُسْتَأْمَنَ حَرْبِىٌّ تَجْرِى عليه أحكامُهم. وإن رَجَع إلى دارِ الحَرْبِ، فسُبِىَ واستُرِقَّ، فقال القاضى: يكونُ مالُه (¬1) مَوْقُوفًا حتى يُعْلَمَ آخِرُ أمْرِه، فإنْ ماتَ، كان فَيْئًا؛ لأنَّ الرَّقيقَ لا يُورَثُ، وإن عَتَق كان له. وإن لم يُسْتَرَقَّ، ولكنْ مَنَّ عليه الإِمامُ أو فادَاه، فمالُه له، وإن قتَلَه، فمالُه لوَرَثَتِه، كما لو مات إن لم يُسْبَ، لكنْ دَخَل دارَ الإِسلامِ بغيرِ أمانٍ ليَأْخُذَ مالَه، جازَ قتْلُه وسَبْيُه؛ لأنَّ ثُبوتَ الأمانِ لمالِه لا يُثْبِتُ الأمانَ لنَفْسِه، كما لو كان مالُه وَدِيعةً بدارِ الإِسلامِ وهو مقيمٌ بدارِ الحَرْبِ. فصل: وإن أخَذ المسلمُ مِن الحَرْبِىِّ في دارِ الحَرْبِ مالًا مُضارَبَةً أو وَدِيعَةً، ودَخَل به دارَ الإِسلامِ، فهو في أمانٍ، حُكْمُه حكمُ ما ذَكَرْنا. وإن أخَذَه ببَيْعٍ في الذِّمَّةِ أو قَرْضٍ، فالثَّمَنُ في ذِمَّتِه، عليه أداؤُه إليه. ¬

(¬1) في م: «أمره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنِ اقْتَرَض حَرْبِىٌّ مِن حَرْبِىٍّ مالًا، ثمَّ دَخَل إلينا فأسْلَمَ، فعليه رَدُّ البَدَلِ؛ لأنَّه أخَذَه على سَبِيلِ المُعاوَضَةِ، فأشْبَهَ ما لو تَزَوَّجَ حَرْبِيَّةً، ثمَّ أسْلَمَ، لَزِمَه مَهْرُها. فصل: وإذا سَرَق المُسْتَأْمَنُ في دارِ الإِسلامِ، أو قَتَل، أو غَصَب، ثمَّ عادَ إلى دارِ الحَرْبِ، ثمَّ خَرَج مُسْتَأْمِنًا مرَّةً ثانِيَةً، اسْتُوفِىَ منه ما لَزِمَه في أمانِه الأوَّلِ، كما لو لم يدْخُلْ دارَ الحَرْبِ. وإنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، فخَرَج به إلى دارِ الحَرْبِ، ثمَّ قُدِرَ عليه، لم يُغْنَمْ؛ لأنَّه لم يثْبُتْ مِلْكُه عليه؛ لكَوْنِ الشِّراءِ باطِلًا، [ويُرَدُّ إلى بائِعِه] (¬1)، ويَرُدُّ بائِعُهُ الثَّمَنَ إلى الحَرْبِىِّ؛ لأنَّه حَصَل في أمانٍ. فإن كان العَبْدُ تالِفًا، فعلى الحَرْبِىِّ قِيمَتُه، ويتَرَادَّان الفَضْلَ. فصل: وإذا دَخَلَتِ الحَرْبِيَّةُ إلينا بأمَانٍ، فتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا في دارِنا، ثمَّ أرادَتِ الرُّجُوعَ، لم تُمْنَعْ، إذا رَضِىَ زَوْجُها أو فارَقَها. وقال أبو حنيفةَ: تُمْنَعُ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لا يَلْزَمُ الرجلَ به المُقامُ، فلا يَلْزَمُ المرأةَ، كعَقْدِ الإِجارَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

1491 - مسألة: (وإذا أسر الكفار مسلما، فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة، لزمه الوفاء لهم)

وَإِنْ أَسَرَ الْكُفَّارُ مُسْلِمًا، فَأَطْلَقُوهُ بِشَرْطِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1491 - مسألة: (وإذا أسَر الكُفَّارُ مُسْلِمًا، فأطْلَقُوه بشَرْطِ أن يُقِيمَ عِنْدَهم مُدَّةً، لَزِمَه الوَفاءُ لهم) ولم يكُنْ له أن يَهْرُبَ. نَصَّ عليه؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» (¬1). وقال الشافعىُّ: لا يَلْزَمُه. وإن أطْلَقُوه وأمَّنُوه، صارُوا في أمانٍ منه؛ لأنَّ أمانَهم له يقْتَضِى سَلامَتَهم منه. فإن أمْكَنَه المُضِىُّ إلى دارِ الإِسلامِ، لَزِمَه، وإن تَعَذَّرَ عليه، أقامَ، وكان حُكْمُه حُكْمَ مَن أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ. فإن خَرَج فأدْرَكُوه وتَبِعُوه، قاتَلَهم، وبَطَل الأمانُ؛ لأنَّهم طَلَبُوا منه المُقامَ (¬2)، وهو مَعْصِيَةٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 149. (¬2) في النسخ: «الأمان». وانظر المغنى 13/ 185.

1492 - مسألة: (فإن لم يشترطوا شيئا، أو شرطوا كونه رقيقا، فله أن يقتل، ويسرق، ويهرب)

وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا شَيْئًا، أَوْ شَرَطُوا كَوْنَهُ رَقِيقًا، فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ، وَيَسْرِقَ، وَيَهْرُبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1492 - مسألة: (فإن لم يَشْتَرِطُوا شَيْئًا، أو شَرَطُوا كَوْنَه رَقِيقًا، فله أن يَقْتُلَ، ويَسْرِقَ، ويَهْرُبَ) أمَّا إذا أطْلَقُوه ولم يُؤَمِّنُوه، فله أن يَأْخُذَ منهم ما قَدَر عليه، ويسْرِقَ، ويَهْرُبَ؛ لأنَّه (¬1) لم يُؤَمِّنْهم ولم يُؤَمِّنُوه. وكذلك إن شَرَطُوا كوْنَه رَقِيقًا، فرَضِىَ بذلك، أو لم يَرْضَ؛ لأنَّ كَوْنَه رَقِيقًا حُكْمٌ شَرْعِىٌّ، لايثْبُتُ عليه بقولِه، ولو ثَبَت لم يَقْتَضِ أمانًا له منهم، ولا لهم منه. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وإنْ أحْلَفُوه على ذلك، وكان مُكْرَهًا، لم تَنْعَقِدْ يَمِينُه، وإن كان مُخْتارًا انْعَقَدَتْ يمِينُه. ويَحْتَمِلُ أن تَلْزَمَه الإِقامَةُ إذا قُلْنا. يَلْزَمُه الرُّجُوعُ إليهم. على ما نَذْكُرُه في المسألةِ التى بعدَها. وهو قولُ اللَّيْثِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

1493 - مسألة: (وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا، وإن عجز عنه عاد إليهم، لزمه الوفاء لهم، إلا أن تكون امرأة، فلا ترجع إليهم. وقال الخرقى: لا يرجع الرجل أيضا)

وَإِنْ أَطْلَقُوهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَالًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ عَادَ إِلَيْهِمْ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، فَلَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1493 - مسألة: (وإن أطْلَقُوه بشَرْطِ أن يَبْعَثَ إليهم مالًا، وإن عَجَز عنه عاد إليهم، لَزِمَه الوَفاءُ لهم، إلَّا أن تكون امْرَأةً، فلا ترجِعُ إليهم. وقال الخِرَقِىُّ: لا يَرْجِعُ الرَّجُلُ أيْضًا) وجملةُ ذلك، أنَّ الأسِيرَ إذا أطْلَقَه الكُفَّارُ، وشَرَطُوا عليه أن يَبْعَثَ إليهم بفِدائِه أو يعودَ إليهم، وأحْلَفُوه؛ فإن كان مُكْرَهًا، لم يَلْزَمْه الوَفاءُ لهم برُجُوعٍ ولا فِداءٍ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عُفِىَ لِأُمَّتِى عَنِ الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬1). وإن لم يُكْرَهْ، وقَدَر على الفِداءِ الذى شَرَط على نَفْسِه، لَزِمَه أدَاؤُه. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ. ونَصَّ الشافعىُّ على أنَّه لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه حُرٌّ لا يسْتَحِقُّون بَدَلَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬1). ولمّا صالَحَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أهْلَ الحُدَيْبِيَةِ على رَدِّ مَن جاءَه مُسْلِمًا وَفَّى لَهم، وقال: «إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» (¬2). ولأنَّ في الوَفاءِ مَصْلَحةً للأُسارَى، وفى الغَدْرِ مَفْسَدَةً في حَقِّهم؛ لأنَّهم لا يَأْمَنُون بعدَه، والحاجَةُ داعِيَةٌ إليه، فلَزِمَه الوَفاءُ، يَلْزَمُه الوَفاءُ بعَقْدِ الهُدْنَةِ، ولأنَّه عاهَدَهم على أداءِ مالٍ، فلَزِمَه الوَفاءُ لهم، كثَمَنِ المَبِيعِ، والمَشْرُوطُ في عَقْدِ الهُدْنَةِ في مَوْضِعٍ يجوزُ شَرْطُه. فإن عَجَز عن الفِداءِ وكانتِ امرأةً، لم تَرْجِعْ إليهم، ولم يَحِلَّ لها ذلك؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬3). ولأنَّ في رُجُوعِها تَسْلِيطًا لهم على وَطْئِها حَرامًا، وقد مَنَع اللَّهُ رسولَه رَدَّ النِّساءِ إلى الكُفَّارِ بعدَ صُلْحِه على رَدِّهِنَّ في قَضِيَّةِ الحُدَيْبِيَةِ، وفيها: فجاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِناتٌ فنَهاهم اللَّهُ أن يَرُدُّوهُن. روَاه أبو داودَ، وغيرُه (¬4). وإن كان المُفادَى رَجُلًا، ففيه روايتان؛ إحْداهُما، لا يَرْجِعُ. اخْتارَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الحسَنِ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ؛ لأنَّ الرُّجُوعَ إليهم مَعْصِيَةٌ، فلم يَلْزَمْ بالشَّرْطِ، كما لو كان امرأةً، وكما لو شَرَط قَتْلَ مُسْلِمٍ، أو شُرْبَ الخمرِ. والثانيةُ، يَلْزَمُه. وهو قولُ عثمانَ، ¬

(¬1) سورة النحل 91. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 352. (¬3) سورة الممتحنة 10. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ؛ لِما ذَكَرْنا في بَعْثِ الفِدَاءِ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عاهَدَ قريشًا على رَدِّ مَن جاءَه مُسْلِمًا، فَرَدَّ أبا بَصِيرٍ، وأبا جَنْدَلٍ، وقال: «إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ». وفارَقَ رَدَّ المرأةِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى فَرَّق بينهما في هذا الحُكْمِ حين صالَحَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُرَيْشًا على رَدِّ مَن جاءَه منهم مُسْلِمًا، فأمْضَى اللَّهُ سبحانه ذلك في الرِّجالِ، ونَسَخَه في النِّساءِ. وسنَذْكُرُ الفَرْقَ بينهما في البابِ الذى بعدَه إن شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: فإنِ اشْتَرَى الأسِيرُ شيئًا مُخْتارًا، أو اقْتَرَضَه، فالعَقْدُ صَحِيحٌ، ويلزَمُه الوَفاءُ لهم؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فأشْبَهَ ما لو فَعَلَه غيرُ الأسِيرِ. وإن كان مُكْرَهًا، لم يَصِحَّ. وإن أكْرَهُوه على قَبْضِه، لم يَضْمَنْه، ولكن عليه رَدُّه إليهم إن كان باقيًا؛ لأنَّهم دَفَعُوه إليه بحُكْمِ العَقْدِ. وإن قَبَضَه باخْتِيارِه، ضمِنَه؛ لأنَّه قَبَضَه باخْتِيارِه عن عَقْدٍ فاسدٍ. وإن باعَه والعَيْنُ قائِمَةٌ، لَزِمَه رَدُّها، وإن عُدِمَت رَدَّ قِيمَتَها. فصل: وإذا اشْتَرَى المُسْلِمُ أسِيرًا مِن أيْدِى العَدُوِّ، فإن كان بإذْنِه، لَزِمَه أن يُؤَدِّىَ إلى الذى اشْتَراه ما أدَّاه فيه، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه (¬1)؛ لأنَّه إذا أَذِن فيه، كان نائِبَه في شِراءِ نَفْسِه، فكان الثَّمَنُ على الآمِرِ، كالوَكيلِ. وإن كان بغيرِ إذْنِه، لَزِمَ الأسِيرَ الثَّمَنُ أيضًا. وبه قال الحسنُ، والزُّهْرِىُّ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «إذا وزن بإذنه». وكذلك في المغنى 13/ 133.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ. وقال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه تبرَّعَ بما لا يَلْزَمُه، ولم يُؤْذَنْ له فيه، أشْبَهَ ما لو عمَّرَ دارَه. ولَنا، ما روَى سعيدٌ (¬1) عن عثمانَ بنِ مَطَرٍ، ثنا أبو حَرِيزٍ (¬2)، عن الشَّعْبِىِّ، قال: أغارَ أهلُ ماهَ وأهلُ جَلُولاءَ على العَرَبِ، فأصابُوا [سَبايا مِن] (¬3) سَبايا العَرَبِ، فكَتَب السّائِبُ بنُ الأكْوَعِ إلى عمرَ في سَبايا المسلمين ورَقِيقِهم ومَتاعِهم، فكَتَب عمرُ: أيُّما رجلٍ أصابَ رَقِيقَه ومَتاعَه بعَيْنِه، فهو أحَقُّ به مِن غيرِه، وإن أصابَه في أيْدِى التُّجَّارِ بعدَ ما قُسِمَ، فلا سَبيلَ إليه، وأيُّما حُرٍّ اشْتَرَاه التُّجَّارُ، فإنَّه يُرَدُّ إليهم رُءُوسُ أمْوالِهم، فإنَّ الحُرَّ لا يُباعُ ولا يُشْتَرَى. فحَكَم للتُّجّارِ برُءُوسِ أمْوالِهم. ولأنَّ الأسِيرَ يجبُ عليه فِداءُ نَفْسِه؛ ليَتَخَلَّصَ مِن حُكمِ الكُفَّارِ، فإذا ناب عنه غيرُه في ذلك، وَجَب عليه قَضاؤُه، كما لو قَضَى الحاكِمُ عنه حَقًّا امْتَنَع مِن أدائِه. فعلى هذا إذا اخْتَلَفا في قَدْرِ الثَّمَنِ، فالقوْلُ قولُ الأسِيرِ. وهو قولُ الشافعىِّ إذا أَذِنَ له. وقال الأوْزاعِىُّ: القوْلُ قولُ المُشْتَرِى؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في فِعْلِه، وهو أعْلَمُ به. ولَنا، أنَّ الأسِيرَ مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، والقوْلُ قولُ المُنْكِرِ، ولأنَّ الأصْلَ براءَةُ ذِمَّتِه مِن الزِّيادَةِ، فتَرَجَّحَ قوْلُه بالأصْلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 199. (¬2) في النسخ: «جرير». والمثبت من سنن سعيد. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ فِداءُ أسِيرِ المسلمين إذا أمْكَنَ. وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالِكٌ، وإسْحاقُ. ويُرْوَى عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه سأل الحسَنَ بنَ عَلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: على مَن فِكاكُ الأسِيرِ؟ قال: على الأرْضِ التى يُقاتِلُ عليها. وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» (¬1). وروَى سعيدٌ (¬2)، بإسْنادِه عن حِبَّانَ ابنِ أبى جَبَلَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ عَلَى المُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أنْ يُفَادُوا أسِيرَهُمْ، ويُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ». وفادَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلَين مِن المسلمين بالرجلِ الذى أخذه مِن بني عُقَيْلٍ (¬3)، وفادَى بالمرأةِ التى اسْتَوْهَبَها مِن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَجُلَيْن (¬4). ويَجِبُ فِداءُ أسِيرِ أهْلِ الذِّمَّةِ، سواءٌ كانوا في مَعُونَتِنا أو لا. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، واللَّيْثِ؛ لأنَّنا الْتَزَمْنا حِفْظَهم بمُعاهَدَتِهم وأخْذِ جِزْيَتِهِم، فلَزِمَنا المُدافَعَةُ مِن وَرائِهم، والقِيامُ دُونَهم، فإذا عَجَزْنا عن ذلك، وأمْكَنَنا تَخْلِيصُهم، لَزِمَنا ذلك، كمَن يَحْرُمُ عليه إتْلافُ شئٍ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب فكاك الأسير، من كتاب الجهاد، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقوله. . .، من كتاب الأطعمة، وفى: باب وجوب عيادة المريض، من كتاب الطب. صحيح البخارى 4/ 83، 7/ 87، 150. والدارمى، في: باب في فكاك الأسير، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 394، 406. (¬2) في: باب ما جاء في الفداء، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 293. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 84. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أتْلَفَه (¬1) غَرِمَه. وقال القاضى: إنَّما يَجِبُ فِداؤُهم إذا اسْتَعان بهم الإِمامُ في قِتالِهم فسُبُوا، وَجَب عليه ذلك؛ لأنَّ أسْرَهم كان لمَعْنًى مِن جِهَتِه. وهو المنْصوصُ عن أحمدَ. ومتى وَجَب فِداؤُهم، فإنَّه يُبْدَأُ بفِداءِ المسلمين قَبْلَهم؛ لأنَّ حُرْمَةَ المسلمِ أعظمُ، والخَوْفَ عليه أشَدُّ، وهو مُعَرَّضٌ لفِتْنَتِه عن دينِ الحَقِّ، بخِلافِ أهْلِ الذِّمَّةِ. ¬

(¬1) بعده في م: «ضمن».

باب الهدنة

بَابُ الْهُدْنَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ الْهُدْنَةِ ومعْناها، أن يَعْقِدَ الإِمامُ أو نائِبُه عَقْدًا على تَرْكِ القتالِ مُدَّةً، بعِوَضٍ وبغيرِ عِوَضٍ. ويُسَمَّى مُهادَنَةً ومُوادَعَةً ومُعاهَدَةً، وهى جائِزَةٌ؛ لقوْلِه تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1). وقوْلِه تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (¬2). ورَوَى مَرْوانُ، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صالَحَ سُهَيْلَ بنَ عمروٍ، على وَضْعِ القِتالِ عَشْرَ سِنِين (¬3). ولأنَّه قد يكونُ بالمسلمين ضَعْفٌ، فيُهادِنُهم حتى يَقْوَى المسلمون. وإنَّما تجوزُ للنَّظَرِ للمسلمين؛ إمَّا لضَعْفِهم عن القِتالِ، أو للطَّمَعِ في إسْلامِهم بهُدْنَتِهم، أو في أدائِهم الجزْيَةَ، أو غيرِ ذلك مِن المَصَالِحِ. وتجوزُ على غيرِ مالٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صالَحَ يومَ الحُدَيْبِيَةِ على غيرِ مالٍ، وتجوزُ على مالٍ يأْخُذُه منهم، فإنَّها إذا جازَتْ ¬

(¬1) سورة التوبة 1. (¬2) سورة الأنفال 61. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في صلح العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 78. والبيهقى، في: باب الهدنة على أن يرد الإمام من جاء من بلده مسلما من المشركين، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 227، 228. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على غيرِ مالٍ، فعلى مالٍ أوْلَى. فأمَّا إن صالَحَهم على مالٍ (¬1) يبْذُلُه لهم، فقد أطْلَقَ أحمدُ القولَ بالمَنْعِ منه. وهو مذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ فيه صَغارًا للمسلمين. قال شيْخُنا (¬2): وهذا مَحْمُولٌ على غيرِ حالِ الضَّرُورَةِ، [فأمَّا إن دَعَتْ إليه الضَّرُورَةُ] (¬3)، مثلَ أن يخافَ على المسلمين الهَلاكَ والأسْرَ، فيجوزُ؛ لأنَّه يجوزُ للأسيرِ فِداءُ نفْسِه بالمالِ، كذا هذا، ولأنَّ بَذْلَ المالِ وإن كان صَغارًا، فإنَّه يجوزُ تحَمُّلُه لدَفْعِ صَغارٍ أعْظمَ منه، وهو القَتْلُ والأسْرُ، وسَبْىُ الذُّرِّيَّةِ الذين يُفْضِى سَبْيُهم إلى كُفْرِهم. وقد رَوَى عبدُ الرزَّاقِ (¬4)، في المغازِى، عن الزُّهْرِىِّ، قال: أرْسَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وهو مع أبى سفيانَ، يعنى يومَ الأحْزابِ: «أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ لَكَ ثُلُثَ تَمْرِ الأنْصَارِ، أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ غَطَفَانَ، وتُخَذِّلُ بَيْنَ الأحْزَابِ؟» فأرْسَلَ إليه عُيَيْنَةُ: إنْ جَعَلْتَ لى الشَّطْرَ فَعَلْتُ. قال (¬5): فحدَّثَنِي ابنُ أبى نَجِيحٍ، أنَّ سعدَ بنَ مُعاذٍ، وسَعْدَ بنَ عُبادَةَ قالا: يا رسولَ اللَّهِ، واللَّهِ لقد كان يَجُرُّ سُرْمَه في الجاهليَّةِ في عامِ السَّنَةِ حَوْلَ المدِينَةِ، ما يُطِيقُ أن يَدْخُلَها، فالآنَ حينَ جاءَ اللَّهُ بالإِسلامِ، نُعْطِيهم ذلك؟ فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَنَعَمْ إِذًا». ولولا أنَّ ذلك جائِزٌ، لمَا بذَلَه ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) في: المغنى 13/ 156. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب الأحزاب وبنى قريظة، من كتاب المغازى. المصنف 5/ 367، 368. (¬5) أي: معمر بن راشد.

1494 - مسألة: (ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الإمام أو نائبه)

وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَالذِّمَّةِ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 1494 - مسألة: (ولا يَجُوزُ عَقْدُ الهُدْنَةِ إلَّا مِن الإِمامِ أو نائِبِه) لأنَّه عَقْدٌ مع جُمْلَةِ الكُفَّارِ، وليس ذلك لغيرِه، ولأنَّه يتعَلَّقُ بنَظَرِ الإِمامِ وما يرَاه (¬1) مِن المصْلَحَةِ، على ما قَدَّمْنا، ولأنَّ تجْوِيزَه لغيرِ الإِمامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الجِهادِ بالكُلِّيَّةِ، أو إلى تِلْك الناحِيَةِ، وفيه افْتِياتٌ على الإِمامِ. فإن هادَنَهم غيرُ الإِمامِ أو نائِبِه، لم يَصِحَّ. فإن دخَلَ بعْضُهم دارَ الإِسلامِ بهذا الصُّلْحِ، كان آمِنًا؛ لأنَّه دخَلَ مُعْتَقِدًا للأمانِ، ويُرَدُّ إلى دارِ الحَرْبِ، ولا يُقَرُّ في دارِ الإِسلامِ؛ لأنَّ الأمانَ لم يَصِحَّ. وإن عقَدَ الإِمامُ الهُدْنَةَ، ثمَّ ماتَ أو عُزِلَ، لم يَنْتَقِضْ عَهْدُه، وعلى مَن بعدَه الوَفاءُ به؛ لأنَّ الإِمامَ عقَدَه باجْتِهادِه، فلم يَجُزْ نَقْضُه باجْتِهادِ غيرِه، كما لا يَجُوزُ للحاكِمِ نَقْضُ أحْكامِ مَن قبلَه باجْتِهادِه. وإذا عَقَدَ الهُدْنَةَ، لزِمَه الوَفاءُ بها؛ لقوْلِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2). وقال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (¬3). ¬

(¬1) في م: «يراد». (¬2) سورة المائدة 1. (¬3) سورة التوبة 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه إذا لم يَفِ بها، لم يُسْكَنْ إلى عَهْدِه، وقد يحْتاجُ إلى عَقْدِها. فصل: فإن نَقَضُوا العَهْدَ بقتالٍ، أو مُظاهَرَةٍ، أو قَتْلِ مُسْلِمٍ، أو أخْذِ مالٍ، انْتَقَضَ عَهْدُهم؛ لأنَّ الهُدْنَةَ تَقْتَضِى الكَفَّ، فانْتَقَضَتْ بتَرْكِه. ولا يُحتاجُ في نَقْضِها إلى حُكْمِ الإِمامِ؛ لأنَّه إنَّما يُحْتاجُ إلى حُكْمِه في أمْرٍ مُحْتَمِلٍ، وفِعْلُهم لا يَحْتَمِلُ غيرَ نَقْضِ العَهْدِ، وإذا انْتَقَضَ، جاز قِتالُهم، لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الآيَتَيْن (¬1). وقال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (¬2). ولمّا نقَضَتْ قريشٌ عَهْدَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، سارَ إليهم، فقاتَلَهم، وفَتَحَ مَكَّةَ. وإن نقَضَ بعْضُهم دُونَ بعْضٍ، فسَكَتَ باقِيهم عن النّاقِضِ، ولم يُوجَدْ منهم إنْكارٌ ولا مُراسَلَةُ الإِمامِ ولا تَبَرُّؤٌ، فالكلُّ ناقِضُون؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا هادَنَ قُرَيْشًا، دخَلَتْ خُزاعَةُ في حِلْفِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبنو بَكْرٍ في حِلْفِ قريشٍ، ¬

(¬1) سورة التوبة 12. (¬2) سورة التوبة 7.

1495 - مسألة: (فمتى رأى المصلحة، جاز له عقدها مدة

فَمَتَى رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، جَازَ لَهُ عَقْدُهَا مَدَّةً مَعْلُومَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ فعَدَتْ بنو بكرٍ على خُزاعَةَ، وأعانَهم بعضُ قُرَيْشٍ، وسَكَتَ الباقُون، فكان ذلك نَقْضَ عَهْدِهم، وسارَ إليهم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقاتَلَهم. ولأنَّ سُكُوتَهم يَدُلُّ على رِضاهم، كما أنَّ عَقْدَ الهُدْنَةِ مع بعضِهم يدخُلُ فيه جَمِيعُهم؛ لدَلالَةِ سُكَوتِهم على رِضَاهم، كذلك في النَّقْضِ. فإن أنْكَرَ مَن لم يَنْقُضْ على الباقِين، بقولٍ أو فعلٍ ظاهِرٍ أو اعْتِزالٍ، أو راسَلَ الإِمامَ بأنِّى مُنْكِرٌ لِما فَعَلَه النّاقِضُ، مُقِيمٌ على العَهْدِ، لم يَنْتَقِضْ في حَقِّه، ويَأْمُرُه الإِمامُ بالتَّمَيُّزِ، ليَأْخُذَ النّاقِضَ وحدَه، فإنِ امْتَنَعَ مِن التَّمَيُّزِ، أو إسْلامِ النّاقِضِ، صارَ ناقِضًا؛ لأنَّه منَعَ مِن أخْذِ النّاقِضِ، فصارَ بمَنْزِلَتِه، وإن لم يُمْكِنْه التَّمَيُّزُ، لم ينتَقِضْ عَهْدُه؛ لأنَّه كالأسِيرِ. فإن أسَرَ الإِمامُ منهم قومًا، فادَّعَى الأسِيرُ أنَّه لم يَنْقُضْ، وأشْكَلَ ذلك عليه، قُبِلَ قَوْلُ الأسِيرِ؛ لأنَّه لا يُتَوَصَّلُ إلى ذلك إلَّا مِن قِبَلِه. 1495 - مسألة: (فمتى رأى المَصْلَحَةَ، جاز له عَقْدُها مُدَّةً

وَإِنْ طَالَتْ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنْ زَادَ عَلَى عَشْرٍ، بَطَلَ فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي الْعَشْرِ وَجْهَانِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْلُومَةً، وإن طالَتْ. وعنه، لا يَجُوزُ في زِيادَةٍ على العَشْرِ، فإن زاد على عَشْرٍ، بطَلَ في الزِّيادَةِ، وفى العَشْرِ وَجْهَان) إذا رأى الإِمامُ المصْلَحَةَ في عَقْدِ الهُدْنَةِ، جاز عَقْدُها؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هادَنَ قُرَيْشًا. ولا يَجُوزُ عَقْدُها إذا لم يَرَ المصْلَحَةَ فيه؛ لأنَّه يتَصَرَّفُ لهم على وَجْهِ النَّظَرِ، أشْبَهَ وَلِىَّ اليتيمِ. ولا يجوزُ عقْدُها إلَّا على مُدَّةٍ معْلُومَةٍ؛ لأنَّ مُهادَنَتَهم مُطْلَقًا تُفْضِى إلى تَعْطِيلِ الجِهادِ بالكُلِّيَّةِ، لكَوْنِها تقْتَضِى التَّأْبِيدَ، فلم ¬

(¬1) في متن المبدع: «روايتان».

1496 - مسألة: (وإن هادنهم مطلقا، لم يصح)

وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُزْ ذلك. وتجوزُ على المُدَّةِ القَصِيرَةِ والطَّويلةِ، على حَسَبِ ما يَراه الإِمامُ مِن المَصْلَحَةِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وبهذا قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّه عَقْدٌ يجوزُ في العَشْرِ، فجاز في الزِّيادَةِ عليها، كعَقْدِ الإِجارَةِ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، لا يَجُوزُ على أكثرَ مِن عَشْرِ سِنِين. قال القاضى: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. واخْتارَه أبو بكرٍ. وهو مذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ قوْلَه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1). عامٌّ خُصَّ منه مدَّةُ العَشْرِ؛ لمُصالَحَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُرَيْشًا يومَ الحُدَيْبِيَةِ عَشْرًا، فما زادَ يَبْقَى على مُقْتَضَى العُمُومِ. فعلى هذا، إن زادَ على العَشْرِ، يَبْطُلُ في الزِّيادَةِ. وهل يَبْطُلُ في العَشْرِ؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وكذلك إن هادَنَهم أكْثَرَ مِن قَدْرِ الحاجَةِ. 1496 - مسألة: (وإن هادَنَهم مُطْلَقًا، لم يَصِحَّ) لأنَّ ذلك يَقْتَضِى ¬

(¬1) سورة التوبة 5.

1497 - مسألة: (وإن شرط)

وَإِنْ شَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا؛ كَنَقْضِهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ رَدِّ النِّسَاءِ إِلَيْهِمْ، أَوْ صَدَاقِهِنَّ، أَوْ سِلَاحِهِمْ، أَوْ إدْخَالِهِمُ الْحَرَمَ، بَطَلَ الشَّرْطُ. وَفِي الْعَقْدِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّأْبِيدَ، فيُفْضِى إلى تَرْكِ الجِهادِ بالكُلِّيَّةِ، وذلك لا يَجُوزُ. 1497 - مسألة: (وإن شَرَط) فيها (شَرْطًا فاسِدًا؛ كنَقْضِها متى شاءَ، أو رَدِّ النِّساءِ إليهم، أو صَداقِهِنَّ، أو سِلاحِهِم، أو إدْخالِهم الحَرَمَ، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ. وفى العَقْدِ وَجْهان) الشُّروطُ في عَقْدِ الهُدْنَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ صَحِيحٌ، وفاسِدٌ؛ فالفاسِدُ مثلَ أن يَشْتَرِطَ نَقْضَها لمَن شاءَ منهما، فلا يَصحُّ ذلك؛ لأنَّه يُفْضِى إلى ضِدِّ المقْصُودِ منها. وإن قال: هادَنْتُكم ما شِئْتُم. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه جَعَل الكُفَّارَ مُتَحَكِّمِين على المسلمين. وإن قال: ما شِئْنا. أو: شاءَ فُلانٌ. أو شَرَط ذلك لنفْسِه دُونَهم، لم يَجُرْ أيضًا. ذَكَرَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه يُنافِى مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَط ذلك في البَيْعِ والنِّكاحِ. وقال القاضى: يَصِحُّ. وهذا قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صالحَ أهلَ خَيْبَرَ على أن يُقِرَّهم ما أقَرَّهم اللَّهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى (¬1). ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، فلم يَجُزِ اشْتِراطُ نَقْضِه، كسائِرِ العُقُودِ اللَّازِمَةِ، ولم يَكُنْ بينَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وبينَ أهلِ خَيْبَرَ هُدْنَةٌ، فإنَّه فَتَحَها عَنْوَةً، وإنَّما ساقَاهم وقال لهم ذلك، وإنَّما يَدُلُّ ذلك على جوازِ المُساقاةِ، وليس هو بهُدْنَةٍ اتِّفاقًا. وقد وافَقُوا الجماعَةَ في أنَّه لو شَرَط في عَقْدِ الهُدْنَةِ: إنِّى أُقِرُّكم ما أقَرَّكم اللَّهُ. لم يَصِحَّ، فكيف يَصِحُّ منهم الاحْتِجاجُ به مع الإِجْماعِ على أنَّه لا يَجُوزُ اشْتِراطُه! وكذلك إن شَرَط رَدَّ النِّساءِ المُسْلِماتِ إليهم، أو مُهُورِهِنَّ، أو رَدَّ سِلاحِهم، أو إعْطاءَهم شَيْئًا مِن سِلاحِنا، أو مِن آلةِ الحَرْبِ. أو يَشْتَرِطَ لهم مالًا في مَوْضِعٍ لا يَجُوزُ بذْلُه، أو يَشْتَرطَ رَدَّ الصِّبْيانِ، أو رَدَّ الرِّجالِ مع عدَمِ الحاجَةِ إليه، فهذه كلُّها شُروطٌ فاسِدَةٌ. وكذلك إن شَرَطَ إدْخَالَهم الحَرَمَ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2). ولا يَجُوزُ الوَفاءُ بشئٍ مِن هذه الشُّروطِ، وإنَّما لم يَصِحَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 310. (¬2) سورة التوبة 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطُ رَدِّ النِّساءِ المسلماتِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعَالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬1). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ» (¬2). وتُفارِقُ المرأةُ الرجلَ مِن ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّها لا تَأْمَنُ أن تُزَوَّجَ كافِرًا يَسْتَحِلُّها، أو يُكْرِهُها مَن يَنالُها، وإليه أشارَ اللَّهُ سبحانه بقولِه: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (1). الثانى، أنَّها رُبَّما فُتِنَتْ عن دِينِها؛ لأنَّها أضْعَفُ قَلْبًا، وأقَلُّ مَعْرِفَةً مِن الرجلِ. الثالثُ، أنَّ المرأةَ لا يُمكِنُها الهرَبُ عادةً، بخِلافِ الرجلِ. ولا يَجُوزُ رَدُّ الصِّبْيانِ العُقَلاءِ إذا جاءُوا مُسْلِمِين؛ لأنَّهم بمَنْزِلَةِ المرأةِ في ضَعْفِ العَقْلِ والمعْرفَةِ، والعَجْزِ عن التَّخَلُّصِ والهَرَبِ. فأمَّا الطِّفْلُ الذى لا يَصِحُّ إسْلامُه، فيَجُوزُ شَرْطُ رَدِّه؛ لأنَّه ليس بمُسْلِمٍ. وهل يَفْسُدُ العَقْدُ بالشُّروطِ الفاسِدَةِ؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على الشُّروطِ الفاسِدَةِ في البَيْعِ، ¬

(¬1) سورة الممتحنة 10. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا فيما إذا شُرِط أنَّ لكُلِّ واحِدٍ منهما نَقْضَها متى شاءَ، فيَنْبَغِى أن لا يَصِحَّ العقْدُ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ طائِفَةَ الكُفّارِ يَبْنُون على هذا الشَّرْطِ، فلا يَحْصُلُ الأمْنُ منهم، ولا أمْنُهم مِنَّا، فيَفُوتُ مَعْنَى الهُدْنَةِ. ومتى وَقَع العَقْدُ باطِلًا، فدَخَل بعْضُ الكُفّارِ دارَ الإِسلامِ مُعْتَقِدًا للأمانِ، كان آمِنًا؛ لأنَّه دَخَل بِناءً على العَقْدِ، ويُرَدُّ إلى دارِ الحَرْبِ، ولا يُقَرُّ في دارِ الإِسْلامِ؛ لأنَّ الأمانَ لم يَصِحَّ. فصل: وإذا عَقَد الهُدْنَةَ مِن غيرِ شَرْطٍ، فجاءَنا منهم إنسانٌ مُسْلِمًا أو بأمانٍ، لم يَجِبْ رَدُّه إليهم، ولم يَجُزْ ذلك، سَواءٌ كان حُرًّا أو عَبْدًا، أو رجلًا أو امْرَأةً. ولا يجبُ رَدُّ مَهْرِ المَرْأةِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: إن خَرَج العَبْدُ إلينا [قبلَ إسْلامِه، ثمَّ أسْلَمَ، لم يُرَدَّ إليهم. فإن أسْلَمَ قبلَ خُروجِه، ثمَّ خَرَج إلينا] (¬1)، لم يَصِرْ حُرًّا؛ لأنَّهم في أمانٍ مِنَّا، والهُدْنَةُ تَمْنَعُ مِن جَوازِ القَهْرِ. وقال الشافعىُّ في قولٍ له: إذا جاءتِ امْرَأةٌ مُسْلِمَةٌ، وَجَب رَدُّ مَهْرِها؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} (¬2). يَعْنِى رَدَّ المَهْرِ إلى زَوْجِها إذا جاء يَطْلُبُها، وإِن جاء غيرُه، لم يُرَدَّ إليه شئٌ. ولَنا، أنَّه مِن غيرِ أهْلِ دارِ الإِسْلامِ، خَرَج إلينا، فلم يَجِبْ رَدُّه، ولا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الممتحنة 10.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَدُّ شَئٍ عنه، كالحُرِّ مِن الرِّجالِ، وكالعَبْدِ إذا خَرَج ثمَّ أسْلَمَ. قَوْلُهم: إنَّهم في أمانٍ مِنَّا. قُلْنا: إنَّما أمَّنَّاهم مِمَّن هو في دارِ الإِسْلامِ، الذين هم في قَبْضَةِ الإِمامِ، فأمَّا مَن هو في دارِهم، ومَن ليس في قَبْضَتِه، فلا يُمْنَعُ منه؛ بدليلِ ما لو خَرَج العَبْدُ قبلَ إسْلامِه، ولهذا لمّا قَتَل أبو بَصِيرٍ الرجلَ الذى جاءَ ليَرُدَّه، لم يُنْكِرْه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَضْمَنْه. ولَمّا انْفَرَدَ هو وأبو جَنْدَلٍ وأصْحابُهما عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، فقَطَعُوا الطَّرِيقَ عليهم، وقَتَلُوا مَن قَتَلُوا منهم، وأخذُوا المالَ، لم يُنْكِرْ ذلك النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَأْمُرْهم برَدِّ ما أخَذُوه، ولا غَرامَةِ ما أتْلَفُوه. وهذا الذى أسْلَمَ كان في دارِهم وقَبْضَتِهم، وقَهَرَهم على نَفْسِه، فصارَ حُرًّا، كما لو أسْلَمَ بعدَ خُروجِه. وأمَّا المَرْأةُ، فلا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِها؛ لأنَّها لم تَأْخُذْ منهم شيئًا، ولو أخَذَتْه كانت قد قَهَرَتْهم عليه في دارِ القَهْرِ، ولو وَجَب عليها عِوَضُه، لوَجَب مَهْرُ المِثْلِ دُونَ المُسَمَّى. وأمَّا الآيةُ، فقد قال قتادَةُ: نُسِخَ رَدُّ المَهْرِ. وقال عَطَاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ: لا يُعْمَلُ بها اليومَ. وعلى أنَّ الآيةَ إنَّما نَزَلَتْ في قَضِيَّةِ الحُدَيْبِيَةِ، حينَ كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرَط رَدَّ مَن جاءَه مُسْلِمًا، فلمَّا مَنَع اللَّهُ رَدَّ النِّساءِ، وَجَب رَدُّ مُهُورِهِنَّ. وكلامُنا فيما إذا وَقَع الصُّلْحُ مِن غيرِ شَرْطٍ، فليس هو في مَعْنَى ما تَناوَلَه الأمْرُ. وإن وَقَع الكَلامُ فيما إذا شَرَط رَدَّ النِّساءِ، لم يَصِحَّ أيضًا؛ لأنَّ الشَّرْطَ الذى كان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرَطَه كان صَحِيحًا، وقد نُسِخَ، فإذا شُرِط

1498 - مسألة: (وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلما، جاز، ولا يمنعهم أخذه، ولا يجبره على ذلك، وله أن يأمره بقتالهم والفرار منهم)

وَإِنْ شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنَ الرِّجَالِ مُسْلِمًا، جَازَ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ أَخْذَهُ، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَالْفِرَارِ مِنْهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الآنَ كان باطِلًا، ولا يَجُوزُ قِياسُه على الصَّحِيحِ والإِلْحاقُ به. 1498 - مسألة: (وإن شَرَط رَدَّ مَن جاءَ مِن الرِّجالِ مُسْلِمًا، جازَ، ولَا يَمْنَعُهم أخْذَه، ولا يُجْبِرُه على ذلك، وله أن يَأْمُرَه بقِتَالِهم والفِرارِ مِنهم) قد ذَكَر قِسْمَ الشُّروطِ الفاسِدَةِ. والشُّروطُ الصَّحيحَةُ، مثلَ أن يَشْتَرِطَ عليهم مالًا، أو مَعُونَةَ المُسْلِمِين عندَ حاجَتِهم إليهم، أو يَشتَرِطَ رَدَّ مَن جاءَ مِن الرِّجالِ مُسْلِمًا أو بأمانٍ، فهذا صَحِيحٌ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: لا يَصِحُّ شَرْطُ رَدِّ المسلمِ، إلَّا أنْ تكونَ له عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وتَمْنَعُه. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرَط ذلك في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، ووَفَّى لهم به، فرَدَّ أبا جَنْدَلٍ وأبا بَصِيرٍ، ولم يَخُصَّ بالشَّرْطِ ذا العَشِيرَةِ، ولأنَّ ذا العَشيرةِ إذا كانت عَشِيرَتُه هى التى تَفْتِنُه وتُؤْذِيه، فهو كمَن لا عَشِيرَةَ له، لكنْ إنَّما يَجُوزُ هذا الشَّرْطُ عندَ شِدَّةِ الحاجَةِ إليه، وتَعَيُّنِ المَصْلَحَةِ فيه. ومتى شَرَط لهم ذلك، لَزِم الوَفاءُ به، بمعنَى أنَّهم إذا جاءُوا في طَلَبِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَمْنَعْهم أخْذَه، ولا يُجْبِرُه على المُضِىِّ معهم، وله أن يأْمُرَه سِرًّا بالهَرَبِ منهم ومُقاتَلَتِهم، فإنَّ أبا بَصِيرٍ لمَّا جاءَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجاءَ الكُفّارُ في طَلَبِه، قال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْه، وَلَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» (¬1). فلمَّا رَجَع مع الرَّجُلَيْن، قَتَل أحَدَهما في طريقِه، ثمَّ رَجَع إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، قد أوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، قد رَدَدْتَنِى إليهم، وأنْجانِى اللَّهُ منهم. فلم يُنْكِرْ عليه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَلُمْه، بل قال: «وَيْلُ امِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ». فلمَّا سَمِع ذلك أبو بَصِيرٍ، لَحِقَ بساحِلِ البَحْرِ، وانْحازَ إليه أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلٍ ومَن معه مِن المُسْتَضْعَفِينَ بمكَّةَ، فجعلُوا لا تَمُرُّ عِيرٌ لقُرَيْشٍ إلَّا عَرَضُوا لها فأخَذُوها وقَتَلُوا مَن معها، فأرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُناشِدُه اللَّهَ والرَّحِمَ، أنْ يَضُمَّهم إليه، ولا يَرُدَّ إليهم أحَدًا جاءَه، فَفَعَلَ. فيجوزُ حينئذٍ لمَن أسْلَمَ مِن الكُفَّارِ، أنْ يتَحَيَّزُوا ناحِيَةً ويَقْتُلوا مَن قَدَرُوا عليه مِن الكُفَّارِ، ويأْخُذُوا أمْوالَهم، ولا يَدْخُلون في الصُّلْحِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 352.

1499 - مسألة: (وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين

وَعَلَى الْإِمَامِ حِمَايَةُ مَنْ هَادَنَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن ضَمَّهم الإِمامُ إليه بإذْنِ الكُفَّارِ، دَخَلُوا في الصُّلْحِ وحَرُمَ عليهم قَتْلُ الكُفَّارِ وأخْذُ أمْوالِهم. ورُوِىَ عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه لمَّا جاءَ أبو جَنْدَلٍ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هارِبًا مِن الكُفَّارِ يَرْسُفُ في قُيودِه، قامَ إليه أبوه فَلَطَمَه، وجعَل يَرُدُّه، قال عمرُ: فقُمْتُ إلى جانِبِ أبى جَنْدَلٍ، وقلتُ: إنَّهم الكُفَّارُ، وإنَّما دَمُ أحَدِهم دَمُ كَلْبٍ. وجَعَلْتُ أدْنِي منه قائِمَ السَّيْفِ لعلَّه أنْ يَأْخُذَه، فيَضْرِبَ به أباه. قال: فضَنَّ الرَّجُلُ بأبِيه (¬1). فصل: وإذا طَلَبَتِ امْرأةٌ أو صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ الخُرُوجَ مِنِ عندِ الكُفَّارِ، جازَ لكُلِّ مسلِمٍ إخْراجُها؛ لِما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا خَرَج مِن مكَّةَ، وقَفَتِ ابْنَةُ حَمْزَةَ على الطَّرِيقِ، فلمَّا مَرَّ بها علىٌّ قالَتْ: يا ابْنَ عَمِّ، إلى مَن تَدَعُنِى؟ فتَناوَلَها، فدَفَعَها إلى فاطِمَةَ حتى قَدِمَ بها المدينةَ (¬2). 1499 - مسألة: (وعلى الإِمامِ حِمايَةُ مَن هادَنَه مِن المُسْلِمِين ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 352. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه فلان بن فلان. . .، من كتاب الصلح، وفى: باب عمرة القضاء، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 242، 5/ 180. والبيهقى، في: باب نقض الصلح فيما لا يجوز وهو ترك النساء. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 228، 229.

وَإِنْ سَبَاهُمْ كُفَّارٌ آخَرُونَ، لَمْ يَجُزْ لَنَا شِرَاؤُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ غَيْرِهم، وإنْ سَباهم كُفّارٌ آخَرُون، لم يَجُزْ لَنا شِراؤُهم) وذلك أنَّ الإِمامَ إذا عَقَدَ الهُدْنَةَ لقَوْمٍ، فعليه حِمايَتُهم مِن المسلمين وأهلِ الذِّمَّةِ؛ لأنَّه أمَّنَهم ممَّن هو في قَبْضَتِه وتحتَ يَدِه، كما أمَّنَ مَن في قَبْضَتِه منهم. ومَن أتْلَفَ مِن المُسْلِمِين أو مِن أهْلِ الذِّمَّةِ عليهم شَيْئًا، فعليه ضَمانُه. ولا يَلْزَمُه حِمايَتُهم مِن أهْلِ الحَرْبِ، ولا حِمايَةُ بَعْضِهم مِن بَعْضٍ؛ لأنَّ الهُدْنَةَ الْتِزامُ الكَفِّ عنهم فقط. فإن أغارَ عليهم قَوْمٌ آخَرُون فسَبَوْهُم، لم يَلْزَمْه اسْتِنْقاذُهم، وليس للمُسْلِمِين شِراؤُهم؛ لأنَّهم في عَهْدِهم، ولا يجوزُ لهم أذاهم (¬1) ولا اسْتِرْقاقُهم. وذُكِرَ عن الشافعىِّ ما يَدُلُّ على هذا. ويَحْتَمِلُ جوازُ ذلك. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لا يَجِبُ عليه أن (¬2) يَدْفَعَ عنهم، فلم يَحْرُمِ اسْتِرْقاقُهم، بخلافِ أهلِ الذِّمَّةِ. فعلى هذا، إنِ ¬

(¬1) في م: «شراؤهم». (¬2) في م: «من».

1500 - مسألة: (وإن خاف نقض العهد منهم، نبذ إليهم

وَإِنْ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ، نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوْلَى المُسْلِمون على الذين أسَرُوهم (¬1)، وأخَذُوا أمْوالَهم، [فاسْتَنْقَذُوا ذلك منهم] (¬2)، لم يَلزَمْ رَدُّه إليهم على هذا القَوْلِ. ومُقْتَضَى القَوْلِ الأوَّلِ وُجُوبُ رَدِّه، كما يَجِبُ رَدُّ أمْوالِ أهلِ الذِّمَّةِ. 1500 - مسألة: (وإن خافَ نَقْضَ العَهْدِ مِنْهم، نَبَذ إليهم ¬

(¬1) في النسخ: «اشتروهم». وانظر المغنى 13/ 159. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَهْدَهم) لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (¬1). أي أعْلِمْهم بنَقْضِ عَهْدِهم، حتى تَصِيرَ أنتَ وهم سَواءً في العِلْمِ، ولا يَكْفِى وُقُوعُ ذلك في قَلْبِه، حتى يكونَ عن أمَارَةٍ تدُلُّ عليه. ولا يَفْعَلُ ذلك إلَّا الإِمامُ؛ لأنَّ نَقْضَها لخَوْفِ الخِيانةِ يَحْتاجُ إلى نَظَرٍ واجْتِهادٍ، فافْتَقَرَ إلى الحاكِمِ، ومتى نَقَضَها وفى دارِنا منهم أحَدٌ، وَجَب رَدُّهم إلى مَأْمَنِهم؛ لأنَّهم دَخَلُوا بأمانٍ، فوَجَبَ رَدُّهم إلى مَأْمَنِهم، كما لو أفْرَدَهُم بالأمانِ. وإن كان عليهم حَقٌّ اسْتَوْفَى منهم. ولا يجوزُ أنْ يَبْدأَهم بقِتالٍ ولا غارةٍ قبلَ إعْلامِهم بنَقْضِ العَهْدِ؛ للآيةِ، ولأنَّهم آمِنُون منه بحُكْمِ العَهْدِ، فلا يجوزُ قَتْلُهم، ولا أخْذُ مالِهم. فإن قيل: فقد قُلْتُم: إنَّ الذِّمِّىَّ إذا خِيفَ منه الخِيانَةُ، لم يَنْتَقضْ عَهْدُه. قُلْنا: عَقْدُ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لأنَّه يجبُ على الإِمامِ إجابَتُهم إليه، وهو نَوْعُ مُعاوَضَةٍ، وعَقْدُه مُؤَبَّدٌ، بخِلافِ الهُدْنَةِ والأمانِ، ولهذا لو نَقَض بَعْضُ أهلِ الذِّمَّةِ، لم يَنْتَقِضْ عَهْدُ الباقِين، بخِلافِ أهْلِ الهُدْنَةِ، ولأنَّ أهلَ الذِّمَّةِ في قَبْضَةِ الإِمامِ، وتحتَ وِلايَتِه، ولا يُخْشَى الضَّررُ كثيرًا مِن نَقْضِهم، بخِلافِ أهْلِ الهُدْنَةِ، فإنَّه يُخْشَى منهم الغارَةُ والضَّرَرُ الكثيرُ. ¬

(¬1) سورة الأنفال 58.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن أتْلَفَ منهم شيْئًا على مُسْلِمٍ، فعليه ضَمانُه، وإن قَتَلَه فعليه القِصَاصُ، وإن قَذَفَه فعليه الحَدُّ؛ لأنَّ الهُدْنَةَ تَقْتَضِى أمانَ المُسْلِمِين منهم وأمانَهم مِن المسلمين، في النَّفْسِ والمالِ والعِرْضِ، فلَزِمَهم ما يجبُ في ذلك. ومَن شَرِبَ منهم خَمْرًا، أو زَنَى، لم يُحَدَّ؛ لأنَّه حَقٌّ للَّهِ تعالى، ولم يَلْتَزِمُوه بالهُدْنَةِ. وإن سَرَق مالَ مسلمٍ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يُقْطَعُ؛ لأنَّه حَدٌّ خالصٌ للَّهِ تعالى، أشْبَهَ حَدَّ الزِّنَى. والثانى، يُقْطَعُ؛ لأنَّه يجبُ صِيانَةً لحَقِّ الآدَمِىِّ، فهو كحَدِّ القَذْفِ. فصل: وإذا نَقَضُوا العَهْدَ، حَلَّتْ دِماؤُهم وأمْوالُهم وسَبْىُ ذَرارِيِّهم؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَلَ رِجالَ بنى قُرَيْظَةَ حين نَقَضُوا عَهْدَهم، وسَبَى ذَرارِيَّهم، وأخَذَ أمْوالَهم. ولمّا هادَنَ قُرَيْشًا فنَقَضُوا عَهْدَه، حَلَّ له منهم ما كان حَرُمَ عليه منهم. ولأنَّ الهُدْنَةَ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ ينْتَهِى بانْقِضاءِ مُدَّتِه، فيَزُولُ بنَقْضِه وفَسْخِه، كعَقْدِ الإِجارَةِ، بخلافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ.

باب عقد الذمة

بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ عقْدِ الذِّمَّةِ لا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ إلَّا مِن الإِمامِ أو نائِبِه. وبهذا قال الشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ ذلك يتَعَلَّقُ بنَظَرِ الإِمامِ، وما يَرَاه مِن المَصْلَحَةِ، ولأنَّه عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، فلم يَجُزْ أن يُفْتاتَ به على الإِمامِ. فإن فَعَلَه غيرُهما، لم يَصِحَّ، لكنْ إن عَقَدَه على مالٍ لا يَجُوزُ أن يُطْلَبَ منهم أكثرُ منه، لَزِمَ الإِمامَ إجابَتُهم إليه، وعقْدُها عليه. والأصْلُ في جوازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وأخْذِ الجِزْيَةِ، الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ، فقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). وأمَّا السُّنَّةُ، فما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال لجُنْدِ كِسْرَى يومَ نَهاوَنْدَ: أمَرنَا نَبِيُّنا، رسُولُ ¬

(¬1) سورة التوبة 29.

1501 - مسألة: و (لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب؛ وهم اليهود والنصارى، ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل؛ كالسامرة

لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا إِلَّا لِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي التَّدَيُّنِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ كَالسَّامِرَةِ وَالْفِرِنْجِ، وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ؛ وَهُمُ الْمَجُوسُ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ عَقْدُهَا لجَمِيِع ـــــــــــــــــــــــــــــ رَبِّنا، أنْ نُقاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدوا اللَّهَ وحدَه، أو تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ. رَواه البخارىُّ (¬1). وعن بُرَيْدَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا بَعَثَ أمِيرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أوْصاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ في خاصَّةِ نَفْسِه، وبمَن معه مِن المُسْلِمِين خيرًا، وقال له: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعُهُمْ إِلَى إحْدَى خِصالٍ ثَلَاثٍ؛ ادْعُهُمْ إِلى الإِسْلَامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إِلَى إعْطَاءِ الجِزْيَةِ، فَإِنْ أجَابُوكَ، فاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فإنْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ باللَّهِ وقَاتِلْهُمْ». رَواه مسلمٌ (¬2)، في أخبارٍ كثيرةٍ. وأجْمَعَ المُسْلِمُون على جوازِ أخْذِ الجِزْيَةِ في الجُمْلَةِ. 1501 - مسألة: و (لا يَجُوزُ عَقْدُها إلَّا لأهْلِ الكِتابِ؛ وهم اليَهُودُ والنَّصارَى، ومَن يُوافِقُهم فِي التَّدَيُّنِ بالتَّوْراةِ والإِنْجِيلِ؛ كالسّامِرَةِ (¬3) والفِرِنْجِ، ومَن له شُبْهَةُ كِتابٍ؛ وهم المجُوسُ. وعنه، ¬

(¬1) في: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب. . .، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 4/ 118. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 86. (¬3) السامرة: قوم من اليهود يخالفونهم في بعض أحكامهم، يسكنون جبال بيت المقدس وقرى من أعمال مصر، ويتقشفون في الطهارة أكثر من تقشف سائر اليهود. الملل والنحل 1/ 514، 515.

الْكُفَّارِ، إِلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ عَقْدُها لجَمِيعِ الكُفّارِ، إلَّا عَبَدَةَ الأوْثَانِ مِن العَرَبِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الذين تُقْبَلُ منهم الجِزْيَةُ صِنْفان؛ أهْلُ كتابٍ، ومَن له شُبْهَةُ كتابٍ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. فأهْلُ الكتابِ، اليهودُ والنَّصارَى ومَن دانَ بدِينِهم؛ كالسّامِرَةِ يَدِينُونَ بالتَّوْراةِ، ويعْمَلون بشريعَةِ مُوسَى، وإنَّما خالَفُوهم في فُرُوعِ دِينِهم، وفِرَقِ النَّصارَى؛ مِن اليَعْقُوبِيَّةِ (¬1)، والنَّسْطُورِيَّةِ (¬2)، والمَلْكِيَّةِ (¬3)، والفِرِنْجِ والرُّومِ والأرْمَنِ وغيرِهم، ممَّن دانَ بالإِنْجِيلِ، وانْتَسَبَ إلى دِينِ عيسَى والعَمَلِ بشَرِيعَتِه، فكلُّهم مِن أهْلِ الإِنْجِيلِ. ومَن عَدا هؤلاء مِن الكُفّارِ، فليسوا مِن أهْلِ الكِتابِ؛ بدليلِ قولِ اللَّهِ تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (¬4). فأمَّا أهْلُ صُحُفِ إبْراهيمَ وشِيثَ، وزَبُورِ داودَ، فلا تُقْبَلُ ¬

(¬1) اليعقوبية: أصحاب يعقوب بن عالى، قالوا بالأقانيم الثلاثة، إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحماودما، فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده، بل هو هو. الملل والنحل 1/ 541. (¬2) النسطورية: أصحاب نسطور الحكيم، الذى ظهر في زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه، وقال: إن اللَّه تعالى واحد، ذو أقانيم ثلاثة؛ الوجود، والعلم، والحياة. الملل والنحل 1/ 535. (¬3) كذا في النسخ. وفى الملل والنحل 1/ 529: الملكانية: أصحاب ملكا، الذى ظهر بأرض الروم، واستولى عليها، قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته، ويعنون بالكلمة: أقنوم العلم، ويعنون بروح القدس: أقنوم الحياة. (¬4) سورة الأنعام 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم الجِزْيَةُ؛ لأنَّهم مِن غيرِ الطَّائِفَتَيْن، ولأنَّ هذه الصُّحُفَ لم تكُنْ فيها شَرائِعُ، إنَّما هى مَواعِظُ وأمْثالٌ، كذلك وَصَف النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صُحُفَ إبراهيمَ وزَبُورَ داودَ، في حديثِ أبى ذَرٍّ (¬1). وأمَّا الذين لهم شُبْهَةُ كتابٍ، فهم المَجُوسُ، فإنَّه يُرْوَى أنَّه كان لهم كتابٌ فرُفِعَ، فصارَ لهم (¬2) بذلك شُبْهَةٌ أوْجَبَتْ حَقْنَ دمائِهم، وأخْذَ الجِزْيَةِ منهم، ولم يَنْتَهِضْ في إباحَةِ نِكاحِ نِسائِهم ولا ذَبائِحِهم. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. ونُقِلَ عن أبى ثَوْرٍ، أنَّهم مِن أهْلِ الكِتابِ، وتَحِلُّ ذبائِحُهم ونِساؤُهم؛ لِما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: أنا أعْلَمُ النّاسِ بالمَجُوسِ، كان لهم عِلْمٌ يَعْلَمُونَه وكتابٌ يدْرُسُونَه، وأنَّ مَلِكَهم سَكِرَ، فوَقَعَ على ابْنَتِه أو أُخْتِه، فاطَّلَعَ عليه بعضُ أهلِ مَمْلَكَتِه، فلَمّا صَحا جاءُوا يُقِيمُون عليه الحَدَّ، فامْتَنَعَ منهم، ودعا أهْلَ مَمْلَكَتِه، وقال: أتَعْلَمُون دِينًا خيرًا مِن دينِ آدَمَ، وقد أنْكَحَ بَنِيه بَناتِه؟ فأنا على دِينِ آدَمَ. قال: فتابَعَهُ قَوْمٌ، وقاتَلُوا الذين يُخالِفُونَه، حتى قَتَلُوهم، فأصْبَحُوا وقد أُسْرِىَ بكتابِهم ورُفِعَ العِلْمُ الذى في صُدُورِهم، فهم أهْلُ كتابٍ، وقد أخَذَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكرٍ -وأُراه قال: وعُمَرُ- منهم الجِزْيَةَ. رَواه الشافعىُّ، ¬

(¬1) أخرجه عن أبى ذرٍّ عبدُ بن حميد، وابن مردويه، وابن عساكر. وأورده عنهم السيوطى، في تفسير سورة الأعلى. الدر المنثور 6/ 341. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسعيدٌ، وغيرُهما (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتَابِ» (¬2). ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}. والمجُوسُ مِن غيرِ الطائِفَتَيْنِ، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الْكِتَابِ». فدَلَّ على أنَّهم غيرُهم. وروَى البخارىُّ (¬3)، بإسْنادِه، عن بَجالَةَ، أنَّه قال: ولم يكُنْ عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أخَذَ الجِزْيَةَ مِن المَجُوسِ، حتى حَدَّثَه (¬4) عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَها مِن مَجُوسِ هَجَرَ. ولو كانوا أهْلَ كتابٍ، لَما وَقَف عُمَرُ في أخْذِ الجِزْيَةِ منهم مع أمْرِ اللَّهِ تعالى بأَخْذِ الجِزْيَةِ مِن أهْلِ الكتابِ. وما ذَكَرُوه هو الذى صار لهم به شُبْهَةُ كتابٍ. وما رَوَوْه عن علىٍّ، فقد قال أبو عُبَيْدٍ (¬5): لا أحْسَبُه مَحْفُوظًا، ولو كان له أصْلٌ، لَمَا حَرَّمَ النبىُّ ¬

(¬1) أخرجه الشافعى، انظر: باب ما جاء في الجزية، من كتاب الجهاد. ترتيب المسند 2/ 131. كما أخرجه البيهقى، في: باب المجوس أهل كتاب، والجزية تؤخذ منهم، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 189. ولم نجده فيما بين أيدينا من سنن سعيد. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 127. (¬3) في: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 4/ 117. كما أخرجه أبو داود، في: باب أخذ الجزية من المجوس، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 150. والترمذى، في: باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 84، 85. والإمام مالك، في: باب جزية أهل الكتاب والمجوس، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 278. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 190، 191. (¬4) في م: «قال له». (¬5) في: الأموال 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- نِساءَهم، وهو كان أوْلَى بعِلْمِ ذلك. ويَجُوزُ أن يَصِحَّ هذا الذى ذُكِرَ عن علىٍّ مع تَحْرِيمِ نِسائِهِم؛ لأنَّ الكتابَ المُبِيحَ لذلك هو الكِتابُ المُنَزَّلُ على إحْدَى الطّائِفَتَيْن، وليس هؤلاء منهم، ولأنَّ كتابَهم رُفِعَ، فلم يَنْتَهِضْ للإِباحَةِ، وثَبَت به حَقْنُ دِمائِهم. فأمَّا قَوْلُ أبى ثوْرٍ في حِلِّ ذَبائِحِهم ونِسائِهم، فيُخالِفُ الإِجْماعَ، فلا يُلْتَفَتُ إليه. وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتَابِ». أي في أخْذِ الجِزْيَةِ منهم. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ أخْذَ الجِزْيَةِ مِن أهْلِ الكتابَيْنِ والمَجُوسِ إذا لم يكونُوا مِن العَرَبِ، ثابِتٌ بالإِجْماعِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، فإنَّ الصَّحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أجْمَعُوا على ذلك، وعَمِلَ به الخُلَفاءُ الرّاشِدون ومَن بعدَهم، مع دَلالَةِ الكِتابِ العَزيزِ على أخْذِ الجِزْيَةِ مِن أهْلِ الكِتابَيْن، ودَلالَةِ السُّنَّةِ المذْكُورَةِ على أخْذِها مِن المَجُوسِ. فإن كانوا مِن العَرَبِ، فحُكْمُهم حُكْمُ العَجَمِ في ما ذَكَرْنا. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو يُوسُفَ: لا تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ مِن العربِ؛ لأنَّهم شَرُفُوا بكَوْنِهم مِن رَهْطِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولَنا، عُمُومُ الآيةِ، وأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث خالِدَ بنَ الوليدِ إلى دُومَةِ الجَنْدَلِ، فأخَذَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ، فصَالَحَه على الجِزْيَةِ، وهو مِن العَرَبِ. رَواه أبو داودَ (¬1). وأخَذَ الجِزْيَةَ مِن نَصارَى نَجْرانَ، وهم عَرَبٌ. وبَعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ، فقال: «إِنَّكَ ¬

(¬1) في: باب في أخذ الجزية، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَأْتِى قَوْمًا مِن أهْلِ كِتَابٍ» (¬1). وأمَرَه أن يَأْخُذَ مِن كلِّ حالِمٍ دِينارًا (¬2). وكانوا (¬3) عَرَبًا. ولأنَّ ذلك إجْماعٌ، فإنَّ عُمَرَ أرادَ أخْذَ الجِزْيَةِ مِن نَصارَى بَنِى تَغْلِبَ، فأبَوْا ذلك، وسأَلُوه أن يَأْخُذَ منهم مِثْلَما يَأْخُذُ مِن المُسْلِمين، فأبَى ذلك عليهم، حتى لَحِقُوا بالرُّومِ، ثمَّ صالَحَهم على ما يَأْخُذُ منهم عِوَضًا عن الجِزْيَةِ (¬4). فالمَأْخُوذُ منهم جِزيَةٌ، غيرَ أنَّه على غيرِ صِفَةِ جِزْيَةِ غيرِهم، ولم يُنْكِرْ ذلك أحَدٌ، فكان إجْماعًا. وقد ثَبَت بطريقِ القَطْعِ، أنَّ كَثيرًا مِن نَصارَى العَرَبِ ويَهُودِهم، كانوا في عَصْرِ الصَّحابَةِ في بلادِ الإِسلامِ، ولا يَجُوزُ إقْرارُهم فيها بغيرِ جِزْيَةٍ، فثَبَتَ يَقِينًا أنَّهم أخَذُوا الجِزْيَةَ منهم. فصل: ولا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ المُؤَبَّدَةِ إلَّا بشَرْطَيْنِ؛ أحدُهُما، الْتِزامُ إعْطاءِ الجِزْيَةِ في كلِّ حَوْلٍ. والثانى، الْتِزامُ أحْكامِ الإِسلامِ، وهو قَبُولُ ما يَحْكُمُ به عليهم، مِن أداءِ حَقٍّ، أو تَرْكِ مُحَرَّمٍ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. ولقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديثِ بُرَيْدَةَ: «فَادْعُهُمْ إِلَى أدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» (¬5). ولا تُعْتَبَرُ حقيقةُ الإِعْطاءِ، ولا جَرَيانُ الأحْكامِ؛ ¬

(¬1) تقدم في 2/ 99، 6/ 291. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 422. (¬3) في م: «ولو كانوا». (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب نصارى العرب تضعَّف عليهم الجزية، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 216. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الإِعْطاءَ إنَّما يكُونُ في آخِرِ الحَوْلِ، والكَفَّ عنهم في ابْتِدائِه عندَ البَذْلِ، والمُرادُ بقَوْلِه تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ}. أى يَلْتَزِمُوا. وهذا كقَوْلِه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬1). فإنَّ المرادَ به الْتِزامُ ذلك، فإنَّ الزَّكاةَ إنَّما يجبُ أداؤُها عندَ الحَوْلِ. فصل: فأمَّا غيرُ اليهودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ مِن الكُفّارِ، فلا تُقْبَلُ منهم الجِزيَةُ، ولا يُقَرُّونَ بها، ولا يُقْبَلُ منهم إلَّا الإِسِلامُ، أو القَتْلُ. هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ. وروَى عَنه (¬2) الحسَنُ بنُ ثَوابٍ، أنَّها تُقْبَلُ مِن جميعِ الكُفّارِ، إلَّا عَبَدَةَ الأوْثانِ مِن العَرَبِ؛ لأنَّ حديثَ بُرَيْدَةَ يدُلُّ بعُمُومِه على قَبُولِ الجِزيَةِ مِن كلِّ كافِرٍ، إلَّا أنَّه خَرَج منه عَبَدَةُ الأوْثانِ مِن العَرَبِ، لتَغْلِيظِ كُفْرِهم مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، دِينُهم. والثانى، كوْنُهم مِن رَهْطِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال الشافعىُّ: لا تُقْبَلُ الجِزْيَةُ إلَّا مِن أهْلِ الكتابِ والمَجُوسِ، لكنْ في أهْلِ الكُتُبِ غيرِ اليهودِ والنَّصارَى، مثلَ أهْلِ صُحُفِ إبراهيمَ وشِيثَ، وزَبُورِ داوُدَ، ومَن تَمَسَّكَ بدينِ آدَمَ، وَجْهان؛ أحَدُهما، يُقَرُّون بالجِزْيَةِ؛ لأنَّهم أهلُ كتابٍ، فأشْبَهُوا اليهودَ والنَّصارى. وقال أبو حنيفةَ: تُقْبَلُ مِن جميعِ الكُفارِ إلَّا العربَ؛ لأنَّهم رَهْطُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا يُقَرُّونَ على غيرِ دِينِه، وغيرُهم يُقَرُّ بالجِزْيَةِ؛ لأنَّه يُقَرُّ بالاسْتِرْقاقِ، فأًقِرَّ بالجِزْيَةِ، كالمَجُوسِ. وعن مالكٍ، أنَّها تُقْبَلُ ¬

(¬1) سورة التوبة 5. (¬2) أى الإمام أحمد.

1502 - مسألة: (فأما الصابئ، فينظر فيه؛ فإن انتسب إلى أحد

فَأَمَّا الصَّابِئُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جَمِيعِهم إلَّا مُشْرِكِى قُرَيْشٍ؛ لأنَّهم ارْتَدُّوا. وعن الأوْزاعِىِّ، وسعيدِ ابنِ عبدِ العزيزِ، أنَّها تُقْبَلُ مِن جميعِهم. وهو قولُ عبدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ ابنِ جابرٍ؛ لحديثِ بُرَيْدَةَ. ولأنَّه كافِرٌ، فأُقِرَّ بالجِزْيَةِ، كأهْلِ الكتابِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإذَا قالُوهَا عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» (¬2). وهذا عامٌّ خُصَّ منه جميعُ أهْلِ الكِتابِ بالآيَةِ، والمَجُوسُ بالسُّنَّةِ، فمَن عَداهم مِن الكُفّارِ يَبْقَى على قَضِيَّةِ العُمُومِ. وقد بَيَّنّا أنَّ أهْلَ الصُّحُفِ مِن غيرِ أهْلِ الكِتابِ المُرادِ بالآيةِ. فصل: وإذا عَقَد الذِّمَّةَ لكُفّارٍ زَعَمُوا أنَّهم أهْلُ كتابٍ، ثمَّ تَبَيَّنَ أنَّهم عَبَدَةُ أوْثانٍ، فالعَقْدُ باطِلٌ مِن أصْلِه. وإن شَكَكْنا فيهم، لم يَنْتَقِضْ عَهْدُهم بالشَّكِّ؛ لأنَّ الأصْلَ صِحَّتُه، فإن أقَرَّ بعضُهم بذلك دُونَ بعضٍ، قُبِلَ مِن المُقِرِّ في نفْسِه، فانْتَقَضَ عَهْدُه، وبَقِىَ في مَن لم يُقِرَّ بحالِه. 1502 - مسألة: (فأمَّا الصّابِئُ، فيُنْظَرُ فيه؛ فإنِ انْتَسَبَ إلى أحَدِ ¬

(¬1) سورة التوبة 5. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 31.

فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِتابَيْن، فهو مِن أهْلِه، وإلَّا فلا) اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الصَّابِئِين، فرُوِىَ عن أحمدَ أنَّهم جِنْسٌ مِن النَّصارَى. وقال في مَوْضِعٍ آخرَ: بَلَغَنِي أنَّهم يَسْبِتُون، فإذا أَسْبَتُوا فهم مِن اليهودِ. ورُوِىَ عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: هم يَسْبِتُونَ. وقال مُجاهِدٌ: هم بينَ اليَهودِ والنَّصارَى. وقال السُّدِّىُّ، والرَّبيعُ: هم من أهْلِ الكِتابِ. وتوَقَّفَ الشافعىُّ في أمْرِهم. والصَّحِيحُ ما ذُكِرَ ههُنا، مِن أنَّه يُنْظَرُ فيهم؛ فإن كانُوا يُوافِقُون أحَدَ أهلِ الكِتابَيْن في نَبِيِّهم وكتابِهم فهم منهم، وإن خالَفُوهم في ذلك فليسوا منهم. ويُرْوَى عنهم أنَّهم يقولُون: الفَلَكُ حَىٌّ ناطِقٌ، وإنَّ الكواكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ. فإن كانُوا كذلك، فهم كَعَبَدَةِ الأوْثانِ.

1503 - مسألة: (ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما، فعلى وجهين)

وَمَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ بَعْدَ بَعْثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1503 - مسألة: (ومَن تَهَوَّدَ أو تَنَصَّرَ بعدَ بَعْثِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو وُلِدَ بينَ أبَوَيْنِ لا تُقْبَلُ الجِزْيَةُ مِن أحَدِهما، فعلى وَجْهَيْن) أحَدُهما، أنَّه لا فَرْقَ بينَ مَن دَخَل في دِينِهم قبلَ تَبْدِيلِ كتابِهِم، أو بعدَه، ولا بينَ أن يكُونَ ابنَ كتابِيَّيْن، أو كتابِىٍّ ووَثَنِىٍّ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو الخَطّابِ: مَن دَخَل في دِينِهم بعدَ تَبْديلِ كِتابِهم، لم تُقْبَلْ منه الجِزْيَةُ؛ لأنَّه دَخَلَ في دِينٍ باطلٍ. ومَن وُلِدَ بينَ أبَوَيْن، أحَدُهما تُقْبَلُ منه الجِزْيَةُ، والآخَرُ لا تُقْبَلُ منه، ففيه وَجْهان. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لعُمُومِ النَّصِّ فيهم، ولأنَّهم مِن أهلِ دِينٍ تُقْبَلُ منه

1504 - مسألة: (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بنى تغلب، وتؤخذ الزكاة من أموالهم، مثلى ما تؤخذ من أموال المسلمين)

وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ نَصَارَى بَنِى تَغْلِبَ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، مِثْلَىْ مَا تُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِزْيَةُ، فيُقَرُّون بها، كغيرِهم. وإنَّما تُقْبَلُ منهم الجِزْيَةُ إذا كانوا مُقِيمِين على ما عُوهِدُوا عليه، مِن بَذْلِ الجِزْيَةِ، والْتِزامِ أحْكامِ المِلَّةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أمرَ بقِتالِهم حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ، أي يَلْتَزِمُوا أداءَها، فما لم يُوجَدْ ذلك، يَبْقَوْا على إباحَةِ دِمائِهم وأمْوالِهم. 1504 - مسألة: (ولا تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ مِن نَصارَى بَنِى تَغْلِبَ، وتُؤْخَذُ الزَّكاةُ مِن أمْوالِهِم، مِثْلَىْ ما تُؤْخَذُ مِن أمْوالِ المُسْلِمِين) بنو تَغْلِبَ بنِ وائلٍ، مِن العَرَبِ، مِن وَلَدِ رَبِيعَةَ بنِ نِزارٍ، انْتَقَلُوا في الجاهِلِيَّةِ إلى النَّصْرانِيَّةِ، فدَعاهم عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، إلى بَذْلِ الجِزْيَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأبَوْا وأنِفُوا، وقالُوا: نحنُ عَرَبٌ، خُذْ مِنّا كما يَأْخُذُ بعضُكم مِن بعضٍ باسمِ الصَّدَقَةِ. فقال عُمَرُ: لا آخُذُ مِن مُشْرِكٍ صَدَقَةً. فلَحِقَ بعضُهم بالرُّومِ، فقال النُّعمانُ بنُ زُرْعَةَ: يا أميرَ المؤمِنين، إنَّ القَوْمَ لهم بَأْسٌ وشِدَّةٌ، وهم عَرَبٌ يَأْنَفُون مِن الجِزْيَةِ، فلا تُعِنْ عليك عَدُوَّك بهم، وخُذْ منهم الجِزْيَةَ باسْمِ الصَّدَقَةِ. فبَعَثَ عُمَرُ في طَلَبِهم، فرَدَّهم، وضَعَّفَ عليهم مِن الإِبِلِ مِن كلِّ خَمْسٍ شاتَيْن، ومِن كلِّ ثلاثين بقرةً تَبِيعَيْن، ومِن كلِّ عشرين دِينارًا دينارًا، ومِن كلِّ مائَتى دِرْهَمٍ عَشَرَةَ دراهِمَ، وفيما سَقَتِ السَّماءُ الخُمْسَ، وفيما سُقِىَ بنَضْحٍ أو غَرْبٍ أو دُولابٍ العُشْرَ (¬1). فاسْتَقَرَّ ذلك مِن قولِ عُمَرَ، ولم يُخالِفْه أحَدٌ مِن الصَّحابَةِ، فكان إجْماعًا. وقال به العُلماءُ بعدَ الصَّحابَةِ؛ مِنهم ابنُ أبى لَيْلَى، والحسَنُ ابنُ صالِحٍ، وأبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ، والشافعىُّ. ويُرْوَى عن عُمَرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 399.

1505 - مسألة: (ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم)

وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهمْ وَمَجَانِينِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عبدِ العزيزِ، أنَّه أبَى على نَصارَى بنى تَغْلِبَ إلَّا الجِزْيَةَ، وقال: لا واللَّهِ إلَّا الجِزْيَةَ، وإلَّا فقد آذنْتُكُم بالحَرْبِ. وحُجَّتُه عُمُومُ الآيةِ فيهم. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: لَئِن تفَرَّغْتُ لبنى تَغْلِبَ لَيكُونَنَّ لى فيهم رَأْىٌ، لأقْتُلَنَّ مُقاتِلتَهُم، ولأسْبِيَنَّ ذَرارِيَّهم، فقدْ نقَضُوا العَهْدَ، وبرِئَتْ منهم الذِّمَّةُ حينَ نَصَّرُوا أوْلادَهم (¬1). وذلك أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صالَحَهم على أن لا يُنَصِّرُوا أوْلادَهم. والعَمَلُ على الأوَّلِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الإِجْماعِ. وأمَّا الآيَةُ، فإنَّ هذا المأْخُوذَ منهم جِزْيَةٌ باسمِ الصَّدَقَةِ، فإنَّ الجِزْيَةَ يَجُوزُ أخْذُها عُروضًا. 1505 - مسألة: (ويُؤْخَذُ ذلِكَ مِن نِسائِهم وصِبْيانِهم ومجانِينِهم) كذلك قال أصحابُنا: تُؤْخَذُ الزَّكاةُ منهم مُضاعَفَةً مِن مالِ مَن تُؤْخَذُ منه الزَّكاةُ لو كان مُسْلِمًا. وبه قال أبو حنيفةَ، وأبو عُبَيْدٍ. وذُكِرَ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في ذبائح نصارى بني تغلب، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 217. وأبو عبيد، في: باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قولُ أهْلِ الحِجازِ. فعلى هذا، تُؤْخَذُ مِن نِسائِهم وصِبْيانِهم ومَجانِينِهم وزَمْناهُم ومَكافِيفِهم وشُيُوخِهم، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ لا يُوجِبُ الزَّكاةَ في مالِ صَبِىٍّ ولا مَجْنُونٍ مِن المُسْلِمِين، فكذلك الواجِبُ في مالِ بنى تَغْلِبَ، لا يَجِبُ على صَبِىٍّ ولا مَجْنُونٍ، إلَّا في الأرْضِ خاصَّةً. وذَهَب الشافعىُّ إلى أنَّ هذا جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ باسمِ الصَّدَقَةِ، فعندَه لاتُؤْخَذُ ممَّن لا جِزْيَةَ عليه، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ والمَجانِينِ. قال: وقد رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: هؤلاء حَمْقَى، رَضُوا بالمَعْنَى، وأبَوْا الاسْمَ. وقال النُّعْمانُ بنُ زُرْعَةَ: خُذْ منهم الجِزْيَةَ باسمِ الصَّدَقَةِ. ولأنَّهم أهْلُ ذِمَّةٍ، فكان الواجِبُ عليهم جِزْيَةً لا صَدَقَةً، كغيرِهم مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، ولأنَّه مالٌ يُؤْخَذُ مِن أهْلِ الكِتابِ لحَقْنِ دِمائِهم، فكان جِزْيَةً، كما لو أُخِذَ باسمِ الجِزْيَةِ، يُحَقِّقُه أنَّ الزَّكاةَ طُهْرَةٌ، وهؤلاء لا طُهْرَةَ لهم. قال شيخُنا (¬1): وهذا أقْيَسُ. وحُجَّةُ أصحابِنا، أنَّهم سألُوا عُمَرَ أن يَأْخُذَ منهم ما يَأْخُذُ بعضُهم (¬2) مِن بعضٍ. فأجابَهم عُمَرُ إليه بعدَ الامْتِناعِ منه، والذي يَأْخُذُه بعضُنا مِن بعضٍ هو الزَّكاةُ مِن كلِّ مالٍ زَكَوِىٍّ لأىِّ ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 225. (¬2) في الأصل: «بعضكم».

1506 - مسألة: (ومصرفه مصرف الجزية)

وَمَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٍ كان، مِن صغيرٍ وكبيرٍ، وصحيحٍ ومريضٍ، كذلك المأْخُوذُ مِن بنى تَغْلِبَ، ولأنَّ نساءَهم وصِبْيانَهم صِينُوا عن السَّبْى بهذا الصُّلْحِ، ودَخَلُوا في حُكْمِه، فجازَ أن يَدْخُلُوا في الواجِبِ به، كالرِّجالِ والعُقَلاءِ. وعلى هذا، مَن كان منهم فقِيرًا، أو له مالٌ غيرُ زَكَوِىٍّ؛ كالرَّقِيقِ، والدُّورِ، وثِيابِ البِذْلَةِ، فلا شئَ عليه، كما لا يَجِبُ ذلك على أهلِ الزَّكاةِ مِن المُسْلِمِين، ولا تُؤْخَذُ مِن مالٍ لم يَبْلُغْ نِصابًا. 1506 - مسألة: (ومَصْرِفُه مَصْرِفُ الجِزْيَةِ) اخْتارَه القاضِى. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مأْخُوذٌ مِن مُشْرِكٍ، ولأنَّه جِزْيَةٌ مُسَمّاةٌ بالصَّدَقَةِ. وقال أبو الخَطّابِ: مَصْرِفُه مَصْرِفُ الصَّدقاتِ؛ لأنَّه مُسَمًّى باسمِ الصَّدَقَةِ، مَسْلوكٌ به في مَن يُؤْخَذُ منه مَسْلَكَ الصَّدَقَةِ، فيكُونُ مَصْرِفُه مَصْرِفَها. والأوَّلُ أقْيَسُ وأصحُّ؛ لأنَّ مَعْنَى الشئِ أخَصُّ به مِن اسْمِه، ولهذا لو سُمِّىَ رَجُلٌ أسَدًا، لم يَصِرْ له حُكْمُ المُسَمَّى بذلك، ولأنَّه لو كان صَدَقَةً على الحقيقَةِ، لجازَ دَفْعُها إلى فُقرَاءِ مَن أُخِذَتْ منهم؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصَّدَقَةِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيائِهِمْ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

1507 - مسألة: (ولا يؤخذ ذلك من كتابى غيرهم. وقال القاضى: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم)

وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِىٍّ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِى: تُؤْخَذُ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن بَذَل التَّغْلِبىُّ أداءَ الجِزْيَةِ، وتُحَطُّ عنه الصَّدَقَةُ، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّ الصُّلْحَ وَقَع على هذا، فلا يُغَيَّرُ. ويَحتمِلُ أن يُقْبَلَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. أي يَبْذُلُوها، وهذا قد أعْطَى الجِزْيَةَ. وإن كان الذى بَذَلَها منهم حَرْبِيًّا، قُبِلَتْ منه؛ للآيَةِ، وخَبَرِ بُرَيْدَةَ (¬1)، ولأنَّه لم يَدْخُلْ في صُلْحِ الأوَّلِينَ، فلم يَلزمْه حُكْمُه، وهو كِتابِىٌّ باذِلٌ للجِزْيَةِ، فيُحْقَنُ بها دَمُه. فإن أرادَ الإِمامُ نَقْضَ العَهْدِ، وتَجْديدَ الجزْيَةِ عليهم، كفِعْلِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ على التَّأْبِيدِ، وقد عَقَدَه معهم عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فلم يَكُنْ لأحَدٍ نَقْضُه ما دامُوا على العَهْدِ. 1507 - مسألة: (ولا يُؤْخَذُ ذلك مِن كِتابِىٍّ غيْرِهم. وقال القاضى: تُؤْخَذُ مِن نَصارَى العَرَبِ ويَهُودِهم) وجُمْلَتُه، أنَّ سائِرَ أهْلِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِتابِ، مِن اليهودِ والنَّصارَى العَرَبِ وغيرِهم، تُقْبَلُ منهم الجِزْيَةُ إذا بَذَلُوها، ولا يُؤْخَذُون بما يُؤْخَذُ به نَصارَى بنى تَغْلِبَ. نَصَّ عليه أحمدُ، ورَواه عن الزُّهْرِىِّ. قال: ونَذْهَبُ إلى أن يأْخُذَ مِن مَواشِى بنى تَغْلِبَ خاصَّةً الصَّدَقَةَ، وتُضَعَّفُ عليهم، كما فَعَل عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وذَكَر القاضى، وأبو الخَطّابِ، أنَّ حُكْمَ مَن تَنَصَّرَ مِن تَنُوخَ وبَهْرَا، وتَهَوَّدَ مِن كِنانَةَ وحِمْيَرَ، وتَمَجَّسَ مِن تَمِيمٍ، حُكمُ بنِي تَغْلِبَ، سواءٌ. وذُكِرَ أنَّ الشافعىَّ نَصَّ عليه في تَنُوخَ وبَهْرا؛ لأنَّهم مِن العَرَبِ، فأشْبَهُوا بنى تَغْلِبَ. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث مُعاذًا إلى اليَمَنِ، فقال: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» (¬1). وهم عَرَبٌ. وقَبِلَ [الجِزْيَةَ مِن أهْلِ نَجْرانَ، وهم مِن بنِى الحارِثِ بنِ كَعْبٍ. قال الزُّهْرِىُّ: أوَّلُ مَن أعْطَى] (¬2) الجِزْيَةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 422. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أهْلِ نَجْرانَ، وكانوا نَصارَى. وأخَذَ الجِزْيَةَ مِن أُكَيْدِر دُومَةَ، وهو عَرَبِىٌّ. ولأنَّ حُكْمَ الجِزْيَةِ ثابِتٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ في كلِّ كتابِىٍّ، عَرَبِيًّا كان أو غيرَ عَرَبِىٍّ، إلَّا ما خُصَّ به بنو تَغْلِبَ؛ لمُصالَحَةِ عُمَرَ إيَّاهم، [ففى مَن] (¬1) عَداهم يَبْقَى الحُكْمُ على عُمُومِ الكتابِ وشَواهِدِ السُّنَّةِ، ولم يكُنْ بينَ غيرِ بنى تَغْلِبَ وبينَ أحَدٍ مِن الأئِمَّةِ صُلْحٌ كصُلْحِ بنى تَغْلِبَ، فيما بَلَغَنا، ولا يَصِحُّ قِياسُ غيرِ بنى تَغْلِبَ عليهم؛ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ قِياسَ سائِرِ العَرَبِ عليهم يُخالِفُ النُّصُوصَ التى ذَكَرْناها، ولا يَصِحُّ قياسُ المَنْصُوصِ عليه على ما يَلْزَمُ منه مُخالَفَةُ النَّصِّ. الثانى، أنَّ العِلَّةَ في بنى تَغْلِبَ الصُّلْحُ، ولم يُوجَدْ مع (¬2) غيرِهم، ولا يَصِحُّ القِياسُ مع تَخَلُّفِ العِلَّةِ. الثالثُ، أنَّ بنى تَغْلِبَ كانوا ذَوِى قُوَّةٍ وشَوْكَةٍ، لَحِقُوا بالرُّومِ، وخِيفَ منهم الضَّرَرُ إن لم يُصالَحُوا، ولم يُوجَدْ هذا في غيرِهم. فإن وُجِدَ في غيرِهم، فامْتَنَعُوا مِن أداءِ الجِزْيَةِ، أو خِيفَ الضَّرَرُ بتَرْكِ مُصالَحَتِهم، فرأى الإِمامُ مُصالَحَتَهم على أداءِ الجِزْيَةِ باسمِ الصَّدَقَةِ، جازَ، إذا كان المأْخُوذُ منهم بقَدْرِ ما يَجِبُ عليهم مِن الجِزْيَةِ أو زِيادَةً. وذَكَرَ هذا أبو ¬

(¬1) في م: «ففيما». (¬2) في م: «في».

1508 - مسألة: (ولا جزية على صبى، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا زمن، ولا أعمى، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها)

وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِىٍّ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا فَقِيرٍ يَعْجِزُ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إسْحاقَ (¬1)، في كتابِه «المُهَذَّبِ» (¬2). والحُجَّةُ في هذا قِصَّةُ بنى تَغْلِبَ، وقِياسُهم عليهم. قال علىُّ بنُ سعيدٍ: سَمِعْتُ أحمدَ يَقُولُ: أهْلُ الكِتابِ ليس عليهم في مَواشِيهم صَدَقَةٌ، ولا في أمْوالِهم، إنَّما تُؤْخَذُ منهم الجِزْيَةُ، إلَّا أن يكُونُوا صُولِحوا على أن تُؤْخَذَ منهم، كما صَنَع عُمَرُ بنَصارَى بنى تَغْلِبَ حينَ أضْعَفَ عليهم الصَّدَقَةَ في صُلْحِه إيّاهم، إذا كانوا في مَعْناهم. أمَّا قِياسُ مَنْ لم يُصالَحْ عليهم، في جَعْلِ جِزْيَتِهم صَدَقَةً، فلا يَصِحُّ. 1508 - مسألة: (ولا جِزْيَةَ على صَبِىٍّ، ولا امْرَأةٍ، ولا مَجْنُونٍ، ولا زَمِنٍ، ولا أعْمَى، ولا عَبْدٍ، ولا فَقِيرٍ يَعْجِزُ عنها) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهْلِ العِلْمِ في أنَّ الجِزْيَةَ لا تَجِبُ على صَبِىٍّ، ولا امرأةٍ، ¬

(¬1) أبو إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزآبادى، جمال الدين، من كبار علماء الشافعية وشيخهم في عصره، صنف في الأصول والفروع، كان زاهدا ورعا متواضعا ظريفا كريما جوادًا طلق الوجه دائم البشر. توفى سنة ست وأربعين وأربعمائة ببغداد، وصلَّى عليه المقتدى باللَّه أمير المؤمنين. سير أعلام النبلاء 18/ 452 - 465. (¬2) المهذب 2/ 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا زائِلِ العَقلِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، وأصحابِ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم. وقد دَلَّ على هذا، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، أنِ اضْرِبُوا الجِزْيَةَ، ولا تَضْرِبُوها على النِّساءِ والصِّبْيانِ، ولا تَضْرِبُوها إلَّا على مَن جَرَتْ عليه المَواسِى. رَواه سعيدٌ، وأبو عُبَيْدٍ (¬1)، والأثْرَمُ. والمجْنونُ كالصَّبِىِّ؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ. وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» (¬2). دليلٌ على أنَّها لا تَجِبُ على غيرِ بالِغٍ. ولأنَّ الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لحَقْنِ الدَّمِ، وهؤلاء دِماؤُهم مَحْقُونَةٌ بِدُونِها. ولا تَجِبُ على خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لأَنَّه لا يُعْلَمُ كوْنُه رَجُلًا. فصل: فإن بَذَلَتِ المرأةُ الجِزْيَةَ، أُخْبِرَتْ أنَّها لا جِزْيَةَ عليها، فإن ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب ما جاء في قتل النساء والولدان، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 240. وأبو عبيد، في: باب من تجب عليه الجزية. . .، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 37. كما أخرجه البيهقى، في: باب الزيادة على الدينار بالصلح، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 195، 196. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 422.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: أنا أتَبَرَّعُ بها. أو: أنا أُؤَدِّيها. قُبِلَتْ منها، ولم تكُنْ جِزْيَةً، بل هِبَةً تَلْزَمُ بالقَبْضِ. فإن شَرَطَتْه على نَفْسِها، ثمَّ رَجَعَتْ، فلها ذلك. وإن بَذَلَتِ الجِزْيَةَ لتَصِيرَ إلى دارِ الإِسلامِ، مُكِّنَتْ مِن ذلك بغيرِ شئٍ، ولكنْ يُشْتَرَطُ عليها الْتِزامُ أحْكامِ الإِسلامِ، وتُعْقَدُ لها الذِّمَّةُ، ولا يُؤْخَذُ منها شئٌ، إلَّا أن تَتَبَرَّعَ به بعدَ مَعْرِفَتِها أن لا شئَ عليها. وإن أُخِذَ منها على غيرِ ذلك، رُدَّ إليها؛ لأنَّها بَذَلَتْه مُعْتَقِدَةً أنَّه عليها، وأنَّ دَمَها لا يُحْقَنُ إلَّا به، فأشْبَهَ مَن أدَّى مالًا إلى مَن يَعْتَقِدُ أنَّه له، فتَبَيَّنَ أنَّه ليس له. ولو حاصَرَ المسلمون حِصْنًا ليس فيه إلَّا نِساءٌ، فبَذَلْنَ الجِزْيَةَ لتُعْقَدَ لَهُنَّ الذِّمَّةُ، عُقِدَتْ لَهُنَّ بغيرِ شئٍ، وحَرُمَ اسْتِرْقاقُهُنَّ، كالتى قبلَها سواءً. فإن كان في الحِصْنِ مَعَهُنَّ (¬1) رِجالٌ، فسأَلُوا الصُّلْحَ، لتكُونَ الجِزْيَةُ على النِّساءِ والصِّبْيانِ دُونَ الرِّجالِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّهم جَعَلُوها على غيرِ مَن هى عليه، وَبرَّءُوا مَن تَجِبُ عليه. وإن بَذَلُوا جِزْيَةً عن الرِّجالِ، ويُؤدُّوا (¬2) عن النِّساءِ والصِّبْيان مِن أمْوالِهم، جازَ، وكان ذلك زِيادَةً في جِزْيَتِهم. وإن كان مِن أمْوالِ النِّساءِ والصِّبْيانِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّهم يَجْعَلُون الجِزْيَةَ على مَن لا تَلْزَمُه. فإن كان القَدْرُ الذى بذَلُوه مِن أمْوالِهم ممَّا يُجْزِئُ في الجِزْيَةِ، أخَذُوه، وسَقَطَ الباقِى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أي: وأن يؤدوا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَجِبُ على زَمِنٍ، ولا أعْمَى، ولا شَيْخٍ فانٍ، ولا على مَن هو في مَعْناهم، كمَن به داءٌ لا يَسْتَطِيعُ معه القِتالَ، ولا يُرْجَى بُرْؤُه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ قَوْلَيْه: تَجِبُ عليهم الجِزْيَةُ، بِناءً على قَتْلِهم. وقد سَبَق قوْلُنا في أنَّهم لا يُقْتَلُون، فلا تَجِبُ عليهم الجِزْيَةُ، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ. فصل: وأمَّا العَبْدُ، فإن كان لمُسْلِمٍ، لم تَجِبْ عليه الجِزْيَةُ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّه يُرْوَى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَا جِزْيَةَ عَلَى العَبْدِ». وعن ابنِ عُمَرَ مثلُه (¬1). ولأنَّ ما لَزِمَ العَبْدَ إنَّما يُؤَدِّيه سَيِّدُه، فيُؤَدِّى إيجابُها على عَبْدِ (¬2) المُسْلِمِ إلى [إيجابِ الجِزْيَةِ] (¬3) على ¬

(¬1) ذكر ابن حجر أنه روى مرفوعًا، وروى موقوفًا على عمر. ثم قال: ليس له أصل، بل المروى عنهما خلافه. تلخيص الحبير 4/ 123. (¬2) في م: «العبد». (¬3) في م: «إيجابها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمِ. وإن كان لكافرٍ، فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، على أنَّه لا جِزْيَةَ على العَبْدِ. وذلك لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ولأنَّه مَحْقُونُ الدَّمِ، أشْبَهَ النِّساءَ والصِّبْيانَ، أو لا مالَ له، أشْبَهَ الفقيرَ العاجِزَ. ويَحْتَمِلُ كلامُ الخِرَقِىِّ وُجُوبَ الجِزْيَةِ عليه. ورُوِىَ ذلك عن أحمدَ؛ لِما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: لا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أهْلِ الذِّمَّةِ، ولا مِمّا في أيْدِيهم؛ لأنَّهم أهلُ خَراجٍ، يَبِيعُ بعْضُهم بعْضًا، ولا يُقِرَّنَّ أحَدُكم بالصَّغارِ بعدَ إذْ أنْقَذَه اللَّهُ منه (¬1). قال أحمدُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: أرادَ عُمَرُ أن تَتَوَفَّرَ الجزْيَةُ؛ لأنَّ المُسْلِمَ إذا اشْتَراه سَقَط عنه أداءُ ما يُؤْخَذُ منه، والذِّمِّىُّ يُؤَدِّى عنه وعن مَمْلُوكِه خَراجَ جَماجِمِهم. ورُوِىَ عن علىٍّ مثلُ حديثِ عُمَرَ (¬2). ولأنَّه ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِىٌّ مُكْتَسِبٌ، فوَجَبَتْ عليه الجِزْيَةُ، كالحُرِّ. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من كره شراء أرض الخراج، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 140. وأبو عبيد، في: باب شراء أرض العنوة التى أقر الإمام فيها أهلها. . .، من كتاب فتوح الأرضين صلحا الأموال 77. (¬2) أى في النهى عن شراء أرض السواد. انظر: سنن البيهقى والأموال، في الموضعين السابقين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أُعْتِقَ، لَزِمَتْه الجِزْيَةُ لِما يُسْتَقْبَلُ، سواءٌ كان مُعْتِقُه مُسْلِمًا أو كافِرًا. هذا الصحيحُ عن أحمدَ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وبه قال سُفيانُ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وعنه، يُقَرُّ بغيرِ جِزْيَةٍ. ورُوِىَ نحوُه عن الشَّعْبِىِّ؛ لأنَّ الوَلاءَ شُعْبَةٌ كشُعْبَةِ الرِّقِّ، وهو ثابتٌ عليه. ووَهَّنَ الخلالُ هذه الرِّوايَةَ، وقال: هذا قولٌ قديم رَجَع عنه. وعن مالكٍ كقولِ الجماعةِ. وعنه، إن كان المُعْتِقُ له مُسْلِمًا، فلا جِزْيَةَ عليه؛ لأنَّ عليه الوَلاءَ لمُسْلِمٍ، أشْبَهَ ما لو كان عليه الرِّقُّ. ولَنا، أَنَّه حُرٌّ مُكَلَّفٌ مُوسِرٌ مِن أهْلِ القتالِ، فلم يُقَرَّ في دارِنا بغيرِ جِزْيَةٍ، كالحُرِّ الأصْلِىِّ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ حُكْمَه فيما يُسْتَقْبَلُ مِن جِزْيَتِه حكمُ مَنْ بَلَغَ مِن صِبْيانِهم، أو أفاقَ مِن مَجانِينِهم، على ما ذَكَرْناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن بعضُه حُرٌّ، فقِياسُ المَذْهَبِ أنَّ عليه مِن الجِزْيَةِ بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ؛ لأنَّه حُكْمٌ يَتَجَزَّأُ (¬1)، يَخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، فيَنْقَسِمُ على قَدْرِ ما فيه، كالإِرْثِ. ولا جِزْيَةَ على أهْلِ الصَّوامِعِ مِن الرُّهْبانِ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ عليهم. وهذا أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. ورُوِىَ عن عُمَرَ (¬2) بنِ عبدِ العزيزِ، أنَّه فَرَض على رُهْبانِ الدِّياراتِ الجِزْيَةَ، على كلِّ راهِبٍ دينارَين (¬3)؛ لعُمُومِ النُّصوصِ، ولأنَّه كافِرٌ صحيحٌ حُرٌّ قادِرٌ على أداءِ الجِزْيَةِ، فأشْبَهَ الشَّمّاسَ (¬4). ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّهم مَحْقُونُونَ بدُونِ الجِزْيَةِ، فلم تَجِبْ عليهم، كالنِّساءِ، وقد ذَكَرْنا دَلِيلَ تَحْرِيمِ قَتلِهم (¬5)، والنُّصوصُ مخْصوصَةٌ بالنِّساءِ، وهؤلاء في مَعْناهُنَّ، ولأنَّه لا كَسْبَ له، أشْبَهَ الفَقِيرَ غيرَ المُعْتَمِلِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «دينارا». وذكره أبو عبيد، في: باب فرض الجزية. . .، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 42. (¬4) الشماس: من يقوم بالخدمة الكنسية، وهو دون القسيس. (¬5) انظر ما تقدم في صفحة 70 وما بعدها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَجِبُ على فقيرٍ عاجِزٍ عنها. وهذا أحَدُ أقْوالِ (¬1) الشافعىِّ. وله قولٌ، أنَّها تَجِبُ عليه؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «خُذْ مِن كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا». ولأنَّ دَمَهُ غيرُ مَحْقُونٍ، فلا تَسْقُطُ عنه الجِزْيَةُ، كالقادِرِ. ولَنا، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَعَل الجِزْيَةَ على ثلاثِ طَبَقَاتٍ، جَعَل أدْناها على الفقيرِ المُعْتَمِلِ (¬2)، فدَلَّ على أنَّ غيرَ المُعْتَمِلِ لا شئَ عليه، ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3). ¬

(¬1) في م: «قولى». (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في وضع الجزية والقتال عليها، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 241. والبيهقى، في: باب الزيادة على الدينار بالصلح، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 196. (¬3) سورة البقرة 286.

1509 - مسألة: (ومن بلغ، أو أفاق، أو استغنى، فهو من أهلها بالعقد الأول، ويؤخذ منه فى آخر الحول بقدر ما أدرك)

وَمَنْ بَلَغَ، أَوْ أَفَاقَ، أَوِ اسْتَغْنَى، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِى آخِرِ الْحَوْلِ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه مالٌ يَجِبُ بحُلُولِ الحَوْلِ، فلم يَلْزَمِ الفقيرَ العاجِزَ، كالزَّكاةِ، ولأنَّ الخَراجَ يَنْقَسِمُ إلى خَراجِ أرْضٍ، وخَراجِ رُءُوسٍ، وقد ثَبَت أنَّ خَراجَ الأرْضِ على قَدْرِ طاقَتِها، وما لا طاقَةَ له لا شئَ عليه، كذلك خَراجُ الرُّءُوسِ. وأمّا الحديثُ، فيَتَناوَلُ الأخْذَ ممَّن يُمْكِنُ الأخْذُ منه، والأخْذُ ممَّن لا يَقْدِرُ على شئٍ مُسْتَحِيلٌ، فكيف يُؤْمَرُ به، ويُؤْخَذُ منه بقَدْرِ ما أدْرَكَ! 1509 - مسألة: (ومَن بَلَغ، أو أفاقَ، أو اسْتَغْنَى، فهو مِن أهْلِها بالعَقْدِ الأوَّلِ، ويُؤْخَذُ منه في آخِرِ الحَوْلِ بقدْرِ ما أدْرَكَ) ولا يحْتاجُ إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِئنافِ عَقْدٍ له. وقال القاضى في موضِعٍ: هو مُخَيَّرٌ بينَ الْتِزامِ العَقْدِ وبينَ أن يُرَدَّ إلى مَأْمَنِه، فيُجابُ إلى ما يخْتارُ. وهو قولُ الشافعىِّ. ولَنا، أنَّه لم يَأْتِ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أحَدٍ مِن خُلَفائِه، تجْدِيدُ عَقْدٍ لهؤلاء، ولأنَّ العَقْدَ يكُونُ مع سادَتِهم، فدَخَلَ فيه سائِرُهِم، ولأنَّه عَقْدٌ مع الكُفّارِ، فلم يحْتَجْ إلى اسْتِئْنافِه لذلك (¬1)، كالهُدْنةِ، ولأنَّ الصِّغارَ والمَجانِينَ دَخَلُوا في العَقْدِ، فلم يحْتَجْ إلى تجْدِيدِه له عندَ تَغَيُّرِ أحْوالِهم، كغيرِهم. إذا ثَبَت هذا، فإن كان البُلُوغُ والإِفاقَةُ في أوَّلِ أحْوالِ قَوْمِه، أُخِذَ منه في آخِرِه معَهم، وإن كان في أثْناءِ الحَوْلِ، أُخِذَ منه عندَ تَمامِ الحوْلِ بقِسْطِه، ولم يُتْرَكْ حتى يتمَّ؛ لئلَّا يحْتاجَ إلى إفْرادِه بحَوْلٍ وضبْطِ حوْلِ كلِّ إنْسانٍ منْهم، ورُبَّما أفْضَى إلى أن يصيرَ لكلِّ واحدٍ حولٌ مُفرَدٌ، وذلك يَشُقُّ. ¬

(¬1) في م: «كذلك».

1510 - مسألة: (ومن كان يجن ويفيق، لفقت إفاقته، فإذا بلغت حولا، أخذت منه. ويحتمل أن يؤخذ فى آخر كل حول بقدر إفاقته منه)

وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، لُفِّقَتْ إفَاقَتُهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ حَوْلًا، أُخِذَتْ مِنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ فِى آخِرِ كُلِّ حَولٍ بِقَدْرِ إِفَاقَتِهِ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1510 - مسألة: (ومَن كان يُجَنُّ ويُفِيقُ، لُفِّقَتْ إفاقَتُه، فإذا بَلَغَتْ حَوْلًا، أُخِذَتْ منه. ويَحْتَمِلُ أن يُؤْخَذَ في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ بقَدْرِ إفاقَتِه منه) إذا كان يُجَنُّ ويُفِيقُ، لم يَخْلُ مِن ثلاثةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يكُونَ غيرَ مَضْبُوطٍ، مثلَ مَن يُفِيقُ ساعةً مِن أيّام أو مِن يومٍ، أو يُصْرَعُ ساعةً مِن يومٍ أو مِن أيّامٍ، فهذا يُعْتَبَرُ حالُه بالأغْلَبِ؛ لأنَّ هذه الإِفاقَةَ غيرُ مُمْكِنٍ ضَبْطُها، فلم يُمْكِنْ مُراعاتُها. الثانى، أن يكُونَ مَضْبُوطًا، مثلَ مَن يُجَنُّ يومًا ويُفِيقُ يوْمَيْنِ، أو أقَلَّ مِن ذلك، أو أكْثَرَ، إلَّا أنَّه مَضْبُوطٌ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُعْتَبَرُ الأغْلَبُ مِن حالِه. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه يُجَنُّ ويُفِيقُ، فاعْتُبِرَ الأغْلَبُ مِن حالِه، كالأوَّلِ. والوجْهُ الثانى، تُلَفَّقُ أيّامُ إفاقَتِه؛ لأنَّه لو كان مُفِيقًا في الكلِّ، وجَبَتِ

1511 - مسألة: (وتقسم الجزية بينهم؛ فيجعل على الغنى ثمانية

وَتُقْسَمُ الْجِزْيَةُ بَيْنَهُمْ؛ فَيُجْعَلُ عَلَى الْغَنِىِّ ثَمَانِيَةٌ وَأرْبَعُونَ دِرْهَمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِزْيَةُ، فإذا وُجِدَتِ الإِفاقَةُ في بعضِ الحَوْلِ، وَجَب فيه ما يَجبُ به لو انْفَرَدَ. فعلى هذا الوَجْهِ، في أخْذِ الجِزْيَةِ وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّ الأيّامَ تُلَفَّقُ، فإذا بَلَغَتْ حَوْلًا، أُخِذَتْ منه؛ لأنَّ أخْذَها قبلَ ذلك أخْذٌ لجِزْيَتِه قبلَ كمالِ الحَوْلِ، فلم يَجُزْ، كالصَّحِيحِ. والثانى، يُؤْخَذُ منه في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ بقَدْرِ ما أفاقَ منه، كما لو أفاق في بعْضِ الحوْلِ إفاقَةً مُسْتَمِرَّةً. وإن كان يُجَنُّ ثُلُثَ الحَوْلِ، ويُفِيقُ ثُلُثَيْه، أو بالعَكْسِ، ففيه الوَجْهان كما ذَكَرْنا. فإنِ اسْتَوَتْ إفاقَتُه وجُنونُه، مثلَ مَن يُجَنُّ يومًا ويُفِيقُ يومًا، أو يُجَنُّ نِصْفَ الحَوْلِ ويُفِيقُ نِصْفَه عادةً، لُفِّقَتْ إفاقَتُه؛ لأنَّه تَعَذَّرَ اعتبارُ الأغْلَبِ؛ لعَدَمِه، فتَعَيَّنَ الوَجْهُ الآخَرُ. الحالُ الثالثُ، أن يُجَنَّ نِصْفَ حَوْلٍ، ثم يُفِيقَ إفاقَةً مُسْتَمِرَّةً، أو يُفِيقَ نصفَه، ثم يُجَنَّ جُنوِنًا مُسْتَمِرًّا، فلا جِزْيَةَ عليه في الثانى، وعليه في الأوَّلِ مِن الجِزْيَةِ بقَدْرِ ما أفاقَ، كما تَقَدَّمَ. 1511 - مسألة: (وتُقْسَمُ الجِزْيَةُ بينَهم؛ فَيُجْعَلُ على الغَنِىِّ ثَمانِيَةٌ

وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأرْبَعُون دِرْهمًا، وعلى المُتَوَسِّطِ أرْبَعَةٌ وعِشْرُون، وعلى الفَقِيرِ اثْنا عَشَرَ) الكلامُ في هذه المسألَةِ في فَصْلَيْن؛ أحَدُهما، في تَقْدِيرِ الجِزْيَةِ. والثانى، في كِمِّيَّةِ مِقْدارِها. فأمّا الأوَّلُ، ففيه ثلاثُ رواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، أنَّها مُقَدَّرَةٌ بمقْدارٍ لا يُزادُ عليه، ولا يُنْقَصُ منه. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فرَضَها مُقَدَّرَةً، بقولِه لمُعاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ» (¬1). وفَرَضَها عُمَرُ بمَحْضَرٍ مِن الصَّحابَةِ، فلم يُنْكَرْ، فيكُونُ إجْماعًا. والثانيةُ، أنَّها غيرُ مُقَدَّرَةٍ، بل يُرْجَعُ فيها إلى اجْتهادِ الإِمامِ في الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ. قال الأثْرَمُ: قيل لأبى عبدِ اللَّهِ: فيُزادُ اليومَ ويُنْقَصُ؟ يعْنى مِن الجِزْيَةِ. قال: نعم، يُزادُ فيها ويُنْقَصُ، على قَدْرِ طاقَتِهم، على قَدْرِ ما يَرَى الإِمامُ. وذَكَر أنَّه زِيدَ عليهم فيما مَضَى دِرْهمانِ، فجعَلَه خمسين. قال الخَلَّالُ: العَمَلُ في قَوْلِ أبى عبدِ اللَّهِ على ما رَواه الجماعَةُ، بأنَّه لا بَأْسَ للإِمامَ أن يَزِيدَ في ذلك ويَنْقصَ، على ما رَواه عنه أصحابُه في عَشَرَةِ مَواضِعَ، فاسْتَقَرَّ قَوْلُه على ذلك. وهو قولُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 422.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر مُعاذًا أن يَأْخُذَ مِن كلِّ حالمٍ دينارًا، وصالَحَ أهْلَ نَجْرانَ على ألْفَىْ حُلَّةٍ؛ النِّصْفُ في صَفَر، والنِّصْفُ في رَجَبٍ. رَواهما أبو داودَ (¬1). وعُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَعَل الجِزْيَةَ على ثلاثِ طَبقَاتٍ؛ على الغَنِىِّ ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المُتَوَسِّطِ أربعةً وعشرين درهمًا، وعلى الفقيرِ اثْنَىْ عَشَرَ دِرْهَمًا (¬2). وصالَحَ بنى تَغْلِبَ على مِثْلَىْ ما على المُسْلِمِين مِن الزَّكاةِ (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّها إلى رَأْىِ الإِمامِ، لولا ذلك لكَانَتْ على قَدْرٍ واحِدٍ في جميعِ هذه المواضِعِ ولم يَجُزْ أن يُخْتَلَفَ فيها. قال البخارىُّ (¬4): قال ابنُ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، قلتُ لمُجاهِدٍ: ما شَأْنُ أهلِ الشامِ عليهم أربعةُ دنانيرَ، وأهلُ اليَمَنِ عليهم دينارٌ؟ قال: جُعِلَ ذلك مِن أجلِ (¬5) اليَسارِ. ولأنَّها عِوَضٌ، فلم تَتَقَدَّرْ، كالأُجْرَةِ. والرِّوايةُ الثَّالثةُ، أنَّ أقلَّها مُقَدَّرٌ بدِينارٍ، وأكْثَرَها غيرُ مُقَدَّرٍ. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ. فتَجُوزُ الزِّيادَةُ، ولا يَجُوزُ النَّقْصُ؛ لأنَّ عُمَرَ زاد على ما فَرَض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَنْقُصْ منه. ¬

(¬1) في: باب في أخذ الجزية، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 149. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 420. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 399. (¬4) في: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 4/ 117. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجزية، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 87. (¬5) في م: «قبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ أنَّه زاد على ثمانيةٍ وأرْبَعِين، فجَعَلَها خَمْسِين. الفصل الثانى: أنَّنا إذا قُلْنا بالرِّوايَةِ الأُولَى، وأنَّها مُقَدَّرَةٌ، فقَدْرُها في حَقِّ المُوسِرِ ثَمانِيةٌ وأربعون دِرْهمًا، وفى حَقِّ المُتَوَسِّطِ أربعةٌ وعشرون، وفى حَقِّ الفقيرِ اثْنا عَشَرَ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وقال مالكٌ: هى في حَقِّ الغَنِىِّ أربعون دِرْهمًا أو أربعةُ دنانيرَ، وفى حَقِّ الفقيرِ عَشَرَةُ دراهمَ أو دِينارٌ. ورُوِىَ ذلك عن عُمَرَ. وقال الشافعىُّ: الواجِبُ دينارٌ في حَقِّ كلِّ أحَدٍ؛ لحديثِ مُعاذٍ، إلَّا أنَّ المُسْتَحَبَّ جَعْلُها على ثلاثِ طَبَقاتٍ، كما ذَكَرْناه؛ لنَخْرُجَ مِن الخِلافِ. قالوا: وقَضاءُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَي بالاتِّباعِ مِن غيرِه. ولَنا، حديثُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وهو حديثٌ لا شَكَّ في صِحَّتِه وشُهْرَتِه بينَ الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، وغيرِهم، ولم يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، ولا خالَفَ فيه، وعَمِلَ به مَن بعدَه مِن الخُلَفاءِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عليهم، فكان إجْماعًا لا يَجُوزُ الخَطَأُ عليه، وقد وافَقَ الشافعىُّ على اسْتِحْبابِ العَمَلِ به. وأمّا حديثُ معاذٍ، فلا يَخْلُو مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه فَعَل ذلك لغَلَبَةِ الفَقْرِ عليهم، بدليلِ قولِ مُجاهِدٍ: إنَّ ذلك مِن أجْلِ اليَسارِ. والوَجْهُ الثانى، أن يكُونَ التَّقْدِيرُ غيرَ واجِبٍ، بلٍ هو مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ الإِمامِ. ولأنَّ الجِزْيَةَ وجَبَتْ صَغارًا وعُقوبَةً، فتَخْتَلِفُ باخْتِلافِ أحْوالِهم، كالعُقوبَةِ في البَدَنِ؛ منهم مَن يُقْتَلُ، ومنهم مَن يُسْتَرَقُّ، ولا يَصِحُّ كوْنُها عِوَضًا عن سُكْنَى الدَّارِ؛ لأنَّها لو كانت كذلك، لوَجَبَتْ

1512 - مسألة: (والغنى منهم من عده الناس غنيا، فى ظاهر المذهب)

وَالْغَنِيُّ مِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ النَّاسُ غَنِيًّا، فِى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمَتَى بَذَلُوا الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ، لَزِمَ قَبُولُهُ، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على النِّساءِ والصِّبْيانِ والزَّمْنَى والمَكافيفِ. 1512 - مسألة: (والغَنِىُّ منهم مَن عَدَّه الناسُ غَنِيًّا، في ظاهِرِ المَذْهَبِ) وليس ذلك بمُقَدَّرٍ؛ لأنَّ التَّقْدِيراتِ بابُها التَّوْقِيفُ، ولا تَوْقِيفَ في هذا، فيُرْجَعُ فيه إلى العادةِ والعُرْفِ. 1513 - مسألة: (وإذا بَذَلُوا الواجِبَ عليهم، لَزِمَ قَبُولُه، وحَرُمَ قِتالُهم) لقولِ اللَّهِ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآيةُ إلى قولِه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجَعَلَ إعْطاءَ الجِزْيَةِ غايَةً لقِتالِهم، فمتى بذَلُوها، لم يَجُزْ قتالُهم (¬1)؛ للآيةِ، ولقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في حديثِ بُرَيْدَةَ: «فَادْعُهُمْ إلَى أدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ» (¬2). فإن قُلْنا: إنَّ الجِزْيَةَ غيرُ مُقَدَّرَةِ الأكْثَرِ. لم يَحْرُمْ قِتالُهم حَتَّى يُجِيبُوا إلى بَذْلِ ما لا يَجُوزُ طَلَبُ أكثرَ منه. فصل: وتَجِبُ الجِزْيَةُ في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَجِبُ بأوَّلِه، ويُطالَبُ بها عَقِيبَ العَقْدِ، وتَجِبُ الثانِيَةُ في أوَّلِ الحَوْلِ الثانى؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}. ولَنا، أنَّه مالٌ يتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الحَوْلِ، أو يُؤْخَذُ في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ، فلمِ يَجِبْ بأوَّلِه، كالزَّكاةِ والدِّيَةِ، وأمّا الآيةُ، فالمرادُ بها الْتِزامُ إعْطائِها، دُون نَفْسِ الإِعْطاءِ، ولهذا يَحرُمُ قِتالُهم بمُجَرَّدِ بَذْلِها قبلَ أخْذِها. فصل: وتُؤْخَذُ الجِزْيَةُ ممّا يُسِّرَ مِن أمْوالِهم، ولا يتَعَيَّنُ أخْذُها مِن ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وغيرِهم؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمّا بَعَث مُعاذًا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، إلى اليَمَنِ، أمَرَه أن يأْخُذَ مِن كلِّ حالمٍ دينارًا، أو عَدْلَه مَعافِرَ. وكان النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) في م: «قتادة». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 86.

1514 - مسألة: (ومن أسلم بعد الحول، سقطت عنه الجزية،

وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحَوْلِ، سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ مَاتَ، أُخِذَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأْخُذُ مِن نَصارَى نَجْرانَ ألْفىْ حُلَّةٍ، وكان عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يُؤْتَى بنَعَمٍ كثيرةٍ، يَأْخُذُها مِن الجِزْيَةِ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يَأْخُذُ الجِزْيَةَ مِن كلِّ ذِى صَنْعَةٍ مِن مَتاعِه، مِن صاحِبِ الإِبَرِ إِبَرًا، ومِن صاحِبِ المَسالِّ مَسالًّا، ومِن صاحِبِ الحِبالِ حِبالًا، ثم يَدْعُو الناسَ فيُعْطِيهم الذَّهبَ والفِضَّةَ فيقْتَسِمُونَه، ثم يقولُ: خُذُوا واقْتَسِمُوا (¬1). فيقولون: لا حاجَةَ لنا فيه. فيقولُ: أخَذْتُم خِيارَه، وتَرَكْتُم شِرارَه، لتَحْمِلُنَّه (¬2). إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُؤْخَذُ بالقِيمَةِ؛ لقَوْلِه عليه السلامُ: «أوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ». ويَجُوزُ أخْذُ ثَمَنِ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ منهم عن جِزْيَةِ رُءوسِهم، وخَراجِ أرْضِهم؛ لقولِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: وَلُّوهم بَيْعَها وخُذُوا أنتم مِن الثَّمَنِ (¬3). ولأنَّها مِن أمْوالِهم التى نُقِرُّهم على اقْتِنائِها، فجازَ أخْذُ أثْمانِها، كثيابِهم. 1514 - مسألة: (ومَن أسْلَمَ بعدَ الحَوْلِ، سَقَطَتْ عنه الجِزْيَةُ، ¬

(¬1) في م: «أو اقتسموا». (¬2) أخرجه أبو عبيد، في: باب اجتباء الجزية والخراج، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 44، 45. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب أخذ الجزية من الخمر، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 23. وأبو عبيد، في: باب أخذ الجزية من الخمر والخنزير. الأموال 50. وانظر: ما أخرجه البيهقى، في: باب لا يأخذ منهم في الجزية خمرا ولا خنزيرا: من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 206.

مِنْ تَرِكَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: تَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن ماتَ، أُخِذَتْ مِن تَرِكَتِه. وقال القاضى: تَسْقُطُ) إذا أسْلَمَ مَن عليه الجِزْيَةُ في أثْناءِ الحَوْلِ، لم تَجِبِ الجِزْيَةُ عليه، وإن أسْلَمَ بعدَه، سَقَطَتْ عنه. وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: إن أسْلَمَ بعدَ الحَوْلِ، لم تَسْقُطْ (¬1)؛ لأنَّه دَيْنٌ اسْتَحَقَّه صاحِبُه، واسْتَحَقَّ المُطالَبَةَ به في حالِ الكُفْرِ، فلم يَسْقُطْ بالإِسلامِ، كالخراجِ، وسائِرِ الدُّيونِ. وللشافعىِّ فيما إذا أسْلَمَ في أثْناءِ الحَوْلِ قَوْلان؛ أحَدُهما، عليه مِن الجزْيَةِ بالقِسْطِ، كما لو أفاقَ بعضَ الحَوْلِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2). وروى ابنُ عباسٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِينَ جِزْيَةٌ». رَواه الخَلَّالُ (¬3). وذَكَر أنَّ أحمدَ سُئِلَ عنه، فقال: ليس يَرْوِيه غيرُ جَرِيرٍ. قال: وقد رُوِى عن عُمَرَ، ¬

(¬1) في م: «تقسط». (¬2) سورة الأنفال 38. (¬3) وأخرجه أبو داود، في: باب في الذمى يُسلم في بعض السنة. . .، من كتاب الخراج والفئ والإِمارة. سنن أبى داود 2/ 152. والترمذى، في: باب ما جاء ليس على المسلم جزية، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 127. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 223، 285.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: إن أخَذَها في كَفِّه ثم أسْلَمَ، رَدَّها عليه. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَا يَنْبَغِى لِلْمُسْلِمِ أنْ يُؤَدِّىَ الخَرَاجَ» (¬1). يعنى الجِزْيَةَ. ورُوِىَ أنَّ ذِمِّيًّا أسْلَمَ، فطُولِبَ بالجِزْيَةِ، وقيل: إنَّما أسْلَمَ تَعَوُّذًا. قال: إنَّ في الإِسلام مَعاذًا. فرُفِعَ إلى عُمَرَ، فقال عُمَرُ: إنَّ في الإِسلامِ مَعاذًا. وكَتَب أن لَا تُؤْخَذَ منه الجِزْيَةُ. رَواه أبو عُبَيْدٍ بنحوٍ مِن هذا المعنى (¬2). ولأنَّ الجِزْيَةَ صَغارٌ، فلا تُؤْخَذُ منه، كما لو أسْلَمَ قبلَ الحَوْلِ، ولأنَّ الجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ بسَبَبِ الكُفْرِ، فيُسْقِطُها الإِسلامُ، كالقَتْلِ. وبهذا فارَقَ الخراجَ وسائِرَ الدُّيونِ. فصل: فإن ماتَ بعدَ الحَوْلِ، لم تَسْقُطْ عنه الجِزْيَةُ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وحُكِىَ عن القاضى أنَّها تَسْقُطُ بالموْتِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 151. وابن ماجه، في: باب العشر والخراج، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 586. (¬2) في: باب الجزية على من أسلم من أهل الذمة. . .، من كتاب الفئ ووجوهه وسبله. الأموال 48. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يحل من أموال أهل الذمة، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 94.

1515 - مسألة: (وإن اجتمعت عليه جزية سنين، استوفيت كلها)

وَإِنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ، اسْتُوفِيَتْ كُلُّهَا. وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ فِى آخِرِ الْحَوْلِ، وَيُمْتَهَنُونَ عِنْدَ أَخْذِهَا، وَيُطَالُ قِيامُهُمْ، وَتُجَرُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ أبى حنيفةَ. ورَواه أبو عُبَيْدٍ (¬1) عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ لأنَّها عُقُوبَةٌ، فتَسْقُطُ بالموْتِ، كالحدودِ، ولأنَّها تسْقُطُ بالإِسلامِ، فسَقَطَتْ بالموتِ، كما قبلَ الحَوْلِ. ولَنا، أنَّه دَيْنٌ وَجَب عليه في حياتِه، فلم يسْقُطْ بمَوْتِه، كدُيونِ الآدَمِيِّين، والحدُّ إنَّما سَقَط لفَواتِ مَحِلِّه، وتَعَذُّرِ اسْتِيفائِه، بخلافِ الجِزْيَةِ. وفارَقَ الإِسلامَ؛ فإنَّه الأصْلُ، والجِزْيَةُ بَدَلٌ عنه، فإذا أتَى بالأصْلِ اسْتَغْنَى عن البَدَلِ، كمَن وَجَد الماءَ لا يحْتاجُ معه إلى التَّيَمُّمِ، بخلافِ الموتِ، ولأنَّ الإِسلامَ قُرْبَة وطاعَةٌ، يَصْلُحُ أن يكُونَ مَعاذًا مِن الجِزْيَةِ، كما ذَكَر عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، والموتُ بخلافِه. 1515 - مسألة: (وإنِ اجْتَمَعَتْ عليه جِزْيَةُ سِنِين، اسْتُوفِيَتْ كلُّها) ولم تَتَداخَلْ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تتداخَلُ؛ لأنَّها عُقُوبَةٌ. فتتداخَلُ، كالحدودِ. ولَنا، أنَّها حَقُّ مالٍ، يَجِبُ في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ، فلم يتداخَلْ، كالدِّيَةِ. 1516 - مسألة: (وتُؤْخَذُ الجِزْيَةُ) مِنْهُم (في آخِرِ الحَوْلِ، ¬

(¬1) في: الباب السابق، الأموال 49.

أَيْدِيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُمْتَهَنُونَ عندَ أخْذِها، ويُطالُ قِيامُهم، وتُجَرُّ أيْدِيهم) وإنَّما تُؤْخَذُ منهم في آخِرِ الحَوْلِ؛ لأنَّه مالٌ يَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ الحَوْلِ، فلم يُؤْخَذْ قبلَ حَوَلانِ الحَوْلِ، كالزَّكاةِ. ويُمْتَهَنُونَ عندَ أخْذِها منهم. وهكذا ذَكَرَ أبو الخَطّابِ، ويُطالُ قِيامُهم، وتُجَرُّ أيْدِيهمِ عندَ أخْذِها؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وقد قيل: الصَّغارُ؛ الْتِزامُ الجزْيَةِ، وجَرَيَانُ أحْكامِنا عليهم. ولا يُقْبَلُ منهم إرْسالُها، بل يَحْضُرُ الذِّمِّىُّ بنَفْسِه، ويُؤَدِّيها وهو قائِمٌ والآخِذُ جالِسٌ. فصل: ولا يُعَذَّبُونَ في أخْذِها (¬1)، ولا يُشْتَطُّ (¬2) عليهم؛ فإنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أُتِى بمالٍ كثيرٍ، قال أبو عُبَيْدٍ: أحْسَبُه مِن الجِزْيَةِ، فقال: إنِّى لأظُنُّكُمْ قد أهْلَكْتُم النّاسَ. قالُوا: لا واللَّهِ، ما أخَذْنا إلَّا عَفْوًا صَفْوًا. قال: بلا (¬3) سَوْطٍ ولا نَوْطٍ (¬4)؛ قالوا: نعم. قال: الحمدُ للَّهِ الذى لم يَجْعَلْ ذلك على يَدَىَّ، ولا في سُلْطانِى. وقدِمَ عليه سعيدُ بنُ عامرِ بنِ ¬

(¬1) في حاشية الأصل: «إذا أعسروا». (¬2) في م: «يشط». (¬3) في م: «فلا». (¬4) في النسخ: «بوط». والنوط: التعليق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حِذْيَم (¬1)، فعَلاه عُمَرُ بالدِّرَّةِ، فقال سعيدٌ: سَبَق سَيْلُكَ مَطَرَك، إن تُعاقِبْ نَصْبِرْ، وإن تَعْفُ نَشْكُرْ، وإن تَسْتَعْتِبْ نعْتِبْ. فقال: ما على المُسْلِمِين إلَّا هذا، ما لَكَ تُبْطِئُ بالخراجِ؟ فقال: أمَرْتَنا أن لا نَزِيدَ الفلَّاحين على أربعةِ دنانيرَ، فلسْنا نَزِيدُهم على ذلك، ولكنَّا نُؤَخِّرُهم إلى غَلَّاتِهِم. فقال عُمَرُ: لا عَزَلْتُك (¬2) ما حَيِيتُ. رَواهما أبو عُبَيْدٍ (¬3). وقال: إنَّما وَجْهُ التَّأْخِيرِ إلى الغَلَّةِ الرِّفْقُ بهم. وقال: ولم نَسْمَعْ في اسْتِيداء الجِزْيَةِ والخراجِ وَقْتًا غيرَ هذا. واسْتَعْمَلَ علىُّ بنُ أبى طالبٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، رَجُلًا على عُكْبَرَى (¬4)، فقال له على رُءُوسِ النّاسِ: لا تَدَعَنَّ لهم ¬

(¬1) في م: «خريم». (¬2) في م: «أعزلنَّك». (¬3) في: باب اجتباء الجزية والخراج،. . .، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة،. . . الأموال 43، 44. (¬4) عكبرى: بليدة من نواحى دجيل، قرب صريفين وأوانا، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. معجم البلدان 3/ 705.

1517 - مسألة: (ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، ويبين أيام الضيافة، وقدر الطعام والإدام والعلف، وعدد من يضاف. ولا يجب)

وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُبَيِّنُ أَيَّامَ الضِّيَافَةِ، وَقَدْرَ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالْعَلَفِ، وَعَدَدَ مَنْ يُضَافُ. وَلَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقِيلَ: تَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ درهمًا مِن الخراجِ. وشَدَّدَ عليه القولَ، ثم قال: الْقَنِى (¬1) عندَ انْتِصافِ النَّهارِ. فأتاه، فقال: إنِّى كنتُ أمَرْتُكَ بأمْرٍ، وإنِّى أتَقَدَّمُ إليك الآنَ، فإن عَصَيْتَنِى نَزَعْتُك، لا تَبِيعَنَّ لهم في خراجِهِم حِمارًا، ولا بقرةً، ولا كِسْوةَ شتاءٍ ولا صَيْفٍ، وارْفُقْ بهم، وافْعَلْ بهم (¬2). 1517 - مسألة: (ويَجُوزُ أن يَشْتَرِطَ عليهم ضِيافَةَ مَن يَمُرُّ بهم مِن المُسْلِمِين، ويُبَيِّنُ أيّامَ الضِّيافَةِ، وقَدْرَ الطَّعامِ والإِدامِ والعَلَفِ، وعَدَدَ مَن يُضافُ. ولا يَجِبُ) ذَلِك (مِن غَيْرِ شَرْطٍ. وقِيلَ: يَجِبُ) يَجُوزُ أن يَشْتَرِطَ في عَقْدِ الذِّمَّةِ ضِيافَةَ مَن يَمُرُّ بهم مِن المُسْلِمِين؛ لِما روَى الإِمامُ ¬

(¬1) في م: «ائتني». (¬2) أخرجه البيهقى بمعناه، في: باب النهى عن التشديد في جباية الجزية، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 205. وأبو عبيد، في الباب السابق. الأموال 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بإسْنادِهِ، عن الأحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، أنَّ عُمَرَ شَرَط على أهْلِ الذِّمَّةِ ضِيافَةَ يَوْمٍ وليلةٍ، وأن يُصْلِحُوا القناطِرَ، وإن قُتِلَ رجلٌ مِن المُسْلِمِين بأرْضِهم، فعليهم دِيَتُه (¬1). قال ابنُ المُنْذِرِ: ورُوِىَ عن عُمَرَ، أنَّه قَضَى على أهْلِ الذِّمَّةِ ضِيافَةَ مَن يَمُرُّ بهم مِن المُسْلِمِين ثلاثةَ أيّامٍ، وعَلَفَ دَوابِّهم وما يُصْلِحُهم (¬2). ورُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَرَب على نَصارَى أيْلَةَ ثلاثَمائةِ دينارٍ، وكانوا ثلَاثمائةِ نَفْسٍ، في كلِّ سنةٍ، وأن يُضِيفُوا مَن يَمُرُّ بهم مِن المُسْلِمِين ثلاثةَ أيّامٍ (¬3). ولأنَّ في هذا ضَرْبًا مِن المَصْلَحَةِ؛ لأنَّهم رُبَّما امْتَنَعُوا مِن مُبايَعَةِ المُسْلِمِين إضْرارًا بهمِ، فإذا شُرِطَتْ عليهم الضِّيافَةُ أُمِنَ ذلك. فإن لم تُشْرَطْ عليهم الضِّيافَةُ، لم تجِبْ. ذَكَرَه القاضى. وهو مَذهَبُ الشافعىِّ. ومِن أصحابِنا مَن قال: تَجِبُ بغيرِ شَرْطٍ؛ لوُجُوبِها على المُسْلِمِين. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه أداءُ مالٍ، فلم يَجِبْ بغيرِ رِضاهم، كالجِزْيَةِ. فإن شَرَطَها عليهم، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الضيافة في الصلح، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 196. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب الضيافة في الصلح، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 196. وعبد الرزاق، في: باب الجزية، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 85، 86، 87، 88. ولم يرد فهما ذكر علف الدابة وما يصلحهم. وورد ذكر علف الدواب، في: الأموال 145. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب كم الجزية؟ من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 195.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فامْتَنَعُوا مِن قَبُولِها، لم تُعْقَدْ لهم الذِّمَّةُ. وقال الشافعىُّ: لا يَجُوزُ قِتالُهم عليها. فصل: قال القاضى: إذا شَرَط الضِّيافَةَ، فإنَّه يُشْتَرَطُ أن يُبَيِّنَ أيّامَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضِّيافَةِ، وعَدَدَ مَن يُضافُ مِن الرَّجّالَةِ والفُرْسانِ؛ فيقولُ: تُضِيفُون في كلِّ سنةٍ مائةَ يومٍ، في كلِّ يومٍ عَشَرَةً مِن المُسْلِمِين، مِن خُبْزٍ كذا، وأُدْمٍ كذا، وللفَرَسِ مِن الشَّعِيرِ كذا، ومِن التِّبْنِ كذا؛ لأنَّه مِن الجِزْيَةِ، فاعْتُبِرَ العِلْمُ به، كالنُّقودِ. فإن شَرَطَ الضِّيافةَ مُطْلَقًا، صَحَّ في الظاهِرِ؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، شَرَط عليهم ذلك مِن غيرِ عَدَدٍ ولا تَقْدِيرٍ. قال أبو بكرٍ: وإذا أطْلَقَ مُدَّةَ الضِّيافَةِ، فالواجِبُ يومٌ وليلةٌ؛ لأنَّ ذلك الواجِبُ على المُسْلِمِين. ولا يُكَلَّفُون الذَّبِيحَةَ، ولا أن يُضِيفُوهم بِأرْفَعَ مِن طَعامِهم؛ لأنَّه يُرْوَى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه شَكَا إليه أهْلُ الذِّمَّةِ أنَّ المُسْلِمِين يُكَلِّفُونَهم الذَّبِيحَةَ، فقال: أطْعِمُوهم ممّا تَأْكُلُون (¬1). وقال الأوْزَاعِىُّ: ولا يُكَلَّفُونَ الذَّبيحَةَ، ولا الشَّعِيرَ. وقال القاضى: إذا وَقَع الشَّرْطُ مُطْلَقًا، لم يَلْزَمْهم الشَّعِيرُ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَهم ذلك للخَيْلِ؛ لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ به، فهو كالخُبْزِ للرجلِ. وللمُسْلِمِين النُّزولُ في الكَنائِسِ والبِيَعِ؛ فإنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صالَحَ أهْلَ الشامِ على أن يُوَسِّعُوا أبْوابَ بِيَعِهم وكنائِسِهم لمَن يجْتازُ بهم مِن المُسْلِمِين، ليَدْخُلُوها رُكْبانًا (¬2). فإن لم يَجِدُوا مَكانًا، فلهم النُّزولُ في الأفْنِيَةِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجزية، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 87، 88. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب الإِمام يكتب كتاب الصلح على الجزية، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفُضولِ المنازلِ، وليس لهم تَحْويلُ صاحِبِ المنْزِلِ منه. والسّابِقُ إلى مَنْزِلٍ أحَقُّ به ممَّن يَأْتِي بعدَه. فإنِ امْتَنَعَ بعضُهم مِن القِيامِ بما يَجِبُ عليه، أُجْبِرَ عليه، فإنِ امْتَنَعَ الجميعُ، أُجْبِرُوا، فإن لم يُمْكِنْ إلَّا بالقتالِ، قُوتِلُوا، فإن قاتَلُوا، انْتَقَضَ عَهْدُهم. فصل: وتُقْسَمُ الضِّيافَةُ بينَهم على قَدْرِ جِزْيَتِهم، فإن جَعَل الضِّيافَةَ مكانَ الجِزْيَةِ، جازَ؛ لِما رُوِى أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب لراهِبٍ مِن أهْلِ الشامِ: إنَّنِى إن وَلِيتُ هذه الأرْضَ، أسْقَطْتُ عنك خَراجَك. فلمّا قَدِمَ الجابِيَةَ، وهو أميرُ المؤمنين، جاءَه بكتابِه، فعَرَفَه، وقال: إنَّنِى جَعَلْتُ لك ما ليس لى، ولكنِ اخْتَرْ؛ إن شِئْتَ أداءَ الخَراجِ (¬1)، وإن شِئْتَ أن تُضِيفَ المُسْلِمِين. فاخْتارَ الضِّيافَةَ. ويُشْتَرَطُ أن تكُونَ الضِّيافَةُ يَبْلُغُ قَدْرُها أقلَّ الجِزْيَةِ، إذا قُلْنا: مُقَدَّرَةُ الأقَلِّ. لئلَّا يَنْقُصَ خَراجُه عن أقَلِّ الجِزْيَةِ. وذُكِرَ أنَّ مِن الشُّروطِ الفاسدةِ الاكْتِفاءَ بضِيافَتِهم عن جِزْيَتِهم؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أمَرَ بقِتالِهم حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ، فإذا لم يُعْطُوها، كان قِتالُهم مُباحًا. ولَنا، أنَّ هذا اشْتِراطُ مالٍ، يَبْلُغُ قَدْرَ الجِزْيَةِ، فجازَ، كما لو شَرَط عليهم عَدْلَ الجِزْيَةِ مَعافِرَ. فصل (¬2): وإذا شَرَط في عَقْدِ الذِّمَّةِ شَرْطًا فاسِدًا، مثلَ ¬

(¬1) في م: «الجزية». (¬2) سقط من: م.

1518 - مسألة: (وإذا تولى إمام، فعرف قدر جزيتهم، وما شرط عليهم، أقرهم عليه، فإن لم يعرف، رجع إلى قولهم، فإن بان له كذبهم، رجع عليهم. وعند أبى الخطاب أنه يستأنف العقد معهم)

وَإِذَا تَوَلَّى إِمَامٌ، فَعَرَفَ قَدْرَ جِزْيَتِهِمْ، وَمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ، أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ، رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَإِنْ بَانَ لَهُ كَذِبُهُمْ، رَجَعَ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ مَعَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَشْتَرِطَ أن لا جِزْيَةَ عليهم، أو إظْهارَ المُنْكَرِ، أو إسْكانَهم الحجازَ، أو إدْخالَهم الحَرَمَ، أو نحوَ هذا، فقال القاضى: يَفْسُدُ به العَقْدُ؛ لأنَّه شَرَط فِعْلَ مُحَرَّمٍ، فأفْسَدَ العَقْدَ، كما لو شَرَط قِتالَ المُسْلِمِين. ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ الشَّرْطُ وحدَه، بِناءً على الشُّروطِ الفاسِدَةِ في البيعِ والمُضارَبَةِ. 1518 - مسألة: (وإذا تَوَلَّى إمامٌ، فعَرَفَ قَدْرَ جِزْيَتِهم، وما شُرِطَ عليهم، أقرَّهم عليه، فإن لم يَعْرِفْ، رَجَع إلى قولِهم، فإن بان له كَذِبُهم، رَجَع عليهم. وعندَ أبِى الخَطّابِ أنَّه يَسْتَأْنِفُ العَقدَ معهم) إذا ماتَ الإِمامُ، أو عُزِلَ وتَوَلَّى غيرُه، فإن عَرَف ما عَقَدَ عليه عَقْدَ الذِّمَّةِ الذى قبلَه، وكان عَقْدًا صحيحًا، أقَرَّهم عليه، ولم يَحْتَجْ إلى تجديدِ عَقْدٍ؛ لأنَّ الخُلَفاءَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أقَرُّوا عَهْدَ عُمَرَ، ولم يُجَدِّدُوا عقدًا سِواه، ولأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ. وإن كان فاسِدًا، رَدَّه إلى الصِّحَّةِ. وإن لم يَعْرِفْ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَشَهِدَ به مُسْلِمان، أو كان أمْرُه ظاهِرًا، عَمِلَ به. وإن أشْكَلَ عليه (¬1)، سَألَهم، فإنِ ادَّعَوُا العَقْدَ بما يَصْلُحُ أن يكُونَ جِزْيَةً، قَبِلَ قولَهم، وعَمِلَ به، وإن شاء اسْتَحْلَفَهم اسْتِظْهارًا، فإن بان له بعدَ ذلك أنَّهم نَقَصُوا مِن المَشْرُوطِ، رَجَع عليهم بما نَقَصُوا، وإن قالوا: كُنّا نُؤَدِّى كذا وكذا جِزْيَةً، وكذا وكذا هَدِيَّةً. اسْتَحْلَفَهم يمينًا واحِدةً؛ لأنَّ الظاهِرَ فيما يَدْفَعُونَه أنَّه جِزْيَةٌ. وإن قال بعضُهم: كُنّا نُؤَدِّى دينارًا. وقال بعضُهم: كُنّا نُؤَدِّى دينارَيْن. أخَذَ كلَّ واحِدٍ منهم بإقْرارِه، ولم يَقْبَلْ قولَ بعضِهم على بعضٍ؛ لأنَّ أقْوالَهم غيرُ مَقْبُولَةٍ. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه إذا لم يَعْرِفْ ما عُوهِدُوا عليه، اسْتَأْنَفَ العَقْدَ معهم؛ لأنَّ عَقْدَ الأوَّلِ لم يَثْبُتْ عندَه، فصار كالمَعْدُومِ. فصل: وما يَذْكُرُه بعضُ أهْلِ الذِّمَّةِ مِن أنَّ معهم كِتابَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسْقاطِ الجِزْيَةِ عنهم، لا يَصِحُّ. وسُئِلَ عن ذلك أبو العبّاسِ ابنُ سُرَيْجٍ (¬2)، فقال: ما نَقَل ذلك أحَدٌ مِن المسلمين، ورُوِىَ أنَّهم طُولِبُوا بذلك، فأخْرَجُوا كِتابًا، وذَكَرُوا أنَّه بخَطِّ علىٍّ، كَتَبَه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان فيه ¬

(¬1) في م: «عليهم». (¬2) أحمد بن عمر بن سريج البغدادى، أبو العباس القاضى الشافعى، فقيه العراقين، صاحب المصنفات انتشر به مذهب الشافعى ببغداد، وتخرج به الأصحاب. سير أعلام النبلاء 14/ 201 - 204.

1519 - مسألة: (وإذا عقد الذمة)

وَإذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَحُلَاهُمْ، وَدِينَهُمْ، وَجَعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا يَكْشِفُ حَالَ مَنْ بَلَغَ، وَاسْتَغْنَى، وَأَسْلَمَ، وَسَافَرَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ، وَخَرَقَ شَيْئًا مِنْ أحْكَامِ الذِّمَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شهادةُ سعدِ بنِ مُعاذٍ، ومعاويةَ، وتاريخُه بعدَ مَوْتِ سَعْدٍ، قبلَ إسلامِ مُعاوِيَةَ، فاسْتُدِلَّ بذلك على بُطْلانِه (¬1). ولأنَّ قولَهم غيرُ مَقْبُولٍ، ولم يَرْوِ ذلك مَن يُعْتَمَدُ على رِوايَتِه. 1519 - مسألة: (وإذا عَقَد الذِّمَّةَ) معهم (كَتَب أسماءَهم، وأسماءَ آبائِهم) وعَدَدَهم (وحُلاهم، ودِينَهم) فيقولُ: فلانُ بنُ فُلانٍ الفلانِىُّ، طويلٌ أو قصيرٌ أو رَبْعَةٌ، أسمرُ أو أبيضُ، أدْعَجُ العَيْنِ، أقْنَى الأنْفِ، مَقْرونُ الحاجبَيْنِ. ونحوَ هذا مِن صِفاتِهم التى يتَمَيَّزُ بها كلُّ واحدٍ عن الآخَرِ. (ويَجْعَلُ لكلِّ طائِفَةٍ عَرِيفًا) يَجْمَعُهم عندَ أداءِ الجِزْيَةِ، ويَعْرِفُ مَن يَبْلُغُ مِن غِلْمانِهم، ويُفِيقُ مِن مَجانِينِهم، ويَقْدَمُ مِن غُيّابِهم، ومَن يموتُ، أو يُسْلِمُ، أو يَسْتَغْنِى، أو يُسافِرُ؛ لأنَّه أمْكَنُ لاسْتِيفاءِ الجِزْيَةِ، وأحْوَطُ، (و) يُبَيِّنُ حالَ مَن (خَرَقَ شيئًا مِن أحْكامِ الذِّمَّةِ) أو نَقَضَ العَهْدَ؛ ليَفْعَلَ فيه الإِمامُ ما يَجِبُ عليه. ومَن أُخِذَتْ منه الجِزْيَةُ، كُتِبَتْ له براءَةٌ؛ لتكونَ له حُجَّةً إذا احْتاجَ إليها. ¬

(¬1) انظر: ما جاء في تلخيص الحبير 4/ 124، 125. وانظر حادثة مماثلة مع الخطيب البغدادى ذكرها السبكى في طبقات الشافعية الكبرى 4/ 35.

باب أحكام الذمة

بَابُ أَحْكَامَ الذِّمَّةِ يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، فِى ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ دُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ أحْكامِ الذِّمَّةِ (يَلْزَمُ الإِمامَ أن يَأْخُذَهم بأحْكامِ المُسْلِمِين، في ضَمانِ النَّفْسِ والمالِ والعِرْضِ، وإقامَةِ الحُدودِ عليهمِ فيما يَعْتقِدُون تَحْرِيمَه، دُونَ ما يَعْتَقدُونَ حِلَّه) لا يجوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ إلَّا بشرْطَيْن؛ بَذْلِ الجِزْيَةِ، والْتِزَامِ أحْكامِ المِلَّةِ؛ مِن حُقوقِ الآدَمِيِّين في العُقُودِ والمُعامَلاتِ، وأُرُوشِ الجِناياتِ، وقِيَمِ المُتْلَفاتِ. فإنْ عُقِدَ على غَيْرِ [هذيْن الشَّرْطَينْ] (¬1)، لم يَصِحَّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. قيل: الصَّغارُ جَرَيانُ أحْكامِ المُسْلِمِين عليهم. وتَلْزَمُه إقامَةُ الحُدودِ عليهم فيما يَعْتَقِدُون تَحْرِيمَه في دينِهم؛ كالزِّنَى، والسَّرِقَةِ، والقَتْلِ، والقَذْفِ، سواءٌ ¬

(¬1) في م: «هذا من الشروط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان الحَدُّ واجِبًا في دِينِهم أوْ لا؛ لِما روَى أنَسٌ، أنَّ يَهُودِيًّا قتلَ جارِيَةً على أوْضاحٍ لها، فقَتَلَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى ابنُ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُتِىَ بيَهُودِيَّيْن قد فَجَرا بعدَ إحْصانِهما، فرَجَمَهُما (¬2). ولأنَّه مُحَرَّمٌ في دِينِه وقد الْتَزَمَ حُكْمَ الإِسلامِ. فأمّا ما يَعْتَقِدُونَ حِلَّه؛ كشُرْبِ الخَمْرِ، وأكْلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، ونِكاحِ ذَواتِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا قتل بحجر أو بعصا، وباب من أقاد بالحجر، وباب قتل الرجل بالمرأة، من كتاب الديات. صحيح البخارى 5/ 9، 6، 8. ومسلم، في: باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة، من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات. صحيح مسلم 3/ 1299. كما أخرجه أبو داود، في: باب يقاد من الرجل بغير حديد، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 487 - 489. والنسائى، في: باب القود من الرجل للمرأة، وباب القود بغير حديدة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 20، 32. وابن ماجه، في: باب يقتاد من القاتل كما قتل، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 889. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 170، 171. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الصلاة على الجنائز بالمصلى، من كتاب الجنائز، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، من كتاب المناقب، وفى: باب تفسير سورة آل عمران، من كتاب التفسير، وباب ما ذكر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم. . .، من كتاب الاعتصام، وفى: باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب اللَّه بالعربية. . .، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 2/ 111، 4/ 250، 251، 6/ 46، 47، 9/ 129، 193. ومسلم، في: باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1326. وأبو داود، في: باب في رجم اليهوديين، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 463. وابن ماجه مختصرا، في: باب رجم اليهودى واليهودية، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 854. والدارمى، في: باب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى حكام المسلمين، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 178. والإمام مالك، في: باب ما جاء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المحارِمِ للمَجُوسِ، فيُقَرُّون عليه، ولا حَدَّ عليهم فيه؛ لأنَّهم يَعْتَقِدُون حِلَّه. ولأنَّهم يُقَرُّون على كُفْرِهم، وهو أعْظَمُ إثْمًا مِن ذلك، إلَّا أنَّهم يُمْنَعُون مِن إظْهارِه بينَ المُسْلِمِين؛ لأنَّهم يتَأَذَّوْن بذلك. والمأْخُوذُ مِن أحْكامِ الذِّمَّةِ ينْقَسِمُ خمسةَ أقْسامٍ؛ أحدُها، ما لا يَتِمُّ العَقْدُ إلَّا بذِكْرِه، وهو الْتِزامُ الجِزْيَةِ، وجَرَيانُ أحْكامِنا عليهم. فإن أخَلَّ بذِكْرِ واحدٍ منها، لم يَصِحَّ العَقْدُ؛ لِما ذَكَرْنا. وفى معنى ذلك تَرْكُ قتالِ المُسْلِمِين، فإنَّه وإن لم يُذْكَرْ لَفْظُه، فذِكْرُ المُعاهَدَةِ يَقْتَضِيه. القسمُ الثانى، ما فيه ضَرَرٌ على المُسْلِمِين في أنفُسِهم، وذلك ثمانِيَةُ خِصَالٍ، تُذْكَرُ في نقْضِ العَهْدِ إن شاء اللَّهُ تعالى. القسمُ الثالثُ، ما فيه غَضاضَةٌ على المُسْلِمِين، وهو ذِكْرُ رَبِّهم أو كتابِهم [أو ديِنهم] (¬1) أو رسولِهم بسُوءٍ. القسمُ الرابعُ، ما فيه إظْهارُ مُنْكَرٍ؛ كإحْداثِ الكنائِسِ والبِيَعِ، ورَفْعِ أصْواتِهم بكِتابِهم، وإظْهارِ الخَمْرِ والخِنزيرِ، والضَّرْبِ بالنَّواقِيسِ، وتَعْلِيَةِ البُنْيانِ على أبْنِيَةِ المُسْلِمِين، والإِقامَةِ بالحجازِ، ودُخُولِ الحَرَمِ، فيَلْزَمُهم الكَفُّ عنه، سواءٌ شُرِطَ عليهم أو لم يُشْرَطْ، في جميعِ هذه الأقْسامِ الأربعةِ. القسمُ الخامسُ، التَّمَيُّزُ عن المُسْلِمِين في أرْبَعَةِ أشْياءَ؛ لِباسِهم، وشُعُورِهم، ورُكُوبِهم، وكُناهُم. ¬

= في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 819. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5. (¬1) سقط من: م.

1520 - مسألة: (ويلزمهم التميز عن المسلمين؛ فى شعورهم بحذف مقادم رءوسهم وترك الفرق، وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين؛ كأبى القاسم، وأبى عبد الله، وركوبهم بترك الركوب على السروج، وركوبهم عرضا على الأكف، ولباسهم فيلبسون ثيابا تخالف ثيابهم، كالعسلى والأدكن، وشد الخرق فى قلانسهم وعمائمهم، وتؤمر النصارى بشد الزنار

وَيُلْزِمُهُمُ التَّمَيُّزَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِى شُعُورِهِمْ؛ بحَذْفِ مَقَادِمِ رُءُوسِهِمْ وَتَرْكِ الْفَرْقِ، وَكُنَاهُمْ فَلَا يَكْتَنُوا بِكُنَى الْمُسْلِمينَ، كَأَبِى الْقَاسِمِ، وَأَبِى عَبْدِ اللَّهِ، وَرُكُوبِهِمْ بِتَرْكِ الرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ، وَرُكُوبِهِمْ عَرْضًا عَلَى الْأُكُفِ، وَلِبَاسِهِمْ فَيَلْبَسُونَ ثَوْبًا يُخَالِفُ ثِيَابَهُمْ؛ كَالْعَسَلىِّ وَالْأَدْكَنِ، وَشَدِّ الْخِرَقِ فِى قَلَانِسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ، وَتُؤْمَرُ النَّصَارَى بِشَدِّ الزُّنَّارِ فَوقَ ثِيَابِهِمْ، وَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمْ خَوَاتِيمُ الرَّصَاصِ، وَجُلْجُلٌ يُدْخَلُ مَعَهُمُ الْحَمَّامَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1520 - مسألة: (ويُلْزِمُهم التَّمَيُّزَ عن المُسْلِمِين؛ فِى شُعُورِهم بحَذْفِ مَقادِم رُءُوسِهم وتَرْكِ الفَرْقِ، وكُناهم فلا يَتَكَنَّوْنَ بِكُنَى المُسْلِمِين؛ كأَبى القاسِمِ، وأبى عبدِ اللَّهِ، ورُكُوبِهم بتَرْكِ الرُّكُوبِ على السُّرُوجِ، ورُكُوبِهم عَرْضًا على الأُكُفِ، ولِباسهم فيَلْبَسُون ثِيابًا تخالِفُ ثيابَهم، كالعَسَلِىِّ والأدْكَنِ، وشَدِّ الخِرَقِ في قلانِسِهم وعَمائِمِهم، وتُؤْمَرُ النَّصارَى بشَدِّ الزُّنَّارِ (¬1) فوقَ ثِيابِهم، ويُجْعَلُ في رِقابِهم خَواتِيمُ الرَّصاصِ، وجُلْجُل يُدْخَلُ معهم الحَمَّامَ) يَنْبَغِى للإِمامِ إذا عَقَد الذِّمَّةَ ¬

(¬1) الزنار: حزام يشده النصراني على وسطه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَشْرُطَ عليهم شُرُوطًا، نحوَ ما شَرَطَه عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقد رُوِيت عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، [في ذلك] (¬1) أخْبارٌ، منها ما رَواه الخَلَّالُ، بإسْنادِه عن إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ، قال: حَدَّثَنا غيرُ واحدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، قالوا: كَتَب أهْلُ الجزيرَةِ إلى عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ: إنّا حينَ قَدِمْنا (¬2) بلادَنا، طَلَبْنا إليك الأمانَ لأنْفُسِنا وأهْلِ مِلَّتِنا، على أنّا شَرَطْنا لك على أنْفُسِنا [وأهلِ مِلَّتِنا] (¬3) أنَّا لا نُحْدِثُ في مَدِينَتِنا كنيسةً، ولا فيما حَوْلَها دَيْرًا، ولا قلايةً (¬4)، ولا صَوْمَعَةَ راهِبٍ، ولا نُجَدِّدُ ما خَرِبَ مِن كَنائِسِنا، ولا ما كانَ منها في خُطَطِ المُسْلِمِين، ولا نَمْنَعُ كنائِسَنا مِن المُسْلِمِين أن يَنْزِلُوها في الليلِ والنهارِ، وأن نُوَسِّعَ أبْوابَها للمارَّةِ وابنِ السَّبيلِ، ولا نأوِىَ فيها ولا في مَنازِلِنا جاسوسًا، وأن لا نَكْتُمَ أمرَ مَن غَشَّ المُسْلِمِين، وأن لا نَضْرِبَ نَواقِيسَنا إلا ضَرْبًا خَفِيًّا في جَوْفِ كنائِسِنا، ولا نُظْهِرَ علينا صليبًا، ولا نرْفَعَ أصْواتَنا في الصَّلاةِ ولا القراءَةِ في كَنائِسِنا فيما يحْضُرُه المُسْلِمُون، ولا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا ولا كتابَنا في سُوقِ المُسْلِمِين، وأن لا نَخْرُجَ باعُوثًا (¬5) ولا شَعانِينَ (¬6)، ولا نَرْفَعَ أصْواتَنا مع أمْواتِنا، ولا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) هكذا بالنسخ، ولعلها: «قدمتم». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) القلاية: شبه صومعة تكون في كنيسة النصارى. تاج العروس (ق ل ى). (¬5) الباعوث: استسقاء النصارى. (¬6) الشعانين: عيد للنصارى يقع يوم الأحد السابق لعيد الفصح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نُظْهِرَ النِّيرانَ معهم في أسْواقِ المُسْلِمِين، وأن لا نُجاوِرَهم بالخنازِيرِ، ولا نَبِيعَ الخُمُورَ، ولا نُظْهِرَ شِرْكًا، ولا نُرَغِّبَ في دِينِنا، ولا نَدْعُوَ إليه أحَدًا، ولا نَتَّخِذَ شيئًا مِن الرَّقِيقِ الذين جَرَتْ عليهم سِهامُ المُسْلِمِين، وأن لا نَمْنَعَ أحدًا مِن أقْربائِنا إذا أرادُوا الدُّخُولَ في الإِسلامِ، وأن نَلْزَمَ زِيَّنا حيثما كُنّا، وأن لا نَتَشَبَّهَ بالمُسْلِمِين في لُبْسٍ قَلَنْسُوَةٍ ولَا عِمامَةٍ ولا نَعْلَيْن، ولا فَرْقِ شَعَرٍ، ولا في مَراكِبِهم، ولا نَتَكَلَّمَ بكلامِهم، ولا نَتَكَنَّى بكُناهم، وأن نَجُزَّ مقادِمَ رُءُوسِنا، ولا نَفْرِقَ نَواصِيَنا، ونَشُدَّ الزَّنانِيرَ على أوْساطِنا، ولا نَنْقُشَ خَواتِيمَنا بالعربِيَّةِ، ولا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، ولا نَتَّخِذَ شيئًا مِن السِّلاحِ، ولا نَحْمِلَه، ولا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وأن نُوَقِّرَ المُسْلِمِين في مَجالِسِهم، ونُرْشِدَ الطَّرِيقَ، ونَقُومَ لهم عن المَجالِسِ إذا أرادُوا المجالِسَ، ولا نَطَّلِعَ عليهم في مَنازِلِهم، ولا نُعَلِّمَ أوْلادَنا القرآنَ، ولا يُشارِكَ أحَدٌ مِنّا مُسْلِمًا في تِجارَةٍ، إلَّا أن يكونَ إلى المُسْلِمِ أمْرُ التِّجارَةِ، وأن نُضِيفَ كلَّ مُسْلِمٍ عابرِ سَبِيلٍ ثلاثةَ أيّامٍ، ونُطْعِمَه مِن أوْسَطِ ما نَجِدُ، ضَمِنّا ذلك على أنْفُسِنا، وذَرارِيِّنا، وأزْواجِنا، ومَساكِنِنا، وإن نحن غيَّرْنا أو خالَفْنا عمّا شَرَطْنا على أنْفُسِنا، وقَبِلْنا الأمانَ عليه، فلا ذِمَّةَ لنا، وقد حَلَّ لك مِنّا ما يَحِلُّ لأهْلِ المُعانَدَةِ والشِّقاقِ. فكَتَبَ بذلك عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ إلى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، فكَتَبَ إليه عُمَرُ أن أمْضِ لهم ما سَألُوا، وألْحِقْ فيها حَرْفَيْن، اشْتَرِطْهُما عليهم مع ما شَرَطُوا على أنفُسِهم: أن لا يَشْتَرُوا مِن سَبايانا شيئًا، ومَن ضَرَب مُسْلِمًا عَمْدًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقد خَلَع عَهْدَه. فأنْفَذَ عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ ذلك، وأقَرَّ مَن أقام مِن الرُّومِ في مَدائِنِ الشامِ على هذا الشَّرْطِ (¬1). فهذه جُمْلَةُ شُرُوطِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فلذلك يَلْزَمُهم التَّمَيُّزُ عن المُسْلِمِين في شُعُورِهم؛ بحَذْفِ مَقادِمِ رُءُوسِهم، ويَجُزُّون شُعُورَهم، ولا يَفْرِقُونَها؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَق شَعَرَه. وأمّا في الكُنَى، فلا يَتَكَنَّوْا بكُنَى المُسْلِمِين؛ كأبي القاسِمِ، وأبى عبدِ اللَّهِ، وأبى محمدٍ، وأبى بَكْرٍ، وأبى الحَسَنِ، وشِبْهِها. ولا يُمْنَعُونَ الكُنَى بالكُلِّيَّةِ، فإنَّ أحمدَ قال لطبيبٍ نَصْرَانِىٍّ: يا أبا إسْحاقَ. وقال: أليس النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ دَخَل على سعدِ بنَ عُبادَةَ، قال: «ألَا تَرَى مَا يَقُولُ أبُو الحُبَابِ؟» (¬2). وقال لأُسْقُفِ نَجْرانَ: «أسْلمْ يا أبا الحارِثِ» (¬3). وقال عُمَرُ لنَصْرانِىٍّ: يا أبا حَسّان، أسْلِمْ تَسْلَمْ. وأمّا الرُّكوبُ، فلا يَرْكَبُون الخَيْلَ؛ لأنَّ رُكُوبَها عِزٌّ، ولهم ركوبُ ما سِوَاها، ولا يَرْكَبُونَ السُّروجَ، ويَرْكبون عَرْضًا، رِجْلاه إلى جانِبٍ وظَهْرُه إلى آخَرَ؛ لِما روَى الخَلَّالُ، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أمَرَ بِجَزِّ نَواصِى أهْلِ الذِّمَّةِ، وأن يَشُدُّوا المنَاطِقَ، وأن يَرْكَبُوا الأُكُفَ بالعَرْضِ (¬4). وأمّا في اللِّباسِ، فهو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 439. (¬2) أخرجه البخارى 6/ 49، 50، ومسلم 3/ 1422. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب هل يعاد اليهودى، أو يعرض عليه الإِسلام؟، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 10/ 316. (¬4) أخرجه أبو عبيد، في: باب الجزية كيف تجبى، وما يؤخذ به أهلها من الزى. . .، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 53.

1521 - مسألة: (ولا يجوز تصديرهم فى المجالس، ولا بداءتهم بالسلام، فإن سلم أحدهم، قيل له: و

وَلَا يَجُوزُ تَصْدِيرُهُمْ فِى الْمَجَالِسِ، وَلَا بَدَاءَتُهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمْ، قِيلَ لَهُ: وَعَلَيْكُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَلْبَسُوا ما يُخالِفُ لوْنُه لوْنَ سائِرِ الثِّيابِ، فعادَةُ اليهودِ العَسَلِىُّ، وعادَةُ النَّصارَى الأدْكَنُ، وهو الفَاخِتِىُّ، ويكُونُ هذا في ثَوْبٍ واحدٍ، لا في جميعِها؛ ليَقَعَ الفَرْقُ، ويُضِيفُ إلى هذا شَدَّ الزُّنّارِ فوقَ ثَوْبِه إن كان نَصْرانِيًّا، أو عَلامَةً أُخْرَى إن لم يكُنْ نَصْرانِيًّا، كخِرْقَةٍ يَجْهَلُها في عِمامَتِه أو قَلَنْسُوَتِه، يُخالِفُ لَوْنُه لونَها، ويُخْتَمُ في رقَبَتِه خاتَمَ رَصاصٍ أو حديدٍ وجُلْجُلٍ يُدْخَلُ معه الحَمّامَ؛ ليُفَرَّقَ بينَه وبينَ المُسْلِمِين، ويَلْبَسُ نِساؤُهم ثَوْبًا مُلَوَّنًا، ويُشَدُّ الزُّنّارُ تحتَ ثيابِها، وتُختَمُ في رقَبَتِها. ولا يُمْنَعُونَ فاخِرَ الثِّيابِ، ولا العمائِمَ، ولا الطَّيْلَسانَ؛ لحُصُولِ التَّمَيُّزِ بالْغِيَارِ والزُّنّارِ. 1521 - مسألة: (ولا يَجُوز تَصْدِيرُهم فِى المَجالِسِ، ولا بَداءَتُهم بالسَّلامِ، فإن سَلَّمَ أحَدُهم، قيل له: و (¬1) عليكم) لا يتَصَدَّرون ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المجالسِ عندَ المُسْلِمِين؛ لأنَّ في كتابِ عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ: وأن نُوَقِّرَ المُسْلِمِين في مجالِسِهم، ونقومَ لهم عن المجالسِ إذا أرادُوا المَجالِسَ. ولا يُبْدَءُون بالسَّلامِ؛ وذلك لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ والنَّصَارَى بِالسَّلامِ، فإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ فِى الطَّرِيقِ، فَاضْطَرُّوهمْ إلَى أضْيَقِهَا». أخْرَجَه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إنّا غَادُونَ غَدًا، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، وإنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ، فقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وبإسْنادِه (¬3)، عن أنَسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: نُهِينا أو أُمِرْنا أن لا نَزِيدَ أهْلَ الكتابِ علَى: وعَلَيْكُمْ. وقال أبو داوُدَ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ أن يقولَ الرجلُ للذِّمِّىِّ: كيف أصْبَحْتَ؟ أو: كيف أنتَ؟ أو: كيف حالُك؟ قال: نعم أكْرَهُه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 275. (¬2) في: المسند 6/ 398. (¬3) سقطت الواو من النسخ. وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 113. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب رد السلام على أهل الكتاب، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا عِنْدِى أكثرُ مِن السَّلامِ. وقال أبو عبدِ اللَّهِ، رَحِمَه اللَّهُ: إذا لَقِيتَه في طريقٍ، فلا تُوسِعْ له. لِما تَقَدَّمَ مِن حديثِ أبى هُرَيْرَةَ. ورُوِىَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه مَرَّ على رجلٍ، فسلَّمَ عليه، فقيل: إنَّه كافِرٌ. فقال: رُدَّ علىَّ ما سَلَّمْتُ عليك. فرَدَّ عليه، فقال: أكثرَ اللَّهُ مالَكَ ووَلَدَك. ثم الْتَفَتَ إلى أصْحابِه، فقال: أكْثَرَ للجِزْيَةِ. وقال يَعْقُوبُ بنُ بَخْتانَ (¬1): سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ، فقلتُ: نُعامِلُ اليهودَ والنَّصَارَى ونَأْتِيهم في مَنازِلِهم وعندَهُم قَوْمٌ مُسْلِمُون، أنُسَلِّمُ عليهم؟ قال: نعم، تَنْوِى السَّلامَ على المُسْلِمِين. وسُئِلَ عن مُصافَحَةِ أهْلِ الذِّمَّةِ، فكَرِهَه. ¬

(¬1) في م: «يحيى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ تَمْكِنُهم مِن شِراءِ مُصْحَفٍ، ولا حَدِيثِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا فِقْهٍ، وإن فَعَل، فالشِّراءُ باطِلٌ؛ لأنَّ ذلك يتَضَمَّنُ ابْتِذالَه. وكَرِهَ أحمدُ بَيْعَهم الثِّيابَ المكْتوبَ عليها ذِكْرُ اللَّهِ تعالى. قال مُهَنَّا: سألْتُ أبا عبدِ اللَّهِ: هل يُكْرَهُ للمُسْلِمِ أن يُعَلِّمَ غُلامًا مَجُوسِيًّا شيئًا مِن القرآنِ؟ قال: إن أسْلَمَ فنعم، وإلَّا فأكْرَهُ أن يَضعَ القرآنَ في غيرِ مَوْضِعِه. قلتُ: فَنُعَلِّمُه أن يُصَلِّى على النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم. وقال الفَضْلُ بنُ زيادٍ: سألْتُ أبا عبدِ اللهٍ عن الرجلِ يَرْهَنُ المُصْحَفَ عندَ أهْلِ الذِّمَّةِ؟ قال: لا، نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُسافَرَ بالقرآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ، مَخافَةَ أن يَنالَه العَدُوُّ (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 78.

1522 - مسألة: (وفى تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان)

وَفِى تَهْنِئَتِهِمْ وَتَعْزِيَتِهِمْ وَعِيَادَتهِمْ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1522 - مسألة: (وفى تَهْنِئَتِهم وتَعْزِيَتِهم وعِيادَتِهم رِوايتان) تَهْنِئَتُهم وتَعْزِيَتُهم تُخَرَّجُ على عيادَتِهم، فيها روايتان؛ إحداهما، لا نَعُودُهم؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَداءَتِهم بالسَّلامِ. وهذا في معناه. والثانيةُ، تَجُوزُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتى غلامًا مِن اليهودِ كان مريضًا يَعُودُه فقَعَدَ عندَ رَأْسِه فقال لهُ: «أسْلِمْ». فنَظَرَ إلى أبيه، وهو عندَ رَأْسِه، فقال: أطِعْ أبا القاسِمِ. فأسْلَمَ، فقام النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِى أنْقَذَهُ بِى مِن النَّارِ». رَواه البخارىُّ (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 275.

1523 - مسألة: (ويمنعون)

وَيُمْنَعُونَ تَعْلِيَةَ البُنْيَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِى مُسَاوَاتِهِمْ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1523 - مسألة: (ويُمْنَعُون) مِن (تَعْلِيَةِ البُنْيانِ على المُسْلِمِين، وفِى مُساواتِهمْ وَجْهانِ) لقَوْلِهم في شُروطِهم: ولا نَطَّلِعَ عليهم في منازِلِهم. ولِما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» (¬1). ولأنَّ في ذلك رُتْبَةً على المُسْلِمِين، فمُنِعُوا منه، كما يُمْنَعُون التَّصْدِيرَ في المجالسِ. وإنَّما يُمْنَعُ مِن تَعْلِيَتِه على المُسْلِمِ المُجاوِرِ له، ولا يُمْنَعُ مِن تَعْلِيَتِها علىَ ليس بمُجاوِرٍ له؛ لأنَّ الضَّرَرَ إنَّما يحْصُلُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى تعليقا، في: باب إذا أسلم الصبى فمات. . .، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 117. والبيهقى موصولا، في: باب ذكر بعض من صار مسلما بإسلام أبويه، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 6/ 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [على المجاوِرِ] (¬1) دُونَ غيرِه. وفى المُساواةِ وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يُفْضِى إلى عُلُوِّ الكُفْرِ. والثانى، المَنْعُ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى». ولأنَّهم مُنِعُوا مِن مُساواةِ المُسْلِمِين في لِباسِهم وشُعورِهم ورُكوبِهم، وكذلك في بُنْيانِهم. فإن كان للذِّمِّىِّ دارٌ عالِيَةٌ، فمَلَكَ المُسْلِمُ دارًا إلى جانِبِها، أو بَنَى المُسْلِمُ إلى جَنْبِ دارِ الذِّمِّىِّ دارًا دُونَها، أو اشْتَرَى ذِمِّىٌّ دارًا عالِيَةً مِن المُسْلِمِ، فله سُكْنَى دارِه، ولا يَلْزَمُه هَدْمُها؛ لأنَّه مَلَكَها على هذه الصِّفَةِ، ولأنَّه لم يُعْلِ على المُسْلِمِين شيئًا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى». فإنِ انْهَدَمَتْ دارُه العالِيَةُ، ثم جَدَّدَ بناءَه، لم تَجُزْ له تعْلِيَتُه علِى بناءِ المُسْلِمِين. وإنِ انْهَدَمَ ما عَلَى منها، لم تكُنْ له إعادَتُه. فإن تَشَعَّثَ منه شئٌ ولم يَنْهَدِمْ، فله رَمُّه وإصْلاحُه؛ لأنَّه مَلَك اسْتِدَامَتَه، فمَلَكَ رَمَّ شَعَثِه، كالكَنِيسَةِ. ¬

(¬1) في م: «عليه».

1524 - مسألة: (وإن ملكوا دارا عالية من مسلم، لم يجب نقضها)

وَإِنْ مَلَكُوا دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ، لَمْ يَجِبْ نَقْضُهَا. وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَلَا يُمْنَعُونَ رَمَّ شَعَثِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1524 - مسألة: (وإن مَلَكُوا دارًا عالِيَةً مِن مُسْلِمٍ، لم يَجِبْ نَقْضُها) لأنَّهم مَلَكُوها على هذهِ الصِّفَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ؛ لقَوْلِهم فيما شَرَطُوا على أنْفُسِهم: ولا نَطَّلِعَ عليهم في مَنازِلِهم. ولقَوْلِه عليه السَّلامُ: «الإِسْلامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى». 1525 - مسألة: (ويُمْنَعُون مِن إحْداثِ الكَنائِسِ والبِيَعِ، ولا

وَفِي بِنَاءِ مَا اسْتَهْدَمَ مِنْهَا رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْنَعُون رَمَّ شَعَثِها. وفى بِناءِ ما اسْتَهْدَمَ منها رِوايَتان) أمْصارُ المُسْلِمِين ثلاثةُ أقْسامٍ؛ أحدُها، ما مَصَّرَه المُسْلِمُون، كالبَصْرَةِ والكُوفَةِ وبغدادَ وواسِطَ، فلا يَجُوزُ فيه إحْداثُ كنيسةٍ ولا بِيعَةٍ ولا مُجْتَمَعٍ لصلاتِهم، ولا يَجُوزُ صُلْحُهم على ذلك؛ لِما رُوِى عن ابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّه قال: أيُّما مِصْرٍ مَصَّرَتْه العربُ، فليس للعَجَمِ أن يَبْنُوا فيه بِيعَةً، ولا يَضْرِبُوا فيه ناقُوسًا، ولا يَشْرَبُوا فيه خمرًا، ولا يتَّخِذُوا فيه خِنْزِيرًا. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1)، واحْتَجَّ به. ولأنَّ هذا البلَدَ مِلْكٌ ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب لا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 202. وعبد الرزاق، في: باب هدم كنائسهم وهل يضربون بناقوس، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُسْلِمِين، فلا يَجُوزُ أن يَبْنُوا فيه مَجامِعَ للكُفْرِ. وما وُجِدَ في هذه البلادِ مِن البِيَعِ والكنائِسِ، مثلَ كنيسةِ الرُّومِ في بغدادَ، فهذه كانت في قُرَى أهْلِ الذِّمَّةِ، فأُقِرَّتْ على ما كانتْ عليه. القسمُ الثانى، ما فَتَحَه المُسْلِمون عَنْوَةً، فلا يَجُوزُ إحْداثُ شئٍ مِن ذلك فيه؛ لأنَّها صارَتْ مِلْكًا للمُسْلِمين، وما فيه مِن ذلك ففيه وجهان؛ أحدُهما، يَجبُ هَدْمُه، وتَحْرُمُ تَبْقِيَتُه؛ لأنَّها بلادٌ مَمْلُوكَةٌ للمُسْلِمِين، فلم يَجُزْ أن تكُوَنَ فيها بِيعَةٌ، كالبلادِ التى اخْتَطَّها المُسْلِمُون. والثانى، يَجُوزُ؛ لأنَّ في حديثِ ابنِ عَباسٍ: أيُّما مِصْرٍ مَصَّرَتْه العَجَمُ، ثم فَتَحَه اللَّهُ على العَرَبِ، فنزَلُوه، فإنَّ للعَجَمِ ما في عَهْدِهم. ولأنَّ الصَّحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فتَحُوا كثيرًا مِن البلادِ عَنْوَةً، فلم يَهْدِمُوا شيئًا مِن الكنائِسِ. ويَشْهَدُ بصِحَّةِ هذا وجودُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكنائِسِ والبِيَعِ في البلادِ التى فُتِحَتْ عَنْوَةً، ومعلومٌ أنَّها لم تُحْدَثْ، فلَزِمَ أن تكونَ موْجُودةً فأُبْقِيَتْ. وقد كَتَب عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، إلى عُمّالِه: أن لا تَهْدِمُوا بِيعَةً ولا كنِيسَةً ولا بَيْتَ نارٍ. ولأنَّ الإِجْماعَ قد حَصَلَ على ذلك، فإنَّها موجودَةٌ في بلادِ المُسْلِمِين مِن غيرِ نَكِيرٍ. القسمُ الثالثُ، ما فُتِحَ صُلْحًا، وهو نَوْعان؛ أحدُهما، أن يُصالِحَهم على أنَّ الأرْضَ لهم، ولنا الخَراجُ عنها، فلهم إحْداثُ ما يخْتارون؛ لأنَّ الدّارَ لهم. الثانى، أن يُصالِحَهم على أنَّ الدّارَ للمُسْلِمين، فالحُكْمُ في البِيَعِ والكنائِسِ على ما يَقَعُ عليه الصُّلْحُ، مِن إحْداثِ ذلك، وعِمارَتِه؛ لأنَّه إذا جاز أن يُصالِحَهم على أنَّ الكُلَّ لهم، جاز أن يُصالَحُوا على أنَّ بعضَ البلدِ لهم، ويكُون مَوْضِعُ الكنائِسِ والبِيَعِ مُعَيَّنًا (¬1). والأَوْلَى أن يُصالِحَهم على ما صالَحَهم عليه عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ¬

(¬1) في م: «معنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَشْتَرِطَ عليهم الشُّرُوطَ المذْكُورَةَ في كتابِ عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ، وفيه: أن لا تُحْدِثُوا كنِيسَةً، ولا بِيعَةً، ولا صَوْمَعَةَ راهبٍ، ولا قلايةً. وإن وَقَع الصُّلْحُ مُطْلَقًا مِن غيرِ شَرْطٍ، حُمِلَ (¬1) على ما وَقَع عليه صُلْحُ عُمَرَ وأُخِذُوا بشُرُوطِه. فأمّا الذين صالَحَهُم عُمَرُ وعَقَد معهم الذِّمَّةَ، فهم على ما في كتابِ عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ، مأْخُوذُون بشُرُوطِه كلِّها، وما وَجَدُوا في بلادِ المسلمين مِن الكنائِسِ والبِيَعِ، فهى على ما كانتْ عليه في زَمَنِ مَن فَتَحَها ومَن بعدَهم. وكلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا بجَوَازِ إقْرارِها، لم يَجُزْ هَدْمُها، ولهم رَمُّ ما تَشَعَّث منها، وإصْلاحُها؛ لأنَّ المَنْعَ مِن ذلك يُفْضِى إلى خَرابِها، فجَرَى مَجْرَى هَدْمِها. فأمّا إنِ اسْتَهْدَمَتْ كلُّها، ففيها رِوايتان؛ إحْدَاهما، لا يَجُوزُ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ. والثانيةُ، يَجُوزُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّه بناءٌ لِما اسْتَهْدَمَ، أشْبَهَ بِناءَ بعضِها إذا انْهَدَمَ، ورَمَّ شَعَثِها، ولأنَّ اسْتِدامَتَها جائزَةٌ، وبناؤُها كاسْتِدامَتِها. وحَمَل الخَلَّالُ قولَ أحمدَ: لهم أن يَبْنُوا ما انْهَدَمَ منها. على ما إذا انْهَدَمَ بعضُها، ومَنْعَه مِن بناءِ ما انْهَدَمَ، على ما إذا انْهَدَمَتْ كلُّها، فجَمَعَ بين الرِّوايَتَيْنِ. ووَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى، أنَّ في كتابِ أهْلِ الجزِيرَةِ لعياضِ (¬2) بنِ غَنْمٍ: ولا نُجَدِّدَ ما خَرِبَ مِن ¬

(¬1) في م: «عمل». (¬2) كذا في النسخ. وتقدم هذا في خبر عبد الرحمن بن غنم في صفحة 449. وخبر عياض بن غنم مع أهل الجزيرة، في تاريخ الطبرى 4/ 53 - 55.

1526 - مسألة: (ويمنعون)

وَيُمْنَعُونَ إِظْهَارَ الْمُنْكَرِ، وَضَرْبَ النَّاقُوسِ، وَالْجَهْرَ بِكِتَابِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَنائِسِنا. وروَى كثيرُ بنُ مُرَّةَ، قال (¬1): سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِى الإِسْلَامِ، وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا» (¬2). ولأنَّه بِناءُ كنِيسَةٍ في دارِ الإِسلامِ، فلم يَجُزْ، كما لو ابْتدأَ بناءَها. وفارَقَ رَمَّ ما شَعَثَ؛ فإنَّه إبْقاءٌ واسْتِدامَةٌ، وهذا إحْداثٌ. 1526 - مسألة: (ويُمْنَعُون) مِن (إظْهارِ المُنْكَرِ، وضَرْبِ النّاقُوسِ، والْجَهْرِ بِكتابِهم) ئمْنَعُونَ مِن إظْهارِ المُنْكَرِ؛ كالخمرِ والخِنْزِيرِ، وضَرْب النّاقُوسِ، ورَفْعِ أصْواتِهم بكتابِهم، وإظْهارِ أعْيادِهم وصُلُبِهم؛ لَأنَّ في شُرُوطِهم لعبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ: أن لا نَضْرِبَ نَواقِيسَنا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا في جَوْفِ كنائِسِنا، ولا نُظْهِرَ عليها صَلِيبًا، ¬

(¬1) بعده في م: «على». (¬2) ذكره السيوطى، في الجامع الكبير 1/ 880. وعزاه إلى الديلمى وابن عساكر. عن ابن عمر.

1527 - مسألة: (وإن صولحوا فى بلادهم على إعطاء الجزية، لم يمنعوا شيئا من ذلك)

وَإِنْ صُولِحُوا فِي بِلَادِهِمْ عَلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، لَمْ يُمْنَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا نَرْفَعَ أصْواتَنا في صلاةٍ، ولا القراءَةِ في كنائِسِنا فيما يَحْضُرُه المُسْلِمُون، وأن لا نُخْرِجَ صَلِيبًا ولا كتابًا في سُوقِ المُسْلمِين، وأن لا نَخْرُجَ باعُوثًا ولا شَعانِينَ، ولا نَرْفَعَ أصْواتَنا مع مَوْتانا، وأن لا نُجاوِرَهم بالخنازِيرِ، ولا نُظْهِرَ شِرْكًا. وقد ذَكَرْنا بَقِيَّةَ الكتابِ. 1527 - مسألة: (وإن صُولِحُوا في بِلادِهم على إعْطاءِ الجِزْيَةِ، لم يُمْنَعُوا شَيْئًا مِن ذلِك) ولم يُؤْخَذُوا بغِيارٍ ولا زُنّارٍ، ولا تَغْيِيرِ شُعُورِهم، ولا مَراكِبهم؛ لأنَّهم في بُلْدانِهم، فلم يُمْنَعُوا مِن إظْهارِ دِينِهم، كأهْلِ الحَرْبِ (¬1) في الهُدْنَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الجزية».

1528 - مسألة: (ويمنعون)

وَيُمْنَعُونَ دُخُولَ الْحَرَمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1528 - مسألة: (ويُمْنَعُونَ) مِن (دُخُولِ الحَرَمِ) وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لهم دُخولُه، كالحجازِ، ولا يَسْتَوْطِنون به، ولهم دُخولُ الكَعْبَةِ، والمَنْعُ مِن الاسْتِيطانِ لا يَمْنَعُ الدُّخُولَ والتَّصَرُّفَ، كالحجازِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1). والمرادُ به الحَرَمُ، بدَليلِ قولِه سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (¬2). وإنَّما أُسْرِىَ به مِن بَيْتِ أُمِّ هانِئٍ، وهو خارجُ المسجدِ. ويخالِفُه الحجازُ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى مَنَع منه مع إذْنِه في الحجازِ، فإنَّ هذه الآيَةَ نَزَلَتْ واليَهُودُ بخَيْبَرَ والمدينةِ وغيرِهما مِن الحجازِ، ولم يُمْنَعُوا الإِقامَةَ به، وأوَّلُ مَن أجْلاهُم عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ولأنَّ الحَرَمَ أشْرَفُ؛ ¬

(¬1) سورة التوبة 28. (¬2) سورة الإسراء 1.

1529 - مسألة: (فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام، خرج إليه، ولم يأذن له، فإن دخل، عزر وهدد)

فَإِنْ قَدِمَ رَسُولٌ لَابُدَّ لَهُ مِنْ لِقَاءِ الْإِمَامِ، خَرَجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ دَخَلَ، عُزِّرَ وَهُدِّدَ، فَإِنْ مَرِضَ فِى الْحَرَمِ، أَوْ مَاتَ، أُخْرِجَ، وَإِنْ دُفِنَ، نُبِشَ، إِلَّا أنْ يَكُونَ قَدْ بَلِىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لتَعَلُّقِ النُّسُكِ به، ويَحْرُمُ شَجَرُه وصَيْدُه والمُلْتَجِئُ إليه، فلا يَصِحُّ قياسُ غيرِه عليه. 1529 - مسألة: (فإن قَدِمَ رَسُولٌ لَا بُدَّ له مِن لِقاءِ الإِمامِ، خَرَج إليه، ولم يَأْذَنْ له، فإن دَخَل، عُزِّرَ وهُدِّدَ) وأُخْرِجَ (فإن مَرِضَ، أو مات، أُخْرِجَ، وإن دُفِنَ، نُبِشَ) وأُخْرِجَ (إلَّا أن يكُونَ قد بَلِىَ) إذا أرادَ كافِرٌ الدُّخولَ إلى الحَرَمِ، مُنِعَ على ما ذَكَرْنا. فإن كانت معه تِجارَةٌ أو مِيرَةٌ، خَرَج إليه مَنْ يَشْتَرِى منه، ولم يُمَكَّنْ مِن الدُّخولِ؛ للآيةِ. وإن كان رسولًا إلى الإِمامِ بالحَرَمِ، خَرَج إليه مَن يَسْمَعُ رِسالَتَه، فإن قال: لا بُدَّ لى مِن لقاءِ الإِمامِ. خَرَج إليه الإِمامُ، ولم يَأْذَنْ له، فإن دَخَل عالِمًا بالمَنْعِ، عُزِّرَ، وإن دَخَل جاهِلًا، هُدِّدَ وأُخْرِجَ. فإن مَرِضَ بالحَرَمِ أو ماتَ، أُخْرِجَ ولم يُدْفَنْ به؛ لأنَّ حُرْمَةَ الحَرَمِ أعْظَمُ. ويُفارِقُ الحجازَ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ دُخولَه إلى الحَرَم حَرامٌ، وإقامَتَه به حَرامٌ، بخلافِ الحجازِ. والثانى، أنَّ خروجَه مِن الحَرَمِ سَهْلٌ مُمْكِنٌ؛ لقُرْبِ الحِلِّ منه، وخُروجَه مِن الحجازِ في مَرَضِه صَعْبٌ مُمْتَنِعٌ. وإن دُفِنَ،

1530 - مسألة: (ويمنعون من الإقامة بالحجاز؛ كالمدينة واليمامة وخيبر)

وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالحِجَازِ؛ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نُبِشَ وأُخْرِجَ، لأنَّه إذا لم يَجُزْ دُخولُه في حياتِه، فدَفْنُ جِيفَتِه أوْلَى أن لا يَجُوزَ، فإن كان قد بَلِىَ، أو يَصْعُبُ إخْراجُه؛ لنَتَنِه وتَقَطُّعِه، تُرِكَ؛ للْمَشَقَّةِ فيه. فصل: فإن صالَحَهم الإِمامُ على دُخولِ الحَرَمِ بعِوَضٍ، فالصُّلْحُ باطِلٌ. فإن دَخَلُوا إلى المَوْضِعِ الذى صالَحَهم عليه، لم يُرَدَّ عليهم العِوَضُ؛ لأنَّهم قد اسْتَوْفَوْا ما صالَحَهم عليه. وإن وَصَلُوا إلى بعضِه، أُخِذَ مِنِ العِوَضِ بقَدْرِه. ويَحْتَمِلُ أن يُرَدَّ عليهم العِوَضُ بكلِّ حالٍ، لأنَّ ما اسْتَوْفوْه لا قِيمَةَ له، والعَقْدُ لم يُوجِبِ العِوَضَ؛ لبُطْلانِهِ. 1530 - مسألة: (ويُمْنَعُون مِن الإِقامَةِ بالحِجازِ؛ كالمدِينَةِ واليَمَامَةِ وخَيْبَرَ) وفَدَكَ وما والاها. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. إلَّا أنَّ مالِكًا قال: أرَى أن يُجْلَوْا مِن أرْضِ العربِ كلِّها؛ لأنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا يَجْتَمِعُ (¬1) دِينَانِ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» (¬2). وروَى أبو داودَ (¬3)، ¬

(¬1) في الأصل: «يجتمعان». (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة، من كتاب الجامع. الموطأ 2/ 892. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 275. (¬3) في: باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 147. والترمذى، في: باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 7/ 107، 108. كما أخرجه مسلم، في: باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1388. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 29، 32، 3/ 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا». قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وعن ابنِ عباسٍ، قال: أوْصَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بثلاثَةِ أشياءَ، قال: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ». وسكتَ عن الثالِثِ. رَواه أبو داوُدَ (¬1). وجزيرَةُ العَربِ ما بينَ الوادِى إلى أقْصَى اليَمَنِ. قاله سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ. وقال الأصْمَعِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ: هى مِن ريفِ العراقِ إلى عَدَن طُولًا، ومِن تِهامَةَ وما وَرَاءَها إلى أطْرافِ الشامِ عَرْضًا. وقال أبو عُبَيْدَةَ: هى مِن حَفْرِ أبى مُوسَى (¬2) إلى اليَمَنِ طُولًا، ومِن رَمْلِ يَبْرِينَ (¬3) إلى مُنْقَطَعِ السَّماوَةِ (¬4) عَرْضًا. وقال الخليلُ: إنَّما قيلَ لها جزيرةُ العَرَبِ؛ لأنَّ بحرَ الحَبَشِ (¬5) وبحرَ فارِسَ والفُراتَ قد أحاطَتْ بها، ونُسِبَتْ إِلى العربِ؛ لأنَّها أرْضُها ومَسْكَنُها ومَعْدِنُها. قال أحمدُ: جزيرَةُ العربِ المدينةُ وما والاها. يعنى أنَّ المَمْنُوعَ مِن سُكْنَى ¬

(¬1) في: الباب السابق. كما أخرجه البخارى، في: باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، من كتاب الجزية. صحيح البخارى 4/ 121. ومسلم، في: باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصى فيه، من كتاب الوصية. صحيح مسلم 3/ 1258. (¬2) حفر أبى موسى: ركايا أحفرها أبو موسى الأشعرى على جادة البصرة إلى مكة. معجم البلدان 2/ 294. (¬3) في م: «تبرين». ويبرين: رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس حجر اليمامة. معجم البلدان 4/ 1005. (¬4) بادية السماوة: بين الكوفة والشام. انظر: معجم البلدان 3/ 131. (¬5) بحر الحبش: هو بحر القلزم، ويعرف اليوم بالبحر الأحمر.

1531 - مسألة: (فإن دخلوا لتجارة، لم يقيموا فى موضع واحد أكثر من أربعة أيام)

فَإِنْ دَخَلُوا لِتِجَارَةٍ، لَمْ يُقِيمُوا فِى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُفّارِ به المدينةُ وما والاها، وهو مَكَّةُ والمدينةُ وخَيْبَرُ واليَنْبُعُ. وقيلَ: ومخالِيفُها، وما والاها. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّهم لم يُجْلَوْا مِن تَيْماءَ (¬1)، ولا مِن اليَمَنِ. وقد رُوِى عن أبى عُبَيْدَةَ بنِ الجَرّاحِ، أنَّه قال: آخِرُ ما تَكَلَّمَ به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ» (¬2). وأمّا إخْراجُ أهلِ نَجْرانَ منه، فلأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صالَحَهم على تَرْكِ الرِّبا، فنَقَضوا عَهْدَه (¬3). فكأنَّ جزيرَةَ العربِ في تلك الأحاديثِ أُرِيدَ بها الحجازُ، وإنَّما سُمِّىَ حِجازًا؛ لأنَّه حَجَزَ بينَ تِهامَةَ ونَجْدٍ. 1531 - مسألة: (فإن دَخَلُوا لتِجارَةٍ، لم يُقِيمُوا في مَوْضِعٍ واحدٍ أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أيّامٍ) يَجُوزُ لهم دُخُولُ الحجازِ للتِّجارَةِ؛ لأنَّ النَّصارَى كَانوا يَتَّجِرُون إلى المدينةِ في زَمَنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وأتاه شيخٌ ¬

(¬1) تيماء: بليد في أطراف الشام، بين الشام ووادى القرى. معجم البلدان 1/ 907. (¬2) أخرجه الدارمى، في: باب إخراج المشركين من جزيرة العرب، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 233. والبخارى، في: التاريخ الكبير 4/ 57. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في أخذ الجزية، من كتاب الإمارة. سنن أبى داود 2/ 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمدينةِ، وقال: أنا الشَّيْخُ النَّصْرانِىُّ، وإنَّ عامِلَك عَشَرَنِى مَرَّتَيْن. فقال عُمَرُ: وأنا الشَّيْخُ الحَنِيفُ. وكَتَب له عُمَرُ، ألَّا يُعْشَرُوا في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً (¬1). فعلى هذا لا يأْذَنُ لهم في الإِقامَةِ أكْثَرَ مِن ثلاثَةِ أيَّامٍ، على ما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ثم ينْتَقِلُ عنه. وقال القاضى: يُقِيمُون أربعةَ أيّامٍ، حَدَّ ما يُتِمُّ المُسافِرُ الصلاة. والحُكمُ في دخُولِهم إلى الحجازِ في اعْتِبارِ الإِذْنِ، كالحُكْمِ في دُخولِ أهْلِ الحربِ دارَ الإِسلامِ، لا يَجُوزُ إلَّا بإذْنِ الإِمامِ، فيَأْذَنُ لهم إذا رأَى المصْلَحَةَ فيه. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب لا يؤخذ منهم ذلك في السنة إلا مرة واحدة. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 211. وعبد الرزاق، في: باب صدقة أهل الكتاب، من كتاب أهل الكتاب المصنف 6/ 99.

1532 - مسألة: (فإن مرض، لم يخرج حتى يبرأ، وإن مات، دفن به)

فَإِنْ مَرِضَ، لَمْ يُخْرَجْ حَتَّى يَبْرأَ، وَإِنْ مَاتَ، دُفِنَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1532 - مسألة: (فإن مَرِضَ، لم يُخْرَجْ حتى يَبْرَأَ، وإن ماتَ، دُفِنَ به) إذا مَرِضَ بالحجازِ، جازَتْ له الإِقامَةُ لمشَقَّةِ الانْتِقالِ على المريضِ، وتَجُوزُ الإِقامَةُ لمَن يُمَرِّضُه؛ لأنَّه لا يَسْتَغْنِى عنه. فإن كان له دَيْنٌ حالٌّ أُجْبِرَ غَرِيمُه على وَفائِه، فإنْ تَعَذَّرَ وفاؤُه (¬1) لمَطْلٍ، أو تَغَيُّبٍ، فيَنْبَغِى أنْ تَجُوزَ له الإِقامَةُ، ليَسْتَوْفِىَ دَيْنَه؛ لأنَّ التَّعَدِّىَ مِن غيرِه، وفى إخْراجِه ذَهابُ مالِه. وإن كان الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، لم يُمَكَّنْ مِن الإِقامَةِ، ويُوَكِّلُ مَن يَسْتَوْفِيه له؛ لأنَّ التَّفْرِيطَ منه. وإن دَعَتِ الحاجَةُ إلى الإِقامَةِ لِيَبِيعَ بِضاعَتَه، احْتَمَلَ الجوازَ؛ لأنَّ في تَكْلِيفِه تَرْكَها أو حَمْلَها معه ضَياعَ مالِه، وذلك ممّا يَمْنَعُ مِن الدُّخولِ إلى الحجازِ بالبضائعِ، فتَفُوتُ مصْلَحَتُهم، وتَلْحَقُهم المَضَرَّةُ بانْقِطاعِ الجَلَبِ عنهم. ويَحْتَمِلُ أن يُمْنَعَ مِن الإِقامَةِ؛ لأنَّ له مِن الإِقامَةِ بُدًّا. فإن أرادَ الانْتِقالَ إلى مكانٍ آخَرَ مِن الحجازِ، جاز، ويُقِيمُ فيه أيضًا ثلاثةَ أيامٍ، أو أربعةً، على الخلافِ فيه، ¬

(¬1) سقط من: م.

1533 - مسألة: (ولا يمنعون من تيماء وفيد

وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَيْمَاءَ وَفَيْدَ وَنَحْوِهِمَا. وَهَلْ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسَاجِدِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إنِ انْتَقَلَ منه إلى مكانٍ آخرَ، ولو حَصَلَتِ الإِقامَةُ في الجميعِ شهرًا. وإذا ماتَ بالحجازِ، دُفِنَ؛ لأنَّه يَشُقُّ نَقْلُه، وإذا جازَتِ الإِقامَةُ للمرِيضِ، فدَفْنُ المَيِّتِ أوْلَى. 1533 - مسألة: (ولَا يُمْنَعُونَ مِن تَيْماءَ وفَيْدَ (¬1) ونَحْوِهما) لأنَّ عُمَرَ لم يَمْنَعْهم مِن ذلك. 1534 - مسألة: (وهل لهم دُخُولُ المساجِدِ بإذْنِ مُسْلِمٍ؟ على رِوايَتَيْن) لا يجُوزُ لهم دُخولُ مساجدِ الحِلِّ بغيرِ إذْنِ المُسْلِمِين؛ لِما رَوَتْ أُمُّ غُرابٍ (¬2)، قالت: رأيتُ عليًّا، رَضِىَ اللَّهُ عَنه، على المِنْبَرِ، وبَصُرَ بمَجُوسِىٍّ، فنَزَلَ، فضَرَبَه وأخْرَجَه مِن أبْوابِ كِنْدَةَ. فإن أُذِنَ لهم في ¬

(¬1) فيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة. معجم البلدان 3/ 927. (¬2) في م: «عراب». وانظر تهذيب الكمال 35/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُخُولِها، جازَ، في الصَّحيحِ مِن المَذْهَبِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِمَ عليه وفْدٌ مِن أهْلِ الطائِفِ، فأنْزَلَهمِ في المَسْجِدِ قبلَ إسْلامِهم (¬1). وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: كان أبو سُفْيان يَدْخُلُ مَسْجِدَ المدينَةِ وهو على شِرْكِه. وقَدِمَ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ، فدَخَلَ المَسْجِدَ والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه ليَفْتِكَ به، فرَزَقَه اللَّهُ الإِسلامَ (¬2). وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، ليس لهم دُخولُه بحالٍ؛ لأنَّ أبا موسى دَخَل على عُمَرَ ومعه كتابٌ قد كُتِبَ فيه حسابُ عَمَلِه، فقال له عُمَرُ: ادْعُ الذى كَتَبَه ليَقْرَأَه. قال: إنَّه لا يدْخُلُ المَسْجِدَ. قال: ولِمَ لا يَدْخُلُ المَسْجِدَ؟ قال: إنَّه نَصْرانِىٌّ. فانْتَهَرَه عُمَرُ (¬3). وهذا اتِّفاقٌ منهم على أنَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في خبر الطائف، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 146. (¬2) ذكره ابن هشام، في السيرة 1/ 662. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب لا يدخلون مسجدا بغير إذن، من كتاب الجزية، وفى: باب لا ينبغى للقاضى ولا للوالى أن يتخذ قاضيا ذميا، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 9/ 204، 10/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يدْخُلُ المَسْجِدَ، وفيه دليلٌ على شُهْرَةِ ذلك بينَهم، وتَقْرِيرِه عندَهم؛ لأنَّ حَدَثَ الحَيْضِ والجنابَةِ والنِّفاسِ يَمْنَعُ الإِقامَةَ في المَسْجِدِ، فحَدَثُ الشِّرْكِ أوْلَى. والأُولَى أصَحُّ؛ لأنَّه لو كان مُحَرَّمًا لَما أقَرَّهم عليه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

فصل

فصلٌ: وَإِنِ اتَّجَرَ ذِمِّىٌّ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، ثُمَّ عَادَ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في الرجلِ له المرأةُ النَّصْرانِيَّةُ: لا يَأْذَنُ لها أن تَخْرُجَ إلى عيدٍ، أو تَذْهَبَ إلى بِيعَةٍ، وله أن يَمْنَعَها ذلك. وكذلك في الأَمَةِ. قيل له: أله أن يَمْنَعَها مِن شُرْبِ الخَمْرِ؟ قال: يأْمُرُها، فإن لم تَقْبَلْ، فليس له مَنْعُها. قيل له: فإنْ طَلَبَتْ منه أن يَشْتَرِىَ لها زُنّارًا؟ قال: لا يَشْتَرِى زُنّارًا، تخْرُجُ هى تَشْتَرِى لنَفْسِها. (فصل) قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (وإنِ اتَّجَرَ ذِمِّىٌّ إلى غير بلَدِه، ثم

الْعُشْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عادَ، فعليه نِصْفُ العُشْرِ) وقال الشافعىُّ: ليس عليه إلَّا الجِزْيَةُ، إلَّا أن يَدْخُلَ أرْضَ الحجازِ، فيُنْظَرَ في حالِه؛ فإن كان لرسالَةٍ، أو نَقْلِ مِيرَةٍ، أذِنَ له بغيرِ شئٍ، وإن كان لتِجارَةٍ لا حاجَةَ بأهْلِ الحجازِ إليها، لم يَأْذَنْ له إلَّا أن يَشْتَرطَ عليه، عِوَضًا بحَسَبِ ما يراه. والأَوْلَى أن يَشْتَرِطَ نِصْفَ العُشْرِ؛ لأنَّ عُمَرَ شَرَط نِصْفَ العُشْرِ على مَن دَخَل الحجازَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ (¬1). ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬2)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ، إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ والنَّصَارَى». وعن أنَسِ بنِ سِيرِينَ، قال: بَعَثَنِى أنَسُ بنُ مالكٍ إلى العُشُورِ، فقلْتُ: بَعَثْتَنِى إلى العُشُورِ مِن بينِ عُمّالِك! قال: ألا تَرْضَى أن أجْعَلَك على ما جَعَلَنِى عليه عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه؟ أمَرَنِى أن آخُذَ مِن المُسْلِمِين رُبْعَ العُشْرِ، ومِن أهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ العُشْرِ. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). وهذا كان بالعراقِ. وروَى أبو عُبَيْدٍ، في كتابِ «الأمْوالِ» (¬4)، بإسْنادِه عن ¬

(¬1) يأتي بتمامه بعد قليل. (¬2) في: باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبى داود 2/ 151 كما أخرجه الإمام أحمد في: المسند 3/ 474، 4/ 322، 5/ 410. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ما يؤخذ من الذمى إذا اتجر في غير بلده. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 210. وعبد الرزاق، في: باب صدقة أهل الكتاب، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 95، 97. (¬4) في: باب أرض العنوة تقر في أيدى أهلها. . .، من كتاب فتوح الأرضين صلحا. الأموال 68. كما أخرجه البيهقى، في: باب قدر الخراج الذى وضع على السواد، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 136. وعبد الرزاق، في: باب ما أخذ من الأرض عنوة، من كتاب الجزية. المصنف 6/ 100، 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَاحِقِ بنِ حُمَيْدٍ (¬1)، أنَّ عُمَرَ بَعَث عثمانَ بنَ حُنَيْفٍ إلى الكُوفَةِ، فجَعَلَ على أهْلِ الذِّمَّةِ في أمْوالِهم التى يَخْتَلِفُون فيها، في كلِّ عشرِينَ دِرْهمًا دِرْهمًا. وهذا كان بالعراقِ، واشْتَهَرَتْ هذه القِصصُ، وعَمِلَ بها الخلفاءُ بعدَه، ولم يُنْكَرْ ذلك، فكان إجْماعًا، ولم يَأْتِ تخْصِيصُ الحجازِ بنِصْفِ العُشْرِ في شئٍ مِن الأحاديثِ عن عُمَرَ ولا غيرِه فيما عَلِمْناه. ولأنَّ ما وَجَب في الحجازِ مِن الأمْوالِ، وَجَب في غيرِه، كالدُّيونِ والصَّدَقاتِ إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ في ذلك بينَ بَنِى تَغْلِبَ وغيرِهم. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ التّغْلِبىَّ يُؤْخَذُ منه العُشْرُ، ضِعْفَ ما يُؤْخَذُ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، لِما روَى بإسْنادِه عن زِيادِ بنِ حُدَيْرٍ، أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بَعَثَه مُصَدِّقًا، فأمَرَه أن يَأْخُذَ مِن نَصارَى بنى تَغْلِبَ العُشْرَ، ومِن نَصارَى أهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ العُشْرِ. رَواه أبو عُبَيْدٍ (¬2). قال: والعملُ على حَدِيثِ داودَ بنِ كُرْدُوسٍ، والنُّعْمانِ بنِ زُرْعَةَ، وهو أن يكونَ عليهم الضِّعْفُ ممّا على المُسْلِمِين، ألا تسْمَعُه يقولُ: مِن كلِّ عشرِين دِرْهمًا دِرْهمٌ؟ وإنَّما يُؤْخَذُ مِن المُسْلِمِين مِن كلِّ أربعين دِرْهمًا دِرْهَمٌ، فذلك ضِعْفُ هذا. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وهو أقْيَسُ؛ فإنَّ الواجِبَ في سائِر أمْوالِهم ضِعْفُ ما على المُسْلِمِين، لا ضِعْفُ ما على أهْلِ الذِّمَّةِ. فصل: ولا يُؤْخَذُ مِن غيرِ مالِ التِّجارَةِ شئٌ، فلو مرَّ بالعاشِرِ منهم ¬

(¬1) في م: «عميد». (¬2) في: باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب، من كتاب سنن الفئ والخمس والصدقة. . . الأموال 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُنْتقِلٌ، ومعه أموالُه أو سائِمةٌ، لم يُؤْخَذْ منه شئٌ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، إلَّا أن تكونَ الماشِيَةُ للتِّجارَةِ، فيُؤْخَذَ منها نِصفُ العُشْرِ. فصل: واخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في العاشرِ يمرُّ عليه الذِّمِّىُّ بخَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ، [فقال: عُمَرُ قال في مَوْضِعٍ] (¬1): وَلُّوهُمْ بَيْعَها. لا يكونُ إلَّا على الآخِذِ منها. وروَى بإسْنادِه، عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ، في قولِ عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَ الخمرِ والخنزِيرِ بعُشْرِها (¬2). قال أحمدُ: إسْنادُه جَيِّدٌ. وممَّن رأَى ذلك مَسْرُوقٌ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ. وبه قال محمدُ بنُ الحسَنِ في الخَمْرِ خاصَّةً. وذَكَر القاضى أنَّ أحمدَ نَصَّ على أنَّه لا يُؤْخَذُ. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: الخمرُ لا يَعْشِرُها مسلمٌ. ورُوِىَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ عُتْبَةَ ابنَ فَرْقَدٍ بَعَث إليه بأربعين ألفَ دِرْهَم صَدَقَةَ الخمرِ، فكَتَبَ إليه عُمَرُ: بَعثْتَ إلَىَّ بصَدَقَةِ الخمرِ، وأنتَ أحَقُّ بها مِن المهاجرين. فأخْبَرَ بذلك النّاسَ، وقال: واللَّهِ لا اسْتَعْمَلْتُكَ على شئٍ بعدَها. قال: فنَزَعَه (¬3). قال أبو عُبَيْدٍ: مَعْنَى قولِ عُمَرَ: وَلُّوهُم بَيْعَها، وخُذُوا أنتم مِن الثَّمَنِ. أنَّ المُسْلِمِين كانُوا يَأْخُذونَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ الخمرَ والخَنازِيرَ مِن جِزْيَتِهم، وخَراجِ أرْضِهم بقِيمَتِها، ثم يتَوَلَّى المُسْلِمون بَيْعَها، فأنْكَرَه ¬

(¬1) في المغنى 13/ 232: «فقال في موضع: قال عمر». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 430. (¬3) أخرجه أبو عبيد، في: باب أخذ الجزية من الخمر والخنزير. الأموال 50. وانظر أيضًا: ما أخرجه البيهقى، في: باب لا يأخذ منهم في الجزية خمرًا ولا خنزيرا، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 206.

1535 - مسألة: (وإن اتجر حربى إلينا، أخذ منه العشر، ولا

وَإنِ اتَّجَرَ حَرْبِىٌّ إِلَيْنَا، أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ، ثم رَخَّصَ لهم أن يَأْخُذُوا مِن أثْمانِها، إذا كان أهْلُ الذِّمَّةِ المُتَوَلِّينَ لبَيْعِها. وروَى بإسْنادِه، عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ، أنَّ بِلالًا قال لعُمَرَ: إنَّ عُمّالَك يأْخُذُون الخمرَ والخنازِيرَ في الخراجِ. فقال: لا تأْخُذُوه، ولكنْ وَلُّوهم بيْعَها، وخُذُوا أنتم (¬1) مِن الثَّمَنِ. فصل: وإذا مَرَّ الذِّمِّىُّ بالعاشِرِ (¬2)، وعليه دَيْنٌ [بقَدْرِ ما معه، أو] (¬3) يَنْقُصُ ما معه عن النِّصابِ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ ذلك يَمْنَعُ أخْذَ نِصْفِ العُشْرِ منه؛ لأنَّه حَق يُعْتَبَرُ له النِّصابُ والحَوْلُ، فمَنَعَه الدَّيْنُ، كالزَّكاةِ. فإنِ ادَّعَى الدَّيْنَ، احْتاجَ إلى بَيِّنةِ مُسْلِمَيْن. وإن مَرَّ بجارِيَةٍ، فادَّعَى أنَّها ابْنَتُه أو أخْتُه، قُبِلَ قوْلُه في إحْدَى الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ مِلْكِه. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّها في يَدِه، أشْبَهَتِ البَهِيمَةَ، ولأنَّه تُمْكِنُه إقامَةُ البَيِّنَةِ. 1535 - مسألة: (وإنِ اتَّجَرَ حَرْبِىٌّ إلَيْنا، أُخِذَ منه العُشْرُ، ولا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بالعشر». (¬3) سقط من: الأصل.

دَنَانِيرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤْخَذُ مِن أقَلَّ مِن عَشرَةِ دَنانِيرَ) هذا قولُ أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُؤْخَذُ منهم شئٌ، إلَّا أن يكونوا يأْخُذون مِنّا شيئًا، فنأخُذُ منهم مِثْلَه؛ لِما رُوِى عن أبى مِجْلَزٍ، قال: قالُوا لعُمَرَ: كيف نأخذُ مِن أهْلِ الحَرْبِ إذا قَدِمُوا علينا؟ قال: كيف يأخُذُون منكم إذا دَخَلْتُم إليهم؟ قالوا: العُشْرَ. قال: فكذلك خُذُوا منهم (¬1). وعن زِيادِ بنِ حُدَيْرٍ، قال: كُنّا لا نعْشِرُ مُسْلِمًا ولا مُعاهِدًا. قال: مَن كنْتُم تَعْشِرُون؟ قال: كُفّارَ أهلِ الحَرْبِ، نَأْخُذُ منهم كما يأخُذُون مِنّا (¬2). وقال الشافعىُّ: إن دَخَل إلينا لِتجارَةٍ لا يحْتاجُ إليها المُسْلِمون، لم يأْذَنْ له الإِمامُ إلَّا بعِوَضٍ يَشْرُطُه، وما شَرَطه جازَ. ويُسْتَحَبُّ أن يَشْرُطَ العُشْرَ؛ لِيُوافِقَ فِعْلَ عُمَرَ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما يأخذ من الذمى إذا اتَّجر في غير بلده، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 210. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب صدقة أهل الكتاب، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 99. وأبو عبيد، في: باب ذكر العاشر وصاحب المكس. . .، من كتاب الصدقة وأحكامها. الأموال 528. والبيهقى، في: الباب السابق. السنن الكبرى 9/ 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه. وإن أذِنَ مُطْلَقًا مِن غيرِ شَرْطٍ، فالمَذْهَبُ أنَّه لا يُؤْخَذُ منهم شئٌ؛ لأنَّه أمان مِن غيرِ شَرْطٍ، فلم يُسْتَحَقَّ به شئٌ، كالهُدْنَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَجبَ العُشْرُ؛ لأنَّ عُمَرَ أخَذَه. ولَنا، ما رَوَيْناه في المسألةِ التى قبلَها، ولأَنَّ عُمَرَ أخَذَ منهم العُشْرَ، واشْتَهَر ذلك فيما بينَ الصحابَةِ، وعَمِلَ به الخلفاءُ بعدَه، والأئِمَّةُ في كلِّ عصرٍ، مِن غيرِ نَكِيرٍ، فأىُّ إجْماعٍ يكونُ أقْوَى مِن هذا؟ ولم يُنْقَلْ عنه أنَّه شَرَط عليهم ذلك عندَ دُخُولِهم، ولا يثْبُتُ ذلك بالظَّنِّ مِن غيرِ نَقْلٍ، ولأنَّ مُطْلَقَ الأمْرِ يُحْمَلُ على المَعْهُودِ في الشَّرْعِ، وقد اشْتَهَرَ أخْذُ العُشْرِ منهم في زَمَنِ الخلفاء الرَّاشدين، فيجِبُ أخْذُه. فأمّا سؤالُ عُمَرَ عَما يأْخُذُون مِنّا، فإنَّما كان لأَنَّهم سألُوا عن كيْفِيَّةِ الأخْذِ ومِقْدارِه، ثم اسْتَمَرَّ الأخْذُ مِن غيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سؤالٍ، ولو تقَيَّدَ أخْذُنا منهم بأخْذِهم مِنّا، لوَجَبَ أن يُسْأَلَ عنه في كلِّ وقْتٍ. فصل: ويُؤْخَذُ منهم العُشْرُ في كلِّ مالٍ للتِّجارَةِ، في ظاهِر كلامِه ههُنا. وهو ظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِىِّ. وقال القاضى: إن دَخَلُوا في نَقْلِ مِيرَةٍ بالنّاسِ إليها حاجَةٌ، أُذِنَ لهم في الدُّخولِ بغيرِ عُشْرٍ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ في دُخُولِهم نَفْعَ المسلمين. ولَنا، عُمومُ ما رَوَيْناه. وقد روَى صالِحٌ، عن أبيه، عن عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِىٍّ، عن الزُّهْرِىِّ، عن سالمٍ، عن أبيه، عن عُمَرَ، أنَّه كان يَأخذُ مِن النَّبَطَ مِن القُطْنِيَّةِ (¬1) العُشْرَ، ومِن الحِنْطَةِ والزَّبِيبِ نِصْفَ العُشْرِ؛ ليَكْثُرَ الحِمْلُ إلى المدينةِ (¬2). فعلى هذا، يَجُوزُ للإِمامِ التَّخْفِيف عنهم إذا رَأى المَصْلَحَةَ فيه، وله التَّرْكُ أيضًا إذا رَأَى المَصْلَحَةَ؛ لأنَّه فَىْءٌ، فمَلَكَ تَخْفِيفَه وتَرْكَه، كالخَراجِ. ¬

(¬1) القطنية: الحبوب التى تطبخ. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب عشور أهل الذمة، عن كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 281. والبيهقى، في: باب ما يؤخذ من الذمى إذا اتجر في غير بلده، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 210. وعبد الرزاق، في: باب صدقة أهل الكتاب، عن كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 99.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُؤْخَذُ العُشْرُ مِن كلِّ حَرْبِىٍّ تاجِرٍ، ونصْفُ العُشْرِ مِن كلِّ ذِمِّىٍّ تاجرٍ، ذَكرًا كان أو أُنْثَى، صغيرًا أو كبيرًا. وقال القاضى: ليس على المرأَةِ عُشْرٌ ولا نِصْفُ عُشْرِ، سواءٌ كانت حَرْبِيَّةً أو ذِمِّيَّةً، لكن إن دَخَلَتِ الحجازَ عُشِرَتْ؛ لأنَّها ممْنُوعَةٌ مِن الإِقامَةِ به. قال شيْخُنا (¬1): ولا يُعْرَفُ هذا التَّفْصِيلُ عن أحمدَ، ولا يَقْتَضِيه مَذْهَبُه؛ لأنَّه يُوجِبُ الصَّدَقَةَ في أمْوالِ نِساءِ بنى تَغْلِبَ وصِبْيانِهم، فكذلك يُوجِبُ العُشْرَ ونِصْفَه في مالِ النِّساءِ، وعُمومُ الأحادِيثِ المَرْوِيَّةِ ليس فيها تَخْصِيصٌ للرِّجالِ دُونَ النِّساءِ، وليس هذا بجِزْيَةٍ، إنَّما هو حَقٌّ يخْتَصّ بمالِ التِّجارَةِ، لتَوَسُّعِه في دارِ الإِسلامِ، وانْتِفاعِه بالتجارَةِ فيه، فيَستَوِى فيه الذَّكَرُ والأُنثَى، كالزَّكاةِ في حَقِّ المسلمين. ¬

(¬1) في: المغنى 13/ 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتلفَتِ الرِّوايَةُ في القَدْرِ الذى يُؤْخَذُ منه العُشْرُ ونِصْفُ العُشْرِ، فروَى صالِحٌ عنه في نِصْفِ العُشْرِ، مِن كلِّ عشرين دِينارًا دِينارٌ. يعنى فإذا نَقَصَتْ عن العشرين فليس عليه شئٌ؛ لأنَّ ما دُونَ النِّصابِ لا يَجِبُ فيه زَكاةٌ على مسلمٍ، ولا على تَغْلِبىٍّ، فلا يَجِبُ على ذِمِّىٍّ، كالذى دُونَ العَشَرَةِ. وروَى صالِحٌ أيضًا، أنَّه قال: إذا مَرُّوا بالعاشِرِ، فإن كانوا أهْلَ الحَرْبِ، أخَذَ منهم العُشْرَ؛ مِن العَشَرَةِ واحدًا، فإن كانُوا مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، أخَذَ منهم نِصْفَ العُشْرِ؛ مِنِ كلِّ عشرين دِينارًا دينارًا فإذا نَقَصَتْ فليس عليه شئٌ. وإن نقَص مالُ الحَرْبِىِّ عن عَشَرَةِ دَنانيرَ، لم يُؤْخَذْ منه شئٌ، ولا يُؤْخَذُ منهم إلَّا مَرَّةً واحدةً؛ المُسْلِمُ والذِّمِّىُّ في ذلك سواءٌ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّ في العَشَرَةِ نصف مِثْقالٍ، وليس فيما دُونَ العَشَرَةِ شئٌ. نَصَّ عليه في روايَةِ أبى الحارثِ، قال: قلتُ: إذا كان مع الذِّمِّىِّ عَشَرَةُ دنانيرَ؟ قال: نأْخُذُ منه نِصْفَ دِينارٍ. قلتُ: فإنْ كان معه أقَل مِن عَشَرَةِ دنانيرَ؟ قال: إذا نَقَصَتْ لم يُؤْخَذْ منه شئٌ. وذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ العَشَرَةَ مالٌ يبْلُغُ واجبُه نصفَ دِينارٍ، فوَجَبَ فيه، كالعشرين في حَقِّ المُسْلِمِ. ولأنَّه مالٌ معْشُورٌ، فوَجَبَ في العَشَرَةِ منه، كمالِ الحْرْبِىِّ. وقال ابنُ حامِدٍ: يُؤْخَذُ عُشْرُ الحَرْبِىِّ، ونصف عُشْرِ الذِّمِّىِّ، من كلِّ مالٍ، قَلَّ أو كَثُرَ؛ لأنَّ عُمَرَ قال: خُذْ مِن كلِّ عشرين دِرْهَمًا دِرْهمًا. ولأنَّه حَقٌّ عليه، فوَجَبَ في قَلِيله وكثيرِه، كنَصِيبِ (¬1) المالكِ في أرْضه التى عامَلَه عليها. ولَنا، أنَّه عُشْرٌ ونصفُ عُشْرٍ وَجَب بالشَّرْعِ، فاعْتُبِرَ له نِصابٌ، كزكاةِ الزَّرْعِ والثَّمَرِ (¬2)، ولأنَّه حَقٌّ يَتَقَدَّرُ بالحَوْلِ، فاعْتُبِرَ له النِّصابُ، كالزَّكاةِ. وأمّا قولُ عُمَرَ، فالمُرادُ به، واللَّهُ أعلمُ، بيانُ قَدْرِ المَأْخُوذِ، وأنَّه نِصفُ العُشْرِ، ومَعْناه: إذا كان معه عَشَرَةُ دنانيرَ فخُذْ مِن كلِّ عشرين دِرْهمًا دِرهمًا؛ لأنَّ في صَدْرِ الحدِيثِ أنَّ عُمَرَ بَعث (¬3) ¬

(¬1) ف م: «نصيب». (¬2) في م: «الثمرة». (¬3) في م: «أمر».

1536 - مسألة: (ويؤخذ)

وَيؤْخَذُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِىِّ كُلَّمَا دَخَلَ إلَيْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُصَدِّقًا وأمَرَه أن يأخُذَ مِن المسلمين مِن كلِّ أربعين درهمًا درهمًا، ومِن أهلِ. الذِّمَّةِ مِن كلِّ عشرين درهمًا درهمًا، ومِن أهلِ الحَرْبِ مِن كلِّ عشرةٍ واحدًا. وإنَّما يُؤْخَذُ ذلك مِن المُسْلِمِ إذا كان معه نِصابٌ، فكذلك مِن غيرِهم. 1536 - مسألة: (ويُؤْخَذُ) منه في (كلِّ عامٍ مَرَّةً. وقال ابنُ حامِدٍ: يُؤْخَذُ مِن الحَرْبِىِّ كلَّما دَخَل إلَيْنا) لا يُعْشَرُ الذمِّىُّ ولا الحَرْبِىُّ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لِما روَى الإِمامٌ أحمدُ بإسْنادِه، قال: جاءَ شيخٌ نَصْرَانِىٌّ إلى عُمَرَ، فقال: إنَّ عامِلَك عَشرَنِى في السَّنَةِ مَرَّتَيْن. قال: ومَن أنت؟ قال: أنا الشَّيْخُ النَّصْرانِىُّ. فقال: وأنا الشَّيْخُ الحَنِيفُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم كَتَب إلى عامِلِه: لا تَعْشِرُوا في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً (¬1). ولأنَّ الجِزْيَةَ والزَّكاةَ إنَّما تؤْخَذُ في السَّنَةِ مَرَّةً، فكذلك هذا. ومتى أخَذَ منهم ذلك مَرَّةً، كَتَب لهم حُجَّةً بأدائِهم؛ لتكونَ وَثِيقَةً لهم، وحُجَّةً على مَن يَمُرُّون عليه، فلا يَعْشِرُهم ثانيةً، إلَّا أن يكونَ معه أكْثَرُ مِن المالِ الأوَّلِ، فيَأْخُذَ مِن (¬2) الزِّيادَةِ؛ لأنَّها لم تُعْشَرْ. وحُكِىَ عن أبى عبدِ اللَّهِ ابنِ حامدٍ، أنَّ الحَرْبِىَّ يُعْشَرُ كُلَّما دَخَل إلينا. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّنا لو أخَذْنا منه واحِدَةً، لا نَأمَنُ أن يدْخُلُوا، فإذا جاءَ وقْتُ السَّنَةِ، لم يدْخُلُوا، فيَتَعَذَّرُ الأخْذُ منهم. ولَنا، أنَّه حَق يُؤْخَذُ مِن التِّجارَةِ، فلا يُؤْخَذُ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، كنِصْفِ العُشْرِ مِن الذِّمِّىِّ. وقَوْلُهم: يَفُوتُ. لا يَصِحُّ (¬3)؛ فإنَّه يُؤْخَذُ منه أوَّلَ ما يَدْخُلُ مَرَّةً، ويَكْتُبُ الآخِذُ له بما أخَذَ منه، ثم لا يُؤْخَذُ منه شئٌ حتى تَمْضِىَ تلك السَّنَةُ، فإذا جاءَ في العامِ الثانى، أُخِذَ منه في أوَّلِ ما يَدْخُلُ، فإن لم يَدْخُلْ، فما فاتَ مِن حَقِّ السَّنَةِ الأُولَى شئٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 471. (¬2) في م: «منه». (¬3) في م: «يصلح».

1537 - مسألة: (وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم، واستنقاذ من أسر منهم)

وَعَلَى الإِمَامِ حِفْظُهُمْ، وَالْمَنْعُ مِنْ أَذَاهُمْ، واسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1537 - مسألة: (وعلى الإِمام حِفْظُهم، والمَنْعُ مِن أذاهم، واسْتِنْقاذُ مَن أُسِرَ منهم) تَلْزَمُه حِمايَتُهم مِنَ المُسْلِمِين وأهلِ الحربِ وأهلِ الذِّمَّةِ، لأنَّه الْتَزَمَ بالعَهْدِ حِفْظَهم، ولهذا قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: إنَّما بَذَلُوا الجزْيَةَ لتكونَ دِماؤُهم كدِمائِنا وأمْوالُهم كأمْوالِنا. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في وَصِيَّتِه للخليفةِ بعدَه: وأُوصِيه بأهلِ ذِمَّةِ المُسْلِمين خَيرًا، أن يُوفِىَ لهم بعَهْدِهم، ويُحاطُوا مِن ورائِهم (¬1). ويَجِبُ فِداءُ أسْراهم، سواءٌ كانوا في مَعُونَتِنا أو لم يكونوا. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، واللَّيْثِ، لأنَّنا الْتَزَمْنا حِفظَهم بمُعاهَدَتِهم، وأخْذِ جِزْيتهم، فَلَزِمَنا القِتالُ مِن وَراثِهم، والقِيامُ دُونَهم، فإذا عَجَزْنا عن ذلك وأمْكَنَنا تَخلِيصُهم، لَزِمَنا ذلك. وقال القاضى: ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب يقاتل عن اْهل الذمة ولا يسترقون، من كتاب الجهاد والسير. صحيح البخارى 4/ 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما يَجِبُ فِداؤُهم إذا اسْتعانَ بهم الإِمامُ في قِتالٍ فسُبُوا، وَجَب عليه فِداؤُهم؛ لأنَّ أسْرَهم كان لمَعْنًى مِن جِهَتِه. وهو المنْصُوصُ عن أحمدَ. ومتى وَجَب فِداؤُهم، فإنَّه يَبْدأ بفِداءِ المسُلِمِين قَبْلَهم؛ لأنَّ حُرْمَةَ المُسْلِمِ أعْظَمُ، والخوْفَ عليه أشَدُّ، وهو مُعَرَّضٌ للفِتْنَةِ عن دِينِ الحَقِّ، بخلافِ أهلَ الذِّمَّةِ. فصل: ومَن هَرَب منهم إلى دارِ الحَرْبِ ناقِضًا للعَهْدِ، عاد حَرْبًا (¬1) حُكْمُه حُكْمُ الحَرْبِىِّ، سواءٌ كان رجُلًا أو امرأةً، ومتى قُدِرَ عليه، أُبِيحَ منه ما يُباحُ مِن الحَرْبِىِّ؛ مِن القَتْلِ، والأسْرِ، وأخْذِ المالِ. فإن هَرَب بأهْلِه وذُرِّيَّته، أُبِيحَ مِن البالِغين (¬2) منهم ما يُباحُ مِن أهْلِ الحَرْبِ، ولم يُبَحْ سَبْىُ الذُّرِّيَّةِ؛ لأنَّ النَّقْضَ إنَّما وُجِدَ مِن البالِغين دُونَ الذُّرِّيَّةِ. وإن نقَضَتْ طائِفَة مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، جازَ غزْوُهم وقِتالُهم. وإن نَقَضَ بعضُهم دُونَ بعضٍ، اخْتَصَّ حُكْمُ النَّقْضِ بالنّاقِضِ. وإنْ لم ينْقُضُوا، لكن خافَ النَّقْضَ منهم، لم يَجُزْ أنْ يَنْبِذَ إليهم عَهْدَهم؛ لأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِحَقِّهم، ¬

(¬1) في م: «حربيًّا». (¬2) ف م: «الهاربين».

1538 - مسألة: (وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم، لزمه الحكم بينهم)

وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى الْحَاكِمِ جمَعَ مُسْلِمٍ، لَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ تَحَاكَمَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، أَوِ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، خُيِّرَ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ، وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا بِحُكْمِ الإِسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بدليلِ أنَّ الإِمامَ تَلْزَمُه إجابَتُهم إليه (¬1) بخلافِ عَقْدِ الأمانِ والهُدْنَةِ؛ فإنَّه لمَصْلَحَةِ المُسْلِمِين، ولأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ آكَدُ؛ لأنَّه مُؤَبَّدٌ، وهو مُعاوَضَةٌ، ولذلك إذا نَقَض بعضُ أهْلِ الذِّمَّةِ العَهْدَ، وسَكَت بَقِيَّتُهم، لم يكُنْ سُكُوتُهم نَقْضًا، وفى عَقْدِ الهُدْنَةِ يكونُ نَقْضًا. 1538 - مسألة: (وإن تَحاكَموا إلى الحَاكِمِ مَعَ مُسْلِمٍ، لَزِمَه الحكمُ بينَهم) لأنَّ إنْصافَ المُسْلِمِ والإنْصاف منه واجِبٌ، وطَرِيقَه الحُكْمُ (وإن تحاكَمَ بعضُهم مع بعض، أو اسْتَعْدَى بعضُهم على بعضٍ، خُيِّرَ بين الحُكْمِ بينَهم وبينَ تَرْكِهم) لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (2). ولأنَّهما كافِران، فلم يجِبِ الحُكْمُ بينَهما، كالمُسْتَأمَنَيْن (ولا يَحْكُمُ) بينَهم (إلَّا بحُكْمِ الإِسلامِ) لقوْلِه تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة المائدة 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، يَلْزَمُه الحكمُ بينَهم؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬1). ولأنَّ رَفْعَ الظُّلْمِ عنهم واجِبٌ، وطريقُه الحُكْمُ، فوَجَبَ، كالحُكْمِ بينَ المُسْلِمِين. فإنِ اسْتَعْدَتِ المرأةُ على زَوْجِها في ¬

(¬1) سورة المائدة 49.

1539 - مسألة: (وإن تبايعوا بيوعا فاسدة، وتقابضوا، لم ينقض فعلهم)

وَإِنْ تَبَايَعُوا بُيُوعًا فَاسِدَةً، وَتَقَابَضُوا، لَمْ يَنْقُضْ فِعْلَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضُوا، فَسَخَهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَاكِمُهُمْ أَوْ لَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ طلاقٍ أو إيلاءٍ أو ظِهارٍ، فإن شاء أعداها، وإن شاء تَرَكَهما، على الرِّوايَةِ الأُولى. فإن أحْضَرَتْ زَوْجَها، حَكَم عليه بحُكْمِ المُسْلِمِين في مثلِ ذلك. فإن كان قد ظاهَرَ منها، مَنَعَه وَطْأَها حتى يُكَفِّرَ، وتَكْفِيرُه بالإِطْعامِ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ منه الصَّوْمُ، ولا يَصِحُّ شِراوه للعَبْدِ المُسْلِمِ، ولا تَمَلُّكُه. 1539 - مسألة: (وإن تَبايَعُوا بُيُوعًا فاسِدَةً، وتَقابَضُوا، لم يَنْقُضْ فِعْلَهم) لأنَّه عَقْدٌ تَمَّ قبل إسْلامِهم على مَا يَجُوزُ ابْتِداءُ العَقْدِ عليه، فأُقِرُّوا عليه ولم يُنْقَضْ، كأنْكِحَتِهم (وإن لم يَتَقابَضُوا، فَسَخَه، سواءٌ كان قد حَكَمَ بينَهم حاكِمُهم أوْ لا) لأنَّه عَقْدٌ لَم يَتِمَّ، ولا يجوزُ الحُكْمُ بإتْمامِه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكَوْنِه فاسِدًا، فتَعَيَّنَ نَقْضُه، وحُكْمُ حاكِمِهم وُجُودُه كعَدَمِه؛ لأنَّ مِن شَرْطِ الحاكِمِ النّافِذَةِ أحْكامُه الإِسْلامَ، ولم يُوجَدْ. فصل: سُئِلَ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، عن الذِّمِّىِّ يُعامِلُ بالرِّبا، ويَبِيعُ الخمرَ والخِنْزِيرَ، ثم يُسْلِمُ وذلك المالُ في يَدِه، فقال: لا يَلْزَمُه أن يُخرِجَ منه شيئًا؛ لأنَّ ذلك مَضَى في حالِ كُفْرِه، فأشْبَهَ نِكاحَه في الكُفرِ إذا أسْلَمَ. وسُئِلَ عن المَجُوسِيَّيْن يجْعلانِ ولَدَهُما مُسْلِمًا، فيمُوتُ وهو ابنُ خمسِ سنِينَ، فقال: يُدْفَنُ في مقابِرِ المُسْلِمِين؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ» (¬1). يعنى أنَّ هذَيْن لم يُمَجِّساه، فَبَقِىَ على الفِطْرَةِ. وسُئِلَ عن أطْفالِ المُشْرِكِين، فقال: أذْهَبُ إلى قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اللَّه (¬2) أعلمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» (¬3). قال: وكان ابنُ عباسٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 94. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب ما قيل في أولاد المشركين، من كتاب الجنائز. صحيح البخارى 2/ 125. ومسلم، في: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة،. . .، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2048، 2049. وأبو داود، في: باب في ذرارى المشركين، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 531. والنسائى، في: باب أولاد المشركين، من كتاب الجنائز. المجتبى 47/ 4، 48. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 253، 259، 315، 464، 481، 518.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقولُ: «وَأبَوَاه يُهَوِّدَانِه ويُنَصِّرَانِه». حتى سَمِعَ: «اللَّهُ أعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِين». فتَرَكَ قَوْلَه. وسألَه ابنُ الشافعىِّ، فقال: يا أبا عبدِ اللَّهِ، ذَرارِىُّ المُشْرِكِين أو المُسْلِمِين؟ فقال: هذه مَسائِلُ أهْلِ الزَّيْغِ. وقال أبو عبدِ اللَّهِ: سألَ بِشْرُ بنُ السَّرِىِّ سُفْيانَ الثَّوْرِىَّ، عن أطْفالِ المُشرِكِين، فصاحَ به، وقال: يا صَبِىُّ، أنت تسأَلُ عن هذا؟ قال أحمدُ: ونحن نُمِرُّ هذه الأحاديثَ على ما جاءَتْ، ولا نقولُ شيئًا. وسُئِلَ عن أطْفالِ المُسْلِمِين، فقال: ليس فيه اختلافٌ أنَّهم في الجَنَّةِ. وذَكَرُوا له حديثَ عائِشَةَ، الذى قالتْ فيه: عُصْفور مِن عَصافِيرِ الجنَّةِ (¬1). فقال: وهذا حَدِيثٌ! وذَكَرَ فيه رجلًا ضعَّفَه طَلْحَةُ. وسُئِلَ عن الرجلِ يُسْلِمُ بشَرْطِ أن لا يُصَلِّى إلَّا صلَاتيْن، فقال: يَصِحُّ إسْلامُه، ويُؤْخذُ بالخَمْسِ. وقال: مَعْنَى حديثِ حَكِيمِ بنِ حزامٍ: بايَعْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا أخِرَّ إلَّا قائِمًا (¬2). أنَّه لا يَرْكَعُ في الصَّلاةِ، بل يَقْرأُ ثم يَسْجُدُ مِن غيرِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة،. . .، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2050. وأبو داود، في: باب في ذرارى المشركين، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 531. والنسائى، في: باب الصلاة على الصبيان، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 46، 47. (¬2) أخرجه النسائى، في: باب كيف يخر للسجود، من كتاب التطبيق. المجتبى 2/ 161. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 402.

1540 - مسألة: (وإن تهود نصرانى، أو تنصر يهودى، لم يقر، ولم يقبل منه إلا الإسلام، أو الدين الذى كان عليه، ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام، فإن أبى، هدد، ويحبس، ويحتمل أن يقتل، وعنه)

وَإِنْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِىٌّ، أَوْ تَنَصَّرَ يَهُودِىٌّ، لَمْ يُقَرَّ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلَامُ، أوِ الدِّينُ الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبى، هُدِّدَ، وَحُبِس، وَيَحْتَمِلُ أنْ يُقْتَلَ. وَعَنْهُ، يُقَرُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُكُوعٍ. قال: وحَدِيثُ قَتادَةَ عن نَصْرِ بنِ عاصم، أنَّ رجلًا منهم بايَعَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن لا يُصَلِّى طَرَفَى النَّهارِ (¬1). 1540 - مسألة: (وإن تَهَوَّدَ نَصْرانِىٌّ، أوْ تَنَصَّرَ يَهُودِىٌّ، لم يُقَرَّ، ولَمْ يُقْبَلْ منه إلَّا الإِسْلامُ، أو الدِّينُ الَّذِى كان عليهِ، ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ منه إلَّا الإِسْلامُ، فإن أبى، هُدِّدَ، ويُحْبَسُ، ويَحْتَمِلُ أن يُقْتَلَ، وعنه) أنَّهُ (يُقَرُّ) إذا انْتَقَلَ الكِتابِىُّ إلى دِين آخَرَ مِن دِينِ أهْلِ الكِتابِ، ففيه ¬

(¬1) لم نجده فيما بين أيدينا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهن، لا يُقَرُّ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى دين باطِلٍ قد أقَرَّ ببُطْلانِه، فلم يُقَرَّ عليه، كالمُرْتَدِّ. فعلى هذا، يُجْبَرُ على الإِسْلامِ، ولأنَّ ما سِواه باطِلٌ، اعْتَرَفَ ببُطْلانِه قبلَ أن يَنْتَقِلَ إليه، ثم اعْتَرَفَ ببُطْلانِ دِيِنه حينَ انْتَقَلَ عنه، فلم يَبْقَ إلَّا الإسْلامُ. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسلامُ، أو الدِّينُ الذى كان عليه، لأنَّنا أقْرَرْناه عليه أوَّلًا، فنُقِرُّه عليه ثانيًا. والثالثةُ، يُقَرُّ. نصَّ عليه أحمدُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيارُ الخَلَّالِ وصاحِبِه، وقولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ عن دِينِ أهْلِ الكتابِ، فأشْبَهَ غيرَ المُنْتَقِلِ. ولأنَّه دِينُ أهْلِ الكِتابِ فيُقَرُّ عليه، كأهلِ ذلك الدِّينِ، وفى صِفَةِ إجْبارِه على تَرْكِ ما انْتَقَلَ إليه رِوايتان؛ إحْداهما، يُجْبَرُ عليه بالقَتْلِ؛ لعُمومِ قوْلِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬1). ولأنَّه ذِمى نَقَضَ العَهْدَ، فأشْبَهَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لا يعذب بعذاب اللَّه، من كتاب الجهاد، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 4/ 75، 9/ 138. وأبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 440. والترمذى، في: باب ما جاء في المرتد، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 243. والنسائى، في: باب الحكم في المرتد، من كتاب التحريم. المجتبى =

1541 - مسألة: (وإن انتقل إلى غير دين أهل الكتاب، أو انتقل المجوسى إلى غير دين أهل الكتاب، لم يقر، وأمر أن يسلم، فإن أبى، قتل)

وَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أوِ انْتَقَلَ الْمَجُوسِىُّ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَمْ يُقَرَّ، وَأُمِرَ أَنْ يُسْلِمَ، فَإِنْ أبَى، قُتِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لو نَقَضَه بتَرْكِ الْتِزامِ الذِّمَّةِ، وهل يُسْتَتابُ؟ يحْتَمِل وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يُسْتَتابُ؛ لأنَّه اسْترْجِعَ عن دينٍ باطلٍ انْتَقَلَ إليه، فيُسْتَتابُ، كالمُرْتَدِّ. والثانى، لا يُسْتَتابُ؛ لأنَّه كافِر أصْلِىٌّ أُبِيحَ دَمُه، فأشْبَهَ الحَرْبِىَّ. فعلى هذا، إنْ بادَرَ وأسْلَمَ أو رَجَع إلى ما يقَرّ عليه، عصَم دَمَه، وإلَّا قتِلَ. والثانيةُ، أنَّه يُجْبَرُ بالضَّرْبِ والحَبْسِ؛ فإنَّ أحمدَ قال: إذا دَخَل اليَهُودِىُّ في النَّصْرانِيَّةِ، رَدَدْته إلى اليَهُودِيَّةِ. فقِيلَ له: أتَقْتُلُه؟ قال: لا، ولكن يُضْرَبُ ويُحْبَسُ؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ عن دينِ أهْلِ الكتابِ، فلم يُقْتَلْ، كالباقِى على دِينِه، ولأنَّه مُخْتَلَف فيه، فلا يُقْتَل؛ للشُّبْهَةِ. 1541 - مسألة: (وإنِ انْتَقَلَ إلى غيرِ دِين أهْلِ الكِتابِ، أو انْتَقَلَ المَجُوسِىُّ إلى غيرِ دِينِ أهْلِ الكِتابِ، لم يُقَرَّ، وأُمِرَ أن يُسْلِمَ، فإن أبَى، قُتِلَ) إذا انْتَقَلَ الكِتابِىُّ إلى غيرِ دينِ أهْلِ الكِتابِ، لم يقَرَّ عليه. لا نَعْلَمُ ¬

_ = 7/ 96. وابن ماجه، في: باب المرتد عن دينه، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 848. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 282، 283، 323، 5/ 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه خلافًا؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى دِينٍ لا يُقَرُّ عليه بالجِزْيَةِ، كعَبَدَةِ الأَوْثانِ، فالأصْلِىُّ منهم لا يُقَرُّ، فالمُنتقِلُ أوْلَى. وإنِ انْتَقَلَ إلى المَجُوسِيَّةِ، لم يُقَرَّ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى أدْنَى مِن دينه، فلم يُقَرَّ، كالمُسْلِمِ إذا ارْتَدَّ. وكذاك الحُكْمُ في المَجُوسِىِّ إذا انْتَقَلَ إلى أدْنَى مِن دِينه، كعِبادَةِ الأوْثانِ؛ لذلك. وإذا قُلْنا: لا يُقَرُّ. ففيه ثلاثُ رواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسلامُ. نَصَّ عليه أحمدُ. واخْتارَه الخَلَّالُ وصاحِبُه. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّ غيرَ الإِسلامِ أدْيانٌ باطِلَةٌ، قد أقَرَّ ببُطْلانِها، فلم يُقَرَّ عليها، كالمُرْتَدِّ. وإذا قُلْنا: لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسلامُ. فأبَى، أُجْبِرَ عليه بالقَتْلِ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى دين أدْنَى مِن دِينِه، أشْبَهَ المُرْتَدَّ. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسْلامُ أو الدِّينُ الذى كان عليه؛ لأنَّ دِينَه الأوَّلَ قد أقْرَرْناه عليه مَرَّةً، ولم يَنْتَقِلْ إلى خيرٍ منه، فنُقِرُّه عليه إن رَجَع إليه، ولأنَّه انْتَقَلَ مِن دينٍ

1542 - مسألة: (وإن انتقل غير الكتابى إلى دين أهل الكتاب، أقر، ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام)

وَإِنِ انْتَقَل غَيْرُ الْكِتَابِىِّ إِلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أُقِرَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقَرُّ عليه إلى دينٍ لا يُقَرُّ عليه، فقُبِلَ رُجوعُه إلى دِينِه، كالمُرْتَدِّ إذا رَجَع إلى الإِسلامِ. والثالثةُ، أنَّه يُقْبَلُ منه أحَدُ ثَلاثةِ أشْياءَ؛ الإِسلامُ، أو الدِّينُ الذى كان عليه، أو دِينُ أهْلِ الكِتابِ؛ لأنَّه دِينُ أهْلِ الكِتابِ، فيُقَرُّ عليه، كغيرِه مِن أهْلِ ذلك الدِّينِ. وإذا انْتَقَلَ المَجُوسِىُّ إلى غيرِ دين أهْل الكِتابِ، ثم رَجَع إلى المَجُوسِيَّةِ، أُقِرَّ عليه، في إحْدَى الرِّوايَتين؛ لأنَّه أُقِرَّ عليه أوَّلًا، فيُقَرُّ عليه ثانيًا. 1542 - مسألة: (وإنِ انْتَقَلَ غيرُ الكِتابِىِّ إلى دِينِ أَهْلِ الكِتابِ، أُقِرَّ، ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ منه إلَّا الإِسْلامُ) إذا انْتَقَلَ المَجُوسِىُّ إلى دين أهْلِ الكتابِ، ففيه أيضًا الرِّواياتُ الثلاثُ؛ إحْداهُنَّ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا

1543 - مسألة: (وإن تمجس الوثنى، فهل يقر؟ على روايتين)

وَإِنْ تَمَجَّسَ الْوَثَنِىُّ، فَهَلْ يُقَرُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِسْلامُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثانيةُ، يُقَرُّ على ما انْتَقَلَ إليه؛ لأنَّه أعْلَى مِن دِينِه، ولأنَّه انْتَقَلَ إلى دِينٍ يُقَرُّ عليه أهْلُه. والثالثةُ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسْلامُ، أو دِينُه الذى كان عليه؛ لِما تَقَدَّمَ. 1543 - مسألة: (وإن تَمَجَّسَ الوَثَنِىُّ، فهل يُقَرُّ؟ على رِوايَتَيْن)

فصل فى نقض العهد

فَصْلٌ في نَقْضِ الْعَهْدِ: وَإذَا امْتَنَعَ الذِّمِّىُّ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ، انْتَقَضَ عَهْدُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهما، يُقَرُّ؛ لِما ذَكَرْنا. والثانيةُ، لا يُقَرُّ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى دِين لا تَحِلُّ ذبائِحُ أهْلِه، ولا تُنْكَحُ نِساؤُهم، أشْبَهَ ما لو انْتَقَلَ إلى دِين لا يُقَرُّ عليه أهْلُه. والأُولَى أوْلَى. (فصل في نَقْضِ العَهْدِ: وإذا امْتَنَعَ الذِّمِّىُّ مِن بَذْلِ الجِزْيَةِ، أو الْتِزامِ أحْكامِ المِلَّةِ، انْتَقَضَ عَهْدُه) إذا امْتَنَعَ الذِّمِّىُّ مِن بَذْلِ الجِزْيَةِ، أو الْتِزامِ

1544 - مسألة: (وإن تعدى على مسلم؛ بقتل، أو قذف،

وَإِنْ تَعَدَّى عَلَى مُسْلِمٍ؛ بِقَتْلٍ، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ زِنًى، أَوْ قَطْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أحْكامِ المِلَّةِ إذا حَكَمَ بها حاكمٌ، انْتَقَضَ عَهْدُه، بغيرِ خلافٍ في المذهبِ، سواءٌ شَرَطَ عليهم أَوْ لا. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). قيلَ: الصَّغارُ الْتِزامُ أحْكامِ المُسْلِمِين. فأمَرَ بقِتالِهم حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ، ويَلْتَزِمُوا أحْكامَ المِلَّةِ، فإذا امْتَنَعُوا مِن ذلك، وَجَب قِتالُهم، فإِذا قاتَلُوا فقد نَقَضُوا العَهْدَ. وفى مَعْنى هذَيْن قِتالُهم للمُسْلِمِين مُنْفَرِدِين، أو مع أهْلِ الحَربِ؛ لأنَّ إطْلاقَ الأمانِ يَقْتضِى ذلك. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْتَقِضُ العَهْدُ إلَّا بالامْتِناعِ مِن الإِمامِ، بحيثُ يَتَعَذَّرُ أخْذُ الجزيَةِ منهم. ولَنا، ما ذَكَرْناه، ولأنَّه يُنافِى الأمانَ، أشْبَهَ ما لو امْتَنَعُوا مِن بَذْلِ الجِزْيَةِ. 1544 - مسألة: (وإن تَعَدَّى على مُسْلِمٍ؛ بقَتْلٍ، أو قَذْفٍ، ¬

(¬1) سورة التوبة 29.

طَرِيقٍ، أَوْ تَجَسُّسٍ، أَوْ إِيوَاءِ جَاسُوسٍ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ كِتَابَهُ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو زِنًى، أو قَطْعِ طَرِيقٍ، أو تَجَسُّسٍ، أو إيواءِ جاسُوسٍ، أو ذَكَر اللَّهَ تعالى أو كِتابَه أو رَسُولَه بِسُوءٍ، فعلى رِوَايَتَيْن) ويلْتَحِقُ بذلك: أو فَتْنِ مُسْلمٍ عن دِينِه، أو إصابَةِ المُسْلِمَةِ باسمِ نِكاحٍ؛ إحْداهما، يَنْتَقِضُ عَهْدُه. اخْتارَه القاضى، والشريفُ أبو جَعْفرٍ، سواءٌ شَرَطَ عليهم، أو لم يَشْرُطْ. ومَذْهَبُ الشافعىِّ نحوُ هذا فيما إذا شَرَط عليهم؛ لِما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه رُفِعَ إليه رجلٌ أرادَ اسْتِكْراهَ امْرَأةٍ مُسْلِمَةٍ على الزِّنَى، فقال: ما على هذا صالَحْناكم. وأمَرَ به فصُلِبَ في بيتِ المَقْدِسِ (¬1). وقيلَ لابنِ عُمَرَ: إنَّ راهِبًا يَشْتُمُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقال: لو سَمِعْتُه لقَتَلْتُه، إنَّا لم نُعْطِ الأمانَ على هذا. ولِما رُوِى عن عُمَرَ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المعاهد يغدر بالمسلم، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 10/ 363، 364. وابن أبى شيبة، في: باب في الذمى يستكره المسلمة على نفسها، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 96، 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أمَرَ عبدَ الرحمنِ بنَ غَنْمٍ أن يُلْحِقَ في كتابِ صُلحِ الجزيرَةِ: ومَن ضَرَب مُسْلِمًا عَمْدًا، فقد خَلَع عَهْدَه (¬1). ولأنَّ فيه ضَرَرًا على المُسْلِمِين، فأشْبَهَ الامْتِناعَ مِن بَذْلِ الجِزْيَةِ، ولأنَّه لم يَفِ بمُقْتَضَى الذِّمَّةِ، وهو الأمْنُ مِن جانِبِه، فانْتَقَضَ عَهْدُه، كما لو قاتَلَ المُسْلِمين. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 439.

1545 - مسألة: (وإن أظهر منكرا، أو رفع صوته بكتابه، لم

وَإِنْ أَظْهَرَ مُنْكَرًا، أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِكِتَابِهِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، لا يَنْتَقِضُ العَهْدُ به، لكن يُقامُ عليه الحَدُّ فيما يُوجِبُ الحَدَّ، أو يُقْتَصُّ فيما يُوجِبُ القِصاصَ، ويُعَذَّرُ فيما سِوَى ذلك بما ينْكفُّ به أمْثالُه عن فِعْلِه؛ لأنَّ ما يَقتَضِيه العَهْدُ مِن الْتِزام الجِزْيَةِ وأحْكامِ المُسْلِمِين والكَفِّ عن قِتالِهم باقٍ، فوَجَبَ بقاءُ العَهدِ. 1545 - مسألة: (وإن أظْهَرَ مُنْكرًا، أو رَفَع صَوْتَهُ بِكِتابِه، لم

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِىِّ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدُهِ، إنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْتَقِضْ عَهْدُه. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه يَنْتَقِضُ، إن كان مَشْرُوطًا عليهم) أمّا ما سِوَى الخِصالِ المذكُورَةِ في المسألةِ التى قبلَها، كالتَّمَيُّزِ عن المُسْلِمِين، وتَرْكِ إظْهارِ المُنْكَرِ، ونحوِ ذلك، فإن لم يُشْرَطْ عليهم، لم يَنْتَقِضْ عَهْدُهم به؛ لأنَّ العَقْدَ لا يَقْتَضِيها، ولا ضَرَرَ فيها على المُسْلِمِين. وإن شُرِطَتْ عليهم، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّ عَهْدَهم يَنْتَقِضُ بمُخالَفَتِنا؛ لقَوْلِه: ومَن نَقَض العَهْدَ بمُخالَفَهِ شئٍ ممّا صُولِحُوا عليه، حَلَّ دَمُه ومالُه. ووَجْهُ ذلك، أنَّ في كتابِ صُلْحِ الجزِيرَةِ لعبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ بعدَ اسْتِيفاءِ الشُّروطِ: وإن نحنُ غَيَّرْنا أو خالَفْنا عمّا شَرَطنا على أنْفُسِنا وقَبِلْنا الأمانَ عليه، فلا ذِمَّةَ لَنا، وقد حَلَّ لك مِنّا ما يَحِلُّ مِن أهْلِ المُعانَدَةِ والشِّقاقِ. ولأنَّه عَقْدٌ بَشْرطٍ، فزالَ بزَوالِ الشَّرْطِ، لوِ امْتَنَعَ مِن بَذْلِ

1546 - مسألة: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده،

وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُ نِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ بِنَقْضِ عَهْدِه، وَإِذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِزْيَةِ. وقال غيرُه مِن أصْحابِنا: لا يَنْتَقِضُ العَهْدُ به؛ لأنَّه لا ضَرَرَ على المُسْلِمِين فيه، ولا يُنافِى عَقْدَ الذِّمَّةِ، أشْبَهَ ما لو لم يَشْرُطْه، ولكنَّه يُعَزَّرُ، ويُلْزَمُ ما تَرَكَه. 1546 - مسألة: (ولا يَنْتَقِضُ عَهْدُ نِسائِه وأوْلادِه بنَقْضِ عَهْدِه،

خُيِّرَ الإِمَامُ فِيهِ، كَالأَسِيرِ الْحَرْبِىِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ [وإذا انْتَقَضَ عَهْدُه، خُيِّرَ الإِمامُ فيه، كالأسِيرِ الحَرْبِىِّ]) (¬1) لأنَّ النَّقْضَ وُجِدَ منه دُونَهم، فاخْتَصَّ حُكْمُه به. قال شيخُنا، في كتابِ «العُمْدَةِ» (¬2): إلَّا أن يَذْهَبَ بهم إلى دارِ الحَرْبِ. وذَكَر في كتابِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر العدة شرح العمدة 620.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «المُغْنِى» (¬1)؛ أنَّه لا يُباح سَبْىُ الذُّرِّيَّةِ وإن ذَهَب بهم إلى دارِ الحَرْبِ. وإذا انْتَقَضَ عَهْدُه، خُيِّرَ الإِمامُ فيه، كالأسِيرِ الحَرْبِىِّ، فيُخَيَّرُ فيه بينَ ¬

(¬1) انظر المغنى: 13/ 239.

1547 - مسألة: (وماله فئ عند الخرقى)

وَمَالُهُ فَىْءٌ عِنْدَ الْخِرَقِىِّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القَتْلِ، والاسْتِرْقاقِ، والمَنِّ، والفِداءِ، لأنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صَلَب الذى أرادَ اسْتِكْراهَ امرأةٍ، ولأنَّه كافِرٌ لا أمانَ له، قَدَرْنا عليه في دارِنا، بغيرِ عَقْدٍ ولا عَهْدٍ ولا شُبهةِ ذلك، فأشْبَهَ اللِّصَّ الحَرْبِىَّ. هذا اخْتِيارُ القاضى. وقال بعضُ أصحابِنا في مَن سَبَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّه يُقْتَلُ بكُلِّ حالٍ. وذَكَر أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه. 1547 - مسألة: (ومالُه فَىْءٌ عندَ الخِرَقِىِّ) لأنَّه إنَّما عُصِمَ بعَقْدِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذِّمَّةِ، فَزالَ بزَوالِه، كالمُرْتَدِّ (وقال أبو بَكْرٍ: هو لِوَرَثَتِه) لأنَّ مالَه كان مَعْصومًا، فلا تَزولُ عِصْمَتُه بنَقْضِه العَهْدَ، كأوْلادِه الصِّغارِ. آخِرُ كتابِ الجِهادِ والحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين وصَلَّى اللَّه على سَيِّدِنا محمدٍ، وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب البيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ لِغَرَضِ التَّمَلُّكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ البَيْعِ البَيْعُ (مُبادَلَةُ المالِ بالمالِ) تَمْلِيكًا، وتَمَلُّكًا. واشْتِقاقُه: مِن الباعِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن المُتَبايِعَيْن يَمُدُّ باعَه لِلْأَخْذِ والإِعْطاءِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما كان يُبايعُ صاحِبَه، أي يُصَافِحُه عند البَيْعَ؛ ولذلك سُمِّىَ البَيْعُ صَفْقَةً. والأصْلُ في جَوازِه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقَوْلُه سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1). وقَوْلُه تعالى: ¬

(¬1) سورة البقرة 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1). وقَوْلُه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقَوْلُه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬3). قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، كانت عُكاظٌ، ومَجَنَّةُ، وذو المَجازِ، أسْواقًا في الجاهِلِيَّةِ، فلمّا كان الإِسْلامُ تَأَثَّمُوا فيه، فأُنْزِلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. يَعْنِى: في مَواسِمِ الحَجِّ. وعن ابنِ الزُّبَيرِ نَحْوُه (¬4). رَواه البُخارِىُّ (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) سورة النساء 29. (¬3) سورة البقرة 198. (¬4) أخرجه الطبرى، في تفسيره 4/ 165 - 169. (¬5) في: باب التجارة أيام الموسم. . .، من كتاب الحج، وفى: باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}. . .، وباب الأسواق التى كاتت في الجاهلية. . .، من كتاب البيوع، وفى: باب تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 2/ 222، 223، 3/ 69، 81، 82، 6/ 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا السُّنَّةُ، فقَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورَوَى رِفاعَةُ، أنَّه خَرَجَ مع النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المُصَلَّى، فرَأى النَّاسَ يَتَبايَعُون، فقال: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ». فاسْتَجابُوا لرسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَفَعُوا أعْناقَهُم وأبْصارَهم إليه، فقال: «إنَّ التُّجَّارَ يُبعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، وباب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع، وباب كم يجوز الخيار، وباب إذا لم يوقت في الخيار، وباب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وباب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع. . .، وباب إذا كان البائع بالخيار فهل يجوز البيع، وباب إذا اشترى شيئا فوهب منه ساعته. . .، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 76، 77، 83 - 85. ومسلم، في: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، وباب الصدق في البيع والبيان، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1163، 1164. كما أخرجه أبو داود، في: باب في خيار المتبايعين، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 244، 245. والترمذى، في: باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 254 - 256. والنسائى، في: باب ما يجب على التجار من التوفية في مبايعتهم، وباب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، وباب ذكر الاختلاف على نافع في لفظ حديثه، وباب ذكر الاختلاف على عبد اللَّه بن دينار في لفظ هذا الحديث، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 215، 217 - 220. وابن ماجه، في: باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 736. والدارمى، في: باب في البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 250. والإمام مالك، في: باب بيع الخيار، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 671. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 56، 2/ 4، 9، 52، 54، 73، 119، 135، 183، 311، 3/ 204، 403، 425، 434، 5/ 12، 17، 21 - 23. (¬2) في: باب ما جاء في التجار، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 214. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب التوقى في التجارة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 726. والدارمى، في: باب في التجارة، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 247.

1548 - مسألة: (وله صورتان؛ إحداهما، الإيجاب والقبول)

وَلَهُ صُورَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ فَيَقُولُ الْبَائِعُ: بعْتُكَ. أَوْ: مَلَّكْتُكَ. وَنَحْوَهُمَا، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِى: ابْتَعْتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ. في أحادِيثَ كثيرَةٍ سِوَى هذه. وأجْمَعَ المسلمون على جَوازِ البَيْعِ في الجُمْلَةِ، والحِكْمَة تَقْتَضِيه؛ لأنَّ حاجَةَ الإِنْسانِ تَتَعَلَّق بما في يَدِ صاحِبِه، ولا يَبْذُلُه صاحِبُه بغيرِ عِوَض، ففى تَجْوِيزِ البَيْعِ طَرِيقٌ إلى وُصُولِ كلِّ واحِدٍ منهما إلى غَرَضِه ودَفعِ حاجَتِه. 1548 - مسألة: (وله صُورَتان؛ إحْداهما، الإِيجابُ والقَبُولُ) فالإِيجابُ، أن (يَقولَ البائِعُ: بِعْتكَ. أو: مَلَّكْتُكَ. أو

أَوْ: قَبِلْتُ. وَمَا في مَعْنَاهُمَا، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ الإِيجَابَ، جَازَ في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَحْوَهما). والقَبُولُ، أن (يَقُولَ المُشْتَرِى: ابْتَعْتُ. أو: قَبِلْتُ. أو ما في مَعْناهما. فإن تَقَدَّمَ القَبُولُ الإِيجابَ، جاز في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) إذا تَقَدَّمَ القَبُولُ الإِيجابَ بلَفْظِ الماضِى، كقَوْلِه: ابْتَعْتُ مِنكَ. فقال: بِعْتُكَ. صَحَّ، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْن؛ لأنَّ لَفْظَ القَبُولِ والإِيجَابِ وُجِدَ منهما على وَجْهٍ تَحْصُلُ منه الدَّلالَةُ على ترَاضِيهِما، فيَصِحُّ، كما لو تَقَدَّمَ الإِيجابُ. والثّانِيَةُ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلم يَصِحَّ مع تَقَدُّمِ القَبُولِ، كالنِّكاحِ، ولأنَّ القَبُولَ مَبْنِىٌّ على الإيجَابِ، فإذا لم يَتَقَدَّمِ الإِيجابَ فقد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أتَى بالقَبُولِ في غيرِ مَحَلِّه، فوُجُودُه كعَدَمِه. فإن تَقَدَّمَ بلَفْظِ الطَّلَبِ، فقال: بِعْنِى ثَوْبَكَ بكذا. فقال: بِعْتكَ. ففيه رِوايَتان أيضًا؛ إحْداهما، يَصِحُّ؛ لِما ذَكرنا. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعىِّ. والثانِيَةُ، لا يَصِحُّ. وهو قَوْلُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لو تَأخَّرَ عن الإِيجابِ، لم يَصِحَّ به البَيْعُ، فلم يَصِحَّ إذا تَقَدَّمَ، كلَفْظِ الاسْتِفْهامِ، ولأنَّه عَقْدٌ عَرِىَ عن القَبُولِ، فلمْ يَنْعَقِدْ، كما لَوْ لم يَطْلُبْ. فأمّا إن تَقَدَّمَ بلَفْظِ الاسْتِفْهامِ، مِثْلَ أن يَقُول: أتَبِيعُنِى ثَوْبَكَ بكذا؟ فيَقُولُ: بِعْتُك. لَمْ يَصِحَّ بحالٍ. نَصَّ عليه أحمدُ.

1549 - مسألة: (وإن تراخى القبول عن الإيجاب، صح ما داما

وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الإِيجَابِ، صَحَّ مَا دَامَا في الْمَجلِسِ وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه يَقُولُ أبو حَنِيفَةَ، والشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم؛ لأنَّ ذلك لَيْسَ بقَبُوَلٍ ولا اسْتِدْعاءٍ. 1549 - مسألة: (وإن تَراخَى القَبُولُ عن الإِيجابِ، صَحَّ ما داما

1550 - مسألة: (الثانية، المعاطاة)

يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثّانِيَةُ، الْمُعَاطَاةُ، مِثْلَ أن يَقُولَ: أعْطِنِى بِهَذَا الدِّينَارِ خُبْزًا. فَيُعْطِيَهُ مَا يُرْضِيهِ. أو يَقُولَ الْبَائِعُ: خُذْ هَذَا بِدِرْهَم. فَيَأْخُذَهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا في الشَّئِ الْيَسِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في المَجْلِسِ ولم يَتَشاغَلا بما يَقْطَعُه، وإلَّا فلا) لأنَّ حالَةَ المَجْلِس كحالَةِ العَقْدِ؛ بدَلِيلِ أنَّه يَكْتَفِى بالقَبْضِ فيه لِما يَشْتَرِطُ قَبْضَه. فإن تَفَرَّقا عن المَجْلِسِ، أو تَشاغَلا بما يَقْطَعُه، لم يَصِحَّ؛ لأن العَقْدَ إنَّما يتمُّ بالقَبُولِ، فلم يَتِمَّ مع تَباعُدِه عنه، كالاسْتِثْناءِ، والشَّرْطِ، وخَبَرِ المُبْتَدَأ الَّذى لا يَتِمُّ الكَلَامُ إلَّا به. 1550 - مسألة: (الثّانِيَةُ، المُعاطاةُ) وهو (أن يَقُولَ: أعْطِنى بهذا الدِّينارِ خُبْزًا. فيُعْطِيَه ما يُرْضِيهِ. أو يَقُولَ البائِعُ: خُذْ هذا بدِرْهَمٍ. فيَأْخُذَه. وقال القاضِى: لا يَصِحُّ هذا إلَّا في الشَّئِ اليَسِيرِ) نَصَّ أحمدُ على صِحَّةِ هذا البَيْعِ، في مَن قال لخَبّازٍ: كيف تَبِيعُ الخُبْزَ؟ قال: كذا بدِرْهَمٍ. قال: زِنْهُ، وتَصَدَّقْ به. فإذا وَزَنَه، فهو عليه. وقَوْلُ مالِكٍ نَحْوٌ مِن هذا، فإنَّه قال: يَقَعُ البَيْعُ بما يَعْتَقِدُه النّاسُ بَيْعًا. وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِح في خَسائِسِ الأشْياءِ. وهو قَوْلُ القاضِى؛ لأنّ العُرْفَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما جَرَى به في الشَّىْءِ اليَسِيرِ. ومَذْهَبُ الشافعىِّ، أنَّ البَيْعَ لا يَصِحُّ إلَّا بإيجابٍ وقَبُولٍ. وذَهَب بَعْضُ أصْحابِه إلى مِثْلِ قَوْلِنا. ولَنا، أن اللَّهَ تعالى أحَلَّ البَيْعَ، ولمْ يُبَيِّن كَيْفِيَّته، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فيه إلى العُرْفِ، كما رُجِعَ إليه في القَبْضِ والإِحْرازِ والتَّفْرِيقِ، والمُسْلِمُون في أسْواقِهم وبِياعاتِهم على ذلك، ولأنّ البَيْعَ كان مَوجُودًا بينَهم مَعْلُومًا عندَهم، وإنَّما عَلَّقَ الشَّرْعُ عليه أحْكامًا، وأبْقاه على ما كان، فلا يَجُوزُ تَغْيِيرُه بالرَّأْىِ والتَّحَكُّمِ، ولَمْ يُنْقَلْ عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا عن أصْحابِه -مع كثْرةِ وُقُوعِ البَيْعِ بينَهم- اسْتِعْمالُ الإِيجابِ والقَبُولِ، ولو اسْتَعْمَلُوا ذلك في بِياعاتِهم لنُقِلَ نَقْلًا شائِعًا، ولو كان ذلك شَرْطًا، لوَجَبَ نَقْلُه، ولَمْ يُتَصَوَّرْ منهم إهْمالُه والغَفْلَةُ عن نَقْلِه، ولأنَّ البَيْعَ مِمّا تَعُمُّ به البَلْوَى، فلو اشْتُرِطَ الإِيجابُ والقَبُولُ لبَيَّنَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيانًا عامًّا، ولم يَخْفَ حُكْمُه؛ لأنَّه يُفْضِى إلى وُقُوعِ العُقُودِ الفاسِدَةِ كَثِيرًا، وأكْلِهمُ المالَ بالباطِلِ، ولم يُنْقَلْ ذلك عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أحدٍ مِن أصْحابِه، فيما عَلِمْناه، ولأنَّ النّاسَ يَتَبايَعُون بالمُعاطاةِ في كلِّ عَصْرٍ، ولم يُنْقَلْ إنْكارُه قبلَ مُخالِفِينا، فكان إجْماعًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الإِيجابَ والقَبُولَ إنَّما يُرَادانِ للدَّلالَةِ [على التَّراضِى] (¬1)، فإذا وُجِدَ ما يَدُلُّ عليه مِن المُساوَمَةِ والتَّعاطِى، قام مَقامَهما، وأجْزَأ عنهما؛ لعَدَمِ التَّعَبُّدِ فيه. فصل: وكذلك الحُكْمُ في الإِيجابِ والقَبُولِ، في الهِبَةِ والهَدِيَّةِ والصَّدَقَةِ، فإنَّه لم يُنْقَلْ عنِ النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أحَدٍ مِن أصْحابِه اسْتِعْمالُ ذلك فيه، وقد أُهْدِىَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن الحَبَشَةِ وغيرِها، وكان ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسُ يَتَحَرَّوْن بهَداياهم يومَ عائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورَوَى البُخارِىُّ (¬2) عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا أُتِى بطَعامٍ سَأل عنه: «أهَدِيَّة أمْ صَدَقَةٌ؟». فإن قِيلَ: صَدَقَةٌ. قال لأصْحابِه: «كُلُوا». ولم يَأْكُلْ، وإن قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَب بيَدِه، فأكَلَ معهم. وفى حديثِ سَلْمانَ (¬3)، رَضِىَ اللَّهُ عنه، حينَ جاء إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتَمْرٍ، فقال: هذا شَىْءٌ مِن الصَّدَقَةِ، رَأيتُك أنت وأصْحابَكَ أحَقَّ النّاسِ به. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصْحابِه: «كُلُوا». ولم يَأْكُلْ، ثم أتاه ثانِيَةً بتَمْرٍ، فقال: رَأيْتُك لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وهذا شَىْءٌ أهْدَيْتُه لك. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «بِسْم اللَّهِ». وأكَلَ. ولم يُنْقَلْ قَبُولٌ، ولا أمْرٌ بإيجابٍ. وإنَّما سَأل ليَعْلَمَ، هل ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قبول الهدية، وباب من أهدى إلى صاحبه فتحرى بعض نسائه دون بعض، من كتاب الهبة، وفى: باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح البخارى 3/ 203 - 205، 5/ 37. ومسلم، في: باب في فضل عائشة رضى اللَّه تعالى عنها، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1891. كما أخرجه الترمذى، في: باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 255. والنسائى، في: باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض، من كتاب عشرة النساء. المجتبى 7/ 64. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 293. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 297. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 438، 439.

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ؛ أَحَدُهَا، التَّرَاضِى بِهِ؛ وَهُوَ أنْ يَأْتِيَا بِهِ اخْتِيَارًا، فَإنْ كَانَ أحَدُهُمَا مُكْرَهًا، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ هو صَدَقَةٌ أو هَدِيَّةٌ؟ ولو كان الإِيجابُ والقَبُولُ شَرْطًا في هذه العُقُودِ لشَقَّ ذلك، ولكانت أكْثَرُ العُقُودِ فاسِدَةً، وأكْثَرُ أمْوالِهم مُحَرَّمَةً. وهذا ظاهِرٌ إن شاء اللَّهُ تعالى. (فصل) قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (ولا يَصِحُّ البَيْعُ إلَّا بشُرُوطٍ سَبْعَةٍ؛ أحَدُها، التَّراضِى به؛ وهو أن يَأْتِيا به اخْتِيارًا) لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. (فإنْ كان أحَدُهما مُكْرَهًا، لمْ

إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِحَقٍّ؛ كَالَّذِى يُكْرِهُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحَّ) لعَدَمِ الشَّرْطِ (إلَّا أن يُكْرَهَ بحَقٍّ؛ كالذى يُكْرِهُه الحاكِمُ على بَيْعِ مالِه لوَفاءِ دَيْنِه) فيَصِحُّ؛ لأنَّه قَوْلٌ حُمِلَ عليه لحقٍّ، فصَحَّ، كإسْلامِ المُرْتَدِّ.

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، أَنْ يَكُونَ العَاقِدُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ؛ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: الثّانِى، أن يَكُونَ العاقِدُ جائِزَ التَّصَرُّفِ؛ وهو المُكَلَّفُ الرَّشِيدُ) فلا يَصِحُّ مِن غيرِ عاقِلٍ؛ كالطِّفْلِ، والمَجْنُونِ، والمُبَرْسَمِ، والسَّكْرانِ، والنّائِمِ؛ لأنَّه قولٌ يُعْتَبَرُ له الرِّضا، فلم يَصِحَّ مِن غيرِ عاقِلٍ، كالإِقْرارِ. وسَواءٌ

إِلَّا الصَّبِىَّ الْمُميِّزَ، وَالسَّفِيهَ؛ فَإنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا بِإذْنِ وَلِيِّهِمَا، في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِلَّا في الشَّىْءِ الْيَسِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أذِنَ له وَلِيُّه، أو لم يَأذَنْ. فأمّا (الصَّبِىُّ المُمَيِّزُ، والسَّفِيهُ، فيَصِحُّ تَصَرُّفُهما بإذْنِ ولِيِّهما، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. ولا يَصِحُّ بغَيْرِ إذْنِهما، إلَّا في الشئِ اليَسِيرِ) يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِىِّ المُمَيِّزِ، بالبَيْعِ والشِّراءِ فيما أذِنَ له الوَلِىُّ فيه، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. وهو قولُ أبى حَنِيفة. والأُخْرَى، لا يَصِحُّ حتى يَبْلُغَ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فأشْبَهَ غيرَ المُمَيِّزِ. ولأنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُ الوُقُوفُ منه على الحَدِّ الذى يَصِحُّ به التَّصَرُّفُ؛ لخَفائِه وَتَزايُدِه تَزَايُدًا خَفِىَّ التَّدْرِيجِ، فجَعَلَ الشّارِعُ له ضابِطًا، وهو البُلُوغُ، فلا تَثْبُت له أحْكَامُ العُقَلاءِ قبلَ وجُودِ المَظِنَّةِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1). مَعْناهُ، اخْتَبِرُوهُم لتَعْلَمُوا رُشْدَهُمْ، وإنَّما يَتَحَقَّقُ ذلك بتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إليهم مِن البَيْعِ والشِّراءِ؛ ليُعْلَمَ هل تَغَيَّرَ (¬2) أو لا، ولأنَّه عاقِلٌ مُمَيِّزٌ مَحْجُورٌ عليه، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُه بإذْنِ وَلِيِّه، كالعَبْدِ. وفارَقَ غيرَ المُمَيِّزِ، فإنّه لا تَحْصُلُ له المَصْلَحَةُ بتَصَرُّفِه؛ لعَدَمِ تَمْيِيزِه ومَعْرِفَتِه، ولا حاجَةَ إلى اخْتِبارِه؛ لأنَّه قد عُلِمَ حالُه. وقَوْلُهم: إنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عليه. ¬

(¬1) سورة النساء 6. (¬2) في ر 1: «يغبن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قلنا: يُعْلَمُ ذلك بتَصَرُّفاتِه وجَرَيانِها على وَفْقِ المَصْلَحَةِ، كما يُعْلَمُ في حَقِّ البالِغِ، فإنَّ مَعْرِفَةَ رُشْدِه شَرْطٌ لدَفْعِ مالِه إليه وصِحَّةِ تَصَرُّفِه، كذا ههُنا. فأمّا إنْ تَصَرَّفَ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه، لم يَصِحَّ تَصَرُّفُه، إلَّا في الشئِ اليَسِيرِ. وكذلك تَصَرُّفُ غيرِ المُمَيِّزِ؛ لِما رُوِى أنَّ أبا الدَّرْداءِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، اشْتَرَى مِن صَبِىٍّ عُصْفُورًا، فأرْسَلَه. ذَكَرَه ابنُ أبى مُوسَى. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ، ويَقِفَ على إجازَةِ الوَلِىِّ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ. وهو مَبْنِىٌّ على تَصَرُّفِ الفُضُولِىِّ، وسَنَذْكُرُه، إنْ شاء اللَّهُ تعالى. وكذلك الحُكْمُ في تَصَرُّفِ السَّفِيهِ بإذْنِ وَلِيِّه، فيه رِوايَتان؛ إحْدَاهما، يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فمَلَكَه بالإِذْنِ، كالنِّكاحِ، وقِياسًا على الصَّبِىِّ المُمَيِّزِ، يُحَقِّقُ هذا أنَّ الحَجْرَ على الصَّبِىِّ أعْلَى مِن الحَجْرِ عليه، فههُنا أوْلَى بالصِّحَّةِ، ولأنَّنا لو مَنَعْنا تَصَرُّفَه بالإِذْنِ، لم يَكُنْ لنا طَرِيقٌ إلى مَعْرِفَةِ رُشْدِه واخْتِبارِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِيَةُ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الحَجْرَ عليه لتَبْذِيرِه وسُوءِ تَصَرُّفِه، فإذا أذِنَ له، فقد أذِنَ فيما لا مَصْلَحَةَ فيه، فلم يَصِحَّ، كما لو أذِنَ له في بَيْعِ ما يُساوِى عَشْرَةً بخَمْسَةٍ. وللشافعىِّ وَجْهان كهاتين. ويَصِحُّ تَصَرُّفه في الشئِ اليَسِيرِ، كالصَّبِىِّ.

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَالًا؛ وَهُوَ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ، وَدُودِ الْقَزِّ وَبَزْرِهِ، وَالنَّحْلِ مُنْفرِدًا، وَفِى كُوَارَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل، الثّالِثُ، أن يَكونَ المَبِيعُ مَالًا؛ وهو ما فيه مَنْفَعَةٌ مُباحَةٌ لغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فيَجُوزُ بَيْعُ البَغْلِ، والحِمارِ، ودُودِ القَزِّ وبَزْرِه، والنَّحْلِ مُنْفَرِدًا، وفى كُواراتِه) (¬1) قَوْلُه: لغيرِ ضَرُورَةٍ. احْتِرازٌ مِن المَيْتَةِ، والمُحَرَّماتِ التى تُباحُ في حالِ المَخْمَصَةِ، والخَمْرُ يُباحُ دَفْعُ اللُّقْمَةِ بها، فكُلُّ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ يَجُوزُ اقْتِناؤْها والانْتِفَاعُ بها في غيرِ حالِ ¬

(¬1) كُوارة النحل؛ بالضم والتخفيف، والتثقيل لغة: عسلها في الشمع، وقيل: بيتها إذا كان فيه العسل. وقيل: هو الخلية. وكسر الكاف مع التخفيف لغة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّرُورَةِ، يَجُوزُ بَيْعُها، إلَّا ما اسْتَثْناهُ الشَّرْعُ، كالكَلْبِ، وأُمِّ الوَلَدِ، والوقفِ؛ لأنَّ المِلْكَ سَبَبُ إطْلاقِ التَّصَرُّفِ. والمَنْفَعَةُ المُبَاحَةُ يُباحُ له اسْتِيفاؤُها (¬1)، فجاز له أخْذُ عِوَضِها، وأُبِيِحَ لغَيْرِه بَذْلُ مالِه فيها تَوَصُّلًا إليها، ودَفْعًا لحاجَتِه بها، كسائِرِ ما أُبِيحَ نفْعُه، وسَواءٌ في ذلك ما كان طاهِرًا؛ كالثِّيَابِ، والعَقارِ، وبَهِيمَةِ الأنْعامِ، والخَيْلِ، والصَّيُودِ (¬2)، أو مُخْتَلَفًا في نَجاسَتِه؛ كالبَغْلِ، والحِمارِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. ويَجُوزُ بَيْعُ الجَحْشِ الصَّغِيرِ، والفَهْدِ الصَّغِيرِ، وفَرْخِ البازِى إذا قلْنَا بجَوازِ بَيْعِها؛ لأنَّه يُنْتَفَعُ به في المالِ، فأشْبَهَ طِفْلَ العَبِيدِ. ¬

(¬1) في م: «استبقاؤها». (¬2) الماهر في الصيد. يقال: كلب صيود، وصقر صيود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجوزُ بَيْعُ دُودِ القَزِّ وبَزْرِه (1). وقال أبو حنيفةَ: إن كان مع دُودِ القَزِّ قَزٌّ، جاز بَيْعُه، وإلَّا فلا؛ لأنَّه لا يُنْتَفَعُ بعَيْنِه، فهو كالحَشَراتِ. وقِيلَ: لا يَجُوزُ بَيْعُ بَزْرِه (¬1). ولَنا، أنّه حَيَوانٌ طاهِرٌ، يَجُوزُ اقْتِناؤُه لتملُّك ما يَخْرُجُ منه، أشْبَهَ البَهائِمَ، ولأنَّ الدُّودَ وبَزْرَه طاهِرٌ، مُنْتَفَعٌ به، فجاز بَيْعُه، كالثَّوْبِ. وقولُه: لا يُنْتَفَعُ بعَيْيه. يَبْطُلُ بالبَهائِمِ التى لا يَحْصُلُ منها نَفْعٌ سِوَى النِّتاجِ، ويُفارِقُ الحَشَراتِ التى لا نَفْعَ فيها أصْلًا، فإنَّ نَفْعَ هذه كَثِيرٌ؛ لأنَّ الحَرِيرَ الذى هو أشْرَفُ الملابِسِ إنَّما يَحْصُلُ منها. ¬

(¬1) في م: «بذره». قال في المصباح: وقولهم لبعض الدود: بزر القز. مجاز على التشبيه ببزر البقل، لأنه ينبت كالبقل. المصباح المنير (ب ز ر).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ إذا شاهَدَها مَحْبُوسَةً، بحيث لا يُمْكِنُها أن تَمْتَنِعَ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ بَيْعُها مُنْفَرِدَةً؛ لِما (¬1) ذَكَر في دُودِ القَزِّ. ولَنا، أنَّه حَيَوانٌ طاهِرٌ، يَخْرُجُ مِن بَطنِه شَرابٌ فيه مَنافِعُ للنّاسِ، فجاز بَيْعُه، كبَهِيمَةِ الأنْعامِ. واخْتَلَفَ أصْحابُنا في بَيْعِها في كُوَاراتِها، فقال القاضِى: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ مُشاهَدَتُها جَمِيعِها، ولأنَّها لا تَخْلُو مِن عَسَلٍ يكونُ مَبِيعًا معها، وهو مَجْهُولٌ. وقال أبو الخَطّابِ: يَجُوزُ بَيْعُها في كُوَاراتِها، ومُنْفَرِدَةً عنها، فإنّه يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُها في كُوَاراتِها إذا فُتِحَ رَأْسُها، ويُعْرَفُ كَثْرَتُه مِن قِلَّتِه، وخَفاءُ بَعْضِه لا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِه، كالصُّبْرَةِ، وكما لو كان في وِعاءٍ، فإنّ بَعْضَه يكونُ على بَعْضٍ، فلا يُشاهَدُ إلَّا ظاهِرُه، والعَسَلُ يَدْخُلُ في البَيْعِ تَبَعًا، فلا تَضُرُّ جَهالَتُهِ، كأَساساتِ ¬

(¬1) في م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِيطانِ. فإن لم يُمْكِنْ مُشاهَدَتُه؛ لكَوْنِه مَسْتُورًا بأقْراصِه، ولم يُعْرَفْ، لم يَجُزْ بَيْعُه لجَهالَتِه.

1551 - مسألة: (ويجوز بيع الهر، والفيل،

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْهِرِّ، وَالْفِيل، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفى بَيْعِ العَلَقِ (¬1) التى يُنْتَفَعُ بها، كالتِى تُعَلَّقُ على صاحِبِ الكَلَفِ (¬2)، فَتَمُصُّ الدَّمَ، والدِّيدانِ التى تُتْرَكُ في الشِّصِّ، فيُصادُ بها السَّمَكُ، وَجْهان؛ أصَحُّهما جَوازُ بَيْعِها؛ لحُصُولِ نَفْعِها، فهى كالسَّمَكِ. والثّانِى، لا يَجُوزُ بَيْعُها؛ لأنَّها لا يُنتفَعُ بها إلَّا نادِرًا، فأشْبَهَت ما لا نَفْعَ فيه. 1551 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيْعُ الهِرِّ، والفِيلِ، ¬

(¬1) العلق: دويدة حمراء تكون في الماء، تعلق بالبدن. (¬2) الكلف: لون يعلو الجلد، فيغير بشرته.

وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِى تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إِلَّا الْكَلْبَ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِىُّ. وَالأُخْرَى، لَا يَجُوزُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسِباعِ البَهائِمِ التى تَصْلُحُ للصَّيْدِ، في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إلَّا الكَلْبَ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ. والأُخْرَى، لا يَجُوزُ. اخْتارَها أبو بَكْرٍ) يَجُوزُ بَيْعُ الهِرِّ. وبه قال ابنُ عباسٍ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِىُّ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى. وعن أحمدَ، أنَّه كَرِه ثَمَنَها. ورُوِىَ ذلك عن أبى هُرَيْرَةَ، وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، وجابرِ ابنِ زيدٍ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لِما روَى مُسْلِمٌ (¬1) عن جابِرٍ، أنَّه سُئِلَ عن ثَمَن السِّنَّوْرِ، فقال: زَجَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك. وفى لَفْظٍ، أنَّ النبىَّ ¬

(¬1) في: باب تحريم ثمن الكلب. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ثَمَنِ السِّنَّوْرِ. رَواه أبو داودَ (¬1). ولَنا، أنَّه حَيَوانٌ يُباحُ اقْتِنَاؤُه مِن غيرِ وعِيدٍ في حَبْسِه، فجازَ بَيْعُه، كالبَغْلٍ والحِمارِ، ويُمْكِنُ حَمْلُ الحَدِيثِ على غيرِ المَمْلُوكِ منها، وعلى ما لا نفعَ فيه منها، بدَلِيل ما ذَكَرنا. فصل: ويَجُوزُ بَيْعُ الفِيلِ، وسِباعِ البَهائِمِ، والطَّيْرِ الذى يَصْلُحُ للصَّيْدِ؛ كالفَهْدِ والصَّقْرِ والبَازِى والعُقابِ، والطَّيْرِ المَقْصُودِ صَوْرتُه؛ كالهَزَارِ (¬2) والبُلْبُلِ والببغَةِ، وأَشْباهِ ذلك. وبهذا قال الشافِعِىُّ. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزِيزِ، وابنُ أبى موسى: لا يَجُوزُ بَيْعُ الفَهْدِ والصَّقْرِ والفِيلِ ونحوِها؛ لأنَّها نَجِسَةٌ، فلم يَجُزْ بَيْعُها، كالكَلْبِ. ولَنا، أنّه حَيَوانٌ يُباحُ ¬

(¬1) في: باب في ثمن السنور، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 250. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 279، 280. (¬2) الهزار: طائر حسن الصوت، قال له: هزار دستان. (فارسى معرب).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اقْتِناؤُه مِن غيرِ وعيدٍ في حَبْسِه، فأُبِيحَ بَيْعُه، كالبَغْلِ والحمارِ. وما ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بالبَغْلِ والحمارِ، وحُكْمُهما حُكْمُ سِباعِ البَهائِمِ في الطَّهارَةِ والنَّجَاسَةِ وإباحَةِ الاقْتِناءِ والانْتِفاعِ. وأَمَّا الكَلْبُ، فإنَّ الشَّرْعَ تَوَعَّدَ على اقْتِنائِه وحَرَّمَهُ، إلَّا في حالِ الحاجَةِ، فَصَارَتْ إبَاحَتُه ثابتَةً بطرَيقِ الضَّرُورَةِ، ولأنَّ الأصْلَ إباحَةُ البَيْعِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1). خرجَ (¬2) منه ما اسْتَثْناهُ الشَّرْعُ لمعانٍ غيرِ مَوْجُودَةٍ في هذا، ¬

(¬1) سورة البقرة 275. (¬2) في م: «حرم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَيَبْقَى على أَصْلِ الإِبَاحَةِ. فإن كان الفَهْدُ والصَّقْرُ ونحوُهما ليس بمُعَلَّمٍ، ولا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، لم يَجُزْ بَيْعُه؛ لعَدَمِ النَّفْعِ به. وإن أمْكَنَ تَعْلِيمُه، جازَ بَيْعُه؛ لأنَّ مآله إلى الانْتِفاعِ، أشْبَهَ الجَحْشَ الصَّغِيرَ. فأمّا ما يُصادُ عليه، كالبُومَةِ التى يَجْعَلُها (¬1) شُبَاشًا (¬2)؛ لتَجْمَعَ الطَّيْرَ إليها، فَيَصِيدَه الصَّيّادُ، فيَحْتَمِلُ جوازُ بَيْعِها للنَّفْعِ الحاصِلِ منها، ويَحْتَمِلُ المَنْعُ؛ لأنَّ ذلك مَكْرُوهٌ لِما فيه مِن تَعْذِيبِ الحَيَوانِ. وكذلك اللَّقْلَقُ (¬3) ونحوُه. ¬

(¬1) في م: «يجعل عليها». (¬2) قال الخفاجى في شفاء الغليل 139: شباش: هو أن يوضع الطائر في الشرك ليصاد به طائر آخر، قاله الباخرزى في الدمية، ولم يبيّن أصله ولغته بأكثر من هذا. وقال الجاحظ: البومة ذليلة بالنهار ردية النظر، وإذا كان الليل لم يقو عليها شئ من الطير، والطير كلها تعرف البومة بذلك، فهى تطير حول البومة وتضربها وتنتف ريشها، ومن أجل ذلك صار الصيادون ينصبونها للطير. الحيوان 2/ 50. (¬3) اللقلق: طائر من الطيور القواطع، كبير، طويل الساقين والعنق والمنقار، أحمر الساقين والرجلين والمنقار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا بَيْضُ ما لا يُؤْكَلُ لَحْمُه مِن الطَّيْرِ، فإنْ لم يَكُنْ فيه نَفعٌ، لم يَجُزْ بَيْعُه، طاهِرًا كان أو نَجِسًا. وإن كان يُنْتَفَعُ به، بأن يَصِيرَ فَرْخًا، وكان طاهِرًا، جازَ بَيْعُه؛ لأَنَّه طاهِرٌ مُنْتَفعٌ به، أَشبَهَ أصْلَه، وإن كان نَجِسًا، كبَيْضِ البازِىِّ والصَّقْرِ ونَحوِه، فحُكْمُه حُكْمُ فَرْخِه. وقال القاضِى: لا يَجُوزُ بَيْعُه؛ لنَجَاسَتِه، وكَوْنِه لا يُنْتَفَعُ به في الحالِ. وما ذَكَرَ مُلْغًى بفَرْخِه، وبالجَحْش الصَّغِيرِ. فصل: قال أحمدُ: أكْرَهُ بيعَ القِرْدِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: هذا مَحْمُولٌ على بَيْعِه للإِطافَةِ به واللَّعِبِ. فأَمَّا بَيْعُه لمَنْ يَنْتَفِعُ به لحِفْظِ المَتَاعِ والدُّكَّانِ ونحوِه، فَيَجُوزُ، لأَنَّه كالصَّقْرِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وقِياسُ قَوْلِ أبى بَكْر وابنِ أبى مُوسَى المَنْعُ مِن بَيْعِه مُطْلَقًا.

1552 - مسألة: (ويجوز بيع العبد المرتد والمريض. وفى بيع الجانى والقاتل فى المحاربة، ولبن الآدميات وجهان)

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ وَالْمَرِيضِ. وَفِى بَيْع الجَانِى والْقَاتلِ في الْمُحَارَبَةِ، وَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1552 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيْعُ العَبْدِ المُرْتَدِّ والمَرِيضِ. وفى بَيْعِ الجانِى والقاتِلِ في المُحارَبَةِ، ولَبَنِ الآدَمِيّاتِ وَجْهانِ) حُكْمُ بيْعِ المُرْتدِّ حُكْمُ القاتِل؛ في صِحَّةِ بَيْعِه، وسائِر أحْكَامِهِ. وبَيْعُه جائِزٌ؛ لأنَّ قَتْلَه غيرُ مُتَحَتِّمٍ؛ لاحْتِمالِ رُجُوعِه إلى الإِسْلامِ، ولأَنَّه مَمْلُوكٌ مُنْتَفعٌ به، وخَشْيَةُ هَلاكِه لا تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِه، كالمَرِيضِ، فإنّا لا نَعْلَمُ خِلافًا في صِحَّةِ بَيْعِ المَرِيضِ. فصل: ويَصِحُّ بَيْعُ العَبْدِ الجانِى، في أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، سَواءٌ كانت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جِنَايَتُه عَمْدًا أو خَطَأً، على النَّفْسِ أو ما دُونَها، مُوجِبَةً للقِصَاصِ أو غيرَ مُوجِبَةٍ. وبهذا قال أبو حَنِيفةَ، والشّافِعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ. وقال في الآخرِ: لا يَصِحُّ بَيْعُه؛ لأنَّه تَعَلَّقَ برَقَبَتِه حَقُّ آدَمِىٍّ، فمَنَعَ صِحَّةَ بَيْعِه، كالرَّهْنِ، بل حَقُّ الجِنايَةِ آكَدُ؛ لأنَّها تُقَدَّمُ على حَقِّ المُرْتهِنِ. ولَنا، أَنّه حَقٌّ غيرُ مُسْتَقِرٍّ في الجانِى، يَمْلِكُ أَداءَه مِن غيرِه، فلم يَمْنَعِ البَيْعَ، كالزَّكَاةِ، أو حَقٌّ ثَبَتَ بغيرِ رِضَا سَيِّدِه، فلم يَمْنَعْ بَيْعَه، كالدَّيْنِ في ذِمَّتِه، أو تَصرُّفٌ في الجَانِى، فجازَ، كالعِتْقِ. وإنْ كان الحَقُّ قِصاصًا، فهو يُرْجَى سَلَامَتُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُخْشَى تَلَفُه، وذلك لا يَمْنَعُ، كالمريضِ. أَمّا الرَّهْنُ، فإنَّ الحَقَّ مُتَعَلِّقٌ فيه، لا يَمْلِكُ سَيِّدُه إبْدالَه، ثَبَتَ الحَقُّ فيه برِضَاهُ وَثِيقَةً للدَّيْنِ، فلو أَبْطَلَه بالبَيْعِ، سَقَطَ حَقُّ الوَثِيقَةِ الذى الْتَزَمَه برِضَاهُ واخْتِيارِه. فصل: فأمَّا القَاتِلُ في المُحارَبَةِ، فإنْ تابَ قبلَ القُدْرَةِ عليه، فهو كالجانِى. وإن لم يَتُب حتى قُدِرَ عليه، فقال أبو الخَطّابِ: هو كالقَاتِل في غيرِ مُحارَبَةٍ؛ لأَنَّه عَبْدٌ قِنٌّ يَصِحُّ إعْتاقُه، ويَمْلِكُ اسْتِخْدامَه، فصَحَّ بَيْعُه كغَيْرِ القاتِلِ، ولأنَّه يُمْكِنُه الانْتِفَاعُ به إلى حينِ قَتْلِه، ويَعْتِقُه فيجُرُّ به ولاءَ أوْلادِه، فجازَ بَيْعُه، كالمَرِيضِ المَأْيُوسِ مِن بُرْئِه. وقال القاضِى: لا يَصِحُّ بَيْعُه؛ لأنَّه تَحَتَّمَ قَتْلُه وإتْلافُه وإذْهابُ مالِيَّتِه، وحَرُمَ إبْقاؤُه، فَصارَ بمَنْزِلَةِ ما لا يُنْتَفَعُ به مِن الحَشَرَاتِ والمَيْتاتِ، وهذه المَنْفَعَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَسِيرَةُ مُفْضِيَةٌ به إلى قَتْلِه، لا يَتَمَهَّدُ بها مَحلًّا للبَيْعِ، كالمَنْفَعَةِ الحاصِلَةِ مِن المَيْتَةِ لسَدِّ رَمَقٍ، أو إطْعامِ كَلْبٍ. والأوَّلُ أصَحُّ، فإنّه كان مَحلًّا للبَيْعِ، والأصْلُ بَقاءُ ذلك فيه، وانْحِتامُ إتْلافِه لا يَجْعَلُه تالِفًا؛ بدَلِيل أنَّ أَحْكامَ الحيَاةِ من التَّكْلِيفِ وغيرِه لا تَسْقُطُ عنه، ولا تَثْبُتُ أحْكامُ المَوْتَى له؛ مِن إِرثِ ما لِه، ونُفُوذِ وَصِيَّتِه، وغيرِها، ولأنَّ خُرُوجَه عن حُكْمِ الأصْلِ لا يَثْبُتُ إلَّا بدَلِيلٍ، ولا نَصَّ فيه ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الحَشَراتِ والمَيْتاتِ؛ لأنَّ تلك لم يكُنْ فيها مَنْفعَةٌ فيما مَضَى، ولا في الحالِ، وعلى أنّ هذا التَّحَتُّمَ (¬1) يُمْكِنُ زَوالُه؛ لزَوالِ ما يَثْبُتُ به؛ مِن الرُّجُوعِ عن الإِقْرارِ، والرُّجُوعِ مِن الشُّهودِ، ولو لم يُمْكِنْ ¬

(¬1) في م: «المحتم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوالُه، فأَكْثَرُ ما فيه تَحَقُّقُ تَلَفِه، وهذا يَجْعَلُه كالمَرِيضِ المَأْيُوسِ مِن بُرْئِه، وبَيْعُه جائِزٌ. فصل: فأمَّا بَيْعُ لَبَنِ الآدَمِيّاتِ، فَرُوِيَتِ الكراهَةُ فيه عن أحمدَ. واخْتَلَفَ أصْحَابُنا في جَوازِه، [فظاهِرُ كَلام الخِرَقِىِّ جوازُه] (¬1). وهو قولُ ابنِ حامِدٍ، ومَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أصْحابِنَا إلى ¬

(¬1) سقط من: م.

1553 - مسألة: (وفى جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله، روايتان)

وَفِى جَوَازِ بَيْعَ الْمُصْحَفِ وَكَرَاهَةِ شِرَائِهِ وَإِبْدَالِهِ، رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرِيمِ بَيْعِه. وهو مَذْهَبُ أبى حَنِيفَةَ، ومالِكٍ؛ لأنّه مائِعٌ خارِجٌ مِن آدَمِيَّةٍ، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كالعَرَقِ، ولأنَّهُ جُزْءٌ مِن آدَمِىٍّ، فلم يَجُزْ بَيْعُه، أشبَهَ سائِرَ أجزائِه. والأَوَّل أصَحُّ؛ لأنَّه طاهِرٌ مُنْتَفعٌ به، فجازَ بَيْعُه، كلَبَنِ الشّاةِ، ولأنَّه يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه في إجارَةِ الظِّئْرِ، فأَشْبَهَ المنافِعَ، ويُفارِقُ العَرَقَ، فإنَّه لا نَفْعَ فيه، ولذلك لا يُباعُ عَرَقُ الشَّاةِ، ويُبَاعُ لَبَنُها. وسائِرُ أجْزاءِ الآدَمِىِّ يَجُوزُ بَيْعُها، فإنَّه يَجُوزُ بَيْعُ العَبْدِ والأمَةِ، وإِنّما حَرُمَ بَيْعُ الحُرِّ؛ لأنَّهُ غيرُ مَمْلُوكٍ، وحَرُمَ بَيْعُ العُضْوِ المَقْطُوعِ؛ لأَنَّه لا نَفْعَ فيه. 1553 - مسألة: (وفى جَوازِ بَيْعِ المُصْحَفِ وكَراهَةِ شِرِائِه وإبْدالِه، رِوَايَتَانِ) قال أحمدُ: لا أعْلَمُ في بَيْعِ المَصاحِفِ رُخْصَةً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَخَّصَ في شِرائِها، وقال: الشِّرَاءُ أهْوَنُ. وممَّنْ كَرِهَ بَيْعَها ابنُ عمرَ، وابنُ عَبّاسٍ، وأبو مُوسَى، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وإسْحاقُ. قال ابنُ عمرَ: ودَدْتُ أنَّ الأَيْدِىَ تُقْطَعُ في بَيْعِها (¬1). وقال أبو الخَطّابِ: يَجُوزُ بَيْعُ المُصْحَفِ، مع الكَرَاهَةِ. وهى رِوَايَةٌ عن أحمدَ؛ لأنَّه مُنْتَفَعٌ به، فأَشْبَهَ سائِرَ كُتُبِ العِلْمِ. وهل يُكْرَهُ شِراؤُه وإِبْدالُه؟ على رِوَايَتَيْنِ. ورَخَّصَ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 16.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بَيْعِها الحَسَنُ، والحَكَمُ، وعِكْرِمَةُ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ لأنَّ البَيْعَ يَقَعُ على الوَرَقِ والجِلْدِ، وبَيْعُهُ مُبَاحٌ. ولَنا، قَوْلُ الصَّحَابَةِ، ولم نَعْلَمْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم، ولأنَّه يَشْتَمِلُ على كَلامِ اللَّهِ تعالى، فَتَجِبُ صِيانَتُهُ عن البَيْعِ والإبتذالِ. أمّا الشِّراءُ فهو أسْهَلُ؛ لأنَّه اسْتِنْقاذٌ للمُصْحَفِ، وبَذْلٌ لمالِه فيه، فجاز، كما جاز شراءُ رِباعِ مَكَّةَ واسْتِئْجارُ دُورها، ولم يُرَ بَيْعُها ولا أَخْذُ أُجْرَتِها. وكذلك دَفْعُ الأجْرَةِ إلى الحجَّام لا يُكْرَهُ، مع كَراهِيَةِ كَسْبِه. والرِّوَايَةُ الأُخْرَى، يُكْرَهُ؛ لأنَّ المَقْصُودَ منه كلامُ اللَّهِ تَعالَى، فَيَجِبُ صِيانته عن الابتِذالِ، وفى جوازِ شرائِه التَّسَبُّبُ إلى ذلك والمعونةُ عليه. ولا يَجُوزُ بَيْعُه لكافِرٍ، فإنِ اشْتَراهُ،

1554 - مسألة: (ولا يجوز بيع الحشرات، ولا الميتة، ولا شئ منها، ولا سباع البهائم التى لا تصلح للصيد)

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَشَرَاتِ، وَالْمَيْتَةِ، وَلَا شَىْءٍ مِنْهُمَا، وَلَا سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِى لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فالبَيْعُ باطِلٌ. وبه قال الشَّافِعِىُّ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: يَجُوزُ، ويُجْبَرُ على بَيْعِه؛ لأَنَّه أهْل للشِّراء، والمُصْحَفُ مَحَلٌّ له. ولنا، أَنَّه يُمْنَع مِن اسْتِدَامَةِ المِلْكِ عليه، فمُنِعَ مِن ابْتِدَائِه، كسائِرِ ما لا يَجُوزُ بَيْعُه، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المُسافرَةِ بالقُرْآنِ إلى أرضِ العَدُوِّ، مَخَافَةَ أنْ تَنَالَه أيْدِيهم (¬1). فلا يَجُوزُ تَمْكِينُهم مِن التَّوَسُّلِ إلى نيلِ أَيْدِيهم إيّاهُ. 1554 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ الحَشَرَاتِ، ولا المَيْتَةِ، ولا شئٍ منها، ولا سباعِ البَهائِمِ التى لا تَصْلُحُ للصَّيْدِ) لا يَجُوزُ بَيْعُ المَيْتَةِ، ولا الخِنْزِيرِ، ولا الدَّمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على القَوْلِ به. وذلك لِما رَوَى جابِرٌ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو بمَكَّةَ، يقولُ: «إنَّ اللَّهَ ورَسُولَه حَرَّمَ بَيْعَ المَيْتَةِ والخَمْرِ والخِنْزِيرِ والأصْنَامِ». ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 78.

1555 - مسألة: (ولا)

وَلَا الْكَلْبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولا يَجُوزُ بَيْعُ ما لا نَفْعَ فيه، كالْحَشَرَاتِ كُلِّها، وسِباعِ البَهائِمِ التى لا تَصْلُحُ للاصْطِيادِ؛ كالأَسَدِ، والذِّئْبِ، وما لا يُؤْكَلُ ولا يُصادُ به مِن الطَّيْرِ؛ كالرَّخَمِ (¬2)، والحِدَأَةِ، والغُرَابِ الأَبْقَعِ، وغُرَابِ البَيْنِ، وبَيْضِها؛ لأنَّه لا نَفْعَ فيه، فَأَخْذُ ثَمَنِه أَكْلُ للمَالِ بالباطِلِ، ولأَنَّه ليس فيها نفْعٌ مُباحٌ، أَشْبَهَتِ الخِنْزِيرَ. 1555 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ بَيْعُ (الكَلْبِ) أىَّ كَلْبٍ كَان، لا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا في المَذْهَبِ. وبه قال الحَسَنُ، ورَبِيعَةُ، وحَمّادٌ، والشّافِعىُّ، وداودُ. ورَخَّصَ في ثمنِ كَلْبِ الصَّيْدِ خاصَّةً جابِرُ بنُ عبدِ اللَّه، وعَطَاءٌ، والنَّخَعىُّ. وأَجازَ أبو حَنِيفَةَ بَيْعَ الكِلاب كُلِّها وأخْذَ ثَمَنِها. وعنه، بَيْعُ الكَلْبِ العَقورِ. واخْتَلَفَ أصْحابُ مالكٍ، فقال قَوْمٌ: لا يَجُوزُ. وقال قومٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الكَلْبِ المَأْذُونِ في إمْساكِه، ويُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِى عن جابِر أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ثمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ (¬3). ولأنَّهُ يُباحُ الانْتِفاعُ به، ويَصِحُّ نَقْلُ اليَدِ فيه، والوَصِيَّةُ به، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 307 حاشية رقم (2). (¬2) الرخم: طائر غزير الريش، أبيض اللون مبقع بسواد، له منقار طويل قليل التقوس. (¬3) أخرجه النسائى، في: باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، من كتاب الصيد، وباب ما استثنى، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 168، 272. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 317، 339.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصَحَّ بَيْعُه، كالحِمارِ. ولَنا، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ثَمَنِ الكَلْبِ، ومَهْرِ البَغِىِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ. مُتفَقٌ عليه (¬1). وعن رافِعِ بنِ خَدِيجٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ثَمَنُ الكَلْبِ خَبِيثٌ». رَواهُ مسلمٌ (¬2). وعن ابنِ عَبَّاسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال: نَهَى رسولُ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ثمن الكلب، من كتاب البيوع، وباب كسب البغى والإماء. . .، من كتاب الإجارة، وفى: باب مهر البغى والنكاح الفاسد، من كتاب الطلاق، وفى: باب الكهانة، من كتاب الطب، وفى: باب من لعن المصور، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 3/ 110، 122، 7/ 79، 176، 217. ومسلم، في: باب تحريم ثمن الكلب. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1199. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أثمان الكلاب، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 250. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية مهر البغى، من أبواب النكاح، وفى: باب ما جاء في ثمن الكلب، من أبواب البيوع، وفى: باب ما جاء في أجر الكاهن، من أبواب الطب. عارضة الأحوذى 5/ 67، 276، 8/ 228، 229. والنسائى، في: باب النهى عن ثمن الكلب، من كتاب الصيد والذبائح، وفى: باب بيع الكلب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 167، 272. وابن ماجه، في: باب النهى عن ثمن الكلب ومهر البغى. . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 730. والدارمى، في: باب في النهى عن ثمن الكلب، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 255. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ثمن الكلب، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 656. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 118 - 120. (¬2) في: باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن. . . إلخ، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1199. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 238. والترمذى، في: باب ما جاء في ثمن الكلب، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 276. والنسائى، في: باب النهى عن ثمن الكلب، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 167. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 464، 465.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- عن ثَمَن الكَلْبِ، فإنْ جاءَ يَطْلُبُه فامْلَئُوا كَفَّهُ تُرابًا. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّهَ حَيَوانٌ نُهِىَ عن اقْتِنائِه في غيرِ حالِ الحاجَةِ، أشْبَهَ الخِنْزِيرَ. وأمّا حَدِيثُهم، فقال التِّرْمِذِىُّ: لا يَصِحُّ إسْنادُ هذا الحَدِيثِ. وقال الدَّارَقُطْنِىُّ: الصَّحِيحُ أنّه مَوْقُوِفٌ على جابِرٍ. وقال أحمدُ: هذا مِن الحَسَنِ بنِ أبى جَعْفرٍ، وهو ضَعِيفٌ. فصل: ولا يَحِلُّ قَتْلُّ الكَلْبِ المُعَلَّمِ؛ لأنَّه مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ به، مُباحٌ اقْتِنَاوه، فَحَرُمَ إتْلافُه، كالشَّاةِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ولا غُرْمَ على قاتِلِه. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وقال مالِكٌ، وعَطَاءٌ: عليه الغُرْمُ؛ لِما ذَكَرْنَا في تَحْرِيمِ قَتْلِه. ولَنا، أنّه مَحَل يَحْرُمُ أَخْذُ عِوَضِه؛ لخُبْثِه، فلم يَجِبْ غُرْمُه بإتْلافِه، كالخِنْزِيرِ، وإنّما حَرُمَ إتْلافُه؛ لِما فيه مِن الإِضْرارِ، وهو مَنْهِىٌّ عنه. فأمّا قَتْلُ ما لا يُباحُ إمْساكُه مِن الكِلابِ، فإنْ كان أَسْوَدَ بَهِيمًا، أُبِيحَ قَتْلُه؛ لأنَّه شَيْطَان. كما جاءَ في حدِيثِ أبى ذَرٍّ (¬2). ولِما رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لَوْلَا أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأَمَرْتُ بقَتْلِها، فاقْتُلُوا منها كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» (¬3). وكَذلك يُباحُ قَتْلُ الكَلْبِ العَقُورِ؛ لِما رَوَتْ عائِشَةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬

(¬1) في: باب في أثمان الكلاب، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 250. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 649. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 653.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «خَمسٌ مِن الدَّوابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ؛ الغُرابُ، والحِدَأَةُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويُقْتَلُ كلُّ واحِدٍ مِن هذَيْن وإنْ كان مُعَلَّمًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَيْنِ. وعلى قِياسِ الكَلْب العَقُورِ كُلُّ ما آذَى النّاسَ وضَرَّهُم في أَنْفُسِهم وأَمْوَالِهم يُباحُ قَتْلُه، ولأنَّه يُؤْذِى بلا نَفْع، أشْبَهَ الذِّئبَ. وما لا مَضَرَّةَ فيه لا يُباحُ قَتْلُه؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه أَمرَ بقَتْلِ الكِلابِ، ثم نَهَى عن قَتْلِها، وقال: «عَلَيْكُم بالأَسْوَدِ البَهِيمِ ذى النُّقْطَتَيْن، فإنّه شَيْطَانٌ». رَواه مسلمٌ (¬2). فصل: ويَحْرُمُ اقْتِناءُ الكِلاب، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ والماشِيَةِ والحَرْثِ؛ لِما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ ماشِيَةٍ أو صَيْدٍ أو زَرْعٍ، نَقَصَ مِن أجْرِه كُلَّ يَوْمٍ قِيراطٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وإنِ اقْتَنَاه لحِفْظِ البُيوتِ، لم يَجُزْ؛ للخَبَرِ. ويَحْتَمِلُ الإِباحَةَ. وهو قَوْلُ بَعْضِ أَصْحابِ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه في مَعْنَى الثَّلاثَةِ. والأوَّلُ أصَحُّ، لأنَّ قِياسَ غيرِ الثّلَاثةِ عليها يُبِيحُ ما تَناوَلَ أوَّلُ الخَبَرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 305. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 653. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب اقتناء الكلب للحرث، من كتاب المزارعة. صحيح البخارى 3/ 135، 136. ومسلم، في: باب الأمر بقتل الكلاب. . . إلخ، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1203. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 97. والترمذى، في: باب ما جاء من أمسك كلبا ما ينقص من أجره، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذى 6/ 285. والنسائى، في: باب الرخصة في إمساك الكلب للحرث، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرِيمَه. قال القاضى: وليس هو في مَعْناها، فقد يَحْتَالُ اللِّصُّ بإِخْراجه بشئٍ يُطْعِمُه إيَّاهُ ليَسْرِقَ المتاعَ أمّا الذِّئْبُ فلا يَحْتَمِلُ هذا في حَقِّه، ولأَنَّ اقْتِناءَه في البُيُوتِ يُؤْذِى المارَّةَ، بخِلافِ الصَّحْراءِ. فصل: وِيَجُوزُ تَرْبِيَةُ الجَرْوِ الصَّغِيرِ لأحَدِ الثَّلَاثَةِ، في أَقْوَى الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّه قَصَدَه لذلك، فَيَأْخُذُ حُكْمَه، كما جازَ بِيْعُ الجَحْشِ الصَّغِيرِ الذى لا نَفْعَ فيه في الحالِ؛ لمآلِه إلى الانْتِفاعِ. ولأَنَّه لو لم يُتَّخَذِ الصَّغِيرُ ما أمْكَنَ جَعْلُ الكَلْبِ للصَّيْدِ، إذْ لا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إلَّا بالتَّعَلُّمِ، ولا يُمْكِنُ تَعَلُّمُه إلَّا بتَرْبِيَتِه واقْتِنائِه مُدَّةً يُعَلِّمُه فيها، قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} (¬1). ولا يُوجَدُ كَلْبٌ مُعَلَّمٌ بغَيْرِ تَعْلِيمٍ. والثانِى: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه ليسَ مِن الثَّلاثَةِ. فصل: ومَن اقْتَنَى كَلْبَ صَيْدٍ، ثم تَرَكَ الصَّيْدَ مُدّةً، وهو يريدُ العَوْدَ إليه، لم يَحْرُمِ اقْتِناؤُه في مُدَّةِ تَرْكِه؛ لأنَّ ذلك لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. وكذلك لو حَصَدَ صاحِبُ الزَّرْعِ زَرْعَه، أُبِيحَ اقْتِناؤُه حتى يزرَعَ زَرْعًا آخرَ. وكذلك لو هَلَكَتْ ماشِيَتُه، أو باعَها، وهو يُرِيدُ شِراءَ غيرِها، فله إمساكُ كَلْبِها؛ ليَنْتَفِعَ به في التى يَشْتَرِيها. فإنِ اقْتَنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مَن لا يَصِيدُ به، احْتَمَلَ الجَوازَ؛ لاسْتِثْنائِه في الخَبَر مُطْلَقًا. واحْتَمَلَ المَنْعَ؛ لأَنَّه اقتَنَاهُ لغيرِ (¬2) حاجَةٍ، أَشبَهَ غَيْرَه مِن الكِلابِ. ومَعْنَى كَلْبِ ¬

(¬1) سورة المائدة 4. (¬2) في م: «من غير».

1556 - مسألة: (ولا)

وَلَا السِّرْجِينِ النَّجِسِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّيْدِ: أىُّ كَلْبٍ يَصِيدُ به. وهكذا الاحْتِمالَانِ في مَن اقْتَنَى كَلْبًا ليَحْفَظَ. له حَرْثًا، أو ماشِيَةً إن حَصَلَت، أو يَصِيدَ به إنِ احْتَاجَ إلى الصَّيْدِ، وليس له (¬1) في الحالِ حَرْثٌ ولا ماشِيَةٌ، ويحْتَمِلُ الجوازَ؛ لقَصْدِه ذلك، كما لو حَصَد الزَّرْعَ، وأَرادَ زرْعَ غَيْرِه. 1556 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ بيعُ (السِّرْجِينِ (¬2) النَّجِسِ) وبهذا قال مالكٌ، والشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ؛ لأنَّ أهْلَ الأمْصارِ يَبْتاعُونَه لزَرْعِهِم مِن غيرِ نَكيرٍ، فكانَ إجْماعًا. ولَنا، أنّه مُجْمَع على نَجاسَتِه، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كالمَيْتَةِ. وما ذكَرُوه ليس بإجْماعٍ؛ لأنَّ الإِجْماعَ اتِّفَاقُ أهلِ العِلْمِ، ولم يُوجَدْ، ولأنَّه رَجِيعٌ نَجِسٌ، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كرَجِيعَ الآدَمِىِّ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ الحُرِّ، ولا ما ليس بمَمْلُوكٍ، كالمُباحَاتِ قبلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) السرجين: الزِّبْل، كلمة أعجمية.

1557 - مسألة: (ولا)

وَلَا الأَدْهَانِ النَّجِسَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِيازَتها ومِلْكِها. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، وقد رَوَى البُخَارِىُّ (¬1) بإسْنادِه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «قال اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ؛ رَجُلٌ أعْطَى بى ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا وأَكَلَ ثَمَنَه، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولم يُوَفِّهِ أَجْرَهُ». 1557 - مسألة: (ولا) يجوزُ بيعُ (الأدْهانِ النَّجِسَةِ) في ظاهرِ كلام أحمدَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه؛ لأنَّ أَكْلَه حَرَامٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئلَ عن الفَأْرَةِ تموتُ في السَّمْنِ، فقال: «إن كان مائِعًا فلا ¬

(¬1) في: باب إثم من باع حرا، من كتاب البيوع، وفى: باب إثم من منع أجر الأجير، من كتاب الإجارة. صحيح البخارى 3/ 108، 118. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب أجر الأجراء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 816. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 358.

وَعَنْهُ، يَجُوزُ بَيْعُهَا لِكَافِرٍ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقْرَبُوه». مِن المُسْنَدِ (¬1). وإذا كان حَرامًا لم يَجُزْ بَيْعُه؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ إذا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَه» (¬2). ولأنَّه نَجِسٌ، فلم يَجُزْ بَيْعُه، قِياسًا على شَحْمِ المَيْتَة. (وعنه، يَجُوزُ بَيْعُها (¬3) لكافِرٍ يَعْلَمُ نَجاسَتَها) لأنَّه يَعْتَقِدُ حِلَّها، ويَسْتَبِيحُ أَكْلَها، ولأنَّه قد رُوِى عن أبى مُوسَى: لُتُّوا به السَّوِيقَ وبِيعُوه، ولا تَبِيعُوه مِن مسلم، وبَيِّنُوه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّه اليَهُودَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 116. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في ثمن الخمر والميتة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 251. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 247، 293، 322. (¬3) في الأصل، م، ق: «بيعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فجَمَلُوهَا (¬1)، فبَاعُوهَا، وأَكَلُوا ثمنَها، إنَّ اللَّهَ إذا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَه». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه لا يَجُوزُ بَيْعُها مِن مُسْلِمٍ، فلا يَجُوزُ بَيْعُها لكافِرٍ، كالخَمْرِ والخِنْزِيرِ، فإنَّهم يَعْتَقِدُونَ حِلَّه، ولا يَجُوزُ بَيْعُه لهم، ولأنَّه دُهْنٌ نَجِسٌ، فلم يَجُزْ بَيْعُه لكافِرٍ، كشحومِ الميْتَةِ. قال شيخُنا: ويَجُوزُ أنْ يُدْفَعَ إلى الكافِرِ في فِكاكِ مُسْلِمٍ، ويُعْلَمُ الكافِرُ بنَجَاسَتِه؛ لأنَّه ليس بِبَيْعٍ في الحَقِيقَةِ، إنّما هو اسْتِنْقاذُ المُسْلِمِ به. ¬

(¬1) جَمَلَه يجمُله جمْلًا، وأجْمَلَه: أذابه واستخرج دُهْنَه. لسان العرب (ج م ل). (¬2) هذا سياق حديث ابن عباس الذى قبله. وبلفظ: «إن الذى حرم شربها حرم بيعها». أخرجه مسلم، في: باب تحريم الخمر، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1206. وبدون قوله: «إن اللَّه إذا حرم شيئا. . .» أخرجه البخارى، في: باب بيع الميتة والأصنام، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 110. ومسلم، في: باب تحريم بيع الخمر، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1207. كلاهما من حديث جابر.

1558 - مسألة: (وفى جواز الاستصباح بها روايتان. ويخرج على ذلك جواز بيعها)

وَفِى جَوَازِ الاسْتِصْبَاحِ بِهَا رِوَايَتَانِ. وَيُخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ جَوازُ بَيْعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1558 - مسألة: (وفى جَوازِ الاسْتِصْباحِ بها رِوايَتانِ. ويُخَرَّجُ على ذلك جَوازُ بَيْعِها) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في الاسْتِصْبَاحِ بالزَّيْتِ النَّجِسِ؛ فرُوىَ عنه، أنّه لا يَجُوزُ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في السَّمْنِ الذى ماتَتْ فيه الفَأْرَةُ: «وإنْ كان مائِعًا فلا تَقْرَبُوه» (¬1). ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عن شُحُومِ الميْتَةِ تُطْلَى بها السُّفُنُ، وتُدْهَنُ بها الجُلُودُ، ويَسْتَصْبِحُ بها الناسُ، فقال: «لا، هو حَرَامٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وهذا في مَعْناه. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ. وعنه، إباحَتُه؛ لأنَّ ذلك يُرْوَى عن ابنِ عمرَ. وهو قَوْلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 116. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه أمْكَنَ الانْتِفاعُ به مِن غيرِ ضَرَرٍ، فجازَ، كالطاهِرِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ. فعلى هذا، يُسْتَصْبَحُ به على وَجْهٍ لا تَتَعَدَّى نَجاسَتُه، إمّا أن يُجْعَلَ في إبْرِيق ويُصَبَّ منه في المِصْباحِ ولا يُمَسَّ، وإمّا أن يَدَعَ على رَأْسِ الجَرَّةِ التى فيها الزَّيْتُ سِراجًا مَثْقُوبًا، ويُطْبِقَه على رَأْسِ إناءِ الزَّيْتِ، وكُلَّما نَقَصَ زَيْتُ السِّراجِ صَبَّ فيه ماءً بحيثُ يَرْتَفِعُ الزَّيْتُ، فيَمْلأُ السِّرَاجَ، وما أشْبَهَ هذا. وعلى قِياسِ هذا كُلُّ انْتِفاعٍ لا يُفْضِى إلى التَّنْجِيسِ بها يَجُوزُ. ويَتَخَرِّجُ على جَوازِ الاسْتِصْباحِ به جَوازُ بَيْعِه. وهكذا ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه يَجُوزُ الانْتِفاعُ به مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، فجازَ بَيْعُه، كالبَغْلِ والحِمارِ. وهل تَطْهُرُ بالغَسْلِ، فيه وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُما فيما مَضَى (¬1). وإذا قُلْنَا: تَطْهُرُ بالغَسْلِ. فالقِياسُ يَقتَضِى جوازَ بَيْعِها؛ لأنَّها عَيْنٌ نَجسَةٌ تَطْهُرُ بالغَسْلِ، أَشْبَهَتِ الثَّوْبَ النَّجِسَ. وكَرِهَ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، أَن تُدْهَنَ بها الجُلُودُ، وقال: تُجْعَلُ منها الأسْقِيَةُ. ونُقِلَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه يُدْهَنُ بها الجلودُ. وعَجِبَ أحمدُ مِن هذا. فيَحْتَمِلُ أنْ يُحْمَلَ على ما لا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُه، كالنِّعَالِ، كما قُلْنا في جُلودِ الميْتَةِ (¬2). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 2/ 304. (¬2) انظر ما تقدم في 1/ 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فَأَمَّا شُحُومُ الميْتَةِ، وشَحْمُ الكَلْبِ والخِنْزِيرِ، فلا يَجُوزُ الاسْتِصْباحُ به، ولا الانْتِفاعُ به في جُلُودٍ ولا سُفُنٍ ولا غيرِها؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. وإذا اسْتُصْبِحَ بالزَّيْتِ النَّجِسِ، فاجْتَمَعَ مِن دُخَانِه شئٌ، فهو نَجِسٌ؛ لأنَّه جُزْءٌ منه، والنَّجاسَةُ لا تَطْهُرُ بالاسْتِحالَةِ. فإنْ عَلِقَ بشئٍ، عُفِىَ عن يَسِيرِه؛ لمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عنه، وإنْ كَثُرَ لم يُعْفَ عنه. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ التِّرْياقِ الذى فيه لُحُومُ الحَيَّاتِ؛ لأَنَّ نَفْعَه إنّما يَحْصُلُ بالأَكْلِ، وهو مُحَرَّمٌ، فخَلا مِن نَفْعٍ مُباحٍ، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كالمَيْتَةِ. وِلا يجوزُ التَّدَاوِى به، ولا بسُمِّ الأفاعِى. فأَمّا سُمُّ النَّبَاتِ، فإنْ كان لا يُنْتَفعُ به، أو يَقْتُلُ قَلِيلُه، لم يَجُزْ بَيْعُه؛ لعَدَمِ نَفْعِه، وإنْ أمْكَنَ التَّدَاوِى بيَسِيرِه، كالسَّقَمُونيَا (¬1)، جازَ بَيْعُه؛ لأنَّه طاهِرٌ مُنْتَفَعٌ به. ¬

(¬1) كلمة يونانية، ومعناها: نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن ومزيل لدوده.

فصل

فَصْلٌ: الرَّابعٌ، أنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فَى بَيْعِهِ، فَإِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أوِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ، وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: الرابعٌ، أن يكونَ مَمْلُوكًا له، أو مَأْذُونًا له في بَيْعِه، فإن باعَ مِلْكَ غيرِه بغَيْرِ إذْنِه، أو اشْتَرَى بعينِ مالِه شيئًا بغيرِ إذْنِه، لم يَصِحَّ. وعنه، يَصِحُّ، ويَقِفُ على إجازَةِ المالِكِ) إذا اشْتَرَى بعينِ مالِ غيرِه، أو باعَ مالَه بغيرِ إذْنِه، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا يَصِحُّ البَيْعُ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. والثانيةُ، يَصِحُّ البَيْعُ والشِّراءُ، ويَقِفُ على إجازَةِ المالِكِ، فإنْ أجازَهُ نَفَذَ ولَزِمَ البَيْعُ، وإنْ لم يُجِزْهُ بطَلَ. وهو قَوْلُ [مالِكٍ، وإسحاقَ، وبه قال أبو حَنِيفَةَ] (¬1) في البَيْعِ. فأمَّا الشِّراءُ فَيَقَعُ للمُشْتَرِى عندَه بكُلِّ حالٍ؛ لِما رَوَى عُرْوَةُ بنُ الجَعْدِ البارِقِىُّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَاهُ دِينارًا ليَشْتَرِىَ به شَاةً، فاشْتَرَى شاتَيْنِ، ثم باعَ إحْداهُما بدينارٍ في الطرَّيقِ، قال: فأَتيْتُ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدِّينار والشّاةِ، فأَخْبَرْتُه، فقال: «بارَكَ اللَّهُ لَكَ في صَفْقَةِ يَمِينِكَ». ¬

(¬1) في ر 1: «أبى حنيفة وإسحاق وبه قال الشافعى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواهُ ابنُ ماجه (¬1)، والأَثْرَمُ، ولأنَّه عَقْدٌ له مُجِيزٌ حالَ وقُوعِه، فصَحَّ [ووقفَ] (¬2) على إِجازَتِه، كالوَصِيَّةِ بزيادَةٍ على الثُّلُثِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لحَكِيمِ بنِ حِزامٍ: «لا تَبعْ ما لَيْسَ عِنْدَكَ». رَواهُ ابنُ ماجه، والتِّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. يَعْنِى مَا لَا تَمْلِكُ؛ لأنَّه ذَكَرَه جَوابًا له حين سَأَلَه أنَّه يَبِيعُ الشئَ، ويمضِى ويَشتَرِيه، ويُسَلِّمُه. ولاتِّفاقِنا على صِحَّةِ بَيْعِ مالِه الغائِبِ، ولأنَّه باعَ ¬

(¬1) في: باب الأمين يتجر فيه فيربح، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 803. كما أخرجه البخارى، في: باب حدثني محمد بن المثنى. . .، من كتاب المناقب. صحيح البخارى 4/ 252. وأبو داود، في: باب في المضارب يخالف، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 229. والترمذى، في: باب حدثني أبو كريب. . .، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 263. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 376. (¬2) في م: «وقفه». (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب النهى عن بيع ما ليس عندك. . .، من كتاب التجارات، سنن ابن ماجه 2/ 737. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 241. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 254. والنسائى، في: باب بيع ما ليس عند البائع، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 254. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 402، 434.

1559 - مسألة: (وإن اشترى له فى ذمته بغير إذنه، صح. فإن أجازه من اشترى له، ملكه، وإلا لزم من اشتراه)

وَإِنِ اشْتَرَى لَهُ في ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، صَحَّ. فَإِنْ أَجَازَهُ مَنِ اشْتَرَى لَهُ، مَلَكَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ مَنِ اشْتَرَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، فأَشْبَهَ الطَّيْرَ في الهواءِ. فأَمَّا الوَصِيَّةُ، فَيَتَأَخَّرُ فيها القَبُولُ عن الإِيجابِ، ولا يُعْتَبرُ أن يكونَ لها مُجِيزٌ حالَ وقُوعِ العَقْدِ، ويَجُوزُ فيها مِن الغَرَرِ ما لا يَجُوزُ في البَيْعِ، وحَدِيثُ عُرْوَةَ نَحْمِلُه على أنَّ وَكالَتَهُ كانت مُطْلَقَةً، بدَلِيلِ أنّه [سَلَّمَ وتَسَلَّمَ] (¬1)، وليس ذلك لغيرِ المالِكِ باتِّفَاقِنَا. 1559 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى له في ذمَّتِه بغيْرِ إذْنِه، صَحَّ. فإنْ أَجازَه مَن اشْتَرَى له، ملَكَه، وإِلَّا لَزِمَ مَن اشتَراهُ) إذا اشْتَرَى في ذِمَّتِه لإِنْسانٍ شَيْئًا بغيرِ إذْنِه، صَحَّ؛ لأنَّه مُتَصَرِّفٌ في ذِمَّتِه لا في مالِ غَيْرِه، ¬

(¬1) في م: «يسلم ويستلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسواءٌ نَقَدَ الثَّمَنَ مِن مالِ الغَيْرِ أو لا؛ لأنَّ الثَّمَنَ هو الذى في الذِّمَّةِ، والذى نَقَدَه عِوَضُه، ولذلك قُلْنَا: إنّه إذا اشْتَرَى [في الذِّمَّةِ] (¬1) ونَقَدَهُ الثَّمَنَ بعدَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، كان له البَدَلُ. وإنْ خرجَ مَغْصُوبًا لم يبطُلِ العَقْدُ، وإنَّما وقَفَ الأمْرُ على إجازَةِ الآخَرِ؛ لأنَّه قَصَدَ الشِّراءَ له، فإنْ أجازَه لَزِمَهُ، وعليه الثَّمَنُ، وإنْ لم يَقْبَلْه لَزِمَ مَن اشْتَرَاهُ.

1560 - مسألة: (ولا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضى ويشتريه ويسلمه)

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ لِيَمْضِىَ وَيشْتَرِيَهُ وَيُسَلِّمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن باعَ سِلْعَةً وصاحِبُها حاضِرٌ ساكِتٌ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو باعَها بغيرِ إذْنِه، في قوْلِ الأَكْثَرَين؛ منهم أبو حَنِيفَةَ، وأبو يوسُفَ، والشّافِعِىُّ. قال ابنُ أبى لَيْلَى: سكوتُه إقْرارٌ؛ لأنَّه يَدُلُّ على الرِّضَا، كسُكُوتِ البِكْرِ في الإِذْنِ في النِّكاحِ. ولَنا، أنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمِلٌ، فلم يكُنْ إذْنًا، كسُكُوتِ الثَّيِّبِ، وفارَقَ سُكُوتَ البِكْرِ؛ لوُجُودِ الحَياءِ المانِعِ مِن الكلامِ في حَقِّها, وليس ذلك مَوْجُودًا ههُنا. 1560 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ ما لا يَمْلِكُه ليَمْضِىَ ويَشْتَرِيَه ويُسَلِّمَه) رِوَايَةً واحِدَةً. وهو قولُ الشّافِعِىِّ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخَالِفًا؛ لأنَّ حكيمَ بنَ حِزامٍ قال للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّ الرَّجُلَ يَأْتِينِى يَلْتَمِسُ مِن البَيْعِ ما ليس عندِى، فأَمْضِى إلى السُّوقِ، فأشْتَرِيه، ثم أبِيعُه، منه، فقال النبىُّ

1561 - مسألة: (ولا يجوز بيع ما فتح عنوة، ولم يقسم، كأرض الشام، والعراق، ومصر، ونحوها، إلا المساكن، وأرضا من العراق فتحت صلحا؛ وهى الحيرة وأليس

وَلَا يصِحُّ بَيْعُ مَا فُتِحَ عَنْوةً، وَلَمْ يُقْسَمْ؛ كَأَرْضِ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَنحْوِهَا، إِلَّا الْمَسَاكِنَ، وَأَرْضًا مِنَ الْعِرَاق فُتِحَتْ صُلْحًا؛ وَهِيَ الْحِيرَةُ، وَأُلَّيْسٌ، وَبَانِقْيَا، وَأَرْضُ بَنِى صَلُوبَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَقرَّهَا في أَيْدِى أَرْبَابِهَا بِالْخَرَاجِ الَّذِى ضَرَبَهُ أُجْرَةً لَهَا في كُلِّ عَامٍ. وَلَمْ يُقَدِّرْ مُدَّتَهَا؛ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تَبعْ ما ليس عِنْدَك» (¬1). حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ولأنَّه يَبِيعُ ما لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، أشْبَهَ بَيْعَ الطَّيْرِ في الهَواءِ. 1561 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ ما فُتِحَ عَنوَةً، ولم يُقْسَمْ، كأَرْضِ الشامِ، والعِراقِ، ومِصْرَ، ونحوِها، إِلَّا المساكِنَ، وأرْضًا مِن العِراقِ فُتِحَتْ صُلْحًا؛ وهى الحِيرَةُ وأُلَّيْسٌ (¬2) وبانِقْيا، وأَرْضُ بنى صلُوبَا؛ لأَنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وقَفها على المُسْلمين، وأقَرَّها في أَيْدِى أرْبابِها بالخَراجِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 56. (¬2) أليس: الموضع الذى كانت فيه الوقعة بين المسلمين والفرس في أول أرض العراق من ناحية البادية. وفى كتاب الفتوح: أُلَّيْسٌ: قرية من قرى الأنبار. معجم البلدان 1/ 354.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى ضَرَبَه أُجْرَةً لها في كُلِّ عامٍ. ولم يُقَدِّرْ (¬1) مُدَّتَها؛ لعُمومِ المَصْلَحَةِ فيها) لا يَجُوزُ بَيْعُ شئٍ مِن الأَرْضِ المَوْقُوفَةِ، ولا شِراؤُه؛ كأَرْضِ الشامِ، ونحوِها، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، وقَوْلِ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم عمرُ، وعَلِىٌّ، وابنُ عَبّاسٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ عَمْروٍ (¬2)، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. ورُوِىَ ذلك عن عبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ، وقَبيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، ومَيْمُونِ بنِ مِهْرَانَ، والأوْزَاعِىِّ، ومالكٍ، وأبى إسْحاقَ الفَزَارِىِّ (¬3). قال الأوْزَاعِىُّ: لم يَزَلْ أَئمَّةُ المُسلمينَ يَنْهَوْنَ عن شراءِ أَرضِ الجزْيَةِ، ويَكْرَهُه عُلَماؤُهم. وقال: أجْمَعَ رَأْىُ عمرَ، وأصحابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَمّا ظَهَرُوا على أهلِ الشامِ، على إقْرارِ أهْلِ القُرَى في قُرَاهُم، على ما كانَ بأَيْدِيهم مِن أَرْضِهم، يُعَمِّرُونها، ويُؤدُّونَ خَراجَها إلى المُسْلِمِينَ، ويَرَوْنَ أنّه لا يَصْلُحُ لأحَدٍ مِن المُسْلِمينَ شِراءُ ما في أيْدِيهم مِن الأَرْضِ طَوْعًا ولا كَرْهًا، ¬

(¬1) في الأصل، م: «تقدر». (¬2) في ر 1: «عمر». (¬3) إبراهيم بن محمد بن الحارث، الإِمام الثقة المأمون، توفى سنة خمس وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 151 - 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكَرِهُوا ذلك؛ لِما كانَ مِنْ إيقافِ عمرَ وأَصْحابِه الأَرضِينَ المَحْبُوسَةَ على آخِرِ هذه الأُمَّةِ مِن المُسْلِمينَ، لا تُباعُ ولا تُورَثُ، قُوَّةً على جِهادِ مَن لم يُظْهَرْ عليه بعدُ مِن المُشْرِكِينَ. وقال الثَّوْرِىُّ: إذا أقَرَّ الإِمامُ أهلَ العَنْوَةِ في أرْضِهم تَوارَثُوها وتَبايَعُوها. ورُوِىَ نحوُ هذا عن ابن سِيرِينَ، والقُرَظِىِّ؛ لِما رَوَى عبدُ الرحمنِ بنُ زَيْدٍ، أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِن دِهْقانَ أرْضًا على أنْ يَكْفِيَهُ جزْيَتَها (¬1). ورُوِى عنه أنَّه قال: نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التَّبَقُّرِ (¬2) في الأَهْلِ والمالِ. ثم قال عبدُ اللَّهِ: وكيفَ بمالٍ براذانَ (¬3)، وبِكَذَا وكَذَا (¬4)! وهذا يَدُلُّ على أنّ له مالًا بِرَاذانَ (3). ولأَنَّها أرْضٌ لهم، فَجازَ بَيْعُها، كأَرْضِ الصُّلْحِ. وقد رُوِى عن أحمدَ أنّه قال: كان الشِّراءُ أسْهلَ، يَشْتَرِى الرَّجُلُ ما يَكْفِيهِ ويُغْنِيهِ ¬

(¬1) الأموال، لأبى عبيد 78. (¬2) التبقر: التوسع والتفتح. (¬3) في ق، م: «بزاذان». وهى قرية بنواحى المدينة. ذكر ياقوت أنها جاءت في حديث عبد اللَّه بن مسعود. معجم البلدان 2/ 730. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 439. وذكره أبو عبيد، في غريب الحديث 2/ 51، 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النّاسِ، وهو رَجُلٌ مِن المُسْلِمِينَ. وكَرِهَ البَيْعَ. قال شَيْخُنا (¬1): وإنَّما رَخصَ في الشّراء، واللَّهُ أَعلَمُ، لأنَّ بعضَ الصّحابَةِ اشْتَرَى، ولم يُسْمَعْ عنهم البَيْعُ، ولأَنَّ الشِّراءَ اسْتِخْلاصٌ للأَرضِ، ليَقُومَ فيها مَقامَ مَن كانت في يَدِه، والبَيْعُ أَخذُ عِوَضٍ عَمّا لا يَمْلِكُه ولا يَسْتَحِقُّه، فلا يَجُوزُ. ولَنا، إِجْمَاح الصَّحَابَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فإنَّه رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه قال: لا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ولا أرَضِيهم (¬2). وقال الشَّعْبِىُّ: اشْتَرَى عُتْبَةُ بنُ فَرْقَدٍ أَرْضًا على شاطِئ الفُرَاتِ، لِيَتَّخِذَ فيها قَصَبًا، فذَكَرَ ذلك لعمرَ، فقال: مِمَّن اشْتَرَيْتَها؟ قال: مِن أرْبابِها. فلمَّا اجْتَمَعَ المُهاجِرُونَ والأَنْصَارُ، قال: هؤُلاءِ أَربَابُها، فهل اشْتَرَيْتَ منهم شَيْئًا؟ قال: لَا. قال: فارْدُدْهَا على (¬3) مَن اشْتَرَيْتَها منه، وخُذ مالَكَ (¬4). وهذا قولُ عمرَ في المُهاجِرِينَ والأَنْصَارِ، بمحضرِ سادَةِ الصَّحَابَةِ وأَئِمَّتِهِم، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا, ولا سَبِيلَ إلى وُجُودِ إجماعٍ أقْوى مِن هذا وشِبْهِه، إذ لا سَبِيلَ إلى نَقْلِ قَوْلِ جَمِيعِ الصَّحابَةِ في مَسْأَلةٍ، ولا إلى ¬

(¬1) في: المغنى 4/ 193. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في شراء أرض الخراج، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 211. وعبد الرزاق، في: باب كم يؤخذ مهم في الجزية، وباب المسلم يشترى أرض اليهود ثم تؤخذ منه أو يسلم، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 10/ 330، 337. (¬3) في م: «إلى». (¬4) الأموال 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَقْلِ قَوْلِ العَشَرةِ، ولم يُوجَدِ الإِجْماعُ إلَّا القولَ المُنْتَشِرَ. فإن قيل: فقد خالَفَه ابنُ مَسْعُودٍ بما ذُكِرَ عنه. قُلْنا: لا نُسَلِّمُ المُخالَفَةَ. وقَوْلُهم: اشْتَرَى. قُلْنا: المرادُ به اكْتَرَى. كذا قال أبو عُبَيْدٍ (¬1). والدَّلِيلُ عليه قولُه: على أن يَكْفِيَه جِزْيَتَها. ولا يكونُ مُشْتَرِيًا لها وجِزْيَتُها على غَيْرِه. وقد رَوَى عنه القاسِمُ أنَّه قال: مَن أقَرَّ بالطَّسْقِ (¬2) فقد أقَرَّ بالصَّغارِ والذُّلِّ (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّ الشِّراءَ هنا الاكتِراءُ. وكذلك كُلُّ مَن رُوِيَت عنه الرُّخْصَةُ في الشِّراءِ محمولٌ على ذلك. وقولُه: فكيف بمالٍ بِرَاذَانَ. ليس فيه ذِكْرُ الشِّراءِ، [ولا أنَّ] (¬4) المالَ الأرْضُ، فَيَحْتَمِلُ أنّه أَرادَ مِن السَّائِمَةِ أو الزَّرْعِ أو نحوِه، ويَحْتَمِلُ أنّه أَرادَ أَرضًا اكْتَرَاهَا، وقد يَحْتَمِلُ أنّه أَرادَ بذلك غيرَه، وقد يَعِيبُ الإنْسانُ الفِعْلَ المَعِيبَ مِن غيرِه. جوابٌ ثانٍ، أنَّه تَناوَلَ الشّراءَ، وبقِىَ قولُ عمرَ في النَّهْى عن البَيْعِ غيرَ مُعَارَضٍ، وأمَّا المَعْنَى فلأنَّها مَوْقُوفَةٌ، فلم يَجُزْ بَيْعُها، كسائِرِ الوقوفِ، والدَّلِيلُ على وَقْفِها النقلُ والمعنى؛ أمّا النَّقْلُ، فما نُقِلَ مِن الأخْبارِ أنَّ عمرَ لم يَقْسِمِ الأرْضَ التى افْتَتَحَها، وتَرَكَها لتكونَ مادَّةً للمسلمين الذين يُقاتِلُونَ في سبيلِ اللَّهِ إلى يومِ القِيامَةِ، وقد نقلنا بعضَ ذلك، وهو مَشْهُورٌ تُغْنِى شُهْرَتُه عن ¬

(¬1) في: الأموال 78. (¬2) الطسق: ما يوضع من الخراج على الجربان. (¬3) الأموال 78. (¬4) في م: «ولأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَقْلِه. وأَمّا المَعْنَى فلِأَنَّها لو قُسِمَتْ لكانت للذين افْتَتَحُوها، ثم لِوَرَثَتِهِم (¬1) ولمَن انْتَقَلَتْ إليه عنهم، ولم تَكُنْ مُشْتَرَكَةً بينَ المسلمين، ولأَنَّه لو قُسِمَتْ لِنُقِل ذلك ولم يَخْفَ بالكُلِّيَّةِ. فإن قيلَ: فهذا لا يَلْزَمُ منه الوَقْفُ؛ لأَنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه تَرَكَها للمسلمين عامَّةً، فتكونُ فَيْئًا للمسلمين، والإِمامُ نائِبُهم، فيَفْعَلُ ما يَرَى فيه المَصْلَحَةَ، مِن بَيْعٍ وغيرِه، ويَحْتَمِلُ أنّه تَرَكَها لأرْبابِها، كما فَعَلَ النَّبىّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكَّةَ. قُلْنا: أَمّا الأَوَّلُ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ عمرَ إنَّما تَرَكَ قِسْمَتَها لتَكُونَ مادَّةً للمسلمين كلِّهم، يَنْتَفِعُونَ بها مع بَقاءِ أصْلِها، وهذا مَعْنَى الوَقْفِ، ولو جازَ تَخْصِيصُ قَوْمٍ بأَصْلِها, لكانَ الذينِ افْتَتَحُوهَا أحَقَّ بها, ولا يَجُوزُ أنْ يَمْنَعَها أَهْلَها لمَفْسَدَةٍ، ثم يَخُصَّ بها غيْرَهم مع وجُودِ المَفْسَدَةِ المانِعَةِ. والثانِى أَظهَرُ فسادًا مِن الأَوَّلِ؛ لأَنَّه إذا مَنَعَها المسلمين المُسْتَحِقِّينَ، كيف يَخُصُّ بها أهْلَ الذِّمَّةِ المُشْرِكِينَ الذين لا حَقَّ لهم ولا نَصِيبَ؟. فصل: وإذا بِيعَتْ هذه الأرْضُ، فحَكَمَ بِصِحَّةِ البَيْعِ حاكِمٌ، صَحَّ؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ فيه، فصَحَّ بحُكْمِ الحاكِمِ، كسائِرِ المُختلَفاتِ. وإن باعَ ¬

(¬1) في م: «لورثته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمامُ شَيْئًا لمَصْلَحَةٍ رَآها، مثلَ أن يكونَ في الأَرْضِ ما يَحْتَاجُ إلى عمارَتِه، ولا يَعْمُرُها إلَّا مَن يَشْتَرِيها، صَحَّ أَيضًا؛ لأنَّ فِعْلَ الإِمامِ كحُكْمِ الحاكِمِ. وقد ذَكَر ابنُ عائِذٍ (¬1) في كتابِ «فتوحِ الشامِ» قال: قال غيرُ واحِدٍ مِن مشايخِنا: إنَّ النَّاسَ سَأَلُوا عبدَ المَلِكِ، والوليدَ، وسليمانَ، أن يَأْذَنُوا لهم في شِراءِ الأرْضِ مِن أهلِ الذِّمَّةِ، فأذِنُوا لهم على إدخالِ أثْمَانِها في بَيْتِ المالِ، فلَمَّا وَلِىَ عمرُ بنُ عبدِ العَزيزِ أعْرَضَ عن تلك الأَشْرِيَةِ؛ لاخْتِلاطِ الأُمُورِ فيها؛ لِما وَقَعَ فيها مِن المَوارِيثِ ومُهُورِ النِّساءِ، وقضاءِ الدُّيُونِ، ولمّا لم يقدِرْ على تَخْلِيصِه ولا مَعْرِفَةِ ذلك، كَتَبَ كِتابًا قُرِئَ على النَّاسِ [سَنَةً مائةٍ] (¬2): إنَّ مَن اشْتَرَى شيئًا بعدَ سنةِ مائَةٍ، فإنَّ بَيْعَه مَرْدُودٌ. وسَمَّى سَنَةَ مائَةٍ سَنَةَ المُدَّةِ، فتَنَاهَى النّاسُ عن شِرائِها، ثم اشْتَرَوْا أشْرِيَةً كَثِيرَةً (¬3) كانت بأيْدِى أهْلِها، تُؤدِّى العُشْرَ ولا جِزْيَةَ عليها، فلما أفْضَى الأمْرُ إلى المَنْصُورِ، ورُفِعَتْ إليه تلك الأشْرِيَةُ، وأنَّ ذلك أضَرَّ بالخراجِ وكَسَرَهُ، فأرادَ رَدَّها إلى أهْلِها، فقيلَ له: قد وَقَعَتْ في المَوارِيثِ والمُهُورِ، واخْتَلَطَ أمْرُها. فبَعَثَ المُعَدِّلين، منهم؛ عبدُ اللَّهِ بنُ يَزِيدَ إلى حِمْصَ، وإسْماعِيلُ بنُ عَيَّاشٍ (¬4) إلى بَعْلَبَكَّ، ¬

(¬1) محمد بن عائذ بن عبد الرحمن الدمشقى الكاتب، ولى خراج غوطة دمشق للمأمون، وتوفى سنة ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين ومائتين. الوافى بالوفيات 3/ 181. تهذيب التهذيب 9/ 241، 242. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كبيرة». (¬4) في م: «عباس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهِضابُ بنُ طَوْقٍ، ومُحْرِزُ بنُ زُرَيْقٍ إلى الغُوطَةِ. وأمَرَهُم أن لا يَضَعُوا على القَطائِعِ والأشْرِيَةِ القَدِيمَةِ خَراجًا، ومَنَعُوا الخراجَ على ما بَقِىَ بأَيْدِى الأَنْباطِ (¬1)، وعلى الأَشْرِيَةِ المُحْدَثَةِ مِن بعدِ (¬2) سنةِ مائَةٍ إلى السَّنَةِ التى عدّلَ فيها. فعلى هذا يَنْبَغِى أن يَجْرِىَ (¬3) ما باعَهُ إمامٌ، أو بِيعَ بإِذْنِه، أو تَعَذَّرَ رَدُّ بَيْعِه هذا المَجْرى (¬4) في أن يُضْرَبَ عليه خَراجٌ بقَدْرِ ما يَحْتَمِلُهْ، ويُتْرَكَ في يَدِ مُشْتَرِيه، أو مَن انْتَقَلَ إليه, إلَّا ما بِيعَ قبلَ المائَةِ سَنَةٍ، فإنَّه لا خَراج عليه، كما نُقِلَ في هذا الخبرِ. فصل: وحُكْمُ إقْطاعِ هذه الأَرْضِ حُكْمُ بَيْعِها، في أنّ ما كان مِن عمرَ رَضِىَ اللَّهُ عنه، أو ممَّا كان قبلَ مائَةِ سَنَةٍ، فهو لأَهلِه، وما كان بعد المائَةِ، ضُرِبَ عليه الخراجُ، كما فَعَلَ المَنْصُورُ، إلَّا أن يكونَ بغيرِ إذْنِ الإِمامِ، فيكونَ باطِلًا، وذَكَرَ ابنُ عائِذٍ في كتابِه بإسْنادِه، عن سليمانَ ¬

(¬1) الأنباط: فلَّاحو العجم. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يجزئ». (¬4) في م: «المجزئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عُتْبَةَ أنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عبدَ اللَّهِ بنَ محمدٍ، أَظُنُّه المَنْصُورَ، سَأَلَه في مَقْدِمِه الشَّامَ سنةَ ثلاثٍ أو أرْبَعٍ وخمْسِينَ عن الأَرَضِين التى بأَيْدِي أبناءِ الصَّحابَةِ، يَذْكُرُون أنّها قَطائِعُ لآبائِهِم قَدِيمَةٌ. فَقُلْتُ: يَا أميرَ المُؤْمِنِين، إنَّ اللَّه تعالى لمّا أظْهَرَ المسلمين على بلادِ الشامِ، وصَالَحُوا أهْلَ دِمَشقَ وأهْلَ حِمْصَ، كَرِهُوا أنْ يَدْخُلُوهَا دُونَ أن يَتِمَّ ظُهُورُهم وإثْخَانُهم في عَدُوِّ اللَّهِ، وعَسْكَرُوا في مَرْجِ [بَرَدَى، بين المِزَّةِ] (¬1) إلى مَرْجِ شعبانَ (¬2) جَنْبَتَىْ برَدَى، مُرُوجٌ كانت مُباحَةً فيما بينَ أهْلِ دِمَشْقَ وقُرَاهَا، ليست لأَحَدٍ منهم، فأَقَامُوا بها حتَّى أوْطَأَ اللَّهُ بهم المُشْرِكِين قَهْرًا وذُلًّا، فأحْيَا (¬3) كُلُّ قَوْمٍ مَحَلَّتَهم (¬4)، وَهيَّئُوا فيها بناءً، فرُفِعَ إلى عمرَ، فأمْضَاهُ عمرُ لهم، وأَمْضَاهُ عثمانُ مِن بَعْدِه إلى وِلايَةِ أميرِ المُؤْمنين. قال: فقد أَمْضَيْنَاهُ لهم. وعن الأَحْوَصِ بنِ حكيمٍ، أنَّ المسلمين الذين فَتَحُوا حِمْصَ لم يَدْخُلُوها، وعَسْكَرُوا على نَهْرِ الأُرُنْدِ (¬5) فأَحْيَوْهُ، فأَمْضاهُ لهم عمرُ وعثمانُ، وقد كان أُناسٌ منهم تَعَدَّوْا ¬

(¬1) في م: «بردان المرة». (¬2) في ر 1: «عمان». (¬3) في م: «فاختبأ». (¬4) في م: «محلهم». (¬5) في م: «الأوند» والأرُنْد: اسم نهر إنطاكية، وهو نهر الرستن المعروف بالعاصى. معجم البلدان 1/ 162.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذاك إلى [جِسْرِ الأُرُنْدِ] (¬1)، الذى على بابِ الرَّسْتَنِ (¬2)، فَعَسْكَرُوا في مَرْجِه (¬3)؛ مَسْلَحَةً لمَن خَلْفَهُم مِن المسلمين، فلمَّا بَلَغَهُم ما أَمْضَاهُ عمرُ للمُعَسْكِرينَ على نَهْرِ الأُرُنْدِ، سَأَلُوا أن يُشْرِكُوهم في تلك القَطائِعِ، فكُتبَ إلى عمرَ فيه، فكَتَبَ أنْ يُعَوَّضُوا مثلَه مِن المُرُوجِ التى كانوا عَسْكَرُوا فيها على بابِ الرَّسْتَنِ، فَلم تَزَلْ تلك القَطائِعُ على شاطِئِ الأرُنْدِ، وعلى بابِ حِمْصَ، وعلى بابِ الرَّسْتَنِ ماضِيَةً لأهْلِها, لا خَراجَ عليها، تُؤَدِّى العُشْرَ. فصل: وهذا الذى ذَكَرْنَاهُ في الأَرْضِ المُغِلَّةِ، أَمّا المَساكِنُ فلا بَأْسَ بحِيَازَتِها وبَيْعِها وشِرائِها وسُكْنَاهَا. قال أبو عُبَيْدٍ (¬4): ما عَلِمْنا أحَدًا كَرِه ذلك، وقد اقْتُسِمَتِ الكُوفَةُ (¬5) خُطَطًا في زمَنِ عمرَ، رَضِى اللَّهُ عنه، بإِذْنِه، والبَصْرَةُ، وسَكَنَها أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك الشامُ ومصرُ وغيرُهما مِن البُلْدانِ، فما عابَ ذلك أحَدٌ ولا أَنْكَرَه. ¬

(¬1) في م: «حبس الأوند». (¬2) في م: «الرتبتين». والرستن: بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، وهو المعروف بالعاصى، الذى يمر قدام حماة، والرستن بين حماة وحمص. معجم البلدان 2/ 778. (¬3) في م: «برجه». (¬4) بنحوه في: الأموال 85. (¬5) في م: «بالكوفة».

1562 - مسألة: (وتجوز إجارتها)

وَيَجُوزُ إِجَارَتُهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تعَالى، أَنَّهُ كرِه بَيْعَهَا، وَأَجَازَ شِرَاءَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك ما فُتِحَ صُلْحًا بشَرْطِ أن يكونَ لأَهْلِه، كأَرْضِ الحِيرَةِ، وأُلَّيْسٍ، وبانِقْيا، وأَرْضِ بنى صلوبَا، وما في مَعْناها، فيجوزُ بَيْعُها؛ لأَنَّها مِلْكٌ لأَهْلِها، فهى كالمَسَاكِنِ، وكذلك كُلُّ أرْضٍ أسْلَمَ أَهْلُها عليها، كأَرْضِ الْمَدِينَةِ وشِبْهِها، فإنَّها مِلْكٌ لأهْلِها، يجوزُ لهم بَيْعُها كذلك. 1562 - مسألة: (وتَجُوزُ إجارَتُها) لأنَّها مُسْتَأْجَرَةٌ في أَيْدِى أَرْبَابِها، وإجارَةُ المُسْتَأْجَرِ جائِزَةٌ، على ما نَذْكُرُه في مَوْضِعِه إن شاءَ اللَّه تعالى. (وعن أحمدَ، أنّه كَرِهَ بَيْعَها) لِما ذَكَرْنَا (وأجازَ شِراءَها) لأنَّه كالاسْتِنْقاذِ لها، فجازَ، كشِراءِ الأَسِيرِ، ولأَنَّه قد رُوِى عن بعضِ الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، على ما ذَكَرْنا في المَسْأَلَةِ التى قَبْلَها. وإذا قُلْنَا بصِحَّةِ الشِّرَاءِ، فإنَّها تكُونُ في يدِ المُشْتَرِى على ما كانت في يَدِ البائِعِ، يُؤَدِّى خَراجَها، ويكونُ مَعْنَى الشِّراءِ ههُنا نَقْلَ اليَدِ مِن البائِعِ إلى المُشْتَرِى بعِوَضٍ، إلَّا ما كانَ قبلَ مائَةِ سَنَةٍ، أو ما كان مِن إقْطاعِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، على ما ذَكَرْناهُ. فإنِ اشْتَرَاها وشَرَطَ الخراجَ على البائِعِ،

1563 - مسألة: (ولا يجوز بيع رباع مكة، ولا إجارتها. وعنه، يجوز ذلك)

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ، وَلَا إِجَارَتُهَا. وَعَنْهُ، يَجُوزُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما فَعَلَ ابنُ مَسْعُودٍ، فهو كِراءٌ لا شِراءٌ، ويَنْبَغِى أن يَشْتَرِطَ بيانَ مُدَّتِه، كسائِرِ الإِجَارَاتِ. 1563 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ رِباعِ مَكَّةَ، ولا إِجارَتُها. وعنه، يَجُوزُ ذلك) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في بَيْعِ رِباعِ مَكَّةَ وإجارَةِ دُورِها، فرُوِىَ أنَّ ذلك غيرُ جائِزٍ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ، ومالِكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبِي عُبَيْدٍ. وكَرِهَه إسحاقُ؛ لِما رَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيْب، عن أَبِيهِ، عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَكَّةَ: «لا تُبَاعُ رِبَاعُها، وَلَا تُكْرَى بُيُوتُها». رَواهُ الأَثْرَمُ (¬1). وعن مُجاهِدٍ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَكَّةُ حَرامٌ بَيْعُ رباعِها، حرامٌ إجارَتُها». رَواهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ في «سُنَنِه». ورُوِىَ أَنَّها كانت تُدْعَى السَّوائب، على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ ¬

(¬1) أورده الهيثمى، وقال: رواه الطبرانى في الكبير، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف. مجمع الزوائد 3/ 297. وأخرجه الحاكم، في: المستدرك 2/ 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-. ذَكَرَه مُسَدَّدٌ في «مُسْنَدِه» (¬1). ولأَنَّها فُتِحَت عَنْوَةً ولم تُقْسَمْ، فصارَت مَوْقُوفَةً، فلم يَجُزْ بَيْعُها، كسائِرِ الأَرْضِ التى فَتَحَها المُسْلِمُون عَنْوَةً ولم يَقْسِمُوهَا. ودَلِيلُ أنّها فُتِحَت عَنْوَةً قولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عن مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عليها رَسُولَه والمُؤْمِنينَ، وإنّها لم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، ولا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى، وإنَّما حَلَّتْ لي ساعَةً مِن نَهارٍ». مُتَّفقٌ عليه (¬2). ورَوَت أُمُّ هانِئٍ، أنَّها قالت: أَجَرْت حَمَوَيْنِ لى، فأَرادَ عَلِىُّ أخِى قَتْلَهما، فأَتَيْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّى أَجرْتُ حَمَوَيْنِ لى، فزَعَمَ ابنُ أمِّى عَلِىٌّ أنّه قاتِلُهما. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قد أجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ، وأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وكذلك أمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَتْلِ أَرْبَعَةٍ، فَقُتِلَ منهم ابنُ خَطَلٍ، ومِقْيَسُ بنُ ¬

(¬1) وأخرجه ابن ماجه، في: باب أجر بيوت مكة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1037. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب كيف تعرف لقطة مكة، من كتاب اللقطة. صحيح البخارى 1/ 38، 3/ 164، 165. ومسلم، في: باب تحريم مكة وصيدها. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989. كما أخرجه أبو داود، في: باب تحريم حرم مكة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 465. والدارمى، في: باب في النهى عن لقطة الحاج، من كتاب. البيوع. سنن الدارمى 2/ 265. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 238. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صُبَابَةَ (¬1)، فدَلَّ على أنَّها فُتِحَتْ عَنْوَةً. والرِّوَايَةُ الثانِيَةُ، أنَّه يَجُوزُ ذلك. رُوِى ذلك عن طاوُسٍ، وعَمْرِو بنِ دِينارٍ. وهو قَوْلُ الشّافِعِىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وهو أَظْهَرُ في الحُجَّةِ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمّا قيلَ له: أين تَنْزِلُ غَدًا؟ قال: «وهل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِن رِباعٍ؟». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). يَعْنِى أنّ عَقِيلًا باع رِباعَ أبى طالِبٍ؛ لأنَّه وَرِثَهُ دُونَ إخوَتِه، لكَوْنِه كان على دينِه دُونَهما, ولو كانت غيرَ مَمْلُوكَةٍ، لمَا أثَّرَ بَيْعُ عَقِيلٍ شيئًا, ولأنَّ أصْحَابَ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت (¬3) لهم دُورٌ بمكَّةَ؛ لأبى (¬4) بَكْرٍ، والزُّبَيْرِ، وحكيمِ بنِ حِزَامٍ، وأبِى سُفْيَانَ، وسائِرِ أهْلِ مَكَّةَ، فمنهم مَن باع، ومنهم مَن ترَكَ دارَه، فهى في يَدِ أعْقابِهم. وقد باعَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ دارَ النَّدْوَةِ، فقال له ابنُ الزُّبيْرِ: بِعْتَ مَكْرمَةَ قُرَيْشٍ! فقال: يَا ابنَ أَخِى، ذهَبَتِ المكارِمُ إلى التَّقْوَى. أو كما قال. ¬

(¬1) في م: «ضبابة». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب توريث دور مكة وبيعها. . .، من كتاب الحج. صحيح البخارى 2/ 181. ومسلم، في: باب النزول بمكة للحاج. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 984. كما أخرجه أبو داود، في: باب التحصيب، من كتاب الحج. سنن أبى داود 1/ 463. وابن ماجه، في: باب ميراث أهل الإسلام، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 912. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «كأبى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واشْتَرَى معاويَةُ منه دارَيْنِ. واشْتَرَى عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، دارَ السِّجْنِ مِن صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ بأرْبَعَةِ آلافٍ (¬1). ولم يَزَلْ أهلُ مَكَّةَ يَتَصَرَّفُونَ في دُررِهِم تَصَرُّفَ المُلَّاكِ بالبَيْعِ وغَيْرِه، ولم يُنْكِرْه مُنْكِر، فكان إجْماعًا، وقد قَرَّرَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنِسْبَةِ دُورِهم إليهم، فقال: «مَنْ دَخَلَ دارَ أبِى سُفْيانَ فهو آمِنٌ، ومَنْ أَغْلَقَ بابَه فهو آمِنٌ» (¬2). وأقَرَّهُم في دُورِهِم ورِباعِهم، ولم يَنْقُلْ أحَدًا عن دارِه، ولا وُجدَ منه ما يَدُلُّ على زَوالِ أَمْلاكِهِم، وكذلك مَن بَعْدَه مِن الخُلفاءِ، حتَّى إنَّ عمرَ مع شِدَّتِه في الحَقِّ، لمَّا احْتَاجَ إلى دارٍ للسّجْنِ لم يَأْخذهَا إلَّا بالبَيْعِ. ولأَنَّها أَرْضٌ حَيَّة لم يَرِدْ عليها صَدَقةٌ مُحَرَّمَةٌ، فجازَ بَيْعُها، كسائِرِ الأرْضِ، وما رُوِى مِن الأحادِيثِ في خِلافِ هذا، فهو ضَعِيفٌ. وأمّا كَوْنُها فُتِحَتْ عَنْوَةً، فهو صَحِيحٌ لا يُمْكِنُ دَفْعُه، إلَّا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقَرَّ أهْلَها فيها على أمْلاكِهم ورِباعِهم، فيَدُلُّ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في العربان في البيع، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 306. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 349.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك على أنَّه تَرَكَها لهم، كما تَرَكَ لهوازِنَ نسَاءَهُم وأبْناءَهُم. وعلى القَوْلِ الأَوَّلِ، مَن كان ساكِنَ دارٍ أو مَنْزِلٍ، فهو أحَقُّ به، يَسْكُنُه ويُسْكِنُه، وليس له بَيْعُه، ولا أَخذُ أُجْرَتِه، ومَن احْتاجَ إلى مَسْكَنٍ فله بَذْلُ الأُجْرَةِ فيه، وإنِ احْتَاجَ إلى الشِّراءِ فله ذلك، كما فَعَلَ عمرُ رَضِىَ اللَّهُ عنه. وكان أبو عَبْدِ اللَّهِ إذا سَكَنَ أَعْطَاهُم أُجْرَتَها. فإن سَكَنَ بأُجْرَةٍ جازَ أن لا يَدْفَعَ إليهم الأُجْرَةَ إن أمْكَنَه؛ لأنَّهم لا يَسْتَحِقُّونَها. وقد رُوِى أنَّ سُفْيانَ سَكَنَ في بَعْضِ رِباعِ مَكَّةَ، وهَرَبَ، ولم يُعْطِهِمْ أُجْرَةً فأَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوها منه. وذُكِرَ لأحمدَ فعلُ سُفيانَ، فَتَبَسَّمَ. فظاهِرُ هذا أنَّه أعْجَبَه. قال ابنُ عَقِيلٍ: وهذا الخِلافُ في غيرِ مَواضِعِ المَناسِكِ. أمّا بِقاعُ المَنَاسِكِ، كمَوْضِعِ المَسْعَى والرَّمْى، فحُكْمُه حُكْمُ المَساجِدِ بغيرِ خِلافٍ. فصل: ومَن بَنَى بِمَكَّةَ بآلةٍ مَجْلُوبَةٍ مِن غيرِ أرْضِ مَكَّةَ، جازَ بَيْعُها، كما يَجُوزُ بَيْعُ أبْنِيَةِ الوُقُوفِ وأنْقاضِها. وإن كانت مِن تُراب الحَرَم وحِجَارَتِه، انْبَنَى جَوازُ بَيْعِها على الرِّوَايَتَيْن في بَيْعِ رِباعِ مَكَّةَ؛ لأَنَّها تابِعَةٌ لها، وهكذا تُرابُ كُلِّ وَقْفٍ وأنْقاضُه. قال أحمدُ: وأمّا البِنَاءُ بمَكَّةَ فإنِّى أكْرَهُه. قال إسحاقُ: البِنَاءُ بمَكَّةَ على وَجْهِ الاسْتِخْلاصِ لنَفْسِه، لا

1564 - مسألة: (ولا يجوز بيع كل ماء عد

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَاءٍ عِدٍّ؛ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ، وَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَلَا مَا في الْمَعَادِنِ الْجَارِيَةِ؛ كَالْقَارِ، وَالْمِلْحِ، وَالنِّفْطِ، وَلَا مَا يَنْبُتُ في أَرْضِهِ مِنَ الْكَلَأِ وَالشَّوْكِ، وَمَنْ أخذ مِنْهُ شَيْئًا، مَلَكَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحِلُّ. وقد رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قيلَ له: ألَا تَبْنِى لك بِمِنًى بَيْتًا، فقال: «مِنًى مُنَاخُ مَن سَبَقَ» (¬1). 1564 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ ماءٍ عِدٍّ (¬2)؛ كمياهِ العُيُونِ، ونَقْعِ البِئْرِ، ولا ما في المعادِنِ الجارِيَةِ؛ مِن القار، والمِلْحِ، والنِّفْطِ، ولا ما يَنْبُتُ في أَرْضِه مِن الكَلَأِ والشَّوْكِ، ومَن أخَذَ منه شيئًا، مَلَكَه) أمَّا (¬3) الأَنْهارُ النّابِعَةُ في غيرِ مِلْكٍ، كالأنْهارِ الكبارِ، لا تُمْلَكُ بحالٍ، ولا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب تحريم حرم مكة، من كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 466. والترمذى، في: باب ما جاء أن منى مناخ من سبق، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 111. وابن ماجه، في: باب النزول بمنى، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1000. والدارمى، في: باب كراهية البنيان بمنى، من كتاب المناسك. سنن الدارمى 2/ 73. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 187، 206، 207. (¬2) العِدُّ، بالكسر: الماء الجارى الذى له مادة لا تنقطع، كماء العين. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجُوزُ بَيْعُها, ولو دَخَلَ إلى أرْضِ رَجُلٍ لم يَمْلِكْه بذلك، كالطَّيْرِ يدخُلُ إلى أَرْضِه، ولِكُلِّ أَحدٍ أخْذُه وتَمَلُّكُه، إلَّا أن يَحْتَفِرَ منه ساقِيَةً، فيكون أحَقَّ بها مِن غَيْرِه. وأمَّا ما يَنْبُعُ في مِلْكِه، كالبِئْرِ، والعَيْنِ المُسْتَنْبَطَةِ، [فنَفْسُ البِئْرِ] (¬1)، وأرْضُ العَيْنِ مَمْلُوكَةٌ لمالِكِ الأرْضِ، فالماءُ الذى فيها غيرُ مَمْلُوكٍ في ظاهرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّه يَجْرِى مِن تَحْتِ الأَرْضِ، [إلى مِلْكِه] (¬2)، فأَشْبَهَ الماءَ الجارِىَ في النَّهْرِ إلى مِلْكِه. وهذا أحَدُ الوَجْهَيْنِ لأصْحَابِ الشّافِعِىِّ. والوَجْهُ الآخَرُ يُمْلَكُ؛ لأنَّه نماءُ المِلْكِ. وقد رُوِى عن أحمدَ نحوُ ذلك، فإنّه قيلَ له في رَجُل له أرْضٌ ولآخَرَ ماءٌ، فيَشْتَرِكُ صاحِبُ الأرْضِ وصاحِبُ الماءِ في الزَّرْعِ، يكونُ بَيْنَهما؟ فقال: لا بَأْسَ. اخْتَارَه ¬

(¬1) في م: «بنفس النهر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بكْرٍ. وهذا يَدُلُّ مِن قَوْلِه على أنّ الماءَ مَمْلُوكٌ لصاحِبِه. وفى مَعْنَى الماءِ المعادِنُ الجَارِيَةُ في الأمْلَاكِ؛ كالقارِ، والنِّفْط، والمُومِيَا، والمِلْحِ. وكذلك الحُكْمُ في الكَلَأِ والشَّوْكِ النّابِتِ في أرْضِه، فكذلك كُلُّه يُخرَّجُ على الرِّوَايَتَيْن في الماءِ. والصَّحِيحُ أنَّ المَاءَ لا يُمْلَكُ، فكذلك هذه. وجَوَازُ بَيْعِ ذلك مَبْنِىٌّ على مِلْكِه. قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنِى بَيْعُ الماءِ ألْبَتَّةَ. وقال الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبا عبدِ اللَّه يُسْألُ عن قَوْمٍ بَيْنَهُم نَهْرٌ تَشْرَبُ منه أرَضُوهم، لهذا يومٌ، ولهذا يَوْمانِ، يَتَّفِقُونَ عليه بالحِصَصِ، فجاءَ يَوْمِى ولا أحْتَاجُ إليه، أُكْرِيه بدَرَاهِمَ؟ قال: ما أدْرِى، أمّا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَنَهَى عن بَيْعِ الماءِ. قيلَ له: إنّه ليس يَبِيعُه، وإنّما يُكْرِيه، قال: إنَّما احْتَالُوا بهذا ليُحَسِّنُوه، فأىُّ شئٍ هذا إلَّا البَيْعَ! ورَوَى الأَثْرَمُ بإسْنادِه عن جابِرٍ، وإياسَ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنَّ النَّبِى -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى أنْ يُباعَ الماءُ (¬1). ورَوَى أبو عُبَيْدٍ (¬2)، ¬

(¬1) أخرجه مسلم, في: باب تحريم بيع فضل الماء. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1197. وأبو داود، في: باب في بيع فضل الماء، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 249. والترمذى، في: باب ما جاء في بيع فضل الماء، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 272. والنسائى، في: باب بيع الماء، وباب بيع ضراب الجمل، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 270، 273. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع الماء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 828. (¬2) في الأموال 295. كما أخرجه أبو داود، في: باب في منع الماء، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 249. وابن ماجه، في: باب المسلمون شركاء في ثلاث، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 826. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 364.

1565 - مسألة: (إلا أنه لا يجوز له الدخول إلى ملك غيره بغير إذنه)

إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ بَيْعُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأَثْرَمُ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «المُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ في ثلاثٍ؛ في النّارِ والكلَأِ والمَاءِ». فإنْ قُلْنَا: يُمْلَكُ. جازَ بَيْعُه، وإنْ قُلْنَا: لا يُمْلَكُ. فصاحِبُ الأرْضِ أحَقُّ به مِن غيرِه؛ لكَوْنِه في مِلْكِه. فإن دَخَلَ غيرُه بغيرِ إذْنِه فأَخَذَه، ملَكَه؛ لأنَّه يُباحُ في الأصْلِ، فأَشْبَهَ ما لو عَشَّشَ في أرْضِه طائِرٌ، أو دَخَلَ إليها صَيْدٌ، أو نَضَبَتْ عن سَمَكٍ، فدَخَلَ إليها دَاخِلٌ، فأَخَذَه. 1565 - مسألة: (إلَّا أنَّه لا يَجُوزُ له الدُّخُولُ إلى مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه) لأنَّه تَصَرَّفَ في ملكِ الغَيْرِ بغيرِ إذْنِه، أشْبَهَ ما لو دَخَلَ لغيرِ ذلك. (وعنه، يَجُوزُ بَيْعُه) وهذا مَبْنِىٌّ على أنَّه يُمْلَكُ، وقد ذَكَرْنَاهُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخِلافُ في بَيْعِ ذلك إنّما هو قبلَ حِيازَتِه. فأمّا ما يَحُوزُه مِن الماءِ في إنائِه، أو يَأْخُذُه مِن الكَلَأِ في حَبْلِه، أو يحُوزُه في رَحْلِه، أو يَأْخُذُه مِن المعادِنِ، فإنّه يَمْلِكُه بذلك، بغيرِ خِلافٍ بينَ أَهْلِ العِلْمِ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُم حَبْلًا، فيَأْخُذَ حِزْمَةً مِن حَطَبٍ فَيَبِيعَها، فيَكُفَّ بها وَجْهَه، خيرٌ له مِن أن يَسْأَلَ النّاسَ، أُعْطِىَ أو مُنِعَ». رَواهُ البُخارِىُّ (¬1). وقد رَوَى أبو عُبَيْدٍ في الأموالِ (¬2) عن المَشْيَخَةِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعِ الماءِ، إلَّا ما حُمِلَ منه. وعلى ذلك مَضَتِ العادَةُ في الأمْصارِ بِبَيْعِ الماءِ في الزَّوايَا، والحَطَبِ والكَلَأِ مِن غيرِ نكيرٍ، وليس لأَحدٍ أن يَشْرَبَ منه، ولا يَتَوَضَّأَ, ولا يَأْخُذَ إلَّا بإذْنِ مالِكِه؛ لأنّه مِلْكُه. قال أحمدُ: إنّما نُهِىَ عن بَيْعِ فَضْلِ ماءِ البِئْرِ والعُيُونِ في قرارِه. ويَجُوزُ بَيْعُ البِئْرِ نَفْسِها والعَيْنِ، ومُشْتَريها أحَقُّ بمائِها. وقد ¬

(¬1) في: باب كسب الرجل وعمله بيده، من كتاب البيوع، وفى: باب بيع الحطب والكلأ، من كتاب المساقاة. صحيح البخارى 3/ 75، 149. كما أخرجه مسلم، في: باب كراهة المسألة للناس، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 721. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن المسألة، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذى 3/ 193. والنسائى، في: باب المسألة، من كتاب الزكاة. المجتبى 3/ 70. وابن ماجه، في: باب كراهية المسألة، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 588. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 167، 2/ 243، 257، 300، 395، 418، 475, 496. (¬2) الأموال 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ يَشْتَرِى بئْرَ رُومَةَ، يُوَسِّعُ بها على المُسْلِمِينَ، وله الجَنَّةُ». أو كما قال. فاشْتَرَاها عثمانُ بنُ عَفّان، رَضِىَ اللَّهُ عنه، مِن يَهُودِىٍّ بأمْرِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسَبَّلَها للمسلمين (¬1). ورُوِىَ أنّ عثمانَ اشْتَرَى منه نِصْفَها باثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا، ثم قال لليَهُودِىِّ: اخْتَرْ؛ إمّا أن تَأْخُذَها يَوْمًا وآخُذَها يَوْمًا، وإمّا أنْ تَنْصِبَ لك عليها دَلْوًا، وأَنْصِبَ عليها دَلْوًا، فاخْتَارَ يَوْمًا ويَوْمًا، فكان النّاسُ يَسْتَقونَ منها في يومِ عثمانَ لليَوْمَيْنِ، فقال اليَهُودِىُّ: أَفْسَدْتَ عَلَىَّ بِئْرِى، فاشْتَرِ باقِيَها. فاشْتَراه بثَمانِيَةِ آلافٍ. وفى هذا دَلِيلٌ على صِحَّةِ بَيْعِها وتَسْبِيلِها، ومِلْكِ ما يَسْتَقِيه منها، وجَوازِ قِسْمَةِ مائِها بالمُهايَأَةِ (¬2)، وكونِ مالِكِها أحَقَّ بمائِها، وجوازِ قِسْمَةِ ما فيه حَقٌّ وليس بمَمْلُوكٍ. فصل: فأمّا المَصانِعُ المُتَّخَذَةُ لِمياهِ الأَمْطارِ تَجْتَمِعُ فيها، ونحوُها مِن البِرَكِ وغيرِها، فالأَوْلى أنَّه يُمْلكُ ماؤُها، ويَصِحُّ بَيْعُه إذا كان ¬

(¬1) أخرجه البخارى تعليقًا، في: باب في الشرب ومن رأى صدقة لماء وهبته، من كتاب المساقاة. صحيح البخارى 3/ 144. والترمذى، في: باب في مناقب عثمان. . .، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 157. والنسائى، في: باب وقف المساجد، من كتاب الأحباس. المجتبى 6/ 195، 196. وبنحوه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 75. (¬2) المهايأة: قسمة الأيام في السقى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْلُومًا؛ لأنَّه مُباحٌ حَصَّلَه بشئٍ مُعَدٍّ له، فمَلَكَه (¬1)، كالصَّيْد يَحْصُلُ في شَبَكَتِه، والسَّمَكِ في بِرْكَةٍ مُعَدَّةٍ له، ولا يَحِلُّ (¬2) أخْذُ شئٍ منه بغيرِ إذْنِ مالِكِه. وكذلك إن جَرَى مِن نهرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ ماءٌ إلى بِرْكَةٍ له في أرْضِه، يَسْتَقِرُّ الماءُ فيها لا يَخْرُجُ منها، فحُكْمُه حُكْمُ مِياهِ الأَمْطَارِ تَجْتَمِعُ في البِركَةِ، قِياسًا عليه. واللَّهُ أعْلَمُ. فصل: وإذا اشْتَرَى ممَّن في مالِه حَلالٌ وحَرام، كالسُّلْطانِ الظالِمِ والمُرَابِى؛ فإن عَلِمَ أنَّ المَبِيعَ مِن حَلالٍ، فهو حَلَالٌ، وإن عَلِمَ أنَّهُ مِن الحَرامِ، فهو حَرَامٌ، ولا يُقْبَلُ قولُ المُشْتَرِى عليه في الحُكْمِ؛ لأنَّ الظاهِرَ أَنّ ما في يَدِ الإِنْسانِ مِلْكُهُ. فإن لم [يَعْلَمْ مِن أيِّهما] (¬3) هو، كُرِه؛ لاحْتِمالِ التَّحْرِيمِ فيه، ولم يَبْطُلِ البَيْعُ؛ لإِمْكانِ الحَلالِ، سَواءٌ قَلَّ الحرامُ أو كَثُرَ. وهذا هو الشُّبْهَةُ، وبقَدْرِ قِلَّةِ الحَرَامِ وكَثْرَتِه، تَكْثُرُ الشُّبْهَةُ وتَقِلُّ. قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنِى أنْ يَأْكُلَ منه؛ وذلك لِما رَوَى النُّعْمانُ بنُ بَشيرٍ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما أمورٌ مُشْتَبِهاتٌ، لا يَعْلَمُها كثيرٌ مِنَ النّاسِ، فمَنِ اتَّقَى الشّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لدِينِه وعِرْضِه، ومَن وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحرامَ، كالرّاعِى يَرْعَى حولَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يحصل». (¬3) في م: «يعلمه من أيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيه، ألَا وإنَّ لِكُلِّ ملِكٍ حِمًى، ألَا (¬1) وإنّ حِمَى اللَّهِ مَحارِمُه». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). واللَّفْظُ لمُسْلِمٍ. ولَفْظُ البُخَارِىِّ: «فمَنْ تَرَكَ ما شُبِّهَ (¬3) عليه، كان لِما اسْتَبَانَ أتْرَكَ، ومَنِ اجْتَرَأَ على ما يَشُكُّ فيه مِن المأْثَمِ، أَوْشَكَ أنْ يواقِعَ ما اسْتَبانَ». ورَوَى الحَسَنُ بنُ عَلِىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: «دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لَا يَرِيبُكَ» (¬4). وهذا مَذْهَبُ الشافِعِىِّ. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب فضل من استبرأ لدينه، من كتاب الإيمان, وفى: باب الحلال بين والحرام بين. . .، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 1/ 20، 3/ 69، 70. ومسلم، في: باب أخذ الحلال وترك الشبهات، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1219، 1220. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اجتناب الشبهات، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 218. والترمذى، في: باب ما جاء في ترك الشبهات، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 198، 199. والنسائى، في: باب اجتناب الشبهات في الكسب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 213. وابن ماجه، في: باب الوقوف عند الشبهات، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1318، 1319. والدارمى، في: باب في الحلال بين والحرام بين، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 245. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 267، 269، 271، 275. (¬3) في م: «اشتبه». (¬4) أخرجه الترمذى، في: باب حدثنا عمرو بن على، من أبواب صفة القيامة. عارضة الأحوذى 9/ 321. والنسائى، في: باب الحث على ترك الشبهات، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 112، 153، 200.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَشْكُوكُ فيه على ثَلَاثَةِ أضْرُبٍ؛ ما أصْلُه الحَظْرُ، كالذَّبِيحَةِ في بَلْدَةٍ فيها مَجُوسٌ وعَبَدَةُ أَوْثانٍ يَذْبَحُونَ، فلا يَجُوزُ شِراؤُها، وإنْ جازَ أنْ تكونَ ذَبِيحَةَ مُسْلِمٍ؛ لأنَّ الأصْلَ التَّحْرِيمُ، فلا يَجُوزُ إلَّا بِيَقِينٍ أو ظاهِرٍ. وكذلك إنْ كان فيها أخْلاطٌ مِن المُسْلِمِينَ والمَجُوسِ، لم يَجُزْ شِراؤُها؛ لذلك. والأصْلُ فيه حَدِيثُ عَدِىِّ بنِ حاِتمٍ: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فخالَطَ أَكْلُبًا لم يُسَمَّ عليها، فلا تَأْكُلْ، فإنَّكَ لا تَدْرِى أيُّها قَتَلَه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمّا إنْ كان ذلك في بَلَدِ الإِسْلامِ، فالظَّاهِرُ إباحَتُها؛ لأنَّ المُسْلِمِينَ لا يُقِرُّونَ في بَلَدِهم بَيعَ ما لا يَحِلُّ بَيْعُه ظاهِرًا. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان، من كتاب الوضوء، وفى: باب تفسير المشبهات، من كتاب البيوع، وفى: باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ. . .}، وباب صيد المعراض، وباب ما أصاب المعراض بعرضه، وباب إذا أكل الكلب. . .، وباب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، وباب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح البخارى 1/ 55، 3/ 70، 71، 7/ 110، 111، 113، 114. ومسلم، في: باب الصيد بالكلاب المعلمة، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1529 - 1531. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبى داود 2/ 97 - 99. والترمذى، في: باب ما جاء ما يؤكل من صيد الكلب وما لا يؤكل، وباب ما جاء في الكلب يأكل من الصيد، وباب ما جاء في صيد المعراض، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذى 6/ 253، 257 - 259. والنسائى، في: باب الأمر بالتسمية عند الصيد، وباب النهى عن أكل ما لم يذكر اسم اللَّه عليه، وباب صيد الكلب المعلم، وباب إذا قتل الكلب، وباب إذا وجد مع كلبه كلبا لم يسم عليه، وباب إذا وجد مع كلبه كلبا غيره، وباب الكلب يأكل من الصيد، وباب ما أصاب بعرض من صيد المعراض، وباب ما أصاب بحد من صيد المعراض. المجتبى 7/ 158 - 162، 172. وابن ماجه، في: باب صيد الكلب، وباب صيد المعراض، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1070، 1072. والدارمى، في: باب في صيد المعراض، من كتاب الصيد. سنن الدارمى 2/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 193 - 195، 256، 257، 377، 380.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّانِى، ما أَصْلُه الإِباحَةُ، كالماءِ يَجدُه مُتَغَيِّرًا، لا يَعْلَمُ بنَجَاسَةٍ تَغَيَّرَ، أو غيْرِها؟ فهو طاهِرٌ في الحُكْمِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فلا يَزُولُ عنها إلَّا بِيَقِينٍ أو ظاهِرٍ، ولم يوجَدْ واحِدٌ منهما. والأصْلُ في ذلك حَدِيثُ عبدِ اللَّهِ ابنِ زَيْدٍ، رضِىَ اللَّهُ عنه، قال: شُكِىَ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إليه في الصَّلَاةِ أنَّه يَجِدُ الشَّئَ، قال: «لا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجدَ رِيحًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). الثالِثُ، ما لا يُعْرَفُ له أصْلٌ كَرجُلٍ في مالِه حَلالٌ وحَرامٌ، فهذا هو الشُّبْهَةُ التى الأَوْلَى تَرْكُها، على ما ذَكَرْناهُ، وعَمَلًا بما رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه وَجَدَ تمْرَةً ساقِطَةً، فقال: «لَوْلا أنِّى أَخْشَى أَنَّها مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُها» (¬2). وهو مِن بابِ الوَرَعَ. فصل: وكان أحمدُ لا يَقْبَلُ جوائِزَ السُّلْطانِ، ويُنْكِرُ على وَلَدِه وعَمِّه قَبُولَها، ويُشَدِّدُ في ذلك. ومِمَّنْ كان لا يَقْبَلُها؛ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والقاسِمُ، وبُسْرُ (¬3) بنُ سَعِيدٍ، ومحمدُ بنُ واسِعٍ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 68. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب إذا وجد تمرة في الطريق، من كتاب اللقطة. صحيح البخارى 3/ 164. ومسلم، في: باب تحريم الزكاة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 751. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 317، 3/ 119، 132، 184، 193، 241، 258، 291، 292. (¬3) في م: «وبشْر». وهو بُسْر بن سعيد المدنى العابد، مولى ابن الحضرمى، تابعى، وكان ثقة، كثير الحديث. مات بالمدينة سنة مائة. تهذيب التهذيب 1/ 437، 438.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُبارَكِ، وكان هذا مِنْهم على سَبِيلِ الوَرَعِ، لا على أَنَّها حَرامٌ، فإنَّ أحمدَ قال: جَوائِزُ السُّلْطانِ أَحَبُّ إلَىَّ مِن الصَّدَقَةِ. وقال: ليس أحَدٌ مِن المُسْلِمِينَ إلَّا وله في هذه الدَّرَاهِمِ نصِيبٌ، فكَيْفَ أَقُولُ إنّها سُحْتٌ. ومِمَّنْ كان يقبلُ جَوائِزَهم ابنُ عمرَ، وابنُ عَبّاسٍ، وعائِشَةُ، وغيرُهم، مثلُ: الحَسَنِ، والحُسَيْنِ، وابنِ جَعْفَرٍ. ورَخَّصَ فيه الحَسَنُ البَصْرِىُّ، ومَكْحُولٌ، والزُّهْرِىُّ، والشّافِعِىُّ. واحْتَجَّ بَعْضُهم بأن النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشْتَرَى مِن يَهُودِىٍّ طَعامًا (¬1)، وماتَ ودِرْعُه مَرْهُونَةٌ عِنْدَه (¬2). وأجابَ يَهُودِيًّا دَعاهُ، وأكل مِن طعامِه (¬3). وقد أخْبَرَ اللَّه تعالى أنَّهم أَكّالُونَ للسُّحْتِ (¬4). ورُوِىَ عن عَلِىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنّه قال: لا بَأْسَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب شراء النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسيئة، وباب شراء الإمام الحوائج بنفسه، وباب شراء الطعام إلى أجل، من كتاب البيوع، وفى: باب من رهن درعه، وباب الرهن عند اليهود، من كتاب الرهن. صحيح البخارى 3/ 73، 74، 81، 101، 186، 187. ومسلم، في: باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1226. والنسائى، في: باب الرجل يشترى الطعام إلى أَجل. . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 253. وابن ماجه، في: باب حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، من كتاب الرهون. منن ابن ماجه 2/ 815. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 42، 160. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما قيل في درع النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب حدثنا قبيصة، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 49, 50، 6/ 19. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 219. والنسائى، في: باب مبايعة أهل الكتاب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 267. وابن ماجه، في: باب حدثنا أبو بكر ابن أبى شيبة، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 815. والدارمى، في: باب في الرهن، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 259، 260. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 236، 300، 301، 361، 3/ 102، 238، 6/ 453، 457. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 210، 211، 270. (¬4) إشارة إلى قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. سورة المائدة 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بجَوائِزِ السُّلْطانِ، فإنَّ ما يُعْطِيكُم مِن حَلالٍ أكثرُ مِمّا يُعْطِيكُم مِن الحرامِ. وقال: لا تَسْأْلِ السُّلْطانَ شَيْئًا، وإنْ أعْطَى فخُذْ، فإنَّ ما في بَيْتِ المالِ مِن الحَلالِ أكْثَرُ مِمّا فيه مِن الحَرامِ. فصل: قال أحمدُ، في مَن معه ثَلَاثةُ دَراهِمَ فيها دِرْهَمٌ حَرامٌ: يَتَصَدَّقُ بالثَّلَاثَةِ، وإنْ كانَ معه مائَتا دِرْهَمٍ، فيها عَشَرَةُ دَراهِمَ حَرامٌ، تَصَدَّقَ بالعَشَرَةِ؛ لأنَّ هذا كثيرٌ وذاكَ قَلِيلٌ. قيلَ له: قال سُفْيَانُ: ما كان دُونَ العَشَرَةِ يُتَصَدَّقُ به، وما كان أكْثَرَ يُخْرجُ. قال: نعم، لا يُجْحَفُ به. قال القاضِى: ليس هذا على سَبِيلِ التَّحْدِيدِ، وإنَّما هو على سَبِيلِ الاخْتِيارِ؛ لأنَّه كُلَّما كَثُرَ الحَلالُ بَعُدَ تناوُلُ الحَرام، وشقَّ التَّوَرُّعُ عن الجَمِيعِ، بخِلافِ القَلِيلِ، فإنَّه يَسْهُلُ إخْراجُ الكلِّ. والواجِبُ في المَوْضِعَين إخراجُ قَدْرِ الحَرام، والباقِى له، وهذا لأنَّ تَحْرِيمَه لم يكُنْ لتَحْرِيمِ عيْنِه، وإنَّما حُرِّمَ لتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِه به، فإذا أخرجَ عِوَضَه زالَ التَّحْرِيمُ، كما لو كان صاحِبُه حاضِرًا فرَضِىَ بعِوَضِه، وسواءٌ كان قليلًا أو كثيرًا. والوَرَعُ إخْراجُ ما يُتَيَقَّنُ به إخْراجُ عَيْنِ الحَرام، ولا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بإخْرَاجِ الجَمِيعِ، لكنْ لمّا شقَّ ذلك في الكَثِيرَ، تُرِكَ لأجْلِ

فصل

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، أنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَا يَجْوزُ بَيْعُ الْآبِقِ، وَلَا الشَّارِدِ، وَلَا الطَّيْرِ في الْهَوَاءِ، وَلَا السَّمَكِ في الْمَاءِ، وَلَا الْمَغْصُوبِ إلَّا مِنْ غَاصِبِهِ، أَوْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَشَقَّةِ فيه، واقتُصِرَ على الواجِبِ. ثم يَخْتَلِفُ هذا باخْتِلافِ النّاسِ؛ فمنهم مَن لا يكونُ له سِوَى الدَّراهِمِ اليَسِيرَةِ، فيَشُقُّ إخْراجُها؛ لحاجَتِه إليها، ومنهم مَن يَكُونُ له مالٌ (¬1) كثيرٌ، فيَسْتَغْنِى عنها، فيَسْهُلُ إخْراجُها. واللَّهُ تعالى أعْلَمُ. (فصل: الخامِسُ، أن يكونَ مَقْدُورًا على تَسْلِيمِه، فلا يَجُوز بَيْعُ الآبِقِ، ولا الشارِدِ، ولا الطَّيْرِ في الهَواءِ، ولا السَّمَكِ في الماءِ، ولا المَغْصُوبِ إلَّا مِن غاصِبِه، أو مِمَّن يَقْدِرُ على أَخْذِه منه) بَيْعُ العَبْدِ الآبِقِ لا يَجُوزُ، سَواءٌ عَلِمَ بمكَانِه أو جَهِلَه. وكذلك ما في مَعْناهُ؛ مِن الجَمَلِ الشارِدِ، والفَرَسِ العائِرِ (¬2) وَشِبْهِهما. وبه قال مالِكٌ، والشّافِعِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحَابُ الرَّأْى. ورُوِىَ عن ابنِ عمرَ أنّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الفرس العائر: الذى انفلت من صاحبه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرَى مِن بعضِ ولَدِه بَعِيرًا شارِدًا. وعن ابنِ سِيرِينَ؛ لا بَأْسَ بِبَيْعِ الآبِقِ، إذا كان عِلْمُهما فيه واحِدًا. وعن شُرَيْحٍ مِثْلُه. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بَيْعِ الحَصَاةِ، وعن بَيْعِ الغَرَرِ. رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). وهذا بَيْعُ غَرَرٍ، ولأنَّه غيرُ مَقْدُورٍ على تَسْلِيمِه، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كالطَّيْرِ في الهَواءِ، فإنْ حَصَلَ في يَدِ إنْسَانٍ، جازَ بَيْعُه؛ لإِمْكانِ تَسْلِيمِه. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ في الهواءِ، مَمْلُوكًا كان أو لَا؛ أمّا ¬

(¬1) في: باب بطلان بيع الحصى والبيع الذى فيه غرر، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1153. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الغرر، وباب في بيع المضطر، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 228، 229. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع الغرر، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 237. والنسائى، في: باب بيع الحصاة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 230. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع الحصاة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 739. والدارمى، في: باب النهى عن بيع الغرر، وباب في الحصاة، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 251، 253، 254. والإمام مالك، في: باب بيع الغرر، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 664. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 116، 302، 2/ 155، 250، 376، 436، 439، 496.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَمْلُوكُ، فلأَنَّه غيرُ مَقْدُورٍ عليه، وغيرُ المَمْلُوكِ لا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ؛ عَدَمُ القُدْرَةِ، وعَدَمُ المِلْكِ؛ لحَدِيثِ أبى هُرَيْرَةَ، قيلَ في تَفْسِيرِه: هو بَيْعُ الطَّيْرِ في الهواء، والسَّمَكِ في الماءِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا, ولا فَرْقَ بين كَوْنِ الطائِرِ يَأْلَفُ الرُّجُوعَ، أو لا يَأْلَفُه؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه الآنَ، وإنَّما يَقْدِرُ إذا عادَ. فإنْ قيلَ: فالغائِبُ في مَكانٍ بَعيدٍ لا يَقدِرُ على تَسْلِيمِه في الحالِ! قُلْنا: الغائِبُ يَقْدِرُ على اسْتِحْضارِه، والطَّيْرُ لا يَقْدِرُ صاحِبُه على رَدِّه، إلَّا أنْ يَرْجِعَ هو بنَفْسِه، ولا يَسْتَقِلُّ مالِكُه برَدِّه، فيكونُ عاجِزًا عن تَسْلِيمِه، لعَجْزِه عن الواسِطَةِ التى يَحْصُلُ بها تَسْلِيمُه، بخِلافِ الغائِبِ. وإن باعَهُ الطَّيْرَ في البُرْجِ، نَظرتَ؛ فإن كان البُرْجُ مَفْتُوحًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الطَّيْرَ إذا قَدَرَ على الطَّيَرانِ لم يُمْكِنْ تَسْلِيمُه، فإن كان مُغْلَقًا ويُمكِنُ أخْذُه، جازَ بَيْعُه. وقال القاضِى: إن لم يمكِنْ أخْذُه إلَّا بتَعَبٍ ومَشَقَّةٍ، لم يَجُزْ بَيْعُه. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وهو مُلْغًى بالبَعِيدِ الذى لا يُمْكِنُ إِحْضَارُه إلَّا بتَعَبٍ ومَشَقَّةٍ. وفَرَّقُوا بينهما، بأنَّ البَعِيدَ تُعْلَمُ الْكُلْفَةُ التى يحتاجُ إليها في إحْضارِه بالعادَةِ، وتَأخِيرُ التَّسْلِيمِ مُدَّتُه مَعْلُومَةٌ. والصَّحِيحُ أنَّ تَفاوُتَ المُدَّةِ في إحْضارِ البَعِيدِ، واخْتِلافَ المَشَقَّةِ أكْثَرُ مِن التَّفاوُتِ والاخْتِلافِ (¬1) في إِمْساكِ طائِرٍ مِن البُرْجِ، والعادَةُ تكونُ في هذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعَادَةِ في ذلك، فإذا صَحَّ في البَعِيدِ مع كَثْرةِ التَّفَاوُتِ وشِدَّةِ اخْتِلافِ المَشَقَّةِ، فهذا أوْلَى. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ في الآجامِ. هذا قولُ أكثرِ أَهْلِ العِلْمِ. ورُوِىَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أنّه نَهَى عنه، وقال: إنَّه غرَرٌ (¬1). وكَرِهَهُ الحَسَنُ، والنَّخَعِىُّ، ومالِكٌ، وأبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِىُّ، وأبو يُوسُفَ، وأبو ثَوْرٍ. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ والمَعْنَى. فإن باعَه في الماءِ، جازَ بثَلَاثةِ شُروطٍ؛ أحَدُها، أنْ يكونَ مَمْلُوكًا. وأنْ يكونَ الماءُ رقِيقًا، لا يمنعُ مُشاهَدَتَه ومَعْرِفَتَه. وأنْ يُمْكِنَ اصْطِيادُه؛ لأنَّه مَمْلُوكٌ مَعْلُومٌ يمكنُ تَسْلِيمُه، فجازَ بَيْعُه، كالمَوْضُوعِ في طَسْتٍ في الماءِ. وإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ ممّا ذَكَرْنا، لم يَجُزْ بَيْعُه؛ لفَواتِ الشَّرْطِ. ورُوِىَ عن عمرَ ابنِ عبدِ العزيزِ، وابنِ أبى لَيْلَى، في مَن له أُجْمَةٌ يَحْبِسُ السَّمَكَ فيها، يجُوزُ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في النهى عن بيع السمك في الماء، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعُه؛ لأنَّه يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه ظاهِرًا، أشْبَهَ ما يَحْتَاجُ إلى مُؤْنَةٍ في الكَيْلِ أو الوَزْنِ والنَّقْلِ. ولَنا، قَوْلُ ابنِ مَسْعُودٍ، وابنِ عمرَ: لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ في الماءِ؛ لأنَّه غَرَرٌ، ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْع الغَرَرِ، وهذا منه، ولأنَّه لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه إلَّا بعدَ اصْطِيادِه، أشْبَهَ الطَّيْرَ في الهَواءِ، ولأنَّه مَجْهُولٌ، أشْبَهَ اللَّبَنَ في الضَّرْعِ، ويُفارِقُ ما قَاسُوا عليه؛ لأنَّ ذلك مِن مُؤْنَةِ القَبْضِ، وهذا يَحْتاجُ إلى مُؤْنَةٍ ليُمْكِنَ قَبْضُه، فأمّا إن كانت له بِرْكَةٌ له فيها سَمَكٌ يُمْكِنُ اصْطِيَادُه بغيرِ كُلْفَةٍ، والماءُ رَقِيقٌ لا يَمْنَعُ المُشاهَدَةَ، صَحَّ بَيْعُه، على ما ذَكَرْنا، وإن لم يُمْكِنْ إلَّا بمشَقَّةٍ وكُلْفَةٍ، وكانت يَسِيرَةً، بمَنْزِلَةِ اصْطِيادِ الطّائِرِ مِن البُرْجِ، فالقَوْلُ فيه كالقَوْلِ في بَيْعِ الطّائِرِ في البرجِ، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. وإن كانت كَثِيرَةً تَتَطَاوَلُ المُدَّةُ فيه، لم يَجُزْ بَيْعُه؛ للعَجْزِ عن تَسْلِيمِه في الحالِ، والجَهْلِ بإمْكانِ وقْتِ (¬1) التَّسْلِيمَ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ المَغْصُوبِ؛ لعَدَمِ إمْكانِ تَسْلِيمِه، فإن باعَه ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: السَّادِسُ، أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ بِرُؤْيَةٍ، أَوْ صِفَةٍ تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لغاصِبِه أو لقادِرٍ على أخْذِه منه، جازَ؛ لعَدَمِ الغرَرِ فيه، ولإِمْكانِ قَبْضِه. وكذلك إن باعَ الآبِقَ لقادِرٍ عليه، صَحَّ كذلك، وإنْ ظَنَّ أَنَّه قادِرٌ على اسْتِنْقاذِه مِمّن هو في يَدِه، صَحَّ البَيْعُ. فإن عَجَزَ عن اسْتِنْقاذِه، فله الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والإِمْضَاءِ؛ لأنَّ العَقْدَ صَحَّ لكَوْنِه مَظْنُونَ القُدْرَةِ على قَبْضِه، وثَبَتَ له الفَسْخُ؛ للعَجْزِ عن القَبْضِ, فهو كما لو باعَهُ فَرَسًا فشَرَدَتْ قبلَ تَسْلِيمِها، أو غَائِبًا بالصِّفةِ، فَعَجَزَ عن تَسْلِيمِه. فصل: (السادِسُ، أن يكُونَ مَعْلُومًا؛ برُؤْيةٍ، أو صِفَةٍ تحصُلُ بها

فَإِنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ رَآهُ وَلَم يَعْلَمْ مَا هُوَ، أَوْ ذُكِرَ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ مَا لَا يَكْفِى في السَّلَمِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ، وَلِلْمُشْتَرِى خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْرِفَتُه. فإنِ اشْتَرَى ما لِم يَرَهُ ولم يُوصَفْ له، أو رَآهُ ولم يَعْلَمْ ما هو، أو ذُكِرَ له مِن صِفتِه ما لا يَكْفِى في السَّلَمِ، لم يَصِحَّ البَيْعُ. وعنه، يَصِحُّ، وللمُشْتَرِى خيارُ الرُّؤْيَةِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في بَيْع الغائِبِ الذى لم يُوصَفْ، ولم تَتَقدَّمْ رُؤْيَتُه، فالمَشْهُورُ عنه، أنَّه لا يَصِحُّ بَيْعُه. وبهذا قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحَسَنُ، والأوْزَاعِىُّ، ومالِكٌ، وإسحاقُ. وهذا أحَدُ قَوْلَى الشَّافعىِّ. وفيه رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ أبى حَنِيفَةَ، والقَوْلُ الثَّانِى للشافِعِىِّ. واحْتَجَّ مَن أجَازَه بعُمُومِ قولِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1). وبما رُوِى عن عثمانَ، وطَلْحَةَ، أنَّهُما تَبَايَعَا دَارَيْهِما؛ إحداهُما بالكُوفَةِ، والأُخْرَى بالمَدِينَةِ، فقيلَ لعُثْمانَ: إنَّكَ قد غُبِنْتَ. فقال: ما أُبالِى؛ لأنِّى (¬2) بِعْتُ ما لم أرَهُ. وقيل لطَلْحَةَ، فقال: لِيَ الخِيارُ؛ لأنَّنِى اشْتَرَيْتُ ما لم أرَهُ. فَتَحَاكَمَا إلى جُبَيْرٍ (¬3)، فَجَعَلَ الخِيارَ لطَلْحَةَ (¬4). وهذا اتِّفاقٌ منهم على صِحَّةِ البَيْعِ. ولأنَّه عقدُ مُعَاوَضَةٍ، فلم تَفْتَقِرْ صِحَّتُه إلِى رُؤْيَةِ المَعْقُودِ عليه، كالنِّكَاحِ. ولَنا، ما رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه نهَى عن بَيْعِ الغَرَرِ. رَواهُ مُسْلِمٌ (¬5). ولأنَّه باعَ ما لم يَرَهُ ولم يُوصَفْ له، فلم يَصِحَّ، كبَيْعِ النَّوَى في التَّمْرِ، ولأنَّه ¬

(¬1) سورة البقرة 275. (¬2) في م: «أنى». (¬3) هو جبير بين مطعم بن عدي القرشى النوفلى الصحابى، كان ممن يتحاكم إليه، وتوفى سنة ست وخمسين. تهذيب التهذيب 2/ 63. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب من قال يجوز بيع العين الغائبة، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 268. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 90.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعٌ، فلم يَصِحَّ مع الجَهْلِ بصِفَةِ المَبِيعِ، كالسَّلَمِ، والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بما ذكَرْناه مِن الأصْلِ. وأمّا حَدِيثُ عثمانَ وطَلْحَةَ، فَيَحْتَمِلُ أنَّهما تَبَايَعَا بالصِّفَةِ، ومع ذلك فهو قَوْلُ صَحابِىٍّ، وقد اخْتُلِفَ في كَوْنِه حُجَّةً، ولا يُعَارَضُ به حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنِّكاحُ لا يُقْصَدُ منه المُعاوَضَةُ، ولا يَفْسُدُ بفَسَادِ العِوَضِ، ولا بتَركِ ذِكْرِه، ولا يَدْخُلُه شئٌ مِن الخِيارَاتِ، وفى اشْتِراطِ الرُّؤْيَةِ مَشَقَّةٌ على المُخَدَّرَاتِ، وإضْرَارٌ بهِنَّ، ولأَنَّ الصِّفاتِ التى تُعْلَمُ بالرُّؤْيَةِ ليست هى المَقْصُودَةَ بالنِّكَاحِ، فلا يَضُرُّ الجَهْلُ بها، بخِلافِ البَيْعِ. فإن قيل: فقد رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَه، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» (¬1). والخِيَارُ لا يَثْبُتُ إلَّا في عَقْدٍ صَحِيحٍ. قُلْنا: هذا يَرْوِيه عمرُ بنُ إبراهيمَ الكُرْدِىُّ، وهو مَتْرُوكُ الحَدِيثِ (¬2). ويَحْتَمِلُ أنَّه بالخِيارِ بينَ العَقْدِ عليه وتَرْكِه. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: الموضع السابق. والدارقطنى، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطنى 3/ 4. وانظر: تلخيص الحبير 3/ 6. (¬2) وانظر: ميزان الاعتدال 3/ 179.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، يُشْتَرطُ رُؤْيَةُ ما هو مَقْصُودٌ بالبَيْعِ، كداخِلِ الثَّوْبِ، وشَعَرِ الجارِيَةِ، ونحوِهما. فلو باعَ ثَوْبًا مَطْوِيًّا، أو عَيْنًا حاضِرَةً لا يُشَاهَدُ منها ما يَخْتَلِفُ الثمَنُ لأجْلِهِ، كان كبَيْعِ الغائِبِ. فإن قُلْنا بصِحَّةِ بَيْعِ الغائِبِ، فللمُشْتَرِى الخيارُ في أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ. ويَثْبُتُ الخِيارُ عندَ رُؤْيَةِ المَبِيعِ في الفَسْخِ والإِمْضاءِ، ويكونُ على الفَوْرِ، فإنِ اخْتَارَ الفَسْخَ انْفَسَخَ العَقْدُ، وإن لم يَخْتَرْ، لَزِمَ العَقْدُ؛ لأنَّ الخِيارَ خِيارُ الرُّؤْيَةِ، فوَجَبَ أن يكونَ عندَها. وقيلَ: يَتَقَيَّدُ بالمَجْلِسِ. وإنِ اخْتَارَ الفَسْخَ قبلَ الرُّؤْيَةِ انْفَسَخَ؛ لأنَّ العَقْدَ غيرُ لازِمٍ في حَقِّه، فملَكَ الفَسْخَ، كحالَةِ الرُّؤْيَةِ. وإنِ اخْتارَ إمْضاءَ العَقْدِ، لم

1566 - مسألة: (وإن ذكر له من صفته ما يكفى فى السلم،

وَإِنْ ذَكَرَ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ مَا يَكْفِى فِى السَّلَمِ، أَوْ رَآهُ، ثُمَّ عَقَدَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهِ ظَاهِرًا، صَحَّ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ثُمَّ إِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمْ؛ لأنَّ الخِيارَ يَتعَلَّقُ بالرُّؤْيَةِ، ولأَنَّه يُؤدِّى إلى إلْزامِ العَقْدِ على المَجْهُولِ، فَيُفْضِى إلى الضَّرَرِ. وكذلك لو تَبَايَعَا على أن لا يَثْبُتَ الخِيارُ للمُشْتَرِى، لم يَصِحَّ الشرطُ؛ لذلك (¬1). وهل يَفْسُدُ به البَيْعُ؟ على وَجْهَيْن، بناءً على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيْعِ. فصل: ويُعْتَبَرُ لصِحَّةِ العَقْدِ الرُّؤْيَةُ مِن المُتَعَاقِدَيْنِ، وإن قُلْنَا بصِحَّةِ البَيْعِ مع عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَباعَ ما لم يَرَه، فله الخِيارُ عندَ الرُّؤْيَةِ، وإنْ لم يَرَه المُشْتَرِى، فلِكُلِّ واحدٍ (¬2) منهما الخِيارُ. وبهذا قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا خِيارَ للبائِعِ؛ لحَدِيثِ عثمانَ وطَلْحَةَ، ولأَنَّنا لو أَثْبَتْنا له الخِيارَ، لَثَبَتَ لِتَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ، والزِّيَادَةُ في المَبِيعِ لا تثْبِتُ الخِيارَ، بدَلِيل ما لو باع شَيْئًا على أنَّه مَعِيبٍ، فَبَانَ غيرَ مَعِيبٍ، لم يَثْبُتِ الخيارُ له. ولَنا، أنَّه جاهِلٌ بصِفَةِ المَعْقُودِ عليه، فأَشْبَهَ المُشْتَرِىَ. فأمّا الخَبَرُ فإنَّه قَوْلُ طَلْحَةَ وجُبَيْرٍ، وقد خَالفَهُما عثمانُ، وقَوْلُه أوْلَى؛ لأنَّ البَيْعَ يُعْتَبَرُ فيه الرِّضَا منهما، فَتُعْتَبَرُ الرُّؤْيَةُ التى هى مَظِنَّةُ الرِّضَا منهما. 1566 - مسألة: (وإن ذَكَرَ لَه مِن صِفَتِه ما يَكْفِى في السَّلَمِ، ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) سقط من: م.

وَجَدَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَالْقَوْلُ في ذَلِكَ قَولُ الْمُشْتَرِى مَعَ يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو رآه، ثم عَقَدَا بعدَ ذلك بزَمَنٍ لا يَتَغَيَّرُ فيه ظاهِرًا، صَحَّ، في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن. ثم إن وَجَدَه لم يَتَغَيَّرْ، فلا خِيارَ له، وإن وَجَدَه مُتَغَيِّرًا، فله الفَسْخُ، والقوْلُ في ذلك قَوْلُ المُشْتَرِى مع يَمِينِه) إذا ذَكَرَ له مِن صِفاتِ المَبِيعِ ما يَكْفِى في صِحَّةِ السَّلَمِ، صَحَّ بَيْعُه، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. وعنه، لا يَصِحُّ حتَّى يَرَاهُ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لا يَحْصُل بها مَعْرِفَةُ المَبِيعِ، فلم يَصِحَّ البَيْعُ بها، كالذى لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه. ولَنا، أنَّه بَيْعٌ بالصِّفَةِ، فَصَحَّ، كالسَّلَمِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الصِّفَةَ لا يَحْصُلُ بها المَعْرِفةُ، فإنَّها تَحْصُلُ بالصِّفاتٍ الظاهِرَةِ التى لا يَخْتَلِفُ بها الثَّمَنُ ظَاهِرًا، ولهذا اكْتُفِىَ به في السَّلَمِ، ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ في الرُّؤْيَةِ الاطِّلاعُ على الصِّفَاتِ الخَفِيَّةِ. وأَمّا ما لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه، فإنَّما لم يَصِحَّ بَيْعُه بالصِّفَةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ ضَبْطُه بها. إِذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه مَتَى وَجَدَهُ على الصِّفَةِ، لم يَكُنْ له الفَسْخُ. وبهذا قال ابنُ سِيرِينَ، وأَيُّوبُ، ومالِكٌ، والعَنْبَرِىُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِىُّ، أبو حَنِيفَةَ، وأصحابُه: له الخِيارُ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّه يُسَمَّى بَيْعَ خِيارِ الرُّؤْيَةِ، ولأنَّ الرُّؤْيَةَ مِن تمامِ هذا العَقْدِ، فأَشْبَهَ غيرَ المَوْصُوفِ. ولأصْحابِ الشّافِعِىِّ وَجْهانِ، كالمَذْهَبَيْنِ. ولَنا، أنَّه سَلَّمَ له المَعْقُودَ عليه بصِفاتِه، فلم يَكُنْ له خِيارٌ، كالمُسْلَمِ فيه، ولأنَّه مَبِيعٌ مَوْصُوفٌ، فلم يكُنْ للعاقِدِ فيه الخِيارُ في جَميعِ الأحْوالِ، كالسَّلَمِ. وقَوْلُهم: إنَّه يُسَمَّى بَيْعَ خِيارِ الرُّؤْيَةِ. لا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، فإن ثَبَتَ، فيَحْتَمِلُ أنَّه يُسَمِّيه مَنْ يَرَى ثُبُوتَ الخِيارِ، فلا يَحْتَجُّ به على غَيْرِه. فأمّا إن وَجَدَه بخلافِ الصِّفَةِ، فله الخِيارُ، ويُسَمَّى خِيارَ الخُلْفِ في الصِّفَةِ؛ لأنَّه وَجَدَ المَوْصُوفَ بخِلافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّفَةِ، فلم يَلْزَمْه [كالسَّلَمِ] (¬1). وِإنِ اخْتَلَفَا في اخْتِلافِ الصِّفَةِ، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِى مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه مِن الثَّمَنِ، فلا يَلْزَمُه ما لم يُقرَّ به، أو يَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ، أو ما يقومُ مَقامَها. فصل: والبَيْعُ بالصِّفَةِ نَوْعانِ؛ أحَدُهما، بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَنّةَ، مثلَ أنْ يقولَ: بِعْتُكَ عَبْدِىَ التُّركِىَّ. ويَذْكُرُ صِفاتِه، فهذا يَنْفَسِخُ العَقْدُ عليه برَدِّهِ على البائِع، وتَلَفِه قَبْلَ قَبْضِه؛ لكَوْنِ المَعْقُودِ عليه مُعَيَّنًا، فيَزُولُ العَقْدُ بزَوالِ مَحَلِّه، ويَجُوزُ التَّفَرُّقُ قبلَ قَبْضِ ثَمَنِه، وقَبْضِه، كبَيْع الحاضِرِ. الثَّانِى، ¬

(¬1) في م: «كالمسلم فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعُ مَوْصُوفٍ غيرِ مُعَيَّنٍ، مثلَ أنْ يقولَ: بِعْتُكَ عَبْدًا تركِيًّا. ثم يَسْتَقْصِى صِفاتِ السَّلَمِ، فهذا في مَعْنَى السَّلَمِ، فمتَى سَلَّمَ إليه عَبْدًا على غيرِ ما وَصَفَ، فَرَدَّهُ، أو على ما وَصَفَ، فأبْدَلَه، لم يَفْسُدِ العَقْدُ؛ لأنَّ العَقْدَ لم يَقَعْ على غيرِ هذا، فلم يَنْفَسِخِ العَقْدُ برَدِّهِ، كما لو سَلَّمَ إليه في السَّلَمِ غيرَ ما وَصَفَ له، فرَدَّهُ. ولا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ عن مَجْلِممرر العَقْدِ قبلَ قَبْضِ المَبِيعِ، أو قَبْضِ ثَمَنِه. وهذا قولُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه بَيْعٌ في الذِّمَّةِ، فلم يَجُزِ التَّفَرُّقُ فيه قبلَ قَبْضِ أَحَدِ العِوَضَيْنِ، كالسَّلَمِ. وقال القاضى: يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فيه قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه بَيْعٌ حالٌّ، فجازَ التَّفَرُّقُ فيه قبلَ القَبْضِ, كبَيْعِ العَيْنِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأَيا المَبِيعَ، ثم عَقَدَا البَيْعَ بعد ذلك بزَمَنٍ لا تَتَغَيَّرُ العَيْنُ فيه، جازَ، في قولِ أكثرِ أَهْلِ العِلْمَ. وحُكِىَ عن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، لا يَجُوزُ حتَّى يَرَيَاهَا حالَةَ العَقْدِ. وحُكِىَ ذلك عن الحَكَمِ، وحَمّادٍ؛ لأنَّ ما كانَ شَرْطًا في صِحَّةِ العَقْدِ، يَجِبُ أنْ يكونَ مَوْجُودًا حالَ العَقْدِ، كالشَّهادَةِ في النِّكَاحِ. ولَنا، أنَّه مَعْلُومٌ عندهما، أشْبَهَ ما لو شاهَدَاه حالَ العَقْدِ، والشَّرْطُ إنَّما هو العِلْمُ، والرُّؤْيَةُ طَرِيقُ العِلْمِ، ولهذا اكْتُفِىَ بالصِّفَةِ المُحَصِّلَةِ للعِلْمِ، والشَّهادَةُ في النِّكاحِ تُرادُ لحِلِّ العَقْدِ والاسْتِيثاقِ عليه، فلهذا اشْتُرِطَتْ حالَ العَقْدِ. ويُقَرِّرُ ما ذَكَرْنَاهُ ما لو رَأَيَا دَارًا، ووَقَفَا في بيتٍ منها، أو أَرْضًا، ووَقَفَا في طَرَفِها، وتَبَايَعَاهَا، صَحَّ، بلا خِلافٍ، مع عَدَمِ المُشَاهَدَةِ للكُلِّ في الحالِ. ولو كانتِ الرُّؤْيَةُ المَشْرُوطَةُ للبَيْعِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْرُوطَةً حالَ العَقْدِ لاشْتُرِطَ رُؤْيَةُ جَمِيعِه. إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَمَتَى وَجَدَ المَبِيعَ بحالِه لم يَتَغَيَّرْ، لَزِمَهُ البَيْعُ، وإن كان ناقِصًا ثَبَتَ له الخِيارُ؛ لأنَّ ذلك كحُدُوثِ العَيْبِ. وإنِ اخْتَلَفَا في التَّغَيُّرِ، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِى مع يَمِينِه؛ لأنَّه يَلْزَمُه الثَّمَنُ، فلا يَلْزَمُه ما لم يَعْتَرِفْ به. فأمّا إن عُقِدَ البَيْعُ بعد رُؤيةِ المَبِيعِ بمُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فيها فسادُ المَبِيعِ، لم يَصِحَّ البَيْعُ؛ لأنَّه مِمّا لا يَصِحُّ بَيْعُه، وإن كان يَتَغَيَّرُ فيها, لم يصحَّ بيعُه أَيضًا؛ لأنَّه مَجْهُولٌ، وكذلك إن كان الظّاهِرُ تَغَيُّرَه، فأمّا إن كان يَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ وعَدَمَه، وليس الظاهِرُ تغيّرَه، صَحَّ بَيْعُه؛ لأنَّ الأصْلَ السّلامَة، ولم

1567 - مسألة: (ولا يجوز بيع الحمل فى البطن، واللبن فى الضرع، والمسك فى الفأر، والنوى فى التمر)

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ في الْبَطنِ، وَاللَّبَنِ في الضَّرْعِ، وَالْمِسْكِ في الْفَأْرِ, وَالنَّوَى في التَّمْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعَارِضْه ظاهِرٌ، فصَحَّ بَيْعُه، كما لو كانتِ الغَيْبَةُ يَسِيرةً. وهذا ظاهرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ. 1567 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ الحَمْلِ في البَطنِ، واللَّبَنِ في الضَّرْعِ، والمِسْكِ في الفَأْرِ، والنَّوَى في التَّمْرِ) بَيْعُ الحَمْلِ في البَطنِ فاسِدٌ بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعُوا على أنَّ بَيْعَ المَلاقِيحِ والمضَامِينِ غيرُ جائِزٍ. وإنّما لم يَجُزْ بَيْعُ الحَمْلِ في البَطنِ، لوَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، الجهالَةُ، فإنَّه لا تُعْلَمُ صِفَتُه ولا حَياتُه. والثانِى، أنَّه غيرُ مَقْدُورٍ على تَسْلِيمِه، بخِلافِ الغائِبِ، فإنَّه يَقْدِرُ على الشُّرُوعِ في تَسْلِيمِه. وقد رَوَى سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِى اللَّهُ عنه، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعِ المَلاقِيحِ، والمَضامِينِ (¬1). قال أبو عُبَيْدٍ (¬2): المَلاقِيحُ، ما في البُطُونِ، وهى الأجِنَّةُ، والمَضامِينُ، ما في أصْلابِ الفُحُولِ، فكانُوا يَبِيعُونَ الجَنِينَ في بَطنِ النّاقَةِ، وما يَضْرِبُه الفَحْلُ في عامِه، أو في أَعْوامٍ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب النهى عن بيع حبل الحبلة، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 341. (¬2) في: غريب الحديث 1/ 207، 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأَنْشَدَ (¬1): إنَّ المَضَامِينَ الَّتى في الصُّلْبِ مَاءُ الفُحُولِ في الظُّهُورِ الحُدْبِ وروَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعِ المَجْرِ (¬2). قال ابنُ الأعْرابِىِّ: المَجْرُ ما في بَطنِ النّاقَةِ، والمَجْرُ الرِّبَا. والمَجْرُ القِمارُ. والمَجْرُ المُحاقَلَةُ والمُزَابَنَةُ. فصل: ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه نَهَى عن بَيْع حَبَلِ الحَبَلَةِ. [مُتَّفَقٌ عليه] (¬3). ومَعْناه، نِتاجُ النِّتَاجِ. قاله أبو عُبَيْدٍ (¬4). وعن ابنِ عمرَ قال: كان أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُون لحْمَ الجَزُورِ إلى حَبَلِ الحَبَلَةِ. وحَبَلُ الحَبَلَةِ أنْ تُنْتَجَ ¬

(¬1) الرجز غير مَعْزُوٍّ، في: اللسان (ض م ن)، وتهذيب اللغة 12/ 50. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب النهى عن بيع حبل الحبلة، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 341. (¬3) سقط من: م. والحديث أخرجه البخارى، في: باب بيع الغرر وحبل الحبلة، من كتاب البيوع، وفى: باب السلم إلى أن تنتج الناقة، من كتاب السلم، وفى: باب أيام الجاهلية، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 3/ 91، 114، 5/ 54. ومسلم، في: باب تحريم بيع حبل الحبلة، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1153. كما أخرجه أبو داود، في: باب بيع الغرر، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 229. والترمذى، في: باب ما جاء في بيع حبل الحبلة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 236. والنسائى، في: باب بيع حبل الحبلة، وباب تفسير ذلك، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 257، 258. وابن ماجه، في: باب النهى عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها وضربة الغائص، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 740. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من بيع الحيوان، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 653. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 56، 2/ 5، 11، 15، 63، 76، 80، 108، 144، 155. (¬4) في: غريب الحديث 1/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاقَةُ، ثم تَحْمِلُ التى نُتِجَتْ. فَنَهاهُم النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). وكِلَا البَيْعَيْنِ فاسِدٌ؛ أمّا الأوَّلُ فَلأَنَّه بَيْعُ مَعْدُومٍ، وإِذا لم يَجُزْ بَيْعُ الحَمْلِ، فبَيْغ حَمْلِه أَوْلَى، وأمّا الثَّانِى فلأنَّه بَيْعٌ إلى أَجلِ مَجْهُولٍ. فصل: ولا يَجُوز بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ. وبه قال الشّافِعِىُّ، وإسحاقُ، وأصْحَابُ الرَّأْى. ونَهَى عنه ابن عَبّاسٍ، وأبو هُرَيْرَةَ. وكَرِهَهُ طاوُسٌ، ومُجاهِدٌ. وحكِىَ عن مالِكٍ، أنّه يجوز أيَّامًا مَعْلُومَةً إذا عَرَفَا حِلابَها, لِسَقْىِ الصَّبِىِّ، كلَبَنِ الظِّئْرِ. وأجازَهُ الحَسَنُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومحمدُ بن مَسْلَمَةَ. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عَبّاسٍ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى أنْ يُباعَ صُوفٌ على ظَهْرٍ، أو لبنٌ في ضَرْعٍ. رواه الخَلَّالُ، وابنُ ماجَه (¬2). ولأنَّه مَجْهولُ الصِّفَةِ والمِقْدارِ، فأَشْبَهَ الحَمْلَ، ولأنَّه بَيْعُ عَيْنٍ لم تُخْلَقْ، فلم يَصِحَّ، كبَيْعِ ما تَحْمِلُ النّاقَةُ، والعادَةُ في ذلك ¬

(¬1) في: الباب السابق. صحيح مسلم 3/ 1154. (¬2) لم نجده في سنن ابن ماجه، وأخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في النهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم. . .، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 340. والدارقطنى، في: كتاب البيوع 3/ 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْتَلِفُ. وأمّا لَبَنُ الظِّئْرِ فإنَّما جازَ للحَضَانَةِ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. فصل: ولا يَجْوزُ بَيْعُ المِسْكِ في الفَأْرِ (¬1)، وهو الوِعاءُ الذى يكونُ فيه. قال الشَّاعِرُ: إذا التَّاجِرُ الهِنْدِىُّ رَاحَ بفَأْرَةٍ … مِن المِسْكِ رَاحَتْ في مَفَارقِهِمْ تَجْرِى فإنْ فَتَحَ، وشاهَدَ ما فيه، جازَ بَيْعُه، وإنْ لم يُشَاهِدْ، لم يَجُزْ بَيْعُه؛ للجَهالَةِ. وقال بعضُ الشّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ؛ لأنَّ بقاءَهُ في فَأْرِه مَصْلَحَةٌ له، فإنَّه يَحْفَظُ رُطُوبَتَه وذكاءَ رائِحَتِه، أَشْبَهَ ما مَأْكُولُه في جَوْفِه. ولَنا، أنَّه يَبْقَى خارِجَ وِعائِه مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، وتَبْقَى رَائِحَتُه، فلم يَجُزْ بَيْعُه مَسْتُورًا، كالدُّرِّ في الصَّدَفِ. وما مَأْكُولُه في جَوْفِه إخْراجُه يُفْضِى إلى تَلَفِه. فالتَّفْصيلُ في بَيْعِه مع وِعائِه، كالتَّفْصِيلِ في بَيْعِ السَّمْنِ في ظَرْفِه، ¬

(¬1) سمى المسك فأرًا؛ لأنه من الفأر يكون. وفأرة المسك تكون بناحية تُبَّت، يصيدها الصياد فيعصب سُرَّتها بعصاب شديد وسرتها مدلَّاة، فيجتمع فيها دمها، ثم تذبح، فإذا سكنت قور السرة المعصَّرَة ثم يدفنها في الشعير حتى يستحيل الدم الجامد مسكًا ذكيًّا. اللسان مادة: (ف أر).

وَلَا الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ بِشَرْطِ جَزِّهِ فِى الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما نَذْكُرُه. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ النَّوَى في التَّمْرِ، والبَيْضِ في الدَّجاجِ، للجَهْلِ بهما. ولا نَعْلَمُ في هذا اخْتِلافًا. فأَمَّا بَيْعُ (الصُّوفِ على الظَّهْرِ) فالمَشْهُورُ أنَّه لا يَجُوزُ بَيْعُه؛ لِما ذَكَرْنَا مِن الحَدِيثِ، ولأنَّه مُتَّصِلٌ بالحَيَوانِ فلم يَجُزْ إفرادُه بالعَقْدِ، كأعْضَائِه (وعنه، أنَّه يَجُوزُ بشَرْطِ جَزِّه في الحالِ) لأنَّه مَعْلُومٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُه، فجار بَيْعُه، كالرَّطْبَةِ، وفارَقَ الأعْضَاءَ؛ لكَوْنِها لا يُمْكِنُ تَسْلِيمُها مع بقاءِ الحَيَوانِ سالِمًا. والخلافُ فيه كالخِلافِ في اللَّبَنِ في الضَّرْعِ. فإنِ اشْتَرَاهُ بشَرْطِ القَطْعِ، وتَرَكَه حتَّى طالَ، فحُكْمُه حُكْمُ الرَّطْبَةِ إذا طالَتْ، على ما نَذْكُرُه في مَوْضِعِه. فصل: فأمَّا بَيْعُ الأعْمَى وشِرَاؤُهُ، فإنْ أمْكَنَه مَعْرِفَةُ المَبِيعِ؛ بالذَّوْقِ إن كان مَطْعُومًا، أو بالشَّمِّ إن كان مَشْمُومًا، صَحَّ بَيْعُه وشِراؤُه. وإن لم يُمْكِنْ، جازَ بَيْعُه بالصِّفَةِ، كالبَصِيرِ، وله خِيارُ الخُلْفِ في الصِّفَةِ.

1568 - مسألة: (ولا يجوز بيع الملامسة؛ وهو أن يقول: بعتك ثوبى هذا، على

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ثَوْبِى هَذَا، عَلَى أَنَّكَ مَتَى لَمَسْتَهُ، فَهُوَ عَلَيْكَ بِكَذَا. أَوْ يَقُولَ: أَىُّ ثَوْبِ لَمَسْتَهُ، فَهُوَ لَكَ بِكَذَا. وَلَا بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَىُّ ثَوْبٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال مالِكٌ. وقال أبو حَنِيفَةَ: له الخِيارُ إلى مَعْرِفَتِه بالبَيْعِ؛ إمّا بحَسِّه، أو ذَوْقِه، أو وَصْفِه. وقال عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ الحَسَنِ: شِراؤُه جائِزٌ، وإِذا أَمَرَ إِنْسَانًا بالنَّظرَ إليه، لَزِمَه. وقال الشّافِعِىُّ: لا يَجُوزُ إِلَّا على الوَجْهِ الذى يَجُوزُ فيه بَيْعُ المَجْهُولِ، أو يكونُ قد رَآهُ بَصِيرًا، ثم اشْتَراهُ قبلَ مُضِىِّ زَمَنٍ يَتَغَيَّرُ فيه المَبِيعُ؛ لأنَّه مَجْهُولُ الصِّفةِ عند العاقِدِ، فلم يَصِحَّ، كبَيعِ البَيْضِ في الدَّجاجِ، والنَّوَى في التَّمرِ. ولَنا، أنَّه يُمْكِنُ الاطِّلاعُ على المَقْصُودِ ومَعْرِفَتُه، فأَشْبَهَ بَيْعَ البَصِيرِ، ولأنَّ إشارَةَ الأخْرَسِ تَقُومُ مَقامَ عِبارتِه (¬1)، فكذلك شَمُّ الأعْمَى وذَوْقُه، فأمّا البَيْضُ والنَّوَى، فلا يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عليه ولا وَصْفُه، بخِلافِ مسألتِنا. 1568 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ المُلامَسَةِ؛ وهو أن يَقُولَ: بعْتُكَ ثَوْبِى هذا، على (¬2) أنَّكَ متى لَمَسْتَه، فهو عَلَيْكَ بكذا. أو يقولَ: أَىُّ ثَوْبٍ لَمَسْتَهُ، فهو لَكَ بكذا. ولَا بَيْعُ المُنابَذَةِ؛ وهو أن يقولَ: ¬

(¬1) في ر 1: «نطقه». (¬2) سقط من: م.

نَبَذْتَهُ إِلَىَّ، فَهُوَ عَلَىَّ بِكَذَا. وَلَا بَيْعُ الْحَصَاةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَعَلَى أىِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ، فَهُوَ لَكَ بِكَذَا. أَوْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ قَدْرَ مَا تَبْلُغُ هَذِه الْحَصَاةُ إِذَا رَمَيْتَهَا بِكَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أىُّ ثَوْبٍ نَبَذْتَه إلَىَّ، فهو عَلَىَّ بكذا. ولا بَيْعُ الحَصَاةِ، وهو أَنْ يقولَ: ارْمِ هذه الحَصَاةَ، فعَلَى أىِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ، فهو لَكَ بكذا. أو يقولَ: بِعْتُكَ مِن هذه الأَرْضِ قَدْرَ ما تَبْلُغُ هذه الحَصَاةُ إذا رَمَيْتَها بكذا) لا نَعْلَمُ بينَ أَهْلِ العِلْمِ خِلافًا في فَسادِ هذه المُبايَعاتِ. والمُلَامَسَةُ، أن يَبِيعَه شَيْئًا, ولا يُشاهِدَه، على أنَّه مَتَى لَمَسَهُ وَقَعَ البَيْعُ. والمُنَابَذَةُ، أن يقولَ: أىُّ ثَوْبٍ نَبَذْتَه إلَىَّ، فقد اشْتَرَيْتُه بكذا. هكذا فَسَّرَهُ أحمدُ في الظَّاهِرِ عنه. ونحوَه قال مالِكٌ، والأَوْزَاعِىُّ. وفيما رَوَى البُخَارِىُّ (¬1) أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما يستر من العورة، من كتاب الصلاة، وفى: باب بيع الملامسة، وباب بيع المنابذة، وباب بيع المخاضرة، من كتاب البيوع، وفى: باب اشتمال الصماء، وباب الاحتباء في ثوب واحد، من كتاب اللباس، وفى: باب الجلوس كيفما تيسر، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 1/ 103، 3/ 91، 92، 102، 7/ 190، 191، 8/ 79. ومسلم، في: باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1151. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الغرر، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 228. والترمذى، في: باب ما جاء في الملامسة والمنابذة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 6/ 45، 46. والنسائى، في: باب بيع الملامسة، وباب تفسير ذلك، وباب بيع المنابذة، وباب تفسير ذلك، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 228 - 230. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهى عن المنابذة والملامسة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 733. والدارمى، في: باب في النهى عن المنابذة والملامسة، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 253. والإمام مالك، في: باب الملامسة والمنابذة، من كتاب البيوع، وفى: باب ما جاء في لبس الثياب، من كتاب اللبس. الموطأ 2/ 666، 917. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 379، 419، 464، 476، 480، 491، 496، 521، 529، 3/ 6، 66، 95.

1569 - مسألة: (ولا يجوز أن يبيع عبدا غير معين، ولا عبدا

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدٍ، وَلَا شَاةً ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن المُنَابَذَةِ، وهى طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَه بالبَيْعِ إلى الرَّجُلِ، قبلَ أن يُقَلِّبَه أو يَنْظرُ إليه، ونَهَى عن المُلَامَسَةِ، والمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إليه. ورَوَى مُسْلِمٌ (¬1) عن أبى هُرَيْرَةَ في تفسيرِهما، قال: هو لَمْسُ كُلِّ واحِدٍ منهما ثَوْبَ صاحِبِه بغَيْرِ تَأَمُّلٍ، والمُنابَذَةُ، أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ واحِدٍ منهما ثَوْبَه، ولم يَنْظر كُلُّ واحِدٍ منهما إلى ثَوْبِ صاحِبِه. وعلى التَّفْسِيرِ الأَوَّلِ لا يَصِحُّ البَيْعُ فيهما؛ لِعِلَّتَيْنِ؛ إحْداهُما، الجَهالَةُ. والثَّانِيَةُ، كَوْنُه مُعَلَّقًا على شَرْطٍ؛ وهو نَبْذُ الثّوْبِ، أو لَمْسُه له. وإنْ عَقَدَ البَيْعَ قبلَ نَبْذِه ولَمْسِه، فقال: بِعْتُكَ مَا تَلْمِسُهُ مِن هذه الثِّيابِ. أو: ما أنْبِذُه إليك. فهو غيرُ مُعَيَّنٍ ولا مَوْصُوفٍ، فأشْبَهَ ما لو قالَ: بِعْتُكَ واحِدًا منهما. فأمَّا بَيْعُ الحَصَاةِ، فقد رَوَى مسلمٌ (¬2)، عن أبِى هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نهَى عن بَيْع الحَصَاةِ. واخْتُلِفَ في تَفْسِيرِه، فقيلَ: هو أَنْ يقولَ: ارْمِ هذه الحَصَاةَ، فعلى أىِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ، فهو لَكَ بدِرْهَمٍ. وقيلَ: هو أَنْ يقولَ: بِعْتُكَ مِن هذه الأرضِ مِقْدارَ ما تَبْلُغُ هذه الحَصاةُ إِذا رَمَيْتَها، بكذا. وقيلَ: هو أَنْ يقولَ: بِعْتُكَ هذا بكذا، على أنِّى مَتَى رَمَيْتُ هذه الحَصاةَ، وَجَبَ البَيْعُ. وكُلُّ هذه البُيُوعِ فَاسِدَةٌ؛ لِما فيها مِن الغَرَرِ والجَهْلِ. واللَّهُ تَعالَى أعْلَمُ. 1569 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا غيرَ مُعَيَّنٍ، ولَا عَبْدًا ¬

(¬1) في: باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1152. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 90.

مِنْ قَطِيعٍ، وَلَا شَجَرَةً مِنْ بُسْتَانٍ، وَلَا هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ إِلَّا وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا هَذَا الْقَطِيعَ إِلَّا شَاةً. وَإِنِ اسْتَثْنَى مُعَيَّنًا مِنْ ذَلِكَ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن عَبِيدٍ، ولا شاةً مِن قَطِيعٍ، ولا شَجَرَةً مِن بُسْتانٍ، ولا هؤلاء العَبِيدَ إلَّا واحِدًا غيرَ مُعَيَّن، ولا هذا القَطِيعَ إلَّا شاةً غيرَ مُعَينَّةَ. وإنِ اسْتَثْنَى مُعَيَّنًا مِن ذلك، جازَ) لا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا غيرَ مُعَيَّنٍ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ، ولأنَّه غرَرٌ، وقد نهَى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بَيْعِ الغَرَرِ (¬1). ولا عَبْدًا مِن عَبِيدِه، سواءٌ قَلُّوا أو كَثُرُوا. وبه قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: إذا باعَه عَبْدًا مِن عَبْدَيْنِ، أو مِن ثَلاثَةٍ، بشَرْطِ الخِيارِ له، صَحّ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، ولو كانُوا أَكْثَرَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يَكْثُرُ الغَرَرُ. ولَنا، أنَّه مِمّا تَخْتَلِفُ أجْزاؤُه وقِيمَتُه، فلا يَجُوزُ شِراءُ بَعْضِه غيرَ مُعَيَّنٍ ولا مُشَاعًا (¬2)، كالأَرْبَعَةِ، ولأنَّه لا يَصِحُّ مِن غيرِ شَرْطِ الخِيارِ، فلا يَصِحُّ مع ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 90. (¬2) في م: «شياع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطِه، كالأرْبَعَةِ، ولا حاجَةَ إلى هذا، فإنَّ الاخْتِيارَ يمْكِنُ قبلَ العَقْدِ، ويبطلُ ما قالوه بالأَرْبَعَةِ. ولا يجوزُ بَيْعُ شاةٍ مِن القَطِيعِ؛ لأنَّ شِياهَ القَطِيعِ غيرُ مُتَسَاوِيَةِ القِيَمِ، فَتَكُونُ مَجْهُولَةً، ولأنَّ ذلك يُفْضِى إلى التَّنَازُعِ، وكذلك إنْ باعَ شَجَرةً مِن بُسْتَانٍ، لا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنَا, ولأنَّ فيه غرَرًا، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّهْى عن بَيْعِ الغَرَرِ. فصل: وإنْ باعَ هؤلاء العَبِيدَ إلَّا واحِدًا غَيْرَ مُعَيَّن، أو هذا القَطِيعَ إلَّا شاةً غيرَ مُعَيَّنَةَ، لم يَصِحَّ. نَصَّ عليه. وهو قولُ أكثرِ أَهْلِ العِلْمِ. وقال مالِكٌ: يَصِحُّ أَنْ يبِيع مائَةَ شاةٍ إِلَّا شاةً يَخْتَارُها، ويَبِيعَ ثَمَرَةَ حائِطٍ، ويَسْتَثْنِىَ ثمَرَةَ نَخَلاتٍ يَعُدُّهَا. ولَنا، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَهَى عن الثُّنْيَا (¬1) إلَّا أَنْ تُعْلَمَ. قال التِّرمِذِىُّ (¬2): هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ونَهَى عن بَيْعِ الغَرَرِ (¬3). ولأنَّه مَبِيعٌ مَجْهُولٌ، [والمُسْتَثْنَى منه مَجْهولٌ] (¬4)، فلم يَصِحَّ، ¬

(¬1) الثنيا، بضم المثلثة: كل ما استثنيته. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المخابرة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 235. والترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن الثنيا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 290. والنسائى، في: باب النهى عن بيع الثنيا حتى تعلم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 260. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 90. (¬4) سقط من: م.

1570 - مسألة: (وإن باع قفيزا

وَإِنْ بَاعَةُ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو قال: إلَّا شاةً مُطْلَقَةً. ولأنَّه مَبِيعٌ مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْتُكَ شاةً تَخْتَارُها مِن القَطِيعِ. وضابِطُ هذا البابِ، أنَّه لا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما لا يَصِحُّ بَيْعُه مُنْفَرِدًا، أو بَيْعُ ما عَداهُ مُنْفَرِدًا عن المُسْتَثْنَى. ونحوُه مَذْهَبُ أبى حَنِيفةَ، والشّافِعِىِّ، إلَّا أنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَثْنَوْا مِن هذا سواقِطَ الشَّاةِ؛ للأَثَرِ الوارِدِ (¬1)، فَيَبْقَى فيما عَدَاهُ على قَضِيَّةِ الأصْلِ. فإنِ اسْتَثْنَى مُعَينًا مِن ذلك، جازَ؛ لأن المَبِيعَ مَعْلُومٌ بالمُشَاهَدَةِ؛ لكَوْنِ المُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، ولا يَبْقَى فيه غَرَرٌ، ولأَنَّ نَهْى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ، يَدُلُّ على الصِّحَّةِ إذا كانت مَعْلُومَةً، ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. 1570 - مسألة: (وإنْ باعَ قَفِيزًا (¬2) مِن هذه الصُّبْرَةِ، صَحَّ) ¬

(¬1) يأتى تخريجه في صفحة 127. (¬2) القفيز: مكيال كان يكال به قديمًا، ويعادل بالتقدير المصرى الحديث نحو ستة عشر كيلو جرامًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّه مَعْلُومٌ؛ لكَوْنِ أَجْزَائِها لا تَخْتَلِفُ، فلا تُفْضِى إلى الجَهالَةِ. وكذلك إذا باعَه رَطْلًا مِن دَنٍّ، أو مِن زُبْرةِ حَدِيدٍ، يصِحُّ؛ لذلك. وحُكِىَ عن داودَ، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه غيرُ مُشاهَدٍ ولا مَوْصُوفٍ. ولَنا، أنَّ المَبِيعَ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِن جُمْلَةٍ يَصِحُّ بَيْعُها، أشْبَهَ إذا باعَ نِصْفَها، وما ذَكَرَه قياسٌ، وهو لا يَحْتَجُّ بالقِياسِ، ثم لا يَصِحُّ؛ لأنَّه إذا شاهَدَ الجَمِيعَ فقد شاهَدَ البَعْضَ.

1571 - مسألة: (وإن باعه الصبرة إلا قفيزا، أو ثمرة الشجرة إلا صاعا، لم يصح. وعنه، يصح)

وَإِنْ بَاعَهُ الصُّبْرَةَ إِلَّا قَفِيزًا، أَوْ ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ إِلَّا صَاعًا، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1571 - مسألة: (وإن باعَه الصُّبْرةَ إلَّا قَفِيزًا، أو ثمرةَ الشَّجَرَةِ إلَّا صاعًا، لم يَصِحَّ. وعنه، يَصِحُّ) إذا باعَ ضبْرَةً، واسْتَثْنَى منها قَفِيزًا، أو أقْفِزَةً، أو باعَ ثمرةَ بُسْتَانٍ، واسْتَثْنَى منها صاعًا، أو آصُعًا، لم يَصِحَّ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. رُوِىَ ذلك عن سعيدِ بنِ المسَيَّبِ، والحَسَنِ، والشّافِعِىِّ، والأَوْزَاعِىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وفيه رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَجُوز. وهو قَوْل ابنِ سِيرِينَ، وسالِمِ بن عبدِ اللَّهِ، ومالِكٍ؛ لأنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الثُّنْيَا، إَّلا أَنْ تُعْلَمَ. وهذه ثُنْيَا مَعْلُومَةٌ، ولأنَّه مَعْلُومٌ، أشْبَهَ إذا اسْتَثْنَى منها جُزْءًا مُشَاعًا. وَوَجْهُ الأُولَى، ما رَوَى البُخارِىُّ (¬1)، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب النهى عن المحاقلة والمزابنة. . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1175. بزيادة: «إلا أن تعلم» في صفحة 115. وأصل الحديث عند البخارى بدون ذكر الثنيا. صحيح البخارى 3/ 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَهَى عن الثُّنْيَا. ولأنَّ المَبِيعَ إنَّما عُلِمَ بالمُشَاهَدَةِ لا بالقَدْرِ، والاسْتِثْناءُ يُغَيِّرُ حُكْمَ المُشاهَدَةِ؛ لأنَّه لا يدرِى كم يَبْقَى في حُكْمِ المُشَاهَدَةِ، فلم يَجُزْ، ويُخالِفُ الجُزْءَ، فإنَّه لا يُغَيِّرُ (¬1) حُكْمَ المُشَاهَدَةِ، ولا يَمْنَعُ المَعْرِفَةَ بها. وكذلك إذا باعَ ثمرةَ شَجَرَةٍ واسْتَثْنَى أرْطالًا، فالحُكْمُ فيه على ما ذَكَرْنا. وقال القاضِى في «شَرْحِه»: يَصِحُّ؛ لأنَّ الصّحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أجازُوا اسْتِثْنَاءَ سَواقِطِ الشَّاةِ. والصّحِيحُ ما ذَكَرْناه. وهذه المسألةُ أَشْبَهُ بمسألةِ اسْتِثْناءِ الصّاعِ مِن الحائِطِ، والمَعْنَى الذى ذَكَرْناه ثَمَّ مُتَحقِّقٌ ههُنا. فصل: فإنِ اسْتَثْنَى مِن الحائِطِ شَجَرَةً بِعَيْنِها، جازَ؛ لأنَّ المُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، ولا يُؤدِّى إلى الجَهالَةِ في المُسْتَثْنَى منه. وإنِ اسْتَثْنَى شَجَرَةً غيرَ مُعَيَّنَةٍ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ المُسْتَثْنَى مَجْهُولٌ. وقال مالِكٌ: يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْنِى ثَمَرَةَ نَخَلاتٍ يَعُدُّها. وقد ذَكَرْناه. وقد رُوِى عن ابنِ عمرَ، أنَّه باعَ ¬

(¬1) في م: «يعتبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَرَةً بأَرْبَعَةِ آلافٍ، واسْتَثْنَى طعامَ الفِتْيانِ، وهذا يَحْتَمِلُ أنَّه اسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَينًا بقَدْرِ طعامِ الفِتْيانِ؛ لأنَّه لو حُمِلَ على غيرِ ذلك، لكان مُخالِفًا لنَهْىِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثُّنْيَا، إلَّا أن تُعْلَمَ. ولأنَّ المُسْتَثْنَى متى كان مَجْهُولًا، لَزِمَ أَنْ يكونَ الباقِى بعدَه مَجْهُولًا، فلم يَصِحَّ بَيْعُه، كما لو قال: بِعْتُكَ مِن هذه الثَّمرَةِ طعامَ الفِتْيانِ. فصل: وإنِ اسْتَثْنَى جُزْءًا مَعْلُومًا مِن الصُّبْرَةِ أو الحائِطِ، مُشاعًا، [كثُلُثٍ أو رُبْعٍ] (¬1)، أو أجْزَاءٍ، كثَلاثَةِ أَثْمانٍ، صَحَّ البَيْعُ والاسْتِثْنَاءُ. ذَكَرَه أصْحَابُنا. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وقال أبو بَكْرٍ، وابنُ أبى مُوسَى: لا يَجُوزُ. ولنا، أنَّه لا يُؤدِّى إلى جَهالةِ المُسْتَثْنَى ولا المُسْتَثْنَى منه، فَصَحَّ، كما لو اسْتَثْنَى شَجَرَةً بعَيْنِها؛ وذلك لأنَّ مَعْنى: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ إلَّا ثُلُثَها. أى بِعْتُكَ ثُلُثَيْها. وإنْ باعَ حَيَوانًا واسْتَثْنَى ثُلُثَه، جازَ. ومَنَع منه القاضِى، قِياسًا على اسْتِثْناءِ الشَّحْمِ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّحْمَ مَجْهُولٌ ¬

(¬1) في م: «كثلاث أو أربع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَصِحُّ إفْرادُه بالبَيْعِ، وهذا مَعْلُومٌ، يَصِحُّ إفْرَادُه بالبَيْعِ، فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُه، كالشَّجَرَةِ المُعَيَّنةِ، وقياسُ المَعْلُومِ على المَجْهُولِ في الفَسادِ لا يَصِحُّ. فعلى هذا يَصِيرانِ شَرِيكَيْنِ فيه؛ للمُشْتَرِى ثُلُثاهُ، وللبائِعِ ثُلُثُه. فصل: وإذا قال: بِعْتُكَ قَفِيزًا مِن هذه الصُّبْرَةِ إلَّا مَكُوكًا (¬1). جازَ؛ لأنَّ القَفِيزَ مَعْلُومٌ، والمَكُوكَ مَعْلُومٌ، فلا يُفْضِى إلى جَهالَةٍ. ولو قال: بِعْتُكَ هذه الثمرَةَ بأَرْبَعَة دَراهِمَ إلَّا بقَدْرِ دِرْهَمٍ. صَحَّ؛ لأنَّ قَدْرَهُ مَعْلُومٌ مِن المَبِيعِ، وهو الرُّبْعُ، فكأنَّه قالَ: بِعْتُكَ ثَلَاثَةَ أرْبَاعِ هذه الثمرَةِ بأَرْبَعَةِ دَراهمَ. وإنْ قال: إلَّا ما يُسَاوِي دِرْهَمًا. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ما يُساوِي الدِّرْهَمَ قد (¬2) يكونُ الرُّبْعَ، وأكثَرَ وأقَلَّ، فيكُونُ مَجْهُولًا، فَيَبْطُلُ. ¬

(¬1) المكوك: مكيال قديم، قيل: يسع صاعًا ونصفًا. (¬2) سقط من: م.

1572 - مسألة: (وإن باعه أرضا إلا جريبا

وَإِنْ بَاعَهُ أَرْضًا إِلَّا جَرِيبًا، أَوْ جَرِيبًا مِنْ أَرْضٍ يَعْلَمَانِ جُرْبَانَهَا، صَحَّ، وَكَانَ مُشَاعًا فِيهَا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1572 - مسألة: (وإنْ باعَه أرْضًا إلَّا جَرِيبًا (¬1)، أو جَرِيبًا مِن أرْضٍ يَعْلَمَانِ جُرْبَانَها، صَحَّ، وكان مُشَاعًا فيها، وإلَّا لم يَصِحَّ) إذا باعَه أرْضًا إلَّا جَرِيبًا، يُرِيدانِ بذلك قَدْرًا غيرَ مُشَاعٍ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الأَرْضَ لا تَتَسَاوَى أجْزَاؤُها، فيكونُ البَيْعُ مَجْهُولًا، فهو كما لو بَاعَهُ شاةً مِن قَطِيعٍ، أو عَبْدًا مِن عَبِيدٍ، وإنْ كان الجَرِيبُ المُسْتَثْنَى مُشَاعًا في الأَرْضِ، وهما يَعْلَمانِ جُرْبَانَها، صَحَّ؛ لأَنَّها إذا كانت عشَرةَ أجْرِبَةٍ، فقد باعَ تِسْعَةَ أعْشارِ هذه الأرْضِ، وهو مَعْلُومٌ بالمُشَاهَدَةِ، وإنْ لم يَعْلَمَا جُرْبَانَها، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ المَبِيعَ غيرُ مَعْلُوم، فهو كما لو باعَ هؤلاء العَبيدَ إلَّا واحِدًا غيرَ مُعَيَّنٍ، وكذلك إنْ باعَهُ جَرِيبًا مِن هذه الأرْضِ، إنْ أَرادَ قَدْرًا غيرَ مُشَاعٍ، لم يصِحَّ، وإنْ باعَهُ مُشَاعًا، وهما يَعْلَمانِ جُرْبَانَها، صَحَّ. وبهذا قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الجريبَ عِبارَةٌ عن بُقْعَةٍ ¬

(¬1) الجريب: الوادى، ثم استعير للقطعة المتميزة من الأرض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِعَيْنِها، ومَوْضِعُه مَجْهُولٌ. ولَنا، أنَّ الجَرِيبَ مِن عَشَرةٍ عُشْرُها. ولو قال: بِعْتُكَ عُشْرَ هذه الأرْضِ. صَحَّ، فكذلك إذا باعَهُ منها جَرِيبًا مُشَاعًا، وهى عَشَرَةٌ. وما قالوه غيرُ مُسَلَّمٍ؛ [بل هو] (¬1) عِبارَةٌ عَن قَدْرٍ، كما أنَّ المِكْيَالَ عِبَارَةٌ عن قَدْرٍ، فإذَا أضَافَه إلى جُمْلَةٍ، كان ذلك جُزْءًا منها. وإن كانَا لا يَعْلَمَانِ ذُرْعانَ الدّارِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الجُمْلَةَ غيرُ مَعْلُومَةٍ، وأجْزَاءَ الأرْضِ مُخْتلِفَةٌ، فلا يُمْكِنُ أَنْ يكون مُعَينًا ولا مُشَاعًا. وإنْ قال: بِعْتُكَ مِن الأرْضِ مِن ههُنا إلى ههُنا. جازَ؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ. وإن قال: عَشَرَةُ أذْرُعٍ، ابْتِداؤُها مِن هُنَا إلى حيثُ يَنْتَهِى الذَّرْعُ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ المَوْضِعَ الذى يَنْتَهِى إليه الذَّرْعُ لا يُعْلَمُ حالَ العَقْدِ. وإن قال: بعْتُكَ نَصِيبِى مِن هذه الدّارِ. ولا يُعْلَمُ قَدْرُ نصِيبِه. أو قال: نَصِيبًا منها. أَو: سَهْمًا. لم يَصِحَّ؛ للجَهالَةِ، وإنْ عَلِماهُ، صَحَّ. وإن قال: بِعْتُكَ نصف دَارِى مِمّا يلى دارَكَ. لم يَصِحَّ. نصَّ عليه؛ لأنَّه لا يَدْرِى إلى أين يَنْتَهِى، فيكونُ مَجْهُولًا. ¬

(¬1) في م: «لأنه».

1573 - مسألة: (وإن باعه حيوانا مأكولا إلا رأسه، أو جلده، أو أطرافه، صح. وإن استثنى حمله، أو شحمه، لم يصح)

وَإِنْ بَاعَهُ حَيَوَانًا مَأْكُولًا إِلَّا رَأْسَهُ، وَجِلْدَهُ، وَأَطْرَافَهُ، صَحَّ. وَإِنِ اسْتَثْنَى حَمْلَهُ، أَوْ شَحْمَهُ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ الثَّوْبِ حُكْمُ الأرْضِ، إلَّا أنَّه إذا قال: بِعْتُكَ مِن هذا الثَّوْبِ مِن هذا المَوْضعِ إلى هذا. صَحَّ، فإن كان القَطْعُ لا يَنْقُصُه، قَطعاه، وإن كان يَنْقُصُه، وشَرَطَ البائِعُ أَنْ يَقْطَعَ له، أو رَضِىَ بقَطْعِه هو والمُشْتَرِى، جازَ. وإنْ تَشَاحَّا في ذلك، كانا شَرِيكَيْنِ فيه، كما يَشْتَرِكانِ في الأرْضِ. وقال القاضِى: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على التَّسْلِيمِ إلَّا بضَرَرٍ، أَشْبَهَ ما لو باعَهُ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِن الحيَوانِ. ولَنا، أنَّ التَّسْلِيمَ مُمْكِنٌ، ولُحُوقُ الضَّرَرِ لا يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إذا حَصَلَ الرِّضَا، فهو كما لو باعَه نِصْفَ حَيَوانٍ مُشَاعًا، وفارَقَ نِصْفَ الحَيَوانِ المُعَيَّنَ، فإنَّه لا يُمْكِنُ تَسْلِيمُه مُفْرَدًا، إلَّا بإتْلَافِه وإخْرَاجِه عن المالِيَّةِ. 1573 - مسألة: (وإن باعَهُ حَيَوانًا مَأْكُولًا إلَّا رَأسَه، أو جِلْدَه، أو أطْرَافَهُ، صَحَّ. وإنِ اسْتَثْنَى حَمْلَه، أو شَحْمَه، لم يَصِحَّ) إذا باعَهُ حَيَوانًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَأْكُولًا، واسْتَثْنَى رَأْسَهُ، أو جِلْدَهُ، أو أَطْرَافَهُ، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَحِمَهُ اللَّه. وقال مالِكٌ: يَصِحُّ في السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يُمْكِنُه الانْتِفَاعُ بالجِلْدِ والسَّوَاقِطِ. فِجَوَّزَ له شِراءَ اللَّحْمِ دُونَها. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِىُّ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يَجْوزُ إفْرادُه بالبَيْعِ، فلم يَجُزِ اسْتِثْنَاؤُه، كالحَمْلِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ (¬1). وهذه مَعْلُومَةٌ. ورُوِىَ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا هاجَرَ إلى المَدِينَةِ، ومعه أبو بَكْرٍ، وعامِرُ بن فهَيْرَةَ مَرُّوا بِرَاعِى غَنَمٍ، فذَهَبَ أبو بَكْرٍ وعامِرٌ فاشْتَرَيَا منه شاةً، وشَرَطَا له سلَبَهَا (¬2). ورَوَى أبو بكْرٍ في «الشَّافِى» (¬3) بإسْنَادِه، عن جابِرٍ، عن الشَّعْبِىِّ، قال: قَضَى زَيْدُ بن ثابِتٍ وأصحابُ ¬

(¬1) تقدم تخريحه في صفحة 115. (¬2) أخرجه أبو داود، في: المراسيل 133. (¬3) في م: «الشفاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَقَرَةٍ باعَها رَجُلٌ، واشْتَرَطَ رَأْسَها، فقَضَى بِالشَّرْوَى. يَعْنِي أَنْ يُعْطِىَ رَأْسًا مثلَ رَأْسٍ. ولأنَّ المُسْتَثْنَى والمُسْتَثْنَى منه مَعْلُومانِ، فَصَحَّ، كما لو باعَ حائطًا واسْتَثْنَى منه نخلَةً مُعَيَنّةً، وكونُه لا يجوزُ إفْرادُه بالبَيْعِ، لا يَمْنَعُ صِحَّةَ اسْتِثْنَائِه، كما أنَّ الثمرَةَ قبلَ التَّأْبِيرِ لا يَجُوزُ إفْرادُها بالبَيْعِ بشَرْطِ (¬1) التَّبْقِيَةِ، ويجوزُ اسْتِثْناؤُها والحملُ مَجْهُولٌ. وفيه مَنْعٌ. فإنِ امْتَنَعَ المُشْتَرِى مِن ذَبْحِها لم يُجْبَرْ، ويَلْزَمُه قِيمَةُ ذلك على التَّقْرِيبِ. نَصَّ عليه؛ لِما رُوِى عن عَلِىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى في رَجُلٍ اشْتَرَى ناقَةً، وشرَط ثُنْيَاهَا، فقال: اذْهَبُوا إلى السُّوقِ، فإذا بَلَغت أقْصى ثَمَنِها، ¬

(¬1) بعده في م: «كشرط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأعْطُوه حِسَابَ ثُنْيَاهَا مِن ثَمَنِها. فصل: فإنِ اسْتَثْنَى شَحْمَ الحَيَوانِ، لم يَصِحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال أبو بكْرٍ: لا يَخْتَلِفُونَ عن أبِى عبدِ اللَّهِ، أنَّه لاِ يَجُوزُ. [وذلك] (¬1)؛ لأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَهَى عن الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ. ولأنَّه مَجْهُولٌ لا يَصِحُّ إفْرَادُه بالبَيْعِ، فلم يَصِحَّ اسْتِثْناؤُه، كفَخِذِهَا، وإنِ اسْتَثْنَى الحَمْلَ، لم يَصِحَّ الاسْتِثْناءُ؛ لِما ذَكَرْنا. وهو قَوْلُ أبى حَنِيفَةَ، ومالِكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشّافِعِىِّ. ونُقِلَ عن أحمدَ صِحَّتُه، وبه قال الحَسَنُ، والنَّخَعِىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. لِمَا رَوَى نافِعٌ، أنَّ ابنَ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، باعَ جارِيَةً واسْتَثْنَى ما في بَطْنِها (¬2). ولأنَّه يَصِحُّ اسْتِثْناؤُه في الْعَتْقِ، فَصَحَّ في البَيْعِ قِياسًا عليه. ولَنا، ما تَقَدَّمَ. و (¬3) الصَّحِيحُ مِن حَدِيثِ ابنِ ¬

(¬1) في الأصل، م: «ذلك». (¬2) أخرج نحوه ابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يعتق أمته ويستثنى ما في بطنها، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 154. وبلفظ: «أعتق ابن عمر جارية». أخرجه ابن حزم في: المحلى 6/ 382. (¬3) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، أنَّه أَعتَقَ جَارِيَةً، واسْتَثْنَى ما في بَطْنِها؛ لأَنَّ الثِّقاتِ الحُفَّاظَ حَدَّثُوا بالحَدِيثِ؛ فقالُوا: أعْتَقَ جارِيَةً. والإِسْنادُ واحِدٌ. قاله أبو بَكْرٍ. ولا يَلْزَمُ مِن الصِّحَّةِ في العَتْقِ الصِّحَّةُ في البَيْعِ؛ لأنَّ العَتْقَ لا تَمْنَعُه الجَهالَةُ ولا العَجْزُ عن التَّسْلِيمِ، ولا تُعْتَبَرُ فيه شُروطُ البَيْعِ. فصل: وإنْ باعَ جارِيَةً حامِلًا بِحُرٍّ. فقال القاضِى: لا يَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِىِّ؛ لأنَّهُ يَدْخلُ في البَيْعِ، فكَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى. والأَوْلَى صِحَّتُه؛ لأنَّ المَبِيعَ مَعْلُومٌ، وجَهالَةُ الحَمْلِ لا تَضُرُّ؛ لأَنَّه ليس بمَبِيعٍ، ولا مُسْتَثْنًى باللَّفْظِ، وقد يُسْتَثْنَى بالشَّرْعِ ما لا يَصِحُّ اسْتِثْناؤُه باللَّفْظِ، كما لو باعَ أمَةً مُزَوَّجَةً، صَحَّ، وَوَقَعَتْ مَنْفَعَةُ البُضْعِ مُسْتَثْنَاةً بالشَّرْعِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو اسْتَثْناهَا بلَفْظِه، لم يجُزْ. ولو باعَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ للبائِعِ، أو نَخْلَةً مُؤبَّرَةً، وَقَعَتْ مَنْفَعَتُها مُسْتَثناةً مُدَّةَ بقاءِ الزَّرْعِ والثَّمَرَةِ، ولو اسْتَثْناهَا بقَوْلِهِ، لم يَجُزْ. فصل: ولو باعَهُ سِمْسِمًا، واسْتَثْنَى الكُسْبَ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه قد باعَهُ الشَّيْرَجَ (¬1) في الحَقِيقَةِ، وهو غيرُ مَعْلُومٍ، فإنَّه غيرُ مُعَيَّنٍ، ولا مَوْصُوفٍ، ولأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ. وكذلك إنْ باعَهُ قُطْنًا، واسْتَثْنَى الحبَّ، لم يَجُزْ؛ للجَهالَةِ. وكذلك إن باعَهُ السِّمْسِمَ، واسْتَثْنَى الشّيْرَجَ، لم يَجُزْ؛ لذلك. ¬

(¬1) الشيرج: زيت السمسم.

1574 - مسألة: (ويجوز بيع ما مأكوله فى جوفه، وبيع الباقلا والجوز واللوز فى قشرته، والحب المشتد فى سنبله)

وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا مَأْكُولُهُ في جَوْفِهِ، وَبَيْعُ الْبَاقِلَّاءِ، وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ في قِشرتِهِ، وَالْحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنْبُلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1574 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيْعُ ما مَأْكُولُه في جَوْفِه، وبَيْعُ الباقِلَّا والجَوْزِ واللَّوْزِ في قِشْرَتِهِ، والحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنْبُلِهِ) يجوزُ بَيْعُ ما مَأْكُولُه في جَوْفِه، كالرُّمّانِ والبَيْضِ والجَوْزِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى بَيْعِه، كذلك؛ لكَوْنِه يَفْسُدُ إذا أُخْرِجَ مِن قِشْرِه. فصل: ويَجُوزُ بَيْعُ الجَوْزِ واللَّوْزِ والفُسْتُقِ والباقِلَّا والرُّطَبِ في قِشْرَتِهِ مَقْطُوعًا وفى شَجَرِه، وبَيْعُ الطَّلْعِ قبلَ تَشَقُّقِه مَقْطُوعًا، وفى شَجَرِه، وبَيْعُ الحَبِّ المُشْتَدِّ في سُنْبُلِه. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ. وقال الشّافِعِىُّ: لا يَجُوزُ حتَّى يُنْزَعَ قِشْرُه الأَعْلَى، إلَّا في الطَّلْعِ والسُّنْبُلِ. في أحَدِ القَوْلَيْنِ. واحْتَجَّ بأنَّه مَسْتُورٌ بما لا يُدَّخَرُ عليه، ولا مَصْلَحَةَ فيه، فلم يَجُزْ بَيْعُه، كتُرابِ الصَّاغَةِ والمَعادِنِ، وبَيْع الحَيَوَانِ المَذْبُوحِ في سَلْخِه. ولَنا، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْع الثِّمارِ حتَّى يَبْدُو صَلَاحُها (¬1). وعن بَيْعِ السُّنْبُلِ حتَّى يَبْيَضَّ، ويَأْمَنَ (¬2) العاهَةَ (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 101. ومسلم، في: باب النهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1165، 1166. وأبو داود، في: باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 227. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 746. والإمام أحمد، في المسند: 2/ 7، 62، 123. (¬2) في م: «وتؤمن». (¬3) أخرجه مسلم، في: باب النهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها. . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم =

فصل

فَصْلٌ: السَّابعُ، أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا. فَإِنْ بَاعَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فَمَفْهُومُه إِبَاحَةُ بَيْعِه إذا بَدَا صَلاحُهُ، وابْيَضَّ سُنْبُلُه. ولأنَّه مَسْتُورٌ بحائِلٍ مِن أصْلِ خِلْقَتِه، فجازَ بَيْعُه، كالرُّمَّانِ والبَيْضِ والقِشْرِ الأَسْفَلِ. ولا يَصِحُّ قَوْلُهم: ليس مِن مَصْلَحَتِه. فإنَّه لا قِوَامَ له في شَجَرِه إلَّا بِه، والباقِلَّا يُؤْكَلُ رَطْبًا، وقِشْرُه يَحْفَظُ رُطُوبَتَه. ولأنَّ البِاقِلَّا يُباعُ في أَسْواقِ المُسْلِمِينَ مِن غيرِ نَكِيرٍ، وهذا إجْماعٌ. وكذلك الجَوْزُ واللَّوْزُ في شَجَرِهِما. والحَيَوانُ المَذْبُوحُ يَجُوزُ بَيْعُه في سَلْخِه، فإنَّه إذا جازَ بَيْعُه قبلَ ذَبْحِه، وهو مُرَادٌ للذَّبْحِ، فكذلك إذا ذُبِحَ. كما أنَّ الرُّمّانَةَ إذا جازَ بَيْعُها قبلَ كَسْرِها، فكذلك إذا كُسِرَتْ. وأمّا تُرابُ الصَّاغَةِ والمَعادِنِ، فلَنا فيهما مَنْعٌ، وإنْ سُلِّمَ، فليس ذلك مِن أصْلِ الخِلْقَةِ في ترابِ الصّاغَةِ، ولا بَقاؤُه فيه مِن مَصْلَحَتِه، بخِلافِ مَسْأَلتِنَا. (فصل: السابعُ، أَنْ يكونَ الثَّمَنُ مَعلُومًا. فإنْ باعَهُ السِّلْعَةَ برَقْمِها، ¬

_ = 3/ 1165، 1166. وأبو داود، في: باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. . .، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 227. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 234. والنسائى، في: باب بيع السنبل حتى يبيض، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 238. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5.

السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً، أَوْ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، أَوْ بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ، أَوْ بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَقْدٌ واحِدٌ، انْصَرَفَ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وفِضَّةً، أو بما يَنْقَطِعُ به السِّعْرُ، أو بما باعَ به فُلَانٌ، أو بدِينَارٍ مُطْلَقٍ، وفى البَلَدِ نُقُودٌ، لم يَصِحَّ البَيْعُ. وإن كان فيه نقْدٌ واحِدٌ، انْصَرَفَ إليه) يُشْتَرَطُ أَنْ يكونَ الثَّمَنُ في البَيْعٍ مَعْلُومًا عندَ المُتَعاقِدَيْنِ؛ لأنَّهُ أحَدُ العِوَضَيْنِ، فاشْتُرِطَ العِلْمُ به، كالآخرِ، وقِيَاسًا على رأْسِ مالِ السَّلَمِ. فإنْ باعَه السِّلْعَةَ برَقْمِها، وهما لا يَعْلَمانِه، أو أَحَدُهما، لم يَصِحَّ البَيْعُ؛ للجَهَالَةِ فيه. وكذلك إنْ باعَهُ بأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وفِضَّةً (¬1)؛ لأنَّه ¬

(¬1) بعده في ر 1: «لم يصح البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَجْهُولٌ، ولأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، فَيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّهْى عن بَيْعِ الغَرَرِ. وإن باعَهُ بمائَةٍ ذَهَبًا وفِضَّةً، لم يَصِحَّ البَيْعُ. وبهذا قال الشَّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ ويكونُ نِصْفَيْنِ؛ لأنَّ الإِطْلَاقَ يَقْتَضِى التَّسْوِيَةَ، كالإِقْرَارِ. ولَنا، أنَّ قَدْرَ كُلِّ واحِدٍ منهما مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بمائَةٍ بَعْضُها ذَهَبٌ. وقَوْلُه: إَّنه يَقْتَضِى التَّسْوِيَةَ. مَمْنُوعٌ، فإنَّه لو فَسَّرَه بغيرِ ذلك صَحَّ. وكذلك لو أقَرَّ له بمائَةٍ ذَهَبًا وفِضَّة، فالقولُ

1575 - مسألة: (وإن قال: بعتك بعشرة صحاح، أو إحدى عشرة

وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ صِحَاحًا، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ مُكَسَّرَةً. أَوْ: ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُه في قَدْرِ كُلِّ واحِدٍ منهما. وإنْ باعَهُ بما يَنْقَطِع السِّعْرُ به، أو بما باعَ به فلانٌ عَبْدَه، وهما لا يَعْلَمانِه، أو أَحَدُهما، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. وإنْ باعَهُ بدِينارٍ مُطْلَقٍ، وفى البَلَدِ نُقُودٌ، لم يَصِحَّ؛ لجَهَالَتِه، وإنْ كان فيه نَقْدٌ واحِدٌ انْصَرَفَ إليه؛ لأنَّه تَعَيَّنَ بانْفِرَادِه وعَدَمِ مُشَارَكَةِ غَيْرِه، ولهذا لَو أقَرَّ بدِينارٍ أو أوْصَى به، انْصَرَفَ إليه. 1575 - مسألة: (وإنْ قال: بِعْتُكَ بعَشَرَةٍ صِحَاحٍ، أو إحْدَى عَشْرَةَ

بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ عِشْرِينَ نَسِيئَةً. لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُكَسَّرَةً. أو: بعَشَرَةٍ نَقْدًا، أو عِشْرِينَ نَسِيئَةً. لم يَصِحَّ) لأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ (¬1). وهذا هو. كذلك فَسَّرَه مالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ. وهذا قَوْلُ أكثرَ أَهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّه لم يَجْزِمْ له ببَيْعٍ واحِدٍ، أَشْبَهَ ما لو قال: بِعْتُكَ أحَدَ هذَيْنِ. ولأنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ، كالبَيْعِ بالرَّقْمِ المَجْهُولِ. وقد رُوِى عن طاوُسٍ، والحَكَمِ، وحَمَّادٍ، أنَّهُم قالُوا: لا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: أبِيعُكَ بالنَّقْدِ بكَذَا، وبالنَّسِيئَةِ بكذا. فيَذْهَبُ على (¬2) أحَدِهما. فيَحْتَمِلُ أنَّه جَرَى بينهما بعدُ ما يَجرِى في العَقْدِ، فكأَنَّ المُشْتَرِىَ قال: أنا آخُذُه بالنَّسِيئَةِ بكذا. فقال: خُذْهُ. أو: قد رَضِيتُ. ونحوَ ذلك، فيَكُونُ عَقْدًا كافِيًا (¬3)، كقَوْلِ الجُمْهُورِ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن بيعتين في بيعة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 239. والنسائى، في: باب بيعتين في بيعة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 260. والإمام مالك، في: باب النهى عن بيعتين في بيعة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 663. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 432، 475، 503. (¬2) في الأصل، م: «إلى». (¬3) بعده في م: «فيقول».

1576 - مسألة: (وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، والثوب كل ذراع بدرهم، والقطيع كل شاة بدرهم، صح)

وَإِنْ بَاعَهُ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَالْقَطِيعَ كُلَّ شَاةٍ بدِرْهَمٍ, وَالثَّوْبَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعَلَى هذا، إن لم يُوجَدْ ما يَدُلُّ على الإِيجَابِ، أو ما يَقُومُ مَقامَه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ما مَضَى مِن القَوْلِ لا يَصْلُحُ أن يكونَ إِيجابًا. وقد رُوِى عن أحمدَ (¬1)، في مَن قال: إن خِطْتَه اليومَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وإن خِطْتَه غَدًا فلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ. أنّه يَصِحُّ. فَيَحْتَمِلُ أن يَلْحَقَ (¬2) به هذا البَيْعُ، فَيُخَرَّجَ وَجْهًا في الصِّحَّةِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما مِن حيث إنَّ العَقْدَ ثَمَّ يُمْكِنُ أن يَصِحَّ؛ لكَوْنِه جَعَالَةً، بخِلافِ البَيْعِ. ولأنَّ العَمَلَ الذى يَسْتَحِقُّ به الأُجْرَةَ لا يُمْكِنُ وُقُوعُه إلَّا على إحْدَى الصِّفَتَيْنِ، فَتَتَعَيَّنُ الأُجْرَةُ المُسَمَّاةُ عِوَضًا له (¬3)، فلا يُفْضِى إلى التَّنَازُعِ، وهذا بخِلافِه. 1576 - مسألة: (وإن باعَهُ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بدِرْهَمٍ، والثَّوْبَ كلَّ ذراعٍ بدرهمٍ، والقَطِيعَ كلَّ شاةٍ بدرهمٍ، صَحَّ) إذا باعَهُ الصُّبْرَةَ كُلَّ ¬

(¬1) بعده في م: «أنه قال». (¬2) في م: «لا يلحق». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قفِيزٍ بدرْهَمٍ، صَحَّ، وإنْ لم يَعْلَمَا قَدْرَ قُفْزانِها حالَ العَقْدِ. وبهذا قال مالِكٌ, والشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ في قَفِيزٍ واحِدٍ، ويَبْطُلُ فيما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِواهُ؛ لأنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ، فلم يَصِحَّ، كبَيْعِ المتاعِ برَقْمِه. ولَنا، أنَّ المَبِيعَ مَعْلُومٌ بالمُشاهَدَةِ، والثَّمَنَ مَعْلُومٌ؛ لإِشارَتِه إلى ما يُعْرَفُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَبْلَغُه بجِهَةٍ لا تَتَعَلَّقُ بالمُتَعَاقِدَيْنِ، وهو كَيْلُ الصُّبْرَةِ، فجازَ، كما لو باعَ ما رَأْسُ مالِه اثْنانِ وسَبْعُونَ مُرابَحَةً (¬1)، لكُلِّ ثَلاثَةٍ عُشْرُ دِرْهَمٍ، فإنّه لا يُعْلَمُ في الحالِ، وإنَّما يُعْلَمُ بالحِسَابِ، كذا ههُنا. ولأنَّ المَبِيعَ مَعْلُومٌ بالمُشَاهَدَةِ، والثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ ما يقابِلُ كُلَّ جُزْءٍ مِن المَبِيعِ، فصَحَّ، كالأَصْلِ المَذْكُورِ. وكذلك حُكْمُ الثَّوْبِ والأَرْضِ، والقَطِيعِ مِن الغَنَمِ، إذا كان مُشَاهَدًا، فَباعَه إيَّاهُ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، أو كُلَّ شاةٍ بدِرْهَمٍ، صَحَّ، وإنْ لم يَعْلَما قَدْرَ ذلك حالَ العَقْدِ؛ لِما ذَكَرْنا في الصُّبْرَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

1577 - مسألة: (وإن باعه من الصبرة، كل قفيز بدرهم، لم يصح)

وَإِنْ بَاعَهُ مِنَ الصُّبْرَةِ، كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1577 - مسألة: (وإنْ باعَه مِن الصُّبْرَةِ، كُلَّ قَفِيزٍ بدِرْهَمٍ، لم يَصِحَّ) لأنَّ «مِن» للتَّبْعِيضِ، و «كُلَّ» للعَدَدِ، فَيَكُونُ ذلك العَدَدُ منها مَجْهُولًا. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ البَيْعُ، بناءً على قَوْلِه في الإِجَارَةِ إذا أجَرَه كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وهو الأَشْبَهُ. كالمَسْأَلَةِ التى قَبْلَها؛ لأنَّ «مِن» وإنْ أُعْطِيَتِ البَعْضَ، فما هو بَعْضٌ مَجْهُولٌ، بل قد جَعَلَ لكُلِّ جُزْءٍ مَعْلُومٍ منها ثَمَنًا مَعْلُومًا، فهو كما لو قال: قَفِيزًا منها. وكمسألةِ الإِجارَةِ. فصل: وإن قال: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ بعَشَرَةِ دَراهِمَ، على أَنْ أزِيدَك قَفِيزًا، أو أنْقُصَكَ قَفِيزًا. لم يَصِح؛ لأنَّه لا يَدْرِى أَيَزِيدُه أم يُنْقِصُه. وإنْ قال: على أَنْ أزيدَكَ قَفِيزًا. لم يَجُزْ؛ لأنَّ القَفِيزَ مَجْهُولٌ. وإنْ قال: على أَنْ أزِيدَك قَفِيزًا مِن هذه الصُّبْرَةِ الأُخْرَى. أو وَصَفَهُ بصِفَةٍ يُعْلَمُ بها، صَحَّ؛ لأنَّ مَعْناهُ: بِعْتُك هذه الصُّبْرَةَ، وقَفِيزًا مِن هذه الأُخْرَى بعَشَرَةِ دَراهِمَ. وإنْ قال: على أن أنْقُصَك قَفِيزًا. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ مَعْنَاهُ: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ إلَّا قَفِيزًا، كُلَّ قَفِيزٍ بدرهم وشئٍ مَجْهُولٍ. ولو قال: بِعْتُكَ هذه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصُّبْرَةَ، كلَّ قَفِيزٍ بدِرْهَمٍ على أَنْ أزيدَك قَفِيزًا من هذهِ الصُّبْرَةِ الأُخْرَى. لم يَصِحَّ؛ لإِفْضَائِه إلى جَهالَةِ الثَّمَنِ في التَّفْصيلِ، لأنَّه يَصِير قَفِيزًا وشَيْئًا بدِرْهَمٍ، وهما لا يَعْرفَانِه؛ لعَدَمِ مَعْرِفَتِهما بكمِّيَّةِ ما في الصُّبْرَةِ مِن القفْزَانِ. ولو قَصَدَ أنِّى أحُطُّ ثَمَنَ قَفِيزٍ مِن الصُّبْرَةِ، ولا أحْتَسِبُ به، لم يَصِحَّ؛ للجَهَالَةِ التى ذَكَرْنَاها. وإن عَلِمَا قَدْرَ قُفْزَانِ الصُّبْرَةِ، أو قال: هذه عَشَرَةُ أقْفِزَةٍ بِعْتُكَهَا، كُلَّ قَفِيزٍ بدِرْهَمٍ، على أَنْ أزيدَكَ قَفِيزًا مِن هذه الصُّبْرَةِ. أو وَصَفَه بصِفَةٍ يُعْلَمُ بها، صَحَّ؛ لأنَّ مَعْناهُ بعْتكَ كُلَّ قَفِيزٍ وعُشْرَه (¬1) بدِرْهَمٍ. وإنْ لم يُعْلَمِ القَفِيزُ (¬2)، أو (¬3) جَعَلَه هِبَةً، لم يَصِحَّ. وإنْ أَرادَ أنِّى لا أحْتَسِبُ عليك بثَمَنِ قَفِيزٍ منها، صَحَّ أيْضًا؛ لأنَّهما لَمّا عَلِمَا جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ، عَلِمَا ما يَنْقُصُ مِن الثَّمَنِ. ولو قال: على أَنْ أنقُصَكَ قَفِيزًا. صَحَّ؛ لأنَّ مَعْناهُ: بِعْتكَ تِسْعَةَ أقْفِزَةٍ بعَشَرَةِ دَراهِمَ. وحُكِىَ عن أبى بَكْرٍ، أنَّه يَصِحُّ في جَمِيعِ المَسَائِلِ، على قِياسِ قولِ أحمدَ؛ لأنَّه يُجيزُ الشَّرْطَ الواحِدَ (¬4). ولا يَصِحُّ ما قالَه؛ لأنَّ المَبِيعَ مَجْهُولٌ، فلا يَصِحُّ بَيْعُه، بخِلافِ الشَّرْطِ الذى لا يُفْضِى إلى الجَهَالَةِ. وما لا تَتَساوَى أجْزَاؤُه؛ كالأَرْضِ، والثَّوْبِ، والقَطِيعِ مِن الغَنَمِ، فيه ¬

(¬1) في م: «عشرة». (¬2) في الأصل، م: «القفزات». (¬3) في م: «و». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نحوٌ مِن مَسائِلِ الصُّبْرَةِ. وإنْ قال: بِعْتُك هذه الأرْضَ -أو: هذه الدَّارَ. أو: هذا الثَّوْبَ. أو: هذا القَطِيعَ- بأَلْفِ دِرْهَمٍ. صَحَّ إذا شَاهَدَاه. وإنْ قال: بِعْتُكَ نِصْفَه -أو: ثُلُثَه. أو: رُبْعَه- بكَذا. صَحَّ. وإنْ قال: بِعْتُكَ مِن الثَّوْبِ كُلَّ ذِرَاعٍ بدِرْهَمٍ. أو: مِن القَطِيعِ، كُلَّ شاةٍ بدِرْهَمٍ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. فصل: ويَصِحُّ بَيعُ الصُّبْرَةِ جُزافًا مع جَهْلِ المُتَبايِعَيْنِ بِقَدْرِها. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وقد نصَّ عليه أحمدُ. ودَلَّ عليه حَدِيثُ ابنِ عمرَ، وهو قَوْلُه: كُنّا نَشْتَرِى الطَّعامَ مِن الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فِنَهَانَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ نَبِيعَه حتَّى نَنْقُلَه مِن مكانِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأَنَّه مَعْلُومٌ بالرُّؤْيَةِ، فَصَحَّ بَيْعُه، كالثِّيَابِ، والحَيَوانِ. ولا يضُرُّ عَدَمُ مُشَاهَدَةِ باطِنِ الصُّبْرَةِ، فإنَّ ذلك يَشُقُّ؛ لكَوْنِ الحَبِّ بَعْضُه على بَعْضٍ، ولا يُمْكِنُ بَسْطُها حَبَّةً حَبَّةً، ولأنَّ الحبَّ تَتَسَاوَى أجْزَاؤُه في الظاهِرِ، فاكْتُفِىَ برُؤْيَةِ ظاهِرِه، بخِلافِ الثَّوْبِ، فإنَّ نَشْرَه لا يَشُقُّ، وتَخْتَلِفُ أجْزَاؤُهُ، ولا يَحْتَاجُ إِلى مَعْرِفَةِ قَدْرِها مع المُشَاهَدَةِ؛ لأنَّه عَلِمَ ما اشْتَرَى بأبْلَغِ الطُّرُقِ، وهو الرُّؤْيَةُ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الكيل على البائع والمعطى، وباب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، وباب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 88 - 90. ومسلم، في: باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1161. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، من كتاب الإجارة. سنن أبى داود 2/ 252. والنسائى، في: باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا قبل أن ينقله من مكانه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 252، 253. وابن ماجه، في: باب بيع المجازفة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 750. والإمام مالك، في: باب العينة وما يشبهها، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 641. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك لو قال: بِعْتُكَ نِصْفَ هذه الصُّبْرَةِ. أو: جُزْءًا منها مَعْلُومًا. لأَنَّ ما جازَ بَيْعُ جُمْلَتِه، جازَ بَيْعُ بَعْضِه، كالحَيَوانِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: ولا يَصِحُّ هذا، إلَّا أَنْ تَكُونَ الصُّبْرَةُ مُتَسَاوِيَةَ الأَجْزَاءِ، فإن كانت مُخْتَلِفَةً، مثلَ صُبْرَةِ بَقَّالِ القَرْيةِ، لم يَصِحَّ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لأنَّه يَشْتَرِى منها جُزْءًا مُشاعًا، فيَسْتَحِقُّ مِن جَيِّدِها ورَدِيئها بقِسْطِه. ولا فَرْقَ بينَ الأَثْمانِ والمُثْمَنَاتِ في صِحَّةِ بَيْعِها جُزَافًا. وقال مالِكٌ: لا يَجُوزُ في الأَثْمانِ؛ لأنَّ لها خَطَرًا, ولا يَشُقُّ وَزْنُها ولا عَدَدُها، فأَشْبَهَ الرَّقِيقَ، الثِّيابَ. ولَنا، أَنَّه مَعْلُومٌ بالمُشَاهَدَةِ، فأشْبَهَ المُثْمَنَاتِ والنُّقْرَةَ (¬1) والحَلْىَ. ويَبْطُلُ بذلك ما قَالَه. وأمّا الرَّقِيقُ، فإنَّه يَجُوزُ بَيْعُهم إذا شاهَدَهُم ولم يَعُدَّهُم، وكذلك الثِّيَابُ إذا نَشَرَها (¬2) ورَأَى جَمِيعَ أَجْزَائِها. فصل: فإنْ كان البائِعُ يَعْلَمُ قَدْرَ الصُّبْرَةِ، لم يَجُزْ بَيْعُها جُزَافًا. نَصَّ عليه أحْمَدُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ. وكَرِهَهُ عطاءٌ، وابنُ سِيرِينَ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ. وبه قال مالِكٌ، وإسحاقُ. ورُوِىَ ذلك عن طاوُسٍ. قال مالِكٌ: لم يَزَلْ أهْلُ العِلْمِ يَنْهَوْنَ عن ذلك. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، أنَّه مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٍ، فقد رَوَى بكرُ بنُ محمدٍ، عن أبِيهِ، عنه، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ جُزَافًا، وقد عَرَفَ كَيْلَه. فقلتُ ¬

(¬1) النقرة من الذهب والفضة: القطعة المذابة. (¬2) في م: «شراها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له: إنّ مالِكًا يقولُ: إذا باعَ الطّعَامَ ولم يَعْلَمِ المُشْتَرِى، فإنِ اخْتَارَ أَنْ يَرُدَّه رَدَّهُ. قال: هذا تَغْلِيطٌ شَدِيدٌ، ولكنْ لا يُعْجِبُنِى إذا عَرَفَ كَيْلَه، إلَّا أَنْ يُخْبِرَه، فإنْ باعَه، فهو جائِزٌ عليه، وقد أساءَ. ولم يَرَ أبو حَنِيفَةَ، والشَّافِعِىُّ بذلك بأْسًا؛ لأنَّه إذا جازَ البَيْعُ بيع جَهْلِهما بمقْدارِه فمع العِلْمِ مِن أحَدِهما أوْلَى. ووَجْهُ الأوَّلِ ما رَوَى الأَوْزَاعِىُّ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَن عَرَفَ مَبْلَغَ شَئٍ فلا يَبعْه (¬1) جُزافًا حتَّى يُبَيِّنهُ» (¬2). قال القاضى: وقد رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه نَهَى عن بَيْعِ الطعام مُجازَفَةً، وهو يَعْلَمُ كَيْلَه (2). وأيضًا الإِجْماعُ الذى نَقَلَه مالِكٌ. ولأنَّ البائِعَ لا يَعْدِلُ إلى البَيْعِ جُزَافًا مع عِلْمِه بقَدْرِ الكَيْلِ، إلَّا للتَّغْرِيرِ ظَاهِرًا، وقد قال عليه السّلامُ: «مَنْ غَشَّنَا فلَيْسَ مِنَّا» (¬3). فصارَ كتَدْلِيسِ العَيْبِ (¬4). فإنْ باعَ ما عَلِمَ كَيْلَه صُبْرَةً، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ، أنَّ البَيْعَ صَحِيحٌ لازِمٌ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ، والشافِعِىِّ؛ لأنَّ المَبِيعَ مَعْلُومٌ ¬

(¬1) في الأصل، م: «يبيعه». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المجازفة، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 131. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا»، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 99. وأبو داود، في: باب في النهى عن الغش، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 244. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 6/ 55. وابن ماجه، في: باب النهى عن الغش، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 749. والدارمى، في: باب في النهى عن الغش، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 248. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 50، 242، 417، 3/ 466، 4/ 45. (¬4) في الأصل، م: «البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما, لا تَغْرِيرَ مِن أحَدِهما، أشْبَهَ ما لو عَلِمَا كَيْلَه أو جَهِلاهُ. ولم يَثْبُتْ ما رُوِى مِن النَّهْى فيه، وإنَّما كَرِهَه أحمدُ كراهَةَ تنزِيهٍ؛ لاخْتِلافِ العُلَماءِ فيه. ولأنَّ تَسْويَتَهما في العِلْمِ والجَهْلِ أبعدُ مِن التَّغْرِيرِ. وقال القاضِى وأصحاِبُه: هذا بمنزِلَةِ التَّدْلِيسِ والغِشِّ، إن عَلِمَ به المُشْتَرِى فلا خيارَ له؛ لأَنَّه دَخَلَ على بصيرَةٍ، فهو كمَن اشْتَرَى مُصَرَّاةً، يَعلَمُ تَصْرِيَتَها. وإن لم يَعْلَمْ أنَّ البائِعَ كِان عالِمًا بذلك، فله الخِيارُ في الفَسْخِ والإِمْضاءِ. وهذا قولُ مالِكٍ؛ لأَنَّه غِشٌّ وغَرَرٌ مِن البائِعِ، فصَحَّ العَقْدُ معه، ويَثْبُتُ للمُشْتَرِى الخِيارُ. وذَهَبَ بعضُ أصحابِه إلى أنَّ البَيْعَ فاسِدٌ، والنَّهْىَ يَقْتَضِى الفَسَادَ. فصل: فإنْ أخْبَرَهُ البائِعُ بكَيْلِه، ثم باعَهُ بذلك الكَيْلِ، فالبَيْعُ صَحِيحٌ. فإنْ قَبَضَه باكْتِيَالِه، تمَّ البَيْعُ والقَبْضُ، وإنْ قَبَضَه بغيرِ كَيْلٍ، كان بمَنْزِلَةِ قَبْضِه جُزَافًا؛ إن كان المَبِيعُ (¬1) باقِيًا كَالَه عليه، فإنْ كان قدْرَ حَقِّهِ الذى أَخْبَرَه، فقد اسْتَوْفاهُ، وإنْ كان زائِدًا رَدَّ الفَضْلَ، وإنْ كان ناقِصًا أخَذَ النَّقْصَ، وإنْ كان قد تَلِفَ فالقَوْلُ قَوْلُ القابِضِ [في قَدْرِه] (¬2) مع يَمِينِه، سواءٌ قَلَّ القَبْضُ أو كثُرَ؛ لأنَّ الأَصْلَ عَدَمُ القَبْضِ وبقاءُ الحَقِّ. وليس للمُشْتَرِى التَّصَرُّفُ في الجميعِ قبلَ كَيْلِه؛ لأنَّ للبائِع فيه عُلْقَةً، فإنَّه لو زاد، كانتِ الزِّيَادَةُ له، ولا يَتَصَرَّفُ في أَقَلَّ مِن حَقِّه، ¬

(¬1) في م: «البيع». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ كَيْلٍ؛ لأنَّ ذَلك يَمْنَعُه مِن مَعْرِفَةِ كَيْلِه. وإنْ تَصَرَّفَ فيما يَتَحَقَّقُ أنَّه مُسْتَحَقٌّ له، مثلَ أَنْ يكونَ حَقُّه قَفِيزًا، فيَتَصَرَّفَ في ذلك أو في أقَلَّ منه بالكَيْل، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له ذلك؛ لأنَّه تَصَرَّفَ في حَقِّه بعدَ قبْضِه، فجازَ، كما لو كِيل له. والثانى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له التُّصَرُّفُ في الجَمِيعِ، فلم يَجُزْ له التَّصَرُّفُ في البَعْضِ، كما قبلَ القَبْضِ. وإن قَبَضَه بالوَزْنِ، فهو كما لو قَبَضَه جُزَافًا. فأمّا إنْ أعْلَمَهُ بكَيْلِه، ثم باعَهُ إيّاهُ مُجازَفَةً، على أنَّه له بذلك الثَّمَنِ، سواءٌ زادَ أو نَقَصَ، لم يَجُزْ؛ لِما رَوَى الأَثْرَمُ، بإسْنادِه، عن الحَكَمِ، قال: قَدِمَ طَعامٌ لعثمانَ على عَهْدِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «اذْهَبُوا بِنَا إلى عثمانَ نُعِينُه على طعامِه». فَقامَ إلى جَنْبِه، فقال عثمانُ: في هذه الغِرَارَةِ (¬1) كذا وكذا، وأبِيعُها بكذا وكذا. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا سَمَّيْتَ الكَيْلَ فَكِلْ» (¬2). قال أحمدُ: إذا أخْبَرَه البائِعُ أنَّ في كُلِّ قارُورَةٍ مَنًّا (¬3)، فأَخَذَ بذلك، ولا يَكْتَالُه، فلا يُعْجِبُنى؛ لقولِه لعثمانَ: «إذَا سَمَّيْتَ الكَيْلَ فَكِلْ». قيلَ له: إنَّهُم يَقُولُونَ: إذَا فُتِحَ فَسَدَ. قال: فَلِمَ لا يَفْتَحُونَ واحِدَةً ويَزِنونَ (¬4) الباقِىَ؟. ¬

(¬1) الغرارة: وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح ونحوه، جمعها غرائر. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب بيع المجازفة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 750. (¬3) في م: «منها كذا رطلًا». (¬4) في الأصل: «ويرون». وفى م: «ويتركون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كالَ طَعامًا، وآخر يُشَاهِدُه، فلِمَنْ شاهَدَ الكَيْلَ شِراؤُه بغيرِ كَيْلٍ ثانٍ؛ لأَنَّه شاهَدَ كَيْلَه، أشْبَهَ ما لو كِيلَ له. وعنه، يَحْتَاجُ إلى كَيْلٍ؛ للخَبَرِ، وكالبَيْعِ الأوَّلِ. ولو كالَهُ البائِعُ للمُشْتَرِى، ثم اشْتَراهُ منه، فكذلك؛ لِما ذَكَرْنا. ولو اشْتَرَى اثْنانِ طَعامًا، فاكْتَالاهُ، ثم اشْتَرَى أحَدُهما حِصَّةَ شَرِيكِه قبلَ تَفرُّقِهِما، فهو جائِزٌ. وإن لم يَحْضُر المُشْتَرِى الكَيْلَ، لم يَجُزْ إلَّا بكَيْلٍ. وقال ابنُ أبى مُوسَى: فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، لا بدَّ مِن كَيْلِه. وإن باعَه للثانِى (¬1) في هذه المواضِعِ على أنَّه صُبْرةٌ، جازَ، ولم يَحْتَجْ إلى كيْلٍ ثانٍ. وقَبْضُهُ (¬2) بنَقْلِه، كالصُّبْرَةِ. فصل: قال أحمدُ في رجُلٍ يَشْتَرِى الجَوْزَ، فيَعُدُّ في مِكْتَلٍ (¬3) ألفَ جَوْزَةٍ، ثم يأخُذُ الجَوْزَ كُلَّه على ذلك العِيارِ: لا يَجُوزُ. وقال في رجُلٍ ابْتاعَ أعْكامًا (¬4) كَيْلًا، وقال للبائِعِ: كِلْ لِى عِكْمًا منها، وآخُذُ ما بَقِىَ على هذا الكَيْلِ: أكْرَهُ هذا حتَّى يَكِيلَها كُلَّها. قال الثَّوْرِىُّ: كان أصْحَابُنا يَكْرَهُونَ هذا. وذلك؛ لأنَّ ما في العُكُومِ يَخْتَلِفُ، فلا يُعْلَمُ ما في بَعْضِها بكَيْلِ البَعْضِ، والجَوْزُ يَخْتَلِفُ، فيكوَنُ في أحَدِ المِكْيَلَيْنِ أكْثَرُ مِن الآخَرِ، فلا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بالكَيْلِ، كما لا يَصِحُّ تَقْدِيرُ المَكِيلِ بالوَزْنِ, ولا المَوْزُونِ بالكَيْلِ. ¬

(¬1) في م: «الثانى». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «مكيل». (¬4) الأعكام جمع عكم، والعكم: العدل -بكسر العين وسكون الدال- ما دام فيه المتاع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ الأدْهانَ في ظُرُوفِها جُمْلَةً، وقد شاهَدَها، جازَ؛ لأنَّ أجْزَاءَها (¬1) لا تَخْتَلِفُ، فهِى (¬2) كالصُّبْرَةِ. وكذلك الحُكْمُ في العَسَلِ، والدِّبْسِ، والخَلِّ، وسائِرِ المائِعَاتِ التى لا تَخْتلِفُ. فإن باعَهُ كُلَّ رَطْلٍ بدِرْهَمٍ، أو باعَهُ رَطْلًا منه، أو أرْطالًا مَعْلُومَةً، يَعْلَمُ أنَّ فيها أكْثَرَ منها، أو باعَهُ أجْزاءً مُشاعَةً، أو جُزْءًا، أو باعَهُ إيَّاهُ مع الظَّرْفِ بعَشَرَةِ دَراهِمَ، أو بثَمَنٍ مَعْلُومٍ، جازَ. وإن باعَهُ السَّمْنَ والظَّرْفَ، كُلَّ رَطْلٍ بدِرْهَمٍ، وهما يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ كُلِّ واحِدٍ منهما، صَحَّ؛ لأنَّه قد عُلِمَ المَبِيعُ والثَّمَنُ. وإن لم يَعْلَمَا ذلك، جازَ أيضًا؛ لأنَّه قد رَضِىَ أَنْ يَشْتَرِىَ الظَّرْفَ كُلَّ رَطْلٍ بدِرْهَمٍ، وما فيه كذلك، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى ظَرْفَيْنِ، في أَحَدِهما سَمْنٌ وفى آخرَ زَيْتٌ، كُلَّ رَطْلٍ بدِرْهَمٍ. وقال القاضِى: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ وَزْنَ الظَّرْفِ يَزِيدُ ويَنقُصُ، فيَدْخُلُ على غَرَرٍ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ بَيْعَ كُلِّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا يَصِحُّ؛ لذلك (¬3)، فكذلك إذا جَمَعَهُما، كالأَرْضِ المُخْتَلِفَةِ الأَجْزَاءِ، والثِّيابِ وغَيْرِها. فأمّا إنْ باعَهُ كُلَّ رَطْلٍ بدِرْهَمٍ، على أَنْ يَزِنَ الظَّرْفَ، فيحْتَسبَ عليه بوَزْنِه، ولا يكونُ مَبِيعًا، وهما يَعْلَمانِ زِنَةَ كُلِّ واحِدٍ منهما، صَحَّ؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّ الدُّهْنَ عَشَرَةٌ، والظَّرْفَ رَطْلان، كان مَعْنَاهُ: بِعْتُكَ عَشَرَةَ أرْطَالٍ باثْنَىْ ¬

(¬1) في الأصل: «أجزاءه». (¬2) في الأصل: «فهو». (¬3) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَشَرَ دِرْهَمًا. وإنْ كانَا لا يَعْلَمَانِ زِنَةَ الظَّرْفِ والدُّهْنِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يُؤَدِّى إلى جَهالَةِ الثَّمَنِ في الحالِ. وسواءٌ جَهِلَا زِنَتَهُما جَمِيعًا، أو زِنَةَ أحَدِهما؛ لذلك (¬1). فصل: وإنْ وَجَدَ في ظَرْفِ الدُّهْنِ رُبًّا (¬2)، فقال ابنُ المُنْذِرِ: قال أحمدُ، وإسحاقُ: إنْ كان سَمَّانًا عندَه سَمْنٌ، أَعطَاهُ بوَزْنِه سَمْنًا، وإن لم يَكُنْ عِنْدَه سَمْنٌ، أعْطَاهُ بقَدْرِ الرُّبِّ مِن الثَّمَنِ. وأَلزَمَهُ شُرَيْحٌ بقَدْرِ الرُّبِّ سَمْنًا بكُلِّ حالٍ. وقال الثَّوْرِىُّ: إنْ شاءَ أخَذَ الذى وَجَدَ، ولا يُكَلَّفُ أَنْ يُعْطِيَه بقَدْرِ الرُّبِّ سَمْنًا. ولَنا، أنَّه وَجَدَ المَبِيعَ المَكِيلَ (¬3) ناقِصًا، فأَشْبَهَ ما لو اشْتَرَى صُبْرَةً فوَجَدَ تحتَها رَبْوَةً، أو اشْتَرَاها على أنَّها عَشَرَةُ أَقفِزَةٍ، فبانَتْ تِسْعَةً، فإنَّه يأخُذُ المَوْجُودَ بقِسْطِه من الثَّمَنِ، كذلك هذا. فعلى هذا، إنَّما يَأْخُذُ المَوْجُودَ بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، ولا يَلْزَمُ البائِعَ أَنْ يُعْطِيَه سَمْنًا، سواء كان مَوْجُودًا عندَه، أو لم يكُنْ، فإن تَرَاضَيَا على إعْطائِه سَمْنًا، جازَ. ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) الرب: رب السمن، سفله، وهو ما استقر تحته من كدره. (¬3) في م: «بكيل».

1578 - مسألة: (وإن باعه بمائة درهم إلا دينارا، لم يصح. ذكره القاضى. [ويجئ على قول الخرقى أنه يصح)

وَإِنْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَم إِلَّا دِينَارًا، لَمْ يَصِحَّ. ذَكَرَهُ الْقَاضِى. وَيَجِئُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِىِّ أَنَّهُ يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1578 - مسألة: (وإنْ باعَه بمائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينارًا، لم يَصِحَّ. ذَكَرَه القاضِى. [ويجئُ على قَوْلِ الخِرَقِىِّ أنَّه يَصِحُّ) إذا باعَه بمائةِ درهم إلَّا دينارًا لم يَصِحَّ] (¬1)، لأنَّه قَصَدَ اسْتِثْنَاءَ قِيمَةِ الدِّينارِ، وذلك غيرُ مَعْلُومٍ، واسْتِثْناءُ المَجْهُولِ مِن المَعْلُومِ يُصَيِّرُه مَجْهُولًا، ولأنَّه اسْتِثْناءٌ مِن غيرِ الجِنْسِ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بمائَةٍ إلَّا قَفِيزًا مِن حِنْطَةٍ. ويجئُ على قولِ الخِرَقِىِّ أنَّه يَصِحُّ في مَن اسْتَثْنَى في الإِقْرَارِ عَيْنًا مِن وَرِقٍ، أو وَرِقًا من عَيْنٍ، فإنَّه يَصِحُّ. فعلى هذا يُحْذَفُ مِن الجُمْلَةِ بقيمَةِ الدِّينارِ. ولو ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل فى تفريق الصفقة

فَصْلٌ فِى تَفْريقِ الصَّفْقَةِ: وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَلَهُ ثَلاثُ صُوَرٍ؛ أَحَدُهَا، بَاعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، فَلَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: بمائَةٍ إلَّا قَفِيزًا مِن حِنْطَةٍ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه اسْتِثْناءٌ مِن غيرِ الجِنْسِ. فأمّا الذَّهَبُ والفِضَّةُ فهما كالجِنْسِ الواحِدِ. (فصلٌ في تفريقِ الصَّفْقَةِ: وهو أَنْ يجمَعَ بينَ ما يَجُوزُ بَيْعُه و) بَيْنَ (ما لا يَجُوزُ) صَفْقَة واحِدَةً، بثَمَنٍ واحِدٍ (وله ثَلاثُ صورٍ؛ أحَدُها، أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا ومَجْهُولًا) كَقَوْلِك: بِعْتُك هذه الفَرَسَ، وما في بَطْنِ هذه الفَرَسِ الأُخْرَى، بكذا. فهذا بَيْع باطِلٌ بكُلِّ حالٍ، ولا أَعلَمُ في بُطْلانِه خِلافًا؛ لأنَّ المَجْهُولَ لا يَصِحُّ بَيْعُه بجهالَتِه، والمَعْلُومَ مَجْهُولُ الثَّمَنِ

الثَّانِيَةُ، بَاعَ مُشَاعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ ما يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالْأَجْزَاءِ، كَقَفِيزَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَهُمَا، فَيَصِحُّ فِى نصِيبِهِ بقِسْطِهِ. فِى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَلِلْمُشْتَرِى الْخِيَارُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه؛ لأنَّ مَعْرِفَتَه إنَّما تَكُونُ بتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عليهما، والمَجْهُولُ لا يُمكنُ تَقْوِيمُه، فيَتَعَذَّرُ التَّقْسِيطُ. (الثانِيَةُ، باعَ مُشاعًا بينهَ وبينَ غيرِه) بغيرِ إذْنِ شَرِيكِه (كعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بينَهما، أو مَا يَنْقَسِمُ عليه الثَّمَنُ بالأَجْزَاءِ، كقَفِيزَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ لهما، فيَصِحُّ في مِلْكِه بقِسْطِه) مِن الثَّمَنِ، وَيَفْسُدُ في نَصِيبِ الآخرِ. والثانِى، لا يَصِحُّ فيهما. وأَصْلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَيْنِ، أَنَّ أحمدَ نَصَّ في مَن تَزَوَّجَ حُرَّةً وأمَةً، على رِوَايَتَيْنِ، إحْداهما، يفسُدُ فيهما. والثانيةُ، يَصِحُّ في الحُرَّةِ. والوَجْهُ الأَوَّلُ قولُ مالِكٍ، وأبى حَنِيفَةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشَّافِعِىِّ. وقال في الآخرِ: لا يَصِحُّ. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وحَرَامًا، فغَلَبَ التَّحْرِيمُ، ولأنَّ الصَّفْقَةَ إذا لم يُمْكِنْ تَصْحِيحُها في جَمِيعِ المَعْقُودِ عليه، بَطَلَتْ في الكُلِّ، كالجَمْعِ بين الأُخْتَيْنِ، وبَيْعِ دِرْهَم بدِرْهَمَيْنِ. وَوَجْهُ الأوَّل أنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما له حُكْمٌ لو كان مُنْفَرِدًا، فإذا جَمَعَ بينَهما ثَبَتَ لِكُلِّ واحِدٍ حُكْمُه، كما لو باعَ شِقْصًا وسَيْفًا. ولأَنَّ ما يَجُوزُ بَيْعُه قد صَدَرَ فيه البَيْعُ من أهْلِه في مَحَلِّه بشَرْطِه، فصَحَّ، كما لو انْفَرَدَ، ولأنَّ البَيْعَ سَبَبٌ اقْتَضَى الحُكْمَ في مَحَلَّيْنِ، فامْتَنَعَ حُكْمُه في أحَدِ المَحَلَّيْنِ؛ لنَبْوَتِه (¬1) عن قَبولِه، فيَصِحُّ في الآخرِ، كما لو وَصَّى بشئٍ لآدَمِىٍّ وبَهِيمَةٍ. وأمّا الدِّرْهَمانِ والأُخْتَانِ، فليس واحِدٌ منهما أوْلَى بالفَسَادِ مِن الآخرِ، فلذلك فسدَ فيهما، وهذا بخِلَافِه. ¬

(¬1) في ق: «لثبوته».

الثَّالِثَةُ، بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ عَبْدًا وَحُرًّا، أَوْ خَلًّا وَخَمْرًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ أُولَاهُمَا، لَا يَصِحُّ. وَالأُخْرَى، يَصِحُّ فِى عَبْدِه وَفِى الْخَلِّ بِقِسْطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتىِ حَكَمْنا بالصِّحَّةِ ههنا، وكان المُشْتَرِى عالِمًا بالحالِ، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ. وإنْ لم يَعْلَمْ، مِثْلَ أنِ اشْتَرَى عَبْدًا يَظه كُلَّه للبائِعِ، فبانَ أنَّه لا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَه، فله الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والإِمْسَاكِ؛ لأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عليه. وأمّا البائِعُ فلا خِيارَ له؛ لأنَّه رَضِىَ بزَوالِ مِلْكِه عَمّا يَجُوزُ بَيْعُه (¬1) بقِسْطِه. ولو وَقَعَ العَقْدُ على شَيْئَيْنِ يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ فيهما، فتَلِفَ أحَدُهما قبلَ قَبْضِه، فقال القاضِى: للمُشْتَرِى الخِيارُ بينَ إمساكِ الباقى بحِصَّتِه وبينَ الفَسْخِ؛ لأنَّ حُكْمَ ما قبلَ القَبْضِ -في كوْنِ المَبِيعِ مِن ضمانِ البائِعِ- حُكْمُ ما قبلَ العَقْدِ، بدَليلِ أنَّه لو تَعَيَّبَ قبلَ قَبْضِه، لمَلَكَ المُشْتَرِى الفَسْخَ به. (الثالِثةُ، باعَ عَبْدَه وعَبْدَ غَيْرِه بغيرِ إذْنِه، أو عَبْدًا وحُرًّا، أو خَلًّا وخَمْرًا، ففيه رِوَايَتَانِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ في هذه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْأَلَةِ، فنقلَ صالِحٌ عن أحمدَ، في مَن اشْتَرَى عَبْدَيْن، فوَجَدَ أَحَدَهما حُرًّا، رَجَعَ بقِيمَتِه مِن الثَّمَنِ. ونقلَ عنه مُهَنَّا، في مَن تَزَوَّجَ امْرَأَةً على عَبْدَيْن، فوَجَدَ أحَدَهما حُرًّا، فلها قِيمَةُ العَبْدَيْنِ. فأَبْطَلَ الصَّدَاقَ فيهما جَمِيعًا. وللشّافِعِىِّ قَوْلانِ، كالرِّوَايَتَيْنِ. وأبْطَلَ مالِكٌ العَقْدَ فيهما، إلَّا أن يَبِيعَ مِلْكَهُ ومِلْكَ غَيْرِه، فيَصِحَّ في مِلْكِه، ويَقِفَ في مِلْكِ غيرِه على الإِجازَةِ. ونحوُه قولُ أبى حَنِيفَةَ؛ فإنَّه قال: إنْ كان أحَدُهما لا يَصِحُّ بَيْعُه بنَصٍّ أو إجْماعٍ، كالحُرِّ والخَمْرِ، لم يَصِح العَقْدُ فيهما، وإنْ لم يَثْبُتْ بذلك، كمِلْكِه وملْكِ غيرِه، صَحَّ فيما يمْلِكُه؛ لأنَّ ما اخْتُلِفَ فيه يمكنُ أَنْ يَلْحَقَه حُكْمُ الإِجازَةِ بحُكمِ حاكِمٍ بصِحَّةِ بَيْعِه. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَصِحُّ بَيْعُه، كما لِما تَقَدَّمَ في القِسْمِ الثَّانِى، ولأنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ؛ لأنَّه إنَّما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَبَيَّنُ بالتَّقْسِيطِ للثَّمَنِ على القِيمَةِ، وذلك مَجْهُولٌ في الحالِ، فلم يَصِحَّ البَيْعُ به، كما لو قال: بِعْتُكَ هذه السِّلْعَةَ برَقْمِها. أو: بحِصَّتِه (¬1) مِن رَأْسِ المالِ. ولأنَّه لو صَرَّحَ به، فقال: بِعْتُك هذا بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ. لم يَصِحَّ. فكذلك إذا لم يُصَرِّحْ. وهذا هو الصَّحِيحُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالَى. ووَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى، أنَّه متى سَمَّى ثَمَنًا في مَبِيعٍ، فَسَقَطَ (¬2) بَعْضه، لا يُوجِبُ ذلك (¬3) جهالَةً تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كما لو وَجَدَ بعضَ المَبِيعِ مَعِيبًا فأَخَذَ أرْشَه. وإذا قلنا بالصِّحَّةِ، فللمُشْتَرِى الخِيارُ، إذا لم يكُنْ ¬

(¬1) في م: «بحصتها». (¬2) في م: «فتقسط». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عالِمًا، كالقِسْمِ الثَّانِى، لتَبَعُّضِ الصَّفْقَةِ عليه. والحُكْمُ في الرَّهْنِ والهِبَةِ وسائِرِ العُقُودِ إذا جَمَعَتْ ما يَجُوزُ وما لا يَجُوزُ، كالحُكْمِ في البَيْعِ، إلَّا أنَّ الظّاهِرَ فيها الصِّحَّةُ، لأنَّها ليست عُقُودَ مُعاوَضَةٍ، فلا تُوثِّرُ جَهالَةُ العِوَضَ فيها. فصل: وإنْ وَقَعَ العَقْدُ على مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ، فتَلِفَ بَعْضُه قبلَ قَبْضِه، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ في الباقِى. رِوايَةً واحِدَةً. سواءٌ كانَا مِن جنْسٍ واحِدٍ أو جِنْسَيْنِ، ويَأْخُذُ المُشْتَرِى الباقِىَ بحِصَّتِه من الثَّمَنِ، لأنَّ العَقْدَ وقَعَ صَحِيحًا، فذَهابُ بَعْضِه لا يَفْسَخُه، كما بعدَ القَبْضِ، وكما لو وَجَدَ أحَدَ المبِيعَيْنِ مَعِيبًا فَرَدَّهُ، أو أقَالَ أحَدُ المُتَبايِعَيْنِ الآخرَ في بعضِ المَبِيعِ.

1579 - مسألة: (وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد، فهل يصح؟ على وجهين)

وَإِنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِثَمَن وَاحِدٍ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1579 - مسألة: (وإنْ باعَ عَبْدَه وعَبْدَ غَيْرِه بإذْنِه بثَمَن واحِدٍ، فهل يَصِحُّ؟ على وَجْهَيْنِ) أحَدُهما، يَصِحُّ فيهما، ويَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ على قدْر قِيمَتِهما. وهو قولُ مالِكٍ، وَأبى حَنِيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشّافِعِىِّ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَعْلُومَة، فَصَحَّ، كما لو كانَا لرَجُلٍ واحِدٍ، وكما لو بَاعَا عَبْدًا واحِدًا لهما. والثانِى، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما مَبِيعٌ بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، وهو مَجْهُولٌ، على ما قَدَّمْنَا. وفارَقَ ما إذا كانَا لرَجُلٍ واحِدٍ، فَإنَّ جُمْلَةَ المَبِيعِ مُقابَلَةٌ بجُمْلَةِ الثَّمَنِ مِن غيرِ تَقْسِيطٍ، والعَبْدُ المُشْتَرَكُ يَنْقَسِمُ عليه الثَّمَنُ بالأجْزَاءِ، فلا جَهالَةَ فيه. فأمّا إنْ باعَ قَفِيزَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ له ولغَيْرِه بثَمَنٍ واحِدٍ بإذْنِه، صَحَّ؛ لأنَّ الثمَنَ يَتَقسَّط عليهما بالأجْزاءِ، فلا يُفْضِى إلى جَهالَةِ الثَّمَنِ. وكذلك إنْ باعَهُ عَبْدًا لهما

1580 - مسألة: (وإن جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف، صح فيهما، ويقسط العوض عليهما، فى أحد الوجهين)

وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَو بَيْعٍ وَصَرْفٍ، صَحَّ فِيهمَا، وَيُقَسَّطُ الْعِوَضُ عَلَيْهِمَا، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بثَمَن واحِدٍ صَحَّ؛ لما ذَكَرْنَا. 1580 - مسألة: (وإنْ جَمَعَ بينَ بَيْعٍ وإجارَةٍ، أو بَيْعٍ وصَرْفٍ، صَحَّ فيهما، ويُقَسَّطُ العِوَضُ عليهما، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ) إذا جَمَعَ بينَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَىِ الحَدِّ؛ كالبَيعِ والإِجَارَةِ، والبَيْعِ والصَّرْفِ، بعِوَضٍ واحِدٍ، صَحَّ فيهما؛ لأنَّ اخْتِلافَ حُكْمِ العَقْدَيْنِ لا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كما لو جَمَعَ بينَ ما فيه شُفْعَةٌ وما لا شُفْعَةَ فيه. وكذلك إنْ باعَ سَيْفًا مُحَلًّى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذَهَبٍ وفِضَّةٍ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَصِحُّ، لأنَّ حُكْمَهُما مُخْتَلِفٌ، وليس أَحَدُهما أَوْلَى مِن الآخرِ، فبَطَلَ فيهما، فإنَّ البَيْعَ فيه خِيارٌ، ولا يُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ في المَجْلِسِ، ولا يَنْفَسِخُ العَقْدُ بتَلَفِ المَبِيعِ، والصَّرْفُ يُشْتَرَطُ له التَّقابُضُ، ويَنْفَسِخُ العَقدُ بتَلَفِ العَيْنِ [في الإِجَارَةِ] (¬1). وإنْ جَمَعَ بينَ نِكاحٍ وبَيْعٍ بعِوَض واحِدٍ، فقال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِى، وبِعْتُكَ دَارِى بمائَةٍ. صَحَّ النِّكَاحُ؛ لكَوْنِه لا يَفْسُدُ بفَسَادِ العِوَضِ. وفى البَيْعِ وَجْهان. وللشافعىِّ قَوْلانِ، كالوَجْهَيْنِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

1581 - مسألة: (وإن جمع بين كتابة وبيع، فكاتب عبده وباعه شيئا صفقة واحدة)

وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ كِتَابَةٍ وَبَيْعٍ، فَكَاتَبَ عَبْدَهُ وَبَاعَهُ شَيْئًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، بَطَلَ الْبَيْعُ، وَفِى الْكِتَابَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1581 - مسألة: (وإنْ جَمَعَ بينَ كِتَابَةٍ وبَيْعٍ، فكاتَبَ عَبْدَه وباعَهُ شَيْئًا صَفْقَةً واحِدَةً) مثلَ أَنْ يقُولَ؛ بِعْتُكَ عَبْدِى هذا، وكاتَبْتُكَ بمائَةٍ، كُلَّ شَهْرٍ عَشَرَةٌ (بَطَلَ البَيْعُ) وَجْهًا واحِدًا، لأنَّه باعَ عَبْدَه لعَبْدٍ، فلم يَصِحَّ، كبَيْعِه إيّاهُ مِن غيرِ كِتابَةٍ. وهل تَبْطُلُ الكِتَابَ؟ يَنْبَنِى على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوَايَتَيْنِ في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ بَعْدَ نِدَائِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (ولا يَصِحُّ البَيْعُ مِمَّنْ تَلْزَمُه الجُمُعَةُ بعدَ نِدائِها) لا يَحِلُّ البَيْعُ بعدَ نِداء الجُمُعَةِ قبلَ الصَّلاةِ لمَن تَجِبُ عليه الجُمُعَةُ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1). فإنْ باعَ، لم يَصِحَّ البَيْعُ؛ للنَّهْىِ عنه. وِالنِّدَاءُ الذى يَتَعَلَّقُ به المَنْعُ هو النِّدَاءُ عَقِيبَ جُلُوسِ الإِمامِ على المِنْبَرِ؛ لأنَّه النِّداءُ الذى كان على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَتَعَلَّقَ الحُكْمُ به، والنِّداءُ الثالثُ (¬2) زِيدَ في زَمَنِ عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ¬

(¬1) سورة الجمعة 9. (¬2) في م: «الثانى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَكَى القاضِى رِوَايَةً عن أحمدَ، أنَّ البَيْعَ يَحْرُمُ بزَوالِ الشَّمْسِ، وإنْ لم يَجْلِسِ الإِمامُ على المِنْبَرِ. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالَى عَلَّقَهُ على النِّداءِ، لا على الوَقْتِ، ولأنَّ المَقْصُودَ بهذا إدْراكُ الجُمُعَةِ، وهو حاصِلٌ بما ذَكَرْنا دُون ما ذَكَرَه، ولأنَّه لو اخْتَصَّ تَحْرِيمُ البَيْعِ بالوَقْتِ لَما اخْتَصَّ بالزَّوَالِ، فإنَّ ما قَبْلَه وَقْتٌ أيضًا. فأَمَّا مَن لا تَجِبُ عليه الجُمُعَةُ مِن النِّساءِ والمُسافِرِين وغيرِهم، فلا يَثْبُتُ في حَقِّهِ هذا الحُكْمُ. وذَكَرَ ابنُ أبِى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوسَى فيه رِوايَتَيْن؛ لعُمومِ النَّهْى. والصَّحِيحُ ما ذَكَرْنَا، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالَى، فإنَّ اللَّهَ تعالى إنَّما نَهَى عن البَيْعِ مَنْ أمَرَهُ بالسَّعْىِ، فغيرُ المُخاطَبِ بالسَّعْىِ لا يَتَناوَلُه النَّهْىُ، ولأنَّ تَحْرِيمَ البَيْعِ مُعَلَّلٌ بما يَحْصُلُ به من الاشْتِغَالِ عن الجُمُعَةِ، وهذا مَعْدُومٌ في حَقِّهم. فإن كان المُسافِرُ في غيرِ المِصْرِ، أو كان مُقِيمًا بقَرْيَةٍ لا جُمُعَةَ على أَهْلِها، لم يَحْرُمِ البَيْعُ، ولم

1582 - مسألة: (ويصح النكاح وسائر العقود، فى أصح الوجهين)

وَيصِحُّ النِّكَاحُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ، فِى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُكْرَهْ، وَجْهًا واحِدًا. فإن كان أحَدُهما مُخَاطَبًا بالجُمُعَةِ دونَ الآخَرِ، حَرُمَ غلى المُخاطَبِ، وكُرِهَ للآخَرِ؛ لِما فيه مِن الإِعانَةِ على الإِثْمِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَحْرُمَ؛ لقَوْلِه تَعالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). 1582 - مسألة: (ويَصِحُّ النِّكَاحُ وسائِرُ العُقُودِ، في أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ) كالإِجارَةِ والصُّلْحِ ونحوِهما. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه ¬

(¬1) سورة المائدة 2.

1583 - مسألة: (ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ولا بيع السلاح فى الفتنة، ولا لأهل الحرب. ويحتمل أن يصح مع التحريم)

وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَا بَيْعُ السِّلَاحِ فِى الْفِتْنَةِ، وَلَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصحَّ مَعَ التَّحْرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْرُمُ ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيْعَ. ولَنا، أنَّ النَّهْىَ مُخْتَصٌّ بالبَيْعِ، وغيرُه لا يُسَاوِيه في الشَّغْلِ عن السَّعْىِ؛ لِقِلَّةِ وجُودِه، فلا يُؤَدِّى إلى ترْكِ الجُمُعَةِ، فلا يَصِحُّ قِياسُه على البَيْعِ. 1583 - مسألة: (ولا يَصِحُّ بَيْعُ العَصِيرِ لمَن يَتَّخِذُه خَمْرًا، ولا بَيْعُ السِّلاحِ في الفِتْنَةِ، ولا لأَهْلِ الحَرْبِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ مع التَّحْرِيمِ) بَيْعُ العَصِيرِ مِمَّن يَعْتَقِدُ أنَّه يَتَّخِذُه خَمْرًا، مُحَرَّمٌ. وكَرِهَهُ الشافِعِىُّ. وذَكَرَ بعضُ أَصْحابِه أنَّ البائِعَ إذا اعْتَقَدَ أنَّه يَعْصِرُهُ (¬1) خَمْرًا، مُحَرَّمٌ، وإنّما يُكْرَهُ إذا شَكَّ فيه. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن الحَسَنِ، وعَطاءٍ، والثَّوْرِىِّ، أنَّه لا بَأْسَ بِبَيْعِ التَّمْرِ مِمَّن يَتَّخِذُه مُسْكِرًا. قال ¬

(¬1) في م: «يصيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِىُّ: بعِ الحَلالَ مَن شِئْتَ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1). ولأنَّ البَيْعَ تَمَّ بأرْكَانِه وشُرُوطِه. ولَنا، قولُ اللَّهِ تَعالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وهذا نَهْىٌ يَقْتَضِى التَّحْرِيمَ. وقد رَوَى ابنُ عَبّاسٍ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَاهُ جِبْرِيلُ، فقال: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الخَمْرَ، وعاصِرَها، ومُعْتَصِرَها، وحامِلَها، والمَحْمُولَةَ إليه، وشارِبَها، وبائِعَها، ومُبْتَاعَها، وسَاقِيَها. وأشارَ إلى كُلِّ مُعَاوِنٍ عليها ومُسَاعِدٍ فيها. أَخْرَجَه التِّرْمِذِىُّ (¬2) من حَدِيثِ أنَسٍ، قال (¬3): وقد رُوِى هذا الحَدِيثُ عن ابنِ عباسٍ (¬4)، وابنِ عمرَ (¬5) عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورَوَى ابنُ بَطَّةَ بإسْنَادِه عن محمدِ بنِ سيرِينَ، أنَّ قَيِّمًا كان لسَعْدِ بنِ أبى وَقّاصٍ في أَرْضٍ له، وأَخبَرَه عن عِنَبٍ أنَّه لا يَصْلُحُ زَبِيبًا، ولا يَصْلُحُ أن يُباعَ إلَّا لمَن يَعْصِرُه، فأمَرَهُ بقَلْعِه، وقال: بِئْسَ الشَّيْخُ أنا إن بِعْتُ ¬

(¬1) سورة البقرة 275. (¬2) في: باب النهى أن يتخذ الخمر خلا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 295. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1122. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 316. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في العنب يحصر للخمر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 292. وابن ماجه، في: باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1121، 1122. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 25، 71، 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَمْرَ (¬1). ولأنّه يَعْقِدُ عليها لمَنِ يَعْلَمُ أنّه يُرِيدُها للمَعْصِيَةِ، فأشْبَهَ إِجارَةَ أمَتِه لمَن يَعْلَمُ أنَّه يَسْتَأْجِرُها للزِّنَى بها. والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بصُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فيُخَصُّ منها صُورَةُ النِّزَاعِ بدَلِيينا. وقَوْلُهم: تمَّ البَيْعُ بشُرُوطِه وأرْكانِه. قلنا: لكنْ وُجِدَ المانِعُ منه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّما يَحْرُمُ البَيْعُ إذا عَلِمَ البائِعُ قَصْدَ المُشْتَرِى ذلك، إمّا بقَوْلِه، أو بقَرَائِنَ مُحْتَفَّةٍ به (¬2) تَدُلُّ عليه. وإنْ كانَ الأَمْرُ مُحْتَمِلًا، كمَن لا يَعْلَمُ حالَه، أو مَن يَعْمَلُ الخَلَّ والخَمْرَ مَعًا، ولم يَلْفِظْ بما يَدُلُّ على إرادَةِ الخَمْرِ، فالبَيْعُ جائِزٌ. فإن باعَهَا لِمَن يَتَّخِذُهَا خَمْرًا، فالبَيْعُ باطِلٌ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ، لأَنَّ المُحَرَّمَ في ذلك اعْتِقادُه بالعَقْدِ دُونَه، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ العَقْدِ، كما لو دَلَّسَ العَيْبَ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ على عَيْنٍ لمَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى بها، فلم يَصِحَّ، كإِجَارَةِ الأَمَةِ للزِّنَى والغِناءِ. وأَمَّا التَّدْلِيسُ فهو المُحَرَّمُ دُونَ العَقْدِ. ولأنَّ التَّحْرِيمَ هنا لِحَقِّ اللَّهِ تعالى، فأفْسَدَ العَقْدَ، كبَيْعِ الرِّبَا، وفارَقَ التَّدْلِيسَ، فإنَّه لِحَقِّ آدَمِىٍّ. فصل: وهكذا الحُكْمُ في كُلِّ ما قُصِدَ به الحرامُ، كبَيْعِ السِّلاحِ في الفِتْنَةِ، أو لأَهْلِ الحَرْبِ، أو لقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وبَيْعِ الأَمَةِ للغِنَاءِ، ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب الكراهية في بيع العصير، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 294. وعبد الرزاق، في: باب العصر ضربه وبيعه، من كتاب الأشربة. مصنف عبد الرزاق 9/ 218. وابن أبى شيبة، في: باب في بيع العصير، من كتاب البيوع والأقضية. مصنف ابن أبى شيبة 6/ 598. (¬2) في م: «بقوله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو إجارَتِهَا لذلك، فهو حَرَامٌ، والعَقْدُ باطِلٌ، لِما قَدَّمْنَا. قال ابنُ عَقِيلٍ: وقد نَصَّ أحمدُ على مسائِلَ نَبَّهَ بها على ذلك، فقال في القَصّابِ والخَبَّازِ إذا عَلِمَ أنَّ مَن يَشْتَرِى منه يدعو عليه مَن يَشرَبُ المُسكِرَ: لا يَبِيعُه، ومَن يَخْرطُ الأَقْدَاحَ لا يَبِيعُها لمَن يَشْرَبُ فيها. ونَهَى عن بَيْعِ الدِّيباجِ للرِّجالِ، ولا بَأْسَ ببَيْعِه للنِّساءِ. ورُوِىَ عنه: لَا يَبِيعُ الجَوْزَ مِن الصِّبْيَانِ للقِمارِ. وعلى قِياسِهِ البَيْضُ، فيكونُ بَيْعُ ذلك كُلِّه باطِلًا. فصل: قال أحمدُ في رَجُلٍ ماتَ وخَلَّفَ جاريةً مُغَنَيةً، ووَلَدًا يَتِيمًا، وقد احْتَاجَ إلى بَيْعِها، قال: يَبِيعُها على أَنَّها ساذِجَةٌ. فقيلَ له: إنَّها تُسَاوِى ثلاثِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ، فإذا بيعَتْ ساذِجَةً تُسَاوِى عِشْرِين دِينارًا. فقال: لا تُبَاعُ إلَّا على أنَّها ساذِجَةٌ. وَوَجْهُهُ ما روَى أبو أُمامَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لا يَجُوِزُ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ ولا أَثْمانُهُنَّ وَلا كَسْبُهُنَّ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬1): لا نعْرِفُه إلَّا مِن حَدِيثِ عَلِىِّ بن يَزِيدَ، وقد تَكَلَّمَ فيه بعضُ أَهْلِ العِلْمِ. وَرواهُ ابنُ ماجه (¬2). وهذا يُحْمَلُ على بَيْعِهِنَّ لأجْلِ الغِناءِ، فأمّا مالِيَّتُهُنَّ الحاصِلةُ بغيرِ الغِناءِ فلا تَبْطُلُ، كبَيْعِ العصيرِ لمَن لا يَتَّخِذُه ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات، من أبواب البيوع. وباب تفسير سورة لقمان، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 5/ 281، 282، 12/ 72، 73. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 252، 257، 264، 268. (¬2) في: باب ما لا يحل بيعه، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 732.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْرًا، فإنَّه لا يَحْرُمُ لصَلَاحِيَتِه للخَمْرِ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيْعُ الخَمْرِ، ولا التَّوَكُّلُ في بَيْعِه ولا شِرَائِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ أهل العِلْمِ على أنَّ بَيْعَ الخَمْرِ غيرُ جائِزٍ. وعندَ أبى حَنِيفَةَ، يَجُوزُ للمُسْلِم أَنْ يُوَكِّلَ ذِمِّيًّا في بَيْعِها وشِرَائِها. ولا يَصِحُّ، فإنَّ عائِشَةَ رَوَتْ أنّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِى الخَمْرِ» (¬1). وعن جابِرٍ أنَّه سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عامَ الفَتْحِ، وهو بمَكَّةَ يقولُ: «إنَّ اللَّهَ ورَسُولَه حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأَصْنَامِ». فقيل: يا رسولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فإنَّه تُطْلَى بها السُّفُنُ، وتُدْهَنُ بها الجُلُودُ، ويَسْتَصْبِحُ بها النّاسُ؟ فقال: «لا، هو حَرامٌ». ثم قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، إنَّ اللَّهَ تَعالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَها، فجَمَلُوهُ، ثم ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب تحريم تجارة الخمر في المسجد، من كتاب الصلاة، وباب آكل الربا وشاهده وكاتبه. . .، وباب تحريم التجارة في الخمر. . .، من كتاب البيوع، وفى: باب: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. . .، وباب: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 1/ 124، 3/ 77، 108، 6/ 40. ومسلم، في: باب تحريم بيع الخمر، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1206. وأبو داود، في: باب في ثمن الخمر والميتة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 251. والترمذى، في: باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 300. والنسائى، في: باب النهى عن الانتفاع بشحوم الميتة، وباب بيع الخنزير، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 272، 273. وابن ماجه، في: باب التجارة في الخمر، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1122. والدارمى، في: باب في النهى عن بيع الخمر، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 255. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 324، 326.

1584 - مسألة: (ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر، إلا أن يكون ممن يعتق عليه، فيصح فى إحدى الروايتين)

وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فيَصِحُّ فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باعُوهُ، وأَكَلُوا ثَمَنَه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ومَن وَكَّلَ في بَيْعِ الخَمْرِ، وأَكَلَ ثَمَنَه، فقد أَشْبَهَهُم في ذلك، ولأنَّ الخَمْرَ نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فحَرُمَ بَيْعُها والتَّوْكِيلُ فيه، كالمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ. 1584 - مسألة: (ولا يَصِحُّ بَيْعُ العَبْدِ المُسْلِمِ لكافِرٍ، إلَّا أن يكونَ مِمَّن يَعْتِقُ عليه، فيَصِحُّ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) لا يَصِحُّ شراءُ الكافِرِ مُسْلِمًا. وهذا إحْدَى الرِّوَايَتَيْن عن مالِكٍ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ، ويُجْبَرُ على إزالَةِ مِلكِه؛ لأنَّه يَمْلِكُ المُسْلِمَ بالإِرْثِ، ويَبْقَى مِلْكُه عليه إذا أسْلَمَ في يَدِه، فصَحَّ أن يَشْتَرِيَه، كالمُسْلِمِ. ولَنا، أنَّه يُمْنَعُ اسْتِدامَةَ مِلْكِه عليه، فَمُنِعَ ابْتِداءَه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالنِّكَاحِ، ولأنَّه عَقْدٌ يُثْبِتُ المِلْكَ للكافِرِ على المُسْلِمِ، فلم يَصِحَّ، كالنِّكَاحِ، وإنّما مَلَكَه بالإِرْثِ، وبَقِىَ مِلْكُه عليه إذا أسْلَمَ في يَدِه، لأنَّ الاسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِن الابْتِداءِ بالفِعْلِ والاخْتِيَارِ، بدَلِيلِ ثُبُوتِه بهما [للمُحْرِمِ في الصَّيْدِ] (¬1) مع مَنْعِه مِن ابْتِدائِه، فلا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ الأَقْوَى ثُبُوتُ ما دُونَه، مع أنّا نَقْطَعُ الاسْتِدَامَةَ عليه بإِجْبَارِه على إزالَتِها. فإن كان مِمَّن يَعْتِقُ عليه بالقَرَابَةِ، صَحَّ، في إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وعَتَقَ عليه. وهذا قولُ بعضِ الأَصْحَابِ. والأُخْرَى، لا يَصِحُّ، ولا ¬

(¬1) في الأصل، م: «للحوم الصيد».

1585 - مسألة: (وإن أسلم عبد الذمى، أجبر على إزالة ملكه عنه)

وَإِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّىِّ، أُجْبِرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ كِتَابَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْتِقُ؛ لأَنَّه شِراءٌ يَمْلِكُ به المُسْلِمَ، فلم يَصِحَّ، كالذى لا يَعْتِقُ عليه، ولأَنَّ ما مُنِعَ مِن شِرائِه لم يُبَحْ له شِراؤُه، وإِنْ زالَ مِلْكُه عَقِيبَ الشِّراءِ، كشِرَاءِ المُحْرِمِ الصَّيْدَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى أنَّ المِلْكَ لا يَسْتَقِرُّ عليه، وإنَّما يَعْتِقُ بمُجَرَّدِ المِلْكِ في الحالِ، ويَزُولُ المِلْكُ عنه بالكُلِّيَّةِ، ويَحْصُلُ له من نَفْعِ الحُرِّيَّةِ أَضْعافُ ما حَصَلَ مِن الإِهانَةِ (¬1) بالمِلْكِ في لَحْظَةٍ يَسيرَةٍ. ويُفارِقُ مَن لا يَعْتِقُ عليه، فإنَّ مِلْكَه لا يَزُولُ إلَّا بإزَالَتِه، وكذلك شِراءُ المُحْرِم الصَّيْدَ. 1585 - مسألة: (وإنْ أسْلَمَ عبدُ الذِّمِّىِّ، أُجْبرَ على إزالَةِ مِلْكِه عنه) لأنَّه لا يَجُوزُ اسْتِدَامَة المِلكِ للكافِرِ على المُسْلِمِ إجْماعًا. (وليس له كِتابَتُه) لأنَّ الكِتَابَةَ لا تُزِيلُ مِلْكَ السَّيِّدِ عنه، ولا يَجُوزُ إقْرارُ مِلْكِ ¬

(¬1) في م: «الإماء».

وَقَالَ الْقَاضِى: لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكافِرِ عَليه. (وقال القاضِى: له ذلك) لأنَّه يُزِيلُ يدَه عنه، فأَشْبَهَ بَيْعَه. والأَوَّلُ أَوْلَى.

1586 - مسألة: (ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه؛ وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة. ولا شراؤه على شراء أخيه؛ وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندى فيها عشرة.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِعَشَرَةٍ: أَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَهَا بِتِسْعَةٍ. وَلَا شِرَاؤُهُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِتِسْعَةٍ: عِنْدِى فِيهَا عَشَرةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1586 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيْعُ الرجُلِ على بَيْعِ أَخِيهِ؛ وهو أَنْ يقولَ لمَن اشْتَرَى سِلْعَةً بعَشَرَةٍ: أَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَها بتِسْعَةٍ. ولا شِراؤُهُ على شِراءِ أخِيه؛ وهو أنْ يقولَ لِمَنْ باعَ سِلْعَةً بتِسْعَةٍ: عِنْدِى فيها عَشَرَةٌ.

لِيَفْسَخَ البَيْعَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ. فَإِنْ فَعَلَ، فَهَل يَصِحُّ الْبَيْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليَفْسَخَ البَيْعَ ويَعْقِدَ معه. فإنْ فَعَلَ، فهل يَصِحُّ البَيْعُ؟ على وَجْهَيْنِ) أمَّا البَيْعُ فهو مُحَرَّمٌ، لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يَبعْ بَعْضُكُم على بَيْعِ بَعْضٍ» (¬1). ومَعْنَاهُ ما ذَكَرْنَا. ومِثْلُه أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ خَيْرًا منها بثَمَنِها. أو يَعْرِضَ عليه (¬2) سِلْعَةً يُرَغِّبُ المُشْتَرِىَ، ليَفْسَخَ البَيْعَ ويَعْقِدَ معه، فلا يَجُوزُ ذلك؛ للنَّهْى عنه، ولِما فيه مِن الإِضْرَارِ بالمُسْلِمِ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب النهى للبائع ألا يحفل الإبل والبقر. . .، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 92. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1155. وأبو داود، في: باب من اشترى مصراة فكرهها، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 242. والنسائى، في: باب النهى عن المصراة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 222، 223. والإمام مالك في: باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 683. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 394، 465، 501. (¬2) في م: «عليهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِفْسَادِ عليه. وفى مَعْنى ذلك شِراؤُه على شِراءِ أخيه؛ لأَنَّه في مَعْنَى المَنْهِىِّ عنه، ولأَنَّ الشِّراءَ يُسَمَّى بَيْعًا، فَيَدْخُلُ في عُمُوم النَّهْى، ولأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ على خِطْبَةِ أَخِيهِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهو في مَعْنَى الخاطِبِ. فإنْ خالَفَ، وفَعَلَ، فالبَيْعُ باطِلٌ، للنَّهْى عنه، والنَّهْىُ يَقْتَضِى الفَسادَ. وفيه وَجْهٌ، أنَّه يَصِحُّ؛ لأَنَّ المُحَرَّمَ هو عَرْضُ سِلْعَتِه على المُشْتَرِى، أو قَوْلُه الذى فُسِخَ البَيْعُ مِن أَجْلِه، وذلك سابِقٌ على البَيْعِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لا يبيع على بيع أخيه. . .، من كتاب البيوع، وفى: باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، من كتاب الشروط، وفى: باب لا يخطب على خطبة أخيه. . .، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 3/ 91، 250، 7/ 24. ومسلم، في: باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها. . .، وباب تحريم الخطبة على خطبة أخيه. . .، من كتاب النكاح، وفى: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 2/ 1028، 1032 - 1034، 3/ 1154. وأبو داود، في: باب في كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 480. والترمذى، في: باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 1/ 480. والنسائى، في: باب سوم الرجل على سوم أخيه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 226. وابن ماجه، في: باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 600. والدارمى، في: باب النهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 135. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الخطبة، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 523. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 122، 124، 130، 142، 153، 238، 274، 311، 318، 394، 411، 427، 457، 462، 463، 487، 489، 4/ 147، 5/ 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه إذا صَحَّ الفَسْخُ الذى حَصَلَ به الضَّرَرُ، فالبَيْعُ المُحَصِّلُ للمَصْلَحَةِ أوْلَى، ولأنَّ النَّهْىَ لحَقِّ آدَمِىٍّ، فأشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ. وهذا مَذْهَبُ الشافِعِىِّ. فصل: ورَوَى مُسْلِمٌ (¬1)، عن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لا يَسُمِ الرَّجُلُ على سَوْمِ أَخِيهِ». ولا يَخْلُو مِن أَرْبَعَةِ أَقْسَام؛ أحَدُها، أَنْ يُوجَدَ مِن البائِعِ تَصْرِيحٌ بالرِّضَا بالبَيْعِ. فهذا يُحَرِّمُ السَّومَ على غيرِ ذلك المُشْتَرِى، وهو الذى تَناوَلَه النَّهْىُ. الثَّانِى، أَنْ يَظْهَرَ منه ما يَدُلُّ على عَدَمِ الرِّضَا، فلا يَحْرُمُ السَّوْمُ؛ لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- باعَ في مَن يَزِيدُ، فرَوَى أنَسٌ أنَّ رَجُلًا مِن الأنْصارِ شَكَا إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الشِّدَّةَ ¬

(¬1) في: باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها. . .، وباب تحريم الخطبة على خطة أخيه. . .، من كتاب النكاح، وفى: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 2/ 1029، 1033، 1034، 3/ 1154، 1155. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن البيع على بيع أخيه، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 293. وابن ماجه، في: باب لا يييع الرجل على بيع أخيه. . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 734. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 394، 411، 427، 457، 463، 487، 489، 508، 512، 516، 539.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجَهْدَ، فقال له: «أمَا تَبَقَّى لَكَ شَئٌ؟» قال: بَلَى، قَدَحٌ وحِلْسٌ (¬1). قال: «فائْتِنِى بِهِمَا». فأَتَاهُ. بهما، فقال: «مَنْ يَبْتَاعُهُمَا؟». فقال رجلٌ: أخَذْتُهُما بدِرْهَمٍ. فقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى درْهَمٍ؟ [مَن يَزِيدُ عَلَى درْهَمٍ؟] (¬2). فأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ، فَبَاعَهُما منه. رواه التِّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وهذا أيضًا إجْماعٌ؛ فإنَّ المُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ في أَسْوَاقِهِم بالمُزَايَدَةِ. الثالِثُ، أَنْ لا يُوجَدَ منه ما يَدُلُّ على الرِّضَا ولا عَدَمِه، فلا يَحْرُمُ السَّوْمُ أيْضًا ولا الزِّيَادَةُ؛ اسْتِدْلَالًا بحَدِيثِ فاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ، حينَ ذَكَرَت له أنَّ مُعَاوِيَةَ وأبا جَهْمٍ خَطَبَاها، فأَمَرَها أَنْ تَنْكِحَ أُسامَةَ (¬4). وقد نَهَى عن الخِطْبَةِ على خِطْبَةِ أخِيه، كما نَهَى عن السَّوْمِ على سَوْمِ أخِيهِ، فما أُبِيحَ ¬

(¬1) الحلس: كل شئ ولى ظهر البعير والدابة تحت الرحل، والقتب والسرج والبرذعة. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب ما جاء في بيع من يزيد، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 224. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يجوز فيه المسألة، من كتاب الزكاة. سنن أبى داود 1/ 381. والنسائى، في: باب البيع في من يزيد، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 227. وابن ماجه، في: باب بيع المزايدة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 740. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1114 - 1116. وأبو داود، في: باب نفقة المبتوتة، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 532. والترمذى، في: باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 73. والنسائى، في: باب إذا استشارت المرأة رجلا في من يخطبها هل يخبرها بما يعلم، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 62. والإمام مالك، في: باب ما جاء في نفقة المطلقة، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 581.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أَحَدِهما أُبيحَ في الآخَرِ. الرابِعُ، أَنْ يَظْهَرَ منه ما يَدُلُّ على الرِّضَا مِن غيرِ تَصْرِيحٍ. فقال القاضِى: لا تَحْرُمُ المُسَاوَمَةُ. وذَكَرَ أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه في الخِطْبَةِ؛ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ فاطِمَةَ. ولأنَّ الأَصْلَ إباحَةُ السَّوْمِ والخِطْبَةِ، فَحَرُمَ منه ما وُجِدَ فيه التَّصْرِيحُ بالرِّضَا، وما عَدَاهُ يَبْقَى على الأصْلِ. قال شَيْخُنا (¬1): ولو قيلَ بالتَّحْرِيمِ ههُنا، لكانَ وَجْهًا حَسَنًا، فإنَّ النَّهْىَ عامٌّ، خَرَجَتْ منه الصُّورَةُ المَخْصوصَةُ بأَدِلَّتِها، فتَبْقَى هذه الصُّورَةُ على مُقْتَضَى العُمُومِ. ولأنَّه وُجِدَ منه دَلِيلٌ على الرِّضَا، أشْبَهَ ما لو صَرَّحَ به، ولا يَضُرُّ اخْتِلافُ الدَّلِيلِ بعدَ التَّسَاوِى في الدَّلَالَةِ. وليس في حَدِيثِ فاطِمَةَ ما يَدُلُّ على الرِّضَا؛ لأَنَّها جاءَتْ مُسْتَشِيرَةً للنَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس ذلك دَلِيلًا على الرِّضَا، وكيف تَرْضَى وقد نَهاهَا النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَوْلِه: «لا تَفُوتِينَا بنَفْسِكِ». فلم تكُنْ تَفْعَلُ شَيْئًا قبلَ مُراجَعَةِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. والحُكْمُ في الفَسَادِ كالحُكْمِ في البَيْعِ على بَيْعِ أَخِيه، في المَوْضِعِ الذى حَكَمْنا بالتَّحْرِيمِ فيه. ¬

(¬1) في: المغنى 6/ 308.

1587 - مسألة: (وفى بيع الحاضر للبادى روايتان، إحداهما، يصح. والأخرى، لا يصح بخمسة شروط، أن يحضر البادى لبيع

وَفِى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِى رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، يَصِحُّ. وَالأُخْرَى، لَا يَصِحُّ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ؛ أَنْ يَحْضُرَ الْبَادِى لِبَيْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وبَيْعُ التَّلْجِئَةِ باطِلٌ. وبه قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِىُّ: هو صَحِيحٌ، لأنَّ البَيْعَ تمَّ بأَرْكانِه وشُرُوطِه، خَالِيًا عن مُقَارَنَةٍ مُفْسِدَةٍ، فصَحَّ، كما لو اتَّفَقَا على شَرْطٍ فاسِدٍ، ثم عَقَدَا البَيْعَ بغَيْرِ شَرْطٍ. ولَنا، أنَّهما ما قَصَدَا البَيْعَ، فلم يَصِحَّ منهما، كالهازِلَيْنِ. ومَعْنَى بَيْعِ التَّلْجِئَةِ، أَنْ يخافَ أَنْ يأْخُذَ السُّلْطانُ أو غيرُه مِلْكَه، فيُواطِئَ رَجُلًا على أَنْ يُظْهِرَ أنَّه اشْتَراهُ منه؛ ليَحْتَمِىَ بذلك، ولا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا. 1587 - مسألة: (وفى بَيعِ الحاضِرِ للبادِى رِوَايَتانِ، إحْدَاهُما، يَصِحُّ. والأُخْرَى، لا يَصِحُّ بخمْسَةِ شُرُوطٍ، أَنْ يَحْضُرَ البادِى لِبَيْعِ

سِلْعَتِهِ، بسِعْرِ يَوْمِهَا، جَاهِلًا بِسِعْرِهَا، وَيَقْصِدَهُ الْحَاضِرُ، وَيَكُونَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهَا. فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا، صَحَّ الْبَيْعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سِلْعَتِه، بسِعْرِ يَوْمِها، جاهِلًا بسِعْرِها، ويَقْصِدَه الحاضِرُ، وبالنّاسِ حاجَةٌ إليها. فإن اخْتَلَّ شَرْطٌ منها، صَحَّ البَيْعُ) البَادِى ههُنا مَنْ يَدْخُلُ البَلَدَ مِن غيرِ أهْلِها، سواءٌ كان بَدَوِيًّا، أو مِن قَرْيَةٍ، أو مِن بَلْدَةٍ أُخْرَى. ولا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الحاضِرُ للبادِى، لقَوْلِ ابنِ عباسٍ: نَهَى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وأَنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبَادٍ. قال: فَقُلْتُ لابنِ عباسٍ: ما قَوْلُه: «حاضِرٌ لِبادٍ؟» قال: لا يكونُ له سِمْسَارًا. مُتَّفَقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وعن جابِرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يَبيعُ حَاضِرٌ لبادٍ، دَعُوا النّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ». رَواهُ مُسْلِمٌ (¬2). والمَعْنَى في ذلك أنّه مَتَى تَرَكَ البَدَوِىَّ يَبِيعُ (¬3) سِلْعَتَه، اشْتَراهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ، ويُوَسِّعُ عليهم السِّعْرَ، وإذا تَوَلَّى الحاضِرُ بَيْعَها، وامْتَنَعَ مِن بَيْعِها إلَّا بسِعْرِ البَلَدِ، ضاقَ على أَهْلِ البَلَدِ. وقد أشارَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تَعْلِيلِه إلى هذا. وممَّنْ كَرِهَ بَيْعَ الحاضِرِ للبادِى؛ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وابنُ عمرَ، وأبو هُرَيْرَةَ، وأنَسٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ، والشّافِعِىُّ. ونَقَلَ أبو إسحاقَ ابنُ شَاقْلَا، أنَّ الحَسَنَ بنَ عَلِىٍّ المصرِىَّ سَألَ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر. . .، وباب النهى عن تلقى الركبان. . .، من كتاب البيوع، وفى: باب أجر السمسرة. . .، من كتاب الإجارة. صحبح البخارى 3/ 94، 95، 120. ومسلم في: باب تجريم بيع الحاضر للبادى، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1157. كما أخرجه أبو داود، في: باب في النهى أن يبيع حاضر لباد، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 241. والنسائى، في: باب التلقى، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 225، 226. وابن ماجه، في: باب النهى أن يبيع حاضر لباد، من كتاب التجارات، سنن ابن ماجه 2/ 635. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 238، 243، 254، 274. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب تحريم بيع الحاضر للبادى، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1157. وأبو داود، في: باب في النهى أن يبيع حاضر لباد، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 242. والترمذى، في: باب ما جاء لا يبيع حاضر لباد، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 231. والنسائى، في: باب بيع الحاضر للبادى، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 225. وابن ماجه، في: باب النهى أن يبيع حاضر لباد، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 734. والإمام أحمد، في: المسند 7/ 303، 312، 386، 392. (¬3) في م: «بيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَحْمَدَ عن بَيْعِ حاضِرٍ لبادٍ، فقال: لا بَأْسَ به. قال له: فالخَبَرُ الذى جَاءَ بالنَّهْىِ؟ قال: كان ذلك مَرَّةً. فظاهِرُ هذا أنَّ النَّهْىَ اخْتَصَّ بأَوَّلِ الإِسْلَامِ؛ لِما كان عليهم مِن الضِّيقِ في ذلك. وهذا قولُ مُجاهِدٍ، وأبى حَنِيفَةَ، وأصحابِه. والمَذْهَبُ الأَوَّلُ، لعُمُومِ النَّهْى، وما ثَبَت في حَقِّهِم ثَبَتَ في حَقِّنَا، ما لمِ يَقُمْ على اخْتِصاصِهِم به دَلِيلٌ (¬1). وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنّه يَحْرُمُ بثَلَاثَةِ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أَنْ يكونَ الحاضِرُ قَصَدَ البادِىَ لِيَتَوَلَّى البَيْعَ له، فإنْ كان هو القاصِدَ للحاضِرِ، جازَ؛ لأَنَّ التَّضْيِيقَ حَصَلَ منه لا مِن الحاضِرِ. الثَّانِى، أَنْ يكونَ البادِى جاهِلًا بالسِّعْرِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ أبى طَالِبٍ: إذا كان البادِى عارِفًا بالسِّعْرِ لم يحرُمْ؛ لأَنَّ التَّوْسِعَةَ لا تَحْصُلُ بِتَرْكِه يَبِيعُها؛ لأنَّه لا يَبِيعُها إلَّا بسِعْرِها ظاهِرًا. الثالثُ، أَنْ يكونَ قد جَلَبَ السِّلْعَةَ للبَيْعِ. فأمّا إنْ جَلَبَهَا لِيَأْكُلَها، أو يُخَزِّنَها، فليس في بَيْعِ الحاضِرِ له تَضْيِيقٌ، بل تَوْسِعَةٌ. وذَكَرَ القاضِى شَرْطَيْنِ آخرَيْنِ؛ أحَدُهما، أَنْ يكونَ مُرِيدًا لبَيْعِها بسِعْرِ يَوْمِها. فأمّا إن كانَ أَحْضَرَها وفى ¬

(¬1) بعده في م: «وهو مذهب الشافعى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسِه أَنْ لا يَبِيعَها رَخِيصَةً، فليس في بَيْعِه تَضْيِيقٌ. الثَّانِى، أَنْ يكونَ بالنّاسِ حاجَةٌ إليها وضَرَرٌ في تَأْخِيرِ بَيْعِها، كالأَقْواتِ ونحوِها. وقال أصحابُ الشّافِعِىِّ: إنَّما يَحْرُمُ بشُرُوطٍ أرْبَعَةٍ. وهى ما ذَكَرْنَا، إلَّا حاجَةَ الناسِ إليها. فمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ منها، لم يَحْرُمِ البَيْعُ. وإِنِ اجْتَمَعَتْ هذه الشُّرُوطُ، فالبَيْعُ حَرَامٌ. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه باطِلٌ. نصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ إسماعيلَ بنَ سَعِيدٍ. [وذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وعن أحمدَ] (¬1) رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّ البَيعَ صَحِيحٌ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّ النَّهْىَ لمَعْنًى في ¬

(¬1) في م: «وذكر الخرقى».

1588 - مسألة: (فأما شراؤه له، فيصح، رواية واحدة)

وَأَمَّا شِرَاؤُهُ لَهُ، فَيَصِحُّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ المَنْهِىِّ عنه، فلم يبْطُلْ، كتَلَقِّى الرُّكْبانِ. ولَنا، أنَّه مَنْهِىٌّ عنه، والنَّهْىُ يَقْتَضِى الفسادَ، واللَّهُ أعْلَمُ. 1588 - مسألة: (فأمَّا شِراؤُه له، فيَصِحُّ، روايَةً واحدَةً) وهو قولُ الحسنِ. وكَرِهَتْ طائِفَةٌ الشِّراءَ لهم أيضًا، كما كَرِهَتِ البَيْعَ. فرُوِىَ عن (¬1) أنَسٍ، قال: كان يُقالُ: هى كَلِمَةٌ جامِعَةٌ، يقولُ: لا تَبِيعَنَّ له شَيْئًا، ولا تَبْتَاعَنَّ له شَيْئًا (¬2). وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْن عن مالِكٍ. ولَنا، أنَّ النَّهْىَ غيرُ مُتَنَاوِلٍ للشِّراءِ بلَفْظِه، ولا هو في مَعْناهُ، فإنَّ النَّهْىَ عن البَيْعِ للرِّفْقِ بأَهْلِ الحَضَرِ ليَتَّسِعَ عليهم السِّعْرُ، ويَزُولَ عنهم الضَّرَرُ، وليس ذلك في الشِّراءِ لهم، إذ لا يَتَضَرَّرُونَ؛ لعَدَمِ الغَبْنِ للبادِينَ، بل هو دَفْعُ الضَّرَرِ عنهم، والخَلْقُ في نَظَرِ الشَّارِعِ على السَّواءِ، فكما شَرَعَ ما يَدْفَعُ الضَّرَرَ عن أَهْلِ الحَضَرِ، لا يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أهْلَ البَدْوِ الضَّرَرُ. فأمّا إنْ أشارَ الحاضِرُ على البادِى مِن غيرِ أَنْ يُباشِرَ البَيْعَ له، فقد رَخَّصَ فيه طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، والأوْزَاعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وكَرِهَهُ مالِكٌ، واللَّيْثُ. وقَوْلُ الصَّحَابِىِّ أوْلَى. فصل: وليس للإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَ على الناسِ، بل يَبِيعُ النّاسُ أمْوَالَهُم على ما يَخْتارُونَ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وكان مالِكٌ يقولُ: يُقالُ لمَن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب النهى أن يبيع حاضر لباد، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 242.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ أقلَّ ما يَبِيعُ النّاسُ: بِعْ كما يَبِيعُ النّاسُ، وإلَّا فاخْرُجْ عنَّا. واحْتَجَّ بما رَوَى الشّافِعِىُّ، وسَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، عن داودَ بنِ صالِحٍ التَّمّارِ، عن القاسِمِ بنِ محمدٍ، عن عمرَ، أنّه مَرَّ بحاطِبٍ (¬1) في سوقِ المُصَلَّى، وبينَ يَدَيْه غِرارَتانِ فيهما زَبِيب، فَسَألَه عن سِعْرِهِما، فسَعَّرَ له مُدَّيْنِ بكُلِّ دِرْهَمٍ، فقال له عمرُ: قد حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِن الطّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وهم يَعْتَبِرُونَ بسِعْرِكَ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ في السِّعْرِ، وإمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبيبَكَ، فتَبِيعَهُ كيفَ شِئْتَ (¬2). ولأنَّ في ذلك إضْرارًا بالناسِ، إذا زاد [تَبِعَهُ أصحابُ المَتاعِ] (¬3)، وإذا نَقَصَ أضَرَّ بأصْحَابِ المَتَاعِ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ، وابنُ ماجَه (¬4)، عن أنَسٍ، قال: غَلَا السِّعْرُ على عَهْدِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا. ¬

(¬1) هو حاطب ابن أبى بلتعة صحابي جليل، شهد بدرًا، وهو صاحب القصة المشهورة بكتابه إلى المشركين لما أراد النبى أن يغزو مكة، وبعثه النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المقوقس. توفى سنة ثلاثين في خلافة عمان. الإصابة 2/ 4 - 6. (¬2) أخرجه الإمام مالك، مختصرا، في: باب الحكرة والتربص، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 651. والبيهقى، في: باب التسعير، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 29. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في التسعير، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 244. والترمذى، في: باب ما جاء في التسعير، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 6/ 53. وابن ماجه، في: باب من كره أن يسعر، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 741، 742. كما أخرجه الدارمى، في: باب في النهى عن أن يسعر في المسلمين، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 249. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 156، 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ المُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إنِّى لأرْجُو أَنْ ألْقَى اللَّهَ ولَيْسَ أحَدٌ يَطْلُبُنِى يمَظْلِمَةٍ، في دَمٍ، ولا مالٍ». قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وعن أبى سَعِيدٍ مِثْلُه (¬1). فوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِن وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، أنَّه لم يُسَعِّرْ، وقد سَأَلُوه ذلك، وِلو جازَ لأجَابَهُم إليه. الثانى، أنَّه عَلَّلَ بكَوْنِه مَظْلِمَةً، والظُّلْمُ حَرَامٌ. ولأنَّه مَالُه، فلم يَجُزْ مَنْعُه مِن بَيْعِه بما تَرَاضَى عليه المُتَبَايِعَانِ، كما لو اتَّفَقَ الجماعَةُ عليه. والظّاهِرُ أنَّه سَبَبُ الغَلَاءِ؛ لأنَّ الجالِبِينَ إذا بَلَغَهُم ذلك، لم يَقْدَمُوا بسِلْعَتِهم بَلَدًا يُكْرَهُونَ عك بَيْعِها فيه بغيرِ ما يُرِيدُونَ، ومَن عندَه البِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِن بَيْعِها، ويَكْتُمُها، ويَطْلُبُها المحتاجُ إليها، ولا يَجِدُها إلَّا قَلِيلًا، فَيَرْفعُ في ثَمَنِها ليُحَصِّلَهَا، فَتَغْلُو الأسْعارُ، ويَحْصُلُ الإِضْرَارُ بالجَانِبَيْنِ، جانِبِ المُلَّاكِ في مَنْعِهِم من بَيعِ أَمْلَاكِهِم، وجانِبِ المُشْتَرِى في مَنْعِه مِن الوُصُولِ إلى غرَضِه، فيكونُ حَرَامًا. فأمّا حَدِيثُ عمرَ، فقد رَوَى فيه سعيدٌ، والشافعىُّ، أنَّ عمرَ لَمَّا رَجَعَ حاسَبَ نَفْسَهُ، ثم أَتَى حاطِبًا في دَارِه، فقال: إنَّ الذى قلتُ لك ليس بعَزِيمَةٍ مِنِّى، ولا قَضاءٍ، وإنَّما هو شئٌ أَرَدْتُ به الخَيْرَ لأَهْلِ البَلَدِ، فحيثُ شِئْت فبعْ كيف شِئتَ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب من كره أن يسعر، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 742. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 85.

1589 - مسألة: (ومن باع سلعة بنسيئة، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقدا

وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِنَسِيئَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا نَقْدًا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا. وَإِنِ اشْتَرَاهَا أَبُوهُ أَو ابْنُهُ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا رُجُوعٌ إلى ما قُلْنا. وما ذَكَرُوه مِن الضَّرَرِ مَوْجُودٌ فيما إذا باعَ في بَيْتِه، ولا يُمْنَعُ منه. 1589 - مسألة: (ومَن باعَ سِلْعَةً بنَسِيئَةٍ، لم يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَها بأقَلَّ مِمّا باعَها نقدًا (¬1)، إلَّا أَنْ تكونَ قد تَغَيَّرَتْ صِفَتُها. وإنِ اشْتَرَاهَا أبوه أو ابنُه، جازَ) مَن باعَ سِلْعَةً بثَمَنٍ مُؤجَّل، ثم اشْتَرَاها بأَقَلَّ منه نَقْدًا، لم يَجُزْ. رُوِى ذلك عن ابنِ عَبّاسٍ، وعائِشةَ، والحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبىِّ، والنَّخَعِىِّ. وبه قال الثَّوْرىُّ، والأَوْزَاعِىُّ، ومالِكٌ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى. وأجازَهُ الشافِعِىُّ؛ لأنَّه ثمَنٌ يَجوزُ بَيْعُها به مِن غير بائِعِها، فجازَ مِن بائِعِها، كما لو باعَها بمثلِ ثَمَنِها. ولَنا، ما رَوَى غُنْدَرٌ، عن شعْبَةَ، عن أبى إسحاقَ السَّبيعِىِّ، عن امْرَأتِه العالِيَةِ بنتِ أيْفَعَ بنِ شُرَحْبِيل، أنَّها قالت: دَخلت أنا وأُمُّ ولدِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ وامْرَأَتُه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على عائِشَةَ، فقالت أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بنِ أرْقَمَ: إنِّى بعْتُ غُلامًا مِن زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ بثمانِمائَةِ دِرْهَمٍ إلى العطاءِ، ثم اشْتَرَيْتُه منه بستِّمائَةِ دِرْهَم. فقالت لها: بِئْسَ ما شَرَيْتِ، وبئْسَ ما اشْتَرَيْتِ، أبْلِغِى زَيْدَ بنَ أرْقَمَ أَنَّه قد أَبْطَلَ جِهادَهُ مع رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلَّا أَنْ يَتُوبَ. رَواهُ أحمدُ (¬1)، وسَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ. والظَّاهِرُ أنَّها لا تَقُولُ مثلَ هذا التَّغْلِيظِ، وتُقْدِمُ عليه، إلَّا بتَوْقِيفٍ مِن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجَرَى مَجْرَى رِوايَتِها ذلك عنه. ولأنَّ ذلك ذَرِيعَةٌ إلى الرِّبَا، فإنَّه يُدْخِلُ السِّلْعَةَ ليَسْتَبِيحَ بَيْعَ أَلْفٍ بِخَمْسِمائَةٍ إلى أجَلٍ. ¬

(¬1) وأخرجه البيهقى، في: باب الرجل يبيع الشئ إلى أجل. . . إلخ، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 330، 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك قال ابنُ عَباسٍ في مثلِ هذه المسألةِ: أرَى مائَةً بِخَمْسِينَ بينَهما حَرِيرَةٌ (¬1). يَعْنى خِرْقَةَ حَرِير جَعَلَاها في بَيْعِهما، والذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ. فأَمّا إنْ باعَها بمثلِ الثَّمَنِ أو أَكْثَرَ، جازَ؛ لأنَّه لا يكونُ ذَرِيعَةً، وهذا إذا كانتِ السِّلْعَة لم تنقُصْ عن حالَةِ البَيْعِ، فإنْ نَقَصَتْ، مثلَ أَنْ هَزَلَ العَبْدُ، أو نَسِىَ صِناعةً (¬2)، أو تَخَرَّقَ الثَّوْبُ، ونحوِه، جازَ له شِراؤُها بما شاءَ؛ لأنَّ نَقْصَ الثَّمَنِ لِنَقْصِ المَبِيعِ، لا للتَّوَسُّلِ إلى الرِّبَا. فصل: فإنِ اشْتَرَاها بعَرْضٍ، أو كان بَيْعُها الأَوَّلُ بعَرْضٍ، فاشْتَرَاها بنَقْدٍ، جازَ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ التَّحْرِيمَ إنَّما كان لشُبْهَةِ الرِّبَا، ولا رِبًا بينَ الأثْمانِ والعُرُوضِ. فإنْ باعَها بنَقْدٍ، ثم اشْتَرَاها بنَقْدٍ آخَرَ، ¬

(¬1) أخرج عبد الرزاق نحوه، في: باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 187. (¬2) في م: «متاعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال أصْحَابُنا: يَجُوزُ؛ لأَنَّهما جِنْسَانِ لا يَحْرُمُ التَّفَاضُل بينهما، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَاها بِعَرْضٍ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ اسْتِحْسانًا؛ لأنَّهما كالشئِ الواحِدِ في مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، ولأنَّ ذلك يُتَّخَذُ وَسِيلَةً إلى الرِّبا، فهو كما لو بَاعَها بجِنْسِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ. قال شَيْخُنا (¬1): وهذا أصَحُّ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالَى. وهذه المَسألةُ تُسَمَّى مسألةَ العِينَةِ. قال الشاعِرُ (¬2): أنَدَّانُ أَمْ نَعْتَانُ أمْ يَنْبَرِى لَنَا … فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُه (¬3) ومَعْنى نَعْتَانُ: أى نَشْتَرِى عِينَةً كما وَصَفْنا. وقد رَوَى أبو داودَ (¬4)، بإِسْنادِه، عن ابنِ عمرَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقولُ: «إذا تَبَايَعْتُمْ بالْعِينَةِ، وأَخَذْتُمْ أذنَابَ الْبَقَرِ، ورَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُم». وهذا وَعِيدٌ يدُلُّ على التَّحْرِيمِ. وقد رُوِى عن أحمدَ، أنَّه قال: الْعِينَةُ أَنْ يكونَ ¬

(¬1) في: المغنى 6/ 262. (¬2) نسبه ابنُ منظور في اللسان (د ى ن) إلى شمر. (¬3) في اللسان: «هزت مضاربه». وندان: نأخذ دَيْنا. (¬4) في: باب في النهى عن العينة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 246. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 42، 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَ الرجلِ المَتاعُ، فلا يَبِيعُه إلَّا بنَسِيئَةٍ، فإنْ باعَ بنَقْدٍ ونَسِيئَةٍ فلا بَأْسَ. وقال: أَكْرَهُ للرجلِ أَنْ لا يكونَ له تِجارَةٌ غيرَ الْعِينَةِ، لا يَبِيعُ بنَقْدٍ. قال ابنُ عَقِيلٍ: إنَّما كَرِهَ النَّسِيئَةَ لِمُضَارَعَتِه الرِّبَا، فإنَّ البائِعَ بنَسِيئَةٍ يَقْصِدُ الزِّيادَةَ بالأَجَلِ غَالِبًا. ويجوزُ أَنْ تكونَ العِينَةُ اسْمًا لهذه المسألةِ وللبَيعِ نَسِيئَةً. جميعًا، لكنَّ البَيْعَ بنَسِيئَةٍ مُبَاحٌ اتِّفاقًا، ولا يُكْرَهُ إلَّا أَنْ لا يكونَ له تِجارَةٌ غيره فصل: فإنْ باعَ سِلْعَةً بنَقْدٍ، ثم اشْتَراهَا بأَكْثَرَ منه نَسِيئَةً، فقال أحمدُ، في رِوايَةِ حَرْبٍ: لا يجُوزُ، إلَّا ان تَتَغَيَّرَ السِّلْعَةُ؛ لأنَّ ذلك يُتَّخَذُ وَسِيلَةً إلى الرِّبَا، فهى كَمسْألةِ العينَةِ. فإنِ اشْتَرَاها بسِلْعَةٍ أُخْرَى، أو بأَقَلَّ مِن ثَمَنِها، أو بمِثْلِه نَسِيئَةً، جازَ؛ لِما ذَكَرْنا في مسألةِ العِينَةِ. وإنِ اشْتَرَاها بنَقْدٍ آخَرَ بأكْثَرَ من ثَمَنِها، فهو كمسألةِ العِينَةِ، على ما ذَكَرْنَا مِن

1590 - مسألة: (وإن باع ما يجرى فيه الربا نسيئة

وَإِنْ بَاعَ مَا يَجْرِى فِيهِ الرِّبَا نَسِيئَةً، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِثَمَنِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِهِ نسِيئَةً، لَمْ يَجُزْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الْخِلافِ. قال شَيْخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أَنْ يجوزَ (¬2) له شِراؤُها بجِنْسِ الثَّمَنِ بأكْثَرَ منه، إذا لم يَكُنْ ذلك عن مُواطَأَةٍ، ولا حِيلَةٍ، بل وَقَعَ اتفاقًا مِن غيرِ قَصْدٍ؛ لأنَّ الأَصْلَ حِلُّ البَيْعِ، وإنَّما حُرِّمَ في مسألَةِ العِينَةِ للْأَثَرِ الوارِدِ فيه، وليس هذا في مَعْناهُ؛ لأَنَّ التَّوَسُّلَ بذلك أكْثَرُ، فلا يُلْحَقُ به ما دُونَه. فصل: وفى كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنا: لا يَجُوزُ له أَنْ يَشْتَرِىَ. لا يَجُوزُ ذلك لوَكِيلِه؛ لأنَّه قائِمٌ مَقامَهُ، ويجُوزُ لغَيْرِه مِن النّاسِ، سواءٌ كان أرباه أو ابْنَه أو غيرَهما؛ لأنَّه غيرُ البائِعِ اشْتَرَى لنَفْسِهِ، أشْبَهَ الأَجْنَبِىَّ. 1590 - مسألة: (وإنْ باعَ ما يَجْرِى فيه الرِّبَا نَسِيئةً (¬3)، ثم اشْتَرى منه بثَمَنِه قبلَ قَبْضِه مِن جِنْسِه، أو ما لا يجوزُ بَيْعُه به نَسِيئَةً، لم يَجُزْ) ¬

(¬1) في: المغنى 6/ 263. (¬2) في م: «يكون». (¬3) في الأصل، م: «بنسيئة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِى ذلك عن ابنِ عمرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وطاوُسٍ. وبه قال مالِكٌ، وإسحاقُ. وأجازَهُ جابِرُ بنُ زَيْدٍ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وعَلِىُّ بنُ حُسَيْنٍ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِر، وأَصْحابُ الرَّأْى. وقال عَلِىُّ بنُ حُسَيْنٍ: إذا لم يكُنْ لك في ذلك رَأْىٌ. ورَوَى محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ ابنُ أبى مَرْيَمَ، قال: بِعْتُ تَمْرًا مِن التَّمّارِينَ، كُلَّ سَبْعَةِ آصُعٍ بدِرْهَمٍ، ثم وَجَدْتُ عندَ رَجُلٍ منهم تَمْرًا يَبِيعُه أرْبَعَةَ آصُع بدِرْهَمٍ، فاشْتَرَيْت منه، فَسَأَلْتُ عِكْرِمَةَ عن ذلك، فقال: لا بَأْسَ، أَخذْتَ أَنقَصَ مِمَّا بِعْتَ. ثم سَأَلْتُ سَعِيدَ بنَ المُسَيَّبِ عن ذلك، وأَخْبَرْتُه بقَوْلِ عِكْرِمَةَ، فقال: كذَبَ، قال عبدُ اللَّهِ بنُ عَباسٍ: ما بِعْتَ مِن شئٍ مِمّا يُكالُ بمِكْيَالٍ، فلا تَأْخُذْ منه شَيْئًا مِمّا يُكالُ بمِكْيالٍ إلَّا وَرِقًا أو ذَهَبًا، فإذا أخَذْتَ ذلك فابْتَعْ مِمَّن شِئْتَ منه أو مِن غيرِه. فرَجَعْتُ، فإذا عِكْرِمَةُ قد طَلَبَنِى، فقال: الذى قُلْتُ لَكَ هو حَلالٌ هو حَرَامٌ. فقُلْتُ لسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْ فَضَلَ لى عندَه فَضْلٌ، قال: فأعْطِهِ أنْتَ الكَسْرَ، وخُذْ منه الدَّرَاهِمَ. ووَجْهُ تَحْرِيمِ ذلك، أنَّه ذَرِيعَة إلى بَيْعِ الطَّعَامِ بالطَّعَامِ نَسِيئَةً، فحَرُمَ كمسألةِ العِينَةِ. وقد نَصَّ أحمدُ على ما يَدُلُّ على هذا. قال شيخُنا (¬1): والذى يَقْوَى عندى جَوازُ ذلك إذا لم يَفْعَلْه حِيلَةً، ولا قَصَدَ ذلك في ابْتِداءِ العَقْدِ، كما قال علىُّ بنُ الحُسَيْنِ، فيما رَوَى عنه عبدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ (¬2)، قال: قَدِمْتُ على عَلِىِّ بنِ الحُسَيْنِ، فقُلْتُ له: إنِّى أجُذُّ نَخْلِى وأَبِيعُ مِمَّن (¬3) حَضَرَنِى التَّمْرَ (¬4) إلى أَجلٍ، فَيقْدَمُونَ بالحِنْطَةِ، وقد حَلَّ الأَجَلُ، فيُوقِفُونَها بالسُّوقِ، فأبْتَاعُ منهم وأُقاصُّهم. قال: لا بَأْسَ بذلك إذا لم يكُنْ منك على رَأْىٍ. وذلك لأنَّه اشْتَرَى الطّعامَ بالدَّرَاهِمِ التى في الذِّمَّةِ بعدَ لُزومِ العَقْدِ الأَوَّلِ، فَصَحَّ، كما لو كانَ المَبِيعُ الأَوَّلُ حَيَوانًا أو ¬

(¬1) في: المغنى 6/ 264. (¬2) في ق: «زبيد». (¬3) في م: «فيمن». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثِيَابًا، ولِما ذَكَرْنا في الفَصْلِ الذى قَبْلَ هذا. فإنْ لم يَأْخُذْ بالثَّمَنِ طَعامًا، لكنِ اشْتَرَى مِن المُشْتَرِى طَعامًا بدَراهِمَ وسَلَّمَها إليه، ثم أخَذَها منه وَفاءً، أو لم يُسَلِّمْها إليه، لكنْ قاصَّه بها، جازَ، كما في حَدِيثِ عَلِىِّ بنِ الحُسَيْنِ. فصل: والاحْتِكَارُ حَرَامٌ؛ لِما روَى أبو أُمَامَةَ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَهَى أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعامُ (¬1). وعن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنِ احْتَكَرَ فهو خاطِئٌ» (¬2). رَواهُما الأَثْرَمُ. ورُوِىَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «الجالِبُ مَرْزُوقٌ، والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» (¬3). والاحْتِكَارُ المُحَرَّمُ ما جَمَعَ ثلَاثَةَ شرُوطٍ؛ أحَدُها، أَنْ يَشتَرِى. فلو جَلَبَ شَيْئًا، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في الاحتكار، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 30. والحاكم، في: باب لا يحتكر إلا خاطئ، من كتاب البيوع. مستدرك الحاكم 2/ 11. وابن أبى شيبة، في: باب في احتكار الطعام، من كتاب البيوع. المصنف 6/ 102. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب تحريم الاحتكار في الأقوات، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1227، 1228. وأبو داود، في: باب في النهى عن الحكرة، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 243. والترمذى، في: باب ما جاء في الاحتكار، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 270. وابن ماجه، في: باب الحكرة والجلب، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 728. والدارمى، في: باب في النهى عن الاحتكار، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 248، 249. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 453، 454، 6/ 400. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب الحكرة والجلب، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 728. والدارمى، في: باب في النهى عن الاحتكار، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 249.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أدْخَلَ عليه مِن غَلَّتِه شَيْئًا، فادَّخَرَه، لم يكُنْ مُحْتَكِرًا. رُوِى ذلك عن الحَسَنِ، ومالِكٍ. قال الأَوْزَاعِىُّ: الجالِبُ ليس بمُحْتَكِرِ؛ لقَوْلِه: «الجالِبُ مَرْزُوقٌ، والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ». ولأنَّ الجالِبَ لا يُضَيِّقُ على أحَدٍ، ولا يَضُرُّ، بل يَنْفَعُ، فإنَّ النَّاسَ إذا عَلِمُوا عِندَه طَعامًا مُعَدًّا للبَيْعِ، كان أَطْيَبَ لقُلُوبِهِم. الثانى، أَنْ يكونَ قُوتًا. فأمَّا الإِدامُ والعَسَلُ والزَّيْتُ وعَلَفُ البَهائِمِ، فليس احْتِكارُه بمُحَرَّم. قال الأَثْرَمُ: سُئِلَ أبو عبدِ اللَّهِ، عن أىِّ شئٍ الاحْتِكارُ؟ قال: إذا كان مِن قُوتِ النّاسِ، فهذا الذى يُكْرَهُ. وهذا قولُ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو. وكان سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ (¬1). وهو رَاوِى حديثِ الاحْتِكَارِ. قال أبو داودَ: وكان يَحْتَكِرُ النَّوَى والخَيْطَ والبَزْرَ. ولأنَّ هذه الأَشْياءَ لا تعُمُّ الحاجَةُ إليها، أشْبَهَتِ الثِّيَابَ والحَيَوانَ. الثالثُ، أَنْ يُضَيِّقَ على النَّاسِ بشِرائِه. ولا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بأمْرَيْنِ؛ أحَدُهما، أَنْ يكونَ في بَلَدٍ يُضَيِّقُ بأهْلِه الاحْتِكارُ، كالحَرَمَيْنِ، والثُّغُورِ. قاله أحمدُ. فظاهِرُ هذا أنَّ البِلادَ الواسِعَةَ الكَبِيرَةَ، كبَغْدَادَ، والبَصْرَةِ، ومِصْرَ، ونَحْوِها، لا يَحْرُمُ فيها الاحْتِكَارُ؛ لأنَّ ذلك لا يُؤَثِّرُ فيها غالِبًا. الثّانى، أَنْ يكونَ في حالِ الضِّيقِ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الحكرة، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأَنْ يَدْخُلَ البَلَدَ قافِلَةٌ فَيَتَبادَرُ ذَوُو الأَمْوالِ فَيَشْتَرُونَهَا، ويُضَيِّقُونَ على النّاسِ. وأمّا إنِ اشْتَرَاهُ في حالِ الاتِّسَاعِ والرُّخْصِ على وَجْهٍ لا يُضَيِّقُ على أحَدٍ، لم يَحْرُمْ. فصل: ويُسْتَحَبُّ الإِشْهادُ في البَيْعِ، لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1). وأَقَلُّ أحْوالِ الأَمْرِ النَّدْبُ. ولأنَّه أَقطَعُ للنِّزاعِ، وأَبْعَدُ مِن التَّجاحُدِ. ويَخْتَصُّ ذلك ما له خَطَرٌ، فأَمَّا ما لا خَطَرَ له، كَحوائِجِ البَقّالِ والعَطَّارِ وشِبْهِها، فلا يُسْتَحَبُّ ذلك فيها، لأَنَّها تَكْثُرُ، فيَشُقُّ الإِشْهادُ عليها، وتَقْبُحُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليها والتَّرافُعُ إلى الحاكِمِ، بخِلافِ الكَثِيرِ. وليس ذلك بواجِبٍ في واحِدٍ منها، ولا شَرْطًا له. رُوِى ذلك عن أبى سَعِيدٍ الخُدْرِىِّ. وهو قَوْلُ الشَّافِعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى، وإسحاقَ. وقال قَوْمٌ: هو فَرْضٌ لا يَجُوزُ تَرْكُه. رُوِى ذلك عن ابنِ ¬

(¬1) سورة البقرة 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبّاسٍ، ومِمَّن رَأْى الإِشْهادَ في البَيْعِ؛ عَطاءٌ، وجابِرُ بنُ زَيْدٍ، والنَّخَعِىُّ؛ لظاهِرِ الأمْرِ، [وقِياسًا] (¬1) على النِّكَاحِ. ولَنا، قولُه تَعالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬2). قال أبو سَعِيدٍ: صاَر الأَمْرُ إلى الأمانَةِ. وتَلَا هذه الآيَةَ. ولأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشْتَرَى مِن يَهُودِىٍّ طَعامًا، ورَهَنَه دِرْعَه (¬3)، ومِن رَجُل سَراوِيلَ (¬4)، ومِن أَعْرَابِىٍّ فَرَسًا، فَجَحَدَه الأَعْرَابِىُّ حتى شَهِدَ له خُزَيْمَةُ بنُ ثابِتٍ (¬5). ولم يُنْقَلْ أنَّهُ أَشْهَدَ في شئٍ مِن ذلك، وكان الصَّحَابَةُ يَتَبَايَعُونَ في عَصْرِه في الأسْواقِ، فلم يَأْمُرْهُم بالإِشْهادِ، ولا نُقِلَ عنهم فِعْلُه، ولم يُنْكِرْ عليهم النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولو كانُوا يُشْهِدُونَ في كُلِّ بِياعَاتِهم لنُقِلَ. وقد أمَرَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُرْوَةَ بنَ الجَعْدِ البارِقِىَّ أَنْ يَشْتَرِىَ له أُضْحِيَةً (¬6). ولم يَأْمُرْه بالإِشْهادِ. ¬

(¬1) في م: «قياسا». (¬2) سورة البقرة 283. (¬3) تقدم تخريجهما في صفحة 87. (¬4) أخرجه أبو داود، والترمذى، والنسائى، والدارمى، في: باب الرجحان في الوزن، من كتاب البيوع سنن أبى داود 2/ 220، عارضة الأحوذى 6/ 39، المجتبى 7/ 250، سنن الدارمى 2/ 260. كما أخرجه ابن ماجه، في الباب نفسه، من كتاب التجارات، وفى: باب لبس السراويل، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 748، 1185. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 352. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 276، 277. والنسائى، في: باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 265، 266. والإمام أحمد، في: السند 5/ 215، 216. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ المُبايَعَةَ تَكْثُرُ بينَ الناسِ في أسْواقِهِم وغيرِها، فلو وَجَبَ الإِشْهادُ في كُلِّ ما يَتَبَايَعُونَه، أَفْضَى إلى الحَرَجِ المَحْطُوطِ عَنّا بقَوْلِه تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). والآيَةُ المرادُ بها الإِرْشادُ إلى حِفْظِ الأَمْوَالِ والتَّعْلِيمُ، كما أمَرَ بالرَّهْنِ والكاتِبِ، وليس بواجِبٍ، وهذا ظاهِر إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: ويُكْرَهُ البَيْعُ والشِّرَاءُ في المَسْجِدِ؛ لِما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «إذا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أو يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فقُولُوا: لا أرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ». رَواهُ التِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وقال قومٌ: لا بَأْسَ به. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ للحَدِيثِ المَذْكوُرِ. فإنْ باعَ، فالبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَنَّه تَمَّ بأَركَانِه وشُرُوطِه، ولم يَثْبُتْ وجُودُ مُفْسِدٍ له، وكَراهَةُ ذلك لا تُوجبُ الفَسَادَ، كالغِشِّ في البَيْعِ والتَّدْلِيس والتَّصْرِيَةِ. وفى قولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «قُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ». مِن غيرِ إخْبارٍ بفَسَادِ البَيْعِ دَلِيلٌ على صِحَّتِه. واللَّهُ أَعْلَمُ. ¬

(¬1) سورة الحج 78. (¬2) في: باب النهى عن البيع في المسجد، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 6/ 61. والدارمى، في: باب النهى عن استنشاد الضالة في المسجد. . .، من كتاب الصلاة. سنن الدارمى 1/ 326.

باب الشروط فى البيع

بَابُ الشُّرُوطِ فِى الْبَيْعِ وَهِىَ ضَرْبَانِ؛ صَحِيحٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، شَرْطُ مُقْتَضَى الْبَيْعِ؛ كَالتَّقَابُضِ، وَحُلُولِ الثَّمَنِ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يُؤثِّرُ فِيهِ. الثَّانِى، شَرْطٌ مِنْ مَصْلَحَةِ العَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ صِفةٍ فِى الثَّمَنِ، كَتَأْجِيلِهِ، أَوِ الرَّهْنِ، أوِ الضَّمِينِ بِهِ، أَوْ صِفَةٍ فِى ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشُّرُوطِ في البَيْعِ (وهى ضَرْبان؛ صَحِيحٌ، وهو ثَلَاثَةُ أنْواعٍ؛ أحَدُها، شَرْطُ مُقْتَضَى البَيْعِ، كالتَّقَابُضِ، وحُلُولِ الثَّمَنِ ونحوِه، فَلَا يُوثِّرُ فِيهِ) لأنَّه بَيَانٌ وتَأْكِيدٌ لمُقْتَضَى العَقْدِ، فوُجُودُه كعَدَمِه. (الثانى، شَرْطٌ مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ، كاشْتِرَاطِ صِفَةٍ في الثَّمَنِ، كتَأْجِيلِه، أو الرَّهْنِ، أو الضَّمِينِ) والشَّهادَةِ (أو صِفَةٍ في المَبِيعِ) مَقْصُودَةٍ (نَحْوَ كَوْنِ العَبْدِ كاتِبًا، أو

الْمَبِيعِ؛ نَحْوَ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا، أَوْ خَصِيًّا، أَوْ صَانِعًا، أَوْ مُسْلِمًا، وَالأَمَةِ بِكْرًا، وَالدَّابَّةِ هِمْلَاجَةً، وَالْفَهْدِ صَيُودًا، فَيَصِحُّ. فَإِنْ وَفَّى بِهِ، وَإِلَّا فَلِصَاحِبِهِ الْفَسْخُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خصِيًّا (¬1)، أو صانِعًا، أو مُسْلِمًا، والأَمَةِ بِكْرًا، والدَّابَّةِ هِمْلَاجَةً (¬2)، والفَهْدِ صَيُودًا) فهو شَرْط صَحِيحٌ يَلْزَمُ الوَفاءُ به، فإنْ لم يَفِ به، فللمُشْتَرِى الفَسْخُ والرُّجُوعُ بالثَّمَنِ، أو الرِّضَا به؛ لأنَّه شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فيه، فصَارَ الشَّرْطُ مُسْتَحَقًّا؛ لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُؤْمِنُونَ عندَ شُرُوطِهم» (¬3). ولا نَعْلَمُ في صِحَّةِ هذَيْنِ القِسْمَيْنِ خِلافًا. ¬

(¬1) في م: «خطيبًا». (¬2) حسنة السير. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 149.

1591 - مسألة: (فإن شرطها ثيبا كافرة، فبانت بكرا مسلمة، فلا فسخ له)

وَإِنْ شَرَطَهَا ثَيِّبًا كَافِرَةً، فَبَانَتْ بِكْرًا مُسْلِمَةً، فَلَا فَسْخَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1591 - مسألة: (فإن شَرَطَهَا ثَيِّبًا كافرةً، فبانَتْ بِكْرًا مُسلِمَةً، فلا فَسْخَ له) لأنَّه زادَه خَيْرًا، ولأنَّ (¬1) ذلك يَزِيدُ في الثَّمَنِ، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَه غيرَ صانِعٍ، فبانَ صانِعًا. وهذا قولُ الشّافِعِىِّ في البِكْرِ، واخْتِيارُ ¬

(¬1) في م: «وليس».

وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ لأَنَّ لَهُ فِيهِ قَصْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضِى، واسْتَبْعَدَ كَوْنَه يَقْصِدُ الثُّيوبَةَ؛ لعَجْزِه عن البِكْرِ (ويَحْتَمِلُ أنَّ له الفَسْخَ؛ لأَنَّ له فيه قَصْدًا) صَحِيحًا، وهو أنَّ طالِبَ الكافِرَةِ أكْثَرُ لصَلاحِيَتِها للمسلمين والكُفَّارِ، أو ليَسْتَرِيحَ مِن تَكْلِيفِها العِبادَاتِ، وقد يَشْتَرِطُ الثَّيِّبَ؛ لعَجْزِه عن البِكْرِ، أو ليَبيعَها لعاجِزٍ عن البِكْرِ. فقد فاتَ قَصْدُه، وقد دَلَّ اشْتِراطُه على أنَّ له قَصْدًا صَحِيحًا. فأمَّا إن شَرَطَ صِفَةً غيرَ مَقْصُودَةٍ، فبانَتْ بخِلافِها، مثلَ أن يَشْتَرِطَهِا سَبِطَةً (¬1)، فبانَتْ جَعْدَةً، أو جاهِلَةً فبانَت عالِمَةً، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه زادَه خَيْرًا. فصل: فإن شَرَطِ الشَّاةَ لَبُونًا، صَحَّ. وبه قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْع، فلم يَجُزْ شَرْطُه. ولَنا، أنّه أمْرٌ مَقْصُودٌ يَتَحَقَّقُ في (¬2) الحَيَوانِ، ويَأْخُذ قِسْطًا مِن الثَّمَنِ، فَصَحَّ اشْتِرَاطُه، كالصِّناعَةِ في الأمةِ، والهَمْلَجَةِ في الدّابَّةِ. وإنَّما لم يَجُزْ ¬

(¬1) أي: شعرها مسترسل لا جعودة فيه. (¬2) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعُه مُفْردًا للجَهالَةِ، والجهالَةُ فيما كان تَبَعًا لا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، ولذلك (¬1) لو اشْتَرَاها بغيرِ شَرْطٍ صَحَّ بَيْعُه معها. وكذلك يَصِحُّ بَيْعُ أساسَاتِ الحِيطانِ، والنَّوَى في التَّمْرِ، وإن لم يَجُزْ بَيْعُهما مُنْفَرِدَيْنِ. فإن شَرَطَ أنَّها تَحْلِبُ [كُلَّ يومٍ] (¬2) قَدْرًا مَعْلُومًا، لم يَصِحِّ، لأنَّ اللَّبَنَ يَخْتَلِفُ، ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه، فَتَعَذَّرَ الوفاءُ به. وإن شَرَطَها غزِيرَةَ اللَّبَنِ، صَحَّ؛ لأنَّه يُمْكِنُ الوَفاءُ به. وإن شَرَطَها حامِلًا، صَحَّ. وقال القاضى: قِياسُ المَذْهَبِ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّ الحمْلَ لا حُكْمَ له. ولهذا لا يَصِحُّ اللِّعانُ على الحَمْلِ، ويَحْتَمِلُ أنَّه رِيحٌ ولَنا، أنَّه صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ يمكِنُ الوَفاءُ بها، فصَحَّ شَرْطُه، كالصِّناعَةِ، وكَوْنِها لَبُونًا. وقولُه: إنَّ الحَمْلَ لا حُكْمَ له. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد حَكَمَ في الدِّيَةِ بأَرْبَعِين خَلِفَةً في بُطونِها أوْلَادُها (¬3). ومَنَعَ أخْذَ الحوامِلِ في الزَّكَاةِ (¬4). ومَنَعَ وَطْءَ الحَبَالَى ¬

(¬1) في ق: «وكذلك». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه. أبو داود، في: باب في دية الخطأ شبه العمد، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 492، 501. والنسائى، في: باب كم دية شبه العمد، وباب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 36 - 38. وابن ماجه، في: باب دية شبه العمد مغلظة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 877، 9/ 87. والدارمى، في: باب الدية في شبه العمد، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 197. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 11، 103. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمَسْبِيَّاتِ (¬1). وأَرْخَصَ للحامِلِ في الفِطْرِ في رمضانَ إذا خافَتْ على وَلَدِها (¬2). ومَنَعَ مِن إِقامَةِ الحَدِّ عليها مِن أَجْلِ حَمْلِهَا (¬3). وظاهِرُ الحَدِيثِ المَرْوِىِّ في اللِّعانِ يَدُلُّ على أنَّه لاعَنَها حالَ حَمْلِها (¬4)، فانْتَفَى عنه وَلَدُها. فإن شَرَطَ أنَّها تَضَعُ الوَلَدَ في وَقْتٍ بعَيْنِه، لم يَصِحَّ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ الوفَاءُ به، وكذلك إن شَرَطَ أنَّها لا تَحْمِلُ؛ لذلك. وقال مالِكٌ: لا يَصِحُّ في المُرْتَفِعاتِ، ويَصِحُّ في غَيْرِهِنَّ. ولَنا، أنَّه باعَهَا بشَرْطِ البرَاءَةِ مِن الحَمْلِ، فلم يَصِح، كالمُرْتَفِعاتِ. وإن شَرَطَها حائِلًا (¬5)، فبانتْ حامِلًا، فإن كانت أَمَةً فهو عَيْبٌ يُثْبِتُ الخِيارَ، وإنْ كان في غيرها، فهو زِيادَةٌ لا يَسْتَحِقُّ به فَسْخًا. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ؛ لأنَّه قد يُرِيدُها لسَفرٍ، أو حَمْلِ شئٍ لا تَتَمَكنُ منه مع الحَمْلِ. وإن شَرَطَ البَيْضَ في الدَّجَاجَةِ، فقيل: لا يَصِحُّ؛ لأَنَّه لا عَلَمَ عليه يُعْرَفُ به، ولم يَثْبُتْ له في الشَّرْعِ حُكْمٌ. وقيل: يَصِحُّ؛ لأنَّه يُعْرَفُ بالعَادَةِ، فأَشْبَهَ اشْتِراطَ الشاةِ لَبُونًا. ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب في كراهية أكل المصبورة، من أبواب الصيد، وفى: باب ما جاء في كراهية وطء الحبالى من السبايا، من أبواب السير. عارضة الأحوذى 6/ 266، 7/ 59. والنسائى، في: باب بيع المغانم قبل أن تقسم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 265. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 127. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 382. (¬3) يأتى تخريجه في كتاب الحدود. (¬4) يأتى تخريجه في كتاب اللعان. (¬5) الحائل من كل أنثى، هى التى لم تحمل.

1592 - مسألة: (وإن شرط الطائر مصوتا، أو أنه يجئ من مسافة معلومة، صح. وقال القاضى: لا يصح)

وَإِنْ شَرَطَ الطَّائِرَ مُصَوِّتًا، أَوْ أَنَّهُ يَجِئُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1592 - مسألة: (وَإِنْ شَرَطَ الطَّائِرَ مُصَوِّتًا، أَوْ أَنَّهُ يَجِئُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يَصِحُّ) إذا شَرَطَ في الهَزَارِ والقُمْرِىِّ ونحوِهما أنَّه مُصَوِّتٌ، فقال بعضُ أصْحابِنا: لا يَصِحُّ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ؛ لأنَّ صِياحَ الطَّيْرِ يَجُوزُ أن يُوجَدَ وأن لا يُوجَدَ، ولأنَّه لا يُمْكِنُه إكْرَاهُه على التَّصْوِيتِ. والأَوْلَى جَوازُه؛ لأنَّ فيه قَصْدًا صَحِيحًا، وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عادَةٌ له وخِلْقَةٌ فيه، فأَشْبَهَ الهَمْلَجَةَ في الدَّابَّةِ، والصَّيْدَ في الفَهْدِ. وإنْ شَرَطَ في الحمامِ أنَّه يَجِئُ مِن مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ أيضًا. اخْتَارَهُ أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ هذه عادَةٌ مُسْتَمِرَّة، وفيها قَصْدٌ صحِيحٌ؛ لتَبْلِيغِ الأخْبَارِ، وحَمْلِ الكُتُبِ، فجَرَى مَجْرى الصَّيْدِ والهَمْلَجَةِ. وقال القاضِى: لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ؛ لأنَّ فيه تَعْذِيبًا للحَيَوانِ، أَشْبَهَ ما لو شَرَطَ الكَبْشَ مُناطِحًا. وإنْ شَرَطَ الغِناءَ في الجارِيَةِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الغِناءَ مَذْمُومٌ في الشَّرْعِ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه، كالزِّنَى. وإنْ شَرَطَ في الكَبْشِ النِّطَاحَ، أو في الدِّيكِ كونَه مُناقِرًا، لم تصِحَّ، لأنَّه مَنْهِىٌّ عنه في الشَّرْعِ، فجَرَى مَجْرَى الغِناءِ في الجارِيَةِ. وإنْ شَرَطَ أنَّ الدِّيكَ يُوقِظُه للصَّلَاةِ، لم يَصِحَّ، لأَنَّه لا يُمْكِنُ الوَفاءُ به، وإنْ شَرَطَ أنَّه يَصِيحُ في أوقاتٍ مَعْلُومَةٍ، جرَى مَجْرَى التَّصْوِيتِ في القُمْرِىِّ، على ما ذَكَرْنا.

الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ نَفْعًا مَعْلُومًا في الْمَبِيعِ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وحُمْلَانِ الْبَعِيرِ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، أَوْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِى نَفْعَ الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ؛ كَحَمْلِ الْحَطَبِ، وَتَكْسِيرِهِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَتَفْصِيلهِ، فَيَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ و (الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِطَ نَفْعًا مَعْلُومًا في الْمَبِيعِ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وحُمْلَانِ الْبَعِيرِ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُوم، أَوْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِى نَفْعَ الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ؛ كَحَمْلِ الْحَطَبِ، أَوْ تَكْسِيرِهِ، أَوْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ، أَوْ وَتَفْصِيلهِ). ويَصِحّ أَنْ يَشْتَرِطَ البائِعُ نَفْعَ المَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، مثلَ أَنْ يَبِيعَ دارًا ويَسْتَثْنِىَ سُكْنَاها سَنَةً، أو دابَّةً ويَشْتَرِطَ ظَهْرَهُ إلى مكانٍ مَعْلُومٍ، أو عَبْدًا ويَسْتَثْنِىَ خِدْمَتَه مُدَّةً مَعْلُومَةً. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الشَّافِعِىُّ، وأصحاب الرَّأْى: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُرْوَى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَرْطٍ (¬1). ولأنَّه يُنَافِى مُقْتَضَى البَيْعِ، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَ أَنْ لا يُسَلِّمَه؛ [وذلك] (¬2)، لأنَّه شرطَ تَأْخِيرِ تَسْلِيمِ المَبِيعِ إلى أَنْ يَسْتَوْفِىَ البائِعُ مَنْفَعَتَه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: فيه رِوَايَةٌ أُخرَى، أنَّه يَبْطُلُ البَيْعُ والشَّرْطُ، نَقَلَها عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ (¬3) في الرَّجُلِ يَشْتَرِى مِن الرَّجُلِ الجارِيَةَ ويَشْتَرِطُ أَنْ تَخْدِمَه، فالبَيْعُ باطِل. قال شَيْخُنا (¬4): وهذه الرِّوَايَةُ لا تَدُلُّ على محَلِّ النِّزَاعِ في هذه المسألةِ، فإنَّ اشْتِراطَ خِدْمَةِ الجارِيَةِ باطِلٌ؛ لوَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، أنَّها مَجْهُولَةٌ، فإطْلَاقُه يَقْتَضِى خِدْمَتَها أَبَدًا، وهذا لا خِلافَ في بُطْلانِه، إنَّما الخِلافُ في اشْتِراطِ مَنْفعَةٍ مَعْلُومَةٍ. الثانى، أَنْ يَشْتَرِطَ خِدْمَتَها بعدَ زَوالِ مِلْكِه عنها، وذلك يُفْضِى إلى الخَلْوَةِ بها، والخَطَرِ برُؤْيَتها، وصُحْبَتِها، وهذا لا يُوجَدُ في غَيْرِها، ولذلك مُنِعَ إعارَةُ الأَمَةِ الشَّابَّةِ لغيرِ مَحْرَمِها. وقال مالِكٌ: إنِ اشْتَرَطَ رُكُوبًا إلى مكانٍ قرِيبٍ، جازَ، وإنْ كان إلى مكانٍ بَعِيدٍ، كُرِهَ؛ لأنَّ اليَسِيرَ تَدْخلُه المُسَامَحَةُ. ولَنا، ما رَوَى جابِرٌ، أنَّه باعَ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَلًا، واشْتَرَطَ ظَهْرَه إلى ¬

(¬1) أخرجه ابن حزم، في: المحلى 9/ 409. والحاكم، في: معرفة علوم الحديث 128. والخطابى، في: معالم السنن 3/ 145. وانظر: نصب الراية 4/ 17. وتلخيص الحبير 3/ 12. (¬2) في م: «ذلك». (¬3) لعله عبد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان، ابن بنت أحمد بن منيع، روى عن الإمام أحمد، وصنف المعجمين الكبير والصغير، توفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 1/ 190 - 192. (¬4) في: المغنى 6/ 167.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَدِينَةِ. وفى لَفْظٍ، قال: فَبِعْتُه بأُوقِيَّةٍ، واسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إلى أهْلِى. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفى لَفْظٍ: فبِعْتُه بخَمْسِ أوَاقٍ، قال: قُلْتُ: على أنَّ لى ظَهْرَه إلى المَدِينَةِ. قال: «وَلَكَ ظَهْرُه إلى المَدِينَةِ». رواهُ مُسْلِمٌ (¬2). ولأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ (¬3). وهذه مَعْلُومَةٌ، ولأنَّ المَنْفَعَةَ قد تَقَعُ مُسْتَثْناةً بِالشَّرْعِ على المُشْتَرِى، فيما إذا اشْتَرَى نَخْلًا مُؤَبَّرَةً، أو أرْضًا مَزْرُوعَةً، أو دَارًا مُؤْجَرَةً، أو أَمَةً مُزَوَّجَةً، فجازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَها، كما لو اشْتَرَطَ البائِعُ الثَّمرَةَ قبل التَّأْبِيرِ، ولم يَصِحَّ نَهْىُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بَيْعٍ وشَرْطٍ (¬4). وإنَّما نهَى عن شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ (¬5). فمَفْهُومُه إباحَةُ الشَّرْطِ الواحِدُ. وقِياسُهُم مَنْقُوضٌ بشَرْطِ الخيارِ والتَّأْجِيلِ في الثَّمَنِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب شراء الدواب والحمير، من كتاب البيوع، وفى: باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، من كتاب الشروط، وفى: باب من ضرب دابة غيره في الغزو، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 3/ 81، 248، 4/ 36. ومسلم، في: باب استحباب نكاح البكر، من كتاب الرضاع، وفى: باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 2/ 1089، 3/ 1221 - 1223. كما أخرجه النسائى، في: باب البيع يكون فيه الشرط فيصح البيع والشرط، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 261 - 263. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 299. (¬2) في: باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1223. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 115. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في الر جل يبيع ما ليس عنده، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 254. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 243. والنسائى، في: باب سلف وبيع وهو أن يبيع السلعة على أن يسلفه سلفا، وباب شرطان في بيع. . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 259. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن زرع ما لم يضمن، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ باعَ أمَةً، واسْتَثْنَى وَطْأَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ الوَطْءَ لا يُباحُ في غيرِ مِلْكٍ أو نِكاحٍ، لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). وفارَقَ اشْتِرَاطَ وَطْءِ المُكاتَبَةِ، حيثُ نُبِيحُه؛ لأنَّها مَمْلُوكَةٌ، فيُسْتَبَاحُ وَطْؤُها بالشَّرْطِ في المَحَلِّ المَمْلُوكِ. واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ عَدَمَ الإِباحَةِ أَيْضًا. وهو قولُ أَكثرِ الفُقَهاءِ. فصل: وإن باعَ المُشْتَرِى العَيْنَ المُسْتَثْناةَ مَنْفَعَتُها، صَحَّ البَيْعُ، وتكونُ في يَدِ المُشْتَرِى الثَّانِى مُسْتَثْنَاةً أيضًا. فإنْ كان عالِمًا بذلك، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ، فلم يَثْبُتْ له خِيارٌ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وإنْ لم يَعْلَمْ، فله خِيارُ الفَسْخِ، كمَن اشْتَرَى أمَةً مُزَوَّجَةً، أو دارًا مُؤْجَرَةً. وإنْ أتْلَفَ المُشْتَرِى العينَ، فعليه أُجْرَةُ المِثْلِ؛ لتَفْوِيتِ المَنْفَعَةِ المُسْتَحَقَّةِ لغيرِه، وثَمَنُ المَبِيعِ (¬2)، وإن تَلِفَتِ العَيْنُ بتَفْرِيطِه، ¬

= من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 737، 738. والدارمى، في: باب في النهى عن شرطين في بيع، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 253. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179. (¬1) سورة المؤمنون 5 - 7 المعارج 29 - 31. (¬2) في م: «والبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كَتَلَفِها بفِعْلِه. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال: يَرْجِعُ البائِع على المُبْتاعِ بأُجْرَةِ المِثْلِ. قال القاضِى: مَعْناهُ عِنْدِى، القَدْرُ الَّذى نَقَصَه البائِعُ لأَجْلِ الشَّرْطِ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ خِلافُ هذا؛ لأنَّه يَضْمَنُ ما فات بتَفْرِيطِه، فضَمِنَه بعِوَضِه، وهو أُجْرَةُ المِثْلِ. فأمَّا إنْ تَلِفَتْ بغَيْرِ فِعْلِه وتَفْرِيطِه، لم يَضْمَنْ. قال الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأبِى عبدِ اللَّهِ: فَعَلَى المُشْتَرِى أَنْ يَحْمِلَه على غَيْرِه؛ لأنَّه كان له حمْلان؟ قال: لا، إنَّما شرطَ عليه هذا بعَيْنِه. لأنَّه لم يَمْلِكْها البائِعُ مِن جِهَتِه، فلم يَلْزَمْه عِوَضُها، كما لو تَلِفَتِ النَّخْلَةُ المُؤَبَّرَةُ بثَمَرَتِها، أو غيرُ المُؤَبَّرَةِ إذا اشْتَرَط البائِعُ ثَمَرَتَها، وكما لو باعَ حائِطًا واسْتَثْنَى منه شَجَرَةً بعَيْنِها، فتَلِفَتْ. وقال القاضِى: عليه ضَمانُها، أخْذًا من عُمومِ كلامِ أحمدَ. وإذا تَلِفَتِ العَيْنُ، رَجَعَ البائِعُ على المُبْتاعِ بأُجْرَةِ المِثْلِ. وكَلامُه مَحْمُولٌ على حالَةِ التَّفْرِيطِ، على ما ذَكَرناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اشْتَرَطَ البائِعُ مَنْفَعَةَ المَبِيعِ، فأرادَ المُشْتَرِى أَنْ يُعْطِيَه ما يَقُومُ مَقامَ المَبِيعِ في المَنْفَعَةِ، أو يُعَوِّضَه عنها، لم يَلْزَمْه قَبُولُه، وله اسْتِيفَاءُ المَنْفَعَةِ مِن غيرِ المَبِيعِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ حَقَّه تَعَلَّقَ بعَيْنِها، أَشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ عَيْنًا، فبَذَلَ له الآخَرُ مِثْلَها، ولأنَّ البائِعَ قد يكونُ له غَرَضٌ في اسْتِيفَاءِ مَنافِعِ تلك العَيْنِ، فلا يُجْبَرُ على قَبُولِ عِوَضِها. فإنْ تَرَاضَيَا على ذلك، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. وإنْ أرادَ البائِعُ إعارَةَ العَيْنِ أو إجارَتَها لمَن يقومُ مَقامَه، فله ذلك، في قياسِ المَذهَبِ؛ لأنَّها مَنافِعُ مُسْتَحَقَّةٌ له، فملَكَ ذلك فيها، كمنافِعِ الدَّارِ المُسْتَأْجَرَةِ المُوصَى بمَنَافِعِها، ولا تَجُوزُ إجَارَتُها إلَّا لمِثْلِه في الانْتِفاعِ، فإنْ أرادَ إجارَتَها أو إعارَتَها لمَن يَضُرُّ بالعَيْنِ بانْتِفاعِه، لم يجُزْ ذلك، كما لا يَجُوزُ له إجَارَةُ العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ لمَن لا يقومُ مَقامَه. ذَكَرَ ذلك ابنُ عَقِيلٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو قال: بِعْتُكَ هذه الدّارَ، وأَجَرْتُكَهَا شَهْرًا. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إذا باعَه فقد مَلَك المُشْتَرِى المنافِعَ، فإذا أَجرَهُ إيَّاهَا، فقد شرَطَ أَنْ يكونَ له بَدَلٌ، في مُقابَلَةِ ما مَلَكَه المُشْتَرِى، فلم يَصِحَّ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وقد نَهَى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قَفِيزِ الطَّحَّانٍ (¬1). ومَعْناهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحّانًا لِيَطْحَنَ له كُرًّا (¬2) بقَفِيزٍ منه، فيَصِيرُ كَأَنَّه شَرَط له [عَمَلَه في] (¬3) القَفِيزِ عِوَضًا عن عَمَلِه في باقِى الكُرِّ المَطْحُونِ. ويَحْتَمِلُ الجوازَ، بناءً على اشْتِراطِ مَنْفَعَةِ البائِعِ في المَبِيعِ، على ما نَذْكُرُه، إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: ويَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ المُشْتَرِى نَفْعَ البائِعِ في المَبِيعِ، مثلَ أَنْ يَشْتَرِىَ ثَوْبًا ويَشْتَرِطَ على بائِعِه خِياطَتَه قَمِيصًا، أو بَغْلَةً ويَشْتَرِطَ حَذْوَها نَعْلًا، أو جُرْزَةَ (¬4) حَطَبٍ ويَشْتَرِطَ حَمْلَها إلى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوَايَةِ مُهَنّا، وغيرِه. واحْتَجَّ أحمدُ بما رُوِى أنَّ محمدَ بنَ مَسْلَمَةَ اشْتَرَى مِن نَبَطِىٍّ جُرْزَةَ (4) حَطَب، وشارَطَهُ على حَمْلِها. وبه قال إسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ (¬5). وقال أبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَشتَرِىَ بَغْلَةً، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب النهى عن عسب الفحل، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 339. والدارقطنى، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطنى 3/ 47. (¬2) في م: «كذا». والكُرُّ: ستون قفيزًا أو أربعون إردبا. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «حزمة». والجرزة: الحُزْمة. (¬5) في م: «عبيدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَشْتَرِطَ على البائِعِ حَذْوَها. وحُكِىَ عن أبى ثَوْرٍ، والثَّوْرِىِّ، أنَّهُما أَبْطلا العَقْدَ بهذا الشَّرْطِ؛ لأنَّه شَرْطٌ فاسِدٌ، أشْبَهَ الشُّرُوطَ الفاسِدَةَ، ورُوِىَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ (¬1). ولَنا، ما تَقَدَّمَ في قَضِيَّةِ محمدِ ابنِ مَسْلَمَةَ، ولأنَّه بَيْع وإجارَة؛ لأنَّه باعَهُ الثَّوْبَ وأجَرَه نَفْسَه على خِياطَتِه، وكُلُّ واحِدٍ منهما يَصِحُّ إفْرادُه بالعَقْدِ، فإذا جَمَعَهُما، جازَ، كالعَيْنَيْنِ. ولم يَصِحَّ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ. قال أحمدُ: إنَّما نَهَى من شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ (¬2). وهو يَدُلّ بمَفْهُومِه على جَوازِ الشَّرْطِ الواحِدِ. ولابدَّ مِن العِلْمِ بالمَنْفَعَةِ لهما؛ ليَصِحَّ اشْتِراطُهما، لأنَّنا نَزَّلْنا ذلك مَنْزِلَةَ الإِجارَةِ. فلو اشْتَرَطَ حملَ الحَطَبِ إلى مَنْزِلِه، والبائِعُ لا يَعْرِفُ مَنْزِلَه، لم يَصِحَّ. وإنْ شرَطَ حَذْوَها نَعْلًا، فلا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ صِفَتِها، كما لو اسْتَأْجَرَه على ذلك ابْتَداءً. قال أحمدُ، في الرَّجُلِ يَشْتَرِى البَغْلَةَ على أَنْ يحذُوَها: جائِزٌ، إذا أرادَ الشِّراكَ. فإنْ تَعَذَّرَ العَمَلُ بتَلَفِ المَبِيعِ قبلَه، أو بمَوْتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 215. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البائِعِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، ورَجَعَ المُشْتَرِى عليه بعِوَضِ ذلك. وإن تَعَذَّرَ بمرَض، أُقِيمَ مُقَامَه مَن يَعْمَلُ العَمَلَ، والأُجْرَةُ عليه، كقَوْلِنا في الإِجَارَةِ. فصل: وإذا اشْتَرَطَ المُشْتَرِى مَنْفَعَةَ البائِعِ في المَبِيعِ، فأَقامَ البائِعُ مُقامَه مَن يَعْمَلُ العَمَلَ، فله ذلك؛ لأنَّه (¬1) بمَنْزِلَةِ الأجِيرِ المُشْتَرَكِ، يجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ العَمَلَ بنَفْسِه، وبمَنْ يقومُ مَقامَه. وإنْ أَرادَ بَذْلَ العِوَضِ عن ذلك، لم يَلْزَمِ المُشْتَرِى قَبُولُه، وإنْ أرادَ المُشْتَرِى أخْذَ العِوَضِ عنه، لم يَلْزَمِ البائِعَ بَذْلُه؛ لأنَّ المُعَاوَضَةَ عَقْدُ تَراضٍ، فلا يُجْبَرُ عليه أحَدٌ. وإن تَرَاضَيَا علَيه، احْتَمَلَ الجوازَ؛ لأَنَّها مَنْفَعَةٌ يجوزُ أخْذُ العِوَضِ عنها لو لم يَشْتَرِطْها، فإذا مَلَكَها المُشْتَرِى، جازَ له أخْذُ العِوَضِ عنها، كما لو اسْتَأْجَرَها، وكما يَجُوزُ أَنْ تُؤْجَرَ المنافِعُ المُوصَى بها مِن ورَثَةِ المُوصِى. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّه مُشْتَرَطٌ بحُكْمِ العادَةِ والاسْتِحْسَانِ لأَجْلِ الحاجَةِ، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه، كالقَرْضِ، فإنَّه يَجُوزُ أن يُرَدَّ في الخُبزِ والخَمِيرِ، أقَلَّ أو أكْثَرَ. ولو أرادَ أن يَأْخُذَ بقَدْرِ خُبْزِه وكَسْرِه بقَدْرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م.

1593 - مسألة: (وذكر الخرقى فى جز الرطبة، إن شرطه على البائع، لم يصح. فيخرج ههنا مثله)

وَذَكَرَ الْخِرَقِىُّ في جَزِّ الرَّطْبَةِ، إِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْبَائِعِ، لَمْ يَصِحَّ. فيُخَرَّجُ ههنَا مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزِّيَادَة لم يَجُزْ. ولأنَّه أَخَذَ عِوَضًا عن مِرْفَقٍ مُعْتَادٍ، جَرَتِ العادَةُ بَالعَفْوِ عنه دُونَ أخْذِ العِوَضِ، فأشْبَهَ المَنافِعَ المُسْتَثْناة شَرْعًا، وهو ما إذا باعَ أرْضًا فيها زَرْعٌ للبَائِعِ، واسْتَحَقَّ تَبْقِيَتَه إلى حينِ الحَصَادِ، فلو أَخَذَه قَصِيلًا ليَنْتَفِعَ بالأَرْضِ إلى وَقْتِ الحَصادِ، لم يَكُنْ له ذلك. 1593 - مسألة: (وَذَكَرَ الْخِرَقِىُّ في جَزِّ الرَّطْبَةِ، إِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْبَائِعِ، لَمْ يَصِحَّ. فيُخَرَّجُ ههنَا مِثْلُهُ) إذا اشْتَرَى زَرْعًا، أو جَزَّةً مِن الرُّطْبَةِ، أو ثَمَرَة على الشَّجَرِ، فالحَصادُ، وجَزُّ الرَّطبَةِ، وجِذاذُ الثَّمَرَةِ على الْمُشْتَرِى؛ لأنَّ نَقْلَ المَبِيعِ، وتَفْرِيغَ مِلْكِ البائِعِ منه على المُشْتَرِى، كَنَقْلِ الطَّعامِ المَبِيعِ مِن دارِ البائِعِ، بخِلافِ الكَيْلِ والوَزْنِ والعَدَدِ، فإنَّها على البائِعِ؛ لأنَّها مِن مُؤْنَةِ تَسْلِيمِ المَبِيعِ إلى المُشْتَرِى، والتَّسْلِيمُ على البائِعِ، وههُنا حَصَلَ التَّسْلِيمُ بالتَّخْلِيَةِ بدُونِ القَطْعِ، بدَلِيلِ جَوازِ بَيْعِها والتَّصَرُّفِ فيها. وهذا مَذْهَبُ أبى حَنِيفَةَ، والشَّافِعِىِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فإن شَرَطَه على البائِعِ، فاخْتَلَفَ أصْحَابُنا، فقال الخِرَقِىُّ: يَبْطُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيْعُ. وقال ابنُ أبى مُوسَى: لا يَجُوزُ. وقيل: يَجُوزُ. فإن قُلْنا: لا يَجُوزُ. فهل يَبْطُلُ البَيْعُ لبُطلانِ الشَّرْطِ؛ على رِوَايَتَيْنِ. وقال القاضِى: المَذْهَبُ جوازُ الشَّرْطِ. ذَكَرَه أبو بكْرٍ، وابنُ حامِدٍ. وقال القاضِى: ولم أَجِدْ بما قالَه الخِرَقِىُّ رِوَايَةً في المَذْهَبِ. واخْتَلَفَ فيه أصْحابُ الشافعىِّ، فقال بَعْضُهم: إذا شَرَطَ الحصادَ على البائِعِ بَطَلَ البَيْعُ، قولًا واحِدًا. وقال بَعْضُهم: يكونُ على قَوْلَيْنِ. فمَن أفْسَدَه، قال: لا يَصِحُّ؛ لثَلاثَةِ مَعَانٍ؛ أحدُها، أنَّه (¬1) شَرَطَ العَمَلَ في الزَّرْعِ قبلَ أن يَمْلِكَه. والثانِى، أنَّه شَرَطَ ما لَا يَقْتَضِيه العَقْدُ. والثالِثُ، أنَّه شَرَطَ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ؛ لأنَّ مَعْنَى ذلك تَسْلِيمُه مَقْطُوعًا. ومَن أَجازَه، قال: هذا بَيْعٌ وإجارَةٌ، وكُلُّ واحِدٍ منهما يَصِحُّ إفْرَادُه، فَصَحَّ جَمْعُهما، كالعَيْنَيْنِ. وقولُهم: شَرَطَ العَمَلَ فيما لا يَمْلِكُه. يَبْطُلُ بشرْطِ رَهْنِ المَبِيعِ على الثَّمَنِ في البَيْعِ. والثانى، يَبْطُلُ بشَرْطِ الرَّهْنِ والكَفِيلِ والخِيارِ. والثالثُ، ليس بتَأْخِير؛ لأنَّه يُمْكِنُه تَسْلِيمُه قائِمًا، ويَبْقَى الشَّرْطُ مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَسَلِّمِ، فليس ذلك بتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ. فإذا فَسَدَتْ هذه المَعانِى، صَحَّ؛ لِما ذَكَرْناه. فإن قيلَ: فالبَيْعُ يُخالِفُ حُكْمُه حُكْمَ الإِجَارَةِ؛ لأنَّ الضَّمانَ يَنتقِلُ في البَيْعِ بتَسْلِيمِ العَيْنِ، بخِلافِ الإِجَارَةِ، فكيف يَصِحُّ الجَمْعُ بينَهما؟ قُلنا: كما يَصِحُّ بَيْعُ الشِّقْصِ والسَّيْفِ، وحُكْمُهما مُخْتَلِفٌ، بدَلِيلِ ثُبوتِ الشُّفْعَةِ في الشِّقْصِ دونَ السَّيْفِ، وقد صَحَّ الجَمْعُ بَيْنَهُما. وقول الخِرَقِىِّ: إنَّ العَقْدَ ههُنا يَبْطُلُ. يَحْتَمِلُ أن يَخْتَصَّ هذه المسألةَ وشِبْهَها، مِمّا يُفْضِى الشَّرْطُ فيه إلى التنَّازُعِ، فإنَّ البائِعَ قد يُرِيدُ قَطْعَها مِن أَعْلَاها؛ لِيَبْقَى له منها بَقِيَّةٌ، والمُشْتَرِى يريدُ الاسْتِقْصاءَ عليها، ليَزِيدَ له ما يَأْخُذُه، فيُفْضِى إلى التَّنازُعِ، وهو مَفْسَدَةٌ، فيَبْطُلُ البَيْعُ مِن أجْلِه. ويَحْتَمِلُ أن يُقاسَ عليه ما أشْبَهَه مِن اشْتِراطِ مَنْفَعَةِ البائِعِ في المَبِيعِ. كما ذَكَرْنا في صَدْرِ المسألةِ. والأوَّلُ أوْلَى لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه قد قال في مَوْضِعٍ آخرَ: ولا يُبْطِلُ البَيْعَ شَرْطٌ واحِدٌ.

1594 - مسألة: (وإن جمع بين شرطين، لم يصح)

وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، أنَّ المَذْهَبَ أنَّه يَصِحُّ اشْتِراطُ مَنْفَعَةِ البائِعِ في المَبِيعِ (¬1)، كما ذَكَرْنَا. واللَّهُ أَعْلَمُ. 1594 - مسألة: (وإِنْ جَمَعَ بينَ شَرْطَيْنِ، لم يَصِحَّ) ثَبَتَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، أنّه قال: الشرْطُ الوَاحِدُ لا بَأْسَ به، إنّما نُهِىَ عن الشَّرْطَيْنِ في البَيْعِ. وهو ما رُوِى عن عبدِ اللَّه بِنِ عَمْرٍو، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ، ولا شَرْطَانِ في بَيْعٍ، ولا بَيعُ ما ليْسَ ¬

(¬1) في م: «البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِنْدَكَ». أخْرَجَه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قال الأَثْرَمُ: قيلَ لأبِى عبدِ اللَّهِ: إنَّ هؤلاء يَكْرَهُونَ الشَّرْطَ في البَيْعِ. فَنَفَضَ يَدَهُ، وقال: الشَّرْطُ الواحِدُ لا بَأْسَ به في البَيْعِ، إنَّما نَهَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شَرْطَيْنِ في البَيْعِ. وحَدِيثُ جابِرٍ يَدُلُّ على إباحَةِ الشَّرْطِ، حينَ باعَهُ جَمَلَه وشَرَطَ ظَهْرَه إلى المَدِينَةِ (¬2). واخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الشَّرْطَيْنِ المَنْهِىِّ عنهما، فرُوِىَ عن أحمدَ، أنّهُما شَرْطَانِ صَحِيحَانِ لَيْسَا مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ. فحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عنه، وعن إسحاقَ، في مَن اشْتَرَى ثَوْبًا، واشْتَرَطَ على البائِعِ خِيَاطَتَه و (¬3) قِصارَتَه، أو طَعامًا واشْتَرَطَ طَحْنَه وحَمْلَه، إن شَرَطَ أحدَ هذه الأشْياءِ فالبَيْعُ جائِزٌ، وإنِ اشْتَرَطَ شَرْطَيْنِ، فالبَيْعُ باطِلٌ. وكذلك فَسَّرَ القاضِى في «شَرْحِه» ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬3) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطَيْنِ المُبْطِلَيْنِ بنَحْوِ هذا التَّفْسِيرِ. ورَوَى الأَثْرَمُ عن أحمدَ تَفْسِيرَ الشَّرْطَيْنِ، أَنْ يَشْتَرِيَها على أنَّه لا يَبِيعُها مِن أحَدٍ ولا يَطَؤُها. فَفَسَّرَهُ بشَرْطَيْنِ فاسِدَيْنِ. ورَوَى عنه إسماعيلُ بنُ سعيدٍ في الشَّرْطَيْنِ في البَيْعِ، أَنْ يقولَ: إذا بِعْتَها فأنَا أحَقُّ بها بالثَّمَنِ، وأنْ تَخْدِمَنِى سَنَةً. فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الشَّرْطَيْنِ المَنْهِىَّ عنهما ما كانَ مِن هذا النَّحْوِ. وأمّا إنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أو أكْثَرَ مِن مُقْتَضَى العَقْدِ، أو مِن مَصْلَحَتِه، مثلَ أَنْ يَبِيعَه بشَرْطِ الخِيارِ، والتَّأْجِيلِ، والرَّهْنِ، والضَّمِينِ، أو بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ إليه المَبِيعَ أو الثَّمَنَ، فهذا لا يُؤَثِّرُ في العَقْدِ، وإنْ كَثُرَ. وقال القاضِى في «المُجَرَّدِ»: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه متى شَرَطَ في العَقْدِ شَرْطَيْنِ، بَطَلَ، سواءٌ كانَا صَحِيحَيْنِ، أو فاسِدَيْنِ، لمَصْلَحَةِ العَقْدِ، أو لغَيْرِ مَصْلَحَتِه. أخْذًا مِن ظاهِرِ الحَدِيثِ، وعَمَلًا بعُمُومِه. ولم يُفَرِّقِ الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى، بينَ الشَّرْطِ والشَّرْطَيْنِ، ورَوَوْا أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ (¬1). ولأنَّ الصَّحِيحَ لا يُؤثِّرُ في البَيْعِ وإنْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَثُرَ، الفاسِدُ يُؤَثِّرُ فيه وإنِ اتَّحَدَ. والحَديثُ الَّذى رَوَيْناهُ يَدُلُّ على الفَرْقِ. ولأنَّ الغَرَرَ (¬1) اليَسِيرَ إذا احْتُمِلَ في العَقْدِ، لا يَلْزَمُ احْتِمالُ الكَثِيرِ. وحَدِيثُهم ليس له أصْلٌ، وقد أنْكَرَه أحمدُ، ولا نَعْرِفُه مَرْوِيًّا في مُسْنَدٍ، فلا يُعَوَّلُ عليه. والذي ذَكَرَه القاضِى في «المُجَرَّدِ» بَعِيدٌ أيضًا؛ فإنَّ شَرْطَ ما يَقْتَضِيه العَقْدُ، لا يُؤَثِّرُ فيه، بغَيْرِ خِلافٍ، وشَرْطَ ما هو مِنِ مَصْلَحَةِ العَقْدِ؛ كالأَجَلِ، والخِيارِ، والرَّهْنِ، والضَّمِينِ، وشَرْطَ صِفةٍ في المَبِيعِ؛ كالكِتَابَةِ، والصِّنَاعَةِ، فيه مَصْلَحَة العَقْدِ، فلا يَنْبَغِى أَنْ يُؤثِّرَ في بُطْلانِه، قَلَّتْ أو كَثُرَتْ. ولم يَذْكُرْ أحمدُ في هذه المَسْأَلَةِ شَيئًا مِن هذا القِسْمِ، فالظاهِرُ أنَّه غيرُ مُرَادٍ له. والأَوْلَى تَفْسِيرُه بما حَكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «العذر».

فصل

فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِى فَاسِدٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ؛ كَسَلَفٍ، أَوْ قَرْض، أو بَيْعٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ صَرْفٍ لِلثَّمَنِ، أَوْ غَيْرِهِ. فَهَذَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: الضَّرْبُ الثَّانِى فَاسِدٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا (¬1) عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ؛ كَسَلَفٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ صَرْفٍ لِلثَّمَنِ، أَوْ غَيْرِهِ. فَهَذَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ وَحْدَه) المَشْهُورُ في المَذْهَبِ أنَّ هذا الشَّرْطَ فاسِدٌ، يَبْطُلُ به البَيْعُ، لأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لا يَحِلُّ بَيْعٌ وسَلَفٌ، ولا شَرْطَانِ في بَيْعٍ». قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ولأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ (¬2). حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وهذا منه. قال أحمدُ: وكذلك كُلُّ ما في مَعْنَى ذلك، مثلَ أن يَقُولَ: على أَنْ تُزَوِّجَنِى ابْنَتَكَ. أو: على أَنْ اُزَوِّجَكَ ابْنَتِى. فهذا كُلُّه لا يَصِحُّ. قال ابنُ مَسْعُودٍ: صَفْقَتانِ في صَفْقَةٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م. (¬2) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في النهى عن بيعتين في ييعة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 239. والنسائى، في: باب بيعتين في بيعة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 260. والإمام مالك، في: باب النهى عن بيعتين في بيعة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 663. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 432، 475، 503.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِبًا (¬1). وهذا قولُ أبى حَنِيفَةَ، والشَّافِعِىِّ، وجمهورِ العُلَمَاءِ. وجَوَّزَهُ مالِكٌ، وجَعَلَ العِوَضَ المَذْكُورَ في الشَّرْطِ فاسِدًا، وقال: لا أَلْتَفِتُ إلى اللَّفْظِ الفاسِدِ، إذا كان مَعْلُومًا حَلالًا، فكأَنَّه باعَ السِّلْعَةَ بالدَّرَاهِمِ التى ذَكَرَ أنَّه يَأْخُذُها بِالدَّنَانِيرِ. ولَنا، الخَبَرُ، والنَّهْىُ يَقْتَضِى الفَسادَ، ولأنَّ العَقْدَ يَجبُ بِالشَّرْطِ؛ لكَوْنِه لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، فيَسْقُطُ، فيَفْسُدُ العَقدُ؛ لأنَّ البائِعَ لم يَرْضَ به، إلَّا بِالشَّرْطِ، فإذا فاتَ، فاتَ الرِّضَا به، ولأنَّه شَرَطَ عَقْدًا في عَقْدٍ، فلم يَصِحَّ، كنِكَاحِ الشِّغَارِ. وقولُه: لا أَلْتَفِتُ إلى اللَّفْظِ الفَاسدِ (¬2). لا يَصِحُّ؛ لأنَّ البَيْعَ هو اللَّفْظُ، فإذا كان فاسِدًا فكيف ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب البيع بالثمن إلى أجلين، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 138. (¬2) سقط من: م.

الثَّانِى، شَرْطُ مَا يُنَافِى مُقْتَضَى الْبَيْعِ، نَحْوَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْهِ، أَوْ مَتَى نَفَقَ الْمَبِيعُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَلَا يَهَبَ، وَلَا يَعْتِقَ، أَوْ إِنْ أَعْتَقَ، فَالْوَلَاءُ لَهُ، أَوْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَهَذَا بَاطِلٌ في نَفْسِهِ. وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ صَحِيحًا! ويَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ البَيْعُ ويَبْطُلَ الشَّرْطُ، بِناءً على ما إذا شَرَطَ ما يُنافِى مُقْتَضَى العَقْدِ، على ما نذْكُرُه إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالَى. (الثانى، شَرْطُ ما يُنافِى مُقْتَضى البَيْعِ، نحوَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لا خَسَارَةَ عليه، أو متى نَفَقَ المَبِيعُ، وإلَّا رَدَّه، أو أَنْ لَا يَبِيعَ، ولا يَهَبَ، ولا يَعْتِقَ، أَوْ إنْ أعْتَقَ، فالوَلَاءُ له، أو يَشْتَرِطَ أَنْ يَفْعَلَ ذلك، فهذا باطِلٌ في نَفْسِه) لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَدِيثِ بَرِيرَةَ حين شَرَطَ أَهْلُها الوَلاءَ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» (¬1). نَصَّ على بُطْلانِ هذا الشَّرْطِ، وقِسْنَا عليه سائِرَ الشُّرُوطِ، لأنَّها في مَعْنَاهُ. (وهل يَبْطُلُ بها البَيْعُ؟ على رِوَايَتَيْنِ). قال القاضِى: المَنْصُوصُ عن أحمدَ أنَّ البَيْعَ صَحِيحٌ. وهو ¬

(¬1) يأتى بتمامه بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وبه قال الحَسَنُ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، وابنُ أبى لَيْلَى، وأبو ثَوْرٍ. والثانيةُ، البَيْعُ فاسِدٌ. وهو قولُ أبى حَنِيفةَ، والشّافِعِىِّ؛ لأنَّه شرطٌ فاسِدٌ، فأَفْسَدَ البَيْعَ، كما لو اشْتَرَطَ فيه عَقْدٌ آخَرَ. ولأنَّ الشَّرْطَ إذا فَسَدَ، وجَبَ الرُّجُوعُ بما نَقَصَه الشَّرْطُ مِن الثَّمَنِ، وذلك مَجْهُولٌ، فيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا. ولأنَّ البائِعَ إنَّما رَضِىَ بزَوَالِ مِلْكِه عن المَبِيعِ بشَرْطِه، والمُشْتَرِىَ كذلك، إذا كان الشَّرْطُ له، فلو صَحَّ البَيْعُ بدُونِه، لزالَ مِلْكُه بغَيْر رضاه، والبَيْعُ مِن شَرْطِه التَّراضِى. ولأنَّه قد رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ. وَوَجْهُ الأُولَى ما رَوَتْ عائِشَةُ، قالت: جاءَتْنِى بَرِيرَةُ، فقالت: كاتَبْتُ أَهْلِى على تِسْعِ أوَاقٍ، في كُلِّ عام أُوقِيَّة، فأَعِينينى. فقلت: إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أَنْ أعُدَّها لهم عَدَّةً واحِدَةً، ويكُونَ ولاؤُكِ لِى، فَعَلْتُ. فذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلى أهْلِها، فقالت لهم، فأَبَوْا عليها. فجاءَت مِن عندِهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جالِسٌ، فقالت: إنِّى عَرَضْتُ عليهم، فأبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ الوَلاءُ لهم. فسَمِعَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأَخبَرَتْ عائِشَةُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «خُذِيها واشْتَرِطِى لهم الوَلاءَ، فإنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أعْتَقَ». فَفَعَلَتْ عائِشَة، ثم قامَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الناسِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثْنَى عليه، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، ما بالُ رِجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليست في كتابِ اللَّهِ تعالَى، ما كان مِن شَرْطٍ ليس في كتابِ اللَّهِ فهو باطِلٌ، وإنْ كان مِائَةَ شَرْطٍ، قضاءُ اللَّهِ أحَقُّ، وشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وإنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أَعْتَقَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، من كتاب الصلاة، وفى: باب الصدقة على موالى أزواج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة، وفى: باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، من كتاب البيوع، وفى: باب إذا قال المكاتب اشترى. . .، من كتاب المكاتب، وفى: باب الشروط في البيع، وباب ما يجوز من شروط المكاتب. . .، وباب الشروط في الولاء، وباب المكاتب وما لا يحل من الشروط. . .، من كتاب الشروط، وفى: باب الحرة تحت العبد، من كتاب النكاح، وفى: باب لا يكون بيع الأمة طلاقا، من كتاب الطلاق، وفى: باب الأدم، من كتاب الأطعمة، وفى: باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه، من كتاب الكفارات، وفى: باب الولاء لمن أعتق وميراث اللقيط، وباب ميراث السائبة، وباب إذا أسلم على يديه، من كتاب الفرائض. صحيح البخارى 1/ 123، 2/ 158، 3/ 96، 200، 248، 250، 251، 259، 7/ 11، 61، 100، 8/ 182، 191، 192، 193. ومسلم، في: باب إنما الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1141، 1143، 1144، 1145. وأبو داود، في: باب في الولاء، من كتاب الفرائض، وفى: باب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأبْطَلَ الشَّرْطَ، ولم يُبْطِلِ العَقْدَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: خَبَرُ بَرِيرَةَ ثابِتٌ، ولا نَعْلَمُ خَبَرًا يُعارِضُه، فالقَوْلُ به يَجِبُ. فإنْ قيل: المُرادُ بقَوْلِه: «اشْتَرِطِى لَهُمُ الوَلاءَ». أَى عليهم. بدَلِيلِ أنّه أمَرَها به، ولا يَأْمُرُها بفَاسِدٍ. قلنا: لا يَصِحُّ هذا التَّأوِيلُ؛ لوَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، أنَّ الوَلَاءَ لها بإعْتَاقِها، فلا حاجَةَ إلى اشْتِراطِه. الثانى، أنَّهُم أَبَوُا البَيْعَ، إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ لهم الولَاءُ، فكيف يَأْمُرُها بما عَلِمَ أنَّهُم لا يَقْبَلُونَه مِنها؟ وأمّا أمْرُها بذلك، فليس هو أمْرًا على الحَقِيقَةِ، وإنَّما هو صِيغَةُ الأمْرِ بمَعْنَى التَّسْوِيَةِ بينَ ¬

_ = في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، من كتاب العتاق. سنن أبى داود 2/ 114، 347. والترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذى 8/ 281. والنسائى، في: باب إذا تحولت الصدقة، من كتاب الزكاة، وفى: باب خيار الأمة، وباب خيار الأمة تعتق وزوجها حر، وباب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، من كتاب الطلاق، وفى: باب البيع يكون فيه الشرط الفاسد. . .، وباب بيع المكاتب، وباب المكاتب يياع قبل أن يقبض. . .، من كتاب البيوع. المجتبى 5/ 81، 6/ 132، 133، 134، 135، 7/ 264، 268، 269. وابن ماجه، في: باب خيار الأمة إذا أعتقت، من كتاب الطلاق، وفى: باب المكاتب، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 1/ 671، 2/ 842، 843. والدارمى، في: باب في تخيير الأمة. . .، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 169. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الخيار، من كتاب الطلاق، وفى: باب مصير الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. الموطأ 2/ 562، 780، 781. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 281، 321، 2/ 28، 100، 113، 144، 153، 156، 6/ 33، 42، 46، 82، 103، 121، 135، 172، 175، 178، 180، 186، 190، 213، 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاشْتِراطِ وتَرْكِه، كَقولِ اللَّهِ تعالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (¬1). وقَوْلِه: {فَاصْبِرُواْ أَوْ لَا تَصْبِرُواْ} (¬2). والتَّقْدِيرُ: واشْتَرِطِى لهم الوَلاءَ، أو لا تَشْتَرِطِى. ولهذا قال عَقيبَهُ: «فإنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أَعْتَقَ». وحَدِيثُهم لا أصْلَ له على ما ذَكَرْنَا، وما ذَكَرُوه مِن المَعْنَى في مُقابَلَةِ النَّصِّ لا يُقْبَلُ. فصل: وإذا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ البَيْعِ، فللبَائِعِ الرُّجُوعُ بما نَقَصَه الشَّرْطُ مِن الثَّمَنِ. ذكَرَه القاضِى. وللمُشْتَرِى الرُّجُوعُ بزِيادَةِ الثَّمَنِ إنْ كان هو المُشْتَرِطَ؛ لأنَّ البائِعَ إنَّما سَمَح بالبَيْعِ بهذا الثَّمَنِ؛ لِما يحصُلُ له مِن الغَرَضِ بالشَّرْطِ، والمُشْتَرِى إنَّما سَمَحَ (¬3) بِزيَادَةِ الثَّمَنِ مِن أجْلِ شَرْطِه، فإذا لم يَحْصُلْ غَرَضُه، يَنْبَغِى أن يَرْجِعَ بما سَمَحَ به، كما لو وَجَدَه مَعِيبًا. ويَحْتَمِلُ أن يَثْبُتَ له (¬4) الخِيارُ، ولا يَرْجِعَ بشئٍ، كمَن شَرَطَ رَهْنًا أو ضمِينًا، فامْتَنَعَ الرّاهِنُ والضَّمِينُ، ولأنَّ ما يَنْقُصُه الشَّرْطُ مِن الثَّمَنِ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، ولأنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَحْكُمْ لأرْبابِ بَريرَةَ. بشئٍ مع فَسَادِ الشَّرْطِ وصِحَّةِ البَيْعِ. وإن حَكَمْنا بفَسَادِ العَقْدِ لم يحصُلْ به مِلْكٌ، سواءٌ قَبَضَه أو لم يَقْبِضْه، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ تَعالَى. ¬

(¬1) سورة التوبة 80. (¬2) سورة الطور 16. (¬3) بعده في م: «له». (¬4) سقط من: م.

1595 - مسألة: (إلا إذا شرط العتق، ففى صحته روايتان؛ إحداهما، يصح)

إِلَّا إِذَا شَرَطَ الْعِتْقَ، فَفِى صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، يَصِحُّ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ إِنْ أَبَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1595 - مسألة: (إِلَّا إِذَا شَرَطَ الْعِتْقَ، فَفِى صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، يَصِحُّ) وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وظاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ؛ لأنَّ عائِشَةَ اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ، وشرطَ عليها أهْلُها عِتقَها وولاءَها، فأَنْكَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شرْطِ الوَلَاءِ دُونَ العِتقِ. والثانيةُ، الشَّرْطُ فاسِدٌ. وهو مَذْهَبُ أبى حَنِيفَةَ؛ لأنَّهُ شَرْطٌ يُنافِى مُقْتَضَى العقْدِ، أشْبَهَ ما لو شَرَط أن لا يَبِيعَه، ولأنَّه شرَط إزالَةَ مِلْكِه عنه، أشبَهَ ما إذا اشتَرَطَ أن يَبِيعَه، وليس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حَدِيثِ عائِشَةَ أنَّها شَرَطَتْ لهم العِتقَ، إنَّما اخْبَرَتْهم أنَّها تُرِيدُ ذلك مِن غيرِ شَرْطٍ، فاشْتَرَطُوا ولاءَها. فإن حَكَمْنَا بفَسَادِه، فحُكْمُه حُكْمُ سائِرِ الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ، على ما بَيَّنَّا، وإن حَكَمْنا بصِحَّتِه، فأعْتَقَه المُشْتَرِى، فقد وَفَّى بما شَرَط عليه. وإن لم يُعْتِقْه ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُجْبَرُ، لأنَّ شَرْطَ العِتْقِ إذا صَحَّ تَعَلَّقَ بعَيْنِه، فيُجْبَرُ، كما لو نَذرَ عِتْقَه. والثانى، لا يُجْبَرُ؛ لأنَّ الشَّرْطَ لا يُوجِبُ فِعلَ المَشْرُوطِ، بدَلِيلِ ما لو شرَط الرَّهْنَ والضَّمِينَ. فعلى هذا يَثْبُتُ للبائِعِ خِيَارُ الفَسْخِ؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْ له ما شَرَطَ، أشْبَهَ ما لو شرَطَ عليه رَهْنًا فلم يَفِ به. وإن تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ، أو كان أَمَةً فأَحْبَلَها، أَعْتَقَه، وأَجْزَأه؛ لأنَّ الرِّقَّ باقٍ فيه. وإنِ اسْتَغَلُّه، أو أخَذَ مِن كَسْبِه شيئًا، فهو له. وإن ماتَ المَبِيعُ رَجَعَ البائِعُ على المُشْتَرِى بما نَقَصَه شَرْطُ العِتْقِ، فيُقالُ: كم قِيمَتُه لو بِيعَ مُطْلَقًا، وكم قِيمَتُه إذا بِيع بشَرْطِ العِتقِ؟ فيُرْجَعُ بقِسْطِ ذلك مِن ثَمَنِه، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ، كالأَرْشِ. وفى الآخَرِ، يُضْمَنُ بما نَقَصَ مِن قِيمَتِه.

1596 - مسألة: (وعنه فى من باع جارية، وشرط على المشترى، أنه إن باعها، فهو أحق بها بالثمن، أن البيع جائز)

وَعَنْهُ، في مَنْ بَاعَ جَارِيَةً، وَشَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرى، إِنْ بَاعَهَا، فهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثّمَنِ، أنَّ البَيْعَ جَائِزٌ. وَمَعْنَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلمُ- أنَّهُ جَائِزٌ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1596 - مسألة: (وعنه في مَن باعَ جارِيَةً، وشَرَطَ على المُشْتَرِى، أنَّه إن باعَهَا، فهو أحَقُّ بها بالثَّمَنِ، أنّ البَيْعَ جائِزٌ) رَوَى المَرُّوذِىُّ، عن أحمدَ، أنَّه قال: هو في مَعْنَى حَدِيثِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطَانِ في بَيْعٍ». يَعْنِى أنَّه فاسِدٌ؛ لأنَّهُ شَرَطَ أن يَبِيعَه إيَّاهُ، وأن يَبِيعَه بالثَّمَنِ الأوَّلِ، فهما شَرْطَانِ في بَيْعٍ نُهِىَ عنهما، ولأنَّه يُنافِى مُقْتَضَى العَقْدِ؛ لأنَّه شَرَطَ أن لا يَبِيعَه مِن غيرِه إذا أعْطاهُ ثَمنَه، فهو كما لو شَرَطَ أن لا يَبِيعَه إلَّا مِن فلانٍ. وروَى عنه إسماعيلُ بنُ سَعِيدٍ: البَيْعُ جائِزٌ. لِما رُوِى عن ابنِ مَسْعُودٍ، أنَّه قال: ابْتَعْتُ مِن امْرَأَتى زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ جارِيَةً، وشَرَطْتُ لها إن بِعْتُها فهى لها بالثَّمَنِ الذى ابْتَعْتُها به، فذَكَرْتُ ذلك لعمرَ، فقال: لا تَقْرَبْها ولأحَدٍ فيها شَرْطٌ (¬1). قال إسماعِيلُ: فذَكَرْتُ لأحمدَ الحَدِيثَ، فقال: البَيْعُ جائِزٌ، و «لا تَقْرَبْها»؛ لأنَّه كان فيها شَرْطٌ واحِدٌ للمَرْأَة، ولم يَقُلْ عمرُ في ذلك البَيْعِ: فاسِدٌ. فحَمَلَ الحَدِيثَ على ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الشرط الذى يفسد البيع، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِه، وأَخَذَ به. وقد اتَّفَقَ عُمَرُ وابنُ مَسْعُودٍ على صِحَّتِه، والقِياسُ يَقْتَضِى فَسَادَه. قال شَيْخنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كلامُ أحمدَ، في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ، على فَسادِ الشَّرْطِ، وفى رِوايَةِ إسماعيلَ بنِ سَعِيدٍ على جَوازِ البَيْعِ، فيكونُ البَيْعُ صَحِيحًا، والشَّرْطُ فاسِدًا، كما لو اشْتَرَاهَا بشرْطِ أن لا يَبِيعَها. وقولُ أحمدَ: «لا تَقْرَبْها». قد رُوِى مثْلُه في مَن اشْتَرَطَ في الأمَةِ أَنْ لا يَبِيعَها، ولا يَهَبَها، أو شَرَطَ عليه ولاءَها، [ولا] (¬2) يَقْرَبُها. والبَيْعُ جائِزٌ؛ لحَدِيثِ عمرَ المذكُورِ. وقال القاضِى: وهذا (¬3) على الكَرَاهَةِ، لا على التَّحْرِيمِ. قال ابنُ عَقِيلٍ: عندى أنَّه إنَّما مَنَعَ مِن الوَطْءِ؛ لمكانِ الخِلافِ في العَقْدِ؛ لكَوْنِه يَفْسُدُ بفَسَادِ الشَّرْطِ في بَعْضِ المذاهِبِ. ¬

(¬1) في: المغنى 6/ 171. (¬2) في م: «أولا». (¬3) بعده في الأصل، م: «يدل».

1597 - مسألة: (وإن شرط رهنا فاسدا)

وَإِنْ شَرَطَ رَهْنًا فَاسِدًا وَنَحْوَهُ، فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1597 - مسألة: (وإن شَرَطَ رَهْنًا فاسِدًا) كالخَمْرِ (ونحْوِه، فهل يَبْطُلُ البَيْعُ؟ على وَجْهَيْنِ) أصْلُهما الرِّوَايَتَانِ في الشُّروطِ الفاسِدَةِ، وقد مَضَى ذكْرُهما. فصل: وَإذا قال رَجُلٌ لغَرِيمِه: بِعْنِى هذا على أن أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ منه. ففَعَلَ، فالشَّرْطُ باطِلٌ؛ لأَنَّه شَرَطَ أن لا يَتَصَرَّفَ فيه بغيرِ القَضاءِ. وهل يَبْطُلُ (¬1) البَيْعُ؟ يَنْبَنِى على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيْعِ، على ما ذَكَرْنا. وإن قال: اقْضِنِى (2) حَقِّى على أن أبِيعَكَ كذا وكذا. فالشَّرْطُ باطلٌ، والقَضاءُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه أقْبَضَه حَقَّه. وإن قال: اقْضِنِى (¬2) أَجْوَدَ من مالِى، على أن أَبِيعَكَ كذا. فالقَضَاءُ والشَّرْطُ باطِلَانِ، وعليه رَدُّ ما قَبَضَه، ويُطالِبُ بمالِه. ¬

(¬1) في م: «يفسد». (¬2) في م: «اقبضنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَتَى حَكَمْنَا بفَسَادِ العَقْدِ، لم يَثْبُتْ به مِلْكٌ، سواءٌ اتَّصَلَ به القَبْضُ أو لَا. ولا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ المُشْتَرِى فيه بِبَيْعٍ، ولا هِبَةٍ، ولا عِتْقٍ، ولا غيرِه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حَنِيفةَ: يَثْبُتُ المِلْكُ فيه إذا اتَّصَلَ به القَبْضُ، وللبَائِعِ الرُّجُوعُ فيه، فيَأْخُذُه مع زِيادَتِه المُنْفَصِلةِ (¬1)، إلَّا أن يَتَصَرفَ فيه المُشْتَرِى تصَرُّفًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فيه، فيَأْخُذَ قِيمَتَه. مُحْتَجًّا بحَدِيثِ بَرِيرَةَ؛ فإنَّ عائِشَةَ اشْتَرَتْها بشَرْطِ الوَلاءِ، فأعْتَقَتْها، فأَجَازَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- العِتْقَ، والبَيْعُ فاسِدٌ. ولأنَّ المُشْتَرِىَ على صِفَةٍ يملِكُ المَبِيع ابْتِداءً بعَقْدٍ، وقد حَصَلَ عليه الضَّمَانُ للبَدَلِ عن (¬2) عَقْدٍ فيه تَسْلِيطٌ، فوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَه، كالعَقْدِ الصَّحِيحِ. ولَنا، أنَّه مَقْبُوضٌ بعَقْدٍ فاسِدٍ، فلم يمْلِكْهُ، كما لو كان الثَّمَنُ مَيْتَةً، أو دَمًا. فأمّا حَدِيثُ بَرِيرَةَ، فإنّمَا يَدُلُّ على صِحَّةِ العَقْدِ، لا على ما ذَكَرُوه. وليس في الحَدِيثِ أنَّ عائِشَةَ اشْتَرَتْهَا بهذا الشَّرْطِ، بل الظاهِرُ أنَّ أَهْلَها حينَ بَلَغَهُم إنْكَارُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا الشَّرْطَ، تَرَكُوهُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ الشَّرْطَ كان سابِقًا للعَقْدِ، فلم يُؤَثِّرْ فيه. ¬

(¬1) في م: «المتصلة». (¬2) في م: «غير أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وعليه رَدُّ المَبِيعِ، مع نَمائِه [المُتَّصِلِ و] (¬1) المُنْفَصِلِ، وأُجْرَةِ مثلِه مُدَّةَ بقَائِه في يَدَهِ، وإنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ؛ لأنَّها جُمْلَةٌ مَضْمُونَةٌ، فأجْزَاؤُها تكونُ مَضْمُونَةً أيضًا. وإنْ تَلِفَ المَبِيعُ في يَدِ المُشْتَرِى، فعليه ضَمانُه بقِيِمَتِه يومَ التَّلَفِ. قاله القاضِى. ولأنَّ أَحمَدَ نَصَّ عليه في الغَصْبِ. ولأنَّه قَبَضَه بإذْنِ مالِكِه، فأشْبَهَ العارِيَّةَ. وذَكَرَ الخِرَقِىُّ في الغَصْبِ، أنّه يَلْزَمُه قِيمَتُه أكْثَرَ ما كانت. فيُخَرَّجُ ههنا كذلك. ولأصْحابِ الشافِعِىِّ وَجْهَانِ كهذَيْنِ. فصل: فإنْ كان المَبِيعُ أمَةً، فَوَطِئَها المُشْتَرِى، فلا حَدَّ عليه؛ لاعْتِقَادِه أَنَّها مِلْكُه، ولأنَّ في المِلْكِ اخْتِلَافًا. وعليه مَهْرُ مِثْلِها؛ لأنَّ الحَدَّ إذا سَقَطَ للشُّبْهَةِ، وَجَبَ المَهْرُ. ولأنَّ الوَطْءَ في مِلْكِ الغَيْرِ يُوجِبُ المَهْرَ. وعليه أرْشُ البَكَارَةِ، إنْ كانَتْ بِكْرًا. فإنْ قيلَ: أليس إذا تَزَوَّجَ امرأةً تَزْويجًا فاسِدًا، فَوَطِئَها، فأزَالَ بكَارَتَها، لا يَضْمَنُ البَكَارَةَ؟ قُلْنا: لأنَّ النِّكَاحَ. تَضَمَّنَ الإِذْنَ في الوَطْء المُذْهِب للبَكَارَةِ؛ لأنَّه مَعْقودٌ على الوَطْءِ، ولا كذلك البَيْعُ، لأنَّه ليس بمَعْقودٍ على الوَطْءِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدَلِيلِ أنَّه يَجُوزُ شِراءُ مَنْ لا يَحِلَّ وَطْؤُها. فإنْ قيلَ: فإذا أوْجَبْتُم مَهْرَ بِكْرٍ، فكيف تُوجِبُونَ ضمانَ البَكَارَةِ، وقد دَخَلَ ضَمانُها في المَهْرِ؟ وإذا أوْجَبْتُم ضمانَ البَكَارَةِ، فكيف تُوجِبُونَ مَهْرَ بِكْرٍ، وقد أَدَّى عِوَضَ البَكَارَةِ بضَمانِه لها، فجَرَى مَجْرَى مَنْ أَزَالَ بكارَتَها بإصْبَعِه، ثم وَطِئَها؟ قُلْنا: لأَنَّ مَهْرَ البِكْرِ ضمانُ المَنْفَعَةِ، وأَرْشَ البَكَارَةِ ضمانُ جُزْءٍ، فلذلك اجْتَمَعَا، وأمّا الثَّانِى، فإنَّه إذا وَطِئَها بِكْرًا، فقد اسْتَوْفَى نَفْعَ هذا الجُزْءِ، فَوَجَبَتْ قِيمَةُ ما اسْتَوْفَى مِن نَفْعِه، وإذا أَتْلَفَه وَجَبَ ضمانُ عَيْنِه، ولا يَجُوزُ أن يَضْمَنَ العَيْنَ ويُسْقِطَ ضمانَ المَنْفَعَةِ، كما لو غَصَبَ عَيْنًا ذاتَ مَنْفَعَةٍ، فاسْتَوْفَى مَنْفَعَتَها، ثم أَتْلَفَها، أو غَصَبَ ثَوْبًا، فلَبِسَه حتى أَبْلاهُ وأتْلَفَه، فإنَّه يَضْمَنُ القِيمَةَ والمَنْفَعَةَ، كذا ههُنا. فصل: وإنْ وَلَدَت كان وَلَدُها حُرًّا؛ لأنَّه وَطِئَها بشُبْهَةٍ، ويَلْحَقُ به؛ لذلك، ولا ولاءَ عليه؛ لأنَّه حُرُّ الأَصْلِ، وعلى الوَاطِئَ قِيمَتُه يومَ وَضْعِه؛ لأنَّه يومُ الحَيْلُولَةِ بَيْنَه وبينَ صاحِبِه. فإنْ سَقَطَ مَيْتًا لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه إِنَّما يَضْمَنُه حينَ وَضْعِه، ولا قِيمَةَ له حِينَئِذٍ. فإنْ قيلَ: فلو ضَرَبَ بَطْنَها فألْقَتْ جَنِينًا مَيْتًا وجَبَ ضَمانُه. قُلْنا: الضّارِبُ يَجِبُ عليه غُرَّةٌ، وههُنا يَضْمَنُه بقِيمَتِه، ولا قِيمَةَ له، ولأنَّ الجانِىَ أتْلَفَه وقَطَعَ نماءَه، وههُنا يَضْمَنُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحَيْلُولَةِ [بينه وبينَ سَيِّدِه، وَوَقْتُ الحَيْلُولةِ وَقْتُ السُّقُوطِ، وكان مَيْتًا، فلم يجبْ ضَمانُه، وعليه ضَمانُ نقْصِ الوِلادةِ] (¬1). فإن كان الضَّارِبُ أَجْنَبيًّا، فألْقَتْ جَنِينًا مَيْتًا، فعلى الضّارِبِ غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أو أَمَةٌ، للسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِن دِيَةِ الجَنِينِ، أو قِيمتِه يومَ سَقَطَ؛ لأنَّ ضمانَ الضّارِبِ له قامَ مَقامَ خُرُوجِه حَيًّا، ولذلك ضَمِنَه للبائِعِ. وإنَّما كان للسَّيِّدِ أقلُّ الأمْرَيْنِ؛ لأنَّ الغُرَّةَ إنْ كانَتْ أَكْثَرَ مِن القِيمَةِ، فالباقِى منها لوَرَثَتِه؛ لأنَّه حَصَلَ بالحُرِّيَّةِ، فلا يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ منها شيئًا. وإنْ كانَتْ أقَلَّ، لم يَكُنْ على الضّارِبِ أكثرُ منها؛ لأنَّهُ بسَبَبِ ذلك ضَمِنَ. وإنْ ضَرَبَ الواطِئُ بَطْنَها، فأَلْقَتِ الجَنِينَ مَيْتًا، فعليه الغُرَّةُ أيضًا، ولا يَرِثُ منها شيئًا، وللسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَيْنِ، كما ذَكَرْنا. وإنْ سَلَّمَ الجارِيَةَ المَبِيعَةَ إلى البائِعِ حامِلًا، فوَلَدَتْ عندَه، ضَمِنَ نَقْصَ الوِلادَةِ، وأنْ تَلِفَتْ بذلك ضَمِنَها؛ لأنَّ تَلَفَها بسَبَبٍ منه. وإنْ مَلَكَها الواطِئُ، لم تَصِرْ بذلك أُمَّ وَلَدٍ، على الصَّحِيحِ مِن المَذهَبِ؛ لأَنَّها عَلِقت منه في غيرِ مِلكِه، فأشْبَهَ (¬2) الزَّوْجَةَ. وهكذا كُلُّ مَوْضِعٍ حَبِلَتْ في مِلْكِ غيرِه، لا تَصِيرُ له أُمَّ وَلَدٍ بهذا. ¬

(¬1) في م: «بعينه». (¬2) في م: «فأشبهت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا باعَ المُشْتَرِي المَبِيعَ الفاسِدَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه باعَ مِلْكَ غَيْرِه بغيرِ إذنِه، وعلى المُشتَرِى رَدُّه على البائِعِ الأَوَّلِ؛ لأنَّه مالِكُه، ولبائِعِه أخْذُه حيث وجَدَه، ويَرْجِعُ المُشْتَرِى الثَّانِى بالثَّمَنِ على الذى باعه، ويَرْجِعُ الأَوَّلُ على بائِعِه. فإن تَلِفَ في يَدِ الثَّانِى، فللبَائِعِ مُطَالَبَةُ مَن شاء منهما؛ لأنَّ الأوَّلَ ضامِنٌ، والثانِىَ قَبَضَه مِن يَدِ ضامِنِه بغيرِ إذْنِ صاحِبِه، فكانَ ضامِنًا. فإنْ كانت قِيمَتُه أكْثَرَ مِن ثَمَنِه فضَمِنَ الثَّانِى، لم يَرْجِعْ بالفَضْلِ على الأوَّلِ، لأنَّ التَّلَفَ في يَدِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عليه. وإن ضَمِنَ الأَوَّلُ، رَجَع بالفَضْلِ على الثَّانِى. فصل: وإنْ زَادَ المَبيعُ في يَدِ المُشْتَرِى بسِمَنٍ أو نحوِه، ثم نَقَص حتى عادَ إلى ما كانَ عليه، أَو وَلَدَتِ الأَمَةُ في يَدِ المُشْتَرِى ثم ماتَ وَلَدُها، احْتَمَلَ أن يَضْمَنَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، لأَنَّها زِيادَةٌ في عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، أشْبَهَتِ الزِّيَادَةَ في المَغْصُوبِ، واحْتَمَلَ أن لا يَضْمَنَها؛ لأنَّه دَخَلَ على أن لا يَكُونَ في مُقابَلَةِ الزِّيادَةِ عِوَضٌ. فعلى هذا تَكُونُ الزِّيَادَةُ أَمانَةً في يَدِه؛ إن تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه أو عُدْوَانِه، ضَمِنَها، وإلَّا فَلَا. وإن تَلِفَتِ العَيْنُ بعدَ زِيادَتِها، أُسْقِطَت تلك الزِّيادَةُ مِن القِيمَةِ، وضَمِنَها بما بَقِىَ مِن القِيمَةِ حينَ التَّلَفِ. قال القاضِى: وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ بَيْعًا فاسِدًا، وتَقابَضَا، ثم أَتْلَفَ البائِعُ الثَّمنَ، ثم أَفْلَسَ، فله الرُّجُوعُ في المَبِيعِ، والمُشْتَرِى أُسْوَةُ الغُرَماءِ. وبهذا قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: المُشْتَرِى أحَقُّ بالمَبِيعِ مِن سائِرِ الغُرَماءِ؛ لأنَّه في يَدِه، فكانَ أحَقَّ به، كالمُرْتَهِنِ. ولَنا، أنَّه لم يَقْبِضْه وَثِيقَةً، فلم يَكُنْ أحَقَّ به، كما لو كان وَدِيعَةً عنده، بخِلَافِ المُرْتَهن؛ فإنّه قَبَضَه على أنَّه وَثِيقةٌ بحَقِّهِ. فصل: وإذا قال: بعْ عَبْدَكَ مِن فُلانٍ بأَلْفٍ، على أنَّ عَلَىَّ خَمْسَمائَةٍ. فبَاعَهُ بهذا الشَّرْطِ، فالبَيْعُ فاسِدٌ؛ لأنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أن يكونَ جَمِيعُه على المُشْتَرِى، فإذا شَرَطَ كَوْنَ بَعْضِه على غيرِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ المَبِيعَ، والثّمنُ على غَيْرِه، ولا يُشْبِهُ هذا ما لو قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ -أو- طَلِّقِ امْرَأَتَكَ وعَلَىَّ خَمْسُمائَةٍ. لكَوْنِ هذا عِوَضًا في مُقابَلَةِ فَكِّ الزَّوْجَةِ ورَقَبَةِ العَبْدِ، ولذلك لم يَجُزْ في النِّكَاحِ. أمّا في مَسْأَلتِنا، فإنّه مُعَاوَضَةٌ في مُقَابَلَةِ نَقْلِ المِلْكِ، فلا يَثْبُتُ؛ لأَنَّ العِوَضَ على غَيْرِه. وإن كان هذا القَوْلُ على وَجْهِ الضَّمانِ، صَحَّ البَيْعُ، ولَزِمَ الضَّمَانُ.

1598 - مسألة: وكذلك إذا قال

الثَّالِثُ، أن يَشْتَرِطَ شَرْطًا يُعَلِّقُ الْبَيْعَ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِى بِكَذَا. أو: إِنْ رَضِىَ فُلَانٌ. أو يَقُولَ لِلْمُرْتَهِنِ: إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ في مَحِلِّهِ، وَإلَّا فَالرَّهْنُ لَكَ. فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، إِلَّا بَيْعَ الْعُرْبُونِ؛ وَهُوَ أن يَشْتَرِىَ شَيْئًا، وَيُعْطِىَ الْبَائِعَ دِرْهَمًا، وَيَقُولَ: إِن أَخَذْتُهُ، وَإلَّا فَالدِّرْهَمُ لَكَ. فَقَالَ أحْمَدُ، رَضِىَ اللَّه عَنْهُ: يَصِحُّ؛ لأَنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَلَهُ. وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ، لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثالثُ، أن يَشْتَرِطَ شَرْطًا يُعَلِّقُ البَيْعَ، كقَوْلِه: بِعْتُكَ إن جِئْتَنِى بكذا. أو: إن رَضِىَ فلانٌ) فلا يَصِحُّ البَيْعُ؛ لأنَّه عَلَّقَ البَيْعَ على شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، فلم يَصِحَّ، كما إذا قال: بِعْتُكَ إذا جاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. 1598 - مسألة: وكذلك إذا قال (¬1): (إن جِئْتُكَ بحَقِّكَ في مَحِلِّه، وإلَّا فالرَّهْنُ لَكَ. فلا يَصِحُّ البَيْعُ، إلَّا بَيْعَ العُرْبُونِ؛ وهو أن يَشْتَرِىَ شَيْئًا، ويُعْطِىَ البائِعَ دِرْهَمًا ويقولَ: إن أخَذْتُه، وإلَّا فالدِّرْهَمُ لَكَ. فقال أحمدُ: يَصِحُّ؛ لأَنَّ عمرَ فَعَلَه. وعند أبى الخَطَّابِ) أنّه (لا يَصِحُّ) ومِمَّن رُوِى عنه القَوْلُ بفَسَادِ الشَّرْطِ؛ ابنُ عمرَ، وشُرَيْحٌ، ¬

(¬1) بعده في م: «المرتهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِىُّ، ومالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشّافِعِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَهم. والأَصْلُ في ذلك ما رَوَى مُعاوِيَةُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن جَعْفَرٍ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» (¬1). رَواهُ الأَثْرَمُ. قال الأَثْرَمُ: قلتُ لأحْمدَ: ما مَعْنَى قَوْلِه: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»؟ قال: لا يَدْفَعُ رَهْنًا إلى رَجُلٍ، ويقولُ: إن جِئْتُكَ بالدَّرَاهِمِ إلى كذا وكذا، وإلَّا فالرَّهْنُ لَكَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا مَعْنَى قولِه: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»، عند مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأحمدَ. وإنَّما فَسَدَ البَيْعُ؛ لأنَّه مُعَلَّقٌ بشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، فلم يَصِحَّ، كالمسألةِ قبلها، وكما لو قال: إن وَلَدَتْ نَاقَتِى فَصِيلًا، فقد بِعْتُكَهُ بدِينارٍ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب لا يغلق الرهن، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 816. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من غلق الرهن، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 728.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والعُرْبُونُ في البَيْعِ، هو أن يَشْتَرِىَ السِّلْعَةَ، ويَدْفَعَ إلى البائِعِ دِرْهَمًا أو أكْثَرَ، على أنَّه إن أخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ به مِن الثَّمَن، وإن لم يَأْخُذْها فهو للبائِعِ. يُقال: عُرْبُونٌ، وأَرَبُونٌ، وعُرْبَانٌ، وأُرْبَانٌ. قال أحمدُ، وابنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ به. وفَعَلَه عمرُ رَضِىَ اللَّهُ عنه. وعن ابنِ عمرَ، أنّه أجَازَه. وقال ابنُ المُسَيَّبِ، وابنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ إذا كَرِهَ السِّلْعَةَ أن يَرُدَّها، وَيَرُدَّ معها شَيْئًا. قال أحمدُ: هذا في مَعْنَاهُ. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَصِحُّ. وهو قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. ويُرْوَى عن ابنِ عَبّاس، والحَسَنِ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَهَى عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعِ العُرْبُونِ. رَواهُ ابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّه شَرَطَ للبائِعِ شَيْئًا بغيرِ عِوَضٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَه لأجْنَبِىٍّ، ولأنَّه بمَنْزِلَةِ الخيارِ المَجْهُولِ، فإنَّه اشْتَرَطَ أنَّ له رَدَّ المَبِيعِ مِن غيرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: وَلِىَ الخِيارُ مَتَى شِئْتُ رَدَدْتُ السِّلْعَةَ ومعها دِرْهَمًا. قال شَيْخُنا (¬2): وهذا هو القِياسُ. وإنَّما صارَ أحمدُ فيه إلى ما رُوِى عن نافِعِ بنِ عبدِ (¬3) الحارِثِ، أنَّه اشْتَرَى لعمرَ دارَ السِّجْنِ مِن صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، فإن رَضِى عمرُ، وإلَّا فلَهُ كذا وكذا (¬4). قال الأَثْرَمُ: قلْتُ لأحمدَ: تَذْهَبُ إليه؟ قال: أى شئٍ أقولُ؟ هذا عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وضَعَّفَ الحَدِيثَ المَرْوِىَّ. رَوَى هذه القِصَّةَ الأَثْرَمُ بإسْنادِه. ¬

(¬1) في: باب بيع الربان، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 738، 739. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العربان، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 253. والإمام مالك، في: باب ما حاء في بيع العربان، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 609. (¬2) في: المغنى 6/ 331. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا إن دَفَعَ إليه قبلَ البَيْعِ دِرْهَمًا، وقال: لا تَبعْ هذه السِّلْعَةَ لغَيْرِى، وإن لم أشْتَرِها منك فهذا الدِّرْهَمُ لَكَ. ثم اشْتَرَاهَا منه بعدَ ذلك بعَقْدٍ مُبْتَدَأ وحَسَبَ الدِّرْهَمَ مِن الثَّمَنِ، صَحَّ؛ لأَنَّ البَيْعَ خَلَا عن الشَّرْطِ المُفْسِدِ. ويَحْتَمِلُ أن الشِّرَاءَ الذى اشْتُرِىَ لِعمرَ كان على هذا الوَجْهِ، فيُحْمَلُ عليه جَمْعًا بين فِعْلِه وبين الخَبَرِ، ومُوافَقَةِ القِياسِ والأَئِمَّةِ القَائِلِينَ بفَسادِ بَيْعِ العُرْبُونِ. وإن لم يَشْتَرِ السِّلْعَةَ في هذه الصُّورَةِ، لم يَسْتَحِقَّ البائِعُ الدِّرْهَمَ؛ لأنَّهُ يَأْخُذه بغَيْرِ عِوَضٍ، ولصاحِبِه الرِّجُوعُ فيه، ولا يَصِحُّ جَعْلُه عِوَضًا عن انْتِظَارِه وتَأْخِيرِ بَيْعِه مِن أخلِه؛ لأنَّه لو كان عِوَضًا عن ذلك، لَما جازَ جَعْلُه مِن الثَّمَنِ في حالِ الشِّرَاءِ، ولأنَّ الانْتِظارَ بِالبَيْعِ لا تَجُوزُ المُعَاوَضَةُ عنه، ولو جازَتْ لَوَجَبَ أن يكونَ مَعْلُومَ المِقْدارِ، كما في الإِجَارَةِ.

1599 - مسألة: (وإن قال: بعتك على أن تنقدنى الثمن إلى ثلاث)

وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِى الثَّمَنَ إِلَى ثَلَاثٍ، وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا. فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1599 - مسألة: (وإن قال: بِعْتُكَ على أن تَنْقُدَنِى الثَّمَنَ إلى ثَلاثٍ) أو: مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ (وإلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنا. فالبَيْعُ صَحِيحٌ. نصَّ عليه) وهذا قَوْلُ أبى حَنِيفَةَ، والثَّوْرِىِّ، وإسحاقَ، ومحمدِ بنِ الحَسَنِ. وقال به أبو ثَوْرٍ، إذا كان الشرطُ (¬1) إلى ثَلاثٍ. وحُكِىَ مثلُ قَوْلِه عن ابنِ عمرَ. وقال مالِكٌ: يَجُوزُ في اليَوْمَيْنِ والثَّلَاثَةِ ونَحْوِها، وإن كان عِشرِينَ لَيْلَةً فُسِخَ البَيْعُ. وقال الشّافِعِىُّ، وزُفَرُ: البَيْعُ فاسِدٌ؛ لأنَّه عَلَّقَ فَسْخَ البَيْعِ على غَرَرٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو عَلَّقَهُ بقُدُومِ زَيْدٍ. ولَنا، أنَّه يُرْوَى عن عمرَ، ولأنَّه عَلَّقَ رَفْعَ العَقْدِ بأمْرٍ يَحْدُثُ في مُدَّةِ الخِيَارِ، فجازَ، كما لو شَرَطَ ¬

(¬1) سقط من: م.

1600 - مسألة: (وإن باعه، وشرط البراءة من كل عيب، لم يبرأ. وعنه، يبرأ، إلا أن يكون البائع علم العيب، فكتمه)

وَإِنْ بَاعَهَ، وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، لَمْ يَبْرَأْ. وَعَنْهُ، يَبْرَأُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ عَلِمَ الْعَيْبَ، فَكَتَمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِيارَ، ولأَنَّهُ بَيْعٌ، فجازَ أن يَنْفَسِخَ بتَأْخِيرِ القَبْضِ، كالصَّرْفِ، ولأَنَّ هذا بمَعْنَى شَرْطِ الخِيارِ؛ لأنَّه كما يَحْتَاجُ إلى التَّرَوِّى في المَبِيعِ، هل يُوافِقُه أَوْ لَا؟ يَحْتاجُ إلى التَّرَوِّى في الثَّمَنِ، هل يَصِيرُ مَنْقُودًا، أَوْ لَا؟ فهما شَبيهانِ (¬1) في المَعْنَى وإن تَغَايَرَا في الصُّورَةِ، إلَّا أنَّه في الخِيارِ يَحْتَاجُ إلى الفَسْخِ، وهذا يَنْفَسِخُ إذا لم يَنْقُدْ في المُدَّةِ المَذْكُورَةِ؛ لأنَّه جَعَلَه كذلك. 1600 - مسألة: (وإن باعَه، وشَرَطَ البَراءَةَ مِن كُلِّ عَيْبٍ، لم يَبْرَأُ. وعنه، يَبْرَأُ، إلَّا أن يكونَ البائِعُ عَلِمَ العَيْبَ، فكَتَمَه). اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ في هذه المسألةِ، فرُوِىَ عنه، أنَّه لا يَبْرَأُ، إِلَّا أن يَعْلَمَ المُشْتَرِى بالعَيْب. وهو قَوْلُ الشّافِعِىِّ. وقال إبراهيمُ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ: لا يَبْرَأُ إلًّا مِمّا سمّى. وقال شرَيْحٌ: لا يَبْرَأُ إلَّا مِمّا أراه أو وَضَعَ ¬

(¬1) في الأصل، ر 1، ق: «شيئان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدَه عليه. [ورُوِىَ نحوُه عن عطاءٍ، والحسنِ، وإسحاقَ؛ لأنَّه مُرْفَقٌ في البَيْعِ، لا يَثْبُتُ إلَّا بالشَّرْطِ، فلم يَثْبُت مع الجهلِ، كالخِيارِ] (¬1). ورُوِىَ عنه، أنَّه يَبْرَأُ مِن كُلِّ عَيْبٍ لم يَعْلَمْه، ولا يَبْرَأُ مِن عَيْبٍ عَلِمَه. يُرْوَى ذلك عن عثمانَ، ونحوُه عن زَيْدِ بنِ ثابتٍ (¬2). وهو قولُ مالِكٍ. وقولُ الشّافِعِىِّ في الحَيَوانِ خاصَّةً، لِما رُوِى أَنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ باعَ زَيْدَ ابنَ ثابِتٍ عَبْدًا بشَرْطِ البَراءَةِ بثمانِمائَةِ دِرْهَمٍ، فأصَابَ به زَيْدٌ عَيْبًا، فأَرادَ رَدَّه على ابنِ عمرَ، فلم يَقْبَلْه، فَتَرَافَعَا إلى عثمانَ، فقال عثمانُ لابنِ عمرَ: تَحْلِفُ أنّكَ لم تَعْلَمْ بهذا العَيْبِ؟ قال: لَا. فَرَدَّه عليه، فباعَه ابنُ عمرَ بأَلْفِ دِرْهَمٍ. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3). وهذه قِصَّةٌ اشْتَهَرَتْ، فلم تُنْكَرْ، فكانَتْ إجْمَاعًا. ويَتَخَرَّجُ أن يَبْرَأُ مِن العُيُوبِ كُلِّها بالبَراءَةِ. وحَكاه بعضُ أَصْحَابِنَا رِوايَةً عن أحمدَ، بناءً على جَواز البَراءَة مِن المَجْهُولِ. ورُوِىَ هذا عن ابنِ عمرَ. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى، وقَولُ الشَّافِعِىِّ، لِمَا رَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا في مَوارِيثَ دَرَسَتْ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب بيع البراءة، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 328. (¬3) لم نجده في المسند. وأخرجه الإمام مالك، في: باب العيب في الرقيق، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 613.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اسْتَهِمَا، وتَوَخَّيَا، ولْيَحْلِلْ كُلُّ واحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَه» (¬1). وهذا يَدُلُّ على أنَّ البَرَاءَةَ مِن المَجْهُولِ جائِزَةٌ. ولأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ لا تَسْلِيمَ فيه، فصَحَّ في المَجْهُولِ، كالطَّلَاقِ والعَتاقِ، ولا فَرْقَ بينَ الحَيَوانِ (¬2) وغيرِه، فما ثَبَت في أحَدِهما ثَبَت في الآخَرِ، وقولُ عثمانَ قد خالَفَه ابن عمرَ، فلا يَبْقَى حُجَّةً. فصل: وإذا قُلْنَا بفَسَادِ هذا الشَّرْطِ، لم يَفْسُدْ به البَيْعُ. في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو وَجْه لأَصْحَابِ الشّافِعِىِّ؛ لِما ذَكَرْنَا من قَضِيَّةِ ابنِ عمرَ، فإنَّهُم أجْمَعُوا على صِحَّتِها. فعلى هذا، لا يُمْنَعُ الرَّدُّ بوُجودِ الشَّرْطِ، ويكونُ، وُجُودُه كعَدَمِه. وعن أحمدَ في الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ روَايَتَانِ؛ إحْدَاهُما، يَفْسُدُ بها العَقْدُ، فيَدْخل فيها هذا البَيْعُ؛ لأَنَّ البائِعَ إنَّما رَضِى بهذا الثَّمَنِ عِوَضًا عن مالِه بهذا الشَّرْطِ، فإذا فَسَدَ الشَّرْط فات الرِّضَا به، فَيَفْسُدُ البَيْعُ؛ لعَدَمِ التَّرَاضِى. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في قضاء القاضى إذا أخطأ، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 271. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 320. (¬2) في الأصل، ق، م: «المجهول».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ بَاعَهُ دَارًا عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَبَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَعَنْهُ، أنَّهُ صَحِيحٌ، وَالزَّائِدُ لِلْبَائِعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِى اللَّهُ عنه: (وإن باعَهُ دَارًا) أو ثوْبًا (على أنَّه عَشرَةُ أَذْرُعٍ، فبان أحَدَ عَشرَ، فالبَيْعٍ باطِلٌ) لأنَّه لا يُمْكِنُ إجْبَارُ البائِعِ على تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وإنَّما باعَ عَشَرَة، ولا المُشْتَرِى على أخْذِ البَعْضِ، وإنَّما اشْتَرَى الكُلَّ، وعليه ضَرَرٌ في الشَّرِكَةِ أيْضًا. (وعنه، أنَّه صَحِيحٌ، والزِّيَادَةُ للبائِعِ) لأَنَّ ذلك نقْصٌ على المُشْتَرِى، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ البَيْعِ، كالمَعِيبِ، ثم يُخَيَّرُ البائِعُ بينَ تَسْلِيمِ المَبِيعِ زَائِدًا، وبينِ تَسْلِيمِ العَشَرَةِ، فإنْ رَضِىَ بتَسْلِيمِ الجَمِيعِ، فلا خِيارَ للمُشْتَرِى؛ لأنَّه زادَه خَيْرًا، وإنْ

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِمْضَائِهِ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَبَى تَسْلِيمَه زائِدًا، فللمُشْتَرِى الخِيارُ بينَ الفَسْخِ، والأخْذِ بجَمِيعِ الثَّمَنِ المُسَمَّى، فإنْ رَضِىَ بالأَخْذِ، أخَذَ بالعَشَرَةِ، والبائِعُ شَرِيكٌ له بالذِّرَاعِ. وهل للبائِعِ خِيَارُ الفَسْخِ؟ على وَجْهَيْنِ؛ أوَّلُهما، له الفَسْخُ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في المُشارَكةِ. والثَّانى، لا خِيارَ له؛ لأنَّه رَضِىَ بِبَيْعِ الجَمِيعِ بهذا الثَّمَنِ، فإذا وَصَلَ إليه الثَّمَنُ مع بَقَاءِ جُزْءٍ له فيه كان زِيَادَةً، فلا يَسْتَحِقُّ بها الفَسْخَ، ولأن هذا الضَّرَرَ حَصَلَ بتَغْرِيرِه، وإخبارِه (¬1) بخِلافِ مُخبرِه (¬2)، فلا يَنْبَغِى أَنْ يُسَلَّطَ به على فَسْخِ عَقْدِ المُشْتَرِى. فإنْ بَذَلَها البائِعُ للمُشْتَرِى بثَمَنٍ، أو طَلَبَها المشْتَرِى بثَمَنٍ، لم يَلْزَمِ الآخَرَ القبُولُ؛ لأنَّها مُعَاوَضَةٌ يُعْتَبَرُ فيها التَّرَاضِى مِنْهُما، فلا يُجْبَرُ ¬

(¬1) في م: «اختياره». (¬2) في م: «مجبره».

وَإِنْ بَانَتْ تِسْعَةً، فَهُوَ بَاطِلُ. وَعَنْهُ، أنَّهُ صَحِيحٌ، وَالنَّقْصُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِى الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَأَخْذِ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٌ منهما عليها. وإنْ تَرَاضَيا على ذلك، جازَ (وإنْ بانَتْ تِسْعَةً) فالبَيْعُ (باطِلٌ) لِما ذَكَرْنا (وعنه، أنَّه صَحِيحٌ، والمُشْتَرِى بالخِيارِ بينَ الفَسْخِ وأَخْذِ المَبِيعِ بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ). وقال أصحابُ الشافعىِّ: ليس له إمْساكُه إلَّا بجميعِ الثَّمَنِ، أو الفَسْخ. بناءً على المبيعِ المَعِيبِ عندَهم. ولَنا، أنَّه وَجَدَ المَبِيعَ ناقِصًا في القَدْرِ، فَكان له إمْسَاكُه بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، كالصُّبْرَةِ إذا اشْتَرَاها على أنَّها مائَةٌ، فبانَتْ خَمْسِينَ، وسَنُبَيِّن في المَعِيبِ أنَّ له إمْسَاكَه، وأَخْذَ الأَرْشِ. فإنْ أخَذَها بقِسْطِها مِن الثَّمَنِ، فلِلْبَائِعِ الخِيارُ بينَ الرِّضَا بذلك وبينَ الفَسْخِ، لأنَّه إنّما رَضِىَ بِبَيْعِها بكلِّ الثَّمَنِ، فإذا لم يَصِلْ إليه، ثَبَتَ له الفَسْخ. فإنْ بَذَلَ له المُشْتَرِى جَمِيعَ الثَّمَنِ، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ؛ لأنَّه وَصَلَ إليه الثَّمَن الذى

فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهُ، جِازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِيَه، فأَشْبَهَ ما لو اشْتَرَى مَعِيبًا فَرَضِيَه بجَمِيعِ الثَّمَن. (وإنِ اتَّفَقَا على تعْوِيضِه عنه، جازَ) لأَنَّها مُعَاوَضَةٌ، فجازَت بتَراضِيهِما، كغَيْرِها. فصل: وإنِ اشْتَرَى صُبْرَةً على أنَّها عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ، فبانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، رَدَّ الزّائِدَ، ولا خِيارَ له ههُنا؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في رَدِّ الزِّيادَة، وإنْ بانَتْ تِسْعَةً، أخَذَها بقِسْطِها مِن الثَّمَنِ. وقد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ أَنَّه مَتَى سَمَّى الكَيْلَ في الصُّبْرَةِ لا يكونُ قَبْضُها إلَّا بِالكَيْلِ، فإنْ وَجَدَهَا قدْرَ حَقِّه، أخَذَها، وإنْ كانت زَائِدَةً رَدَّ الزِّيَادَةَ، وإن نَقَصَتْ أَخَذَها بقِسْطِها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الثَّمَنِ. وهل له الفَسْخُ إذا وجَدَها ناقِصَةً؟ على وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، له الخِيارُ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه وَجَدَ المَبِيعَ ناقِصًا، فكان له الفَسْخُ، كغيرِ الصُّبْرَةِ، وكنُقْصَانِ الصِّفَةِ. والثَّانى، لا خِيارَ له؛ لأَنَّ نُقْصَانَ القَدْرِ ليس بعَيْبٍ في الباقِى مِن الكَيْلِ، بخِلافِ غيرِه.

باب الخيار فى البيع

بَابُ الْخِيَارِ في الْبَيْعِ وَهُوَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَثْبُت في الْبَيْعِ. وَالصُّلْحُ بِمَعْنَاهُ، وَالإِجَارَةُ. وَيَثْبُت في الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ. وَعَنْهُ، لَا يَثبُتُ فِيهِمَا. وَلَا يَثْبُتُ في سَائِرِ الْعُقُودِ، إِلَّا في الْمُسَاقَاةِ وَالْحَوَالَةِ وَالسَّبْقِ، في أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الخِيَارِ في البيعِ (¬1) (وهو على سَبْعَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُها، خِيارُ المَجْلِسِ، ويَثْبُتُ في البَيْعِ. والصُّلْحُ بمَعْنَاهُ، والإِجارَةُ. ويَثْبُتُ في الصَّرْفِ، والسَّلَمِ. وعنه، لا يَثْبُتُ فيهما. ولا يَثْبُتُ في سائِرِ العقُودِ، إِلَّا في المُسَاقَاةِ والحَوالَةِ والسَّبْقِ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ) وجُمْلته، أنَّ خِيارَ المَجْلِسِ يَثْبُتُ في البَيْعِ، بمَعْنَى أنَّه يَقَعُ جائِزًا، ولكُلِّ واحِدٍ مِن المُتَبَايِعَيْنِ الخِيارُ في فَسْخِه ما دَامَا مُجْتمِعَيْنِ لم يَتَفَرَّقَا. وهو قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. يُرْوَى ذلك عن ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «المبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، وابنِه، وابنِ عَباسٍ، وأَبى هُرَيْرَةَ، وأَبى بَرْزَةَ، وبه قال سَعِيدُ ابنُ المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٌ، والشَّعْبِىُّ، وعَطاء، وطاوُسٌ، والزُّهْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، وابنُ أبِى ذِئْبٍ، والشَّافِعِىُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالِكٌ، وأصحابُ الرّأْىِ: يلزمُ العَقْدُ بالإِيجابِ والقَبُول، ولا خِيارَ لَهُما؛ لأنَّه رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: البَيْعُ صَفْقَةً، أو خِيَارٌ (¬1). ولأنَّه عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فلَزِمَ بمُجَرَّدِه، كالنِّكَاحِ، والخُلْعِ. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ عن رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إذا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب تفسير بيع الخيار، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فَكُلُّ واحِدٍ منهما بالخِيارِ] (¬1)، ما لم يَتَفَرَّقَا، وكَانا جَمِيعًا، أو يُخَيِّرُ أحَدُهما الآخَرِ، فإنْ خَيَّرَ أحَدُهما الآخرَ، فَتَبَايَعَا على ذلك، فقد وَجَبَ البَيْعُ، وإنْ تَفرَّقَا بعدَ أَنْ تَبَايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهما البَيْعَ، فقد وَجَبَ البَيْعُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال عليه الصَّلَاةُ والسَّلامُ: «البَيِّعَانِ بالخِيارِ ما لم يَتَفَرَّقَا». رَواه الأَئِمَّةُ (¬3). ورَوَاه عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، وعبدُ اللَّهِ بنُ ¬

(¬1) في م: «فلكل واحد منهما الخيار». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب كم يجوز الخيار، وباب إذا لم يوقِّت في الخيار هل يجوز البيع، وباب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وباب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 83، 84. ومسلم، في: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1163، 1164. كما أخرجه أبو داود، في: باب في خيار المتبايعين، من كتاب الإجارة. سنن أبى داود 2/ 245. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف على نافع في لفظ حديثه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 218، 219. وابن ماجه، في: باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 736. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 119، 311. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمْرٍو، وحَكِيمُ بنُ حِزامٍ، وأبو بَرْزَةَ (¬1) الأَسْلَمِىُّ. وَرَواهُ عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ، مالِكٌ، وَأَيُّوبُ، وعُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، وابنُ جُرَيْجٍ، واللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، وغيرُهم. وهو صَرِيحٌ في حُكمِ المَسْأَلةِ. وعابَ كثِيرٌ مِن أَهْلِ العِلْمِ على مالِكٍ مُخَالَفَتَه للحَديثِ مع رِوَايَتِه له، وثُبُوتِه عِنْدَه. قال الشّافِعِىُّ: لا أَدْرِى هل اتَّهَمَ مالِكٌ نَفْسَهُ أو نافِعًا؟ وأُعْظِمُ أَنْ أقُولَ: عَبْدَ اللَّهِ بنَ عمرَ. وقال ابنُ أبِى ذِئْبٍ: يُسْتَتَابُ مالِكٌ في تَرْكِه لهذا الحَدِيث. فإن قِيلَ: المُرَادُ بالتَّفَرُّقِ ههُنا التَّفَرُّقُ بالأَقْوالِ، كقَوْلِه تَعالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬2). وقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى على ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً» (¬3). أى بالأَقْوالِ والاعْتِقَادَاتِ. قُلْنا: هذا باطِلٌ لوُجُوهٍ؛ منها أنَّ اللَّفْظَ لا يَحْتَمِلُ ما قالُوه؛ إذْ لَيْسَ بين المُتَبايِعَيْنِ تَفَرُّقٌ بقَوْلٍ ولا اعْتِقادٍ، إنَّما بَيْنَهُما اتِّفَاقٌ على البَيْعِ بعد الاخْتِلافِ فيه. الثانى، أنَّ هذا يُبْطِلُ فائِدَةَ الحَدِيثِ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أنَّهما (¬4) بالخِيارِ قَبْلَ العَقْدِ في إنْشائِه وإِتْمامِه أو تَرْكِه. الثالِثُ، أنّه قال في الحَدِيثِ؛ «إذا تَبَايَعَ ¬

(¬1) في م: «ثور». (¬2) سورة البينة 4. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب شرح السنة، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 503. والترمذى، في: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، منَ أبواب الإيمان. عارضة الأحوذى 10/ 109. وابن ماجه، في: باب افتراق الأمم، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1321، 1322. والدارمى، في: باب في افتراق هذه الأمة، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 241. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 332، 3/ 145. (¬4) في م: «أنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّجُلانِ، فكُلُّ واحِدٍ منهما بالخِيارِ». [فجعلَ لهما الخِيارَ] (¬1) بعدَ تَبَايُعِهما، وقال: «وإنْ تَفَرَّقَا بعدَ أَنْ تَبايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهما البَيْعَ، فقد وَجَبَ البَيْعُ». الرابعُ، أنَّه يَرُدُّه تَفْسِيرُ ابنِ عمرَ للحَدِيثِ بفِعْلِه، فإنَّه كان إذا بايَعَ رَجُلًا مَشى خُطُوَاتٍ؛ ليَلْزَمَ البَيْعُ (¬2). وتَفْسِيرُ أَبِى بَرْزَةَ، بقَوْلِه مِثلَ قَوْلِنا، وهما رَاويا الحَدِيثِ، وأعْلَمُ بمَعْنَاهُ. وقوْلُ عمرَ: البَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيارٌ. معناه، أنَّ البَيْعَ يَنْقَسِمُ إلى بَيْع شُرِطَ فيه الخِيارُ، وبَيْعٍ لم يُشْتَرَطْ فيه، سَمَّاهُ صَفْقَةً لقِصَرِ مُدَّةِ الخِيارِ فيه؛ لأَنَّه قد رَوَى عنه (¬3) الجُوزْجَانِىُّ مِثلَ مَذْهَبِنا، ولو أَرَادَ ما قَالُوه، لم يَجُزْ أَنْ يُعارَضَ به قَوْلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّه لا حُجَّةَ في قَوْلِ أحَدٍ مع قَوْلِ رسولِ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، على أنَّ قَوْلَ الصَّحَابِىُّ لا يُحْتَجُّ به إذا خالَفَه غيرُه مِن الصَّحَابَةِ، وقد خالَفَه ابنُه، وأبو بَرْزَةَ، وغيرُهما. ولا يَصِحُّ قِياسُ البَيْعِ على النِّكاحِ؛ لأَنَّ النِّكاحَ لا يقَعُ إلَّا بعد رُؤْيَةٍ ونَظَرٍ غالِبًا، فلا يَحْتَاجُ إلى الخِيارِ بَعْدَه. ولأنَّ في ثُبوتِ الخِيارِ فيه مَضَرَّةً، لِما يَلْزَمُ مِن رَدِّ المَرْاةِ بعد ابْتِذالِها بالعَقْدِ، وذَهابِ حُرْمَتِها بالرَّدِّ، وإلْحاقِها بالسِّلَعِ المَبِيعَةِ، فلم يَثْبُتِ الخِيارُ لذلك، ولهذا لم يَثْبُتْ فيه خِيارُ الشَّرْطِ، ولا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. والحُكْمُ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب كم يجوز الخيار، من كتاب البيوع. صحيح البخارى 3/ 83. ومسلم، في: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1164. (¬3) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه المسألةِ ظاهِرٌ؛ لظُهُورِ دَلِيلِه، وضَعْفِ ما يَذْكُرُه المُخالِفُ في مُقَابَلَتِه. فصل: ويَثْبُتُ الخِيارُ في الصُّلْحِ بمَعْنَى البَيْعِ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، أَشْبَهَ البَيْعَ. والهِبَةُ إذا شَرَطَ فيها عِوَضًا مَعْلومًا، ثبَتَ فيها الخِيارُ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، بناءً على الاخْتِلافِ فيها، هل تَصِيرُ بَيْعًا أو لَا؟ ويَثْبُتُ في الإِجارَةِ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيْعَ. ويَثْبُتُ في الصَّرْفِ، والسَّلَمِ، وما يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ في المَجْلِسِ، كبَيْعِ مالِ الرِّبَا بجِنْسِه في الصَّحِيحِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ والمَعْنَى. وعنه، لا يَثْبُتُ فيها قِياسًا على خِيارِ الشَّرْطِ، فإنّه لا يَثْبُتُ فيها، رِوايةً واحِدَةً؛ لأَنَّ مَوْضُوعَها على أَنْ لا يَبْقَى بينهما عُلْقَةٌ بعدَ التَّفَرُّقِ، بدَلِيلِ اشْتِراطِ القَبْضِ، وثُبُوتُ الخِيارِ يُبْقِى بَيْنَهُما عُلْقَةً. ولا يَثْبُتُ في سائِرِ العُقُودِ، وهى على أضْرُبٍ؛ أحَدُها، لازِمٌ، لا يُقْصَدُ به العِوَضُ، كالنِّكَاحِ والخُلْعِ، فلا يَثْبُتُ فيهما خِيارٌ؛ لأَنَّ الخِيارَ إنَّما يَثْبُتُ لمَعْرِفَةِ الحَظِّ في كَوْنِ العِوَضِ جابِرًا لِما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَذْهَبُ مِن مالِه، والعِوَضُ ههنا ليس هو المَقْصُودَ، وكذلك الوَقْفُ والهِبَةُ بغيرِ عِوَض، ولأنَّ في ثُبُوتِ الخِيارِ في النِّكاحِ ضَرَرًا ذَكَرْنَاهُ. الضربُ الثَّانِى، لازِمٌ مِن أحَدِ طَرَفَيْهِ، كالرَّهْنِ، لازِمٌ في حَقِّ الرَّاهِنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَحْدَه، فلا يَثْبُتُ فيه خِيارٌ؛ لأَنَّ المُرْتَهِنَ يَسْتَغْنِى بالجوازِ في حَقِّه عن ثُبوتِ الخِيارِ له، والرّاهِنَ يَسْتَغْنِى بثُبُوتِ الخِيارِ له إلى أَنْ يَقبِضَ. وكذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضّامِنُ والكَفِيلُ، لا خِيارَ لهما؛ لأنَّهُما دَخَلَا مُتَطَوِّعَيْنِ رَاضِيَيْنِ بالغَبْنِ، وكذلك المكاتَبُ. الضربُ الثالِثُ، عَقْدٌ جائِزٌ مِن الطَّرَفَيْنِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالشَّرِكَةِ، والمُضارَبَةِ، والجَعَالَةِ، والوَكَالَةِ، والوَدِيعةِ، والوَصِيَّةِ، فلا يَثْبُتُ فيها خِيارٌ، اسْتِغْناءً بجَوازِها، والتَّمَكُّنِ مِن فَسْخِها بأَصْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَضْعِها. الضربُ الرَابعُ، ما هو مُتَرَدِّدٌ بينَ الجَوازِ واللُّزُومِ، كالمُسَاقَاةِ، والمُزَارَعَةِ. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّهُما جائِزَانِ، فلا يَدْخُلُهما خِيارٌ. وقيل:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هما إجارَةٌ، فلهما حُكْمُها. والسَّبْقُ والرَّمْىُ، الظاهِرُ أنَّهُما جَعالَةٌ، فلا يَثْبُتُ فيهما خِيارٌ. وقيل: هما إِجَارَةٌ. وقد ذَكَرْنَاهُ. فأَمَّا الحَوَالَةُ والأَخْذُ بالشُّفْعَةِ، فهو عَقْدٌ لازِمٌ، يَسْتَقِلُّ به أحَدُ المُتَعاقِدَيْنِ، فلا خِيارَ فيهما؛ لأَنَّ مَنِ لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لا خِيارَ له. وإذا لم يَثْبُتْ في أحَدِ طَرَفَيْهِ، لا يَثْبُتُ في الآخَرِ، كسائِرِ العُقُودِ. ويَحْتَمِل أَنْ يَثْبُتَ الخِيارُ للمُحِيلِ والشَّفِيعِ؛

1601 - مسألة: (ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما)

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يُقصَدُ فيها (¬1) العِوَضُ، فأَشْبَهَت (¬2) سائِرَ عُقودِ المُعاوَضَاتِ. 1601 - مسألة: (ولِكُلِّ واحِدٍ مِن المُتَبَايِعَيْنِ الخِيارُ ما لم يَتَفَرَّقَا بأبْدَانِهِمَا) لِما ذَكَرْناه. ولا خِلافَ في لُزُومِ العَقْدِ بعدَ التَّفَرُّقِ، ما لم ¬

(¬1) في م: «فيهما». (¬2) في م: «فأشبها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُنْ سَبَبٌ يَقْتَضِى جَوازُه، مِثلَ أَنْ يَجِدَ في السِّلْعَةِ عَيْبًا، فيَرُدَّها به، أو يكونَ قد شَرَطَ الخِيارَ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فيَمْلِكَ الرَّدَّ فيها، بغَيْرِ خِلافٍ عَلِمْناه بينَ أَهْلِ العِلْمِ. وفى مَعْنى العَيْبِ أَنْ يُدَلِّسَ المَبِيعَ بما يَخْتَلِفُ به الثَّمَنُ، أو يَشْتَرِطَ في المبيعِ صِفَة يَخْتَلِفُ بها الثَّمَنُ، فَيَبِينَ بخلافِه، أو يُخْبِرَه في المُرَابَحَةِ بثمنٍ حالٍّ وهو مُؤجَّلٌ، ونحوُ ذلك. وقد دَلَّ على لُزُومِ البَيْعِ بالتَّفَرُّقِ قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وإنْ تَفَرَّقَا بعدَ أَنْ تَبَايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهما البَيْعَ، فقد وَجَبَ البَيْعُ» (¬1). والمَرْجعُ في التَّفَرُّقِ إلى عُرْفِ النَّاسِ وعاداتِهم؛ لأَنَّ الشارِعَ عَلَّقَ عليه حُكمًا، ولم يُبَيِّنْه، فدَلَّ على أنَّه أرَادَ ما يَعْرِفُه الناسُ، كالقَبْضِ، والإِحْرَازِ. فإنْ كانا في فَضاءٍ واسِعٍ، كالمَسْجِدِ الكَبِيرِ، والصَّحْرَاءِ، فَبأَنْ يَمْشِىَ أحَدُهما مُسْتَدْبِرًا لِصاحِبه خُطُواتٍ. وقيلَ: هو أَنْ يَبْعُدَ منه بحَيْثُ لا يَسْمَعُ كَلامَه الذى يَتَكَلَّمُ به في العَادَةِ. قال أبو الحارِثِ: سُئِلَ أحمدُ عن تَفْرِقَةِ الأبْدانِ؟ فقال: إذا أَخَذَ هذا هكذا، وأخذ هذا هكذا، فقد تَفَرَّقَا. ورَوَى مُسْلِمٌ (¬2)، عن نافِعٍ، قال: فكانَ ابنُ عمرَ إذَا بايعَ (¬3)، فأَرادَ أَنْ لا يُقيلَه، مَشَى هُنَيْهَةً، ثم رَجَعَ. وإن كانَا في دارٍ كَبِيرَةٍ ذاتِ مَجالِسَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 265. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 267. (¬3) في م: «باع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبُيُوتٍ، فالمُفَارقَةُ أَنْ يُفَارِقَه مِن بَيْتٍ إلى بَيْتٍ، أو إلى مَجْلِسٍ، أو صُفَّةٍ، أو مِن مَجْلِسٍ إلى بَيْتٍ، ونحوِ ذلك. فإنْ كانَا في دارٍ صَغِيرَةٍ، فإذا صَعِدَ أحَدُهما السَّطْحَ، أو خَرَجَ منها، فقد فارَقَه. وإنْ كانَا في سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ، خَرَجَ أحَدُهما منها ومَشَى، وإنْ كانت كَبِيرَةً صَعِدَ أحَدُهما على أَعْلَاها، ونَزَلَ الآخَرُ في أَسْفَلِها. وهذا كُلُّه مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. فإنْ كان المُشْتَرِى هو البائِعَ، مِثلَ أنِ اشْتَرَى لنَفْسِه مِن مالِ ولَدِه، أو اشْتَرَى لوَلَدِه مِن نَفْسِه، لم يَثْبُتْ فيه خِيارُ المَجْلِسِ؛ لأنَّه يَتَوَلَّى طَرَفَىِ العَقْدِ، فلم يَثْبُتْ له خِيارٌ، كالشَّفِيعِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ فيه، كغَيْرِه. فعلى هذا، يُعْتَبَرُ للُزُومِه مُفَارَقَةُ مَجْلِسِ العَقْدِ؛ لأَنَّ الافْتِرَاقَ لا يُمْكِنُ ههنا؛ لكَوْنِ البائِعِ هو المُشْتَرِىَ. ومتى حَصَلَ التَّفَرُّق لَزِمَ العَقْدُ، قَصَدا ذلك أو لم يَقْصِداه، عَلِماه أو جَهِلاه؛ لأَنَّ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّقَ الخِيارَ عِلى التَّفَرُّقِ، وقد وُجِدَ. ولو هَرَبَ أحَدُهما مِن الآخرِ، لَزِمَ العَقْدُ؛ لأنَّهُ فارَقَه. ولا يَقِفُ لُزومُ العَقْدِ على رِضاهُما، ولهذا كان ابنُ عمرَ يُفارِقُ صاحِبَ؛ ليَلْزَمَ البَيْعُ. ولو أقاما في المَجْلِسِ وسَدَلَا بَيْنَهما سِتْرًا، أو بَنَيَا بَيْنَهُما حاجِزًا، أو نامَا، أو قامَا فمَضَيَا جَمِيعًا ولم يَتَفَرَّقَا، فالخِيارُ بحالِه وإنْ طَالَتِ المُدَّةُ؛ لعَدَمِ التَّفَرُّقِ. وقد رَوَى أبو دَاوُدَ (¬1)، والأَثْرَمُ، بإسْنَادِهما عنِ أبى الوَضِئِ، قال: غَزَوْنَا غَزْوَةً لَنَا، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فباعَ صاحِبٌ لَنَا فرَسًا بغُلامٍ (¬2)، ¬

(¬1) في: باب في خيار المتابعين من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 245. وانظر ما تقدم في تخريج حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا». في صفحة 7. (¬2) في ر 1: «لغلام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أَقامَا بَقِيَّةَ يَؤْمِهِما ولَيْلَتِهما، فلَمَّا أَصْبَحَا (¬1) مِن الغَدِ وحَضَرَ الرَّحِيلُ، قامَ إلى فَرَسِه يُسْرِجُهُ، فنَدِمَ، فأَتَى الرَّجُلَ، وأَخذَه بالبَيْعِ، فأبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَه إليه، فقال: بَيْنِى وبَيْنَكَ أبو بَرْزَةَ صاحِبُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأَتيَا أبا بَرْزَةَ في ناحِيَةِ العَسْكَرِ، فقالُوا له هذه القِصَّةَ، فقال: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أقْضِىَ بَيْنَكُما بقَضَاءِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «البَيِّعَانِ بالخِيارِ ما لم يَتَفَرَّقَا». وما أَرَاكُما افْتَرَقْتُما. فإنْ فارَقِ أحَدُهما الآخَرَ مُكْرَهًا، احْتَمَلَ بُطلانُ الخِيارِ؛ لوُجُودِ التَّفَرُّقِ، ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ في مُفَارَقَةِ صاحِبِه له، فكذلك في مُفَارَقَتِه لِصَاحِبِه. وقال القاضِى: لا يَنْقَطِعُ الخِيارُ؛ لأنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ على التَّفَرُّقِ، فلم يَثْبُتْ مع الإِكْرَاهِ، كما لو عُلِّقَ عليه الطَّلاقُ. ولأصْحَابِ الشَّافِعِىِّ وَجْهانِ كهذَيْن. فعلى قَوْلِ مَنْ لا يَرَى انْقِطَاعَ الخِيارِ، إنْ أُكْرِهَ أَحَدُهما على فُرْقَةِ صاحِبِه، انْقَطَعَ خِيارُ صاحِبِه، كما لو هَرَبَ منه، ويَبْقَى الخِيارُ للمُكْرَهِ منهما في المَجْلِسِ الذى يَزُولُ عنه الإكرَاهُ فيه، حتى يُفَارِقَه. وإنْ أُكْرِهَا جَمِيعًا، انْقَطَعَ خِيارُهما؛ لأَنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما يَنْقَطِعُ خِيارُه بفُرْقَةِ الآخَرِ له، فأشْبَهَ ما لو أُكْرِهَ صَاحِبُه دُونَه. وذَكَرَ ابنُ عَقِيلٍ مِن صُوَرِ الإِكْراهِ، ما لو رَأيَا سَبُعًا أو ظَالِمًا خَشِياهُ، فَهَرَبَا فَزَعًا منه، أو حَمَلَهُما سَيْلٌ، أو فَرَّقَتْ بَيْنَهُما رِيحٌ. فإن خَرِسَ أحَدُهما، قامَتْ إِشَارَتُه مَقامَ نُطْقِه، فإنْ لم تُفهَمْ إشارَته، أو جُنَّ، أو أُغْمِىَ عليه، قامَ أبُوهُ، أو وَصِيُّه، أو الحاكِمُ، ¬

(¬1) في م: «أصبحنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَقامَه. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. فصل: ولو ألْحَقَا في العَقْدِ خِيارًا بعدَ لُزُومِه، لم يُلْحَقْ. وبه قال الشَّافِعِىُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ، وأصْحَابُه (¬1): يَلْحَقُه؛ لأَنَّ لهما فَسْخَ العَقْدِ، فكان لهما إلْحاقُ الخِيارِ به، كالمَجْلِسِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، فلم يَصِرْ جائِزًا بقَوْلِهما، كالنِّكَاحِ، وفارَقَ المَجْلِسَ، فإنَّه جائِزٌ، فجازَ إبْقَاؤُه على جَوازِه. فصل: وقد رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْبَائِعُ والمُبْتَاعُ بالخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيارٍ، فلا يَحِلُّ له أَنْ يُفَارِق صاحِبَه خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ». رَواهُ التِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وقَوْلُه: «إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيارٍ». يَحْتَمِلُ أنَّه أرَادَ البَيْعَ المَشْرُوطَ فيه الخِيارُ، فإنَّه لا يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهما؛ لكَوْنِه ثابِتًا بعدَه بالشَّرْطِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرَادَ البَيْعَ الذى شَرَطَ فيه أَنْ لا يكُونَ فيه خِيارٌ، فَيَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ ين غيرِ تَفَرُّقٍ. وظاهِرُ الحَدِيثِ تَحْرِيمُ مُفَارَقَةِ أحَدِ المُتَبَايِعَيْنِ لِصاحِبِه خَشْيَةً مِن فَسْخِ البَيْعِ. ¬

(¬1) في م: «أصحابنا». (¬2) في: باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 256. كما أخرجه أبو داود، في: باب في خيار المتبايعين، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 245. والنسائى، في: باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 221. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 183.

1602 - مسألة: (إلا أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما، أو يسقطا الخيار بعده، فيسقط فى إحدى الروايتين. وإن أسقطه أحدهما، بقى خيار صاحبه)

إِلَّا أَنْ يَتَبَايَعَا عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُسْقِطَا الْخِيَارَ بَعْدَهُ، فَيَسْقُطُ فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ أَسْقَطَهُ أحَدُهُمَا، بَقِىَ خِيَارُ صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ في رِوَايَةِ الأَثْرَمِ، فإنَّه ذُكِرَ له فِعْلُ ابنِ عمرَ، وهذا الحَدِيثُ، فقال: هذا الآنَ قولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو اخْتِيارُ أبِى بَكْرٍ. وقال القاضِى: ظاهِرُ كَلام أحمدَ جَوازُ ذلك؛ لأَنَّ ابنَ عُمَرَ فَعَلَه. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأَنَّ قولَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَدَّمُ على فِعْلِ ابنِ عمرَ. والظاهِرُ أنَّ ابنَ عمرَ لم يَبْلُغْه هذا، ولو بَلَغَه (¬1) لَما خَالَفَهُ. 1602 - مسألة: (إِلَّا أَنْ يَتَبَايَعَا على أَنْ لا خِيارَ بينَهما، أو يُسْقِطَا الخِيارَ بعدَه، فيَسْقُطُ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وإنْ أسْقَطَهُ أَحدُهما، بَقِىَ خِيارُ صاحِبِه) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّه، في ذلك، فرُوِىَ عنه، أنَّ الخِيارَ يَمْتَدُّ إلى التَّفَرُّقِ، ولا يَبْطُلُ بالتَّخَايُرِ، ولا بالإِسْقاطِ، قبلَ العَقْدِ ولا بَعْدَه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأَنَّ أكثرَ الرِّوايَاتِ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «البَيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا». مِن غيرِ تَقْيِيدٍ ولا ¬

(¬1) في الأصل، م: «علمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْصِيصٍ، في رِوَايَةِ حَكِيمِ بنِ حِزامٍ، وأَبِى بَرْزَةَ، وأَكْثَرِ الرِّوايَاتِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو. والتَّقْيِيد إنَّما هو في حَدِيثِ ابنِ عمرَ، ومتى انْفَرَدَ بعضُ الرُّوَاةِ بزِيادَةٍ، قُدِّمَ قَوْلُ الأَكْثَرِينَ وذَوِى الضَّبْطِ. والرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أنَّ الخِيارَ يَبْطُلُ بالتَّخَايُرِ. اخْتَارَها ابنُ أبى مُوسَى. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وهو الصَّحِيحُ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالَى؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَدِيثِ ابنِ عمرَ: «فإنْ خَيَّرَ أَحَدُهما صَاحِبَه، فَتَبَايَعَا على ذَلِكَ، فقد وَجَبَ البَيْعُ» (1). يَعْنِى لَزِمَ. وفى لَفْظٍ: «المُتَبَايِعَانِ بالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ يكونَ البَيْعُ كانَ عن خِيَارٍ، فإنْ كانَ البَيْعُ عن خِيَارٍ، فقد وَجَبَ البَيْعُ» مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والأَخْذُ بالزِّيَادةِ أَوْلَى، وهى صَرِيحَةٌ في الحُكْمِ. والتَّخايُرُ في ابْتِداءِ العَقْدِ وبعدَه في المَجْلِسٍ واحِدٌ، فالتَّخَايُرُ في ابْتِدَائِه أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ولا خِيَارَ بَيْنَنَا. ويَقْبَلُ الآخر على ذلك، فلا يكونُ لهما خِيَارٌ. والتَّخَايُرُ بعدَه أَنْ يَقُولَ كُلُّ واحِدٍ منهما بعدَ العَقْدِ: اخْتَرْتُ إمْضَاءَ العَقْدِ. أو: إلْزَامَه. أو: اخْتَرْت العَقْدَ. أو: أسْقَطْتُ خِيارى. فَيَلْزَم العَقْدُ مِن الطَّرَفَيْنِ. وإنِ اخْتَارَ أحَدُهُما دونَ الآخَرِ، لَزِمَ في حَقِّه وحْدَهُ، كما لو كان خِيارَ الشَّرْطِ فأسْقَطَه أحَدُهما. وقال أصْحابُ الشّافِعِىِّ: في التّخَايُرِ في ابْتِداءِ العَقْدِ قَوْلَانِ، أظْهَرُهُما لا يَقْطَعُ الخِيارَ؛ لأنَّه إسْقَاطٌ للحَقِّ قبلَ سَبَبِه، فلم يَجُزْ، كخِيارِ الشُّفْعَةِ. فعلى هذا، هل ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْطُلُ به العَقْدُ؟ على وَجْهَيْنِ، بِناءً على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ. ولنا، ما ذَكَرْنَا مِن حَدِيثَى ابنِ عمرَ، وذلك صَرِيحٌ في الحُكْمِ، فلا يُعَوَّلُ على ما خَالَفَه، ولأنَّ ما أَثَّرَ في الخِيارِ في المَجْلِسِ أَثَّرَ فيه مُقارِنًا للعَقْدِ، كاشْتِراطِ الخِيَارِ. ولأنَّه أحَدُ الخِيارَيْن في البَيْعِ، فجازَ إخْلاؤُه عنه، كخِيارِ الشَّرْطِ. وقَوْلُهم: إنَّه إسْقَاط للخِيارِ قبلَ سَبَبِه. مَمْنُوعٌ، فإنَّ سَبَبَ الخِيارِ البَيْعُ المُطْلَقُ، فأمّا البَيْعُ مع التَّخَايُرِ فلَيْسَ سَبَبًا له، ثم لو ثَبَتَ أنَّه سَبَبٌ للخِيارِ، لكِنَّ المانِعَ مُقارِنٌ له، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه، والشُّفْعَةُ لَنا فيها مَنْعٌ، وإنْ سُلِّمَ، فالفَرْقُ بَيْنَهما أنَّ الشَّفِيعَ أجْنَبِىٌّ مِن العَقْدِ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُ إسْقاطِ خِيَارِه في العَقْدِ، بخِلافِ مسألتِنا. فصل: فإنْ قال أحَدُهُما لِصاحِبِه: اخْتَرْ. ولم يَقُلِ الآخَرُ شَيْئًا، فالسّاكِتُ على خِيارِه، لأنَّه لم يُوجَدْ منه ما يُبْطِله. وأمّا القائِلُ فيَحْتَمِل أَنْ يَبْطُلَ خِيارُه، لِما رَوَى ابنُ عمرَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «البَيِّعانِ بالخِيارٍ ما لم يَتَفرَّقَا، أو يقولُ أحَدُهما لِصاحِبِه: اخْتَرْ». رَواهُ البُخَارِىُّ. ولأنَّه جَعَلَ لِصاحِبه ما مَلَكَه مِن الخِيار، فسَقَطَ خِيارُهِ. وهذا ظاهِرُ مَذْهَب الشّافِعِىِّ. ويَحْتَمِل أن لا يَبْطل خِيارُه، لأنَّه خيَّرَه، فلم يَختَرْ، فلم يُؤَثِّرْ، كما لو جَعَلَ لزَوْجَتِه الخِيارَ، فلم تَخْتَرْ شَيْئًا، ويُحْمَلُ الحَدِيثُ على أنَّه خيَّرَه، فاخْتَارَ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لظاهِرِ الحَدِيثِ. ولأنَّه جَعَلَ الخِيارَ لغَيْرِه. ويُفارِقُ

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، خِيَارُ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَا في الْعَقْدِ خِيَارَ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فيَثْبُتُ فِيهَا وَإِنْ طَالَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجَةَ؛ لأنَّه مَلَّكَها ما لَا تَمْلِكُ، فإذا لم تَقْبَلْ، سَقَطَ، وههُنا كُلُّ واحِدٍ منهما يَمْلِكُ الخِيارَ، فلم يَكُنْ قَوْلُه تَمْلِيكًا، إنَّما كان إسْقاطًا، فسَقَطَ. فصل: قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (الثانى، خيارُ الشَّرْطِ؛ وهو أَنْ يَشْتَرِطَا (¬1) في العَقْدِ خيارَ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَيَثْبُتُ فيها وإنْ طَالَت) هذا قولُ أبى يُوسُفَ، ومحمدٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وحُكِىَ ذلك عن الحَسَنِ بنِ صالِحٍ، وابنِ أبى لَيْلَى، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وأجازَه ¬

(¬1) في م: «يشترط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِكٌ، فيما زادَ على الثَّلاثِ بقَدْرِ الحاجَةِ، مثل قَرْيَةٍ لا يَصِلُ إليها في أَقَلَّ مِن أَرْبَعَةِ أَيّامٍ، لأَنَّ الخِيارَ لحَاجَتِه، فَيُقَدَّرُ بها. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِىُّ: لا يَجُوزُ أكْثَر مِن ثَلاثٍ، لِما رُوِى عن عمرَ، رَضِى اللَّهُ عنه، أنَّه قال: ما أجدُ لكم أَوْسَعَ مِمّا جَعَلَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لحَبَّانَ، جَعَلَ له الخِيارَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، إنْ رَضِى أخَذَ، وإنْ سَخِطَ تَرَكَ (¬1). ولأنَّ الخِيارَ يُنافِى مُقْتَضَى البَيْعِ؛ لأنَّه يَمْنَعُ المِلْكَ واللُّزُومَ وإطْلَاق التَّصرُّفِ، وإنَّما جازَ للحاجَةِ، فجازَ القَلِيلُ منه، وآخِرُ حَدِّ القِلَّةِ ثَلاثٌ، قال اللَّهُ تَعالَى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (¬2) بعد قولِه: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). ولَنا، أنَّه حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ، فرُجِعَ في تَقْدِيرِه إلى مُشْتَرِطِه، كالأَجَلِ، ولم يَثْبُتْ مَا رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وقد رُوِى عن أَنَسٍ خِلافُه. وتَقْدِيرُ مالِكٍ بالحاجَةِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّها لا يُمْكِنُ ضَبْطُ الحُكْمِ بها، لخَفَائِها واخْتِلَافِها، وإنَّما يَرْتَبِطُ بمَظِنَّتِها، وهو الإِقْدَامُ، فإنَّه صالِحٌ أَنْ يكونِ ضابِطًا، ورُبِطَ الحُكْمُ به في الثَّلاثِ وفى السَّلَمِ والأجَلِ. وقولُ الآخَرِين: إنَّه يُنافِى مُقْتَضَى البَيْعِ. لا يَصِحُّ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الدليل على أنه لا يجوز شرط الحيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 274. (¬2) سورة هود 65. (¬3) سورة هود 64.

1603 - مسألة: (ولا يجوز مجهولا، فى ظاهر المذهب. وعنه، يجوز، وهما على خيارهما، ما لم يقطعاه أو تنتهى مدته)

وَلَا يَجُوزُ مَجْهُولًا، في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا، إِلَى أن يَقْطَعَاهُ أَوْ تَنْتَهِىَ مُدَّتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ مُقْتَضى البَيْعِ نَقْلُ المِلْكِ، والخِيارُ لا يُنافِيهِ، وإنْ سَلَّمْنَا ذلك، لكنْ مَتَى خُولِفَ الأصْلُ لمَعْنًى في مَحَلٍّ، وَجَبَ تَعْدِيَةُ الحُكْمِ؛ لتَعَدِّى ذلك المَعْنَى. 1603 - مسألة: (ولا يَجُوزُ مَجْهُولًا، في ظاهرِ المَذْهَبِ. وعنه، يَجُوزُ، وهما على خِيارِهما، ما لم يَقْطَعَاهُ أو تَنْتَهِى مُدَّتُه) إذا شَرَطَ الخِيارَ أبدًا، أو مَتَى شاءَ، أو قال أحَدُهما: ولِىَ الخِيارُ. ولم يَذْكُرْ مُدَّتَه، أو شَرَطَاهُ إلى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، كقُدُومِ زَيْدٍ، أو نُزُولِ الفَطَرِ، أو مُشَاوَرَةِ إنْسَانٍ، ونحوِ ذلك، لم يَصِحَّ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَب. هذا اخْتِيارُ القاضِى، وابنِ عَقِيلٍ، ومَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وعن أحمدَ، أنَّه يَصِحُّ، وهما على خِيَارِهما أبدًا، أو يَقْطَعَاه، أو تَنْتَهِىَ مُدَّتُه إنْ كان مَشْرُوطًا إلى مُدَّةٍ. وهو قولُ ابنِ شُبْرُمَةَ؛ لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُسْلِمُونَ على شُرُوطِهِم» (¬1). وقال مالِكٌ: يَصِحُّ، ويُضْرَبُ لهما مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ المَبِيعُ في مِثْلِها في العادَةِ؛ لأَنَّ ذلك مُقَرَّرٌ في العادَةِ، فإذا أطْلَقَا، حُمِلَ عليه. وقال أبو حَنِيفَةَ: إنْ أسْقَطَا الشَّرْطَ قبلَ مُضِىِّ الثَّلاثِ، أو حَذَفَا الزَّائِدَ عليها وبَيَّنَا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُدَّتَه، صَحَّ؛ لأَنَّهُما حَذَفَا المُفْسِدَ قبلَ اتصَالِه بالعَقْدِ، فوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، كما لو لم يَشْتَرِطَاهُ. ولَنا، أنَّها مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بالعَقْدِ، فلا تَجُوزُ مع الجَهالَةِ، كالأَجَلِ. ولأَنَّ اشْتِراطَ الخِيارِ أبدًا يَقْتَضِى المَنْعَ مِن التَّصَرُّفِ على الأَبَدِ، وذلك يُنافِى مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْتُكَ بشَرْطِ أَنْ لا تَتَصَرَّفَ. وقولُ مالِكٍ: إنَّه يُرَدُّ إلى العادَةِ. لا يَصِحُّ، فإنَّه لا عادَةَ في الخِيارِ يرجَعُ إليها. واشْتِرَاطُه مع الجَهالَةِ نادِرٌ. وقولُ أبى حَنِيفَةَ لا يَصِحُّ، فإنَّ المُفْسِدَ هو الشَّرْطُ، وهو مُقْتَرِنٌ بالعَقْدِ. ولأَنَّ العَقْدَ لا يَخْلُو مِن أَنْ يكُونَ صَحِيحًا أو فاسِدًا، فإنْ كان صَحِيحًا مع الشَّرْطِ، لم يَفْسُدْ بوُجُودِ ما شَرَطْنَاهُ فيه (¬1)، وإنْ كان فاسِدًا، لم يَنْقَلِبْ صحِيحًا، كبَيْعِ دِرْهَم بدِرْهَمَيْنِ إذا حَذَفَ أحَدَهُما. وإذا قُلْنا: يَفْسُدُ الشَّرْطُ. هل يَفْسُدُ به البَيْعُ؟ علِى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْداهُما، يَفْسُدُ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه عَقْدٌ قارَنه شَرْط فاسِدٌ فأفْسَدَهُ (¬2)، كنِكَاحِ الشِّغَارِ. ولأَنَّ البائِعَ إنَّما رَضِىَ ببَذْلِه بهذا الثَّمَنِ مع الخيارِ في اسْتِرْجاعِه، والمُشْتَرِىَ إنَّما رَضِىَ بِبَذْلِ هذا الثَّمَنِ فيه مع الخيارِ في فَسْخِه، فلو صَحَّحْنَاهُ لأَزَلْنا مِلْكَ كُلِّ واحِدٍ منهما عنه بغيرِ رِضَاهُ، وأَلْزَمْناهُ ما لم يَرْضَ به. ولأَنَّ الشَّرْطَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِن الثَّمَنِ، فإذا حَذَفْنَاهُ وَجَبَ رَدُّ ما سَقَطَ مِن الثَّمَنِ مِن أجْلِه، وذلك مَجْهُولٌ، فيكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، فيَفْسُدُ به العَقْدُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِيَةُ، لا يَفْسُدُ به العَقْدُ. وهو قَوْلُ ابنِ أبى لَيْلَى؛ لحَدِيثِ بَرِيرَةَ (¬1). ولأَنَّ العَقْدَ قد تمَّ بأرْكَانِه، والشَّرْطَ زائِدٌ، فإذا فَسَدَ وزَالَ، سَقَطَ الفاسِدُ، وبَقِىَ العَقْدُ برُكْنَيْه، فَصَحَّ (¬2)، كما لو لم يَشْتَرِطْ. فصل: وإنْ شَرَطَه إلىِ الحَصَادِ، أو الجَذاذِ، احْتَمَلَ أَنْ يكونَ كتَعْلِيقِه على قُدوم زَيْدٍ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ ويَتَقَدَّمُ ويَتَأَخَّرُ، فكانَ مَجْهُولًا. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ؛ لأَنَّ ذلك يَتَقَارَبُ (¬3) في العادَةِ، ولا يَكْثُرُ تَفَاوُتُه. وإنْ شَرَطَهُ إلى العَطاءِ، وأرادَ وَقْتَ العَطاءِ، وكان مَعْلُومًا، صَحَّ. وإنْ أرادَ نَفْسَ العَطاءِ، فهو مَجْهُولٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 234. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يتفاوت».

1604 - مسألة: (ولا يثبت إلا فى البيع، والصلح بمعناه، والإجارة فى الذمة، أو على مدة لا تلى العقد)

وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا في الْبَيْعِ، وَالصُّلْحُ بِمَعْنَاهُ، وَالإِجَارَةُ في الذِّمَّةِ، أَوْ عَلَى مُدَّةٍ لَا تَلِى الْعَقْدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ شَرَطَا الخِيارَ شَهْرًا، يَوْمًا يَثْبُتُ، ويَوْمًا لَا، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ في اليَوْمِ الأَوَّلِ؛ لإِمْكَانِه، ويَبْطُلُ فيما بَعْدَه؛ لأنَّه إذا لَزِمَ في اليَوْمِ الثَّانِى، لم يَعُدْ إلى الجَوازِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطلَ الشَّرْط كُلُّه؛ لأنَّه شَرْطٌ واحِدٌ تَنَاوَلَ الخِيارَ في أيّامٍ، فإذا فَسَدَ بَعْضُه، فَسَدَ جَمِيعُه، كما لو شَرَطَه إلى الحَصادِ. 1604 - مسألة: (ولا يَثْبُتُ إلَّا في البَيْعِ، والصُّلْحُ بمَعْنَاهُ، والإِجَارَةُ في الذِّمَّةِ، أو على مُدَّةٍ لا تَلِى العَقْدَ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في ثُبُوتِ خِيارِ الشَّرْطِ في البَيْعِ الذى لا يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ في المَجْلِسِ، وكذلك الصُّلْحُ بمَعْنَى البَيْعِ؛ لأنَّهُ بَيْع بلَفْظِ الصُّلْحِ، والهِبَةُ بعِوَض، على إحْدى الرِّوَايَتَيْنِ، والإِجَارَةُ في الذِّمَّةِ، نحوَ أَنْ يقولَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لتَخِيطَ لى هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْبَ. ونحوَه، لأَنَّ الإِجَارَةَ بَيْعُ الِمَنافِعِ، فأشْبَهَتْ بَيْعَ الأعْيَانِ. فأمَّا الإِجَارَةُ المُعَينَّةَ، فإنْ كانت مُدَّتُها مِن حينِ العَقْدِ، دَخَلَها خِيارُ المَجْلِسِ دُونَ خِيارِ الشَّرْطِ؛ لأَنَّ دُخُولَه يُفْضِى إلى فَوْتِ بَعْضِ المَنافِعِ المَعْقُودِ عليها، أو اسْتِيفَائِها (¬1) في مُدَّةِ الخِيارِ، وكلاهُما لا يَجُوزُ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ. وذكَرَ القاضِى مَرَّةً مِثلَ هذا، ومَرَّةً قال: يَثْبُتُ فيها خِيارُ الشَّرْطِ، قِياسًا على البَيْعِ. وقد ذَكَرْنَا ما يَقْتَضِى الفَرْقَ بَيْنَهُما. فإنْ كانتِ المُدَّةُ لا تَلِى العَقْدَ، ثَبَت فيها خِيارُ الشَّرْطِ، إذا كانت مُدَّةُ الخِيَارِ لا تَشْتَمِلُ على شئٍ مِن مُدَّةِ العَقْدِ. فإنْ كانت بَعْضُ مُدَّةِ العَقْدِ تَدْخُلُ في مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَجُزْ؛ لِما ذَكَرْنَا. ¬

(¬1) في م: «استبقائها».

1605 - مسألة: (وإن شرطاه إلى الغد، لم يدخل فى المدة)

وَإِنْ شَرَطَاهُ إِلَى الْغَدِ، لَمْ يَدْخُلْ في الْمُدَّةِ. وَعَنْهُ، يَدْخُلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1605 - مسألة: (وإنْ شَرَطَاهُ إلى الغَدِ، لم يَدْخُلْ في المُدَّةِ) وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ (وعنه، يَدْخُلُ) وهو مَذْهَبُ أبى حَنِيفَةَ؛ لأَنَّ «إلى» تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى «مع»، كقَوْلِه تَعالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬1). {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬2). والخِيَارُ ثابِتٌ بيَقِينٍ، فلا نُزِيلُه بالشَّكِّ. ولَنا، أنَّ مَوْضُوعَ «إلى» لانْتِهاءِ الغايَةِ، فلا يَدْخُلُ ما بَعْدَها فيما قَبْلَهَا، كقَوْلِه تَعالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬3). وكالأَجَلِ. وليس، ههُنا شَكٌّ، فإنَّ الأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ ¬

(¬1) سورة المائدة 6. (¬2) سورة النساء 2. (¬3) سورة البقرة 187.

1606 - مسألة: (وإن شرطاه مدة، فابتداؤها من حين العقد.

وَإِنْ شَرَطَاهُ مُدَّةً، فَابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على مَوْضُوعِه، فكأَنَّ الواضِعَ قال: مَتَى سَمِعْتُم هذه اللَّفْظَةَ، فافْهَمُوا منها انْتِهاءَ الغَايَةِ. وفيما اسْتَشْهَدُوا به حُمِلَتْ «إلى» على مَعْنَى «مع» بدَلِيلٍ، أو لِتَعَذُّرِ حَمْلِها على مَوْضُوعِها. ولأَنَّ الأَصْلَ لزومُ العَقْدِ، وِإنَّما خُولِفَ فيما اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ، فيَثْبُتُ ما يُتَيَقَّنُ منه، وما شَكَكْنَا فيه رَدَدْنَاهُ إلى الأصْلِ. فصل: وإنْ شَرَطَ الخِيارَ إلى طُلوعِ الشَّمْسِ، أو إلى غُروبِها، صَحَّ. وقال بعضُ أَهْلِ العِلْمِ: لا يَصِحُّ تَوْقِيتُه بطُلُوعِها؛ لأنَّها قد تَتَغَيَّمُ، فلا يُعْلَمُ وَقْتُ طُلُوعِها. ولَنا، أنَّه تَعْلِيقٌ (¬1) للخِيارِ بأمْرٍ ظاهِرٍ مَعْلومٍ، فصَحَّ، كتَعْلِيقِه بغُرُوبِها. وطُلُوعُ الشَّمْسِ بُروزُها مِن الأفُقِ، كما أنَّ غُروبَها سُقُوطُ القُرْصِ. ولذلك لو عَلَّقَ طَلاقَ امْرأَته، أو عِتقَ عَبْدِه بطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَعَ بِبُروزِها مِن الأُفُقِ. وإنْ عَرَضَ غَيْمٌ يَمْنَعُ المَعْرِفَةَ بطُلُوعِها، [فالخِيارُ ثابِتٌ، حتى يَتَيقَّنَ طُلُوعَها] (¬2)، كما لو عَلَّقَه بغُرُوبِها، فمَنَعَ الغَيْمُ المَعْرِفَةَ بوَقْتِه. ولو جَعَلَ الخِيارَ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن تحتِ السَّحَابِ، أو إلى غَيْبَتِها تَحْتَه، كان خِيارًا مَجْهُولًا. 1606 - مسألة: (وإنْ شَرَطَاهُ مُدَّةً، فابْتِداؤُها مِن حينِ العَقْدِ. ¬

(¬1) في الأصل، ق، ر 1: «تعليم». (¬2) سقط من: الأصل، ق.

وَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنْ حِينِ التَّفَرُّقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مِن حِينِ التَّفَرُّقِ) إذا شَرَطَ الخِيارَ مُدَّةً مَعْلُومَةً، اعْتَبَرْنَا مُدَّةَ الخِيارِ مِن حينِ العَقْدِ، في أظْهَرِ الوَجْهَينِ. والآخَرُ مِن حينِ التَّفَرُّقِ؛ لأنَّ الخِيارَ ثابِتٌ في المَجْلِسِ حُكْمًا (¬1)، فلا حاجَةَ إلى إثْبَاتِه بالشَّرْطِ، ولأنَّ حالةَ المَجْلِسِ كحَالةِ العَقْدِ؛ لأنَّ لهما فيه الزِّيادَةَ والنُّقْصَانَ، فكان كحَالةِ العَقْدِ في ابْتِداءِ مُدَّةِ الخِيارِ بعدَ انْقِضَائِه. والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لأنَّها مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بالعَقْدِ، فأَشْبَهَتِ الأجَلَ، ولأنَّ الاشْتِراطَ سَبَبُ ثُبوتِ الْخِيارِ، فيَجِبُ أنْ يَتَعَقَّبَه حُكْمُه، كالْمِلْكِ في البَيعِ. ولأنَّنا لو جَعَلْنَا ابْتِداءَها مِن حينِ التَّفَرُّقِ، أدَّى إلى جَهالتِه؛ لأنّا لا نَعْلَمُ متى يَتَفَرَّقَانِ، فلا نَعْلَمُ مَتَى ابْتِداؤُه، ولا وَقْتَ انْتِهائِه. ولا يُمْنَعُ ثُبوتُ الحُكْمِ بسَبَبَينِ، كتَحْرِيمِ الوَطْءِ بالصِّيامِ والإِحْرَامِ. فعلى هذا، لو شَرَطَ ابْتِداءَه مِن حينِ التَّفَرُّقِ، لم يَصِحَّ، إلَّا على قَوْلِنا بصِحَّةِ الخِيارِ ¬

(¬1) في م: «حقًّا».

1607 - مسألة: (وإن شرط الخيار لغيره، جاز، وكان توكيلا له فيه)

وَإنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيرِهِ، جَازَ، وَكَانَ تَوْكِيلًا لَهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَجْهُولِ. وإنْ قُلْنَا: ابْتِداؤُه مِن حينِ التَّفَرُّقِ. فشَرَط ثُبوتَه مِن حينِ العَقْدِ، صَحَّ؛ لأنَّه مَعْلُومُ الابتِداءِ والانْتِهاءِ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَصِحَّ؛ لأنَّ خِيارَ المَجْلِسِ يُغْنِي عن خيارٍ آخَرَ، فيَمْنَع ثُبُوتَه. والأوَّلُ أوْلَى. ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ في هذا الفَصْلِ على ما ذَكَرْنَا. 1607 - مسألة: (وإنْ شَرَطَ الخِيَارَ لغَيرِه، جَازَ، وكان تَوْكِيلًا له فيه) إذا شَرَطَ الخِيَارَ لأجْنَبِيٍّ، صَحَّ، وكان اشْتِرَاطًا لنَفْسِه، وتَوْكِيلًا لغَيرِه فيه. وهذا قوْلُ أبي حَنِيفةَ، ومالِكٍ. وللشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ. وهو قَوْلُ القاضِي إذا أطْلَقَ الخِيارَ لفُلَانٍ، أو قال: لفُلَانٍ دُونِي. لأنَّ الخِيارَ شُرِعَ لتَحْصِيلِ الحَظِّ لكُلِّ واحِدٍ مِن المُتَعَاقِدَينِ بنَظَرِه، فلا يكونُ لمن لا حَظَّ له. وإنْ جَعَلَ الأجْنَبِيَّ وَكِيلًا، صَحَّ. ولَنا، أنَّ الخِيارَ يَعْتَمِدُ شَرْطَهُمَا، ويُفَوَّضُ إلَيهما، وقد أمْكَنَ تَصْحِيحُ شَرْطِهما وتَنْفِيذُ تَصَرُّفِهما على الوَجْهِ الذي ذَكَرْنَاهُ، فلا يَجُوزُ إلْغاوه مع إمْكَانِ تَصْحِيحِه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ على شُرُوطِهم» (¬1). فعلى هذا، يكونُ لكُلِّ واحِدٍ مِن المُشْتَرِطِ وَوَكِيلِه الذي شَرَطَ له الخِيارَ، الفَسْخُ. ولو كانَ المَبِيعُ عَبْدًا، فشَرَطَ الخِيارَ له، صَحَّ، سواءٌ شَرَطَه له البائِعُ أو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المشتَرِى؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ الأجْنَبِيِّ. وإن كان العاقِدُ وَكِيلًا، فشَرَطَ الخِيارَ لنَفْسِه، صَحَّ، فإنَّ النَّظَرَ في تَحْصِيلِ الحَظِّ مُفَوَّضٌ إليه. وإنْ شَرَطَه للمَالِكِ، صَحَّ؛ لأنَّه المالِكُ والحَظُّ له. وإنْ شَرَطَهُ لأجْنَبِيٍّ، انْبَنَى على الرِّوَايَتَينِ في صِحَّةِ تَوْكِيلِ الوَكِيلِ. فصل: ولو قال: بعْتُكَ على أنْ أسْتَأمِرَ فُلانًا. و (¬1) حَدَّ ذلك بوَقْتٍ مَعْلومٍ، فهو خِيارٌ صَحِيحٌ، وله الفَسْخُ قبل أن يَسْتَأمِرَ، لأنَّا جَعَلنَا ذلك كِنَايَةً عن الخِيارِ. وهذا قَوْلُ. بَعْضِ أصْحابِ الشّافِعِيِّ. وإنْ لم يَضْبِطْه بمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فهو خِيارٌ مَجْهُولٌ، فيه من الخِلافِ ما ذَكَرْنَاهُ. ¬

(¬1) في م: «أو».

1608 - مسألة: (وإن شرطا الخيار لأحدهما دون صاحبه، جاز

وَإنْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِأحَدِهِمَا دونَ صَاحِبِهِ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1608 - مسألة: (وإنْ شَرَطَا الخِيارَ لأحَدِهما دُونَ صاحِبِه، جازَ) (¬1) يَجُوزُ شَرْطُ الخِيارِ لأَحَدِ المُتَعَاقِدَينِ دُونَ الآخَرِ، ويجوزُ أنْ يَشْرُطَا لأحَدِهما مُدَّةً، وللآخَرِ دُونَها؛ لأنَّ ذلك حَقُّهُما، وإنَّما جُوِّزَ رِفْقًا بهما، فكَيفَما تَرَاضَيَا به، جازَ. ولو اشْتَرَى شَيئَينِ، وشَرَطَ الخِيارَ في أحَدِهما بِعَينهِ. دُونَ الآخَرِ، صَحَّ، لأنَّ أكْثَرَ ما فيه أنَّه جَمَعَ بينَ مَبِيعٍ فيه الخِيارُ، وبينَ مَبِيعٍ لا خِيارَ فيه، وذلك جائِزٌ بالقِياسِ على شِراءِ ما فيه شُفْعَةٌ، وما لَا شُفْعَةَ فيه، فإنَّه يَصِحُّ، ويكونُ كُلُّ واحِدٍ منهما مَبِيعًا بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ. فإنْ فَسَخَ البَيعَ فيما فيه الخِيارُ، رَجَعَ بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، كما لو وَجَدَ أحَدَهما مَعِيبًا فرَدَّه. وإنْ شَرَطَ الخِيارَ في أحَدِهما، لا بِعَينِه، أو شَرَطَ الخِيارَ لأحَدِ المُتَعَاقِدَينِ، لا بِعَينهِ، لم يَصِحَّ، لأنَّه مَجْهُولٌ، فأَشْبَهَ ما لو اشْتَرَى واحِدًا مِن عَبْدَينِ لا بِعَينِه، ولأنَّه يُفْضِي إلى التَّنَازُعِ، فرُبّما طَلَبَ كُلُّ واحِدٍ مِن المُتَعَاقِدَينِ ضِدَّ ما يَطْلُبُه الآخَرُ، ويَدَّعِي أنَّنِي المُسْتَحِقُّ للخِيارِ، أو يطْلُبُ مَنْ له الخِيارُ رَدَّ أحَدِ المَبِيعَينِ، ويقولُ: ليس هذا الذي شَرَطْتُ لَكَ الخِيارَ فيه. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَصِحَّ شَرْطُ الخِيارِ في أحَدِ المَبِيعَينِ بعَينِه، كما لا يَصِحُّ بَيعُه بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ. وهذا كُلُّه مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «صح».

1609 - مسألة: (ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه، ولا رضاه)

وَلِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ مِنْ غَيرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ، وَلَا رِضَاهُ. وَإنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَفْسَخَا، بَطَلَ خِيَارُهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1609 - مسألة: (ولِمَنْ له الخِيارُ الفَسْخُ مِن غَيرِ حُضُورِ صاحِبِه، ولا رِضَاهُ) وبهذا قال مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبو يُوسُفَ، وزُفَرُ. وقال أبو حَنِيفَةَ: ليس له الفَسْخُ إلَّا بحُضُورِ صاحِبِه، كالوَدِيعَةِ. ولَنا، أنَّه رَفْعُ عَقْدٍ لا يَفْتَقِرُ إلى رضَا صاحِبِه، فلم يَفْتَقِرْ إلى حُضُورِه، كالطَّلاقِ. وما ذَكَرَه يَنْتَقِضُ بالطَّلاقِ، والوَدِيعَةُ لا حَقَّ للمُودَعِ فيها، ويَصِحُّ فَسْخُها مع غَيبَتِه. 1610 - مسألة: (وإن مَضَتِ المُدَّةُ، ولم يَفْسَخَا، بَطَلَ خِيَارُهما) إذا انْقَضَتْ مُدَّةُ الخِيارِ، ولم يَفْسَخْ أحَدُهُمَا، بَطَلَ الخِيَارُ، ولَزِمَ العَقْدُ. وهذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. وقال القاضِي: لا يَلْزَمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمُضِيِّ المُدَّةِ. وهو قَوْلُ مالِكٍ؛ لأنَّ مُدَّةَ الخِيارِ ضُرِبَتْ لِحَقٍّ له، لا لِحَقٍّ عليه، فلم يَلْزَمِ الحُكْمُ بِنَفْسِ مُرُورِ الزَّمَانِ، كمُضِيِّ الأَجَلِ في حَقِّ المُولِي. ولَنا، أنَّها مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بالعَقْدِ، فَبَطَلَتْ بانْقِضَائِها، كالأَجَلِ. ولأنَّ الحُكْمَ بِبَقَائِها يُفضِي إلى بَقاءِ الخِيارِ في غيرِ المُدَّةِ التي شَرَطِاه فيها، والشَّرْطُ يُثْبِتُ الخِيارَ، فلا يَجُوزُ أنْ يَثْبُتَ به ما لم يَتَنَاوَلْه، ولأنَّه حُكْم مُوقَّتٌ، فَفَاتَ بفَواتِ وَقْتِه، كسائِرِ المُؤَقَّتاتِ. ولأنَّ البَيعَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ، وإنَّما يَخْتَلِفُ مُوجَبُه بالشَّرْطِ، ففيما لم يَتَناوَلْهُ الشَّرْط يَجِبُ أنْ يَثْبُتَ مُوجَبُه؛ لزَوَالِ المُعارِضِ، كما لو أمْضَيَاهُ. وأمّا المُولِي، فإنَّ المُدَّةَ إنَّما ضُرِبَتْ لاسْتِحْقاقِ المُطَالبَةِ، وهي تُسْتَحَقُّ بمُضِيِّ المُدَّةِ. والحُكْمُ في هذه المسألةِ ظاهِرٌ. فصل: فإنْ قال أحَدُ المُتَعاقِدَينِ عندَ العَقْدِ: لا خِلَابَةَ (¬1). فقال أحمدُ: أَرَى ذلك جائِزًا، وله الخِيارُ إِنْ كان خَلَبَهُ، وإنْ لم يَكُنْ خَلَبَه، فليس له خِيارٌ. وذلك لأنَّ رَجُلًا ذَكَرَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يُخْدَعُ في البَيعِ، فقال: «إذَا بايَعْتَ، فقُلْ: لا خِلَابَةَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولمُسْلِم: ¬

(¬1) الخلابة: المخادعة. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب ما يكره من الخداع في البيع، من كتاب البيوع، وفي: باب ما ينهى عن إضاعة المال. . .، من كتاب الاستقراض، وفي: باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإِمام. . .، من كتاب الخصومات، وفي: باب ما ينهى من الخداع في البيع، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 3/ 85، 86، 157، 159، 9/ 31. ومسلم، في: باب من يخدع في البيع، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1165. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ بايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلَابَةَ». فكان إذا بايَعَ يقولُ: لا خِلَابَةَ (¬1). قال شَيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَكُونَ له خِيارٌ، ويكونُ هذا الخَبَرُ خاصًّا لِحَبَّان (¬3)؛ لأَنَّه رُوِيَ أنَّه عاشَ إلى زَمَنَ عثمانَ، فكان يُبَايعُ الناسَ ثم يُخَاصِمُهم، فيَمُرُّ بهم بعضُ الصَّحَابَةِ، فيقولُ لمَنْ يُخَاصِمُه: وَيحَكَ، إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ له الخِيارَ ثَلاثًا (¬4). وهذا يَدُلُّ على اخْتِصَاصِه بهذا؛ لأنَّه لو كانَ للنَّاسِ عامَّةً لقال لِمَنْ يُخاصِمُه: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ الخِيارَ لِمَنْ قال: لا خِلَابَةَ. وقال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كانَا عالِمَينِ أنَّ ذلك عِبَارَةٌ عن خِيارِ الثَّلاثِ، ثَبَتَ، وإنْ عَلِمَ أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، فعلى وَجْهَينِ؛ لأنَّه رُوِيَ أنَّ حَبَّانَ بنَ مُنْقِذِ بنِ عَمْرٍو، كان لا يَزَالُ. يُغْبَنُ، فأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَ ذلك له، فقال: «إذَا أنْتَ بَايَعْتَ فقُلْ: لا خِلَابَةَ. ثُمَّ أنْتَ في كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَها بالخِيَارِ ثَلاثَ لَيالٍ، فإنْ رَضِيتَ أَمْسَكْتَ، وإن ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يقول عند البيع لا خلابة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 253. والترمذي، في: باب ما جاء في من يخدع في البيع، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 257. والنسائي، في: باب الخديعة في البيع، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 222. وابن ماجه، في: باب الحجر على من يفسد ماله، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 788. والإمام مالك، في: باب جامع البيوع، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 685. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 72، 80، 129، 130. (¬1) في صحيح مسلم: «خيابة». وانظر شرح النووي 4/ 24. (¬2) في: المغني 6/ 46. (¬3) حَبَّان بن منقذ بن عمرو، الأنصاري الخزرجي، له صحبة، شهد أحدًا وما بعدها، توفي في خلافة عثمان. أسد الغابة 1/ 437. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب الدليل على أنه لا يجوز شرط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 273، 274.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَخِطْتَ فارْدُدْها على صَاحِبِهَا» (¬1). وما ثَبَتَ في حَقِّ واحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ، ثَبَتَ في حَقِّ غَيرِه، ما لم يَقُمْ على اخْتِصاصِه دَلِيلٌ. ولَنا، أنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَقْتَضِي الْخِيَارَ مُطْلَقًا، ولا يَقْتَضِي تَقْيِيدَه بثَلَاثٍ، والأصْلُ اعْتِبارُ اللَّفْظِ فيما يَقْتَضِيهِ. والخَبَرُ الذي احْتَجُّوا به إنَّما رَوَاهُ ابنُ ماجَه مُرْسَلًا، وهم لا يَرَوْنَ المُرْسَلَ حُجَّةً، ثم لم يَقُولُوا بالحَدِيثِ على وَجْهِه، إنَّما قالُوا: إنَّه في حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ أنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبوتُ الخِيارِ ثَلَاثًا. ولا يَعْلَمُ ذلك أحَدٌ؛ لأنَّ اللَّفْظَ لا يَقْتَضِيه، فكَيفَ يَعْلَمُ أنَّ مُقْتَضَاهُ ما لا يَقْتَضِيه، ولا يَدُلُّ عليه، وعلى أنَّه إنَّما كان خاصًّا لحَبَّانَ، بدَلِيل ما رَوَينَاهُ، ولأَنَّه كان يُثْبِت له الرَّدَّ على مَن لم يَعْلمْ مُقتَضَاهُ. فصلِ: إذا شَرَطَ الخِيَارَ حِيلَةً على الانْتِفَاعِ بالقَرْضِ، لِيَأْخُذَ غَلَّةَ المَبِيعِ ونفْعَه في مُدَّةِ انْتِفاعِ المُقْتَرِضِ بالثَّمَنِ، ثم يَرُدَّ المَبِيعَ بالخِيَارِ عندَ رَدِّ الثَّمَنِ، فلا خَيرَ (¬2) فيه؛ لأنَّه مِن الحِيَلِ. ولا يَحِلُّ لآخِذِ الثَّمَنِ الانْتِفَاع به في مُدَّةِ الخِيارِ، ولا التَّصَرُّفُ فيه. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ يُسْأَلُ عن الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِن الرَّجُلِ الشَّيءَ، ويقولُ: لَكَ الخِيَارُ إلى كذا وكذا. مِثلَ العَقَارِ؟ قال: هو جائِزٌ إذا لم يَكُنْ حِيلَةً؛ أرادَ أنْ يُقْرِضَهُ، فيَأْخُدُ منه العَقَارَ، فَيَسْتَغِلُّهُ، ويَجْعَلُ له فيه الخِيَارَ، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب الحجر على من يفسد ماله، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 789. (¬2) في م: «خيار».

1611 - مسألة: (وينتقل الملك إلى المشترى بنفس العقد، في أظهر الروايتين)

وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، في أَظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليَرْبَحَ فيما أَقْرَضَه بهذه الحِيلَةِ. فإنْ لم يَكُنْ أرادَ هذا، فلا بَأْسَ. قيلَ لأبِي عبدِ اللهِ: فإنْ أرادَ إرْفاقَه؛ أرادَ أنْ يُقْرِضَه مالًا يَخافُ أنْ يَذهَبَ، فاشْتَرَى منه شَيئًا، وجَعَلَ له الخِيَارَ، لم يُرِدِ الحِيلَةَ؟ فقال أبو عبدِ اللهِ: هذا جائِزٌ، إلَّا أنَّه إذا ماتَ انْقَطَعَ الخِيارُ، لم يَكُنْ لوَرَثَتِه. وقولُ أحمدَ بالجَوازِ في هذه المَسْأَلةِ مَحْمُولٌ على المَبِيعِ الذي لا يُنْتَفَعُ به (¬1) إلَّا بِإِتْلَافِه، أو على أنَّ المُشْتَرِيَ لا يَنْتَفِعُ بالمَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ، لئَلَّا يُفْضِيَ إلى أنَّ القَرْضَ جَرَّ مَنْفَعَةً. 1611 - مسألة: (ويَنْتَقِلُ المِلْكُ إلى المُشْتَرِى بنَفْسِ العَقْدِ، في أَظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ) يَنْتَقِلُ المِلْكُ في بَيعِ الخِيَارِ بِنَفْسِ العَقْدِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، ولا فرْقَ بينَ كَوْنِ الخِيَارِ لهما أو لأحَدِهما، أيِّهما كان. وهو أحَدُ أقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وعن أحمدَ، أنَّ المِلْكَ لا يَنْتَقِلُ حتى يَنْقَضِيَ الخِيارُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قَوْلُ مالِكٍ، والقَوْلُ الثانِي للشَّافِعِيِّ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، إذا كان الخِيَارُ لهما أو للبَائِعِ، وإنْ كان للمُشْتَرِي، خرَجَ عن مِلْكِ البائِعِ، ولم يَدْخُلْ في مِلْكِ المُشْتَرِى؛ لأنَّ البَيعَ الذي فيه الخِيَارُ عَقْدٌ قاصِرٌ، فلم يَنْقُل المِلْكَ، كالهِبَةِ قبلَ القَبْضِ. وللشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثالِثٌ، أنَّ المِلْكَ مَوْقُوفٌ، فإنْ أَمْضَيَا البَيعَ تَبَيَّنَّا أنَّ المِلْكَ للمُشْتَرِى، وإلَّا تَبَيَّنَّا أنَّه لم يَنْتَقِلْ عن البائِعِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وله مَالٌ، فَمَالُه للبَائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ» (¬1). وقَوْلُه: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أنْ يُؤَبَّرَ، فَثَمَرُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للبائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فجَعَلَهَ للمُبْتَاعِ بمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِه، وهو عامٌّ في كُلِّ بَيعٍ. ولأنَّه بَيعٌ صَحِيحٌ، فَنَقَلَ المِلْكَ عَقِيبَه، كالذي لا خِيارَ فيه. ولأنَّ البَيعَ تَمْلِيكٌ، بدَلِيلِ أنَّه يَصِحُّ بقَوْلِه: مَلَّكْتُكَ. فيَثْبُتُ به المِلْكُ، كسائِرِ البَيعِ؛ لأنَّ التَّمْلِيكَ يَدُلُّ على نَقْل المِلْكِ إلى المُشْتَرِي، ويَقْتَضِيه لَفْظُه، وقد اعْتَبَرَه الشَّرْعُ، وقَضَى بصِحَّتِه، فوَجَبَ اعْتِبارُه فيما يَقْتَضِيه ويَدُلُّ عليه لَفْظُه، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من باع نخلا قد أبرت أو أرضا مزروعة أو بإجارة، وباب بيع النخل بأصله، من كتاب البيوع، وباب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، من كتاب المساقاة، وباب إذا باع نخلا قد أبرت، من كتاب الشروط. صحيح البخاري 3/ 102، 150، 151، 247. ومسلم، في: باب من باع نخلا عليها ثمر، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1172، 1173. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العبد يباع وله مال، من كتاب الإجارة. سنن أبي داود 2/ 240. والترمذي، في: باب ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير والعبد وله مال، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 252، 253. والنسائي، في: باب النخل يباع أصلها ويستثنى المشترى ثمرها، وباب العبد يباع ويستثنى المشترى ماله، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 260، 261. وابن ماجة، في: باب ما جاء في من باع نخلا مؤبرا أو عبدا له مال، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 745، 746. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ثمر المال يباع أصله، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 617. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 9، 54، 63، 78، 82، 102، 150، 5/ 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وثُبُوتُ الخِيارِ فيه لا يُنَافِيهِ، كما لو باعَ عَرْضًا بعَرْضٍ (¬1)، فَوَجَدَ كُلُّ واحِدٍ منهما بما اشْتَرَاهُ عَيبًا. وقَوْلُهم: إنَّه قاصِرٌ. غيرُ صَحِيحٍ، وجَوازُ فَسْخِه لا يُوجِبُ قُصورَهُ، ولا يَمْنَعُ نَقْلَ المِلْكِ فيه، كبَيعِ المَعِيبِ، وامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ إنَّما كان لأَجْلِ حَقِّ الغَيرِ، فلا يَمْنَعُ ثُبُوتَ المِلْكِ، كالمَرْهُونِ. وقَوْلُهم: إِنَّه يَخْرُجُ عن مِلْكِ البائِعِ، ولا يَدْخُلُ في مِلْكِ المُشْتَرِي. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى وُجُودِ مِلْكٍ بغيرِ مالِكٍ، وهو مُحَالٌ، ويُفْضِي أيضًا إلى ثُبُوتِ المِلْكِ للبائِعِ في الثَّمَنِ، مِن غيرِ حُصُولِ ¬

(¬1) في الأصل، م: «بعوض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضِه للمُشْتَرِي، أو إلى نَقْلِ مِلْكِه عن المَبِيعِ، مِن غيرِ ثُبُوتِه في عِوَضِه. وكونُ العَقْدِ مُعاوَضَةً يأْبَى ذلك. وقولُ أصْحابِ الشّافِعِيِّ: إنَّ المِلْكَ مَوْقُوفٌ، إنْ أمْضَيَا البَيعَ تَبَيَّنَّا أنَّه انْتَقَلَ، وإلَّا فلا. غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ انْتِقَال المِلْكِ إنَّما يَنْبَنِي على سَبَبِه النَّاقِلِ، وهو البَيعُ، وذلك لا يَخْتَلِفُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإمْضَائِه وفَسْخِه، فإنَّ إمْضاءَه ليس مِن المُقْتَضِي، ولا شَرْطًا فيه، إذْ لو كان كذلك لَما ثَبَتَ المِلْكُ قَبْلَه، والفَسْخُ ليس بمَانِعٍ، فإنَّ المَنْعَ لا يَتَقَدَّمُ المانِعَ، كما أنَّ الحُكْمَ لا يَسْبِقُ سَبَبَهُ ولا شَرْطَهُ. ولأنَّ البَيعَ مع الخِيَارِ سَبَبٌ يَثْبُتُ المِلْكُ عَقِيبَه فيما إذا لم يُفْسَخْ، فوَجَبَ أن يُثْبِتَه وإنْ فُسِخَ، كبَيعِ المَعِيبِ، وهو ظاهِرٌ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

1612 - مسألة: (فما حصل من كسب، أو نماء منفصل، فهو له، أمضيا العقد، أو فسخاه)

فَمَا حَصَلَ مِنْ كَسْبٍ، أوْ نَمَاءٍ مُنْفَصِلٍ، فَهُوَ لَهُ، أَمْضَيَا الْعَقْدَ، أوْ فَسَخَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1612 - مسألة: (فما حَصَلَ مِن كَسْبٍ، أو نَماءٍ مُنْفَصِلٍ، فهو له، أمْضَيَا العَقْدَ، أو فَسَخَاه) ما يَحْصُلُ مِن غَلَّاتِ المَبِيعِ ونَمائِه في مُدَّةِ الخِيارِ، فهو للمُشْتَرِي، أمْضَيَا العَقْدَ، أو فَسَخَاه. قال أحمدُ، في مَن اشْتَرَى عَبْدًا، وَوُهِبَ له مالٌ قبلَ التَّفَرُّقِ ثم اخْتَارَ البائِعُ العَبْدَ: فالمالُ للمُشْتَرِي. وقال الشّافِعِيُّ: إنْ أَمْضَيَا العَقْدَ، وقلنا: المِلْكُ للمُشْتَرِي. أو: مَوْقُوفٌ. فالنَّمَاءُ المُنْفَصِلُ له، وإنْ قُلْنَا: المِلْكُ للبَائِعِ. فالنَّماءُ له. وإنْ فَسَخَا العَقْدَ، وقُلْنَا: المِلْكُ للبائِعِ. أو: مَوْقُوفٌ. فالنَّماءُ له، وإلَّا فهو للمُشْتَرِي. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الخَرَاجُ بالضَّمَانِ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال التِّرْمِذِيُّ (¬1): هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وهذا مِن ضَمَانِ المُشْتَرِي، فيَجِبُ أنْ يكونَ خَراجُه له. ولأنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ بالبَيعِ، على ما بَيَّنَّا، فيَجِبُ أنْ يكونَ نَماؤُه للمُشْتَرِي، كما بعدَ انْقضاءِ الخِيَارِ. ويَتَخَرَّجُ أنْ يكونَ النَّماءُ المُنْفصِلُ للبائِعِ، إذا فَسَخَا العَقْدَ، بناءً على قَوْلِنا: إنَّ المِلْكَ لا يَنْتَقِلُ. فأمّا النّماءُ المُتَّصِلُ، فهو تابعٌ للمَبِيع بكُلِّ حالٍ، كما يَتْبَعُه في الرَّدِّ بالعَيبِ والمُقَايَلَةِ. فصل: وضَمانُ المَبِيعِ على المُشْتَرِي إذا قَبَضَه، أو لم (¬2) يَكُنْ مَكِيلًا، ولا مَوْزُونًا. فإن تَلِفَ، أو نَقَصَ، أو حَدَثَ به عَيبٌ في مُدَّةِ الخِيارِ، فهو مِن ضَمانِه؛ لأنَّه مِلْكُه، وغَلَّتَه له، فكان مِن ضَمَانِه، كما بعدَ انْقِضَاءِ الخِيَارِ، ومُؤْنَتُه عليه. وإنْ كان عَبْدًا، فهَلَّ هِلالُ شَوَّالٍ، فَفِطْرَتُه عليه؛ لذلك. وإنِ اشْتَرَى حامِلًا، فَوَلَدَتْ عندَه في مُدَّةِ الخِيَارِ، ثم رَدَّها على البائِعِ، لَزِمَهُ رَدُّ وَلدِها؛ لأنَّه مَبِيعٌ حَدَثتْ فيه زِيادَةٌ مُتَّصِلَةٌ (¬3)، فلَزِمَ رَدُّه بزِيادَتِه، كما لو اشْتَرَى عَبْدَينِ، فَسَمِنَ أحَدُهما عِنْدَه. وقال الشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَرُدُّ الوَلَدَ؛ لأنَّ الحَمْلَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 284. (¬2) في المغني 6/ 23: «ولم». (¬3) في الأصل، ق، م: «منفصلة».

1613 - مسألة: (وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار، إلا بما يحصل به تجربة المبيع)

وَلَيسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ، إلا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ. وَإنْ تَصَرَّفَا بِبَيعٍ، أَوْ هِبَةٍ، وَنحْوهِمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا حُكْمَ له؛ لأنَّه جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بالأُمِّ، فلم يأخُذْ قِسْطًا مِن الثَّمَنِ، كأطْرَافِها. ولَنا، أنَّ كُلَّ ما يُقَسَّطُ عليه الثَّمَنُ إذا كان مُنْفَصِلًا، يُقَسَّطُ عليه إذا كان مُتَّصِلًا، كاللَّبَنِ. وما قَالُوه يَبْطُلُ بالجُزْءِ المُشاعِ، كالثُّلُثِ، والرُّبْعِ، والحُكْمُ في الأصْلٍ مَمْنُوعٌ، ثم يُفارِقُ الحَمْلُ الأطْرَافَ؛ لأنَّهُ يَئُولُ إلى الانْفِصالِ، ويُنْتَفعُ به مُنْفَصِلًا، ويَصِحُّ إفْرَادُه مُنْفَصِلًا، والوَصِيَّةُ به، وله، ويَرِثُ إنْ كان مِن أهْلِ المِيرَاثِ، ويُفْرَدُ بالدِّيَةِ، ويَرِثُها وَرَثَتُه. وقَوْلُهم: لا حُكْمَ للحَمْلِ. لا يَصِحُّ لهذه الأحْكَام وغيرِها مِمّا قد ذَكَرْنَاهُ. 1613 - مسألة: (وليس لواحِدٍ منهما التَّصَرُّفُ في المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيَارِ، إلَّا بما يَحْصُلُ به تَجْرِبَةُ المَبِيعِ) إنَّما لم يَجُزْ لواحِدٍ منهما التَّصَرُّف في المَبِيعِ في مُدّةِ الخِيارِ؛ لأنَّه ليس بِملكٍ للبائِعِ، فيَتَصَرَّف فيه، ولا انْقَطَعَتْ عنه غَلَّتُه، فَيَتَصَرَّفَ فيه المُشْتَرِي. فأمّا تَصَرُّفُه بما يَحْصُلُ به تَجْرِبَةُ المَبِيعِ، كرُكُوبِ الدَّابَّةِ؛ ليَنْظُرَ سَيرَها، والطَّحْنِ على الرَّحَى؛ ليَعْلَمَ قَدْرَ طَحْنِها، وحَلْبِ الشّاةِ؛ لِيَعْلَمَ قَدْرَ لَبَنِها، ونحو ذلك، فَيَجوزُ؛ لأنَّ ذلك هو المَقْصُودُ بالخِيَارِ، وهو اخْتِبارُ المَبِيعِ. 1614 - مسألة: (فإنْ تَصَرَّفَا فيه بِبَيعٍ، أو هِبَةٍ، أو نَحْوهما،

لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُهما) إذا تَصَرَّفَ أحَدُ المُتَبَايِعَينِ في مُدَّةِ الخِيَارِ في المَبِيعِ تَصَرُّفًا يَنْقُلُ المِلْكَ؛ كالبَيعِ، والهِبَةِ، والوَقْفِ، أو يَشْغَلُهُ (¬1)؛ كالإِجَارَةِ، والتَّزْويجِ، والرَّهْنِ، والكِتابَةِ، ونحوها، لم يَصِحَّ تَصَرُّفُه، إلا العِتْقَ، على ما نَذكُرُه، سَواءٌ وُجِدَ تَصَرُّفٌ مِن البائِعِ أو المُشْتَرِي؛ لأنَّ البائِعَ تَصَرَّفَ في غيرِ مِلْكِه، والمُشتَرِي يُسْقِطُ حَقَّ البائِع مِن الخِيَارِ واسْتِرْجَاعِ المَبِيعِ، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُه فيه، كالتَّصَرُّفِ في الرَّهْنِ، إلَّا أن يكونَ الخِيَارُ للمُشْتَرِي وَحْدَه، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُه، ويَبْطُلُ خِيَارُه؛ لأنَّه لا حَقَّ لغَيرِه فيه، وثُبُوتُ الخِيَارِ له لا يَمْنَعُ تَصَرُّفَه فيه، كالمَعِيبِ. قال أحمدُ: إذا اشْتَرَطَ الخِيارَ، فباعَهُ قبلَ ذلك بِرِبْحٍ، فالرِّبْحُ للمُبْتَاعِ؛ لأنَّه قد وَجَبَ عليه حينَ عَرَضَه. يعني بَطَلَ خِيارُه، ولَزِمَه. وهذا فيما إذا اشْتَرَطَ الخِيَارَ له وَحْدَه، وكذلك إذا قُلنا: إنَّ البَيعَ لا يَنْقُلُ المِلْكَ. وكان الخِيَارُ لهما، أو للبائِعِ وحْدَه، فتَصَرَّفَ فيه البائِعُ، نَفَذَ تَصَرُّفُه، وصَحَّ؛ لأنَّه مِلْكُه، وله إبْطَالُ خِيارِ غَيرِه. وقال ابنُ أبِي ¬

(¬1) في م: «يستغله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوسَى: في تَصَرُّفِ المُشْتَرِي في المَبِيعِ قبلَ التَّفَرُّقِ بِبَيعٍ أو هِبَةٍ روايتان؛ إحْدَاهُما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ في صِحَّتِه إسْقاطَ حَقِّ البائِعِ مِن الخِيَارِ. والثانيةُ، هو مَوْقُوفٌ؛ فإنْ تَفَرَّقَا قبلَ الفَسْخِ، صَحَّ، وإنِ اخْتَارَ البائِعُ الفَسْخَ، بَطَلَ بَيعُ المُشْتَرِي. قال أحمدُ في رِوَايَةِ أبِي طالِبٍ: إذا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشرْطٍ، فَبَاعَه بِرِبْحٍ قبلَ انْقِضَاءِ الشَّرْطِ، يَرُدُّه إلى صاحِبِه إنْ طَلَبَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن لم يَقْدِرْ على رَدِّه، فللبَائِعِ قِيمَةُ الثَّوْبِ؛ لأنَّه اسْتَهْلَكَ ثَوْبَه، أو يُصَالِحُه. فقَوْلُه: يَرُدُّه إنْ طَلَبَه. يَدُلُّ على أنَّ وجُوبَ رَدِّهِ مَشْرُوطٌ بطَلَبه. وقد رَوَى البُخَارِيُّ (¬1)، عن ابنِ عمرَ، أنّه كان مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فكان على بَكْرٍ (¬2) صَعْبٍ لعمرَ، فكان يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ له أبوه: لا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ. فقال له النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بِعْنِيهِ». فقال عمرُ: هو لَكَ. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ لَكَ يا عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ به مَا شِئْتَ». وهذا يَدُلُّ على التَّصَرُّفِ قبلَ التَّفَرُّقِ. والأوَّلُ أصَحُّ، وحَدِيثُ ابنِ عمرَ ليس فيه تَصْرِيحٌ بالبَيعِ، فإنَّ قولَ عمرَ: هو لَكَ. يَحْتَمِلُ (¬3) أنَّه أرادَ هِبَتَه، وهو الظاهِرُ، فإنَّه لم يَذْكُرْ ثَمَنًا، والهِبَةُ لا يَثْبُتُ فيها الخِيَارُ. وقال الشّافِعِيُّ: تَصَرُّفُ البائِعِ في المَبِيعِ بالبَيعِ والهِبَةِ ونحوهما صَحِيحٌ؛ لأنَّه إمّا أنْ يكونَ على مِلْكِه، ¬

(¬1) في: باب إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا. . .، من كتاب البيوع، وفي: باب كيف يقبض العبد المتاع، وباب من أهدى له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق،. .، وباب إذا وهب بعيرا لرجل وهو راكب فجائز، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 85، 209، 212، 213. (¬2) البكر: الفتيُّ من الإبل. (¬3) في م: «يحمل على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَمْلِكُ العَقْدَ عليه، وإمّا أنْ يكونَ للمُشْتَرِي، والبائِعُ يَمْلِكُ فَسْخَه. فجَعَلَ البَيعَ والهِبَةَ فَسْخًا. وأمّا تَصَرُّفُ المُشْتَرِي، فلا يَصِحُّ إذا قُلْنا: المِلْكُ لغَيرِه. وإن قُلْنا: المِلْكُ له. ففي صِحَّةِ تَصَرُّفِه وَجْهانِ. ولَنا، على إبْطَالِ تَصَرُّفِ البائِعِ، أنَّه تَصَرُّفٌ في مِلْكِ غَيرِه بغَيرِ ولايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، ولا نِيابَةٍ عُرْفِيَّةٍ، فلم يَصِحَّ، كما بعدَ الخِيَارِ، وقَوْلُهم: يَمْلِكُ الفَسْخَ. قُلْنا: إلَّا أنَّ ابْتِداءَ التَّصَرُّفِ لم يُصَادِفْ مِلْكَه، فلم يَصِحَّ، كتَصَرُّفِ الأَبِ فيما وَهَبَه لوَلَدِه قبلَ اسْتِرْجاعِه، وتَصَرُّفِ الشَّفِيعِ في الشِّقْصِ المَشْفُوعِ قبلَ أخْذِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ تَصَرَّفَ المُشْتَرِي بإذْنِ البائِعٍ، أو البائِعُ بوَكالةِ المُشْتَرِي، صَحَّ التَّصَرُّفُ، وانْقَطَعَ خِيَارُهما؛ لأنَّه يَدُلُّ على تَرَاضِيهِما بإمْضَاءِ البَيعِ، فَيَنْقَطِعُ به خِيَارُهما، كما لو تَخَايَرَا. وإنَّما صَحَّ تَصَرُّفُهما؛ لأنَّ قَطْعَ الخِيارِ حَصَل بالإِذْنِ في البَيعِ، فَيَقَعُ البَيعُ بعْدَ انْقِطاعِ الخِيارِ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَصِحَّ تَصَرُّفُ البائِعِ بإذْنِ المُشْتَرِي؛ لأنَّ البائِعَ لا يَحْتَاجُ إلى إذْنِ المُشْتَرِي في اسْتِرْجاعِ المَبِيعِ، فَيَصِيرُ كتَصَرُّفِه بغيرِ إذْنِ المُشْتَرِي. وقد ذَكَرْنا أنَّه لا يَصِحُّ، كذا ها هنا. وكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: إنَّ تَصَرُّفَ البائِعِ لا يَنْفُذُ، ولكنْ يَنْفَسِخُ به البَيعُ. فإنَّه مَتَى أعادَ ذلك التَّصَرُّفَ، أو تصَرَّفَ تَصَرُّفًا سِواهُ، صَحَّ؛ لأنَّ المِلْكَ عادَ إليه بفَسْخِ البَيعِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُه فيه، كما لو فَسَخَ البَيعَ بصَرِيحِ قَوْلِه، ثم تَصَرَّفَ فيه، إلَّا إذا قُلْنَا: إنَّ تَصَرُّفَهُ لا يَنْفسِخُ به البَيعُ. وكذَلك إنْ تَقَدَّمَ تَصَرُّفُه

1615 - مسألة: (ويكون تصرف البائع فسخا للبيع، وتصرف المشتري إسقاطا لخياره، في أحد الوجهين. وفي الآخر،

وَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فَسْخًا لِلْبَيع، وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِى إِسْقَاطًا لِخِيَارِهِ، في أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بما يَنْفَسِخُ به البَيعُ، صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لِما ذَكَرْنا. 1615 - مسألة: (ويَكُونُ تَصَرُّفُ البائِع فَسْخًا للبَيعِ، وتَصَرُّفُ المُشْتَرِي إسْقَاطًا لخِيَارِه، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخرِ،

وَفِي الْآخَرِ، الْبَيعُ وَالْخِيَارُ بِحَالِهِمَا. وَإنِ اسْتَخْدَمَ الْمَبِيعَ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، في أصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَبَّلَتْهُ الْجَارِيَة. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَبْطُلَ إِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيعُ والخِيَارُ بحالِهما. وإنِ اسْتَخْدَمَ المَبِيعَ، لم يَبْطُلْ خِيَارُه، في أصَحِّ الوَجْهَين. وكذلك إنْ قَبَّلَتْه الجَارِيَةُ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَبْطُلَ إذا لم يَمْنَعْها) إذا تَصَرَّفَ البائِعُ في المَبِيعِ بما يَفْتَقِرُ إلى المِلْكِ، كان فَسْخًا للبَيعِ. وهذا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، والشَّافِعِيِّ؛ لأنَّ تَصَرُّفَه يَدُلُّ على رَغْبَتِه في المَبِيعِ، فكان فَسْخًا للبَيعِ، كصَرِيحِ القَوْلِ، لأنَّ الصَّرِيحَ إنَّما كانَ فَسْخًا للبَيعِ، لدَلَالتِه على الرِّضَا به، فما دَلَّ على الرِّضَا به يقومُ مَقامَه، ككِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وعن أحمدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لا يَنْفَسِخُ البَيعُ بذلك، لأنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ عنه، فلم يَكُنْ تَصَرُّفُه فيه اسْتِرْجَاعًا له، كَمَن وَجَدَ مَتَاعَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَ مُفْلِسٍ فتَصَرَّفَ فيه. وإنْ تَصَرَّفَ المُشْتَرِي في المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ بما ذَكَرْنا ونحوه، ممّا يَخْتَصُّ المِلْكَ؛ كإعْتَاقِ العَبْدِ، وكِتَابَتِه، ووَطْءِ الجَارِيَةِ، ومُباشَرَتِها، ولَمْسِها بشَهْوَةٍ، ووَقْفِ المَبِيعِ، ورُكُوبِ الدّابَّةِ لحاجَتِه، أو سُكْنَى الدّارِ، ورَمِّهَا، وحَصَادِ الزَّرْعِ، فما وُجِدَ مِن هذا فهو رِضًا بالمَبِيعِ، ويَبْطُلُ به خِيَارُه؛ لأنَّ الخِيَارَ يَبْطُلُ بالتَّصْرِيح بالرِّضَا، وبِدَلَالتِه، ولذلك يَبْطُلُ خِيارُ المُعْتَقَةِ بتَمْكِينِها مِن نَفْسِها، وقال لها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ وَطِئَكِ فَلَا خِيارَ لَكِ» (¬1). وهذا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. فأمّا ما يَسْتَعلِمُ به المَبِيعَ، كرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِيَخْتَبِرَ فَراهَتَها (¬2)، والطَّحْنِ على الرَّحَى لِيَعْلَمَ قَدْرَه، ونحو ذلك، فلا يَدُلُّ على الرِّضَا، ولا يَبْطُلُ به الخِيارُ؛ لأنَّه المَقْصُودُ بالخِيارِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي لا يُبْطِلُ خِيارَه، ولا يَبْطُلُ إلَّا بالتَّصْرِيحِ، كما لو رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَخْتَبِرَها. والأوَّلُ أصحُّ؛ لأنَّ هذا يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ البَيعِ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 65، 5/ 378. (¬2) الفراهة: المهارة والسرعة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَدُلُّ على الرِّضَا به، فَيَبْطُلُ به الخِيَارُ، كصَرِيحِ القَوْلِ. ولأنَّ صَرِيحَ القَوْلِ إنَّما يَبْطُلُ به الخِيَارُ؛ لدَلَالتِه على الرِّضَا، فما دَلَّ على الرِّضَا بالمَبِيعِ يَقُومُ مَقامَ القَوْلِ، ككِنَاياتِ الطَّلاقِ. وإنْ عَرَضَه على البَيعِ، أو باعَهُ بَيعًا قاسِدًا، أو عَرَضَه على الرَّهْن، أو وَهَبَه فلم يَقْبَلِ المَوْهُوبُ له، بَطَلَ خِيَارُه، على الوَجْهِ الأَوَّلِ؛ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على الرِّضَا به. قال أحمدُ: إذا اشْتَرَطَ الخِيارَ، فباعَهُ قبلَ ذلك برِبْحٍ، فالرِّبْحُ المُبْتَاعِ؛ لأَنَّه وَجَبَ عليه حينَ عَرَضَه. فصل: وإنِ اسْتَخْدَمَ المُشْتَرِي المَبِيعَ، ففيه رِوَايَتَانِ؛ إحداهُما، لا يَبْطُلُ خِيَارُه. قال أبو الصَّقْرِ (¬1): قلتُ لأحمدَ: رَجُل اشْتَرَى جارِيَةً، ¬

(¬1) يحيى بن يزداد الوراق، وراق الإمام، عنده جزء مسائل حسان. طبقات الحنابلة 1/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وله الخِيارُ فيها يَوْمَين، فانْطَلَقَ بها، فَغَسَلَتْ رَأْسَه، أو غَمَزَتْ رِجْلَه، أو طَبَخَتْ له أو خَبَزَتْ، هل يَسْتَوْجِبُها بذلك؟ قال: لا، حتى يَبْلُغَ منها ما لَا يَحِلُّ لغَيرِه. قلتُ: فإن مَشَطَها، أو خَضَبَها، أو حَفَّها، هل اسْتَوْجَبَها بذلك؟ قال: قد بَطَلَ خِيَارُه؛ لأَنَّه وَضَعَ يَدَه عليها. وذلك لأنَّ الاسْتِخْدامَ لا يَخْتَصُّ المِلْكَ، ويُرَادُ لتَجْرِبَةِ المَبِيعِ، فأَشْبَه رُكُوبَ الدَّابَّةِ لِيَعْلَمَ سَيرَها. ونَقَلَ حَرْبٌ، عن أحمدَ، أنَّه يَبْطُلُ خِيارُه؛ لأنَّه انْتِفَاعٌ بالمَبِيعِ، أشْبَهَ لَمْسَها لشَهْوَةٍ. ويمكِنُ أنْ يقال: ما قُصِدَ به مِن الاسْتِخْدَامِ تَجْرِبَةُ المَبِيعِ، لا يُبْطِلُ الخِيَارَ، كرُكُوبِ الدّابَّةِ لِيَعْلَمَ سَيرَها، وما لا يُقْصَدُ به ذلك، يُبْطِلُ الخِيارَ، كرُكُوبِ الدَّابَّةِ لحاجَتِه. وإنْ قَبَّلَتِ الجَارِيَةُ المُشْتَرِيَ، لم يَبْطُلْ خِيارُه. وهذا مَذْهَبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافِعِيِّ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَبْطُلَ. ذكَرَه أبو الخَطّابِ، إذا لم يَمْنَعْها؛ لأنَّ إقْرَارَه لها على ذلك يَجْرِي مَجرَى اسْتِمْتَاعِه بها. وقال أبو حَنِيفَةَ: إن قَبَّلَتْه لشَهْوَةٍ بَطَلَ خِيَارُه؛ لأنَّه اسْتِمْتاعٌ يَخْتَصُّ المِلْكَ، فأَبْطَلَ خِيارَه، كما لو قَبَّلَها. ولَنا، أنَّها قُبْلَةٌ لأحَدِ المُتَعَاقِدَينِ، فلم يَبْطُلْ خِيارُه، كما لو

1616 - مسألة: (وإن أعتقه المشتري، نفذ عتقه، وبطل خيارهما. وكذلك إن تلف المبيع. وعنه، لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة)

وَإنْ أعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، نَفَذَ عِتْقُهُ، وَبَطَلَ خِيَارُهُمَا. وَكَذَلِكَ إِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ. وَعَنْهُ، لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْبَائِعِ، وَلَهُ الْفَسْخُ وَالرّجُوعُ بِالْقِيمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبَّلَتِ البائِعَ. ولأنَّ الخِيَارَ له، لا لها، فلو ألزمْناه بفِعْلِها، لألزَمْناه بغيرِ رِضاه، ولا دَلالةَ عليه، بخِلافِ ما إذا قَبَّلَها، فإنَّه يَدُلُّ على الرِّضَا بها. ومتى بَطَلَ خِيارُ المُشْتَرِي بِتَصَرُّفِه، فَخِيارُ البائِعِ باقٍ بحالِه؛ لأنَّ خِيارَه لا يَبْطُلُ برِضَا غَيرِه، إلَّا أنْ يكونَ تَصَرَّفَ بإذْنِ البائِعِ، وقد ذَكَرْناهُ. 1616 - مسألة: (وإنْ أعْتَقَه المُشْتَرِي، نَفَذَ عِتْقُه، وبَطَلَ خِيارُهما. وكذلك إنْ تَلِفَ المَبِيعُ. وعنه، لا يَبْطُلُ خِيارُ البائِعَ، وله الفَسْخُ والرُّجُوعُ بالقِيمَةِ) إذا تَصَرَّفَ أَحَدُ المُتَعاقِدَينِ بعِتْقِ المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيَارِ، نَفذَ عِتْق مَنْ حَكَمْنَا بالمِلْكِ له. وظاهِر المَذْهَبِ أنَّ المِلْكَ للمُشْتَرِي، فَيَنْفُذُ عِتْقُه، سواءٌ كان الخِيَارُ لهما، أو لأحَدِهما؛ لأنَّه عِتْقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن مالِكٍ جائِزِ التَّصَرُّفِ، فَنَفَذَ، كما بعدَ المُدَّةِ. وقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا عِتْقَ فيما لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ» (¬1). يَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّه يَنْفُذُ في المِلْكِ، ومِلْكُ البائِعِ الفَسْخَ لا يَمْنَعُ نُفُوذَ العِتْقِ مِن المُشْتَرِي، كما لو باعَ عَبْدًا بجارِيَةٍ مَعِيبَةٍ (¬2)، فإنَّ عِتْقَ المُشْتَرِي يَنْفُذُ، مع أنَّ للبائِعِ الفَسْخَ. ولو وَهَبَ رَجُلٌ ابْنَه عَبْدًا، فأعْتَقَه، نَفَذَ عِتْقُه مع مِلْكِ الأبِ اسْتِرْجاعَه. ولا يَنْفُذُ عِتْقُ البائِعِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وقال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشَّافِعِيُّ: يَنْفُذُ عِتْقُه؛ لأنَّه مِلْكُه، وإنْ كان المِلْكُ انْتَقَلَ، فإنَّه يَسْتَرْجِعُه بالعِتْقِ. ولَنا، أنَّهُ إعْتَاقٌ مِن غيرِ مالِكٍ، فلم يَنْفُذْ، كعِتْقِ الأَبِ عَبْدَ ابْنِه الذي وَهَبَه إيَّاهُ، وقد دَلَلْنا على أنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ إلى المُشْتَرِي. وإنْ قُلْنَا بالرِّوَايَةِ الأُخْرَى، وأنَّ المِلْكَ لم يَنْتَقِلْ إلى المُشْتَرِي نَفَذَ (¬3) عِتْقُ البائِع دُونَ المُشْتَرِي. وإنْ أَعتَقَ البائِعُ والمُشْتَرِي جَمِيعًا، فإنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ المُشْتَرِي، فالحُكْمُ على ما ذَكَرْناه، وإنْ تَقَدَّمَ عِتْقُ البائِعِ، فَيَنْبَغِي أنْ لا يَنْفُذَ عِتْقُ واحِدٍ منهما؛ لأنَّ البائِعَ لم يَنْفُذْ عِتْقُه، لكَوْنِه أَعْتَقَ غيرَ مَمْلُوكِه، ولكنْ حَصَلَ بإعْتَاقِه فَسْخُ البَيعِ واسْتِرْجَاعُ العَبْدِ، فلم يَنْفُذ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الطلاق قبل النكاح، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 506. والترمذي، في: باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 147. وابن ماجه، في: باب لا طلاق قبل النكاح، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 660. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 190. (¬2) في ر ا، ق: «معينة». (¬3) في ر ا، ق: «بعد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِتْقُ المُشْتَرِي. ومتى أعادَ البائِعُ الإِعْتَاقَ مَرَّةً ثانِيَةً، نَفَذَ إعْتَاقُه؛ لأنَّه عادَ العَبْدُ إليه، أشْبَهَ ما لو اسْتَرْجَعَه بصَرِيحِ قَوْلِه، إلَّا على الرِّوَايَةِ التي تقولُ: إنَّ تَصَرُّفَ البائِعِ لا يكُونُ فَسْخًا للبَيعِ. فيَنْبَغِي أنْ يَنْفُذَ إعتاقُ المُشْتَرِي. ولو اشْتَرَى مَن يَعْتِقُ عليه: جَرَى مَجْرَى إعْتَاقِه بصَرِيحِ قَوْلِه، وقد ذَكَرْنا حُكْمَه. وإنْ باعَ عَبْدًا بجَارِيَةٍ، بشرْطِ الخِيارِ، فأعْتَقَهما (¬1)، نَفَذ عِتْقُ الأَمَةِ دونَ العَبْدِ. وإنْ أَعْتَقَ أحَدَهما، ثم أعْتَقَ الآخَرَ، نَظَرْتَ؛ فإنْ أَعْتَقَ الأَمَةَ أَوَّلًا، نَفَذَ عِتْقُها، وبَطَلَ خِيَارُه، ولم يَنْفُذْ عِتْقُ العَبْدِ. وإنْ أعْتَقَ العَبْدَ أوَّلًا انْفَسَخِ البَيعُ، ورَجَعَ إليه العَبْدُ، ولم يَنْفُذْ إعْتَاقُه. ولا يَنْفُذُ عِتْقُ الأَمَةِ؛ لأنَّها خرَجَتْ بالفَسْخِ عن مِلْكِه، وعادَتْ إلى سَيِّدِها الذي باعَها. فصل: وإذا قال لعَبْدِه: إذا بِعْتُكَ فأنت حُرٌّ. ثم باعَه، صارَ حُرًّا. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الحَسَنُ، وابنُ أبي لَيلَى، ومالِكٌ، والشَّافِعِيُّ. وسَواءٌ شَرَطَا الخِيارَ، أو لم يَشْرُطَاهُ. وقال أبو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ: لا يَعْتِقُ؛ لأنَّه إذا تَمَّ بَيعُه، زال مِلْكُه عنه، فلم يَنْفُذْ إعْتَاقُه له. ولَنا، أنَّ زَمَنَ انْتِقَالِ المِلْكِ زَمَنُ الحُرِّيَّةِ؛ لأنَّ البَيعَ سَبَب لنَقْلِ المِلْكِ، وشَرْطٌ للحُرِّيَّةِ، فيَجِبُ تَغْلِيبُ الحُرِّيَّةِ، كما لو قال لعَبْدِه: إذا مِتُّ فأَنْتَ حُرٌّ. ¬

(¬1) في م: «فأعتقها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه عَلَّقَ حُرِّيَّتَه على فِعْلِه للبَيعِ، والصادِرُ منه في البَيعِ إنَّما هو الإِيجابُ، فمتى قال للمُشْتَرِي: بِعْتُكَ. فقد وُجِدَ شَرْطُ الحُرِّيَّةِ، فيَعْتِقُ قبلَ قَبُولِ المُشْتَرِي. وعَلَّلَهُ القاضِي، بأَنَّ الخِيارَ ثابِتٌ في كُلِّ بَيعٍ، فلا يَنْقَطِعُ تَصَرُّفُه فيه. فعلىِ هذا لو تَخَايَرا، ثم باعَهُ، لم يَعْتِقْ. ولا يَصِحُّ هذا التَّعْلِيلُ على مَذْهَبِنا؛ لأَنَّنَا قد ذَكَرْنا أنَّ البائِعَ لو أعْتَقَ في مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَنْفُذْ إعْتاقُه. فصل: وإذا أعْتَقَ المُشْتَرِي العَبْدَ، بَطَلَ خِيَارُهُ وخِيارُ البائِعِ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ [وأبي بَكْرٍ] (¬1)، كما لو تَلِفَ المَبِيعُ، على ما نَذْكُرُه. وفيه رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّه لا يَبْطُلُ خِيارُ البائِعَ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّعَانِ بالخِيارِ ما لم يَتَفَرَّقَا» (¬2). فعلى هذه الرِّوَايَةِ له الفَسْخُ والرُّجُوعُ بالقِيمَةِ يومَ العِتْقِ. فصل: وإنْ تَلِفَ المَبِيعُ في مُدَّةِ الخِيارِ، فلا يَخْلُو، إمّا أن يكُونَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ القَبْضِ، أو بعدَه، فإن كان قبلَ القَبْضِ، وكان مَكِيلًا، أو مَوْزُونًا، انْفَسَخَ البَيعُ، وكان مِن مالِ البائِعِ، ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا، إلَّا أن يُتْلِفَه المُشْتَرِي، فيكونَ مِن ضَمَانِه، ويَبْطُلَ خِيَارُه. وفي خِيارِ البائِع رِوَايَتانِ. وإنْ كان المَبِيعُ غيرَ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، ولم يَمْنَعِ البائِعُ المُشْتَرِيَ مِن قَبْضِه، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه مِن ضَمَانِ المُشْتَرِي، ويكونُ كَتَلَفِه بعدَ القَبْضِ. وأمّا إن تَلِفَ. المَبِيعُ بعد القَبْضِ في مُدَّةِ الخِيارِ، فهو مِن ضَمانِ المُشْتَرِي، ويَبْطُلُ خِيارُه. وفي خِيارِ البائِعِ رِوَايَتَانِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْدَاهُما، يَبْطُلُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، وأبي بَكْرٍ؛ لأنَّه خِيارُ فَسْخٍ، فبَطَلَ بتَلَفِ المَبِيعِ، كخِيَارِ الرَّدِّ بالعَيبِ إذا تَلِفَ المَعِيبُ. والثانِيَة، لا يَبْطُلُ، وللبائِعِ الفَسْخُ، ويُطَالِبُ المُشْتَرِيَ بقِيمَتِه، أو مِثْلِه إن كان مِثْلِيًّا. اخْتَارَها القَاضِي، وابنُ عَقِيلٍ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا». ولأنَّه خِيارُ فَسْخٍ، فلم يَبْطُلْ بتَلَفِ المَبِيعِ، كما لو اشْتَرَى ثَوْبًا بثَوْبٍ، فتَلِفَ أحَدُهُما، ووَجَدَ الآخرُ بالثَّوْبِ عَيبًا، فإنَّه يَرُدُّه، ويَرْجِعُ بقِيمَةِ ثَوْبِه، كذا ها هنا.

1617 - مسألة: (وحكم الوقف حكم البيع، في أحد الوجهين)

وَحُكْمُ الْوَقْفِ حُكْمُ الْبَيعِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينَ. وَفِي الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعِتْقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1617 - مسألة: (وحُكْمُ الوَقْفِ حُكْمُ البَيعِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ) وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه كالعِتْقِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ،

1618 - مسألة: (وإن وطئ المشتري الجارية فأحبلها، صارت أم ولد له، وولده حر ثابت النسب)

وَإنْ وَطِئَ الْمُشْتَرِي الْجَاريَةَ فَأحبَلَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ العِتْقَ. والصَّحِيحُ أنَّ حُكْمَه حُكْمُ البَيعِ فيما ذَكَرْنا؛ لأنَّ المَبِيعَ يَتَعَلَّقُ به حَقُّ البائِعِ، تَعَلُّقًا (¬1) يَمْنَعُ جوازَ التَّصِرُّفِ، فَمَنَعَ صِحَّةَ الوَقْفِ، كالرَّهْنِ. ويُفارِقُ الوَقْفُ العِتْقَ؛ لأنَّه مَبْنِيٌّ على التَّغْلِيبِ والسِّرَايَةُ بخِلافِ الوَقْفِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الوَقْفَ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ. واللهُ أَعْلَمُ. 1618 - مسألة: (وإنْ وَطِئَ المُشْتَرِي الجَارِيَةَ فأَحْبَلَها، صارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له، وَوَلَدُه حُرٌّ ثابِتُ النَّسَبِ) لا يَجُوزُ للمُشْتَرِي وَطءُ الجارِيَةِ في مُدَّةِ الخِيارِ، إذا كان الخِيَارُ لهما، أو للبَائِعِ وحدَه؛ لأنَّه يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ البائِعِ، فلم يُبَحْ (¬2) وَطْؤُها، كالمَرْهُونَةِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ¬

(¬1) في م: «فقلنا». (¬2) في م: «يصح».

1619 - مسألة: (وإن وطئها البائع، وقلنا: البيع ينفسخ بوطئه. فكذلك. وإن قلنا: لا ينفسخ. فعليه المهر، وولده رقيق، إلا إذا قلنا: الملك له. ولا حد فيه على كل حال. وقال أصحابنا: عليه الحد إذا علم

وَإنْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ، فَكَذَلِكَ، إنْ قُلْنَا: الْبَيعُ يَنْفَسِخُ بِوَطْئِهِ. وَإنْ قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ. فَعَلَيهِ الْمَهْرُ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ، إلا إِذَا قُلْنَا: الْمِلْكُ لَهُ. وَلَا حَدَّ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَال أصْحَابُنَا: عَلَيهِ الْحَدُّ إِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن وَطِئَها، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بشُبْهَةِ المِلْكِ، فبحَقِيقَتِه أوْلَى. ولا مَهْرَ لها؛ لأنَّها مَمْلُوكَتُه. وإنْ عَلِقَتْ منه، فالوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُه نَسَبُه؛ لأنَّه مِن أمَتِه، ولا يَلْزَمُه قِيمَتُه؛ لذلك، وتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له. فإنْ فَسَخَ البائِعُ البَيعَ، رَجَعَ بقِيمَتِها؛ لأنَّه تَعَذَّرَ الفَسْخُ فيها، ولا يَرْجِعُ بقِيمَةِ وَلَدِها؛ لأنَّه حَدَثَ في مِلْكِ المُشْتَري. وإنْ قُلْنَا: إنَّ المِلْكَ لا يَنْتَقِلُ إلى المُشْتَرِي، فلا حَدَّ عليه أيضًا؛ لأَنَّ له فيها شُبْهَةً، لوُجُودِ سَبَبِ نَقْلِ المِلْكِ إليه فيها، واخْتِلافِ أهْلِ العِلْمِ في ثُبُوتِ المِلْكِ له، والحَدُّ يُدْرَأُ بالشُّبُهَاتِ. وعليه المَهْرُ وقِيمَةُ الوَلَدِ، وحُكْمُهما حُكْمُ نَمائِهِا (¬1). وإنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وأنَّ مِلْكَه غيرُ ثابِتٍ، فوَلَدُه رَقِيقٌ. 1619 - مسألة: (وإنْ وَطِئَها البائِعُ، وقُلْنَا: البَيعُ يَنْفَسِخُ بوَطْئِه. فكذلك. وإنْ قُلْنا: لا يَنْفسِخُ. فعليه المَهْرُ، ووَلَدُه رَقِيقٌ، إلَّا إذا قُلْنَا: المِلْكُ له. ولا حَدَّ فيه على كُلِّ حالٍ. وقال أصْحَابُنَا: عليه الحَدُّ إذا عَلِمَ ¬

(¬1) في م: «نمائهما».

عَلِمَ زَوَال مِلْكِهِ، وَأنَّ الْبَيعَ لا يَنْفَسِخُ بِالْوَطْءِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زوال مِلْكِه، وأنَّ البَيعَ لا يَنْفَسِخُ بوَطْئِه. وهو المَنْصُوصُ) وأمّا البائِعُ فلا يَحِلُّ له الوَطْءُ قبلَ فَسْخِ البَيعِ. وقال بَعْضُ [أصْحابِ الشافعيِّ] (¬1): له وَطْؤُها؛ لأنَّ البَيعَ يَنْفَسِخُ بوَاطْئِه، فإنْ كان المِلْكُ انْتَقَلَ، رَجَعَتْ إليه، وإنْ لم يَكُنِ انْتَقَلَ، انْقَطَعَ حَقُّ المُشْتَرِي منها، فيكونُ واطِئًا لِمَمْلُوكَتِه التي لا حَقَّ لغَيرِه فيها. ولَنا، أنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ عنه، فلم يَحِلَّ له وَطْؤُها؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬2). ولأنَّ ابْتِداءَ الوَطْءِ يَقَعُ في غيرِ مِلْكِه، فيكونُ (¬3) حَرامًا. ولو انْفَسَخَ البَيعُ قبلَ وَطْئِه، لم يَحِلَّ حتى يَسْتَبْرِئَها. ولا حَدَّ عليه. وبهذا قال أبو حَنِيفةَ، ومالِكٌ، ¬

(¬1) في م: «الشافعية». (¬2) سورة المؤمنون 6، 7. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشّافِعِيُّ. وقال بعضُ أصْحَابِنَا: إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وأنَّ مِلْكَهُ قد زَال ولا يَنْفَسِخُ بالوَطْءِ، فعليه الحَدُّ. وذكر أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه؛ لأنَّه لم يُصَادِفْ مِلْكًا، ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ. ولَنا، أنَّ مِلْكَه يَحْصُلُ بابْتِدَاءِ وَطْئِه، فيَحْصُلُ تَمامُ الوَطْءِ في مِلْكِه، مع اخْتِلَافِ العُلَمَاء في كَوْنِ المِلْكِ له وحِلِّ الوَطْءِ له، ولا يَجِبُ الحَدُّ مع واحِدَةٍ مِن هذه الشُّبُهاتِ، فكيف إذا اجْتَمَعَتْ! مع أنَّه يَحْتَمِلُ أنْ يَحْصُلَ الفَسْخُ بالمُلَامَسَةِ قبلَ الوَطْءِ، فيكونُ المِلْكُ قد رَجَعَ إليه قبلَ وَطْئِه. ولهذا قال أحمدُ في المُشْتَرِي: إنَّها قد وَجَبَتْ عليه فيما إذا مَشَطَها، أو خَضَبَها، أو حَفَّها.

1620 - مسألة: (ومن مات منهما بطل خياره، ولم يورث)

وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمَا، بَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَمْ يُورَثْ. وَيَتَخَرَّجُ أنْ يُورَثَ كَالْأجَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فبِوَضْعِ يَدِه عليها للجِمَاعِ، ولَمْسِ فَرْجِها بِفَرْجِه، أوْلَى. وعلى هذا يكونُ ولَدُه منها حُرًّا ثابِتَ النَّسَبِ، ولا يَلْزَمُه قِيمَتُه، ولا مَهْرَ عليه، وتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له. وقال أصْحَابُنَا: إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، فوَلَدُهُ رَقِيق، لا يَلْحَقُه نَسَبُه، وإن لم يَعْلَمْ، لَحِقَه النَّسَب، ووَلَدُه حُرٌّ، وعليه قِيمَتُه يومَ الولادَةِ، وعليه المَهْرُ، ولا تصِيرُ أُمَّ وَلدٍ له؛ لأنَّه وَطِئها في غيرِ مِلكِه. فصل: ولا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وقَبْضِ المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ. وهو قولُ أبي حَنِيفَةَ، والشافعيِّ وكَرهَهُ مالِكٌ، قال: لأنَّه في مَعْنَى بَيعٍ وسَلَفٍ إذا أقبَضَه الثَّمَنَ ثم تَفَاسَخَا البَيعَ، صارَ كأَنَّه أقرَضَه إيَّاهُ. ولَنا، أنَّ هذا حُكْمٌ مِن أحْكَامِ البَيعِ، فجازَ في مُدَّةِ الخِيارِ، كالإِجَارَةِ، وما ذَكَرَه لا يَصِحُّ؛ لأنَّنَا لا نُجِيزُ له التَّصَرُّفَ فيه. 1620 - مسألة: (ومَن ماتَ منهما بَطَلَ خِيَارُه، ولم يُورَثْ) إذا ماتَ أحَدُ المُتَبَايِعَينِ في مُدَّةِ الخِيَارِ، بَطَلَ خِيَارُه في ظاهِرِ المَذْهَبِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَبْقَى خِيارُ الآخَرِ بحالِه، إلَّا أنْ يكونَ المَيِّتُ قد طالبَ بالفَسْخِ قبلَ مَوْتِه، فيكونُ لوَرَثَتِه. وهو قوْلُ الثِّوْرِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ. ويَتَخَرَّجُ أنَّ الخِيارَ لا يَبْطُلُ، ويَنْتَقِلُ إلى وَرَثَتِه؛ لِأَنَّه حَقٌّ مالِيٌّ، فيَنْتَقِلُ إلى الوَارِثِ، كالأَجَلِ، وخِيَارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. ولأنَّه حَقُّ فَسْخٍ، فيَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ، كالفَسْخِ بالتَّحَالُفِ. وهذا قولُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ. ولَنا، أنَّه حَقُّ فَسْخ لا يَجُوزُ الاعْتِياضُ عنه، فلم يُورَثْ كخِيَارِ الرُّجُوعِ في الهِبَةِ.

فَصْلٌ: الثَّالِثُ خِيَارُ الْغَبْنِ. وَيَثْبُتُ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ؛ أحَدُهَا، إِذَا تَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ وَبَاعَ لَهُمْ، فَلَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا هَبَطُوا السُّوق وَعَلِمُوا أنهُمْ قَدْ غُبِنُوا غَبْنًا يَخْرُجُ عَنِ العَادَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (فصل: الثالِثُ خِيَارُ الغَبْنِ. ويَثْبُتُ في ثَلاثِ صُوَرٍ؛ أحدُها، إذا تَلَقَّى الرُّكْبانَ فاشْتَرَى منهم [وباعَ لهم] (¬1)، فلهمُ الخِيَارُ إذا هَبَطُوا السُّوقَ وعَلِمُوا أنَّهُم قد غُبِنُوا غَبْنًا يَخْرُجُ عن العَادَةِ) رُوِيَ أنَّهُم كانُوا يَتَلَقَّوْنَ الأجْلَابَ، فيَشْتَرُونَ منهم الأمْتِعَةَ قبلَ أنْ تَهْبِطَ (¬2) الأسْوَاقَ، فرُبَّما غَبَنُوهم غَبْنًا بَيِّنًا، فيَضُرُّوا بهم، ورُبَّمَا أضَرُّوا بأهْلِ البَلَدِ؛ لأنَّ الرُّكْبَانَ إذا وَصَلُوا باعُوا أمْتِعَتَهُم، والذين يَتَلَقَّوْنَهم لا يَبِيعُونَها سَرِيعًا، ويَتَرَبَّصُونَ بها السِّعْرَ (¬3)، فهو في مَعْنَى بَيعِ الحاضِرِ للبادِى، فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فرَوَى ابنُ عَبّاسٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبانَ، ولا يَبِيعُ حاضِرٌ لبادٍ». وعن أبي هُرَيرَةَ مثلُه. مُتَّفَقٌ عليهما (¬4). وكَرِهَهُ ¬

(¬1) في م: «فباعهم». (¬2) في م: «يهبطوا». (¬3) في م: «السعة». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 185.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْثَرُ العُلَماءِ؛ منهم عمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، ومالِكٌ، واللَّيثُ، والأوْزَاعِيُّ، والشّافِعِيُّ، وإسحاقُ. وحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ، أنَّه لم يَرَ بذلك بَأْسًا. وسنَّةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ أنْ تُتبَّعَ. فإنْ خالفَ وتَلَقَّى الرُّكْبانَ واشْتَرَى منهم، فالبَيعُ صَحِيحٌ في قولِ الجَميعِ. قاله ابنُ عبدِ البَرِّ. وعن أحمدَ، أنَّ البَيعَ باطِلٌ؛ لظاهِرِ النَّهْي. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما رَوَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَلَقَّوُا الجَلَبَ، فمَن تَلَقّاهُ فاشْتَرَى منه، فإذا أتَى السُّوقَ فهو بالخِيَارِ». رَواة مُسْلِمٌ (¬1). والخِيارُ لا يكونُ إلَّا في عَقْدٍ صَحِيحٍ، ولأنَّ النَّهْيَ لا لِمَعْنًى في البَيعِ، بل يَعُودُ إلى ضَرْبٍ مِن الخَدِيعَةِ يُمْكِنُ اسْتِدْراكُها بإثْباتِ الخِيارِ، فأَشْبَهَ بَيعَ المُصَرَّاةِ، وفارَقَ بَيعَ الحاضِرِ للبادِي، فإنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُه بالخِيارِ، إذْ ليس الضَّرَرُ ¬

(¬1) في: باب تحريم تلقي الجلب، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1157. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التلقي، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 241. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية تلقي البيوع، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 229. والنسائي، في: باب التلقي، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 226. وابن ماجه، في: باب النهي عن تلقي الجلب، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 735. والدارمي، في: باب النهي عن تلقي البيوع، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 255. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 488.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، إنَّما هو على المُسْلِمِينَ. إذا تَقَرَّرَ هذا، فللبَائِعِ الخِيارُ إذا عَلِمَ أنَّه قد غُبنَ. وقال أصْحابُ الرَّأْي: لا خِيارَ له. وقد رَوَينَا قَوْلَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذا، ولا قولَ لأحَدٍ مع قَوْلِه. وظَاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه لا خِيارَ له إلَّا مع الغَبْنِ؛ لأنَّه إنَّما يَثْبُتُ لأَجْلِ الخَدِيعَةِ، ودَفْعِ الضَّرَرِ عن البائِعِ، ولا ضَرَرَ مع عدَمِ الغَبْنِ. وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ. ويُحْمَلُ إطلاقُ الحَدِيثِ في إثْباتِ الخِيارِ على هذا؛ لِعِلْمِنا بمَعْناه ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ له الخِيارَ إذا أتَى السُّوقَ، فيُفْهَمُ منه أنَّه أشارَ إلى مَعْرِفَتِه بالغَبْنِ في السُّوقِ، ولولا ذلك لَكَانَ الخِيارُ له مِن حينِ البَيعِ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّ الخِيَارَ يَثْبُتُ له بمُجَرَّدِ الغَبْنِ، وإنْ قَلَّ. والأوْلَى أنْ يَتَقَيَّدَ بما يَخْرُجُ عن العادَةِ؛ لأنَّ ما دُونَ ذلك لا يَنْضَبِطُ. وقال أَصْحَابُ مالِكٍ: إنَّما نُهِيَ عن تَلِّقي الرُّكْبانِ لِما يَفُوتُ به مِن الرِّفْقِ بأَهلِ السُّوقِ؛ لئَلَّا يَنْقَطِعَ عنهم ما لَه جَلَسُوا؛ مِن ابْتِغاءِ فَضْلِ اللهِ تَعالى. قال ابنُ القاسِمِ: فإن تَلَقَّاهَا مُتَلَقٍّ فاشْتَرَاها، عُرِضَتْ على أهْلِ السُّوقِ، فيَشْتَرِكُونَ فيها. وقال اللَّيثُ بنُ سعدٍ: يُباعُ في السُّوقِ. وهذا مُخالِفٌ لمَدْلُولِ الحَدِيثِ؛ فإنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ الخِيارَ للبائِعِ إذا هَبَطَ السُّوقَ، ولم يَجْعَلُوا له خِيَارًا، وجَعْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الخِيَارَ له يَدُلُّ على أنَّ النَّهْيَ عن التَّلَقِّي لِحَقِّه، لا لِحَقِّ غيرِه. ولأَنَّ الجالِسَ في السُّوقِ كالمُتَلَقِّي، في أنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما مُبْتَغ لفَضْلِ اللهِ، ولا يَلِيقُ بالحِكْمَةِ فَسْخُ عَقْدِ أَحَدِهما. وإلحاقُ الضَّرَرِ به، دَفْعًا للضَّرَرِ عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِه، وليس رِعايَةُ حَقِّ الجالِسِ أوْلَى مِن رِعَايَةِ حَقِّ المُتَلَقِّي، ولا يُمْكِنُ اشْتِراكُ أهْلِ السُّوقِ كُلِّهم في سِلْعَتِه، فلا يُعَرَّجُ على مِثْلِ هذا. فصل: فإن تَلَقَّاهُم فَباعَهُم شَيئًا، فهو كمَنِ اشْتَرَى منهم، ولهم الخِيَارُ إذا غَبَنَهُم غَبْنًا يَخْرُجُ عن العَادَةِ. وهذا أحَدُ الوَجْهَينِ للشّافِعِيَّةِ. وقالُوا في الآخَرِ: النَّهْيُ عن الشِّراءِ دُونَ البَيعِ، فلا يَدْخُلُ البَيعُ فيه. وهذا مُقْتَضَى قَوْلِ أصْحابِ مالِكٍ؛ لأنَّهُم عَلَّلُوه بما ذَكَرْنا عنهم، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك في البَيعِ لهم. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبانَ». والبائِعُ داخِلٌ فيه. ولأنَّ النَّهْيَ عنه لِما فِيه مِن خَدِيعَتِهم وغَبْنِهم، وهذا في البَيعِ كهُوَ في الشِّرَاءِ، والحَدِيثُ قد جاءَ مُطْلَقًا، ولو كان مُخْتَصًّا بالشِّراءِ لأُلحِقَ به ما في مَعْناه، وهذا في مَعْناه. فصل: فإنْ خَرَجَ لغَيرِ قَصْدِ التَّلَقِّي، فلَقِيَ رَكْبًا، فقال القاضِي:

1621 - مسألة: (الثانية، النجش؛ وهو أن يزيد في السلعة من لا

وَالثَّانِيَةُ، النَّجْشُ؛ وَهُوَ أنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا؛ لِيَغُرَّ الْمُشْتَرِيَ. فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا مَا غبِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس له الابتِيَاعُ منهم ولا الشِّرَاءُ. وهذا أحَدُ الوَجْهَينِ لأصْحَابِ الشّافِعِيِّ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَحْرُمَ عليه ذلك. وهو قولُ اللَّيثِ بنِ سَعْدٍ، والوَجْهُ الثانِي لأصْحَابِ الشافِعِيِّ؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ التَّلَقِّيَ، فلم يَتَنَاوَلْه النَّهْيُ. ولأنَّه نادِرٌ، فلا يكثُرُ ضَرَرُه كمَن يَقْصِدُ ذلك. وَوَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه إنّما نُهِيَ عن التَّلَقِّي دَفْعًا للخَدِيعَةِ والغَبْنِ عنهم، وذلك مُتَحَقِّقٌ، سواءٌ قَصَدَ التَّلَقِّيَ أو لم يَقْصِدْه، فأَشْبَهَ ما لو قَصَدَ. 1621 - مسألة: (الثانِيَةُ، النَّجْشُ؛ وهو أنْ يَزِيدَ في السِّلْعَةِ مَن لا (¬1) يُرِيدُ شِراءَها؛ ليَغُرَّ المُشْتَرِيَ. فله الخِيَارُ إذا غُبِنَ) النَّجْشُ حَرامٌ وخِدَاعٌ. قال البُخَارِيُّ (¬2): النّاجِشُ آكِلُ رِبًا خائِنٌ، وهو خِدَاعٌ باطِلٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أي نقلًا عن ابن أبي أوفى. انظر التخريج الآتي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَحِلُّ. لِما رَوَى ابنُ عمرَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن النَّجْشِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ في ذلك تَغْرِيرًا بالمُشْتَرِي وخَدِيعَةً له، وقد رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قَال: «الْخَدِيعَةُ في النّارِ» (¬2). فإنِ اشْتَرَى مع النَّجْشِ، فالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، في قولِ أكثرِ العُلَماءِ، منهم الشّافِعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن أحمدَ، أنَّ البَيعَ باطِلٌ. اخْتَارَه أبو بكْرٍ. وهو قَوْلُ مالِكٍ؛ لأنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الفَسَادَ. ولَنا، أنَّ النَّهْيَ عادَ إلى النّاجِشِ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع، من كتاب البيوع، وفي: باب ما يكره من التناجش، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 3/ 91، 9/ 31. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. . . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1156. كما أخرجه النسائي، في: باب النجش، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 227. وابن ماجه، في: باب ما جاء في النهي عن النجش، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 734. والإمام مالك، في: باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 684. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 7، 63، 108، 156، 319. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا إلى العاقِدِ، فلم يُؤثِّرْ في البَيعِ. ولأنَّ النَّهْيَ لحَق آدَمِيٍّ، فلم يَفْسُدِ العَقْدُ، كبَيعِ المُدَلِّسِ. وفارَق ما كانَ لحَقِّ الله تعالى، فإنَّ حَقَّ الآدَمِيِّ يُمْكِنُ جَبْرُه بالخِيارِ، أو زِيَادَةٍ في الثَّمَنِ، لكنْ إنْ كان في البَيعِ غَبْنٌ لم تَجْرِ العادَةُ بمِثْلِه، فللمُشْتَرِي الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والإِمْضَاءِ، كما في تَلَقِّي الرُّكْبانِ. فإنْ كان يُتَغَابَنُ بمِثْلِه، فلا خِيارَ له. وسواءٌ كان النَّجْشُ بمُواطَأَةٍ

1622 - مسألة: (الثالثة، المسترسل، إذا غبن الغبن المذكور)

وَالثَّالِثَةُ، الْمُسْتَرْسِلُ، إِذَا غُبِنَ الْغَبْنَ الْمَذْكُورَ. وَعَنْهُ، أَنَّ النَّجْشَ وَتَلَقِّيَ الرُّكْبَانِ بَاطِلَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن البائِعِ، أو لم يَكُنْ. وقال أصحابُ الشّافِعِيِّ: إنْ لم يكُنْ ذلك بمُواطَأةٍ مِن البائِعِ وعِلْمِه، فلا خِيارَ. واخْتَلَفُوا فيما إذا كانَ بمُوَاطَأَةٍ منه، فقال بَعْضُهم: لا خِيَارَ للمُشْتَرِي، لان التَّفْرِيطَ منه، حيث اشْتَرَى ما لا يَعْرِفُ قِيمَتَه. ولَنا، أنَّه تَغْرِيرٌ بالعاقِدِ، فإذا غُبِنَ ثَبَتَ له الخِيَارُ، كما في تَلَقِّي الرُّكْبانِ، وبذلك يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. ولو قال البائِعُ: أُعْطِيتُ بهذه السِّلْعَةِ ما لم يُعْطِ. فَصَدَّقَه المُشْتَرِي، ثم بان (¬1) كاذِبًا، فالبَيعُ صَحِيحٌ، وللمُشْتَرِي الخيارُ أيضًا؛ لأنَّه في مَعْنَى النَّجْشِ. 1622 - مسألة: (الثالِثَةُ، المُسْتَرْسِلُ، إذا غُبِنَ الغَبْنَ المَذْكُورَ) يَعْنِي إذا غُبِنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عن العَادَةِ -كما ذَكَرْنا في تَلَقِّي الرُّكْبانِ والنَّجْشِ- يُثْبِتُ له الخِيارَ بينَ الفَسْخِ والإِمْضَاءِ. وبه قال مالِكٌ. وقال ابنُ أبي مُوسَى: وقد قيلَ: قد لَزِمَهُ البَيعُ، ولا فَسْخَ له. وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشّافِعِيِّ؛ لأنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مع سَلَامَتِها لا يَمْنَعُ لُزُومَ العَقْدِ، كغَيرِ المُسْتَرْسِلِ، وكالغَبْنِ اليَسِيرِ. ولَنا، أنَّه غَبْنٌ حَصَلَ لجَهْلِه بالمَبِيعِ، فأَثبَتَ الخِيارَ، كالغَبْنِ في تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فأمّا غيرُ المُسْتَرْسِلِ، فإنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ بالغَبْنِ، فهو كالعالِمِ بالعَيبِ، وكذا لو اسْتَعْجَلَ فجَهِلَ ما لو تَثَبَّتَ لَعَلِمَه، لم يكُنْ له خِيارٌ؛ لأنَّه انْبَنَى على تَفْرِيطِه وتَقْصِيرِه. والمُسْتَرْسِلُ هو الجاهِلُ بقيمَةِ السِّلْعَةِ، ولا يُحْسِنُ المُبايَعَةَ. قال أحمدُ: المُسْتَرْسِلُ الذي لا يُحْسِنُ أنْ يُماكِسَ. وفي لَفْظٍ: الذي لا يُماكِسُ. فكَأنَّه اسْتَرْسَلَ إلى البَائِعِ، فأَخذَ ما أعْطَاهُ مِن غيرِ مُمَاكَسَةٍ، ولا مَعْرِفَةٍ بغَبْنِه. ولا تَحْدِيدَ للغَبْنِ، في المَنْصُوصِ عن أحمدَ. وحدَّه أبو بكْرٍ في «التَّنْبِيهِ»، وابنُ أبي مُوسَى في «الإِرْشادِ» بالثُّلُثِ. وهو قولُ مالِكٍ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «والثُّلُثُ كَثِيرٌ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الوصية بالثلث. . . .، من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 3/ 4، 4. ومسلم، في: باب الوصية بالثلث، من كتاب الوصية. صحيح مسلم 3/ 1253. كما أخرجه النسائي، في: باب الوصية بالثلث، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 204. وابن ماجه، في: باب الوصية بالثلث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 905. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 230، 233.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: السُّدْسُ. والأوْلَى تَحْدِيدُه بما لا يَتَغابَنُ النّاسُ به في العادَةِ؛ لأنَّ ما لا يَرِدُ الشَّرْعُ بتَحْدِيدِه يُرْجَعُ فيه إلى العُرْفِ. فصل: وإذا وقَعَ البَيعُ على غيرِ مُتَعَيِّن، كقَفِيزٍ مِن صُبْرَةٍ، ورَطْلٍ مِن دَنٍّ، فظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِيِّ أنَّه يَلْزَمُ بالتَّفَرُّقِ، سواءٌ تَقَابَضَا، أوْ لَا. وقال القاضِي في مَوْضِعٍ: [المَبِيعُ الذي] (¬1) لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ، كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ، فقد صَرَّحَ بأنَّه لا يَلْزَمُ قبلَ قَبْضِه. وذكرَ في موضِع آخَرَ: مَن اشْتَرَى قَفِيزَينِ (¬2) مِن صُبْرَتَينِ، فتَلِفَتْ إحْدَاهُما قبلَ القَبْضِ، بَطَلَ العَقْدُ في التّالِفِ دُونَ الباقِي. رِوايَةً واحِدَةً، ولا خِيارَ للبائِعِ. وهذا تَصْرِيحٌ باللُّزُومِ في حَقِّ البائِحِ قَبْلَ القَبْضِ، فإنَّه لو كان جائِزًا، كان له الخِيارُ، سَواءٌ تَلِفَتْ إحْدَاهُما أوْ لم تَتْلَفْ. ووَجْهُ الجَوازِ، ¬

(¬1) في ر ا: «البيع». (¬2) في م: «قفيزًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه مَبِيعٌ لا يَمْلِكُ بَيعَه ولا التَّصَرُّفَ فيه، فكان جائِزًا، كما قبلَ التَّفَرُّقِ، ولأَنَّه لو تَلِفَ لكانَ مِن ضَمانِ البائِعِ. ووَجْهُ اللُّزُوم قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - «وإنْ تَفَرَّقَا بعدَ أنْ تَبَايَعَا، ولم يَتْرُكْ أحَدُهما البَيعَ، فقد وَجَبَ البَيعُ» (¬1). وما ذَكَرْناه للقولِ الأوَّلِ يَنْتَقِضُ بِبَيعِ المَوْصُوفِ والسَّلَمِ، فإنَّه لازِمٌ مع ما ذَكَرْناه. وكذلك سائِرُ المَبِيعِ (¬2) في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 265. (¬2) في م: «البيع».

فَصْلٌ: الرَّابعُ، خِيَارُ التَّدْلِيسِ بِمَا يَزِيدُ بِهِ الثَّمَنُ، كَتَصْرِيَةِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَتَحْمِيرِ وَجْهِ الْجَارِيَةِ، وَتَسْويدِ شَعَرِهَا وَتَجْعِيدِهِ، وَجَمْعِ مَاءِ الرَّحَى وَإرْسَالِهِ عِنْدَ عَرْضِهَا. فَهَذَا يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ الرَّدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (الرَّابعُ، خِيَارُ التَّدْلِيسِ بما يَزِيدُ به (¬1) الثَّمَنُ؛ كتَصْرِيَةِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ، وتحْمِيرِ وَجْهِ الجارِيَةِ، وتَسويدِ شَعَرها وتَجْعِيدِه، وجَمْعِ ماءِ الرَّحَى وإرْسَالِه عندَ عَرْضِها. فهذا يُثْبِتُ للمُشْتَرِي خِيارَ الرَّدِّ) التَّصْرِيَةُ: جَمْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ. يُقالُ: صَرَّى الشّاةَ، وصَرَى اللَّبَنَ في ضَرْعِ الشّاةِ. بالتَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ. ويُقالُ: صَرَى الماءَ في الحَوْضِ، وصَرَى الطّعامَ في فِيه، وصَرَى الماءَ في ظَهْرِه. إذا تَرَكَ الجِماعَ. وأنشد أبو عُبَيدٍ (¬2): ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسخ: «عبيدة». والرجز في غريب الحديث، لأبي عبيد 2/ 241. وتهذيب اللغة 12/ 224. واللسان (ص ر ى). وهو للأغلب العجلي، وكان جاهليا إسلاميا، قتل بنهاوند، وهو أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله. الشعر والشعراء، لابن قتيبة 2/ 413.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأتْ (¬1) غُلامًا قدَ صَرَى في فِقْرَتِه … ماءَ الشَّبَابِ عُنْفُوانَ شِرَّتِه (¬2) قال البُخَارِيُّ: أصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الماءِ. يُقالُ: صَرَّيتُ الماءَ. ويقال للمُصَرَّاةِ: المُحَفَّلَةُ. وهو مِن الجَمْعِ أيضًا. ومنه سُمِّيَتْ مَجامِعُ النَّاسِ مَحافِلَ. والتَّصْرِيَةُ حَرَامٌ إذا أُرِيدَ بها التَّدْلِيسُ على المُشْتَرِي؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُصَرُّوا الإِبلَ» (¬3). وقولِه: «مَنْ غَشَّنَا فلَيسَ مِنّا» (¬4). ورَوَى ابنُ ماجَه (¬5)، بإسْنَادِه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «بَيعُ المُحَفَّلَاتِ خِلَابَةٌ، ولا تَحِلُّ الخِلابَة لمُسْلِمٍ». ورَواهُ ابنُ عبدِ البرِّ: ¬

(¬1) في م: «رأيت». (¬2) في الأصل، ق: «ستره». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم. . . .، وباب إن شاء رد المصراة وفي حلبتها صاع من تمر، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 92، 93. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. . . .، و: باب حكم بيع المصراة، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1155، 1158، 1159. وأبو داود، في: باب من اشترى مصراة فكرهها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 242. والنسائي، في: باب النهي عن المصراة. . . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 223. والإمام مالك، في باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 683، 684. والإمام أحمد، في: المسند 242/ 2، 417، 460، 465. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 144. (¬5) في: باب بيع المصراة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 753 كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 433.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «ولا تَحِلُّ خِلَابَةُ مُسْلِم» (¬1). فمَن اشْتَرَى مُصَرَّاةً مِن بَهِيمَةِ الأَنْعامِ وهو لا يَعْلَمُ تَصْرِيَتَها، ثم عَلِمَ، فله الخِيارُ في الرَّدِّ والإِمْسَاكِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسْعُودٍ،، وابنِ عمرَ، وأبي هُرَيرَةَ، وأَنسٍ. وإليه ذَهَبَ مالِكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ، وأبو يُوسُفَ، وعامَّةُ أهْلِ العِلْمِ. وذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ، ومحمدٌ إلى أنَّه لا خِيَارَ له؛ لأنَّ ذلك ليس بعَيبٍ، بدَلِيلِ أنَّها لو لم تكُنْ مُصَرَّاةً فوَجَدَها أقلَّ لَبَنًا مِن أَمثالِها، لم يَمْلِكْ رَدَّها، والتَّدْلِيسُ بما ليس بعَيبٍ لا يُثْبِتُ الخِيارَ، كما لو عَلَفَها، فانْتَفَخَ بَطْنُها، فَظنَّ المُشْتَرِي أنَّها حامِلٌ. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيرَةَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا تُصَرُّوا الإِبلَ والغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَها فإنَّه بِخَيرِ النَّظَرَينِ بعدَ أنْ يَحْلِبَها، إنْ شاءَ أَمْسَكَ، وإنْ شاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِن تَمْر». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورَوَى ابنُ عمرَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنِ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً، فَهُوَ بالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أيّامٍ، فإنْ رَدَّها رَدَّ مَعَها مِثْلَ أو مِثْلَيْ لَبَنِها قَمْحًا». رَواهُ أبو دَاودَ (¬3). ولأنَّه تَدْلِيسٌ بما يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ باخْتِلافِه، فوَجَبَ به ¬

(¬1) الاستذكار 21/ 85. التمهيد 18/ 209، 210. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬3) في: باب من اشترى مصراة فكرهها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 243. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب بيع المصراة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 753. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 417.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّدُّ، كالشَّمْطَاءِ إذا سَوَّدَ شَعَرَها. وبه يَبْطُلُ قِياسُهُم، فإنَّ بَيَاضَه ليس بعَيبٍ، كالكِبَرِ، وإذا دَلَّسَه ثَبَتَ له الخِيارُ. وأمّا انْتِفَاخ البَطْنِ فقد يكونُ لغَيرِ الحَمْلِ، فلا مَعْنَى لحَمْلِه عليه، وعلى أنَّ هذا القِياسَ يُخَالِفُ النَّصَّ، واتِّباعُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوْلَى. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّما يَثْبُتُ الخِيَارُ إذا لم يَعْلَم المُشْتَرى بالتَّصْرِيَةِ، فإنْ كان عالِمًا، لم يَثْبُتْ له خِيارٌ. وقال أصْحابُ الشّافِعِيِّ: يَثْبُتُ له الخِيَارُ في وَجْهٍ، للخَبَرِ، ولأنَّ انْقِطَاعَ اللَّبَنِ لم يُوجَدْ، وقد يَبْقَى على حالِه، كما لو تَزَوَّجَتْ عِنِّينًا، ثم طَلَبَتِ الفَسْخَ. ولَنا، أنَّه اشْتَرَاها عالِمًا بالتَّدْلِيسِ، فلم يكنْ له خِيَارٌ، كما لو اشْتَرَى مَن سُوِّدَ شَعَرُها عالِمًا بذلك، ولأنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ، فلم يَثْبُتْ له الرَّدُّ،؛ لو اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه، وبَقاءُ اللَّبَنِ على حالِه نادِرٌ بَعِيدٌ، لا يُعَلَّقُ عليه حُكْمٌ، والأصْلُ الذي قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. فصل: وكذلك كلُّ تَدْلِيس يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ لأجْلِه، مثلَ أنْ يُسَوِّدَ شَعَرَ الجارِيَةِ، أو يُجَعِّدَه، أو يُحَمِّرَ وَجْهَهَا، أو يُضْمِرَ الماءَ على الرَّحَى ويُرْسِلَه عنَد عَرْضِهَا على المُشْتَرِي، يُثْبِتُ الخِيارَ أيضًا، لأَنَّه تَدْلِيسٌ يَخْتَلِفُ الثمَنُ باخْتِلافِه، فأَثبَتَ الخِيَارَ، كالتَّصْرِيَةِ. وبهذا قال الشّافِعِيُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَوَافَقَ أبو حَنِيفَةَ في تَسْويدِ الشَّعَرِ. وقال في تَجْعِيدِه: لا يَثْبُتُ به خِيارٌ؛ لأنَّه تَدْلِيسٌ بما ليس بعَيبٍ، أشْبَهَ ما لو سَوَّدَ أنامِلَ العَبْدِ ليَظُنَّه كاتِبًا أو حَدَّادًا. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بتَسْويدِ الشَّعَرِ. وأمّا تَسْويدُ أنامِلِ العَبْدِ، فَلَيسَ بمُنْحَصِرٍ في كَوْنِه كاتِبًا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ قد وَلَغَ بالدَّوَاةِ، أو كان غُلامًا لكاتِبٍ يُصْلِحُ له الدَّوَاةَ، فظَنُّه كاتِبًا طَمَعٌ لا يَسْتَحِقُّ به فَسْخًا. فإنْ حَصَلَ هذا مِن غيرِ تَدْلِيسٍ، مثلَ أَنِ اجْتَمَعَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ مِن غيرِ قَصْدٍ، أو احْمَرَّ وَجْهُ الجارِيَةِ لخَجَلٍ أو تَعَبٍ، أو تَسَوَّدَ شَعَرُها بشيءٍ وَقَعَ عليه، فقال القاضِي: له الرّدُّ أيضًا؛ لدَفْعِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بالمُشْتَرِي، والضَّرَرُ واجِبُ الدَّفْعِ، سواءٌ قَصَدَ أو لم يَقْصِدْ، فأشْبَهَ العَيبَ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَثْبُتَ الخِيارُ بحُمْرَةِ الوَجْهِ بخَجَلٍ أو تَعَبٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ذلك، فتَعَيَّنَ، [فظَنُّه من خِلْقَتِه الأصْلِيَّةِ طَمَعٌ] (¬1)، فأَشْبَهَ سوادَ أنامِلَ العَبْدِ. فصل: وإنْ دَلَّسَه بما لا يَخْتَلِفُ به الثَّمَنُ، كتَبْييضِ الشَّعَرِ، وتسْبِيطِه، فلا خِيارَ للمُشتَرِى؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في ذلك. وإن عَلفَ الشاةَ فَظَنَّها المُشْتَرِي حامِلًا، أو سَوَّدَ أنامِلَ العَبْدِ، أو ثَوْبَه، لِيَظُنَّه كاتِبًا أو ¬

(¬1) في الأصل، م، ق: «ظنه من خلقته الأصلية لطمع».

1623 - مسألة: (ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر.

وَيَرُدُّ مَعَ الْمُصَرَّاةِ عِوَضَ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَإِنْ لَمْ يَجِدِ التَّمْرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حَدّادًا، أو كانتِ الشّاةُ عَظِيمَةَ الضَّرْعِ خِلْقَةً، فَظَنَّها كَثِيرةَ اللَّبَن، فلا خِيارَ له، لأنَّ ذلك لا يَنْحَصِرُ فيما ظَنَّهُ المُشْتَرِي، لأنَّ سوادَ الأنَامِلِ قد يكونُ لوَلَغٍ، أو خِدْمَةِ كاتِبٍ أو حَدَّادٍ، أو شُرُوعٍ في الكِتَابَةِ، وانْتِفاخُ البَطْنِ يكونُ للأكْلِ، فظنُّ المُشْتَرِي غيرَ ذلك طَمَعٌ لا يَثْبُتُ به الخِيَارُ. فصل: فإنْ أرادَ إمْساكَ المُدَلَّسِ مع الأرْشِ، لم يكُنْ له ذلك؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَجْعَلْ له في المُصَرَّاةِ أرْشًا، بل خَيَّرَه بينَ الإِمْسَاكِ والرَّدِّ مع صاعٍ مِن تَمْرٍ. ولأنَّ المُدَلَّسَ ليس بمَعِيبٍ، فلم يَسْتَحِقَّ له أرْشًا. فإنْ تَعَذَّرَ عليه الرَّدُّ بِتَلَفٍ، فَعَلَيه الثَّمَنُ؛ لأَنَّه تَعَذَّرَ عليه الرَّدُّ، ولا أرْشَ له، أشْبَهَ غيرَ المُدَلَّسِ. فإنْ تَعَيَّبَ عندَه قبلَ العِلْمِ بالتَّدْلِيسِ، فله رَدُّه ورَدُّ أرْشِ العَيبِ عندَه وأَخْذُ الثّمَنِ، وإنْ شاءَ أمْسَكَ ولا شيءَ له. وإنْ تَصَرَّفَ في المَبِيعِ بعدَ عِلْمِه بالتَّدْلِيسِ، بَطَلَ رَدُّه، كما لو تَصَرَّفَ في المَبِيعِ المَعِيبِ، وإنْ أَخَّرَ الرَّدَّ مِن غيرِ تَصَرُّفٍ، فحُكْمُه حُكْمُ تَأْخِيرِ رَدِّ المَعِيبِ، على ما نَذْكُرُه إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. 1623 - مسألة: (ويَرُدُّ مع المُصَرَّاةِ عِوَضَ اللَّبَنِ صاعًا مِن تَمْرٍ.

فَقِيمَتُهُ فِي مَوْضِعِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَاقَةً، أوْ بَقَرَةً، أوْ شَاةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنْ لم يَجِدِ التَّمْرَ، فقِيمَتُهُ في مَوْضِعِه، سواءٌ كانت ناقَةً، أو بقَرَةً، أو شاةً) إذا رَدَّ المُصَرَّاةَ لَزِمَه ردُّ (¬1) بَدَلِ اللَّبَنِ، في قولِ كُل مَنْ جَوَّزَ رَدَّها، وهو مُقَدَّرٌ بصَاعٍ مِن تَمْرٍ، كما جاءَ في الحَدِيثِ. وهذا قَوْلُ اللَّيثِ، وإسحاقَ، والشّافِعِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ. وذَهَبَ مالِكٌ، وبعضُ الشافِعِيَّةِ إلى أنَّ الواجِبَ صاعٌ مِن قُوتِ البَلَدِ؛ لأنَّ في بعضِ الحديثِ (¬2): «ورَدَّ مَعَها صَاعًا مِنْ طَعامٍ». وفي بَعْضِها: «ورَدَّ مَعَها مِثْلَ أو مِثْلَي لَبَنِها قَمْحًا». فجَمَعَ بين الأحَادِيثِ، وجَعَلَ تَنْصِيصَه على التَّمْرِ لأَنَّه غالِبُ قوتِ البَلدِ في المَدِينَةِ، [ونصَّ على القَمْحِ] (¬3)؛ لأنَّه غالِبُ قوتِ بلَدٍ آخَرَ. وقال أبو يُوسُفَ: يَرُدُّ قِيمَةَ اللَّبَنِ؛ لأنَّه ضَمانُ مُتْلَفٍ، فَيُقَدَّرُ بقِيمَتِه، كسائِرِ المُتْلَفَاتِ. وحُكِيَ ذلك عن ابنِ أبي لَيلَى. وحُكِيَ عن زُفَرَ، أنّه يَرُدُّ صَاعًا مِن تَمْر أو نِصْف صاعٍ بُرٍّ، كقَوْلِهم في الفِطْرَةِ. ولَنا، الحَدِيث الصَّحِيحُ الذي أوْرَدْنَاهُ، وقد نصّ فيه على التَّمْرِ فقال: «إِنْ شاءَ رَدَّهَا وصَاعًا مِن تَمْرٍ». وللبُخَارِيِّ: «مَن اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَها، فإنْ رَضِيَها أمْسَكَها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الأحاديث». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنْ سَخِطَها ففي حَلْبِها صاعٌ مِن تَمْرٍ». ولمُسْلِمٍ: «رَدَّهَا ورَدَّ صَاعًا مِن تَمْرٍ، لا سَمْرَاءَ» (¬1). يَعْنِي لا يَرُدُّ قمْحًا. والمرادُ بالطَّعامِ في الحَدِيثِ التَّمْرُ، لأنَّه مُطْلَقٌ في أحَدِ الحَدِيثَينِ، مُقَيَّدٌ في الآخرِ، في قَضِيَّةٍ واحِدَةٍ، والمُطْلَقُ فيما هذا سَبِيلُه يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ. وحَدِيثُ ابنِ عمرَ في رُواتِه (¬2) جُمَيعُ بنُ عُمَيرٍ التَّيمِيُّ. قال ابنُ نُمَيرٍ: هو مِن أكْذَبِ النّاسِ. وقال ابنُ حِبّانَ: كان يَضَعُ الحَدِيثَ. مع أنَّ الحَدِيثَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بالاتِّفَاقِ، إذْ لا قائِلَ بإيجابِ مثلِ لَبَنِها، أو مِثْلَي لَبَنِها قَمْحًا، ثم قد شَكَّ فيه الرَّاوى، مع مُخَالفَةِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فلا يُعَوَّلُ عليه. وقِياسُ أبي يُوسُفَ مُخالِفٌ للنَّصِّ، فلا يُقْبَلُ. ولا يَبْعُدُ أنْ يُقَدِّرَ الشارِعُ بَدَلَ هذا المُتْلَفِ، قَطْعًا للخُصُومَةِ والتَّنَازُعِ، كما قَدَّرَ دِيَةَ الآدَمِيِّ ودِيَةَ أطْرَافِه. ولا يُمْكِنُ حَمْلُ الحَدِيثِ على أنَّ الصّاعَ كان قِيمَةَ اللَّبَنِ فلذلك أوْجَبَه؛ لوُجُوهٍ ثَلاثَةٍ، أحدُها، أنَّ القِيمَةَ هي الأثْمانُ لا التَّمْرُ. الثانِي، ¬

(¬1) تقدم تخريجه برواياته في صفحة 347. (¬2) في م: «روايته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أوْجَبَ في المُصَرَّاةِ مِن الإِبِلِ والغَنَمِ جَمِيعًا صاعًا مِن تَمْرٍ مع اخْتِلافِ لَبَنِها. الثالِثُ، أنّ لَفْظَه للعُمُومِ، فَيَتَناوَلُ كُلَّ مُصَرَّاةٍ، ولا يَتَّفِقُ أنْ تكونَ قِيمَةُ لَبَنِ كُلِّ مُصَرَّاةٍ صاعًا، وإنْ أمْكَنَ أنْ يكونَ كذلك، فيَتَعَيَّنُ إيجابُ الصاعِ؛ لأَنَّه القِيمَةُ التي عَيَّنَ الشارِعُ إيجابَها فلا يَجُوزُ العُدُولُ عنها. ويَجِبُ أنْ يكونَ صاعُ التَّمْرِ جَيِّدًا غيرَ مَعِيبٍ؛ لأَنَّهُ واجِب بإطْلاقِ الشارِعِ، فيَنْصَرِفُ إلى مَا ذَكَرْنَاه، كالصّاعِ الواجِبِ في الفِطْرَةِ. ويَكْفِي فيه أدْنَى ما يَقَعُ عليه اسمُ الجَيِّدِ. ولا فَرْق بين أنْ تكونَ قيمَةُ التَّمْرِ أقَلَّ مِن قِيمَةِ الشاةِ أو أكْثَرَ أو مِثْلَها. نَصَّ عليه. وليس فيه جَمْعٌ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ؛ لأنَّ التَّمْرَ بَدَلُ اللَّبَنِ، قَدَّرَهُ الشَّارِعُ به، كما قَدَّرَ في يَدَي العَبْدِ قيمَتَه، وفي يَدَيهِ ورِجْلَيهِ قِيمَتَه مَرَّتَينِ، مع بقاءِ العَبْدِ على مِلْكِ السَّيِّدِ. وإنْ عَدِمَ التَّمْرَ في مَوْضِعِه، فعَلَيه قِيمَتَه في مَوْضِعِ العَقْدِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ عَينٍ أَتلَفَها، فَيَجِبُ عليه قِيمَتُها. فصل: ولا فَرْقَ بينَ النَّاقَةِ والبَقَرَةِ والشَّاةِ فيما ذَكَرْنا. وقال داودُ: لا يَثْبُتُ الخِيارُ بتَصْرِيَةِ البَقَرَةِ؛ لأنَّ الحَدِيثَ: «لا تُصَرُّوا الإِبِلَ والغَنَمَ». فَدَلَّ على أنَّ ما عَداهُما بخِلافِهما، ولأنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ فيهما بالنَّصِّ، والقِياسُ لا تَثْبُتُ به الأَحْكَامُ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه: «مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً». و «مَنِ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً» (¬1). ولم يُفَصِّلْ. والخَبَرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 347، 348.

1624 - مسألة: (فإن كان اللبن بحاله لم يتغير، رده، واجزأه. ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر)

فَإنْ كَانَ اللَّبَنُ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، رَدَّهُ، وَأَجْزَأهُ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يُجْزِئَهُ إِلَّا التَّمْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه تَنْبِيهٌ على تَصْرِيَةِ البَقَرِ؛ لأنَّ لَبَنَها أكثرُ وأنْفَعُ، فيَثْبُتُ بالتَّنْبِيهِ، وهو حُجَّةٌ عندَ الجَمِيعِ. فصل: إذا اشْتَرَى مُصَرَّاتَينِ أو أكثَرَ في عَقْدٍ، فرَدَّهُنَّ، رَدَّ مع كُلِّ مُصَرَّاةٍ صَاعًا. وبه قال الشافعيُّ، وبعضُ المالِكِيَّةِ. وقال بعضُهم: في الجميعِ صَاعٌ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَها، فإنْ رَضِيَها أمْسَكَها، وإنْ سَخِطَهَا ففي حَلْبَتِها صاعٌ مِن تَمْرٍ». ولَنا، قولُه: «مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً». وهذا يَتَنَاوَلُ الواحِدَةَ. ولأنَّ ما جُعِلَ عِوَضًا عن شيءٍ في صَفقَتَينِ، وَجَبَ إذا كان في صَفْقَةٍ واحِدَةٍ، كأَرِشِ العَيبِ. وأمّا الحَدِيثُ، فإنَّ الضَّمِيرَ فيه يَعُودُ إلى الواحِدَةِ. 1624 - مسألة: (فإن كانَ اللَّبَنُ بحَالِه لم يَتَغَيَّرْ، رَدَّه، واجزَأه. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يُجْزِئَه إلَّا التَّمْرُ) إذا احْتَلَبَها، وتَرَكَ (¬1) اللَّبَنَ بحَالِه، ثم ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَدَّها مع لَبَنِها، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ المَبِيعَ إذا كان مَوْجُودًا فَرَدَّه، لم يَلْزَمْه بَدَلُه. فإن أبَى البائِعُ قَبُولَه وطَلَبَ التَّمْرَ، فليس له ذلك إذا كان اللَّبَنُ لم يَتَغَيَّرْ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَه قَبُولُه؛ لظَاهِرِ الخَبَرِ، ولأنّه قد نَقَصَ بالحَلْبِ؛ لأَنَّ كونه في الضَّرْعِ أَحفَظُ له. ولَنا، أنّه قَدَرَ على رَدِّ المُبْدَلِ، فلم يَلْزَمْهُ البَدَلُ، كَسائِرِ المُبْدَلَاتِ مع أَبْدَالِها. والحَدِيثُ، المرادُ به رَدُّ التَّمْرِ حالةَ عَدَمِ اللَّبَنِ؛ لقَوْلِه: «فِفي حَلْبَتِها صَاعٌ مِن تَمْرٍ». وقَوْلُهم: الضَّرْعُ أحْفَظُ له. لا يَصِحُّ؛ لأَنَّه لا يُمْكِنُ إبْقاؤُه في الضَّرْعِ على الدَّوَامِ، لأنَّه يَضُرُّ بالحَيَوانِ. فإن تَغَيَّرَ اللَّبَنُ، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه قَبُولُه. وهو قَوْلُ مالِكٍ؛ للخَبَر. ولأنَّه قد نَقَصَ بالحُمُوضَةِ، أشْبَهَ تَلَفَه. والثاني، يَلْزَمُه قَبُولُه؛ لأنَّ النَّقْصَ (¬1) حَصَلَ باسْتِعلامِ المَبيعِ، بتَغْريرِ (¬2) البائِعِ، وتَسْلِيطِه على حَلْبِه، فلم يَمْنَعِ الرَّدَّ، كَلَبَنِ غيرِ المُصَرَّاةِ. فصل: فإنْ رَضِيَ بالتَّصْرِيَةِ فَأمْسَكَها، ثم وَجَدَ بها عَيبًا، رَدَّها به؛ ¬

(¬1) في م: «التعهد». (¬2) في الأصل، ق: «بتغيير» وفي م: «بتعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ رِضَاهُ بِعَيبٍ لا يَمْنَعُ الرَّدَّ لِعَيبٍ آخَرَ، كما لو اشْتَرَى أعْرَجَ فَرَضِيَ به، فَوَجَدَه أبْرَصَ. فإنْ رَدَّ، لَزِمَهُ صَاعٌ مِن تَمْرٍ، عِوَضَ اللَّبَنِ؛ لأنَّه عِوَضٌ له فيما إذا رَدَّها بالتَّصْرِيَةِ، فيكونُ عِوَضًا له مُطْلَقًا. فصل: ولو اشْتَرَى شاةً غيرَ مُصَرَّاةٍ فاحْتَلَبَها، ثم وَجَد بها عَيبًا، فله الرَّدُّ. ثم إنْ لم يكنْ في ضَرْعِها لَبَنٌ حال العَقْدِ، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ اللَّبَنَ الحادِثَ بعدَ العَقْدِ يَحْدُثُ على مِلْكِه. وإنْ كان فيه لَبَنٌ حالَ العَقْدِ، إلَّا أنَّه يَسِيرٌ لا يَخْلُو الضَّرْعُ مِن مِثْلِه عادَةً، فلا شيءَ فيه؛ لأنَّه لا عِبْرَةَ به، ولا قِيمَةَ له في العادَةِ. وإنْ كان كَثِيرًا، وكان قائِمًا بحالِه، انْبَنَى رَدُّه على رَدِّ لَبَنِ المُصَرَّاةِ، وقد سَبَقَ. فإنْ قُلْنا: ليس له رَدُّه. فَبَقَاؤُه كتَلَفِه. وهل له رَدُّ المَبِيعِ؟ يُخَرَّجُ على الرِّوَايَتَينِ فيما إذا اشْتَرى شَيئًا، فتَلِفَ بَعْضُه أو تَعَيَّبَ، إنْ قُلْنا بِرَدِّه، رَدَّ مثلَ اللَّبَنِ؛ لأَنَّه مِن المِثْليّاتِ، والأصْلُ ضَمانُها بمِثْلِها، إلَّا أنَّه خُولِفَ في لَبَنِ المُصَرَّاةِ للنَّصِّ، ففيما عَداه يَبْقَى على الأصْلِ. ولأَصْحابِ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ نحوٌ ممّا ذَكَرْنا. فصل: قال ابنُ عَقِيلٍ: إذا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ قبلَ حَلْبِها، مثلَ أن أقَرَّ به البائِعُ، أو شَهِدَ به مَن تُقْبَلُ شهادَته، فله رَدُّها، ولا شيءَ معها؛ لأنَّ التَّمْرَ إنَّما وَجَبَ بَدَلًا للَّبَنِ المُحْتَلَبِ، ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:

1625 - مسألة: (ومتى علم التصرية، فله الرد. وقال القاضي: ليس له ردها إلا بعد ثلاث)

وَمَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَةَ، فَلَهُ الرَّدُّ. وَقَال الْقَاضِي: لَيسَ لَهُ رَدُّهَا إلا بَعْدَ ثَلَاثٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً، فاحْتَلَبَها، فإنْ رَضيَها أَمْسَكَها، وإنْ سَخِطَها، ففي حَلْبَتِها صاعٌ مِن تَمْرٍ» (¬1). ولم يَأْخُذْ لها ها هنا لَبَنًا، فلم يَلْزَمْه رَدُّ شَيءٍ معها. وهذا قَوْلُ مالِكٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): هذا ممّا لا خِلافَ فيه. 1625 - مسألة: (ومَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَةَ، فله الرَّدُّ. وقال القاضِي: ليس له رَدُّها إلَّا بعدَ ثَلاثٍ) اخْتَلَفَ أصْحَابُنا في مُدَّةِ الخِيارِ. فقال القَاضِي: هو مُقَدَّرٌ بثَلَاثَةِ أَيّامٍ، ليس له الرَّدُّ قبلَ مُضِيِّها، ولا إِمْسَاكُها بعدَها، فإنْ أمْسَكَها بعدَها سَقَطَ الرَّدُّ. قال: وهو ظَاهِرُ كلامِ أحمدَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 347. (¬2) الاستذكار 21/ 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولُ بَعْضِ أصْحابِ الشّافِعِيِّ، لأنَّ أبا هُرَيرَةَ رَوَى أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً، فهو فيها بالخِيارِ ثَلاثَةَ أيّامٍ، إنْ شاءَ أمْسَكَها، وإنْ شاءَ رَدَّهَا ورَدَّ مَعَها صَاعًا مِنْ تَمْرٍ». رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). قالُوا: هذه الثّلَاثَةُ قَدَّرَها الشارِعُ لمَعْرِفَةِ التَّصْرِيَةِ، فإنَّها لا تُعْرَف قبلِ مُضِيِّها؛ لأنَّ لَبَنَها في أوَّلِ يوم لَبَنُ التَّصْرِيَةِ، وفي الثانِي، يجُوزُ أنْ يكون نَقَصَ لتَغَيُّرِ المَكانِ، واخْتِلَافِ العَلَفِ، وكذلك الثالِثُ، فإذا مَضَتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثّلاثُ اسْتَبَانَتِ التَّصْرِيَةُ، وثَبَتَ الخِيارُ على الفَوْرِ، ولا يَثْبُتُ قبلَ انْقِضَائِها. وقال أبو الخَطَّاب: متى تَبَيَّنَتَ التَّصْرِيَةُ جازَ له الرَّدُّ، قبلَ الثَّلاثِ وبعدَها؛ لأَنَّه تدْلِيسٌ يُثْبِت الخِيارَ، فملَكَ الرَّدَّ به إذا ظَهَرَ، كسائِرِ التَّدْلِيسِ. وهو قَوْلُ بعضِ المَدَنيِّينَ (¬1). فعلى هذا، فائِدَةُ التَّقْدِيرِ في الخبرِ بالثَّلاثِ؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّه لا يَحْصُلُ العِلْمُ إلَّا بها، فاعْتَبَرَها لحُصُولِ العِلْمِ ظاهِرًا، فإنْ حَصَلَ العِلْمُ بها أو لم يَحْصُلْ، فالاعْتِبارُ به دُونَها، كما في سائِرِ التّدْلِيس. وظاهِرُ قولِ ابنِ أبي مُوسىَ، أَنَّه مَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَة ثَبَتَ له الخِيارُ في الأَيّامِ الثَّلَاثةِ إلى تَمامِها. وهو قَوْلُ ابنِ المُنْذِرِ، وأبي حامِدٍ مِن الشّافِعِيَّةِ، وحَكاهُ عن الشّافِعِيِّ؛ لظاهِرِ حَدِيثِ أبي هُرَيرَةَ، ¬

(¬1) في م: «المدلسين».

1626 - مسألة: (وإن صار لبنها عادة، لم يكن له الرد في قياس قوله: إذا اشترى أمة مزوجة، فطلقها الزوج، لم يملك الرد)

وَإنْ صَارَ لَبَنُهَا عَادَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ: وَإِذَا اشْتَرَى أمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَقْتَضِي ثُبُوتَ الخِيارِ في الأيّامِ الثَّلَاثَةِ كُلِّها. وقَوْلُ القاضِي لا يَثْبُتُ في شيءٍ منها، وقولُ أبي الخَطَّابِ يُسَوِّي بَينَها وبينَ غَيرِها. والعَمَلُ بالخَبَرِ أَوْلَى، والقِياسُ ما قاله أبو الخَطَّابِ، قِياسًا على سائِرِ التَّدْلِيسِ. 1626 - مسألة: (وإنْ صارَ لَبَنُها عادَةً، لم يَكُنْ له الرَّدُّ في قِياسِ قَوْلِه: إذا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَها الزَّوْجُ، لم يَمْلِكِ الرَّدَّ) وقال أصحابُ الشَّافِعِيِّ: له الرَّدُّ، في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ للخَبَرِ، ولأنَّ التَّدْلِيسَ

1627 - مسألة: (وإن كانت التصرية في غير بهيمة الأنعام)

وَإنْ كَانَتِ التَّصْرِيَةُ فِي غَيرِ بَهِيمَةِ الْأنْعَامِ، فَلَا رَدَّ لَهُ فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، لَهُ الرَّدُّ وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُ اللَّبَنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مَوْجُودًا (¬1) حال العَقْدِ، فأثْبَتَ الرَّدَّ، كما لو نَقَصَ اللَّبَنُ. ولَنا، أنَّ الرَّدَّ جُعِلَ لدَفْعِ الضَّرَرِ بنَقْصِ الثَّمَنِ، ولم يُوجَدْ، فامْتَنَعَ الرَّدُّ، ولأنَّ العَيبَ لم يُوجَدْ، ولم تَخْتَلِفْ صِفَةُ المَبيعِ (¬2) عن حالةِ العَقدِ، فلم يَثْبُتِ التَّدْلِيسُ، ولأنَّ الخِيارَ ثَبَتَ لدَفْعِ الضَّرَرِ، ولا ضَرَرَ. 1627 - مسألة: (وإنْ كانتِ التَّصْرِيَةُ في غيرِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ) كالأمَةِ، والأَتَانِ، والفَرَسِ، ثَبَتَ له الخِيارُ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) في م: «البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَارَهُ ابنُ عَقِيل. وهو ظِاهِرُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ؛ لعُمُوم قِوْلِه - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاة». ولأَنَّه تَصْرِيَةٌ بما يَخْتَلِفُ به الثَّمَن، فأثْبَتَ الخِيارَ، كتَصْرِيَةِ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ؛ لأنَّ الآدَمِيَّةَ تُرادُ للرَّضَاعِ، ويُرْغَبُ فيها ظِئْرًا، ولذلك لو اشْتَرَطَ كَثْرَةَ لَبَنِها، فَبانَ بخِلافِه، مَلَكَ الفَسْخَ. [ولَبَنُ الأَتانِ] (¬1) والفَرَسِ يُرادُ لوَلَدِهما (¬2). والثاني، لا يَثْبُتُ به الخِيارُ، لأنَّ لَبَنَها لا يُعْتاضُ عنه في العَادَةِ، ولا يُقْصدُ، كَلَبَنِ بَهِيمَة الأنْعام، والخَبَرُ ورَدَ في بَهِيمَةِ الأنْعامِ، ولا يَصِحُّ القِياسُ عليه؛ لذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق، م. (¬2) في الأصل، ق، م: «لولدها».

1628 - مسألة: (ولا يحل للبائع تدليس سلعته، ولا كتمان عيبها)

المقنع وَلَا يَحِلُّ لِلْبَائِعِ تَدْلِيسُ سِلْعَتِهِ، وَلَا كِتْمَانُ عَيبِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ واللَّفْظُ العامُّ أُرِيدَ به الخاصُّ؛ لأنَّه أمَرَ في رَدِّها بصاعٍ مِن تَمْرٍ، ولا يَجِبُ في لَبَنِ غَيرِها. ولأَنَّه وَرَدَ عامًّا وخاصًّا في قَضِيَّةٍ واحِدَةٍ، فَيُحْمَلُ العامُّ على الخَاصِّ. فإنْ قُلْنَا بِرَدِّها، لم يَلْزَمْه بَدَلُ (¬1) لَبَنِها، ولا يَرُدُّ معها شَيئًا؛ لأَنَّ هذا اللَّبَنَ لا يُبَاعُ عادَةً، ولا يُعاوَضُ (¬2) عنه. 1628 - مسألة: (ولا يَحِلُّ للبائِعِ تَدْلِيسُ سِلْعَتِه، ولا كِتْمانُ عَيبِها) لقَولِه - عليه السلام -: «مَنْ غَشَّنَا فليس مِنّا» (¬3). قال الترْمِذِيُّ: هذا حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ باعَ من أخِيهِ بَيعًا إلَّا بَيَّنَه». رَواهُ ابنُ ¬

(¬1) في م: «بذل». (¬2) في الأصل، ق، م: «يعتاض». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 144.

فَإِنْ فَعَلَ، فَالْبَيعُ صَحِيحٌ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: إِنْ دَلَّسَ الْعَيبَ، فَالْبَيعُ بَاطِلٌ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي التَّصْرِيَةِ؟ فَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ماجَه (¬1). (فإنْ فَعَلَ، فالبَيعُ صَحِيحٌ) في قولِ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم مالِكٌ، وأبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، بدَلِيلِ حَدِيثِ التَّصْرِيَةِ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَحَّحَه مع نَهْيِه عنه. (وقال أبو بكرٍ: إنْ دلَّسَ العَيبَ، فالبَيعُ باطِلٌ) لأَنَّه مَنْهِيٌّ عنه، والنَّهْىُ يَقْتَضِي الفسادَ. (فقيلَ له: ما تقولُ في التَّصْرِيَةِ؟ فلم يَذْكُرْ جَوابًا) فدَلَّ على رُجُوعِه. ¬

(¬1) في: باب من باع عيبا فليبينه، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 755. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 158.

فَصلٌ: الْخَامِسُ، خِيَارُ الْعَيبِ؛ وَهُوَ النَّقْصُ؛ كَالْمَرَضِ، وَذَهَابِ جَارِحَةٍ أَوْ سِنٍّ، أَوْ زِيَادَتِهَا، وَنَحْو ذَلِكَ. وَعُيُوبُ الرَّقِيقِ مِنْ فِعْلِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالإبَاقِ، وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ إِذَا كَانَ مِن مُمَيِّزٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (الخامِسُ، خِيارُ العَيبِ؛ وهو النَّقْصُ؛ كالمَرَضِ، وذَهابِ جارِحَةٍ أوْ سِنٍّ، أو زِيادَتِها، ونحو ذلك. وعُيُوبُ الرَّقِيقِ مِن فِعْلِه؛ كالزِّنا، والسَّرِقَةِ، والإِبَاقِ، والبَوْلِ في الفِراشِ إن كان مِن مُمَيِّزٍ) العُيُوبُ: النَّقَائِصُ المُوجِبَةُ لنَقْصِ المالِيَّةِ في عاداتِ التُّجّارِ؛ لأنَّ المَبِيعَ إنَّما صارَ مَحَلًّا للعَقْدِ باعْتِبارِ صِفَةِ المالِيَّةِ فما يُوجِبُ نَقْصًا فيها يكونُ عَيبًا، والمَرْجِعُ في ذلك إلى العادَةِ في عُرْفِ التُّجَّارِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالعُيُوبُ في الخِلْقَةِ؛ كالجُنُونِ، والجُذَامِ، والبَرَصِ، والصَّمَمِ، والعَمَى، والعَوَرِ، والعَرَجِ، والعَفَلِ (¬1)، والقَرَنِ (¬2)، والفَتْقِ (¬3)، والرَّتَقِ (¬4)، والقَرَعِ، والطَّرَشِ، والخَرَسِ، وسائرِ المرَضِ، والإِصْبَعِ الزائدَةِ والنَّاقِصَةِ، والحَوَلِ، والخَوَصِ (¬5)، والسَّبَلِ؛ وهو زِيادَةٌ في الأجْفانِ، والتَّخْنِيثِ، وكونِه خُنْثَى، والخِصاءِ، والتَّزَوُّجِ في الأَمَةِ، والبَخَرِ (¬6) فيها. وهذا كُلُّه قولُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. قال ابنُ ¬

(¬1) العفل: شيء مدور يخرج في فرج المرأة، وفي الرجل، شيء مدور كالبيضة، يخرج في الدُّبر. (¬2) القرن: شبيه بالعفلة، وقيل: هو كالنُّتُوء في الرحِم، يكون في النساء والشّاء والبقر. والقرن بالسكون اسم العفلة، والقرن بالفتح، اسم العيب. لسان العرب (ق رن). (¬3) الفتق: بروز جزء من الأمعاء من فتحة في جدار البطن. (¬4) الرَّتَق: بالتحريك مصدر قولك: رتقت المرأةُ رتقا، وهي رَتْقاء بينة الرتق: التصق ختانها فلم تُنل لارتتاق ذلك الموضع منها، فهي لا يستطاع جماعها. لسان العرب (ر ت ق). (¬5) الخوص: ضيقُ العين وصغرها وغورها، رجل أخوص بين الخوص، أي غائر العين. لسان العرب (خ وص). (¬6) البخر: الرائحة المتغيرة من الفم. لسان العرب (ب خ ر).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ في الجارِيَةِ تُشْتَرَى ولها زَوْجٌ، أنَّه عَيبٌ. وكذلك الدَّينُ في رَقَبَةِ العَبْدِ إذا كان السيِّدُ مُعْسِرًا، والجِنايَةُ المُوجِبَةُ للقَوَدِ؛ لأنَّ الرَّقَبَةَ صارَتْ كالمُسْتَحَقَّةِ؛ لوُجُوبِ الدَّفْعِ في الجنايَةِ، والبَيعِ في الدَّينِ، ومُسْتَحَقَّةَ الإِتْلافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقصَاصِ. والزِّنَى والبَخَرُ عَيبٌ في العَبْدِ والأمَةِ. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: ليس بعَيبٍ في العَبْدِ؛ لأنَّه لا يُرادُ للفِراشِ والاسْتِمْتاعٍ به، بخِلافِ الأمَةِ. ولَنا، أنَّ ذلك يَنْقُصُ قِيمَتَه ومالِيَّتَهُ؛ فإنَّه بالزِّنى يَتَعَرَّضُ لإِقامَةِ الحَدِّ عليه والتَّعْزِيرِ، ولا يَأْمنُهُ سَيِّدُه على عائِلَتِه، والبَخَرُ يُؤذِي سَيِّدَه ومَن جالسَه أو سارَّه. والسَّرِقَةُ والإِباقُ والبَوْلُ في الفِراشِ عيُوبٌ في الكَبِيرِ الذي جاوَزَ العشْرَ. وقال أصحابُ أبي حَنِيفَةَ: في الذي يَأكُلُ وَحْدَه ويَشْرَبُ وَحْدَه. وقال الثَّوْرِيُّ، وإسحاق: ليس بعَيبٍ حتى يَحْتَلِمَ، لأنَّ الأحْكامَ تَتَعَلَّقُ به، مِن التَّكْلِيفِ ووُجُوبِ الحَدِّ، فكذلك هذا. ولَنا، أنَّ الصَّبِيَّ العاقِلَ يَتَحَرَّزُ مِن هذا عادَةً، كتَحَرُّزِ الكَبِيرِ، فوُجُودُه منه في تلك الحالِ يَدُلُّ على أنَّ البَوْلَ لداءٍ في باطِنِه (¬1)، والسَّرِقَةَ والإِباقَ لخُبْثٍ في طَبْعِه. وحَدُّ ذلك بالعَشْرِ؛ لأمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَأْدِيبِ الصَّبِيِّ على تَرْكِ الصَّلَاةِ عندَها، والتَّفْرِيقِ بينَهم في المَضاجِعِ (¬2). فأمّا ¬

(¬1) في م: «بطنه». (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن دونَ ذلك، فتكونُ هذه الأُمُورُ منه لضَعْفِ عَقْلِه وعَدَمِ تَثَبُّتِه. وكذلك إنْ كان العَبْدُ يَشْرَبُ الخَمْرَ ويَسْكَرُ مِن النَّبِيذِ. نَصَّ عليه أَحمَدُ؛ لأنَّه يوجِبُ الحَدَّ، فهو كالزِّنَى. وكذلك الحُمْقُ الشَّدِيدُ، والاسْتِطَالةُ على الناسِ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى التَّأدِيبِ. ورُبَّما تَكَرَّرَ فأَفضَى إلى تَلَفِه، ويَخْتَصُّ الكَبِيرَ دونَ الصَّغِيرِ؛ لأنَّه مَنْسُوبٌ إلى فِعْلِه. وعدَمُ الخِتانِ ليس بعَيبٍ في العَبْدِ الصَّغِيرِ، لأنَّه لم يَفُتْ وَقْتُه، ولا في الأمَةِ الكَبِيرَةِ. وبه قال الشَّافِعِيُّ. وقال أصحابُ أبي حَنِيفَةَ: هو عَيبٌ فيها؛ لأنَّه زِيادَةُ ألمٍ، أشْبَهَتِ العَبْدَ. ولَنا، أنَّه لا يَجِبُ عليها، والألَمُ يَقِلُّ فيه، ولا يُخشى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه التَّلَفُ، بخلافِ العَبْدِ الكَبِيرِ. فأمّا الكَبِيرُ، فإنْ كان مَجْلُوبًا مِن الكفّارِ، فليس ذلك بعَيبٍ فيه؛ لأنَّ العادَةَ أنَّهُم لا يُخْتَنُونَ، فصارَ ذلك مَعْلُومًا عندَ المُشْتَرِي، فهو كَدِيِنِهِم، وإنْ كان مُسْلِمًا مَوْلِدًا فهو عَيبٌ فيه؛ لأنَّه يُخشى عليه منه، وهو خِلاف العادَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والثُّيُوبَةُ ليست بعَيبٍ؛ لأنَّها الغالِبُ على الجَوارِي، فالإِطْلَاقُ لا يَقْتَضِي خِلَافَها. هذا اخْتِيارُ القاضِي. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إذا أُطْلِقَ الشراءُ اقْتَضَى سَلامَتَها مِن الثُّيُوبَةِ وبقاءَ البَكَارَةِ، فالثُّيُوبَةُ إتْلَافُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُزْءٍ، والأَصْلُ عَدَمُ الإِتْلافِ، والثمَنُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِه، فنقولُ: جُزْء يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ ببقَائِه وزَوالِه، فَزَوَالُهُ عَيبٌ، كتَلَفِ بعضِ أجْزائِها. وتَحْرِيمُها على المُشْتَرِي بِنَسَبٍ أو رَضاع، ليس بعَيبٍ، إذْ ليس في المَحَلِّ ما يُوجِبُ خَلَلًا في المالِيَّةِ ولا نَقْصًا، والتَّحْرِيمُ يَخْتَصُّ به. وكذلك الإِحْرَامُ والصِّيَامُ؛ لانَّهُما يَزُولَانِ قَرِيبًا. وبه قال أبو حَنِيفةَ والشّافِعِيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك عِدَّةُ البائِنِ. فأمّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فهي عَيبٌ؛ لأنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ لا يُؤمَنُ ارْتِجاعُها. ومَعْرِفَةُ الغِناءِ والحِجامَةِ ليس بعَيبٍ وحُكِيَ عن مالِكٍ، في الجارِيَةِ المُغَنِّيَةِ، أنَّه عَيبٌ فيها؛ لأَنَّه مُحَرَّمٌ. ولَنا، أَنه ليس بنَقْصٍ في عَييها، ولا قِيمَتِها، فهو كالصِّنَاعَةِ، وكونُه مُحَرَّمًا مَمْنُوعٌ. وإنْ سُلِّمَ، فالمُحَرَّمُ اسْتِعْمالُه، لا مَعْرِفَتُه. والعَسَرُ (¬1) ليس بعَيب، وكان شُرَيح يَرُدُّ به. ولَنا، أنَّه ليس بنَقْص، وعَمَلُه بإحْدَى يَدَيهِ يقومُ مَقامَ عَمَلِه بالأُخْرَى. والكفْرُ ليس بعَيبٍ. وبه ¬

(¬1) العسر: العمل بالشمال دون اليمين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشّافِعِيُّ. وهِو عَيبٌ عند أبي حَنِيفَةَ؛ لأَنَّه نَقْصٌ؛ لقَوْل اللهِ تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (¬1). ولنا، أنَّ العَبِيدَ فيهم المُسْلِمُ والكافِرُ، والأصْلُ فيهم الكُفْرُ، فالإِطْلَاقُ لا يَقْتَضِي خِلافَ ذلك، وكوْنُ المُومِن خَيرًا مِن الكافِرِ لا يَقْتَضِي كوْنَ الكُفْرِ عَيبًا، كما أنَّ المُتَّقِي خيرٌ من غيرِه، قال الله تَعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2). وليس عَدَمُه عَيبًا. وكَوْنُه وَلَدَ زِنًى ليس بعَيبٍ. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: هو عَيبٌ في الجارِيَةِ؛ لأنَّها ترادُ للافتِراشِ، بخلافِ العَبْدِ. قُلْنا: إنَّ النسَبَ في الرَّقِيقِ غيرُ مَقْصُودٍ، بدَلِيلِ أنَّهم يُشْتَرَوْنَ مَجْلُوبِينَ غيرَ مَعْرُوفِي النَّسَبِ. وكونُ الجارِيَةِ لا تُحْسِنُ الطَّبْخَ أو الخَبْزَ ونحوَه، ليس بعَيبٍ؛ لأنَّ هذا حِرْفَةٌ، فلم يكُنْ فَقْدُها عَيبًا، ¬

(¬1) سورة البقرة 221. (¬2) سورة الحجرات 13.

1629 - مسألة: (فمن اشترى معيبا لم يعلم عيبه، فله الخيار بين الرد والإمساك مع الأرش، وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن)

فَمَنِ اشْتَرَى مَعِيبًا لَمْ يَعْلَمْ عَيبَهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإمْسَاكِ مَعَ الْأرْشِ، وَهَوُ قِسْطُ مَا بَينَ قِيمَةِ الصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ مِنَ الثَّمَنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ الصَّنائِعِ. وكونُها لا تَحِيضُ، ليس بِعَيبٍ. وقال الشّافِعِيُّ: هو عَيبٌ إذا كان لكِبَرٍ؛ لأَنَّ مَن لا تَحِيضُ لا تحْمِلُ. ولَنا، أنَّ الإِطْلَاقَ لا يَقْتَضِي الحَيضَ ولا عَدَمَه، فلم يكُنْ فواتُه عَيبًا،؛ لو كان لغَيرِ الكِبَرِ. 1629 - مسألة: (فمَن اشْتَرَى مَعِيبًا لم يَعْلَمْ عَيبَه، فله الخِيارُ بينَ الرَّدِّ والإِمْسَاكِ مع الأرشِ، وهو قِسْطُ ما بينَ قِيمَةِ الصَّحِيحِ والمَعِيبِ مِن الثَّمَنِ) مَن اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه، أو مُدَلَّسًا، أو مُصَرَّاةً، وهو عالِمٌ فلا خِيارَ له؛ لأَنَّه بذَلَ الثَّمَنَ فيه عالِمًا راضِيًا به عِوَضًا، أشْبَهَ ما لا عَيبَ فيه، لا نَعْلَمُ خِلافَ ذلك. وإنْ عَلِمَ به عَيبًا لم يكُنْ عالِمًا به، فله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِيَارُ بينَ الإِمْسَاكِ والفَسْخِ، سَواءٌ كان البائِعُ عَلِمَ العَيبَ فكَتَمَهَ، أو لم يَعْلَمْ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ولأنَّ إثْباتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الخِيَارَ بالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ على ثُبُوتِه بالعَيبِ. ولأنَّ مُطْلَقَ العَقْدِ يَقْتَضِي السَّلامَةَ مِن العَيبِ، بدَلِيلِ ما رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه اشْتَرَى مَمْلُوكًا، فكَتَبَ: «هَذا ما اشْتَرَى محمّدُ بنُ عبدِ الله مِن الْعَدَّاءِ بنِ خالِدٍ، اشْتَرَى منه عَبْدًا -أو أمَةً-[لا دَاءَ به] (¬1) ولا غائِلَةَ، بَيعَ المُسْلِمِ للمسْلِمِ» (¬2). ولأنَّ الأَصْلَ السَّلَامَةُ، والعَيبُ حادِثٌ أو مُخالِفٌ للظاهِرِ، فعنْدَ الإطْلاقِ يُحملُ عليها، فمَتَى فاتَتْ فاتَ بغضُ مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَلْزَمْه أَخذُه بالعِوَضِ، وكان له الرَّدُّ، وأخْذُ الثَّمَنِ كامِلًا. فصل: فإنِ اخْتَارَ إمْسَاكَ المَعِيبِ وأَخذَ الأرْشِ، فله ذلك. وبه قال إسحاقُ. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ: ليس له إلَّا الإِمْسَاكُ، أو الرَّدُّ، ¬

(¬1) في م: «لا دابة». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 76. والترمذي، في: باب ما جاء في كتابة الشروط، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 221. وابن ماجه، في: باب شراء الرقيق، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 756.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أَرشَ له، إلَّا ان يَتَعَذَّرَ رَدُّ المَبِيعِ، ورُوِيَ دْلك عن أحمدَ، حَكاهُ صاحِبُ «المُحَرَّرِ»؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل لمُشْتَرِي المُصَرَّاةِ الخِيَارَ بينَ الإِمْسَاكِ مِن غيرِ أَرْش، أو الرَّدِّ. ولأَنَّه يَمْلِكُ الرَّدَّ، فلم يَمْلِكْ أَخذَ جزءٍ مِن الثَّمَنِ، كالرَّدِّ بالخيارِ. ولَنا، أنّه ظَهَرَ على عَيبٍ لم يَعْلَمْ به، فكان له الأرْيقُ،؛ لو تَعَيَّبَ عندَه. ولأنَّه فاتَ عليه جزءٌ مِنِ المَبِيعِ، فكانت له المُطَالبَةُ بعِوَضِه، كما لو اشْتَرَى عَشَرَةَ أقْفِزَةٍ، فبانتْ تِسْعَةً، أو كما لو أتْلَفَه بعدَ البَيعِ. فأمّا المُصَرَّاةُ فليس فيها عَيبٌ، وإنَّما مَلَكَ الخِيَارَ بالتَّدْلِيسِ، لا لفَواتِ جُزْءٍ، وكذلك لا يَسْتَحِقُّ أرْشًا إذا تَعَذَّرَ الرَّدُّ. إذا ثَبَتَ هذا، فمَعْنَى الأرْشِ أنْ يُقَوَّمَ المَبِيعُ صَحِيحًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يقَوَّمَ مَعِيبًا، فَيُؤخَذُ قِسْطُ ما بَينَهما مِن الثمَنِ. مثالُه أنْ يُقَوَّمَ المَعِيبُ صَحِيحًا بعشَرَةٍ، ومَعِيبًا بتِسْعَةٍ، والثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فقد نَقَصَه العَيبُ عُشْرَ قِيمَتِه، فيُرْجَعُ على البائِعِ بعُشْرِ الثَّمَنِ، وهو دِرْهَمٌ ونِصْفٌ. وعِلَّةُ ذلك أنَّ المَبِيعَ مَضْمُونٌ على المُشْتَرِي بثَمَنِه، فَفَوات جُزْءٍ منه يُسْقِط عنه ضَمانَ ما قابَلَه مِن الثَّمَنِ. ولأنَّنَا لو ضَمَّنَّاه نَقْصَ القِيمَةِ، أَفْضَى إلى

1630 - مسألة: (وما كسب فهو للمشتري، وكذلك نماؤه

وَمَا كَسَبَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ نَمَاؤُهُ الْمُنْفَصِلُ. وَعَنْهُ، لَا ـــــــــــــــــــــــــــــ اجْتِماعِ الثَّمَنِ والمُثَمَّنِ للمُشْتَرِي، فيما إذا اشْتَرَى شيئًا بعشرَةٍ، وقِيمَتُه عِشْرُون، فوَجَدَ به عَيبًا يُنْقِصُه عَشَرَةً فأخَذَها، حَصَلَ له المَبِيعُ، ورَجَعَ بثَمَنِه. وهذا لا سبيلَ إليه. وقد نَصَّ أحمدُ على ما ذَكَرْناهُ. وذَكَرَه الحَسَنُ البَصْرِيُّ، فقال: يَرْجِعُ بقِيمَةِ العَيبِ في الثَّمَنِ يومَ اشْتَراهُ. قال أحمدُ: هذا أحسَنُ ما سَمِعْتُه. 1630 - مسألة: (وما كَسَب فهو للمُشْتَرِي، وكذلك نَماؤُه

يَرُدُّهُ إلا مَعَ نَمَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْفَصِلُ. وعنه، لا يَرُدُّه إلَّا معِ نَمائِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا أرادَ رَدَّ المَبِيعِ، فلا يَخْلُو: إمّا أنْ يكون بحالِه، أو أنْ يكونَ قد زادَ أو نَقَصَ، فإنْ كان بحالِه، رَدَّهُ وأخَذَ الثَّمَنَ. وإنْ زادَ بعد العَقْدِ، أو حَصَلَت له فائِدَة، فذلك قِسْمان؛ أحَدُهما، أنْ تكونَ الزِّيادَةُ مُتَّصِلَةً، كالسِّمَنِ والكِبَرِ، وتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، والحَمْلِ، والثَّمَرةِ قبلَ الظُّهُورِ، فإنَّه يَرُدُّها بِنَمائِها، فإنَّه يَتْبَعُ في العقودِ والفسوخِ. القِسْمُ الثانِي، أنْ تكونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، وهي نوْعَانِ؛ أحَدُهما، أن تكونَ مِن غيرِ المَبِيعِ، كالكَسْبِ والأُجْرَةِ، وما يُوهَبُ له، أو يُوصَى له به، فهو للمُشْتَرى في مُقابَلَةِ ضَمانِه؛ لأنَّ المَبِيعَ لو هَلَك كان مِن مالِ المُشْتَرِي، وهو مَعْنَى قولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْخَرَاجُ بالضَّمَانِ» (¬1). ولا نعلمُ في هذا خِلافًا. وقد رَوَى ابنُ ماجه بإسْنادِه عن عائِشَةَ، أنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا، فاسْتَغَلَّه ما شاءَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ، ثم وجَدَ به عَيبًا، فرَدَّهُ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّه اسْتَغَلَّ غُلامِي، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الخَرَاجُ بالضَّمَانِ». رَواه أبو داودَ (¬1). وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم. النوعُ الثانِي، أنْ تكونَ الزِّيادَةُ مِن عينِ المَبِيعِ؛ كالوَلَدِ، والثَّمرَةِ، واللَّبَنِ، فهي للمُشْتَرِي أيضًا، ويَرُدُّ الأَصْلَ بدُونِها. وبهذا قال الشافِعِيُّ. إلَّا أنَّ الوَلَدَ إنْ كان لآدَمِيَّةٍ. لم يَمْلِكْ رَدَّها دُونَه، وسنَذْكُرُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 255. وابن ماجه، في: باب الخراج بالضمان، من كتاب التجارات. . . . سنن ابن ماجه 2/ 754.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. وعنه، ليس له رَدُّه دونَ نمائِه قِياسًا على النَّماءِ المُتَّصِلِ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنَاهُ مِن حَدِيث عائِشَةَ. وقال مالِكٌ: إنْ كان النَّماءُ ثمَرَةً لم يَرُدَّها، وإنْ كان وَلَدًا رَدَّه معها (¬1)؛ لأنَّ الرَّدَّ حُكْمٌ، فسَرَى إلى الوَلَدِ، كالكِتابَةِ. وقال أبو حَنِيفَةَ: النَّماءُ الحادِثُ في يَدِ المُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ؛ لانَّه لا يُمْكِنُ رَدُّ الأصْلِ بدُونِه؛ لأنَّه من موجِبِه، فلا يُرْفَعُ العَقْدُ مع بقاءِ موجِبِه، ولا يُمْكِنُ رَدُّه معه؛ لأَنَّه لم يَتَناوَلْه العَقْدُ. ولَنا، أنّه نماءٌ حَدَثَ في مِلْكِ المُشْتَرِي، فلم يمنعِ الرّدَّ، كما لو كان في يَدِ البائِعِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكالكَسْبِ. ولأَنَّه نَماءٌ مُنْفَصِلٌ، فجازَ رَدُّ الأَصلِ بدُونِه، كالكَسْبِ، والثَّمَرَةِ عندَ مالِكٍ. وقَوْلُهم: إنَّ النَّماءَ مِن موجِبِ العَقْدِ. لا يَصِحُّ، إنَّما مُوجِبُه المِلْكُ، ولو كان موجِبًا للعَقْدِ لعادَ إلى البائِعِ بالفَسْخِ. وقولُ مالِكٍ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الولدَ ليس بمَبِيعٍ، فلا يُمْكِنُ رَدُّه بحُكْمِ رَدِّ الأمِّ. ويَبْطُلُ ما ذَكَرَه بنَقْلِ المِلْكِ بالهِبَةِ والبَيعِ وغيرِهما، فإنَّه لا يسرِي إلى الوَلَدِ بوُجُودِه في الأمِّ. فإنِ اشْترَاهَا حامِلًا فوَلَدَتَ عندَ المُشْتَرِي فرَدَّها، رَدَّ وَلَدَها معها؛ لأنَّه مِن جُمْلَةِ المَبِيعِ، والولادَةُ نماءٌ مُتَّصِلٌ. وإنْ نَقَصَ المَبِيعُ، فَسَيَأتِي حُكْمُه إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

1631 - مسألة: (ووطء الثيب لا يمنع الرد. وعنه، يمنع)

وَوَطْءُ الثَّيِّبِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَعَنْهُ، يَمْنَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1631 - مسألة: (وَوَطْءُ الثَّيِّبِ لا يَمْنَعُ الرَّدَّ. وعنه، يَمْنَعُ) إذا اشْتَرَى أمَةً ثَيِّبًا، فَوَطِئَها المُشْتَرِي قبلَ عِلْمِه بالعَيبِ، فله رَدُّها، ولا شيءَ عليه. رُويَ ذلك عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ. وبه قال مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وعثمانُ البَتِّيُّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَمْنَعُ الرَّدَّ. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال الزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حَنِيفَةَ، وإسحاقُ؛ لأنَّ الوَطْءَ كالجِنايَةِ؛ لأنَّه لا يَخْلُو في ملْكِ الغَيرِ مِن عُقُوبَةٍ أو مالٍ، فَوَجَبَ أنْ يَمْنَعَ الرَّدَّ، كوَطْءِ البِكْرِ. وقال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وابنُ أبي لَيلَى: يَرُدُّها، ومعها أرْشٌ. واخْتَلَفُوا فيه، فقال شُرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ: نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِها. وقال الشَّعْبِيُّ: حُكُومَةٌ. وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. وقال ابنُ أبي مُوسَى: مَهْرُ مِثْلِها. وحُكِيَ نحوُه عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ اللهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه. وذَكَرَه ابنُ أبي مُوسَى روايَةً عن أحمدَ؛ لأنَّه إذا فَسَخَ صارَ واطِئًا في مِلْكِ الغَيرِ؛ لكَوْنِ الفَسْخِ رَفْعًا للعَقْدِ مِن أصْلِه. ولَنا، أنَّه مَعْنًى لا يَنْقُصُ عَينَها ولا قِيمَتَها، ولا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بالعَيبِ، فلم يَمْنَعِ الرَّدَّ، كالاسْتِخْدام، وكوَطْءِ الزَّوْجِ. وما قالُوه يَبْطُلُ بوَطْءِ الزَّوْجِ، ووَطْءُ البِكْرِ يَنْقُصُ ثمَنَها. وقولُهم: يَكون واطِئًا في مِلْكِ الغَيرِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الفَسْخَ رَفَعَ العَقْدَ مِن حِينِه، لا مِن أصْلِه، بدَلِيلِ أنَّه لا يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، ولا يُوجِبُ رَدَّ الكَسْبِ، فيكونُ وَطْؤُه في مِلْكِه. فصل: ولو اشْتَرَاها مُزَوَّجَةً، فوَطِئَها الزَّوْجُ، لم يَمْنَعْ ذلك الرَّدَّ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. فإنْ زَوَّجَهَا المُشْتَرِي، فَوَطِئَها الزَّوْجُ، ثم أرادَ رَدَّهَا بالعَيبِ، فإنْ كان النِّكَاحُ باقِيًا، فهو عَيبٌ حادِثٌ، وإنْ كان قد زَال،

1632 - مسألة: (وإن وطئ البكر، أو تعيبت عنده، فله الأرش. وعنه، أنه مخير بين الأرش وبين رده وأرش العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن)

وَإنْ وَطِئَ الْبِكْرَ، أوْ تَعَيَّبَتْ عِنْدَهُ، فَلَهُ الْأرْشُ. وَعَنْهُ، أنَّهُ مُخَيَّرٌ بَينَ الْأرْشِ وَبَينَ رَدِّهِ وَأرْشِ الْعَيبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَيَأْخُذ الثَّمَنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فحُكْمُه حُكْمُ وَطْءِ السَّيِّدِ. وقد اسْتَحْسَنَ أحمدُ أنَّه يَمْنَعُ الرَّدَّ. وهو مَحْمُولٌ على الرِّوَايَةِ الأخْرَى؛ إذْ لا فَرْقَ بينَ هذا وبين وَطْءِ السَّيِّدِ. وإنْ زَنَتْ في يَدِ المُشْتَرِي، ولِم يكُنْ عَرَفَ ذلك منها، فهو عَيبٌ حادِثٌ، حُكْمُه حُكْمُ العُيُوبِ الحادِثةِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ عَيبًا بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّه لَزِمَها حُكْمُ الزِّنَى في يَدِ المُشْتَرِي. 1632 - مسألة: (وإنْ وَطِئَ البِكْرَ، أو تَعَيَّبَتْ عندَه، فله الأرْشُ. وعنه، أنَّه مُخَيَّرٌ بينَ الأرْشِ وبينَ رَدِّه وأَرشِ العَيبِ الحادِثِ عندَه، ويَأْخُذُ الثَّمَنَ) إذا وَطِئَ المُشْتَرِي قبلَ عِلْمِه بالعَيبِ، ففيه رِوَايَتانِ؛ إحْداهُما، لا يَرُدُّها، ويَأخُذُ أرْشَ العَيبِ. وبه قال (¬1) ابنُ سِيرِينَ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأبو حَنِيفَةَ، وإسْحاقُ. ¬

(¬1) بعده في الأصل، ق، م: «مالك و». ولم يذكره في المغني في أصحاب هذا القول، وإنما ذكره في الذي بعده. المغني 6/ 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ أبي مُوسَى: وهو الصَّحِيح عن أحمدَ. والرِّوَايَةُ الأخْرَى، يَرُدُّها ومعها شيءٌ. اخْتَارَها الخِرَقِيُّ. وبه قال شُرَيحٌ، وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِيّ، والنَّخَعِيُّ، ومالِكٌ (¬1)، وابنُ أبي لَيلَى، وأبو ثَوْرٍ. والواجِبُ رَدُّ ما نَقَصَ قِيمَتَها بالِوَطْءِ، فإذا كانت قِيمَتُها بِكْرًا مائةً، وثَيِّبًا ثمانِينَ، رَدَّ معها عِشْرِينَ؛ لأنَّه بِفَسْخِ العَقْدِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عليه بقِيمَتِه، بخِلافِ أرْشِ العَيبِ الذي يَأْخُذُه المُشْتَرِي. وهذا قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ. وقال شُرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ: يَرُدُّ عُشْرَ ثَمَنِها. وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب: يَرُدُّ عَشَرَةَ دَنانِيرَ. وما قُلْنَاهُ إنْ شاءَ اللهُ أوْلَى. واحْتَجَّ مَن مَنَعَ رَدَّهَا بأنَّ الوَطْءَ نَقَصَ عَينَها وقِيمَتَها، فمَنَعَ الرَّدَّ، كما لو اشْتَرَى عَبْدًا فخَصَاهُ، فَنَقَصَتْ قِيمَتُه. ووَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُخْرَى، أنَّه عَيبٌ حَدَثَ عندَ أحَدِ المُتَبايِعَينِ لا للاسْتِعْلامِ، فأثبَتَ (¬2) الخِيَارَ، كالعَيبِ الحادِثِ عندَ البائِعِ قبلَ القَبْضِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، ر 1. (¬2) في م: «فيثبت معه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك كلُّ مَبِيع كان مَعِيبًا، ثم حَدَثَ به عَيبٌ عندَ المُشْتَرِي قبلَ عِلْمِه بالأوَّلِ، ففيه رِوَايَتانِ؛ إحداهُما، ليس له الرَّدُّ، وله أرْشُ العَيبِ القَدِيمِ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والشَّافِعِيُّ، وأصْحَابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ سِيرِينَ، والزُّهْرِيِّ، والشَّعْبِيِّ؛ لأنَّ الرَّدَّ يَثْبُتُ لإِزَالةِ الضَّرَرِ، وفي الرَّدِّ على البائِعِ إضْرارٌ به، ولا يُزَالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ. والثانِيَةُ، له الرَّدُّ، ويَرُدُّ أرْشَ العَيبِ الحادِثِ عندَه، ويَأْخُذُ الثَّمَنَ. وإن شاءَ أمْسَكَهُ وله الأرْشُ. وبه قال مالِكٌ، وإسحاقُ وقال الحَكَمُ: يَرُدُّهُ. ولم يَذْكُرْ معه شيئًا. ولَنا، حَدِيثُ المُصَرَّاةِ؛ فإنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِرَدِّها بعدَ حَلْبِها ورَدِّ عِوَضِ لَبَنِها (¬1). ولأنَّه رُوِيَ عن عثمانَ أنَّه قَضَى في الثَّوْبِ، إذا كان به عَوارٌ (¬2)، يَرُدُّه، وإنْ كان قد لَبسَه. ولأَنَّه عَيبٌ حَدَثَ عندَ المُشْتَرِي، فكان له الخِيارُ بينَ رَدِّ المَبِيعِ وأَرْشِه، وبينَ أرْشِ العَيبِ الْقَدِيمِ،؛ لو حَدَثَ لاسْتِعْلامِ المَبِيعِ. ولأنَّ العَيبَينِ قد اسْتَوَيَا، والبائِعُ قد دَلَّسَ، والمُشْتَرِى لم يُدَلِّسْ، فكان رِعَايَةُ جَانِبِه أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 347. (¬2) العوار: مثلثة العين، هو العيب والخرق والشق في الثوب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الرَّدَّ كان جائِزًا قبلَ حُدُوثِ العَيبِ الثانِي، فلا يَزُولُ إلَّا بدَلِيلٍ، وليس في المسألةِ إجْماعٌ ولا نَصٌّ،، القِياسُ إنَّما يكونُ على أصْلٍ، وليس لِما ذَكَرُوه أصْلٌ، فيَبْقَى الجَوازُ بحالِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَرُدُّ أرْشَ العَيبِ الحادِثِ عندَه؛ لأنَّ المَبيعَ بجُمْلَتِه مَضْمُونٌ عليه بقِيمَتِه، فكذلك أَجزَاؤُه. فإن زال العَيبُ الحادِثُ عِنْدَه، رَدَّهُ ولا شيءَ معه، على كِلْتَا الرِّوَايَتَينِ. وبه قال الشافِعِيُّ؛ لأَنَّه زال المانِعُ، مع قيامِ السَّبَبِ المُقتَضِي للرَّدِّ، فثَبَتَ حُكْمُه. ولو اشْتَرَى أمَةً، فحَمَلَتْ عندَه، ثم أصابَ بها عَيبًا، فالحَمْلُ عَيبٌ للآدَمِيَّاتِ دونَ غَيرِهِنَّ؛ لأنَّه يَمْنَعُ الوَطْءَ، ويُخافُ منه التَّلَفُ. فإنْ وَلَدَت، فالولَدُ للمُشْتَرِي. وإنْ نَقَصَتْها الولَادَةُ، فذلك عَيبٌ. وإنْ لم تَنْقُصْها الولَادَةُ، وماتَ الوَلَدُ، جازَ رَدُّها؛ لزَوَالِ العَيبِ. فإنْ كان وَلَدُها باقِيًا، لم يَكُنْ له رَدُّها دونَ وَلَدِها؛ لِما فيه مِن التَّفْرِيقِ بينَهما، وهو مُحَرَّم. وقال الشَّرِيفُ أبو (¬1) جَعْفَرٍ، وأبو الخَطَّابِ في «مِسائِلِهما»: له رَدُّها دونَ وَلَدِها. وهو قولُ أكثرِ أصحابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ، فأشْبَهَ ما لو وَلَدَتْ حُرًّا، فإنّه يَجُوزُ بَيعُها دونَ وَلَدِها. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ فَرَّقَ بينَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِها، فَرَّقَ اللهُ بَينَه وبَينَ أَحِبَّتِه يومَ القِيامَةِ». رَواهُ التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ¬

(¬1) في م: «ابن». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه أمْكَنَ دَفْعُ (¬1) الضَّرَرِ بأَخْذِ الأرْشِ، أو برَدِّ وَلَدِها معها، فلم يَجُزِ ارْتِكابُ نَهْي الشَّرْعِ بالتَّفْرِيقِ بَينهما، كما لو أرادَ الإِقَالةَ فيها دونَ وَلَدِها. وقوْلُهم: إنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه. قلْنا: قد انْدفَعَتِ الحاجَةُ بأخْذِ الأرْشِ. أمّا إذا وَلَدَتْ حُرًّا، فلا سَبِيلَ إلى بَيعِه معها بحالٍ. ولو كان المَبِيعُ حَيَوانًا غيرَ الآدَمِيِّ، فحَدَثَ فيه حَمْلٌ عندَ المُشْتَرِي، لم يَمْنَعِ الرَّدَّ بالعَيبِ؛ لأنَّه زِيادَةٌ. وإنْ عَلِمَ بالعَيبِ بعدَ الوَضْعِ، ولم تَنْقُصْهُ الولادَةُ، فله رَدُّ الأُمِّ وإمْسَاكُ الوَلَدِ؛ لأنَّ التَّفْرِيقَ. بينَهما لا يَحْرُمُ. ولا فرْقَ بينَ حَمْلِها قبلَ القَبْضِ وبَعْدَه. ولو اشْثَرَاها حامِلًا، فوَلَدَتْ عندَه، ثم اطَّلَعَ على عَيبٍ فَرَدَّها، رَدَّ الوَلَدَ معها؛ لأنَّه مِن جُمْلَةِ المَبِيعِ، والزِّيَادَةُ فيه نماءٌ مُتَّصِلٌ، فأشْبَهَ ما لو سَمِنَتِ الشّاةُ. وإنْ تَلِفَ الوَلَدُ، فهو كتَعَيُّبِ المَبِيعِ عندَه. فإنْ قلنا: له الرَّدُّ. فعليه قِيمَتُه. وعن أحمدَ، لا قِيمَةَ عليه للوَلَدِ. وحَمَلَ القاضِي كلامَ أحمدَ على أنَّ البائِعَ دَلَّسَ العَيبَ. وإنْ نَقَصَتِ الأمُّ بالولادَةِ، فهو عَيبٌ حادِثٌ، حُكْمُه حُكْمُ العُيُوبِ الحادِثَةِ. ويُمْكِنُ حَمْلُ كلامِ أحمدَ على أنَّه لا حُكْمَ للحَمْلِ. وهو أحَدُ أقْوالِ الشّافِعِيِّ. فعلى هذا، يكونُ الوَلَدُ حِينَئِذٍ للمُشْتَرِي، فلا يَلْزَمُه رَدُّه مع بقَائِه، ولا قِيمَتُه مع التَّلَفِ. والأَوَّلُ أصَحُّ، وعليه العَمَلُ. ¬

(¬1) في م: «منع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ كان المَبِيعُ كاتِبًا أو صانِعًا، فنَسِيَ ذلك عندَ المُشْتَرِي، ثم وَجَدَ به عَيبًا، فالنِّسْيَانُ عَيبٌ حَادِثٌ، فهو كغَيرِه مِن العُيُوبِ. وعنه، يَرُدُّه، ولا شيءَ عليه. وعَلَّلَه القاضِي بأنَّه ليس بنَقصٍ في العَينِ، ويمكنُ عَوْدُه بالتَّذَكُّرِ. قال: وعلى هذا لو كانَ سَمِينًا، فَهَزَلَ. والقياسُ ما ذَكَرْنَاهُ، فإنَّ الصِّناعَةَ والكِتابَةَ مُتَقَوَّمَةٌ تُضْمَنُ في الغَصْبِ، وتَلْزَمُ بشَرْطِها في البَيعِ، فأشْبَهَتِ الأعْيانَ والمَنافِعَ، مِن السَّمْعِ والبَصَرِ والعَقْلِ، وإمْكانُ العَوْدِ مُنْتَقِضٌ بالسِّنِّ والبَصَرِ والحَمْلِ. وما رُوِيَ عن أحمدَ محمولٌ على ما إذا دَلَّسَ العَيبَ. فصل: وإذا تَعَيَّبَ المَبِيعُ [في يد] (¬1) البائِعِ بعد العَقْدِ، وكان المَبِيعُ مِن ضَمانِه، فهو كالعَيبِ القَدِيمِ، وإنْ كان مِن ضَمانِ المُشْتَرِي، فهو كالعَيبِ الحادِثِ بعدَ القَبْضِ. فأمّا الحادِثُ بعدَ القَبْضِ، فهو مِن ضمانِ المُشْتَرِي، لا يُثْبِتُ الخِيارَ. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، والشافعيِّ. وقال مالِكٌ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثةُ أيّام، فما أصابَهُ فيها فهو مِن مالِ البائِعِ، إلَّا في الجُنُونِ والجُذَام والبَرَصِ، فإنْ تَبَيَّنَ إلى سَنَةٍ ثَبَتَ الخِيارُ؛ لِما رَوَى الحَسَنُ عن عُقْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ عُهْدَةَ الرَّقِيقِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ (¬2). ولأنَّه ¬

(¬1) في م: «عند». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب عهدة الرقيق، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 254. وابن ماجه عن سمرة بن جندب، في: باب عهدة الرقيق، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 754. والدارمي، في: باب في الخيار والعهدة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 251.

1633 - مسألة: (قال الخرقي: إلا أن يكون البائع دلس العيب، فيلزمه رد الثمن كاملا. قال القاضي: ولو تلف المبيع عنده، ثم علم أن البائع دلس العيب، رجع بالثمن كله. نص عليه في رواية حنبل)

قَال الْخِرَقِيُّ: إلا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيبَ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ كَامِلًا. قَال الْقَاضِي: وَلَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ عِنْدَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أنَّ الْبَائِعَ دَلَّسَ الْعَيبَ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. نَصَّ عَلَيهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْمَاعُ أهْلِ المَدِينَةِ، ولأَنَّ الحَيَوانَ يكونُ فيه العَيبُ ثم يَظْهَرُ. ولَنا، أنَّه ظَهَرَ في يَدِ المُشْتَرِي، ويَجُوزُ أنْ يكونَ حادِثًا، فلم يَثْبُتْ به الخِيَارُ، كسائِرِ المَبِيعِ، وكما بعدَ الثَّلَاثَةِ والسَّنَةِ، وحَدِيثُهم لا يَثْبُتُ، قال أحمدُ: ليس فيه حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَثْبُتُ في العُهْدَةِ حَدِيثٌ، والحَسَنُ لم يَلْقَ عُقْبَةَ. وإجْمَاعُ أهلِ المَدِينَةِ ليس بِحُجَّةٍ. والدّاءُ الكامِنُ لا عِبْرَةَ به، وإنَّما النَّقْصُ بما ظَهَرَ لا بما كَمَنَ. 1633 - مسألة: (قال الخِرَقِيُّ: إلَّا أنْ يكونَ البائِعُ دَلَّسَ العَيبَ، فَيَلْزَمُه رَدُّ الثَّمَنِ كامِلًا. قال القاضِي: ولو تَلِفَ المَبِيعُ عندَه، ثم عَلِمَ أنَّ البائِعَ دَلَّسَ العَيبَ، رَجَعَ بالثَّمَنِ كُلِّه. نَصَّ عليه في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ). معنى دَلَّسَ العَيبَ: أي كَتَمَه عن المُشتَرِى، أو غَطَّاهُ عنه بما يُوهِمُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِيَ عَدَمَه. مشْتَقٌّ مِن الدُّلْسَة، وهي الظُّلْمَةُ. فكأنَّ البائِعَ يَسْتُرُ العَيبَ. وكِتْمَانُه جَعْمُها في ظُلْمَةٍ، فخَفِيَ على المُشْتَرِي، فلم يَرَه، ولم يَعْلَمْ به. والتَّدْلِيسُ حَرَامٌ، وقد ذَكَرْنَاهُ (¬1). فَمَتَى فَعَلَه البائعُ، فلم يَعْلَمْ به المُشْتَرِي حتى تَعَيَّبَ المَبِيعُ في يَدِه، فله رَدُّ المَبِيعِ، وأَخْذ ثَمَنِه كامِلًا، ولا أرْشَ عليه، سَواءٌ كان بفِعْلِ المُشْتَرِي، كوَطْءِ البِكْرِ، وقَطْعِ الثَّوْب، أو بفِعْلِ آدَمِيٍّ آخَرَ، مثلَ أنْ يَجْنِيَ عليه، أو بفِعْلِ العَبْدِ، كالسَّرِقَةِ، أَو بفِعْلِ اللهِ تَعالى؛ كالمرضِ (¬2). وسَواءٌ كان ناقِصًا للمَبِيعِ، أو مُذْهِبًا لجُمْلَتِه. قال أحمدُ -في رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا، فأَبَقَ، وأقامَ البَيِّنَةَ أنَّ إباقَه كان مَوْجُودًا في يَدِ البائِعِ: يَرْجِعُ على البائِعِ بجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأنَّه غَرَّ المُشْتَرِيَ، ويَتْبَعُ البائِعُ عَبْدَه حيثُ كانَ. ويُحْكَى هذا عن الحَكَمِ، ومالِكٍ؛ لأنَّه غَرَّه، فيَرجِعُ عليه، كما لو غَرَّهُ بحُرِّيَّةِ أمَةٍ. ¬

(¬1) في صفحة 364. (¬2) سقط من: م.

وَيَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَهُ عِوَضُ الْعَينِ إِذَا تَلِفَتْ، وَأرْشُ الْبِكْرِ إِذَا وَطِئَهَا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ». وَكَمَا يَجِبُ عِوَضُ لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شَيخُنا: (ويَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَه عِوَضُ العَينِ إذا تَلِفَت، وأرْشُ البِكْرِ إذا وَطِئَها، لقَوْلِه - عليه السلام -: «الخَرَاجُ بالضَّمَانِ» (¬1). وكما يَجِبُ عِوَضُ لَبَنِ المُصَرَّاةِ على المُشْتَرِي) مع كَوْنِه قد نَهَى عن التَّصْرِيَةِ، وقال: «بَيعُ المُحَفَّلاتِ خِلَابَةٌ، ولا تَحِلُّ الخِلَابَةُ لمُسْلِمٍ» (¬2). وقد جَعَلَ الشَّارِعُ الضَّمانَ عليه لوُجُوبِ الخَراجِ، فلو كان ضَمانُه على البائِعِ، لكانَ الخراجُ له؛ لوُجُودِ عِلَّتِه، ولأنَّ وجُوبَ الضَّمَانِ على البائِع لا يَثْبُتُ إلَّا بنَصٍّ أو إجْماعٍ، ولا نَعْلَمُ لهذا اصْلًا. ولا يُشْبهُ هذا التَّغْرِيرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 101. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 347.

1634 - مسألة: (وإن أعتق العبد، أو تلف المبيع، رجع بأرشه. وكذلك إن باعه غير عالم بعيبه. [نص عليه]

وَإنْ أَعتَقَ الْعَبْدَ، أَوْ تَلِفَ الْمِبيعُ، رَجَعَ بِأَرْشِهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ بَاعَهُ غَيرَ عَالِم بِعَيبِهِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَهُ. وَإنْ فَعَلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بحُرِّيَّةِ الأَمةِ في النِّكاحِ؛ لأَنَّه يَرْجِعُ على مَنْ غَرَّه وإنْ لم يَكُن سَيِّدَ الأَمَةِ، وههُنا لو كان التَّدْلِيسُ مِن وكيلِ البائِعِ، لم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ. نَصَّ عليه. 1634 - مسألة: (وإنْ أعتَقَ العبدَ، أو تَلِفَ المَبِيعُ، رَجَع بأَرْشِه. وكذلك إنْ باعَه غيرَ عالِمٍ بعَيبِه. [نَصَّ عليه] (¬1). وكذلك إن ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق، م.

عَالِمًا بِعَيبهِ، فَلَا شَيءَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَهَبَه. وإن فَعَلَه عالِمًا بِعَيبِه، فلا شيءَ له) إذا زَال مِلْكُ المُشْتَرِي عن المَبِيعِ بعِتْقٍ، أو مَوْت، أو وَقْفٍ، أو قَتْلٍ، أو تَعَذَّرَ الرَّدُّ لاسْتِيلادٍ ونحوه، قبلَ عِلْمِه بالعَيبِ، فله الأَرشُ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ. إلَّا أنَّ أبَا حَنِيفَةَ قال في المَقْتُولِ خاصّةً: لا أرْشَ له؛ لأَنَّه زال مِلْكُه بفِعْلٍ مَضْمُونٍ، أشْبَهَ البَيعَ. ولَنا، أنَّه عَيبٌ لم يَرْضَ به، ولم يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَه، فكان له الأرْشُ، كما لو أعتَقَهُ. والبَيعُ مَمْنُوعٌ، وإنْ سُلِّمَ، فقد اسْتَدْرَكَ ظُلامَتَه فيه. وأمّا الهِبَةُ، فعن أحمدَ فيها رِوايتان؛ إحْداهما، أنَّها كالبيعِ؛ لأنَّه لم يَيأسْ مِن إمكانِ الرَّدِّ، لاحتمالِ رُجُوعِ المَوهُوبِ إليه. والثانيةُ، له الأرْشُ. وهو أوْلَى. ولم يَذْكُرِ القاضي غَيرَها؛ لأنَّه لم يَسْتَدْرِكْ ظُلامَتَه، أشْبَهَ الوَقْفَ، وإمْكانُ الرَّدِّ ليس بمانِعٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أخْذِ الأرْشِ عندنا، بدَلِيلِ ما قبلَ الهِبَةِ. وإنْ أكَلَ الطَّعَامَ، أو لَبِسَ الثَّوْبَ فأَتْلَفَه، رَجَعَ بأرْشِه. وبه قال أبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَرْجِعُ بشيءٍ؛ لأنَّه أهْلَكَ العَينَ، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَ العَبْدَ. ولَنا، أنَّه ما اسْتَدْرَكَ ظُلامَتَه، ولا رَضِيَ بالعَيبِ، فلم يَسْقُطْ حَقُّه مِن الأرْشِ، كما لو تَلِفَ بفِعْلِ اللهِ تَعالى. فصل: إذا باعَ المُشْتَرِي المَبِيعَ قبلَ عِلْمِه بالعَيبِ، فله الأرْشُ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ البائِعَ لم يُوَفِّه ما أَوْجَبَه له العَقْدُ، ولم يُوجَدْ منه الرِّضَا به ناقِصًا، فكان له الرُّجُوعُ عليه، كما لو اعتَقَه. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لا أرْشَ له، سواءٌ باعَهُ عالِمًا بِعَيبِهِ (¬1) أو غيرَ عالِمٍ. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ امْتِناعَ الرَّدِّ كان بفِعْلِه، فأشْبَهَ ما لو أتْلَفَ المَبِيعَ، ولأنَّه اسْتَدْرَكَ ظُلَامَتَه بِبَيعِه، فلم يكُنْ له أرْشٌ، كما لو زال العَيبُ. فصل: وإن باعَهُ عالِمًا بعَيبِه، أو وَهَبَه، أو أعْتَقَه، أو وَقَفَه، أو اسْتَوْلَدَ ¬

(¬1) في م: «بيعه».

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَنْ بَاعَهُ، لَيسَ لَهُ شَيْءٌ إلا أنْ يَرُدَّ عَلَيهِ الْمَبِيعَ، فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ الرَّدُّ أو الْأرْشُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمَةَ، ونحوَه، فلا شيءَ له. ذَكَرَه القاضِي؛ لان تَصَرُّفَه فيه مع عِلْمِه بالعَيبِ يَدُلُّ على رِضاهُ به، أشْبَهَ ما لو صَرَّحَ بالرِّضَا. قال شيخُنا (¬1): وقِياسُ المَذْهَبِ، أنّ له الأَرشَ بكُلِّ حالٍ، وقد رُوِيَ عن أحمدَ فيما إذا باعَهُ أو وَهَبَه؛ لأَنَّا خَيَّرْنَاهُ ابْتِداءً بينَ رَدِّهِ وإمْسَاكِه مع الأرْشِ، فَبَيعُه والتَّصَرُّفُ فيه بمَنْزِلَةِ إمْسَاكِه، ولأنَّ الأرْشَ عِوَضُ الجُزْءِ الفائِتِ مِن المَبِيعِ، فلم يَسْقُطْ بِبَيعِه، كما لو باعَهُ عَشَرَةَ أقْفِزَةٍ، وسَلَّمَ إليه تِسْعَةً، فَباعَها المُشْتَرِي. وقَوْلُهم: إنّه اسْتَدْرَكَ ظُلامَتَه. لا يَصِحُّ، فإنَّ ظُلامَتَه مِن البائِعِ، ولم يَسْتَدْرِكْها منه، وإنَّما ظُلِمَ المُشْتَرِي الثانِي، فلا يَسْقُطُ حَقُّه بذلك مِن الظالِمِ له. وهذا هو الصَّحِيحُ من قولِ مالِكٍ (وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى في مَن باعَهُ، ليس له شيءٌ إلَّا أنْ يَرُدَّ عليه المَبِيعَ، ¬

(¬1) في: المغني 6/ 243.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ له حِينَئِذٍ الرَّدُّ أو الأرْشُ) لأنَّه إذا باعَهُ فقد اسْتَدرَكَ ظُلامَتَه. فعلى هذا، إذا عَلِمَ به المُشْتَرِي الثاني، فَرَدَّهُ به، أو أَخذَ أرْشَه منه، فللأوَّلِ أَخذُ أَرْشِه. وهو قولُ الشّافِعِيِّ إذا امْتَنَع على المُشْتَرِي الثاني رَدُّه بعَيبٍ حَدَثَ عِنْدَه؛ لأَنَّه لم يَسْتَدْرِكْ ظُلامَتَه. وكُلُّ واحِدٍ مِن المُشْترِيَينِ يَرْجِعُ بحِصَّةِ العَيبِ مِن الثَّمَنِ الذي اشْتَراهُ به، على ما تَقَدَّمَ. فصل: وإذا رَدَّها المُشْتَرى الثاني على الأوَّلِ، وكان الأَوَّل باعَهَا عالِمًا بالعَيبِ، أو وُجِدَ منه ما يَدُلُّ على الرِّضَا به، فلَيسَ له رَدُّه؛ لأنَّ تَصَرُّفَه رِضًا بالعَيبِ، وإنْ لم يَكُنْ عَلِم، فله رَدُّه على بائِعِه. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: ليس له رَدُّه، إلَّا أنْ يكونَ المُشْتَرِي فَسَخَ بحُكْمِ الحاكِمِ؛ لأنَّه سَقَطَ حَقُّه مِن الرَّدِّ بِبَيعِه، فأشْبَهَ ما لو عَلِمَ بِعَيبِه. ولَنا، أنَّه أمْكَنَه اسْتِدْرَاكُ ظُلامَتِه برَدِّه، فملَكَ ذلك، كما لو فَسَخَ الثانِي بحُكْمِ حاكِمٍ، أو كما لو لم يَزُلْ مِلْكُه عنه، ولا نُسَلِّمُ سقُوطَ حَقِّه، وإنَّما امْتَنَعَ لعَجْزِه عن رَدِّهِ، فإذا عادَ إليه، زال المانِعُ، فظَهَرَ جَوازُ الرَّدِّ، كما لو امْتَنَعَ الرَّدُّ لغَيبَةِ البائِعِ، أو لمَعْنًى آخَرَ. وسَواءٌ رَجَعَ إلى المُشْتَرِي الأوَّلِ بالعَيبِ الأوَّلِ، أو بإقالةٍ، أو هِبَةٍ، أو شراءٍ ثانٍ، أو ميراثٍ، في ظاهِرِ كلام القاضِي. وقال أصْحابُ الشّافِعِيِّ: إنْ رَجَعَ بغيرِ الفَسْخِ بالعَيبِ الأوَّلِ، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهُما، ليس له رَدُّه؛ لأنَّه اسْتَدْرَكَ ظُلَامَتَه بِبَيعِه، ولم يَزُلْ بفَسْخِه (¬1). ولَنا، أنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ قائِمٌ، ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «فسخه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما امْتَنَعَ لتَعَذُّرِه بزَوالِ مِلْكِه، فإذا زال المانِعُ وَجَبَ أنْ يجوزَ الرَّدُّ، كما لو رَدَّ عليه بالعَيبِ. فعلى هذا، إذا باعَها المُشْتَرِي لبائِعِها الأولِ، فوَجَدَ بها عَيبًا كان مَوْجُودًا حال العَقْدِ الأوَّلِ، فله الرَّدُّ على البائِعِ الثاني، ثم للثاني رَدُّه عليه. وفائِدَةُ الرَّدِّ ههُنا اخْتِلافُ الثَّمَنَينِ، فإنّه قد يكونُ الثّمَنُ الثانِي أكْثَرَ. فصل: وإنِ اسْتَغَلَّ المُشْتَرِي المَبِيعَ، أو عَرَضَهُ على البَيعِ، أو تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا دالًّا على الرِّضَا به، قبلَ عِلْمِه بالعَيبِ، لم يَسْقُطْ خِيارُه؛ لأنَّ ذلك لا يَدُلُّ على الرضَا به مَعِيبًا. وإنْ فَعَلَه بعدَ عِلْمِهِ بعَيبِه، بَطَلَ خِيارُه في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: كان الحَسَنُ، وشرَيحٌ، وعُبَيدُ اللهِ بنُ الحَسَنِ، وابنُ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصْحابُ الرأي، يقولُون: إذا اشْتَرَى سِلْعَةً، فَعَرَضَها على البَيعِ بعدَ عِلْمِه بالعَيبِ، بَطَلَ خِيارُه. وهذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ. ولا أعْلَمُ فيه خِلافًا. فأمّا الأرْشُ، فقال ابنُ أبي مُوسَى: لا يَسْتَحِقُّه أيضًا. وقد ذَكَرْنَا أنَّ قِياسَ المَذْهَبِ اسْتِحْقَاقُ الأرْشِ. قال أحمدُ: أنا أقولُ: إذا اسْتَخْدَمَ العَبْدَ، فأرَادَ نُقْصانَ العَيبِ، فله ذلك. فأمّا إنِ احْتَلَبَ اللَّبَنَ الحادِثَ بعدَ العَقْدِ، لم يَسْقُطْ رَدُّه؛ لأنَّ اللَّبَنَ له، فملَكَ اسْتِيفاءَه مِن المَبِيعِ الذي يُرِيدُ رَدَّه. وكذلك إنْ رَكِبَ الدّابَّةَ لِيَنْظُرَ سَيرَها، أو اسْتَخْدَمَ الأَمةَ ليَخْتَبِرَها، أو لَبِسَ القَمِيصَ ليَعْرِفَ قَدْرَه، لم يَسْقُطْ خِيارُه؛ لأَنَّ ذلك ليس برِضًا بالمَبِيعِ، ولهذا لا يَسْقُطُ به خِيَارُ الشَّرْطِ، وإن اسْتَخْدَمَها لغيرِ ذلك اسْتِخْدامًا كثيرًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَطَلَ رَدُّه، وإنْ كان يَسِيرًا لا يَخْتَصُّ (¬1) الملْكَ، لم يَبْطُلِ الخِيَارُ. قيل لأحمدَ: إنَّ هؤلاء يَقُولُونَ: إذا اشْتَرَى عَبْدًا، فوَجَدَه مَعِيبًا، فاسْتَخْدَمَه، بأَنْ يَقُولَ: ناولْنِي هذا الثَّوْبَ. بَطَلَ خِيارُه. فأنْكَرَ ذلك، وقال: مَن قال هذا؟ أو (¬2): مِن أينَ أخَذُوا هذا؟ ليس هذا برضًا حتى يكونَ شيءٌ يَبِينُ ويَطُولُ. وقد نُقِلَ عنه في بُطْلَانِ خِيارِ الشَّرْطِ بالاسْتِخْدامِ رِوَايَتَانِ، فكذلك يُخَرَّجُ ها هنا. فصل: فإن أبَقَ العَبْدُ، ثم عَلِمَ عَيبَه، فله أَخْذُ أرْشِه. فإن أخَذَه ثم قَدَرَ على العَبْدِ، فإن لم يكُنْ مَعْرُوفًا بالإِباقِ قبلَ البَيعِ، فقد تَعَيَّبَ عندَ المُشْتَرِي، فهل يَمْلِكُ رَدَّه وَرَدَّ أرْشِ العَيبِ الحادِثِ عندَه والأرْشِ الذي أَخَذَه؟ على رِوَايَتَينِ. وإنْ كان آبِقًا، فله رَدُّه ورَدُّ ما أَخَذَه مِن الأرْشِ وأخْذُ ثَمَنِه. وقال الثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ: ليس للمُشْتَرِي أخْذُ أرْشِه، سواءٌ قَدَرَ على رَدِّهِ أو عَجَزَ عنه، إلَّا أنْ يَهْلِكَ؛ لأَنَّه لم يَيأسْ مِن رَدِّه، فهو كما لو باعَه. ولَنا، أَنَّه مَعِيبٌ لم يَرْضَ به، ولم يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَه فيه، فكان له أرْشُه، كما لو أَعْتَقَه، وفي البَيعِ اسْتَدْرَكَ ظُلَامَتَه، بخلافِ مسألِتنا. فصل: إذا اشْتَرَى عَبْدًا فأَعْتَقَه، ثمَّ عَلِمَ به عَيبًا، فأخَذَ أَرْشَه، فهو له. وعنه رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّه يَجْعَله في الرِّقابِ. وهو قول الشعْبِيِّ (¬3)؛ ¬

(¬1) في م: «ينقص». (¬2) بعده في م: «قال». (¬3) في المغني 6/ 250: «الشافعي».

1635 - مسألة: (وإن باع بعضه فله أرش الباقي. وفي أرش المبيع الروايتان. وقال الخرقي: له رد ملكه منه بقسطه من الثمن، أو

وَإنْ بَاعَ بَعْضَهُ، فَلَهُ أَرْشُ الْبَاقِي. وَفِي أَرْشِ الْمَبِيعِ الرِّوَايَتَانِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: لَهُ رَدُّ مِلْكِهِ مِنْهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ أرْشُ الْعَيبِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مِن جُملةِ الرَّقبَةِ التي جَعَلَها اللهُ، فلا يَرْجِعُ إليه شيءٌ مِن بَدَلِها. ولَنا أنَّ العِتْقَ إنّما صادَفَ الرَّقَبَةَ المَعيبَةَ، والجُزْءُ الذي أَخَذَ بَدَلَه ما تَناوَلَهُ عِتْقٌ، ولا كانَ مَوْجُودًا، وليس الأرْشُ بَدَلًا عن العَبْدِ، إنّما هو عن جُزْءٍ مِن الثَّمَنِ جُعِلَ مُقَابِلًا للجُزْءِ الفائِتِ، فلَمّا لم يُحَصِّلْ ذلك الجُزْءَ مِن المَبِيعِ، رَجَعَ بقَدْرِه مِن الثَّمَنِ لا مِن قِيمَةِ العَبْدِ. وكلامُ أحمدَ في الرِّوَايَةِ الأُخرَى يُحْمَلُ على اسْتِحْباب ذلك، لا على وجُوبِه. قال القاضِي: إنَّما الرِّوَايَتَانِ فيما إذا أَعْتَقَه عن كَفَّارَتِه؛ لأنَّه إذا أعْتَقَه عن الكَفَّارَةِ لا يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إليه شيء مِن بدلِها (¬1)، كالمُكَاتَبِ إذا أدَّى بعضَ كِتَابَتِه. ولَنا، أنَّه أرْشُ عَبْدٍ أعْتَقَه، فهو كما لو تَبَرَّعَ بعِتْقِه. 1635 - مسألة: (وإنْ باعَ بَعْضَه فله أرْشُ الباقِي. وفي أرْشِ المَبِيعِ الرِّوَايَتَانِ. وقال الخِرَقِيُّ: له رَدُّ مِلْكِه منه بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، أو (¬2) أرْشُ العَيبِ بقَدْرِ مِلْكِه فيه) إذا باعَ بَعْضَ المَبِيعِ، ثم ظَهَرَ على عَيبٍ، فله أَرْشُ الباقِي؛ لأنَّه كان له ذلك، والأصْلُ في كُلِّ ثابِتٍ بَقَاؤُه. ¬

(¬1) في م: «بدله». (¬2) في ق: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي أرْشِ المَبِيعِ ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ، فيما إذا باعَ الجَمِيعَ. فإنْ أرادَ رَدَّ الباقي بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ، ففيه رِوَايَتَانِ؛ إحْداهُما، له ذلك. اخْتَارَها الخِرَقِيُّ، لأنَّه مَبِيعٌ رَدُّه مُمْكِنٌ، أَشْبَهَ ما لو كانَ الجَمِيعُ باقِيًا. والأُخْرَى، لا يَجُوزُ. وهي الصَّحِيحَةُ إذا كان المَبِيعُ عَينًا واحِدَةً، أو عَينَينِ يَنْقُصُهما التَّفْرِيقُ؛ لِما فيه مِن الضَّرَرِ على البائِعِ بنَقْصِ القِيمَةِ، أو ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وامْتِناعِ الانْتِفاعِ بها على الكَمالِ، كوَطْءِ الامةِ، ولُبْسِ الثَّوْبِ. وبهذا قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والشَّافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأَصحَابُ الرّأْي. وقد ذَكَرَ أصْحابُنا في غيرِ هذا المَوْضِعِ، فيما إذا كان المَبِيعُ عَينَينِ يَنْقُصُهما التَّفْرِيقُ، أنَّه لا يَجُوزُ رَدُّ إحْداهُما وَحْدَها؛ لِما فيه مِن الضَّرَرِ، وفيما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا اشْتَرَى مَعِيبًا وتَعَيَّبَ عندَه، أنَّه لا يَمْلِكُ رَدَّهُ إلَّا أنْ يَرُدَّ أرْشَ العَيبِ الحادِثِ عندَه، فكذلك لا يَجُوزُ أنْ يَرُدَّهُ في مسألتِنا مَعِيبًا بعَيبِ الشَّرِكَةِ أو نَقْصِ القِيمَةِ، بغيرِ شيءٍ. وما ذَكَرَه الخِرَقِيُّ يُحْمَلُ على ما إذا دَلَّسَ البائِعُ العَيب، على ما ذَكَرْنا فيما مَضَى. وإنْ كان المَبِيعُ عَينَينِ لا يَنْقُصُهُما التَّفْرِيقُ، فهل له رَدُّ الباقِيَةِ في مِلْكِه؟ يُخَرَّجُ على الرِّوَايَتَينِ في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. قال القاضِي: المسألةُ مَبْنِيَّةٌ على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، سَوَاء كان المَبِيعُ عَينًا واحِدَةً أو عَينَينِ. والتَّفْصِيلُ الذي ذَكَرْناه أوْلَى.

1636 - مسألة: (وإن صبغه، أو نسجه، فله الأرش)

وَإنْ صَبَغَهُ، أوْ نَسَجَهُ، فَلَهُ الْأرْشُ. وَعَنْهُ، لَهُ الرَّدُّ، وَيَكُونُ شَرِيكًا بِصَبْغِهِ وَنَسْجهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1636 - مسألة: (وإنْ صَبَغَه، أو نَسَجَهُ، فله الأرْشُ) ولا رَدَّ له في أَظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ، فيما إذا صَبَغَه. وهو قولُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا على البائِعِ، وتَشُقُّ المُشَارَكَةُ، فلم تَجُزْ، كما لو فَصَّلَه وخَاطَهُ، أو خَلَطَ المَبِيعَ بما لا يَتَمَيَّزُ منه (وعنه، له الرَّدُّ، ويكون شَرِيكًا) للبائِعِ بقِيمَةِ الصَّبْغِ والنَّسْجِ؛ لأنَّه رَدَّ المَبِيعَ بعَينه، أَشْبَهَ ما لو لم يَصْبُغْهُ ولم يَنْسِجْه. ومَتَى رَدَّه لَزِمَتِ الشَّرِكَةُ ضَرُورَةً. وعنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرُدُّه، ويَأْخُذُ زِيادَتَه بالصَّبْغِ، كما لو قَصَّرَه. وهو بعيدٌ؛ لأنَّ إجْبَارَ البائِع على بَذْلِ ثمَنِ الصَّبْغِ إجْبَارٌ على المُعَاوَضَةِ، فلم يَجُزْ؛ لقَوْلِه سبحانه: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1). وإنْ قال البائِعُ: أنا آخُذُه وأُعْطِي قِيمَةَ الصَّبْغِ. لم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ ذلك. وقال الشّافِعِيُّ: ليس للمُشْتَرِي إلَّا رَدُّه؛ لأنَّه أمْكَنَه رَدُّه، فلم يَمْلِكْ أخْذَ الأرْشِ، كما لو سَمِنَ عِنْدَه (¬2). ولَنا، أنَّه لا يُمْكِنُه رَدُّهُ إلَّا بردِّ شيءٍ مِن مالِه معه، فلم يَسْقُطْ حَقُّه من الأَرشِ بامْتِناعِه مِن رَدِّهِ، كما لو تَعَيَّبَ عِنْدَه فطَلَبَ البائِعُ أَخذَه مع أخْذِ أرْشِ العَيبِ الحادِثِ، والأصْلُ لا نُسَلِّمُه، فإنَّه يَسْتَحِقُّ أخْذَ الأرْشِ إذا رَدَّه. ¬

(¬1) سورة النساء 29. (¬2) في المغني 6/ 254: «عبده».

1637 - مسألة: (وإن اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره،

وَإنِ اشْتَرَى مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوفِهِ، فَكَسَرَهُ، فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1637 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى ما مَأْكُولُهُ في جَوْفِه، فكَسَرَه،

لَمْ يَكُنْ لَهُ مَكْسُورًا قِيمَةٌ، كَبَيضِ الدَّجَاجِ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. وَإنْ كَانَ لَهُ مَكْسُورًا قِيمَةٌ، كَبَيضِ النَّعَامِ، وَجَوْزِ الْهِنْدِ، فَلَهُ أَرْشُهُ. وَعَنْهُ، يَتَخيَّرُ بَينَ أَرْشِهِ، وَبَينَ رَدِّهِ وَرَدِّ مَا نَقَصَهُ، وَأَخَذِ الثَّمَنِ. وَعَنْهُ، لَيسَ لَهُ رَدٌّ. وَلَا أَرْشَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَدَه فاسِدًا، فإنْ لم يكُنْ له مَكْسُورًا قِيمَةٌ؛ كبَيضِ الدَّجَاجِ، رَجَعَ بالثَّمَنِ كُلِّه. وإنْ كان له مَكْسُورًا قِيمَةٌ؛ كبَيضِ النَّعَامِ، وجَوْزِ الهِنْدِ، فهو مُخَيَّرٌ بينَ أَخذِ أَرْشِه، وبينَ رَدِّه [ورَدِّ ما نَقَصَه وأخْذِ الثَّمَنِ] (¬1). وعنه، ليس له رَدٌّ. ولا أرْشَ في ذلك كُلِّه) إذا اشْتَرَى ما لا يَطَّلِعُ على عَيبِه إلَّا بكَسْرِه؛ كالبَيضِ، والجَوْزِ، والرُّمّانِ، والبِطِّيخِ، فكَسَرَه، فَظَهَرَ عَيبُه، ففيه روايَتَانِ؛ إحْداهُما، لا يَرْجِعُ على البائعِ بشيءٍ. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ؛ لأنَّه ليس مِن البائِعِ تَدْلِيسٌ ولا تَفْرِيطٌ؛ لعَدَمِ مَعْرِفَتِه بعَيبِه، وكَوْنِه لا يُمْكِنُه الوُقُوفُ عليه إلَّا بكَسْرِه، فجَرَى مجْرَى البَراءَةِ من العيُوبِ. والثانيةُ، يَرْجِعُ عليه. وهي ظاهِرُ المَذْهَبِ، وقَوْلُ أبي ¬

(¬1) زيادة من: ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ؛ لأنَّ عَقْدَ البَيعِ اقْتَضَى السَّلَامَةَ مِن عَيبٍ لم يَطَّلِعْ عليه المُشْتَرِي، فإذا بانَ مَعِيبًا، ثَبَت له الخِيارُ، كالعَبْدِ. ولأنَّ البائِعَ إنّما يَسْتَحِقُّ ثمنَ المَعِيب دونَ الصَّحِيحٍ؛ لأنَّه لم يَمْلِكْهُ صَحِيحًا، فلا مَعْنَى لإِيجَابِ الثَّمَنِ كُلِّهَ، وكَوْنُه لم يُفرِّطْ لا يَقْتَضِي أنْ يَجِبَ له ثَمَنُ ما لم يُسَلِّمْه؛ بدَلِيلِ العَيبِ الذي لم يَعْلَمْه في العَبْدِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ المَبِيعَ إن كان ممّا لا قيمةَ له مكسورًا؛ كبَيضِ الدَّجاجِ الفاسِدِ، والرُّمّانِ الأسْوَدِ، والجَوْزِ الخَرِبِ، رَجَع بالثَّمَنِ كلِّه؛ لأنَّ هذا يَبِينُ به فَسادُ العَقْدِ مِن أصْلِه؛ لكَوْنِه وَقَع على ما لا نَفْعَ فيه، فهو كبَيعِ الحَشَراتِ والمَيتاتِ، وليس عليه رَدُّ المَبِيعِ إلى البائِعِ؛ لأنَّه لا فائِدَةَ فيه. وإن كان الفاسِدُ في بَعْضِه، رجع بقِسْطِه. الثاني، أن يَكُونَ ممّا لعَيبِه قِيمَةٌ، كبَيضِ النَّعامِ، وجَوْزِ الهِنْدِ، والبِطِّيخِ الذي فيه نَفعٌ، ونحوه، فإذا كَسَرَه نَظَرْت؛ فإن كان كَسْرًا لا يُمْكِنُ اسْتِعْلامُ المَبِيع بدُونِه، فالمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بينَ رَدِّه ورَدِّ أرْشِ الكَسْرِ وأخذِ الثمنِ، وبينَ أخْذِ أرْشِ عَيبِه. هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهرُ كَلام الخِرَقِيِّ. وقال القاضي: عندِي لا أرْشَ عليه لكَسْرِه؛ لأَنَّه حَصَل بطَريقِ استعْلامِ العَيبِ، والبائِعُ سَلَّطَهُ عليه، حيثُ عَلِمَ أنَّه لا يُعْلَم صِحَّتُه مِن فَسَادِه بغيرِ ذلك. وهذا قولُ الشّافِعِيِّ. ووَجْهُ قوْلِ الخِرَقِيِّ أنه نَقْصٌ لم يَمْنَعِ الرَّدَّ، فلَزِمَ رَدُّ أرْشِه، كلَبَنِ المُصَرَّاةِ إذا احْتَلَبَها، والبِكْرِ إذا وَطِئَها، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرَه، بل ها هنا أوْلَى؛ لأَنَّه لا تَدْلِيسَ مِن البائِعِ، والتَّصْرِيَةُ تَدْلِيسٌ، وإنْ كان كَسْرًا (¬1) يُمْكِنُ اسْتِعْلامُ المَبِيعِ بدُونِه إلَّا أنَّه لا يُتْلِفُ المَبِيعَ بالكُلِّيَّةِ، فالحُكْمُ فيه كالذي قبلَه عندَ الخِرَقِيِّ والقاضِي. والمُشْتَرِى مُخَيَّرٌ بينَ رَدِّه وأرْشِ الكَسْرِ وأخْذِ الثَّمَنِ، وبينَ أخْذِ أرْشِ العَيبِ. وهذا إحْدى الرِّوايَتَين عن أحمدَ. والرِّوايةُ الثانيةُ، ليس له رَدُّه، وله أرْشُ العَيبِ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وقد ذَكَرْنَاهُ. وإنْ كَسَرَه كَسْرًا لا يُبْقِي له قِيمَةً، فله أرْشُ العَيبِ، لا غيرُ؛ لأنَّه أَتْلَفَه. وقَدْرُ أرْشِ العَيبِ قِسْطُ ما بَينَ الصَّحِيحِ والمَعِيبِ مِن الثَّمَنِ، فَيُقَوَّمُ المَبِيعُ صَحِيحًا، ثم يُقَوَّمُ مَعِيبًا غيرَ مكْسُورٍ، فيكونُ للمُشْتَرِي قدرُ ما بَينَهما مِن الثَّمَنِ. ¬

(¬1) في الأصل، ق: «كثيرًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اشْتَرَى ثَوْبًا فنَشَرَه فوَجَدَه مَعِيبًا، فإنْ كان ممّا لا يَنْقُصُه النَّشْرُ، رَدَّهُ، وإنْ كان يَنْقُصُه النَّشْرُ، كالهِسَنْجانِيِّ (¬1) الذي يُطْوَى طاقَينِ مُلْتَصِقَينِ، جَرَى ذلك مَجْرَى جَوْزِ الهِنْدِ، على التَّفْصِيلِ المَذْكُورِ، فيما إذا لم يَزِدْ على ما يَحْصُلُ به اسْتِعْلامُ المَبِيعِ، أو زادَ، ¬

(¬1) نسبة إلى هسنجان، قرية بالريّ. معجم البلدان 4/ 974.

1638 - مسألة: (ومن علم العيب، وأخر الرد، لم يبطل خياره، إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا؛ من التصرف ونحوه)

وَمَنْ عَلِمَ الْعَيبَ، وَأَخَّرَ الرَّدَّ، لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهُ، إلا أن يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؛ مِنَ التَّصَرُّفِ وَنَحْوهِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كنَشْرِ مَن لا يَعْرِفُ. وإنْ أرَادَ أَخْذَ أَرْشِه، فله ذلك بكُلِّ حالٍ. 1638 - مسألة: (ومَن عَلِمَ العَيبَ، وأَخَّرَ الرَّدَّ، لم يَبْطُلْ خِيارُه، إلَّا أنْ يُوجَدَ منه ما يَدُلُّ على الرِّضَا؛ مِن التَّصَرُّفِ ونَحْوه) وهكذا ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه خِيارٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ المُتَحَقِّقِ، فكان على التَّرَاخِي، كخِيارِ القِصاصِ (وعنه، أنَّه على الفَوْرِ) وهو مَذْهَبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّافِعِيِّ. فمتى عَلِمَ العَيبَ، وأَخَّرَ الرَّدَّ مع إمْكانِه، بطَلَ خِيارُه؛ لأَنَّه يَدُلُّ على الرِّضَا، فأُسْقِطَ خِيارُه، كالتَّصَرُّفِ. ولأَنَّه خِيارٌ ثَبَتَ بالشَّرْعِ لدَفْعِ الضَّرَرِ عن المالِ، فأَشْبَهَ خِيارَ الشُّفْعَةِ. والأَوَّلُ أوْلَى، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الإِمْسَاكَ يَدُلُّ على الرِّضَا، والشُّفْعَةُ تَثْبُتُ لدَفْعِ ضَرَرٍ غيرِ مُتَحَقِّقٍ، بخِلافِ الرَّدِّ بالعَيبِ.

1639 - مسألة: (ولا يفتقر الرد إلى رضا. ولا قضاء، ولا حضور صاحبه)

وَلَا يَفْتَقِرُ الرَّدُّ إِلَى رِضَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ، وَلَا حُضُورِ صَاحِبِهِ. وَإنِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيئًا، وَشَرَطَا الْخِيَارَ، أوْ وَجَدَاهُ مَعِيبًا، فَرَضِىَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1639 - مسألة: (ولا يَفْتَقِرُ الرَّدُّ إلى رِضًا. ولا قَضاءٍ، ولا حُضُورِ صاحِبِه) قبل القَبْضِ ولا بَعْدَه. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: إنْ كان قبلَ القَبْضِ، افْتَقَرَ إلى حُضُورِ صاحِيه دونَ رِضاهُ، وإنْ كان بَعْدَه، افْتَقَرَ إلى رِضَا صاحِبِه أو حُكْمِ حاكِمٍ؛ لأنَّ مِلْكَه قد تَمَّ على الثمَنِ، فلا يَزُولُ إلَّا برِضَاهُ. ولَنا، أنَّه رَفْعُ عَقْدٍ مُستَحَقٍّ له، فلم يَفْتَقِرْ إلى رِضَا صاحِبِه، ولا حُضُورِه، كالطَّلَاقِ، ولأنَّه مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ بالعَيبِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى رِضَا صاحِبِه، كقبلِ القَبْضِ. 1640 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى اثْنانِ شيئًا، وشَرَطَا الخِيَارَ، أو

أحَدُهُمَا، فَلِلْآخَرِ الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ. وَعَنْهُ، لَيسَ لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَدَاهُ مَعِيبًا، فَرضِيَ أَحَدُهما، فللآخَرِ الفَسْخُ في نَصِيبهِ. وعنه، ليس له ذلك) نُقِلَ عن أحمدَ رَحِمَه اللهُ في ذلك رِوَايَتَانِ، حَكَاهُما أبو بكْرٍ، وابنُ أبي مُوسَى؛ إحْدَاهُما، لِمَن لم يَرْضَ الفَسْخُ. وبه قال ابنُ أبي لَيلَى، والشّافِعِيُّ، وأبو يوسُفَ، ومحمدٌ، وإحْدَى الرِّوَايَتَينِ عن مالِكٍ. والأُخْرَى، لا يَجُوزُ له رَدُّه. [وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ المَبِيعَ خرَجَ عن مِلْكِه دُفْعَةً واحِدَةً غيرَ مُتَشقِّصٍ، فإذا رَدَّه] (¬1) مُشتَركًا، رَدَّه ناقِصًا، أشْبَهَ ما لو تَعَيَّبَ عِنْدَه. ولَنا، أنَّه رَدَّ جَمِيعَ ما مَلكه بالعَقْدِ فجازَ، كما لو انْفَرَدَ بشِرائِه، والشَّرِكَةُ إنَّما حَصَلَتْ بإيجابِ البائِعِ؛ وإنَّما باعَ كُلُّ واحِدٍ منهما نِصْفَها، فخَرَجَتْ عن مِلْكِ البائِعِ مُتشَقِّصَةً، بخِلافِ العَيبِ الحادِثِ. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اشْتَرَى رَجُلٌ مِن رَجُلَينِ شَيئًا، فوَجَدَه مَعِيبًا، فله رَدُّه عَلَيهما. فإنْ كان أَحَدُهما غائِبًا، رَدَّ على الحاضِرِ حِصَّتَه بقِسْطِها مِن الثَّمَنِ، ويَبْقَى نَصِيبُ الغائِبِ في يَدِه حتى يَقْدَمَ. ولو كان أحَدهما باعَ العَينَ كُلَّها بوَكَالةِ الآخَرِ، فالحُكْمُ كذلك، سَواءٌ كان الحاضِرُ الوَكِيلَ أو المُوَكِّلَ. نَصَّ أحْمَدُ على نحوٍ مِن هذا. وإنْ أرادَ رَدَّ نَصِيبِ أحَدِهما وإمْساكَ نَصِيبِ الآخَرِ، جازَ؛ لأنَّه يَرُدُّ على البائِعِ جَمِيعَ ما باعَهُ، ولم يَحْصُلْ بِرَدِّه تَشْقِيصٌ؛ لأنَّه كان مُشَقَّصًا قبلَ البَيعِ. فصل: وإنْ ورِثَ اثْنَانِ خِيَارَ عَيبٍ، فَرَضِيَ أَحَدُهما، سَقَطَ حَقُّ الآخَرِ مِن الرَّدِّ: لأَنَّه لو رَدَّ وَحْدَه، تَشَقَّصَتِ السِّلْعَةُ على البائِعِ، فيَتَضَرَّرُ بذلك، وإنَّما أخْرَجَها مِن مِلْكِه إلى واحِدٍ غيرَ مُشَقَّصَةٍ، فلا يَجُوزُ رَدُّ بَعْضِها إليه مُشَقَّصًا، بخِلافِ المسألةِ التي قَبْلَها، فإنْ عَقْدَ الواحِدُ مع الاثْنَينِ عَقْدَينِ، فكَأَنَّه باعَ كُلَّ واحِدٍ منهما نِصْفَها مُنْفَرِدًا، فرَدَّ عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما جَمِيعَ مما باعَهُ إيّاهُ، وههنا بخِلافِه. فصل: وإنِ اشْتَرَى حَلْىَ فِضَّةٍ بوَزْنِه دراهِمَ، فوَجَدَه مَعِيبًا، فله رَدُّه، وليس له أَخذُ الأَرْش؛ لإِفْضائِه إلى التَّفاضُلِ فيما يَجِبُ فيه التَّماثُلُ. فإنْ حَدَثَ به عَيبٌ عندَ المُشْتَرِي، فعلى إحْدَى الرِّوَايَتَينِ، يَرُدُّه، ويَرُدُّ أرْشَ العَيبِ الحادِثِ عندَه، ويأخُذُ ثَمَنَه. وقال القاضِي: ليس له رَدُّه؛ لإِفْضائِه إلى التَّفَاضُلِ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ الرَّدَّ فَسْخٌ للعَقْدِ، ورَفعٌ له، فلا تَبْقَى المُعاوَضَةُ، وإنَّما يَدْفَعُ الأرْشَ عِوَضًا عن العَيبِ الحادِثِ عندَه، بمَنْزِلَةِ ما لو جنَى (¬1) عليه في مِلْكِ صاحِبِه من غيرِ بَيعٍ، وكما لو فَسَخَ الحاكِمُ عليه. وعلى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى، يَفْسَخُ الحاكِمُ البَيعَ، ويَرُدُّ البائِعُ الثَّمَنَ، ويُطالِبُ بقِيمَةِ الحَلْي؛ لأنَّه لم يُمْكِنْ إِهْمَالُ العَيبِ، ولا أَخْذُ الأَرْشِ. ولأَصْحابِ الشّافِعِيِّ وَجْهانِ، كهاتَينِ الرِّوَايَتَينِ. وإن تَلِفَ الحَلْيُ فسِخَ العَقْدُ، ويَرُدُّ قِيمَتَه، ويَسْتَرْجِعُ الثَّمَنَ، فإنَّ تَلَفَ المَبِيعِ لا يَمْنَعُ جوازَ الفَسْخِ. واخْتارَ شَيخُنا (¬2)، أنَّ الحاكِمَ إذا فَسَخَ، وَجَبَ رَدُّ الحَلْيِ وأَرشِ نقْصِه, كما قُلْنا فيما إذا فَسَخَ المُشْتَرِي على إحْدَى الرِّوَايَتَينِ، وإنَّما يرجعُ إلى قِيمَتِه عند تَعَذُّرِه بتَلَفٍ أو عَجْزٍ عن رَدِّه، أمّا مع بَقائِه وإمْكَانِ رَدِّهِ، فيَجِبُ رَدُّهُ دونَ بَدَلِه، كسائِرِ المَبِيعِ إذا انْفَسَخَ ¬

(¬1) في م: «خفى». (¬2) انظر المغني 6/ 247.

1641 - مسألة: (وإن اشترى واحد معيبين صفقة واحدة، فليس له إلا ردهما أو إمساكهما)

وَإِنِ اشْتَرَى وَاحِدٌ مَعِيبَينِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلَيسَ لَهُ إلا رَدُّهُمَا أوْ إِمْسَاكُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَقْدُ فيه، وليس في رَدِّه ورَدِّ أرْشِه تَفاضُلٌ؛ لأنَّ المُعاوَضَةَ قد زَالتْ بالفَسْخِ، ولم يَبْقَ له مُقابِلٌ، وإنّما هذا الأَرشُ بمَنْزِلَةِ الجنايَةِ عليه، ولأنَّ قِيمَتَه إذا زادَتْ على وَزْنِه أو نَقَمَستْ عنه، أفْضَى إلى التَّفاضُلِ؛ لأَنَّ قِيمَتَه عِوَضٌ عنه، فلا يَجُوزُ ذلك، إلَّا أنْ يَأْخُذَ القِيمَةَ مِن غيرِ الجِنْسِ. ولو باعَ قَفِيزًا ممّا فيه الرِّبا بمِثْلِه، فوَجَدَ أحَدُهما بما أخَذَه عَيبًا يَنْقُصُ قِيمَتَه دونَ كَيلِه (¬1)، لم يَمْلِكْ أخْذَ أرْشِه؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلى التَّفاضُلِ. والحُكْمُ فيه على ما ذَكَرْنا في الحَلْي (¬2) بالدَّرَاهِمَ. 1641 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى واحِدٌ مَعِيبَينِ صَفْقَةً واحِدَةً، فليس له إلا رَدُّهما أو إمْساكُهُما) والمُطَالبَةُ بالأَرْشِ. قاله القاضِي. وعنه، له رَدُّ أحَدِهما بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ, لو كانَ أحَدُهما مَعِيبًا والآخرُ صَحِيحًا؛ لأنَّ المانِعَ مِن الرَّدِّ إنَّما هو تَشْقِيصُ المَبِيعِ على البائِعِ، وهو ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «كله». (¬2) في م: «الحكم».

فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَلَهُ رَدُّ الْبَاقِيَ بِقِسْطِهِ. وَالْقَوْلُ في قِيمَةِ التَّالِفِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْجُودٌ فيما إذا كان أحَدُهما صَحِيحًا (فإنْ تَلِفَ أحَدُهما، فله رَدُّ الباقِي بقِسْطِه) من الثَّمَنِ، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. هذا قَوْلُ الحارِث العُكلِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وإسحاقَ. وقولُ أبي حَنِيفَةَ فيما بعدَ القَبْضِ؛ لأَنَّه رَدَّ المَعِيبَ على وَجْهٍ لا ضَرَرَ فيه على البائِعِ، فجازَ، كما لو رَدَّ الجميعَ. والثانيةُ، ليس له إلَّا أخْذُ الأرْشِ مع إمِسَاكِ الباقِي منهما. وهو ظاهِرُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ، وقولُ أبي حَنِيفَةَ فيما قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّ في الرَّدِّ تَبْعِيضَ الصَّفْقَةِ على البائِعِ، وذلك ضَرَرٌ، أشْبَهَ إذا كانا ممّا يَنْقُصُه التَّفْرِيقُ (والقَوْلُ في قِيمَةِ التَّالِفِ قولُ المُشْتَرِي مع يَمِينهِ) لأنَّه مُنْكِرٌ لِما يَدَّعِيهِ البائِعُ مِن زِيادَةِ قِيمَتِه، ولأنَّه بمَنْزِلَةِ الغارِمِ؛ لأنَّ قِيمَةَ التّالِفِ إذا زادَتْ زادَ قدرُ ما يَغْرَمُهُ، فهو بمَنْزِلَةِ المُسْتَعِيرِ والغاصِبِ.

1642 - مسألة: (وإن كان أحدهما معيبا، فله رده بقسطه)

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ بِقِسْطِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ لَهُ إلا رَدُّهُمَا أَوْ إِمْسَاكُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1642 - مسألة: (وإنْ كان أحَدُهما مَعِيبًا، فله رَدُّه بقِسْطِه) مِن الثَّمَنِ (وعنه، ليس له إلَّا رَدُّهما أو إمْسَاكُهما) وَوَجْهُ الرِّوَايَتَينِ ما ذَكَرْنَا فيما إذا تَلِفَ أحَدُهما، وفيه من التَّفْصِيلِ والخِلافِ مما ذَكَرْنَا.

1643 - مسألة: (فإن كان المبيع مما ينقصه التفريق؛ كمصراعي باب، أو زوجى خف، أو من لا يجوز التفريق بينهما؛ كجارية وولدها، فليس له رد أحدهما)

وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقُصُهُ التَّفْرِيقُ، كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ، وَزَوْجَيْ خُفٍّ، أَوْ مِمَّنْ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَينَهُمَا؛ كَجَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا، فَلَيسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1643 - مسألة: (فإن كان المَبِيعُ ممّا يَنْقُصُه التَّفْرِيقُ؛ كمِصْرَاعَيْ بابٍ، أو زَوْجَى خفٍّ، أو مَن لا يَجُوزُ التَّفْرِيق بينهما؛ كجارِيَةٍ ووَلَدِها، فليس له رَدُّ أحَدِهما) لِما فيه مِن الضَّرَرِ على البائِع بنَقْصِ القِيمَةِ وسُوء المُشَارَكَةِ، ولقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. «مَنْ فَرَّقَ بينَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِها، فَرَّقَ اللهُ بَينَه وبَينَ أحِبَّتِه يومَ القِيَامَةِ». رَواهُ

1644 - مسألة: (وإن اختلفا في العيب: هل كان عند البائع، أو حدث عند المشتري، ففي أيهما يقبل قولة؟ روايتان. إلا أن لا يحتمل إلا قول أحدهما، فالقول قوله بغير يمين)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في الْعَيبِ: هَلْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، أَو حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَفِي أَيِّهِمَا يُقْبَل قَوْلُهُ؟ رِوَايَتَانِ، إلا أَنْ لَا يَحْتَمِلَ إلا قَوْلُ أَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيرِ يَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِيُّ (¬1). وفي ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى، وهذا القَوْلُ هو الصَّحِيحُ، إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. 1644 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في العَيبِ: هل كان عند البائِعِ، أو حَدَثَ عندَ المُشْتَرِي، ففي أيِّهما يُقبَلُ قَوْلُة؟ رِوَايَتَانِ. إلَّا أنْ لا يَحْتَمِلَ إلَّا قولُ أحَدِهما، فالقَوْلُ قولُه بغيرِ يَمِينٍ) إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعانِ في العَيبِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هل كان في المَبِيعِ قبلَ العَقْدِ، أو حَدَثَ عند المُشْتَرِي؟ فإن كان لا يَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَ أحَدِهما، كالإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، والشَّجَّةِ المُنْدَمِلَةِ التي لا يُمْكِنُ حُدوثُ مِثْلِها، والجُرْحِ الطارِيء الذي لا يمكِنُ كَوْنُه قَدِيمًا، فالقَوْلُ قوْلُ مَن يَدَّعِي ذلك، بغَيرِ يَمِينٍ؛ لأَنَّا نَعْلَمُ صِدْقَهُ، فلا حاجَةَ إلى اسْتِحْلافِه. وإنِ احْتَمَلَ قَوْلَ كُلِّ واحِدٍ منهما، كالخَرْقِ في الثَّوْبِ، والرَّفْو، ونحوهما، ففيه رِوَايَتانِ؛ إحْداهُما، القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي، فَيَحْلِفُ باللهِ أنَّه اشْتَرَاهُ وبه هذا العَيبُ، أو أنَّه ما حَدَثَ عِنْدَه، ويكونُ له الخِيَارُ. اخْتَارَها الخِرَقِيُّ؛ لأنَّ الأَصْلَ عَدَمُ القَبْضِ في الجُزْءِ الفائِتِ، واستِحْقَاقُ ما يُقابِلُه مِن الثَّمَنِ، ولُزُومُ العَقْدِ في حَقِّهِ، فكان القَوْلُ قَوْلَ مَن يَنْفِي ذلك, كما لو اخْتَلَفَا في قَبْضِ المَبِيعِ. والثانِيَةُ، القَوْلُ قولُ البائِعِ مع يَمِينِه، فيَحْلِفُ على حَسَبِ جَوابِه، إنْ أجَابَ أنَّه باعَهُ بَرِيئًا مِن العَيب، حَلَفَ على ذلك، وإنْ أجَابَ أنَّه لا يَسْتَحِقُّ، على (¬1) ما يَدَّعِيهِ مِن الرَّدِّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَلَفَ على ذلك. ويَمِينُه على البَتِّ؛ لأنَّ الأَيمانَ كُلَّها على البَتِّ، إلَّا ما كان على النَّفْي في فِعْلِ الغَيرِ. وعنه، أنَّها على نَفْي العِلْمِ، فيَحْلِفُ أنَّه ما يَعْلَمُ به عَيبًا حال البَيعِ. ذَكَرَها ابنُ أبي مُوسَى. والرِّوَايَةُ الثانِيَةُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ سَلامَةُ المَبِيعِ وصِحَّةُ العَقْدِ، ولأَنَّ المُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه اسْتِحْقاقَ فَسْخِ البَيعِ، والبائِعُ يُنْكِرُه، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. فصل: وإذا باعَ الوَكِيلُ، ثم ظَهَرَ المُشْتَرِي على عَيبٍ كان بالمَبِيعِ، فله رَدُّهُ على المُوَكِّلِ؛ لأَنَّ المَبِيعَ يُرَدُّ بالعَيبِ على مَن كان له. فإن كان العَيبُ ممّا يُمْكِنُ حُدُوثُه، فأقَرَّ به الوَكِيلُ، وأَنْكَرَه المُوَكِّلُ، فقال أبو الخَطّابِ: يُقْبَلُ إقْرَارُه على مُوَكِّلِه بالعَيبِ؛ لأَنَّه أمْرٌ يَسْتَحِقُّ به الرَّدَّ، فقُبِلَ إقْرارُه به على مُوَكِّلِه، كخِيَارِ الشَّرْطِ. وقال أصحابُ أبي حَنِيفَةَ، والشَّافِعِيُّ: لا يُقْبَلُ إقْرَارُ الوَكِيلِ بذلك. قال شَيخُنا (¬1): وهو أصَحُّ؛ لأَنَّه إقْرارٌ على الغَيرِ، فلم يُقْبَلْ، كالأَجْنَبِيِّ. وفارَقَ خِيارَ الشَّرْطِ مِن حيث إنَّ المُوَكِّلَ يَعْلَمُ صِفَةَ سِلْعَتِه، ولا يَعْلَمُ صِفَةَ العَقْدِ، لغَيبَتِه عنه. ¬

(¬1) في: المغني 6/ 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، إذا رَدَّهُ المُشْتَرِي على الوَكِيلِ، لم يَمْلِكِ الوَكِيل رَدَّه على المُوَكِّلِ؛ لأَنَّ رَدَّه بإقْرارِه (¬1)، وهو غير مَقْبُولٍ على غَيرِه. ذَكَرَه القاضِي. فإنْ أنْكَرَه الوَكِيل فتَوَجَّهَتِ اليَمِين عليه فنَكَلَ عنها، فَردَّ عليه بنكولِه، فهل له رَدُّه على المُوَكِّلِ؟ على وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، ليس له رَدُّه؛ لأَنَّ ذلك يَجْرِي مَجْرَى إقْرارِه. والثاني، له رَدُّه؛ لأَنَّه رَجَعَ إليه بغيرِ رِضَاه، أشْبَهَ ما لو قامَت به بَيِّنَةٌ. فصل: ولو اشْتَرَى جارِيَةً على أنَّها بِكْرٌ، فقال المُشْتَرِي: هي ثَيِّبٌ. أُرِيَتِ (¬2) النِّسَاءَ الثِّقَاتِ، ويُقْبَل قَوْلُ واحِدَةٍ. فإنْ وَطِئها المُشْتَرِي، وقال: ما وَجَدْتها بِكْرًا. خُرِّجَ فيه وَجْهَانِ، بناءً على الاخْتِلَافِ في العَيبِ الحادِثِ. ¬

(¬1) في م: «كإقراره». (¬2) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن رَدَّ المُشْتَرِي السِّلْعَةَ بعَيبٍ، فأنْكَرَ البائِعُ أنَّها سِلْعَتُه، فالقَوْلُ قوْلُ البائِعِ مِع يَمِينِه. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. ونحوَه قال الأَوْزَاعِيُّ، فإنَّه قال في مَن صَرَفَ دَراهِمَ، [بدَنانِيرَ، ثم رَجَع بدِرْهَمٍ] (¬1)، فقال الصَّيرَفِيُّ (¬2): ليس (¬3) هذا دِرْهَمِي. يَحْلِفُ الصَّيرَفِيُّ: باللهِ لقد وَفَّيتُكَ. ويَبْرَأُ؛ لأَنَّ البائِعَ مُنْكِرٌ كَوْنَ هذه سِلْعَتَه، ومُنْكِرٌ اسْتِحْقَاقَ الفَسْخِ، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. فأمّا إن جاءَ لِيَرُدَّ السِّلْعَةَ بخِيَارٍ، ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) في م: «للصيرفي». (¬3) زيادة من: ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأنْكَرَ البائِعُ أنَّها سِلْعَتُه، فحَكَى ابنُ المُنْذِر عن أحمدَ، أنَّ القَوْلَ قولُ المُشْتَرِي. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْي؛ لأنَّهُما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اتَّفَقَا على اسْتِحْقاقِ فَسْخِ العَقْدِ، والرَّدُّ بالعَيبِ بخِلافِه.

1645 - مسألة: (ومن باع عبدا تلزمه عقوبة من قصاص أو

وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا تَلْزَمُهُ عُقُوَبَةٌ مِنْ قِصَاصٍ أوْ غَيرِه، يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 1645 - مسألة: (ومَن باعَ عَبْدًا تَلْزَمُه عُقُوبَةٌ مِن قِصاصٍ أو

1646 - مسألة: (فإن لم يعلم حتى قتل، فله الأرش)

ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَإنْ عَلِمَ بَعْدَ الْبَيعِ، فَلَهُ الرَّدُّ، أَو الْأَرْشُ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى قُتِلَ، فَلَهُ الْأَرْشُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِه، يَعْلَمُ المُشتَرِي ذلك، فلا شيءَ له) لأَنَّه رَضِيَ به مَعِيبًا، أشْبَهَ سائِرَ المَعِيباتِ. وهذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ (وإنْ عَلِمَ بعدَ البَيعِ، فله الرَّدُّ، أو الأَرْشُ) على أصْلِنا، كغَيرِه مِن العُيُوبِ. 1646 - مسألة: (فإنْ لم يَعْلَمْ حتى قُتِلَ، فله الأَرْشُ) لتَعَذُّرِ الرَّدِّ. وهو قِسْطُ ما بَينَ قِيمَتِه جانِيًا، وغيرَ جانٍ، ولا يَبْطُلُ البَيعُ من أصْلِه. وبه قال بَعْضُ أصْحابِ الشّافِعِيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ: يَرْجِعُ بجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأَنَّ تَلَفَه كان بمَعْنًى اسْتُحِقَّ عند البائِعِ، فجَرَى مَجْرَى إتْلافِه إيّاهُ. ولَنا، أنَّه تَلِفَ عند المُشْتَرِي بالعَيبِ الذي كان فيه، فلم يُوجِبِ الرُّجُوعَ بجَمِيعِ الثَّمَنِ, كما لو كان مَرِيضًا فماتَ بِدَائِه، أو مُرْتَدًّا فَقُتِلَ بِرِدَّتِه، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه. ولا يَصِحُّ قِياسُهم على إتْلَافِه؛ لأَنَّه لم يُتْلِفْه، فلم يَشْتَرِكَا في المُقْتَضِي. وإنْ كانتِ الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للقَطْعِ،

1647 - مسألة: (وإن كانت الجناية موجبة للمال، والسيد معسر، قدم حق المجني عليه. وللمشتري الخيار)

وَإنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، وَالسَّيِّدُ مُعْسِرٌ، قُدِّمَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيهِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا، تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِذِمَّتِهِ، وَالْبَيعُ لَازِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَقُطِعَت يَدُه عند المُشْتَرِي، فقد تَعَيَّبَ عِنْدَه؛ لأَنَّ اسْتِحْقاقَ القَطْعِ دونَ حَقِيقَتِه، فهل يَمْنَعُ ذلك رَدَّه بِعَيبِه؟ على رِوَايَتَينِ. 1647 - مسألة: (وإنْ كانتِ الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للمالِ، والسَّيِّدُ مُعْسِرٌ، قُدِّمَ حَقُّ المَجْنِيِّ عليه. وللمُشْتَرِي الخِيَارُ) إذا, لم يَكُنْ عالِمًا (وإنْ كان السَّيِّدُ مُوسِرًا، تَعَلَّقَ الأَرْشُ بذِمَّتِه، والبَيعُ لازِمٌ) إذا كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للمال، أو للقَوَدِ، فَعُفِيَ عنه إلى مالٍ، فعلى السيِّدِ فِداؤُه، ويَزُولُ الحَقُّ عن رَقَبَةِ العَبْدِ بِبَيعِه؛ لأَنَّ للسيِّدِ الخِيَرَةَ بين تَسْلِيمِه وفِدائِه. فإذا باعَه تَعَيَّنَ عليه فِداؤُه؛ لإِخْراجِ العَبْدِ عن ملْكِه. ولا خِيَارَ للمُشْتَرِي؛ لعَدَمِ الضَّرَرِ عليه، إذ الرُّجُوعُ على غيرِه، هذا إذا كان السَّيِّدُ موسِرًا. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: لا يَلْزَمُ السَّيِّدَ فِداؤُه؛ لأنَّ أكْثَرَ ما فيه أنَّه الْتَزَمَ قِداءَه، ولا يَلْزَمُه ذلك (¬1) , كما لو قال الرَّاهِنُ: أنا أقْضِي الدَّينَ مِن الرَّهْنِ. ولَنا، أنَّه أزال مِلْكَه عن الجاني، فلَزِمَه فِداؤُه، كما لو أَتْلَفَه. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وإن كان البائِعُ مُعْسِرًا، لم يَسْقُطْ حَقُّ المَجْنِيِّ عليه مِن رَقَبَةِ الجانِي؛ لأَنَّ المالِكَ إنَّما يَمْلِكُ نَقْلَ حَقِّهِ عن رَقَبَتِه ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: السَّادِسُ، خِيَارٌ يَثْبُتُ في التَّوْلِيَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُرَابَحَةِ، وَالْمُوَاضَعَةِ. وَلَابدَّ في جَمِيعِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشْتَرِي رَأْسَ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بفِدَائِه، أو ما يَقُومُ مَقامَه، ولا يَحْصُلُ ذلك مِن ذِمَّةِ المُعْسِرِ، فيَبْقَى الحَقُّ في رَقَبَتِه بحالِه مُقَدَّمًا على حَقِّ المُشْتَرِي. وللمُشْتَرِي خِيارُ الفَسْخِ إنْ لم يَكُنْ عالِمًا، فإنْ فَسَخَ، رَجَعَ بالثَّمَنِ، وإنْ لم يَفسَخْ، وكانتِ الجنَايَةُ مُسْتَوْعِبَةً لرَقَبَةِ العَبْدِ، فأخذ بها، رَجَعَ المُشْتَرِي بالثَّمَنِ أيضًا؛ لأَنَّ أرْشَ مثلِ هذا جَمِيعُ ثَمَنِه، وإنْ لم تَكُنْ مُسْتَوْعِبَةً، رَجَعَ بقَدْرِ أَرْشِه. وإنْ كان عالِمًا بِعَيبِه، رَاضِيًا بتَعَلُّقِ الحَقِّ به، لم يَرْجِعْ بشيءٍ؛ لأنَّه اشْتَرَى مَعِيبًا عالِمًا بعَيبِه. فإنِ اخْتَارَ المُشْتَرِي فِدَاءَه، فله ذلك، والبَيعُ بحالِه؛ لأَنَّه يَقُومُ مَقامَ البائِعِ بين تَسْلِيمِه وفِدَائِه، وحُكْمُه في الرُّجُوعِ بما فَداهُ به على البائِعِ حُكْمُ قَضاءِ الدَّينِ عنه، على ما نَذْكُرُه في مَوْضِعِه. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (السادِسُ، خِيَارٌ يَثْبُتُ في التَّوْلِيَةِ، والشَّرِكَةِ، والمُرَابَحَةِ، والمُواضَعَةِ. ولا بُدّ في جَمِيعِها من مَعْرِفَةِ المُشْتَرِي رَأْسَ المالِ) هذه أنْواعٌ من أنْواعِ البَيعِ، وإنّما اخْتَصَّتْ بأَسْمَاءٍ، كاخْتِصَاصِ السَّلَمِ (¬1)، ويَثْبُتُ فيها الخِيارُ إذا أخْبَرَه بزِيَادَةٍ في الثَّمَنِ، أو نحو ذلك، فيَثْبُتُ للمُشْتَرِي الخِيارُ, كما لو أَخْبَرَه بأنَّه كاتِبٌ أو صانِعٌ، فاشْتَراة بثَمَنٍ، فبانَ بخِلافِه. ولا بُدَّ في جَمِيعِ هذه الأنْواعِ ¬

(¬1) في ق، ر 1: «المسلم».

1648 - مسألة: (ومعنى التولية؛ البيع برأس المال، فيقول: وليتكه. أو: بعتكه برأس ماله. أو: بما اشتريته. أو: برقمه)

وَمَعْنَى التَّوْلِيَةِ؛ الْبَيعُ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَيَقُولُ: وَلَّيتُكَهُ. أوْ: بِعْتُكَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ. أَوْ: بمَا اشْتَرَيتُهُ. أَوْ: بِرَقْمِهِ. وَالشَّرِكَةُ؛ بَيعُ بَعْضِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَيَصِحُّ بِقَوْلِهِ: أَشْرَكْتُكَ في نِصْفِهِ. أَوْ: ثُلُثِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ من مَعْرِفَةِ المُشْتَرِي برَأْسِ المالِ؛ لأَنَّ مَعْرِفَةَ الثَّمَنِ مُتَوَقِّفَةٌ على العِلْمِ به، والعِلْمُ بالثَّمَنِ شَرْطٌ، فمتى فاتَ لم يَصِحَّ البَيعُ؛ لفَواتِ شَرْطِه. 1648 - مسألة: (ومَعْنَى التَّوْلِيَةِ؛ البَيعُ برَأْسِ المالِ، فيقُولُ: وَلَّيتُكَهُ. أو: بِعْتُكَه برَأْسِ مالِه. أو: بما اشْتَرَيتُهُ. أو: بِرَقْمِه) قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: لا بَأْسَ بِبَيعِ الرَّقْمِ. والرَّقْمُ هو الثَّمَنُ المكتوبُ عليه إذا كان مَعْلومًا لهما حال العَقْدِ. وهذا قَوْلُ عامَّةِ العُلَماءِ. وكَرِهَ طاوُسٌ بَيْعَ الرَّقْمِ. ولَنا، أنَّه بَيعٌ بثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فأَشْبَهَ ما لو ذَكَرَ مِقْدارَه، أو إذا قال: بِعْتُكَ هذا بما اشْتَرَيتُه. وقد عَلِمَاه، فإن لم يَعْلَمْ، فالبَيعُ باطِلٌ؛ لجهالةِ الثَّمَنَ. 1649 - مسألة: (والشَّرِكَةُ؛ بَيعُ بَعْضِه بقِسْطِه من الثَّمَنِ. ويَصِحُّ بقَوْلِه: شَرَكْتُكَ في نِصْفِه. أو: ثُلُثِه) إذا اشْتَرَى شَيئًا، فقال له رَجُلٌ: أشْرِكْنِي في نِصْفِه بنِصْفِ الثَّمَنِ. فقال له:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَشْرَكْتُكَ. صَحَّ، وصارَ مُشْتَرَكًا (¬1) بَينَهُما، إذا كان الثَّمَنُ مَعْلُومًا لهما. ولو قال: أشْرِكْنِي فيه. أو قال: الشَّرِكة. فقال: شَرَكْتُكَ. أو قال: وَلِّنِي ما اشْتَرَيتَ. ولم يَذْكُرِ الثَّمَنَ، فقال: وَلَّيتُك. صَحَّ، إذا كان الثَّمَنُ مَعْلُومًا؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي ابْتِيَاعَ جُزْءٍ منه بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، على ما ذكرَ. والتَّوْلِيَةُ؛ ابْتِيَاعُه بمثلِ الثَّمَنِ، فإذا ذُكِرَ اسْمُه، انْصَرَفَ إليه، كما إذا قال: أقِلْنِي. فقال: أَقَلْتُك, وفي حديثٍ عن زُهْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ، أنَّه كان يَخْرُجُ به جَدُّه عبدُ اللهِ بنُ هِشَامٍ إلى السُّوقِ، فيَشْتَرِي الطَّعامَ، فيَلْقَاهُ ابنُ عمرَ، وابنُ الزُّبَيرِ، فيقولان له: أَشْرِكْنَا؛ فإنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا لك بالبَرَكَةِ. فيُشْرِكُهم، فرُبَّما أصابَ الرَّاحِلَةَ كما هي، فيَبْعَث بها إلى المنزلِ. ذكَرَه البُخَارِيُّ (¬2). ولو اشْتَرَى شيئًا فقال له رجُلٌ: أشْرِكْنِي. فشركَهُ، انْصَرَفَ إلى النِّصْفِ؛ لأَنَّها تَنْصَرِفُ إلى التَّسْويَةِ بِإِطْلَاقِها. فإنِ اشْتَرَى اثْنانِ عَبْدًا، فقال لهما رَجُلٌ: أشْرِكَانِي فيه. فقالا: أشْرَكْنَاكَ. ¬

(¬1) في م: «شركًا». وفي الأصل، ق: «شريكا». (¬2) علقه في: باب الشركة في الطعام وغيره، من كتاب الشركة. صحيح البخاري 3/ 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتَمَلَ أنْ يكونَ له (¬1) النِّصْفُ؛ لأَنَّ إشْرَاكَهُما لو كان من كُلِّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا، لكان له النِّصفُ، فكذلك حالُ الاجْتِماعِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ له الثُّلُثُ؛ لأنَّ الاشْتِراكَ يُفِيدُ التَّسَاويَ، ولا يَحْصُلُ التَّسَاوي إلَّا بجَعْلِه بينهم أثْلاثًا. وهذا أصَحُّ؛ لأنَّ إشْرَاكَ الواحِدِ إنَّما اقْتَضَى النِّصْفَ؛ لحصُولِ التَّسْويَةِ به. وإن شَرَكَهُ كُلُّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا، كان له النِّصْفُ، ولكُلِّ واحِدٍ منهما الرُّبْعُ. وإنْ قال: أَشْرِكَانِي فيه. فشَرَكَهُ أحَدُهما، فعلى الوَجْهِ الأَوَّلِ، يكونُ له نِصْفُ حِصَّةِ الذي شَرَكَهُ، وهو الرُّبْعُ. وعلى الآخَر، له السُّدْسُ؛ لأنَّ طلبَ الشَّرِكَةِ بينهما يَقْتَضِي طلبَ ثُلُثِ ما في يَدِ كُلِّ واحِدٍ منهما؛ ليكُونَ مُسَاويًا لهما. فإذا أجابَهُ أحَدُهما، ثَبَتَ له المِلْكُ فيما طلَبَ منه. وإن قال له أحَدُهما: أشْرَكْناكَ. انْبَنَى على تَصَرُّفِ الفُضُولِيِّ، فإنْ قُلْنَا: يَقِفُ على الإِجَازَةِ. فأَجازَه، فهل يَثْبُتُ له المِلْكُ في نِصْفِه أو ثُلُثِه؟ على الوَجْهَينِ. ولو قال لأحَدِهما: أشْرِكْنِي في نِصْفِ هذا العَبْدِ. فشَرَكَه (¬2)، فإنْ قُلْنَا: يَقِفُ على الإِجازَةِ من صاحِبِه. ¬

(¬1) في م: «لهما». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأَجَازَه، فله نِصْفُ العَبْدِ، ولهما نِصْفُه، وإلَّا فله نِصْفُ حِصَّةِ الذي شَرَكَهُ. فإنِ اشْتَرَى عَبْدًا، فلَقِيَه رَجُلٌ، فقال: أَشْرِكْنِي في هذا العَبْدِ. فقال: قد شَرَكْتُك. فله نِصْفُه. فإنْ لَقِيَه آخَرُ، فقال: أشْرِكْنِي في هذا العَبْدِ. وكان عالِمًا بشرِكَةِ الأَوَّلِ، فله رُبْعُ العَبْدِ، وهو نِصْف حِصَّةِ الذي شركَهُ؛ لأنَّ طَلَبَه للشَّرِكَةِ رَجَعَ إلى ما مَلَكَه المُشارِكُ، وهو النِّصْفُ، فكان بَينَهما. وإنْ لم يَعْلَمْ بشرِكَةِ الأَوَّلِ، فهو طَالِبُ نِصْفٍ العَبْدِ؛ لاعْتِقادِه أنَّ جَمِيعَ العَبْدِ لمَنْ طَلَبَ منه المُشَارَكَةَ. فإذا قال له: شَرَكتُكَ. احْتَمَلَ ثَلَاثَةَ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنْ يَصِيرَ له نِصْفُ العَبْدِ، ولا يَبْقَى للذي شركِهُ شيءٌ؛ لأَنَّه طَلَبَ منه نِصْفَ العَبْدِ، فأَجَابَه إليه، فصارَ كأَنَّه قال: بِعْنِي نِصْفَ هذا العَبْدِ. فقال: بِعْتُك. وهذا قَوْلُ القاضِي. الثاني، أنْ يَنْصَرِفَ قَوْلُه: شَرَكتُكَ فيه. إلى نِصْفِ نَصِيبِه ونِصْفِ نَصِيبِ شَرِيكِه، فيَنْفُذُ (¬1) في نِصْفِ نَصِيبه، ويَقِفُ في (¬2) الزّائِدِ على إجازَةِ صاحِبِه، على إحْدَى الرِّوَايَتَينِ؛ لأَنَّ لَفْظَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي ¬

(¬1) في م: «فيمتد». (¬2) سقط من: م. وفي الأصل، ر 1: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بيعَ (¬1) بَعْضِ نَصِيبهِ، ومُساوَاةَ المُشْتَرِي له. فلو باعَ جَمِيعَ نَصِيبِه، لم يكُنْ (¬2) شَرِكَةً؛ لأَنَّه لا يَتَحَقَّقُ فيه ما طَلَبَ منه. الثالِثُ، لا يكونُ للثانِي إلَّا الرُّبْعُ بكُلِّ حالٍ؛ لأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّما تَثْبُتُ بقوْلِ البائِعِ: شَرَكتُكَ. لأنَّ ذلك هو الإِيجابُ الناقِلُ اللمِلْكِ، وهو عالِمٌ أنَّه ليس له إلَّا نِصْفُ العَبْدِ، فيَنْصَرِفُ إيجِابُه إلى نِصْفِ ملْكِه. وعلى هذين الوَجْهَينِ، لطالِبِ الشَّرِكَةِ الخِيارُ؛ لأَنَّه إنَّما طلَبَ النِّصْفَ، فلم يَحْصُلْ له جَمِيعُه، إلَّا أنْ نقولَ بوُقُوفِه على الإِجازَة في الوَجْهِ الثانِي، فيُجِيزُه (¬3) الآخَرُ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا تَصِحَّ الشَّرِكَةُ أصْلًا؛ لأنَّه طَلَبَ شِراءَ النِّصْفِ، فأُجِيبَ في الرُّبْعِ، فصارَ بمَنْزِلَةِ ما لو قال: بِعْنِي نِصْفَ هذا العَبْدِ. فقال: بِعْتُكَ رُبْعَه. فصل: ولو اشْتَرَى قَفِيزًا من الطَّعامِ، فقَبَضَ نِصْفَه، فقال له رَجُلٌ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «له». (¬3) في م: «فيخير».

1650 - مسألة: (والمرابحة؛ أن يبيعه بربح، فيقول: رأس

وَالْمُرَابَحَةُ؛ أنْ يَبِيعَهُ بِرِبْحٍ، فَيَقُولَ: رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةٌ بِعْتُكَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بِعْنِي نِصْفَ هذا القَفِيزِ. فباعَهُ، انْصَرَفَ إلى النِّصفِ المَقْبُوضِ؛ لأَنَّ البَيعَ يَنْصَرِفُ إلى ما يَجُوزُ له بَيعُه، وهو المَقْبُوضُ. وإنْ قال: أشْرِكْنِي في هذا القَفِيزِ بنِصْفِ الثَّمَنِ. ففَعَلَ، لم تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، إلَّا فيما قَبَضَ منه، فيكُونُ النِّصْفُ المَقْبُوضُ بينهما، لكُلِّ واحِدٍ منهما رُبْعُه برُبْعِ الثَّمَنِ؛ لأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسْويَةَ. هكذا ذَكَرَ القاضِي. قال شَيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ، إنْ شاءَ اللهُ، أنَّ الشَّرِكَةَ تَنْصَرِفُ إلى النِّصْفِ كُلِّه، فيكونُ بائِعًا لِما يَصِحُّ بَيعُه وما لا يَصِحُّ، فيَصِحُّ في نِصْفِ المَقْبُوضِ، في أَصَحِّ الوَجْهَينِ، ولا يَصِحُّ فيما لم يُقْبَضْ, كما في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. 1650 - مسألة: (والمُرَابَحَةُ؛ أنْ يَبِيعَه برِبْحٍ، فَيَقُولَ: رَأْسُ ¬

(¬1) في: المغني 6/ 197، 198.

بِهَا وَرِبْحِ عَشَرَةٍ. أَو: عَلَى أَنْ أَرْبَحَ في كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِي فيه مائَةٌ، بِعْتُكَه بها ورِبْحِ عَشَرَةٍ) فهذا جائِزٌ لا خِلافَ في صِحَّتِه، ولا نَعْلَمُ أحَدًا كَرِهَه. وإنْ قال (عَلَى أنْ أرْبَحَ في كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا) أو قال: ده يازده. أو: ده دوازده (¬1). فقد كَرِهَه أحمدُ. ورُويَتْ فيه الكَرَاهَةُ عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عَبَّاسٍ، والحَسَنِ، ومَسْرُوقٍ، وعِكْرِمَةَ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ، وعَطاءِ بنِ يَسارٍ. وقال إسحاقُ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ حال العَقْدِ، فلم يَجُزْ, كما لو باعَهُ بما يَخْرُجُ به في الحِسابِ. ورَخَّصَ فيه سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وابنُ سِيرِينَ، وشُرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ رَأْسَ المالِ مَعْلُومٌ، والرِّبْحَ مَعْلُومٌ، أشْبَهَ ما إذا قال: ورِبْحِ عَشَرَةِ دَراهِمَ. وَوَجْهُ الكَرَاهَةِ، أنَّ ابنَ عمرَ، وابنَ عَبّاسٍ كَرِهَاهُ، ولم يُعْلَمْ لهما في الصَّحَابَةِ مُخالِفٌ؛ ولأنَّ فيه نَوْعًا مِن الجَهالةِ، فالتَّحَرُّزُ عنها أَوْلَى. وهذه كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، والبَيعُ صَحِيحٌ، والجَهالةُ يمكِنُ إزَالتُها بالحِسابِ، فلم تَضُرَّ, كما لو باعَهُ صُبْرَةً كلَّ قَفِيزٍ بدِرْهَمٍ، أمّا ما يَخْرُجُ به الحِسابُ فمَجْهُولٌ في الجُمْلَةِ والتَّفْصِيلِ. ¬

(¬1) في م: «داوزده». وهو فارسي بمعنى: العشر أحد عشر، أو العشر اثنا عشر.

1651 - مسألة: (والمواضعة؛ أن يقول: بعتكه بها، ووضيعة درهم من كل عشرة. فيلزم المشتري تسعون درهما)

وَالْمُوَاضَعَةُ؛ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَهُ بِهَا، وَوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ. فَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا. وَإِنْ قَال: وَوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ لِكُلِّ عَشَرَةٍ. لَزِمَهُ تِسْعُونَ وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1651 - مسألة: (والمُوَاضَعَةُ؛ أنْ يَقُولَ: بِعْتُكَهُ بها، وَوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ من كُلِّ عَشَرَةٍ. فَيَلْزَمُ المُشْتَرِيَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا) المُواضَعَةُ؛ أنْ يُخْبِرَ برَأْسِ مالِه، ويقُولَ: بِعْتُكَ هذا به، وأضَعُ لَكَ عَشَرَةً. فيَصِحُّ من غيرِ كَراهَةٍ. وإنْ قال: بوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ من كُلِّ عَشَرَةٍ. كُرِهَ؛ لِما ذَكَرْنَا في المُرَابَحَةِ، وصَحَّ. فإذا كان رَأْسُ مالِه مائَةً، لَزمَهُ تِسْعُونَ، ويكونُ الحَطُّ عَشَرَةً. وقال قوْمٌ: يكونُ الحَطُّ دِرْهَمًا من كُلِّ أحَدَ عَشَرَ، فيكونُ ذلك تِسْعَةَ دَراهِمَ وجُزْءًا من أحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من دِرْهَمٍ، ويَبْقَى تِسْعُونَ وعَشَرَةُ أجْزَاءٍ من أحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من دِرْهَمٍ. وهذا غَلَطٌ؛ لأَنَّ هذا يكونُ حَطًّا من كُلِّ أحَدَ عَشَرَ، وهو غيرُ ما قَاله (فأمّا إنْ قال: بوَضِيعَةِ دِرْهَم لكُلِّ عَشَرَةٍ) كانتِ الوَضِيعَةُ من كُلِّ أحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، ويكونُ الباقِي تِسْعِينَ وعَشَرَةَ أجْزاءٍ من أحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من دِرْهَمٍ. وهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. وحُكِيَ عن أَبِى ثَوْرٍ، أنَّه قال: الحَطُّ ههُنا عَشَرَةٌ مثلُ الأُولَى. ولا يَصِحُّ، فإنَّه إذا قال: لكُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمٌ، يكونُ الدِّرْهَمُ من غيرِها، فكَأَنَّه قال: من كُلِّ أحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ. وإذا قال: من كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. كان الدِّرْهَمُ من العَشَرَةِ (¬1)، لأَنَّ «مِنْ» للتَّبْعِيضِ، فكَأَنَّه قال: آخُذُ من العَشَرَةِ تِسْعَةً، وأحُطُّ منها دِرْهَمًا. فصل: فإنْ باعَهُ السِّلْعَةَ مُرَابَحَةً، مثلَ أنْ يُخْبِرَه أنَّ ثَمَنَها مائَةٌ، ويَرْبَح عَشَرَةً، ثم عَلِمَ بِبَيِّنَةٍ أو إقْرَارٍ أنَّ ثَمَنَهَا تِسْعُونَ، فالبَيعُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه زِيادَةٌ في الثَّمَنِ، فلم يَمْنَعِ الصِّحَّةَ، كالعَيبِ، وللمُشْتَرِي الرُّجُوعُ على البائِع بما زادَ في الثَّمَنِ، وهو عَشَرَةٌ، وحَطُّها من الرِّبْحِ، وهو دِرْهَمٌ. فيَبْقَى على المُشْتَرِي تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ دِرْهَمًا. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى. وهو أحَدُ قوْلَي الشّافِعِيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يُخَيَّرُ بين الأَخْذِ بكُلِّ الثَّمَنِ، أو يَتْرُكُ، قِياسًا على المَعيبِ (¬2). ولَنا، أنّه باعَهُ برأْسِ مالِه وما قَدَّرَهُ من الرِّبْحِ، فإذا بانَ رَأْسُ مالِه قَدْرَه (¬3)، كان مَبِيعًا به وبالزِّيَادَةِ التي اتَّفَقَا ¬

(¬1) في م: «العدة». (¬2) في الأصل، ق، م: «المبيع». (¬3) في الأصل، ق، م: «قدرا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، والمَعِيبُ كذلك عِنْدَنا، فإنَّ له أَخْذَ الأَرْشِ، ثم الفَرْقُ بَينَهما أنَّ المَعِيبَ لم يَرْضَ به إلَّا بالثَّمَنِ المَذْكُورِ، وههُنا رَضِيَ فيه برَأْسِ المالِ والرِّبْحِ المُقَدَّرِ. وهل للمُشْتَرِي الخِيارُ؟ فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ أنَّ المُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بينَ أخْذِ المبيعِ برأْسِ مالِه وحِصَّتِه مِن الرِّبْحِ، وبينَ تَرْكِه. نَقَل ذلك حَنْبَلٌ. وهو قولٌ للشافعيِّ؛ لأنَّ المشْتَرِيَ لا يَأْمَنُ الخِيَانَةَ في هذا الثَّمَنِ أيضًا، ولأنَّه رُبَّمَا كان له غرَضٌ في الشِّراءِ بذلك الثَّمَنِ؛ لكَوْنِه حالِفًا، أو وَكِيلًا، أو غيرَ ذلك. فظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه لا خِيَارَ له. وحُكِيَ قَوْلًا للشّافِعِيِّ؛ لأَنَّه رَضِيَه بمائَةٍ وعَشَرَةٍ، فإذا حَصَلَ له بدونِ ذلك فقد زادَه خَيرًا، فلم يَثْبُتْ له الخِيَارُ, كما لو اشْتَرَاهُ على أنَّه مَعِيبٌ، فبانَ صَحِيحًا، أو وُكِّلَ في شِراءِ مُعَيَّنٍ بمائَةٍ، فاشْتَراهُ بتِسْعِينَ. وأمّا البائِعُ فلا خِيارَ له؛ لأَنَّه باعَهُ برأْسِ مالِه وحِصَّتِه من الرِّبْحِ، وقد حَصَلَ له ذلك. فصل: وإن قال في المُرَابَحَةِ: رَأْسُ مالِي فيه مائَةٌ، وأَرْبَحُ عَشَرَةً. ثم قال: غَلِطْتُ، رَأْسُ مالِي فيه مائَةٌ وعَشَرَةٌ. لم يُقْبَلْ قَوْلُه إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أنَّ رَأْسَ مالِه عليه ما قاله ثانِيًا. ذَكَرَهُ ابنُ المُنْذِرِ، عن أحمدَ، وإسحاقَ. ورَوَى أبو طالِبٍ عن أحمدَ، إذا كان البائِعُ مَعْرُوفًا بالصِّدْقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُبِلَ قَوْلُه، وإنْ لم يكُنْ صَدُوقًا، جازَ البَيعُ. قال القاضِي: وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّ القَوْلَ قَوْلُ البائِعِ مع يَمِينِه؛ لأنَّه لَمَّا دَخَلَ معه في المُرَابَحَةِ فقد ائْتَمَنَهُ، والقَوْلُ قَوْلُ الأمِينِ مع يَمِينِه، كالوَكِيلِ والمُضارِبِ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ، وكَوْنُ البائِعِ مُؤْتَمَنًا لا يُوجِبُ قَبُولَ دَعْواهُ في الغَلَطِ، كالمُضارِبِ إذا أقَرَّ برِبْحٍ، ثم قال: غَلِطْتُ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه لا يُقْبَلُ قولُ البائِعِ وإنْ أقامَ بَيِّنَةً، حتى يُصَدِّقَه المُشْتَرِي. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، والشّافِعِيِّ؛ لأَنَّهُ أَقَرَّ بالثَّمَنِ، وتَعَلَّقَ به حَقُّ الغَيرِ، فلا يُقْبَلُ رجُوعُه وإنْ أقامَ بَيِّنَةً؛ لإِقْرَارِه بكَذِبِها. ولَنا، أنّها بَيِّنَةً عادِلَةٌ، شَهِدَتْ بما يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، فتُقْبَلُ، كَسائِرِ البَيِّنَاتِ. ولا نُسَلِّمُ أنَّهُ أَقَرَّ بخِلافِها؛ فإنَّ الإِقْرَارَ يكونُ لغيرِ المُقِرِّ، وحالةَ إخْبارِه بِثَمَنِها لم يكنْ عليه حَقٌّ لغَيرِه، فلم يكُنْ إقْرارًا. فإنْ لم تكُنْ له بَيِّنَةٌ، أو كانت له بَيِّنَةٌ، وقُلْنا: لا تُقْبَلُ. فادَّعَى أنَّ المُشْتَرِيَ يَعْلَمُ غَلَطَه، فأنْكَرَ المُشْتَري، فالقَوْلُ قَوْلُه. فإنْ طَلَبَ يَمِينَه، فقال القاضِي: لا يَمِينَ عليه؛ لأَنَّه مُدَّعٍ، واليَمِينُ على المُدَّعَى عليه. ولأَنَّه قد أقَرَّ له، فيَسْتَغْنِي بالإِقرَارِ عن اليَمِينِ. والصَّحِيحُ أنَّ عليه اليَمِينَ أنَّه لا يَعْلَمُ ذلك؛ لأَنَّه ادَّعَى عليه ما يُلْزِمُه رَدَّ السِّلْعَةِ، أو زِيادَةً في ثَمَنِها، فَلَزِمَهُ اليَمِينُ، كمَوْضِعِ الوفَاقِ. وليس هو ههُنا مُدَّعِيًا، إنَّما هو مُدَّعًى عليه العِلْمُ بمِقْدَارِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ. وإنْ قُلْنا: يُقْبَلُ قولُ البائِعِ. أو قامَتْ له بَيِّنَةٌ بما ادَّعَاهُ، وقلنا: تُقْبَلُ بَيِّنَتُه. فللمُشْتَرِى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْ يُحَلِّفَهُ أنَّ وَقْتَ ما باعَهَا لم يَعْلَمْ أنَّ شِراءَها أكْثَرُ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. فإنَّه لو باعَها بدُونِ ثَمَنِها عالِمًا، لَزِمَه البَيعُ بما عَقَدَ عليه؛ لكَوْنِه تَعاطَى سَبَبَه عالِمًا، فلَزِمَه، كمُشْتَرِي المَعِيبِ عالِمًا بعَيبِه. وإذا كان البَيعُ (¬1) يَلْزَمُه بالعِلْمِ، فادَّعَى عليه، لَزِمَتْه اليَمِينُ، فإنْ نَكَلَ قضى عليه بالنُّكُولِ، وإنْ حَلَفَ، خُيِّرَ المُشْتَرِي بينَ قَبُولِه بالثَّمَنِ والزِّيَادَةِ التي غَلِطَ بها وحَطِّهَا من الرِّبْحِ، وبين فَسْخِ العَقْدِ. قال شَيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أنّه إذا قال: بِعْتُكَ بمائَةٍ ورِبْحِ عَشَرَةٍ. ثم تَبَيَّنَ أنَّه غَلِطَ بعَشَرَةٍ، أنَّه لا يَلْزَمُه حَطُّ العَشَرَةِ مِن الرِّبْحِ؛ لأَنَّ البائِعَ رَضِيَ برِبْحِ عَشَرَةٍ في هذا المَبِيعِ، فلا يكونُ له أكْثَرُ منها. وكذلك إنْ تَبَيَّنَ أنَّهُ زادَ في رَأْسِ المالِ، لا يَنْقُصُ الرِّبْحَ مِن عَشَرَةٍ؛ لأنَّ البائِعَ لم يَبِعْه إلَّا برِبْحِ عَشَرَةٍ. فأمّا إنْ قال: وأرْبَحُ في كُلِّ عَشَرَةٍ دِرْهَمًا. فإنَّه يَلْزَمُه حَطُّ العَشَرَةِ من الرِّبْحِ في الصُّورَتَينِ، وإنَّما أَثْبَتْنَا للمُشْتَرِي الخِيارَ؛ لأَنَّه دَخَلَ على أنَّ الثَّمَنَ مائَةٌ وعَشَرَةٌ، فإذا بانَ أكثَر كان عليه ضَرَرٌ في التِزامِه، فلم يَلْزَمْه، كالمَعِيبِ. وإنِ اخْتَارَ أخْذَها بمائَةٍ وأَحَدٍ وعِشْرِينَ، لم يكُنْ للبائِعِ خِيارٌ؛ لأَنَّه قد زادَهُ خَيرًا، فلم يَكُنْ له خِيارٌ، كبائِعِ المَعِيبِ إذا رَضِيَهُ المُشْتَرِي. وإنِ اخْتَارَ البائِعُ إسْقَاطَ الزِّيادَةِ عن المُشْتَرِي، فلا خِيارَ له أيضًا؛ لأنَّه قد بَذَلَها بالثَّمَنِ الذي وَقَعَ عليه العَقْدُ، ورَضِيَا به. ¬

(¬1) في ر 1: «المبيع». (¬2) في: المغني 6/ 276.

1652 - مسألة: (ومتى اشتراه بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، فلم يبين ذلك للمشتري في تخبيره

وَمَتَى اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُؤجَّلٍ، أَوْ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، أوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ حِيلَةً، أَوْ بَاعَ بَعْضَ الصَّفْقَةِ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي في تَخْبِيرِهِ بِالثَّمَنِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَينَ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1652 - مسألة: (ومَتَى اشْتَراهُ بثَمَن مُؤَجَّلٍ، أو مِمَّنْ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له، أو بأَكْثَرَ مِن ثَمَنِه حِيلَةً، أو باعَ بَعْضَ الصَّفْقَةِ بقِسْطِها مِن الثَّمَنِ، فلم يُبَيِّنْ ذلك للمُشْتَرِي في تَخْبيرِه (¬1) بالثَّمَنِ، فللمُشْتَرِي الخِيارُ بين الإِمْساكِ والرَّدِّ) إذا اشْترَاهُ بثَمَن مُؤجَّلٍ، لم يَجُزْ بَيعُه مُرَابَحَةً، حتى يُبَيِّنَ أمْرَه. فإنْ لم يَفْعَل، لم يَفْسُدِ البَيعُ، وللمُشْتَرِي الخِيَارُ بين أَخْذِه بالثَّمَنِ الذي وَقَعَ عليه العَقْدُ حالًّا وبين الفَسْخِ، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ؛ لأنَّ البائِعَ لم يَرْضَ بذِمَّةِ المُشْتَرِي، وقد تكونُ ذِمَّتُه دونَ ذِمَّةِ البائِعِ، فلا يَلْزَمُ الرِّضَا بذلك. ¬

(¬1) في م: «تخييره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، أنَّه أنْ كان المَبِيعُ قائِمًا، فهو مُخَيَّرٌ بينَ الفَسْخِ وأَخْذِه بالثَّمَنِ مُؤجَّلًا؟ لأَنَّه الثَّمَنُ الذي اشْتَرَى به البائِعُ، والتَّأْجِيلُ صِفَةٌ له، فهو كما لو أَخْبَرَه بزِيادَةٍ في الثَّمَنِ، وإنْ كان قد اسْتُهْلِكَ، حُبِسَ الثَّمَنُ بقَدْرِ الأَجَلِ. وهذا قَوْلُ شرَيحٍ. فصل: وإنِ اشْتَراهُ بدَنَانِيرَ، فأَخْبَرَ أنَّه اشْتَرَاهُ بدَراهِمَ، أو بالعَكْسِ، أو اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ (¬1)، فأَخْبَرَ أَنه اشْتَرَاهُ بثَمَنٍ، أو بالعَكْسِ، وأَشْبَاهُ ذلك، فللمُشْتَرِي الخِيارُ بينَ الفَسْخِ وبينَ الرِّضَا بِهِ بالثَّمَنِ الذي تَبَايَعَا به، كَسائِرِ المواضِعِ التي يَثْبُت فيها ذلك. ¬

(¬1) في م: «بعوض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَراهُ ممَّنْ لا تُقْبَلُ شهادَتُه له، كأَبِيهِ وابْنِه، لم يَجُزْ بَيعُه مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ ذلك. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وقال الشّافِعِيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمّدٌ: يَجُوزُ، وإنْ لم يُبَيِّنْ؛ لأَنَّه اشْتَرَاهُ بعَقْدٍ صَحِيحٍ، وأَخْبَرَ بثَمَنِه، فأَشْبَهَ ما لو اشْتَراهُ مِن أجْنَبِيٍّ. ولَنا، أنَّه مُتَّهَمٌ في الشِّراءِ منهم؛ لكَوْنِه يُحابِيهم ويَسْمَحُ لهم، فلم يَجُزْ أنْ يُخْبِرَ بما اشْتَرَى منهم مُطْلَقًا, كما لو اشْتَرَى مِن مُكاتبِه، فإنَّه يَجِبُ عليه أنْ يُبَيِّنَ أمْرَهُ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وبه يَبْطُلُ قِياسُهُم. فصل: وإن اشْتَرَاهُ بأَكْثَرَ مِن ثَمَنِه حِيلَةً، مثلَ أنْ يَشْتَرِيَه مِن غُلامِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُكّانِه الحُرِّ، أو غيرِه، على وَجْهِ الحِيلَةِ، لم يَجُزْ بَيعُه مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ أمْرَه؛ لأَنَّ ذلك تَدْلِيسٌ وحَرَامٌ، على ما بَيَّنَّاهُ. وإنْ لم يكُنْ حِيلَةً، فقال القاضِي: إذا باعٍ غُلامَ دُكّانِه سِلْعَةً، ثم اشْتَرَاها منه بأَكْثَرَ من ذلك، لم يَجُزْ بَيعُه مُرَابَحَة حتى يُبَيِّنَ أمْرَه؛ لأَنَّه يُتَّهَمُ في حَقِّه، فهو كمَنْ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له. والصَّحِيحُ، إن شاءَ اللهُ، أنَّ ذلك يَجُوزُ؛ لأنَّه أجْنَبِيٌّ، فأَشْبَهَ غَيرَه. فصل: إذا اشْتَرَى شَيئَينِ صَفْقَةً واحِدَةً، ثم أرادَ بَيعَ أحَدِهِما مُرَابَحَةً، أو اشْتَرَى اثْنانِ شَيئًا، فتَقَاسَمَاه، وأرادَ أحَدُهما بَيعَ نَصِيبِه مُرَابَحَةً بالثَّمنِ الذي أدَّاهُ فيه، فإنْ كان من المُتَقَوَّماتِ التي لا يَنْقَسِمُ عليها الثَّمَنُ بالأجْزَاءِ، كالثِّيَابِ ونَحْوها، لم يَجُزْ حتى يُبَيِّنَ الحال على وَجْهِه. نصَّ عليه. وهذا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ، وأَصْحَابِ الرَّأْي. وقال الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيعُه بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ؛ لأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ على المَبِيعِ على قَدْرِ قِيمَتِه, لو كانَ المَبِيعُ شِقْصًا وسَيفًا (¬1)، فإنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بحِصَّتِه من الثَّمَنِ. وذَكَرَ ابنُ أبِي مُوسَى فيما إذا اشْتَرَاهُ اثْنَانِ فَتَقاسَمَاه، رِوَايَةً عن أحمدَ، أنَّه يَجُوزُ بَيعُه مُرَابَحَةً بما اشْتَرَاهُ؛ ¬

(¬1) في م: «شفعا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ ذلك ثَمَنُه، فهو صادِقٌ فيما أخْبَرَ به. ولَنا، أنَّ قِسْمَةَ الثَّمَنِ على المَبِيعِ طَرِيقُهُ الظَّنُّ، واحْتِمالُ الخَطَأ في كَثِيرٌ، وبَيعُ المُرَابَحَةِ أمَانَةٌ، فلم يَجُزْ فيه هذا، وصارَ هذا كالخَرْصِ الحاصِلِ بالظَّنِّ، لا يَجُوزُ أنْ يُباعَ به ما يَجِبُ التماثُلُ فيه. وأمّا الشَّفِيعُ، فلنا فيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ، فإنَّ ما أخَذَهُ الشَّفِيعُ بالقِيمَةِ للحاجَةِ الدَّاعِيَةِ إليه؛ لكَوْنِه لا طَرِيقَ له سِوَى التَّقْويمِ، ولأنَّه لو لم يَأْخُذْه به، لاتَّخَذَه النّاسُ طَرِيقًا إلى إسْقاطِ الشُّفْعَةِ، فَيُودِّي إلى تَفْويتِها، وههُنا يُمْكِن الإِخْبَارُ بالحالِ وبَيعُه مُسَاوَمَةً، ولا تَدْعُو الحاجَةُ إليه. فإنْ باعَهُ ولم يُبَيِّنْ، فللمُشْتَرِي الخِيَارُ بينَ الإِمْسَاكِ والرَّدِّ، كالمَسائِلِ المَذْكُورَةِ. وإنْ كان من المُتَماثِلَاتِ التي يَنْقَسِمُ عليها الثَّمَنُ بالأجْزاءِ، كالبُرِّ والشَّعِيرِ المُتَسَاوي، جازَ بَيعُ بَعْضِه مُرَابَحَة بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ ثَمَنَ ذلك الجُزْءِ مَعْلُومٌ يَقِينًا، ولذلك جازَ بيعُ قَفِيزٍ مِن الصُّبْرةِ. وإنْ أَسْلَمَ في ثَوْبَينِ بِصِفَةٍ واحِدَةٍ، فأَخَذَهُما

1653 - مسألة: (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار، أو يؤخذ أرشا للعيب أو جناية عليه، يلحق برأس المال، ويخبر به)

وَمَا يُزَادُ في الثَّمَنِ أوْ يُحَطُّ مِنْهُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ يُؤْخَذُ أَرْشًا لِعَيبٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَيهِ، يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَيُخبَرُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي الصِّفَةِ، فله بَيعُ أحَدِهما مُرَابَحَةً بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ، على قِياسِ ذلك؛ لأنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عليهما نِصْفين، لا باعْتِبارِ القِيمَةِ. وكذلك لو أقاله في أحَدِهما، أو تَعَذَّرَ تَسْلِيمُه، كان له نِصْفُ الثَّمَنِ، مِن غيرِ اعْتِبارِ قِيمَةِ المَأْخُوذِ منهما، فكَأَنَّه أخَذَ كُلَّ واحِدٍ منهما مُنْفَرِدًا. وإنْ حَصَلَ في أحَدِهما زيادَةٌ على الصِّفَةِ جَرَت فَجْرَى الحادثِ بعد البَيعِ، على ما نَذْكُرُ إنْ شاءَ الله. 1653 - مسألة: (وما يُزادُ في الثَّمَنِ أو يُحَطُّ منه في مُدَّةِ الخِيارِ، أو يُؤْخَذُ أَرْشًا للعَيب أو جِنَايَةً عليه، يلْحَقُ برَأْسِ المالِ، ويُخْبِرُ به) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ البائِعَ إذا أَرادَ الإِخْبَارَ بثَمَنِ السِّلْعَةِ، وكانت بحَالِها لم تَتَغَيَّرْ، أَخْبَرَ بثَمَنِها، فإنْ تَغَيَّرَ سِعْرُ السِّلْعَةِ، بأَنْ حَطَّ البائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ عن المُشْتَرِي، أو اسْتَزَادَه (¬1) في مُدَّةِ الخِيَارِ، لَحِقَ بالعَقْدِ، وأخْبَرَ به في ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «اشتراه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنِ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو حَنِيفَةَ، ولا نَعْلَمُ عن غَيرِهم خِلافَهُم. وإنْ تَغَيَّرَ سِعْرُ السِّلْعَةِ، وهي بحالِها، فإنْ غَلَتْ، لم يَلْزَمْهُ الإِخْبَارُ بذلك؛ لأَنَّه زِيادَةٌ فيها، وإن رَخُصَت فكذلك. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه صادِقٌ بدُونِ الإِخْبارِ بذلك. ويَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَه الإِخْبَارُ بالحالِ؛ فإنَّ المُشْتَرِيَ لو عَلِمَ بذلك، لم يَرْضَها بذلك الثَّمَنِ، فكِتْمانُه تَغْرِيرٌ به. فإنْ أخْبَرَه بدُونِ ثَمَنِها، ولم يُبَيِّنِ الحال، لم يَجُزْ؛ لأَنَّه كَذَبَ. فأمّا ما يُؤْخَذُ أَرْشًا للعَيبِ، أو جِنَايَةً عليه، فذَكَرَ القاضِي أنَّه يُخْبِرُ به على وَجْهِه. وقال أبو الخَطَّابِ: يُحَطُّ أرْشُ العَيبِ من الثَّمَنِ، ويُخْبِرُ بالباقِي. وهو الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه شَيخُنا في هذا الكِتابِ؛ لأنَّ أرْشَ العَيبِ عِوَضٌ عمّا فات به، فكان ثَمَنُ المَوْجُودِ ما بَقِيَ. وفي أرْشِ الجِنَايَةِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُحَطُّ مِن الثَّمَنِ، كأَرْشِ العَيبِ. وهو الأَوْلَى. والثانِي، لا يحطُّه، كالنَّماء. وقال الشافِعِيُّ: يحطُّهُما من الثَّمَنِ، ويقولُ: تَقَوَّمَ عَلَيَّ بكَذَا. لأَنَّه صادِقٌ فيما أخْبَرَ به، أشْبَهَ ما لو أَخْبَرَه بالحالِ على وَجْهِه. ولَنا، أنَّ الإِخْبَارَ

1654 - مسألة: (وإن جنى، ففداه المشتري، أو زيد في

وَإِنْ جَنَى، فَفَدَاهُ الْمُشْتَرِي، أَوْ زِيدَ في الثَّمَنِ، أَوْ حُطَّ مِنْهُ بَعْدَ لُزُومِهِ، لَمْ يُلْحَقْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحالِ أبْلَغُ في الصِّدْقِ، وأَقْرَبُ إلى البَيَانِ [ونَفْيِ التَّغْرِيرِ] (¬1) والتَّدْلِيسِ، فلَزِمَه ذلك, كما يَلْزَمُه بَيانُ العَيبِ. وقِياسُ أرْشِ الجِنايَةِ على النَّمَاءِ والكَسْبِ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ أرْشَ الجِنايَةِ عِوَضُ نَقْصِه الحاصِلِ بالجنايَةِ عليه، فهو بمَنْزِلَةِ ثَمَنِ جُزْءٍ منه باعَه، أو كقِيمَةِ أحَدِ الثَّوْبَينِ إذا تَلِفَ أحَدُهما، والنَّماءُ زِيادَةٌ لم يَنْقُصْ بها المَبِيعُ، ولا هي عِوَضٌ عن شيءٍ منه. 1654 - مسألة: (وإنْ جَنَى، فَفَداهُ المُشْتَرِي، أو زِيدَ في ¬

(¬1) في الأصل، م: «بقى التغيير». وفي ق: «نفى التغيير».

1655 - مسألة: (وإن اشترى ثوبا بعشرة، وقصره بعشرة، أخبر بذلك على وجهه. فإن قال: تحصل علي بعشرين. فهل يجوز

وَإنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، وَقَصَرَهُ بِعَشَرَةٍ، أَخْبَرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِنْ قَال: تَحَصَّلَ عَلَيَّ بِعِشْرِينَ،. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنِ، أو حُطَّ منه بعد لُزُومِه: لم يُلْحَقْ به) أمّا إذا جَنَى، فَفَدَاهُ المُشْتَرِي، فإنّه لا يُلْحَقُ بالثَّمَنِ، ولا يُخْبَرُ به في المُرَابَحَةِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْنَاهُ؛ لأنَّ هذا لم يَزِدْ به المَبِيعُ قِيمَةً، ولا ذَاتًا، وإنّما هو مُزِيلٌ لنَقْصِه بالجنايَةِ والعَيبِ الحاصِلِ بتَعَلُّقِها برَقَبَتِه، فأَشْبَهَتِ الدَّوَاءَ المُزِيلَ لمَرَضِه الحادِثِ عندَ المُشْتَرِي. فأمّا الأَدْويَةُ، والمُؤْنَةُ، والكُسْوَةُ، وعَمَلُه في السِّلْعَةِ بنَفْسِه، أو عَمَلُ غَيرِه له بغَيرِ أُجْرَةٍ، فإنَّه لا يُخْبِرُ بذلك في الثَّمَنِ، وَجْهًا واحِدًا، وإنْ أخْبَرَ بالحالِ على وَجْهِه، فحَسَنٌ. وكذلك ما زِيدَ في الثَّمَنِ، أو حُطَّ منه بعد لُزُومِ العقْدِ لا يُخْبِرُ به، ويُخْبِرُ بالثَّمَنِ الأَوَّلِ؛ لأنَّ ذلك هِبَةٌ مِن أحَدِهما للآخرِ، فلا يكونُ عِوَضًا. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يُلْحَقُ بالعَقْدِ، ويُخْبَرُ به في المُرَابَحَةِ؛ لأنَّه بِسَبَبِ العَقْدِ. 1655 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بعَشَرَةٍ، وقَصَرَهُ بعَشَرَةٍ، أخْبَرَ بذلك على وَجْهِه. فإنْ قال: تَحَصَّلَ عَلَيَّ بعِشْرِينَ. فهل يَجُوزُ

وَجْهَينِ. وَإِن عَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ عَمَلًا يُسَاوي عَشَرَةً، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك؟ على وَجْهَينِ. وإنْ عَمِلَ فيه بنَفْسِه عَملًا يُسَاوي عَشَرَةً، لم يَجُزْ ذلك، وَجْهًا واحِدًا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَنْ أرادَ البَيعَ مُرَابَحَةً، والسِّلْعَةُ بحالِها، أخْبَرَ بثَمَنِها. وإنْ تَغَيَّرَتْ، فهو على ضَرْبَينِ؛ أحَدُهما، أنْ تَتَغَيَّرَ بزِيادَةٍ، وذلك نَوْعانِ؛ أحَدُهما، أنْ تَزِيدَ لنَمائِها، كالسِّمَنِ، وتَعَلُّم صَنْعَةٍ، أو يَحْدُثَ منها نَماءٌ مُنْفَصِلٌ، كالوَلَدِ، والثَّمَرَةِ، والكَسْبِ، فهذا إذا أرادَ بَيعَها مُرَابَحَةً، أخْبَرَ بالثَّمَنِ مِن غيرِ زِيادَةٍ؛ لأَنَّه الذي ابْتَاعَها به. وإنْ أخَذَ النَّماءَ المنْفَصِلَ، أو اسْتَخْدَمَ الأَمَةَ، أو وَطِئَ الثِّيِّبَ، أخْبَرَ برَأْسِ المالِ، ولم يَجِبْ تَبْيِينُ الحالِ. ورَوَى ابنُ المُنْذِرِ، عن أحمدَ، أنَّه يُبَيِّنُ ذلك كُلَّه. وهو قَوْلُ إسحاقَ. وقال أصْحابُ الرَّأْي في الغَلَّةِ يَأْخُذُها: لا بَأْسَ أنْ يَبِيعَ. مُرابَحَةً. وفي الوَلَدِ والثَّمَرَةِ: لا يَبِيعُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ، لأنَّه مِن (¬1) مُوجِبِ العَقْدِ. ولَنا، أنَّه صادِقٌ فيما أخْبَرَ به مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

1656 - مسألة: (وإن اشتراه بعشرة، ثم باعه بخمسة عشر،

وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ تَغْرِيرٍ بالمُشْتَرِي، فجازَ, كما لو لم يَزِدْ، ولأَنَّ الوَلَدَ والثمَرَةَ نماءٌ مُنْفَصِلٌ، فلم يَمْنَعْ من بَيعِ المُرَابَحَةِ، كالغَلَّةِ. النوعُ الثانِي، أنْ يَعْمَلَ فيها عَمَلًا؛ مثلَ أنْ يَقْصُرَها، أو يَرْفُوَها، أو يَخِيطَها، أو يحملَها، فمتى أرادَ بَيعَها مُرَابَحَةً، أخْبَرَ بالحالِ على وَجْهِه، سواءٌ عَمِل ذلك بنَفْسِه أو اسْتَأْجَرَ مَن عَمِلَه. هذا ظاهِرُ كلام أحمدَ؛ فإنَّه قال: يُبَيِّنُ ما اشْتَراهُ وما لَزِمَه، ولا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ: تَحَصَّلَتْ علَيَّ بكَذَا. وبه قال الحَسَنُ، وابنُ سِيرِينَ، وابنُ المُسَيَّبِ، وطاوُسٌ، والنَّخَعِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أَنه يَجُوزُ فيمَا اسْتَأْجَرَ عليه أنْ يَضُمَّ الأُجْرَةَ إلى الثَّمَنِ، ويقولَ: تَحَصَّلَتْ عَلَيَّ بكَذَا. لأَنَّه صادِقٌ. وبه قال الشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، والشّافِعِيُّ. ولَنا، أَنه تَغْرِيرٌ بالمُشْتَرِي، فإنَّه عَسَى أنَّه لو عَلِمَ أنَّ بَعْضَ ما تَحَصَّلَتْ به لأَجْلِ الصِّنَاعَةِ، لم يَرْغَبْ فيها؛ لعَدَمِ رَغبَتِه في ذلك، فأَشْبَهَ ما يُنْفِقُ على الحَيَوانِ في مُؤْنَتِه وْكسْوَتِه، وعلى المَتاعِ في خَزْنِه. الضربُ الثانِي، أنْ يَتَغَيَّرَ بنَقْصٍ؛ كالمَرَضِ، والجِنَايَةِ عليه، أو تَلَفِ بَعْضِه، أو الولادَةِ، أو أنْ يَتَعَيَّبَ، أو يَأْخُذَ المُشْتَرِي بَعْضَه، كالصُّوفِ، واللَّبَنِ، ونَحْوه، فإَّنه يُخْبِرُ بالحالِ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. 1656 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَاهُ بعَشَرَةٍ، ثم باعَهُ بخَمْسَةَ عَشَرَ،

أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ. وَإِنْ قَال: اشْتَرَيتُهُ بِعَشَرَةٍ. جَازَ. وَقَال أَصْحَابُنَا: يَحُطُّ الرِّبْحَ مِنَ الثَّمَنِ الثَّانِي، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم اشْتَرَاهُ بعَشَرَةٍ، أخْبَرَ بذلك على وَجْهِه. وإنْ قال: اشْتَرَيتُه بعَشَرَةٍ. جازَ. وقال أَصْحَابُنا: يحُطُّ الرِّبْحَ مِن الثَّمَنِ الثانِي، ويُخْبِرُ أنَّه اشْتَرَاهُ بخَمْسَةٍ) المُسْتَحَبُّ في هذه المسألةِ وأمْثالِها أنْ يُخبِرَ بالحالِ على وَجْهِه؛ لأنَّ فيه خُرُوجًا مِن الخِلافِ، وهو أَبْعَدُ مِن التَّغْرِيرِ بالمُشْتَرِي. فإن أخْبَرَ أنَّه اشْتَراهُ بعَشَرَةٍ، ولم يُبَيِّنْ، جازَ. وهذا قَوْلُ الشافِعِيِّ، وأبي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ؛ لأنَّه صادِقٌ فيما أخْبَر به، وليس فيه تُهْمَةٌ، فأَشْبَهَ ما لو لم يَرْبَحْ فيه (¬1). ورُوِيَ عن ابنِ سِيرِينَ، أنَّه يَطْرَحُ الرِّبْحَ مِن الثمَنِ الثانِي، ويُخْبِرُ أنَّ رَأْسَ مالِه عليه خَمْسَةٌ. وأَعْجَبَ أحمدَ قول ابنِ سِيرِينَ، قالٍ: فإنْ باعَهُ على ما اشْتَرَاهُ، يُبَيِّنُ أَمْرَهُ. يَعْنِي يُخْبِرُ (¬2) أنَّه رَبِحِ فيه (¬3) مَرَّةً، ثم اشْتَرَاهُ. وهذا مِن أحمدَ على الاسْتِحْبابِ؛ لما ذَكَرْناه، ولأنَّه الثَّمَنُ الذي حَصَلَ به المِلْكُ الثانِي، أَشْبَهَ ما لوْ خَسِرَ فيه. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل، ق، م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعُه مُرَابَحَةً إلَّا أنْ يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، أو يُخْبِرَ أنَّ رَأْسَ مالِه عليه خَمْسَةٌ. وهو قَوْلُ القاضِي وأَصْحابِه؛ لأنَّ المُرابَحَةَ تُضَمُّ ليها العُقُودُ، فيُخْبِر بما تَقَوَّمَ عليه, كما تُضَمُّ أُجْرَةُ الخَيَّاطِ والقَصَّار (¬1). وقد اسْتَفَادَ بهذا العَقْدِ الثانِي تَقْرِيرَ الرِّبْحِ في العَقْدِ الأَوَّلِ؛ لأنَّه أمِنَ أنْ يُرَدَّ عليه. فعلى هذا، يَنْبَغِي إذا طَرَحَ الرِّبْحَ مِنِ الثَّمَنِ الثانِي، أنْ يقولَ: تَقَوَّمَ عَلَيَّ بخَمْسَةٍ. ولا يقولُ: اشْتَرَيته بخَمْسَةٍ. لأنَّه كَذِبٌ، وهو حَرَامٌ، فيَصِيرُ كما لو ضَمَّ أُجْرَةَ القِصَارَةِ ونحْوها إلى الثَّمَنِ وأَخْبَرَ به. ولَنا، ما ذَكَرْنَاه. وما ذَكَرُوه. مِن ضَمِّ القِصَارَةِ والخِيَاطَةِ، فشِيءٌ بَنَوْه على أُصُولِهم، لا نُسَلِّمُه، ثم لا يُشْبِهُ هذا ما ذَكَرُوه؛ لأنَّ المُؤْنَةَ لَزِمَتْهُ في هذا البَيعِ الذي يَلِي المُرابَحَةَ، وهذا الرِّبْحُ في عقْدٍ آخَرَ قبلَ هذا الشِّرَاءِ، فأَشْبَهَ الخَسَارَةَ فيه. وأمّا تَقْرِيرُ (¬2) الرِّبْحِ، فغَيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ العَقْدَ الأَوَّلَ قد لَزِمَ، ولم يَظْهَرِ العَيبُ، ولم يَتَعَلَّقْ به حُكْمُه، قد ذَكَرْنَا في مثلِ هذه المَسْأَلَةِ أنَّ للمُشْتَرِي أنْ يَرُدَّه على البائِعِ إذا ظَهَرَ على عَيبٍ قَدِيمٍ، وإذا لم يَلْزَمْه طَرْحُ النَّماءِ والغَلَّةِ، فههُنا أَوْلَى. ويَجِئُ على قَوْلِهم، أنَّه لو اشْتَرَى بعَشَرَةٍ، ثم باعَهُ بعِشْرِينَ، ثم اشْتَرَاها بعَشَرَةٍ: فإنَّه يُخْبِرُ أنَّها حَصَلَتْ عليه بغَيرِ شيءٍ. وإنِ اشْتَرَاها بعَشَرَةٍ، ثم باعَهَا بثَلاثَةَ عَشَرَ، ثم اشْتَرَاهَا بخَمْسَةٍ، ¬

(¬1) في الأصل، م: «القصاب». (¬2) في م: «تقويم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَخْبَرَ أنَّها تَقَوَّمَتْ عليه بدِرْهَمَينِ. وإنِ اشْتَرَاها بخَمْسَةَ عَشَرَ أَخْبَرَ أنَّها تَقَوَّمَتْ عليه باثْنَيْ عَشَرَ. نَصَّ أحمدُ على نَظِيرِ هذا. فإنْ لم يَرْبَحْ، ولكنِ اشْتَرَاها ثانِيَةً بخَمْسَةٍ، أَخْبَرَ بها؛ لأَنَّها ثمَنٌ للعَقْدِ الذي يَلِي المُرَابَحَةَ. ولو خسِرَ فيها، مثلَ أنِ اشْتَرَاهَا بخَمْسَةَ عَشَرَ، ثم باعَهَا بعَشَرَةٍ، ثم اشْتَرَاها بأيِّ ثمَنٍ كان، أخْبَرَ به، ولم يَجُزْ أنْ يَضُمَّ الخَسَارَةَ إلى الثَّمَنِ الثانِي، ويُخْبِرُ به في المُرَابَحَةِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وهو يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذَكَرنَاهُ. فصل: وإنِ ابْتَاعَ اثْنَانِ ثَوْبًا بعِشْرِينَ، ثم بُذِلَ لهما فيه اثْنَانِ وعِشْرُونَ، فاشْتَرَى أَحَدُهما فَصِيبَ صاحِبِه فيه بذلك السِّعْرِ، فإنَّه يُخْبِرُ في المُرابَحَةِ بأحَدٍ وعِشْرِينَ. نَصَّ عليه. وهذا قَوْلُ النَّخَعِيِّ. وقال الشَّعْبِيُّ: يَبِيعُه على اثْنَينِ وعِشْرِينَ؛ لأَنَّ ذلك الدِّرْهَمَ الذي كان أُعْطِيَه قد كان أحْرَزَه. ثم رَجَعَ إلى قَوْلِ النَّخَعِيِّ بعدَ ذلك، ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَ ذلك؛ لأَنَّه اشْتَرَى نِصْفَه الأَوَّلَ بعَشَرَةٍ، والثانِي بأحَدَ عَشَرَ، فصارَ أحَدًا وعِشْرِينَ. فصل: قال أحْمَدُ: المُسَاوَمَةُ عِنْدِي أَسْهَلُ مِن بَيعِ المُرابَحَةِ؛ لأنَّ بَيعَ المُرابَحَةِ يَعْتَرِيه أمانَةٌ واسْتِرْسَالٌ مِن المُشْتَرِي، ويَحْتَاجُ فيه إلى تَعْيِين الحالِ على وَجْهِه، ولا يُؤْمَنُ هَوَى النَّفْسِ في نَوْعِ تَأْويل وخَطَرٍ، فيكونُ على خَطَرٍ وغَرَرٍ، فتَجَنُّبُ ذلك أَسْلَمُ وأَوْلَى. فصل: وإنِ اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ سِلْعَةٍ بعَشَرَةٍ، واشْتَرَى آخَرُ نِصْفَها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِشْرِينَ، ثم باعَاهَا (¬1) مُسَاوَمَةً بثَمَن واحِدٍ، فهو بَينَهُما نِصْفَين. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ عنها، فكان بَينَهما على حَسَبِ ملْكِهِما فيها، كالإِتْلَافِ. وإنْ باعا (¬2) مُرَابَحَةً، أو مُواضَعَةً، أو تَوْلِيَةً، فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قَوْلُ ابنِ سِيرِينَ، والحَكَمِ. قال الأَثْرَمُ: قال أبو عَبْدِ اللهِ: إذا باعا (2)، فالثَّمَنُ بَينَهُما نِصْفَين. ¬

(¬1) في ق، ر 1: «باعها». (¬2) في النسخ: «باعها». وانظر المغني 6/ 278.

فَصْلٌ: السَّابعُ، خِيَارٌ يَثْبُتُ لِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَينِ. فَمَتَى ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْتُ: أَعْطَى أحَدُهما أَكْثَرَ ممّا أَعْطَى الآخَرُ؟ فقال: وإنْ، ألَيسَ الثَّوْبُ بَينَهُما الساعَةَ سَواءً؟ فالثَّمَنُ بينهما؟ لأَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَمْلِكُ مثلَ الذي يَمْلِكُ صاحِبُه. وحَكَى أبو بكْرٍ عن أحمدَ [روايةً أُخرى] (¬1)، أنَّ الثَّمَنَ بَينَهُما على قَدْرِ رءُوسِ أمْوالِهما؛ لأنَّ بَيعَ المُرابَحَةِ يَقْتَضِي أن يكونَ الثَّمَنُ في مُقابَلَةِ رأْسِ المالِ، فيكونُ مَقْسومًا بينَهما على حَسَبِ رُءُوسِ أموالِهما. قال شَيخُنا (¬2): ولم أَجِدْ عن أحمدَ رِوايَةً بما قال أبو بكْرٍ. وقيل: هذا وَجْهٌ خَرَّجَهُ أبو بكْرٍ، وليس برِوَايَةٍ. والمَذْهَبُ الأَوَّلُ؛ لأنَّ الثَّمَنَ عِوَضُ المَبِيعِ، ومِلْكُهُما مُتَسَاوٍ فيه، فكان مِلْكُهُما لعِوَضِه مُتَسَاويًا, كما لو باعاه (¬3) مُسَاوَمَةً. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (السابعُ، خِيَارٌ يَثْبُتُ لاخْتِلافِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغني 6/ 278. (¬3) في ر 1، م: «باعه».

اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ، تَحَالفَا؛ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ، فَيَحْلِفُ: مَا بِعْتُهُ بِكَذَا، وَإِنَّمَا بِعْتُهُ بِكَذَا. ثُمَّ يَحْلِفُ المُشْتَرِي: مَا اشْتَرَيتُهُ بِكَذَا، وَإِنَّمَا اشْتَرَيتُهُ بِكَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَبَايِعَينِ. فمَتَى اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ، تَحالفَا؛ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِ البائِعِ، فيَحْلِفُ: ما بِعْتُه بكَذا، وإنّما بِعْتُه بكَذا. ثم يَحْلِفُ المُشْتَرِي: ما اشْتَرَيتُه بكَذا، وإِنَّما اشْتَرَيتُه بكذا) إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ في الثَّمَنِ، والسِّلْعَةُ قائِمَةٌ، فقال البائِعُ: بِعْتُكَ بعِشْرِينَ. وقال المُشْتَرِي: بعَشَرَةٍ. ولأَحَدِهِما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها (¬1). وإن لم يَكُنْ لهما بَيِّنَةٌ تَحالفَا. وبه قال شُرَيحٌ، وأبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وهي رِوايَةٌ عن مالِكٍ. وله رِوَايَةٌ أُخْرَى، القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي مع يَمِينِه. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وزُفرُ؛ لأَنَّ البائِعَ يَدَّعِي عَشَرَةً يُنْكِرُها المُشْتَرِي، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. وقال الشَّعْبِيُّ: القَوْلُ قَوْلُ البائِعِ، أو يَتَرَادّانِ البَيعَ. وحَكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن ¬

(¬1) في م: «بينهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ؛ لِما رَوَى ابنُ مَسْعُودٍ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا اخْتَلَفَ البَيِّعَانِ، وليس بَينَهُما بَيِّنَةٌ، فالقَوْلُ ما قال البائِعُ، أو يَتَرَادَّانِ البَيع». رَوَاهُ سَعِيدٌ، وابنُ ماجَه، وغيرُهما (¬1). والمَشْهُورُ في المَذْهَبِ الأَوَّلُ. ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَعْنَى القَوْلَينِ واحِدًا، وأنَّ القَوْلَ قَوْلُ البائِعِ مع يَمِينِه، فإذَا حَلَفَ فَرَضِيَ المُشْتَرِي بذلك، أخَذَ به، وإنْ أَبَى حَلَف أيضًا، وفُسِخَ البَيعُ؛ لأنَّ في بَعْضِ ألْفَاظِ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ، والسِّلْعةُ قائِمةٌ، ولا بَيِّنَةَ لأَحَدِهما تَحَالفَا» (¬2). ولأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما مُدَّعٍ ومُدَّعًى عليه، فإنَّ البائِعَ يَدَّعِي عَقْدًا بعِشْرِين يُنْكِرُه المُشْتَرِي، والمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَقْدًا بعَشَرَةٍ يُنْكِرُه البائِعُ، والعَقْدُ بعشَرَةٍ غيرُ العَقْدِ بعِشْرِينَ، فشُرِعَتِ اليَمِينُ في حَقِّهِما، وهذا الجَوابُ عمّا ذَكَرُوهُ. فصل: والمُبْتَدِئُ باليَمِينِ البائِعُ، فيَحْلِفُ: ما بِعْتُه بكَذَا، وإنَّما ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب البيعان يختلفان، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 737. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 255. والدارمي، في: باب إذا اختلف المتبايعان، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 250. والإمام مالك، في: باب بيع الخيار، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 671. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 466. (¬2) الرواية بهذا اللفظ غير موجودة في شيء من كتب الحديث التي بين أيدينا. وقال الحافظ ابن حجر: أما رواية التحالف فاعترف الرافعي في التذنيب أنه لا ذكر لها في شيء من كتب الحديث. التلخيص الحبير 3/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعْتُه بكَذَا. فإنْ شاءَ المُشْتَرِي أخَذَه بما قال البائِعُ، وإلَّا حَلَفَ: ما اشْتَرَيتُه بَكذا، وإنَّما اشْتَرَيتُه بكذا. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يُبْدَأُ بيَمِينِ المُشْتَرِي؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، واليَمِينُ في جَنَبَتِه أَقْوَى، ولأنَّه يُقْضَى بنُكُولِه، ويَنْفَصِلُ الحُكْمُ، وما كان أقْرَبَ إلى فَصْلِ الخُصُومَةِ كان أَوْلَى. ولَنا، قَوْلُ النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فالقَوْلُ ما قال البائِعُ، أو يَتَرادَّانِ البَيعَ». وفي لَفْظٍ: «فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ، والمُشْتَرِي بالخِيَارِ». رَواهُ الإِمام أحمدُ (¬1). ومَعْناهُ: إن شاء أخَذَ، وإنْ شاءَ حَلَفَ. ولأنَّ البائِعَ أقْوَى جَنَبَةً؛ لأنَّهُما إذا تَحالفا عادَ المَبِيعُ إليه، فكان أَقْوَى، كصَاحِبِ اليَدِ، وقد بَيَّنَّا أنَّ كُلَّ وحِدٍ منهما مُنْكِرٌ، فيَتَسَاوَيَانِ منِ هذا الوَجْهِ. والبائِعُ إذا حَلَفَ فهو بمَنْزِلَةِ نُكُولِ المُشْتَرِى، يَحْلِفُ الآخرُ, ويُقْضَى له (¬2)، فهما سَواءٌ. ويَكْفِي كُلَّ واحِدٍ منهما يَمِينٌ واحِدَةٌ، لأنَّهُ أقْرَبُ إلى فَصْلِ القَضاءِ. ¬

(¬1) في: المسند 1/ 466. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء إذا اختلف البيعان، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 271. (¬2) في م: «به».

1657 - مسألة: (فإن نكل أحدهما، لزمه ما قال صاحبه)

فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهٌ مَا قَال صَاحِبُهُ. وَإِنْ تَحَالفَا، فَرَضِيَ أحَدُهُمَا بِقَوْلِ صَاحِبِهِ، أُقِرَّ الْعَقْدُ، وَإلَّا فَلِكُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1657 - مسألة: (فإنْ نَكَلَ أحَدُهما، لَزِمَه ما قال صاحِبُه) يَعْنِي إذا حَلَفَ البائِعُ، فَنَكَلَ المُشْتَرِي عن اليَمِينِ، قُضِيَ عليه، وإنْ نَكَلَ البائِعُ (¬1) حَلَفَ المُشْتَرِي، وقُضِيَ له. وَوَجْهُ ذلك حَدِيثُ ابنِ عمرَ لَمَّا باع زَيدًا عَبْدًا، واخْتَلَفَا في عَيبٍ فيه، فاحْتَكَمَا إلى عثمانَ، فوَجَبَتْ على عبدِ اللهِ اليَمِينُ، فلم يَحْلِفْ، فرَدَّ عثمانُ عليه العَبْدَ. رَواهُ الإِمامُ أحمدُ (¬2). 1658 - مسألة: (فإنْ تَحَالفَا (¬3)، فرَضِيَ أحَدُهُما بقَوْلِ ¬

(¬1) في م: «المشترى». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 256. (¬3) في م: «تخالفا».

وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِه، أُقِرَّ العَقْدُ، وإلَّا فلِكُلِّ واحِدٍ منهما الفَسْخُ) إذا تَحَالفَا، لم يَنْفَسِخِ البَيعُ بنَفْسِ التَّحَالُفِ (¬1)؛ لأنَّه عَقْدٌ صَحِيحٌ، فلم يَنْفَسِخْ باخْتِلافِهِما وتَعارُضِهِما في الحُجَّةِ، كما لو قامَتِ البَيِّنَةُ لكُلِّ واحِدٍ منهما، لكن إنْ رَضِيَ أحَدُهما بما قال الآخَرُ، أُجْبِرَ الآخَرُ عليه، وأُقِرَّ العَقْدُ بينهما، وإن لم يَرْضَ واحِدٌ منهما، فلِكُلِّ واحِدٍ منهما الفَسْخُ. هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَقِفَ الفَسْخُ على الحاكِمِ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ العَقْدَ صَحِيحٌ، وأحَدُهُما ظالِمٌ، وإنّما يَفْسَخُه الحاكِمُ؛ لتَعَذُّرِ إمْضَائِه في الحُكْمِ، أشْبَهَ نِكاحَ المَرأَةِ إذا زَوَّجَها الوَلِيَّانِ وجُهِلَ السابِقُ منهما. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أو يَتَرَادَّانِ البَيعَ». وظاهِرُه اسْتِقْلالُهما بذلك. ورُوِيَ أنّ ابنَ مَسْعُودٍ باعَ الأشْعَثَ بنَ قَيسٍ رَقِيقًا مِن رَقِيقِ الإِمارَةِ، فقال عبدُ اللهِ: بِعْتُكَ بعِشْرِينَ ألْفًا. وقال الأشْعَث: شَرَيتُ منك بعَشَرَةِ آلافٍ. فقال عبدُ اللهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ وليس بَينَهُمَا بَيِّنَةٌ، والبَيعُ قائِمٌ بعَينِه، فالقَوْلُ قولُ البائِعِ، أو يَتَرَادَّانِ البَيعَ». قال: فإنِّي أرُدُّ البَيعَ. رَواهُ سَعِيدٌ (¬2). ¬

(¬1) في م: «التخالف». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 464.

1659 - مسألة: (وإن كانت السلعة تالفة، رجعا إلى قيمة مثلها. فإن اختلفا فيصفتها، فالقول قول المشتري [مع يمينه]

وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ تَالِفَةً، رَجَعَا إلَى قِيمَةِ مِثْلِهَا. فَإِنِ اخْتَلَفَا في صِفَتِها، فَالْقَولُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَتَحَالفَانِ إِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوَى أيضًا حَدِيثًا عن عبدِ المَلِكِ بنِ عُبَيدَةَ (¬1)، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ اسْتُحْلِفَ البائِعُ، ثمّ كان للمُشْتَرِي الخِيارُ، إنْ شاءَ أَخَذَ، وإنْ شاءَ تَرَكَ» (¬2). وهذا ظاهِرٌ في أنّه يَفْسَخُ مِن غيرِ حاكِمٍ؛ لأَنَّه جَعَلَ الخِيارَ إليه، فأشْبَهَ مَنْ له خِيارُ الشَّرْطِ، ولأنَّه فَسْخٌ لاسْتِدْراكِ الظُّلَامَةِ، أشْبَهَ الرَّدَّ بالعَيبِ، ولا يُشْبِهُ النِّكَاحَ؛ لأنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَينِ الاسْتِقْلال بالطَّلَاقِ. 1659 - مسَألة: (وإنْ كانتِ السِّلْعَةُ تالِفَةً، رَجَعَا إلى قِيمَةِ مِثْلِها. فإنِ اخْتَلَفَا فيصِفَتِها، فالقَوْلُ قولُ المُشْتَرِي [مع يَمينِه] (¬3). ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «عبدة». قال الدارقطني: وقد اختلف فيه في تسمية والد عبد الملك هذا الراوي. وانظر: تهذيب التهذيب 6/ 409. (¬2) وأخرجه النسائي، في: باب اختلاف المتبايعين في الثمن، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 266. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 466. والبيهقي، في: باب اختلاف المتبايعين، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 333. والدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 18, 19. (¬3) سقط من: م.

كَانَتْ تَالِفَةً، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، لا يَتَحَالفَانِ إذا كانت تالِفَةً، والقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي مع يَمِينِه) إذا اخْتَلَفَا في ثَمَنِ السِّلْعَةِ بعد تَلَفِها، فعن أحمدَ فيها رِوَايَتَانِ؛ إحْداهُما، يَتَحَالفَانِ. هكذا ذَكَرَه الخِرَقِيُّ، مثلَ ما (¬1) لو كانتْ قائِمَةً. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وإحْدَى الرِّوَايَتَينِ عن مالِكٍ. والأُخْرَى، القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي مع يَمِينِه. اخْتَارَها أبو بكْرٍ. وهو قَوْلُ النَّخعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والأَوْزَاعِي، وأبِي حَنِيفَةَ، لقَوْلِه، - عليه السلام - في الحَدِيثِ: «والسِّلْعَةُ قائِمَةٌ» (¬2). مَفْهُومُه أنَّه لا يُشْرَعُ التَّحالُفُ عندَ تَلَفِها. ولأنَّهُما اتّفَقَا على نَقْلِ السِّلْعَةِ إلى المُشْتَرِي، واسْتِحْقَاقِ عَشَرَةٍ في ثَمَنِها، واخْتَلَفَا في عَشَرَةٍ زَائِدَةٍ، البائِعُ يَدَّعِيها، والمُشْتَرِي يُنْكِرُها، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. وتَرَكْنَا ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 464.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا القِياسَ حال قِيامِ السِّلْعَةِ؛ للحَدِيثِ الوَارِدِ فيه، ففيما عَدَاهُ يَبْقَى على القِياسِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى عُمُومُ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ. فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ، والمُشْتَرِي بالخِيارِ». قال أحمدُ: ولم يَقُلْ (¬1) فيه: «والبَيعُ قائِمٌ» إلَّا يَزِيدُ بنُ هارُونَ. قال أبو عَبْدِ اللهِ: وقد أخْطَأَ، رَواهُ الخلْقُ عن المَسْعُودِيِّ، ولم يَقُولُوا هذه الكَلِمَةَ. ولأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما مُدَّعٍ ومُنْكِرٌ، فيُشْرَعُ اليَمِينُ، كحالِ قيامِ السِّلْعَةِ، فإنَّ ذلك لا يَخْتَلِفُ بقِيَامِ السِّلْعَةِ وتَلَفِها. وقَوْلُهم: تَرَكْنَاهُ للحَدِيثِ. قُلْنا: لم يَثْبُتْ في الحَدِيثِ «تَحَالفَا» (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: وليس في هذا البابِ حَدِيثٌ يُعْتَمَدُ عليه. وعلى أنَّه إذا خُولفِ الأصْلُ لمَعْنًى، وَجَبَ ¬

(¬1) في م: «ينقل». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْدِيَةُ الحُكْمِ بتَعَدِّي ذلك المَعْنَى، فنَقِيسُ عليه. بل يَثْبُتُ الحُكْمُ بالبَيِّنَةِ، فإنَّ التَّحَالُفَ إذا ثَبَتَ مع قِيامِ السِّلْعَةِ، مع أنَّه يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثَمَنِها للمَعْرِفَةِ بقِيمَتِها، فإنَّ الظاهِرَ أنَّ الثَّمنَ يكونُ بالقِيمَةِ، فمع تَعَذُّرِ ذلك أوْلَى. فإذا تَحالفَا، فإنْ رَضِيَ أحَدُهما بما قال الآخَرُ، لم يُفْسَخِ العَقْدُ؛ لعَدَمِ الحاجَةِ إلى فَسْخِه، وإنْ لم يَرْضَيَا، فلِكُلِّ واحِدٍ منهما فسْخُه, كما إذا كانتِ السِّلْعَةُ باقِيةً، ويُرَدُّ الثَّمَنُ إلى المُشْتَرِي، ويَدْفَعُ المُشْتَرِي قِيمَةَ السِّلْعَةِ إلى البائِعِ، فإن كانَا مِن جِنْسٍ واحِدٍ وتَسَاوَيَا بعد التَّقَابُضِ، تَقَاصَّا. ويَنْبَغِي أنْ لا يُشْرَعَ التَّحَالُفُ ولا الفَسْخُ فيما إذا كانت قِيمةُ السِّلْعَةِ مُسَاويَةً للثَّمَنَ الذي ادَّعاهُ المُشْتَرِي، ويكونُ القَوْلُ قَوْلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي مع يَمِينِه؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في ذلك، لأنَّ الحاصِلَ به الرُّجُوعُ إلى ما ادَّعاهُ المُشْتَرِي. وإن كانتِ القِيمَةُ أقَلَّ، فلا فائِدَةَ للبائِعِ في الفَسْخِ، فيَحْتَمِلُ أنْ لا يُشْرَعَ له اليَمِينُ ولا الفَسْخُ؛ لأنَّ ذلك ضَرَرٌ عليه من غيرِ فائِدَةٍ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُضْرَعَ لتَحْصُلَ الفائِدَةُ للمُشْتَرِي. ومَتَى اخْتَلَفَا في قِيمَةِ السِّلْعَةِ، رَجَعَا إلى قِيمَةِ مِثْلِها مَوْصُوفًا بصِفَاتِها. فإنِ اخْتَلَفَا في الصِّفَةِ، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي مع يَمِينِه؛ لأنَّه غارِمٌ. فصل: وإن تَقَايَلَا المَبِيعَ، أو رُدَّ بعَيبٍ بعدَ قَبْضِ البائِعِ الثَّمَنَ، ثم اخْتَلَفَا في قَدْرِه، فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ لِما يَدَّعِيه المُشْتَرِي بعدَ انْفِساخِ العَقْدِ، أشْبَهَ ما إذا اخْتَلَفَا في القَبْضِ.

1660 - مسألة: (وإن ماتا، فورثتهما بمنزلتهما)

وَإِنْ مَاتَا، فَوَرَثتهُمَا بِمَنْزِلَتِهِمَا. وَمَتَى فَسَخَ الْمَظْلُومِ مِنْهُمَا، انْفَسَخَ الْعَقْدُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَإِنْ فَسَخَ الظَّالِمُ، لَمْ يَنْفَسِخْ في حَقِّهِ بَاطِنًا، وَعَلَيهِ إِثْمُ الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1660 - مسألة: (وإن ماتا، فَوَرَثتهُما بمَنْزِلَتِهما) في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَاهُ؛ لأنَّهُم يَقُومُونَ مَقامَهُما في أخْذِ مالِهما وإرْثِ حُقوقِهما، فكذلك فيما يَلْزَمُهما أو يَصِيرُ لهما. ولأنَّها يَمِينٌ في المالِ، فقامَ الوارِثُ فيها مَقامَ المَوْرُوثِ، كاليَمِينِ في الدَّعْوَى. 1661 - مسألة: (ومَتَى فَسَخَ المَظْلُومُ مِنْهُما، انْفَسَخَ العَقْدُ (¬1) ظاهِرًا وباطِنًا، وإن فَسَخَ الظَّالِمُ، لم يَنْفَسِخْ في حَقِّهِ باطِنًا، وعليه إثْمُ الغاصِبِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الفَسْخَ إذا وُجِدَ منهما، فقال القاضِي: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الفَسْخَ يَنْفُذُ ظاهِرًا وباطِنًا لأنَّه فَسْخٌ لاسْتِدْرَاكِ الظُّلامَةِ، فهو كالرَّدِّ بالعَيبِ، أو فَسْخُ عَقْدٍ بالتّحالُفِ، فأَشْبَهَ الفَسْخَ باللِّعانِ. وقال ¬

(¬1) بعده في ق: «في حقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو الخَطّابِ: إن كان البائِعُ ظالِمًا، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ في الباطِنِ؛ لأنَّه كان (¬1) يُمْكِنُه إمْضاءُ العَقْدِ واسْتِيفاءُ حَقِّه، فلا يَتْفَسِخُ العَقْدُ في الباطِنِ، ولا يُباحُ له التَّصَرُّفُ في المَبيعِ؛ لأنَّه غاصِبٌ، وإن كان المُشْتَري ظالِمًا، انْفَسَخَ البَيعُ ظاهِرًا وباطِنًا؛ لعَجْزِ البائِعِ عن اسْتِيفاءِ حَقِّه، فكان له الفَسْخُ, كما لو أَفْلَسَ المُشْتَرِي. ولأَصْحَابِ الشّافِعِيِّ وَجْهَانِ كهذَينِ. ولهم وَجْهٌ ثالِثٌ؛ أنَّه لا يَنْفَسِخُ في الباطِنِ بحالٍ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه لو عَلِمَ أنَّه لا يَنْفَسِخُ في الباطِنِ بحالٍ، لَمَا أمْكَنَ فَسْخُه في الظاهِرِ، فإنَّه لا يُباحُ لكُلِّ واحِدٍ منهما التَّصَرُّفُ فيما رَجَعَ إليه بالفَسْخِ، ومتى عَلِمَ أنَّ ذلك مُحَرَّمٌ مُنِعَ منه. ولأَنَّ الشارِعَ جَعَلَ للمَظْلُومِ منهما الفَسْخَ ظاهِرًا وباطِنًا، فانْفَسَخَ بفَسْخِه في الباطِنِ، كالرَّدِّ بالعَيبِ. قال شيخنا (¬2): ويَقْوَى عِنْدِي أنَّه إنْ فَسَخَه المَظْلُومُ (¬3) منهما، انْفَسَخَ ظاهِرًا وباطِنًا؛ ¬

(¬1) في م: «لا». (¬2) في: المغني 6/ 282. (¬3) في المغني: «الصادق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك. وإنْ فَسَخَه الكاذِبُ عالِمًا بَكَذِبِه، لم يَنْفَسِخْ بالنِّسْبَةِ إليه؛ لأنَّه لا يَحِلُّ له الفَسْخُ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه بالنِّسْبَةِ إليه، ويَثْبُتُ بالنِّسْبَةِ إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِه، فيُبَاحُ له التَّصَرُّفُ فيما رَجَعَ إليه؛ لأنَّه رَجَعَ إليه بحُكْمٍ مِن غيرِ عُدْوانٍ منه، فأشْبَهَ ما لو رَدَّ عليه المَبِيعَ بدَعْوَى العَيبِ، ولا عَيبَ فيه.

1662 - مسألة: (وإن اختلفا في صفة الثمن، تحالفا، إلا أن يكون للبلد نقد معلوم، فيرجع إليه)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في صِفَةِ الثَّمَنِ، تَحَالفَا، إلا أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ مَعْلُومٌ، فَيُرْجَعَ إِلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1662 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في صِفَةِ الثَّمَنِ، تَحالفَا، إلَّا أنْ يكونَ للبَلَدِ نَقْدٌ مَعْلُومٌ، فيُرْجَعَ إليه) إذا اخْتَلَفَا في صِفَةِ الثّمَن، رُجِعَ إلى نَقْدِ البَلَدِ. نَصَّ عليه في رِوايَةِ الأَثْرَم؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ أنَّهُما لا يَعْقِدانِ إلَّا به. وإن كان في البَلَدِ نُقُودٌ، رُجِعَ إلى أَوْسَطِها. نَصَّ عليه، في رِوَايَةِ جماعَةٍ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أراد (¬1): إذا كان هو الأَغْلَبَ والمُعامَلَةُ به أكْثَرَ؛ لأنَّ الظّاهِرَ وقُوعُ المُعامَلَةِ به، أشْبَهَ إذا كان في البَلَدِ نَقْدٌ واحِدٌ. ¬

(¬1) في م: «أراده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أنّه رَدَّهُما إليه مع التَّسَاوي؛ لأنَّ فيه تَسْويَةً بينهما في الحَقِّ وتَوَسُّطًا بينهما، وفي العُدُولِ إلى غيرِه مَيلٌ على أحَدِهما، فكان التَّوَسُّطُ أوْلَى، وعلى مُدَّعِي ذلك اليَمِينُ؛ لأنَّ قولَ خصْمِه مُحْتَمِلٌ، فيَجِبُ اليَمِينُ لنَفْي ذلك الاحْتِمالِ، كوُجُوبِها على المُنْكِرِ. وإن لم يكُنْ في البَلَدِ إلَّا نَقْدانِ،

1663 - مسألة: (وإن اختلفا في أجل أو شرط، فالقول قول

وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَجَلٍ أَو شَرْطٍ، فَالْقَولُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ. وَعَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحَالفَا؛ لأنَّهُما اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ على وَجْهٍ لم يَتَرَجَّحْ قولُ أَحَدِهما، فيَتَحَالفانِ, كما لو اخْتَلَفَا في قَدْرِه. 1663 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في أَجلٍ أو شَرْطٍ، فالقَوْلُ قولُ

يَتَحَالفَانِ، إلا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فَاسِدًا، فَالْقَولُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْ يَنْفِيهِ. وعنه، يَتَحَالفَانِ، إلَّا أنْ يكونَ شَرْطًا فاسِدًا، فالقَوْلُ قولُ من يَنْفِيهِ) (¬1) إذا اخْتَلَفَا في أجَلٍ أو شَرْطٍ أو رَهْنٍ أو ضَمِينٍ، أو في قَدْرِ الأَجَلِ أو الرَّهْنِ، فالقَوْلُ قولُ مَن يَنْفِيه، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ مع يَمينِه. وهذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ الأَصْلَ عَدَمُه، فكان القَوْلُ قولَ مَنْ يَدَّعِيهِ، كأصْلِ العَقْدِ. والثانيةُ، يَتَحَالفَانِ. وهو قوْلُ الشّافِعِيِّ؛ لأَنَّهُما اخْتَلَفا في صِفَةِ العَقْدِ، فوَجَبَ أنْ يَتَحَالفَا, كما لو اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ. فأمّا إنِ اخْتَلَفَا ¬

(¬1) في م: «يثبته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما يُفْسِدُ العَقْدَ؛ فقال: بِعْتُكَ بخَمْرٍ (¬1)، أو خِيارٍ مَجْهُولٍ، أو في شَرْطٍ فاسِدٍ. وقال الآخَرُ (¬2): بل بِعْتَنِي بنَقْدٍ مَعْلُومٍ، أو خِيارٍ إلى ثَلاثٍ. فالقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الصِّحَّةَ مع يَمِينِه؛ لأَنَّ ظهُورَ تَعاطِي المُسْلِمينَ الصَّحِيحَ أكثرُ من تَعاطِي الفاسِدِ. وإن قال: بعْتُكَ مُكْرَهًا. فأَنْكَرَه، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الإِكْرَاهِ، وصِحَّةُ البَيعِ كذلك. وإن قال: بِعْتُكَ وأنا صَبِيٌّ. فالقَوْلُ قوْلُ المُشْتَرِي. نَصَّ عليه. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ؛ لأَنَّهُما اتَّفَقَا على العَقْدِ، واخْتَلَفَا فيما يُفْسِدُه، فكان القَوْلُ قَوْلَ مَن يَدَّعِي الصِّحَّةَ، كالتي قَبْلَها، ويَحْتَمِلُ أنْ يُقْبَلَ قَوْلُ مَن يَدَّعِي الصِّغَرَ؛ لأَنَّه الأَصْلُ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشّافِعِيِّ. ويُفارِقُ ما إذا اخْتَلَفَا في الإِكْرَاهِ والشَّرْطِ الفاسِدِ من وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ الأَصْلَ عَدَمُه. وههُنا الأصْلُ بَقَاؤُه. والثانِي، أنَّ الظَّاهِرَ من المُكَلَّفِ أنّه لا يَتَعَاطَى إلَّا الصَّحِيحَ. وههُنا ما ثَبَتَ أنَّه كان مُكَلَّفًا. ¬

(¬1) في م: «بخمس». (¬2) في م: «لا».

1664 - مسألة: (وإن قال: بعتني هذين. قال: بل أحدهما. فالقول قول البائع)

وَإنْ قَال: بِعْتَنِي هَذَين. قَال: بَلْ أَحَدَهُمَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنْ قال: بِعْتُكَ وأنا مَجْنُونٌ. فإن لم يُعْلَمْ له (¬1) حالُ جُنُونٍ، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه. وإن ثَبَتَ أنَّه كان مَجْنُونًا، فهو كالصَّبِيِّ. وإن قال: بِعْتُكَ وأنا غيرُ مَأْذُونٍ لِي في التِّجارَةِ. فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي. نصَّ عليه في رِوَايَةِ مُهَنَّا (¬2)؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ، فالظَّاهِرُ أنَّه لا يَعْقِدُ إلَّا عَقْدًا صَحِيحًا. 1664 - مسألة: (وإن قال: بِعْتَنِي هذَينِ. قال: بل أحَدَهما. فالقَوْلُ قولُ البائِعِ) أمّا إذا قال: بِعْتَنِي هذا العَبْدَ والأَمَةَ بمائَةٍ. قال: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «منها».

1665 - مسألة: (وإن قال: بعتني هذا. قال: بل هذا. حلف

وَإنْ قَال: بِعْتَنِي هَذَا. قَال: بَلْ هَذا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ بل بِعْتُكَ العَبْدَ بخَمْسِينَ. فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُه البائِعُ، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. وإن قال البائِعُ: بعْتُكَ هذا العَبْدَ بأَلْفٍ. فقال: بلِ هو والعَبْدُ الآخرُ بأَلْفٍ. فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعَ مع يَمِينِه. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفةَ؛ لأَنَّ البائِعَ يُنكِرُ بَيعَ العَبْدِ الزَّائِدِ، فكان القَوْلُ قَوْلَه مع يَمِينِه, كما لو ادَّعَى شِراءَه مُنْفَرِدًا. وقال الشّافِعِيُّ: يَتَحَالفَانِ؛ لأنَّهُما اخْتَلَفَا في أحَدِ عِوَضَي العَقْدِ، أشْبَهَ ما لو اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ. وهذا القَوْلُ أقْيَسُ وأَوْلَى، إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. 1665 - مسألة: (وإن قال: بِعْتَنِي هذا. قال: بل هذا. حَلَفَ

مِنْهُمَا عَلَى مَا أَنْكَرَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ بَيعُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كُلُّ واحِدٍ منهما على ما أَنْكَرَه، ولم يَثْبُتْ بَيعُ واحِدٍ منهما) وذلك مثلَ أنْ يقولَ البائِعُ: بعْتُكَ هذا العَبْدَ. قال: بل بِعْتَنِي هذه الجارِيَةَ. لأَنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما يَدَّعِي عَقْدًا على عَينٍ يُنْكِرُها المُدَّعَى عليه، والقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ. فإذا حَلَفَ البائِعُ: ما بِعْتُكَ هذه الجارِيَةَ. أُقِرَّتْ في يَدِه، وإنْ كان مُدَّعِيها قد قَبَضَها رُدَّت عليه. وأما العَبْدُ، فإن كان في يَدِ البائِعِ، أُقِرَّ في يَدِه، ولم يكُن للمُشْتَرِي طَلَبُه؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه، وعلى البائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ إليه؛ لأنَّه لم يَصِلْ إليه المَعْقُودُ عليه. وإن كان في يَدِ المُشْتَرِي، فعليه رَدُّه إلى البائِعِ؛ لأنَّه يَعْتَرِفُ أنَّه لم يَشْتَرِه، وليس للبائِعِ طَلبُه إذا

1666 - مسألة: (وإن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه. وقال المشتري: لا أسلمه حتى أقبض المبيع)

وَإنْ قَال الْبَائِعُ: لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى أَقْبِضَ ثَمَنَه. وَقَال الْمُشْتَرِي: لَا أُسَلِّمُهُ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ. وَالثَّمَنُ عَينٌ، جُعِلَ بَينَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ ـــــــــــــــــــــــــــــ يذَلَ له (¬1) ثمنَه؛ لاعْتِرافِه بِبَيعِه، وإنْ لم يُعْطِه ثَمَنَه، فله فَسْخُ البَيعِ واسْتِرْجاعُه؛ لتَعَذُّرِ الثَّمَنِ عليه، فملَكَ الفَسْخَ, كما لو أَفْلَسَ المُشْتَرِي. وإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعْواهُ، ثَبَتَ العَقْدَانِ (¬2)؛ لأَنَّهما لا يَتَنافَيَانِ، فأَشْبَهَ ما لو ادَّعَى أحَدُهما البَيعَ فيهما جَمِيعًا، وأنْكَرَه الآخَرُ. وإن أقامَ أحَدُهما بَيِّنَةً دونَ الآخَرِ، ثَبَتَ ما قامَتْ عليه البَيِّنَةُ دونَ الآخَرِ. 1666 - مسألة: (وإنْ قال البائِعُ: لا أُسَلِّمُ المَبِيعَ حَتَّى أَقْبِضَ ثَمَنَه. وقال المُشْتَرِي: لا أُسَلِّمُهُ حتى أقْبِضَ المَبِيعَ) وكان الثَّمَنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر 1: «العقد».

مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ إِلَيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَينًا أو عَرْضًا (جُعِلَ بينهما عَدْلٌ يَقْبِضُ منهما ويُسَلِّمُ إليهما) لأنَّ حَقَّ البائِع قد تَعَلَّقَ بعَينِ الثَّمَنِ, كما تَعَلَّقَ حَقُّ المُشْتَرِي بعَينِ المَبِيعِ، فاسْتَوَيَا، وقد وَجَبَ لكُلِّ واحِدٍ منهما على الآخَرِ حَقُّ قد اسْتَحَقَّ قَبْضَه، فأُجْبِرَ كُلُّ واحِدٍ منهما على إيفاءِ صاحِبِه حَقَّهُ. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأحَدُ أقوالِ الشّافِعِيِّ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ البائِعَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ المَبِيعِ أوَّلًا. وهو قَوْلٌ ثانٍ للشَّافِعِيِّ. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لما ذَكَرْنا. وقال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ: يُجْبَرُ المُشْتَرِي على تَسْلِيمِ الثمَنِ؛ [لأنَّ للبائِعِ حَبْسَ المَبيعِ على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فلم يَكُنْ عليه التَّسْلِيمُ] (¬1) قبلَ الاسْتِيفَاءِ، كالمُرْتَهِنِ. ولَنا، أنَّ تَسْلِيمَ المَبِيعِ يَتَعَلَّقُ به اسْتِقْرَارُ البَيعِ وتَمامُه، فكان تَقْدِيمُه أوْلَى، ويُخالِفُ الرَّهْنَ، فإنَّه لا يَتَعَلَّقُ به مَصْلَحَةُ عَقْدِ الرَّهْنِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإنْ كَانَ دَينًا، أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيم الثَّمَنِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّسْلِيمُ ها هنا يَتَعَلَّقُ به مَصْلَحَة عَقْدِ البَيعِ (وإن كان دَينًا، أُجْبِرَ البائِعُ على تَسْلِيمِ المَبِيعِ، ثم أُخْبِرَ المُشْتَرِي على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ) لأَنَّ حَقَّ المُشْتَرِي تَعَلَّقَ بعَينِ المَبِيع، وحَقَّ البائِعِ تَعَلَّقَ بالذِّمَّةِ، وتَقْدِيمُ ما تَعَلَّقَ بالعَينِ أوْلَى؛ لتَأَكُّدِه، ولذلك (¬1) يُقَدَّمُ الدَّين الذي به الرَّهْن على ما في الذِّمَّةِ، وكذلك يقَدَّمُ (¬2) أرْشُ الجِنَايَةِ على الدَّينِ؛ لذلك. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يُجْبَر المُشْتَرِي أوَّلًا على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، كالمسألةِ قبلها، وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على خِلافِه. إذا ثَبَتَ هذا وأوْجَبْنَا على البائِعِ التَّسْلِيمَ، فسَلَّمَ، فإنْ كان المُشْتَرِى مُوسِرًا والثَّمَن حاضِرًا، ¬

(¬1) في ق، م: «كذلك». (¬2) في م: «تقديم».

وَإنْ كَانَ غَائِبًا بَعِيدًا، أَو الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ. وَإِنْ كَانَ في الْبَلَدِ، حُجِرَ عَلَى الْمُشْتَرِي في مَالِه كُلِّه حَتَّى يُسَلِّمَهُ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ قَرِيبًا، احْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، واحْتَمَلَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُجْبِرَ على تَسْلِيمِه (وإنْ كان) الثَّمَنُ (غائِبًا) عن البَلَدِ في مَسَافَةِ القَصْرِ (أو) كان (المُشْتَرِي مُعْسِرًا، فللبائِعِ الفَسْخُ) لأنَّ عليه ضَرَرًا في تَأْخِيرِ الثَّمَنِ، فكان له الفَسْخُ والرُّجُوعُ في عَينِ مالِه، كالمُفْلِسِ (وإنْ كان) الثَّمَنُ (في) بَيتِه أو (بَلَدِه، حُجِرَ على المُشْتَرِي في) المَبِيعِ وسائِرِ (مالِه حتى يُسَلِّمَ الثَّمَنَ) لئَلَّا يَتَصَرَّفَ في مالِه تَصَرُّفًا يَضُرُّ بالبائِعِ (وإن كان غائِبًا عن البلَدِ قريبًا) دونَ مَسافَةِ القَصْرِ (فللبَائِعِ الفَسْخُ) في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في تَأْخِيرِ الثَّمَنِ، أشْبَهَ المُفْلِسَ. والثاني،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَثْبُت له خِيارُ الفسْخِ؛ لأَنَّه كالحاضِرِ. فعلى هذا، يُحْجَرُ على المُشْتَرِي, كما لو كان في البَلَدِ. وهذا كُلُّه مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وقال شَيخُنا (¬1): ويَقْوَى عِنْدي أنَّه لا يَجِبُ على البائِعِ تَسْلِيمُ المَبِيعِ حتى يُحْضِرَ الثَّمَنَ ويَتَمَكَّنَ مِن تَسْملِيمِه؟ لأنَّ البائِعَ إنَّما رَضِيَ ببَذْلِ المَبِيعِ بالثَّمَنِ، فلا يَلْزَمُه دَفْعُه قبلَ حُصُولِ عِوَضِه، ولأَنَّ المُتَعاقِدَينِ سَواءٌ في المُعَاوَضَةِ، فيَسْتَويانِ في التَّسْلِيمِ. وإنَّما يُوثِّرُ ما [ذَكَره في التَّرْجِيحِ] (¬2) في تَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ مع حُضُورِ العِوَضِ الآخَرِ؛ لعَدَمِ الضَّرَرِ فيه، أمّا مع الخَطَرِ (¬3) المُحْوجِ إلى الحَجْرِ، أو المُجَوِّزِ الفَسْخَ، فلا يَنْبَغِي أنْ يَثْبت. ولأَنَّ شَرْعَ الحَجْرِ لا يَنْدَفِع به الضَّرَرُ؛ لأَنَّه يَقِفُ على الحاكِمِ، ويَتَعَذَّرُ ذلك في الغالِبِ. ولأنَّ ما أَثْبَتَ الحَجْرَ والفَسْخَ بعدَ التَّسْلِيمِ، ¬

(¬1) في: المغني 6/ 287. (¬2) في ر 1: «ذكرنا من الرد». (¬3) في م: «الحظر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى أنْ يَمْنَعَ التَّسْلِيمَ؛ لأنَّ المَنْعَ أسْهَلُ مِن الرَّفْعِ، والمَنْعُ قبلَ التَّسْلِيمِ أسْهَلُ مِن المَنْعِ بَعْدَه، ولذلك مَلَكَتِ المَرْأَةُ مَنْعَ نَفْسِها مِن التَّسْلِيمِ قبلَ قَبْضِ صَداقِها، ولم تَمْلِكْه بعدَ التَّسْلِيمِ، على أحَدِ الوَجْهَينِ. وكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: له الفَسْخُ. فإنَّه يَفْسَخُ بغيرِ حُكْمِ حاكِمٍ؛ لأَنَّه فَسْخٌ للبَيعِ لتَعَذُّرِ ثَمَنِه، فمَلَكَّهُ البائِعُ، كالفَسْخِ في عَينِ مالِه إذا أفْلَسَ المُشْتَرِي. وكُلُّ مَوْضِعٍ قلنا: يُحْجَرُ عليه. فذلك إلى الحاكِمِ؛ لأَنَّ ولايةَ الحَجْرِ إليه. فصل: فإن هَرَبَ المُشْتَرِي قَبْلَ وَزْنِ الثَّمَنِ، وهو مُعْسِرٌ، فللبَائِع الفَسْخُ في الحال؛ لأَنَّه يَمْلِكُ الفَسْخَ مع حُضُورِه، فمَعَ هَرَبِه أوْلَى. وإن كانَ مُوسِرًا، أَثْبَتَ البائِعُ ذلك عند الحاكِمِ، ثم إنْ وَجَدَ الحكمُ له مالًا قضاه، وإلَّا باعَ المَبِيعَ، وقَضَى ثَمَنَه منه، وما فَضَلَ فللمُشْتَرِي، وإنْ أَعْوَزَ، ففي ذِمَّتِه. قال شَيخُنا (¬1): ويَقْوَى عِنْدِي أنّ للبائِعِ الفَسْخَ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّا أَبَحْنَا له الفَسْخَ مع حُضُورِه إذا كان الثَّمَنُ بَعِيدًا عن البَلَدِ؛ للضَّرَرِ في التَّأْخِيرِ، فههنا مع العَجْزِ عن الاسْتِيفاءِ بكُلِّ حالٍ أوْلَى. ولا ¬

(¬1) في: المغني 6/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ برَفْعِ الأَمْرِ إلى الحاكِمِ؛ لأنَّه قد يَعْجِزُ عن إثْبَاتِه عِنْدَه، وقد يكونُ المَبِيعُ في مكانٍ لا حاكِمَ فيه، والغالِبُ أنَّه لا يَحْضُرُه مَنْ يَعْرِفُه الحاكِمُ بالعَدَالةِ، فإحالتُه على هذا تَضْيِيعٌ لمالِه. وهذه الفُرُوعُ تُقَوِّى ما ذَكَرْتُه، من أنَّ للبائِعِ مَنْعَ المُشْتَرِي مِن قَبْضِ المَبِيعِ قبلَ إحْضارِ ثَمَنِهِ؛ لما في ذلك من الضَّرَرِ. فصل: وليس للبَائِعِ الامْتِنَاعُ مِن تَسْلِيمِ المَبِيعِ بعد قَبْضِ الثَّمَنِ

1667 - مسألة: (ويثبت الخيار للخلف في الصفة، وتغير ما تقدمت رؤيته. وقد ذكرناه)

وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْخُلْفِ في الصِّفَةِ، وَتَغَيُّرِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ. وَقَدْ ذَكَرنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَجْلِ الاسْتِبْراءِ. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ في القَبِيحَةِ. وقال في الجَميلَةِ: يَضَعُها على يَدَيْ عَدْلٍ حتى تُسْتَبْرَأَ؛ لأنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُه فيها، فمُنِعَ منها. ولَنا، أنَّه بَيعُ عَينٍ لا خِيارَ فيها (¬1)، قد قَبَضَ ثَمَنَها، فوَجَبَ تَسْلِيمُها، كسائِرِ المَبِيعات، وما ذَكَرَه مِن التُّهْمَةِ لا يُمَكِّنُه مِن المَنْعِ، كالقَبِيحَةِ. ولأنَّه إنْ كان اسْتَبْرَأَها قبلَ بَيعِها، فاحْتِمالُ وجُودِ الحَمْلِ منها بَعِيدٌ نادِرٌ، وإن كان لم يَسْتَبْرِئها، فهو الذي تَرَكَ التَّحَفُّظَ لنَفْسِه. ولو طالبَ المُشْتَرِي البائِعَ بكَفِيلٍ، لئَلَّا تَظْهَرَ حامِلًا، لم يكُنْ له ذلك؛ لأَنَّه تَرَكَ التَّحَفُّظَ لنَفْسِه حال العَقْدِ، فلم يَكُنْ له كَفِيلٌ, لو طالبَ كَفِيلًا بالثَّمَنِ المُؤجَّلِ. 1667 - مسألة: (ويَثْبُتُ الخيارُ للخُلْفِ في الصِّفَةِ، وتَغَيُّرِ ما تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُه. وقد ذَكَرْنَاهُ) في الفَصْلِ السادِسِ (¬2)، مِن كتابِ البَيعِ بما يُغْنِى عن إعادَتِه. ¬

(¬1) في ق: «فيه». (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 94.

فصْلٌ: وَمَنِ اشْتَرَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، لَمْ يَجُزْ بَيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَه. وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، إلا أنْ يُتْلِفَهُ آدَمِيٌّ، فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَينَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَبَينَ إِمْضَائِهِ وَمُطَالبَةِ مُتْلِفِهِ ببَدَلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (ومَن اشْتَرَى مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، لم يَجُزْ بَيعُهُ حتى يَقْبِضَه. وإن تَلِفَ قبلَ قَبْضِه، فهو مِن مالِ البائِعِ، إلَّا أنْ يُتْلِفَه آدَمِي، فيُخَيَّرُ المُشْتَرِي بينَ فَسْخِ العَقْدِ، وإمْضَائِه ومُطَالبَةِ مُتْلِفِه ببَدَلِه) وعنه، في الصُّبْرَةِ المُتَعَيِّنَةِ أنّه يَجُوزُ بَيعُها قبلَ قَبْضِها، وإن تَلِفَتْ، فهي مِن ضَمانِ المُشْتَرِي. ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ المَكِيلَ والمَوْزُونَ لا يَدْخُلُ في ضمانِ المُشْتَرِي إلَّا بقَبْضِه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ وكذلك قال في المَعْدُودِ، سواءٌ كان مُتَعَيِّنًا كالصُّبْرَةِ، أو غيرَ مُتَعَيِّن كقَفِيزٍ منها. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. ونحوُه قولُ إسحاقَ. ورُوِيَ عن عثمانَ بنِ عَفّانَ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحَسَنِ، والحَكَمِ، وحَمّادِ بنِ أَبِي سُلَيمانَ، أنَّ كُلَّ ما بِيعَ على الكَيلِ والوَزْنِ لا يَجُوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه، وما ليس بمَكِيلٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا مَوْزُونٍ يجوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه. وقال القاضِي وأصحابُه: المرادُ بالمَكِيلِ والمَوْزُونِ والمَعْدُودِ، ما ليس بمُتَعَيِّن، كالقَفِيزِ مِن صُبْرَةٍ، والرَّطْلِ من زُبْرَةٍ (¬1)، فأمّا المُتَعَيِّنُ فيَدْخُلُ في ضَمانِ المُشْتَرِي، كالصُّبْرَةِ يَبِيعُها مِن غيرِ تَسْمِيَةِ كَيلٍ. وقد نُقِلَ عن أحمدَ نحوُ ذلك، فإنَّه قال في رِوَايَةِ أبي الحارِثِ، في رَجُلٍ اشْتَرَى طَعامًا، فطَلَبَ مَن يَحْمِلُه، فرَجَعَ وقد احْتَرَقَ: فهو من مالِ المُشْتَرِي. وذكَرَ الجُوزْجَانِيُّ عنه في مَن اشْتَرَى ما في السَّفِينَةِ صُبْرَةً، ولم يُسَمِّ كَيلًا: فلا بَأْسَ أنْ يَشْتَرِكَ فيها، ويَبِيعَ ما شاءَ، إلَّا أنْ يكونَ بينهما كَيلٌ، فلا يُوَلِّي حتى يُكَال عليه. ونحوَ هذا قال مالِكٌ، فإنّه قال فيما بِيِعَ من الطّعامَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً: لم يَجُزْ بَيعُه قبلَ قَبْضِه. وما بِيعَ مُجَازَفَةَ، أو بِيعَ من غيرِ الطّعامِ مُكَايَلَةً أو مُوازَنَةً: جازَ بَيعُه قبلَ قَبْضِه. وَوَجْهُ ذلك، ما رَوَى الأَوْزَاعِيُّ، عن الزُّهْرِيِّ، عن حَمْزَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، أنّه سَمِعَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ يقولُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أنَّ ما أدْرَكَته الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فهو مِن مالِ ¬

(¬1) في م: «زبدة». والزبرة: القطعة الضخمة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُبْتَاعِ. رَواهُ البُخارِيُّ (¬1) عن ابنِ عمرَ، مِن قولِه، تَعْلِيقًا. وقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ. يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّ المَبِيعَ المُعَيَّنَ لا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فكانَ مِن مالِ المُشْتَرِي، كغيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ. ونُقِلَ عن أحمدَ، أنَّ المَطْعُومَ لا يَجُوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه، سواءٌ كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، أو لم يَكُنْ. فعَلَى هذا، يَخْتَصُّ ذلك بالمَطْعُومِ في أنَّه لا يَدْخُلُ في ضَمانِ المُشْتَرِي إلَّا بقَبْضِه، فإنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى عن أحمدَ أنَّه أرْخَصَ في بَيعِ ما لا يُكَالُ ولا يُوزَنُ ممّا لا يُؤْكَلُ ولا يُشْرَب قبلَ قَبْضِه. وقال الأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أبا عَبدِ اللهِ عن قَوْلِه: نَهَى عن رِبْح ما لم يُضْمَنْ (¬2). قال: هذا في الطّعَامِ وما أَشْبَهَه مِن مَأْكُولٍ أو مَشْرُوبٍ، فلا يَبيعُه حتى يَقْبِضَه. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3): الأَصَحُّ عنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أنَّ الذي يُمْنَعُ مِن بَيعِه قبلَ قَبْضِه هو الطّعامُ. وذلك لأنَّ ¬

(¬1) في: باب إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 90. ووصله الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 54. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬3) انظر الاستذكار 20/ 153, 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الطّعامِ قبلَ قَبْضِه (¬1). فمَفْهُومُه إباحَةُ بَيعِ ما سِواهُ قبلَ قَبْضِه. ورَوَى ابنُ عمرَ، قال: رَأَيتُ الذين يَشْتَرُونَ الطّعامَ مُجازَفَةً يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبِيعُوه حتى يُؤْوُوهُ إلى رِحالِهم. وهذا نَصٌّ في بَيعِ المُعَيَّنِ. وعُمُومُ قولِه عليه السّلامُ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فلا يَبِيعُه حتى يَسْتَوْفِيَه». مُتَّفَق عليهما (¬2). ولمُسْلِمٍ (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، وباب بيع الطعام قبل أن يقبض. . . .، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 89، 90. ومسلم، في: باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1160. وأبو داود، في: باب. في بيع الطعام قبل أن يستوفي، من كتاب الإِجارة. سنن أبي داود 2/ 252. والنسائي، في: باب بيع الطعام قبل أن يستوفي، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 251، 252. والإِمام مالك، في: باب بيع العينة وما يشبهها، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 640. (¬2) الأول تقدم تخريجه في صفحة 142. والثاني أخرجه البخاري، في: باب الكيل على البائع والمعطى، وباب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، وباب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 88 - 90. ومسلم، في: باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1159, 1162. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 251، 252. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية بيع الطعام حتى يستوفيه، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 291. والنسائي، في: باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 251، 252. وابن ماجه، في: باب النهي عن بيع الطعام قبل ما لم يقبض، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 749. والإِمام مالك، في: باب العينة وما يشبهها، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 640. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 22, 59, 64, 73, 79, 108, 111, 3/ 392, 402, 403. (¬3) تقدم تخريجه في المتفق عليه في صفحة 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابنِ عمرَ، قال: كُنّا نَشْتَرِى الطَّعامَ مِن الرُّكْبانِ جُزَافًا، فَنَهانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نَبِيعَه حتى نَنْقُلَه مِن مكانِه. وقال ابن المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ مَن اشْتَرَى طَعامًا فليس له أنْ يَبِيعَه حتى يَسْتَوْفِيَه، ولو دَخَلَ في ضَمانِ المُشْتَرِي، جازَ له (¬1) بَيعُه والتَّصَرُّفُ فيه, كما بعدَ قَبْضِه. وهذا يَدُلُّ على تَعْمِيمِ المَنْعِ في كلِّ طَعَامٍ، مع تَنْصِيصِه على البَيعِ مُجازَفَةً بالمَنْعِ، وهو خِلافُ قَوْلِ القاضِي وأَصْحابِه، ويَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنّ ما عَدا الطّعامَ يُخالِفُه في ذلك. فصل: وكلُّ ما لا يَدْخل في ضَمانِ المُشْتَرِي إلَّا بقَبْضِه، لا يَجُوز له بَيعُه حتى يَقْبضَه. وقد ذَكَرْنا ذلك، وذَكَرْنا الذي يَحْتَاج إلى قَبْضٍ، والخِلافَ فيه، لِما ذَكَرْنا مِن الأَحادِيثِ. ولأَنَّه مِن ضَمانِ بائِعِه، فلم يَجُزْ بَيعُه، كالسَّلَمِ، ولم نَعْلَمْ بينَ أهْلِ العِلْمِ في ذلك خِلافًا، إلَّا ما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكِيَ عن البَتِّيِّ أنَّه قال (¬1): لا بَأْسَ بِبَيعِ كُلِّ شيءٍ قبلَ قَبْضِه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): وهذا قوْلٌ مَرْدُودٌ بالسُّنَّةِ والحُجَّةِ المُجْمِعَةِ على الطّعامِ، وأَظُنُّه لم يَبْلُغْه الحَدِيثُ، ومثلُ هذا لا يُلْتَفَتُ إليه. فصل: والمَبِيعُ بصِفَةٍ، أو برُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، مِن ضمانِ البائِعِ حتىِ يَقْبِضَه المُبْتَاعُ، فعلى هذا، لا يَجُوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه؛ لأَنَّه يَتَعَلَّقُ به حَقُّ توْفِيَةٍ، فجَرَى مَجْرَى المَكِيلِ والمَوْزُونِ. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) انظر الاستذكار 20/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما يَحْتَاجُ إلى القَبْضِ إذا تَلِفَ قبلَ قَبْضِه، فهو مِن ضَمانِ البائِعِ. فإنْ تَلِفَ بآفَةٍ سَماويَّةٍ، بَطَلَ العَقْدُ، ورَجَعَ المُشْتَري بالثمَنِ وإن تَلِفَ (¬1) بفِعْلِ المُشتَرِي، اسْتَقَرَّ عليه الثمَنُ، وكان كالقبْضِ؛ لأَنَّه تَصَرَّفَ فيه. وإن أَتْلَفَه أجْنَبِيٌّ، لم يَبْطُلِ العَقْدُ، على قِياسِ قَوْلِه في الجائِحَةِ، ويَثْبُتُ للمُشْتَرِي الخِيَارُ بينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ بالثَّمَنِ؛ لأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ في يَدِ البائِعِ، فهو كحُدُوثِ العَيبِ في يَدِه، وبين البَقاءِ على العَقْدِ ومُطَالبَةِ المُتْلِفِ بالمِثْلِ إنْ كان مِثْلِيًّا، وبالقِيمَةِ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا. ¬

(¬1) في الأصل، م: «بان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الشّافِعِيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وإنْ أَتْلَفَه البائِعُ، فقال أَصْحَابُنا: الحُكْمُ فيهكما لو أَتْلَفَه أَجْنَبِيٌّ. وقال الشّافِعِيُّ: يَنْفَسِخ العَقْدُ، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي بالثَّمَنِ لا غيرُ؛ لأَنَّه تَلَفٌ يضْمَنُه به البائِعُ، أَشْبَهَ تَلَفَه بفِعْلِ الله تِعالى. وفَرَّقَ أَصْحَابُنا بينهما؛ لكَوْنِه إِذا تَلِفَ بفِعْلِ الله تِعالى، لم يُوجَدْ مُقْتضٍ للضَّمَانِ سِوَى حُكْمِ العَقْدِ، بخِلافِ ما إذا أتْلَفَه، فإنَّ إتْلَافَه يَقْتَضِي الضّمانَ بالمِثْلِ، وحُكْمَ العَقْدِ يَقْتَضِي الضّمانَ بالثَّمَنِ، فكانتِ الخِيَرَةُ إلى المُشْتَرِي في التَّضْمِينِ بأيِّهما شاءَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ تَعَيَّبَ في يَدِ البائِعِ، أو تَلِفَ بَعْضُه بأمْرٍ سَماويٍّ، فالمُشْتَرى مُخيَّرٌ بينَ أَخْذِه ناقِصًا ولا شيءَ له، وبينَ فَسْخِ العَقْدِ والرُّجُوعِ بالثَّمَنِ؛ لأَنَّه إنْ رَضِيَه مَعِيبًا، فكَأَنَّه اشْتَرَى مَعِيبًا عالِمًا بعَيبِه، لا يَسْتَحِقُّ شيئًا مِن أَجْلِ العَيبِ. وإنْ فَسَخَ العَقْدَ، لم يكُنْ له أكْثَرُ مِن الثَّمَنِ؛ لأَنَّه لو تَلِفَ المَبِيعُ كُلُّه، لم يَكُنْ له أكْثَرُ مِن الثَّمَنِ، فإذا تَعَيَّبَ أو تَلِفَ بَعْضُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [كان أوْلَى. وإن تَعَيَّبَ بفِعْلِ المُشْتَرِي، أو تَلِفَ بعضُه] (¬1)، لم يَكُنْ له الفَسْخُ لذلك؛ لأَنَّه أَتْلَفَ مِلْكَه، فلم يَرْجِعْ علِى غيرِه. وإن كانَ بِفِعْل البائِعِ، فقِيَاسُ قَوْلِ أصْحَابِنَا، أنَّ المُشْتَرِيَ مُخيَّرٌ بينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ بالثَّمَنِ، وبينَ أخْذِهِ والرُّجُوعِ على البائِعِ بِعِوَضِ ما أتْلَفَ أو عَيَّبَ. وقياسُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ، أنّه بمَنْزِلَةِ ما لو تَلِفَ بفِعْل اللهِ تَعالى. وإنْ كان بفِعْلِ أجْنَبِيٍّ، فله الفَسْخُ والمُطَالبَةُ بالثَّمَنِ، وَأَخْذُ المَبِيعِ ومُطَالبَةُ الأَجْنَبِيِّ بِعِوَضِ ما أَتْلَفَ. فصل: ولو باعَ شاةً بشَعِيرٍ، فأَكَلَتْه قبلَ قَبْضِه، فإنْ كانت في يَدِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي، فهو كما لو أَتْلَفَه، وإن كانَتْ في يَدِ البائِعِ، فهو كإتْلَافِه، وكذلك إنْ كانت في يَدِ أجْنَبِيٍّ، فهو كإتْلَافِه. وإن لم تَكُنْ في يَدِ أحَدٍ، انْفَسَخَ البَيعُ؛ لأَنَّ المَبِيعَ هَلَكَ قبلَ قَبْضِه بأمْرٍ لا يُنْسَبُ إلى آدَمِيٍّ، فهو كتَلَفِه بفِعْلِ اللهِ تَعالى. فصل: ولو اشْتَرَى شاةً أو عَبْدًا أو شِقْصًا بطعامٍ، فَقَبَضَ الشّاةَ أو العَبْدَ وباعَهُما، أو أُخِذَ الشِّقْصُ بالشُّفْعَةِ، ثم تَلِفَ الطّعامُ قبلَ قَبْضِه، انْفَسَخَ الأَوَّلُ دونَ الثانِي، ولا يَبْطُلُ الأَخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأَنَّه كَمَلَ قَبْلَ فَسْخِ العَقْدِ، ويَرْجِعُ مُشْتَرِى الطّعامِ على مُشْتَرِى الشّاةِ أو العَبْدٍ أو الشِّقْصِ بقِيمةِ ذلك؛ لتَعَذُّرِ رَدِّه، وعلى الشَّفِيعِ مثلُ الطّعامِ؛ لأَنَّه عِوَضُ الشِّقْصِ.

1668 - مسألة: (وعنه، في الصبرة المتعينة، أنه يجوز بيعها قبل قبضها، وإن تلفت فهي من ضمان المشتري)

وَعَنْهُ، في الصُّبْرَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ، فَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي. وَمَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَإِنْ تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ مَاكِ الْمُشْتَرِي. وذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أنَّهُ كَالْمَكِيلِ والْمَوزُونِ في ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1668 - مسألة: (وعنه، في الصُّبْرَةِ المُتَعَيِّنَةِ، أنّه يَجُوزُ بَيعُها قبلَ قَبْضِها، وإنْ تَلِفَتْ فهي مِن ضَمانِ المُشْتَرِي) نَقَلَها عنه أبو الحارِثِ والجُوزْجَانِيُّ. واخْتَارَهُ القاضِي وأَصْحابُه. ونحوُه قولُ مالِكٍ؛ لقَوْلِ ابنِ عمرَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أنّ ما أَدْرَكَتْه الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فهو من مالِ المبْتاعِ (¬1). وقد ذَكَرْنا ذلك. 1669 - مسألة: (وما عَدَا المَكِيلَ والمَوْزُونَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، وإن تَلِفَ، فهو مِن مالِ المُشْتَرِي. وحَكَى أبو الخَطّابِ رِوَايَةً أُخْرَى، أنّه كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ في ذلك) كُلِّه، ما عدا المَكِيلَ والمَوْزُونَ والمَعْدُودَ والمَطْعُومَ، على ما ذَكَرْنا فيه من الخِلافِ، يَجُوز التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، في أَظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ. ويُرْوَى مثلُ هذا عن عثمانَ بنِ عَفّانَ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحَكَمِ، وحَمّادٍ، والأَوْزَاعِيِّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 495.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسحاقَ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، لا يَجُوزُ بَيعُ شيءٍ قبلَ القَبْضِ. اخْتارَها ابنُ عَقِيلٍ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عَبّاسٍ. وهو قولُ أبي حَنِيفةَ، والشّافِعِيِّ، إلَّا أنّ أبا حَنِيفَةَ اخْتَارَ بَيعَ العَقارِ قَبْلَ قَبْضِه. وإذا قُلْنَا بجوازِ التَّصَرُّفِ فيه، فَتَلِفَ، فهو مِن ضَمانِ المُشْتَري. وقال أبو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَبِيعٍ قبلَ قَبْضِه مِن ضمانِ البائِعِ، إلَّا العَقارَ. وقال الشافِعِيُّ: هو مِن ضَمانِ البائِعِ في الجَمِيعِ. وحَكَى أبو الخّطاب عن أحمدَ مثلَ ذلك، واحْتَجُّوا بنَهْي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -[عَنْ بَيعِ] (¬1) الطعامِ قبلَ قَبْضِه (¬2). وبما رُوِيَ عن ابنِ عَبّاس، أنّه قال: أرَى كُلَّ شَئٍ بمَنْزِلَةِ الطّعامِ. وبما رَوَى أبو داودَ (¬3)، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ تُباعَ السِّلَعُ حيث تُبْتَاعُ حتى يَحُوزَها التُّجَّارُ إلى رِحالِهم. وروَى ابنُ ماجه (¬4) أنَّ النَّبِيَّ ¬

(¬1) في م: «أن يباع». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 496. (¬3) في: باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 253. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 191. (¬4) في: باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام. . . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 740. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن شِراءِ الصَّدَقاتِ حيث تُقْبَضُ. ورُوِيَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا بَعَثَ عَتَّابَ بنَ أُسَيدٍ إلى مَكّةَ قال: «انْهَهُمْ عَنْ بَيعِ ما لم يَقْبِضُوا، وعن رِبْحِ ما لم يَضْمَنُوا» (¬1). ولأَنَّه لم يَتِمَّ المِلكُ عليه، فلم يَجُزْ بَيعُه، كغَيرِ المُتَعَيِّنِ، أو كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ. ولَنا على جَوازِ بَيعِه قبلَ قَبْضِه، ما رَوَى ابنُ عمرَ، قال: كُنَّا نَبِيعُ الإِبِلَ بالبَقِيعِ بالدّرَاهِمِ فَنَأْخُذُ بَدَلَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ، ونَبِيعُها بالدَّنَانِيرِ فنَأْخُذُ بَدَلَها الدَّرَاهِمَ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «لا بَأْسَ إذا تَفَرَّقْتُما وليس بَينَكُما شيءٌ» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب النهي عن بيع ما لم يقبض وإن كان طعامًا، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 313. وانظر: تلخيص الحبير 3/ 25. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في اقتضاء الذهب من الورق، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 224. والترمذي، في: باب ما جاء في الصرف، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 251. والنسائي، في: باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة، وباب أخذ الورق من الذهب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 248، 249. وابن ماجه، في: باب اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 760. والدارمي، في: باب الرخصة في اقتضاء الورق من الذهب، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 259. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 33، 83، 84، 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ قبلَ قَبْضِه، وهو أحَدُ العِوَضَينِ. ورَوَى ابنُ عمرَ أنّه كان على بَكْرٍ صَعْبٍ، يَعْنِي لعمرَ، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بِعْنِيهِ». فقال: هو لَكَ يا رَسُولَ اللهِ. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هو لَكَ يا عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ ما شِئْتَ» (¬1). وهذا ظاهِرٌ في التَّصَرُّفِ في المَبِيعِ بالهِبَةِ قبلَ قبْضِه. واشْتَرَى مِن جابِرٍ جَمَلًا، ونَقَدَه ثَمَنَه، ثمّ وَهَبَه إيّاهُ قبلَ قَبْضِه (¬2). ولأَنَّه أحَدُ نوْعَي المَعْقُودِ عليه، فجازَ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، كالمنافِعِ في الإِجَارَةِ، يجوزُ له إجارَةُ العَينِ المُسْتَأْجَرَةِ قبلَ قَبْضِ المنافِعِ، ولأنَّه مَبِيعٌ لا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فصَحَّ بَيعُه، كالمالِ في يَدِ المودِعِ والمُضارِب. ولَنا، على أنَّه إذا تَلِفَ فهو مِن ضَمانِ المُشْتَرِي، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الخَرَاجُ بالضَّمَانِ» (¬3). وهذا المَبِيعُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 313. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نماؤه للمُشْتَرِي، فضَمانُه عليه. وقولُ ابنِ عمرَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أنّ ما أدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فهو من مالِ المُبْتَاعِ. وأمّا أحادِيثُهم، فقد قيلَ: لم يَصِحَّ منها إلَّا حَدِيثُ الطَّعامِ. وهو حُجَّةٌ لنا بمَفْهُومِه، فإنَّ تَخْصِيصَ الطّعامِ بالنَّهْي عن بَيعِه قبلَ قَبْضِه، يَدُلُّ على جَوازِه فيما سِواهُ. وقَوْلُهم: لم يَتِمَّ المِلْكُ عليه. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ السَّبَبَ المُقْتَضِىَ للمِلْكِ مُتَحَقِّقٌ، وأكثَرُ ما فيه تَخَلُّفُ القَبْضِ، واليَدُ ليست شَرْطًا في صِحَّةِ البَيعِ، بدَلِيلِ جَوازِ بَيعِ المالِ المُودَعِ والمَوْرُوثِ، والتَّصَرُّفِ في الصَّدَاقِ وعِوَضِ الخُلْعِ عند أبي حَنِيفَةَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما لا يَجُوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه، لا يَجُوزُ بَيعُه لبائِعِه؛ لعُمُومِ الخَبَرِ فيه. قال القاضِي: ولو ابْتَاعَ شيئًا ممّا يَحْتاجُ إلى قَبْضٍ، فلَقِيَه بِبَلَدٍ آخَرَ، لم يكُنْ له أخْذُ بَدَلِه إنْ تَرَاضَيَا؛ لأنَّه مَبِيعٌ لم يُقْبَضْ. فإنْ كان ممّا لا يَحْتَاجُ إلى قَبْض، جازَ أخْذُ البَدَلِ عنه، إلَّا أنْ يكونَ سَلَمًا؛ لأنَّه لا يَجُوزُ بيعُ السَّلَمِ قبلَ قَبْضِه. فصل: وكلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بهَلاكِه قبلَ القَبْضِ، لا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، كالذي ذَكَرْنا. والأجْرَةُ وبَدَلُ الصُّلْحِ، إذا كانَا من المَكِيلِ أو المَوْزُونِ أو المَعْدُودِ، وما لا يَنْفَسِخُ العَقْدُ بهَلَاكِه، يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ القَبْضِ، كعِوَضِ الخُلْعِ، والعِتْقِ على مالٍ، وبَدَلِ الصُّلْحِ عن دَمِ العَمْدِ، وأرشِ الجِنَايَةِ، وقِيمَةِ المُتْلَفِ؛ لأنَّ المُقْتَضِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للتَّصَرُّفِ المِلْكُ، وقد وُجِدَ. لكنْ ما يُتَوَهَّمُ فيه غرَرُ الانْفِسَاخِ بهَلاكِ المَعْقُودِ عليه، لم يَجُزْ بناءُ عَقْدٍ آخَرَ عليه؛ تَحَرُّزًا مِن الغَرَرِ، وما لا يُتَوَهَّمُ فيه ذلك الغَرَرُ، انْتَفَى المانِعُ، فجازَ العَقْدُ عليه. وهذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ. والمَهْرُ كذلك عند القاضِي. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ العَقْدَ لا يَنْفَسِخُ بهَلَاكِه. وقال الشّافِعِيُّ: لا يِجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه. ووَافَقَه أبو الخَطّابِ في غيرِ المُتَعَيِّنِ؛ لأنه يَخْشَى رُجُوعَه بانْتِقاضِ سَبَبِه بالرِّدَّةِ قبلَ الدّخُولِ، أو انْفِساخَه بسَبَبٍ من جِهَةِ المَرْأةِ، أو نِصْفَهُ (¬1) بالطَّلاقِ، أو انْفِسَاخَه بسَبَبِ من غيرِ جِهَتِها. وكذلك قال الشّافِعِيُّ في عِوَضِ الخُلْعِ. وهذا التَّعْلِيل باطِلٌ بما بعدَ القَبْضِ؛ فإنَّ قَبْضَه لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فيه قبلَ الدُّخُولِ. فأمّا ما مُلِكَ بإرْثٍ أو وَصِيَّةٍ أو غَنِيمَةٍ، وتَعَيَّنَ مِلْكُه فيه، فإنَّه يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه بالبَيعِ وغَيرِه قبلَ قَبْضِه؛ لأنه غيرُ مَضْمُونٍ بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فهو كالمَبِيعِ المَقْبُوضِ. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. وإن كان لإنْسَانٍ في يدِ غيره وَدِيعَةٌ أو عارِيَةٌ أو مُضارَبَة، أو جَعَلَه وَكِيلًا فيه، جازَ له بَيعُه ممَّنْ هو في يَدِه ومِن غيرِه؛ ¬

(¬1) في م: «بصفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه عَينُ مالٍ مَقْدُورٌ على تَسْلِيمِها، لا يُخْشَى انْفِساخُ المِلْكِ فيها، فهي كالتي في يَدِه. فإن كان غَصْبًا، فقد ذَكَرْنا حُكْمَه. فصل: فإنِ اشْتَرَى اثْنانِ طَعامًا فقَبَضَاهُ، ثمّ باعَ أحَدُهما الآخَرَ نَصِيبَه قبلَ أنْ يَقْتَسِماه، احْتَمَلَ أنْ لا يَجُوزَ. وكَرِهَهُ الحَسَنُ، وابنُ سِيرِينَ فيما يُكالُ أو يُوزَنُ؛ لأنه لم يَقْبضْ نَصِيبَه مُنْفَرِدًا، فأشْبَهَ غيرَ المَقْبُوضِ. ويَحْتَمِل الجوازَ؛ لأنه مَقبُوضٌ لهما، يَجُوزُ بَيعُه لأجْنَبِي، فجازَ بَيعُه لشَرِيكِه، كسائِرِ الأمْوالِ. فإنْ تَقَاسَمَاه وتَفَرَّقَا، ثمّ باعَ أحَدُهما نَصِيبَه بذلك الكَيلِ الذي كالهُ لَه، لم يَجُزْ، كما لو اشْتَرَى مِنِ رَجُلٍ طَعامًا، فاكْتَاله وتَفَرَّقَا، ثمّ باعَهُ إيّاهُ بذلك الكَيلِ. وإنْ لِم يَتَفرَّقَا، خُرِّجَ على الرِّوَايَتَينِ اللَّتَينِ ذَكَرْنَاهُما. فصل: وكُلُّ ما لَا يَجُوزُ بَيعُه قبلَ قَبْضِه، لا تَجُوزُ فيه الشرِكَةُ ولا التَّوْلِيَةُ، ولا الحَوالةُ به. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وقال مالِكٌ:

1670 - مسألة: (ويحصل القبض فيما بيع بالكيل والوزن،

وَيَحْصُلُ الْقَبْضُ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيلِ وَالْوَزْنِ، بِكَيلهِ وَوَزْنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ هذا كُلّه في الطّعامِ قبلَ قَبْضِه؛ لأنَّها تَخْتَصُّ بمثلِ الثَّمَنِ الأوَّلِ، فجازَتْ قبلَ القَبْضِ، كالإقَالةِ. ولَنا، أنَّ التَّوْلِيَةَ والشَّرِكَةَ من أنْواعِ البَيعِ، فإنَّ الشَّرِكَةَ بَيعُ بَعْضِه بقِسْطِه من ثَمَنِه، والتَّوْلِيَةَ بَيعُ جَمِيعِه بمثلِ ثَمَنِه. فَيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّهْي عن بَيعِ الطّعامِ قبلَ قَبْضِه. ولأنه تَمْلِيكٌ لغيرِ مَنْ هو في ذِمَّتِه، فأشْبَهَ البَيعَ. وأمّا الإِقَالةُ، فهي فَسْخ للبَيعِ، فأشْبَهَتِ الرَّدَّ بالعَيبِ. وكذلك لا يَصِحُّ هِبَتُه ولا رَهْنُه ولا دَفْعُهِ أُجْرَة وما أشْبَهَ ذلك من (¬1) التَّصَرُّفاتِ المُفْتَقِرةِ (¬2) إلى القَبْضِ، لأنه غيرُ مَقْبُوضٍ، فلا سَبِيلَ إلى إقْبَاضِه. 1670 - مسألة: (ويَحْصُلُ القَبْضُ فيما بِيعَ بالكَيلِ والوَزْنِ، ¬

(¬1) في م: «ولا». (¬2) في م: «المنعقدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكَيلِه وَوَزْنِه) وبهذا قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: التَّخْلِيَةُ في ذلك قَبْضٌ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القَبْضَ في كُلِّ شيءٍ بالتخْلِيَةِ مع التَّمْيِيزِ، لأنه خلَّى بَينَه وبينَ المَبِيعِ من غيرِ حائِلٍ، فكان قَبْضًا له، كالعَقَارِ. ولَنا، ما رَوَى عثمانُ بنُ عَفانَ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا بِعْتَ فكِلْ، وإذا ابْتَعْتَ فاكْتَلْ» رَواه البُخَارِيُّ (¬1). ورَوَى أَبو هُرَيرَةَ أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «منِ اشْتَرَى طَعَامًا، فلا يَبِيعُه حَتَّى يَكْتَالهُ». رَواهُ مُسْلِم (¬2). وعن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهَى عن بَيعِ الطّعَامِ حتى يَجْرِيَ فيه الصّاعَان، صاعُ البائِعِ وصَاعُ المُشْتَرِي. رَواهُ ابنُ ماجَه (¬3). وهذا فيما بِيعَ كَيلًا. ¬

(¬1) أي تعليقا، في: باب الكيل على البائع والمعطى، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 88. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 75. (¬2) في: باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1162. (¬3) في: باب النهي عن بيع الطعام قبل ما لم يقبض، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 750.

1671 - مسألة: (وفي الصبرة وما ينقل، بالنقل)

وَفِي الصُّبْرةِ وَفِيمَا يُنْقَلُ، بِالنَّقْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1671 - مسألة: (وفي الصُّبرَةِ وما يُنْقَلُ، بالنَّقْلِ) لأنَّ ابنَ عمرَ قال: كانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا اشْتَرَوُا الطَّعَامَ جُزَافًا أنْ لا يَبِيعُوه في مكانِه حتى يُحَوِّلُوه. وفي لَفْظٍ: كُنّا نَبْتَاعُ الطّعامَ جُزَافًا، فَيَبْعَثُ عَلَينا مَن يَأمُرُنا بانْتِقالِه من مكانِه الذي ابْتَعْناه إلى مكانٍ سِواهُ قبلَ أنْ نَبيعَه. وفي لَفْظٍ: كُنَّا نَشْتَرِي الطّعامَ من الرُّكْبانِ جُزَافًا، فنَهانَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نَبِيعَه حتى نَنْقُلَه. روَاهُنَّ مُسْلِمٌ (¬1). وهذا يُبَيِّنُ أنَّ الكَيلَ إنّما ¬

(¬1) تقدم تخريج هذه الروايات في صفحة 142.

1672 - مسألة: (وفيما يتناول، بالتناول، وفيما عدا ذلك، بالتخلية. وعنه، أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز)

وَفِيمَا يُتَنَاوَلُ، بِالتَّنَاوُلِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ، بِالتَّخْلِيَةِ. وَعَنْهُ، أنَّ قَبْضَ جَمِيعِ الْأشْيَاءِ بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْيِيزِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَبَ فيما بِيعَ بالكَيلِ، وقد دَلَّ على ذلك أيضًا قولُه عليه الصّلَاةُ والسّلامُ: «إذا سَمَّيتَ الكَيلَ فكِلْ» (¬1). 1672 - مسألة: (وفيما يُتَنَاوَلُ، بالتَّنَاوُلِ، وفيما عَدَا ذلك، بالتَّخْلِيَةِ. وعنه، أنَّ قَبْضَ جميعِ الأشْيَاءِ بالتَّخْلِيَة مع التَّمْيِيزِ) إذا كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعُ دَراهِمَ أو دَنانِيرَ، فَقَبْضُها باليَدِ، وإنْ كان ثِيابًا، فقَبْضُها نَقْلُها، وإنْ كانَ حَيَوانًا، فقَبْضُهُ بمَشْيِه من مكانِه، وإنْ كان ما لا يُنْقَلُ ويُحَوَّلُ، فقَبْضُه التَّخْلِيَةُ بَينَه وبينَ مُشْتَرِيه لا حائِلَ دُونَه. ولأنَّ القَبْضَ مُطْلَقٌ في الشَّرْعِ، فيَجِبُ فيه الرُّجُوعُ إلى العُرْفِ، كالإحْرَازِ والتَّفَرُّقِ. والعادَةُ في قَبْضِ هذه الأشْياءِ ما ذَكَرْنَا. فصل: وأُجْرَةُ الكَيَّالِ والوَزَّانِ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ على البائِعِ؛ لأنَّ عليه تَقْبِيضَ المَبِيعِ للمُشْتَرِي، والقَبْضُ لا يَحْصُلُ إلَّا بذلك، فكان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على البائِع، كما أنّ على بائِعِ الثمَرَةِ سَقْيَها، وكذلك أُجْرَةُ العَدّادِ في المَعْدُودَاتِ. وأمّا نَقْلُ المَنْقُولَاتِ وما أشْبَهَه (¬1) فهو على المُشْتَرِي؛ لأنَّه لا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ تَوْفِيَةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. ¬

(¬1) في ر 1، م: «أشبهها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ القَبْضُ قبلَ نَقْدِ الثّمَنِ وبعدَه، باخْتِيَارِ البائِعِ وبغَيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتِيَارِه؛ لأنه ليس للبائِعِ حَبْسُ المَبِيعِ على قَبْضِ الثَّمَنِ، ولأنَّ التَّسْلِيمَ مِن مُقْتَضَياتِ العَقْدِ، فمتَى وُجِدَ بَعْدَه وَقَعَ مَوْقِعَه، كقَبْضِ الثمَنِ.

1673 - مسألة: (والإقالة فسخ، تجوز في المبيع قبل قبضه، ولا يستحق بها شفعة، ولا تجوز إلا بمثل الثمن. وعنه، أنها بيع، فلا يثبت فيها ذلك إلا بمثل الثمن، في أحد الوجهين)

وَالإقَالةُ فَسْخٌ، تَجُوزُ في الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا شُفْعَة، وَلَا تجُوزُ إلا بِمِثْلِ الثَّمَن. وَعَنْهُ، أنَّهَا بَيعٌ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا ذَلِكَ إلا بِمِثْلِ الثَّمَنِ، فِي أحدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1673 - مسألة: (وَالإقَالةُ فَسْخٌ، تَجُوزُ في الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا شُفْعَةٌ، وَلَا تجُوزُ إلا بِمِثْلِ الثَّمَن. وَعَنْهُ، أنَّهَا بَيعٌ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا ذَلِكَ إلا بِمِثْلِ الثَّمَنِ، فِي أحدِ الْوَجْهَينِ) إقالةُ النادِمِ مُسْتَحَبَّة؛ لِما رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «مَنْ أقال نادِمًا بَيعَتَه، أقالهُ الله عَثْرَتَه يومَ القِيامَةِ». رَواهُ ابنُ ماجَه.، وأبو دَاوُدَ (¬1). ولم يقلْ أبو داوُدَ: «يومَ القِيامَةِ». وهي فَسْخٌ في أصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. اخْتَارَها أبو بكْر. وهي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في فضل الإقالة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 246. وابن ماجه، في. باب الإقالة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 741. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. والثانِيَةُ، هي بَيعٌ. وهي مَذْهَبُ مالِكٍ؛ لأنَّ المَبِيعَ عادَ إلى البائِعِ على الجِهَةِ التي خرَجَ عليها، فكانت بَيعًا، كالأوَّلِ، وكَوْنُها بمثْل الثَّمَنِ لا يَمْنَعُ من كَوْنِها بَيعًا، كالتَّوْلِيَةِ. وحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ، أنها فسْخٌ في حَقِّ المُتَعاقِدَينِ، بَيعٌ في حَقِّ غَيرِهما، فلا تَثْبُتُ أحْكامُ البَيعِ في حَقِّهِما، بل تَجُوزُ في المَبِيعِ قبلَ قَبْضِه، وفي السَّلَمِ، ويَثْبُتُ حُكْمُ البَيعِ في حَقِّ الشَّفِيعِ، فيَجُوزُ له أخْذُ الشِّقْصِ الذي تَقَايَلَا فيه بالشُّفْعَةِ. ولَنا، أنّ الإقالةَ هي الرَّفْعُ والإزَالةُ. يقالُ: أقالكَ اللهُ عَثْرَتَك. أي أزَالها. فكانَتْ فَسْخًا للعَقْدِ الأوَّلِ، بدَلِيلِ جَوازِ. الإقالةِ في السَّلَمِ مع إجْماعِهِم على أنَّه لا يَجُوزُ بَيعُ المُسْلَمِ فيه قبلَ قَبْضِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها مُقَدّرَةٌ بالثمَنِ الأوَّلِ، ولو كانت بَيعًا لم تَتَقَدَّرْ به، ولأنَّه عادَ إليه المَبِيعُ بلَفْظٍ لا يَنْعَقِدُ به البَيعُ، فكان فَسْخًا، كالرَّدِّ بالعَيبِ. ويَدُلُّ على (¬1) أبي حَنِيفَةَ أنَّ (¬2) ما كان فَسْخًا في حَقِّ المُتَعاقِدَينِ، كان فَسْخًا في حَقِّ غَيرِهما، كالرَّدِّ بالعَيبِ، والفَسْخِ بالخِيارِ، ولأنَّ حَقِيقَةَ الفَسْخِ لا تَخْتَلِفُ بالنِّسْبَةِ إلى شَخْصٍ دونَ شَخْصٍ، والأصْلُ اعْتِبارُ الحَقائِقِ. ¬

(¬1) بعده في ر 1: «قول». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنْ قُلْنا: هي فَسْخٌ. جازَتْ قبلَ القَبْضِ وبعدَه. وقال أبو بكْرٍ: لا بدَّ من كَيلٍ ثانٍ، ويقومُ الفَسْخُ مَقامَ البَيعِ في إيجابِ كَيلٍ ثانٍ، كقِيامِ فَسْخ النِّكَاحِ مَقامَ الطَّلاقِ في العِدَّةِ. ولَنا، أنّه فَسْخٌ. للبَيعِ، فجازَ قبلَ القَبْضِ، كالرَّدِّ بالعَيبِ والتَّدْلِيسِ، والفَسْخِ بالخِيارِ أو لاخْتِلَافِ المُتَبايعَينِ. وفارَقَ العِدَّةَ، فإنَّها اعْتُبِرَتْ للاسْتِبْرَاءِ، والحاجَةُ دَاعِيَةٌ إليه في كُلِّ فُرْقَةٍ بعدَ الدُّخُولِ، بخِلافِ مسألتِنا. وإنْ قُلْنا: هي بَيعٌ. لم يَجُزْ قبلَ القَبْضِ، فيما يُعْتَبَرُ فيه القَبْضُ؛ لأنَّ بَيعَه من بائِعِه قبلَ قَبْضِه لا يَجُوزُ، كما لا يَجُوزُ من غيرِه. ولا تُسْتَحَقُّ بها الشُّفْعَةُ إنْ كانت فَسْخًا؛ لأنَّها رَفعٌ للعَقْدِ وإزَالةٌ له، وليست مُعاوَضَةً، فأشْبَهَتْ سائِرَ الفُسُوخِ. ومَنْ حَلَفَ لا يَبيعُ، فأقال، لم يَحْنَثْ. وإن كانت بَيعًا اسْتُحِقَّتْ بها (¬1) الشُّفْعَةُ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَنِثَ الحالِفُ على تَرْكِ البَيعِ بفِعْلِها، كالتَّوْلِيَةِ. والصَّحِيحُ أنّها لا تَجُوزُ إلَّا بمِثْلِ الثَّمَنِ، سواءٌ قُلْنَا: هي فَسْخٌ أو بَيعٌ؛ لأنَّها خُصَّتْ بمِثْلِ الثَّمَنِ، كالتَّوْلِيَةِ. وفيه وَجْه آخَرُ، أنّها تجُوزُ بأكْثَرَ من الثمَنِ الأوَّلِ، وأقَلَّ منه، كسائِرِ البِيَاعَاتِ. فإذا قُلْنا: لا تَجُوزُ إلَّا بمِثْلِ الثَّمَنِ. وأقال بأقَلَّ منه أو أكْثَرَ، لم تَصِحَّ الإقَالةُ، وكان المِلْكُ باقِيًا للمُشْتَرِي. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. وعن أبي حَنِيفَةَ، أنّها تَصِحُّ بالثَّمَنِ الأوَّلِ، ويَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لأنَّ لَفْظَها اقْتَضَى مثلَ الثَّمَنِ، والشَّرْطَ يُنافِيهِ، فبَطَل،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَقِيَ (¬1) الفَسْخُ على مُقْتَضَاهُ، كسائِرِ الفُسُوخِ. ولَنا، أنّه شَرَطَ التَّفَاضُلَ فيما يُعْتَبَرُ فيه التَّماثُلُ، فبَطَل، كبَيعِ دِرْهَمٍ بدِرْهَمَينِ. ولأنَّ القَصْدَ بالإقَالةِ رَدُّ كُلِّ حَقٍّ إلى صاحِبِه، فإذا شَرَط زِيَادَةً أو نَقْصًا، أخْرَجَ العَقْدَ عن مَقْصُودِه، فبَطَل، كما لو باعَهُ بشَرْطِ أنْ لا يُسَلِّمَ إليه. وفارَقَ سائِرَ الفَسْخِ (¬2)؛ لأنَّه لا يُعْتَبَرُ فيه الرِّضَا مِنْهما، بل يَسْتَقِلُّ (¬3) به أحَدُهما، فإذا شُرِطَ عليه شيءٌ، لم يَلْزَمْه؛ لتَمَكُّنِه من ¬

(¬1) في م: «نفى». (¬2) في م: «الفسوخ». (¬3) في م: «يسأل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَسْخِ بدونِه. وإنْ شَرَطَ لنَفسِه شيئًا، لم يَلْزَمْ أْيضًا؛ لأنَّه لا يَسْتَحِقُّ أكثرَ من الفَسْخِ. وفي مسألتِنا لا تَجُوزُ الإقَالةُ إلا برِضاهما، وإنّما رَضِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها أحَدُهما مع الزِّيَادَة أو النَّقْص، فإذا أبْطَلْنَا شَرْطَهُ، فات رِضَاهُ، فتَبْطُلُ الإقالةُ، لعَدَمِ رِضاهُ بها.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب الربا والصرف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الرِّبَا والصَّرْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الرِّبَا والصَّرْفِ الرِّبَا في اللُّغةِ: الزِّيادَةُ. قال الله تَعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (¬1). وقال: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (¬2). أي أكثرُ عَدَدًا. وهو في الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ في أشْياءَ مَخصُوصَةٍ. وهو مُحَرَّمٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ؛ أمّا الكِتَابُ، فقولُ اللهِ تَعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3). وما عَداها من الآياتِ. وأمّا السُّنَّةُ، فقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ». قيل: يا رَسُولَ اللهِ، ما هي؟ قال: «الشِّرْكُ باللهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ الله إلَّا بالحَقِّ، وأكْلُ الرّبَا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، والتَّوَلِّي يومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤمِناتِ الغَافِلَاتِ». ورُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، ¬

(¬1) سورة الحج 5، سورة فصلت 39. (¬2) سورة النحل 92. (¬3) سورة البقرة 275.

1674 - مسألة: (وهو نوعان؛ ربا الفضل، وربا النسيئة)

وَهُوَ نَوْعَانِ؛ رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُوكِلَه، وشَاهِدَيه، وكاتِبَه. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وأجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ. 1674 - مسألة: (وهو نَوْعَانِ؛ رِبَا الفَضْلِ، ورِبَا النَّسِيئَةِ) وأجْمَعَتِ الأمَّةُ على تَحْرِيمِهِما. وقد كان في رِبَا الفَضْلِ اخْتِلَافٌ بينَ الصَّحَابَةِ، فحُكِىَ عن ابنِ عَبَّاس، وأُسَامَةَ بنِ زَيدٍ، وزَيدِ بنِ أرْقَمَ، وابْنِ الزُّبَيرِ، أنَّهم قالُوا: إنَّما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ؛ لقَوْلِه عليه السّلامُ: «لا رِبًا إلَّا في النَّسِيئَةِ». رَواهُ البُخَارِيُّ (¬2). والمَشْهُورُ من ذلك قَوْلُ ابنِ ¬

(¬1) الأول أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، من كتاب الوصايا. وباب الشرك والسحر من الموبقات، من كتاب الطب. وباب رمي المحصنات. . . .، من كتاب الحدود. صحيح البخاري 4/ 12، 7/ 177، 8/ 218. ومسلم، في: باب بيان الكبائر وأكبرها، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 92. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 104. والنسائي، في: باب اجتناب أكل مال اليتيم، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 215، 216. والثاني أخرجه البخاري، في: باب من لعن المصور، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 217. ومسلم، في: باب لعن آكل الربا ومؤكله، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1219. كما أخرجه أبو داود، في: باب في آكل الربا وموكله، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 219. والترمذي، في: باب ما جاء في أكل الربا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 207. والنسائي، في: باب الموتشمات وذكر الاختلاف على عبد الله بن مرة والشعبي في هذا، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 127. وابن ماجه، في: باب التغليظ في الربا، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 764. والدارمي، في: باب في لعن آكل الربا ومؤكله، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 246. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 83، 88, 93, 107, 121, 133, 150, 158, 393, 394, 402, 453. (¬2) في: باب بيع الدينار بالدينار نساء، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 98. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبّاسٍ، ثمّ إنَّه رَجَعَ إلى قَوْلِ الجَماعَةِ. رَوَى ذلك الأثْرَمُ، وقاله التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وابنُ المُنْذِرِ. ورَوَى سَعِيدٌ بإسْنَادِه، عن أبي صَالِحٍ، قال: صَحِبْتُ ابنَ عَبَّاسٍ حتى ماتَ، فواللهِ ما رَجَعَ عن الصَّرْفِ (¬2). وعن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: سَألتُ ابنَ عَبَّاس قبلَ مَوْتِه بعِشْرِينَ لَيلَةً عن الصَّرْفِ، فلم يَرَ به بَأسًا، وكان يَأمُرُ بِهِ (¬3). والصَّحِيحُ قولُ الجُمْهُورِ؛ لما رَوَى أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بمِثْل، ولا تُشِفُّوا (¬4) بَعْضَها على بَعْضٍ، ولا تَبِيعُوا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بمِثْل، ولا تُشِفُّوا بَعْضَها على بَعْض، ولا تَبيعُوا منها غائِبًا بناجِزٍ». وعن أبي سَعِيدٍ قال: جاءَ بِلالٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ (¬5)، فقال له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِن أينَ هذا يا بِلالُ؟» قال: كان عِنْدَنا تَمْرٌ رَدِئٌ، فبِعْتُ صَاعَينِ بصَاعٍ؛ لِيَطْعَمَ ¬

= كما أخرجه مسلم، في: باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1217، 1218. والنسائي، في: باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 247. وابن ماجه، في: باب من قال لا ربا إلا في النسيئة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 758، 759. والدارمي، في: باب لا ربا إلا في النسيئة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 259 والإمام أحمد، في: المسند 5/ 200، 202، 204، 206، 208، 209. (¬1) في: باب ما جاء في الصرف، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 250. (¬2) روى مسلم عن أبي الصهباء، أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه. صحيح مسلم 3/ 1217. وروى البيهقي رجوع ابن عباس عنه. السنن الكبرى 5/ 282. (¬3) أخرج عبد الرزاق نحوه، في: باب الصرف، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 119. (¬4) لا تشفوا: أي لا تفضلوا. والشف: الزيادة. ويطلق أيضًا على النقصان، فهو من الأضداد. (¬5) البرنى: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود التمر، واحدته برنية. لسان العرب (ب ر ن).

1675 - مسألة: (فأما ربا الفضل، فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون وإن كان يسيرا كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين. وعنه، لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم.

فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ، فَيَحْرُمُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِن كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَإنْ كَان يَسِيرًا كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَينِ وَحَبَّةٍ بِحَبتين. وَعَنْهُ، لَا يَحْرُمُ إلا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكُلِّ مَطْعُومٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فقال له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّه، عَينُ الرِّبَا، عَينُ الرِّبَا، لا تَفْعَل، وَلَكِنْ إنْ أردْتَ أنْ تَشْتَرِىَ، فَبعِ التَّمْرَ بِبَيعٍ آخرَ، ثمَّ اشْتَرِ بِه». مُتَّفقٌ عليهما (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: على حَدِيثِ أبي سَعِيدٍ العَمَلُ عندَ أهْلِ العِلْمِ من أصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم، وقولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا رِبًا إلَّا في النّسِيئَةِ». مَحْمُولٌ على الجِنْسَينِ. 1675 - مسألة: (فأمَّا رِبَا الفَضْلِ، فيَحْرُمُ في الجِنْسِ الواحِدِ من كُلِّ مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ وإن كان يَسِيرًا كتَمْرَةٍ بتَمْرَتَينِ وحَبَّةٍ بحَبَتينِ. وعنه، لا يَحْرُمُ إلَّا في الجِنْسِ الوَاحِدِ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ وكُلِّ مَطْعُومٍ. ¬

(¬1) الأول أخرجه البخاري، في: باب بيع الفضة بالفضة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 97. ومسلم، في: باب الربا، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1208، 1209. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الصرف، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 249، 250. والنسائي، في: باب بيع الذهب بالذهب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 244، 245. والإمام مالك، في: باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 632، 633. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 4, 9. والثاني أخرجه البخاري، في: باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدا فبيعه مردود، من كتاب الوكالة. صحيح البخاري 3/ 133. ومسلم، في: باب بيع الطعام مثلا بمثل، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1215. كما أخرجه النسائي، في: باب بيع التمر بالتمر متفاضلا، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 239، 240. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 62.

وَعَنْهُ، لَا يَحْرُمُ إلا فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، لا يَحْرُمُ إلَّا في ذلك إذا كانَ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا) رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الرِّبَا أحَاديثُ كَثِيرَةٌ، مِن أتَمِّها حَدِيثُ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ مِثْلًا بمِثْل، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ مِثْلًا بمِثْل، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلًا بمِثْل، والبُرُّ بالبُرِّ مِثْلًا بمِثْلٍ، والمِلْحُ بالمِلْحِ مِثْلًا بمِثْلٍ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ مِثْلًا بمِثْل، فمَنْ زادَ أو ازْدَادَ فقد أرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بالفضَّةِ كيفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وبِيعُوا الشَّعِيرَ بالتَّمْرِ كيفَ شِئتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وبِيعوا البُرَّ بالتَّمْرِ كيفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ». رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). فهذه الأعْيَانُ السِّتَّةُ المَنْصُوصُ عليها يَثْبُتُ الرِّبَا فيها بالنَّصِّ والإِجْمَاعِ (¬2). واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فيما سِوَاها. فحُكِيَ عن طاوُس، وقَتَادَةَ، أنّهما قَصَرا الرِّبَا عليها. وبه قال دَاودُ ونُفَاةُ القِيَاسِ، وقالُوا: ما عَدَاها على أصْلِ الإِباحَةِ؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} (¬3). واتَّفَقَ القائِلُونَ ¬

(¬1) في: باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1210، 1211. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصرف، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222، 223. والنسائي، في: باب بيع الشعير بالشعير، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 240، 241، 242. وابن ماجه، في: باب الصرف وما لا يجوز متفاضلا يدا بيد، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 757، 758. والدارمي، في: باب في النهي عن الصرف، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 259. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 320. (¬2) تقدم الاختلاف عن ابن عباس في ربا الفضل في صفحة 6، 7. (¬3) سورة البقرة 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقِياسِ على أنَّ الرِّبَا فيها بعِلَّةٍ، وأنَّه يَثْبُتُ في كُلِّ ما وُجِدَت فيه عِلَّتُها؛ لأنَّ القِياسَ دَلِيلٌ شَرْعِيّ، فيَجِبُ اسْتِخْرَاج عِلَّةِ هذا الحُكْمِ وإثْبَاتُه حَيثُ وُجِدَتْ عِلَّتُه. ولأنَّ قولَ الله تِعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ زِيَادَةٍ، إذ الرِّبَا في اللُّغةِ الزِّيادةُ، إلَّا ما أجْمَعْنا على تَخْصِيصِه. وهذا يُعارِضُ ما ذَكَرُوه. ثم اتَّفَقَ أهلُ العلمِ على أنَّ رِبا الفَضْلِ لا يَجْرِى إلَّا في الجِنْسِ الوَاحِدِ، إلَّا سَعِيدَ بنَ جُبَير، فإنّه قال: كُلُّ شَيئَينِ يَتَقَارَبُ الانْتِفَاعُ بهما لا يَجُوزُ بَيعُ أحَدِهما بالآخَرِ مُتَفَاضِلًا، كالحِنْطَةِ والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ والزَّبيبِ، والذُّرَةِ والدُّخْنِ؛ [لأنَّهما يَتَقَارَبُ نَفْعُهُما، فجَرَيا] (¬1) مَجْرَى نوْعَىِ الجِنْسِ. وهذا مُخَالِفٌ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «بيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ كيفَ شِئْتُم يَدًا بِيَدٍ، وبيعُوا التَّمْرَ بالبُرِّ كيفَ شِئْتُم». فلا يُعَوَّلُ عليه. واتَّفَقَ المُعَلِّلُونَ على أنَّ عِلَّةَ الذَّهَب والفِضَّةِ واحِدَةٌ، وعِلَّةَ الأعْيَانِ الأرْبَعَةِ واحِدَةٌ، ثمَّ اخْتَلَفُوا في عِلَّةِ كُلِّ واحِدٍ منهما، فرُويَ عن أحمدَ في ذلك ثلاثُ رِوَايَاتٍ، أشْهَرُهُنَّ أنَّ عِلَّةَ الرِّبَا في الذَّهَبِ والفِضَّةِ كَوْنُه مَوْزُونَ جِنْس، وعِلَّةَ الأعْيَانِ الأرْبَعَةِ كَوْنُه مَكِيلَ جِنْسٍ. نَقَلَها عن أحمدَ الجماعَةُ، وذَكَرَها الخِرَقِيُّ، وابنُ أبي مُوسَى، وأكثَرُ الأصْحَابِ. وبه قال النَّخَعِيّ، والزُّهْرِيّ، ¬

(¬1) في م: «لأنها يتقارب نفعها فجرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ، وأَصْحابُ الرَّأي. فعلى هذه الرِّوَايَةِ، يَجْرِي الرِّبَا في كُلِّ مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ بجِنْسِه، مَطْعُومًا كان أو غيرَ مَطْعُومٍ، كالحُبُوبِ، والأُشْنَانِ، والنُّورَةِ، والقُطْنِ، والصُّوفِ، والكَتَّانِ، والحِنَّاءِ، والحَدِيدِ، والنُّحاسِ، ونحو ذلك. ولا يَجْرِي في مَطْعُومٍ لا يُكَالُ ولا يُوزَنُ، كالمَعْدُودَاتِ؛ لِما رَوَى ابنُ عمرَ، قال: قال رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بالدِّينَارَينِ، ولا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَينِ، ولا الصّاع بالصَّاعَينِ، فإنِّي أَخافُ عليكم الرَّمَاءَ». وهو الرِّبَا. فَقامَ إليه رَجُلٌ، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ الفَرَسَ بالأَفْرَاس، والنَّجِيبَةَ بالإِبِلِ؟ فقال: «لا بَأسَ إذا كان يَدًا بِيَدٍ». رَواهُ أحمدُ في المُسْنَدِ (¬1) عن [أبي جَنَابٍ] (¬2)، عن أبِيه، عن ابنِ عمرَ. وعن أنَسٍ، أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما وُزِنَ مِثْلًا بمِثْلٍ إذا كان نَوْعًا واحِدًا». رَواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬3). وعن عمّارٍ أنَّه قال: العَبْدُ خَيرٌ مِن العَبْدَينِ، والثَّوْبُ خَيرٌ من الثَّوْبَينِ، فما كان يَدًا بيَدٍ فلا بَأسَ به، إنَّما الرِّبَا في النَّساءِ، إلَّا ما كِيلَ أو وُزِن (¬4). ولأنَّ قَضِيَّةَ البَيعِ المُسَاوَاةُ، والمعْتَبَرُ في تَحْقِيقِها الكَيلُ والوَزْنُ والجِنْسُ، فإنَّ الوَزْنَ أو الكَيلَ يُسَوِّي بَينَهُما صُورَةً، ¬

(¬1) 2/ 109. (¬2) في الأصل، ق، ر 1: «أبي حيان»، وفي م: «ابن حبان» والمثبت من المسند. وانظر تهذيب الكمال 7/ 487. (¬3) في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 18. (¬4) أخرجه ابن حزم، في: المحلى 9/ 532.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجِنْسَ يُسَوَّى بينهما مَعْنًى، فكانا عِلَّةً، وَوَجَدْنَا الزِّيَادَةَ في الكَيلِ مُحَرَّمَةً دونَ الزِّيادَةِ في الطَّعْمِ؛ بدَلِيلِ بَيعِ الثَّقِيلَةِ بالخَفِيفَةِ، فإنَّه جائِزٌ إذا تَسَاوَيَا في الكَيلِ. والرِّوَايَةُ الثانِيَةُ، أنَّ العِلَّةَ في الأثْمانِ الثَّمَنِيَّةُ، وفيما عَدَاها كونُه مَطْعُومَ جِنْسٍ، فيَخْتَصُّ بالمَطْعُومَاتِ، ويَخْرُجُ منه ما عَدَاها. قال أبو بَكْرٍ: رَوَى ذلك عن أحمدَ جماعَةٌ. ونحوُ ذلك قولُ الشّافِعِيِّ، فإنّه قال: العِلَّةُ الطَّعْمُ، والجِنْسُ شَرْطٌ. والعِلَّةُ في الذَّهَبِ والفِضَّةِ جَوْهَرِيَّةُ الثَّمَنِيَّةِ غالِبًا، فيَخْتَصُّ بالذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ لما رَوَى مَعْمَرُ بنُ عبدِ الله أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الطَّعامِ بالطَّعَامِ، إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ. رَواهُ مُسلِمٌ (¬1). ولأنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شرَفٍ، إذْ به قِوامُ الأُبْدَانِ، والثَّمَنِيَّةُ وَصْفُ شَرَفٍ، إذْ بها قِوامُ الأموالِ، فيَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بهما، ولأنَّه لو كانتِ العِلَّةُ في الأثمانِ الوَزْنَ، لم يَجُزْ إسْلامُهما في المَوْزُوناتِ؛ لأنَّ أحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبا يَكْفِي في تَحْرِيمِ النَّسَاءِ. والرِّوَايَةُ الثالِثَةُ، العِلَّةُ فيما عَدا الذَّهَبَ والفِضَّةَ كَوْنُه مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، فلا يَجْرِي الرِّبَا في مَطْعُومٍ لا يُكَالُ ولا يُوزَنُ، كالتُّفَّاحِ، والرُّمّانِ، والبِطيخِ، والجَوْزِ، والبَيضِ، ولا فيما ليس بمَطْعُومٍ، كالزَّعْفَرَانِ، والأُشْنانِ، والحَدِيدِ. ويُرْوَى ذلك عن ¬

(¬1) في: باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1214. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وهو قَدِيمُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ؛ لِما رُوِيَ عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «لا رِبًا إلَّا فيما كِيلَ أو وُزِنَ ممّا يُؤْكَلُ أو يُشْرَبُ» أخْرَجَه الدّارَقُطْنِيُّ (¬1)، وقال: الصَّحِيحُ أنَّه من قَوْلِ سعيدٍ، ومَنْ رَفَعَه فقد وَهَمَ. ولأنَّ لكلِّ واحدٍ مِن هذه الأوصافِ أثرًا، والحكمُ مقرونٌ بجميعِها في المنصوصِ عليه، فلا يَجُوزُ حذفُه. ولأنَّ الكَيلَ والوَزْنَ والجِنْسَ لا يَقْتَضِي وجوبَ المُماثَلَةِ، وإنّما أثَرُه في تَحْقِيقِها، و (¬2) العِلَّةُ ما يَقْتَضِي ثُبُوتَ الحُكْمِ، لا ما تَحَقَّقَ شَرْطُه، والطَّعْمُ بمُجَرَّدِه لا تَتَحَقَّقُ المُماثَلَةُ به؛ لعَدَمِ المِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فيه، وإنّما تَجِبُ المُماثَلَةُ في المِعْيارِ الشَّرْعِيِّ، وهو الكَيلُ والوَزْنُ، ولهذا وجَبَتِ المُسَاوَاةُ في المَكِيلِ كَيلًا، وفي المَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أن يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا في المَكِيلِ والمَوْزُونِ دُونَ غَيرِهما. والأحَادِيثُ الوَارِدَةُ في هذا البابِ يَجِبُ الجَمْعُ بينها، وتَقْيِيدُ كُلِّ واحِدٍ منها بالآخَرِ، فنَهْيُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الطّعامِ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، يَتَقَيَّدُ بما فيه مِعْيارٌ شَرْعِيٌّ من كَيلٍ أو وَزْنٍ، ونهْيُه عن بَيعِ الصّاعِ بالصّاعَينِ، يَتَقَيَّدُ بالمَطْعُومِ المَنْهِيِّ عن التَّفاضُلِ فيه. وهذا اخْتِيَارُ شَيخِنا. وقال مالِكٌ: العِلَّةُ القُوتُ، أو ما يَصْلُحُ به القُوتُ من جِنْسٍ واحِدٍ من المُدَّخَراتِ. وقال رَبِيعَةُ: يَجْرِي ¬

(¬1) في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 14.كما أخرجه الإمام مالك، في: باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 635. (¬2) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّبَا فيما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ دونَ غَيرِه. وقال ابنُ سِيرِينَ: في الجِنْسِ الواحِدِ. وهذا القَوْلُ لا يَصِحُّ؛ لقَوْلِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في بَيعِ الفَرَسِ بالأفْرَاسِ، والنَّجِيبَةِ بالإِبِلِ: «لا بَأسَ إذا كان يَدًا بِيَدٍ» (¬1). ورُوِيَ أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابْتَاعَ عَبْدًا بعَبْدَينِ. رواه أبو داوُدَ والتّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬3) صَحِيحٌ. وقولُ مالِكٍ يَنْتَقِضُ بالحَطَبِ والإِدَامِ يُسْتَصْلَحُ به القُوتُ ولا رِبًا فيه. عنده، وتَعْلِيلُ رَبِيعَةَ يَنْعَكِسُ بالمِلْحِ، والعَكْسُ لازِمٌ عندَ اتِّحادِ العِلَّةِ. فالحاصِلُ أنَّ ما اجْتَمَعَ فيه الكَيلُ والوَزْنُ والطَّعْمُ، من جنْسٍ واحِدٍ، ففيه الرِّبَا رِوايَةً واحِدَةً؛ كالأُرْزِ، والدُّخْنِ، والذُّرَةِ، والقُطْنِيَّاتِ، والدُّهْنِ، واللَّبنِ، ونحوه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا قَوْلُ عُلَماءِ الأمْصَارِ في القَدِيمِ والحَدِيثِ. وما يُعْدَمُ فيه الكَيلُ والوَزْنُ والطَّعْمُ واخْتَلَفَ جِنْسُه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 11. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في ذلك إذا كان يدا بيد، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 225. والترمذي، في: باب ما جاء في شراء العبد بالعبدين، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 247. كما أخرجه مسلم، في: باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلا، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1225. والنسائي، في: باب بيعة المماليك، من كتاب البيعة، وفي: باب بيع الحيوان بالحيوان يدا بيد متفاضلا، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 135، 257. وابن ماجه، في: باب البيعة، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 958. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا رِبًا فيه، رِوايَةً واحِدةً. وهو قولُ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ، وذلك كالتِّينِ، والنَّوَى، والقَتِّ، والماءِ، والطِّينِ إلَّا (¬1) الأرمَنِيَّ، فإنَّه يُؤكَلُ دواءً، فيَكونُ مَوْزُونًا مَأكُولًا، فهو إذًا من القِسْمِ الأوَّلِ، وما عَداهُ إنّما يُؤكَلُ سَفَهًا، فجَرَىَ مَجْرَى الرَّمْلِ والحَصَى. وما وُجِدَ فيه الطَّعْمُ وَحْدَه، أو الكَيلُ والوَزْنُ من جِنْس واحِدٍ، ففيه رِوَايَتَانِ، واخْتَلَفَ أهلُ العِلْمِ فيه. والأولَى، إنْ شاءَ اللهُ، حِلُّه؛ إذْ ليس في تَحْرِيمِه دَلِيلٌ مَوْثُوقٌ به، ولا مَعْنًى يُقَوِّي التَّمَسُّكَ به، وهي مع ضَعْفِها. يُعَارِضُ بَعْضُها بَعْضًا، فوَجَبَ اطِّراحُها، والجَمْعُ بَينَها، والرُّجُوعُ إلى أصْلِ الحِلِّ الذي يَقْتَضِيهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والاعْتِبَارُ. ولا فرقَ في المَطْعُوماتِ بينَ ما يُؤكَلُ قُوتًا، كالأُرْزِ والذُّرَةِ، أو أُدْمًا كالقُطنِيَّاتِ، واللَّحْمِ، واللَّبَنِ، أو تَفَكُّهًا، كالثِّمارِ، أو تَداويًا، كالإِهْلِيلَجِ، والسَّقَمُونْيا، فإنَّ الكُلَّ في بَابِ الرِّبا واحِدٌ. فصل: وقَولُه: في كُلِّ مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ. أي ما كانَ جِنْسُه مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، وإنْ لم يَتَأَتَّ فيه كَيلٌ ولا وَزْنٌ؛ إمّا لقِلَّتِه، كالحَبَّةِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَبَّتَينِ، والحَفْنَةِ والحَفْنَتَينِ، وما دُونَ الأُرْزَةِ مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ، أو لكَثْرَتِه، كالزُّبْرَةِ العَظِيمَةِ، فإنَّه لا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْضٍ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، ويَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فيه. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. ورَخَّصَ أبو حَنِيفَةَ في بَيعِ الحَفْنَةِ بالحَفْنَتَين، والحَبَّةِ بالحَبَتّينِ، وسائِرِ المَكِيلِ الذي لا يَتَأتى كيله، ووافَقَ في المَوْزُونِ، واحْتَجَّ بأنَّ العِلَّةَ الكَيلُ، ولم يُوجَدْ في اليَسِيرِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلًا بمِثْل، والبُرُّ بالبُرِّ مِثْلًا بمِثْل، من زَادَ أو ازْدَادَ فقد أربَى» (¬1). ولأنَّ ما جَرَى الرِّبَا في كَثِيرِه جَرَى في قَلِيله، كالمَوْزُونِ. ولا يَجُوزُ بَيعُ تَمْرَةٍ بتَمْرَةٍ، ولا حَفْنَةٍ بحَفْنَةٍ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ؛ لأنَّ ما أصْلُه الكَيلُ لا تَجُوزُ (¬2) المُماثَلَةُ في غَيرِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬2) في م: «تجري».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا ما لا وَزْنَ للصِّناعةِ فيه، كمَعْمُولِ الحدِيدِ، والرَّصاصِ، والنُّحاسِ، والقُطْنِ، والكَتَّانِ، والصُّوفِ، والحَرِيرِ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ في الثِّيابِ والأكْسِيَةِ أنّه لا يَجْرِى فيه الرِّبَا، فإنّه قال: لا بَأسَ بالثَّوْبِ بالثَّوْبَينِ، والكِسَاءِ بالكِسَاءَينِ. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. وقال: لا يُبَاعُ الفَلْسُ بالفَلْسَينِ، ولا السِّكِّينُ بالسِّكِّينَينِ، ولا الإِبرَةُ بالإِبرَتَينِ، أصْلُه الوَزْنُ. ونَقَلَ القاضِي حُكْمَ إحْدَى المسألَتَين إلى الأُخرَى، فجَعَلَ في الجَمِيعِ رِوَايَتَينِ، إحداهُما، لا يَجْرِي في الجَمِيع. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ، وأكثَرِ أهْلِ العِلمِ؛ لأنَّه ليس بمَوْزُونٍ ولا مَكِيلٍ. وهذا هو الصَّحِيحُ؛ إذ لا مَعْنَى لثُبُوتِ الحُكْمِ مع انْتِفاءِ العِلَّةِ، وعَدَمِ النَّصِّ والإِجْماعِ فيه. والثانِيَةُ، يَجْرِي الرِّبَا في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمِيعِ. اخْتَارَها ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ أصْلَه الوَزْنُ، فلا يَخْرُجُ بالصِّنَاعَةِ عنه، كالخُبْزِ، وذَكَرَ أنَّ اخْتِيارَ القاضِي، أنَّ ما كانَ يُقْصَدُ وَزْنُه بعد عملِه كالأسْطالِ (¬1) ففيه الرِّبا، وإلَّا فَلَا. فصل: ويَجْرِي الرِّبَا في لَحْمِ الطَّيرِ، وعن أبي يُوسُفَ: لا يَجْرِي فيه؛ لأنَّه يُباعُ بغيرِ وَزْنٍ. ولَنا، أنَّه لَحْمٌ، فأشْبَهَ سائِرَ اللُّحْمَانِ. وقَوْلُه: لا يُوزَنُ. قلنا: هو مِن جِنْسِ ما يُوزَنُ، ويُقْصَدُ ثِقْلُهُ، وتَخْتَلِفُ قِيمَتُه بثِقْلِه وخِفَّتِه، أشْبَهَ ما يُباعُ من الخُبْزِ عَدَدًا (¬2). ¬

(¬1) الأسطال: جمع سَطْل، وهو إناء من معدن كالمِرْجل، له علاقة كنصف الدائرة مركبة في عروتين. (¬2) في م: «عدًّا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والجَيِّدُ والرَّدِئُ، والتِّبرُ والمَضْرُوبُ، والصَّحِيحُ والمَكْسُورُ، سواءٌ في جَوازِ البَيعِ مع التَّماثُلِ. وهذا قَوْلُ أكثَرِ العُلَماءِ، منهم، أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ جَوازُ بَيعِ المَضْرُوبِ بقِيمَتِه من جِنْسِه، وأنْكَرَ ذلك أصْحابُه. وحَكَى بعضُ أصْحابِنَا عن أحمدَ رِوَايَةً، أنّه لا يَجُوزُ بَيعُ الصِّحاحِ بالمُكَسَّرَةِ؛ لأنَّ للصِّنَاعَةِ قِيمَةً بدَلِيلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالةِ الإِتْلَافِ، فَيَصِيرُ كأنَّه ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إلى الذَّهَبِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ مِثْلًا بمِثْلٍ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ مِثْلًا بمِثْلٍ». وعن عُبادَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ تِبْرُهَا وعَينُها، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ تِبْرُهَا وعَينُها». رواهُ أبو داوُدَ (¬1). ورَوَى مُسْلِم (¬2) عن أبي الأشْعَثِ أنَّ مُعَاويَةَ أمَرَ بِبَيعِ آنِيَةٍ من فِضَّةٍ في أُعْطِياتِ النّاسِ، فبَلَغَ عُبادَةَ، فقَدِمَ، فقال: إنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن بَيعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ، والفِضَّةِ بالفِضَّةِ، والبُرِّ بالبُرِّ، ¬

(¬1) في: باب في الصرف، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222، 223. كما أخرجه النسائي، في: باب بيع الشعير بالشعير، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 242، 243. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّعِيرِ بالشَّعِيرِ، والمِلْحِ بالمِلْحِ، إلَّا سواءً بسواءٍ، عينًا بعَينٍ، فمَن زادَ أو ازْدَادَ فقد أرْبَى. ورَوَى الأثْرَمُ (¬1)، عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، أنَّ مُعَاويَةَ باعَ سِقَايَةً من ذَهَبٍ أو وَرِقٍ بأكْثَرَ من وَزْنِها، فقال أبو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن مِثْلِ هذا، إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ. ولأنَّهُما تَسَاوَيَا في الوَزْنِ، فلا يُوثِّرُ اخْتِلافُهما في الِقيمَةِ، كالجَيِّدِ بالرَّدِئِ. فأما إنْ قال لصائِغٍ: اصْنَعْ لي خَاتَمًا وَزْنُه دِرْهَمٌ، وأعْطِيكَ مثلَ زِنَتِه، وأُجْرَتَك دِرْهَمًا. فليس ذلك بَيعَ دِرْهَمٍ بدِرْهَمَينِ. وقال أصْحابُنا: للصائِغِ أخْذُ الدِّرْهَمَينِ؛ أحَدِهما في مُقابَلَةِ الخاتَمِ، والثَّاني (¬2) أُجْرَةً له. فصل: وكُلُّ ما حُرِّمَ فيه رِبَا الفَضْلِ، حُرِّمَ فيه النَّساءُ، بغَيرِ خِلافٍ عَلِمْناهُ. ويَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَينًا بعَينٍ». ¬

(¬1) وأخرجه النسائي، في: باب بيع الذهب بالذهب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 245. والإمام مالك، في: باب بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 634. (¬2) في م: «الباقي».

1676 - مسألة: (ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا، ولا ما أصله الوزن كيلا)

وَلَا يُبَاعُ مَا أصْلُهُ الكَيلُ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا، وَلَا مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَوْلِه: «يَدًا بِيَدٍ». ولأنَّ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ آكَدُ، ولذلك جَرَى في الجِنْسَينِ المُخْتَلِفَينِ، فإذا حُرِّمَ التّفاضُلُ، فالنَّساءُ أولَى بالتَّحْرِيمِ. 1676 - مسألة: (ولا يُبَاعُ ما أصلُه الكَيلُ بشَيءٍ من جِنْسِه وَزْنًا، ولا ما أصلُه الوَزْنُ كَيلًا) لا خِلاف بينَ أهْلِ العِلْمِ في وجُوبِ المُماثَلَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بَيعِ الأمْوالِ التي يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فيها، وأنَّ المُسَاوَاةَ (¬1) المَرْعِيّةَ هي المُسَاوَاة في المَكِيلِ كَيلًا وفي المَوْزونِ وَزْنًا؟ ومتى تَحَقَّقَتْ هذه المُسَاوَاةُ، لم يَضُرَّ اخْتِلافُهما فيما سِواها. وإنْ لم توجَدْ، لم يَصِحّ البَيعُ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقال مالِكٌ: يَجوز بَيعُ بَعْضِ المَوْزونَاتِ بِبَعْضٍ جُزَافًا. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ وَزْنًا بوَزْنٍ، والبُرُّ بالبُرِّ كَيلًا بكَيل، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ كَيلًا بكَيل». رَواهُ الأثْرَم (¬2) عن عُبادَةَ، ورَواه أبو دَاوُدَ (¬3). وَلفْظُه (¬4): «البُرُّ بالبُرِّ [مُدْىٌ بمُدْىٍ] (¬5)، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ مُدْىٌ بمُدْىٍ، والمِلْحُ بالمِلْحِ مُدْىٌ بمُدْىٍ، فمَنْ زَادَ أو ازْدَادَ فَقَدْ أرْبَى». فأمرَ بالمُسَاوَاةِ في المَوْزونَاتِ المَذْكورَةِ في الوَزْنِ، كما أمَرَ بالمُسَاوَاةِ في المَكِيلَاتِ بالكَيلِ، وما عدا الذّهَبَ والفِضَّةَ من المَوْزُونَاتِ مَقِيسٌ عَلَيهِما، ولأنَّه جِنْسٌ يَجْرِي فيه الرِّبَا، فلم يَجُزْ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْض جُزافًا، كالمَكِيلِ، ولأنَّ حقيقةَ الفضلِ مُبْطِلَةٌ للبيعِ، ولا يُعْلَمُ عدَمُ ذلك إلَّا بالوزنِ، فوَجَبَ ذلك، كما في المَكِيلِ والأثمانِ. إذا ¬

(¬1) في الأصل، ق: «المواساة». (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب اعتبار التماثل فيما كان موزونًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 291. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 20. (¬4) في م: «وفي لفظ». (¬5) في م: «مدا بمد». والمدى، بضم الميم وسكون الدال: مكيال يسع تسعة عشر صاعا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَتَ هذا، فإنّه لا يَجُوزُ بَيعُ المَكِيلِ بالمَكِيلِ وَزْنًا، ولا بَيعُ المَوْزُونِ بالمَوْزُونِ كَيلًا؛ لأنَّ التَّمَاثُلَ في الكَيلِ مُشْتَرَطٌ في المَكِيلِ، وفي الوَزْنِ في المَوْزونِ، وقد عُدِمَتْ، ولأنَّه مَتَى باعَ رَطْلًا من المَكِيلِ برَطْلٍ، حَصَلَ في الرَّطْلِ من الخَفِيفِ أكثرُ ممّا يَحْصُلُ من الثَّقِيلِ، فيَخْتَلِفَانِ في الكَيلِ، وإنْ لم يَعْلَم الفَضْلَ، لكنْ يَجْهَلُ التَّسَاويَ، فلا يَصِحُّ، كما لو باعَ بَعْضَه ببَعْضٍ جُزَافًا. وكذلك إذا باعَ المَوْزُونَ بالمَوْزُونِ بالكَيلِ، لا يَتَحَقَّقُ التَّمَاثُلُ في الوَزْنِ، فلم يَصِحَّ، كما ذَكَرْنا في المَكِيلِ. فصل: ولو باعَ بَعْضَه بِبَعْضٍ جُزَافًا، أو كان جُزَافًا من أحَدِ الطَّرَفَينِ، لم يَجُزْ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ ذلك لا يَجُوزُ إذا كانَا من صِنْفٍ واحِدٍ؛ لِما رَوَى مُسْلِمٌ (¬1) عن جابِرٍ، قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الصُّبْرَةِ من التَّمْرِ لا يُعْلَمُ مَكِيلُها بالكَيل المُسَمَّى من التَّمْرِ. وفي قولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالذَّهَب وَزْنًا بوَزْنٍ». إلى تَمامِ الحَدِيثِ، دَلِيلٌ على أنّه لا يَجُوزُ بَيعُه إلَّا كذلك، ولأنَّ التَّماثُلَ شَرْطٌ، والجَهْلُ به يُبْطِلُ البَيعَ بحَقِيقةِ (¬2) التَّفَاضُلِ. ¬

(¬1) في: باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بالتمر، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1162، 1163. كما أخرجه النسائي، في: باب بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 237. (¬2) في م: «لحقيقة».

1677 - مسألة؛ قال: (فإن اختلف الجنس، جاز بيع بعضه ببعض كيلا، ووزنا، وجزافا)

فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، جَازَ بَيعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيلًا، وَوَزْنًا، وَجُزَافًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1677 - مسألة؛ قال: (فإنِ اخْتَلَفَ الجنْسُ، جازَ بَيعُ بَعْضِه ببَعْضٍ كَيلًا، وَوَزْنًا، وجُزَافًا) ما لا يُشْتَرَطُ فيه التَّماثُلُ، كالجِنْسَينِ، وما لا رِبًا فيه، يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه ببَعْضٍ كَيلًا وَوَزْنًا وجُزَافًا. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وهو قولُ أكْثَرِ العُلَمَاءِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ بَيعَ الصُّبْرَةِ من الطَّعَامِ بالصُّبْرَةِ، لا يُدْرَى كم كَيلُ هذه، ولا كم كَيلُ هذه، من صِنْفٍ واحِدٍ، غيرُ جائِزِ، ولا بَأسَ به من صِنْفَينِ؛ اسْتِدْلَالًا بقَوْلِه عليه السّلامُ: «فإذَا اخْتَلَفَ الجِنْسَانِ فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُم» (¬1). وذَهَبَ بعضُ أصْحَابِنا إلى مَنْعِ بَيعِ المَكِيلِ بالمَكِيلِ والمَوْزُونِ بالمَوْزُونِ جُزافًا. وقال أحمدُ، في رِوايةِ محمّدِ بنِ الحَكَمِ: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْرَهُ ذلك. قال ابنُ أبي مُوسَى: لا خَيرَ فيما يُكَالُ بما يُكالُ جُزَافًا، ولا فيما يُوزَنُ بما يُوزَنُ جُزَافًا، اتَّفَقَتِ الأجْنَاسُ أو اخْتَلَفَتْ، ولا بَأسَ بِبَيع المَكِيلِ بالمَوْزُونِ جُزَافًا. وقال ذلك القاضِي، والشَّرِيفُ أبو جَعْفرِ، قالوا: لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن بَيعِ الطَّعَام بالطَّعَامِ مُجَازَفَةً (¬1). وقِياسًا على الجِنْسِ الوَاحِدِ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كيفَ شِئتُمْ يَدًا بِيَدٍ». ولأنه يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فيه، فجازَ جُزَافًا، كالمَكِيلِ بالمَوْزُونِ، يُحَققُه أنّه إذا كان حَقِيقَةُ الفَضْلِ لا يَمْنَعُ، فاحْتِمالُه أوْلَى أنْ لا يَمْنَعَ، وحَدِيثُهم أراد به الجنْسَ الواحِدَ، ولهذا جاءَ في بَعْضِ ألفَاظِه: نَهَى أنْ تُباعَ الصُّبْرَةُ لا يُعْلَمُ مكِيلُها من التَّمْرِ بالصُّبْرَةِ لا يُعْلَمُ مَكِيلُها من التَّمْرِ (¬2). ثم هو مَخْصُوصٌ بالمَكِيلِ بالمَوْزُونِ، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزَاعِ. والقِيَاسُ لا يَصِحُّ، لأَنَّ الجِنسَ الواحِدَ يَجِبُ التماثُلُ فيه، فمُنِعَ من بَيعِه مُجازَفَةً؛ لفَواتِ المُماثَلَةِ المُشْتَرَطَةِ، وفي الجِنْسَينِ لا يُشْتَرَطُ التّماثُلُ، ولا يُمْنَعُ حَقِيقَةُ التَّفاضُلِ، فاحْتِمالُه أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 144. (¬2) تقدم تخريجه عند النسائي من حديث جابر في صفحة 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ بهذه الصُّبْرَةِ. وهما من جِنْسٍ واحِدٍ، وقد عَلِمَا كَيلَهُما وتَسَاويَهُما، صَحَّ البَيعُ؛ لوُجُودِ التَّماثُل المُشْتَرَطِ. وإنْ قال: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ بهذه الصُّبْرَةِ مِثْلًا بمِثْلٍ. فَكِيلَتَا، فكَانَتَا سواءً، صَحَّ البَيعُ، [وإلَّا فلا. وإن باعَ صُبْرَةً بِصُبْرةٍ من غيرِ جِنسِها، صَحَّ عندَ من يُجَوِّزُ بَيعَ المَكِيلِ بالمَكِيلِ جُزَافًا. فإن قيل: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ بهذه، مِثْلًا بمِثْلٍ. فَكِيلَتا فكانتا سَوَاءً، صَحَّ البَيعُ] (¬1). وإن زَادَت إحْدَاهُما، فرَضِيَ صاحِبُ النَّاقِصَةِ بها مع نَقْصها، أو رَضِيَ صاحِبُ الزَّائِدَةِ برَدِّ الفَضْلِ على صاحِبِه، جازَ، وإنِ امْتَنَعَا (¬2)، فُسِخَ البَيعُ بَينَهُما. ذَكَرَه القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) في م: «امتنع».

1678 - مسألة: (والجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعا، كالذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح)

وَالْجنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا؛ كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، والْمِلْحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1678 - مسألة: (وَالْجِنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ يَشْمَلُ أنْواعًا، كالذَّهَبِ، والْفِضَّةِ، وَالبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والْمِلْحِ) الجِنْسُ: الشَّامِلُ لأشْياءَ مُختَلِفَةٍ بأنْواعِها. والنَّوْعُ: الشَّامِلُ لأشْياءَ مُخْتَلِفَةٍ بأشْخَاصِها. وقد يكونُ النَّوْعُ جِنْسًا بالنِّسْبَةِ إلى ما تَحْتَه، والجِنْسُ نَوْعًا بالنِّسْبَةِ إلى ما فَوْقَه. والمرادُ هاهنا الجِنْسُ الأَخَصُّ، والنَّوْعُ الأخَصُّ. فكُلُّ نَوْعَينِ اجْتَمَعَا في اسمٍ خاصٍّ، فهما جِنْسٌ؛ كأنْواعِ التَّمْرِ، وأنواعِ الحِنْطَةِ، وأنْواعِ الشَّعِيرِ. فالتُّمُورُ كُلُّها جِنْسٌ وإنْ كَثُرَتْ أنْواعُها؛ كالبَرْنِيِّ، والمَعْقِليِّ (¬1)، وغيرِهما. وكُلُّ شَيئَينِ اتَّفَقَا في الجِنْسِ، ثَبَتَ فيهما حُكْمُ الشَّرْعِ بتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وإنِ اخْتَلَفَتِ الأنْواعُ، لِما ذَكَرْنا من قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلًا بمِثْلٍ» (¬2). الحَدِيثُ بتَمامِه. فاعتْبَرَ المُسَاوَاةَ في جنْسِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ، والبُرِّ بالبُرِّ. ثم قال: «فإذَا اخْتَلَفَتْ هذه الْأَصْنَافُ (¬3) فبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ». ¬

(¬1) المعقلي: نسبة إلى معقل بن يسار. انظر اللسان (ع ق ل). (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬3) في الأصل، ق، م: «الأجناس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في البُرِّ والشَّعِيرِ، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّهُما جِنْسَانِ. وهو قوْلُ الثَّوْرِيِّ، والشّافِعِيِّ، [وإسحاقَ] (¬1)، وأصحابِ الرأي. وعنه، أنّهما جنْسٌ واحِدٌ. يُرْوَى ذلك عن سَعْدِ بنِ أبي وَقّاص وعبدِ الرَّحْمَنِ بنِ الأسْوَدِ بنِ عبدِ يَغُوثَ (¬2)، والحَكَمِ، وحَمّادٍ، ومالِكٍ، واللَّيثِ؛ لِما رُوِيَ عن مَعْمَرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنّه أرْسَلَ غُلامَه بصَاعِ قمْحٍ، فقال: بِعْهُ، ثم اشْتَرِ به شَعِيرًا. فذَهَبَ الغُلامُ، فأخَذَ صَاعًا وزيَادَةَ بعْضِ صاعٍ، فلما جاءَ مَعْمَرًا أخْبَرَهُ، فقال له مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذلك؟ انْطَلِقْ فرُدَّه، ولا تَأخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، فإنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الطّعامِ بالطّعامِ، إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، وكان طعامُنا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. قيل: فإنَّه ليس بمِثْلِه. قال: إنِّي أخافُ أنْ يُضارِعَ. أخرَجَه مُسْلِمٌ (¬3)، ولأنَّ أحَدَهما يُعْتَبَرُ بالآخَرِ، فكانا كنَوْعَي الجِنْسِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «بِيعُوا البُرَّ بالشَّعِيرِ كيفَ شِئْتُم يَدًا بِيَدٍ» (¬4). وفي لَفْظٍ: «لا بَأسَ بِبَيعِ البُرِّ بالشَّعِيرِ، والشَّعِيرُ أكثرُهما (¬5) يَدًا بِيَدٍ، وأمّا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أبو محمد عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين. تهذيب التهذيب 6/ 139. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 12. (¬4) أخرجه النسائي، في: باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 241، 242. وابن ماجه، في: باب الصرف وما لا يجوز متفاضلا يدا بيد، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 757, 758. (¬5) في م: «بالبر هما».

1679 - مسألة: (وفروع الأجناس أجناس، كالأدقة، والأخباز، والأدهان)

وَفُرُوعُ الْأَجْنَاسِ أَجنَاسٌ، كَالْأَدِقَّةِ، وَالْأَخْبَازِ، وَالْأَدْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَسِيئَةً فَلَا» (¬1) وفي لَفْظٍ: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأصْنَافُ فَبِيعُوا كيف شِئْتُمْ» (¬2). وهذا صَرِيحٌ، لا يَجُوزُ تَرْكُه بغَيرِ مُعارِضٍ مِثْلِه. وحَدِيثُ مَعْمَرٍ لابُدَّ فيه من إضْمارِ الجِنْسِ، بدَلِيلِ سائِرِ أجْناسِ الطَّعامِ، ويَحْتَمِلُ أنّه أرادَ الطَّعامَ المَعْهُودَ عِنْدَهم، وهو الشَّعِيرُ نَسِيئَةً، فإنّه قال في الخَبَرِ: وكان طعَامُنا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. ثم لو كانَ عامًّا لوَجَبَ تَقْدِيمُ الخاصِّ الصَّرِيحِ عليه، وفِعْلُ مَعْمَرٍ وقَوْلُه لا يُعارَضُ به فِعْلُ (¬3) النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بالذَّهَبِ والفِضَّةِ. 1679 - مسألة: (وفُرُوعُ الأَجْنَاسِ أجْنَاسٌ، كالأدِقَّةِ، والأخْبَازِ، والأدْهَانِ) إذا كان المُشْتَرِ كانِ في الاسْمِ الخاصِّ من جِنْسَينِ، فهما جِنْسَانِ، كالأَدِقةِ، والأخْبَازِ، والخُلُولِ، والأدْهَانِ، وعَصِيرُ الأَشْياءِ المُخْتَلِفَةِ كُلّها أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ باخْتِلافِ أُصُولِها. وحُكِيَ عن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 20. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬3) كذا هنا، وفي المغني 6/ 81: «قول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، أنَّ خَلَّ التَّمْرِ وخَلَّ العِنَبِ جِنْسٌ. وحُكِيَ أيضًا عن مالِكٍ، لأنَّ الاسْمَ الخاصَّ يَجْمَعُهما. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ، لأنَّهُما من جِنْسَينِ مُخْتَلِفَينِ، فكانا جِنْسَينِ؛ كدَقِيقِ الحِنْطَةِ، ودَقِيقِ الدُّخْنِ. وما ذُكِرَ للرِّوايةِ الأخْرَى مَنْقُوضٌ بسائِرِ فرُوعِ الأصُولِ التي ذَكَرْناها. فكُلُّ فَرْعٍ مَبْنِيٌّ على أصْلِه، فزَيتُ الزَّيتُونِ، وزَيتُ البُطْمِ (¬1)، وزَيتُ الفُجْلِ، أجْنَاسٌ. ودُهْنُ السَّمَكِ، والشَّيرَجُ، والجَوْزِ، واللَّوْزِ، والبزْرِ، أجْنَاسٌ. وعَسَلُ النَّحْلِ، وعَسَلُ القَصَبِ، جِنْسان. وتَمْرُ النَّخْلِ، وتَمْرُ الهِنْدِ، جِنْسَان. وكُلُّ شَيئَينِ أصْلُهما واحِدٌ، فهما جِنْسٌ، وإنِ اخْتَلَفَتْ مَقاصِدُهما؛ فدُهْنُ الوَرْدِ والبَنَفْسَجِ، والزَّنْبَقُ (¬2) والياسَمِينِ، إذا كانت من دُهْنٍ واحِدٍ، فهي جِنْسٌ واحِدٌ. وهذا الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، وله قولٌ آخرُ: لا يَجْرِي الرِّبَا فيها؛ لأنَّها لا تُقْصَدُ للأَكْلِ. وقال أبو حَنِيفَةَ: هي أجْنَاسٌ؛ لاخْتِلافِ مَقاصِدِها. ولَنا، أنّها كُلَّها شَيرَجٌ، وإنّما طُيِّبَتْ بهذه الرَّيَاحِينِ، فنُسِبَتْ إليها، فلم تَصِرْ أجْنَاسًا، ¬

(¬1) البطم: شجرة من الفصيلة الفستقية، ثمرتها خشنة مفلطحة خضراء، تحوي غلافا خشبيا بداخله ثمرة واحدة، تؤكل ببلاد الشام. (¬2) في ق، م: «الزئبق».

1680 - مسألة: (واللحم أجناس باختلاف أصوله. وكذلك اللبن. وعنه، جنس واحد. وعنه، في اللحم، أنه أربعة أجناس؛ لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء)

وَاللَّحْمُ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ. وَعَنْهُ، جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ. وَعَنْهُ، فِي اللَّحْمِ، أَنَّهُ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ؛ لَحْمُ الْأَنْعَامِ، وَلَحْمُ الْوَحْشِ، وَلَحْمُ الطَّيرِ، وَلَحْمُ دَوَابِّ الْمَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو طُيِّبَ سائِرُ أنْواعِ الأَجْنَاسِ. وقَولُهم: لا تُقْصَدُ للأَكْلِ. قلنا: هي صالِحَةٌ للأكلِ، وإنّما تُعَدُّ لما هو أعْلَى منه، فلا تَخْرُجُ عن كَوْنِها مَأكُولَةً بصَلاحِها لغَيرِه. وقَوْلُهم: إنّها أجْنَاسٌ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّها من أصْلٍ واحِدٍ، ويَشْمَلُها اسْمٌ واحِدٌ، فكانَتْ جِنْسًا، كأنوَاعِ التَّمْرِ، والحِنْطَةِ. فصل: وقد يكونُ الجِنْسُ الواحِدُ مُشْتَمِلًا على جِنْسَينِ، كالتَّمْرِ يَشْتَمِلُ على النَّوَى وغَيرِه، وهما جِنْسَانِ، واللَّبَنِ يَشْتَمِلُ على المَخِيضِ والزُّبْدِ، وهما جِنْسَانِ، فما دَاما مُتَّصِلَينِ اتِّصال الخِلْقَةِ فهما جِنْسٌ واحِدٌ، فإذا مُيِّزَ أحَدُهما من الآخَرِ، صارا جِنْسَينِ، حُكْمُهُما حُكْمُ الجِنْسَينِ الأصْلِيَّينِ. 1680 - مسألة: (واللَّحْمُ أجنَاسٌ باخْتِلافِ أُصُولِه. وكذلك اللَّبَنُ. وعنه، جِنْسٌ واحِدٌ. وعنه، في اللَّحْمِ، أنَّه أرْبَعَةُ أجْنَاسٍ؛ لَحْمُ الأنْعَامِ، ولَحْمُ الوَحْشِ، ولَحْمُ الطَّيرِ، ولَحْمُ دَوابِّ الماءِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ الله، في اللَّحْمِ، فرُوىَ عنه أنّه جِنْسٌ واحِدٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وهو قَوْلُ أبِي ثَوْرٍ، وأحَدُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ. وأنْكَرَ القاضِي أبو يَعْلَى كونَ هذه رِوايَةً عن أحمدَ، وقال: الأنْعَامُ والوَحْشُ والطَّيرُ ودَوابُّ الماءِ أجْنَاسٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فيها، رِوَايَةً واحِدةً، وإنَّما في اللَّحْمِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُما، أنّه أرْبَعَةُ أجْنَاسٍ، كما ذَكَرْنَا. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، إلَّا أنّه يَجْعَلُ (¬1) الأنْعَامَ والوَحْشَ جِنْسًا وَاحِدًا فيكونُ عندَه ثَلاثةُ أصْنَافٍ. ورُوِيَ عنه، أنّه أجْنَاسٌ باخْتِلافِ أُصُولِه. وهو قول أبي حَنِيفَةَ، وأحَدُ قَوْلَي الشافِعِيِّ. وهي أصَحُّ؛ لأنها فُرُوعُ أُصُولٍ هي أجنَاسٌ، فكانت أجْنَاسًا، كالأدقَّةِ، والأخبَازِ. وهذا اخْتِيارُ ابنِ عَقِيلٍ. وعنه في اللَّحْمِ، أنّه أرْبَعَةُ أجْنَاس على ما ذَكَرْنَا. وهذا اخْتِيَارُ القَاضِي، واحْتَجَّ بأن لَحْمَ هذه الحَيَواناتِ تَخْتَلِفُ المَنْفَعَةُ بها، والقَصْدُ إلى أكْلِها، فكانت أجْنَاسًا. قال شيخُنا (¬2): وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كَوْنَها أجْنَاسًا لا يُوجِبُ حَصْرَها في أرْبَعَةِ أجْنَاس، ولا نَظيرَ لهذا فيُقاسُ عليه. والصَّحِيحُ، أنّه أجْنَاسٌ باخْتِلافِ أُصُولِه. ووَجْهُ ¬

(¬1) في م: «يحتمل أن». (¬2) في: المغني 6/ 85.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلِ الخِرَقِيِّ، أنَّه اشْتَرَكَ في الاسمِ الواحِدِ حال حُدُوثِ الرِّبَا فيه، فكان جِنْسًا واحِدًا، كالطَّلْعِ. والصَّحِيحُ، ما ذَكَرْنا. وما ذَكَرَه من الدَّلِيل مُنْتَقِضٌ بعَسَلِ النَّحْلِ وعَسَلِ القَصَبِ، وغيرِ ذلك. فعَلى هذا، لَحْمُ الإِبِلِ كُلُّه صِنْفٌ، بَخَاتِيِّها وعِرابِها، والبَقَرُ عِرابُها وجَوامِيسُها صِنْفٌ، والغَنَمُ ضَأنها ومَعْزُها جِنْسٌ (¬1). ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَا صِنْفَينِ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى سَمَّاهَا في الأزْوَاجِ الثّمانِيَةِ، ققال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَينِ} (¬2). فَفَرَّقَ بَينَهُما، كما فَرَّق بينَ الإِبِل والبَقَرِ، فقال: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَينِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَينِ} (¬3). والوَحْشُ أصنَافٌ؛ بَقَرُها صِنْفٌ، وغَنَمُها صِنْفٌ، وظِباؤها صِنْفٌ، وكُلُّ ما لَه اسْمٌ يخُصُّه فهو صِنْفٌ. والطَّيرُ أَصْنَافٌ، كُلُّ ما انْفَرَدَ باسْم وصِفةٍ فهو صِنْفٌ، فيَجُوزُ أنْ يُباعَ لَحْمُ صِنْفٍ بلَحْمِ صِنْفٍ آخَرَ، مُتَفَاضِلًا ومُتماثِلًا، ويُبَاعُ بصِفَةٍ (¬4) مُتَماثِلًا، ومَنْ جَعَلَها صِنْفًا واحِدًا، لم يُجِزْ بَيعَ لَحْمٍ بلَحْمٍ إلَّا (¬5) مُتَماثِلًا. ¬

(¬1) كذا في المسخ، وقد جاء قبلها في نسخة ق: «صنف» مضروبًا عليها. وفي المغني 6/ 85: «صنف». (¬2) سورة الأنعام 143. (¬3) سورة الأنعام 144. (¬4) في ق، ر 1: «نصفه». وغير منقوطة في: الأصل. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي اللَّبَن رِوَايَتَانِ؛ إحْداهُما، هو جِنْسٌ واحِدٌ؛ لما ذَكَرنا في اللَّحْمِ. والثانِيَةُ، هو أجنَاسٌ باخْتِلَافِ أُصُولِه، كاللَّحْمِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وقال مالِكٌ: لَبَنُ الأَنْعَامِ كُلِّها جِنْسٌ واحِدٌ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: لَبَنُ البَقَرِ الأهْلِيَّةِ والوَحْشِيَّةِ جِنْسٌ واحِدٌ على الرِّوَايَاتِ كُلِّها، لأنَّ اسْمَ البَقَرِ يَشْمَلُهُمَا (¬1). ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ لَحْمَهما جِنْسانِ، فكان لَبَنُهما جِنْسَينِ، كالإِبِلِ والبَقَرِ. ويَجُوزُ بَيعُ اللَّبَنِ بغَيرِ جِنْسِه مُتَفاضِلًا، ¬

(¬1) في ر 1، م: «يشملها».

1681 - مسألة: (واللحم والشحم والكبد أجناس)

وَاللَّحْمُ والشَّحْمُ وَالْكَبِدُ أَجْنَاسٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكيف شاءَ، يَدًا بِيَدٍ، وبجِنْسِه مُتماثِلًا كَيلًا، ولا فرقَ بين أنْ يَكُونَا حَلِيبَينِ أو حامِضَينِ، أو أحَدُهما حَلِيبًا والآخَرُ حامِضًا؛ لأنَّ تَغَيُّرَ الضفَةِ لا يَمْنَعُ جوازَ البَيعِ، كالجَوْدَةِ والرَّداءَةِ. وإنْ شِيبَ أحَدُهُما بماءٍ أو غيرِه، لم يَجُزْ بَيعُه بخَالِصٍ ولا بمَشُوبٍ من جِنْسِه، وسَنَذْكُرُ ذلك. 1681 - مسألة: (واللَّحمَ والشَّحْمُ والكَبِدُ أجْنَاسٌ) اللَّحْمُ والشَّحْمُ جِنْسَانِ، والكَبِدُ جِنْسٌ (1) , والطِّحَالُ جِنْسٌ (¬1)، والقَلْبُ جِنْسٌ، والمُخُّ جِنْسٌ. ويَجُوزُ بَيعُ جِنْسٍ بجِنْسٍ آخرَ مُتَفاضِلًا. ¬

(¬1) كذا في النسخ. وفي المغني 6/ 86: «صنف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضِي: لا يَجُوزُ بَيعُ اللَّحْمِ بالشَّحْمِ. وكَرِهَ مالِكٌ ذلك، إلَّا أنْ يَتَمَاثَلَا. وظاهِرُ المَذْهَبِ إباحَةُ البَيعِ فيهما مُتَماثِلًا ومُتَفَاضِلًا. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفةَ، والشّافِعِيِّ؛ لأنهُما جِنْسَانِ، فجازَ التَّفَاضُلُ فيهما، كالذَّهَبِ والفِضَّةِ. فإن مُنِعَ منه لكَوْنِ اللَّحْمِ لا يَخْلُو من شَحْم، لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحَّ؛ لأنَّ الشَّحْمَ لا يَظْهَرُ، وإنْ كان فيه شيءٌ فهو غيرُ مَقْصُودٍ، فلا يَمْنَعُ البَيعَ، ولو مَنَعَ لِذَلك، لم يَجُزْ بَيعُ لَحْمٍ بلَحْمٍ؛ لاشْتِمالِ كُلِّ واحِدٍ منهما على ما ليس من جِنْسِه. ثم لا يَصِحُّ هذا عند القاضِي، لأنَّ السَّمِينَ الذي يكونُ مع اللَّحْمِ عنده لَحْمٌ، فلا يُتَصَوَّرُ اشْتِمَالُ اللَّحْمِ عَلَى الشَّحْمِ. وذَكَرَ القَاضِي، أنَّ الأبيَضَ الذي (¬1) ظَاهِرَ اللَّحْمِ الأحْمَرِ، هو والأحْمَرُ جنْسٌ واحِدٌ، وأنَّ الأليَةَ والشَّحْمَ جِنْسَانِ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّ كُلَّ ما هو أبيَضُ في الحَيَوانِ، يَذُوبُ بالإِذَابَةِ، ويَصِيرُ دُهْنًا، ¬

(¬1) بعده في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو جِنْسٌ واحِدٌ. قال شَيخُنا (¬1): وهو الصَّحِيحُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى؛ لقَوْلِه سبحانه: (حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) (¬2). فاسْتَثْنَى ما حَمَلَتِ الظُّهُورُ من الشَّحْمِ، ولأنَّه يُشْبِهُ الشَّحْمَ في لَوْنِه وذَوْبِه ومَقْصِدِه، فكان شَحْمًا، كالذي في البَطْنِ. ¬

(¬1) في: المغني 6/ 87. (¬2) سورة الأنعام 146.

1682 - مسألة: (ولا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه. وفي بيعه بغير جنسه وجهان)

وَلَا يَجوزُ بَيعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَفِي بَيعِهِ بِغَيرِ جِنْسِهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1682 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ لَحْم بحَيَوانٍ من جِنْسِه. وفي بَيعِه بغيرِ جِنْسِه وَجْهانِ) لا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنّه لا يَجُوزُ بَيعُ اللَّحْمِ بحَيَوانٍ من جِنْسِه. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، والشَّافِعِيِّ، وقَوْلُ الفُقَهاءِ السَّبْعَةِ. وحُكِيَ عن مالِكٍ، أنَّه لا يَجُوزُ بَيعُ اللَّحْم بحَيوانٍ مُعَدٍّ للَّحْمِ، ويَجُوزُ بغَيرِه. وقال أبو حَنِيفة: يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لأنه باعَ مال الرِّبَا بما لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِبًا فيهِ، أشْبَهَ بَيعَ الحَيَوانِ بالدَّراهِمِ، أو بِلَحْمٍ من غيرِ جِنْسِه. ولَنا، ما رَوَى مالِكٌ (¬1)، عن زَيدِ بنِ أسْلَمَ، عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعَ اللَّحْمَ بالحَيَوانِ. قال ابنُ عبدِ البَر: هذا أحْسَنُ أسانِيدِه. ورُوِيَ (¬2) أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُباعَ حَيٌّ بمَيِّتٍ. ذَكَرَه الإِمامُ أحمدُ (¬3). ورَوَى ابنُ عَبّاسٍ أنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ، فجاءَ رَجُل بعَنَاقٍ، فقال: أعْطُونِي جُزْءًا بهذا العَناقِ. قال أبو بَكْرٍ: لا يَصْلُحُ هذا (¬4). قال الشّافِعِيُّ: لا أعْلَمُ مُخالِفًا لأَبِي بَكْر في ذلك. وقال أبو الزِّنادِ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكْتُ يَنْهَى عن بَيعِ اللَّحْمِ بالحَيَوانِ. ولأنَّ اللَّحْمَ نوْع فيه الرِّبَا بِيعَ بأَصْلِه الذي فيه منه، فلم يَجُزْ، كبَيعِ السِّمْسِمِ بالشَّيرَجِ، وبهذا فارَق ما قاسُوا عليه. فأمّا بَيعُه بحَيَوانٍ من غيرِ جِنْسِه، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ والخِرَقِيِّ أنّه لا يَجُوزُ؛ لِما ذَكَرْنا من الأحَادِيثِ. واخْتَارَ القاضِي جَوازَهُ. ¬

(¬1) في: باب بيع الحيوان باللحم، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 655. (¬2) في م: «ورد». (¬3) وأخرجه البيهقي، في: باب بيع اللحم بالحيوان، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 297. وأعله ابن حزم بالإرسال. المحلى 9/ 590. (¬4) أخرج نحوه البيهقي في الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ. واحْتَجَّ مَنْ أجازَهُ بأنَّ مال الربَا بيعَ بغَيرِ أصْلِه ولا جِنْسِه، فجازَ، كما لو باعَهُ بالأثْمانِ. والظَّاهِرُ أنَّ الاختِلافَ مَبْنِيٌّ على الاختِلافِ في اللَّحْمِ، فإنْ قُلْنا بأنَّه جِنْسٌ واحِدٌ، لم يَجُزْ. وإنْ قُلْنَا: إنّه أجْنَاسٌ. جازَ بَيعُه بغَيرِ جِنْسِه؛ لما ذَكَرْنا. فإنْ باعَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحَيَوانٍ غيرِ مَأْكُولٍ، جازَ في ظاهِرِ قَوْلِ أصْحابِنَا. وهو قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ.

1683 - مسألة: (ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا بسويقه؛ في أصح الروايتين)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ حَبٍّ بِدَقِيقِهِ وَلَا سَويقِهِ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1683 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ حَبٍّ بدَقِيقِه ولا بسَويقِه؛ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ) لا يَجُوزُ بَيعُ الحَبِّ بالدَّقِيقِ، في الصَّحِيحِ من المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحَسَنِ، والحَكَمِ، وحَمَّادٍ، وَمَكْحُولٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ. وهو المَشْهُورُ عن الشَّافِعِيِّ. وعن أحمدَ، أنَّه جائِزٌ. وبه قال رَبِيعَةُ، ومالِكٌ. وحُكِيَ عن النَّخَعِيِّ، وقَتَادَةَ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ الدَّقِيقَ نفْسُ الحِنْطَةِ، وإنَّما تَكَسَّرَتْ أجْزاؤها، فجازَ بَيعُ بَعْضِها بِبَعْض، كالحِنْطَةِ المُكَسَّرَةِ بالصِّحاحِ. فعلى هذا، إنَّما يُباعُ الحَبُّ بالدَّقيقِ (¬1) وَزْنًا؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْزَاءَه قد تَفَرَّقَتْ بالطَّحْنِ وانْتَشَرَتْ، فَيَأْخُذُ من المِكْيالِ مَكانًا كَبِيرًا، والحَبُّ يأخُذُ مكانًا صَغِيرًا، والوَزْنُ يُسَوِّي بَينَهُما. وبهذا قال إسحاق. ولَنا، أنَّ بَيعَ الحَبِّ بالدَّقِيقِ بَيع لمالِ الرِّبَا بجِنْسِه مُتَفَاضِلًا، فَحَرُمَ، كبَيعِ مَكِيلَةٍ بِمَكِيلَتَينِ؛ وذلك لأنَّ الطَّحْنَ قد فَرَّقَ أجْزَاءَه، فيَحْصُلُ في مِكْيالِه دونَ ما يَحْصُلُ في مِكْيَالِ الحَبِّ، وإنْ لم يَتَحَقَّقِ التَّفَاضُلُ، فقد جُهِلَ التَّماثُلُ، والجَهْلُ بالتَّمَاثُلِ كالعِلْمِ بالتَّفَاضُلِ فيما يُشْتَرَطُ التّماثُلُ فيه، ولذلك لم يَجُزْ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْض جُزافًا، والتَّسَاوي في الوَزْنِ لا يَلْزَمُ منه التَّسَاوي في الكَيلِ، والحَبُّ والدَّقِيقُ مَكِيلَانِ؛ لأنَّ الأصْلَ الكَيلُ، ولم يُوجَدْ ما يَنْقُلُ عنه، ثم لو ثَبَتَ أنَّ الدَّقِيقَ كان مَوْزُونًا، لم يَتَحَقَّقِ التَّماثُلُ؛ لأنَّ المَكِيلَ لا يُقَدَّرُ بالوَزْنِ، لا يُقَدَّرُ المَوْزُونُ بالكَيلِ. فصل: ولا يَجُوزُ بيعُ الحَبِّ بالسَّويقِ. وبه قال الشَّافِعِيُّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ، وأَبِي ثَوْرٍ جَوازُ ذلك مُتَماثِلًا ومُتَفَاضِلًا. ولَنا، أنَّه بَيعُ الحَبِّ

1684 - مسألة: (ولا يجوز بيع أصله بعصيره، ولا خالصه بمشوبه، ولا رطبه بيابسه، ولا نيئه بمطبوخه)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ نِيئِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَلَا: أَصْلِهِ بِعَصِيرِهِ، وَلا خَالِصِهِ بِمَشُوبِهِ، وَلَا رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِبَعْضِ أجْزَائِه مُتَفَاضِلًا، فلم يَجُزْ، كبَيعِ مَكُّوكِ (¬1) حِنْطَةٍ بمَكُّوكَيْ دَقِيقٍ، ولا سَبِيلَ إلى التّماثُلِ، لأنَّ النارَ قد أخَذَتْ من أحَدِهما دُونَ الآخرِ، فأشْبَهَتِ المَقْلِيَّةَ بالنِّيئَةِ. فأمّا الخُبْزُ، والهَرِيسَة، والفالُوذَجُ (¬2)، والنَّشاءُ، وأَشْبَاهُها، فلا يَجُوزُ بَيعُه بالحِنْطَةِ. وقال أصْحابُ أبي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، بناءً على مسألةِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وسَنَذْكُرُ ذلك إنْ شاءَ الله تعالى. ويَجُوزُ بَيعُ الحَبِّ بالدَّقِيقِ من غيرِ جنْسِه، والخُبْزِ وغيرِ ذلك، لعَدَم اشْتِراطِ المُماثَلَةِ بَينَهما. وقال ابنُ أَبِي مُوسَى: لا يَجُوزُ بَيعُ سَويقِ الشًّعِيرِ بالبُرِّ في رِوَايَةٍ. وذلك مَبْنِيٌّ على أنّ البُرَّ والشَّعِيرَ جِنْسٌ واحِدٌ، وقد ذَكَرْنَاهُ. 1684 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ أصْلِه بعَصِيرِه، ولا خالِصِه بمَشُوبِه، ولا رَطْبِه بِيَابِسِه، ولا نِيئه بمَطْبُوخِه) لا يَجُوزُ بَيعُ شَيءٍ من ¬

(¬1) المكُّوك: مكيال قديم يختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في اليلاد. (¬2) الفالوذج: حلواء هلامية رجراجة تعمل من الدقيق والماء والعسل ومواد أخرى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِ الرِّبَا بأَصْلِه الذي فيه منه، كالسِّمْسِمِ بالشَّيرَجِ، والزَّيتُونِ بالزَّيتِ، وسائِرِ الأدْهانِ بأُصُولِها، والعَصِيرِ بأَصلِه؛ كعَصِيرِ العِنَبِ، والرُّمَّانِ، والتُّفَّاحِ، والسَّفَرْجَلِ، وقَصَبِ السُّكَّرِ، لا يُباعُ شيءٌ منها بأَصْلِه. وبه قال الشّافِعِيُّ، و (¬1) ابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو ثَوْرٍ: يَجُوزُ وقال أبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إذا عَلِمَ أنّ ما في الأصْلِ من الدُّهْن والعَصِيرِ أقَلُّ من المُنْفَرِدِ، وإنْ لم يَعْلَمْ، لم يَجُزْ. ولَنا، أنّه مالٌ بِيعَ بأَصْلِه الذي هو منه، فلم يَجُزْ، كَبَيعِ اللَّحْمِ بالحَيَوانِ، وقد أثْبَتْنا ذلك بالنَّصِّ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ اللَّبَنِ بالزُّبْدِ، ولا بالسَّمْنِ، ولا بشيءٍ منِ فُرُوعِه؛ كاللِّبَأ (¬2) والمَخِيضِ، وسواءٌ كان فيه من غَيرِه أوْ لَا؛ لأنَّه مُسْتَخْرَجٌ من اللَّبَنِ، فلم يَجُزْ بَيعُه بأَصْلِه الذي فيه، كالسِّمْسِمِ بالشَّيرَجِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وعن أحمدَ، أنَّه يَجُوزُ بَيعُ اللَّبَنِ بالزُّبْدِ إذا كان الزُّبْدُ المُنْفَرِدُ أكثرَ من الزُّبْدِ الذي في اللَّبَنِ. وهذا يَقْتَضِي جوازَ بَيعِه به مُتَفَاضِلًا، ومَنْعَ جَوازِه مُتَماثِلًا. قال القاضِي: وهذه الرِّوَايَةُ لا تُخَرَّجُ على المَذْهَبِ؛ لأنَّ الشَّيئَينِ إذا دَخَلَهُما الرِّبَا، لم يَجُزْ بَيعُ أحَدِهما بالآخرِ ومعه من غيرِ جِنْسِه، كمُدِّ عَجْوَةٍ. والصَّحِيحُ أنّ هذه الرِّوَايَةَ دَالَّة على جَوازِ البَيعِ في مسألةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وكَوْنُها مُخالِفَةً لروايَاتٍ أُخَرَ ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «وقال». (¬2) اللبأ، كضلع: أول اللبن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَمْنَعُ كَوْنَها رِوَايَةً كسائِرِ الرِّوَاياتِ المُخَالِفَةِ لغَيرِها لكَوْنِها مُخَالِفَةً لظَاهِرِ المَذْهَبِ. والحُكْمُ في السَّمْنِ كالحُكْمِ في الزُّبْدِ. وأما اللَّبَنُ بالمَخِيضِ، فلا يَجُوزُ. نَصَّ عليه أحمدُ. ويَتَخَرَّجُ الجَوازُ، كالتي قَبْلَها. وأمّا اللَّبَنُ باللِّبَأَ فإنْ كان قبلَ أنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، جازَ مُتَماثِلًا؛ لأنَّهُ لَبَن بِلَبَنٍ. وإنْ مَسَّتْهُ النّارُ، لم يَجُزْ. وذَكَرَ القاضِي وجْهًا، أنّه يَجُوزُ. وليس بصحِيحٍ؛ لأنَّ النّارَ عَقَدَتْ أجْزَاءَ أحَدِهما، وذَهَبَتْ بِبَعْضِ رُطوبَتِه، فلم يَجُزْ بَيعُه بما لم تَمَسَّهُ النّارُ، كالخُبْزِ بالعَجِينِ، والمَقْلِيَّةِ بالنِّيئَةِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ الخالِصِ بالمَشُوبِ، كحِنْطَةٍ فيها شَعِيرٌ أو زُوانٍ (¬1) بخَالِصَةٍ أو غيرِ خالِصَةٍ، أو لَبَن مَشُوبٍ بخالِص أو مَشُوبٍ، أو اللَّبَنِ بالكِشْكِ أو الكَامَخِ (¬2). ويَتَخَرَّجُ الجوازُ إذا كان اللَّبَنُ أكثَرَ من اللَّبَنِ الذي في الكِشْكِ والكَامَخِ، بناغ على مُدِّ عَجْوَةٍ. ولا يَجُوزُ بَيعُ العَسَلِ في شَمْعِه بمِثْلِه، فإنْ كان الخَلْطُ يَسِيرًا، كحَبَّاتِ الشَّعِيرِ [في الحِنْطَةِ] (¬3)، ويَسِيرِ الترابِ والزُّوانِ الذي لا يَظْهَرُ في الكَيلِ، لم يُمْنَعْ؛ لأنَّه لا يُخِلُّ بالتَّمَاثُلِ. ولا يَجُوزُ بَيعُ التَّمْرِ بالدِّبْسِ والخَلِّ ¬

(¬1) في م: «رواب» والزوان والزؤان، عشب ينبت بين أعواد الحنطة غالبا، حبه كحبها إلا أنه أسود وأصفر، وهو يخالط البر فيكسبه رداءة. ويسميه أهل الشام الشَّيلَم. (¬2) الكامخ بفتح الميم وربما كسرت، نوع من الأدم معرب. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنّاطِفِ (¬1)، والقُطارَةِ (¬2)؛ لأنَّ بَعْضَها معه من غيرِ جِنْسِه، وبَعْضَها مائِعٌ، والتَّمْرُ جامِدٌ. ولا يَجُوزُ بَيعُ الناطِفِ بَعْضِه بِبَعْض، ولا بغَيرِه من المَصْنُوعِ من التَّمْرِ؛ لأنَّ مَعَهُما شَيئًا مَقْصُودًا من غيرِ جِنْمسِهما، فهو كمُدِّ عَجْوَةٍ، والعِنَبُ كالتَّمْرِ فيما ذَكَرْناه. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ المَشُوبِ بالمَشُوبِ، كالكِشْكِ والكامَخِ، ولا يَجُوزُ بَيعُ أَحَدِهِما بالآخَر، كمسألةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، ولا يَجُوزُ بَيعُ (¬3) نِيئهِ بمَطْبُوخِه؛ كالخُبْزِ بالعَجِينِ، والحِنْطَةِ المَقلِيَّةِ بالنِّيئةِ؛ لانه لا يَحْصُلُ التَّمَاثُلُ؛ لأنَّ النّارَ ذَهَبَت بِبَعْضِ رُطُوبَتِها وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. فصل: [ويَجُوزُ] (¬4) بَيعُ نَوْعٍ بنَوْعٍ آخَرَ إذا لم يَكُنْ فيه منه، فيَجُوزُ بَيعُ الزُّبْدِ بالزُّبْدِ، والسَّمْنِ بالمَخِيضِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، مُتَماثِلًا ومُتَفَاضِلًا؛ لأنَّهُما جِنْسَانِ من أصْلٍ واحِدٍ، أشْبَها اللَّحْمَ والشَّحْمَ. وممَّنْ أجازَ بَيعَ الزُّبْدِ بالمَخِيضِ؛ الثَّوْرِيُّ، والشَّافِعِيُّ، وإسْحاقُ؛ لأنَّ اللَّبَنَ الذي في الزُّبْدِ غيرُ مَقْصُودٍ، وهو يَسِيرٌ، فلم يَمْنَعْ، كالمِلْحِ في الشَّيرَجِ. وبَيعُ السَّمْنِ بالمَخِيضِ أوْلَى بالجَوازِ؛ لخُلُوِّه من اللَّبَنِ ¬

(¬1) الناطف: السائل من المائعات، وضرب من الحلوى. (¬2) القطارة: ما قطر من الحب ونحوه. (¬3) سقط من: م. (¬4) في ق، م: «ولا يجوز». ومطموسة بالأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَخِيضِ. ولا يَجُوزُ بَيعُ الزُّبْدِ بالسَّمْنِ؛ لأنَّ في الزُّبْدِ لَبَنًا يَسِيرًا، ولا شيءَ في السَّمْنِ، فيَخْتَلُّ التَّماثُلُ، ولأنَّه من الزُّبْدِ، فلم يَجُزْ بَيعُه، كالزَّيتُونِ بالزَّيتِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. واخْتَارَ القاضِي جَوازَهُ؛ لأنَّ اللَّبَنَ الذي في الزُّبْدِ غيرُ مَقْصُودٍ، فوُجُودُه كعَدَمِه، ولهذا جازَ بَيعُ الزُّبْدِ بالمَخِيضِ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ التماثُلَ شَرْطٌ، وانْفِرادُ أحَدِهما بوُجُودِ اللَّبَنِ فيه يُخِلُّ بالتّماثلِ، فلم يَجُزِ البَيعُ، كتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى بما نَواهُ فيه، ولأنَّ أحَدَهما يَنْفَرِدُ برُطُوبَةٍ لا تُوجَدُ في الآخَرِ، أشْبَهَ الرُّطَبَ بالتَّمْرِ، وكُلَّ رَطْبٍ بِيابِسٍ من جِنْسِه. ولا يَجُوزُ بَيعُ شيءٍ من الزُّبْدِ والسَّمْنِ والمَخِيضِ بشيءٍ من أنْواعِ اللَّبَنِ، كالجُبْنِ واللِّبَأَ ونحوهِما؛ لأنَّ هذه الأنْواعَ لم يُنْزَعْ منها شيء، فهي كاللَّبَنِ الذي فيه زُبْدُه، فلم يَجُزْ بَيعُها به، كبَيعِ اللَّبَنِ بها. وأمّا بَيعُ الجبْنِ بالأقطِ، فلا يَجُوزُ بَيعُ رُطُوبَتِهما أو رُطُوبَةِ أحَدِهما، كما لا يَجُوزُ بَيع الرُّطَبِ بالتمْرِ. وإنْ كانَا يابِسَينِ احْتَمَلَ المَنْعَ؛ لأنَّ الجُبْنَ مَوْزُونٌ والأقِطَ مَكِيلٌ، فأشْبَهَ بَيعَ الخُبْزِ بالدَّقِيقِ. ويحْتَمِلُ الجَوازَ إذا تَماثَلَا، كبَيعِ الجُبْنِ بالجُبْنِ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ رَطْبٍ بِيابِس، كالرُّطَبِ بالتمْرِ، والعِنَبِ بالزَّبِيبِ، والحِنْطَةِ المَبْلُولَةِ أو الرَّطْبَةِ باليابِسَةِ، والمَقْلِيَّةِ بالنِّيئَةِ، ونحو ذلك. وبه قال سَعْدُ بنُ أبي وَقّاصٍ، وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، واللَّيثُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ، وأبو يُوسُفَ، ومحمّدٌ. وقال أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَنِيفَةَ: يَجُوزُ (¬1)؛ لأنَّه إمّا أنْ يكونَا جِنْسًا، فيَجُوزُ مُتَماثِلًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلًا بمِثْلٍ» (¬2). أو يكُونَا جِنْسَينَ، فيَجُوزُ؛ لقَوْلِه عليه السّلامُ: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأصْنَافُ، فبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ يدًا بِيَدٍ» (¬3). ولَنا، قَوْلُه عليه السّلامُ: «لا تَبِيعُوا التَّمْرَ بالتَّمْرِ». وفي لَفْظٍ: نَهَى عن بَيعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ، ورَخَّصَ في (¬4) العَرِيَّةِ أنْ تُباعَ بخَرْصِهَا، يأكُلُها أهلُها رُطَبًا. مُتَّفَقٌ عليهما (¬5). وعن سَعْدٍ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ، قال: «أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟» قالُوا: نعم. فنَهَى. عن ذلك. رَواهُ مالِكٌ، وأبو داوُدَ، والأثْرَمُ، وابنِ ماجه (¬6). وفي رِوَايَةِ الأثْرَمِ، قال: «فَلَا إذَنْ». نَهَى وعَلَّلَ بأنَّه ¬

(¬1) في م: «لا يجوز». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬4) بعده في الأصل، م: «بيع». (¬5) الأول أخرجه البخاري، في: باب بيع المزابنة. . . .، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 98. ومسلم، في: باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1168. كما أخرجه النسائي، في: باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 231. والثاني أخرجه البخاري، في: باب المزابنة. . . .، وباب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة، من كتاب البيوع. وباب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، من كتاب المساقاة. صحيح البخاري 3/ 99، 150. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1169.كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع العرايا، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 226. والنسائي، في: باب بيع العرايا بخرصها تمرا، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 235. وابن ماجه، في: باب بيع العرايا بخرصها تمرا، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 762. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 190، 364. (¬6) أخرجه أبو داود، في: باب في التمر بالتمر، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 225. وابن ماجه، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْقُصُ إذا يَبِسَ. ورَوَى مالِكٌ (¬1) عن نافِع، عن ابنِ عمرَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُزَابَنَةِ؛ والمُزَابَنَةُ: بَيعُ الرُّطَب بالتَّمْرِ كَيلًا، وبَيعُ العِنَبِ بالزَّبِيبِ كَيلًا. ولأنَّه جِنْسٌ فيه الرِّبَا بِيعَ بَعْضُه بِبَعْضٍ على وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أحَدُهما بالنُّقْصَانِ، فلم يَجُزْ، كبَيعِ المَقْلِيَّةِ بالنيئَةِ، ولا يَلْزَمُ الحدِيثُ (¬2) بالعَتِيقِ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ يَسِيرٌ. قال الخَطّابِيُّ (¬3): وقد تَكَلَّمَ بعضُ النّاسِ في إسْنادِ حَدِيثِ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ في بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ. وقال: زيدٌ أبو عَيَّاش رَاويه ضَعِيف. وليس الأمْرُ على ما تَوَهَّمَه، وأبو عَيَّاشٍ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ مَعْرُوفٌ، وقد ذَكَرَه مالِكٌ في «المُوَطَّأ»، ¬

= في: باب بيع الرطب بالتمر، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 761. والإمام مالك، في: باب ما يكره من بيع التمر، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 624. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 233. والنسائي، في: باب اشتراء التمر بالرطب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 236. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 175. ورواية الأثرم أخرجها الحاكم، في: كتاب البيوع. المستدرك 2/ 38. (¬1) في: باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 624. كما أخرجه البخاري، في: باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام، وباب بيع المزابنة، وباب بيع الزرع بالطعام كيلا، من كتاب البيوع، وفي: باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، من كتاب الشرب. صحيح البخاري 3/ 96، 98، 102، 151. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرطب إلا في الجرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1168، 1171. والنسائي، في: باب بيع التمر بالتمر، وباب بيع الكرم بالزبيب، وباب بيع العرايا بالرطب، وباب بيع الزرع بالطعام، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 234، 236، 237. وابن ماجه، في: باب المزابنة والمحاقلة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 761، 762. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 5، 7، 16، 63، 64، 108، 123، 392، 3/ 6، 8، 60، 464. (¬2) في ر 1: «الجديد». (¬3) في: معالم السنن 3/ 78.

1685 - مسألة: (ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، ومطبوخه بمطبوخه، وخبز؛ بخبزه إذا استويا في النشاف، وعصيره بعصيره، ورطبه برطبه)

وَيَجُوزُ بَيعُ دَقِيقِهِ بِدَقِيقِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النُّعُومَةِ، وَمَطْبُوخِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَخُبْزِهِ بِخُبْزِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النَّشَافِ، وَعَصِيرِهِ بِعَصِيرِهِ، وَرَطْبِهِ بِرَطْبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو لا يَرْوي عن مَتْرُوكِ الحَدِيثِ. 1685 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيعُ دَقِيقِه بدَقِيقِه إذا اسْتَوَيَا في النُّعُومَةِ، ومَطْبُوخِه بمَطْبُوخِه، وخُبْزِ؛ بخُبْزِه إذا اسْتَوَيَا في النّشافِ، وعَصِيرِه بعَصِيرِه، ورَطْبِه برَطْبِه) يَجُوزُ بَيعُ كُلِّ واحِدٍ مِن الدَّقِيقِ والسَّويقٍ بنَوْعِه مُتَسَاويًا. وبه قال أبو حَنِيفَةَ. والمَشْهُورُ عن الشَّافِعِيِّ المَنْعُ؛ لأَنَّه يُعْتَبَرُ تَساويهما حالةَ الكَمَالِ، وهو حالُ كَوْنِها (¬1) حبًّا، وقد فات ذلك؛ لأنَّ أحَدَ الدَّقِيقَينِ يكونُ مِن حِنْطَةٍ رَزِينَةٍ، والآخَرَ مِن خَفِيفَةٍ، فيَسْتَويانِ دَقِيقًا، ولا يَسْتَويَانِ حَبًّا. ولَنا، أنَّهُما تَسَاوَيَا حال العَقْدِ على وَجْهٍ لا يَنْفَرِدُ أحَدُهما بالنُّقْصَانِ، فجازَ، كبَيعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّما يُبَاعُ بَعْضُه بِبَعْضٍ كَيلًا؛ لأنَّ الحِنْطَةَ مَكِيلَة، ولم يُوجَدْ في الدَّقِيقِ والسَّويقِ ما يَنْقُلُهُما عن ذلك. ويُشْتَرَطُ تَساويهما في النُّعُومَةِ. ذَكَرَه أصْحَابُنا. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّهُما إذا تَفَاوَتا في النُّعُومَةِ، تَفَاوَتَا في ¬

(¬1) في م: «كونهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثانِي الحالِ، فيَصِيرُ كبَيعِ الحَبِّ بالدَّقِيقِ وَزْنًا. وذكَرَ القاضِي أنَّ الدَّقِيقَ يُباعُ بالدَّقِيقِ وَزْنًا. ولا وَجْهَ له، وقد سَلَّمَ في السَّويقِ أنَّه يُباعُ بالكَيلِ، والدَّقِيقُ مِثْلُه. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ الدَّقِيقِ بالسَّويقِ. وبه قال الشّافِعِيُّ. وعنه الجَوَازُ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما أجزَاءُ حِنْطَةٍ ليس معه غيرُه، أشْبَهَ السَّويقَ بالسَّويقِ. ولَنا، أنَّ النَّارَ قد أخَذَت مِن السَّويقِ، فلم يَجُزْ بَيعُه بالدَّقِيقِ، كالمَقْلِيَّةِ بالنِّيئَةِ. ورُوِيَ عن مالِكٍ، وأبي يُوسُفَ، ومحمّدٍ، وأبي ثَوْرٍ، جَواز بَيعِ أحَدِهما بالآخَرِ مُتَفَاضِلًا؛ لأنَّهُما جِنْسَانِ. ولَنا، أنَّهما أجْزَاءُ جِنْسٍ واحِدٍ؛ فأَشْبَهَ بَيعَ أحَدِهما بجِنْسِه. فصل: ويَجُوزُ بَيعُ مَطْبُوخِه بمَطْبُوخِه، كاللِّبَأَ بمِثْلِه، والجُبْنِ بالجُبْنِ، والأَقِطِ بالأَقِطِ، والسَّمْنِ بالسَّمْنِ، مُتَسَاويًا. ويُعْتَبَر التَّسَاوي بينَ الأقِطِ والأَقِطِ بالكَيلِ، ولا يُباعُ ناشِفٌ مِن ذلك برَطْبٍ، كما لا يُباعُ الرّطَبُ بالتمْرِ، ويُباعُ الجبنُ بالجبنِ بالوَزْنِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ كَيلُه، أَشْبَهَ الخُبْزَ. وكذلك الزُّبْدُ والسَّمْن. ويَتَخرَّجُ أنْ يُباعَ السَّمْنُ بالكَيلِ، كالشَّيرَجِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ بَيعُ الخُبْز بالخُبْز وَزْنًا، وكذلك النَّشاءُ بنَوْعِه، إذا تَسَاوَيَا في النَّشَافَةِ والرُّطُوبَةِ. ويُعْتَبَرُ التَّسَاوي في الوَزْنِ، لأنَّه يُقَدَّرُ به عادَةً، ولا يُمْكِنُ كَيلُه. وقال مالِكٌ: إذا تَحَرَّى المُمَاثَلَةَ، فلا بَأْسَ به وإنْ لم يُوزَنْ. وبه قال الأوْزَاعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وحُكِيَ عن أبي حَنِيفةَ: لا بَأْسَ به قُرْصًا بقُرْصَينِ. وقال الشّافِعِيُّ: لا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْض بحالٍ، إلَّا أنْ يَيبَسَ ويُدَقَّ دَقًّا ناعِمًا ويُباعَ بالكَيلِ، ففيه قَوْلانِ؛ لأنَّه مَكِيل، ويَجبُ التَّسَاوي فيه، ولا يمكِنُ كَيلُه، فَتَعَذَّرَتِ المُسَاوَاةُ فيه، ولأنَّ في كُلِّ واحِدٍ منهما مِن غيرِ جِنْسِه، فلم يَجُزْ بَيعُه، كالمَغْشُوشِ مِن الذَّهَبِ والفِضَّةِ وغَيرِهما. ولَنا على وُجُوبِ التَّسَاوي، أنَّه مَطْعُومٌ مَوْزُونٌ، فَحَرُمَ التَّفَاضُلُ بَينَهُما، كاللَّحْمِ واللَّبَنِ. ومتى وَجَبَ التَّسَاوي، وَجَبَتْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ التَّسَاوي في المِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، كالحِنْطَةِ بالحِنْطَةِ، والدَّقِيقِ بالدَّقِيقِ. ولَنا على الشّافِعِيِّ، أنَّ مُعْظَمِ نَفْعِه في حالِ رُطُوبَتِه، فجازَ بَيعُه به، كاللَّبَنِ باللَّبَنِ. ولا يَمْتَنِعُ أنْ يكون مَوْزُونًا أصْلُه مَكِيلٌ، كالأدْهانِ. ولا يجوزُ بَيعُ الرَّطْبِ باليابِسِ، لانْفِرَادِ أحَدِهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنَّقْصِ ثانِي الحالِ، فأشْبَهَ الرُّطَبَ بالتَّمْرِ. ولَا يَمْنَعُ زِيَادَة أخْذِ النّارِ من أحَدِهما أكثَرَ من الآخَرِ إذا لم يَكْثرْ؛ لأنَّ ذلك يَسِيرٌ، ولا يُمكِن التَّحَرُّز منه، أشْبَهَ بَيعَ الحَدِيثَةِ بالعَتِيقَةِ، وما فيه من المِلْحِ والماءِ غير مَقْصودٍ، ويُرَادُ لمَصْلَحَتِه، فهو كالمِلْحِ في الشَّيرَجِ. فإنْ يَبِسَ الخُبْزُ ودُقَّ وصارَ فَتِيتًا، بِيعَ بمِثْلِه كَيلًا؛ لأَنَّه أمْكَنَ كَيلُه، فَردَّ إلى أصْلِه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: فيه وَجْهٌ أنّه يُباعُ بالوَزْنِ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إليه. فصل: فأمّا ما فيه غيره من فرُوعِ الحِنْطَةِ ممّا هو مَقْصُودٌ، كالهَرِيسَةِ، والخَزِيرَةِ (¬1)، والفالُوذَجِ، وخبْزِ الأبازِيرِ، والخُشْكَنَانَجِ (¬2)، والسَّنْبُوسَكِ (¬3)، ونحوه، فلا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْضٍ، ولا بَيعُ نَوعٍ بنَوْعٍ آخرَ؛ لأنَّ كُل واحِدٍ منهما يَشْتَمِلُ على ما ليس من جِنْسِه، وهو مَقْصُود، كاللَّحْمِ في الهَرِيسَةِ، والعَسَلِ في الفَالُوذَجِ، والماءِ والدُّهْنِ في الخَزِيرَةِ، ويكْثُرُ التَّفَاوتُ في ذلك، نلا يَتَحَقَّق التَّماثُلُ فيه. وحُكْمُ سائِرِ الحُبُوبِ حُكْمُ الحِنْطَةِ فيما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) الخزيرة: لحم يقطع قطعا صغارا، ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذُرَّ عليه الدقيق وعصد به، ثم أُدِمَ بإدام. (¬2) في الأصل: «الخشنيانك» وفي ق «الخيشنايك» وفي ر 1: «الخشنكيالك». وهي خبزة تصنع من خالص دقيق الحنطة، وتملأ بالسكر واللوز والفستق وتقلى. (¬3) السَّنبوسك: عجين معجون بالسمن يحشى باللحم المطبوخ البارد والجوز.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجُوزُ بَيعُ الحِنْطَةِ والمَصْنُوعِ منها، بغيرِها من الحبُوبِ والمَصْنُوعِ منها؛ لعَدَمِ اشْتِراطِ المُماثَلَةِ بَينَهُما. فصل: ويَجُوزُ بَيعُ العَصِيرِ بجِنْسِه، مُتَماثِلًا ومُتَفَاضِلًا بغيرِ جِنْسِه وكيف شاءَ؛ لأنَّهُما جِنْسَانِ، ويُعْتَبَرُ التَّسَاوي فيهما بالكَيلِ؛ لأنَّه يُقَدَّرُ به ويُباعُ به عادَةً. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وسَواءٌ كانَا مَطْبُوخَينِ أو نِيئَينِ. وقال أصْحابُ الشّافِعِيِّ: لا يَجُوزُ بَيعُ المَطْبُوخِ بجِنْسِه؛ لأنَّ النّارَ تَعْقِدُ أجْزَاءَهما، فيَخْتَلِفُ، ويُؤَدِّي إلى التَّفَاضُلِ. ولَنا، أنّهُما مُتَسَاويَانِ في الحالِ على وَجْهٍ لا يَنْفَرِدُ أحَدُهما بالنَّقْصِ (¬1)، فأَشْبَهَ النِّئَ بالنِّئِ. فأَمّا بَيعُ النِّئِ بالمَطْبُوخِ من جِنْس واحِدٍ، فلا يَجُوزُ؛ لأنَّ أحَدَهُما يَنْفَرِدُ بالنَّقْصِ في ثانِي الحالِ، أشْبَهَ الرُّطَبَ بالتَّمْرِ، وقد ذَكَرْناه. وإنْ باعَ عَصِيرَ شيءٍ من ذلك بِثُفْلِهِ (¬2)، فإنْ كان فيه بَقِيَّةٌ من المُسْتَخْرَجِ منه، لم يَجُز بَيعُه به، فلا يَجُوزُ بَيعُ الشَّيرَجِ بالكُسْبِ، ولا الزَّيتِ بِثُفْلِه الذي فيه بَقِيَّةٌ من الزَّيتِ، إلَّا على قَوْلِنا بجَوَازِ مُدِّ عَجْوَةٍ. ¬

(¬1) في ق: «بالقبض». (¬2) الثُّفْل: حُثالة الشيء، وهو الثخين الذي يبقى أسفل الصافي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنْ لم يَبْقَ فيه شيءٌ من عَصِيرِه، جازَ بَيعُه به مُتَفَاضِلًا ومُتَمَاثِلًا؛ لأنَّهُما جِنْسَانِ. فصل: ويَجُوزُ بَيعُ الرُّطَبِ بالرُّطَبِ، والعِنَبِ بالعِنَبِ، ونحوه من الرُّطَبِ بمِثْلِه، في قَوْلِ الأَكْثَرِينَ. ومَنَعَ منه الشّافِعِيُّ فيما يَيبَسُ. فأمّا ما لا يَيبَسُ، كالقِثَّاءِ والخِيارِ ونحوه، فعلى قَوْلَينِ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ تَساويهما حالةَ الادِّخارِ، فأشْبَهَ الرُّطَبَ بالتَّمْرِ. وذهَبَ أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ إلى هذا، وقال: ويَحْتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ؛ لقَوْلِه في اللَّحْمِ: لا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْض رَطْبًا. قال شَيخُنا (¬1): ومَفْهُومُ كلامِ الخِرَقِيِّ إباحَتُه ههُنا؛ لأنّه قال: ولا يُباعُ شيءٌ من الرَّطْبِ بِيابِس من جِنْسِه. مَفْهُومُه جَوازُ الرُّطَبِ بالرُّطَبِ. ولَنا، أنَّ نَهْيَهُ عليه السّلامُ عن بيعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ، يَدُلُّ بمَفْهُومِه على إباحَةِ بَيعِ كُلِّ واحِدٍ منهما بمِثْلِه. ولأنَّهُما تَسَاوَيَا في الحالِ على وَجْهٍ لا يَنْفَرِدُ أحَدُهما بالنُّقْصَانِ، فجازَ، كبَيعِ اللَّبَنِ باللَّبَنِ، والتَّمْرِ بالتَّمْرِ، ولأنَّ قولَه تَعالى: (وَأحلَّ الله الْبَيعَ) (¬2). عامٌّ خرَجَ منه المَنْصُوصُ عليه، وهو بَيعُ التَّمْرِ بالتَّمْرِ، وليس هذا في مَعْناهُ فبَقِيَ على العُمُومِ، وقِياسُهم لا يَصِحُّ، فإنَّ التَّفَاوُتَ كَثِيرٌ، ويَنْفَرِدُ أحَدُهما ¬

(¬1) في: المغني 6/ 69. (¬2) سورة البقرة 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنُّقْصَانِ، بخِلافِ مَسْألتِنا. ولا بَأْسَ بِبَيعِ الحَدِيثِ بالعَتِيقِ؛ لأنَّ التَّفَاوُتَ فيه يَسِيرٌ ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه، فَعُفِيَ عنه. فصل: ويَجُوزُ بَيعُ القُطَارَةِ والدِّبْس والخَلِّ، كلُّ نوْعٍ بَعْضُه بِبَعْضٍ مُتَسَاويًا. قال أحمدُ في رِوايَةِ مُهَنّا في خَلِّ الدَّقَلِ: يَجُوزُ بَيعُ بعْضِه ببَعْضٍ مُتَسَاويًا؛ لأنَّ الماءَ في كُلِّ واحِدٍ منهما غيرُ مَقْصُودٍ، وهو من مَصْلَحَتِه، فلم يَمْنَعْ جوازَ البَيعِ، كالخُبْزِ بالخُبْزِ، والتَّمْرِ بالتَّمْرِ، في كُلِّ واحِدٍ منهما نَواهُ. ولا يُباعُ نوعٌ بآخَرَ، لأنَّ في كُلِّ واحِدٍ منهما من غيرِ جِنْسِه يَقِلّ ويَكْثُرُ، فيُفْضِي إلى التَّفاضُلِ. والعِنَبُ كالتَّمْرِ، إلَّا أنّه لا يُباعُ خَلّ العِنَبِ بخَلِّ الزَّبِيبِ؛ لانْفِرادِ أحَدِهما بما ليس من جِنْسِه. ويَجُوزُ بَيعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بعضِهِ بِبَعْض، كخَلِّ العِنَبِ، وخَلِّ التَّمْرِ. فصل: ويَجُوزُ بَيعُ اللَّحْمِ باللَّحْمِ رَطْبًا. نَصَّ عليه. وقال الخِرَقِيُّ: لا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه ببَعْضٍ إلَّا إذا تَناهَى جَفافُه. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. واخْتَارَه أبو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ في «شَرْحِه». قال القاضِي: والمذْهَبُ جَوازُ بَيعِه. ونَصُّ أحمدَ على جَوازِ بَيعِ الرُّطَبِ بالرُّطَبِ، تَنْبِيهٌ على إباحَةِ بَيعِ اللَّحْمِ باللَّحْمِ، من حيث كان اللَّحْمُ حالُ كمالِه ومُعْظَمُ نَفْعِه في حالِ رُطُوبَتِه دونَ حالِ يُبْسِه، فجَرَى مَجْرَى اللَّبَنِ، بخِلافِ الرُّطَبِ؛ فإنّ

1686 - مسألة: (ولا يجوز بيع المحاقلة؛ وهو بيع الحب في سنبله بجنسه. وفي بيعه بغير جنسه وجهان)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ الْمُحَاقَلَةِ؛ وَهُوَ بَيعُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ بِجِنْسِهِ. وَفِي بَيعِهِ بِغَيرِ جِنْسِهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حال كمالِه ومُعْظَمَ نَفْعِه في حالِ يُبْسِه، فإذا جازَ فيه البَيعُ، ففي اللَّحْمِ أوْلَى. فأمّا بَيعُ رَطْبِه بيابِسِه، ونِيئِه بمَطْبُوخِه، فلا يَجُوزُ، لانْفِرادِ أحَدِهما بالنَّقْصِ ثانِي الحالِ، فلم يَجُزْ، كالرُّطَبِ بالتَّمْرِ. قال القاضِي: ولا يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْضٍ إلَّا مَنْزُوعَ العِظَامِ، كما لا يَجُوزُ بَيعُ العَسَلِ بمِثْلِه إلَّا بعدَ التَّصْفِيَةِ. وهذا أحَدُ الوَجْهَينِ لأصْحَابِ الشافِعِيِّ. وكلامُ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، يَقْتَضِي الإِباحَةَ مُطْلَقًا، فإنَّه قال في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذا صارَ إلى الوَزْنِ رَطْلًا برَطْل، مِثْلًا بمِثْلٍ. فأطْلَقَ ولم يَشْتَرِطْ شَيئًا. ولأنَّ العَظْمَ تاجٌ للَّحْمِ بأَصْلِ الخِلْقَةِ، فأشْبَهَ النَّوَى في التَّمْرِ. وفارَقَ العَسَلَ في أنَّ اخْتِلاطَ الشَّمْعِ به من فِعْل النَّحْلِ، لا من أصْلِ الخِلْقَةِ. 1686 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ المُحاقَلَةِ؛ وهو بَيعُ الحَبِّ في سُنْبُلِه بجِنْسِه. وفي بَيعِه بغَيرِ جِنْسِه وَجْهانِ) وذلك لِما رَوَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البُخَارِيُّ (¬1) عن أنَسٍ، قال: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن المُحَاقَلَةِ، والمُخاضَرَةِ، والمُلَامَسَةِ، والمُنَابَذَةِ، والمُزَابَنَةِ. والمُخَاضَرَةُ؛ بَيعُ الزَّرْعِ الأخْضَرِ. والمُحَاقَلَةُ؛ بَيعُ الزَّرْعِ في الحُقُولِ بحَبٍّ من جِنْسِه. قال جابِرٌ: المُحَاقَلَةُ أنْ يَبِيعَ الزَّرْعَ بمائَةِ فَرْقٍ حِنْطَةً (¬2). وقال الأزْهَرِيُّ (¬3)؛ الحَقْلُ؛ القَراحُ؛ المَزْرُوعُ. وفَسَّرَه أبو سَعِيدٍ باسْتِكْرَاءِ ¬

(¬1) في: باب بيع المخاضرة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 102، 103. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب المزابنة والمحاقلة، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 307. (¬3) في تهذيب اللغة، (ح ق ل) 4/ 47، 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرْضِ بالحِنْطةِ. ولأنَّه بَيعُ الحَبِّ بجِنْسِه جُزَافًا من أحَدِ الجانِبَينِ، فلم يَجُزْ، كما لو كانَا على الأرْضِ. فأمَّا بَيعُه بغَيرِ جِنْسِه، فإنْ كان بدَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ، جازَ؛ لأنَّ نَهْىَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعَ الحَبِّ حتى يَشْتَدَّ (¬1). يَدُلُّ على جَوازِ ذلك إذا اشْتَدَّ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ. وإنْ باعَهُ بحَبٍّ، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَجُوزُ، لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اخْتَلَفَ الجِنْسَانِ فبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» (¬2). والثاني، لا يَجُوزُ، لعُمُومِ الحَدِيثِ المذكورِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 227. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 236. وابن ماجه، في: باب النهي عن بيع الثمار قبل أن لدو صلاحها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 747. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 221، 250. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9.

1687 - مسألة: (ولا)

وَلَا الْمُزَابَنَة؛ وَهِيَ بَيعُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ، إلا فِي الْعَرَايَا؛ وَهِي بَيعُ الرُّطَب فِي رُءُوسِ النَّخْلِ خَرْصًا بِمِثْلِهِ مِنَ التَّمْرِ كَيلًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ لِمَنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1687 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ بَيعُ (المُزَابَنَةِ؛ وهو بَيعُ الرُّطَبِ في رُءُوسِ النَّخْلِ بالتَّمْرِ، إلَّا في العَرَايا؛ وهي بَيعُ الرُّطَبِ في رءُوسِ النَّخْلِ خرْصًا بمثْلِه من التَّمْرِ كيلًا فيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ لمن به حاجَةٌ إلى أَكْلِ الرُّطَبِ ولا ثَمَنَ معه) لا يَجُوزُ بَيعُ المُزَابَنَةِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُزَابَنَةِ، وهو بَيعُ الثَّمَرِ (¬1) بالتَّمْرِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورَوَى البُخارِيُّ، عن أنس، أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُزَابَنَةِ. فأمّا العَرَايَا، فيَجُوزُ في الجُمْلَةِ، وهو قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم مالِكٌ في أهْلِ المَدِينةِ، والأوْزَاعِيُّ في أهْلِ الشامِ، والشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَحِلُّ بَيعُها؛ لِما ذَكَرْنَا من الحَدِيثِ. ولأنَّه ¬

(¬1) في م: «الرطب». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعُ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ من غيرِ كَيلٍ في أحَدِهِما، فلم يَجُزْ، كما لو كان على وَجْهِ الأرْضَ. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ في العَرَايَا في خَمْسَةِ أَوسُقٍ، أو دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورَواهُ زَيدُ بنُ ثابِتٍ، وسَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ وغيرُهما. وحَدِيثُهم في سِيَاقِه: «إلَّا العَرَايَا». كذلك في المُتَّفَقِ عليه (¬2). وهذه زِيَادَةٌ يَجِبُ الأخْذُ بها. ولو قُدِّرَ التَّعَارُضُ وَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثنا؛ لخُصُوصِه، جَمْعًا بين الحَدِيثين، وعَمَلًا بكِلَا النَّصَّينِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: الذي نَهَى عن المُزَابَنَةِ هو الذي أرْخَصَ في العَرايَا، وطَاعَةُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أوْلَى. والقِياسُ لا يُصارُ إليه مع النَّصِّ، مع أنَّ في الحَدِيثِ أنّه أرْخَصَ في العَرَايَا. والرُّخْصَةُ اسْتِباحَةُ المَحْظُورِ مع وجُودِ السَّبَبِ الحاظِرِ، فلو مَنَعَ وُجُودُ السَّبَبِ من الاسْتِبَاحَةِ، لم يَبْقَ لَنَا رُخْصَةٌ بحالٍ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 99. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1171. كما أخرجه أبو داود، في: باب في مقدار العرية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 226. والنسائي، في: باب بيع العرايا بالرطب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 235. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 237. (¬2) حديث زيد بن ثابت يأتي تخريجه في صفحة 69. وحديث سهل يأتي تخريجه في صفحة 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنّما يَجُوزُ بشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أحَدُها، أنْ يكُونَ فيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، ولا خِلافَ في أنّها لا تَجُوزُ في زِيادَةٍ على خَمْسَةِ أوْسُقٍ، وأنّها تَجُوزُ فيما نَقَصَ عن خَمْسَةِ أوْسُقٍ، عندَ القائِلِينَ بجَوازِها. فأمّا الخَمْسَةُ الأوْسُقُ، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنّه لا يَجُوزُ فيها. وبه قال ابنُ المُنْذِرِ، والشّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيه. وقال مالِكٌ، والشّافِعِيُّ في قَوْلٍ: يَجُوزُ. ورَواهُ إسْماعِيلُ بنُ سَعِيدٍ عن أحمدَ؛ لأنَّ في حَدِيثِ زَيدٍ وسَهْلٍ أنّه رَخَّصَ في العَرَايَا مُطْلَقًا، ثم استَثْنَى ما زادَ على الخَمْسَةِ، وشَكَّ الرّاوي في الخَمْسَةِ، فبَقِيَ المَشْكُوكُ فيه على أصْلِ الإِباحَةِ. ولَنا، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُزَابَنَةِ. والمُزَابَنَةُ؛ بَيعُ الثَّمَرِ (¬1) بالتَّمْرِ، ثم أزخَصَ في العَرِيَّةِ فيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ. وشَكَّ في الخَمْسَةِ، فيَبْقَى على العُمُومِ في التَّحْرِيمِ. ولأنَّ العَرِيَّةَ رُخْصَةٌ بُنِيَتْ على خِلافِ النَّصِّ والقِياسِ فيما دُونَ الخَمْسَةِ، والخَمْسَةُ مَشْكُوكٌ فيها، فلا تَثْبُتُ إِباحَتُها مع الشَّكِّ. ورَوَى ابنُ المُنْذِرِ (¬2) بإسْنَادِه، أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ ¬

(¬1) في ق، م: «الرطب». (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب ما يجوز من بيع العرايا، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بيعِ العَرِيَّةِ في الوَسْقِ والوَسْقَينِ والثّلاثَةِ والأرْبَعَةِ. والتَّخْصِيصُ بهذا يَدُلُّ على أنَّه لا تَجُوزُ الزِّيادَةُ في العَدَدِ عليه، كما اتَّفَقْنا على أنَّه لا تَجُوزُ الزّيَادَةُ على الخَمْسَةِ؛ لِتَخْصِيصِه إيّاهَا بالذِّكْرِ. ولأنَّ خَمْسَةَ الأوْسُقِ في حُكْمِ ما زادَ عليها في وجُوبِ الزَّكاةِ فيها دونَ ما نَقَصَ عنها. فأمّا قَولُهم: أرْخَصَ في العَرِيَّةِ مُطْلَقًا. فلم يَثْبُتْ أنّ الرُّخْصَةَ المُطْلَقَةَ سابِقَةٌ على الرُّخصَةِ المُقَيَّدَةِ، ولا مُتَأخِّرَةٌ عنها، بل الرُّخْصَةُ واحِدَة، رَوَاها بَعْضُهم مُطْلَقَةً وبعضُهم مُقَيَّدَةً، فيَجِبُ حَمْلُ المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ، ويَصِيرُ القَيدُ المَذْكُورُ في أحَدِ الحَدِيثَينِ كأنَّه مَذْكُورٌ في الآخَرِ، ولذلك يُقَيَّدُ فيما زادَ على الخَمْسَةِ، اتّفَاقًا. فصل: ولا يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِيَ أكْثَرَ من خَمْسَةِ أوْسُقٍ فيما زادَ على صَفْقَةٍ، سواءٌ اشْتَرَاهَا مِن واحِدٍ أو مِن جَماعَةٍ. وقال الشّافِعِيُّ: يَجُوزُ للإِنْسانِ بَيعُ جميعِ حائِطِه عَرايَا، مِن رِجُلٍ واحِدٍ، ومِن رِجَالٍ في عُقُودٍ مُتَكَرِّرَةٍ، لعُمُومِ حَدِيثِ زيدٍ، ولأن كُلَّ عَقدٍ جازَ مَرَّةً جازَ أنْ يتَكَرَّرَ، كسائِرِ البُيُوعِ. ولَنا، عمومُ النَّهْي عن المُزَابَنَةِ، اسْتَثْنَى منه العَرِيَّةَ فيما دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ، فما زادَ يَبْقَى على العُمُومِ في التَّحْرِيمِ. ولأنَّ ما لا يَجُوزُ عليه العَقْدُ مَرَّةً إذا كان نَوْعًا واحِدًا، لا يَجُوزُ في عَقدَينِ، كالذي على وَجْهِ الأرْضِ، وكالجَمْعِ بين الأخْتَينِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُعْتَبَرُ حاجَةُ البائِعِ، فلو باعَ رَجُلٌ عَرِيَّةً من رَجُلَينِ فيها أكثرُ من خَمْسَةِ أوْسُقٍ، جازَ. وقال أبو بكْرِ، والقاضِي: لا يَجُوزُ، لِما ذَكَرْنا في المُشْتَرِي. ولَنا، أنّ المُغَلِّبَ في التَّجْويزِ حاجَةُ المُشْتَرِي، بدَلِيلِ ما رَوَى محمودُ بنُ لَبِيدٍ، قال: قُلْتُ لزَيدِ بنِ ثابِتٍ: ما عَرَايَاكُم هذه؟ فسمّى رِجَالًا مُحْتاجِينَ من الأنْصَارِ شَكَوْا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي، ولا نَقْدَ بأيدِيهِم يَبْتَاعُونَ به رُطَبًا يأْكُلُونَه، وعِنْدَهم فُضُولٌ من التَّمْرِ، فرَخَّصَ لهم أنْ يَبْتَاعُوا العَرايَا بخَرْصِها من التَّمْرِ الذي في أيدِيهم، يَأْكُلُونَه رُطَبًا (¬1). وإذا كان سَبَبُ الرُّخْصَةِ حاجَةَ المُشْتَرِي، لم تُعْتَبَرْ حاجَةُ البائِعِ إلى البَيعِ، فلا يَتَقَيَّدُ في حَقِّه بخَمْسَةِ أوْسُقٍ. ولأنَّنَا لو اعْتَبَرْنَا الحاجَةَ من المُشْتَرِي، وحاجَةَ البائِعِ إلى البَيعِ، أفْضَى إلى أنْ لا يَحْصُلَ الإِرْفاقُ، إذْ لا يكادُ يَتَّفِقُ وجُودُ الحاجَتَينِ، فَتَسْقُطُ الرُّخْصَةُ. فإنْ قُلْنا: لا يَجُوزُ ذلك. بَطَلَ العَقْدُ الثاني. وإنِ اشْتَرَى عَرِيَّتينِ، أو باعَهُما، وفيهما أقَلُّ من خَمْسَةِ أوْسُقٍ، جازَ، وَجْهًا واحِدًا. الثاني، أنْ يكونَ مُشْتَرِيها مُحْتَاجًا إلى أكْلِها رُطَبًا، ولا يَجُوزُ بَيعُها لغَنِيٍّ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ. وله قَوْلٌ آخرُ، أنّها تُباحُ مُطْلَقًا لكلِّ ¬

(¬1) ذكره الزيلعي في نصب الراية 4/ 13، 14، وقال: لم أجد له سندًا بعد الفحص البالغ. وذكره الشافعي، في: باب بيع العرايا، من كتاب البيوع. الأم 3/ 47.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدٍ؛ لأنَّ كُلَّ بَيعٍ جازَ للمُحْتَاجِ، جازَ للغَنِيِّ، كسائِرِ البِياعاتِ (¬1)، ولأنَّ حَدِيثَ أبي هُرَيرَةَ وسَهْلٍ مُطْلَقان. ولَنا، حَدِيثُ زَيدِ بنِ ثابِتٍ الذي ذَكَرْنَاهُ. وإذا خُولِفَ الأصلُ بشَرْطٍ، لم تَجُزْ مُخَالفَتُه بدُونِ ذلك الشَّرْطِ، ولا يَلْزَمُ من إباحَتِه للحَاجَةِ إباحَتُه مع عَدَمِها، كالزَّكَاةِ للمَسَاكِينِ. فعلى هذا، مَتَى كان المُشْتَرِي غيرَ مُحْتَاجٍ إلى أكْلِ الرُّطَبِ، لم يَجُزْ شِراؤها بالتَّمْرِ، ولو باعَها لواهِبِها تحَرُّزًا من دُخُولِ صاحِبِ العَرِيَّةِ حائِطَهُ، كمَذْهَبِ مالِكٍ، أو لغَيرِه، لم يَجُزْ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يباحُ. ويَحْتَمِلُه كلامُ أحمدَ؛ لان الحاجَةَ وُجِدَتْ من الجانِبَينِ، فجازَ، كما لو كان المُشْتَرِي مُحْتَاجًا إلى أكلِها. ولنا، حَدِيث زَيدٍ الذي ذَكَرْنَاهُ، والرُّخْصَةُ لمَعْنًى خاصٍّ، لا تَثْبُتُ مع عَدَمِه، ولأنّ في حَدِيثِ زَيدٍ وسَهْلٍ: «يَأْكُلُها أَهْلُها رُطَبًا». ولو جازَتْ لتَخْلِيصِ المُعَرَّى لَما شَرَطَ ذلك. ¬

(¬1) في م: «البيوع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالِثُ، أنْ لا يَكُونَ للمُشْتَرِي نَقْدٌ يَشْتَرِي به؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ. الرَّابعُ، أنْ يَشْتَرِيَها بخَرْصِها من التَّمْرِ، ويَجِبُ أنْ يكونَ التَّمْرُ الذي يَشْتَرِي به مَعْلُومًا بالكَيلِ، ولا يَجُوزُ جُزافًا. لا نَعْلَمُ خِلافًا في هذا عند مَنْ أباحَ بَيعَ العَرايَا؛ لِما رَوَى زَيدُ بنُ ثابِتٍ، أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ في العَرِايَا أنْ تُباعَ بخَرْصِها كَيلًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولمُسْلِمٍ: أنْ تُؤخَذَ بمثلِ خرْصِها تَمْرًا يَأْكُلُها أهْلُها رُطَبًا. إذا ثَبَتَ ذلك، فمَعْنَى خَرْصِها بمِثْلِها من التَّمْرِ، أنْ يَنْظُرَ الخارِصُ إلى العَرِيَّةِ، فيَنْظُرَ كم يَجِئُ منها تمْرًا، فيَشْتَرِيها المُشْتَرِي بمثلِه تمرًا. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. ونَقَلَ حَنْبَل عن أحمدَ، أنّه قال: يَخْرُصُها رُطَبًا، ويُعْطِي تَمْرًا. وهذا يَحْتَمِلُ الأوَّلَ، ويَحْتَمِلُ أنّه يَشْتَرِيها [بِتَمْرٍ مثلِ] (¬2) الرُّطَبِ الذي عَلَيها؛ لأنَّه بَيعٌ اشْتُرِطَتِ المُماثَلَةُ فيه، فاعْتُبِرَتْ حال البَيعِ، كسائِرِ البُيوعِ. ولأنَّ الأصْلَ اعْتِبارُ المُماثَلَةِ في الحالِ، وأنْ لا يُباعَ الرُّطَبُ بالتَّمْرِ، خُولِفَ في الأصْلِ في بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ، فبَقِيَ فيما عَدَاهُ على قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ. قال القاضِي: والأوَّلُ أصَحُّ؛ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب تفسير العرايا، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 100. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1169. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 181، 188. (¬2) في م: «بمثل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يَنْبَنِي على خَرْصِ الثِّمارِ في العُشْرِ، والصَّحِيحُ خَرْصُه تمْرًا. ولأنَّ المُماثَلَةَ في بَيعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ مُعْتَبَرَةٌ حالةَ الادِّخارِ، وبَيعُ الرُّطَبِ بمثْلِه تمْرًا يُفْضِي إلى فَواتِ ذلك. فأمّا إنِ اشْتَرَاها بخَرْصِها رُطَبًا، لم يَجُزْ. وهذا أحَدُ الوُجُوهِ لأصْحابِ الشّافِعِيِّ. والثاني، يَجُوزُ. والثالِثُ، لا يَجُوزُ مع اتِّفاقِ النَّوْعِ، ويَجُوزُ مع اخْتِلافِه. وَوَجْهُ جَوازِه، ما رَوَى الجُوزْجانِيُّ، عن أبي صَالِحٍ، عن اللَّيثِ، عن ابنِ شهابٍ، عنِ سالِمٍ، عن ابنِ عمرَ، عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ، عن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أرْخصَ بعد ذلك في بَيعِ العَرِيَّةِ بالرُّطَبِ أو التَّمْرِ، ولم يُرَخِّصْ في غيرِ ذلك (¬1). ولأَنَّه إذا جازَ بَيعُها بالتَّمْرِ مع اخْتِصاصِ أحَدِهما بالنَّقْصِ في ثاني الحالِ، فلأنْ يَجُوزَ مع عَدَم ذلك أَوْلَى. ولَنا، ما رَوَى مُسْلِم بإسْنادِه، عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ، أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَخصَ في العَرَايَا أنْ تُؤخَذَ بمِثْل خَرْصِها تمْرًا. وعن سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بيعِ التَّمْرِ بالثَّمَرِ (¬2)، وقال: «ذلك الرِّبَا، تِلْك المُزَابَنَةُ». إلَّا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1168. والنسائي، في: باب بيع العرايا بالرطب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 235. والدارمي، في: باب في بيع العرايا، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 252. (¬2) في ق، م: «بالتمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أرْخَصَ في العَرِيَّةِ، النَّخْلَةِ والنَّخْلَتَينِ يأْخُذُهما أهْلُ البَيتِ بخَرْصِهما تمْرًا، يَأْكُلُونها رُطَبًا (¬1). ولأنَّه مَبِيعٌ يَجِبُ فيه مِثْلُه تمْرًا، فلم يَجُزْ بَيعُه بمثْلِهِ رُطَبًا، كالتَّمْرِ الجافِّ. ولأنَّ مَنْ له رُطَبٌ، فهو مُسْتَغْن عن شراءِ الرُّطَبِ بأَكْلِ ما عنده، وبَيعُ العَرَايَا يُشْتَرَطُ فيه حاجَةُ المُشْتَرِي، على ما أسْلَفْنَاهُ. وحَدِيثُ ابنِ عُمَرَ (¬2) شَكٌّ في الرُّطَبِ والتَّمْرِ، فلا يَجُوزُ العَمَلُ به مع الشَّكِّ، لا سِيَّما وهذه الأحَادِيثُ تُثْبتُه، وتُزِيلُ الشَّكَّ. الخامسُ، التَّقَابُضُ في المَجْلِسِ. وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخَالِفًا؛ لأنَّه بَيعُ تَمْرٍ بتَمْرٍ، فاعْتُبِرَ فيه شُروطُه، إلَّا ما اسْتَثْناهُ الشَّرْعُ مما لم يمْكِنِ اعْتِبارُه في بَيعِ العَرَايَا. والقَبْضُ في كُل واحِدٍ منهما على حَسَبِه، ففي التَّمْرِ اكْتِيالُه، وفي الثَّمَرِ التَّخْلِيَةُ. وليس من شُرُوطِه حُضُورُ التَّمْرِ عند النَّخِيلِ، بل لو تَبَايَعَا بعد مَعْرِفَةِ التَّمْرِ والثَّمَرَةِ، ثم مَضَيا جَمِيعًا إلى النَّخِيلِ فَسَلَّمَه إلى مُشْتَريه، ثم مَضَيَا إلى التَّمْرِ فَسَلَّمَه البائِعِ، أو تَسَلَّمَ التَّمْرَ أوَّلًا ثم مَضَيَا إلى النَّخْلِ فسَلَّمَه، جازَ؛ لأنَّ التَّفَرُّق لم يَحْصُل قبلَ القَبْضِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ بَيعَ العَرِيَّةِ يَقَعُ على وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب والفضة، وباب تفسير العرايا، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 99، 100. ومسلم، في: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1170. (¬2) في م: «يحيى».

1688 - مسألة: (فيعطيه من التمر مثل ما يؤول إليه ما في النخل عند الجفاف. وعنه، يعطيه مثل رطبه)

وَيُعْطِيهِ مِنَ التَّمْرِ مِثْلَ مَا يَؤُولُ إِلَيهِ مَا فِي النَّخْلِ عِنْدَ الْجَفَافِ. وَعَنْهُ، يُعْطِيهِ مِثْلَ رُطَبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْ يقولَ: بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هذه النَّخْلَةِ بكذا. ويَصِفُه. الثانِي، أنْ يَكِيلَ من التَّمْرِ بقَدْرِ خَرْصِها، ثم يقولَ: بِعْتُك هذا بهذا. أو: بعْتُكَ ثمرَةَ النَّخْلَةِ بهذا التَّمْرِ. ونحوَ هذا. فإنْ باعَهُ بمُعَيَّنٍ، فقَبْضُه بنَقْلِه وَأخْذِه، وإنْ باعَهُ بمَوْصُوفٍ، فقَبْضُه بكَيله. 1688 - مسألة: (فيُعْطِيهِ مِن التَّمْرِ مثلَ ما يؤولُ إليه ما في النَّخْلِ عند الجَفَافِ. وعنه، يُعْطِيهِ مثلَ رُطَبِه) وقد ذَكَرْنَاه. فصل: ولا يُشْتَرَطُ في العَرِيَّةِ أنْ تكونَ مَوْهُوبَةً لبائِعِها. وبه قال الشّافِعِيُّ. وظاهِرُ قوْلِ الخِرَقِيِّ أنّه شَرْطٌ. وقال الأَثْرَمُ: يسمِعْتُ أحمدَ يُسْألُ عن تَفْسِيرِ العَرايَا، فقال: العَرَايَا أنْ يُعَرِّيَ الرَّجُلُ الجارَ أو القَرَابَةَ للحَاجَةِ والمَسْكنَةِ، فللمُعْرى أنْ يَبِيعَها ممَّنْ شاءَ. وقال مالِكٌ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعُ العَرايَا الجائِزُ هو أنْ يُعَرِّيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَخَلاتٍ من حائِطِه، ثمّ يَكْرَهُ صاحِبُ الحائِطِ دُخُولَ الرَّجُلِ المُعَرَّى حائِطَه؛ لأنَّه ربَّما كانَ مع أَهلِه في الحائِطِ فَيُؤْذِيه دُخُولُ صاحِبِه عليه، فيَجُوزُ أنْ يَشْترِيَها منه. واحْتَجُّوا بأَنَّ العَرِيَّةَ في اللُّغَةِ هِبَةُ ثمَرَةِ النَّخِيكِ عامًا. قال أبو عُبَيدٍ (¬1): الإِعراءُ: أن يَجْعَلَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ ثمَرَةَ نَخْلِه عَامَها ذلك، قال شاعِرُ الأنْصَارِ: لَيسَتْ بِسَنْهاءَ ولا رُجَّبِيَّةٍ … ولَكِنْ عَرايَا في السِّنِينَ الجَوائِحِ (¬2) يقولُ: إنَّا نُعَرِّيها النَّاسَ. فتَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلى مَوْضُوعِه لُغَةً ومُقْتَضَاهُ في العَرَبِيَّةِ، ما لَم يُوجَدْ ما يَصْرِفُه عن ذلك. ولَنا، حَدِيث زَيدِ بنِ ثابِتٍ، وهو حُجَّة على مالِكٍ، [في تَصْرِيحِه بجَوازِ] (¬3) بَيعِها من غيرِ الواهِبِ، ولأنَّه لو كان لحَاجَةِ الوَاهِبِ، لَما اخْتَصَّ بخَمْسَةِ أوْسُقٍ؛ لعَدَمِ اخْتِصاصِ الحاجَةِ بها؛ ولم يَجُزْ بَيعُها بالتَّمْرِ (¬4)؛ لأَنَّ الظّاهِرَ من حالِ ¬

(¬1) في: غريب الحديث 1/ 231. (¬2) البيت لسويد بن الصامت، كما في غريب الحديث واللسان (ر ج ب، س ن هـ، ع ر ى). وأنشده أيضًا ثعلب في مجالسه 94. قال ابن منظور في (رجب) إنه يروى: رجبية، بضم الراء وتخفيف الجيم المفتوحة وتشديدها، قال: كلاهما نسب نادر، والتثقيل أذهب في الشذوذ، ثم قال: وقد روى بيت سويد ابن الصامت بالوجهين جميعا. (¬3) في الأصل، ر 1، ق: «تصريحه في جواز». (¬4) في الأصل، ق: «بالثمن».

1689 - مسألة: (ولا يجوز في سائر الثمار، في أحد الوجهين)

وَلَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِ الحائِطِ الذي له النَّخِيلُ الكَثِيرُ يُعَرِّيه الناسَ، أنّه لا يَعْجِزُ عن أداءِ ثَمَنِ العَرِيَّةِ، وفيه حُجَّةٌ على من اشْتَرَطَ كَونَها مَوْهُوبَةً لبائِعِها؛ لأَنَّ عِلَّةَ الرُّخْصَةِ حاجَةُ المُشْتَرِي إلى أكل الرُّطَبِ ولا ثَمَنَ (¬1) معه سِوَى التَّمْرِ، فمتى وُجِدَ ذلك، جازَ البَيعُ. ولأنَّ اشْتِراطَ كَوْنِها مَوْهُوبَةً، مع اشْتِرَاطِ حاجَةِ المُشْتَرِي إلى أَكْلِها رُطَبًا ولا ثَمَنَ معه، يُفْضِي إلى سُقُوطِ الرُّخْصَةِ، إذْ لا يكادُ يَتَّفِقُ ذلك. ولأنَّ ما جازَ بَيعُه (¬2) إذا كان مَوْهُوبًا، جازَ وإن لم يكُنْ مَوْهُوبًا، كسائِرِ الأموالِ، وما جازَ بَيعُه لواهِبِه جازَ لغَيرِه، كسائِرِ الأمْوالِ، وإنَّما سُمِّيَ عَرِيَّةً لتَعَرِّيه عن غيرِه، وإفْرادِه بالبَيعِ. 1689 - مسألة: (ولا يَجُوزُ في سائِرِ الثّمارِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ) ¬

(¬1) في ر 1، ق: «ثمرة». (¬2) بعده في الأصل، ق، م: «لواهبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَجُوزُ بَيعُ العَرِيَّةِ في غيرِ النَّخِيلِ. اخْتَارَه ابنُ (¬1) حامِدٍ. وهو قَوْلُ اللَّيثِ، إلَّا أن تكونَ ثَمَرَتُه ممّا لا يَجْرِي فيها الرِّبَا، فيَجُوزُ بَيعُ رَطْبِها بِيَابِسِها؛ لعَدَمِ جَرَيانِ الرِّبَا فيها. وقال القاضِي: يجوزُ في سائِرِ الثِّمارِ. وهو قولُ مالِكٍ، والأوْزَاعِيِّ، قِياسًا على ثَمَرَةِ النَّخِيلِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَجُوزَ في العِنَبِ [والرُّطَبِ] (¬2) دونَ غَيرِهما. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ العِنَبَ كالرُّطَبِ في وجُوبِ الزَّكاةِ فيه، وجَوازِ خرْصِه وتَوْسِيقِه، وكَثْرَةِ يابِسِه، واقْتِياتِه (¬3) في بَعْضِ البُلْدانِ، والحاجَةِ إلى أكلِ رَطْبِه، والتَّنْصيصُ على الشيءِ يُوجِبُ ثُبوتَ الحُكْمِ في مِثْلِه. ولا يَجُوزُ في غيرِهما؛ لاخْتِلافِهما في أكثرِ هذه المَعانِي، فإنّه لا يُمْكِنُ خرْصُها؛ لتَفَرُّقِها في الأغْصَانِ، واسْتِتَارِها بالأوْرَاقِ، ولا يُقْتَاتُ يابِسُها، فلا يُحْتَاجُ إلى الشِّراءِ به. ووَجْهُ الأوَّلِ أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُزَابَنَةِ، التَّمْرِ بالثَّمَرِ، إلَّا اصحابَ العَرايَا، فإنّه أَذِنَ لهم، وعن بَيعِ العِنَبِ بالزَّبِيبِ، وكُلِّ ثَمَرٍ بخَرْصِه. وهذا حَدِيث حَسَنٌ. رَواهُ لتِّرْمِذِيُّ (¬4). وهو يَدُلُّ على تَخْصِيصِ العَرِيَّةِ بالتَّمْرِ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «أبو». (¬2) سقط من: الأصل، ق، م. (¬3) في الأصل، ق، م: «اقتنائه». (¬4) في: باب ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن زيدِ بنِ ثابِتٍ، عن رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه أرْخَصَ بعدَ ذلك في بَيعِ العَرِيَّةِ بالرُّطَبِ، أو بالتَّمْرِ، ولم يُرَخِّصْ في غيرٍ ذلك (¬1). وعن ابن عمرَ، رَضِيَ الله عنهما، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُزَابَنَةِ (¬2). والمُزَابَنَةُ، بَيعُ ثمَرِ النَّخْلِ بالتمْرِ كَيلًا، [وبَيعُ العِنَبِ بالزَّبِيبِ كيلًا] (¬3)، وعن كُل ثَمَرٍ بخَرْصِه. ولأنَّ الأصْلَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ بَيعِ العَرِيَّةِ، وإنّما جازَتْ في ثَمَرَةِ النَّخِيلِ رُخْصَةً، ولا يَصِحُّ قِياسُ غَيرِها عليها؛ لوَجْهَينِ، أحَدُهما، أنّ غَيرَها لا يُسَاويها في كَثْرَةِ الاقْتِيَاتِ بها وشهُولَةِ خَرْصِها، وكَوْنِ الرُّخْصَةِ في الأَصْلِ لأَهْلِ المَدِينَةِ، وإنّما كانت حاجَتهم إلى الرُّطَبِ دونَ غيرِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 70. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 52. (¬3) سقط من: الأصل، ق، م.

1690 - مسألة: (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما؛ كمد عجوة ودرهم بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم. وعنه، يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ جِنْس فِيهِ الرِّبَا بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَمَعَ أحَدِهِمَا أَوْ مَعَهُمَا مِنْ غَيرِ جِنْسِهِمَا، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَم بمُدَّينِ، أو بِدِرْهَمَينِ، أوْ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي مَعَهُ غيرُهُ، أوْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيرِ جِنْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانِي، أنَّ القِياسَ لا يُعْمَلُ به إذا خالفَ نَصًّا، وقِياسُهم يُخَالِفُ نُصُوصًا غيرَ مَخْصُوصَةٍ، وإنّما يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بالقِياسِ على المَحَلِّ المَخْصُوصِ، ونَهْيُ [النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) عن بَيعِ العِنَبِ بالزَّبِيبِ، لم يَدْخُلْه (¬2) تَخْصِيصٌ فيُقاسُ عليه، وكذلك سائِرُ الثّمارِ. 1690 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ جِنْسٍ فيه الرِّبَا بَعْضِه بِبَعْضٍ ومع أحَدِهما أو معهما من غَيرِ جِنْسِهما؛ كمُدِّ عَجْوَةٍ ودِرْهَم بمُدَّينِ، أو بدِرْهَمَينِ، أو بمُدٍّ ودِرْهَمٍ. وعنه، يَجُوزُ بشَرْطِ أنْ يكونَ المُفْرَدُ أكثَرَ من الذي معه غيرُه، أو يكونَ مع كُلِّ واحِدٍ منهما من غيرِ جِنْسِه) هذه المسألةُ تُسَمَّى مسألةَ مُدِّ عَجْوَةٍ. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ ذلك لا يَجُوزُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يدل على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ في مواضِعَ كَثِيرَةٍ. قال ابنُ أبي مُوسَى في السَّيفِ المُحَلَّى والمِنْطَقَةِ والمَراكِبِ المُحَلَّاةِ تُباعُ بجِنْسِ ما عليها: لا يَجُوزُ، قَوْلًا واحِدًا. ورُوِيَ هذا عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ، والقاسِمِ بنِ محمّدٍ، وشُرَيحٍ، وابنِ سِيرِينَ. وبه قال الشّافِعِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وعن أحمدَ، أنّه يَجُوزُ، بشَرْطِ أنْ يكونَ المُفْرَدُ أكثرَ من الذي معه غيرُه، أو يكونَ مع كُلِّ واحِدٍ منهما من غيرِ جِنْسِه. قال حَرْب: قلتُ لأحمدَ: دَفَعْتُ دِينارًا كُوفِيًّا ودِرْهَمًا، وأَخَذْتُ دِينارًا شامِيًّا، وَزْنُهما سَواءٌ؟ قال: لا يَجُوزُ، إلَّا أنْ يَنْقُصَ الدِّينارَ، فيُعْطِيَه بِحِسَابه فِضَّةً. وكذلك رَوَى عنه (¬1) محمّدُ بنُ أبي حَرْبٍ الجَرْجَرَائِيُّ (¬2). قال أبو دَاوُدَ: سَمِعْت أحمدَ يُسأَلُ عن الدَّرَاهِمِ المُسَيَّبِيَّةِ (¬3)، بَعْضُها صُفْرٌ وبعْضُها فِضَّةٌ، ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) ترجمه ابن أبي يعلى، في طبقات الحنابلة 1/ 331. وهو في المطبوع مها: «محمد بن النقيب بن أبي حرب»، تقدمت ترجمته في 9/ 295. (¬3) في الأصل: «المشيبية». والمسيبية: دراهم من ضرب الإسلام عامها ذهب إلا شيئًا فيها فضة. معجم البلدان 1/ 519. ومسائل الإمام أحمد لأبي داود 195، 196. النقود العربية، للكرملي 150.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالدَّراهِم؟ قال: لا أقولُ فيه شيئًا. قال أبو بكْرٍ: رَوَى هذه المسألةَ عن أحمدَ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا، كُلُّهم اتَّفَقُوا على أنّه لا يَجُوزُ حتى يَفْصِلَ، إلَّا المَيمُونِيَّ. وقال حَمّادُ بنُ أبِي سُلَيمانَ، وأبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذلك بما ذَكَرْنا من الشَّرْطِ. وقال الحَسَنُ: لا بَأْسَ بِبَيعِ السَّيفِ المُحَلَّى بالفِضَّةِ بالدَّرَاهِمِ (¬1). وبه قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ. واحْتَجُّوا بأنَّ العَقْدَ إذا أمْكَنَ حَمْلُه على الصِّحَّةِ، لم يُحْمَلْ على الفَسَادِ؛ لأنَّه لو اشْتَرَى لَحْمًا من قَصَّابٍ، جازَ، مع احْتِمالِ كَوْنِه مَيتَة. لكنْ يَجِبُ حَمْلُه على أنّه مُذَكًّى؛ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ (¬2)، وقدأمْكَنَ تَصْحِيحُ العَقْدِ ها هنا بجَعْلِ الجِنْسِ في مُقابَلَةِ غيرِ الجِنْسِ، أو جَعْلِ غيرِ الجِنْسِ في مُقَابَلَةِ الزّائِدِ على المِثْلِ. ولَنا، ما رَوَى فَضالةُ بنُ عُبَيدٍ، قال: اُّتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقِلَادَةٍ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في: المصنف 8/ 70. (¬2) سقط من: الأصل، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها ذَهَبٌ وخَرَزٌ، ابْتَاعَها رَجُلٌ بتِسْعَةِ دَنانِيرَ أو سَبْعَةِ دَنانِيرَ، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا، حَتَّى تُمَيِّزَ بَينَهُما». قال: فَرَدَّهُ حَتَّى مَيَّزَ بَينَهُما. رَواهُ أبو دَاوُدَ (¬1). وفي لَفْظٍ رَواهُ مسلمٌ قال: فأمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالذَّهَبِ الذي في القِلادَةِ فَنُزِعَ وحْدَه، ثم قال لهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالذَّهَب وزْنًا بوَزْنٍ». ولأنَّ العَقْدَ إذا جَمَعَ عِوَضَينِ مُخْتَلِفَي الجِنْسِ، وَجَبَ أن يَنْقَسِمَ أحَدُهما على الآخَرِ، على قدْرِ قِيمَةِ الآخَرِ في نَفْسِه، فإذا اخْتَلَفَتِ القِيمَةُ اخْتَلَفَ ما يَأْخُذُه من العِوَضِ. بَيانُه، إذا اشْتَرَى عَبْدَينِ، قِيمَةُ أحَدِهما مثلُ نِصْفِ قِيمَةِ الآخَرِ بعَشَرَةٍ، كان ثَمَنُ احدِهما ثُلُثَي العَشَرَةِ، والآخَرِ ثُلُثَها، فلو رَدَّ أحَدَهُما بعَيبٍ، رَدَّهُ بقِسْطِه من الثَّمَنِ، وكذلك إذا اشْتَرَى شِقْصًا وسَيفًا بثَمَن، أخَذَ الشَّفِيعُ الشقْصَ بقِسْطِه ¬

(¬1) في: باب في حلية السيف تباع بالدراهم، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 223، 224. كما أخرجه مسلم، في: باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1213. والترمذي، في: باب ما جاء في شراء القلادة وفيها ذهب وخرز، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 260. والنسائي، في: باب بيع القلادة فيها الخرز والذهب بالذهب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 245.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من الثَّمَنِ، فإذا فَعَلْنا هذا في مَن باعَ دِرْهَمًا ومُدًّا قِيمَتُه دِرْهَمانِ، بمُدَّين قِيمَتُهُما ثَلاثَة، حصل الدِّرْهَمُ في مُقَابَلَةِ ثُلُثَيْ مُدٍّ، والمُدُّ الذي مع الدِّرْهَمِ في مُقَابَلَةِ ما وثُلُثٍ، هذا إذا تَفَاوَتَتِ القِيَمُ، ومع التَّسَاوي يُجْهَل ذلك؛ لأنَّ التَّقْويمَ ظَنٌّ وتَخْمِينٌ، والجَهْلُ بالتَّسَاوي كالعِلْمِ بعَدَمِه في بابِ الرِّبَا، ولذلك (¬1) لم يَجُزْ بَيعُ صُبْرَةٍ بصُبْرَةٍ بالظَّنِّ والخَرْصِ. وقَوْلُهم: يَجِبُ تَصْحِيحُ العَقْدِ. مَمْنُوع، بل يُحْمَلُ على ما يَقْتَضِيه من صِحَّةٍ وفَسَادٍ. ¬

(¬1) في ق: «وكذلك».

1691 - مسألة: (وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه؛

وَإنْ بَاعَ نَوْعَيْ جِنْسٍ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ؛ كَدِينَارٍ قُرَاضَةً وَصَحِيحٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك لو باعَ بثَمنٍ وأَطْلَقَ، وفي البَلَدِ نُقُودٌ، بَطَلَ العَقْدُ، ولم يُحْمَلْ على نَقْدِ أقْرَبِ البِلادِ إليه. أمّا إذا اشْتَرَى من إنْسانٍ شيئًا، فإنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه مِلْكه؛ لأنَّ اليَدَ دَلِيلُ المِلْك. وإذا باعَ لحمًا، فالظَّاهِرُ أنَّه مُذَكًّى؛ لأنَّ المُسْلِمَ في الظّاهِرِ لا يَبِيعُ المَيتَةَ. 1691 - مسألة: (وإنْ باعَ نَوْعَيْ جِنْس بنَوْعٍ واحِدٍ مِنْه؛

بِصَحِيحَينِ، جَازَ. أَومَأَ إِلَيهِ أَحْمَدُ، وَذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ. وَعِنْدَ الْقَاضِي، هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كدِينارٍ قُرَاضَةً (¬1) وصَحِيح بصَحِيحَينِ) أو حِنْطَةٍ حَمْراءَ وسَمْراءَ بِبَيضاءَ، أو تَمْرًا بَرْنِيًّا ومَعْقِلِيًّا بإبْراهِيمِيٍّ، فإنّ ذلك يَصِحُّ. قاله أبو بَكْرٍ (وأوْمَأ إليه أحمدُ) واخْتارَ القاضِي أنَّ الحُكْمَ فيها كالتي قبلها. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ؛ لأنَّ العَقْدَ يَقْتَضِي انْقِسَامَ الثَّمَنِ على عِوَضِه، على حَسَبِ اخْتِلَافِه في قِيمَتِه، كما ذَكَرْنا. ورُوِيَ عن أحمدَ مَنْعُ ذلك في النَّقْدِ، وتَجْويزُه في الثَّمَنِ. نَقَلَه أحمدُ بنُ القاسِمِ؛ لأنَّ الأنْواع في غيرِ الأَثْمانِ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُها، ويَشُقُّ تَمْيِيزُ ما، فعُفِيَ عنها، بخِلافِ الأَثْمانِ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ مِثْلًا بمِثْل، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ مِثْلًا بمِثْلٍ». الحَدِيث (¬2). وهذا يَدُلّ على إِباحَةِ البَيعِ عندَ وُجُودِ ¬

(¬1) القراضة: القطع. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُماثَلَةِ المَرْعِيَّةِ، وهي في المَوْزُونِ وَزْنًا، وفي المَكِيلِ كَيلًا، ولأَنَّ الجَوْدَةَ ساقِطَةٌ في بابِ الرِّبَويَّاتِ، فيما قُوبِلَ بجِنْسِه، فيما إذا اتَّحَدَ النَّوْعُ في كُلِّ واحِدٍ من الطرًّفَينِ، فكذلك إذا اخْتَلَفَا، واخْتِلافُ القِيمَةِ يَنْبَنِي على الجَوْدَةِ والرَّدَاءَةِ، ولأنَّه باعَ ذَهَبًا بذَهَبٍ مُتَسَاويًا في الوَزْنِ، فصَحَّ، كما لو اتَّفَقَ النَّوْعُ، وإنَّما يُقْسَمُ العِوَضُ على المُعَوَّضِ فيما يَشْتَمِلُ على جِنْسَينِ، أو في غيرِ الرِّبَويَّاتِ، بدَلِيلِ ما لو باعَ نَوْعًا بنَوْعٍ يَشْتَمِلُ على جَيِّدٍ ورَدِئٍ.

1692 - مسألة: (وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن، والصوف بنعجة عليها صوف، روايتان)

وَفِي بَيعِ النَّوَى بِتَمْرٍ فِيهِ النَّوَى، وَاللَّبَنِ بِشَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ، وَالصُّوفِ بِنَعْجَةٍ عَلَيهَا صُوفٌ، رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1692 - مسألة: (وفي بَيعِ النَّوَى بتَمْرٍ فيه النَّوَى، واللَّبَنِ بشَاةٍ ذاتِ لَبَنٍ، والصُّوفِ بنَعْجَةٍ عليها صُوف، رِوَايَتَانِ) إذا باعَ النَّوَى بتَمْرٍ نَواهُ فيه، فعِلى رِوايَتَينِ؛ إحداهُما، لا يَجُوزُ. رَواهُ عنه مُهَنَّا، وابنُ القاسِمِ؛ لأنَّه كَمَسألةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وكما لو باعَ تمْرًا فيه نَواهُ بتَمْر مَنْزُوعِ النَّوَى. والثانِيَةُ، يَجُوزُ. رَوَاهَا ابنُ مَنْصُورٍ؛ لأن النَّوى في التَّمْرِ غيرُ مَقْصُودٍ، فجازَ، كما لو باعَ دارًا مُمَوَّهًا سَقْفُهَا بذَهبٍ. فعلى هذا، يجوزُ بَيعُه مُتَفاضِلًا ومُتَسَاويًا؛ لأن النَّوَى الذي في التَّمْرِ لا عِبْرَةَ به، فصارَ كبَيعِ النَّوَى بتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى. فصل: وإنْ باعَ شاةً ذاتَ لَبَنٍ بلبنٍ، أو شاةً عليها صُوفٌ بصُوفٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو باعَ لَبونًا بلبونٍ، أو ذاتَ صُوفٍ بمِثْلِها، خُرجَ فيه الرِّوَايَتانِ، كالتي قَبْلَها؛ إِحداهُما، الجَوازُ. اخْتَارَهُ ابنُ حامِدٍ. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، وسواءٌ كانتِ الشّاةُ حَيَّةً أو مُذَكَّاةً؛ لأنَّ ما فيه الرِّبَا غيرُ مَقْصُودٍ. والثاني، المَنْعُ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّه باعَ مال الربَا بأَصْلِه الذي فيه منه، أَشْبَهَ بَيعَ اللَّحْمِ بالحَيَوانِ. والأوَّلُ أوْلَى، والفَرْقُ بَينَهفا أنّ اللَّحْمَ في (¬1) الحَيَوانِ مَقْصُودٌ، بخِلافِ اللَّبَنِ والصُّوفِ. ولو كانتِ الشّاةُ مَحْلُوبَةَ اللَّبَنِ، جازَ بَيعُها بمِثْلِها، وباللَّبَنِ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ اللَّبَنَ لا أثَرَ له، ولا يُقَابِلُه شيءٌ من الثَّمَنِ، فأشْبَهَ المِلْحَ في الشَّيرَجِ والخُبْزِ والجُبْنِ، وحَبّاتِ الشّعِيرِ في الحِنْطَةِ، ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك لو كان اللَّبَنُ المُنْفَرِدُ من غيرِ جِنْسِ لَبَنِ الشّاةِ، جازَ بكُلِّ حالٍ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَجُوزَ على قَوْلِنا: إنَّ اللَّبَنَ جِنْسٌ واحِدٌ. ولو باعَ نَخْلَةً عليها ثَمَر بتَمْرٍ (¬2) أو بنَخْلَةٍ عليها تمْرٌ (¬3)، ففيه أيضًا وَجْهانِ؛ أحدُهما، الجَوازُ. اخْتارَهُ أبو بكْرٍ؛ لأنَّ التَّمْرَ (¬4) غيرُ مَقْصُودٍ بالبَيعِ. والثانِي، لا يَجُوزُ. ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «و». (¬2) في الأصل، م: «بثمر». (¬3) في م، ق: «ثمر». (¬4) في م: «الثمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الوَجْهَينِ ما ذَكَرْنَا في المسألةِ قَبْلَها. واخْتَارَ القاضِي المَنْع، وفَرَّقَ بَينَهما وبَينَ الشَّاةِ ذاتِ اللَّبَنِ بكَوْنِ الثَّمَرَةِ يَصِحُّ إفْرادُها بالبَيعِ، وهي مَعْلُومَة، بخِلافِ اللَّبَنِ في الشَّاةِ. وهذا الفرقُ غيرُ مُؤثِّرٍ، فإنّ ما يَمْنَعُ إذا جازَ إفرادُه، يَمْنَعُ وإنْ لم يَجُزْ إفْرادُه، كالسَّيفِ المُحَلَّى يُباعُ بجِنْسِ حِلْيَيه، وما لا يَمْنَعُ، لا يَمْنَعُ وإنْ جازَ إفْرادُه، كمالِ العَبْدِ. فصل: وإنْ باعَ دارًا سَقْفُفَا مُمَوَّهٌ بذَهَبٍ، أو دارًا بدارٍ مُمَوَّهٌ سَقْفُ كُلِّ واحِدَةٍ منهما، جازَ؛ لأنَّ ما فيه الرِّبَا غيرُ مَقْصُودٍ بالبَيعِ، فوُجُودُه كعَدَمِه. وكذلك لو اشْتَرَى عَبْدًا له مالٌ، فاشْتَرَطَ ماله، وهو من جِنْسِ الثَّمَنِ، جازَ، إذا كان المالُ غيرَ مَقْصُودٍ، فهو كالسَّقْفِ المُمَوَّهِ، ولو اشْتَرَى عَبْدًا بعَبْدٍ، واشْتَرَطَ كلُّ واحِدٍ منهما مال العَبْدِ، جازَ أيضًا، إذا كان المالُ غيرَ مَقْصُودٍ. فصل: وإنْ باعَ جِنْسًا فيه الرِّبَا بجِنْسِه، ومع كُلٍّ واحِدٌ فن غيرِ جِنْسِه غيرُ مَقْصُودٍ، فهو على أقسَام؛ أحدُها، أنْ يكونَ غيرُ المَقْصُودِ يَسِيرًا لا يُؤثِّرُ في كَيل ولا وَزْنٍ، كالمِلْحِ فيما يُعْمَلُ فيه، وحَبَّاتِ الشَّعِيرِ في الحِنْطةِ، فلا يَمْنَعُ؛ لأنَّه يَسِيرٌ لا يُخِلُّ بالتّمَاثلِ، وكذلك لو وُجِدَ في أحَدِهما دونَ الآخرِ، لم يَمْنَعْ؛ لذلك، ولو باعَ ذلك بجِنْسِ غيرِ المَقْصُودِ الذي معه، كبَيعِ الخُبْزِ بالمِلْحِ، جَازَ؛ لأنَّ وُجُودَ ذلك كعَدَمِه. الثاني، أنْ يكون غيرُ المَقْصُودِ كَثِيرًا، إلَّا أنَّه لمَصْلَحَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَقصُودِ، كالماءِ في خَلِّ التَّمْرِ، والزَّبِيبِ، ودِبْسِ التَّمْرِ، فيَجُوزُ بَيعُه بمثْلِه، ويَتَنَزَّلُ خِلْطُه بمَنْزِلَةِ رُطُوبَتِه؛ لكَوْنِه من مَصْلَحَتِه، فلم يَمْنَعْ من بَيعِه بما يُماثِلُه، كالرُّطَبِ بالرُّطَبِ. ولا يَجُوزُ بَيعُه بما ليس فيه خِلْطٌ، كبَيعِ خَلِّ العِنَبِ بخَلِّ الزَّبِيبِ؛ لإِفْضائِه إلى التّفاضُلِ، فجَرَى مَجْرى بَيعِ التَّمْرِ بالرُّطَبِ. ومَنَعَ الشّافِعِيُّ ذلك كُلَّه إلَّا بَيعَ الشَّيرَجِ بالشَّيرَجِ؛ لكَوْنِ الماءِ لا يَظْهَرُ في الشَّيرَجِ. الثالثُ، أنْ يكُونَ غيرُ المَقْصُودِ كَثِيرًا، وليس من مَصْلَحَتِه؛ كاللَّبَنِ المَشُوبِ بالماء بمثْلِه، والأثْمانِ المغْشُوشَةِ بغَيرِها، فلا يَجُوزُ بَيعُ بَعضها ببَعْضٍ؛ لأنَّ خِلْطَهُ ليس من مَصْلَحَتِه، وهو يُخِلُّ بالتّماثُلِ المَقْصُودِ فيه. وإنْ باعَهُ بجِنْسِ غيرِ المَقْصُودِ، كبَيعِه الدِّينارَ المغْشُوشَ بالفِضَّةِ بالدَّرَاهِمِ، احْتَمَلَ الجوازَ؛ لأنَّه يَبِيعُه بجِنْس غيرِ مَقْصُودٍ فيه، فأشْبَهَ بَيعَ اللَّبَنِ بشَاةٍ فيها لَبَنٌ، ويَحْتَمِلُ المنعَ، بناءً على الوَجْهِ الآخَرِ في الأصْلِ. وإنْ باعَ دِينارًا مَغْشُوشًا بمِثْلِه، والغِشُّ فيهما مُتَفاوتٌ أو غيرُ مَعْلُومِ المِقْدارِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يُخِلُّ بالتَّمَاثُلِ المَقْصُودِ. وإنْ عَلِمَ التَّسَاويَ في الذَّهَبِ والغشَّ الذي فيهما، خُرِّجَ على وَجْهَينِ؛ أوْلاهُما، الجَوازُ؛ لأنَّهُما تماثَلَا في المَقْصُودِ وفي غَيرِه، ولا يُفْضِي إلى التَّفَاضُلِ بالتَّوْزِيعِ بالقِيمَةِ؛ لكونِ الغِشِّ غيرَ مَقْصُودٍ، فكَأَنَّه لا قِيمَةَ له. فصل: ولو دَفَعَ إلى إنْسانٍ دِرْهَمًا، وقال: أعْطِنِي بنِصْفِ هذِا الدِّرْهَمِ نِصْف دِرْهَمٍ، وبنِصْفِه فُلُوسًا. أو: حاجَةً أُخْرَى. جازَ؛ لأَنَّه

1693 - مسألة: (ولا يجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ تَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى بِمَا نَوَاهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرَى نِصْفًا بنِصْفٍ، وهما مُتَسَاويانِ، فصَحَّ، كما لو دَفَعَ إليه دِرْهَمَينِ، فقال: بِعْنِي بهذا الدِّرْهَمِ فُلُوسًا، وأعْطِنِي بالآخَرِ نِضفينِ. وإن قال: أعْطِني بهذا الدِّرْهَمِ نِصْفَا وفُلُوسًا. جازَ أيضًا، لأنَّ مَعْناهُ ذلك، ولأنَّ ذلك لا يُفْضِي إلى التَّفاضُلِ بالتَّوْزِيعِ بالقِيمَةِ، فإنَّ قِيمَةَ النِّصْفِ الذي في الدِّرْهَمِ، كقِيمَةِ النِّصْفِ الذي مع الفُلُوسِ يَقِينًا، وقِيمَةُ الفُلُوسِ كقِيمَةِ النِّصْفِ الآخرِ، سواءٌ. 1693 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ تَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى بما نَواهُ فيه) لاشْتِمالِ أَحَدِهما على ما لَيسَ من جِنْسِه دونَ الآخَرِ، وإنْ نَزَعَ النَّوَى، ثمّ باعَ النَّوَى والتَّمْرَ بنَوًى وتَمْرٍ، لم يَجُزْ، لأنَّ التَبّعَيَّةَ زَالت بنَزْعِه، فصارَ كمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، بخِلافِ ما إذا كانَ في كُلِّ واحِدٍ نَواهُ. وإنْ باعَ تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى بتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى، جازَ،؛ لو باعَ تَمْرًا فيه النَّوَى بَعْضَه ببَعْضٍ. وقال أصحابُ الشّافِعِيِّ: لا يَجُوزُ، في أحَدِ الوَجْهَينِ،

1694 - مسألة: (والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما لا عرف لهم به

وَالْمَرْجِعُ فِي الْكَيلِ وَالْوَزْنِ إِلَى عُرْفِ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَمَا لا عُرْفَ لَهُ بهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُعْتَبَرُ عُرْفة فِي مَوْضِعِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّهما لم يَتَسَاوَيا في حالِ الكَمالِ، ولأنَّه يَتَجَافَى في المِكْيالِ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّمْر بالتَّمْرِ [مُدْى بمُدْىٍ] (¬1). ولأنَّهُما تَسَاوَيَا في حالٍ على وَجْهٍ لا يَنْفَرِدُ أحَاهما بالنُّقْصَانِ، فجازَ، كما لو كان في كلِّ واحِدٍ نَواة. ويجوز بَيع النَّوَى بالنَّوى كَيلًا كذلك. 1694 - مسألة: (والمَرْجِعُ في الكَيلِ والوَزْنِ إلى عُرْفِ أهْلِ الحِجَازِ في زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وما لا عُرْفَ لهم به (¬2)، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُعْتَبَر عُرْفُه في مَوْضِعِه) ولا يُرَدُّ إلى أَقْرَبِ الأشْيَاءِ شَبَهًا به ¬

(¬1) في م: «مدًّا بمد». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 23. (¬2) أي بالحجاز. المبدع 4/ 147.

وَالْآخَرُ يُرَدُّ إِلَى أقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ بِالحِجَازِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحِجازِ، ونحوُ هذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: الاعْتِبارُ في كُلِّ بلَدٍ بعَادَتِه. ولَنا، ما رَوَى [عبدُ اللهِ بنُ عمرَ] (¬1) عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «المِكْيَالُ مِكْيالُ المَدِينَةِ، والمِيزَانُ مِيزَانُ مَكَّةَ» (¬2). والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما يُحْمَلُ كلامُه على بَيانِ الأَحْكام. ولأَنَّ ما كان مَكِيلًا بالحجازِ في زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ التَّحْرِيمُ إليهَ في تَفَاضُلِ الكَيلِ، فلا يجوزُ أنْ يَتَغَيَّرَ بعد ذلك، وهكذا الوَزْنُ. فأمّا ما لا عُرْفَ له بالحِجَازِ، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما (يُرَدُّ إلى أقْرَبِ الأَشْيَاءِ شَبَهًا به بالحِجَازِ) كما أنَّ الحَوادِثَ تُرَدُّ إلى أَشْبَهِ المَنْصُوصِ عليه بها، وهو القِيَاسُ. والثانِي، يُعْتَبَرُ عُرْفُه في مَوْضِعِه؛ لأنَّ ما لم يكُنْ له في الشَّرْعِ حَدٌّ، يُرْجَعُ فيه إلى العُرْفِ، ¬

(¬1) في ر 1: «عبد الملك بن عمير». (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقَبْضِ، والحَرْزِ، والتَّفَرُّقِ. وعلى هذا، إنِ اخْتَلَفَتِ البِلادُ، فالاعْتِبَارُ بالغالِبِ، فإنْ لم يكُنْ غالِبٌ، تَعَيَّنَ الوَجْهُ الأولُ. ومَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كهَذينِ الوَجْهَينِ. فصل: والبُرُّ والشَّعِيرُ مَكِيلانِ، مَنْصُوصٌ عليهما بقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البُرُّ بالبُرِّ كَيلًا بكَيلٍ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ كَيلًا بكَيلٍ» (¬1). وكذلك سائِرُ الحُبُوب، والأبازِيرِ، والأُشْنَانُ والجِصُّ والنُّورَةُ وما أشبَهَها. والتَّمْرُ مَكِيلٌ، وهو من المَنْصُوصِ عليه، وكذلك سائِرُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ من الرُّطَبِ والبُسْرِ وغيرِهما، وسائِرُ ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ من الثِّمارِ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ الزَّبِيبِ، والفُسْتُقِ، والبُنْدُقِ، واللَّوْزِ، والعُنَّابِ، والمِشْمِشِ، والزَّيتُونِ، والبُطْمِ. والمِلْحُ مَكِيلٌ، وهو من المَنْصُوصِ عليه بقَوْلِه عليه السَّلامُ: «المِلْحُ بالمِلْحِ [مُدْىٌ بمُدْىٍ] (¬1)». والذَّهَبُ والفِضَّةُ مَوْزُونانِ بقَوْلِه - عليه السلام -: «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ وَزْنًا بوَزْنٍ» (¬2). وكذلك ما أَشْبَهَهُما من جَواهِرِ الأرْضِ؛ كالحَدِيدِ، والرَّصَاصِ، والصُّفْرِ، والنُّحاسِ، والزُّجاج، والزِّئْبَقِ. وكذلك الإِبرِيسَمُ، والقُطْنُ، والكَتَّانُ، والصُّوفُ، وغزْلُ ذلك، وما أَشْبَهَه. ¬

(¬1) في م: «مدا بمد». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 23. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنه الخبزُ، واللَّحْمُ، والشَّحْمُ، والجُبْنُ، والزُّبْدُ، والشَّمْعُ، والزَّعْفَرَانُ، والعُصْفُرُ، والوَرْسُ، وما أشْبَهَ ذلك. فصل: والدَّقِيقُ والسَّويقُ مَكِيلانِ؛ لأَنَّ أَصْلَهُما مَكِيلٌ، ولم يُوجَدْ ما يَنْقُلُهما عنه، ولأَنَّهُما يُشْبِهانِ ما يُكَالُ. وذكَرَ القاضِي في الدَّقِيقِ، أنّه يَجُوزُ بَيعُ بَعْضِه بِبَعْضٍ وَزْنًا، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ مَوْزُونًا، وأَصْلُه مَكِيلٌ، كالخُبْزِ. ولَنا، ما ذَكَرْناهُ، ولأنَّه يُقَدَّرُ بالصّاعِ، بدَلِيلِ أنّه يُخْرَجُ في الفِطْرِ صَاعٌ من دَقِيقٍ، وقد جاءَ ذلك في الحَدِيثِ. والصّاعُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنّما يُقَدَّرُ به المَكِيلاتُ، وعلى هذا يكونُ الأَقِطُ مَكِيلًا؛ لأنَّ في حَدِيثِ صَدَقَةِ الفِطْرِ: صاعٌ من أَقِطٍ (¬1). فأمَّا اللَّبَنُ وغَيرُه من المائِعَاتِ؛ كالأدْهانِ، من الزَّيتِ، والشَّيرَجِ، والعَسَلِ، والدِّبْسِ، والخَلِّ، ونحو ذلك، فالظّاهِرُ أنَّها مَكِيلَة. قال القاضِي في الأَدْهانِ: هي مَكِيلَةٌ. وفي اللَّبَنِ: يَصِحُّ السَّلَمُ فيه كَيلًا. وقال أصحابُ الشّافِعِيِّ: لا يُبَاعُ اللَّبَنُ بَعْضُه بِبَعْض إلَّا كَيلًا. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنّه سُئِلَ عن السَّلَفِ في اللَّبَنِ، فقال: نعم، كَيلًا أو وَزْنًا. وذلك لأنَّ الاءَ مُقَدَّرٌ بالصّاعِ، ولذلك (¬2) قالُوا: كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ بالمُدِّ، ويَغْتَسِلُ بالصّاعِ (¬3)، ويَغْتَسِلُ هو وزَوْجَتُه من الفَرَقِ (¬4). وهذه مَكايِيلُ قُدرَ بها الماءُ، وكذلك سائِرُ المائِعاتِ. ورُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن بَيعِ ما في ضُرُوعِ الأَنْعَامِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 80. (¬2) في الأصل، ق: «كذلك». (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 144، 145. (¬4) تقدم تخريجه في 2/ 148.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بكَيلٍ. روَاهُ ابنُ ماجَه (¬1). وأمّا غيرُ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فما لم يكُنْ له أصْلٌ بالحِجازِ في كيل ولا وَزْنٍ، ولا يُشْبِهُ ما جَرَى فيه عُرْفٌ بذلك، [كالثِّيابِ، والحَيَوانِ] (¬2)، والمَعْدُودَاتِ؛ من الجَوْزِ، والبَيضِ، والرُّمَّانِ، والقِثَّاءِ، والخِيَارِ، وسائِرِ الخُضَرِ، والبقُولِ، والسَّفَرْجَلِ، والتُّفّاحِ، والكُمَّثْرَى، والخَوْخِ، ونحوها، فهذه إذا اعْتَبَرْنا التَّماثُلَ فيها، فإنّه يُعْتَبَرُ في الوَزْنِ؛ لأنَّه أخْصَرُ. ذَكَرَه القاضِي في الفَواكِهِ الرَّطْبَةِ. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأَصْحابِ الشّافِعِيِّ. والآخَرُ، قالُوا: يُعْتَبَرُ ما أَمْكَنَ كَيلُه بالكَيلِ؛ لأنَّ الأَصْلَ الأَعْيَانُ الأرْبَعَةُ، وهي مَكِيلَةٌ، ومن شأْنِ الفرْعِ أنْ يُرَدَّ إلى أصْلِه بحُكْمِه، والأصْلُ حُكْمُه تحريمُ التَّفاضُلِ بالكَيلِ، فكذلك يكونُ حُكْمُ فُرُوعِها (¬3). ولَنا، أنَّ الوَزْنَ أَخْصَرُ، فوَجَبَ اعْتِبارُه في غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، كالذي لا يُمكِنُ كَيلُه، وإنَّما اعْتُبرَ الكَيلُ في المَنْصُوص؛ لأَنَّه يُقدَّرُ به في العادَةِ، وهذا بخِلافِه. ¬

(¬1) في: باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها وضربة الغائص، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 740. (¬2) في الأصل، ق، م: «كالنبات والحبوب». (¬3) في م: «فروعه».

فَصْلٌ: وَأمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ، فَكُلُّ شَيئَينِ لَيسَ أحَدُهُمَا ثَمَنًا، عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، كَالْمَكِيلِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ، لَا يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِمَا، وَإنْ تَفرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، بَطَلَ الْعَقْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وأمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ، فكلُّ شَيئَينِ ليس أحَدُهما ثَمَنًا، عِلَّة رِبَا الفَضْلِ فيهما واحِدَةٌ؛ كالمَكِيلِ بالمَكِيلِ، والمَوْزونِ بالمَوْزونِ، لا يجوز النَّساءُ فيهما، وإنْ تَفَرَّقَا قبلَ التَّقائضِ، بطلَ العَقْدُ) متى كان أحَدُ العِوَضَينِ ثمنًا، والآخَر مُثَمَّنًا، جازَ النَّساءُ بَينَهما بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ الشَّرْعَ أرْخصَ في السَّلَمِ، والأصْل في رَأْسِ مالِ السَّلَمِ الدَّراهِمُ والدَّنانِير، فلو حَرم النَّساءُ ها هنا، لانْسَدَّ بابُ السَّلَمِ في المَوْزونَاتِ، في الغالِبِ. وإنْ لم يكنْ أحَدُهما ثمنًا، فكلُّ شَيئَينِ يَجْرِي فيهما الرِّبَا بعِلّةٍ واحِدَةٍ؛ كالمَكِيلِ بالمَكِيلِ، والمَوْزونِ بالمَوزونِ، والمَطْعُومِ بالمَطْعُومِ عند مَنْ يُعَلِّل به، يَحْرُمُ بَيعُ أحَدِهما بالآخَرِ نسِيئَةً، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لقَوْلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأصْنَافُ، فبِيعوا كَيفَ شِئْتم يَدًا بِيَدٍ» (¬1). وفي لَفْظٍ: «لا بَأْسَ بِبَيع ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذَّهَبِ بالفِضَّةِ -والفِضَّةُ أكْثَرُهما- يدًا بِيَدٍ، وأمّا النَّسِيئَةُ فلَا، ولا بَأْسَ بِبَيعِ البُرِّ بالشَّعِيرِ -والشَّعِيرُ أكْثَرُهما- يدًا بِيَدٍ، وأمّا النَّسِيئَةُ فلا». رَواهُ أبو داودَ (¬1). فصل: وإنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، بَطَلَ العَقْدُ. وبه قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يُشْتَرَطُ التَّقابُضُ في غيرِ النَّقْدَينِ؛ لأنَّ ما عَداهُما ليس بأَثْمانٍ، فلم يُشتَرَطِ التَّقابُضُ فيهمأ، كغَيرِ أمْوال الرِّبَا، وكبيعِ ذلك بأحَدِ النَّقْدَينِ. ولَنا (¬2)، قَوْلُه عليه السّلامُ: «فإذا اخْتَلَفَتْ هذه الأصْنَافُ فبيعُوا كيفَ شِئْتُم يَدًا بِيَدٍ». فالمُرادُ به القَبْضُ. ولأَنَّهُما مالانِ من أمْوالِ الرِّبَا عِلَّتُهما واحِدَةٌ، فحَرُمَ التَّفَرُّقُ بينهما قبلَ القَبْضِ، كالذَّهَبِ بالفِضَّةِ. ¬

(¬1) تقدم ضمن التخريج في صفحة 9. (¬2) في الأصل، ق، م: «أما».

1695 - مسألة: (وإن باع مكيلا بموزون)

وَإنْ بَاعَ مَكِيلًا بِمَوْزُونٍ، جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْض. وَفِي النَّسَاءِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1695 - مسألة: (وإنْ بَاعَ مَكِيلًا بمَوْزُونٍ) كاللَّحْمِ بالبُرِّ (جازَ التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ، وفي النّساءِ روَايَتَانِ) وهذا ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، وقال: هو رِوَايَةٌ واحِدَةٌ؛ لأن عِلَّتَها مُخْتَلِفَةٌ، فجازَ التَّفَرُّق قبل القَبْضِ، كالثَّمَنِ بالثَّمَنِ. ويَحْتَمِلُ كلامُ الخِرَقِيِّ وجوبَ التَّقَابُضِ؛ لأَنَّه قال: وما كان من جِنْسَينِ فجائِزٌ التّفَاضُلُ فيه يَدًا بِيَدٍ. وهل يجوزُ النَّساءُ؛ فيه رِوَايَتَانِ؛ إحداهُما، لا يَجُوزُ. ذَكَرَها الخِرَقِيُّ؛ لأَنَّهُما مالانِ من أمْوالِ الرِّبَا، فلم يَجُزِ النَّساءُ فيهما، كالمَكِيلِ بالمَكِيلِ.

1696 - مسألة: (وما لا يدخله ربا الفضل؛ كالثياب، والحيوان، [يجوز النساء فيهما. وعنه، لا يجوز. وعنه، لا يجوز في الجنس الواحد؛ كالحيوان بالحيوان، ويجوز في الجنسين؛ كالثياب بالحيوان]

وَمَا لا يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ؛ كالثيابِ، وَالْحَيَوَانِ، يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِمَا. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ فِي الْجنْسِ الْوَاحِدِ، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ، وَيَجُوزُ فِي الْجِنْسَينِ، كَالثِّيَابِ بِالْحَيَوانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِيَةُ، يَجُوزُ. وهو قَوْلُ النَّخَعِيِّ، لأنَّهُما لم يَجْتَمِعا في أحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الفَضْلِ، فجازَ النَّساءُ فيهما، كالثِّيابِ بالحَيَوانِ، وعند مَن يُعَلِّلُ بالطَّعْمِ لا يُجِيزُه ها هنا، وَجْهًا واحِدًا. 1696 - مسألة: (وما لا يَدْخُلُه رِبَا الفَضْلِ؛ كالثِّيابِ، والحَيَوانِ، [يجوزُ النَّساءُ فيهما. وعنه، لا يَجُوزُ. وعنه، لا يَجُوزُ في الجنسِ الواحِدِ؛ كالحيَوانِ بالحَيَوانِ، ويَجُوزُ في الجِنْسَينِ؛ كالثِّيَابِ بالحَيَوانِ]) (¬1) فيه أرْبَعُ رِوايَاتٍ، إحْدَاهُنَّ، لا يَحْرُمُ النَّساءُ فيه، سواءٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق، ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِيعَ بجِنْسِه أو بغَيرِه، مُتَسَاويًا أو مُتَفَاضِلًا. وقال القاضِي: إن كان مَطْعُومًا حَرُمَ النَّساءُ فيه، وإنْ لم يَكُنْ مَكِيلًا ولا مَوْزُونًا. وهذا مَبْنِيٌّ على أنَّ العِلَّةَ الطَّعْمُ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. ووجْهُ جَوازِ النَّساءِ ما رَوَى أبو داودَ (¬1) عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه أنْ يُجَهِّزَ جَيشًا، فنَفِدَتِ الإِبِلُ، فأمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ في قِلاصِ (¬2) الصَّدَقَةِ، فكان يَأْخُذُ التعِيرَ بالبَعِيرَينِ إلى إِبِلِ الصَّدَقَةِ. ورَوَى سعيدٌ في سُنَنِه، عن أبي مَعْشَرٍ، عن صالِحِ بنِ كَيسَانَ، عن الحسنِ بنِ محمدِ بنِ عَلِيٍّ: أنَّ عَلِيًّا باعَ بَعِيرًا له، يقالُ له: عُصَيفِيرٌ، بأرْبَعَةِ أبْعِرَةٍ إلى أجَل (¬3). ولأنهُما مَالانِ، لا يَجْرِي فيهما رِبَا الفَضْلِ، فجازَ النَّساءُ فيهما، كالعَرْضِ بِالدِّينارِ، ولأنَّ النَّساءَ أحَدُ نَوْعَي الرِّبَا، فلم يَجُزْ في الأمْوالِ كُلِّها، كالنَّوْعِ الآخرِ. ¬

(¬1) في: باب في الرخصة في الحيوان بالحيوان نسيئة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 225. (¬2) قلاص: جمع قلوص، وهي الشابة من الابل. (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما يجوز من بيع الحيوان بعضه ببعض والسلف فيه، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 652. والبيهقي، في: باب من أجاز السلم في الحيوان. . . . إلخ، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 22. ولكن بلفظ: «بعشرين بعيرًا إلى أجل». أما لفظ: «بأربعة أبعرة». فأخرجاه أيضًا عن عبد الله بن عمر بلفظ: «أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالرَّبذة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذه الرِّوايَةِ، عِلَّةُ تَحْرِيمِ النَّساءِ الوصْفُ الذي مع الجِنْسِ. أمّا الكَيلُ، أو الوَزْنُ، أو الطَّعْمُ عند من يُعَلِّلُ به، فيَخْتَصُّ تحريمُ النَّساءِ بالمَكِيلِ والمَوْزُونِ عند من يُعَلِّلُ [بهما، وبالمَطْعُومِ عند مَنْ يُعَلِّلُ] (¬1) به. اخْتَارَها القاضِي. والرِّوَايَةُ الثانِيَةُ، يَحْرُمُ النَّساءُ في كُلِّ مالٍ بِيعَ بمالٍ آخَرَ، سواء كان من جِنْسِه أوْ لَا؛ لِما رَوَى سَمُرَةُ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيْعِ الحَيَوانِ بالحَيَوانِ نَسِيئَةً. قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ولم يُفرِّقْ بينَ الجِنْسِ والجِنْسَينِ، ولأنَّه بَيعُ عَرْضٍ بعَرْضٍ، فحَرُمَ النَّسَاءُ بَينَهُما، كالجِنْسَينِ من أَموالِ الرِّبَا، فيكونُ عِلَّةُ النَّسَاءِ بينهما المالِيَّةَ، على هذه الرِّوَايَةِ. قال القاضِي: فعلى هذا، لو باعَ عَرْضًا بعَرْضٍ ومع أحَدِهما دراهِمُ العُرُوضِ نَقْدًا، والدَّرَاهِمُ نَسِيئَةٌ، جازَ، وإنْ كان بالعَكْسِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى النَّسِيئَةِ في العُرُوضِ. قال ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) في: باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 246. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الحيوان بالحيوان نسيئة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 224. والنسائي، في: باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 257. وابن ماجه، في: باب الحيوان بالحيوان نسيئة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 763. والدارمي، في: باب في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 204.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَيخُنا (¬1): وهذه الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ جدًّا؛ لأنَّه إثْباتُ حُكْمٍ يُخالِفُ الأصْلَ بغيرِ نَصٍّ ولا إجْماعٍ ولا قِياسٍ صَحِيحٍ، فإنَّ [في المَحلِّ] (¬2) المُجْمَعِ عليه، أو المَنْصُوصِ عليه، أوصافًا لها أَثَرٌ في تَحْرِيمِ الفَضْلِ، فلا يَجُوزُ حَذْفُها عن دَرَجَةِ الاعْتِبارِ، وما هذا سَبِيلُه لا يَجُوزُ إثبات الحُكْمِ فيه، وإنْ لم يُخالِفْ أَصْلًا، فكيفَ يَثْبُتُ (¬3) مع مُخَالفَةِ الأصْلِ في حِلِّ البَيعِ. فأمّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فهو من رِوَايَةِ الحَسَنِ عن سَمُرَة، وأبو عبدِ اللهِ لا يُصَحِّحُ سماعَ الحَسَنِ من سَمُرَةَ. قاله الأثْرَمُ. والرِّوايَةُ الثالِثَةُ، يَحْرُمُ النَّساءُ في كُلِّ ما بِيعَ بجِنْسِه، كالحَيَوانِ بالحَيَوانِ، والثِّيَابِ بالثِّيَابِ، ولا يَحْرُمُ في غيرِ ذلك. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ. ويُرْوَى كراهَةُ بَيعِ الحَيَوانِ بالحَيَوانِ نَساءً، عن ابنِ الحَنَفِيَّةِ (¬4)، وعبدِ اللهِ بنِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرِ، وعِكْرِمَةِ بنِ خالِدٍ (¬5)، وابنِ سِيرِينَ، والثَّوْريِّ، ¬

(¬1) في: المغني 6/ 66. (¬2) في م: «للمحل». (¬3) سقط من: م. (¬4) هو محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، أبو القاسم، المعروف بابن الجفية نسبة إلى أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة، سبيت في حروب الردة، كان رجلا صالحا ثقة، من أصح التابعين إسنادًا عن علي رضي الله عنه، وكانت الشيعة تسميه المهدي. توفي سنة ثلاث وسبعين. تهذيب التهذيب 9/ 354، 355. (¬5) عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي القرشي. روى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، تابعي ثقة له أحاديث. تهذيب التهذيب 7/ 258، 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَسَنِ. ورُوِيَ ذلك عن عَمّارٍ، وابنِ عمرَ؛ لحَدِيثِ سَمُرَةَ، ولأَنَّ الجِنْسَ أحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الفَضْلِ، فحَرُم النَّساءُ؛ كالكَيلِ والوَزْنِ. والرِّوَايَةُ الرّابِعَةُ، لا يَحْرُمُ النَّسَاءُ إلَّا فيما بِيعَ بجِنْسِه مُتَفَاضِلًا؛ لِما رَوَى جابِرٌ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحَيَوانُ اثْنَان (¬1) بواحِدٍ لا يَصْلُحُ نَساءً، ولا بَأْسَ به يَدًا بِيَدٍ». قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): حَدِيثٌ حَسَنٌ. ورَوَى الإمامُ أحمدُ (¬3) بإسْنَادِه عن ابنِ عمرَ، أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ الفَرَسَ بالأفْرإسِ، والنَّجِيبَةَ بالإِبِلِ؟ فقال: «لا بَأْسَ إذا كان يَدًا بِيَدٍ». وهذا يَدُلّ بمَفْهُومِه على إِباحَةِ النَّساءِ مع التَّمَاثُلِ. والرِّوَايَةُ الأولَى أَصَحُّ؛ لمُوافَقَتِها الأَصْلَ. والأحَادِيثُ المُخالِفَةُ لها، قد قال أحمدُ: ليس فيها حَدِيثٌ يُعْتَمَدُ عليه، ويُعْجِبُنِي أنْ يَتَوَقَّاه. وذُكِرَ له حَدِيث ابنِ عَبّاسٍ وابنِ عمرَ في هذا، فقال: هما مُرْسَلَانِ. وحَدِيثُ سَمُرَةَ ¬

(¬1) في النسخ: «اثنين». وعند ابن ماجه: «لا بأس بالحيوان واحدًا باثنين يدًا بيد». (¬2) في: باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، من أبوب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 247. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الحيوان بالحيوان نسيئة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 763. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 11.

1697 - مسألة: (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ؛ وهو بيع الدين بالدين)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُ الكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ بَيعُ الدَّينِ بِالدَّينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قد أجَبْنَا عنه، وحَدِيثُ جابِرِ، قال أبو عبدِ اللهِ: هذا حَجَّاجٌ زادَ فيه: «نَساءً»، ولَيثُ بنُ سَعْدٍ (¬1) [سَمِعَه مِن أبي الزُّبَيرِ، لا يَذْكُرُ فيه: «نَسَاءً»، وحجَّاجٌ هذا هو حجَّاجُ بنُ أرْطَاةَ] (¬2). قال يَعْقُوبُ بنُ شَيبَةَ: هو واهِي الحَدِيثِ، وهو صَدُوقٌ. وإنْ كان أحَدُ المَبِيعَين مِمّا لا رِبًا فيه، والآخَرُ فيه رِبًا؛ كالمَكِيلِ بالمَعْدُودِ، ففي تَحْرِيمِ النَّساءِ فيهما رِوَايَتانِ. 1697 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ الكالِئِ بالكالِئِ؛ وهو بَيعُ الدَّين بالدَّينِ) لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الكالِئِ بالكالِئِ. روَاهُ أبو عُبَيدٍ ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «سعيد». (¬2) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَمَتَى افْتَرَقَ الْمُتَصَارِفَانِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، أَو افْتَرَقَا عَنْ مَجْلِسِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْس مَالِهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الغَرِيبِ (¬1). فصل: قال، رَحِمَهُ الله تَعالى: (ومَتَى افْتَرقَ المُتَصارِفَانِ قبلَ التَّقَابُضِ، أو افْتَرَقَا عن مَجْلِسِ السَّلَمِ قبلَ قَبْضِ رَأْسِ مالِه، بَطَلَ العَقْدُ) أمّا إذا افْتَرَقَا عن مَجْلِسِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ المالِ، فَسَيُذْكَرُ في بابِهِ، إنْ شاءَ الله تَعالى. وأمّا الصَّرْفُ؛ فهو بَيعُ الأثْمانِ بَعضِها بِبَعْضٍ، والقَبْضُ في المَجْلِسِ شَرْط لصِحَّتِه بغَيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ على أنَّ المُتَصَارِفَينِ ¬

(¬1) غريب الحديث 1/ 20.كما أخرجه الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 71، 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا افْتَرَقَا قبلَ أن يَتَقَابَضَا، أنَّ الصَّرْفَ فاسِدٌ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بالوَرِقِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ (¬1)» (¬2). وقَوْلِه عليه السَّلامُ: «بِيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ كيفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» (¬3). ونَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الذَّهَبِ بالوَرِقِ دَينًا (¬4). ونَهَى أنْ يُباعَ غائِبٌ منها بنَاجِزٍ (¬5). وكُلُّها أحادِيثُ صِحاحٌ. ويُجْزِيء القَبْضُ في المَجْلِسِ، وإنْ طال، ولو تَمَاشَيَا مُصْطَحِبَينِ إلى مَنْزِلِ أحَدِهما، أو إلى الصَّرَّافِ، فَتَقَابَضَا عندَه، جازَ. وبه قال [الشَّافِعيُّ و] (¬6) أبو حَنِيفَةَ وأصْحابُه. وقال مالِكٌ: لا خيرَ في ذلك؛ لأنَّهُما فارَقَا مَجْلِسَهُما. ولَنا، أنَّهما لم يَفْتَرِقَا قبلَ التَّقابُضِ، فأشْبَهَ ما لو كانَا في سفِينَةٍ تَسِيرُ بهما، أو رَاكِبَينِ على دابَّةٍ واحِدَةٍ تَمْشِي بهما. وقد دَلَّ على ذلك حَدِيثُ أبي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ في قولِه ¬

(¬1) هاء وهاء: اسم فعل أمر بمعنى خذ. يقال: هاء درهما. أي خذ درهما. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 89. ومسلم، في: باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1209، 1210. وأبو داود، في: باب في الصرف، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222. والنسائي في: باب بيع التمر بالتمر متفاضلا، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 240. وابن ماجه، في: باب صرف الذهب بالورق، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 759، 760. والإِمام مالك، في: باب ما جاء في الصرف، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 636، 637. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 24، 35، 45. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 9. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب بيع الورق بالذهب نسيئة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 98. ومسلم، في: باب النهي عن بيع الورق بالذهب دينا، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1213. والنسائي، في: باب بيع الفضة بالذهب نسيئة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 246. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬6) سقط من: ر 1، م.

1698 - مسألة: (وإن قبض البعض، ثم افترقا، بطل في الجميع، في أحد الوجهين. وفي الآخر، يبطل فيما لم يقبض)

وَإنْ قَبَضَ الْبَعْضَ، ثُمَّ افْتَرَقَا، بَطَل فِي الْجَمِيعِ، فِي أحدِ الْوَجْهَينِ. وفِي الآخرِ، يَبْطُلُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للَّذَينِ مَشَيَا إليه من جانِبِ العَسْكَرِ: وما أراكُما افْتَرَقْتُما (¬1). وإن تَفَرَّقَا قبلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ العَقْدُ؛ لفَواتِ شَرْطِه. 1698 - مسألة: (وإنْ قَبَضَ البَعْضَ، ثمّ افْتَرَقَا، بَطَلَ في الجَمِيعِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. وفي الآخَرِ، يَبْطُلُ فيما لم يَقْبِضْ) بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ولو وَكَّلَ أحَدُهما وَكِيلا في القَبْضِ، فقَبَضَ الوَكِيلُ قبلَ تَفَرُّقِهما، جازَ، وقامَ قَبْضُ وَكِملِه مَقامَ، سَواءٌ فارَقَ الوَكِيلُ المَجْلِسَ قبلَ القَبْضِ، أو لم يُفارِقْه. وإنِ افْتَرَقا قبلَ قَبْضِ الوَكِيلِ، بَطَلَ؛ لأنَّ القَبْضَ في المَجْلِس شَرْطٌ، وقد فاتَ. وإنْ تَخايَرا قَبلَ القَبْضِ في المَجْلِسِ، لم يَبْطُلِ العَقْدُ بذلك؛ لأنَّهُما لم يَفْتَرِقَا قبلَ القَبْضِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَبْطُلَ، إذا قُلْنَا بلُزُومِ العَقْدِ، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ العَقْدَ لم يَبْقَ فيه خِيارٌ قبلَ القَبْضِ، أشْبَهَ ما لو افْتَرَقَا. والصحِيحُ الأوَّلُ، فإنَّ الشَّرْطَ التَّقَابُضُ في المَجْلِسِ، وقد وُجِدَ، واشْتِراطُ التَّقَابُضِ قبلَ اللُّزُومِ تحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ. ثم يَبْطُلُ بما إذا تخايَرَا قبلَ الصَّرْفِ ثم اصْطرَفا، فإنّ الصَّرْف يَقَعُ لازِمًا صَحِيحًا قبلَ القبْضِ، ثم يُشْتَرَطُ القَبْضُ في المَجْلِسَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 280.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو صارَفَ رَجُلًا دينارًا بعَشَرَةِ دَراهِمَ، وَليس معه إلَّا خَمْسَة، لم يَجُزْ أنْ يَتَفَرَّقَا قبلَ قَبْضِ العَشَرَةِ، فإنْ قَبَضَ الخَمْسَةَ وافْتَرَقَا، فهل يَبْطُلُ في الجَمِيعِ، أو في نِصْفِ الدِّينارِ؟ يَنْبَنِي على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فإنْ أرادَا صِحَّةَ العَقْدِ، فَسَخَا الصَّرْفَ في النِّصْفِ الذي ليس معه عِوَضُه، أو يَفْسَخَانِ العَقْدَ كُلَّه، ثم يَشْتَرِى منه نِصْفَ الدِّينارِ بخَمْسَةٍ ويَدْفَعُها إليه، ثم يَأْخُذُ الدِّينارَ كُلَّه، فيَكُونُ نِصْفُه له، والباقِي أمانَةً في يَدِه، ويَتَفَرَّقَانِ، ثمّ إذا صارَفَه بعد ذلك بالباقِي له من الدِّينارِ، أو اشْتَرَى به منه شَيئًا، أو جَعَلَه سَلَمًا في شيءٍ، أو وَهَبَه إيّاهُ، جازَ. ولو اشْتَرَى فِضَّةً بدِينارٍ ونِصْفٍ، ودَفَع إلى البائِعِ دِينارَينِ، وقال: أنت وَكِيلِي في نِصْفِ الدّينارِ الزّائِدِ. صَحَّ. ولو صارَفَه عَشَرَةَ دَراهِمَ بدينارٍ، فأَعْطَاهُ أكثرَ من دِينارٍ ليَزِنَ له حَقَّهُ في وَقْتٍ آخرَ، جازَ وإنْ طال، ويكونُ الزَّائِدُ أمانَةً في يَدِه، لا شيءَ عليه في تَلَفِه. نَصَّ أحمدُ على أكْثَرِ هذه المَسَائِلِ. فإنْ لم يكُنْ مع أحَدِهما إلَّا خَمْسَةُ دَراهِمَ، فاشْتَرَى بها نِصْفَ دِينارٍ، وقَبَضَ دِينارًا كامِلًا، ودَفَع إليه الدَّرَاهِمَ، ثم اقْتَرَضَها منه، واشْتَرَى بها النِّصْفَ الباقِيَ، أو اشْتَرَى الدِّينَارَ منه بعَشَرَةٍ ابْتِداءً، ودَفَعَ إليه الخَمْسَةَ، ثم اقْتَرَضَها منه، ودَفَعَها (¬1) إليه عِوَضًا عن النِّصْفِ الآخرِ على غيرِ وَجْهِ الحِيلَةِ، فلا بَأْسَ. ¬

(¬1) في م: «دفع».

1699 - مسألة: (وإن تقابضا، ثم افترقا، فوجد أحدهما ما قبضه رديئا، فرده، بطل العقد، في إحدى الروايتين)

وَإنْ تَقَابَضَا، ثُمَّ افْتَرَقَا، فَوَجَدَ أحَدُهُمَا مَا قَبَضَهُ رَدِيئًا، فَرَدَّهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَالأخْرَى، إِنْ قَبَضَ عِوَضَهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، لَمْ يَبْطُل، وَإنْ رَدَّ بَعْضَهُ، وَقُلْنَا: يَبْطُلُ فِي الْمَرْدُودِ. فَهَلْ يَبْطُلُ فِي غيرِه؟ عَلَى وَجهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1699 - مسألة: (وإنْ تَقَابَضَا، ثم افْتَرَقَا، فوَجَدَ أحَدُهما ما قَبَضَه رَدِيئًا، فرَدَّهُ، بَطَلَ العَقْدُ، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ) هذا إنْ كان فيه عَيبٌ مِن غيرِ جِنْسِه؛ لأنَّهُما تَفَرَّقا قَبْلَ قَبْضِ المَعْقُودِ عليه فيما يُشْتَرَطُ قَبْضُه. اخْتَارَه الخِرَقِيُّ (¬1). والأخْرَى، لا يَبْطُلُ؛ لأَنَّ (قَبْضَ عِوَضِه في مَجْلِسِ الرَّدِّ) يقومُ مَقامَ قَبْضِه في المجلِسِ (وإنْ رَدّ بَعْضَه، وقُلْنا: يَبْطُلُ في المَرْدُودِ. فهل يَبْطُلُ في الباقِي؟ على رِوَايَتَينِ) بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وإنْ كان العَيبُ من جِنْسِه، فسَنَذْكُرُه إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «القاضي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ مُدَّى تَمْرٍ رَدِئٍ بدِرْهَم، ثم اشْتَرَى بالدِّرْهَمِ تَمْرًا جَيِّدًا، أو اشْتَرَى من رَجُلٍ دينارًا صَحِيحًا بدَراهِمَ، وتَقَابَضَا، ثمّ اشْتَرَى منه بالدّرَاهِمِ قُراضَةً عن غيرِ مُواطَأةٍ ولا حِيلَةٍ، فلا بأْسَ به. وقال ابنُ أبي مُوسَى: لا يَجُوزُ، إلَّا أنْ يَمْضِيَ إلى غَيرِه لِيَبْتَاعَ منه، فلا يَسْتَقِيمُ له، فيَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى البائِعِ فيَبْتَاعَ منه. وقال أحمدُ في رِوَايَةِ الأثْرَم: يَبِيعُها من غَيرِه أحَبُّ إلَيَّ. قلتُ له: فإنْ لم يُعْلِمْه أنّه يُرِيدُ أنْ يَبِيعَها منهَ؟ فقال: يَبيعُها من غَيرِه، فهو أطْيَبُ لنَفْسِه، وأَحْرَى أنْ يَسْتَوْفِيَ الذَّهَبَ منه، فإنَّه إذا رَدَّها إليه لَعَلَّه أنْ لا يُوَفِّيَهُ الذَّهَبَ ولا يُحْكِمَ الوَزْنَ ولا يَسْتَقْصِيَ. يقولُ: هي تَرْجِعُ إليه. قيل لأبِي عبدِ اللهِ: فذَهَبَ ليَشْتَرِيَ الدّراهِمَ بالذَّهَبِ الذي أخَذَها منه من غيرِه فلم يَجِدْها، فرَجَعَ إليه؟ فقال: إذا كان لا يُبَالِي اشْتَرَى منه أو من غيرِه، فَنَعَم. فظاهِرُ هذا أنَّه على وَجْهِ الاستِحْبَابِ، لا الإِيجابِ. ولَعَلَّ أحمدَ إنّما أرادَ اجْتِنابَ المُواطَأَةِ على هذا، ولهذا قال: إذا كالت لا يُبَالِي اشتَرَى منه أو من غيرِه، فنَعَمْ. وقال مالِكٌ: إنْ فَعَلَ ذلك مَرَّةً، جازَ، وإنْ فَعَلَه أكثرَ من مَرَّةٍ، لم يَجُزْ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يُضَارِعُ الرِّبَا. ولَنا، ما رَوَى أبو سَعِيدٍ، قال: جاءَ بِلالٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «من أينَ هذا؟» قال بلالٌ: كان عِنْدَنا تمْرٌ رَدِئٌ، فبِعْتُ صاعَينِ بصَاعٍ، ليَطعَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «أوَّهْ، عَينُ الرِّبا، عَينُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، ولَكِنْ إذا أرَدْتَ أنْ تَشتَرِيَ فَبعِ التَّمْرَ بِبَيعٍ آخرَ ثم اشْتَرِ به». ورَوَى أبو سَعِيدٍ، أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا على خَيبرَ فجاءَه بتَمْر جَنِيبٍ (¬1)، فقال: «أَكُلُّ تَمْرٍ خَيبَرَ هكذا؟» فقال: لَا واللهِ، إنّا لنَأْخُذُ الصّاعَ من هذا بالصَّاعَين، والصَّاعَينِ بالثَّلَاثَةِ. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَفْعَلْ، بعِ التَّمْرَ بالدَّرَاهمِ، ثم اشْتَرِ بالدَّراهمِ جَنِيبًا». مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). ولم يَأْمُرْه أنْ يَبِيعَهُ مِنْ غيرِ مَنْ يَشْتَرِي منه، ولو كان ذلك مُحَرَّمًا لبَيَّنَهُ له وعَرَّفَه إيّاهُ، ولأنَّه باعَ الجِنْسَ بغَيرِه مِنْ غيرِ شَرْطٍ ولا مُوَاطأَةٍ، فجازَ، كما لو باعَهُ ¬

(¬1) الجنيب: من أجود التمر. (¬2) الأول تقدم تخريجه في صفحة 8. والثاني: أخرجه البخاري، في: باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، من كتاب البيوع، وباب الوكالة في الصرف والميزان، من كتاب الوكالة. صحيح البخاري 3/ 102، 129. ومسلم، في: باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1215. كما أخرجه النسائي، في: باب بيع التمر بالتمر متفاضلا، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 238. والإمام مالك، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من غَيرِه. ولأنَّ ما جازَ من التَّبايُعاتِ مَرَّةً، جازَ على الإِطْلَاقِ، كسائِرِ البِياعَاتِ، فإنْ تَواطَآ على ذلك، لم يَجُزْ، وكان حِيلَةً مُحَرَّمَةً. وبه قال مالِكٌ. وقال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ: يَجُوزُ، ما لم يكُنْ مَشْرُوطًا في العَقْدِ. ولَنا، أنَّه إذا كان عن مُوَاطَأَةٍ كان حِيلَةً، والحِيَلُ مُحَرَّمَة، على ما سَنَذْكُرُه. فصل: والصَّرْفُ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَينِ؛ أحدُهما، أنْ يَبِيعَ عَينًا بعَينٍ، وهو أنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هذا الدِّينارَ بهذه الدَّراهِمِ. والثّانِي، أنْ يَقَعَ العَقْدُ على مَوْصُوفٍ، نحوَ أنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ديتارًا مِصْرِيًّا بعَشَرَةِ دَراهِمَ ناصِرِيَّةٍ. وقد يكونُ أحَدُ العِوَضَينِ مُعَيَّنًا دونَ الآخرِ، وكلُّ ذلك جائِزٌ. وظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ في العُقودِ، فيَثْبُتُ المِلْكُ في أعْيانِها. فإنْ تَبَايَعَا عَينًا بعَينٍ، ثم تَقَابَضَا، فوَجَدَ أحَدُهما عَيبًا فيما قَبَضه، فذلك قسْمانِ؛ أحَدُهما، أنْ يكُونَ العَيبُ غِشًّا من غيرِ جِنْسِ المَبِيعِ، كالنُّحاسِ في الدَّرَاهِمِ، والمِسِّ (¬1) في الذَّهَبِ، فالصَّرْفُ باطِل. وهو قَوْلُ ¬

= في: باب ما يكره من بيع التمر، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 623. (¬1) المس. بكسر الميم الخلط.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّافِعِيِّ. وذَكَرَ أبو بكْرٍ فيها ثلاثَ رِواياتٍ؛ إحداهُنَّ، البَيعُ باطِلٌ. والثانِيَةُ، صَحِيحٌ، وللمُشْتَرِي الخِيارُ، والرَّدُّ (¬1) وأخْذُ البَدَلِ. والثالِثَةُ، يَلْزَمُه العَقْدُ، وليس له رَدٌّ ولا بَدَلٌ. ولَنا، أنَّه باعَهُ غيرَ ما سَمَّى له، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْتُكَ هذه البَغْلَةَ. فإذا هو حِمارٌ. أو: هذا الثَّوْبَ القَزَّ. وإذا هو كَتَّانٌ. وأمّا القَوْلُ بأَنَّه يَلْزَمُه البَيعُ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه اشْتَرَى مَعِيبًا لم يَعْلَمْ عَيبَه، فلم يَلْزَمْه ذلك بغيرِ أرْشٍ، كسائِرِ البِيَاعَاتِ. القِسْمُ الثانِي، أنْ يكونَ العَيبُ من جِنْسِه، كالسَّوَادِ في الفِضَّةِ، والخُشُونَةِ، و (5) كَوْنِها تَتَفَطَّرُ عند الضربِ، أو أنَّ سَكَّتَهَا مُخالِفَةٌ لسَكَّةِ السُّلْطانِ، فيَصِحُّ العَقْدُ، ويُخَيَّر المُشْتَرِي بينَ الإِمْسَاكِ والرَّدِّ (¬2)، ولا بَدَلَ له؛ لأنَّ العَقْدَ وَقَعَ على مُعَيَّنٍ، فإذا أخَذَ غَيره، أخَذَ ما لم يَشْتَرِه. وإنْ قُلْنا: إنَّ النَّقْدَ لا يَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ في العَقْدِ. فله أخْذُ البَدَلِ، ولا يَبْطُل العَقْدُ؛ لأنَّ الذي قَبَضَه ليس هو المَعْقُودَ عليه، فأشْبَهَ المُسْلَمَ إذا قَبَضَه فوَجَدَ به عَيبًا. ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ في هذا الفَصْلِ على ما ذَكَرْنَا. ¬

(¬1) في م: «الترك». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو أرادَ (¬1) أخْذَ أرْشِ العَيبِ، والعِوَضَانِ في الصَّرْفِ من جِنْسٍ واحِدٍ، لم يَجُزْ؛ لحُصُولِ الزِّيَادَةِ في أحَدِ العِوَضَينِ، وفَواتِ المُماثَلَةِ المُشْتَرَطَةِ في المَجْلِسِ (¬2) الواحِدِ. وخَرَّجَ القاضِي وَجْهًا لجَوازِ أخْذِ الأرْشِ في المَجْلِسِ؛ لأنَّ الزِّيَادَةَ طَرَأتْ بعدَ العَقْدِ. وليس لذلك وَجْهٌ، فإنَّ أرْشَ العَيبِ من العِوَضِ يُجْبَرُ به في المُرَابَحَةِ، ويُرَدُّ به (¬3) إذا رَدَّ المَبِيعَ بفَسْخٍ أو إقالةٍ، ولو لم يكُنْ من العِوَضِ، فَبِأيِّ شيءٍ اسْتَحَقَّهُ المُشْتَرِي؟ فإنَّه ليس بهِبَةٍ، على أنَّ الزِّيادَةَ في المجْلِسِ من العِوَضِ، وإنْ لم يكُنْ أرْشًا، فالأرْشُ أوْلَى. وإنْ كان الصرفُ بغَيرِ جِنْسِه، فله أخْذُ الأرْشِ في المَجْلِسِ؛ لأنَّ المُماثَلَةَ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ، وتَخَلُّفُ قَبْضِ بَعْضِ العِوَضِ عن بَعْضٍ لا يَضُرُّ ما دَامَا في المَجْلِسِ، فجازَ كما في سائِرِ المَبِيع، وإنْ كان بعدَ الِتَّفَرُّقِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى حُصولِ التَّفَرُّقِ قبلَ قبضِ أحَدِ العِوَضَينِ، إلَّا أنْ يَجْعَلَا الأرْشَ من غيرِ جِنْسِ ¬

(¬1) في م: «أرادا». (¬2) في ر 1، م: «الجنس». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنِ، كأنَّه أخَذَ أرْشَ عيبِ الفِضَّةِ حِنْطَةً، فيَجُوزُ. وكذلك الحُكْمُ في سائِرِ أمْوالِ الرِّبَا، فيما بِيعَ بجِنْسِه أو بغيرِ جِنْسِه، مما يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ، فإذا كان ممّا لا يُشْتَرَطُ قَبْضُه. كمن باعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، فوَجَدَ أحَدُهُما عَيبًا، فأخَذَ أرْشَه دِرْهَمًا، جازَ وإنْ كان بعدَ التَّفَرُّقِ؛ لأَنه لم يَحْصُلِ التَّفَرُّقُ قبلَ قبْضِ ما يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ. فصل: وإنْ تَلِفَ العِوَضُ في الصَّرْفِ بعد القَبْضِ، ثم عَلِمَ عَيبَه، فَسَخَ العَقْدَ، ويَرُدُّ المَوْجُودَ، وتَبْقَى قِيمَةُ العَيبِ (¬1) في ذِمَّةِ من تَلِفَ في يَدِه، فيَرُدُّ مثْلَها، أو عِوَضَها إنِ اتَّفَقَا عليه، سواءٌ كان الصَّرْفُ بجِنْسِه أو بغيرِ جِنْسِه. ذكَره ابنُ عَقِيلٍ. وهو قولُ الشّافِعِي. قال ابنُ عقيلٍ: وقد رُوِيَ عن أحمدَ جَوازُ أخْذِ الأرْشِ. والأوَّلُ أوْلَى، إلَّا أنْ يكُونَا في المَجْلِسِ والعِوَضانِ من جِنْسَين. القسمُ الثانِي، أنْ يَصْطرَفا في الذِّمَّةِ، فيَصِحُّ، سواء كانتِ الدَّرَاهِمُ والدَّنانِيرُ عندهما أوْ لَا، إذا تَقَابَضَا قبلَ الافْتِراقِ. ¬

(¬1) في ر 1، ق: «المعيب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ: لا يَجُوزُ الصَّرْفُ، إلَّا أنْ تَكُونَ العَينانِ حاضِرَتَينِ. وعنه، لا يَجُوزُ حتى تَظْهَرَ إحْدَى العَينَينِ وتُعَيَّنَ. وعن زُفَرَ مثْلُه؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بنَاجِزٍ» (¬1). ولأَنه إذا لم يُعَيَّنْ أحَدُ العِوَضَينِ، كانَ بَيعَ دَينٍ بدَينٍ. ولَنا، أنَّهما تَقَابَضَا في المَجْلِسِ، فصَحَّ، كما لو كانَا حاضِرَينِ. والحَدِيثُ يرادُ به أنْ لا يباعَ عاجِلٌ بآجِلٍ، أو مَقْبُوضٌ بغيرِ مَقْبُوضٍ؛ بدَلِيلِ ما لو عَيَّنَ (¬2) أحَدَهما، فإَّنه يَصِحُّ وإنْ كان الآخَرُ غائِبًا، ولأنَّ القَبْضَ في المَجْلِسِ جَرَى مَجْرَى القَبْضِ حالةَ العَقْدِ، ألَا تَرَى إلى قَوْلِه: «عَينًا بعَين، يدًا بِيَدٍ»؟ والقَبْضُ يَجْرِي في المَجْلِسِ.، كذا التَّعْيِينُ. إذا ثَبَتَ هذا، فلا بُدَّ من تعْيِينهما (¬3) بالتَّقَابُضِ في المَجْلِسِ. ومتى تَقَابَضَا فوَجَدَ أحَدُهما بما قَبَضَه عَيبًا قبلَ التَّفَرُّقِ، فله المُطَالبَةُ بالبَدَلِ، سواء كان العَيبُ من جِنْسِه، أو من غيرِ جِنْسِه؛ لأَنَّ العَقْدَ وقَعَ على مُطْلَقٍ لا عَيبَ فيه، فكان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 8. (¬2) في م: «غير». (¬3) في م: «تعينها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له المُطَالبَةُ بما وَقَعَ عليه العَقْدُ، كالمُسْلَمِ فيه. وإنْ رَضِيَهُ بعَيبه، والعَيبُ من جِنْسِه، جازَ، كما لو رَضِيَ بالمُسْلَمِ فيه مَعِيبًا، وإنِ اخْتَارَ أَخْذَ أَرْشِه، وكان العِوَضانِ من جِنْسَينِ، جازَ، وإن كانا من جِنْسٍ لم يَجُزْ، وقد ذَكَرْنَاهُ. وإنْ تَقَابَضَا ثم افْتَرَقَا، ثم وَجَدَ العَيبَ من جِنْسِه، فله إبْدَالُه، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. اخْتارَها الخَلّالُ، والخِرَقِيُّ. ورُوِيَ ذلك عن الحَسَنِ، وقَتادَةَ. وبه قال أبو يُوسُفَ ومحمدٌ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ ما جازَ إبْدَالُه قبلَ التَّفَرُّقِ، جازَ بعد التَّفَرُّقِ، كالمُسْلَمِ فيه. والثانِيَةُ، ليس له ذلك. اخْتَارَهَا أبو بكْرٍ. وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والقَوْلُ الثانِي للشَّافِعِيِّ؛ لأَنَّه يَقْبِضُه بعدَ التَّفَرُّقِ، ولا يَجُوزُ ذلك في الصَّرْفِ ومَنْ نصرَ الرِّوَايَةَ الأولَى قال: قَبْضُ الأوَّلِ صَحَّ به العَقْدُ، وقَبْضُ الثاني بَدَلٌ عن الأوَّلِ. ويُشْتَرَطُ أن يَأْخُذَ البَدَلَ في مَجْلِسِ الرَّدِّ، فإن لم يَأْخُذْه فيه، بَطَل العَقْدُ. وإنْ وَجَدَ البَعْضَ رَدِيئًا، فرَدَّه، فعلى الرِّوَايَةِ الأولَى، له البَدَلُ، وعلى الثانِيَةِ، يَبْطُلُ في المَرْدُودِ. وهل يَصِحُّ فيما لم يَرُدَّ؟ على وَجْهَينِ، بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ولا فَرْقَ بينَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَوْنِ المَبِيعِ من جِنْسٍ، أو من جِنْسَينِ. وقال مالِكٌ: إنْ وَجَدَ دِرْهَمًا زَيفًا فَرَضِيَ به، جازَ، وإنْ رَدَّه، انْتقَضَ الصَّرْفُ في دينارٍ، وإن رَدَّ أحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، انْتقَضَ في دِينارَينِ، وكُلَّما زادَ على دينارٍ، انْتَقَضَ الصَّرْفُ في دينارٍ آخَرَ. ولَنا، أنَّ ما لا عَيبَ فيه لم يُرَدَّ، فلم يَنْتَقِضَ الصَّرْفُ فيما يُقابِلُه، كسائِرِ العِوَضِ. وإنِ اخْتارَ واجِدُ العَيبِ الفَسْخَ، فعلى قَوْلِنا: له البَدَلُ. ليس له الفَسْخُ إذا [أبْدَلَ له] (¬1)؛ لأنَّه يُمْكِنُه أخْذُ حَقِّهِ غيرَ مَعِيبٍ. وعلى الرِّوَايَةِ الأخْرَى، له الفَسْخُ أو الإِمْساكُ في الجَمِيعِ، لأنَّه تَعَذَّرَ عليه الوُصُولُ إلى ما عَقَدَ عليه مع إبْقاءِ العَقْدِ. وإنِ اخْتَارَ أخْذَ أرْشِ العَيبِ بعد التَّفَرُّقِ، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّه عِوَضٌ يَقْبِضُه بعدَ التَّفَرُّقِ عن الصَّرْفِ، ويَجوزُ على الرِّوَايَةِ الأخْرَى. فصل: ومِنْ شَرْطِ المُصَارَفَةِ في الذِّمَّةِ أنْ يكونَ العِوَضَانِ مَعْلُومَينِ، إمّا بصِفَةٍ يَتَمَيَّزانِ بها، أو يكونَ للبَلَدِ نَقْدٌ مَعْلُومٌ أو غالِبٌ، فيَنْصَرِف الإِطْلَاقُ إليه. ولو قال: بِعْتُكَ دِينارًا مِصْرِيًّا لا بعِشْرِين دِرْهمًا من نَقْدِ عَشَرَةٍ بدِينارٍ. لم يَصِحَّ، إلَّا أنْ لا يَكُونَ في البَلَدِ نَقْدُ عَشَرَةٍ بدِينَارٍ، إلَّا نَوْعٌ واحِدٌ، فتَنْصَرِفُ الصِّفَةُ إليه، وكذلك الحُكْمُ في البَيعِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أبدله». وفي ر 1: «بذل له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان لرَجُلٍ في ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ، وللآخَرِ عليه دَراهِمُ، فاصْطرفَا بما في ذِمَمِهما، لم يَصِحَّ. وبهذا قال اللَّيثُ، والشّافِعِيُّ. وحكى ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1) عن مالِكٍ، وأبي حَنِيفَةَ جَوازَهُ؛ لأنَّ الذمَّةَ الحاضِرَةَ كالعَينِ الحاضِرَةِ، ولذلك جازَ أنْ يَشْتَرِيَ الدَّراهِمَ بدِينارٍ مِن غيرِ تَعْيِينٍ. ولَنا، أنَّه بَيعُ دَينٍ بدَينٍ، وقد قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ بَيعَ الدَّينِ بالدَّينِ لا يَجُوزُ. قال أحمدُ: إنَّما هو إجْماع. وقد رَوَى أبو عُبَيدٍ في الغَرِيبِ (¬2)، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيع الكالِئِ بالكالِئِ. وفَسَّرَه [بِبَيع الدَّينِ] (¬3) بالدَّينِ. إلَّا أنَّ الأثْرَمَ رَوَى أنَّ أحمدَ سُئِلَ: أيَصِحُّ هذا الحَدِيثُ؟ قال: لا. فأمّا الصَّرْفُ فإنَّما صَحَّ بغَيرِ تَعْيِينٍ، بشَرْطِ أنْ يَتَقَابَضَا في المَجْلِسِ، فجَرَى القَبْضُ والتَّعْيِينُ في المَجْلِسِ مَجْرَى وجُودِه حالةَ العَقْدِ. ولو كان لرَجُلٍ على رَجُلٍ دَنانِيرُ، فقَضاهُ دَراهِمَ شيئًا بعدَ شَيءٍ، فإنْ كان يُعْطِيهِ كُلَّ دِرْهَم بحِسابِه من ¬

(¬1) في الاستذكار 10/ 20، 11. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 106. (¬3) في م: «بالدين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّينارِ (¬1) صَحَّ. نَصَّ عليه. وإنْ لم يَفْعَلْ ذلك، ثم تَحاسَبَا بعدُ، فَصارَفَه بها وَقْتَ المُحاسَبَةِ، لم يَجُزْ. نصَّ عليه أيضًا؛ لأنَّ الدّنانِيرَ دَينٌ، والدّراهِمَ قد صارَتْ دَينًا، فيَصِيرُ بَيعَ دَينٍ بدَينٍ. وإن قَبَضَ أحَدُهما من الآخَرِ ما لَه عليه، ثم صارَفَه بعَين وذِمَّةٍ، صَحَّ. وإذا أعْطَاهُ الدَّراهِمَ شيئًا بعدَ شيءٍ، ولم يُقْبِضْه (¬2) إيّاها وَقْتَ دَفْعِها إليه، ثم أحْضَرَها، وقَوَّمَاهَا، فإنَّه يَحْتَسِبُ بقِيمَتِها يومَ القَضاءِ، لا يَوْمَ دَفْعِها إليه؛ لأنَّها قبلَ ذلك لم تَصِرْ في مِلْكِه، إنَّما هي وَدِيعَةٌ في يَدِه. فإنْ تَلِفَتْ أو نَقَصَتْ، فهي من ضَمَانِ مالِكِها، ويَحْتَمِلُ أنْ تكونَ من ضَمانِ القابِضِ إذا قَبَضَها بنيَّةِ الاسْتِيفاءِ؛ لأنَّها مَقْبُوضَةٌ على أنَّها عِوَضٌ ووَفاءٌ، والمَقْبُوضُ في عَقْدٍ فاسِدٍ كالمَقْبُوضِ في عَقْدٍ صَحِيحٍ، فيما يَرْجِعُ إلى الضَّمانِ وعَدَمِه. ولو كان لرَجُلٍ عند صَيرَفِيٍّ دَنانِيرُ، فأَخَذَ منه دَراهِمَ أدْوارًا (¬3)، لتَكُونَ هذه بهذه، لم يكُنْ كذلك، بل كُلُّ واحِدٍ منهما في ذِمَّةِ من قَبَّضَه، فإذا أرادَا التَّصَارُفَ أحْضَرا (¬4) أحَدَهما، واصْطرفَا بعَينٍ وذِمَّةٍ. ¬

(¬1) في م: «الدنانير». (¬2) في ر 1: «يقضه». (¬3) في ر 1، م: «أدرارًا». (¬4) في ر 1: «أحضر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ اقْتِضاءُ أحَدِ النَّقْدَينِ من الآخَرِ، ويكُونُ صَرْفًا بعَينٍ وذِمَّةٍ، في قوْلِ الأكْثَرِين. ومَنَعَ منه ابنُ عَبّاسٍ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرّحمنِ، وابنُ شُبْرُمَةَ. ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ؛ لأنَّ القَبْضَ شَرْطٌ، وقد تَخَلَّفَ (¬1). ولَنا، أنَّ ابنَ عمرَ قال: كنتُ أَبِيعُ الإِبِلَ، فأَبِيعُ بالدَّنَانِيرِ، وآخُذُ الدَّراهِمَ، وأبِيعُ بالدَّراهِمِ وآخذُ الدّنانِيرَ، آخُذُ هذه من هذه، وأُعْطِي هذه من هذه، فأَتَيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في بَيتِ حَفْصَةَ، فقُلْتُ: يارسولَ الله، رُوَيدَكَ أَسْأَلُكَ، إنِّي أَبِيعُ الإبِلَ بالبَقِيع، فأَبِيعُ بالدَّنَانِيرِ وآخُذُ الدَّراهِمَ، وأبِيعُ بالدَّرَاهِمِ وآخُذُ الدّنَانِيرَ، آخُذُ هذه من هذه، وأُعْطِي هذه منِ هذه، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا بَأْسَ أنْ تَأْخُذَها بسِعْرِ يَوْمِها، ما لم تَفرَّقَا وليس بَينَكُمَا شيءٌ». روَاهُ أبو دَاوُدَ (¬2)، والأثْرَمُ. قال أحمدُ: إنّما يَقْضِيه إيَّاهَا بالسِّعْرِ. لم يَخْتَلِفُوا إلَّا ما قال أصحابُ الرأي: إنَّه يَقْضِيه مكانَها ذَهَبًا على التَّراضِي، لأنه بَيعٌ في الحالِ، فجازَ ما تَرَاضَيَا عليه إذا اخْتَلَفَ الجِنْسُ،؛ لو كان العِوَضُ عَرْضا. ولَنا، قولُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «لا بَأْسَ أنْ تَأْخُذَها بسِعْرِ يَوْمِها». فشَرَطَ أَخْذَها ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «يختلف». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 506.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسِّعْرِ. ورُوِيَ أنَّ بكْرَ بنَ عبدِ اللهِ، ومُوَرقًا (¬1) العِجْلِيَّ سَأَلَا ابنَ عمرَ عن كَرِيٍّ (¬2) لهما، له عليهما دَرَاهِمُ، وليس مَعَهُما إلَّا دَنانِيرُ؛ فقال ابنُ عمرَ: أَعْطُوهُ بسِعْرِ السُّوقِ. ولأنَّ هذا جَرَى مَجْرَى القَضَاء، فَيُقَيَّدُ بالمِثْلِ، كالقَضاء من الجِنس، والتماثُلُ ها هنا بالقِيمَةِ؛ لتَعَذُّرِ التماثُلِ بالصُّورَةِ. قيل لأبي عبدِ اللهِ: فإنّ أهْلَ السُّوقِ يَتَغَابَنُونَ بَينَهُم بالدّانَقِ في الدِّينارِ وما أَشْبَهَه، [فسَهَّلَ فيه إذا] (¬3) كان ممّا يَتَغابَنُ النّاسُ به، ما لم يَكُنْ حِيلَةً. فصل: فإنْ كان المَقْضِيُّ الذي في الذَمَّةِ مُؤجَّلًا، فقد تَوَقَّفَ أحمدُ فيه. وقال القاضِي: يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، المَنْعُ. وهو قولُ مالِكٍ، ومَشْهُورُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ ما في الذمَّةِ غيرُ مُسْتَحَقِّ القَبْضِ، فكان القَبْضُ نَاجِزًا في احدِهما، والنَّاجزُ يَأْخُذُ قِسْطًا من الثَّمَنِ. والثانِي، الجَوَازُ. وهو قولُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأَنَّه ثابِتٌ في الذِّمَّةِ، وما في الذِّمَّةِ بمَنْزِلَةِ المَقْبُوض، فكَأنَّه رَضِيَ بتَعْجِيلِ المُؤجَّلِ. وهذا هو الصَّحِيحُ إذا قَضَاه ¬

(¬1) في م: «مسروقا». (¬2) الكرى: الأجير. (¬3) في م: «فقال إن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بسِعْرِ يَوْمِها ولم يَجْعَلْ للمَقْضِيِّ فَضْلًا لأجْلِ تَأْجِيلِ ما في الذِّمَّةِ؛ لأنَّه إذا لم يَنْقُصْه عن سِعْرِها شيئًا، فقد رَضِيَ بتَعْجِيلِ ما فِي الذِّمَّةِ بغيرِ عِوَضٍ، فأَشْبَهَ ما لو قَضَاه من جِنْسِ الدَّينِ، ولم يَسْتَفْصِلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمرَ حينَ سَأَلَه، ولو افْتَرَقَ الحالُ، لسَال واسْتَفْصَلَ. هذا اخْتِيارُ شَيخِنا (¬1). فصل: قال أحمدُ: لو كانَ لرَجُلٍ على رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فدَفَعَ إليه دِينارًا، وقال: اسْتَوْفِ حَقَّكَ منه. فاسْتَوْفَاهُ بعد التَّفَرُّقِ، جازَ. ولو كان عليه دَنانِيرُ، فوَكَّلَ غَرِيمَه في بَيعِ دارِه، واسْتِيفَاءِ دَينِه من ثَمَنِها، فَبَاعَها بدَراهِمَ، لم يَجُزْ أنْ يَأْخُذَ منها قَدْرَ حَقِّه؛ لأنَّه لم يَأْذَن له في مُصارَفَةِ نَفْسِه، ولأنَّهُ مُتَّهَمٌ. نَصَّ أحمدُ على ذلك. فصل: ولو كانَ له عندَ رَجُلٍ دِينارٌ ودِيعَةً، فَصَارَفَه به، وهو مَعْلُومٌ بقاؤُه أو مَظْنُونٌ، صَحَّ الصَّرْفُ، وإنْ ظَنَّ عَدَمَه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُ المَعْدُومِ. وإنْ شَكَّ فيه، فقال ابنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ. وهو قَوْلُ بَعْضِ ¬

(¬1) انظر المغني 6/ 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّافِعِيَّةِ. وقال القاضِي: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه غيرُ مَعْلُومِ البَقاءِ. وهو مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الأصْلَ بقاؤه، فصَحَّ البناءُ عليه عند الشَّكِّ؛ لأنَّ الشَّكَّ لا يُزيلُ اليَقِينَ، ولذلك صَحَّ بَيعُ الحَيَوانِ المَشْكُوكِ في حَياتِه. فإنْ تَبَيَّن أنَّه كان تالِفًا حين العَقْدِ، تَبَيَّنَّا أنَّ العَقْدَ وَقَعَ باطِلًا. فصل: وإذا عَرَفَ المُصْطرَفَانِ وَزْنَ العِوَضَينِ، جازَ أنْ يَتَبايَعَا بغَيرِ وَزْنٍ. وكذلك لو أخبرَ أحَدُهما الآخَرَ بوَزْنِ ما مَعَه، فصَدَّقَهُ، فإذا باعَ دِينارًا بدِينارٍ كذلك، وافْتَرَقَا، فوَجَدَ أحَدُهما ما قَبَضَه ناقِصًا، بَطَلَ الصَّرْفُ؛ لأنَّهُما تَبَايَعَا ذَهَبًا بذَهَبٍ مُتَفاضِلًا. فإنْ وَجَدَ أحَدُهما فيما قَبَضَه زِيادَةً على الدِّينارِ، فإنْ كان قال: بِعْتُكَ هذا الدِّينارَ

1700 - مسألة: (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد، في أظهر الروايتين، فلا يجوز إبدالها، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد)

وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ، فِي اظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ، فَلَا يَجُوزُ إِبْدَالُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذا. فالعَقْدُ باطِلٌ؛ لوُجُودِ التَّفَاضُلِ. وإنْ قال: بِعْتُكَ دِينارًا بدِينارٍ. ثم تَقَابَضَا، كان الزَّائِدُ في يَدِ القابِضِ مُشَاعًا مَضْمُونًا لمالِكِه؛ لأنَّه قَبَضَه على أنَّه عِوَضٌ، ولم يَفْسُدِ العَقْدُ؛ لأنَّه إنَّمَا باعَ دِينارًا بمثْلِهِ، وإنَّما وَقَعَ القَبْضُ للزِّيادَةِ على المَعْقُودِ عليه، فإنْ أَرادَ دَفْع عِوَضِ الزّائِدِ، جازَ، سَواءٌ كان من جِنْسِه أو من غيرِه؛ لأنَّها مُعَاوَضَة مُبْتَدَاة. وإنْ أرادَ أحَدُهما الفَسْخَ، فله ذلك؛ لأَنَّ آخِذَ الزّائِدِ وَجَدَ المَبِيعَ مُخْتَلِطًا بغَيرِه، مَعِيبًا بعَيب الشَّرِكَةِ، ودافعُه لا يَلْزَمُه أخذ عِوَضِه، إلَّا أنْ يكونَا في المَجْلِسِ، فَيَرُدَّ الزائِدَ أو يَدْفَعَ بَدَلَه. ولو كان لِرَجُلٍ على رَجُلٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَوَفّاهُ عَشَرَةً عَدَدًا، فوَجَدَها أحَدَ عَشَرَ، كان هذا الدِّينارُ الزّائدُ في يَدِ القابِضِ مُشَاعًا مَضْمُونًا لمالِكِه؛ لأنَّه قَبَضَه على أنَّه عِوَضٌ عمّا له، فكانَ مَضْمُونًا بهذا القَبْضِ، ولمالِكِه التَّصَرُّفُ فيه كيفَ شاءَ. 1700 - مسألة: (والدَّرَاهِمُ والدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ في العَقْدِ، في أظهَرِ الرِّوَايَتَينِ، فلا يَجُوزُ إبْدالُها، وإنْ خَرَجَتْ مَغْصُوبَةً بَطَلَ العَقْدُ)

وَإنْ وَجَدَهَا مَعِيبَةً، خُيِّر بَينَ الإمْسَاكِ وَالْفَسْخِ، وَيَتَخَرَّجُ أنْ يُمْسِكَ وَيُطَالِبَ بِالأرْشِ، وإنْ خَرَجَتْ مَغْصُوبَة، بَطَلَ الْعَقْدُ. وَالأخْرَى، لَا تَتَعَيَّنُ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالِكٌ، والشّافِعِيُّ. وعن أحمدَ، لأنها لا تَتَعَيَّنُ بالعَقْدِ، فيَجُوزُ إِبْدالُها، ولا يَبْطُلُ العَقْدُ بخُرُوجِها مَغْصُوبَةً. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّه يَجُوزُ إطْلاقُها في العَقْدِ، فلم تَتَعَيَّنْ بالتَّعْيِينِ، كالمِكْيالِ والصَّنجَةِ. ولَنا، أنَّه عِوَضٌ في عَقْدٍ، فيَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ كسائِرِ الأعْواضِ، ولأنَّه أحَدُ العِوَضَينِ، فيَتَعَيَّنُ بالتَّعْيينِ، كالآخرِ. ويفارِقُ ما ذَكَرُوه، فإنّه ليس بعِوَضٍ، وإنّما يُرادُ لتَقْدِيرِ المَعْقُودِ عليه وتَعْرِيفِ قَدْره، ولا يَثْبُتُ فيها المِلْكُ بحالٍ، بخلافِ مسألتِنا. وإنَّما جازَ إطْلاقُها؛ لأنَّ لها عُرْفًا تَنْصَرِفُ إليه، يقومُ في بابِها مَقَامَ الصّفَةِ. فعلى هذا (إنْ وَجَدَها مَعِيبَة، خُيِّر بينَ الإمْسَاكِ والرَّدِّ) كالعِوَض الآخرِ. (ويَتَخَرَّجُ أنْ يُمْسِكَ ويُطالِبَ بالأرْشِ) لأنَّه مَبِيعٌ، أشْبَهَ سائِرَ المَبِيعاتِ، وإن كان ذلك في الصرفِ، فقد ذَكَرْناه. هذا إذا كان العَيبُ من جِنْسِ النُّقُودِ. وإنْ كان من غيرِ جِنْسِها؛ كالنُّحاسِ في الفِضَّةِ، والفِضَّةِ في الذَّهَبِ، وكان في جَمِيعِها، بَطَلَ العَقْدُ، وإنْ كان في بَعْضِها، بَطَلَ فيه، وفي الباقِي وَجْهانِ، بناءً على تَفْرِيقِ الصّفْقَةِ، وإنْ قُلْنا: لا يَتَعَيَّنُ. انْعَكَسَتْ هذه الأحْكَامُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في إنْفاقِ المَغْشُوشِ من النُّقُودِ: وفيه رِوَايَتانِ؛ أظْهَرُهما، الجَوازُ نقلَ صالِحٌ عنه في دَرَاهِمَ يُقالُ لها المُسَيَّبِيَّةُ، عامَّتُها نُحاسٌ إلَّا شَيئًا فيها فِضَّة، فقال: إذا كان شَيئًا اصْطَلَحُوا عليه، مثلَ الفُلُوس، اصطَلَحُوا عليها، فأرْجُو أنْ لا يكُونَ بها بَأْسٌ. والثانِيَةُ، التَّحْرِيمُ. نَقَلَ حَنْبَلٌ في دراهِمَ يُخْلَطُ فيها مَشٌّ (¬1) ونُحاسٌ، يُشْتَرَى بها ويُبَاعُ، فلا يَجُوزُ أنْ يَبْتَاعَ بها أحَدٌ، كلُّ ما وَقَعَ عليه اسْمُ الغِشِّ، فالشِّراءُ به والبَيعُ حَرامٌ. وقال أصحابُ الشّافِعِيِّ: إنْ كان الغِشٌّ ممّا لا قِيمَةَ له، جازَ الشِّراءُ بها، وإنْ كان ممّا له قِيمَةٌ، ففِي جَوازِ إنْفاقِها وَجْهانِ. واحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ إنْفاقَ المَغْشوشَةِ بقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ غَشَنّا فلَيسَ مِنّا» (¬2). وبأنَّ عمرَ نَهَى عن بيعِ نُفَايَةِ بَيتِ المالِ (¬3). ولأنَّ المَقْصُودَ فية مَجْهُولٌ، أشْبَهَ تُرابَ الصّاغَةِ. والأوْلَى أنْ يُحْمَلَ كلامُ أحمدَ في الجوازِ على الخُصُوصِ ¬

(¬1) في م: «مس». والمَشُّ: الخلط حتى يذوب. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 144. (¬3) أخرجه ابن حزم، في: المحلى 9/ 558.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما ظَهَرَ عَيبُه واصْطُلِح عليه، فإنَّ المُعامَلَةَ به جائِزَة، إذْ ليس فيه أكثَرُ من اشْتِمالِه علي جِنْسَينِ لا غَرَرَ فيهما، فلا يَمْنَعُ مِنْ بَيعِهما، كما لو كانا مُتَمَيِّزينِ، ولانَّ هذا مُسْتَفِيضٌ في الأعْصارِ، جارٍ بينَهم من غيرِ نَكيرٍ، وفي تَحْرِيمِه مَشَقَّه وضَرَرٌ، وليس شراؤه بها غِشًّا للمُسْلِمِينَ، ولا تَغْرِيرًا لهم، والمَقْصُودُ منها ظاهِرٌ مَرْئيٌّ مَعْلُومٌ، بخلافِ تُرابِ الصَّاغَةِ. ورِوَايَةُ المَنْع مَحْمُولَةٌ علي ما يَخْفَى غِشُّه ويَقَعُ اللَّبْسُ به، فإنَّ ذلك يُفْضِي إلى التَّغْرِيرِ بالمُسْلِمِينَ. وقد أشارَ أحمدُ إلى هذا، فقال في رَجُلٍ اجْتَمَعَتْ عندَه دَراهِمُ زُيُوفٌ: ما يَصْنَعُ بها؟ قال: يَسْبِكُها. قيل له: فَيبِيعُها بدِينار؟ قال: لَا. قيلَ: يَبِيعُها بفُلُوس؟ قال: لَا، إنِّي أخَافُ أنْ يَغُرَّ بها مُسْلِمًا. قيلَ لأبِي عبدِ اللهِ: فيَتَصَدَّقُ بها؟ قال: إنِّي أخافُ أنْ يَغُرَّ بها مُسْلِمًا. وقال: ما يَنْبَغِي له أنْ يَغُرَّ بها المُسْلِمِينَ، ولا أقولُ إنَّه حَرَامٌ؛ لأنَّه على تَأويل، وذلك إنَّما كَرِهْتُه؛ لأنَّه يَغُرُّ بها مُسْلِمًا. فقد صَرَّحَ بأنَّه إنَّما كَرِهَهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما فيه من التَّغْرِيرِ بالمُسْلِمِينَ، وعلى هذا يُحْمَلُ مَنْعُ عمرَ بَيعَ نُفايَة بَيتِ المالِ؛ لِما فيه من التَّغْرِيرِ، فإنَّ مُشْتَرِيَها رُبَّما خَلَطَها بدَراهِمَ جَيِّدَةٍ، واشْتَرَى بها ممَّنْ لا يَعْرِفُ حالها، ولو كانت ممّا اصْطَلَحُوا على إنْفاقِه، لم تَكُنْ نُفايَةً. فإنْ قيلَ: رُوِيَ عن عمرَ أنَّه قال: مَنْ زَافَتْ عليه دَرَاهِمُه فَلْيَخْرُجْ بها إلى البَقِيع، فَلْيَشْتَرِ بها سَحْقَ الثيابِ (¬1). وهذا دَلِيل على جَوَازِ إنْفَاقِ المَغْشُوشَةِ التي لم يُصْطَلَحْ عليها. قُلْنا: قد قال أحمدُ: مَعْنَى زَافَتْ عليه دَرَاهِمُه. أي نُفِيَتْ، ليس أنَّها زُيُوفٌ. ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه على هذا، جَمْعًا بينَ الرِّوَايَتَينِ عنه. ويَحْتَمِلُ أنه أرادَ ما ظَهَرَ غِشُّه وبانَ زَيفُه بحيث لا يَخْفَى على أحدٍ، ولا يَحْصُلُ بها تَغْرِيرٌ. وإنْ تَعَذَّرَ تَأويلُها، تَعارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عنه، ويُرْجَعُ إلى ما ذَكَرْنا من المَعْنَى. ولا فَرْق بينَ ما كان غِشُّه يبقَى؛ كالنُّحَاسِ والرَّصاصِ، وما لا ثَباتَ له؛ كالزَّرْنيخِيَّةِ والأنْدَرانِيَّةِ، وهو زِرْنيخٌ ونُورَةٌ يُطْلَى عليه فِضَّةٌ فإذا دَخَلَ النّارَ استُهْلِكَ الغِشُّ وذَهَب. ¬

(¬1) سحق الثياب: الخلق البالي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ تُرابِ الصّاغَةِ والمَعْدِنِ بشيء من جِنْسِه؛ لأنَّهُ مالُ رِبًا بِيعَ بجِنْسِه على وَجْهٍ لا تعلم المُمَاثَلَةُ بينَهما، فلم يَصِحَّ، كبَيع الصبرَةِ بالصبرةِ، وإنْ بِيعَ بغَيرِ جِنْسِه. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ كَرَاهَةَ بَيع تُرابِ المَعادِنِ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، والشّافِعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. وقال ابنُ أبِي مُوسَى في «الإِرْشادِ»: يَجُوزُ. وهو قَوْلُ مالِكٍ. ورُوِيَ ذلك عن الحَسَنِ، والنَّخَعِيِّ، ورَبِيعَةَ، واللَّيثِ. قالوا: فإنِ اخْتَلَطَ و (¬1) أشْكلَ فَلْيَبِعْه بعَرْض، ولا يَبِعْه بعَين ولا وَرِقٍ؛ لأنَّه باعَهُ بما لا رِبًا فيه، فجازَ، كما لو اشْتَرَى ثَوْبًا بدِينارٍ ودِرْهَم. فصل: والحِيَلُ كُلُّها مُحَرَّمَة، لا تَجُوزُ في شيءٍ من الدِّينِ، وهو أنْ يُظْهِرَ عَقْدًا مُباحًا يُرِيدُ به مُحَرَّمًا مُخادَعَةً وتَوَسُّلًا إلى فعْلِ ما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجَلَّ، واسْتِبَاحَةِ مَحْظُورَاتِه، أو إسْقَاطِ واجِبٍ، أو دَفْع حَقٍّ، ونحوَ ذَلك. قال أيوبُ السَّخْتِيانِيُّ رَحمَه اللهُ: إنَّهم ليُخَادِعُونَ اللهَ سُبْحانَه كما يُخادِعُونَ صَبِيًّا، لو كانُوا يَأتُونَ الأمْرَ على وَجْهِه كانَ أيسْهَلَ عَلَيَّ. فمِن ذلك؛ ما لو كانَ لرَجُلٍ عَشَرَةٌ صِحاح، ومع آخرَ خَمْسَةَ عَشَرَ مُكَسَّرَة، فاقْتَرَضَ كُلُّ واحِدٍ منهما ما مع صاحِبِه، ثم تَبَارَيَا، تَوَصُّلًا إلى بَيع ¬

(¬1) في ر 1: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّحاحِ بالمُكَسَّرَةِ مُتَفَاضِلًا، أو باعَهُ الصِّحاحَ بمثْلِها من المُكَسَّرَةِ، ثم وَهَبَهُ الخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ، أو اشْتَرَى منه بها أوقِيَّةَ صَابُونٍ ونَحْوَها، مِمَّا يَأخُذُه بأقَلَّ من قِيمَتِه، أو اشْتَرَى منه بعَشَرَةٍ إلَّا حَبَّةً من الصَّحِيحِ بمِثْلِها من المُكَسرةِ، واشْتَرَى منه بالحَبَّةِ الباقِيَةِ ثَوْبًا قِيمَتُه خَمْسَةُ دَنانِيرَ. وهكذا لو أقْرَضَه شَيئًا وباعَهُ سِلْعَةً بأكْثَرَ من قِيمَتِها، أو اشْتَرَى منه سِلْعَةً بأقَلَّ من قِيمَتِها تَوَسُّلًا إلى أخْذِ عِوَض عن القَرْض، فكُلُّ ما كانَ مِن هذا على وَجْهِ الحِيلَةِ فهو خَبيثٌ مُحَرَّم. وبهذا قال مالِك. وقال أبو حَنِيفَةَ والشّافعي (¬1): هذا كلُّه وأشْبَاهُه جائِر، إنْ لم يَكُنْ مَشْرُوطًا في العَقْدِ. وقال بعضُ أصْحَابِ الشّافِعِيِّ: يُكْرَهُ أنْ يَدْخُلَا في البَيع على ذلك؛ لأنَّ كُلَّ ما لا يَجُوزُ شَرْطُه في العَقْدِ يُكْره أنْ يَدْخُلَا عليه. ولنا، أنَّ اللهَ تَعالى عَذَّبَ أمَّةً بحِيلَةٍ احْتَالُوها، فمَسَخَهُم قِرَدَةً، وسَمَّاهُم مُعتَدِينَ، وجَعَلَ ذلك نَكَالًا ومَوْعِظَةً للمُتَّقِينَ؛ ليَتَّعِظُوا بهم، ويَمْتَنِعُوا من مِثْلِ أفعالِهم. قال بعضُ المُفَسِّرِينَ في قولِه تَعالى: {وَمَوْعِظَةً للمُتَّقِينَ} (¬2) أي لأمَّةِ مُحمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فرُويَ أنهم كانُوا يَنْصِبُونَ شِباكَهُم يومَ الجُمُعَةِ، ويَتْرُكُونَها إلى يَوْمِ الأحَد، ومنهم مَنْ كان يَحْفِرُ حَفَائِرَ، ويَجْعَلُ إليها مَجارِيَ، فَيَفْتَحُها يومَ الجُمُعَةِ،، فإذا جاءَ السَّمَكُ يومَ السبتِ، جَرَى مع الماءِ في المَجارِي، فيَقَعُ في الحَفائِرِ، فَيَدَعُها إلى يوْمِ الأحَدِ، ثم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأخُذُها، ويقولُ: ما اصْطَدْتُ يومَ السبتِ، ولا اعْتَدَيتُ فيه. وهذا حِيلَةٌ. وقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْخَلَ فَرَسًا بينَ فَرَسَينِ، وقد أمنَ أنْ يُسْبَقَ، فهو قِمارٌ». رَواهُ أبو دَاوُدَ (¬1). فجَعَلَه قِمارًا مع إدْخَالِه الفَرَسَ الثالِثَ؛ لكَوْنِه لا يَمْنَعُ مَعْنَى القِمارِ، وهو كَوْنُ كُلِّ واحِدٍ من المُتَسَابِقَينِ لا يَنْفَكُّ عن كَوْنِه آخِذَا أو مأخُوذًا منه، وإنَّما أدْخِلَ صُورَةً، تَحَيُّلًا على إباحَةِ المُحَرَّمِ. وسائِرُ الحِيَلِ مثلُ ذلك. ولأنَّ اللهَ تَعالى إنَّما حرمَ المُحَرَّماتِ لمَفْسَدَتِها والضَّرَرِ الحاصِلِ منها، ولا تَزُولُ مَفْسَدَتُها مع بقاءِ مَعْنَاهَا، بإظْهَارِهِما صُورَةً غيرَ صُورَتِها، فوَجَبَ أنْ لا يَزُولَ التَّحْرِيمُ، كما لو سَمَّى الخَمْرَ بغيرِ اسْمِها، لم يُبِحْ ذلك شُرْبَها، وقد رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لَيَسْتَحِلَّنَّ قَوْمٌ من أمَّتِي الخَمْرَ يُسَمُّونَها بغَيرِ اسمِها» (¬2). ومن الحِيَلِ في غيرِ الرِّبَا أنَهُم يَتَوَصَّلُونَ إلى بَيعِ السِّنِين (¬3) المَنْهِيِّ عنه، أن يَسْتَأجِرُوا بَياضَ أرْضِ البُسْتَانِ بأمْثالِ أجْرَتِه، ثم يُساقِيه على ثَمَرِ شَجَرِه بجُزْءٍ من ألفِ جُزْءٍ للمالِكِ، وتِسْعُمائةٍ وتِسْعَة وتِسْعُونَ ¬

(¬1) في: باب في المحلل، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 28، 29.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب السبق والرهان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 960. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 505. (¬2) أخرجه البخاري تعليقا، في: باب ما جاء في من يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 7/ 138. ووصله أبو داود، في: باب في الداذِي، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 295. وابن ماجه، في: باب الخمر يسمونها بغير اسمها، من كتاب الأشربة، وباب العقوبات، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1123، 1323، والإمام أحمد، في: المسند 4/ 237، 5/ 318، 341. (¬3) سقط من: م. وفي ر 1: «الشيء».

1701 - مسألة: (ويحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين

وَيَحْرُمُ الرِّبَا بَينَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَبَينَ الْمُسْلِمينَ فِي دَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ للعامِلِ، ولا يَأخُذُ منه المالِكُ شيئًا، ولا يريدُ ذلك، وإنَّما قَصْدُه بَيعُ الثَّمَرَةِ قبلَ وجُودِها بما سَمّاهُ أجْرَةً، والعامِلُ لا يَقْصِدُ أيضًا سِوَى ذلك، ورُبَّما لا يَنْتَفِعُ بالأرْضِ التي سَمَّى الأجْرَةَ في مُقابَلَتِها، ومَتَى لم يَخْرُجِ الثمرُ أو أصابَتْهُ جائِحَةٌ، جاءَ المُسْتَأجِرُ يَطْلُبُ الجائِحَةَ، ويَعْتَقِدُ أنه إنَّما بَذَلَ ماله في مُقَابَلَةِ الثَّمَرَةِ لا غيرُ، ورَبُّ الأرْضِ يَعْلَمُ ذلك. فصل: وإنِ اشْتَرَى شَيئًا بمُكَسَّرَةٍ، لم يَجُزْ أنْ يُعْطِيَه صَحِيحًا أقَلَّ منها. قال أحمدُ: هذا هو الرِّبَا المَحْضُ؛ وذلك لأنَّه يَأخُذُ عِوَضَ الفِضَّةِ أقلَّ منها، فَيَحْصُلُ التَّفاضُلُ. ولو اشْتَرَاهُ بصَحِيحٍ، لم يَجُزْ أن يُعْطِيَه مُكَسَّرَةً أكثرَ منها؛ لذلك (¬1). فإنْ تَفَاسَخَا البَيعَ، ثمّ عَقَدا بالصِّحَاحِ، أو بالمُكَسَّرَةِ، جازَ. ولو اشْتَرَى ثَوْبًا بنِصْفِ دِينارٍ، لَزِمَه نِصْفُ دِينارٍ شِقٌّ، فإنْ عادَ فاشْتَرَى شَيئًا آخَرَ بنِصْفٍ، لَزِمَه نِصْفٌ شِقٌّ أيضًا، فإنْ وَفَّاهُ دينارًا صَحِيحًا، بَطَل العَقْدُ الثانِي؛ لأنه تَضَمَّنَ اشْتِراطَ زِيادَةِ ثَمَنِ العَقْدِ الأوَّلِ، وإنْ كان ذلك قبلَ لزُومِ العَقْدِ الأوَّلِ، بَطَلَ أيضًا؛ لأنَّه وُجِدَ ما يُفْسِدُه قبك انْبِرامِه. وإنْ كان بعدَ لزُومِه، لم يُؤثرْ ذلك فيه، ولا يَلْزمُه أكْثَرُ من ثَمَنِه الذي عَقَدَ البَيعَ به. ومذهَبُ الشّافِعِيِّ في هذا كما ذَكَرْنَا. 1701 - مسألة: (ويَحْرُمُ الرِّبَا بينَ المسْلِمِ والحَرْبِيِّ، وبينَ ¬

(¬1) في ق، م: «كذلك».

الْحَرْبِ، كَمَا يَحْرُمُ بَينَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الإسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْلِمِينَ في دارِ الحَرْبِ، كما يَحْرُمُ بينَ المُسْلِمِينَ في دارِ الإِسْلامِ). وبذلك قال مالِك، والأوْزَاعِيّ، وأبو يُوسُفَ، والشّافِعِيُّ، وإسحاقُ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يَجْرِي الرِّبَا بَينَ مُسْلِم وحَرْبِي في دارِ الحَرْبِ. وعنه في مُسْلِمَينِ أسْلَما في دارِ الحَرْبِ، لا رِبًا بَينَهُما؛ لِما رَوَى مَكْحُولٌ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «لا رِبًا بَينَ المُسْلِمِينَ وأهلِ الحَرْبِ في دارِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرْبِ» (¬1). ولأنَّ أمْوالهم مُباحَةٌ، وإنَّما حَظرها الأمانُ في دار الإِسْلامِ، فما لم يَكُنْ كذلك كان مُبَاحًا. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تَعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) وقوْلُه تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2). وقَوْلُه تَعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬3). وعُمُومُ الأخبارِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ (¬4) التَّفاضُلِ. وقولُه: «مَنْ زَادَ أو ازْدَادَ فَقَدْ أرْبَى» (¬5). عَامٌّ. ولأنَّ ما كانَ مُحَرَّمًا في دارِ الإِسْلَامِ كان مُحَرَّمًا في دارِ الحَرْبِ، كالرِّبَا ¬

(¬1) قال الزيلعي: غريب، وأسند البيهقي في كتاب السير عن الشافعي، قال: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثه عن مكحول، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ربا بين أهل الحرب»، أظنه قال: «وأهل الإسلام». قال الشافعي: وهذا ليس بثابت، ولا حجة فيه. انتهى كلامه. نصب الراية 4/ 44. (¬2) سورة البقرة 275. (¬3) سورة البقرة 278. (¬4) في ر 1: «عموم». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَ المُسْلِمِينَ. وخَبَرُهُم مُرْسَل لا تُعْرَفُ صِحَّتُه، ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ النَّهْيَ عن ذلك، ولا يَجُوزُ تَرْكُ ما وَرَدَ بتَحْرِيمِه القُرْآنُ، وتَظَاهَرَتْ به السنةُ بخَبَرٍ مَجْهُول، لم يُرْوَ في صَحِيحٍ ولا مُسْنَدٍ ولا كِتابٍ مَوْثوقٍ به، وما ذَكَرُوه من الإِباحَةِ مُنْتقِضٌ بالحَرْبِيِّ إذا دَخَلَ دارَ الإِسْلام، فإنّ ماله مُباحٌ، إلَّا ما حَظره الأمان.

باب بيع الأصول والثمار

بَابُ بَيعِ الْأصُولِ وَالثمَار وَمَنْ بَاعَ دَارًا، تَنَاوَلَ الْبيعُ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا لِمَصْلَحَتِهَا، كَالسَّلَالِمِ، وَالرُّفُوفِ الْمُسَمَّرةِ، وَالأبْوَابِ المنْصُوبَةِ وَالْخَوَابِي الْمَدْفونَةِ، وَالرَّحَى الْمَنْصوبَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ بَيعَ الأصُولَ والثمارِ (ومَن باعَ دَارًا تَنَاوَلَ البَيعُ أَرْضَها، وبِنَاءَهَا، وما يَتَّصِلُ بها لمَصْلَحَتِها، كالسَّلَالمِ (¬1)، والرُّفوفِ المُسَمَّرَةِ، والأبْوابِ المَنْصُوبَةِ، والخَوابِي (¬2) المَدْفُونَةِ، والرَّحَى المنْصُوبَةِ) وأشْباهِ ذلك؛ لأنَّه مُتَّصِل بها لمَصْلَحَتِها، أشْبَهَ حِيطانَها. ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «كالسلاليم». (¬2) في ر 1: «الجوابي». والخوابي، جمع خابية، وهي وعاء الماء الذي يحفظ فيه.

1702 - مسألة: (ولا يدخل ما هو مودع فيها، من الكنز، والأحجار المدفونة)

وَلَا يَدْخُلُ مَا هُوَ مودَعٌ فِيهَا، مِنَ الْكَنْزِ، وَالْأَحْجَارِ المدفُونَةِ. وَلَا الْمُنْفَصِلُ مِنْهَا، كَالْحَبْلِ، وَالدَّلْو، وَالْبَكَرَةِ، وَالْقُفْلِ، وَالْفُرُش. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1702 - مسألة: (ولا يَدْخُلُ ما هو مُودَعٌ فيها، من الْكَنْزِ، والأحجَارِ المَدْفُونَةِ) لأن ذلك مُودَعٌ فيها للنَّقْلِ عنها، فأشْبَهَ الفُرُش والسُّتُورَ، ولا يَدْخُلُ ما هو مُنْفَصِلٌ عنها لا يَخْتَصُّ بمَصْلَحَتِها (كالحَبْلِ، والدَّلْو، والبَكَرَةِ، والقُفْلِ، والفُرُشِ) وكذلك الرُّفُوفُ المَوْضُوعَةُ على الأوْتَادِ بغَيرِ تَسْمِيرٍ ولا غَرْزٍ في الحائِطِ، وحَجَرُ الرَّحَى إنْ لم يكُنْ مَنْصُوبًا، والخَوابِي المَوْضُوعَةُ من غيرِ أنْ يُطيَنَ عليها؛ لأنَّه مُنْفَصِلٌ عنها، لا يَخْتَصُّ بمَصْلَحَتِها، أشْبَهَ الثِّيابَ والطَّعامَ.

1703 - مسألة: (فأما ما كان من مصالحها)

إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِهَا، كَالْمِفْتَاحِ، وَحَجَرِ الرَّحَى الْفَوْقَانِيِّ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1703 - مسألة: (فأمّا ما كانَ من مَصالِحِها) لكنَّه مُنْفَصِل عنها (كالمِفْتَاحِ، وحَجَرِ الرَّحَى الفوقانِيِّ) إذا كان السُّفلانِيُّ مَنْصُوبًا (ففيه وَجْهانِ) أحَدُهما، يَدْخُلُ في البَيعِ؛ لأنه لمَصْلَحَتِها، فأشْبَهَ المَنْضُوبَ فيها. والثانِي، لا يَدْخُلُ، لأنَّه مُنْفَصِلٌ عنها، فأشْبَهَ القُفْلَ والدَّلْوَ، ونحوَ ذلك. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. فصل: وما كانَ في الأرْضِ مِن الحِجَارَةِ المخْلُوقَةِ فيها، أو مَبْنِيٍّ فيها، كأسَاسَاتِ الحِيطانِ المُهَدَّمَةِ، فهو للمُشْتَرِي؛ لأنَّه من أَجْزَائِها، فهو كتُرابِها. والمعادِنُ الجامِدَةُ فيها والآجُرُّ كالحِجَارَةِ في هذا. وإذا كانَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي [عالِمًا بذلك] (¬1) فلا خِيارَ له. وإنْ لم يَعْلَمْ وكان يَضُرُّ بالأرْضِ ويَنقُصُها، كالصَّخْرِ المُضِرِّ بعُرُوقِ الشَّجَرِ، فهو عَيبٌ، حُكْمُه حُكْمُ سائِرِ العُيُوبِ. فإنْ كانتِ الحِجَارَةُ والآجُرُّ مُودَعًا فيها، فهو للبائِع، كالكَنْزِ، ويَلْزَمُه نَقْلُها وتَسْويَةُ الأرْضِ وإصْلَاحُ الحُفَرِ؛ لأنَّه ضَرَر لَحِقَ لاسْتِصْلاحِ مِلْكِه، فكان عليه إزالتُه. وإنْ كان قَلْعُها يَضُرُّ بالأرْض أو تَتَطَاوَلُ مُدَّتُه، فهو عَيب. وإنْ لم يكُنْ في نَقْلِها ضَرَر، وكان يُمْكنُ نَقْلُها في أيام يَسِيرَةٍ، كالثَّلاثةِ فما دونَ، فليس بِعَيبٍ، وله مُطَالبَةُ البائِعِ؛ لأنَّه لا عُرْفَ في تَبْقِيَتها، بخلافِ الزَّرْعِ. ومتى كان عالِمًا بالحالِ، فلا أجْرَةَ له في الزَّمَانِ الذي نُقِلَتْ فيه؛ لأنَّه عَلِمَ بذلك ورَضِيَ به، فهو كما لو اشْتَرَى أرْضًا فيها زَرْعٌ. وإنْ لم يَعْلَمْ فاخْتَارَ إمْسَاكَ المَبِيعِ، فهل له أجْرَة لزَمانِ النَّقْلِ؟ على وَجْهَينِ؛ أحدُهما، له ذلك؛ لأنَّ المنافِعَ مَضْمُونَة على المُتْلِفِ، فكان عليه بدَلُها، كالآجُرِّ. والثاني، لا يَجِبُ؛ لأنَّه لمَّا رَضِيَ بإمْسَاكِ المَبِيع رَضِيَ بتَلَفِ المَنْفَعَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في زمانِ النَّقْلِ، فإنْ لم يَخْتَرِ الإِمْسَاكَ، فقال البائِعُ: أنا أدَعُ ذلك لك. وكان ممّا لا ضَرَرَ في بقَائِه، لم يكُنْ له خِيَارٌ؛ لزَوَالِ الضَّرَرِ عنه. فصل: فإنْ كان في الأرْضَ مَعادِنُ جامِدَة؛ كمعَادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ونَحْوها (¬1)، دَخَلَتْ في المبِيعِ (¬2)، ومُلِكَتْ بمِلْكِ الأرْضِ التي هي فيها؛ لأنَّها من أجْزَائِها، فهي كأحْجَارِها، ولكن لا يُبَاعُ مَعْدِنُ الذَّهَبِ بذَهَبٍ، ويَجُوزُ بَيعُها بغَيرِ جِنْسِها. وإنْ ظَهَرَ في الأرْضِ مَعْدِنٌ لم يَعْلَمْ به البائِعُ، فله الخِيارُ؛ لأنَّه زِيادَةٌ لم يَعْلَمْ بها، فأشْبَهَ ما لو باعَهُ ثَوْبًا على أنَّه عَشَرَةُ أذْرُع فَبَانَ أحَدَ عَشَرَ. هذا إذا كان قد مَلَكَ الأرْضَ بإحْياءٍ أو إقْطَاعٍ. وقد رُوِيَ أنَّ وَلَدَ بلالِ بنِ الحارِثِ باعُوا عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ أرْضًا، فَظَهَر فيها مَعْدِنٌ، فقالُوا: إنَّما بِعْنَا الأرضَ، ولم نِبع المَعْدِنَ. وأتوْا عمرَ بالكتابِ الذي فيه قَطِيعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبِيهِم، فأخذه فَقَبَّلَه ورَدَّ عليهم المَعْدِنَ (¬3). وإنْ كانَ البائِعُ مَلَكَ الأرْضَ بالبَيعِ، احْتَمَلَ أنْ لَا يَثْبُتَ له خِيار؛ لأنَّ الحَقَّ لغَيرِه، وهو المالِكُ الأولُ، واحْتَمَلَ أنْ يَثْبُتَ له الخِيارُ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا، ثمَّ باعَهُ ولم يَعْلَمْ عَيبَه، فإنَّه يَسْتَحِقّ الرَّدَّ، وإنْ كانَ قد باعَهُ مثلَ ما اشْتَرَاه. ورَوَى أبو طَالِبٍ عن أحمدَ: إذا ظَهَرَ ¬

(¬1) في م: «نحوهما». (¬2) في م: «البيع». (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 577.

1704 - مسألة: (وإن باع أرضا بحقوقها، دخل غراسها وبناؤها في البيع، وإن لم يقل: بحقوقها. فعلى وجهين)

وَإنْ بَاعَ أرْضًا بِحُقُوقِهَا، دَخَلَ غرَاسُهَا وَبِنَاؤهَا فِي الْبَيع، وإنْ لَمْ. يَقُلْ: بِحُقُوقِهَا. فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعْدِنُ في مِلْكه ملَكَه. وظاهِرُ هذا أنَّه لم يَجْعَلْه للبائِعِ، ولا جَعَلَ له خِيارًا؛ لأنه من أجزاءِ الأرْضَ، فأشبَهَ ما لو ظَهَرَ فيها حِجارَةٌ لها قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ. فصل: فإن كان فيها بِئْرٌ أو عَينٌ مُسْتَنْبَطَةٌ، فنَفْسُ البئْرِ وأَرْضُ العَينِ مَمْلُوكَةٌ لمالِكِ الأرْضِ، والماءُ الذي فيها غَيرُ مَمْلُوكٍ، في أصحِّ الرِّوَايَتَينِ. ولأصْحابِ الشّافِعِيِّ وَجْهانِ كالرِّوايَتَينِ. وفي مَعْنَى الماءِ المعادِنُ الجارِيَةُ في الأمْلَاكِ؛ كالقارِ، والنِّفْطِ، والمُومِياءِ، والمِلْحِ. وكذلك ما يَنْبُتُ في الأرْضِ من الكَلأَ والشَّوْكِ، ففي هذا كُلِّه رِوَايَتان، فإنْ قُلْنا: هي مَمْلُوكَةٌ. دَخَلَتْ في البَيعِ، وإلَّا لم تَدْخُلْ. 1704 - مسألة: (وإنْ باعَ أرْضًا بحُقُوقها، دَخَلَ غِراسُها وبِناؤها في البَيعِ، وإنْ لم يَقُلْ: بحُقُوقِها. فعلى وَجْهَينِ) إذا باعَ أرْضًا بحُقُوقِها، أو رَهَنَها، دَخَلَ في ذلك غِراسُها وبِناؤها. وإنْ لم يَقُلْ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحُقُوقِها. فهل يَدْخُلُ الغَرْسُ والبِنَاءُ فيهما؟ على وَجْهَينِ. ونَصَّ الشّافِعِيُّ على أنّهما يَدْخُلانِ في البَيعِ دونَ الرَّهْنِ. واخْتَلَفَ أصْحَابُه في ذلك؛ فمنهم من قال: فيهما جَمِيعًا قَوْلانِ. ومنهم مَنْ فَرَّقَ بَينَهُما بكَوْنِ البَيعِ أقْوَى، فَيَسْتَتْبعُ البناءَ والشَّجَرَ، بخِلافِ الرَّهْنِ. وَوَجْهُ دُخولِهما في البَيعِ، أنَّهُما من حُقُوقِ الأرْضِ، ولذلك يَدْخُلانِ إذا قال: بحُقُوقِها. وما كان من حُقُوقِها يَدْخُل فيها بالإِطْلَاقِ، كطُرُقِها ومَنَافِعِها. والوَجْهُ الثانِي، لا يَدْخُلانِ، لأنَّهُما لَيسَا من الأرْضِ، فلا يَدْخُلانِ في بَيعِها ورَهْنِها، كالثَّمَرَةِ المُوبَّرَة. ومَنْ نَصَرَ الأوَّلَ فَرَّقَ بَينَهُما بكَوْنِ الثَّمَرَةِ تُرادُ للنَّقْلِ، وليست من حُقُوقِها، بخِلافِ الشَّجَرِ والبناءِ. فإنْ قال: بِعْتُكَ هذا البُستَانَ. دَخَلَ فيه الشَّجَرُ؛ لأنَّه اسمٌ للأرضِ والشَّجَرِ والحائِطِ؛ ولذلك لا تُسَمَّى الأَرْضُ المَكْشُوفَةُ بُسْتَانًا. ويَدْخُلُ فيه البِناءُ. ذَكَره ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ ما دَخَلَ فيه الشَّجَرُ، دَخَلَ فيه البِناءُ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَدْخُلَ؛ لأنَّ اسْمَ البُستانِ لا يَفْتَقِرُ إليه. فأمّا إنْ باعَهُ شَجَرًا، لم تَدْخُلِ الأرْضُ في البَيعِ. ذكَرَهُ أبو إسْحاقَ ابنُ شاقْلَا؛ لأنّ الاسمَ لا يَتَنَاوَلُها، ولا هي تَبَع للمَبِيعِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ قال: بِعْتُكَ هذه القَرْيَةَ. وكانت في اللَّفْظِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على دُخُولِ أرضِها، مثلَ المُسَاوَمَةِ على أرضِها، أو ذِكْرِ الزَّرْعِ والغَرْسِ فيها، وذِكْرِ حُدُودِها، أو بَذْلِ ثمَنٍ لا يَصْلُحُ إلا فيها وفي أرضِها، دَخَلَ في البَيعِ؛ لأنَّ الاسْمَ يَجُوزُ أنْ يُطْلَقَ عليها مع أرضِها، والقَرِينَةُ صارِفَةٌ إليه ودَالَّةٌ عليه، فأشْبَهَ ما لو صَرَّحَ به. وإن لم تكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إلى ذلك، فالبَيعُ يَتَنَاوَلُ البُيوتَ والحِصْنَ الدّائِرَ عليها، فإنَّ القَرْيَةَ اسمٌ لذلك، وهو مَأخُوذٌ من الجَمْعِ؛ لأنه يَجْمَعُ النّاسَ، وسواءٌ قال: بحُقُوقِها. أو لم يَقُلْ. وأمّا الغِراسُ (¬1) بين بُنْيَانِها، فحُكْمُه حُكْمُ الغِرَاسِ في الأرْضِ، إنْ قال: بحُقُوقِها. دَخَلَ، وإنْ لم يَقُلْ، فعلى وَجْهَينِ. ¬

(¬1) في الأصل، ق: «الفرس».

1705 - مسألة: (وإن كان فيها زرع يجز مرة بعد أخرى؛ كالرطبة

وَإنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أخْرَى، كالرَّطْبَةِ، وَالْبُقُولِ، أَوْ تَكَرَّرُ ثَمَرَتُهُ؛ كَالْقِثَّاءِ وَالبَاذِنْجَانِ، فَالأصُولُ لِلْمُشْترِي، وَالْجَزَّةُ الظَّاهِرَةُ وَاللَّقَطَةُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ لِلْبَائِعِ، إلا أن يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1705 - مسألة: (وإنْ كان فيها زَرْعٌ يُجَزُّ مَرَّةً بعَد أخْرَى؛ كالرَّطْبَةِ (¬1)، والبُقُولِ، أو تَكَرَّرُ ثَمَرَتُه؛ كالقِثَّاءِ، والباذِنْجَانِ، فالأصُولُ للمُشْتَرِي، والجَزَّةُ الظاهِرَةُ للبَائِعِ) سواءٌ كان ممّا يَبْقَى سَنَةً؛ ¬

(¬1) الرطبة: ما أكل من النبات غضا، ولا يدخر ولا يبقى، كالفاكهة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالهِنْدِبَا (¬1)، أو أكثرَ؛ كالرَّطْبَةِ، وعلى البائِعِ قَطْعُ ما يَسْتَحِقّه منه في الحالِ، فإنَّه ليس لذلك حَد يَنْتَهِي إليه، ولأنَّ ذلك يَطُولُ. ويَخْرُجُ غيرُ ما كان ظاهِرًا، والزِّيَادَةُ من الأصُولِ التي هي (¬2) مِلْكُ المُشْتَرِي. وكذلك إنْ كان ممَّا تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُه؛ كالقِثَّاءِ، والبِطِّيخِ، والباذنْجانِ، فالأصُولُ للمُشْتَرِي، والثَّمَرَةُ الظاهِرَةُ عندَ البَيعِ للبائِعِ؛ لأنَّ ذلك ممّا تَتَكَرَّرُ الثَّمَرَةُ فيه، أشْبَهَ الشَّجَرَ. وإنْ كان ممّا تُؤخَذُ زَهْرَتُه وتَبْقَى عُرُوقُه في الأرْضِ؛ كالبَنَفْسَجِ، والنَّرْجِس، فالأصُولُ للمُشْتَرِي؛ لأنه جُعِلَ في الأرض للبَقَاءِ فيها، فهو كالرَّطْبَةِ، وكذلك أوْرَاقُه وغُصُونُهُ؛ لأنّه لا يُقْصَدُ أَخْذُه، فهو كوَرَقِ الشَّجَرِ وأغْصَانِه. فأمّا زَهْرَتُه، فإنْ تَفَتَّحَتْ، فهي للبائِعِ، وما لم تَتَفَتَّحْ، للمُشْتَرِي. واخْتَارَ ابنُ عَقِيل في هذا كُلِّه أنَّ البائِعَ إنْ قال: بِعْتُكَ هذه الأرْضَ بحُقُوقِها. دَخَلَ فيها، وإلا ففِيه وَجْهانِ، كالشَّجَرِ. ¬

(¬1) الهندبا: بقل زراعي، يطبخ ورقه، أو يجعل مشهيا. (¬2) في را، ق: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اشْتَرَى أرْضًا وفيها بَذْرُ [ما يَسْتَحِقُّ] (¬1) المُشْتَرِي أصلَه، كالرَّطْبَةِ والبُقُولِ التي تُجَزُّ مَرَّةً بعد أُخْرَى، فهو للمُشْتَرِي؛ لأنه يُتْرَكُ في الأرْضِ للتبْقِيَةِ (¬2)، فهو كأصُولِ الشَّجَرِ. ولأنَّه لو كانَ ظاهِرًا كان له، فالمُسْتَتِرُ (¬3) أوْلَى، وسَواءٌ عَلِقَتْ عُرُوقُهُ (¬4)، أو لا. وإنْ كان بَذْرًا لِمَا يَسْتَحِقُّه البائِعُ، كالشَّعِيرِ، فهو له، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ، فيكونُ له. وقال الشّافِعِيّ: يَبْطُلُ البَيعُ؛ لأنَّ البَذْرَ مَقصُودٌ، وهو مَجْهُولٌ. ولَنا، أنَّ البَذْرَ يَدْخُلُ تَبَعًا، فلم يَضُرَّ جَهْلُه، كما لو اشْتَرَى عَبْدًا واشْتَرَطَ ماله، ولأنَّه يَجُوزُ في التَّاجِ من الغَرَرِ ما لا يَجُوزُ في الأصْلِ، كبَيعِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ مع الشَّاةِ، والحَمْلِ مع الأمِّ، ولا تَضُرُّ جَهالتُه، ولا يَجُوزُ مُفْردًا. فإن لم يَعْلَمِ المُشْتَرِي ذلك، فله فَسْخُ البَيعِ وإمْضاؤه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ عليه مَنْفَعَةَ الأرْضِ مُدَّةً. فإنْ تَرَكَه البائِعُ للمُشْتَرِي، أو قال: ¬

(¬1) في م: «فاستحق». (¬2) في الأصل: «المبيعة». (¬3) في الأصل، ق، ر 1: «فالمشتري». (¬4) في م: «له عروق في الأرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنا أُحَوِّلُه. وأمْكَنَ ذلك في زَمَن يَسِيرِ لا يَضُرُّ بمنَافِعِ الأرْضِ، فلا خِيَارَ للمُشْتَرِي؛ لأنَّه أزَال العَيبَ بالنَّقْلِ، أو زَادَه خَيرًا بالتَّرْكِ، فَلَزِمَه قَبُولُه؛ لأنَّ فيه تَصْحِيحِ العَقْدِ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وكذلك إنِ اشْتَرَى نَخْلًا فيها طَلْعٌ، فبان مُؤبَّرًا، فله الخِيارُ؛ لأنه يُفَوِّتُ على المُشْتَرِي ثَمَرَةَ عامِهِ. فإنْ تَرَكَها له (¬1) البائِعُ، فلا خِيارَ له. وإنْ قال: أنا أقْطَعُها الآنَ. لم يَسْقُطْ خِيارُه؛ لأنَّ ثَمَرَةَ العامِ تَفوتُ وإنْ قَطَعَهَا. وإنِ اشْتَرَى أرْضًا فيها زَرْعٌ للبائِعِ، أو شَجَرًا فيه ثمَرٌ للبَائِعِ، والمُشْتَرِى جاهِلٌ، يظُنُّ أنَّ الزَّرْعَ والثَّمَرَ له، فله الخِيارُ، كما لو جَهِلَ وجُودَه؛ لأنه إنَّما رَضِيَ ببَذْلِ مَالِه عِوَضًا عن الأرْضِ والشَّجَرِ بما فيهما، فإذا بانَ بخِلَافِه ثَبَتَ له الخِيارُ، كمن اشْتَرَى مَعِيبًا يَظُنُّه صَحِيحًا. فإنِ اخْتَلَفَا في ذلك، فالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي إذا كان مثلُه يَجْهَلُ ذلك، كالعامِّيِّ، وإنْ كان ممَّنْ يَعْلَمُ ذلك لم يُقْبَلْ قَوْلُه. ¬

(¬1) سقط من: م.

1706 - مسألة: (وإن كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة؛ كالبر، والشعير، فهو للبائع مبقى إلي الحصاد، إلا أن يشترطه المبتاع)

وَإنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ لَا يُحْصَدُ إلا مَرَّةً، كَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ مُبَقَّى إِلَى الْحَصَادِ، إلا أنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1706 - مسألة: (وإنْ كانَ فيها زَرْعٌ لا يُحْصَدُ إلَّا مَرَّةً؛ كالبُرِّ، والشَّعِيرِ، فهو للبائِعِ مُبَقَّى إلي الحَصَادِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ) إذا كان في الأرْضَ زَرْعٌ لا يُحْصَدُ إلَّا مَرَّةً، كالبُرِّ، والقَطَاني (¬1)، وما المَقْصُودُ منه مُسْتَتِرٌ، كالجَزَرِ، والفُجْلِ، والثُّومِ، وأشْباهِ ذلك، فاشْتَرَطَهُ المُشْتَرِي، فهو له، قَصيلًا كان أو ذَا حَبٍّ، مُسْتَتِرًا أو ظَاهِرًا، مَعْلُومًا أو مَجْهُولًا؛ لكونِه دَخَلَ في البَيعِ تَبَعًا للأرْض، فلم يَضُرَّ جَهْلُه وعَدَمُ كما لِه، كما لو اشْتَرَى شَجَرَةً فاشْتَرَطَ ثَمَرَتَها بعد تَأبِيرِها. وإنْ أطْلِقَ البَيعُ، فهو للبائِعِ، لأنَّه مُودَع في الأرْضِ، فهو كالكَنْزِ، والقُماشِ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ. ولا أَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. إذا ثَبَتَ ذلك، ¬

(¬1) القطاني: كل حب يدخر كالعدس والحمص والأرز.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنّه يكونُ للبائِع مُبَقَّى في الأرْضِ إلى الحَصَادِ بغَيرِ أجْرَةٍ؛ لأنَّ المَنْفَعَة حَصَلَتْ مُسْتَثْنَاةَ له، وعليه حَصَادُه في أوَّلِ وَقْتِ حَصَادِه وإنْ كان بَقاؤه أنفَعَ له، على ما نَذْكُرُ في الثَّمَرَة. وبهذا قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: عليه نَقْلُه عَقِيبَ البَيعِ. كقَوْلِه في الثَّمَرَةِ، وسَنَذْكُرُ ذلك. وهكذا الحُكْمُ في القَصَبِ الفارِسِيِّ (¬1)؛ لأنَّ له وَقْتًا يُقْطَعُ فيه، إلَّا أنَّ العُروق للمُشتَرِي؛ لأنها تتْرَكُ في الأرْضِ للبَقَاءِ فيها. والقَصَبُ كالثَّمَرَةِ. وإنْ لم يكُنْ ظَهَرَ من القَصَبِ شيء، فهو للمُشْتَرِي. فأمّا قَصَبُ السُّكَّرِ، فهو كالزَّرْعِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ كالقَصَبِ الفارسِيِّ؛ لأنه يُؤخَذُ سَنَةً بعدَ سَنَةٍ. فإنْ حَصَدَه قبلَ أوانِ الحَصادِ ليَنْتَفِعَ بالأرْضِ في غيرِه، لم ¬

(¬1) القصب الفارسي: البوص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكْ الانْتِفَاعَ بها؛ لأنَّ مَنْفَعَتَها إنَّما حَصلَتْ مُسْتَثْناةً عن مُقْتَضَى العَقْدِ ضَرُورَةَ بَقاءِ الزَّرْعِ، فَتَتَقَدَّرُ ببَقائِه، كالثَّمَرَةِ على الشَّجَرِ، وكما لو كان المَبِيعُ طَعامًا لا يُنْقَلُ مِثْلُه عادَةً إلَّا في شَهْر، لم يُكَلَّفْ إلَّا ذلك، فإن تَكَلَّفَ نَقْلَهُ في أقَلَّ من شَهْر؛ ليَنْتَفِعَ بالدّارِ في غيرِه، لم يَجُزْ، كذا ههُنا. ومتى حُصِدَ الزَّرْعُ وبَقِيَتْ له عُرُوقٌ تَسْتَضِرُّ بها الأرْضُ، فعلى البائِعِ إزَالتها. وإنْ تحَفَّرَتِ الأرْضُ، فعليه تَسْويَةُ حُفَرِها؛ لأنَّه اسْتِصْلاحٌ لمِلْكِه، فهو كما لو باعَ دَارًا فيها خابِيَةٌ كِبيرَة لا تخْرُجُ إلَّا بهَدْمِ البابِ، فهَدَمَه، كان عليه الضَّمانُ، وكذلك كُلّ نَقْص دَخَلَ على مِلْكِ شَخْص لاسْتِصْلاح مِلْكِ آخَرَ من غيرِ إذْنِ الأوَّلِ ولا فِعْلٍ صَدَرَ عنه النَّقْصُ وأسْنِدَ إليه، كان الضَّمانُ على مُدْخِلِ النَّقْصِ (¬1). ¬

(¬1) إلى هنا نهاية الجزء الثالث من نسخة جامعة الرياض.

فَصْل: وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤبَّرًا؛ وَهُوَ مَا تَشَقَّقَ طَلْعُهُ، فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ مَتْرُوكًا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ إِلَى الجِذاذِ، إلا أنْ يَشتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل (¬1): قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (ومَنْ باعَ نَخْلًا مُؤبَّرًا؛ وهو ما تَشَقَّقَ طَلْعُه، فالثَّمَرُ للبائِعِ مَتْرُوكًا في رُءُوس النَّخْلِ إلى الجذَاذِ (¬2)، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ) الإِبارُ: التَّلْقِيحُ. قاله ابنُ عبدِ البَرِّ، إلَّا أنّه لا يكُونُ حتى يَتَشَقَّقَ الطَّلعُ، فَعُبِّرَ به عن ظُهُورِ الثَّمَرَةِ؛ للزُومِه منه. يُقالُ: أبرتُ النَّخْلَةَ -بالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ- فهي مُؤبَّرَة ¬

(¬1) أول الجزء الرابع من نسخة أحمد الثالث؛ ونشير إليها على أنها الأصل، وتجد أرقام أوراقها في مواضعها من التحقيق. (¬2) اختلف رسم هذه الكلمة في الكتب الثلاثة، فقد جاءت في النسخ الخطية للشرح: الأصل، ق، ر 1: «الجذاذ» بالجيم والذال وهذا يتفق مع النسخة الخطية للمقنع. وفي ر: «الحداد» غير منقوطة. وفي النسخة المطبوعة: «الجزاز» بالجيم والزاي وهو ما يتفق مع رحمها في المغني 6/ 130. وفي متن المبدع: «الجداد» بالجيم والدال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَأبورَةٌ. ومنه قولُه - عليه السلام -: «خَيرُ المالِ سِكَّةٌ مَأبورَةٌ» (¬1). والسِّكَّةُ: النَّخْلُ المَصْفُوفُ. [وأبَرْتُ النَّخْلَةَ آبُرُها أبرًا وإبَارًا، وأبرْتُهَا تأبِيرًا، وتأبَرتِ النَّخْلَةُ، وائْتَبَرَتْ] (¬2). والحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بالظُّهُورِ دونَ نَفْسِ التَّلْقِيحِ؛ ولذلك فَسَّرَه ههُنا به. قال القاضِي: وقد يَتَشَقَّقُ الطَّلْعُ بنَفْسِه، وقد يُشَقِّقُه الصَّعَّادُ فيَظْهَرُ. وأيهما كان فهو المُرادُ ههُنا. وهذا قَوْلُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. وحَكَى ابنُ أبِي مُوسَى رِوَايَةً عن أحمدَ، أنَّه إذا تَشَقَّقَ طَلْعُه ولم يُؤبَّرْ، أنّه للبائِعِ؛ لظاهِرِ الحَدِيثِ. والمَشْهُورُ الأولُ. وهذه المسألةُ تَشْتَمِلُ على فُصُولٍ؛ أحدُها، أنَّ البَيعَ متى وَقَعَ على نخْل مُثْمِرٍ، ولم يَشْتَرِطِ الثَّمَرَةَ، وكانتِ الثمَرَةُ مُؤبَّرَةً، فهي للبائِعِ. وإن كانت غيرَ مُؤبَّرَةٍ، فهي للمُشْتَرِي. وبهذا قال مالِكٌ، واللَّيثُ، والشّافِعِيُّ. وقال ابنُ أبي لَيلَى: هي للمُشْتَرِي في الحالينِ؛ لأنّها مُتَّصِلَةٌ بالأصْلِ اتِّصَال خِلْقَةٍ، فكانتْ تابِعَةً له؛ كالأغْصَانِ. وقال أبو حَنِيفَةَ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 268. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزَاعِيُّ: هي للبائِعِ [في الحالينِ] (¬1)؛ لأنه نماءٌ له حَدٌّ، فلم يتْبَعْ أصْلهُ [في البَيع] (1)، كالزَّرعِ في الأرضِ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤبَّرَ، فثَمَرَتُها للَّذي بَاعَها، إلَّا أنْ يَشتَرِطَ المُبْتَاعُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وهذا صَرِيحٌ في رَدِّ قَوْلِ ابنِ أبي لَيلَى، وحُجَّةٌ على أبي حَنِيفَةَ، والأوْزَاعِيِّ بمَفْهُومِه؛ لأنه جَعَلَ التَّأبِيرَ حَدًّا لمِلْكِ البائِعِ للثَّمَرَة، فيكونُ ما قَبْلَه للمُشْتَرِي، وإلَّا لم يكُنْ حَدًّا، ولا كان التَّأبِيرُ مُفِيدًا. ولأنه نماءٌ كامِنٌ، لظُهُورِه غايَةٌ، فكانَ تابِعًا لأصْلِه قبلَ ظُهُورِه [وغيرَ تابع له بعد ظُهورِ] (8)، كالحَمْلِ في الحَيَوانِ، فأمّا الأغْصَانُ، فإنّها تَدْخُلُ في اسمِ النَّخْلِ، وليس لانْفِصالِها غايَةٌ، والزَّرْعُ ليس من نماءِ الأرْضِ، وإنَّما هو مُودَعٌ فيها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 304.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثاني: أنّه مَتَى اشْتَرَطَها أحَدُ المُتَبَايِعَينِ، فهي له، مُؤبَّرَةً كانت أو غيرَ مُؤبَّرَةٍ، البائِعُ والمُشْتري فيه (¬1) سَواءٌ. وقال مالِكٌ: إنِ اشْتَرَطَها المُشْتَرِي بعد التَّأبِيرِ، جازَ؛ لأنهُ بمَنْزِلَةِ شِرائِها (¬2) مع أصْلِها، وإنِ اشْتَرَطَها البائِعُ قبلَ التَّأبِيرِ، لم يَجُزْ، لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ شِرائِه لها قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها بشَرْطِ التبقِيَةِ. ولَنا، أنّه اسْتَثْنَى بَعْضَ ما وَقَعَ عليه العَقْدُ، وهو مَعْلُومٌ، فصَحَّ، كما لو باعَ حائِطًا واسْتَثْنَى نَخْلَةً بعَينها. ولأنه أحَدُ المُتَبَايعَينِ، فصَحَّ اشْتِرَاطُه للثَّمَرَةِ (¬3)، كالمُشْتَرِي، وقد ثَبَتَ الأصْلُ بالاتِّفاقِ عليه. ولو اشْتَرَطَ أحدُهما (1) جزءًا من الثمَرَةِ مَعْلُومًا، كان كاشْتِراطِ جَمِيعِها في الجَوازِ، في قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقال ابنُ القاسِمِ من أصحاب مالِكٍ: لا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَعْضِها؛ لأنَّ الخَبَرَ إنما وَرَدَ باشْتِرَاطِ جَمِيعِها. ولَنا، أنَّ ما جازَ اشْتِراطُ جَمِيعِه، جَازَ اشْتِرَاطُ بَعْضِه، كمُدَّةِ الخِيارِ. وهكذا الحُكْمُ في مالِ العَبْدِ إذا اشْتَرَطَ بَعْضَهُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مشريها». (¬3) في الأصل: «للثمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثالثُ: أنَّ الثَّمَرَةَ إذا بَقِيَتْ للبائِعِ، فله تَرْكُها في الشَّجَرِ إلى أوانِ الجِذاذِ، سَواءٌ اسْتَحَقَّها بشَرْطِه، أو بظُهُورِها. وبه قال مِالِكٌ، والشّافِعِيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُه قَطْعُها وتَفْرِيغُ النَّخْلِ منها؛ لأنه مَبِيعٌ مَشْغُولٌ بمِلْكِ البائِعِ، فَلَزِمَ نَقْلُه وتَفْرِيغُه، كما لو باعَ دارًا فيها طَعامٌ له أو قُماشٌ. ولَنا، أنَّ النَّقْلَ والتَّفْرِيغَ للمَبِيعِ على حَسَبِ (¬1) العادةِ، كما لو باعَ دارًا فيها طَعامٌ، لم يَجِبْ نَقْلُه إلَّا على حَسَبِ العادَةِ في ذلك، وهو أنْ يَنْقُلَه نَهارًا، شَيئًا بعد شيءٍ، ولا يَلْزَمُه النَّقْلُ لَيلًا، ولا جَمْعُ دَوَابِّ البَلَدِ لنَقْلِه، كذلك ههُنا، تَفْرِيغُ النَّخْلِ من الثَّمَرَةِ في أوَانِ تَفرِيغِها، وذلك أوانُ جِذاذِها، وقِياسُه حُجَّةٌ لَنَا؛ لما بَيَّناهُ. إذا تَقَرَّرَ هذا، فالمَرْجِعُ في جَذِّه إلى ما جَرَت به العادَةُ، فإنْ كان المَبِيعُ نَخْلًا، فحِينَ تَتَنَاهَى حَلَاوَة ثَمَرِها، وإنْ كان ممّا بُسْرُه خَيرٌ من رُطَبِهِ، أو ما جَرَتِ العادَةُ بأخْذِه بُسْرًا، فإنّه يَجُذُّه حينَ تَسْتَحْكِمُ حَلَاوَةُ بُسْرِه؛ لأنَّ هذا هو العادَةُ، فإذَا اسْتَحْكَمَتْ حَلَاوَتُه، فعليه قَطْعُه. وإنْ قيلَ: بَقاؤه في شَجَرِه خَيرٌ له وأبقَى. لم يَمْنَعْ وجُوبَ القَطْعِ؛ لأنَّ العادَةَ في ذلك قد وُجِدَت، فليس له إبْقاؤه بعد ذلك. وإنْ كان المَبِيعُ عِنَبًا أو فاكِهَةً سِوَاهُ فأخذُه حينَ يَتَنَاهَى إدْراكُه ويُجَذُّ مِثْلُه. وهذا قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ. ¬

(¬1) بعده في م: «العرف و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ أُبِّرَ بَعْضُه دونَ بَعْض، فما أُبِّرَ للبائِعِ، وما لم يُؤبَّرْ للمُشْتَرِي. نَصَّ عليه أحمدُ، واخْتارَه أبو بكْرِ؛ للخَبَرِ الذي عليه مَبْنَى هذه المَسْألةِ. وقال ابنُ حامِدٍ: الكُلُّ للبائِعِ. وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، لأنَّا إذا لم نجْعَلِ الكُلَّ للبائِعِ أدَّى إلى الإِضْرارِ، باشْتِرَاكِ الأيدِي، فيَجِبُ. أنْ نَجْعَلَ ما لم يُؤبَّرْ تَبَعًا لما أُبِّرَ، كثَمَرِ النَّخْلَةِ الواحِدَةِ، إذا أُبِّرَ بَعْضُها فإنَّ الجَمِيعَ للبائِعِ بالاتِّفاقِ، وقد يَتْبَعُ الباطِنُ الظّاهِرَ منه، كأساساتِ الحِيطانِ تَتْبَعُ الظَّاهِرَ منه. وهذا الخِلافُ في النَّوْعِ الواحِدِ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنّه يَتَقَارَبُ ويَتَلاحَقُ فيَخْتَلِطُ، فأمّا إنْ أُبِّرَ نَوْع، لم يَتْبَعْهُ النَّوْعُ الآخَرُ. ولم يُفَرِّقْ أبو الخَطَّابِ بين النَّوْعِ والجِنْسِ كُلِّه. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى سوءِ المُشَارَكَةِ واخْتِلافِ الأيدِي، كما في النَّوْعِ الواحِدِ. والأشبهُ الفَرْقُ بين النَّوْعِ والنَّوْعينِ، لأنَّ النَّوْعَينِ يَتَباعَدَانِ، ويَتَمَيَّزُ أحَدُهما عن الآخَر، ولا يُخْشَى اخْتِلاطُهما، أشْبَها الجِنْسَينِ. وما ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بالجِنْسينِ، ولا يَصِحُّ الِقياسُ على النَّوْعِ الواحِدِ؛ لافْتِراقِهما فيما ذَكَرْنا. ولو باعَ حائِطَينِ قد أَبَّرَ أحَدَهُما، لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتْبَعْه لآخَرُ؛ لأنَّه لا (1) يُفْضِي إلى سُوءِ المُشارَكَةِ واخْتِلافِ الأيدِي؛ لانْفِرادِ كُلِّ واحِدٍ منهما عن صاحِبِه. ولو أَبَّرَ بَعْض الحائِطِ، فأفرَدَ بالبَيعِ ما لم يُؤبَّرْ، فللمَبِيعِ حُكْمُ نَفْسِه، ولا يَتْبَعُ غيرَه. وخَرَّجَ القاضِي وَجْهًا في أنَّه يَتْبعُ غيرَ المَبِيعِ، فيكونُ للبائِعِ، كما لو باعَ الحائِطَ كُلَّه. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأصْحابِ الشّافِعِيِّ. ولَنا، أنَّ المَبِيعَ لم يُؤَبَّرْ منه شيءٌ، فوَجَبَ أنْ يكونَ للمُشْتَرِي؛ لمَفْهُومِ الحَدِيثِ، وكما لو كان مُنْفَرِدًا في بُسْتانٍ وَحْدَه. ولأنَّه لا يُفْضِي إلى سُوءِ المُشارَكَةِ، ولا اخْتِلافِ الأيدِي، ولا إلى ضَرَرٍ، فبَقِيَ على حُكْمِ الأصْلِ. فإنْ بيعَتِ النَّخْلَةُ المُوبَّرَةُ كُلُّها أو بَعْضُها، ثم حَدَثَ طَلْعٌ، فهو للمُشْتَرِي؛ لأَنَّه حَدَثَ في مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو حَدَثَ بعد أخْذِ الثَّمَرَةِ، ولأنَّ ما أطْلَعَ بعدَ تَأبِيرِ غيرِه لا يَكادُ يَشْتَبِهُ به (¬1)؛ لتَباعُدِ ما بَينَهُما. فصل: وطَلْعُ الفُحَّالِ (¬2) كطَلْعِ الإِناثِ فيما ذَكَرْنَا. وهو ظاهِرُ كلامِ الشَّافِعِيِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّه للبائِعِ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّه (¬3) يُؤخَذُ للأكلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الفُحَّال؛ بضم الفاء المعجمة وتشديد الحاء: ذكر النخل. (¬3) بعده في م: «قد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ ظُهورِه، فهو كثَمَرَةٍ لا تُخْلَقُ إلَّا ظاهِرَةً، كالتِّينِ، ويكونُ ظُهُورُ طَلْعِه كظُهُورِ ثَمَرَةِ غَيرِه. ولنا، أنّها ثَمَرَةُ نَخْلٍ إذا تُرِكَتْ ظَهَرَت، فهي كالإِناثِ، ولأنَّه يَدْخُلُ في عُمومِ الخَبَرِ. وما ذُكِرَ للوَجْهِ الآخَر لا يَصِحُّ، فإنَّ أكْلَه ليس هو المَقْصُودَ منه، وإنّما يُرادُ للتَّلْقِيحِ به، وذلك يكونُ بعد ظُهُورِه، فأشْبَهَ طَلْعَ الإِناثِ. فإنْ باعَ نَخْلًا فيه فُحَّالٌ وإناثٌ لم يَتَشَقَّقْ منه شيء، فالكُلُّ للمُشْتَرِي، إلَّا على الوَجْهِ الآخَر، فإنَّ طَلْعَ الفُحَّالِ يكونُ للبائِعِ. وإنْ تَشَقَّقَ طَلْعُ (¬1) أحَدِ النَّوْعَينِ دون الآخَر، فما تَشقَّقَ للبائِعِ، وما لم يَتَشَقَّقْ للمُشْتَرِي، إلَّا عندَ مَنْ سَوَّى بينَ الأنْوَاعِ كُلها. فصل: وكُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ يَجْرِي مَجْرَى البَيعِ، في أنَّ الثَّمَرَةَ المُؤبَّرَةَ تكُونُ لمَن انْتَقَلَ عنه الأصْلُ، وغيرَ المُوبَّرَةِ لمَن انْتَقَلَ إليه، مثلَ أن يُصْدِقَ المَرْأة نَخْلًا، أو يَخْلَعَها به، أو يَجْعَلَهُ عِوَضًا في إجارَةٍ أو عَقْدِ صُلْح؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فجَرَىَ مَجْرَى البَيعِ. وإنِ انْتَقَلَ بغَيرِ مُعاوَضَةٍ، كالهِبَةِ، والرَّهْنِ، أو فَسْخٍ لأجْلِ العَيب، أو فَلَس المُشْترِي، أو رُجُوعِ الأبِ في هِبَةِ وَلَدِه، أو تَقَايَلَا البَيعَ، أَو كان صَداقًا ¬

(¬1) سقط من: م.

1707 - مسألة: (وكذلك الشجر إذا كان فيه ثمر باد؛ كالتوت، والتين، والرمان، والجوز، وما ظهر من نوره؛ كالمشمش، والتفاح، والسفرجل، واللوز، وما خرج من أكمامه؛ كالورد، والقطن. وما قبل ذلك فهو للمشتري)

وَكَذَلِكَ الشجَرُ إِذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ بَادٍ؛ كَالْعِنَبِ، وَالتِّينِ، وَالتُّوتِ، والرُّمَّانِ، وَالْجَوْزِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ نَوْرِهِ؛ كَالمِشْمِش، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، واللَّوْزِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أكْمَامِهِ؛ كَالْوَرْدِ، وَالْقُطْن. وَمَا قبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُشْترِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فرَجَعَ إلى الزَّوْجِ؛ لفَسْخِ المَرْأة النِّكَاحَ، أو نِصْفُهُ؛ لطلاقِ الزوْجِ، فإنَّه في الفَسْخِ يَتْبَعُ الأصْلَ، سَواءٌ أبِّرَ، أو لم يُؤبَّرْ؛ لأنَّه نَماءٌ مُتَّصِلٌ، فأشْبَهَ السِّمَنَ، وفي الهِبَةِ والرَّهْنِ حُكْمُهما حُكْمُ البَيعِ، في أنَّه يَتْبَعُ قبلَ التَّأبِيرِ، ولا يَتْبَعُ بعدَه؛ لأنَّ المِلْكَ زال عن الأصْلِ بغيرِ فَسْخ، أشْبَهَ البَيعَ. وأمّا رُجُوعُ البائِعِ لفَلَسِ المُشْتَرِي، أو الزَّوْجِ لانفِساخِ النِّكاحِ، فيُذْكَرانِ في بابِهما. 1707 - مسألة: (وكذلك الشَّجَرُ إذا كان فيه ثمرٌ بادٍ؛ كالتُّوتِ، والتِّينِ، والرُّمَّانِ، والجَوْزِ، وما ظَهَرَ من نَوْرِهِ؛ كَالمِشْمِشِ، والتُّفَّاحِ، والسفَرْجَلِ، واللَّوْزِ، وَمَا خرَجَ مِنْ أكْمَامِه؛ كَالْوَرْدِ، وَالْقُطْنِ. وما قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ للْمُشْتَرِي) والشَّجَرُ على خَمْسَةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، ما تكونُ ثَمَرَتُه في أكْمام ثم تَتَفتَّحُ فتَظْهَرُ، كالنَّخْلِ الذي بَيَّنَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمَهُ، وهو الأصْلُ، وما سوَاهُ مَقِيس عليه. ومن هذا الضَّرْبِ، القُطْنُ، وما يُقْصَدُ نَوْرُه كالورْدِ، والياسَمِينِ، والنَّرْجِس، والبَنَفْسَجِ، فإنَّه تَظْهَرُ أكْمامُه ثم تَتَفتَّحُ، فهو كالطَّلْعِ إن تفَتَّحَ (¬1)، فهو للبائع، وإلَّا فهو للمُشْتَرِي. الثاني، ما تَظْهَرُ ثَمَرَتُه بارزَةً لا قِشْرَ عليها ولا نوْرَ؛ كالتِّينِ، والتُّوتِ، والجُمَّيزِ، فهي للبائِعِ؛ لأنَّ ظُهورَها من شَجَرِها بمَنْزِلَةِ ظُهُورِ ما في الطَّلْعِ. الثالثُ، ما يَظْهَرُ في قِشْرِه ثم يَبْقَى فيه إلى حينِ الأكْلِ؛ كالمَوْزِ، والرُّمّانِ، فهو للبائِعِ أيضًا بنَفْسِ الظُّهورِ؛ لأنَّ قِشْرَه من مَصْلَحَتِه، ويَبْقَى فيه إلى حينِ الأكْلِ فهو (¬2) كالتِّينِ. الرّابع، ما يَظْهَرُ في قِشْرَينِ، كالجَوْزِ، واللَّوْزِ، فهو للبائِع أيضًا بِنَفْسِ الظُّهورِ؛ لأنَّ قِشْرَهُ لا يَزُولُ عنه غالِبًا إلَّا بعدَ جِذاذِه، فأشبَهَ ¬

(¬1) بعده في م: «جنبذه». وهو ورد الشجرة قبل أن يتفتح. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضرْبَ الذي قَبْلَه. ولأنَّ قِشْرَ اللَّوْزِ يُؤكَلُ معه، أشْبَهَ التِّينَ. وقال القاضِي: إنْ تَشَقَّقَ القِشْرُ الأعْلَى فهو للبائِعِ، وإن لم يَتَشَقَّقْ فهو للمُشْتَرِي، كالطَّلْعِ. ولو اعْتُبِرَ هذا لم يكُنْ للبائِعِ إلَّا نادِرًا، ولا يَصِحُ قِياسُه على الطَّلْعِ؛ لأنَّ الطَّلْعَ لابُدَّ من تَشَقُّقِه، وتَشَقُّقُهُ من مَصْلَحَتِه، وهذا بخِلافِه، فإنّه لا يَتَشَقَّقُ على شَجَرِه، وتَشَقُّقُه قبلَ كمالِه يُفْسِدُه. الخامِسُ، ما يَظْهَرُ نَوْرُه ثم يَتَنَاثَرُ فتَظْهَرُ الثَّمَرَةُ؛ كالتُّفَّاحِ، والمِشْمش، والإجَّاصِ (¬1)، والخَوْخِ، فإذا تَفَتَّحَ نَوْرُه وظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ فيه، فهو للبائِعِ، وإنْ لم تَظْهَرْ، فهو للمُشْتَرِي. وقيلَ: ما يَتَناثَرُ نَوْرُه، فهو للبائِعِ، وما لا، فهو للمُشْتَرِي؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ لا تَظْهَرُ حتى يَتَنَاثَرَ النَّوْرُ. وقال القاضِي: يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ للبائِعِ بظُهُورِ نَوْرِه؛ لأنَّ الطَّلْعَ إذا تَشَقَّقَ كان كنَوْرِ الشَّجَرِ، فإنَّ العُقَدَ التي في جَوْفِ الطَّلْعِ ليست عَينَ الثَّمَرَةِ، ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق: «الإنجاص». والإجَّاص هو الكمثرى أو البرقوق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنّما هي أوْعيَة لها تَكْبُرُ الثَّمَرَةُ في جَوْفِها، وتَظْهَرُ فتَصِيرُ العُقْدَةُ في طَرَفِها، وهي قِمَعُ الرُّطَبَةِ. وظاهِرُ لَفْظِه ها هنا يَقْتَضِي ما قُلْنَاهُ أوّلًا، وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه عَلَّقَ اسْتِحْقاقَ البائِعِ للثَّمَرَةِ ببُدُوِّها، [لا ببُدُوِّ نَوْرِها] (¬1). ولا يَبْدُو الثَّمَرُ حتى يتفَتَّحَ نَوْرُه، وقد يبْدُو إذا كَبُرَ قبلَ أنْ يَنْثُرَ النَّوْرَ، فيَتَعَلَّقُ ذلك بظُهُورِه. والعِنَبُ بمَنْزِلَةِ ما له نَوْر؛ لأنَّه يَبْدُو في قُطُوفِه شيءٌ صِغارٌ كحَبِّ الدُّخْنِ، ثم يَتَفَتَّحُ ويَتَنَاثَرُ، كَسَائِرِ (¬2) النَّوْرِ، فيكونُ من هذا القِسْمِ. وهذا يُفارِقُ الطَّلْعَ؛ لأنَّ الذي في الطَّلْعِ عَينُ الثَّمَرَةِ يَنْمُو ويَتَغَيَّرُ، والنَّوْرُ في هذه الثِّمارِ يَتَسَاقَطُ ويَذْهَبُ وتَظْهَرُ الثمَرَةُ. ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ في هذا (¬3) جميعِه كما ذَكَرْنا أو قَرِيبًا منه، وبينَهم (¬4) اخْتِلافٌ قَرِيبٌ مما (¬5) ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كتناثر». (¬3) بعده في م: «فصل». (¬4) كذا في النسخ جميعها. والظاهر أن الضمير عائد على الشافعية. وفي م: «بينهما». ويكون معناه: بين الحنابلة والشافعية. (¬5) في ر 1، ق: «كما».

1708 - مسألة: (والورق للمشتري بكل حال)

وَالْوَرَقُ لِلْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ. وَيَحْتَمِلُ فِي وَرَقِ التّوتِ الْمَقْصُودِ أخذُهُ، أنَّهُ إِنْ تَفَتَّحَ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإنْ كَانَ حَبًّا، فَهُوَ لِلْمُشْترِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1708 - مسألة: (والوَرَقُ للمُشْتَرِي بكُلِّ حالٍ) الأغْصَانُ والوَرَقُ وسائِرُ أجْزَاءِ الشَّجَرِ للمُشْتَرِي؛ لأنَّه من أجزَائِها، خُلِقَ لمصْلَحَتِها، فهو كأجزَاءِ سائِرِ المَبِيعِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ وَرَقُ التُّوتِ المَقْصُودُ أخذُه لدُودِ القَزِّ للبائِعِ إذا تَفَتَّحَ، وللمُشْتَرِي قبلَ ذلك؛ لأنه بمَنْزِلَة الجُنْبُذِ الذي يَتَفَتُّح فيَظْهَرُ نَوْرُه، من الوَرْدِ وغَيرِه، وإنّما هذا في المواضِعِ التي عادَتُهم أخْذُ الوَرَقِ، وإنْ لم تَكُنْ عادتُهُم ذلك، فهو للمُشْتَرِي، كسائِرِ الوَرَقِ. والله أعْلَمُ.

1709 - مسألة: (وإن ظهر بعض الثمرة، فهو للبائع، وما لم يظهر، فهو للمشتري. وقال ابن

وَإنْ ظَهَرَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ، فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. وَقَال ابنُ حَامِدٍ: الْكُلُّ لِلْبَائِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1709 - مسألة: (وإنْ ظَهَرَ بَعْضُ الثمَرَةِ، فهو للبائعِ، وما لم يَظْهَرْ، فهو للمُشْتَرِي. وقال ابنُ (¬1) حامِدٍ: الكُلُّ للبائِعِ) وقد ذَكَرنَاهُ. ¬

(¬1) في م: «أبو».

1710 - مسألة: (وإن احتاج الزرع أو الثمرة إلى سقي، لم يلزم المشتري، ولم يملك منع البائع منه)

وَإنِ احْتَاجَ الزَّرْعُ أو الثَّمَرَةُ إِلَى سَقْيٍ، لَمْ يَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَ الْبَائِعِ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1710 - مسألة: (وإنِ احْتَاجَ الزَّرْعُ أو الثَّمَرَةُ إلى سَقْي، لم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ، ولم يَمْلِكْ مَنْعَ البائِعِ منه) إذا كانت الثَّمَرَةُ للبائِع مُبَقَّاةً في شَجَرِ المُشْتَرِي، فاحْتَاجَتْ إلى سَقْي، لم يكُنْ للمُشْتَرِي مَنْعُه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يَبْقَى به؛ فَلَزِمَه تَمْكِينُه منه، كتَرْكِهِ على الأصُول. وإنْ أرادَ سَقْيَها من غيرِ حاجَةٍ، فللمُشْتَرِي مَنْعُه؛ لأنَّ سَقْيَهُ يَتَضَمَّنُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِ غَيرِه، والأصْلُ مَنْعُه منه، وإنّما أبحْنَاهُ للحاجَةِ، فما لم تُوجَدِ الحاجَةُ يَبْقَى على أصْلِ المَنْعِ. وإنِ احْتَاجَتْ إلى سَقْي يَضُرُّ بالشَّجَرِ، أو احْتَاجَ الشَّجَرُ إلى سَقْيٍ يَضُرُّ بالثَّمَرَةِ. فقال القاضِي: أيهما طَلَبَ السَّقْيَ لحاجَتِه أجْبِرَ الآخَرُ عليه؛ لأنه دَخَلَ في (¬1) العَقْدِ على ذلك، فإنَّ المُشْتَرِيَ اقْتَضَى عَقْدُه تَبْقِيَةَ الثمَرَةِ، والسَّقْيُ من تَبْقِيَتها، واقْتَضَى تَمْكِينَ المُشْتَرِي من حِفْظِ الأصُولِ، وتَسْلِيمِها، فَلَزِمَ كلَّ واحِدٍ منهما ما أوْجَبَهُ العَقْدُ للآخَرِ، وإنْ أضَرَّ به. وإنَّما له أنْ يَسْقِيَ بِقَدْرِ حاجَتِه، وإنِ اخْتَلَفَا في ذلك، رُجِعَ إلى أهْلِ الخِبْرةِ. وأيهُما التمَسَ السَّقْيَ فالمُؤنَةُ عليه؛ لأنَّه لحاجَتِه. فصل: وإن خِيفَ على الأصُولِ الضَّرَرُ بتَبْقِيَةِ الثَّمَرَةِ عليها، لعَطَشْ أو غيرِه، والضَّرَرُ يَسِير، لم يُجْبَرْ على قَطْعِها؛ لأنَّها مُسْتَحِقَّة للبَقَاءِ، فلم يُجْبَرْ على إزَالتِها لدَفْعِ ضَرَر يَسِير عن غيرِه. وإنْ كان كَثِيرًا، فخِيف على الأصُولِ الجَفافُ، أو نَقْصُ حَمْلِها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُجْبَرُ لذلك (¬2). والثاني، يُجْبَرُ على القَطْعِ، لأنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُها وإنْ لم تُقْطَعْ، والأصُولُ تَسْلَمُ بالقَطْعِ، فكان القَطْعُ أوْلَى. وللشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كذلك». وفي ر 1: «بذلك».

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ بَيعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَلَا الزَّرْعِ قَبْلَ اشْتِدَادِ حَبِّهِ، إلا بِشرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالوَجْهَينَ. فصل: (ولا يَجُوزُ بَيعُ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، ولا الزَّرْعِ قبلَ اشْتِدادِ حَبِّه، إلَّا بشَرْطِ القَطْعِ في الحالِ) لا يَجُوزُ بَيعُ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُو صَلاحِها بشَرْطِ التبقِيَةِ إجْماعًا؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بيع الثِّمَارِ حتى يَبْدُوَ صَلَاحُها. نَهَى البائِعَ والمُبْتَاعَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والنَّهْيُ يَقتَضِي فسادَ المَنْهِيِّ عنه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على القَوْلِ بجُمْلَةِ هذا الحَدِيثِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 366.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك الزَّرْعُ الأخْضَرُ في الأرْضِ، لا يَجُوزُ بَيعُه إلَّا بشَرْطِ القَطْعِ، كما ذَكَرْنَا في الثَّمَرَةِ على الأصُولِ؛ لِما رَوَى مُسْلِمٌ (¬1) أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ السُّنْبُلِ حتى يَبْيَضَّ ويأمَنَ العاهَةَ. نَهَى البائِعَ والمُشْتَرِيَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا أعْلَمُ أحَدًا يَعْدِلُ عن القَوْلِ به. وهو قولُ مالِك، وأهْلِ المَدِينَةِ، وأهْلِ البَصْرَةِ، وأصحَابِ الحَدِيثِ، وأصْحابِ الرَّأي. فإنْ باعَهُ بشَرْطِ القَطْعِ، أو باعَ الثَّمَرَةَ قبل بُدُوِّ صَلاحِها بشَرْطِ القَطْعِ، صَحَّ بالإجْماعِ، لأنَّ المَنْعَ إنَّما كان خَوْفًا من ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَلَفِ الثَّمرَةِ وحُدُوثِ العاهَةِ عليها قبلَ أخْذِها؛ لِما رَوَى أنَسٌ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ (¬1)، قال: «أرَأيتَ إذا مَنَع اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأخُذُ أحَدُكُم مال أخِيهِ؟». رَواهُ البُخَارِيُّ (¬2). وهذا مَأمُونٌ فيما يُقْطَعُ، فصَحَّ بَيعُه، كما لو بَدَا صَلَاحُه. فصل: وإذا اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، أو نِصْفَ الزَّرْعِ قبلَ اشْتِدادِ حَبِّه مُشاعًا، لم يَجُزْ، سَواءٌ اشْتَرَاها من رَجُل، أو من أكثرَ منه، وسَواء شَرَطَ القَطْعَ أو لم يَشْرُطْه؛ لأنه لا يُمْكِنُه قَطْعُه إلَّا بقَطْعِ ما لا يَمْلِكُه، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه. ¬

(¬1) في م: «تزهو». (¬2) في: باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. . . .، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 101. كما أخرجه مسلم، في: باب وضع الجوائح، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1190. والنسائي، في: باب شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها. . . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 232. والإمام مالك، في: باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 618.

1711 - مسألة: (ولا)

وَلَا بَيعِ الرَّطْبَةِ، وَالْبُقُولِ، إلا بِشَرْطِ جَزِّهِ، وَلَا الْقِثَّاءِ وَنَحْوهِ، إلا لَقَطَةً لَقَطَةً، إلا أن يَبِيعَ أصلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1711 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ (بَيعُ الرَّطْبَةِ والبُقُولِ، إلَّا بشَرْطِ جزِّهِ، ولا القِثَّاءِ ونحوه، إلَّا لَقَطَةً لَقَطَةً (¬1)، إلَّا أنْ يَبِيعَ أصْلَه) الرَّطْبَةُ وما أشْبَهَها مما تَثْبُتُ أصُولُه في الأرْضِ، ويُؤخَذُ ما ظَهَرَ منه بالقَطْعِ مَرَّةً بعدَ أخْرَى؛ كالنَّعْنَاعِ والهِنْدِبا وشِبْهِهِما، لا يَجُوزُ بَيعُه إلَّا أنْ يَبِيعَ الظّاهِرَ منه بشَرْطِ القَطْعِ في الحالِ. وبذلك قال الشّافِعِيُّ. ورُوِيَ ذلك عن الحَسَنِ، وعَطاءٍ. ورَخَّصَ مالِكٌ في شراءِ جَزَّتَينِ وثلاثةٍ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ ما في الأرْضِ منه مَسْتُورٌ، وما يَحْدُثُ منه مَعْدُومٌ، فلا يَجُوزُ بَيعُه، كما لا يَجُوزُ بَيعُ ما يَحْدُثُ (¬2) من الثَّمَرَةِ. ومتى اشْتَرَى جزَّةً، لم يجُزْ إبقاؤها؛ لأن ما يَظْهَرُ منها أعيانٌ لم يَتَنَاوَلْها البَيعُ، فيكونُ للبائِعِ إذا ظَهَرَ، فيُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المبِيعِ بغيرِه. فإنْ أخَّرَها حتى طالتْ، فالحُكْمُ فيها يُذكَرُ إنْ شاءَ الله تعالى. ¬

(¬1) لقطة لقطة: أي دورًا من النضج إثر دور. (¬2) في ر، ر 1: «لا يحدث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ ثَمَرَةَ شيءٍ من هذه البُقُولِ، كالقِثَّاءِ، والباذِنْجَانِ، لم يَجُزْ إلَّا بَيعُ المَوجودِ منها دونَ المَعْدُومِ. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ. وقال مالِكٌ: يَجُوزُ بَيعُ الجَمِيعِ، لأنَّ ذلك يَشُقُّ تَمْيِيزُه، فجُعِلَ ما لم يَظْهَرْ تَبَعًا لِما ظَهَرَ، كما أنّ ما لم يَبْدُ صَلاحُه تَبَع لِما بَدَا. ولَنا، أنّها ثَمَرَةٌ لم تُخْلَقْ، فلم يَصِحَّ بَيعُها، كما لو باعَها قبلَ ظُهُورِ شيءٍ منها، والحاجَةُ تَنْدَفِعُ بِبَيعِ أصُولِه، ولأنَّ ما لم يَبْدُ صَلاحُه يَجُوزُ إفْرادُه بالبَيعِ، بخِلافِ ما لم يُخْلَقْ، ولأنَّ ما لم يُخْلَقْ من ثَمَرَةِ النَّخْلِ لا يَجُوزُ بَيعُه تَبَعًا لما خُلِقَ، وإنْ كان ما لم يَبْدُ صَلَاحُه تَبَعًا لِمَا بَدا. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنْ باعَها قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، لم يَجُزْ إلَّا بشَرْطِ القَطْعِ، وإنْ كان بعدَ بُدُوِّ صَلاحِه، جازَ مُطْلَقًا، وبشَرْطِ القَطْعِ والتَّبْقِيَةِ، على ما نَذْكُرُ في ثَمَرَةِ الأشْجَارِ، وسَنُبَيِّنُ بما يكونُ بُدُوُّ صَلَاحِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ بَيعُ هذه الأصُولِ التي تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُها من غيرِ شَرْطِ القَطْعِ. ذَكَرَه القاضِي. وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشَّافِعِيِّ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الأصُولِ صِغارًا أو كِبارًا، مُثْمِرَةً أو غيرَ مُثْمِرَةٍ؛ لأنه أصْلٌ تَتَكَرَّرُ (¬1) فيه الثَّمَرَةُ، فأشْبَهَ الشَّجَرَ. فإنْ باعَ المُثْمِرَ منه، فثَمَرَتُه الظّاهِرَةُ للبائعِ مَتْرُوكَة إلى حينِ بُلُوغِها، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَها المُبْتاعُ. فإنْ حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أخْرَى، فهي للمُشْتَرِي. وإنِ اخْتَلَطَتْ بثَمَرَةِ البائِع ولم تَتَمَيَّزْ، كان الحُكْمُ فيها كثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ إذا اخْتَلَطَتْ بثَمَرَةٍ أخْرَى، على ما يَأتي حُكْمُه. فصل: والقُطْنُ ضَرْبانِ؛ أحَدُهما، ما لَهُ أصْلٌ يَبْقَى في الأَرْضِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْوامًا، فهذا حُكْمُه حُكْمُ الشَّجَرِ، في أنه يَصِحُّ إفْرادُه بالبَيعِ، وإذا بِيعَتِ الأرْضُ بحُقُوقِها دَخَلَ في البَيعِ، وثَمَرُه كالطَّلْعِ، إنْ تَفَتَّحَ فهو للبائِعِ، وإلَّا فهو للمُشْتَرِي. الثاني، ما يَتَكَرَّرُ زَرْعُه كُلَّ عام، فحُكْمُه حُكْمُ الزَّرْعِ، ومتى كان جَوْزُه ضَعِيفًا رَطْبًا لم يَقْوَ ما فيه، لم يَصِحَّ بَيعُه، إلَّا بشَرْطِ (¬1) القطْعِ، كالزَّرْعِ الأخْضَرِ. وإنْ قَوىَ حَبُّه واشْتَدَّ، جازَ بَيعُه بشَرْطِ التبقِيَةِ، كالزَّرْعِ إذا اشْتَدَّ حَبُّه، وإذا بِيدَتِ الأرْضُ لم يَدْخُلْ في البَيعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ. والباذِنْجَانُ الذي تَبْقَى أصُولُه وتَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُه كالشَّجَرِ، وما يَتَكَرَّرُ زَرْعُه كُلَّ عام فهو (¬2) كالحِنْطَةِ والشَّعِيرِ. فصل: ولا يَجُوزُ بَيعُ ما المَقْصُودُ منه مَسْتُور في الأرْضِ؛ كالجَزَرِ والفُجْلِ والثُّومِ والبَصَلِ، حتى يُقْلَعَ ويُشاهَدَ. وهذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وابنِ المُنْذِر، وأصحَابِ الرَّأي. وأباحَهُ مالِك، والأوْزَاعِي، وإسْحاقُ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، فأشْبَهَ بَيعَ ما لم يَبْدُ صَلَاحُه تَبَعًا لِمَا بَدَا. ولَنا، أنّه مَجْهُول لم يَرَهُ ولم يُوصَفْ له، فأشْبَهَ بَيعَ الحَمْلِ. ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الغَرَرِ. رَواهُ مسلمٌ (¬3). وهذا غَرَرٌ. وأمّا بَيعُ ما ¬

(¬1) في م: «أن يشترط». (¬2) زيادة من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 90.

1712 - مسألة: (والحصاد واللقاط على المشتري)

وَالْحَصَادُ وَاللقَاطُ عَلَى الْمُشْتَرِي، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَبْدُ صَلاحُه، فإنّما جَازَ تَبَعًا، فإنّ الظاهِرَ أنَّه يَتَلَاحَقُ في الصَّلاحِ، ويَتْبَعُ بَعْضُه بَعْضًا. فإنْ كان ممّا تُقْصَدُ فُرُوعُه وأصُولُه؛ كالبَصَلِ المَبِيعِ أخْضَرَ، والكُرَّاثِ واللِّفْتِ، وسائِرِ ما تُقْصَدُ فُرُوعُه، جازَ بَيعُه؛ لأنَّ المَقْصُودَ منه ظاهِر، فأشْبَهَ الحِيطانَ التي أسَاسَاتُها مَدْفُونَةٌ، ويَدْخُلُ ما لم يَظْهَرْ في البَيعِ تَبَعًا (¬1) لما ظَهَرَ، فلا تَضُرُّ جَهالته، كالحَمْلِ في البَطْنِ مع بَيعِ الحَيَوانِ. فإن كان مُعْظَمُ المَقْصُودِ منه أصُولَه، لم يَجُزْ بَيعُه؛ لأن الحُكْمَ للأغلَبِ، وكذلك إنْ تَسَاوَيَا؛ لأنَّ الأصلَ اعْتِبارُ الشَّرْطِ في الجَمِيعِ، وإنَّما سَقَطَ اعْتِبارُه فيما كان مُعْظَمُ المَقْصُودِ منه ظاهِرًا تَبَعًا، فَفِيما عَدَاهُ يَبْقَى على الأصْلِ. 1712 - مسألة: (وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ على المُشْتَرِي) وكذلك ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لأن الحكم للأغلب وكذلك إن تساويا لأن الأصل».

1713 - مسألة: (فإن باعه مطلقا، أو بشرط التبقية، لم يصح)

فَإِنْ بَاعَهُ مُطْلَقًا، أو بِشَرْطِ التبقِيَةِ، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ جِذاذُ الثَّمَرَةِ إذا اشْتَراها في شَجَرِها؛ لأنَّ نَقْلَ المَبِيعِ وتَفْرِيغَ مِلْكِ البائِعِ منه على المُشْتَرِي، كنَقْلِ الطَّعامِ المَبِيعِ من دارِ البائِعِ. ويُفارِقُ الكيلَ والوَزْنَ، فإنَّهما على البائِعِ؛ لأنَّهُما من مُؤنَةِ تَسْلِيم المَبِيعِ إلى المُشْتَرِي، والتَّسْلِيمُ على البائِعِ، وههُنا حَصَلَ التَّسْلِيمُ بالتَّخْلِيَةِ بدونِ القَطْعِ، بدَلِيلِ جَوازِ التَّصَرُّفِ فيها. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، ولا نَعلَمُ فيه خِلافًا. 1713 - مسألة: (فإن باعَهُ مُطْلَقًا، أو بشَرْطِ التبقِيَةِ، لم يَصِحَّ) إذا باعَ الثَّمَرَةَ قبلَ بُدُوِّ (¬1) صَلاحِها، أو الزَّرْعَ قبلَ اشْتِدادِ حَبِّهِ، بشَرْطِ التبقِيَةِ، لم يَصِحَّ إجْمَاعًا، وقد ذَكَرْنَاهُ. وكذلك إذا باعَها ولمِ يَشْتَرطْ تَبْقِيَةً ولا قَطْعًا. وبه قال مالِك، والشّافِعِيُّ. وأجازَهُ أبو حَنِيفةَ؛ لَأنَّ إطْلَاقَ العَقْدِ يَقْتَضِي القَطْعَ، فَحُمِلَ عليه، كما لو اشْتَرَطَه، قالُوا: ومَعْنَى النَّهْي أنْ يَبيعَها مُدْرِكَةً قبلَ إدْرَاكِها، بدَلِيلِ قَوْلِه في الحَدِيثِ: «أرَأيتَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأخُذُ أحَدُكُمْ مال أخِيهِ؟» (¬1) فلَفْظَةُ المَنْعِ تَدُلُّ على أنَّ العَقْدَ يَتَناوَلُ مَعْنى هو مَقْصُودٌ في الحالِ، حتى يُتَصَوَّرَ المَنْعُ. ولَنا، النَّهْيُ المُطْلَقُ عن بَيعِ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، فيَدْخُلُ فيه مَحَلُّ النّزاعِ، واسْتِدْلالُهم بسِياقِ الحَدِيثِ يَدُلُّ على هَدمِ قاعِدَتِهم التي قَرَّرُوها، في أنّ إطْلاقَ العَقْدِ يَقْتَضِي القَطْعَ، ويُقَرِّرُ ما قُلْنا، من أنَّ إطْلَاقَ العَقْدِ يَقْتَضِي التبقِيَةَ، فيَصِيرُ العَقْدُ المُطْلَقُ كالذي شُرِطَ فيه التبقِيَةُ، يَتَناوَلُهما النَّهْي جَمِيعًا، ويَصِحُّ تَعْلِيلُهما بالعِلَّةِ التي عَللَ بها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مَنْعِ الثَّمَرَةِ وهَلاكِها. فصل: وبَيعُ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها من غيرِ شَرْطِ القَطْعِ على ثَلاثَةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، أنْ يَبِيعَها مُنْفَرِدَةً لغَيرِ مالِكِ الأصْلِ، فلا يَصِحُّ. وهذا الذي ذَكَرْناه، وبَيَّنَّا بُطلانَه. الثاني، أنْ يَبِيعَها مع الأصلِ، فيَجُوزُ بالإِجْماعِ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ باعَ نَخْلًا بَعْدَ أنْ تُؤبَّرَ، فَثَمَرَتُها للذي باعَهَا، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَ (¬2) المُبْتَاعُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأنَّه إذا باعَها مع الأصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا في البَيعِ، فلم يَضُرَّ احْتِمالُ الغَرَرِ فيها، كما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 172. (¬2) في الأصل: «يشترطها». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 304.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتُمِلَتِ الجَهالةُ في بَيعِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ مع بَيعِ الشَّاةِ، وأساساتِ الحِيطانِ. الثالِثُ، أنْ يَبِيعَها مُفْرَدَةً لمالِكِ الأصلِ، نحوَ أنْ تكونَ للبائِعِ، ولم يَشْتَرِطْها المُبْتَاعُ، فيَبِيعَها له بعد ذلك، أو يُوصِيَ لرَجُل بثَمَرَةِ نَخْلَةٍ فيَبِيعَها لوَرَثَةِ المُوصِي، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَصِحُّ. وهو المَشْهُورُ عن مالِك، وأحَدُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشّافِعِيّ؛ لأنَّه يَجْتَمِعُ الأصلُ والثَّمَرَةُ للمُشْتَرِي، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَاهُما معًا. ولأنه إذا باعَها لمالِكِ الأصْلِ، حَصَلَ التَّسْلِيمُ إلى المُشْتَرِي على الكَمالِ؛ لكَوْنِه مالِكًا لأصُولِها، فَصَحَّ، كبَيعِها مع أصْلِها. والثاني، لا يَصِحُّ. وهو الوَجْهُ الثانِي لأصْحابِ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ العَقْدَ تَنَاوَلَ الثمرَةَ خاصَّة، والغَرَرَ فيما تَنَاوَلَه العَقْدُ أصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كما لو كانتِ الأصُولُ لأجنَبِي، ولأنها تَدْخل في عموم النَّهْي، بخِلافِ ما إذا باعَهُما معًا، فإنّه مُسْتَثنى بالخَبَرِ المَذْكُورِ، ولأنَّ الغَرَرَ فيما يَتَنَاوَلُه العَقْدُ أصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، ولا يَمْنَعُ إذا تَناوَلَه تبعًا، فإنَّه يَجُوزُ في التابع من الغَرَرِ هما لا يَجُوزُ في المَتْبُوعِ، كاللَّبَنِ في الضَّرْعِ، والحمْلِ مع الشّاةِ، وغيرِهما. وإنْ باعَهُ الثَّمَرَةَ بشَرْطِ القَطعِ في الحالِ، صَحَّ، وَجْهًا واحِدًا، ولا يَلْزَمُ المُشْتَرِيَ الوَفاءُ بالشَّرْطِ، لأنَّ الأصلَ له.

1714 - مسألة: (فإن باعها بشرط القطع، ثم تركه المشتري

وَإنِ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ، أو طَالتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ الزَّرْعَ الأخْضَرَ من غيرِ شَرْطِ القَطْعِ مع الأرْضِ، جازَ، كبَيعِ الثَّمَرَةِ مع الأصْلِ، وإنْ باعَهُ لمالِكِ الأرْضِ مُنْفَرِدًا، ففيه وَجْهَانِ، على ما ذَكَرْنا في الثَّمَرَةِ. واخْتَارَ أبو الخَطَّابِ الجوازَ. وإنْ باعَهُ إيَّاهُ بشرْطِ القَطْعِ، جازَ، وَجْهًا واحِدًا، ولم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ الوَفاءُ بالشَّرْطِ؛ لأنَّ الأصْلَ له، فهو كبَيعِ الثَّمَرَةِ لمالِكِ الأصْلِ. فصل: وإذا اشْتَرَى قَصِيلًا مِن شَعِيرٍ ونحوه، فقَطَعَه، ثم نَبَتَ، فهو لصاحِبِ الأرْضِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ تَرَكَ الأصُولَ على سَبِيلِ الرَّفْضِ لها، فَسَقَطَ حَقُّه منها، كما يَسْقُطُ حَقُّ حاصِدِ (¬1) الزَّرْعِ من السّنابِلِ التي يَدَعُها، ولذلك أُبِيحَ الْتِقاطُها. ولو سَقَطَ من الزَّرْعِ حَب، ثم نبَتَ من العامِ المُقْبِلِ، فهو لصاحِبِ الأرْضِ. نَصَّ أحمدُ على هاتَينِ المسْألَتَين. وممّا يُؤكِّدُ هذا، أنَّ البائِعَ لو أرادَ التَّصَرُفَ في أرْضِه بعدَ فَصْلِ الزَّرْعِ بما يُفْسِدُ الأصُولَ ويَقْلَعُها، كان له ذلك، ولم يَمْلِكِ المُشْتَرِي مَنْعَهُ. 1714 - مسألة: (فإنْ باعَها بشَرْطِ القَطْعِ، ثم تَرَكَهُ المُشْتَرِي ¬

(¬1) في م: «صاحب».

الْجَزَّة، أوْ حَدَثَتْ ثَمَرَة أخْرَى فَلَمْ تَتَمَيَّزْ، أو اشْتَرَى عَرِيَّةً لِيَأكلَهَا رطَبًا، فَأتْمَرَتْ، بَطَلَ الْبَيعُ. وَعَنْهُ، لَا يَبْطل، وَيَشتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ. وَعَنْهُ، يَتَصَدَّقَانِ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى بَدَا الصَّلاحُ [في الثَّمَرَةِ، أو] (¬1)، طالتِ الجَزَّةُ، أو حَدَثَتْ ثَمَرَة أخْرَى فلم تَتَميزْ، أو اشْتَرَى عَرِيةً ليَأكُلَها رُطَبًا، فأتْمَرَتْ، بَطَلَ البَيعُ. وعنه، لا يَبْطُلُ، ويَشْتَرِكَانِ في الزِّيَادَةِ. وعنه، يَتَصَدَّقَانِ بها) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في مَن اشترَى ثَمَرَةً قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها بشرْطِ القَطْعِ ثم تَرَكَها حتى بَدَا صَلَاحُها، فنَقَلَ عنه حَنْبَلٌ، وأبو طالب، أنَّ البَيعَ يَبْطُلُ. اخْتَارَها الخِرَقِي. قال القاضِي: هي أصَحُّ. فعلى هذا يَرُدُّ المُشْتَرِي الثَّمَرَةَ إلى البائِعِ، ويَأخُذُ الثمَنَ. ونَقَلَ أحمدُ بنُ سَعِيدٍ، أنَّ البَيعَ لا يَبْطُلُ. وهو قَوْلُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّ أكثَرَ ما فِيه أنَّ المَبِيعَ اخْتَلَطَ بغَيرِه، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى حِنْطَةً، فانْثَالتْ عليها أخْرَى، أو ثَوْبًا فاخْتَلَطَ بغَيرِه. ونَقَلَ عنه أبو داودَ في من اشْتَرَى قَصِيلًا فمَرِضَ، أو تَوَانَى حتى صار شَعِيرًا، فإنْ أرادَ به حِيلَةً فَسَدَ البَيعُ وانْتَقَضَ. وجَعَلَ بعضُ أصْحابِنا هذا رِوَايَةً ¬

(¬1) في م: «واشتد الحب و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثالِثَةً، في مَن قَصَدَ التبقِيَةَ. وإلَّا لم يَفْسُدْ. قال شَيخُنا (¬1): والظّاهِرُ أنّ هذه تَرْجِعُ إلى ما نَقَلَه أحمدُ بنُ سَعِيدٍ، فإنَّه يَتَعَيَّنُ حَمْلُ ما نَقَلَه أحمدُ بنُ سَعِيدٍ في صِحَّةِ البَيعِ على مَنْ لم يُرِدْ حِيلَةً، فإنْ أرادَ الحِيلَةَ، لم يَصِحَّ بحالٍ، إذ قد ثَبَتَ من مَذْهَبِ أحمدَ أنَّ الحِيَلَ كُلَّها باطِلَة. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأولَى أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الثمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها (¬2). فاسْتُثْنِيَ منه ما اشْتَراهُ بشَرْطِ القَطْع وقَطَعَه، بالإِجْماعِ، فيَبْقَى فيما عَدَاهُ على أصْلِ التَّحْرِيمِ، ولأنَّ التبقِيَةَ مَعْنى حَرَّمَ الشَّرْعُ اشْتِراطَه لِحَقِّ الله تِعالى، فأبْطَلَ العَقْدَ وجُودُه، كالنَّسِيئَةِ فيما يَحْرُمُ فيه النَّسَاءُ، وتَرْكِ التَّقَابُض فيما يُشْتَرَط (¬3) القَبْضُ فيه، ولأنَّ صِحَّة البَيعِ تَجْعَلُ ذلك ذَرِيعَةً إلى شِراءِ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُو صَلاحِها وتَرْكِها حتى يَبْدُوَ صَلَاحُها، ووَسائِلُ الحرامِ حَرَام، كبَيعِ العِينَةِ. ومتى حَكَمْنَا بفَسَادِ البَيعِ، فالثمَرَةُ كُلُّها للبائِعِ. وعنه، أنَّهما يَتَصَدَّقانِ بالزِّيَادَةِ. قال القَاضِي: هذا مُسْتَحَبٌّ؛ لوُقُوعِ الخِلافِ في مُسْتَحِقِّ الثَّمَرَةِ، فاسْتُحِبَّ الصَّدَقةُ بها، وإلَّا فالحَقُّ أنها للبائِع ¬

(¬1) في: المغني 6/ 153. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 366. (¬3) في م: «يشترك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبَعًا للأصْلِ، كسائِرِ نَماءِ المَبِيعِ المُتَّصلِ إذا رُدَّ على البائِعِ بفَسْخٍ أو بُطْلانٍ. ونَقَلَ ابنُ أبي مُوسَى في «الإِرْشادِ» أنَّ البائِعَ والمُشْتَرِيَ يَشْتَرِكَانِ في الزِّيَادَةِ. وإنْ قُلْنا: لا يَبْطُلُ العَقْدُ. فقد رُوِيَ أنَّهُما يَشتَرِكَانِ في الزِّيادَةِ؛ لحُصُولِها في مِلْكِهما، فإنَّ الثمَرَةَ مِلْكُ المُشْتَرِي، والأصْلَ مِلْكُ البائِعِ، وهو سَبَبُ الزِّيَادَةِ. وقال القاضِي: الزِّيادَةُ (¬1) للمُشْتَرِي، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «حصلت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعَبْدِ إذا سَمِنَ. وحَمَلَ قَوْلَ أحمدَ: يَشْتَرِكانِ. على الاسْتِحْبابِ. والأوَّلُ أظهَرُ؛ لِما ذَكَرْنَا، فإنَّ الزيادَةَ حَصَلَتْ من أصلِ البائِعِ من غيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِحْقاقِ تَرْكِها، فكان له فيها حَقّ، بخِلافِ سِمَنِ العَبْدِ، فإنَّه لا يَتَحَقَّقُ فيه هذا المَعْنَى، ولا يُشْبِهُه. ولا يَصِحُّ حَمْلُ قولِ أحمدَ على الاسْتِحْبابِ؛ فإنَّه لا يُسْتَحَبُّ للبائِعِ أنْ يَأخُذَ من المُشْتَرِي ما لَا يَسْتَحِقُّه، بل ذلك حَرَام عليه، فكَيفَ يُستَحَبُّ! وعن أحمدَ، أنَّهما يَتَصَدَّقَانِ بالزيادَةِ. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، ومحمّدِ بنِ الحَسَنِ؛ لأنَّ عَينَ المَبِيعِ زادَ بجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ. قال الثَّوْرِيُّ: إذا اشْتَرَى قَصِيلًا، يأخُذُ رَأسَ مالِه، ويَتَصَدَّقُ بالباقِي. ولأنَّ الأمْرَ اشْتَبَهَ في هذه الزّيادَةِ، فكان الأوْلَى الصَّدَقَةَ بها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شَيخُنا (¬1): ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هذا اسْتِحْبابًا؛ لأنَّ الصَّدقَةَ بالشُّبُهاتِ مُسْتَحَبَّة. فإنْ أبيَا الصَّدَقَةَ بها، اشْتَرَكَا فيها. والزِّيَادَةُ هي ما بَينَ قِيمَتِها يومَ الشِّراءِ وقِيمَتِها يومَ أخْذِها. قال القاضِي: ويحَتمِلُ أنّه ما بَينَ قِيمَتِها قُبَيلَ بُدُوِّ صَلاحِها وقيمَتِها بعده؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها كانت للمُشْتَرى بنَمائِها، لا حَقَّ للبائِعِ فيها. وكذلك الحُكْمُ في الرَّطْبَةِ إذا طالت، والزَّرْعِ الأخضَرِ إذا أدْجَنَ؛ لأنه في مَعْنَى الثّمَرَةِ، وهذا إذا لم يَقْصِدْ وَقْتَ الشراءِ تَأخِيرَه، ولم يَجْعَلْ شِراءَه بِشَرْطِ القَطعِ حِيلَةً على ¬

(¬1) في: المغني 6/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنْهِيِّ عنه، من شِراءِ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها ليَتْرُكَها حتى يَبْدُوَ صَلاحُها. فإنْ قَصَدَ ذلك، فالبَيعُ باطِلٌ من أصْلِه؛ لأنَّه حِيلَة مُحَرَّمَةٌ. وعند أبي حَنِيفَة، والشَّافِعِيِّ، لا حُكْمَ للقَصْدِ، والبَيعُ صَحِيحٌ. وقد ذَكرنا ذلك في تَحْرِيمِ الحِيَلِ (¬1). فصل: فإنْ حَدَثَتْ ثَمَرَة أخْرَى، أو باعَ شَجَرًا فيه ثَمَرَة للبائِع فحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أخْرَى، فإنْ تَمَيَّزَتْ، فلِكُلِّ واحِدٍ ثَمَرَتُه، وإنِ اخْتَلَطَا ولم تَتَمَيَّزْ واحِدَة منهما، فهما شَرِيكَانِ فيهما، كُلُّ واحِدٍ بقَدْرِ ثَمَرَتِه. فإنْ لم يُعْلَمْ قَدْرُها (¬2) اصْطَلَحَا عَلَيهما، ولا يَبْطُلُ العَقْدُ في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّ المَبِيعَ لم يَتَعَذَّرْ تَسْلِيمُه، وإنّما اخْتَلَطَ بغَيرِه، فهو؛ لو اشْتَرَى طَعامًا في مكانٍ، فانْثَال عليه طَعامٌ للبائِعِ، أو انْثال هو على طَعام للبائِعِ، ولم يُعْرَفْ قَدْرُ كُلِّ واحِدٍ منهما. ويُفارِقُ هذا ما لو اشْتَرَى ثَمَرَةً قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها فتَرَكَها حتى بَدَا صَلاحُها، فإنَّ العَقْدَ يَبْطُلُ في أظْهَرِ الروَايَتَينِ؛ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 131. (¬2) في م: «قدرهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكَوْنِ اخْتِلاطِ المبِيعِ بغَيرِه حَصَلَ بارْتِكابِ نَهْي، وكَوْنِه يَتَّخِذُ حِيلَةً على شِراءِ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، وههنا ما ارتْكَبَ نهيًا، ولا يَجْعَلُ هذا طَرِيقًا إلى فِعلِ المُحَرَّمِ. وفيه رِوَايَةٌ أخْرَى، أنّه يَبْطُلُ. ذَكَرَها أبو الخَطَّابِ كالمسألَةِ التي قَبْلَها. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، وقد ذَكَرْنا الفَرْقَ بينهما. وقال القاضِي: إنْ كانتِ الثَّمَرَةُ للبائِعِ، فحَدثَتْ ثَمَرَةٌ أخْرَى، قيلَ لكُل واحِدٍ: اسْمَحْ بنَصِيبِكَ لصاحِبِكَ. فإنْ فَعَلَ أحَدُهما، أقرَرْنَا العَقْدَ، وأجْبَرْنَا الآخَرَ على القَبُولِ؛ لأنَّه يَزُولُ به النِّزاع. فإنِ امْتَنَعَا، فَسَخْنا العَقْدَ؛ لتَعَذُّرِ وصُولِ كُل واحِدٍ منهما إلى قَدْرِ حَقه. وإنِ اشْتَرَى ثمَرَةً، فحَدَثَتْ ثَمَرَة أخْرَى، لم نَقُلْ لِلمُشْتَرِي: اسْمَحْ بنَصِيبِكَ. لأنَّ الثَّمَرَةَ كُلُّ المَبِيعِ، فلا يُؤمَرُ بتَخْلِيَته كُلِّه، ونَقُول للبائِعِ ذلك، فإنْ سَمَحَ بنَصِيبِه للمُشْتَرِي، أجْبَرْنَاهُ على القَبُولِ، وإلَّا فُسِخَ البَيعُ بينهما. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. قال ابنُ عَقِيل: لعلَّ هذا قَوْلٌ لبَعْضِ أصْحَابِنا، فإنَّنِي لم أجِدْه مَعْزِيًّا إلى أحمدَ. والظّاهِرُ أنّ هذا اخْتِيارُ القاضِي، وليس بمَذْهَبٍ لأحمدَ. ولو اشْتَرَى حِنْطَةً، فانْثالتْ عليها أخْرَى، لم يَنْفَسِخِ البَيعُ، والحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في الثَّمَرَةِ تَحْدُثُ معها أخْرَى، على ما ذَكَرناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اشْتَرَى عَرِيَّةً فتَرَكَها حتى أتمَرَتْ، بَطَلَ البَيعُ. وهذا قَوْلُ الخِرَقِيِّ. وعن أحمدَ أنّه لا يَبْطُلُ. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ جازَ بَيعُها رُطَبًا، لا يَبْطُلُ العَقْدُ إذا صارَت تَمْرًا، كغَيرِ العَرِيَّةِ، وكما لو قَطَعَهَا وتَرَكَها عنده حتى أتْمَرَتْ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَأكُلُها أهْلُهَا (¬1) رُطَبًا» (¬2). ولأنَّ شِراءَها إنّما جازَ للحاجَةِ إلى أكلِ الرُّطَبِ، فإذا أتْمَرَتْ تَبَينا عَدَمَ الحاجَةِ، فيَبْطُلُ العَقْدُ. ولا فَرْقَ بينَ تَرْكِه لغِنَاهُ عنها أو مع حاجَتِه إليها، أو تَرْكِها لعُذْرٍ أو لغَيرِ عُذْرٍ؛ للخَبَرِ. ولو أخَذَها رُطَبًا، فتَرَكَها عندَه فأتْمَرَت، أو شَمَّسَها حتى صارَتْ تَمْرًا، جازَ؛ لأنَّه قد أخَذَها. فإنْ أخَذَ بَعْضَها رُطَبًا، وتَرَكَ باقِيَها حتى أتمَرَ، فهل يَبْطُل البَيعُ فيما أتْمَرَ؟ على وَجْهَينِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 70.

1715 - مسألة: (وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر، جاز بيعه مطلقا، وبشرط التبقية، وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ)

وَإذَا اشْتَدَّ الحَبُّ وَبَدَا الصَّلَاحُ فِي الثَّمَرَةِ، جَازَ بَيعُهُ مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ التبقِيَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي تَبْقِيَتُهُ إِلَى الْحَصَادِ والْجِدَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1715 - مسألة: (وإذَا اشْتَدَّ الحَبُّ وبَدَا الصَّلَاح في الثَّمَرِ، جازَ بَيعُه مُطْلَقًا، وبِشَرْطِ التبقِيَةِ، وللمُشْتَرِي تَبْقِيَتُه إلى الحَصادِ والجِذَاذِ) إذا بَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ، جازَ بَيعُها مُطْلَقًا، وبِشَرْطِ القَطْعِ، وبشَرْطِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التبقِيَةِ. وهو قَوْلُ مالك، والشّافِعِيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ، وأصْحابُه: لا يَجُوزُ بشَرْطِ التبقِيَةِ. إلَّا أنّ محمّدًا قال: إذا تَنَاهَى عِظَمُها، جازَ. واحْتَجُّوا بأنَّ هذا شَرَطَ الانْتِفَاعَ بمِلْكِ البائِعِ على وَجْهٍ لا يَقْتَضِيه العَقْدُ، فلم يَجُزْ، كما لو اشْتَرَطَ تَبْقِيَةَ الطّعَامِ في كُنْدُوجِه (¬1). ولَنا، أنَّ نَهْىَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الثَّمَرَةِ حتى يَبْدُوَ صَلاحُها (¬2). يَدُلُّ بمَفْهُومِه على إباحة بَيعِها بعدَ بُدُوِّ صَلاحِهَا. والمَنْهِيُّ عنه قبلَ بُدُوِّ الصَّلاحِ عندَهم بَيعُها بشَرْطِ التبقِيَةِ، فيَجِبُ أنْ يكونَ ذلك جائِزًا بعدَ بُدُو الصَّلَاح، وإلَّا لم يكُنْ بُدُوُّ الصَّلَاحِ غايَةً، ولا يكُونُ في ذِكْرِه فائِدَة. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الثَّمَرَةِ حتى يَبْدُوَ صَلاحُها، وتَأمَنَ العاهَةَ (¬3). وتَعْلِيلُه بأمْنِ العَاهَةِ يَدُلُّ على التبقِيَةِ؛ لأنَّ ما يُقْطَعُ في الحالِ لا تُخافُ العاهَةُ عليه، وإذا بَدَا الصَّلاحُ فقد أمِنَتِ العَاهَةُ، فيَجُوزُ (¬4) أنْ يَجُوزَ بَيعُه مُبَقَّى لزَوَالِ عِلَّةِ المَنْعِ، ولأنَّ النَّقْلَ والتَّحْويلَ يَجِبُ في المَبيعِ (¬5) بحُكْمِ العُرْفِ، فإذا شَرَطَه، جازَ، كما لو اشترَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ من مِلْكِ البائِعِ حَسَبَ ¬

(¬1) الكُنْدُوج: شِبْه المخزن. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 366. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 105، 106. (¬4) في م: «فيجب». (¬5) في م: «الممتنع».

1716 - مسألة: (ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك)

وَيَلْزَمُ الْبَائِعَ سَقْيُهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَإنْ تَضَرَّرَ الأصْلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العادَةِ. وفي هذا انْفِصالٌ عمَّا ذَكَرُوه. وكذلك إذا اشْتَدَّ الحَبُّ يَجُوزُ بَيعُه كذلك؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحَدِيثِ: «حتى يَبْيَضَّ» (¬1). فجَعَلَ ذلك غايَةً للمَنْعِ من بَيعِه، فيَدُلُّ على الجَوازِ بعدَه. وفي رِوايَةٍ: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ (¬2). ولأنَّه إذا اشْتَدَّ حَبُّهُ بَدَا صَلاحُه، فصارَ كالثَّمَرَةِ إذا بَدَا صَلاحُها، وإذا اشْتَدَّ بَعْضُ حَبِّه، جازَ بَيعُ جَمِيعِ ما في البُسْتَانِ من نَوْعِه، كالشَّجَرَةِ [إذا بَدَا صَلَاحُ بعضِهَا. وللمُشْتَرِي تَبْقِيَتُه إلى الحَصَادِ والجِذاذِ؛ لِما ذكرنا] (¬3). 1716 - مسألة: (ويَلْزَمُ البائِعَ سَقْيُه إنِ احْتَاجَ إلى ذلك) لأنَّه يَجِبُ عليه تَسْلِيمُ الثَّمَرَةِ كامِلَةً، وذلك يكونُ بالسَّقْي. فإنْ قيلَ: فلِمَ قُلْتُم: إنَّه إذا باعَ الأصلَ وفيه ثمَرَةٌ للبائِعِ، لا يَلْزَمُ المُشْتَرِيَ سَقْيُها؟ قُلْنا: لأنَّ المُشْترِيَ ليس عليه تَسْلِيمُ الثمَرَةِ؛ لأنَّ البائِعَ لم يَمْلِكْها من جِهَتِه، وإنَّما بَقِيَ مِلْكُه عليها، بخِلافِ مسألتِنا. فإنِ امْتَنَعَ البائِعُ من السقْي، لضَرَرٍ يَلْحَقُ بالأصْلِ، أجْبِرَ عليه؛ لأنَّه دَخَلَ على ذلك. فصل: ويَجُوزُ لمُشْتَرِي الثَّمَرَةِ بَيعُها في شَجَرِها. رُوِيَ ذلك عن الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وابن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 62. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 367. (¬3) سقط من: م.

1717 - مسألة: (وإن تلفت بجائحة من السماء، رجع على البائع. وعنه، إن أتلفت الثلث فصاعدا، ضمنه البائع، وإلا فلا)

وَإنْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ. وَعَنْهُ، إِنْ أتْلَفَتِ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا، ضَمِنَهُ الْبَائِعُ، وَإلَّا فَلَا، وَإنْ أتلَفَهُ آدَمِيٌّ، خُيِّرَ الْمُشتَرِي بَينَ الْفَسْخِ وَالإمْضَاءِ وَمُطَالبَةِ الْمُتْلِفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ. وكَرِهَهُ ابنُ عَبّاس، وعِكْرِمَةُ، وأبو سَلَمَةَ؛ لأنَّه بَيعٌ (¬1) له قبلَ قَبْضِه، فلم يَجُزْ، كما لو كان على وَجْهِ الأرْضِ ولم يَقْبِضْه. ولَنا، أنّه يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه، فجازَ بَيعُه، كما لو قَطَعَه. وقَوْلُهم: لم يَقْبِضْه. مَمْنُوع، فإنَّ قَبْضَ كُلِّ شيءٍ بحَنبِه، وهذا قَبْضُه التَّخْلِيَةُ، وقد وُجِدَتْ. 1717 - مسألة: (وإنْ تَلِفَتْ بجَائِحَةٍ من السَّماءِ، رَجَعَ على البائِعِ. وعنه، إنْ أتْلَفَتِ الثُّلُثَ فصاعِدًا، ضَمِنَه البائِعُ، وإلَّا فَلَا) كُل ما تُهْلِكُه الجائِحَةُ من الثَّمَرِ على أصُولِه قبلَ أوانِ الجِذَاذِ من ضمانِ البائِعِ. وبهذا قال أكثرُ أهْلِ المَدِينَةِ؛ منهم يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، ومالِكٌ، وأبو عُبَيدٍ، وجَماعَة من أهْلِ الحَدِيث. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ القَدِيمُ. وقال أبو حَنِيفَةَ، ¬

(¬1) في م: «تبع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشّافِعِيُّ في الجَدِيدِ: هو من ضَمانِ المُشْتَرِي؛ لما رُوِيَ أنَّ امْرأةً أتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنّ ابْنِي اشْتَرَى ثمرَةً من فلانٍ، فأذْهَبَتْها الجائِحَةُ، فسَأله أنْ يَضَعَ عنه، فتَألَّى أنْ لا يَفْعَلَ. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَألَّى فلانٌ أنْ لا يَفْعَلَ خَيرًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولو كانَ واجِبًا لأجبَرَه عليه. ولأنَّ التَّخْلِيَةَ يَتَعَلَّقُ بها جَوازُ التَّصَرُّفِ، فتَعَلَّقَ بها الضّمانُ، كالنَّقْلِ والتَّحْويلِ، ولأنّه لا يَضْمَنُه إذا أتْلَفَه آدَمِيٌّ، كذلك لا يَضْمَنُه بإتْلافِ غيرِه. ولَنا، ما رَوَى جابر، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، أمَرَ بوَضْعِ الجَوائِحِ. وعنه قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ بِعْتَ من أخيكَ ثَمَرًا فأصَابَتْه جائِحَة، فلا يَحِلُّ لَكَ أنْ تَأخُذَ منه شَيئًا، بمَ تَأخُذُ مال أخِيكَ بغَيرِ حَقٍّ؟». رَواهُما مُسْلِمٌ (¬2). ورَواهُ أبو دَاوُدَ (¬3)، ولَفْظُه: «مَنْ باعَ ثَمَرًا، فأصَابَتْهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب هل يشير الإمام بالصلح، من كتاب الصلح. صحيح البخاري 3/ 244. ومسلم، في: باب استحباب الوضع من الدين، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1192. أخرجاه بغير لفظه عن أبي الرجال، عن أمه، عمرة عن عائشة. كما أخرجه أيضًا من هذا الطريق الإمام مالك، في: باب الجائحة في بيع الثمار والزرع، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 621. (¬2) الأول، في: باب وضع الجوائح، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1191. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع السنين، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 228. والنسائي، في: باب وضع الجوائح، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 233. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 309. والثاني، في: باب وضع الجوائح، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1190. كما أخرجه أبو داود، في: باب في وضع الجائحة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 248. والنسائي، في: باب وضع الجوائح، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 232، 233. وابن ماجه، في: باب بيع الثمار سنين والجائحة، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 747. (¬3) في: باب في وضع الجائحة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 248.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جائِحَةٌ، فلا يَأخُذْ منَ مالِ أخِيهِ شيئًا، عَلَامَ يَأخُذُ أحَدُكُم مال أخِيهِ المُسْلِمِ؟». وهذا صَرِيحٌ في الحُكْمِ، فلا يُعْدَلُ عنه. قال الشّافِعِيُّ: لم يَثْبُت عِنْدِي أنّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بوَضْعِ الجَوائحِ، ولو ثَبَتَ لم أعْدُه، ولو كُنْتُ قائِلًا بوَضْعِها لوَضَعْتُها في القَلِيلِ والكَثِيرِ. قُلْنَا: الحَدِيثُ ثابِتٌ. رَواهُ الإِمامُ أحمدُ، ومُسْلِم، وأبو دَاوُدَ، وابنُ ماجَه، وغيرُهم. فأما حَدِيثُهم فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ فإنَّ فِعْلَ الواجِبِ خَيرٌ، فإذا تَألَّى أنْ لا يَفْعَلَ الواجِبَ، فقد تَألَّى أنْ لا يَفْعَلَ خَيرًا. وإنّما لم يُجْبِرْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه بمُجَرَّدِ قَوْلِ أمِّ المُدَّعِى، من غيرِ إِقْرارِ البائِعَ ولا حُضُورِه. وأمّا التَّخْلِيَةُ، فلَيسَتْ قَبْضًا تامًّا، بدَلِيلِ ما لو تَلِفَتْ بعَطَش عندَ بَعْضِهم. ولا يَلْزَمُ من إباحَةِ التَّصَرُّفِ تمامُ القَبْضِ، بدَلِيلِ المنافِع في الإِجارَةِ يُباحُ التَّصَرُّفُ فيها، ولو تَلِفَتْ كانت من ضَمانِ المُوجِرِ، كذلك الثَّمَرَةُ في شَجَرِها، كالمَنافِعِ قبلَ اسْتِيفَائِها، تُؤخَذُ حَالًا فحالًا. وقِياسُهُم يَبطُلُ بالتَّخْلِيَةِ في الإجارَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والجائِحَةُ كُلُّ آفَةٍ لا صُنْعَ لآدَمِيٍّ فيها؛ كالرِّيحِ، والحَرِّ، والبَرْدِ، والعَطَشِ؛ لما رَوَى السّاجِيّ (¬1) بإسْنادِه، عن جابِرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في الجائِحَةِ، والجائِحَةُ تكونُ في البَرْدِ، والجرَادِ (¬2)، والحَرِّ، وفي الحَبَقِ (¬3)، وفي السَّيلِ، وفي الرِّيحِ. وهذا تَفْسِيرٌ من الرّاوي لكَلَامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيَجِبُ الرّجُوعُ إليه. فأمّا ما كان بفِعْلِ آدَمِي، فقال القاضِي: يُخَيَّرُ المُشْتَرِي بينَ فَسْخِ العَقْدِ ومُطَالبَةِ البائِعِ بالثَّمَنِ، وبينَ البَقاءِ عليه ومُطَالبَةِ الجانِي بالقِيمَةِ، كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ إذا أتْلَفَه آدَمِي قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه أمْكَنَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِه، بخِلافِ التالِفِ بِالجائِحَةِ. إلَّا أنَّ في إحْراقِ اللُّصُوصِ ونَهْبِ العَسَاكِرِ والحَرامِيَّةِ وَجْهَينِ. فإن قيلَ: فقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ (¬4). والثَّمَرَةُ غيرُ مَضْمُونَةٍ على المُشْتَرِي، فإذا كانتِ القِيمَةُ أكثَرَ من الثَّمَنِ فقد رَبِحَ فيه. قُلنا: المُرادُ بالخَبَرِ النَّهْي عن الرِّبْحِ بالبَيعِ، بدَلِيلِ أنَّ المَكِيلَ لو زَادَتْ قِيمَتُه قبلَ قَبْضِه، ثم قَبَضَه، جازَ ذلك بالإجْماعِ. ¬

(¬1) زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي، البصري، الشافعي، أبو يحيى الإمام الثبت الحافظ، محدث البصرة، وشيخها، له مصنف جليل في علل الحديث. توفي سنة سبع وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 197 - 200. (¬2) سقط من: م. (¬3) كذا في النسخ. وفي حاشية ر، ق: «لعله الحرق». (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وظاهِرُ المَذْهَبِ أنّه لا فَرْقَ بينَ قَلِيلِ الجائِحَةِ وكَثِيرِها، إلَّا أنّ ما جَرَتِ العادَةُ بتَلَفِ مِثْلِه، كاليَسِيرِ الذي لا يَنْضَبِطُ، لا يُلْتَفَتُ إليه. قال أحمدُ: إنِّي لا أقولُ في عَشرِ ثَمَرَاتٍ، ولا عِشرِينَ، ولا أدرِى ما الثُّلُثُ، ولكنْ إذا كانت جائِحَة تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ، أو الرُّبْعَ، أو الخُصْرَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُوضَعُ. وعن أحمدَ، أنّ ما دُونَ الثُّلُثِ من ضمانِ المشتَرِي. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ في القَدِيمِ؛ لأنّه لا بُدَّ أنْ يَأكلَ الطائِرُ منها، وتَنْثُرَ الرِّيحُ، ويَسْقُطَ منها، فلم يكُنْ بُدٌّ من ضابِطٍ وحَدٍّ (¬1)، وَالثلُثُ قد اعْتَبَرَه ¬

(¬1) في ر 1: «واحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّارِعُ في الوَصِيَّةِ وعَطِيَّةِ المَرِيضِ. قال الأثْرَمُ: قال أحمدُ: إنَّهُم يَسْتَعْمِلُونَ الثُّلُثَ في سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْألةٍ. ولأن الثُّلُثَ في حَدِّ الكَثْرَةِ، وما دُونَه في حَدِّ القِلَّةِ، بدَلِيلِ قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الوَصِيَّةِ: «الثُّلُثُ، والثُّلث كَثِير» (¬1). فلهذا قُدِّرَ به. ولنا، عُمومُ الأحادِيثِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بوَضْعِ الجوائِحِ. وما دُونَ الثُّلُثِ داخِل فيها، فيَجِبُ وَضْعُه. ولأنَّ هذه الثَّمَرَةَ لم يتمَّ قَبْضُها، فكانَ ما تَلِفَ منها من ضَمانِ البائِعِ وإنْ نَقَصَ عن الثُّلُثِ، كالتي على الأرْضِ، وما أكَلَه الطَّيرُ أو سَقَطَ، لا يُؤثِّرُ في العادَةِ، ولا يُسَمَّى جائِحَة، فلا يَدْخُلُ في الخَبَرِ، ولأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، فهو مَعْلُومُ الوُجُودِ بحُكْمِ العادَةِ، فكَأنه مَشْرُوط. إذا ثَبَتَ ذلك، فمَتَى تَلِف شيء له قَدْر خارِج عن العادَةِ، وَضَعَ من الثَّمَنِ بقَدْرِ الذّاهِب. وإنْ تَلِفَ الجَمِيعُ، بَطَلَ العَقْدُ، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي بجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَأمّا على الروَايَةِ الثانِيَةِ، فإنَّه يَعْتَبِرُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ. وقيل: ثُلُثَ القِيمَةِ. فإنْ تَلِفَ الثُّلُثُ فما زادَ، رَجعَ بقِسْطِه من الثَّمَنِ، وإنْ كان دُونَه، لم يَرْجِعْ بشَيءٍ. وإنِ اخْتَلَفَا في الجائِحَةِ، أو قَدْرِ التّالِفِ، فالقَوْلُ قولُ البائِعَ؛ لأنَّ الأصْلَ السَّلَامَةُ، ولأنه غارِم، والقَوْلُ في الأصُولِ قَوْلُ الغارِمِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ أوانَ الجِذاذِ، فلم يَجُذَّها حتى أصَابَتْها جائِحَة، فقال القاضِي: عندي، لا تُوضَعُ عنه (¬1)؛ لأَنه مُفرِّط بتَرْكِ النَّقْلِ في وَقْتِه مع قُدْرَتِه، فكان الضَّمانُ عليه. ولو اشْتَرَى ثَمَرَةً قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها بشَرْطِ القَطْعِ، فأمْكَنَه قَطْعُها، فلم يَقْطَعْها حتى تَلِفَت، فهي من ضَمانِه؛ لذلك. وإنْ تَلِفَتْ قبلَ إمْكانِ قَطْعِها، فهي من مالِ البائِعِ، كالمسألةِ قَبْلَها. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اسْتَأجَرَ أرْضًا، فزَرَعَها، فتَلِفَ الزَّرْعُ، فلا شيءَ على المُؤجِرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه مَنافِعُ الأرْضِ، ولم يَتْلَفْ، إنَّما تَلِفَ مالُ المُسْتَأجِرِ فيها، فصارَ كدارٍ اسْتَأجَرَها لِيَقْصُرَ فيها ثِيابًا، فتَلِفَتِ الثيابُ فيها.

1718 - مسألة: (وصلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها)

وَصَلَاحُ بَعْضِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ صَلَاحٌ لِجَمِيعِهَا. وَهَلْ يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ النَّوْعِ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1718 - مسألة: (وصَلاحُ بَعْض ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ صَلاح لجَمِيعِها) لا يَخْتَلِفُ المذهبُ (¬1) فيه، فيُبَاحُ بَيعُ جَمِيعِها بذلك. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. (وهل يكونُ صَلاحًا لسائِرِ النَّوْعَ الذي في البُسْتَانِ؟ على رِوَايَتَينِ) أظْهَرُهما، أنّه يكونُ صَلاحًا، فيَجُوزُ بَيعُه. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، قِياسًا على الشَّجَرَةِ الواحِدَةِ، ولأنَّ اعْتبارَ الصّلاحِ [في الجميعِ] (¬2) يَشُقُّ، ويُؤدّي إلى الاشْتِرَاكِ واخْتِلافِ الأيدِي، فوَجَبَ أنْ يَتْبَعَ ما لم يَبْدُ صَلاحُه من نَوْعِه لِما بَدَا، كالشَّجَرةِ الواحِدَةِ. والثانِيَةُ، لا يكونُ صَلَاحًا، ولا يَجُوزُ بَيعُ إلَّا ما بَدا صَلاحُه؛ لأنه لم يَبْدُ صَلاحُه، فلم يَجُزْ بَيعُه؛ لعُمُوم النهْيِ، ولأنه لم يَبْدُ صَلاحُه، فلم يَجُزْ بَيعُه، كالذي في البُسْتَانِ الآخرِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا النَّوْعُ الآخَرُ من ذلك الجِنسِ، فقال القاضِي: لا يَجُوزُ بَيعُه. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأصْحَابِ الشّافِعِيِّ. وقال محمّدُ بنُ الحَسَنِ: ما كان مُتَقَارِبَ الإِدْرَاكِ، فبُدُوُّ صَلاحِ بَعْضِ يَجُوزُ به بَيعُ جَمِيعِه، وما يَتَأخَّرُ تَأخُّرًا كَثِيرًا فلا نُجَوِّزُه في الباقِي. وقال أبو الخَطّابِ: يَجُوزُ بَيعُ ما في البُسْتَانِ من ذلك الجِنْسِ. وهو الوَجْهُ الثانِي لأصْحابِ الشّافِعِيِّ؛ لأن الجِنْسَ الواحِدَ يُضَمُّ بَعْضُه إلى بَعْض في إكْمالِ النِّصَابِ، فيَتْبَعه في جَوازِ البَيعِ، كالنَّوْعِ الواحِدِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ النَّوْعَينِ قد يَتَبَاعَدُ إدْرَاكُهما، فلم يَتْبَعْ أحَدُهما الآخرَ في بُدُو الصَّلاحِ، كالجِنْسَينِ. ويُخالِفُ الزَّكَاةَ؛ فإنَّ القَصْدَ هو الغِنَى من جِنْسِ ذلك المالِ، لتَقَارُبِ مَنْفَعَتِه، وقِيامِ كُلِّ نَوْعٍ مَقامَ النَّوْعِ (¬1) الآخَر في المقْصُودِ. والمَعْنَى ههُنا هو تَقارُبُ إدْرَاكِ أحَدِهما من الآخَر، ودَفْعُ الضَّرَرِ الحاصِلِ بالاشتِراكِ واخْتِلافِ الأيدِي، ولا يَحْصُلُ ذلك في النَّوْعَينِ، فصارَ في هذا كالجِنْسَينِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا النَّوْعُ الواحِدُ من بُسْتانَيْن (¬1)، فلا يَتْبَعُ أحَدُهما الآخَرَ في جَوازِ بَيعِ أحدِهِما بِبُدُوِّ صَلاحِ الآخرِ، سواءٌ كانا مُتَجاورَينِ أو مُتَباعِدَينِ. وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وحُكِيَ عن أحمدَ، أنَّ بُدُوَّ الصَّلاحِ في شَجَرَةٍ من القَراح (¬2) صَلَاح له ولِما قارَبَه. وبهذا قال مالِك، لأنَّهُما يَتَقَارَبَانِ في الصَّلَاحِ، فأشْبَها (¬3) القَراحَ الواحِدَ، ولأنَّ المَقْصُودَ الأَمْنُ ¬

(¬1) في م: «بساتين». (¬2) القراح: الأرض التي ليس فيها شجر، ولم تختلط بشيء. اللسان (ق رح). (¬3) في م: «فأشبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من العاهةِ، وقد وُجِدَ. والأوَّلُ المَذْهَبُ؛ لأنَّه إنَّما جَعَلَ ما لم يَبْدُ صَلاحُه بمَنْزِلَةِ ما بَدَا، دَفْعًا لضرَرِ الاشْتِراكِ واخْتِلافِ الأيدِي، وإلَّا فالأصْلُ اعْتِبارُ كُلِّ شيءٍ بنَفْسِه (¬1)، والذي في القَراحِ الآخَر لا يُوجَدُ فيه هذا الضَّرَرُ، فوَجَبَ أنْ لا يَتْبَعَ الآخَرَ، كما لو تَبَاعَدَا. فإن بَدَا صَلاحُ النَّوْعِ الواحِدِ، فأفْرَدَ بالبَيعِ ما لم يَبْدُ صَلاحُه من بَقِيَّةِ النَّوْعِ من ذلك البُسْتانِ، لم يَجُزْ؛ لدُخُولِه تَحْتَ عُمُومِ النَّهْي، وتَعَذُّرِ قِيَاسِهِ على الصُّورَةِ المَخْصُوصَةِ من العُمُومِ، وهي إذا باعَه مع (¬2) مما بَدَا صلاحُه؛ لأنه دخلَ في البَيعِ تَبَعًا، دَفْعًا لمَضَرَّةِ الاشْتِرَاكِ، ولا يُوجَدُ ذلك ههُنا، ولأنَّه قد يَدْخُلُ في البَيعِ تَبَعًا ما لا يَجُوزُ إفْرادُه، كالثَّمَرَةِ تُباعُ مع الأصلِ، والزرْعِ مع (¬3) الأرْضِ. ويَحْتَمِلُ الجَوازَ؛ لأنَّ الكُلَّ في حُكْمِ ما بَدَا صَلَاحُه، فأشْبَهَ بَيعَه معه، وكما لو أفْرَدَ بالبَيعِ ما بَدا صَلاحُه. ¬

(¬1) في الأصل: «بحسبه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «من».

1719 - مسألة: (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموه، وفي سائر الثمر أن يبدو فيه النضج، ويطيب أكله)

وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ أنْ يَحْمَرَّ أوْ يَصْفَرَّ، وَفِي الْعِنَبِ أنْ يَتَمَوَّهَ، وَفِي سَائِرِ الثَّمَرِ أن يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ، وَيَطِيبَ أكْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1719 - مسألة: (وبُدُو الصَّلَاحِ في ثَمَرِ النَّخْلِ أنْ يَحْمَرَّ أو يَصْفَرَّ، وفي العِنَبِ أنْ يَتَمَوَّه، وفي سائِرِ الثَّمَرِ أنْ يَبْدُوَ فيه النُّضْجُ، ويَطِيبَ أكلُه) وجُمْلَةُ ذلك، أنّ ما كانَ من الثَّمَرِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُه عندَ صَلاحِه، كثَمَرَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّخْلِ، والعِنَبِ غيرِ الأبْيَضِ، والإِجَّاصِ، فبُدُوُّ صَلاحِه بذلك. وإن كان العِنَبُ أبيَضَ، فصَلَاحُه بتَمَوُّهِهِ؛ وهو أنْ يَبْدُوَ فيه الماءُ الحُلْوُ، ويَلِينَ، ويَصْفُوَ لَوْنُه، وإن كان ممّا لا يَتَلَوَّنُ، كالتُّفَّاحِ ونحوه، فبأنْ يَحْلُوَ ويَطِيبَ، وإنْ كان بِطِّيخًا أو نحوَه، فبأنْ يَبْدُوَ فيه النُّضْجُ. وإنْ كان ممّا لا يَتَغَيَّرُ لَوْنُه، ويُؤكَلُ طَيِّبًا [صِغَارًا وكِبارًا] (¬1)، كالقِثّاءِ والخِيارِ، فصلَاحُه بلُوغُه أنْ يُؤكَلَ عادَةً. وقال القاضِي، وأصْحابُ الشّافِعِي: بلُوغُه تَنَاهِي عِظَمِه. وما قُلْنَاهُ أشْبَهُ بصَلاحِه ممّا قالُوه، فإنّ بُدُوَّ صَلاحِ الشيءِ ابْتِداوه، وتَنَاهِيَ عِظَمِه آخِرُ صَلاحِه. ولأنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ في الثَّمَرِ يَسْبِقُ حال الجِذَاذِ، فلا يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ بُدُوُّ صلاحِه فيما يُقاسُ عليه بسَبْقِه قَطْعَه عادَةً. وما قُلْنا في هذا الفَصْلِ فهو قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وكثير من أهلِ العِلْمِ، أو مُقارِبٌ له. وقال عَطاء: لا يُباعُ حتى يُؤكَلَ مِن الثَّمَرِ قَلِيل أو كَثِير. ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ، وابنِ عَبّاس. ولعَلَّهُم أرَادُوا صَلاحَهُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للأكلِ، فَيَرْجِعُ مَعْناهُ إلى ما قُلْنَا؛ فإنّ ابنَ عَبّاس قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ النَّخْلِ حتى يَأكلَ منه، أو يُؤكَلَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وإنْ أرادُوا حَقِيقَةَ الأكْلِ، [كان ما ذَكَرْنا أوْلَى؛ لأنَّ ما رَوَوْه يَحْتَمِلُ صلاحَه للأكلِ] (¬2)، فيُحْمَلُ على ذلك، مُوافَقَة لأكْثَرِ الأخْبارِ، وهو ما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه نَهَى عن بَيعِ الثَّمَرِ حتى يَطِيبَ. مُتَّفَق عليه (¬3). ونَهَى أنْ يُباعَ الثَّمَرُ حتى يَزْهُوَ. قيل: وما يَزْهُو؟ قال: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب السلم إلى من ليس عنده أصل، وباب السلم في النخل، من كتاب السلم. صحيح البخاري 3/ 112، 113. ومسلم، في: باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1167. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 341. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 99. ومسلم، في: باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، وباب النهي عن المحاقلة والمزابنة. . . .، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1167، 1176. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 313، 323، 395.

1720 - مسألة: (ومن باع عبدا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع)

فَصْلٌ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِع، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «يَحْمَارُّ أو يَصْفَارُّ». رَواهُ البُخَارِيُّ (¬1). ونَهَى عن بَيعِ العِنَبِ حتى يَسْوَدَّ. رَواهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ ماجَه (¬2). والأحَادِيثُ في هذا كَثِيرَة، كُلُّها تَدُلُّ على هذا المَعْنَى. واللهُ أعلمُ. 1720 - مسألة: (ومَنْ باعَ عَبْدًا، وله مال، فمالُه للبَائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ) إذا باعَ عَبْدَه أو أمَتَهُ، وله مال مَلَّكَهُ إيّاهُ أو خَصَّه به، فهو للبائِعِ؛ لما رَوَى ابنُ عمرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنْ باعَ عَبْدًا وله مالٌ، فمالُه للبائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ». رَواهُ مسلمٌ وغيرُه (¬3). ولأنَّ العَبْدَ ومَاله للبائِعِ، فإذا باعَ العَبْدَ اخْتَصَّ البَيعُ به دُونَ غَيرِه، كما لو كان له عَبْدانِ، فباعَ أحَدَهما. وإنِ اشْتَرَطَه المُبْتَاعُ كان له؛ للخَبَرِ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ الخَطّابِ. وقَضَى به شُرَيحٌ. وبه قال مالِكٌ، والشّافِعِي، وإسحاقُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 172. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 367. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 303.

1721 - مسألة: (فإن كان قصده المال، اشترط علمه وسائر شروط البيع، وإن لم يكن قصده المال، لم يشترط علمه)

فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْمَال، اشْتُرِطَ عِلْمُهُ وَسَائِرُ شُرُوطِ الْبَيع وَإنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْمَال، لَمْ يُشْتَرَطْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1721 - مسألة: (فإنْ كان قَصْدُه المال، اشْتُرِطَ عِلْمُه وسائِرُ شُروطِ البَيعِ، وإنْ لم يَكُنْ قَصْده المال، لم يُشْتَرَطْ عِلْمه) إذا اشْتَرَى عَبْدًا واشْتَرَطَ ماله، وكان المالُ مَقْصُودًا بالشِّراءِ، صَحَّ اشْتِرَاطُه؛ للخَبَرِ، ويُشْتَرَط أنْ يوجَدَ فيه شَرائِطُ البَيعِ، من العِلْمِ به، وألا يكُونَ بَينَه وبينَ الثَّمَنِ رِبًا، كما يعْتَبَر ذلك في العَينَينِ المَبِيعَتَين؛ لأنه مَبِيع مَقْصُودٌ، فأشْبَهَ ما لو ضَمَّ إلى العَبْدِ عَينًا أخْرَى وباعَهُما. وإنْ لم يكُنْ قَصْدُهُ المال، صَحَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطُه، وإن كان مَجْهُولًا. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، والبَتِّيِّ. وسواء كان المالُ من جِنْسِ الثَّمَنِ أو من غيرِ جنْسِه، عَينًا كان أو دَينًا، وسواءٌ كان مثلَ الثَّمَنِ أو أقلَّ أو أكثَرَ. قال البَتِّيُّ: إذا باعَ عبدًا بألْفِ دِرْهَم، ومعه ألفُ دِرْهَم، فالبَيعُ جائِز إذا كان رَغْبَةُ المُبْتَاعِ في العَبْدِ، لا في الدَّرَاهِمِ؛ وذلك لأنَّه دَخَلَ في البَيعِ تَبَعًا غيرَ مَقْصُودٍ، فأشْبَهَ أسَاسَاتِ الحِيطانِ، والتَّمْويه بالذَّهَبِ في السُّقُوفِ. وقال القاضِي: هذا يَنْبَنِي على كَوْنِ العَبْدِ يَمْلِكُ أو لا يَمْلِكُ. فإن قُلْنا: لا يَمْلِكُ. فاشْتَرَطَ المُشْتَرِي مَالهُ، صارَ مَبِيعًا معه، فاشْتُرِطَ فيه ما يُشْتَرَطُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في سائِرِ المَبِيعاتِ. وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ. وإنْ قُلْنا: يَمْلِكُ. احْتَمَلَتْ فيه الجَهالةُ وغَيرُها ممّا ذَكَرْنا مِن قبلُ، أنّه بِيعَ تَبَعًا، فهو كطَيِّ الآبارِ. وهذا خِلافُ نَصِّ أحمدَ، والخِرَقيِّ، فإنَّهُما جَعَلَا الشَّرْطَ الذي يَخْتَلِفُ الحُكْمُ به قَصْدَ المُشْتَرِي دونَ غيرِه. قال شَيخُنا (¬1): وهو أصحُّ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، واحْتِمالُ الجَهالةِ فيه؛ لكَوْنِه غيرَ مَقْصُودٍ، كاللَّبَنِ في الضَّرْعِ، والحَمْلِ في البَطْنِ، وأشْباهِ ذلك، فإنّه مَبِيع، ويَحْتَمِلُ فيه الجَهالةَ وغيرَها؛ لما ذَكَرْنا. وقد قيلَ: إنّ المال ليس بمَبِيع ههُنا، وإنّما اسْتَبْقَاهُ المُشْتَرِي علي مِلْكِ العَبْدِ، لا يَزُولُ عنه إلى البائِعِ. وهو قَرِيب من الأولِ. فصل: وإذا اشْتَرَطَ مال العَبْدِ في الشِّرَاءِ، ثم رَدَّه بإقَالةٍ [أو خِيَار] (¬2) أو عَيب، رَدّ ماله. وقال دَاوُدُ: يَردُّه دونَ مالِه؛ لأنَّ مَالهُ لم يَدْخُلْ [في البَيعِ] (¬3)، فأشْبَهَ النَّماءَ الحادِثَ عندَه. ولَنا، أنّه عَينُ مالٍ أخَذَها ¬

(¬1) في: المغني 6/ 258. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي، لا تَحْصُلُ بدُونِ البَيعِ، فيَرُدُّها بالفَسْخِ، كالعَبْدِ، ولأنَّ العَبْدَ إذا كان ذا مالٍ كانت قِيمَتُه أكثرَ، فأخذُ مالِه يَنْقُصُ قِيمَتَه، فلم يَمْلِكْ رَدَّهُ حتى يَدْفَعَ ما يُزِيلُ نَقْصَه. فإن تَلِفَ مالُه، فأرادَ رَدَّه، فهو بمَنْزِلَةِ العَيبِ الحادِثِ، هل يَمْنَعُ الرَّدَّ؟ على رِوَايَتَينِ. فإن قُلْنا بالرَّدِّ، فعليه قِيمَةُ ما تَلِفَ عندَه. قال أحمدُ في رجُلٍ اشترَى أمَةً معها قِنَاعٌ، فاشترَطَه، وظَهَرَ على عَيبٍ، وقد تلف القِنَاعُ: غَرِمَ قِيمَتَه بحِصَّتِه من

1722 - مسألة: (فإن كان عليه ثياب، فقال أحمد: ما كان للجمال، فهو للبائع، وما كان للبس المعتاد، فهو للمشتري)

فَإِنْ كَانَ عَلَيهِ ثِيَابٌ، فَقَال أحْمَدُ: مَا كَانَ للْجَمَالِ، فَهُوَ لِلْبَائِع وَمَا كَانَ لِلُّبْسِ الْمُعْتَادِ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنَ. 1722 - مسألة: (فإنْ كان عليه ثِيابٌ، فقال أحمدُ: ما كَانَ للجَمالِ، فَهُوَ للبائِعِ، وما كان لِلُّبْسِ المُعْتَادِ، فهو للمُشْتَرِي) إذا كان على العَبْدِ أو الجارِيَةِ حَلْيٌ، فهو بمَنْزِلَةِ مالِه، على ما ذَكَرْنا. فأمّا الثيابُ، فقال أحمدُ: ما كان يَلْبَسُه عندَ البائِعِ، فهو للمُشْتَرِي، وإنْ كانت ثِيابًا يَلْبَسُها فوقَ ثِيابِه، أو شَيئًا يُزَينه به، فهو للبائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ. وإنّما كان كذلك؛ لأنَّ ثِيابَ البِذْلَةِ جَرَتِ العادَةُ بِبَيعِها معه، ولأنها تَتَعَلَّقُ بها [حاجَتُه ومَصْلَحَتُه، فَجَرَت مَجْرَى مَفَاتِيحِ الدَّارِ، بخِلافِ ثيابِ الجَمَالِ، فإنَّها زِيَادَةٌ على العَادَةِ، ولا تَتَعَلَّقُ بها] (¬1) حاجَةُ العَبْدِ، وإنَّما يُلْبِسُها إيَّاه لِيُنْفِقَه بها، وهذه حاجَةُ السَّيِّدِ لا حاجَةُ العَبْدِ، ولم تَجْرِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العادَةُ بالمُسامَحَةِ فيها، فجَرَتْ مَجْرَى السُّتُورِ في الدّارِ، والدَّابَّةِ التي يُرْكِبُهُ عليها. وقال ابنُ عمرَ: من باعَ وَلِيدَةً زَيَّنَهَا بثيَابٍ، فللذي اشْتَراها ما عليها، إلَّا أنْ يَشتَرِطَه الذي باعَها (¬1). وبه قال الحَسَنُ، والنَّخعِيُّ. ولَنا، الخَبَرُ المَذْكُورُ، ولأن الثيابَ لم يَتَناوَلْها لفظُ البَيعِ، ولا جَرَتِ العادَةُ بِبَيعِها معه، أشبَهَ سائِرَ مالِ البائِعِ. ولأنه زِينَةٌ للمَبِيعِ، أشبَهَ ما لو زَيَّنَ الدّارَ ببُسُطٍ أو سُتُور، والله أعْلَمُ. ¬

(¬1) أورده ابن حزم، في: المحلى 9/ 432.

باب السلم

بَابُ السَّلَمِ وَهوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيعِ، يَصِحُّ بِأَلْفَاظِهِ وبِلَفْظِ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السَّلَمِ وهو أنْ يُسْلِفَ (¬1) عَينًا حاضِرَةً في عِوَضٍ مَوْصوفٍ في الذِّمة إلى أجلٍ، ويُسَمَّى سَلَفًا، وسَلَمًا. يقالُ: أسلَمَ، وأسْلَفَ. (وهو نوْعٌ منِ البَيعِ) [يَنْعَقِدُ بما يَنْعَقِدُ به البَيعُ] (¬2)، ويَنْعَقِدُ بلَفْظِ السَّلَفِ والسَّلَمِ؛ لأنها (¬3) حَقِيقَةٌ فيه. ويُشْتَرُط له ما يُشْتَرَطُ للبَيعِ، إلَّا أنّه يَجُوزُ في المَعْدومِ. والأصْلُ في جَوازِه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، ¬

(¬1) في م: «يسلم». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لأنهما».

1723 - مسألة: (ولا يصح إلا بشروط سبعة، أحدها، أن

وَلَا يَصِحُّ إلا بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ؛ أحَدُهَا، أن يَكُونَ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فقَوْلُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1). قال ابنُ عَبّاس: أشْهَدُ أنَّ السَّلَفَ المَضْمُونَ إلى أجَل مُسَمًّى قد أحَلَّهُ اللهُ في كِتابِه وأذِنَ فيه. ثم قَرَأ هذه الآيَةَ. رَواهُ سَعِيد (¬2). وأنّ اللَّفْظَ يَشْمَلُه بعُمُومِه. وأمّا السُّنَّةُ، فرَوَى ابنُ عَبّاس، أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المَدِينَةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثِّمارِ السَّنَتَينِ والثَّلاثَ، فقال: «مَنْ أسْلَفَ في شيء فلْيُسْلِفْ فِي كَيل مَعْلُوم، وَوَزْنٍ مَعْلُوم، إلى أجَل مَعْلُوم». مُتَّفَق عليه (¬3). وأمّا الإِجْماعُ، فقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلّ مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ على أنَّ السَّلَمَ جائِز. 1723 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلَّا بشُرُوطٍ سَبْعَةٍ، أحَدُها، أنْ ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب جواز السلف المضمون بالصفة، من كتاب السلم. السنن الكبرى 6/ 18. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب السلم في وزن معلوم، وباب السلم إلى أجل معلوم، من كتاب السلم. صحيح البخاري 3/ 111، 113. ومسلم، في: باب السلم، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1227. كما أخرجه أبو داود، في: باب في السلف، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 246. والترمذي، في: باب ما جاء في السلف في الطعام والتمر، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 6/ 48. والنسائي، في: باب السلف في الثمار، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 255. وابن ماجه، في: باب السلف في كيل معلوم. . . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 765. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 222.

صِفَاتِهِ، كَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَذْرُوعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُونَ ممّا يُمكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِه) التي يَخْتَلِف الثمَنُ باخْتِلافِها ظاهِرًا (كالمَكِيل) من الحُبُوبِ [وغيرِها] (¬1) (والمَوْزُونِ) كالقُطْنِ، والإِبرِيسَمِ، والكَتَّانِ، والعِنَبِ (¬2)، والصُّوفِ، والشعَرِ (¬3)، والكاغدِ (¬4)، والحَدِيدِ، والصُّفْرِ، والنُّحاسِ، والطِّيبِ، والأدهانِ، والخُلُولِ، وكُلِّ مَكِيل أو مَوْزُونٍ، (و) كذلك (المذرُوعُ) (¬5) كالثِّيابِ، وقد جاءَ الحَدِيثُ في الثِّمارِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ السَّلَمَ في الطَّعامِ جائِزٌ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في الأصل: «القنب» ولعله الصواب، وهو نبات تتخذ من لحائه الحبال. (¬3) في ق، ر، ر 1: «الشعير». (¬4) الكاغد: الورق. (¬5) في م: «المزروع».

1724 - مسألة: (فأما المعدود المختلف؛ كالحيوان، والفواكه، والبقول، والجلود، والرءوس، ونحوها، ففيه روايتان)

فأمَّا الْمَعْدُودُ الْمُخْتَلِفُ؛ كَالْحَيَوَانِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَالْبُقُولِ، وَالْجُلُودِ، وَالرُّءُوسِ، وَنَحوها، فَفِيه رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1724 - مسألة: (فأمّا المَعدُودُ المُخْتَلِفُ؛ كالحَيَوانِ، والفَواكِهِ، والبُقُولِ، والجُلُودِ، والرُّءُوسِ، ونحوها، ففيه رِوَايَتَان) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في السَّلَمِ في الحَيَوانِ، فرُويَ، أنّه لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه. وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرّأي. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ، وابنِ مَسْعُودٍ، وحُذَيفَةَ، وسَعِيدِ جُبَير، والشَّعبِيِّ. قال عمرُ، رضيَ اللهُ عنه: إنَّ من الرِّبَا أبوابًا لا تَخْفى، وإنَّ منها السَّلَمَ في السِّنِّ (¬1). ولأنَّ الحَيَوانَ يَخْتَلِف خْتِلافًا مُتَبايِنًا، فلا يُمكِنُ ضَبْطُه. وإنِ اسْتَقْصَى صِفاتِه التي يَخْتَلِفُ بها الثمَنُ، مثلَ: أزَجُّ الحاجِبَينِ (¬2)، أكْحَلُ العَينَينِ، أقْنَى الأنْفِ (¬3)، أهْدَبُ الأشْفَارِ (¬4)، ألْمَى الشَّفَةِ (¬5). تَعَذَّرَ تَسْلِيمُه؛ لنُدرَةِ ¬

(¬1) في م: «البسر». الأثر أخرجه البيهقي، في: باب من أجاز السلم في الحيوان. . . .، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 23. وعبد الرزاق، في: باب السلف في الحيوان، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 26. (¬2) زج الحاجب، دق في الطول وتقوَّس. (¬3) قَنِيَ الأنفُ، ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه. (¬4) شَفرُ الجفن، حرفه الذي ينبت عليه الهدب. وأهدب الأشفار، طويلها. (¬5) اللمَى: سمرة في الشفة تستحسن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجُودهِ على تلك الصِّفَة، وإنْ لم يَذْكُرها اخْتَلَفَ بها الثَّمَنُ ظاهِرًا. والمَشْهُورُ في المَذْهبِ صِحَّةُ السَّلَمِ فيه. نصّ عليه أحمدُ في رِوَايَةِ الأثرَمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وممَّنْ رَوَينَا عنه أنَّه لا بَأسَ بالسَّلَمِ في الحَيَوانِ؛ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبّاسٍ، وابنُ عمرَ، وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ، والشَّعبِيُّ، ومُجاهِدٌ، والزُّهْريُّ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ، وإسحاق، وأبو ثَوْرٍ. لأنَّ أبا رافِع قال: اسْتَسْلَفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ رَجُل بَكْرًا. رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ، قال: أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أبتَاعَ البَعِيرَ بالبَعِيرَينِ وبالأبعِرَةِ إلى مَجِئِ الصَّدَقَةِ (¬2). رَواهُ أبو ¬

(¬1) في: باب من استسلف شيئًا. . . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1224. كما أخرجه أبو داود، في: باب في حسن القضاء، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222. والنسائي، في: باب استسلاف الحيوان واستقراضه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 256. وابن ماجه، في: باب السلم في الحيوان، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 767. والإمام مالك، في: باب ما يجوز من السلف، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 680. والدارمي، في: باب في الرخصة في استقراض الحيوان، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 254. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 390. (¬2) في الأصل: «المصدق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَاوُدَ (¬1). ولأنّه يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فيَثْبُتُ في السَّلَمِ، كالثِّيابِ. فأمّا حَدِيثُ عمرَ، فلم يَذْكُرهُ أصحابُ الاخْتِلافِ، ثمّ هو مَحمُول على أنَّهم يَشْتَرِطُونَ من ضِرَابِ فَحلِ بَنِي فُلانٍ. قال الشَّعبِيّ: إنّما كَرِه ابنُ مَسْعُودٍ السَّلَفَ في الحَيَوانِ؛ لأنهُم اشْتَرَطُوا نِتَاجَ فحل مَعلُوم. رَواهُ سَعِيد (¬2). وقد رُوِيَ عن عَلِى أنّه باعَ جَمَلًا له يُدعَى عُصَيفِيرًا بعِشْرِينَ بَعِيرًا إلى أجَل (¬3). ولو ثَبَتَ قَوْلُ عمرَ في تَحرِيمِ السَّلَمِ في الحَيَوانِ، فقد عارَضَه قولُ مَنْ سَمَّينَا ممَّنْ وافَقَنَا. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في السَّلَمِ في غيرِ (¬4) الحَيَوانِ، ممّا لا يُكَالُ ولا يُوزَنُ ولا يُذْرَعُ، فنَقَلَ إسْحاقُ بنُ إبراهِيمَ، عن أحمدَ، أنّه قال: لا أرَى السَّلَمَ إلَّا فيما يُكالُ، أو يُوزَنُ، أو يُوقف عليه -قال ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 101. (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب السلف في الحيوان، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 24. (¬3) انظر الكلام عليه في صفحة 101. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو الخطّابِ: معناه يُوقَفُ عليه بحدٍّ معلوم لا يَخْتَلِفُ، كالذّرعِ- فأمّا الرُّمّانُ والبيضُ، فلا أرى السَّلَمَ فيه. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عنه وعن إسْحاقَ، أنَّه لا خَيرَ في السَّلَمِ في الرُّمَّانِ، والسَّفرجَلِ، والبِطيخِ، والقِثّاءِ، والخِيَارِ، لأنَّه لا يُكَالُ ولا يُوزَنُ، ومنه الصَّغِيرُ والكَبِيرُ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، لا يَصِحُّ السَّلَمُ في كُلِّ مَعدُودٍ مُخْتَلِفٍ، كالذي سَمَّينَا، وكالبُقولِ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ، ولا يُمكِنُ تَقْدِيرُه بالحَزْمِ؛ لأنَّ الحَزْمَ يمكِنُ في الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، فلم يَصِحَّ السَّلَمُ فيه، كالجَواهِرِ. ونَقَلَ إسماعِيلُ بنُ سَعِيدٍ، وابنُ مَنْصُور، جَوَازَ السَّلَمِ في الفَواكِهِ، والمَوْزِ، والخَضْرَاوَاتِ، ونحوها؛ لأنَّ كثِيرًا من ذلك يَتَقارَبُ ويَنْضَبِطُ بالكبرِ والصِّغَرِ، وما لا يَتَقَارَبُ يَنْضَبِطُ بالوَزْنِ، كالبُقُولِ ونَحوها، فيَصِحُّ السَّلَمُ فيه، كالمَذْرُوعِ. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، والأوْزَاعِيُّ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن الشّافِعِيِّ المَنْعَ من السَّلَمِ في البَيضِ والجَوْزِ. ولَعَلَّ هذا قول آخرُ، فيكونُ له قَوْلانِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي السَّلَمِ في الرُّءُوسِ من الخلافِ ما ذَكَرنَاهُ، وكذلك الأطْرَافُ. وللشَّافِعِيِّ فيها قَوْلانِ؛ أحَدُهما، يَجُوزُ. وهو قَوْلُ مالِكٍ، والأوْزَاعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه لَحم فيه عَظْم يَجُوزُ شِراوه، فجازَ السَّلَمُ فيه، كبَقِيَّةِ اللَّحمِ. والأخْرَى، لا يَجُوزُ. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ أكْثَرَهُ العِظَامُ والمَشافِرُ، واللَّحمُ فيه قَلِيلٌ، وليس بمَوْزُونٍ، بخِلافِ اللَّحمِ. فإنْ كانَ مَطْبُوخًا، أو مَشْويًّا، فقال الشّافِعِيُّ: لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه. وهو قِياسُ قَوْلِ القاضِي؛ لأنَّه (¬1) يَتَناثَرُ (¬2) ويَخْتَلفُ. وعلى قَوْلِ أصحابِنَا غيرِ القاضِي، حُكْمُ ما مَسَّتْهُ النارُ حُكْمُ غَيرِه وبه قال مالِك، والأوْزَاعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ. والعَقْدُ يَقْتَضِيه سَلِيمًا من التَّنَاثُرِ (¬3)، والعادَةُ في طَبْخِه تَتَقَارَبُ، فأشْبَه غَيرَه. وفي الجُلُودِ من الخِلافِ ما في الرءُوسِ والأطْرَافِ. وقال الشّافِعِيُّ: لا يَصِحُ السَّلَمُ فيها؛ لأنَّها تَخْتَلِفُ، فالوَرِك ¬

(¬1) في م: «لا». (¬2) في ر 1، ق: «يتباين». (¬3) في ر 1: «التباين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَخِينٌ قَويٌّ، والصَّدرُ ثَخِينٌ رِخْوٌ، والبَطْنُ رَقِيقٌ ضَعِيفٌ، والظَّهْرُ أقْوَى، فيَحتاجُ إلى وَصفِ كُلِّ مَوْضِعٍ منه، ولا يمكِنُ ذَرعُه؛ لاخْتِلافِ أطْرَافِه. ولَنا، أنّ التَّفاوُتَ في ذلك مَعلُومٌ، فلم يَمنَع صِحَّةَ السَّلَمِ فيه، كالحَيَوانِ، فإنّه يَشْتَمِلُ على الرَّأسِ والجِلْدِ والأطْرَافِ والشَّحمِ وما في البَطْنِ، وكذلك الرَّأسُ يَشْتَمِلُ على لَحمِ الخَدَّينِ والأذُنينِ والعَينَينِ، ويَخْتَلِف، ولم يمنع صِحَّةَ السَّلَمِ فيه، كذلك ههُنا. فصل: ويَصِحُّ السَّلَمُ في اللَّحمِ. وبه قال مالِكٌ، والشّافِعِيّ. وقال أبو حنِيفَةَ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أسْلَمَ فَلْيُسْلِم في كَيل معلُوم، و (¬1) وَزْنٍ مَعلُوم» (¬2). ظاهِرُه إباحَةُ السَّلَمِ في كُلِّ مَوْزُونٍ. ولأنَّا قد بَيَّنَّا جَوازَ السَّلَمِ في الحَيَوانِ، فاللحمُ أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 218.

1725 - مسألة: (وفي الأواني المختلفة الرءوس والأوساط؛ كالقماقم

وَفِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الرُّءُوسِ وَالأوْسَاطِ؛ كَالْقَمَاقِمِ، وَالأسْطَالِ الضَّيِّقَةِ الرُّءُوسِ، وَمَا يَجْمَعُ أخْلاطًا مُتَمَيِّزَةً؛ كَالثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ نَوْعَينِ، وَجْهانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1725 - مسألة: (وفي الأوانِي المُخْتَلِفَةِ الرُّءُوسِ والأوْساطِ؛ كالقَماقِمِ (¬1)، والأسْطَالِ الضَّيِّقَةِ الرّءُوسِ، وما يَجْمَعُ أخْلاطًا مُتَمَيِّزَةً؛ كالثيابِ المَنْسُوجَةِ من نَوْعَينِ، وَجهانِ) لا يَصِحُّ السَّلَمُ في الأوانِي المُخْتَلِفَةِ الرّءُوسِ والأوْسَاطِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لا تأتِي عليها. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه يَصِحُّ إذا ضُبِطَ بارتِفاعِ حائِطِه ودوْرِ أسْفَلِه وأعلاه؛ لأنّ ¬

(¬1) جمع قمقم: وهو إناء صغير من نحاس أو فضة أو خزف يجعل فيه ماء الورد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّفَاوُتَ في ذلك يَسِيرٌ. فأمّا الثيابُ المَنْسُوجَةُ من نَوْعَينِ، كالقُطْنِ والكَتَّانِ، [والقُطْنِ] (¬1) والإِبريسَمِ، فالصَّحِيحُ جَوازُ السَّلَمِ فيها؛ لأنَّ ضَبْطَها ممكِن. وفيه وَجْه آخر، أنّه لا يَجُوزُ، كالمَعاجِينِ. فصل: ويَصِحُّ السَّلَمُ في اللِّبَأ، والخُبْزِ، وما أمكَنَ ضَبْطُه ممَّا مَسَّتْهُ النّارُ. وقال الشَّافعِيُّ: لا يَصِحُّ السَّلَمُ في كُلِّ مَعمُولٍ بالنّارِ؛ لأنَّ النّارَ تَخْتَلِفُ، ويَخْتَلِف الثمَنُ بها (¬2)، ويَخْتَلِفُ عَمَلُها. ولَنا، أنَّه مَوْزُونٌ، فجازَ السَّلَمُ فيه، كسائِرِ المَوْزُونَاتِ، ولعُموم الحَدِيثِ، ولأنَّ عملَ النَّارِ فيه مَعلُومٌ بالعادَةِ، ممكِنٌ ضَبْطُه بالنَّشَافَةِ والرُّطُوبَةِ، فأشْبَه المُجَفَّفَ بالشّمسِ. فأمَّا اللَّحمُ المَطْبُوخُ، والمَشْويُّ، فقال القاضِي: لا يَصِحُّ السَّلَمُ (¬3) قيه. وهو مَذْهب الشّافِعِيِّ؛ لأنّه يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا، وعادات النّاسِ فيه مُخْتَلِفَةٌ، فلا يُمكِنُ ضَبْطُه. وقال بعضُ أصحَابِنا: يَصِحُّ السَّلَمُ فيه؛ لِما ذَكَرنا في الخُبْزِ واللِّبَأ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: ر، ر 1، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ السَّلَمُ في النُّشَّابِ والنبلِ. وقال القاضِي: لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيهما. وهو مَذْهبُ الشّافِعِي؛ لأنَّه يَجْمَعُ أخْلاطًا من خَشَبٍ وعَقَبٍ (¬1) ورِيش ونَصْلٍ، فجَرَى مَجْرَى أخْلَاطِ الصَّيَادِلَةِ، ولأنَّ فيه رِيشًا نَجِسًا؛ لأنَّه من جوارِحِ الطَّيرِ. ولَنا، أنَّه ممّا يَصِحُّ بَيعُه، ويمكنُ ضَبْطُه بالصِّفَاتِ التي لا يَتَفَاوَتُ الثَّمَنُ معها غالِبًا، فَصَحَّ السَّلَمُ فيه، ¬

(¬1) العقب، بالتحريك: العصب تعمل منه الأوتار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقَصَبِ، والخَشَبِ، وما فيه من غيرِه مُتَمَيِّزٌ، يمكنُ ضَبْطُه والإِحاطَةُ به، ولا يَتَفاوَتُ كثِيرًا، فلا يُمنَعُ، كالثِّيابِ المَنْسُوجَةِ من جِنْسَينِ، وقد يكونُ الرِّيشُ طاهِرًا، وإنْ كان نَجِسًا لكن يَصِحُّ بَيعُه، فلا يُمنَعُ السَّلَمُ فيه، كنَجاسَةِ البَغْلِ والحِمَارِ.

1726 - مسألة: (ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر كلها، والحوامل من الحيوان، والمغشوش من الأثمان وغيرها، وما يجمع أخلاطا غير مميزة، كالغالية

وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يَنْضَبِطُ، كَالْجَوَاهِرِ كُلِّها، وَالْحَوَامِلِ مِنَ الْحَيَوانِ، وَالْمَغْشُوشِ مِنَ الأَثْمَانِ وَغَيرِها، وَمَا يَجْمَعُ أخْلَاطًا غَيرَ مُتَمَيِّزَةٍ، كَالْغَالِيَةِ، وَالنَّدِّ، وَالْمَعَاجِينِ. وَيَصِحُّ فِيمَا يُتْرَكُ فِيهِ شَيْءٌ غيرُ مَقْصُودٍ لِمَصلَحَتِهِ، كَالْجُبْنِ، وَالْعَجِينِ، وَخَلِّ التَّمرِ، والسّكَنْجَبِينِ، وَنَحوها. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1726 - مسألة: (ولا يَصِحُّ فيما لا يَنْضَبِطُ كالجَواهِرِ كُلِّها، والحَوامِلِ من الحَيَوانِ، والمَغْشُوشِ من الأثْمَانِ وغيرِها، وما يَجْمَعُ أخْلاطًا غيرَ مُمَيَّزَةٍ، كالغَالِيَةِ (¬1)، والنَّدِّ (¬2)، والمَعاجِينِ. ويَصِحُّ فيما يُتْرَكُ فيه شيءٌ غيرُ مَقْصُودٍ لمَصلَحَتِه، كالجُبْنِ (¬3)، والعَجِينِ، وخَلِّ التَّمرِ، والسكنْجَبِينِ، ونحوه) لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيما لا يَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، كالجَواهِرِ (¬4) من اللّولُؤِ، والياقُوتِ، والزَّبَرجَدِ، والفَيرُوزَجِ (¬5) ¬

(¬1) الغالية: أخلاط من الطيب كالمسك والعنبر. (¬2) الند: ضرب من النبات يُتبخر بعوده. (¬3) في ق، ر: «كالخبز». (¬4) في الأصل، م: «كالجوهر». (¬5) لفظ فارسي معناه: حجر كريم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والبَلُّورِ؛ لأنَّ أثْمَانَها تَخْتَلِف اخْتِلافًا مُتَبايِنًا بالصِّغَرِ، والكِبَرِ، وحُسْنِ التَّنويرِ، وزِيادَةِ ضَوْئِها، وصَفائِها، ولا يمكِنُ تَقْدِيرُها بشيءٍ مُعَيَّن، لأنَّ ذلك يَتْلَفُ. وهذا قولُ الشّافِعِيِّ، وأصحابِ الرَّأي. وحُكِيَ عن مالِكٍ صِحَّةُ السَّلَمِ فيها، إذا اشْتَرَطَ منها شَيئًا مَعلُومًا، إنْ كان وَزْنًا، فبِوَزْنٍ مَعرُوفٍ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرنا. ولا يَصِحُّ في الحَوامِلِ من الحَيَوانِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لا تَأتِي عليها، ولأَنَّ الوَلَدَ مَجْهُول غيرُ مُتَحَقِّقٍ. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه يَصِحُّ، لأَنَّ الحَملَ لا حُكْمَ له مِع الأُمِّ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ بَيعِ الحامِلِ وإنِ اشْتَرَطَ الحَملَ، ولا نَقُولُ بأن الجَهْلَ بالحملِ مُبْطِلٌ للبَيعِ، لكن إن لم تكُنْ حامِلًا فله الرَّدُّ، وإذا صَحَّ البَيعُ صَحَّ السَّلَمُ؛ لأنَّهُ بَيعٌ. ولا يَصِحُّ في المَغْشُوشِ من الأثْمانِ؛ لأنّه مَجْهُولٌ لا يَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، ولا فيما يَجْمَعُ أخْلَاطًا غيرَ مُمَيَّزَةٍ، كالغالِيَةِ، والنَّدِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعاجِينِ التي يُتَدَاوَى بها؛ للجَهْلِ بها. والذي يَجْمَعُ أخْلاطًا على أرْبَعَةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، مُخْتَلِطٌ مَقْصُودٌ مُتَمَيِّز، كالثِّيابِ المَنْسُوجَةِ من نَوْعَينِ، فالصَّحِيحُ جَوازُ السَّلَمِ فيها. الثاني، ما خَلْطُهُ لمَصلَحَتِه، وليس بمَقْصودٍ في نَفْسِه، كالإِنْفَحَّةِ في الجُبْنِ، والمِلْحِ في العَجِينِ والخُبْزِ، والماءِ في خَلِّ التَّمرِ، والخَلِّ في السَكَنْجَبِينِ، فيَصِحُّ السَّلَمُ فيه (¬1)؛ لأنَّه يَسِيرٌ لصلَحَتِه. الثالثُ، أخْلاطٌ مَقْصُودَةٌ غيرُ مُتَمَيِّزَةٍ، كالغالِيَةِ، والنَّدِّ، والمَعاجِينِ، فلا يَصِحُّ السَّلَمُ فيها؛ لأنَّ الصِّفَةَ لا تَأتِي عليها. الرابعُ، ما خَلْطُه غيرُ مَقْصُودٍ، ولا مَصلَحَةَ فيه، كاللَّبَنِ المَشُوبِ بالماءِ، فلا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه؛ لأنَّ غشَّهُ يَمْنَعُ العِلْمَ بقَدرِ المَقْصُودِ منه، فيَكُونُ مَجْهُولًا، ولا يَصِحُّ السَّلَمُ في القِسِيِّ المُشْتَمِلَةِ على الخَشَبِ، والقَرنِ (¬2)، والعَقَبِ (¬3) والتُّوزِ (¬4)، إذْ لا يُمكِنُ ضَبْطُ مَقادِيرِ ذلك وتَميِيزُ ما فيه منها. وقيل: يَجُوزُ السَّلَمُ فيها، كالثِّياب المَنْسُوجَةِ من نَوْعَينِ، وكالنُّشَّابِ المُشْتَمِلِ على الخَشَبِ والعَقَبِ والرِّيشِ والنُّصولِ. والأوْلَى ما ذَكَرناه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) القرن: الحبل المفتول من لحاء الشجر، والخصله المفتولة من العهن. (¬3) في م: «القصب». (¬4) في ر 1: «النور». وفي الأصل: «الثوز».

فصل: الشَّرطُ الثَّانِي، أنْ يَصِفَهُ بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ ظَاهِرًا، فَيَذْكُرَ جِنْسَهُ، وَنَوْعَهُ، وَقَدْرَهُ، وَبَلَدَهُ، وَحَدَاثَتَهُ، وَقِدَمَهُ، وَجَوْدَتَهُ، وَرَدَاءَتَهُ. وَمَا لا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ لَا يَحتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (الثاني، أنْ يَصِفَه بما يَخْتَلِف به الثَّمَنُ ظاهِرًا، فيَذْكُرَ جِنْسَهُ، ونَوْعَه، وقَدرَه، وبَلَدَه، وحَداثَتَه، وقِدَمَه، وجَوْدَتَه، وَرَداءَتَه. وما لا يَخْتَلِفُ به الثَّمَنُ لا يَحتَاجُ إلى ذِكْرِه) إنَّما اشْتَرَطَ ذلك؛ لأنَّ المُسْلَمَ فيه عِوَض في الذِّمَّةِ، فلا بُدَّ من العِلْمِ به، كالثَّمَنِ، ولأنَّ العِلْمَ شَرطٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المَبِيعِ (¬1)، وطَريقُه الرُّؤيَةُ أو الوَصف، والرُّؤيَةُ مُتَعَذِّرَةٌ ههُنا، فَتَعَيَّنَ الوصفُ. والأوْصافُ على ضَربَينِ؛ مُتَّفَقٌ على اشْتِراطِها، ومُخْتَلَفٌ فيها. فالمُتَّفَقُ عليها ثَلاثَةُ أوْصَافٍ؛ الجِنْسُ، والنَّوْعُ، والجَوْدَةُ أو (¬2) الرَّدَاءَةُ. فهذه لا بُدّ منها في كُلِّ مُسْلَم فيه. وكذلك [معرِفةُ قَدرِه] (¬3)، وسَنَذْكُرُها. وهذا قَوْلُ أبي حَنِيفةَ، ومالِكٍ، والشافعيِّ. ولا نَعلَمُ عن غَيرِهِم فيه خِلافًا. الضّربُ الثانِي، ما يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ ياخْتِلافِه غيرَ هذه الأوْصَافِ، فيَنْبَغِي أنْ يكونَ ذِكْرُها شرطًا، قِياسًا على المُتَّفَقِ عليها، ونَذْكُرُها عندَ ذِكْرِه. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَكْفِي ذِكْرُ الأوْصَافِ الأوَلِ؛ لأنَّها تَشْتَمِلُ على ما وَراءَها من الصِّفاتِ. ولَنا، أنّه يَبْقَى من الصِّفَاتِ، من اللَّوْنِ والبَلَدِ ونحوهما، ¬

(¬1) في ق، م: «البيع». (¬2) في م: «و». (¬3) في م: «معرفته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَخْتَلِف الثَّمَنُ والعِوَضُ (¬1) لأجلِه، فَوَجَبَ ذِكْرُه، كالنَّوْعِ. ولا يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُلِّ الصِّفَاتِ؛ لأنَّه يَتَعَذَّرُ، وقد يَنْتَهِي الحالُ فيها إلى أمرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ المُسْلَمِ فيه، فيَجِبُ الاكْتِفَاءُ بالأوْصَافِ الظَّاهِرَةِ التي يَخْتَلِفُ بها الثَّمَنُ ظاهِرًا. ولو اسْتَقْصَى الصِّفاتِ حتى انْتَهى إلى حالٍ يَنْدُرُ (¬2) وجُودُ المُسْلَمِ فيه بتِلْكَ الأوْصَافِ، بَطَلَ، لأنّ من شُرُوطِ السَّلَمِ أنْ يكُونَ المُسْلَمُ فيه عَامَّ الوُجُودِ [عندَ المحلِّ] (¬3)، واستِقْصاءُ الصِّفَاتِ يَمنَعُ منه. فصل: ولو أسْلَمَ في جارِيَةٍ وابْنَتِها، أو أخْتِها، أو عَمَّتِها، أو خَالتِها، ¬

(¬1) في الأصل، ق، ر 1: «العرض». (¬2) في م: «يتعذر». (¬3) في م: «في محله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بنْتِ عَمِّها، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا بُدَّ أنْ يَضْبِطَ كُلَّ واحِدَةٍ منهما بصفاتٍ، ويَتَعَذَّرُ وجُودُ تِلْكَ الصِّفَاتِ في جارِيَةٍ وبِنْتِها (¬1). ولو أسْلَمَ في ثَوْبٍ، على صِفَةِ خِرقةٍ مُعَيَّنَةٍ (¬2)، لم يَجُزْ؛ لأنها قد تهْلِكُ، وهذا غرَرٌ، فهو كما لو شَرَطَ مِكْيَالًا بعَينه غيرَ مَعلُوم. ¬

(¬1) في الأصل، ق، ر 1: «نسبتها». (¬2) في م: «معيية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والجِنْسُ والجَوْدَةُ والقدرُ، شَرط فِي كُلِّ مُسْلَم فيه، فلا حاجَةَ إلى تَكْرِيرِ ذِكْرِ ذلك، ويَذْكُرُ ما سِواها، فيَصِف التَّمرَ بأربَعَةِ أوْصَافٍ؛ النَّوْعُ، بَرنِيٌّ [أو مَعقِلِيٌّ] (¬1)، والبَلَدُ إنْ كان يَخْتَلِفُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق، ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيقولُ: بَغْدَاديٌّ -أو- بَصرِيٌّ. فإنَّ البَغْدَادِيَّ أحلَى وأَقَلُّ بقاءً، لعُذُوبَةِ الماءِ، والبَصرِيُّ بخِلافِه. والقَدرُ، كِبارٌ أو صِغارٌ، و (¬1) حَدِيثٌ أو عَتِيقٌ. فإن أطْلَقَ العَتِيقَ؛ أجْزأ أيُّ عَتِيقٍ كان، ما لم يكنْ مُسَوّسًا ولا حَشَفًا ولا مُتَغَيِّرًا. وإن شرطَ عَتِيقَ عام أو عامَينِ، فهو على ما شَرَطَ. فأمّا اللَّوْنُ، فإن كان النَّوْعُ الواحِدُ يَخْتَلِفُ، كالطبرزدِ (¬2)، يكونُ أحمَرَ أو (¬3) أسْوَدَ، ذَكَرَه، وإلَّا فَلَا. والرُّطَبُ كالتَّمر في هذه الأوْصَافِ، إلَّا الحَدِيثَ والعَتِيقَ، وليس له من الرُّطَبِ إلَّا ما أرطَبَ كُلُّه. ولا يَأخُذُ مُشَدَّخًا (¬4)، ولا ما قارَبَ أنْ يُتْمِرَ، وهكذا ما يُشبِهُهُ من العِنَبِ والفَواكِهِ. فصل: ويَصِف البُرَّ بأربَعَةِ أوْصَافٍ، النَّوْعُ، فيَقُولُ (¬5): سَلَمُونِي (¬6). والبَلَدُ، حَوْرَانِيٌّ (¬7) أو شِمَالِيٌّ (¬8). وصِغارُ الحَبِّ أو كِبارُه، وحَدِيثٌ أو عَتِيقٌ. وإنْ كان النَّوْعُ الواحِدُ يَخْتَلِفُ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في ر 1: «كالطبرد». (¬3) في ق، ر 1، م «و». (¬4) المشدخ: بسر يغمز حتى ينشدخ، أي يكسر. (¬5) بعده في م: «سبيلة أو». (¬6) السلموني: نسبة إلى سلمون، خمسة مواضع بمصر. انظر: تاج العروس (س ل م) 8/ 344. (¬7) الحوراني: نسبة إلى حوران، كورة واسعة من أعمال دمشق، ذات قرى ومزارع. معجم البلدان 2/ 358. (¬8) في م: «سمالى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَوْنُه، ذَكَره، ولا يُسَلَّمُ إليه إلَّا مُصَفًّى. وهكذا الحُكْمُ في الشَّعِيرِ وسائِرِ الحُبُوبِ. ويَصِفُ العَسَلَ بثَلاثَةِ أوْصَافٍ، بالبَلَدِ، ويُجْزِيء ذلكٍ عن النَّوْعِ. والزَّمانِ، رَبِيعِيٌّ أو صَيفِيٌّ. واللَّوْنِ، وليس له إلَّا مُصَفًّى. فصل: ولابدَّ في الحَيَوانِ من ذِكْرِ النَّوْعِ، والسِّنِّ، والذُّكُورِيَّةِ، أو (¬1) الأنوثِيَّةِ، ويَذْكُرُ اللَّوْنَ إنْ كان النَّوْعُ الواحِدُ يَخْتَلِفُ، ويُرجَعُ في سِنِّ الغُلامِ إليه (¬2) إنْ كان بالِغًا، وإلَّا فالقَوْلُ قولُ سَيِّدِه، وإنْ لم يعلم، رَجَعَ في ذلك إلى أهْلِ الخِبْرَةِ، على ما يَغْلِبُ على ظُنُونِهم تَقْرِيبًا. وإذا ذَكَرَ النَّوْعَ في الرَّقِيقِ، وكان مُخْتَلِفًا، مثلَ التُركِيِّ؛ فهم الجِكِلِيُّ (¬3)، والخَزَرِيُّ (¬4)، فهل يَحتَاجُ إلى ذِكْرِه، أو يَكْفِي ذِكرُ النَّوْعِ؟ يَحتَمِلُ وَجْهينِ، أوْلاهُما، أنّه يَحتَاجُ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ به الثَّمَنُ. ولا يَحتَاجُ في الجارِيَةِ إلى ذِكْرِ الجُعُودَةِ والسُّبُوطَةِ؛ لأنَّ ذلك لا يَخْتَلِفُ به الثَّمَنُ اخْتِلافًا ¬

(¬1) في ر 1، م: «و». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الجكلى: نسبة إلى جكل، بلد بما وراء نهر سيحون، من بلاد تركستان، قرب طرار. معجم البلدان 2/ 95. (¬4) في الأصل: «الخرزى». والخزرى نسبة إلى بلاد الخزر وهي بلاد الترك، خلف باب الأبواب، المسمى بالدربند. معجم البلدان 2/ 436.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيِّنًا، ومثل ذلك لا يُراعَى، كما لا تُرَاعَى صِفَاتُ الحُسْنِ (¬1) والمَلاحَةِ، فإن ذَكَر شَيئًا من ذلك لَزِمَه. ويَذْكُرُ الثيوبَةَ والبَكَارَةَ؛ لأنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بذلك، ويَتَعَلَّقُ به الغَرَضُ. ويَذْكُرُ القَدَّ؛ خُمَاسِيٌّ أو سُداسِيٌّ، يَعنِي خَمسَةَ أشْبارٍ أو سِتَّةَ أشْبارٍ. قال أحمدُ: يقولُ. خماسِيٌّ سُدَاسِيٌّ، أسْوَدُ بيض، أعجَمِيٌّ أو فصِيحٌ. فأمّا الإِبِل، فيَضْبِطها بأربَعَةِ أوْصَافٍ، فيقولُ: من نِتَاجِ بَنِي فُلانٍ. والسِّنُّ، بِنْتُ مَخاضٍ، أو بِنْتُ لبون. واللَّوْنُ، بَيضَاءُ أو حَمرَاءُ أو ورقَاءُ (¬2)، وذَكَر أو أنْثَى. فإنِ اخْتَلَفَ النِّتَاجُ، فكان فيه مَهْرِيَّةٌ (¬3) وأرحَبِيَّةٌ (¬4)، فهل يَحتَاجُ إلى ضَبْطِ ذلك؟ يَحتَمِلُ وَجهينِ. ولا يَفْتَقِرُ إلى ذِكرِ ما زادَ على هذه الأوْصافِ، وإنْ ذَكَرَ بعضَه كان تأكيدًا ولَزِمَه. وأوصَاف الخَيلِ كأوْصَافِ الإِبِلِ. وأمّا البِغَالُ والحُمُرُ، فلا نِتَاجَ لها، فيَجْعَلُ بدَلَ ذلك نِسْبَتَها إلى بَلَدِها. وأمّا البَقَرُ والغَنَمُ، فإنْ عُرِف لها نِتاجٌ، فهي كالإِبِلِ، وإلَّا فهي كالحُمُرِ. ولا بدَّ من ذِكْرِ النَّوْعِ في هذه الحَيَوانَاتِ، فيقولُ في الإبِلِ: بُخْتِيَّة -أو- عِرَابِيَّة (¬5). وفي الخَيلِ: عَرَبِيَّةٌ أو هجِينٌ أو بِرذَوْن، وفي الغَنَمِ: ضَأنٌ أو مَعزٌ. إلَّا الحَمِيرَ والبِغَال، فلا أنْواعَ فيها. ¬

(¬1) في ر 1: «الجنس». (¬2) أي في لونها بياض إلى سواد. (¬3) مهرية: إبل منسوبة إلى قبيلة مهر بن حيدان، وهي حي عظيم. (¬4) أرحبية: إبل منسوبة إلى بني أرحب، بطن من همدان. (¬5) في الأصل، ر 1: «أعرابية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَذْكُرُ في اللَّحمِ السِّنَّ، والذُّكُوريَّةَ والأنوثِيَّة، والسِّمَنَ والهُزَال، ورَاعِيًا أو مَعلُوفًا، ونَوْع الحَيَوانِ، ومَوْضِعَ اللَّحمِ منه. ويَزِيدُ في الذَّكَرِ: فَحلًا أو خَصِيًّا. وإنْ كان لَحمَ صَيدٍ، لم يَحتَجْ إلى ذِكْرِ العَلَفِ والخِصاءِ، ويَذْكُرُ الآلةَ التي يُصادُ بها، من جَارِحَةٍ أو أحبُولَةٍ. وفي الجارِحَةِ يَذْكُرُ صَيدَ فَهْدٍ، أو كَلْبٍ، أو صَقْر، فإنَّ الأحبُولَةَ، يُؤخَذُ الصَّيدُ منها سَلِيمًا. وصَيدُ الكَلْبِ خَير من صَيدِ الفَهْدِ؛ لكَوْنِ الكَلْبِ أطْيَبَ نَكْهةً من الفَهْدِ، لكَوْنِه مَفْتُوحَ الفَمِ فِي أكْثَرِ الأوقَاتِ. والصَّحِيحُ إنْ شاءَ الله أنّ هذا ليس بشَرطٍ؛ لأنّ التَّفَاوُتَ فيه يَسِير، ولا يكادُ الثَّمَنُ يَتَبَايَنُ باخْتِلافِه، ولا يَعرِفُه إلَّا القَلِيلُ من النّاسِ. وإذا لم يَحتَجْ يكاد الرَّقِيقِ إلى ذِكْرِ السِّمَنِ، والهُزَالِ وأشْباهِها مما يَتَبايَنُ بها الثَّمَنُ وتَتَعَلَّقُ بها الرَّغَبَاتُ ويَعرِفُها النّاسُ، فهذا أوْلَى. ويَلْزَمُ قَبُولُ اللَّحمِ بعِظَامِه؛ لأنَّه هكذا يُقْطَعُ، فهو كالنَّوَى في التّمرِ. فإن كان السَّلَمُ في لَحمِ طَير، لم يَحتَجْ إلى ذِكْرِ الذُّكُورِيَّةِ والأنوثِيَّةِ، إلَّا أنْ يَخْتَلِفَ بذلك، كَلَحمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّجَاجِ، ولا إلى ذِكْرِ مَوْضِعِ اللَّحمِ، إلَّا أنْ يكُونَ كَثِيرًا (¬1) يأخُذُ منه بَعضَه، ولا يَلْزَمُه قَبُولُ الرَّأسِ والسَّاقَينِ؛ لأنّه لا لحمَ عليها. ويَذْكُرُ في السَّمَكِ النَّوْعَ؛ بَرَدِيٌّ (¬2) أو غيرُه، والكِبَرَ والصِّغَرَ، والسِّمَنَ والهُزَال، والطرَّيَّ والمِلْحَ، ولا يَقْبَلُ الرّأسَ والذَّنَبَ، وله ما بَينَهُما، وإنْ كان كَثِيرًا يأخُذُ بَعضَه، ذَكَرَ مَوْضِعَ اللَّحمِ منه. فصل: ويَضْبِطُ السَّمنَ بالنَّوْعِ، من ضَأنٍ، أو مَعز، أو بَقر، واللَّوْنِ، أبيَضَ أو أصْفَرَ. قال القاضِي: ويَذْكُرُ المرعَى. ولا يَحتَاجُ إلى ذِكْرِ حَدِيثٍ أو عَتِيقٍ؛ لأنَّ الإِطْلاقَ يَقْتَضِي الحَدِيثَ، ولا يَصِحُّ السَّلَمُ في عَتِيقِه؛ لأنّه عَيبٌ، ولا يَنْتَهِي إلى حَدٍّ يُضْبَطُ به. ويَصِف الزُّبْدَ بأوْصَافِ السَّمنِ، ويَزِيدُ، زُبْدُ يَوْمِه أو أمسِه. ولا يَلْزَمُه قَبُولُ مُتَغيِّرٍ ¬

(¬1) في الأصل: «كبيرًا». (¬2) البردى: نسبة إلى نهر بردى، نهر دمشق الأعظم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في (¬1) السَّمنِ والزُّبْدِ، ولا رَقِيق، إلَّا أنْ تكونَ رِقَّتُه للحَرِّ. ويَصِفُ اللَّبَنَ (¬2) بالمرعَى، ولا يَحتَاجُ إلى اللَّوْنِ، ولا حَلِيبِ يَوْمِه؛ لأنَّ إطْلاقَه يَقْتَضِي ذلك، ولا يَلْزَمُه قبولُ مُتَغَيّر. قال أحمدُ: ويَصِحُّ السَّلَمُ في المَخِيضِ. وقال الشّافِعِيُّ: لا يَصِحُّ، لأنّ فيه ما ليس من مَصلَحَتِه، وهو الماءُ، فصارَ المَقصُودُ مَجْهُولا. ولَنا، أنَّ الماءَ يَسِير، يُتْرَكُ لأجلِ المَصلَحَةِ، جَرَتِ العادَةُ به، فلم يَمنَع صِحَّةَ السَّلَمِ فيه، كالماءِ في الشَّيرَجِ، وفي خَلِّ التمرِ. ويَصِف الجُبْنَ بالنَّوْعِ (¬3) والمَرعَى، ورَطْبٍ أو يَابِس. ويَصِف اللِّبَأ بصِفَاتِ اللَّبَنِ، ويَزِيدُ اللَّوْنَ، ويذْكُرُ الطَّبْخَ وعَدَمَه. فصل: ويَضْبِطُ الثيابَ بسِتَّةِ أوْصَافٍ؛ النَّوْع، كَتَّانٌ أو قُطْنٌ. والبَلَدُ. والطولُ. والعَرضُ. والصَّفاقَةُ والرِّقَّةُ. والغِلَظُ [والدِّقَّة] (¬4). والنُّعُومَةُ والخُشُونَةُ. ولا يَذْكُرُ الوَزْنَ، وإن ذَكَرَه، لم يَصِحَّ؛ لتَعَذُّرِ الجمعِ بين صِفَاتِه المُشْتَرَطَةِ مع وَزْنٍ مَعلُوم، فيكونُ فيه تَغْرِيرٌ؛ لبُعدِ ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) بعده في الأصل: «باللون و». (¬3) في ر 1: «باللون». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اتِّفاقِه. وإنْ ذكر الخامَ و (¬1) المَقْصُورَ، فله شَرطُه، وإنْ لم يَذْكُره، جازَ، وله خامٌ؛ لأنَّه الأصلُ. وإنْ ذَكَرَ مَغْسُولا أو لَبِيسًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ اللَّبِيسَ يَخْتَلِفُ، ولا يَنْضَبِطُ. فإن أسْلَمَ في مَضبُوغ ممّا يُصبَغُ غَزْلُه، جَاز؛ لأنَّ ذلك من جُملَةِ صِفَاتِ الثَّوْبِ، وإن كان مِمَّا يصبَغُ بعد نَسْجِه، لم يَجزْ؛ لأنَّ الصَّبْغَ يَمنَعُ مِن الوُقُوفِ على نُعُومَةِ الثوْبِ وخُشُونَتِه، ولأن الصَّبْغ غيرُ معلُوم. كان أسْلَمَ في ثَوْبٍ مُخْتَلِفِ الغُزُولِ؛ كقُطْن وكَتَّانٍ، أو قُطْن وإبْرِيسَم، أو صُوفٍ وإبْرِيسَم، وكانتِ الغُزُولُ مَضْبُوطَةً بأنْ يقولَ: السَّدَى (¬2) إبْرِيسَم، واللّحمَةُ (¬3) كَتَّان أو نحوُه. جازَ، وقد ذَكَرنَاه. ولهذا جازَ السَّلَمُ في الخَزِّ، وهو من غَزْلَين مُخْتَلِفَينِ. وإنْ أسْلَمَ في ثَوْبٍ مُوَشى، وكان الوَشيُ من تَمام نَسْجه، جازَ. وإن كان زِيَادَة، لم يَجُزْ؛ لأنّه لا يَنْضَبِط. ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) السدى من الثوب خلاف اللحمة، وهو ما يمد طولًا في النسج. (¬3) اللحمة، بضم اللام: ما نسج عرضًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِفُ غَزْلَ القُطْنِ والكَتَّانِ، بالبَلَدِ واللَّوْنِ، والغِلَظِ والرِّقَّةِ (¬1)، والنُّعُومَةِ والخُشُونَةِ، ويَصِف القُطْنَ بذلك، ويَجْعَلُ مكانَ الغِلَظِ والرِّقَّةِ (¬2) الطُّولَ والقِصَرَ، وإنْ شَرَطَ في القُطْنِ مَنْزُوعَ الحَبِّ، جازَ، وإن أطْلَقَ كان له بحَبِّه، كالتَّمرِ بنَواهُ. ويَصِف الإِبرِيسَمَ بالبَلَدِ واللَّوْنِ، والغِلَظِ والدِّقَّةِ (¬3). ويَصِف الصُّوفَ بالبَلَدِ واللَّوْنِ، والطولِ والقِصَرِ، والزَّمانِ، خَرِيفِيٍّ أو رَبِيعِيٍّ، لأنَّ صُوفَ الخَرِيفِ أنظَف. قال القاضِي: ويَصِفُه بالذُّكُورِيَّةِ والأنوثِيةِ، لأنَّ صُوفَ الإِناثِ أنْعَمُ. ويَحتَمِلُ أنْ لا يحتَاجَ إلى هذه الصِّفَةِ؛ لأنَّ التَّفَاوُتَ في هذا يَسِير. وعليه تَسْلِيمُه نَقِيًّا من الشَّوْكِ والبَعْرِ وإن لم يَشْتَرِطْه. وإنِ اشْتَرَطَه، جازَ، وكان تَأكيدًا. وكذلك الشَّعَرُ والوَبَرُ. ويَصِحُّ السَّلَمُ في الكَاغَدِ؛ لأنَّه يُمكِنُ ضَبْطُه، ويَصِفُه بالطّولِ والعَرضِ، والدِّقَّةِ والغِلَظِ، واسْتِواءِ الصَّنْعَةِ، وما يَخْتَلِف به الثَّمَنُ. ¬

(¬1) في الأصل: «الدقة». (¬2) في ر 1، ق: «الدقة». (¬3) في م: «الرقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَضْبِطُ الرَّصاصَ والنُّحاسَ والحَدِيدَ بالنَّوع، فيقولُ في الرَّصَاصِ: قَلَعِيٌّ (¬1)، أو أُسْربٌ (¬2). والنُّعُومَةِ والخُشُونةِ، واللَّوْنِ إنْ كان يَخْتَلِفُ. ويَزِيدُ في الحَدِيدِ ذَكَرًا أو أنْثَى؛ فإنَّ الذَّكَرَ أحَدُّ وأمضَى. وإنْ أسْلَمَ في الأوَانِي التي يُمكِنُ ضَبْطُ قدرِها وطُولِها وسُمكِها ودَوْرها، كالأسْطالِ القائِمَةِ الحِيطانِ، والطُّسُوتِ، جازَ. ويَضْبِطُها بذلك. وإنْ أسْلَمَ في قِصَاعٍ أو (¬3) أقْداح من الخَشَبِ، جازَ، ويذكُرُ نَوْعَ خَشَبِها من جَوزٍ، أو تُوتٍ، وقَدرَها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، والعُمقِ والضِّيقِ، والثَّخَانةِ والدِّقَّةِ (¬4). وإنْ أسْلَمَ في سَيفٍ، ضَبَطَه بنَوْعِ حَدِيدِه، وطُولِه وعَرضِه، ورِقَّتِه وغِلَظِهِ، وبَلَدِه، وقَدِيمِ الطَّبْعِ أو مُحدَثٍ، ماض أو غيرِه، ويَصِف قَبِيعَتَه (¬5) وجَفْنَهُ (¬6). ¬

(¬1) قلعى: اسم معدن ينسب إليه الرصاص الجيد، وهو شديد البياض. (¬2) الأسرب: الرصاص. وهو فارسي معرب. (¬3) في م: «و». (¬4) في م: «الرقة». (¬5) في م: «قبضته». والقبيعة: ما على طرف مقبض السيف من فضة أو حديد. (¬6) الجفن: غمد السيف وغلافه الذي يحفظ فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخَشَبُ على أضْرب؛ منه ما يُرَادُ للبِنَاءِ، فيَذْكُرُ نَوْعَهُ، ورُطُوبَتَه، ويُبْسَهُ، وطُولَه، ودَوْره أو سُمكَهُ، وعرضَه. ويَلْزَمُه أنْ يَدفَعَ إليه مِن طَرَفِه إلى طَرَفِه بذلك العَرضِ والدَّوْرِ. فإنْ كان أحَدُ طَرَفَيهِ أغْلَظَ ممّا وَصَفَ، فقد زَادَهُ خَيرًا، وإنْ كان أدَقَّ لم يَلْزمه قَبُولُه. وإنْ ذَكَرَ الوَزْنَ أو سَمحًا، جازَ، كان لم يَذْكُره، جازَ، وله سمحٌ خالٍ من العُقَدِ؛ لأنَّ ذلك عَيبٌ. وإن كان للقِسِيِّ، ذَكَرَ هذه الأوْصافَ، وزادَ سَهْلِيًّا، أو جَبَلِيًّا، أو خُوطًا (¬1)، أو فِلْقَةً (¬2)؛ فإنَّ الجَبَلِيَّ أقْوَى من السَّهْلِيِّ، والخُوطَ أقْوَى من الفِلْقَةِ. ويَذْكُرُ فيما للوَقُودِ الغِلَظَ، واليُبْسَ، والرُّطُوبَةَ، والوَزْنَ. ويَذْكُرُ فيما للنَّضبِ النَّوْعَ، والغِلَظَ، وسائِرَ ما يَحتَاجُ إلى معرِفَتِه ويُخْرِجُه مِن الجَهالةِ. وإنْ أسْلَمَ في النُّشَّابِ والنبلِ، ضَبَطَهُ بنَوْعِ خَشَبِه، وطُولِه وقِصَرِه، ودِقَّتِه وغِلَظِه، ولوْنِه، ونَضلِه، ورِيشِه. ¬

(¬1) الخوط: الغصن الناعم. (¬2) الفلقة: قوس يتخذ من نصف عود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والحِجَارَةُ منها ما هو لِلأرْحِيَةِ (¬1)، فيَضْبِطُها بالدَّوْرِ، والثَّخَانَةِ، والبَلَدِ، والنَّوْعِ إنْ كان يَخْتَلِفُ. ومنها ما هو للبِنَاء، فيَذْكُرُ اللَّوْنَ، والقدرَ، والنَّوْعَ، والوَزْنَ. ويَذْكُرُ في حِجَارَةِ الآنِيَةِ اللَّوْنَ والنَّوْعَ، والقدرَ، واللِّينَ، والوَزْنَ. ويَصِف البَلُّورَ بأوْصَافِه. ويَصِف الآجُرَّ واللَّبِنَ بمَوْضِعِ التُّربَةِ، واللَّوْنِ، والدَّوْرِ، والثّخَانَةِ. وإنْ أسْلَمَ في الجِصِّ، والنُّورَةِ، ذَكَرَ اللَّوْنَ، والوَزْنَ. ولا يَقْبَلُ ما أصابَهُ الماءُ فجَفَّ، ولا ما قَدُمَ قِدَمًا يُؤثِّرُ فيه. ويَضْبطُ التُّرَابَ بمثل ذلك، ويَقْبَلُ الطينَ الذي قد جَف إن كان لا يَتأثرُ بذلك. فصل: ويَضْبِطُ العَنْبَرَ باللَّوْنِ (¬2)، والبَلَدِ، وإنْ شَرَطَ قِطْعَةً أو قِطْعَتَينِ، جاز، وإنْ لم يَشْتَرِطْ، فله إعطاؤه صِغارًا و (¬3) كِبارًا. وقد قيل: العَنْبَرُ نَباتٌ يَخْلُقُه اللهُ تَعالى في جَنَباتِ البحرِ. ويَضْبِطُ العُودَ الهِنْدِيَّ بِبَلَدِه، وما يُعرَفُ به. ويَضْبِطُ اللُّبَانَ، والمَصطَكَا (¬4)، وصَمغَ الشَّجَرِ، والمِسْكَ (¬5)، وسائِرَ ما يَجُوزُ السَّلَمُ فيه، بما يَخْتَلِفُ به. ¬

(¬1) الأرحية: جمع رحى. (¬2) في م: «بالوزن». (¬3) في ر، م: «أو». (¬4) المصطكا، بالفتح والضم، ويمد في الفتح فقط: لُبان رومي. (¬5) في الأصل، ر 1: «السمك».

1727 - مسألة: (وإن شرط الأجود، لم يصح)

فَإِنْ شَرَطَ الْأَجْوَدَ، لَمْ يَصِحَّ، وَإنْ شَرَطَ الأَرْدَأَ، فَعَلَى وَجْهَينِ. وَإذَا جَاءَهُ بِدُونِ مَا وَصَفَ، أَوْ نَوْعٍ آخَرَ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1727 - مسألة: (وإنْ شَرَطَ الأَجْوَدَ، لم يَصِحَّ) لتَعَذُّرِ الوُصُولِ إليه إلَّا نادِرًا (وإنْ شَرَطَ الأَرْدَأَ) لم يَصِحَّ في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لذلك. والثانِي، يَصِحُّ؛ لأنَّه يُمْكِنُه تَسْلِيمُ المُسْلَمِ، أو خَيرِ منه، فَيَلْزَمُ المُسْلِمَ قَبُولُه. 1728 - مسألة: (وإنْ جاءَهُ بدُونِ ما وَصَفَ له، أو نَوْعٍ آخرَ، فله أخْذُه) لأنَّه رَضِيَ بدُونِ حَقِّه (ولا يَلْزَمُه) لأَنَّ فيه إسْقاطَ حَقِّهِ. وقال القاضِي: يَلْزَمُه، إذا لم يكُنْ: أَدْنَى من النَّوْعِ المُشْتَرَطِ؛ لأنَّه من جِنْس، أَشْبَه الزّائِدَ في الصِّفَةِ. ولَنا، أنّه لم يَأْتِ بالمَشْرُوطِ، فلم يَلْزَمْ قَبُولُه، كالأدْنَى، بخِلافِ الزَّائِدِ في الصِّفَةِ، فإنّه أحْضَرَ المَشْرُوطَ مع زِيَادَةٍ، ولأنَّ أحَدَ النَّوْعَينِ يَصْلُحُ لِما لا يَصْلُحُ له الآخَرُ، بخِلافِ الصِّفَةِ.

1729 - مسألة: (وإن جاءه بجنس آخر، لم يجز له أخذه)

وَإِنْ جَاءَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ. وَإنْ جَاءَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ مِنْ نَوْعِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1729 - مسألة: (وإنْ جاءَهُ بجِنْسٍ آخرَ، لم يَجُزْ له أخْذُه) لقَوْلِه عليه الصَّلاةُ والسّلامُ: «مَنْ أسْلَفَ في شيءٍ، فلا يَصْرِفْه إلى غَيرِه». رَوَاهُ أبو دَاوُدَ (¬1)، وذَكَرَ ابنُ أبي مُوسَى رِوايَةً، أنّه يَجُوزُ أنْ يَأْخُذَ مكانَ البُرِّ شَعِيرًا مثْلَه. ولَعَلَّه بَنَاهُ على أنَّهُما جِنْسٌ واحِدٌ. والأَوَّلُ أصَحُّ. 1730 - مسألة: (وإن جاءَهُ بأجْوَدَ منه من نَوْعِه، لَزِمَه قَبُولُه) لأَنَّه أتَى بما تَناوَله العَقْدُ وزيادَةٍ تنْفَعُه ولا تَضُرُّه. ¬

(¬1) في: باب السلف لا يحول، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 247.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 766.

1731 - مسألة: وإن جاءه بالأجود، فقال: (خذه وزدني درهما. لم يصح)

فَإِنْ قَال: خُذْهُ وَزدْنِي دِرْهَمًا. لَمْ يَجُزْ. وَإنْ جَاءَهُ بِزِيَادَةٍ فِي الْقَدْرِ، فَقَال ذَلِكَ، صَحَّ. فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَن يَذْكُرَ قَدْرَهُ بِالْكَيلِ فِي الْمَكِيلِ، وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ، وَالذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيلًا، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1731 - مسألة: وإنْ جاءَهُ بالأَجْوَدِ، فقال: (خُذْه وزِدْنِي دِرْهَمًا. لم يَصِحَّ) وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ، كما لو جاءَهُ بزِيادَةٍ في القَدْرِ. ولَنا، أنَّ الجَوْدَةَ صِفَةٌ، فلا يَجُوزُ إفْرادُها بالعَقْدِ، كما لو كان مَكِيلًا، أو مَوْزُونًا (وإنْ جاءَه بزِيَادَةٍ في القَدْرِ، فقال له ذلك، صَحَّ) لأَنَّ الزِّيَادَةَ ههُنا يَجُوزُ إفْرَادُها بالبَيعِ. فصل: (الثالِثُ، أنْ يَذْكُرَ قَدْرَه بالكَيلِ في المَكِيلِ، والوَزْنِ في المَوْزُونِ، والذَّرْعِ في المَذْرُوعِ. فإنْ أسْلَمَ في المَكِيلِ وَزْنًا، وفي المَوْزُونِ كَيلًا، لم يَصِحَّ. وعنه، يَصِحُّ) يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ المُسْلَمِ فيه بالكَيلِ في المَكِيلِ، والوَزْنِ في المَوْزُونِ، في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ؛ لقَوْل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَفَ في شيءٍ، فَلْيُسْلِفْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ و (¬1) وزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ويُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ المَذْرُوعِ بالذَّرْعِ، والمَعْدُودِ بالعَدِّ (¬3)؛ لأنَّهُ عِوَضٌ غائِبٌ، يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، فاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِه، كالثَّمَنِ. ولا نَعْلَمُ في اعْتِبارِ مَعْرِفَةِ مِقْدارِ المُسْلَمِ فيه خِلافًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ على أنَّ السَّلَمَ جائِزٌ في الثِّيابِ بذَرْعٍ مَعْلُومٍ. فإنْ أسْلَمَ (¬4) في المَكِيلِ وَزْنًا، أو فِي المَوْزُونِ كَيلًا، ففيه رِوَايَتَانِ؛ إحْداهُما، لا يَصِحُّ. نَقَلَها عنه الأَثْرَمُ، فقال: سُئِلَ أحمدُ عن السَّلَمِ في التَّمْرِ وَزْنًا، فقال: لَا، إلَّا كَيلًا. قلتُ: إنّ النّاسَ ههُنا لا يَعْرِفُونَ الكَيلَ. قال: وإنْ كانُوا لا يَعْرِفُونَ الكَيلَ. فعلى هذه الرِّوَايَةِ، لا يَجُوزُ في المَكِيلِ إلَّا كَيلًا، ولا في المَوْزُونِ إلَّا وَزْنًا. هكذا (¬5) ذَكَره القاضِي، وابنُ أبي مُوسَى؛ لأنَّه مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِه، فلم يَجُزْ بغَيرِ ما هو مُقَدَّرٌ به في الأَصْلِ، كبَيعِ الرِّبَويَّاتِ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 218. (¬3) في الأصل، ر: «بالعدد». (¬4) في م: «أسلف». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضِها بِبَعْض. ولأَنَّه قَدَّرَهُ (¬1) بغيرِ ما هو مُقَدَّرٌ به في الأَصْلِ، فلم يَجُزْ، كما لو أسْلَمَ في المَذْرُوعِ وَزْنًا. والثانِيَةُ، يَجُوزُ. فنَقَلَ المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ، أنَّ السَّلَمَ يَجُوزُ في اللَّبَنِ إذا كانَ كَيلًا أو وَزْنًا. وهذا يَدُلُّ على إباحَةِ السَّلَمِ في المَكِيلِ وَزْنًا، وفي المَوْزونِ كَيلًا؛ لأَنَّ اللَّبَنَ لا يَخْلُو من أنْ يكُونَ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، وقد أجَازَ السَّلَمَ فيه بكُلٍّ منهما. وهو قَؤلُ الشّافِعِيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: ذلك جائِزٌ، إذا كان النّاسُ يَتَبَايَعُونَ التَّمرَ وَزْنًا. وهذا الصَّحِيحُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، لأَنَّ الغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِه، وإمْكَانُ تَسْلِيمِه من غيرِ تَنازُعٍ، فبأَيِّ قَدْرٍ قَدَّرَهُ، جازَ. ويُفارِقُ بَيعَ الرِّبَويَّاتِ؛ فإنَّ التَّماثُلَ فيها (¬2) بالكَيلِ في المَكِيلِ، والوَزْنِ في المَوْزُونِ، شَرْطٌ، ولا يَعْلَمُ هذا الشَّرْطَ إذا قَدَّرَها بغَيرِ مِقْدارِها الأصْلِيِّ. وقد ذَكَرْنَا المَكِيلَ والمَوْزُونَ في باب الرِّبَا. ولا يُسْلِمُ في اللِّبَأ إلَّا وَزْنًا (¬3)؛ لأنَّه يَجْمُدُ عَقِيبَ حَلْبِه، فلا يَتَحَقَّقُ الكَيلُ فيه. فإنْ كان ¬

(¬1) في م: «مقدر». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «موزونا».

1732 - مسألة: (ولابد أن يكون المكيال معلوما، فإن شرط مكيالا بعينه، أو صنجة بعينها غير معلومة، لم يصح)

وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مَعْلُومًا، فَإِنْ شَرَطَ مِكْيَالًا بعَينهِ، أَوْ صَنْجَةً بِعَينِهَا غَيرَ مَعْلُومَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْلَمُ فيه مِمّا لا يُمْكِنُ وَزْنُه بمِيزانٍ لِثِقَلِه، كالأرْحِيَةِ، والحِجَارَةِ الكِبارِ، وُزِنَ بالسَّفِينَةِ، فتُتْرَكُ السَّفِينَةُ في الماءِ، ثم يُتْرَكُ ذلك فيها، فَيَنْظُرُ إلى أيِّ مَوْضِعٍ تَغُوصُ، فيُعَلِّمُه، ثم يُرْفَعُ ويُتْرَكُ مكانَه رَمْلٌ أو حِجَارَةٌ صِغارٌ، إلى أنْ يَبْلُغَ الماءُ المَوْضِعَ المُعَلَّمَ، ثم يُوزَنُ بمِيزانٍ، فيكونُ زِنَةَ ذلك الشيءِ. 1732 - مسألة: (ولابُدَّ أنْ يكونَ المِكْيَالُ مَعْلُومًا، فإنْ شَرَطَ مِكْيَالًا بعَينِه، أو صَنْجَةً بعَينِها غيرَ مَعْلُومَةٍ، لم يَصِحَّ) يُشْتَرَطُ (¬1) أنْ يكُونَ المِكْيالُ والصَّنْجَةُ والذِّرَاعُ مَعْرُوفًا عندَ العامَّةِ. فإن عَيَّنَ مِكْيالًا، أو صَنْجَةً، أو ذِراعًا غيرَ مَعْلُومٍ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يَهْلِكُ، فيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ (¬2) المُسْلَمِ فيه، وهذا غَرَرٌ لا يَحْتاجُ إليه العَقْدُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ، على أنّ السَّلَمَ في الطَّعَامِ لا ¬

(¬1) في ر 1، م: «بشرط». (¬2) سقط من: م.

1733 - مسألة: (وفي المعدود المختلف غير الحيوان روايتان؛ إحداهما، يسلم فيه عددا. والأخرى، وزنا. وقيل: يسلم في الجوز والبيض عددا، وفي الفواكه والبقول وزنا)

وَفِي الْمَعْدُودِ الْمُخْتَلِفِ غَيرِ الْحَيَوانِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُسْلِمُ فِيهِ عَدَدًا. وَالْأُخْرَى، وَزْنًا. وَقِيلَ: يُسْلِمُ فِي الْجَوْزِ وَالْبَيضِ عَدَدًا، وَفِي الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَزْنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ بقَفِيزٍ لا يُعْرَفُ عِيَارُه، ولا في ثَوْبٍ بذَرْعِ فلانٍ؛ لأنَّ المِعْيارَ لو تَلِفَ، أو ماتَ فلانٌ، بَطَلَ السَّلَمُ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأبو حَنِيفَةَ وأصحَابُه، وأبو ثَوْرٍ. فإنْ عَيَّنَ مِكْيَال رَجُل، أو مِيزانَه، وكانا مَعْرُوفَينِ عندَ العامَّةِ، جازَ. ولم يَخْتَصَّ بهما. وإن لم يُعْلَمَا، لم يَجُزْ؛ لِما ذَكَرْنا. 1733 - مسألة: (وفي المَعْدُودِ المُخْتَلِفِ غيرِ الحَيَوانِ رِوايَتَانِ؛ إحْداهُما، يُسْلِمُ فيه عَدَدًا. والأُخْرَى، وَزْنًا. وقيل: يُسْلِمُ في الجَوْزِ والبَيضِ عَدَدًا، وفي الفَواكِهِ والبُقُولِ وَزْنًا) ما عَدا المَكِيلَ، والمَوْزونَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَيَوانَ، والمَذْرُوعَ، فعلى ضَرْبَينِ؛ مَعْدُودٍ وغَيرِه، والمَعْدُودُ نوْعانِ؛ أحَدُهما، لا يَتَبايَنُ كَثِيرًا؛ كالجَوْزِ والبَيضِ، فَيُسْلِمُ فيه عدَدًا في أظْهَرِ الرِّوَايَتَينِ. وهو قولُ أبي حَنِيفَةَ، والأوْزَاعِيِّ. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يُسْلِمُ فيهما عدَدًا؛ لأنَّ ذَلك يَتَبايَنُ ويَخْتَلِفُ، فلم يَجُزْ عَدَدًا، كالبِطِّيخِ، وإنّما يُسْلَمُ فيهما كَيلًا أو وَزْنًا. ولَنا، أنَّ التَّفَاوُتَ يَسِيرٌ، ويَذْهَبُ ذلك باشْتِراطِ الكِبَرِ أو (¬1) الصِّغَرِ أو الوَسَطِ، فيَذْهَبُ التَّفَاوُت. وإنْ بَقِيَ شيءٌ يَسِيرٌ، عُفِيَ عنه، كسائِرِ التَّفَاوُتِ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ المَعْفُوِّ عنه، ويُفارِقُ البطيخَ، فإنَّه يَتَفاوَتُ (¬2) كَثِيرًا، لا يَنْضَبِطُ، ولَنا فيه مَنْعٌ أيضًا. النَّوْعُ الثانِي، ما يَتَفَاوَتُ؛ كالرُّمَّانِ، والسَّفَرْجَلِ، والقِثَّاءِ، والخِيَارِ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لَيسَ بمَعْدُودٍ، من البِطِّيخِ والبُقُولِ، وفيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُسْلِمُ فيه عَدَدًا، ويُضْبَطُ (¬3) بالصِّغَرِ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) بعده في م: «تفاوتا». (¬3) في م: «يضبطها».

فَصْلٌ: الرَّابعُ، أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا مَعْلُومًا، لَهُ وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ، كَالشَّهْرِ وَنَحْوهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ حَالًّا، أَوْ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، كَالْيَوْمِ وَنَحْوهِ، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والكِبَرِ؛ لأَنَّهُ يُباعُ هكذا. والثاني، لا يُسْلِمُ فيه إلَّا وَزْنًا. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ؛ لأنَّه لا يمكِنُ تَقْدِيرُه بالعَدَدِ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ كَثِيرًا، ويَتَبَايَنُ جِدًّا، ولا بالكَيلِ؛ لأنَّه يَتَجَافَى في المِكْيَالِ. ولا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ البَقْلِ بالحَزْمِ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ، ويُمْكِنُ حَزْمُ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ، فلم يُمْكِنْ تَقْدِيرُه بغَيرِ الوَزْنِ، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُه به. وقيلَ: يُسْلِمُ في الجَوزِ والبَيضِ عدَدًا؛ لأنَّه يُباعُ كذلك، وفي الفَواكِهِ والبُقُولِ وَزْنًا؛ لأنَّه أضْبَطُ. وقد ذَكَرْناهُ. فصل: (الرَّابعُ، أنْ يَشْتَرِطَ أجَلًا مَعْلُومًا، له وَقْعٌ في الثَّمَنِ، كالشهْرِ ونَحْوه. فإنْ أسلمَ حالًّا، أو إلى أجَل قَرِيبٍ، كاليَوْمِ ونحوه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِم يَصِحَّ) يُشْتَرَطُ لصِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُه مُؤَجَّلًا، ولا يَصِحُّ السَّلَمُ الحالُّ. نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ المَرُّوذِيِّ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والأوْزَاعِيُّ. وقال الشَّافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يَجُوزُ السَّلِمُ حالًّا؛ لأنَّه عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤجَّلًا، فصَحَّ حالًّا، كبُيُوعِ الأَعْيَانِ، ولأنَّه إذا جازَ مُؤجَّلًا، فحالًّا أجْوَزُ، ومن الغَرَرِ أبْعَدُ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أسْلَفَ في شَيءٍ، فَلْيُسْلِفْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ، و (¬1) وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ» (¬2). فأَمَرَ بالأَجَلِ، والأَمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ. ولأنَّه أمَرَ بهذه الشُّرُوطً تَبْيِينًا لشُروطِ السَّلَمِ، ومَنْعًا منه بدُونِها، ولذلك (¬3) لا يَصِحُّ إذا انْتَفَى الكَيلُ والوَزْنُ، فكذلك الأَجَلُ. ولأنَّه إنَّما جازَ رُخْصَةً للمَرْفَقِ، ولا يَحْصُلُ المَرْفَقُ إلَّا بالأَجَلِ، فإذا انْتَفَى الأَجَلُ انْتَفَى المَرْفَقُ، فلا يَصِحُّ، كالكِتَابَةِ. ولأنَّ الحُلُولَ يُخْرِجُه عن اسْمِه ومَعْناه، ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 218. (¬3) في ر 1، ق: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمّا الاسْمُ، فلأنَّه يُسَمَّى سَلَمًا وسَلَفًا؛ لتَعَجُّلِ أحَدِ العِوَضَينِ وتَأَخُّرِ الآخَرِ، ومعناه ما ذَكَرْنَاه في أوَّلِ البابِ، من أنّ الشارِعَ أرْخَصَ (¬1) فيه مِن أجْلِ الحاجَةِ الدَّاعِيَةِ إليه، ومع حُضُورِ ما يَبِيعُه حَالًّا لا حاجَةَ إلى السَّلَمِ، فلا يَثْبُتُ. وفارَقَ بُيُوعَ الأعْيَانِ، فإنَّها لم تَثْبُتْ على خِلافِ الأصْلِ لمَعْنًى يَخْتَصُّ بالتَّأْجِيلِ. وما ذَكَرُوه من التَّنْبِيهِ غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنَّ ذلك إنّما يَجْرِي فيما إذا كان المَعْنَى المُقْتَضِي مَوْجُودًا في الفَرْعِ بصِفةِ التَّأكِيدِ، وليس كذلك ههُنا، فإنَّ البُعْدَ من الغَرَرِ ليس هو المُقْتَضيَ لِصِحَّةِ السَّلَمِ المُؤَجَّلِ، وإنّما المُصَحِّحُ له شيءٌ آخَرُ لم يَذْكُرِ (¬2) اجْتماعَهما فيه، وقد بَيَّنَّا افْتِراقَهُما. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إنْ باعَهُ ما يَصِحُّ السَّلَمُ فيه حالًّا في الذِّمَّةِ، صَحَّ، ومَعْناهُ مَعْنَى السَّلَمِ، وإنّما افْتَرَقَا في اللَّفْظِ، لكنْ يُشْتَرَطُ في البَيعِ أنْ يكونَ المَبِيعُ مَمْلُوكًا للبائِعِ. فإنْ باعَهُ ما ليسَ عِنْدَه، لم يَصِحَّ، وقد ذَكَرْنَاهُ. فصل: ويُشْتَرَطُ كَوْنُ الأجَلِ مُدَّةً لها وَقْعٌ في الثَّمَنِ، كالشَّهْرِ وما قَارَبَه. وقال أصْحابُ أبي حَنِيفَةَ: لو قَدَّرَهُ بنِصْفِ يَوْمٍ، جازَ. وقَدَّرَهُ ¬

(¬1) في م، ق: «رخص». (¬2) في المغني 6/ 403: «نذكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضُهم بثَلاثةِ أيّامٍ. وهو قولُ الأوْزَاعِيِّ؛ لأنَّها مُدَّةٌ يَجُوزُ فيها خِيارُ الشَّرْطِ، وهي آخِرُ حَدِّ القِلَّةِ. قالُوا: لأنَّ الأَجَلَ إنّما اعْتُبِرَ في السَّلَمِ؛ لأنَّ المُسْلَمَ فيه مَعْدُومٌ في الأصْلِ؛ لكَوْنِ السَّلَمِ إنّما ثَبَت رُخْصَةً في حَقِّ المَفالِيسِ، فلا بُدَّ من الأجَل، ليَحْصُلَ فيُسَلَّمَ، وهذا يَتَحَقَّقُ بأَقلِّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ حُصُولَه فيها. ولَنا، أنَّ الأَجَلَ إنّما اعْتُبِرَ لِيَتَحَقَّقَ المَرْفَقُ الذي شُرِعَ من أجْلِه السَّلَمُ، ولا يَحْصُلُ ذلك بالمُدَّةِ التي لا وَقْعٍ لها في الثَّمَنِ. ولا يَصِحُّ اعْتِبارُه بمُدَّةِ الخِيارِ، لأَنَّ الخِيارَ يَجُوزُ ساعَة، وهذا لا يَجُوزُ، والأَجَلُ يَجُوزُ أنْ يكونَ أعْوامًا، وهم لا يُجِيزُونَ الخِيارَ أكثرَ من ثلاثٍ، وكوْنُها آخِرَ حَدِّ القِلَّةِ، لا يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ بها. وقَوْلُهم: إنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ بأقَلِّ مُدَّةٍ: لا يَصِحُّ، فإنَّ السَّلَمَ إنَّما يكونُ لحاجَةِ المَفالِيسِ الذين لهم ثِمارٌ أو زُرُوعٌ أو تِجارات يَنْتَظِرُونَ حُصُولَها، ولا يَحْصُلُ هذا في المُدَّةِ اليَسِيرَةِ غالِبًا.

1734 - مسألة: (إلا أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة، فيصح)

إلا أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ يَأُخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً، فَيَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1734 - مسألة: (إلَّا أنْ يُسْلِمَ في شيءٍ يأْخُذُ منه كُلَّ يَوْم أجْزَاءً مَعْلُومَةً، فيَصِحّ) قال الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأبِي عبدِ الله: الرَّجُلُ يَدْفَعُ إلى الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ في الشَّيءِ يُؤكَلُ، فيَأُخُذُ منه كُلَّ يوْم من تِلْكَ السِّلْعَةِ شَيئًا. فقال: على مَعْنَى السَّلَم؟ فقُلْتُ: نَعَم. فقال: لا بَأْسَ. ثم قال: مثلُ الرَّجُلِ القَصَّابِ، يُعْطِيه الدِّينَارَ على أن يَأْخُذَ منه كُلَّ يَوْم رَطْلًا من لَحْمٍ قد وَصَفَه. وبهذا قال مالِكٌ. وقال الشّافِعِيُّ: إذا أسْلَمَ في جِنْس واحِدٍ إلى أجَلَينِ، لِم يَصِحَّ، في أحَدِ القَوْلَينِ؛ لأنَّ ما يُقابِلُ أبْعَدَهُما أجَلًا أقَلُّ ممّا يُقابِلُ الآخَرَ، وذلك مَجْهُولٌ. ولَنا، أنّ كُلَّ بَيعٍ جازَ إلى أجَلٍ، جازَ إلى أجَلَينِ وآجالٍ، كبُيوعِ الأعْيَانِ. فعلى هذا، إذا قَبَضَ البَعْضَ وتعذَّرَ [قَبْضُ الباقِي] (¬1)، رَجَعَ بقِسْطِه من الثَّمَنِ، ولا يَجْعَلُ للبَاقِي فَضْلًا على المَقْبُوضِ؛ لأنَّه مَبِيعٌ واحِدٌ مُتَماثِلُ الأَجْزَاءِ، فيُقَسِّطُ الثَّمَنَ على أجْزائِه بالسَّويَّةِ، كما لو اتَّفَقَ أجَلُه. ¬

(¬1) سقط من: م.

1735 - مسألة: (فإن أسلم في جنس إلى أجلين، أو في جنسين إلى أجل، صح)

وَإنْ أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ إِلَى أَجَلَينِ، أَوْ فِي جِنْسَينِ إِلَى أَجلٍ صَحَّ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مُقَدَّرًا بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1735 - مسألة: (فإنْ أسْلَمَ في جِنْس إلى أجَلَينِ، أو في جِنْسَينِ إلى أجل، صَحَّ) أمّا إذا أسْلَمَ في جِنْس إلى أجَلَين، فقد ذَكَرْناه في المسألةِ قبلَها. فإن أسْلَمَ في جِنْسَين إلى أجَل واحِدٍ، صَحَّ، قِياسًا على البَيعٍ. 1736 - مسألة: (ولابُدَّ أنْ يكونَ الأَجَلُ مُقَدَّرًا بزَمَنٍ مَعْلُومٍ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للخَبَرِ. وهو أنْ يُسْلِمَ إلى وَقْتٍ يُعْلَمُ بالأَهِلَّةِ، نحوَ أوَّلِ الشَّهْرِ، وأَوْسَطِه، وآخِرِه، أو يومٍ مَعْلُومٍ منه؛ لقَوْلِ اللهِ تَعَالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1). ولا خِلافَ في صِحَّةِ التَّأجِيلِ بذلك. فإنْ أسْلَمَ إلى عيدِ الفِطْر، أو النَّحْرِ، أو يَوْمِ عَرَفَةَ، أو عاشُورَاءَ، أو نحوها، جازَ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ بالأَهِلَّةِ. فإنْ جَعَلَ الأَجَلَ مُقَدَّرًا بغَيرِ الشُّهُورِ الهِلَالِيَّةِ، وكان مما يعْرِفُه المُسْلِمُونَ، وهو مَشْهُورٌ بَينَهُم، مثلَ الأشْهُرِ الرُّومِيَّةِ، كشُبَاط ونَحْوه، أو عِيدٍ لا يَخْتَلِفُ، كالنَّيرُوزِ والمِهْرَجَانِ عند مَنْ يَعْرِفُها، فظَاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وابنِ أبي مُوسَى، أنّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه أسْلَمَ إلى غيرِ الشُّهُورِ الهِلَالِيَّةِ، أشْبَه إذا أسْلَمَ إلى الشَّعَانِينِ وعيدِ الفَطِيرِ (¬2)، ولأنَّ هذه لا يَعْرِفُها كَثِيرٌ من المُسْلِمِينَ، أشْبَه ما ذَكرْنا. وقال القاضِي: يَصِحُّ. وهو قَوْلُ الأوْزَاعِيِّ، والشَّافِعِيِّ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ لا يَخْتَلِفُ، أشْبَه أعْيَادَ المُسْلِمِينَ. وفارَقَ ما يَخْتَلِفُ؛ لكَوْنِه لا يَعْلَمُه المُسْلِمُونَ. وإنْ كان ممّا لا يَعْرِفُه المُسْلِمُونَ، كالشَّعَانِينِ، وعِيدِ الفَطِيرِ ¬

(¬1) سورة البقرة 189. (¬2) الشعانين: عيد للنصارى يقع يوم الأحد السابق لعيد الفصح. والفطير: عيد لليهود يكون في خامس عشر نيسان، وليس المراد نيسان الرومي بل شهر من شهورهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَحْوهِما، لم يَصِحَّ السَّلَمُ إليه؛ لأنَّ المُسْلِمِينَ لا يَعْرِفُونَه، ولا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أهْلِ الذِّمَّةِ فيه؛ لأنَّ قَوْلَهُم غيرُ مَقْبُولٍ، ولأَنَّهُم يُقَدِّمُونَه ويُؤخِّرُونه على حِسَابٍ لهم لا يَعْرِفُه المُسْلِمُونَ. وإنْ أسْلَمَ إلى ما لَا يَخْتَلِفُ، مثلَ كانُون الأوَّلِ، ولا يَعْرِفُه المُتَعَاقِدَانِ، أو أحَدُهما، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ عِنْدَه. فصل: وإذا جَعَلَ الأَجَلَ إلى شَهْرٍ، تَعَلَّقَ بأوَّلِه. وإنْ جَعَلَ الأَجَلَ اسْمًا يَتَنَاوَلُ شَيئَينِ، كجُمادَى ويَوْمِ النَّفْرِ، تَعَلَّقَ بأَوَّلِهما. وإنْ قال: إلى ثَلاثَةِ أشْهرٍ. كان إلى انْقِضَائِها؛ لأنَّه إذا ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أشْهُرٍ مُبْهَمَةً، وجَبَ أنْ يكُونَ ابْتِداؤُها من حِينِ لَفْظِه بها. وكذلك لو قال: إلى شَهْرٍ. كان إلى آخِرِه. ويَنْصَرِفُ إلى الأشْهُرِ الهِلَالِيَّةِ؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (¬1). وأرادَ (¬2) الهِلَالِيَّة. فإنْ كان في أثْناءِ شَهْرٍ كمَّلَ شَهْرًا بالعَدَدِ، وشَهْرَينِ بالأَهِلَّةِ. وقيلَ: تكونُ الثَّلَاثَةُ ¬

(¬1) سورة التوبة 36. (¬2) في م: «إن أراد».

1737 - مسألة: (فإن أسلم إلى الحصاد، أو [الجذاذ، أو]

فَإِنْ أَسْلَمَ إِلَى الْحَصَادِ، أَو الْجِذَاذِ، أَو شَرَطَ الْخِيَارَ إِلَيهِ، فَعَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعَدَدِ. وسَنَذْكُرُ ذلك في غيرِ هذا المَوْضِعِ (¬1). وإنْ قال: مَحِلُّهُ شَهْرُ كذا، صَحَّ، وتَعَلَّقَ بأَوَّلِه. وقيل: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه جَعَلَ ذلك ظَرْفًا، فيَحْتَمِلُ أوَّلَهُ وآخِرَه. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ فإنَّه لو قال لعَبْدِه: أنْتَ حُرٌّ في شَهْرِ كذا. تَعَلَّقَ بأَوَّلِه، وهو نَظِيرُ مسألتِنا فإنْ قِيلَ: العِتْقُ يَتَعَلَّقُ بالإخْطارِ والإغْرارِ (¬2)، ويَجُوزُ تَعْلِيقُه على مَجْهُولٍ، كنُزُولِ المَطَرِ، وقُدُومِ زَيدٍ، بخِلافِ مسألتِنا. قُلْنا: إلَّا أنّه إذا جَعَلَ مَحِلُّهُ في شَهْرٍ، تَعَلَّقَ بأَوَّلِه، فلا يكونُ مَجْهُولًا، وكذا السَّلَمُ. 1737 - مسألة: (فإن أسْلَمَ إلى الحَصَادِ، أو [الجِذاذِ، أو] (¬3) شَرَطَ الخِيارَ إليه، فعلى رِوَايَتَينِ) لا يَصِحُّ أنْ يُؤَجِّلَ السَّلَمَ إلى الحَصادِ والجِذاذِ وما أَشْبَهَه. كذلك قال ابنُ عَبّاسٍ، وأبو حَنِيفةَ، والشّافِعِيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الإقرار». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه رِوَايَةٌ أُخْرَى، أنّه يَجُوزُ. قال أحمدُ: أرْجُو أنْ لا يَكُونَ به بَأْسٌ. وبه قال مالِكٌ، وأبو ثَوْرٍ. وعن ابنِ عمرَ، أنَّه كان يَبْتَاعُ إلى العَطاءِ. وبه قال ابنُ أَبِي لَيلَى. وقال أحمدُ: إنْ كان شيءٌ يُعْرَفُ فأرْجُو، وكذلك إنْ قال: إلى قُدُومِ الغُزَاةِ. وهذا مَحْمولٌ على أنّه أرَادَ وَقْتَ العَطَاءِ؛ لأنَّ ذلك مَعْلُومٌ، فأمّا نَفْسُ العَطَاءِ فهو مَجْهُولٌ يَخْتَلِفُ ويَتَقَدَّمُ ويَتأَخرُ. ويَحْتَمِلُ أنّه أرادَ نَفْسَ العَطاءِ؛ لكَوْنِه يَتَقَارَبُ أيضًا، فأشْبَه الحَصادَ. وَوَجْهُ ذلك، أنّه أجَلٌ تَعَلَّقَ بوقتٍ من الزَّمَنِ يُعْرَفُ في العادَةِ، لا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا كَثِيرًا، فأشْبَهَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قال: إلى رَأْسِ السَّنَةِ. ولَنا، قولُ ابنِ عَبّاس: لا تَتَبَايَعُوا إلى الحَصادِ والدِّيَاسِ، ولا تَتَبَايَعُوا إلَّا إلى شَهْرٍ مَعْلُومٍ (¬1). ولأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ ويَقْرُبُ ويَبْعُدُ، فلا يَجُوزُ أنْ يكونَ أجَلًا، كقُدُومِ زَيدٍ. فإنْ قيل: فقد رُوِيَ عن عائِشَةَ أنّها قالت: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ إلى يَهُوديٍّ: «أنَّ ابْعَثْ إلَيَّ بثَوْبَينِ إلى المَيسَرَةِ» (¬2). قُلْنا: قال ابنُ المُنْذِرِ: رَوَاهُ حَرَمِيُّ بنُ عُمَارَةَ. وقال أحمدُ: فيه غَفْلَةٌ، وهو صَدُوقٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: فأَخَاف أنْ يكُونَ من غَفَلَاته، إذْ لم يُتَابَعْ عليه. ثمّ إنَّه لا خِلَافَ في أنَّه لو جَعَلَ الأجَلَ إلى المَيسَرَةِ لم يَصِحَّ، وإنْ جَعَلَ الخِيَارَ إليه فهو في مَعْنَى الأَجَلِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب لا يجوز السلف حتى يكون بثمن معلوم. . . .، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 25. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، من كتاب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 217. والنسائي، في: باب البيع إلى الأجل المعلوم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 258.

1738 - مسألة: (وإذا جاءه بالسلم قبل محله، ولا ضرر في قبضه، لزمه قبضه، وإلا فلا)

وَإذَا جَاءَهُ بِالسَّلَمِ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ، لَزِمَهُ قَبْضُهُ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1738 - مسألة: (وإذَا جاءَهُ بالسَّلَمِ قَبْلَ مَحِلِّه، ولا ضَرَرَ في قَبْضِه، لَزِمَهُ قَبْضُه، وإلَّا فَلَا) عَبَّرَ بالسَّلَمِ عن المُسْلَمِ فيه، كما يُعَبَّرُ بالسَّرِقَةِ عن المَسْرُوقِ، وبالرَّهْنِ عن المَرْهُونِ. [إذا أحْضَرَ] (¬1) المُسْلَمَ فيه على الصِّفَةِ المَشْرُوطَةِ، لم يَخْلُ من أَحْوالٍ ثَلَاثةٍ؛ أحدُها، أنْ يُحْضِرَه في مَحِلِّه، فَيَلْزَمُ قَبُولُه؛ كالمَبِيعِ (¬2) المُعَيَّنِ، سَواءٌ تَضَرَّرَ بقَبْضِه أَوْ لَا؛ لأنَّ عَلَى المُسْلَمِ إليه ضَرَرًا في بقائِه في يَدِه. فإنِ امْتَنَعَ، قِيلَ له: إمَّا أنْ تَقْبِضَ حَقَّكَ، أو تُبْرِئَ منه. [فإن أبى، قَبَضَه الحَاكمُ له، وبَرِئَت ذِمَّةُ المُسْلَمِ إليه منه] (¬3)، لأنَّ قَبْضَ الحاكِمِ قامَ مَقامَ قَبْضِ المُمْتَنِعِ، ¬

(¬1) في م: «وإذا حضر». (¬2) في م: «كالبيع». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بولَايِته، إلَّا أنّه ليس له الإِبرَاءُ. الحالُ الثانِي، أنْ يُحْضِرَهَ بعدَ مَحِلِّ الوُجُوبِ، فهو كما لو أحْضَرَ المَبِيعَ بعدَ تَفَرُّقِهِما. الحالُ الثالِثُ، أنْ يُحْضِرَهُ قبلَ مَحِلِّه، فيُنْظَرُ؛ فإن كان في قَبْضِه قبلَ المَحِلِّ ضَرَرٌ، إمّا لكَوْنِه ممَّا يَتَغَيَّرُ، كالفاكِهَةِ والأطْعِمَةِ كُلِّها، أو كان قَدِيمُه دُونَ حَدِيِثه، كالحُبُوبِ ونحو هذا، لم يَلْزَمِ المُسْلِمَ قَبُولُه؛ لأنَّ له غَرَضًا في تَأْخِيرِه، بأَن يَحْتَاج إلى أَكْلِه أو إِطْعَامِهِ (¬1) في ذلك الوَقْتِ، وكذلك الحَيَوانُ؛ لأنَّه لا يأُمَنُ تَلَفَه، ويَحْتَاجُ إلى المُؤْنَةِ. وهكذا إن كان مما (¬2) يُحْتَاجُ في حِفْظِه إلى مُؤْنَةٍ، كالقُطْنِ ونحوه، أو كان الوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى على ما يَقْبِضُه، فلا يَلْزَمُه الأَخْذُ في هذه الأَحْوالِ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في قَبْضِه، ولم يأْتِ مَحِلُّ اسْتِحْقَاقِه له، ففو كنَقْصِ صِفَةٍ فيه. وإنْ كان ممّا لا ضَرَرَ في قَبْضِه، ولا يَتَغَيَّرُ؛ كالحَدِيدِ، والرَّصَاصِ، والنُّحَاسِ؛ فإنّه يَسْتَوي فيه (¬3) قَدِيمُه وحَدِيثُه، ونحوُ ذلك الزَّيتُ والعَسَلُ، ولم يَكُنْ ¬

(¬1) في م، ق: «طعامه». (¬2) سقط س: م. (¬3) زيادة من: الأصل.

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في قَبْضِه ضَرَرُ الخَوْفِ، ولا تحَمُّلُ مُؤْنَةٍ، فَعَلَيه قَبْضُه؛ لحُصُولِ غَرَضِه مع زِيادَةِ تَعْجِيلِ المَنْفَعَةِ، فَجَرى مَجْرَى زِيادَةِ الصِّفَةِ، وزِيَادَةِ الجَوْدَةِ في المُسْلَمَ فيه. فصل: وليس له إلّا أقَلُّ ما تَقَعُ عليه الصِّفَةُ؛ لأنَّه قد سَلَّمَ إليه ما تَنَاوَلَه العَقْدُ، فبَرِئَتْ ذِمَّتُه منه. وعليه أنْ يُسْلِمَ الحُبُوبَ نَقِيَّةً، فإن كان فيها تُرابٌ يَأْخُذُ مَوْضِعًا من المِكْيَالِ، لم يَجُزْ. وإنْ كان يَسيرًا لا يُوثِّرُ في الكَيلِ ولا يَعِيبُ، لَزِمَهُ أخْذُه. ولا يَلْزَمُه أخْذُ التَّمْرِ إلَّا جَافًّا. ولا يَلْزَمُ أنْ يَتَنَاهَى جَفَافُه؛ لأنَّه يَقَعُ عليه الاسْمُ. ولا يَلْزَمُه أنْ يَقْبَلَ مَعِيبًا بحالٍ، وإن قَبَضَه، فوَجَدَه مَعِيبًا، فله المُطَالبَةُ بالبَدَلِ، كالمَبِيعِ، واللهُ أعْلَمُ. فصل: الشَّرْطُ (الخامِسُ، أنْ يكونَ المُسْلَمُ فيه عامَّ الوُجُودِ في

1739 - مسألة: (وإن أسلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، لم يصح)

فَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِ، أَوْ لَا يُوجَدُ إلا نَادِرًا، كَالسَّلَمِ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ إِلَى غَيرِ وقْتِهِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإنْ أَسْلَمَ فِي ثمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَينِهِ، أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحِلِّهِ) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه إذا كان ظاهرًا (¬1) أمْكَنَ تَسْلِيمُه عندَ وجُوبِ التَّسْلِيمِ. وإذا لم يَكُنْ عَامَّ الوُجُودِ، لم يَكُنْ مَوْجُودًا عندَ المَحِلِّ كذلك (¬2)، فلا يُمْكِنُ تَسْلِيمُه، فلم يَصِحَّ، كبَيعِ الآبِقِ، بل أوْلَى، فإنَّ السَّلَمَ احْتَمَلَ فيه أنْواعٌ من الغَرَرِ للحَاجَةِ، فلا يَحْتَمَلُ فيه غرَرٌ آخَرُ؛ لئَلَّا يَكْثُرَ الغَرَرُ (فإن كان لا يُوجَدُ فيه، أوْ لا يُوجَدُ إلَّا نادِرًا، كالسَّلَمِ في العِنَبِ والرُّطَبِ) إلى شُبَاط، أو آذار، أو أسْلَمَ إلى مَحِلٍّ لا يَعُمُّ وجُودُه فيه، كزَمَانِ أوَّلِ العِنَبِ أو آخِرِه الذي لا يُوجَدُ فيه إلا نادِرًا (لم يَصِحَّ) لأنَّه لا يُؤْمَنُ انْقِطَاعُه، فلا يَغْلِبُ على الظَّنِّ القُدْرَةُ على تَسْلِيمِه عند وجُوبِ التَّسْلِيمِ. 1739 - مسألة: (وإنْ أسْلَمَ في ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بعَينِه، أو قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، لم يَصِحَّ) لأنَّه لا يُؤْمَنُ تَلَفُه وانْقِطاعُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: إبْطالُ ¬

(¬1) في الأصل: «كذلك». (¬2) في الأصل: «ظاهرا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّلَمِ إذا أسْلَمَ في ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بعَينِه كالإجْماعِ من أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْي. قال: وَرَوَينَا عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه أسْلَفَ إليه رَجُلٌ من اليَهُودِ دَنانِيرَ في تَمْرٍ مُسَمًّى، فقال اليَهُودِيُّ: من تَمْرِ حائِطِ بَنِي فُلانٍ. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمّا مِن حائِطِ بَنِي فُلانٍ فَلَا، ولكنْ كَيلٌ مُسَمًّى إلى أجَلٍ مُسَمًّى». رَواهُ ابنُ ماجَه (¬1) وغيرُه. ورَواهُ الجُوزْجَانِيُّ في «المُتَرْجَمِ»، وقال: أجْمَعَ النَّاسُ على الكَرَاهَةِ لهذا البَيعِ. ولأنَّه لا يُؤْمَنُ انْقِطَاعُه وتَلَفُه، أشْبَهَ ما لو أسْلَمَ في شيءٍ قَدَّرَهُ بمِكْيَالٍ مُعَيَّنٍ، أو صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أو أحْضَرَ خِرْقَةً وأسْلَمَ في مِثْلِها. فصل: ولا يُشْتَرَطُ وجودُ المُسْلَمِ فيه حال العَقْدِ، بل يَجُوزُ أنْ يُسلِمَ في الرُّطَبِ في أوَانِ الشِّتَاءِ، وفي كُلِّ مَعْدُومٍ إذا كان مَوْجُودًا عند المَحِلِّ. ¬

(¬1) في: باب السلف في كيل معلوم. . . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 766.

1740 - مسألة: (وإن أسلم إلى محل يوجد فيه عاما، فانقطع،

وَإنْ أَسْلَمَ إِلَى مَحِلِّ يُوجَدُ فِيهِ عَامًّا، فَانْقَطَعَ، خُيِّرَ بَينَ الصَّبْرِ وَبَينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي: يُشْتَرَط أنْ يكونَ جِنْسُه مَوْجُودًا حال العَقْدِ إلى حالِ المَحِلِّ؛ لأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ يَجُوز أنْ يكونَ مَحِلًّا للمُسْلَم فيه لمَوْتِ المُسْلَمِ إليه، فاعْتُبِرَ وُجُودُه فيه، كالمَحِلِّ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المَدِينَةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثِّمارِ [السَّنةَ والسَّنَتَين] (¬1)، فقال: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ، ووَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أجَلٍ معْلُومٍ» (¬2). ولم يَذْكُرِ الوُجُودَ، ولو كان شَرْطًا لذَكَرَه، ولَنَهاهُم عن السَّلَفِ سَنَتَينِ (¬3)؛ لأَنَّه يَلْزَمُ منه انْقِطاعُ المُسْلَمِ فيه أوْسَطَ السَّنَةِ، ولأنَّه (¬4) يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، ويُوجَدُ في مَحِلِّه غالِبًا، أشْبَه المَوْجُودَ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الدَّينَ يَحِلُّ بالمَوْتِ، وإنْ سَلَّمْنا، فلا يَلْزَمُ أنْ يشْتَرِطَ ذلك الوُجُودَ، إذْ لو لَزِمَ أفْضَى إلى أنْ تكُونَ آجالُ السَّلَمِ مَجْهُولَةً، والمَحِلُّ ما جَعَلَة المُتَعاقِدَانِ مَحِلًّا، وههنا لم يَجْعَلَاهُ. 1740 - مسألة: (وإنْ أَسْلَمَ إلى مَحِلٍّ يُوجَدُ فيه عَامًّا، فانْقَطَعَ، ¬

(¬1) في م: «السنتين والثلاث». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 218. (¬3) في ر: «سنين». (¬4) في م: «لا».

الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِرأَسِ مَالِهِ، أَو عِوَضِهِ إِنْ كَانَ مَعْدُومًا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يَنْفسِخُ بِنَفْسِ التَّعَذُّرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خُيِّرَ بينَ الصَّبْرِ وبينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ برَأْسِ مالِه، أو عِوَضِه إنْ كان مَعْدُومًا، في أحَدِ الوَجْهَينِ. وفي الآخَرِ، يَنْفَسِخُ بنَفْسِ التَّعَذُّرِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنّه إذا (¬1) تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ المُسْلَمِ فيه عندَ مَحِلِّه، إمّا لغَيبَةِ المُسْلَمِ إليه، أو عَجْزِه عن التَّسْلِيمِ حتى عَدِمَ المُسْلَمَ فيه، أو لم تَحْمِلِ الثّمارُ تلك السنَةَ، فالمُسْلِمُ بالخِيَارِ بينَ الصَّبْرِ إلى أنْ يُوجَدَ فيُطَالِبَ به، وبينَ أن يَفْسَخَ العَقْدَ ويَرْجِعَ بالثَّمَنِ إن كان مَوْجُودًا، أو بمِثْلِه إنْ كان مِثْلِيًّا، وإلَّا قِيمَتِه. وبذلك قال الشافعيُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه يَنْفَسِخُ بنَفْسِ التَّعَذُّرِ، لكَوْنِ المُسْلَمِ فيه من ثَمَرَةِ العامِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدَلِيلِ وجُوبِ التَّسْلِيمِ منها (¬1)، فإذا هَلَكَتِ انْفَسَخَ العَقْدُ به (¬2)، كما لو باعَهُ قَفِيزًا من صُبْرَةٍ فهَلَكَتْ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ العَقْدَ قد صَحَّ، وإنَّما تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ، فهو كَمن اشْتَرَى عَبْدًا فأبَقَ قبلَ القَبْضِ. ولا يَصِحُّ دَعْوَى التَّعْيِينِ في هذا العامِ، فإنَّهُما لو تَرَاضَيَا على دَفْعِ المُسْلَمِ فيه من غيرِها، جازَ، وإنّما أُجْبِرَ على دَفْعِهِ من ثمَرَةِ العامِ؛ لتَمَكُّنِه من دَفْعِ ما هو بصِفةِ (¬3) حَقِّه، ولذلك يَجِبُ عليه (¬4) الدَّفْعُ من ثمَرَةِ نَفْسِه إذا قَدَرَ ولم يَجِدْ غَيرَها، وليست مُتَعَيِّنَةً. فإن تَعَذَّرَ البَعْضُ، فللمُشْتَرِي الخِيارُ بينَ الفَسْخِ في الكُلِّ والرُّجوعِ بالثَّمَنِ، وبينَ أن يَصبِرَ إلى حينِ الإمكانِ ويُطالِبَ بحَقِّه. فإن أحبَّ الفَسْخَ في المُتَعَذِّرِ وَحْدَه، فله ذلك؛ لأنَّ الفَسَادَ طَرَأ بعدَ صِحَّةِ العَقْدِ، فلم يُوجِبِ الفَسادَ في الكُلِّ، [كما لو اشترى صُبْرَتَينِ فَتَلِفَتْ إحداهما. وفيه وجهٌ آخرُ، ليس له الفَسْخُ إلَّا في الكُل] (¬5) أو يَصْبِرُ، على ما نَذْكُرُه من الخِلافِ في الإقَالةِ في بَعْضِ السَّلَمِ. ¬

(¬1) في الأصل: «منهما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ر 1، م: «نصف». (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: م.

فَصْلٌ: السَّادِسُ، أَنْ يَقْبِضَ رأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنْ قُلْنا: إنَّ الفَسْخَ يَثْبُتُ بنَفْسِ التَّعَذُّرِ. انْفَسَخَ في المَفْقُودِ (¬1) دونَ المَوْجُودِ؛ لما ذَكَرْنا من أنَّ الفَسَادَ الطَّارِئَ على بَعْضِ المَعْقُودِ عليه لا يُوجِبُ فسادَ الجَمِيعِ، ويَثْبُتُ للمُشْتَرِي خِيَارُ الفَسْخِ في المَوْجُودِ، كما ذَكَرْنَا في الوَجْهِ الأَوَّلِ. فصل: وإذا أسْلَمَ ذِمِّيٌّ إلى ذِمِّيٍّ في خَمْرٍ، ثم أسْلَمَ أحَدُهما. فقال ابنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ من نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ، أنَّ المُسْلِمَ يَأْخُذُ دَراهِمَه؛ لأنَّه إنْ كان المُسْلِمُ المُسَلِّمَ فليس له اسْتِيفاءُ الخَمْرِ، فقد تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ المَعْقُودِ عليه، وإن كان الآخَرُ فقد تَعَذَّرَ عليه الإيفَاءُ، فصارَ الأمْرُ إلى رَأْسَ مَالِه. فصل: الشّرْطُ (السّادِسُ، أنْ يَقْبِضَ رَأْسَ مالِ السَّلَمِ في مَجْلِسِ ¬

(¬1) في م: «المعقود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَقْدِ) فإنْ تَفَرَّقَا قبلَ ذلك، بَطَلَ العَقْدُ (¬1). وبذلك قال أبوٍ حَنِيفَةَ، والشافعيُّ. وقال مالِكٌ: يَجُوزُ أنْ يَتَأَخَّرَ قَبْضُه يَوْمَينِ وثَلاثة وأكْثَرَ، ما لم يكُنْ ذلك شَرْطًا؛ لأَنَّه مُعَاوَضَةٌ لا تَخْرُجُ بتَأْخِيرِ قَبْضِه من أنْ تكونَ سَلَمًا، فأشْبَهَ تَأْخِيرَه إلى آخِرِ المَجْلسِ. ولَنا، أنّه عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لا يَجُوزُ فيه شَرْطُ تَأْخِيرِ العِوَضِ المُطْلَقِ، فلا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فيه قبلَ القَبْضِ، كالصَّرْفِ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على المَجْلِسِ، بدَلِيلِ الصَّرْفِ. وإنْ قَبَضَ بَعْضَه ثمَّ تَفَرَّقَا، فكَلامُ الخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أنْ لا يَصِحَّ. وحُكِيَ ذلك عن ابنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: هل يَصِحُّ في غيرِ (1) المَقْبُوضِ؟ على وَجْهَينِ، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وهذا الذي يَقْتَضِيهِ مَذْهبُ الشافعيِّ. وقد نَصَّ أحمدُ في رِوَايَةِ ابنِ مَنْصُور، إذا أَسْلَمْتَ ثلاثمائةِ دِرْهَمٍ في أصْنافٍ شَتَّى؛ مائَةً في حِنْطَةٍ، ومائَة في شَعِيرٍ، ومائَةً في شيءٍ آخرَ، فخَرَجَ فيها زُيُوفٌ، رُدَّ على الأصْنافِ الثَّلَاثَةِ، على كُلِّ صِنْفٍ بقَدْرِ ما وُجِدَ من الزُّيُوفِ. فصَحَّحَ العَقْدَ في الباقِي بحِصَّتِه من الثَّمَنِ. وقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ، في مَن أسْلَفَ ألْفًا إلى رَجُلٍ، فَقَبَّضَهُ نِصْفَهُ، وأحَاله بنِصْفِه، أو كان له دَينٌ على المُسْلَمِ إلَيهِ بقَدْرِ نِصْفِه، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَسَبَهُ عليه من الأَلْفِ، صَحَّ السَّلَمُ في النِّصْفِ المَقْبُوضِ، وبَطَلَ في الباقِي. وحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أنّه قال: يَبْطُلُ في الحَوَالةِ في الكُلِّ. وفي المسألِة (¬1) الأُخْرَى؛ يَبْطُلُ فيما لم يُقْبَضْ وحدَه، بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فصل: وإنْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فوَجَدَه رَدِيئًا فَردَّهُ، والثَّمَنُ مُعَيَّنٌ، بَطَلَ العَقْدُ برَدِّهِ، فإن كان الثَّمَنُ أحَدَ النَّقْدَينِ، وقُلْنا: تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ بالتَّعْيِينِ، بَطَلَ، ويَبتَدِئانِ عَقْدًا آخَرَ إنِ اخْتَارَا (¬2). وإن كان في الذِّمَّةِ، فله إبْدَالُه في المَجْلِسِ، ولا يَبْطُلُ العَقْدُ برَدِّهِ؛ لأنَّ العَقْدَ إنَّما وَقَعَ على ثَمَن سَلِيم، ¬

(¬1) في الأصل: «المسلمة». (¬2) في م: «اختاره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا دَفَع إليه مَعِيبًا، كان له رَدُّه والمُطَالبَةُ بالسَّلِيمِ، ولم يُؤَثِّرْ قَبْضُ المَعِيبِ في العَقْدِ. وإن تَفَرَّقَا، ثم عَلِم (¬1) عَيبَه، فَرَدَّه، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَبْطُلُ العَقْدُ برَدِّهِ؛ لوُقُوعِ القَبْضِ بعدَ التَّفَرُّقِ. والثانِي، لا يَبْطُلُ؛ لأنَّ القَبْضَ الأوَّلَ كان صَحِيحًا، بدَلِيلِ ما لو أمْسَكَه ولم يَرُدَّه، وهذا بَدَلٌ (¬2) عن المَقْبُوضِ. وهذا قَوْلُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ. وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. واخْتِيارُ المُزَنِيِّ، لكنْ من شَرْطِهِ أنْ يَقْبِضَ البَدَلَ في مَجْلِسِ الرَّدِّ. فإن تَفَرَّقَا عن مَجْلِسِ الرَّدِّ قبلَ قَبْضِ البَدَلِ، بَطَلَ، وَجْهًا واحِدًا؛ لخُلُوِّ العَقْدِ عن قَبْضِ الثَّمَنِ بعدَ تَفَرُّقِهما. فإن وَجَدَ بعضَ الثَّمَنِ رَدِيئًا فرَدَّه، ففي المَرْدُودِ ما ذَكَرْنا من التَّفْصِيلِ. وهل يَصِحُّ في غيرِ الرَّدِئِ إذا قُلْنا بفَسادِه في الرَّدِئِ؟ على وَجْهَينِ، بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ¬

(¬1) في م: «علمنا». (¬2) في م: «يدل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ظَهَرَتِ الدَّرَاهِمُ مُسْتَحَقَّةً، والثَّمَنُ مُعَيَّنٌ، لم يَصِحَّ. قال أحمدُ: إذا خَرَجَتِ الدَّرَاهِمُ مَسْرُوقَةً، فليس بينهما بَيعٌ. وذلك لأنَّ الثَّمَنَ إذا كان مُعَيَّنًا (¬1) فقد اشْتَرَى بعَينِ [مالِ غيرِه] (¬2) بغيرِ إذْنِه، وإنْ كان غيرَ مُعَيَّن، فله المُطَالبَةُ بِبَدَلِه في المَجْلِسِ. وإنْ قَبَضَه ثم تَفَرَّقَا، بَطَلَ العَقْدُ؛ لأنَّ المَقْبُوضَ لا يَصْلُحُ عِوَضًا، فقد تَفرَّقَا قبلَ أخْذِ الثَّمَنِ، إلَّا على الرِّوَايَةِ التي تَقُولُ بصِحَّةِ تصَرُّفِ الفُضُولِيِّ. أو أنَّ النُّقُودَ لا تَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ. وإن وجد بعضه مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ العَقْدُ فيه. وفي الباقِي وَجْهانِ (¬3)، بناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فصل: وإنْ كان له في ذِمَّةِ رَجُلٍ دِينارٌ، فجَعَلَه سَلَمًا في طَعَامٍ إلى أجَلٍ، لم يَصِحَّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ. ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنّه قال: لا [يصْلُحُ ذلك] (¬4). وذلك لأنَّ المُسْلَمَ فيه دَينٌ. فإذا جَعَلَ الثمَنَ دَينًا، كان بَيعَ دَينٍ بدَينٍ، ¬

(¬1) في ر 1: «معيبا». (¬2) في ر 1: «ماله». (¬3) في م: «على وجهين». (¬4) في م: «يصح لذلك».

1741 - مسألة: (وهل يشترط كونه معلوم الصفة والقدر كالمسلم فيه؟ على وجهين)

وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَصِحُّ بالإِجْماعِ. ولو قال: أَسْلَمْتُ إليك مائةً (¬1) في كُرِّ طَعامٍ. وشَرَط (¬2) أنْ يُعَجِّلَ له منها خَمْسِينَ، ويُؤجِّلَ خَمْسِينَ، لم يَصِحَّ العَقْدُ في الكُلِّ، قى قَوْلِ الخِرَقِيِّ. ويُخرَّجُ في صِحَّتِه في قَدْرِ المَقْبُوضِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَصِحُّ. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ، بِناءً علي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. والثاني، لا يَصِحُّ. وبه قال الشّافِعِيُّ. وهو أصَحُّ؛ لأنَّ للمُعَجَّلِ فَضْلًا على المُؤجَّلِ، فيَقْتَضِي أنْ يكونَ في مُقَابَلَتِه أكْثَرَ ممّا في مُقابَلَةِ المُؤَخَّرِ (¬3)، والزِّيادَةُ مَجْهُولَةٌ، فلا يَصِحُّ. 1741 - مسألة: (وهل يُشْتَرَطُ كَوْنُه مَعْلُومَ الصِّفَةِ والقَدْرِ كالمُسْلَمِ فيه؟ على وَجْهَينِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في مَعْرِفَةِ صِفَةِ الثَّمَنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «شرطا». (¬3) في ر 1: «المؤجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُعَيَّنِ. ولا خِلافَ في اشْتِراطِ مَعْرِفَةِ صِفَتِه إذا كان في الذِّمَّةِ؛ لأنَّه أحَدُ عِوَضَي السَّلَمِ، فإذا لم يكُنْ مُعَيَّنًا، اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ صِفَتِه، كالآخَرِ، إلَّا أنَّه إذا أطْلَقَ وفي البَلَدِ نَقْدٌ واحِدٌ، انْصَرَفَ إليه، وقامَ مَقامَ وَصْفِه، وإنْ كان الثَّمَنُ مُعَيَّنًا، فقال القاضِي، وأبو الخَطّابِ: يُشْتَرَطُ ذلك؛ لأنَّ أحمدَ قال: يقولُ: أسْلَمْتُ إليك كذا وكذا دِرْهَمًا. ويَصِفُ (¬1) الثَّمَنَ. فاعْتَبَرَ [ضَبْطَ صِفَتِه] (¬2). وهذا قَوْلُ مالِكٍ، وأبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّه عَقْدٌ لا يُمْكِنُ إتْمامُه في الحالِ، ولا تَسْلِيمُ المَعْقُودِ عليه، ولا يُؤْمَنُ انْفِسَاخُه، فوَجَبَ مَعْرِفَةُ رَأْسِ مالِ السَّلَمِ فيه، لِيَرُدَّ بدَلَه، كالقَرْضِ. ولأنَّه لا يُؤْمَنُ أنْ يَظْهَرَ بَعْضُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا، فيَنْفَسِخُ العَقْدُ في قَدْرِه، فلا يَعْلَمُ في كم بَقِيَ وكم انْفَسَخَ؟ فإن قيل: هذا مَوْهُومٌ، والمَوْهُومَاتُ لا تُعْتَبَرُ. قُلْنا: الوَهْمُ ها هنا مُعْتَبَرٌ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الجَوازِ، وإنّما جازَ إذا وَقَعَ الأمْنُ من الغررِ، ولم يُوجَدْ ها هنا، بدَلِيلِ ما إذا أسْلَمَ في ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بعَينِه، أو قَدَّرَ السَّلَمَ بِصَنْجَةٍ بعَينِها. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنّه لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْه في شُرُوطِ السَّلَمِ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشّافِعِيِّ؛ ¬

(¬1) في م: «ونصف». (¬2) في ر 1: «ضبطه وصفته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه عِوَضٌ مُشاهَدٌ، فلم يَحْتَجْ إلى مَعْرِفَةِ قَدْرِه، كبُيُوعِ الأعْيانِ. وكلامُ أحمدَ إنَّما تَناوَلَ غيرَ المُعَيَّنِ، ولا خِلافَ في اعْتِبارِ أوْصافِه. ودَلِيلُهم يَنْتَقِضُ بعَقْدِ الإِجارَةِ، فَإنَّه يَنْفَسِخُ بتَلَفِ العَينِ المُسْتَأْجَرَةِ، ولا يَحْتَاجُ مع التَّعْيِينِ إلى مَعْرِفَةِ الأوْصَافِ. ولأنَّ رَدَّ مِثلِ الثَّمَنِ إنَّما يُسْتَحَقُّ عندَ فَسْخِ العَقْدِ، لا من جِهَةِ عَقْدِه، وجَهَالةُ ذلك لا تُؤَثِّرُ، كما لو باعَ المَكِيلَ والمَوْزُونَ. ولأنَّ العَقْدَ قد تَمَّتْ شَرائِطُه، فلا يَبْطُلُ بأمْرٍ مُوهِمٍ (¬1). فعلى القَوْلِ الأوَّلِ، لا يَجُوزُ أنْ يَجْعَلَ رَأْسَ مالِ السَّلَمِ ما لا يُمْكِنُ ضَبْطُه بالصِّفَةِ، كالجَواهِرِ، وسائِرِ ما لا يَجُوزُ السَّلَمُ فيه، فإنْ فَعَلَا، بَطَلَ العَقْدُ، ويَرُدُّه إنْ كان مَوْجُودًا، وإلَّا يَرُدُّ قِيمَتَه، فإنِ اخْتَلَفَا في القِيمَةِ، فالقَوْلُ قَوْلُ المُسْلَمِ إليه؛ لأنَّه غارِمٌ. وكذلك إنْ حَكَمْنا بصِحَّةِ العَقْدِ ثم انْفَسَخَ. فإنِ اخْتَلَفَا في المُسْلَمِ فيه، فقال أحَدُهما: في كذا مُدْىٍ (¬2) حِنْطَةٍ. وقال الآخَرُ: في كذا مُدْىٍ (2) شَعِيرٍ. تَحالفَا، وتَفاسَخَا. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي، كما لو اخْتَلَفَا في ثَمَنِ المَبِيعِ. فصل: وكُلُّ مالَيْنِ حَرُم النَّسَاءُ فيهما، لا يجوزُ أنْ يُسَلَّمَ أحَدُهما في ¬

(¬1) في م، ر 1: «موهوم». (¬2) في ر 1: «مد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ؛ لأنَّ السَّلَمَ من شَرْطِه النَّسَاءُ والتَّأْجِيلُ. والذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ في أنّه لا يَجُوزُ النَّساءُ في العُرُوضِ. وهو إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. فعلى هذا، لا يَجُوزُ إسْلامُ بَعْضِها في بَعْضٍ. وقال ابنُ أبي مُوسَى: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ رَأْسُ مالِ السَّلَمِ إلَّا عَينًا، أو وَرِقًا (¬1). قال القاضِي: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: قيلَ لأحْمَدَ: يُسْلِمُ ما يُوزُنُ فيما يُكالُ، وما يُكالُ فيما يُوزَنُ؟ فلم يُعْجِبْه. فعلى هذا، لا يَجُوزُ أنْ يكونَ المُسْلَمُ فيه ثَمَنًا. وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّها لا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ إلَّا ثَمَنًا، فلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُثْمَنَةً. وعلى الرِّوَايَةِ التي تَقُولُ: يَجُوزُ النَّسَاءُ في العُرُوضِ. يَجُوزُ أنْ يكونَ رَأْسُ المالِ عَرْضًا، كالثَّمَنِ سَواءً، ويَجُوزُ إسْلامُها في الأَثْمانِ. قال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: يَجُوزُ السَّلَمُ في الدَّرَاهِمِ والدَّنَانِيرِ. وهذا مَذْهَبُ مالِكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّها تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فَتَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا، كالعُرُوضِ. ولأنّه لا رِبًا بَينَهُما من حيث التَّفَاضُلُ ولا النَّسَاءُ، فصَحَّ إسْلامُ أحَدِهما في الآخَرِ، كالعَرْضِ بالعَرْضِ (¬2). ولا يَصِحُّ ما قاله أبو حَنِيفةَ، فإنّه لو باعَ دَرَاهِمَ بدَنَانِيرَ، صَحَّ، ولا بُدَّ أنْ يكونَ أحَدُهما مُثْمَنًا. فعلى هذا، إذا أسْلَمَ عَرْضًا في عَرْضٍ مَوْصُوفٍ بصِفَاتِه، فجاءَهُ عندَ الحُلُولِ بذلك العَرْضِ بعَينِه، لَزِمَهُ قَبُولُه على أحَدِ ¬

(¬1) في الأصل: «وزنا». (¬2) في م: «في العرض».

1742 - مسألة: (وإن أسلم ثمنا واحدا في جنسين، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس)

وَإِنْ أَسْلَمَ ثَمَنًا وَاحِدًا فِي جِنْسَينِ، لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ ثَمَنَ كُلِّ جِنْسٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَينِ؛ لأنَّه أتاهُ بالمُسْلَمِ فيه على صِفَتِه، فلَزِمَه قَبُولُه، كما لو كان غيرَه. والثانِي، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه يُفْضِي إلى كَوْنِ الثَّمَنِ هو المُثْمَنَ. ومن نَصَرَ الأوَّلَ، قال: هذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الثَّمَنَ إنّما هو في الذِّمَّةِ، وهذا عِوَضٌ عنه. وهكذا لو أسْلَمَ جارِيَة صَغِيرَةً في كَبِيرَةٍ، فجاءَ المَحِلُّ، وهي على صِفَةِ المُسْلَمِ فيه، فأَحْضَرَها، خُرِّجَ فيها الوَجْهانِ؛ أحدُهما، لا يَجُوزُ؛ لأَنَّه يُفْضِي إلى أنْ يكونَ قد اسْتَمْتَعَ بها ورَدَّها خالِيَةً عن عُقْرٍ (¬1). والثاني، يَجُوزُ؛ لأنَّه أحْضَرَ المُسْلَمَ فيه على صِفَتِه. ويَبْطُلُ الأوَّلُ بما إذا وَجَدَ بها عَيبًا، فرَدَّها. [ولأصْحَابِ الشافعيِّ] (¬2) في هاتَينِ، المسألتَين وَجْهانِ كهذين. فإنْ فَعَلَ ذلك حِيلَةً لِيَنْتَفِعَ بالعَينِ، أو لِيَطَأَ الجارِيَةَ ثمّ يَرُدَّها بغيرِ عِوَضٍ، لم يَجُزْ، وَجْهًا واحِدًا. 1742 - مسألة: (وإنْ أسْلَمَ ثَمَنًا واحِدًا في جِنْسَينِ، لم يَجُزْ حتى يُبَيِّنَ ثمَنَ كُلِّ جِنْسٍ) نحوَ (¬3) أنْ يُسْلِمَ دِينارًا في قَفِيزِ حِنْطَةٍ وقَفِيزٍ شَعِيرٍ، ¬

(¬1) العقر: دية الفرج المغصوب. (¬2) في م: «وللشافعي». (¬3) في ر 1: «لا يجوز»، وفي ق، م: «يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ولا] (¬1) يُبَيِّنَ ثَمَنَ الحِنْطَةِ من [الدِّينارِ فلا] (¬2) يَصِحُّ ذلك. وقال مالِكٌ: يَجُوزُ. وللشافعيِّ قَوْلانِ، كالمَذْهَبَينِ؛ لأنَّ كُلَّ عَقْدٍ جازَ على جِنْسَينِ في عَقْدَينِ، جازَ عليهما في عَقْدٍ واحِدٍ، كبيُوعِ الأعْيَانِ. ولَنا، أنّ ما يُقَابِلُ كُلَّ واحِدٍ من الجنْسَينِ مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ، كما لو عَقَدَ عليه مُفْرَدًا بثَمَنٍ مَجْهُولٍ. ولأنَّ فيه غَرَرًا؛ لأَنَّا لا نَأْمَنُ الفَسْخَ بتَعَذُّرِ أحَدِهما فلِم نَدْرِ بكم يَرْجِعُ؟ وهذا غَرَرٌ يُؤَثِّرُ مثلُه في السَّلَمِ. وبمثلِ هذا عَلَّلْنَا مَعْرِفَةَ صِفَةِ الثَّمَنِ. وقد ذَكَرْنا ثَمَّ وَجْهًا أنّه لا يُشْتَرَطُ. فيُخَرَّجُ ها هنا مثلُه؛ لأنَّه في مَعْناهُ. والجَوازُ ها هنا أوْلَى؛ لأَنَّ العَقْدَ ثَمَّ إذا انْفَسَخَ لا يَعْلَمُ مِقْدارَ ما يَرْجِعُ به، وههنا يَرْجِعُ بقِسْطِه من رأْسِ مالِ السَّلَمِ. ولأنَّه لو باعَ عَبْدَه وعَبْدَ غَيرِه بثَمَنٍ واحِدٍ، جازَ، في أَظْهَرِ الوَجْهَينِ، وهذا مثلُه. ولأنَّه لمَّا جازَ أنْ يُسْلِمَ في شيءٍ واحِدٍ إلى أجَلَينِ ولا يُبَيِّنُ ثمنَ كُلِّ واحِدٍ (¬3) منهما، يَنْبَغِي أنْ يَجُوزَ ها هنا. قال ابنُ أبي مُوسَى: ولا يَجُوزُ أنْ يُسْلِمَ خَمْسَةَ دَنانِيرَ وخَمْسِينَ دِرْهَمًا في كُرِّ حِنْطَةٍ، إلَّا أنْ يُبَيِّنَ حِصَّةً لكلِّ (¬4) ¬

(¬1) في م: «فإن لم». (¬2) في م: «الشعير لم». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «ما لكل».

فَصْلٌ: السَّابعُ، أَنْ يُسْلِمَ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عَينٍ لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ منهما [من المُثْمَنِ] (¬1). والأَوْلَى صِحَّةُ هذا؛ لأنَّه إذا تَعَذَّرَ بعضُ المُسْلَمِ (¬2) رَجَعَ بقِسْطِه منهما؛ إن (¬3) تَعَذَّرَ النِّصْفُ رَجَعَ بالنِّصْفِ، وإن تَعَذَّرَ الخُمْسُ رَجَعَ بدِينارٍ وعَشْرَةِ دَراهِمَ. فصل: (السابعُ، أنْ يُسْلِمَ في الذِّمَّةِ. فإنْ أَسْلَمَ في عَينٍ، لم يَصِحَّ) لأنَّه رُبَّما تَلِفَ قَبْلَ أوَانِ تَسْلِيمِه، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَ مِكْيالًا بعَينِه، أو صَنْجَةً بعَينِها غيرَ مَعْلُومَةٍ. ولأنَّ المُعَيَّنَ يمكِنُ بَيعُه في الحالِ، فلا حاجَةَ إلى السَّلَمِ فيه. ¬

(¬1) في ر 1: «مع الثمن». (¬2) في ق، م: «السلم». (¬3) في م: «وإن».

1743 - مسألة: (ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء)

وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ مَكَانِ الإِيفَاءِ، إلا أنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ فِيهِ، كَالْبَرِّيَّةِ، فَيُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1743 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ مَكانِ الإِيفاءِ) ذَكَرَهُ القاضِي. وحَكَاهُ ابنُ المُنْذِرٍ، عن أحمدَ، وإسْحاقَ، وطائِفَةٍ من أهْلِ الحَدِيثِ. وبه قال أبو يُوسُف، ومحمّدٌ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ، أو وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ» (¬1). ولم يَذْكُرْ مكانَ الإِيفاءِ، ولو كان شَرْطًا لذَكَرَه. وفي الحَدِيثِ الذي فيه أنّ اليَهُودِيَّ أسْلَمَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمّا مِن حَائِطِ بني فُلانٍ فَلَا، ولكن كَيلٌ مُسَمًّى، إلى أجَلٍ مُسَمًّى» (¬2). ولم يَذْكُرْ مكانَ الإِيفاءِ. ولأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أَشْبَهَ بُيُوعَ الأَعْيَانِ. وقال الثَّوْرِيُّ: يُشْتَرَطُ. وهو القَوْلُ الثانِي للشافعيِّ. وقال الأوْزَاعِيُّ: هو مَكْرُوهٌ؛ لأنَّ القَبْضَ يَجِبُ بحُلُولِه، ولا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ حِينَئِذٍ. وقال أبو حَنِيفَةَ، وبَعْضُ أصْحابِ الشافعيِّ: إنْ كان لحَمْلِه مُؤْنَةٌ، وجَبَ شَرْطُه، وإلَّا فلا، لأنَّه إذا كان لِحَمْلِه مُؤْنَةٌ، اخْتَلَفَ فيه الغَرَضُ، بخِلافِ ما لا مُؤْنَةَ فيه. 1744 - مسألة: (إلَّا أنْ يكُونَ مَوْضِعُ العَقْدِ لا يُمْكِنُ الوَفاءُ فيه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 218. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 273.

1745 - مسألة: (ويكون الوفاء في مكان العقد)

وَيَكُونَ الْوَفَاءُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالبَرِّيَّةِ (¬1)، فيُشْتَرَطُ ذِكْرُه) لأنَّه متى كانَا في بَرِّيَّةٍ، لم يمكِنِ التَّسْلِيمُ في مكانِ العَقْدِ، فإذا تُرِكَ ذِكْرُه كان مَجْهُولًا. 1745 - مسألة: (ويَكُونُ الوَفَاءُ في مَكَانِ العَقْدِ) إذا كانا في مكانٍ يُمْكِنُ الوَفاءُ فيه، اقْتَضَى العَقْدُ التَّسْلِيمَ في مكانِه، فاكْتَفَى بذلك عن ذِكْرِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

1746 - مسألة: (فإن شرط الوفاء فيه، كان تأكيدا)

فَإِنْ شَرَطَ الْوَفَاءَ فِيهِ، كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ شَرَطَهُ فِي غَيرِهِ، صَحَّ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1746 - مسألة: (فإنْ شَرَطَ الوَفاءَ فيه، كان تَأْكِيدًا) وهو حَسَنٌ؛ لأنَّه شَرَطَ ما يَقْتَضِيه العَقْدُ، أشْبَهَ ما لو شَرَطَ الحُلُولَ في ثَمَنِ المَبِيعِ. 1747 - مسألة: (وإنْ شَرَطَه في غَيرِه، صَحَّ) لأنَّه بَيعٌ، فَصَحَّ شَرْطُ الإِيفاءِ في غيرِ مكانِه، كبُيُوعِ الأعْيَانِ. ولأنَّه شَرَطَ ذِكْرَ مكانِ الإِيفاءِ، فَصَحَّ، كما لو ذَكَرَه في مكانِ العَقْدِ (وعنه، لا يَصِحُّ) ذَكَرَهَا ابنُ أبي مُوسَى؛ لأنَّه شَرَطَ خِلافَ ما اقْتَضَاهُ العَقْدُ، لأنَّ العَقْدَ يَقْتَضِي الإِيفاءَ في مكانِه. وقال القاضِي، وأبو الخَطّابِ: متى ذكَرَ مكانَ الإِيفاءِ، ففيه رِوايَتَانِ، سَوَاءٌ شَرَطَه في مكانِ العَقْدِ، أوَ في غيرِه؛ لأنَّه رُبَّما تَعَذَّرَ تَسْلِيمُه في ذلك المكانِ، فأَشْبَهَ تَعْيِينَ المِكْيالِ. واخْتَارَهُ أبو بكْرٍ. ولَنا،

1748 - مسألة: (ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا هبته، ولا أخذ غيره مكانه، ولا الحوالة به)

وَلَا يَصِحُّ بَيعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا أَخْذُ غَيرِهِ مَكَانَهُ، وَلَا الْحَوَالةُ بِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ في تَعْيِينِ المَكانِ غَرَضًا ومَصْلَحَةً لهما، أشْبَهَ تَعْيِينَ الزَّمَانِ، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. ثم لا يَخْلُو؛ إمّا أنْ يكونَ مُقْتَضَى العَقْدِ التَّسْلِيمَ في مكانِه، فإذا شَرَطَه فقد شَرَطَ مُقْتَضَى العَقْدِ، أو لا يكونَ ذلك مُقْتَضَى العَقْدِ، فيَتَعَيَّنُ ذِكْرُ مكانِ الإِيفاءِ، نَفْيًا للجَهالةِ عنه، وقَطْعًا للتَّنازُعِ، فالغَرَرُ في تَرْكِه لا في ذِكْرِه. وتَعْيِينُ المِكْيَالِ يُفارِقُ هذا، فإنّه لا حاجَةَ إليه، ويَفُوتُ به عِلْمُ المِقْدارِ المُشْتَرَطِ لصِحَّةِ العَقْدِ، ويُفْضِي إلى التَّنَازُعِ، وفي مسألتِنا لا يَفُوتُ به شَرْطٌ، ويَقْطَعُ التَّنازُعَ، فالمَعْنَى المانِعُ من التَّقدِيرِ بمِكْيالٍ بعَينِه مَجْهُولٍ هو المُقْتَضِي لذِكْرِ مكانِ الإِيفاءِ، فكيفَ يَصِحُّ قِياسُهم عليه؟. 1748 - مسألة: (ولا يَجُوزُ بَيعُ المُسْلَمِ فيه قبلَ قَبْضِه، ولا هِبَتُه، ولا أَخْذُ غَيرِه مكانَه، ولا الحَوالةُ به) لا يَجُوزُ بَيعُ المُسْلَمِ فيه ¬

(¬1) بعده في النسخة الخطية: «ولَا يَجُوزُ بَيعُ كُلِّ دَينٍ غَيرِ مُسْتَقِرٍّ لِمَنْ هْوَ فِي ذِمَّتِهِ وَلِغَيرِهِ». ولم نجده في غيرها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ قَبْضِه، بغَيرِ خِلافٍ عَلِمْناهُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الطَّعامِ قبلَ قَبْضه، وعن رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ (¬1). ولأنَّه مَبِيعٌ لم يَدْخُلْ في ضَمانِه، فلم يَجُزْ بَيعُه، كالطَّعام قبلَ قَبْضِه. وكذلك التَّوْلِيَةُ والشَّرِكَةُ. وبهذا قال أكثَرُ أهلِ العِلْمِ. وحُكِيَ جَوازُ الشَّرِكَةِ والتَّوْلِيَةِ عنِ مالِكٍ؛ لما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه نَهَى عن بَيعِ الطَّعَامِ قبلَ قَبْضِه، وأرْخصَ في الشَّرِكَةِ والتَّوْلِيَةِ (¬2). وقِياسًا على الإِقالةِ. ولَنا، أنَّها مُعَاوَضَةٌ في المُسْلَمِ فيه قبلَ القَبْضِ، فلم يَصِحَّ، كما لو كانت بلَفْظِ البَيعِ. ولأنَّهُما نَوْعَا بَيعٍ، فلا يَجُوزُ في (¬3) السَّلِمِ قبلَ قَبْضِه، كالنَّوْعِ الآخَرِ. والحَدِيثُ لا نعْرِفُه، وهو حُجَّةٌ لَنَا؛ لأَنَّه نَهَى عن بَيعِ الطَّعَامِ قبل قَبْضِه، والشَّرِكَةُ والتَّوْلِيَةُ بَيعٌ، فيَدْخُلانِ في النَّهْي. ويُحْمَلُ قَوْلُه: وأَرْخَصَ في الشَّرِكَةِ والتَّوْلِيَةِ. على أنّه أرْخَصَ فيهما في الجُمْلَةِ، لا في هذا المَوْضِعِ. وأمّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 216. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب التولية في البيع والإِقالة، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 49. (¬3) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِقَالةُ فإنَّها فَسْخٌ، وليست بَيعًا. [ولا يَجُوزُ هِبَتُه، قِياسًا على البَيعِ] (¬1). وأمّا أخْذُ غَيرِه مكانَه فهو أنْ يَأْخُذَ غيرَ المُسْلَمِ فيه عِوَضًا عن المُسْلَمِ فيه. وذلك حَرامٌ، سواءٌ كان المُسْلَمُ فيه مَوْجُودًا أو مَعْدُومًا، وسواءٌ كان العِوَضُ مثلَ المُسْلَمِ فيه في القِيمَةِ، أو أقَلَّ، أو أكْثَرَ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، والشافعيُّ. وذَكَرَ ابنُ أبي مُوسَى رِوايَةً في مَن أسْلَمَ في بُرٍّ، فعَدِمَه عند المَحِلِّ، فرَضِيَ أنْ يَأْخُذَ شَعِيرًا مثلَه، جازَ. وذلك مَحْمُولٌ على أنّ البُرَّ والشَّعِيرَ جِنْسٌ. والصَّحِيحُ في المَذْهَبِ خِلافه. وقال مالِكٌ: يَجُوزُ أنْ يَأْخُذَ غيرَ المُسْلَمِ فيه مكانه، يَتَعَجَّلُه ولا يُؤَخِّرُه إلَّا الطَّعامَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وقد ثَبَتَ أنَّ ابنَ عَبّاسٍ قال: إذا أسْلَمْتَ في شيءٍ إلى أجَلٍ، فإن أخَذْتَ ما أَسْلَفْتَ فيه، وإلَّا فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ منه، ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تَرْبَحْ مَرَّتَينِ. رَواهُ سَعِيدٌ في «سُنَنِه». ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَمَ في شَيْءٍ، فلا يَصْرِفْه إلى غَيرِه». رَواهُ أبو دَاوُدَ، وابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّ أخْذَ العِوَضِ عن المُسْلَمِ فيه بَيعٌ له، فلم يَجُزْ، كبَيعِه لغَيرِه. فصل: ولا تَجُوزُ الحَوَالةُ به؛ لأنَّها إنّما تَجُوزُ على دَينٍ مُسْتَقِرِّ، والسَّلَمُ بعَرَضِ الفَسْخِ، فليس بمُسْتَقِرٍّ. ولأنَّه نَقْلٌ للمِلْكِ في المُسْلَمِ فيه على غيرِ وَجْهِ الفَسْخِ، فلم يَجُزْ، كالبَيعِ. ومعنى الحَوالةِ به (¬2)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 251. (¬2) سقط من: م.

1749 - مسألة: (ويجوز بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته، بشرط أن يقبض عوضه في المجلس، ولا يجوز لغيره)

وَيَجُوزُ بَيعُ الدَّينِ الْمُسْتَقِرِّ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْبِضَ عِوَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْ يكونَ لرَجُلٍ سَلَمٌ، وعليه مِثْلُه من قَرْضٍ، أو سَلَمٍ آخَرَ، أو بَيعٍ، فيُحِيلُ بما عليه من الطَّعَامِ على الذي عِنْدَه السَّلَمُ، فلا يَجُوزُ، وإنْ أحال المُسْلمُ إليه المُسْلِمَ بالطَّعامِ الذي عليه، لم يَصِحَّ أيضًا؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ بالمُسْلَمِ فيه قبلَ قَبْضِه، فلم يَجُزْ، كالبَيعِ. 1749 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيعُ الدَّينِ المُسْتَقِرِّ لمَنْ هو في ذِمَّتِه، بشَرْطِ أنْ يَقْبِضَ عِوَضَه في المَجْلِسِ، ولا يَجُوزُ لغَيرِه) لحَدِيثِ ابنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ: كُنّا نَبِيعُ الأَبْعِرَةَ بالبَقِيعِ بالدَّنانِيرِ، ونَأْخُذُ عِوَضَها الدّرَاهِمَ، وبالدَّراهِمِ ونَأْخُذُ عِوَضَها الدَّنانِيرَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لا بَأْسَ، إذا تَفَرَّقْتُما وليس بَينَكَما شيءٌ» (¬1). فقد دَلَّ الحَدِيثُ على جَوازِ بَيعِ ما في الذِّمَّةِ من أحَدِ النَّقْدَينِ بالآخَرِ، وغَيرُه مُقاسٌ عليه، ودَلَّ على اشْتِراطِ القَبْضِ في المَجْلِسِ قَوْلُه: «إذا تَفَرَّقْتُما وليس بَينَكُما شيءٌ». وفي ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه في الصَّرْفِ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه لا يَصِحُّ بَيعُه لمَنْ هو في ذِمَّتِه، كما لا يَصِحُّ في السَّلَمِ. والأَوَّلُ أوْلَى. فإنِ اشْتَرَاهُ منه بمَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ من غَيرِ جِنْسِه، جازَ، ولا يَتَفَرَّقَا قَبْلَ القَبْضِ؛ لأنَّه يكونُ (¬2) بيعَ دَينٍ بدَينٍ، وإنْ أَعْطَاهُ مُعَيَّنًا بما يُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ، مثلَ أنْ أعْطاه عِوَضَ الحِنْطَةِ شَعِيرًا، جازَ، ولم يَجُزِ التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ، وإنْ أَعْطَاهُ مُعَيَّنًا لا يُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ، جازَ التَّفَرُّقُ قبلَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 506. (¬2) في الأصل، ر 1: «لا يكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَبْضِ، كما لو قال: بِعْتُكَ هذا الشَّعِيرَ بمائَةِ دِرْهَمٍ في ذِمَّتِك. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَجُوزَ؛ لأنَّ المَبِيعَ في الذِّمَّةِ، فلم يَجُزِ التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ، كالسَّلَمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن باعَ الدَّينَ لغَيرِ مَنْ هو في ذِمَّتِه، لم يَصِحَّ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ. قال أحمدُ: إذا كان لَكَ على رَجُلٍ طَعامٌ قَرْضًا، فبِعْه مِن الذي هو عليه بنَقْدٍ، ولا تَبِعْهُ من غيرِه بنَقْدٍ ولا نسِيئَةٍ، وإذا أَقْرَضْتَ رَجُلًا دَراهِمَ أو دَنانِيرَ، فلا تَأْخُذْ من غَيرِه عِوَضًا بما لَكَ عليه. وقال الشافعيُّ: إن كانَ الدَّينُ على مُعْسِرٍ أو مُماطِلٍ لم يَصِحَّ البَيعُ؛ لأنَّه مَعْجُوزٌ عن تَسْلِيمِه، وإنْ كان على مَلئٍ باذِلٍ له، ففيه قَوْلانِ؛ أحَدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّه ابْتَاعَ بمالٍ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ، فصَحَّ، كما لو اشْتَرَى في ذِمَّتِه، ويُشْتَرَطُ أنْ يَشْتَرِيَ بعَينٍ، أو يَتَقَابَضَا في المَجْلِسِ؛ لئَلَّا يكونَ بَيعَ دَينٍ بدَينٍ. ولَنا، أنَّه غيرُ قادِرٍ على تَسْلِيمِه، فلم يَصِحَّ، كبَيعِ الآبِقِ، والطَّيرِ في الهَواءِ.

1750 - مسألة: (وتجوز الإقالة في السلم، وتجوز في بعضه في [إحدى الروايتين]

وَتَجُوزُ الْإِقَالةُ فِي السَّلَمِ، وَتَجُوزُ فِي بَعْضِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ، إِذَا قَبَضَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ أَوْ عِوَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1750 - مسألة: (وتَجُوزُ الإِقالةُ في السَّلَمِ، وتَجُوزُ في بَعْضِه في [إحْدَى الرِّوايَتَين] (¬1)، إذَا قَبَضَ رَأْسِ مالِ السَّلَمِ أو عِوَضَه في مَجْلِسِ الإِقَالةِ) الإِقَالةُ في السَّلَمِ جائِزَةٌ؛ لأَنَّها فَسْخٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه منِ أَهْلِ العِلْمِ على أنَّ الإِقالةَ في جَمِيعِ ما أسْلَمَ فيه جائِزَةٌ. ولأنَّ الإِقالةَ فسْخٌ للعَقْدِ، ورَفْعٌ من أصْلِه، وليست بَيعًا. قال القاضِي: ولو قال: لي عِنْدَكَ هذا الطَّعَامُ، صَالِحْنِي على ثَمَنِه. جازَ؛ لأنَّه أقاله. فأمّا الإِقَالةُ في بَعْضِ السَّلَمِ، فاختَلفتِ الرِّوَايَةُ فيها، فرُوِيَ ¬

(¬1) في النسخ: «أحد الوجهين» إلا ر 1، ففيها: «أحد الروايتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه أنَّها لا تَجُوزُ. وقد رُويَتْ كَرَاهَتُها عن ابنِ عمرَ، وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ، ورَبِيعَةَ، وابنِ أبي لَيلَى، وإسحاقَ. ورَوَى حَنْبَلٌ عن أحْمَدَ، أنَّه قال: لا بَأْسَ بها. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عَبّاسٍ، وعَطاءٍ، وطَاوُسٍ، ومُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ، وحُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، وعَمْرِو بنِ دِينارٍ، والحَكَمِ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأبي حَنِيفَةَ، وأصحابِه، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ كُلَّ مَعْرُوفٍ جازَ في الجميعِ، جازَ في البَعْضِ، كالإِبرَاءِ والإِنْظَارِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى، أنَّ السَّلَفَ في الغالِبِ يُزادُ فيه في الثَّمَنِ من أجْلِ التَّأْجِيلِ، فإذا أقالهُ في البَعْضِ، بَقِيَ البَعْضُ بالباقِي من الثَّمَنِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبِمَنْفَعَةِ (¬1) الجُزْءِ الذي حَصَلَتِ الإِقَالةُ فيه، فلم يَجُزْ، كما لو شَرَطَ ذلك في ابْتِداءِ العَقْدِ. ويُخَرَّجُ عليه (¬2) الإِبْراءُ والإِنْظَارُ؛ فإنّه لا يَتَعَلَّقُ به شيءٌ من ذلك. فصل: إذا أقاله، رَدَّ الثَّمَنَ إنْ كان باقِيًا، وإلَّا رَدَّ مِثْلَه إنْ كان مِثْلِيًّا، أو قِيمَتَه إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا، ويُشْتَرَطُ رَدُّه في المَجْلِسِ، كما يُشْتَرَطُ في السَّلَمِ. ¬

(¬1) في ر 1، ق: «يمنعه». (¬2) سقط من: م.

1751 - مسألة: (وإن انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، لم يجز أن يأخذ عن الثمن عوضا من غير جنسه)

وَإِنِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِإِقَالةٍ أَوْ غَيرِهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ عَنِ الثَّمَنِ عِوَضًا مِنْ غَيرِ جِنْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1751 - مسألة: (وإنِ انْفَسَخَ العَقْدُ بإقَالةٍ أو غيرِها، لم يَجُزْ أنْ يَأْخُذَ عن الثَّمَنِ عِوَضًا من غيرِ جِنْسِه) متى أرادَ أنْ يُعْطِيَه عِوَضًا عن الثَّمَنِ، فقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: لا يَجُوزُ له صَرْفُ ذلك الثمَنِ في عَقْدٍ آخرَ حتى يَقْبِضَه. وبه قال أبو حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أسْلَفَ في شيءٍ فلا يَصْرِفْه إلى غَيرِه» (¬1). ولأنَّ هذا مَضْمُونٌ على المُسْلَمِ إليه بعَقْدِ السَّلَمِ، فلم يَجُزِ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، كما لو كان في يَدِ المُشْتَرِي. ولأنَّ هذا مَضْمُونٌ على المُسْلَمِ إليه بعَقْدِ السَّلَمِ، فلم يَجُزْ أخْذُ عِوَضِه، كالمُسْلَمِ فيه وقال القاضِي أبو يَعْلَى: يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه. وهو قَوْلُ الشافعيِّ؛ لأنَّه عِوَضٌ مُسْتَقِرٌّ في الذِّمَّةِ، فجازَ أخْذُ العِوَضِ عنه، كما لو كان قَرْضًا. ولأنَّهُ مالٌ عادَ إليه بفَسْخِ العَقْدِ، فجازَ أخْذُ العِوَضِ عنه، كالثَّمَنِ في البَيعِ (¬2)، والفَرْقُ بينَ المُسْلَمِ فيه والثَّمَنِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 251. (¬2) في م: «المبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ المُسْلَمَ فيه مَضْمُونِّ بالعَقْدِ، والثَّمَنَ مَضْمُونٌ بعدَ فَسْخِه، والخَبَرُ أُرِيدَ به المُسْلَمُ فيه. فإن قُلْنا بهذا، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو كان في قَرْضٍ، أو ثَمَنًا في بُيوعِ الأعْيانِ، لا يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ سَلَمًا في شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه بَيعُ دَينٍ بدَينٍ، ويَجُوزُ فيه ما يَجُوزُ في القَرْضِ وأثْمانِ البِيَاعَاتِ إذا فُسِخَتْ، ويَأْخُذُ أحَدَ النَّقْدَينِ عن الآخَرِ، ويَقْبِضُه في مَجْلِسِ الإِقالةِ؛ لأنَّه صَرْفٌ.

1752 - مسألة: (وإذا كان لرجل سلم، وعليه سلم من جنسه، فقال لغريمه: اقبض سلمي لنفسك. ففعل

وَإنْ كَانَ لِرَجُلٍ سَلَمٌ، وَعَلَيهِ سَلَمٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَال لِغَرِيِمِهِ: اقْبِضْ سَلَمِي لِنَفْسِكَ. فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، وَهَلْ يَقَعُ قَبْضُه لِلْآمِرِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1752 - مسألة: (وإذا كانَ لرَجُلٍ سَلَمٌ، وعليه سَلَمٌ من جِنْسِه، فقال لغَرِيمِه: اقْبِضْ سَلَمِي لنَفْسِك. فَفَعَلَ (¬1)، لم يَصِحَّ قَبْضُه لنَفْسِه) لأنَّ قَبْضَه لنَفْسِه حَوالةٌ به، والحَوالةُ بالسَّلَمِ لا تَجُوزُ (وهل يَقَعُ (¬2) قَبْضُه للآمِرِ؟ على رِوَايَتَينِ) إِحْداهُما، يَصِحُّ؛ لأنَّه أَذِنَ له في القَبْضِ، فأَشْبَهَ قَبْضَ وَكِيلِه، وكما لو نوَى المَأْمُورُ القَبْضَ للآمِرِ. والثانِيَة، لا يَصِحُّ؛ لأَنه لم يَجْعَلْه نائِبًا له (1) في القَبْضِ، فلم يَقَعْ له (1)، بخِلافِ الوكِيلِ، فصارَ كالقابضِ بغَيرِ إذْنٍ. فإذا قُلْنا: لا يَصِحُّ القَبْضُ. بَقِيَ على مِلْكِ المُسْلَمِ إليه. ولو قال الأوَّلُ للثانِي: احْضُرِ اكْتِيالِي منه؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يقطع».

1753 - مسألة: (وإن قال: اقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك. صح)

وَإِنْ قَال: اقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ. صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأُقَبِّضَه لَكَ. فَفَعَلَ، لم يَصِحَّ قَبْضُه لِلثانِي. وهل يكونُ قابِضًا لنَفْسِه؟ على وَجْهَينِ؛ أَوْلاهُما، أنَّه يَكُونُ قابِضًا لنَفْسِه؛ لأنَّ قَبْضَ المُسْلَمِ فيه قد وُجِدَ من مُسْتَحِقِّه، فَصَحَّ (¬1)، كما لو نَوَى القَبْضَ لنَفْسِه. فعلى هذا، إذا قَبَضَه للآخَرِ صَحَّ. 1753 - مسألة: (وإن قال: اقْبِضْه لِي، ثمّ اقْبِضْهُ لنَفْسِكَ. صَحَّ) لأنَّه اسْتَنَابَه في قَبْضِه له، فصَحَّ، كما لو لم يَقُلْ: ثم اقْبِضْهُ لنَفْسِك. وإذا وَقَعَ القَبْضُ للآمِرِ، مَلَكَه وقَبَضَه نائِبُه (¬2)، فجازَ أن يَقْبِضَه لنَفْسِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ثانية».

1754 - مسألة: (وإن قال: أنا أقبضه لنفسي، وخذه

وَإِنْ قَال: أَنَا أَقْبِضُهُ لِنَفْسِي، وَخُذْهُ بِالْكَيلِ الَّذِى تُشَاهِدُهُ. فَهَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو كانَ في يَدِ غَيرِه. وكذلك إن قال الآمِرُ: احْضُرْنا حتى أكتَاله لنَفْسِى، ثمّ تَكْتَاله أنْتَ. وفَعَلا (¬1) صَحَّ. 1754 - مسألة: (وإنْ قال: أنا أَقْبِضُه لنَفْسِي، وخُذْه (¬2) بالكَيلِ الذي تُشَاهِدُه) جازَ في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ؛ لأنَّه عَلِمَه وشَاهد كَيلَه. والثانِيَةُ: لا يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الطّعامِ حتى يَجْرِيَ فيه الصّاعَانِ، صاعُ البائِعِ، وصاعُ المُشْتَرِي (¬3). ولم يُوجَدْ ذلك. ولأنَّه قَبَضَه بغَيرِ كَيلٍ، أشْبَهَ ما لو قَبَضَه جُزَافًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وحده». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 513.

1755 - مسألة: (وإن اكتاله، وتركه في المكيال، وسلمه إلى غريمه، فقبضه، صح القبض لهما)

وَإِنِ اكْتَالهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ فِي الْمِكْيَالِ، وَسَلَّمَهُ إِلَى غَرِيمِهِ، فَقَبَضَهُ، صَحَّ الْقَبْضُ لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1755 - مسألة: (وإنِ اكْتَاله، وتَرَكَهُ في المِكْيَالِ، وسَلَّمَه إلى غَرِيمِه، فقَبَضَه، صَحَّ القَبْضُ لهما) لأَنَّ اسْتِدامَةَ الكَيلِ بمَنْزِلَةِ ابْتدائِه، فلا مَعْنَى لابْتِداءِ الكَيلِ ها هنا؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ به زِيادَةُ عِلْمٍ. [وقالتِ الشافعيَّةُ] (¬1): لا يَصِحُّ؛ للحَدِيثِ الذي ذَكَرْنَاه في المَسْأَلَةِ قَبْلَها. وهذا يمكنُ القَوْلُ بمُوجَبِه؛ لأنَّ قَبْضَ المُشْتَرِي له [في المِكْيالِ] (¬2) جَرْيٌ لصاعِه فيه. ¬

(¬1) في م، ق: «وقال الشافعي». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ دَفَعَ زَيدٌ إلى عَمْرٍو دَراهِمَ، فقال: اشْتَرِ لَكَ بها مِثْلَ الطَّعَامِ الذي لَكَ عَلَيَّ. فَفَعَلَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ دَرَاهِمَ زَيدٍ لا تكونُ عِوَضًا لعَمْرٍو. فإنِ اشْتَرَى الطَّعَامَ بعَينِها أو في ذِمَّتِه، فهو كتَصَرُّفِ الفُضُولِيِّ. وإنْ قال: اشْتَرِ لِي بها طَعامًا، ثم اقْبِضْهُ لنَفْسِكَ. فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّراءُ، ولم يَصِحَّ القَبْضُ لنَفْسِه، على ما تَقَدَّمَ في مثلِ هذه الصُّورَةِ. وإنْ قال: اقبِضْهُ لي، ثم اقبضْهُ لنَفْسِكَ. فَفَعَلَ، صَحَّ (¬1). نَصَّ عليه. وقال أصْحابُ الشّافِعِيِّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ أنْ يكونَ قابِضًا من نَفْسِه لنَفْسِه. ولَنا، أنَّه يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِيَ لنَفْسِه (1) من مالِ وَلَدِه، ويَبِيعَه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَقْبِضَ لنَفْسِه من نَفْسِه، ولوَلَدِه من نَفْسِه، وكذلك لو وَهَبَ وَلَدَه الصَّغِيرَ شَيئًا، جازَ أنْ يَقْبَلَ له من نَفْسِه، ويَقْبِضَ منها، فكذا ها هنا.

1756 - مسألة: (وإن قبض المسلم فيه جزافا، فالقول قوله في قدره)

وَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ جُزَافًا، فَالْقَولُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1756 - مسألة: (وإنْ قَبَضَ المُسْلَمَ فيه جُزافًا، فالقَوْلُ قولُه في قَدْرِه) لا يَقْبِضُ ما أَسْلَمَ فيه كَيلًا إلَّا بالكَيلِ، ولا وَزْنًا إلَّا بالوَزْنِ، ولا بغَيرِ ما قُدِّرَ به وقْتَ العَقْدِ؛ لأنَّ الكَيلَ والوَزْنَ يَخْتَلِفانِ، فإنْ قَبَضَه بذلك، فهو كقَبْضِه جُزَافًا، ومتى قَبَضَه جُزَافًا، فإنَّه يَأْخُذُ قَدْرَ حَقِّه، ويَرُدُّ الباقِيَ، ويُطَالِبُ بالنَّقْصِ إنْ نَقَصَ. وهل له أنْ يَتَصَرَّفَ في قَدْرِ حَقِّه منه قبلَ أنْ يَعْتَبِرَه؟ على وَجْهَينِ، مَضَى ذِكْرُهُما في كتابِ البَيعِ. وإن اخْتَلَفا في قَدْرِه، فالقَوْلُ قولُ القابِضِ مع يَمِينِه؛ لأنَّه أعْلَمُ بكَيلِه، ولأنَّه مُنكِرٌ للزَّائِدِ، والقَوْلُ قولُ المُنْكِرِ.

1757 - مسألة: (وإن قبضه كيلا، أو وزنا، ثم ادعى غلطا، لم يقبل قوله، في أحد الوجهين)

وَإِنْ قَبَضَهُ كَيلًا، أَوْ وَزْنًا، ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1757 - مسألة: (وإنْ قَبَضَه كَيلًا، أو وَزْنًا، ثمَّ ادَّعَى غَلَطًا، لم يُقْبَلْ قَوْلُه، في أحَدِ الوَجْهَينِ) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الغَلَطِ، والآخَرُ، يُقْبَلُ؛ لأنَّه أَعْلَمُ بكَيلِ ما قَبَضَ، يعني إذا كاله فوَجَدَه ناقِصًا.

1758 - مسألة: (وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه؟ على روايتين)

وَهَلْ يَجُوزُ الرَّهْنُ وَالْكَفِيلُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1758 - مسألة: (وهل يَجُوزُ الرَّهْنُ والكَفِيلُ بالمُسْلَمِ فيه؟ على رِوَايَتَينِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ في الرَّهْنِ والضَّمِينِ في السَّلَمِ، فرَوَى المَرُّوذِيُّ، وابنُ القاسِمِ، وأبو طَالِبٍ، مَنْعَ ذلك. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. واخْتارَهُ أبو بَكْرٍ. ورُويَتْ كَرَاهَتُه عن عَلِيٍّ، وابنِ عمرَ، وابنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ، والأوْزَاعِيِّ. ورَوَى حَنْبَلٌ جَوَازَه. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وعَمْرِو بنِ دِينارٍ، والحَكَمِ، ومالِكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصْحَابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ، لقَوْلِ اللهِ تَعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ} إلى قولِه {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1). وقد رُوِيَ عن ابنِ عَبّاسٍ، وابنِ عمرَ، أنَّ المُرادَ به السَّلَمُ. ولأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ، فيَدْخُلُ فيه السَّلَمُ. ولأنَّه أحَدُ نَوْعَيِ البَيعِ، فجازَ أخْذُ الرَّهْنِ بما في الذِّمَّةِ منه، كبُيُوعِ الأعْيَانِ. وَوَجْهُ الأُولَى أنَّ الرَّهْنَ والضَّمِينَ إنْ أخذَ برَأْسِ مالِ السَّلَمِ، فقد أخَذَ بما ليس بوَاجِبٍ، ¬

(¬1) سورة البقرة 282، 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا (¬1) مآلُه إلى الوُجُوبِ؛ لأنَّ المُسْلَمَ إليه قد مَلَكَه، وإنْ أخَذَ بالمُسْلَمِ فيه، فالرَّهْنُ إنَّما يَجُوزُ بشيءٍ يمكنُ اسْتِيفاؤُه من ثَمَنِ الرَّهْنِ، والمُسْلَمُ فيه لا يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُه من ثمَنِ الرَّهْنِ، ولا من ذِمَّةِ الضّامِنِ، ولأنَّه لا يَأْمَنُ هَلاكَ الرَّهْنِ في يَدِه بعُدْوَانٍ، فيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لحَقِّه من غيرِ المُسْلَمِ فيه، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أسْلَفَ في شيءٍ فلا يَصْرِفْه إلى غَيرِه». رَواهُ أبو دَاودَ (¬2). ولأنَّه يُقِيمُ ما في ذمَّةِ الضّامِنِ مُقَامَ ما في ذمَّةِ المَضْمُونِ عنه، فيَكُونُ في حُكْمِ أخْذِ العِوَضِ والبَدَلِ عنه، ولا يَجُوزُ ذلك. فصل: فإن أخَذَ رَهْنًا أو ضَمِينًا بالمُسْلَمِ فيه، ثم تَقَايَلَا السَّلَمَ، أو فُسِخَ العَقْدُ لِتَعَذُّرِ المُسْلَمِ فيه، بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لزَوَالِ الدَّينِ الذي به الرَّهْنُ، وبَرِئَ الضامِنُ، وعلى المُسْلَمِ إليه رَدُّ رَأْسِ مالِ السَّلَمِ في الحالِ، ولا يُشْتَرَطُ قَبْضُه في المَجْلِسِ؛ لأنَّه ليس بعِوَضٍ. ولو أقْرَضَه ألْفًا، وأخَذَ به رَهْنًا، ثم صالحَه من الأَلْفِ على طَعامٍ مَعْلُومٍ في ذِمَّتِه، صَحَّ، وزال الرَّهْنُ؛ لِزَوَالِ دَينِه من الذِّمَّةِ، وبَقِيَ الطَّعامُ في الذِّمَّةِ، ويُشْتَرَطُ قَبْضُه في المَجْلِسِ كَيلَا يكونَ بَيعَ دَينٍ بدَينٍ. فإنْ تَفَرَّقَا قبلَ القَبْضِ، ¬

(¬1) بعده في م: «ما». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَطَلَ الصُّلْحُ، ورَجَعَ الألْفُ إلى ذِمَّتِه برَهْنِه؛ لأنَّه يَعُودُ إلى ما كان عليه، كالعَصِيرِ إذا تَخَمَّرَ ثم عادَ خَلًّا. وكذا لو صَالحَه عن الدَّرَاهِمِ بدَنانِيرَ في ذِمَّتِه، فالحُكْمُ على ما بَيَّنَّا في هذه المَسْأَلَةِ. فصل: وإذا حَكَمْنَا بصِحَّةِ ضَمانِ السَّلَمِ، فلِصاحِبِ الحَقِّ مُطَالبَةُ مَن شاءَ منهما، وأَيُّهما قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُما منه. فإن سَلَّمَ المُسْلَمُ إليه المُسْلَمَ فيه إلى الضامِنِ لِيَدْفَعَه إلى المُسْلِمِ، جازَ، وكان وَكِيلًا. وإن قال: خُذْه عن الذي ضَمِنْتَ عَنِّي. لم يَصِحَّ، وكان قَبْضًا فاسِدًا مَضْمُونًا عليه؛ لأنَّه إنّما يَسْتَحِقُّ الأَخْذَ بعد الوَفاءِ، فإنْ أوْصَلَه إلى المُسْلِمِ بَرِئَ بذلك؛ لأنَّه سَلَّمَ إليه ما سَلَّطَه المُسْلَمُ إليه في التَّصَرُّفِ فيه. وإن تَلِفَ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه قَبَضَه على ذلك. وإنْ صالحَ المُسْلِمُ الضَّامِنَ عن المُسْلَمِ فيه بثَمَنِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إقالةٌ، فلا يَصِحُّ مِن غيرِ المُسْلَمِ إليه. وإنْ صالحَه المُسْلَمُ إليه بثَمَنِه، صَحَّ، وبَرِئَتْ ذِمَّتُه وذِمَّةُ الضامِنِ؛ لأنَّ هذا إقالةٌ. وإنْ صالحَه على غيرِ ثَمَنِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه بَيعٌ للمُسْلَمِ فيه قبلَ القَبْضِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والذي يَصِحُّ أخْذُ الرَّهْنِ به: كُلُّ دَينٍ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ يَصِحُّ اسْتِيفاؤُه من الرَّهْنِ؛ كأثْمانِ البِياعَاتِ، والأُجْرَةِ في الإِجَارَاتِ، والمَهْرِ، وعِوَضِ الخُلْعِ، والقَرْضِ، وأرْشِ الجِنايَاتِ، وقِيَمِ المُتْلَفَاتِ. ولا يَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ بما ليس بواجِبٍ، ولا (¬1) مآلُه إلى الوُجُوبِ؛ كالدِّيَةِ على العاقِلَةِ قبلَ الحَوْلِ؛ لأنَّها لم تَجِبْ بعدُ، ولا يُعْلَمُ إفْضَاؤُها إلى الوُجُوبِ، لأنَّها قد تَسْقُطُ بالجُنُونِ و (¬2) الفَقْرِ و (2) المَوْتِ، فلم يَصِحَّ أخْذُ الرَّهْنِ بها. ويَحْتَمِلُ جَوازُ أخْذِ الرَّهْنِ بها قبلَ الحَوْلِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الحياةِ واليَسارِ والعَقْلِ. فأمّا بعدَ الحَوْلِ فيَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ بها؛ لأنَّها قد اسْتَقَرَّتْ. ولا يَجُوزُ أخْذُ الرّهْنِ بالجُعْلِ في الجَعَالةِ قبلَ العَمَلِ؛ لأنَّه لم يَجِبْ، ولا يُعْلَمُ إفْضاؤُه إلى الوُجُوبِ. ويَحْتَمِلُ جَوازُ أخْذِ (¬3) الرَّهْنِ به. ذكَرَه القاضِي؛ لأنَّ مآله إلى الوُجُوبِ ¬

(¬1) بعده في م: «ما». (¬2) في م: «أو». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللُّزُومِ، فأَشْبَهَتْ أثْمانَ البِيَاعَاتِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ إفْضَاءَها [إلى الوُجُوبِ] (¬1) مُحْتَمِلٌ، فأَشْبَهَتِ الدِّيَةَ قبلَ الحَوْلِ. ويَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ به بعدَ العَمَلِ؛ لأَنَّه قد وَجَبَ. ولا يَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ بمالِ الكِتَابَةِ؛ لأنَّه غيرُ لازِمٍ؛ فإنّ للعَبْدِ تَعْجِيزَ نَفْسِه. ولا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دَينِه من الرَّهْنِ؛ لأَنَّه لو عَجَزَ، صارَ الرَّهْنُ للسَّيِّدِ؛ لأنَّه من جُمْلَةِ مالِ المُكَاتَبِ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يجُوزُ. ولَنا، أنَّها وَثِيقَةٌ لا يمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الحَقِّ منها، فلم يَصِحَّ، كضَمَانِ الخَمْرِ. ولا يَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ بعِوَضِ المُسابَقَةِ؛ لأنَّها جَعَالةٌ، ولا يُعْلَمُ إفْضاؤُها إلى الوُجُوبِ؛ لأنَّ الوُجُوبَ إنَّما يَثْبُتُ بسَبْقِ غيرِ المُخْرجِ، وهو غيرُ مَعْلُومٍ ولا مَظْنُونٍ. وقال بَعْضُ أصْحابِنَا: فيها وَجْهانِ، هل هي إجَارَةٌ أو جَعَالةٌ؟ فإن قُلْنا: هي إجارَةٌ، جاز أخْذُ الرَّهْنِ بعِوَضِها. وقال القاضي: إن لم يكنْ فيها مُحَلِّلٌ، فهي جَعالةٌ، وإن كان فيها مُحَلِّلٌ، فعلى وَجْهَينِ. وهذا كُلُّه بَعِيدٌ؛ لأنَّ الجُعْلَ ليس في مُقابَلَةِ العَمَلِ، بدَلِيلِ أنَّه لا يَسْتَحِقّه إذا كان مَسْبُوقًا وقد عَمِلَ العَمَلَ، وإنَّما هو عِوَضٌ عن السَّبْقِ، ولا تُعْلَمُ القُدْرَةُ عليه. ولأنَّه لا فائِدَةَ للجَاعِلِ فيه، ولا هو مُرَادٌ له، وإذا لم يَكُنْ إجارَةً مع عَدَمِ المُحَلِّلِ، فمع وُجُودِه أَوْلَى؛ لأنَّ مُسْتَحِقَّ الجُعْلِ هو السَّابِقُ، وهو غيرُ مُعَيَّنٍ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجُوزُ اسْتِئْجارُ رَجُلٍ غيرِ مُعَيَّنٍ، ثم لو كانت إجَارَةً، لكانَ عِوَضُها غيرَ واجِبٍ في الحالِ، ولا يُعْلَمُ إفْضَاؤُه (¬1) إلى الوُجُوبِ، ولا يُظنُّ، فلم يَجُزْ أخْذُ الرَّهْن به، كالجُعْلِ في رَدِّ الآبِقِ. ولا يَجُوزُ أخذُ الرَّهْنِ بعِوَضٍ غيرِ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ؛ كالثَّمَنِ المُعَيَّنِ، والأُجْرَةِ المُعَيَّنَةِ في الإِجَارَةِ، والمَعْقُودِ عليه في الإِجَارَةِ إذا كان مَنافِعَ مُعَيَّنَةً؛ كإجارَةِ الدَّارِ، والعَبْدِ المُعَيَّنِ، والدَّابَّةِ المُعَيَّنَةَ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أو لحَمْلِ شيءٍ مُعَيَّنٍ إلى مَكانٍ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ هذا حَقٌّ تَعَلَّقَ بالعَينِ لا بالذِّمَّةِ، ولا يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُه من الرَّهْنِ؛ لأنَّ مَنْفَعَةَ العَينِ لا يمْكِنُ اسْتِيفَاؤُها من غَيرِها، وتَبْطُلُ الإِجارَةُ بتَلَفِ العَينِ. فأمّا إنْ وَقَعَتِ الإِجَارَةُ على مَنْفَعَةٍ في الذِّمَّةِ، كخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وبناءِ دَارٍ، جازَ (¬2) أخْذُ الرَّهْنِ به؛ لأنَّه ثابِتٌ في الذِّمَّةِ، ويُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُه مِن الرَّهْنِ، بأَنْ يَسْتَأْجِرَ مِن ثمَنِه مَن يَعْمَلُ ذلك العَمَلَ، فجازَ أخْذُ الرَّهْنِ به؛ كالدَّينِ. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا كُلِّه كما قُلْنَا. فصل: فأمَّا الأعْيَانُ المَضْمُونَةُ؛ كالمَغْصُوبِ، والعَوَارِي، والمَقْبُوضِ على وَجْهِ السَّوْم، ففيها وَجْهانِ؛ أحَدُهُما، لا يَصِحُّ الرَّهْنُ بها. وهو مَذْهَبُ الشافعيّ؛ لَأنَّ الحَقَّ غيرُ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ، أشْبَهَ ما ذَكَرْنا، ¬

(¬1) في م: «إفضاؤها». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه إنْ رَهَنَه على قِيمَتِها إذا تَلِفَتْ، فهو رَهْنٌ على ما ليس بوَاجِبٍ، ولا يُعْلَمُ إفْضَاؤُه إلى الوُجُوبِ، وإن كان الرَّهْنُ على عَينِها، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ عَينِها من الرَّهْنِ، فأشْبَهَ أثْمانَ البِياعَاتِ المُتَعَيِّنَةِ. والثاني، يَصِحُّ أخْذُ الرَّهْنِ بها. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، وقال: كلُّ عَينٍ كانت مَضْمُونةً بنَفْسِها، جاز أَخْذُ الرَّهْنِ بها. يُرِيدُ ما يُضْمَنُ بمِثْلِه أو قِيمَتِه، كالمَبِيعِ يَجُوزُ أخْذُ الرَّهْنِ به؛ لأنَّه مَضْمُونٌ بفَسادِ العَقْدِ، ولأنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الوَثِيقَةُ بالحَقِّ، وهذا حاصِلٌ، فإنَّ الرَّهْنَ بهذه الأعْيانِ يَحْمِلُ الرّاهِنَ على أدائِها، وإن تَعَذَّرَ أداؤُها، اسْتَوْفَى بَدَلَها مِن ثَمَنِ الرَّهْنِ، فأشْبَهَتِ الدَّينَ في الذِّمَّةِ. فصل: قال القاضِي: كُلُّ ما جاز أخْذُ الرَّهْنِ به، جاز أخْذُ الضَّمِينِ به، وما لم يَجُزِ الرَّهْنُ به، لم يَجُزْ أَخْذُ الضَّمِينِ به، إلَّا ثَلاثَةَ أشْياءَ؛ عُهْدَةُ المَبِيعِ يَصِحُّ ضَمانُها، ولا يَصِحُّ الرَّهْنُ بها. والكِتابَةُ لا يَصِحُّ الرَّهْنُ بدَينِها، ويَصِحُّ ضَمانُها في إحْدَى الرِّوايَتَينِ. وما لا يَجِبُ لا يَصِحُّ الرَّهْنُ به، ويَصِحُّ ضَمانُه. والفَرْقُ بينَهما مِن وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ الرَّهْنَ بهذه الأشْياءِ يُبْطِلُ الإِرْفاقَ، فإنَّه إذا باع عَبْدَه بألْفٍ، ودَفَع رَهْنًا يُساوي ألْفًا، فكَأنَّه ما قَبَض الثَّمَنَ، ولا ارْتَفَقَ به، والمُكاتَبُ إذا دَفَع ما يُساوي كِتَابَتَه، فما ارْتَفَق بالأَجَلِ؛ لأَنَّه كان يُمْكِنُه بَيعُ الرَّهْنِ وإبْقاءُ الكِتابَةِ ويَسْتَرِيحُ، والضَّمانُ بخِلافِ هذا. والثّانِي، أنَّ ضَرَرَ الرَّهْنِ يَعُمُّ؛ لأنَّه يَدُومُ بقاؤُه عندَ المُشْتَرِي، فيَمْنَعُ البائِعَ التَّصَرُّفَ فيه، والضَّمان بخِلافِهِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اخْتَلَفَ المُسْلِمُ والمُسْلَمُ إليه في حُلُولِ الأجَلِ، فالقولُ قولُ المُسْلَمِ إليه؛ لأنَّهُ مُنْكِرٌ. وإنِ اخْتَلَفَا في أداءِ المُسْلَمِ فيه، فالقولُ قولُ المُسْلِمِ كذلك (¬1). وإنِ اخْتَلَفَا في قَبْضِ الثمَنِ، فالقولُ قولُ المُسْلَمِ إليه؛ لذلك (¬2). وإنِ اتَّفَقَا عليه، وقال أحَدُهما: كان في المَجْلِسِ قبلَ التَّفَرُّقِ. وقال الآخَرُ: بعدَه. فالقولُ قولُ مَن يَدَّعِي القَبْضَ في المَجْلِسِ؛ لأنَّ معه سَلامَةَ العَقْدِ. وإن أقامَ كلُّ واحِدٍ بَيِّنَةً بما ادَّعاه، قُدِّمَتْ أيضًا بَيِّنَتُه؛ لأنَّها مُثْبِتَةٌ، بخِلافِ الأُخْرَى. ¬

(¬1) في الأصل، م: «لذلك». (¬2) في ق: «كذلك».

باب القرض

بَابُ القَرْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ القَرْضِ وهو نَوْعٌ مِن السَّلَفِ، وهو جائِزٌ بالسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمّا السُّنَّةُ، فرَوَى أبو رافِعٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِن رجلٍ بَكْرًا (¬1)، فقَدِمَتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إبِلُ الصَّدَقَةِ، فأمَرَ أبا رافِعٍ أن يَقْضِيَ الرجلَ بَكْرَه، فرَجَعَ إليه أبو رافِعٍ، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، لم أجِدْ فيها إلَّا خِيارًا رَباعِيًّا. فقال: «أعْطِهِ، فَإنَّ خَيرَ النَّاسِ أحْسَنُهُمْ قَضَاءً». رَواه مُسْلِمٌ (¬2). وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَينِ، إلَّا كَانَ كصَدَقَةٍ مَرَّةً». وعن أنَسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -: «رَأَيتُ لَيلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَة بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، والقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ. فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَال: لأنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، والْمُسْتَقْرِضَ لَا ¬

(¬1) البكر: ولد الناقة إذا استكمل ست سنين ودخل في السابعة. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 221.

1759 - مسألة: (وهو من المرافق المندوب إليها)

وَهُوَ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ». رَواهما ابنُ ماجه (¬1). وأجْمَعَ المُسْلِمُون على جوازِ القَرْضِ. 1759 - مسألة: (وهو مِن المَرافِقِ المَنْدُوبِ إليها) في حَقِّ المُقْرضِ؛ لِما رَوَينا مِن الأحادِيثِ، ولِما رُوِيَ عن أبي الدَّرْداءِ، أنَّه قال: لَأنْ أُقْرِضَ دِينارَين، ثم يُرَدّانِ، ثم أُقْرِضَهما، أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أتَصَدَّقَ بِهما. ولأنَّ فيه تَفرِيجًا عن أخِيهِ المُسْلِمِ، وقَضاءً لحاجَتِه، فكان مَندُوبًا إليه، كالصَّدَقَةِ. وليس بواجِبٍ. قال أحمدُ: لا إثْمَ على مَن سُئِلَ فلم يُقْرِضْ. وذلك لأنَّه مِن المَعْرُوفِ، أشْبَهَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وهو مُباحٌ للمُقْتَرِضِ، وليس مَكْرُوهًا. قال أحمدُ: ليس القَرْضُ مِن المَسْألةِ. يُرِيدُ أنَّه لا يُكْرَهُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْتَقْرِضُ، وقد ذَكَرْنا حَدِيثَ أبي رافعٍ، ولو كان مَكْرُوهًا، كان أَبْعَدَ النّاسِ منه. قال ابنُ أبي موسى: لا أُحِبُّ أن يَتَحَمَّلَ بأمانَتِه ما ليس عِنْدَه. يُرِيدُ ما لا يَقْدِرُ على وَفائِه. ومَن أرادَ أن يَسْتَقْرِضَ، فلْيُعْلِمِ المُقْرِضَ بحالِه، ولا يَغُرُّه مِن نَفْسِه، إلَّا الشيءَ اليَسِيرَ الذي لا يَتَعَذَّرُ رَدُّ (¬2) مِثْلِه. وقال أحمدُ: إذا اقْتَرَضَ لغَيرِه ولم يُعْلِمْه بحالِه، لم يُعْجِبْنِي. وقال: ما أُحِبُّ أن يَقْتَرِضَ بجاهِه لإِخْوانِه. قال القاضي: إذا كان مَن يَقْتَرِضُ له غَيرَ مَعْرُوفٍ بالوَفاءِ؛ لكَوْنِه تَغْرِيرًا بمالِ ¬

(¬1) في: باب القرض، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 812. (¬2) سقط من: م.

1760 - مسألة: (ويصح في كل عين يجوز بيعها، إلا بني آدم، والجواهر ونحوها، مما لا يصح السلم فيه، في أحد الوجهين فيهما)

وَيَصِحُّ فِي كُلِّ عَينٍ يَجُوزُ بَيعُهَا، إلا بَنِي آدَمَ، وَالْجَوَاهِرَ وَنَحْوَهَا، مِمَّا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُقْرِضِ وإضْرارًا به، أمّا إن كان مَعْرُوفًا بالوَفاءِ، لم يُكْرَهْ؛ لكوْنِه إعانَةً له، وتَفْرِيجًا لكُرْبَتِه. فصل: ولا يَصِحُّ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ؛ [لأنَّه عَقْدٌ على المالِ، فلم يَصِحَّ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ] (¬1)، كالبَيعِ. وحُكْمُه في الإِيجابِ والقَبُولِ حُكْمُه (¬2)، على ما مَضَى. ويَصِحُّ بلفظِ السَّلَفِ (¬3)، والقَرْضِ؛ لوُرُودِ الشَّرْعِ بهما، وبكلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْناهُما، نحوَ قَوْلِه: مَلَّكْتُكَ هذا، على أن تَرُدَّ عليَّ بَدَلَه. أو تُوجَدُ قَرِينَةٌ دالَّةٌ على إرادَتِه. وإن لم يَذْكُرِ البَدَلَ، ولم توجَدْ قَرِينَةٌ، فهو هِبَةٌ. فإنِ اخْتَلَفا، فالقولُ قولُ المَوْهُوبِ له؛ لأنَّ الظّاهِرَ معه؛ لأنَّ التَّمْلِيكَ مِن غيرِ عِوَضٍ هِبَةٌ. ولا يَثْبُتُ فيه خِيارٌ؛ لأنَّ المُقْرِضَ دَخَل على بَصِيرَةِ أنَّ الحَظَّ لغَيرِه، والمُقْتَرِضُ متى شاء رَدَّه، وذلك يُغْنِيه عن ثُبُوتِ الخِيارِ. 1760 - مسألة: (ويَصِحُّ في كلِّ عَينٍ يَجُوزُ بَيعُها، إلَّا بَنِي آدَمَ، والجَواهِرَ ونحوَها، ممّا لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه، في أحَدِ الوَجْهَينِ فيهما) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «السلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ قَرْضُ المَكِيلِ والمَوْزُونِ بِغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، على أنَّ اسْتِقْراضَ ما لَهُ مِثْلٌ، مِن المَكِيلِ والمَوْزُونِ والأطْعِمَةِ، جائِزٌ. ويَجُوزُ قَرْضُ كلِّ ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا، غيرَ بني آدَمَ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ قَرْضُ غيرِ (¬1) المَكِيلِ والمَوْزُونِ؛ لأنَّه لا مِثْلَ له، أشْبَهَ الجَواهِرَ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ بَكْرًا. وليس بمَكِيلٍ ولا مَوْزُونٍ. ولأنَّ ما يَثْبُتُ سَلَمًا، يُمْلَكُ بالبَيعِ، ويُضْبَطُ بالوَصْفِ، فجاز قَرْضه، كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ. وقَوْلُهم: لا مِثْلَ له. خِلافُ أصْلِهِم، فإنَّ عندَ أبي حنيفةَ: لو أتْلَفَ ثَوْبًا، ثَبَت في ذِمَّتِه مِثْلُه، ويَجُوزُ الصُّلْعُ عنه بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه. فأمّا ما لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا، كالجَواهِرِ وشِبْهِها، فقال القاضِي: يَجُوزُ قَرْضُها، ويَرُدُّ المُسْتَقْرِضُ القِيمَةَ؛ لأنَّ ما لا مِثْلَ له يُضْمَنُ بالقِيمَةِ، والجواهِرُ كغَيرِها في القِيَمِ. وقال أبو الخَطّابِ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ القَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ المِثْلِ، وليس لها مِثْلٌ، ولأنَّه لم يُنْقَلْ قَرْضُها، ولا هي في مَعْنَى ما نُقِلَ القَرْضُ فيه؛ لكَوْنِها ليست مِن المرافِقِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا، فيَجِبُ إبْقاؤُها على المَنْعِ. ويُمْكِنُ بِنَاءُ هذا الخِلافِ على الوَجْهَينِ في الواجِبِ في بَدَلِ غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فإذا قُلْنا: يَجِبُ رَدُّ المِثْلِ. لم يَجُزْ قَرْضُ الجَواهِرِ، ولا ما لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا؛ لتَعَذُّرِ رَدِّ مِثْلِها. وإنْ قُلْنا: الواجِبُ رَدُّ القِيمَةِ. جاز قَرْضُه؛ لإِمْكانِ رَدِّ القِيمَةِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذَين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا بنو آدمَ، فقال أحمدُ: أكْرَهُ قَرْضَهم. فيَحْتَمِلُ كَراهَةَ التَّنْزِيهِ، ويَصِحُّ قَرْضُهم. وهو قولُ ابنِ جُرَيجٍ، والمُزَنِيِّ؛ لأنَّه مالٌ يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا، فصَحَّ قَرْضُه، كسائِرِ الحَيَوانِ. ويَحْتَمِلُ [أنَّه أرادَ كَراهَةَ التَّحْرِيمِ، فلا يَصِحُّ قَرْضُهم. اخْتاره القاضِي؛ لأنَّه لم يُنْقَل قَرْضُهم، ولا هو مِن المَرافِقِ. ويَحْتَمِلُ] (¬1) صِحَّةَ قَرْضِ العَبْدِ دُونَ الأَمَةِ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، إلَّا أن يُقْرِضَهُنَّ مِن ذَوى مَحارِمِهِنَّ؛ لأنَّ المِلْكَ بالقَرْضِ ضَعِيفٌ، فإنَّه لا يَمْنَعُها مِن رَدِّها على المُقْرِضِ، فلا يُسْتَبَاحُ به الوطءُ، كالمِلْكِ في مُدَّةِ الخِيارِ، وإذا لم يُبَحِ الوَطْءُ، لم يَصِحَّ القَرْضُ؛ لعَدَمِ القائِلِ بالفَرْقِ، ولأنَّ الأبْضاعَ ممّا يُحْتاطُ لها، ولو أبَحْنا قَرْضَهُنَّ، أفْضَى إلى أنَّ الرجلَ يَسْتَقْرِضُ أمَةً فيَطَؤُها ثم يَرُدُّها ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن يَوْمِه، ومتى احْتاجَ إلى وَطْئِها اسْتَقْرَضَها فوطِئَهأ ثم رَدَّها، كما يَسْتَعِيرُ المَتاعَ فيَنْتَفِعُ به ثم يَرُدُّه. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ ناقِلٌ للْمِلْكِ، فاسْتَوَى فيه العَبْدُ والأمَةُ، كسائِرِ العُقُودِ. ولا نُسَلِّمُ ضَعْفَ المِلْكِ، فإنَّه مُطْلَقٌ لسائِرِ (¬1) التَّصَرُّفاتِ، بخِلافِ المِلْكِ في مُدَّةِ الخِيارِ. وقَوْلُهم: متى شاء المُقْتَرِضُ رَدَّها. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّنا إذا قُلْنا: الواجبُ رَدُّ القِيمَةِ. لم يَمْلِكِ المُقْتَرِضُ رَدَّ الأمَةِ، وإنّما يَرُدُّ قِيمَتَها، وإن سَلَّمْنا ذلك، لكنْ مَتَى قَصَد المُقْتَرِضُ هذا، لم يَحِلَّ له فِعْلُه، ولا يَصِحُّ اقْتِراضة، كما لو اشْتَرَى أمَةً ليَطَأَها ثم يَرُدَّها بالمُقابَلَةِ أو بِعَيبٍ فيها، وإن وَقَع هذا بحُكْمِ الاتِّفاقِ لم يَمْنَعِ الصِّحَّةَ، كما لو وَقَع ذلك في البَيعِ، وكما لو أسْلَمَ جارِيَةً في أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ بصِفاتِها، ثم رَدَّها بعَينِها عند حُلُولِ الأَجَلِ. ولو ثَبَت أنَّ القَرْضَ ضَعِيفٌ لا يُبيحُ الوَطْءَ، لم يَمْنَعْ منه في الجَوارِي، كالبَيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ. وعَدَمُ القائِلِ بالفَرْقِ ليس بشيءٍ، على ما عُرِفَ في مَواضِعِه. وعَدَمُ نَقْلِه ليس بحُجَّةٍ؛ فإنَّ أكْثَرَ الحَيواناتِ لم يُنْقَلْ قَرْضُها، وهو جائِزٌ. فصل: ولو اقْتَرَضَ دَراهِمَ أو دَنانِيرَ غيرَ مَعْرُوفَةِ الوَزْنِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ القَرْضَ فيها يُوجِبُ رَدَّ المِثْلِ، فإذا لم يُعْرَفِ القَدْرُ، لم يُمْكِنِ ¬

(¬1) في ر 1، م: «كسائر».

1761 - مسألة: (ويثبت الملك فيه بالقبض)

وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بَالْقَبْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ القَضَاءُ. وكذلك لو اقْتَرَضَ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا جُزافًا، لِم يَجُزْ؛ لذلك. ولو قَدَّرَه بمِكْيالٍ بعَينِه، أو صَنْجَةٍ بعَينِها، غيرِ مَعْرُوفَين عند العامَّةِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ تَلَفَ ذلك، فيَتَعَذَّرُ رَدُّ المِثْلِ، فأشْبَهَ السَّلَمَ. وقد قال أحمدُ، في ماءٍ بينَ قَوْمٍ، لهم نُوَبٌ في أيامٍ مُسَمّاةٍ، فاحْتاجَ بَعْضُهم إلى أن يَسْتَقِيَ في غير نَوْبَتِه، فاسْتَقرَضَ مِن نوْبَةِ غيرِه، ليَرُدَّ عليه بَدَلَه في يومِ نَوْبَتِه: فلا بَأْسَ، وإن كان غيرَ مَحْدُودٍ كَرِهْتُه. فكَرِهَه إذا لم يَكُنْ مَحْدُودًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ رَدُّ مِثْلِه. فإن كانتِ الدَّراهِمُ يُتَعامَلُ بها عَدَدًا، جاز قَرْضُها عَدَدًا، ويَرُدُّ عَدَدًا. وإنِ اسْتَقْرَضَ وَزْنًا رَدَّ وَزْنًا. وهذا قولُ الحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ، والأوْزاعِيِّ. واسْتَقْرَضَ أيُّوبُ مِن حَمّادِ بنِ زَيدٍ دَراهِمَ بمَكَّةَ عَدَدًا. وأعْطاهُ بالبَصْرَةِ عَدَدًا. ولأنَّه وَفَّاه مِثْلَ ما اقْتَرَضَ فيما يَتَعامَلُ به النّاسُ، فأشْبَهَ ما لو كانُوا يَتَعامَلُون بالوَزْنِ، فاقْتَرَضَ وَزْنًا ورَدَّ وَزْنًا. 1761 - مسألة: (ويَثْبُتُ المِلْكُ فيه بالقَبْضِ) لأنَّه عَقْدٌ يَقِفُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّصَرُّفُ فيه على القَبْضِ، فوَقَفَ المِلْكُ عليه، كالهِبَةِ.

1762 - مسألة: (فلا يملك المقرض استرجاعه)

فَلَا يَمْلِكُ الْمُقْرِضُ اسْتِرْجَاعَهُ، وَلَهُ طَلَبُ بَدَلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1762 - مسألة: (فلا يَمْلِكُ المُقْرِضُ اسْتِرْجاعَه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ القَرْضَ عَقْدٌ لازِمٌ مِن جِهةِ المُقْرِضِ، جائِزٌ في حَقِّ المُقْتَرِضِ، فلو أرادَ المُقْرِضُ الرُّجُوعَ في عَينِ مالِه لم يَمْلِكْ ذلك. وقال الشافعيُّ: له ذلك؛ لأنَّ كلَّ ما يَمْلِكُ المُطالبَةَ بمِثْلِه، يَمْلِكُ أخْذَه إذا كان مَوْجُودًا، كالمَغْصُوبِ والعارِيَّةِ. ولَنا، أنَّه أزال (¬1) مِلكَه عنه بعَقْدٍ لازِمٍ مِن غيرِ خِيارٍ، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ فيه، كالبَيعِ، ويُفارِقُ المَغْصُوبَ والعارِيَّةَ، فإنَّه لم يَزُلْ مِلْكُه عنهما، ولأنَّه لا يَمْلِكُ المُطالبَةَ بمثْلِهِما مع وُجُودِهما، وفي مَسْألَتِنا بخِلافِه. 1763 - مسألة: (وله طَلَبُ بَدَلِه) في الحالِ؛ لأنَّه سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ المِثْلِ في المِثْلِيّاتِ، فأوْجَبَه حالًّا، كالإِتْلافِ. ولو أقْرَضَه تَفارِيقَ، ثم طالبَه بها جُمْلَةً، فله ذلك؛ لأنَّ الجَمِيعَ حالٌّ، فأشْبَهَ ما لو باعَهُ بُيُوعًا حالَّةً، ثم طالبَه بثَمَنِها جُمْلَةً. وإن أجَّلَ القَرْضَ، لم يَتَأَجَّلْ. وكلُّ دَينٍ حَلَّ أجَلُه، لم يَصِرْ مُؤَجَّلًا بتَأْجِيلِه. وبه قال الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ، واللَّيثُ: يَتَأَجَّلُ الجمِيعُ بالتَّأْجِيلِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» (¬2). ولأنَّ المُتَعاقِدَين يَمْلِكانِ التَّصَرُّفَ في هذا العَقْدِ بالإِقالةِ والإِمْضاءِ، فملَكَا ¬

(¬1) في ق، م: «زال». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 149.

1764 - مسألة: (فإن رده المقترض عليه، لزمه قبوله ما لم

فَإِنْ رَدَّهُ الْمُقْتَرِضُ عَلَيهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّبْ، أَوْ يَكُنْ فُلُوسًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الزِّيادَةَ فيه، كخِيارِ المَجْلِس. وقال أبو حنيفةَ في القَرْضِ وبَدَلِ المُتْلَفِ كقَوْلِنا، وفي ثَمَنِ المَبِيعِ والأُجْرَةِ والصَّداقِ وعِوَضِ الخُلْعِ كقَوْلِهما؛ لأنَّ الأجَلَ يَقْتَضِي جُزْءًا بِن المُعَوَّضِ، والقَرْضُ لا يَحْتَمِلُ الزِّيادَةَ والنَّقْصَ في عِوَضِه، وبَدَلُ المُتْلَفِ يَجِبُ فيه المِثْلُ مِن غيرِ زِيادَةٍ ولا نَقصٍ؛ فلذلك لم يَتَأَجَّلْ، وبَقِيَّةُ الأعْواضِ يَجُوزُ الزِّيادَةُ فيها، فجاز تَأْجِيلُها. ولَنا، أنَّ الحَقَّ يَثْبُتُ حالًّا، والتَّأْجِيلُ تَبَرُّعٌ ووَعْدٌ، فلا يَلْزَمُ الوَفاءُ به، كما لو أعارَه شيئًا، وهذا لا يَقَعُ عليه اسْمُ الشَّرْطِ، ولو سُمِّيَ، فالخَبَرُ مَخْصُوصٌ بالعارِيَّةِ (¬1)، فيَلْحَقُ به ما اخْتَلَفْنا فيه؛ لأنَّه مِثْلُه. ولَنا على أبي حنيفةَ، أنَّها زِيادَةٌ بعد اسْتِقْرارِ العَقْدِ، فأشْبَه القَرْضَ. وأمّا الإِقالةُ، فهي فَسْخٌ وابْتِداءُ عَقْدٍ آخَرَ، بخِلافِ مَسْألَتِنا، وأمّا خِيارُ المَجْلِسِ، فهو بمَنْزِلَةِ ابْتِداءِ العَقْدِ، بدَلِيلِ أنه [يُجْزِئُ فيه] (¬2) القَبْضُ لِما يُشْتَرَطُ قَبْضُه، والتَّعْيِينُ لِما في الذِّمَّةِ. 1764 - مسألة: (فإن رَدَّه المُقْتَرِضُ عليه، لَزِمَه قَبُولُه ما لم ¬

(¬1) في الأصل: «بالعادة». (¬2) في م: «يجري».

أَوْ مُكَسَّرَةً، فَيُحَرِّمَهَا السُّلْطَانُ، فَتَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَعَيَّبْ، أو يَكُنْ فُلُوسًا، أو مُكَسَّرَةً، فيُحَرِّمَها السُّلْطانُ، فتكونُ له القِيمَةُ وَقْتَ القَرْضِ) يَجُوزُ للمُقْتَرِضِ رَدُّ ما اقْتَرَضَه على المُقْرِضِ إذا كان على صِفَتِه لم يَنْقُصْ، ولم يَحْدُثْ به عَيبٌ، ويَلْزَمُ المُقْرِضَ قَبُولُه؛ لأنَّه على صِفَةِ حَقِّه، أشْبَهَ ما لو أعْطَاه غَيرَه، وقِياسًا على المُسْلَمِ فيه، وسواءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُه، أو لم يَتَغَيَّرْ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَ المُقْرِضَ قَبُول غيرِ المِثْلِيِّ؛ لأنَّ القَرْضَ فيه يُوجِبُ رَدَّ القِيمَةِ، على أحَدِ الوَجْهَينِ، فإذا رَدَّهُ بعَينِه لم يَرُدَّ الواجِبَ عليه، فلم يَجِبْ قَبُولُه، كالبَيعِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: فإن تَعَيَّبَ أو تَغَيَّرَ، لم يَجِبْ قَبُولُه؛ لأنَّ عليه في قَبُولِه ضَرَرًا، لأنَّه دُون حَقِّه، فأشْبَهَ ما لو نَقَصَ. وكذلك إن كان القَرْضُ فُلُوسًا، أو مُكَسَّرَةً، فحَرَّمَها السُّلْطَانُ وتُرِكَتِ المُعامَلَةُ بها؛ لأنَّه كالعَيبِ، فلا يَلْزَمُهُ قَبُولُها، ويَكُونُ له قِيمَتُها وَقْتَ القَرْضِ، سواءٌ كانت باقِيَةً أو اسْتَهْلَكَها. نَصَّ عليه أحمدُ في الدَّراهِمِ المُكَسَّرَةِ، فقال: يُقَوِّمُها كم تُسَاوِي يومَ أخَذَها؟ ثم يُعْطِيه، وسواءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُها قَلِيلًا أو كَثِيرًا. وذَكَر أبو بكْرٍ في «التَّنْبِيهِ» أنَّه يَكُونُ له قِيمَتُها وَقْتَ فَسَدَتْ وتُرِكَتِ المُعامَلَةُ بها؛ لأنَّه كان يَلْزَمُه رَدُّ مِثْلِها ما دامَتْ نافِقَةً (¬1)، فإذا فَسَدَت، انْتَقَلَ إلى قيمَتِها حِينَئِذٍ، كما لو عَدِمَ المِثل قال القاضي: هذا إذا اتَّفَقَ النّاسُ على تَرْكِها، فأمّا إن تَعامَلُوا بها مع تَحْرِيمِ السُّلْطانِ ¬

(¬1) في م: «نافعة». ونافقة أي رائجة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها، لَزِمَهُ أخْذُها. وقال مالِكٌ، واللَّيثُ، والشافعيُّ: ليس له إلَّا مِثْلُ ما أقْرَضَه؛ لأنَّ ذلك ليس بعَيبٍ حَدَثَ فيها، فجَرَى مَجْرَى رُخْصِ سِعْرِها. ولَنا، أنَّ تَحْرِيمَ السُّلْطانِ مَنَعَ إنْفاقَها، وأبْطَلَ مالِيَّتَهَا، فأشْبَهَ كَسْرَها، أو تَلَفَ أَجْزائِها، وأمّا رُخْصُ السِّعْرِ، فلا يَمْنَعُ، سواءٌ كان قَلِيلًا أو كَثِيرًا؛ لأنَّه لم يَحْدُثْ فيها شيءٌ، إنَّما تَغَيَّرَ السِّعْرُ، فأشْبَهَ الحِنْطَةَ إذا رَخُصَتْ أو غَلَتْ. وكذلك يُخَرَّجُ في المَغْشُوشَةِ إذا حَرَّمَها السُّلْطَانُ.

1765 - مسألة: (ويجب رد المثل في المكيل والموزون، والقيمة في الجواهر ونحوها. وفيما سوى ذلك وجهان)

وَيَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَالْقِيمَةِ فِي الْجَوَاهِرِ وَنَحْوهَا، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1765 - مسألة: (ويَجِبُ رَدُّ المِثْلِ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ، والقِيمَةِ في الجَواهِرِ ونَحْوها. وفيما سِوَى ذلك وَجْهانِ) لا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ رَدِّ المِثْلِ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ على أنَّ مَن أسْلَفَ سَلَفًا ممّا يَجُوزُ أنْ يُسْلَفَ، فرُدَّ عليه مِثْلُه، أنَّ ذلك جائِزٌ، وأنَّ للمُسْلِفِ أخْذَ ذلك. ولأنَّ المَكِيلَ والمَوْزُونَ يُضْمَنُ في الغَصْبِ والإِتْلافِ بمِثْلِه، فكذا ها هنا. فإنْ أعْوَزَ المِثْلُ، لَزِمَتْهُ قِيمَتُه يومَ الإِعْوَازِ؛ لأنَّها حِينَئِذٍ ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ. ويَرُدُّ القِيمَةَ في الجَواهِرِ ونَحْوها، إذا قُلْنا بجَوازِ قَرْضِها؛ لأنَّها مِن ذَواتِ القِيَمِ ولا مِثْلَ لها؛ لأنَّها لا تَنْضَبطُ بالصِّفَةِ (¬1). وفيما سِوَى ذلك وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَرُدُّ القِيمَةَ؛ لأنَّ ما أوْجَبَ المِثْلَ في المِثْلِيّاتِ أوْجَبَ القِيمَةَ فيما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا مِثْلَ له، كالإِتْلافِ. والثَّانِي، يَجِبُ رَدُّ مِثْلِه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِن رجلٍ بَكْرًا، فرَدَّ مِثْلَه. ولأنَّ ما ثَبَت في الذِّمَّةِ في السَّلَمِ، ثَبَت في القَرْضِ، كالمِثْلِيِّ. ويُخالِفُ الإِتْلافَ، فإنَّه لا مُسامَحَةَ فيه، فوَجَبَتِ القِيمَةُ؛ لأنَّها أحْصَرُ، والقَرْضُ أسْهَلُ، ولهذا جازتِ النَّسِيئَةُ فيما فيه الرِّبا. ويَعْتَبِرُ مِثْلَ صِفاتِه تَقْرِيبًا، فإنَّ حَقِيقَةَ المِثْلِ إنَّما تُوجَدُ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ. فإنْ تَعَذَّرَ المِثْلُ، فعليه قِيمَتُه يومَ التَّعَذُرِ. وإذا قُلْنا: تَجِبُ القِيمَةُ. وَجَبَتْ حينَ القَرْضِ؛ لأنَّها حِينَئِذٍ ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ.

1766 - مسألة: (ويثبت العوض في الذمة حالا، وإن أجله)

وَيَثْبُتُ الْعِوَضُ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا، وَإِنْ أَجَّلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1766 - مسألة: (ويَثْبُتُ العِوَضُ في الذِّمَّةِ حالًّا، وإن أجَّلَه) لأنَّ التَّأْجِيلَ في الحالِّ عِدَة وتَبَرُّعٌ، فلم يَلْزَمِ الوَفاءُ به. وفيه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. ويَنْبَغِي أن يَفِيَ له بما وَعَدَه.

1767 - مسألة: (ويجوز شرط الرهن والضمين فيه)

وَيَجُوزُ شَرطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1767 - مسألة: (ويَجُوزُ شَرْطُ الرَّهْنِ والضَّمِينِ فيه) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَهَن دِرْعَه على شعِيرٍ أخَذَه لأهْلِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فصل: ويَجُوزُ قَرْضُ الخُبْزِ. ورَخَّصَ فيه أبو قِلابَةَ، ومالكٌ. ومَنَع منه أبو حنيفةَ. ولَنا، أنَّه مَوْزُونٌ، فجاز قَرْضُه، كسائِرِ المَوْزُوناتِ. وإذا أقْرَضَه بالوَزْنِ رَدَّ المُقْتَرِضُ مِثْلَه بالوَزْنِ. وإنِ اسْتَقْرَضَه عَدَدًا رَدَّه عَدَدًا. وقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: فيه رِوايَتانِ؛ إحداهما، لا يَجُوزُ، كسائِرِ المَوْزُوناتِ. والثانيةُ، يَجُوزُ. وقال ابنُ أبي موسى: إذا كان يَتَحَرَّى أن يَكُونَ مِثْلًا بمِثْلٍ، فلا يَحْتاجُ إلى وَزْنٍ، والوَزْنُ أحَبُّ إليَّ. وَوَجْهُ الجَوازِ، ما رَوَتْ عائشةُ، رَضِيَ الله عنها، قالت: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الجِيرانَ يَقْتَرِضُونَ الخُبْزَ والخَمِيرَ، ويَرُدُّونَ زِيادَةً ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 87.

1768 - مسألة: (ولا يجوز شرط ما يجر نفعا؛ نحو أن يسكنه داره، أو يقضيه خيرا منه، أو في بلد آخر. ويحتمل جواز هذا الشرط)

وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ مَا يَجُرُّ نَفْعًا؛ نَحْوَ أَنْ يُسْكِنَهُ دَارَهُ، أَوْ يَقْضِيَهُ خَيرًا مِنْهُ، أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ. وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ هَذَا الشَّرْطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونُقْصانًا. فقال: «لَا بَأْسَ، إنَّ ذلِكَ مِنْ مَرَافِقِ النَّاسِ، لَا يُرَادُ بِهِ الفَضْلُ». رَواه أبو بَكْرٍ في «الشَّافِي» بإسْنَادِهِ. ورَوَى أيضًا بإسْنادِه، عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّه سُئِلَ عن اسْتِقْراضِ الخُبْزِ والخَمِيرِ، فقال: سُبْحَانَ اللهِ، إنَّما هذَا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فخُذِ الكَبِيرَ وأعْطِ الصَّغِيرَ، وخُذِ الصَّغِيرَ وأعْطِ الكَبيرَ، خيرُكُمْ أحْسَنُكُم قَضَاءً. سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذلك (¬1). ولَأنَّ هذا ممّا تَدْعُو الحاجَةُ إليه، ويَشُقُّ اعُتِبارُ الوَزْنِ فيه، وتَدْخُلُه المُسامَحَةُ، فأشْبَهَ دُخُولَ الحمَّامِ، والرُّكُوبَ في سَفِينَةِ المَلَّاحِ مِن غيرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ. فإن شَرَط أنْ يُعْطِيَه أكْثَرَ ممّا أقْرَضَه أو أَجْوَدَ، كان ذلك حَرامًا. وكذلك إن أقْرَضَه صَغِيرًا، قَصْدًا أن يُعْطِيَه كَبِيرًا؛ لأنَّ الأصْلَ تحْرِيمُ ذلك، وإنَّما أُبِيحَ لمَشَقَّةِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه، فإذا قَصَد أو شَرَط، أو أُفْرِدَتِ الزِّيادَةُ، فقد أمْكَنَ التَّحَرُّزُ منه، فَحَرُمَ بِحُكْمِ الأصْلِ، كما لو فَعَل ذلك في غيرِه. 1768 - مسألة: (ولا يَجُوزُ شَرْطُ ما يَجُرُّ نَفْعًا؛ نَحْوَ أن يُسْكِنَه دارَه، أو يَقْضِيَه خَيرًا منه، أو في بَلَدٍ آخرَ. ويَحْتَمِلُ جَوازُ هذا الشَّرْطِ) كلُّ قَرْضٍ شَرَط فيه الزِّيادَةَ فهو حَرامٌ، بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: ¬

(¬1) الطبراني في الكبير 20/ 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْمَعُوا على أنَّ المُسْلِفَ إذا شَرَط على المُسْتَسْلِفِ زِيادَةً أو هَدِيَّةً، فأسْلَفَ على ذلك، أنَّ أخْذَ الزِّيادَةِ على ذلك رِبًا. وقد رُوِيَ عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ مسعودٍ، أنهم نَهَوْا عن قرْضٍ جَرَّ مَنْفعَةً. ولأنَّه عَقْدُ إرْفاقٍ وقُرْبَةٍ، فإذا شَرَط فيه الزِّيادَةَ أخْرَجَه عن مَوْضُوعِه. ولا فرْقَ بينَ الزِّيادَةِ في القَدْرِ أو في الصِّفَةِ، مثلَ أنْ يُقْرِضَهُ مُكَسَّرَةً، فيُعْطَيه صِحاحًا، أو نَقْدًا ليُعْطِيَه خَيرًا منه. فإن شَرَط أن يُعْطِيَه إيّاه في بَلَدٍ آخَرَ، لم يَجُزْ إن كان لحَمْلِه مُؤْنَةٌ؛ لأَنه زِيادَةٌ. وإن لم يَكُنْ لحَمْلِه مُؤْنَةٌ، فقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه لا يَجُوزُ أيضًا. ورُويَتْ كَراهَتُه عن الحسنِ البَصْرِيِّ، ومَيمُونِ بنِ أبي شَبِيبٍ (¬1)، وعَبْدَةَ بنِ أبي لُبابَةَ (¬2)، ومالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ؛ لأنَّه قد يَكُونُ في ذلك زِيادَةٌ. وقد نَصَّ أحمدُ على (¬3) أنَّ مَن شَرَط أن يَكْتُبَ له بها سُفْتَجَةً (¬4)، لم يَجُزْ. ومَعْناهُ: اشْتِراطُ القَضاءِ في بَلَدٍ آخَرَ. ورُوِيَ عنه جَوازُ ذلك. حَكاهُ عنه ابنُ المُنْذِرِ؛ لكَوْنِه مَصْلَحَةً لهما. وحَكاه عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) ميمون بن أبي شبيب الربعي، تابعي، وثقه ابن حبان، توفي سنة ثلاث وثمانين. تهذيب التهذيب 10/ 389. (¬2) عبدة بن أبي لبابة الأسدي، مولاهم، نزيل دمشق، تابعي، من فقهاء الكوفة. تهذيب التهذيب 6/ 461، 462. (¬3) سقط من: م. (¬4) السفتجة: أن يعطي مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه ثَمَّ، فيستفيد أمن الطريق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسنِ بنِ عليٍّ، وابنِ الزُّبَيرِ، وابنِ سِيرِينَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ الأسْوَدِ، وأيُّوبَ السَّخْتِيانِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ، واخْتارَه. وذَكَرَ القاضِي أنَّ للوَصِيِّ قَرْضَ مالِ اليَتِيمِ في بَلَدٍ ليُوَفِّيَه في بَلَدٍ آخَرَ، ليَرْبَحَ خَطَرَ الطَّرِيقِ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ جَوازُه؛ لأنَّه مَصْلَحَةٌ لهما مِن غيرِ ضَرَرٍ بواحِدٍ منهما، والشَّرْعُ لا يَرِدُ بتَحْرِيمِ المَصالِحِ التي لا مَضَرَّةَ فيها، ولأنَّ هذا ليس بمَنْصُوصٍ عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ، فوَجَبَ إبْقاؤُه على الإِباحَةِ. فصل: وإن شَرَط أن يُؤْجِرَه دارَه، أو يَبيعَه شيئًا، أو أن يُقْرِضَه المُقْتَرَضَ مَرَّةً أُخْرَى، لم يَجُزْ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعٍ وسَلَفٍ (¬2). ¬

(¬1) في: المغني 6/ 437. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 216.

1769 - مسألة: (وإن فعل ذلك من غير شرط، أو قضى خيرا

وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيرِ شَرْطٍ، أَوْ قَضَى خَيرًا مِنْهُ، أَوْ أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً بَعْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنه شَرَط عَقْدًا في عَقْدٍ، فلم يَجُزْ، كما لو باعَه دارَه بشَرْطِ أنْ يَبِيعَه الآخَرُ دارَه. وإن شَرَط أن يُؤْجرَه دارَه بأقَلَّ مِن أُجْرَتِها، أو على أنْ يَسْتَأْجِرَ دارَ المُقْرِضِ بأكْثَرَ مِن أُجْرَتِها، أو على أن يُهْدِيَ له، أو يَعْمَلَ له عَمَلًا، كان أبْلَغَ في التَّحْرِيمِ. فصل: وإن شَرَط أنْ يُوَفِّيَه أنْقَصَ ممّا أقْرَضَه، لم يَجُزْ، إذا كان ممّا يَجْرِي فيه الرِّبا؛ لإِفْضائِه إلى فَواتِ المُماثَلَةِ فيما تُشْتَرَطُ (¬1) فيه، وإن كان في غيرِه، فكذلك. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ القَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ المِثْلِ، وشَرْطُ النُّقْصانِ يُخالِفُ (¬2) مُقْتَضاه، فلم يَجُزْ، كشَرْطِ الزِّيادَةِ. ولهم وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَجُوزُ؛ لأنَّ القَرْضَ جُعِلَ للرِّفْقِ بالمُسْتَقْرِضِ، وشَرْطُ النُّقْصانِ لا يُخْرِجُه عن مَوْضُوعِه، بخِلافِ الزِّيادَةِ. 1769 - مسألة: (وإن فَعَل ذلك مِن غيرِ شَرْطٍ، أو قَضَى خَيرًا ¬

(¬1) في م: «هي شرط». (¬2) في الأصل: «بخلاف».

الْوَفَاءِ، جَازَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَرَدَّ خَيرًا مِنْهُ، وَقَال: «خَيرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً». ـــــــــــــــــــــــــــــ منه، أو أهْدَى له هَدِيَّةً بعدَ الوَفاء، جازَ) [إذا أقْرَضَه مُطْلَقًا، فقَضاه أكْثَرَ منه، أو خَيرًا منه في الصِّفَةِ أَو دُونَه برِضاهُما، جاز] (¬1). وكذلك إن كَتَب له سُفْتَجَةً، أو قَضاه في بَلَدٍ آخَرَ جاز. ورَخَّصَ في ذلك ابنُ عُمَرَ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ، والنَّخَعِي، والشَّعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، ومَكْحُولٌ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وقال أبو الخَطّابِ: إن قَضاه خَيرًا منه، أو زادَه زِيادَةً بعدَ الوَفاءِ مِن غيرِ شَرْطٍ ولا مُواطَأةٍ، فعلى رِوايَتَين. ورُوِيَ عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وابنِ عباسٍ، أنَّه يَأْخُذُ مثلَ قَرْضِه، ولا يَأْخُذُ فَضْلًا؛ لئَلَّا يَكُونَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً. ولَنا أنَّ (النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، فرَدَّ خَيرًا منه، وقال: «خَيرُكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً») مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه لم يَجْعَلْ تلك الزِّيادَةَ عِوَضًا في القَرْضِ، ولا وَسِيلَةً إليه، ولا إلى اسْتِيفاءِ دَينِه، أشْبَهَ ما لو لم يَكُنْ قَرْضٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابنُ أبي مُوسى: إذا زادَه بعد الوَفاءِ، فعادَ المُسْتَقْرِضُ بعدَ ذلك يَلْتَمِسُ منه قَرْضًا ثانيًا، ففَعَلَ، لم يَأْخُذْ منه إلَّا مِثْلَ ما أعْطاه، فإن أخَذَ زِيادَةً، أو أجْوَدَ ممّا أعْطاه، حَرُم، قَوْلًا واحِدًا. وإذا كان الرجلُ مَعْرُوفًا بحُسْنِ القَضاء، لم يُكْرَهْ إقْراضُه. وقال القاضي: فيه وَجْهٌ آخر (¬1)، أنَّه يُكْرَهُ؛ ¬

(¬1) زيادة من: م.

1770 - مسألة: (وإن فعله قبل الوفاء، لم يجز، إلا أن تكون

وَإِنْ فَعَلَهُ قَبْلَ الْوَفَاءِ، لَمْ يَجُزْ، إلا أنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بَينَهُمَا بِهِ قَبْلَ الْقَرْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يَطْمَعُ في حُسْنِ عادَتِه. وهذا لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كان مَعْرُوفًا بحُسْنِ القَضاءِ، فهل يَسُوغُ لأحَدٍ أن يقولَ: إنَّ إقْراضَه مَكْرُوهٌ؟ ولأنَّ المَعْرُوفَ بحُسْنِ القَضاءِ خَيرُ النّاسِ وأفْضَلُهم، وهو أوْلَى النّاسِ بقَضاءِ حاجَتِه، وإجابَةِ مَسْألَتِه، وتَفْرِيجِ كُرْبَتِه، فلا يَجُوزُ أن يَكُونَ ذلك مَكْرُوهًا، وإنَّما يُمْنَعُ مِن الزِّيادَةِ المَشْرُوطَةِ. ولو أقْرَضَه مُكَسَّرَةً، فجاءَه مكانَها بصِحاحٍ بغيرِ شَرْطٍ، جاز. وإن جاءَه بصِحَاحٍ أقَلَّ منها، فأخَذَها بجَمِيعِ حَقِّه، لم يَجُزْ؛ لأن ذلك مُعاوَضَةٌ للنَّقْدِ بأقَلَّ منه، فكان رِبًا، وكذلك ما يُشْتَرَطُ فيه المُماثَلَةُ. 1770 - مسألة: (وإن فَعَلَه قبلَ الوَفاءِ، لم يَجُزْ، إلَّا أن تَكُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العادَةُ جارِيَةً بينَهما بذلك قبلَ القَرْضِ) إلَّا أن يُكافِئَه أو يَحْسُبَه مِن دَينِه، [إلَّا أن يَكُونَ شيئًا جَرَتِ العَادَةُ به قبلَ القَرْضِ؛ لأنَّ القَرْضَ ليس سَبَبًا له] (¬1). وذلك لِما روَى الأثْرَمُ أنَّ رَجلًا كان له على سَمَّاكٍ عِشْرُون دِرْهمًا، فجَعَل يُهْدِي إليه السَّمَكَ ويُقَوِّمُه حتى بَلَغ ثَلاثَةَ عَشَرَ دِرْهمًا، فسَألَ ابنَ عبّاسٍ، فقال: أعْطِه سَبْعَةَ دَراهِمَ (¬2). وعن ابنِ سِيرِينَ، أنَّ عُمَرَ أسْلَفَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فأهْدَى إليه أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ مِن ثَمَرَةِ أرْضِه، فرَدَّها عليه، ولم يَقْبَلْه، فأتاه أُبَيٌّ، فقال: لقد عَلِم أهْلُ المَدِينَةِ أنِّي مِن أطْيَبِهم ثَمَرةً، وأنَّه لا حاجَةَ لنَا، فبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنا؟ ثم أهْدَى إليه بعدَ ذلك، فقَبِلَ. وعن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، قال: قُلْتُ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: إنِّي أُرِيدُ أن أسِيرَ إلى أرضِ الجِهادِ، إلى العِراقِ. فقال: إنَّك تَأْتِي أرضًا فاشٍ بها (¬3) الرِّبا، فإن أقْرَضْتَ رجلًا قَرْضًا، فأتاكَ بقَرْضِكَ ليُؤَدِّيَ إليكَ قَرْضَك ومعه هَدِيَّةٌ، فاقْبِضْ قَرْضَك، وارْدُدْ عليه هَدِيَّتَه. رَواهما الأثْرَمُ (¬4). وروَى البُخَارِيُّ (¬5)، عن أبِي بُرْدَةَ بنِ (¬6) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب كل قرض جر منفعة فهو ربا، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 350. (¬3) في م: «فيها». (¬4) وأخرجهما البيهقي في الباب السابق 5/ 349، 350. (¬5) في: باب مناقب عبد الله بن سلام، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخاري 5/ 47. (¬6) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي مُوسى، قال: قَدِمْتُ المَدِينَةَ، فلقِيتُ عبدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ. وذَكَرَ حَدِيثًا. وفيه: ثم قال لي: إنَّك بأرْضٍ فيها الرِّبا فاشٍ، فإذا كان لك على رجلٍ دَينٌ (¬1)، فأهْدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ، أو حِمْلَ شَعِيرٍ، أو حِمْلَ قَتٍّ، فلا تَأْخُذْه، فإنَّه رِبًا. قال ابنُ أبي مُوسى: ولو أقْرَضَه قَرْضًا، ثم اسْتَعْمَلَه عَمَلًا، لم يَكُنْ يَسْتَعْمِلُه مِثْلَه قبلَ القَرْضِ، كان قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً. ولو اسْتَضافَ غَرِيمَه، ولم تَكُنِ العادَةُ جَرَت بذلك بينَهما، حَسَبَ له ما أكَلَه؛ لِما روَى ابنُ ماجه في «سُنَنِه» (¬2) عن أنَسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَقْرَضَ أحَدُكُمْ قَرْضًا، فَأهْدَى إلَيهِ أوْ حَمَلَه عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ، إلَّا أنْ يَكُونَ جَرَى بَينَهُ وَبَينَهُ قَبْلَ ذَلِكَ». وهذا كلُّه في مُدَّةِ القَرْضِ، فأمّا بعدَ الوَفاءِ، فهو كالزِّيادَةِ مِن غيرِ شَرْطٍ، وقد ذَكَرْناه. فصل: ولو اقْتَرَضَ نِصْفَ دِينارٍ، فدَفَعَ إليه المُقْتَرِضُ دِينارًا ¬

(¬1) في م: «قرض». (¬2) في باب القرض، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 813. وضعف إسناده في الزوائد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحًا، وقال: نِصْفُه وَفاءٌ، ونِصْفُه ودِيعةٌ عِنْدَك. أو: سَلَمٌ في شيءٍ. صَحَّ، ولا يَلْزَمُ المُقْرِضَ قَبُولُه؛ لأنَّ عليه في الشَّرِكَةِ ضَرَرًا. ولو اشْتَرَى بالنِّصْفِ الباقِي مِن الدِّينارِ سِلْعَةً، جاز. فإن كان بشَرْطٍ، مِثْلَ أنْ يَقُولَ: أقْضِيك صَحِيحًا، بشَرْطِ أن آخُذَ منك بنِصْفِه الباقِي قَمِيصًا. لم يَجُزْ؛ لأنَّه لم يَدْفَعْ إليه صَحِيحًا، إلَّا ليُعْطِيَه بالنِّصْفِ الباقِي فَضْلَ ما بينَ الصَّحِيحِ والمَكْسُورِ مِن النِّصْفِ المَقْضِيِّ. وإنِ اتَّفَقا على كَسْرِه، كَسَراه. وإنِ اخْتَلَفا، لم يُجْبَرْ أحَدُهما على ذلك؛ لأنَّه يَنْقُصُ قِيمَتَه. فصل: ولو أفْلَسَ غَرِيمُه، فأقْرَضَه ألْفًا؛ ليُوَفِّيَه كلَّ شَهْرٍ شيئًا مَعْلُومًا، جاز؛ لأنَّه إنَّما انْتَفَعَ باسْتِيفاءِ ما هو مُسْتَحِقٌّ له. ولو كان له عليه حِنْطَةٌ، فأقْرَضَه ما يَشْتَرِي به حِنْطَةً يُوَفِّيه إيّاها، جاز؛ لذلك. ولو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرادَ رجلٌ أن يَبْعَثَ إلى عِيالِه نَفَقَةً، فأقْرَضَها رجلًا على أن يَدْفَعَها إلى عِيالِه، فلا بَأْسَ إذا لم يَأْخُذْ عليها شيئًا. وإنْ أقْرَضَ أكّارَه (¬1) ما يَشْتَرِي به بَقَرًا يَعْمَلُ عليها في أرْضِه، أو بَذْرًا يَبْذُرُه فيها، فإن كان شَرَطَ ذلك في القَرْضِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه شَرَط ما يَنْتَفِعُ به، أشْبَهَ الزِّيادَةَ. وإن لم يَكُنْ شَرْطًا، فقال ابنُ أبي مُوسى: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. قال: ولو قال: أقْرِضْنِي ألْفًا، وادْفَعْ إلَيَّ أرْضَكَ أزْرَعْها بالثُّلُثِ. كان خَبِيثًا. قال شيخُنا (¬2): والأوْلَى جَوازُ ذلك إذا لِم يَكُنْ مَشْرُوطًا؛ لأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه، والمُسْتَقْرِضُ إنَّما يَقْصِدُ نفْعَ نَفْسِه، وإنَّما يَحْصُلُ انْتِفاعُ المُقْرِضِ ضِمْنًا، فأشْبَهَ أخْذَ السُّفْتَجَةِ به، وإيفاءَه في بَلَدٍ آخَرَ، مِن حيثُ إنَّه مَصْلَحَةٌ لهما جَمِيعًا. فصل: قال أحمدُ في رجلٍ اقْتَرَضَ دَراهِمَ، وابْتاعَ بها منه شيئًا، فخَرَجَت زُيُوفًا: فالبَيعُ جائِزٌ، ولا يَرْجِعُ عليه بشيءٍ. يَعْنِي لا يَرْجِعُ البائِعُ على المُشْتَرِي ببَدَلِ الثَّمَنِ؛ لأنَّها دَراهِمُه (¬3)، فعَيبُها عليه، وإنَّما له على المُشْتَرِي بَدَلُ ما أقْرَضَه إيّاه بصِفَتِه زُيُوفًا. وهذا يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ فيما إذا ¬

(¬1) الأكَار: الحرّاث. (¬2) في: المغني 6/ 440. (¬3) بعده في م: «بعينها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باعَه السِّلْعَةَ بها، وهو يَعْلَمُ عَيبَها (¬1)، فأمّا إن باعَه في ذِمَّتِه بدَراهِمَ، ثم قَبَض هذه بَدَلًا عنها غيرَ عالِمٍ بها، فيَنْبَغِي أن يَجِبَ له دَراهِمُ خالِيَةٌ مِن العَيبِ، ويَرُدُّ هذه عليه، وللمُشْتَرِي رَدُّها على البائِعِ وَفاءً عن القَرْضِ، ويَبْقَى الثَّمَنُ في ذِمَّتِه. وإن حَسَبَها على البائِعِ وَفاءً عن القَرْضِ، ووَفّاه الثَّمَنَ جَيِّدًا، جاز. قال: ولو أقْرَضَ رجلًا دَراهِمَ، وقال: إذا مِتُّ فأنت في حِلٍّ. كانت وَصِيَّةً. وإن قال: إنْ مِتَّ فأنت في حِلٍّ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ هذا إبْراءٌ مُعَلَّقٌ على شَرْطٍ، ولا يَصِحُّ ذلك. والأوَّلُ وَصِيَّةٌ؛ لأنَّه عَلَّقَه على مَوْتِ نَفْسِه، وذلك جائِزٌ. قال: ولو أقْرَضَه تِسْعِين دِينارًا وَزْنًا، بمائَةٍ عَدَدًا وزْنُها تِسْعُون، وكانت لا تَنْفَقُ في مكانٍ إلَّا بالوَزْنِ، جاز، وإن كانت تَنْفَقُ برُءُوسِها، فلا. وذلك لأنَّها إذا كانت تَنْفَقُ في مكانٍ برُءُوسِها، كان ذلك زِيادَةً؛ لأنَّ تِسْعِينَ مِن المائَةِ تَقُومُ مَقامَ التِّسْعِين التي أقْرَضَه إيّاها، وَيَسْتَفْضِلُ عَشَرَةً، ولا يَجوزُ اشْتِراطُ الزِّيادَةِ، وإذا كانت لا تَنْفَقُ إلَّا بالوَزْنِ، فلا زِيادَةَ فيها وإنِ اخْتَلَفَ عَدَدُها. قال: ولو قال: اقْتَرِضْ لي مِن فُلانٍ مائَةً، ولك عَشَرَةٌ. فلا بَأْسَ، ولو قال: اكْفُلْ عَنِّي، ولك ألْفٌ. لم يَجُزْ؛ وذلك لأنَّ قَوْلَه: اقْتَرِضْ لي ولك عَشَرَةٌ. جَعالةٌ على فِعْلٍ مُباحٍ، فجازَت، كما لو قال: ابْنِ لي هذا الحائِطَ، ولك عَشَرَةٌ. وأمّا الكَفالةُ؛ فلأنّ الكَفِيلَ يَلْزَمُه أداءُ الدَّينِ، فإذا أدّاه وَجَب له على المَكْفُولِ عنه، فصارَ كالقَرْضِ، فإذا أخَذَ عِوَضًا، صار قَرْضًا ¬

(¬1) في م: «عينها».

1771 - مسألة: (وإذا أقرضه أثمانا، فطالبه بها ببلد آخر، لزمته. وإن أقرضه غيرها)

وَإِذَا أَقْرَضَهُ أَثْمَانًا، فَطَالبَهُ بِهَا بِبَلَدٍ آخَرَ، لَزمَتْهُ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ غَيرَهَا، لَمْ تَلْزَمْهُ. فَإِنْ طَالبَهُ بِالْقِيمَةِ، لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَرَّ مَنْفَعَةً، فلم يَجُزْ. 1771 - مسألة: (وإذا أقْرَضَه أثْمانًا، فطالبَه بها ببَلَدٍ آخَرَ، لَزِمَتْه. وإن أقْرَضَه غيرَها) فطالبَه بها (لم تَلْزَمْه. فإن طالبَه بالقِيمَةِ، لَزِمَه أداؤُها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا أقْرَضَه ما لحَمْلِه مُؤْنَةٌ، فطالبَه بمِثْلِه بِبَلَدٍ آخَرَ، لم يَلْزَمْه؛ لأنَّه لا يَلْزمُه حَمْلُه إلى ذلك البَلَدِ. فإن تَبَرَّعَ المُقْتَرِضُ بدَفْعِ المِثْلِ، وأبَى المُقْرِضُ قَبُولَه، فله ذلك؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في قَبْضِه؛ لأنَّه رُبَّما احْتاجَ إلى حَمْلِه إلى المكانِ الذي أقْرَضَه فيه، وله المُطالبَةُ بقِيمَةِ ذلك في البَلَدِ الذي أقْرَضَه فيه؛ لأنَّه المكانُ الذي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فيه. ولو أقْرَضَه أثْمانًا، أو ما لا مُؤْنَةَ لحَمْلِه، وطالبَه بها، وهما ببَلَدٍ آخَرَ، لَزِمَه دَفْعُه؛ لأنَّ تَسْلِيمَه إليه في هذا البَلَدِ وغيرِه واحِدٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو أقْرَضَ ذِمِّيٌّ ذمِّيًّا خَمْرًا، ثم أسْلَما أو أحَدُهما، بَطَل القَرْضُ، ولم يَجِبْ على المُقْتَرَضِ شيءٌ، سواءٌ كان هو المُقْتَرِضَ أو المُقْرِضَ؛ لأنَّه إذا أسْلَمَ لم يَجُزْ أنْ يَجِبَ عليه خمْرٌ؛ لعَدَمِ مالِيَّتِها، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ بَدَلُها؛ لأنَّه لا قِيمَةَ لها، ولذلك (¬1) لا يَضْمَنُها إذا أتْلَفَها. وإن كان المُقْرِضَ، لم يَجِبْ له شيءٌ؛ لِما ذَكَرْنا. والله أَعْلَمُ. ¬

(¬1) في ر 1: «كذلك».

باب الرهن

بَابُ الرَّهْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الرَّهْنِ الرَّهْنُ في اللُّغَةِ: الثُّبُوتُ والدَّوَامُ. يُقالُ: ماءٌ راهِنٌ. أي راكِدٌ. ونِعْمَةٌ راهِنَةٌ. أي دائِمَةٌ. وقِيلَ: هو الحبْسُ. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬1). وقال الشاعرُ: (¬2) وفارَقَتْكَ برَهْنٍ لا فَكاكَ له … يَوْمَ الوَداعِ فأضْحَى الرَّهْنُ قد غَلِقَا شَبَّهَ لُزُومَ قَلْبِه لها واحْتباسَه عندَها لوَجْدِه بِها، بالرَّهْنِ الذي يَلْزَمُه المُرْتَهِنُ فيَحْبِسُه عِنْدَه ولا يُفارِقُه. وغَلَقُ الرَّهْنِ؛ اسْتِحْقاقُ المُرْتَهِنِ إيّاه لعَجْزِ الرّاهِنِ عن فَكاكِه. ¬

(¬1) سورة المدثر 38. (¬2) هو زهير بن أبي سلمى، والبيت في شرح ديوانه 33.

1772 - مسألة: (وهو وثيقة بالحق)

وَهُوَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1772 - مسألة: (وهو وَثِيقَةٌ بالحَقِّ) الرَّهْنُ في الشَّرْعِ؛ المالُ الذي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بالدَّين؛ ليُسْتَوْفَى مِن ثَمَنِه إن تَعَذَّرَ اسْتِيفاؤُه مِن ذِمَّةِ الغَرِيمِ. وهو جائِزٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ. قال اللهُ سبحانَه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1). ورَوَتْ عائِشَةُ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى مِن يَهُودِيٍّ طَعامًا، ورَهَنَه دِرْعَه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» (¬3). وأجْمَعَ المُسْلِمُون على جَوازِ الرَّهْنِ في الجُمْلَةِ. فصل: ويَجُوزُ الرَّهْنُ في الحَضَر كجَوَازِه في السَّفَرِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَ في ذلك، إلَّا مُجاهِدًا، قال: ليس الرَّهْنُ إلَّا في السَّفَرِ؛ [لأنَّ اللهَ تعالى شَرَط السَّفَرَ (¬4) في الرَّهْنِ بقَوْلِه] (¬5) تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى مِن يَهُودِيٍّ طَعامًا ورَهَنَه دِرْعَه، وكانا بالمَدِينَةِ. ولأنَّها وَثِيقَةٌ تَجُوزُ في السَّفَرِ، فجازَت في الحَضَرِ، كالضَّمانِ. فأمّا ذِكْرُ السَّفَرِ، ¬

(¬1) سورة البقرة 283. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 87. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 250. (¬4) سقط من الأصل. (¬5) في م: «لقوله».

1773 - مسألة: وهو (لازم في حق الراهن، جائز في حق المرتهن)

لَازِمٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، يَجُوزُ عَقْدُهُ مَعَ الْحَقِّ وَبَعْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، إلا عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه خَرَج مَخْرَجَ الغالِبِ؛ لكَوْنِ الكاتِبِ يُعْدَمُ في السَّفَرِ غالِبًا؛ ولهذا لم يَشْتَرِط عَدَمَ الكاتِبِ، وهو مَذْكُورٌ في الآيَةِ. فصل: وهو غيرُ واجِبٍ. لا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّه وَثِيقَةٌ بالدَّينِ، فلم يَجِبْ، كالضَّمانِ والكِتابَةِ. وقولُ اللهِ تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. إرْشادٌ لنا لا إيجابٌ عَلَينا، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. ولأنَّه أمَرَ به عندَ إعْوازِ الكِتابَةِ، وهي غيرُ واجِبَةٍ، فكذلك بَدَلُها. 1773 - مسألة: وهو (لازِمٌ في حَقِّ الرّاهِنِ، جائِزٌ في حَقِّ المُرْتَهِنِ) لأنَّ العَقْدَ لحَقِّه وَحْدَه، فكان له فَسْخُه، كالمَضْمُونِ له. وهو لازِمٌ من جِهَةِ الرّاهِنِ؛ لأنَّ الحَظَّ لغَيرِه، فلَزِمَ مِن جِهَتِه، كالضَّمانِ في حَقِّ الضّامِنِ. 1774 - مسألة: (يَجُوزُ عَقْدُه مع الحَقِّ وبعدَه، ولا يَجُوزُ قبلَه، إلَّا عندَ أبي الخَطّابِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الرَّهْنَ لا يَخْلُو مِن أحْوالٍ ثَلاثَةٍ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُها، أن يقَعَ مع الحَقِّ، فيَقُولُ: بِعْتُكَ هذا بعَشَرَةٍ إلى شَهْرٍ، تَرْهَنُنِي بها كذا. فيَقُولُ: قَبلْتُ. فيَصِحُّ ذلك. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأَنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى ثُبُوتِه، فإنَّه لو لم يَعْقِدْه مع ثُبُوتِ الحَقِّ، ويَشْتَرِطْه فيه، لم يَتَمَكَّنْ مِن إلْزامِ المُشْتَرِي عَقْدَه، وكانتِ الخِيَرَةُ إلى المُشْتَرِي، والظاهِرُ أنَّه لا يَبْذُلُه، فتَفُوتُ الوَثِيقَةُ بالحَقِّ. الحالُ الثّانِي، أن يَقَعَ بعدَ الحَقِّ، فيَصِحُّ بالإِجْماعِ؛ لأنَّه دَينٌ ثابِتٌ تَدْعُو الحاجَةُ إلى الوَثِيقَةِ به، فجازَ أخْذُها به، كالضَّمانِ، ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. جَعَلَه بَدَلًا عن الكِتَابَةِ، فيَكُونُ في مَحَلِّهِا، ومَحَلُّها بعدَ وُجُوبِ الحَقِّ، ولأنَّ في الآيَةِ ما يَدُلُّ على ذلك، وهو قَوْلُه تَعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1). فجَعَله مَذْكُورًا بعدَها بفاءِ التَّعْقِيبِ. الحالُ الثالِثُ، أن يَرْهَنَه قبلَ الحَقِّ، فيَقُولُ رَهَنْتُك عَبْدِي هذا بعَشَرَةٍ تُقْرِضُنِيها. فلا يَصِحُّ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. اختارَه أبو بكرٍ، والقاضِي. وذَكَر القاضِي، أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه في روايةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. واخْتارَ أبو الخَطّاب أنَّه يَصِحُّ. فإذا قال: رَهَنْتُك ثَوْبِي هذا بعَشَرَةٍ تُقرِضُنِيها غَدًا. ¬

(¬1) سورة البقرة 282.

1775 - مسألة: (ويصح في كل عين يجوز بيعها)

وَيَصِحُّ رَهْنُ كُلِّ عَينٍ يَجُوزُ بَيعُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وَسلَّمَه إليه، ثم أقْرَضَه الدَّراهِمَ، [لزِمَه الرَّهْنُ] (¬1). وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ، ومالكٍ؛ لأنَّه وَثِيقَةٌ بالحَقِّ، فجازَ عَقْدُها قبلَ وُجُوبِه، كالضَّمانِ، أو فجازَ انْعِقادُها على شيءٍ يَحْدُثُ في المُسْتَقْبَلِ، كضَمانِ الدَّرْكِ. ولَنا، أنَّه وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ لا يَلْزَمُ قَبْلَه، فلم يَصِحَّ قَبْلَه، كالشَّهادَةِ، ولأنَّ الرَّهْنَ (¬2) تابعٌ للحَقِّ، فلا يَسْبِقُه، كالشَّهادَةِ، وأمّا الضَّمانُ، فيَحْتَمِلُ أن يُمْنَعَ صِحَّتُه، وإنْ سَلَّمْناه، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ الضَّمانَ الْتِزامُ مالٍ تَبَرُّعًا بالقَوْلِ، فجازَ مِن غيرِ حَقٍّ ثابِتٍ، كالنَّذْرِ. 1775 - مسألة: (ويَصِحُّ في كلِّ عَينٍ يَجُوزُ بَيعُها) لأنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الاسْتِيثاقُ بالدَّينِ؛ لِيُتَوَصَّلَ إلى اسْتيفائِه مِن ثَمَنِ الرَّهْنِ إن تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُه مِن ذِمَّةِ الرّاهِنِ، وهذا يَتَحَقَّقُ في كلِّ ما يَجُوزُ بَيعُه، ولأنَّ (¬3) ما كان مَحَلًّا للبَيعِ كان مَحَلًّا لحِكْمَةِ الرَّهْنِ، ومَحَلُّ الشيءِ مَحَلُّ ¬

(¬1) في ر 1، ق: «لزم الراهن». (¬2) بعده في م: «بالحق». (¬3) بعده في م: «كل».

1776 - مسألة: (إلا المكاتب، إذا قلنا: استدامة القبض شرط. لم يجز رهنه)

إلا الْمُكَاتَبَ، إِذَا قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ. لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِكْمَتِه إلَّا أن يَمْنَعَ مِن ثُبُوتِه مانِعٌ، أو يَفُوتَ بشَرْطٍ، فيَنْتَفِيَ (¬1) الْحُكْمُ بِهِ. 1776 - مسألة: (إلَّا المُكاتَبَ، إذا قُلْنا: اسْتِدامَةُ القَبْضِ شَرْطٌ. لم يَجُزْ رَهْنُه) إذا قُلْنا: لا يَجُوزُ بَيعُ المُكاتَبِ. لم يَجُزْ رَهْنُه؛ لعَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودِ الرَّهْنِ به. وإن قُلْنا: يَجُوزُ بَيعُه. وقُلْنا: اسْتِدامَةُ القَبْضِ شَرْطٌ في الرَّهْنِ. لم يَصِحَّ. والصَّحِيحُ أنَّ اسْتِدامَةَ القَبْضِ شَرْطٌ، فلا يَصِحُّ رَهْنُه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ اسْتِدامَةَ القَبْضِ غيرُ مُمْكِنَةٍ في حَقِّ المُكاتَبِ؛ لمُنافاتِها مُقْتَضَى الكِتابَةِ. وقال القاضِي: قِياسُ المَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِه. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ؛ لأنَّه يَجُوزُ بَيعُه وإيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه. فعلى هذا، يَكُونُ ما يُؤَدِّيه من نُجُومِ الكِتابَةِ رَهْنًا معه، وإن عَجَز، ثَبَت الرَّهْنُ فيه وفي اكْتِسابِه، وإن عَتَق كان ما أدّاهُ مِن نُجُومِه بعدَ عَقْدِ الرَّهْنِ رَهْنًا، لمَنْزِلَةِ ما لوْ كَسَب العَبْدُ، ثم ماتَ. فصل: فأمّا المُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفَةٍ، فإن كانت تُوجَدُ قبلَ حُلُولِ الدَّينِ، لم يَصِحَّ رَهْنُه؛ لكَوْنِه لا يُمْكِنُ بَيعُه عندَ حُلُولِ الحَقِّ، ولا اسْتِيفَاءُ الدَّينِ ¬

(¬1) في م: «فيبقى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ثَمَنِه. وإن كان الدَّينُ يَحِلُّ قَبْلَها، صَحَّ رَهْنُه؛ لإِمْكانِ بَيعِه واسْتِيفاءِ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، وإن كانت تَحْتَمِلُ الأمْرَينِ، كقُدوم زَيدٍ، فقِياسُ المَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِه؛ لأنَّه في الحالِ مَحَلٌّ للرَّهْنِ، ويُمْكِنُ أنْ يَبْقَى حتى يَسْتَوْفِيَ الدَّينَ مِن ثَمَنِه، فأشْبَهَ المَرِيضَ والمُدَبَّرَ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّ فيه غَرَرًا، إذْ يَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ. ولأصْحابِ الشافعيِّ اخْتِلافٌ، كنحو هذا. فصل: ويَجُوزُ رَهْنُ الجارِيَةِ دُونَ وَلَدِها، وَوَلَدِها دُونَها وإن كان صَغِيرًا؛ لأنَّ الرَّهْنَ لا يُزِيلُ المِلْكَ، فلا يَحْصُلُ بذلك تَفْرِقَةٌ، ولأنَّه يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الوَلَدِ مع أُمِّهِ، والأُمِّ مع وَلَدِها، فإن دَعَتِ الحاجَةُ إلى بَيعِ أحَدِهما بِيعَ معه الآخَرُ؛ لأنَّ الجَمْعَ في العَقْدِ مُمكِنٌ، والتَّفْرِيقَ حَرامٌ. فإذا بِيعَا مَعًا، تعَلَّقَ حَقُّ المُرْتَهِنِ مِن ذلك بقَدْرِ قِيمَةِ الرَّهْنِ مِن الثَّمنِ، فإذا كانتِ الجارِيَةُ رَهْنًا، وكانت قِيمَتُها مائَةً، مع أنَّها ذاتُ وَلَدٍ، وقِيمَةُ الوَلَدِ خَمْسُون، فحِصَّتُها ثُلُثا الثَّمَنِ. فإن لم يَعْلَمِ المُرْتَهِنُ بالوَلَدِ، ثم عَلِمَ،

1777 - مسألة: (ويجوز رهن ما يسرع إليه الفساد بدين مؤجل، ويباع ويجعل ثمنه رهنا)

وَيَجُوزُ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيهِ الْفَسَادُ بِدَينٍ مُؤَجَّلٍ، وَيُبَاعُ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فله الخِيارُ في الرَّدِّ والإِمْساكِ؛ لأنَّ الوَلَدَ عَيبٌ فيها؛ لكَوْنِه لا يمكِنُ بَيعُها بدُونِه، فإن أمْسَكَ فلا شيءَ له غيرُها، وإن رَدَّها فله فَسْخُ البَيعِ، إن كانت مَشْرُوطَةً فيه. 1777 - مسألة: (ويَجُوزُ رَهْنُ ما يُسْرِعُ إليه الفَسادُ بدَينٍ مُؤَجَّلٍ، ويُباعُ ويُجْعَلُ ثَمَنُه رَهْنًا) يَجُوزُ رَهْنُ ما يُسْرِعُ إليه الفَسادُ بدَينٍ حالٍّ ومُؤَجَّلٍ؛ لأنَّه يُمْكِنُ إيفاءُ الدَّين. مِن ثَمَنِه، أشبَهَ الثَّوْبَ، سواءٌ كان مِمّا يُمْكِنُ تَجْفِيفُه، كالعِنَبِ، أو لا يُمْكِنُ، كالبِطِّيخِ، فإنْ كان مِمّا يُجَفَّفُ، فعلى الرّاهِنِ تَجْفِيفُه؛ لأنَّه مِن مُؤْنَةِ حِفْظِه وتبْقِيَتِه، فأشْبَهَ نَفَقَةَ الحَيَوانِ. وإن كان مِمّا لا يُجَفَّفُ، فإنَّه يُباعُ ويَقْضِي الدَّينَ مِن ثَمَنِه إن كان حالًّا، أو يَحِلُّ قبلَ فسادِه، وإن لم يَحِلَّ قبلَ فَسادِه، فشَرَطا بَيعَه وجَعْلَ ثَمَنِه رَهْنًا، فَعَلا ذلك. وإن أطْلَقَ العَقْدَ، فذَكَرَ القاضِي فيه وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ بَيعَ الرَّهْنِ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ لا يَقْتَضِيه عَقْدُ الرَّهْنِ، فلم يَجِبْ، كما لو شَرَط أنْ لا يَبِيعَه. والثّاني، يَصِحُّ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ العُرْفَ يَقْتَضِي ذلك؛ لكَوْنِ المالِكِ لا يُعَرِّضُ مِلْكَه للتَّلَفِ

1778 - مسألة: (ويجوز رهن المشاع)

وَيَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والهَلاكِ، فإذا تَعَيَّنَ حِفْظُه في بَيعِه، حُمِلَ عليه مُطْلَقُ العَقْدِ، كالتَّجْفِيفِ في العِنَبِ، والإِنْفاقِ على الحَيَوانِ. وللشافعيِّ قَوْلان، كالوَجْهَين. فأمّا إن شَرَطا أن لا يُباعَ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه شَرَط ما يَتَضَمَّنُ فَسادَه، وفَواتَ المَقْصُودِ، فأشْبَهَ ما لو شَرَط عدمَ النَّفَقَةِ على الحَيَوانِ. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّه إن شَرَط للمُرْتَهِنِ بَيعَه، أو أذِنَ له فيه بعدَ العَقْدِ، أو اتَّفَقا على أنَّ الرّاهِنَ يَبِيعُه أو غيرَه، باعَه، وإلَّا باعَه الحاكِمُ، وجَعَل ثَمَنَه رَهْنًا، ولا يَقْضِي الدَّينَ مِن ثَمَنِه؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له تَعْجيلُ وفاءِ الدَّينِ قبلَ حِلِّه. وكذلك الحُكْمُ إن رَهَنَه ثِيابًا فخافَ تَلَفَها، أَو حَيَوانًا فخافَ مَوْتَه، لِما ذَكَرنا. 1778 - مسألة: (ويَجُوزُ رَهْنُ المُشَاعِ) وبه قال ابنُ أبي لَيلَى، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والعَنْبَرِيُّ (¬1)، والشَّافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا يَصِحُّ، إلَّا أن يَرْهَنَه لشَرِيكِه، أو يَرْهَنَها ¬

(¬1) أبو عبد الله سوَّار بن عبد الله بن سوَّار العنبري، من أهل البصرة، نزل بغداد، وولي قضاء الرصافة، وكان فقيهًا، صالحًا، أديبًا، شاعرًا، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. تاريخ بغداد 9/ 210 - 212، الأنساب 9/ 69، 70.

ثُمَّ إِنْ رَضِيَ الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ بِكَوْنِهِ فِي يَدِ أحَدِهِمَا أوْ غَيرِهِمَا، جَازَ، وَإنِ اخْتَلَفَا، جَعَلَهُ الْحَاكِمُ فِي يَدِ أمِين، أمانَةً، أوْ بِأُجْرَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرِيكانِ لرجلٍ واحِدٍ، أو يَرْهَنَ رجلٌ دارَه مِن رَجُلَين، فيَقْبِضانِها معًا؛ لأنَّه عَقْدٌ تَخَلَّفَ عنه مَقْصُودُه لمَعْنًى اتَّصَلَ به، فلم يَصِحَّ، كما لو تَزَوَّجَ أخْتَهُ مِن الرَّضاعِ. بَيانُه، أنَّ مَقْصُودَه الحَبْسُ الدّائِمُ، والمُشاعُ لا يُمْكِنُ المُرْتَهِنُ حَبْسَه؛ لأنَّ شَرِيكَه يَنْتَزِعُه في نَوْبَتِه، ولأنَّ اسْتِدامَةَ القَبضِ شَرْطٌ، وهذا يَسْتَحِقُّ زَوال العَقْدِ عنه لمَعْنًى قارَنَ (¬1) العَقْدَ، فلم يَصِحَّ رَهْنُه، كالمَغْصُوبِ. ولَنا، أنَّ المُشاعَ يَصِحُّ بَيعُه في محلِّ الحَقِّ، فصَحَّ رَهْنُه، كالمُفْرَزِ (¬2). قَوْلُهم: مَقْصُودُه الحَبْسُ. مَمْنُوعٌ، إنَّما المَقْصُودُ اسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه عندَ تَعَذُّرِه مِن غَيرِه، والمُشاعُ قابِلٌ لذلك، ثم يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه برَهْنِ القاتِلِ والمُرْتَدِّ والمَغْصُوبِ، ورَهْنِ مِلكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فإنَّه يَصِحُّ عندَهم. إذا ثَبَت ذلك (فرَضِيَ الشَّرِيكُ والمُرْتَهِنُ بكَوْنِه في يَدِ أحَدِهما أو غيرِهما، جاز) لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما (فإنِ اخْتَلَفا، جَعَلَه الحاكِمُ في يَدِ أمين، أمانَةً، أو بأجْرَةٍ) لأنَّ المالِكَ لا يَلْزَمُه تَسْلِيمُ ما لم يَرْهَنْه، والمُرْتَهِنُ لا يَلْزَمُه تَرْكُ الرَّهْنِ عندَ ¬

(¬1) في الأصل، م: «فارق». (¬2) في ق: «كالمقدر». وفي م: «كالمفرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالكِ، فقامَ الحاكِمُ مَقامَهما في حِفْظِه لهما. فصل: ويَصِحُّ أن يَرْهَنَ بعضَ نَصِيبِه مِن المُشاعِ، كما يَصِحُّ رَهْنُ جَمِيعِه، سواء رَهَنَه مُشاعًا في نَصِيبِه، مثلَ أن يَرْهَنَ نِصْف (¬1) نَصِيبِه، أو رَهَن نَصِيبَه من مُعَيَّن، مثلَ أن يكونَ له نِصْفَ دارٍ، فيَرْهَنَ نَصِيبَه [مِن بَيتٍ] (¬2) منها بعَينِه. وقال القاضِي: يَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ رَهْنُ حِصَّتِه مِن مُعَيَّن مِن شيءٍ يُمْكِنُ قِسْمَتُه؛ لاحْتِمالِ أن يَقْتَسِمَ الشرِيكانِ فيَحْصُلُ الرَّهْنُ في حِصَّةِ شَرِيكِه. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ بَيعُه، فصَحَّ رَهْنُه، كغيرِه، وما ذَكَرَه (¬3) لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الرّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِن التَّصَرُّفِ في الرَّهْنِ بما يَضُرُّ بالمُرْتَهِنِ، فيُمْنَعُ مِن (¬4) القِسْمَةِ المُضِرَّةِ، كما يُمْنَعُ من بَيعِه. ¬

(¬1) في م: «بعض». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «ذكروه». (¬4) سقط من: ر 1، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ رَهْنُ المُرتَدِّ، والقاتِلِ في المُحارَبَةِ، والجاني، سواءٌ كانت جِنايَتُه عَمْدًا أو خَطَأً، على النَّفْسِ وما دُونَها. وقال القاضِي: لا يَصِحُّ رَهْنُ القاتِلِ في المُحارَبَةِ. واخْتارَ أبو بكر أنَّه لا يَصِحُّ رَهْنُ الجانِي. والاخْتِلافُ في ذلك مَبْنِيٌّ على الاخْتِلافِ في صِحَّةِ بَيعِه، وقد سَبَق. فإن كان المُرْتَهِنُ عالِمًا بالحالِ، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه دَخَل على بَصِيرَةٍ، أشْبَهَ المُشْتَرِيَ إذا عَلِم العَيبَ. وإن لم يَكُنْ عالِمًا، ثم عَلِم بعدَ إسْلامِ المُرْتَدِّ، وفِداءِ الجانِي، فكذلك؛ لأنَّ العَيبَ زال، فهو كزَوالِ عَيبِ المَبِيعِ. وإن عَلِم قبلَ ذلك، فله رَدُّه وفَسْخ البَيعِ إن كان مَشْرُوطًا في العقْدِ؛ لأنَّ العَقْدَ اقْتَضاه سَلِيمًا، فإذا ظَهَرَ مَعِيبًا، مَلَك الفَسْخَ، كالبَيعِ. وإنِ اخْتَارَ إمْساكَه فلا أَرش له؛ لأنَّ الرَّهْنَ بجُمْلتِه (¬1) لو تَلِفَ قبلَ قَبْضِه لم يَمْلِكْ بَدَلَه، فبَعْضُه أوْلَى. وكذلك لو لم يَعْلَمْ حتَّى قُتِلَ العَبْدُ بالرِّدَّةِ أو القِصاصِ، أو أُخِذَ في الجِنايَةِ، فلا أرش للمُرْتَهِنِ. وذكَر القاضِي أنَّ قِياسَ المَذْهَبِ أنَّ له الأرْشَ في هذه المَواضِعِ، قِياسًا على البَيعِ. وليس الأمْرُ كذلك، فإن المَبِيعَ عِوَضٌ عن الثَّمَنِ، فإذا فات بَعْضُه، رَجَع بما يُقابِلُه مِن الثَّمَنِ، ولو فات كلُّه، كتَلَفِ المَبِيعِ قبلَ قَبضِه، رَجَعَ بالثَّمَنِ كلِّه، والرَّهْنُ ليس بعِوَض، ولو تَلِف كلُّه قبلَ ¬

(¬1) في الأصل: «يحتمله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَبْضِ، لَما اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بشيءٍ، فكيف يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ ببَدَلِ عَيبِه، أو فَوَاتِ بَعْضِه؟! وإنِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِن فِدَاءِ الجاني، لم يُجْبَرْ، ويُباعُ في الجِنايَةِ؛ لأنَّ حَقَّ المَجْنِيِّ عليه مُقَدَّمٌ على الرَّهْنِ، كما لو (¬1) حَدَثَتِ الجنايَةُ بعدَ الرَّهْنِ. فعلى هذا، إنِ اسْتَغْرَقَ الأرْشُ قِيمَتَه، بِيعَ وبَطَل الرَّهْنُ، وإن لم يَسْتَغْرِقْها، بِيعَ منه بقَدْرِ الأرْشِ، والباقِي رَهْنٌ. فصل: ويَصِحُّ رَهْنُ المُدَبَّرِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، بناءً على جَوازِ بَيعِه. وَمَنَع منه أبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لأنَّه مُعَلَّقٌ عِتْقُه بصِفَةٍ، أشْبَه ما لو كانت تُوجَدُ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ يُقْصَدُ منه اسْتِيفاءُ الحَقِّ مِن العَينِ، أشْبَه الإِجارَةَ. ولأنَّه عَلَّقَ عِتْقَه بصِفَةٍ لا تَمْنَعُ اسْتِيفاءَ الحَقِّ، أشْبَه ما لو عَلَّقَه بصِفَةٍ لا تُوجَدُ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِض بهذا الأصْلِ. ويُفَارِقُ التَّدْبِيرُ التَّعْلِيقَ بصِفَةٍ تُوجَدُ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ؛ لأنَّ الرَّهْنَ لا يَمْنَعُ عِتْقَهُ بالصِّفَةِ، فإذا عَتَق تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ الدَّينِ منه، فلا يَحْصُلُ المَقْصُودُ، والدَّينُ في المُدَبَّرِ يَمْنَعُ عِتْقَه بالتَّدْبِيرِ، ويُقَدَّمُ عليه، فلا يَمْنَعُ حُصُولَ المَقْصُودِ. والحُكْمُ فيما إذا عَلِم وُجُودَ التَّدْبِيرِ أو (¬2) لم يَعْلَمْ، كالحُكْمِ في العَبْدِ الجانِي، على ما فُصِّلَ فيه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «وما».

1779 - مسألة: (ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه إلا على ثمنه، في أحد الوجهين)

وَيَجُوزُ رَهْنُ الْمَبِيعِ غَيرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ قَبْضِه، إلا عَلَى ثَمَنِهِ، فِي أَحَدِ الوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومتى مات السَّيِّدُ قبلَ الوَفاءِ فعَتَقَ المُدَبَّرُ، بَطَل الرَّهْنُ، وإن عَتَق بَعْضُه، بَقِيَ الرَّهْنُ فيما بَقِيَ، وإن لم يَكُنْ للسَّيِّدِ ماءٌ يَفْضُلُ عن وَفاءِ الدَّينِ، بِيعَ المُدَبَّرُ في الدَّينِ، وبَطَل التَّدْبِيرُ، ولا يَبْطُلُ الرَّهْنُ به. وإن كان الدَّينُ لا يسْتَغْرِقُه، بِيعَ منه بقَدْرِ الدَّينِ، وعَتَق ثُلُثُ الباقِي، وباقِيه للوَرَثَةِ. 1779 - مسألة: (ويَجُوزُ رَهْنُ المَبِيعِ غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ قبلَ قَبْضِه إلَّا على ثَمَنِه، في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه يَجُوزُ (¬1) بَيعُه [قبلَ قَبْضِه] (¬2)، فصَحَّ رَهْنُه، كما بعدَ القَبْضِ. فأمّا رَهْنُه على ثَمَنِه قبلَ قبْضِه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ؛ لوُجُوهٍ ثَلاثَةٍ؛ أحدُها، أنَّ البَيعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ المَبِيعِ أوَّلًا، والرَّهْنُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أوَّلًا. والثّانِي، أنَّ البَيعَ يَقْتَضِي إيفاءَ الثَّمَنِ مِن غيرِ المَبِيعِ، والرَّهْنُ يَقْتَضِي إيفاءَ الثَّمَنِ منه. ¬

(¬1) في م: «يصح». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّالثُ، أنَّ البَيعَ يَقْتَضِي إمْسَاكَ المَبِيعِ مَضْمُونًا، والرَّهْنُ يَقْتَضِي عَدَمَ الضَّمانِ، وهذا يُوجِبُ تناقُضَ الأحْكامِ، وإنَّما تَتَحَقَّقُ هذه المَعانِي إذا شَرَط رَهْنَه قبلَ قَبْضِه، فإن شَرَط أنَّه يَقْبِضُه ثم يُسَلِّمُه رَهنًا، فإنَّه يَتَحَقَّقُ فيه بَعْضُ هذه المَعانِي. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا حَبَسَ المَبِيعَ (¬1) ببَقِيَّةِ الثَّمَنِ، فهو غاصِبٌ، ولا يكونُ رَهْنًا، إلَّا أن يَكُونَ شَرَط عليه في نَفسِ البَيعِ. قال القاضي: مَعْناه شَرَط عليه رَهْنًا غيرَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعِ، فيَكُونُ له حَبْسُه حتَّى يَقْبِضَ الرَّهْنَ، فإن وَفَّى له به، وإلَّا فَسَخ البَيعَ (¬1). والوَجْهُ الثَّانِي، يَصِحُّ، كما يَصِحُّ لغَيرِ البائِعِ. فأمّا المَكِيلُ والمَوْزُونُ، فذَكَرَ القاضِي أنَّه يَجُوزُ رَهْنُه قبلَ قَبْضِه؛ لأنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

1780 - مسألة: (وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة

وَمَا لَا يَجُوزُ بَيعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، إلا الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُمْكِنُ المُشْتَرِيَ أن يَقْبِضَه، ثم يُقْبِضَه. وإنَّما لم يَجُزْ بَيعُه؛ لأنَّه يُفْضِي إلى رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ، وهو مَنْهِيٌّ عنه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ رَهْنُه؛ لأنَّه لا يَصِحُّ بَيعُه برِبْحٍ ولا برَأسِ المالِ، ولا يَصِحُّ هِبَتُه، فكذلك رَهْنُه. 1780 - مسألة: (وما لا يَجُوزُ بَيعُه لا يَجُوزُ رَهْنُه، إلَّا الثَّمَرَةَ

غَيرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها مِن غيرِ شَرْطِ القَطْعِ، في أحَدِ الوَجْهَين) لا يَصِحُّ رَهْنُ ما لا يَجُوزُ بَيعُه؛ كأمِّ الوَلَدِ، والوَقف، والعَينِ المَرْهُونَةِ؛ لأنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ استيفاءُ الدَّين مِن ثَمَنِه، وما لا يَجُوزُ بَيعُه، لا يُمْكِنُ ذلك فيه. ولو رَهَن العَينَ المَرْهُونةَ عندَ المُرْتَّهِنِ، لم يَجُزْ، فلو قال الرّاهِنُ للمُرْتَهِنِ: زِدْنِي مالًا يَكُونُ الذي عندَك به رَهْنًا، وبالدَّينِ الأوَّلِ. لم يَجُزْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال مالكٌ، وأبو يُوسُفَ، والمُزَنِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يَجُوزُ ذلك؛ لأنَّه لو زادَه رَهْنًا، جاز، فكذلك إذا زادَ في دَينِ الرَّهْنِ، ولأنه لو فَدَى المُرْتَهِنُ العَبْدَ الجانِيَ بإذْنِ الرّاهِنِ ليَكُون رَهْنًا بالمالِ الأوَّلِ و [بما فَداه] (¬1) به، جاز، فكذلك ها هنا، ولأنَّها وَثِيقَةٌ مَحْضَةٌ، فجازَتِ الزِّيادَةُ فيها، كالضَّمانِ. ولَنا، أنَّها عَينٌ مَرْهُونَةٌ، فلم يَجُزْ رَهْنُها بدَين آخَرَ، كما لو رَهَنَها عندَ غيرِ المُرْتَّهِنِ. فأمّا الزِّيادَةُ في الرَّهْنِ، فتَجُوزُ؛ لأنَّها زِيادَةُ اسْتِيثاقٍ، بخِلافِ مَسْألتِنا. وأمّا العَبْدُ الجانِي، فلَنا فيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ (¬2)، فإنَّما يَصِحُّ (¬3) فِداؤه، ليَكُونَ رَهْنًا بالفِداءِ والمالِ الأوَّلِ؛ لكَوْنِ ¬

(¬1) في الأصل: «ويفدى». (¬2) في م: «سلمنا». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّهْنِ لا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الأرْشِ بالجانِي، لكَوْنِ الجِنايَةِ أقْوَى، وأنَّ لِوَلِيِّ الجِنايَةِ المُطالبَةَ ببَيعِ الرَّهْنِ وإخْراجِه مِن الرَّهْنِ، فصار بمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الجائِزِ قبلَ قَبْضِه، والرَّهْنُ الجائزُ تَجُوزُ الزِّيادَةُ فيه، فكذلك إذا صارَ جائِزًا بالجِنايَةِ. ويُفارِقُ الرَّهْنُ الضَّمانَ، فإنَّه يَجُوزُ أن يَضْمَنْ لغيرِه. إذا ثَبَت هذا، فرَهَنَه بحَق ثانٍ، كان رَهْنًا بالأوَّلِ خاصَّةً. فإن شَهِد بذلك شاهِدان يَعْتَقِدان فَسادَه، لم يكُنْ لهما أن يَشْهَدا به، وإنِ اعْتَقَدا صِحَّتَه، جاز أن يَشْهَدَا بكَيفِيَّةِ الحالِ، ولا يَشْهَدان أنَّه رَهَنَه بالحَقَّين مُطلقًا. فصل: ويَصِحُّ رَهْنُ الثَّمَرَةِ قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها مِن غيرِ شَرْطِ القَطْعِ، والزَّرْعِ الأخْضَرِ، في أحَدِ الوَجْهَين. اخْتارَه القاضِي؛ لأنَّ الغَرَرَ يَقِلُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فإن الثَّمَرَةَ متى تَلِفَتْ، عاد إلى حَقِّه في ذِمَّةِ الرّاهِنِ، ولأنَّه يَجُوزُ بَيعُه، فجاز رَهْنُه، ومتى حَلَّ الحَقُّ بِيعَ، وإنِ اخْتارَ المُرْتَهِنُ تَأخِيرَ بَيعِه، فله ذلك. والثّانِي، لا يصِحُّ. وهو مَنْصُوصٌ الشَّافعيِّ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ بَيعُه، فلا يَصِحُّ رَهْنُه، كسائِرِ ما لا يَجُوزُ بَيعُه. فصل: وإن رَهَن ثَمَرَةً إلى مَحِلِّ تَحْدُثُ فيه أخْرَى لا تَتَمَيَّزُ، فالرَّهْنُ باطِل؛ لأنَّه مَجْهُولٌ حينَ حُلُولِ الحَقِّ، فلا يُمْكِنُ إِمْضاءُ الرَّهْنِ على مُقْتَضَاه. وإن رَهَنَها بدَين حالِّ أو شَرَط قَطْعَها عندَ خوْفِ اخْتِلاطِها، جاز؛ لأنَّه لا غَرَر فيه. فإن لم يَقْطَعْها حتَّى اخْتَلَطَتْ، لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ؛ لأنَّه وَقَع صَحِيحًا. لكنْ إن سَمَح الرّاهِنُ ببَيعِ الجَمِيعِ، أو اتَّفَقا على قَدْرٍ منه، جاز. وإنِ اخْتَلَفا وتَشاحَّا، فالقولُ قولُ الرّاهِنِ مع يَمِينه؛ لأنَّه مُنْكِرٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ رَهْن المُصْحَفِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. نَقَل جَمَاعَة عنه: لا أُرَخِّصُ في رَهْنِ المُصْحَفِ، وذلك لأنَّ المَقْصُودَ مِن الرَّهْنِ اسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، ولا يَحْصل ذلك إلَّا بِبَيعِه، وبَيعه غير جائِز. والثّانِية، يَصِحُّ. فإنَّه قال: إذا رَهَن مُصْحَفًا، لا يَقْرأ فيه إلَّا بإذْنِه. فظاهِر في «الرِّعايَةِ الكُبْرَى»: وهو أوْلَى.

1781 - مسألة: (ولا يصح رهن العبد المسلم لكافر)

وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْعَبْدِ المُسْلِمِ لِكَافِر، إلا عِنْدَ أبي الْخَطَّابِ، إِذَا شَرَطَا كَوْنَهُ فِي يَدِ مُسْلِم. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا صِحَّةُ رَهْنِه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأي، بناءً على أنَّه يَصِحُّ بَيعُه، فيَصِحُّ رَهْنُه، كغَيرِه. والخِلاف في ذلك مَبْنِيٌّ على جَوازِ بَيعِه، وقد ذَكَرْناه في كتابِ البَيعِ (¬1). 1781 - مسألة: (ولا يَصِحُّ رَهْنُ العَبْدِ المُسْلِمِ لكافِرٍ) اخْتارَهُ القاضِي؛ لأنَّه عَقْدٌ يَقْتَضِي قَبْضَ المَعْقُودِ عليه والتَّسْلِيطَ على بَيعِه، فلم يَجُزْ، كالبَيعِ. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ صِحَّتَه، إذا شَرَطَا كَوْنَه على يَدِ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 11/ 39 - 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْلم، ويَبِيعُه الحاكمُ إذا امْتَنَعَ مالِكُه. وهذا أوْلَى؛ لأنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ يَحْصُل مِن غيرِ ضَرَرٍ. فصل: ولا يَصِحُّ رَهْنُ المَجْهُولِ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ بَيعُه، فلو قال: رَهَنْتُكَ هذا الجِرابَ. أو: البَيتَ (¬1). أو: الخَرِيطَةَ بما فيها. لم يَصِحَّ؛ للجَهالةِ. وإن لم يَقُلْ: بما فيها. صَحَّ؛ للعِلْمِ بها. ولو قال: رَهَنْتُكَ أحَدَ هذَين العَبْدَين. لم يَصِحَّ؛ لعَدَمِ التَّعْيِينِ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه عندَه بشرْطِ الخِيارِ له. وقد ذُكِرَ ذلك (¬2) في البَيعِ. وفي الجُمْلَةِ، أنَّه يُعْتَبَرُ للعِلْمِ في الرَّهْنِ ما يُعْتَبَرُ في البَيعِ. وكذلك القُدْرَة على التَّسْلِيمِ، فلا يَصِحُّ رَهْنُ الآبِقِ، ولا الشَّارِدِ، ولا غيرِ مَمْلُوكٍ؛ لأَنه لا يَصِحُّ بَيعُه. ¬

(¬1) في الأصل: «الثوب». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا سَوادُ العِراقِ، والأرْضُ المَوْقُوفَةُ على المُسْلِمِين، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه [لا يَجُوزُ بَيعُها، فكذلك رَهْنُها] (¬1). وهذا مَنْصُوصُ الشافعيِّ. وحُكْمُ بِنائِها حُكْمُها، فإن كان (¬2) من غيرِ تُرَابِها، أو الشَّجَرِ المُتَجَدِّدِ فيها، فإنَّه يَصِحُّ إفرادُه (¬3) بالبَيعِ والرَّهْنِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. نصَّ عليهما في البَيعِ؛ لأنَّه طَلْقٌ. والثّانِيَةُ، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه تابعٌ لِما لا يَجُوزُ رَهْنُه، فهو كأساساتِ الحِيطانِ. وإن رَهَنَه مع الأرْضِ، بَطَل في الأرْض. وهل يَجُوزُ في الأشْجارِ والبِناءِ إذا قُلْنا بجَوازِ رَهْنِها مُنْفَرِدَةً؟ يُخرَّجُ على الرِّوايَتَين في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه. فصل: ولو رَهَن عَبْدًا أو باعَه يَعْتَقِدُه مَغْصُوبًا، فبانَ مِلْكَه، نحوَ أن يَرْهَنَ عَبْدَ ابْنِه، فيَبِينُ أَنَّه قد مات، وصار العَبْدُ مِلْكَه بالمِيراثِ، أو وَكَّلَ إنْسانًا يَشْتَرِي له عَبْدًا، فباعَه المُوَكِّلُ، أو رَهَنَه، يَعْتَقِدُه لسَيِّدِه الأوَّلِ، وكان تَصَرُّفُه بعدَ شِراءِ وَكِيله، ونحوَ ذلك، صَحّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه صادفَ مِلْكًا، فصَحَّ، كما لو عَلِم. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحّ؛ لأنَّه اعْتَقَدَه باطِلًا. ¬

(¬1) في م: «لا يجوز رهنها لأنه لا يجوز بيعها». (¬2) بعده في م: «فيها». (¬3) في الأصل: «إقرارها». وفي ر 1: «إقراره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو رَهَن المَبِيعَ في مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَصِحَّ، إلَّا أن يَرْهَنَه المُشْتَرِي، والخِيارُ له وَحْدَه، فيَصِحُّ، ويَبْطُلُ خِيارُه. ذَكَرَه أبو بكر. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولو أفْلَسَ المُشْتَرِي، فرَهَنَ البائِعُ عينَ مالِه التي له الرُّجُوعُ فيها قبلَ الرُّجُوعِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه رَهَن ما لا يَمْلِكُه، وكذلك رَهْنُ الأبِ العَينَ التي وَهَبَها لابنِه قبلَ رُجُوعِه فيها؛ لِما ذَكَرْنا. وفيه وَجْهٌ لأصْحابِ الشافعيِّ، أنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ له اسْتِرْجاعَ العَينِ، وتَصَرُّفُه فيها يَدُلُّ على الرُّجُوعِ. ولَنا، أَنَّه رَهَن ما لا يَمْلِكُه بغَيرِ إذْنِ المالكِ، ولا ولايةٍ عليه، فلم يَصِحَّ، كما لو رَهَن الزَّوْجُ نِصْفَ الصداقِ قبلَ الدُّخُولِ. فصل: ولو رَهَن ثَمَرَ شَجَرٍ يَحْمِلُ في السَّنَةِ حِمْلَين، لا يَتَمَيَّزُ أحَدُهما مِن الآخَرِ، فرَهَنَ الحِمْلَ الأوَّلَ إلى مَحِلِّ يَحْدُثُ الحِمْلُ الثّانِي على وَجْهٍ لا يَتَمَيَّزُ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ حينَ حُلُولِ الحَقِّ، فلا يمكِنُ اسْتِيفاءُ الدَّينِ منه، فأشْبَهَ ما لو كان مَجْهُولًا حينَ العَقْدِ. وإنْ شَرَط قَطْعَ الحِمْل الأوَّلِ إذا خِيفَ اخْتِلاطُه بالثّانِي، صَحَّ. وإن كان الحِمْلُ المَرْهُونُ بحَقٍّ حالًا، أو كان الثّانِي يَتَمَيَّزُ عن الأوَّلِ إذا حَدَث، فالرَّهْنُ صَحِيحٌ. فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَع التَّوانِي في قَطْعِ الحِمْلِ الأوَّلِ حتَّى اخْتَلَطَ بالثَّانِي، وتَعَذَّرَ التَّميِيزُ، لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ؛ لأنَّه وَقَع صَحِيحًا، وقد اخْتَلَطَ بغَيرِه على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ فَصْلُه. فعلى هذا، إن سَمَح الرّاهنُ بكَوْنِ الثَّمَرَةِ كُلِّها رَهْنًا، أو اتَّفَقَا على قَدْرِ المَرْهُونِ منهما، فحَسَنٌ، وإنِ اخْتَلَفا، فالقَوْلُ قولُ الرّاهِنِ مع يَمِينِه في قَدْرِ الرَّهْنِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للقَدْرِ الزّائِدِ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. فصل: ولو رَهَنَه مَنافِعَ دارِه شَهْرًا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، والمَنافِعُ تَهْلِك إلى حُلُولِ الحَقِّ. وإن رَهَنَه أجْرَةَ دارِه شَهْرًا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها مَجْهُولَة وغيرُ مَمْلُوكَةٍ. فصل: ولو رَهَن المُكاتَبَ مَن يَعْتِقُ عليه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَه. وأجازَه (¬1) أبو حنيفةَ؛ لأنَّهم لا يَدْخُلونَ معه في الكِتَابَةِ. ولو رَهَن العَبْدَ المَأذُونَ مَن يَعْتِقُ على السَّيِّدِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ما في يَدِه مِلْكٌ (¬2) لسَيِّدِه، فقد صار حُرًّا بشِرائِه إيّاه (2). ¬

(¬1) في م: «اختاره». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو رَهَن الوارِثُ تَرِكَةَ المَيِّتِ أو باعَهَا، وعلى المَيِّتِ دَينٌ، صَحَّ [في أحَدِ الوَجْهَينِ] (¬1). وفيه وَجْهٌ، أنَّه لا يَصِحُّ. وقال أصحابُ (¬2) الشافعيِّ: لا يَصِحُّ [في أحَدِ الوَجْهَين] (¬3) إذا كان الدَّينُ يَسْتغْرِقُ التَّرِكَةَ، لأنَّه تَعَلَّقَ به حَقُّ آدَمِيٍّ، فلم يَصِحَّ رَهْنُه، كالمَرْهُونِ. ولَنا، أنَّه تَصَرُّفٌ صادَفَ مِلْكَه، ولِم يُعَلِّقْ به حَقًّا، فصَحَّ، كما لو رَهَن المُرْتَدَّ. وفارَقَ المَرْهُون، لأنَّ الحَقَّ تَعَلَّقَ به (¬4) باخْتِيارِه. وفي مَسْألَتِنا تَعَلَّقَ بغيرِ اختِيارِه، فلم يَمْنَعْ تَصَرُّفَه. وهكذا كلّ حَقٍّ يَثْبُتُ مِن غيرِ إثْباتِه، كالزكاةِ والجِنايَةِ، فإنَّه لا يَمْنَعُ رَهْنَه، فإذا رَهَنَه ثم قَضَى الحَقَّ مِن غَيرِه، فالرَّهْنُ بحالِه، وإن لم يَقْضِ الحَقَّ، فللغُرَماءِ انْتِزاعُه؛ لأنَّ حَقَّهُم سابِق، والحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في الجانِي. وهكذا الحُكْم لو تَصَرَّفَ في التَّرِكَةِ، ثم رُدَّ عليه مَبِيعٌ باعَه المَيِّتُ بعَيبٍ ظَهَر فيه، أو حَقٌّ تَجَدَّدَ تَعَلُّقُه بالتَّرِكَةِ، مثلَ أن وَقَع إنْسانٌ أو بَهِيمَةٌ في بئرٍ حَفَرَه في غَيرِ مِلْكِه بعدَ مَوْتِه، فالحُكْمُ واحِدٌ، وهو أنَّ تَصَرُّفَه صَحِيحٌ غيرُ نافِذٍ، فإن قَضَى الحَقَّ مِن غَيرِه، نَفَذ، وإلَّا فُسِخَ البَيعُ والرَّهْنُ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ لا يَصِحُّ تَصَرُّفُه، والله أعلمُ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) زيادة من: ر 1. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ الرَّهْنُ والارْتِهانُ إلَّا مِن جائِزِ الأمْرِ (¬1)، وهو المُكَلَّف الرَّشِيدُ، غيرُ المَحْجُورِ عليه، لصِغَرٍ أو جُنُونٍ (¬2) أو سَفَهٍ، أو فَلَسٍ؛ لأنَّه نَوْعُ تَصَرُّفٍ في المالِ، فلم يَصِحَّ مِن غيرِ إذْنٍ مِن المَحْجُورِ عليه، كالبَيعِ. ويُعْتَبَرُ ذلك في حالِ رَهْنِه وإقْباضِه، لأنَّ العَقْدَ والتَّسْلِيمَ ليس بواجِبٍ، وإنَّما هو إلى اخْتِيارِ الرّاهِنِ. فإذا لم يكُنْ له اخْتِيار صَحِيحٌ، لم يَصِحَّ منه، كالبَيعِ. فإن جُنَّ أحَدُ المُترَاهِنَين قبلَ القَبْضِ، أو مات، لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَئُولُ إلى اللُّزُومِ، فلم يَبْطُلْ بجُنُونِ أحَدِ المُتَعاقِدَين أو مَوْتِه، كالبَيعِ في مُدَّةِ الخِيار، ويَقومُ وَلِيُّ المَجْنُونِ مَقامَه. وإن كان المَجْنُونُ الرّاهِنِ، وكان الحَظُّ في التَّقْبِيضِ، مِثْلَ أن يَكُونَ شَرْطًا في بَيع يَسْتَضِرُّ بفسْخِه، ونحوه، أقبضَه (¬3). وإن كان الحَظُّ في تَرْكِه (¬4) لم يَجُزْ له تَقْبِيضُه. وإن كان المَجْنُونُ المُرْتَهِنَ، قَبَضَهُ وَلِيُّه. وإذا مات، قامَ وارِثُه مَقامَه في القَبْضِ. فإن مات الرّاهِنُ، لم يَلْزَمْ وَرَثَتَه تَقْبِيضُه؛ لأنَّهم يَقُومُون مَقامَ الرّاهِنِ، ولم يَلْزَمْه ذلك. فإن لم يَكُنْ ¬

(¬1) في ر 1: «التصرف». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «أو قبضه». (¬4) في م: «قبضه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى هذا الدَّينِ، فللوَرَثَةِ تَقْبِيضُ الرَّهْنِ، وإن كان عليه دَين سِواه، فظاهِرُ المَذْهَبِ أَنَّه ليس للوارِثِ تَخْصِيصُ المُرْتَّهِنِ بالرَّهْنِ. نَصَّ عليه في رِوايَةَ عَليِّ بنِ سَعِيدٍ. وهو مَذْهَبُ الشَّافعيِّ. وذَكَر القاضِي فيه رِوايَة أخْرَى، أنَّ لهم ذلك، أخْذًا ممّا نَقَل ابنُ مَنْصُورٍ وأبو طالِبٍ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا مات الرّاهِنُ أو أفْلَسَ، فالمُرْتَهِنُ أحَقُّ به مِن الغُرَماءِ. ولم يَعْتَبِرْ وجُودَ القَبْضِ بعدَ المَوْتِ أو قَبْلَه. قال شَيخُنا (¬1): وهذا لا يُعارِضُ ما نَقَلَه عليّ بنُ سَعِيدٍ؛ لأنَّه خاصٌّ، وهذا عامٌّ، والاسْتِدْلالُ به على هذه الصُّورَةِ يَضْعُفُ جدًّا؛ لنُدْرَتِها، فكيف يُعارَضُ بها الخاصُّ! لكنْ يَجُوزُ أن يَكُونَ هذا الحُكمُ مَبْنِيًّا على الرِّوايَةِ التي لا يُعْتَبَرُ فيها القَبْضُ في غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فيَكُونُ الرَّهْنُ قد لَزِم قبلَ القَبْضِ، ووَجب تَقْبِيضُه على الرَّاهِنِ، فكذلك على وارِثِه. ويَخْتَصُّ ذلك بغيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فأمّا ما لم (¬2) يَلْزَمِ الرَّهْنُ فيه، فليس للورَثَةِ تَقْبِيضُه؛ لأنَّ الغُرَماءَ تَعَلَّقَتْ دُيُونُهم بالتَّرِكَةِ قبلَ لزُومِ حَقِّه في الرَّهْنِ، فلم يَجُزْ تَخْصِيصُه به بغيرِ رِضاهُم، كما لو أفْلَسَ الرّاهِنُ، إلَّا (2) ¬

(¬1) في: المغني 6/ 447. (¬2) سقط من: م.

1782 - مسألة: (ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، واستدامته شرط

وَلَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلا بِالْقَبْضِ، وَاستِدَامَتُهُ شَرْطٌ فِي اللُّزُومِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قُلْنا: إنَّ للوَرَثَةِ التَّصَرُّفَ في التَّرِكَةِ ووَفاءَ الدَّينِ مِن أمْوالِهم. فإن قِيلَ: فما الفائِدَةُ في القولِ بصِحَّةِ الرَّهْنِ إذا لم يَخْتَصَّ المُرْتَهِنُ (¬1) به؟ قُلْنا: فائِدَتُه أنَّه يَحْتَمِلُ أن يَرْضَى الغُرَماءُ بتَسْلِيمِه إليه، فيَتِمُّ الرَّهْنُ. وسَواءٌ فيما ذَكَرْنا ما بعدَ الإِذْنِ في القَبْضِ وقبلَه؛ لأنَّ الإِذْن يَبْطُلُ بالجُنُونِ والمَوْت والإِغْماءِ والحَجْرِ. فصل: ولو حُجِرَ على الرَّاهِنِ لفَلَسٍ قبلَ التَّسْلِيم، لم يَكُنْ له تَسْلِيمُه؛ لأنَّ فيه تَخْصِيصًا للمُرْتَهِن، بثَمَنِه، وليس له تَخصِيصُ بعض غُرَمائِه. وإن حُجِرَ عليه, لسَفَهٍ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو زال عَقْلُه بجُنُونٍ، على ما أسْلَفْنا. وإن أُغْمِيَ عليه, لم يَكُنْ للمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْن، وليس لأحَدٍ تَقْبِيضُه، لأنَّ المُغْمَى عليه, لا تَثْبُتُ عليه الولايةُ. وإن أُغمِيَ على المُرْتَّهِنِ لم يَكُن لأحَدٍ أن يَقُومَ مَقامَه في قَبْض الرَّهْنِ، وانْتُظِرَ إفاقَتُه. وإنْ خرِسَ، وكانت له كِتابَةٌ مَفْهُومَة أو إشارَةَ مَعْلُومَة، فحُكْمُه حُكْمُ المُتَكَلِّمِين، وإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه ولا كِتابَتُه، لم يَجُزِ القَبْضُ. وإن كان أحَدُ هؤلاء قد أذِنَ في القَبْض، فحُكْمُه حُكْمُ مَن لم يَأذَنْ، لأنَّ إذنهم يَبْطُلُ ممّا (¬2) عَرَض لهم. 1782 - مسألة: (ولا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بالقَبْضِ، واسْتِدامَتُه شَرْطٌ ¬

(¬1) في ر 1: «الرهن». (¬2) في م: «بما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في اللُّزُوم) لا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بالقَبْضِ، ويَكُونُ قبلَ القَبْضِ رَهْنًا جائِزًا، يَجُوزُ للرّاهِنِ فَسْخُه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشَّافعيُّ. وسَواءٌ في ذلك المَكِيلُ والمَوْزُونُ وغيرُه. وقال بعضُ أصْحابِنا: في غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه يَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كالبَيعِ. وقد نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ المَيمُونِيِّ. وقال مالِكٌ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَلْزَمُ بالقَبْضِ، فلَزِمَ قبلَه، كالبَيعِ. ووَجْهُ الأولَى قَوْلُه تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1). وَصَفَها بكَوْنِها مَقْبُوضَةً، ولأنَّه عَقْدُ إرْفاقٍ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فافْتَقَرَ إلى القَبْضِ، كالقَرْضِ، ولأنَّه رَهْنٌ لم يُقْبَضْ، فلا يَلْزَمُ إقْباضُه، كما لو مات الرّاهِنُ. فعلى هذا، إن تَصَرَّفَ ¬

(¬1) سورة البقرة 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرّاهِنُ فيه قبلَ القَبْضِ بهِبَةٍ أو بَيعٍ أو عِتْقٍ، أو جَعَلَه صَداقًا، أو رَهَنَه ثانِيًا، بَطَل الرَّهْنُ الأوَّلُ، سَواءٌ قَبَض الهِبَةَ والبَيعَ والرَّهنَ الثَّانِيَ أو لم يَقْبِضْه؛ لأنَّه أخْرَجَه عن إمْكانِ اسْتِيفاءِ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، أو فَعَل ما يَدُلُّ على قَصْدِه ذلك. وإن دَبَّرَه أو أجَرَه، أو زَوَّجَ الأمَةَ، لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ، لأنَّ هذا التَّصَرُّفَ لا يَمْنَعُ البَيعَ، فلا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ. ولأنَّه لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ الرَّهْنِ، فلا يَقْطَعُ اسْتِدامَتَه، كاسْتِخْدامِه. وإن كاتَبَ العَبْدَ

1783 - مسألة: (فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره، زال لزوم الرهن)

فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى الرَّاهِن، زَال لُزُومُه، فَإِنْ رَدَّهُ إِلَيهِ، عَادَ اللُّزُومُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّهْنَ (¬1)، انْبَنَى على صِحَّةِ رَهْنِ المُكاتَبِ، فإن قُلْنا: يَجُوزُ رَهْنُه. لم يَبْطُلِ الرَّهْنُ، كالتَّدْبِيرِ. وإن قُلْنا: لا يجُوزُ. بَطَل الرَّهْنُ، كما لو أعْتَقَه. فصل: فإن قُلْنا: إنَّ ابْتِداءَ القَبْضِ شَرْطٌ في لُزُومِ الرَّهْنِ. فاسْتِدامَةُ القَبْضِ شَرْطٌ؛ لأنَّها إحْدَى حالتَيِ الرَّهْنِ، فأشْبَهَتْ الابتِداءَ. وإن قُلْنا: إنَّ الابتِداءَ ليس بشَرْطٍ في اللُّزُومِ. فكذلك الاسْتِدامَةُ. 1783 - مسألة: (فإن أخْرَجَه المُرْتَهِنُ إلى الرّاهِنِ باخْتِيَارِه، زال لُزُومُ الرَّهْنِ) وبَقِيَ العَقْدُ، كأنَّه لم يُوجَدْ فيه قَبْضٌ، سواء أخْرَجَه بإجارَةٍ، أو إعارَةٍ، أو إيداع، أو غيرِ ذلك. فإذا عاد فرَدَّه إليه، عاد اللُّزُومُ بحُكْمِ العَقْدِ السابقِ؛ لأنَّه أقْبَضَه باخْتِيارِه، فلَزِمَ به، كالأوَّلِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا ارْتَهَنَ دارًا، ثم أكْراهَا (¬2) صاحِبَها، ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في الأصل: «اكتراها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَرَجتَ مِن الرَّهْنِ، فإذا رَجَعَت إليه صارَتْ رَهْنًا. وقال في مَن رَهَن جارِيَةً، ثم سَأل المُرْتَهِنَ أن يَبْعَثَها إليه لتَخْبِزَ لهم، فبَعَثَ بها، فوَطِئَها: انْتَقَلَتْ مِن الرَّهْنِ، فإن لم يَكُنْ وَطِئَها، فلا شيءَ. قال أبو بكر: لا تَكُونُ رَهْنًا في تِلْكَ الحالِ، فإذا رَدَّها رَجَعَتْ إلى الرَّهْنِ. وكان أوْجَبَ اسْتِدامَةَ القَبْضِ مالكٍ، وأبو حنيفة. وهذا التَّفْرِيعُ على القولِ الصَّحِيحِ، فأمّا على قولِ مَن قال: ابْتِداءُ القَبْضِ ليس بشَرْطٍ. فأوْلَى أن يقولَ: الاسْتِدامَةُ غيرُ مُشْتَرَطَةٍ؛ لأنَّ كلَّ شَرْطٍ يُعْتَبَرُ في الاسْتِدامَةِ يُعْتَبَرُ في الابتِداءِ، وقد يُعْتَبَرُ في الابتِداءِ ما لا يُعْتَبَرُ في الاسْتِدامَةِ. وقال الشَّافعي: اسْتِدامَةُ (¬1) القَبْضِ ليست شَرْطًا؛ لأنَّه عَقْدٌ يُعْتَبَرُ (¬2) القَبْضُ في ابْتِدائِه، فلم يُشْتَرَطِ اسْتِدامَتُه، كالهِبَةِ. ولَنا، قولُه تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. ¬

(¬1) في الأصل: «استدامته في». (¬2) في الأصل: «يشترط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها إحْدَى حالتَي الرَّهْنِ، فكان القَبْض فيه شَرْطًا، كالابتِداءِ. ويُفارِقُ الهِبَةَ، فإن القَبْضَ في ابْتِدائِها يُثْبِتُ المِلْكَ، فإذا ثَبَت اسْتَغْنَى عن القَبْضِ ثانِيًا، والرَّهْنُ يُرادُ للوَثِيقَةِ ليَتَمَكَّنَ مِن بَيعِه واسْتِيفاءِ الدَّين مِن ثَمَنِه، فإذا لم يَكُنْ في يَدِه، لم يَتَمَكَّنْ مِن بَيعِه. وإن أزِيلَتْ يَدُ المُرْتَهِن بغَيرِ حَقٍّ؛ كالغَصْبِ، والسَّرِقَةِ، أو إباقِ العَيدِ، أو ضَياعِ المَتاعِ، ونحو ذلك، لم يَزُلْ لُزُومُ الرَّهْنِ؛ لأنَّ يَدَه ثابِتَةٌ حُكْمًا، فكأنَّها لم تَزُلْ.

1784 - مسألة: (ولو رهنه عصيرا، فتخمر، زال لزومه، فإن تخلل، عاد لزومه بحكم العقد السابق)

وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا، فَتَخَمَّرَ، زَال لُزُومُه، فَإِنْ تَخَلَّلَ، عَادَ لُزُومُهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1784 - مسألة: (ولو رَهَنَه عَصِيرًا، فتَخَمَّرَ، زال لُزُومُه، فإن تَخَلَّلَ، عاد لزُومُه بحُكْمِ العَقْدِ السابقِ) يَصِحُّ رَهْنُ العَصِيرِ؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه، وتَعْرِيضُه للخُرُوجِ عن المالِيّةِ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ رَهْنِه، كالمَرِيض والجانِي. فإن صار إلى حالٍ لا يَخْرُجُ فيها عن المالِيَّةِ، كالخَلِّ، فهو رَهْنٌ بحالِه، وإن تَخَمَّرَ، زال لُزُومُ العَقْدِ، ووَجَبَتْ إراقَتُه، فإن أُرِيقَ، بَطَل العَقْدُ فيه (¬1)، ولا خِيارَ للمُرْتَهِنِ؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل في يَدِه. فإن عاد خَلًّا، عاد اللُّزُومُ بحُكْمِ العَقْدِ السابقِ، كما لو زالتْ يَدُ المُرْتَّهِنِ عن الرَّهْنِ، ثم عادَت إليه. وإنِ اسْتَحَال خَمْرًا قبلَ قَبْضِ المُرْتَّهِنِ له، بَطَل الرَّهْنُ، ولم يَعُدْ بعَوْدِه خَلًّا؛ لأنَّه عَقْدٌ ضَعِيفٌ، لعَدَم القَبْضِ، فأشْبَهَ إسْلامَ أحَدِ الزَّوْجَين قبلَ الدُّخُولِ. وذَكَر القاضِي، أنَّ العَصِيرَ إذا اسْتَحَال خَمْرًا بعد القَبْضِ، بَطَل الرَّهْنُ أيضًا، ثم إذا عاد خَلا، عاد مِلْكًا لصاحِبِه مَرْهُونًا بالعَقْدِ السّابِقِ؛ لأنَّه يَعُودُ مَمْلُوكًا بحُكْمِ المِلْكِ الأوَّلِ، فيَعُودُ حُكْمُ الرَّهْنِ؛ لأنَّه زال بزَوالِ المِلْكِ، فيَعُودُ بعَوْدِه. وهذا قولُ الشَّافعي. وقال مالكٍ، وأبو حنيفةَ: هو رَهْنٌ بحالِه؛ لأنَّه كانت له قِيمَةٌ حال كَوْنِه عَصِيرًا، ويَجُوزُ أن تَصِيرَ له قِيمَة، فلا يَزُولُ المِلْكُ عنه، كما لو ارْتَدَّ الجانِي، ولأنَّ اليَدَ لم تَزُلْ عنه حُكْمًا، بدَلِيلِ أنَّه لو غَصَبَه ¬

(¬1) سقط من: م.

1785 - مسألة: (وعنه، أن القبض واستدامته في المتعين ليسا بشرط)

وَعَنْهُ، أنَّ الْقَبْض وَاسْتِدَامَتَهُ فِي الْمُتَعَيِّنِ لَيسَا بِشَرْطٍ، فَمَتَى امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَقْبِيضِهِ، أُجْبِرَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غاصِبٌ، فتَخَلَّلَ في يَدِه، كان مِلْكًا للمَغْصُوب منه، ولو زَالتْ يَدُه كان مِلْكًا للغاصِبِ، كما لو أراقَه، فجَمَعَه إنْسان فتَخَلَّلَ في يَدِه، كان له، دُونَ مَن أراقَه. وهذا القولُ هو قَوْلُنا الأوَّلُ في المَعْنَى، إلَّا أن يَقُولُوا ببَقاءِ اللُّزُومِ فيه حال كَوْنِه خَمْرًا. قال شيخُنا (¬1): ولم تَظْهَرْ لي فائِدَةُ الخِلافِ بعدَ اتِّفاقِهم على عَوْدِه رَهْنًا باسْتِحالتِه خَلًّا، وأرَى القولَ ببَقائِه رَهْنًا أقْرَبَ إلى الصِّحَّةِ؛ لأنَّ العَقْدَ لو بَطَل لَما عاد صَحِيحًا مِن غيرِ ابْتِداءِ عَقْدٍ. فإن قالُوا: يمكِنُ عَوْدُه صَحِيحًا؛ لعَوْدِ المَعْنَى الذي بَطَل بزَوالِه، كما أنَّ زَوْجَةَ الكافِرِ إذا أسْلَمَتْ خَرَجَتْ مِن حُكْمِ العَقْدِ؛ لاخْتِلافِ دِينهما، فإن أسْلَمَ الزَّوْجُ في العِدَّةِ عادَتِ الزَّوْجيَّةُ بالعَقْدِ الأوَّلِ، لزَوالِ الاخْتِلافِ في الدِّينِ. قلنا: هناك ما زالتِ الزَّوْجِيَّةُ ولا بَطَل العَقْدُ، ولو بَطَل بانْقِضاءِ العِدَّةِ، لَما عاد إلَّا بعَقْدٍ جَدِيدٍ، وإنَّما العَقْدُ كان مَوْقُوفًا مُراعًى، فإذا أسْلَمَ في العِدَّةِ، تَبَيَّنا أنَّه لم يَبْطُلْ، وإن لم يُسْلِمْ، تَبَيَّنَّا أنَّه كان قد بطَل، وها هنا قد جَزَمْتُمْ ببُطْلانِه. 1785 - مسألة: (وعنه، أن القَبْضَ واسْتِدامَتَه في المُتَعَيِّنِ لَيسَا بشَرْطٍ) ويَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كالبَيعِ. فعلى هذا، إنِ امْتَنَعَ الرّاهِنُ مِن ¬

(¬1) في: المغني 6/ 461.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقْبِيضِه، أُجْبِرَ عليه، كالبَيعِ، فإن رَدَّه المُرْتَهِنُ على الرّاهِنِ بعارِيةٍ أو غيرِها، ثم طَلَبَه، أُجْبِرَ الرّاهِنُ على رَدِّه؛ لأنَّ الرَّهْنَ صَحِيحٌ، والقَبْضَ واجِبٌ له (¬1)، فيُجْبَرُ عليه، كبَيعِه. فصل: وإذا اسْتَعارَ شيئًا ليَرْهَنَه، جاز. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ الرجلَ إذا اسْتَعارَ مِن الرجلِ شَيئًا يَرْهَنُه على دَنانِيرَ مَعْلُومَةٍ عندَ رَجُلٍ سَمّاه، إلى وَقْتٍ مَعْلُوم، ففَعَلَ، أنَّ ذلك جائِزٌ. ويَنْبَغِي أن يَذْكُرَ المُرْتَهِنَ، والقَدْرَ الذي يَرْهَنُه به، وجِنْسَه، ومُدَّةَ الرَّهْنِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بذلك، فاحْتِيجَ إلى بَيانِه، كأصْلِ الرَّهْنِ. ومتى شَرَط شيئًا مِن ذلك، فخَالفَ، ورَهَنَه بغَيرِه، لم يَصِحَّ الرَّهْنُ؛ لأنَّه لم يُؤْذَنْ له فيه، أشْبَهَ مَن لم يَأذَنْ في أصْلِ الرَّهْنِ. وهذا إجْماعٌ، حَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ. فإن أذِن له في رَهْنِه بقَدْرٍ مِن المالِ، فنَقَص (¬2) عنه، صَحَّ؛ لأنَّ مَن أذن في شيءٍ، فقد أذِن في أقَل منه. وإن رَهَنَ بأكْثَرَ، احْتَمَلَ أن يَبْطُلَ في الكلِّ؛ لأنَّه خالفَ المَنْصُوصَ عليه، فبَطَلَ، كما لو قال: ارْهَنْهُ بدَنانِيرَ. فرَهَنَهُ بدَراهِمَ. أو: بحالٍّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «قبض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرَهَنَه بمُؤَجَّلٍ، أو بالعَكْسِ، فإَّنه لا يَصِحُّ. وهذا مَنْصُوصُ الشَّافعيِّ. واحْتَمَلَ أن يَصِحَّ في القَدْرِ المَأذُونِ فيه، ويَبْطُلَ في الزّائِدِ عليه؛ لأنَّ العَقْدَ تَناوَلَ ما يَجُوزُ وما لا يَجُوزُ، فصَح فيما يَجُوزُ دُونَ غيرِه، كتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ويُفارِقُ ما ذَكَرْنا من الأصُول، فإن العَقْدَ لم يَتَناوَلْ مَأذُونًا فيه بحالٍ، وكلُّ واحِدٍ مِن هذه الأمُورِ يَتَعَلَّقُ به غَرَضٌ لا يُوجَدُ في الآخرِ، فإن الرّاهِنَ قد يَقْدِرُ على فَكاكِه في الحال، ولا يَقْدِرُ على ذلك عندَ الأجَلِ، وبالعَكْسِ، وقد يَقْدِرُ على فَكاكِه بأحَد النَّقْدَينِ دُونَ الآخَرِ، فيَفُوتُ الغَرَضُ بالمُخالفَةِ. وفي مَسْألتِنا إذا صَحَّ في المائَةِ المَأذُونِ فيها، لم يَخْتَلِفِ الغَرَضُ. فإن أطْلَقَ الإِذْنَ في الرَّهْنِ مِن غيرِ تَعْيِين، فقال القاضِي: يَصِحُّ، وله رَهْنُه بما شاء. وهو قولُ أصحابِ الرّأي. وأحَدُ قَوْلَي الشَّافعيِّ. والآخَرُ، لا يَجوزُ حتَّى يُبَيِّنَ (¬1) قَدْرَ الذي يَرْهَنُه به وصِفتَه وحُلُولَه وتَأجِيلَه؛ لأنَّ هذا بمَنْزِلَةِ الضَّمانِ، لأنَّ مَنْفَعَةَ العَبْدِ لسَيِّدِه، والعارِيَّةُ ما أفادَتِ المَنْفَعَةَ، إنَّما حَصَّلَتْ له نَفْعًا يَكُونُ الرَّهْنُ وَثِيقَةً عنه، فهو بمَنْزِلَةِ الضَّمانِ في ذِمَّتِه، وضَمانُ المَجْهُولِ لا يَصِحُّ. ولَنا، أنَّها عارِيَّةٌ، فلم يُشْتَرَطْ لصِحَّتِها ذِكْرُ ذلك، كالعَارِيَّةِ لغيرِ الرَّهْنِ، والدَّلِيلُ ¬

(¬1) في م: «يتبين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّه عارِيَّة أنَّه قَبَضَ مِلْكَ غيرِه لمَنْفَعَةِ نفسِه مُنْفَرِدًا بها مِن غيرِ عِوَض، فكان عارِيَّةً، كقَبْضِه للخِدْمَةِ. وقَوْلُهم: إنَّه ضَمانٌ. غيرُ صَحِيح؛ لأنَّ الضَّمانَ يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، وهذا يَثْبُتُ في الرَّقَبَةِ، ولأنَّ الضَّمانَ لازِمٌ في حَقِّ الضّامِنِ، وهذا له الرُّجُوعُ في العَبْدِ قبلَ الرَّهْنِ وإلْزامُ المُسْتَعِيرِ بِفَكاكِه بعدَه. وقَوْلُهم: إنَّ المَنافِعَ للسَّيِّدِ. قُلْنا: المَنافِعُ مُخْتَلِفَة، فيَجُوزُ أن يَسْتَعِيرَه لتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ واحِدَةٍ، وسائِرُ المَنافِعِ للسَّيِّدِ، كما لو اسْتَعارَه لحِفْظِ مَتاعٍ، وهو مع ذلك يَخِيطُ لسَيِّدِه أو يَعْمَلُ له شيئًا، أو اسْتَعارَه ليَخِيطَ له ويَحْفَظُ المَتاعَ لسَيِّدِه. فإن قيل: لو كان عارِيَّةً، لَما صَحَّ رَهْنُه؛ لأنَّ العارِيَّةَ لا تَلْزَمُ، والرَّهْنُ لازِمٌ. قُلْنا: العارِيَّةُ غيرُ لازِمَةٍ مِن جِهةِ المُسْتَعِيرِ، فإنَّ لصاحِبِ العَبْدِ المُطالبَةَ بفَكَاكِه قبلَ حُلُولِ الدَّينِ. ولأنَّ العارِيَّةَ قد تَكُونُ لازِمَةً فيما إذا أعارَه حائِطًا ليَبْنِيَ عليه، أو أرْضًا ليَزْرَعَ فيها ما لا يُحْصَدُ قَصِيلًا، ثم هو مَنْقُوضٌ بما إذا اسْتَعارَه ليَرْهَنَه بدَينٍ مَوْصُوفٍ عندَ رَجُل مُعَيّن إلى أجل مَعْلُوم. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَصِحُّ رَهْنُه بما شاء إلى أيِّ وَقْتٍ شاء؛ لأنَّ الإِذْنَ يَتَناوَلُ الكُلَّ بإطْلاقِه، وللسَّيِّدِ مُطالبَةُ الرّاهِنِ بفَكَاكِه، حالًّا كان أو مُؤَجَّلًا، في محِلِّ الحَقِّ وقبلَه؛ لأنَّ العاريَّةَ لا تَلْزَمُ. ومَتَى حَلَّ الحَّقُّ فلم يَقْبِضْه، فللمُرْتَهِنِ بَيعُ الرَّهْنِ، واسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، ويَرْجِعُ المُعِيرُ على الرّاهِنِ بالضَّمانِ، وهو قِيمَةُ العَينِ المُسْتَعارَةِ، أو مثلُها إن كانت مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَواتِ الأمْثالِ، ولا يَرْجِعُ بما بِيعَتْ به (¬1)، سواءٌ بِيعَتْ بأقَلَّ مِن القِيمَةِ أو أكْثَرَ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. والثّاني، أنَّها إن بِيعَتْ بأقَلَّ مِن قِيمَتِها رَجَع بالقِيمَةِ؛ لأنَّ العارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ، فيَضْمَنُ نَقْصَ ثَمَنِها، وإن بِيعَت بأكْثَرَ، رَجَع بما بِيعَتْ به؛ لأنَّ العَبْدَ مِلْكٌ للمُعِيرِ، فيَكُونُ ثَمَنُه كلُّه له. وكذك لو أسْقَطَ المُرْتَهِنُ حَقَّه عن الرَّاهِنِ، رَجَع الثَّمَنُ كلُّه إلى صاحِبِه. فإذا قَضَى به دَينَ الرَّاهِنِ رَجَع به عليه، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُوبِ (1) ضَمانِ النَّقْصِ أن لا تَكُونَ الزِّيادَةُ لِصاحِبِ العَبْدِ، كما لو كان باقِيًا بعَينِه. فأمَّا إن تَلِف الرَّهْنُ، فإن الرّاهِنَ يَضْمَنُه بقِيمَتِه، سَواءٌ تَلِف بتَفْرِيطٍ، أو بغَيرِ تَفْرِيطٍ. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ العارِيَّةَ مَضْمُونة. فصل: وإن فَكَّ المُعِيرُ الرَّهْنَ، وأدَّى الدَّينَ الذي عليه بإذْنِ الرَّاهِنِ، رَجَع به (1) عليه. وإن قَضاه مُتَبَرِّعًا، لم يَرْجِعْ بشيءٍ. وإن قَضاه بغيرِ إذْنِه مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ، فهل يَرْجِعُ؟ على رِوايَتَين، بِناءً على ما إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه، وَيَتَرَجَّحُ الرُّجُوعُ ها هنا؛ لأنَّ له المُطالبَةَ بفَكاكِ عَبْدِه، وأداءُ دَينِه فَكاكُه. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فالقولُ قولُ الرَّاهِنِ مع يَمِينِه؛ لأَنه مُنْكِرٌ. وإن شَهِد المُرْتَهِنُ للمُعيرِ، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه لا يَجُرُّ بِها نَفْعًا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَدْفَعُ بها ضَرَرًا. وإن قال: أذِنْتَ لي في رَهْنِه بعَشرَةٍ. قال: بل (¬1) بخَمْسَةٍ. فالقولُ قولُ المالك؛ لأنَّه مُنْكِر للزِّيادَةِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وإن كان الدَّينُ مُؤَجَّلًا، ققَضاه حَالًّا بإذْنِه، رَجَع به حالًّا. وإن قَضاهُ بغَيرِ إذْنِه، فقال القاضِي: يَرْجِعُ به حالًّا أيضًا؛ لأنَّ له المُطالبَةَ بفَكاكِ عَبْدِه في الحالِ. فصل: ولو اسْتَعارَ مِن رجل عَبْدًا ليَرْهَنَه بمائةٍ، فرَهَنَه عندَ رَجُلَين، صَحَّ؛ لأنَّ تَعْيِينَ ما يَرْهَنُ به ليس شَرْطًا، فكذلك مَن يَرْهَنُ عندَه. ولأنَّ رَهنَهُ مِن اثْنَين أقَلُّ ضَرَرًا؛ لأنَّه يَنْفَكُّ منه بَعْضُه بقَضاءِ بعضِ الدَّينِ، بخِلافِ ما إذا رَهَنَه عندَ واحِدٍ. فإذا قَضَى أحَدَهما ما عليه مِن الدَّينِ، خَرَج نَصِيبُه مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَقْدان في الحَقِيقَة. ولو اسْتَعارَ عَبْدًا مِن رَجُلَين، فرَهَنَه عندَ واحِدٍ بمائَةٍ، فقَضاهُ نِصْفَها من أحَدِ النَّصِيبَين، لم يَنْفَكَّ مِن الرَّهْنِ شيءٌ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه عَقْدٌ واحِد مِن راهِن واحِدٍ، مع مُرْتَهِن واحِدٍ، أشْبَهَ ما لو كان العَبْدُ لواحِدٍ. والثَّانِي، يَنْفَكُّ نِصْفُ العَبْدِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما إنَّما أذِنَ في رَهْنِ نَصِيبِه بخَمْسِين، فلا يَكُونُ رَهْنًا بأكثَرَ منها (¬2)، كما لو قال ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ر 1، م: «منهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له: ارْهَنْ نَصِيبي بخَمْسِين، لا تَزِدْ عليها. فعلى هذا الوَجْهِ، إن كان المُرْتَهِنُ عالِمًا بذلك، فلا خِيارَ له، وإن لم يَكُنْ عالِمًا، والرَّهْنُ مَشْرُوط في بَيعٍ (¬1)، احْتَمَلَ أنَّ له الخِيارَ؛ لأنَّه دَخَل على أنَّ كلَّ جُزْءٍ مِن الرَّهْنِ وَثِيقَة بجَمِيعِ. الدَّين، وقد فاتَه ذلك، واحْتَمَلَ أن لا يَكُون له خِيارٌ؛ لأنَّ الرَّهْنَ سُلِّمَ له كلَّه بالدَّينِ كله، وهو قد دَخَل على ذلك. ولو كان رَهَن هذا العَبْدَ عندَ رَجُلَين، فَقَضَى أحَدَهما، انْفَكَّ نصِيبُ كلِّ واحِدٍ مِن المُعِيرَينِ مِن نِصْفِه. وإن قَضَى نِصْفَ دَينِ أحَدِهِما، انْفَكَّ نصِيبُ أحَدِهما، على أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، يَنْفَكُّ نِصْفُ نَصِيبِ كلِّ واحِدٍ منهما. فصل: ولو كان لرَجُلَين عَبْدان، فأذِنَ كلُّ واحِدٍ منهما لشَرِيكِه في رَهْنِ نَصِيبِه مِن أحَدِ العَبْدَين، فرَهَناهما عندَ رجل مُطْلَقًا، صَحَّ. فإن شَرَط أحَدُهما، أنَّنِي متى قَضَيتُ ما عليَّ مِن الدَّين، انْفَكَّ الرَّهْنُ في العَبْدِ الذي رَهَنْتُه، وفي العَبْدِ الآخَرِ، أو (¬2) في قَدْرِ نصِيبِي مِن العَبْدِ الآخَرِ. فهذا شَرْطٌ فاسِدٌ؛ لأنَّه شَرَط أن يَنْفَكَّ بقَضاءِ الدَّينِ رَهْن علي دَين آخَرَ، ويَفْسُدُ الرَّهْنُ؛ لأنَّ في هذا الشَّرْطِ نَقْصًا على المُرْتَّهِنِ، وكلّ شَرْطٍ فاسِدٍ يَنْقُصُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ، يُفْسِدُ الرَّهْنَ. فأمَّا إن شَرَط أنَّه لا يَنْفَكُّ شيء مِن ¬

(¬1) بعده في الأصل: «واحد». (¬2) في الأصل: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَبْدِ حتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّينِ، فهو فاسِدٌ أيضًا؛ لأنَّه شَرَط أن يَبْقَى الرَّهْنُ مَحْبُوسًا بغيرِ الدَّينِ الذي هو رَهْنٌ به، لكنَّه لا يَنْقُصُ حَقَّ المُرْتَهِن، فهل يَفْسُدُ الرَّهْنُ بذلك؟ على وَجْهَين. وقد ذَكَرْنا أنَّ الرَّهْنَ لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ في الصَّحِيحِ. فصل: والقَبْضُ في الرَّهْنِ كالقَبْضِ في البَيعِ، على ما ذَكَرْناه. فلو رَهَنَه دارًا، فخَلَّى بينَه وبينَها، وللرَّاهِنِ فيها قُماشٌ، لم يَمْنَعْ مِن صِحَّةِ التَّسْلِيمِ؛ لأنَّ اتِّصالها بمِلْكِ الرَّاهِنِ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، كالثَّمَرَةِ في الشَّجَرَةِ. وكذلك الدّابَّةُ التي عليها حِمْلٌ للرَّاهِنِ. ولو رَهَن الحِمْلَ وهو على الدّابَّةِ، وسَلَّمَها إليه بحِمْلِها، صَحَّ القَبْضُ؛ لأنَّه حَصل فيهما جَمِيعًا، فيَكُونُ مَوْجُودًا في الرَّهْنِ منهما. فصل: وإذا رَهَنَه سَهْمًا مُشاعًا مِمّا لا يُنْقَلُ، خَلَّى بينَه وبينَه وإن لم يَحْضُرِ الشَّرِيكُ. وإن كان مَنْقُولًا كالجَوْهَرِ، فقَبْضُها تَناوُلُها، ولا يُمْكِنُ تَناوُلُها إلَّا برِضا الشَّرِيكِ، فإن رَضِيَ الشَّرِيكُ، تَناوَلَها المُرْتَهِنُ، وإنِ امْتَنَعَ، فرَضِيَ الرّاهِنُ أو المُرْتَهِنُ بيَدِ (¬1) الشَّرِيكِ، جاز، وناب عن المُرْتَّهِنِ في القَبْضِ. إن تَنازَعَ الشَّرِيكُ والمُرْتَهِنُ، أقامَ الحاكِمُ عَدْلًا تَكَونُ في يَدِه لهما، وإن سَلَّمَها الرّاهِنُ إلى المُرْتَّهِنِ بغيرِ إذْنِ الشَّرِيكِ، ¬

(¬1) في المغني 6/ 451: «كونها بيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَناوَلَها، وقُلْنا: اسْتِدامَةُ القَبْضِ شَرْطٌ. لم يَكْفِ هذا التَّناوُلُ. وإن قُلْنا: ليس بشَرْطٍ. فقد حَصَل القَبْضُ؛ لأنَّ الرَّهْنَ حَصَل في يَدِه، والتَّعَدِّي في غيرِه لا يَمْنَعُ صِحَّةَ القَبْض، كما لو رَهَنَه ثَوْبًا، فسَلَّمَه إليه مع ثَوْبٍ غيرِه، فَتناوَلَهما جَمِيعًا. ولو رَهَنَه ثَوْبًا، فاشْتَبَهَ عليه بغَيرِه، فسَلَّمَ إليه أحَدَهما، لم يَثْبُتِ القَبْضُ؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ أنَّه أقْبَضَه الرَّهْنَ، فإن تَبَيَّنَ أنَّه الرَّهْنُ، صَحَّ القَبْضُ، وإنْ سَلَّمَ إليه الثَّوْبَين مَعًا، حَصَل القَبْضُ؛ لأنَّه قد تَسَلَّمَ الرَّهْنَ يَقِينًا. فصل: ولو رَهَنَه دَارًا، فخَلَّى بينَه وبينَها، وهما فيها، ثم خَرَج الرَّاهِنُ، صَح القَبْضُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ حتَّى يُخَلِّيَ بينَه وبينَها بعدَ خُرُوجه منها؛ لأنَّه ما كان في الدَّارِ فيدُه عليها، فما حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ. ولَنا، أنَّ التَّخْلِيَةَ تَصِحُّ بقَوْلِه مع التَّمْكِينِ منها وعَدَمِ المانِع، أشْبَهَ ما لو كانا خارِجَين عنها، ولا يَصِحُّ ما ذَكَرَه؛ [ألَا تَرَى أنَّ] (¬1) خرُوجَ المُرْتَهِن منها لا يُزِيلُ يَدَه عنها، ودُخولَه إلى دارِ غَيرِه لا يُثْبِتُ يَدَه عليها، ولأَنَّه بخُرُوجه عنها مُحَقِّقٌ لقَوْلِه، فلا مَعْنَى لإِعادَةِ التَّخْلِيَةِ. فصل: وإن رَهَنَه مالًا في يَدِ المُرْتَّهِنِ؛ عارِيَّةً، أو وَدِيعَةً، أو غَصْبًا، أو نحوَه، صَحَّ الرَّهْنُ؛ لأنَّه مالكٌ له يُمْكِنُ قَبْضُه، فصَحَّ رَهْنُه، كما لو ¬

(¬1) في م: «لأنَّ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان في يَدِه. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ لُزُومُ الرَّهْنِ ها هنا بنَفْسِ العَقْدِ، مِن غيرِ احْتِياجٍ إلى أمْر زائِدٍ، فإنَّه قال: إذا حَصَلَتِ الوَدِيعةُ في يَدِه بعدَ الرَّهْنِ، فهو رَهْنٌ. فلم يَعْتَبِرْ أمْرًا زائِدًا؛ وذلك لأنَّ اليَدَ ثابتَةٌ، والقَبْضَ حاصِلٌ، وإنَّما يَتَغَيَّرُ (¬1) الحُكْمُ لا غيرُ، ويُمْكِنُ تَغَيُّرُ الحُكْمَ مع اسْتِدامَةِ القَبْضٍ، كما أنَّه لو طُولِبَ بالوَدِيعَةِ فجَحَدَها لتَغَيَّرَ الحُكْمُ، وصارَتْ مَضْمُونةً عليه مِن غيرِ أمْرٍ زائِدٍ. ولو عاد الجاحِدُ فأقَرَّ بها، وقال لصاحِبِها: خُذْ وَدِيعَتَكَ. فقال: دَعْها عندَك وَدِيعَةً كما كانت، ولا ضَمانَ عليك فيها. لتَغَيَّرَ الحُكْمُ مِن غيرِ حُدُوثِ أمْرٍ زائِدٍ. وقال القاضِي، [وأصحِابُه و] (¬2) الشافعيُّ: لا يَصِيرُ رَهْنًا حتَّى تَمْضِيَ مُدَّة يَتَأتَّى قَبْضُه فيها، فإن كان مَنْقُولًا، فبمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْلُه فيها، وإن كان مَكِيلًا، فبمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ اكْتِيَالُه فيها، وإن كان غيرَ مَنْقُولٍ، فبمُضِيِّ مُدَّةِ التَّخْلِيَةِ، وإن كان غائِبًا عن المُرْتَّهِنِ، لم يَصِرْ مَقْبُوضًا حتَّى يُوافِيَه (¬3) هو أو وَكِيلُه ثم تَمْضِي مُدَّةٌ يُمْكِنُ قَبْضُه فيها؛ لأنَّ العَقْدَ يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ، والقَبْضَ إنَّما يَحْصُلُ بفِعْلِه أو بإمْكانِه، فَيَكْفِي ذلك، ولا يَحْتاجُ إلى وُجُودِ حَقِيقَةِ القَبْضِ؛ لأنَّه مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً. فإن تَلِف قبلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى قَبْضُه فيها، فهو كتَلفِ الرَّهْنِ قبلَ قَبْضِه. ثم هل يَفْتَقِرُ إلى الإِذْنِ مِن الرَّاهِنِ في القَبْضِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحَدُهما يَفْتَقِرُ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل، ر 1: «يعتبر». (¬2) في م: «وأصحاب». (¬3) في م: «يوفيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبْضٌ يَلْزَمُ به عَقْدٌ غيرُ لازِم، فلم يَحْصُلْ بغيرِ إذْنٍ، كما لو كان في يَدِ الرَّاهِنِ، وإقْرارُه في يَدِه لا يَكْفِي، كما لو أقَرَّ المَغْصُوبَ في يدِ غاصِبِه مع إمْكانِ أخْذِه منه. والثانِي، لا يَفْتَقِرُ؛ لأنَّ إقْرَارَه في يَدِه بمَنْزِلَةِ إذْنِه في القَبْضِ، فإن أُذِنَ له في القَبْضِ، ثم رَجَعِ عنه قبلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى القَبْضُ فيها، لم يَلْزَمِ الرَّهْنُ حتَّى يَعُودَ فيَأذَنَ ثم تمْضِى مُدَّة يَقْبِضُه في مثْلِها. فصل: وإذا رَهَنَه المَضْمُونَ على المُرْتَهن؛ كالمَغْصُوبِ، والعارِيَّةِ، والمَقْبُوضِ على وَجْهِ السَّوْمِ، أو في بَيع فاسِدٍ، صَحَّ، وزاكَ الضَّمانُ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشَّافعي: لا يَزُولُ الضَّمانُ، ويَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ، والحُكْمُ الذي كان ثابِتًا فيه يَبْقَى بحَالِه؛ لأنَّه لا تَنافِيَ بينَهما، بدَلِيلِ أنَّه لو تَعَدَّى في الرَّهْنِ، صارَ مَضْمُونًا، وهو رَهْنٌ كما كان، فكذلك ابْتداؤه؛ لأنَّه أحَدُ حالتَيِ الرَّهْنِ. ولَنا، أنَّه مَأذُونٌ له في إمْساكِه رَهْنًا، لم يَتَجَدَّدْ فيه منه عُدْوَانٌ، فلم يَضْمَنْه، كما لو قَبَضَه منه ثم أقْبَضَه إيّاه، أو أبرَأه مِن ضَمانِه. وقَوْلُهم: لا تَنافِيَ بينَهما. مَمْنُوعٌ؛ فإن الغاصِبَ يَدُه عادِيَةٌ يَجِبُ عليه إزالتها، ويَدُ المُرْتَّهِنِ مُحِقَّةٌ (¬1) جَعَلَها الشَّرْع له، ويَدُ المُرْتَّهِنِ يَدُ أمانَةٍ. ويَدُ الغاصِبِ والمُسْتَعِيرِ ونحوهما يَدٌ ضامِنَةٌ، وهذان مُتَنافِيَان. ولأنَّ السَّبَبَ المُقْتَضِيَ للضَّمانِ زال، فزال الضَّمانُ لزَوالِه، كما لو رَدَّه إلى مالِكِه، وذلك لأنَّ سَبَبَ الضَّمانِ الغَصْبُ أو العارِيَّةُ ونحوُهما، وهذا لم يَبْقَ غاصِبًا ولا مُسْتَعِيرًا، ولا يَبْقَى الحُكْمُ ¬

(¬1) في م: «محققة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع زَوالِ سَبَبه وحدوثِ سَبَبٍ يُخالِفِ حُكْمُه حُكْمَه، وأمّا إذا تَعَدَّى في الرَّهْنِ، فإنَّه يَلْزَمُه الضَّمَانُ؛ لعُدْوانِه، لا لكَوْنِه غاصِبًا ولا مُسْتَعِيرًا، وها هنا قد زال سَبَبُ الضَّمانِ، ولم يَحْدُثْ ما يُوجِبُه، فلم يَثْبُتْ. فصل: وإذا رَهَنَه عَينَين، فتَلِفَتْ إحْداهُما قبلَ قَبْضِها، انْفَسَخَ العَقْدُ فيها دُونَ الباقِيَة؛ لأنَّ العَقْدَ كان صَحِيحًا فيهِما، وإنَّما طَرَأ انْفساخُ العَقْدِ في إحْداهُما، فلم يُوثِّرْ في الأخْرَى، كما لو اشْتَرَى شَيئَين فرَدَّ أحَدَهما بعَيبٍ أو غيرِه. والرّاهِن مخَيَّرٌ بينَ إقْباضِ الباقِيَة وبينَ مَنْعِها، إذا قُلْنا: إنَّ الرَّهْنَ لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ. وإن كان التَّلَفُ بعدَ قَبْضِ الأخْرَى، لَزِم الرَّهْنُ فيها، فإن كان الرَّهْنُ مَشْرُوطًا في بَيع، ثَبَت للبائِع الخِيارُ، لتَعَذُّرِ الرَّهْنِ بكَمالِه، فإن رَضِيَ لم يَكُنْ له المُطالبَةُ ببَدَلِ التالِفَةِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ لم يَلْزَمْ فيها، وتَكُونُ المَقْبُوضَة رَهْنًا بجَمِيعِ الثَّمَنِ. فإن تَلِفَت إحْدَى العَينَين بعدَ القَبْضِ، فلا خِيارَ للبائِعِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ لو تَلِف كلُّه، لم يَثْبُتْ للبائِعِ خِيارٌ، فإذا تَلِف بَعْضُه كانَ أوْلَى، ثم إن كان تَلَفُها بعدَ قَبْضِ العَينِ الأخْرَى، فقد لَزِم الرَّهْنُ فيها، وإنْ كان قبلَ قَبْضِ الأخْرَى، فالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بينَ إقْباضِها وبينَ تَرْكِه، فإنِ امْتَنَعَ مِن تَقْبِيضِها، ثَبَت للبائِعِ الخِيارُ، كما لو لم (¬1) تَتْلَفِ الأخرَى. فصل: وإذا رَهَنَه دَارًا، فانْهَدَمَتْ قبلَ قَبْضِها، لم يَنْفَسِخْ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لأنَّ مالِيَّتَهَا لم تَذْهَبْ بالكُلِّيَّةِ، فإنَّ عَرْصَتَها وأنْقاضَها باقِيَةٌ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَثْبُتُ للمُرْتَهِنِ الخِيارُ إن كان الرَّهْنُ مَشْرُوطًا في بَيعٍ؛ لتَعَيُّبِها (¬1) ونقْصِ قِيمَتِها. فإن قيلَ: فلِمَ لا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الرَّهْنِ، كعَقْدِ الإِجارَةِ؟ قُلْنا: الإِجارَةُ عَقْدٌ على مَنْفَعَةِ السُّكْنَى، وقد تَعَذَّرَتْ وعَدِمَتْ، فبَطَلَ العَقْدُ؛ لعَدَمِ المَعْقُود عليه، والرَّهْنُ عَقْدُ اسْتِيثاقٍ يَتَعَلَّقُ بالأعْيانِ التي فيها المالِيَّةُ، وهي باقِيَةٌ. فعلى هذا، تَكُونُ العَرْصَةُ والأنْقاضُ مِن الخَشَبِ والأحْجارِ ونحوها مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّ العَقْدَ وارِدٌ على جَمِيعِ الأعْيانِ، والأنْقاضُ منها، وما دَخَل في العَقْدِ اسْتَقَرَّ بالقَبْضِ. فصل: ويَجُوزُ للمُرْتَهِنِ أن يُوَكِّلَ في قَبْضِ الرَّهْنِ، ويَقُومُ قَبْضُ وَكِيله مَقامَ قَبْضِه في لُزُومِ الرَّهْنِ وسائِرِ أحْكَامِه. فإن وكَّلَ المُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ في قَبْضِ الرَّهْنِ له مِن نَفْسِه، لم يَصِحَّ، ولم يَكُنْ قَبْضًا؛ لأنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ليَسْتَوْفِيَ الحَقَّ منه عندَ تَعَذُّرِ اسْتِيفائِه مِن الرَّاهِنِ، فإذا كان في يَدِ الرَّاهِنِ لم يَحْصُلْ مَعْنَى الوَثِيقَةِ، وقد ذَكَرْنا في البَيعِ، أنَّ المُشْتَرِيَ لو دَفَعِ إلى البائِعِ وعاءً، وقال: كِلْ لِي حَقِّي فيه. ففَعَلَ، كان قَبْضًا، فيُخرَّجُ ههُنا مِثْلُه. فصل: إذا أقَرَّ الرَّاهِنُ بتَقْبيضِ الرَّهْن، أو أقَرَّ المُرْتَهِنُ بقَبْضِه، كان مَقْبُولًا فيما يُمْكِنُ صِدْقُهما فيه. فإن أقَرَّ الرَّاهِنُ بالتَّقْبِيضِ ثم أنْكَرَ، وقال: أقرَرْتُ بذلك ولم أكنْ أقْبَضْتُ شيئًا. أو أقَرَّ المُرْتَهِنُ بالقَبْضِ ثم أنْكَرَه، فالقولُ قولُ المُقَرِّ له، فإن طَلَب المُنْكِرُ يَمِينَه، ففيه ¬

(¬1) في الأصل: «لتعينها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه يَمين؛ لأنَّ الإِقْرارَ أقْوَى مِن البَيِّنةِ، ولو قامَتِ البَيِّنةُ بذلك، فطَلَب المَشْهُودُ عليه يَمينَ خَصْمِه، لم يُجَبْ إليها، فكذلك الإِقْرارُ. والثَّانِي، يَلْزَمُه اليَمِينُ. وهو قولُ الشَّافعيِّ. وهو أوْلَى، لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بأنَّ الانْسانَ يَشْهَدُ على نَفْسِه بالقَبْضِ قبلَه، فكذلك تُسْمَعُ دَعْواه، ويَلْزَمُ خَصْمَه اليَمِينُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حُكْمِ العادَةِ، بخِلافِ البَيِّنةِ، فإنَّها لا تَشْهَدُ (¬1) بالحَقِّ قبلَه، ولو فَعَلَتْ ذلك ثم تَكُنْ عادِلَةً. وقال القاضِي: إن كان المُقِرُّ غائِبًا، فقال: أقْرَرْتُ؛ لأنَّ وكِيلي، كَتَب إلَيَّ بذلك، ثم بان لي خِلافُه. سَمِعْنا قَوْلَه، وأحْلَفْنا خَصْمَه. وإن أقَرَّ أنَّه باشَرَ ذلك بنَفْسِه، ثم عاد فأكْذَبَ نَفْسَه، لم يُحْلَفْ خَصْمُه. وهذا قولُ بَعْضِ أصْحابِ الشَّافعيِّ. فأمَّا إنِ اخْتَلَفا في القَبْض، فقال المُرْتَهِنُ: قَبَّضْتُه. وأنْكَرَ الرَّاهِنُ، فالقَوْلُ قولُ صاحِبِ اليَدِ؛ لأنَّه إن كان في يَدِ الرَّاهِنِ، فالأصْلُ معه، وهو عَدَمُ الإقْباضِ، ولم يُوجَدْ ما يَدُلُّ على خِلافِه، وإن كان في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فقد وُجِدَ القَبْضُ، لكَوْنِه لا يَحْصُلُ في يَدِه إلَّا بعدَ قَبْضِه. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فقال الرَّاهِنُ: أخَذْتَه بغَيرِ إذْنِي. قال: بل بإذْنِك. وهو في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فالقَوْلُ قولُه؛ لأنَّ الظّاهِرَ معه، فإنَّ العَقْدَ قد وُجِدَ، ويَدُه تَدُلُّ على أنَّه بحَقٍّ. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ القولُ قولَ الرَّاهِنِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإِذْنِ. وهذا مَذْهَبُ الشَّافعيِّ. ذَكَر القاضِي هَذَين الوَجْهَين. ¬

(¬1) بعده في م: «إلَّا».

1786 - مسألة: (وتصرف الراهن في الرهن لا يصح، إلا العتق، فإنه يصح، وتؤخذ منه قيمته

وَتَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ، إلا الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَتُؤخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانهُ. وَعَنْهُ، لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعْسِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1786 - مسألة: (وتَصَرُّفُ الرَّاهِنِ في الرَّهْنِ لا يَصِحُّ، إلَّا العِتْقَ، فإنَّه يَصِح، وتُؤْخَذُ منه قِيمَتُه (¬1) رَهْنًا مكانَه. وعنه، لا يَنْفُذُ عِتْقُ المُعْسِرِ) إذا تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ [في الرَّهْنِ] (¬2) بغَير رِضَا المُرْتَّهِنِ، بغَيرِ العِتْقِ، كالبَيعِ والهِبَةِ، والوَقْفِ، والرَّهْنِ، ونحْوه، فتَصَرُّفُه باطِلٌ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ مِن الوَثِيقَةِ، غيرُ مَبْنِيٍّ على التَّغْلِيبِ والسِّرايَةِ، فلم يَصِحَّ بغَيرِ إذْنِ المُرْتَّهِنِ، كفَسْخِ الرَّهْنِ. وفي الوَقْفِ وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّه يَلْزَمُ لحَقِّ اللهِ تَعالى، أشْبَهَ العِتْقَ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّه تَصَرُّف لا يَسْرِي إلى مِلْكِ الغيرِ، فلم يَصِحَّ، كالهِبَةِ. فإن أذِن فيه المُرْتَهِنُ (¬3)، صَحَّ، وبَطَلَ الرَّهْنُ؛ [لأنَّه أذِن فيما يُنافِي حَقَّه، فبَطَل بفِعْلِه، كالعِتْقِ] (2)، إلَّا أن يَأذَنَ في البَيعِ، ففيه تَفْصِيلٌ نَذْكُرُه فيما بَعْدُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) بعده في الأصل، ر، ق، م: «فتجعل». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس للرَّاهِنِ الانْتِفاعُ بالرَّهْنِ، باسْتِخْدام، ولا وَطْء، ولا سُكْنَى، ولا غيرِ ذلك. ولا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه بإجارَةٍ ولا إعارَةٍ ولا غيرِهما بغيرِ رِضَا المُرْتَّهِنِ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال مالكٍ، وابنُ أبي ليلى، والشّافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: للرّاهِنِ إجارَتُه وإعارَتُه مُدَّةً لا يَتَأخَّرُ انْقِضاؤها عن حُلُولِ الدَّينِ. وهل له أن يَسْكُنَ بنَفْسِه؟ على اخْتِلافٍ، بينَهم فيه (¬1). وإن كان الرَّهْنُ عَبْدًا، فله اسْتِيفاءُ مَنافِعِه بغَيرِه، وهل له ذلك بنَفْسِه؟ على الخِلافِ. وليس له إجارَةُ الثَّوْبِ ولا ما يَنْقُصُ بالانْتِفاعِ. وبَنَوْه على أنَّ المنافِعَ للرَّاهِنِ لا تَدْخُلُ في الرَّهْنِ، ولا يَتَعَلَّقُ بها حَقُّه، وسَيَأتِي الكلامُ فيه. ولَنا، أنَّها عَينٌ (¬2) مَحْبُوسَةٌ، فلم يَكُنْ للمالكِ الانْتِفاعُ بها، كالمَبِيعِ المَحْبُوسِ عندَ البائِعِ على قَبْضِ ثَمَنِه. إذا ثَبَت هذا فإن المُتراهِنَين إن لم يَتَّفِقا على الانْتِفاعِ بها، لم يَجُزْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، ر 1: «غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الانْتِفاعُ، وكانت منافِعُها (¬1) مُعَطَّلَةً، فإن كانت دارًا أُغْلِقَتْ، وإن كان عَبْدًا أو غيرَه تَعَطَّلَتْ مَنافِعُه، حتَّى يَنْفَكَّ الرَّهْنُ. فإنِ اتَّفَقَا علي إجارَةِ الرَّهْنِ، أو (¬2) إعارَتِه، جاز ذلك، في ظاهِر قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه جَعَل غَلَّة الدّارِ وخِدْمَةَ العَبْدِ مِن الرَّهْنِ، ولو عُطِّلَتْ مَنافِعُهما لم يَكُنْ لهما غَلَّة. وقال ابنُ أبي مُوسى: إن أذِن الرَّاهِنُ للمُرْتَهِنِ في إعارَته، أو إجارَتِه، صَحَّ، والأجْرَةُ رَهْنٌ، وإن أجَرَهُ الرَّاهِنُ بإذْنِ المُرْتَّهِنِ، خَرَجِ مِن الرَّهْنِ، في أحَدِ الوَجْهَين، ولا يَخْرُجُ في الآخَرِ، كما لو أجَرَه المُرْتهِنُ. وقال أبو الخَطَّاب في المُشاعِ: يُؤْجرُه الحاكِمُ لهما. وذكَر أبو بكر في «الخِلافِ»، أنَّ مَنافِعَ الرَّهْنِ تُعَطَّلُ مُطْلَقًا، ولا يُؤْجِراه. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقالُوا: إذا أجَرَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ (¬3) بإذْنِ المُرْتَّهِنِ، كان إخْراجًا مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ يَقتَضِي حَبْسَه عندَ المُرْتَّهِنِ أو نائِبِه على الدَّوامِ، فمتى وُجِدَ عَقْدٌ يَسْتَحِقُّ به زَوال الحَبْسِ، زال الرَّهْنُ. ولَنا، أنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الاسْتِيثاقُ بالدَّينِ واسْتِيفاؤه مِن ثَمَنِه عندَ تَعَذُّرِ اسْتِيفائِه مِن ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وهذا لا يُنافِي الانْتِفاعَ به، ولا ¬

(¬1) في م: «منافعه». (¬2) في م: «و». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إجارَتَه، و (¬1) إعارَتَه، فجاز اجْتِماعُهما، كانْتِفاعِ المُرْتَّهِنِ به، ولأنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِه تَضْيِيع للمالِ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَتِه (¬2)، ولأنَّه عَينٌ تَعَلَّقَ بها حَقُّ الوَثِيقَةِ، فلم يَمْنَعْ إجارَتَها، كالعَبْدِ إذا ضَمِن بإذْنِ سَيِّدِه، ولا نُسَلِّمُ أنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ الحَبْسُ، بل مُقْتَضاه تَعَلّقُ الحَقِّ به على وَجْهٍ تَحْصُلُ به الوَثِيقَةُ، وذلك غيرُ مُنافٍ للانْتِفاعِ به. ولو سَلَّمْنا أنَّ مُقْتَضَاهُ الحَبْسُ، فلا يَمْنَعُ [أن يكون] (¬3) المُسْتَأجِرُ نائِبًا عنه في إمْساكِه وحَبْسِه، ومُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَتَه لنَفْسِه. فصل: ولا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِن إصْلاحٍ الرَّهْنِ، ودَفْعِ الفَسادِ عنه، ومُداواتِه إنِ احْتاجَ إليها، فإذا كان ماشِيَة فاحْتاجَتْ إلى إطْراقِ الفَحْلِ، فللرّاهِنِ ذلك؛ لأنَّ فيه مَصْلَحَةَ الرَّهْنِ وزِيادَتَه، وذلك زِيادَةٌ في حَقِّ (¬4) المُرْتَّهِنِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، وإن كانت فُحُولًا لم يَكُنْ للرَّاهِنِ إطْراقُها بغيرِ رِضَا المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّه انْتِفاعٌ لا مَصْلَحَةَ للرَّهْنِ (¬5) فيه، فهو كالاسْتِخْدامِ، إلَّا أن يَكُون يَتَضَرَّرُ بتَرْكِ الإطْراقِ، فيَجُوزُ؛ لأنَّه كالمُداواةِ له. ¬

(¬1) في م: «ولا». (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 249. (¬3) في م: «كون». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل، ر 1: «للراهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس للرّاهِنِ عِتْقُ الرَّهْنِ؛ لأنَّه يُبْطِلُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ مِن الوَثِيقَةِ، وذلك إضْرارٌ به، فإن فَعَل، نَفَذ عِتْقُه، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال شَرِيك، والحسنُ بنُ صالح، وأصحابُ الرَّأْي، والشّافعيُّ في أحَدِ أقْوالِه. إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: يَسْتَسْعِي العَبْدَ في قِيمَتِه إن كان المُعْتِقُ مُعْسِرًا (¬1). وعن أحمدَ، أنَّه لا يَنْفُذُ عِتْقُ المُعْسِرِ. ذَكَرها الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر. وهو قولُ مالكٍ، والقولُ الثّانِي للشافعيِّ؛ لأنَّ عِتْقه يُسْقِطُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ مِن الوَثِيقَةِ مِن عَينِ الرَّهْنِ وبَدَلِها، فلم يَنْفُذْ؛ لِما فيه مِن الإِضْرارِ بالمُرْتَهِنِ، ولأنَّه عِتْق يُبْطِلُ حَقَّ غيرِ المالك، فنَفَذَ مِن المُوسِرِ دُونَ المُعْسِرِ، كعِتْقِ شِرْكٍ له في عَبْدٍ. وقال عطاء، والبَتِّيُّ، وأبو ثَوْرٍ: لا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ.، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا. وهو القولُ الثّالث للشافعي؛ لأنَّه مَعْنًى يُبْطِلُ حَقَّ الوَثِيقَةِ مِن الرَّهْنِ، أشْبَهَ البَيعَ. ولَنا، أنَّه إعْتاق مِن مالكٍ جائِزِ التَّصَرُّفِ تام المِلْكِ، فنَفَذَ، كعِتْقِ المُسْتَأجِرِ، ولأنَّ الرَّهْنَ عَين مَحْبُوسَةٌ لاسْتِيفاءِ الحَقِّ، فنَفَذَ فيها عِتْقُ المالكِ، كالمَبِيعِ في يَدِ البائِعِ، والعِتْقُ يُخالِف البَيعَ، فإنَّه مَبْنِيٌّ على التَّغْلِيبِ والسرايَةِ، ويَنْفُذُ في مِلْك الغيرِ، ويَجُوزُ عِتْقُ المَبِيعِ قبلَ قَبْضِه، والآبِقِ، والمَجْهُولِ، وما لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، ويَجُوزُ تَعْلِيقُه على الشروطِ (¬2)، ¬

(¬1) في م: «موسرًا». (¬2) في م: «الشرط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ البَيعِ. إذا ثَبَت هذا، فإن كان مُوسِرًا، أُخِذَتْ منه قِيمَتُه، فجُعِلَتْ مَكانَه رَهْنًا؛ لأنَّه أْبطَلَ حَقَّ الوَثِيقَةِ بغيرِ إذْنِ المُرْتَهِنِ، فلَزِمَتْه قِيمَتُه، كما لو أَبْطَلَها أجْنَبِيٌّ، أو كما لو أتْلَفَه، وتَكُونُ القِيمَةُ رَهْنًا؛ لكَوْنِها نائِبَةً عن العَينِ، وبَدَلًا منها، وإن كان مُعْسِرًا فهي في ذِمَّتِه، فإن أيسَرَ قبلَ حُلُولِ الحَقِّ، أُخِذَتْ منه فجُعِلَتْ رَهْنًا، إلَّا أن يَخْتارَ تَعْجِيلَ الحَقِّ، فيَقْضِيَه، ولا يَحْتاجُ إلى رَهْن، وإن أْيسَرَ بعدَ حُلُولِ الحَقِّ طُولِبَ بالدَّين خاصَّةً؛ لأنَّ ذِمته تَبْرأ به مِن الحَقَّين معًا. والاعْتِبارُ بقِيمَةِ العَبْدِ حال العِتْقِ؛ لأنَّه وَقْتُ الإِتْلافِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ في المُعْسِرِ: يَسْتَسْعِي العَبْدَ في قِيمَتِه، ثم يَرْجِعُ على الرَّاهِنِ. وفيه إيجابُ الكَسْبِ على العَبْدِ، ولا صُنْعَ له، ولا جِنايَةَ منه، فكان إلْزامُ الغُرْمِ للمُتْلِفِ أوْلَى، كحالِ اليَسارِ، وكسَائِرِ الإِتْلافِ. فصل: فإن أعْتَقَه بإذْنِ المُرْتَّهِنِ، فلا نعلمُ خِلافًا في نُفُوذِ عِتْقِه على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ المَنْعَ كان لحَقِّ المُرْتَّهِنِ، وقد أذِنَ، ويَسْقُطُ حَقُّه مِنَ الوَثِيقَةِ مُوسِرًا كان المُعْتقُ أو مُعْسِرًا؛ لأنَّه أذِنَ فيما يُنافِي حَقَّه، فإذا وُجِدَ، زال حَقُّه، وقد رَضِيَ به لرِضاه بما يُنافِيه وإذْنِه فيه، فلم يَكُنْ له بَدَلٌ. فإن رَجَع عن الإِذْن قبلَ العِتْقِ، وعَلِم الرَّاهِنُ برُجُوعِه، بَطَل الإِذْنُ، وإن لم يَعْلَمْ برُجُوعِه، فأعْتَقَ، ففيه وَجْهان، بناءً على عَزْلِ

1787 - مسألة: وليس له

وَقَال الْقَاضِي: لَهُ تَزْويجُ الأمَةِ، وَيَمْنَعَ الزَّوْجَ وَطْأها، وَمَهْرُهَا رَهْنٌ مَعَهَا. وَالْأوَّلُ أصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَكِيلِ بدُونِ عِلْمِه. وإن رَجَعَ بعدَ العِتْقِ، لم يَنْفَعْه الرُّجُوعُ، والقولُ قولُ المُرْتَّهِنِ مع يَمينِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الإِذْنِ. وإنِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ المُرْتَّهِنِ، فالقولُ قولُ [وَرَثَةِ المُرْتَّهِنِ] (¬1) أيضًا، إلَّا أنَّ أيمانَهُم على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّها على فِعْلِ الغَيرِ. وإنِ اخْتَلَفَ المُرْتَهِنُ ووَرَثةُ الرَّاهِنِ، فالقولُ قولُ المُرْتَّهِنِ مع يَمينِه، وإن لم يَحْلِفْ، قُضِيَ عليه بالنُّكُولِ. 1787 - مسألة: وليس له (¬2) تزْويجُ (¬3) الأمَةِ المَرْهُونَةِ، فإن فَعَل، لم يَصِحَّ. وهذا اخْتِيارُ أبي الخَطَّابِ، وقولُ مالك، والشافعيِّ. وقال القاضِي وجَماعَة مِن أصحابِنا: يَصِحُّ وللمُرْتَهِنِ مَنْعُ الزَّوْجِ مِن وَطْئِها لحَق المُرْتَّهِنِ، حتَّى لا تَخْرُجَ عن يَدِه، فيَفُوتَ القَبْضُ (ومَهْرُها رَهْنٌ معها) لأنَّه مِن نَمائِها وبِسَبَبِها، فكان رَهْنًا معها، كأجْرَتِها وسائِرِ ¬

(¬1) في م: «الورثة». (¬2) في م: «عليه». (¬3) في الأصل: «تزوج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَمائِها. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ مَحَلَّ النِّكاحِ غيرُ مَحَلِّ عَقْدِ الرَّهْنِ، ولذلك صَحَّ رَهْنُ المُزَوَّجَةِ، ولأنَّ الرَّهْنَ لا يُزِيلُ المِلْكَ، فلم يَمْنَعِ التَّزْويجَ، كالإِجارَةِ. ولَنا، أَنَّه تَصَرُّف في الرَّهْنِ بما يَنْقُصُ ثَمَنَه، ويَشْغَلُ (¬1) بعضَ مَنافِعِه، فلم يَمْلِكْه الرّاهنُ بغيرِ رِضَا المُرْتَّهِنِ، كالإِجارَةِ، ولا يَخْفَى تَنْقِيصُه لثَمَنِها، فإنَّه يُعَطِّلُ مَنافِعَ بُضْعِها (¬2)، ويَمْنَعُ مُشْتَرِيَها مِن وَطْئِها وحِلِّها، ويُوجِبُ عليها تَمْكِينَ زَوْجِها مِن الاسْتِمْتاعِ بها، ويُعَرِّضُها بوَطْئِه للحَمْلِ الذي يُخافُ منه تَلَفُها، ويَشْغَلُها عن خِدْمَتِه بتَرْبِيَةِ وَلَدِها، فتَذْهَبُ الرَّغْبَةُ فيها، وتَنْقُصُ نَقْصًا كثيرًا، ورُبَّما مَنَعَ بَيعَها بالكُلِّيَّةِ. وقَوْلُهم: إنَّ مَحَلَّ عَقْدِ النِّكاحِ غيرُ محَل الرَّهْنِ. غيرُ صَحِيحِ؛ فإن مَحَلَّ الرَّهْنِ مَحَلُّ البَيعِ، والبَيعُ يَتَناوَلُ جُمْلَتَها، ولهذا يُباحُ لمُشْتَرِيها اسْتِمْتاعُها، وإنَّما صَحَّ رَهْنُ المُزَوجَةِ؛ لبَقَاءِ مُعْظَمِ المَنْفَعةِ فيها، وبَقائِها مَحَلًّا للبَيعِ، كما يَصِحُّ رَهْنُ المُسْتَأجَرَةِ. ويُفارِقُ الرَّهْنُ الإِجارَةَ، فإن التَّزْويجَ لا يُؤثِّرُ في مَقْصُودِ الإِجارَةِ، ولا يَمنَعُ المُسْتَأجِرَ مِن اسْتِيفاءِ المَنافِعِ المُسْتَحَقَّةِ له، ويُؤَثِّرُ ¬

(¬1) في ر 1، م: «يستغل». (¬2) في ر 1: «بعضها».

1788 - مسألة: (وإن وطئ الجارية، فأولدها، خرجت من الرهن، وأخذت منه قيمتها، فجعلت رهنا)

وَإنْ وَطِئ الْجَارِيَةَ، فَأولَدَهَا، خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَأخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهَا، فَجُعِلَتْ رَهْنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَقْصُودِ الرَّهْنِ، وهو اسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِها؛ لأنَّ تَزْويجَها يَمْنَعُ بَيعَها، أو يَنْقُصُ ثَمَنَها، فيَتَعَذَّرُ اسْتِيفاءُ الدَّينِ بكَمالِه. 1788 - مسألة: (وإنْ وَطِئ الجارِيَةَ، فأوْلَدَها، خَرَجَتْ مِن الرَّهْنِ، وأخِذَتْ منه قِيمَتُها، فجُعِلَتْ رَهْنًا) لا يَجُوزُ للرَّاهِنِ وَطْءُ أمتِه المَرْهُونَةِ، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. وقال بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ: له وَطْءُ الآيِسَةِ والصَّغِيرَةِ؛ لكَوْنِه لا ضَرَرَ فيه، فإن عِلَّةَ المَنْعِ خَوْفُ الحَمْلِ، مَخافَةَ أن تَلِدَ منه، فتَخْرُجَ مِن الرّهْنِ، أو تَتَعَرَّضَ للتَّلَفِ، وهذا مَعْدُوم فيهما. وسائِرُ أهْلِ العِلْمِ على خِلافِ هذا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع أهْلُ العِلْمِ على أنَّ للمُرْتَهنِ مَنْعَ الرَّاهِنِ مِن وَطْءِ أمَتِهِ المَرْهُونَةِ. ولأن سائِرَ مَن يَحْرُمُ وَطْؤُها لا فرْقَ فيه بين الآيِسَةِ والصَّغِيرَةِ وغَيرِهما، كالمُعْتَدَّةِ والمُسْتَبْرَأةِ والأجْنَبِيةِ، ولأنَّ الوَقْتَ الذي تَحْبَلُ (¬1) فيه يَخْتَلِفُ، ولا يَتَحَرَّرُ (¬2)، فمُنِعَ مِن الوَطْءِ جُمْلَةً، كما حَرُمَ الخَمْرُ ¬

(¬1) في م: «تحمل». (¬2) في ق: «يتحرز». وفي م: «يتحزر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للسُّكْرِ، وحَرُمَ منه اليَسِيرُ الذي لا يُسْكِر؛ لِكَوْنِ السّكْرِ يَخْتَلِفُ. فإن وَطِئ، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّها مِلْكُه، وإنَّما حَرمَتْ عليه لعارِض، كالمُحْرِمَةِ والصَّائِمَةِ. ولا مَهْرَ عليه، لأنَّ المُرْتَهِنَ لا حَقَّ له في مَنْفَعَتِها، ووَطْؤُها لا يَنْقصُ قِيمَتَها إذا كانت ثَيِّبًا، فأشْبَهَ ما لو اسْتَخْدَمَها. وإن تَلِف جُزْءٌ منها أو نَقَصَها، مثلَ أنِ افْتَضَّ البِكْرَ أو أفْضَاها، فعليه قِيمَة ما أتْلفَ، فإن شاء جَعَلَه رَهْنًا معها، وإن شاء جَعَلَه قضاءً مِن الحَقِّ، إن لم يَكُنْ حَلَّ. فإن كان الحَقّ قد حَلَّ، جَعَلَه قَضاءً لا غيرُ؛ فإنَّه لا فائدَةَ في جَعْلِه رَهْنًا. ولا فَرْقَ بينَ الصَّغِيرَةِ والكَبِيرَةِ فيما ذَكَرْناه. فصل: فإن أوْلَدَها، خَرَجَتْ مِن الرَّهْنِ، وعليه قِيمَتُها حينَ أحْبَلَها، كما لو جَرَح العَبْدَ كانت عليه قِيمَتُه يومَ جَرَحَه، ولا فَرْقَ بينَ المُوسِرِ والمُعْسِرِ، إلَّا أنَّ المُوسِرَ تُؤْخَذُ منه قِيمَتُها، والمُعْسِرَ تَكُونُ في ذِمَّتِه قِيمَتُها، على حَسَبِ ما ذَكَرْنا في العِتْقِ. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْي. وقول الشَّافعيِّ ههُنا كقَوْلِه في العِتْقِ، إلَّا أنَّه إذا قال: لا يَنْفُذُ الإِحْبالُ. فإنَّما هو في حَقِّ المُرْتَّهِنِ، فأمَّا في حَقِّ الرَّاهِنِ، فهو ثابِت، فلا يجُوزُ له أن يَهَبَها للمُرْتَهِنِ. ولو حَلَّ الحَقّ وهي حامِلٌ، لم يَجُزْ بَيعُها؛ لأنَّها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حامِلٌ بحُرٍّ، فإذا وَلَدَتْ، لم يَجزْ بَيعها حتَّى تَسْقِيَ ولَدَها اللِّبَأ، ثم إن وَجَد مَن يرْضِعه، بِيعَتْ، وإلَّا ترِكَتْ حتَّى تُرْضِعَه، ثم يباعُ منها بقَدْرِ الدَّينِ، وَيَثْبت للباقِي حكْم الاسْتِيلادِ، فإذا مات الراهِن عَتَق. وإن رَجَع هذا (¬1) المَبِيع إلى الرَّاهِنِ ببَيعٍ أو غيرِه، أو بِيعَ جَمِيعها ثم رَجَعَتْ إليه، ثَبَت لها حكْم الاسْتِيلادِ. وقال مالكٌ: إن كانت الأمَةُ تَخرج إلى الرَّاهِنِ وتَأتيه، خَرَجَتْ مِن الرَّهْنِ، وإن تَسَوَّرَ عليها، أخَذَ وَلَدَها، وبِيعَتْ. ولَنا، أنَّ هذه أمُّ وَلَدٍ، فلم يَثْبتْ فيها حكْمُ الرَّهْنِ، كما لو كان الوَطْء سابِقًا على الرَّهْنِ، أو نَقولُ: مَعْنًى ينافِي الرَّهْنَ في ابْتِدائِه، فنافاه في دَوامِه، كالحرِّيَّةِ. فصل: فإن كان الوَطْء بإذْنِ المرْتَهِنِ، خَرَجَتْ مِن الرَّهْنِ، ولا شيءَ للمرْتَهِنِ؛ لأنَّه أذِنَ في سَبَبِ ما ينافِي حَقَّه، فكان إذنًا فيه. ولا نَعْلَم في هذا خِلافًا. وإن لم تَحْبَلْ، فهي رَهْنٌ بحالِها. فإن قِيلَ: إنَّما أذِنَ في الوَطْء، ولم يَأذَنْ في الإِحْبالِ. قُلْنا: الوَطْء هو المُفْضِي إلى الإِحْبالِ، ولا يَقِف ذلك على اخْتِيَارِه، فالإِذْنُ في سَبَبِه إذْن فيه. فإن أذِنَ ثم رَجَع، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كمَن لم يَأذَنْ. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فالقولُ قولُ مَن يُنْكِرُه، وإنْ أقَرَّ المُرْتَهِنُ بالإِذْنِ، وأنْكَرَ كَوْنَ الوَلَدِ مِن الوَطْءِ المأذونِ فيه، أو قال: هو مِن زَوْجٍ أو زِنًى. فالقولُ قولُ الرَّاهِنٍ بأرْبَعِ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أن يَعْتَرِفَ المُرْتَهِنُ بالإِذْنِ. الثاني، أن يَعْتَرِف بالوَطْءِ. الثَّالثُ، أن يَعْتَرِفَ بالولادَةِ. الرابعُ، أن يَعْتَرِفَ بمُضِيِّ مُدَّةٍ بعدَ الوَطْءِ يُمْكِنُ أن تَلِدَه فيها. فحِينَئِذٍ لا يُلْتَفَتُ إلى إنْكارِه، ويكونُ القولُ قولَ الرَّاهِنِ بغيرِ يَمِين؛ لأنَّنا لم نُلْحِقْه به بدَعْواه، بل بالشَّرْعِ. فإن أنْكَرَ شَرْطًا مِن هذه الشُّرُوطِ، فقال: لم آذَنْ. أو قال: أذِنْتُ فما (¬1) وُطِئَتْ. أو قال: لم تَمْضِ مُدَّةٌ تَضَعُ فيها الحَمْلَ منذُ وُطِئَتْ. أو قال: ليس هذا وَلَدَها، إنَّما اسْتعارَتْه. فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك كلِّه، وبَقاءُ الوَثِيقَةِ صَحِيحَةً حتَّى تَقُومَ البَيَنةُ. وهذا مَذْهَبُ الشَّافعيِّ. فصل: ولو أذِنَ في ضَرْبِها، فضَرَبَها، فتَلِفَتْ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ ذلك تَوَلَّدَ مِن المَأذُونِ فيه، فهو كتَوَلُّدِ الإِحْبالِ مِن الوَطْءِ. فصل: وإذا أقَرَّ الرَّاهِنُ بالوَطْءِ لم يَخْلُ مِن ثَلاثةِ أحْوال؛ أحَدُها، أن يُقِرَّ به حال العَقْدِ، أو قَبْلَ لُزُومِه، فحُكمُ هذين واحِد، ولا يَمْنَعُ (¬2) صِحَّةَ الرَّهْنِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الحَمْلِ، فإن بانَتْ حائِلًا (¬3)، أو حامِلًا ¬

(¬1) في الأصل، ر 1: «فيما». (¬2) بعده في م: «ذلك». (¬3) الحائل: غير الحامل.

1789 - مسألة: (وإن أذن له المرتهن في بيع الرهن، أو هبته، أو نحو ذلك، صح، وبطل الرهن، إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل

وَإنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لَهُ فِي بَيعِ الرَّهْنِ، أوْ هِبَتِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ، فَفَعَلَ، صَحَّ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ، إلا أن يَأذَنَ لَهُ فِي بَيعِهِ بِشَرْطِ أن ـــــــــــــــــــــــــــــ بوَلَدٍ لا يَلْحَقُ بالرَّاهِنِ، فالرَّهْنُ بحالِه، وكذلك إن كان يلحَقُ به، لكنْ لا تَصِيرُ به أمَّ وَلَدٍ، مثلَ أن وَطِئَها وهي زَوْجَتُه، ثم مَلَكَها ورَهَنَها. وإن بانَتْ حامِلًا بما تَصِيرُ به أمَّ وَلَدٍ، بَطَل الرَّهْنُ، ولا خِيارَ للمُرْتَهِنِ، وإن كان مَشْرُوطًا في بَيع؛ لأنَّه دَخَل مع العِلْمِ بأنها قد لا تَكُونُ رَهْنًا، فإذا خَرَجَتْ مِن الرَّهْنِ بذلك السَّبَبِ الذي عَلِمَه، لم يَكُنْ له خِيارٌ، كالمَرِيضِ إذا ماتَ، والجانِي إذا اقْتُصَّ منه. وهذا قولُ أكثرَ الشافعيَّةِ. وقال بَعْضُهم: له الخِيارُ؛ لأنَّ الوَطْءَ بنَفْسِه لا يُثْبِتُ الخِيارَ، فلم يَكُنْ رِضَاهُ به رِضًا بالحَمْلِ الذي يَحْدُثُ منه، بخِلافِ الجِنايَةِ والمَرَضِ. ولَنا، أنَّ إذنه في الوَطْءِ إذْن فيما يَئُولُ إليه، كذلك رِضاه به رِضًا بما يَئُولُ إليه. الحالُ الثَّالثُ، أقَرَّ بالوَطْءِ بعد لُزُومِ الرَّهْنِ، فإنَّه يُقْبَلُ في حَقِّه، ولا يُقْبَلُ في حَق المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّه أقَرَّ بما يَفْسَخُ عَقْدًا لازِمًا لغيرِه، فلم يُقْبَلْ، كما لو أقَرَّ بذلك بعد بَيعها. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ؛ لأنَّه أقَرَّ في مِلْكِه بما لا تُهْمَةَ فيه، لأنَّه يَسْتَضِرُّ مِن ذلك أكثرً مِن نَفْعِه بخُرُوجِها مِن الرَّهْنِ. والأولُ أصَحُّ؛ لأنَّ إقْرارَ الإِنْسانِ على غيرِه لا يُقْبَلُ. 1789 - مسألة: (وإنْ أذِنَ له المُرْتَهنُ في بَيعِ الرَّهْنِ، أو هِبَتِه، أو نحو ذلك، صَحَّ، وبَطَل الرَّهْنُ، إلَّا أن يَأذَنَ له في بَيعِه بشَرْطِ أن يَجْعَلَ

يَجْعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، أَوْ يُعَجِّلَ دَينَهُ كانْ ثَمَنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَنَه رَهْنًا، أو يُعَجِّلَ دَينَه من ثَمَنِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى أذِنَ المُرْتَهِنُ للرَّاهِنَ في بَيعِ الرَّهْنِ، أو هِبَتِه، أو وَقْفِه، ففَعَلَ، صحَّ؛ لأنَّ المَنْعَ كان لِحَقِّه، فجاز بإذْنِه، ويَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ لأنَّ هذا تَصَرُّف يُنافِي الرَّهْنَ، فلا يَجْتَمِعُ مع ما يُنافِيهِ، إلَّا البَيعَ، فله ثَلاثَةُ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يَأذَنَ له في بَيعِه بعدَ حُلُولِ الحَقِّ، فيَصِحُّ، ويَتَعَلَّقُ حَقُّ المُرْتَّهِنِ بثَمَنِه، ويَجِبُ قَضاءُ الدَّين منه؛ لأنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ بَيعُه واسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه. الثاني، أن يَأَذَنَ له قبلَ حُلُولِه مُطْلَقًا، فيَبيعُه، فيَبْطُلُ الرَّهْنُ، ولا يَكُونُ عليه عِوَضُه؛ لأنَّه أذِنَ له فيما يُنافِي حَقَّهُ، فأشْبَهَ ما لو أذِنَ في عِتْقِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمالِكِ أخْذُ ثَمَنِه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: يَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا؛ لأنَّ الرَّاهِنَ باع الرَّهْنَ بإذْنِ المُرْتَّهِنِ، فوَجَبَ أن يَثْبُتَ حَقُّه فيه، كما لو حَلَّ الدَّينُ. قال الطَّحاويُّ (¬1): حَقُّ المُرْتَّهِنِ يَتَعَلَّقُ بعَينِ الرَّهْنِ، والثَّمَنُ بَدَلُه، فوَجَبَ أن يَتَعَلَّقَ به، كما لو أتْلَفَه متلف. ولَنا، أنَّه تَصَرُّف يُبْطِلُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ مِن عَينِ الرَّهْنِ، لا يَمْلِكُه المُرْتَهِنُ، فإذا أذِن فيه، أسْقَطَ حَقَّه، كالعِتْقِ. [ويُخالِفُ] (¬2) ما بعدَ الحُلُولِ؛ لأنَّ ¬

(¬1) انظر: شرح معاني الآثار 4/ 104، 105. (¬2) في الأصل: «بخلاف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ البَيعَ. ويُخالف الإِتْلافَ؛ لأنَّه غيرُ مَأذُونٍ فيه مِن جِهَةِ المُرْتَّهِنِ. فإن قال: إنَّما أرَدْتُ بإطْلاقِ الإِذْنِ أن يَكُونَ ثَمَنُه رَهْنًا. لم يُقْبَلْ قَوْلُه؛ لأنَّ إطْلاقَ الإِذْنِ يَقْتَضِي بَيعًا يَفْسَخُ الرَّهْنَ. وبهذا قال الشافعيّ. الثَّالثُ، أن يَأذَنَ فيه بشَرْطِ أن يَجْعَلَ ثَمَنَه رَهْنًا مَكانَه، أو يُعَجِّلَ له دَينَه مِن ثَمَنِه، فيَجُوزُ، ويَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّه لو شَرَط ذلك بعدَ حُلُولِ الحَقِّ، جاز، فكذلك قبلَه. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فالقولُ قولُ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّه مُنْكِر. وإنْ أقَرَّ بالإِذْنِ، واخْتَلَفَا في شَرْطِ جَعْلِ ثَمَنِه رَهْنًا، أو تَعْجيلِ دَينه منه، فالقولُ قولُ الرَّاهِنِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الشَّرْطِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُقَدَّمَ قولُ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الوَثِيقَةِ.

1790 - مسألة: (ونماء الرهن، وكسبه، وأرش الجناية عليه، من الرهن)

وَنَمَاءُ الرَّهنِ، وَكَسْبُهُ، وَأرْش الْجِنَايَةِ عَلَيهِ، مِنَ الرَّهْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1790 - مسألة: (ونَماءُ الرَّهْنِ، وكَسْبُه، وأرْشُ الجنايَةِ عليه، مِن الرَّهْنِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ نَماءَ الرَّهْنِ جَمِيعَه وغَلَّاته تَكُونُ رَهْنًا في يَدِ مَن الرَّهْنُ في يَدِه، كالأصلِ. وإذا احْتِيجَ إلى بَيعِه في وَفاءِ الدَّينِ بِيعَ مع الأصْلِ، وسَواءٌ في ذلك المُتَّصِلُ؛ كالسِّمَنِ، والتَّعَلُّمِ، والمُنْفَصِلُ؛ كالكَسْبِ، والأجْرَةِ، والوَلَدِ، والثَّمَرِ، واللَّبَنِ، والصُّوفِ، والشَّعَرِ. وبنحو هذا قال النَّخَعِيُّ، والشَّعْبِي. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأي: يَبِيعُ (1) النماءَ، ولا يَبِيعُ (¬1) الكَسْبَ؛ [لأنَّ الكَسْبَ] (¬2) لا يَتْبَعُ (¬3) في حُكْمِ الكِتابَةِ والاسْتِيلادِ والتَّدْبِيرِ، فلا يَتْبَعُ في الرَّهْنِ، كإعْتاقِ مالِ الرَّاهِنِ. وقال مالكٍ: يَتْبَعُ الوَلَدُ في الرَّهْنِ خاصَّةً دُونَ سائِرِ النماءِ؛ لأن الوَلَدَ يَتْبَعُ الأصْلَ في الحُقُوقِ الثَّابِتَةِ، كوَلَدِ أم الوَلَدِ. وقال الشَّافعي، وأبو ثَوْر، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَدْخُلُ في الرَّهْنِ شيءٌ مِن النَّماءِ المُنْفَصِلِ، ولا مِن الكَسْبِ؛ لأنَّه حَق تَعَلَّقَ بالأصْلِ، يُسْتَوْفَى مِن ثَمَنه، فلا يَسْرِي إلى غيرِه، كحَقِّ جِنايَته. حتَّى قال الشافعيُّ: لو رَهَنَه ماشِيَةً مخاضًا، فنُتِجَتْ، فالنِّتاجُ لا يَدْخُلُ في الرَّهْنِ. وخالفَه أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، واحْتَجُّوا بقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِه، لهُ غُنْمُهُ، وعَلَيه غُرْمُه» (¬4). [والنَّماءُ غُنْمٌ، فيَكُونُ للرَّاهِنِ. ولأنَّها عَين مِن أعْيانِ مِلْكِ الرَّاهِنِ، لم يَعْقِدْ عليها عَقْدَ رَهْن، فلم تَكُن] (¬5) رَهْنًا، كسائرِ مالِه. ولَنا، أنَّه حُكْم يَثْبُتُ في العَينِ بعَقْدِ المالِكِ (¬6)، فيَدْخُلُ فيه النَّماءُ والمَنافِعُ، كالمِلْكِ بالبَيعِ وغيرِه، ولأن ¬

(¬1) في م: «يتبع». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «يباع». (¬4) أخرجه الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 33. (¬5) في م: «وإنَّما يكون». (¬6) في م: «المال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّماءَ حادِثٌ مِن عينِ (¬1) الرَّهْنِ، فيَدْخُلُ فيه، كالمُتَّصِلِ، ولأنَّه حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ في الأمِّ، ثَبَت برِضَا المالِك، فسَرَى إلى الوَلَدِ، كالتَّدْبِيرِ والاسْتِيلادِ. ولَنا على مالك، أنَّه نَماءٌ حادثٌ مِن عَينِ (¬2) الرَّهْنِ، فسَرَى إليه حُكْمُ الرَّهْنِ، كالولَدِ. وعلى أبي حنيفةَ، أَنَّه عَقْدٌ يَسْتَتْبعُ النَّماءَ، فاسْتَتبعَ الكَسْبَ، كالشِّراءِ. وأمّا الحَدِيثُ، فنَقُولُ به، وأنَّ غُنْمَه وكَسْبَه وَنَماءَه للرَّاهِنِ، لكنْ يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الرَّهْنِ (¬3)، كالأصْلِ. والفَرْقُ بَينَه وبينَ سائِرِ مالِ الرَّاهِنِ، أنَّه [بَيعٌ، فيَثْبُت] (¬4) له حُكْمُ أصْلِه. وأمّا حَقُّ الجِنايَةِ، فإنَّه ثَبَت بغَيرِ رِضَا المالِك، فلم يَتَعَدَّ ما ثَبَت فيه؛ لأنَّه جَزاءُ عُدْوانٍ، فاخْتَصَّ الجانِيَ، كالقِصاصِ، ولأنَّ السِّرايَةَ في الرَّهْنِ لا تُفْضِي إلى اسْتِيفاءِ أكثر مِن دَينه، فلا يَكْثُرُ الضَّرَرُ فيه. فأمَّا أرْش الجِنايَةِ على الرَّهْنِ، فيَتَعَلَّقُ بها حَقُّ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّها بَدَلُ جُزْءٍ منه، فكانت مِن الرَّهْنِ، كقِيمَتِه إذا أتْلَفَه إنْسانٌ. وهذا قولُ الشَّافعيِّ وغَيرِه. فصل: إذا ارْتَهَن أرْضًا أو دارًا أو غَيرَهما، تَبِعَه في الرَّهْنِ ما يَتْبَعُ في ¬

(¬1) في الأصل، م: «غير». (¬2) في م: «غير». (¬3) في الأصل: «الرَّاهن». (¬4) في م: «تبع فثبت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيعِ، فإن كان في الأرْضِ شَجَرٌ، فقال: رَهَنْتُكَ هذه الأرْضَ بحُقُوقِها. أو ذَكَر ما يَدُلُّ على أنَّ الشَّجَرَ في الرَّهْنِ، دَخَل، وإن لم يَذْكُرْ ذلك، فهل يَدْخُلُ في الرَّهْنِ؟ على وَجْهَين، بناءً على دُخُولِه في البَيعِ. وإن رَهَنَه شَجَرًا مُثْمِرًا وفيه ثَمَرَة ظاهِرَة، لم تَدْخُلْ في الرَّهْنِ، كما لا تَدْخُلُ في البَيعِ، وإن لم تَكُنْ ظاهِرَةً، دَخَلَتْ. وقال الشَّافعي: لا تَدْخُلُ بحالٍ (¬1). وقال أبو حنيفةَ: تَدْخُلُ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ الرَّهْنَ عندَه لا (¬2) يَصِحُّ على الأصْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وقد قَصَد إلى عَقْدٍ صَحِيح، فتَدْخلُ الثَّمَرَةُ ضَرُورَةَ الصِّحَّةِ. ولَنا، أنَّ الثَّمَرَةَ المُؤَبَّرَةَ لا تَدْخُلُ في البَيعِ، مع قُوَّتِه وإزالتِه لملك البائعِ، فالرَّهْنُ مع ضَعْفِه أوْلَى، وعلى الشَّافعيِّ، أنَّه عَقْدٌ على الشَّجَرِ، فاسْتَتْبَعَ الثَّمَرَةَ غيرَ المُؤَبَّرَةِ، كالبَيعِ. ويَدْخُلُ في الرَّهْنِ الصُّوفُ واللَّبَنُ المَوْجُودانِ كما يَدْخُلُ في البيع، وكذك الحَمْلُ وسائِرُ ما يَتْبَعُ في البَيعَ؛ لأنَّه عَقْدٌ وارِدٌ على العَينَ، فدَخَلَتْ فيه هذه التَّوابع، كالبَيعِ. ولو كان الرَّهْنُ دارًا، فخَرِبَت، كانت أنْقاضُها رَهْنًا مَعَها؛ لأنَّها مِن أجْزائِها، وقد كانت مَرْهُونَةً قبلَ خَرابِها. ولو رَهَنَه أرْضًا، فنَبَتَ فيهِا شَجَرٌ، فهو مِن الرَّهْنِ، سَواءٌ نَبَت بفِعْلِ الرَّاهِنِ، أو بغَيرِ فِعْلِه؛ لأنَّه مِن نَمائِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

1791 - مسألة: (ومؤنته على الراهن، وكفنه إن مات، وأجرة مخزنه إن كان مخزونا)

وَمُؤنَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وكَفَنُهُ إِنْ مَاتَ، وَأُجْرَةُ مَخْزَنِهِ إِنْ كَانَ مَخزُونًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1791 - مسألة: (ومُؤْنته على الرَّاهِنِ، وكَفَنُه إن مات، وأُجْرَةُ مَخْزَنِه إن كان مَخْزُونًا) مُؤْنَةُ الرَّهْنِ في (¬1) طَعَامِه، وكُسْوَتِه، ومَسْكَنِه، وحافِظِه، وحِرْزِه، ومَخزَنِه، وغيرِ ذلك، على الرّاهِنِ. وبهذا قال مالكٌ، والشّافعيّ، والعَنْبَرِيّ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: أُجْرَةُ المَسْكَنِ والحافِظِ على المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّه مِن مُؤْنَةِ إمْساكِه وارْتِهانِه. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِه، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيه غُرْمُه». رَواه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬2)، وقال: إسْناد جَيِّدٌ (¬3) مُتَّصِلٌ. ولأنَّه نَوْعُ إنْفاقٍ، فكان على الرَّاهِنِ، كالطَّعامِ، ولأنَّ الرَّهْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، فكان عليه مَسْكَنُه وحافِظُه، كغيرِ الرَّهْنِ. وإن أبقَ العَبْدُ، فأجرُ مَن يَرُدُّه على الرَّاهِنِ. وقال أبو حنيفةَ: يَكُونُ بقَدْرِ الأمانَةِ على الرَّاهِنِ، وبقَدْرِ الضَّمانِ على المُرْتَّهِنِ. وإنِ احْتِيجَ إلى مُداواتِه لمَرَض أو جُرْحٍ، فذلك على الرّاهِن. وعند أبي حنيفةَ، هو كأجْرِ مَن يَرُدُّه مِن إباقِه. وبَنَى ذلك على أصْلِه في أنَّ يَدَ المُرْتَّهِنِ يَدُ ضَمانٍ بقَدْرِ دَينه فيه، وما زاد فهو أمانَة عندَه. ويأتِي الكَلامُ على ذلك فيما بعدُ. فإن مات العَبْدُ، كانت مُؤْنَةُ ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) تقدم تخريجه في 428. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجْهيزِه وتَكْفينه ودَفْنِه على الرَّاهِنِ؛ لأنَّ ذلك تابعٌ لمُؤْنَتِه، فإنَّ كلَّ مَن لَزِمَتْه مُؤْنَةُ شَخْص في حَياتِه لا في مُقابَلَةِ نَفْعٍ، كانت مُؤْنَةُ تَجْهيزِه ودَفنِه عليه، كسائِرِ العَبِيدِ والإِماءِ والأقارِبِ مِن الأحْرارِ. فصل: وإن كان الرَّهْنُ ثَمَرةً، فاحْتاجَتْ إلى سَقْيٍ وتَسْويَةٍ وجِذاذٍ، فذلك على الرَّاهِنِ. وإنِ احْتاجَتْ إلى تَجْفِيفٍ، والحَقُّ مُؤَجَّلٌ، فعليه التَّجْفِيفُ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى أن يَسْتَبْقِيَهَا رَهْنًا حتَّى يَحِلَّ الحَقُّ، وإن كان حالًّا، بِيعَتْ، ولم يَحْتَجْ إلى تَجْفِيفِها. فإنِ اتَّفَقا على بَيعِها وجَعْلِ ثَمَنِها رَهْنًا بالحَقِّ المُؤَجَّلِ، جازَ. وإنِ اخْتَلَفَا، قُدِّمَ قولُ مَن يَسْتَبْقِيها بعَينها؛ لأنَّ العَقْدَ يَقْتَضِي ذلك، إلَّا أن يَكُونَ مِمّا تَقِلُّ قِيمَتُه بالتَّجْفِيف وقد جَرَتِ العادَةُ بِبَيعِه رَطْبًا، فيُباعُ، ويُجْعَلُ ثَمَنُه رَهْنًا. وإنِ اتَّفَقا على قَطْعِ الثَّمَرَةِ في وَقْتٍ، جازَ، سواء كان الحَقُّ حالًا أو مُؤَجَّلًا، أو كان الأصْلَحُ القَطْعَ أو التَّرْكَ؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما. وإنِ اخْتَلَفا، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب الأصْلَحَ، إن كان ذلك قبلَ حُلُولِ الحَقِّ، وإن كان الحَقُّ حالًّا، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب القَطْعَ؛ لأنَّه إن كان المُرْتَهِنَ، فهو طالِبٌ لاسْتِيفاءِ حَقِّه الحالِّ، فلَزِمَ إجابَتُه، وإن كان الرَّاهِنَ، فهو يَطْلُبُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِه، وتَخْلِيصَ عَينِ مِلْكِه مِن الرَّهْنِ، والقَطْعُ أحْوَطُ، مِن جهَةِ أنَّ في تَبْقِيَته غَرَرًا. ذَكَر القاضِي هذا في المُفْلِسِ. وهو قولُ أكْثَرِ أصحابِ الشَّافعيِّ، وهذا في مَعْناه. ويَحْتَمِلُ أن يُنْظَرَ في الثَّمَرَةِ، فإن كانت تَنْقُصُ بالقَطْعِ نَقْصًا كثيرًا، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِن قَطْعِها؛ وإن ذلك إتْلافٌ، فلا يُجْبَرُ عليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لا يُجْبَرُ على نَقْضِ دارِه لِيَبِيِعَ أنْقاضَها، ولا على ذَبْحِ فَرَسِه ليَبِيعَ لَحْمَها. وإن كانتِ الثَّمَرَةُ مَمّا لا يُنْتَفعُ بها قبلَ كَمالِها، لم يَجُزْ قَطْعُها قبلَه، ولم يُجْبَرْ عليه بحالٍ؛ لما فيه مِن إضاعَةِ المالِ. واللهُ أعلمُ. فصل: فإن كان الرَّهْنُ ماشِيَةً تَحْتَاجُ إلى إطْراقِ الفَحْلِ، لم يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عليه؛ لأنَّه ليس عليه ما يَتَضَمَّنُ زِيادَةً في الرَّهْنِ، وليس ذلك مِمّا يُحْتاجُ إليه لبَقائِها، ولا يُمْنَعُ مِن ذلك؛ لكَوْنِه زِيادَةً لهما، لا ضَرَرَ على المُرْتَّهِنِ فيه. وإنِ احْتاجَتْ إلى رَعْيٍ، فعلى الرَّاهِنِ أن يُقِيمَ لها راعِيًا؛ لأنَّ ذلك يَجْرِي مَجْرَى عَلْفِها، فإن أرادَ الرَّاهِنُ السَّفَرَ بها ليَرْعاها في مكانٍ آخرَ، وكان لها في مَكانِها مَرْعًى تَتَماسَكُ به، فللمُرْتَهِنِ مَنْعُه؛ لأنَّ في السَّفَرِ بها إخْراجَها عن نَظرَه ويَدِه. وإن أجْدَبَ مَكانُها فلم تَجِدْ ما تَتَماسَكُ به، فللرّاهِنِ السَّفَرُ بها؛ لأنَّها تَهْلِكُ إذا لم يُسافِرْ بها، إلَّا أنَّها تَكُونُ في يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيانِ به، أو يَنْصِبُه الحاكِمُ، ولا يَنْفَرِدُ الرَّاهِنُ بها، فإنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِن السَّفَرِ بها، فللمُرْتَهِنِ نَقْلها؛ لأنَّ في بَقائِها هَلاكَها، وضَياعَ حَقِّه مِن الرَّهْنِ. وإن أرادا جَمِيعًا السَّفَرَ بها، واخْتَلَفَا في مَكانِها، قَدَّمْنا قولَ مَن يُعَيِّنُ الأصْلَحَ، فإنِ اسْتَوَيا قُدِّمَ قَوْلُ المُرْتَّهِنِ. وعندَ الشَّافعيِّ، يُقَدَّمُ قولُ الرَّاهِنِ وإن كان الأصْلَحُ غيرَه؛ لأنَّه أمْلَكُ بها، إلَّا أنَّه يَكُونُ مَأواها إلى يَدِ عَدْلٍ. ولَنا، أنَّ اليَدَ للمُرْتَهِنِ، فكان أوْلَى، كما لو كانا في بَلَدٍ واحِدٍ. وأيُّهما أراد نَقْلَها عن البَلَدِ مع خِصْبِه، لم يَكُنْ له، سَواءٌ أرادَ نَقْلَها إلى مِثْلِه، أو أخْصَبَ منه، إذْ لا مَعْنَى للمُسافَرَةِ بالرَّهْنِ مع إمْكانِ تَرْكِ السَّفَرِ به. وإنِ اتَّفَقا على نَقْلِها، جاز، سواءٌ كان أنْفَعَ لها أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما. فصل: وإن كان عَبْدًا يَحْتاجُ إلى خِتانٍ، والدَّينُ حالٌّ، أو أجَلُه قبلَ بُرْئِه، مُنِعَ منه؛ لأنَّه يَنْقُصُ ثَمَنَه، وفيه ضَرَرٌ، وإن كان يَبْرأ قبلَ مَحِلِّ الحَقِّ، والزَّمانُ مُعْتَدِلٌ لا يخَافُ عليه فيه، فله ذلك؛ لأنَّه مِن الواجِباتِ، ويَزيدُ في الثَّمَنِ، ولا يَضُرُّ بالمُرْتَهِنِ، ومُؤْنَةُ خِتانِه على الرَّاهِنِ. وإن مَرِضَ، فاحْتاج إلى دَواءٍ، لم يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عليه؛ لأنَّه لا يَتَحَقَّقُ أنَّه سَبَبٌ لبَقائِه، وقد يَبْرَأ بغَيرِ علاج، بخِلافِ النَّفَقَةِ. وإن أرادَ الرَّاهِنُ مُداواتَه بما لا ضَرَر فيه، لم يُمْنَعْ منه؛ لأنَّه مَصْلَحَة لهما مِن غيرِ ضَرَر بواحِدٍ منهما. فإن كان الدَّواءُ مِمّا يُخافُ غائِلَتُه، كالسُّمُومِ، فللمُرْتَهِنِ مَنْعُه منه؛ لأنَّه لا يَأمَنُ تَلَفَه. وإنِ احْتاجَ إلى فَصْدٍ، أو احْتاجَتِ الدَّابَّةُ إلى تَوْدِيج؛ ومَعْناهُ فَتْحُ الوَدَجَين لِيَسِيلَ الدَّمُ، وهما عِرْقانِ غَلِيظانِ مِن جانِبَيْ ثَغْرَةِ النَّحْرِ، أو تبْزِيغٍ؛ وهو فَتْحُ الرَّهْصَةِ (¬1)، فللرّاهِنِ فِعْلُ ذلك، ما لم يَخَفْ منه ضَرَرًا. وإنِ احْتِيجَ إلى قَطْعِ شيءٍ مِن بَدَنِه بدواءٍ لا يُخافُ مِنه، جازَ. وإن خِيف منه، فأيُّهما امْتَنَعَ منه، لم يُجْبَرْ. وإن كانت به آكِلَةٌ (¬2) كان له قَطْعُها؛ لأنَّه يُخافُ مِن تَرْكِها لا مِن قَطْعِها. وإن كان به خَبِيثَةٌ، فقال أهْلُ الخِبْرَةِ: الأحْوَطُ قَطْعُها، وهو أنْفَعُ مِن بَقائِها. فللرّاهِنِ قَطْعُها، وإلَّا فَلَا. وإن تَساوَى الخَوْفُ عليه في الحالينِ، لم يَكُنْ له قَطْعُها؛ لأنَّه يُحْدِثُ جُرْحًا فيه لم يَتَرَجَّحْ إحْداثُه. وإن كانت به ¬

(¬1) الرهصة: أن يصيب باطن حافر الدابة شيء يوهنه، أو ينزل فيه الماء من الإعياء. (¬2) الآكلة: الحِكة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِلْعَةٌ (¬1)، أو إصْبَعٌ زائِدَةٌ، لم يَمْلِكِ الرَّاهِنُ قَطْعَها؛ لأنَّ قَطْعَها يُخافُ منه، وتَرْكَها لا يُخافُ منه. وإن كانتِ الماشِيَةُ جَرِبَةً، فأرادَ الرَّاهنُ دَهْنَها بما يُرْجَى نَفْعُه ولا يُخافُ ضَرَرُه، كالقَطِرانِ والزَّيتِ اليَسِيرِ، لم يُمْنَعْ. وإن خِيفَ ضَرَرُه، كالكثيرِ (¬2)، فللمُرْتَهِنِ مَنْعُه. وقال القاضِي: له ذلك بغيرِ إذْنِ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّ له مُعالجَةَ مِلْكِه، وإنِ امْتَنَعَ مِن ذلك، لم يُجْبَرْ عليه. ولو أرادَ المُرْتَهِنُ مُداواتَها بما يَنْفَعُها ولا يُخْشى ضَرَرُه، لم يُمْنَعْ؛ لأنَّ فيه إصْلاحَ حَقِّه بما لا يَضُرُّ [به غيرَه] (¬3). وإن خِيفَ منه الضَّرَرُ، لم يُمكَّنْ منه؛ لأنَّ فيه خَطَرًا بحَقِّ غيره. فصل: فإن كان الرَّهْنُ نَخْلًا، فاحْتاجَ إلى تَأبِيرٍ، فهو على الرَّاهِنِ، وليس للمُرْتَهِنِ مَنْعُه منه؛ لأنَّ فيه مَصْلَحَةً بغيرِ مَضَرَّةٍ، وما يَسْقُطُ مِن لِيفٍ أو سَعَفٍ أو عَراجِينَ، فهو مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّه مِن أجْزائه، أو مِن نَمائِه. وقال أصحابُ الشَّافعيِّ: ليس مِن الرَّهْنِ. بِناءً منهم على أنَّ نَماءَ الرَّهْنِ ليس منه. ولا يَصِحُّ ذلك ها هنا، لأنَّ السَّعَفَ مِن جُمْلَةِ الأعْيانِ التي وَرَد عليها عَقْدُ الرَّهْنِ، فكانت منه، كالأصُولِ وأنْقاضِ الدَّارِ. وإن كان الرَّهْنُ كَرْمًا فله زِبارُه (¬4)؛ لأنَّه لِمَصْلَحَتِه، ولا ضَرَر فيه. والزَّرَجُونُ (¬5) مِن الرَّهْنِ. وإن كان الشَّجَرُ مُزْدَحِمًا، وفي قَطْعِ بَعْضِه ¬

(¬1) السلعة: كالغدة في الجسم. (¬2) في الأصل: «كالكبريت». (¬3) في م: «بغيره». (¬4) الزبار: تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة بمنجل ونحوه. (¬5) الزرجون: قضبان الكرم التي تسقط عند تخفيفه.

1792 - مسألة: (وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف بغير تعد منه، فلا شيء عليه، ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه)

وَهُوَ أمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، إِنْ تَلِفَ بِغَيرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ دَينهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَلاحٌ لِما يَبْقَى، فله ذلك. وإن أرادَ تَحْويلَه كلَّه، لم يَمْلِكْ ذلك. وإن قِيلَ: هو الأوْلَى. لأنَّه قد لا يَعْلَقُ، فيَفُوتَ الرَّهْنُ. وإنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِن فِعْلِ هذا كلِّه، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه فِعْلُ ما فيه زِيادَةُ الرَّهْنِ. فصل: وكلُّ زِيادَةٍ تَلْزَمُ الرّاهِنَ، إذا امْتَنَعَ منها أجْبَرَه الحاكِمُ عليها، فإن لم يَفْعَل، اكْتَرَى الحاكِمُ مِن مالِه، فإن لم يَكُنْ له مالٌ، اكْتَرَى مِن الرَّهْنِ. فإن بَذَلَها المُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعًا، لم يَرْجِعْ بشيءٍ. وإن كان بإذنِ الرَّاهِنِ مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ، رَجَع. فإن أنْفَقَ بإذْنِ الرَّاهِنِ؛ ليَكُونَ الرَّهْنُ رَهْنًا بالنَّفَقَةِ والدَّينِ الأوَّلِ، لم يَصِحَّ، ولم يَصِبرْ رَهْنًا بالنَّفَقَةِ؛ لِما ذَكَرْنَا. وإن قال الرَّاهِنُ: أنْفَقْتَ مُتَبَرِّعًا. وقال المُرْتَهِنُ: بل أنْفَقْت مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ. فالقَوْلُ قولُ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّ الخِلافَ في نِيَّته، وهو أعْلمُ بها، وعليه اليَمِينُ؛ لأنَّ ما قاله الرَّاهِنُ مُحْتَمِلٌ. وكلُّ مُؤْنَةٍ لا تَلْزَمُ الرّاهِنَ، كَنَفَقَةِ المُداوَاةِ والتَّأبيرِ وأشْباهِهما، لا يَرْجِعُ بها المُرْتَهِنُ إذا أنْفَقَها، سواء أنْفَقَها مُحْتَسِبًا أَو مُتَبَرِّعًا. 1792 - مسألة: (وهو أمانَةٌ في يَدِ المُرْتَّهِنِ، إن تَلِف بغَيرِ تَعَدٍّ منه، فلا شيءَ عليه، ولا يَسْقُطُ بهَلاكِه شيءٌ مِن دَينِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الرَّهْنَ إذا تَلِف في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فإن كان تَلَفُه بتَعَدٍّ أو تَفْرِيطٍ في حِفْظِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمِنَه. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّه أمانَةٌ في يَدِه، فلَزِمَه ضَمانُه إذا تَلِف بتَعَدِّيه أو تَفْرِيطِه، كالوَدِيعةِ. فأمَّا إن تَلِف مِن غيرِ تَعَدٍّ منه ولا تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه، وهو مِن مالِ الرَّاهِنِ. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال عطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشّافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَ عن شُرَيحٍ، والنَّخَعِيِّ، والحَسَنِ، أنَّ الرَّهْنَ يُضْمَنُ بجَمِيعِ الدَّينِ، وإن كان أكثَرَ مِن قِيمتِه؛ لأنَّه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» (¬1). وقال مالكٌ: إن كان تَلَفُه بأمْرٍ ظاهِر، كالمَوْتِ والحَرِيقِ، فمِن ضَمانِ الرَّاهِنِ، وإنِ ادَّعَى تَلَفَه بأمْرٍ خَفِيٍّ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه، ويَضْمَنُ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: يَضْمَنُه المُرْتَهِنُ بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه، أو قَدْرِ الدَّينِ. ويُرْوَى ذلك عنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِما رَوَى عَطاءٌ، أنَّ رَجُلًا رَهَن فَرَسًا، فنَفقَ عندَ المُرْتَّهِنِ، فجاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْبَرَه بذلك، فقال: «ذَهَبَ حَقُّك» (¬2). ولأنَّها عَينٌ مَقْبُوضَةٌ للاستيفاءِ، فيَضْمَنُها مَن قَبَضَها؛ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب من قال: الرهن مضمون، من كتاب الرهن. السنن الكبرى 6/ 40. والدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 32. وأبو داود، في مراسيله 135. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب من قال: الرهن مضمون، من كتاب الرهن. السنن الكبرى 6/ 41. وابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يرهن الرجل فيهلك، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 183. وأبو داود في مراسيله 135.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك، أو مَن قَبَضَها نائِبُه، كحَقِيقَة المُسْتَوْفَى. ولأنَّه مَحْبُوسٌ بدَين، فكانَ مَضْمُونًا، كالمَبِيع إذا حُبِسَ لاسْتِيفاءِ ثَمَنِه. ولَنا، ما رَوَى ابنُ أبي ذِئْبٍ (¬1)، عن الزُّهْرِيِّ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِه غُنْمُهُ، وَعَلَيهِ غُرْمُهُ». رَواه الأثْرَمُ، من أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ يونُسَ، عن ابنِ أبي ذِئْب (1). ورَواه الشافعيُّ (¬2)، عن ابنِ أبي فُدَيكٍ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ (1)، ولَفْظُه: «الرَّهْنُ مِن صَاحِبِه الَّذِي رَهَنَهُ». وباقيه سواءٌ. قال: ووَصَلَه ابنُ المُسَيَّبِ، عن أبي هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَه أو مثلَ مَعْناه مِن حَدِيثِ ابنِ أبي أُنَيسَةَ. ولأنَّه وَثِيقَة بالدَّينِ، فلا يُضْمَنُ، كالزِّيادَةِ على قَدْرِ الدَّينِ، ولأنَّه مَقْبُوضٌ بعَقْدٍ واحِدٍ بَعْضُه أمانَة، فكان جَمِيعُه أمانَةً، كالوَدِيعةِ. وعلى مالكٍ، أنَّ ما لا يُضْمَنُ به العَقارُ، لا يُضْمَنُ به الذَّهَبُ، كالوَدِيعةِ. فأمَّا حَدِيثُ عطاءٍ فهو مُرْسَلٌ، وقَوْلُه يُخالِفُه. قال الدَّارَقُطنيُّ: يَرْويه إسْماعِيلُ بنُ أُمَيَّةَ، وكان كَذَّابًا. وقِيل: يَرْويه مُصْعَبُ ¬

(¬1) في م: «ذؤيب». (¬2) ترتيب مسند الشَّافعي 2/ 163، 164.

1793 - مسألة: (وإن تلف بعضه، فباقيه رهن بجميع الدين)

وَإن تَلِفَ بَعْضُهُ، فَبَاقِيهِ رَهْنٌ بِجَمِيع الدَّين. ـــــــــــــــــــــــــــــ بنُ ثابِتٍ، وكان ضَعِيفًا. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ: ذَهَب حَقُّكَ مِن الوَثِيقَةِ؛ بدَلِيلِ أَنَّه لم يَسْألْ عن قَدْرِ الدَّينِ وقِيمَةِ الرَّهْنِ. والحَدِيث الآخَرُ إن صَحَّ، فيَحْتَمِلُ أنَّه مَحْبُوسٌ بما فيه، وأمّا المُسْتَوْفَى فإنَّه صار مِلْكًا للمُسْتَوفِي، له نماؤه وغُنْمُه، فكان عليه ضَمَانُه وغُرْمُه، بخِلافِ الرَّهْنِ، والمَبِيعُ قبلَ القَبْضِ مَمْنُوعٌ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه لا يَسْقُطُ بهَلاكِه شيءٌ مِن دَينِه. وهو قولُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ الدَّينَ كان ثابِتًا في ذِمَّةِ الرَّاهِنِ قبلَ التَّلَفِ، ولم يُوجَدْ ما يُسْقِطُه، فبَقِيَ بحالِه. 1793 - مسألة: (وإن تَلِف بَعْضُه، فباقِيه رَهْنٌ بجَمِيعِ الدَّينِ) لأنَّ جَمِيعَه كان رَهْنًا بجَمِيعِ الدَّينِ، فإذا تَلِف البَعْضُ، بَقِيَ البَعْضُ الآخرُ رَهْنًا بجَمِيعِ الدَّينِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ ما كان على ما كان، ولأن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباقِيَ بَعْضُ الجُمْلَةِ، وقد كان الجَمِيعُ رَهْنًا، فيَكُونُ البَعْضُ رَهْنًا؛ لأنَّه مِن الجُمْلَةِ. فصل: وإذا قَضاه حَقَّه، وأبرأه مِن الدَّينِ، بَقِيَ الرَّهْنُ أمانَةً في يدِ المُرْتَّهِنِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قَضاهُ كان مَضْمُونًا، وإذا أبرَأه لم يَكُنْ مَضْمُونًا، اسْتِحْسانًا. وهذا مُناقَضَة؛ لأنَّ القَبْضَ المضْمُونَ منه لم يَزُلْ، ولم يُبْرِئْه منه، وعندَنا أنَّه كان أمانةً، وبَقِيَ على ما كان عليه، وليس عليه رَدُّه؛ لأنَّه أمْسَكَه بإذْنِ مالكِهِ، ولا يَخْتَصُّ بنَفْعِه (¬1)، فهو كالوَدِيعَةِ، بخِلافِ العارِيَّةِ، فإنَّه يَخْتَصُّ بنَفْعِها، وبخِلافِ ما لو أطارَتِ الرِّيحُ إلى دارِه ثَوْبًا، فإنَّه يَلْزَمُه رَدُّه إلى مالِكِه؛ لأنَّ مالِكَه لم يَأذَنْ في إمْساكِه، فأمَّا إنْ طَلَبَه المالكُ في هذه الحالِ، لَزِم مَن هو في يَدِه، مِن المُرْتَّهِنِ أو العَدْلِ، دَفْعُه إليه إذا أمْكَنَه، فإنِ امْتَنَعَ صارَ ضامنًا، كالمُودَعِ إذا امْتَنَعَ مِن رَدِّ الوَدِيعَةِ بعدَ طَلَبِها. فإن كان امْتِناعُه لعُذْرٍ، مثلَ أن يَكُونَ بينَهما طَرِيقٌ مَخُوفٌ، أو بابٌ مُغْلَقٌ لا يُمْكِنُه فَتْحُه، أو خاف فوْتَ جُمُعَةٍ أو جَماعَةٍ، أو فوْتَ وَقْتِ صَلاةٍ، أو كان به مَرَضٌ أو جُوعٌ شَدِيدٌ، ونحوُه، فأخَّرَ التَّسْلِيمَ لذلك، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه لا تَفْرِيطَ منه، أشْبَهَ المُودَعَ. ¬

(¬1) في الأصل، ر، ق: «بنفسه».

1794 - مسألة: (ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين)

وَلَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قَبَض الرَّهْنَ، فوَجَدَه مُسْتَحَقًّا، لَزِمَه رَدُّه على مالِكِه، والرَّهْنُ باطِلٌ مِن أصْلِه. فإن أمْسَكَهُ مع عِلْمِه بالغَصْبِ حتَّى تَلِف في يَدِه، اسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، وللمالكِ تَضْمِينُ أيَّهما شاء، فإن ضَمَّنَ المُرْتَهِنَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لذلك، وإن ضَمَّنَ الرَّاهِنَ، رَجَع عليه. وإن لم يَعْلَمْ بالغَصْبِ حتَّى تَلِف بتَفْرِيطِه [فالحُكْمُ كذلك. وإن تَلِف بغيرِ تَفْرِيطٍ] (¬1)، ففيه ثَلاثَةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يَسْتَقِرُّ الضَّمانُ عليه أيضًا؛ لأنَّ مال الغَيرِ تَلِفَ تحْتَ يَدِه العادِيَةِ، أشْبَهَ ما لو عَلِم. والثَّانِي، لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه قَبَضَه على أنَّه أمانَةٌ مِن غيرِ عِلْمِه، فهو كالوَدِيعةِ. فعلى هذا، يَرْجِعُ المالِكُ على الغاصِبِ لا غيرُ. والثَّالِثُ، للمالِكِ تَضْمِينُ أيُّهما شاء، ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الغاصِبِ، [فإن ضَمَّنَ الغاصِبَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ، وإن ضَمَّنَ المُرْتَهِنَ، رَجَع على الغاصِبِ] (1)؛ لأنَّه غَرَّه، فرَجَعَ عليه، كالمَغْرُورِ بحُرِّيَّةِ أمَةٍ. 1794 - مسألة: (ولا يَنْفَكُّ شيءٌ مِن الرَّهْنِ حتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّينِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ حَقَّ الوَثِيقَةِ يَتَعَلَّقُ بجَمِيعِ الرَّهْنِ، فيَصِيرُ مَحْبُوسًا بكلِّ الحَقِّ، وبكلِّ جُزْءٍ منه، لا يَنْفَكُّ منه شيءٌ حتَّى يَقضِيَ جَمِيع الدَّينِ، سواء كان مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُه أو لا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ ¬

(¬1) سقط من: م.

1795 - مسألة: (وإن رهنه عند رجلين، فوفى أحدهما، انفك في نصيبه)

وَإنْ رَهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَينِ، فَوَفَّى أحدَهُمَا، انْفَكَّ فِي نَصِيبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، على أنَّ مَن رَهَن شيئًا بمالٍ، فأدَّى بَعْضَ المالِ، وأرادَ إخْراجَ بَعْضِ الرَّهْنِ، أنَّ ذلك ليس له، ولا يَخْرُجُ شيءٌ حتَّى يُوَفِّيَهُ آخِرَ حَقِّهِ، أو يُبْرِئَه مِن ذلك. كذلك قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشّافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَة بحَقٍّ، فلا يَزُولُ إلَّا بزَوالِ جَمِيعِه، كالضَّمانِ والشَّهادَةِ. 1795 - مسألة: (وإن رَهَنَه عندَ رَجُلَين، فَوَفَّى أحَدَهما، انْفَكَّ في نَصِيبِه) إذا رَهَن عَينًا عندَ رَجُلَين، فنِصْفُها رَهْنٌ عندَ كلِّ واحِدٍ منهما بدَينِه، فمتى وَفَّى أحَدَهما خَرَجَت حِصَّتُه مِن الرَّهْنِ، لأنَّ عَقْدَ (¬1) الواحِدِ مع الاثْنَين بمَنْزِلَةِ العَقْدَينِ، فكأنَّه رَهَن كلَّ واحِدٍ منهما النِّصْفَ مُنْفَرِدًا. فإن أرادَ مُقاسَمَةَ المُرْتَّهِنِ، وأخْذَ نَصِيبِ مَن وَفَّاه، وكان الرَّهْنُ مِمّا لا تَنْقُصُه القِسْمَةُ، كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ، فله ذلك، وإن كان مِمَّا تَنْقُصُه القِسْمَةُ، لم تَجِبْ قِسْمَتُه؛ لأنَّ على المُرْتَّهِنِ ضَرَرًا فيها، ويُقَرُّ في يَدِ المُرتَهِنِ، بعضُه رَهْنٌ وبعْضُه ودِيعَةٌ. وقال أبو الخَطّابِ، في مَن ¬

(¬1) في الأصل: «العقد».

1796 - مسألة: (وإن رهنه رجلان شيئا، فوفاه أحدهما، انفك في نصيبه)

وَإنْ رَهَنَهُ رَجُلَانِ شَيئًا، فَوَفَّاهُ أحَدُهُمَا، انْفَكَّ في نَصِيبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَهَن عَبْدَه عندَ رَجُلَين، فوَفَّى أحَدَهما: يَبْقَى جَمِيعُه رَهْنًا عندَ الآخَرِ حتَّى يُوَفِّيَه. وكلامُه مَحْمُولٌ على أنَّه ليس للرَّاهِنِ مُقاسَمَةُ المُرْتَّهِنِ؛ لِما عليه مِن الضَّرَرِ، لا بمَعْنَى أنَّ العَينَ كلَّها تَكونُ رَهْنًا، إذ لا يَجُوزُ أن يُقال: إنَّه رَهَن نِصْفَ العَبْدِ عندَ رجل، فصارَ جَمِيعُه رَهْنًا. 1796 - مسألة: (وإن رَهَنَه رجُلان شَيئًا، فوَفَّاه أحَدُهما، انفَكَّ في نَصِيبِه) لِما ذَكَرْنا. وقد قال أحمدُ، في رِوايَةِ مُهَنَّا، في رَجُلَين رَهَنَا دارًا لهما عندَ رجلٍ على ألفٍ، فقَضاه أحَدُهما، ولم يَقْضِ الآخرُ: فالدّارُ رَهْنٌ على ما بَقِيَ. وهذا مِن كلامِ أحمدَ مَحْمُولٌ أيضًا على أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس للرّاهِنِ مُقاسَمَةُ المُرْتَّهِنِ؛ لِما عليه مِن الضَّرَرِ، لا بمَعْنَى أنَّ العَينَ كلَّها تَكُونُ رَهْنًا عن (¬1) الآخَرِ؛ لأنَّه إنَّما رَهَنَه نِصْفَها. فصل: ولو رَهَن اثْنان عَبْدًا لهما عندَ اثْنَين بألْفٍ، فهذه أرْبَعَةُ عُقُودٍ، ويَصِيرُ كلُّ رُبْعٍ مِن العَبْدِ رَهْنًا بمائَتَين وخَمْسِينَ، فمتى قَضاهَا مَن هي عليه، انْفَكَّ مِن الرَّهْنِ ذلك القَدْرُ. ذَكَرَه القاضِي. وهو الصَّحِيحُ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «عند».

1797 - مسألة: (وإذا حل الدين، وامتنع من وفائه، فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيع الرهن، باع ووفى الدين، وإلا رفع الأمر إلى الحاكم، فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم، وقضى دينه)

وَإذَا حَلَّ الدَّينُ، وَامْتَنَعَ مِنْ وَفَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ أذِنَ لِلْمُرْتَهِن أوْ لِلْعَدْلِ فِىِ بَيعِهِ، بَاعَه، وَوَفَّى الدَّينَ، وَإلَّا رَفَعَ الْأمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، فيُجْبِرُهُ عَلَى وَفَاءِ الدَّينِ أَوْ بَيعِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، بَاعَهُ الحَاكِمُ، وَقَضَى دَينَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1797 - مسألة: (وإذا حَلَّ الدَّينُ، وامْتَنَعَ مِن وَفائِه، فإن كان الرَّاهِنُ أذِنَ للمُرْتَهِنِ أو العَدْلِ في بَيعِ الرَّهْنِ، باع ووَفَّى الدَّينَ، وإلَّا رَفَع الأمْرَ إلى الحاكِمِ، فيُجْبِرُه على وَفاءِ الدَّينِ أو بَيعِ الرَّهْنِ، فإن لم يَفْعَلْ باعَه الحاكِمُ، وقَضَى دَينَه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا حَلَّ الدَّينُ، لَزِم الرَّاهِنَ (¬1) الإِيفاءُ؛ لأنَّه دَينٌ حالٌّ، فلَزِمَ إيفاؤه، كالذي لا رَهْنَ به. فإن لم يُوَفِّ، وكان قد أذِنَ للمُرْتَهِنِ أو للعَدْلِ في بَيعِ الرَّهْنِ، باعَه ووَفَّى الحَقَّ مِن ثَمَنِه؛ لأنَّ هذا هو المَقْصُودُ مِن الرَّهْنِ، وقد باعَه بإذْنِ صاحِبِه في قَضاءِ دَينه، فصَحَّ، كما في غيرِ الرَّهْنِ، وما فَضَل مِن ثَمَنِه فهو للمالكِ، وإن فَضَل مِن الدَّينِ شيءٌ فعلى الرَّاهِنِ. وإن لم يَكُنْ أذِنَ لهما في بَيعِه، أو كان قد أذِنَ لهما ثم عَزَلَهما، طُولِبَ بالوفاءِ أو بَيعِ الرَّهْنِ، فإن أبَى، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَل (¬1) الحاكِمُ ما يَرَى؛ مِن حَبْسِه أو تَعْزِيرِه ليَبِيعَه، أو يَبِيعُه الحاكِمُ بنَفْسِه أو نائِبُه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَبِيعُه الحاكِمُ؛ لأنَّ ولايةَ الحاكِمِ على مَن عليه الحَقُّ، لا على مالِه، فلم يَنْفُذْ بَيعُه بغيرِ إذْنِه. ولَنا، أنَّه حَقٌّ تَعَيَّنَ عليه، فإذا امْتَنَعَ مِن أدائِه، قام الحاكِمُ مَقامَه في أدائِه، كالإِيفاءِ مِن جِنْسِ الدَّينِ. وإن وَفَّى الدَّينَ مِن غيرِ الرَّهْنِ، انْفَكَّ الرَّهْنُ. ¬

(¬1) في م: «فعلى».

1798 - مسألة؛ قال الشيخ، رحمه الله: (وإن شرط في الرهن جعله على يد عدل، صح، وقام قبضه مقام قبض المرتهن)

فَصْلٌ: وَإذَا شَرَطَ فِي الرَّهْنِ جَعْلَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، صَحَّ، وَقَامَ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1798 - مسألة؛ قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإن شَرَط في الرَّهْنِ جَعْلَه على يَدِ عَدْلٍ، صَحَّ، وقام قَبْضُه مَقامَ قَبْضِ المُرْتَّهِنِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُتَراهِنَيْن إذا شَرَطَا كَوْنَ الرَّهْنِ على يَدَيْ رَجُل رَضِياه، واتَّفَقا عليه، جاز، وكان وكِيلًا للمُرْتَهِنِ نائِبًا عنه في القَبْضِ، فمَتَى قَبَضَه، صَحَّ قَبْضُه، وقام مَقامَ قَبْضِ المُرْتَّهِنِ، في قولِ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ منهم عَطاءٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ المُبارَكِ، والشّافعيّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الحَكَمُ، والحارثُ العُكْلِيُّ، وقَتادَةُ، وابنُ أبي لَيلَى: لا يَكُونُ مَقْبُوضًا بذلك؛ لأنَّ القَبْضَ مِن تمام العَقْدِ، فَتَعَلَّقَ بالمُتَعاقِدَين، كالإِيجابِ والقَبُولِ. ولَنا، أنَّه قَبْضٌ في عَقْدٍ، فجازَ فيه التَّوْكِيلُ، كسائِرِ القُبوضِ، وفارَقَ القَبُولَ؛ لأنَّ الإِيجابَ إذا كان لشَخْصٍ، كان القَبُولُ منه؛ لأنَّه مُخاطَب به، ولو وَكَّلَ في الإِيجابِ والقَبُولِ قبلَ أن يُوجب له، صَحَّ أيضًا، وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالقَبْضِ في البَيعِ فيما يُعْتَبَرُ القَبْضُ فيه.

1799 - مسألة: (وإن شرط جعله في يد اثنين، فليس لأحدهما الانفراد بحفظه)

وَإنْ شَرَطَ جَعْلَهُ فِي يَدِ اثْنَينِ، لَمْ يَكُنْ لِأحَدِهِمَا الانْفِرَادُ بِحِفْظِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَجُوزُ أن يَجْعَلا الرَّهْنَ على يَدَيْ مَن يَجُوزُ تَوْكِيلُه، وهو الجائِزُ التَّصَرُّفِ، مُسْلِمًا كان أو كافِرًا، عَدْلًا أو فاسِقًا، ذَكرًا أو أنْثَى، ولا يَكُونُ صَبِيًّا؛ لأنَّه غيرُ جائِزِ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، فإن فَعَلَا، كان قَبْضُه وعَدَمُ القَبْضِ واحِدًا، ولا عَبْدًا بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّ مَنافِعَ العَبْدِ لسَيِّدِه، فلا يَجُوزُ تَضْيِيعُها في الحِفْظِ بغيرِ إذْنِه، فإن أذِنَ له السَّيِّدُ، جازَ. وأمّا المُكاتَبُ، فيَجُوزُ بجُعْل؛ لأنَّ له الكَسْبَ وبَذْلَ مَنافِعِه بغيرِ إذْنِ السَّيِّدِ، ولا يَجُوزُ بغَيرِ جُعْل؛ لأَنه ليس له التَّبَرُّعُ بمنافِعِه. 1799 - مسألة: (وإن شَرَطَ جَعْلَه في يَدِ اثْنَين، فليس لأحَدِهما الانْفِرادُ بحِفْظِه) لأنَّ المُتَراهِنَين لم يَرْضَيا إلَّا بحِفْظِهما معًا، فلم يَجُزْ لأحَدِهما الانْفِرادُ به، كالوَصِيَّين. فإن سَلَّمَه أحَدُهما إلى الآخَرِ، فعليه ضَمانُ النِّصْفِ؛ لأنَّه القَدْرُ الذي تعَدَّى فيه. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشَّافعيِّ، وفي الآخرِ، إذا رَضِيَ أحَدُهما بإمْساكِ الآخَرِ، جاز. وبهذا قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان ممَّا يَنْقَسِمُ اقْتَسَماه، وإلَّا فلكلِّ واحِدٍ منهما إمْساكُ جَمِيعِه؛ لأنَّ اجْتِماعَهما على حِفْظِه يَشُقُّ عليهما، فحُمِلَ الأمْرُ على أنَّ لكلِّ واحِدٍ منهما الحِفْظَ. ولَنا، أنَّ المُتَراهِنَين لم يَرْضَيا إلَّا بحِفْظِهما معًا، فلم يَجُزْ لأحَدِهما الانْفِرادُ بذلك، كالوَصِيَّيْن، لا يَجُوزُ لأحَدِهما الانْفِرادُ بالتَّصَرُّفِ. قَوْلُهم: إنَّ

1800 - مسألة: (وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا، ولا للحاكم نقله عن يد العدل، إلا أن يتغير حاله)

وَلَيسَ لِلرَّاهِن وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ إِذَا لَمْ يتَّفِقَا، وَلَا لِلْحَاكِمِ نَقْلُهُ عَنْ يَدِ الْعَدْلِ، إلَّا أن يَتَغَيَّرَ حَالُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاجْتِماعَ على الحِفْظِ يَشُقُّ. مَمْنُوعٌ؛ لإِمْكانِ جَعْلِه في مَخْزَنٍ عليه لكلِّ واحِدٍ منهما قُفْلٌ. 1800 - مسألة: (وليس للرّاهِنِ ولا للمُرْتَهِنِ إذا لم يَتَّفِقا، ولا للحاكِمِ نَقْلُه عن يَدِ العَدْل، إلَّا أن يَتَغَيَّرَ حالُه) وجُمْلَةُ ذلك، أن العَدْلَ ما دام بحالِه لم يَتَغَيَّرْ عن الأَمانَةِ، ولا حَدَثَتْ بينَه وبينَ أحَدِهما عَداوَة، فليس لأحَدِهما، ولا للحاكِمِ [نَقْلُ الرَّهْنِ] (¬1) عن يَدِه؛ لأنَّهما رَضِيا به في الابتِداءِ. وإنِ اتَّفَقا على نَقْلِه، جاز، لأنَّ الحَقَّ لهما لم يَعْدُهما. وكذلك لو كان الرَّهْنُ في يَدِ المُرْتَّهِنِ فلم تَتَغَيَّرْ حالُه، لم يَكُنْ للرّاهِنِ ولا للحاكِم نَقْلُه عن يَدِه. فإن تَغَيَّرَتْ حالُ العَدْلِ بفِسْقٍ أو ضَعْفٍ، أو حَدَثَتْ عَداوَة بينَه وبينَهما، أو بينَه وبينَ أحَدِهما، فلمَن (¬2) طَلَبَ نَقْلَه عن يَدِه (¬3) ذلك، ويَضَعانِه في يَدِ مَن اتَّفَقا عليه. وإنِ اخْتَلَفا، وضَعَهُ الحاكِمُ عندَ عَدْلٍ، وإنِ اخْتَلَفا في تَغَيُّرِ حالِه، بَحَث الحاكِمُ، وعَمِلَ بما ظَهَر له. وهكذا لو كان في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فتَغَيَّرَتْ حالُه في الثِّقَةِ والحِفْظِ، فللرّاهِنِ رَفْعُه عن يَدِه إلى الحاكِمِ، ليَضَعَه في يَدِ عَدْلٍ. وإذا ادَّعَى الرَّاهِنُ تَغَيُّرَ حالِ المُرْتَّهِنِ، فأنْكَرَ، بَحَث الحاكِمُ عن ذلك، وعَمِل بما بان له. فإن ¬

(¬1) في م: «نقله». (¬2) في م: «فمن». (¬3) بعده في م: «له».

1801 - مسألة: (وله رده إليهما، ولا يملك رده إلى أحدهما، فإن فعل، فعليه رده إلى يده، فإن لم يفعل، ضمن حق الآخر)

وَلَهُ رَدُّهُ إِلَيهِمَا، وَلَا يَمْلِكُ رَدَّهُ إلَى أحَدِهِمَا، فَإِنْ فَعَلَ، فَعَلَيهِ رَدُّهُ إِلَى يَدِهِ، فَإن لَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ حَقَّ الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مات العَدْلُ أو المُرْتَهِنُ، لم يَكُنْ لوَرَثَتِهما إمْساكُه إلَّا برِضَاهما. فإنِ اتَّفَقا عليه، جاز، وإنِ اتَّفَقا على عَدْلٍ يَضَعانِه عندَه، فلهما ذلك؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، فيُفَوَّضُ أمْرُه إليهما. وإنِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ والمُرْتَهِنُ عندَ مَوْتِ العَدْلِ، أو اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ ووَرَثَةُ المُرْتَّهِنِ، رَفَعا الأمْرَ إلى الحاكِمِ ليَضَعَه على يَدِ عَدْلٍ، فإن كان الرَّهْنُ في يَدِ اثْنَين، فمات أحَدُهما، أو تَغَيَّرَتْ حالُه؛ بفِسْقٍ (¬1)، أو ضَعْفٍ عن الحِفْظِ، أو عَداوَةٍ، أُقِيمَ مُقامَه عَدْلٌ يُضَمُّ إلى العَدْلِ الآخَرِ، فيَحْفَظان مَعًا. 1801 - مسألة: (ولَه رَدُّه إليهما، ولا يَمْلِكُ رَدَّه إِلى أحَدِهما، فإن فَعَل، فعَليه رَدُّه إلى يَدِه، فإن لم يَفْعَل، ضَمِن حَقَّ الآخرِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ العَدْلَ متى أرادَ رَدَّه عليهما، فله ذلك، وعليهما قَبُولُه؛ لأنَّه أمِينٌ مُتَطَوِّعٌ بالحِفْظِ، فلم يَلْزَمْه المُقامُ عليه، فإن امْتَنَعَا (¬2)، أجْبَرَهُما الحاكِمُ، فإن تَغَيَّبا، نَصَبَ الحاكِمُ أمِينًا يَقْبِضُه لهما؛ لأنَّ للحاكِمِ ولايةً على المُمْتَنِعِ مِن الحَقِّ الذي عليه. فإن دَفَعَه إلى أمِين مِن غيرِ امْتِناعِهما، ضَمِنَ الأمينُ (¬3)، وضَمِنَ الحاكِمُ؛ لأنَّه لا ولايةَ له على غَيرِ المُمْتَنِعِ. ¬

(¬1) في م: «بفسخ». (¬2) في م: «امتنع». (¬3) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك لو تَرَكَه العَدْلُ عندَ (¬1) آخَرَ مع وُجُودِهما، ضَمِن، وضَمِن القابِضُ. فإنِ امْتَنَعا، ولم يَجِدْ حاكِمًا، فَتَرَكَه عندَ عَدْلٍ آخَرَ، لم يَضْمَنْ. وإنِ امْتَنَعَ أحَدُهما، لم يكُنْ له دَفْعُه إلى الآخَرِ، فإن فَعَل، ضَمِن. والفَرْقُ بينَهما أنَّ أحَدَهما يُمْسِكُه لنَفْسِه، والعَدْلُ يُمْسِكُه لهما. هذا فيما إذا كانا حاضِرَينِ، فإن كانا غائِبَين، نَظرتَ، فإن كانَ للعَدْلِ عُذْرٌ مِن مَرَض أو سَفَرٍ أو نحوه، دَفَعَه إلى الحاكِمِ، فقَبَضَه منه، أو نَصَب له عَدْلًا يَقْبِضُه لهما. فإن لم يَجِدْ حاكِمًا، أوْدَعَه عندَ ثِقَةٍ، وليس له أن يُودِعَه عندَ ثِقَةٍ مع وجُودِ الحاكِمِ، فإن فَعَل، ضَمِن. فإن لم يَكُنْ له عُذْر، وكانتِ الغَيبَةُ بَعِيدَةً، قَبَضَه الحاكِمُ منه، فإن لم يَجِدْ حاكِمًا، دَفَعَه إلى عَدْلٍ، وإنْ كانَتِ الغَيبَةُ دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ، فهو كما لو كانا حاضِرَينِ؛ لأنَّهُما في حُكْمِ الإِقامَةِ، وإن كانَ أحَدُهما حاضِرًا وَحْدَه، فحُكْمُهما حُكْمُ الغائِبَين، وليس له دَفْعُه إلى الحاضِرِ منهما. وفي كلِّ مَوْضِع قُلْنا: لا يَجُوزُ له دَفْعُه إلى أحَدِهما. إذا دَفَعَه إليه لَزِمَه رَدُّه إلى يَدِه، فإن لم يَفْعَلْ، ضَمِن حَقَّ الآخَرِ؛ لأنَّه فَرَّطَ في دَفْعِه إليه. وقد قال عليه الصلاةُ والسّلامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حتَّى تُؤَدِّيَ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ (¬2). ¬

(¬1) بعده في ر 1: «عدل». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 265. والترمذي، في: باب ما جاء في أن العارية مؤداة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 269. والنسائي، في: باب المنيحة، من كتاب العارية. السنن الكبرى 3/ 411. =

1802 - مسألة: (فإن أذنا له في البيع، لم يبع إلا بنقد البلد، فإن كان فيه نقود، باع بجنس الدين)

وإذا أذِنَا لَهُ فِي الْبَيعِ، لَمْ يَبعْ إلَّا بنَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ، بَاعَ بجِنْسِ الدَّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جنْسُ الدَّينِ، بَاعَ بِمَا يَرَى أَنَّهُ أَصْلحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1802 - مسألة: (فإن أذِنا له في البَيعِ، لم يَبعْ إلَّا بنَقْدِ البَلَدِ، فإن كان فيه نُقُود، باع بجِنْسِ الدَّينِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّهما إذا أذِنا للعَدْلِ في البَيعِ، ولم يُعَيِّنا نَقْدًا، لم يَبعْ إلَّا بنَقْدِ البَلَدِ؛ لأنَّ الحَظَّ فيه. فإن كان فيه نُقُودٌ، باع بأغْلَبِها؛ لذلك (¬1). فإن تَسَاوَت، فقال: القاضِي: يَبِيعُ بما يُؤَدِّيه إليه اجْتِهادُه. وهو قولُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّه الأحَظ. فإن تَساوَتْ، بِيعَ بجِنْسِ الدَّينِ. والذي ذَكَرَه شَيخُنا (¬2) أنَّ النُّقُودَ إذا تَساوَتْ قَدَّمَ البَيعَ بجِنْسِ الدَّينِ على البَيعِ بما يَرَى فيه الحَظَّ؛ لأنَّه يُمْكِنُ القَضاءُ منه (فإن لم يَكُنْ فيها جِنْسُ الدَّينِ) وتَساوَتِ النُّقُودُ عندَه في الحَظِّ، عَيَّنَ الحاكِمُ له ما يَبيعُه به. وإن عَيَّنا له نَقْدًا، لم يَجُزْ أن يُخَالِفَهما؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، وإنِ اخْتَلَفا، لم يُقْبَلْ قولُ واحِدٍ منهما؛ لأنَّ لكلِّ واحِدٍ ¬

= كما أخرجه ابن ماجة، في: باب العارية، من كتاب الصدقة. سنن ابن ماجة 2/ 802. والدارمي، فهي: باب في العارية مؤداة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 264. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 8، 12. (¬1) في ر 1، ق: «كذلك». (¬2) في: المغني 6/ 475.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما فيه حَقًّا؛ للرَّاهِنِ مِلْكُ الثَّمَنِ، وللمُرْتَهِنِ حَقُّ الوَثِيقَةِ واسْتِيفاءُ حَقِّه. فعلى هذا، يَرْفَعُ الأمْر إلى الحاكِمِ، فيَأمُرُ بِبَيعِه بنَقْدِ البَلَدِ، سَواء كان مِن جِنْسِ الحَقِّ (¬1) أو لم يَكُنْ، وافَقَ قولَ أحَدِهما أو لم يُوافِقْ؛ لأنَّ الحَظَّ في ذلك. قال شَيخُنا (¬2): والأولَى أن يَبِيعَه بما يَرَى الحَظَّ فيه. فإن كان (¬3) في البَلَدِ نُقُود، فهو كما لو لم يُعَيِّنا نَقْدًا. وحُكْمُه في البَيعِ حُكْمُ الوَكِيلِ في وُجُوبِ الاحْتِياطِ، والمَنْعِ مِن البَيعِ بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ، ومِن البَيعَ نَساءً، ومتى خالفَ، لَزِمَه ما يَلْزَمُ الوَكِيلَ المُخالِفَ. وذَكَر القاضِي رِوايَةً في البَيعِ نَساءً، أنَّه يَجُوزُ، بناءً على الوَكِيلِ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ البَيعَ ها هنا لإِيفاءِ دَين حالٍّ، يَجِبُ تَعْجِيلُه، والبَيعُ نَساءً يَمْنَعُ من ذلك. وكذا نَقُولُ في الوَكِيلِ: متى وُجِدَتْ في حَقِّه قَرِينَة دالَّة على مَنْع البَيعِ نَساءً، لم يَجُزْ له، وإنَّما الرِّوايَتان فيه عندَ انْتِفاءِ القَرائِنِ. وكل مَوْضِعٍ حَكَمْنا ببُطْلانِ البَيعِ، وَجَب رَدُّ المَبِيعِ إن كان باقِيًا، فإن تَعَذَّرَ، فللمُرْتَهِنِ تَضْمِينُ أيُّهما شاء، مِن العَدْلِ أو المُشْتَرِي، بأقَلِّ ¬

(¬1) في الأصل: «الدين». (¬2) في: المغني 6/ 475. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمْرَينِ مِن قِيمَةِ الرَّهْنِ أو قَدْرِ الدَّينِ؛ لأنَّه يَقْبضُ قِيمَةَ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا لحَقِّه، لا رَهْنًا؛ فلذلك (¬1) لم يَكُنْ له أن يَقْبِض أكثَرَ مِن دَينه، وما بَقِيَ مِن قِيمَةِ الرَّهْنِ للرَّاهِنِ، يَرْجِعُ به على مَن شاء منهما. وإنِ اسْتَوْفَى دَينَه مِن الرَّاهِنِ، رَجَع الرَّاهِنُ بقِيمَتِه على مَن شاء منهما. ومتى ضَمِن المُشْتَرِي، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لأنَّ العَينَ تَلِفَتْ في يَدِه. وإن ضَمِن العَدلُ رَجَع على المُشْتَرِي. فصل: ومتى قَدَّرا (¬2) له ثَمَنًا، لم يَجُزْ بَيعُه بدُونِه، وإن أُطْلِقَ، فله ¬

(¬1) في ر 1، ق: «فكذلك». (¬2) في م: «تمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعُه بثَمَنِ مثلِه، أو زِيادَةٍ عليه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: له بَيعُه ولو بدِرْهَم. والكلامُ معه في الوَكالةِ. فإن أطْلَقا، فباعِ بأقَلَّ مِن ثَمَنِ المِثْلِ، مِمَّا يَتَغابَنُ النَّاسُ به، صَحَّ، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يُضْبَطُ غالِبًا. وإن كان النَّقْصُ أكْثَرَ مِن ذلك، أو باعَ بأنْقَصَ مِمَّا قُدِّرَ له، لم يَصِحَّ البَيعُ؛ لأنَّه بَيعٌ لم يُؤْذَنْ له (¬1) فيه، فلم يَصِحَّ، كما لو خالفَ في النَّقْد. اخْتارَه شَيخُنا (2). وقال أصحابُنا: يَصِحُّ، ويَضْمَنُ النَّقْصَ كلَّه. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1.

1803 - مسألة: (وإن قبض الثمن، فتلف في يده، فهو من ضمان الراهن)

وَإنْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ وَإنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الرَّاهِنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوَكالةِ. فإن عَلِم المُشْتَرِي بعدَ تَلَفِ الثَّمَنِ في يَدِ العَدْلِ، رَجَع على 1803 - مسألة: (وإن قَبَض الثَّمَنَ، فتَلِفَ في يَدِه، فهو مِن ضَمانِ الرَّاهِنِ) إذا باعَ العَدْلُ الرَّهْنَ بإذْنِهما، وقَبَضَ الثَّمَنَ، فتَلِفَ في يَدِه مِن غيرِ تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أمِينٌ، فهو كالوَكِيلِ. ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. ويَكُونُ مِن ضَمانِ الرَّاهِنِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَكُونُ مِن ضَمانِ المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّ البَيعَ لأجْلِه. ولَنا، أنَّه وَكِيلُ الرَّاهِنِ في البَيعِ، والثَّمَنُ مِلْكُه، وهو أمِينٌ له في قَبْضِه، فإذا تَلِفَ، كان مِن ضَمانِ مُوَكِّلِه، كسائِرِ الأمَناءِ. وإنِ ادَّعَى التَّلَفَ، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّه أمِينٌ، ويَتَعَذَّرُ عليه إقامَةُ البَيِّنةِ على ذلك، فإن كَلَّفْناه البَيِّنةَ، شَقَّ عليه، ورُبَّما أدَّى إلى أن لا يَدْخُلَ النّاسُ في الأماناتِ. فإن خالفاه في قَبْضِ الثَّمَنِ، فقالا: ما قَبَضَه مِن المُشْتَرِي. وادَّعَى ذلك، ففِيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يقْبَلُ قَوْلُه؛ لأنَّه أمِينٌ. والآخرُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ هذا إبْراءٌ للمُشْتَرِي مِن الثَّمَنِ، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه، كما لو أبرَأه مِن غيرِ الثَّمَنِ. 1804 - مسألة: (وإنِ استُحِقَّ المَبِيعُ، رَجَع المُشْتَرِي على الرَّاهِنِ) إذا خَرَج المَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، فالعُهْدَةُ على الرَّاهِنِ دُونَ العَدْلِ، إذا أعْلَمَ المُشْتَرِيَ أنَّه وَكِيل. وهكذا كلُّ وكِيل باع مال غَيرِه. وهذا قولُ الشَّافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: العُهْدَةُ على الوَكِيلِ. والكَلامُ معه يَأتِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّاهِنِ، ولا شيءَ على العَدْلِ. فإن قيلَ: لِمَ لا يَرْجِعُ المُشْتَرِي على العَدْلِ لأنَّه قَبَض الثَّمَنَ بغيرِ حَقٍّ؟ قُلْنا؛ لأنَّه سَلَّمَه إليه على أنَّه أمِينٌ في قَبْضِه، يُسَلِّمُه إلى المُرْتَّهِنِ، فلذلك لم يَجِبِ الضَّمانُ عليه، فأمَّا المُرْتَهِنُ، فقد بأن له أنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ كان فاسِدًا، فإن كان مَشْرُوطًا في بَيع، ثَبَت له الخِيارُ فيه، وإلَّا سَقَط حَقُّه. فإن كان الرَّاهِنُ مُفْلِسًا، حَيًّا أو مَيِّتًا، كان المُرْتَهِنُ والمُشْتَرِي أسْوَةَ الغُرَماءِ؛ لأنَّهم تَساوَوْا في ثُبُوتِ حُقُوقِهِم في الذِّمَّةِ، فاسْتَوَوْا في قَسْمِ مالِه بينَهم. وأمّا إنْ خَرَج مُسْتَحَقًّا بعدَ دَفْعِ الثَّمَنِ إلى المُرْتَّهِنِ، رَجَع المُشْتَرِي على المُرْتَّهِنِ. وهو قولُ الشَّافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَرْجِعُ على العَدْلِ، ويَرْجِعُ العَدْلُ على مَن شاء منهما مِن الرَّاهِنِ والمُرْتَهِنِ. ولَنا، أنَّ عَينَ مالِه صار إلى المُرْتَّهِنِ بغيرِ حَقٍّ، فكان رُجُوعُه عليه، كما لو قَبَضَه منه. فإن كان المُشْتَرِي رَدَّه بعَيبٍ، لم يَرْجِعْ على المُرْتَّهِنِ؛ لأنَّه قَبَض الثَّمَنَ بحَقٍّ، ولا على العَدْلِ، لأنَّه أمِين، ويَرْجِعُ على الرَّاهِنِ. فأمَّا إن كان العَدْلُ حينَ باعه لم يُعْلِم المُشْتَرِيَ أنَّه وَكِيل، كان للمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عليه، ويَرْجِعُ هو على الرَّاهِنِ إن أقَرَّ (¬1) بذلك، أو قامت به بَيِّنةٌ، وإن أنْكَرَ ذلك، فالقَوْلُ قولُ العَدْلِ مع يَمينِه، فإن نَكَل عن اليَمِينِ، فقُضِيَ عليه بالنُّكُولِ، أو رُدَّتِ اليَمينُ على المُشْتَرِي، فحَلَفَ ورَجَع على العَدْلِ، لم يَرْجِعِ العَدْلُ على الرَّاهِنِ؛ لأنَّه يُقِرُّ أنَّه ظَلَمَه. وعلى قولِ الخِرَقِيِّ، القولُ في حُدُوثِ العَيبِ قولُ ¬

(¬1) بعده في م: «العدل».

1805 - مسألة: (وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكر، ولم يكن قضاه ببينة، ضمن. وعنه، لا يضمن، إلا أن يكون أمر بالإشهاد، فلم يفعل. وهكذا الحكم في الوكيل)

وَإنِ ادَّعَى دَفْعَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَأنْكَرَ، وَلَمْ يَكُنْ قَضَاهُ بِبَيِّنةٍ، ضَمِنَ. وَعَنْهُ، لَا يَضْمَنُ، إلا أن يَكُونَ أُمِرَ بِالإشْهَادِ، فَلَمْ يَفْعَلْ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَكِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي مع يَمِينِه. وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ. فإذا حَلَف المُشْتَرِي، رَجَع على العَدْلِ، ورَجَع العَدْلُ على الرَّاهِنِ. فإن تَلِفَ المَبِيعُ في يَدِ المُشْتَرِي، ثم بان مُسْتَحَقًّا قبلَ وَزْنِ ثَمَنِه، فللمَغْصُوبِ منه تَضْمِينُ مَن شاء مِن الغاصِبِ والعَدْلِ والمُرْتَهِنِ (¬1)، ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على المُشْترِي؛ لأنَّ التَّلَفَ في يَدِه، هذا إذا عَلِمَ بالغَصْبِ، وإن لم يَكُنْ عالِمًا، فهل يَسْتَقِرُّ الضَّمانُ عليه، أو على الغاصِبِ؟ على رِوايَتَين. 1805 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى دَفْعَ الثَّمَنِ إلى المُرْتَّهِنِ، فأنْكَرَ، ولم يَكُنْ قَضاه ببَيِّنةٍ، ضَمِن. وعنه، لا يَضْمَنُ، إلَّا أن يَكُونَ أُمِرَ بالإِشْهادِ، فلم يَفْعَلْ. وهكذا الحُكْمُ في الوَكِيلِ) إذا ادَّعَى العَدْلُ دَفعَ الثَّمَنِ إلى المُرْتَّهِنِ، فأنْكَرَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُقْبَلُ قَوْلُه في حَقِّ الرَّاهِنِ، ولا يُقْبَلُ في حَقِّ المُرْتَّهِنِ. ذَكَرَه القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ العَدْلَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ في دَفْعِ الثَّمَنِ إلى المُرْتَّهِنِ، وليس ¬

(¬1) بعده في م: «والمشترى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوَكِيل للمُرْتَهِنِ في ذلك، إنَّما هو وَكِيلُه في الحِفْظِ فقط، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه عليه فيما ليس بوَكِيل له فيه، كما لو وَكَّلَ رجلًا في قَضاءِ دَين، فادَّعَى أنَّه سَلَّمَه إلى صاحِبِ الدَّينِ. والثّانِي، يُقْبَلُ قَوْلُه على المُرْتَهِنِ في إسْقاطِ الضَّمانِ عن نَفْسِه، ولا يُقْبَلُ في نَفْي الضّمانِ عن غيرِه. ذَكَرَه الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه أمِين، فقُبِلَ قَوْلُه في إسْقاطِ الضَّمانِ عن نَفْسِه، كالمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الوَدِيعَةِ. فعلى هذا، إذا حَلَف العَدْلُ، سَقَط الضَّمانُ عنه، ولم يَثْبُتْ على المُرْتَهِنِ أنَّه قَبَضَه. وعلى القولِ الأولِ، يَحْلِفُ المُرْتَهِنُ، ويَرْجِعُ على مَن شاء منهما، فإن رَجَعَ على العَدْلِ، لم يَرْجِعِ العَدْلُ على الرّاهِنِ؛ لأنَّه يَقُولُ: ظَلَمَنِي وأخَذَ مِنِّي بغَيرِ حَق. فلم يَرْجِعْ على الرّاهِنِ، كما لو غَصَبَه مالًا آخَرَ، وإن رَجَع على الرّاهِنِ، فهل يَرْجِعُ الرّاهِنُ على العَدْلِ؟ يُنْظَرُ؛ فإن كان دَفَعَه إلى المُرْتَهِنِ بحَضْرَةِ الرّاهِنِ، أو ببَيِّنَةٍ فماتَتْ أو غابَتْ، لم يَرْجِعْ عليه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنه أمِينٌ، ولم يُفَرِّطْ في القَضاءِ، وإن دَفَعَه في غَيبَةِ الرّاهِنِ بغَيرِ بَيِّنَةٍ، رَجَع عليه في إحْدَى الروايَتَين؛ لأنَّه فَرَّطَ في القَضاءِ بغيرِ بَيِّنةٍ، فلَزِمَه الضَّمانُ، كما لو تَلِفَ الرَّهْنُ بتَفْرِيطِه. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، لا يَرْجِعُ الرّاهِنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، سَواءٌ صَدَّقَه أو كَذَّبَه؛ لأنَّه أمِين في حَقِّه، إلَّا أنَّه إن كَذَّبَه، فله عليه اليَمِينُ. فإنْ كان الرّاهِنُ أمَرَه بالإِشْهادِ، فلم يَفْعَلْ، لَزِمَه الضَّمانُ؛ لأنَّه مُفَرِّط. وهكذا الحُكْمُ في الوَكِيلِ؛ لأنَّه في مَعْناهُ. فصل: إذا غَضب المُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِن العَدْلِ ثمّ رَدَّه إليه، زال عنه الضَّمانُ. ولو كان الرهْنُ في يَدِ المُرْتَهِنِ، فتَعَدَّى فيه، ثم أزال التَّعدى، أو سافَرَ به، ثم رَدَّه، لم يَزُلْ عنه الضَّمانُ؛ لأنَّ استِئْمَانه زال بذلك، فلم يَعُدْ بفِعْلِه مع بَقائِه في يَدِه، بخِلافِ التي قَبْلَها، فإنَّه رَدَّه إلى يَدِ نائِبِ مالِكِها، أشْبَهَ ما لو رَدَّها إلى مالِكِها. فصل: إذا اسْتَقْرَضَ ذِمِّيٌّ مِن مُسْلِم مالًا ورَهَنَه خَمْرًا، لم يَصِحَّ، سَواءٌ جَعَلَه في يَدِ ذِميٍّ أو غيرِه. فإن باعَها الرّاهِنُ أو نائِبُه الذِّمِّي، وجاء المُقْرِضَ بثَمَنِها، لَزِمَه قَبُولُه (¬1). فإن أربى، قيل له: إمّا أنَّ تَقْبِضَ، وإمّا أنَّ تُبْرِئ؛ لأنَّ أهْلَ الذِّمَّةِ إذا تَقابَضُوا في العُقُودِ الفاسِدَةِ جَرَت مَجْرَى الصَّحِيحةِ. قال عمرُ، رَضِيَ الله عنه، في أهْلِ الذِّمَّةِ معهم الخَمْرُ: وَلُّوهم بَيعَها، وخُذُوا مِن أثْمانِها (¬2). وإن جَعَلَها على يَدِ مُسْلِم، فباعَهَا، لم يُجْبَرِ المُرْتَهِنُ على قَبُولِ الثَّمَنِ؛ لأنَّه بَيعٌ فاسِدٌ لا يُقَرَّانِ عليه، ولا حُكْمَ له. ¬

(¬1) في الأصل: «قبولها». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 430.

1806 - مسألة: (وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل، صح، فإن عزلهما، صح عزله)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَإنْ شَرَطَ أنْ يَبِيعَهُ الْمُرْتَهِنُ أو الْعَدْلُ، صَحَّ، وَإنْ عَزَلَهُمَا، صَحَّ عَزْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ ألَا يَصِحَّ. 1806 - مسألة: (وإن شَرَط أنَّ يَبِيعَه المُرْتهِنُ أو العَدْلُ، صَحَّ، فإن عَزَلَهما، صَحَّ عَزْلُه) إذا كان الرَّهْنُ على يَدَيْ عَدْلٍ، فشَرَطَ أنْ يَبِيعَه العَدْلُ عندَ حُلولِ الحَقِّ، أو أنْ يَبِيعَه المُرْتَهِنُ، صَحَّ، ويَصِحُّ بَيعُه؛ لأنَّه شَرْطٌ فيه مَصْلَحَة للمُرْتَهِنِ، لا يُنافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ، فصَحَّ، كما لو شَرَط صِفَةً فيه. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالك، والشافعيُّ، فيما إذا شَرَط أنَّ يَبِيعَه العَدْلُ. فإن شَرَط أنَّ يَبِيعَه المُرْتَهِنُ، ففيه اخْتلافٌ يُذْكَرُ في الشُّرُوطِ في الرَّهْنِ. فإن عَزَل الرّاهِنُ العَدْلَ أو المُرْتَهِن عن البَيعِ، صَحَّ، ولم يَمْلِكِ البَيعَ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يَنْعَزِلُ؛ لأنَّ وَكالتَه صارَتْ مِن حُقُوق الرَّهْنِ، فلم يَكُنْ للرّاهِنِ إسْقاطُه، كسائِرِ حُقُوقِه. قال ابنُ أبي مُوسَى: ويَتَوَجَّهُ لنا مِثْلُ ذلك؛ فإنَّ أحمدَ قد مَنَع الحِيلَةَ في غيرِ مَوْضِعٍ مِن كُتُبِه، وهذا يَفْتَحُ بابَ الحِيلَةِ للرّاهِنِ، فإنَّه يَشْتَرِطُ ذلك للمُرْتهِنِ، ليُجِيبَه إليه، ثم يَعْزِلُه. والمَنْصُوصُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الوَكالةَ عَقْدٌ جائِزٌ، فلم يَلْزَمِ المُقامُ عليها، كسائِرِ الوَكالاتِ (¬1)، وكَوْنُه مِن حُقُوقِ الرَّهْنِ لا يَمْنَعُ جَوازَه، ¬

(¬1) في م: «الولايات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو شَرَطا الرَّهْنَ في البَيعِ، فإنَّه لا يَصِيرُ لازِمًا، وكذلك إذا مات الرّاهِنُ بعدَ الإِذْنِ تَنْفَسِخُ الوَكالةُ، وقِياسُ المَذْهَبِ، أنَّه مَتَى عَزَلَه عن البَيعِ، وكان الرَّهْنُ مَشْرُوطًا في بَيعٍ، فللمُرْتَهِنِ فَسْخُ البَيعِ الذي حَصَل الرَّهْنُ عنه، كما لو امْتَنَعَ مِن تَسْلِيمِ الرَّهْنِ المَشْرُوطِ في البَيعِ، فأمّا إنْ عَزَلَه المُرْتَهِنُ، لم يَنْعَزِلْ؛ لأنَّ العَدْلَ وَكِيلُ الرّاهِنِ، لأنَّ الرَّهْنَ (¬1) مِلْكُه، ولو انْفَرَدَ بتَوْكِيله، صَحَّ، فلم يَنْعَزِلْ بعَزْلِ غيرِه، لكنْ لا يَجُوزُ بَيعُه بغيرِ إذْنِه، وهكذا لو لم يَعْزِلاه، فحَلّ الحَقُّ، لم يَبِعْه حتى يَستَأذِنَ المُرْتَهِنَ؛ لأنَّ البَيعَ لحَقِّه، فلم يَجُزْ حتى يَأذَنَ فيه، ولا يَحْتاجُ إلى تَجْدِيدِ إذْنٍ مِن الراهِنِ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّ الإِذْنَ قد وُجِدَ، فاكْتَفَى به، كما في الوَكالةِ في سائِرِ الحُقُوقِ. وذَكَر القاضِي وَجْهًا، أنَّه يَحْتاجُ إلى تَجْدِيدِ إذْنٍ؛ لأنَّه قد يَكُونُ له غَرَضٌ في قَضاءِ الحَق مِن غيرِه. والأوَّلُ أوْلَى؛ فإنَّ الإِذْنَ كافٍ، ما لم يُغَيَّرْ، والغَرَضُ لا اعْتِبارَ به معِ صَرِيحِ الإِذْنِ بخِلافِه، بدَلِيلِ ما لو جَدَّدَ الإِذْنَ له (¬2)، بخِلافِ المُرْتهِنِ؛ فإنَّ البَيعَ يَفْتَقِرُ إلى مُطالبَتِه بالحَق. ومَذهَبُ الشافعيِّ نحوٌ مِن هذا. فصل: ولو أتْلَفَ الرَّهْنَ في يَدِ العَدْلِ أجْنَبِي، فعلى الجانِي قِيمَتُه، تَكُونُ رَهْنًا في يَدِه، وله المطالبَةُ بها؛ لأنَّها بَدَلُ الرَّهْنِ، وقائِمَةٌ مَقامَه، وله ¬

(¬1) في م: «الراهن». (¬2) سقط من: م.

1807 - مسألة: (فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول، أو إن جاءه بحقه)

وإنْ شَرَطَ ألا يَبِيعَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ، أوْ إِنْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ، وَإلَّا فَالرَّهْنُ لَهُ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ. وَفِي صِحَّةِ الرَّهْنِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إمْساكُ الرَّهْنِ وحِفْظُه. فإن كان المُتَراهِنانِ أذِنا له في بَيعِ الرَّهْنِ، فقال القاضِي: قِياسُ المَذْهَبِ أنَّ له بَيعَ بَدَلِه؛ لأنَّ له بَيعَ نَماءِ الرَّهْنِ تَبَعًا للأصْلِ، فالبَدَلُ أوْلَى. وقال أصحابُ الشافعيِّ: ليس له ذلك؛ لأنَّه مُتَصَرِّف بالإذْنِ، فلا يَمْلِكُ بَيعَ ما لم يُؤْذَنْ له في بَيعِه، والمَأذُونُ في بَيعِه قد تَلِف، وبَدَلُه غيرُه. وللقاضِي أنَّ يَقُولَ: إنَّه قد أذِنَ له في بَيعِ الرَّهْنِ، والبَدَلُ رَهْنٌ ثَبَتَ له حُكْمُ الأصْلِ مِن كَوْنِه يَمْلِكُ المُطالبَةَ به وإمْساكَه واسْتِيفاءَ دَينه مِن ثَمَنِه، فكذلك بَيعُه. فإن كان البَدَلُ مِن جِنْسِ الدَّينِ، وقد أذِنَ له في وَفائِه مِن ثَمَنِ الرَّهْنِ، مَلَك إيفاءَه منه؛ لأنَّ بَدَلَ الرهْنِ مِن جِنْسِ الدَّينِ، فأشْبَهَ ثَمَنَ المَبِيعِ. 1807 - مسألة: (فإن شَرَط أنَّ لا يَبيعَه عندَ الحُلُولِ، أو إن جاءَه بحَقِّه) في مَحِلِّه (وإلّا فالرَّهْنُ له، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ. وفي صِحَّةِ الرَّهْنِ رِوايَتان) الشرُوطُ في الرَّهْنِ (¬1) قِسْمان؛ صَحِيحٌ، وفاسِدٌ. فالصَّحِيحُ ¬

(¬1) في م: «الرهان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ أنَّ يَشْتَرِطَ كَوْنَه على يَدَيْ عَدْلٍ، أو عَدْلَين، أو أكْثَرَ، أو أنَّ يَبِيعَه العَدْلُ عندَ حُلُولِ الحَق. ولا نَعْلَمُ في صِحَّتِه خِلافًا. فإن شَرَط أنَّ يَبِيعَه المُرْتَهِنُ، صَحَّ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه تَوْكِيل (¬1) فيما يَتَنافَى فيه الغَرَضانِ، فلم يَصِحَّ، كما لو وَكَّلَه في بَيعِه مِن نَفْسِه. ووَجْهُ التَّنافِي أنَّ الرّاهِنَ يُرِيدُ الصَّبْرَ على المَبِيعِ والاحْتِياطَ في تَوْفِيرِ الثَّمنِ، والمُرْتَهِنُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الحَق وإنْجازَ البَيعِ. ولَنا، أنَّ (¬2) ما جاز تَوْكِيلُ غيرِ المُرْتَهِنِ فيه، جاز تَوكِيلُ المُرْتَهِنِ فيه، كبَيعِ عَين أُخْرَى، ولأنَّ مَن جاز أنْ يُشْتَرَطَ له الإِمْساكُ، جاز اشْتِراطُ البَيعِ له، كالعَدْلِ، ولا يَضُرُّ اخْتِلافُ الغَرَضَين إذا كان غَرَضُ المُرْتَهِنِ مُسْتَحَقًّا له، وهو اسْتِيفاءُ الثَّمَنِ عندَ حُلُولِ الحَقِّ وإنْجازُ البَيعِ، على أنَّ الرّاهِنَ إذا وَكَّلَه مع العِلْمِ بغَرَضِه، فقد سَمَح له بذلك، والحَقُّ له، فلا يُمْنَعُ مِن السَّماحَةِ به، كما لو وَكَّلَ فاسِقًا في بَيعِ مالِه وقَبْضِ ثَمَنِه. ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَجُوز تَوْكِيلُه في بَيعِ شيءٍ مِن نَفْسِه، ولَئِن سَلَّمْنا، فلأنَّ الشَّخْصَ ¬

(¬1) في م: «وكيل». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواحِدَ يَكُونُ بائِعًا مُشْتَرِيًا، ومُوجِبًا [وقابِلًا] (¬1)، وقابِضًا مِن نَفْسِه لنَفْسِه، بخِلافِ مسَألَتِنا. فصل: إذا رَهَنَه أمَةً، فشَرَطا (¬2) كَوْنَها عندَ امْرَأةٍ، أو ذِي مَحْرَمٍ لها (¬3)، أو كَوْنَها في يَدِ المُرْتَهِنِ أو أجْنَبِي، على وَجْهٍ لا يُفْضِي إلى الخَلْوَةِ بها، مثلَ أن يَكُونَ لهما زَوْجات، أو سَرارِيّ، أو نِساءٌ مِن مَحارِمِهما معهما في دارِهما، جاز؛ لأنَّه لا يُفْضِي إلى مُحَرَّم. وإن لم يَكُنْ كذلك، فَسَد الشَّرْطُ؛ لإفْضائِه إلى الخَلْوَةِ المُحَرَّمَةِ، فلا يُؤْمَنُ عليها، ولا يَفسُدُ الرَّهْنُ؛ لأنَّه لا يَعُودُ إلى نَقْصٍ ولا ضَرَرٍ في حَقِّ المُتَعاقِدَين، ويَكُونُ الحُكْمُ كما لو رَهَنَها مِن غيرِ شَرْطٍ، يَصِحُّ الرَّهْنُ، ويَجْعَلُها الحاكِمُ على يَدِ مَن تَجُوزُ أنْ تَكُونَ عِنْدَه. وإن كان الرَّهْنُ عَبْدًا، فشَرَطَ مَوْضِعَه، جاز، [وإن لم يَشْتَرِطْ مَوْضِعَه، صَحَّ] (¬4)، كالأمَةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّ للأمَةِ عُرْفًا، بخِلافِ العَبْدِ. والأوَّلُ أصَحُّ، ¬

(¬1) في م: «قابلا». (¬2) في ق: «فشرط». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أيضًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الأمَةَ إذا كان المُرْتَهِنُ مِمَّنْ يَجُوزُ وَضْعُها عِنْدَه كالعَبْدِ، وإذا كان مُرْتَهِنُ العَبْدِ امْرَأةً لا زَوْجَ لها، فشَرَطَتْ كَوْنَه عِنْدَها على وَجْهٍ يُفْضِي إلى خَلْوَتِه بها، لم يَجُزْ أيضًا، فاسْتَوَيا. القسمُ الثّانِي، الشُّرُوطُ الفاسِدَةُ، وهو أنَّ يَشْتَرِطَ ما يُنافِي مُقْتَضَى الرَّهْنِ، نحو أنْ لا يُباعَ الرِّهْنُ عندَ حُلُولِ الحَقِّ، أو لا يُسْتَوْفَى الدَّينُ مِن ثَمَنِه، أو لا يُباعَ ما خِيف تَلَفُه، أو بَيعَ الرَّهْنِ بأيِّ ثَمَن كان، أو أنَّ لا يَبِيعَه إلَّا بما يُرْضِيه. فهذه شُرُوط فاسِدَة؛ لمُنافاتِها مُقْتَضَى العَقْدِ، فإنَّ المَقْصُودَ مع الوَفاءِ بهذه الشُّروطِ مَفْقُودٌ. وكذلك إن شَرَطا الخِيارَ للرّاهِنِ، أو أنَّ لا يَكُونَ العَقْدُ لازِمًا في حَقِّه، أو تَوْقِيتَ الرَّهْنِ، أو أنَّ يَكُونَ رَهْنًا يَوْمًا ويَوْمًا لا، أو كَوْنَ الرَّهْنِ في يَدِ الرّاهِنِ، أو أنْ يَنْتَفِعَ به، [أو يَنْتَفِعَ به] (¬1) المُرْتَهِنُ، أو كَوْنَه مَضْمُونًا على المُرْتَهِنِ أو العَدْلِ، فهذه كلها فاسِدَةٌ؛ لأنَّ منها ما يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، ومنها ما لا يَقْتَضِيه العَقْدُ، ولا هو مِن مَصلَحَتِه. وعن أحمدَ، إذا شَرَط في الرَّهْنِ أنَّ يَنْتَفِعَ به المُرْتَهِنُ، أنَّه يَجُوزُ في البَيعِ. قال القاضِي: مَعْناه أنَّ يَقُولَ: بِعْتُك هذا الثَّوْبَ بدِينارٍ، بشَرْطِ أنَّ ترْهَنَنِي عَبْدَكَ يَخْدِمُنِي شَهْرًا. فيَكُونُ بَيعًا وإجارَةً، فهو صَحِيحٌ. وإن أطْلَقَ، فالشَّرْطُ باطِلٌ؛ لجَهالةِ الثَّمَنِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالكٌ: لا بَأْسَ أنَّ يَشْتَرِطَ في البَيعِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ (¬1) إلى أجَلٍ في الدُّورِ والأرَضِينَ. وكَرِهَه في الحَيَوانِ والثِّيابِ، وكَرِهَه في القَرْضِ. ولَنا، أنَّه شَرَط في الرَّهْنِ ما يُنافِيه، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَه في القَرْضِ. فإن شَرَط شيئًا منها في عَقْدِ الرَّهْنِ، فقال القاضِي: يَحْتَمِلُ أنَّ يَفْسُدَ الرَّهْنُ بها بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ العاقِدَ إنما بَذَل مِلْكَه بهذا الشَّرْطِ، فإذا لم يُسَلَّمْ له، لم يَصِحَّ العَقْدُ؛ لعَدَمِ الرِّضَا به بدُونِه. وقيلَ: إن شَرَط الرَّهْنَ مُؤَقتًا، أو رَهَنَه يَوْمًا ويَوْمًا لا، فَسَد الرَّهْنُ. وهل يَفْسُدُ بسائِرِها؟ على وَجْهَين، بناءً على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. ونَصَر أبو الخَطَّابِ في «رُءُوسِ المَسائلِ» صَحَّتَه. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» (¬2). وهو مَشْرُوطٌ فيه شَرْطٌ فاسِدٌ. ولم يُحْكَمْ بفَسادِه. وقِيلَ: ما يَنْقُصُ حَقَّ المُرْتَهِنِ يُبْطِلُه، وَجْهًا واحِدًا، وما لا، فعلى وَجْهَين. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المُرْتَهِنَ شُرِطَتْ له زِيادَةٌ لم تَصِحَّ له، فإذا فَسَدَتِ الزِّيادَةُ، لم يَبْطُلْ أصْلُ الرَّهْنِ. ¬

(¬1) في ر 1: «المرتهن». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنْ شَرَط أنَّه مَتَى حَلَّ الحَقُّ ولم يُوَفِّنِي فالرَّهْنُ لي بالدَّينِ، أو فهو مَبِيعٌ لي بالدَّينِ الذي عليك. فهو شَرْطٌ فاسِدٌ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وشُرَيح، والنَّخَعِيِّ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم؛ لِما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ». رَواه الأثْرَمُ. قُلْتُ لأحْمَدَ: ما مَعْنَى قَوْلِه: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»؟ قال: لا يَدْفَعُ رَهْنًا إلى رجل، ويَقُولُ: إن جِئْتُكَ بالدَّراهِمِ إلى كذا وكذا، وإلَّا فالرَّهْنُ لك. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا مَعْنَى قَوْلِه: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ». عندَ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأحمدَ. وفي حَدِيثِ مُعاويَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ، أنَّ رَجلًا رَهَن دَارًا بالمَدِينَةِ إلى أجَل مُسَمًّى، فمَضَى الأجَلُ، فقال الذي ارْتَهَنَ: مَنْزِلِي. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ». ولأنَّه عَلَّقَ البَيعَ على شَرْطٍ، فإنَّه جَعَلَه مَبِيعًا بشَرْطِ أنَّ لا يُوَفِّيَه الحَقَّ في مَحِلِّه، والبَيعُ المُعَلَّقُ بشَرْطٍ لا يَصِحُّ، فإذا شَرَط هذا الشَّرْطَ فَسَد الرَّهْنُ. وفيه رِوايَة أُخْرَى، أنَّه لا يَفْسُدُ؛ لِما ذَكَرْنا في الشُّرُوطِ الفاسِدَة. وهذا ظاهِرُ قولِ أبي الخَطّابِ في «رُءُوسِ المسائِلِ»، واحْتَجَّ بالحَدِيثِ المَذْكُورِ، نَفَى (¬1) غَلْقَ الرَّهْنِ دون (¬2) أصْلِه، فدَلَّ على صِحَّتِه، ولأنَّ الرّاهِنَ قد رَضِيَ برَهْنِه مع هذا الشَّرْطِ، فمع بُطْلانِه أوْلى أنَّ يَرْضَى به. ولَنا، أنَّه رَهْنٌ بشَرْطٍ فاسِدٍ، ¬

(¬1) في م، ق: «فبقى». (¬2) في ق، م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان فاسدًا، كما لو شَرَط تَوْقِيتَه، وليس في الخَبَرِ أنَّه شَرَط ذلك في ابْتِداءِ العَقْدِ، [فلا يَكُونُ حُجَّةً] (¬1). فصل: وإذا قال الغَرِيمُ: رَهَنْتُك عَبْدِي هذا على أنَّ تَزِيدَنِي في الأجَلِ. كان باطِلًا؛ لأنَّ الأجَلَ لا يَثْبُتُ في الدَّينِ، إلَّا أنَّ يَكُونَ مَشْرُوطًا في عَقْدٍ قد وَجَب به، وإذا لم يَثْبُتِ الأجَلُ، لم يَصِحَّ الرَّهْنُ؛ لأنَّه جَعَلَه في مُقابَلَتِه، ولأنَّ ذلك يُضَاهِي رِبا الجاهِلِيَّةِ، كانُوا يَزِيدُونَ في الدَّينِ، ليَزْدادُوا في الأجَلَ. فصل: إذا كان له على رجلٍ ألْفٌ، فقال: أقْرِضْنِي ألْفًا، بشَرْطِ أنَّ أرْهَنَكَ عَبْدِي هذا بألْفَين. فنَقَلَ حَنْبَلٌ عنٍ أحمدَ، أنَّ القَرْضَ باطِلٌ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه قَرْضٌ يَجُرُّ مَنْفَعَة، وهي الاسْتِيثاقُ بالألْفِ الأوَّلِ. وإذا بَطَل القَرْضُ بَطَل الرَّهْنُ. فإن قيلَ: أليس لوٍ شَرَط أنَّ يُعْطِيَه رَهْنًا بما يُقْرِضُه (¬2) جاز. قُلْنا: ليس هذا قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَة؛ لأنَّ غايَةَ ما حَصَل له تَأْكِيدُ الاسْتِيفَاءِ لبَدَلِ ما أقْرَضَه، وهو مِثْلُه. والقَرْضُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الوَفاءِ، وفي مَسْألَتِنا شَرَط في هذا القَرْضِ الاسْتِيثاقَ لدَينِه الأوَّلِ، فقد شَرَط اسْتِيثاقًا لغيرِ مُوجبِ القَرْضِ. ونَقَل مُهَنَّا أنَّ القَرْضَ صَحِيحٌ. ولعَلَّ أحمدَ حَكَم بصِحَّةِ القَرْضِ مع فَسادِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يقترضه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطِ؛ كَيلا يُفْضِيَ إلى جَرِّ المَنْفَعَةِ بالقَرْضِ، أو حَكَم بفَسادِ الرَّهْنِ في الألْفِ الأوَّلِ وَحْدَه. ولو كان مكانَ القَرْضِ بَيعٌ، فقال: بعْنِي عَبْدَك هذا بألْفٍ، على أنْ أرْهَنَك عَبْدِي به وبالألْفِ الآخَرِ الذي عَلَيَّ. فالبَيعُ باطِلٌ، رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ؛ لكَوْنِه جَعَلَه ألْفًا ومَنْفَعَةً هي وَثِيقَةٌ بالألْفِ الأوَّلِ، وتلك المَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ، ولأنَّه شَرَط عَقْدَ الرَّهْنِ بالألْفِ الأوَّلِ، فلم يَصِحَّ، كما لو أفْرَدَه، أو كما لو باعَه دارَه بشَرْطِ أنَّ يَبِيعَه الآخَرُ دارَه. فصل: إذا فَسَد الرَّهْنُ، وقَبَضَه المُرْتَهِنُ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه قَبَضَه بحُكْمِ أنَّه رَهْنٌ، وكُلّ عَقْدٍ كان صَحِيحًا، مَضْمُونًا أو غيرَ مَضْمُونٍ، ففاسِدُه كذلك. فإن كان مُؤَقَّتًا، أو شَرَط [أنَّه يَصِيرُ للمُرْتَهِنِ] (¬1) بعدَ انْقِضاءِ مُدَّتِه، صار بعدَ ذلك مَضْمُونًا؛ لأنَّه مَقْبُوضٌ بحُكْمِ بَيعٍ فاسِدٍ. وحُكْمُ الفاسِدِ مِن العُقُودِ حُكْمُ الصَّحِيحِ في الضَّمانِ. وإن كان أرْضًا فغَرَسَها قبلَ انْقِضاءِ الأجَلِ، فهو كغَرْسِ الغاصِبِ؛ لأنَّه غَرَس بغَيرِ إذْنٍ. وإن غرَس بعدَ الأجَلِ، وكان قد شَرَط أنَّ الرَّهْنَ يَصِيرُ له، فقد غَرَس بإذْنٍ؛ لأنَّ البَيعَ قد تَضَمَّنَ الإِذْنَ وإن كان فاسِدًا. فعلى هذا، يَكُونُ الرّاهِنُ (¬2) مُخَيَّرًا بينَ أنَّ يُقِرَّ غَرْسَه له، وبين أخْذِه بقِيمَتِه، وبين أنْ يُلْزِمَه بقَلْعِه ويَضْمَنَ له ما نَقَص. ¬

(¬1) في م: «أن يصبر المرتهن». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اشْتَرَى سِلْعَةً، وشَرَط أنَّ يَرْهَنَه بها شَيئًا مِن مالِه، أو شَرَطَ ضمِينًا، فالبَيعُ والشَّرْطُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ، غيرُ منافٍ لمُقْتَضاه، ولا نَعْلَمُ في صِحَّتِه خِلافًا إذا كان مَعْلُومًا. ومَعْرِفَةُ الرَّهْنِ تَحْصُلُ بالمُشاهَدَةِ وبالصِّفَةِ التي يُعْلَمُ بها المَوْصُوفُ، كما في السَّلَمِ، ويَتَعَيَّنُ بالقَبْضِ. والضَّمِينُ يُعْلَمُ بالإِشارَةِ إليه، ويَذْكُرُ اسْمَه ونَسَبَه (¬1)، ولا يَصِحُّ بالصِّفَةِ، بأن يَقُولَ: رجلٌ غَنِيٌّ. مِن غيرِ تَعْيِينٍ، لأنَّ الصِّفَةَ لا تَأْتِي عليه. ولو قال: بشرطِ رَهْنٍ. أو: ضَمِينٍ. كان فاسِدًا؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ، وليس له عُرْفٌ يَنْصَرِفُ إليه بالإِطلاقِ. ولو قال: بشَرْطِ رَهْنِ أحَدِ هذين العَبْدَين. أو: بضَمِينِ (¬2) أحَدِ هذين الرجُلَين. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ، فلم يَصِحَّ مع عَدَمِ التَّعْيِينِ، كالبَيعِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ عن مالكٍ، وأبي ثَوْرٍ، أنَّه يَصِحُّ الرَّهْنُ المَجْهُولُ، ويَلْزَمُه أنْ يَدْفَعَ إليه رَهْنًا بقَدْرِ الدَّينِ؛ لأنَّه وَثِيقَة، فجاز شَرْطُها مُطْلَقًا، كالشَّهادَةِ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال: على أنَّ أرْهَنَكَ أحَدَ هذين العَبْدَين. جاز؛ لأنَّ بَيعَه جائِزٌ عندَه. ولَنا، أنَّه شَرَط رَهْنًا مَجْهُولًا، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَط رَهْنَ ما في كُمِّه، ولأنَّه عَقْدٌ يَخْتَلِفُ فيه المَعْقُودُ عليه، فلم يَصِحَّ مع الجَهْلِ، كالبَيعِ. وفارَقَ الشَّهادَةَ، فإنَّ لها عُرْفًا في الشَّرْعِ، فحُمِلَتْ عليه، والكَلامُ مع أبي حنيفةَ قد مَضَى في البَيعِ، فإنَّ الخِلاف فيه واحِدٌ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ المُشْتَرِيَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يضمنني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن وَفَّى بالشَّرْطِ، فسَلَّمَ الرَّهْنَ، أو ضَمِن عنه الضامِنُ، لَزِم البَيعُ. وإن أبَى تَسْلِيمَ الرَّهْنِ، أو أبَى الضامِنُ أنَّ يَضْمَنَ، فللبَائِعِ الخِيارُ بينَ فَسْخِ البَيعِ، وإمْضائِه والرِّضَا به بلا رَهْنٍ ولا ضَمِين، فإنْ رَضِيَ، لَزِمَه البَيعُ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ولا يَلْزَمُ المُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ. وقال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ إذا شُرِطَ في عَقْدِ البَيعِ، ويُجْبَرُ عليه المُشْتَرِي، وإن وَجَدَه الحاكِمُ دَفَعَه إلى البائِعِ؛ لأنَّ عَقْدَ البَيعِ وَقَع عليه، أشْبَهَ الخِيارَ والأجَلَ. وقال القاضِي: ما عَدا المَكِيلَ والمَوْزُونَ، يَلْزَمُ فيه الرَّهْنُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ. وقد مَضَى الكَلامُ فيه. ولَنا، أنّه رَهْنٌ، فلم يَلْزَمْ قبلَ القَبْضِ، كما لو لم يَكُنْ مَشْرُوطًا في البَيعِ، أو كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ، وإنَّما لَزِم الخِيارُ والأجَلُ بالشَّرْطِ؛ لأنَّه مِن تَوابعِ البَيعِ لا يَنْفرِدُ بنَفْسِه، والرَّهْنُ عَقْدٌ مُنْفرِدٌ بنَفْسِه، ليس مِن التَّوابعِ، ولأنَّ الخِيارَ والأجَلَ يَثْبُتُ بالقَوْلِ، ولا يَفْتَقِرُ إلى تَسْلِيم، فاكْتُفِيَ في ثُبُوتِه بمُجَرَّدِ القولِ، بخِلافِ الرَّهْنِ. فأمَّا الضَّمِينُ فلا خِلافَ في أنَّه لا يَلْزَمُه الضَّمانُ، إذ لا يَلْزَمُه شَغْلُ ذِمَّتِه ووَفاءُ دَينِ غيرِه باشْتِراطِ غيرِه. ولو وَعَدَه بأنَّه يَضْمَنُ، ثم لم يَفْعَلْ، لم يَلْزَمْهُ، كما لو وَعَدَه أنَّه يَبِيعُه، ثم امْتَنَعَ. ومَتَى لم يَفِ المُشْتَرِي (¬1) للبائِعِ بشَرْطِه، كان له الفَسْخُ، كما لو شَرَطَ له صِفَةً في الثَّمَنِ، فلم يَفِ بها. فصل: ولو شَرَط رَهْنًا، أو ضَمِينًا مُعَيَّنًا، فجاء بغيرِهما، لم يَلْزَمِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البائِعَ قَبُولُه وإن كان ما أتَى به خَيرًا مِن المَشْرُوطِ، مثلَ أنْ يَأْتِيَ بأكْثَرَ قِيمَةً مِن المَشْرُوطِ، أو بضامِن أوْثَقَ مِن المُعَيَّنِ؛ لأنَّه عَقَد على مُعَيَّنٍ، فلم يَلْزَمْه قَبُولُ غيرِه، كالبَيعِ، ولأنَّ الغرَضَ يَخْتَلِفُ بالأعْيَانِ، فمنها ما يَسْهُلُ بَيعُه، ومنها ما هو أقَلُّ مُؤْنَةً وأسْهَلُ حِفْظًا، وبَعْضُ الذِّمَمِ أمْلأُ مِن بَعْض وأسْهَلُ، فلا يَلْزَمُه قَبُولُ غيرِ المُعَيَّنِ، كسائِرِ العُقُودِ. فصل: فإن تَعَيَّبَ الرَّهْنُ، أو اسْتَحال العَصِيرُ خَمْرًا قبلَ القَبْضِ، فللبائِعِ الخِيارُ بينَ قَبْضِه مَعِيبًا ورِضاه بلارَهْن، فيما إذا تَخَمَّرَ العَصِيرُ، وبينَ فَسْخِ البَيعِ ورَدِّ الرَّهْنِ. وإن عَلِم بالعَيب بعدَ قَبْضِه، فكذلك، وليس له مع إمْساكِه أرْشٌ مِن أجْلِ العَيبِ؛ لأَنَّ الرَّهْنَ إنَّما لَزِم فيما حَصَل قَبْضُه، وهو المَوْجُودُ، والجُزءُ الفائِتُ لم يَلْزَمْ تَسْلِيمُه، فلم يَلْزَمِ الأرْشُ بَدَلًا عنه، بخِلافِ المَبِيعِ. وإن تَلِف أو تَعَيَّبَ بعدَ القَبْض، فلا خِيارَ للبائِعِ. وإنِ اخْتَلَفا في زَمَنِ حُدُوثِ العَيب، فإن كان لا يَحْتَمِلُ إلَّا قولَ أحَدِهما، فالقولُ قَوْلُه مِن غيرِ يَمِين؛ لأنَّ اليَمِينَ إنَّما تُرادُ لرَفْعِ الاحْتِمالِ. وإنِ احْتَمَلَ قَوْلَهما معًا، انْبَنَى على اخْتِلافِ المُتبايِعَين في حُدُوثِ العَيبِ، وفيه رِوايَتانِ، فيَكُونُ ههُنا وَجْهانِ؛ أحَدُهما، القولُ قولُ الرّاهِنِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ الأصْلَ صِحَّةُ العَقْدِ ولُزُومُه. والآخَرُ، القولُ قولُ المُرْتَهِنِ. وهو قِياسُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في قَبْضِ المُرْتَهِنِ للجُزْءِ الفائِتِ، فكان القولُ قولَه، كما لو اخْتَلَفا في قَبْضِ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ منه. وإنِ اخْتَلَفا في زَمَنِ التَّلَفِ، فقال الرّاهِنُ: بعد القَبْضِ. وقال المُرْتَهِنُ: قَبْلَه. فالقولُ قولُه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مُنْكِرٌ للقَبْضِ. وإن كان الرَّهْنُ عَصِيرًا فاسْتَحال. خَمْرًا، واخْتَلَفا في زَمَنِ اسْتِحالتِه، فالقولُ قولُ الرّاهِنِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال القاضِي: يُخَرَّجُ فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القولَ قولُ المُرْتَهِنِ، كالاخْتِلافِ في البَيعِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ القَبْضِ، فهو (¬1) كما لو اخْتَلَفا في زَمَنِ التَّلَفِ. ولَنا، أنَّهما اتَّفَقا على العَقْدِ والقَبْضِ، واخْتَلَفا فيما يَفْسُدُ به، فكان القولُ قولَ مَن يَنْفِيه، كما لو اخْتَلَفا في شَرْطٍ فاسِدٍ. وفارَقَ اخْتِلافَهما في حُدُوثِ العَيبِ مِن وَجْهَين؛ أحَدهما، أنَّهما اتَّفَقا على القَبْضِ ههُنا، وثَمَّ اخْتَلَفا في قَبْضِ الجُزْءِ الفائِتِ. الثانِي، أنَّهما اخْتَلَفا ها هنا فيما يُفْسِدُ العَقْدَ، والعَيبُ بخِلافِه. فصل: ولو وَجَد بالرَّهْنِ عَيبًا بعدَ أنَّ حَدَث عندَه عَيبٌ آخَرُ، فله رَدُّه وفَسْخُ البَيعِ؛ لأنَّ العَيبَ الحادِثَ في مِلْكِ الرّاهِنِ لا يَلْزَمُ المُرْتَهِنَ ضَمانه، بخِلافِ المَبِيعِ (¬2). وخَرَّجَه القاضِي على رِوايَتَين، بِناءً على البَيعِ. فعلى قَوْلِه: لا يَمْلِكُ الرَّدَّ. [لا يَمْلِكُ الفَسْخَ] (¬3). والصَّحِيحُ ما ذَكَرْناه. وإن هَلَك الرَّهْنُ في يَدِ المُرْتَهِنِ، ثم عَلِم أنَّه كان مَعِيبًا، لم يَمْلِكْ فَسْخَ البَيعِ؛ لأنَّه قد تَعَذَّرَ عليه رَدُّه. فإن قِيلَ: فالرَّهْنُ غيرُ مَضْمُونٍ، ولهذا لا يُمْنَعُ رَدُّه بحُدُوثِ العَيبِ فيه. قُلْنَا: إنَّما لا (¬4) تُضْمَنُ قِيمَتُه لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «البيع». (¬3) زيادة من: م. وهي موافقة لما في المغني 6/ 503. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَقْدَ لم يَقَعْ على مِلْكِه، وإنَّما وَقَع على الوَثِيقَةِ، فهو مَضْمُونٌ بالوَثِيقَةِ، أمّا إذا تَعَيَّبَ، فقد رَدَّه، فيَسْتَحِقُّ بَدَلَ ما رَدَّه، وههنا لم يَرُدَّ شيئًا، فلو أوْجَبْنا له بَدَلَه، لأوْجَبْنا على الرّاهِنِ غيرَ ما شَرَط على نَفْسِه. فصل: ولو لم يَشْرُطَا رَهْنًا في البَيعِ، فتَطَوَّعَ المُشْتَرِي برَهْن، وقَبَضَه البائِعُ، كان حُكْمُه حُكْمَ الرَّهْنِ المَشْرُوطِ في بَيعِ، إلَّا أنَّه إذا رَدَّه بعَيبٍ أو غيرِه، لم يَمْلِكْ فَسْخَ البَيعِ. فصل: إذا تَبايَعا بشَرْطِ أنَّ يَكُونَ المَبِيعُ رَهْنًا على ثَمَنِه، لم يَصِحَّ. قاله ابنُ حامِدٍ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَبِيعَ حينَ شَرَط رَهْنَه لم يَكُنْ مِلْكًا له، وسَواءٌ شَرَط أنَّه يَقْبِضُه ثم يَرْهَنُه، أو شَرَط رَهْنَه قبلَ قَبْضِه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا حَبَس المَبِيعَ ببَقِيَّةِ الثَّمَنِ، فهو غاصِبٌ، ولا يَكُونُ رَهْنًا، إلَّا أنَّ يَكُونَ شَرْطًا عليه في نَفْسِ البَيعِ. وهذا يَدُلُّ على صِحَّةِ الشَّرْطِ؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه، فصحَّ رَهْنُه. وقال القاضي: مَعْنَى هذه الرِّوايةِ أنَّه شَرَط عليه في البَيعِ رَهْنًا غيرَ المَبِيعِ، فيَكُونُ له حَبْس المَبِيعِ حتى يَقْبِضَ الرَّهْنَ، فإن لم يَف به، [وإلَّا] (¬1) فَسَخَ البَيعَ. فأمّا شَرْطُ رَهْنِ المَبِيعِ نَفْسِه على ثَمَنِه، فلا يَصِحُّ؛ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّه غيرُ مَمْلُوكٍ له. والثاني، أنَّ البَيعَ يَقتَضِي إيفاءَ الثَّمَنِ مِن غيرِ المَبِيعِ. والثالِثُ، أنَّ البَيعَ يَقْتَضِي أنَّ يَكُونَ إمْساكُ المَبِيعِ مَضْمُونًا، والرَّهْنُ يَقْتَضِي أنَّ لا يَكُونَ مَضْمُونًا. الرابعُ، أنَّ البَيعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ المَبِيعِ أوَّلًا، ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الدَّينِ، أو الرَّهْنِ، أوْ رَدِّهِ، أوْ قَال: أَقْبَضْتُكَ عَصِيرًا. قَال: بَلْ خَمْرًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَهْنُ المَبِيعِ يَقْتَضِي أنَّ لا يُسَلِّمَه حتى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وهذا تَنَاقُضٌ في الأحْكامِ. وظاهِرُ الرِّوايَةِ صِحَّةُ رَهْنِه. قولُهم: إنَّه غيرُ مَمْلُوكٍ. قلنا: إنَّما شَرَط رَهْنَه بعدَ مِلْكِه. وقَوْلُهم: البَيعُ يَقْتَضِي إيفاءَ الثَّمَنِ مِن غيرِ المَبِيعِ. مَمْنُوع، إنَّما يَقْتَضِي إيفاءَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا، ولو تَعَذَّرَ وَفاءُ الثَّمَنِ مِن غيرِ المَبِيعِ لاسْتَوْفَى مِن ثَمَنِه. قَوْلُهم: البَيعُ يَقتَضِي تَسْلِيمَ المَبِيعِ قبلَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ. مَمْنُوعٌ. وإن سُلِّمَ، فلا يَمْنَعُ أنْ يَثْبُتَ بالشّرْطِ خِلافُه، كما أنَّ مُقْتَضَى البَيعِ حُلُولُ الثَّمَنِ ووُجُوبُ تَسْلِيمِه في الحالِ، ولو شَرَط التَّأْجِيلَ، جاز، وكذلك مُقْتَضَى البَيعِ ثُبُوتُ المِلْكِ في المَبِيعِ والتَّمْكِينُ مِن التَّصَرُّفِ فيه، ويَنْتَفِي بشَرْطِ الخيارِ، وهذا الجَوابُ عن باقي الوُجُوهِ. فأمّا إن لم يَشْرُطْ ذلك في البَيعِ، لكن رَهَنَه عندَه بعدَ البَيعِ؛ فإن كان بعد لُزُومِ البَيعِ، فالأوْلَى صِحَّتُه؛ لأنَّه يَصِحُّ رَهْنُه عندَ غَيرِه، فصَحَّ عندَه، كغَيرِه، ولأنَّه يَصِحُّ رَهْنُه على غيرِ ثَمَنِه، فيَصِحُّ رَهْنُه على ثَمَنِه. وإن كان قَبْلَ لُزُومِ البَيعِ، انْبَنَى على جَوازِ التَّصَرُّفِ في المَبِيعِ، ففي كلِّ مَوْضِعٍ جازَ التَّصَرُّفُ فيه جاز رَهْنُه، وما لا فلا؛ لأنَّه نَوْعُ تَصَرُّفٍ، أشْبَهَ البَيْعَ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمه اللهُ: (وإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ الدَّينِ، أو الرَّهْنِ، أو رَدِّه، أو قال: أقْبَضْتُكَ عَصِيرًا. قال: بل خَمْرًا. فالقولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الرّاهِنِ) إذا اخْتَلَفا في قَدْرِ الحَقِّ، نحوَ أنَّ يَقُولَ الرّاهِنُ: رَهَنْتُكَ عَبْدِي هذا (¬1) بأَلْفٍ. فقال المُرْتَهِنُ: بل بألْفَين. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ. وبه قال النَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيّ، والشافعيُّ، والبَتِّيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأيِ. وحُكِيَ عن الحَسَنِ، وقَتادَةَ، أنَّ القولَ قولُ المُرْتَهِنِ، ما لم يُجاوزْ ثَمَنَ الرَّهْنِ، أو قِيمَتَه. ونَحوُه قولُ مالكٍ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ بقَدْرِ الحَقِّ. ولَنا، أنَّ الرّاهِنَ مُنكِرٌ للزِّيادَةِ التي يَدَّعِيها المُرْتَهِنُ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأمْوَالهُمْ، ولكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ». رَواه مسلم (¬2). ولأنَّ الأصْلَ براءَةُ الذِّمَّةِ مِن هذه الألْفِ، فكان القولُ قولَ مَن يَنْفِيها، كما لو اخْتَلَفا في أصْلِ الدَّينِ، وما ذَكَرُوه مِن الظّاهِرِ غيرُ ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. (¬2) في: باب اليمين على المدعى عليه، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1336. كما أخرجه البخاري، في: باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، من كتاب التفسير، من سورة آل عمران. صحيح البخاري 6/ 43. والنسائي، في: باب عظة الحاكم على اليمين، من كتاب آداب القضاة. المجتبى 8/ 218. وابن ماجه، في: باب البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 778.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسَلَّمٍ؛ فإنَّ العادَةَ رَهْنُ الشيءِ بأقَلَّ مِن قِيمَتِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ القولَ قولُ الرّاهِنِ في قَدْرِ ما رَهَنَه، سَواءٌ اتَّفَقا على أنَّه رَهَنَه بجَميعِ الدَّينِ، أو اخْتَلَفا، فلو اتَّفقا على أنَّ الذينَ ألْفانِ، وقال الرّاهِنُ: إنَّما رَهَنْتُك بأحَدِ الألْفَين. وقال المُرْتَهِنُ: إنَّما رَهَنْتَنِي بهما. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ مع يَمينِه؛ لأنَّه يُنْكِرُ تَعَلُّقَ حَقِّ المُرْتَهِنِ في أحَدِ الألْفَين بعَبْدِه، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. وإنِ اتَّفَقا على أنَّه رَهْن بأحَدِ الألْفَين، وقال الرّاهِنُ: رَهَنْتُه بالمُؤَجَّلِ. وقال المُرْتَهِنُ: بل بالحالِّ. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ معِ يَمِينه؛ لأنَّه شكِر، ولأنَّ القولَ قَوْلُه في أصْلِ الرَّهْنِ، فكذلك في صِفتِه، هذا إذا لم تَكُنْ بَيِّنة. فإن كان لأحَدِهما بَيِّنةٌ، حُكِمَ له بها، وَجْهًا واحِدًا. وإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ الرَّهْنِ، فقال: رَهَنْتُك هذا العَبْدَ. قال: بل هو والعَبْدَ الآخَرَ. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ؛ لأنَّه مُنْكِر. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وإن قال: رَهَنْتُكَ هذا العَبْدَ. قال: بل هذه الجارِيَةَ. خَرَج العَبْدُ مِن الرَّهْنِ؛ لاعْتِرافِ المُرْتَهِنِ بأنه لم يَرْتَهِنْه (¬1)، وحَلَف الرّاهِنُ على أنَّه ما رَهَنَه الجارِيَةَ، وخَرَجَتِ الجاريةُ (¬2). مِن الرَّهْنِ أيضًا. ¬

(¬1) في م: «يرهنه». (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اخْتَلَفا في رَدِّ الرَّهْنِ إلى الرّاهِنِ، فالقولُ قَوْلُه؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، والأصْلُ معه. وكذلك الحُكْمُ في المُسْتَأجِرِ، إذا ادَّعَى رَدَّ العَينِ المُسْتَأجَرَةِ. وقال أبو الخَطّابِ: يَتَخَرَّجُ فيهما وَجْه آخَرُ، أنَّ القولَ قولُ المُرْتَهِنِ والمُسْتَأجِرِ في الرَّدِّ، بناءً على المُضارِب والوَكِيلِ بجُعْلٍ، فإنَّ فيهما وَجْهَين، والفَرْقُ بينَهما وبينَ المُرْتَهِنِ، أَنَّ المُرْتَهِنَ قَبَض العَينَ ليَنْتَفِعَ بها، وكذلك المُسْتَأجِرُ والوَكِيلُ، قَبَض العَينَ ليَنْتَفِعَ بالجُعْلِ لا بالعَينِ، والمُضارِبُ قَبَضها ليَنْتَفِعَ برِبْحِها لَا بها. وإنِ اخْتَلَفا في تَلَفِ العَينِ، فالقولُ قولُ المُرْتَهِن حِع يَمينه؛ لأنَّ يَدَه يَدُ أمانَةٍ، ويَتَعَذَّرُ عليه إقامَةُ البَيِّنةِ على التَّلَفِ، فقُبِلَ قَوْلُه فيه، كالمُودَعِ. فإنْ أتْلَفَها المُرْتَهِنُ، أو تَلِفَتْ بتَفرِيطِه، واخْتَلَفا في القِيمَةِ، فالقولُ قولُ المُرْتَهِن مع يَمِينه؛ لأنَّه غارِمٌ، لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. فصل: وإن قال الرّاهِنُ: رَهَنْتُك عَصِيرًا. قال: بل خمْرًا. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ. يُرِيدُ إذا كان الرهْنُ شُرِطَ في البَيعِ، فقال الرّاهِنُ: رَهَنْتُكَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَصِيرًا، فليس لك فَسْخُ البَيعِ. وقال المُرْتَهِنُ: بل رَهَنْتَنِي خَمْرًا، فلي فَسْخُ البَيعِ. فالقولُ قولُ الرّاهِنِ. نَصَّ عليه أحمدُ. لأنَّهما اخْتَلَفا فيما يَفْسُدُ به (¬1) العَقْدُ، فكان القولُ قولَ من يَنْفِيه. وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: وإذا قال: بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ، على أنَّ تَرْهَنَني بثَمَنِه عَبْدَيكَ هذَين. قال: بل على رَهْنِ هذا وَحْدَه. فحَكَى القاضِي فيها رِوايَتَين؛ إحْداهُما، يَتَحالفانِ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في البَيعِ، فهو كالاخْتِلافِ في الثَّمَنِ. والثانيةُ، القولُ قولُ الرَّاهِنِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ لشَرْطِ رَهْنِ العَبْدِ المُخْتَلَفِ فيه، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. وهذا أصَحُّ. فصل: وإن قال: أرْسَلْتَ وَكِيلَكَ، فرَهَنَني عَبْدَك هذا على عِشْرِينَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبَضَها. قال: ما أمَرْتُه إلَّا بعَشَرَةٍ، ولا قَبَضْتُ إلَّا عَشَرَةً. سُئِلَ الرَّسُولُ، فإن صَدَّقَ الرَّاهِنَ، فعليه اليَمِينُ أنَّه ما رَهَنَه إلَّا بعَشَرَةٍ، ولا قَبَض إلَّا عَشَرَةً، ولا يَمِينَ على الرّاهِنِ؛ لأنَّ الدَّعْوَى على غَيرِه، فإذا حَلَف الوَكِيلُ، بَرِئَا جَمِيعًا، وإن نَكَل، فعليه العَشَرَةُ المُخْتَلَفُ فيها، ولا يَرْجِعُ بها على أحَدٍ؛ لأنَّه يُصَدِّقُ الرّاهِنَ في أنَّه ما أخَذَها ولا أمَرَه بأخْذِها وإنَّما المُرْتَهِنُ ظَلَمَه. وإن صَدَّقَ المُرْتَهِنَ، وادَّعَى أنَّه سَلّمَ العِشْرِينَ إلى الرّاهِنِ، فالقولُ قولُ الرّاهِنِ مع يَمِينه. فإن نَكَل، قُضِيَ عليه بالعَشَرَةِ، وتُدْفَعُ إلى المُرتَهِنِ، وإن حَلَف، بَرِيء، وعلى الوَكِيلِ غَرامَةُ العَشَرَةِ للمُرْتهنِ؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّها حَق له وإنَما الرّاهِن ظَلَمَه. فإن عَدِمِ الوَكِيلَ، أو تَعَذَّرَ إحْلافُه، فعلى الرّاهِنِ اليَمِينُ أنَّه ما أذِنَ في رَهْنِه إلَّا بعَشرَةٍ، ولا قَبَض أكثرَ منها، ويَبْقَى الرَّهْنُ بعَشَرةٍ. فصل: إذا كان على رجلٍ ألْفانِ؛ أحَدُهما برَهْنٍ، والآخَرُ بغَيرِ رَهْن، فقَضَى ألْفًا، وقال: قَضَيتُ دَينَ الرَّهْنِ. وقال المُرْتَهِنُ: بل قَضَيتَ الدَّينَ الآخَرَ. فالقَوْلُ قولُ الرّاهِنِ مع يَمِينه، سَواءٌ اخْتَلَفا في نِيَّةِ الرّاهِنِ أو في لَفْظِه؛ لأنه أعْلَمُ بنِيَّته وصِفَةِ دَفْعِه، ولأنَّه يَقُولُ: إنَّ (¬1) الدَّينَ الباقِيَ بلا رَهْن. والقولُ قَوْلُه في أصْلِ الرَّهْنِ، فكذلك في صِفَتِه. وإنْ أطْلَقَ القَضاءَ، ولم يَنْو شيئًا، فقال أبو بكر: له صَرْفُها إلى أيِّهما شاء، كما لو كان له مالٌ حاضِرٌ وغَائِبٌ، فأدَّى قَدْرَ زَكاةِ أحَدِهما، كان (¬2) له ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. (¬2) في م: «فإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ يُعَيِّنَ عن أيِّ المالينِ شاء. وهذا قولُ بَعْضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال بَعْضُهم: يَقَعُ الدَّفْعُ عن الدَّينَين معًا، عن كلِّ واحِدٍ نِصْفُه؛ لأنَّهما تَساوَيا في القَضاءِ، فتَساوَيا في وُقُوعِه عنهما، فأمّا إن أبرَأه المُرْتَهِنُ مِن أحَدِ الدَّينَين، واخْتَلَفا، فالقولُ قولُ المُرْتَهِنِ، على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْناه في الرَّهْنِ. ذَكَرَه أبو بكرٍ. فصل: إذا اتَّفَقَ المُتَراهِنان على قَبْضِ العَدْلِ للرَّهْنِ، لَزِم الرَّهْنُ في حَقِّهما، ولم يَضُرَّ إِنْكارُه؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. وإن قال أحَدُهما: قَبَضَه العَدْلُ. فأنْكَرَ الآخرُ، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ، كما لو اخْتَلَفا في قَبْضِ المُرْتَهِنِ، فإن شَهِد (¬1) العَدْلُ بالقَبْضِ، لم تُقْبَلْ شَهادَتُه؛ لأنَّها شَهادَةُ الوَكِيلِ لمُوَكِّلِه، فيما هو وَكِيل فيه. فصل: إذا كان في يَدِ رجلٍ عَبْدٌ، فقال: رَهَنْتَنِي عَبْدَك هذا بألْفٍ. قال: بل غَصَبْتَهُ. أو: اسْتَعَرْتَه. فالقولُ قولُ السيِّدِ، سواءٌ اعْتَرَف بالدَّينِ أو جَحَدَه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الرَّهْنِ. وإن قال السَّيِّدُ: بِعْتُك عَبْدِي ¬

(¬1) في م: «أشهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا بألْفٍ. قال: بل رَهَنْتَه عندي بها. فالقولُ قولُ كلِّ واحِدٍ منهما في العَقْدِ الذي يُنكِرُه، ويأخُذُ السَّيِّدُ عَبْدَه. وإن قال: رَهَنْتُكَهُ بألْفٍ أقْرَضْتَنِيه. قال: بل بِعْتَنِيه بألْفٍ قَبَضْتَه مِنِّي ثَمَنًا. فكذلك، ويَرُدُّ صاحِبُ العَبْدِ الألْفَ، ويَأخُذُ عَبْدَه. فصل: وإذا ادَّعَى على رَجُلَين، فقال: رَهَنْتُمانِي عَبْدَكُما بدَيني عَلَيكُما. فأنْكَرَاه، فالقولُ قَوْلُهما، فإن شَهِد كلُّ واحِدٍ منهما على صاحِبِه، قُبِلَتْ شَهادَتُه، وللمُرْتَهِنِ أنَّ يَحْلِفَ مع كلِّ واحِدٍ نهما، ويَصِيرَ جَميعُه رَهْنًا، أو يَحْلِفَ مع أحَدِهما، ويَصِيرَ نَصِيبُ الآخَرِ رَهْنًا. وإن أقَرَّ أحَدُهما، ثَبَت في حَقِّه وَحْدَه. وإن شَهِد المُقِرُّ على المُنْكِرِ، قُبِلَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَتُه؛ لأنَّه لا يَجْلِبُ لنَفْسِه نَفْعًا، ولا يَدْفَعُ عنها ضررًا (¬1). وبهذا قال أصحابُ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: إذا أنْكَرا جَمِيعًا، ففي شَهادَتِهما نَظَر؛ لأنَّ المَشْهُودَ له يَدَّعِي أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما ظالِمٌ له بجُحُودِه حَقَّه مِن الرَّهْنِ، ومتى طَعَن المَشْهُودُ له في شُهُودِه، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهم له. قُلْنا: هذا لا يَصِحُّ؛ فإنَّ إنْكارَ الدَّعْوَى لا يَثْبُتُ به فِسْقُ المُدَّعَى عليه وإن كان الحَقُّ عليه؛ لجَوازِ أن يَنْسَى أو يَلْحَقَه شُبْهَةٌ فيما يَدَّعِيه أو يُنْكِرُه. وكذلك (¬2) لو تَداعَى رَجُلانِ شيئًا، وتخاصَما فيه، ثم شَهِدا عندَ الحاكِمِ بِشيءٍ، لم تُرَدَّ شَهادَتُهما وإن كان أحَدُهما كاذِبًا. ولو ثَبَت الفِسْقُ بذلك، لم يَجُزْ قَبُولُ شَهادَتِهما جَمِيعًا، مع تَحَقُّقِ الجَرْحِ في أحَدِهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، م: «ولذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا ادَّعَى رجلان على رَجُلٍ أنَّه رَهَنَهُما عَبْدَه، وقال كل واحِدٍ منهما: رَهَنَه عندِي دُونَ صاحِبي. فأنْكَرَهما، فالقولُ قَولُه. وإن أنْكَرَ أحَدَهما، وصَدَّقَ الآخَرَ، سُلِّمَ إلى مَن صَدَّقَة، وحُلِّفَ الآخرُ. وإن قال: لا أعْلَمُ المُرْتَهِنَ منهما. حَلَف على ذلك، والقولُ قولُ مَن هو في يَدِه منهما، مع يَمِينه. وإن كان في أيدِيهما، حَلَف كل واحِدٍ منهما على نِصْفِه، وصار رَهْنًا عندَه. وإن كان في يَدِ غيرِهما، أقْرِعَ بينَهما، فمَنْ قَرَع صاحِبَه، حَلَف وأخَذَه، كما لو ادَّعَيا مِلْكَه. ولو قال: رَهَنْتُه عند أحَدِهما، ثم رَهَنْتُه للآخَرِ (¬1)، ولا أعْلَمُ السّابِقَ منهما. فكذلك. وإن قال: هذا هو السّابِقُ بالعَقْدِ والقَبْضِ. سُلِّم إليه، وحَلَف للآخَرِ (¬2). وإن نَكَل والعَبْدُ في يَدِ الأوَّلِ، أو يَدِ غَيرِه، فعليه قِيمَتُه للثَّانِي، كما لو قال: هذا العَبْدُ لزَيدٍ، وغَصَبْتُه مِن عَمْرو، فإنه يُسَلَّمُ إلى زَيدٍ، ويَغْرَمُ قِيمَتَه لعَمْرو. وإنْ نَكَل والعَبْدُ في يَدِ (¬3) الثانِي، أُقِرَّ في يَدِه، وغَرِم قِيمَتَه ¬

(¬1) في م: «عند الآخر». (¬2) في م: «الآخر». (¬3) سقط من: الأصل.

1808 - مسألة: (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه)

وإنْ أقَرَّ الرَّاهِنُ أنَّهُ أعْتَقَ الْعَبْدَ قَبْلَ رَهْنِهِ، عَتَقَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ للأوَّلِ؛ لأنَّه أقَرَّ له بعدَ ما فَعَل ما حال بينَه وبينَ مَن أقَرَّ (¬1) له به، فلَزِمَتْهُ قِيمَتُه، كما قُلْنا. وقال القاضِي (¬2): إذا اعْتَرَف به (¬3) لغيرِ مَن هو في يَدِه فهل يَرْجَحُ صاحِبُ اليَدِ أو المُقَرُّ له؟ على وَجْهَين. ولو اعْتَرَف لأحَدِهما، وهو في يَدَيهِما، ثَبَتَتْ يَدُ المُقَرِّ له في النِّصْفِ، وفي النصْفِ الآخَرِ وَجْهان. 1808 - مسألة: (وإن أقَرَّ الرّاهِنُ أنَّه أعْتَقَ العَبْدَ قَبلَ رَهْنِه) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «أبو الخطاب». (¬3) سقط من: ر 1، م.

1809 - مسألة: (وإن أقر أنه كان جنى، أو أنه باعه، أو غصبه، قبل على نفسه، ولم يقبل على المرتهن، إلا أن يصدقه)

رَهنًا، وَإنْ أَقَرَّ أنَّه كان جَنَى، أَو أنَّهُ بَاعَهُ، أَوْ غَصَبَهُ، قُبِلَ عَلَى نَفسِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، إلا أَنْ يُصَدِّقَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالحُكْمُ في ذلك كما لو أعْتَقَه بعدَ رَهْنِه على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ؛ لأنَّ كلَّ مَن صَحَّ منه إنْشاءُ عَقْدٍ، صَحَّ منه الإِقْرارُ به، ولا يُقْبَلُ قَوْلُه في تَقَدُّمِ عِتْقِه؛ لأنَّه يُسْقِطُ حَقَّ المُرْتَهِنِ مِن عِوَضِه، فعلى هذا تُؤْخَذُ منه قِيمَتُه فتُجْعَلُ رَهْنًا مكانَه إن كان مُوسِرًا؛ لأنَّه فَوَّتَه على المُرْتَهِنِ (¬1) بإقْرارِه، فهو كما لو أعْتَقَه، وإن كان مُعْسِرًا، فالحُكْمُ فيه كما ذَكَرْنا. 1809 - مسألة: (وإن أقَرَّ أنَّه كان جَنَى، أو أنَّه باعَه، أو غَصَبَه، قُبِلَ على نَفْسِه، ولم يُقْبَلْ على المُرْتَهِنِ، إلَّا أنَّ يُصَدِّقَه) وجُمْلته، أنَّه إذا أقَرَّ الرّاهِنُ أنَّ العَبْدَ كان جَنَى قبلَ رَهْنِه، فكَذَّبَه المُرْتَهِنُ وَوَلِيُّ الجِنايَةِ، لم يُسْمَعْ قَوْلُه، وإن صَدَّقَه وَلِيُّ الجِنايَةِ وَحْدَه، قُبِلَ إقْرارُه ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «الراهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَفْسِه دُونَ المُرْتَهِنِ، ويَلْزَمُه أَرْشُ الجِنايَةِ؛ لأنَّه حال بينَ المَجْنِيِّ عليه وبينَ رَقَبَةِ الجانِي بفِعْلِه، فأشْبَهَ ما لو جَنَى عليه. وإن كان مُعْسِرًا، فمتى انْفَكَّ الرَّهْنُ، كان المَجْنِيُّ عليه أحَقَّ برَقَبَتِه، وعلى المُرْتَهِنِ اليَمينُ أنَّه لا يَعْلَمُ ذلك، فإن نَكَل قُضِيَ عليه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُقْبَلُ إقْرارُ الرّاهِنِ؛ لأنَّه غَيرُ مُتَّهَمٍ؛ لكَوْنِه [يُقِرُّ بما] (¬1) يُخْرِجُ الرَّهْنَ (¬2) مِن مِلْكِهِ، وعليه اليَمِينُ؛ لأنَّه يُبْطِلُ بإقْرارِه حَقَّ المُرْتَهِنِ فيه. وإن أقَرَّ أنَّه غَصَبَه، لم يُقْبَلْ على المُرْتَهِنِ؛ لأنَّ إقْرارَ غيرِه لا يُقْبَلُ في حَقه. فعلى هذا، لا يَخْرُجُ مِن الرَّهْنِ، ولا يَزُولُ شيء مِن أحْكامِ الرَّهْنِ، ويَلْزَمُه قِيمَتُه للمَغْصُوبِ منه؛ لأَنه حَال بينَه وبينَه برَهْنِه. وكذلك لا يُقْبَلُ إقْرارُه على ¬

(¬1) في م: «تغريما». (¬2) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَإذَا كَانَ الرَّهْنُ مَرْكُوبًا أوْ مَحْلُوبًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ أنْ يَرْكَبَ وَيَحْلُبَ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُرْتَهِنِ ببَيعٍ ولا هِبَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن صَدَّقَه المُرْتَهِنُ في ذلك، بَطَل الرَّهْنُ؛ لاعْتِرافِه بما يُبْطِلُه، فإذا انْفَكُّ، أخَذَ الرّاهِنُ بإقْرارِه. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وإذا كان الرَّهْنُ مَرْكُوبًا أو مَحْلُوبًا، فللمُرْتَهِنِ أنَّ يَرْكَبَ ويَحْلُبَ بقَدْرِ نَفَقَتِه، مُتَحَرِّيًا للعَدْلِ في ذلك) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الرَّهْنَ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَين؛ حَيَوانٍ، وغيرِه. والحَيَوانُ نَوْعان؛ أحَدُهما، إذا كان مَرْكُوبًا أو مَحْلُوبًا، فللمُرْتَهِنِ أنَّ يُنْفِقَ عليه، ويَرْكَبَ، ويَحْلُبَ، بقَدْرِ نَفَقتِه، مُتَحَرِّيًا للعَدْلِ في ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ، وأحمدَ بنِ القاسِمِ. واخْتارَهْ الخِرَقِيُّ. وهو قولُ إسحاقَ. وسواء أنْفَقَ مع تَعَذُّرِ النُّفَقَةِ مِن الرّاهِنِ؛ لغَيبَةٍ أو امْتِناع، أو مع القُدْرَةِ على أخْذِ النَّفَقَةِ منه واسْتِئْذانِه. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، لا يُحْتَسَبُ له بما أنْفَقَ وهو مُتَطَوِّعٌ بها، ولا يَنْتَفِعُ مِن الرَّهْن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بشيء. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِه، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيه غُرْمُهُ» (¬1). ولأنَّه مِلْكُ غيرِه، لم يَأْذَنْ له في الانْتِفاعِ به ولا الإِنْفاقِ عليه، فلم يَكُنْ له ذلك، كغيرِ الرَّهْنِ. ولَنا، ما رَوَى البُخارِيُّ (¬2) بإسْنادِه، عن أبي هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بنَفَقَتِهِ إذا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ (¬3) الدَّر يُشْرَبُ بِنَفَقَتِه إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ». فجَعَلَ مَنْفَعَتَه بنَفَقَتِه، وهذا مَحَلُّ النِّزاعِ. فإن قِيلَ: المُرادُ به [أنَّ الرّاهِنَ] (¬4) يُنْفِقُ ويَنْتَفِعُ. قُلْنا: لا يَصِحُّ؛ لوَجْهَين: أحَدُهما، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 428. (¬2) في: باب الرهن مركوب ومحلوب، من كتاب الرهن. صحيح البخاري 3/ 187. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرهن، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 258. والترمذي، في: باب ما جاء في الانتفاع بالرهن، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 259. وابن ماجه في: باب الرهن مركوب ومحلوب، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 816. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 228، 472. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «الرهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قد رُوِيَ في بَعْضِ الألْفاظِ: «إذَا كانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى المُرْتَهِن عَلَفُهَا، وَلَبَن (¬1) الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُه، [ويَرْكَبُ] (¬2)» فجَعَلَ المُنْفِقَ المُرْتَهِنَ، فيَكُونُ هو المُنْتَفِعَ. الثّانِي، أنَّ قَوْلَه: «بِنَفَقَتِهِ». يُشِيرُ إلى أنَّ الانْتِفاعَ عِوَضُ النَّفَقَةِ، وإنَّما ذلك في حَقِّ المُرْتَهِنِ، أمّا الرّاهِنُ فإنْفاقُه وانْتِفاعُه لا بِطَرِيقِ المُعاوَضَةِ لأحَدِهما بالآخَرِ، ولأنَّ نَفَقَةَ الحَيَوانِ واجِبَةٌ، وللمُرْتَهِنِ فيه حَقٌّ، وقد أمْكَنَه اسْتِيفاءُ حَقِّه مِن نَماءِ الرَّهْنِ، والنِّيابَةِ عن المالِكِ فيما وَجَب عليه، واسْتِيفاءِ ذلك مِن مَنافِعِه، فجازَ ذلك، كما يَجُوزُ للمَرْأةِ أخْذُ مُؤنَتِها مِن مالِ زَوْجِها عندَ امْتِناعِه بغيرِ إذْنِه، والنِّيابَةُ (¬3) في الإِنْفاقِ عليها. والحَدِيثُ نَقُولُ به، والنَّماءُ للرّاهِنِ، ولكنْ للمُرْتَهِنِ ولايةُ صَرْفِه إلى نَفَقتِه؛ لثُبُوتِ يَدِه عليه وولايته، وهذا في مَن أنْفَقَ مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ، فإن أنْفَقَ مُتَبَرِّعًا بغيرِ نِيَّةِ الرُّجُوعِ، لم يَنْتَفِعْ به، رِوايَةً واحِدَةً. ¬

(¬1) في م: «لأن». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: النَّوْعُ الثانِي، الحَيَوانُ غيرُ المَرْكُوبِ والمَحْلُوبِ، كالعَبْدِ والأمَةِ، فليس للمُرْتَهِنِ أنَّ يُنْفِقَ عليه ويَسْتَخْدِمَه بقَدْرِ نَفَقَتِه، في ظاهِرِ المَذْهَب. ذَكَرَه الخِرَقِي (¬1). ونصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ. قال: سَمِعْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن الرجلِ يَرْهَنُ العَبْدَ، فيَسْتَخْدِمُه؟ فقال: الرَّهْنُ لا يُنْتَفَعُ منه بشيءٍ، إلَّا حَدِيثَ أبي هُرَيرَةَ خاصَّةً في الذي يُرْكَبُ ويُحْلَبُ ويُعْلَفُ. قلتُ له: فإن كان الرُّكُوبُ واللَّبَنُ أكْثَرَ؟ قال: لا، إلَّا بقَدْرٍ. ونَقَل حَنْبَل عن أحمدَ، أنَّ له اسْتِخْدامَ العَبْدِ أيضًا. وبه قال أبو ثَوْرٍ، إذا امْتَنَعَ المالِكُ مِن الإِنْفاقِ عليه. قال أبو بكرٍ: خالفَ حَنْبَل الجماعَةَ، والعَمَلُ على أنَّه لا يَنْتَفِعُ مِن الرَّهْنِ بشيءٍ، إلَّا ما خَصَّهُ الشَّرْعُ؛ فإنَّ القِيَاسَ [يَقْتَضِي أنَّ] (¬2) لا يَنْتَفِعَ بشيءٍ منه، تَرَكْناه في المَرْكُوبِ والمَحْلُوبِ للأَثرِ، ففيما عَداه يَبْقَى على مُقْتضَى القِياسِ. ¬

(¬1) في م: «القاضي». (¬2) في م: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسْمُ الثانِي، ما لا يَحْتاجُ إلى مُؤْنَةٍ، كالدّارِ والمَتاعِ ونحوه، فلا يَجُوزُ للمُرْتَهِنِ الانْتِفاعُ به (¬1) بغيرِ إذْنِ الرّاهِنِ. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّ الرَّهْنَ مِلْكُ الرّاهِنِ، فكذلك نماؤُه. فإنْ أذِنَ الرّاهِنُ للمُرْتَهِنِ في الانْتِفاعِ بغيرِ عِوَض، وكان دَينُ الرَّهْن (¬2) مِن قَرْضٍ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يَصِيرُ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَة، وذلك حَرَامٌ. قال أحمدُ: أكْرَهُ قَرْضَ الدُّورِ، وهو الرِّبا المَحْضُ. يَعْنِي إذا كانتِ الدّارُ (¬3) رَهْنًا في قَرْض يَنْتَفِعُ بها المُرْتَهِنُ. وإن كان الرَّهْنُ بثَمَنِ مَبِيعٍ، أو أجْرِ دارٍ، أو دَين غيرِ القَرْضِ، فأذِنَ له الرَّاهِنُ في الانْتِفاعِ، جاز ذلك. وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ، وابنِ سِيرينَ. وهو قولُ إسحاقَ. فأمّا إن كان الانْتِفاعُ بعِوَضٍ، مثلَ أنِ اسْتَأْجَرَ المُرْتَهِنُ الدّارَ مِن الرّاهِنِ بأُجْرَةِ مِثْلِها مِن غيرِ مُحاباةٍ، جاز في القَرْضِ وغيرِه؛ لكَوْنِه ما انْتَفَعَ بالقَرْضِ، إنَّما انْتَفَعَ بالإجارَةِ، وإن حاباه، فهو كالانْتِفاع بغيرِ عِوَض، يَجُوزُ في غيرِ القَرْضِ. ومتى اسْتَأْجَرَها أو اسْتَعارَها المُرْتَهِنُ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الراهن». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنها تَخْرُجُ عن كَوْنِها رَهْنًا، فمتى انْقَضَتِ الإِجارةُ أو العارِيَّةُ، عاد الرَّهْنُ بحالِه. قال أحمدُ في رِوايَةِ الحَسَنِ بنِ ثَوَابٍ (¬1) عن (¬2) أحمدَ، إذا كان الرَّهْنُ دارًا فقال المُرْتَهِنُ: اسْكُنْها بكِرائِها، وهي وَثِيقَةٌ بحَقِّي. تَنْتَقِلُ فتَصِيرُ دَينًا، وتَتَحَوَّلُ عن الرَّهْنِ. وكذلك إن أكْراها للرّاهِنِ. وقال أحمدُ، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا ارْتَهَنَ دارًا ثم أكْراها لِصاحِبِها، خَرَجَتْ مِن الرهْنِ، فإذا رَجَعَتْ إليه صارَتْ رَهْنًا. قال شَيخُنا (¬3): والأوْلَى أنَّها لا تَخْرُجُ مِن الرَّهْنِ إذا اسْتَأجَرَها المُرْتَهِنُ أو اسْتَعَارَها؛ لأن القَبْضَ ¬

(¬1) أبو علي الحسن بن ثواب الثعلبي المخرمي، بغدادي ثقة، كان له بالإمام أحمد أنسٌ شديد، توفي سنة ثمان وسنتين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 131، 132. (¬2) في م: «قال». (¬3) في: المغني 6/ 510.

1810 - مسألة: (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه، فهو متبرع)

وَإنْ أنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ بِغَيرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَدامٌ، ولا تَنافِيَ بينَ العَقْدَين. وكلامُ أحمدَ في رِوايَةِ الحَسَنِ بنِ ثَوَابٍ مَحْمُولٌ على أنَّه أذِنَ للرّاهِنِ (¬1) في سُكْناها، كما في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ؛ لأنَّها خرَجَتْ عن يَدِ المُرْتَهِنِ، فزال اللّزُومُ لزَوالِ اليَدِ، بخِلافِ ما إذا سَكَنَها المُرْتَهِنُ. ومتى اسْتَعارَ المُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، صار مَضْمُونًا عليه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ضَمانَ عليه. ومَبْنَى ذلك على العارِيَّةِ، هل هي مَضْمُونَةٌ أم لَا؟ وسَيَأتِي ذلك. 1810 - مسألة: (وإن أنْفَقَ على الرَّهْنِ بغيرِ إذْنِ الرَّاهِنِ مع إمْكانِه، فهو مُتَبَرِّعٌ) إذا أنْفَقَ على الحَيَوانِ مُتَبَرِّعًا، لم يَرْجعْ بشَئٍ؛ لأنَّه تَصَدَّقَ به، فلم يَرْجِعْ بعِوَضِه، كالصَّدَقَةِ على مِسْكِيَن، وإن نَوَى ¬

(¬1) في ر 1: «المرتهن».

1811 - مسألة: (وإن عجز عن استئذانه، ولم يستأذن الحاكم، فعلى روايتين)

وَإنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِئْذَانِهِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنِ الْحَاكِمَ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ على المالِكِ، وكان ذلك بإذْنِ المالِكِ، رَجَع عليه؛ لأنَّه ناب عنه في الإِنْفاقِ بإذْنِه، فكانتِ النَّفَقَةُ على المالِكِ، كما لو وَكَّلَه في ذلك. 1811 - مسألة: (وإن عَجَز عن اسْتِئْذانِه، ولم يَسْتَأْذِنِ الحاكِمَ، فعلى رِوايَتَين) مَفْهُومُ كلامِه ههُنا أنَّه متى قَدَر على اسْتِئْذانِ المالِكِ (¬1)، فلم يَسْتَأذِنْه، أنَّه يَكُونُ مُتَبَرعًا، لا يَرْجِعُ بشيءٍ. وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. لأنَّه مُفَرِّطٌ في تَرْكِ اسْتِئْذانِه مع القُدْرَةِ عليه، فلم يَرْجِعْ، كما لو عَمَّرَ دارَه بغيرِ إذْنِه. وإن عَجَز عن اسْتِئْذانِه، ولم يَسْتَأْذِنِ الحاكِمَ، ففيه رِوايَتان؛ إحداهُما، أنَّه مُتَبَرِّعٌ؛ لأنَّه لم يَسْتَأْذِنْ مالِكَه، ولا مَن يَقُومُ مَقامَه، أشْبَهَ ما لو كان المالِكُ حاضِرًا فلم يَسْتَأْذِنْه. والثانية، ¬

(¬1) في ر 1: «الراهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْجِعُ عليه؛ لأَنه أنْفَقَ عليه عندَ العَجْزِ عن اسْتِئْذانِه، أشْبَهَ ما لو عَجَز عن اسْتِئْذانِ الحاكِمِ. وكذلك الحُكْمُ فيما إذا مات العَبْدُ المَرْهُونُ. وقال شَيخُنا (¬1) [فيما إذ] (¬2) أنْفَقَ بغَيرِ إذْنِ الرّاهِنِ، بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ، مع إمْكانِه: إنَّه يُخَرَّجُ على رِوايَتَين، بِناءً على ما إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه، وهذا أقْيَسُ في المَذْهَبِ، إذْ لا يُعْتَبَرُ في قَضاءِ الدَّينِ العَجْزُ عن اسْتِئْذانِ الغَرِيمِ. ¬

(¬1) في: المغني 6/ 513. (¬2) في م: «في من».

1812 - مسألة: (وكذلك الحكم في الوديعة، وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمال وتركها في يد المكتري)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ، وَفِي نَفَقَةِ الْجِمَالِ إِذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ وَتَرَكَهَا فِي يَدِ الْمُكْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1812 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ في الوَدِيعَةِ، وفي نَفَقَةِ الجِمَالِ إذا هَرَبَ الجَمَّالُ وتَرَكَها في يَدِ المُكْتَرِي) لأنَّها أمانَةٌ، فأشْبَهَتِ الرَّهْنَ.

1813 - مسألة: (وإن انهدمت الدار، فعمرها المرتهن بغير إذن الراهن، لم يرجع به، رواية واحدة)

وَإنِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، فَعَمَرَهَا الْمُرْتَهِنُ بِغَيرِ إِذْنِ الرَّاهِن، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1813 - مسألة: (وإنِ انْهَدَمَتِ الدّارُ، فعَمَرَها المُرْتَهِنُ بغَيرِ إذْنِ الرّاهِنِ، لم يَرْجِعْ به، رِوايَةً واحِدَةً) وليس له الانْتِفاعُ بها بقَدْرِ عِمارَتِها، فإنَّ عِمارَتَها غيرُ واجِبَةٍ على الرّاهِنِ، فليس لغيرِه أنَّ يَنُوبَ عنه فيما لا يَلْزَمُه. فإن فَعَل، كان مُتَبَرِّعًا، كالأجْنَبِيِّ، بخِلافِ نَفَقَةِ الحَيَوانِ، فإنَّها تَجِبُ على مالِكِه؛ لحُرْمَتِه في نَفْسِه، وكذلك كَفَنُ العَبْدِ إذا مات، يَجِبُ على سَيِّدِه.

فَصْلٌ: وَإذَا جَنَى الرَّهْنُ جِنَايَةً مُوجبَةً لِلْمَالِ، تَعَلَّقَ أرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ، وَلِسَيِّدِهِ فِدَاؤُهُ بِالأقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَو أَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يَبِيعُهُ فِي الْجِنَايَةِ، أوْ يُسَلِّمُهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَيَمْلِكُهُ. وَعَنْهُ، إِنِ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، لَزِمَهُ جَمِيعُ الْأرْشِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (إذا جَنَى الرَّهْنُ جِنَايَةً مُوجِبَةً للمالِ، تَعَلَّقَ أَرشُها برَقَبَتِه، ولِسَيِّدِه فِداؤُه بالأقَلِّ مِن قِيمَتِه أو أَرشِ جِنايَتِه، أو بَيعُه في الجِنَايَةِ، أو يُسَلِّمُه إلى وَلِيِّ الجِنايَةِ، فيَمْلِكُه. وعنه، إنِ اخْتارَ فِداءَه، لَزِمَه جَميعُ الأرْشِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ العَبْدَ المَرْهُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا جَنَى على إنْسانٍ، أو على مالِه، تَعَلَّقَتِ الجِنايَةُ برقَبَتِه، وقُدِّمَتْ على حَقِّ المُرْتَهِنِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّها مُقَدَّمَةٌ على حَقِّ المالِكِ، والمِلْكُ أقْوَى مِن الرهْنِ، فأوْلَى أنَّ يُقَدَّمَ على الرَّهْنِ. فإن قِيلَ: فحَقُّ المُرْتَهِنِ أيضًا يُقَدَّمُ على حَقِّ المالِكِ. قُلْنا: حَقُّ المُرْتَهِنِ ثَبَت مِن جِهَةِ المالِكِ بعَقْدِه، وحَقُّ الجِنايَةِ ثَبَت بغَيرِ اخْتِيارِه مُقَدَّمًا على حَقِّه، فيُقَدَّمُ على ما ثَبَت بعَقْدِه، ولأنَّ حَقَّ الجِنايَةِ مُخْتَصٌّ بالعَينِ، يَسْقُطُ بفَواتِها، وحَقُّ المُرْتَهِنِ لا يَسْقُطُ بفَواتِ العَينِ، ولا يَخْتَصُّ بها، فكان تَعَلُّقُه بها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أخَفَّ وأدْنَى] (¬1). فإن كانت جِنايَتُه مُوجِبَةً للقِصَاصِ في النَّفْسِ، فلِوَلِيِّ الجِنايَةِ اسْتِيفاؤُه، فإنِ اقْتَصَّ، سَقَط الرَّهْنُ، كما لو تَلِف. وإن كانت في طَرَفٍ، اقْتَصَّ منه، وبَقِي الرَّهْنُ في باقِيه. وإن عَفا على مالٍ، تَعَلَّقَ برَقَبَةِ العَبْدِ، وصار كالجِنايَةِ المُوجِبَةِ للمالِ، فيُقالُ للسَّيِّدِ: أنْتَ مُخَيَّرٌ بينَ فِدائِه وبينَ تَسْلِيمِه للبَيعِ. فإنِ اخْتارَ فِداءَه، فَداه بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه أو أرْشِ جِنايَتِه، في أصَحِّ الرِّوايَتَين؛ لأَنه إن كان الأرْشُ أقَلَّ، فالمَجْنِيُّ عليه لا يَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِن أَرْشِ جِنايَته، وإن كانتِ القِيمَةُ أقَلَّ، فلا يَلْزَمُه أكْثَرُ منها؛ لأنَّ ما يَدْفَعُه عِوَضٌ عن العَبْدِ، فلا يَلْزَمُ أكْثَرُ مِن قِيمَتِه، كما لو أتْلَفَه. والثانيةُ، يَفْدِيهِ بأَرْشِ جِنايَته بالِغًا ما بَلَغ؛ لأَنه ¬

(¬1) في م: «أحق وأولى».

1814 - مسألة: (فإن فداه، فهو رهن بحاله، وإن سلمه بطل الرهن)

فَإِنْ فَدَاهُ، فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَإنْ سَلَّمَهُ، بَطَلَ الرَّهْنُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقِ الْأَرْشُ قِيمَتَهُ، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ، وَبَاقِيهِ رَهْنٌ. وَقِيلَ: يُبَاعُ جَمِيعُهُ، ويَكُونُ بَاقِي ثَمَنِهِ رَهْنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُبَّما يَرْغَبُ فيه راغِبٌ، فيَشْتَرِيه بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه. 1814 - مسألة: (فإن فَداهُ، فهو رَهْنٌ بحالِه، وإن سَلَّمه بَطَل الرَّهْنُ) إذا فَداهُ الرّاهِنُ، فهو رَهْنٌ بحالِه؛ لأنَّ حَقَّ المُرْتَهِنِ قائِم؛ لوُجُودِ سَبَبِه، وإنَّما قُدِّمَ حَقُّ المَجْنِيِّ عليه لقُوَّتِه، فإذا زال، ظَهَر حُكْمُ الرَّهْنِ، كحَقِّ مَن لا رَهْنَ له مع حِقِّ المُرْتَهِنِ في تَرِكَةِ المُفْلِسِ، إذا أسْقَطَ المُرْتَهِنُ حَقَّه ظَهَر حُكْمُ الآخرِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وإن سَلَّمَه، بَطَل الرَّهْنُ؛ لفَواتِ مَحَلِّه، فهو كما لو تَلِف. 1815 - مسألة: (فإن لم يَسْتَغْرِقِ الأرْشُ قِيمَتَه، بِيعَ منه بقَدْرِه، وباقِيه رَهْنٌ. وقِيلَ: يُباعُ جَمِيعُه، ويَكُونُ باقِي ثَمَنِه رَهْنًا) إذا لم يَسْتَغْرِقْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَرْشُ الجِنايَةِ قِيمَةَ الرَّهْنِ، بيعَ منه بقَدْرِ الأَرْشِ، وباقِيه رَهْنٌ؛ لأنَّ بَيعَه إنَّما جاز ضَرُورَةَ إيفاءِ الحَقِّ، فإذا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ بِبَيعِ البَعْضِ، لم يَجُزْ بَيعُ ما بَقِيَ، لعَدَمِ الضَّرُورَةِ فيه. فإن تَعَذَّرَ بَيعُ بَعْضِه، بِيعَ كلُّه، للضَّرُورَةِ المُقْتَضِيَةِ لبَيعِه، ويَكُونُ باقِي ثَمَنِه رَهْنًا، لعَدَمِ تَعَلُّقِ الجنايَةِ به. وقال أبو الخَطّابِ: هل يُباعُ منه بقَدْرِ الجِنايَةِ، أو يُباعُ جَمِيعُه ويَكُونُ الفاضِلُ مِن ثمَنِه عن أَرْشِ جِنايَتِه رَهْنًا؟ علي وَجْهَين؛ أحَدُهما، يُباعُ بَعْضُه خاصَّةً، لِما ذَكَرْنا. والثانِي، يُباعُ جَمِيعُه، لأنَّ بَيعَ البَعْضِ تَشْقِيصٌ (¬1) له، وهو عَيبٌ يَنْقُصُ به الثَّمَنُ، وذلك يَضرُّ بالمالِكِ والمُرْتَهِنِ، وقد قال عليه السَّلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬2)». ¬

(¬1) في م: «يستقبض». (¬2) في الأصل: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368.

1816 - مسألة: (فإن اختار المرتهن فداءه، ففداه بإذن الراهن، رجع به، وإن فداه بغير إذنه، فهل يرجع به؟ على روايتين)

وَإِنِ اخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ فِدَاءَهُ، فَفَدَاهُ بإِذْنِ الرَّاهِنِ، رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ فَدَاهُ بِغَير إِذْنِهِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1816 - مسألة: (فإنِ اخْتارَ المُرْتَهِنُ فِداءَه، ففَداهُ بإذْنِ الرّاهِنِ، رَجَع به، وإن فَداهُ بغَيرِ إذْنِه، فهلِ يَرْجِعُ به؟ على رِوايَتَين) إذا امْتَنَع الرّاهِنُ مِن فِداءِ الجانِي، فالمُرْتَهِنُ مُخيَّرٌ بينَ فِدائِه وتَسْلِيمِه، فإنِ اخْتارَ فِداءَه، فبِكمْ يفْدِيه؟ يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَين فيما يَفْدِيه به الرّاهِنُ. فإنْ فَداه بإذْنِ الرّاهِنِ، رَجَع به عليه، كما لو قَضَى دَينَه بإذْنِه. وإن فَداه مُتَبَرِّعًا، لم يَرْجِعْ بشيء. وإن نَوَى الرُّجُوعَ، فهل يَرْجِعُ بذلك؟ على وَجْهَين، بناءً على ما لو قَضَى دَينَه بغَيرِ إذْنِه. فإن زادَ [في الفِداءِ على الواجِبِ] (¬1)، لم يَرْجِعْ به، [وَجْهًا واحِدًا] (¬2). ومَذْهَبُ الشافعيِّ كما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّه لا يَرْجِعُ بما فَداه بغيرِ إذْنِه، وَجْهًا واحِدًا. وإن ¬

(¬1) في م: «على الفداء الواجب». (¬2) في الأصل: «رواية واحدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرَط له الرَّاهِنُ الرُّجُوعَ، رَجَع، قَوْلًا واحِدًا. وإنْ قَضاهُ بإذْنِه مِن غيرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ، ففيه وَجْهانِ، وهذا أصْلٌ يُذْكَرُ فيما بعدُ. فإنْ فَدَاهُ وشَرَطَ أنْ يكون رَهْنًا بالفِداءِ مع الدَّينِ الأوَّلِ، فقال القاضِي: يَجُوزُ ذلك؛ لأنَّ المَجْنِيَّ عليه يَمْلِكُ بَيعَ العَبْدِ وإبْطال الرَّهْنِ، فصارَ بمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الجائزِ قبلَ قَبْضِه، والزِّيادَةُ في دَينِ الرَّهْنِ قبلَ لزُومِه جائِزَة، ولأن أرْشَ الجنايَةِ مُتَعَلِّق به، وإنَّما يَنْتَقِلُ مِن الجِنايَةِ إلى الرَّهْنِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّ العَبْدَ رُهِنَ بدَينٍ، فلم يَجُزْ (¬1) رَهْنُه بدَين سِواه، كما لو رَهَنَه بدَين غيرِ هَذا. وذَهَب أبو حنيفةَ إلى أنَّ ضَمانَ جِنايَةِ الرَّهْنِ على المُرْتَهِنِ، فإن فَداهُ، لم يَرْجِعْ بالفداءِ، وإن فَداهُ الرَّاهِنُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بِيعَ في الجِنايَةِ، سَقَط دَينُ الرَّهْنِ، إن كان بقَدْرِ الفِداءِ. وبناه (¬1) على أصْلِه في أنَّ الرهْنَ مِن ضَمانِ المُرْتَهِنِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: فإن كانتِ الجِنايَةُ على سَيِّدِ العَبْدِ، فلا تَخْلُو مِن حَالين؛ أحَدُهما، أنَّ تَكُونَ غيرَ مُوجِبَةٍ للقَوَدِ، كجِنايَةِ الخَطَأ، أو (¬2) إتْلافِ مالٍ، فتَكُونُ هَدْرًا؛ لأنَّ العَبْدَ مالُ سَيِّدِه، فلا يَثْبُتُ له مالٌ في مالِه. ¬

(¬1) في م: «بناء». (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانِي، أن تَكُونَ مُوجِبَةً للقَوَدِ، فلا تَخْلُو أنَّ تَكُونَ على النَّفْسِ، أو على ما دُونَها، فإن كانت على ما دُونَ النَّفْسِ، فالحَقُّ للسَّيِّدِ، فإن عَفا على مالٍ، سَقَط القِصاصُ، ولم يَجِبِ المالُ؛ لِما ذَكَرْنا. وكذلك إن عَفا على غيرِ مالٍ. وإن أرادَ أنَّ يَقْتَصَّ، فله ذلك؛ لأنَّ السَّيِّدَ لا يَمْلِكُ الجِنايَةَ على عَبْدِه، فيَثْبُتُ له ذلك بجِنايَتِه عليه، كالأجْنَبِيِّ، ولأنَّ القِصاصَ يَجِبُ للزَّجْرِ، والحاجَةُ داعِيَةٌ إلى زَجْرِه عن سَيِّدِه. فإنِ اقْتَصَّ، فعليه قِيمَتُه، تَكُونُ رَهْنًا مكانَه، أو قَضاءً عن الدَّينِ؛ لأنَّه أخْرَجَه عن الرَّهْنِ باخْتِيارِه، فكان عليه بَدَلُه، كما لو أعْتَقَه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجبَ عليه شيءٌ؛ لأنَّه اقْتَصَّ (¬1) بإذْنِ الشَّارِعِ، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كالأَجْنَبِيِّ. وكذلك إن كانتِ الجِنايَةُ على النَّفْسِ فاقْتَصَّ الوَرَثَةُ، فهل تَجِبُ عليهم القِيمَةُ؟ يُخَرَّجُ على ما ذَكَرْنا. وليس للوَرَثَةِ العَفْوُ على مالٍ؛ لِما ذَكَرْنا في السَّيِّدِ؛ لأنَّهم يَقُومُونَ مَقامَ المَوْرُوثِ. وذَكَر القاضِي وَجْهًا آخَرَ، أنَّ لهم ذلك؛ لأن الجِنايَةَ في مِلْك غيرِهم، فكانَ لهم العَفْوُ على مالٍ، كما لو جَنَى على أجْنَبِيٍّ. وللشافعيِّ قَوْلان، كالوَجْهَين. فإن عَفا بعضُ الوَرَثَةِ، سَقَط القِصاصُ. ¬

(¬1) بعده في م: «بإذنه فكأنه اقتص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهل يَثْبُتُ لغيرِ العافِي نَصِيبُه مِن الدِّيَةِ؟ على وَجْهَين. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ على نحو ما ذَكَرْناه. فصل: فإن جَنَى العَبْدُ (¬1) المَرْهُونُ على عَبْدِ سَيِّدِه، لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحَدُهما؛ أنَّ لا يَكُونَ مَرْهُونًا، فحُكْمُه حُكْمُ الجِنايَةِ على طَرَفِ سَيِّدِه، له القِصاصُ إن كانتْ جِنايَتُه مُوجِبَةً له، فإن عَفا على مالٍ أو غيرِه، أو كانت الجِنايَةُ لا تُوجِبُ القِصاصَ، ذَهَبَتْ هَدْرًا، وسَواءٌ كان المَجْنِيُّ عليه قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو امَّ وَلَدٍ. الحالُ الثّانِي، أنَّ يَكُونَ رَهنًا، فلا يَخْلُو؛ إمّا أنَّ يَكُونَ رَهْنًا عندَ مُرتهِنِ القاتِلِ، أو غيرِه، فإن كان عند (¬2) مُرْتَهِن القاتِلِ، والجِنايَةُ مُوجِبَة للقِصاصِ، فللسَّيِّدِ القِصاصُ. فإنِ اقْتَصَّ بَطَل الرَّهْنُ في المَجْنِيِّ عليه، وعليه قِيمَةُ المُقْتَصِّ منه. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَجِبَ؛ لأنَّه اقْتَصَّ، بإذْنِ الشّارِعِ، فإن عَفا على مالٍ، أو كانتِ الجِنايَةُ مُوجبَةً للمالِ وكانا (¬3) رَهْنًا بحَقٍّ واحِدٍ، فجِنايَتُه هَدْرٌ؛ لأنَّ الحَقَّ يَتَعَلَّقُ بكَلِّ واحِدٍ منهما، فإذا قُتِلَ أحَدُهما بَقِيَ الحَقُّ مُتَعَلِّقًا بالآخَرِ، وإن كان كلُّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ منهما رَهْنًا بحَقٍّ مُفْرَدٍ، ففيه أرْبَعُ مَسائِلَ؛ أحَدُها، أنَّ يَكونَ الحَقّان سَواءً وقِيمَتُهما سَواءً، فتَكُونُ الجِنايَةُ هَدْرًا، سَواءٌ كان الحَقّان مِن جِنْسَين، مثلَ أنَّ يَكُونَ أحَدُهما بمائةِ دِينارٍ، والآخَرُ بدَراهِمَ قِيمَتُها مائَة دِينارٍ، أو مِن جِنْس واحِدٍ؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في اعْتِبارِ الجِنايَةِ. المسألةُ الثانيةُ، أنَّ يَخْتَلِفَ الحَقّان وتَتَّفِقَ القِيمَتانِ، مثلَ أنَّ يَكُونَ دَينُ أحَدِهما مائةً ودَينُ الآخَرِ مائَتَين، وقِيمَةُ كلِّ واحِدٍ منهما مائَةً، فإن كان دَينُ القاتِل أكْثَرَ، لم يُنْقَلْ إلى دَينِ المَقْتُول؛ لعَدمِ الغَرَضِ فيه، وإن كان دَينُ المَقْتُولِ أكْثَرَ، نُقِلَ إلى القاتِلِ؛ لَأنَّ للمُرْتَهنِ غرَضًا في ذلك. وهل يُباعُ القاتِلُ وتُجْعَلُ قِيمَتُه رَهْنًا مكانَ المَقْتُولِ، أو يُنْقَلُ بحالِه؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا يُباعُ؛ لأنَّه لا فائِدَةَ فيه. والثانِي، يُباعُ؛ لأنَّه رُبَّما زادَ فيه مَن يُبْلِغُه أكْثَرَ مِن ثَمَنِه، فإنْ عُرِضَ للبَيعِ فلم يُزَدْ فيه، لم يُبَعْ؛ لعَدمِ ذلك. المسألةُ الثالِثَةُ، أنَّ يَتَّفِقَ الدَّينان وتَخْتَلِفَ القِيمَتان، بأن يَكُونَ دَينُ كلِّ واحِدٍ منهما مائةً، وقِيمَةُ أحَدِهما مائةً والآخَر مائَتَين، فإن كانت قِيمَة المَقْتُولِ أكْثَرَ، فلا غَرَضَ في النَّقْلِ، فيَبْقَى بحالِه، وإن كانت قِيمَةُ الجانِي أكْثَرَ، بِيعَ منه بقَدْرِ جِنايَتِه، تَكُونُ رَهْنًا بدَينِ المَجْنِيِّ عليه، والباقي رَهْنٌ بدَينِه، وإنِ اتَّفَقَا على تَبْقِيَتِه ونَقْلِ الدَّينِ إليه، صار مَرْهُونًا بهما، فإن حَلَّ أحَدُ الدَّينَين، بِيعَ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه إن كان دَينُه المُعَجَّلَ، بِيعَ ليَسْتَوْفِيَ مِن ثَمَنِه، وما بَقِيَ منه رَهْن بالدَّينِ الآخَرِ، وإن كان المُعَجَّلُ الآخَرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِيعَ ليَسْتَوْفِيَ منه بقَدْرِه، والباقِي رَهْنٌ بدَينِه. المسألةُ الرابعَةُ، أنَّ يَخْتَلِفَ الدَّينان والقِيمَتان، مثلَ أنَّ يَكُونَ أحَدُ الدَّينَين خَمْسِين، والآخَرُ ثمانِين، وقِيمَةُ أحَدِهما مائَةً والآخَرِ مائَتَين، فإن كان دَينُ المَقْتُولِ أكْثَرَ، نُقِلَ إليه، وإلَّا فَلَا. فصل: فإن كان المَجْنِيُّ عليه رَهْنًا عندَ غيرِ مُرْتَهِنِ (¬1) القاتِلِ، فللسَّيِّدِ القِصاصُ؛ لأنَّه مُقَدَّمٌ على حَقِّ المُرْتَهِنِ، بدَلِيلِ أنَّ الجنايَةَ المُوجِبَةَ للمالِ مُقَدَّمَةٌ عليه، فالقِصَاصُ أوْلَى. فإنِ اقْتَصَّ، بَطَلَ الرَّهْنُ في المَجْنِيِّ عليه؛ لأنَّ الجنايَةَ عليه لم تُوجِبْ مالًا يُجْعَلُ رَهْنًا مَكانَه، وعليه قِيمَة المُقْتَصِّ منه، يَكُوَنُ رَهْنًا، لأنَّه أْبطَلَ حَقَّ الوَثِيقَةِ فيه باخْتِيارِه. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا تَجِبَ؛ لِما ذَكَرْنا، وللسَّيِّدِ العَفْوُ على مالٍ، فتَصِيرُ كالجِنايةِ المُوجِبَةِ للمالِ، فيَثْبُتُ المالُ في رَقَبَةِ العَبدِ، لأنَّ السَّيِّدَ لو جَنَى على العَبْدِ، لوَجَبَ أرْشُ جِنايَتِه لِحَقِّ المُرْتَهِنِ، فبأنْ يَثْبُتَ على عَبْدِه أوْلَى. فإن كان الأرْشُ لا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه، بِعْنا منه بقَدْرِ أَرْشِ الجِنايَةِ، يَكُونُ رَهْنًا عندَ مُرْتَهِنِ المَجْنِيِّ عليه، وباقِيه رَهْنٌ عندَ مُرْتَهِنِه، وإن لم يُمْكِنْ بَيعُ بَعْضِه، بِيعَ جَمِيعُه، وقُسِمَ ثَمَنُه بينَهما على حَسَبِ ذلك، يَكُون رَهْنًا. وإن كانتِ الجِنايَةُ تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه، نُقِلَ الجانِي، فجُعِلَ رَهْنًا عندَ الآخَرِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُباعَ؛ لاحْتِمالِ أنْ يَرْغَبَ في شِرائِه راغِبٌ بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه، فيَفْضُلُ مِن قِيمَتِه شيءٌ يَكُونُ رَهْنًا عندَ مُرْتَهِنِه. وهذا كلُّه قولُ ¬

(¬1) في الأصل: «المرتهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ. فصل: فإنْ كانتِ الجِنايَةُ على مَوْرُوثِ سَيِّدِه فيما دُونَ النَّفْسِ، كأطْرافِه أو مالِه، فهي كالجِنايَةِ على أجْنَبِيٍّ، وله القِصاصُ إن كانت مُوجِبَةً له، والعَفْوُ على مالٍ وغيرِه، وإن كانت مُوجِبَةً للمالِ ابْتداءً، ثَبَت، فإنِ انْتَقَلَ ذلك إلى السَّيِّدِ بمَوْتِ المُسْتَحِقِّ، فله ما لمَوْرُوثِه مِن القِصاصِ والعَفْو على مالٍ؛ لأنَّ الاسْتِدامَةَ أقْوَى مِن الابتِداءِ، فجازَ أنْ يَثْبُتَ بها ما لا يَثْبُتُ في الابتِداءِ، وإن كانتِ الجِنايَةُ على نَفْسِه بالقَتْلِ، ثَبَت الحُكْمُ لسَيِّدِه، وله أنَّ يَقْتَصَّ فيما يُوجِبُ القِصاصَ. وإن عَفا على مالٍ، أو كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للمالِ ابْتِداءً، فهل يَثْبُتُ للسَّيِّدِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَثْبُت. وهو قولُ [بَعْضِ أصحابِ] (¬1) الشافعيِّ؛ لأنَّ الجِنايَةَ على غيرِه، فأشْبَهَتِ الجِنايَةَ على ما دُونَ النَّفْسِ. والثانِي، لا يَثْبُتُ له مالٌ في عَبْدِه، ولا له العَفْوُ عليه. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه حَقٌّ ثَبَت للسَّيِّدِ ابْتِداءً، فلم يَكُنْ له ذلك، كما لو كانتِ الجِنايَةُ عليه. وأصْلُ الوَجْهَين في وُجُوبِ الحَقِّ في ابْتِدائِه، هل يَثْبُتُ للقَتِيلِ ثم يَنْتَقِلُ إلى وارِثِه، أو يَثْبُتُ للوارِثِ ابْتِداءً؟ على وَجْهَين. وكلُّ مَوْضِع ثَبَت له المالُ في رَقَبَةِ عَبْدِه، فإنَّه يُقَدَّمُ على الرَّهْنِ؛ لأنَّه يَثْبُتُ للمَوْرُوثِ (¬2) بهذه الصِّفَةِ، فيَنْتَقِلُ إلى وارِثِه كذلك، فإنِ اقتَصَّ في هذه الصُّورَةِ، لم يَلزَمْه بَدَل الرَّهْنِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

1817 - مسألة: (وإن جني عليه جناية موجبة للقصاص،

وَإنْ جُنِيَ عَلَيهِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاص، فَلِسَيِّدِهِ الْقِصَاصُ، فَإِنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قُدِّمَ المالُ على حَقِّ المُرْتَهِنِ، فالقِصاصُ أوْلَى. ولأنَّ القِصاصَ يَثْبُتُ للمَوْرُوثِ مُقَدَّمًا على حَقِّ المُرْتَهِنِ، فكذلك في حَقِّ وارِثِه. فإن كانتِ الجِنايَةُ على مُكاتَبِ السَّيِّدِ، فهي كالجِنايَةِ على وَلَدِه، وتَعْجِيزُه كمَوْتِ وَلَدِه، فيما ذَكَرْناه. فصل: فإن جَنَى العَبْدُ المَرْهُونُ بإذْنِ سَيِّدِه، وكان مِمَّنْ (¬1) يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الجِنايَةِ، وأنَّه لا يَجبُ عليه قَبُولُ ذلك مِن سَيِّدِه، فهي كالجِنايَةِ بغيرِ إذْنِه، وإنْ كان صَبِيًّا أَو أعْجَمِيًّا لا يَعْلَمُ ذلك، فالجانِي هو السَّيِّدُ، يَتَعَلَّقُ به مُوجَبُ الجِنايَةِ، ولا يُباعُ العَبْدُ فيها (¬2)، مُوسِرًا كان السَّيِّدُ (¬3) أو مُعْسِرًا، كما لو باشَرَ السَّيِّدُ (¬4) الجِنايَةَ. وقال القاضِي: فيه وَجْهٌ، أنَّ العَبْدَ يُباعُ مع إعْسارِ السَّيِّدِ؛ لأنَّ العَبْدَ باشَرَ الجِنايَةَ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ العَبْدَ آلةٌ، فلو تَعَلَّقَتِ الجِنايَةُ به، بِيعَ فيها (3) مع اليَسارِ. وحُكْمُ إقْرارِ العَبْدِ بالجِنايَةِ حُكْمُ إقْرارِ غيرِ المَرْهُونِ، على ما يَأْتِي بَيانُه إنْ شَاءَ الله تَعالى. 1817 - مسألة: (وإن جُنِيَ عليه جِنايَةٌ مُوجِبَةٌ للقِصاصِ، ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في الأصل: «فيهما». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

اقْتَصَّ، فَعَلَيهِ قِيمَةُ أَقلِّهِمَا قِيمَةً، تُجْعَلُ مَكَانَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فللسَّيِّدِ القِصاصُ، فإنِ اقْتَصَّ، فَعَلَيه قِيمَةُ أقَلِّهما قِيمَةً، تُجْعَلُ مَكانَه) إذا جُنِيَ على الرَّهْنِ، فالخَصْمُ في ذلك السَّيِّدُ؛ لأنَّه المالِكُ، والأرْشُ الواجبُ بالجِنايَةِ مِلْكُه، وإنَّما للمُرْتَهِنِ فيه حَقُّ الوَثِيقَةِ، فصارَ كالعَبْدِ المُسْتَأْجَرِ والمُودَعِ. وبهذا قال الشافعيُّ وغيرُه. فإن تَرَكَ المُطالبَةَ، أو أخَّرَها، أو كان غائِبًا، أو له عُذْرٌ يَمْنَعُه منها، فللمُرْتَهِنِ المُطالبَةُ بها؛ لأنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمُوجِبِها، فكان له الطَّلَبُ (¬1) به، كما لو كان الجانِي سَيِّدَه. ثم إن كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للقِصاصِ، فللسَّيِّدِ القِصاصُ؛ لأنَّه حَقٌّ له، وإنَّما يَثْبُتُ ليُسْتَوْفَى، فإنِ اقْتَصَّ، أُخِذَتْ منه قِيمَةُ أقَلِّهما قِيمَةً، فجُعِلَتْ مَكانَه رَهْنًا. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهل قولُ إسحاقَ. ويَتَخَرَّجُ أنَّ لا يَجِبَ عليه شيءٌ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لم يَجِبْ بالجِنايَةِ مالٌ، ولا اسْتُحِقَّ بحالٍ، وليس على الرّاهِنِ أنَّ يَسْعَى ¬

(¬1) في م: «المطالبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُرْتَهِنِ في اكْتِسابِ مالٍ. ووجْهُ الأوَّلِ، أنَّه أتْلَفَ مالًا اسْتُحِقَّ بسَبَبِ إتْلافِ الرَّهْنِ، فغَرِمَ قِيمَتَه، كما لو كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للمالِ. وهكذا الحُكْمُ فيما إذا ثَبَت القِصاصُ للسَّيِّدِ في عَبْدِه المَرْهُونِ. وإنَّما أوْ جَبْنا أقَلَّ القِيمَتَين؛ لأنَّ حَقَّ المُرْتَهِنِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بالمالِيَّةِ، والواجِبُ مِن المالِ هو أقَلُّ القِيمَتَين؛ لأنَّ الرَّهْنَ إن كان أقَلَّ لم يَجبْ أكْثَرُ مِن قِيمَتِه، وإن كان الجانِي أقَلَّ قِيمَةً لم يَجِبْ أكْثَرُ مِن قِيمَتِه؛ لأَنَّها التي أتْلَفَها بالقِصاصِ، وإن عَفا على مالٍ، صَحَّ عَفْوُه، ووَجَبَ أقَلُّ القِيمَتَينِ؛ لِما ذَكَرْنا. هذا إذا كان القِصاصُ قَتْلًا، وإن كان جُرْحًا أو قَلْعَ سِنٍّ، أو نحْوَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالواجِبُ بالعَفْو أقَلُّ الأمْرَينِ؛ مِن أرْشِ الجُرْحِ، أو قِيمَةِ الجانِي؛ لِما ذَكَرْنا. وإن عَفَا مُطْلَقًا، انْبَنَى على مُوجِبِ العَمْدِ ما هو؟ فإن قُلْنا: مُوجبُه أحَدُ شَيئَين. ثَبَت المالُ. وإن قُلْنا: موجِبُه (¬1) القِصاصُ عَينًا. فحُكْمُهَ كما لو اقْتَصَّ، إن (¬2) قُلْنا ثَمَّ: تَجِبُ القِيمَةُ على الرّاهِنِ. وَجَب هنا. وهو اخْتِيارُ أبي الخَطّابِ، لأنَّه فَوَّاتَ بَدَلَ (¬3) الرَّهْنِ بعَفْوه، أشْبَهَ ما لو ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «أو». (¬3) في الأصل: «بذلك».

1818 - مسألة: (وكذلك إن جنى على سيده، فاقتص منه هو أو ورثته)

وَكذَلِكَ إِنْ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُ هُوَ أَوْ ورَثتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اقْتَصَّ. وإن قُلْنا: لا تَجِبُ على الرّاهِنِ ثَمَّ. لم تَجِبْ ههُنا. وهو قولُ القاضِي، ومَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه اكْتِسابُ مالٍ، فلا يُجْبَرُ عليه. وكذلك إن عَفا على غيرِ مالٍ. 1818 - مسألة: (وكذلك إن جَنَى على سَيِّدِه، فاقْتَصَّ منه هو أو وَرَثته) وقد ذَكَرْنا ذلك.

1819 - مسألة: (وإن عفا السيد على مال، أو كانت موجبة للمال، فما قبض منه، جعل مكانه)

وَإنْ عَفَا السَّيِّدُ عَلَى مَالٍ، أوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، فما قُبِضَ مِنْهُ، جُعِلَ مَكَانَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1819 - مسألة: (وإن عَفا السَّيِّدُ على مالٍ، أو كانت مُوجِبَةً للمالِ، فما قُبِضَ منه، جُعِلَ مَكانَه) أمّا إذا كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للمالِ، أو ثَبَت المالُ بالعَفْو عن الجِنَايَةِ المُوجِبَةِ للقِصاصِ، فإنَّه يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الرّاهِنِ والمُرْتَهِنِ، ويَجِبُ مِن غالِبِ نَقْدِ البَلَدِ، كقِيَمِ المُتْلَفاتِ، فلو

1820 - مسألة: (وإن عفا السيد عن المال، صح في حقه، ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن، رد إلى الجاني. وقال أبو الخطاب: يصح، وعليه قيمته)

وَإنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنِ الْمَالِ، صَحَّ فِي حَقِّهِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذا انْفَكَّ الرَّهْنُ، رُدَّ إِلَى الْجَانِي. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يَصِحُّ، وَعَلَيهِ قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرادَ الرّاهِنُ أنَّ يُصالِحَ عنها، أو (¬1) يَأْخُذَ عِوَضًا عنها، لم يَجُزْ إلَّا بإذْنِ المُرْتَهِنِ، فإن أذِنَ، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، وما قَبَض مِن شيءٍ فهو رَهْنٌ، بَدَلًا عن الأوَّلِ، وقائِمًا مَقامَه. 1820 - مسألة: (وإن عَفا السَّيِّدُ عن المالِ، صَحَّ في حَقِّه، ولم يَصِحَّ في حَقِّ المُرْتَهِنِ، فإذا انْفَكَّ الرَّهنُ، رُدَّ إلى الجانِي. وقال أبو الخَطّابِ: يَصِحُّ، وعليه قِيمَتُه) إذا عَفا السَّيِّدُ عن المالِ، فقال القاضِي: يَسْقُطُ حَقُّ الرّاهِنِ دُونَ حَقِّ (¬2) المُرْتَهنِ، فتُؤْخَذُ القِيمَةُ مِن الجانِي، تَكُونُ رَهْنًا، فإذا زال الرَّهْنُ، رَجَع الأَرْشُ إلى الجانِي، كما لو أقَرَّ أنَّ الرَّهْنَ مَغْصُوبٌ أو جانٍ. فإنِ اسْتَوْفَى الدَّينَ مِن الأرْشِ، احْتَمَلَ أنَّ يَرْجِعَ الجانِي ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على العافِي؛ لأنَّ ماله ذَهَب في قَضاءِ دَينِه، فلَزِمَتْه غَرَامَتُه، كما لو اسْتَعارَه فرَهَنَه، واحْتَمَلَ أنَّ لا يَرْجِعَ عليه؛ لأنَّه لم يوجَدْ منه في حَقِّ الجانِي ما يَقْتَضِي وُجوبَ الضَّمانِ، وإنَّما اسْتُوفِيَ بسَبَب منه حال مِلْكِه له، فأشبَهَ ما لو جَنَى إنْسانٌ على عَبْدِه ثم وَهَبَه لغيرِه، فتَلِفَ بالجِنايَةِ السابِقَةِ. وقال أبو الخَطّابِ: يَصِحُّ (¬1) العَفْوُ مُطْلَقًا، ويُؤْخَذُ مِن الرّاهِنِ قِيمَتُه تَكُونُ رَهْنًا؛ لأنَّه أسْقَطَ دَينَه عن غَرِيمِه، فصَحَّ، كسائِرِ دُيُونِه. قال: ولا يُمْكِن كَوْنُه رَهْنًا مع عَدَم (¬2) حَقِّ الرّاهِنِ فيه، ولَزِمَتْه القِيمَةُ، لتَقْويَةِ حَق المُرْتَهِنِ، كما لو أتْلَفَ بَدَلَ الرّهْنِ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ العَفْو أصْلًا؛ لأنَّ حَقَّ المرْتَهِنِ مُتَعَلِّق به، فلم يَصِحَّ عَفْو الرّاهِنِ عنه، كالرَّهْنِ نَفْسِه، وكما لو وُهِبَ الرَّهْن أو غُصِبَ، فعَفا عن غاصِبِه. ¬

(¬1) في م: «يضمن». (¬2) في م: «تقدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شَيخُنا (¬1): وهذا أصَحُّ في النَّظَرِ. فإن قال المُرْتَهِنُ: أسْقَطْتُ حَقِّي مِن ذلك. سَقَط؛ لأنَّه يَنْفَعُ الرّاهِنَ ولا يَضُرُّه. وإن قال: أسْقَطْتُ الأرْشَ. أو: أبْرَأْتُ منه. لم يَسْقُطْ؛ لأنَّه مِلْكٌ للرّاهِنِ، فلا يَسْقُطُ بإسْقاطِ غيرِه. وهل يَسْقُطُ حَقُّه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَسْقُطُ. وهو قولُ القاضِي (¬2)؛ لأنَّ ذلك يَتَضَمَّنُ إسْقاطَ حَقِّه، وإذا لم يَسْقُطْ حَقُّ غيرِه، سَقَط حَقُّه، كما لو قال: أسْقَطْتُ حَقِّي وحَقَّ الرّاهِنِ. والثانِي، لا يَسْقُطُ؛ لأنَّ العَفْوَ والإِبْراءَ منه لا يَصِحُّ، فلم يَصِحَّ ما تَضَمَّنَه. فصل: وإن أقَرَّ رجُل بالجنايَةِ على الرَّهْنِ، فكَذَّباه، فلا شيءَ لهما. وإن كَذَّبَه المُرْتَهِنُ وصَدَّقَه الرَّاهِنُ، فله الأرْشُ، ولا حَقَّ للمُرْتَهِنِ فيه، فإن صَدَّقَه المُرْتَهِنُ وَحْدَه، تَعَلَّقَ حَقُّه بالأرْشِ، وله قَبْضُه. فإذا قَضَى الرّاهِنُ الحَقَّ، أو أبْرَأَة المُرْتَهِنُ، رَجَع الأرْشُ إلى الجانِي، ولا شيءَ للرّاهِنِ فيه. وإنِ اسْتَوْفَى حَقَّه مِن الأرْشِ، لم يَمْلِكِ الجانِي مُطالبَةَ الرّاهِنِ بشيء؛ لأنَّه مُقِرٌّ له باسْتِحْقاقِه. ¬

(¬1) في: المغني 6/ 498. (¬2) في الأصل: «الشافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كان الرَّهْنُ أمَةً حامِلًا، فضَرَبَ بَطْنَها أجْنَبِيٌّ، فألْقَتْ جَنِينًا مَيتًا، ففيه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه. وإن ألْقَتْه حَيًّا، ثم مات لوَقْتٍ يَعِيشُ مِثلُه، ففيه قِيمَتُه. ولا يَجِبُ ضَمانُ نَقْصِ الولادَةِ؛ لأَنه لا يَتَمَيَّزُ نَقْصُها عمّا وَجَب ضَمانُه مِن وَلَدِها. ويَحْتَمِلُ أنْ يَضْمَنَ نَقْصَها بالولادَةِ؛ لأَنه حَصَل بفِعْلِه، فلَزِمَه ضَمانُه، كما لو غَصَبَها ثم جَنَى عليها. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَجِبَ أكْثَرُ الأمْرَين؛ مِن نَقْصِها، أو ضَمانِ جَنِينِها؛ لأنَّ سَبَبَ ضَمانِهما (¬1) وُجِدَ، فإذا لم يَجْتَمِعْ ضَمانُهما، وَجَب ضَمانُ أكْثَرِهما. وإن ضَرَب بَطْنَ بَهِيمَةٍ، فألْقَتْ وَلَدَها مَيِّتًا، ففيه ما نَقَصَتْها الجِنايَةُ لا غيرُ، وما وَجَب مِن ذلك كلِّه، فهو رَهْن مع الأمِّ. وقال الشافعيُّ: ما وَجَب لنَقْصِ الأمِّ ¬

(¬1) في الأصل، م: «ضمانها».

1821 - مسألة: (وإن وطئ المرتهن الجارية)

وَإنْ وَطِئَ المُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ مِنْ غَيرِ شُبْهَةٍ، فَعَلَيهِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لنَقْصِ البَهِيمَةِ، فهو رَهْن مَعَها، وكذلك ما وَجَب في وَلَدِها، وما وَجَب في جَنِينِ الأمَةِ فليس برَهْن. ولَنا، أنَّه ضَمانٌ وُجِدَ بسَبَبِ الجِنايَةِ على الرَّهْنِ، فكان مِن الرَّهْنِ، كالواجِبِ لنَقْصِ الولادَةِ ووَلَدِ البَهِيمَةِ. 1821 - مسألة: (وإن وَطئ المُرْتَهِنُ الجاريَةَ) بغيرِ إذْنِ الرّاهِنِ (فعليه الحَدُّ والمَهْرُ، ووَلَدُه رَقِيق) لا يَحِلُّ للمُرْتَهِن وَطْءُ الجاريَةِ المَرْهُونَةِ إجْماعًا؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬1). وليستْ هذه زَوْجَتَه ولا مِلْكَه. فإن فَعَل بغيرِ إذْنِ الرّاهِن، عالِمًا بالتَّحْرِيمِ، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه لا شُبْهَةَ له فيه، فإنَّ الرَّهْنَ وَثِيقةٌ بالدَّينِ، ولا مَدْخَلَ لذلك في إباحَةِ الوَطْءِ، ولأنَّ وَطْءَ المُسْتَأْجَرَةِ يُوجبُ الحَدَّ مع مِلْكِه لنَفْعِها، فالرَّهْنُ أوْلَى، ويَجِبُ عليه المَهْرُ، سَواءٌ أَكْرَهَها أو طاوَعَتْه. وقال الشافعيُّ: لا يَجِبُ المَهْرُ مع ¬

(¬1) سورة المؤمنون 6، المعارج 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُطاوَعَةِ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن مَهْرِ البَغِيِّ (¬1). ولأنَّ الحَدَّ إذا وَجَب على المَوْطوءَةِ لم يَجِبِ المَهْرُ، كالحُرَّةِ. ولَنا، أنَّ المَهْرَ يَجِبُ للسَّيِّدِ، فلا يَسْقُطُ بمُطاوَعَةِ الأمَةِ وإذْنِها، كما لو أذِنَتْ في قَطْعِ يَدِها، ولأنَّه اسْتَوْفَى هذه المَنْفَعَةَ المَمْلُوكَةَ للسَّيِّدِ بغيرِ إذْنِه، فكان عليه عِوَضُها، كما لو أكْرَهَها، وكأَرْشِ بَكارَتِها لو كانت بِكْرًا، والحَدِيثُ مَخْصُوصٌ (¬2) بالمُكْرَهَةِ على البِغاءِ، فإنَّ اللهَ تعالى سَمَّاها بذلك، مع كَوْنِها مُكْرَهَة، فقال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (¬3). وقَوْلُهم: لا يَجِبُ الحَدُّ والمَهْرُ. قُلْنا: لا يَجِبُ المَهْرُ لها. وفي مَسْألتِنا لا يَجِبُ لها، وإنَّما يَجِبُ لسَيِّدِها. ويُفارِقُ الحُرَّةَ، فإنَّ المَهْرَ لو وَجَب لوَجَبَ لها، وقد أسْقَطَتْ حَقَّها بإذْنِها، وههنا المُسْتَحِقُّ لم يَأذَنْ، ولأنَّ الوُجُوبَ في حَقِّ الحُرَّةِ تَعَلَّقَ بإكْراهِها، وسُقُوطُه بمُطاوَعَتِها، فكذلك السَّيِّدُ ها هنا، مَّا تَعَلّقَ السُّقُوطُ بإذْنِه، يَنْبَغِي أنَّ يَثْبُتَ عندَ عَدَمِه. وسَواءٌ وَطِئها مُعْتَقِدًا للحِلِّ، أو غيرَ مُعْتَقِدٍ له، أو ادَّعَى شُبْهَةً، أو لم يَدَّعِها، لا يَسْقُطُ المَهْرُ بشيء مِن ذلك؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِي، فلا يَسْقُطُ بالشبُهاتِ. ووَلَدُه رَقِيقٌ للرّاهِنِ؛ لأنَّه مِن زِنًى، ولأنَّه لا مِلْكَ له فيها، ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فأشْبَهَ الأجْنَبِيَّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 44. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة النور 33.

1822 - مسألة: (وإن وطئها بإذن الراهن، وادعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد عليه، ولا مهر، وولده حر، لا تلزمه قيمته)

وَإنْ وَطِئَهَا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وادَّعَى الْجَهَالةَ، وَكَانَ مِثْلُهُ يَجْهَلُ ذَلِكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيهِ، وَلَا مَهْرَ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ، لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1822 - مسألة: (وإن وَطِئَها بإذْنِ الرّاهِنِ، وادَّعَى الجَهالةَ، وكان مِثْلُه يَجْهَل ذلك، فلا حَدَّ عليه، ولا مَهْرَ، ووَلَدُه حُرٌّ، لا تَلْزَمُه قِيمَته) وجمْلَةُ ذلك، أنَّ المُرْتَهِنَ إذا وَطِئَها بإذْنِ الرّاهِنِ، وادَّعَى الجَهالةَ بالتَّحْرِيمِ، فإنِ احْتَمَلَ صِدْقَه، لكَوْنِه مِمَّن نَشَأ ببادِيَةٍ، أو حَدِيثَ عَهْدٍ بالإِسْلامِ، فلا حَدَّ عليه، ووَلَدُه خر؛ لأنَّه وَطِئَها مُعْتَقِدًا إباحَةَ وَطْئِها، فهو كما لو وَطِئَها يَظُنُّها أمَتَهُ، وإن لم يَحْتَمِلْ صِدْقَه، كالنّاشِئ ببلادِ المُسْلِمِين مُخْتَلِطًا بهم مِن أهْلِ العِلْمِ، لم تقْبَلْ دَعْواه، لأنَّه لا يَخْلو ممَّن يَسْمَعُ منه ما يَعْلَم به تَحْرِيمَ ذلك، فيَكُونُ كمَن لم يَدَّعِ الجَهْلَ، فيَكونُ وَلَدُه رَقِيقًا للرّاهِنِ؛ لأنَّه مِن زِنًى. ومتى كان الوَطْءُ بإذْنِ الرّاهِنِ، لمِ يَجِبْ عليه قِيمَة الوَلَدِ. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الإِذْن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوَطْءِ إذْنٌ فيما يَحْدُثُ منه، بدَلِيل أنَّه لو أذِنَ المُرْتَهِنُ للرّاهِنِ في الوَطْءِ، فحَمَلَتْ، سَقَط حَقُّه مِن الرَّهْنِ، وكما لو أذِنَ في قَطْعِ إصْبَع، لم يَضْمَنْها، وكالحُرَّةِ إذا أذِنَتْ في وَطْئِها يَسْقُطُ عنه الضَّمانُ، وفيه قولٌ، أنَّ قِيمَةَ الوَلَدِ تَجِبُ، وإن أذِنَ الرَّاهِنُ في الوَطْءِ. وهو مَنْصُوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّ وُجُوبَ الضَّمانِ يَمْنَعُ انْخِلاقَ (¬1) الوَلَدِ رَقِيقًا، وسَبَبُه (¬2) اعْتِقادُ الحِلِّ، وما حَصَل ذلك بإذْنِه، بخِلافِ وَطْءِ الرّاهِنِ؛ فإنَّ خُرُوجَها مِن الرَّهْنِ بالحَمْلِ الذي سَبَبُه الوَطْءُ المأذُونُ فيه، ولا يَجِبُ المَهْرُ إذا كان الوَطْءُ بإذْنِ الرّاهِنِ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ. وعن الشافعيةِ كالمَذْهَبَين. ولَنا، أنَّه أذِنَ في سَبَبِه، وهو حَقُّه، فلم يَجِبْ، كما لو أذِنَ في قَتْلِها، ولأنَّ المالِكَ أذِنَ في اسْتِيفاءِ المَنْفَعَةِ، فلم يَجِبْ عِوَضُها، كالحُرَّةِ المُطاوعَةِ. ووَلَدُه حُرٌّ للشُّبْهَةِ، وقد ذَكَرْناه. ولا تَصِيرُ هذه الأمَةُ أُمَّ وَلَدٍ بحالٍ، سواءٌ مَلَكَها المُرْتَهِنُ بعدَ الوَضْعِ أو قَبْلَه، وسواءٌ حَكَمْنا برِقِّ الوَلَدِ أو حُرِّيَّته. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه إذا مَلَكَها حامِلًا، أنَّها تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. وسَنَذْكُرُ ذلك في أمَّهاتِ الأوْلادِ. ¬

(¬1) في م: «اتخاذ». (¬2) في الأصل: «شبهه». وفي م: «يشبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ: سَألْتُ أبي عن رجل عندَه رُهُونٌ كثِيرَةٌ، لا يَعْرِفُ أصحابَها، ولا مَن رَهَن عندَه. قال: إذا أيِسْتَ مِن مَعْرِفَتِهم، ومَعْرِفَةِ وَرَثَتِهم، فأرَى أنَّ تُباعَ ويُتَصَدَّقَ بثَمَنِها، فإن عَرَف بعدُ أرْبَابَها، خَيَّرَهُم بينَ الأجْرِ أو يَغْرَمُ لهم، هذا الذي أذْهَبُ إليه. وقال أبو الحارِثِ، عن أحمدَ، في الرَّهْنِ يَكُونُ عندَه السِّنينَ الكَثِيرَةَ، يَأيَسُ مِن صاحِبِه: يَبِيعُه ويَتَصَدَّقُ بالفَضْلِ. فظاهِرُ هذا أنَّه يَسْتَوْفى حَقه. ونَقَل أبو طالبٍ: لا يَسْتَوفى حَقَّه مِن ثَمَنِه، ولكِن إن جاء صاحِبُه بعدُ فَطَلَبَه، أعْطاه إياهُ وطَلَب منه حَقَّه، وأمّا إن رَفَع أمْرَه إلى الحاكِمِ، فباعَه، ووَفّاه حَقَّهُ منه، جازَ ذَلك.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب الضمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الضَّمَانِ وَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةِ الضَّامِنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْتِزَام الْحَقِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الضّمانِ (وهو ضَمُّ ذِمَّةِ الضّامِنِ إلى ذِمَّةِ المَضْمُونِ عنه في الْتِزامِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَقِّ) فيَثْبُتُ في ذِمَّتِهِما جَمِيعًا، ولصاحِبِ الحَقِّ مُطالبَةُ مَن شاء منهما. واشْتِقاقُه مِن الضَّمِّ. وقِيلَ: مِن التَّضَمُّنِ (¬1)؛ لأن ذِمَّةَ الضّامنِ تَتَضَمَّنُ الحَقَّ. والأصْلُ في جَوازِه الكِتابُ والسُّنّةُ والإِجْماعُ. أمّا الكِتابُ، فقَوْلُه تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬2). والزَّعِيمُ: الكَفِيلُ. قاله ابنُ عَبّاس. وأمّا السُّنَّةُ، فما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الزَّعِيمُ غَارِمُ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬3)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وأجْمَعَ المُسْلِمُون على الضَّمانِ في الجُمْلَةِ، واخْتَلَفُوا في فُرُوعٍ تُذْكَرُ، إن شاء الله تعالى. يُقال: ضَمِينٌ، وكَفِيلٌ، وقَبِيلٌ، وحَمِيلٌ، وزَعِيمٌ، وصَبِيرٌ. بمعنًى واحدٍ. ولا بدَّ في الضَّمانِ من ضامِن، ومَضْمُونٍ عنه، ومَضْمُونٍ له. ¬

(¬1) في م: «التضمين». (¬2) سورة يوسف 72. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 266. والترمذي، في: باب ما جاء في أنَّ العارية مؤداة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 269. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الكفالة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 804. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 267، 293.

1823 - مسألة: (ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت)

وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1823 - مسألة: (ولِصاحبِ الحَقِّ مُطالبةُ من شاءَ منهما في الحَياةِ والمَوْتِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المَضْمُونَ عنه لا يَبْرأْ بنَفْسِ الضَّمانِ، كما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْرَأُ المُحِيلُ بنَفْسِ الحَوالةِ قبل القَبْضِ، بل يَثْبُتُ الحَقُّ في ذِمَّةِ الضّامِنِ، مع بَقائِه في ذِمَّةِ المَضْمُونِ عنه. فعلى هذا، لصاحِبِ الحَقِّ مُطالبَةُ مَن شاء منهما في الحياةِ وبعدَ المَوْتِ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وإسحاقُ (¬1)، وأصْحابُ الرأي، وأبو عُبَيدٍ (¬2). وحُكِيَ عن مالكٍ في إحْدى الرِّوايَتَينِ عنه، أنَّه لا يُطالِبُ الضّامِنَ إلَّا إذا تَعَذّرَ مُطالبَةُ المَضْمُونِ عنه؛ لأنَّه وَثِيقَة، فلا يُسْتَوْفَى الحَقُّ منها إلَّا مع تَعَذُّر اسْتِيفائِه مِن الأصْلِ، كالرَّهْنِ. ولَنا، قَوْلُه - عليه السلام -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ». ولأنَّ الحَقَّ ثابِتٌ في ذِمَّةِ الضّامِنِ، فمَلَكَ مُطالبَتَه، كالأصْلِ. ولأنّ الحَقَّ ثابِتٌ في ذِمَّتِهِما، فمَلَكَ مُطَالبةَ مَن شاء منهما، كالضّامِنَين إذا تَعَذَّرَتْ مُطالبةُ المَضْمُونِ عته. ولا يُشْبِهُ الرَّهْنَ؛ لأنَّه مالُ مَن عليه الحَقُّ، وليس بِذِي (¬3) ذِمّةٍ يُطالبُ، إنَّما يُطالبُ مَن عليه الدَّينُ؛ لِيَقْضِيَ منه أو مِن غيرِه. وقال أبو ثَوْرٍ: الكَفَالةُ والحَوالةُ سواءٌ وكِلاهما يَنْقُلُ الحَقَّ عن ذِمَّةِ المَضْمُونِ عنه والمُحِيلِ. وحُكِيَ ذلك عن ابنِ (1) أبي لَيلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، وداودَ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ، أنَّ المَيِّتَ يَبْرَأُ بمُجَرَّدِ الضَّمانِ. نَصَّ عليه أحمدُ (¬4) في رِوايَةِ يُوسف بنِ مُوسَى. واحْتَجُّوا بما روَى أبو سعيدٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «عبيدة». (¬3) في م: «بدين». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُدْرِيُّ قال: كُنّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جِنازَةٍ، فلمّا وُضِعَتْ، قال: «هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَينٍ؟». قالوا: نعم، دِرْهَمان. فقال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». فقال عليٌّ: هما عَلَيَّ يا رسولَ اللهِ، وأنا لهما ضامِنٌ. فقام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى عليه، ثم أقْبَلَ على عليٍّ فقال: «جَزَاكَ الله عَنِ الإِسْلَامِ خَيرًا، وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أخِيكَ». فقِيل: يا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، هذا لعليٍّ خاصَّةً، أم للنّاسِ عامَّة؟ فقال: «بَلْ لِلنّاسِ عامَّةً». رَواه الدّارَقُطنِيُّ (¬1). فدَلَّ على أنّ المَضْمُونَ عنه بَرِئَ بالضَّمانِ (¬2)، ولذلك صَلى عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى الإِمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬3) عن جابِر، قال: تُوُفِّيَ صاحِبٌ لَنا، فأتَينا به النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - ليُصَلِّيَ عليه، فخَطا خُطْوَةً، ثم قال: «أَعَلَيهِ دَينٌ؟». قلنا: دِيناران. فانْصَرَفَ، فتَحَملَهما أبو قَتادَةَ، فقال: الدِّيناران عَلَيَّ. فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَ حَقُّ الغَرِيمِ، وبَرِئَ المَيِّتُ مِنْهُمَا؟». قال: نعم. فصَلَّى عليه، ثم قال بعدَ ذلك: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟». قال: إنَّمَا مات أمْسِ. قال: فعادَ إليه مِن الغَدِ، فقال: قد قَضَيتُهما. ¬

(¬1) في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 47. كما أخرجه البيهقي، في: باب وجوب الحق بالضمان، من كتاب الضمان. السنن الكبرى 6/ 73. (¬2) في م: «بالضامن». (¬3) تقدمت قصة أبي قتادة عن سلمة بن الأكوع في 6/ 21، والقصة هنا عن جابر أخرجها الإِمام أحمد، في: المسند 3/ 330. كما أخرجها أبو داود، في: باب التشديد في الدين، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيهِ (¬1) جِلْدَهُ». وهذا صَرِيحٌ في بَراءةِ المَضْمُونِ عنه؛ لقَوْلِه: «وَبَرِئَ المَيِّتُ مِنْهُمَا». ولأنَّه دَينٌ واحِدٌ، فإذا صار في ذمَّةٍ ثانِيَةٍ (¬2)، بَرئَتِ الأولَى منه، كالمُحَالِ به؛ لأنَّ الدَّينَ (¬3) الواحِدَ لا يَحِلُّ في مَحَلَّينِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقةٌ بدَينهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» (¬4). وقَوْلُه في خَبَرِ أبي قَتادةَ: «الآنَ بَرَّدْتَ عَلَيهِ جِلْدَهُ». حينَ أخْبَرَه أنَّه قَضَى دَينَه. ولأنَّها وَثِيقَة، فلا تَنْقُلُ الحَقَّ، كالشَّهادَةِ. فأمّا صَلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على المَضْمُونِ عنه؛ فلأنَّه بالضَّمانِ صار له وَفاءٌ، وإنَّما كان، عليه الصلاةُ والسلامُ، يَمْتَنِعُ مِن الصلاةِ على مَدِين لم يُخَلِّفْ وَفاءً. وأمّا قَوْلُه لعليٍّ: «فَكَّ الله رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخيكَ». فإنَّه كان بحالٍ لا يُصَلِّي عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا ضَمِنَه فَكَّه مِن ذلك، أو ما في مَعْناه. وقَوْلُه: «بَرِيء الْمَيِّتُ مِنْهُمَا». أي صِرْتَ أنت المُطالبَ بهما. وهذا على وَجْهِ التَّأْكِيدِ؛ لثُبُوتِ الحَقِّ في ذِمَّتِه، ووُجُوبِ الأداءِ عنه؛ بدَليلِ قَوْلِه حينَ أخْبَره بالقَضاءِ: «الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيهِ جِلْدَهُ». وفارَقَ الضَّمانُ الحَوالةَ، فإنَّ الضَّمانَ مُشْتَقٌّ مِن الضَّمِّ بينَ الذِّمَّتّين في تَعَلُّقِ الحَقِّ بهما وثُبُوتِه فيهما، والحَوالةُ من التَّحَوُّلِ، ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. وهي موافقة لما في المسند. (¬2) في ر 1، ق، م: «نائبة». (¬3) سقط من: الأصل، ر 1. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 21.

1824 - مسألة: (فإن برئت ذمة المضمون عنه برئ الضامن)

فَإِنْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، بَرِئ الضَّامِنُ، وَإِنْ بَرِئَ الضَّامِنُ، أوْ أُقِرَّ بِبَرَاءَتِهِ، لَمْ يَبْرَأَ المَضْمُونُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَتَقْتَضِي تَحَوُّلَ الحَقِّ عن مَحَلِّه إلى ذِمَّةِ المُحال عليه. وقَوْلُهم: إنَّ الدَّينَ الواحِدَ لا يَحِلُّ مَحَلَّين. قلنا: يَجُوزُ تَعَلُّقُه بمَحَلَّين على سَبِيلِ الاسْتِيثاقِ، كتَعَلُّقِ دَينِ الرَّهْنِ به وبذِمّةِ الرّاهِنِ. كذلك هذا. 1824 - مسألة: (فإن بَرِئَتْ ذِمّةُ المَضْمونِ عنه بَرِئ الضّامِنُ) متى بَرِئَتْ ذِمَّةُ المَضْمونِ عنه (¬1) بقَضاءٍ أو إِبْراءٍ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الضّامنِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه تَبَعٌ (¬2)، ولأنَّه وَثِيقةٌ، فإذا بَرِئَ الأصْلُ، زالتِ الوَثِيقَةُ، كالرَّهْنِ. 1825 - مسألة: (وإن بَرِئَ الضّامِنُ، أو أُقِرَّ ببَراءَتِه، لم يَبْرَأ المَضْمُونُ عنه) لأنَّه أصْلٌ، فلا يَبْرأُ بإبْراءِ التَّبَعِ، ولأنَّه وَثِيقَةٌ انْحَلَّتْ مِن غيرِ اسْتِيفاءِ الدَّينِ منها، فلم تَبْرَأْ ذِمَّةُ الأصْلِ، كالرَّهْنِ إذا انْفَسَخَ مِن غيرِ اسْتِيفاءٍ. وأيُّهما قَضَى الحَقَّ بَرِئا جَمِيعًا مِن المَضْمُونِ له؛ لأنَّه حَقٌّ واحِدٌ، فإذا اسْتُوفِيَ مَرَّةً، زال تَعَلُّقُه بهما، كما لو اسْتُوفِيَ الحَقُّ الذي به رَهْنٌ، وإن أحال أحَدُهما الغَرِيمَ، بَرِئا جَمِيعًا؛ لأنَّ الحَوالةَ كالقَضاءِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، ق، م: «بيع».

1826 - مسألة: (ولو ضمن ذمي لذمي عن ذمي خمرا، فأسلم المضمون له أو المضمون عنه، برئ هو والضامن معا)

ولو ضَمِنَ ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ عَنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، فَأَسْلَمَ الْمَضْمُونُ لَهُ أَو الْمَضْمُونُ عَنْهُ، بَرِئَ هُوَ وَالضَّامِنُ مَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أنَّ يَضْمَنَ الحَقَّ عن الرجلِ الواحِدِ اثْنان أو أكْثَرُ، سَواءٌ ضَمِن كلُّ واحدٍ جَمِيعَه أو جُزْءًا منه، فإن ضَمِن كلُّ واحِدٍ منهم جَمِيعَه، بَرِئَ كلُّ واحِدٍ منهم بأداءِ أحَدِهم، وإن أْبْرَأ المَضْمُونَ عنه، بَرِئَ الجَمِيعُ؛ لأنَّهم فُرُوعٌ له، وإن بَرِئَ (¬1) أحَدُ الضّامِنَين بَرِئَ وَحْدَه؛ لأنَّهم غيرُ فُرُوعٍ له، فلم يَبْرَءُوا ببرَاءَتِه، كالمَضْمُونِ عنه. وإن ضَمِن أحَدُهم صاحِبَه، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الحَقَّ ثَبَت في ذِمَّتِه بضَمانِه الأصْلِيِّ، فلا يَجُوزُ أنَّ يَثْبُتَ ثانِيًا، ولأنَّه أصْلٌ فيه بالضَّمانِ، فلا يَجُوزُ أنَّ يَصِيرَ فيه فَرْعًا. ولو تَكَفَّلَ بالرجلِ الواحدِ اثْنانِ، جازَ. ويَجُوزُ أنَّ يَكْفُلَ كلُّ واحِدٍ مِن الكَفِيلَينِ صاحِبَه، لأنَّ الكَفالةَ ببَدَنِه، لا بما في ذِمَّتِه. وأيُّ الكَفِيلَين أحْضَرَ المَكْفُولَ به، بَرِئَ، وبَرِئ صاحِبُه مِن الكَفالةِ به (¬2)؛ لأنَّه فَرْعُه، ولم يَبْرَأْ مِن إحْضارِ المَكْفُولِ به؛ لأنَّه أصْلٌ في ذلك. وإن كَفَلَ المَكْفُولُ به الكَفِيلَ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه أصْلٌ له في الكَفالةِ، فلم يَجُزْ أنَّ يَصِيرَ فَرْعًا له (¬3) فيما كَفَلَ به، وإن كَفَل به في غيرِه، جاز. 1826 - مسألة: (ولو ضَمِن ذِمِّيٌّ لذِمِّيٌّ عن ذمِّيٍّ خَمْرًا، فأسْلَمَ المَضْمُونُ له أو المَضْمُونُ عنه، بَرِئ هو والضّامِنُ معًا) لأنَّه بَرِئ من ¬

(¬1) في م: «أبرأ». (¬2) سقط من: ر 1، م. (¬3) سقط من: م.

1827 - مسألة: (ولا يصح إلا من جائز التصرف)

وَلَا يَصِحُّ إلا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَمْرِ الذي ضَمِن عنه؛ إذ لا يَجُوزُ وُجُوبُ خَمْر على مُسْلِم، وإذا بَرِئَ المَضْمُونُ عنه، بَرِئَ الضّامِنُ؛ لأنَّه فَرْعُه. وإن أسْلَمَ المَضْمُونُ له، بَرِئَ أيضًا، لأنَّه ليس للمُسْلِمِ المُطالبَةُ بثَمَنِ الخَمْرِ؛ لكَوْنِه لا قِيمَةَ له في الإِسْلام، فإن أسْلَمَ الضّامِنُ (¬1) وحدَه، بَرِئَ، ولم يَبْرَأ المَضْمُونُ عنه؛ لأنَّه أصْلٌ، فلم يَبْرَأْ ببَراءَةِ فَرْعِه، كما لو أبرَأه المَضْمُونُ له. 1827 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ) لا يَصِحُّ الضَّمانُ إلَّا مِمَّن يَصِحُّ تَصَرُّفُه في مالِه، رجُلًا كان أو امْرأةً؛ لأنَّه عَقدٌ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْصَدُ به المالُ، فصَحَّ مِن المَرْأةِ، كالبَيعِ.

1828 - مسألة: (ولا يصح من صبي، ولا مجنون، ولا سفيه، ولا من عبد بغير إذن سيده. وعنه، يصح، ويتبع به بعد العتق. وإن ضمن بإذن سيده، صح. وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين)

وَلَا يَصِحُّ مِنْ مَجْنُونٍ، وَلَا صَبِيٍّ، وَلَا سَفِيهٍ، وَلَا مِنْ عَبْدٍ بِغَيرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَيُتْبَعَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، صَحَّ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أوْ ذِمَّةِ سَيِّدِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1828 - مسألة: (ولا يَصِحُّ مِن صَبِيٍّ، ولا مَجْنُونٍ، ولا سَفِيهٍ، ولا مِن عَبْدٍ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. وعنه، يَصِحُّ، ويُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ. وإن ضَمِن بإذْنِ سَيِّدِه، صَحَّ. وهل يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه أو ذِمَّةِ سَيِّدِه؟ على رِوَايَتَينِ) لا يَصِحُّ الضَّمانُ مِن مَجْنُونٍ ولا مُبَرْسَمٍ ولا صَبِيٍّ غيرِ مُمَيِّزٍ، بغير خِلافٍ؛ لأَنه إيجابُ مالٍ، فلم يَصِحَّ منهم، كالنَّذْرِ والإقْرارِ. ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ مِن السَّفِيهِ المَحْجُورِ عليه. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال القاضي: يَصِحُّ، ويُتْبَعُ به بعِدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه؛ لأنَّ مِن أصْلِنا أنَّ إقْرارَه صَحِيحٌ، يُتْبَعُ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، كذلك ضَمانُه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه إيجابُ مالٍ بعَقْدٍ، فلم يَصِحَّ منه، كالبَيعِ والشِّرَاءِ. فأما الإِقْرارُ، فلنا فيه مَنْعٌ. وإن سُلِّمَ، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ الإِقْرارَ إخبارٌ بحَقٍّ سابِقٍ. وأمّا الصَّبِيُّ المُمَيِّزُ، فلا يَصِحُّ ضَمانُه. وهو قولُ الشافعيِّ. وخَرَّجَ أصحابُنا صِحَّتَه على الرِّوايَتَينِ في صِحَّةِ إقْرارِه وتَصَرُّفِه بإذْنِ وَلِيِّه. ولا يَصِحُّ هذا الجَمْعُ؛ لأن هذا الْتِزامُ [مالٍ لا] (¬1) فائِدَةَ له فيه، فلم يَصِحَّ، كالتَّبرُّعِ والنَّذرِ، بخِلافِ البَيْعِ. وإنِ اخْتَلَفا في وَقْتِ الضَّمانِ بعدَ بُلُوغِه، فقال الصَّبِيُّ: قبل بُلُوغِي. وقال المَضْمُونُ له: بعدَ البُلُوغِ. فقال القاضِي: قِياسُ قولِ أحمدَ، أنَّ القولَ قولُ المَضْمُونِ له؛ لأنَّ معه سَلامَةَ العَقْدِ، فأشْبَهَ ما لو اخْتَلَفَا في شَرْطٍ فاسِدٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّ القولَ قولُ الضّامِنِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ البُلُوغِ وعَدَمُ وُجُوبِ الحَقِّ عليه. وهذا قولُ الشافعيِّ. ولا يُشْبهُ هذا ما إذا اخْتَلَفَا في شَرْطٍ فاسدٍ؛ لأنَّ المُخْتَلِفَينِ ثَمَّ مُتَّفِقان على أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، والظّاهِرُ أنَّهما لا يَتَصَرَّفان إلَّا تَصَرُّفًا صَحِيحًا، فكانَ ¬

(¬1) في ر ا: «مالا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ مُدَّعِي (¬1) الصِّحَّةِ هو الظّاهِرَ، وههُنا اخْتَلَفا في أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وليس مع مَن يَدَّعِي الأهْلِيَّةَ ظاهِر يَسْتَنِدُ إليه، [ولا أصْلٌ وَرْجِعُ إليه] (¬2)، فلم تَرْجَحْ دَعْواه. والحُكْمُ في مَن عُرِفَ له حالُ جُنُونٍ، كالحُكْمِ في الصَّبِيِّ، وإن لم يُعْرَفْ له حالُ جُنُونٍ، فالقولُ قولُ المَضْمُونِ له؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه. وأمّا المَحْجُورُ عليه لفَلَسٍ، فيَصِحُّ ضَمانُه، ويُتْبَعُ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه؛ لأنَّه مِن أهْلِ التَّصَرُّفِ، والحَجْرُ عليه في مالِه، لا في ذِمّتِه، فهو كتَصَرُّفِ الرّاهِنِ فيما عدا الرَّهْنَ. فأمّا العَبْدُ، فلا يَصِحُّ ضَمانُه بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، سَواءٌ كان مَأْذُونًا له في التِّجارَةِ أو لا. وبهذا قال ابنُ أبي لَيلى، والثَّوْرِيُّ (¬3)، وأبو حنيفةَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَصِحَّ، ويُتْبَعَ به بعدَ العِتْقِ. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه مِن أهْلِ التَّصَرُّفِ، فصَحَّ تَصَرُّفُه بما لا ضَرَرَ فيه على السَّيِّدِ، كالإِقْرارِ بالإِتْلافِ. ولنا، أنَّه عَقْدٌ تَضَمّنَ إيجابَ مالٍ، فلم يَصِحَّ بغيرِ إذْنِ السَّيِّدِ، كالنِّكاحِ. وقال أبو ثَوْرٍ: إن كان مِن جِهَةِ التِّجارةِ، جاز، وإلَّا لم يَجُزْ. فإن ضَمِن ¬

(¬1) في الأصل: «من يدعي». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «أبو ثور».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإذْنِ سَيِّدِه، صَحَّ؛ لأن سَيِّدَه لو أَذِنَ له (¬1) في التَّصَرُّفِ، صَحَّ. قال. القاضي: وقِياسُ المَذْهَبِ تَعَلُّقُ المالِ برَقَبَتِه؛ لأنَّه دَينٌ لَزِمَه بفِعْلِه، فتَعَلّقَ برَقَبَتِه، كأَرشِ جِنايَتِه. وقالْ ابنُ عَقِيلٍ: ظاهِرُ المَذْهَبِ وقِياسُه أنَّه يَتَعَلّقُ بذِمَّةِ السَّيِّدِ. وقد ذَكَر شَيخُنا هنا رِوايَتَينِ، وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، كاسْتِدانَتِه بإذْنِ سَيِّدِه. وسَنَذْكُرُ ذلك إن شاء اللهُ تعالى. فإن أذِنَ له سَيِّدُه في الضَّمانِ؛ ليَكُونَ القَضاءُ مِن المالِ الذي في يَدِه، صَحَّ، ويَكُونُ ما في ذِمَّتِه مُتَعَلِّقًا بالمالِ الذي في يَدِ العَبْدِ، كتَعَلُّقِ حَقِّ الجِنايَةِ بَرَقَبةِ الجانِي، كما لو قال الحُرُّ: ضَمِنْتُ لك هذا الدَّينَ على أنَّ تَأْخُذَ مِن مالِي هذا. صَحَّ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ ضَمانُ المُكاتبِ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، كالقِنِّ؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بالْتِزامِ مالٍ، أشْبَهَ (¬1) نَذْرَ الصَّدَقَةِ بمالٍ مُعَيَّنٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَصِحَّ ويُتْبَعَ به بعدَ عِتْقِه، كقَوْلِنا في العَبْدِ. وإن ضَمِن بإذْنِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ أيضًا؛ لأَنه رُبَّما أدَّى إلى تَفْويتِ الحُرِّيَّةِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ما لو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثّانِي، يَصِحُّ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما. فأمّا المَرِيضُ، فإن كان مَرَضُه غيرَ مَخُوفٍ، أو لم يَتَّصِلْ به المَوْتُ، فهو كالصَّحِيحِ، وإن كان مَرَضَ المَوْتِ المَخُوفَ، فحُكْمُ ضَمانِه حُكْمُ تبَرُّعِه، يُحْسَبُ مِن ثُلُثِه؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بالْتِزامِ مالٍ لا يَلْزَمُه، ولم يَأْخُذْ عنه عِوَضًا، أشْبَهَ الهِبَةَ. وإذا فُهِمَتْ إشارَةُ الأَخْرَسِ، صَحَّ ضَمانُه؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه وإقْرارُه وتَبَرُّعُه، أشْبَهَ النّاطِقَ (¬1)، ولا يَثْبُتُ الضَّمانُ بكِتابَتِه مُنْفَرِدَةً عن إشارَةٍ يُفْهَمُ بها أنَّه قَصَد الضَّمانَ؛ لأنَّه قد يَكْتُبُ عَبَثًا أو تَجْرِبَةَ قَلَمٍ (¬2)، فلم (¬3) يَثْبُتِ الضَّمانُ به مع الاحْتِمالِ. ومَن لا تُفْهَمُ إشْارَتُه، لا يَصِحُّ ضَمانُه؛ لأنَّه لا يَدْرِي بضَمانِه، وكذلك سائِرُ تَصَرُّفاتِه. ¬

(¬1) في م: «الباطن». (¬2) زيادة من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

1829 - مسألة: (ولا يصح إلا برضا الضامن، ولا يعتبر رضا المضمون له، ولا المضمون عنه، ولا معرفة الضامن لهما)

وَلَا يَصِحُّ إلا بِرِضَا الضَّامِنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَضْمُونِ لَهُ، وَلَا الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَا مَعْرِفَةُ الضَّامِنِ لَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1829 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلَّا برِضَا الضّامِنِ، ولا يُعْتَبَرُ رِضَا المَضْمُونِ له، ولا المَضْمُونِ عنه، ولا مَعْرِفَةُ الضّامِنِ لهما) لا يَصِحُّ الضَّمانُ إلَّا برِضا الضّامِنِ، فإن أُكْرِه عليه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه الْتِزامُ مالٍ، فلم يَصِحَّ بغيرِ رِضا المُلْتَزِمِ، كالنَّذْرِ. ولا يُعْتَبَرُ رِضا المَضْمُونِ له. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: يُعْتَبَرُ؛ لأنَّه إثْباتُ مالٍ لآدَمِيٍّ، فلم يَثْبُتْ إلَّا برِضَاه، أو رِضا مَن يَنُوبُ عنه، كالبَيعِ والشِّراءِ. وعن أصحابِ الشافعيِّ كالمَذْهَبَين. ولَنا، أنَّ أبا قَتادَةَ ضَمِن مِن غيرِ رِضا المَضْمُونِ له ولا المَضْمُونِ عنه، فأجازَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّها وَثِيقَةٌ لا يُعْتَبَرُ فيها قَبْضٌ، فأشْبَهَتِ الشَّهادَةَ، ولأنَّه ضَمانُ دَينٍ، فأشْبَه ضَمانَ بَعْضِ الوَرَثَةِ دَينَ المَيِّتِ للغائِب، وقد سَلَّمُوه. ولا يُعْتَبَرُ رِضا المَضْمُونِ عنه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لو قَضَى الدَّينَ عنه بغيرِ إذْنِه ورِضاه، صَحَّ، فكذلك إذا ضَمِن عنه، وقد دَلَّ عليه حَدِيثُ أبي قَتادةَ. ولا يُعْتَبرُ أن يَعْرِفَهما الضّامِنُ. وقال القاضِي: يُعْتَبرُ مَعْرِفَتُهما، ليَعْلَمَ هل المَضْمُونُ عنه (¬1) ¬

(¬1) زيادة من: م.

1830 - مسألة: (ولا)

وَلَا كَوْنُ الْحَقِّ مَعْلُومًا وَلَا وَاجِبًا إذَا كَانَ مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ، فَلَوْ قَال: ضَمِنْت لَكَ مَا عَلَى فُلَانٍ. أَوْ: مَا تُدَايِنُهُ بِهِ. صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أهْلٌ لِاصْطنِاعِ المَعْرُوفِ إليه أو لا؟ ولِيَعْرِفَ المَضْمُونَ له، فَيُؤدِّيَ إليه. وذَكَر وَجْهًا آخَرَ، أنَّه يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ المَضْمُونِ له؛ لذلك، ولا يُعْتَبَرُ (¬1) مَعْرِفَةُ المَضْمُونِ عنه؛ لأنَّه لا مُعامَلَة بينَه وبينَه. ولأصحابِ الشافعيِّ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ نحوُ هذا. ولَنا، حَدِيثُ عَلِيٍّ، وأبِي قَتادَةَ (¬2)، فإنَّهما ضَمِنا لمَن لم يَعْرِفا وعَمَّن لم يَعْرِفا. ولأنَّه تَبَرُّعٌ بالْتِزامِ مالٍ، فلم يُعْتَبرْ مَعْرِفَةُ مَن يَتَبَرَّعُ له به، كالنَّذْرِ. 1830 - مسألة: (ولا) يُعْتَبرُ (كَوْنُ الحَقِّ مَعْلُومًا ولا واجِبًا إذا كان مَآله إلى الوُجُوبِ، فلو قال: ضَمِنْتُ لك ما على فُلانٍ. أو: ما تُدايِنُه به صَحَّ) يَصِحُّ ضَمانُ المَجْهُولِ، فمتى قال: أنا ضامِنٌ لك ما على فُلانٍ. أو: ما تَقُومُ به البَيِّنَةُ. أو: ما يُقِرُّ به لك. أو: ما يَخْرُجُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجهما في صفحة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في رُوزمانَجك (¬1). صَحَّ الضَّمانُ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ. وقال الثَّوْرِيٌّ، واللَّيثُ، وابنُ أبي لَيلَى، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه الْتِزامُ مالٍ، فلم يَصِحَّ مَجْهُولًا، كالثَّمَنِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: ¬

(¬1) كذا في النسخ: «روزمانجك». والروزنامة: كتيب يتضمن معرفة الأيام والشهور على مدار السنة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1). وحِمْلُ البَعِيرِ غيرُ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ حِمْلَ البَعِير مُخْتَلِفٌ باخْتِلافِه. وعُمُومُ قَوْلِه - عليه السلام -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» (¬2). ولأنَّه الْتِزامُ حَقٍّ في الذِّمَّةِ مِن غيرِ مُعاوَضَةٍ، فَصَحَّ في المَجْهُولِ، كالنَّذْرِ والإقْرارِ، ولأنَّه يَصِحُّ تَعْلِيقُه بغَرَرٍ وخَطَرٍ، وهو ضَمانُ العُهْدَةِ. وإذا قال: ألْقِ مَتاعَكَ في البَحْرِ وعليَّ ضَمانُه. أو قال: ادْفَعْ ثِيابَكَ إلى هذا الرَّفَّاءِ وعليَّ ضَمانُها. فَصَحَّ في المَجْهُولِ، كالعِتْقِ والطَّلاقِ. فصل: ويَصِحُّ ضَمانُ ما لم يَجِبْ، فلو قال: ما أَعْطَيتَ فلانًا فهو عليَّ. صَحَّ. والخِلافُ في هذه المَسْألَةِ كالتي قبلَها، ودَلِيلُ القَوْلَين ما ذَكْرْنا. وقد قالوا (¬3) في هذه المَسْألَةِ: الضَّمانُ ضمُّ ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ في الْتِزامِ الدَّينِ، فإذا لم يَكُنْ على المَضْمُونِ عنه شيءٌ، لم يُوجَدْ ضَمٌّ، فلا يَكُونُ ضامِنًا. قُلنا: قد ضَمَّ ذِمَّتْه إلى ذِمَّةِ المَضْمُونِ عنه في أنَّه يَلْزَمُه ما يَلْزَمُه، وأنَّ ما يَثْبُتُ [في ذِمَّةِ] (¬4) مَضْمُونِه يَثْبُتُ في ذِمَّتِه. وهذا كافٍ. ¬

(¬1) سورة يوسف 72. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 6. (¬3) في م: «قال». (¬4) سقط من: م.

1831 - مسألة: (ويصح ضمان دين الضامن)

وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَينِ الضَّامِنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد سَلَّمُوا ضَمانَ ما يُلْقِيه في البَحْرِ قبلَ وُجُوبِه بقَوْلِه: ألْقِ مَتاعَكَ في البَحْرِ وعليَّ ضَمانُه. وسَلَّمَ أصحابُ الشافعيِّ في أحَدِ الوَجْهَينِ ضَمانَ الجُعْلِ في الجَعالةِ قبلَ العَمَلِ، وما وَجَبَ شيءٌ بعدُ. 1831 - مسألة: (ويَصِحُّ ضَمانُ دَينِ الضّامِنِ) نحوَ أن يَضْمَنَ الضّامِنَ ضامِن آخَرُ؛ لأنَّه دَينٌ لازِمٌ في ذِمَّتِه، فصَحَّ ضَمانُه؛ كسائِرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدُّيُونِ (¬1). ويَثْبُتُ الحَقُّ في ذِمَمِ الثَّلاثَةِ، أيُّهم قَضاه بَرِئَتْ ذِمَمُهم كلُّها؛ لأنَّه حَقٌّ واحدٌ، فإذا قُضِيَ مَرَّةً سَقَط، فلم يَجِبْ مَرَّةً أُخْرَى. وإن أْبْرَأَ الغَرِيمُ المَضْمُونَ عنه، بَرِئَ الضّامِنان؛ لأنَّهما فَرْعٌ، وإن أَبْرَأ الضّامِنَ الأوّلَ بَرِئَ الضّامِنان؛ لذلك (¬2)، ولم يَبْرَأ المَضْمُونُ عنه؛ لِما تَقَدَّمَ، وإن أَبْرَأَ الضّامِنَ الثّانِيَ، بَرِئ وَحْدَه. ومتى حَصَلَتْ بَراءَةُ الذِّمَّةِ بالإبْراءِ، فلا رُجُوعَ فيها؛ لأنَّ الرُّجُوعَ مع الغُرْم، وليس في الإِبراءِ غُرْمٌ. والكَفالةُ كالضَّمانِ في هذا المَعْنَى (¬3). فصل: وإن ضَمِن المَضْمُونُ عنه الضّامِنَ، أو تَكَفَّلَ المَكْفُولُ عنه الكَفِيلَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الضَّمانَ يَقْتَضِي إلْزامَه الحَقَّ في ذِمَّتِه، والحَقُّ لازِمٌ له، فلا يُتَصوَّرُ إلْزامُه ثانِيًا؛ ولأنَّه أصْلٌ في الدَّينِ، فلا يَجُوزُ أن يَصِيرَ فَرْعًا فيه. فإن ضَمِن عنه دَينًا آخَرَ، أو تَكَفَّلَ به في (¬4) حَقٍّ آخَرَ، جاز؛ لعَدَمَ ما ذَكرْنا. ¬

(¬1) في الأصل: «الذنوب». (¬2) في ق: «كذلك». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

1832 - مسألة: (و)

وَدَينِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَغَيرِهِ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1832 - مسألة: (و) يَصِحُّ ضَمانُ (دَينِ المَيِّتِ المُفْلِسِ وغيرِه، ولا تَبْرأُ ذِمَّتُه قبلَ القَضاءِ، في أصَحِّ الرِّوايَتَينِ) يَصِحُّ الضَّمانُ عن كُلِّ غَرِيم وَجَبَ (¬1) عليه حَقٌّ، حَيًّا كان أو مَيِّتًا، مَلِيئًا أو مُفْلِسًا. وبه قال أكْثَرُ العُلَماءِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ ضَمانُ دَينِ المَيِّتِ، إلَّا أن يُخَلِّفَ وَفاءً، فإن خَلَّفَ بعضَ الوَفاءِ، صَحَّ ضَمانُه بقَدْرِ ما خَلَّفَ؛ لأنَّه دَينٌ ساقِطٌ، فلم يَصِحَّ ضَمانُه، كما لو سَقَط بالإبْراءِ، ولأنَّ ذِمتَّة قد خَرِبَتْ خَرابًا لا تَعْمُرُ بعدَه، فلم يَبْقَ فيها دَينٌ، والضَّمانُ ضَمُّ ذِمّةٍ إلى ذِمّةٍ. ولَنا، حَدِيثُ أبي قَتادَةَ [وعليٍّ] (¬2)، فإنَّهما ضَمِنا دَينَ مَيِّتٍ لم يُخَلِّفْ وَفاءً، وقد حَضَّهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ضَمانِه في حَدِيثِ أبي ¬

(¬1) في الأصل: «ثبت». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَتادَةَ بِقَوْلِه: «أَلا قَامَ أحَدُكُمْ فَضَمِنَه» (¬1). وهذا صَرِيحٌ في المَسْأَلَةِ، ولأنَّه دَينٌ ثابِتٌ، فصَحَّ ضَمانُهُ، كما لو خَلَّفَ وَفاءً. ودَلِيلُ ثُبُوتِه، أنَّه لو تَبَرَّعَ رَجُل بقَضاءِ دَينِه، جاز لصاحِبِ الدَّينِ (¬2) اقتِضاؤُه، ولو ضَمِنَه حَيًّا ثم مات، لم [تَبْرَأْ ذمَّةُ] (¬3) الضامِنِ، ولو بَرِئَتْ ذِمّةُ المَضْمُونِ عنه، بَرِئَتْ ذِمّةُ الضامِن، وفي هذا انْفِصالٌ عما ذَكَرُوه. إذا ثَبَت صِحّةُ ضَمانِ دَينِ المَيِّتِ، فإنَّ ذِمَّتَة لا تَبْرَأُ من الدَّينِ قبلَ القَضاءِ، في إحدَى الرِّوايَتَينِ؛ لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - «نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَينِه حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» (¬4). ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَأَل أبا قَتادَةَ عن الدِّينارَينِ الَّذَينِ ضَمِنَهُما، فقال: قد قَضَيتُهُما (¬5)، فقال: «الْآنَ بَرَّدْتَ جِلْدَتَهُ». رَواه الإمامُ أحمدُ. ولأنَّه وَثِيقةٌ بدَينٍ، فلم يَسْقُطْ قبلَ القَضاء، كالرَّهْنِ، وكالشَّهادَةِ. والثّانِيَةُ: تَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الضَّمانِ. نَصَّ عليه أحَمدُ في رِوايةِ يُوسُفَ بنِ موسى؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ أبي قَتادَةَ: «وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُما؟». قال: نعم. وقد ذَكَرْنا ذلك [في أوَّلِ البابِ] (¬6). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 21. (¬2) في م: «الحق». (¬3) في م: «يبدأ منه». (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 20. (¬5) في الأصل: «قبضتهما». (¬6) زيادة من: الأصل.

1833 - مسألة: (ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري، وعن المشتري للبائع)

وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْبَائِعَ لِلْمُشْتَرِي، وَعَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ الضَّمانُ في جميعِ الحُقُوقِ المالِيَّةِ الواجبَةِ، والتي تَئُولُ إلى الوُجُوبِ، كثَمَنِ المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ وبعدَه، والأَجْرَةِ، والمَهْرِ قبلَ الدُّخُولِ وبعدَه؛ لأَنَّ هذه الحُقُوقَ لازِمَةٌ، وجَوازُ سُقُوطِها لا يَمْنَعُ صِحّةَ ضَمانِها، كالثَّمنِ في المَبِيعِ بعدَ انْقِضاءِ الخِيارِ، يجُوزُ أن يَسْقُطَ بالرَّدِّ بالعَيبِ وبالمُقايَلةِ. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ. 1833 - مسألة: (ويَصِحُّ ضَمانُ عُهْدَةِ المَبِيعِ عن البائِعِ للْمُشْتَرِي، وعن المُشْتَرِي للبائِعِ) فَضَمانُه عن (¬1) المُشْتَرِي، هو أن يَضْمَنَ الثَّمَنَ الواجِبَ بالبَيعِ قبلَ تَسْلِيمِه، [أو إن] (¬2) ظَهَر فيه عَيبٌ أو اسْتُحِقَّ، رَجَع بذلك على الضّامِنِ، وضَمانُه عن البائِعِ للمُشْتَرِي، هو أن يَضْمَنَ عن البائِعِ الثَّمَنَ متى خرَج المَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أو رُدَّ بعَيبٍ، أو ¬

(¬1) في م: «على». (¬2) في م: «وإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْشَ العَيبِ. فضَمانُ العُهْدةِ في المَوْضِعَينِ هو ضَمانُ الثَّمَنِ أو جُزْءٍ منه عن أحَدِهما للآخَرِ. والعُهْدَةُ؛ الكِتَابُ الذي تُكْتَبُ فيه وَثِيقَة البَيعِ، ويُذْكَرُ فيه الثَّمَنُ، فَعُبِّرَ به عن الثَّمنِ الذي يَضْمَنُه. ومِمَّن أجازَ ضَمانَ العُهْدةِ في الجُمْلَةِ؛ أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ. ومَنَع منه بعضُ [أصْحابِ الشافعيِّ] (¬1)؛ لكَوْنِه ضَمانَ ما لم يَجِبْ، وضَمانَ مَجْهُولٍ، وضَمانَ عَينٍ. وقد ثَبَت جَوازُ الضَّمانِ في ذلك كُلِّه. ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى الوَثِيقَةِ على البائِعِ، والوَثائِقُ ثَلاثَةٌ؛ الشَّهادةُ، والرَّهْنُ، والضَّمانُ. فأمّا الشَّهادةُ فلا يُسْتَوْفَى منها الحَقُّ، وأمّا الرَّهْنُ فلا يَجُوزُ في ذلك بالإِجْماعِ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى أن يَبْقَى أبدًا مَرْهُونًا، فلم يَبْقَ إلَّا الضَّمانُ. ولأنَّه لا يَضْمَنُ إلَّا ما كان واجِبًا حال العَقْدِ؛ [لأنَّه إنَّما يَتَعَلَّقُ بالضَّمانِ حُكْمٌ إذا خَرَج مُسْتَحَقًّا أو مَعِيبًا حال العَقدِ] (¬2)، ومتى كان كذلك، فقد ضَمِن ما وَجَب حينَ العَقْدِ، والجَهالةُ مُنْتَفِيةٌ (¬3)؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «أصحابه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «متبقية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمِن الجُمْلَةَ، فإذا خَرَج بعضُه مُسْتَحَقًّا، لَزِمَه بعضُ ما ضَمِنَه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَصِحُّ ضَمانُ العُهْدةِ عن البائِعِ للمُشْتَري قبلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وبعدَه. وقال الشافعيُّ: إنَّما يَصِحُّ بعدَ القَبْضِ، لأنَّه قبلَ القَبْضِ لو خَرَج مُسْتَحَقًّا، لم يَجِبْ على البائِعِ شيءٌ. وهذا يَنْبَنِي على ضَمانِ ما لم يَجِبْ إذا كان مُفْضِيًا إلى الوُجُوبِ، كالجَعالةِ، وسَنَذْكُرُها. وألْفاظُ ضَمانِ العُهْدَةِ (¬1) قَوْلُه: ضَمِنْتُ عُهْدَتَه. أو: ثَمَنَه. أو: دَرَكَه. أو يَقُولُ للمُشْتَرِي: ضَمِنْتُ خَلاصَكَ منه. أو: متى خَرَج المَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فقد ضَمِنْتُ لك الثَّمَنَ. وحُكِيَ عن أبي يُوسُفَ أنَّه إذا قال: ضَمِنْتُ (¬2) عُهْدَتَه. أو: ضَمِنْتُ لك العُهْدَةَ. لم يَصِحَّ، لأنَّ العُهْدَةَ الصَّكُّ بالابْتِياعِ، كذا فَسَّرَه أهْلُ اللُّغةِ، فلا يَصِحُّ ضَمانُه للمُشْتَرِي؛ لأنَّه مِلْكُه. وليس بِصَحيحٍ؛ لأنَّ العُهْدةَ في العُرْفِ عِبارَةٌ عن الدَّرَكِ ¬

(¬1) في ق، م: «عهدة المبيع». (¬2) بعده في الأصل: «لك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وضَمانِ الثَّمَنِ، والمُطْلَقُ يُحْمَلُ على الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ، كالرّاويَةِ، تُحْمَلُ عندَ إطْلاقِها على المَزادةِ لا (¬1) على الجَمَلِ، وإن كان هو (¬2) المَوْضُوعَ لُغَةً. فأمّا إن ضَمِن له خَلاصَ المَبِيعِ، فقال أبو بكرٍ: هو باطِلٌ؛ لأنَّه إذا خَرَج حُرًّا أو مُسْتَحَقًّا، لم يَسْتَطِعْ تَخْلِيصَه، ولا يَحِلُّ. وقد قال أحمدُ، في رَجُلٍ باع عَبْدًا أو أمَةً، وضَمِن له الخَلاصَ، فقال: كيف يَسْتَطيِعُ الخَلاصَ إذا خَرَج حُرًّا؟. فإن ضَمِن عُهْدَةَ المَبِيعِ وخَلاصَه، بَطَل في الخَلاصِ. وتَنْبَنِي صِحَّتُه في العُهْدةِ على تَفْرِيقِ الصَّفْقةِ. إذا ثَبَت صِحَّةُ ضَمانِ العُهْدةِ، فالكَلامُ فيما يَلْزَمُ الضّامِنَ، فنقولُ: اسْتِحقاقُ رُجُوعِ المُشْتَرِي بالثَّمَنِ، إمَّا أن يكونَ بسَبَبٍ حادِثٍ بعدَ العَقْدِ، أو مُقارِنٍ له؛ فأما الحادِثُ فمثلُ تَلَفِ (¬3) المَكِيلِ والمَوْزُونِ في يَدِ البائِعِ، أو بغَصْبٍ مِن يَدِه، أو يَتَقايَلان، فإنَّ المُشْتَرِيَ يَرْجِعُ على البائِعِ دُونَ الضّامِنِ؛ لأنَّ هذا لم يَكُنْ مَوْجُودًا حال العَقْدِ، وإنَّما ضَمِن الاسْتِحقاقَ المَوْجُودَ حال العَقْدِ. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ به على الضّامِنِ؛ لأنَّ ضمانَ ما لم يَجِبْ جائِزٌ، وهذا منه. وأمّا إن كان بسَبَبٍ مُقارِنٍ، نَظَرْنا؛ فإن كان بسَبَبٍ لا تَفْريطَ مِن البائِعِ فيه، كأخْذِه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، ر 1، م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشُّفْعَةِ، فإنَّ المُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِن الشَّفِيعِ، ولا يَرْجِعُ على البائِعِ ولا الضّامنِ. ومتى لم يَجِبْ على المَضْمُونِ عنه، لم يَجِبْ على الضّامِنِ بطَرِيقِ الأوْلَى. فأمّا إن كان زَوالُ مِلْكِه عن المَبِيعِ بسَبَبٍ مُقارِنٍ؛ لتَفْرِيطٍ مِن البائِعِ، باسْتِحْقاقٍ، أو حُرِّيَّةٍ، أو ردٍّ بعَيبٍ قديم، فله الرُّجُوعُ على الضّامِنِ، وهذا ضَمانُ العُهْدةِ، وإن أراد أخْذَ أرْشِ العَيبِ، رَجَع على الضّامِنِ أيضًا؛ لأنَّه إذا لَزِمَه كلُّ الثَّمَنِ، لَزِمَه بعضُه إذا اسْتَحَقَّ ذلك على المَضْمُونِ عنه، وسواءٌ ظَهَر كلُّ المَبِيعِ مُسْتَحَقًّا أو بعضُه؛ لأنَّه إذا ظَهر بعضُه مُسْتَحَقًّا، بَطَل العَقْدُ في الجَمِيعِ، في إحْدَى الرِّوايَتَينِ، فقد خَرَجَتِ العَينُ كلها مِن يَدِه بسَبَبِ الاسْتِحْقاقِ. وعلى الرِّوايَةِ الأخْرَى، يَبْطُلُ في البَعْضِ المُسْتَحَقِّ، وله رَدُّ الجَمِيعِ، فإن رَدَّها فهو كما لو اسْتُحِقَّتْ كلها، وإن أمْسَكَ بعضَها فله المُطالبَةُ بالأَرْشِ، كما لو وَجَدَها مَعِيبَةً. ولو باعَه عَينًا أو أقْرَضَه بشَرْطِ أن يَرْهَنَ عندَه عَينًا عَيَّنَها، فَتَكَفَّلَ رجلٌ بتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، لم تَصِحَّ الكَفالةُ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ البائِعَ، فلا يَلْزَمُ الكَفِيلَ ما لا يَلْزَمُ الأصِيلَ (¬1). وإن ضَمِن للمُشْتَرِي قِيمَةَ ¬

(¬1) في م: «الأصل». (المقنع والشرح والإنصاف 13/ 3)

1834 - مسألة: (ولا يصح ضمان دين الكتابة، في أصح الروايتين)

وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ دَينِ الْكِتَابَةِ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَحْدُثُ في المَبِيعِ، مِن بِناءٍ أو غِراسٍ، صَحَّ، سواءٌ ضَمِنَه البائِعُ أو أجْنَبِيٍّ، فإذا بَنَى أو غَرَسَ فاسْتُحِقَّ المَبِيعُ، رَجَع المُشْتَرِي على الضّامِنِ بقِيمَةِ ما تَلِفَ أو نَقَص. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه ضَمانُ مَجْهُولٍ، وضَمانُ ما لم يَجِبْ. وقد بَيَّنَّا جَوازَه. 1834 - مسألة: (ولا يَصِحُّ ضَمانُ دَينِ الكِتابَةِ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين) وهو قولُ الشافعيِّ، وأكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. والأخْرَى، يَصِحُّ؛ لأنَّه دَينٌ على المُكاتَبِ، فصَحَّ ضَمانُه، كسائِرِ دُيُونِه. والأُولَى أصَحُّ؛ لأنَّه ليس بلازِم، ولا مآلُه إلى اللُّزوم؛ لأنَّ للمُكاتَبِ (¬1) تَعْجِيزَ نَفْسِه، والامْتِناعَ مِن الأداءِ، فإذا لم يَلْزَمِ الأَصِيلَ (¬2)، فالضّامِنُ أوْلَى. ¬

(¬1) في ق: «المكاتب يملك». (¬2) في م: «الأصل».

1835 - مسألة: (ولا يصح ضمان الأمانات؛ كالوديعة ونحوها، إلا أن يضمن التعدي فيها)

وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ الأَمَانَاتِ؛ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوهَا، إلا أَنْ يَضْمَنَ التَّعَدِّيَ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1835 - مسألة: (ولا يَصِحُّ ضَمانُ الأماناتِ؛ كالوَديعَةِ ونحوها، إلَّا أن يَضْمَنَ التَّعَدِّيَ فيها) أمَّا الأماناتُ؛ كالوديعَةِ، والعَينِ المُؤْجَرَةِ، والشَّرِكةِ، والمُضارَبَةِ، والعَينِ المَدْفُوعَةِ إلى الخَيّاطِ والقَصّارِ، فإن ضَمِنَها مِن غيرِ تَعَدٍّ فيها، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها غيرُ مَضْمُونَةٍ على صاحبِ اليَدِ، فكذلك على ضامِنِه. وإن ضَمِن التَّعَدِّيَ فيها، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه الله تعالى، صِحّةُ ضَمانِها، فإنَّه قال في رِوايَةِ الأثْرَمِ، في رجل يَتَقَبَّلُ مِن الناسِ الثِّيابَ، فقال له رجلٌ: ادْفَعْ إليه ثِيابَكَ وأنا ضامِنٌ. فقال: هو ضامِنٌ لما دَفَعَه إليه. يَعْنِي إذا تَعَدَّى أو تَلِف بفِعْلِه. فعلى هذا، إن تَلِفَ بغيرِ فِعْلِه ولا تَفْرِيطٍ منه، فلا شيءَ على

1836 - مسألة: (فأما الأعيان المضمونة؛ كالغصوب، والعواري، والمقبوض على وجه السوم، فيصح ضمانها)

وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، كَالْغُصُوبِ، وَالعَوَارِي، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضّامِنِ، وإن تَلِف بفِعْلِه أو تَفْرِيطٍ، لَزِمَه ضَمانُها، ولَزِم ضامِنَه أيضًا؛ لأنَّها مَضْمُونَةٌ على مَن هي في يَدِه، فهي كالغُصُوبِ والعَوارِي، وهذا في الحَقِيقَةِ ضَمان ما لم يَجِبْ، وقد ذَكَرْناه. 1836 - مسألة: (فأمّا الأعْيانُ المَضْمُونَةُ؛ كالغُصُوب، والعَوارِي، والمقْبُوضِ على وَجْهِ السَّوْمِ، فيَصِحُّ ضَمانُها) وبه قال أَبو حنيفةَ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه. وقال في الآخَرِ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الأعْيانَ غيرُ ثابِتَةٍ في الذِّمَّةِ، وإنَّما يُضْمَنُ ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، ووَصْفنا لها بالضَّمانِ إنَّما مَعْناه أنَّه يَلْزَمُه قِيمَتُها عندَ التَّلَفِ، والقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ. ولنا، أنَّها مَضْمُونَةٌ على مَن هي في يَدِه، فصَحَّ ضَمانُها، كالحُقُوقِ الثّابِتَةِ في الذِّمَّةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُهم: إنَّ الأعْيانَ لا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ. قُلْنا: الضَّمانُ في الحَقِيقَةِ إنَّما هو ضَمانُ اسْتِنْقاذِها وَرَدِّها، والْتزامُ تَحْصِيلِها أو قِيمَتِها عندَ تَلَفِها. وهذا مِمّا يَصِحُّ ضَمانُه، كعُهْدةِ المَبِيعِ، فإنَّه يَصِحُّ، وهو في الحَقِيقَةِ الْتِزامُ رَدِّ الثَّمَنِ أو عِوَضِه إن ظَهَر بالمَبِيعِ عَيبٌ أو اسْتُحِقَّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ ضَمانُ الجُعْلِ في الجَعالةِ، وفي السابَقَةِ والمُناضَلَةِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ ضَمانُه في أحَدِ الوَجْهين؛ لأنَّه لا يَئُولُ إلى اللُّزُومِ، أشْبَهَ مال الكِتَابةِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1). ولأنَّه يَئُولُ إلى اللزُومِ إذا عَمِل العَمَلَ، وإنَّما الذي لا يَلْزَمُ العَمَلُ، والمالُ يَلْزَمُ بوُجُودِه، والضَّمانُ للمالِ دُونَ العَمَلِ. ويَصِحُّ ضَمانُ أَرْشِ الجِنايَةِ، سواءٌ كان نُقُودًا، كقِيَمِ المُتْلَفاتِ، أو حَيَوانًا، كالدِّياتِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ ¬

(¬1) سورة يوسف 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمانُ الحَيَوانِ الواجِبِ فيها؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. وقد مَضَى الدَّلِيلُ على صِحّةِ ضَمانِ المَجْهُولِ، ولأنَّ الإِبِلَ الواجِبَةَ في الدِّيَةِ (¬1) مَعْلُومَةُ الأسْنانِ والعَدَدِ (¬2)، وجَهالةُ اللَّوْنِ وغيرِه مِن الصِّفاتِ الباقِيَةِ لا تَضُرُّ؛ لأنَّه إنَّما يَلْزَمُه أدْنَى لَوْنٍ وصِفَةٍ، فتَحْصُلُ مَعْلُومَةً، وكذلك غيرُها (¬3) مِن الحَيَوانِ، ولأنَّ جَهْلَ ذلك لم يَمْنَعْ وُجُوبَه بإتْلافٍ، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَه بالالْتِزامِ. ويَصِحُّ ضَمانُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، سواء كانت نفقَةَ يَوْمِها أو مُسْتَقْبَلَةً، لأنَّ نَفَقَةَ اليَوْمِ واجِبَة، والمُسْتَقْبَلَةُ مآلُها إلى الوُجُوبِ (¬4)، ¬

(¬1) في ق: «الذمة». (¬2) بعده في الأصل: «فيها لأنها مجهول». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في ق، م: «اللزوم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَلْزَمُه ما يَلْزَمُ الزَّوْجَ، في قِياسِ المَذْهَبِ. وقال القاضي: إذا ضَمِن نَفَقَةَ المُسْتَقْبَلِ، لم يَلْزَمْه إلَّا نَفَقَةُ المُعْسِرِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ على ذلك تَسْقُطُ بالإعْسارِ. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ، على القولِ الذي قال فيه: يَصِحُّ ضَمانُها. ولنا، أنه يَصِحُّ ضَمانُ [ما لم يجب، واحْتِمالُ عَدَمِ وُجُوبِ الزيادَةِ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ ضَمانِها، بدَلِيلِ الجُعْلِ في] (¬1) الجَعالةِ، والصَّداقِ قبلَ الدُّخُولِ، والمَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ. فأمّا النَّفَقةُ في الماضِي، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانت واجِبَةً بحُكْمِ حاكِمٍ، أو قُلْنا بوُجُوبِها بدُونِ حُكْمِه، صَحَّ ضَمانُها، وإلَّا فلا. وفي صِحَّةِ ضَمانِ [مالِ الكِتابَةِ] (¬1) اخْتِلافٌ نذكُرُه (¬2) في بابِه. ¬

(¬1) في م: «السلم». (¬2) في الأصل: «ذكرناه».

1837 - مسألة: (وإن قضى الضامن الدين متبرعا، لم يرجع بشيء)

وَإنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّينَ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْء. وَإنْ نَوَى الرُّجُوعَ، وَكَانَ الضَّمَانُ وَالْقَضَاءُ بِغَيرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَهَلْ يَرْجِعُ؟ عَلَى روَايَتَينِ. وَإنْ أَذِنَ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ بأَقَلِّ الأَمْرَينِ مِمَّا قَضَى، أَوْ قَدْرِ الدَّينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1837 - مسألة: (وإن قَضَى الضّامِنُ الدَّينَ مُتَبَرِّعًا، لم يَرْجعْ بشيءٍ) لأنَّه تَطَوَّعَ بذلك، أشْبَه الصَّدَقَةَ، وسواءٌ ضَمِن بإذْنِه أو بغيرِ إذْنِه. 1838 - مسألة: (وإن نَوَى الرُّجُوعَ، وكان الضَّمانُ والقَضاءُ بغيرِ إذْنِ المَضمُونِ عنه، فهل يَرْجِعُ؟ على رِوَايَتَينِ. وإن أذِنَ) له (في أحَدِهما، فله الرُّجُوعُ بأقَلِّ الأمْرَينِ مِمّا قَضَى، أو قَدْرِ الدَّينِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الضّامِنَ متى أدَّى الدَّينَ بنيَّةِ الرُّجُوعِ، لم يَخْلُ مِن أرْبَعَةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يَضْمَنَ بإذْنِ المَضْمُونِ عنه ويُؤَدِّيَ بأمْرِه، فإنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْجِعُ عليه، سواءٌ قال: اضْمَنْ عَنِّي. أو: أَدِّ عَنِّي. أو أَطْلَقَ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: إن قال: اضْمَنْ عَنِّي، وانْقُدْ عَنِّي. رَجَعَ عليه. وإن قال: انْقُدْ هذا. لم يَرْجعْ، إلَّا أن يَكُونَ مُخالِطًا له، يَسْتَقْرِضُ منه ويُوْدِعُ عندَه؛ لأنَّ قَوْلَه اضْمَنْ عَنّى، وانْقُدْ عَنِّي. إقْرارٌ منه بالحَقِّ. وإذا أطْلَقَ ذلك (1)، صار كأنه قال: هبْ لي هذا. أو تَطَوَّعَ عليه (¬1). وإذا كان مُخالِطًا له، رَجَع اسْتِحْسانًا؛ لأنَّه قد يَأْمُرُ مُخالِطَهُ بالنَّقْدِ عنه. ولَنا، أنَّه ضَمِن ودَفع بأمْرِه، فأشْبَهَ ما لو كان مُخالِطًا له، أو قال: اضْمَنْ عَنِّي. وما ذَكَراه ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّه إذا أمَرَه بالضَّمانِ لا يَكُونُ إلَّا لِما هو عليه، وأمْرُه بالنَّقْدِ بعدَ ذلك يَنْصَرِفُ إلى ما ضَمِنَه، بدَلِيلِ المُخالِطِ (¬2) له، فيَجِبُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، ر 1، م: «المخالطة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه أداءُ ما أدَّى عنه، كما لو صَرَّحَ به. الثّانِي، ضَمِن بأمْرِه، وقَضَى بغيرِ أمْرِه، فله الرُّجُوعُ أيضًا. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ في أحَدِ الوُجُوهِ عنه. والوَجْهُ الثّانِي، لا يَرْجِعُ؛ لأنَّه دَفَع بغيرِ أمْرِه، أشْبَهَ ما لو تَبَرَّعَ. الوَجْهُ الثّالثُ، أنَّه إن تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ على المَضْمُونِ عنه، فدَفَعَ ما عليه، رَجَعَ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه تَبَرَّع بالدَّفْعِ. ولَنا، أنَّه إذا أَذِنَ في الضَّمانِ، تَضَمَّنَ ذلك إذنه في الأدَاءِ؛ لأنَّ الضَّمانَ يُوجِبُ عليه الأداءَ، فرَجَعَ عليه، كما لو أذِنَ في الأداءِ صَرِيحًا. الثّالِثُ، ضَمِن بغيرِ أمْرِه، وقَضَى بأمْرِه، فله الرُّجُوعُ أيضًا. وظاهِرُ مَذْهبِ الشافعيِّ أنَّه لا يَرْجِعُ؛ لأنَّ أمْرَه بالقَضاءِ انْصَرَفَ إلى ما وَجَب بضَمانِه. ولَنا، أنَّه أذَّى دَينَه بأمْرِه، فرَجَعَ عليه، كما لو لم يَكُنْ ضامِنًا، أو كما لو ضَمِن بأمْرِه. قَوْلُهم: إنَّ إذْنَه في القَضاءِ انْصَرَفَ إلى ما وَجَب بضَمانِه. قُلْنا: والواجِبُ بضَمانِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما هو أداءُ دَينِه، وليس هو شَيئًا آخَرَ، فمتى أدّاه عنه بإذْنِه، لَزِمَه إعْطاؤُه بَدَلَه. الرّابعُ، ضَمِن بغيرِ أمْرِه، وقَضَى بغيرِ أمْرِه، ففيه رِوايتانِ؛ إحْدَاهما، يرْجِعُ. وهو قولُ مالِكٍ، وعُبَيدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ، وإسحاقَ. والثَّانِيَةُ، لا يَرْجِعُ بشيءٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. بدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ وأبي قَتادَةَ (¬1)، فإنَّهما لو كانا يَسْتَحِقّانِ الرُّجُوعَ على المَيِّتِ، صار الدَّينُ لهما، فكانت ذِمَّةُ المَيِّتِ مَشْغُولَةً بدَينِهما، كاشْتِغالِها بدَينِ المَضْمُونِ عنه (¬2)، ولم يُصَلِّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّه تَبَرَّعَ بذلك، أشْبَهَ ما لو عَلَف دَوابَّه وأطْعَمَ عَبِيدَه بغيرِ أمْرِه. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّه قَضاءٌ مُبْرِئٌ مِن دَينٍ واجِبٍ، فكان مِن ضَمانِ مَن هو عليه، كالحاكِمِ إذا قَضَى عنه عندَ امْتِناعِه. فأمّا عَلِيٌّ وأبو قَتادَةَ، فإنَّهما تَبَرَّعا بالقَضاءِ والضَّمانِ، فإنَّهما قَضَيا دَينَه قَصْدًا لتَبْرِئةِ ذِمَّتِه؛ ليُصَلِّيَ عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مع عِلْمِهما أنَّه لم يَتْرُكْ وَفاءً (¬3)، والمُتَبَرِّعُ لا يَرْجِعُ بشيءٍ، وإنَّما الخِلافُ في المُحْتَسِبِ بالرُّجُوعِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 9. (¬2) في ق، م: «له». (¬3) في م: «وفاءه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَرْجِعُ الضّامِنُ على المَضْمُونِ عنه بأقَلِّ الأمْرَين ممّا قَضَى أو قَدْرِ الدَّينِ؛ لأنَّه إن كان الأقَلُّ الدَّينَ، فالزّائِدُ لم يَكُنْ واجِبًا عليه (¬1)، فهو مُتَبَرِّعٌ به، وإن كان المَقْضِيُّ أقَلَّ، فإنَّما يَرْجِعُ بما غَرِم، ولهذا لو أبْرَأه غَرِيمُه لم يَرْجِعْ بشيءٍ. فإن دَفع عن الدَّينِ عَرضًا، رَجَع بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه أو قَدْرِ الدَّينِ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: ولو كان على رَجُلَين مائَةٌ، على كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُها، وكلُّ واحدٍ ضامِنٌ عن صاحِبِه ما عليه، فضَمِنَ آخَرُ عن أحَدِهما المائَةَ بأمْرِه وقَضاهَا، سَقَط الحَقُّ عن الجَميعِ، وله الرُّجُوعُ بها (¬2) على الذي ضَمِن عنه، ولم يَكُنْ له أن يَرْجِعَ على الآخَرِ بشيءٍ، في إحدَى الرِّوايَتَينِ؛ لأنَّه لم يَضْمَنْ عنه، ولا أذِنَ له في القَضاءِ، فإذا رَجَع على الذي ضَمِن، رَجَع على الآخرِ بنِصْفِها، إن كان ضَمِن عنه بإذْنِه؛ لأنَّه ضَمِنَها عنه بإذنِه، وقَضاها ضامِنُه. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ، له الرُّجُوعُ على الآخَرِ بالمائَةِ؛ لأنَّها وَجَبَتْ له على مَن أدّاها عنه، فمَلَكَ الرُّجُوعَ بها [عليه، كالأصيلِ] (¬3). فصل: إذا ضَمِن عن رجل بأمْرِه، فطُولِبَ الضّامِنُ، فله مُطالبَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كالأصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَضْمُونِ عنه بتَخْلِيصِه؛ لأنَّه لَزِمَه الأداءُ عنه بأمْرِه، فكانت له المُطالبَةُ بتَبْرئَةِ ذِمَّتِه. وإن لم يُطالبِ الضّامِنُ، لم يَمْلِكْ مُطالبَةَ المَضْمُونِ عنه؛ لأنَّه لمَّا لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ بالدَّينِ قبلَ غَرامَتِه، لم تَكُنْ له المُطالبَةُ قبلَ طَلَبِه منه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ له المُطالبَةَ؛ لأنَّه شَغل ذِمَّتَة بإذْنِه، فكانت له المُطالبَةُ بتَفْرِيغِها، كما لو اسْتَعارَ عَبْدًا فرَهَنَه (¬1)، كان لسَيِّدِه مُطالبَتُه بفَكاكِه وتَفْرِيغه مِن الرَّهْنِ. والأوَّلُ أوْلَى. ويُفارِقُ الضَّمانُ العاريَّةَ؛ لأنَّ السَّيِّدَ يَتَضَرَّرُ بتَعْويقِ مَنافِعِ عَبْدِه المُسْتَعارِ، فمَلَكَ المُطالبَةَ بما يُزِيلُ الضَّرَرَ عنه، والضّامِنُ لا يَبطُلُ بالضَّمانِ شيءٌ مِن مَنافِعِه. فأمّا إن ضَمِن عنه بغيرِ أمْرِه (¬2)، لم يَمْلِكْ مُطالبَةَ المَضْمُونِ عنه قبلَ الأداءِ بحالٍ؛ لأنَّه لا حَقَّ له يُطالِبُ به، ولا شَغَل ذِمتَّة بأمْرِه، فأشْبَهَ الأجْنَبِيَّ. وقيل: إنَّ هذا يَنْبَنِي على الرِّوايَتَينِ في رجُوعِه على المَضْمُونِ عنه بما أدَّى عنه، فإن قُلْنا: لا يَرْجِعُ. فلا مُطالبَةَ له بحالٍ. وإن قُلْنا: يَرْجِعُ. فحُكْمُه حُكْمُ مَن ضَمِن عنه بأمْرِه، على ما مَضَى تَفْصِيلُه. ¬

(¬1) بعده في ر: «قيمته». (¬2) في م: «إذنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن ضَمِن الضّامِنَ ضامِنٌ (¬1) آخَرُ، فقَضَى أحَدُهما الدَّينَ، بَرِئَ الجَمِيعُ، فإن قَضاه المَضْمُونُ عنه، لم يَرْجعْ على أحَدٍ. وإن قَضاه الضّامِنُ الأوَّلُ، رَجَع على المَضْمُونِ عنه دُونَ الضّامِنِ الثّانِي. وإن قَضاه الثّانِي، رَجَع على الأوَّلِ، ثم رَجَع الأوَّلُ على المَضْمُونِ عنه، إذا كان كلُّ واحدٍ منهما قد أذِنَ لصاحِبِه، فإن لم يَكُنْ أذِنَ له، ففي الرُّجُوعِ رِوايَتان. وإن أذِنَ الأوَّلُ للثّانِي ولم يَأْذَنِ المَضْمُونُ عنه، أو أذِنَ المَضْمُونُ عنه لضامِنِه، ولم يَأْذَنِ الضّامِنُ لضامِنِه، رَجَع المَأْذُونُ له على مَن أذِنَ له، ولم يَرْجِعِ (¬2) الآخَرُ، على إحدى الرِّوايَتَينِ. فإن أذِنَ المَضْمُونُ عنه للضّامِنِ الثّانِي في الضَّمان، ولم يَأْذَنْ له الضّامِنُ الأَوَّلُ، رَجَع على المَضْمُونِ عنه، ولم يَرْجِعْ على الضّامِنِ؛ لأنَّه إنَّما يَرْجِعُ على مَن أذِنَ له دُونَ غيرِه. فصل: إذا كان له ألْفٌ على رَجُلَينِ؛ على كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُه، وكلُّ واحدٍ منهما ضامِنٌ عن صاحِبِه، فأبْرَأَ الغَرِيمُ أحَدَهما مِن الألْفِ، بَرِئَ منه، وبَرِئ صاحِبُه مِن ضَمانِه، وبَقِيَ عليه خَمسُمِائةٍ. وإن قَضاه أحَدُهما خَمْسَمائَةٍ، أو أبْرَأه الغَرِيمُ منها، وعَيَّنَ القَضاءَ بلَفْظِه أو ببَيِّنةٍ عن الأصْلِ أو الضَّمانِ، انْصَرَفَ إليه. وإن أطْلَقَ، احْتَمَلَ أنَّ له صَرْفَها إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما شاء منهما (¬1)، كمَن أخْرَجَ زَكَاةَ نِصابٍ وله نِصابان؛ غائِبٌ وحاضِرٌ، كان له صَرْفُها إلى ما شاء منهما. واحْتَمَلَ أن يَكُونَ نِصْفُها عن الأصْلِ، ونِصْفُها عن الضَّمانِ؛ لأنَّ إطْلاقَ القَضاءِ والإبْراءِ يَنْصَرِفُ إلى جُمْلَةِ ما فِي ذِمَّتِه، فيَكُونُ بينَهما. والمُعْتَبَرُ في القَضاء لَفْظُ القاضِي ونِيَّتُه، وفي الإِبْراءِ لَفْظُ المُبْرِئ ونِيَّتُه، ومتى اخْتَلَفُوا في ذلك، فالقَوْلُ قولُ مَن اعْتُبِرَ لَفْظُه ونِيَّتُه. فصل: ولو ادَّعى ألفًا على حاضِرٍ وغائِبٍ، وأنَّ كل واحدٍ منهما ضامِنٌ عن صاحِبِه، فاعْتَرفَ الحاضِرُ بذلك، فله أخْذُ الألْفِ منه، فإن قَدِم الغائِبُ فاعْتَرَفَ، رَجَع عليه صاحِبُه بنِصْفِه، وإن أنْكَرَ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِيِنه، وإن كان الحاضِرُ أنْكَرَ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِيِنه، فإن قامَتْ عليه بَيِّنَةٌ فاسْتَوْفَى الألْفَ منه، لم يَرْجِعْ على الغائِبِ بشيء؛ لأنَّه بإنْكارِه مُعْتَرِفٌ أنَّه لا حَقَّ له عليه، وإنَّما المُدَّعِي ظَلَمَه. وإنِ اعْتَرَفَ الغائِبُ وعاد الحاضِرُ عن إنْكارِه، فله الاسْتِيفاءُ منه؛ لأنَّه يَدَّعِي عليه حَقًّا يَعْتَرِف له به، فجازَ له أخْذُه. وإن لم يَقُمْ على الحاضِرِ بَيِّنَةٌ، حَلَف وبَرِئَ، فإذا قَدِم الغائِبُ، فإن أنْكَرَ وحَلَف، بَرِئَ، فإنِ اعْتَرَفَ، لَزِمَه دَفْعُ الألْفِ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: لا يَلْزَمُه إلَّا خَمْسُ المائةِ الأصْلِيَّةُ دُونَ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «واحتمل أن يكون نصفها».

1839 - مسألة: (وإن أنكر المضمون له القضاء، وحلف، لم يرجع الضامن على المضمون عنه، سواء صدقه أو كذبة)

وَإنْ أنْكَرَ الْمَضْمُونُ لَهُ الْقَضَاءَ، وَحَلَف، لَمْ يَرْجِعِ الضَّامِنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، سَوَاء صَدَّقَهُ، أوْ كَذَّبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَضْمُونَةِ؛ لأنَّها سَقَطَتْ عن المَضْمُونِ عنه بيَمِينه، فتَسْقُطُ عن ضامِنِه. ولَنا، أنَّه مُقِرٌّ بها وغريمُه يَدَّعِيها، واليَمِينُ إنَّما أسْقَطَتِ المُطالبَةَ عنه في الظّاهِرِ، ولم تُسْقِطْ عنه الحَقَّ الذي في ذِمَّتِه، بدَلِيلِ أنَّه لو قامَتْ عليه بَينة بعدَ يَمِينه، لَزِمَه، ولَزِم الضّامِنَ. 1839 - مسألة: (وإن أنْكَرَ المَضْمُونُ له القَضاءَ، وحَلَف، لم يَرْجِعِ الضّامِنُ على المَضْمُونِ عنه، سواءٌ صَدقَه أو كَذَّبَة) إذا ادَّعَى الضّامِنُ أنَّه قَضَى الدَّينَ، فأنْكَرَ المَضْمُونُ له، ولا بَينةَ له، فالقولُ قولُ المَضْمُونِ له؛ لأنَّه ادَّعَى تَسْلِيمَ المالِ إلى مَن لم يَأمَنْه، فكان القولُ قولَ المُنْكِرِ، وله مُطالبَةُ الضّامِنِ والأصِيلِ. فإن رَجَع على المَضْمُونِ عنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهل يَرجِعُ الضّامِنُ بما قَضاه عنه؟ يُنْظَرُ؛ فإن لم يعتَرِفْ له بالقَضاءِ، لم يَرجِع عليه، وإنِ اعتَرَفَ له بالقَضاءِ، وكان قد قَضَى بغيرِ بَينةٍ في غَيبَةِ المَضْمُونِ عنه، لم يَرجع بشيء، سواء صَدَّقَه المَضْمُونُ عنه أو كَذبَه؛ لأنَّه أذِنَ في قَضاءٍ مُبْرِيء ولم يُوجَد، كان قَضاه بِبَينةٍ ثَبَت بها الحَقُّ، لكنْ إن كانت غائِبَةً أو مَيتَةً، فللضّامِنِ الرُّجُوعُ على المَضْمُونِ عنه؛ لأَنه مُعتَرِف أنَّه ما قَصَّرَ وما فَرَّطَ. وإن قَضاه بِبَينةٍ مَردُودَةٍ بأمر ظاهِر، كالكُفْرِ والفِسْقِ الظّاهِرِ، لم يَرجِعِ الضّامِنُ؛ لتَفْرِيطِه؛ لأنَّ هذه البَيِّنةَ كعَدَمِها. وإن رُدَّتْ بأمر خَفِيّ، كالفِسْقِ الباطِنِ، أو كانتِ الشَّهادَةُ مُخْتَلَفًا فيها، مثلَ أن يكونَ (¬1) أشْهدَ عَبْدَينِ، أو شاهِدًا واحِدًا، فرُدَّتْ لذلك، أو كان مَيتًا أو غائِبًا، احتَمَلَ أن يَرجِعَ؛ لأَنه قَضَى ببَينةٍ شَرعِيَّةٍ، والجرحُ والتَّعدِيلُ ليس له. واحتَمَلَ أن لا يَرجِعَ؛ لأَنه أشْهدَ مَن لا يَثْبُتُ الحَقُّ بشهادَتِه. وإن قَضَى بغيرِ بَيِّنةٍ بحَضْرَةِ المَضْمُونِ عنه، ففيه وَجْهانِ؛ ¬

(¬1) سقط من: ر 1، ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، يَرجِعُ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه إذا كان حاضِرًا، كان الاحتِياطُ إليه، فإذا تَرَك التحَفُّظَ كان التَّفْرِيطُ منه دُونَ الضّامِنِ. والثّانِي، لا يَرجِعُ؛ لأنه قَضَى قَضاءً غيرَ مُبْرِئً، فأشْبَه ما لو قَضَى في غَيبَتِه. فصل: فإن رَجَع المَضْمُونُ له على الضّامنِ، فاسْتَوْفَى منه مَرَّةً ثانِيَة، رَجَع على المَضْمُونِ عنه بما قَضاه ثانِيًا؛ لأنه أبرَأ به ذِمته ظاهِرًا. قال القاضي: ويَحتَمِلُ أن له الرُّجُوعَ بالقَضاءِ الأوَّلِ دُونَ الثّانِي؛ لأنَّ البَراءَةَ حَصَلَتْ به في الباطِنِ. ولأصحاب الشافعيِّ وَجْهان كهذَين، ووَجْهٌ ثالِثٌ، أنّه لا يَرجِعُ بشيءٍ بحال؛ لأن الأوَّلَ ما أبرَأه ظاهِرًا، والثَّانِيَ ما أبرأه باطِنًا. ولنا، أن الضّامِنَ أدَّى عن المَضْمونِ عنه بإذْنِه إذا أبرَأه ظاهِرًا وباطِنًا فرَجَعَ به، كما لو قامَتْ به بَيِّنَةٌ. والوَجهُ الأولُ أرجَحُ؛ لأن القَضاءَ المُبْرِيء في الباطِنِ ما أوْجَبَ الرُّجُوعَ، فيَجِبُ أن يَجِبَ بالثاني (¬1) المُبْرِيء [في الظّاهِرِ] (¬2). ¬

(¬1) في م: «بالباقي». (¬2) في م: «بالظاهر».

1840 - مسألة: (وإن اعترف)

وإنِ اعتَرَفَ بِالْقَضَاءِ، وَأنكَرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، لَمْ يُسْمَع إِنْكَارُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1840 - مسألة: (وإنِ اعتَرَفَ) المَضْمُونُ له (بالقَضاءِ، وأنْكَرَ المَضْمُونُ عنه، لم يُسْمَعْ إنْكارُه) لأنَّ ما في ذِمَّتِه حَقٌّ للمَضْمُونِ له، فإذا اعتَرفَ بالقَبْضِ مِن الضّامِنِ، فقد اعتَرَفَ بأنَّ الحَقَّ الذي له صار للضّامِن، فيَجِبُ أن يُقْبَلَ إقْرارُه؛ لكَوْنِه إقْرارًا في حَقِّ نَفْسِه. وفيه وَجْه آخَرُ، أَنَّه لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ الضّامِنَ مُدَّع لِما يَسْتَحِقُّ به الرجُوعَ على المَضْمُونِ عنه، وقولُ المَضْمُونِ له شَهادَة على فِعْلِ نَفْسِه، فلا تُقْبَلُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوَّلُ أصَحُّ، وشَهادَةُ الإنسانِ على فِعْلِ نَفْسِه صَحِيحةٌ، كشَهادَةِ المُرضِعَةِ بالرَّضاعِ، وقد ثَبَت ذلك بخَبَرِ عُقْبةَ بنِ الحارِثِ (¬1). ¬

(¬1) وذلك ما روى عن عقبة بن الحارث أنه قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امراة سوداء، فقالت لي: إني قد أرضعتكما. وهي كاذبة. فأعرض عنه، فأتيته من قبل وجهه فقلت: إنها كاذبة. قال: «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك». أخرجه البخاري، في: باب تفسير المشبهات، من كتاب البيوع، وفي: باب شهادة المرضعة، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 3/ 70، 7/ 13. والترمذي، في: باب ما جاء في شهادة المرأة؛ الواحدة في الرضاع، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 93. والنسائي، في: باب الشهادة في الرضاع، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 90. والدارمي، في: باب شهادة المرأة الواحدة على الرضاع، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 157. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 7، 8، 384.

1841 - مسألة: (وإن قضى المؤجل قبل أجله، لم يرجع حتى يحل)

وإنْ قَضَى الْمُؤجَّلَ قَبْلَ أجَلِهِ، لَمْ يرجِع حَتَّى يَحِلَّ. وَإنْ مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أو الضّامِنُ، فَهلْ يَحِل الدَّينُ عَلَيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ، وَأيُّهُمَا حَلَّ عَلَيهِ، لم يَحِلَّ عَلَى الآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1841 - مسألة: (وإن قَضَى المُؤجَّلَ قبلَ أجَلِه، لم يرجع حتى يَحِل) لأنَّه لا يَجِبُ له. أكثرُ ممّا كان للغَرِيمِ، ولأنه (¬1) تَبَرَّعَ بالتعجِيلِ، كان أحاله كانتِ الحَوالةُ بمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِه، ورَجَع بالأقلِّ مِمّا أحال به أو قَدرِ الدَّيْنِ، سواءٌ قَبَض الغَرِيمُ مِن المُحالِ عليه، أو أبرَأه، أو تَعَذَّرَ عليه الاسْتِيفاءُ، لفَلَسٍ أو مَطْلٍ؛ لأن الحَوالةَ كالإقْباضِ. 1842 - مسألة: (وإن مات الضّامِنُ أو المَضْمُونُ عنه، فهل يَحِلُّ الدين؟ على رِوايَتَين. وأيهما حَل عليه، لم يَحِل على الآخَرِ) وجُملَةُ ذلك، أنَّه إذا ضَمِن دَينا مُؤجلًا، فماتَ أحَدُهما؛ إمّا الضّامِنُ أو المَضْمُونُ عنه، فهل يَحِلُّ الدَّيْن على المَيِّتِ منهما؟ على رِوَايَتَينِ يأتِي ذِكرُهما. ¬

(¬1) في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قُلْنا: يَحِل على المَيّت. لم يَحِل على الآخَرِ؛ لأنَّ الدينَ لا يَحِل على شَخْص بمَوْتِ غيرِه. فإن كان المَيِّتُ المَضْمُونَ عنه، لم يَسْتَحِق مُطالبَةَ الضّامِنِ قبلَ الأجَلِ، فإن قَضاه قبلَ الأجَلِ كان مُتَبَرِّعًا بتعجِيلِ القَضاءِ، وهل له مُطالبةُ المَضْمُونِ عنه قبلَ الأجَلِ؟ يُخرجُ على الرِّوايَتَينِ في مَن قَضَى الدَّينَ بغيرِ إذْنِ مَن هو عليه. وإن كان المَيِّتُ الضّامِنَ، فاسْتَوْفَى الغَرِيمُ مِن تَرِكَتِه، لم يَكُنْ لوَرَثَتِه مُطالبَةُ المَضْمُونِ عنه حتى يَحِلَّ الحَقُّ؛ لأنَّه مُؤجل عليه، فلا يَسْتَحِق مُطالبَتَه قبل أجَلِه. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ. وحَكَى زُفَرُ أنَّ لهم مُطالبَتَه؛ لأنه أدخَلَه في ذلك مع عِلْمِه أنه يَحِل بمَوْتِه. ولَنا، أنّه دَين مُؤجَّل، فلا يَجُوزُ مُطالبَتُه به قبلَ الأجَلِ، كما لو لم يَمُتْ. وقَوْلُه (¬1): أدخَلَه فيه. قُلْنا: إنَّما أدخلَه في المُؤجَّلِ، وحُلولُه بسَبَبٍ مِن جِهتِه، فهو كما لو قَضَى قبلَ الأجَلِ. ¬

(¬1) في م: «قولهم».

1843 - مسألة: (ويصح ضمان الحال مؤجلا. وإن ضمن المؤجل حالا، لم يلزمه قبل أجله، في أصح الوجهين)

وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِّ مُؤجلًا. وَإنْ ضَمِنَ الْمُؤجَّلَ حَالًّا، لَمْ يَلْزمهُ قَبْلَ أجَلِهِ، فِي أصح الْوَجْهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1843 - مسألة: (ويَصِحُّ ضَمانُ الحالِّ مُؤجَّلًا. وإن ضَمِن المُؤجلَ حالًا، لم يَلْزَمه قبلَ أجَلِه، في أصَحِّ الوَجْهين) إذا ضَمِن الدينَ الحالَّ مُؤجلًا، صَحَّ، ويَكُونُ حالًا على المَضْمُونِ عنه مُؤجلًا على الضّامِنِ، يَملِكُ مُطالبَةَ المَضْمُونِ عنه دُونَ الضّامِنِ. وبه قال الشافعي. قال أحمدُ، في رجل ضَمِن ما على فُلانٍ أن يُؤديه في ثَلاثِ سِنِين: فهو عليه، ويُؤدِّيه كما ضَمِن. وَوَجْهُ ذلك، ما روَى ابنُ عَبّاس، أن رَجُلًا لَزِم غَرِيمًا له بعَشَرَةِ دَنانِيرَ، على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما عِنْدِي شيءٌ أعطِيكَه. فقال: واللهِ لا فارَقْتُكَ حتى تُعطِيَني أو تأتِيَني بحَمِيلٍ. فَجَرَّه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَم تَستَنْظِرُهُ؟». فقال: شَهْرًا. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَأنا أحمِلُ». فجاءَه به في الوَقْتِ الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أْينَ أصَبْتَ هذَا؟». قال: مِن مَعدِنٍ. قال: «لَا خَيرَ فِيها». وقَضاها عنه. رَواه ابنُ ماجه (¬1). ¬

(¬1) في: باب الكفالة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 804. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب في استخراج المعادن، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 217، 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنه ضَمِن مالًا بعَقْدٍ مؤجَّلٍ، فكانَ مؤجَّلًا، كالبَيعِ. فإن قِيلَ: فعندكم الدَّين الحالُّ لا يَتَأجَّلُ، فكَيفَ تَأجَّلَ على الضّامِنِ؟ أم كيف يَثْبت في ذِمةِ الضّامِنِ على غيرِ الوَصفِ الذي يَتَّصِف به في ذِمّةِ المَضْمُونِ عنه؟ قلْنا: الحَقُّ يَتَأجَّل في ابْتِداءِ ثبوتِه [إذا كان ثبوتُه] (¬1) بعَقْدٍ، وهذا ابْتداءُ ثبوتِه في حَقِّ الضّامِنِ، فإنَّه لم يَكُنْ ثابِتًا عليه حالًا، ويَجوز أن يخالِفَ ما في ذِمةِ الضّامِنِ الذي في ذِمَّةِ المَضْمونِ عنه، بدَلِيلِ ما لو مات المَضْمُون عنه والدين مؤجل. إذا ثبَت هذا، فكان الدين حالًّا فَضَمِنَه إلى شَهْرَينِ، لم يَكُنْ له مطالبَةُ الضّامِنِ إلى شَهْرين (¬2)، فإن قَضَاه قبلَ الأجَلِ، فله الرّجوع به في الحالِ، على الرِّوايَةِ التي تَقُول: إنه إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه، رَجَع به؛ لأنَّ أكثر (¬3) ما فيه ها هنا، أنَّه قَضَى بغيرِ إذْنٍ. وعلى الرِّوايَةِ الأخْرَى، لا يرجع به قبلَ الأجَلَ؛ لأنه لم يأذَنْ له في القَضاءِ ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. (¬2) في م: «شهر». (¬3) سقط من: ر 1، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبل ذلك. فصل: فإن كان الدَّينُ مُؤجَّلًا فضَمِنَه حالًّا، لم يَصر حالًّا، ولم يَلْزَمه أداؤه قبلَ أجَلِه؛ لأنَّ الضّامِنَ فرع للمَضْمُونِ عنه، فلا يَلْزَمُه ما لا يَلْزَمُه، ولأنَّ المَضْمُونَ عنه لو ألْزَمَ نَفْسَه تَعجيلَ هذا الدَّينِ، لم يَلْزَمه تَعجِيلُه، فبأن لا يَلْزَمَ الضّامِنَ أوْلَى، ولأنَّ الضَّمانَ الْتِزامُ دَين في الذِّمَّةِ، فلا [يَجُوزُ أن يَلْتَزِمَ] (¬1) ما لا (¬2) يَلْزَمُ المَضْمُونَ عنه. فعلى هذا، إن قَضاه حالًّا، لم يرجع به قبلَ أجَلِه؛ لأنَّ ضَمانَه لم يُغَيِّره عن تأجِيله والفَرقُ بينَ هذه المَسْألةِ والتي قَبْلَها، أنَّ الدَّينَ الحالَّ ثابِت في الذِّمةِ، مُسْتَحِقُّ القَضاءِ في جَمِيعِ الزمانِ، فإذا ضَمِنَه مُؤجلًا فقد الْتَزَمَ بعضٍ ما يَجِبُ على المَضْمُونِ عنه، فصَحَّ، كما لو كان الدَّينُ عَشَرَةً فضَمِنَ خَمسَة، وأمّا الدَّيْنُ المُؤجَّلُ، فلا يُسْتَحَقُّ قَضاؤه إلَّا عند أجَلِه، فإذا ضَمِنَه حالا، الْتَزَمَ ما لم يَجِبْ على المضْمُونِ عنه، أشْبَه ما لو كان الدينُ عَشَرَةً فضَمِنَ عِشْرِين. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَصِحُّ ضَمانُ المُؤجَّلِ حالا، كما يَصِحُّ ضَمانُ الحالِّ مُؤجَّلًا، قِياسًا عليه. وقد ذَكَرنا الفَرقَ بينَهما بما يَمنَعُ القِياسَ، إن شاءَ الله تعالى. فصل: ولا يَدخُلُ الضمانَ والكَفالةَ خِيار؛ لأن الخِيارَ جُعِل (¬3) ¬

(¬1) في ر 1: «يلزم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليُعرَفَ ما فيه الحَظُّ، والضَّمِينُ والكَفِيلُ دَخَلا على أنَّه لا حَظَّ لهما، ولأنَّه عَقْد لا يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فلم يَدخُلْه خِيارٌ، كالنذْرِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ولا نَعلَمُ فيه خلافًا. فإن شَرَطَ الخيارَ فيهما (¬1)، فقال القاضي: عندِي أنَّ الكَفالةَ تَبْطُلُ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه شَرط يُنافِي مُقْتَضاها، ففَسَدَتْ، كما لو شَرَط أن لا يُؤدِّيَ عن المَكْفُولِ به، وذلك لأنَّ مُقْتَضَى الضَّمانِ والكَفالةِ لُزُومُ ما ضَمِنَه أو كَفَل به، والخِيارُ يُنافِي ذلك. ويَحتَمِلُ أن يَبطُلَ الشّرطُ وَحدَه، كما قلنا في الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. ولو أقَرَّ أنَّه كَفَل بشَرطِ الخِيارِ، لَزِمَتْه الكَفالةُ، وبَطَل الشّرطُ؛ لأنَّه وَصَل بإقْرارِه ما يبطِلُه، فأشْبَه اسْتِثْناءَ الكلِّ. فصل: وإذا ضَمِن رَجُلان عن رجلٍ ألفًا ضَمانَ اشْتِراكٍ، فقالا: ضَمِنَّا لك الألْفَ الذي على زَيدٍ. فكل واحدٍ منهما ضامِن لنِصفِه. وإن كانوا ثَلاثةً، فكلُّ واحِدٍ ضَامِن ثُلُثَه. فإن قال واحِد منهم: أنا وهذان ضامِنُون لك الألْفَ. فسَكَتَ الآخَرانِ، فعليه ثُلُثُ الألْفِ، ولا شيءَ عليهما. وإن قال كلُّ واحدٍ منهم: كل واحدٍ مِنّا ضامِن لك الألْفَ. فهذا ضَمانُ اشْتِراكٍ وانْفِرادٍ، وله مُطالبَةُ كلِّ واحدٍ منهم بالألْفِ إن شاء. وإن أدّى أحَدُهُم الألفَ كله، أو حِصّتَه منه، لم يرجع إلَّا على المَضْمُونِ عنه؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم ضامِن أصلِي، وليس بضامِن عن الضّامِنِ الآخَرِ. ¬

(¬1) في م: «فيها».

1844 - مسألة: (وتصح ببدن من عليه دين، وبالأعيان المضمونة)

فصلٌ فِي الْكَفَالة: وَهِيَ الْتِزَامُ إِحضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ. وَتَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيهِ دَينٌ، وَبِالأعيَانِ الْمَضْمُونَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ الله عَنه: (الكَفالةُ؛ الْتِزامُ إحضارِ المَكْفُولِ به) وجملةُ ذلك، أنَّ الكَفالةَ بالنَّفْسِ صَحِيحَة في قولِ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم شُرَيح، ومالك، والثوْرِيُّ، والليثُ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ في بعضِ أقْوالِه: الكَفالةُ بالبَدَنِ ضَعِيفة. واخْتَلَفَ أصحابُه؛ فمِنْهُم مَن قال: هي صَحِيحَة قولًا واحِدًا وإنما أرادَ أنَّها ضَعِيفَة في القِياسِ، وإن كانت ثابِتَة بالإجْماعِ والأثَرِ. ومنهم مَن قال: فيها قَوْلان؛ أحدُهما، أنَّها غيرُ صَحِيحَة؛ لأنّها كَفالة بعَين، فلم تَصِحَّ، كالكَفالةِ بالوَجْهِ وبَدَنِ الشّاهِدَينِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} (¬1). ولأنَّ ما وَجَب تَسْلِيمُه بعَقْدٍ، وَجَب تَسْلِيمُه بعَقْدِ الكَفالةِ، كالمالِ. 1844 - مسألة: (وتَصِحُّ ببَدَنِ مَن عليه دَين، وبالأعيانِ المَضْمُونةِ) تَصِحُّ الكَفالةُ ببَدَنِ كلِّ مَن يَلْزَمُه الحُضُورُ في مَجْلِسِ الحُكْمِ ¬

(¬1) سورة يوسف 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدَينٍ لازِم، سواءٌ كان معلُومًا أو مَجْهُولًا. وقال بعضُ الشّافعِيَّةِ: لا تَصِحُّ مِمَّن عليه دَين مَجهول؛ لأنه قد يَتَعَذَّرُ إحضارُ المَكْفُولِ فيَلْزَمَه الدَّينُ، ولا يمكِنُه طلبه منه؛ لجَهْلِه. ولَنا، أنَّ الكَفالةَ بالبَدَنِ لا بالدَّينِ، والبَدَنُ معلُوم، فلا تَبطُلُ الكفالةُ لِاحتمالٍ عارِض، ولأنا قد بينا أنَّ ضَمانَ (¬1) المَجْهولِ يَصِحُّ، وهو الْتِزام المالِ ابْتِداءً، فالكَفالةُ التي لا تَتَعَلَّقُ بالمالِ ابْتِداءً أوْلَى. وتَصِحُّ الكَفالةُ بالصَّبِيِّ والمَجْنونِ؛ لأنهما (¬2) قد يَجِب إحضارهما مَجْلِسَ الحاكِمِ للشَّهادَةِ عليهما بالإتْلافِ، وإذْنُ وَلِيِّهِما يَقُوم مَقامَ إذْنِهِما. وتَصِحُّ بِبَدَنِ (¬3) المَحبوسِ والغائِبِ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَصِحُّ. ولَنا، أن كلَّ وَثِيقةٍ صَحّتْ بع الحضورِ، صَحَّت مع الغيبَةِ والحَبْسِ، كالرهْنِ والضمانِ، ولأن الحَبْسَ لا يمنَع مِن التسْلِيمِ؛ لكَوْنِ المَحبوسِ يمكِنُ تَسْلِيمُه بأمرِ الحاكِمِ، أو أمرِ مَن حَبَسَه، ثم يعِيده إلى الحَبْسِ بالحَقينِ جَمِيعًا، والغائِب يَمضِي إليه ¬

(¬1) في م: «الضمان». (¬2) في م: «لأنه». (¬3) في الأصل: «بدين».

1845 - مسألة: (ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص)

وَلَا تَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيهِ حَدٌّ أوْ قِصَاصٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُحضِرُه إن كانتِ الغَيبَةُ غيرَ مُنْقَطِعَةٍ، وهو أن يَعْلَمَ خَبَرَه، وإن لم يعلم خَبَرَه، لَزِمَه ما (1) عليه. قاله القاضي. وقال في مَوْضع آخَرَ: لا يَلْزَمُه ما (1) عليه، حتى تمضِيَ مُدَّةٌ يُمكِنُه الرَّدُّ فيها ولا يَفْعَلُ. وتَصِحُّ بالأعيانِ المَضْمُونَةِ، كالغُصُوبِ والعَوارِي؛ لأنَّه يَصِحُّ ضَمانُها، وقد ذَكَرنا صِحَّة ضَمانِها. 1845 - مسألة: (ولا تَصِحُّ ببَدَنِ مَن عليه حَدُّ أو قِصاصٌ) سواء كان حَقًّا للهِ تعالى، كحَدِّ الزِّنَى والسرِقَةِ، أو لآدمِيٍّ، كحَد القَذْفِ والقِصاصِ. وهو قولُ أكثرَ (¬1) العُلَماءِ؛ منهم شُرَيح، والحَسَنُ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ (¬2)، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرأي. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «عبيدة».

1846 - مسألة: (ولا)

وَلَا بِغَيرِ مُعَيَّن، كَأحدِ هذَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعي في حُدُودِ اللهِ تعالى. واخْتَلَفَ قَوْلُه في حُدُودِ الآدَمِيِّ، فقال في مَوْضِع: لا كَفالةَ في حَدٍّ ولا لِعانَ. وقال في موضع: تَجُوزُ الكَفالةُ بمَن عليه حَقٌّ أو حَدٌّ؛ لأنَّه حَق لآدَمِيّ، فصَحَّتِ الكَفالةُ به، كسائِرِ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ. ولَنا، ما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا كَفَالةَ في حدٍّ» (¬1). ولأنَّه حد، فلم تَصِحَّ الكَفالةُ فيه، كَحُدُودِ الله تِعالى، ولأنَّ الكَفالةَ اسْتِيثاق، والحُدُودُ مَبْناها على الإسْقاطِ والدَّرءِ بالشبُهاتِ، فلا يَدخُلُ فيها الاسْتِيثاقُ، ولأنه حَق لا يَجُوزُ اسْتِيفاؤه مِن الكَفِيلِ إذا تَعَذَّرَ عليه إحضارُ المَكْفُولِ به، فلا تَصِحُّ الكَفالةُ بمَن هوْ عليه، كحَد الزِّنَى. فصل: ولا تَجُوزُ الكَفالةُ بالمُكاتَبِ مِن أجْلِ دَينِ الكِتابَةِ؛ لأنَّ الحُضُورَ لا يَلْزَمُه، فلا تَجُوزُ الكَفالةُ به، كدَينِ الكِتابةِ. 1846 - مسألة: (ولا) تَصِحُّ (بغيرِ مُعَيَّنٍ، كأحَدِ هذينِ) ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في الكفالة ببدن من عليه حق، من كتاب الضمان. السنن الكبرى 6/ 77.

1847 - مسألة: (وإن كفل بجزء شائع من إنسان أو عضو، أو كفل بإنسان على أنه إن جاء به، وإلا فهو كفيل بآخر، أو ضامن ما عليه، صح، في أحد الوجهين)

وإنْ كَفَلَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ إنْسَانٍ أوْ عُضْو، أوْ كَفَلَ بِإِنْسَانٍ عَلَى أنهُ إنْ جَاءَ بِهِ، وَإلَّا فهُوَ كَفِيلٌ بِآخَرَ، أوْ ضَامِن مَا عَلَيهِ، صَحَّ، فِي أحَدِ الْوَجْهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه غيرُ مَعلُومٍ في الحالِ ولا في المآلِ، فلا يُمكِنُ تَسْلِيمُه. 1847 - مسألة: (وإن كَفَل بجُزْءٍ شائِع مِن إنْسانٍ أو عضْو، أو كَفَل بإنْسانٍ على أنَّه إن جاءَ به، وإلَّا فهو كَفِيلٌ بآخَرَ، أو ضامِن ما عليه، صَحَّ، في أحدِ الوَجْهين) أنها إذا قال: أنا كَفِيل بفُلانٍ. أو: بنَفْسِه. أو ببَدَنِه. أو: بوَجْهِه. كان كفِيلًا به. فإن كَفَل برأسِه أو كَبِدِه، أو جُزْءٍ لا تَبْقَى الحَياةُ بدُونِه، أو بِجُزْءٍ شائِع منه، كثلُثِه أو رُبْعِه، صَحَّتِ الكَفالةُ؛ لأنّه لا يُمكِنُه إحضارُ ذلك إلَّا بإحضاره كُلِّه. وقال القاضي: لا (¬1) تَصِحُّ الكَفالةُ ببعضِ البَدَنِ؛ لأنَّ ما لا يَسْرِي إذا خُصَّ (¬2) به عُضْوٌ، لم يَصِحَّ، كالبَيعِ والإجارةِ. فإن كَفَل بعُضْوٍ (¬3) تَبْقَى الحَياةُ بعد زَوالِه، كاليَدِ والرِّجْلِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، تَصِحُّ الكَفالةُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حضر». (¬3) في ر 1: «بجزء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتارَه أبو الخَطابِ. وهو أحَدُ الوَجْهينِ لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنّه لا يُمكِنُه إحضارُ هذه الأعضاء على صِفَتِها إلَّا بإحضارِ البَدَنِ كلِّه، أشْبَه الكَفالةَ بوَجْهِه ورَأسِه، ولأنه حُكْم يتَعَلَّقُ بالجُملَةِ، فيَثْبُتُ حُكْمُه إذا أُضِيفَ إلى البعضِ، كالطَّلاقِ والعَتاقِ. والثّانِي، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ تَسْلِيمَه بدُونِ تَسْلِيمِ الجُملَةِ ممكِن مع بقائِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَكَفَّلَ بإنْسانٍ على أنَّه إن جاء به وإلّا فهو كَفِيلٌ بآخَر أو ضامِنٌ ما عليه، لم (¬1) يَصِحَّ عند القاضِي فيهما؛ لأنَّ الأوَّلَ مُؤقَّت، والثّانِيَ مُعَلَّقٌ على شَرطٍ. وقال أبو الخَطّابِ: يَصِحُّ فيهما؛ لأنه ضَمان أو كَفالة؛ فيَصِح تَعلِيقُه على شَرطٍ، كضَمانِ العُهْدَةِ. فإن قال: إن جئْتَ به في وَقْتِ كذا، وإلا فأنا كَفِيل ببَدَنِ فلانٍ. أو: فأنا ضامِنَ لك المال الذي على فُلانٍ. أو قال: إذا جاء زَيد، فأنا ضامِنٌ لك ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما عليه. أو: إذا قَدِم الحاج، فأنا كَفِيل بفُلانٍ. أو قال: أنا كَفِيل بفُلانٍ شَهْرًا. فقال القاضِي: لا تَصِحُّ الكَفالةُ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ، ومحمدِ [بنِ الحَسَن] (¬1)؛ لأنَّ ذلك خَطَر، فلم يَجُزْ تَعلِيقُ الضَّمانِ والكَفالةِ به، كمَجِئِ المَطَرِ، ولأنَّه إثْباتُ حَق لآدَمِي مُعَيَّن، فلم يَجُزْ تَعلِيقُه على شرطٍ، ولا تَوْقِيتُه، كالهِبَةِ. وقال الشَّريفُ أبو جَعفَر، وأبو الخَطّابِ: يَصِحُّ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأبي يُوسُف؛ لأنَّه أضافَ الضّمان إلى سَبَبِ الوُجُوبِ، فيَجِبُ أن يَصِحَّ، كضَمانِ الدَّرَكِ. والأوَّلُ أقْيسُ. فصل: وإن قال: كَفَلْتُ ببَدَنِ فُلانٍ، على أن يَبْرأ فُلان الكَفِيلُ. أو: على أن تُبْرِئَه مِن الكَفالةِ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه شَرَط شَرطًا لا يَلْزَمُ الوَفاءُ به، فيَكُونُ فاسِدًا، وتَفْسُدُ به الكَفالةُ. ويَحتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأَنه شَرَط تَحويلَ ¬

(¬1) في ر 1: «والحسن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَثِيقَةِ التي على الكَفِيلِ إليه. فعلى هذا، لا تَلْزَمُه الكَفالةُ إلَّا أن يُبْرِئ المَكْفُولُ له الكَفِيلَ الأوَّلَ؛ لأنَّه إنَّما كَفَل بهذا الشَّرطِ، فلا تَثْبُتُ كَفالته

1848 - مسألة: (ولا يصح إلا برضا الكفيل، وفي رضا المكفول به وجهان)

وَلَا يَصِحُّ إلا بِرِضَا الْكَفِيلِ، وَفِي رِضَا الْمكْفُولِ بِهِ وَجْهانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بدُونِ شَرطِه. وإن قال: كَفَلْتُ لك بهذا الغَرِيمِ على أن تُبْرِئَنِي مِن الكَفالةِ بفُلانٍ. أو: ضَمِنْتُ لك هذا الدَّينَ بشَرطِ أن تُبْرِئَنِي مِن ضَمانِ الدَّين الآخَرِ. أو: على أن تُبْرِئَنِي مِن الكَفالةِ بفُلانٍ. خُرِّجَ فيه الوَجْهان، أصَحُّهُما البُطْلانُ؛ لأَنه شَرَط فَسْخَ عَقْدٍ في عَقْدٍ، فلم يَصِحَّ، كالبَيعِ بشَرطِ فَسْخِ بَيعٍ آخَرَ. وكذلك لو شَرَط في الكَفالةِ أو الضَّمانِ أن يتَكَفَّلَ المَكْفُولُ له، أو (¬1) المكْفُولُ به بآخَرَ، أو يَضْمَنَ دَينًا عليه، أو يَبِيعَه شيئًا عَينه، أو يؤجِرَه دارَه، [يَصِحَّ] (¬2)؛ لِما ذَكَرنا. 1848 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلَّا بِرِضا الكَفِيلِ، وفي رِضا المَكْفُولِ به وَجْهان) يُعتَبَرُ رِضَا الكَفِيلِ في صِحَّةِ الكَفالةِ؛ لأنه لا يَلْزَمُه الحَقُّ ابْتِداءً إلَّا برِضاه، ولا يُعتَبَرُ رِضا المَكْفُولِ له؛ لأنَّها وَثِيقَة له لا قَبْضَ فيها، فصَحَّتْ مِن غيرِ رِضاه، كالشَّهادَةِ، ولأنَّها الْتزامُ حَق له مِن غيرِ عِوَض، فلم يُعتَبَر رِضاه فيها، كالنَّذْرِ. فأمّا رِضا المَكْفُولِ به، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «صح».

1849 - مسألة: (ومتى، [أحضر المكفول به]

وَمَتَّى أحضَرَ الْمَكْفُولَ بِهِ، وَسَلَّمَهُ، بَرئ، إلَّا أنْ يُحضِرَهُ قَبْلَ الأجَلِ وَفِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يُعْتَبَرُ، كالضَّمانِ. والثّانِي، يُعتَبَرُ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ، لأنَّ مَقْصُودَها إحضارُه، فإذا تَكَفَّلَ بغيرِ إذْنِه، لم يَلْزمه الحُضُورُ معه، ولأنَّه يَجْعَلُ لنَفْسِه حَقًّا عليه، وهو الحُضُورُ معه مِن غيرِ رِضاه، فلم يَجُزْ، كما لو ألْزَمَه الدَّينَ، وفارَقَ الضَّمانَ، فإن الضّامِنَ يَقْضِي الحَقَّ، ولا يَحتاجُ إلى المَضْمُونِ عنه. 1849 - مسألة: (ومتى، [أحضرَ المَكْفُولَ به] (¬1)، وسَلَّمَه، بَرِئ، إلَّا أن يُحضِرَه قبلَ الأجَلِ وفي قَبْضِه ضَرَر) وجُملَةُ ذلك، أنَّ الكَفالةَ تَصِحُّ حالَّةً ومُؤجَّلَةً، كالضَّمانِ، فإن أطْلَقَ، انْصَرَف إلى الحُلُولِ؛ لأنَّ كلَّ عَقْدٍ يدخُلُه الحُلُولُ، إذا أُطْلِقَ اقْتَضَى الحلولَ، ¬

(¬1) في م: «أحضره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالثَّمَنِ والضمانِ. فإذا تَكَفَّلَ حالا، كان له مُطالبَتُه بإحضارِه، فإن أحضَرَه وهناك يَد حائِلَة ظالِمَة، لم يَبْرا منه، ولم يَلْزَمِ المَكْفُولَ له تَسَلُّمُه (¬1)؛ لأنَّه لا يَحصُلُ له غَرَضُه. كان لم تَكُنْ يد حائِلَة، لزِمَه قَبُولُه، فإن قَبِلَه بَرِئ مِن الكَفالةِ. وقال ابنُ أبي مُوسَى: لا يَبْرأ حتى يَقُولَ: قد بَرِئْتُ إليك منه. أو: قد سَلمتُه إليك. أو: قد أخْرَجْتُ نَفْسِي مِن كَفالتِه. والصحيحُ الأوّلُ؛ لأنّه عَقْد على عَمَلٍ، فبَرِئ منه بالعَمَلِ المَعقُودِ عليه، كالإجارَةِ. فإنِ امتَنَعَ مِن تَسَلُّمِه (¬2) بَرِئ؛ لأَنه أحضَرَ ما يَجِبُ تَسْلِيمُه عندَ غَرِيمِه، وطَلَب منه تَسَلُّمَه (¬3) على وَجْهٍ لا ضَرَرَ في قَبْضِه، فبَرِئ منه، كالمُسْلَمِ فيه. وقال بعضُ أصحابِنا: إذا امتَنَعَ مِن تَسَلمِه، أشْهدَ على امتِناعِه رَجُلَين، وبَرِئ؛ لأَنه فَعَل ما وَقَع العَقْدُ على ¬

(¬1) في الأصل، في: «تسليمه». (¬2) في الأصل: «تسليمه». (¬3) في الأصل، ر 1: «تسليمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلِه، فبَرِئ منه. وقال القاضي: يَرفَعُه إلى الحاكِمِ فيُسَلِّمُه إليه، فإن لم يَجِدْ حاكِمًا، أشْهدَ شاهِدَينِ على إحضارِه وامتِناعِ المَكْفُولِ له مِن قَبُولِه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ مع وُجُودِ صاحِب الحَقِّ لا يَلْزَمُه دَفْعُه إلى نائِبِه، كحاكِم أو غيرِه. وإن كانتِ الكَفالةُ مُؤَجَّلَةً، لم يَلْزَم إحضارُه قبل الأجَلِ، كالدَّينِ المؤجّلِ، فإذا حَلَّ الأجَلُ فأحضَرَه وسَلَّمَه، بَرِئ. فإن أحضَرَه قبلَ الأجَلِ ولا ضَرَر في تَسَلُّمِه (¬1)، لَزِمَه. وإن كان فيه ضَرَرٌ، مثلَ أن تَكُونَ حُجَّةُ الغَرِيمِ غائِبةً، أو لم يَكُنْ يومَ مَجْلِسِ الحاكِمِ، أو الدَّينُ مُؤجَّل عليه لا يُمكِنُ اقْتِضاؤه منه، أو قد وَعَدَه بالإنْظارِ في تلك المُدَّةِ، لم يَلْزمه قَبُولُه، كمَن سَلّم المُسْلَمَ فيه قبل مَحِلِّه أو في غيرِ مَكانِه. فصل: وإذا عَيَّنَ في الكَفالةِ تَسْلِيمَه في مكانٍ، فأحضَرَه في غيرِه، لم يَبْرَأ مِن الكَفالةِ. وبه قال أبو يُوسُفَ، ومحمد. وقال القاضي: إن ¬

(¬1) في الأصل، ر 1: «تسليمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحضَرَه بمكانٍ آخَرَ مِن البَلَدِ وسَلَّمَه، بَرِئ مِن الكَفالةِ. وقال بعضُ أصحابِنا: متى أحضَرَه في أيِّ مكانٍ كان، وفي ذلك المَوْضِعِ سُلْطان، بَرِئ مِن الكَفالةِ؛ لكَوْنِه لا يمكِنُه الامتِناعُ مِن مَجْلِسِ الحاكِمِ، ويُمكِنُ إثْباتُ الحُجَّةِ فيه. وتِيلَ: إن كان عليه ضَرَرٌ في إحضارِه بمكانٍ آخَرَ، لم يَبْرأ الكَفِيلُ إذا أحضَرَه فيه، وإلَّا بَرِئ، كَقَوْلِنا فيما إذا أحضَرَه قبلَ الأجَلِ. ولأصحابِ الشافعيِّ اخْتِلافٌ على نحو ما ذَكَرنا. ولَنا، أنَّه سَلَّمَ ما شَرَط تَسْلِيمَه في مكانٍ في غيرِه، فلم يَبْرأ، كما لو أحضَرَ المسْلَمَ فيه في غيرِ المَوْضِعِ الذي شَرَطَه، ولأنَّه قد يُسَلِّمُ في مَوْضِع لا يَقْدِرُ على إثْباتِ الحُجَّةِ فيه؛ لِغَيبَةِ شُهُودِه، أو غيرِ ذلك، وقد يَهْرُبُ منه ولا يَقْدِرُ على إمساكه. ويُفارِقُ ما إذا سَلَّمَه قبلَ الأجَلِ، فإنَّه عَجَّلَ الحَقَّ قبلَ أجَلِه، فزادَه خَيرًا، فمتى لم يَكُنْ ضَرَرٌ، وَجب قَبُولُه. فإن وَقَعَتِ الكَفالةُ مُطْلَقةً، وَجب تَسْلِيمُه في مكانِ العَقْدِ، كالسَّلَمِ. فإن سَلَّمَه في غيرِه، فهو كتَسْلِيمِه في غيرِ المكانِ الذي عَيَّنَه. وإن كان المَكْفُولُ به مَحبُوسًا [عندَ غيرِ الحاكِمِ، لم يَلْزمه تَسْلِيمُه] (¬1)؛ لأن ذلك الحَبْسَ ¬

(¬1) سقط من: م.

1850 - مسألة: (وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله تعالى، أو سلم نفسه، برئ الكفيل)

وَإنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، أو تَلِفَتِ الْعَينُ بِفعلِ اللهِ تَعَالى، أو سَلَّمَ نفْسَهُ، بَرئ الْكَفِيلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمنَعُه اسْتِيفاءَ حَقِّه. وإن كان مَحبوسًا عندَ الحاكِمِ، فسَلَّمَه إليه مَحبُوسًا، لَزِمَه تَسلِيمُه، لأنَّ حَبْس الحاكِمِ لا يَمنَعُه اسْتِيفاءَ حَقِّه. وإذا طالبَ الحاكِمُ بإحضارِه، أحضَرَه وحَكَم بينَهما، ثم يَرُدُّه إلى الحَبْسِ. فإن تَوَجَّه عليه حَقٌّ للمَكْفُولِ له، حَبَسَه بالحَقِّ الأوَّلِ وحَقِّ المَكْفُولِ له. 1850 - مسألة: (وإن مات المَكْفُولُ به، أو تَلِفَتِ العَينُ بفعلِ اللهِ تعالى، أو سَلَّمَ نَفْسَه، بَرِئ الكَفِيلُ) إذا مات المَكْفُولُ به، بَرِئ الكَفِيلُ وسَقَطَتِ الكَفالةُ. وبه قال شُرَيح، والشَّعبِيُّ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ويَحتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ، ويُطالبُ بما عليه. وهو قولُ الحَكَمِ، ومالكٍ، واللَّيثِ. وحُكِيَ عن ابنِ شرَيحٍ؛ لأنَّ الكَفِيلَ وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ، فإذا تَعَذرَتْ مِن جِهةِ مَن عليه الدَّينُ، اسْتَوْفى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الوَثِيقَةِ، كالرَّهْنِ، ولأنَّه تَعَذَّرَ إحضارُه، فلَزِمَ كَفِيلَه ما عليه، كما لو غاب. ولَنا، أن الحُضُورَ سَقَطَ عن المَكْفُولِ به، فبَرِئ الكَفِيلُ، كما لو بَرِئ مِن الدَّينِ، ولأن ما الْتَزَمَه مِن أجْلِه سَقَط عنِ الأصلِ، فبَرِئ الفَرْعُ، كالضّامِنِ إذا قَضَى المَضْمُونُ عنه الدَّينَ أو أبْرِئ منه، وفارَقَ ما إذا غاب، فإنَّ الحُضُورَ لم يَسْقُطْ عنه، وفارَقَ الرَّهْنَ، فإنّه عُلقَ به المالُ فاسْتُوفِيَ منه، وكذلك الحُكْمُ إن تَلِفَتِ العَينُ (¬1) المَكْفُولُ بها بفِعلِ اللهِ تعالى. وإن سَلَّمَ المَكْفُولُ به نَفْسَه، بَرِئ الكَفِيلُ؛ لأنَّه أتَى بما يَلْزَمُ الكَفِيلَ لأجْلِه، وهو إحضارُ نَفْسِه، بَرِئَتْ ذِمَّتُه، كما لو قَضَى الدَّينَ. فصل: إذا قال الكَفِيلُ: قد بَرِئ المَكْفُولُ به مِن الدَّينِ وسَقَطَتِ الكَفالةُ. أو قال: لم يَكُنْ عليه دَينٌ حينَ كَفَلْتُه. فأنْكَرَ المَكْفُولُ له، فالقولُ قَوْلُه؛ لأنَّ الأصلَ صِحَّةُ الكَفالةِ وبَقاءُ الدينِ، وعليه اليَمِينُ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن نَكَل، قُضِيَ عليه. ويَحتَمِلُ أن لا يُسْتَخلَفَ فيما إذا ادّعَى الكَفِيلُ أنه تَكفَّلَ بمَن لا دَينَ عليه؛ لأن الكَفِيلَ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِه فيما ادَّعاه، فإن مَن كَفَل بشَخْصٍ مُعتَرِفٌ بِدَينه في الظّاهِرِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأن ما ادَّعاهُ مُحتَمِلٌ. فصل: وإذا قال المَكْفُولُ له للكَفِيلِ: أبرَأتكَ مِن الكَفالةِ. بَرِئ؛ لأنه حَقُّه، فسَقَطَ بإسْقاطِه، كالدين. كان قال: قد بَرِئْتَ إليَّ منه. أو: قد رَدَدتَه إلَيَّ. بَرِئ أيضًا؛ لأنَّه مُعتَرِفٌ بوَفاءِ الحَقِّ، فهو كما لو اعتَرفَ بذلك في الضمانِ. وكذلك إذا قال له: بَرِئْتَ مِن الدَّينِ الذي كَفَلْتَ به. ويَبْرأ الكَفِيلُ في هذه المَواضِعِ دُونَ المَكْفُولِ به، ولا يَكُونُ إقْرارًا بقَبْضِ الحَقِّ [وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. وقيل: يكونُ إقْرارًا بقَبْضِ الحقِّ] (¬1) فيما إذا قال: بَرِئْتَ مِن الدَّينِ الذي كَفَلْتَ به. والأولُ أصَحُّ، لأنه يُمكِنُ بَراءَتُه بدُونِ قَبْضِ الحَقِّ بإبراءِ المُسْتَحِقِّ، أو مَوْتِ المَكْفُولِ به. فأمَّا إن قال للمَكْفولِ به: أبرَأتكَ عمّا لي قِبَلَكَ مِن الحَقِّ. أو: بَرِئْتَ مِن الدينِ الذي قِبَلَكَ. فإنَّه يَبْرأ مِن الحَقِّ وتَزُولُ الكَفالةُ؛ لأنه لَفْظٌ يَقْتَضِي العُمُومَ في كلِّ ما قِبَلَه. كان قال: بَرِئْتَ مِن الدَّينِ الذي كَفَل به فلانٌ. بَرِئ وبَرِئ كَفِيلُه. ¬

(¬1) سقط من: م.

1851 - مسألة: (وإن تعذر إحضاره مع بقائه، لزم الكفيل الدين أو عوض العين)

وَإنْ تَعَذَّرَ إِحضَارهُ مَعَ بَقَائِهِ، لَزِمَ الْكَفِيلَ الدَّينُ، أوْ عِوَضُ الْعَين وَإنْ غَابَ، أمهِلَ الْكَفِيلُ بِقَدرِ مَا يَمضِي فيُحضِرُهُ، فَإِنْ تَعَذَّر ـــــــــــــــــــــــــــــ 1851 - مسألة: (وإن تَعَذَّرَ إحضارُه مع بَقائِه، لَزِم الكَفِيلَ الدَّينُ أو عِوَضُ العَينِ) متى تَعَذَّرَ إحضارُ المَكْفُولِ به مع حَياتِه، أو امتَنَعَ مِن إحضارِه، لَزِمَه ما عليه. وقال أكثرهم: لا غُرمَ عليه. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه، عليه الصلاةُ والسلامُ: «الزَّعِيمُ غَارم» (¬1). ولأنَّها أحَدُ نوْعَي الكَفالةِ، فوَجَبَ بها الغُرْمُ، كالكَفالةِ بالمالِ. 1852 - مسألة: (وإن غاب، أمهِلَ الكَفِيلُ بقدرِ ما يمضِي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 6.

إِحضَارُهُ، ضَمِنَ مَا عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيحضِرُه، فإن تَعَذَّرَ إحضارُه، ضَمِن ما عليه) إذا غاب المَكْفُولُ به، أو ارتَدَّ ولَحِق بدارِ الحَربِ، لم يُؤخَذِ الكَفِيلُ بالحَقِّ حتى يَمضِيَ زَمَن يُمكِنُ المُضِيُّ إليه وإعادَتُه. وقال ابنُ شُبْرُمَةَ: يُحبَسُ في الحالِ؛ لأن الحَقَّ قد تَوَجَّه عليه. ولَنا، أنَّ الحَقَّ يعتَبَرُ في وُجُوبِ أدَائِه إمكانُ التَّسْلِيمِ وإن كان حالًّا، كالدَّينِ، فإذا مَضَتْ مُدَّةٌ يُمكِنُ إحضارُه فيها ولم يُحضِره، أو كانتِ الغَيبةُ مُنْقَطِعَةً لا يُعلَمُ خَبَرُه، أو امتَنَعَ مِن إحضارِه مع إمكانِه، أُخِذْ بما عليه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن كانتِ الغَيبَةُ مُنْقَطِعَةً لا يُعلَمُ مَكانُه، لم يُطالَبِ الكَفِيلُ بإحضارِه، ولم يَلْزمه شيء. وإنِ امنتَعَ مِن إحضارِه مع إمكانِه حُبِس. وقد دَلَّلْنا على وُجُوبِ الغُرمِ في المَسْألةِ التي قبلَها. فصل: فإن كَفَل إلى أجَلٍ مَجْهُول، لم تَصِحَّ الكَفالةُ. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنّه ليس له وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطالبَتَه فيه، وهكذا الضَّمانُ. كان جَعَلَه إلى الحَصادِ والجِذاذِ والعَطاء، خُرِّجَ على الوَجْهين، كالأجَلِ في البَيعِ. والأوْلَى صِحَّتُه ها هنا؛ لأَنَّه تَبَرُّعٌ مِن غيرِ عِوَض جَعَل له أجَلًا لا يَمنَعُ مِن حُصُولِ المَقْصُودِ منه، فصَح، كالنَّذْرِ وهكذا كلُّ مَجْهُولٍ لا يَمنَعُ مَقْصُودَ الكَفالةِ. وقد رَوَى مُهنَّا عن أحمدَ، في رجل كَفَل رجلًا فقال: إن جِئْتُ به في وَقْتِ كذا، وإلَّا فما عليه عَلَيَّ. فقال: لا أدرِي، ولكنْ إن قال: ساعَةَ كذا. لَزِمَه. فنَصَّ على تَعيِينِ السّاعَةِ،

1853 - مسألة: (وإذا طالب الكفيل المكفول به بالحضور معه، لزمه ذلك إن كانت الكفالة بإذنه أو طالبه صاحب الحق بإحضاره، وإلا فلا)

وَإِذَا طَالَبَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ أَوْ طَالَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِإِحْضَارِهِ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَوَقَّفَ عن تَعْيِينِ الوَقْتِ، ولَعَلَّه أرادَ وَقْتًا مُتَّسِعًا، أو وَقْتَ شئٍ يَحْدُثُ، مثلَ وَقْتِ الحَصادِ، ونحوه. فأمّا إن قال: وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. أو نحوَ ذلك، صَحَّ. فإن قال: إلى الغَدِ. أو: إلى شَهْرِ كذا. تَعَلَّقَ بأوَّلِه، على ما ذَكَرْنا في السَّلَمِ. فإن تَكَفَّلَ برجلٍ إلى أجَلٍ، إن جاء به فيه، وإلَّا لَزِمَه ما عليه، صَحَّ. وبه قال أبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ، والشافعيُّ: لا تَصِحُّ الكَفالَةُ، ولا يَلْزَمُه ما عليه؛ لأنَّ هذا تَعْلِيقُ الضَّمانِ بخَطَرٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو عَلَّقَه بقُدُومِ زَيْدٍ. ولَنا، أنَّ هذا مُوجِبُ الكَفالةِ ومُقْتَضاها، فصَحَّ اشْتِراطُه، كما لو قال: إن جِئْتُ به في وَقْتِ كذا، وإلَّا فلك حَبْسِي. ومَبْنَى (¬1) الخِلافِ ههنا على الخِلافِ في أنَّ هذا مُقْتَضَى الكَفالَةِ، وقد دَلَّلْنا عليه. 1853 - مسألة: (وإذا طالَبَ الكَفِيلُ المَكْفُولَ به بالحُضُورِ معه، لَزِمَه ذلك إن كانتِ الكَفالَةُ بإذْنِه أو طالَبه صاحِبُ الحَقِّ بإحْضارِه، وإلَّا فلا) إذا كَفَل رجلًا بإذْنِه، فأرادَ إحْضارَه؛ ليُسَلِّمَه إلى المَكْفُولِ له، لَزِمَه الحُضُورُ معه؛ لأنَّه شَغَل ذِمَّتَه مِن أجْلِه بإذْنِه، فلَزِمَه تَخْلِيصُها، ¬

(¬1) بعده في م: «وهذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو اسْتَعارَ عَبْدَه فرَهَنَه بإذْنِه، فإنَّ عليه تَخْلِيصَه إذا طَلَبَه سَيِّدُه. وإن كانت بغيرِ إذْنِه، فإن طَلَبَه المَكْفُولُ له لَزِمَه الحُضُورُ؛ لأنَّ حُضُورَه حَقُّ للمَكْفُولِ له، وقد اسْتَنابَ الكَفِيلَ في ذلك. وإن لم يَطْلُبْه المَكْفُولُ له، لِم يَلْزَمْه الحُضُورُ؛ لأنَّه لم يَشْغَلْ ذِمَّتَهَ، وإنَّما الكَفِيلُ شَغَلَها باخْتِيارِ نفْسِه، فلم يَجُزْ أن يَثْبُتَ له بذلك حَقٌّ على غيرِه. وإن قال له المَكْفُولُ له: أحْضِرْ كَفِيلَكَ. كان تَوْكِيلًا في إحْضارِه، ولَزِمَه أن يَحْضُرَ معه، كما لو وَكَّلَ غيرَه. وإن قال: اخْرُجْ مِن كَفالتِكَ. احْتَمَلَ أن يَكُونَ تَوْكِيلًا في إحْضارِه، كاللَّفْظِ الأوَّلِ، واحْتَمَلَ أن يَكُونَ مُطالبَةً بالدَّينِ الذي عليه، فلا يَكُونُ تَوْكِيلًا، ولا يَلْزَمُه الحُضُورُ معه. فصل: وإذا قال رجلٌ لآخَرَ: اضْمَنْ عن فُلانٍ. أو: اكْفُلْ بفُلانٍ. ففَعَل، كان الضَّمانُ والكَفالةُ لازِمَين للمُبَاشِرِ دُونَ الآمِرِ؛ لأنَّه كَفَل باخْتِيارِ نَفْسِه، وإنَّما الأمْرُ إرْشادٌ وحَثٌّ على فِعْلِ خَيرٍ، فلا يَلْزَمُه به شيءٌ. فصل: ولو قال: أعْطِ فُلانًا ألْفًا. ففَعَلَ، لم يَرْجِعْ على الآمِرِ، ولم

وَإِذَا كَفَلَ اثْنَانِ بِرَجُلٍ، فَسَلَّمَهُ أحَدُهُمَا، لَمْ يَبْرَأَ الْآخَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُنْ ذلك كَفالةً ولا ضَمانًا، إلَّا أن يَقُولَ: أعْطِه عَنِّي. وقال أبو حنيفةَ: يَرْجِعُ عليه إذا كان خَلِيطًا له. ولَنا، أنَّه لم يَقُلْ: أعْطِه عَنِّي. فلم يَلْزَمْه الضَّمانُ، كما لو لم يَكُنْ خَلِيطًا. ولا يَلْزَمُ إذا كان له عليه مالٌ، فقال: أعْطِه فلانًا. حيثُ يَلْزَمُه؛ لأنَّه لم يَلْزَمْه لأجْلِ هذا القولِ، بل لأنَّ عليه حَقًّا يَلْزَمُه أداؤُه. فصل: ولو تَكَفَّلَ اثْنانِ بواحِدٍ، صَحَّ، وأيُّهُم قَضَى الدَّينَ، بَرِئ الآخَرُ؛ لِما ذَكَرْنا في الضَّمانِ. وإن سَلَّمَ المَكْفُولُ به نَفْسَه، بَرِئ كَفِيلاه. وإن أحْضَرَهَ أحَدُ الكَفِيلَينِ، لم يَبْرَأ الآخَرُ؛ لأنَّ إحْدَى الوَثِيقَتَين انْحَلَّتْ مِن غيرِ اسْتِيفاءٍ، فلم تَنْحَلَّ الأُخْرَى، كما لو أبْرَأ أحَدَهما، أو انْفَكَّ أحَدُ الرَّهْنَينِ مِن غيرِ قَضاءِ الحَقِّ، بخِلافِ ما إذا سَلَّمَ المَكْفُولُ به نَفسه؛ لأنه أصْلٌ لهما، فإذا بَرِئ الأصْلُ ممّا تَكَفَّلَ به عنه، بَرِئ كَفِيلاه؛ لأنَّهما فَرْعاه، وكلُّ واحدٍ مِن الكَفِلَينِ ليس بفَرْعٍ للآخَرِ، فلم يَبْرَأْ ببراءَتِه. وكذلك لو أَبْرَأَ المَكْفُولَ به، بَرِئ كَفِيلاه. ولو أُبْرِئ أحَدُ الكَفِيلَين وَحْدَه لم يَبْرَأ الآخَرُ.

1854 - مسألة: (ولو تكفل واحد لاثنين، فأبرأه أحدهما)

وَإنْ كَفَلَ وَاحِدٌ لِاثْنَينِ، فَأَبْرَأَةُ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَبْرأ مِنَ الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1854 - مسألة: (ولو تَكَفَّلَ واحِدٌ لاثْنَين، فأبْرَأه أحَدُهما) أو أحْضَرَه عند أحَدِهما (لم يَبْرأْ مِن الآخَرِ) لأنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين بمَنْزِلَةِ عَقْدَين، فقد الْتَزَمَ إحْضارَه عندَ (¬1) كلِّ واحِدٍ منهما، فإذا أحْضَرَه عندَ أحَدِهما، بَرِئَ منه، كما لو كان في عَقْدَين، وكما لو ضَمِن دَينًا لرَجُلَين (¬2)، فوفَّى أحَدَهما حَقَّه. فصل: وإذا كانتِ السَّفِينةُ في البَحْرِ،. وفيها مَتاعٌ، فخِيفَ غَرَقُها، ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في الأصل: «لرجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فألْقَى بعضُ مَن فيها مَتاعَه في البَحْرِ لتَخِفَّ، لم يَرْجِعْ به على أحَدٍ، سواءٌ ألْقاه مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ أو مُتَبَرِّعًا؛ لأنَّه أتْلَفَ مال نفْسِه باخْتِيارِه مِن غيرِ ضَمانٍ. وإن قال له بعضُهم: ألْقِ مَتاعَكَ. فأَلْقاه، فكذلك؛ لأنَّه لم يُكْرِهْه، ولا ضَمِن له. فإن قال: ألْقِه، وعليَّ ضَمانُه. فألْقاه، فعلى القائِلِ الضَّمانُ. ذَكَرَه أبو بكرٍ؛ لأنَّ ضَمانَ ما لم يَجِبْ صَحِيحٌ. وإن قال: ألْقِه، وأنا ورُكْبانُ السَّفينةِ ضُمَناءُ له. ففعَلَ. فقال أبو بكر: يَضْمَنُه القائِلُ وَحْدَه، إلَّا أن يَتَطَوَّعَ بَقِيَّتُهم. وقال القاضي: إن كان ضَمانَ اشْتِراكٍ، فليس عليه إلَّا ضَمانُ حِصَّتِه؛ لأنَّه لم يَضْمَنِ الجَمِيعَ، إنَّما ضَمِن حِصَّتَه، وأخْبَرَ عن سائِرِ رُكْبانِ السَّفِينَةِ بضَمانِ سائِرِه، فلَزِمَه حِصَّتُه، ولم يُقْبَلْ قَوْلُهَ في حَقِّ الباقِينَ. وإن كان ضَمانَ اشْتِراكٍ وانْفِرادٍ، بأن يَقُولَ: كلُّ واحدٍ مِنّا ضامِنٌ لك مَتاعَكَ أو قِيمَتَه. لَزِم القائِلَ ضَمانُ الجميعِ، وسَواءٌ قال هذا والباقُونَ يَسْمَعُونَ فسَكَتُوا، أو قالوا: لا نَفْعَلُ. أو لم يَسْمَعُوا؛ لأنَّ سُكُوتَهُم لا يَلْزَمُهم به حَقٌّ. فصل: قال مُهَنّا: سألتُ أحمدَ، عن رجلٍ له على رجُلٍ ألْفُ دَرْهمٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأقامَ بها كَفِيلَين، كلُّ واحِدٍ منهما كَفِيلٌ ضامِنٌ، فأيُّهما شاء أخَذَه بحَقِّه، فأحال رَبُّ المالِ عليه رجلًا بحَقِّه؟ فقال: يَبْرَأُ الكَفِيلانِ. قُلْتُ (¬1): فإن مات الذي أحاله عليه بالحَقِّ ولم يَتْرُكْ شَيئًا؟ قال: لا شيءَ له، ويَذْهَبُ الألْفُ. ¬

(¬1) في م: «قال».

باب الحوالة

بَابُ الْحَوَالةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الحَوالةِ الحَوالةُ ثابِتَةٌ بالسُّنَّةِ والإِجْماعِ. أمّا السُّنَّةُ، فما روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وإذَا اُتْبعَ أحَدُكُم عَلَى مَلِئٍ فَلْيَتْبَعْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفي لَفْظٍ: «ومَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِئٍ فَلْيَحْتَلْ» (¬2). وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على جَوازِ الحَوالةِ في الجُمْلَةِ. واشْتِقاقُها مِن تَحْويل الحَقِّ مِن ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ. وقد قِيلَ: إنَّها بَيعٌ. فإنَّ المُحِيلَ يَشتَرِي ما في ذِمَّتِه بما له في ذِمَّةِ المُحالِ عليه، وجاز تَأْخِيرُ القَبْضِ رُخْصةً؛ لأنَّه مَوْضُوعٌ على الرِّفْقِ، فيَدْخُلُها خيارُ المَجْلِسِ؛ لذلك (¬3). والصَّحِيحُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب في الحوالة وهل يرجع في الحوالة، وباب إذا أحال على ملى فليس له رد، من كتاب الحوالات، وفي: باب مطل الغني ظلم، من كتاب الاستقراض. صحيح البخاري 3/ 123، 155. ومسلم، في: باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1197. وأبو داود، في: باب في المطل، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222. والترمذي، في: باب ما جاء في مطل الغني أنه ظلم، من كتاب البيوع. عارضة الأحوذي 6/ 44. والنسائي، في: باب مطل الغني، وباب الحوالة، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 278، 279. وابن ماجه، في: باب الحوالة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 803. والدارمي، في: باب في مطل الغني ظلم، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 261. والإمام مالك، في: باب جامع الدين والحول، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 674. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 71، 245، 254، 260، 315، 377، 380، 464، 465. (¬2) هذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 463. (¬3) في ق: «كذلك».

1855 - مسألة: (والحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك المحتال الرجوع عليه بحال)

وَالْحَوَالةُ تَنْقُلُ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُحْتَالُ الرُّجُوعَ عَلَيهِ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّها عَقْدُ إرْفاقٍ مُنْفَردٌ بنَفْسِه، ليس بمَحْمُولٍ على غيرِه؛ لأنَّها لو كانت بَيعًا لَما جازَتْ؛ لأنَّه بَيعُ دَينٍ بدَينٍ، ولَما جاز التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه بَيعُ مالِ الرِّبا بجِنْسِه، ولَجازَتْ بلَفْظِ البَيعِ، ولَجازَت بينَ جِنْسَين، كالبَيعِ، ولأنَّ لَفْظَها يُشْعِرُ بالتَّحَوُّلِ لا بالبَيعِ. فعلى هذا، لا يَدْخُلُها خِيارٌ، وتَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ. وهذا أشْبَهُ بكَلامِ أحمدَ وأُصُولِه، ولابُدَّ فيها مِن مُحِيلٍ ومُحْتالٍ ومُحالٍ عليه. 1855 - مسألة: (والحَوالةُ تَنْقُلُ الحَقَّ مِن ذِمَّةِ المُحِيلِ إلى ذمَّةِ المُحالِ عليه، فلا يَمْلِكُ المُحتالُ الرُّجُوعَ عليه بحالٍ) إذا صَحَّتِ الحَوالةُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ المُحِيلِ، وانْتَقَلَ الحَقُّ إلى ذمَّةِ المُحالِ عليه، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. ورُوي عن الحَسَنِ، أنَّه كان لا يَرَى الحَوالةَ بَراءَةً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يُبْرِئَه. وعن زُفَرَ، أنَّه قال: لا تَنْقُلُ الحَقَّ. وأَجْراها مُجْرَى الضَّمَانِ. ولَنا، أنَّ الحَوالةَ مُشْتَقَّةٌ مِن تَحْويلِ الحَقِّ، بخِلافِ الضَّمانِ، فإنَّه مُشْتَقٌّ مِن ضَمِّ ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ، فعُلِّقَ على كلِّ] (¬1) واحدٍ مُقْتَضاه وما دَلَّ عليه لَفْظُه. إذا ثَبَت ذلك، فمتى رَضِيَ بها المُحْتالُ ولم يَشْتَرِطِ اليَسارَ، لم يَعُدِ الحَقُّ إلى المُحِيلِ أبدًا، سَواءٌ أمْكَنَ اسْتِيفاءُ الحَقِّ، أو تَعَذَّرَ لِمَطْلٍ أو فَلَسٍ أو مَوْتٍ أو غيرِه. وبه قال اللَّيثُ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وقال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ: متى أفْلَسَ أو ماتَ، رَجَع على صاحِبِه. وقال أبو حنيفةَ: يَرْجِعُ عليه في حالين؛ إذا مات المُحالُ عليه مُفْلِسًا، وإذا جَحَدَه وحَلَف عليه عندَ الحاكِمِ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَرْجِعُ عليه في هاتَين الحالتَين، وإذا حُجِرَ عليه لفَلَسٍ؛ لأنَّه رُوِيَ عن عُثْمانَ، أنَّه سُئِل عن رجلٍ أُحِيلَ بحَقِّه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فماتَ المُحالُ عليه مُفْلِسًا. فقال: يَرْجِعُ بحَقِّه (¬1)، لا تَوًى (¬2) على مالِ امْرِئ مُسْلِمٍ (¬3). ولأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ لم يُسَلَّمِ العِوَضُ فيه لأحَدِ المُتعاوضَين، فكان له الفَسْخ، كما لو اعْتاضَ بثَوْبٍ فلم يُسَلَّمْ إليه. ولَنا، أنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ، كان له على عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، دَينٌ، فأحالة به، فمات المُحالُ عليه، فأخْبَرَه، فقال: اخْتَرْتَ علينا، أبْعَدَكَ اللهُ. فأبْعَدَه بمُجَرَّدِ احْتِيالِه، ولم يُخْبِرْه أنَّ له الرُّجُوعَ. ولأنَّها بَراءَةٌ مِن دَينٍ ليس فيها قَبْضٌ مِمَّن هي عليه، ولا مِمَّن يَدْفَعُ عنه، فلم يَكُنْ فيها رُجُوعٌ، كما لو أَبرأَه مِن الدَّينِ، وحَدِيثُ عُثمانَ لم يَصِحَّ، يَرْويه خُلَيدُ (¬4) بن جَعْفرٍ، عن مُعاويَةَ بنِ قُرَّةَ، عن عُثمانَ، ولم يَصِحَّ سَماعُه منه (¬5). وقد رُوِيَ أنَّه قال: في حَوالةٍ أو كَفالةٍ. وهذا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، ولو صَحَّ، كان قولُ عليٍّ مُخالِفًا له. وقَوْلُهم: هو مُعاوَضَةٌ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُفْضِي إلي بَيعِ الدَّينِ بالدَّينِ، وهو مَنْهِيٌّ عنه. ويُفارِقُ المعاوَضَةَ بالثَّوْبِ؛ لأنَّ في ذلك قَبْضًا يَقِفُ اسْتِقْرارٌ العَقْدِ عليه، وههنا الحَوالة بمَنْزِلَةِ القَبْضِ، وإلَّا كان بَيعَ دَين بدَينٍ. ¬

(¬1) بعده في م: «لأنه». (¬2) التوى: الهلاك. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب من قال: لا يرجع على المحيل لا توى على مال مسلم، من كتاب الحوالة. السنن الكبرى 6/ 71. (¬4) في الأصل، م: «خلد». وفي ق، ر 1: «خالد». وهو خليد بن جعفر بن طريف أبو سليمان البصري. تهذيب الكمال 8/ 304. (¬5) سقط من: م.

1856 - مسألة: (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة؛ أحدها، أن يحيل على دين مستقر، فإن أحال على مال الكتابة، أو السلم)

وَلَا تَصِحُّ إلا بِثَلَاثةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يُحِيلَ عَلَى دَينٍ مُسْتَقِرٍّ، فَإن أَحَال عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، أَو السَّلَمِ، أَو الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ أَحَال الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ، أَو الزَّوْجُ أمْرَأَتَهُ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1856 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلَّا بشُرُوطٍ ثَلاثةٍ؛ أحدُها، أن يُحِيلَ على دَينٍ مُسْتَقِرٍّ، فإن أحال على مالِ الكِتابَةِ، أو السَّلَمِ) قبلَ قَبْضِه (أو الصَّداقِ قبلَ الدُّخُولِ، لم يَصِحَّ. وإن أحال المُكاتَبُ سَيِّدَه، أو الزَّوْجُ امْرَأَتَه، صَحَّ) لا تَصِحُّ الحَوالةُ على دَينٍ غيرِ مُسْتَقِرٍّ؛ لأنَّ مُقْتَضاها إلْزامُ المُحالِ عليه الدَّينَ مُطْلَقًا، ولا يَثْبُتُ ذلك فيما هو بعَرْضِ السُّقُوطِ. ولا يُعْتَبَرُ أن يُحِيلَ بدَينٍ مُسْتَقِرٍّ، إلَّا أنَّ السَّلَمَ لا تَصِحُّ الحَوالةُ به ولا عليه؛ لأنَّ دَينَ السَّلَمِ ليس بمُسْتَقِرِّ، لكَوْنِه مُتَعَرِّضًا للفَسْخِ بانْقِطاع المُسْلَمِ فيه، ولا تَصِحُّ الحَوالةُ به؛ لأنَّها لا تَصِحُّ إلَّا فيما يَجُوزُ أخْذ العِوَضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، ولا يَجُوزُ ذلك في السَّلِمِ؛ لقَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ أسْلَمَ في شِيء، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غيرِهِ» (¬1). فلا تَصِحُّ الحَوالةُ على المُكاتَبِ بمالِ الكِتابَةِ؛ لأنَّه غيرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لأنَّ له أن يَمْتَنِعَ مِن أدائه، ويَسْقُطُ بعَجْزِه. وتَصِحُّ الحَوالةُ عليه بدَينٍ غيرِ دَينِ الكِتابَةِ؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُ الأحْرارِ في المُدايَناتِ. وإن أحال المُكاتَبُ سَيِّدَه بنَجْم قد حَلَّ عليه، صَحَّ، وبَرِئَت ذِمَّةُ المُكاتَبِ بالحَوالةِ، ويَكُونُ ذلك بمَنْزِلَةِ القَبْضِ. وإن أحالتِ المَرْأةُ على زَوْجِها بصَداقِها قبلَ الدُّخُولِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه غيرُ مُسْتَقِرٍّ، يَحْتَمِلُ أن يَسْقُطَ بانْفِساخِ النِّكاحِ بسَبَبٍ مِن جِهَتِها. وإن أحالها الزَّوْجُ به، صَحَّ؛ لأنَّ له تَسْلِيمَه إليها، وحَوالتُه به تَقُومُ مَقامَ تَسْلِيمِه. فإن أحالتْ به بعدَ الدُّخُولِ، صَحَّ؛ لأنَّه مُسْتَقِرٌّ. وإن أحال البائِعُ بالثَّمَنِ على المُشْتَرِي في مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَصِحَّ، في قِياسِ ما ذَكَرْنا. وإن أحالهُ المُشْتَرِي به، صَحَّ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ الوَفاءِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وله الوَفاءُ] (¬1) قبلَ الاسْتِقْرارِ. وإن أحال البائِعُ بالثَّمَنِ على المُشْتَرِي، ثم ظَهَر على عَيبٍ، لم يَتَبَيَّنْ أنَّ الحَوالةَ كانت باطِلَةً؛ لأنَّ الثَّمَنَ كان ثابِتًا مُسْتَقِرًّا،، البَيعَ كان لازِمًا، وإنَّما ثَبَت الجَوازُ (¬2) بعدَ العِلْمِ بالعَيبَ بالنِّسْبَةِ إلى المُشْتَرِي. ويَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ الحَوالةُ، لأنَّ سَبَبَ الجَوازِ عَيبُ المَبِيعِ، وقد كان مَوْجُودًا وَقْتَ الحَوالةِ. وكلُّ مَوْضِعٍ أحال مَن عليه دَينٌ غيرُ مُسْتَقِرٍّ به، ثم سَقَط الدَّينُ، كالزَّوْجَةِ يَنْفسِخُ نِكاحُها بسَبَبٍ مِن جِهَتِها، أو المُشْتَرِي يَفْسَخُ البَيعَ ويَرُدُّ المَبِيعَ، فإن كان ذلك قبلَ القَبْضِ مِن المُحالِ عليه، فَفِيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَبْطُلُ الحَوالةُ؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ في بَقائِها، ويَرْجِعُ المُحِيلُ بدَينِه على المُحالِ عليه. والثّانِي، لا تَبْطُلُ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الحوالة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الحَقَّ انْتَقَلَ عن المُحِيلِ، فلم يَعُدْ إليه، وثَبَت للمُحْتالِ، فلم يَزُلْ عنه، ولأنَّ الحَوالةَ بمَنْزِلَةِ القَبْضِ، فكأنَّ المُحِيلَ أَقْبَضَ المُحْتال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَيْنَه (¬1)، فرَجَع عليه به، ويَأْخُذُ المُحْتالُ مِن المُحالِ عليه. وسَواءٌ تَعَذَّرَ القَبْضُ مِن المُحالِ عليه أو لم يَتَعَذَّرْ. وإن كان بعدَ القَبْضِ، لم تَبْطُلْ، وَجْهًا واحِدًا، ويَرْجِعُ المُحِيلُ على المُحْتالِ به. فصل: وإن أحال مَن لا دَينَ عليه على مَن له عليه دَينٌ، فهي وَكَالةٌ يَثْبُتُ فيها أحْكامُها، وليست بحَوالةٍ؛ لأنَّ الحَوالةَ مَأْخُوذَة مِن تَحْويلِ الحَقِّ وانْتِقالِه، ولا حَقَّ ههُنا يَنْتَقِلُ [ولا] (¬2) يَتَحَوَّلُ، وإنَّما جازَتِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «و».

وَالثَّانِي، اتِّفَاقُ الدَّينَينِ فِي الْجِنْسِ، وَالصِّفَةِ، وَالْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَكالةُ بلَفْظِ الحَوالةِ؛ لِاشْتِراكِهما في اسْتِحْقاقِ الوَكِيلِ مُطالبَةَ مَن عليه الدَّينُ، كاسْتِحْقاقِ المُحْتالِ مُطالبَةَ المُحالِ عليه، وتَحَوُّلُ ذلك إلى الوَكِيلِ كتَحَوُّلِه إلى المُحْتالِ. وإن أحال مَن عليه دَينٌ على مَن لا دَينَ عليه، فليست حَوالةً. نَصَّ عليه أحمدُ. فلا يَلْزَمُ المُحال عليه الأداءُ، ولا المُحْتال القَبُولُ؛ لأنَّ الحَوالةَ مُعاوَضَةٌ، ولا مُعاوَضَةَ ههُنا، وإنَّما هو اقْتِراضٌ. فإن قَبَض المُحْتالُ منه الدَّينَ، رَجَع على المُحِيلِ؛ لأنَّه قَرْضٌ. وإن أبْرأه، لم تَصِحَّ البَراءَةُ؛ لأَنَّها بَراءَةٌ لمَن لا دَينَ عليه. وإن وَهَبَه إيّاه بعدَ أن قَبَضَه منه، رَجَعَ المُحالُ عليه على المُحِيلِ به؛ لأنَّه قد غَرِم عنه، وإنَّما عاد إليه المالُ بعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرْجِعَ إليه؛ لكَوْنِه ما غَرِم عنه شيئًا. وإن أحال مَن لا دَينَ عليه على مَن لا دَينَ عليه، فهي وَكالةٌ في اقْتِراضٍ، وليست حَوالةً؛ لأنَّ الحَوالةَ إنَّما تَكون بدَينٍ على دَينٍ. الشَّرْطُ (الثّانِي، اتِّفاقُ الدَّينَين في الجِنْسِ، والصِّفَةِ، والحُلُولِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّأْجِيلِ) لأَنَّها تَحْويلٌ للحَقِّ ونَقْلٌ له، فيَنْتَقِلُ على صِفَتِه، ويُعْتَبَرُ تماثُلُهما في الأُمورِ المَذْكُورةِ؛ أحدُها، الجِنْسُ، فَيُحِيلُ مَن عليه ذَهَبٌ بذَهَبٍ، ومَن عليه فِضَّةٌ بفِضَّةٍ. ولو أحال مَن عليه ذَهَبٌ بفِضَّةٍ أو بالعَكْسِ، لم يَصِحَّ. الثّانِي، الصِّفَةُ، فلو أحال مَن عليه صِحاحٌ بمُكَسَّرةِ، أو مَن عليه مِصْرِيَّةٌ بأَمِيرِيَّةٍ، لم يَصِحَّ. الثّالِثُ، الحُلولُ والتَّأْجِيلُ، ويُعْتَبَرُ اتِّفاقُ أجَلِ المُؤَجَّلَين؛ فإن كان أحَدُهما حالًّا والآخَرُ مُؤَجَّلًا، أو كان أحَدُهما إلى شَهْرٍ والآخَرُ إلى شَهْرَين، لم تَصِحَّ الحَوالةُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان الحَقّان حالَّين، فشَرَط على المُحْتالِ أن يُؤَخِّر حَقَّه أو بعْضَه إلى أجَلٍ، لم تَصِحَّ الحَوالةُ؛ لأنَّ الحالَّ لا يَتَأَجَّلُ، ولأنَّه شَرَط ما لو كان ثابِتًا في نَفْسِ الأمْرِ لم تَصِحَّ الحَوالةُ، فكذلك إذا اشْتَرَطَه. فإذا اجْتَمَعَتْ هذه الأُمُورُ، وصَحَّتِ الحَوالةُ، فتَراضَيا بأن يَدْفَعَ المُحالُ عليه إلى المُحْتالِ خَيرًا مِن حَقِّه، أو رَضِيَ المُحْتالُ بدُونِ الصِّفَةِ، أو رَضِيَ مَن

وَالثَّالِثُ، أنْ يُحِيلَ بِرِضَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه المُؤَجَّل بتَعْجِيلِه، أو مَن له الحالُّ بإنْظارِه، جاز؛ لأنَّ ذلك يَجُوزُ في القَرْضِ، ففي الحَوالةِ أَوْلَى. فإن مات المُحِيلُ أو المُحْتالُ، فالأَجَلُ بِحالِه. وإن ماتَ المُحالُ عليه، انْبَنَى على حُلُولِ الدَّينِ بالمَوْتِ، وفيه رِوَايَتان. الشَّرْطُ (الثّالِث، أن يُحِيلَ برِضاه) لأنَّ الحَقَّ عليه، فلا يَلْزَمُه أَداؤُه مِن جِهَةِ الدَّينِ الذي على المُحالِ عليه. ولا خِلافَ في هذا. فصل: ويُعْتَبَر لصِحَّةِ الحَوالةِ أن تكونَ بمالٍ مَعْلُومٍ؛ لأنَّها إن كانت بَيعًا، فلا تَصِحُّ في مَجْهُولٍ، وإن كانت تَحَوُّلَ الحَقِّ، فيُعْتَبَر فيها التَّسْلِيمُ، والجَهالة تَمْنَعُ منه، فتَصِحُّ بكلِّ ما يَثْبُتُ مِثْلُه (¬1) في الذِّمّةِ بالإِتْلافِ مِن الأَثْمانِ والحُبُوبِ والأدْهانِ، ولا تَصِحُّ فيما لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، ومِن شَرْطِ الحَوالةِ تَساوي الدَّينَين. فأمّا ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا غيرَ المِثْلِيّاتِ، كالمَعْدُودِ والمَذْرُوعِ، ففي صِحَّةِ الحَوالةِ به وَجْهان؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المِثْلَ فيه لا يَتَحَرَّرُ، ولهذا لا يُضْمَنُ بمِثْلِه في الإتْلافِ. وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. والثّانِي، يَصِحُّ. ذكَرَه القاضِي؛ لأنَّه حَقٌّ ثابِتٌ في الذِّمَّةِ، فأشْبَهَ ما له مِثْلٌ. ويَحْتَمِل أن يُخَرَّجَ هذان الوَجْهان على الخِلافِ فيما يَقْضِي به قَرْضَ هذه الأمْوالِ، فإن كان ¬

(¬1) سقط من: م.

1857 - مسألة: (ولا يعتبر رضا المحال عليه، ولا رضا

المقنع وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيهِ، وَلَا رِضَا الْمُحْتَالِ إِنْ كَانَ الْمُحَالُ ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه إبِلٌ مِن الدِّيَةِ، وله على آخَرَ مِثْلُها في السِّنِّ، فقال القاضِي: تَصِحُّ؛ لأَنَّها تخْتَصُّ بأقَلِّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ في السِّنِّ والقِيمَةِ وسائرِ الصِّفاتِ. وقال أبو الخَطَّابِ: لا تَصِحُّ، في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّها مَجْهُولَةٌ، ولأنَّ الإِبلَ ليست مِن المِثْلِيّاتِ التي تُضْمَنُ بمِثْلِها في الإِتْلافِ، فلا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ سَلَمًا في روايَةٍ. وإن كان عليه إبِلٌ مِن (¬1) ديَةٍ، وله على آخَرَ مِثْلُها قَرْضًا، فأحَاله عليه، فإن قُلْنا: يَرُدُّ في (¬2) القَرْضَ قِيمَتَها. لم تَصِحَّ الحَوالةُ؛ لِاخْتِلافِ الجِنْسِ. وإن قُلْنا: يَرُدُّ مِثْلَها. اقْتَضَى قولُ القاضِي صِحَّةَ الحَوالةِ؛ لأنَّه أمْكَنَ اسْتِيفاءُ الحَقِّ على صِفَتِه مِن المُحالِ. عليه، ولأنَّ الخِيَرَةَ في التَّسْلِيمِ إلى مَن عليه الدِّيَةُ، وقد رَضِيَ بتَسْلِيمِ ما له في ذِمَّةِ المُقْتَرِضِ. وإن كانت بالعَكْسِ، فَأحال (¬3) المُقْرِضَ بإِبِلِ الدِّيَةِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّنا إن قُلْنا: تَجِبُ القِيمَةُ في القَرْضِ. فقد اخْتَلَفَ الجِنْسُ. وإن قُلْنا: يَجِبُ المِثْلُ. فلِلْمُقْرِضِ مِثْلُ ما أقْرَضَ في صِفاتِه وقِيمَتِه، والذي عليه الدِّيَةُ لا يَلْزَمُه ذلك. 1857 - مسألة: (ولا يُعْتَبَرُ رِضا المُحالِ عليه، ولا رِضا ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فاحتال».

عَلَيهِ مَلِيئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحْتالِ إن كان المُحالُ عليه مَلِيئًا) أمّا المُحالُ عليه فلا يُعْتَبَرُ رِضاه؛ لأنَّ للمُحِيلِ (¬1) أن يَسْتَوْفِيَ الحَقَّ بِنَفْسِه وبِوَكِيلِه، وقد أقامَ المُحْتال مُقامَ نَفْسِه في القَبْضِ، فلَزِمَ المُحال عليه الدَّفْعُ إليه، كالوَكِيلِ، وإنما تُعْتَبَرُ المَلاءَةُ في رِضا المُحْتالِ. [والمَلِئُ: القادِرُ على الوَفاءِ، غيرُ المُماطِلِ. جاءَ في الحَدِيثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: «مَنْ] (¬2) يُقْرِضُ الْمَلِئَ غَيرَ الْمُعْدِمِ» (¬3). وقال الشّاعِرُ (¬4): تُطِيِلينَ لَيّانِي وأنْتِ مَليئَةٌ … وأُحْسِنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضِيَا يَعْنِي قادِرَةٌ على وَفائِي. قال أحمدُ في تَفْسِيرِ المَلِئِ: أن يَكُونَ مَلِيئًا بمالِه وقَوْلِه وبَدَنِه. فمتى أُحِيلَ على مَن هذه صِفَتُه، لَزِم المُحْتال والمُحال ¬

(¬1) في الأصل: «للمحتال». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه مسلم بمعناه، في: باب الترغيب في الدعاء والذكر. . . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 522. (¬4) البيت لذي الرمة، وهو في ديوانه 2/ 1306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه القَبُولُ، ولم يُعْتَبَرْ رِضاهُما. وقال أبو حنيفةَ: يُعْتَبَرُ رِضاهُما؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ، فيُعْتَبَرُ الرِّضا مِن المُتَعاقِدَين. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ: يُعْتَبَرُ رِضا المُحْتالِ؛ لأنّ حَقَّه في ذِمَّةِ المُحِيلِ، فلا يَجُوزُ نَقْلُه إلى غيرِها بغيرِ رِضاه، كما لا يَجُوزُ أن يُجْبِرَه على أن يَأْخُذَ بالدَّينِ عَرْضًا (¬1). فأمّا المُحالُ عليه، فقال مالِكٌ: لا يُعْتَبَرُ رِضاه، إلَّا أن يَكُونَ المُحْتالُ عَدُوَّه. وللشافعيِّ في اعْتِبارِ رِضاه قَوْلان؛ أحدُهما، يُعْتَبَرُ. وهو يُحْكَى عن الزُّهْرِيِّ؛ لأنَّه أحَدُ مَن تَتِمُّ به الحَوالةُ، فأشْبَهَ المُحِيلَ. والثّانِي، لا يُعْتَبَرُ؛ لأنَّه أقَامَه في القَبْضِ مُقامَ نَفْسِه، فلم يَفْتَقِرْ إلى رِضا مَن عليه الحَقُّ، كالتَّوْكِيلِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أُتْبعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِئٍ فَلْيَتْبَعْ». [مُتَّفقٌ عليه] (¬2). ولأنَّ للمُحِيلِ أن يُوَفِّيَ الحَقَّ الذي عليه بنَفْسِه وبوَكِيلِه، وقد أقامَ المُحال عليه مُقامَ نَفْسِه في التَّقْبِيضِ، فلَزِمَ المُحْتال (¬3) القَبُولُ، كما لو وَكَّلَ رجلًا في إيفائِه. وفارَقَ ما إذا أرادَ أن يُعْطِيَه عمَّا في ذِمَّتِه عَرْضًا؛ لأنَّه يُعْطِيه غيرَ ما وَجَب له، فلم يَلْزَمْه قَبُولُه. ¬

(¬1) في م: «عوضا». (¬2) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في صفحة 89. (¬3) في ق: «المحال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يَكُنِ المُحالُ عليه مَلِيئًا، لم يَلْزَمْه أن يَحْتال؛ لمَفْهُومِ الحَدِيثِ، ولأنَّ عليه ضَرَرًا في ذلك، فلم يَلْزَمْه، كما لو بَذَلَ له دُونَ حَقِّه في الصِّفَةِ. فصل: فإن شَرَط المُحْتالُ مَلاءَةَ المُحالِ عليه، فبانَ مُعْسِرًا، رَجَع على المُحِيلِ. وبه قال بعضُ الشّافِعِيَّةِ. وقال بعضُهم: لا يَرْجِعُ؛ لأنَّ الحَوالةَ لا تُرَدُّ بالإِعْسارِ، وإذا لم يَشْتَرِطِ المَلاءَةَ، فلا تُرَدُّ به، وإن شَرَط، كما لو شَرَط كَوْنَهُ مُسْلِمًا. ويُفارِقُ البَيعَ، فإنَّ الفَسْخَ يَثْبُتُ بالإِعْسارِ فيه مِن غيرِ شَرْطٍ، بخِلافِ الحَوالةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬1). ولأنَّه شَرَط ما فيه مَصْلَحَةُ العَقْدِ في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فيَثْبُتُ الفَسْخُ بفَواتِه، كما لو شَرَط صِفَةً في المَبِيِعِ، وقد يَثْبُتُ بالشَّرْطِ ما لا يَثْبُتُ بإطْلاقِ العَقْدِ، بدَلِيلِ اشْتِراطِ صِفةٍ في المَبِيعِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149.

1858 - مسألة: (وإن ظنه مليئا، فبان مفلسا، ولم يكن رضي بالحوالة، رجع عليه، وإلا فلا. ويحتمل أن يرجع)

وَإِنْ ظَنَّهُ مَلِيئًا، فَبَانَ مُفْلِسًا، وَلَمْ يَكُنْ رَضِيَ بِالْحَوَالةِ، رَجَعَ عَلَيهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1858 - مسألة: (وإن ظَنَّه مَلِيئًا، فبان مُفْلِسًا، ولم يَكُنْ رَضِيَ بالحَوالةِ، رَجَع عليه، وإلَّا فلا. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ) أمّا إذا لم يَرْضَ المُحْتالُ بالحَوالةِ، ثم بان المُحالُ عليه مُفْلِسًا أو مَيِّتًا، رَجَع على المُحِيلِ، بغيرِ خِلافٍ؛ فإنَّه (¬1) لا يَلْزَمُه الاحْتِيالُ على غيرِ المَلِئِ؛ لِما عليه فيه مِن الضَّرَرِ، وإنَّما أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَبُولِ الحَوالةِ على المَلِئِ. وإن كان رَضِيَ بالحَوَالةِ، لم يَرْجِعْ؛ لأنَّه رَضِيَ بدُونِ حَقِّه. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ؛ لأنَّ الفَلَسَ عَيبٌ في الذِّمَّةِ، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى شيئًا يَظُنُّه سَلِيمًا فبان مَعِيبًا. ¬

(¬1) في م: «و».

1859 - مسألة: (وإذا أحال المشتري البائع بالثمن، أو أحال البائع عليه به، فبان البيع باطلا، فالحوالة باطلة)

وَإذَا أَحال الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ،، أَو أَحال الْبَائِعُ عَلَيهِ بِهِ، فَبَانَ الْبَيعُ بَاطِلًا، فَالْحَوَالةُ بَاطِلَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1859 - مسألة: (وإذا أحال المُشْتَرِي البائِعَ بالثَّمَنِ، أو أحال البائِعُ عليه به، فبان البَيعُ باطِلًا، فالحَوالةُ باطِلَةٌ) مثلَ أن يَشْتَريَ عَبْدًا، فَيُحِيلُ المُشْتَرِي البائِعَ بثَمَنِه (¬1)، ثم يَظْهَرُ العَبْدُ حُرًّا أو مُسْتَحَقًّا، فالبَيعُ باطِلٌ، والحَوالةُ باطِلةٌ؛ لأنَّا تَبَيَّنّا أن لا ثَمَنَ على المُشْتَرِي. وكذلك إن أحال البائِعُ على المُشْتَرِي أجْنَبيًّا بالثَّمَنِ متى بَطَل البَيعُ بَطَلتِ الحَوالةُ؛ لذلك. والحُرِّيَّةُ إنَّما تَثْبُتُ بِبَيِّنَةٍ أو اتِّفاقِهم، فإنِ اتَّفَقَ المُحِيلَ والمُحالُ عليه على حُرِّيَّتِه، وكَذَّبَهما المُحْتالُ، ولا بَيِّنَةَ بذلك، لم يُقْبَلْ قَوْلُهما ¬

(¬1) في م: «بالثمن».

1860 - مسألة: (فإن فسخ العقد بعيب أو إقالة، لم تبطل الحوالة)

وَإِنْ فُسِخَ الْبَيعُ بِعَيبٍ أَوْ إِقَالةٍ، لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه؛ لأنَّهما يُبْطِلانِ حَقَّه، فأشْبَهَ ما لو باع المُشْتَرِي العَبْدَ ثم اعْتَرَفَ هو وبائِعُه أنَّه كان حُرًّا، لم يُقْبَلْ قَوْلهما على المُشْتَرِي الثّانِي. وإن أقاما بَيِّنَةً، لم تُسْمَعْ؛ لأنَّهما كَذَّباها بدُخولِهما في التَّبايُعِ. وإن أقامَ العَبْدُ بَيِّنَةً بحُرِّيَّتِه، قُبِلَتْ، وبَطَلَتِ الحَوالةُ. وإن صَدَّقَهما المُحْتالُ، وادَّعَى أنَّ الحَوالةَ بغيرِ ثَمَنِ العَبْدِ، فالقول قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ صِحَّةُ الحَوالةِ، وهما يَدَّعِيان بُطْلانَها، فكانت جَنْبَتُه أقْوَى. فإن أقام البَيِّنَةَ أنَّ الحَوالةَ كانت بالثَّمَنِ، قُبِلَتْ؛ لأنَّهما لم يُكَذِّباها وإنِ اتَّفَقَ المُحِيلُ والمُحْتالُ على حُرِّيَّةِ العَبْدِ، وكَذَّبَهما المُحالُ عليه، لم يُقْبَلْ قَوْلُهما عليه في حُرِّيَّةِ العَبْدِ؛ لأنَّه إقْرارٌ على غيرِهما، وتَبْطلُ الحَوالةُ؛ لِاتِّفاقِ المَرْجُوعِ عليه بالدَّينِ والرّاجِعِ به على اسْتِحْقاقِ الرُّجُوعِ، والمُحالُ عليه يَعْتَرِفُ للمُحْتالِ بِدَينٍ لا يُصَدِّقُه فيه، فلا يَأْخُذُ منه شيئًا. وإنِ اعْتَرفَ المُحْتالُ والمُحَالُ عليه بحُرِّيَّةِ العَبْدِ عَتَق؛ لإِقْرارِ مَن هو في يَدِه بحُرِّيَّتِه، وبَطَلتِ الحَوالةُ بالنِّسْبةِ إليهما، ولم يَكنْ للمُحْتالِ الرُّجُوعُ على المُحِيلِ؛ لأنَّ دُخُولَه معه في الحَوالةِ اعْتِرافٌ بِبَراءَتِه، فلم يَكنْ له الرُّجُوعُ عليه. 1860 - مسألة: (فإن فُسِخَ العَقْدُ بعَيبٍ أو إقالةٍ، لم تَبْطُلِ الحَوالةُ) يَعْني إذا فُسِخَ العَقْدُ بعَيبٍ أو إقالةٍ بعدَ القَبْضِ، فيما إذا أحال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المشْتَرِي البائِعَ بالثَّمَنِ، فقد بَرِئَ المُحالُ عليه؛ لأنَّه قَبَض منه بإذْنِه، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي على البائِعِ. فإن كان ذلك قبلَ القَبْضِ، فقال القاضِي: تَبْطُلُ الحَوالةُ، ويَعُودُ المُشْتَرِي إلى ذِمَّةِ المُحالِ عليه، ويَبْرَأُ البائِعُ، فلا يَبْقَى له دَينٌ ولا عليه؛ لأنَّ الحَوالةَ بالثَّمَنِ، وقد سَقَط بالفَسْخِ، فيَجِبُ أن تَبْطلَ الحَوالة لذَهابِ حَقِّه مِن المالِ المحالِ به. وقال أبو الخَطّابِ: لا تَبْطُلُ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ عَوَّضَ البائِعَ عمّا في ذِمَّتِه ما له في ذِمَّةِ المحالِ عليه، ونَقَل حَقَّه إليه نَقْلًا صَحِيحًا، وبَرِئَ مِن الثَّمَنِ، وبَرِئَ المُحالُ عليه مِن دَينِ المُشْتَرى، فلم يَبْطُلْ ذلك بفَسْخِ العَقْدِ الأوَّلِ، كما لو أعْطاه بالثَّمَنِ ثَوْبًا وسَلَّمَه إليه، ثم فَسَخ العَقْدَ، لم يَرْجِعْ بالثَّوْبِ، كذا ههُنا. فإن قُلْنا ببُطْلانِ الحَوالةِ، رَجَع المُحِيلُ على المُحالِ عليه بدَينِه، ولم يَبْقَ (¬1) بينَهما وبينَ البائِعِ مُعامَلَةٌ. وإن قُلْنا: لا تَبْطُلُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1861 - مسألة: (وللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى، وللمشتري أن يحيل المحتال عليه على البائع في الثانية)

وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُحِيلَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى مَنْ أَحَالهُ الْمُشْتَرِي عَلَيهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحِيلَ المُحْتَال عَلَيهِ عَلَى الْبَائِع ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجَعَ المُشْتَري على البائِعِ بالثمنِ، ويَأْخُذُه البائِعُ مِن المُحالِ عليه. وإن كانتِ المَسْأَلَةُ بحالِها، لكن أحال البائِعُ أجْنَبِيًّا بالثَّمَنِ على المُشْتَرِي، ثم رَدَّ العَبْدَ المَبِيعَ، ففي الحَوالةِ وَجْهان؛ أحدُهما، لا تَبْطُلُ؛ لأنَّ ذِمَّةَ المُشْتَرِي بَرِئَتْ بالحَوالةِ مِن حَقِّ البائِعِ، وصار الحَقُّ عليه للمُحْتالِ، فأشْبَهَ ما لو دَفَعَه المُشْتَرِي إلى المُحِيلِ. فعلى هذا، يَرْجِعُ المُشْتَرِي على البائِعِ بالثَّمَنِ، ويُسَلِّمُ للمُحْتالِ ما أحاله به. والثّانِي، تَبْطُلُ الحَوالةُ إن كان الرَّدُّ قبلَ القَبْضِ؛ لسُقُوطِ الثَّمَنِ الذي كانتِ الحَوالةُ به، [ولأنَّه] (¬1) لا فائِدَةَ في بَقاءِ الحَوالةِ، فيَعُودُ البائِعُ بدَيْنِه، ويَبْرَأُ المُشْتَرِي منهما، كالمسألةِ قبلَها. 1861 - مسألة: (وللبائِعِ أن يُحِيلَ المُشْتَرِيَ على مَن أحاله المُشْتَرِي عليه في الصُّورَةِ الأُولَى، وللمُشْتَرِي أن يُحِيلَ المُحْتال عليه على البائِعِ في الثّانِيَةِ) إذا قُلْنا: إنَّ الحَوالةَ لا تَبْطُلُ. (ويَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ ¬

(¬1) في م: «و».

فِي الثَّانِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا لم يَكُنْ قَبَضَها) وقد ذَكَرناه. فصل: إذا أحال رجلًا على زَيدٍ بألْفٍ، فأحاله زَيدٌ بها على عَمْرٍو، فالحَوالةُ صَحِيحَةٌ؛ لأنَّ حَقَّ الثّانِي ثابِتٌ مُسْتَقِرٌّ في الذِّمَّةِ، فصَحَّ أن يُحِيلَ به، كالأوَّلِ. وهكذا لو أحال الرجلُ عَمْرًا على زَيدٍ بما ثَبَتَ له في ذِمَّتِه،

1862 - مسألة: (وإذا قال: أحلتك. قال: بل وكلتني. أو قال: وكلتك. قال: بل أحلتني. فالقول قول مدعي الوكالة)

وَإِذَا قَال: أَحَلْتُكَ. قَال: بَلْ وَكَّلْتَنِي. أَوْ قَال: وَكَّلْتُكَ. قَال: بَلْ أَحَلْتَنِي. فَالْقَولُ قَوْلُ مُدَّعِي الْوَكَالةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ أيضًا؛ لِما ذَكَرْنا، وتَكَرُّرُ المُحْتالِ والمُحِيلِ لا يَضُرُّ. 1862 - مسألة: (وإذا قال: أحَلْتُك. قال: بل وَكَّلْتَنِي. أو قال: وَكَّلْتُكَ. قال: بل أحَلْتَنِي. فالقولُ قولُ مُدَّعِي الوَكالةِ) إذا كان لرجلٍ دَين على آخَرَ، فأذِنَ لرَجُلٍ في قَبْضِه، ثم اخْتَلَفا، فقال: أحَلْتُكَ بدَينِك. قال: بل وَكَّلْتَنِي، ودَيِنْي باقٍ في ذِمَّتِك. أو قال: وَكَّلْتُكَ في قَبْضِ دَينِي بلَفْظِ التَّوْكِيلِ. قال: بل أَحَلْتَنِي بلَفْظِ الحَوالةِ. فالقولُ قولُ مُدَّعِي الوَكالةِ مع يَمِينِه؛ لأنَّه يَدَّعِي بَقاءَ الحَقِّ على (¬1) ما كان، ويُنْكِرُ انْتِقاله، والأصْلُ معه. فإن كان لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها؛ لأنَّ اخْتِلَافَهُما ¬

(¬1) في ر: «بمحل».

1863 - مسألة: (وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك)

وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَال: أَحَلْتُكَ. وَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْوَكَالةُ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَفِي أَيِّهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في اللَّفْظِ، وهو مِمّا يُمْكِنُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه. 1863 - مسألة: (وإنِ اتَّفَقا على أنَّه قال: أحَلْتُكَ) بالمالِ الذي لي (¬1) قِبَلَ زَيدٍ. ثم اخْتَلَفا، فقال المُحِيلُ: إنَّما وَكَّلْتُك في القَبْضِ لِي. وقال الآخَرُ: بل أحَلْتَنِي بدَينِي عليك. فالقولُ قولُ مُدَّعِي الحَوالةِ، في أحدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ الظاهِرَ معه، فإنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ في الحَوالةِ دُونَ الوَكالةِ، فيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ على ظاهِرِه، كما لو اخْتَلَفا في دارٍ في يَدِ أحَدِهما. والثّانِي، القولُ قولُ المُحِيلِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ حَقِّ المُحِيلِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُحالِ عليه، والمُحْتالُ يَدَّعِي نَقْلَه، والمُحِيلُ يُنْكِرُه، والقول قولُ المُنْكِرِ. فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَحْلِفُ المُحْتالُ، ويَثْبُتُ حَقُّه في ذِمَّةِ المُحالِ عليه، ويَسْتَحِقُّ مُطالبَتَه، ويَسْقُطُ عن المُحِيلِ. وعلى الوَجْهِ الثّانِي، يَحْلِفُ المُحِيلُ، ويَبْقَى حَقُّه في ذِمَّةِ المُحالِ عليه. وعلى كلا الوَجْهَين، إن كان المُحْتالُ قد قَبَض مِن المُحالِ عليه، وتَلِف في يَدِه، فقد بَرِئَ كلُّ واحدٍ منهما مِن صاحِبِه، فلا ضَمانَ عليه، سواءٌ تَلِف بتَفْرِيطٍ أو غيرِه؛ لأنَّه إن تَلِف بتَفْريطٍ، وكان المُحْتالُ مُحِقًّا، فقد أتْلَفَ ماله، وإن كان مُبْطلاً، ثَبَت لكلِّ واحدٍ منهما في ذِمَّةِ الآخَرِ مثلُ (¬1) ما في ذِمَّتِه له، فيتَقَاصّان، ويَسْقُطان. وإن تَلِف بغيرِ تَفْرِيطٍ، فالمُحْتالُ يَقُولُ: قد قَبَضْتُ حَقِّي وتَلِف في يَدِي، وبَرِئَ منه المُحِيلُ بالحَوالةِ، والمُحالُ عليه بتَسْلِيمِه. والمُحِيلُ يَقُولُ: قد تَلِف المالُ في يَدِ وَكِيلِي بغيرِ تَفرِيطٍ. فلا ضَمانَ عليه. وإن لم يَتْلَفْ، احْتَمَلَ أن لا يَمْلِكَ المُحِيلُ طَلَبَه؛ لأنَّه مُعْتَرِفٌ أنَّ له عليه مِن الدَّينِ مثلَ ما له في يَدِه وهو مُسْتَحِقٌّ لقَبْضِه، فلا فائِدَةَ في أن يَقْبِضَه منه ثم يُسَلِّمَه إليه. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ أخْذَه منه، ويَمْلِكَ المُحْتالُ مُطالبَتَه بدَينِه. وقيل: يَمْلِكُ المُحِيلُ أَخْذَه منه، ولا يَمْلِكُ المُحْتالُ المُطالبَةَ بدَينِه؛ لاعْتِرافِه ببَراءَةِ المُحِيلِ منه بالحَوالة. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ المُحْتال إنِ اعْتَرفَ بذلك، فهو يَدَّعِي أنَّه قَبَض هذا المال منه بغيرِ حَقٍّ، وأَنه (¬1) يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ به. فعلى كلا الحالين، هو مُسْتَحِقٌّ للمُطالبَةِ بمِثْلِ هذا المالِ المَقْبوضِ منه في قَوْلِهما جميعًا، فلا وَجْهَ لإِسْقاطِه، ولا مَوْضِعَ للبَيِّنَةِ في هذه المَسْأَلَةِ؛ لأنَّهما لا يَخْتَلِفان في لَفْظٍ يُسْمَعُ، ولا فِعْلٍ يُرَى، وإنَّما يَدَّعِي المُحِيلُ نِيَّتَه (¬2)، وهذا لا تَشْهَدُ به البَيِّنَةُ نَفْيًا ولا إثْباتًا. فصل: فإن قال: أحَلْتُك بدَينِك. قال: وَكَّلْتَنِي. ففيها (¬3) وَجْهان أيضًا؛ لِما قَدَّمْنا. فإن قلنا: القولُ قولُ المُحِيلِ. فحَلَفَ، بَرِئَ مِن حقِّ المُحْتالِ، وللمُحْتالِ قَبْضُ المالِ مِن المُحالِ عليه لنَفْسِه؛ لأنَّه يَجُوزُ ذلك بقَوْلِهما معًا، فإذا قَبَضَه، كان له بحَقِّه. وإن قُلْنا: القَوْلُ قولُ المُحْتالِ. فحَلَفَ، كان له مُطالبَةُ المُحِيلِ بحَقِّه ومُطالبَةُ المُحْتالِ عليه؛ لأنَّه إمّا وَكِيلٌ أو مُحْتالٌ. فإن قَبَض منه قبلَ أخْذِه مِن المُحِيلِ، فله أخْذُ ما قَبَض لنَفْسِه (¬4)؛ لأنَّ المُحِيلَ ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) في الأصل، ر: «بينة». (¬3) في م: «ففيهما». (¬4) بعده في م: «لأنه يجوز ذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقُولُ: هو لك. والمُحْتالُ يَقُولُ: هو أمانَةٌ في يَدِي، ولى مِثْلُه على صاحِبه، وقد أَذِنَ له في أخْذِه ضِمْنًا. فإذا أخَذَه لنَفْسِه، حَصَل غَرَضُه، ولم يَأْخُذْ مِن المُحِيلِ شيئًا. وإنِ اسْتَوْفَى مِن المُحِيلِ دُونَ المُحالِ عليه، رَجَع المُحِيلُ على المُحالِ عليه، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ الوَكالةَ قد ثَبَتَتْ بيَمِينِ المُحْتالِ، وبَقِيَ الحَقُّ (¬1) في ذِمَّةِ المُحالِ عليه للمُحِيلِ. والثَّانِي، لا يَرْجِعُ عليه؛ لأنَّه يَعْتَرِفُ أنَّه قد بَرِئَ مِن حَقِّه، وإنَّما المُحْتالُ (¬2) ظَلَمَه بأخْذِ ما كان عليه. قال القاضِي: والأَوَّلُ أصَحُّ. وإن كان قد أخَذَ الحَوالةَ فتَلِفَتْ في يَدِه بتَفْرِيطٍ، أو أتْلَفَها، سَقَط حَقُّه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه إن كان مُحِقًّا فقد أتْلَفَ حَقَّه، وإن كان مُبْطِلًا فقد أتْلَفَ (¬3) مِثْلَ دَينِه، فيَثْبُتُ في ذِمَّتِه، فيتَقَاصّانِ. وإن تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطِه، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَسْقُطُ حَقُّه أيضًا؛ لأنَّ ماله تَلِف تحتَ يَدِه. وعلى الثّانِي، له أن يَرْجِعَ على المُحِيلِ بِحَقِّه، وليس للمُحِيلِ الرُّجُوعُ على المُحالِ عليه؛ لأنَّه يُقِرُّ ببرَاءتِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «المحيل». (¬3) في م: «أبطل».

1864 - مسألة: (وإن قال: أحلتك بدينك. فالقول قول مدعي الحوالة، وجها واحدا)

وَإِنْ قَال: أَحَلْتُكَ بِدَينِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْحَوَالةِ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1864 - مسألة: (وإن قال: أحَلْتُك بدَينِك. فالقولُ قولُ مُدَّعِي الحَوالةِ، وَجْهًا واحِدًا) إذا اتَّفَقا على أنَّه قال: أحَلْتُك بدَينِك. ثم اخْتَلَفا، فالقولُ قولُ مُدَّعِي الحَوالةِ، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّ الحَوالةَ بِدَينِه لا تَحْتَمِلُ الوَكالةَ، فلم يُقْبَلْ قولُ مُدَّعِيها. وسَواءٌ اعْتَرَفَ المُحِيلُ بدَينِ المُحْتالِ، أو قال: لا دَينَ لك عَلَيَّ. لأنَّ قَوْلَه: أحَلْتُك بدَينِك. اعْتِرافٌ بدَينِه، فلا يُقْبَلُ جَحْدُه بعدَ ذلك. فأمّا إن لم يَقُلْ: بدَينِك. بل قال: أحَلْتُك. ثم قال: ليس لك عليَّ دَينٌ، وإنَّما أرَدْتُ التَّوْكِيلَ بلَفْظِ الحَوالةِ. أو قال: أرَدْتُ أن أقولَ: وَكَّلْتُكَ. فسَبَقَ لِسانِي، فقلتُ: أحَلْتُك. وادَّعَى المُحْتالُ أنَّها حَوالةٌ بدَينِه، وأنَّ دَينَه كان ثابِتًا على المُحِيلِ، فهل هو اعْتِرافُ بالدَّينِ أوْ لا؟ فيه وَجْهانِ سَبَق تَوْجِيهُهما. فصل: وإذا كان لرجلٍ دَينٌ على آخَرَ، فطَالبَه به، فقال: قد أحَلْتَ به عليَّ فُلانًا الغائِبَ. وأنْكَرَ صاحِبُ الدَّينِ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمينِه. فإن كان لمَن عليه الدَّينُ بَيِّنَةٌ بدَعْواه، سُمِعَتْ بَيِّنَتُه؛ لإِسْقاطِ حَقِّ المُحِيلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه (¬1). وإنِ ادَّعَى رجلٌ أنَّ فُلانًا الغائِبَ أحالنِي عليك، فأَنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فالقولُ قَوْلُه. فإن أقامَ المُدَّعِي بَيِّنَةً، ثَبَتَتْ في حَقِّه وحَقِّ الغائبِ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ يُقْضَى بها على الغائِبِ، ولَزِم الدَّفْعُ إلى المُحتالِ. وإن لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ، فأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فهل يَلْزَمُه اليَمِينُ؟ فيه وَجْهان، بِناءً على ما لو اعْتَرَفَ له هل يَلْزَمُه الدَّفْعُ إليه (¬2)؟ على وجهينِ؛ أحدُهما، يَلْزَمُه الدَّفْعُ إليه؛ لأنَّه مُقرٌّ بدَنْيِه عليه، ووُجُوبِ دَفْعِه إليه، فَلَزِمَه الدَّفْعُ إليه، كما لو كانت به بَيِّنَةٌ. والثّانِي، لا يَلْزَمُه الدَّفْعُ إليه؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ إنْكارَ المُحِيلِ ورُجُوعَه عليه، فكان له الاحْتِياطُ لنَفْسِه، كما لو ادَّعَى أنِّي وَكِيلُ فُلانٍ في قَبْضِ دَينِه منك، فصَدَّقَه، وقال: لا أدْفَعُه إليك. فإذا قُلْنا: يَلْزَمُه الدَّفْعُ مع الإقْرارِ. لَزِمَتْه اليَمِينُ مع الإنْكارِ. فإذا حَلَفَ، بَرِئَ، ولم يَكُنْ للمُحْتالِ الرُّجُوعُ على المُحِيلِ؛ لاعْتِرافِه ببَراءَتِه. وكذلك إن قُلْنا: لا يَلْزَمُه اليمينُ. فليس للمُحتال الرُّجُوعُ على المُحِيلِ. ثم يُنْظَرُ في المُحِيلِ؛ فإن صَدَّقَ المُدَّعِي في أنَّه أحاله، ثَبَتتِ الحَوالةُ؛ لأنَّ رضا المُحتالِ عليه لا يُعْتَبَرُ. وإن أنْكَرَ الحَوالةَ، حَلَف، وسَقَط حُكْمُ ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَوالةِ. وإن نَكَل المُحالُ عليه عن اليَمِينِ، فقُضِيَ عليه بالنُّكُولِ واسْتوفِيَ الحَقُّ منه، ثم إنَّ المُحِيلَ صَدَّقَ المُدَّعِيَ، فلا كَلامَ. وإن أنْكَرَ الحَوَالةَ، فالقولُ قَوْلُه، وله أن يَسْتَوْفِيَ مِن المُحالِ عليه (¬1)؛ لأنَّه مُعْتَرِفٌ له بالحَقِّ، ويَدَّعِى أنَّ المُحْتال ظَلَمَه، ويَبقَى دَينُ المُحْتالِ على المُحِيلِ. فإن أنْكَرَ المُحِيلُ أنَّ له عليه دَينًا، فالقولُ قَوْلُه بغيرِ يَمِينٍ؛ لأنَّ المُحْتال يُقِرُّ ببراءَتِه منه؛ لاسْتِيفائِه مِن المُحالِ عليه. وإن كان المُحِيلُ يَعْتَرِفُ به، لم يَكُنْ للمُحْتالِ المُطالبَةُ به؛ لأنَّه يُقِرُّ بأنَّه قد بَرِئَ منه بالحَوالةِ، والمُحِيلُ يُصَدِّقُ المُحال عليه في كونِ المُحْتالِ قد ظَلَمَه، واسْتَوْفَى مِنه بغيرِ حَقٍّ، والمحْتالُ يَزْعُم أنّ المحِيلَ قد أخَذَ منه أيضًا بغيرِ حَقٍّ، وأنَّه يَجِبُ عليه أن يَرُدَّ ما أخَذَ منه إليه، فيَنْبَغِي أن يَقْبِضَها المُحْتالُ ويُسَلِّمَها إلى المُحالِ عليه، أو يَأْذَنَ للمُحِيلِ في دَفْعِها إلى المُحالِ عليه. وإن صَدَّقَ المُحالُ عليه المُحْتال في الحَوالةِ، ودَفَع إليه، فأنْكَرَ المُحِيلُ الحَوالةَ، حَلَف، ورَجَع على المُحالِ عليه. والحُكْمُ في الرُّجُوعِ بما على المُحِيلَ مِن الدَّينَ على ما ذَكَرْنا في التي قبلَها. فصل: فإن كان عليه ألْفٌ ضَمِنَه رجلٌ، فأحال الضّامِن صاحِبَ الدَّينِ به، بَرِئَتْ ذِمَّتُه وذِمَّةُ المَضْمُونِ عنه؛ لأنَّ الحَوالةَ كالتَّسْلِيمِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَكُونُ الحُكْمُ ههُنا كالحُكْمِ فيما لو قَضَى عنه الدَّينَ، على ما ذَكَرْنا. فإن كان الألْفُ على رَجُلَين، على كلِّ واحدٍ منهما خَمْسُمائَةٍ، وكلُّ واحدٍ كَفِيلٌ عن الآخرِ بذلك، فأحالهُ أحَدُهُما بالألْفِ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهما معًا، كما لو قَضاها. وإن أحال صاحِبُ الألْفِ رجلًا على أَحدِهِما بعَينِه صَحَّتِ الحَوالةُ؛ لأنَّ الدَّينَ على كلِّ واحدٍ منهما مُسْتَقِرٌّ. وإن أحال عليهما جميعًا، ليَسْتَوْفِيَ منهما أو مِن أيِّهما شاءَ، صَحَّتِ الحَوالةُ أيضًا عند القاضِي؛ لأنَّه لا فَضْلَ ههُنا في نَوْع ولا أجَلٍ ولا عَدَدٍ، وإنَّما هو زِيادَةُ اسْتِيثاقٍ، فلم يَمْنَعْ ذلك صِحَّةَ الحَوالةِ، كحَوالةِ المُعْسِرِ على المَلِئِ. وقال بعضُ الشّافِعِيَّةِ: لا تَصِحُّ الحَوالةُ؛ لأنَّ الفَضْلَ قد دَخَلَها. فإنَّ المُحْتال ارْتَفَقَ بالتَّخْيِيرِ بالاسْتِيفاءِ مِن أَيِّهما شاء، فأشْبَهَ ما لو أحاله على رَجُلَين له على كلِّ واحدٍ منهما ألْفٌ؛ ليَسْتَوْفِيَ مِن أَيِّهما شاء. والأوَّلُ أصَحُّ. والفَرْقُ بينَ هذه المَسْألَةِ، وبينَ ما إذا أحاله بألْفَين، أنَّه لا فَضْلَ بينَهما في العَدَدِ ها هنا، وثَمَّ تَفاضَلَا، ولأنَّ الحَوالةَ ههُنا بأَلْفٍ مُعَيَّنٍ، وثَمَّ الحَوالةُ بأحَدِهما مِن غيرِ تَعْيِينٍ، وأنَّه إذا قَضاه أحَدُهما الألْفَ، فقد قَضاه جَمِيعَ الدَّينِ، وثَمَّ إذا قَضَى أحَدُهما بَقِيَ ما على الآخَر. ولو لم يَكُنْ كلُّ واحدٍ مِن الرَّجُلَين ضامِنًا عن صاحِبِه، فأحال عليهما، صَحَّتِ الحَوالةُ بغيرِ إشْكالٍ؛ لأنَّه لَمّا كان له أن يَسْتَوْفِيَ الألْفَ مِن واحدٍ، كان له أن يَسْتَوْفِيَ مِن اثْنَين، كالوَكِيلَينِ.

باب الصلح

بَابُ الصُّلْحِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الصُّلْحِ الصُّلْحُ مُعاقَدةٌ يُتَوَصَّلُ بها إلى إصْلاحٍ بينَ المُخْتَلِفَين، ويتَنَوّعُ أنْواعًا؛ صُلْحٌ بينَ المسلمين وأهْلِ الحَرْبِ، وصُلْحٌ بينَ أهْلِ العَدْلِ وأهْلِ البَغْي، وصُلْحٌ بينَ الزَّوْجَين إذا خِيفَ الشِّقاقُ بينَهما، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} (¬1). وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَينَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيرٌ} (¬2). وروَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصُّلْحُ بَينَ الْمُسْلِمينَ جَائِزٌ، إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أوْ أحَلَّ حَرَامًا». أخْرَجَه التِّرْمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. ورُوِيَ ¬

(¬1) سورة الحجرات 9. (¬2) سورة النساء 128. (¬3) في: باب ما ذكر عن رسول - صلى الله عليه وسلم - في الصلح يبن الناس، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 104. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الصلح، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 788. كلاهما عن عمرو بن عوف المزني. وأخرجه أبو داود، في: باب في الصلح، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 273. الإمام أحمد، في: المسند 2/ 366. كلاهما عن أبي هريرة.

1865 - مسألة: و (الصلح في الأموال قسمان؛ أحدهما، صلح على الإقرار، وهو نوعان؛ أحدهما، صلح على جنس الحق، مثل أن يقر له بدين، فيضع عنه بعضه، أو بعين، فيهب له بعضها، ويأخذ

الصُّلْحُ فِي الْأَمْوَالِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا، صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، الصُّلْحُ عَلَى جِنْسِ الْحَقِّ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَينٍ، فَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَهُ، أَوْ بِعَينٍ، فَيَهَبَ لَهُ بَعْضَهَا، وَيَأْخُذَ ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عُمَرَ، أنَّه كَتَب إلى أبي موسى بمِثلِ ذلك. وأجْمَعَ العُلَماءُ على جَوازِ الصُّلْحِ في هذه الأنْواعِ التي ذَكَرْنا، ولكلِّ واحِدٍ منها (¬1) بابٌ يُفْرَدُ له، وتُذْكَرُ فيه أحْكامُه. وهذا البابُ للصُّلْحِ بينَ المُخْتَلِفَين في الأمْوالِ. 1865 - مسألة: و (الصُّلْحُ في الأمْوالِ قِسْمان؛ أحَدُهما، صُلْحٌ على الإِقْرارِ، وهو نَوْعان؛ أحَدُهما، صُلْحٌ على جِنْسِ الحَقِّ، مثلَ أن يُقِرَّ له بدَينٍ، فيَضَعَ عنه بَعْضَه، أو بعَينٍ، فيَهَبَ له بَعْضَها، ويَأْخُذَ ¬

(¬1) في الأصل، ر 1: «منهما».

الْبَاقِي، فَيَصِحَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْبَاقِي. أَو يَمْنَعَهُ حَقَّهُ بِدُونِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الباقيَ، فيَصِحُّ إن لم يَكُنْ بشَرْطٍ، مثلَ أن يَقُولَ: على أن تُعْطِيَني الباقِيَ. أو يَمْنَعَه حَقَّه بدُونِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن اعْتَرفَ بدَينٍ أو عَينٍ في يَدِه، فأبْرأَه الغَرِيمُ مِن بعضِ الدَّينِ، أو وَهَبَه بعضَ العَينِ وطَلَب منه الباقيَ، صَحَّ إذا كانتِ البَراءَةُ مُطْلَقَةً من غيرِ شَرْطٍ. قال أحمدُ: إذا كان للرجلِ على الرجلِ الدَّينُ ليس عندَه وَفاءٌ، فوَضَعَ عنه بعضَ حَقِّه، وأخَذَ منه الباقِيَ، كان ذلك جائِزًا لهما، ولو فَعَل ذلك قاضٍ شافعٌ (¬1)، لم يَكُنْ ¬

(¬1) في ر 1، م: «شافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه في ذلك إثْمٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد كَلَّمَ غُرَماءَ جابِرٍ ليَضَعُوا عنه (¬1). وفي الذي أُصِيبَ في حَدِيقَتِه فمَرَّ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مَلْزُومٌ، فأشار إلى غُرَمائِه بالنِّصْفِ، فأخَذُوه منه (¬2). فإن فَعَل ذلك قاضٍ اليَوْمَ، جاز إذا كان على وَجْهِ الصُّلْحِ والنَّظرَ لهما. وقد روَى عبدُ اللهِ بنُ كَعْبٍ، عن أبيه، أنَّه تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا كان له عليه في المَسْجِدِ، فارْتَفَعَت أصْواتُهما حتى سَمِعَها (¬3) رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فخَرَجَ إليهما، ثم نادَى: «يَا كَعْبُ» قال: لَبَّيكَ يا رسولَ اللهِ. فأشار إليه أن ضَعِ الشَّطْرَ مِن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وباب إذا قاضى أو جازفه في الدين تمرًا بتمر أو غيره، من كتاب الاستقراض، وفي: باب إذا وهب دينًا على رجل، من كتاب الهبة، وفي: باب الصلح بين الغرماء، من كتاب الصلح، وفي: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 3/ 154، 210، 245، 246، 4/ 235. وأبو داود، في: باب ما جاء في الرجل يموت وعليه دين، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 107. والنسائي، في: باب قضاء الدين قبل الميراث، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 205. وابن ماجه، في: باب أداء الدين عن الميت، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 813، 814. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 313. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب الرجل يلحقه الدين فيحط عنه، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 319. وابن حجر، في: باب القراض، من كتاب البيوع. المطالب العالية 1/ 419. (¬3) في ق، م: «سمعهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَينِك. قال: قد فَعَلْتُ يا رسولَ اللهِ. قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ فَأعْطِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمّا إن مَنَعَه المُقِرُّ مِن (2) حَقِّه حتى يَضَعَ عنه بَعْضَه، فالصُّلْحُ باطِلٌ؛ لأنَّه صالحَ عن بَعْضِ مالِه ببَعْضِه، وسواءٌ كان بلَفْظِ الصُّلْحِ أو بلفظِ الإِبْراءِ، أو بلَفْظِ (¬2) الهِبَةِ المَقْرُونِ بشَرْطٍ، مثلَ أن يَقُولَ: أبْرَأْتُك مِن خَمْسِمائَةٍ. أو: وَهَبْتُك بشَرْطِ أن تُعْطِيَنِي ما بَقِيَ. قال ابنُ أبي موسى: الصُّلْحُ على الإِقْرارِ هَضْمٌ للحَقِّ، فمتى ألْزَمَ المُقَرَّ له تَرْكَ بَعْضِ حَقِّه، فتَرَكَه مِن غيرِ طِيبِ نَفْسِه، لم يَطِبِ الأخْذُ (¬3)، وإن تَطَوَّعَ المُقَرُّ له بإسْقاطِ بعضِ حَقِّه، جاز، غيرَ أنَّ ذلك ليس بصُلْحٍ، ولا مِن بابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ. فلم يَجْعَلْه صُلْحًا، ولم يُسَمِّ الخِرَقِيُّ الصُّلْحَ إلَّا في حالِ الإِنْكارِ. فأمّا مع الاعْتِرافِ، فإن قَضاه مِن جِنْسِ حَقِّه، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التقاضي والملازمة في المسجد، وباب رفع الصوت في المساجد، من كتاب الصلاة، وفي: باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، من كتاب الخصومات، وفي: باب الصلح بالدين والعين، من كتاب الصلح. صحيح البخاري 1/ 123، 124، 127، 3/ 160، 246. ومسلم، في: باب استحباب الوضع من الدين، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 192. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصلح، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 273. والنسائي، في: باب حكم الحاكم في داره، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 210. وابن ماجه، في: باب الحبس في الدين والملازمة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 811. والدارمي، في: باب في إنظار المعسر، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 261. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 390. (¬2) سقط من: م. (¬3) في ر 1، م: «لأحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو وَفاءٌ، وإن قَضاه مِن غيرِ جِنْسِه، فهو مُعاوَضَةٌ، وإن أبْرَأَه مِن بَعْضِه، فهو إبْراءٌ، وإن وَهَبه بعضَ العَينِ، فهو هِبَةٌ، فلا يُسَمَّى صُلْحًا. وسَمّاه القاضي وأصحابُه صُلْحًا. وهو قولُ الشافعيِّ. والخِلافُ في التَّسْمِيَةِ، أمّا المَعْنَى فمُتَّفَقٌ عليه. وهو يَنْقَسِمُ إلى إِبرَاءٍ، وهِبَةٍ، ومُعاوَضَةٍ، وقد ذَكَرْنا الإِبْرَاءَ. فأمّا الهِبَةُ، فهو أن يَكُونَ له في يَدهِ عَينٌ، فيَقُولَ: قد وَهَبْتُك نِصْفَها وأعْطِنِي بَقِيَّتَها. فيَصِحُّ، ويُعْتَبَرُ له شُرُوطُ الهبَةِ. وإن أخْرَجَه مَخْرَجَ الشَّرْطِ، لم يَصِحَّ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأَنَّه إذا شَرَطَ في الهِبَةِ الوَفاءَ، جَعَل الهِبَةَ عِوَضًا عن الوَفاءِ، فكأنَّه عاوَضَ بعضَ حَقِّه ببَعْضٍ. فإن أبْرَأه مِن بعضِ الدَّينِ، أو وَهَب له بعضَ العَينِ بلَفْظِ الصُّلْحِ، مثلَ أن يقولَ: صالِحْنِي بنِصْفِ دَينِك علَيَّ، أو بنِصْفِ دارِك هذه. فيقولَ.: صالحْتُك بذلك. لم يَصِحَّ. ذَكَرَه القاضي وابنُ عَقِيلٍ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال أكْثَرُهم: يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لأنَّه إذا لم يَجُزْ بلَفْظِه، خَرَج عن أن يَكُونَ صُلْحًا، ولا يَبْقَى له تَعَلُّقٌ به. أمّا إذا كان [بلَفْظِ الصُّلْحِ] (¬1) سُمِّيَ صُلْحًا؛ لوُجُودِ اللَّفْظِ، وإن تَخَلَّفَ المَعْنَى، كالهِبَةِ بشَرْطِ الثَّوابِ. وإنَّما يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ المُعاوَضَةَ إذا كان ثَمَّ عِوَضٌ، أمّا مع عَدَمِه فلا. وإنَّما مَعْنَى الصُّلْحِ الاتِّفَاقُ والرِّضا، وقد يَحْصُلُ هذا مِن غيرِ عِوَض، كالتَّمْلِيكِ، إذا كان بعِوَضٍ سُمِّيَ بَيعًا، وإن خَلا عن العِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً. ولَنا، أنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ ¬

(¬1) في م: «بلفظه».

1866 - مسألة: (ولا يصح ذلك ممن لا يملك التبرع؛ كالمكاتب، والمأذون له، وولي اليتيم، إلا في حال الإنكار وعدم

وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ ممَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ؛ كَالْمُكَاتَب، وَالْمَأْذُونِ لَهُ، وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، إلا فِي حَالِ الْإِنْكَارِ وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْتَضِي المُعاوَضَةَ؛ لأنَّه إذا قال: صالِحْنِي بهِبَةِ كذا. أو: على هِبَةِ كذا. أو: على نِصْفِ هذه العَينِ. ونَحْوَ هذا، فقد أضاف إليه بالمُقَابَلَةِ، فصار كقَوْلِه: بعْنِي بألْفٍ. وإن أضاف إليه «عَلَى» جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ، كقَوْلِه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬1). وقَوْلِه: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُمْ سَدًّا} (¬2). وكلاهما لا يَجُوزُ؛ بدَلِيلِ ما لو صَرَّحَ بلَفْظِ الشَّرْطِ أو بِلَفْظِ المُعاوَضَةِ. وقَوْلُهم: إنَّه يُسَمَّى صُلْحًا. مَمْنُوعٌ، وإن سُمِّيَ صُلْحًا، فمجازٌ؛ لتَضَمُّنِه قَطْعَ (¬3) النِّزاعِ وإزالةَ الخُصُومَةِ. وقَوْلُهم: إنَّ الصُّلْحَ لا يَقْتَضِي المُعاوَضَةَ. مَمْنُوعٌ، وإن سَلَّمْنا لكنَّ المُعاوَضَةَ حَصَلَتْ مِن اقْتِرانِ حَرْفِ الباءِ، أو عَلَى، أو نحوهما به، فإنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَحْتَاجُ إلى حَرْفٍ يَتَعَدَّى به، وذلك يَقْتَضِي المُعاوَضَةَ، على ما بَيَّنَّا. 1866 - مسألة: (ولا يَصِحُّ ذلك مِمَّن لا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ؛ كالمُكاتَبِ، والمَأْذُونِ له، ووَليِّ اليَتِيمِ، إلَّا في حالِ الإِنْكارِ وعَدَمِ ¬

(¬1) سورة القصص 27. (¬2) سورة الكهف 94. (¬3) في ر 1: «دفع».

1867 - مسألة: (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا، لم يصح)

وَلَوْ صَالحَ عَنِ الْمُؤجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيِّنَةِ) لأنَّه تَبَرُّعٌ، وليس لهم التَّبَرُّعُ. فأمّا إذا لم يَكُنْ بالدَّينِ بَيِّنَةٌ (¬1)، أو كان على الإِنْكارِ، صَحَّ؛ لأنَّ اسْتِيفاءَهم البعضَ عندَ العَجْزِ عن اسْتِيفاءِ الكلِّ أوْلَى مِن تَرْكِه. 1867 - مسألة: (وإن صالحَ عن المُؤَجّلِ ببَعْضِه حالًّا، لم يَصِحَّ) كَرِه ذلك زيدُ بنُ ثابِتٍ، وابنُ عُمَرَ، وقال: نَهَى عُمَرُ أن تُبَاعَ العَينُ بالدَّينِ. وكَرِه ذلك سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والقاسِمُ، وسالِمٌ، والحسنُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ عُيَينَةَ، وأبو حنيفةَ، وإسحاقُ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، أنَّه لا بَأْسَ ¬

(¬1) سقط من: م.

1868 - مسألة: (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه، صح الإسقاط دون التأجيل)

وَإنْ وَضَعَ بَعْضَ الْحَالِّ وَأَجَّلَ بَاقِيَهُ، صَحَّ الإِسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به. وعن الحسنِ، وابن سِيرِينَ، أنَّهما كانا لا يَرَيانِ بَأْسًا بالعُرُوضِ أن يَأْخُذَها مِن حَقِّه قبلَ مَحِلِّه؛ لأنَّهما تَبايعا العُرُوضَ بما في الذِّمَّةِ، فصَحَّ، كما لو اشْتَراها بثَمَنِ مِثْلِها. ولَعَلَّ ابنَ سِيرِينَ يَحْتَجُّ بأنَّ التَّعْجِيلَ جائِزٌ، والإِسْقَاطَ وَحْدَه جائِزٌ، فجاز الجَمْعُ بينَهما، كما لو فَعَلا ذلك مِن غيرِ مُواطَأةٍ عليه. ولَنا، أنَّه يَبْذُلُ القَدْرَ الذي يَحُطُّه عِوَضًا عن تَعْجِيلِ ما في ذِمَّتِه، وبَيعُ الحُلُولِ والتَّأْجِيلِ لا يَجُوزُ، كما لا يجوزُ أن يُعْطِيَه عَشَرَةً حالَّةً بعِشْرين مُؤَجَّلَةٍ، ولأنَّه يَبِيعُه عَشَرَةً بعِشْرِين، فلم يَجُزْ، كما لو كانت مُعَيَّنةً. وفارَقَ ما إذا كان مِن غيرِ مُواطَأةٍ ولا عَقْدٍ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مُتَبَرِّعٌ ببَذْلِ حَقِّه مِن غيرِ عِوَضٍ، ولا يَلْزَمُ من جَوَازِ ذلك جَوازُه في العَقْدِ، أو مع الشَّرْطِ، كبَيعِ دِرْهَم بدِرْهَمَين. ويُفارِقُ ما إذا اشْتَرَى العُرُوضَ بثَمَنِ مِثْلِها؛ لأنَّه لم يَأْخُذْ عن الحُلُولِ عِوَضًا. 1868 - مسألة: (وإن وَضَع بعضَ الحالِّ وأجَّلَ باقِيَه، صَحَّ الإِسْقاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ) إذا صالحَه عن ألْفٍ حالٍّ بنِصْفِها مُؤَجَّلًا، اخْتِيارًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه وتَبَرُّعًا، صَحَّ الإِسْقاطُ، ولم يَلْزَمِ التَّأْجِيلُ؛ لأنَّ الحالَّ لا يَتَأَجَّلُ بالتَّأْجِيلِ، على ما ذَكَرْنا، والإسْقاطُ صَحِيحٌ. وإن فَعَلَه لمَنْعِه مِن حَقِّه بدُونِه، أو شَرَط ذلك في الوَفاءِ، لم يَسْقُطْ، على ما ذَكَرْنا في أوَّلِ البابِ. وذَكَر أبو الخَطّابِ في هذا رِوايَتَين، أصَحُّهما لا يَصِحُّ. وما ذَكَرْنا من التّفْصِيلِ أوْلَى، إن شاء اللهُ تعالى.

1869 - مسألة: (وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه، مثل أن يصالح عن دية الخطأ، أو قيمة متلف بأكثر منها من جنسها، لم يصح)

وَإِنْ صَالحَ عَنِ الْحَقِّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، مِثْلَ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ دِيَةِ الْخَطَأ، أَوْ عَنْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ صَالحَهُ بِعَرْضٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا، صَحَّ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1869 - مسألة: (وإن صالحَ عن الحَقِّ بأكْثَرَ منه مِن جِنْسِه، مثلَ أن يُصالِحَ عن دِيَةِ الخَطأ، أو قِيمَةِ مُتْلَفٍ بأكْثَرَ منها مِن جِنْسِها، لم يَصِحَّ) وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ؛ لأنَّه يَأْخُذُ عِوَضًا عن المُتْلَفِ، فجاز أن يَأْخُذَ أكْثَرَ مِن قِيمَتِه، كما لو باعَه بذلك. ولنا، أنَّ الدِّيَةَ والقِيمَةَ تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فلم يَجُزْ أن يُصالِحَ عنها بأكْثَرَ منها مِن جنْسِها، كالثّابِتَةِ عن قرْضٍ أو ثمَنِ مَبِيعٍ، ولأنَّه إذا أخذَ أكْثَرَ منها، فقد أَخَذَ حَقَّه وزِيادَةً لا مُقابِلَ لها، فيكونُ أكْلَ مالٍ بالباطِلِ. 1870 - مسألة: (وإن صالحَه بعَرْضٍ قِيمَتُه أكْثَرُ منها) جاز؛

1871 - مسألة: (وإن صالحه عن بيت على أن يسكنه سنة، أو يبني له فوقه غرفة، لم يصح)

وَإِنْ صَالحَةُ عَنْ بَيتٍ عَلَى أَن يَسْكنَة سَنَةً، أَوْ يَبْنِيَ لَة فَوْقَهُ غرْفَةً، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه بَيعٌ. فصل: ولو صالحَ عن المائةِ الثّابِتةِ بالإِتْلافِ (¬1) بمائةٍ مُؤجَّلَةٍ، لم تَصِرْ مُؤَجَّلَةً. وهذا قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّها تَصِيرُ مُؤَجَّلَةً. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه عاوَضَ عن المُتْلَف بمائةٍ مُؤَجَّلةٍ، فجاز، كما لو باعَه إيّاه. ولَنا، أنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ عليه قِيمَةَ المُتْلَفِ، وهو مائةٌ حالَّةٌ، والحالُّ لا يَتَأجَّلُ بالتَّأْجِيلِ، وإن جَعَلْناه بَيعًا، فهو بَيعُ دَينٍ بدَينٍ، وهو غيرُ جائزٍ. 1871 - مسألة: (وإن صالحَه عن بَيتٍ على أن يَسْكُنَه سَنَةً، أو يَبْنِيَ له فَوْقَه غُرْفةً، لم يَصِحَّ) إذا ادّعَى على رجلٍ بَيتًا، فصالحَه على بعضِه، أو على أن يَبْنِيَ [فوقَه غُرْفَةً له، أو] (¬2) على أن يَسْكُنَه سَنَةً، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يُصالِحُه مِن (¬3) مِلْكِه على مِلْكِه أو مَنْفَعَتِه. وإن أسْكَنَه كان ¬

(¬1) في الأصل: «بإتلاف». (¬2) في م: «له ثم». (¬3) في م: «عن».

1872 - مسألة: (ولو قال: أقر لي بديني، وأعطيك منه مائة. ففعل، صح الإقرار، ولم يصح الصلح)

وَإِنْ قَال: أَقِرَّ لِي بِدَينِي، وَأُعْطِيكَ مِنْهُ مِائَةً. فَفَعَلَ، صَحَّ الإِقْرَارُ، وَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبَرُّعًا منه، متى شاء أخْرَجَه منها. وإن أعْطاه بعضَ دارِه بِناءً على هذا، فمتى شاء انْتَزَعَه منه؛ لأنَّه أعْطاه إيّاه عِوَضًا عمّا لا يَصْلُحُ عِوَضًا عنه. وإن فَعَل ذلك على سَبيلِ المُصالحَةِ، مُعْتَقِدًا أنَّ ذلك وَجَب عليه بالصُّلْحِ، رَجَع عليه بأَجْرِ ما سَكَن وأجْرِ ما كان في يَدِه مِن الدّارِ؛ لأنُّه أخَذَه بعَقدٍ فاسدٍ، فأشْبَهَ المَبِيعَ المَأْخوذَ (¬1) بعَقْدٍ فاسِدٍ، وسُكْنَى الدّارِ بإجارَةٍ فاسِدَةٍ. وإن بَنَى فوقَ البَيتِ غُرْفَةً، أُجْبِرَ على نَقْضِها. وإذا آجَرَ السَّطْحَ مُدَّةَ مُقامِه في يَدَيه (¬2) فله (¬3) أخْذُ آلتِه. وإنِ اتَّفَقا على أن يُصالِحَه صاحِبُ البَيتِ عن بِنائِه بعِوَضٍ، جاز. وإن بَنَى الغُرْفَةَ بتُرَابٍ مِن أرْضِ صاحِبِ البَيتِ وآلاتِه، فليس له أخْذُ بِنَائِه؛ لأنَّه مِلْكُ صاحِبِ البَيتِ. فإن أراد نَقْضَ البِناءِ، لم يَكُنْ له ذلك إذا أبْرَأه المالِكُ مِن ضَمانِ ما يَتْلَفُ به. ويَحْتَمِلُ (¬4) أن يَمْلِكَ نَقضَه، كقَوْلِنا في الغاصِبِ. 1872 - مسألة: (ولو قال: أقِرَّ لي بدَينِي، وأُعْطِيك منه مائةً. ففَعَلَ، صَحَّ الإقْرارُ، ولم يَصِحَّ الصُّلْحُ) لأَنه يَجِبُ عليه الإِقْرارُ بما عليه مِن الحَقِّ، فلم يَحِلَّ له أخْذُ العوَضِ عمّا يَجِبُ عليه. فعلى هذا، يَرُدُّ ¬

(¬1) في م: «الموجود». (¬2) في ر 1، م: «يده». (¬3) في النسخ: «وله» والمثبت كما في المغني 7/ 16. (¬4) في ر، ق، م: «يتخرج».

1873 - مسألة: (وإن صالح إنسانا ليقر له بالعبودية، أو امرأة لتقر له بالزوجية، لم يصح)

وَإنْ صَالحَ إِنْسَانًا لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، أَو امْرأَةً لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أخَذَ؛ لأنَّه تَبَيَّنَ كَذِبُه بإقْرارِه، وأنَّ الدَّينَ عليه، فلَزِمَه أداؤُه بغيرِ عِوَضٍ. 1873 - مسألة: (وإن صالحَ إنْسانًا ليُقِرَّ له بالعُبُودِيَّةِ، أو امْرَأَةً لتُقِرَّ له بالزَّوْجِيَّةِ، لم يَصِحَّ) لا يَصِحُّ (¬1) الصُّلْحُ على ما لا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه، مثلَ أن يَدَّعِيَ على رجلٍ أنَّه عَبْدُه، فيُنْكِرَه، فيُصالِحَه على مالٍ ليُقِرَّ له بالعُبُودِيَّةِ، فلا يَجُوزُ ذلك؛ لأنَّه يُحِلُّ حَرامًا، فإنَّ إرْقاقَ الحُرِّ نَفْسَه لا يَحِلُّ بعِوَضٍ ولا بغيرِه. وكذلك إن صالحَ امرأةً لتُقِرَّ له بالزَّوْجِيَّةِ؛ لأنَّه صُلْحٌ يُحِلُّ حَرامًا، ولأنَّها لو أرادَتْ بَذْلَ نَفْسِها بعِوَضٍ لم يَجُزْ. فإن دَفَعَتْ إليه عِوَضًا عن هذه الدَّعْوَى ليَكُفَّ نَفْسَه عنها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الصُّلْحَ في الإِنْكارِ إنَّما يكونُ في حَقِّ المُنْكِرِ لافْتِداءِ اليَمِينِ، وهذه لا يَمِينَ عليها، وفي حَقِّ المُدَّعِي يَأْخُذُ العِوَضَ في مُقابَلَةِ حَقِّه الذي يَدَّعِيه، وخُرُوجُ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ لا قِيمَةَ له، وإنَّما أُجِيزَ الخُلْعُ للحاجَةِ إلى افْتِداءِ نَفْسِها. والثّانِي، يَصِحُّ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ، وابنُ عَقِيلٍ لأنَّ المُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عن ¬

(¬1) في ر، م: «يجوز».

1874 - مسألة: (وإن دفع المدعى عليه العبودية إلى المدعي مالا صلحا عن دعواه، صح)

وَإِنْ دَفَعَ المُدَّعَى عَلَيهِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى الْمُدَّعِي مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّه مِن النِّكاحِ، فجاز، كعِوَضِ الخُلْعِ، والمرأةُ تَبْذُلُه لقَطْعِ خُصُومَتِه وإزالةِ شَرِّه، ورُبَّما تَوَجَّهَتِ اليَمِينُ عليها لكَونِ الحاكِمِ يَرَى ذلك، أو (¬1) لأنَّها مَشْرُوعَةٌ في حَقِّها في إحْدَى الرِّوايَتَينِ. ومتى صالحَتْه على (¬2) ذلك، ثم ثَبَتَتِ الزَّوْجِيَّةُ بإقْرَارِها أو ببَيِّنَةٍ، فإن قُلْنا: الصُّلْحُ باطلٌ. فالنِّكاحُ باقٍ بحَالِه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ مِن الزَّوْجِ طَلاقٌ ولا خُلْعٌ. وإن قُلْنا: هو صَحِيحٌ. احْتَمَلَ ذلك أيضًا؛ لِما ذَكَرْنا. واحْتَمَلَ أن تَبِينَ منه [بأخْذِ العِوَضِ] (¬3)؛ لأنَّه أخذَ العِوَضَ عمّا يَسْتَحِقُّه مِن نِكاحِها، فكان خُلْعًا، كما لو أقَرَّتْ له بالزَّوْجِيّةِ فَخالعَها. ولو ادَّعَتْ أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها ثلاثًا، فصالحَها على مالٍ لتَنْزِلَ عن دَعْواها، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يجُوزُ لها بَذْلُ نَفْسِها لمُطَلِّقِها بعِوَضٍ ولا بغيرِه. وإن دَفَعَتْ إليه مالًا ليُقِرَّ بطَلاقِها، لم يَجُزْ، في أحَدِ الوَجْهَينِ، وفي الآخَرِ، يجوزُ، كما لو بَذَلَتْ له عِوَضًا ليُطَلِّقَها ثلاثًا. 1874 - مسألة: (وإن دفَعَ المُدّعَى عليه العُبُودِيَّةُ إلى المُدَّعِي مالًا صُلْحًا عن دَعْواه، صَحَّ) لأنَّه يجوزُ أن يُعْتِقَ عَبْدَه بمالٍ، ويُشْرَعُ للدّافِعِ ¬

(¬1) في ر 1، م: «و». (¬2) في م: «عن». (¬3) في م: «بأحد العوضين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لدَفْعِ اليَمِينِ الواجِبَةِ عليه، والخُصُومَةِ المُتَوَجِّهَةِ عليه (¬1). ¬

(¬1) في ر، ر 1، م: «إليه».

النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يُصَالِحَ عَنِ الْحَقِّ بِغَيرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ، فَإِنْ كَانَ بأَثْمَانٍ عَنْ أَثْمَانٍ، فهُوَ صَرْفٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيرِ الْأَثْمَانِ، فَهُوَ بَيعٌ، وَإِنْ كَانَ بِمَنْفَعَةٍ، كَسُكْنَى دَارٍ، فَهُوَ إِجَارَةٌ تَبْطُلُ بِتَلَفِ الدَّارِ، كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (النَّوْعُ الثّانِي، أن يُصالِحَه عن الحَقِّ بغيرِ جِنْسِه، فهو مُعاوَضَةٌ) وذلك مثلُ أن يَعْتَرِفَ له بعَينٍ في يَدِه، أو دَينٍ في ذِمَّتِه، ثم يُعَوِّضَه عن ذلك بما يجوزُ تَعْويضُه به، وهو ثلاثةُ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أن يُقِرَّ له بنَقْدٍ، فيُصالِحَه على نَقْدٍ آخَرَ، مثلَ أن يُقِرَّ له بمائَةِ دِرْهَمٍ، فيُصالِحَه عنها بعَشَرَةِ دَنانِيرَ، أو بالعَكْسِ، فهذا صَرْفٌ، يُشْتَرَطُ له شُرُوطُ الصَّرْفِ، مِن التَّقابُضِ في المَجْلِسِ ونحوه. القِسْمُ الثّانِي، أن يَعْتَرِفَ له بِعُرُوضٍ، فيُصالِحَه على أثمانٍ، أو بالعَكْسِ، فهذا بَيعٌ تَثْبُتُ فيه أحْكامُ البَيعِ. الثّالِثُ، أن يُصالِحَه على سُكْنَى دارٍ، أو خِدْمَةِ عَبْدِه، أو على أن يَعْمَلَ له عَمَلًا مَعْلُومًا، فتكونُ إجارَةً، لها حُكْمُ سائِرِ الإجاراتِ، فإن تَلِفَتِ

1875 - مسألة: (وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها، صح. فإن كان الصلح عن عيب في مبيعها، فتبين أنه ليس بعيب، رجعت بأرشه

وَإنْ صَالحَتِ الْمَرْأةُ بِتَزويجِ نَفْسِهَا، صَحَّ. فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ عَيبٍ في مَبِيعِهَا، فَبَانَ أنهُ لَيسَ بِعَيبٍ، رَجَعَتْ بِأرْشِهِ لَا بِمَهْرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّارُ أو العَبْدُ قبلَ اسْتِيفاءِ شيءٍ مِن المَنْفعَةِ، انْفَسَخَتِ الإجارَةُ، ورَجَع بما صالحَ عليه (¬1). وإن تَلِفَتْ بعدَ اسْتِيفاءِ بعضِ المَنْفَعةِ، انْفَسَخَتْ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ، ورَجع بقِسْطِ ما بَقِيَ. ولو صالحَه على أن يُزَوِّجَه أمَتَه، وكان ممَّن يَجُوزُ له نِكاحُ الإماءِ، صَحَّ، وكان المُصالحُ عنه صَداقَها. فإنِ انْفَسَخَ النِّكاحُ قبلَ الدخُولِ بأمْر يُسْقِطُ الصَّداقَ، رَجَع الزوْجُ بما صالحَ عنه. وإن طَلَّقَها قبلَ الدُّخُولِ، رَجَع بنِصْفِه. 1875 - مسألة: (وإن صالحَتِ المرأةُ بتَزْويجِ نَفْسِها، صَحَّ. فإن كان الصُّلْحُ عن عَيبٍ في مَبِيعِها، فتبَيَّنَ أنَّه ليس بِعَيبٍ، رَجَعَتْ بأرْشِه ¬

(¬1) في ر 1، ق، م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا بمَهْرِ مِثْلِها) إذا اعْتَرَفَتِ امرأة لرجل بِدَين أو عَينٍ، فصالحَتْه على أن تُزَوِّجَه نَفْسَها، صَحَّ، ويكونُ صَداقًا لها. فإن كان المُعْتَرَفُ به عَيبًا في مَبِيعِها، فبان أنَّه ليس بعَيبٍ، كبَياضٍ في عَينِ العَبْدِ ظَنَّته عَمًى، رَجَعَتْ بأرْشِه؛ لأن ذلك صَداقُها، فرَجَعَت به لا بمَهْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِها. فإن لم يَزلِ العَيب، ولكنِ انْفَسَخَ نِكاحها بما يسْقِط صَداقَها، رَجَع عليها بأرْشِه.

1876 - مسألة: (وإن صالح عما في الذمة بشيء في الذمة، لم يجز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع دين بدين)

وإنْ صَالحَ عَمَّا في الذِّمَّةِ بِشيْءٍ في الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزِ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لأنَّهُ بَيعُ دَينٍ بِدَينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1876 - مسألة: (وإن صالحَ عمّا في الذمَّةِ بشيءٍ في الذِّمَّةِ، لم يَجُزِ التفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ؛ لأنه بَيعُ دَينٍ بدَينٍ) وقد نَهَى الشّارِعُ عنه. فصل: وإن صالحَه بخِدْمَةِ عَبْدِه سَنَة، صَحَّ، وكانت إجارَة، على ما ذَكَرْنا. فإن باع العَبْدَ في السَّنَةِ، صَح البَيعُ، ويكونُ المُشْتَرِي مَسْلُوبَ المَنْفَعةِ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، وللمُصالِحِ اسْتِيفاءُ مَنْفعَتِه إلى انْقِضاءِ السَّنَةِ، كما لو زَوَّجَ أمَتَه ثم باعها. وإن لم (¬1) يَعْلَمِ المُشْتَرِي بذلك، فله الفَسْخُ؛ لأنه عَيبٌ. وإن أعْتَقَ العَبْدَ في أثْناءِ المُدَّةِ، صَحَّ عِتْقُه؛ لأنّه مَمْلُوكٌ يَصِح بَيعُه، فصَحَّ عِتْقُه كغيرِه، وللمُصالِحِ أن يَسْتَوْفِيَ نَفْعَه في المُدَّةِ؛ لأنه أعْتَقَه بعدَ أن مَلَّكَ مَنْفَعَتَه لغيرِه، فأشْبَهَ ما لو أعْتَقَ الأمَةَ المُزَوَّجَةَ لحُرٍّ. ولا يَرْجِعُ العَبْدُ على سَيِّدِه بشيءٍ؛ لأنه ما أزال مِلْكَه بالعِتْقِ إلَّا عن الرَّقَبةِ، والمَنافِعُ حِينَئذ مَمْلُوكَة لغيرِه، فلم تَتْلَفْ مَنافِعُه بالعِتْق، فلا يَرْجِعُ بشيءٍ، ولأنه أعْتَقه مَسْلوبَ المَنْفعَةِ فلم يَرْجِعْ بشيءٍ، كما لو أعْتَقَ زَمِنا، أو مَقْطُوعَ اليَدَينِ، أو أمَة مُزَوجَة. وذَكَر القاضي، وابنُ عَقِيل, وَجْهًا أنَّه يَرْجِعُ على سَيِّدِه بأجْرِ مِثْلِه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأن العِتْقَ اقْتَضَى إزالةَ مِلْكِه عن الرقَبةِ والمَنْفَعَةِ جَميعًا، فلَمّا لم تَحْصُلِ المَنْفَعَةُ للعَبْدِ ها هُنا، فكأنَّه حال بينَه وبينَ مَنْفَعَتِه. ولَنا، أن إعْتاقَه لم يُصادِفْ للمُعْتِقِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ، فلم يُؤثِّرْ إلَّا فيه، كما لو وَصَّى لرجلٍ برَقبَةِ عَبْدٍ ولآخَرَ بمَنْفَعَتِه، فأعْتَقَ صاحِبُ الرَّقَبَةِ، وكما لو أعْتَقَ أمَةً مُزَوَّجَة. قَوْلُهم: إنَّه اقْتَضَى زَوال المِلْكِ عن المَنْفَعَةِ. قُلْنا: إنَّما يَقْتَضِي ذلك إذا كانت مَمْلُوكَةً له، أمّا إذا كانت مَمْلُوكَةً لغيرِه فلا يَقْتَضِي إعْتاقُه إزالةَ ما ليس بمَوْجُودٍ. وإن تَبَيَّنَ أنَّ العَبْدَ مُسْتَحَق، تَبَيَّنَ بُطْلانُ الصُّلْحِ لفَسادِ العِوَضِ، ورَجَع المُدَّعِي فيما أقَرَّ له به. وإن وَجَد العَبْدَ مَعِيبًا عَيبًا (¬1) تَنْقُص به المَنْفَعَةُ، فله رَدُّه وفَسْخُ الصُّلْحِ. وإن صالحَ على العَبْدِ عَينه، صَحَّ. والحُكْمُ فيما إذا خَرَج مُسْتَحَقًّا أو مَعِيبًا؛ ذَكَرْنا. فصل: إذا ادَّعَى زَرْعًا في يَدِ رجل، فأقَرَّ له به، ثم صالحَه على دَراهِمَ، جاز على الوَجْهِ الذي يُجَوِّزُ بَيعَ الزَّرْعَ. وقد ذَكَرْناه في البَيعَ. فإن كان الزَّرْعُ في يَدِ رَجُلَين، فأقَرَّ له أحَدُهما بنِصْفِه، ثم صالحَه عليه قبلَ اشْتِدَادِ حَبه، لم يَجُزْ؛ لأنَّه إن كان الصُّلْحُ مُطْلَقًا أو بشَرْطِ التبقِيَةِ، لم يَجُزْ؛ لأنّه لا يَجُوزُ بَيعُه. وإن شَرَط القَطْعَ، لم يَجُزْ أيضًا؛ لكَوْنِه لا يُمْكِنُه قَطْعُه إلَّا بقَطْعِ زَرْعِ الآخَرِ. ولو كان الزَّرْعُ لواحِدٍ، فأقَرَّ للمُدَّعِي بنصْفِه، ثم صالحَه عنه بنِصْفِ الأرْضِ، ليَصِيرَ الزَّرْعُ كله للمُقِرِّ، والأرْضُ بينَهما نِصْفَين، فإن شَرَط القَطْعَ جاز؛ لأنَّ الزَّرْعَ كله للمُقِرِّ، فجاز شَرْطُ قَطْعِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لأنَّ في الزَّرْعِ ما ليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1877 - مسألة: (ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم، إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة)

وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الْمَجْهولِ بِمَعْلومٍ، إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يمْكِن مَعْرِفته لِلْحَاجَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَبِيعٍ، وهو النِّصْف الذي لم يُقِرَّ به، وهو في النصْفِ الباقِي له، فلا يَصِحُّ شَرْطُ قَطْعِه، كما لو شَرَط قَطْعَ زَرْعٍ آخَرَ في أرْض أخْرَى. وإن صالحَه عنه (¬1) بجَمِيعِ الأرْضِ بشَرْطِ القَطْعِ ليُسَلِّمَ الأرْضَ إليه فارغَة، صَحَّ؛ لأنَّ قَطْعَ جَمِيعِ الزرْعِ مُسْتَحَق نِصْفُه بحُكْمِ الصُّلْحِ، والباقِي لتَفْرِيغِ الأرْضِ، فأمْكَنَ القَطْعُ. وإن كان إقْرارُه بجَمِيعِ الزَّرْعِ، فصالحَه مِن نِصْفِه على نِصْفِ الأرْضِ، لتكونَ الأرْضُ والزَّرْعُ بينَهما نِصْفَين، وشَرَطا القَطْعَ في الجَمِيعِ، احْتَمَلَ الجَوازَ؛ لأنهما قد شَرَطا قَطْعَ كلِّ الزَّرْعِ وتَسْلِيمَ الأرْضِ فارِغَةً. واحْتَمَلَ المَنْعَ؛ لأنَّ باقِيَ الزَّرْعِ ليس بمَبِيع، فلا يَصِحُّ شَرْطُ قَطْعِه في العَقْدِ. 1877 - مسألة: (ويَصِحُّ الصُّلْحُ عن المَجْهُولِ بِمَعْلُوم، إذا كان ممّا لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُه للحاجَةِ) يَصِحُّ الصُّلْحُ عن المَجْهُولِ، سَواءٌ كان عَينًا أو دَينًا، إذا كان مِمّا لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه. قال أحمدُ، في الرجلِ يُصالِحُ ¬

(¬1) في ر 1، ق، م: «منه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الشيءِ: فإن عَلِم أنَّه أكْثَرُ منه، لم يَجُزْ إلَّا أن يوقِفَه (¬1) عليه، إلَّا أن يكونَ مَجْهُولًا لا يَدْرِي ما هو. ونَقَل عنه عبدُ اللهِ، إذا اخْتَلَطَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بقَفِيزِ شَعِير، وطُحِنا، فإن عَرَف قِيمَةَ دَقِيقِ الحِنْطَةِ ودَقِيقِ الشَّعِيرِ، بِيعَ هذا، وأُعْطِيَ كلُّ واحِدٍ منهما قِيمَةَ مالِه، إلَّا أن يَصْطَلِحا على شيءٍ ويَتَحالَّا. وقال ابنُ أبي موسى: الصُّلْحُ الجائِزُ هو صُلْحُ الزَّوْجَةِ مِن صَداقِها الذي لا بَيِّنةَ لها به، ولا عِلْمَ لها ولا للوَرَثةِ بمَبْلَغِه، وكذلك الرَّجُلان تكونُ بينَهما المُعامَلَةُ والحِسابُ الذي قد مَضَى عليه الزَّمَنُ الطَّويلُ، لا عِلْمَ لكلِّ واحِدٍ منهما بما عليه لصاحِبه، فيجوزُ الصُّلْحُ بَينَهما، وكذلك مَن عليه حَقُّ لا عِلْمَ له بقَدْرِه، جاز أَن يُصالِحَ عليه، وسواء كان صاحِبُ الحَقِّ يَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّه ولا بَيِّنةَ له، أو (¬2) لا عِلْمَ له. ويقولُ القابِضُ: إن كان لي عليك حَقُّ، فأنْتَ منه في حِلّ. ويقولُ الدّافِعُ: إن كنتَ أخَذْتَ أكْثَرَ مِن حَقِّك، فأنْتَ منه في حِلّ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ الصُّلْح على مَجْهُولٍ؛ لأنَّه فَرْعُ البَيعِ، والبَيعُ لا يَصِحُّ على مَجْهُولٍ. ¬

(¬1) في ر، ق: «يوافقه». (¬2) في الأصل، م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، [أنَّه قال] (¬1) في رَجُلَين اخْتَصَما في مَوارِيثَ دَرَسَتْ: «اسْتَهِمَا، وتَوَخَّيَا (¬2)، وَلْيَخْلِلْ أحَدُكُما صَاحِبَهُ». رَواه أحمدُ بمعناه (¬3). وهذا صُلْح على المَجْهُول، ولأنَّه إسْقاطُ حَق، فصَحَّ في المَجْهُولِ، كالعَتاقِ، ولأنَّه إذا صَحَّ الصُّلْحُ مع العِلْمِ وإمكانِ أداءِ الحَقِّ بعَينه، فَلَأن يَصِحَّ مع الجَهْلِ أوْلَى، وذلك لأنه إذا كان مَعْلُومًا، فلهما طَرِيقٌ إلى التَّخَلُّصِ، وبَراءَةِ أحَدِهما مِن صاحِبِه بدُونِه، ومع الجَهْلِ لا يُمْكِنُ ذلك، فلو لم يَجُزِ الصُّلْحُ، أفْضَى إلى ضَياعِ المالِ، على تَقدِيرِ أن يكونَ بينهما مالٌ (¬4) لا يَعْرِفُ كل واحِدٍ منهما قَدْرَ حَقِّه منه. ولا نُسَلِّمُ كَوْنَه فَرْعَ بَيع، وإنَّما هو إبْراءٌ. وإن سَلَّمْنا كَوْنَه فَرْعَ بَيع، فإن البَيعَ يَصِحُّ في المَجْهُولِ عندَ الحاجَةِ، كبَيعِ أساساتِ الحِيطانِ، وطَيِّ الآبارِ، وما مَأكولُه في جَوْفِه، ولو أتْلَفَ رجلٌ صُبْرَةَ طَعام لا يَعْلَمُ قَدْرَها، فقال صاحِبُ الطَّعامِ لمُتْلِفِه: بِعْتُك الطَّعامَ الذي في ذِمَّتِك بهذا الدِّرْهَمِ (¬5). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر، ر 1: «تواخيا». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 257. (¬4) في الأصل: «ما». (¬5) في ر: «الدراهم». وفي ر 1: «ألف درهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: بهذا الثَّوْبِ. صَحَّ. إذا ثَبَت هذا، فمتى كان العِوَضُ في الصُّلْحِ ممّا لا يَحْتاجُ إلى تَسْلِيمِه، ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه، كالمُخْتَصِمَينِ في مَوارِيثَ دارِسَةٍ، وحُقُوقٍ سالِفَةٍ، أو في أرْض أو عَين مِن المالِ لا يَعْلَمُ كلُّ واحدٍ منهما (¬1) قَدْرَ حَقه فيها (¬2)، صَحَّ الصُّلْحُ مع الجَهالةِ مِن الجانِبَينِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ والمَعْنَى. وإن كان ممّا (¬3) يَحْتاجُ إلى تَسْلِيمِه، لم يَجُزْ مع الجَهالةِ، ولا بُدَّ مِن العِلْمِ به؛ لأنَّ تَسْلِيمَه واجِبٌ، والجَهَالةُ تَمْنَعُه وتُفْضِي إلى التَّنازُعِ، فلا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الصُّلْحِ. فصل: فأمّا ما يُمْكِنُهما مَعْرِفَتُه، كتَرِكَةٍ مَوْجُودَةٍ، أو يَعْلَمُه الذي هو عليه ويَجْهَلُه صاحِبُه، فلا يَصِحُّ الصُّلْحُ عليه مع الجَهْلِ. قال أحمدُ: إن صُولِحَتِ امرأة مِن (¬4) ثُمُنِها, لم يَصِحَّ. واحْتَجَّ بقَوْلِ شُرَيحٍ: أيُّما امرأةٍ صُولِحَتْ مِن ثُمُنِها, لم يَتَبَينْ لها ما ترَك زَوْجُها، فهي الرِّيبَةُ كلها. قال: وإن وَرِث قَوْمٌ مالًا ودُورًا وغيرَ ذلك، فقالُوا لبعضِهم: نُخْرِجُك ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: ر، م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «عن».

فَصْل: الْقِسْمُ الثَّانِي، أن يَدَّعِيَ عَلَيهِ عَينًا أو دَينًا، فَيُنْكِرَهُ ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن المِيراثِ بألْفِ دِرْهمٍ. أكْرَهُ ذلك. ولا يَشْتَرِي منها شيئًا (¬1) وهي لا تَعْلَمُ، لَعَلَّها تَظُنُّ أنَّه قَلِيل وهو يَعْلَمُ أنَّه كثِيرٌ، ولا يَشتَرِي حتى تَعْرِفَه وتَعْلَمَ ما هو، إنَّما يُصالِحُ الرجلُ الرجلَ على الشيءِ لا يَعْرِفُه ولا يَدْرِي ما هو حِسابُ بينهما، فيُصالِحُه، أو يكونُ رجل يَعْلَمُ ما له عندَ رجلٍ، والآخرُ لا يَعْلَمُه فيُصالِحُه، فأمّا إذا عَلِم فلم يُصالِحْه، إنَّما يُرِيدُ أن يَهْضِمَ حَقَّه، ويَذْهَبَ به. وذلك لأنَّ الصُّلْحَ إنَّما جاز مع الجَهالةِ للحاجَةِ إليه لإبراءِ الذِّمَمِ، وإزالةِ المُنازَعَاتِ (¬2)، فمع إمْكانِ العِلْمِ لا حاجَةَ إلى الصُّلْحِ مع الجَهالةِ، فلم يَصِحَّ كالبَيعِ. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (القِسْمُ الثّانِي، أن يَدّعِيَ عليه عَينًا أو دَينًا، فيُنْكِرَه ثم يُصالِحَه على مالٍ، فيَصِحَّ، ويكونَ ¬

(¬1) في ق: «شيء». (¬2) في ر 1، ر، ق: «المنازعة». وفي م: «الخصام».

يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ، فَيَصِحَّ، وَيَكُونَ بَيعًا في حَقِّ الْمُدَّعِي، حَتَّى إِنْ وَجَدَ بِمَا أخَذَهُ عَيبًا فَلَهُ رَدُّهُ وَفَسْخُ الصُّلْحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعًا في حَقِّ المُدَّعِي، حتى إن وَجَد بما أخَذَه عَيبًا فله رَدُّه وفَسْخُ الصُّلْحِ) الصُّلْحُ على الإِنْكارِ صَحِيحٌ. وبه قال مالكٍ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه عاوَضَ عمّا لم يَثْبُتْ له، فلم تَصِحَّ المُعاوَضَةُ، كما لو باع مال غيرِه، ولأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ خَلا عن العِوَضِ في أحَدِ جانِبَيه، فبَطَلَ، كالصُّلْحِ على حَدِّ القَذْفِ. ولنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «الصُّلْحُ بَينَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ» (¬1). فيَدْخُلُ هذا في عُمُومِه. فإن قالُوا: فقد قال: «إلَّا صُلْحًا أحَلَّ حَرَامًا». وهذا داخِل فيه؛ لأنَّه لم يَكُنْ له أن يَأخُذَ مِن مالِ المُدَّعَى عليه، فحَلَّ بالصُّلْحِ. قُلْنا: لا نُسَلِّمُ دُخولَه فيه، ولا يَصِحُّ حَمْلُ الحَدِيثِ على ما ذكَرُوهُ؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما: أن هذا يُوجَدُ (¬2) في الصُّلْحِ بمَعْنَى البَيعِ، فإنَّه يُحِلُّ لكلِّ واحِدٍ منهما ما كان مُحَرَّمًا عليه قبلَه، وكذلك الصُّلْحُ بمعْنَى الهِبَةِ، فإنَّه يُحِلُّ للمَوْهُوبِ له ما كان حَرامًا عليه. الثانِي، أنَّه لو حَلَّ به المُحَرَّمُ، لكان الصُّلْحُ صَحِيحًا؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 123. (¬2) في ق، م: «يؤخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الصُّلْحَ الفاسِدَ لا (¬1) يُحِلُّ الحَرامَ، وإنَّما مَعْناه (¬2) ما يُتَوَصَّلُ به إلى تَناوُلِ المُحَرَّمِ مع بَقائِه على تَحْرِيمِه، كما لو صالحَه على اسْتِرْقاقِ حُرٍّ، أو إحْلالِ بُضْعٍ مُحرَّم، أو صالحَه بخَمْر أو خِنْزِيرٍ، وليس ما نحن فيه كذلك. وعلى أنَّهم لا يَقُولُونَ بهذا، فإنَّهم يُبِيحُون لمَن له حَقٌّ يَجْحَدُه غَرِيمُه، أنْ يَأخُذَ مِن مالِه بقَدْرِه، أو دُونه. فإذا حَلَّ له ذلك مِن غيرِ اخْتِيارِه ولا عِلْمِه، فلأن يَحِلَّ بِرِضاه وبَذْلِه أوْلَى. وكذلك إذا حَل مع اعْتِرافِ الغَرِيمِ، فلان يَحِلَّ مع جَحْدِه وعَجْزِه عن الوُصُولِ إلى حَقه إلا بذلِك أوْلَى، ولأنَّ المُدَّعِيَ ها هُنا يَأخُذُ عِوَضَ حَقِّه الثَّابِتِ له، والمُدَّعَى عليه (¬3) يَدْفَعُه لدَفْعِ الشَّرِّ عنه، ولِقَطْعِ الخُصُومةِ، ولَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بتَحْرِيمِ ذلك في مَوْضِع، ولأنَّه صُلْح يَصِحُّ مع الأجْنَبِيِّ، فصَحَّ مع الخَصْمِ، كالصُّلْحِ مع الإقرارِ. يُحَقِّقُه أنَّه إذا صَحّ مع الأجْنَبِيِّ مع غِناه عنه، فلأن يَصِحَّ مع الخَصْمِ مع حاجَتِه إليه أوْلَى. وقَوْلُهم: إنَّه مُعاوَضَة. قُلْنا: في حَقِّهما أو في حَق أحَدِهما؟ الأوَّلُ مَمْنُوعٌ، والثّانِي مُسَلَّمٌ، وهذا لأنَّ المُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّه مِن المُنْكِرِ لعِلْمِه بثُبُوتِ حَقه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «منعناه». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَه، فهو مُعاوَضَة في حَقِّه، والمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أنَّه يَدْفَعُ المال لدَفْعِ الخُصُومةِ واليَمِينِ عنه، ويُخَلِّصُه مِن شَرّ المُدَّعِي، فهو أْبرَأ في حَقِّه، وغيرُ مُمْتَنِع ثُبُوتُ المُعاوَضَةِ في حَقِّ أحَدِ المُتعَاقِدَين دُونَ الآخَرِ، كما لو اشْتَرَى عَبْدًا شَهِد بحُرِّيَّته، فإنَّه يَصِح، ويكونُ مُعاوَضَةً في حَقِّ البائِعِ، واسْتِنْقاذًا له مِن الرِّقِّ في حَقِّ المُشْتَرِي، كذا ها هنا. إذا ثَبَت هذا، فلا يَصِحُّ هذا الصُّلْحُ إلَّا أن يكونَ المُدَّعِي مُعْتَقِدًا أنَّ ما ادَّعاه حَق، والمُدَّعَى عليه يَعْتَقِدُ أنَّه لا حَقَّ عليه، فيَدْفَعُ إلى المُدَّعِي شيئًا، افْتِداءً ليَمِينه، وقَطْعًا للخُصُومَةِ، وصِيانَةً لنَفْسِه عن التَّبَذُّل وحُضُورِ

1878 - مسألة: (وإن كان شقصا مشفوعا، ثبتت فيه الشفعة، ويكون إبراء في حق الآخر، فلا يرد ما صالح

وَإنْ كَانَ شِقْصًا مَشْفُوعًا، ثَبَتَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَيَكُونُ إبْرَاءً في حَقِّ الْآخَرِ، فَلَا يَرُدُّ مَا صَالحَ عَنْهُ بِعَيب، وَلَا يُؤْخَذُ بِشُفْعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَجْلِسِ الحاكِمِ، فإنَّ ذَوي الأنْفسِ الشَّرِيفَةِ يَصْعُبُ عليهم ذلك، ويَرَوْن دَفْعَ ضَرَرِها عنهم مِن أعْظَمِ المَصالِحِ، والشَّرْعُ لا يَمْنَعُهم مِن وقايَةِ أنْفُسِهم وصِيانَتِها، ودَفْعِ الشَّر عنهم ببَذْلِ أمْوالِهم، والمُدَّعِي يَأْخُذُ ذلك عِوَضًا عن حَقِّه الذي يَعْتَقِدُ ثُبُوتَه، فلا يَمْنَعُه الشَّرْعُ مِن ذلك، سَواءٌ كان المَأخُوذُ مِن جِنْسِ حَقِّه [أو مِن غيرِ جِنْسِه] (¬1)، بقَدْرِ حَقِّه أو دُونَه. فإن أخَذَ مِن جِنْسِ حَقِّه بقَدْرِه فقد اسْتَوْفَى حَقَّه، وإن أخَذَ دُونَه فقد اسْتَوْفَى وتَرَك بَعْضَه، وإن أخَذَ مِن غيرِ جِنْسِ حَقِّه فقد أخَذَ عِوَضَه. ولا يجوزُ أن يَأْخُذَ مِن جِنْسِ حَقِّه أكْثَرَ منه؛ لأن الزّائِدَ لا مُقابِلَ له، فيكونُ ظالِمًا بأخْذِه. وإن أخَذَ مِن غيرِ جِنْسِه جاز، ويكونُ بَيعًا في حَقِّ المُدَّعِي؛ لاعْتِقادِه أخْذَه عِوَضًا فيَلْزَمُه حُكْمُ إقْرارِه. فإن وَجَد بما أخَذَه عَيبًا، فله رَدُّه وفَسْخُ الصُّلْحِ، كما لو اشْتَرَى شيئًا فوَجَدَه مَعِيبًا. 1878 - مسألة: (وإن كان شِقْصًا مَشْفُوعًا، ثَبَتَتْ فيه الشُّفْعةُ، ويكونُ إبْراءً في حَقِّ الآخَرِ، فلا يَرُدُّ ما صالحَ (¬2) عنه بِعَيبٍ، ولا يُؤْخَذُ بشُفْعةٍ) إذا كان الذي أخَذَه المُدَّعِي شِاقصًا في دارٍ أو عَقارٍ، وَجَبَت فيه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر، ق، م: «صولح».

1879 - مسألة: (فإن كان أحدهما عالما بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه، وما أخذه حرام عليه)

وَمَتَي كَانَ أحدُهُمَا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ في حَقِّهِ، وَمَا أَخَذَهُ حَرَام عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه يُقِرُّ أنَّ الذي أخَذَه عِوَضًا، فهو كما لو اشْتَراه، ويكونُ إبْراءً في حَقِّ المُنْكِرِ؛ لأنَّه دَفَع المال افْتِداءً ليَمِينه ودَفْعًا للضَّرَرِ عنه، لا (¬1) عِوَضًا عن حَقٍّ يَعْتَقِدُه، فيَلْزَمُه أيضًا حُكْمُ إقْرارِه. فإن وَجَد بِالمُصالح عنه عَيبًا، لم يَرْجِعْ به على المُدَّعِي؛ لاعْتِقادِه أنَّه ما أخَذَه عِوَضًا. وإن كان شِقْصًا لم تَثْبُتْ فيه الشُّفْعةُ؛ لأنَّه يَعْتَقِدُه على مِلْكِه، لم يَزُلْ، وما مَلَكَه بالصُّلْح. ولو دَفَع المُدَّعَى عليه إلى المُدَّعِي ما ادَّعاه أو بعضَه، لم يَثْبُتْ فيه حُكْمُ البَيعِ، ولا تَثْبُت فيه الشُّفْعَةُ؛ لأنَّ المُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أنَّه اسْتَوْفَى بعضَ حَقِّه، وأخَذَ عَينَ مَالِه، مُسْتَرْجِعًا لها ممَّن هي عندَه، فلم يَكُنْ بَيعًا، كاسْتِرْجاعِ العَينِ المَغْصُوبَةِ. 1879 - مسألة: (فإن كان أحَدُهما عالِمًا بكَذِبِ نَفْسِه، فالصُّلْحُ باطِلٌ في حَقِّه، وما أخَذَهُ حَرَامٌ عليه) مَتى عَلِم أحَدُهما كَذِبَ نَفْسِه، كمَن ادَّعَى شيئًا يَعْلَمُ أنَّه ليس له أو أنْكَرَ حَقًّا يَعْلَمُ أنَّه عليه، فالصُّلْحُ باطِل في الباطِنِ؛ لأنَّ المُدَّعِيَ إذا كان كاذِبًا، فما يأْخُذُه أنْ أكلٌ للمالِ بالباطِلِ، أخذَه بشَرِّه وظُلْمِه، لا عِوَضًا عن حَق، فيكونُ حَرامًا عليه، كمَن خوَّفَ رجلًا بالقَتْلِ حتى أخَذَ ماله. وإن كان المُدَّعَى عليه يَعْلَمُ ¬

(¬1) في الأصل: «لأنه».

1880 - مسألة: (فإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه، صح، ولم يرجع عليه في أصح الوجهين)

وَإنْ صَالحَ عَنِ الْمُنْكِرِ أجْنَبِيٌّ بِغَيرِ إِذْنِهِ، صَحَّ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيهِ في أصَحِّ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صِدْقَ المُدَّعِي وجَحَدَه ليَنْتَقِصَ حَقَّه أو يُرْضِيَه عنه بشيءٍ، فهو هَضْمٌ للحَقِّ، وأكْلُ مالٍ بالباطِلِ، فيكونُ ذلك حَرامًا، والصُّلْحُ باطِلٌ، ولا يَحِلّ له مالُ المُدَّعِي بذلك. هذا حُكْمُ الباطِنِ، وأمّا الظّاهِرُ لَنا فهو الصِّحَّةُ؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ باطِنَ الحالِ، إنَّما ينْبَنِي الأمْرُ على الظّاهِرِ، والظّاهِرُ مِن حالِ المسلمين الصِّحَّةُ. ولو ادَّعَى على رجلٍ وَدِيعَةً، أو قَرْضًا، أو تَفرِيطًا في وَدِيعَةٍ أو مُضارَبَةٍ، فأنْكَرَ، واصْطَلَحَا، صَحَّ؛ لِما ذَكَرْناه. 1880 - مسألة: (فإن صالحَ عن المُنْكِرِ أجْنَبِي بغيرِ إذْنِه، صَحَّ، ولم يَرْجِعْ عليه في أصَحِّ الوَجْهَين) إذا صالحَ عن المُنْكِرِ أجْنَبِي، صَحَّ، سَواء اعْتَرَفَ للمُدَّعِي بصِحَّةِ دَعْواه أو لم يَعْتَرِفْ، وسواءٌ كان بإذْنِه أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ إذْنِه. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: إنَّما يَصِحُّ إذا اعْتَرَفَ للمُدَّعِي (¬1) بصدْقِه. وهذا مَبْنِي على صُلْحِ المُنْكِرِ، وقد ذَكَرْناه. ثم لا يَخْلُو الصُّلْحُ أن يكونَ عن دَين أو عَين؛ فإن كان عن دَين، صَحَّ، سَواءٌ كان بإذنِ المُنْكِرِ، أوَ بغيرِ إذْنِه؛ [لأنَّ قَضاءَ الدَّينِ عن غيرِه جائِزٌ بإذْنِه وبغيرِ إذْنِه] (¬2) فإنَّ عليًّا وأبا قَتادَةَ، قَضَيا عن المَيِّتِ، فأجازَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وإن كان الصُّلْحُ عن عَين بإذْنِ المُنْكِرِ، فهو كالصُّلْحِ منه؛ لأنَّ الوَكِيلَ يَقُومُ مَقامَ المُوَكِّلِ. وإن كان بغيرِ إذْنِه، فهو افتِداءٌ للمُنْكِرِ مِن الخُصُومَةِ، وإبْراءٌ له مِن الدَّعْوَى، وذلك جائِزٌ. وفي المَوْضِعَين، إذا صالحَ عنه بغيرِ إذْنِه، لم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ؛ لأنَّه أدَّى عنه ما لا يَلْزَمُه أداؤه. وخَرَّجَه القاضي وأبو الخَطَّابِ على الروَايَتَين، فيما إذا قَضَى دَينَه الثّابِتَ بغيرِ إذْنِه. وهذا التَّخْرِيجُ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا لم يَثْبُتْ وجُوبُه على المُنْكِرِ، ولا يَلْزَمُه أداؤه إلى المُدَّعِي، فكيف يَلزَمُه أداؤه إلى غيرِه؟ ولأنه أدّى عنه ما لا يَجِبُ عليه، فكان مُتَبَرِّعًا، كما لو تَصَدَّقَ عنه. ومَن قال برُجُوعِه، فإنَّه يَجْعَلُه ¬

(¬1) في الأصل، ر 1، م: «المدعى». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريج قصتهما في صفحة 9.

1881 - مسألة: (وإن صالح الأجنبي لنفسه؛ لتكون المطالبة

وَإنْ صَالحَ الْأجْنَبِيُّ لِنَفْسِهِ؛ لِتَكُونَ الْمطَالبَة لَه، غَيرَ مُعْتَرِفٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُدَّعِي في الدَّعْوَى على المُنْكِرِ، أمّا أنَّه يَجِبُ له الرُّجُوعُ بما أدّاه (¬1) حَتْمًا، فلا وَجْهَ له أصْلًا؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يَجِبُ لمَن قَضَى دَينَ غيرِه أن يَقُومَ مَقامَ صاحِبِ الدَّينِ، وصاحِبُ الدَّينِ ها هُنا لم يَجبْ له حَق، ولا لَزِم الأداءُ إليه، ولم يَثْبُتْ له أكثرُ مِن جَوازِ الدَّعْوَى، فكَذلك هذا. ويُشْتَرَطُ في جَوازِ الدَّعْوَى أن يَعْلَمَ صِدْقَ المُدَّعِي، فأمّا إن لم يَعْلَمْ، لم يَحِلَّ له دَعْوَى شيء لا تعْلَمُ ثُبُوتَه. 1881 - مسألة: (وإن صالحَ الأجْنَبِي لنَفْسِه؛ لتكونَ المُطالبَةُ ¬

(¬1) في م: «ادعاه».

بِصِحَّةِ الدَّعْوَى، أَوْ مُعْتَرِفًا بِهَا عَالِمًا بِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا، لَمْ يَصِحَّ. وإنْ ظَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَيهِ، صَحَّ. ثُمَّ إِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مُخيَّرٌ بَينَ فَسْخِ الصُّلْحِ وإمْضَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له، غيرَ مُعْتَرِفٍ بصِحَّةِ الدَّعْوَى، أو مُعْتَرِفًا بها عالِمًا بعَجْزِه عن اسْتِنْقاذِها, لم يَصِحَّ. وإن ظَنَّ القُدْرَةَ عليه، صَحَّ. فإن عَجَز عنه (¬1) فهو مُخَيَّرٌ بينَ فَسْخِ الصُّلْحِ وإمْضائِه) إذا صالحَ الأجْنَبِيُّ المُدَّعِيَ لنَفْسِه، لتَكُونَ المُطالبَةُ له، فلا يَخْلُو إمّا أن يَعْتَرِفَ للمُدَّعِي بصِحَّةِ دَعْواه أو لا، فإن لم يَعْتَرِفْ له، فالصُّلْحُ باطِلٌ؛ لأنَّه يَشْتَرِي منه ما لم يَثْبُت له، ولم يَتَوَجَّهْ إليه خُصُومَة يَفْتَدِي منها، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَى منه مِلْكَ غيرِه. وإنِ اعْتَرَفَ له بصِحَّةِ دَعْواه، وكان المُدَّعَى دَينًا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه اشْتَرَى ما لا يَقْدِرُ البائعُ على تَسْلِيمِه (¬2)، ولأنَّه بَيعٌ للدَّيْنِ مِن غيرِ مَن هو في ذِمَّتِه. وقال بعضُ أصحابِنا: يَصِحُّ. وليس بجَيِّدٍ؛ لأنَّ بَيعَ الدَّينِ المُقَر به مِن غيرِ مَن هو في ذِمَّتِه لا يَصِحُّ، فبَيعُ دَينٍ في ذِمَّةِ مُنْكِر مَعْجُوزٍ عن قَبْضِه أوْلَى. وإن كان المُدَّعَى عَينًا، فقال الأجْنَبِيُّ للمُدَّعِي: أنا أعْلَمُ أنَّك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «تسلمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صادِقٌ، فصَالِحْنِي عنها، فإنِّي قادِرٌ على اسْتِنْقاذِها مِن المُنْكِرِ. فقال أصْحابُنا: يَصِحُّ الصُّلْحُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه اشْتَرَى منه مِلْكَه الذي يَقْدِرُ على قَبْضِه، ثم إن قَدَر على أخْذِه، اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ، وإن عَجَز، كان له الفَسْخُ؛ لأَنه لم يُسَلِّمْ له المَعْقُودَ عليه، فكان له الرجُوعُ إلى بَدَلِه. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن تَبَيَّنَ أنَّه لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، تَبَيَّنَ أنَّ الصُّلْحَ كان فاسِدًا؛ لأنَّ الشَّرْطَ الذي هو القُدْرَةُ على قَبْضِه مَعْدُوم حال العَقْدِ، فكان فاسِدًا، كما لو اشْتَرَى عَبْدَه، فتَبَيَّنَ أنَّه آبِق، أو مَيِّت. ولو اعْتَرَفَ له بصِحَّةِ دَعْواه، ولا يُمْكِنُه اسْتِنْقاذُه، لم يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لأنَّه اشْتَرَى ما لا يُمْكِنُه قَبْضُه، فأشْبَهَ شِراءَ العَبْدِ الآبِقِ. فإنِ اشْتَراه وهو يَظُنُّ أنَّه عاجزٌ عن قَبْضِه، فتَبَيَّنَ أنَّ قَبْضَه مُمْكِن، صَحَّ البَيعُ؛ لأنَّ البَيعَ تَناوَلَ ما يُمْكِنُ قَبْضُه، فصَحَّ، كما لو عَلِما ذلك. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه ظَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ، فأشبَهَ ما لو باعِ عَبْدًا يَظُنُّ أنَّه حُرٌّ، أو أنَّه عَبْدُ غيرِه، فتَبَيَّنَ أنَّه عَبْدُه. ويَحْتَمِلُ أن يُفرَّق بينَ مَن يَعْلَمُ أنَّ البَيعَ يَفْسُدُ بالعَجْزِ عن تَسْلِيم المَبِيعِ وبينَ من لا يَعَلْمُ ذلك؛ لأنَّ مَن يَعْلَمُ ذلك يَعْتَقِدُ فَسادَ البَيعِ والشراءِ، فكان بَيعُه فاسِدًا، لكَوْنِه مُتَلاعِبًا بقَوْلِه مُعْتَقِدًا فَسادَه، ومَن لا يَعْلَمُ يَعْتَقِدُه صَحِيحًا، وقد تَبَيَّنَ اجْتِماعُ شُرُوطِه، فصَحَّ، كما لو عَلِمَه مَقْدُورًا على تَسْلِيمِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال الأجْنَبِيُّ للمُدَّعِي: أنا وَكِيلُ المُدَّعَى عليه في مُصالحَتِك عن هذه العَينِ، وهو مُقِرٌّ لك بها، وإنَّما يَجْحَدُها في الظّاهِرِ. فظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ أنَّ الصُّلْحَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَجْحَدُها في الظّاهِرِ ليَنْتَقِصَ المُدَّعِيَ بعضَ حَقِّه، أو يَشْتَريَه بأقَلَّ مِن ثَمَنِه، فهو هاضِمٌ للحَقِّ، مُتَوَصِّلٌ إلى أخْذِ المُصالحِ عنه بالظُّلْمِ والعُدْوانِ، فهو بمنْزِلَةِ ما لو (¬1) شَافَهَه بذلك، فقال: أنا أعْلَمُ صِحَّةَ دَعْواك، وأنَّ هذا لك، لكنْ لا أسَلِّمُه إليك، ولا أقِرُّ لك به عندَ الحاكِمِ حتى تُصالِحَنِي منه على بعضِه، أو عِوَض عنه. وقال القاضي: يَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. قالوا: ثم يَنْظُرُ إلى المُدَّعَى عليه، فإن صَدَّقَه على ذلك، مَلَك العَينَ، ورَجَع الأجْنَبِيُّ عليه بما أدَّى عنه، إن كان أذِنَ في الدَّفْعِ، وإن أنْكَرَ الإِذْنَ في الدَّفْعِ، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمِينه، ويكونُ حُكْمُه حُكْمَ مَن قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه. وإن أنْكَرَ الوَكالةَ، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمِينه، وليس للأجنَبِيِّ الرُّجُوعُ عليه، ولا يُحْكَمُ له بمِلْكِها في الظّاهِرِ. فأمّا حُكمُ مِلْكِها في الباطِنِ، فإن كان وَكَّلَ الأجْنَبِيَّ في الشِّراءِ، فقد مَلَكَها؛ لأنَّه اشْتَراها بإذْنِه، فلا يَقْدَحُ إنْكارُه في مِلْكِها؛ لأنَّ مِلْكَه ثَبَت قبلَ إنْكارِه، وإنَّما هو ظالِمٌ بالإنْكارِ للأجْنَبِيِّ. وإن كان لم يُوَكِّلْه، لم يَمْلِكْها؛ لأنَّه اشْتَرَى له عَينًا بغيرِ إذْنِه. ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الْقِصَاصِ بِدِيَاتٍ وَبِكُلِّ مَا يَثْبُتُ مَهْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على إجازَتِه، كما قُلْنا في مَن اشْتَرَى لغيرِه شيئًا بغير إذْنِه بثَمَن في ذِمَّتِه، فإن أجازَه مَلَكَه وإلَّا لَزِم مَن اشْتَراه. وإن قال الأجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قد عَرَفَ المُدَّعَى عليه صِحَّةَ دَعْواك، وهو يَسْألك أن تُصالِحَه عنه، وقد وَكَّلَنِي في المُصالحةِ عنه. صَحَّ، وكان الحُكمُ كما ذَكرُوه؛ لأنّه ها هُنا لم يَمْتَنِعْ مِن أدائِه، بل اعْتَرَفَ به، وصالحَ عليه، مع بَذْلِه له (¬1)، فأشبَهَ ما لو لم يَجْحَدْه. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (يَصِحُّ الصُّلْحُ عن القِصاصِ بدِيَاتٍ وبكلِّ ما يَثْبُتُ مَهْرًا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ عن كلِّ ما يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه، سواءٌ كان ممّا يجوزُ بَيعُه أو لا يجوزُ، فيَصِحُّ عن دَمِ العَمْدِ، وسُكْنَى الدّارِ، وعَيبِ المَبِيعِ. ومتى صالحَ عمّا يُوجِبُ القِصاصَ بأكثر مِن دِيته أو أقَلَّ، جاز. وقد رُوِيَ أن الحسنَ والحسينَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسعيدَ بنَ العاصِ (¬1) بَذَلوا للذي وَجَب له القِصاصُ على هُدْبَةَ بنِ خشْرَم (¬2) سَبْعَ دِيَاتٍ، فأبَى أن يَقْبَلَها. ولأنَّ المال غيرُ مُتَعَيَّن، فلا يَقَعُ العِوَضُ في مُقابَلَتِه. فإن صالحَ عِن القِصاصِ بعَبْدٍ فخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، رَجَع بقِيمَتِه في قولِ الجَمِيعِ. وإن خرَج حُرًّا فكذلك. وبه قال أبو يُوسُف ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: يَرْجِعُ بالدِّيَةِ؛ لأنَّ الصُّلْحَ فاسِدٌ. فيَرْجِعُ ببَذْلِ ما صالحَ عنه، وهو الدِّريةُ. ولَنا، إنّه تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ ما جَعَلَه عِوَضًا، فرَجَعَ في قِيمَتِه، كما لو نَجرَج مُسْتَحَقًّا. فإن صالحَه عن القِصاصِ بحُرٍّ يَعْلَمان حُرِّيَته، أو عَبْدٍ يَعْلَمان أَنه مُسْتَحَق، أو تصالحَا بذلك عن غيرِ القِصاصِ، رَجَع بالدوريةِ وبما صالحَ عنه؛ لأنَّ الصُّلْحَ باطِل يَعْلَمان بُطْلانَه، فكان وُجُودُه كعَدَمِه. ¬

(¬1) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشيّ الأموي، أبو عثمان، كان له يوم مات النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، قتل أبوه قوم بدر، من فصحاء قريش، كان ممن ندبه عثمان لكتابة القرآن، ولى الكوفة، وولى المدينة لمعاوية، مات في قصره بالعقيق منة ثلاث وخمسين. الإصابة 3/ 107 - 109. (¬2) هدبة بن خشرم بن كرز، من بادية الحجاز، شاعر فصيح مرتجل، وكان راوية الحطيئة، قتل رجلًا من بن رقاش، في خبر طويل، قتل نحو سنة خمسين للهجرة. انظر الأعلام 9/ 69، 70.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو صالحَ عن (¬1) دارٍ أو عَبْدٍ بعِوَض، فخَرَجَ العِوَضُ مُسْتَحَقًّا أو حُرًّا، رَجَع في الدّارِ وما صالحَ عنه، وبقِيمَتِه إن كان تالِفًا (¬2)؛ لأنَّ الصُّلْحَ ها هُنا بَيع في الحَقِيقَةِ، فإذا تَبَيَّنَ أنَّ العِوَضَ كان مُسْتَحَقًّا أو حُرًّا، كان البَيعُ فاسِدًا، فرَجَعَ فيما كان له، بخِلَافِ الصُّلْحِ عن القِصاصِ، فإنَّه ليس ببَيع، وإنَّما يأخذُ عِوَضًا عن إسْقاطِ القِصاصِ. ولو اشْتَرَى شيئًا فوَجَدَه مَعِيبًا فصالحَه عن عَيبِه بعَبْدٍ، فبان مُسْتَحَقًّا أو حُرًّا، رَجَع بأرْشِ العَيبِ. ¬

(¬1) في ر: «على». (¬2) في ر، م: «بالغا».

1882 - مسألة: (ولو صالح سارقا ليطلقه

وَلَوْ صَالح سَارِقًا لِيُطْلِقَهُ، أوْ شَاهِدًا لِيَكْتُمَ شَهَادَتَهُ، أوْ شَفِيعًا عَنْ شُفْعَتِهِ، أَوْ مَقْذُوفًا عَنْ حَدِّهِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، وَتَسْقُطُ الشّفْعَةُ. وَفِي الْحَدِّ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1882 - مسألة: (ولو صالحَ سارِقًا ليُطْلِقَه (¬1)، أو شاهِدًا ليَكْتُمَ شَهادَتَه، أو شَفِيعًا عن شُفْعَتِه، أو مَقْذُوفًا عن حَدِّه، لم يَصِحَّ الصُّلْحُ، وتَسْقُطُ الشّفْعَةُ. وفي الحَدِّ وَجْهان) إذا صالحَ السّارِقَ والزّانِي والشّارِبَ على أن لا يَرْفَعَه إلى السُّلْطانِ، لم يَصِحَّ الصُّلْحُ، ولا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه؛ لأنَّ ذلك ليس بحَق له (¬2)، فلم يَجُزْ له (¬3) أخْذُ العِوَضِ عنه، ¬

(¬1) في م: «ليطلعه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ ما لا حَقَّ له فيه. وإن صالحَ شاهِدًا ليَكْتُمَ شَهادَتَه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يَخْلُو مِن ثَلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يُصالِحَه على أن لا يَشهَدَ عليه بحَق تَلْزَمُ (¬1) الشَّهَادَةُ به، كدَين لآدَمِي، أو حَقٍّ للهِ تعالى لا يَسْقُطُ بالشُّبْهَةِ، كالزكاةِ ونحوها، فلا يَجُوزُ كِتْمانُه، ولا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عن ذلك، كما لا يجوزُ أخْذ العِوَضَ على (¬2) شُرْبِ الخَمْرِ. الثانِي، أن يُصَالِحَه على أن لا يَشْهَدَ عليه بالزُّورِ، فهذا يَجِبُ عليه تَرْكُ ذلك، ويَحْرُمُ عليه فِعْلُه، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه،؛ لا يجوزُ أن يُصالِحَه على أن لا يَقْتُلَه، ولا يَغْصِبَ ماله. الثالثُ، أن يُصالِحَه على أن لا يَشْهَدَ عليه ¬

(¬1) في الأصل: «لا يلزمه». وفي م: «تلزمه». (¬2) في ر، ق، م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى والسَّرِقَةِ، فلا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه؛ [لأنَّ ذلك] (¬1) ليس بِحَقٍّ له. وإن صالحَ عن حَقِّ الشُّفْعَةِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه حَقّ شُرِعَ على خِلافِ الأصْلٍ لدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، فإذا رَضِيَ بالْتِزامٍ الضَّرَرِ، سَقَط الحَقُّ مِن غيرِ بَدَلٍ، ولم يَجُزْ أخْذُ (¬2) العِوَضِ عنه؛ لأنه ليس بمالٍ، فهو كحَدِّ القَذْفِ. وإن صالحَه عن حَدِّ القَذْفِ، لم يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لأنَّه إن كان (¬3) للهِ تعالى، لم يَكُنْ له أن يَأْخُذَ عِوَضَه، لكَوْنِه ليس بحَق له، فأشْبَهَ حَدُّ الزِّنى والسَّرِقَةِ، وإن كان حَقَّا له، لم يَجُزْ الاعْتِياضُ عنه؛ لكَوْنِه حَقًّا ليس بمالٍ، ولهذا لا يَسْقُطُ إلى بَدَلٍ، بخِلافِ القِصاصِ، ولأنَّه شُرِعَ لتَبْرِئَةِ (¬4) العِرْضِ، فلا يَجُوزُ أن يَعْتاضَ عن عِرْضِه بمالٍ. وهلْ يَسْقُطُ بالصُّلْحِ فيه؟ يَنْبَنِي على الخِلافِ في كَوْنِ حَدِّ القَذْفِ حَقًّا للهِ تعالى أو لآدَمِيٍّ؛ فإن كان حَقًّا لله تِعالى، لم يَسْقُطْ بصُلْحِ الآدَمِيِّ ولا إسْقاطِه، كحَدِّ الزِّنى. وإن كان حَقًّا لآدَمِي، سَقَط بصُلْحِه وإسْقاطِه، كالقِصاصِ. ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «حدًّا». (¬4) في ق، م: «لتنزيه».

1883 - مسألة: (وإن صالحه على

وَإنْ صَالحَهُ عَلَى أن يُجْرِيَ عَلَى أرْضِهِ. أَوْ سَطْحِهِ مَاءً مَعْلُومًا، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1883 - مسألة: (وإن صالحَه على (¬1) أن يُجْرِيَ على أرْضِه أو سَطْحِه ماءً مَعْلُومًا، صَحَّ) إذا صالح رجُلًا على مَوْضِعِ قَناةٍ مِن أرْضِه يُجْرِي فيها ماءً، وبَيَنّا مَوْضِعَها وعَرْضَها وطُولَها، جاز؛ لأنَّ ذلك بَيعٌ لمَوْضِع مِن أرْضِه، فلا حاجَةَ إلى بَيانِ عُمْقِه؛ لأنَّه إذا مَلَك المَوْضِعَ كان له إلى تُخُومِه (¬2)، فله أن يَتْرُكَ (¬3) فيه ما شاء. وإن صالحَه على إجْراءِ الماء في ساقِيَةٍ مِن أرْضِ رَبِّ الأرْضِ، مع بَقاءِ مِلْكِه عليها، فهو إجارَةٌ للأرْضِ، يُشْتَرَطُ له تَقْدِيرُ المُدَّةِ. فإن كانتِ الأرْضُ في يَدِ رجلٍ بإجارَةٍ، جاز له أن يُصالِحَ رجلًا على إجْراءِ الماءِ فيها في ساقِيَةٍ مَحْفورَةٍ مُدَّةً لا تُجاوزُ مُدَّةَ الاجارَةِ. وإن لم تَكُنِ السّاقِيَةُ مَحْفُورَةً، لم يَجُزْ أن يُصالِحَه على ذلك؛ لأنَّه لا يجُوزُ إحْداثُ ساقِيَةٍ في أرْض في يَدِه بإجارَةٍ. فإن كانتِ الأرْضُ في يَدِه وَقْفًا عليه، فقال القاضي: هو ¬

(¬1) سقط من: ر، م. (¬2) التخوم، بالضم: الفصل بين الأرضين من المعالم والحدود. (¬3) في ق: «يزل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُستَأجِرِ (¬1)، له أن يُصالِحَ على إجْراءِ الماءِ في ساقِيَة [مَحْفورَةٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وليس له أن يَحْفِرَ فيها (¬2) ساقِيَةً] (¬3)؛ لأنَّه لا يَمْلِكُها، إنَّما يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَها، كالأرْضِ المُسْتَأجَرَةِ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬4): والأوْلَى أَنه يَجُوز له حَفْرُ السّاقِيَةِ؛ لأن الأرْضَ له، وله التَّصَرُّفُ فيها كَيفَما شاء، ما لم يَنْقُل المِلْكَ فيها إلى غيرِه، بخِلافِ المُسْتَأجِرِ، فإنَّه إنَّما يَتَصَرَّفُ فيها بما أُذِن له فيه، فكان المَوْقُوفُ عليه بمَنْزِلَةِ المُسْتَأجِرِ إذا أُذِن له في الحَفْرِ. فإن مات المَوْقُوفُ عليه في أثْناءِ المُدَّةِ، فهل لِمَن انْتَقَلَ إليه فَسْخُ الصُّلْحِ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ؟ على وَجْهَينِ، بِناءً علِى ما إذا آجَرَه مُدَّةً، فمات في أثْنائِها (¬5). فإن قُلْنا: له فَسْخُ الصُّلْحِ. ففسَخَه، رَجَع المُصالِحُ على وَرَثَةِ الذي صالحَه بقِسْطِ ما بَقِيَ مِن المُدَّةِ. وإن قُلْنا: ليس له الفَسْخُ. رَجَع مَن انْتَقَلَ إليه الوَقْفُ على الوَرَثَةِ. ¬

(¬1) بعده في م: «يجوز». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: المغني 7/ 26. (¬5) في م: «أثناء المدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن صالحَ رجلًا على إجْراءِ ماءِ سَطْحِه مِن المَطَرِ على سَطْحِه، [أو في أرْضِه عن سَطْحِه] (¬1)، أو في أرْضِه عن أرْضِه، جاز، إذا كان ما يَجْرِي ماؤه مَعْلُومًا؛ إمّا بالمُشاهَدَةِ، وإمّا بمَعْرِفَةِ المساحَةِ؛ لأن الماءَ يَخْتَلِفُ بصِغَرِ السَّطْحِ وكِبَرِه، ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه. بغيرِ ذلك. ويُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ المَوْضِعِ الذي يَجْرِي منه الماءُ إلى السَّطْحِ؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ. ولا يَفْتَقِرُ إلى ذِكْرِ مُدَّةٍ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك، ويَجُوزُ العَقْدُ على المَنْفعَةِ في مَوْضِعِ الحاجَةِ غيرَ مُقَدَّرٍ بمُدَّةٍ، كما في النِّكاحِ. ولا يَمْلِكُ صاحِبُ الماءِ مَجْراه؛ لأنَّ هذا لا يَسْتَوْفِي به مَنافِعَ المَجْرَى دائِمًا, ولا في أكثَرِ المُدَّةِ، بخِلافِ السّاقِيَةِ. ويَخْتَلِفَانِ أيضًا في أنَّ الماءَ الذي في السّاقِيَةِ لا يَحْتاجُ إلى ما يُقَدَّرُ به؛ لأنَّ تَقْدِيرَ ذلك حَصَل بتَقْدِيرِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السّاقِيَةِ، فإنَّه لا يَمْلِكُ أن يُجْرِيَ فيها أكثَرَ مِن مائِها (¬1)، والماءُ الذي على السَّطْحِ يَفْتَقِرُ إلى مَعْرِفَةِ قَدْرِ السَّطْحِ؛ لأنَّه يَجْرِي منه القَلِيلُ والكَثِيرُ. فإن كان السَّطْحُ الذي يَجْرِي عليه الماءُ مُسْتَأجَرًا، أو عارِيَّةً، لم يَجُزْ أن يُصالِحَ على إجْراءِ الماءِ عليه؛ لأنَّه يَتَضَرَّرُ بذلك، ولم يُؤذَنْ له فيه، فلم يَكنْ له أن يَتَصَرَّفَ به، بخِلافِ الماءِ في الساقِيَةِ المَحْفُورَةِ، فإنَّ الأرْضَ لا تَتَضَرَّرُ به. وإن كان ماءُ السَّطْحِ يَجْرِي على أرْض، احْتَمَلَ أن لا يَجُوزَ له الصُّلْحُ على ذلك؛ لأنَّه إنِ احْتاجَ إلى حَفْرٍ, لم يَجُزْ له (¬2) أن يَحْفِرَ في أرْضِ غيرِه، ولأنَّه يَجْعَلُ لغيرِ صاحِبِ الأرْضِ رَسْمًا، فرُبَّما ادَّعَى اسْتِحْقاقَ ذلك على صاحِبِها. واحْتَمَلَ الجَوازَ إذا لم يَحْتَجْ إلى حَفْرٍ، ولم يَكنْ فيه مَضَرَّةٌ؛ لأنَّه بمَنْزِلةِ إجْراءِ الماءِ في ساقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ. ولا يَجُوزُ إلَّا مُدَّةً لا تَزِيدُ على مُدَّةِ الإِجارَةِ، كما قُلْنا في إجْراءِ الماءِ في الساقِيَةِ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «مثلها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أراد أن يُجْرِيَ ماءً في أرْضِ غيرِه لغيرِ ضَرورَةٍ، لم يَجزْ إلَّا بإذْنِه، وإن كان لضَرورَةٍ، مثلَ أن يكونَ له أرْضٌ للزِّراعةِ، لها ماءٌ لا طَرِيقَ له إلَّا أرضُ جارِه، فهل له ذلك؟ على رِوايَتَين؛ إحْداهما، لا يَجوز؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في أرْضِ غيرِه بغيرِ إذْنِه فلم يَجزْ، كما لو لم تَدْعُ إليه ضَرُورة، ولأنَّ مثلَ هذه الحاجَةِ لا تبِيحُ مال غيرِه، بدَلِيلِ أنَّه لا يُباحُ له الزَّرْعُ في أرْضِ غيرِه، ولا البِناءُ فيها, ولا الانْتِفاعُ بشيءٍ مِن مَنافِعِها المُحَرَّمَةِ عليه بمثلِ هذه (¬1) الحاجَةِ. والأخْرى، يَجُوز؛ لِما رُوِيَ أنّ الضَّحاكَ بنَ خَلِيفَةَ ساق خليجًا مِن العُرَيضِ (¬2)، فأراد أن يَمُرَّ به في أرْضِ محمدِ بنِ مَسْلَمَةَ، فأبَى، فقال له الضَّحّاك: لِمَ تَمْنَعُنِي وهو مَنْفَعَة لك، تَشْرَبُه أوَّلًا وآخِرًا, ولا يَضُرُّك؟ فأبَى محمد، فكَلَّمَ فيه الضَّحّاك عُمَرَ، فدَعا عمَر محمدَ بنَ مَسْلَمَةَ وأمَرَه أن يُخَلِّيَ سَبِيلَه، فقال محمدٌ: لا واللهِ. فقال له (¬3) عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أخاك ما يَنْفَعُه وهو لك نافِعٌ، تَشرَبُه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) العريض: وادي بالمدينة. معجم البلدان 3/ 661. (¬3) سقط من: ر، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوَّلًا وآخِرًا؟ فقال محمد: لا واللهِ. فقال عُمَرُ: واللهِ لَيَمُرَّنَّ به ولو على بَطْنِك. فأمَرَه عُمَرُ أن يَمُر به، ففَعَلَ. رَواهُ مالِكٌ في «مُوَطَّأه» (¬1)، وسعيدٌ في «سُنَنِه». والأوَّل أقْيَسُ، وقولُ عُمَرَ يُخالِفه قولُ محمدِ بنِ مَسْلَمَةَ، وهو مُوافِقٌ للأصُولِ، فكان أوْلَى. ¬

(¬1) في: باب القضاء في المرفق, من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 746.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن صالحَ رجلًا على أن يَسْقِيَ أرْضَه مِن نَهْرِ الرجلِ يَوْمًا أو يوْمين، أو مِن عَينه، وقَدَّرَه بشيءٍ يُعْلَمُ به، لم يَجُزْ. ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّ الماءَ ليس بمَمْلُوكٍ، ولا يَجُوزُ بَيعُه، فلا يَجُوزُ الصُّلْحُ عليه، ولأنَّه مَجْهُولٌ. قال: وإن صالحَه على سَهْم مِن العَينِ أو النَّهْرِ كالثُّلُثِ أو الرُّبْعِ، جاز، وكان بَيعًا للقَرارِ، والماءُ تابعٌ له. ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ الصُّلْحُ على السَّقْي مِن نهْرِه، وقَناتِه؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك، والماءُ ممّا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه في الجُمْلَةِ، بدَلِيلِ ما لو أخَذَه في قِرْبَتِه، والصُّلْحُ يَجُوزُ على ما لا يجوزُ بَيعُه؛ بدَلِيلِ الصُّلْحِ عن دَمِ العَمْدِ، والصُّلْحِ على المَجْهُولِ.

1884 - مسألة: (ويجوز أن يشتري ممرا في دار، من موضعا في حائطه يفتحه بابا، وبقعة يحفرها بئرا)

وَيَجُوزُ أنْ يَشتَرِيَ مَمَرًّا في دَارٍ، وَمَوْضِعًا في حَائِطِهِ يَفْتَحُهُ بَابًا، وَبُقْعَةً يَحْفِرُهَا بِئْرًا، وَعُلْوَ بَيتٍ يَبْنِي عَلَيهِ بُنْيَانًا مَوْصُوفًا. فَإِنْ كَانَ الْبَيتُ غَيرَ مَبْنِيٍّ، لَمْ يَجُزْ في أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يَجُوزُ إِذَا وُصِفَ الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1884 - مسألة: (ويجوزُ أن يَشْتَرِيَ مَمَرًا في دارٍ، من مَوْضِعًا في حائِطِه يَفْتَحُه بابًا، وبُقْعة يَحْفِرُها بِئْرًا) لأنَّ هذه الأماكنَ يَجُوزُ بَيعُها وإجارَتُها، فجاز الاعْتِياضُ عنها بالصُّلْحِ (¬1)، كالدُّورِ. 1885 - مسألة: (و) أن يَشْتَرِيَ (عُلْوَ بَيتٍ يَبْنِي عليه بُنْيانًا مَوْصُوفًا) إذا كان البَيتُ مَبْنِيًّا؛ لِما ذَكَرْناه. (فإن كان البَيتُ غيرَ مَبْنِيٍّ، لم يَجُزْ في أحَدِ الوَجْهَينِ) ذَكَرَه القاضي، وأصْحابُ الشّافِعِيِّ؛ لأنَّه بَيعٌ (¬2) للهَواءِ دُونَ القَرارِ (والثانِي، يَجُوزُ) لأنَّه مِلْكٌ للمُصالِحِ، فجاز له أخْذُ عِوَضِه، كالقَرارِ. وإنَّما يَجُوزُ بشَرْطِ (أن يَصِفَ العُلْوَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسُّفْلَ) بما يُعْلَمُ به؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ البَيعِ العِلْمَ بالمَبِيعِ.

1886 - مسألة: (وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره، فطالبه بإزالتها، فله ذلك. فإن أبى، فله قطعها)

وَإنْ حَصَلَ في هَوَائِهِ أغْصَانُ شَجَرَةِ غَيرِهِ، فَطَالبَهُ بِإِزَالتِهَا، لَزِمَهُ. فَإنْ أبَى، فَلَهُ قَطْعُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1886 - مسألة: (وإن حصَل في هَوائِه أغْصانُ شَجَرَةِ غيرِه، فطالبَه بإزالتِها، فله ذلك. فإن أبى، فله قَطْعُها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا حَصَلَتْ أغْصانُ شَجَرَتِه في هَواء مِلْكِ غيرِه، أو هَواءِ جِدارٍ له فيه شَرِكَةٌ، لَزِم مالِكَ الشَّجَرةِ إزَالةُ تلك الأَغْصانِ؛ إمّا برَدها إلى ناحيةٍ أخْرَى، وإمّا بالقَطْعِ؛ لأنَّ الهَواءَ مِلْكٌ لصاحِبِ القَرارِ، فوَجَبَ إزالةُ ما يَشْغَلُه مِن مِلْكِ غيرِه، كالقَرارِ. فإنِ امْتَنَعَ المالِكُ مِن إزالتِه، لم يُجْبَرْ؛ لأنَّه مِن غيرِ فِعْلِه، فلم يُجْبَرْ على إزالتِه، كما لو لم يَكُنْ مِلْكَه. وإن تَلِفَ بها شيءٌ،

1887 - مسألة: (فإن صالحه عن ذلك بعوض، لم يجز)

فَإِنْ صَالحَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَض، لَمْ يَجُزْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَضْمَنْه؛ لذلك. ويَحْتَمِلُ أن يُجْبَرَ على إزالتِه ويَضْمَنَ ما تَلِف به، إذا أمِر بإزالتِه فلم يَفْعَلْ، بِنَاءً على ما إذا مال حائِطُه إلى مِلْكِ غيرِه، على ما سنذكُرُه، إن شاء الله تعالى. وعلى كلا الوَجْهَين، إذا امْتَنَعَ مِن إزالتِه كان لصاحِبِ الهَواءِ إزالته بأحَدِ الأمْرَين؛ لأنَّه بمَنْزِلةِ البَهِيمةِ التي تَدْخل دارَه، له إخْراجها، كذا ها هنا. لي هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. فإن أمْكَنَه إزالتها بلا إتْلافٍ ولا قَطْع مِن غيرِ مَشَقةٍ تَلْزَمُه ولا غَرامةٍ، لم يَجُزْ له إتْلافُها، كما أنه إذا أمْكَنَه إخْراجُ البَهِيمةِ مِن غيرِ إتْلافٍ، لم يَجُزْ له إتْلافُها. فإن أتْلَفَها في هذه الحالِ غَرِمَها. وإن لم يُمْكِنْه إزالتها إلا بالاتْلافِ، فله ذلك، ولا شيءَ عليه، فإنَّه لا يَلْزَمُه إقْرارُ مالِ غيرِه في مِلْكِه. 1887 - مسألة: (فإن صالحَه عن ذلك بعِوَض، لم يَجُزْ) اخْتَلَفَ أصحابُنا في ذلك، فقال أبو الخَطّابِ: لا تَصِحُّ المُصالحةُ عن ذلك بحالٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَطْبًا كان الغُصْنُ أو يابِسًا؛ لأنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ ويتَغَيَّرُ، واليابِسَ يَنْقُصُ، ورُبَّما ذَهَب كلُّه. وقال ابنُ حامدٍ وابنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذلك، رَطْبًا كان الغُصْنُ أو يابسًا؛ لأنَّ الجَهالةَ في المُصالحِ عنه لا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ؛ لكَونِها لا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، بخِلافِ العِوَضِ، فإنَّه يَفْتَقِرُ إلى العِلْمِ لوُجُوبِ تَسْلِيمِه، ولأنَّ الحاجَةَ داعِيةٌ إلى ذلك؛ لكوفيِ ذلك يَكْثُرُ في الأمْلاكِ المُتَجاورَةِ، وفي القَطْعِ إتْلافٌ وضَرَرٌ، والزِّيادَةُ المُتَجَدِّدَةُ يُعْفَى عنها، كالسِّمَنِ الحادِثِ في المُسْتَأجَرِ للرُّكُوبِ، والمُسْتَأجِرِ للغُرْفَةِ يتَجَدَّدُ له الأوْلادُ، والغِراسِ المُسْتَأجَرِ له الأرْضُ يَعْظُمُ ويَجْفُو. وقال القاضي: إن كان يابِسًا مُعْتَمِدًا على نَفْسِ الجدارِ، صَحَّتِ المُصالحةُ عنه؛ لأنَّ الزِّيادَةَ مَأمُونَةٌ فيه، ولا يَصِحُّ الصُّلْحُ على غيرِ ذلك؛ لأنَّ الرَّطْبَ يَزيدُ في كلِّ وَقْتٍ، وما لا يَعْتَمِدُ على الجِدارِ، لا يَضِحُّ الصُّلْحُ عليه؛ لأنه تَبَعُ الهَواءِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬1): والّلائِقُ ¬

(¬1) في: المغني 7/ 19.

1888 - مسألة: (فإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما، جاز، ولم يلزم)

وَإنِ اتَّفَقَا عَلَى أنَّ الثَّمَرَةَ لَهُ أوْ بَينَهُمَا، جَازَ، وَلَمْ يَلْزَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَذْهَبِ أحمدَ صِحَّتُه؛ لأنَّ الجَهالةَ في المُصالحِ عنه لا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذا لم يَكُنْ إلى العِلْمِ به سَبِيل، وذلك لدُعاءِ الحاجَةِ إليه، وكَوْنِه لا يَحْتاجُ إلى تَسْلِيمٍ، وهذا كذلك. والهَواءُ كالقَرارِ في كَوْنِه مِلْكًا لصاحِبِه، فجاز الصُّلْحُ على ما فيه، كالذي في القَرارِ. 1888 - مسألة: (فإنِ اتَّفَقا على أنَّ الثَّمَرةَ له أو بينَهما، جاز، ولم يَلْزَمْ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا صالحَه عن ذلك بجُزْءٍ مِن الثَّمَرةِ أو بالثَّمَرةِ كلِّها، فقد نَقَل المَرُّوذِيُّ وإسحاقُ بنُ إبراهيمَ، عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن ذلك فقال: لا أدْرِي. فيَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ. ونحوَ قال مَكْحُولٌ، فإنه نُقِلَ عنه أنَّه قال: أيُّما شَجَرَةٍ ظَلَّلَتْ على قَوْم، فهم بالخِيارِ بينَ قَطْع ما ظَلَّلَ، أو أكلِ ثَمَرِها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ. وهو قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأكْثَرِين (¬1). وبه قال الشافعيُّ؛ لأنَّ العِوَضَ مَجْهُولٌ، فإنَّ الثَّمَرَةَ مَجْهُولة وجُزْؤها مَجْهُولٌ، ومِن شَرْطِ الصُّلْحِ العِلْمُ بالعِوَضِ، ولأنَّ المُصالحَ عليه أيضًا مجهولٌ؛ لأنَّه يَزِيدُ ويتَغَيَّرُ، على ما أسْلَفْناه. ووَجْهُ الأوّل، أنَّ هذا ممَّا يَكْثُرُ في الأمْلاكِ، وتَدْعُو الحاجَةُ إليه، وفي القَطْعِ إتْلافٌ، فجاز مع الجَهالةِ، كالصُّلْحِ على مَجْرَى مِياه الأمْطارِ، وعلى المَوارِيثِ الدّارِسَةِ، والحُقُوقِ المَجْهُولةِ التي لا سَبِيلَ إلى عِلْمِها. قال شيخُنا (¬2): ويَقْوَى عندِي أنَّ الصُّلْحَ هنا يَصِحُّ، بمَعْنَى أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يُبِيحُ صاحِبَه ما بَدَل له، فصاحب الهَواءِ يُبِيحُ صاحبَ الشَّجَرةِ إبْقاءَها، ويَمْتَنِعُ مِن قَطْعِهَا وإزالتِها، وصاحبُ الشجرةِ يُبِيحُه ما بَذَل له مِن ثَمَرَتِها, ولا يكونُ هذا بمَعْنَى البَيعِ؛ لأنَّ البَيعَ لا يَصِحُّ بمَعْدُوم ولا مَجْهُولٍ، والثَّمَرةُ في حالِ الصُّلْحِ مَعْدُومَة مَجْهُولةٌ، ولا هو لازِمٌ، بل لكلِّ واحِدٍ منهما الرُّجُوعُ عما بَذَلَه، والعَوْدُ فيما قاله؛ لأنَّه مُجَرَّدُ إباحَةٍ مِن كلِّ واحِدٍ منهما لصاحِبه، فجَرَى مَجْرَى قولِ كل واحدٍ منهما ¬

(¬1) في م: «الأكثر». (¬2) في: المغني 7/ 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لصاحِبِه، اسْكُنْ دارِي وأسْكُنُ دارَك. مِن غيرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، ولا ذِكْرِ شُرُوطِ الإجارَةِ، أو قولِه: أُبحْتُك الأكْلَ مِن ثَمَرةِ بُسْتانِي، فأبِحْنِي الأكْلَ مِن ثَمَرةِ بُسْتانِك. وكذلك قَوْلُه: دعْنِي أجْرِي في أرْضِكَ ماءً ولك أن تَسْقِيَ به ما شِئْتَ، وتَشْرَبَ منه. ونحو ذلك، فهذا مِثْلُه بل أوْلَى، فإن هذا ممّا تَدْعُو الحاجَةُ إليه كَثِيرًا، وفي إلْزامِ القَطْعِ ضَرَر كَثِير وإتْلافُ أمْوالٍ كَثِيرةٍ، وفي التَّرْكِ مِن غيرِ نَفْع يَصِلُ إلى (¬1) صاحِبِ الهَواءِ ضَرَر عليه. وفيما ذَكَرْنا جَمْع بينَ الأمْرَين، ونَظَرٌ للفَرِيقَين، وهو على وَفْقِ الأصُولِ، فكان أوْلَى. فصل: وكذلك الحُكْمُ فيما امْتَدَّ مِن عُرُوقِ شَجَرِ إنْسانٍ إلى أرْضِ جارِه، سَواء أثَّرَتْ ضَرَرًا مثلَ تَأثِيرِها في المَصانِعِ، وطَيِّ الآبارِ، وأساسِ الحِيطانِ أو مَنْعِها مِن نَباتِ شَجَر لصاحِبِ الأرْضِ أو زَرْعٍ، أو لم تُؤثِّرْ، فإنَّ الحُكْمَ في قَطْعِه والصُّلْحِ عنه، كالحُكْمِ في الغُصْنِ (¬2)، إلَّا أنَّ العُرُوقَ لا ثَمَرَ لها. فإنِ اتفَقا على أنَّ ما يَنْبُتُ مِن عُرُوقِها لصاحِبِ الأرْضِ، أو جُزْءٍ مَعْلُوم منه، فهو كالصُّلْحِ على الثَّمَرَةِ فيما ذَكَرْنا. فعلى قَوْلِنا، إذا اصْطَلَحا على ذلك فمَضَتْ مُدّة ثم أبى صاحِبُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الفروع».

1889 - مسألة: (ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا، ولا ساباطا

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا، وَلَا سَابَاطًا، وَلَا دكَانًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّجَرَةِ دَفْعَ نَباتِها إلى صاحب الأرْضِ، فعليه أجْرُ المِثْلِ؛ لأنه إنَّما تَرَكَه في أرْضِه لهذا، فلَمّا لم يُسَلِّمْ له، رَجَع بأجْرِ المِثْلِ، كما لو بَذَلَها بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له، وكذلك الحكْم (¬1) في مَن مال حائِطُه إلى هَواءِ مِلْكِ غيرِه، أو زَلَقَ (¬2) مِن أخْشابِه إلى مِلْكِ غيرِه، فالحُكْمُ فيه على ما ذَكَرْنا. 1889 - مسألة: (ولا يجوزُ أن يَشْرَعَ إلى طَرِيقٍ نافِذٍ جَناحًا، ولا ساباطًا (¬3)، ولا دُكّانًا) الجَناحُ هو الرَّوْشَنُ (¬4) يكون على أطْرافِ خَشَبَةٍ مَدْفُونةٍ في الحائِطِ، وأطْرافُها خارِجَة إلى الطَّريقِ، لا يَحوزُ إخْراجه، سَواءٌ كان يَضُرُّ بالمارَّةِ في العادَةِ أو لا يَضُرُّ. ولا يَجُوزُ أن يَجْعَلَ عليها ساباطًا بطَرِيقِ الأوْلَى، وهو المُسْتَوْفِي لهَواءِ الطَّرِيقِ كلِّه على جِدارَين، سَواءٌ كان الجِدارانِ مِلْكَه أو لم يَكُونا، أذِنَ الإمامُ في ذلك أو لم يَأذَنْ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: إن لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ، جاز بإذْنِ الامامِ؛ [لأنه نائِئهمْ] (¬5)، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زلق: ابتعد وانتحى. (¬3) الساباط: سقيفة بين حائطين تحتها ممر نافذ. (¬4) الروشن: الشرفة. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجَرَى إذنه مَجْرَى إذْنِ المُشْتَرِكِينْ في الدَّرْبِ الذي ليس بنافِذٍ. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ مِن ذلك ما لا ضَرَرَ فيه، وإن عارَضَه رجلٌ مِن المسلمين وَجَب قَلْعُه. وقال مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَجُوزُ إذا لم يَضُرَّ بالمارَّةِ، ولا يَمْلِكُ أحد مَنْعَه؛ لأنَّه ارْتَفَقَ بما لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أحَدٍ فيه مِن غيرِ مَضَرَّةٍ، فأشْبَهَ المَشْيَ في الطَّرِيقِ والجُلُوسَ فيها. واخْتَلَفوا في الذي لا يَضُرُّ ما هو؟ فقال بعضُهم: إن كان في شارعٍ تَمُرُّ فيه الجُيُوشُ [والأحْمالُ] (¬1)، فيكونُ بحيثُ إذا سار فيه الفارِسُ ورُمْحُه مَنْصُوبٌ لا يبلُغُه. وقال أكثَرُهم: لا يُقَدَّرُ بذلك، بل ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون بحيثُ لا يَضُرُّ بالعَمّارِيّاتِ (¬1) والمَحامِلِ. ولَنا، أنه بَنَى في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَجُزْ، كبِناءِ الدَّكَّةِ (¬2)، أو بِناءِ ذلك في دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ بغيرِ إذْنِ أهْلِه. ويُفارِقُ المُرُورَ في الطَّريقِ؛ فإثَّها جُعِلَتْ لذلك، ولا مَضَرةَ فيه، والجُلُوسُ لا يَدُومُ، ولا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا مَضَرَّةَ فيه، فإنَّه يُظْلِمُ الطَّرِيقَ، ورُبَّما سَقَط على المارَّةِ، أو سَقَط منه شيءٌ، وقد تَعْلُو الأرْضُ بمُرُورِ الزَّمانِ، فيَصْدِمُ رُءُوسَ النّاسِ، ويَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوابِّ بالأحْمالِ، ويَقْطَعُ الطَّرِيقَ إلَّا على الماشِي، وقد رَأينا مثلَ هذا كثيرًا، وما يُفْضِي إلى الضَّرَرِ في ثانِي الحالِ، يَجِبُ المَنْعُ منه ¬

(¬1) العمارية: هودج يحمل على الدابة. انظر معجم Dozy. (¬2) الدكة: بناء يسطح أعلاه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في ابْتِدائِه، كما لو أراد بِناءَ حائِطٍ مائل إلى الطَّريقِ يُخْشَى وُقُوعُه على مَن يَمُرُّ فيها. ولَنا على أبي حنيفةَ، أنَّه بَنَى في حَق مُشْتَرَكٍ، لو مَنَع منه بعضُ أهْلِه لم يَجُزْ، فلم يَجُزْ بغيرِ إذْنِهم، كما لو أخْرَجَه إلى هَواءِ دارٍ مُشْتَرَكةٍ، وذلك لأنَّ حَقَّ الآدمِيِّ لا يجوزُ لغيرِه التَّصَرُّفُ فيه بغيرِ إذْنِه، وإن كان ساكِنًا، كما لا يَجُوزُ إذا مَنَع. فأما الدُّكّانُ، فلا يجوزُ بِناوه في الطَرِّيقِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، سَواء كان الطرَّيقُ واسِعًا أو لا، وسَواءٌ أذنَ فيه الإِمامُ أو لم يَأذَنْ؛ لأنَّه بِناءٌ في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، ولأنَّه يُؤذِي المارَّةَ ويُضَيقُ عليهم، ويَعْثُرُ به العاثِرُ، أشْبَهَ ما لو كان الطرَّيقُ ضَيِّقًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ إخْراجُ المَيازِيبِ إلى الطَّرِيقِ الأعْظَمِ، ولا إلى دَرْبٍ (¬1) نافِذٍ إلَّا بإذْنِ أهْلِه. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ: يَجُوزُ إخْراجُه إلى الطرَّيقِ الأعْظَمِ؛ لأنَّ عُمَرَ اجْتازَ على دارِ العباسِ وقد نَصب مِيزابًا إلى الطرَّيقِ، فقَلَعَه، فقال العباسُ: تَقْلَعُه وقد نَصَبَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيَدِه. فقال: واللهِ لا نَصَبْتَه إلَّا على ظَهْرِي. وانْحَنَى حتى صَعِد على ظَهْرِه، فنَصَبَه (¬2). وما فَعَلَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلغيرِه فِعْلُه، ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على اخْتِصاصِه به، ولأنَّ الحاجةَ تَدْعُو إلى ذلك، ولا يُمْكِنُه رَدُّ مائِه ¬

(¬1) بعده في م: «غير». (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب نصب الميزاب وإشراع الجناح، من كتاب الصلح. السنن الكبرى 6/ 66. والحاكم, في: باب محاكمة العباس. . . .، من كتاب معرمة الصحابة. المستدرك 3/ 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الدّارِ، ولأنَّ النّاسَ يَعْمَلون ذلك في جَمِيعِ بلادِ الإسْلامِ مِن غيرِ نَكِيرٍ. ولَنا، أنَّ هذا تَصَرُّفٌ في هَواءٍ مشْتَرَكٍ بينَه وبينَ غيرِه بغيرِ إذْنِه،

1890 - مسألة: (ولا)

وَلَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ في مِلْكِ إِنْسَانٍ، وَلَا دَرْبٍ غَيرِ نَافِذٍ إلا بِاذْنِ أهْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ، كما لو كان الطَّرِيقُ غيرَ نافِذٍ، ولأنَّه يَضُر بالطَّرِيقِ وأهْلِها، فلم يَجُزْ، كبِناءِ دَكَّةٍ فيها أو جَناحٍ يَضُر بأهْلِها, ولا يَخْفَىِ ما فيه مِن الضَّرَرِ، فإنَّ ماءَه يَقَعُ على المارَّةِ، ورُبَّما جَرَى فيه البَوْلُ أو ماء نجِسٌ فيُنَجِّسُهم، ويُزَلِّقُ الطَّرِيقَ، ويَجْعَلُ فيها الطِّينَ، والحَدِيثُ قَضِيَّة في عَين، فيَحْتَمِلُ أنَّه كان في دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ، أو تَجَدَّدَتِ الطَّرِيقُ بعدَ نَصْبِه. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ ذلك؛ لأنَّ الحاجَةَ داعِيَة إليه، والعادَةُ جارِية به، مع ما فيه مِن الخَبَرِ المَذْكُورِ. 1890 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ (أن يَفْعَلَ ذلك في مِلْكِ إنْسانٍ، ولا دَرْب غيرِ نافِذٍ إلَّا بإذْنِ أهْلِه) أمّا في مِلْكِ الانْسانِ فلا يَجُوزُ بغيرِ إذْنِه؛ لأنّه تَصَرف في مِلْك الغيرِ، فلم يَجُزْ بغيرِ إذْنِه، ولا يَجُوزُ ذلك في الدَّرْبِ. وبه قال الشافعيُّ في الجَناحِ والسّاباطِ، إذا لم يَكُنْ له في الدَّرْب باب، وإن كان له في الدرْبِ باب، فقد اخْتَلَفَ أصْحابُه، فمنهم مَن مَنَعَه أَيضًا، ومنهم مَن أجاز له إخْراجَ الجَناحِ والسّاباطِ؛ لأن له في الدرب اسْتِطْراقًا، فمَلَكَ ذلك، كما يَمْلِكُه في الدَّرْبِ النافِذِ. ولَنا، أنَّه بِناء في هَواءِ مِلْكِ قَوْم مُعَيَّنين، أشْبَهَ إذا لم يَكُنْ له فيه بابٌ، ولا نُسَلِّمُ الأصْلَ الذي قاسُوا عليه. فإن أذِنَ أهْلُ الدرْبِ فيه، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، فجاز بإذْنِهم، كما لو كان لمالِكٍ واحدٍ.

1891 - مسألة: (فإن صالح عن ذلك بعوض، جاز في أحد الوجهين)

فَإِنْ صَالحَ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، جَازَ في أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1891 - مسألة: (فإن صالحَ عن ذلك بعِوَض، جاز في أحَدِ الوَجْهَين) وقال القاضي، وأصحابُ الشافعيِّ: لا يَجُوزُ في الجَناحِ والسّاباطِ؛ لأنَّه بَيعٌ للهَواءِ دُونَ القَرارِ. ولَنا، أنَّه يَبْنِي فيه بإذْنِهم، فجاز، كما لو أذِنُوا له بغيرِ عِوَض، ولأنَّه مِلْكٌ لهم، فجاز لهم أخْذُ عِوَضِه، كالقَرارِ. إذا ثبت هذا، فإنَّما يَجُوزُ بشرْطِ كَوْنِ ما يُخْرِجُه مَعْلُومَ المِقْدارِ في الخُرُوجِ والعُلُوِّ، وهكذا الحُكْمُ فيما إذا أخْرَجَه إلى مِلْكِ إنْسانٍ مُعَيَّنٍ، يَجُوزُ بإذْنِه، بعِوَضٍ وبغيرِه، إذا كان مَعْلُومَ المِقْدارِ. فصل: ولا يَجُوزُ أن يَحْفِرَ في الطَّرِيقِ النافِذَةِ بِئْرًا لنَفْسِه، سَواء جَعَلَها لماءِ المَطَرِ، أو ليَسْتَخْرِجَ منها ماءً يَنْتَفِعُ به، ولا غيرِ ذلك؛ لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. وإن أراد حَفْرَها للمسلمين ونَفْعِهم، أو لنَفْعِ الطرَّيقِ، مثلَ أن يَحْفِرَها ليَسْقِيَ (¬1) الناسَ مِن مائِها، ويَضْرَبَ منه المارَّةُ، أو ليَنْزِلَ فيها ماءُ المَطَرِ عن الطرَّيقِ، نَظَرْنا؛ فإن كان الطرَّيقُ ضَيِّقًا، أو كانت في مَمَرِّ ¬

(¬1) في الأصل: «ليستقى».

1892 - مسألة: (وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ، ففتح فيه بابا لغير الاستطراق، جاز)

وَإذَا كَانَ ظَهْرُ دَارِهِ في دَرْب غَيرِ نَافِذٍ، فَفَتَحَ فِيهِ بَابًا لِغَيرِ الاسْتِطْرَاقِ، جَازَ. وَيَحْتَمِلُ ألا يَجُوزَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسِ بحيث يُخافُ سُقُوطُ إنْسانٍ فيها أو دابَّةٍ، أو يُضَيِّقُ عليهم مَمَرَّهم، لم يَجُزْ؛ لأنَّ ضرَرَها أكْثَرُ مِن نَفْعِها (¬1). وإن حَفَرَها في زاويةٍ مِن طَرِيقٍ واسِع، وجَعَل عليها ما يَمْنَعُ الوُقُوعَ فيها، جاز؛ لأنَّ ذلك نَفعٌ (¬2) بلا ضَرَرٍ، فجاز، كتَمْهِيدِها وبِناءِ رَصِيفٍ فيها. فأمّا (¬3) فِعْلُه في دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ، فلا يَجُوزُ بغيرِ إذْنِ أهْلِه؛ لأنَّ هذا مِلْكٌ لقَوْم مُعَيَّنِين، فلم يَجُزْ فِعْلُ ذلك بغيرِ إذْنِهم، كما لو فَعَلَه في بُسْتانِ إنْسانٍ. ولو صالحَ أهْلَ الدَّرْبِ عن ذلك بعِوَضٍ، جاز، سَواء حَفَرَها لنَفْسِه ليَنْزِلَ فيها ماءُ المَطَرِ عن دارِه، أو ليَسْتَقِيَ منها ماءً لنَفْسِه، أو حَفَرَها للسَّبِيلِ ونَفْعِ الطَّرِيقِ. وكذلك إن فَعَل ذلك في مِلْكِ إنْسانٍ مُعَيَّن. 1892 - مسألة: (وإذا كان ظَهْرُ دارِه في دَرْبٍ غيرِ نافذٍ، ففَتَحَ فيه بابًا لغيرِ الاسْتِطراقِ، جاز) لأنَّ له رَفْعَ جَمِيع حائِطِه، فبَعْضُه أوْلَى. قال ابنُ عَقِيل: (ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ) لأن ¬

(¬1) في الأصل: «منافعها». (¬2) في الأصل، م: «يقع». (¬3) بعده في م: «ما».

1893 - مسألة: (وإن فتحه للاستطراق، لم يجز إلا بإذنهم)

وَإنْ فَتَحَهُ للِاسْتِطْرَاقِ، لَمْ يَجُزْ، إلا بِإِذْنِهِمْ في أحَدِ الْوَجْهَين وإنْ صَالحَهُمْ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَكْلَ البابِ مع تَقادُمِ العَهْدِ رُبَّما اسْتُدِلَّ به على حَقِّ الاسْتِطْراقِ، فيَضُرُّ بأهْلِ الدَّرْبِ، بخِلافِ رَفْعِ الحائِطِ؛ فإنَّه لا يَدُلُّ على شيءٍ. 1893 - مسألة: (وإنْ فَتَحَه للاسْتِطْراقِ، لم يَجُزْ إلَّا بإذْنِهِم) لأنَّه ليس له (¬1) حَقّ في الدَّرْبِ الذي هو مِلْكُ غيرِه. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه يَجُوزُ؛ لأنَّ له رَفْعَ [جَمِيعِ حائِطِه] (¬2). والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ الدَّرْبَ لا حَقَّ له فيه، فلم يَجُزْ أن يُجْعَلَ له فيه حَقُّ اسْتِطْراقٍ (فإن صالحَهم، جاز) لأنَّ الحَقَّ لهم، فأشْبَهَ دُورَهم إذا صالحَهم على شيءٍ منها. فصل: وإن كان ظَهْرُ دارِه إلى زُقاقٍ نافِذٍ، ففَتَحَ في حائِطِه بابًا إليه، جاز؛ لأنَّه يَرْتَفِقُ بما لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أحَدٍ عليه. فإن قِيلَ: هذا فيه إضْرارٌ بأهْلِ الدَّرْبِ؛ لأنَّه يَجْعَلُه نافِذًا يَسْتَطْرِقُ إليه مِن الشّارِعِ. قُلْنا: لا يَصِيرُ الدَّرْبُ نافِذًا، وإنَّما تَصِيرُ دارُه نافِذَةً، وليس لأحَدٍ اسْتِطْراقُ دارِه. ¬

(¬1) في م: «لهم». (¬2) في ر، ق، م: «جميعه».

1894 - مسألة: (ولو كان بابه في آخر الدرب، ملك نقله إلى أوله، ولم يملك نقله إلى داخل منه في أحد الوجهين)

وَلَوْ أنَّ بَابَهُ في آخِرِ الدَّرْبِ، مَلَكَ نَقْلَهُ إِلَى أوَّلِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَقْلَهُ إِلَى دَاخِل مِنْهُ في أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1894 - مسألة: (ولو كان بابُه في آخِرِ الدَّرْبِ، مَلَك نَقْلَه إلى أوَّلِه، ولم يمْلِكْ نَقْلَه إلى داخِل منه في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه إذا نقَل بابَه إلى ما يلي بابَ الدَّرْب، فقد تَرَكَ بعضَ حَقِّه. ومتى أراد رَدَّ بابِه إلى مَوْضِعِه الأوَّلِ، كان له؛ لأنَّ حَقّه لم يَسْقُطْ. فأمّا إن أراد نَقْلَ بابِه إلى تِلْقَاءِ صَدْرِ الزُّقاقِ، لم يَكُنْ له ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنّه يُقَدِّمُ بابَه إلى موضِعٍ لا اسْتِطْراقَ له فيه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَجُوزُ؛ لأنَّه كان له أن يَجْعَلَ بابَه في أوَّلِ البِناءِ أيِّ مَوْضِعٍ شاء، فتَرْكُه في مَوْضِعٍ لا يُسْقِطُ حَقَّه، كما أنَّ تَحْويلَه بعدَ فَتْحِه لا يُسْقِطُه، ولأنَّ له أن يرْفعَ حائِطَه كلَّه، فلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْنَعْ مِن رَفْعِ بعضِه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن جَوازِ رَفْعِ الحائِطِ جَوازُ الاسْتِطْراقِ، كالمسألةِ التي قبلَها. فصل: فإن كان في الدَّرْب بابانِ لرَجُلَينِ؛ أحَدُهما قَرِيبٌ مِن بابِ الزُّقاقِ، والآخَرُ في داخِلِه، فأراد صاحِبُ الدّاخِلِ أن يُحَوِّلَ بابَه، فله تَحْويلُه حيثُ شاء؛ لأنَّه لا مُنازِعَ له فيما يُجاوزُ البابَ الأوَّلَ، إذا قُلْنا: إن صاحِبَ القَرِيب ليس له أن يُقَدِّمَه إلى داخِلِ الدَّرْبِ. وإن قُلْنا: له تَقْدِيمُه. جاز لكلِّ واحِدٍ منهما. فإن كان في داخِلِ الدَّرْبِ بابٌ لثالِثٍ، فحُكْمُ الأوْسَطِ حُكْمُ الأولِ فيما ذَكَرْناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كان لرجلٍ دارانِ مُتَلاصِقَتان، ظَهْرُ كلِّ واحِدةٍ منهما إلى ظَهْرِ الأخْرَى، وبابُ كل واحِدةٍ منهما إلى دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ، فرَفعَ الحاجِزَ بينَهما وجَعَلَهما دارًا واحِدةً، جاز؛ لأنَّه تَصَرَّفَ في مِلْكِه المُخْتَصِّ به (¬1). وإن فَتَح مِن كلِّ واحِدةٍ منهما بابًا إلى الأخْرَى ليَتَمَكَّنَ مِنَ (¬2) التَّطَرُّقِ مِن كل واحِدةٍ منهما إلى كلا الدَّرْبَين، فقال القاضي: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ ذلك يُثْبِتُ الاسْتِطراقَ في الدَّرْبِ الذي لا يَنْفُذُ مِن دارٍ لم يَكُنْ لها فيه طَرِيقٌ، ولأنَّه رُبَّما أدَّى إلى إثْباتِ الشُّفْعةِ في قولِ مَن يُثْبِتُها بالطَّرِيقِ لكلِّ واحِدَةٍ مِن الدّارَين في زُقاقِ الأخْرَى. ويَحْتَمِلُ جَوازُ ذلك؛ لأنَّ له رَفْعَ الحاجِزِ جَميعِه، فبَعْضُه أوْلَى. قال شيخُنا (¬3): وهذا أشْبَهُ، وما ذَكَرْناه للمَنْعِ يَنْتَقِضُ بما إذا رَفَع الحائِطَ جَمِيعَه. وفي كلِّ مَوْضِعٍ قُلْنا: ليس له فِعْلُه. إذا صالحَه أهْلُ الدَّرْبِ، جاز، وكذلك إن أذِنوا له بغيرِ عِوَضٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إلى». (¬3) في: المغني 7/ 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تنازَعَ صاحِبا (¬1) البابَين في الدَّرْبِ، ولم يَكُنْ فيه باب لغيرِهما، ففيه ثَلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنَّه يُحْكَمُ بالدَّرْبِ مِن أوَّلِه إلى البابِ الذي يَلِيه بينَهما؛ لأنَّ لهما الاسْتِطْراقَ فيه جَمِيعًا، وما بعدَه إلى صَدْرِ الدَّرْبِ للآخَرِ؛ لأنَّ الاسْتِطْراقَ في ذلك له وَحْدَه، فله اليَدُ والتَّصَرُّفُ. والثّانِي، أنَّ مِن أوَّلِه إلى أقصَى حائِطِ الأوَّلِ بينَهما؛ لأنَّ ما يُقابِلُ ذلك لهما التَّصَرُّفُ فيه، بِناءً على أنَّ للأوَّلِ أن يَفتَحَ بابَه فيما شاء مِن حائِطِه، والباقِي للثّانِي؛ لأنَّه ليس بفِناءٍ للأوَّلِ، ولا له فيه اسْتِطْراقٌ. والثّالِثُ، يَكُونُ بينَهما؛ لأنَّ لهم يَدًا وتَصَرُّفًا. وهكذا الحُكْمُ فيما إذا كان لرجلٍ عُلْوُ خانٍ، ولآخَرَ سُفْلُه، ولصاحِبِ العُلْو دَرَجة في أثْناءِ صَحْنِ الخانِ، فاخْتَلَفَا في الصَّحْنِ، فالذي مِن الدَّرَجَةِ إلى بابِ الخانِ بينَهما، وما ¬

(¬1) في الأصل، ر 1، ر، ق: «صاحب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وراءَ ذلك] (¬1) إلى صَدْرِ الخانِ على الوَجْهَينِ. فإن كانتِ الدَّرَجةُ في صَدْرِ الصَّحْنِ، فالصَّحنُ بينَهما؛ لوُجُودِ اليَدِ والتَّصَرُّفِ منهما جَمِيعًا. فعلى الوَجْهِ الذي يَقُولُ: إنَّ صَدْرَ الدَّرْبِ مُخْتَص بصاحِبِ البابِ الصَّدْرانِيِّ. له أن يَسْتَبِدَّ بما يَخْتَصُّ به منه، بأن يَجْعَلَه دِهْلِيزًا لنَفْسِه، أو يُدْخِلَه في دارِه على وَجْهٍ لا يَضُرُّ بجارِه. ولا يَضعُ على حائِطِه شيئًا؛ لأنَّ ذلك مِلْكٌ له يَنْفَرِدُ به. ¬

(¬1) في م: «زاد على ذلك».

1895 - مسألة: (وليس له أن يفتح في حائط جاره، ولا الحائط المشترك روزنة

وَلَيسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ في حَائِطِ جَارِهِ، وَلَا في الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ رَوْزَنَةً وَلَا طَاقًا، إلَّا بإِذْنِ صَاحِبِه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1895 - مسألة: (وليس له أن يَفْتَحَ في حائِطِ جارِه، ولا الحائِطِ المُشْتَرَكِ رَوْزَنةً (¬1) ولا طاقًا بغيرِ إذْنِ صاحِبِه) لأنَّ ذلك انْتِفاعٌ بمِلْكِ ¬

(¬1) الروزنة: الكوة النافذة.

1896 - مسألة: (وليس له وضع خشبه عليه إلا عند الضرورة، بأن لا يمكنه التسقيف إلا به)

وَلَيسَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورةِ، بِأنْ لَا يُمْكِنَهُ التَّسْقِيفُ إلا بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِه وتَصَرُّفٌ فيه بما [يَضرُّ به] (¬1). وكذلك لا يَجُوزُ أن يَغرِزَ فيه وَتِدًا، ولا يُحْدِثَ عليه حائِطًا ولا سترَةً، ولا يَتَصَرَّفَ فيه نَوْعَ تَصَرُّفٍ؛ لأَنه يَضُرُّ بحائِطِ غيرِه، فهو كنَقْضِه. وإن صالحَه عن (¬2) ذلك بعِوَضٍ، جاز. فأمّا الاسْتِنادُ إليه وإسْنادُ شيءٍ لا يَضُرُّه، فلا بَأسَ به؛ لكَوْنِه لا مَضَرّةَ فيه، ولا يمْكِن التّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ الاسْتِظْلال به. 1896 - مسألة: (وليس له وَضْعُ خَشَبِه عليه إلَّا عندَ الضَّرورةِ، بأن لا يُمْكِنَه التّسْقِيفُ إلَّا به) أمّا وَضْعُ خَشَبِه عليه، فلا يَجُوز إذا كان يَضُرُّ بالحائِطِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا ¬

(¬1) في م: «يضره». (¬2) في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَرَرَ ولا ضِرَارَ (¬1)». وإن كان لا يَضُرُّ به إلَّا أنَّ به عنه غِنًى لإِمْكانِ وَضْعِه على غيرِه، فقال أكثرُ أصْحابِنا: لا يَجُوزُ أيضًا. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه انْتِفاعٌ بمِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، فلم يَجُزْ، كبِناءِ حائِطٍ عليه. واخْتارَ ابنُ عَقِيل جَوازَه؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَمْنَع أحَدُكُم جَارَهُ أنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى جِدَارِهِ». مُتَّفَق عليه (¬2). ولأنَّ ما أُبِيحَ للحاجَةِ العامَّةِ لم يُعْتَبَرْ فيه حَقِيقَةُ الحاجَةِ، كالشُّفْعةِ، والفَسْخِ بالخِيارِ أو بالعَيبِ، واتِّخاذِ الكَلْبِ للصَّيدِ، وإباحَةِ السَّلَمِ، ورُخَصِ السَّفَرِ، وغيرِ ذلك. فأمّا إن دَعَتِ ¬

(¬1) في ر، ق: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، من كتاب المظالم، وفي: باب الشرب من فم السقاء، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 3/ 173، 7/ 145. ومسلم، في: باب غرز الخشب في جدار الجار، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1230. كما أخرجه أبو داود، في: باب أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 283. والترمذي، في: باب في الرجل يضع على حائط خشبا، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 105. وابن ماجه، في: باب الرجل يضع خشبة على جدار جاره، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 783. والإمام مالك، في: باب القضاء في المرفق، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 745. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 240، 274.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجَةُ إلى وَضْعِه على جدارِ جارِه، أو الحائِطِ المُشْتَرَكِ، بحيث لا يُمْكِنُه التَّسْقِيفُ إلَّا به، فإنَّه يَجُوزُ وَضْعُه بغيرِ إذْنِ الشَّرِيكِ. وهو قولُ الشافعيِّ (¬1) القَدِيمُ. وقال في الجَدِيدِ: ليس له وَضْعُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ (¬2)؛ لأنَّه انْتِفاعٌ بمِلْكِ غيرِه مِن غيرِ ضَرُورَةٍ، فلم يَجُزْ، كزِراعَتِه. ولَنا، الخَبَرُ، ولأنَّه انْتِفاعٌ بحائِطِ جارِه على وَجْهٍ لا يَضُرُّ به، أشْبَهَ الاسْتِنادَ إليه والاسْتِظْلال به. ويُفارِقُ الزَّرْعَ، فإنَّه يَضُرُّ، ولم تَدْعُ إليه حاجَةٌ. إذا ثَبَت هذا، فاشْتَرَطَ القاضي وأبو الخَطّابِ للجَوازِ ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ له حائِطٌ واحِدٌ ولجارِه ثَلاثةُ حَوائِطَ. وليس هذا في كلامِ أحمدَ، إنَّما قال، في رِوَاية أبي داودَ: لا يَمْنَعُه إذا لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ، وكان الحائِطُ يَبْقَى. ولأنَّه قد يَمْتَنِعُ التَّسْقِيفُ على حائِطَين إذا كانا غيرَ مُتَقابِلَين، أو كان البيتُ واسعًا يَحْتاجُ إلى (¬1) أن يَجْعَلَ فيه (¬2) جِسْرًا ثم يَضَعَ الخَشَبَ على ذلك الجِسْرِ. قال شيخُنا (¬3): والأَولَى اعْتِبارُه بما ذَكَرْنا مِن امْتِناعِ التَّسْقِيفِ بدُونِه. ولا فَرْقَ فيما ذَكَرْنا بينَ البالِغِ واليَتِيمِ، والعاقِلِ والمَجْنُونِ؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ر 1. (¬2) في م: «عليه». (¬3) في: المغني 7/ 36.

1897 - مسألة: (وعنه، ليس له وضع خشبه على جدار المسجد. وهذا تنبيه على أنه لا يضعه على جدار جاره)

وعَنْهُ، لَيسَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ الْمَسجِدِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضَعُ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1897 - مسألة: (وعنه، ليس له وَضْعُ خَشَبِه على جِدارِ المَسْجِدِ. وهذا تَنْبِيهٌ على أنَّه لا يَضَعُهْ على جِدارِ جارِه) اخْتَلَفتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في وَضْعِ خَشَبِه على جِدارِ المَسْجِدِ مع وُجُودِ الشَّرْطَين، فعنه، الجَوازُ؛ لأنَّه إذا جاز وَضْعُه في مِلْكِ الجارِ مع أنَّ حَقَّه مَبْنِيٌّ على الشُّحِّ والضِّيقِ، ففي حُقُوقِ اللهِ تعالى المَبْنِيَّةِ على المُسامَحَةِ أوْلَى. وعنه، لا يَجُوزُ. نَقَلَها عنه أبو طالِبٍ؛ لأنَّ القِياسَ يَقْتَضِي المَنْعَ في حَقِّ الكلِّ، تُرِك في حَقِّ الجارِ للخَبَرِ الوارِدِ فيه، فوَجَبَ البَقاءُ في غيرِه على مُقْتَضَى القِياسِ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وخَرَّجَ أبو الخَطّابِ مِن هذه الرِّوايةِ وَجْهًا للمَنْعِ مِن وَضْعِ الخَشَبِ في مِلْكِ الجارِ؛ لأنَّه إذا مُنِع مِن وَضْعِ الخَشَبِ في الجِدارِ المُشْتَرَكِ بينَ المسلمين وللواضِعِ فيه حَقٌّ، فَلَأن يُمْنَعَ من المِلْكِ المُخْتَصِّ بغْيرِه أوْلَى. ولأنَّه إذا مُنِع في حَقِّ اللهِ تعالى مع أنَّه مَبْنِيٌّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُسامَحَةِ؛ لغِنَى اللهِ تعالى وكَرَمِه، فَلأن يُمْنَعَ في حَقِّ الآدَمِيِّ مع شُحِّه وضِيقِه أوْلَى. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. فإن قِيلَ: فلِمَ لا تُجِيزُون فَتْحَ الطّاقِ والبابِ في الحائِطِ، قِياسًا على وَضْعِ الخَشَبِ؟ قُلْنا: الخَشَبُ يُمسِكُ الحائِطَ ويَنْفَعُه، بخِلافِ الطّاقِ والبابِ، فإنَّه يُضْعِفُ الحائِطَ؛ لأنَّه (¬1) يَبْقَى مَفْتُوحًا، والذي يَفْتَحُه للخَشَبةِ يَسُدُّه بها، ولأن وَضْعَ الخَشَبِ تَدْعُو إليه الحاجَةُ، بخِلافِ (¬2) غيرِه. ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في م: «دون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن مَلَك وَضْعَ خَشَبِه على حائِطٍ، فزال لسُقُوطِه، أو قَلْعِه (¬1)، أو سُقُوطِ الحائِطِ، ثم أُعِيدَ، فله إعادَةُ خَشَبِه؛ لأنَّ السَّبَبَ المُجَوِّزَ لوَضْعِه مُسْتَمِرٌّ، فاسْتَمَرَّ الاستِحقاقُ. وإن زال السَّبَبُ، مثلَ أن خشِيَ على الحائِطِ مِن وَضْعِه عليه، أو اسْتَغْنَى عن وَضْعِه، لم تَجُزْ إعادَتُه؛ لزَوالِ السَّبَبِ المُبِيحِ. فإن خِيفَ سُقُوطُ الحائِطِ بعدَ وَضْعِه عليه، لَزِم إزالتُه؛ لأنَّه يَضُرُّ بالمالِكِ. وإن لم يُخَفْ عليه، لحَنِ اسْتُغْنِيَ عن إبْقائِه عليه، لم تَلْزَمْه إزالتُه؛ لأنَّ في إزالتِه ضَرَرًا بصاحِبِه، ولا ضَرَرَ على صاحِبِ الحائِطِ في إبْقائِه، بخِلافِ ما لو خَشِيَ سُقُوطَه. ¬

(¬1) في الأصل: «فعله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان له وَضْعُ خَشَبِه على جِدارِ غيرِه، لم يَمْلِكْ إجارَتَه ولا إعارَتَه؛ لأنَّه إِنَّما مَلَك ذلك لحاجَتِه الماسَّةِ إلى وَضْعِ خَشَبِه، ولا حاجَةَ له (¬1) إلى وَضْعِ خَشَبِ غيرِه، فلم يَمْلِكْه. وكذلك لا يَمْلِكُ بَيعَ حَقه مَن وَضَعَ خَشبَه، ولا المُصَالحةَ عنه للمالِكِ ولا لغيرِه؛ لأنَّه أُبِيحَ له مِن حَقِّ غيرِه لحاجَتِه، فلم يَجُزْ له ذلك فيه، كطَعامِ غيرِه إذا أُبِيحَ له في حالِ الضَّرُورَةِ. ولو أراد صاحِبُ الحائِطِ إعارَةَ الحائِطِ أو إجارَتَه، على وَجْهٍ يَمْنَعُ هذا المُسْتَحِقَّ مِن وَضْعِ خَشَبِه، لم يَمْلِكْ ذلك؛ لأنَّه وَسِيلةٌ إلى مَنْعِ ذي الحَقِّ مِن حَقِّه، فلم يَمْلِكْه، كمَنْعِه. ولو أراد هَدْمَ الحائِطِ لغيرِ حاجَةٍ، لم يَمْلِكْ ذلك؛ لِما فيه مِن تَفْويتِ الحَقِّ. وإنِ احْتاجَ إلى ذلك للخَوْفِ مِن انْهِدامِه أو لتَحْويِله إلى مكانٍ آخَرَ، أو لغَرَضٍ صَحِيحٍ، مَلَك ذلك؛ لأنَّ صاحِبَ الخَشَبِ إنَّما يَثْبُتُ حَقُّه للإِرْفاقِ به مَشْرُوطًا بعَدَمِ الضَّرَرِ بصاحِبِ الحائِطِ، فمتى أفْضَى إلى الضَّرَرِ، زال الاسْتِحْقاقُ؛ لزَوالِ شَرْطِه. فصل: فإن أذِنَ صاحِبُ الحائِطِ لجارِه في البِناءِ على حائِطِه، أو وَضْعِ سُتْرَةٍ عليه، أو وَضْعِ خَشَبِه عليه في المَوْضِعِ الذي لا يَسْتَحِقُّ وَضْعَه، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ له، فجاز بإذْنِه. فإذا فَعَل ما أُذِنَ فيه، صارَتِ العارِيَّةُ لازِمةٌ، تُذْكَرُ في بابِ العارِيَّةِ. ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أذِنَ له في وَضْعِ خَشَبِه، أو البِناءِ على جِدارِه بعِوَضٍ، جاز، سَواءٌ كان إجارَةً في مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أو صُلْحًا على وَضْعِه على التَّأْبِيدِ. ومتى زال، فله إعادَتُه، سَواءٌ زال لسُقُوطِه، أو سُقُوطِ الحائِطِ، أو غيرِ ذلك؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ إبْقاءَه بعِوَضٍ. ويَحْتاجُ أن يكونَ البناءُ مَعْلُومَ العَرْضِ والطُّولِ، والسُّمْكِ، والآلاتِ مِن الطِّينِ واللَّبِنِ [أَو الطِّينِ] (¬1) والآجُرِّ، وما أشْبَهَ ذلك؛ لأنَّ هذا يَخْتَلِفُ فَيُحْتاجُ إلى مَعْرِفَتِه. وإذا سَقَط الحائِطُ الذي عليه البِناءُ (¬2) أو الخَشَبُ، في أثْناءِ مُدَّةِ الإِجارَةِ، سُقُوطًا لا يَعُودُ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ، ورَجَع مِن الأُجْرةِ بقِسْطِ ما بَقِيَ مِن المُدَّةِ. وإن أُعِيدَ، رَجَع مِن الأُجْرةِ بقَدْرِ المُدَّةِ التي سَقَط البِناءُ والخَشَبُ عنه. وإن صالحَه مالِكُ الحائِطِ على رَفْعِ خَشَبِه أو بِنائِه بشيء مَعْلُوم، جاز، كما يَجُوزُ الصُّلْحُ على وَضْعِه، سَواءٌ كان ما صالحَه به مِثْلَ العِوَضِ الذي صُولِحَ به على وَضْعِه، أو أقلَّ أو أكْثَرَ؛ لأنَّ هذا عِوَضٌ عن المَنْفَعةِ المُسْتَحَقَّةِ له. وكذلك لو كان له مَسِيلٌ في أرْضِ غيرِه، أو مِيزابٌ، أو غيرُه، فصالحَ صاحِبُ الأرْضِ مُسْتَحِقَّ ذلك بعِوَضٍ ليُزِيلَه عنه، جاز، وإن كان الخَشَبُ أو الحائِطُ قد سَقَط، فصالحَه بشيءٍ على أن لا يُعِيدَه، جاز؛ لأنَّه لَمّا جاز أن يَبِيعَ ذلك منه، جاز أن يُصالِحَ عنه؛ لأنَّ الصُّلْحَ بَيعٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أو البناء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَجَد بِناءَه أو خَشَبَه على حائِطٍ مُشْتَرَكٍ، أوْ حائِطِ جارِه، ولم يَعْلَمْ سَبَبَه، فمتى زال فله إعادَتُه؛ لأنّ الظّاهِرَ أنَّ هذا الوَضْعَ بحَقٍّ مِن صُلْحٍ أو غيرِه، فلا يَزُولُ هذا الظّاهِرُ حتى يُعْلَمَ خِلَافُه. وكذلك لو وَجَد مَسِيلَ مائِه في أرْضِ غيرِه، [أو مَجْرَى ماءِ سَطْحِه على سَطْحِ غيرِه] (¬1)، وما أشْبَهَ هذا، فهو له؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه له بحَقٍّ، فجَرَى مَجْرَى اليَدِ الثّابِتَةِ. ومتى اخْتَلَفَا في ذلك، هل هو بحَق أو بعُدْوانٍ؟ فالقَوْلُ قولُ صاحِبِ الخَشَبِ والبِناءِ والمَسِيلِ مع يَمِينِه؛ لأنَّ الظّاهِرَ معه. فصل: وإذا ادَّعَى رجلٌ دارًا في يَدِ أخَوَين، فأنْكَرَه أحَدُهما، وأقَرَّ له الآخَرُ، ثم صالحَه على ما أقَرَّ له بعِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ، ولأخِيه الأخْذُ بالشُّفْعةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُفرُّقَ بينَ ما إذا كان الإنْكارُ مُطْلَقًا، وبينَ ما إذا قال: هذه لَنا وَرِثْناها جَمِيعًا عن أبينا أو أخِينا. فيُقالُ: إذا كان الإِنْكار مُطْلَقًا، كان له الأخْذُ بالشُّفْعةِ. وإن قال: وَرِثْناها. فلا شُفْعةَ له؛ لأنَّ المُنْكِرَ يَزْعُمُ أنَّ المِلْكَ لأخِيه المُقِرِّ لم يَزُلْ، وأنَّ الصُّلْحَ باطِلٌ، فيُؤاخَذُ بذلك، فلا يَسْتَحِقُّ (¬2) شُفْعةً. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ المِلْكَ ثَبَت للمُدَّعِي حُكْمًا، وقد رَجَع إلى المُقِرِّ بالبَيعِ، وهو مُعْتَرِفٌ بأنَّه بَيعٌ صَحِيحٌ، فتَثْبُتُ فيه الشُّفْعَةُ، كما لو كان الإنْكارُ مُطْلَقًا. ويجُوزُ أن يكون نَصِيبُ المُقِرِّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «به».

1898 - مسألة: (وإن كان بينهما حائط فانهدم، فطالب أحدهما صاحبه ببنائه، أجبر عليه. وعنه، لا يجبر)

وَإِنْ كَانَ بَينَهُمَا حَائِطٌ فَانْهَدَمَ، فَطَالبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبِنَائِهِ مَعَهُ، أُجْبِرَ عَلَيهِ. وَعَنْهُ، لَا يُجْبَرُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ انْتَقَلَ إلى المُدَّعِي ببَيعٍ أو هِبَةٍ أو سَبَبٍ مِن الأسْبابِ، فلا يَتنافَى إنْكارُ المُنْكِرِ وإقْرارُ المُقِرِّ، كحالةِ إطْلاقِ الإِنْكارِ. وهذا أصَحُّ. 1898 - مسألة: (وإن كان بينَهما حائِطٌ فانْهَدَمَ، فطالبَ أحَدُهما صاحِبَه ببنائِه، أُجْبِرَ عليه. وعنه، لا يُجْبَرُ) إذا كان بينَ الشَّرِيكَينِ حائطٌ فانْهَدَمَ، فطَلَبَ أحَدُهما إعادَتَه، وأبَى الآخَرُ، فذَكَر القاضِي فيه رِوايَتَين، إحْداهما، يُجْبَرُ. نَقَلَها ابنُ القاسِمِ، وحَرْبٌ، وسِنْدِيٌّ. قال القاضي: هي أصَحُّ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وعلى ذلك أصْحابُنا. وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن مالِكٍ، وقولُ الشافعيِّ القَدِيمُ، واخْتارَه بعضُ أصْحابِه، لأنَّ في تَرْكِ بِنائِه إضْرارًا فيُجْبَرُ عليه، كما يُجْبَرُ على القِسْمةِ إذا طَلَبَها أحَدُهما، وعلى نَقْضِ الحائِطِ عندَ خَوْفِ سُقُوطِه عليهما، ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ (¬1)». وهذا وَشَرِيكُه ¬

(¬1) في م: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَضَرَّران في تَرْكِ بنائِه. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يُجْبَرُ. نُقِل عن أحمدَ ما يَدُلُّ على ذلك. وهو أقوَى في النَّظرَ، ومَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه مِلْكٌ لا حُرْمَةَ له في نَفْسِه، فلم يُجْبَرْ مالِكُه على الإِنْفاقِ عليه، كما لو انْفَرَدَ به، ولأنَّه بِناءُ حائِطٍ، فلم يُجْبَرْ عليه، كالابتِداءِ، ولأنَّه لا يَخْلُو؛ إمّا أن يُجْبَرَ على بِنائِه لحَقِّ نَفْسِه، أو لحَقِّ جارِه، أو لهما جميعًا، لا يَجُوزُ أن يُجْبَرَ لحَقِّ نَفْسِه، بدَلِيلِ ما لو انْفَرَدَ به، ولا لحَقِّ غيرِه، كما لو انْفَرَدَ به جارُه، وإذا لم يَكُنْ واحِدٌ منهما مُوجَبًا عليه، فكذلك إذا اجْتَمَعَا. وفارَقَ القِسْمَةَ، فإنَّها دَفْع للضَّرَرِ عنهما بما لا ضَرَرَ فيه، والبِناءُ فيه ضَرَرٌ؛ لِما فيه مِن الغَرامَةِ وإنْفاقِ مالِه، ولا يَلْزَمُ مِن إجْبارِه على إزالةِ الضَّرَرِ بما لا ضَرَرَ فيه، إجْبارُه على إزالتِه بما فيه ضَرَرٌ، بدَلِيلِ قِسْمةِ ما في قِسْمَتِه ضَرَرٌ. ويُفارِقُ هَدْمَ الحائِطِ إذا خِيفَ سُقُوطُه؛ لأنَّه يَخافُ سُقُوطَه على ما يُتْلِفُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُجْبَر على ما يُزِيل ذلك، ولذلك (¬1) يُجْبَر عليه وإنِ انْفَرَدَ بالحائِطِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ولا نسَلِّمُ أنَّ في تَرْكِه إضْرارًا، فإنَّ الضَّرَرَ إنَّما حَصَل بانْهِدامِه، وإنَّما تَرْكُ البِناءِ تَرْكٌ لِما يَحْصُل النَّفْع به، وهذا لا يُمْنَغ الإِنْسان منه، بدَلِيلِ حالةِ الابتِداءِ. وإن سَلَّمْنا أنَّه إضْرارًا، لكنْ في الإِجْبارِ إضْرارٌ، ولا يُزالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، ولأنَّه قد يكونُ المُمْتَنِعُ لا نَفْعَ له في الحائِطِ، أو يكونُ الضَّرَرُ عليه أكثَرَ مِن النَّفْعِ، أو يكون مُعْسِرًا ليس معه شيءٌ، فيُكَلَّفُ الغرَامَةَ مع عَجْزِه عنها. ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق: «كذلك».

1899 - مسألة: (وليس له منعه من بنائه)

لَكِنْ لَيسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ بِنَائِهِ. فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ، فَهُوَ بَينَهُمَا، وَإنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَهُوَ لَهُ، وَلَيسَ لِلْآخَرِ الانْتِفَاع بِهِ. فَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ، خُيِّرَ الْبَانِي بَينَ أَخذِ نِضفِ قِيمَتِهِ مِنْهُ وَبَينَ أَخْذِ آلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1899 - مسألة: (وليس له مَنْعُه مِن بِنائِه) يَعْنِي على الرِّوايَةِ التي تَقُولُ: لا يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ إذا أراد شَرِيكُه البِناءَ. فليس له مَنْعُه، لأنَّ له حَقًّا في الحَمْلِ وَرَسْمًا، فلا يَجُوزُ مَنْعُه منه. 1900 - مسألة: (فإن بَناه بآلَتِه، فهو بينَهما، وإن بَناهُ بآلَةٍ مِن عندِه، فهو له، وليس للآخَرِ الانْتِفاعُ به. فإن طَلَبَ الانْتِفاعَ به، خُيِّرَ البانِي بينَ أخْذِ نِصْفِ قِيمَتِه وبينَ أخْذِ آلَتِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للشَّرِيكِ بِناءَ الحائِطِ بأنْقاضِه، وله بِناؤُه بآلَةٍ مِن عندِه، فإن بَناهُ بآلَتِه وأنْقاضِه، فهو بينَهما (¬1) على الشَّرِكَةِ، كما كان؛ لأنَّ المُنْفَقَ إنَّما أُنْفِقَ على التّالفِ، وذلك أثَرٌ لا عَين يَمْلِكُها. وإن بَناه بآلَةٍ [مِن عندِه] (¬2)، فالحائِطُ مِلْكُه خاصَّةً، وله مَنْعُ شَرِيكِه مِن الانْتِفاعِ به، ومِن وَضْعِ خَشَبِه ورُسُومِه عليه؛ لأنَّ الحائِطَ له. فإن أراد نَقْضَه وكان بَناه بآلَتِه، فليس له نَقْضُه؛ لأنَّه مِلْكُهما، فلم يكن له التَّصَرُّفُ فيه بما فيه مَضَرّةٌ عليهما. وإن كان بَناه بآلَةٍ مِن عندِه، فله نقْضُه؛ لأنَّه يَخْتَصُّ بمِلْكِه. فإن قال شَرِيكُه: أنا أدْفَعُ إليك نِصْفَ قِيمةِ البِناءِ ولا تَنْقُضْهُ. لم يُجْبَرْ؛ لأنَّه لَمّا لم يُجْبَرْ على البِناءِ، لم يُجْبَرْ على الإِبقاءِ. وإن أراد غيرُ البانِي نَقْضَه، وإجْبارَ بانِيه على نَقْضِه، لم يكنْ له ذلك على كِلْتا الرِّوايَتَينِ؛ لأنَّه إذا لم يَمْلِكْ مَنْعَه مِن بِنائِه، [فلَأنْ لا] (¬3) يَمْلِكَ إجْبارَه على نَقْضِه أوْلَى. فإن كان له ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فلئلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الحائِطِ رَسْمُ انْتِفاعٍ، أو وَضْع خِشَبٍ، قال له: إمّا أن تَأْخُذَ مِنِّي نِصْفَ قِيمَتِه، وتُمَكِّنَنِي مِن انْتِفاعِي، وإمّا أن تَقْلَعَ حائِطَك، لنُعِيدَ البِناءَ بينَنا (¬1). فيَلْزَمُ الآخَرَ إجابَتُه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ إبْطال رُسُومِه وانْتِفاعِه ببِنائِه، وإن لم يُرِدْ الانْتِفاعَ به، فطالبَه الثانِي بالغَرامَةِ أو القِيمَةِ، لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّه إذا لم يُجْبَرْ على البِناءِ، فأوْلَى أن لا يُجْبَرَ على الغَرامَةِ، إلَّا أن يَكُونَ قد أذنَ في البِناءِ والإنْفاقِ، فيَلْزَمُه ما أَذنَ فيه. فأمّا على الرِّوايَةِ الأولَى، فمتى امْتَنَعَ، أجْبَرَه الحاكِمُ على ذلك، فإن لم يَفْعَلْ، أخَذَ الحاكِمُ مِن مالِه وأنْفَقَ عليه، وإن لم يكنْ له مالٌ، فأنْفَقَ عليه الشَّرِيكُ بإذْنِ الحاكِمِ، أو إذْنِ الشرِيكِ، رَجَع عليه متى قَدَر. وإذا أراد بِناءَه، لم يَمْلِكِ الشَّرِيكُ مَنْعَه. وما أَنْفَقَ؛ إن تَبَرَّعَ به، لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ به، وإن نَوَى الرُّجُوعَ به، فهل له الرُّجُوعُ بذلك؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ، بناءً على ما إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه. وإن بَناه لنَفْسِه بآلَتِه، فهو بينَهما، وإن بَناه بآلَةٍ مِن عندِه فهو له خاصَّة. فإن أراد نَقْضَه فله ذلك، إلَّا أن يَدْفَعَ إليه شَرِيكُه نِصْفَ قِيمَتِه، فلا يَكُونُ له نَقْضُه؛ لأنَّه إذا أُجْبِرَ على بِنائِه، فأوْلَى أن يُجْبَرَ على إبْقائِه. ¬

(¬1) في م: «من بيننا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَكُنْ بينَ مِلْكَيهما حائِطٌ، فطَلَبَ أحَدُهما مِن الآخَرِ أن يَبْنِيا حائِطًا يَحْجِزُ بينَ مِلْكَيهما، لم يُجْبَرِ الآخَرُ عليه. رِوايَةً واحِدَةً. فإن أراد البِناءَ وَحْدَه، فليس له إلَّا في مِلْكِه، لأنَّه لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِ جارِه المُخْتَصِّ به، ولا في المِلْكِ المُشْتَرَكِ بغيرِ ما له فيه رَسْمٌ، وهذا لا رَسْمَ له فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان السُّفْلُ لرجلٍ، والعُلْوُ لآخَرَ، فانْهَدَمَ السَّقْفُ الذي بينَهما، فطَلَبَ أحَدُهما المُباناةَ مِن الآخَرِ، فامْتَنَعَ، فهل يُجْبَرُ؟ على رِوايَتَين، كالحائِطِ بينَ البَيتَينِ. وللشافعيِّ فيه قَوْلان. فإنِ انْهَدَمَتْ حِيطانُ السُّفْلِ، فطالبَه صاحِبُ العُلْو بإعادَتِها، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يُجْبَرُ. وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأحَدُ قَوْلَىٍ الشافعيِّ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، يُجْبَرُ على البِناءِ وَحْدَه؛ لأنَّه مِلْكُه خاصَّة. والثانيةُ، لا يُجْبَرُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وإن أراد صاحِبُ العُلْو بناءَه، لم يُمْنَعْ مِن ذلك، على الرِّوايَتَين جَمِيعًا. فإن بَناه بآلَتِه، فهو على ما كان، وإن بَناه بآلَةٍ مِن عندِه، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، لا يَنْتَفِعُ به صاحِبُ السُّفْلِ. يَعْنِي حتى يُودِّيَ القِيمَةَ. فيَحْتَمِلُ أنَّه لا يَسْكُنُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ البَيتَ إنَّما يُبْنَى للسُّكْنَى، فلم يَمْلِكْه كغيرِه. ويحْتَمِلُ أنَّه أراد الانْتِفاعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحِيطانِ خاصَّةً؛ مِن طَرْحِ الخَشَبِ، وسَمْرِ الوَتِدِ، وفَتْحِ الطّاقِ، وتَكُونُ له السُّكْنَى مِن غيرِ تصَرُّفٍ في مِلْكِ غيرِه. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ السُّكْنَى إنَّما هي إقامَتُه في فِناءِ الحِيطانِ مِن غيرِ تَصَرُّفٍ فيها، أشْبَهَ الاسْتِظْلال بها مِن خارجٍ. فأمّا إن طالبَ صاحِبُ السُّفْلِ بالبِناءِ، وأبَى صاحِبُ العُلْو، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا يُجْبَرُ على بِنائِه، ولا مُساعَدَتِه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الحائِطَ مِلْكُ صاحِبِ السُّفْلِ، فلم يُجْبَرْ غيرُه على بِنائِه، ولا المُساعَدَةِ فيه، كما لو لم يَكُنْ عليه عُلْوٌ. والثانيةُ، يُجْبَرُ على مُساعَدَتِه والبِناءِ معه. وهو قولُ أبي الدَّرْداءِ؛ لأنَّه حائِطٌ يَشتَرِكان في الانْتِفاعِ به، أشْبَهَ الحائِطَ بينَ الدّارَين. فصل: فإن كان بينَ البَيتَين حائِطٌ لأحَدِهما، فانْهَدَمَ، فطَلَبَ أحَدُهما مِن الآخَرِ بِناءَه، أو المُساعَدَةَ في بِنائِه، لم يُجْبَرْ؛ لأنَّه إن كان المُمْتَنِعُ مالِكَه، لم يُجْبَرْ على بِناءِ مِلْكِه المُخْتَصِّ به، كحائِطِ الآخَرِ، وإن كان المُمْتَنِعُ الآخَرَ، لم يُجْبَرْ على بِناءِ مِلْكِ غيرِه، ولا المُساعَدَةِ فيه. ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُ على هذا حائِطُ السُّفْلِ، حيث يُجْبَرُ صاحِبُه على بِنائِه، مع اخْتِصاصِه بمِلْكِه؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ صاحِبَ العُلْو مَلَكَه مُسْتَحِقًّا لإِبقائِه على حِيطانِ السُّفْلِ دائِمًا، فلَزِمَ صاحِبَ السُّفْلِ تَمْكِينُه ممّا يَسْتَحِقُّه، وطَرِيقُه البِناءُ، فلذلك وَجَب، بخِلافِ مَسْألتِنا. وإن أراد صاحِبُ الحائِطِ بناءَه، أو نَقْضَه بعدَ بِنائِه، لم يكُنْ لجارِه مَنْعُه؛ لأنَّه مِلْكُه خاصَّةً. وإن أَراد جارُه بِناءَه، أو نَقْضَه، أو التَّصَرُّفَ فيه، لم يَمْلِكْ ذلك؛ لأنَّه لا حَقَّ له فيه.

1901 - مسألة: (وإن كان بينهما نهر، أو بئر، أو دولاب

وَإنْ كَانَ بَينَهُمَا نَهْرٌ، أوْ بِئْرٌ، أوْ دُولَابٌ، أو نَاعُورَةٌ، أَوْ قَنَاةٌ، وَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ، فَفِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى هَدَم أحَدُ الشَّرِيكين الحائِطَ المُشْتَرَكَ، أو السَّقْفَ الذي بينَهما، نَظرتَ، فإن خِيفَ سُقُوطُه، ووَجَبَ هَدْمُه، فلا شيءَ على هادِمِه، ويكونُ كما لو انْهَدَمَ بنَفْسِه؛ لأنَّه فَعَل الواجِبَ، وأزال الضَّرَرَ الحاصِلَ بسُقُوطِه. وإن هَدَمَه لغيرِ ذلك، فعليه إعادَتُه، سَواءٌ (¬1) هَدَمَه لحاجَةٍ أو غيرِها، وسَواء الْتَزَمَ إعادَتَه أو لم يَلْتَزِمْ؛ لأنَّ الضَّرَرَ حَصَل بفِعْلِه، فلَزِمَه إزالتُه (¬2). فصل: فإنِ اتَّفَقا على بِناءِ الحائِطِ المُشْتَرَكِ بينَهما نِصْفَين، ومِلْكُه بينَهما الثُّلُثُ والثُّلُثان، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يُصالِحُ عن بعضِ مِلْكِه ببعض، فلم يَصِح، كما لو أقَرَّ له بدارٍ فصالحَه على سُكْناها. ولو اتَّفَقا على أن يُحَملَه كلُّ واحِدٍ منهما ما شاء، لم يَجُزْ؛ لجَهالةِ الحِمْلِ، فإنَّه يُحَمِّلُه مِن الأثْقالِ ما لا طاقَةَ له بحَمْلِه. وإنِ اتَّفَقا على أن يكونَ بينَهما نِصْفَين، جاز. 1901 - مسألة: (وإن كان بينَهما نَهْرٌ، أو بِئْرٌ، أو دُولابٌ (¬3)، أو ناعُورَةٌ، أو قَناةٌ، فاحْتاجَ إلى عِمارةٍ، ففي إجْبارِ المُمْتَنِعِ رِوايَتان) ¬

(¬1) بعده في م: «كان». (¬2) أي إزالة الضرر. (¬3) الدُّولاب: الآلة التي تديرها الدابة ليستقى بها والناعورة هي الدولاب ويديرها الماء.

1902 - مسألة: (وليس لأحدهما منع صاحبه من عمارته كالحائط، فإن عمره، فالماء بينهما على الشركة)

وَلَيسَ لأحَدِهِمَا مَنْعُ صَاحِبِهِ مِنْ عِمَارَتِهِ، فَإِذَا عَمَرَهُ، فَالْمَاءُ بَينَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِناءً على الحائطِ المُشْتَرَكِ إذا انْهَدَمَ. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّه يُجْبَرُ ههُنا على الإِنْفاقِ؛ لأنَّه لا يَتَمَكَّنُ شَرِيكُه مِن مُقاسَمَتِه، فيَتَضَرَّرُ، بخِلافِ الحائطِ، فإنَّه يُمْكِنُهما قِسْمَةُ العَرْصةِ. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى التَّسْويةُ؛ لأنَّ في قِسْمةِ العَرْصةِ إضْرارًا بهما، والإِنْفاقُ أرْفَقُ بهما، فكانا سَواءً. 1902 - مسألة: (وليس لأحَدِهما مَنْعُ صاحِبِه مِن عِمارَتِه كالحائِطِ، فإن عَمَرَه، فالماءُ بينَهما على الشَّرِكَةِ) أمّا الدُّولابُ ¬

(¬1) في: المغني 7/ 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنّاعُورةُ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في الحائِطِ، على ما ذَكَرْناه. وأمّا النَّهْرُ والبئْرُ، فلكلِّ واحِدٍ منهما الإِنْفاقُ عليه، وإذا أنْفَقَ عليه، لم يَكُنْ له مَنْعُ الآخَرِ مِن نَصِيبِه مِن الماءِ؛ لأنَّه يَنْبُعُ مِن مِلْكِهما، وإنَّما أثَّرَ أحَدُهما في نَقْلِ الطِّينِ منه، وليس له فيه عَينُ مالٍ، فأشْبَهَ الحائِطَ إذا بَناه بآلَتِه، والحُكْمُ في الرُّجُوجِ بالنَّفَقةِ، حُكْمُ الرُّجُوعِ في النَّفَقةِ على الحائطِ، على ما مَضَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس للرجلِ التَّصرُّفُ في مِلْكِه بما يَضُرُّ [به جارَه] (¬1)، نحوَ أن يَبْنِيَ حَمّامًا بينَ الدُّورٍ، أو يَفْتَحَ خَبّازًا بينَ العَطّارِين، أو يَجْعَلَه دُكّانَ قِصارَةٍ يَهُزُّ الحِيطانَ ويُخرِّبُها، أو يَحْفِرَ بِئْرًا إلى جانِب بِئْرِ جارِه يَجْتَذِبُ ماءَها. وبهذا قال بعضُ الحَنَفِيَّةِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى: لا يُمْنَعُ. وبه قال الشافعيُّ، وبعضُ الحَنَفِيَّةِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في مِلْكِه المُخْتَصِّ به، ولم يَتَعَلَّقْ به حَقُّ غيرِه، فلم يُمْنَعْ منه، كما لو طَبَخ في دارِه أو خَبَز فيها. وسَلَّمُوا أنَّه يُمْنَعُ مِن الدَّقِّ الذي يَهْدِمُ الحِيطانَ ويَنْثِرُها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» (¬2). ولأنَّ هذا إضْرارٌ بجِيرانِه، فمُنِعَ منه، كالذي سَلَّمُوه، وكسَقْي الأرْضِ الذي يَتَعَدَّى إلى هَدْمِ حائِطِ جارِه، أو إشْعالِ نارٍ يتَعَدَّى إلى إحْراقِه. قالُوا: ها هنا تَعَدَّتِ النّارُ التي أضْرَمَها، والماءُ الذي أرْسَلَه، فكان مُرْسِلًا لذلك في مِلْكِ غيرِه، أشْبَهَ ما لو أرْسَلَه إليها قَصْدًا. قُلْنا: والدُّخَانُ (¬3) هو أجْزاءُ الحَرِيقِ الذي أحْرَقَه، فكان مُرْسِلًا له في مِلْكِ جارِه، فهو كالمارِ والماءِ، وأمّا دُخَانُ الخَبْزِ والطَّبِيخِ، فإنَّ ضَرَرَه يَسِيرٌ، ولا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، وتَدْخُلُه المُسامَحَة. ¬

(¬1) في م: «بجاره». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬3) بعده في م: «الذي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانَ سَطْحُ أحَدِهما أعْلَى مِن سَطْحِ الآخَرِ، فليس لصاحِبِ الأعْلَى الصُّعودُ على سَطْحِه على وَجْهٍ يُشْرِفُ على سَطْحِ جارِه، إلَّا أن يَبْنِيَ سُتْرَة تَسْتُرُه. وقال الشافعيُّ: لا يَلْزَمُه سَتْرُه؛ لأنَّ هذا حاجِزٌ بينَ مِلْكَيهما، فلم يُجْبرْ أحَدُهما عليه، كالأسْفَلِ. ولَنا، أنَّه إضْرارٌ بجارِه، فمُنِعَ منه، كدَقٍّ يَهُزُّ الحِيطانَ، وذلك أنَّه يَكْشِفُ جارَه، ويَطَّلِعُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على حُرَمِه، فأشْبَهَ ما لو اطَّلَعَ إليه (¬1) من صِيرِ بابِه أو خَصاصِه (¬2)، وقد دَلَّ على المَنْعِ مِن ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ إلَيكَ، فحَذَفْتَه بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَينَه، لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ جُنَاحٌ» (¬3). ويُفارِقُ الأسْفَلَ؛ فإنَّ تَصَرُّفَه لا يَضُرُّ بالأعْلَى، ولا يَكْشِفُ دارَه. ¬

(¬1) في ق، م: «عليه». (¬2) صير الباب: شقه عند ملتقى الرتاج والعضادة. والخصاص: جمع الخصاصة، وهي الفرجة أو الخلل أو الخزق، في باب أو غيره. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، وباب من اطلع في بيت قوم. . . .، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 8، 9، 13. ومسلم، في: باب تحريم النظر في بيت غيره، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1699.

كتاب الحجر

كِتَابُ الْحَجْر وَهُوَ عَلَى ضَرْبَينِ؛ حَجْرٌ لِحَقِّ الْغَيرِ، نَذْكُرُ. مِنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ (¬1) الحَجْر الحَجْرُ في اللُّغَةِ: المَنْعُ والتَّضْيِيقُ. ومنه سُمِّيَ الحَرامُ حِجْرًا، قال اللهُ تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} (¬2). أي حَرامًا مُحَرَّمًا. ويُسَمَّى العَقْلُ حِجْرًا، قال اللهُ تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (¬3). أي عَقْلٍ، سُمِّيَ حِجْرًا؛ لأنَّه يَمْنَعُ صاحِبَه مِن ارْتكابِ ما يَقْبُحُ. وهو في الشَّرْعِ: مَنْعُ الإِنْسانِ مِن التَّصَرُّفِ في مالِه. 1903 - مسألة: (وهو على ضَرْبَين) حَجْرٌ على الإنْسَانِ لحَظِّ نَفْسِه، و (حَجْرٌ لحَقِّ غيرِه) كالحَجْرِ على المَرِيضِ في التبَّرُّعِ بما زاد على الثُّلُثِ لحَقِّ الوَرَثَةِ، وعلى العَبْدِ والمُكاتَبِ لحَقِّ السَّيِّدِ، والرَّاهِنُ يُحْجَرُ عليه في الرَّهْنِ لحَقِّ المُرْتَهِنِ. ولهؤلاءِ أبْوابٌ يُذْكَرُون فيها. ومِن ¬

(¬1) في م: «باب». (¬2) سورة الفرقان 22. (¬3) سورة الفجر 5.

هَهُنَا الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك (الحَجْرُ على المُفْلِسِ) لحَقِّ الغُرَماءِ، وهو المَذْكُورُ ههُنا. والمُفْلِسُ: هو الذي لا مال له، ولا ما يَدْفَعُ به حاجَتَه؛ ولهذا لَمّا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحابِه: «أتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟». قالُوا: يا رسولَ اللهِ، المُفْلِسُ فينَا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ. قال: «لَيسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بحَسَناتٍ أمْثَالِ الجِبالِ، ويَأْتِي وَقَدْ ضَرَبَ هَذا، وَلَطَمَ هذَا، [وأكلَ مال هذا] (¬1)، وأخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا، فَيَأخُذُ هَذَا مِنْ حَسَناتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإنْ بَقِيَ عَلَيهِ شَيْءٌ أخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَرُدَّ عَلَيهِ، ثُمَّ صُكَّ لَهُ صَكٌّ إلى النَّارِ». أخْرَجَه مسلمٌ بمعْناه (¬2). فقَوْلُهم ¬

(¬1) زيادة من: م. وهي عند مسلم والإمام أحمد. (¬2) في: باب تحريم الظلم، من كتاب البر. صحيح مسلم 4/ 1997. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 302، 334، 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك إخْبارٌ عن حَقِيقَةِ المُفْلِسِ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيسَ ذَلِكَ (¬1) المُفْلِسَ». تَجَوُّزٌ لم يُرِدْ به نَفْيَ الحَقِيقَةِ، بل أراد أن فَلَسَ الآخِرَةِ أشَدُّ وأعْظَمُ؛ بحيث يَصِيرُ مُفْلِسُ الدُّنْيا بالنِّسْبَةِ إليه كالغَنيِّ. ونَحْوُ هذا قَوْلُه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ ألْغَضَبِ» (¬2). وقَوْلُه: «لَيسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (¬3). ومنه قولُ الشّاعِرِ (¬4): لَيسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ … إنَّمَا المَيتُ مَيِّتُ الأحْيَاء قِيلَ: إنَّما سُمِّيَ هذا مُفْلِسًا؛ لأنَّه لا مال له إلَّا الفُلُوسَ، وهي أَدْنَى أنْواعِ المالِ. والمُفْلِسُ في عُرْفِ الفُقَهاءِ: مَن دَينُه أكْثَرُ مِن مالِه. وسَمَّوْه مُفْلِسًا وإن كان ذا مالٍ؛ لأنَّ ماله مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ في جِهَةِ دَينِه، فكأنَّه مَعْدُومٌ. وقد دَلَّ عليه تَفْسِيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُفْلِسَ الآخِرَةِ، فإنَّه أخْبَرَ أنَّ له حَسَناتٍ أمثال الجِبالِ، لكنَّها لا تَفِي بما عليه، فقُسِمَتْ بينَ الغُرَماءِ، ¬

(¬1) في الأصل، ر: «ذلكم». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 211. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الغنى غنى النفس، من كتاب الرقاق. صحيح البخاري 8/ 118. ومسلم، في: باب ليس الغنى عن كثرة العرض، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 726. والترمذي، في: باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذي 9/ 221. وابن ماجه، في: باب القناعة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1386. والإمام أحمد، في المسند: 2/ 243، 261، 315، 390، 438، 443، 539، 540. (¬4) نسب ابن منظور البيت، في اللسان (م وت)، إلى عدى بن الرعلاء الغساق، أحد بني عمرو بن مازن، والرعلاء أمه، وكذلك نسبه ابن يعيش في: شرح المفصل 10/ 69. ونسبه ياقوت، في محجم الأدباء 12/ 9 إلى صالح بن عبد القدوس.

1904 - مسألة: (ومن لزمه دين موجل، لم يطالب به قبل أجله)

وَمَنْ لَزِمَهُ دَينٌ مُؤجَّلٌ، لَمْ يُطَالبْ بِهِ قَبْلَ أجَلِهِ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيهِ مِنْ أجْلِهِ. فَإِنْ أرَادَ سَفَرًا يَحِلُّ الدَّينُ قَبْلَ مُدَّتِهِ، فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ، إلا أَنْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ أوْ كَفِيلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَقِيَ لا شيءَ له. ويَجُوزُ أن يَكونَ سُمِّيَ بذلك؛ لِما يَئُولُ إليه مِن عَدَمِ مالِه بعدَ وَفاءِ دَينِه. ويَجُوزُ أن يكُونَ سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يُمْنَعُ مِن التَّصَرُّفِ في مالِه، إلا الشئَ التّافِهَ الذي لا يَعِيشُ إلَّا به، كالفُلُوسِ. 1904 - مسألة: (ومَنْ لَزِمَه دَينٌ مُوجَّلٌ، لم يُطالبْ به قبلَ أجَلِه) لأنَّه لا يَلْزَمُه أداؤُه (ولم يُحْجَرْ عليه مِن أجْلِه) لأنَّه لا يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ به، فلم يَجُزْ مَنْعُه مِن التَّصَرُّفِ في مالِه بسَبَبِه. فإن كان بعضُ دَينِه مُؤَجَّلًا، وبعضُه حالًّا، وكان مالُه يَفِي بالحالِّ، لم يُحْجَرْ عليه أيضًا. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: إن ظَهَرَتْ أماراتُ الفَلَسِ؛ لكَوْنِ مالِه بإزاء دَينِه، ولا نَفَقَةَ له إلَّا مِن مالِه، حُجِر عليه في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ ماله يَعْجِزُ عن دُيُونِه، فهو؛ لو كان مالُه ناقِصًا. ولَنا، أنَّ ماله وافٍ بما يَلْزَمُه أداؤُه، فلم يُحْجَرْ عليه، كما لو لم تَظْهَرْ أماراتُ الفَلَسِ، ولأنَّ الغُرَماءَ لا يُمكِنُهم طَلَبُ حُقُوقِهم في الحالِ، فلا حاجَةَ إلى الحَجْرِ. 1905 - مسألة: (فإن أراد سَفَرًا يَحِل الدَّينُ قبلَ مُدَّتِه، فلِغَرِيمِه مَنْعُه، إلَّا أن يُوَثِّقَهُ برَهْنٍ أو كَفِيلٍ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المَدِينَ إذا أراد

1906 - مسألة: (فإن كان لا يحل)

وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَبْلَهُ، فَفِي مَنْعِهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّفَرَ، وأراد غَرِيمُه مَنْعَه، نَظَرْنا؛ فإن كان مَحِلُّ الدَّينِ قبلَ مَحِلِّ قُدُومِه مِن السَّفَرِ، كمَن يُسافِرُ إلى الحَجِّ لا يَقْدَمُ إلا في صَفَر، ودَينُه يَحِلُّ في المُحَرَّمِ، فله مَنْعُه مِن السَّفَرِ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في تَأْخِيرِ حَقِّه عن مَحِلِّه. فإن أقام ضَمِينًا مَلِيئًا، أو دَفَع رَهْنًا يَفِي بالدَّينِ عندَ المَحِلِّ، فله السَّفَرُ؛ لزَوالِ الضَّرَرِ بذلك. 1906 - مسألة: (فإن كان لا يَحِلُّ) الدَّينُ (قبلَه، ففي مَنْعِه رِوايَتانِ) أمّا إذا كان الدَّينُ لا يَحِلُّ إلَّا بعدَ مَحِلِّ السَّفَرِ، مثلَ أن يَكُونَ مَحِلُّه في رَبِيعٍ، وقُدُومُه في صَفَر، فإن كان سَفَرُه إلى الجِهادِ، فلغَرِيمِه مَنْعُه إلَّا بضَمِينٍ أو رَهْنٍ؛ لأنَّه سَفَرٌ يَتَعَرضُ فيه لذَهَابِ النَّفْسِ، فلا يَأْمَنُ فواتَ الحَقِّ. وإن كان لغيرِ الجِهادِ، فليس له مَنْعُه، في إحْدَى الرِّوايَتَينِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأن هذا السَّفَرَ ليس بأمارةٍ على مَنْعِ الحَقِّ في مَحِلِّه، فلم يَمْلِكْ مَنْعَه منه، كالسَّفَرِ القَصِيرِ، وكالسَّعْي إلى الجُمُعَةِ. والثانيةُ، له مَنْعُه؛ لأنَّ قُدُومَه عندَ المَحِلِّ غيرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَيَقَّنٍ ولا ظاهِرٍ، فمَلَكَ مَنْعَه منه، كالأوَّلِ. وقال الشافعيُّ: ليس له مَنْعُه مِن السَّفَرِ ولا المُطالبَةُ بكَفِيلٍ، إذا كان الدَّينُ مُؤَجَّلًا، بحالٍ، سَواءٌ كان الدَّينُ يَحِلُّ قبلَ مَحِلِّ سَفَرِه أو لا، إلى الجِهادِ أو إلى غيرِه؛ لأنَّه لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكُ المُطالبَةَ بالدَّينِ، فلم يَمْلِكْ مَنْعَه مِن السَّفَرِ ولا المُطالبَةَ بكَفيلٍ، كالسَّفَرِ الآمِنِ القَصِيرِ. ولَنا، أنَّه سَفَرٌ يَمْنَعُ اسْتِيفاءَ الدَّينِ في مَحِلِّه، فمَلَكَ مَنْعَه منه إذا لم يُوَثِّقْه برَهْنٍ أو كَفِيلٍ، كالسَّفَرِ بعدَ حُلُولِ الحَقِّ، ولأنَّه لا يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الدَّينِ عن مَحِله، وفي السَّفَرِ المُخْتَلَفِ فيه تَأْخِيرُه عن مَحِلِّه، فلم يَمْلِكْ، كجَحْدِه (¬1). ¬

(¬1) في م: «كحجره».

1907 - مسألة: (وإن كان حالا، وله مال يفي به، لم يحجر عليه)

وَإنْ كَانَ حَالًّا، وَلَهُ مَالٌ يَفِي بِهِ، لَمْ يُحْجَرْ عَلَيهِ، وَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِوَفَائِهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1907 - مسألة: (وإن كان حالًّا، وله مالٌ يَفِي به، لم يُحْجَرْ عليه) لعَدَمِ الحاجَةِ إلى ذلك (ويَأْمُرُه الحَاكِمُ بوَفائِه، فإن أبَى حَبَسَه) لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيُّ الْوَاجِدِ، يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَه». رَواهُ [الإِمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ»] (¬1) فعُقُوبَتُه حَبْسُه، وعِرْضُه أن يُغْلِظَ له، فيَقُولُ له: يا ظالِمُ، يا مُتَعَدِّي. ونحوَ ذلك. ¬

(¬1) في م: «أحمد». والحديث في: المسند 4/ 388، 389. كما أخرجه البخاري، في: باب لصاحب الحق مقال، من كتاب الاستقراض. صحيح البخاري 5/ 155. وأبو داود، في: باب في الحبس بالدين وغيره، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 282. والنسائي، في: باب مطل الغنى، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 278. وابن ماجه، في: باب الحبس في الدين والملازمة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 811.

1908 - مسألة: (فإن أصر باعه الحاكم وقضى دينه)

فَإِنْ أَصَرَّ، بَاعَ مَالهُ، وَقَضَى دَينَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1908 - مسألة: (فإن أصَرَّ باعَه الحاكِمُ وقَضَى دَينَه) وجُمْلته، أنَّ الغَرِيمَ إذا حُبِس فصَبَرَ على الحَبْسِ، ولم يَقْضِ الدَّينَ، قَضَى الحاكِمُ دَينَه مِن مالِه. وإنِ احْتاجَ إلى بَيعِ مالِه قى قَضاءِ دَينِه، باعَه وقَضَى دَينَه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ، ومحمدٍ. وقال أبو حنيفةَ: ليس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للحاكِمِ بَيعُ مالِه، لكنَّه يُجْبِرُه على البَيعِ إذا لم يُمْكِنِ الإِيفاءُ بدُونِه، فإنِ امْتَنَعَ لم يَبِعْه الحاكِمُ، وإنَّما يَحْبِسُه ليَبِيعَ بنَفْسِه، إلَّا أن يكُونَ عليه أحِدُ النَّقْدَينِ، ومالُه مِن النَّقْدِ الآخَرِ، فيَدْفَعُ أحَدَ النَّقْدَين عن الآخَرِ؛ لأنَّه رَشِيدٌ لا ولايةَ عليه، فلم يَجُزْ بَيعُ مالِه بغيرِ إذْنِه، كالذي لا دَينَ عليه. ولَنا، [ما روَى كَعْبُ بنُ مالِكٍ] (¬1)، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَر على مُعاذٍ، وباع ماله في دَينِه. رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬2). ورُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه خَطَبَ النّاسَ، وقال: ألا إنّ أُسَيفِعَ جُهَينَةَ قد رَضِيَ مِن دِينِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه، من كتاب التفليس. السنن الكبرى 6/ 48. والدارقطني، في: كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطني 4/ 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمانَتِه بأن يُقال: سَبَقَ الحاجَّ. فادّانَ مُعْرِضًا، فأصْبَحَ وقد رِينَ به (¬1)، فمَن كان له عليه مالٌ فليَحْضُرْ غَدًا، فإنّا بائِعو مالِه وقاسِمُوه بينَ غُرَمائِه (¬2). ولأنَّه مَحْجُورٌ عليه، مُحْتاجٌ إلى قَضاءِ دَينِه، فجازَ بَيعُ مالِه بغيرِ رِضاه، كالصَّغِيرِ والسَّفِيهِ، ولأنَّه نَوْعُ مالٍ، فجاز بَيعُه في قَضاءِ دَينِه، كالأثْمانِ، وقِياسُهم يَبْطُلُ ببَيعِ الدَّراهِمِ بالدَّنانِيرِ. ¬

(¬1) رين به: أحاط الدين بماله. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب جامع القضاء وكراهيته، من كتاب الوصية. الموطأ 2/ 770.

1909 - مسألة: (وإن ادعى الإعسار، وكان دينه عن عوض، كالبيع والقرض، أو عرف له مال سابق، حبس، إلا أن يقيم البينة على نفاد ماله وإعساره. وهل يحلف معها؟ على وجهين. وإن لم يكن كذلك، حلف وخلي سبيله)

وَإنِ ادَّعَى الإِعْسَارَ، وَكَانَ دَينهُ عَنْ عِوَضٍ، كَالْبَيعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ سَابِقٌ، حُبِسَ، إلا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَفَادِ مَالِهِ وَإِعْسارِهِ. وَهَلْ يَحْلِفُ مَعَهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، حَلَفَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1909 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الإِعْسارَ، وكان دَينُه عن عِوَضٍ، كالبَيعِ والقَرْضِ، أو عُرِفَ له مالٌ سابقٌ، حُبِس، إلَّا أن يُقِيمَ البَيِّنَةَ على نَفادِ مالِه وإعْسارِه. وهل يَحْلِفُ معها؟ على وَجْهَين. وإن لم يكنْ كذلك، حَلَف وخُلِّيَ سَبيلُه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن وَجب عليه دَينٌ حالٌّ، فطُولِبَ به، فلم يُؤَدِّه، فإن كان في يَدِه مالٌ ظاهِرٌ، أمَرَه الحاكِمُ بالقَضاءِ. وإن لم يَظْهَرْ له مالٌ، فادَّعَى الإِعْسارَ، فصَدَّقَه غَرِيمُه، لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحْبَسْ، ووَجَب إنْظارُه، ولم يَجُزْ مُلازَمَتُه؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} (¬1). ولقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لغُرَماءِ الذي كَثُر دَينُه: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، لَيسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ» (¬2). ولأنَّ الحَبْسَ إمّا أن يَكُونَ لإثْباتِ عُسْرَتِه أو لقضاءِ دَينِه، وعُسْرَتُه ثابِتَةٌ والقَضاءُ مُتَعَذِّرٌ، فلا فائِدَةَ في الحَبْسِ. فإن كَذَّبَه غَرِيمُه، فلا يَخْلُو؛ إمّا أن يَكُونَ عُرِف له مالٌ أو لم يُعْرَفْ، فإن عُرِف له مالٌ؛ لكَوْنِ الدَّينِ ثَبَتَ عن مُعاوَضَةٍ، كالقَرْضِ والبَيعِ، أو عُرِف له أصْلُ مالٌ سِوَى هذا، فالقَوْلُ قولُ غَرِيمِه مع يَمِينِه. فإذا حَلَفَ أنَّه ذو مالٍ، حُبِس حتى تَشْهَدَ البَيِّنَةُ بإعْسَارِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ مَن نَحْفَظُ عنه مِن عُلَماءِ الأمْصارِ وقُضاتِهِم يَرَوْن الحَبْسَ في الدَّينِ؛ منهم مالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، والنُّعْمانُ، وسَوّارٌ، وعُبَيدُ اللهِ بنُ الحَسَنِ. ورُوِيَ عن شُرَيحٍ، والشَّعْبِيِّ. وكان ¬

(¬1) سورة البقرة 280. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استحباب وضع الدين، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1191. وأبو داود، في: باب وضع الجائحة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 248. والترمذي، في: باب ما جاء من تحل له الصدقة من الغارمين وغيرهم، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذي 3/ 155. والنسائي، في: باب وضع الجوائح، وفي: باب الرجل يبتاع البيع فيفلس. . . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 233، 275. وابن ماجه، في: باب تفليس المعدم والبيع عليه لغرمائه، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 789. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ يَقُولُ: يُقْسَمُ مالُه بينَ الغُرَماءِ، ولا يُحْبَسُ. وبه قال عبيدُ الله (¬1) بنُ أبي جَعْفَرٍ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ. ولَنا، أنَّ الظّاهِرَ قولُ الغَرِيمِ، فكان القَوْلُ قَوْلَه، كسائِرِ الدَّعاوَى. فإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بتَلَفِ مالِه، قُبِلَتْ شَهادَتُهُم، سَواءٌ كانت مِن أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ، أو لم تَكُنْ؛ لأنَّ التَّلَفَ يَطَّلِعُ عليه أهْلُ الخِبْرَةِ وغيرُهم. وإن طَلَب الغَرِيمُ إحْلافَه على ذلك، لم يُجَبْ إليه؛ لأنَّه تَكْذِيبٌ للبَيِّنَةِ، وإن شَهِدَتْ مع ذلك بالإِعْسارِ، اكْتُفِيَ بشَهادَتِها (¬2)، وثَبَتَتْ عُسْرَتُه، وإن لم تَشْهَدْ إلَّا بالتَّلَفِ، وطَلَبَ الغَرِيمُ يَمِينَه على عُسْرَتِه، وأنَّه ليس له مالٌ آخَرُ، اسْتُحْلِفَ على ذلك؛ لأنَّه غيرُ ما شَهِدَتْ به البَيِّنَةُ. وإن لم تَشْهَدْ بالتَّلَفِ، وإنَّما شَهدَتْ بالإِعْسارِ، لم تُقْبَلِ الشَّهادَةُ إلَّا مِن ذي خِبْرَةٍ باطِنَةٍ؛ لأنَّ هذا في الأمُورِ الباطِنَةِ، لا يَطَّلِعُ عليه في الغَالِب إلَّا أهْلُ الخِبْرَةِ والمُخالطَةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ أَنَّه قال: لا تُسْمَعُ البَيِّنَةُ على ¬

(¬1) في م: «عبد الله». وهو عبيد الله بن أبي جعفر يسار أبو بكر، المصري الفقيه، مولى بني كنانة، ثقة عالم عابد، ولد سنة ستين، وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 7/ 5، 6. (¬2) في م: «بشهادتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإعْسارِ؛ لأنَّها شَهادَة على النَّفْي، فلم تُسْمَعْ، كما لو شَهِدَتْ على (¬1) أَنه لا دَينَ عليه. ولَنا، ما روَى قَبِيصَةُ بنُ المُخارِقِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا قَبِيصَةُ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأحَدِ ثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَها (¬2) ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فاجْتَاحَتْ مَاله، فحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيشٍ أو قال -سِدَادًا مِنْ عَيش، ورَجُلٌ أصَابَتْه فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوي (¬3) الْحِجَا مِنْ قَوْمِه: لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيشٍ -أو قال- سِدَادًا مِنْ عَيشٍ». رَواه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يقضيها». (¬3) في م: «أهل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ، وأبو دَاودَ (¬1). وقَوْلُهم: إنَّ الشَّهادَةَ على النَّفْي لا تُقْبَلُ. قُلْنا: لا تُرَدُّ مُطْلَقًا، فإنَّه لو شَهِدَتِ بَيِّنَة أنَّ هذا وارِثُ هذا المَيِّتِ، لا وارِثَ له سِواه، قُبِلَتْ، ولأنَّ هذه وإن كانت تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، فهي تُثْبِتُ حالةً تَظْهَرُ، ويُوقَفُ عليها بالمُشاهَدَةِ، بخِلافِ ما إذا شَهِدَتْ أنَّه لا حَقَّ له، فإنَّ هذا ممّا لا يُوقَفُ علية (¬2)، ولا يَشهَدُ به حالٌ يُتَوَصَّلُ بها إلى مَعْرِفَتِه به (¬3)، بخِلافِ مَسْألِتنا. وتُسْمَعُ البَيِّنَةُ في الحالِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُسْمَعُ في الحالِ، ويُحْبَسُ شَهْرًا. وقِيلَ: ثَلاثَةَ أشْهُرٍ. ورُوِيَ أرْبَعَةً، حتى يَغْلِبَ على ظَنِّ الحاكِمِ أنّه لو كان له مالٌ لأظْهَرَه. ولَنا، أنَّ كلَّ بَيِّنةٍ جازَ سَماعُها بعدَ مُدَّةٍ، جاز سَماعُها في الحالِ، كسائِرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 219. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيِّناتِ، وما ذَكَرُوه لو كان صَحِيحًا لأغْنَى عن البَيِّنَةِ. فإن قال الغَريمُ: أحْلِفُوه لي مع بَيِّنَتِه أنَّه لا مال له. لم يُسْتَحْلَفْ، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ؛ لأنَّه قال، في رِوايَةِ ابنَ (¬1) إبراهيمَ، في رجلٍ جاء بشُهُودٍ على حَقٍّ، فقال الغَرِيمُ: اسْتَحْلِفُوه. لا يُسْتَحْلَفُ؛ لأنَّ ظاهِرَ الحَدِيثِ: «البَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ» (¬2). قال القاضي: سَواءٌ شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بتَلَفِ المالِ أو بالإِعْسارِ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّها بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ، فلم يُسْتَحْلَفْ معها، كما لو شَهِدَتْ بأنَّ هذا عَبْدُه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُسْتَحْلَفُ. وهو القَوْلُ الثانِي للشافعيِّ؛ لأَنه يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي، تقدم التعريف به في 1/ 55. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إذا اختلف الراهن والمرتهن. . . .، من كتاب الرهن. صحيح البخاري 3/ 187. ومسلم، في: باب اليمين على المدعى عليه، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1336. والترمذي، في: باب ما جاء في أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 87، 88. وابن ماجه، في: باب البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 778.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له مالٌ خَفِيَ عن البَيِّنَةِ. قال شيخُنا (¬1): ويَصِحُّ عندِي إلْزامُه اليَمِينَ على الإِعْسارِ إذا شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بتَلَفِ المالِ، وسُقُوطُها عنه فيما إذا شَهِدَتْ بالإِعْسارِ، لأنَّها إذا شَهِدَتْ بالتَّلَفِ، صار كمَن لم يَثْبُتْ له أصْلُ مالٍ، أو بمَنْزِلَةِ مَن أقَرَّ له غَرِيمُه بتَلَفِ ذلك المالِ، وادَّعَى أنَّ (¬2) له مالًا سِواه أو أنَّه اسْتَحْدَثَ مالًا بعدَ تَلَفِه، ولو لم تَقُمِ البَيِّنَةُ، وأقَرَّ له غَرِيمُه بتَلَفِ مالِه، وادَّعَى أنَّ له مالًا سِواه، لَزِمَتْه اليَمِينُ، فكذلك إذا قامَتْ به البَيِّنَةُ، فإنَّها لا تَزيدُ على الإِقْرارِ. فإنْ كان الحَقُّ ثَبَت عليه في غيرِ مُقابَلَةِ مالٍ أخَذَه، كأَرشِ جِنايَةٍ، وقِيمَةِ مُتْلَفٍ، ومَهْرٍ، أو ضَمانٍ، أو كَفالةٍ، أو عِوَضِ خُلْعٍ إن كانْتِ امْرَأَةً، [ولم] (¬3) يُعْرَفْ له مالٌ، حَلَف أنَّه لا مال له، وخُلِّيَ سَبِيلُه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وإنَّما اكْتَفَينا بيمينِه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ المالِ، وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال ¬

(¬1) في: المغني 6/ 587. (¬2) سقط من: ر، ق، م. (¬3) في م: «فإن لم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِحَبَّةَ وسَوَاءٍ ابْنَيْ خالِدِ بنِ سَوَاء: «لَا تَيأسَا مِن الرِّزْقِ مَا اهْتَزَّتْ رُءُوسُكُمَا، فَإنَّ ابْنَ آدَمَ يُخْلَقُ [وَلَيسَ لَهُ إلَّا قِشْرَتَاه] (¬1)، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللهُ تَعَالى» (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: [الحَبْسُ عقوبةٌ] (¬3)، ولا نَعْلَمُ له ذَنْبًا يُعَاقَبُ به. والأصْلُ عَدَمُ مالِه، بخِلافِ مَن عُلِم له مالٌ، فإنَّ الأصْلَ بقاءُ مالِه، فيُحْبَسُ حتى يُعْلَمَ ذَهابُه. ومُطلَقُ كلامِ الخِرَقِيِّ يَدُلُّ على أنَّه يُحْبَسُ في الحالتَين، لكنَّه يَنْبَغِي أن يُحْمَلَ كَلامُه على هذا؛ لقِيامِ الدَّلِيلِ على الفَرْقِ. ¬

(¬1) في سنن ابن ماجه: «وليس عليه قشر». وفي المسند: «وليس عليه قشرة». (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب التوكل واليقين، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1394. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 469. (¬3) الأصل، ر، ق: «العقوبة حبس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى ثَبَت إعْسارُه عندَ الحاكِمِ، لم يَجُزْ مُطالبَتُه ولا مُلازَمَتُه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لغُرَمائِه مُلازَمَتُه مِن غيرِ أن يَمْنَعُوه مِن الكَسْبِ، فإذا رَجَع إلى بَيتِه فأذِنَ لهم في الدُّخُولِ معه، وإلَّا مَنَعُوه مِن الدُّخُولِ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لِصَاحِبِ الْحَقِّ اليَدُ وَاللِّسَانُ» (¬1). ولَنا، أنَّ مَن ليسَ لصاحِب الحَقِّ مُطالبَتُه لم يَكُنْ له مُلازَمَتُه، كصاحِبِ الدَّينِ المُؤَجَّلِ، وقولُ اللهِ تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}. ومَن وَجَب إنظارُه حَرُمَتْ مُلازَمَتُه، كمَن دَينُه مُؤَجَّلٌ، والحديثُ فيه مقالٌ. قاله ابنُ المُنْذِرِ. ثم نَحْمِلُه على المُوسِرِ؛ بدَلِيلِ ما ذَكَرْنا. وقد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لغُرَماءِ الذي أُصِيبَ في ثمارٍ ابْتاعَهَا، فكَثُرَ دَينُه: «خُذُوا مَا وَجَدْتُم، وَلَيسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ». رَواه مسلمٌ، والتِّرْمِذِيُّ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في: كتاب الأقضية. من الدارقطني 4/ 232. وانظر: نصب الراية 4/ 166. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 237.

1910 - مسألة: (وإن كان)

وَإنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَا يَفِي بِدَينِهِ، فَسَألَ غُرَمَاؤُهُ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيهِ، لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1910 - مسألة: (وإن كان) حالًا و (له مالٌ لا يَفِي بدَينِه، فَسَألَ غُرَماؤُه الحاكِمَ الحَجْرَ عليه، لَزِمَتْه إجابَتُهم) إذا اتَّفَقَ الغُرَماءُ على طَلَبِ الحَجْرِ عليه في هذه الحالِ، لَزِم الحاكِمَ إجابَتُهْم. ولا يَجُوزُ الحَجْرُ عليه بغيرِ سُؤالِ غُرَمائِه؛ لأنَّه لا ولايَةَ له في ذلك، إنَّما يَفْعَلُه لحَقِّ الغُرَماءِ، فاعْتُبِرَ رِضاهم. وكذلك إن سَألَه بعضهم. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: ليس للحاكِمِ الحَجْرُ عَلَيه، فإذا أدَّى اجْتِهادُه إلى الحَجْرِ عليه ثَبَت؛ لأنَّه فِعْلٌ (¬1) مُجْتَهَدٌ فيه. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَر على مُعاذٍ، وباع ماله في دَينِه. رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬2). ¬

(¬1) في الأصل، ر، م: «فصل». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 234.

1911 - مسألة: (ويستحب)

وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهُ وَالإِشْهَادُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَصَرُّفُه قبلَ حَجْرِ الحاكِمِ في مالِه نافِذٌ، مِن البَيعِ، والهِبَةِ، والإِقْرارِ، وقَضاءِ بعضِ الغُرَماءِ، وغيرِ ذلك. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لأنَّه رَشِيدٌ غيرُ مَحْجُورٍ عليه، فنَفَذَ تَصَرُّفُه، كغَيرِه، ولأنَّ سَبَبَ المَنْعِ الحَجْرُ، فلا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه، ولأنَّه مِن أهْلِ التَّصَرُّفِ ولم يُحْجَرْ عليه، أشْبَهَ المَلِئَ. وإن أَكْرَى جَمَلًا بعَينِه، أو دارًا لم تَنْفَسِخْ إجارَتُه بالفَلَسِ، وكان المُكْتَرِي أحَقَّ به حتى تَنْقَضِيَ مُدَّته. 1911 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ) إظْهارُ الحَجْرِ عليه (والإشْهادُ عليه) لتُجْتَنَبَ مُعامَلَته، لِئَلَّا يَسْتَضِرَّ النّاسُ بضَياعِ أمْوالِهم. ويُشْهَدُ عليه؛ ليَنْتَشِرَ ذلك، ورُبَّما عُزِل الحاكِمُ أو مات، فيَثْبُتُ الحَجْرُ عندَ الآخَرِ، فلا يَحْتَاجُ إلى ابْتِداءِ حَجْرٍ ثانٍ.

فَصْل: وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَجْرِ عَلَيهِ أرْبَعَةُ أَحْكَامٍ، أَحَدُهَا، تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيهِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، إلا الْعِتْقَ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ الله عنه: (ويَتَعَلَّقُ بالحَجْرِ عليه أرْبَعَةُ أحْكامٍ؛ أحَدُها، تَعَلُّقُ حَقِّ الغُرَماءِ بمالِه، فلا يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه، ولا يُقْبَلُ إقْرارُه عليه، إلَّا العِتْقَ على إحْدَى الرِّوايَتَين) متى حُجر على المُفْلِسِ، لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُه في شيءٍ مِن مالِه، فإن تَصَرَّفَ فيه ببَيع، أَو هِبَةٍ، أو وَقْفٍ، أو أصْدَقَ امرأةً مالًا له، أو نحو ذلك، لم يَصِحَّ. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ في قولٍ، وقال في آخَرَ: يَقِفُ تَصَرُّفُه، فإن كان فيما بَقِيَ مِن مالِه وفاءُ الغُرَماءِ نَفَذ (¬1)، وإلَّا بَطَل. ولَنا، أنَّ حُقُوقَ الغُرَماء تَعَلَّقَتْ بأعْيانِ مالِه، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُه فيها، كالعَينِ المَرْهُونَةِ، ولأنَّه مَحْجُورٌ عليه بحُكْمِ حاكِمٍ، فأشْبَهَ السَّفِيهَ. فإن أقَرَّ بدَينٍ، لم يُقْبَلْ في الحالِ، ويُتْبَعُ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه. نَصَّ عليه. وهو قوْلُ مالِكٍ، ومحمدِ بن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَسَنِ، والثوْرِيِّ، والشافعيِّ في قولٍ، وقال في الآخَرِ: يُشارِكُهم. اخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه دَينٌ ثابتٌ مُضافٌ إلى ما قبلَ الحَجْرِ، فشارَكَ صاحِبُه الغُرَماءَ، كما لو ثَبَت ببَيِّنَةٍ. ولَنا، أنَّه مَحْجُورٌ عليه، فلم يَصِحَّ إقْرارُه فيما حُجِر عليه فيه، كالسَّفِيهِ، ولأنَّه إقْرارٌ يُبْطِلُ ثُبُوتُه (¬1) حَقَّ غيرِ المُقِرِّ، فلم يُقْبَلْ، أو إقْرار على الغُرَماءِ، فلم يُقْبَلْ، كإقْرارِ الرّاهِنِ، ولأنَّه مُتَّهَمٌ في إقْرارِه، وفارَقَ البَيِّنَةَ، فإنَّه لا تُهْمَةَ في حَقِّها. فإن كان ¬

(¬1) بعده في م: «في غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُفْلِسُ صانِعًا، كالقَصَّارِ (¬1)، والحائِكِ، في يَدِه مَتاعٌ، فأقَرَّ به لأرْبابِه، لم يُقْبَلْ، والقَوْلُ فيها كالتي قبلَها. وتُباعُ العَينُ التي في يَدِه، وتُقْسَمُ بينَ الغُرَماءِ، وتَكُونُ قِيمَتُها واجِبَةً على المُفْلِسِ إذا قَدَر عليها؛ لأنَّها انْصَرَفَتْ في وَفاءِ دَينِه بسَبَبٍ مِن جِهَتِه، فكانت قِيمَتُها عليه، كما لو أذِنَ في ذلك. وإن تَوَجَّهَتْ على المُفْلِسِ يَمِين، فنَكَلَ عنها، فَقُضِيَ عليه، فحُكْمُه حُكْمُ إقْرارِه، يَلْزَمُ في حَقِّه دُونَ الغُرَماءِ. فإن أعْتَقَ بعضَ ¬

(¬1) القصار: من يدق الثياب ويبيِّضها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَقِيقِه، صَحَّ، في إحْدَى الرِّوايَتَين، ونَفَذ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، وإسحاقَ، لأنَّه عِتْقٌ مِن مالِكٍ رَشِيدٍ، فنَفَذَ، كما قبلَ الحَجْرِ. وفارَقَ سائِرَ التَّصَرُّفاتِ؛ لأنَّ للعِتْقِ تَغْلِيبًا وسِرايَةً، ولهذا يَسْرِي إلى مِلْكِ الغيرِ، بخِلافِ غَيرِه. والأُخْرَى، لا يَنْفُذُ عِتْقُه. وبه قال مالِكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ. واخْتارَه أبو الخَطّاب في «رُءُوسِ المَسائِلِ»؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن التبرعِ لحَقِّ الغُرَماءِ، فلم يَنْفُذْ عِتْقُه، كالمَرِيضِ الذي يَسْتَغْرِقُ دَينُه ماله. وأمّا سِرايَتُه إلى مِلْكِ الغَيرِ، فمِن شَرْطِه أن يَكُونَ مُوسِرًا، يُوخَذُ منه قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِه، ولا يَتَضَرَّرُ، ولو كان مُعْسِرًا، لم يَنْفُذْ عِتْقُه إلَّا في مِلْكِه، صِيانَةً لحَقِّ الغيرِ وحِفْظًا له عن الضَّياعِ. كذا ها هنا. وهذا أصَحُّ، إن شاء الله تعالى.

1912 - مسألة: (وإن تصرف في ذمته بشراء، أو ضمان، أو إقرار، صح. ويتبع به بعد فك الحجر عنه)

وَإنْ تَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ بِشِرَاءٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أو إِقْرَارٍ، صَحَّ. وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1912 - مسألة: (وإن تَصَرَّفَ في ذِمَّتِه بشِراءٍ، أو ضَمانٍ، أو إقْرارٍ، صَحَّ. ويُتْبَعُ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه) لأنَّه أهْلٌ للتَّصَرُّفِ، وإنَّما وُجِدَ في حَقِّه الحَجْرُ، والحَجْرُ مُتَعَلِّقٌ بمالِه لا بذِمَّتِه، ولكنْ لا يُشارِكُ أصْحابُ هذه الدُّيُونِ الغُرَماءَ؛ لأنَّهم رَضُوا بذلك إذا عَلِمُوا بفَلَسِه

1913 - مسألة: (وإن جنى، شارك المجني عليه الغرماء، وإن جنى عبده، قدم المجني عليه بثمنه)

وَإنْ جَنَى، شَارَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيهِ الْغُرَمَاءَ، وَإنْ جَنَى عَبْدُهُ، قُدِّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيهِ بِثَمَنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعامَلُوهَ، ومَن لا يَعْلَمُ فقد فَرَّطَ في ذلك؛ فإنَّ هذا في مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ. فعلى هذا، يُتْبَع بها بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه. وفي إقْرارِه خِلافٌ، ذَكَرْناه في المسألَةِ التي قَبْلَها. فأمّا إن ثَبَت عليه حَقٌّ ببَيِّنَةٍ، شارَكَ صاحِبُه الغرَماءَ؛ لأنَّه دَينٌ ثابِتٌ قبلَ الحَجْرِ عليه، أشْبَهَ ما لو شَهِدَت به قبلَ الحَجْرِ. 1913 - مسألة: (وإن جَنَى، شارَكَ المَجْنِيُّ عليه الغُرَماءَ، وإن جَنَى عَبْدُه، قُدِّمَ المَجْنِيُّ عليه بثَمَنِه) إذا جَنَى المُفْلِسُ بعدَ الحَجْرِ جِنايَةً مُوجِبَةً للمالِ، شارَكَ المَجْنِيُّ عليه الغُرَماءَ؛ لأنَّ حَقَّ المَجْنِيِّ عليه ثَبَت

فَصْلٌ: الثَّانِي، أَنْ مَنْ وَجَدَ عِنْدَهُ عَينًا بَاعَهَا إِيَّاهُ، فَهُوَ أحَقُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ اخْتِيارِه. ولو كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَةً للقِصاصِ، فعَفا صاحِبُها عنها إلى مالٍ، أو صالحَه المُفْلِسُ على مالٍ، شارَكَ الغُرَماءَ؛ لأن سَبَبَه ثَبَتْ بغيرِ اخْتِيارِ صاحِبِه، فأشْبَهَ ما أوْجَبَ المال. فإن قِيلَ: ألا قَدَّمْتُم حَقَّه على الغُرَماءِ، كما قَدَّمْتُم حَقَّ مَن جَنَى عليه بعضُ عَبِيدِ المُفْلِسِ؟ قُلْنا: لأنَّ الحَقَّ في العَبْدِ الجانِي تَعَلَّقَ بعَينِه، فقُدِّمَ لذلك، وحَقُّ هذا تَعَلَّقَ بالذِّمَّة، كغيرِه مِن الدُّيُونِ، فاسْتَوَيَا. فإنْ جَنَى عَبْدُه، قُدِّمَ المَجْنِيُّ عليه بثَمَنِه؛ لأنَّ الحَقَّ تَعَلَّق بالعَين، فقُدِّمَ على مَن تَعَلَّقَ حَقُّه بالذِّمَّةِ، كما يُقَدَّمُ حَقُّ المُرْتَهِنِ بثَمَنِ الرَّهْنِ على الغُرَماءِ، ولأنَّ حَقَّ المَجْنِيِّ عليه يُقَدَّمُ على حَقِّ المُرْتَهِنِ، فأوْلَى أن يُقَدَّمَ على حَقِّ الغُرَماءِ. فصل: قال، رَحِمَه الله: (الثانِي، أنَّ مَن وَجَد عندَه عَينًا باعَها إياهُ،

بِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ حَيًّا، وَلَمْ يَنْقُدْ مِنْ ثَمَنِهَا شَيئًا، وَالسِّلْعَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا، وَلَمْ تتَغَيَّرْ صِفَتُهَا بِمَا يُزِيلُ اسْمَهَا، كَنَسْجِ الْغَزْلِ وَخَبْزِ الدَّقِيقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو أحَقُّ بها، بشَرْطِ أن يَكُونَ المُفْلِسُ حَيًّا، ولم يَنْقُدْ مِن ثَمَنِها شيئًا، والسِّلْعَةُ بحالِها لم يَتْلَفْ بَعْضُها، ولم تَتَغَيَّرْ صِفَتُها بما يُزِيلُ اسْمَها، كنَسْجِ الغَزْلِ، وخَبْزِ الدَّقِيقِ) [وجُمْلَةُ ذلك] (¬1)، أنَّ المُفْلِسَ إذا حُجِر عليه، فوَجَدَ بعضُ غُرَمائِه سِلْعَتَه التي باعَه إيّاها بعَينِها، فله فَسْخُ البَيعِ والرُّجُوعُ في عَينِ مالِه بالشُّروطِ التي نَذْكُرُها. رُوِيَ ذلك عن عُثْمانَ، وعلي، وأبي هُرَيرَةَ. وبه قال عُرْوَةُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، والأوْزاعِيُّ، والعَنْبَرِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو حنيفةَ: هو أُسْوَةُ الغُرَماءِ، لأنَّ البائِعَ كان ¬

(¬1) في م: «وجملته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له حَقُّ الإِمْساكِ لقَبْضِ الثَّمَنِ، فلَمّا سَلَّمَه، أسْقَطَ [حَقَّه مِن] (¬1) الإِمْساكِ، فلم يَكُنْ له أن يَرْجِعَ في ذلك بالإِفْلاسِ، كالمُرْتَهِنِ إذا سَلَّمَ الرَّهْنَ إلى الرّاهِنِ. ولأنَّه ساوَى الْغُرماءَ في سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ، فيُساويهم في الاسْتِحْقاقِ، كسائِرِهم. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أدْرَكَ مَتَاعَهُ بعَيِّنِه عِنْدَ إنْسَانٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال أحمدُ: لو أنَّ حاكِمًا حَكَم أنَّه أسْوَةُ الغُرَماءِ، ثم رُفِع إلى رجلٍ يَرَى العَمَلَ بالحَدِيثِ، جاز له نَقْضُ حُكْمِه. ولأنَّ هذا العَقْدَ يَلْحَقُه الفَسْخُ بالإِقالةِ، فجاز فيه الفَسْخُ لتَعَذُّرِ الغَرَضِ، كالمُسْلَمِ فيه إذا تَعَذَّرَ. ولأنه لو شَرَط في البَيعِ رَهْنًا، فعَجَزَ عن تَسْلِيمِه، اسْتَحَقَّ الفَسْخَ، وهو وَثِيقَةٌ بالثَّمَنِ، فالعَجْزُ عن تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بنَفْسِه أوْلَى. ويُفارِقُ البَيعُ ¬

(¬1) في م: «حق». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إذا وجد ماله عند مفلس. . . .، من كتاب الاستقراض. صحيح البخاري 3/ 155، 156. ومسلم، في: باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس. . . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1193. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 257. وابن ماجه، في: باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 790. والإمام مالك، في: باب ما جاء في إفلاس الغريم، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 678. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّهْنَ، فإنَّ إمْساكَ الرَّهْنِ إمْساكٌ مُجَرَّدٌ على سَبِيلِ الوَثِيقَةِ، وليس ببَدَلٍ، والثمنُ ههُنا بَدَلٌ عن العَينِ، فإذا تَعَذرَ اسْتِيفاؤُه، رَجَع إلى المُبْدَلِ. وقَوْلُهم: تَساوَوْا في سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ. قُلْنا: لكنِ اخْتَلَفُوا في الشَّرْطِ، فإنَّ بقاءَ العَينِ شَرْط لمِلْكِ الفَسْخِ، وهي مَوْجُودَةٌ في حَقِّ مَن وَجَد مَتاعَه دُونَ مَن لم يَجِدْه. إذا ثَبَت هذا، فإن البائِعَ بالخِيارِ، إن شاء رَجَع في السِّلْعَةِ، وإن شاء لم يَرْجعْ وكان أُسْوَةَ الغُرَماءِ، وسواءٌ كانَتِ السِّلْعَةُ مُساويَةً لثَمَنِها، أو أقَلَّ أو أَكثَرَ؛ لأنَّ الإِعْسارَ سَبَبٌ يُثْبِتُ جوازَ الفَسْخِ، فلا يُوجِبُه، كالعَيبِ والخِيارِ. ولا يَفْتَقِرُ الفَسْخُ (¬1) إلى حُكْمِ حاكِمٍ؛ لأنَّه فَسْخٌ ثَبَت بالنَّصِّ، فلم يَحْتَجْ إلى حُكْمِ حاكِم، كفَسْخِ النِّكاحِ لعِتْقِ الأمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل خِيارُ الفَسْخِ على الفَوْرِ أو التَّراخِي؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّه على التَّراخِي؛ لأنَّه حَقُّ رُجُوعٍ يَسْقُطُ إلى عِوَضٍ، فكان على التَّراخِي، كالرُّجُوعَ في الهِبَةَ. والثانِي، هو (¬1) على الفَوْرِ؛ لأنَّ جَوازَ تَأْخِيرِه يُفْضي إلى الضَّرَرِ بالغُرَماءِ، لإِفْضائِه إلى تَأْخِيرِ حُقوقِهم، فأشْبَهَ خِيارَ الأخْذِ بالشّفْعَةِ. وهذان الوَجْهان مَبْنِيَّان على الرِّوايَتَين في خِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. ونَصَر القاضي الوَجْهَ الثانِيَ. ولأصْحابِ الشافعيِّ الوَجْهان. فصل: فإنْ بَذَل الغُرَماءُ لصاحِبِ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ ليَتْرُكَها، لم يَلْزَمْه قَبُولُه. نصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال مالِكٌ: ليس له الرُّجُوعُ؛ [لأن الرجوع] (¬2) إنَّما جاز لدَفْعِ ما يَلْحَقُه مِن النَّقْصِ في الثَّمَنِ، فإذا بُذِل له بكَمالِه، لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ، كما لو زال العَيبُ مِن المَعِيبِ. ولَنا، الخَبَرُ الذي رَوَيناه، ولأنَّه تَبَرُّع بدَفْعِ الحَقِّ مِن غيرِ مَن هو عليه، فلم يُجْبَرْ صاحِبُ الحَقِّ على قَبْضِه، كما لو أعْسَرَ الزَّوْجُ بالنَّفَقَةِ، فبَذَلَها غيرُه، أو أعْسَرَ المُكاتَبُ، فبَذَلَ غيرُه ما عليه لسَيِّدِه، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه. وسَواءٌ بَذَلُوه مِن أمْوالِهم، أو خَصُّوه بثَمَنِه مِنِ مالِ المُفْلِسِ، وفي هذا القَسْمِ ضَرَرٌ آخَرُ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ أن يَظْهَرَ له غرِيمٌ لم يَحْضُرْ، فيَرْجِعَ عليه. وإن دَفَعُوا إلى المُفْلِسِ الثمَنَ، فبَذَلَه للبائِعِ، لم يَكُنْ له ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَسْخُ؛ لأنَّه زال العَجْزُ عن تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فزال مِلْكُ الفَسْخِ، كما لو أسْقَطَ سائِرُ الغُرَماءِ حُقُوقَهم عنه فمَلَكَ أداءَ الثَّمَنِ. ولو أسْقَطَ الغُرَماءُ حَقَّهم (¬1) عنه فتَمَكَّنَ مِن الأداءِ، أو وُهِب له مالٌ فأمْكَنَه الأداءُ منه، أو غَلَتْ أعْيانُ مالِه فصارت قِيمَتُها وافِيَةً بحُقُوقِ الغُرَماءِ، بحيث يُمْكِنُه أداءُ الثَّمَنِ كلِّه، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ؛ لزَوالِ سَبَبِه، ولأنَّه أمْكَنَه الوُصُولُ إلى ثَمَنِ سِلْعَتِه مِن المُشْتَرِي، فلم يَكُنْ له الفَسْخُ، كما لو لم يُفْلِسْ. فصل: فإنِ اشْتَرَى المُفْلِسُ مِن إنْسانٍ سِلْعَةً بعدَ الحَجْرِ في ذِمَّتِه، وتَعَذَّرَ الاسْتِيفاءُ، لم يَكُنْ له الفَسْخُ، سَواءٌ عَلِم أو لم يَعْلَمْ؛ لأنَّه لا يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ بثَمَنِها، فلا يَسْتَحِقُّ الفَسْخَ؛ لتَعَذُّرِه، كما لو كان ثَمَنُها مُؤجَّلًا، ولأنَّ العالِمَ بالفَلَسِ دَخَل على بَصِيرَةٍ بخَرابِ الذِّمَّةِ، أشْبَهَ مَن اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه. وقِيلَ (¬2): له الخِيارُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّه عَقَد عليه وَقْتَ الفَسْخِ، فلم يَسْقُطْ حَقُّه مِن الفَسْخِ، كما لو تَزَوَّجَتِ امْرأةٌ فَقيرًا مُعْسِرًا بنَفَقَتِها. وفيه وَجْهٌ ثالِثٌ، إنْ كان عالِمًا بفَلَسِه، فلا فَسْخَ له، وإن لم يَعْلَمْ، فله الفَسْخُ، كمُشْتَرِي المَعِيب. ويُفارِقُ المُعْسِرَ بالنَّفَقَةِ؛ لكَوْنِ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُها كلَّ يَوْمٍ، فالرضا بالمُعْسِرِ بها رِضًا بعَيبِ ما لم يَجِبْ، بخِلافِ مسألتِنا، وإنما يُشْبِهُ هذا إذا تَزَوَّجَتْ مُعْسِرًا بالصَّداقِ، وسَلَّمَتْ نَفْسَها إليه ثم أرادَتِ الفَسْخَ. ¬

(¬1) في م: «حقوقهم». (¬2) في م: «فيه وجه آخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن (¬1) اسْتَأجَرَ أرْضًا للزَّرعِ، فأفْلَسَ قبلَ مُضِيِّ شيءٍ مِن المُدَّةِ، فللمُؤْجِرِ فَسخُ الإجارَةِ؛ لأنه وَجَد عَينَ مالِه. وإن كان بعدَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، فهو غرِيمٌ بالأجْرِ. وإن كان بعدَ مُضِيِّ بَعْضِها، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ في قِياسِ قَوْلِنا في المَبِيعِ إذا تَلِفَ بَعْضُه، فإنَّ المُدَّةَ ههُنا كالمَبِيعِ، ومُضِيُّ بَعْضِها كتَلَفِ بَعْضِه، لكنْ يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ لمِثْلِها أجْرٌ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عن مُضِيِّ جُزْءٍ منها بحالٍ. وقال القاضي ¬

(¬1) في م: «إن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَوْضِعٍ آخَرَ: مَن اكْتَرَى أرْضًا فزَرَعَها، ثم أفْلَسَ، ففَسَخَ صاحِبُ الأرْضِ، فعليه تَبْقِيَةُ زَرْعِ المُفْلِسِ إلى حينِ الحَصادِ بأجْرِ مِثْلِه؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه المَنْفَعَةُ، فإذا فَسَخَ العَقْدَ، فَسَخَه فيما مَلَك عليه بالعَقْدِ، وقد تَعَذَّرَ رَدُّها عليه، فكان عليه عِوَضُها، كما لو فَسَخ البَيعَ بعدَ تَلَفِ المَبِيعِ، فله قِيمَتُه، ويَضْرِبُ بذلك مع الغُرَماءِ، كذا ههُنا، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بأجْرِ المِثْلِ دُونَ المُسَمَّى. وهذا مَذْهَب الشافعيِّ. وهذا لا يَقْتَضِيه مَذْهَبُنا، ولا يَشْهَدُ لصِحَّتِه الخَبَرُ، ولا يَصِحُّ في النَّظَرِ. أمّا الخَبَرُ، فلان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قال: «مَنْ أدْرَكَ متَاعَه بِعَينِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ به» (¬1). وهذا ما أدْرَكَ مَتاعَه بعَينِه، ولا هو أحقُّ به بالإجْماعِ، فإنَّهم وافَقُوا على وُجوبِ تَبْقِيَيها وعَدَمِ الرُّجُوعِ في عَينِها، ولأنَّ مَعْنَى قولِه: «مَنْ أدْرَكَ مَتَاعَهُ بعَينِه». أي على وَجْهٍ يُمْكِنُه أخْذُه ويَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بعَينِه، وليس هذا كذلك. وأمَّا النَّظَرُ، فإنَّ البائِعَ إنَّما كان أحَقَّ بعَينِ مالِه؛ لتَعَلُّقِ حَقِّه بالعَينِ، وإمْكانِ رَدِّ مالِه إليه بعَينِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَرْجَحُ (¬1) على مَن تَعَلَّقَ حَقُّه بمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ، وهذا لم يَتَعَلَّقْ حَقُّه بالعَينِ، ولا أمْكَنَ رَدُّها إليه، وإنَّما صار فائِدَةُ الرُّجُوعِ الضَّرْبَ بالقِيمَةِ دُونَ المُسَمَّى، وليس هذا هو المُقْتَضيَ في مَحَلِّ النَّصِّ، ولا هو في مَعْناه، فإثْباتُ الحُكْمِ به تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ. ولو اكْتَرَى مَن يَحْمِلُ له مَتاعًا إلى بَلَدٍ، ثم أفْلَسَ المُكْتَرِي قبلِ حَمْلِ شيءٍ، فللمُكْرَى (¬2) الفَسْخُ. وإن حملَ البَعْضَ، أو بَعْضَ المَسافةِ، لم يَكُنْ له الفَسْخُ، في قِياسِ المَذْهَبِ. وقِياسُ قولِ القاضي، له ذلك. وإذا فَسَخ، سَقَط عنه حَمْلُ ما بَقِيَ، وضَرَب مع الغُرَماءِ بقِسْطِ ما حَمَل مِن الأجْرِ المُسَمَّى. وعلى قِياسِ قولِ القاضي، يَنْفَسِخُ العَقْدُ في الجَمِيعِ، ويَضْرِبُ بقِسْطِ ما حَمَل مِن أجْرِ المِثْلِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قَوْلِه في المَسْألَةُ التي حَكَينا قَوْلَه فيها. ¬

(¬1) في م: «فرجع». (¬2) في م: «فللمكترى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أقْرَضَ رجلًا مالًا، ثم أفْلَسَ المُقْتَرِضُ، وعَينُ المالِ قائِمَةٌ، فله الرُّجُوعُ فيها؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «مَنْ أدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَينِه عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ». ولأنَّه غَرِيم وَجَد عَينَ مالِه، فكان له أخْذُها؛ كالبائِعِ. فإن أصْدَقَ امْرَأةً عَينًا، ثم انْفَسَخَ نِكاحُها بسَبَبٍ مِن جِهَتِها يُسْقِطُ صَداقَها، أو طَلَّقَها قبلَ الدُّخُولِ بها، فاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ في نِصْفِه، وقد أفْلَسَتْ ووَجَد عَينَ مالِه، فهو أحَقُّ بها؛ لِما ذَكَرْنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ في السِّلْعَةِ بشُرُوطٍ خَمْسَةٍ، أحَدُها، أن يَكُونَ المُفْلِسُ حَيًّا، فإن مات فالبائِعُ أُسْوَةُ الغُرَماءِ، سَواءٌ عَلِم بفَلَسِه قبلَ المَوْتِ، فحُجِر عليه ثم مات، أو مات فتَبَيَّنَ فَلَسُه. وبهذا قال مالِكٌ، وإسْحاقُ. وقال الشافعيُّ: له الفَسْخُ واسْتِرْجاعُ العَينِ، لِما روَى ابنُ خَلْدَةَ الزُّرَقِيُّ، قاضي المَدِينَةِ، قال: أَتَينَا أبا هُرَيرَةَ في صاحِبٍ. لَنا قد أفْلَسَ، فقال أبو هُرَيرَةَ: هذا الَّذي قَضَى فيه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّما رَجُلٍ مَاتَ أو أفْلَسَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أحَقُّ بِمَتَاعِهِ إذَا وَجَدَهُ بِعَينِيهِ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجة (¬1). ولأنَّ هذا العَقْدَ يَلْحَقُه الفَسْخُ بالإِقالةِ، فجاز فَسْخُه لتَعَذُّرِ العِوَضِ، كما لو تَعَذَّرَ المُسْلَمُ فيه، ولأنَّ الفَلَسَ سَبَبٌ لاسْتِحْقاقِ الفَسْخِ، فجاز الفَسْخُ به بعدَ المَوْتِ، كالعَيب. ولَنا، ما رَوَى أبو بَكْرِ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أبي هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديثِ المُفْلِسِ: «فَإِنْ مَاتَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 257. وابن ماجة، في: باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجة 2/ 790.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْغُرَمَاءِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ورَوَى أبو اليَمانِ، عن الزَّبِيدِيِّ، عن الزُّهْرِيِّ، عن أبي هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا امْرِئٍ مَاتَ وَعِنْدَه مَالُ امْرِئٍ بِعَينِهِ، اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِهِ شَيئًا أوْ لَمْ يَقْتَضِ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (¬2)». رَواه ابنُ ماجة (¬3). ولأنَّه تَعَلَّقَ به حَقُّ غيرِ المُفْلِسِ والغُرَماءِ، وهم الوَرَثَةُ، فأشْبَهَ المَوْهُوبَ. وحَدِيثُهم مَجْهُولُ الإِسْنادِ، قاله ابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ عبدِ البَر: يَرْويه أبو المُعْتَمِرِ، عن الزُّرَقِيِّ، وأبو المُعْتَمرِ غيرُ مَعْرُوفٍ بحَمْلِ العِلْمِ. ثم هو غيرُ مَعْمُولٍ به إجْماعًا، فإنَّه جَعَل المتاعَ لصاحِبِه بمُجَرَّدِ مَوْتِ المُشْتَرِي مِن غيرِ شَرْطِ فَلَسِه ¬

(¬1) في الباب السابق والموضع السابق. (¬2) في سنن ابن ماجة: «للغرماء». (¬3) في الباب السابق. سنن ابن ماجة 2/ 791.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تَعَذُّرِ وَفائِه ولا عَدَمِ قَبْضِ ثَمَنِه، والأمْرُ بخِلافِ ذلك عندَ جَمِيعِ العُلَماءِ، إلَّا ما حُكِيَ عن الإِصْطَخْرِيِّ (¬1) مِن أصْحابِ الشافعيِّ، أنَّه قال: لصاحِبِ السِّلْعَةِ أنْ يَرْجِعَ فيها إذا مات المُشْتَرِي، وإن خَلَّفَ وَفاءً. وهذا شُذُوذ عن أقْوالِ أهلِ العلمِ، وخِلافٌ للسنَّةِ لا يُعَرَّجُ على مِثْلِه. وتُفارِقُ حالةُ الحَياةِ حالةَ المَوْتِ؛ لأَمْرَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ المِلكَ في الحَياةِ للمُفْلِسِ، وههُنا لغيرِه. الثانِي، أنَّ ذِمَّةَ المُفْلِسِ خَرِبَت ههُنا خَرابًا لا يعودُ، فاخْتِصاصُ هذا بالعَينِ يَضرُّ بالغُرَماءِ كَثِيرًا، بخِلافِ حالةِ الحَياةِ. الشَّرْطُ الثانِي، أن لا يَكُونَ البائِعُ قَبَض مِن ثَمَنِها شيئًا، فإن كان قد قَبَضَ بعضَ ثَمَنِها، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وبهذا قال إسحاقُ، والشافعيُّ في القَدِيمِ. وقال في الجَدِيدِ: له أن يَرْجِعَ في قَدْرِ ما بَقِيَ مِن الثَّمَنِ؛ لأنَّه سَبَبٌ تَرْجِعُ به العَينُ كلُّها إلى العاقِدِ، فجاز أن يَرْجِعَ به (¬2) بعضُها، كالفُرْقَةِ قبلَ الدُّخُولِ في النِّكاحِ. وقال مالِكٌ: هو مُخَيَّرٌ، إن شاء رَدَّ ¬

(¬1) الحسن بن أحمد بن يزيد الإصطخري الشافعي أبو سعيد، قاضي قُمّ، أحد الرفعاء من أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي، توفي ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. طبقات الشافعية الكبرى 3/ 230 - 253. (¬2) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما قَبَضَه ورَجَع في جَمِيعِ العَينِ، وإن شاء حاصَّ الغُرَماءَ ولم يَرْجِعْ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا رَجُلٍ أفْلَسَ، فَوَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ مَالهُ، وَلَمْ يَكُنِ اقْتَضَى مِنْ مَالِهِ شَيئًا، فَهُوَ لَهُ». رَواهُ الإِمامُ أحمدُ (¬1). وروى (¬2) أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أبي هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً، فَأدْرَكَ سِلْعَتَهُ بِعَينِها عِنْدَ رَجُل قَدْ أفْلَسَ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِها شَيئًا، فَهِيَ لَهُ، وَإنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِها شَيئًا، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجة (¬3). ولأنَّ في (¬4) الرُّجُوعِ في قِسْطِ ما بَقِيَ تَبْعِيضًا للصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي وإضْرارًا به، وليس ذلك للبائِعِ. فإن قِيلَ: لا ضَرَرَ عليه في ذلك؛ لأنَّ ماله يُباعُ ولا يَبْقَى له، فيَزُولُ عنه الضَّرَرُ. قُلْنا: لا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بالبَيعِ، فإنَّ قِيمَةَ الشِّقْصِ تَنْقُصُ، ولا يُرْغَبُ فيه مُشَقَّصًا، فيَتَضَرَّرُ المُفْلِسُ والغُرَماءُ بنَقْصِ القِيمَةِ. ولأنَّه سَبَبٌ يُفْسَخُ (¬5) به البَيعُ، ¬

(¬1) في: المسند 2/ 525. (¬2) في م: «ورواه». (¬3) انظر تخريج حديث: «أيما رجل مات أو أفلس. . . .» في صفحة 263. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «يفسد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ تَشْقِيصُه، كالرَّدِّ بالعَيبِ والخِيارِ، وقِياسُ البَيعِ على البَيعِ أوْلَى مِن قِياسِه على النِّكاحِ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المَبِيعِ عَينًا واحِدَةً أو عَينَين؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ والمَعْنَى. فإن قِيلَ: حَدِيثُكم يَرْويه أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا، ولا حُجَّةَ في المَراسِيلِ. قُلْنا: قد رَواهُ مالِكٌ وموسى بنُ عُقْبَةَ عن الزُّهْرِيِّ، عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي هُرَيرَةَ، كذلك ذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1)، وأخْرَجَه أبو داودَ، وابنُ ماجة، والدَّارَقُطنيُّ (¬2) في سُنَنِهم مُتَّصِلًا، فلا يَضُرُّ إِرْسالُ مَن أرْسَلَه، على أنَّ حَدِيثَنا الأوَّلَ يَكْفِي في الدَّلالَةِ، وهو مُتَّصِلٌ، رَواه الإِمامُ أحمدُ. ¬

(¬1) انظر الاستيعاب 21/ 22. (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود وابن ماجة في صفحة 263. وأخرجه الدارقطني في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الشَّرْطُ الثّالِثُ، أن تَكُونَ السِّلْعَةُ باقِيَةً بعَينِها لم يَتْلَفْ بَعْضُها، فإن تَلِف جُزْء منها، كبَعْضِ أطْرافِ العَبْدِ، أو ذَهَبَتْ عَينُه، أو تَلِف بعضُ الثَّوْبِ، أو انْهَدَمَ بعضُ الدَّارِ، أو اشْتَرَى شَجَرًا مُثْمِرًا لم تَظْهَرْ ثَمَرَتُه فتَلِفَتِ الثَّمَرَةُ، أو نحوُ هذا، لم يَكُنْ للبائِعِ الرُّجُوعُ، وكان أُسْوَةَ الغُرَماءِ. وبهذا قال إسحاقُ. وقال مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، والعَنْبَرِيُّ: له الرُّجُوعُ في الباقِي، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بحِصَّةِ التَّالِفِ؛ لأنَّها عَينٌ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ في جَمِيعِها، فمَلَكَ الرُّجُوعَ في بَعْضِها، كالذي له الخِيارُ، وكالأبِ فيما وَهَب لوَلَدِه. ولَنا، قولُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدْرَكَ مَتاعَهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعَينِه عِنْدِ إنْسَانٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬1). فشَرَطَ (¬2) أن يَجِدَه بعَينِه، وهذا لم يَجِدْه بعَينِه، ولأنَّه إذا أدْرَكَه بعَينِه حَصَل له بالرُّجُوعِ فصلُ الخُصومَةِ وانْقِطاعُ ما بينَهما مِن المُعامَلَةِ، بخِلافِ ما إذا وَجَد بَعْضَه. ولا فَرْقَ بينَ أن يَرْضَى بالمَوْجُودِ بجَمِيعِ الثَّمَنِ، أو يأْخُذَه بقِسْطِه منه؛ لأَنه فاتَ شَرْط الرُّجُوعِ. وإن كان المَبِيعُ عَينَين، كعَبْدَين أو ثَوْبَينِ تَلِف أحَدُهما أو نَقَص، ففي جَوازِ الرُّجُوعِ في الباقِي منهما رِوايَتانِ؛ إحْداهما، لا يَرْجِعُ. نَقَلَها أبو طالِبٍ عنه، قال: لا يَرْجِعُ ببَقِيَّةِ العَينِ، ويَكُونُ أُسْوَةَ الغُرَماءِ؛ لأنَّه لم يَجِدِ المَبِيعَ بعَينِه، فأشْبَهَ ما لو كان عَينًا واحِدَةً. ولأنَّ بعضَ المَبِيعِ تالِفٌ، فلم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فيه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 255. (¬2) في م: «بشرط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو قُطِعَت يدُ العَبْدِ. ونَقَل الحَسَن بن ثَوَابٍ عن أحمدَ، إن كان ثَوْبًا واحِدًا فَتَلِفَ بَعْضُه، فهو أُسْوَةُ الغرَماءِ، وإن كان رِزَمًا فتَلِفَ بَعْضُها، فإنَّه يَأْخُذُ بَقِيَّتَهَا إذا كان بعَينِه؛ لأنَّ السّالِمَ مِن المَبِيعِ وَجَدَه البائِعُ بعَينِه، فيَدْخُلُ في عُمُومِ الحديثِ المَذْكُورِ. ولأنَّه مَبِيعٌ وَجَدَه بعَينِه، فكان للبائِعِ الرُّجُوعُ فيه، كما لو كان جَمِيعَ المَبِيعِ. فإنْ باع بَعْضَ المَبِيعِ، أو وَهَبَه، أو وَقَفه، فهو بمَنْزِلَةِ تَلَفِه؛ لأنَّ البائِعَ ما أدْرَكَ ماله بعَينِه (¬1). فصل: فإن تَغَيَّرَتْ صِفَتها بما يُزِيلُ اسْمَها، فطَحَنَ الحِنْطَةَ، أو زَرَعَها، أو خَبَز الدَّقِيقَ، أو عَمِل الزَّيتَ صابُونًا، أو قَطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصًا، أو نَسَج الغَزْلَ ثَوْبًا، أو نَجَر الخَشَبَةَ أَبْوابًا، أو عَمِلَ الشَّرِيطَ إبَرًا، أو شيئًا فعَمِل (¬2) به ما أزال اسْمَه، سَقَط حَقُّ الرُّجُوعِ. وقال الشافعيُّ: فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، به أقولُ، يَأْخُذُ عَينَ مالِه، ويُعْطِي قِيمَةَ عَمَلِ المُفْلِسِ فيها؛ لأنَّ عَينَ مالِه مَوْجُودَةٌ، وإنَّما تَغَيَّرَ اسْمُها، فأشْبَهَ ما لو كان المَبِيعُ حَمَلًا فصار كَبْشًا، أو وَدِيًّا (¬3) فصار نَخْلًا. ولَنا، أنَّه لم يَجِدْ مَتاعَه بعَينِه، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ، كما لو تَلِف. والأصْلُ الَّذي قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ، فإَّنه لم يَتَغَيَّرِ اسْمُه، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فصل». (¬3) الودى: صغار النخل، واحدتها وديّة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان حَبًّا فصار زَرْعًا، أو بالعَكْسِ، أو نَوًى فنَبَتَ شَجَرًا، أو بَيضًا فصار فِراخًا، سَقَط الرُّجُوعُ. وقال القاضي: لا يَسْقُطُ. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ المَنْصُوصِ [عليه منهما] (¬1)؛ لأنَّ الزَّرْعَ نَفْسُ الحَبِّ، والفَرْخَ نَفْسُ البَيضَةِ. ولَنا، أنَّه لم يَجِدْ عَينَ مالِه، فلم يَرْجِعْ، كما لو أتْلَفَه مُتْلِفٌ فأَخذَ قِيمَتَه. ولأنَّ الحَبَّ أعْيانٌ ابْتَدَأها اللهُ تعالى، لم تَكُنْ مَوْجُودَةً عندَ البَيعِ، وكذلك أعْيانُ الزَّرْعِ والفَرْخِ. ولو اسْتَأْجَرَ أرْضًا، واشْتَرَى بَذرًا وماءً، فزَرَعَ وسَقَى واسْتَحْصَدَ، وأفْلَسَ، فالمُؤْجِرُ وبائِعُ البَذْرِ والماءِ غُرَماءُ، لا حَقَّ لهم في الرُّجُوعِ؛ لأنَّهُم لم يَجِدُوا أعْيانَ أمْوالِهم. وعلى قولِ مَن قال: له الرُّجُوعُ في الزَّرْعِ. تكونُ عليه غَرامَةُ الأُجْرَةِ وثَمَنُ الماءِ، أو قِيمَةُ ذلك. ¬

(¬1) في م: «عليهما».

1914 - مسألة: (ولم يتعلق بها حق من شفعة، أو جناية، أو رهن)

وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ مِنْ شُفْعَةٍ، أوْ جِنَايَةٍ، أوْ رَهْنٍ، وَنَحْوهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1914 - مسألة: (وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ مِنْ شُفْعَةٍ، أوْ جِنَايَةٍ، أوْ رَهْنٍ) هذا هو الشَّرْطُ الرَّابعُ، وهو أن لا يَتَعَلَّقَ بها حَقُّ الغيرِ، فإن رَهَنَها المُفْلِسُ أو وَهَبَها، لم يَمْلِكِ البائِعُ الرُّجُوعَ، كما لو باعَها أو أعْتَقَها؛ لأنَّ في (¬1) الرُّجُوعِ إضْرارًا بالمُرْتَهِنِ، ولا يُزالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَه بعَينِه عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬2). وهذا لم يَجِدْه عندَ المُفْلِسِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. فإن كان دَينُ (¬3) المُرْتَهِنِ دُونَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، بِيعَ كُلُّه، فقُضِيَ منه دَينُ المُرْتَهِنِ، والباقِي يُرَدُّ على مالِ المُفْلِسِ، يَشْتَرِكُ فيه الغُرَماءُ، وإن بِيعَ بَعْضُه، فباقِيه لهم يُباعُ أْيضًا، ولا يَرْجِعُ به البائِعُ. وقال القاضي: له الرُّجُوعُ به (¬4). وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه عَينُ مالِه. وهذا مِثلُ تَلَفِ بَعْضِ المَبِيعِ، وقد ذَكَرْناه. وما ذَكَرَه القاضي لا يُخَرَّجُ على المَذْهَبِ، لأنَّ تَلَفَ بعضِ المَبِيعِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فكذلك ذَهابُ بَعْضِه بالبَيعِ. ولو رَهَن بَعْضَ العَبْدِ لم يَكُنْ للبائِعِ الرُّجُوعُ في باقِيهِ، لِما ذَكَرْنَا. فإن كان المَبِيعُ عَينَين، فرَهَنَ إحْداهما، فهل يَمْلِكُ البائِعُ الرُّجُوعَ في الأخْرَى؟ على وَجْهَين، بِناءً على الرِّوايَتَين فيما إذا تَلِفَتْ إحْدَى العَينَينِ. فإن فَكَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 255. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّهْنَ قبلَ فَلَسِ المُشْتَرِي، أو أْبرَأه مِن دَينِه، فللبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأنَّه أدْرَكَ عَينَ مالِه عندَ المُشْتَرِي. وإن أفْلَسَ وهو رَهْنٌ، فأبْرَأ المُرْتَهِنُ المُشْتَرِيَ مِن دَينِه، أو قَضَى الدَّينَ مِن (¬1) غيرِه، فللبائِعِ الرُّجُوعُ أيضًا؛ لذلك (¬2). فصل: فإن كان المَبِيعُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، ففيه ثَلَاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، البائِعُ أحَقُّ به. وهذا قولُ ابنِ حامِدٍ؛ للخَبَرِ. ولأنَّه إذا رَجَع فيه، عاد الشِّقْصُ إليه، فيَزُولُ الضَّرَرُ عن الشَّفِيعِ؛ لأنَّه عاد كما كان قبلَ البَيعِ. والثانِي، أنَّ الشَّفِيعَ أحَقُّ. وهو الَّذي ذَكَرَه شيخُنا ههُنا. وحَكاه أبو الخَطّاب؛ لأنَّ حَقَّه أسْبَقُ، فكان أوْلَى؛ لأنَّ حَقَّ البائِعِ ثَبَت بالحَجْرِ، وحَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَت بالبَيعِ، ولأنَّ حَقَّه آكَدُ؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّ انْتِزاعَ الشِّقْصِ مِن المُشْتَرِي وممَّن نَقَلَه إليه، وحَقُّ البائِعِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بالعَينِ ما دامَتْ في يَدِ المُشْتَرِي، ولا يَزُولُ الضَّرَرُ عنه برَدِّه إلى البائِعِ، بدَلِيلِ ما لو باعَه المُشْتَرِي مِن بائِعِه، أو وَهَبَه إيّاه، أو أقاله، فإنَّه لا يَسْقُطُ حَقُّ الشَّفِيعِ. الوَجْهُ الثّالِثُ، أنَّ الشَّفِيعَ إن كان طالبَ بالشُّفْعَةِ، فهو أحَقُّ؛ لتَأكُّدِ حَقِّه بالمُطالبَةِ، وإن لم يكُنْ طالبَ، فالبائِعُ أوْلَى. ولأصْحابِ الشافِعِيِّ وَجْهان، كالأوَّلَين. ولهم وَجْهٌ ثالِثٌ، أنَّ الثَّمَنَ يُؤْخَذُ مِن الشَّفِيعِ، فيَخْتَصُّ به البائِعُ، جَمْعًا بينَ الحَقَّين، فإنَّ غَرَضَ الشَّفِيعِ في عَينِ ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في ق: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشِّقْصِ المَشْفُوعِ، وغَرَضَ البائِعِ في ثَمَنِه، فيَحْصُلُ ذلك بما ذَكَرْنا. وليس هذا جَيِّدًا؛ لأنَّ حَقَّ البائِعِ إنَّما يَثْبُتُ في العَينِ (¬1)، فإذا صار الأمْرُ إلى وجُوبِ الثَّمَنِ تَعَلَّقَ بذِمَّتِه، فساوَى الغُرَماءَ فيه. فصل: فإن كان المَبِيعُ عَبْدًا، فأفْلَسَ المُشْتَرِي بعدَ تَعَلُّقِ أَرْشِ الجنايَةِ برَقَبَتِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس للبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأن تَعَلُّقَ الرَّهْنِ به يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وأَرْشُ الجِنايَةِ يُقَدَّمُ على حَقِّ المُرْتَهِنِ، فأوْلَى أن يَمْنَعَ. وهذا ذَكَرَه أبو الخَطّابِ. والثاني، لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه حَقٌّ لا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي فيه، بخِلافِ الرَّهْنِ. فإن قُلْنا: لا يَرْجِعُ. فحُكْمُه حُكْمُ الرَّهْنِ. وإن قُلْنا: له الرُّجُوعُ. فهو مُخَيَّرٌ، إن شاء رَجَع فيه ناقِصًا بأَرْشِ الجِنايَةِ، وإن شاء ضَرَب بثَمَنِه مع الغُرَماءِ. وإن أَبْرَأ الغَرِيمَ مِن الجِنايَةِ، فللبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأنَّه وَجَد مَتاعَه بعَينِه خالِيًا مِن تَعَلُّقِ حَقِّ غيرِه به. فصل: فإن أَفْلَسَ بعدَ خُرُوجِ المَبِيعِ مِن مِلْكِه؛ ببَيعٍ، أو عِتْقٍ، أو وَقْفٍ، أو غيرِ ذلك، لم يَكُنْ للبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأنَّه لم يُدْرِكْ مَتاعَه بعَينِه عندَ المُفلِسِ، سَواء كان المُشْتَرِي يُمْكِنُه اسْتِرْجاعُ المَبِيعِ بخِيارٍ له، أو عَيبٍ في ثَمَنِه، أو رُجُوعِه في هِبَةِ وَلَدِه، أو غيرِ ذلك؛ لِما ذَكَرْنا. فإن أفْلَسَ بعدَ رُجُوعِ ذلك إلى مِلْكِه ففيه أوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ، أحَدُها، له ¬

(¬1) في الأصل: «المبيعين».

1915 - مسألة: (ولم تزد زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صنعة)

وَلَمْ تَزِدْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ، وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ. وَعَنْهُ، أنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعُ؛ للخَبَرِ، ولأنّه أدْرَكَ عَينَ مالِه خالِيًا عن حَقِّ غيرِه، أشْبَهَ ما لو لِم يَبِعْه. الثانِي، لا يَرْجِعُ؛ لأنَّ هذا المِلْكَ لم يَنْتَقِلْ إليه منه، فلم يَمْلِكْ فسْخَه. ذَكَر أصْحابُنا الوَجْهَينِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ مِثْلُ ذلك. والثّالِثُ، أنَّه إن عاد إليه بسَبَبٍ جَدِيدٍ؛ كبَيعٍ؛ أو هِبَةٍ، أو إرْثٍ، أو وَصِيَّةٍ، لم يَكُنْ للبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأنَّه لم يَصلْ إليه مِن جِهَتِه. وإن عاد إليه بفَسْخٍ؛ كالإِقالةِ، والرَّدِّ بعَيب أو خِيارٍ، ونحوه، فللبائِعِ الرُّجُوعُ؛ لأنَّ هذا المِلْكَ اسْتَنَدَ إلى السَّبَبِ الأوَّلِ، فإنَّ فَسْخَ العَقْدِ الثانِي لا يَقتَضِي ثُبُوتَ المِلْكِ، وإنَّما أزال (¬1) السَّبَبَ المُزِيلَ لمِلْكِ البائِعِ، فثَبَتَ المِلْكُ بالسَّبَبِ الأوَّلِ، فمَلَكَ اسْتِرْجاعَ ما ثَبَت المِلْكُ فيه ببَيعِه. 1915 - مسألة: (ولم تَزِدْ زِيادَةً مُتَّصِلَةً، كالسِّمَنِ، وتَعَلُّم صَنْعَةٍ) وهذا هو الشَّرْطُ الخامِسُ، وهو أن لا يَكُونَ المَبِيعُ زاد زِيادَةً مُتَّصِلَةً؛ كالسِّمَنِ، والكِبَرِ، وتَعَلمِ الكِتابَةِ، أو القُرْآنِ، ونحو ذلك، فيَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. وروَى المَيمُونيُّ عن أحمدَ، أنَّها (لا تمْنَعُ). وهو مَذْهَبُ مالِك، والشافعيِّ، [إلَّا أنَّ] (¬2) مالِكًا يُخَيِّرُ الغُرَماءَ بينَ أن يُعْطُوه السِّلْعَةَ أو ثَمَنَها الَّذي باعَها به. واحْتَجُّوا بالخَبَرِ، ¬

(¬1) في م: «زال». (¬2) في م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبأنَّه فَسْخٌ لا تَمْنَعُ منه الزِّيادَةُ المُنْفَصِلَةُ، فلم تَمْنَعِ المُتَّصِلَةُ، كالرَّدِّ بالعَيبِ، وفارَقَ الطَّلاقَ، فإنَّه ليس بفَسْخٍ، ولأنَّ الزَّوْجَ يُمْكِنُه الرُّجُوعُ في قِيمَةِ العَينِ، فيَصِلُ إلى حَقِّه تامًّا، وههُنا لا يُمكِنُه الرُّجُوعُ في الثَّمَنِ. ولَنا، أنَّه فَسْخٌ بسَبَبٍ حادِثٍ، فلم يَمْلِكْ به الرُّجُوعَ في عَينِ المالِ الزّائِدَةِ زِيادَةً مُتَّصِلَةً، كفَسْخِ النِّكاحِ بالإِعْسارِ أو الرَّضاعِ، ولأنَّها زِيادَة في مِلْكِ المُفْلِسِ، فلم يَسْتَحِقَّ البائِعُ أخْذَها، كالمُنْفَصِلَةِ وكالحاصِلِ بفِعْلِه، ولأنَّ النَّماءَ لم يَصِلْ إليه مِن البائِعِ، فلم يَسْتَحِقَّ أخْذَه منه، كغيرِه مِن أمْوالِه. وفارَقَ الرَّدَّ بالعَيب لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ الفَسْخَ فيه مِن المُشْتَرِي، فهو راضٍ بإسْقاطِ حَقِّه مِن الزِّيادَةِ وتَرْكِها للبائِعِ، بخِلافِ مسألتِنا. الثاني، أنَّ الفَسْخَ لمَعْنًى قارَنَ العَقْدَ، وهو العَيبُ القَدِيمُ، والفَسْخُ ههُنا بسَبَبٍ (¬1) حادِثٍ، فهو أشْبَهُ بفَسْخِ النِّكَاحِ الَّذي لا يَسْتَحِقُّ به اسْتِرْجاعَ العَينِ الزّائِدَةِ. وقَوْلُهم: إنَّ الزَّوْجَ إنَّما لم يَرْجِعْ في العَينِ لكَوْنِه يَنْدَفِعُ عنه الضَّررُ بالقِيمَةِ. لا يَصِحُّ، فإنَّ انْدِفاعَ الضَّرَرِ عنه بطَرِيقٍ آخَرَ لا يَمْنَعُه مِن أخْذِ حَقِّه مِن العينِ، ولأنَّه لو كان مُسْتَحِقًّا للزِّيادةِ، لم يَسْقُطْ حقُّه منها بالقُدْرةِ على أخْذِ القِيمَةِ، كمُشْتَرِي المَعِيبِ. ثم كان يَنْبَغِي أن يَأْخُذَ قِيمَةَ العَينِ زائِدَةً؛ لكَوْنِ الزِّيادَةِ مُسْتَحَقَّةً له، فلَمّا لم يَكُنْ كذك، عُلِم أنَّ المانِعَ مِن الرُّجُوعِ كَوْنُ الزِّيادَةِ للمرأةِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

1916 - مسألة: (فأما الزيادة المنفصلة، والنقص بهزال، أو نسيان صنعة، فلا يمنع الرجوع، والزيادة للمفلس. وعنه، للبائع)

فَأمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، وَالنَّقْصُ بِهُزَالٍ، أوْ نِسْيَانِ صَنْعَةٍ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ. وَعَنْهُ، لِلْبَائِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فكذلك ههُنا، بل أوْلَى؛ فإنَّ الزِّيادَةَ ههُنا يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ المُفْلِسِ والغُرَماءِ، فمَنْعُ المُشْتَرِي (¬1) مِن أخْذِ زِيادَةٍ ليست له أوْلَى مِن تَفْويتِها على الغُرَماءِ الذين لم يَصِلُوا إلى تَمامِ حُقُوقِهم، والمُفْلِسِ المُحْتاجِ إلى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِه عندَ اشْتِدادِ حاجَتِه. وأمّا الخَبَرُ، فمَحْمُولٌ على مَن وَجَد مَتاعَه على صِفَتِه ليس بزائِدٍ، ولم يَتَعَلَّقْ به حَقٌّ آخَرُ، وههُنا قد تَعَلَّقَتْ به حُقُوقُ الغُرَماءِ؛ لِما فيه مِن الزِّيادَةِ، لِما ذَكَرْنا مِن الدَّلِيلِ. يُحَقِّقُه أنَّه إذا كان تَلَفُ بعضِ المَبِيعِ مانِعًا (¬2) مِن الرُّجُوعِ مِن غيرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بالمُفْلِسِ ولا الغُرَماءِ، فلَأن تَمْنَعَ الزِّيادَةُ فيه مع تَفْويتِها بالرُّجُوعِ عليهم أوْلَى، ولأنَّه إذا رَجَع في النَّاقِصِ، فما رَجَع إلّا فيما باعَه وخَرَج منه، فإذا رَجَع في الزَّائِدِ، أخَذَ ما لم يَبِعْه، واسْتَرْجَعَ ما لم يَخْرُجْ عنه، فكان بالمَنْعِ أحَقُّ. 1916 - مسألة: (فَأمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، وَالنَّقْصُ بِهُزَالٍ، أوْ نِسْيَانِ صَنْعَةٍ، فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ. وَعَنْهُ، لِلْبَائِعِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الزِّيادَةَ المُنْفَصِلَةَ؛ كالوَلَدِ، والثَّمَرَةِ، والكَسْبِ، لا ¬

(¬1) في م: «البائع». (¬2) بعده في ق، م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، بغيرِ خِلافٍ بينَ أصْحَابِنا. وهو قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ. وسَواءٌ نَقَص بها المَبِيعُ، أو لم يَنْقُصْ، إذا كان نَقْصَ صِفَةٍ. والزِّيادَةُ للمُفْلِسِ. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه مَنَع الرُّجُوعَ بالزِّيادَةِ المُتَّصِلَةِ؛ لكَوْنِها للمُفْلِسِ، فالمُنْفَصِلَةُ أوْلَى. وهو قولُ ابنِ حامِدٍ، والقاضي، و (¬1) مَذْهَبُ الشّافعيِّ. وهو الصَّحِيحُ إن شاء الله تعالى. وقال أبو بكرٍ: الزِّيادَةُ للبائِعِ. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ. ونَقَل حَنْبَلٌ عن أحمدَ، في وَلَدِ الجارِيَةِ، ونِتاجِ الدَّابَّةِ، هو للبائِعِ؛ لأنَّها زِيادَة، فكانت للبائِعِ، كالمُتَّصِلَةِ. ولَنا، أنَّها زيادَةٌ في مِلْكِ المُشْتَرِي، فكانت له، كما لو رَدَّه بعَيبٍ، ولأنَّه فَسْخ اسْتَحَقَّ به اسْتِرْجاعَ العَينِ، فلم يَسْتَحِقَّ أخْذَ (¬2) الزِّيادَةِ المُنْفَصلَةِ؛ كفَسْخِ البَيعِ بالعَيبِ أو الخِيارِ، والإقالَةِ، وفَسْخِ النِّكاحِ بسَبَبٍ مِن أسْبابِ الفَسْخِ، ولأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» (¬3). يَدُلُّ على أنَّ النَّماءَ والغَلَّةَ ¬

(¬1) في م: «وهو». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُشْتَرِي؛ لكَوْنِ الضَّمانِ عليه. وقِياسُهم على الزِّيادَةِ المُتَّصِلَةِ، الأصْلُ فيه مَمْنُوعٌ، ثم لو سُلِّمَ ثَمَّ، فالفَرْقُ ظاهِرٌ، فإنَّ المُتَّصِلَةَ تَتْبَعُ في الفُسُوخِ والرَّدِّ بالعَيبِ، بخِلافِ المُنْفَصِلَةِ. قال شيخُنا (¬1): ولا يَنْبَغِي أنْ يَقَع في هذا خِلافٌ؛ لظُهُورِه، وكَلامُ أحمدَ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، يُحْمَلُ على أنَّه باعَهما في حالِ حَمْلِهمِا، فيَكُونان مَبِيعَين (¬2)، ولهذا خَصَّ هذين بالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّماءِ. فصل: فإن نَقَصَتْ مالِيَّةُ المَبِيعِ لذَهابِ صِفَةٍ، مع بقاءِ عَينِه، كعَبْدٍ هُزِل، أو نَسِيَ صِناعَة أو كِتابَة، أو كَبِر، أو تَغَيَّرَ عَقْلُه، أو كان ثَوْبًا فَخَلَقَ، لم يَمْنَعِ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ فَقْدَ الصِّفَةِ لا يُخرِجُه عن كَوْنِه عَينَ مالِه، لكنَّه يَتَخَيَّرُ بينَ أخْذِه ناقِصًا بجَمِيعِ حَقِّه، وبينَ أن يَضْرِبَ مع الغُرَماءِ بكمالِ ثَمَنِه؛ لأنَّ الثمَنَ لا يَتَقَسَّطُ على صِفَةِ السِّلْعَةِ مِن سِمَنٍ أو هُزالٍ أو عِلْمٍ أو نَحْوه، فيَصِيرُ كنَقْصِه لتَغَيُّرِ الأسْعارِ. ولو كان المَبِيعُ أمَةً ثَيِّبًا، فوَطِئَها المشتَرِي ولم تَحْمِلْ، فله الرُّجُوعُ فيها؛ لِما ذَكَرْنا، فإنَّها لم تَنْقُصْ ¬

(¬1) في: المغني 6/ 551. (¬2) في م: «بسببين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذاتٍ ولا صِفات. وإن كانت بِكْرًا، فقال القاضي: له الرُّجُوعُ؛ لأنَّه فَقْدُ صِفَةٍ، فإنَّه لم يَذْهَبْ منها جُزْءٌ، وإنَّما هو كالجِراحِ (¬1). وقال أبو بكر: ليس له الرُّجُوعُ؛ لأنَّه أذْهَبَ منها جُزْءًا، فأشْبَهَ ما لو فَقَأْ عَينَها. وإن وُجِد الوَطْءُ مِن غيرِ المُفْلِسِ، فهو كوَطْءِ المُفلسِ فيما ذَكَرْنا. فصل: وإن جُرِح العَبْدُ، أو شُجَّ، فعلى قولِ أبي بكرٍ، لا يَرْجِعُ؛ لأنَّه ذَهَب جُزْءٌ يَنْقُصُ به الثَّمَنُ، أشْبَهَ ما لو فقِئتْ عَينُ العَبْدِ، ولأنَّه ذهَب مِن العَينِ جُزْءٌ له بَدَلٌ، فمنَعَ الرُّجُوعَ، كما لو قُطِعَتْ يَدُ العَبْدِ، ولأنَّه لو كان نقْصَ صِفَةٍ مُجَرَّدَةٍ لم يَكُنْ مع الرُّجُوعِ فيها شيءٌ سِواه كما ذَكَرْنا في هُزالِ العَبْدِ ونِسْيانِ الصَّنْعَةِ، وههُنا بخِلافِه، ولأنَّ الرُّجُوعَ في المَحَلِّ المَنْصُوصِ عليه يَقْطَعُ النِّزاعَ ويُزِيلُ المُعامَلَةَ بينهما، فلا يَثْبُتُ في مَحَلٍّ ¬

(¬1) في ر 1، ر، ق: «كالخراج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَثْبُتُ به هذا المَقْصُودُ. وقال القاضي: قِياسُ المَذْهَبِ أنَّ له الرُّجُوعَ؛ لأنَّه فَقْدُ صِفَةٍ، فأشْبَهَ نِسْيانَ الصَّنْعَةِ واسْتِخْلاقَ الثَّوْبِ. فإذا رَجَع، نَظَرْنَا في الجَرْحِ؛ فإن كان ممّا لا أَرشَ له؛ كالحاصِلِ بفِعْلِ اللهِ تعالى، أو فِعْلِ بَهِيمَةٍ، أو جِنايَةِ المُفْلِسِ، أو جِنايَةِ عَبْدِه، أو جِنايَةِ العَبْدِ على نَفْسِه، فليس له مع الرُّجُوعِ أرْشٌ. وإن كان الجَرْحُ مُوجِبًا لأرْشٍ، كجِنايَةِ الأَجْنَبِيِّ فللبائِعِ إذا رَجَع أن يَضْرِبَ مع الغُرَماءِ بحِصَّةِ ما نَقَص مِن الثَّمَنِ، فيَنْظُرُ كم نقَص مِن قِيمَتِه، فيَرْجِعُ بقِسْطِ ذلك مِن الثَّمَنِ؛ لأنَّه مَضْمُونٌ على المُشْتَرِي للبائِعِ بالثَّمَنِ. فإن قِيلَ: فهلَّا جَعَلْتُم له الأرْشَ الَّذي وَجَب على الأجْنَبِيِّ؛ لأنَّه لو لم يَجِبْ به أرْشٌ، لم يَرْجِعْ بشيءٍ، فلا يَجُوزُ أن يَرْجِعَ بأكْثَرَ مِن الأرْشِ. قُلْنا: لَمَّا أتْلَفَه الأجْنَبِيُّ، صار مَضْمُونًا بإتْلافِه للمُفْلِسِ، فكان الأرْشُ له، وهو مَضْمُونٌ على المُفْلِسِ للبائِعِ بالثَّمَنِ، فلا يَجُوزُ أنْ يَضْمَنَه بالأَرْشِ، وإذا لم يُتْلِفْه أجْنَبِيٌّ، لم يَكُنْ مَضْمُونًا، فلم يَجِبْ بفَواتِه شيءٌ. فإنِ قِيلَ: فهلَّا كان هذا الأرْشُ للمُشْتَرِي، ككَسْبِه، لا يَضْمَنُه للبائِعِ؟ قُلْنا: الْكَسْبُ بَدَلُ مَنافِعِه، ومَنافِعُه مَمْلُوكَةٌ للمُشْتَرِي بغيرِ عِوَضٍ، وهذا بَدَلُ جُزْءٍ مِن العَينِ، والعَينُ جَمِيعُها مَضْمُونَةٌ بالعِوَضِ، فلهذا ضَمِن ذلك للمُشْتَرِي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اشْتَرَى زَيتًا فخَلَطَه بزَيتٍ آخَرَ، أو قَمْحًا فخَلَطَه بما لا يُمْكِنُ تَمْيِيزُه منه، سَقَط حَقُّ الرُّجُوعِ. وقال مالِكٌ: يَأْخُذُ أْرْشَه. وقال الشافعيُّ: إن خَلَطَه بمِثْلِه أو دُونِه، لم يَسْقُطِ الرُّجُوعُ، وله أن يَأْخُذَ مَتاعَه بالكَيلِ أو الوَزْنِ. وإن خَلَطَه بأجْوَدَ منه، ففيه قَوْلان؛ أحَدُهما، يَسْقُطُ حَقُّه. قال الشافعيُّ: وبه أقولُ. واحْتَجُّوا بأنَّ عَينَ مالِه مَوْجُودَة مِن طَرِيقِ الحُكْمِ، فكان له الرُّجُوعُ، كما لو كانت مُنْفَرِدَةً، ولأنَّه ليس فيه (¬1) أكْثَرُ مِن اخْتِلاطِ مالِه بغيرِه، فلم يمْنَعِ الرُّجُوعَ، كما لو اشْتَرَى ثَوْبًا فصَبَغَه، أو سَويقًا فَلَتَّه. ولَنا، أنَّه لم يَجِدْ عَينَ مالِه، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ، كما لو تَلِفَتْ، ولأنَّ ما يَأْخُذُه [مِن غيرِ مالِه، إنَّما يَأْخُذُه] (¬2) عِوَضًا عن مالِه، فلم يَخْتَصَّ به دُونَ الغُرَماءِ، كما لو تَلِفَ مالُه. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدرَكَ مَتَاعَهُ بعَينِه» (¬3). أي مَن قَدَر عليه وتَمَكَّنَ مِن أخْذِه مِن المُفْلِسِ، ¬

(¬1) في م: «له». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 255.

1917 - مسألة: (وإن صبغ الثوب أو قصره

وَإنْ صَبَغَ الثَّوْبَ أو قَصَرَهُ، لَمْ يُمْنَعِ الرُّجُوعَ، والزِّيَادَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بدَلِيلِ ما لو وَجَدَه بعدَ زَوالِ مِلْكِ الْمُفْلِسِ عنه، أوكان مَسامِيرَ قد سَمَّرَ بها بابًا، أو حَجَرًا قد بَنَى عليه، أو خَشَبًا في سَقْفِه، أو أمَةً اسْتَوْلَدَها، وهذا إذا أخَذَ (¬1) مِثْلَه أو قِيمَتَه، إنَّما يَأْخُذُ عِوَضَ مالِه، فهو كالثَّمَنِ والقِيمَةِ. وفارَقَ المَصْبُوغَ، فإنَّ عَينَه يُمْكِنُه أخْذُها، والسَّويقُ كذلك، فاخْتَلَفا. 1917 - مسألة: (وإن صَبَغ الثَّوْبَ أو قَصَرَه (¬2)، لم يُمْنَعِ ¬

(¬1) في الأصل: «وجد». (¬2) قَصَرَ الثوبَ: دقَّه وبيَّضه.

لِلْمُفْلِسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ، والزِّيادَةُ للمُفْلِسِ) إذا صَبَغ المُفْلِسُ الثَّوْبَ، أو لَتَّ السَّويقَ بزَيتٍ، فقال أصْحابُنا: لبائِعِ الثَّوْبِ والسَّويقِ الرُّجُوعُ في أعْيانِ أمْوالِهما. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ عَينَ مالِهما قائِمَةٌ مُشَاهَدَةٌ ما تَغَيَّرَ اسْمُها، ويَكُونُ المُفْلِسُ شَرِيكًا لصاحِبِ الثَّوبِ والسَّويقِ بما زِاد عن قِيمَتِهما. فإن حَصَل زِيادَةٌ فهي له، وإن حَصَل نقْصٌ فعليه، وإن نقَصَت قِيمَةُ الثَّوْبِ أو السَّيقِ، فإن شاء (¬1) البائِعُ أخَذَهما، ناقِصَين ولا شيءَ له، وإن شاء تَرَكَهما وله أُسْوَةُ الْغُرماءِ؛ لأنَّ هذا نَقْصُ صِفَةٍ، فهو كالهُزالِ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن لا يَكُونَ له الرُّجُوعُ إذا زادَتِ القِيمَةُ؛ لأنَّه اتَّصَلَ بالمَبِيعِ زيادَة للمُفْلِسِ، فمَنَعَتِ الرُّجُوعَ، كسِمَنِ العَبْدِ، ولأنَّ الرُّجُوعَ لا يَتَخَلَّصُ به البائِعُ مِن المُفْلِسِ، ولا يَحْصُلُ به المَقْصُودُ مِن قَطْعِ المُنازَعَةِ وإزالَةِ المُعامَيَةِ، بل يَحْصُلُ له ضَرَرُ الشرِكَةِ، فلم يَكُنْ في مَعْنَى المَنْصُوصِ عليه، فلا يُمْكِنُ إلْحاقُه به. ¬

(¬1) في الأصل: «سأل». (¬2) في: المغني 6/ 547.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَصَرَ الثَّوْبَ، لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحَدُهما، أن لا تَزِيدَ قِيمَتُه بذلك، فللبائِعِ الرُّجُوعُ فيه؛ لأنَّ عَينَ مالِه قائِمَة لم يَزُلِ اسْمُها، ولم يَتْلَف بَعْضُها، ولا اتَّصَلَتْ بغيرِها، فكان له الرُّجُوعُ، كما لو عَلَّمَ الْعَبْدَ صِناعَةً لم تَزِدْ بها قِيمَتُه. وسَواءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُه بذلك أو لم تَنْقصْ؛ لأنَّ ذلك النَّقْصَ نَقْصُ صِفَةٍ، فلا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، كنِسْيانِ صِناعَةٍ، وهُزالِ العَبْدِ، ولا شيءَ له مع الرُّجُوعِ. الثانِي، أن تَزِيدَ قِيمَتُه بذلك، فليس لِلبائِعِ الرُّجُوعُ، في قِياس قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه زاد زِيادَةً لا تَتَمَيَّزُ زِيادَتُها، فلم يَمْلِكِ البائِعُ الرُّجُوعَ فيه، كسِمَنِ العَبْدِ، ولأنَّه لم يَجِدْ عَينَ مالِه مُتَمَيِّزَةً عن غيرِها، فلم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ، كبائِعِ الصِّبْغِ إذا صُبغ به. وقال القاضي وأصحابُه: له الرُّجُوعُ فيها؛ لأنَّه أدْرَكَ مَتاعَه بعَينِه، ولأنَّه وَجَد عَينَ مالِه لم يَتَغَيَّرِ اسْمُها، ولا ذَهَبَتْ عَينُها، فمَلَكَ الرُّجُوعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، كما لو صَبَغَها. فعلى قَوْلِهم: إن كانَتِ القِصارَةُ بعَمَلِ المُفْلِسِ أو بأُجْرَةٍ وفّاها، فهما شَرِيكان في الثَّوْبِ، فإذا كانت قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً، فصار يُساوي سِتَّةً، فللمُفْلِسِ سُدْسُه، وللبائِعِ خَمْسَةُ أسْداسِه. فإنِ اخْتارَ البائِعُ دَفْعَ قِيمَةِ الزِّيادَةِ إلى المُفْلِسِ، لَزِمَه قَبُولُها؛ لأنَّه يَتَخَلَّصُ بذلك مِن ضَرَرِ الشَّرِكَةِ مِن غيرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُه، فأشْبَهَ ما لو دَفَعَ الشَّفِيعُ قِيمَةَ البِناءِ إلى المُشْتَرِي، وإن لم يَخْتَرْ، بِيعَ الثَّوْبُ، وأخَذَ كلُّ واحِدٍ بقَدْرِ حَقِّه. وإن كان العَمَلُ مِن صانِعٍ لم يَسْتَوْفِ أجْرَه، فله حَبْسُ الثَّوبِ على اسْتِيفاءِ أجْرِه. فإن كانَتِ الزِّيادَةُ بقَدْرِ الأَجْرِ، دُفِعَتْ إليه، وإن كانت أقلَّ، فله حَبْسُ الثَّوب على اسْتِيفاءِ (¬1) قَدْرِ الزيادَةِ، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بما بَقِيَ، وإن كانت أكْثرَ، مِثْلَ أن تَكُونَ الزِّيادَةُ دِرْهَمَين، والأجْرُ دِرْهَم، فله قَدْرُ أجْرِه، وما فَضَل للغُرَماءِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل (¬1): وإنِ اشْتَرَى صِبْغًا فصَبَغَ به ثَوْبًا، أو زَيتًا فلَتَّ به سَويقًا، فبائِعُهما أُسْوَةُ الغُرَماءِ. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: له الرُّجُوعُ؛ لأنَّه وَجَد عَينَ مالِه. قالوا: ولو اشْتَرَى ثَوْبًا وصِبْغًا، فصَبَغَ الثوبَ بالصِّبْغِ، رَجَع بائِعُ كلِّ شيءٍ في عَينِ مالِه، وكان بائِعُ الصِّبْغِ شَرِيكًا لبائِعِ الثَّوبِ. وإن حَصَل نقْصٌ، فهو مِن صاحِبِ الصِّبْغِ؛ لأنَّه الَّذي يَتَفَرَّقُ ويَنْقُصُ، والثَّوبُ بحالِه، فإذا كانت قِيمَةُ الثَّوبِ عَشَرَةً وقِيمَةُ الصِّبْغِ خَمْسَة، فصارت قِيمَتُهما اثْنَيْ عَشَرَ، كان لصاحِبِ الثَّوبِ خَمْسَةُ أسْداسِ الثَّوبِ، وللآخَرِ سُدْسُه، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بما نَقَص، وذلك ثَلاثَةُ دَراهِمَ. وذَكَرَ القاضي في مَوْضِع مِثْلَ هذا. ولَنا، أنَّه لم يَجِدْ عَينَ مالِه، فلم يَكُنْ له الرُّجُوعُ (¬2)، كما لو تَلِف، ولأنَّ المُشْتَرِيَ شَغَلَه بغيرِه على وَجْهِ البيعِ، فلم يَمْلِكْ بائِعُه الرُّجُوعَ فيه، كما لو كان حَجَرًا فبَنَى عليه، أو مَسامِيرَ فسَمَّرَ بها بابًا. ولو اشْتَرَى ثَوْبًا وصِبْغًا مِن واحِدٍ، فصَبَغَه به، فقال أصْحابُنا: هو كما لو كان الصِّبْغُ مِن غيرِ بائِعِ الثَّوْبِ. فعلى ¬

(¬1) سقط هذا الفصل من: ر، ق. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلِهِم، يَرْجِعُ في الثَّوبِ وَحْدَه، ويكونُ المُفْلِسُ شَرِيكًا له بزِيادَةِ الصبْغِ، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بثَمَنِ الصِّبْغِ. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ فيهما ههُنا؛ لأنَّه وَجَد عَينَ مالِه مُتَميِّزًا عن غيرِه، فكان له الرُّجُوعُ فيه؛ للخَبَرِ، ولأنَّ المَعْنَى في المَحَلِّ الَّذي ثَبَت فيه الرُّجُوعُ مَوْجُود ههُنا، فمَلَكَ الرُّجُوعَ به؛ يَمْلِكُه ثَمَّ. ولو اشْتَرَى دُفُوفًا (¬1) ومَسامِيرَ مِن بائِعٍ واحِدٍ، فسَمَّرَها به، رَجَع بائِعُهما فيهما؛ لذلك، وكذلك ما أشْبَهَه. فصل: ولو اشْتَرَى أمَةً حامِلًا، ثم أفْلَسَ وهي حامِل، فله الرُّجُوعُ فيها، إلَّا أن يكونَ الحَمْلُ قد زاد بكِبَرِه وكَثُرَتْ قِيمَتُها بسَبَبِه، فيكون مِن قَبِيلِ الزِّيادَةِ المُتَّصِلَةِ، على ما مَضَى. وإن أَفْلَسَ بعدَ وَضْعِها، فقال القاضي: لهُ الرُّجُوعُ فيهما بكلِّ حالٍ مِن غيرِ تَفْصِيلٍ. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّنا إن قُلْنا: إنَّ الحَمْلَ لا حُكْمَ له. فالوَلَدُ زِيادَة مُنْفَصِلَة لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فيهما (¬3)، على قولِ أبي بكر؛ لأنَّ الزِّيادَةَ المُنْفَصِلَةَ عندَه ¬

(¬1) كذا في النسخ، وفي المغني 6/ 548: «رفوفًا» ولعله الصواب. (¬2) في: المغني 6/ 551. (¬3) في م: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للبائِعِ، وهذه زِيادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، وعلى قولِ غيرِه يكونُ الوَلَدُ للمُفْلِسِ، فيَحْتَمِلُ أن يَمْتَنِعَ الرُّجُوعُ في الأُمِّ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلى التَّفْرِيقِ بينَ الأُمِّ ووَلَدِها، ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ في الأُمِّ ويَدْفَعَ قيمَةَ الوَلدِ؛ ليكونا جميعًا له. وإن لم يَفْعَلْ، بِيعَتِ الأُمُّ وولدُها جميعًا، وقُسِمَ الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهما، فما خَصَّ الأُمَّ فهو للبائِعِ، وما خَصَّ الوَلَدَ للمُفْلِسِ. وإن قُلْنا: إن للوَلَدِ حُكْمًا. وهو الصَّحِيحُ؛ لِما ذَكَرْناه فيما تَقَدَّمَ، فإن (¬1) كانَتِ الأُمُّ والوَلَدُ قد زادا بالوَضْعِ، فحُكْمُه حُكْمُ المَبِيعِ الزّائِدِ زِيادَةً مُتَّصِلَةً. وإن لم يَزِيدا، جاز الرُّجُوعُ فيهما. وإن زاد أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، خُرِّجَ على الرِّوايتَين فيما إذا كان المبِيعُ عَينَين فتَلِفَ بعضُ إحْداهما، هل يَمْنَعُ ذلك الرُّجُوعَ في الأخْرَى؟ كذلك يُخَرَّجُ ههُنا وَجْهان؛ أحدُهما، أن له الرُّجُوعَ فيما لم يَزِدْ دُونَ ما زاد. فيَكُونُ حُكْمُه حُكْمَ الرُّجُوعِ في الأُمِّ دُونَ الوَلَدِ، على ما فَصَّلْناه. والثانِي، ليس له الرُّجُوعُ في شيءٍ منهما؛ لأنَّه لم يَجِدِ المَبِيعَ إلَّا زائِدًا، فأشْبَهَ العَينَ الواحِدَةَ. فإن كان المَبِيعُ حَيَوانًا غيرَ الأمَةِ، فحكْمُه حُكْمُها، إلا في التَّفْرِيقِ بينَهما، فإنَّه جائِزٌ، بخِلافِ الأُمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اشْتَرَى حائِلًا، فحَمَلَتْ، ثم أفْلَسَ وهي حامِل، فزادت قِيمَتُها به، فهي زِيَادَة مُتَّصِلَة تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، على قولِ الخِرَقِيِّ، ولا تَمْنَعُه، على رِوايَةِ المَيمُونِيِّ. وإن أفْلَسَ بعدَ وَضْعِها، فهي زِيادَة مُنْفَصِلَة، فتكونُ للمُفْلِسِ، على الصَّحِيحِ. ويَمْتَنِعُ (¬1) الرُّجُوعُ في الأم دُونَ وَلَدِها، لِما فيه مِن التَّفْرِيقِ بينَهما. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ في الأمِّ، على ما ذَكَرْنا في التي قبلَها. وعلى قولِ أبي بكرٍ، الزِّيادَةُ للبائِعِ، فيكون له الرُّجُوعُ فيهما. وقال القاضي: إذا وَجَدَها حامِلًا، انْبَنَى على أنَّ الحَمْلَ هل له حُكْمٌ أو لا؟ فإن قُلْنا: لا حُكْمَ له. جَرَى مَجْرَى الزِّيَادَةِ المُتَّصِلَةِ. وإن قُلْنا: له حُكْمٌ. فالوَلَدُ في حُكْمِ المُنْفَصِلِ، تَتَرَبَّصُ به حتَّى تَضَعَ، ويكونُ الحُكْمُ فيه كما لو وَجَده بعدَ وَضْعِه. وإن كان الحَمْلُ في غيرِ الآدَمِيَّةِ، جاز التَّفْرِيقُ بينَهما، كما تَقَدَّمَ. فصل: فإن كان المَبِيعُ نَخْلًا أو شَجَرًا، فأفْلَسَ المُشْتَرِي، لم يَخْلُ مِن أرْبَعَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يُفْلِسَ وهي بحالِها، لم تَزِدْ ولم تُثْمِرْ ولم يَتْلَفْ بَعْضُها، فله الرُّجُوعُ فيها. الثانِي، أن يكونَ فيها ثمَرٌ ظاهِر، أو طَلْعٌ مُؤَبَّرٌ، فيَشْتَرِطَه المُشْتَرِي فَيَأْكُلَه أو يَتَصَرَّفَ فيه، أو يَذْهَبَ بجائِحَةٍ، ثم يُفْلِسَ، فهذا في حُكْمِ ما لو اشْتَرَى عَينَين فتَلِفَتْ إحْداهما ثم أفْلَسَ، ¬

(¬1) في م: «تمنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهل للبائِعِ الرُّجُوعُ في الأُصُولِ ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بحِصَّةِ التَّالِفِ مِن الثَّمَرِ؟ على رِوايَتَين. وإنْ تَلِف بَعْضُها، فهو كتَلَفِ جَمِيعِها. وإن زادت أو بَدا صَلاحُها، فهذه زِيادَة مُتَّصِلَةٌ في إحْدَى العَينَين، وقد ذَكَرْنا بيانَ حُكْمِها. الحالُ الثالثُ، أن يَبِيعَه نَخْلًا قد أطْلَعَتْ ولم تُؤبَّرْ، أو شَجَرًا فيه ثَمَرَة لم تَظْهَرْ، فهذه تَدْخُلُ في مُطْلَقِ البَيعِ. فإن أفْلَسَ بعدَ تَلَفِ الثَّمَرَةِ أو بعضِها أو الزِّيادَةِ فيها أو بُدُوِّ صَلاحٍ، فحُكْمُ ذلك حُكْمُ تَلَفِ بعضِ المَبِيعِ وزِيادَتِه المُتَّصِلَةِ؛ لأنَّ المَبِيعَ كان بمَنْزِلَةِ العَينِ الواحِدَةِ، ولهذا دَخَل الثَّمَرُ في مُطْلَقِ البَيعِ، بخِلافِ التي قبلَها. الحالُ الرابعُ، باعَه نَخْلًا حائِلًا فأطْلَعَتْ، أو شَجَرًا فأثْمَرَ، فذلك على أرْبَعَةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، أن يُفْلِسَ قبلَ تَأْبِيرِها، فالطَّلْعُ زِيادَةّ مُتَّصِلَةٌ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، كالسِّمَنِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَرْجِعَ في النَّخْلِ دُونَ الطَّلْعِ؛ لأنَّه يُمْكِنُ فَصْلُه، ويَصِحُّ إفْرادُه بالبَيعِ، فهو كالمُؤبَّرِ، بخِلافِ السِّمَنِ. وهذا قولُ ابنِ حامِدٍ. وعلى رِوايَةِ المَيمُونِيِّ، لا يَمْنَعُ، بل يَرْجِعُ، ويكونُ الطَّلْعُ للبائِعِ، كما لو فُسِخَ بعَيبٍ (¬1). وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والقولُ الثانِي، يَرْجِعُ في الأصْلِ دُونَ الطَّلْعِ، وكذلك عندَهم الرَّدُّ بالعَيبِ، والأخْذُ بالشُّفْعَةِ. الضَّرْبُ الثانِي، أفْلَسَ بعدَ التَّأَبِيرِ وظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فلا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، والطَّلْعُ للمُشْترِي، إلَّا على قولِ أبي بكر. ¬

(¬1) في م: «العيب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ لا تَتْبَعُ في البَيعِ الَّذي يَثْبُتُ بتَراضِيهما، ففي الفَسْخِ الحاصِلِ بغيرِ رِضا المُشْتَرِي أوْلى. ولو باعَهُ أرْضًا فارِغَةً، فزَرَعَها المُشْتَرِي ثم أفْلَسَ، فإنَّه يَرْجِعُ في الأرْضِ دُونَ الزَّرْعِ، وَجْهًا واحِدًا، لأنَّ ذلك مِن مال المُشْتَرِي. الضَّرْبُ الثّالِثُ، أفْلَسَ والطَّلْعُ غيرُ مُؤَبَّر، فلم يَرْجِعْ حتَّى أُبِّرَ، لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ فيه، كما لو أفْلَسَ بعدَ التَّأَبِيرِ؛ لأنَّ العَينَ لا تَنْتَقِلُ إلَّا باخْتِيَارِه، وهذا لم يَخْتَرْها إلَّا بعدَ تَأْبِيرِها. فإنِ ادَّعَى البائِعُ الرُّجُوعَ قبلَ التَّأْبِيرِ، وأنْكَرَ المُفْلِسُ، فالقولُ قولُ المُفْلِس مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ بقَاءُ مِلْكِه. وإن قال البائِعُ: بِعْتُ بعدَ التَّأبِير. وقال المُفْلِسُ: بل قبلَه. فالقول قولُ البائِعِ؛ لهذه العِلَّةِ. فإن شَهِد الغُرَماءُ للمُفْلِسِ، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهم؛ لأنَّهم يَجُرُّونَ إلى أنْفُسِهِم نَفْعًا. وإنْ شَهِدُوا للبائِعِ وهم عُدُولٌ قُبِلَتْ شَهادَتُهم؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهم. الضَّرْبُ الرّابعُ، أفْلَسَ بعدَ أخْذِ الثَّمَرَةِ (¬1) أو ذَهابِها بجائِحَةٍ أو غيرِها، فله الرُّجُوعُ في الأصْلِ، والثَّمَرَةُ للمُشْتَرِي، إلَّا على قولِ أبي بكْر. وكُلُّ مَوْضِعٍ لا يَتْبَعُ الثَّمَرُ الشَّجَرَ إذا رَجَع البائِعُ فيه، فليس له مُطالبَةُ المُفْلِسِ بقَطْعِ الثَّمَرَةِ قبلَ أوانِ الجِذاذِ. وكذلك إذا رَجَع في الأرْضِ وفيها زَرْعٌ للمُفْلِسِ، فليس له المُطالبَةُ بأخْذِه قبلَ أوانِ الحَصادِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ زَرَع في أرْضِه بحَقٍّ، وطَلْعُه على الشَّجَرِ بحَقٍّ، فلم يَلْزَمْه أخْذُه قبلَ كمالِه، كما لو باع الأصْلَ وعليه الثَّمَرَةُ، أو الأرْضَ وفيها زَرْعٌ. ¬

(¬1) في م: «الثمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس على صاحِبِ الزَّرْعِ أجْرٌ؛ لأنَّه زَرَع في أرْضِه زَرْعًا يَجِبُ تَبْقِيَتُه، فكَأنَّه اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الأرْضِ، فلم يَكُنْ عليه ضَمانُ ذلك. إذا ثَبَت هذا، فإنِ اتَّفَقَ المُفْلِسُ والغُرَماءُ على التَّبْقِيَةِ أو القَطْعِ، فلهم ذلك، وإنِ اخْتَلَفُوا، فطَلَبَ بَعْضُهم القَطْعَ وبَعْضُهم التَّبْقِيَةِ، وكان ممَّا لا قِيمَةَ له مَقْطُوعًا، أو قِيمَتُه يَسِيرَةٌ، لم يُقْطَعْ؛ لأنَّ قَطْعَه سَفَهٌ وإضاعَةُ مالٍ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَتِه. وإن كانت قِيمَتُه كَثِيرَةً، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب القَطْعَ، في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّ في تَبْقِيَته غَرَرًا، ولأنَّ طالِبَ القَطْعِ إن كان المُفْلِسَ، فهو يَقْصِدُ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِه، وإن كان الغرَماءَ فهم يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ حُقُوقِهم، وذلك حَق لهم. وهذا قولُ القاضي، وأكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. الثانِي، يُنْظَرُ ما فيه الحَظُّ فيُعْمَلُ به؛ لأنَّ ذلك أنْفَعُ للجَمِيعِ، والظَّاهِرُ سَلامَتُه، ولهذا يَجُوزُ أن يُزْرَعَ للمُوَلَّى عليه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه (¬1) إن كان الطالِبُ القَطْعَ الغُرَماءَ، وَجَب إجابَتُهم؛ لأنَّ حُقُوقَهم حالَّةٌ، فلا يَلْزَمُهم تَأْخِيرُها مع إمْكانِ إيفائِها، وإن كان الطَّالِبُ المُفْلِسَ دُونَهم، وكان التَّأْخِيرُ أحَظَّ، لم يُقْطَعْ (¬2)؛ لأنَّهم رَضُوا بتَأْخِيرِ حُقُوقِهم لحَظٍّ يَحْصُلُ لهم وللمُفْلِسِ، والمُفْلِسُ يَطْلُبُ ما فيه ضَرَرٌ بنَفْسِه ومَنْعُ الغُرَماءِ مِن اسْتِيفاءِ القَدْرِ الَّذي يَحْصُلُ مِن الزِّيادَةِ بالتَّأْخِيرِ، فلا يَلْزَمُ الغُرَماءَ إجابَتُه إلى ذلك. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ أقَرَّ الْغُرمَاءُ بالطَّلْعِ أو الزَّرْعِ للبائِعِ، ولم يَشْهَدُوا به، أو شَهِدُوا به وليسوا عُدُولًا، أو لم يُحْكَمْ بشَهادَتِهم، حَلَف المُفْلِسُ، وثَبَت الطَّلْعُ له، يَنْفرِدُ به دُونَهم؛ لأنَّهُم يُقِرُّونَ أنَّهم (¬1) لا حَقَّ لهم فيه. فإن أراد دَفْعَه إلى أحَدِهم، أو تَخْصِيصَه بثَمَنِه، فله ذلك؛ لإِقْرارِ باقِيهم أنَّه لا حَقَّ لهم فيه. فإنِ امْتَنَعَ ذلك الغَرِيمُ مِن قَبُولِه، أُجْبِرَ عليه، أو على الإِبراءِ مِن قَدْرِه مِن دَينِه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه مَحْكُومٌ به للمُفْلِسِ، فكان له أنْ يَقْضِيَ دَينَه منه، كما لو أدَّى المُكاتَبُ نُجُومَ كِتابَتِه إلى سَيِّدِه، فقال سَيِّدُه: هي حَرامٌ. وأنْكَرَ المُكاتَبُ. وإن أراد قَسْمَه على الغُرَماءِ، لَزِمَهم قَبُولُه أو الإبراءُ؛ لِما ذَكَرْنا. فإن قَبَضُوا الثَّمَرَةَ بعَينِها، لَزِمَهم رَدُّها إلى البائِعِ؛ لأنَّهم مُقِرُّون له بها، فلَزِمَهم دَفْعُها إليه، كما لو أقَرُّوا بعِتْقِ عَبْدٍ، ثم اشْتَرَوْه. فإن باع الثَّمَرَةَ، وقَسَمَ ثَمَنَها فيهم، أو دَفَعَه إلى بَعْضِهم، لم يَلْزَمْه رَدُّ ما أخَذَ مِن ثَمَنِها؛ لأنَّهم اعْتَرَفُوا بالعَينِ، لا بثَمَنِها. وإن شَهِدَ بَعْضُهم دُونَ بعضٍ، أو أقَرَّ بَعْضُهم دُونَ بعضٍ، لَزِم الشَّاهِدَ أو المُقِرَّ الحُكْمُ الَّذي ذَكَرْناه دُونَ غيرِه. وإن عَرَض عليهم المُفْلِسُ الثَّمَرَةَ بعَينِها، فأبَوْا أخْذَها، لم يَلْزَمْهمِ (¬2) ذلك؛ لأنَّهم إنَّما يَلْزَمُهم الاسْتِيفاءُ مِن جِنْسِ دُيُونِهم، إلا أن يكون فيهم مَن له مِن جِنْسِ الثَّمَرِ أو الزَّرْعِ، [كالمُقْرِضِ والمُسْلِمِ] (¬3)، فيَلْزَمُه أخْذُ ما عُرِض عليه ¬

(¬1) في ر، ق، م: «لأنه». (¬2) في الأصل: «يلزمه». (¬3) في الأصل: «كالقرض والمسلم فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان بصِفَةِ حَقِّه. ولو أقَرَّ الغُرَماءُ بأنَّ المُفْلِسَ أعْتَقَ عَبْدًا له قبلَ فَلَسِه، فأنْكَرَ ذلك، لم يُقبَلْ قَوْلُهم، إلَّا أن يَشْهَدَ منهم عَدْلان بإعْتاقِه، ويكونُ حُكْمُهم في قَبْضِ العَبْدِ وأخْذِ ثَمَنِه -إن عَرَضَه عليهم- لُحكْمَ ما لو أقَرُّوا بالثَّمَرَةِ للبائعِ. وكذلك إن أقَرُّوا بعَين ممّا في يَدَيه أنَّها غَصْبٌ أو عارِيَّةٌ أو نحوُ ذلك، فالحُكمُ كما ذَكرْنا سَواءٌ. وإن أقَرُّوا بأنَّه أعْتَقَ عَبْدَه بعدَ فَلَسِه، انْبَنَى ذلك على صِحَّةِ عِتْقِ المُفْلِسِ، فإن قُلْنا: لا يَصِحُّ عِتْقُه. فلا أثَرَ لإِقْرَارِهم. وإن قُلْنا بصِحَّتِه، فهو كإقْرارِهم بعِتْقِه قبلَ فَلَسِه، فإنْ حَكَم الحاكِمُ بصِحَّتِه أو بفَسَادِه، نَفَذ حُكْمُه؛ لأنَّه فصلٌ مُجْتَهَدٌ فيه، فلَزِمَ ما حَكَم به الحاكِمُ، ولا يَجُوزُ نَقْضُه ولا تَغْيِيرُه. فصل: فإن صَدَّقَ المُفْلِسُ البائِعَ في الرُّجُوعِ قبلَ التَّأْبِيرِ، وكَذَّبَه الغُرَماءُ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه؛ لأنَّ حُقُوقَهم تَعَلَّقَتْ بالثَّمَرَةِ ظاهِرًا، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه، كما لو أقَرَّ بالنَّخِيلِ، وعلى الغُرَماءِ اليَمِينُ أنَّهُم لا يَعْلَمُون أنَّ البائِعَ رَجَع قبل التَّأْبِيرِ؛ لأنَّ هذه اليَمِينَ لا يَنُوبُون فيها عن المُفْلِسِ، بل هي ثابِتَةٌ في حَقِّهم ابْتِداءً، بخِلافِ ما لو ادَّعَى حَقًّا وأقام شاهِدًا فلم يَحْلِفْ، لم يَكُنْ للغُرَماءِ أن يَحْلِفُوا مع الشّاهِدِ؛ لأنَّ اليَمِينَ على المُفْلِسِ، فلو حَلَفُوا، حَلَفُوا ليُثْبِتُوا حَقًّا لغَيرِهم، ولا يَحْلِفُ الإِنْسانُ ليُثْبِتَ لغَيرِه حَقًّا، ولا يَجُوزُ أن يكونَ نائِبًا (¬1) فيها؛ لأنَّ الأيمانَ لا تَدْخُلُها النِّيابَةُ، وفي ¬

(¬1) في الأصل، ر: «ثابتا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسْألَتِنا الأصْلُ أنَّ هذا الطَّلْعَ قد تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهم به؛ لكَوْنِه في يَدِ غَرِيمِهِم (¬1)، ومُتَّصِلًا بنَخْلِه، والبائِعُ يَدَّعِي ما يُزِيلُ حُقُوقَهم عنه، فأشْبَهَ سائِرَ أعْيانِ مالِه، ويَحْلِفُون على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّه يَمِينٌ على فِعْل غيرِهم، فكانت على نَفْي (¬2) العِلْمِ، كيَمِينِ الوارِثِ على نَفْي الدَّين على المَيِّتِ. ولو أقَرَّ المُفْلِسُ بعَين مِن أعْيانِ مالِه لأجْنَبيٍّ أو لبعضِ الغُرَماءِ، فأنْكَرَ الباقُون، فالقولُ قَوْلُهم، وعليهم اليَمِينُ أنَّهُم لا يَعْلَمُون ذلك. ومِثْلُه لو أقَرُّ بغَرِيمٍ آخَرَ يَسْتَحِقُّ مُشارَكَتَهم فأنْكَرُوه، حَلَفُوا أيضًا على نَفْي العِلْمِ؛ لذلك. وإن أقَرَّ بعِتْقِ عَبْدِه، انْبَنَى على صِحَّةِ عِتْقِ المُفْلِسِ؛ فإن قُلْنَا: يَصِحُّ عِتْقُه. صَحَّ إقْرارُه، وعَتَق؛ لأنَّ مَن مَلَك شيئًا مَلَك الإقْرارَ به. وإنْ قُلْنا: لا يَصِحُّ عِتْقُه. لم يُقْبَلْ إقْرارُه، وعلى الغُرَماءِ اليَمِينُ أنَّهم لا يَعْلَمُون ذلك. وكلُّ مَوْضِع قُلْنا: على الغُرَماءِ اليمِينُ. فهي على جَمِيعِهم، فإن حَلَفُوا، وإلَّا قُضِيَ للمُدَّعِي، إلَّا أن نَقُولَ برَدِّ اليَمِينِ على المُدَّعِي، فيَحْلِفُ ويَسْتَحِقُّ. وإن حَلَف بَعْضُهم دُونَ بعضٍ، أخَذَ الحالِفُ نَصِيبَه، وحُكْمُ النّاكِلَ على ما ذَكَرْناه. فصل: وإن أقَرَّ المُفْلِسُ أنَّه أعْتَقَ عَبْدَه منذُ سَنَةٍ، وكان العَبْدُ قد اكْتَسَبَ بعدَ ذلك مالًا وأَنْكَرَ الغُرَماءُ، فإن قُلْنا: لا يُقْبَلُ إقْرارُه. حَلَفُوا، واسْتَحَقُّوا العَبْدَ وكَسْبَه. وإن قُلْنا: يُقْبَلُ إقْرارُه. لم يُقْبَلْ في ¬

(¬1) في الأصل، ر 1: «غيرهم». (¬2) سقط من: الأصل.

1918 - مسألة: (وإن غرس الأرض، أو بنى فيها، فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء، فيملكه، إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص)

وَإِنْ غَرَسَ الْأرْضَ، أوْ بَنَى فِيهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ وَدَفْعُ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، فَيَمْلِكُهُ، إلا أَنْ يَخْتَارَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ الْقَلْعَ وَمُشَارَكَتَهُ بِالنَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَسْبِه، وكان للغُرَماء أن يَحْلِفُوا أنَّهم لا يَعْلَمُون أنَّه أعْتَقَه قبلَ الكَسْبِ، ويَأْخُذُونَ كَسْبَه؛ لأَنَّ إقْرارَه إنَّما قُبِل في العِتْقِ دُونَ غيرِه لصِحَّتِه منه؛ لكَوْنِه يَنْبَنِي على التَّغْلِيبِ والسِّرايَةِ، فلا يُقْبَلُ في المالِ؛ لعَدَمِ ذلك فيه، ولأنَّنَا نَزَّلْنا إقْرارَه مَنْزِلَةَ إعْتاقِه في الحالِ، فلم تَثْبُتْ له (¬1) الحُرِّيَّةُ فيما مَضَى، فيَكُونُ كَسْبُه مَحْكُومًا به لسَيِّدِه، كما لو أقَرَّ بعِتْقِه، ثم أقَرَّ له بعَينٍ في يَدِه. 1918 - مسألة: (وَإِنْ غَرَسَ الْأرْضَ، أوْ بَنَى فِيهَا، فَلَهُ الرُّجُوعُ وَدَفْعُ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، فَيَمْلِكُهُ، إلا أَن يَخْتَارَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ الْقَلْعَ وَمُشَارَكَتَهُ بِالنَّقْصِ) إذا كان المَبِيعُ أرْضًا، فبَناها المُشْتَرِي أو غَرَسَها، ثم أفْلَسَ، فأراد البائِعُ الرُّجُوعَ في الأرْضِ، نَظَرْتَ؛ فإنِ اتَّفَقَ المُفْلِسُ ¬

(¬1) في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والغُرَماءُ على قَلْعِ الغِراسِ والبِناءِ، فلهم ذلك؛ لأنَّ الحَقَّ لهم لا يَخْرُجُ عنه، فإذا قَلَعُوه، فللبائِعِ الرُّجُوعُ في أرْضِه؛ لأنَّه وَجَد عَينَ مالِه. فإن أراد الرُّجُوعَ قبلَ القَلْعِ، فله ذلك. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أدْرَك مَتاعَه بعَيْنِه، وفيه مالُ المُشْتَرِي علي وَجْهِ البَيعِ، فلم يَمْنَعْه الرُّجُوعَ، كما لو صَبَغ الثَّوْبَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْتَحِقَّه إلَّا بعدَ القَلْعِ؛ لأنَّه قبلَ القَلعِ لم يُدْرِكْ مَتاعَه إلَّا مَشْغُولًا بمِلْكِ المُشْتَرِي، فأشْبَهَ ما لو كان مَسامِيرَ في بابِ المُشْتَرِي. فإن قُلْنا: له الرُّجُوعُ قبلَ القَلْعِ. فقَلَعُوه (¬1)، لَزِمَهم تَسْويَةُ الأرْضِ، وأرْشُ نَقْصِ الأرْضِ الحاصِلِ به؛ لأنَّ ذلك نَقْصٌ حَصَل لتَخْلِيصِ مِلْكِ المُفْلِسِ، فكان عليه، كما لو دَخَل فَصِيلٌ دارَ إنْسَانٍ، فكَبِرَ، فأراد صاحِبُه إخْراجَه، فلم يُمْكِنْ إلَّا بهَدْمِ بابِها، فإنَّ البابَ يُهْدَمُ ليَخْرُجَ، ويَضْمَنُ صاحِبُه ما نَقَص، بخِلافِ ما إذا وَجَد البائِعُ عَينَ مالِه ناقِصَةً فرَجَعَ فيها، فإنَّه لا يَرْجِعُ في النَّقْصِ، فإنَّ النَّقْصَ كان في مِلْكِ المُفْلِسِ، وههُنا حَدَث بعدَ رُجُوعِه في العَينِ، فلهذا ضَمِنُوه، ويَضْرِبُ بالنَّقْصِ مع الغُرَماءِ. وإن قُلْنا: ليس له الرُّجُوعُ قبلَ القَلْعِ. لم يَلْزَمْهم تَسْويَةُ الحَفْرِ، ولا أَرْشُ النَّقْصِ؛ لأنَّهُم فَعَلُوا ذلك في أرْضِ ¬

(¬1) في ق: «فقطعوه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُفْلِسِ قبلَ رُجُوعِ البائِعِ فيها، فلم يَضْمَنُوا النَّقْصَ، كما لو قَلَعَه المُفْلِسُ قبلَ فَلَسِه. فإنِ امْتَنَعَ المُفْلِسُ والغُرَماءُ مِن القَلْعِ، لم يُجْبَرُوا عليه؛ لأنَّه غَرْسٌ بحَقٍّ، ومَفْهُومُ قوله - عليه السلام -: «ليس لعِرْقٍ ظالِمٍ حقٌّ» (¬1). أنَّه إذا لم يَكُنْ ظالِمًا فله حَقٌّ. فإن بَذَل البائِعُ قِيمَةَ الغِراسِ والبِناءِ ليَمْلِكَه، أو قال: أنا أقْلَعُ وأضْمَنُ النَّقْصَ. فله ذلك إن قُلْنا: له الرُّجُوعُ قبلَ القَلْعِ. لأنَّ البِناءَ والغِراسَ حَصَلَ في مِلْكِه لغيرِه بحَقٍّ، فكان له أخْذُه بقِيمَتِه أو قَلْعُه و (¬2) ضَمانُ نقْصِه، كالشَّفِيعِ إذا أخَذَ الأرْضَ وفيها غِرَاسٌ أو بِناءٌ للمُشْتَرِي، والمُعِيرِ إذا رَجَع في أرْضِه بعدَ غَرْسِ المُسْتَعِيرِ. وإن قُلْنا: ليس له الرُّجُوعُ قبلَ القَلْعِ لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّه بِناءُ المُفْلِسِ وغَرْسُه، فلم يُجْبَرْ على بَيعِه لهذا البائِعِ، ولا على قَلْعِه، كما لو لم يَرْجِعْ في الأرْضِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري تعليقًا، في: باب من أحيا أرضا مواتا من كتاب الحرث: صحيح البخاري 3/ 140. وأبو داود، في: باب في إحياء الموات، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 158. والترمذي، في: باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 146. والإمام مالك، في: باب العمل في عمارة الموات، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 743. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 327. (¬2) في الأصل: «أو».

1919 - مسألة: (وإن أبوا القلع، وأبى دفع القيمة، سقط الرجوع)

وَإنْ أَبَوُا الْقَلْعَ، وَأَبَى دَفْع الْقِيمَةِ، سَقَطَ الرُّجُوعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1919 - مسألة: (وَإنْ أَبَوُا الْقَلْعَ، وَأَبَى دَفْع الْقِيمَةِ، سَقَطَ الرُّجُوعُ) وهذا قولُ ابنِ حامِدٍ، وأحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أنَّ له الرُّجُوعَ. وهو قولٌ للشافعيِّ؛ لأنَّه أدْرَكَ مَتاعَه بعَينِه مُتَّصِلًا بمِلْكِ المُشْتَرِي على وَجْهِ البَيعِ، فلم يَمْنَعِ الرُّجُوعَ، كالثَّوْبِ إذا صَبَغَه المُشْتَرِي. ولَنا، أنَّه لم يُدْرِكْ مَتاعَه على وَجْهٍ يُمْكِنُه أخْذُه مُنْفَرِدًا عن غيرِه، فلم يَكُنْ له أخْذُه، كالحَجَرِ في البِناءِ، والمَسامِيرِ في البابِ، ولأنَّ في ذلك ضَرَرًا على المُشْتَرِي والغُرَماءِ، ولا يُزالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، ولأنَّه لا يَحْصُلُ بالرُّجُوعِ ههُنا انْقِطاعُ النِّزاعِ والخُصُومَةِ، بخِلافِ ما إذا وَجَدَها غيرَ مَشْغُولَةٍ بشيءٍ. وأمّا الثَّوْبُ إذا صَبَغَه، فلا نُسَلِّمُ أنَّ له الرُّجُوعَ، وإن سَلَّمْنا، فالفَرْقُ بينهما مِن وَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ الصِّبْغَ تَفَرَّقَ في الثَّوْب، فصار كالصِّفَةِ، بخِلافِ (¬1) البِناءِ والغَرْسِ، فإنَّها أعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ وأصْلٌ في نَفْسِه. الثانِي، أنَّ الثَّوْبَ لا يُرادُ للبَقاءِ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «الأرض و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ الأرْضِ والبناءِ. فإذا قُلْنا: لا يَرْجِعُ. فلا كَلامَ. وإن قُلْنا. يَرْجِعُ. فرَجَعَ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ على بَيعِهما، بِيعا لهما، [وأخَذَ كلُّ واحِدٍ بقَدْرِ حَقِّه. وإنِ امْتَنَعَ أحَدُهما مِن البَيعِ، احْتَمَلَ أن يُجْبَرَ عليه، كالثَّوْبِ إذا صَبَغَه المُشْتَرِي، فإنَّه يُباعُ لهما] (¬1)، كذا ههُنا. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْبَرَ؛ لأنَّه يُمْكِنُ طالِبَ البَيعِ أن يَبِيعَ مِلْكَه مُنْفَرِدًا، بخِلافِ الثَّوْبِ المَصْبُوغِ. فإن بِيعا لهما، قُسِّمَ الثَّمَنُ على قَدْرِ القِيمَتَينِ، فتُقَوَّمُ الأرْضُ لا شَجَرَ فيها ولا بِناءَ، ثم تُقَوَّمُ وهما فيها، فما كان قِيمَةَ الأرْضِ بغيرِ غِراسٍ ولا بِناءٍ فللبائِعِ قِسْطُه مِن الثَّمَنِ، والزَّائِدُ للمُفْلِس والغُرَماءِ. وإن قُلْنا: لا يُجْبَرُ على البَيعِ. أو لم يَطْلُبْ أحَدُهما البَيعَ، فإنِ اتَّفَقا على كَيفِيَّةِ كَوْنِهما بينَهما، جاز ما اتَّفَقَا عليه، وإنِ اخْتَلَفا، كانتِ الأرْضُ للبائِعِ، والغِراسُ والبِناءُ للمُفْلِسِ والغُرَماءِ، ولهم دُخُولُ الأرْضِ لسَقْيِ الشَّجَرِ، وأخْذِ الثَّمَرَةِ، وليس لهم دُخُولُها للتَّفَرُّجِ أو لغيرِ حاجَةٍ، وللبائِعِ دُخُولُها للزَّرْعِ ولِما شاء؛ لأنَّ الأرْضَ مِلْكُه. فإن باعُوا الشَّجَرَ والبِناءَ لإِنْسانٍ، فحُكْمُه في ذلك حُكْمُهم. فإن بَذَل المُفْلِسُ والغُرَماءُ أو المُشْتَرِي للبائِعِ قِيمَةَ الأرْضِ ليَدَعَها لهم، لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّ الأرْضَ أصْلٌ، فلا يُجْبَرُ على بَيعِها، بخِلافِ الغِراسِ والبِناءِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اشْتَرَى غِراسًا فَغَرَسَه في أرْضِه، ثم أفْلَسَ، ولم يَزِدِ الغِراسُ، فله الرُّجُوعُ فيه؛ لأنَّه أدْرَكَ مَتاعَه بعَينِه. فإذا أخَذَه، فعليه تَسْويَةُ الأرْضِ، وأَرْشُ نَقْصِها الحاصِلِ بقَلْعِه؛ لأنَّه نَقْصٌ حَصَل لتَخْلِيصِ مِلْكِه مِن مِلْكِ غيرِه. وإن بَذَل المُفْلِسُ والغُرَماءُ قِيمَتَه له ليَمْلِكُوه، لم يُجْبَرْ على قَبُولِها؛ لأنَّه إذا اخْتارَ أخْذَ مالِه وتَفْرِيغَ مِلْكِهِم وإزالةَ ضَرَرِه عنهم، لم يَكُنْ لهم مَنْعُه، كالمُشْتَرِي إذا غَرَس في الأرْضِ المَشْفُوعَةِ. وإنِ امْتَنَع مِن القَلْعِ، فبَذَلُوا له القِيمَةَ ليَمْلِكَهُ المُفْلِسُ، أو أرَادُوا قَلْعَه وضَمانَ النَّقْصِ، فلهم ذلك. وكذلك لو أرادُوا قَلْعَه مِن غيرِ ضَمانِ النَّقْصِ؛ لأنَّ المُفْلِسَ إنَّما ابْتاعَه مَقْلُوعًا، فلم يَجبْ عليه إبْقاؤُه في أرْضِه. وقِيلَ: ليس لهم قَلْعُه مِن غيرِ ضَمانِ النَّقْصِ؛ لأَنَّه غَرْس بحَقٍّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ غَرْسَ المُفْلِسِ في الأرْضِ التي ابْتاعَها إذا رَجَع بائِعُها فيها. والفَرْقُ بينَهما ظاهِرٌ، فإنَّ إبْقاءَ الغِراسِ في هذه الصُّورَةِ حَقٌّ عليه، فلم يَجبْ عليه بفِعْلِه (¬1)، وفي التي قبلَها إبْقاؤُه حَقٌّ له، فوَجَبَ له بغِراسِه في مِلْكِه. فإنِ اخْتارَ بعضُهم القَلْعَ وبَعْضُهم التَّبْقِيَةِ، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب القَلْعَ، سَواءٌ كان المُفْلِسَ أو الغُرَماءَ أو بعضَ الغُرَماءِ؛ لأنَّ الإبقاءَ ضَرَرٌ غيرُ واجِبٍ، فلم يَلْزَمِ المُمْتَنِعَ منه (¬2) الإِجابَةُ إليه. وإن زاد الغِراسُ في الأرْضِ، فهي زِيادَةٌ مُتَّصِلَة تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، إلَّا على رِوايَةِ المَيمُونِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل، ق: «قلعه». (¬2) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَرَى أرْضًا مِن رجلٍ وغِراسًا مِن آخَرَ، فغَرَسَه فيها، ثم أفْلَسَ، ولم يَزِدِ الشَّجَرُ، فلِكلِّ واحِدٍ منهما الرُّجُوعُ في عَينِ مالِه، ولصاحِبِ الأرْضِ قَلْعُ الغِراسِ مِن غيرِ ضَمانِ النَّقْصِ بالقَلْعِ، كما ذَكَرْنا؛ لأنَّ البائِعَ إنَّما باعَه مَقْلُوعًا، فلا يَسْتَحِقُّه إلَّا كذلك. وإن أراد بائِعُه قَلْعَه مِن الأرْضِ، فقَلَعَه، فعليه تَسْويَةُ الأرضِ (¬1)، وضَمانُ نَقْصِها الحاصِلِ به؛ لِما تَقَدَّمَ. فإن بَذَلَ صاحِبُ الغِراس قِيمَةَ الأرْضِ لصاحِبِها ليَمْلِكَها (¬2)، لم يُجْبَرْ على ذلك؛ لأنَّ الأرْضَ أصْل، فلا يُجْبَرُ على بَيعِها تَبَعًا. وإن بَذَل صاحِبُ الأرْضِ قِيمَةَ الغِراسِ لصاحِبِها ليَمْلِكَه إذا امْتَنَعَ مِن القَلْعِ، فله ذلك؛ لأن غَرْسَه حَصَل في مِلْكِ غيرِه بحَق، فأشْبَهَ غَرْسَ المُفْلِسِ في أرْضِ البائِعِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ ذلك؛ لأنَّه لا يُجْبَرُ على إبْقائِه إذا امْتَنَعَ مِن دَفْعِ قِيمَتِه أو أَرْشِ نَقْصِه، فلا يكونُ له أن يَتَمَلَّكَه بالقِيمَةِ، بخِلافِ التي قبلَها. والأوَّلُ أوْلَى، وهذا مُنْتَقِصٌ بغَرْسِ الغاصِبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الحفر». (¬2) في المغني 6/ 560: «ليملكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المَبِيعُ صَيدًا، فأفْلَسَ المُشْتَرِي، والبائِعُ مُحْرِمٌ، لم يَرْجِعْ فيه؛ لأنَّه تَمَلُّكٌ للصَّيدِ، فلم يَجُزْ في الإِحْرام، كشِرائِه. وإن كان البائِعُ حَلالًا في الحَرَمِ، والصَّيدُ في الحِلِّ، فأَفْلَسَ المُشْتَرِي؛ فللبائِعِ الرُّجُوعُ فيه؛ لأنَّ الحرمَ، إنَّما يَحْرُمُ الصَّيدُ الَّذي فيه، وهذا ليس مِن صَيدِه، فلا يُحَرِّمُه. ولو أفْلَسَ المُحْرِمُ وفي مِلْكِه صَيدٌ، بائِعُه (¬1) حَلالٌ، فله أخْذُه؛ لأنَّ المانِعَ (¬2) غيرُ مَوْجُودٍ فيه. ¬

(¬1) في الأصل: «باعه». (¬2) في ق: «البائع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أفْلَسَ وفي يَدِه عَينٌ دَينُ بائِعها مُؤَجَّلٌ، وقُلْنا: لا يحِلُّ الدَّينُ بالفَلَسِ. فقال أَحمَدُ، في رِوايَةِ الحَسَنِ بنِ ثَوَابٍ: يكونُ مَوْقُوفًا إلى أنْ يَحِلَّ دَينُه، فيَخْتارُ البائِعُ الفَسْخَ أو التَّرْكَ. وهو قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ. والمَنْصُوصُ عن الشافعيِّ، أنَّه يُباعُ في الدُّيُونِ الحالَّةِ. ويَتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك؛ لأنَّها حُقُوق حالَّةٌ، فقُدَّمَتْ على الدَّينِ المُؤجَّلِ، كدَينِ مَن لم يَجِدْ عَينَ مالِه. والقولُ الأوَّلُ أوْلَى؛ للخَبَرِ، ولأنَّ حَقَّ هذا البائِعِ تَعَلَّقَ بالعَينِ، فَقُدِّمَ على غيرِه وإن كان مُؤْجَّلًا، كالمُرْتَهِنِ والمَجْنِيِّ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في رجلٍ ابْتاعَ طَعامًا نَسِيئَةً ونَظَرَ إليه وقَلَّبَه، وقال: أقْبِضه غَدًا. فمات البائِعُ وعليه دَيْنٌ، فالطّعامُ للمُشْتَرِي، ويَتْبَعُه الغُرَمَاءِ بالثَّمَنِ، وإن كان رَخِيصًا. وكذلك قال الثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّ المِلْكَ ثَبَت للمُشْتَرِي فيه بالشِّراءِ، وزال مِلْكُ البائِعِ عنه، فلم يُشارِكْه غُرَماءُ البائِعِ (¬1) فيه، كما لو قَبَضَه. ¬

(¬1) في ق: «الثاني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ورُجُوعُ البائِعِ فَسْخٌ للبَيعِ، لا يَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَةِ المَبِيعِ، ولا القُدْرَةِ على تَسْلِيمِه، فلو رَجَع في المَبِيعِ الغائِبِ بعدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَغَيَّرُ فيها، ثم وَجَدَه على حالِه لم يَتْلَفْ شيءٌ منه، صَحَّ رُجُوعُه. وإن رَجَع في العَبْدِ بعدَ إباقِه، أو الجَمَلِ بعدَ شُرُودِه، صَحَّ، وصار ذلك له، فإن قَدَر عليه أخَذَه، وإن ذَهَب كان مِن مالِه. وإن تَبَيَّن أنَّه كان تالِفًا حال استِرْجاعِه، بَطَل الاسْتِرْجاعُ، وله أن يَضْرِبَ مع الغُرَماءِ في المَوْجُودِ مِن مالِه. وإن رَجَع في المَبِيعِ، واشْتَبَهَ بغَيرِه، واخْتَلَفا (¬1) في عَينِه، فالقولُ قولُ المُفْلِسِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ لاسْتِحْقاقِ ما ادَّعاه البائِعُ، والأصْلُ معه. ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق، م: «اختلفوا».

فَصْلٌ: الْحُكْمُ الثَّالِثُ، بَيْعُ الْحَاكِمِ مَالهُ وَقَسْمُ ثَمَنِهِ، وَيَنْبَغِي أنْ يُحْضِرَهُ وَيُحْضِرَ الْغُرَمَاءَ، وَيَبِيعَ كُلَّ شَيْءٍ في سُوقِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ تعالى: (الْحُكْمُ الثَّالِثُ، بَيعُ الْحَاكِمِ مَالهُ وَقَسْمُ ثَمَنِهِ، وَيَنْبَغِي أنْ يُحْضِرَهُ وَيُحْضِرَ الْغُرَمَاءَ، وَيَبِيعَ كُلَّ شَيْءٍ في سُوقِهِ) إذا حُجِر على المُفْلِسِ باع الحاكِمُ ماله؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ مُعاذٍ (¬1). ولأنَّه مَقْصُودُ الحَجْرِ. ويُسْتَحَبُّ إحْضارُ المُفْلِسِ؛ لمعانٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدُها، إحْصاءُ ثَمَنِه وضَبْطُه. الثانِي، أنَّه أعْرَفُ بثَمَنِ مَتاعِه وجَيِّدِه ورديئِه، فإذا حَضَر تَكَلَّمَ عليه، وعَرَف الغَبْنَ مِن غيرِه. الثالثُ، أنَّ الرَّغْبَةَ تَكْثُرُ فيه، فإنَّ شِراءَه مِن صاحِبِه أحَبُّ إلى المُشْتَرِين. الرَّابِعُ، أنَّه أطْيَبُ لقلبِه. ويُسْتَحَبُّ إحْضارُ الغُرَماءِ؛ لأمُورٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدُها، أنَّه يُيَاعُ لهم. الثانِي، أنَّهم رُبَّما رَغِبُوا في شيءٍ (¬2) فزادُوا في ثَمَنِه، فيكونُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 234. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصْلَحَ لهم وللمُفْلِسِ. الثَّالِثُ، أنَّه أطْيَبُ لقُلُوبِهم، وأَبْعَدُ مِن (¬1) التُّهمَةِ. الرَّابِعُ، لَعَلَّ فيهم مَن يَجِدُ عَينَ مالِه فيَأْخُذَها. فإن باعَه مِن غيرِ حُضُورِهم كُلِّهم جاز؛ لأنَّ ذلك مُفَوَّضٌ إليه ومَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِه، فرُبَّما أدّاه اجْتِهادُه إلى خِلافِ ذلك والمُبادَرَةِ إلى البَيعِ قبلَ إحْضارِهم. ويَأْمُرُهُم الحاكِمُ (¬2) أن يُقِيمُوا مُنادِيًا يُنادِي على المَتاعِ، فإن تَراضَوْا بثِقَةٍ أمْضاه الحاكِمُ، وإن لم يَكُنْ ثِقَةً رَدَّه. فإن قِيلَ: لِمَ يَرُدُّه وقد اتَّفَقَ عليه أصْحابُ الحَقِّ، فأشْبَهَ ما لو اتَّفَقَ المُرْتَهِنُ والرَّاهِنُ على أن يَبِيعَ الرَّهْنَ غيرُ ثِقَةٍ، لم يَكُنْ للحاكِمِ الاعْتِراضُ؟ قُلْنا: الحاكِمُ ههُنا له نَظَرٌ واجْتِهادٌ؛ لأنَّه قد يَظْهَرُ غَرِيمٌ آخَرُ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّه به، بخِلافِ الرَّهْنِ، فإنَّه لا نَظَر للحاكِمِ فيه. فإنِ اخْتارَ المُفْلِسُ رجلًا، واخْتارَ الغُرَماءُ آخَرَ أقَرَّ الحاكِمُ الثِّقَةَ منهما. فإن كانا ثِقَتَينِ، قَدَّمَ المُتَطَوِّعَ منهما؛ لأنَّه أوْفَرُ، فإن كانا مُتَطَوِّعَين، ضَمَّ أحَدَهما إلى الآخَرِ، وإن كانا بجُعْلٍ، قَدَّمَ أوْثَقَهما وأعْرَفَهما، فإن تَساوَيا، قَدَّمَ مَن يَرَى منهما (¬3). والأُجْرَةُ مِنِ مالِ المُفْلِسِ؛ لأنَّ البَيعَ حَقٌّ عليه، لكَوْنِه طَرِيقَ وفاءِ دَينِه. وقيل: يُدْفعُ مِن بَيتِ المالِ؛ لأنَّه مِن المَصالِحِ. وكذلك الحُكْمُ في أجْرِ مَن يَحْفَظُ المَتاعَ والثَّمَنَ، وأجْرِ الحَمّالِين، ونحوهم. ويُسْتَحَبُّ بَيعُ كلِّ شيءٍ في ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) سقط من: م. (¬3) زيادة من: م.

1920 - مسألة: (ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم)

وَيَتْرُكَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَا تَدْعُو إِلَيهِ حَاجَتُهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سُوقِه؛ لأنَّه أحْوَطُ، وأكْثَرُ لطُلابِه، ومَعْرِفَةِ قِيمَتِه. فإن باع في غيرِ سُوقِه بثَمَنِ المِثْلِ، جاز؛ لأنَّ الغَرَضَ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ، ورُبَّما أدَّى الاجْتِهادُ إلى أنَّه أصْلِحُ. ولهذا لو قال: بعْ ثَوْبِي بثَمَنِ كذا. في سُوقٍ عَيَّنَهَ، فباعَه بذلك في غيرِه، جازَ. ويَبِيعُ بنَقْدِ البَلَدِ؛ لأنَّه أصْلَحُ. فإن كان في البَلَدِ نُقُودٌ باع بغالِبِها، فإن تَساوَتْ باع بجِنْسِ الدَّينِ. فإن زاد في السِّلْعَةِ أحَدٌ في مُدَّةِ الخِيارِ، لَزِم الأمِينَ الفَسْخُ؛ لأنَّه أمْكَنَه بَيعُه بثَمَنٍ (¬1)، فلم [يَجُزْ بَيعُه] (¬2) بدُونِه، كما لو زِيد فيه قبلَ العَقْدِ. وإن زاد بعدَ لزومِ العَقْدِ، اسْتُحِبَّ للأمِينِ سُؤالُ المُشْتَرِي الإِقالةَ، واسْتُحِبَّ للمُشْتَرِي الإِجابَةُ؛ لتَعَلُّقِه بمَصْلَحَةِ المُفْلِسِ وقَضاءِ دَينِه. 1920 - مسألة: (ويَتْرُكَ له مِن مالِه ما تَدْعُو إليه حاجَتُه مِن مَسْكَنٍ وخادِمٍ) لا تُباعُ دارُ المُفْلِسِ التي لا غِنى له (¬3) عن سُكْناها. وبه قال أبو حَنِيفةَ، وإسحاقُ. والخادِمُ في مَعْنَى الدَّارِ إذا كان مُحْتاجًا ¬

(¬1) في ر 1: «بثمنه». (¬2) في م: «بيعه». (¬3) في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه. وقال شُرَيحٌ، ومالِكٌ، والشافعيُّ: تُباع، ويُكْتَرَى له بَدَلُها. اخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في الَّذي أُصِيبَ في ثِمارٍ ابْتاعَها، فكَثُرَ دَينُه، فقال لغُرَمائِه: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ» (¬1). وهذا ممّا وَجَدُوه، ولأنَّه عَينُ مالِ المُفْلِسِ، فوَجَبَ صَرْفُه في دَينِه، كسائِرِ مالِه. ولَنا، أنَّ هذا ممّا لا غِنًى للمُفْلِسِ عنه، فلم يُصْرَفْ في دَينِه، كثِيابِه وقُوتِه، والحَديثُ قَضِيَّةٌ في عَين، يَحْتَمِلُ أنَّه لم يَكُنْ له عَقارٌ ولا خادِمٌ، ويَحْتَمِلُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ». ممّا تُصُدِّقَ به عليه، والظّاهِرُ أنَّه لم يُتَصَدَّقْ عليه بدارٍ وهو مُحْتاجٌ إلى سُكْناهَا، ولا خادِم وهو مُحْتَاجٌ إلى خِدْمتِه، ولأنَّ الحديثَ مَخْصُوصٌ بثِيابِ المُفْلِسِ وقُوتِه، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزاعِ، وقِياسُهم مُنْتَقِضٌ بذلك، وبأجْرِ المَسْكَنِ، وسائِرُ مالِه يَسْتَغْنِي عنه، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فإن كان له داران يَسْتَغْنِي بإحْداهما، بِيعتِ الأُخْرَى؛ لأنَّ به غِنًى عن سُكْنَاها. وإن كان مَسْكَنُه واسِعًا يَفْضُلُ عن سُكْنَى مِثْلِه، بِيعَ، واشْتُرِيَ له مَسْكَنُ مِثْلِه، ورُدَّ الفَضْلُ (¬2) على الغُرَماءِ، وكذلك الثِّيابُ التي له، إذا كانت رَفِيعَةً لا يَلْبَسُ مِثْلُه مِثْلَها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 237. (¬2) في الأصل: «الفاضل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المَسْكَنُ والخادِمُ الَّذي لا يَسْتَغْنِي عنهما عَينَ مالٍ بعضِ الغُرَماءِ، أو كان جَمِيعُ أمْوالِه (¬1) أعْيانَ أمْوالٍ أفْلَسَ بأثْمانِها، ووَجَدَها أصْحابُها، فلهم أخْذُها بالشَّرائِطِ المَذْكُورةِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بعَينِه عَنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬2). ولأنَّ حَقَّه تَعَلَّقَ بالعَينِ، فكان أقْوَى سَبَبًا مِن المُفْلِسِ، ولأنَّ الإِعْسارَ بالثَّمَنِ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ به الفَسْخَ، فلم يَمْنَعْ منه تَعَلُّقُ حاجَةِ المُشْتَرِي، كما قبلَ القَبْضِ، وكالعَيبِ، والخِيارِ. ولأنَّ مَنْعَهم مِن أخْذِ أمْوالِهم يَفْتَحُ باب الحِيَلِ، بأن يَشْتَرِيَ مَن لا مال له في ذمّتِه ثِيابًا يَلْبَسُها، ودارًا يَسْكُنُها، وخادِمًا يَخْدِمُه، وفَرَسًا يَرْكَبُها، وطعامًا له ولعائِلَتِه، ويَمْتَنِعُ على أرْبابِها أخْذُها؛ لتَعَلُّقِ حاجَتِه بها، فتَضِيعُ أمْوالُهم ويَسْتَغْني هو بها. فعلى هذا، يُؤخَذُ ذلك، ولا يُتْرَكُ له منه شيءٌ؛ لأنَّه أعْيانُ أمْوالِ النَّاسِ فكانُوا أحَقَّ بها منه، كما لو كانت في أيَدِيهم، أو أخَذَها منهم غَصْبًا. ¬

(¬1) في م: «ماله». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 255.

1921 - مسألة: (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه)

وَيُنْفِقَ عَلَيهِ بِالْمَعْرُوفِ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ مِنْ قَسْمِهِ بَينَ غُرَمَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1921 - مسألة: (ويُنْفِقَ عليه بالمَعْرُوفِ إلى أنْ يَفْرَغَ مِن قَسْمِهِ بينَ غُرَمائِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا حُجِر على المُفْلِسِ، فإن كان ذا كَسْبٍ يَفِي بنَفَقَتِه ونَفَقَةِ مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، فهي في كَسْبِه، فإنَّه لا حاجَةَ إلى إخْراجِ مالِه مع غِناه بكَسْبِه، فلم يَجُزْ، كالزِّيادَةِ على النَّفَقَةِ. وإن كان كَسْبُه دُونَ نَفَقَتِه كُمِّلَتْ مِن مالِه. وإن لم يكنْ ذا كسبٍ أُنْفِقَ عليه مِن مالِه مُدَّةَ الحَجْرِ وإن طال؛ لأنَّ مِلْكَه باقٍ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ابْدَأ بنَفْسِكَ ثُم بِمَنْ تَعُولُ» (¬1). ومَعْلُومٌ أنَّ في مَن يَعُولُه مَن تَجِبُ نَفَقَتُه عليه، ويكونُ دَينًا عليه، وهي زَوْجَتُه، فإذا قَدَّمَ نَفَقَةَ نَفْسِه على نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فكذلك على حَقِّ الغُرَماءِ، ولأنَّ تَجْهِيزَ المَيِّتِ يُقَدَّمُ على دَينِه بالاتِّفاقِ، والحَيُّ آكَدُ حُرْمَةً مِن المَيِّتِ؛ لأنَّه مَضْمُونٌ بالإتْلافِ. ويُقَدَّمُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَيضًا نَفَقَةُ مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُه مِن أقارِبِه؛ مثلَ الوالِدِ (¬1) والوَلَدِ، وغَيرِهم ممَّن تَجِبُ نَفَقَتُه؛ لأنَّهم يَجْرُون مَجْرَى نفسِه، في كَوْنِ ذوي رَحِمِه منهم، يَعْتِقُون إذا مَلَكَهم، كما يَعْتِقُ إذا مَلَك نَفْسَه، فكانت نَفقَتُهُم كنَفَقَتِه، وكذلك نَفَقَةُ زَوْجَتِه، لأنَّ نَفَقَتَها آكَدُ مِن نَفَقَةِ الأقَارِبِ، [لأنَّها تَجِبُ مِن طَرِيقِ المُعاوَضَةِ، وفيها مَعْنَى الإِحْياءِ، كما في الأقارِبِ] (¬2). ومِمَّن أوْجَبَ الإِنْفاقَ على المُفْلِسِ وزَوْجَتِه وأوْلادِه؛ أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وتَجبُ كُسْوَتُهم؛ لأنَّ ذلك ممّا لا بُدَّ منه. والواجبُ مِن النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ أَدْنَى ما يُنْفقُ على مِثْلِه بالمَعْرُوفِ، وأدْنَى ما يَكْتسِي مِثْلُه، وكذلك كُسْوَتُه مِن جِنْسِ ما يَكْتَسِيه (¬3) مِثْلُه، وكُسْوَةُ امْرأْتِه ونَفَقَتُها مثلُ ما يُفْرَضُ على مِثْلِه. وأقَلُّ ما يَكْفِيه مِن اللِّباسِ قَمِيصٌ وسَراويلُ، وشيءٌ يَلْبَسُه على رَأْسِه؛ قَلَنْسُوَةٌ، أو عِمامَةٌ، أو غيرُها (¬4) ممَّا جَرَتْ عادَتُه به (¬5)، ولرِجْلِه حِذاءٌ، إن كان يَعْتادُه، وجُبَّةٌ أو فَرْوَةٌ في الشِّتاءِ لدَفْعِ البَرْدِ. فإن كانت له ثِيابٌ لا يَلْبَسُ ¬

(¬1) في م: «الولد». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يكسبه». (¬4) في ق، م: «غيرهما». (¬5) زيادة من: ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلُه مِثْلَها، بِيعَتْ، واشْتُرِيَ له كُسْوَةُ مِثْلِه، ورُدَّ الفَضْلُ على الغُرَماءِ، فإن كانت إذا بِيعَتْ واشْتُرِيَ له كُسْوَةُ مثلِه لا يَفْضُلُ منها شيءٌ، تُرِكَتْ؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ في بَيعِها. فصل: وإن مات المُفْلِسُ، كُفِّنَ مِن مالِه؛ لأنَّ نَفَقَتَه كانت واجِبَةً مِن مالِه في حالِ حَياتِه، فوَجَبَ تَجْهِيزُه منه بعد المَوْتِ، كغيرِه. وكذلك يَجِبُ كَفَنُ مَنْ يَمُونُه؛ لأنَّهم بمَنْزِلَتِه. ولا يَلْزَمُ كَفَنُ زَوْجَتِه؛ لأنَّ نَفَقَتَها تَجبُ في مُقابلَةِ الاسْتِمْتاعِ، وقد فات بمَوْتِها، فسَقَطَتْ، بخِلافِ الأَقارِبِ؛ فإنَّ قَرابَتَهم باقِيَةٌ. ويَلْزَمُه تَكْفِينُ مَن مات مِن عَبِيدِه وتَجْهِيزُه؛ لأنَّ نَفَقَتَه ليست في مُقابَلَةِ الانْتِفاعِ به، بدَلِيلِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الصَّغِيرِ، والمَبِيعِ قبلَ التَّسْلِيمِ. ويُكَفَّنُ في ثَلاثَةِ أثْوَابٍ، كما كان يَلْبَسُ في حَياتِه. ويَحْتَمِلُ أن يُكَفَّنَ في ثَوْبٍ يَسْتُرُه؛ لأنَّه يَكْفِيه، فلا حَاجَةَ إلى الزِّيادَةِ. وفارَقَ حال الحَياةِ؛ لأنَّه لابُدَّ مِن تَغْطِيَةِ رَأْسِه، وكَشْفُه يُؤْذِيه، بخِلافِ المَيِّتِ. ويَمْتَدُّ الإِنْفاقُ المَذْكُورُ إلى حينِ فَراغِه مِن القِسْمَةِ بينَ الغُرَماءِ؛ لأنَّه لا يَزُولُ مِلْكُه إلَّا بذلك. ومَذهَبُ الشافعيِّ قَرِيبٌ ممَّا ذَكَرْنا في هذا الفَصْلِ. فصل: وإن كان المُفْلِسُ ذا صَنْعَةٍ، يَكْسِبُ ما يَمُونُه ويَمُونُ مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه، أو كان يَقْدِرُ على أن يَكْسِبَ (¬1) مِن المُباحَاتِ ما يَكْفِيه، أو يُؤْجِرَ ¬

(¬1) بعده في الأصل، ر، ق، م: «ذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسَه، أو يَتَوَكَّلَ لإنْسانٍ (¬1) بجُعْلٍ يَكْفِيه، لم يُتْرَكْ له شيءٌ مِن مالِه للنَّفَقَةِ. وإن لم يَقْدِرْ على شيءٍ ممَّا ذَكَرْناه، تُرِك له مِن مالِه قَدْرُ ما يَكْفِيه. قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، في رِوايَةِ أبي داودَ: يُتْرَكُ له قُوتٌ يَتَقَوَّتُه، وإن كان له عِيالٌ تُرِك له قِوامٌ. وقال، في رِوايَةِ المَيمُونِيِّ: يُتْرَكُ له قَدْرُ ما يَقُومُ به مَعاشُه، ويُباعُ الباقِي. وهذا في حَقِّ الشَّيخِ الكَبِيرِ وذوي الهَيئاتِ الذين لا يُمْكِنُهم التَّصَرُّفُ بأبْدانِهم. ويَنْبَغِي أن يُجْعَلَ ممّا لا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ بَعْضِهم بعَينِه؛ لأنَّ مَن تَعَلَّقَ حَقُّه بالعَينِ أقْوَى سَبَبًا مِن غيرِه، كما ذَكَرْنا في الدَّارِ والخادِمَ. فصل: وإذا تَلِف شيءٌ مِن [مالِ المُفْلِسِ] (¬2) تَحْتَ يَدِ الأمِينِ، أو بِيعَ شيءٌ مِن مالِه وأُودِعَ ثَمَنُه، فتَلِفَ عندَ المُودَعِ، فهو مِن ضَمانِ المُفْلِسِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالِكٌ: العُرُوضُ مِن مالِه، والدَّراهِمُ والدَّنانِيرُ مِن مالِ الغُرَماءِ. وقال المُغِيرَةُ: الدَّنانِيرُ مِن مالِ أصْحابِ الدَّنانِيرِ، والدَّراهِمُ مِن مالِ أصْحابِ الدَّراهِمِ. ولَنا، أنَّه مِن مالِ المُفْلِسِ (¬3)، ونماؤُه له (4)، فكان تَلَفُه مِن (¬4) مالِه، كالعُرُوضِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ماله». (¬3) في م: «الفلس». (¬4) سقط من: الأصل.

1922 - مسألة: (ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد)

وَيَبْدَأُ بِبَيعِ مَا يُسْرِعُ إِلَيهِ الْفَسَادُ، ثُمَّ بِالحَيَوانِ، ثُمَّ بِالْأَثَاثِ، ثُمَّ بِالْعَقَارِ. وَيُعْطِي الْمُنَادِيَ أُجْرَتَهُ مِنَ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1922 - مسألة: (ويَبْدَأُ بِبَيعِ ما يُسْرِعُ إليه الفَسَادُ) مِن الطَّعامِ الرَّطْبِ؛ لأنَّ بَقاءَه يُتْلِفُه بيَقِينٍ (ثم) ببَيعِ (الحَيَوانِ) لأَنَّه مُعَرَّضٌ للإِتْلَافِ، ويَحْتاجُ إلى مُؤْنَةٍ في بَقائِه (ثم) ببَيعِ (الأثاثِ) لأنَّه يُخافُ عليه، وتَنالُه اليَدُ (ثم) ببَيعِ (العَقارِ) آخِرًا؛ لأنَّه لا يُخافُ تَلَفُه، وبَقاؤُه أشْهَرُ له، وأكْثَرُ لطُلَّابِه. 1923 - مسألة: (ويُعْطِي المُنادِيَ أُجْرَتَه مِن المالِ) لأَنَّ البَيعَ حَقٌّ على المُفْلِسِ؛ لكَوْنِه طَرِيقَ وَفاءِ دَينِه. وقِيلَ: هو مِن بَيتِ المالِ؛ لأنَّه مِن المَصالِحَ.

1924 - مسألة: (ويبدأ بالمجني عليه، فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني)

وَيَبْدأُ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيهِ، فَيَدْفَعُ إِلَيهِ الْأَقَلَّ مِنَ الْأرْشِ أَوْ ثَمَنِ الْجَانِي، ثُمَّ بِمَنْ لَهُ رَهْنٌ، فَيُخَصُّ بِثَمَنِهِ، فَإنْ فَضَلَ لَهُ فَضْلٌ، ضَرَبَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، رُدَّ عَلَى الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1924 - مسألة: (وَيَبْدأُ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيهِ، فَيَدْفَعُ إِلَيهِ الْأَقَلَّ مِنَ الْأرْشِ أَوْ ثَمَنِ الْجَانِي) وقد ذَكَرْنا ذلك (¬1) في الرَّهْنِ، هذا إذا كان عَبْدُه الجانِيَ. فعلى هذا، يَبْدَأُ ببَيعِه، وما فَضَل مِن ثَمَنِه صُرِف إلى الغُرَماء. فإن كان المُفْلِسُ هو الجانِيَ، فالمَجْنِيُّ عليه أُسْوَةُ الغُرَماءِ؛ لأنَّ حَقَّه يَتَعلَّقُ بالذِّمَّةِ، بخِلافِ جِنايَةِ العَبْدِ، وقد ذَكَرْناه. 1925 - مسألة: (ثم بمَن له رَهْنٌ، فيُخَصُّ بثَمَنِه) يُباعُ (¬2) الرَّهْنُ ويَخْتَصُّ المُرْتَهِنُ بثَمَنِه، إن كان ثَمَنُه بقَدْرِ دَينِه أو أقَلَّ منه، سَواءٌ كان المُفْلِسُ حَيًّا أو مَيِّتًا؛ لأنَّ حَقَّه مُتَعَلِّقٌ بعَينِ الرَّهْنِ وذِمَّةِ الرَّاهِنِ معًا، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ثم يباع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسائِرُهم يَتَعَلَّقُ حَقُّه (¬1) بالذِّمَّةِ دُونَ العَينِ، فكان حَقُّه أقْوَى. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي. فإن كان في (¬2) ثَمَنِ الرَّهْنِ فَضْلٌ عن دَينِ المُرْتَهِنِ، أُعْطِيَ قَدْر دَينه، ورُدَّ الباقِي على الغُرَماءِ. وإن فَضَل شَيْءٌ مِن دَينِه، ضَرَب بالفاضِلِ مع الغُرَماءِ. فصلِ: ولو باع شيئًا أو باعَه وَكِيلُه، وقَبَض الثَّمَنَ، فتَلِفَ وتَعَذَّرَ رَدُّه، وخرَجَتِ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً، ساوَى المُشْتَرِي الغُرَماءَ؛ لأنَّ حَقَّه لم يَتَعَلَّقْ بعَينِ المالِ، فهو بمَنْزِلَةِ أَرْشِ جِنايَةِ المُفْلِسِ. وذَكَر القاضي احْتِمالًا، أنَّه يُقَدَّمُ على الغُرَماءِ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ، فكان أوْلَى، كالمُرْتَهِنِ، ولأنَّه لو لم يُقَدَّمْ على الغُرَماءِ، لامْتَنَع النّاسُ مِن شراءِ مالِ المُفْلِسِ، خوْفًا مِن ضَياعِ أمْوالِهم، فتَقِلُّ الرَّغَباتُ فيه، ويَقِلُّ ثَمَنُه، فكان تَقْدِيمُ المُشْتَرِي بذلك على الغُرَماءِ أنْفَعَ لهم. وهذا وَجْهٌ لأصْحابِ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّ هذا حَقٌّ لم يَتَعَلَّقْ بعَينِ المالِ، فلم يُقَدَّمْ، كالذي جَنَى عليه المُفْلِسُ. وفارَقَ المُرْتَهِنَ، فإنَّ حَقَّه تَعَلَّقَ بالعَينِ، وما ذَكَرُوهُ مِن المَعْنَى الأوَّلِ مُنْتَقِضٌ بأْرْشِ جِنايَةِ المُفْلِسِ، والثانِي مَصْلَحَةٌ لا أصْلَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ بها (¬1). فإن كان (¬2) الثَّمَنُ مَوْجُودًا يُمْكِنُ رَدُّه، وَجَب رَدُّه، ويَنْفَرِدُ به (2) صاحِبُه؛ لأنَّه عَينُ مالِه، لم يَتَعَلَّقْ به حَقُّ أحَدٍ مِن النّاسِ، وكذلك صاحِبُ السِّلْعَةِ المُسْتَحَقَّةِ يَأْخُذُها. ومتى باع وَكِيلُ المُفْلِسِ أو العَدْلُ، أو باع الرَّهْنَ، وخَرَجَتِ السِّلْعَةُ مُسْتَحَقَّةً، فالعُهْدَةُ على المُفْلِسِ، ولا شيءَ على العَدْلِ؛ لأنَّه أمِينٌ. فصل: ومَن اسْتَأْجَرَ دارًا أو بَعِيرًا بعَينِه، أو شيئًا غيرَهما بعَينِه، ثم أفْلَسَ المُؤجرُ، فَالمُسْتَأْجِرُ أحَقُّ بالعَينِ التي اسْتَأْجَرَها مِن الغُرَماءِ حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّه؛ لأنَّ حَقَّه مُتَعَلِّقٌ بعَينِ المالِ، والمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةٌ له في هذه المُدَّةِ، فكان أحقَّ بها، كما لو اشْتَرَى منه شيئًا. فإن هَلَك البَعيرُ، أو انْهَدَمَتِ الدّارُ قبلَ انْقِضاءِ المدةِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ ببقِيَّةِ الأجْرَةِ. وإنِ اسْتَاجَرَ جَمَلًا في الذِّمَّةِ ثم أفْلَسَ المُؤجِرُ، فالمُسْتَأجِرُ أُسْوَةُ الغُرَماءِ؛ لأنَّ حَقَّه لم يَتَعَلَّقْ بالعَينِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فإن أجَرَ دارًا، ثم أفْلَسَ، فاتَّفَقَ الغُرَماءُ والمُفْلِسُ على ¬

(¬1) في الأصل: «فيها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيْعِ قبلَ انْقِضاءِ مُدَّةِ الإِجارَةِ، فلهم ذلك، ويَبيعُونَها مُسْتَأْجَرَةً، فإنِ اخْتَلَفُوا، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب البَيعَ في الحالِ؛ لأَنَّه أحْوَطُ مِن التَّأْخِيرِ، فإذا اسْتَوْفَى المُسْتَأْجِرُ، تَسَلَّمَ المُشْتَرِي. وإنِ اتَّفَقُوا على تَأْخيرِ البَيعِ حتى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الإجارَةِ، فلهم ذلك؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهم. فصل: ولو باع سِلْعَةً، ثم أفْلَسَ قبلَ تَقْبِيضِها، فالمُشْتَرِي أحَقُّ بها مِن الغُرَماءِ، سَواءٌ كانت مِن المَكِيلِ والمَوْزُونِ أو لم تَكُنْ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ قد مَلَكَها وثَبَت مِلْكُه فيها، فكان أحَقَّ بها، كما لو قَبَضَها، ولا فَرْقَ بينَ ما قبلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وبعدَه. وإنْ كان عليه سَلَمٌ، فوَجَدَ المُسْلِمُ الثَّمَنَ قائِمًا، فهو أحَقُّ به؛ لأنَّه وَجَد عَينَ مالِه، وإن لم يَجِدْه فهو أُسْوَةُ الغُرَماءِ؛ لأنَّه لم يَتَعَلَّقْ حَقُّه بعَينِ مالٍ (¬1) ولا ثَبَت مِلْكُه فيه، ويَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بالمُسْلَمِ فيه؛ لأنَّه الذي يَسْتَحِقُّه دُونَ الثَّمَنِ. فإن كان في المالِ جِنْسُ حَقِّه، أخَذَ منه بقَدْرِ ما يَسْتَحِقُّه، وإن لم يَكُنْ فيه جِنْسُ حَقِّه، عُزِل له قَدْرُ حَقِّه، فيَشْتَرِي به المُسْلَمَ فيه، فيَأْخُذُه. وليس له أن يَأْخُذَ المَعْزُولَ بعَينِه؛ لِئَلَّا يكونَ بَدَلًا عمّا في الذِّمَّةِ مِن المُسْلَمِ فيه، وذلك لا يَجُوزُ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «مَنْ أسْلَفَ في شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى ¬

(¬1) في ر 1، م: «ماله».

1926 - مسألة: (ثم بمن له عين مال يأخذها)

ثُمَّ بِمَنْ لَهُ عَينُ مَالٍ يَأْخُذُهَا، ثُمَّ يَقْسِمُ الْبَاقِي بَينَ بَاقِي الْغُرَمَاءِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غَيرِه» (¬1). فإنْ أمْكَنَ أن يَشْتَرِيَ بالمَعْزُولِ أكْثَرَ ممّا قُدِّرَ له؛ لرُخْص المُسْلَمِ فيه، اشْتُرِيَ له بِقَدْرِ حَقِّه، ورُدَّ الباقي على الغُرَماءِ. مِثالُه؛ رجلٌ أفْلَسَ وله دِينارٌ، وعليه لرجلٍ دِينارٌ، ولآخَرَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِن سَلَمٍ قِيمَتُه دِينارٌ، فإنّه يُقْسَمُ دِينارُ المُفْلِسِ نِصْفَينِ؛ لصاحِبِ السَّلَم نِصْفه، فإن رَخُصَتِ الحِنْطَةُ، فصار قِيمَةُ القَفِيزِ نِصْف دِينارٍ، تَبَيَّنَّا أنَّ حَقَّه مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ صاحِبِ الدِّينارِ، فلا يَسْتَحِقُّ مِن دِينارِ المُفْلِسِ إلَّا ثُلُثَه، يُشتَرَى له به ثُلُثا قَفِيزٍ، فيَأْخُذُه، ويُرَدُّ سُدْسُ الدِّينارِ على الغَرِيمِ الآخَرِ. وإن غَلا المُسْلَمُ فيه، فصار قِيمَةُ القَفِيزِ دِينارَينِ، تَبَيَّنَّا أنَّه يَسْتَحِقُّ مِثْلَيْ ما يَسْتَحِقُّه صاحِبُ الدِّينارِ، فيكونُ له مِن دينارِ المُفْلِسِ ثُلُثاه، فيُشتَرَى له بالنِّصْفِ المَعْزُولِ، ويُرْجَعُ على الغَرِيمِ بسُدْسِ دِينارٍ، يُشْتَرَى له به أيضًا؛ لأنَّ المَعْزُولَ مِلْكٌ للمُفْلِسِ، وإنَّما للغَرِيمِ قَدْرُ حَقِّه، فإن زاد فللمُفْلِسِ، وإن نقَص فعليه. 1926 - مسألة: (ثم بمَن له عَينُ مالٍ يَأْخُذُها) بالشُّرُوطِ المَذْكُورَةِ، وقد ذَكَرْنا ذلك (ثم يَقْسِمُ الباقِيَ بينَ باقِي الغُرَماءِ على قدْرِ دُيُونِهم) لتَساويهم في الاسْتِحْقاقِ. فإن كانت دُيُونُهم مِن جِنْسِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 251.

1927 - مسألة: (فإن كان فيهم من له دين مؤجل، لم يحل. وعنه، أنه يحل، فيشاركهم)

فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَحِلَّ. وَعَنْهُ، أنَّهُ يَحِلُّ، فَيُشَارِكُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأثْمانِ، أخَذُوها؛ [لأنَّ ذلك هو المَقْصُودُ مِن بَيعِ مالِه، فلو قَضَى المفلس والحاكِمُ بَعْضَهم وَحْدَه، لم يَصِحَّ، لأنَّهم شُركاؤُه، فلم يَجُزِ اخْتِصاصُه (¬1) دُونَهم] (¬2)، وإن كان فيهم مَن دَينُه مِن غيرِ جِنْسِ الأثْمانِ، كالقَرْضِ لغيرِ الأثْمانِ، فرَضِيَ أن يَأْخُذَ عِوَضَ حَقِّه مِن الأثْمانِ، جاز، وإنِ امْتَنَعَ وطَلَب جِنْسَ حَقِّه، اشْتُرِيَ له بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ مِن جِنْسِ دَيْنِه. ولو أراد الغَرِيمُ الأخْذَ مِن المالِ المَجْمُوعِ، وقال المُفْلِسُ: لا أقْضِيك إلَّا مِن جِنْسِ دَينِك. قُدِّمَ قولُ المُفْلِسِ؛ لأنَّ هذه مُعاوَضَةٌ، فلا تَجُوزُ إلَّا بتَراضِيهما. 1927 - مسألة: (فإن كان فيهم مَن له دَينٌ مُؤجَّلٌ، لم يَحِلَّ. وعنه، أنَّه يَحِلُّ، فيُشارِكُهم) لا يَحِلُّ الدَّينُ المُؤجَّلُ بفَلَسِ مَن هو عليه. ¬

(¬1) في الأصل: «اختصاصهم». (¬2) سقط من: م. وجاء في الأصل بعد قوله: «اشترى له بحصته من الثمن من جنس دينه». الآتي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه القاضِي، رِوايَةً واحِدَةً. وحَكَى أبو الخَطّابِ فيه رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه يَحِلُّ. وهو قولُ مالِكٍ. وعن الشافعيِّ كالمَذْهَبَين. واحْتَجُّوا بأنَّ الإِفْلاسَ يَتَعَلَّقُ به الدَّينُ بالمالِ، فأسْقَطَ الأجَلَ، كالموْتِ. ولَنا، أنَّ الأجَلَ حَقٌّ للمُفْلِسِ، فلا يَسْقُطُ بفَلَسِه، كسائِرِ حُقُوقِه، ولأنَّه لا يُوجِبُ حُلُولَ مالِه، فلا يُوجِبُ حُلُولَ ما عليه، كالجُنُونِ والإِغْماءِ، ولأنَّه دَينٌ مُؤَجَّلٌ على حَيٍّ، فلم يَحِلَّ قبلَ أجَلِه، كغَيرِ المُفْلِسِ. والأصْلُ المَقِيسُ عليه مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ، فالفَرْقُ بينهما أنَّ ذِمَّتَه خَرِبَتْ،

1928 - مسألة: (ومن مات وعليه دين مؤجل، لم يحل إذا وثق الورثة. وعنه، أنه يحل)

وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ دَيْنٌ مُؤجَّلٌ، لَمْ يَحِلَّ إِذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ. وَعَنْهُ، يَحِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ المُفْلِسِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا حُجر على المُفْلِسِ، فقال أصْحابُنا: لا يُشَارِكُ أصْحابُ الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ أَصْحابَ الدُّيُونِ الحالَّةِ، ويَبْقَى المُؤَجَّلُ في الذِّمَّةِ إلى وَقْتِ حُلُولِه، فإنْ لم يَقْسِمِ الغُرَماءُ حتى حَلَّ الدَّينُ، شارَكَ الغُرَماءَ، كما لو تَجَدَّدَ على المُفْلِسِ دَينٌ بجِنايَتِه، فإنْ أدْرَكَ بعضَ المالِ قبلَ قِسْمَتِه شارَكَهم فيه، [يَضْرِبُ فيه] (¬1) بجَمِيعِ دَينِه، ويَضْرِبُ (¬2) باقِي الغُرَماءِ ببَقِيَّةِ دُيُونِهم. وإن قُلْنا: يَحِلُّ الدَّينُ. فهو كأصْحابِ الدُّيُونِ الحالَّةِ سَواءٌ. 1928 - مسألة: (ومَن مات وعليه دَينٌ مُؤجَّلٌ، لم يَحِلَّ إذا وَثَّقَ الوَرَثَةُ. وعنه، أنَّه يَحِلُّ) (¬3) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في حُلُولِ الدَّينِ بالمَوْتِ على مَن هو عليه، فرُويَ أنّه لا يَحِلُّ. اخْتارَه الخِرَقِيُّ، بشَرْطِ أن يُوَثِّقَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «مع». (¬3) في حاشية ر، ق: «لا يحل الدين المؤجل بالفلس ولا بالموت، إذا وثق الورثة أقل الأمرين من قيمة التركة أو الدين برهن أو كفيل. فإن تعذر التوثيق حل. وعنه، يحل بالموت دون الفلس. وعنه، يحل بهما. حكاها أبو الخطاب. وعنه، إن وثق لم يحل فيهما، وإلا حل. نقلها الكوسج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرَثَةُ. وهو قولُ ابنِ سِيرِينَ، وعُبَيدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ، وإسْحاقَ، وأبي عُبَيدٍ. والروايَةُ الأُخْرَى، أنَّه يَحِلُّ بالمَوْتِ. وبه قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وسَوّارٌ (¬1)، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ لأنَّه لا يَخْلُو إمّا أن يَبْقَى في ذِمَّةِ المَيِّتِ أو الوَرَثَةِ، أو يَتَعَلَّقَ بالمالِ. لا يَجُوزُ بَقاؤُه في ذِمَّةِ المَيِّتِ؛ لخَرابِها وتَعَذُّرِ مُطالبَتِه بها، ولا ذِمَّةِ ¬

(¬1) أبو عبد الله سوّار بن عبد الله بن سوار العنبري، من أهل البصرة، نزل بغداد، وولى قضاء الرصافة، وكان فقيها، صالحا، أديبا، شاعرا، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. تاريخ بغداد 9/ 210 - 212، الأنساب 9/ 69، 70.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرَثَةِ؛ لأنَّهم لم يَلْتَزِمُوها، ولا رَضِيَ صاحِبُ الدَّينِ بذِمَمِهم، وهي مُخْتَلِفَةٌ مُتَباينَةٌ، ولا يَجُوزُ تَعْلِيقُه على الأعْيانِ وتَأْجِيلُه؛ لأنَّه ضَرَرٌ بالمَيِّتِ وصاحِبِ الدَّينِ، ولا نفْعَ للوَرَثَةِ فيه. أمّا المَيِّتُ فلأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المَيِّتُ مُرْتَهَنٌ بِدَينِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» (¬1). وأمّا صاحِبُه، فيَتأخَّرُ حَقُّه، وقد تَتْلَفُ العَينُ فيَسْقُطُ حَقُّه. وأمّا الوَرَثَةُ، فإنَّهُم لا (¬2) يَنْتَفِعُون ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 21 بلفظ: «نفس المؤمن معلقة بدينه. . .». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأعْيانِ ولا يَتَصَرَّفُون فيها، وإن حَصَلَتْ لهم مَنْفَعَةٌ، فلا يَسْقُطُ حَظُّ المَيِّتِ وصاحِب الدَّينِ لمَنْفَعَةٍ لهم. ولَنا، ما ذَكَرْنا في المُفْلِسِ، ولأنَّ المَوْتَ ما جُعِلَ (¬1) مُبْطلاً للحُقُوقِ، وإنَّما هو مِيقاتٌ للخِلافَةِ، وعَلامَةٌ على الوراثَةِ، وقد قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «حصل». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما ذَكَروه إثْبات حُكْمٍ بالمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ، لم يَشْهَدْ لها شاهِدُ الشَّرْعِ باعْتِبارٍ. فعلى هذا، يَبْقَى الدَّيْن في ذِمَّةِ المَيِّتِ. كما كان، ويَتَعَلَّق بعَينِ مالِه، كتَعَلُّقِ حُقُوقِ الغرَماءِ بمالِ المُفْلِسِ عندَ الحَجْرِ عليه. فإن أحَبَّ الوَرَثَة الْتِزامَ أداءِ الدَّينِ، ويَتَصَرَّفونَ في المالِ، لم يكنْ لهم ذلك، إلَّا أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْضَى الغَرِيمُ، أو يُوَثِّقُوا الحَقَّ بضَمِينٍ مَلِئٍ، أو رَهْنٍ يَثِقُ به لوَفاءِ حَقِّه، فإنَّهم قد لا يَكُونُون أمْلِياءَ، ولم يَرْضَ بهم الغَرِيمُ، فيُؤَدِّي إلى فَواتِ الحَقِّ. وذَكَر القاضي أنَّ الحَقَّ يَنْتَقِلُ إلى ذِمَمِ الوَرَثَةِ بمَوْتِ مَوْرُوثِهمِ مِن غيرِ أنْ يُشْتَرَطَ الْتِزامُهم له. ولا يَنْبَغِي أنْ يَلْزَمَ الإِنْسان دَينٌ لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْتَزِمُه، ولم يَتَعاطَ سَبَبَه، ولو لَزِمَهم ذلك لمَوْتِ مَوْرُوثِهم للَزِمَهم وإن لم يُخَلِّفْ وَفاءً. فإن قُلْنا: إنَّ الدَّينَ يَحِلُّ بالمَوْتِ. فأحَبَّ الوَرَثَةُ القَضاءَ مِن غيرِ التَّرِكَةِ، فلهم ذلك، وإنِ اخْتارُوا القَضاءَ منها، فلهم ذلك، وإنِ امْتَنَعُوا مِن القَضاءِ، باع الحاكِمُ مِن التَّرِكَةِ ما يُقْضَى به الدَّينُ. وإن مات

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُفْلِسٌ وله غُرَماءُ بعضُ دُيُونِهم مُؤجَّلَةٌ، وقُلْنا: يَحِلُّ المُؤجَّلُ بالمَوْتِ. اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ على قَدْرِ دُيُونِهم. وإنْ قُلْنا: لا يَحِلُّ. [فإن وَثَّقَ] (¬1) الوَرَثَةُ لصاحِبِ المُؤجَّلِ، اخْتَصَّ أصْحابُ الحالِّ بالتَّرِكَةِ، وإنِ امْتَنَع الوَرَثَةُ مِن التَّوْثِيقِ، حَلَّ دَينُه، وشارَكَ أصْحابَ الحالِّ؛ لئَلَّا يُفضِيَ إلى إسْقاطِ دَينِه بالكُلِّيَّةِ. ¬

(¬1) في م: «فأوثق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ذكَر بعضُ أصْحابِنَا في مَن مات وعليه دَين، هل يَمْنَعُ الدَّينُ نَقْلَ التَّركَةِ إلى الوَرَثَةِ؟ رِوَايَتَين؛ إحْداهما، لا يَمْنَعُه؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ، ولأنَّ تَعَلُّقَ الدَّينِ بالمالِ لا يُزِيلُ المِلْكَ في العَبْدِ الجانِي والرَّهْنِ والمُفْلِسِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَمْنَعْ نَقْلَه. فعلى هذا، إن تَصَرَّفَ الوَرَثَةُ في التَّرِكَةِ ببيعٍ أو غيرِه، صَحَّ تصَرُّفُهم، ولَزِمَهم أداءُ الدَّينِ، فإن تَعَذَّرَ وَفاؤُه، فُسِخ تَصَرُّفُهم (¬1)، كما لو باع السَّيِّدُ عَبْدَه الجانِيَ. والثانيةُ، يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إليهم؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: «تصرفه». (¬2) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجَعَلَ التَّرِكَةَ للوارِثِ بعدَ الدَّينِ والوَصِيَّةِ، فلا يَثْبُتُ لهم المِلْكُ قبلَهما. فعلى هذا، لا يَصِحُّ تَصرُّفُ الوَرَثَه، لأنَّهم تَصرَّفُوا في غيرِ مِلْكِهم، إلَّا أنْ يَأْذَنَ لهم الغُرَماءُ، وإن تَصرَّفَ الغُرَماءُ، لم يَصِحَّ إلَّا بإذْنِ الوَرَثَةِ.

1929 - مسألة: (وإن ظهر غريم بعد قسم ماله، رجع على الغرماء بقسطه)

وَإنْ ظَهَرَ غَرِيمٌ بَعْدَ قَسْمِ مَالِهِ رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1929 - مسألة: (وإن ظَهَر غَرِيمٌ بعدَ قَسْمِ مالِه، رَجَع على الغُرَماءِ بقِسْطِه) وبهذا قال الشافعيُّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ. وحُكِيَ عنه: لا يُحاصُّهم؛ لأنَّه نَقْضٌ لحُكْمِ الحاكِمِ. ولَنا، أنَّه غَرِيمٌ يُقاسِمُهم لو كان حاضِرًا، فإذا ظَهَر بعدَ ذلك قَاسَمَهم، كغَرِيمِ المَيِّتِ يَظْهَرُ بعدَ قَسْمِ مالِه، وليس قَسْمُ الحاكِمِ ماله حُكْمًا، إنَّما هو قِسْمَةٌ بأن الخَطَأُ فيها، فأشْبَهَ ما لو قَسَم أرْضًا بينَ شُرَكاءَ، ثم ظَهَر شَرِيكٌ آخَرُ، أو قَسَم المِيراثَ، ثم ظَهَر وارِثٌ سِواه. فصل: ولو أفْلَسَ وله دارٌ مُسْتَأْجَرَةٌ، فانْهَدَمَتْ بعدَ قَبْضِ المُفْلِسِ الأُجْرَةَ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ، وسَقَط مِن الأُجْرَةِ بقَدْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، ثم إن وَجَد عَينَ مالِه، أخَذَ منه بقَدْرِ ذلك، وإن لم يَجِدْه، ضَرَب مع الغُرَماءِ بقَدْرِه. وإن كان ذلك بعدَ قَسْمَ مالِه، رَجَع على الغُرَماءِ بحِصَّتِه؛ لأنَّ سَبَبَ وُجُوبِه قبلَ الحَجْرِ، وكذلك (¬1) يُشارِكُهم إذا وَجَب قبلَ القِسْمَةِ. ولو باع سِلْعَةً وقَبَض ثَمَنَها ثم أفْلَسَ، فوَجَدَ بها المُشْتَرِي عَيبًا، فرَدَّها به، أو رَدَّها بخيارٍ أو اخْتِلافٍ في الثَّمَنِ ونحوه، ووَجَد عَينَ مالِه، أخَذَها؛ لأنَّ البَيعَ لَمّا انْفَسَخَ زال مِلْكُ المُفْلِسِ عن الثَّمَنِ، كزَوالِ مِلْكِ المُشْتَرِي عن المَبِيعِ، وإن كان بعدَ تَصَرُّفِه فيه، شارَكَ [المُشْتَرِي الغُرَماءَ] (¬2). ¬

(¬1) في الأصل، ر، م: «لذلك». (¬2) في الأصل: «المشترك».

1930 - مسألة: (وإن بقيت على المفلس بقية، وله صنعة، فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها؟ على روايتين)

وَإنْ بَقِيَتْ عَلَى الْمُفْلِسِ بَقِيَّةٌ، وَلَهُ صَنْعَةٌ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى إيجَارِ نَفْسِهِ لِقَضَائِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1930 - مسألة: (وإنْ بَقِيَتْ على المفْلِسِ بَقِيَّةٌ، وله صَنْعَةٌ، فهل يُجْبَرُ على إيجارِ نَفْسِه لقَضائِها؟ على رِوايَتَين) إحْداهُما، لا يُجْبَرُ. وهو قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} (¬1). ولِما روَى أبو سعيدٍ، أنَّ رجلًا أُصِيبَ في ثِمارٍ ابْتَاعَها، فكَثُرَ دَينُه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقُوا عَلَيهِ». فتَصدَّقُوا عليه، فلم يَبْلُغْ وَفاءَ دَينِه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ». رَواه مسلمٌ (¬2). ولأنَّه تَكَسُّبٌ للمالِ، فلم يُجْبَرْ عليه، كقَبُولِ الهِبَةِ ¬

(¬1) سورة البقرة 280. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّدَقَةِ، وكما لا تُجْبَرُ المرأةُ على التَّزْويجِ لتَأْخُذَ المَهْرَ. والثانيةُ، يُجْبَرُ على الكَسْبِ. وهو قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، [وسَوّارٍ العَنْبَرِيِّ] (¬1)، وإسحاقَ؛ لِما رُويَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باع سُرَّقًا (¬2) في دَينِه، وكان سُرَّق دَخَل المَدِينَةَ وذَكَر أنَّ وراءَه مالًا، فدايَنَه النّاسُ، فرَكِبَتْه دُيُونٌ، ولم يَكُنْ وراءَه مالٌ، فسَمّاه سُرَّقًا، وباعَه بخَمْسَةِ أبْعِرَةٍ. رَواه الدّارَقُطْنِي بمَعْناه (¬3) مِن رِوايَةِ [مُسْلِمِ بنِ خالِدٍ الزَّنْجِيِّ] (¬4)، إلَّا أنَّ فيه كَلامًا. والحُرُّ لا يُباعُ، ثَبَت أنَّه باعَ مَنافِعَه. ولأنَّ المَنافِعَ تَجْرِى مَجْرَى الأعْيانِ في صِحَّةِ العَقْدِ عليها وتَحْرِيمِ أخْذِ الزكاةِ وثُبُوتِ الغِنَى بها، فكذلك في وَفاءِ الدَّينِ منها. ولأنَّ الإِجارَةَ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فجاز إجْبارُه عليه، كبَيعِ مالِه. ولأنَّها إجارةٌ لِما يَمْلِكُ إجارَتَه، فيُجْبَرُ عليها ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق، م: «وسوار والعنبري». (¬2) صحابي من جهينة، يقال إن اسمه الحباب بن أسد، شهد فتح مصر وأقام بها. مات في خلافة عثمان. الإصابة 3/ 44، 45. (¬3) في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 61، 62. كما أخرجه البيهقي بلفظه، في: باب ما جاء في بيع الحر المفلس في دينه، من كتاب التفليس. السنن الكبرى 6/ 50. (¬4) في م: «خالد بن مسلم الربحي»، وفي الأصل، ر، ر 1، ق: «خالد بن مسلم الزنجي». والمثبت على الصواب كما في الدارقطني. وانظر: تهذيب الكمال 27/ 508 - 514.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لوَفاءِ دَينِه، كإجارَةِ أُمِّ وَلَدِه. فإن قِيلَ: حديثُ سُرَّقٍ مَنْسُوخٌ، لأنَّ الحُرَّ لا يُباعُ، والبَيعُ وَقَع على رَقَبَتِه، بدَلِيلِ أنَّ في الحديثِ أنَّ الغُرَماءَ قالُوا لمُشْتَرِيه: ما تَصْنَعُ به؟ قال: أعْتِقُه. قالوا: لَسْنا بأزْهَدَ منك في إعْتاقِه. فأعْتَقُوه. قُلْنا: هذا إثْباتُ نَسْخٍ بالاحْتِمالِ، ولا يَجُوزُ، ولم يَثْبُتْ أنَّ بَيعَ الحُرِّ كانَ جائِزًا في شَرِيعَتِنا، وحَمْلُ بَيعِه على بيعِ مَنافِعِه أسْهَلُ مِن حَمْلِه على بَيعِ رَقَبَتِه المُحَرَّمِ، فإنَّ. حَذْفَ المُضافِ وإقامَةَ المُضافِ إليه كَثيرٌ في القُرْآنِ، وفي كَلام العَرَبِ، كقَوْلِه تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (¬1). {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2). وغيرِ ذلك. وكذلك قَوْلُه: أعْتِقُه. أي من حَقِّي عليه. يَدُلُّ على ذلك قَوْلُه: فأعْتَقُوه. يَعْنِي الغُرَماءَ، وهم لا يَمْلِكُون إلَّا الدَّينَ الذي عليه. وأمّا قَوْلُه تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}. فيُمْكِنُ مَنْعُ دُخُولِه تحتَ عُمُومِها، لِما ذَكَرْنا مِن أنَّه في حُكْمِ الأغْنِياءِ (¬3) في حِرْمانِ الزكاةِ، وسُقُوطِ نَفَقَتِه عن قَرِيبِه، ووُجُوبِ نَفَقَةِ قَرِيبِه عليه. وحَدِيثُهم قَضِيَّةُ عَين لا يَثْبُتُ حُكْمُها إلَّا في مِثْلِها، ¬

(¬1) سورة البقرة 93. (¬2) سورة يوسف 82. (¬3) في ق: «الإعسار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَثْبُتْ أنَّ لذلك الغَرِيمِ كَسْبًا يَفْضُلُ عن قدْرِ نَفَقَتِه. أمّا قَبُولُ الهَدِيَّةِ والصَّدَقَةِ، فمَضَرَّةٌ تَأْباها قُلُوبُ ذَوى المُرُوءَاتِ؛ لِما فيهِا مِن المِنَّةِ. فعلى هذا، لا يُجْبَرُ على الكَسْبِ إلَّا مَن كَسْبُه يَفْضُلُ عن نفَقَتِه ونَفَقَةِ مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُه؛ لِما تَقَدَّمَ. فصل: ولا يُجْبَرُ على قَبُولِ صَدَقَةٍ، ولا هَدِيَّةٍ، ولا وَصِيَّةٍ، ولا قَرْضٍ، ولا المَرأةُ على التَّزْويجَ؛ ليَأْخُذَ مَهْرَها؛ لأنَّ في ذلك ضَرَرًا؛ للُحُوقِ (¬1) المِنَّةِ في الهَدِيَّةِ والصَّدَقَةِ والوَصِيَّةِ، والعِوَضِ في القَرْضِ، ومِلْكِ الزَّوْجِ للمرأةِ في النِّكاحِ، ووُجُوبِ حُقُوقِه عليها. ولو باع بشَرْطِ الخِيارِ، ثم أفْلَسَ، فالخِيارُ بحالِه، ولا يُجْبَرُ على ما فيه الحَظُّ مِن الرَّدِّ والإِمْضاءِ؛ لأنَّ الفَلَسَ يَمْنَعُه مِن إحْداثِ عَقْدٍ، أمّا مِن إمْضائِه وتَنْفِيذِ عُقُودِه فلا. فصل: وإن جُنِىَ على المُفْلِسِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ المال، ثَبَت، وتَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الغُرَماءِ به، ولا يَصِحُّ عَفْوُه، فإن كانت مُوجِبَةً للقِصاصِ، فهو مُخَيَّرٌ بينَ القِصاصِ والعَفْو، ولا يُجْبَرُ على العَفْو على مالٍ؛ لأنَّ ذلك يُفَوِّتُ القِصاصَ الذي يَجِبُ لمَصْلَحَةِ الزجرِ. فإنِ اقْتَصَّ، لم يَجِبْ للغُرَماءِ شيءٌ، وإن عَفا على مالٍ، ثَبَت، وتَعَلَّقَ به حُقُوقُ الغُرَماءِ. وإن عَفا مُطْلَقًا، انْبَنَى على الروايَتَين في مُوجَبِ العَمْدِ، إن قُلْنا: القِصاصُ ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق: «لخوف».

1931 - مسألة: (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم)

وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ إلا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ خاصَّةً. لم يَثْبُتْ شيءٌ. وإن قُلْنا: أحَدُ أمْرَينِ. وَجَبتِ (¬1) الدِّيَةُ، وتَعَلَّقَتْ بها حُقُوقُ الغُرَماءِ. وإنْ عَفا على غيرِ مالٍ، وقُلنا: القِصاصُ هو الواجِبُ عَيْنًا. لم يَثْبُتْ شيءٌ. وإنْ قُلْنا: أحَدُ الأمْرَينِ. ثَبَتَتِ الدِّيَةُ، ولم يَصِحَّ إسْقاطُه؛ لأنَّ عَفْوَه عن القِصاصِ يُثْبِتُ له الدِّيَةَ، ولا يَصِحُّ إسْقاطُها. وإن وَهَب هِبَةً بشَرْطِ الثَّوابِ، ثم أفْلَسَ، فبُذِل له الثَّوابُ، لَزِمَه قَبُولُه، ولم يكُنْ له إسْقَاطُه، لأنَّه أخَذَه على سَبِيلِ العِوَضِ عن المَوْهُوبِ، [فلَزِمَه قَبُولُه] (¬2)، كالثَّمَنِ في المَبِيعِ. وليس له إسْقاطُ شيءٍ مِن ثَمَنِ مَبِيعٍ، أو أُجْرَةٍ في (¬3) إجارَةٍ، ولا قَبْضُه رَدِيئًا، ولا قَبْضُ المُسْلَمِ فيه دُونَ صِفاتِه، إلَّا بإذْنِ (¬4) غُرَمائِه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلَ على نحو ما ذَكَرْنا. 1931 - مسألة: (ولا يَنْفَكُّ عنه الحَجْرُ إلَّا بحُكْمِ حاكِمٍ) لأنَّه ثَبَت بحُكْمِه، فلا يَزُولُ إلَّا بحُكْمِه، كالمَحْجُورِ عليه لسَفَهٍ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَزُولُ بقِسْمَةِ مالِه؛ لأنَّه حُجِر عليه لأجْلِه، فإذا زال مِلْكُه عنه، ¬

(¬1) في ر 1، م: «ثبتت». (¬2) سقط من: الأصل، ر 1، م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في ر، ق: «أن يأذن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زال سَبَبُ الحَجْرِ، فزال الحَجْرُ، كزَوال حَجْرِ المَجْنُونِ لزوالِ جُنُونِه. والأوَّلُ أوْلَى، وفارَقَ الجُنُونَ، فإنَّه يَثْبُتُ (¬1) بنَفْسِه، فزال بزَوالِه، بخِلافِ هذا، ولأنَّ فَراغَ مالِه يَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَةٍ وبَحْثٍ، فوَقَفَ ذلك على الحاكِمِ، بخِلافِ الجُنُونِ. فصل: وإذا فُكَّ الحَجْرُ عنه، فليس لأحَدٍ مُطَالبَتُه، ولا مُلازَمَتُه، حتى يَمْلِكَ مالًا، فإن جاء الغُرَماءُ عَقِيبَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، فادَّعَوْا أنَّ له مالًا، لم يُقْبَلْ إلَّا ببَيِّنةٍ، فإن جاءُوا بعدَ مُدَّةٍ، فادَّعَوْا أنَّ في يَدِه مالًا، أو ادَّعَوْا ذلك عَقِيبَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، وبَيَّنُوا سَبَبَه، أحْضَرَه الحاكِمُ وسَألَه، فإن أنْكَرَ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّه ما فُكَّ الحَجْرُ عنه حتى لم يَبْقَ له شيءٌ، وإن أقَرَّ، وقال: هو لِفلانٍ وأنا وَكِيلُه. أو مُضَارِبُه. وكان المُقَرُّ له حَاضِرًا، سَألَه الحَاكِمُ، فإن صَدَّقَه، فهو له، ويَسْتَحْلِفُه الحاكمُ؛ لجَوازِ أن يكونا تَواطَآ على ذلك؛ ليَدْفَعَ المُطالبَةَ عن المُفْلِسِ. وإن لم يُصَدِّقْه عَرَفْنا كَذِبَ المُفْلِسِ، فيَصِيرُ كأنَّه أقَرَّ أنَّ المال له (¬2)، فيُعادُ الحَجْرُ عليه إن طَلَب الغُرَماءُ ذلك. فإن أقَرَّ لغائِبٍ، أُقِرَّ في يَدَيه حتى يَحْضُرَ الغائِبُ، ثم يُسْألَ، كما حَكَمْنا في الحاضِرِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «لنفسه».

1932 - مسألة: (ومتى فك عنه الحجر، فلزمته ديون)

فَإِذَا فَكَّ عَنْهُ الْحَجْرَ، فَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ، وَحَجَرَ عَلَيهِ، شَارَكَ غُرَمَاءُ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ غُرَمَاءَ الْحَجْرِ الثَّانِي. وَإنْ كَانَ لِلْمُفْلِسِ حَقٌّ لَهُ بِهِ شَاهِدٌ، فَأَبَى أن يَحْلِفَ مَعَهُ، لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ أنْ يَحْلِفُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1932 - مسألة: (ومتى فَكَّ عنه الحَجْرَ، فلَزِمَتْه دُيُونٌ) وظَهَر له مالٌ (فحَجَرَ عليه، شارَكَ غُرَماءُ الحَجْرِ الأوَّلِ غُرَماءَ الحَجْرِ الثانِي) إلَّا أنَّ الأوّلِين يَضْرِبُون بِبَقِيَّةِ دُيُونِهم، والآخَرِين يَضْرِبُون بجَمِيعِها. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالِكٌ: لا يَدْخُلُ غُرَماءُ الحَجْرِ الأوَّلِ على هؤلاءِ الذِين تَجَدَّدَتْ حُقُوقُهم حتى يَسْتَوْفُوا، إلَّا أن يكونَ له فائِدَةٌ مِن مِيراثٍ، أو يُجْنَى عليه جِنايَةٌ، فيَتَحاصَّ الغُرَماءُ فيه. ولَنا، أنَّهم تَساوَوْا في ثُبُوتِ حُقُوقِهم في ذِمَّتِه، فتَساوَوْا في الاسْتِحْقاقِ، كالذين ثَبَتَتْ حُقُوقهم في حَجْرٍ واحِدٍ، وكتَساويهم في المِيراثِ وأَرْشِ الجِنايَةِ، ولأنَّ كَسْبَه مالٌ له، فتَساوَوْا فيه، كالمِيراثِ. 1933 - مسألة: (وإن كان للمُفْلِسِ حَقٌّ له به شاهِدٌ، فأبَى أن يَحْلِفَ معه، لم يَكُنْ لغُرَمائِه أن يَحْلِفُوا) المُفْلِسُ في الدَّعْوَى كغَيرِه، فإذا ادَّعَى حَقًّا له به شاهِدُ عَدْلٍ، وحَلَف مع شاهِدِه، ثَبَت المالُ، وتَعَلَّقَتْ به حُقُوقُ الغُرَماءِ. وإنِ امْتَنَعَ لم يُجْبَرْ؛ لأنَّنا لا نَعْلَمُ صِدْقَ الشّاهِدِ، ولو

فَصْلٌ: الْحُكْمُ الرَّابعُ، انْقِطَاعُ الْمُطَالبَةِ عَنْهُ، فَمَنْ أقْرَضَهُ شَيئًا، أوْ بَاعَهُ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالبَتَهُ حَتَّى يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَت الحَقُّ بشَهادَتِه لم يَحْتَجْ إلى يَمِينٍ معه، فلا نُجْبِرُه على [الحَلِفِ على] (¬1) ما لا نَعْلَمُ صِدْقَه، كغيرِه. فإن قال الغُرَماءُ: نحن نَحْلِفُ مع الشّاهِدِ. لم يكُنْ لهم ذلك. وبهذا قال الشافعيُّ في الجَدِيدِ. وقال في القَدِيمِ: يَحْلِفُون معه؛ لأنَّ حُقوقَهم تَعَلَّقَتْ بالمالِ، فكان لهم أن يَحْلِفُوا، كالوَرَثَةِ يَحْلِفُون على مالِ مَوْرُوثِهِم. ولَنا، أنَّهم يُثْبِتُون مِلْكًا لغيرِهم لتَعَلُّقِ حُقُوقِهم به بعدَ ثُبُوتِه، فلم يَجُزْ لهم ذلك، كالمرأةِ تَحْلِفُ لإِثْباتِ مِلْكِ زَوْجِها، لتَعَلُّقِ نَفَقَتِها به، وكالوَرَثَةِ قبلَ مَوْتِ مَوْرُوثِهم. وفارَقَ ما بعدَ المَوْتِ، فإنَّ المال انْتَقَلَ إليهم، فهم يُثْبِتُون بأيمانِهم مِلْكًا لأنْفسِهم. فصل: (الحُكْمُ الرّابعُ، انْقِطاعُ المُطالبَةِ عن المُفْلِسِ، فمَن أقْرَضَه شَيئًا، أو باعَه، لم يَمْلِكْ مُطَالبَتَه حتى يُفَكَّ الحَجْرُ عنه) إذا تَصَرَّفَ المَحْجُورُ عليه في ذِمَّتِه، بشِراءٍ أو اقْتِراض، صَحَّ؛ لأنَّه أهْلٌ للتَّصَرُّفِ، والحَجْرُ إنَّما تَعَلَّقَ بمالِه، وقد ذَكَرْناه. وليس للبائِعِ ولا ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِي، الْمَحْجُورُ عَلَيهِ لحَظِّهِ؛ وَهُوَ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالسَّفِيهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُقْرِضِ مُطالبَتُه في حالِ الحَجْرِ؛ لأنَّ حَقَّ الغُرَماءِ تَعَلَّقَ بعَينِ مالِه المَوْجُودِ حال الحَجْرِ، وبما يَحْدُثُ له مِن المالِ، فقُدِّمُوا على غيرِهم ممَّن لم يَتَعَلَّقْ حَقُّه بعَينِ المالِ، كتَقْدِيمِ حَقِّ المُرْتَهِنِ بثَمَنِ الرَّهْنِ، وتَقدِيم حَقِّ المَجْنِيِّ علية بثَمَنِ العَبْدِ الجانِي، فلا يُشارِكُ أصْحابُ هذه الدُّيُونِ الغُرَماءَ؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ مَن عَلِم منهم بفَلَسِه، فقد رَضِيَ بذلك، ومَن لم يَعْلَمْ فهو مُفَرِّطٌ. ويَتْبَعُونَه بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، كما لو أقَرَّ لإِنْسانٍ بمالٍ بعدَ الحَجْرِ عليه، وفي إقْرارِه خِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. فإن وَجَد البائِعُ والمُقْرِضُ أعْيانَ أمْوالِهما، فهل لهم الرُّجُوعُ فيها؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، لهما ذلك؛ للخَبَرِ. والثانِي، لا فَسْخَ لهما؛ لأنَّهما دَخَلا على بَصِيرَةٍ بخَرابِ الذِّمَّةِ، فأشْبَهَ مَن اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه، وقد ذَكَرْنا ذلك. واللهُ أعلَمُ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (الضرْبُ الثانِي، المَحْجُورُ عليه لحَظِّه؛ وهو الصَّبِيُّ، والمَجْنُونُ، والسَّفِيهُ) الحَجْرُ على هؤلاء الثَّلاثةِ

1934 - مسألة: (فلا يصح تصرفهم قبل الإذن)

فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ قَبْلَ الإذْنِ. وَمَنْ دَفَعَ إِلَيهِمْ مَالهُ بِبَيعٍ أو قَرْضٍ، رَجَعَ فِيهِ مَا كَانَ بَاقِيًا، وَإنْ تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ مَالِكِهِ، عَلِمَ بِالْحَجْرِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَجْرٌ عامٌّ، لأنَّهُم يُمْنَعُون التَّصَرُّفَ في أمْوالِهم وذِمَمِهم. والأصْلُ في الحَجْرِ عليهم قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (¬1). وقَوْلُه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬2) الآية. قال سعيدُ ابنُ جُبَيرٍ، وعِكْرِمَةُ: هو مالُ اليَتِيمِ عِنْدَك، لا تُؤْتِه إيّاه، وأنْفِقْ عليه. وإنَّما أضاف الأمْوال إلى الأوْلِياءِ، وهي لغيرِهم، لأنَّهم قُوَّامُها ومُدَبِّرُوها (¬3). وقَوْلُه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}. أي اخْتَبِرُوهُم في حِفْظِهم لأمْوالِهم. 1934 - مسألة: (فلا يَصِحُّ تَصَرُّفُهم قبلَ الإِذْنِ) لأنَّ تَصْحِيحَ تَصَرُّفِهم يُفْضِي إلى ضَياعِ أمْوالِهِم، وفيه ضَرَرٌ عليهم. 1935 - مسألة: (ومَن دَفَع إليهم ماله ببَيعٍ أو قَرْضٍ رَجَع فيه ما كان باقِيًا) لأنَّه عَينُ مالِه وتَصَرُّفُهم فاسِدٌ. فإنْ أتْلَفَه واحِدٌ منهم (فهو مِن ¬

(¬1) سورة النساء 5. (¬2) سورة النساء 6. (¬3) في الأصل: «مديروها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمانِ مالِكِه) وكذلك إن تَلِف في يَدِه؛ لأنَّه سَلَّطَه عليه برِضاهُ، وسواءٌ (عَلِم بالحَجْرٍ) على السَّفِيهِ (أو لم يَعْلَمْ) لأنَّه إن عَلِم فقد فَرَّطَ، وإن لم يَعْلَمْ فهو مُفرِّطٌ أيضًا، إذ كان في مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ. هذا إذا كان صاحِبُه قد سَلَّطَه عليه، فأمّا إن حَصَل في يَدِه باخْتِيارِ صاحِبِه مِن غيرِ تَسْلِيطٍ، كالوَدِيعَةِ والعارِيَّةِ، فاخْتارَ القاضي أنَّه يَلْزَمُه الضَّمانُ إن أتْلَفَه أو تَلِف بتَفْرِيطِه، إن كافي سَفِيهًا؛ لأنَّه أتْلَفَه بغيرِ اخْتِيارِ صاحِبِه، فأشْبَهَ ما لو كان القَبْضُ بغيرِ اخْتِيارِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَضْمَنَ؛ لأنَّه عَرَّضَها لإتْلافِه وسَلَّطَه عليها، فأشْبَهَ المَبِيعَ.

1936 - [مسألة: (وإن جنوا فعليهم أرش الجناية)]

وَإنْ جَنَوْا، فَعَلَيهِمْ أرْشُ الْجِنَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1936 - [مسألة: (وإن جَنَوْا فعليهم أَرْشُ الجِنايَةِ)] (¬1) أمّا ما أخَذَه بغيرِ اخْتِيارِ المالِكِ، كالغَصْبِ والجِنَايَةِ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه لا تَفْرِيطَ بن المالِكِ. وكذلك الحُكْمُ في الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. [ومَذْهَبُ الشافعيِّ على ما ذَكَرْنا] (¬2). فإنْ أوْدَعَ عندَ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، أو أعارَهما، فلا ضَمانَ عليهما فيما تَلِف بتَفْرِيطِهما؛ لأنَّهما لَيسا مِن أهْلِ الحِفْظِ. وإن أتْلَفاه، ففيه وَجْهانِ، نَذْكُرُهما في الوَدِيعَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

1937 - مسألة: (ومتى عقل المجنون، وبلغ الصبي، ورشدا، انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم، ودفع إليهما مالهما، ولا ينفك قبل ذلك بحال)

وَمَتَى عَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَرَشَدَا، انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُمَا بِغَيرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَدُفِعَ إِلَيهِمَا مَالُهُمَا، وَلَا يَنْفَكُّ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1937 - مسألة: (ومتى عَقَل المَجْنُونُ، وبَلَغ الصَّبِيُّ، ورَشَدا، انْفَكَّ الحَجْرُ عنهما بغيرِ حُكْمِ حاكِمٍ، ودُفِع إليهما مالُهما، ولا يَنْفَكُّ قبلَ ذلك بحالٍ) إذا عَقَل المَجْنُونُ ورَشَد انْفَكَّ الحَجْرُ عنه، ولا يَحْتاجُ إلى حُكْمِ حاكِمٍ، بغيرِ خِلافٍ، وكذلك الصَّبِيُّ إذا بَلَغ ورَشَد. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال مالِكٌ: لا يَزُولُ إلَّا بِحاكِمٍ (¬1). وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشّافِعِيِّ، لأنَّه مَوْضِعُ اجْتِهادٍ ونَظَرٍ، فإنَّه يَحْتَاجُ في مَعْرِفَةِ البُلُوغِ والرُّشْدِ إلى اجْتِهادٍ، فيُوقَفُ ذلك على حُكْمِ الحاكِمِ، كزوالِ الحَجْرِ عن السَّفِيهِ. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ} (¬2). أمَرَ بدَفْعِ أمْوالِهم إليهم عندَ البُلُوغِ وإيناسِ الرُّشْدِ، فاشْتِراطُ حُكْمِ الحاكِمِ زِيادَةٌ تَمْنَعُ الدَّفْعَ عندَ وُجُودِ ¬

(¬1) في ر 1، م: «بحكم حاكم». (¬2) سورة النساء 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، حتى يَحْكُمَ الحاكِمُ، وهذا مُخالِفٌ لظاهِرِ النَّصِّ، ولأنَّه حَجْرٌ ثَبَت بغيرِ حُكْمِ حاكِمٍ، فيَزُولُ بغيرِ حُكْمِه، كالحَجْرِ على المجْنُونِ، ولأنَّ الحَجْرَ عليه إنَّما كان لعَجْزِه عن التَّصَرُّفِ في مالِه على وَجْهِ المَصْلَحَهِ، حِفْظًا لمالِه عليه، فمتى بَلَغ ورَشَد، زال الحَجْرُ، لزَوالِ سَبَبِه، والسَّفِيهُ لنا فيه مَنْعٌ. فعلى هذا، الحَجْرُ مُنْقَسِمٌ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ؛ قِسْمٌ يَزُولُ بغَيرِ حُكْمِ الحاكِمِ، وهو الحَجْرُ للجُنُونِ. وقِسْمٌ لا يَزُولُ إلَّا بحُكْمِ حاكِم، وهو الحَجْرُ للسَّفَهِ. وقِسْمٌ فيه الخِلاف، وهو الحَجْرُ للصِّبَا (¬1). فصل: ومتى انْفَكَّ الحَجْرُ عنهما، دُفِع إليهما مالُهما؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}. قال ابنُ المُنْذِرِ: اتَّفَقُوا على ذلك. ولأنَّ مَنْعَه مِن التَّصَرُّفِ إنَّما كان لعَجْزِه عن التَّصَرُّفِ، حِفْظًا لمالِه، فإذا صار أهْلًا للتَّصَرُّفِ، زال الحَجْرُ؛ لزَوالِ سَبَبِه. فصل: ولا يَنْفَكُّ عنه الحَجْرُ، ولا يُدْفَعُ إليه مالُه قبلَ البُلُوغِ والرُّشْدِ، ولو صار شيخًا. وهو قولُ الأكْثَرِين. قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ عُلَماءِ الأمْصار مِن أهلِ العِراقِ، والحِجازِ، والشّامِ، ومِصْرَ، يَرَوْن الحَجْرَ على كلِّ مُضَيِّعٍ لمالِه، صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا. وبه قال القاسِمُ بنُ ¬

(¬1) في ر 1، م: «على الصبي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمدٍ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وروَى الجُوزْجانِيُّ، في «كِتابِه» قال: كان القاسِمُ بنُ محمدٍ يَلِي أمْرَ شيخٍ مِن قُرَيش ذي أهْلٍ ومالٍ، فلا يَجُوزُ له أمْرٌ في مالِه دُونَه؛ لضَعْفِ عَقلِه. قال ابنُ إسحاقَ: رَأيتُه شيخًا يَخْضِبُ، وقد جاء إلى القاسِمِ بنِ محمدٍ، فقال: يا أبا محمدٍ ادْفَعْ إليَّ مالِي، فإنَّه لا يُولَّى على مِثْلِي. فقال: إنَّك فاسِدٌ. فقال،: امْرَأَتُه طالِقٌ ألْبَتَّةَ، وكلُّ مَمْلُوكٍ له حُرٌّ، إن لم تَدْفَعْ إلَيَّ مالِي. فقال القاسِمُ بنُ محمدٍ: وما يَحِلُّ لَنا أن نَدْفع إليك مالك على حالِك هذه. فبَعَثَ إلى امْرَأتِه، وقال: هي حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ، وما كُنْتُ لأحْبِسَها عَلَيكَ وقد فُهْتَ بطَلاقِها. فأرْسَلَ إليها فأخبَرَها ذلك، وقال: أمّا رَقِيقُكَ فلا عِتْقَ لك ولا كَرَامَةَ. فَحَبَسَ رَقِيقَه. قال ابنُ إسحاقَ: ما كان يُعابُ على الرجلِ إلَّا سَفَهُه. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يُدْفَعُ مالُه إليه قبلَ خَمْسٍ وعِشْرِين سَنَةً، وإن تَصَرَّفَ نَفَذ تَصَرُّفُه، فإذا بَلَغ خَمْسًا وعِشْرِين سَنَة، فُكَّ الحَجْرُ عنه ودُفِعَ إليه مالُه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (¬1). وهذا قد بَلَغ أشُدَّه، ويَصْلُحُ أن يكونَ جَدًّا، ولأنَّه حُرٌّ بالِغٌ عاقِلٌ مُكَلَّفٌ، فلا يُحْجَرُ عليه، كالرَّشِيدِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ}. أي أمْوالهم. وقَوْلُه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}. عَلَّقَ الدَّفْعَ على ¬

(¬1) سورة الأنعام 152، وسورة الإسراء 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطَين، والحُكْمُ المُعَلَّقُ على شَرْطَين لا يَثْبُتُ بدُونِهما. وقال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬1). فأثْبَتَ الولايةَ على السَّفِيهِ، ولأنَّه مُبَذِّرٌ، فلم يَجُزْ دَفْعُ مالِه إليه، كمَن له دُونَ ذلك. وأمّا الآيَةُ التي احْتَجَّ (¬2) بها، فإنَّما تَدُلُّ بدَلِيلِ خِطابِها، وهو [لا يَقولُ] (¬3) به، ثم هي مُخَصَّصَةٌ فيما قبلَ خَمْسٍ وعِشْرِين بالإجْماعِ؛ لعِلَّةِ السَّفَهِ، وهو مَوْجُود بعدَ خَمْسٍ وعِشْرِين، فيَجِبُ أن يُخَصَّ به أيضًا،؛ أنَّها لَمّا خُصِّصَتْ في حَقِّ المَجْنُونِ لجُنُونِه فيما قبلَ خَمْسٍ وعِشْرِين خُصِّصَتْ بعدَها. وما ذَكَرْنا من المَنْطُوق أوْلَى ممّا اسْتَدَلَّ به مِن المَفْهُومِ المُخَصَّصِ. وقَوْلُه: إنَّه صار يَصْلُحُ جَدًّا لا مَعْنًى تحتَه يَقْتَضِي الحُكْمَ، ولا له أصْلٌ يَشْهَدُ له (¬4) في الشَّرْعِ، فهو إثْباتٌ للحُكْمِ بالتَّحَكُّمِ، ثم هو مُتَصَوَّرٌ ممَّن له (¬5) دُونَ هذا السِّنِّ، فإنَّ المرأةَ تكونُ جَدَّةً لإِحْدَى وعِشْرِين سَنَةً. وقِياسُهم مُنْتَقِضٌ بمَن له دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِين سَنَةً، فما أوْجَبَ الحَجْرَ قبلَها يُوجِبُه بعدَها. إذا ثَبَت هذا، فإَّنه لا يَصِحُّ تَصَرُّفُه ولا إقْرارُه. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بَيعُه وإقْرارُه؛ لأنَّ البالِغَ عندَه لا يُحْجَرُ عليه، وإنَّما لم يُسَلَّمْ إليه ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) في م: «احتجوا». (¬3) في الأصل: «ما يفعل». (¬4) سقط من: «الأصل» (¬5) في م: «هو».

1938 - مسألة: (والبلوغ يحصل بالاحتلام، أو بلوغ خمس عشرة سنة، أو نبات الشعر الخشن حول القبل، وتزيد الجارية بالحيض والحمل)

وَالْبُلُوغُ يَحْصُلُ بِالاحْتِلَامِ، أوْ بُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ نَبَاتِ الشَّعَرِ الْخَشِنِ حَوْلَ الْقُبُلِ، وَتَزِيدُ الْجَارِيَةُ بِالْحَيضِ وَالْحَمْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالُه (¬1)، للآيَةِ. ولَنا، أنَّه لا يُدْفَعُ إليه مالُه، لعَدَمِ رُشْدِه، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُه وإقْرارُه، كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، ولأنَّه إذا نَفَذ تَصَرُّفُه وإقْرارُه تَلِف مالُه، ولم يُفِدْ مَنْعُه مِن مالِه شيئًا، ولأنَّ تَصَرُّفَه لو كان نافِذًا، لسُلِّمَ إليه مالُه، كالرَّشِيدِ، فإنَّه إنَّما مُنِع ماله حِفْظًا له، فإذا لم يُحْفَظْ بالمَنْعِ، وَجَب تَسْلِيمُه إليه بحُكْمِ الأصْلِ. 1938 - مسألة: (والبُلُوغُ يَحْصُلُ بالاحْتِلامِ، أو بُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أو نَباتِ الشَّعَرِ الخَشِنِ حَوْلَ القُبُلِ، وتَزِيدُ الجارِيَةُ بالحَيضِ والحَمْلِ) يَثْبُتُ البُلُوغُ في حَقِّ الجارِيَةِ والغُلامِ بأحَدِ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ المَذْكُورَةِ، وهي، خُرُوجُ المَنِيِّ مِن القُبُلِ، وهو الماءُ الدّافِقُ الذي يُخْلَقُ منه الوَلدُ، كيفما خَرَج في يَقَظَةٍ أو مَنامٍ، بجِماعٍ أو احْتِلامٍ، أو غيرِ ذلك، يَحْصُلُ به البُلُوغُ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لقَوْلِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬1). وقَوْلِه: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} (¬2). وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ». رواه أبو داودَ (¬3). قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعُوا على أنَّ الفَرائِضَ والأحْكامَ تَجِبُ على المُحْتَلِمِ العاقِلِ، وعلى المرأةِ بظُهُورِ الحَيضِ منها. الثانِي، السِّنُّ، وهو بُلُوغُ خَمْسَ عَشرَةَ سَنَةً، [يَحْصُلُ به البُلُوغُ] (¬4) في حَقِّ الغُلامِ والجارِيَةِ. وبهذا قال ¬

(¬1) سورة النور 59. (¬2) سورة النور 58. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 15. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال داودُ: لا حَدَّ للبُلُوغِ مِن السِّنِّ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ [عَنْ ثَلَاثٍ] (¬1)؛ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ». وإثْباتُ البُلُوغِ بِغيرِه يُخالِفُ الخَبَرَ. وهذا قَوْلُ مالِكٍ. وقال أصْحابُه: سَبْعَ عَشْرَةَ، أو ثَمانِيَ عَشْرَةَ. وعن أبي حَنِيفَةَ في الغُلامِ رِوايَتانِ؛ إحْداهما، سَبْعَ عَشْرَةَ. والثانِي، ثَمانِيَ عَشرَةَ، والجارِيَةُ سَبْعِ عَشْرَةَ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّ الحَدَّ لا يَثْبُتُ إلَّا بتَوْقِيفٍ أو اتِّفاقٍ، ولا تَوْقِيف فيما دُونَ هذا، ولا اتِّفاقَ. ولَنا، أنَّ ابنَ عُمَرَ قال: عُرِضْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ فلمِ يُجِزْنِي في القِتالِ، وعُرِضْتُ علية وأنا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فأجازَني. مُتَّفقٌ عليه (¬2). وفي لفظٍ: عُرِضْتُ عليه يومَ أُحُدٍ وأنا ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ فرَدَّنِي، ولم يَرَنِي بَلَغْتُ، وعُرِضْتُ عليه عامَ الخَنْدَقِ وأنا ابنُ خمْسَ عَشْرَةَ فأجازَنِي. فأُخْبِرَ بهذا عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، فكَتَبَ إلى عُمّالِه: أن لا تَفْرِضُوا إلَّا لمَن بَلَغ خَمْسَ عَشْرَةَ. رَواه الشافعيُّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ر، ق. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «مُسْنَدِه»، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَحْصُلُ به البُلُوغُ، يَشْتَرِكُ فيه الجارِيَةُ والغُلامُ، فاسْتَوَيا فيه، كالإِنْزالِ. وما احْتَجَّ به مالِكٌ ودَاودُ لا يَمْنَعُ إثْباتَ البُلُوغِ بغيرِ الاحْتِلامِ إذا ثَبَت بالدَّلِيلِ، ولهذا كان إنْباتُ الشَّعَرِ عَلَمًا عليه. الثالثُ، نَباتُ الشَّعَرِ الخَشِنِ حَوْلَ ذَكَرِ الرجلِ، وفَرْجِ المَرْأةِ. فأمَّا الزَّغَبُ الضَّعِيفُ، فلا اعْتِبارَ به، فإنَّه يَثْبُتُ في حَقِّ الصَّغِيرِ. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعيُّ في قولٍ، وقال في الآخَرِ: هو بُلُوغٌ في حَقِّ المُشْرِكِين، وهل هو بُلُوغٌ في حَقِّ المسلمين؟ فيه قَوْلَان. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا اعْتِبارَ به؛ لأنَّه نَبات شَعَرٍ، أشْبَهَ سائِرَ شَعَرِ البَدَنِ. ولَنا، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا حَكَّمَ سعدَ بنَ مُعاذٍ في بني قُرَيظَةَ، حَكَم بأنْ تُقْتَلَ مُقاتِلَتُهم وتُسْبَى ذَرارِيُّهم، فأمَرَ بأن يُكْشَفَ عن مُؤْتزَرِهم، فمَن أنْبَتَ فهو مِن المُقاتِلَةِ، ومَن لم يُنْبِتْ ألْحَقُوهُ بالذُّرِّيَّةِ. قال عَطِيَّةُ القُرَظِيُّ: عُرِضْتُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ قُرَيظَةَ، فَشَكُّوا فِيَّ، فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُنْظَرَ إلَيَّ، هل أنْبَتُّ بَعْدُ؟ فنَظَرُوا إلَيَّ، فلم يَجِدُونِي أنْبَتُّ بَعْدُ، فألْحَقُونِي. بالذُّرِّيَّةِ. مُتَّفَقٌ على ¬

(¬1) في حاشيتي ر، ق: «عزوه إلى الشافعي والترمذي وهم». وقد تقدم تخريجه عند الترمذي والإمام الشافعي في 5/ 512.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْناهُ (¬1). وكَتَب عُمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه، إلى عامِلِه، أن لا تَأْخُذَ الجِزْيَةَ إلَّا مِمَّن جَرَتْ عليه المَواسِي (¬2). وروَاى محمدُ بنُ يَحْيَى بنِ حَبّانَ (¬3)، أنَّ غُلامًا مِن الأنْصارِ شَبَّبَ بامرأةٍ في شِعْرِه، فرُفِعَ إلى عُمَرَ، فلم يَجِدْه أنْبَتَ، فقال: لو أنْبَتَّ الشَّعَرَ (¬4) لحَدَدْتُك (¬5). ولأنَّه خارِجٌ يُلازِمُه البُلُوغُ غالِبًا، يَسْتَوى فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، فكان عَلَمًا على البُلُوغِ، كالاحْتِلام. ولأنَّ الخارِجَ ضَرْبانِ؛ مُنْفَصِلُ، ومُتَّصِلٌ، فلَمّا كان مِن المُنْفَصِلِ مَا يَثْبُتُ به البُلُوغُ، كذلك المُتَّصِلُ، وما كان بُلُوغًا في حَقِّ المُشْرِكِ كان بُلُوغًا في حَقِّ المُسْلِمِ، كالاحْتِلامِ والسِّنِّ. فصل: والحَيضُ عَلَم على البُلُوغِ في حَقِّ الجارِيَةِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وقد دَلَّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْبَل اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بخِمَارٍ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬6). وقال: حديثٌ حسنٌ. وكذلك الحَمْلُ يَحْصُلُ به البُلُوغُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أجْرَى العادَةَ أنَّ الوَلَدَ إنَّما يُخْلَقُ مِن ماءِ الرجلِ ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث تحكيم سعد بن معاذ في 10/ 84. وحديث عطية القرظي في 10/ 68. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب الزيادة على الدينار بالصلح، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 195. (¬3) أبو عبد الله محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري الفقيه، كان يفتي، ثقة كثير الحديث، توفي سنة إحدى وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 9/ 507، 508. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 177. (¬6) تقدم تخريجه في 3/ 20، 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وماءِ المرأةِ، قال اللهُ تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَينِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (¬1). وأخْبَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الأحَادِيثِ. فعلى هذا، يُحْكَمُ ببُلُوغِها في الوَقْتِ الذي حَمَلَتْ فيه. فصل: إذا وُجِد خُرُوجُ المَنِيِّ مِن ذَكَرِ (¬2) الخُنْثَى المُشْكِلِ، فهو عَلَمٌ على بُلُوغِه وكونِه رجلًا، وإن خَرَج مِن فَرْجِه أو حاضَ، كان عَلَمًا على بُلُوغِه وكونِه امرأةً. وقال القاضي: ليس واحِدٌ منهما عَلَمًا على البُلُوغِ، فإنِ اجْتَمَعا فقد بَلَغ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لجَوازِ أن يَكُونَ الفَرْجُ الذي خَرَج منه ذلك خِلْقَةً زائِدَةً. ولَنا، أنَّ خُرُوجَ البَوْلِ مِن أحَدِ الفَرْجَين دَلِيلٌ على ذُكُورِيَّتِه أو أُنْوثيَّته، فخُرُوجُ المَنِيِّ والحَيضِ أوْلَى، وإذا ثَبَت كَوْنُه رجلًا خرَج المَنِيُّ مِنِ ذَكَرِه، أو امرأةً خَرَج الحَيضُ مِن فَرْجِها، لَزِم وجُودُ البُلُوغِ، ولأنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرجلِ مِن المرأةِ، أو الحَيضِ مِن الرجلِ، مُسْتَحِيلٌ، فكان دَلِيلًا على التَّعْيِينِ، وإذا ثَبَت التَّعْيينُ، لَزِم كَوْنُه دَلِيلًا على البُلُوغِ، كما لو (¬3) تَعَيَّنَ قبلَ خُرُوجِه، ولأنَّهم سَلَّمُوا أنَّ خُرُوجَهما معًا دَلِيلٌ [على البُلُوغِ] (¬4)، ¬

(¬1) سورة الطارق 5 - 7. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل، ر 1. (¬4) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فخُرُوجُ أحَدِهما مُنْفَرِدًا أوْلَى، لأنَّ: خُرُوجَهما معًا يَقْتَضِي تَعارُضَهما وإسْقاطَ دَلالتِهِما، إذ لا يُتَصَوَّرُ أن يَجْتَمِعَ حَيضٌ صَحِيحٌ ومَنيُّ رجلٍ، فيَلْزَمُ أنْ يكونَ أحَدُهما فَضْلَةً خارِجَةً مِن غيرِ مَحَلِّها، وليس أحَدُهما بذلك أوْلَى مِن الآخَرِ، فتَبْطُلُ دَلالتُهما، كالبَيِّنتَين إذا تَعارَضَتَا، وكالبَوْلِ إذا خرَج مِن المَخْرَجَينِ جَمِيعًا، بخِلافٍ ما إذا وُجِد أحَدُهما مُنْفَرِدًا، فإنَّ اللهَ تعالى أجْرَى العادَةَ بأنَّ الحَيضَ يَخْرُجُ مِن فَرْجِ المرأةِ عندَ بُلُوغِها، ومَنِيَّ الرجلِ يَخْرُجُ مِن ذَكَرِه عند بُلُوغِه، فإذا وُجِد ذلك مِن غيرِ مُعارِضٍ، وَجَب أنْ يَثْبُتَ حُكْمُه،، يُقْضَى بثُبُوتِ دَلالتِه، كالحُكْمِ بكَوْنِه رَجلًا بخُرُوجِ البَوْلِ مِن ذَكَرِه، وبكَوْنِه أُنْثَى بخُروجِه مِن فَرْجِه (¬1)، والحُكْمِ للغُلامِ بالبُلُوغِ بخُرُوجِ المنِيِّ مِن ذَكَرِه، وللجارِيَةِ بخُرُوجِ الحَيضِ مِن فَرْجِها. فعلى هذا، إن خَرَجا جَمِيعًا، لم يَثْبُتْ كَوْنُه رجلًا ولا امرأةً. وهل يَثْبُتُ البُلُوغُ بذلك؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَثْبُت. وهو اخْتِيارُ القاضي، ومَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه إن كان. رجلًا، فقد خَرَجِ المَنِيُّ مِن ذَكَرِه، وإن كان أُنْثَى، فقد حاضَتْ. والثانِي، لا يَثْبُتُ؛ لأنَّ هذا يَجُوزُ أن لا يَكُونَ حَيضًا ولا مَنِيًّا، فلا يكونُ فيه دَلالةٌ، وقد دَلَّ على ذلك تَعارُضُهما، فانْتَفَتْ دَلالتُهما على البُلُوغِ، كانْتِفاءِ دَلالتِهما على الذُّكُورِيَّةِ والأنُوثِيَّةِ. ¬

(¬1) في م: «فرجها».

1939 - مسألة: (والرشد الصلاح في المال)

وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ في الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1939 - مسألة: (والرُّشْدُ الصَّلاحُ في المالِ) وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم مالِكٌ، وأبو حَنِيفَةَ. وقال الحَسَنُ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: الرُّشْدُ الصَّلاحُ في الدِّينِ والمالِ؛ لأنَّ الفاسِقَ (¬1) غيرُ رَشِيدٍ، ولأنَّ إفْسادَه دِينَه يَمْنَعُ الثِّقَةَ به في حِفْظِ مالِه، كما يَمْنَعُ قَبُولَ قَوْلِه وثُبُوتَ الولايةِ على غيرِه، وإن لم يُعْرَفْ منه كَذِبٌ ولا تَبْذِيرٌ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}. قال ابنُ عباس: يَعْنِي صَلاحًا في أمْوالِهم. وقال مُجاهِدٌ: إذا كان عاقِلًا. ولأنَّ هذا إثْباتٌ في نَكِرَةٍ، ومَن كان مُصْلِحًا لمالِه فقد وُجِد منه رُشْدٌ (¬2)، ولأنَّ العَدالةَ لا تُعْتَبَرُ في الرُّشْدِ في الدَّوامِ، فلا تُعْتَبَرُ في الابْتِداءِ، كالزُّهْدِ في الدُّنْيا، ولأنَّ هذا مُصْلِحٌ لمالِه، فأشْبَهَ العَدْلَ، يُحَقِّقُه أنَّ الحَجْرَ عليه إنَّما كان لحِفظِ مالِه عليه، والمُؤثِّرُ فيه ما أَثَّر في تضْيِيعِ المالِ أو حِفظِه. قَوْلُهم: إنَّ الفاسِقَ غيرُ رَشِيدٍ. قُلْنا: هو غيرُ رَشِيدٍ في دِينِه، أمّا في مالِه وحِفْظِه فهو رَشِيدٌ، ثم هو مُنْتَقِضٌ بالكافِرِ فإنَّه غيرُ رَشِيدٍ في دِينِه، ولا يُحْجَرُ عليه لذلك، ولا يَلْزَمُ مِن مَنْعِ قَبُولِ القولِ مَنْعُ (¬3) دَفْعِ ¬

(¬1) في الأصل: «الفاسد». (¬2) في الأصل: «الرشد». (¬3) في م: «منه».

1940 - مسألة: (ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر)

وَلَا يَدْفَعُ إِلَيهِ مَالهُ حَتَّى يُخْتَبَرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أوْلَادِ التُّجَّارِ، فَبِأَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ الْبَيع وَالشِّرَاءُ، فَلَا يُغْبَنَ، وَإنْ كَانَ مِنْ أُوْلَادِ الرُّؤَسَاءِ. وَالْكُتَّابِ، فَبِأَنْ يَسْتَوْفِيَ عَلَى وَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ. والْجَارِيَةُ بِشِرَائِهَا الْقُطْنَ، وَاسْتِجَادَتِهِ، وَادَفْعِهَا الأُجْرَةَ إِلَى الْغَزَّالاتِ، وَالاستِيفَاءِ عَلَيهِنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِه إليه، فإنَّ مَن يُعْرَفُ بكَثْرَةِ الغَلَطِ والنِّسْيانِ، أو مَن يَأْكُلُ في السُّوقِ، ويَمُدُّ رِجْلَيه في مَجْمَعِ النّاسِ، لا تُقْبَلُ شَهادَتُهم، وتُدْفَعُ إليهم أمْوالُهم. 1940 - مسألة: (ولا يَدْفَعُ إليه مَاله حتى يُخْتَبَرَ) لأنَّه إنَّما يُعْرَفُ رُشْدُه باخْتِبارِه؛ لقولِ الله تِعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}. أي اخْتَبِرُوهم، واخْتِبارُه بتَفْويضِ التَّصَرُّفاتِ التي يَتَصَرَّفُ فيها أمْثَاله إليه (فإن كان مِن أوْلادِ التُّجّارِ) فُوِّضَ إليه البَيعُ والشِّراءُ (فإذا تَكَرَّرَ منه، فلم يُغْبَنْ) ولم يُضَيِّعْ ما في يَدَيه، فهو رَشِيدٌ، وإنَّ كان مِن أوْلادِ الدَّهاقِينِ والكُبَراءِ الَّذين يُصانُ أمْثالُهم عن الأسْواقِ، دُفِعَتْ إليه نَفَقَةُ مُدَّةٍ؛ ليُنْفِقَها في مَصالِحِه، فإن صَرَفَها في مَصارِفِها ومَواقِعِها، واسْتَوْفَى على وَكِيلِه فيما وَكَّلَه فيه (¬1)، واسْتَقْصَى عليه، دَلَّ على رُشْدِه. والمرأةُ يُفَوَّضُ إليها ما يُفوَّضُ إلى رَبَّةِ البَيتِ، مِن اسْتِئْجارِ الغَزّالاتِ، وتَوْكِيلِها في شِراءِ الكَتَّانِ، وأشْباهِ ذلك. فإن وُجِدَتْ ضابِطَةً لِما في يَدَيها، مُسْتَوْفِيَةً مِن وَكِيلِها، فهي رَشِيدَةٌ. ¬

(¬1) سقط من: م.

1941 - مسألة: (وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه؛ كالغناء، والقمار، وشراء المحرمات)

وَأنْ يَحْفَظَ مَا في يَدِهِ عَنْ صَرْفِهِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ كَالْغِنَاءِ، وَالْقِمَارِ، وَشِرَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَنَحْوهِ. وَعَنْهُ، لَا يُدْفَعُ إِلَى الْجَارِيَةِ مَالُها بَعْدَ رُشْدِهَا، حَتَّى تَتَزَوَّجَ وتَلِدَ، أوْ تقِيمَ في بَيتِ الزَّوْجِ سَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1941 - مسألة: (وأن يَحْفَظَ ما في يَدِه عن صَرْفِه فيما لا فائِدَةَ فيه؛ كالغِناء، والقِمارِ، وشِراءِ المُحَرَّماتِ) وشِراء آلاتِ اللَّهْو والخَمْرِ، وأنَّ يَتَوَصَّلَ به إلى الفَسادِ، فهذا غيرُ رَشِيدٍ؛ لأَنَّه تَبْذِيرٌ لمالِه، وتَضْيِيعُه فيما لا فائِدَةَ فيه. فإن كان فِسْقُه بالكَذِبِ والتَّهاوُنِ بالصلاةِ، مع حِفْظِه لمالِه، لم يَمْنَعْ ذلك مِن دَفْعَ مالِه إليه؛ لِما ذَكَرْنا. 1942 - مسألة: (وعنه، لا يُدْفَعُ إلى الجارِيَةِ مالُها بعدَ رُشْدِها، حتى تَتَزَوَّجَ وتَلِدَ، أو تُقِيمَ في بَيتِ الزَّوْجِ سَنَةً) المَشْهُورُ في المَذْهَبِ أنَّ الجارِيَةَ إذا بَلَغَتْ ورَشَدَتْ، دُفِع إليها مالُها، كالغُلامِ، وزال الحَجْرُ عنها وإن لم تَتَزَوَّجْ. وهذا قَوْلُ عَطاءٍ.، والثَّوْرِيِّ، وأبي حَنِيفَةَ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. ونَقَل أبو طالِبٍ عن أحمدَ، أنَّ الجارِيَةَ لا يُدْفَعُ إليها مالُها، حتى تَتَزَوَّجَ وتَلِدَ، أو تُقِيمَ سَنَةً في بَيتِ الزَّوْجِ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ. وبه قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، وإسحاقُ؛ لِما رُوِيَ عن شُرَيح أنَّه قال: عَهِد إلَيَّ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، أن لا أُجيزَ لجارِيَةٍ عَطِيَّةً حتى تَحُولَ في بَيتِ زَوْجِها حَوْلًا، أو تَلِدَ. رَواهُ سعيدٌ في «سُنَنِه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُعْرَفُ له مُخالِفٌ، فصار إجْماعًا. وقال مالِكٌ: لا يُدْفَعُ إليها مالُها حتى تَتَزَوَّجَ، ويَدْخُلَ عليها زَوْجُها؛ لأنَّ كلَّ حَالةٍ جاز للأبِ تَزْويجُها مِن غيرِ إذْنِها، لم يَنْفَكَّ عنها الحَجْر، كالصَّغِيرَةِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}، لأنَّها يَتِيمٌ بَلَغ وأُونِسَ منه الرُّشْدُ، فيُدْفَعُ إليه مالُه، كالرجلِ، ولأنَّها بالغَةٌ رَشِيدَةٌ، فجاز لها التَّصَرُّفُ في مالِها، كالتي دَخَل بها الزَّوْجُ، وحديث عُمَرَ، إن صَحَّ، فلم نَعْلَمِ انْتِشارَه في الصَّحابَةِ، فلا يُتْرَكُ به الكتابُ والقِياسُ، وعلى أنَّ حديثَ عُمَرَ مُخْتَصٌّ بمنْعِ العَطِيَّةِ، فلا يَلْزَمُ منه المَنْعُ مِن تسْلِيمِ مالِها إليها ومَنْعُها مِن سائِرِ التَّصَرُّفاتِ، ومالِكٌ لم يَعْمَلْ به، وإنَّما اعْتَمَدَ على إجْبارِ الأبِ لها على النِّكاحِ. ولَنا أن نَمْنَعَه، وإن سلَّمْناه، فإنّما أجْبَرَها على النِّكاحِ؛ لأنَّ اخْتِبارَها للنِّكاحِ ومَصالِحِه لا يُعْلَمُ إلَّا بمُباشَرَتِه، والبَيعُ والشِّراءُ والمُعامَلاتُ مُمْكِنَةٌ قبلَ النِّكاحِ. وعلى هذه الرِّوايَةِ، إذا لم تَتَزَوَّجْ. أصْلًا احْتَمَلَ أن يَدُومَ الحَجْرُ عليها؛ عَمَلًا بعُمُومِ حديثِ عُمَرَ، ولأنَّه لم يُوجَدْ شَرْطُ دَفْعِ مالِها إليها، فلم يَجُزْ دَفْعُه إليها، كما لو لم تَرْشُدْ. وقال القاضِي: عندِي أنَّه يُدْفَعُ إليها مالُها إذا عَنَسَتْ [بَرزَتْ] (¬1) للرِّجالِ. يَعْنِي كَبِرَتْ. ¬

(¬1) في ق: «لا تروق».

1943 - مسألة: (ووقت الاختبار قبل البلوغ)

وَوَقْتُ الاخْتِبَارِ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَعَنْهُ، بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1943 - مسألة: (ووَقْتُ الاخْتِبارِ قبلَ البُلُوغِ) في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}. فظاهِرُ الآيَةِ أنَّ ابْتِلاءَهم قبلَ البُلُوغِ لوَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أنَّه سَمَّاهم يَتامَى، وإنَّما يَكُونُونَ يَتامَى قبلَ البُلُوغِ. الثانِي، أنَّه مَدَّ اخْتِبارَهُم إلى البُلُوعِ بلَفْظِ: {حَتَّى}. فيَدُلُّ على أنَّ الاخْتِبارَ قبلَه، ولأنَّ تَأْخِيرَ الاخْتِبارِ إلى البُلُوغِ مُؤَدٍّ (¬1) إلى الحَجْرِ على البالِغ الرَّشِيدِ؛ لأنَّ الحَجْرَ يَمْتَدُّ إلى أن يُخْتَبَرَ، ويُعْلَمَ رُشْدُه، واخْتِبارُه قبلَ البُلُوغِ يَمْنَعُ ذلك، فكان أوْلَى. لكنْ لا يُخْتبرُ إلَّا المُراهِقُ المُمَيِّزُ الذي يَعْرِفُ البَيعَ والشِّراءَ، والمَصْلَحَةَ مِن المَفْسَدَةِ. وإذا أذِنَ له وَلِيُّه فتَصَرَّفَ، صَحَّ تَصَرُّفُه، على ما نَذْكُرُه (وعنه) أنَّ اخْتِبارَه (بعدَ البُلُوغِ) أوْمَأَ إليه أحْمَدُ؛ لأنَّ تَصَرُّفَه قبلَ ذلك تَصَرُّفٌ ممَّنْ لم يُوجَدْ فيه مَظِنَّةُ العَقْلِ. ولأصحابِ الشافعيِّ نحوُ هذا الوَجْهِ. ¬

(¬1) في ر، ق: «مرده».

فَصْلٌ: وَلَا تَثْبُتُ الْولَايةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلا لِلْأبِ، ثُمَّ لِوَصِيِّهِ، ثُمَّ لِلْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (ولا تَثْبُتُ الولايَةُ على الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ إلَّا للأب) لأنَّها ولايَةٌ على الصَّغِيرِ، فقُدِّمَ فيها الأبُ، كولايَةِ النِّكاحِ (ثم وَصِيِّه) بعدَه؛ لأنَّه نائِبُه، أشْبَهَ وَكِيلَه في الحَياةِ (ثم للحاكِمِ) لأنَّ الولايةَ انْقَطَعَتْ مِنِ جِهَةِ القَرابَةِ، فتَثْبُتُ للحاكِمِ، كولايَةِ النِّكاحِ. ومَذْهَبُ أبي حَنِيفةَ، والشافعيِّ، أنَّ الجَدَّ يَقُومُ مَقامَ الأبِ في الولايةِ؛ لأنَّه أبٌ. ولَنا، أنَّ الجَدَّ لا يُدْلِي بنَفسِه، وإنَّما يُدْلِي بالأبِ الأدْنَى، فلم يَلِ مال الصَّغِيرِ، كالأخِ، ولأنَّ الأبَ يُسْقِطُ الإِخوَةَ، بخِلافِ الجَدِّ، وتَرِثُ الأُمُّ معه ثُلُثَ الباقِي في زَوْجٍ وأُمٍّ وأَبٍ وزَوْجَةٍ [وأُمِّ أَبٍ] (¬1)، بخِلافِ الجَدِّ، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليه. فأمّا مَن سِواهم فلا تَثْبُتُ له ولايَةٌ؛ لأنَّ المال مَحَلُّ الجِنايَةِ، ومَن سِواهم قاصِرُ الشَّفَقَةِ، غيرُ مَأمُونٍ على المالِ، فلم يَلِه، كالأجْنَبِيِّ. ومِن شَرْطِ ثُبُوتِ الولايةِ على المالِ العَدالةُ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ في تَفْويضِها إلى الفاسِقِ تَضْيِيعًا للمالِ، فلم يَجُزْ، كتَفْويضِها إلى السَّفِيهِ. وكذلك الحُكْمُ في السَّفِيهِ إذا حُجِر عليه صَغِيرًا واسْتَدامَ الحَجْرُ عليه بعدَ البُلُوغِ. ¬

(¬1) في ر، ر 1، ق: «وأب».

1944 - مسألة: (وليس لوليهما التصرف في مالهما، إلا على وجه الحظ لهما)

وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِمَا أنْ يَتَصَرَّفَ في مَالِهِمَا، إلا عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ لَهُمَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ، أوْ حَابَى، أوْ زَادَ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيهِمَا، أوْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُمَا مُؤْنَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1944 - مسألة: (وليس لوَلِيِّهما التَّصَرُّفُ في مالِهما، إلَّا على وَجْهِ الحَظِّ لهما) [وما لا حَظَّ فيه] (¬1)، ليس له التَّصَرُّفُ به؛ كالعِتْقِ، والهِبَةِ، والتَّبَرُّعاتِ، والمُحاباةِ؛ لقولِ اللهِ سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2). وقَوْلِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ (¬3)». رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬4). وهذا فيه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة الأنعام 152، سورة الإسراء 34. (¬3) في م: «ضرار». (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 368.

1945 - مسألة: (ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئا لنفسه، ولا يبيعهما، إلا الأب)

وَلَا يَجُوزُ أن يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِهِمَا شَيئًا لِنَفْسِهِ، ولا يَبِيعَهُمَا، إلا الْأَبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إضْرارٌ. فإن فَعَل شيئًا مِن ذلك، أو زاد علِى النَّفَقَةِ عليهما، أو على مَن تَلْزَمُهما مُؤْنَتُه بالمَعْرُوفِ، ضَمِن؛ لأنَّه مُفرِّطٌ، فضَمِنَ، كتَصَرُّفِه في مالِ غيرِهما (¬1). 1945 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أَن يَشْتَرِيَ مِن مالِهما شيئًا لنَفْسِه، ولا يَبِيعَهما، إلَّا الأَبُ) لأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ عليه، لكَمالِ شَفَقَتِه. وبه قال أبو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وزادُوا الجَدَّ. وقال زُفَرُ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ حُقُوقَ العَقْدِ تَتَعَلَّقُ بالعاقِدِ، فلا يَجُوزُ أن يَتَعَلَّقَ به حُكْمان مُتَضادّان. ولَنا، أنَّ هذا يَلي بنَفْسِه، فجاز أن يَتَوَلَّى طَرَفَي العَقْدِ، كالسَّيِّدِ يُزَوِّجُ عَبْدَه أمتَه، ولا نُسَلِّمُ ما ذَكَرَه مِن تَعَلُّقِ حُقوقِ العَقْدِ بالعاقِدِ (¬2). فأمّا الجَدُّ، فلا ولايةَ له، على ما ذَكَرْناه، فهو كالأجْنَبِيِّ، ولأنَّ التُّهْمَةَ بينَ الأبِ ووَلَدِه مُنْتَفِيَةٌ، إذ مِن طَبْعِه الشَّفَقَةُ عليه والمَيلُ إليه وتَرْكُ حَظِّ نَفْسِه لحَظِّهِ، وبهذا فارَقَ الوَصِيَّ والحاكِمَ وأمِينَه، ¬

(¬1) في الأصل: «غيره». (¬2) بعده في الأصل: «لغيره».

1946 - مسألة: (ولوليهما مكاتبة رقيقهما، وعتقه على مال)

وَلِوَلِيِّهِمَا مُكَاتَبَةُ رَقِيقِهِمَا، وَعِتْقُهُ عَلَى مَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا الحاكِمُ والوَصِيُّ، فلا يَجُوزُ لهما ذلك؛ لأنَّهما مُتَّهَمانِ في طَلَبِ الحَظِّ لأنْفُسِهما، فلم يَجُزْ ذلك لهما، كما بخِلافِ الأبِ. 1946 - مسألة: (ولولِيِّهما مُكاتَبَةُ رَقِيقِهما، وعِتْقُه على مالٍ) إذا كان الحَظُّ فيه، مثلَ أن تَكُونَ قِيمَتُه ألْفًا فيُكاتِبَه بألْفَين، أو يُعْتِقَه بهما، فإن لم يكنْ فيها حَظٌّ، لم يَصِحَّ. وقال مالِكٌ، وأبو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ إعْتاقُه؛ لأنَّ الإِعْتاقَ بمالٍ تَعْلِيقٌ له على شَرْطٍ، فلم يَمْلِكْه وَلِيُّ اليَتِيمِ، كالتَّعْلِيقِ على دُخُولِ الدّارِ. وقال الشافعيُّ: لا تَجُوزُ كِتابَتُه ولا إعْتاقُه؛ لأنَّ المَقْصُودَ منهما العِتْقُ دُونَ المُعاوَضَةِ، فلم يَجُزْ، كالإِعْتاقِ بغيرِ عِوَضٍ. ولَنا، أنَّها مُعاوَضَةٌ، لليَتِيمِ فيها حَظٌّ، فمَلَكَها وَلِيُّه، كبَيعِه، ولا عِبْرَةَ بنَفْعِ العَبْدِ، ولا يَضُرُّه كَوْنُه تَعْلِيقًا فإنَّه إذا حَصَلِ لليَتِيمِ حَظٌّ، لم يَضُرَّه نَفْعُ غَيرِه، ولا كَوْنُ العِتْقِ حَصَل بالتَّعْلِيقِ. وفارَق ما قاسُوا عليه، فإنَّه لا نفْعَ فيه؛ لعَدَمِ الحَظِّ، وانْتِفاءِ المُقْتَضِي، لا لِما ذَكَرُوه. ولو قُدِّرَ أن يكون في العِتْقِ بغَيرِ مالٍ نَفْعٌ، كان نادِرًا. وإن كان العِتْقُ على مالٍ بقَدْرِ قِيمَتِه أو أقَلَّ، لم يَجُزْ؛ لعَدَمِ الحَظِّ فيه. وقال أبو

1947 - مسألة: (و)

وَتَزْويجُ إِمَائِهِمَا، وَالسَّفَرُ بِمَالِهِمَا، وَالْمَضَارَبَةُ بِهِ. وَلَهُ دَفْعُهُ مُضَارَبَةً بِجُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بكرٍ: يَتَوَجَّهُ جَوازُ العِتْقِ بغيرِ عِوَضٍ، للحَظِّ فيه، مثلَ أن تكونَ له جارِيَةٌ وابْنَتُها يُساويانِ مائةً مُجْتَمِعَتَين، ولو أُفْرِدَتْ إحْداهما ساوَتْ مائَتَين، ولا يُمْكِنُ إفْرادُها بالبَيعِ، فيُعْتِقُ الأُخْرَى؛ لتَكْثُرَ قِيمَةُ الباقِيَةِ، فتَصِيرَ ضِعْفَ قِيمَتِها (¬1). 1947 - مسألة: (و) له (تَزْويجُ إمائِهما) إذا وَجَب تَزْويجُهُنَّ، بأن يَطْلُبْنَ ذلك، أو يَرَى المَصْلَحَةَ فيه؛ لأنَّه وَلِيٌّ عَلَيهِنَّ وقائِمٌ مَقامَ مالِكِهِنَّ، فكان له تَزْويجُهُنَّ، كالمالِكِ. 1948 - مسألة: (و) له (السَّفَرُ بمالِهما) للتِّجارَةِ فيه (والمُضارَبَةُ) بمالِ اليَتيمِ والمَجْنُونِ (وله أنْ يَدْفَعَه مُضارَبَةً بجُزْءٍ مِن ¬

(¬1) في م: «قيمتيهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّبْحِ) أبًا كان أو وَصِيًّا، أو حاكِمًا، أو أمِينَ حاكِمٍ، وهو أوْلَى مِن تَرْكِه. وممَّن رَأى ذلك ابنُ عُمَرَ، والنَّخَعِيُّ، والحَسَنُ بنُ صالِحٍ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، [وأصْحابُ الرَّأْي] (¬1). ويُرْوَى إباحَةُ التِّجارَةِ به عن عُمَرَ، وعائشةَ، والضَّحَّاكِ. ولا نَعْلَمُ أحَدًا كَرِهَه إلّا الحسنَ، ولَعَلَّه أراد اجْتِنابَ المُخاطَرَةِ به، وَرأَى أنَّ خزْنَه أحْفَظُ له. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وقَوْلُ الجُمْهُورِ أوْلَى] (¬1)؛ لِما روَى عبدُا اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ وَلِىَ يَتيمًا لَهُ. مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكلَهُ الصَّدَقَةُ» (¬2). ورُوِيَ مَوْقُوفًا على عُمَرَ (¬3)، وهو أصَحُّ مِن المَرْفُوعِ. ولأنَّ ذلك أحَظُّ (¬4) للمُوَلَّى عليه؛ لتَكُونَ نَفقَتُه مِن فاضِلِه ¬

(¬1) في م: «وهو قول الجمهور». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 151. (¬3) في الأصل: «عمرو». وأخرج الموقوف البيهقي، في: باب من تجب عليه الصدقة، من كتاب الزكاة، وباب تجارة الوصي بمال اليتيم إقراضه، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 4/ 17، 6/ 2. والدارقطني، في: باب وجوب الزكاة في مال الصبي أو اليتيم، من كتاب الزكاة. سنن الدارقطني 2/ 110. (¬4) في م: «أحفظ».

1949 - مسألة: (والربح كله لليتيم)

وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ورِبْحِه، كما يَفْعَلُه البالِغُون في أمْوالِهم. إلَّا أنَّه لا يَتَّجِرُ إلَّا في المَواضِعِ الآمِنَةِ، ولا يَدْفَعُه إلَّا إلى الأُمَناءِ، ولا يُغَرِّرُ به، وقد رُوِيَ عن عائشةَ أنَّها أبْضَعَتْ مال محمدِ بنِ أبي بكْرٍ في البَحْرِ. فيَحْتَمِلُ أنَّه كان في مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ قَرِيبٍ مِن السّاحِلِ، ويَحْتَمِلُ أنَّها جَعَلَتْ ضَمانَه عليها إن هَلَك. 1949 - مسألة: (والرِّبْحُ كلُّه لليَتِيمِ) يَعْنِي إذا اتَّجَرَ الوَلِيُّ (¬1) بنَفْسِه. وأجِاز الحَسَنُ بنُ صالِحٍ، وإسحاقُ، أن يَأْخُذَ الوَصِيُّ مُضارَبَةً لنَفْسِه؛ لأنَّه جاز له أن يَدْفعَه بذلك، فجاز أن يَأْخُذَه بذلك له. ويَتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك، كما قُلْنا في الشَّرِيكِ إذا فَعَلَ بنَفْسِه ما يَجُوزُ له الإِجارَةُ عليه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م.

1950 - مسألة: فأما إن دفعه إلى غيره، فللمضارب ما جعل له الولي ووافقه عليه في قولهم جميعا؛ لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته، فأشبه تصرف المالك في ماله

وَبَيعُهُ نَسَاءً، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ في أحَدِ الوَجْهَين، كذلك هذا. وبه قال أبو حَنِيفَةَ. [والصَّحِيحُ ما قُلْناه؛ لأنَّ الرِّبْحَ نَماءُ مالِ اليَتِيمِ، فلا يَسْتَحِقُّه غيرُه إلَّا بعقْدٍ، ولا يَجُوزُ أن يَعْقِدَ الوليُّ المُضارَبَةَ لنَفْسِه] (¬1). 1950 - مسألة: فأمّا إن دَفَعَه إلى غيرِه، فللمُضارِبِ ما جَعَل له الوَلِيُّ ووافَقَه عليه في قَوْلِهم جَمِيعًا؛ لأنَّ الوَصِيَّ نائِبٌ عن اليَتِيمِ فيما فيه مَصْلَحَتُه، وهذا فيه مَصْلَحَتُه، فأشْبَهَ تَصَرُّفَ المالِكِ في مالِه. فصل: وله إبْضاعُ مالِه، وهو دَفْعُه إلى مَن يَتَّجِرُ به. والرِّبْحُ كلُّه لليَتِيمِ؛ لأنَّه إذا جاز دَفْعُه بجُزْءٍ مِن رِبْحِه، فدَفْعُه إلى مَن يُوَفِّرُ الرِّبْحَ أوْلَى. 1951 - مسألة: (و) يَجُوزُ (4) بَيعُه نَساءً) إذا كان له الحَظُّ في ذلك؛ فإنَّه قد يكونُ أكْثَرَ ثَمَنًا وأنْفَعَ، لكنْ يَحْتاطُ على الثَّمَنِ، بأن يأْخُذَ به رَهْنًا أو كَفِيلًا مَوْثُوقًا به (¬2)، يَتَحَفَّظُ الثَّمَن به. ¬

(¬1) جاء هذا في الأصل بعد قوله: «فجاز أن يأخذه بذلك له، في الصفحة السابقة. (¬2) سقط من: م.

1952 - مسألة: (و)

وَقرْضُهُ بِرَهْنٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 1952 - مسألة: (و) له (قَرْضُه برَهْنٍ) إذا لم يكُنْ في قَرْضِ مالِ اليَتِيمِ حَظٌّ له، لم يَجُزْ، وإن كان في قَرْضِه حَظٌّ لليَتِيمِ، جاز. قال أحمدُ: لا يُقْرِضُ مال اليَتِيمِ لأحَدٍ يُرِيدُ مُكافَأتَه ومَوَدَّتَه، ويُقْرِضُ على النَّظرَ والشَّفَقَةِ، كما صنعَ ابنُ عُمَرَ. وقيل لأحمدَ: [ابنُ عُمَرَ] (¬1) اقْتَرضَ (¬2) مال اليَتِيمِ. قال: إنَّما اسْتَقْرَضَ نَظَرًا لليَتِيمِ واحْتِياطًا، إن أصابَه شيءٌ غَرِمَه. قال القاضي: ومَعْنَى الحَظِّ أن يكونَ للصَّبِيِّ مالٌ في بَلَدٍ، فيُرِيدَ نَقْلَه إلى بَلَدٍ آخَرَ، فيُقرِضَه مِن رجلٍ في ذلك البَلَدِ؛ ليَقْضِيَه بَدَلَه في بَلَدِه، يَقْصِدُ بذلك حِفْظَه مِن الغَرَرِ في نَقْلِه، أو يَخافَ عليه الهَلاكَ مِن نَهْبٍ ¬

(¬1) في ر 1: «عمر». (¬2) في الأصل: «أقرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو غَرَقٍ أو غيرِهما، أو يكونَ ممّا يَتْلَفُ بتَطاوُلِ مدَّتِه، أو حَدِيثُه خَيرٌ مِن قَدِيمِه، كالحِنْطَةِ ونحوها، فيُقْرِضَه خَوْفًا مِن السُّوسِ، أو نَقْص قِيمَتِه، وأشْباه هذا، فيَجُوز القَرضُ؛ لأنَّ لليَتِيمِ فيه حَظًّا، فجاز، كالتِّجارَةِ به. وإن لم يكُنْ فيه حَظٌّ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بمالِ اليَتِيمِ، فلم يَجُزْ، كهِبَتِه. وإن أراد الوَلِيُّ السَّفَرَ، لم يَكُنْ له المُسافرَةُ بمالِه، فإن أراد أن يُودِعَ مال اليَتيم، فقَرْضُه لثقَةٍ أوْلَى مِن ذلك؛ لأنَّ الوَدِيعَةَ لا تُضْمَنُ، فإن لم يَجِدْ ثِقَةً يَسْتَقْرِضُه، فله إيداعُه؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. وإن أوْدَعَه مع إمْكانِ قَرْضِه، جاز، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه رُبَّما رَأَى الإيداعَ أوْلَى مِن القَرْضِ، فلا يكون مُفَرِّطًا. وكلُّ مَوْضِع قُلْنا: له قَرْضه. فلا يَجُوزُ إلَّا لملئٍ أمِين؛ ليَأْمَنَ جُحُودَه وتَعَذُّرَ الإِيفاءِ. ويَنْبَغِي أن يَأْخُذَ رَهْنًا إنْ أمْكَنَه، فإن تعَذَّرَ عليه أخْذُ الرَّهْنِ، جاز تَرْكُه، في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ مَن يَسْتَقْرِضُه لحَظِّ اليَتِيمِ لا يَبْذُلُ رَهْنًا، فاشْتِراطُ الرَّهْنِ يُفَوِّتُ هذا الحَظَّ. وظاهِرُ كلامِ شيخِنا في الكِتابِ (¬1) المَشْرُوحِ، أنَّه لا يَجُوزُ [إلَّا برَهْنٍ] (¬2). وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ فيه احْتِياطًا للمالِ، [وحِفْظًا له عن الجَحْدِ والمَطْلِ. فإن أمْكَنَه أخْذُ الرَّهْنِ، فالأوْلَى له أخْذُه، احْتِياطًا للمالِ] (2). فإن تَرَكَه، احْتَمَلَ أن يَضْمَنَ إن ضاع المالُ؛ لتَفْرِيطِه، واحْتَمَلَ أن لا يَضْمَنَ؛ لأنَّ الظّاهِرَ سَلامَتُه. وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ لكَوْنِه لم يَذْكُرِ الرَّهْنَ. ¬

(¬1) في م: «هذا الكتاب». (¬2) سقط من: م.

1953 - مسألة: (و)

وَشِرَاءُ الْعَقَارِ لَهُمَا، وَبنَاؤُهُ بِمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِهِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ في ذَلِكَ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أبو بكرٍ: هل يَجُوزُ للوَصِيِّ أن يَسْتَنِيبَ فيما يَتَوَلَّى مِثْلَه بنَفْسِه؟ على رِوايَتَين، بِناءً على الوَكِيلِ. وقال القاضي: يَجُوزُ ذلك للوَصِيِّ، وفي الوَكِيلِ رِوايَتان. وفرَّقَ بينَهما بأنَّ الوَكِيلَ يُمْكِنُه الاسْتئْذانُ، والوَصِيُّ بخِلافِه. 1953 - مسألة: (و) له (شِراءُ العَقارِ لهما، وبِناؤُه بما جَرَتْ عادَةُ أهْلِ بَلَدِه به، إذا رَأى المَصْلَحَةَ في ذلك كلِّه) لأنَّه مَصْلَحَةٌ له، فإنَّه يَحْصُلُ له الفَضْلُ، ويَبْقَى الأصْلُ، والغَرَرُ فيه أقَلُّ مِن التِّجارَةِ؛ لأنَّ أصْلَه مَحْفُوظٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ له أنْ يَبْنِيَ لهما عَقارًا، لأنَّه في مَعْنَى الشِّراءِ، [إلَّا أن يكونَ الشِّراءُ] (¬1) أحَظَّ، وهو مُمْكِنٌ، فيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُه. وإذا أراد بِناءَه، بَناه بما يَرَى الحَظَّ فيه، ممّا جَرَتْ عادَةُ أهْلِ البَلَدِ به. وقال أصْحابُنا: يَبْنِيهِ بالآجُرِّ والطِّينِ، ولا يَبْنِي باللَّبِنِ؛ لأنَّه إذا هُدِم لا مَرْجُوعَ له، ولا بجِصٍّ؛ لأنَّه يَلْتَصِقُ بالآجُرِّ فلا يَخْلُصُ منه، فإذا انْهَدَمَ فَسَد الآجُرُّ؛ لأنَّ تَخْلِيصَه منه يُفْضِي إلى كَسْرِه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. والذي قُلْناه أوْلَى، إن شاء اللهُ، فإنَّه إذا كان الحَظُّ له في البِناءِ بغيرِه، فتَرَكَه، ضَيَّعَ حَظَّه ومالهُ، ولا يَجُوزُ تَضْيِيعُ الحَظِّ العاجِلِ وتَحَمُّلُ الضَّرَرِ النّاجزِ المُتَيَقَّنِ، لتَوَهُّمِ مَصْلَحَةِ بَقاءِ الآجُرِّ عندَ هَدْمِ البِناءِ، ولعَلَّ ذلك لا يكوَنُ في حَياتِه ولا يَحْتاجُ إليه، مع أنَّ كَثِيرًا مِن البُلْدانِ لا يُوجَدُ فيها الآجُرُّ، وكَثِيرٌ منها لم تَجْرِ عادَتُهم بالبِناء به، فلو كُلِّفُوا البِناءَ به، لاحْتاجُوا إلى غَرامَةٍ كَثِيرَةٍ لا يَحْصُلُ منها طائِلٌ. فعلى هذا، يُحْمَلُ قولُ أصْحابِنا على مَن عادَتُهم البِناءُ بالآجُرِّ، كالعِراقِ ونحْوها، ولا يَصِحُّ حَمْلُه في حَقِّ غيرِهم، وإنَّما يَفْعَلُ ما ذَكَرْنا مِن الشِّراءِ والبِناءِ، إذا رَأَى المَصْلَحَةَ فيه والحَظَّ لهما. ¬

(¬1) سقط من: م.

1954 - مسألة: (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر. نص عليه)

وَلَهُ شِرَاءُ الأضْحِيَةِ لِلْيَتيمِ الْمُوسِرِ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1954 - مسألة: (وله شِراءُ الأُضْحِيَةِ لليَتِيمِ المُوسِرِ. نَصَّ عليه) إذا كان له مالٌ كَثِيرٌ لا يَتَضَرَّرُ بشِرائِها، فيكون ذلك على وَجْهِ التَّوْسِعَةِ في النَّفَقَةِ في هذا اليَوْمِ الذي هو يومُ عيدٍ وفَرَحٍ، وفيه جَبْرُ قَلْبِه، وإلْحاقُه بمَن له أبٌ، فيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الثِّيابِ الحَسَنَةِ وشِراءِ اللَّحْمِ، سِيَّما مع اسْتِحْباب التَّوْسِعَةِ في هذا اليَوْمِ، وجَرْي العادَةِ بها (¬1)؛ بدَليلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهَا أيَّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». رَواه مسلمٌ (¬2). وهذا قولُ أبي حنِيفَةَ، ومالِكٍ. قال مالِكٌ: إذا كان له ثَلاُثون دِينارًا، يُضَحِّى عنه بالشّاةِ بنِصْفِ دِينارٍ. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، رِوايَةٌ أُخْرَى، [أنَّ ذلك] (¬3) لا يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه إخْراجُ شيءٍ مِن مالِه بغيرِ عِوَضٍ، فلم يَجُزْ، كالهَدِيَّةِ. قال شيخُنا (¬4): ويَحْتَمِلُ أن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 543. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: المغني 13/ 378، 379.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحْمَلَ كلامُ أحمدَ في الرِّوايَتَين على حالينِ، فالمَوْضِعُ الذي مَنَع التَّضْحِيَةَ، إذا كان الطِّفْلُ لا يَعْقِلُ التَّضْحِيَةَ، ولا يَفرَحُ بها، ولا يَنْكَسِرُ قَلْبُه بتَرْكِها؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ فيها، والمَوْضِعُ الذي أجازَها إذا كان اليَتِيمُ يَعْقِلُها، ويَنْجَبِرُ قَلْبُه بها، ويَنْكَسِرُ بتَرْكِها؛ لحُصُولِ الفائِدَةِ فيها. وعلى كلِّ حالٍ، مَن ضَحَّى عن اليَتِيمِ، لم يَتَصَدَّقْ بشيءٍ منها، ويُوَفِّرُها لنَفْسِه؛ لأنَّه لا يَحِلُّ الصَّدَقَةُ بشيء مِن مالِ اليَتِيمِ تَطَوُّعًا. فصل: ومتى كان خَلْطُ مالِ اليَتِيمِ أرْفَقَ به، وألْيَنَ في الجَبْرِ، وأمْكَنَ في حُصُولِ الأُدْمِ، فهو أوْلَى. وإن كان إفْرادُه أرْفَقَ به، أفْرَدَه؛ لقولِ الله تِعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (¬1). أي ضَيَّقَ عليكم وشَدَّدَ، مِن قَوْلِهِم: أعْنَتَ فُلانٌ فُلانًا. إذا ضَيَّقَ عليه وشَدَّدَ. ¬

(¬1) سورة البقرة 220.

1955 - مسألة: (و)

وَتَرْكُهُ في الْمَكْتَبِ، وَأدَاءُ الأُجْرَةِ عَنْهُ، وَلَا يَبِيعُ عَقَارَهُمَا إلا لِضَرُورَةٍ أَوْ غِبْطَةٍ، وَهُوَ أنْ يُزَادَ في ثَمَنِهِ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1955 - مسألة: (و) يَجُوزُ (تَرْكُه في المَكْتَبِ، وأدَاءُ الأُجْرَةِ عنه) بغيرِ إذْنِ الحاكِمِ. وحُكِيَ لأحمدَ قولُ سُفْيانَ: لا يُسَلِّمُ الوَصِيُّ الصَّبِيَّ إلَّا بإذْنِ الحاكِمِ. فأنْكَرَ ذلك؛ وذلك لأنَّ المَكْتَبَ مِن مَصالِحِه، فجَرَى مَجْرَى نَفَقَتِه لمَأْكُولِه ومَلْبُوسِه. وكذلك يَجُوزُ أن يُسَلِّمَه في صِناعَةٍ، إذا كانت مَصْلَحَتُه في ذلك؛ لِما ذَكَرْناه. 1956 - مسألة: (ولا يَبِيعُ عقارَهم إلَّا لضَرُورَةٍ أو غِبْطَةٍ؛ وهو أن يُزادَ في ثَمَنِه الثُّلُثُ فصاعِدًا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه لا يَجُوزُ بَيعُ عَقارِهم لغيرِ حاجَةٍ؛ لأنَّنا نَأْمُرُه بالشِّراءِ؛ لِما فيه مِن الحَظِّ، فبَيعُه إذا تَفْويتٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للحَظِّ (¬1). فإنِ احْتِيجَ إلى بَيعِه، جاز. قال أحمدُ: يَجُوزُ للوَصِيِّ بَيعُ الدُّورِ على الصِّغارِ، إذا كان أحَظَّ (¬2) لهم. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي، وإسحاقُ، قالُوا: يَبِيعُ إذا رَأى الصَّلاحَ. قال القاضي: لا يَجُوزُ بَيعُه إلَّا في مَوْضِعَين؛ أحَدُهما، أن يكونَ به (¬3) ضَرُورَةٌ إلى كُسْوَةٍ، أو نَفَقَةٍ، أو قَضاءِ دَينٍ، أو ما لا بُدَّ منه، وليس له ما تَنْدَفِعُ به حاجَتُه. الثانِي، أن يكونَ في بَيعِه غِبْطَةٌ؛ وهو أن يُبْذَلَ فيه زِيادَةٌ كثيرَةٌ على ثَمَنِ مثلِه. قال أبو الخَطّابِ: كالثُّلُثِ فما زاد. أو يَخافُ عليه الهَلاكَ بغَرَقٍ أو خَرابٍ أو نحوه. وهذا الذي ذَكَرَه شيخُنا في [الكِتابِ المَشْرُوحِ] (¬4). وهو قَولٌ في مَذْهَبِ الشافِعِيِّ. وكَلامُ أحمدَ يَقْتَضِي إباحَةَ البَيعِ في كُلِّ (¬5) مَوْضِعٍ يكونُ نَظَرًا (¬6) لهم، ولا يَخْتَصُّ بما ذَكَرُوه، فإنَّ الوَلِيَّ قد يَرَى الحَظَّ في غيرِ هذا، مثلَ أن يكونَ في مكانٍ (¬7) ¬

(¬1) بعده في ر، ق: «فلا يجوز». (¬2) في ر، ق: «نظرا». (¬3) في م: «فيه». (¬4) في م: «المقنع». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) النَّظَر: الإعانة، ويُعَدَّى باللام. تاج العروس (ن ظ ر). (¬7) في الأصل: «موضع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَنْتَفِعُ به، أو نَفْعُه قَلِيلٌ، فيَبِيعُه ويَشْتَرِي له في مَكانٍ يَكْثُرُ نَفْعُه، أو يَرَى شيئًا في شِرائِه غِبْطَةٌ لا يُمْكِنُه شِراؤُه إلَّا ببَيعِ عَقارِه، وقد تكُونُ دارُه بمَكانٍ يتَضَرَّرُ الغُلامُ بالمُقامِ فيها؛ لسوءِ الجِوارِ أو غيرِه، فيَبِيعُها ويَشْتَرِي له بثَمَنِها دارًا يَصْلُحُ له المُقامُ بها، وأشْباهُ هذا ممّا لا يَنْحَصِرُ. وقد لا يكونُ له حَظٌّ في بَيعِ (¬1) عَقارِه وإن دُفِعَ مِثْلَا ثَمَنِه؛ إمّا لحاجَتِه إليه، وإمّا لأنَّه لا يُمْكِنُ صَرْفُ ثَمَنِه في مِثْلِه، فيَضِيعُ الثَّمَنُ ولا يُبارَكُ فيه، فقد جاء عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاعَ دَارًا أوْ عَقَارًا، وَلَمْ يَصْرِفْ ثَمَنَه في مِثْلِة، لَمْ يُبَارَك لَهُ فِيهِ» (¬2). فلا يَجُوزُ بَيعُه إذًا، فلا مَعْنَى لتَقْييدِه بما ذَكَرُوه في الجَوازِ ولا في المَنْعِ، بل متى كان الحَظُّ في بَيعِه جاز، وما لا فلا. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬3). وهو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تَعالى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من باع عقارا ولم يجعل ثمنه في مثله، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 832. والدارمي، في: باب في من باع دارا فلم يجعل ثمنها في مثلها، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 273. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 307. (¬3) في: المغني 6/ 341.

1957 - مسألة: (وإن وصى لأحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته، لإعسار الموصى له أو غير ذلك، وجب على الولي قبول الوصية)

وَإنْ وَصَّى لأحَدِهِمَا بِمَنْ يَعْتِقُ عَلَيهِ وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لإِعْسَارِ الْمُوصَى لَهُ أوْ غَيرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَإلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ قَبُولُهَا. فَصلٌ: وَمَنْ فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ، فَعَاوَدَ السَّفَهَ، أُعِيدَ الْحَجْرُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1957 - مسألة: (وإن وَصَّى لأحَدِهما بمَن يَعْتِقُ عليه ولا تَلْزَمُه نَفَقَتُه، لإِعْسارِ المُوصَى له أو غيرِ ذلك، وَجَب على الوَلِيِّ قَبُولُ الوَصِيَّةِ) لأنَّه مَصْلَحَةٌ ليس فيها ضَرَرٌ، وإن كان تَلْزَمُه. نَفَقَتُه (لم يَجُزْ له قَبُولُها) لِما فيه مِن الضَّرَرِ بتَفْويتِ مالِه بالنَّفَقَةِ عليه. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (ومَن فُكَّ عنه الحَجْرُ، فعاوَدَ السَّفَهَ، أُعِيدَ الحَجْرُ عليه) وجُمْلَةُ ذك، أنَّ المَحْجُورَ عليه إذا فُكَّ عنه الحَجْرُ لرُشْدِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبُلُوغِه، ودُفِع إليه مالُه، ثم عاد إلى السَّفَهِ، أُعِيدَ عليه الحَجْرُ. وبه قال القاسِمُ بنُ محمدٍ، ومالِكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يُبْتَدَأُ الحَجْرُ على بالِغٍ عاقِلٍ، وتَصَرُّفُه نافِذٌ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، لأنَّه مُكَلَّفٌ، فلا يُحْجَرُ عليه، كالرَّشِيدِ. ولَنا، ما رَوَى عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ ابْتاعَ بَيعًا، فقال عليٌّ: لآتِيَنَّ عُثْمانَ ليَحْجُرَ عليك. فأتَى عبدُ اللهِ بنُ جَعْفَر الزُّبَيرَ، فقال: قد ابْتَعْتُ بَيعًا، وإنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أن يَأْتِيَ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُثْمانَ فيَسْألَه الحَجْرَ عَلَيَّ. فقال الزُّبَيرُ: أنا شَرِيكُكَ في البَيعِ. فأتَى عليٌّ عُثْمانَ، فقال: إنَّ ابنَ جَعْفَرٍ قد ابْتاعَ بَيعَ كذا، فاحْجُرْ عليه. فقال الزُّبَيرُ: أنا شَرِيكُه في البَيعِ. قال عثمانُ: كيف أحْجُرُ على مَن شَرِيكُه الزُّبَير (¬1)؟ قال أحمدُ: لم أسْمَعْ هذا إلَّا مِن أبي يُوسُف القاضِي. وهذه قَضِيَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُها، ولم يُخالِفْها أحَدٌ في عَصْرِهِم، فتكُونُ إجْماعًا. ولأنَّه سَفِيهٌ، فيُحْجَرٌ عليه، كما لو بَلَغ سَفِيهًا، فإنَّ العِلَّةَ التي اقْتَضَتِ الحَجْرَ عليه إذا بَلَغ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وهو مَوْجُودٌ، ولأنَّ السَّفَهَ لو قارَنَ (¬2) البُلُوغَ مَنَع دَفْعَ مالِه إليه، فإذا حَدَث، أوْجَبَ انْتِزاعَ المالِ، كالجُنُونِ. وفارَقَ الرَّشِيدَ؛ فإنَّ رُشْدَه لو قارَنَ البُلُوغَ لم يَمْنَعْ دَفْعَ مالِه ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الحجر على البالغين بالسفه، من كتاب الحجر. السنن الكبرى 6/ 61. (¬2) في الأصل: «فارق».

1958 - مسألة: (ولا ينظر في ماله إلا الحاكم)

وَلَا يَنْظُرُ في مَالِهِ إلا الْحَاكِمُ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ إلا بِحُكْمِهِ. وَقِيلَ: يَنْفَكُّ بِمُجَرَّدِ رُشْدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه. إذا ثَبَتَ ذلك، فلا يَحْجُرُ عليه إلَّا الحاكِمُ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال محمدٌ: يَصِيرُ مَحْجُورًا عليه بمُجَرَّدِ تَبْذِيرِه؛ لأنَّ ذلك سَبَبُ الحَجْرِ، فأشْبَهَ الجُنُونَ. ولَنا، أنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ، ويُخْتَلَفُ فيه، ويَحْتاجُ إلى الاجْتِهادِ، فإذا افْتَقَرَ السَّبَبُ إلى الاجْتِهادِ، لم يَثْبُتْ إلَّا بحُكْمِ حاكِمٍ، كالحَجْرِ على المُفْلِسِ، وفارَقَ الجُنُونَ، فإنَّه لا يَفْتَقِرُ إلى الاجْتِهادِ، ولا خِلافَ فيه. 1958 - مسألة: (ولا يَنْظُرُ في مالِه إلَّا الحاكِمُ) لأنَّ الحَجْرَ عليه يَفْتَقِرُ إلى الحاكِمِ، فكذلك النَّظرُ في مالِه. 1959 - مسألة: (ولا يَنْفَكُّ عنه الحَجْرُ إلَّا بحُكْمِه) يَعْنِي إذا رَشَدَ احْتاجَ فَكُّ الحَجْرِ إلى حُكْم الحاكِمِ. وبه قال الشافعيُّ (وقيل: يَنْفَكُّ بمُجَرَّدِ رُشْدِه) قاله أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ سَبَبَ الحَجْرِ زال، فيَزُولُ بزَوالِه، كما في حَقِّ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. ولَنا، أنَّه حَجْرٌ ثَبَت بحُكْمِ الحاكِمِ، فلا يَزُولُ إلَّا بحُكْمِه، كالمُفْلِسِ، ولأنَّ الرُّشدَ يَحْتاجُ إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَأَمُّلٍ واجْتِهادٍ في مَعْرِفَتِه وزَوالِ تَبْذِيرِه، فكان كابْتِداءِ الحَجْرِ عليه. وفارَقَ الصَّبِيَّ والمَجْنُونَ، فإنَّ الحَجْرَ عليهما بغيرِ حُكْمِ الحاكِمِ، فنَرُولُ بغيرِ حُكْمِه، ولأنَّنا لو وقَفْنا صِحَّةَ تَصَرُّفِ النّاسِ على الحاكِمِ، كانْ أكْثَرُ النّاسِ مَحْجُورًا عليه. قال أحمدُ: والشَّيخُ الكَبِيرُ يُنْكَرُ عَقْلُه، يُحْجَرُ عليه. يَعْنِي، إذا كَبِر واخْتَلَّ عَقْلُه حُجِر عليه، بمَنْزِلَةِ المَجْنُونِ؛ لأنَّه يَعْجِزُ [بذلك عن] (¬1) التَّصَرُّفِ في مالِه على وَجْهِ المَصْلَحَةِ، وحِفْظِه، فأشْبَهَ الصَّبِيَّ والمَجْنُونَ. ¬

(¬1) في الأصل: «عن ذلك».

1960 - مسألة: (ويستحب إظهار الحجر عليه)

وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيهِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيهِ؛ لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ. وَيَصِحُّ تَزْويجُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ. وَقَال الْقَاضِي: يَصِحُّ مِنْ غَيرِ إِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1960 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ إظْهارُ الحَجْرِ عليه) وأنْ يُشْهِدَ عليه الحاكِمُ؛ ليَظْهَرَ أمْرُه، فتُجْتَنَبَ مُعامَلَتُه. وإن رَأى أن يَأْمُرَ مُنادِيًا يُنادِي بذلك؛ ليَعْرِفَه النّاسُ، فَعَل. ولا يُشْتَرَطُ الإِشْهادُ؛ لأنَّه قد يَنْتَشِرُ أمْرُه لشُهْرَتِه. 1961 - مسألة: (ويَصِحُّ تَزْويجُه بإذْنِ وَلِيِّه) وبغيرِ إذْنِه. وهو قولُ أبِي حَنِيفَةَ. واخْتارَه القاضي. وقال أبو الخَطّاب: لا يَصِحُّ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ يَجِبُ به مالٌ، فلم يَصِحَّ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه، كالشِّراءِ. ووَجْهُ الأوُّلِ أنَّه عَقدٌ غيرُ مالِيٍّ، فصَحَّ منه، كخُلْعِه وطَلاقِه، وإنْ لَزِم منه المالُ، فحُصُولُه بطرَيقِ الضِّمْنِ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن خالعَ، صَحَّ خُلْعُه؛ لأنَّه إذا صَحَّ الطَّلاقُ ولا يَحْصُلُ منه شيءٌ، فالخُلْعُ الذي يَحْصُلُ به المال أوْلَى، إلَّا أنَّ العِوَضَ لا يُدْفَعُ إليه، وإن دُفِع إليه، لم يَصِحَّ قَبْضُه. وقال القاضي: يَصِحُّ. وسَنَذْكُرُ ذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بابِ الخُلْعِ. فإن قُلْنا: لا يَصِحُّ القَبْضُ. فأتْلَفَه بعدَ قَبْضِه، فلا ضَمانَ عليه، ولا تَبْرأُ المرأةُ بدَفْعِه إليه، وهو مِن ضمانِها إن أتْلَفَه أو تَلِف في يَدِه، لأنَّها سَلّطَتْه عليه.

1962 - مسألة: (وهل يصح عتقه؟ على روايتين)

وَهَلْ يَصِحُّ عِتْقُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1962 - مسألة: (وهل يَصِحُّ عِتْقُه؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، لا يَصِحُّ. وهو قولُ القاسِمِ بنِ محمدٍ، والشافعيِّ. والثانيةُ، يَصِحُّ؛ لأنَّه عِتْقٌ مِن مُكَلَّفٍ مالِكٍ تامِّ المِلْكِ، فَصَحَّ، كعِتْقِ الرّاهِنِ والمُفْلِسِ. ولَنا، أنَّه تَصَرُّفٌ في مالِه، فلم يَصِحَّ، كسائِرِ تَصَرُّفاتِه، ولأنَّه تَبَرُّعٌ، فأشْبَهَ هِبَتَه وَوَقْفَه، ولأنَّه مَحْجُورٌ علية لحِفْظِ مالِه عليه، فلم يَصِحَّ، كعِتْقِ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. وفارَقَ المُفْلِسَ والرّاهِنَ؛ فإنَّ الحَجْرَ عليهما لحَقِّ غيرِهما، وفي عِتْقِهما خِلافٌ أيضًا قد ذَكَرْناه. فصل: ويَصِحُّ تَدْبِيرُه، ووَصِيَّتُه؛ لأنَّ ذلك مَحْضُ مَصْلَحَةٍ، لأنَّه تَقَرُّبٌ إلى اللهِ تعالى بمالِه بعدَ غِناه عنه. ويَصِحُّ اسْتِيلادُه، وتَعْتِقُ الأمَةُ المُسْتَوْلَدَةُ بمَوْتِه؛ لأنَّه إذا صَحَّ ذلك مِن المَجْنُونِ، فمِن السَّفِيهِ أوْلَى. وله المُطالبَةُ بالقِصاصِ؛ لأنَّه مَوْضُوع للتَّشَفِّي والانْتِقامِ، وهو مِن أهْلِه. وله العَفْوُ على مالٍ؛ لأنَّه تَحْصِيلٌ للمالِ، لا تَضْيِيعٌ له. وإن عَفا على غيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالٍ، وقُلْنا: الواجبُ القِصاصُ عَينًا. صَحَّ عَفْوُه؛ لأنَّه لم يَتَضَمَّنْ تَضْيِيعَ المالِ. وإن قُلْنا: أحَدُ شَيئَينِ. لم يَصِحَّ عَفْوُه عن المالِ، ووَجَب المالُ، كما لو سَقَط القِصاصُ بعَفْو أحَدِ الشرِيكَينِ. وإن أحْرَمَ بالحَجِّ، صَحَّ؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ [أحْرَمَ بالحَجِّ] (¬1)، أشْبَهَ غيرَه، ولأنَّه عِبادَة، فصَحَّتْ منه، كسائِرِ العِباداتِ. فإن كان أحْرَمَ بفَرْضٍ، دُفِع إليه النَّفَقَةُ مِن مالِه؛ ليُسْقِطَ الفَرْضَ عن نَفْسِه، وإن كان تَطَوُّعًا، وكانت نَفَقَتُه في السَّفَرِ كنَفَقَتِه في الحَضَرِ، دُفِعَتْ إليه (¬2)؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في إحْرامِه. فإن زادت نَفَقَةُ السَّفَرِ، فقال: أنا أكْسبُ تَمامَ نَفَقَتِي. دُفِعَتْ إليه أيضًا؛ لأنَّه لا يَضُرُّ بمالِه، وإن لم يكنْ له كَسْبٌ، فلوَلِيِّه تَحْلِيلُه؛ لِما في مُضِيِّه فيه مِن تَضْيِيع مالِه، ويَتَحَلَّلُ بالصيامِ، كالمُعْسرِ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن التَّصَرُّفِ في مالِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ وَلِيُّه تَحْلِيلَه، بِناءً على العَبْدِ إذا أحْرَمَ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. وإن لَزِمَتْه كَفَّارَةُ يَمِين، أو ظهارٍ، أو قَتْلٍ، أو وَطْءٍ في نهارِ رَمَضانَ، كَفَّرَ بالصِّيامِ؛ لِما ذَكَرْنا. وإن أعْتَقَ أو أطْعَمَ، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن مالِه، أشْبَهَ المُفْلِسَ. وبهذا قال الشافعيُّ. ويَتَخرَّجُ أن يُجْزِئَه العِتْقُ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل، م.

1963 - مسألة: (وإن أقر بحد، أو قصاص، أو نسب، أو طلق زوجته، أخذ به)

وَإنْ أقَرَّ بِحَدٍّ، أوْ قِصَاصٍ، أوْ نَسَبٍ، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أُخِذَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِناءً على قَوْلِنا بصحَّةِ عِتْقِه. وإن نَذَر عِبادَةً بدَنِيَّةً، لَزِمَه فِعْلُها؛ لأنَّه غيرُ مَحْجُورٍ عليه في بَدَنِه (¬1)، وإن نَذَر الصَّدَقَةَ بمالٍ، لم يَصِحَّ منه، وكَفَّرَ بالصِّيامِ. فإن فُكَّ الحَجْرُ عنه قبلَ تَكْفِيرِه في هذه المواضِعِ، لَزِمَه العِتْقُ، إن قَدَر عليه. ومُقْتَضَى قول أصْحابِنا أنَّه يَلْزَمُه الوَفاءُ بنَذْرِه، بناءً على قَوْلِهم في مَن أقرَّ قبلَ فَكِّ الحَجْرِ عنه ثم فُكَّ (¬2) عنه، أنَّه يَلْزَمُه أدَاؤُه، وإن فُكَّ بعدَ تَكْفِيرِه، لم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو كَفَّرَ عن يَمينِه بالصيامِ ثم فُكَّ الحَجْرُ عنه. 1963 - مسألة: (وإن أقَرَّ بحَدٍّ، أو قِصَاصٍ، أو نَسَبٍ، أو طَلَّقَ زَوْجَتَه، أُخِذ به) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المَحْجُورَ عليه لسفَهٍ أو فَلَسٍ، إذا أقرَّ بما يُوجبُ حَدًّا أو قِصاصًا؛ كالزِّنَى، والسَّرِقَةِ، والقَذْفِ، والقَتْلِ، والشُّرْبِ، أو قَطْعِ اليَدِ، وما أشْبَهَهما، فإنَّه يَصِحُّ إقْرارُه، ويَلْزَمُه حُكْمُ ذلك في الحالِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ، على أنَّ إقْرارَ المَحْجُورِ عليه ¬

(¬1) في الأصل: «يده». (¬2) بعده في م: «الحجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَفْسِه جائِزٌ، إذا كان إقْرارُه بزِنًى، أو سَرِقَةٍ، أو شُرْبِ خَمْرٍ، أو قَذفٍ، أو قَتْلٍ، وأنَّ الحُدُودَ تُقامُ عليه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْي، ولا أحْفَظُ عن غيرِهم [خِلافًا لهم] (¬1). وذلك لأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ في حَقِّ نَفْسِه، والحَجْرُ إنَّما تَعَلَّقَ بمالِه، فقُبِلَ إقْرارُه على نَفْسِه بِما لا يَتَعَلَّقُ بالمالِ. وإنْ طَلَّقَ زَوْجَتَه نَفَذَ طَلاقُه، في قولِ الأكْثَرِين. وقال ابنُ أبي لَيلَى: لا يَقَعُ؛ لأنَّ البُضْعَ يَجْرِي مَجْرَى المالِ، بدَلِيلِ أنَّه يَمْلِكُه بمالٍ، ويَصِحُّ أن يَزُولَ مِلْكُه عنه بمالٍ، فلم يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فيه، كالمالِ. ولَنا، أنَّ الطَّلاق ليس بتَصَرُّفٍ في المالِ، ولا يَجْرِي مَجْراه، فلا يُمْنَعُ منه، كالإِقْرارِ منه بالحَدِّ والقِصاصِ. ودَلِيلُ أنَّه لا يَجْرِي مَجْرَى المال، أنَّه يَصِحُّ مِن العَبْدِ بغَيرِ إذْنِ سَيِّدِه مع مَنْعِه مِن التَّصَرُّفِ في المالِ، ولأنَّه مُكَلَّفٌ طَلَّقَ امْرَأتَه مُخْتارًا، فوَقَعَ طَلاقُه، كالعَبْدِ والمكاتَبِ. فصل: وإن أقَرَّ بما يُوجِبُ القِصاصَ، فعَفا المُقَرُّ له على مالٍ، احْتَمَلَ أن يَجِبَ المالُ؛ لأنَّه عَفْوٌ عن قِصاصٍ ثابِتٍ، فصَحَّ، كما لو ثَبَت بالبَيِّنَةِ. واحْتَمَلَ أن لا يَصِحَّ؛ لئَلَّا يُتَّخَذَ ذلك وَسِيلَةً إلى الإِقْرَارِ بالمالِ، بأن يَتَواطَأَ ¬

(¬1) في م: «خلافهم».

1964 - مسألة؛ قال: (وإن أقر بمال، لم يلزمه في حال حجره. ويحتمل أن لا يلزمه مطلقا)

وَإنْ أقَرَّ بِمَالٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ في حَالِ حَجْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَلْزَمَهُ مُطْلَقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَحْجُورُ عليه والمُقَرُّ له على الإِقْرارِ بالقِصاصِ، والعَفْو عنه إلى مالٍ، ولأنَّه وُجُوبُ مالٍ مُسْتَنَدُه إقْرارُه، فلم يَثْبُتْ، كالإِقْرارِ به ابْتِداءً. فعلى هذا القولِ، يَسْقُطُ القِصاصُ، ولا يَجِبُ المالُ في (¬1) الحالِ. فصل: وإن أقَرَّ بنَسَبِ وَلَدٍ، قُبِل منه؛ لأنَّه ليس بإقْرارٍ بمالٍ، ولا تَصَرُّفٍ فيه، فقُبِلَ، كإقْرارِه بالحَدِّ والطَّلاقِ. وإذا ثَبَت النَّسَبُ، لَزِمَتْه أحْكامُه مِن النَّفَقَةِ وغيرِها؛ لأنَّ ذلك حَصَل ضِمْنًا لِما صَحَّ منه، فأشْبَهَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ. 1964 - مسألة؛ قال: (وإن أقَرَّ بمالٍ، لم يَلْزَمْه في حالِ حَجْرِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه مُطْلَقًا) إذا أقَرَّ السَّفِيهُ بمالٍ، كالدَّينِ، أو ما يُوجِبُه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كجِنايَةِ الخَطَأ وشِبْهِ العَمْدِ، وإتْلافِ المالِ، وغَصْبِه، وسَرِقَتِه، لم يُقْبَلْ إقْرارُه به؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه لحَظِّه، فأشْبَهَ الصَّبِيَّ والمَجْنُونَ. ولأنّا لو قَبِلْنا إقْرارَه في مالِه لزالتْ فائِدَةُ الحَجْرِ؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ في مالِه، ثمّ يُقِرُّ به، فيَأْخُذُه المُقَرُّ له. ولأنَّه أقَرَّ بما هو مَمْنُوعٌ مِن التَّصَرُّفِ فيه، فلم يَنْفُذْ، كإقْرارِ الرّاهِنِ على الرَّهْنِ، والمُفْلِسِ على المالِ. وظاهِرُ قولِ الأصْحابِ، أنّه يَلْزَمُه ما أقَرَّ به بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، واخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ أقرَّ بما لا (¬1) يَلْزَمُه في الحالِ، فلَزِمَه بعد فَكِّ الحَجْرِ عنه، كالعَبْدِ يُقِرُّ بالدَّينِ، وكإقْرارِ الرّاهِنِ على الرَّهْنِ، وكإقْرارِ المُفْلِسِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ إقْرَارُه، ولا يُؤْخَذَ به (¬2) في الحُكْمِ بحالٍ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه مَحْجُورٌ عليه لعَدَمِ رُشْدِه، فلم يَلْزَمْه حُكْمُ إقْرارِه بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. ولأنَّ (¬3) المَنْعَ مِن نُفُوذِ (¬4) إقْرارِه في الحالِ، إنَّما ثَبَت لحِفْظِ مالِه عليه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «لا». (¬4) سقط من: الأصل.

1965 - مسألة: (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون)

وَحُكْمُ تَصَرُّفِ وَلِيِّهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ وَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ودَفْعِ الضَّرَرِ عنه، فلو نَفَذ بعدَ فَكِّ الحَجْرِ عنه، لم يُفِدْ إلَّا تَأْخِيرَ الضَّررِ عليه إلى أكْمَلِ حالتَيه. وفارَقَ المَحْجُورَ عليه لحَقِّ غَيرِه، فَإنَّ المانِعَ تَعَلُّقُ حَقِّ الغُرَماءِ بمالِه، فيَزُولُ المانِعُ بزَوالِ الحَقِّ عن مالِه، فَيَثْبُتُ مُقتَضَى إقْرارِه. وفي مَسْألَتِنا انْتَفَى الحُكْمُ لخَلَلٍ في الإِقْرارِ، فلم يَثْبُتْ كَوْنُه سَبَبًا، وبزَوالِ الحَجْرِ لم يَكْمُلِ السَّبَبُ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ مع اخْتِلالِ السَّبَب، كما [لم يَثْبُتْ قبلَ] (¬1) فَكِّ الحَجْرِ. ولأنَّ الحَجْرَ لحَقِّ الغَيرِ لم يَمْنَعْ تَصَرُّفَهم في ذِمَمِهم، فأمْكَنَ تَصْحِيحُ إقْرارِهم في ذِمَمِهم على وَجْهٍ لا يَضُرُّ بغيرِهم، والحَجْرُ ههُنا لحَظِّ نفْسِه مِن أجْلِ ضَعْفِ عَقْلِه (¬2) وسُوءِ تَصَرُّفِه، ولا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ إلَّا بإبْطالِ إقْرارِه بالكُلِّيَّةِ، كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. فأمّا صِحَّتُه فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فإن عَلِم صِحَّةَ ما أقَرَّ به، كدَين لَزِمَه مِن جِنايَةٍ، أو دَين لَزِمَه قبلَ الحَجْرِ عليه، فعليه أداؤُه؛ لأنَّه عَلِم أنَّ عليه حَقًّا، فلَزِمَه أداؤُه، كما لو لم يُقِرَّ به. وإن عَلِم فَسَادَ إقْرارِه، مثلَ أن عَلِم أنَّه أقَرَّ بدَينٍ ولا دَينَ عليه، أو بجِنايَةٍ لم تُوجَدْ منه، أو أقَرَّ بما لا يَلْزَمُه، مثلَ أن أتْلَفَ مال مَن دَفَعَه إليه بقَرْض أو بَيع، لم يَلْزَمْه أداؤُه؛ لأنَّه يَعْلَمُ أنَّه لا دَينَ عليه، فلم يَلْزَمْه، كما لو لم يُقِرَّ به. 1965 - مسألة: (وحُكْمُ تَصَرُّفِ وَلِيِّه حُكْمُ تَصَرُّفِ وَلِيِّ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ) على ما ذَكَرْنَا مِن قبلُ؛ لأنَّهُ مَحْجُورٌ عليه لحَظه، فهو كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. ¬

(¬1) في م: «لا يثبت بعد». (¬2) في م: «قلبه».

1966 - مسألة؛ قال الشيخ، رحمه الله: (وللولي أن يأكل من مال المولى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه)

فَصْلٌ: وَلِلْوَلِيِّ أنْ يَأْكلَ مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1966 - مسألة؛ قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وللوَلِيِّ أن يَأْكلَ مِن مالِ المُوَلَّى عليه بقَدْرِ عَمَلِه إذا احْتاجَ إليه) وإن كان غَنِيًّا لم يَجُزْ له ذلك إذا لم يكنْ أبًا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وإذا كان فَقِيرًا، فله أقَلُّ الأمْرَينِ؛ مِن أُجْرَتِه أو قَدْرِ كِفايَتِه؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّه بالعَمَلِ والحاجَةِ جَمِيعًا، فلم يَجُزْ أن يَأْخُذَ إلَّا ما وُجِدا فيه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَأْكلُ وإن كان غنِيًّا، قِياسًا على العَمَلِ في الزكاةِ، والآيَةُ مَحْمُولَةٌ على الاسْتِحْبابِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لظاهِرِ الآيَةِ. ¬

(¬1) سورة النساء 6.

1967 - مسألة: (وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين)

وَهَلْ يَلْزَمُهُ عِوَضُ ذَلِكَ إِذَا أَيسَرَ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1967 - مسألة: (وهل يَلْزَمُه عِوَضُ ذلك إذا أيسَرَ؟ على رِوايَتَين) أمّا إذا كان أبًا، فلا يَلْزَمُه، رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّ للأبِ أن يَأْخُذَ

1968 - مسألة: (وكذلك يخرج في الناظر في الوقف)

وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ في النَّاظِرِ في الْوَقْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن مالِ وَلَدِه ما شاء مع الحاجَةِ وعَدَمِها. وإن كان غيرَ الأبِ، لم يَلْزَمْهُ عِوَضُ ذلك في إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وهذا قولُ الحَسَنِ، والنَّخَعِيِّ، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بالأكْلِ مِن غيرِ ذِكْرِ عِوَضٍ فأشْبَهَ سائِرَ ما أمَرَ بأكْلِه، ولأنَّه عِوَضٌ عن عَمَلِه، فلم يَلْزَمْه بَدَلُه، كالأجِيرِ والمُضارِبِ. والثانيةُ، يَلْزَمُه عِوَضُه. وهو قولُ عَبِيدَةَ السَّلْمانِيِّ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وأبي العالِيَةِ؛ لأنَّه اسْتبَاحَةٌ بالحاجَةِ مِن مال غيرِه، فلَزِمَه قَضاؤُه، كالمُضْطرِّ إلى طَعامِ غيرِه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأَنَّه لو وَجَب عليه إذا أيسَرَ، لكان واجِبًا في الذِّمَّةِ قبلَ اليَسارِ، فإنَّ اليَسارَ ليس سَبَبًا للوُجُوبِ، فإذا لم يَجِبْ بالسَّبَبِ الذي هو الأكْلُ، لم يَجِبْ بعدَه. وفارَقَ المُضْطَرَّ؛ فإنَّ العِوَضَ واجِبٌ عليه في ذِمَّتِه، ولأنَّه لم يَأْكُلْه عِوَضًا عن شيءٍ، وهذا بخِلافِه. 1968 - مسألة: (وكذلك يُخَرَّجُ في النّاظِرِ في الوَقْفِ) قِياسًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه.

1969 - مسألة: (ومتى زال الحجر، فادعى على الولي تعديا أو ما يوجب ضمانا، فالقول قول الولي)

وَمَتَى زَال الْحَجْرُ، فَادَّعَى عَلَى الْوَلِيِّ تَعَدِّيًا، أو مَا يُوجبُ ضَمَانًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1969 - مسألة: (ومتى زال الحَجْرُ، فادَّعَى على الوَلِيِّ تَعَدِّيًا أو ما يُوجِبُ ضَمانًا، فالقولُ قولُ الوَلِيِّ) إذا ادَّعَى الوَلِيُّ الإِنْفاقَ على الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، أو على مالِه أو عقارِه بالمَعْرُوفِ مِن مالِه، أو ادَّعَى أنَّه باع عَقارَه لحظِّهِ، أو بَناه لمَصْلَحَتِه، أو أنَّه تَلِف، قُبِل قَوْلُه. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: لا يُمْضِي الحاكِمُ بَيعَ الأمِينِ والوَصِيِّ حتى يَثْبُتَ عندَه الحَظُّ ببَيِّنةٍ، ولا يُقْبَلُ قَوْلُهما في ذلك، ويُقْبَلُ قولُ الأبِ والجَدِّ. ولَنا، أنَّ مَن جاز له بَيعُ العَقارِ وشراؤُه لليَتِيمِ، يَجِبُ أن يُقْبَلَ قَوْلُه. في الحَظِّ، كالأبِ والجَدِّ. ولأنَّه يُقْبَلُ قَوْلُه في عَدَمِ التَّفْرِيطِ فيما تَصَرَّفَ فيه مِن غيرِ العَقارِ، فيُقْبَلُ قَوْلُه في العَقارِ، كالأبِ. وإذا بَلَغ الصَّبِيُّ فادَّعَى أنَّه لا حَظَّ له في البَيعِ، لم يُقْبَلْ إلَّا ببَيِّنةٍ، فإن لم تَكُنْ بَيِّنة، فالقولُ قولُ الوَلِيِّ مع يَمِينِه. وإن قال الوَلِيُّ: أنْفَقْتُ عليك منذُ ثَلاثِ سِنِين. وقال الغُلامُ: إنَّما مات أبي منذُ سَنَتَين. فقال القاضي: القولُ قولُ الغُلامِ؛ لأنَّ الأصْلَ حَياةُ والِدِه، واخْتِلافَهما في أمْر ليس الوَصِيُّ أمِينًا فيه، فقُدم قولُ مَن يُوافِقُ قَوْلُه الأصْلَ.

1970 - مسألة: (وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده)

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ في دَفْعِ الْمَالِ إِلَيهِ بَعْدَ رُشْدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1970 - مسألة: (وكذلك القولُ قَوْلُه في دَفْعِ المالِ إليه بعدَ رُشْدِه) لأنَّه أمِينٌ، فأشْبَهَ المُودَعَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ القولَ قولُ الصَّبِيِّ، لأنَّ الأصْلَ معه، ولأنَّ اللهَ سبحانه قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيهِمْ} (¬1). فمَن تَرَكَ الإشْهادَ، فقد فَرَّطَ، فلَزِمَه الضَّمانُ. والأوَّلُ المَذْهَبُ. وكذلك الحُكْمُ في المَجْنُونِ والسَّفِيهِ. ¬

(¬1) سورة النساء 6.

1971 - مسألة: (وهل للزوج أن يحجر على وامرأته في التبرع بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين)

وَهَلْ لِلزَّوْجِ أنْ يَحْجُرَ عَلَى امْرَأتِهِ في التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1971 - مسألة: (وهل للزَّوْجِ أن يَحْجُرَ على وامْرَأتِه في التَّبَرُّعِ بما زاد على الثُّلُثِ مِنِ مالِها؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، ليس له الحَجْرُ عليها. وهو قولُ أبي حَنِيفةَ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. والثانيةُ، ليس لها أن تَتَصَرَّفَ في مالِها بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ عِوَضٍ، إلَّا بإذْنِ زَوْجِها. وبه قال مالِكٌ. وحُكِيَ عنه في امرأةٍ حَلَفَتْ بعِتْقِ جارِيَةٍ لها (¬1) ليس لها غيرُها، فحنِثَتْ، ولها زَوْجٌ، فرَدَّ ذلك عليها زَوْجُها، قال: له أن يَرُدَّ عليها، وليس لها عِتْقٌ؛ لِما رُوِيَ أنَّ امرأةَ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بحُلِيٍّ لها، فقال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجُوزُ للمَرْأةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَلِ اسْتَأْذَنتِ كَعْبًا؟». فقالت: نعم. فبَعَثَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى كَعْبٍ فقال: «هَلْ أذِنْتَ لَهَا أنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّها؟». فقال: نعم. فقَبِلَه. رَواه ابنُ ماجه (¬2). ورَوَى أيضًا عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبَةٍ خَطَبَها: «لَا يَجُوزُ لِامْرَأةٍ عَطِيَّةٌ في مَالِهَا إلَّا بإذْنِ زَوْجهَا، إذْ هُوَ مَالِكُ عِصْمَتِهَا» (¬3). رَواه أبو داودَ، ولَفْظُه عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَجُوزُ لامْرَأةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بإذْنِ زَوْجها». ولأنَّ حقَّ الزَّوجِ مُتَعَلِّقٌ بمالِها، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُنْكَحُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 798. (¬3) في الموضع السابق. سنن ابن ماجه 2/ 798. وأبو داود، في: كتاب في عطية المرأة بغير إذن زوجها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 263 - كما أخرجه النسائي، في: باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، من كتاب الزكاة، وفي الباب نفسه، من كتاب العمرى. المجتبى 5/ 49، 6/ 236. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179، 184، 207، وبلفظ قرب في 2/ 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمَرْأَة لِمَالِها وَجَمَالِها وَدِينِهَا» (¬1). والعادَةُ أنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ في مَهْرِها مِن أجْلِ مالِها، ويَتَبَسَّطُ فيه، ويَنْتَفِعُ به، وإذا أعْسَرَ بالنَّفَقَةِ أنْظَرَتْه، فجَرَى ذلك مَجْرَى حُقُوقِ الوَرَثَةِ المُتَعَلِّقَةِ بمالِ الفرِيضِ. ولَنا، قَوْلُه تَعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ} (¬2). وهو ظاهِرٌ في فَكِّ الحَجْرِ عنهم وإطْلاقِهم في التَّصَرُّفِ، وقد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ». وأنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ، ولم يَسْألْ ولا اسْتَفْصَلَ. وأتَتْه زَينَبُ امرأةُ عبدِ اللهِ، وامرأةٌ أُخْرَى اسْمُها زَينَبُ، فَسألَتْه عن الصَّدَقَةِ، هل يُجْزِئُهُنَّ أنْ يَتَصَدَّقْنَ على أزْواجِهِنَّ، وأيتامٍ لَهُنَّ؟ فقال: «نَعَمْ» (¬3). ولم يَذْكُرْ لَهُنَّ هذا الشَّرْطَ. ولأنَّ مَن وَجَب دَفْعُ مالِه إليه لرُشْدِه، جاز له التَّصَرُّفُ فيه مِن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الأكفاء في الدين. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 9. ومسلم، في: باب استحباب نكاح ذات الدين، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1086، 1087. وأبو داود، في: باب ما يؤمر به من تتزويج ذات الدين، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 472. والترمذي، في: باب ما جاء أن المرأة تنكح على ثلاث خصال، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 4/ 306. والنسائي، في: باب على ما تنكح المرأة، وباب كراهية تزويج الزناة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 54، 56. وابن ماجه، في: باب تزويج ذات الدين، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 597. والدارمي، في: باب تنكح المرأة على أربع، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 134. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 428، 3/ 80، 81، 6/ 152. (¬2) سورة النساء 6. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ إذْنٍ، كالغُلامِ، ولأنَّ المرأةَ مِن أهْلِ التَّصَرُّفِ، ولا حَقَّ لزَوْجِها في مالِها، فلم يَمْلِكِ الحَجْرَ عليها في التَّصَرُّفِ بجَمِيعِه، كأخِيها (¬1). وحَدِيثُهم ضَعِيفٌ، وشُعَيبٌ لم يُدْرِكْ (¬2) عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو، فهو مُرْسَلٌ. ويُمْكِنُ حَمْلُه على أنَّه لا يجُوزُ عَطِيَّتُها مِن [مالِه بغيرِ -إذْنِه، بدَلِيلِ أنَّه يَجُوزُ عَطِيَّتُها] (¬3) فيما (¬4) دُونَ الثُّلُثِ مِن مالِها، وليس معهم حديثٌ يَدُلُّ على تَحْدِيدِ المَنْعِ بالثُّلُثِ، والتَّحْدِيدُ بذلك تحَكُّمٌ ليس فيه تَوْقِيفٌ ولا عليه دَلِيلٌ. ولا يَصِحُّ قِياسُهم على المَرِيضِ؛ لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ المَرَضَ سَبَبٌ يفْضِي إلى وُصُولِ المالِ إليهم بالمِيراثِ، والزَّوْجِيَّةُ إنَّما تَجْعَلُه مِن أهْلِ المِيراثِ فهي أحَدُ وَصْفَيِ العِلُّةِ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ بمُجَرَّدِها، كما لا يَثْبُتُ للمرأةِ الحَجْرُ على زَوْجِها، ولا لسائِرِ الوُرّاثِ بدُونِ المَرَضِ. الثانِي، أنَّ تَبَرُّعَ المَرِيضِ مَوْقُوفٌ، فإن بَرِئَ مِن مَرَضِه صَحَّ تَبَرُّعُه، وههُنا أبْطَلُوه على كلِّ حالٍ، والفَرْعُ لا يَزِيدُ على أصْلِه. الثالِثُ، أنَّ ما ذَكَرُوه مُنْتَقِضٌ بالمرأةِ، فإنَّها تَنْتَفِعُ بمالِ ¬

(¬1) في م: «كأختها». (¬2) في الأصل، م: «يذكر». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، ر، ق، م: «ما».

فصْلٌ فِي الإذْنِ: يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوْجِها، وتَتَبَسَّطُ فيه عادَةً، ولها النَّفَقَةُ منه، وانْتِفاغها بمالِه أكْثَرُ مِن انْتِفاعِه بمالِها، وليس لها الحَجْرُ عليه، على أنَّ هذا المَعْنَى ليس بمَوْجُودٍ في الأصْلِ، ومِن شَرْطِ صِحَّةِ القِياسِ وجُودُ المَعْنَى المُثْبِتِ للحُكْمِ في الأصْلِ والفَرْعِ جَمِيعًا. فصلٌ في الإِذْنِ: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (يَجُوزُ لوَلِيِّ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ أن يَأْذَنَ له في التِّجارَةِ، في إحْدَى الروايَتَين) ويَصِحُّ تَصَرُّفُه بالإِذْنِ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ. والثانِيةُ؛ لا يَصِحُّ حتى يَبْلُغَ. وهو قولُ الشافعيِّ، لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، أشْبَهَ غيرَ المُمَيِّزِ. ولأنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُ الوُقُوفُ منه على الحَدِّ الذي [يَصْلُحُ به للتَّصَرُّفِ] (¬1)؛ لخَفائِه، وتَزايُدِه تَزايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ، فجعَلَ الشارِعُ له ضابِطًا، وهو البُلُوغُ، فلا تَثْبُتُ له أحْكامُ العُقَلاءِ قبلَ وُجُودِ المَظنةِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ}. ومَعْناه اخْتَبِرُوهم لتَعْلَمُوا رُشْدَهم. وإنَّما يَتَحَقَّقُ اخْتِبارُهم ¬

(¬1) في الأصل: «يصح به التصرف».

1972 - مسألة: (ويجوز ذلك لسيد العبد)

وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ. وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا الْحَجْرُ، إلا فِيمَا أُذِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَفْويضِ التَّصَرُّفِ إليهم، مِن البَيعِ والشِّراءِ؛ ليُعْلَمَ هل يُغْبَنُ أم لَا. ولأنَّه عاقِلٌ مُمَيِّز مَحْجُور عليه، فصَحَّ تصَرُّفُه بإذْنِ وَلِيِّه، كالعَبْدِ. وفارَقَ غيرَ المُمَيِّزِ، فإنَّه لا تَحْصُلُ المَصْلَحَةُ بتَصَرُّفِه؛ لعَدَمِ تَمْيِيزِه ومَعْرِفَتِه، ولا حاجَةَ إلى اخْتِبارِه؛ لأنَّه قد عُلِم حالُه. وقَوْلُهم: إنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عليه. قُلْنا: يُعْلَمُ ذلك بآثارِه وجَرَيانِ تَصَرُّفاتِه على وَفقِ المَصْلَحَةِ، كما يُعْلَمُ في حَقِّ البالِغِ، فإنَّ مَعْرِفَةَ رُشْدِه شَرْطُ دَفعِ مالِه إليه وصِحَّةِ تَصَرُّفِه، [كذا ههُنا. فإن تَصَرَّفَ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه، لم يَصِحَّ تَصَرُّفُه] (¬1). ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ، ويَقِفَ على إجازَةِ الوَلِيِّ. وهو قولُ أبي حَنِيفَةَ. ومَبْنَى ذلك على ما إذا تَصَرَّفَ في مالِ غيرِه بغيرِ إِذْنِه، وقد ذَكَرْناه فيما مَضَى. 1972 - مسألة: (ويَجُوزُ ذلك لسَيِّدِ العَبْدِ) بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ الحَجْزَ عليه إنَّما كان لحَقِّ السَّيِّدِ، فجاز له التَّصَرُّفُ بإذْنِه؛ لزَوالِ المانِعَ. 1973 - مسألة: (ولا يَنْفَكُّ عنهما الحَجْرُ، إلَّا فيما أُذِنَ لهما فيه، ¬

(¬1) سقط من: م.

لَهُمَا فِيهِ، وَفِي النَّوْعِ الَّذِي أُمِرَا بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي النَّوْعِ الذي أُمِرا به) لأنَّ تَصَرُّفَه إنَّما جاز بإذِن وَلِّيه وسَيِّدِه، فزال الحَجْرُ في قَدْرِ ما أذِنا فيه دُونَ غيرِه كالتَّوْكِيلِ. فإن دَفَع السَّيِّدُ إلى عَبْدِه مالًا يَتَّجرُ فيه، كان له أن يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ ويَتَّجِرَ به. وإن أذِنَ له أن يَشْتَرِي في ذِمَّتِه، جاز. وإن عيَّنَ له نوْعًا مِن المالِ يَتَّجِرُ فيه، لم يَكُنْ له أنْ يَتَّجِرَ في غيرِه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أن يَتَّجِرَ في غيرِه، ويَنْفَكُّ عنه الحَجْرُ مُطْلَقًا؛ لأنَّ إذنه إطْلاقٌ مِن الحَجْرِ وفَكٌّ له (¬1)، والإِطْلاقُ لا يَتَبَعَّضُ، كبُلُوغِ الصَّبِيِّ. ولَنا، أنَّه مُتَصَرِّفٌ بالإذْنِ مِن جِهَةِ الآدَمِيِّ، فوَجَبَ أن يَخْتَصَّ ما أذِنَ له فيه، كالوَكِيلِ والمُضارِبِ، وما قاله يَنْتَقِضُ بما إذا أذِنَ له في شِراءِ ثَوْبٍ ليَلْبَسَه، أو طَعام ليَأْكُلَه. ويُخالِفُ البُلُوغَ؛ فإنَّه يَزُولُ به المَعْنَى المُوجِبُ للحَجْرِ، فإنَّ البُلُوغَ مَظِنَّةُ كَمالِ العَقْلِ الذي يَتَمَكَّنُ به مِن التَّصَرُّفِ على وَجْهِ المَصْلَحَةِ، وههنا الرِّقُّ سَبَبُ الحَجْرِ، وهو مَوْجُودٌ، فنَظِيرُ البُلُوغِ في الصَّبِيِّ العِتْقُ للعَبْدِ، وإنَّما يَتَصَرَّفُ العَبْدُ بالإِذْنِ، ألا تَرَى أنَّ الصَّبِيَّ يَسْتَفِيدُ بالبُلُوغِ قَبُولَ النِّكاحِ، بخِلافِ العَبْدِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1974 - مسألة: (وإن أذن له في جميع أنواع التجارة، لم يجز أن يؤجر نفسه، ولا يتوكل لغيره)

وَإنْ أُذِنَ لَهُ فِي جَمِيعِ أنْوَاع التِّجَارَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يُؤجِرَ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ لِغَيرِهِ. وَهَلْ لَهُ أنْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1974 - مسألة: (وإن أُذِنَ له في جَمِيعِ أنْواعِ التجارَةِ، لم يَجُزْ أن يُؤْجِرَ نَفْسَه، ولا يَتَوَكَّلَ لغيرِه) وبه قال الشافعيُّ. وَجَوَّزَهما أبو حَنِيفَةَ؛ لأَنه يَتَصَرَّفُ لنَفْسِه (¬1)، فمَلَكَ ذلك، كالمُكاتَبِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ على نَفْسِه، فلا يَمْلِكُه بالإذْنِ في التجارَةِ، كبَيعِ نَفْسِه وتَزْويجِه، وقَوْلُهم: يَتَصَرَّفُ لنَفْسِه. مَمْنُوعٌ، إنما يَتَصَرَّفُ لسَيِّدِه، وبهذا فارَقَ المُكاتَبَ؛ فإنَّ المُكَاتَبَ يَتَصَرَّفُ لنَفْسِه، ولهذا كان له أنْ يَبِيعَ مِن سَيِّدِه. 1975 - مسألة: (وهل له أن يُوَكِّلَ فيما يَتَوَلَّى مِثْلَه بنَفْسِه؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه تَصَرفٌ بالإذْنِ، فاخْتَصَّ بما أُذِنَ فيه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1976 - مسألة: (وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه، لم يصر مأذونا له)

وَإنْ رَآهُ سَيِّدُهُ أوْ وَلِيُّهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَصِرْ مَأْذُونًا لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُؤْذَنْ له في التَّوْكِيلِ. والثانيةُ، يَجُوزُ؟ لأنَّهم يَمْلِكُون التَّصَرُّفَ بأنْفُسِهم، فمَلَكُوه بِنائِبِهم، كالمالك الرَّشِيدِ، ولأنَّه أقامَه مُقامَ نَفْسِه. 1976 - مسألة: (وإن رَآه سَيِّدُه أو وَلِيُّه يَتَّجِرُ فلم يَنْهَه، لم يَصِرْ مَأْذُونًا له) وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ، في العَبْدِ: يصيرُ مَأْذُونًا له؟ لأنَّه سَكَت عن حَقِّه، فكان مُسْقِطًا له، كالشَّفِيعِ إذا سَكَت عن طَلَبِ الشُّفْعَةِ. ولَنا، أنَّه تَصَرُّفٌ يَفْتَقِرُ إلى الإِذْنِ، فلم يَقُمِ السُّكُوتُ مَقامَ الإذْنِ، كما لو باع الرّاهِنُ الرَّهْنَ والمُرْتَهِنُ ساكِتٌ، أو باعَه المُرْتَهنُ والرّاهِنُ ساكِتٌ، وكتَصَرُّفاتِ الأجانِب. ويُخالِفُ الشُّفْعَةَ؟ فإنَّها تَسْقُطُ بمُضِيِّ الزَّمانِ إذا عَلِم؟ لأنَّها على الفَوْرِ.

1977 - مسألة: (وما استدان العبد، فهو في رقبته، يفديه سيده أو يسلمه. وعنه، يتعلق بذمته، يتبع به بعد العتق، إلا المأذون له، هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين)

وَمَا اسْتَدَانَ الْعَبْدُ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ، يَفْدِيهِ سَيِّدُهُ أو يُسَلِّمُهُ. وَعَنْهُ، يَتَعَلَّقُ بذِمَّتِهِ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، إلا الْمَأْذُونَ لَهُ، هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ ذِمَّةِ سَيِّدِهِ؛ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1977 - مسألة: (وما اسْتَدانَ العَبْدُ، فهو في رَقَبَتِه، يَفْدِيه سَيِّدُه أو يُسَلِّمُه. وعنه، يَتَعَلَّقُ بذِمَّتِه، يُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ، إلَّا المَأْذُونَ له، هل يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه أو ذِمَّةِ سَيدِه؟ على رِوايَتَين) يقال: ادّانَ واسْتدانَ وتَدايَنَ بمَعْنًى. والعَبْدُ قِسْمان؛ مَحْجُورٌ عليه، فما لَزِمَهُ مِن الدَّينِ بغيرِ رِضا سَيِّدِه، مثلَ أن يَقْتَرِضَ ويَشْتَرِيَ شيئًا في ذِمَّتِه، ففيه رِوايَتان؛ إحْدَاهما، يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه. اخْتارَها الخِرَقِيُّ، وأبو بكرٍ؛ لأَنه دَينٌ لَزِمَه بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، فتعَلَّقَ برَقَبَتِه، كالإتْلافِ. والثانيةُ، يَتَعَلَّقُ بذِمَّتِه، يَتْبَعُه الغَرِيمُ به إذا عَتَق وأيسَرَ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأَنه مُتَصَرِّفٌ في ذِمَّتِه بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، فتَعَلَّقَ بذِمَّتِه، كعِوَضِ الخُلْعِ مِن الأمَةِ، وكالحُرِّ. القِسْمُ الثانِي، المأْذُونُ له في التَّصَرُّفِ أو في الاسْتِدانَةِ، فما يَلْزَمُه مِن الدَّين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هل يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، أو ذِمَّةِ سَيِّدِه؟ على رِوايَتَينْ؛ إحْداهما، يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه. وهو ظاهِرُ قولِ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّه قال: يُباعُ إذا طالبَ الغُرَماءُ ببَيعِه. وهذا مَعْناه أنه يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه؛ لأنَّه دَينٌ ثَبَت برِضا مَن له الدَّينُ (¬1)، فيُباعُ فيه، كما لو رَهَنَه. والثانيةُ، يَتَعَلَّقُ بذِمَّةِ السَّيِّدِ. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، يَلْزَمُ مَوْلاه جَمِيعُ ما ادَّانَ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ: إن كان في يَدِه مالٌ، قُضِيَتْ دُيُونُه منه، وإن لم يَكُنْ في يَدِه شيءٌ، تَعَلَّقَ بذِمَّتِه، يُتْبَعُ به إذا عَتَق وأيسَرَ؛ لأنَّه دَين ثَبَت برِضا مَن له الدينُ، أشْبَهَ غيرَ المَأذُونِ، أو فوَجَبَ أن لا يَتَعَلَّقَ برَقَبَتِه، كما لو اقْتَرَضَ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّه إذا أَذِنَ له في التِّجارَةِ، فقد أغْرَى النَّاسَ بمُعامَلَتِه وأذِنَ فها، فصار ضامِنًا، كما لو قال لهم: دايِنُوه. أو أذِنَ في اسْتِدانَةٍ تَزِيدُ على قِيمَتِه. ولا فَرْقَ بين الدَّين الذي لَزِمَه في التِّجَارَةِ المَأْذُونِ فيها، أو فيما لم يُؤذَنْ له فيه، مثلَ أن أَذِنَ له في التِّجارَةِ في البُرِّ (¬2)، فاتَّجَرَ في غيرِه، فإنَّه لا يَنْفَكُّ عن التَّغْرِيرِ، إذ يَظُنُّ النّاسُ أنَّه مَأذُونٌ له في ذلك أيضًا. ¬

(¬1) في م: «الحين». (¬2) في ر: «البز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا أُرُوشُ جِناياتِه، وقِيَمُ مُتْلَفاتِه، فهي مُتَعَلِّقة برَقَبَةِ العَبْدِ، سَواءٌ كان مَأْذُونًا له أو لا، رِوايَةً واحِدَةً. وبه يَقُولُ أبو حَنِيفَةَ، والشافعيُّ. وكلُّ ما تَعَلَّقَ برَقَبَةِ العَبْدِ خُيِّرَ السَّيِّدُ (¬1) بينَ تَسْلِيمِه للبَيعِ (¬2) وبينَ فِدائِه، فإذا بِيعَ، وكان ثَمَنُه أقَلَّ ممّا عليه، فليس لرَبِّ الدَّينِ إلَّا ذلك؛ لأنَّ العَبْدَ هو الجانِي، فلم يَجِبْ على غَيرِه شيءٌ. وإن كان ثَمَنُه أكْثَرَ، فالفَضْلُ للسَّيِّدِ. وذَكَر القاضي أنَّ ظاهِرَ كَلامِ أحمدَ، أنَّ السَّيِّدَ لا يَرْجِعُ بالفَضْلِ. ولَعَلَّه يَذْهَبُ إلى أنَّه دَفَعَه إليه عِوَضًا عن الجِنايَةِ، فلم يَبْقَ لسَيِّدِه فيه شيءٌ، كما لو مَلَّكَه إيَّاه عِوَضًا عن الجِنايَةِ. وليس هذا صَحِيحًا؛ فإنَّ المَجْنِيَّ عليه لا يَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِن قَدْرِ أَرْشِ الجِنايَةِ عليه، ¬

(¬1) في الأص: «المشترى». (¬2) في م: «للمبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كما لو جَنَى عليه حُرٌّ، والجانِي لا يَجِبُ عليه أكْثَرُ مِن أَرْشِ جِنايَتِه، ولأنَّ الحَقَّ تَعَلَّقَ بعَينه، فكان الفَضْلُ مِن ثَمَنِه لسَيِّدِه، كالرَّهْنِ. ولا يَصِحُّ قَوْلُهم: إنّه دَفَعَه عِوَضًا؛ لأنه لو كان عِوضًا، لمَلَكَه المَجْنِيُّ عليه، ولم يُبَعْ في الجِنايَةِ، وإنّما دَفَعَه ليُبَاعَ فيُؤخَذَ منه عِوَضُ الجِنايَةِ ويُرَدَّ إليه الباقِي، ولذلك لو أتْلَفَ دِرْهَمًا، لم يَبْطُلْ حَقُّ سَيِّدِه منه بذلك. وإن عَجَز عن أداءِ الدِّرْهَمِ مِن غيرِ ثَمَنِه، فإنِ اخْتارَ السَّيِّدُ فِداءَه، لَزِمَه أقَل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمْرَين؛ مِن قِيمَتِه أو أَرْشِ جِنايَتِه؛ لأنَّ (¬1) أرْشَ الجِنَايَةِ إن كانَ أكْثَرَ، فلا يَتَعَلَّقُ بغيرِ العَبْدِ الجانِي؛ لعَدَمِ الجِنايَةِ مِن غيرِه، وإنَّما تَجِبُ قِيمَتُه وإن كان أقَلَّ، فلم يَجِبْ بالجِنايَةِ إلَّا هو. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أَنَّه يَلْزَمُه (1) أَرْشِ الجِنايَةِ كلُّه؛ لأَنَّه يَجُوزُ أن يَرْغَبَ فيه راغِبٌ، فيَشْتَرِيَه بأَرْشِ الجِنايَةِ، فإذا مَنَع منه، لَزِمَه جَمِيعُ الأَرْشِ؛ لتَفْويِته ذلك. وللشافعي قَوْلان، كالرَّوايَتَين. فصل: فإن تَصَرَّفَ العَبْدُ غيرُ المَأْذُونِ ببَيعٍ، أو شِراءٍ بعَينِ المالِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ مِن المَحْجُورِ عليه فيما حُجِر عليه فيه، أشْبَهَ المُفْلِسَ، وقِياسًا على تَصَرُّفِ الأجْنَبِي. ويَتَخَرَّجُ أن يَصِحَّ، ويَقِفَ على إجازةِ السَّيِّدِ، كتَصَرُّفِ الفُضُولِيِّ. فأمّا شِراؤه بثَمَن في ذِمَّتِه واقْتِراضُه، فيَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه، أشْبَهَ السَّفِيهَ، ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّ الحَجْرَ لحَقِّ غيرِه، أشْبَهَ المُفْلِسَ والمَرِيضَ. ويَتَفَرَّعُ على ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذَين الوَجْهَين، أنَّ التَّصَرُّفَ إن كان فاسِدًا، فللبائِعِ والمُقْرِضِ أخْذُ مالِه إن كان باقِيًا، سَواءٌ كان في يَدِ العَبْدِ أو السَّيِّدِ، وإن كان تَالِفًا، فله قِيمَتُه، أو مِثْلُه إن كان مِثْلِيًّا. فإن تَلِفَ في يَدِ السَّيِّد، رَجَع عليه بذلك؛ لأنَّ عَينَ مالِه تَلِف في يَدِه، وإن شاء كان ذلك مُتَعَلِّقًا برَقَبَةِ العَبْدِ؛ لأنَّه الذي أخَذَه منه، وإن تَلِف في يَدِ العَبْدِ، فالرُّجُوعُ عليه. وهل يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه أو ذِمَّتِه؟ على رِوايَتَين. وإن قُلْنا: التَّصَرُّفُ صَحِيحٌ. والمَبِيعُ في يَدِ العَبْدِ، فللبائِعِ فَسْخُ البَيعِ، وللمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فيما أقْرَضَ؛ لأَنه قد

1978 - مسألة: (وإذا باع السيد عبده المأذون له شيئا، لم يصح

وَإذَا بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ شَيئًا، لَمْ يَصِحّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحَقَّقَ إعْسارُ المُشْتَرِي والمُقْتَرِضِ، فهو أسْوأُ حالًا مِن الحُرِّ المُعْسِرِ. وإن كان السَّيِّدُ قد انْتَزَعَه مِن يَدِ العَبْدِ، مَلَكَه بذلك؛ لأنَّه أخَذَ مِن عَبْدِه مالًا في يَدِه بحَقٍّ، فهو كالصَّيدِ. فإذا مَلَكَه السَّيِّدُ كان كهَلاكِه في يَدِ العَبْدِ، ولا يَمْلِكُ البائِعُ والمُقْرِضُ انْتِزاعَه مِن السَّيِّد بحالٍ. فإنَّ كان قد تَلِف، اسْتَقَرَّ ثَمَنُه في رَقَبَةِ العَبْدِ أو في ذِمَّتِه، سَواءٌ تَلِف في يَدِ العَبْدِ أو السَّيِّدِ. 1978 - مسألة: (وإذا باع السَّيِّدُ عَبْدَه المَأذُونَ له شيئًا، لم يَصِحَّ

وَيَصِحُّ فِي الْآخَرِ إِذَا كَانَ عَلَيهِ دَينٌ بِقَدرِ قِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه مَمْلُوكُه، فلا يَثْبُتُ له دَين في ذِمَّتِه، كغيرِ المَأْذُونِ له، أو كمَن لا دَينَ عليه (ويَصِحُّ في الآخَرِ إذا كان عليه دَينٌ بقَدْر قِيمَتِه) لأنَّا إذا قُلْنا: إنَّ الدَّينَ يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه. فكأنَّه صار مُسْتَحَقًّا لأصْحابَ الديونِ، فيَصِيرُ كعَبْدِ غيرِه.

1979 - مسألة: (ويصح إقرار المأذون له في قدر ما أذن له فيه)

وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. وَإنْ حُجِرَ عَلَيهِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ، فَأقَرَّ بِهِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1979 - مسألة: (ويَصِحُّ إقْرارُ المَأذُونِ له في قَدْرِ ما أُذِن له فيه) دُونَ ما زاد عليه، لأنَّه لم يُؤْذَنْ له فيه، فهو كغيرِ المَأْذُونِ له، ولأنَّ الذي أُذِن له فيه يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه، فيصِحُّ إقْرارُه به، كالحُرِّ. 1980 - مسألة: (وإن حُجِر عليه وفي يَدة مالٌ، ثم أُذِن له فيه، فأقَرَّ به، صَحَّ) لأنَّ المانِعَ مِن صِحَّةِ إقْرارِه الحَجْرُ عليه، وقد زال، ولأنَّه يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه، فيَصِحُّ إقْرارُه به، كما لو لم يُحْجَرْ عليه، وقِياسًا على غيرِه مِن الأحْرارِ.

1981 - مسألة: (ولا يبطل الإذن بالإباق)

وَلَا يَبْطُلُ الإذْنُ بِالْإِباقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1981 - مسألة: (ولا يَبْطُلُ الإذْنُ بالإِباقِ) وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ (¬1) به (¬2)؛ لأَنه يُزِيلُ ولايةَ السَّيِّدِ عنه في التِّجارَةِ، بدَلِيلِ أنَّه لا يَجُوزُ بَيعُه ولا هِبَتُه ولا رَهْنُه، فأشْبَهَ ما لو باعَه. ولَنا، أنَّ الإِباق لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ الإذْنِ له في التِّجارَةِ، فلم يَمْنَعِ اسْتِدامَتَه، كما لو غَصَبَه غاصِبٌ، أو حُبِس بدَينٍ عليه. ولا يَصِحُّ ما ذَكَرُوه؛ فإنَّ سَبَبَ الولايةِ باقٍ، وهو الرِّقُّ، ويَجُوزُ بَيعُه وإجارَتُه ممَّن يَقْدِرُ عليه، ويَبْطُلُ بالمَغْصُوبِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، ر، م.

1982 - مسألة: (ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب)

وَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُ الْمَأْذُونِ لَهُ بِهِبَةِ الدَّرَاهِمِ وَكُسْوَةِ الثِّيَابِ. وَيَجُوزُ هَدِيَّتُهُ لِلْمَأْكُولِ، وَإعَارَةُ دَابَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1982 - مسألة: (ولا يَصِحُّ تَبَرُّعُ المأذُونِ له بهِبَةِ الدَّراهِمِ وكُسْوَةِ الثِّيابِ) لأنَّ ذلك ليس مِن (¬1) التِّجارَةِ، ولا يُحْتاجُ إليه فيها، فأشْبَهَ غيرَ المَأْذُونِ له. 1983 - مسألة: (وتَجُوزُ هَدِيته للمَأْكُولِ، وإعارَةُ دايَّته) واتِّخاذُ الدَّعْوَةِ ما لم يَكُنْ إسْرافًا. وبه قال أبو حَنِيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَجُوزُ ذلك بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بمالِ مَوْلاه، فلم يَجُزْ، كهِبَةِ الدَّراهِمِ. ولَنا، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُجِيبُ دَعْوَةَ المَمْلُوكِ (¬2). وروَى أبو سعيدٍ مَوْلَى أبي (¬3) أَسِيدٍ، أنَّه تَزَوَّجَ، فحَضَرَ دَعْوَتَه أُناسٌ مِن ¬

(¬1) في الأصل: «في». (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب آخر، من أبواب الجنائز. عارضة الأحوذي 4/ 235. وابن ماجه، في: باب ما للعبد أن يعطي ويتصدق، من كتاب التجارات، وفي: باب البراءة من الكبر والتواضع، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 770، 1398. (¬3) في م: «بني».

1984 - مسألة: (وهل لغير المأذون له الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه، إذا لم يضر به؟ على روايتين)

وَهَلْ لِغَيرِ الْمَأْذُونِ الصدَقَةُ مِنْ قُوتِهِ بِالرَّغِيفِ إِذَا لم يَضُرَّ بِهِ وَنَحْوهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أصْحابِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، منهم عبدُ الله بِنُ مسعودٍ، وحُذيفَةُ، وأبو ذَرٍّ، فأمَّهم، وهو يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ. رَواه صالِحٌ (¬1) في «مَسائِلِه» بإسْنادِه (¬2). ولأنَّه ممّا جَرَتْ به عادَةُ التُّجارِ فيما بينَهم، فيَدْخُلُ في عُمُومِ الإذْنِ. 1984 - مسألة: (وهل لغيرِ المَأْذُونِ له الصَّدَقَةُ مِن قُوتِه بالرَّغِيفِ ونحوه، إذا لم يَضُرَّ بِه؟ على رِوايَتَين) إحْداهُما، ليس له ذلك؛ لأن المال لسَيِّدِه، وانَّما أذِنَ له في الأكْلِ، فلم يَمْلِكِ الصَّدَقَةَ به، كالضَّيفِ، لا (¬3) يَتَصَدَّقُ بما أُذِن له في أكْلِه. والثانيةُ، يَجُوزُ؛ لأنَّه ممّا جَرَتِ العادَةُ بالمُسامَحةِ فيه والإذْنِ عُرْفًا، فجاز، كصَدَقَةِ المرأةِ مِن بَيتِ زَوْجِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 348، 349. (¬3) في م: «ولا».

1985 - مسألة: (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين)

وَهَلْ لِلْمَرأَةِ الصَّدَقَةُ مِنْ بَيتِ زَوْجِهَا بِغَيرِ إِذْنِهِ بِنَحْو ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1985 - مسألة: (وهل للمرأةِ الصَّدَقَةُ مِن بَيتِ زَوْجِها بغيرِ إذْنِه بنَحْو ذلك؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، يَجُوزُ؛ لأنَّ عائشةَ قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أنْفَقَتِ الْمَرْأةُ مِنْ بَيتِ زَوْجِهَا، غَيرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ». ولم يَذْكُرْ إذْنًا. عن أسماءَ، أنَّها جاءَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ اللهِ، ليس لي (¬1) شيءٌ إلَّا ما أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيرُ، فهل عَلَيَّ جُناحٌ أن أرْضَخَ (¬2) ممّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ قال: «ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي (¬3)، [فيُوعِيَ الله] (¬4) عَلَيكِ». مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أي: أعطى شيئًا قليلا. (¬3) أي: لا تشحي بالنفقة. (¬4) في الأصل، ر، ق: «فيوعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهما (¬1). ورُوِيَ أنَّ امرأةً أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنّا كَلٌّ على أزْواجِنا وآبائِنا (¬2)، فما يَحِلُّ لَنا مِن أمْوالِهم؟ قال: «الرَّطْبُ (¬3) ¬

(¬1) أخرج الأول، البخاري في: باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه، وباب أجر الخادم إذا تصدق. . . .، وباب أجر المرأة إذا تصدقت. . . .، من كتاب الزكاة، وفي باب قول الله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 2/ 139، 141، 142، 3/ 73. ومسلم، في: باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 710. كما أخرجه أبو داود، في: باب المرأة تتصدق من بيت زوجها، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 391، 392. والترمذي، في: باب في نفقة المرأة من بيت زوجها، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذي 3/ 177. والنسائي، في: باب صدقة المرأة من بيت زوجها، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 49. وابن ماجه، في: باب ما للمرأة من مال زوجها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 770. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 44. والثاني أخرجه البخاري، في: باب الصدقة في ما استطاع، من كتاب الزكاة، وفي: باب هبة المرأة لغير زوجها. . . .، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 2/ 141، 3/ 207. ومسلم، في: باب الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 714. كما أخرجه النسائي، في: باب الإحصاء في الصدقة، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 55. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 345، 346، 353. (¬2) في م: «أبنائنا». (¬3) الرطب: ما لا يدخر ولا يبقى كالفواكه والبقول والأطبخة. النهاية في غريب الحديث 2/ 232.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تأْكُلِينَهُ وَتُهْدِينَهُ» (¬1). ولأنَّ العادَةَ السَّماحُ بذلك، وطِيبُ النَّفْسِ به، فجَرَى مَجْرَى صَرِيحِ الإذْنِ، كما أنَّ تَقْدِيمَ الطَّعامِ بينَ يَدَي الأكَلَةِ قام مَقامَ صَرِيحِ الإذْنِ في أكْلِه. والثانيةُ، لا يَجُوزُ؛ لِما (¬2) روَى أبو أُمامَةَ الباهِلِيُّ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تُنْفِقُ الْمَرْأةُ شَيئًا مِنْ بَيتهَا إلَّا بِإذْنِ زَوْجِهَا». قِيلَ: يا رسولَ اللهِ، ولا الطَّعامَ؟ قال: «ذَاكَ أفْضَلُ أمْوالِنَا». رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬3). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» (¬4). وقال: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَينَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالكُم، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، فِي شَهْرِكُمْ هذا، فِي بَلَدِكُمْ هذَا (¬5). ولأنَّه تبَرُّعٌ بمالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَجُزْ، كغيرِ الزَّوْجَةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الأحادِيثَ فيه خاصَّة صَحِيحة، والخاصُّ يُقَدَّمُ على العام ويُبَيِّنه، ويُعَرِّفُ أنَّ المرأدَ بالعامِّ غيرُ الصُّورَةِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب المرأة تتصدق من بيت زوجها، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 392. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) وأخرجه أبو داود، في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 266. والترمذي، في: كتاب في نفقة المرأة من بيت زوجها، من أبواب الزكاة، وفي: باب ما جاء لا وصية لوارث، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذي 3/ 176، 177، 8/ 276. وابن ماجه، في: باب ما للمرأة من مال زوجها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 770. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 267. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 72، 113. والدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 26. (¬5) تقدم تخريجه من حديث جابر الطويل في صفة الحج في 8/ 363.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَخْصُوصَةِ، والحديثُ الخاصُّ للرِّوايَةِ الثانيةِ ضعيفٌ. ولا يَصِحُّ قِياسُ المرأةِ على غيرِ ما؛ لأنَّها بحُكْمِ العادَةِ تَتَصَرَّفُ في مالِ زَوْجِها، وتَتَبَسَّطُ فيه، وتَتَصَدَّقُ منه بحُضُورِه وغَيبَتِه، والإِذْنُ العُرْفِيُّ يَقُومُ مَقامَ الإذْنِ الحَقِيقِيِّ، فصار كأنَّه قال لها: افْعَلِي هذا. فأمّا إن مَنَعَها ذلك، وقال: لا تَتَصَدَّقِي بشيء، ولا تَتَبَرَّعِي مِن مالِي بقَلِيلٍ ولا كَثِيرٍ. لم يَجُز لها ذلك؛ لأنَّ المَنْعَ الصَّرِيحَ يَنفِي الإذْنَ العُرْفِيَّ. وكذلك لو كانتِ امْرَأَتُه مَمْنُوعَةً مِن التَّصَرُّفِ في بَيتِ زَوْجِها، كالتي يُطْعِمُها بالفَرْضِ، ولا يُمَكِّنُها مِن طَعامِه، فهو كما لو مَنَعَها بالقولِ. فإن كان في بَيتِ الرجلِ مَن يَقُومُ مَقامَ امْرَاته، كجارِيَتِه وأُخْتِه وغُلامِه المُتَصَرِّفِ في بَيتِ سَيِّدِه وطَعامِه، فهو كالزَّوْجَةِ فيما ذَكَرْنا؛ لوُجُودِ المَعْنَى فيه. والله أعلمُ.

باب الوكالة

بَابُ الْوَكَالةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الوَكالةِ وهي جائِزَةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمّا الكِتابُ فقولُ الله تِعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيهَا} (¬1). فَجَوَّزَ العَمَلَ عليها، وذلك بحُكْمِ النِّيابَةِ عن المُسْتَحِقِّين. وأيضًا قولُه تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا لَبِثْتُمْ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} (¬2). وهذه وَكالةٌ. وأمّا السُّنَّةُ، فرَوَى أبو داودَ، والأثْرَمُ، وابنُ ماجَه (¬3)، بإسْنادِهم، عن عُرْوَةَ بنِ الجَعْدِ، قال: عُرِض للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأعْطانِي دِينارًا، فقال: «يَا عُرْوَةُ، ائْتِ الْجَلَبَ، فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً». قال: فأتَيتُ الجَلَبَ فساوَمْتُ صاحِبَه، فاشْتَرَيتُ شاتَين بدِينارٍ، فجِئْتُ أسُوقُهما -أو أقُودُهما- فلقِيَني رَجلٌ بالطَّرِيقِ فساوَمَنِي، فبِعْتُ منه شاةً بدِينارٍ، فأتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالدِّينارِ ¬

(¬1) سورة التوبة 6. (¬2) سورة الكهف 19. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 56.

1986 - مسألة: (تصح الوكالة بكل قول. يدل على الإذن، وكل قول أو فعل يدل على القبول)

تَصِحُّ الْوَكَالةُ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى الإذْنِ، وَكُلِّ قَوْلٍ أو فِعْل يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالشّاةِ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ: هذا دِينارُكم وهذه شاتُكم. قال: «وَصَنَعْتَ كَيفَ؟» قال: فحَدّثْتُه الحديثَ. فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِه». هذا لَفْظُ رِوَايةِ الأثْرَمِ. ورَوى أبو داودَ (¬1) بإسْناده عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: أرَدْتُ الخُرُوجَ إلى خَيبَرَ، فأتَيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقُلْتُ: إنِّي أرَدْتُ الخُرُوجَ إلى خيبَرَ. فقال: «ائْتِ وَكِيلي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ». ورُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وَكَّلَ عمرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ في قَبُولِ نِكاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وأبا رافِع في قَبُولِ نِكاحِ مَيمُونَةَ (¬2). وأجْمَعَتِ الأمَّةُ على جَوازِ الوَكالةِ في الجمْلَةِ. ولأنَّ الحاجَةَ داعِيَة إلى ذلك؛ فإنَّه لا يُمْكِنُ كلَّ أحدٍ فِعْلُ ما يَحْتاجُ إليه بنَفسِه. 1986 - مسألة: (تَصِحُّ الوَكالةُ بكلِّ قولٍ. يَدُلُّ على الإذْنِ، وكلِّ قولٍ أو فعْل يَدُلُّ على القَبُولِ) لا تَصِحُّ الوَكالةُ إلَّا بالإِيجابِ والقَبُولِ؛ لأنَّه عَقْدٌ تَعَلَّقَ به حَقُّ كلِّ واحِدٍ منهما، فافْتَقَرَ إلى الإِيجابِ والقَبُولِ، ¬

(¬1) في: باب في الوكالة، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 282. (¬2) الأول أخرجه البيهقي، في: باب الوكالة في النكاح، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 139. والثاني تقدم تخريجه في 8/ 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالبَيعِ. والإِيجابُ هو كلُّ لَفْظٍ دَلَّ على الإِذْنِ، نحوَ قَوْلِه: افْعَلْ كذا. وأذِنْتُ لك في فِعْلِه. فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَّلَ عُرْوَةَ بنَ الجَعْدِ في شِراءِ شاةٍ بلَفْظِ الشِّراءِ. وكذلك قَوْلُه تعالى حكايَةً عن أهْل الكَهْفِ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}. ولأنَّه لَفْظٌ دَلَّ على الإِذْنِ، فهو كقَوْلِه: وكَّلْتك.

1987 - مسألة: (ويجوز القبول على الفور والتراخي، نحو أن يوكله في بيع شيء، فيبيعه بعد سنة، أو يبلغه أنه وكله منذ شهر، فيقول: قبلت)

وَيَصِحُّ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخي، بِأنْ يُوَكِّلَهُ فِي بَيعِ شَيْءٍ، فَيَبِيعَهُ بَعْدَ سَنَةٍ، أو يُبَلِّغَهُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ مُنْذُ شَهْر، فَيَقُولَ: قَبِلْتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَيكْفِي في القَبُولِ قَوْلُه: قَبِلْتُ. وكُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عليه. ويجُوزُ بكلِّ فِعْلٍ دَلَّ عليه أيضًا، نحوَ أن يَفْعَلَ ما أمَرَه بفِعْلِه؛ لأنَّ الذين وَكَّلَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْقَلْ عنهم سِوَى امْتِثالِ أمْرِه. ولأنَّه إذْن في التَّصَرُّفِ، فجازَ القَبُولُ فيه (¬1) بالفِعْلِ، كأكْلِ الطَّعامِ. 1987 - مسألة: (ويَجُوزُ القَبُولُ على الفَوْرِ والتَّراخِي، نحوَ أن يُوَكِّلَه في بَيعِ شيءٍ، فيَبِيعَه بعدَ سَنَةٍ، أو يُبَلِّغَه أنَّه وَكَّلَه منذُ شَهْرٍ، فيقولَ: قَبِلْتُ) لأنَّ قَبُولَ وُكَلاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بفِعْلِهم، وكان مُتَراخِيًا عن تَوْكِيلِه إيّاهم، ولأنَّه إذْن في التَّصرُّفِ، والإذْنُ قائِمٌ (¬2) ما لم يَرْجِعْ عنه، أشْبَهَ الإباحَةَ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق: «دائم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ تَعْلِيقُها على شَرْطٍ، نحوَ قَوْلِه: إذا قَدِم الحاجُّ فافْعَلْ كذا. أو: إذا جاء الشِّتاءُ فاشْتَرِ لنَا كذا. و: إذا جاء الأضْحَى فاشتَرِ لنَا أُضْحِيَةً. و: إذا طَلَب منك أهْلِي (¬1) شيئًا فادْفَعْه إليهم. و: إذا دَخَلَ رَمَضانُ فقد وَكَّلْتُك في كذا. أو: فأنْتَ وَكِيلِي. وبهذا قال أبو حَنِيفَةَ. وقال الشافعيُّ: لا تَصِحُّ، لكنْ إن تَصَرَّفَ صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لوُجُودِ الإذْنِ، وإن كان وَكِيلًا بجُعْلٍ، فَسَد المُسَمَّى، وله أَجْرُ المِثلِ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ به في الحَياةِ، أَشْبَهَ البَيعَ. ولنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أميرُكُمْ زَيدٌ، فَإنْ قُتِلَ فَجَعْفَر، فَإن قُتِلَ فَعَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ» (¬2). وهذا في مَعْناه، ولأنَّه عَقْدٌ اعْتُبِرَ في حَقِّ الوَكِيلِ (¬3) حُكْمُهُ، وهو إِباحَةُ التَّصَرُّفِ وصِحَّتُه، فكان صَحِيحًا، كما لو قال: أنت وَكِيلِي في بَيعِ عَبْدِي إذا قَدِمَ الحاجُّ. ولأنَّه لو قال: وَكَّلْتُك في شِراءِ كذا في وَقْتِ كذا. صَحَّ بلا خلَافٍ، ومَحَلُّ النِّزاعِ في مَعْناه. ولأَنه إذْنٌ في التَّصَرُّفِ، أشْبَهَ الوَصِيَّةَ والتَّأْمِيرَ، ولأنَّه عَقْدٌ [يَصِحُّ بغيرِ جُعْل] (¬4)، ولا يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فصَحَّ بالجُعْلِ، كالتَّوْكِيلِ النّاجِزِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب غزوة مؤتة من أرض الشام، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 5/ 181، 182. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 204، 256، 5/ 299، 300. (¬3) زيادة من: م. (¬4) جاء هذا في الأصل، ر، ق بعد قوله: «أن يكون من أهل القربة» في السطر التالي.

1988 - مسألة: (ولا يصح التوكيل والتوكل في شيء، إلا ممن يصح تصرفه فيه)

وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ وَالتَّوَكُّلُ فِي شَيْءٍ، إلا مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1988 - مسألة: (ولا يَصِحُّ التَّوكِيلُ والتَّوَكُّلُ في شيءٍ، إلَّا ممَّن يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه) لأنَّ مَن [لا يَصِحُّ] (¬1) تَصَرُّفُه بنَفْسِه، فبِنائِبِه أوْلَى. وكلُّ مَن صَحَّ تَصَرُّفُه في شيءٍ بنَفْسِه، وكان ممّا تَدْخُلُه النِّيابَةُ، صَحَّ أن يُوَكِّلَ فيه، رَجلًا كان أو امرأةً، حُرًّا أو عَبْدًا، مُسْلِمًا أو كافِرًا. فأمّا ¬

(¬1) في م: «يصح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن يَتَصَرَّفُ بالإِذْنِ؛ كالعَبْدِ المَأْذُونِ له، والوَكِيلِ، والمُضارِبِ، فلا يَدْخُلُون في هذا، لكنْ يَصِحُّ مِن العَبْدِ التَّوْكِيلُ فيما يَمْلِكُه دُون سَيِّدِه، كالطَّلاقِ والخُلْعِ. وكذلك الحُكْمُ في المَحْجُورِ عليه لسفَهٍ، لا يُوَكّلُ إلَّا فيما له فِعْلُه، كالطُّلاقِ، والخُلْعِ، وطَلَبِ القِصاصِ. وكلُّ [ما صَحَّ أن] (¬1) يَسْتَوْفِيَه بنَفْسِه وتَدْخُلُه النِّيابَةُ، صَحَّ أن يَتَوَكَّلَ لغيرِه فيه، إلَّا الفاسِقَ، فإنَّه يَصِحُّ [أن يَقْبلَ] (1) النِّكاحَ لنَفْسِه. وذَكَر القاضي أَنه لا يجُوزُ أن يَقْبَلَه لغنرهِ. وظاهِرُ كَلامِ شيخِنا في الكِتابِ المَشْرُوحِ، أنَّه يَصِحُّ. وهو قولُ أبي الخَطّابِ. وهو القِياسُ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهَذَينِ. فأمّا تَوْكِيلُه في الإِيجابِ، فلا يَجُوزُ إلَّا على الرِّوايَةِ التي تُثْبِتُ الولايةَ له. وذَكَر أصْحابُ الشافعيِّ في ذلك وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَجُوزُ؛ لأنَّه ليس بولِيٍّ. والثاني، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه مُوجِبٌ للنكاحِ، أشْبَهَ الوَلِيَّ. ولأنَّه لا يَجُوزُ أن يَتَولَّى ذلك بنَفْسِه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

1989 - مسألة: (ويجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود،

وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِي مِنَ الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، وَالْعِتْقِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ أن يَتَوَكَّلَ فيه، كالمرأةِ. ويَصِحُّ تَوْكِيلُ المرأةِ في طَلاقِ نَفْسِها وغيرِها. ويَصِحُّ تَوْكِيلُ العَبْدِ في قَبُولِ النِّكاحِ؛ لأنَّه ممَّن يَجُوزُ أن يقبلَ لنفسِه، وإنَّما يَقِفُ ذلك على إذْنِ سَيِّدهِ؛ ليَرْضَى بتَعَلُّقِ الحُقُوقِ به. ومَن لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في شيء لنَفْسِه، لا يَصِحُّ أن يَتَوَكَّلَ فيه، كالمرأةِ في عَقْدِ النِّكاحِ وقَبُولِه، والكافِرِ في تَزْويجِ مُسْلِمَةٍ، والطِّفْلِ والمَجْنُونِ في الحُقُوقِ كُلها. وللمُكاتَبِ أن يُوَكِّلَ فيما يَتصَرَّفُ فيه بنَفْسِه. وله أن يَتَوَكَّلَ بجُعْل؛ لأنَّه مِن اكْتِسابِ المالِ، ولا يُمْنَعُ مِن الاكتِسابِ. وليس له أن يَتَوكَّلَ بغيرِ جُعْلٍ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّ مَنافِعَه كأعْيانِ مالِه، وليس له بَذْلُ عَينِ مالِه بغيرِ عِوَض. وتَصِحُّ وَكالةُ الصَّبِي المُمَيِّزِ بإذْنِ الوَلِيِّ، بِناءً على صِحَّةِ تَصَرُّفِه بإذْنِه. 1989 - مسألة: (ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في كلِّ حَقِّ آدمِي مِن العُقُودِ،

وَالطَّلاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ مِن الصَّيدِ وَالْحَشِيشِ، وَنَحْوهِ، إلا الظِّهَارَ، وَاللِّعَانَ، وَالْأَيمَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والفُسُوخِ، والعِتْقِ، والطَّلاقِ، والرَّجْعَةِ، وتَمَلُّكِ المُباحاتِ مِن الصَّيدِ والحَشِيشِ، ونحوه، إلَّا الظِّهارَ، واللِّعانَ، والأيمانَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ التَّوْكيلَ يَجُوزُ في الشِّراءِ، والبَيعِ، ومُطالبةِ الحُقُوقِ، والعِتْقِ، والطَّلاقِ، حاضِرًا كان المُوَكِّلُ أو غائِبًا. وقد ذَكَرْنا الدَّليلَ على ذلك مِن الآيَةِ والخَبَرِ، والحاجَةُ تَدْعُو إليه؛ لأنَّه قد يكونُ ممَّن لا يُحْسِنُ البَيعَ والشِّراءَ، أو لا يُمْكِنُه الخُرُوجُ إلى السُّوقِ، وقد يكونُ له مالٌ ولا يُحْسِنُ التِّجارةَ فيه، وقد يُحْسِنُ ولا يَتَفرَّغُ، وقد لا تَلِيقُ به التِّجارَةُ لكَوْنِه امرأةً، أو ممَّن يتَعَيَّرُ بها ويَحُطُّ ذلك مِن مَنْزِلَتِه، فأباحَها الشَّرْعُ دَفْعًا للحاجَةِ، وتَحْصِيلًا لمَصْلحَةِ الآدَمِيِّ المَخْلُوقِ لعِبادَةِ اللهِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سبحانَه. وكذلك يَجُوزُ التَّوْكِيلُ في الحَوالةِ، والرَّهْنِ، والضَّمانِ، والكَفالةِ، والشَّرِكَةِ، والوَدِيعةِ، والمضارَبَةِ، والجَعالةِ، والمُساقاةِ، والإِجارَةِ، والقَرْضِ، والصُّلْحِ، والهِبَةِ، والصَّدَقَةِ، والوَصيَّةِ، والفَسْخِ، والإِبراءِ، لأنَّها في مَعْنَى البَيعِ في الحاجَةِ إلى والتَّوْكيلِ فيها، فيَثْبُتُ فيها حكْمُه. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في الخلْعِ والرَّجْعَةِ؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، كدُعائِها إلى التَّوْكِيلِ في البَيعِ. ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في تَحْصِيلِ المُباحاتِ؛ كإحْياءِ المَواتِ، واسْتِقاءِ الماءِ، والاصْطِيادِ، والاحْتِشاشِ؛ لأنَّها تَمَلُّكُ مالٍ بسَببٍ لا يَتَعَيَّنُ عليه، فجاز التَّوْكِيل فيه، كالابتِياعِ والاتِّهابِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَصِحُّ في الأَيمانِ والنُّذُورِ؛ لأنَّها تَتَعلَّقُ بعَينِ الحالِفِ والنّاذِرِ، فأشْبَهَتِ العِباداتِ البَدَنيَّةَ والحُدُودَ. ولا تَصِحُّ في الإِيلَاءِ والقَسَامةِ واللِّعانِ؛ لأنَّها أيمانٌ. ولا في الظِّهارِ؛ لأنَّه قولٌ مُنْكَر وزُورٌ، فلا يَجُوزُ فِعْلُه ولا الاسْتِنابَةُ فيه، ولا تَجُوزُ في القَسْمِ بينَ الزَّوْجات؛ لأنَّها تَتَعلَّقُ ببَدَنِ الزَّوْجِ لأمْر يَخْتَصُّ به. ولا في الرِّضاعِ؛ لأَنه يَخْتصُّ بالمُرْضِعَةِ (¬1) بنباتِ لحْمِ المُرْتَضِعِ وإنْشازِ عَظْمِه مِن لبَنِها. ولا تَصِحُّ في الغَصْبِ ولا في الجِناياتِ؛ لأنَّ ذلك مُحَرَّم، وَكذلك كلُّ مُحَرَّم؛ لأنَّه لا يَحِلُّ له فِعْلُه بِنَفْسِه، فلم تَجُزِ النِّيابَة فيه. ¬

(¬1) بعده في م: «والمرتضع لأمر يختص».

1990 - مسألة: (ويجوز أن يوكل من يقبل له النكاح، ومن يزوج وليته إذا كان الوكيل ممن يصح منه ذلك لنفسه وموليته)

وَيَجُوزُ أنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ النِّكَاحَ، وَمَنْ يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَمُوَلِّيَتهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1990 - مسألة: (ويَجُوزُ أن يُوَكِّلَ مَن يَقْبَلُ له النِّكاحَ، ومَن يُزَوِّجُ وَليَّتَه إذا كان الوَكيلُ ممَّن يَصِحُّ منه ذلك لنَفْسِه ومُوَلِّيَته) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَّلَ عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وأبا رافِعٍ قَبُولِ النِّكاحِ له (¬1). ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، فإنَّه رُبَّما احْتاجَ إلى التَّزَوُّجِ مِن مكانٍ بَعيدٍ لا يُمْكِنُه السَّفَرُ إليه،؛ تَزَوَّجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ حَبِيبةَ وهي بأَرْضِ الحَبَشَةِ (¬2). ويَجُوزُ أن يُوَكِّلَ مَن يُزَوجُ وَلِيَّتَه؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه، فأشْبَهَ البَيعَ، إذا كان الوَكِيلُ ممَّن يَصِحُّ منه ذلك لمُولِّيَتِه. وهل يَجُوزُ أن يكون فاسِقًا؟ يَنْبَنِي على اشْتِراطِ ذلك في ولايَةِ النكاحِ، وسَيُذْكَرُ في بابِه، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) الأول تقدم تخريجه في صفحة 436. والثاني تقدم تخريجه في 8/ 326. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الولي، وباب الصداق، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 481، 486. والنسائي، في: باب القسط في الأصدقة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 97. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ التَّوكيلُ في الشَّهادَةِ؛ لأنَّها تَتَعلَّقُ بعَينِ الشّاهِدِ؛ لكَوْنِها خَبَرًا عمَّا رَآه أو سَمِعَه، ولا يَتَحقَّقُ هذا المَعْنَى في نائِبِه (¬1)، فإنِ اسْتنابَ فيها، كان النّائِبُ شاهِدًا على شَهادَتِه؛ لكونِه يُؤَدِّي ما سَمِعَه مِن شاهِدِ الأصْلِ، وليس بوَكِيلٍ (¬2). ولا يَصِحُّ في الاغْتِنامِ؛ لأنَّه متى حَضَر النّائِبُ تَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، فكان السَّهْمُ له. ولا في الالتِقاطِ؛ لأنَّه بأخْذِه يَصِيرُ لمُلْتَقِطِه. فصل: ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في المُطالبَةِ بالحُقُوقِ، وإثْباتِها، والمُحاكَمَةِ فيها، حاضِرًا كان المُوَكِّلُ أو غائِبًا، صَحِيحًا أو مَريضًا. وبه قال مالِكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، وأبو يُوسُف، ومحمدٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: للخَصْمِ أن يَمْتَنِعَ مِن مُحاكَمةِ الوَكِيلِ إذا كان المُوَكِّلُ حاضِرًا؛ لأنَّ حُضُورَه مَجْلِسَ الحُكْمِ (¬3) ومُخاصَمَتَه حَقٌّ لخَصْمِه ¬

(¬1) في الأصل: «بابه». (¬2) في الأصل، ق: «توكيل». (¬3) في م: «الحاكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فلم يَكُنْ له نَقْلُه إلى غيرِه بغيرِ رِضَاءِ خَصْمِه، كالدَّيْنِ عليه. ولنَا، أنَّه حَقٌّ تَجُوزُ النِّيابَةُ فية، فكان (¬1) لصاحِبِه الاسْتِنابَةُ بغيرِ رِضاءِ خَصْمِه، كحالةِ غَيبَتِه ومَرَضِه، وكدَفْعِ المالِ الذي عليه، ولأنَّه إجْماعُ الصحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ، عنه، وَكَّلَ عَقِيلًا عندَ أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، وقال: ما قُضِيَ له فَلِي، وما قُضِيَ عليه فعَلَيَّ. ووَكَّلَ عبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ عندَ عُثْمانَ، وقال: إنَّ للخُصُومةِ قُحَمًا، وإنَّ الشَّيطان يَحْضُرُها، وإنِّي كْرَهُ أن أحْضُرَها (¬2). قال أبو زِيادٍ (¬3): القُحَمُ المَهالِكُ. وهذه قِصصٌ اشْتَهَرتْ؛ لأنَّها في مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، فلم يُنْقَلْ إنكارُها. ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك، فإنَّه قد يكونُ له حَق، أو يُدَّعَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجهما البيهقي، في: باب التوكيل في الخصومات مع الحضور والغيبة، من كتاب الوكالة. السنن الكبرى 6/ 81. (¬3) في اللسان (ق ح م) أنه أبو زيد الكلابي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، ولا يُحْسِنُ الخُصُومةَ، أو لا يُحِبُّ أن يَتَولَّاها بنَفْسِه. ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في الإِقْرارِ. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيه، لأنَّه إخْبارٌ لحَقٍّ، فلم يَجُزِ التَّوكِيلُ فيه، كالشَّهادَةِ. ولنَا، أنَّه إثْباتُ حَق في الذِّمَّةِ بالقولِ، فجاز التَّوْكِيلُ فيه، كالبَيعِ، وفارَقَ الشَّهادَةَ، فإنَّها لا تثبت الحَقَّ، وإنَّما هو إخْبار بِثُبُوتِه على غيرِه. ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في إثْباتِ القِصاصِ وحَدِّ القَذْفِ، واسْتِيفائِهما، لأنَّهما مِن حُقُوقِ الآدَميِّين، وتَدْعُو الحاجَةُ إلى التَّوكِيلِ فيهما، لأنَّ مَن له الحَقُّ قد لا يُحْسِنُ الاسْتِيفاءَ، أو لا يُحبُّ أن يَتَوَلَّاهما.

1991 - مسألة: (ويجوز في كل حق لله تعالى تدخله النيابة، من العبادات والحدود، في إثباتها واستيفائها)

وَيَصِحُّ فِي كُلِّ حَقٍّ لِلّهِ تَعَالى تَدْخُلُهُ النِّيابَةُ، مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْحُدُودِ، فِي إِثبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1991 - مسألة: (ويَجُوزُ في كلِّ حق للهِ تعالى تَدْخُلُه النِّيابَةُ، مِن العِباداتِ والحُدُودِ، في إثْباتِها واسْتِيفائِها) كحَدِّ الزِّنى والسَّرِقَةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغْدُ يَا أُنَيسُ إلَى امْرَأةِ هَذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». فغدا عليها أُنيسٌ، فاعْتَرفَتْ، فأمَرَ بها فرُجمَتْ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برَجْمِ ماعِزٍ، فَرَجَمُوه (¬2). ووَكَّلَ عُثْمانُ عليًّا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الوكالة في الحدود، من كتاب الوكالة، وفي: باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، من كتاب الصلح، وفي: باب الشروط التي لا تحل في الحدود، من كتاب الشروط، وفي: باب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه، من كتاب الحدود، وفي: باب كيف كان يمين النبي صلى الله عليه وسلم، من كتاب الأيمان، وفي: باب الاعتراف بالزنى، وباب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنى. . . .، من كتاب الحدود، وفي: باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور، من كتاب الأحكام، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، من كتاب الآحاد. صحيح البخاري 3/ 134، 240، 241، 250، 8/ 46، 161، 208، 214، 9/ 94، 110. ومسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1324، 1325. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، وفي: باب ما جاء في الرجم على الثيب، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 203، 205. والنسائي، في: باب صون النساء عن مجلس الحكم، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 211. وابن ماجه، في: باب حد الزنى، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 852. والدارمي، في: باب الاعتراف في الزنى، من كتاب الحدود. سنن الدارمي 2/ 177. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 822. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 115، 116. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1320. وأبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 456 - 459. والدارمي، في: كتاب الاعتراف بالزناء، من كتاب الحدود. سنن الدارمي 2/ 176. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في إقامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ على الوَليدِ بنِ عُقْبةَ. رواه مسلم (¬1). ولأن الحاجَةَ تَدْعُو إليه؛ لأنَّ الإِمامَ لا يُمْكِنُه تَوَلِّي ذلك بِنَفْسِه. ويجوزُ التَّوْكِيلُ في إثْباتِها. وقال أبو الخطّابِ: لا يَجُوزُ. وهو قول الشافعيِّ؛ لأنَّها تَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ، وقد أمِرْنا بدَرْئِها بها، والتَّوكيلُ تَوصُّلٌ إلى الإيجابِ. ولنا، حديثُ أُنَيسٍ الذي ذَكَرْناه، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَّلَه في إثْباتِه واسْتِيفائِه جمِيعًا بقَوْلِه: «فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا». وهذا يَدُلُّ على أنَّه لم يَكُنْ ثَبَت، وقد وكَّلَه في إثْباتِه. ولأنَّ الحاكِمَ إذا اسْتَنابَ، دَخَل في ذلك الحُدُودُ، فإذا دَخَلَتْ في التَّوْكيلِ بطَرِيق العُمُومِ، فبالتَّخْصِيصِ يكونُ دُخُولُها أوْلَى، والوَكِيلُ يَقُومُ مَقامَ المُوَكِّلِ في دَرْئِها بالشُّبُهاتِ. ¬

(¬1) في: باب حد الخمر، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1331، 1332.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا العِباداتُ، فما تَعَلَّقَ منها بالمالِ؛ كالصَّدقاتِ، والزَّكاةِ، والمَنْذُوراتِ، والكَفّاراتِ، جاز التَّوكِيلُ في قَبْضِها وتَفْرِيقِها. ويَجُوزُ للمُخْرِجِ التَّوْكِيلُ في إخْراجِها ودَفْعِها إلى مُسْتَحِقِّها. ويَجُوزُ أن يَقُولَ لغيرِه: أخْرِج زَكاةَ مالِي مِن مالِكَ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَث عُمّاله لقَبْضِ الصَّدَقاتِ وتفْرِيقِها، وقال لمُعاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «أعْلِمْهُمْ أنَّ عَلَيهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِم». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويَجُوزُ التَّوْكِيلُ في الحَجِّ إذا أَيِسَ المَحْجُوجُ عنه مِن الحَجِّ بنَفْسِه، وكذلك العُمْرَةُ. ويَجُوزُ أن يُسْتنابَ مَن يَحُجُّ عنه بعدَ المَوْتِ. فأمّا العِباداتُ البَدَنِيَّةُ المَحْضَةُ؛ كالصلاةِ، والصِّيامِ، والطهارةِ مِن الحَدَثِ، فلا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيها؛ فإنَّها تَتَعلَّقُ ببَدَنِ مَن هي عليه، فلا يَقومُ غيرُه مَقامَه، إلَّا أنَّ الصيامَ المَنْذُورَ يُفْعَلُ عن المَيِّتِ، وليس ذلك بتَوْكيل؛ لأنَّه لم يُوَكِّلْ في ذلك، ولا وَكَّلَ فيه يخرُه. ولا يَجُوزُ في الصلاةِ إلَّا في رَكْعَتَي الطَّوافِ تَبَعًا للحَجِّ. ولا تَجُوزُ الاسْتِنابةُ في الطهارَةِ إلَّا في صَبِّ الماءِ وإيصالِه إلى الأعْضاءِ، وفي تَطْهِيرِ النَّجاسَةِ عن البَدَنِ والثَّوْبِ وغيرِهما. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291.

1992 - مسألة: (ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكل وغيبته)

وَيَجُوزُ الاسْتِيفَاءُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَغَيبَتِهِ، إلا الْقِصَاصَ وَحَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَ بَعْضِ أصْحَابِنَا، لَا يَجُوزُ فِي غَيبَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1992 - مسألة: (ويَجُوزُ الاسْتِيفاءُ في حَضْرةِ المُوَكِّلِ وغَيبَتِه) نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ مالِكٍ (إلَّا القِصاصَ وَحَدَّ القَذْفِ عندَ بعضِ أصحابِنا، لا يَجُوزُ في غيبَتِه) وقد أوْمَأَ إليه أحمدُ. وهو قولُ أبِي حنيفةَ، وبعضِ الشافعيَّةِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَعْفُوَ المُوَكِّلُ في حالِ غَيبَتِه، فيَسْقُطَ، وهذا الاحْتِمالُ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الاسْتِيفاءَ. ولأنَّ العَفْوَ مَنْدُوبٌ إليه، فإذا حَضَر احْتَمَلَ أن يَرْحَمَه فيَعْفُوَ. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهبِ؛ لأنَّ ما جاز اسْتِيفاؤُه في حَضرةِ المُوَكِّلِ، جاز في غَيبَتِه، كالحُدودِ وسائِرِ الحُقُوقِ، واحْتِمالُ العَفْو بَعِيدٌ. والظّاهِرُ أنَّه لو عَفا لبعَثَ وأعْلَمَ وَكِيلَه بعَفْوه، والأصْلُ عَدَمُه، فلا يُوثِّرُ، [ألا تَرَى] (¬1) أنَّ قُضاةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانُوا يَحْكُمُون في البِلادِ، ويُقيمُونَ الحُدُودَ التي تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، مع احْتِمالِ النَّسْخِ. وكذلك لا يُحْتاطُ (¬2) في اسْتِيفاءِ الحُدُودِ بإحْضارِ الشهُودِ، مع احْتِمالِ رُجُوعِهم عن الشَّهادَةِ، [أو تَغَيُّرِ] (¬3) اجْتِهادِ الحاكِمِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الأثر». (¬2) في الأصل: «الاحتياط». وفي م: «يختلط». (¬3) في الأصل: «بغير». وفي م: «أو بغير».

1993 - مسألة: (ولا يجوز للوكيل أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه، إلا بإذن الموكل. وعنه، يجوز. وكذلك الوصي والحاكم. وله التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه، أو يعجز عنه لكثرته وجملة ذلك، أن التوكيل لا يخلو من ثلاثة أحوال، أحدها، أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل، فلا يجوز له ذلك بغير خلاف، لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه، فلم يجز له، كما لو لم يوكله. الثاني، أن

وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلُهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ. وَعَنْهُ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ الْوَصِي وَالْحَاكِمُ. وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِيمَا لَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ، أوْ يَعْجِزُ عَنْهُ لِكَثْرَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1993 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للوَكِيلِ أن يُوَكِّلَ فيما يَتَوَلَّى مِثْلَه بنَفْسِه، إلَّا بإذْنِ المُوَكِّلِ. وعنه، يَجُوزُ. وكذلك الوَصِيُّ والحاكِمُ. وله التَّوْكيلُ فيما لا يَتَوَلَّى مِثْلَه بنَفْسِه، أو يَعْجزُ عنه لكَثْرَتِه وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ التَّوْكِيلَ لا يَخْلو مِن ثَلاثةِ أَحْوالٍ، أحَدُها، أن يَنْهَى المُوَكِّلُ وَكِيلَه عن التَّوْكِيلِ، فلا يَجُوزُ له ذلك بغيرِ خِلافٍ، لأنَّ ما نَهاه عنه غيرُ داخِل في إذْنِه، فلم يَجُزْ له، كما لو لم يُوَكِّلْه. الثانِي، أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأْذَنَ له في التَّوكِيلِ، فيَجُوزُ له؛ لأنَّه عَقْدٌ أذِنَ فيه، فكان له فِعْلُه، كالتَّصَرُّفِ المَأْذُونِ فيه. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. فإن قال: وَكَّلْتُك فاصْنَعْ ما شِئْتَ. فله أن يُوَكِّلَ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: ليس له التَّوْكِيلُ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ يَقْتَضِي تَصَرُّفًا يتَوَلَّاه بنَفْسِه، فقَوْلُه: اصْنَعْ ما شِئْتَ. يَرْجِعُ إلى ما يَقْتَضِيه التَّوْكِيلُ مِن تَصَرُّفِه بنَفْسِه. ولنَا، أنَّ لَفْظَه عامٌّ فيما شاء، فيَدْخُلُ في عُمُومِه التَّوْكِيلُ. الثالثُ، أطْلَقَ له الوَكالةَ، فلا يَخْلُو مِن أقْسام ثَلاثَةٍ؛ أحَدُها، أن يكونَ العَمَلُ ممّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرْتَفِعُ (¬1) الوَكِيلُ عن مِثْلِه، كالأعْمالِ الدَّنيَّةِ في حَقِّ أشْرافِ النّاسِ المُرْتفعِين عن فِعْلِها في العادَةِ، أو يَعْجِزُ عن عَمَلِه؛ لكَوْنِه لا يُحْسِنُه، فإنَّه يَجُوزُ (¬2) له التَّوْكِيلُ فيه؛ لأنَّه إذا كان ممَّا لا يَعْمَلُه الوَكِيلُ عادَةً، انْصَرَفَ الإِذْنُ إلى ما جَرَتْ به العادَةُ مِن الاسْتِنابةِ فيه. القِسْمُ الثّانِي، أن يكونَ ممَّا يعملُه بنَفْسِه، إلَّا أنَّه يَعْجِزُ عن عَمَلِه؛ لكَثْرَتِه وانتِشارِه، فيَجُوزُ له التَّوْكِيلُ في عَمَلِه أيضًا؛ لأنَّ الوَكالةَ اقْتَضتْ جَوازَ التَّوْكِيلِ، ¬

(¬1) في م: «يترفع». (¬2) في م: «لا يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فجاز التوْكِيلُ] (¬1) في فِعْلِ جميعِه، كما لو أَذِن فيه بلفظِه. وقال القاضي: عندي إنَّما له التَّوْكيلُ فيما زاد على ما يَتمكَّنُ مِن عَمَلِه بنَفْسِه؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ إنما جاز للحاجَةِ، فاخْتَصَّ ما دَعَتْ إليه الحاجَةُ، بخِلافِ وُجُودِ إذْنِه، فإنَّه مُطْلَق. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهَذَين. القِسْمُ الثّالثُ، ما عَدا هذَينِ القِسْمَين، وهو ما يُمْكِنُه عَمَلُه بنَفْسِه ولا يَرْتَفِعُ (¬2) عنه، فهل يَجُوزُ له التَّوْكِيلُ فيه؟ على رِوايَتَينِ؛ إحْداهما، لا يَجُوزُ. نَقَلهَا ابنُ مَنْصورٍ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ، والشافعيِّ؛ لأنه لم يَأْذَنْ له بالتَّوْكِيلِ ولا تَضَمَّنَه إذْنُه، فلم يَجُزْ، كما لو نَهاه، ولأنَّه اسْتئْمانٌ فيما يُمْكِنُه النُّهُوضُ فيه، فلم يكُنْ له أن يُوَلِّيَه مَن لم يَأْمَنْه عليه، كالوَدِيعةِ. والثانيةُ، يَجُوزُ. نقَلَهَا حَنْبَلٌ (¬3). وبه قال ابنُ أبي لَيلَى، إذا مَرِض أو غاب؛ لأنَّ الوَكِيلَ له أن يَتَصَرَّفَ بنَفْسِه، فمَلَكَه بنائبِه، كالمالِكِ. والأُولَى أوْلَى. ولا يُشْبِهُ الوَكِيلُ المالِكَ؛ فإنَّ المالِكَ يتَصَرَّفُ في مِلْكِه كيف شاء؛ بخِلافِ الوَكِيلِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يترفع». (¬3) في م: «أحمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ وَكِيلٍ جاز له التَّوْكِيلُ، فليس له أن يُوَكِّلَ إلَّا أمينًا؛ لأنَّه لا نَظَرَ للمُوَكِّلِ في تَوْكِيلِ من ليس بأمِينٍ، فَيُقَيَّدُ (¬1) جوازُ التَّوْكِيلِ بما فيه الحظُّ والنَّظَرُ، كما أنَّ الإِذْنَ في البَيعِ يَتَقَيَّدُ بالبَيعِ بثَمَنِ المِثْلِ، إلَّا أن يُعَيِّنَ له المُوَكِّلُ مَن يُوَكِّلُه، فيَجُوزُ توْكِيلُه وإن لم يكنْ أمِينًا؛ لأنَّه قَطَع نَظَرَه بتَعْيِينه. فإن وَكَّلَ أمِينًا فصار خائِنًا، فعليه عَزْلُه؛ لأنَّ تَرْكَه يتَصَرَّفُ مع الخِيانَةِ تَضْيِيعٌ وتَفْرِيطٌ، والوَكالةُ تَقْتَضِي اسْتِئْمانَ أمِينٍ، وهذا ليس بأَمِينٍ، فوَجَبَ عَزْلُه. ¬

(¬1) في م: «فيفيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والحُكْمُ في الوَصِيِّ يُوَكِّلُ فيما أُوصِيَ به إليه، وفي الحاكِمِ يُوَلَّى القَضاءَ في ناحِيةٍ يَسْتَنِيبُ غيرَه، حُكْمُ الوَكِيلِ فيما ذَكَرْنا مِن التفْصِيلِ، إلَّا أنَّ المَنْصُوصَ عن أحمدَ، في رِوايَةِ مُهَنَّا، جَوازُ ذلك. وهو قولُ الشافعَيِّ في الوَصِيِّ؛ لأنَّ الوَصِيَّ يتَصَرَّفُ بوَلائِه، بدَليلِ أنَّه يتَصَرَّفُ (¬1) فيما لم يُنَصَّ له على التَّصَرُّفِ فيه، والوَكِيلُ لا يَتَصَرَّفُ إلَّا فيما نُصَّ له عليه. قال شيخُنا (¬2): والجَمْعُ بينَهما أوْلَى؛ لأنَّه مُتَصَرِّفٌ في مالِ غيرِه بالإذْنِ، فأشْبَهَ الوَكِيلَ، وإنَّما يتَصَرَّفُ فيما اقْتَضَتْه الوَصِيَّةُ، كالوَكِيلِ، إنَّما يتَصَرَّفُ فيما اقْتَضَتْه الوَكالةُ. فصل: فأمَّا الوَلِيُّ في النِّكاح، فله التَّوْكِيلُ في تَزْويجِ مُوَلِّيتِه بغيرِ إذْنِها، أبًا كان أو غيرَه. وقال القاضي، في مَن لا يَجُوزُ له الإِجْبارُ: هو (¬3) كالوَكِيلِ، يُخَرجُ على الرِّوايَتَينِ المَنْصُوصِ عليهما في الوَكيلِ. ولأصحابِ الشافعيِّ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ إلَّا بإذْنِها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ التَّزْويجَ إلَّا بإذْنِها، أشْبَهَ الوَكِيلَ. ولنَا، أنَّ ولايَتَه مِن غيرِ ¬

(¬1) في م: «لم يتصرف». (¬2) في: المغني 7/ 209. (¬3) في م: «هل هو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جِهَتِها، فلم يُعْتَبرْ إذنها في تَوْكيلِه فيها، كالأبِ، بخِلافِ الوَكِيلِ، فإنَّ الوَلِيَّ مُتصَرِّفٌ بحُكْم الولايةِ الشَّرْعِيَّةِ، أشْبَهَ الحاكِمَ، ولأنَّ الحاكِمَ يَمْلِكُ تَفْويضَ عُقُودِ الأَنْكِحَةِ إلى غيرِه بغيرِ إذْنِ النِّساءِ، فكذلك الوَليُّ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالحاكِمِ. والذي يُعْتَبرُ إذنها فيه هو غيرُ ما يُوَكَّلُ فيه، بدَليلِ أنَّ الوَكِيلَ لا يَسْتَغْنِي عن إذْنِها في التَّزْويجِ، فهو كالمُوَكَّلِ في ذلك. فصل: إذا أذِنَ المُوَكِّلُ في التَّوْكِيلِ، فوَكَّلَ، كان الوَكِيلُ الثانِي وَكِيلًا للمُوَكِّلِ، لا يَنْعزِلُ بمَوتِ الوَكِيلِ الأوَّلِ ولا عَزْلِه، ولا يَمْلِكُ الأوَّلُ عَزْلَ الثانِي؛ لأنَّه ليس بوَكِيلِه. وإن أذِنَ له أن يُوَكِّلَ لنَفْسِه، جاز، وكان وَكِيلًا للوَكِيلِ، يَنْعزلُ بمَوْتِه وعَزْلِه. وإن مات المُوَكِّلُ، أو عُزِل الأوَّلُ، انْعزَلا جَميعًا؛ لأنَّهما فرْعان له، لكنَّ أحَدَهما فَرْع الآخَرِ، فذَهَبَ حُكْمُهما بذَهابِ أصْلِهما. وإن وَكّلَ مِن غيرِ أن يُؤْذَنَ له في التَّوكِيلِ نُطْقًا، بل وُجِد عُرْفًا، أو على الرِّوايَةِ التي أجَزْنا له التَّوكِيلَ مِن غير إذْنٍ، فالثانِي وَكِيلُ الوَكِيلِ الأوَّلِ، حُكْمُه حُكْمُ ما لو أذِنَ له أن يُوَكِّلَ لنَفْسِه.

1994 - مسألة: (ويجوز توكيل عبد غيره بإذن سيده)

وَيَجُوزُ تَوْكِيلُ عَبْدِ غَيرِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيرِ إِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1994 - مسألة: (ويَجُوزُ تَوْكِيلُ عَبْدِ غيرِه بإذْنِ سَيِّدِه) لأنَّ المَنْعَ لِحَقِّ السَّيِّدِ، فجاز بإذْنِه (ولا يَجُوزُ بغيرِ إذْنِه) لأنَّه لا يجوزُ له التَّصرفُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه؛ لكَوْنِه مَحْجُورًا عليه. فإذا أذِنَ في ذلك، صَحَّ، كما تصِحُّ تَصَرُّفاتُه بإذْنِه.

1995 - مسألة: (فإن وكله بإذنه في شراء نفسه من سيده، فعلى روايتين)

وَإنْ وَكَّلَهُ بِإِذْنِهِ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ سَيِّدِهِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1995 - مسألة: (فإن وَكّلَه بإذْنِه في شِراءِ نَفْسِه مِن سَيِّدِه، فعلى رِوايَتَين) إحْداهما، يَصِحُّ. وبه قال أبو حنيفةَ، وبعضُ الشّافِعيَّةِ. والثانيةُ، لا يَجُوزُ. وهو قولُ بعضِ الشّافعِيَّةِ؛ لأنَّ يَدَ العَبْدِ كيَدِ سَيِّدِه، فأشْبَهَ ما لو وَكَّلَه في الشراءِ مِن نَفْسِه، ولهذا يُحْكَمُ للإِنْسانِ بما في يَدِ عَبْدِه. ولَنا، أنَّه يَجُوزُ أن يَشْتَريَ عَبْدًا مِن غيرِ مَوْلاه، فجاز أن يَشتَرِيَه مِن مَوْلاه، كالأجْنَبِيِّ، وإذا جازَ أن يَشْتَرِيَ غيرَه، جاز أن يَشْتَرِيَ نَفْسَه، كما أنَّ المرأةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَمّا جاز تَوْكِيلُها في طَلاقِ غيرِ ما، جاز في طَلاقِ نَفْسِها. والوَجْهُ الذي ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ أكْثَرَ مَا يُقَدَّرُ (¬1) جَعْلُ تَوْكِيلِ العَبْدِ كتَوْكِيلِ سَيِّدِه، وَسنَذْكُرُ صِحَّةَ تَوْكِيلِ السَّيِّدِ في البَيعِ والشِّراءِ مِن نَفْسِه، فههنا أوْلَى. فعلى هذا، إذا قال العَبْدُ: اشْتَرَيتُ نَفْسِي لزيدٍ. وصَدَّقاه، صَحَّ، ولَزِم زيدًا الثَّمَنُ. وإن قال السَّيِّدُ: ما اشرَّيتَ نَفْسَكَ إلَّا لِنَفْسِك. عَتَق العَبْدُ؛ لإِقْرارِ السَّيِّدِ على نَفْسِه بما يَعْتِقُ به العَبْدُ (¬2)، ويَلْزَمُ العَبْدَ الثَّمَنُ في ذِمَّتِه لسَيِّدِه؛ لأنَّ زيدًا لا يَلْزَمُه الثَّمَنُ، لعَدَم حُصُولِ العَبْدِ له، وكَوْنِ سَيِّدِه لا يَدَّعِيه عليه، فلَزِمَ العَبْدَ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ مِمَّن باشَرَ العَقْدَ أنَّه له. وإن صَدَّقَه السَّيِّدُ وكَذَّبَهُ زيدٌ، نَظرتَ في تَكْذِيبِه، فإن كَذَّبَه في الوَكالةِ، حَلَف وَبرِئ، وللسَّيِّدِ فَسْخُ البَيعِ، واسْتِرْجاعُ عَبْدِه لتَعَذر ثَمَنِه، وإن صَدَّقَه في الوَكالةِ، وقال: ما اشْتَريتَ نَفْسَك لي. فالقولُ قولُ العَبْدِ؛ لأنَّ الوَكِيلَ يُقْبَلُ قَوْلُه في التَّصَرُّفِ المَأْذُونِ فيه. ¬

(¬1) بعده في م: «ها هنا». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَكّلَ عَبْدَه في إعْتاقِ نَفْسِه، أو امْرأتَه في طَلاقِ نَفْسِها، صَحَّ. وإن وَكَّلَ العَبْدَ في إعْتاقِ عَبِيدِه، أو المرأةَ في طَلاقِ نِسائِه، لم يَمْلِكِ العَبْدُ (¬1) إعْتاقَ نَفْسِه، ولا المرأةُ طَلاقَ نَفْسِها؛ لأنَّه يَنْصَرِفُ بإطْلاقِه إلى التَّصَرُّفِ في غيرِه. ويَحْتمِلُ أنَّ لهما (¬2) ذلك؛ لشُمُولِهما (¬3) عُمُومَ اللَّفْظِ، كما يَجُوزُ للوَكيلِ في البَيعِ أن يَبِيعَ مِن نَفْسِه، في إحْدَى الرِّوايتَين. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لهم». (¬3) في الأصل: «لشمولها».

1996 - مسألة: (والوكالة عقد جائز من الطرفين، لكل واحد منهما فسخها)

وَالْوَكَالةُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَينِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن وَكَّلَ غَرِيمَه في إبْراءِ نَفْسِه، صَحَّ؛ لأنَّه وَكَّلَه في إسْقاطِ حَقٍّ عن (¬1) نَفْسِه، فهو كتَوْكِيلِ العَبْدِ في إعْتاقِ نفْسِه. وإن وَكَّلَه في إبْراءِ غُرَمائِه، لِم يكنْ له أن يُبْرِئ نفْسَه، كما لو وَكَّلَه في حَبْسِ غُرَمائِه، لم يَمْلِكْ حَبْسَ نفْسِه، وإن وَكَّلَه في خُصُومَتِهم، لم يكنْ وَكِيلًا في خُصُومَةِ نَفْسِه. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ إبْراءَ نَفْسِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. وإن وَكّلَ المَضْمُونَ عنه في إبْراءِ الضّامِنِ، فأبْرَأه، صَحَّ، ولم يَبْرَأ المَضْمُونُ عنه. وإن وَكَّلَ الضّامِنَ في إبْراءِ المَضْمُونِ عنه، أو الكَفِيلَ في إبْراءِ المَكْفُولِ عنه، صَحَّ، وبَرِئَ الوَكِيلُ ببراءَتِه؛ لأنَّه فَرْعٌ عليه، فإذا بَرِئَ الأصْلُ بَرِئَ الفَرْعُ. 1996 - مسألة: (والوَكالةُ عَقْدٌ جائِز مِن الطَّرَفَين، لكلِّ واحِدٍ منهما فَسْخُها) متى شاء؛ لأنَّه إذْن في التَّصَرُّفِ، فكان لكلِّ واحِدٍ منهما ¬

(¬1) في م: «من».

1997 - مسألة: (وتبطل بالموت، والجنون، والحجر للسفه. وكذلك كل عقد جائز، كالشركة والمضاربة. ولا تبطل بالسكر، والإغماء، والتعدي)

وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَالْجُنُونِ، وَالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ، كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَلَا تَبْطُلُ بِالسُّكْرِ، وَالإغْمَاءِ، وَالتَّعَدِّي. ـــــــــــــــــــــــــــــ إبْطالُه، كالإذْنِ في أكْلِ طَعامِه. فإن وَكَّلَ المُرْتَهِنَ في بَيعِ الرَّهْنِ اخْتِلافٌ ذَكَرْناه. 1997 - مسألة: (وتَبْطُلُ بالمَوْتِ، والجُنُونِ، والحَجْرِ للسَّفَهِ. وكذلك كل عَقْدٍ جائِز، كالشَّرِكَةِ والمُضارَبَةِ. ولا تَبْطُلُ بالسُّكْرِ، والإغماءِ، والتَّعَدِّي) تَبْطُلُ الوَكالةُ بمَوْتِ المُوَكِّلِ أو (¬1) الوَكِيلِ، [وجُنُونِه المُطْبِقِ] (¬2)، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، إذا عُلِم الحالُ. ¬

(¬1) في ر، ق، م: «و». (¬2) في م: «وجنون المطلق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك تَبْطُلُ بخُرُوجِه عن أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، كالحَجْرِ عليه لسَفَهٍ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، فلا يَمْلِكُه غيرُه مِن جِهَتِه، كالجُنُونِ والمَوْتِ. وكذلك كلُّ عَقْدٍ جائِزٍ، كالشَّرِكَةِ والمُضارَبَةِ، قِياسًا على الوَكالةِ. قال أحمدُ في الشَّرِكَةِ: إذا وُسْوسَ أحَدُهما، فهو مِثْلُ العَزْلِ. فصل: فإن حُجِر على الوَكِيلِ لفَلَس، فالوَكالةُ بحالِها؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ عن أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وإن حُجِر على المُوَكِّلِ، وكانتِ الوَكالةُ في أَعْيانِ مالِه، بَطَلَتْ؛ لانْقِطاعِ تَصَرُّفِه فيها (¬1). وإن كانت في الخُصُومَةِ، أو الشِّراء في الذِّمَّةِ، أو الطَّلاقِ، أو الخُلْعِ، أو القِصاصِ، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّ المُوَكِّلَ أهْل لذلك. وإن فَسَق الوَكِيلُ لم يَنْعَزِلْ؛ لأنَّه مِن أهْلِ (¬2) التَّصَرُّفِ، إلَّا أن تكونَ الوَكالةُ فيما يُنافِيه الفِسْقُ، كالإيجابِ في عَقْدِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ، فإنَّه يَنْعَزِلُ بفِسْقِ أحَدِهما؛ لخُرُوجِه عن أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وإن كان وَكِيلًا في القَبُولِ، لم يَنْعزِلْ بفِسْقِ مُوَكِّلِه؛ لأنَّه لا يُنافِي جَوازَ (¬1) قَبُولِه. وهل يَنْعزِلُ بفِسْقِ نَفْسِه؟ على وَجْهَين؛ أوْلاهما، أنَّه لا يَنْعزِلُ؛ لأَنه يَجُوزُ أن يَقْبَلَ النِّكاحَ لنَفْسِه، فجاز أن يَقْبَلَه لغيرِه، كالعدْلِ. وإن كان وَكِيلًا فيما يُشْتَرَطُ فيه الأمانَةُ، كوَكِيلِ وَلِيِّ اليَتيم، ووليِّ الوَقْفِ على المَساكِينِ، ونحو هذا، انْعَزَلَ بفسْقِه، وفِسْقِ مُوَكِّلِه؛ لخُرُجِهما بذلك عن أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وإن كان وَكِيلًا لوَكِيلِ مَن يتَصَرَّفُ في مالِ نَفْسِه، انْعَزَلَ بفسْقِه؛ لأنَّ الوَكِيلَ ليس له تَوْكِيلُ فاسِقٍ، ولا يَنْعَزِلُ بفِسْقِ مُوَكِّلِه؛ لأنَّ مُوَكِّلَه وَكِيل لرَبِّ المالِ، ولا يُنافِيه الفِسْقُ. ¬

(¬1) في الأصل: «قول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَبْطُلُ الوَكالةُ بالنَّوْمْ، والسُّكْرِ، والإِغْماء؛ لأنَّ ذلك لا يُخْرِجُه عن أهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، ولا تَثْبُتُ عليه الولايَةُ، إلًّا أن يَحْصُلَ الفِسْقُ بالسُّكْرِ، فقد ذَكَرْناه مُفَصَّلًا. ولا تَبْطُلُ بالتَّعَدِّي فيما وُكِّلَ فيه، مثلَ لُبْسِ الثَّوْبَ، ورُكُوبِ الدّابَّةِ. وهذا أحَدُ الوَجْهين لأصْحابِ الشافعيِّ. والثانِي، تَبْطُلُ بذلك، لأنَّها عَقْدُ أمَانَةٍ، فبَطَلَتْ بالتَّعَدِّي، كالوَدِيعَةِ. ولنَا، أنَّه تَصَرُّفٌ بإذْنِ مُوَكِّلِه، فصَحَّ، كما لو لم يَتَعَدَّ. ويُفارِقُ الوَدِيعَةَ مِن حيثُ إنَّها أمانَة مُجَرَّدَةٌ، فنافاها التَّعَدِّي والخِيانَةُ، والوَكالةُ إذْنٌ في التَّصَرُّفِ تَضَمَّنَتِ الأمانَةَ، فإذا انْتَفَتِ الأمانَةُ بالتعدِّي، بَقِيَ الإذْنُ بحالِه. فعلى هذا، لو وَكَّلَه في بَيعِ ثَوْبٍ فلَبِسَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صار ضامِنًا. فإذا باعَه، صَحَّ بَيعُه، وبَرِئَ مِن ضَمانِه؛ لدخولِه في مِلْكِ المُشْتَرِي وضَمانِه. فإذا قَبَضَ الثَّمَنَ، كما كان أمانَةً في يَدِه غيرَ مَضْمُونٍ عليه؛ لأَنه قَبَضَه بإذْنِ المُوَكِّلِ ولم يَتَعدَّ فيه. ولو دَفَع إليه مالًا، ووَكَّلَه أن يَشْتَرِيَ به شيئًا فتَعَدَّى في الثَّمَنِ، صار ضامِنًا له (¬1)، وإذا اشْتَرَى به وسَلَّمَه زال الضَّمانُ، وقَبْضُه للمَبِيعِ قَبْضُ أمانَةٍ. وإن ظَهَر بالمَبِيعِ عَيبٌ فرُدَّ عليه، أو وَجَد هو بما اشْتَراه عَيبًا فرَدَّه وقَبَض الثَّمَنَ، كان مَضْمُونًا عليه؛ لأنَّ العَقْدَ المُزِيلَ للضَّمانِ زال، فعاد ما زال به. ¬

(¬1) سقط من: م.

1998 - مسألة: (وهل تبطل بالردة، وحرية العبد؟ على وجهين)

وَهَلْ تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، وَحُرِّيَّةِ عَبْدِهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1998 - مسألة: (وهل تَبْطُلُ بالردة، وحُرِّيَّةِ العبدِ؟ على وَجْهَين) يَصِحُّ تَوْكِيلُ المُسْلِمِ كافِرًا فيما يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه، سَواء كان ذِمِّيًّا، أو مُسْتَأْمَنًا، أو حَرْبِيًّا، أو مُرْتَدًّا؛ لأنَّ العَدالةَ لا تُشْتَرطُ في صِحَّة الوَكالةِ، فكذلك الدّينُ، كالبَيعِ. فإن وَكَّلَ مُسْلِمًا فارْتَدَّ، لم تَبْطُلْ وكالتُه، في أحَدِ الوَجْهَين، سواء لَحِق بدارِ الحَرْبِ أو أقام. وقال أبو حنيفةَ: تَبْطُلُ إذا لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ؛ لأنَّه صار منهم. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ تَصَرُّفُه لنَفْسِه، فلم تَبْطُلْ وَكالته، كما لو لم يَلْحَقْ بدارِ الحَرْبِ، ولأنَّ الرِّدَّةَ لا تَمْنَعُ ابتداءَ الوَكالةِ، فلا تَمْنَعُ اسْتِدامَتَها، كسائِر الكُفْرِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تَبْطُلُ بالردَّةِ إذا قُلْنا: إن المُرْتَدَّ تَزُولُ أَمْلاكُه وتَبْطُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَصَرُّفاتُه. والوَكالةُ تَصَرُّفٌ. وإنِ ارتَدَّ المُوَكِّلُ، لم تَبْطُلِ الوَكالةُ فيما له التَّصَرُّفُ فيه، فأمّا الوَكِيلُ في مالِه فيَنْبَنِي على تَصَرُّفِه نَفْسِه، فإن قلنا: يَصِحُّ تَصرُّفُه. لم يَبْطُلْ تَوْكِيلُه. وإن قُلْنا: هو مَوْقُوفٌ. فوَكالته مَوْقُوفَةٌ. وإن قُلْنا: يَبْطُلُ تَصرُّفُه. بَطَل تَوْكِيلُه. وإن وكَّلَ في حالِ رِدَّتِه، ففيه الوُجُوهُ الثلاثةُ. فصل: وإن وَكَّلَ عَبْدَه، ثم أعْتَقَه أو باعَه، لم يَنْعَزِلْ؛ لأنَّ زَوالَ مِلْكِه لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ الوَكالةِ، فلا يَقْطَعُ اسْتِدامَتَها. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تَبْطُلُ؛ لأنَّ توْكِيلَ عَبْدِه ليس بتَوكِيلٍ في الحَقِيقَةِ، إنَّما هو اسْتِخْدامٌ بحَقِّ المِلْكِ، فيَبْطُلُ بزوالِ المِلْكِ وهكذا الوَجْهَانِ فيما إذا وَكَّلَ عَبْدَ غيرِه ثم باعَه السَّيِّدُ. والصَّحِيحُ الأوّلُ؛ لأن سَيِّدَ العَبْدِ أذِنَ له في بَيعِ مالِه، والعِتْقُ لا يُبْطِلُ الإذْنَ، وكذلك البَيعُ، إلَّا أنَّ المُشْتَرِيَ إن رَضِيَ ببقائِه على الوَكالةِ وإلَّا بَطَلَتْ. فإن وَكَّلَ عَبْدَ غيرِه فأعْتَقَه، فقال شيخُنا (¬1): لا تَبْطُلُ الوَكالةُ وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ هذا تَوكِيلٌ حَقِيقَةً، ¬

(¬1) في: المغني 7/ 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعِتْقُ غيرُ مُنافٍ له (¬1). وإنِ اشْتَرَاهُ المُوَكِّلُ منه، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّ مِلْكَه إيّاه لا ينافِي إذْنَه له في البَيعِ والشِّراءِ. وإن وَكَّلَ امْرَأتَه، ثم طَلَّقَها، لم تَبْطُلِ الوَكالةُ؛ لأنَّ (1) زوال النِّكاحِ لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ الوَكالةِ، فلم يَمْنَع اسْتِدامَتَها. فصل: وإن تَلِفَتِ العَينُ التي وَكَّلَ في التَّصرُّفِ فيها، بَطَلَتِ الوَكالةُ؛ لأن مَحَلَّها ذَهَب، فذَهَبَتِ الوَكالةُ، كما لو وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدٍ فمات. و (¬2) لو دَفَع إليه دِينارًا، ووَكَّلَه في الشِّراءِ [به فهَلَكَ الدِّينارُ أو ضاع، أو تَصَرَّفَ فيه الوَكيلُ، بَطَلَتِ الوَكالةُ، سَواءٌ وَكَّلَه في الشِّراءِ] (¬3) بِعَينه أو مُطْلَقًا؛ لأنَّه إن وَكُّلَه في الشِّراءِ بعَينه، فقد اسْتَحال الشِّراءُ به بعدَ تَلَفِه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «وكذا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبَطَلَتِ الوَكالةُ، وإن وَكَّلَه في الشِّراءِ مُطْلَقًا. ونَقَد الدِّينارَ، بَطَلَتْ أيضًا؛ لأنَّه إنَّما وَكَّلَه في الشِّراء به، ومَعْناه أن يَنْقُدَه ثَمَنَ ذلك المَبِيعِ، إمّا قبلَ الشِّراءِ أو بعدَه، وقد تَعَذَّرَ ذلك بِتَلَفِه، ولأنَّه لو صَحَّ شِراؤُه، للَزِمَ المُوَكِّلَ ثَمَن لم يَلْتَزِمْه، ولا رَضِيَ بلُزُومِه. وإنِ اسْتَقْرضَه الوَكِيلُ، وعَزَل دِينارًا عِوَضَه واشْتَرَى به، فهو كالشِّراءِ له مِن غيرِ إذْنٍ؛ لأنَّ الوَكالةَ بَطَلَتْ، والدِّينارُ الذي عَزَلَه عِوَضًا لا يَصِيرُ للمُوَكِّلِ حتى يَقْبِضَه، فإذا اشْتَرَى للمُوَكِّلِ به شيئًا، وَقَف على إجازَةِ المُوَكِّلِ، فإن أجازَه، صَحَّ، ولَزِمَه الثَّمَنُ، وإلَّا لَزِم الوَكِيلَ. وعنه، يَلْزَمُ الوَكِيلَ بكلِّ حالٍ. وقال القاضي: متى اشْتَرَى بعَينِ مالِه شيئًا لغيرِه بغيرِ إذْنِه، فالشِّراءُ باطِلٌ؛ لأنَّه (¬1) لا يَصِحُّ أن يَشْتَرِيَ بعَينِ مالِه ما يَمْلِكُه غيرُه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: متى اشْتَرَى بعَينِ مالِه شيئًا لغيرِه، صَحَّ الشِّراءُ للوَكِيلِ؛ لأنَّه اشْتَرَى له ما لم يُؤْذَنْ له فيه، أشْبَهَ ما لو اشْتَراهُ في الذِّمَّةِ. فصل: نَقَل الأثْرَمُ عن أحمدَ، في رجلٍ كان له على آخَرَ دَراهِمُ، فقال له: إذا أمْكَنَك قَضاؤُها فادْفَعْها إلى فُلانٍ. وغاب صاحِبُ الحَقِّ، ولم ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوصِ إلى هذا الذي أَذِنَ له في القَبْضِ، لكنْ جَعَلَه وَكِيلًا، وتَمَكَّنَ مَن عليه الدَّيْنُ مِن القَضاءِ، فخاف إن دَفَعَها إلى الوَكِيلِ أن يكونَ المُوَكِّلُ قد مات، ويَخافُ التَّبِعَةَ مِن الوَرَثةِ، فقال: لا يُعْجِبُنِي أَن يَدْفَعَ إليه، لَعَلَّه قد مات، لكنْ يَجْمَعُ بينَ الوَكِيلِ والوَرِثَةِ، ويَبْرَأُ إليهما مِن ذلك. هذا ذَكَره أحمدُ على طَرِيقِ النَّظَرِ للغَرِيمِ، خوْفًا مِن التَّبِعَةِ مِن الوَرَثَةِ إن كان مَوْرُوثُهم قد مات فانْعَزَلَ وَكِيلُه وصار الحَقُّ لهم، فَيرْجِعُون على الدّافِع إلى الوَكِيلِ. فأمّا مِن طَريقِ الحُكْمِ، فللوكِيلِ المطالبَةُ، وللآخَرِ الدَّفْعُ إليه، فإنَّ أحمدَ قد نَصَّ في رِوايةِ حَرْبٍ: إذا وَكّلَه [في الحَدِّ] (¬1) وغاب، اسْتَوفاه الوَكِيلُ. وهو أبْلَغُ مِن هذا؛ لكَوْنِه يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، لكنَّ هذا احْتِياط حَسَن، وتَبْرِئَة للغَرِيمِ ظاهِرًا وباطنًا، وإزالةُ التَّبِعَةِ عنه. وفي هذه الرِّوايَةِ دَلِيلٌ على أنَّ الوَكِيلَ انْعَزَلَ بمَوْتِ المُوَكِّلِ وإن لم يَعْلَمْ بمَوْتِه؛ لأنه اخْتارَ أن لا يَدْفَعَ إلى الوَكِيلِ خَوْفًا مِن أن يكونَ المُوَكِّلُ قد مات فانْتَقَلَ إلى الوَرَثَةِ. ويَجُوزُ أن يكونَ اخْتارَ هذا لئلَّا يكونَ القاضي ممَّن يَرَى أنَّ الوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بالمَوْتِ، فيَحْكُمُ عليه بالغرامةِ، وفيها ¬

(¬1) سقط من: م.

1999 - مسألة: (وهل ينعزل الوكيل بالموت والعزل قبل علمه؟ على روايتين)

وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْمَوْتِ وَالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَلِيلٌ على جَوازِ تَراخِي القَبُولِ عن الإِيجابِ؛ لأنَّه وَكَّلَه في قَبْضِ الحَقِّ ولم يَعْلَمْه، ولم يكنْ حاضِرًا فيَقْبَلَ. وفيها دَلِيلٌ على صِحَّةِ التَّوكيلِ (¬1) بغيرِ لَفْظِ التَّوكيل. وقد نَقَل جَعْفرُ بنُ محمدٍ، في رَجلٍ قال لرجلٍ: بِعْ ثَوْبِي. ليس بشيءٍ حتى يقولَ: قد وَكَّلْتُكَ. وهذا سَهْوٌ مِن النّاقِلِ. وقد تَقَدّمَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ على جَوازِ التَّوْكيلِ بغيرِ لفظِه (¬2)، وهو الذي نَقَلَه الجمَاعَةُ. 1999 - مسألة: (وهل يَنْعزِلُ الوَكِيلُ بالمَوْتِ والعَزْلِ قبلَ عِلْمِه؟ على رِوايَتَينِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الوَكالةَ عَقْدٌ جائِز مِن الطَّرَفَينِ، وقد ذَكَرْنا ذلك، فللمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيله متى شاء، وللوَكِيلِ عَزْلُ نَفسِه [وقد ذَكَرْنَاه] (¬3). وتَبْطُلُ بموتِ أحَدِهما، وجُنُونِه المُطْبِقِ. ولا خِلافَ نَعْلَمُه في ذلك مع العِلْمِ بالحالِ. فمتى تَصَرَّفَ بعدَ فَسْخِ المُوَكِّلِ. أو ¬

(¬1) في الأصل: «التوكل». (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 436، 437. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْتِه، فهو باطِلٌ إذا عَلِمَ ذلك. وإن لم يَعْلَمْ بالعَزْلِ، ولا بمَوْتِ المُوَكِّلِ، ففيه رِوايَتان. وللشافِعيِّ فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، يَنْعزِلُ. وهو ظاهِر كَلامِ الخِرَقِيِّ. فعلى هذا، متى تَصَرَّفَ فبان أنَّ تَصَرُّفَه بعدَ عَزْلِه أو مَوْتِ مُوَكِّلِه، فتَصَرُّفُه باطِل؛ لأنَّه رَفْعُ عَقْدٍ لا يَفْتَقِرُ إلى رِضا صاحِبِه، فصَحَّ بغيرِ عِلْمِه، كالطَّلاقِ والعَتاقِ. والثانيةُ، لا يَنْعَزِلُ قبلَ عِلْمِه. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ جَعْفرِ بن محمدٍ؛ لِما في ذلك مِن (¬1) الضَّرَرِ؛ لأنَّه قد يتَصَرَّفُ تَصَرُّفات (¬2) فتَقَعُ باطِلةً، ورُبَّما باع الجارِيَةَ فيَطَؤُها المُشْتَرِي، أو الطَّعامَ فيَأكُلُه، أو غيرَ ذلك، فيتَصَرَّفُ فيه المُشْتَرِي، ويَجِبُ ضَمانُه، فيتَضَرَّرُ المُشْتَرِي والوَكِيلُ. [ولأنَّه] (¬3) يتَصَرَّفُ بأمْرِ المُوَكِّلِ، فلا يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ في حَقِّ المأْمُورِ قبلَ عِلْمِه، كالفَسْخِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، متى تصَرَّفَ قبلَ العِلْمِ، صَحَّ تَصَرُّفُه. وهذا قولُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «كثرة». (¬3) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي حنيفةَ. ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ أنَّ الوَكِيلَ إن عَزَل نَفْسَه، لم يَنْعَزِلْ إلَّا بحَضْرَةِ المُوَكِّلِ؛ لأنَّه مُتَصَرِّفٌ بأمْرِ المُوَكِّلِ، فلا يَصِحُّ رَدُّ أمْرِه بغيرِ حَضْرَتِه، كالمُودَعِ في رَدِّ الوَدِيعَةِ. وَوَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْناه. فأما الفَسْخُ ففيه وَجْهان كالرِّوايَتَينِ. ويُمْكِنُ الفَرْقُ بينَهما بأنَّ أمْرَ الشّارِعِ يَتَضَمَّنُ المَعْصِيَةَ بتَرْكِه، ولا يكونُ عاصِيًا مع عَدَمِ العِلمِ، وهذا يَتَضَمَّنُ العَزْلُ عنه إِبْطال التَّصَرُّفِ، فلا يَمْنَعُ منه عَدَمُ العِلْمَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وقَعَتِ الوَكَالةُ مُطْلَقَةً، مَلَك التَّصَرُّفَ أبدًا، ما لم يَفْسَخ الوَكالةَ، ويَحْصُلُ بقَوْلِه: فَسَخْتُ الوَكالةَ. أو: أبْطَلْتُها. أو: نَقَضْتُها. أو: أزَلْتُك. أو: صَرَفْتُكَ. أو: عَزَلْتُكَ عنها. أو يَنْهاه عن فِعلِ ما أمَرَه به، وما أشْبَهَ ذلك مِن الألفاظِ المُقْتَضِيةِ عَزْلَه، والمُؤَدِّيةِ مَعْناه، أو يَعْزِلُ الوَكِيلُ نَفْسَه، أو يُوجَدُ ما يَقْتَضِي فَسْخَها حُكمًا، على ما ذَكَرْنا، أو يُوجَدُ ما يَدُلُّ على الرُّجُوعِ عن الوَكالةِ. فإذا وَكَّلَه في طَلاقِ امْرَأتِه ثم وَطِئَها، انْفَسخَتِ الوَكالةُ؛ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على رَغْبَتِه فيها واخْتِيارِ إمْساكِها، وكذلك لو وَطِئَ الرَّجْعِيَّ كان ارْتجاعًا لها، فإذا اقْتَضَى رَجعَتَها بعدَ طَلاقِها، فلأن يَقْتَضِيَ اسْتِبْقاءَها على نِكَاحِه (¬1) ومَنْعَ [طَلاقِه أوْلَى] (¬2). وإن باشَرَها دُونَ الفَرْجِ، أو فَعَل ما يَحْرُمُ على غيرِ الزَّوْجِ، ¬

(¬1) في م: «نكاحها». (¬2) في م: «طلاقها».

2000 - مسألة: (وإذا وكل اثنين، لم يكن لأحدهما الانفراد

وَإذَا وَكَّلَ اثْنَينِ، لَمْ يَجُزْ لأحَدِهِمَا الانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، إلَّا أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فهل تَنْفَسِخُ الوَكالةُ في الطَّلاقِ؛ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ، بناءًا على الخِلافِ في حُصُولِ الرَّجْعَةِ به. وإن وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدٍ ثم كاتبَه أَو دَبَّرَه، انْفَسَختِ الوَكالةُ؛ لأنَّه على إحْدَى الرِّوايَتَين، لا يَبْقَى مَحَلًّا للبَيعِ، وعلى الرِّوايةِ الأخْرَى، تَصَرُّفُه فيه بذلك يَدُلُّ على أنَّه قَصَد الرُّجُوعَ عن بَيعِه. وإن باعَه بَيعًا فاسِدًا لم تَبْطُلِ الوَكالةُ؛ لأنَّ مِلْكَه في العَبْدِ لم يَزُلْ. ذَكَرَه ابن المُنْذِرِ. 2000 - مسألة: (وإذا وَكَّلَ اثْنَين، لم يكُنْ لأحَدِهما الانْفِرادُ

يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّصَرُّفِ، إلَّا أن يَجْعَلَ ذلك إليه) وجُمْلَة ذلك، أنَّه إذا وَكَّلَ وَكِيلَين وجَعَل لكلِّ واحِدٍ الانْفِرادَ بالتَّصَرُّفِ، فله ذلك؛ لأنَّه مَأْذُونٌ فيه وإن لم يَجْعَلْ له ذلك، فليس لأحَدِهما الانْفِراد به؛ لأنَّه لم يَأْذنْ في ذلك، وإنَّما يَجُوزُ له فِعْلُ ما أذِنَ فيه مُوَكِّلُه. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، فإن وَكَّلَهما في حِفْظِ جمالِه، حَفِظاه معًا في حِرْزٍ لهما؛ لأنَّ قَوْلَه: افْعَلا كذا. يَقْتَضِي اجْتِماعَهما على فِعْلِه، وهو مما يُمْكِن، فَتَعَلَّقَ بهما، وفارَقَ هذا قَوْلَه: بِعْتُكُما. حيثُ كان مُنْقَسِمًا بينَهما؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ أن يكونَ المِلْكُ لهما (1) على الاجْتِماعِ، فانْقَسمَ بينَهما. فإن غاب أحَدُ الوَكِيلَين، لم يكنْ للآخَرِ أن يَتَصَرَّفَ، ولا للحاكِمِ ضَمُّ أَمينٍ إليه ليَتَصَرَّفَا؛ لأنَّ المُوَكِّلَ رَشِيدٌ جائِزُ التَّصَرُّفِ، لا ولايةَ للحاكِمِ عليه، فلا يُقِيمُ الحاكِمُ وَكِيلًا (¬1) له بغيرِ إذْنِه. وفارَقَ ما لو مات أحَدُ الوَصِيَّين، حيث يُضِيفُ الحاكِم إلى الوَصِيِّ أمِينًا ليَتَصَرَّفَا؛ لكونِ الحاكِمِ له النَّظرُ في حَقِّ المَيِّتِ واليَتِيمِ، ولهذا لو لم يُوصَ إلى أحَدٍ، أقام الحاكِمُ أمِينًا في النَّظرَ لليَتِيمِ. وإن حَضَر الحاكِمَ أحَدُ الوَكِيلَين، والآخَرُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غائِبٌ، فادَّعَى الوَكالةَ لهما، وأقام بَيِّنَةً، سَمِعَها الحاكِمُ، وحَكَم بثُبُوتِ الوَكالةِ لهما، لم (¬1) يَمْلِكِ الحاضِرُ التَّصَرُّفَ وَحْدَه، فإذا حَضَر الآخَرُ تَصَرَّفا معًا، ولا يَحْتاجُ إلى إعادَةِ البَيِّنَةِ؛ لأنَّ الحاكِمَ سَمِعَها لهما مَرَّةً. فإن قِيلَ: هذا حُكْمٌ للغائِبِ. قُلْنا: يَجُوزُ تَبَعًا لحَقِّ الحاضِرِ، كما يَجُوزُ أن يَحْكُمَ بالوَقْفِ الذي يَثْبُتُ (¬2) لمَن لم يُخْلَقْ (¬3) لأجْلِ مَن يَسْتَحِقُّه في الحالِ، كذا ها هنا. وإن جَحَد الغائِبُ الوَكالةَ، أو عَزَل نَفْسَه، لم يكنْ للآخَرِ أن يَتَصَرَّفَ. وبما ذَكَرْناه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وجَمِيعُ التَّصَرُّفاتِ في هذا سَواءٌ. وقال أبو حنيفةَ: إذا وَكَّلَهما في خُصُومَةٍ، فلكلِّ واحِدٍ منهما الانْفِرادُ بها. ولنَا، أنَّه لم يَرْضَ بتَصَرُّفِ أحدِهِما، أشْبَهَ البَيعَ والشِّراءَ. ¬

(¬1) في النسخ: «ولم». (¬2) في الأص: «ثبت». (¬3) في م: «يحلق».

2001 - مسألة: (ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع لنفسه)

وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيعِ أن يَبِيعَ لِنَفْسِهِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ إِذَا زَادَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي الندَاءِ، أوْ وَكَّلَ مَنْ يَبِيعُ وَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2001 - مسألة: (ولا يَجوزُ للوَكِيلِ في البَيعِ أن يَبِيعَ لنَفْسِه) [ولا في الشِّراءِ أن يَشْتَرِيَ مِن نَفْسِه] (¬1) (وعنه، يجوزُ إذا زاد على مَبْلَغِ ثَمَنِه في النِّدَاءِ، أو وَكَّلَ مَن يَبِيعُ وكان هو أحَدَ المُشْتَرِين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن وُكِّلَ في بَيعِ شيءٍ، لم يَجُزْ أن يَبِيعَه لنَفْسِه، ولا للوَكِيلِ في الشِّراءِ أن يَشْتَرِيَ مِن نفسِه، في إحْدَى الرِّوايَتَينِ. نَقَلَها مُهَنّا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ وأصحابِ الرَّأي. وكذلك الوَصِيُّ، لا يَجُوزُ أن يَشْتَرِيَ مِن مالِ اليَتيمِ شيئًا لنَفْسِه، في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ في مالِكٌ، والأوْزاعِيِّ جَوازُ ذلك فيهما. والرِّوايَةُ الثانيةُ عن أحمدَ، يجوزُ لهما أن يَشتَرِيا بشَرْطَين؛ أحَدُهما، أن يَزِيدَ على مَبْلَغِ ثَمَنِه في النِّداءِ. والثانِي، أن يَتَولَّى النِّداءَ غيرُه. قال القاضي: يَحْتَمِلُ أن يكونَ ¬

(¬1) جاء هذا في م بعد قوله: «وكان هو أحد المشترين» في السطر التالي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتِراطُ تَوَلِّي غيرِه للنِّداءِ واجِبًا، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ مُسْتَحَبًّا، والأوَّلُ أشْبَهُ بظاهِرِ كلامِه. وقال أبو الخَطّابِ: الشَّرْطُ الثانِي، أن يُوَلِّيَ مَن يَبِيعُ ويكونَ هو أحَدَ المُشْتَرِين. فإن قِيلَ: فكيف يجوزُ له دَفْعُها إلى غيرِه ليَبِيعَها، وهذا تَوْكِيل وليس للوَكِيلِ التَّوْكِيلُ؟ قُلْنا: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيما لا يَتَولَّى مِثْلَه بنَفْسِه، والنِّداءُ ممّا لم تَجْرِ (¬1) العادَةُ أن يَتَوَلّاه أكْثَرُ النَّاسِ بنُفُوسِهِم. فإن وَكَّلَ إنْسانًا يَشْتَرِي له، وباع، جاز على هذه الرِّوايَةِ؛ لأنَّه امْتَثَلَ أَمْرَ مُوَكِّلِه في البَيعِ، وحَصَّلَ غرَضَه مِن الثَّمَنِ، فجاز، كما لو اشْتَراها أجْنَبِي. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ للوَصِيِّ الشِّراءُ دُونَ الوَكِيلِ؛ ¬

(¬1) بعده في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). وإذا اشْتَرَى مال اليَتيمِ بأكْثَرَ مِن ثَمَنِه، فقد قَرِبَه بالتي هي أحْسَنُ. ولأنَّه نائِبٌ عن الأبِ، وذلك جائِز للأبِ، فكدلك نائِبُه. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأولَى، أنَّ العُرْفَ في البَيعِ بَيعُ الرجلِ مِن غيرِه، فحُمِلَتِ الوَكالةُ عليه، كما لو صَرَّحَ به، ولأنَّه تَلْحَقُه التُّهْمَةُ، ويتَنَافَى الغَرَضان في بَيعِه لنَفْسِه، فلم يَجُزْ، كما لو نَهاه. والوَصِيُّ كالوَكِيلِ؛ لأنَّه يلي بَيعَ مالِ غيرِه بتَوْلِيَتِه، فَأشْبَهَ الوكيلَ، أو مُتَّهَم، فأشْبَهَ الوَكِيلَ، بل التُّهْمَة في الوَصِيِّ آكَدُ؛ لأنَّ الوَكِيلَ يُتَّهَمُ في تَرْكِ الاسْتِقْصاءِ في الثَّمَنِ لا غيرُ، والوَصِيُّ يُتَّهَمُ في ذلك، وفي أنَّه يَشْتَرى مِن مالِ اليَتيمِ ما لا حَظ لليَتِيمِ في بَيعِه، ¬

(¬1) سورة الأنعام 152، والإسراء 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان أَوْلَى بالمَنْعِ، وعندَ ذلك لا يكونُ أخْذُه لمالِه [قُرْبًا له] (¬1) بالتي هي أحْسَنُ. وقد رُوِيَ عن (¬2) ابنِ مسعودٍ، أنَّه قال في رجلٍ أوْصَى إلى رجلٍ بتَرِكَتِه، وقد تَرَك قَرِيبًا، فقال الوَصِيُّ: أشْتَرِيه. قال: لا. فصل: وحُكْمُ الحاكِمِ وأمِيِنه، كحُكْمِ الوَكِيلِ، والحُكْمُ في بَيع أحَدِ هؤلاء لوكِيلِه، أو وَلَدِه الصَّغيرِ، أو طِفْل يَلِي عليه، أو لوَكِيلِه، أو عَبْدِه المَأْذُونِ له، كالحُكْمِ في بَيعِه لنَفْسِه، كلُّ ذلك يُخَرَّجُ على رِوايَتَين، بِناءًا على بَيعِه لنَفْسِه. فأمّا بَيعُه لوَلَدِه الكَبِيرِ، أو والِدِه، أو مُكاتَبِه، فذَكَرَهم أصحابُنا أيضًا في جُمْلَةِ ما يُخَرَّجُ على رِوايَتَين. ولأصحابِ الشافعيِّ فيهم وَجْهان. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ بَيعُه لوَلَدِه الكَبِيرِ؛ لأنَّه امْتَثَلَ أمْرَ مُوَكِّلِه، ووافَقَ (¬3) العُرْفَ في بَيعِ غيرِه، كما لو باعَه لأخِيه، وفارَقَ البَيعَ لوَكِيلِه؛ لأنَّ الشِّراءَ إنَّما يَقَعُ لنَفْسِه، وكذلك بَيعُ عَبْدِه المَأْذُونِ، وبَيعُ طِفْلٍ يَلي عليه، بَيعٌ لنَفْسِه؛ لأنَّ الشِّراءَ إنَّما (¬4) يَقَعُ لنَفْسِه. ¬

(¬1) في م: «قربانا». (¬2) سقط من: م. (¬3) في ر، ق: «فارق». (¬4) سقط من: م. وفي الأصل: «لما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الجَمْعِ بينَهم، أنَّه يُتَّهَمُ في حَقِّهم، ويَمِيلُ إلى تَرْكِ الاسْتِقْصاءِ عليهم في الثَّمَنِ، كتُهْمَتِه في حَقِّ نَفْسِه، [ولذلك] (¬1) لا تُقْبَلُ شَهادَتُه لهم. والحُكْمُ فيما إذا أراد أن يَشْتَرِيَ لمُوَكِّلِه، كالحُكْمِ (¬2) في بَيعِه لمالِه؛ لأنَّهما سَواءٌ في المَعْنَى. فصل: وإن وَكَّلَ رَجلًا يَتَزَوَّجُ له امرأةً، فهل له أن يُزَوِّجَه ابْنَتَه؟ يُخَرَّجُ على ما ذَكَرْنا في الوَكِيلِ في البَيعِ، هل يَبِيعُ لوَلَدِه الكَبِيرِ؟ وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: يَجُوزُ. ووَجْهُ القَوْلَينِ ما تَقَدَّمَ فيما قبلَها (¬3). وإن أَذِنَتْ له مُوَلِّيتُه (¬4) في تَزْويجِها، خُرِّجَ في تَزْويجِها لنَفْسِه أو لوَلَدِه أو لوالِدِه وَجْهانِ، بناءً على ما ذُكِر في البَيعِ. وكذلك إن وَكَّلَه رجل في تَزْويجِ ابْنَتِه، خُرِّجَ فيه مِثْلُ ذلك. ¬

(¬1) في م: «وكذلك». (¬2) في م: «كالحاكم». (¬3) في م: «قبلهما». (¬4) في الأصل: «وليته».

2002 - مسألة: (وهل يجوز أن يبيعه لولده، أو والده، أو مكاتبه؟ على وجهين)

وَهَلْ يَجُوزُ أنْ يَبِيعَهُ لِوَلَدِهِ، أو وَالِدِهِ، أو مُكَاتَبِهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2002 - مسألة: (وهل يَجُوزُ أن يَبِيعَه لوَلَدِه، أو والِدِه، أو مُكاتَبِه؟ على وَجْهَينِ) وقد ذَكَرْناه في المسألَةِ قبلَها. فصل: فإن وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدِه، ووَكّلَه آخَرُ في شِرَاءِ عَبْدٍ، فقِياسُ المَذْهَبِ جَوازُ شِرائِه مِن نفْسِه؛ لأنَّه أُذِن له في طَرَفَي العَقْدِ، فجاز له أن يَليَهما إذا انْتَفَتِ التُّهْمَةُ، كالأبِ يَشْتَرِي مِن مالِ وَلَدِه لنَفْسِه. ولو وَكَّلَه المُتَدَاعِيان في الدَّعْوَى عنهما فالقِياسُ جوازُه؛ لأنَّه يُمْكِنُه الدَّعْوَى عن أحَدِهما والجَوابُ عن الآخَرِ، وإقامَةُ حُجَّةِ كل واحِدٍ منهما، ولأصحابِ الشافعيِّ في المَسْألَتَين وَجْهان. فصل: فإن أذِنَ للوَكِيلِ أن يَشْتَرِيَ مِن نَفْسِه، جاز ذلك. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَجُوزُ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه يَجْتَمِعُ له في عَقْدِه غَرَضان، الاسْتِرْخاصُ لنَفْسِه، والاسْتِقْصاءُ للمُوَكِّلِ، وهما مُتَضادَّان، فتَمانعا. ولَنا، أنَّه وَكَّلَه في التَّصَرُّفِ لنَفْسِه، فجاز، كما وَكّلَ المرأةَ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلاقِ نَفْسِها، ولأنَّ عِلَّةَ المَنْعِ مِن الشراءِ (¬1) لنَفْسِه في مَحَلِّ الاتِّفاقِ التُّهْمَةُ؛ لدَلالتِها على عَدَمِ رِضا المُوَكِّلِ بهذا التَّصَرُّفِ، وإخْراجِ هذا التَّصَرُّفِ عن عُمُومِ لَفْظِه وإرادَتِه، وقد صَرَّحَ ههُنا بالإِذْنِ فيها، فلا يَبْقَى (¬2) دَلالةُ الحالِ مع نَصِّه بلَفْظِه على خِلافِها. وقَوْلُهم: إِنَّه يتَضَادُّ مَقْصُودُه في البَيعِ والشِّراءِ. قُلْنا: إن عَيَّنَ المُوَكِّلُ له الثَّمَنَ فاشْتَرَى به (¬3)، فقد زال مَقْصُودُ الاسْتِقْصاءِ، فإنَّه لا يُرادُ أكْثَرُ ممَّا قد (¬4) حَصَّلَ، وإن لم يُعَيِّنْ له الثَّمَنَ تَقَيَّدَ (¬5) البَيعُ بثَمَنِ المِثْلِ، كما لو باع لأجْنَبِيٍّ (¬6). وقد ذَكَر أصحابُنا فيما إذا وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي له نَفْسَه مِن سَيِّدِه وَجْهًا، أنَّه لا يَجُوزُ، فيُخَرَّجُ ههُنا مِثْلُه. والصَّحِيحُ ما قلنا، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في م: «المشترى». (¬2) في م: «ينفى». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) في ق: «بعقد». وفي م: «بعيد». (¬6) في م: «الأجنبي».

2003 - مسألة: (ولا يجوز أن يبيع نساء، ولا بغير نقد البلد. ويحتمل أن يجوز، كالمضارب)

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً، وَلَا بِغَيرِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَيَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ، كَالْمُضَارِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2003 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أن يَبِيعَ نَساءً، ولا بغيرِ نَقْدِ البلدِ. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ، كالمضاربِ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُوَكِّلَ إذا عيَّنَ للوكِيلَ الشراءَ أو البيع بنقدٍ مُعَيَّنٍ أو حالٍّ، لم تَجُزْ مُخالفَتُه؛ لأنَّه إنَّما يَتَصَرَّف بإذْنِه، ولم يَأْذَنْ في غيرِ ذلك. وإن أذِن له في الشِّراءِ أو البَيعِ بنسِيئَةٍ، جاز. وإن أطْلَقَ، لم يَبعْ إلَّا حالًّا بنقْدِ البَلَدِ؛ لأنَّ الأصْلَ والبَيعِ الحُلُولُ، وإطْلاقُ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إلى نَقْدِ البَلَدِ، كما لو باع ماله. فإن كان في البَلَدِ نَقْدان، باع بأغْلَبِهما، فإن تَساوَيا، باع بما شاء منهما. وبهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ وصاحِباه: له البَيعُ نَساءً؛ لأنَّه مُعْتادٌ، فأشْبَهَ الحالَّ. ويتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك، بِناءً غلى الرِّوايَةِ في المضُارِبِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه لو أطْلَقَ البَيعَ حُمِل على الحُلُولِ، فكذلك إذا أطْلَقَ الوَكالةَ، ولا نُسَلِّمُ تَساويَ العادَةِ فيهما، فإنَّ بَيعَ الحالِّ أكْثَرُ. ويُفارِقُ المُضارَبَةَ (¬1) لوَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ المَقْصُودَ مِن المُضارَبَةِ الرِّبْحُ، لا دَفْعُ الحاجَةِ بالثَّمَنِ في الحالِ، وقد يكونُ المَقْصُودُ في الوَكالةِ دَفْعَ حاجَةٍ ¬

(¬1) في الأصل: «المضارب».

2004 - مسألة: (وإن باع بدون ثمن المثل، أو بأنقص مما قدره له، صح، وضمن النقص. ويحتمل أن لا يصح)

وَإنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أوْ بِأَنْقَصَ مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، صَحَّ، وَضَمِنَ النَّقْصَ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ناجِزَةٍ (¬1) تَفُوتُ بَتأْخِيرِ الثَّمَنِ. والثانِي، أنَّ اسْتِيفاءَ الثَّمَنِ: في المُضارَبَةِ على المُضارِبِ، فيَعُودُ ضَرَرُ التَأْخِيرِ في التَّقاضِي عليه، وههُنا بخِلافِهِ، فلا يَرْضَى به المُوَكِّلُ، ولأنَّ الضَّررَ في تَوَى الثَّمَنِ (¬2) على المُضارِبِ؛ لأنَّه يُحْسَبُ مِن الرِّبْحِ؛ لكَوْنِ الرِّبْحِ وقايَةً لرأْسِ المالِ، وههُنا يَعُودُ على المُوَكِّلِ، فانْقَطَعَ الإِلْحاق. 2004 - مسألة: (وإن باع بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ، أو بأنْقَصَ ممّا قَدَّرَه له، صَحَّ، وضَمِنَ النَّقْصَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ) وجُمْلَةُ ذلك، ¬

(¬1) في م: «بأجرة». (¬2) توى الثمن: هلاكه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ الوَكِيلَ ليس له أن يَبِيعَ بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ، أو دُونِ ما قَدَّرَه له. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: إذا أطْلَقَ الوَكالةَ في البَيعِ، فله البَيعُ بأيِّ ثَمَنٍ كان؛ لأنَّ لَفْظَه في الإِذْنِ مُطْلَقٌ، فيَجِبُ حَمْلُه على إطْلاقِه. ولَنا، أنَّه وَكِيل مُطْلَق في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فاقتَضَى ثَمَنَ المِثْلِ، كالشِّراءِ، فإنَّه قد وافَقَ عليه، وبه يَنْتَقِضُ دَلِيلُه. فإن باعَ بأقَلَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ثَمنِ المِثْلِ ممّا لا (¬1) يتَغَابَنُ النّاسُ بمِثْلِه أو بدُونِ ما قَدَّرَه له، فحُكْمُه حُكْمُ مَن لم يُؤْذَنْ (¬2) له في البَيعِ. وعن أحمدَ أنَّ (¬3) البَيعَ صَحِيحٌ، ويَضْمَنُ الوَكِيلُ النَّقْصَ؛ لَأنَّ مَن صَحَّ بيعُه بثَمَنِ المِثْلِ، صَحَّ بدُونِه، كالمَرِيضِ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، يكونُ على الوَكِيلِ ضَمانُ النَّقْصِ، وفي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يأذن». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدْرِه وَجْهان، أحَدُهما ما بينَ ثَمنِ المِثْلِ (¬1) وما باعَه به. والثاني، ما بينَ ما يَتَغابنُ النَّاسُ به (¬2) وما لا يَتغابنونَ؛ لأنَّ ما يتغابنُ الناسُ به يَصِحُّ بَيعُه به ولا ضَمانَ عليه. والأوَّلُ أقْيَسُ؛ لأنَّه بَيغ غيرُ مَأْذُونٍ فيه، أشْبَهَ بَيعَ الأجْنَبِيِّ. وكلُّ تَصَرُّفٍ كان الوَكِيلُ فيه مُخالِفًا لمُوَكِّلِه، فحُكْمُه فيه حُكْمُ تَصَرُّفِ الأجْنَبِيِّ، على ما ذُكِر (¬3) في مَوْضِعِه. فأمّا ما يَتَغابَنُ النّاسُ به عادَةً، وهو دِرْهَمٌ في عَشَرَةٍ، فَمَعْفُو عنه إذا لم يكنِ المُوَكِّل قَدَّرَ الثَّمَنَ؛ لأنَّ ما يَتَغابَنُ النّاسُ به يُعَدُّ (¬4) ثمَنَ المِثْلِ، ولا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. فصل: ولو حَضَر مَن يَزِيدُ على ثَمَنِ المِثْلِ، لم يَجُزْ أن يَبِيعَ بِثَمَن المِثْلِ؛ لأنَّ عليه الاحْتِياطَ وطَلَبَ الحَظِّ لمُوَكِّلِه. فإن باع بثَمَنِ ¬

(¬1) في م: «المال». (¬2) في م: «بمثله». (¬3) في م: «ذكرنا». (¬4) في م: «بعد».

2005 - مسألة: (وإن باع بأكثر)

وَإنْ بَاع بِأَكْثَرَ مِنْهُ، صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جنْسِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، أوْ لَمْ تَكُنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المِثْلِ، فحَضَرَ مَن يَزِيدُ في مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَلْزَمْه فَسْخُ العَقْدِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ مَنْهِيٌّ عنها، فلا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إليها، ولأنَّ المُزايِدَ قد لا يَثْبُتُ على الزِّيادَةِ، فلا يَلْزَمُه الفَسْخُ بالشَّكِّ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه ذلك؛ لأنَّها زيِادَة أمْكَنَ تَحْصيلُها، أشْبَهَ ما قبلَ البَيعِ، والنَّهْيُ يتَوَجَّهُ إلى الذي زاد لا إلى الوَكِيلِ، فأشْبَهَ ما إذا زاد قبلَ البَيعِ بعدَ الاتفاقِ عليه. 2005 - مسألة: (وإن باع بأكْثَرَ) مِن ثَمَنِ المِثْلِ (صَحَّ، سَواءٌ كانتِ الزِّيادَةُ مِن جِنْسِ الثَّمَنِ الذي أمَرَ به، أو لم تكنْ) إذا وَكَّلَه

2006 - مسألة: (وإن قال: بعه بدرهم. فباعه بدينار، صح، في أحد الوجهين)

وَإنْ قَال: بِعْهُ بِدِرْهَمٍ. فَبَاعَهُ بِدِينَارٍ، صَحَّ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في بَيعِ شيءٍ بثَمَنٍ (¬1)، مُعَيَّنٍ، فباعَه بأكْثَرَ منه، صَحَّ، قَلَّتِ الزِّيادَةُ أو كَثُرَتْ. وكذلك إن أطْلَقَ، فباعَه بأكْثَرَ مِن ثَمَن المِثْلِ؛ لأنَّه باع بالمأذُونِ فيه وزاد زِيادَةً تَنْفَعُه ولا تَضُرُّه، وسَواءٌ كانتِ الزِّيادَةُ مِن جِنْسِ الثَّمَنِ المَأْمُورِ به أو مِن غيرِ جِنْسِه، كمَن أذِنَ في البَيعِ بمائةِ دِرْهَمٍ، فباعَه بمائةِ درْهَم ودِينارٍ أو ثَوْبٍ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ بَيعُه بمائةٍ وثَوْبٍ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه مِن غيرِ جِنْسِ الأثْمانِ. ولنا، أنَّها زِيادَةٌ تَنْفَعُه ولا تَضُرُّه، أشْبَهَ ما لو باعَه بمائةٍ ودينارٍ، ولأنَّ الإِذْنَ في بَيعِه بمائةٍ إذْنٌ في بَيعِه بزيادَةٍ عليها عُرْفًا؛ لأنَّ مَن رَضِيَ بمائةٍ لا يَكْرَهُ أن يُزادَ عليها ما يَنْفَعُه ولا يَضُرُّه، ويَصِيرُ كما لو وَكَّلَهُ في الشِّراءِ فاشْتَرَى بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ أو بدُونِ ما قَدَّرَ له. 2006 - مسألة: (وإن قال: بِعْه بدِرْهَمٍ. فباعَه بدِينارٍ، صَحَّ، في أحَدِ الوَجْهَينِ) لأنَّه مَأذُون فيه عُرْفًا، فإن مَن رَضِيَ بدِرْهَم رَضِيَ مَكانَه دِينارًا، فجَرَى مَجْرَى بَيعِه بمائةِ دِرْهَم ودِينارٍ، على ما ذَكَرْنا في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسألَةِ قبلَها. وقال القاضي: لا يَصحُّ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه خالفَ مُوَكِّلَه في الجِنْسِ، أشْبَهَ ما لو باعَه بثَوْبٍ يُساوي دينارًا. فأمّا إن قال: بِعْه بمائةِ دِرْهَمٍ. فباعَه بمائةِ ثَوْبٍ قِيمَتُها أكثَرُ مِن الدَّرَاهِمِ، أو بثَمانِين دِرْهَمًا وعِشْرِين ثَوْبًا، لم يَصِحَّ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها مِن غيرِ (¬1) الأثمانِ، ولأنَّه لم يُؤذَنْ فيه لَفْظًا ولا عُرْفًا بخِلافِ بَيعِه بدِينارٍ. فصل: فإن وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدٍ بمائةٍ فباع بعضَه بها، أو وَكَّلَه مُطْلَقًا فباع بعضَه بثَمَنِ الكلِّ، جاز؛ لأنَّه مَأْذُون فيه عُرْفًا، فإنَّ مَن رَضِيَ بمائةٍ ثَمَنًا للكلِّ، رَضِيَ بها ثَمَنًا للبَعْضِ، ولأنَّه حَصَّلَ له المائةَ وأبْقَى له زِيادَةً تَنْفَعُه ولا تَضُرُّه. وله بَيعُ النِّصْفِ الآخرِ؛ لأَنه مأْذُونٌ فيه، فأشْبَهَ ما لو باع العَبْدَ كُلَّه بزِيادةٍ على ثَمَنِه، ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّه قد حَصَّلَ للمُوَكِّلِ غَرَضَه مِن الثَّمَنِ ببَيعِ البعضِ، فرُبَّمأ لا يَخْتارُ بَيعَ باقِيه للغِنَى عن بَيعِه بما حَصَلَ له مِن ثَمَنِ البَعضِ. وهكذا لو وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدَين بمائةٍ فباع أحَدَهما بها، صحَّ؛ لِما ذكَرْنا. وهل له بَيعُ الآخرِ؟ على ¬

(¬1) سقط من: م.

2007 - مسألة: (وإن قال: بعه بألف نساء. فباعه بألف حالة، صح، إن كان لا يستضر بحفظ الثمن في الحال)

وَإِنْ قَال: بِعْهُ بِأَلْفٍ نَسَاءً. فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً، صَحَّ، إِنْ كَانَ لَا يَسْتَضِرُّ بِحِفْظِ الثَّمَنِ في الْحَالِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين. فأمّا إن وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدِهِ بمائةٍ فباع بعضَه بأقَلَّ منها، أو وَكَّلَه مُطْلَقًا فباع بعضَه بدُونِ ثَمَنِ الكلِّ، لم يَصِحَّ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ فيما إذا أطْلَقَ الوَكَالةَ. بناءً على أصْلِه في أنَّ للوَكِيلِ المُطْلَقِ البَيعَ بما شاء. ولَنا، أنَّ على المُوَكِّلِ ضَرَرًا في تَبْعِيضِه، ولم يُوجَدِ الإِذْنُ فيه نُطْقًا ولا عُرْفًا، فلم يَجُزْ, كما لو وَكَّلَه في شِراءِ عَبْدٍ فاشْتَرَى بعضَه. 2007 - مسألة: (وإن قال: بعْه بألْفٍ نَساءً. فباعَه بألْفٍ حالَّةٍ، صَحِّ، إن كان لا يَسْتَضِرُّ بحِفْظِ الثَّمَنِ في الحالِّ) إذا وَكَّلَه في بَيعِ سِلْعَةٍ نسِيئَةً، فباعَها نَقْدًا بدُونِ ثَمَنِها نَسِيئَةً، أو بدُونِ ما عَيَّنَه له، لم يَنْفُذْ بَيعُه؛ لأنَّه خالفَ مُوَكِّلَه، لكَوْنِه إنَّما رَضِيَ بثَمَنِ النَّسِيئَةِ دُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّقْدِ. وإن باعَها نَقْدًا بمِثْلِ ثَمَنِها نَسِيئَةً، أو بما عَيَّنَه مِن الثَّمَنِ، فقال القاضي: يَصِحُّ؛ لأنَّه زاده خَيرًا، فهو كما لو وَكَّلَه في بَيعِها بعَشرَةٍ فباعَها بأكْثَرَ منها (¬1). والأوْلَى أن يُنْظَرَ (¬2) فيه، فإن لم يكنْ لهُ (2) غَرَضٌ في النَّسِيئَةِ، صَحَّ؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كان له فيها غَرَضٌ، مثلَ أن يَسْتَضِرَّ بحِفْظِ الثَّمَنِ. في الحالِّ، أو يُخافَ عليه مِن التَّلَفِ أو المُتَغَلِّبين، أو يَتَغَيرَ (¬3) حالُه إلى وَقْتِ الحُلُولِ، أو نحو ذلك، فهو كمن لم يُؤْذَنْ له؛ لأنَّ حُكمَ الإِذْن لا يَتناوَلُ المَسْكُوتَ عنه، إلَّا إذا عُلِمَ أنَّه في المَصْلَحَةِ، كالمَنْطُوقِ أو أكْثَرَ، فيكونُ الحُكْمُ فيه ثابِتًا بطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أو المُماثَلَةِ، ومتى كان في المَنْطُوقِ به غَرَضٌ صَحِيحٌ، لم يَجُزْ تَفْويتُه، ولا ثُبُوتُ الحُكْمِ في غيرِه [وقد ذَكَر نحْوَ هذا في مَوْضِعٍ آخَرَ] (¬4). ¬

(¬1) في م: «من ثمنها». (¬2) زيادة من: م. (¬3) بعده في م: «عن». (¬4) سقط من: م.

2008 - مسألة: (وإن وكله في الشراء، فاشترى بأكثر من ثمن المثل، أو بأكثر مما قدره له أو وكله في بيع شيء، فباع نصفه بدون ثمن الكل، لم يصح)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في الشِّرَاءِ، فَاشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ في بَيعِ شَيْءٍ، فَبَاعَ نِصْفَهُ بِدُونِ ثَمَنِ الْكُلِّ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2008 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في الشِّراءِ، فاشْتَرَى بأَكْثَرَ مِن ثَمَنِ المِثْلِ، أو بأكْثَرَ ممّا قَدَّرَه له أو وَكَّلَه في بَيعِ شيءٍ، فباع نِصْفَه بدُونِ ثَمَنِ الكلِّ، لم يَصِحَّ) أمّا إذا وَكَّلَه في الشِّراءِ، فاشْتَرَى بأكْثَرَ مِن ثَمَنِ المِثْلِ مِمّا لا يَتغابَنُ النّاسُ بمِثْلِه، (¬1) أو أكْثَرَ ممّا قَدَّرَه له، فحُكْمُه حُكْمُ مَن لم يَؤْذَنْ له في الشِّراءِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ غيرُ مَأْذُونٍ فيه، فهو كتَصَرُّفِ الأجْنَبِيِّ. وأمّا إذا وَكَّلَه في بَيعِ شيءٍ بثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فباع بعضَه بدُونِ ثَمنِ الكلِّ، لم يَصحَّ؛ لأنَّه بيعٌ غيرُ مَأْذُونٍ فيه، وكذلك إن وَكَّلَه مُطْلَقًا، فباع بعضَه بدُونِ ثَمَنِ الكلِّ، لم يَصِحَّ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وعندَ أبي حنيفةَ يَجُوزُ؛ بناءً على أصْلِه في أنَّ للوَكِيلِ المُطْلَقِ البَيعَ بما شاء، وقد ذَكَرْناه. وفي التَّبْعِيضِ إضْرارٌ بالمُوَكِّلِ وتَشْقِيصٌ لمِلْكِه. فإن باع بعضَه بثمنِ الكلِّ، فيما إذا عيَّنَ له الثَّمَنَ، أو وَكَّله مُطْلَقًا فباع بعضَه بثَمَنِ المِثْلِ لجمِيعِه، صَحَّ؛ لأنَّه مَأْذُونٌ فيه عُرْفًا، ¬

(¬1) من هنا إلى آخر المسألة سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ مَن رَضِيَ مائةً ثَمَنًا للكلِّ، رَضِيَ بها ثَمَنًا للنِّصْفِ، ولأنه حَصَّلَ له المائةَ وأبْقَى له زِيادَةً تَنْفَعُه ولا تَضُرُّه. وله بَيعُ الباقي منه؛ لأنَّه مأْذُونٌ في بيعِه، فأشْبَه ما لو باع العَبْدَ كلَّه بمِثْلَيْ ثَمَنِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّه قد حصَّلَ للمُوَكِّلِ غرَضَهُ مِن الثَّمَنِ ببَيعِ النِّصْفِ، فرُبَّما لا يُؤثِّرُ بَيعُ باقِيه، للغِنَى عن بَيعِه بما حَصَّلَ له مِن ثَمَنِ النِّصْفِ. وكذا لو وَكَّلَه في بَيْعِ عَبْدَين بمائةٍ، فباع أحَدَهما بها، صَحَّ. وهل له بَيعُ الآخرِ؟ على وجهين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَكَّلَه في بَيعِ عَبِيدٍ أو شِرائِهم، مَلَك العَقْدَ عليهم جملةً واحدةً، وواحدًا واحدًا؛ لأنَّ الإِذْنَ يتناولُ العَقْدَ عليهم جملةً، والعرفُ في بيعِهم وشرائِهم العَقْدُ على واحِدٍ واحِدٍ، ولا ضَرَرَ في جَمْعِهم ولا إفْرادِهم، بخِلافِ ما لو وَكَّلَه في شِراءِ عَبْدٍ فاشْتَرَى بعضَه، فإنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى التَّشْقِيصِ، وفيه إضْرارٌ بالمُوَكِّلِ. فإن قال: اشْتَرِ لي عَبِيدًا صَفْقَةً واحِدَةً. أو: واحِدًا واحدًا. أو: بِعْهم (¬1). لم يَجُزْ مخُالفَتُه؛ لأنَّ تَنْصِيصَه على ذلك يَدُلُّ على غَرَضِه فيه، فلم يَتَناوَلْ إذْنُه سِواه. وإن قال: اشْتَرِ لي عَبْدَين صَفْقةً. فاشْتَرَى عَبْدَين لِاثْنَينِ شَرِكَةً بينَهما مِن وَكِيلِهما (¬2)، أو مِن أحَدِهما بإذْنِ الآخَرِ، جاز. وإن كان لكلِّ واحِدٍ منهما (¬3) عَبْدٌ مُفْرَدٌ، فاشْتَرَى من المالِكَين بأن أوْجبا له ¬

(¬1) بعده في م: «لي». (¬2) في ر 1، م: «وكيلهما». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيْعَ فيهما وقَبِل ذلك منهما بلَفْظٍ واحدٍ، فقال القاضي: لا يَلْزَمُ المُوَكِّلَ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأن عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَفْدانِ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لأنَّ القَبُولَ هو الشِّراءُ، وهو مُتَّحِدٌ والغَرَضُ لا يَخْتَلِفُ. وإنِ اشْتَراهما مِن وَكِيلِهِمَا (¬1)، وعَيَّنَ ثَمَنَ كلِّ واحِدٍ منهما، مثلَ أن يقولَ: بعْتُك هَذَين العَبْدَين، هذا بمائةٍ وهذا بثَمانِين. فقال: قَبِلْتُ. احْتَمَلَ أَيضًا وَجْهَين. وإن لم يُعَيِّنِ الثَّمَنَ لكلِّ واحِدٍ، لم يَصِحَّ البَيعُ؛ لجَهالةِ الثَّمَنِ. وفيه وَجْهٌ، أنَّه يَصِحُّ، ويُقَسَّطُ (¬2) الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهما. وقد ذُكِر ذلك في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «وكيليهما». (¬2) في الأصل: «يسقط».

2009 - مسألة: وإن وكله في شراء شيء نقدا بثمن معين، فاشتراه به مؤجلا، صح. ذكره القاضي؛ لأنه زاده خيرا، فأشبه ما لو وكله في الشراء بمائة، فاشترى بدونها. ويحتمل أن ينظر في ذلك، فإن كان فيه ضرر نحو

وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمَا قَدَّرَهُ لَهُ مُؤَجَّلًا، أَوْ قَال: اشْتَرِ لِي شَاةً بدِينَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2009 - مسألة: وإن وَكَّلَه في شِراءِ شيءٍ نَقْدًا بثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فاشْتَراه به مُؤَجَّلًا، صَحَّ. ذكَرَه القاضي؛ لأنَّه زاده خَيرًا، فأشْبَهَ ما لو وَكَّلَه في الشِّراءِ بمائةٍ، فاشْتَرَى بدُونِها. ويَحْتَمِلُ أن يُنْظَرَ في ذلك، فإن كان فيه ضَرَرٌ نحوَ (¬1) أن يَسْتَضِرَّ ببَقاءِ الثَّمنِ معه ونحوَ ذلك، لم يَجُزْ. ولأصْحابِ الشافعيِّ في صِحَّةِ الشِّراءِ وَجْهان. 2010 - مسألة: وإن (قال: اشْتَرِ لي شاةً بدِينارٍ. فاشْتَرَى) ¬

(¬1) في الأصل: «يجوز».

فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ تُسَاوي إِحْدَاهُمَا دِينَارًا، أَو اشْتَرَى شَاةً تُسَاوي دِينَارًا بِأَقلَّ مِنْهُ، صَحَّ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له (شاتَيْن تُساوي إحْداهما دِينارًا، أو اشْتَرَى) له (شاةً تُساوي دِينارًا بأقَلَّ منه، صَحَّ، وإلَّا يَصِحَّ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا وَكَّلَه في شِراءِ شاةٍ بدِينارٍ، فاشْتَرَى شاتَين تُساوي كلُّ واحِدَةٍ منهما أقلَّ مِن دِينارٍ، لم يَقَعْ للمُوَكِّلِ. وإِنْ كانت كلُّ واحدةٍ منهما تساوي دينارًا، أو إحْدَاهما تُساوي دينارًا والأخْرَى أقلَّ منْه، صحَّ ولَزِم الوكِّلَ. وهذا المَشْهُورُ مِن مَذهَبِ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَقَعُ للمُوَكِّلِ إحْدَى الشّاتَين بنِصفِ دِينارٍ والأُخْرَى للوَكِيلِ؛ لأنَّه لم يَرْضَ إلَّا (¬1) بإلْزامِه عُهْدَةَ شاةٍ واحِدَةٍ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَى عُرْوَةَ بنَ الجَعْدِ البارِقيَّ دِينارًا، فقال: «اشْتَرِ لَنَا بِهِ شَاةً» قال: فأتَيتُ الجَلَبَ، فاشْتَرَيت شاتَينِ بدِينارٍ، فجِئْتُ أسُوقُهما -أو أقُودُهما- فلَقِيَنِي رَجلٌ في الطَّريقِ فساوَمَني، فبِعْتُ منه شاةً بدِينارٍ، فأتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالدِّينارِ وبالشّاةِ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ هذا دِينارُكم وهذه شاتُكم. فقال: «وصَنَعْتَ كَيفَ»؟ فحدَّثْتُه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديثَ، قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ في صَفْقَةِ يَمِينِهِ» (¬1) ولأنه حَصَّلَ له (¬2) المأْذُونَ فيه وزِيادَةً مِن جِنْسِه تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، فوَقَعَ ذلك له, كما لو قال: بِعْه بدِينارٍ. فباعَه بدِينارَين، وما ذَكَره يَبْطُلُ بالبَيعِ. فإن باع الوَكِيلُ إحْدَى الشّاتَينِ بغيرِ أمْرِ المُوكِّلِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه باع مال مُوَكِّلِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَجُزْ، كبَيعِ الشّاتَينِ. والثاني، إن كانتِ الباقِيةُ تُساوي دِينارًا، جاز؛ لحديثِ عُرْوَةَ، [ولأنَّه] (¬3) حَصَّلَ له المَقْصُودَ، والزِّيادَةُ لو كانت غيرَ الشاةِ، جاز، فجاز له إبْدالُها بغيرِها. وهذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ؛ لأنَّه أخَذَ بحديثِ عُرْوَةَ وذَهَب إليه. وإذا قُلْنا: لا يَجُوزُ له بَيعُ الشّاةِ. فباعهَا، فهل يَبْطُلُ البَيعُ، أو يَصِحُّ وَيقِفُ على إجازَةِ المُوَكِّلِ؟ على رِوايَتَين. وهذا أصْلٌ لكلِّ تَصَرُّفٍ في مِلْكِ الغيرِ بغيرِ إذْنِه ووَكِيلٍ خالفَ مُوَكِّلَه، فيه الرِّوايَتان. وللشافعيِّ في صِحَّةِ (¬4) البَيعِ ههُنا (¬5) وَجْهان. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 56. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «ولا». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في ر، ق: «كههنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَكَّلَه في شِراءِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ بمائةٍ، فاشْتَراهُ بما دُونَها، صحَّ، ولَزِم المُوَكِّلَ؛ لأنَّه مأْذُونٌ فيه عُرْفًا. وإن قال: لا تَشْتَرِه بدُونِ المائةِ. فخالفَه، لم يَجُزْ؛ لأنَّه خالفَ نَصَّه، وصَرِيحُ قَوْلِه مُقَدَّمٌ على دَلالةِ العُرْفِ. وإن قال: اشْتَرِه بمائةٍ، ولا تَشْتَرِه بخمْسِين. جاز له شِراؤُه بما فوقَ الخَمْسِين؛ لأنَّ إذْنَه في الشِّراءِ بمائةٍ دلَّ عُرْفا على الشِّراءِ بما دُونَها، خَرَج منه الخَمْسُون بصَرِيحِ النَّهْي، بَقِيَ فيما فوقَها على مُقْتَضَى الإِذْنِ، فإن اشْتَراه بما دُونَ الخَمْسِين، جاز في أحَدِ الوَجْهَين؛ لذلك، ولأنَّه لم يُخالِفْ صَرِيحَ نَهْيه، أشْبَهَ ما زاد عليها. والثاني، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه نَهاه عن الخَمْسِين اسْتِقْلالًا لها، فكان تَنْبِيهًا على النَّهْي عما دُونَها, كما أنَّ الإِذْنَ في الشِّراءِ بمائةٍ إذْنٌ فيما دُونَها، فجرَى ذلك (¬1) مَجْرَى صَرِيحِ نَهْيِه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ تَنْبيهَ الكَلامِ كنَصِّهِ. فإن قال: اشْتَرِه بمائةِ دِينارٍ. فاشْتَراه بمائةِ دِرْهمٍ، فالحُكْمُ فيه كما لو قال: بِعْه بدِرْهَمٍ. فباعَه بدِينارٍ، على ما مَضَى. وإن قال: اشْتَرِ لي نِصْفَه بمائةٍ. فاشْتَراه كلَّه أو أكْثَرَ مِن نِصْفِه بمائةٍ، جاز؛ لأنَّه مأْذُونٌ فيه عُرْفًا. وإن قال: اشْتَرِ لي نِصْفه بمائةٍ ولا تَشْتَرِه جَمِيعَه. فاشْتَرى أكْثَرَ مِن النِّصْفِ وأقَلَّ مِن الكُلِّ بمائةٍ، صَحَّ في قِياسِ المَسْألَةِ التي قبلَها؛ لكَوْنِ دَلالةِ العُرْفِ قاضِيةً بالإِذْنِ في شِراءِ كلِّ ما زاد على النِّصْفِ، خَرَج الجَمِيعُ بصَرِيحِ نَهْيه، ففيما عَداه يَبْقَى على مُقْتَضَى الإِذْنِ. فصل: وإن وَكَّلَه في شِراءِ عَبْدٍ مَوْصوفٍ بمائةٍ، فاشْتَرَاه على الصِّفَةِ بدونِها، جَازَ؛ لأنَّه مأْذُونٌ فيه عُرْفًا. وإن خَالفَ في الصِّفةِ، أو اشْتَراه بأكْثَرَ منها، لم يَلْزَمِ المُوَكِّلَ. وإن قال: اشْتَرِ لي عَبْدًا بمائةٍ، فاشْتَرَى عبدًا يُساوي مائةً بدُونِها، جازَ؛ لأنَّه لو اشْتَراه بمائةٍ جازٍ، فإذا اشْتَراه بدُونِها فقد زاده خَيرًا، فيَجُوزُ. وإن كان لا يُساوي مائةً، لِم يَجُزْ وإن ساوَى أكْثَرَ ممّا اشْتَراه به؛ لأنَّه خالفَ أمْرَه، ولم يُحَصِّلْ غرَضَه.

2011 - مسألة: (وليس له شراء معيب، فإن وجد بما اشتراه عيبا، فله رده)

وَلَيسَ لَهُ شِرَاءُ مَعِيبٍ، فَإِنْ وَجَدَ بِمَا اشْتَرَى عَيبًا، فَلَهُ الرَّدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2011 - مسألة: (وليس له شِراءُ مَعِيبٍ، فإن وَجَد بما اشْتَراه عَيبًا، فله رَدُّه) إذا وَكَّلَه في شِراءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ، لم يَجُزْ أن يَشْتَرِيَها (¬1) إلَّا سَلِيمَةً (¬2)؛ لأنَّ إطْلاقَ البَيعِ يَقْتَضِي السَّلامَةَ، ولذلك جاز له الرَّدُّ بالعَيبِ. فإنِ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه، لم يَلْزَمِ المُوَكِّلَ؛ لأنَّه اشْتَرَى له ما لم يَأْذَنْ فيه. وإن لم يَعْلَمْ، صَحَّ البَيعُ؛ لأنَّه إنَّما يَلْزَمُه شِراءُ صَحِيحٍ في الظّاهِرِ، لعَجْزِه عن التَّحَرُّزِ عن شِراءِ مَعِيبٍ لا يَعْلَمُ عَيبَه، فإذا عَلِم عَيبَه، مَلَك رَدَّه؛ لأنَّه قائِمٌ مقامَ المُوَكِّل، وللمُوَكِّلِ رَدُّه أيضًا؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «يشتري بها». (¬2) بعده في م: «من العيوب».

2012 - مسألة: (فإن قال البائع: موكلك قد رضي بالعيب.

فَإِنْ قَال الْبَائِعُ: مُوَكِّلُكَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيبِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ مَلَكَه. فإن حضَرَ قبل رَدِّ الوَكِيلِ (¬1)، ورَضِيَ بالعَيب، لم يكن للوَكِيلِ رَدُّه؛ لأنَّ الحَقَّ له، بخِلافِ المُضارِب، فإنَّ له الرَّدَّ وإن رَضِيَ رَبُّ المالِ؛ لأنَّ له حقًّا فلا يَسْقُطُ برِضا غيرِه، وإن لم يَحْضُرْ، فأراد الوَكِيلُ الرَّدَّ، فقال له البائعُ: تَوَقَّفْ حتى يَحْضُرَ المُوَكِّلُ، فرُبَّما رَضِيَ بالعَيب. لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ فَواتَ الرَّدِّ بهَرَبِ البائعِ، وفَواتَ الثَّمَنِ بتَلَفِه، فإن أخَّرَء بِناءً على هذا القولِ، فلم يَرْضَ به المُوَكِّلُ، فله الرَّدُّ، وإن قُلْنا: الرَّدُّ على الفَوْرِ، لأنَّه أَخَّرَه بإذْنِ البائِع فيه. وإن رَضِيَ المُوَكِّلُ سَقَط الرَّدُّ. 2012 - مسألة: (فإن قال البائِعُ: مُوَكِّلُك قد رَضِيَ بالعَيبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الموكل».

2013 - مسألة: (فإن رده، فصدق الموكل البائع في الرضا بالعيب، فهل يصح الرد؟ على وجهين)

مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَإِنْ رَدَّهُ، فَصَدَّقَ الْمُوَكِّلُ الْبَائِعَ في الرِّضَا بِالْعَيبِ، فَهَلْ يَصِحُّ الرَّدُّ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالقولُ قولُ الوَكِيل مع يَمِينِه أنَّه لا يَعْلَمُ ذلك) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الرِّضا، فلا يُقْبَلُ قولُه إلَّا ببيِّنَةٍ، فإن لم يُقِمْ بيِّنَةً لم يُسْتَحْلَفِ الوَكِيلُ، إلَّا أن يَدَّعِيَ عِلْمَه، فيحلفَ على نَفْي العِلمِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ في رِوايَةٍ: لا يُسْتَحْلَفُ؛ لأنَّه لو حَلَف كان نائِبًا في اليَمِينِ. وليس بصَحِيحٍ؛ فإنَّه لا نِيابَةَ ههُنا، فإنَّه إنما يَحْلِفُ على نَفي عِلمِه، وهذا لا يَنُوبُ فيه عن أحَدٍ. ولو اشتَرَى المُضارِبُ مَعِيبًا، صَحَّ؛ لأنَّ المَقْصُودَ منها الرِّبْحُ، وهو يَحْصُلُ مع العَيبِ، بخِلافِ الوَكِيلِ، فإنَّه قد يكونُ غَرَضُ المُوَكِّلِ القُنْيَةَ والانْتِفاعَ، والعَيبُ يَمْنَعُ بعضَ ذلك. 2013 - مسألة: (فإن رَدَّه، فصَدَّقَ المُوَكِّلُ البائِعَ في الرِّضا بالعَيبِ، فهل يَصِحُّ الرَّدُّ؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، لا يَصحُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمُوَكِّلِ اسْتِرْجاعُه، وللبائعِ رَدُّه عليه؛ لأنَّ رِضاه به عَزْلٌ للوَكِيلِ عن الرَّدِّ، بدَليلِ أنَّه لو عَلِمَهُ (¬1)، لم يكنْ له الرَّدُّ. والثاني، يَصِحُّ الرَّدُّ، بناءً على أن (¬2) الوَكِيلَ لا يَنْعزِلُ قبلَ العِلْمِ بالعَزْلِ. فإن رَضِيَ الوَكِيلُ المَعِيبَ، أو أمْسَكَه إمساكًا يَنْقَطِعُ به الرَّدُّ، فحَضَرَ المُوَكِّلُ فأراد الرَّدَّ، فله ذلك على الوَجْهِ الأوَّلِ إن صَدَّقَ البائعُ المُوَكِّلَ أنَّ الشِّراءَ له، أو قامت به بَيِّنَةٌ، وإن كَذَّبَه ولم يكنْ بَيِّنَةٌ، فَحَلَفَ البائِعُ أنَّه لا يَعْلَمُ أَنَّ (2) الشِّراءَ له، فليس له رَدُّه؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن اشْتَرَى شيئًا فهو له، ويَلْزَمُ الوَكِيلَ، وعليه غَرامَةُ الثَّمَنِ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: للوَكِيلِ شِراءُ المَعِيبِ؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ في البَيعِ مُطْلَقًا يَدْخُلُ المَعِيبُ في إطْلاقِه، ولأنَّه أمِينٌ في الشِّراءِ فجاز له ذلك، كالمُضارِب. ولَنا، أنَّ البَيعَ بإطْلاقِه يَقْتَضِي الصَّحِيحَ دُونَ المَعِيبِ، فكذلك الوَكالةُ فيه، ويُفارِقُ المُضارَبَةَ مِن حيثُ إنَّ المَقْصُودَ فيها الرِّبْحُ، وهو يَحْصُلُ مِن ¬

(¬1) في الأصل: «أعلمه». (¬2) سقط من: الأصل.

2014 - مسألة: (وإن وكله في شراء معين، فاشتراه فوجده معيبا، فهل له رده قبل إعلام الموكل؟ على وجهين)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في شِرَاءِ مُعَيَّنٍ، فَاشْتَرَاهُ وَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَهَلْ لَهُ رَدُّهُ قَبْلَ إِعْلَامِ الْمُوَكِّلِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعِيبِ كحُصُولِه مِن الصَّحِيح، بخِلافِ الوَكالةِ، فإنَّه قد يكونُ المَقْصُودُ بها القُنْيَةَ، أو يَدْفَعُ بها حاجَةً يكونُ المَعِيبُ مانِعًا منها، فلا يَحْصُلُ المَقْصُودُ. وقد ناقَضَ أبو حنيفةَ قَوْلَه؛ فإنَّه قال في قَوْلِه تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬1): لا تَجُوزُ العَمْياءُ ولا مَعِيبَةٌ عَيبًا يَضُرُّ بالعَمَلِ. وقال ههُنا: يَجُوزُ للوَكِيل شِراءُ الأعْمَى والمُقْعَدِ ومَقْطُوعِ اليَدَينِ والرِّجْلَين. 2014 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في شِراءِ مُعَيَّنٍ، فاشْتَراه فَوَجدَه معِيبًا، فهل له رَدُّه قبلَ إعْلامِ المُوَكِّلِ؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، له الرَّدُّ؛ ¬

(¬1) سورة المجادلة 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الأمْرَ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، أشْبَهَ ما لو وَكَّلَه في شِراءِ مَوْصُوفَةٍ. والثانِي، لا يَمْلِكُه؛ لأنَّ المُوَكِّلَ قَطَع نَظَرَه بالتَّعْيِينِ، فرُبَّما رَضِيَه على جَمِيعِ صِفاتِه. فإن قُلْنا: له الرَّدُّ. فحُكْمُه حُكْمُ غيرِ المُعَيَّنِ. وإن عَلِم عَيبَه قبل شِرائِه، فهل له شِراؤُهُ؟ يَحْتَمِلُ (¬1) وَجْهَين مَبْنِيَّيْن على رَدِّه إِذَا عَلِم عَيْبَه بعدَ شِرائه، إن قُلْنا: له رَدُّه. فليس له شِراؤُه؛ لأنَّ العَيبَ إذا جاز الرَّدُّ به بعدَ العَقْدِ فلأن (¬2) يَمْنَعَ مِن الشِّراءِ أوْلَى. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُ الرَّدَّ ثَمَّ (¬3). فله الشِّراءُ ههُنا؛ لأن تَعْيِينَ المُوَكِّلِ قَطَع نَظَرَه واجْتِهادَه في جَوازِ الرَّدِّ، فكذلك في الشِّراءِ. ¬

(¬1) في الأصل: «على». (¬2) في الأصل: «فلا». (¬3) سقط من: الأصل، ق، ر 1.

2015 - مسألة: (فإن قال: اشتر لي بعين هذا الثمن. فاشترى له في ذمته، لم يلزم الموكل)

وَإنْ قَال: اشْتَرِ لِي بِعَينِ هَذَا الثَّمَنِ. فَاشْتَرَى لَهُ في ذِمَّتِهِ، لَمْ يَلْزَمَ الْمُوَكِّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2015 - مسألة: (فإن قال: اشْتَرِ لي بعينِ هذا الثَّمَنِ. فاشْتَرَى له في ذِمَّتِه، لم يَلْزَمِ المُوَكِّلَ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا دَفَع إليه دَراهِمَ وقال: اشْتَرِ لَي بهذه عَبْدًا. كان له أن يَشْتَرِيَ بعَينِها وفي الذِّمَّةِ؛ لأنَّ الشِّراءَ يَقَعُ على هذَين الوَجْهَين فإذا أَطْلَقَ كان له فِعْلُ ما شاء منهما. فإنْ قال: اشْتَرِ بعَينِها. فاشْتَراه في ذِمَّتِه ثم نَقَدَها، لم يَلْزَمِ المُوَكِّلَ؛ لأنَّه إذا تَعَيَّنَ الثَّمَنُ، انْفَسَخَ العَقْدُ بتَلَفِه، أو كونِه مَغْصُوبًا، ولم يَلْزَمْه ثَمَنٌ في ذِمَّتِه، وهذا غَرَضٌ صَحِيحٌ للمُوَكِّلِ، فلم يَجُزْ مُخالفَتُه، ويَقَعُ الشِّراءُ للوَكِيلِ. وهل يَقِفُ على إجازَةِ المُوَكِّلِ؟ على روَايَتَين.

2016 - مسألة: (فإن قال: اشتر لي في ذمتك، وانقد الثمن. فاشترى بعينه، صح)

وإنْ قَال: اشْتَرِ لِي في ذِمَّتِكَ، وَانْقُدِ الثَّمَنَ. فَاشْتَرَى بِعَينِهِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2016 - مسألة: (فإن قال: اشْتَرِ لي في ذِمَّتِكْ، وانْقُدِ الثَّمَنَ. فاشْتَرَى بعينِه، صَحَّ) ولَزِم المُوَكِّلَ. ذَكَرَه أصْحابُنا؛ لأنَّه أذِنَ له في عَقْدٍ يَلْزَمُه به الثمنُ مع بَقاءِ الدَّراهِمِ وتَلَفِها، فكان إذْنًا في عَقْدٍ لا يَلْزَمُه الثمنُ إلَّا مع (¬1) بَقائِها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في الشِّراءِ بغيرِ عَينِها؛ لشُبْهَةٍ فيها (¬2) لا يُحِبُّ (¬3) أن يَشْتَرِيَ بها، أو يَخْتارُ وُقُوعَ عَقْدٍ لا يَنْفَسِخُ بتَلَفِها (¬4)، ولا يَبْطُلُ بتحْرِيمِها، وهذا غَرَضٌ صَحِيحٌ، فلا يَجُوزُ تفويتُه (¬5) عليه, كما لم يَجُزْ تَفْويتُ غَرَضِه في الصُّورَةِ الأُولَى. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا كلِّه على نحو ما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فيما». (¬3) في م: «لا يجب». (¬4) الأصل: «بنقلها». (¬5) في م: «توفيته».

2017 - مسألة: (وإن أمره ببيعه في سوق بثمن، فباعه به في آخر، صح. وإن قال: بعه من زيد. فباعه من غيره، لم يصح)

وَإِنْ أَمَرَهُ بِبَيعِهِ في سُوقٍ بِثَمَنٍ، فَبَاعَهُ بِهِ في آخَرَ، صَحَّ. وَإِنْ قَال: بِعْهُ لِزَيدٍ. فَبَاعَهُ مِنْ غيرِهِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2017 - مسألة: (وإن أمَرَه ببيعِه في سُوقٍ بثَمَنٍ، فباعَه به في آخَرَ، صَحَّ. وإن قال: بِعْهُ مِن زيدٍ. فباعَه مِن غيرِه، لم يَصِحَّ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الوَكِيلَ لا يَمْلِكُ مِن التَّصَرُّفِ إلَّا ما يَقْتَضِيه إذْنُ مُوَكِّلِه مِن جِهَةِ النُّطْقِ أو العُرْفِ؛ لأنَّ تَصَرُّفَه بالإِذْنِ، فاخْتَصَّ بما أذِنَ فيه، والإِذْنُ يُعْرَفُ بالنُّطْقِ تارَةً وبالعُرْفِ أُخْرَى. ولَو وَكَّلَ رجلًا في التَّصَرُّفِ في زَمَنٍ مُقَيَّدٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ قبلَه ولا بعدَه؛ لأنَّه لم يتَنَاوَلْه إذْنُه نُطْقًا ولا عُرْفًا، فإنَّه قد يَخْتَارُ التَّصَرُّفَ في زَمَنِ الحاجَةِ إليه دُونَ غيرِه، ولهذا لمَّا عَيَّنَ اللهُ تعالى لعِبادَتِه وَقْتًا، لم يَجُزْ تَقْدِيمُها عليه ولا تَأْخِيرُها عنه. فلو قال له: بِعْ ثَوْبِي غَدًا. لم يَجُزْ بَيعُه (¬1) قبلَه ولا بعدَه. فإن عَيَّنَ له المكانَ، وكان يَتَعلَّقُ به غَرَضٌ، مثلَ أن يَأْمُرَه [ببَيعِ ثَوْبِه] (¬2) في سُوقٍ، وكان السُّوقُ مَعْرُوفًا بجَوْدَةِ النَّقْدِ، أو كَثْرَةِ الثَّمَنِ، أو حِلِّه، أو بصَلاحِ أهْلِه، أو بمَوَدَّةٍ بينَ المُوَكِّلِ (¬3) وبَينَهم، تَقَيَّدَ الإِذْنُ به؛ لأنَّه نَصَّ على أمْرٍ له فيه غرضٌ، فلم يَجُزْ تفْويتُه. وإن كان هو وغيرُه سَواءً في الغَرضِ، لم يَتَقَيَّدِ الإِذنُ به، وجاز له البَيعُ في غيرِه، لمُساواتِه المَنْصُوصَ عليه في الغَرَضِ، فكان تَنْصِيصُه على أحَدِهما إذْنًا في الآخَرِ, كما لو اسْتَأْجَرَ أو اسْتَعارَ أرْضًا لزرَاعَةِ شيءٍ، كان إذْنًا في زِراعَةِ مثْلِه وما دُونَه، ولو اكْتَرَى عَقارًا، كان له أن يُسْكِنَه مثلَه، ولو نَذَر الاعْتِكافَ أو الصَّلاةَ في مَسْجدٍ، جاز له ذلك في غيرِه. وسَواءٌ قَدَّرَ له الثَّمَنَ أو لم يُقَدِّرْه. فأمّا إن عَيَّنَ له المُشْتَرِيَ فقال: بعْه فُلانًا. لم يَمْلِكْ بَيعَه لغيرهِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، سَواءٌ قَدَّرَ له الثَّمَنَ أَو لا؛ لأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في تمليكِه إيّاه دُونَ غيرِه، إلَّا أن يَعْلَمَ بقَرِينَةٍ أو صَرِيحٍ أنَّه لا غَرَضَ له في عَينِ (¬4) المُشْتَرِي. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ببيعه». (¬3) في م: «الوكيل». (¬4) في الأصل: «غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اشْتَرَى الوَكِيلُ لمُوَكِّلِه شيئًا، انْتَقَلَ المِلْكُ مِن البائِعِ إلى المُوَكِّلِ، ولم يَدْخُلْ في مِلْكِ الوَكِيلِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَدْخُلُ في مِلْكِ الوَكِيلِ، ثم يَنْتَقِلُ إلى المُوَكِّلِ، لأنَّ حُقُوقَ العَقْدِ تَتَعلَّقُ بالوَكيلِ، بدَلِيلِ أنَّه لو اشْتَراه بأَكْثَرَ مِن ثَمَنِه، دَخَل في مِلْكِه ولم يَنْتَقِلْ إلى المُوَكِّلِ. ولَنا، أنَّه قَبِلَ عَقْدًا لغيرِه، صَحَّ له، فوَجَبَ أن يَنْتَقِلَ المِلْكُ إليه، كالأبِ والوَصِيِّ، وكما لو تَزوَّجَ له. وقَوْلُهم: إن حُقُوق العَقْدِ تَتَعلَّقُ به. غيرُ مُسَلَّمٍ. ويَتَفَرَّعُ عن هذا أنَّ المُسْلِمَ لو وَكَّلَ ذِمِّيًّا في شِرَاءِ خمرٍ (¬1) أو خِنْزِيرٍ، فاشَتَراهُ له، لم يَصِحَّ الشِّراءُ. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ، ويَقَعُ للذِّمِّيِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ مالٌ لهم؛ لأنهم يَتَمَوَّلونَها ويَتَبايَعُونَها، فصَحَّ تَوْكِيلُهم فيها، كسائِرِ أمْوالِهِم. ولَنا، أنَّ كلَّ ما لا يَجُوزُ للمُسْلِمِ العَقْدُ عليه، لا يجوزُ أن يُوَكِّلَ فيه، كتَزْويجِ المَجُوسِيَّةِ، وبهذا خالفَ سائِرَ أمْوالِهِم. وإذا باع الوَكِيلُ بثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، ثَبَت المِلْكُ للمُوَكِّلِ في الثَّمَنِ؛ لأنَّه بِمنزِلَةِ المَبِيعِ. وإن كان الثَّمَنُ في الذِّمّةِ، فللوَكِيلِ والمُوَكِّلِ المُطالبَةُ به. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: ليس للمُوَكِّلِ المُطالبَةُ؛ لأنَّ حُقُوقَ العَقْدِ تَتَعَلَّقُ بالوَكِيلِ دُونه، ولهذا يتَعَلَّقُ مَجْلِسُ الصَّرْفِ والخيارُ به دُونَ مُوَكِّلِه، فكذلك القبضُ. ولَنا، أنَّ هذا دَينٌ للمُوَكِّلِ يَصِحُّ قَبْضُه له، فمَلَكَ المُطالبَةَ به، كسائِر دُيُونِه ¬

(¬1) في م: «دم».

2018 - مسألة: (وإن وكله في بيع شيء، ملك تسليمه، ولم يملك قبض ثمنه إلا بقرينة. فإن تعذر قبضه، لم يلزم الوكيل شيء)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في بَيعِ شَيْءٍ مَلَكَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ قَبْضَ ثَمَنِهِ إلا بِقَرِينَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ قَبْضُهُ، لَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التي وَكَّلَ فيها، وفارَقَ مَجْلِسَ الصَّرْفِ (¬1)؛ لأنَّ ذلك مِن شُرُوطِ (¬2) العَقْدِ، فتَعَلَّقَ بالعاقِدِ، كالإِيجابِ والقَبُولِ، وأمّا الثَّمَنُ فهو حَقٌّ للمُوَكِّلِ ومالٌ مِن مالِه، فكانت له المُطالبَةُ به. ولا نُسَلِّمُ أنَّ حُقُوقَ العَقْدِ تتعلَّقُ به، وإنَّما تتَعلَّقُ بالمُوَكِّلِ، وهي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ، وقَبْضُ المَبِيعِ، والرَّدُّ بالعَيبِ، وضَمانُ الدَّرَكِ. فأمّا ثَمَنُ ما اشْتَراه إذا كان في الذِّمَّةِ، فإنَّه يَثْبُت في ذِمَّةِ المُوَكِّلِ أصْلًا، وفي ذِمَّةِ الوَكِيلِ تَبَعًا، كالضّامِنِ. وللبائِع مُطالبَةُ مَن شاء منهما، فإن أبْرَأ الوَكِيلَ لم يَبْرَأ المُوَكِّلُ، وإن أَبْرَأَ المُوَكِّلَ بَرِئَ الوَكِيلُ، كالضَّامِنِ والمَضْمُونِ عنه سَواء. وإن دَفَع الثَّمَنَ إلى البائعِ، فوَجَدَ به عَيبًا، فرَدَّه على الوَكِيلِ، كان أمانَةً في يَدِه، إن تَلِف فهو مِن ضَمانِ المُوَكِّلِ. ولو وَكَّلَ رَجلًا يَسْتَسْلِفُ له [ألفًا في] (¬3) كُرِّ (¬4) حِنْطَةٍ، ففَعَلَ، مَلَكَ الموكِّلُ (¬5) ثَمَنَها، والوَكِيلُ ضامِنٌ عن مُوَكِّلِه, كما تَقَدَّم. 2018 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في بَيعِ شيءٍ، مَلَك تَسْلِيمَه، ولم يَمْلِكْ قَبْضَ ثمنِه إلَّا بقَرِينةٍ. فإن تَعَذَّرَ قَبْضُه، لم يَلْزَمِ الوَكِيلَ شيءٌ) لأنَّ ¬

(¬1) في الأصل، م: «العقد». (¬2) في م: «شرط». (¬3) في م: «العامى». (¬4) الكُرُّ: مكيال لأهل العراق، أو ستون قفيزًا، أو أربعون أردبًا. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إطْلاقَ التَّوْكِيلِ في البَيعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، لكَوْنِه مِن تَمامِه، ولم يَمْلِكِ الإِبراءَ مِن الثَّمَنِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَمْلِكُه. ولَنا، أنَّ الإِبراءَ ليس مِن المَبِيعِ ولا من ثَمَنِه، فلا يكونُ التَّوْكِيلُ في البَيعِ توكيلًا (¬1) فيه، كالإِبراءِ مِن غيرِ ثَمَنِه. فأمّا قَبْضُ الثَّمَنِ، فقال القاضِي، وأبو الخَطَّاب: لا يَمْلِكُه. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه قد يُوَكِّلُ في البَيعِ مَن لا يَأْتَمِنُه على قَبْضِ الثَّمَنِ. فعلى هذا، إن تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمنِ مِن المُشْتَرِي، لم يَلْزَمِ الوَكِيلَ شيءٌ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ قَبْضَ الثَّمَنِ؛ لأنَّه مِن مُوجَبِ البَيعِ، فمَلَكَه، كتَسْلِيمِ المَبِيعِ. فعلى هذا ليس له تَسْلِيمُا المَبِيعِ إلّا بقَبْضِ الثَّمَنِ أو حُضُورِه، ¬

(¬1) في الأصل: «توكيله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن سَلَّمَه قبلَ قَبْضِ ثَمَنِه ضَمِنَه. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى أن يَنْظرُ فيه، فإن دَلَّتْ قَرِينَةُ الحالِ على قَبْضِ الثَّمنِ، مثلَ تَوْكِيلِه في بَيعِ ثَوْبٍ في سُوقٍ غائبٍ عن المُوَكِّلِ، أو مَوْضِعٍ يَضِيعُ الثَّمَنُ بتركِ قَبْضِ الوَكِيلِ له (¬2)، كان إذْنًا في قَبْضِه، فمتى تَرَك قَبْضَه ضَمِنَه؛ لأنَّ ظاهِرَ حالِ المُوَكِّلِ أنَّه إنَّما أمَرَه بالبَيعِ لتَحْصِيل ثَمَنِه، فلا يَرْضَى بتَضْيِيعِه، ولهذا يُعَدُّ مَن فَعَل ذلك مُفَرِّطًا. وإن لم تَدُلَّ القَرِينةُ على ذلك، لم يَكُنْ له قَبْضُه. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 212. (¬2) سقط من: م.

2019 - مسألة: (وإن وكله في بيع فاسد، لم يصح)

وَإنْ وَكَّلَهُ في بَيعٍ فَاسِدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَكَّلَه في شِراءِ شيءٍ، مَلَك تَسْلِيمَ ثَمَنِه؛ لأنَّه مِن تَتِمَّتِه (¬1) وحُقُوقِه، فهو كتَسْليمِ المَبيعِ في البَيعِ. والحُكْمُ في قَبْضِ المَبِيعِ كالحُكْمِ في قَبْضِ الثَّمَنِ في البَيع (¬2)، على ما ذكرْنا. فإن اشْتَرَى عَبْدًا فنَقَدَ ثَمَنَه، فخرَجَ العَبْدُ مُسْتَحَقًّا، فهل يَمْلِكُ أن يُخاصِمَ البائِعَ في الثَّمَنِ؟ على وَجْهَينِ. فإن اشْتَرَى شيئًا وقَبَضه، وأخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لغيرِ عُذْرٍ، فهَلَكَ في يَدِه، ضَمِنَه، وإن كان له عُذْرٌ، مثلَ أن ذَهَب ليَنْقُدَه [فهَلَكَ] (¬3) أو نحوَ ذلك، فلا ضَمانَ عليه. نَصَّ أحمدُ على هذا، لأنَّه مُفَرِّطٌ في إمْساكِه في الصُّورَةِ الأُولَى، فلَزِمَه الضَّمان، بخِلافِ ما إذا لم يُفَرِّطْ. 2019 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في بَيعٍ فاسِدٍ، لم يَصِحَّ) ولم يَمْلِكْه؛ لأنَّ الله تعالى لم يَأْذَنْ فيه، ولأنَّ المُوَكِّلَ لا يَمْلِكُه، فالوَكِيلُ ¬

(¬1) في م: «ثمنه». (¬2) في الأصل، ر: «المبيع». (¬3) سقط من النسخ. وانظر المغني 7/ 213.

2020 - مسألة: (و)

أَوْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. ولا يَمْلِكُ الصَّحِيحَ؛ لأنَّ المُوَكِّلَ لم يَأْذَنْ فيه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَمْلِكُ الصَّحِيحَ؛ لأنَّه إذا أذِنَ في الفاسِدِ، فالصَّحِيحُ أوْلَى. ولَنا، أنَّه أَذِنَ له في مُحَرَّمٍ، فلم يَمْلِكِ الحَلال بالإِذْنِ في الفاسِدِ, كما لو أذِنَ في شِراءِ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ، لم يَمْلِكْ شِراءَ الخَيلِ والغَنَمِ. 2020 - مسألة: (و) إن وَكَّلَه في (كُلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ، لم يَصِحَّ) لأنَّه يَدْخُلُ فيه كلُّ شيءٍ، فيَعْظُمُ الغَرَرُ، ولأنَّه لا يَصحُّ التَّوْكِيلُ إلَّا في تَصَرُّفٍ مَعْلُوم. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال ابنُ أبي لَيلَى: يَصِحُّ ويَمْلِكُ به كلَّ ما تَناوَلَه لَفْظُه؛ لأنَّ لَفْظَه عامٌّ، فصَحَّ فيما تَناوَلَهُ، كما لو قال: بعْ مالِي كُلَّه. ولنا، أنَّ في هذا غَرَرًا عَظِيمًا وخَطَرًا كَبيرًا؛ لأنَّه يَدخُلُ فيه هِبَةُ مالِه، وطَلاقُ نِسائِه، وإعْتاقُ رَقِيقِه، وتَزَوُّجُ نِساءٍ كَثِيرٍ، وتَلْزَمُه المُهُورُ الكَثِيرَةُ، والأثْمانُ (¬1) العَظِيمةُ، فيَعْظُمُ الضَّرَرُ. ¬

(¬1) في ق، م: «الأيمان».

2021 - مسألة: (وإن وكله في بيع ماله كله، صح)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في بَيعِ مَالِهِ كُلِّهِ، صَحَّ. وَإنْ قَال: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ. أَوْ: عَبْدًا بمَا شِئْتَ. لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَذْكُرَ النَّوْعَ وَقَدْرَ الثَّمَنِ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2021 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في بَيعِ مالِه كلِّه، صَحَّ) لأنَّه يَعْرِفُ ماله، فيَعْرِفُ أقْصَي ما يَبِيعُ، فيَقِلُّ الغَرَرُ. وكذلك لو وَكَّلَه في بَيعِ ما شاء مِن مالِه، أو قَبْضِ دُيُونِه، أو الإِبراءِ منها، أو ما شاء منها، صَحَّ؛ لأنَّه يَعْرِفُ دَينَه، فيَعْرِفُ ما يَقْبِضُ، فيَقِلُّ الغَرَرُ. 2022 - مسألة: (وإن قال: اشْتَرِ لي ما شِئْتَ. أو: عَبْدًا بما شِئْتَ. لم يَصِحَّ) [ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ] (¬1) (حتى يَذْكُرَ النَّوْعَ وقَدْرَ الثَّمَنِ. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّه يَصِحُّ) وذكره أبو الخطّابِ أيضًا (¬2)؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م. (¬2) سقط من: الأصل، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يُمْكِنُ شِراؤُه يَكْثُرُ، فيَكْثُرُ فيه الغَرَرُ. وإن قَدَّرَ له أكْثَرَ الثَّمَنِ وأقَلَّه، صحَّ؛ لأنَّه يَقِلُّ الغَرَرُ. وقال القاضي: إذا ذَكَر النَّوْعَ لم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ الثَّمَنِ؛ لأنَّه أذِنَ (¬1) في أعْلاه. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّه يَصِحُّ. فإنَّه قد رُوِيَ عنه، في مَن قال: ما اشْتَرَيتَ مِن شيءٍ فهو بينَنا. أنَّ هذا جائِزٌ، وأعْجَبَه. وهذا تَوْكِيلٌ في شِراءِ كلِّ شيءٍ، ولأنَّه إذْنٌ في التَّصَرُّفِ، فجاز مِن غيرِ تَعْيين، كالإِذنِ في التِّجارَةِ. فصل: قد ذَكَرْنا أنَّه إذا قال: بعْ ما شِئْتَ مِن مالِي. أنَّه يَصِحُّ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إذا قال: بِعْ ما شِئْتَ مِن مالِي. لم يَجُزْ. وإن قال: بِعْ ما شِئْتَ مِن عَبِيدي. جاز؛ لأنَّه مَحْصُورٌ بالجِنْسِ. ولَنا، أنَّ ما جاز التَّوْكِيلُ في جَمِيعِه، جاز التَّوْكِيلُ في بَعْضِه، كعَبِيدِه (¬2). وإن قال: اشْتَرِ لي عَبْدًا تُرْكِيًّا. أو: ثَوْبًا هَرَويًّا (¬3). صَحَّ. وكذلك إن قال: اشْتَرِ لي عَبْدًا. أو: ثَوْبًا. لم يَذْكُرْ جنْسَه، صحَّ أيضًا. وقال أبو الخَطَّابِ: لا يَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. ولَنا، أنه إذا (¬4) ذَكَرَ ¬

(¬1) في الأصل: «ذكر». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «صرويا». (¬4) سقط من: م.

2023 - مسألة: (وإن وكله في الخصومة، لم يكن وكيلا في القبض)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في الْخُصُومَةِ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا في الْقَبْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَوْعًا فقد أذِنَ في أعْلاه ثَمَنًا، فيَقِلُّ الغَرَرُ، ولأنَّ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ يَضُرُّ به، فإنَّه قد لا يَجِدُ بقَدْرِ الثَّمَنِ، ومَن اعْتَبَر ذِكْرَ الثَّمَنِ، جَوَّزَ أن يَذْكُرَ له أكْثَرَ الثَّمَنِ وأقَلَّه، وقد ذَكَرْناه. 2023 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في الخُصُومَةِ، لم يكنْ وَكِيلًا في القَبْضِ) وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَمْلِكُ قَبْضَه؛ لأنَّ المَقْصُودَ مِن التَّثَبُّتِ قَبْضُه و (¬1) تَحْصِيلُه. ولَنا، أنَّ القَبْضَ لم يَتَناوَلْه الإِذْنُ نُطْقًا ولا عُرْفًا؛ لأنَّه قد يَرْضَى للخُصُومَةِ مَن (¬2) لا يَرْضاه للقَبْضِ. ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في الأصل «ما».

2024 - مسألة: (وإن وكله في القبض، كان وكيلا في

وَإِنْ وَكَّلَهُ في الْقَبْضِ، كَانَ وَكِيلًا في الْخُصُومَةِ، في أَحَدِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَكَّلَه في الخُصُومَةِ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه على المُوَكِّلِ بقَبْضٍ الحَقِّ ولا غيرِه. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ، وابنُ أبي لَيلَى. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: يُقْبَلُ إقْرارُه في مَجْلِسِ الحُكْمِ، فيما عَدا الحُدُودَ والقِصاصَ. وقال أبو يُوسُف: يُقْبَلُ إقْرارُه في مَجْلِسِ الحُكْمِ وغيرِه؛ لأنَّ الإِقْرارَ أحَدُ جَوابَيِ المُدَّعِي، فَمَلَكَه، كالإِنْكارِ. ولَنا، أنَّ الإِقْرارَ مَعْنًى (¬1) يَقْطَعُ الخُصُومَةَ ويُنافِيها، فلم [يَمْلِكْه الوَكِيلُ] (¬2) فيها، كالإِبْراءِ. وفارَقَ الإِنْكارَ؛ فإنَّه لا يَقْطَعُ الخُصُومَةَ، ويَمْلِكُه في الحُدُودِ والقِصاصِ، وفي غيرِ مَجْلِسِ الحاكِمِ. ولأنَّ الوَكِيلَ لا يَمْلِكُ الإِنْكارَ على وَجْهٍ يَمْنَعُ المُوَكِّلَ مِن الإِقْرارِ، فلو مَلَك الإِقْرارَ لامْتَنَعَ على المُوَكِّلِ الإِنْكارُ، فافْتَرَقَا. ولا يَمْلِكُ المُصالحَةَ على الحَقِّ، ولا الإِبراءَ منه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ (¬3) الإِذْنَ في الخُصُومَةِ لا يَقْتَضِي شيئًا مِن ذلك. 2024 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في القَبْضِ، كان وَكِيلًا في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يملك الوكيل الإقرار». (¬3) في م: «إلا أن».

الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُصُومَةِ، في أحَدِ الوَجْهَين) [وبه] (¬1) قال أبو حنيفةَ. والآخَرُ، ليس له ذلك. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّهما مَعْنَيَان مُخْتَلِفان، فالوَكِيلُ في أحَدِهما لا يكونُ وَكِيلًا في الآخَرِ؟ لأنَّه لم يَتَناوَلْه اللَّفْظُ. ووَجْهُ الاوَّلِ، أنَّه لا يَتَوَصَّلُ إلى القَبْضِ إلَّا بالتَّثْبِيتِ، فكان إذْنًا فيه عُرْفًا، ولأنَّ القَبْضَ لا يَتِمُّ إلَّا به، فمَلَكَه, كما لو وَكَّلَه في (¬2) شِراءِ شيءٍ مَلَك تَسْلِيمَ ثَمَنِه، أو في بَيعِ شيءٍ مَلَك تَسْلِيمَه. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان المُوَكِّلُ عالِمًا بجَحْدِ مَن عليه الحَقُّ أو مَطْلِه، كان تَوْكِيلًا في تَثْبِيتِه والخُصُومَةِ فيه؛ لِعِلْمِه بوُقُوفِ القَبْضِ عليه. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الحَقِّ عَينًا أو دَينًا. وقال بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ: إن [وَكَّلَه في قَبْضِ] (¬1) عَينٍ، لم يَمْلِكْ تَثْبِيتَها؛ لأنَّه وَكِيلٌ في نَقْلِها، أشْبَهَ الوَكِيلَ في نَقْلِ الزَّوْجةِ. ولَنا، أنَّه وَكِيلٌ في قَبْضِ حَقٍّ، أشْبَهَ الوَكِيلَ في قَبْضِ الدَّينِ، وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه؛ فإنَّه تَوْكِيلٌ في قَبْضِه ونَقْلِه إليه. ¬

(¬1) في م: «وكل في بيع».

2025 - مسألة: (وإن وكله في قبض الحق من إنسان، لم يكن له قبضه من وارثه. وإن قال: اقبض حقي الذي قبله. فله القبض من وارثه)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في قَبْضِ الْحَقِّ مِنْ إِنْسَانٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ مِنْ وَارِثِهِ وَإِنْ قَال: اقْبِضْ حَقِّيَ الَّذِي قِبَلَهُ. فَلَهُ الْقَبْضُ مِنْ وَارِثِهِ. وَإِنْ قَال: اقْبِضْهُ الْيَوْمَ. لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَهُ غَدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2025 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في قَبْضِ الحَقِّ مِن إنسانٍ، لم يكنْ له قَبْضه مِن وارِثِه. وإن قال: اقْبِضْ حَقِّي الذي قِبَلَه. فله القَبْضُ مِن وارِثِه) إذا وَكَّلَه في قَبْضِ دَينٍ مِن رجلٍ، فمات، نَظَرْتَ في لَفْظِه؛ فإن قال: اقْبِضْ حَقِّي مِن فُلانٍ. لم يَكُنْ له قَبْضه مِن وارِثِه؛ لأنَّه لم يُؤْمَرْ بذلك، ولا يَقْتَضِيه العُرْفُ؛ لأنَّه قد يَرْضَى (¬1) بقاءَ الحَقِّ عندَهم دُونَه. وإن قال: اقْبِضْ حَقِّي الذي قِبَلَه. أو: عليه. فله مُطالبَةُ وارِثِه، والقَبْضُ منه؛ لأنَّ قَبْضَه مِن الوارِثِ قَبْضٌ للحَقِّ الذي على مَوْرُوثِه. فإن قِيلَ: فلو قال: اقْبِضْ حَقِّي مِن زيدٍ. فوَكَّلَ زَيدٌ إنْسانًا في الدَّفْع إليه، كان له القَبْضُ منه (¬2)، والوارِثُ نائِبُ المَوْرُوثِ، فهو كالوَكِيلِ. قُلْنا: الوَكِيلُ إذا دَفَع عنه بإذْنِه، جَرَى مَجْرَى تَسْلِيمِه؛ لأنَّه أقامَهُ مُقامَ نَفْسِه، وليمر كذلك ههُنا، فإنَّ الحَقَّ انْتَقَل إلى الوَرَثَةِ واسْتَحَقَّتِ المُطالبَةُ عليهم، لا بطَرِيقِ النِّيابَةِ عن المَوْرُوثِ، ولهذا لو حَلَف لا يَفْعَلُ شيئًا، حَنِث بفِعْلِ وَكِيله دُونَ وارِثِه. 2026 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في قَبْضِه اليَوْمَ، لم يكنْ له قَبْضه غدًا) لأنَّه قد يَخْتَصُّ غَرَضُه به في زَمَنِ حاجَتِه إليه. ¬

(¬1) في م: «يرى». (¬2) سقط من: م.

2027 - مسألة: (وإن وكله في الإيداع، فأودع ولم يشهد، لم يضمن)

وَإِنْ وَكَّلَهُ في الإِيدَاعِ، فَأَوْدَعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي قَضَاءِ دَينٍ، فَقَضَاهُ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَأَنْكَرَهُ الْغَرِيمُ، ضَمِنَ، إلا أَنْ يَقْضِيَهُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2027 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في الإِيداعِ، فأوْدَع ولم يُشْهِدْ، لم يَضْمَنْ) إذا أنْكَرَ المُودَعُ. كذلك ذَكَرَه أصحابُنا. وعُمُومُ كَلامِ الخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أن لا يُقْبَلَ قَوْلُه على الآمِرِ (¬1). وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الوَدِيعَةَ لا تَثْبُتُ إلَّا ببَيِّنَةٍ، فهو كما لو وَكَّلَه في قَضاءِ الدَّينِ. وقال أصحابُنا: لا يَصِحُّ القِياسُ؛ لأنَّ قولَ المُودَعِ يُقْبَلُ في الرَّدِّ والهَلاكِ، فلا فائِدَةَ في الاسْتِيثاقِ؛ بخِلافِ قَضاءِ الدَّينِ. فإن قال الوَكِيلُ: دَفَعْتُ المال إلى المُودَعِ. فقال: لم تَدْفَعْه. فالقولُ قولُ الوَكِيلِ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في تَصَرُّفِه فيما وُكِّلَ فيه، فكان القولُ قَوْلَه فيه. 2028 - مسألة: (وإن وَكَّلَه في قَضاءِ دَينٍ، فقَضَاه ولم يُشْهِدْ، وأنْكَرَ الغَرِيمُ، ضَمِن، إلَّا أن يَقْضِيَه بحَضْرَةِ المُوَكِّلِ) إذا وَكَّلَ رَجلًا ¬

(¬1) في م: «الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قَضاءِ دَينِه، ودَفَع إليه مالًا ليَدْفَعَه إليه، فادَّعَى الوَكِيلُ قَضاءَ الدَّين ودَفْعَ المالِ إلى الغَرِيمِ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه على الغَرِيمِ إلَّا ببَيِّنةٍ؛ لأنَّه ليس بأمِينِه، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه عليه في ذلك, كما لو ادّعاه المُوَكِّلُ. فإذا حَلَف الغَرِيمُ، فله مُطالبَةُ المُوَكِّلِ؛ لأنَّ ذِمَّتَه لا تَبْرَأُ بدَفْعِ المالِ إلى وَكِيلِه. وهل للمُوَكِّلِ الرُّجُوعُ على وَكِيلِه؟ يُنْظَرُ؛ فإن كان قَضاه بغيرِ بَيِّنةٍ، فللمُوَكِّلِ الرُّجُوعُ عليه إذا قَضاه في غَيبَتِه. قال القاضي: سَواءٌ صَدَّقَه أو كَذَّبَه. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه إذْنٌ له (¬1) في القَضاءِ يُبْرئُه (¬2)، ولم يُوجَدْ. وعن أحمدَ، أنَّه لا يَرْجِعُ عليه بشيءٍ، إلَّا أن يكونَ أمَرَه بالإِشْهادِ فلم يَفْعَلْ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، إن صَدَّقَه المُوَكِّلُ في الدَّفْعِ، لم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ، وإن كَذَّبَه، فالقولُ قولُ الوَكِيلِ مع يَمِينِه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ووَجْهٌ لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه ادَّعَى فِعْلَ ما أمَرَه به مُوَكِّلُه، فكان القولُ قَوْلَه، كما لو أمَرَه ببَيعِ ثَوْبِه، فادَّعَى بَيعَه. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه مُفَرِّطٌ بتَرْكِ الإشْهادِ، فضَمِن, كما لو فَرَّطَ في البَيعِ بدُون ثَمَنِ المِثْلِ. فإن قِيلَ: فَلَمْ يأْمُرْه بالإِشْهادِ؟ قُلْنا: إطْلاقُ الأمْرِ بالقَضاءِ يَقْتَضي ذلك؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ إلَّا به، فيَصِيرُ كأمْرِه بالبَيعِ والشِّراءِ، يَقْتَضي ذلك العُرْفُ لا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يبرأ به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العُمُومُ. كذا ههُنا. وقِياسُ القولِ الآخَرِ يُمْكِنُ القولُ بمُوجِبِه، وأنَّ قَوْلَه مَقْبُولٌ في القَضاءِ، وإنَّما لَزِمَه الضَّمانُ لتَفْرِيطِه، لا لرَدِّ قَوْلِه. وعلى هذا، لو كان القَضاءُ بحَضْرةِ المُوَكِّلِ، لم يَضْمَن الوَكِيلُ؛ لأنَّ تَرْكَه الاحْتِياطَ والإِشْهادَ رَضًا منه بما فَعَل وَكِيلُه. وكذلك لو أذِنَ له في القَضاءِ بغيرِ إشْهادٍ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ صَرِيحَ قَوْلِه يُقَدَّمُ على ما تَقْتَضِيه دَلالةُ الحالِ. وكذلك إن أشْهَدَ على القَضاءِ عُدُولًا فماتُوا أو غابُوا، فلا ضَمانَ

فَصْلٌ: وَالْوَكِيل أَمِينٌ، لَا ضَمَانَ عَلَيهِ فِيمَا تَلِفَ في يَدِهِ بِغَيرِ تَفْرِيطٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ في الْهَلَاكِ وَنَفْي التَّفْرِيطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [على الوَكِيلِ] (¬1) لعَدَمِ تَفْرِيطِه. وإنِ أشْهَد مَن يُخْتَلَفُ في ثُبوتِ الحقِّ بشَهادَتِه، كشاهِدٍ واحدٍ، أو رجلًا وامْرَأَتَين، فهل يَبْرَأُ مِن الضَّمانِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَين. فإنِ اخْتَلَفَ الوَكِيلُ والمُوَكِّلُ، فقال: قَضَيتُ الدَّينَ بحَضْرَتِك. فأنْكَرَ المُوَكِّلُ ذلك، أو قال: أذِنْتَ لي في قَضائِه بغيرِ بَيِّنَةٍ. فأنْكَرَ المُوَكِّلُ، أو قال: أَشْهَدْتُ على القَضاءِ شُهُودًا فماتُوا. فأنْكَرَ المُوَكِّلُ، فالقَوْلُ قَوْلُه؛ لأنَّ الأصْلَ معه. فصل: قال المُصنِّفُ، رَحِمَه اللهُ: (والوَكيلُ أمِينٌ، لا ضَمانَ عليه فيما تَلِف في يَدِة بغيرِ تَفْرِيطٍ) سَواءٌ كان بجُعْلٍ أو لا؛ لأنَّه أَمِينٌ، أشْبَهَ المُوَدَعَ. ومتى اخْتَلَفا في تَعَدِّي الوَكِيلِ، أو تَفْرِيطِه في الحِفْظِ، أو ¬

(¬1) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُخالفَتِه أمْرَ مُوَكِّلِه، مثلَ أن يَدَّعِيَ عليه (¬1) أنَّك حَمَلْتَ على الدّابَّةِ فوقَ طاقَتِها، أو حَمَلْتَ عليها شيئًا لنَفْسِك، أو فَرَّطْتَ في حِفْظِها. أو لَبِسْتَ الثَّوْبَ، أو أمَرْتُك برَدِّ المالِ فلم تَفْعَلْ، ونحوَ ذلك، فالقولُ قولُ الوَكِيلِ مع يَمِينِه؛ لأنَّه أمِينٌ، وهذا ممّا يَتَعذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه، فلا يُكَلَّفُ ذلك، كالمُودَعِ. ولأنَّه مُنْكِرٌ لِما يُدَّعَى عليه، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. وكذلك إنِ ادَّعَى الوَكِيلُ التَّلَفَ فأنْكَرَ المُوَكِّلُ، فالقولُ قولُ الوَكِيلِ مع يَمينِه؟ لِما ذَكَرْنا. وهكذا حُكْمُ كلِّ (¬2) مَن كان في يَدِه شيءٌ لغيرِه على سَبِيلِ الأمانَةِ، كالأبِ، والوَصيِّ، وأمينِ الحاكِمِ، والشَّرِيكِ، والمُضارِبِ، والمُرْتَهِنِ، والمُسْتَأْجِرِ؛ لأنَّه لو كُلِّفَ ذلك مع تَعَذُّرِه عليه (¬3)، لامْتَنَعَ النّاسُ مِن الدُّخُولِ في الأماناتِ مع دَعْوَى الحاجَةِ إليها، وذلك ضَرَرٌ. وقال القاضي: إلَّا أن يَدَّعِيَ تَلَفَها بأمْرٍ ظاهِرٍ، كالحَرِيقِ والنَّهْبِ، فعليه إقامَةُ البَيِّنَةِ على وُجُودِ هذا الأمْرِ في تلك النّاحِيَةِ، ثم يكونُ القولُ قَوْلَه في تَلَفِها به. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ وُجُودَ الأمْرِ الظّاهِرِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

2029 - مسألة: (ولو قال: بعت الثوب، وقبضت الثمن فتلف. فالقول قوله)

وَلَوْ قَال: بِعْتُ الثَّوْبَ، وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ، فَتَلِفَ. فَالْقَوْلُ قَولهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ممّا لا يَخْفَى، فلا يتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه. ومتى ثَبَت التَّلَفُ في يَدِه مِن غيرِ تَعَدِّيه؛ إمّا لقَبُولِ قوْلِه، أو بإقْرارِ مُوَكِّلِه أو بَيِّنَةٍ (¬1)، فلا ضَمانَ عليه، سَواءٌ تَلِف المَتاعُ الذي أُمِر ببَيعِه، أو باعَه وقَبَض ثَمَنَه فتَلِفَ الثَّمَنُ، سواءٌ كان بجُعْلٍ أو غيرِه؛ لأنَّه نائِبُ المالِكِ في اليَدِ والتَّصَرُّفِ، فالهَلاكُ في يَدِه كالهَلاكِ في يَدِ المالِكِ، وجَرَى مَجْرَى المُودَعِ والمُضارِبِ وشِبْهِهما. فإن تَعَدَّى أو فَرَّطَ، ضَمِن. وكذلك سائِرُ الأُمَناءِ. ولو باع الوَكِيلُ سِلْعَةً وقَبَض ثَمَنَها، فتَلِفَ في يَدِه مِن غيرِ تَعَدٍّ، واسْتُحِقَّ المَبِيعُ، رَجَع المُشْتَرِي بالثَّمَنِ على المُوَكِّل دُونَ الوَكِيلِ؛ لأنَّ المَبِيعَ له، فالرُّجُوعُ بالعُهْدَةِ عليه, كما لو باع بنَفسِه. 2029 - مسألة: (ولو قال: بِعْتُ الثَّوْبَ، وقَبَضْتُ الثَّمَنَ فتَلِفَ. فالقولُ قَوْلُه) إذا اخْتَلَفَ الوَكِيلُ والمُوَكِّلُ في التَّصَرُّفِ، فيقولُ ¬

(¬1) في م: «تبينه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَكِيلُ: بِعْتُ الثَّوْبَ، وقَبَضْتُ الثَّمَنَ. فيُنْكِرُ المُوَكِّلُ ذلك، أو يقولُ: بِعْتَ ولم تَقْبِضْ (¬1) شيئًا. فالقولُ قولُ الوَكِيلِ. ذَكَرَه ابنُ حامدٍ. وهو قولُ أصحاب الرَّأْي؟ لأنَّه يَمْلِكُ البَيعَ والقَبْضَ، فقُبِلَ قَوْلُه فيهما، كما يُقْبَلُ قولُ وَلِيِّ المرَأةِ المُجْبَرةِ على النِّكاحِ في تَزْويجِها. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ قَوْلُه. وهو أحَدُ القَوْلَين لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه يُقِرُّ بحَقٍّ لغيرِه على مُوَكِّلِه، فلم يُقْبَلْ, كما لو أقَرَّ بدَينٍ عليه. فإن وَكَّلَه في شِراءِ عَبْدٍ، فاشْتَراه، واخْتَلَفا في قَدْرِ ما اشْتَراه به، فقال: اشْتَرَيتُه بألْفٍ. قال: بل بخَمْسِمائةٍ. فالقولُ قولُ الوَكِيلِ؛ لِما ذَكَرْناه. وقال القاضي: القولُ قولُ المُوَكِّلِ، إلَّا أن يكونَ عَيَّنَ له الشِّراءَ بما ادَّعاه، فقال: اشْتَرِ ¬

(¬1) في ر، ق: «أقبض».

2030 - مسألة: (وإن اختلفا في رده إلى الموكل، فالقول قوله إن كان متطوعا. وإن كان بجعل، فعلى وجهين)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في رَدِّهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا. وَإِنْ كَانَ بِجُعْلٍ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لي عَبْدًا بألْفٍ. فادَّعَى الوَكِيلُ أنَّه اشْتَراه بها، فالقولُ قولُ الوَكِيلَ إذًا، وإلَّا فالقولُ قولُ المُوَكِّلِ؛ لأنَّ مَن كان القولُ قَوْلَه في أصْلِ شيءٍ، كان القولُ قَوْلَه في صِفَتِه. وللشافعيِّ قَوْلانِ كهَذَينِ الوَجْهَين. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الشِّراءُ في الذِّمَّةِ، فالقولُ قولُ المُوَكِّلِ؛ لأنَّه غارِمٌ، لكَوْنِه مُطالبًا بالثَّمَنِ، وإنِ اشْتَرى بعَينِ المالِ، فالقولُ قولُ الوَكِيلِ؛ لكَوْنِه. الغارِمَ، فإنَّه يُطالِبُه برَدِّ ما زاد على خَمْسِمائةٍ. ولَنا، أنَّهما اخْتَلَفا في تَصَرُّفِ الوَكِيلِ، فكان القولُ قَوْلَه, كما لو اخْتَلَفا في البَيعِ، ولأنَّه وَكِيلٌ في الشِّراءِ، فكان القولُ قَوْلَه في قَدْرِ ثَمَنِ المُشْتَرَى، كالمُضارِبِ، وكما لو قال له: اشْتَرِ بألْفٍ. عندَ القاضي. 2030 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في رَدِّه إلى المُوَكِّلِ، فالقولُ قَولُه إن كان مُتَطَوِّعًا. وإن كان بجُعْلٍ، فعلى وَجْهَين) إذا اخْتَلَفا في الرَّد، فادَّعاه الوَكِيلُ وأنْكَرَه المُوَكِّلُ، فإن كان بغيرِ جُعْلٍ، فالقولُ قولُ

2031 - مسألة: (وكذلك يخرج في الأجير والمرتهن)

وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ في الْأَجِيرِ وَالْمُرْتَهِنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَكِيلِ؛ لأنَّه قَبَض المال لنَفْعِ مالِكهِ، فكان القولُ قَوْلَه، كالمُودَعِ. وإن كان بجُعْلٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّ القولَ قَوْلُه، كالأوَّلِ. والثاني، لا يُقْبَلُ قولُه؛ لأنَّه قَبَض المال لنَفْعِ نَفْسِه، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه في الرَّدِّ، كالمُسْتَعِيرِ. وسَواءٌ اخْتَلَفا في رَدِّ العَينِ أو رَدِّ ثَمَنِها. 2031 - مسألة: (وكذلك يُخَرَّجُ في الأجِيرِ والمُرْتَهِنِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الأُمَناءَ على ضَرْبَين؛ أحَدُهما، مَن قَبَض المال لنَفْعِ مالِكِه لا غيرُ، كالمُودَعِ والوَكِيلِ بغيرِ جُعْلٍ، فيقبَلُ قَوْلُهم في الرَّدِّ؛ لأنَّه لو لم يُقْبَلْ قَوْلُهم لامْتَنَعَ الناسُ مِن قَبُولِ هذه الأماناتِ، فيَلْحَقُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الناسَ الضَّرَرُ. الثاني، مَن (¬1) يَنْتَفِعُ بقَبْضِ الأمانَةِ، كالوَكِيلِ بجُعْلٍ، والمُضارِبِ، والأجِيرِ المُشْتَركِ، والمُسْتَأْجِرِ، والمُرْتَهِنِ، ففيهم وَجْهان. ذَكَرَهما أبو الخَطَّابِ؛ أحَدُهما، لا يُقْبَلُ قولُ (¬2) المُرْتَهِن [والمُسْتَأْجِرِ] (¬3) والمُضارِب في الرَّدِّ؛ لأنَّ أحمدَ نَصَّ عليه في المُضارِبِ، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ، ولَأنَّ مَن قَبَض المال لنَفْعِ نَفْسِه، لا يُقْبَلُ قَوْلُه في الرَّد، كالمُسْتَعِيرِ. ولو أنْكَرَ الوَكِيلُ قَبْضَ المالِ، ثم ثَبَت ذلك ببَيِّنَةٍ أو اعْتِرافٍ، فادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه؛ لأنَّ جِنايَتَه قد ثَبَتَتْ بجَحْدِه. فإن أقام بَيِّنةً بما ادَّعاه مِن الرَّدِّ أو التَّلَفِ، لم تُقْبَلُ بَيِّنَتُه في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه كَذَّبَها بجَحْدِه، فإنَّ قَوْلَه: ما (¬4) قَبَضْتُ. يَتَضَمَّنُ أنَّه لم يَرُدَّ شيئًا. والثاني، يُقْبَلُ؛ لأنَّه يَدَّعى الرَّدَّ والتَّلَفَ قبلَ وُجُودِ خِيانتِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

2032 - مسألة: (فإن قال: أذنت لي في البيع نساء، وفي الشراء بخمسة. فأنكره، فعلى وجهين)

وَإِنْ قَال: أَذِنْتَ لِي في الْبَيعِ نَسَاءً، وَفِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ. فَأَنْكَرَهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كان جُحُودُه أنك لا (¬1) تَسْتَحِقُّ عَليَّ شيئًا، أو ما لَكَ عندِي شيءٌ، سُمِع قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ جَوابَه لا يُكَذِّبُ ذلك، فإَّنه إذا كان قد تَلِف أو رُدَّ، فليس له عندَه شيءٌ، فلا تَنافِيَ بينَ القَوْلَين، إلَّا أن يَدَّعِيَ أنَّه رَدَّه أو تَلِف بعدَ قَوْلِه: ما لَكَ عندِي شيءٌ. فلا يُسْمَعُ قَوْلُه؛ لثُبُوتِ كَذِبِه وخِيانَتِه. 2032 - مسألة: (فإن قال: أذِنْتَ لي في البَيعِ نَساءً، وفي الشِّراءِ بخَمْسةٍ. فأنْكَرَه، فعلى وَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّهما متى اخْتَلَفا في صِفَةِ الوَكالةِ، فقال: وَكَّلْتُك في بَيعِ هذا العَبْدِ. قال: بل في بَيعِ هذه ¬

(¬1) سقط من: ر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمَةِ (¬1)، أو قال: [وَكَّلْتُكَ في البَيعِ بألْفَين. قال: بل بألْفٍ. أو قال: وَكَّلْتُكَ] (¬2) في بَيعِه نَقدًا. قال: بل نَسِيئَةً. أو قال: وَكَّلْتُكَ في شِراءِ عَبْدٍ. قال: بل في شِراءِ أمَةٍ. أو قال: وَكَّلْتُكَ في الشِّراءِ بعَشَرَةٍ. قال: بل بخَمْسَةٍ. فقال القاضي (¬3): القولُ قولُ المُوَكِّلِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو الخَطَّابِ: إذا قال: أذِنْتُ لك في البَيعِ نَقْدًا، وفي الشِّراءِ بخَمْسَةٍ. قال: بِل أذِنْتَ لي في البَيعِ نَسِيئَةً، وفي الشِّراءِ بعشَرَةٍ. فالقولُ قولُ الوَكِيلِ. نصَّ عليه أحمدُ (¬4) في المُضارَبَةِ؛ لأنَّه أمِينٌ في التَّصَرُّفِ، فكان القولُ قَوْلَه في صِفَتِه، كالخَيّاطِ إذا قال: أذِنْتَ لي في تَفْصِيلِه قَباءً. قال: بل قَمِيصًا. وحُكِيَ عن مالكٍ: إن أُدْرِكَتِ السِّلْعَةُ، فالقولُ قولُ المُوَكِّلِ، وإن فاتَتْ، فالقولُ قولُ الوَكِيلِ؛ لأنَّها إذا فاتَتْ لَزِم الوَكِيلَ الضَّمانُ، ¬

(¬1) في م: «الجارية». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «في المجرد». (¬4) بعده في م: «واختاره القاضي والتعليق الكبير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأصلُ عَدَمُه، بخِلافِ ما إذا كانت مَوْجُودَةً. والقولُ الأوَّلُ أصَحُّ؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّهما اخْتَلَفا في التَّوْكِيلِ الذي يَدَّعِيه الوَكِيلُ (¬1)، فكان القولُ قولَ مَن يَنْفِيه, كما لو لم يُقِرَّ المُوَكِّلُ بتَوْكِيلِه في غيرِه. والثاني، أنَّهما اخْتَلَفا في صِفَةِ قولِ المُوَكِّلِ، فكان القولُ قَوْلَه في صِفَةِ كَلامِه, كما لو اخْتَلَفَ الزَّوْجانِ في صِفَةِ الطَّلاقِ. فعلى هذا، إذا قال: اشْتَريتُ لك هذه الجارِيَةَ بإذْنِكَ. قال: ما أذِنْتُ لك (¬2) إلَّا في شِراء غيرِها. أو قال: اشْتَرَيتُها لك بألْفَين. فقال: ما أذِنْتُ لك في شِرائِها إلَّا بأَلْفٍ. فالقولُ قولُ المُوَكِّلِ، وعليه اليَمِينُ. فإذا حَلَف بَرِئَ مِن الشِّراءِ. ثم لا يَخْلُو؛ إمّا أن يكونَ الشِّراءُ بعَينِ المالِ أو في الذِّمَّةِ، فإن كان بعَينِ المالِ، فالبَيعُ باطِلٌ، ويَرُدُّ الجارِيَةَ على البائِعِ إنِ اعْتَرَفَ بذلك، ¬

(¬1) في الأصل، م: «الموكل». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كَذَّبَه في أنَّ الشِّراءَ لغيرِه، أو بمالِ غيرِه، [أو بغيرِ] (¬1) إذْنِه، فالقولُ قولُ البائِعِ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ ما في يَدِ الإِنْسانِ له. فإنِ ادَّعَى الوَكِيلُ عِلْمَه بذلك، حَلَف أنَّه لا يَعْلَمُ أنَّه اشْتَراه بمالِ مُوَكِّلِه؛ لأنَّه يَحْلِفُ على نَفْي فِعْلِ غيرِه، فإذا حَلَف، مَضَى البَيعُ، وعلى الوَكِيلِ غَرامَةُ الثَّمَنِ لمُوَكِّلِه، ودَفعُ الثَّمَنِ إلى البائِعِ، وتَبْقَى الجارِيةُ في يَدِه، لا تَحِلُّ له؛ لأنَّه إن كان صادِقًا فهي للمُوَكِّلِ، وإن كان كاذِبًا فهي للبائِعِ. فإن أراد ¬

(¬1) سقط من ق، وفي م: «بغير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِحْلالها، اشْتَراها ممَّن هي له في الباطِنِ، فإنِ امْتَنَع مِن بَيعِه إيّاها، رَفَع الأمْرَ إلى الحاكِمِ؛ ليَرْفُقَ به ليَبِيعَه إيّاها، ليَثْبُتَ المِلْكُ له ظاهِرًا وباطِنًا، ويَصِيرَ ما ثَبَت له في ذِمَّتِه ثَمَنًا قِصاصًا بالذي (¬1) أخَذَ منه الآخَرُ ظُلْمًا، فإنِ امْتَنَعَ الآخَرُ مِن البَيعِ، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأنَّه عَقْدُ مُراضاةٍ. فإن قال له: إن كانتِ الجارِيةُ لي فقد بِعْتُكَها. أو قال المُوَكِّلُ: إن كُنْتُ أذِنْتُ لك في شِرائِها بألْفَين (¬2) فقد بِعْتُكَها. ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ. وهو قولُ القاضي، وبعضِ الشافِعيَّةِ؛ لأنَّه بَيعٌ مُعَلَّقٌ على شَرْطٍ. والثاني يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا أمْرٌ واقِعٌ يَعْلَمان وُجُودَه، فلا يَضُرُّ (¬3) جَعْلُه شَرْطًا, كما لو قال: إن كانت هذه الجارِيةُ جارِيةً، فقد بعْتُكَها. وكذلك كلُّ شَرْطٍ عَلِما وُجُودَه، فإنَّه لا يُوجِبُ وُقُوفَ البَيعِ ولا شَكًّا فيه. وأمّا إن كان الوَكِيلُ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ، ثم نَقَد الثَّمَنَ، صَحَّ الشِّراءُ، ولَزِم الوَكِيلِ في الظّاهِرِ، فأمّا في الباطِنِ، فإن كان كاذِبًا في دَعْواه فالجارِيَةُ [له؛ لأنَّه اشْتَراها في ذِمَّتِه بغيرِ أمْرِ المُوَكِّلِ، وإن كان صادِقًا فالجارِيَة] (¬4) لمُوَكِّلِه. ¬

(¬1) في م: «بالثمن الذي». (¬2) في الأصل: «بالدين». (¬3) في م: «يصح». (¬4) سقط ش: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أراد إحْلالها تَوَصَّلَ إلى شِرائِها منه, كما ذَكَرْنا. وكلُّ مَوْضِعٍ كانت للمُوَكِّلِ في الباطِنِ وامْتَنَعَ مِن بَيعِها للوَكِيلِ، فقد حَصَلَت في يَدِ الوَكيلِ، وهي للمُوَكِّلِ، وفي ذِمَّتِه ثَمَنُها للوَكِيلِ (¬1)، فأقْرَبُ الوُجُوهِ أن يَأْذَنَ للحاكِمِ في بَيعِها، وتَوْفِيَةِ حَقِّه مِن ثَمَنِها، فإن كانت للوَكِيلِ (¬2)، فقد بِيعَتْ بإذْنِه، وإن كانت للمُوَكِّلِ، فقد باعَها الحاكِمُ في إيفاءِ دَينٍ امْتَنَعَ المَدِينُ مِن وَفائِه. وقد قِيل غيرُ ما ذَكَرْنا. وهذا أقْرَبُ، إن شاء اللهُ تعالى. وإنِ اشْتَراها الوَكِيلُ مِن الحاكِمِ بما له على المُوَكِّلِ، جاز؛ لأنَّه قائِمٌ مَقامَ المُوَكِّلِ في ذلك، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَى منه. فصل: ولو وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدٍ، فباعَه نَسِيئَةً، فقال المُوَكِّلُ: ما أذِنْتُ في بَيعِه إلَّا نَقْدًا. فصَدَّقَه الوَكِيلُ والمُشْتَرِي، فَسَد البَيعُ، وله مُطالبَةُ مَن شاء منهما بالعَبْدِ إن كان باقِيًا، وبقِيمَتِه إن تَلِف. فإن أخَذَ القِيمَةَ مِن الوَكِيلِ، رَجَع على المُشْتَرِي بها؛ لأنَّ التَّلَفَ في يَدِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمان ¬

(¬1) في م: «في الوكيل». (¬2) في الأصل: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، وإن أخَذَها مِن المُشْتَرِي، لم يَرْجِعْ بالضَّمانِ على أحَدٍ. وإن كَذَّباه، وادَّعَيا أنَّه أذِنَ في البَيعِ نَسِيئَةً، فعلى قول القاضي، يَحْلِفُ المُوَكِّلُ، ويَرْجِعُ في العَينِ إن كانت قائِمةً، وإن كانت تالِفَةً، رَجَع [بقِيمَتِها على مَن شاء منهما، فإن رجع على المُشترِي، رجع] (¬1) المُشْتَرِي على الوَكِيلِ بالثَّمَنِ الذي أخَذَه منه؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْ له المَبِيعَ (¬2)، وإن ضَمِن الوَكِيلُ، لم يَرْجِعْ على المُشْتَرِي في الحالِ؛ لأنَّه يُقِرُّ بصِحَّةِ البَيعِ وتَأْجِيلِ الثَّمَنِ، وأنَّ البائِعَ ظَلَمَه بالرُّجُوعِ عليه، وأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ بالثَّمَنِ بعدَ الأجَلِ، فإذا حَلَّ الأجَلُ، رَجَع الوَكِيلُ على المُشْتَرِي بأقَلِّ الأمْرَينِ مِن القِيمَةِ أو الثَّمَنِ المُسَمَّى؛ لأنَّ القِيمَةَ إن كانت أقَلَّ، فما غَرِم أكْثَرَ منها، فلم يَرجِعْ بأكْثَرَ ممّا غَرِم، وإن كان الثَّمَنُ أقَلَّ، فالوَكِيلُ مُعْتَرِفٌ للمُشْتَرِي أنَّه لا يَسْتَحِقُّ عليه أكْثَرَ منه، وأنَّ المُوَكِّلَ ظَلَمَه بأخْذِ الزّائِدِ على الثَّمَنِ، فلا يَرْجِعُ على المُشْتَرِي بما ظَلَم به المُوَكِّلُ. وإن كَذَّبَه أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، فله الرُّجُوعُ على المُصَدِّقِ بغيرِ يَمِينٍ، ويَحْلِفُ على المُكَذِّبِ ويَرْجعُ على حَسَب ما ذَكَرْناه. هذا إنِ اعْتَرَفَ المُشْتَرِي بالوَكالةِ، وإن أنْكَرَ ذلك، وقال: إنَّما بِعْتَنِي مِلْكَك، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه أنَّه لا يَعْلَمُ كَوْنَه وَكِيلًا ولا يَرْجِعُ عليه بشيءٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر، م: «المنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قَبَض الوَكِيلُ ثَمَنَ المَبِيعِ، فهو أمانَةٌ في يَدِه، لا يَلْزَمُه تَسْلِيمُه قبلَ طَلَبِه، ولا يَضْمَنُه بتَأْخِيرِه؛ لأنَّه رَضِيَ يكَوْنِه في يَدِه. فإن طَلَبَه فأخَّر رَدَّه مع إمْكانِه فَتَلِفَ، ضَمِنَه. وإن وَعَدَه رَدَّه، ثم ادَّعَى إنِّي كُنْتُ رَدَدْتُه قبلَ طَلَبِه، أو أنَّه كان تَلِف، لم يُقْبَلْ قَوْلُه؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ لنَفْسِه بوَعْدِه رَدَّه. فإن صَدَّقَه المُوَكِّلُ، بَرِئَ، وإن كَذَّبه، فالقولُ قوقُ المُوَكِّلِ. فإن أقام الوَكِيلُ (¬1) بَيِّنَةً بذلك، قُبِلَتْ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه يَبْرَأُ بتَصْدِيقِ المُوَكِّلِ، فكذلك إذا قامَتْ له بَيِّنَةٌ؛ لأنَّ البَيِّنةَ إحْدَى الحُجَّتَين، فبَرِئَ بها (¬2)، كالإِقْرارِ. والثانِي، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه كَذَّبَها بوَعْدِه بالدَّفْعِ بخِلافِ ما إذا صَدَّقَه؛ لأنَّه أقَرَّ ببَراءَتِه، فلم يَبْقَ له مُنازِعٌ. وإن لم يَعِدْه برَدِّه، لكنْ مَنَعَه أو مَطَلَه مع إمْكانِه، ثم ادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه إلَّا ببَيِّنَةٍ؛ لأنَّه صار بالمَنْعِ خارِجًا عن حالِ الأمانَةِ، وتُسْمَعُ بَيِّنَتُه؛ لأنَّه لم يُكَذِّبْها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر، ق: «منها».

2033 - مسألة: (وإن قال: أذنت لي أن أتزوج لك فلانة، ففعلت. وصدقته المرأة، فأنكر، فالقول قول المنكر بغير يمين. وهل يلزم الوكيل نصف الصداق؟ على وجهين)

وَإِنْ قَال: وَكَّلْتَنِي أَنْ أتَزَوَّجَ لَكَ فُلَانَةً، فَفَعَلْتُ. وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَأَنْكَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِغَيرِ يَمِينٍ. وَهَلْ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ نِصْفُ الصَّدَاقِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2033 - مسألة: (وإن قال: أذِنْتَ لي أن أتَزَوَّجَ لك فُلانَةً، فَفَعَلْتُ. وصَدَّقَتْه المرأةُ، فأنْكَرَ، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ بغيرِ يَمِينٍ. وهل يَلْزَمُ الوَكِيلَ نِصْفُ الصَّداقِ؟ على وَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الوَكِيلَ والمُوَكِّلَ إذا اخْتَلَفَا في أصْلِ الوَكالةِ، فقال: وَكَّلْتَنِي. فأنْكَرَ المُوَكِّلُ، فالقولُ قَوْلُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوَكالةِ، ولم يُثْبتْ أنَّه أمِينُه فيُقْبَلَ قَوْلُه عليه. ولو قال: وَكَّلْتُك، ودَفَعْتُ إليك مالًا. فأَنْكَرَ الوَكِيلُ ذلك كلَّه، أو اعْتَرَفَ بالتَّوْكِيلِ، وأنْكَرَ دَفْعَ المالِ إليه، فالقولُ قَوْلُه؛ لذلك. ولو قال رجلٌ لآخَرَ: وَكَّلْتَنِي أن أتَزَوَّجَ لك فُلانَةَ، فَفَعلْتُ. وادَّعَتِ المرأةُ ذلك، فأنْكَرَ المُوَكِّلُ، فالقولُ قَوْلُه. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: إن أقام البَيِّنَةَ، وإلَّا فلا يَلْزَمُ الآخَرَ عَقْدُ النِّكاحِ. قال أحمدُ: ولا يُسْتَحْلَفُ. قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: لأنَّ الوَكِيلَ يَدَّعِي حَقًّا لغيرِه. فأمّا إنِ ادَّعَتْه المرأةُ، فيَنْبَغِي أن يُسْتَحْلَفَ؛ لأنَّها تَدَّعِي الصَّداقَ في ذِمَّتِه، فإذا حَلَف، لم يَلْزَمْه الصَّداقُ، ولم يَلْزَمِ الوَكِيلَ منه شيءٌ؛ لأنَّ دَعْوَى المرأةِ على المُوَكِّلِ، وحُقُوقُ العَقْدِ لا تَتَعَلَّقُ بالوَكِيلِ. ونَقَل إسحاقُ بنُ إبراهيمَ عن أحمدَ، أنَّ الوَكِيلَ يَلْزَمُه نِصْفُ الصَّداقِ؛ لأنَّ الوَكِيلَ في الشِّراءِ ضامِنٌ للثَّمَنِ، وللبائِعِ مُطالبَتُه به (¬1)، كذا ههُنا. ولأنَّه فَرَّطَ حيث لم يُشْهِدْ على الزَّوْجِ بالعَقدِ والصَّداقِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْناه. ويُفارِقُ الشِّراءَ؛ لأنَّ الثَّمَنَ مَقْصُودُ البائِعِ، والعادَةُ تَعْجِيلُه وأخْذُه مِن المُتَوَلِّي للشِّراءِ، والنِّكاحُ يُخالِفُه في هذا كلِّه. فإن كان الوَكِيلُ ضَمِن المَهْرَ، فلها الرُّجُوعُ عليه بنِصْفِه؛ لأنَّه ضَمِنَه عن (¬2) المُوَكِّلِ، وهو مُقِرٌّ بأنَّه في ذِمَّتِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ، والشافعيُّ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: يَلْزَمُ الوَكِيلَ جَمِيعُ الصَّداقِ؛ لأنَّ الفُرْقَةَ لم تَقَعْ بإنْكارِه، فيكون ثابِتًا في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباطِنِ، فيَجِبُ جَمِيعُه. ولَنا، أنَّه يَمْلِكُ الطَّلاقَ، فإذا أنْكَرَ، فقد أقَرَّ بتَحْرِيمِها عليه، فصار بمَنْزِلَةِ إيقاعِه لِما تَحْرُمُ به. قال أحمدُ: ولا تَتَزَوَّجُ المرأةُ حتى يُطَلِّقَ، لَعَلَّه يكونُ كاذِبًا في إنْكارِه. وظاهِرُ هذا تحْرِيمُ نكاحِها قبلَ طَلاقِها؛ لأنَّها مُعْتَرِفَةٌ بأنَّها زَوْجَةٌ له، فيُؤْخَذُ بإقْرارِها، وإنْكارُه ليس بطَلاقٍ. وهل يَلْزَمُ المُوَكِّلَ طَلاقُها؟ فيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ في حَقِّه نِكاحٌ، ولو ثَبَت لم يُكَلَّفِ الطَّلاقَ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لإِزالةِ الاحْتِمالِ، وإزالةِ الضَّرَرِ عنها بما لا ضَرَرَ عليه فيه، فأشْبَهَ النِّكاحَ الفاسِدَ. ولو مات أحَدُهما لم يَرِثْه الآخَرُ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ صَداقُها (¬1) فتَرِث، وهو يُنْكِرُ أنَّها زَوْجَتُه فلا يَرِثُها. ولو ادَّعَى أنَّ فُلانًا الغائِبَ وَكَّلَه (¬2) في تَزَوُّجِ امرأةٍ، فتَزَوَّجَها له، ثم مات الغائِبُ، لم تَرِثْه المرأةُ إلَّا بتَصْدِيقِ الوَرَثةِ أو يَثْبُتُ ببَيِّنَةٍ. وإن أقَرَّ المُوَكِّلُ بالتَّوْكِيلِ في التَّزْويجِ، وأنْكَرَ أن يكونَ الوَكِيلُ (¬3) تَزَوَّجَ له، كان القولُ ¬

(¬1) في ر، ق: «صدقها». (¬2) في م: «وكيله». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولَ الوَكِيلِ فيه، فيَثْبُتُ التَّزْويجُ ههُنا. وقال القاضي: لا يَثْبُتُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه لا تَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه، لكَوْنِه لا يَنْعَقِدُ إلَّا بها. وذَكَرَ أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه. وأشار إلى نَصِّه فيما إذا أنْكَرَ المُوَكِّلُ الوَكالةَ مِن أصْلِها. ولَنا، أنَّهما اخْتَلَفا في فِعْلِ الوَكِيلِ ما أُمِر (¬1) به، فكان القولُ قَوْلَه, كما لو وَكَّلَه في بَيعِ ثَوْبٍ، فادَّعَى بَيعَه، أو في شِراءِ عَبْدٍ بألْفٍ، فادَّعَى أنَّه اشْتَراه به. وما ذَكَرَه القاضي مِن نَصِّ أحمدَ (¬2) فيما إذا أنْكَرَ المُوَكِّلُ (¬3) الوَكالةَ، فليس بنَصٍّ ههُنا؛ لاخْتِلافِ أحْكامِ الصُّورَتَين وتَبايُنِهِما، فلا يكونُ النَّصُّ في إحْداهما نَصًّا في الأُخْرَى. وما ذَكَرَه مِن المَعْنَى لا أصْلَ له، فلا يُعَوَّلُ عليه. ¬

(¬1) في م: «أمره». (¬2) بعده في م: «عليه». (¬3) في الأصل: «الوكيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو غاب رجلٌ، فجاء رجلٌ إلى امْرَأتِه فَذَكَرَ أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها وأبانَها ووَكَّلَه في تَجْدِيدِ نِكاحِها بألْفٍ، فأذِنَتْ في نِكاحِها، فعَقَدَ عليها، وضمِن الوَكِيلُ الألْفَ، ثم جاء زَوْجُها فأنْكَرَ هذا كلَّه، فالقولُ قَوْلُه، والنِّكاحُ الأوَّلُ بحالِه. وقِياسُ ما ذَكَرْناه أنَّ المرأةَ إن صَدَّقَتِ الوَكِيلَ، لَزِمَه الألْفُ إلَّا أن يُبِينَها زَوْجُها قبلَ دُخُولِه بها. وحُكِيَ ذلك عن مالكٍ، وزُفَرَ. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، أنَّه لا يَلْزَمُ الضّامِنَ شيءٌ؛ لأنَّه فَرْعٌ على المَضْمُونِ عنه، والمَضْمُونُ عنه لا يَلْزَمُه شيءٌ، فكذلك فَرْعُه. ولَنا، أنَّ الوَكِيلَ مُقِرٌّ بأنَّ الحَقَّ في ذِمّةِ المَضْمُونِ عنه، وأنَّه ضامِنٌ عنه، فلَزِمَه ما أقَرَّ به, كما لو ادَّعَى على رجلٍ أنَّه ضَمِن له (¬1) ألْفًا على أجْنَبِيٍّ، فأقَرَّ الضّامِنُ بالضَّمانِ وصِحَّتِه وثُبُوتِ الحَقِّ في ذِمَّةِ المَضْمُونِ عنه، [وأَنْكَرَه المَضْمُونُ عَنْهٍ] (¬2). وكما لو ادَّعَى شُفْعَةً عَلَى إنسانٍ في شِقْصٍ اشْتَراه، فأقَرَّ البائعُ وأنْكَرَه المُشْتَرى، فإنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ في أصَحِّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. وفي الأصل: «وأنكره المضمون».

2034 - مسألة: (ويجوز التوكيل بجعل وبغيره، فلو قال: بع ثوبي بعشرة فما زاد فلك. صح)

وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِجُعْلٍ وَبِغَيرِهِ، فَلَوْ قَال: بِعْ ثَوْبِي بِعَشَرَةٍ، فَمَا زَادَ فَلَكَ. صَحَّ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَين. فإن لم تَدَّعِ المرأةُ صِحَّةَ ما ذَكَره الوَكِيلُ، فلا شيءَ عليه. ويَحْتَمِلُ أنَّ مَن أسْقَطَ عنه الضَّمانَ، أسْقَطَه في هذه الصُّورَةِ، ومَن أوْجَبَه أوْجَبَه في الصُّورةِ الأُخْرَى، فلا يكون بينَهما اخْتِلافٌ. والله أعلمُ. 2034 - مسألة: (ويجُوزُ التَّوْكِيلُ بجُعْل وبغيرِه، فلو قال: بعْ ثَوْبِي بعَشَرَةٍ فما زاد فَلَك. صَح) [واسْتَحَقَّ الزِّيادَةَ] (¬1) (نصَّ عليه) رُوِيَ ذلك عن ابن عباسٍ. وهو قولُ ابنِ سِيرينَ، وإسحاقَ. وكَرِهَه النَّخَعِيُّ، وحَمّادٌ، وأبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه أجْرٌ مَجْهُولٌ يَحْتَمِلُ الوُجُودَ [والعَدَمَ] (1). ولَنا أنَّ عَطاءً روَى عن ابن عباس، أنَّه كان لا يَرَى بذلك (¬2) بَأْسًا، أن يُعْطِيَ الرجلُ الرجلَ الثَّوْبَ أو غيرَه، فيقولُ: بِعْه بكذا، فما ازْدَدْتَ فهو لَكَ. ولا يُعْرَفُ له في عَصْرِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُخالِفٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّها عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ عليها، أشْبَهَ دَفْعَ مالِه مُضارَبَةً [ولأنَّه تَصَرُّفٌ لغيرِه لا يَلْزَمُه، فهو كرَدِّ الآبِقِ] (¬1). إذا ثَبَت ذلك، فإذا باعَه بزِيادَةٍ، فهي له؛ لأنَّه جَعَلَها له، وإن باعَه بما عَيَّنَهَ، فلا شيءَ له؛ لأنَّه جَعَل له الزِّيادَةَ، ولا زِيادَةَ، فهو كالمُضارِبِ إذا لم يَرْبَحْ. وإن باعَه بنَقْصٍ، فعنه، لا يَصِحُّ؛ لمُخالفَتِه، فإن تَعَذَّرَ، ضَمِن النَّقْصٍ. وعنه، يَصِحُّ، ويَضْمَنُ النَّقْصَ. وقد ذَكَرْنا ذلك. وإن باعَه نَسِيئَةً، لم يَصِحَّ، ولا يَسْتَحِقُّ الوَكِيلُ شيئًا (¬2) وإن باعَه بزيادةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ. ويَجُوزُ بغيرِ جُعْلٍ. بغيرِ خِلافٍ. فإذا وَكَّلَه بجُعْلٍ، فباع، اسْتَحَقَّ الجُعْلَ قبلَ قَبْضِ الثَّمَنِ؛ لتَحَقُّقِ البَيعِ قبلَ قَبْضِه. فإن قال في التَّوْكِيلِ: فإذا سَلَّمْتَ إليَّ الثَّمَنَ فلك كذا. وَقَف اسْتِحْقاقُه على التَّسْلِيمِ إليه؛ لاشْتِراطِه إيّاه. نَصَّ عليه. فصل: إذا وَكَّلَه في شِراءِ شيءٍ فاشْتَرَى غيرَه، مثلَ أن يُوَكِّلَه في شِراءِ عَبْدٍ فيَشْتَرِىَ جارِيَةً، فإن كان الشِّراءُ بعَينِ مالِ المُوَكِّلِ، فالبَيعُ (¬3) باطِلٌ في أصَحِّ الرِّوايَتَين. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «الشراء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ (¬1)، ويَقِفُ على إجازَةِ المالِكِ، فإن أجازَه، صَحَّ، وإلَّا بَطَل. وهو قولُ مالِكٍ، وإسحاقَ. وقد ذَكَرْناه في كِتابِ البَيعِ. فإن كان اشْتَراه في ذِمَّتِه ثم نَقَد الثَّمَنَ، فالشِّراءُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه إنَّما اشْتَرَى بثَمَنٍ في ذِمَّتِه، وليس ذلك مِلْكًا لغيرِه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه عَقَد على أنَّه للمُوَكِّلِ ولم يَأْذَنْ فيه، فلم يَصِحَّ, كما لو اشْتَرَى بعَيْنِ مالِه. ولَنا، أنَّه لم يتَصَرَّفْ في مِلْكِ غيرِه، فصَحَّ, كما لو لم يَنْوه لغيرِه. إذا ثَبَت هذا فرُوِيَ عن أحمدَ روايَتان؛ إحْداهُما، الشِّراءُ لازِمٌ للمُشْتَرِي. وهو الوَجْهُ الثانِي لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه اشْتَرَى في ذِمَّتِه بغيرِ [إذْنِ غيرِه] (¬2)، فكان الشِّراءُ له, كما لو لم يَنْو غيرَه. والثانيةُ، يَقِفُ على إجازَةِ المُوَكِّلِ (¬3)، إن أجازَه، لَزِمَه، وإن لم يُجِزْه، لَزِم الوَكِيلَ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ أن يَلْزَمَ المُوَكِّلَ؛ لكَوْنِه لم يَأْذَنْ في شِرائِه، ولَزِم الوَكِيلَ؛ لأنَّ الشِّراءَ صَدَر منه ولم يَثْبُتْ لغيرِه، فثَبَتَ في حَقِّه, كما لو اشْتَراه لنَفْسِه. وهكذا ذَكَر الخِرَقِيُّ. وهذا حُكْمُ كلِّ مَن اشْتَرَى شيئًا في ذِمَّتِه لغيرِه بغيرِ إذْنِه، سَواءٌ كان وَكِيلًا للذي قَصَد الشِّراءَ له أو لم يَكُنْ. فصل: فإن وَكَّلَه في أن يَتَزَوَّجَ له امرأةً، فتَزَوَّجَ له غيرَها، أو تَزَوَّجَ له بغيرِ إذْنِه، فالعَقْدُ فاسِدٌ بكلِّ حالٍ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو مَذْهَبُ ¬

(¬1) في م: «يصح». (¬2) في م: «إذنه». (¬3) في ر، ق، ر 1: «من اشترى له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صِحّةِ النِّكاحِ (¬1) ذِكْرَ الزَّوْجِ، فإذا كان بغيرِ إذْنِه، لم يَقَعْ له ولا للوَكِيلِ؛ لأنَّ المَقْصُودَ أعْيانُ الزَّوْجَين، بخِلافِ البَيعِ، فإنَّه يَجُوزُ أن يَشْتَرِيَ له مِن غيرِ تَسْمِيَةِ المُشْتَرِي له. والثانيةُ، يَصِحُّ النِّكاحُ، ويَقِفُ على إجازَةِ المُتَزَوِّجِ، فإن أجازَه، صَحَّ، وإلَّا بَطَل. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ. والقولُ فيه كالقولِ في البَيعِ. على ما تَقَدَّمَ. فصل: قال القاضي: إذا قال لرجلٍ: اشْتَرِ لي بدَينِي عليك طَعامًا. لم يَصِحَّ. ولو قال: أسْلِفْ لي ألْفًا مِن مالِك (¬2) في كُرِّ طَعامٍ. ففَعل، لم يَصِحَّ أيضًا؛ لأنَّه لا يَجُوزُ أن يَشْتَريَ الإِنْسانُ بمالِه ما يَمْلِكُه غيرُه. وإن قال: اشْتَرِ لي في ذِمَّتِك. أو قال: أسْلِفْ لي ألْفًا في كُرِّ طَعامٍ، واقْضِ الثَّمَنَ عَنِّي مِن مالِك. أو: مِن الدَّينِ الذي عليك. صَحَّ؛ لأنَّه إذا اشْتَرَى في الذِّمَّةِ، حَصَل الشِّراءُ للمُوَكِّلِ، والثَّمَنُ عليه، فإذا قَضاه مِن الدَّينِ الذي عليه، فقد دَفَع الدَّينَ إلى مَن أمَرَه صاحِبُ الدَّينِ بدَفْعِه إليه، وإن قَضاه مِن مالِه عن دَينِ السَّلَفِ الذي عليه، صار قَرْضًا عليه. فصل: قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي الحارِثِ، في رجلٍ له على آخَرَ دَراهِمُ، فبَعَثَ إليه رسولًا يَقْبِضُها، فبَعَثَ إليه مع الرسولِ دِينارًا، فضاع مع الرسولِ: فهو مِن مالِ الباعِثِ؛ لأنَّه لم يَأْمُرْه بمُصارَفَتِه، إنَّما كان ¬

(¬1) في م: «عقد النكاح». (¬2) في م: «ملكك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ضَمانِ الباعِثِ؛ لأنَّه دَفَع إلى الرسولِ غيرَ ما أمَرَه به المُرسِلُ؛ لأنَّ المُرْسِلَ إنَّما أمَرَه بقَبْضِ الدَّراهِمِ، ولم يَدْفَعْها، إنَّما دَفع دِينارًا (¬1) عِوَضًا عنها (¬2)، وهذا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إلى إذْنِ صاحِبِ الدَّينِ [ولم يَأْذَن، فصار الرسولُ وَكِيلًا للباعِثِ في تَأْدِيَتِه إلى صاحِبِ الدَّينِ] (¬3) ومُصارَفَتِه به، فإذا تَلِف في يَدِ وَكِيلِه، كان مِن ضَمانِه، اللَّهُمَّ إلَّا أن يُخْبِرَ الرسولُ الغَرِيمَ أنَّ رَبَّ الدَّينِ أذِنَ له في قَبْضِ الدِّينارِ عن الدَّراهِمِ، فيكونُ مِن ضَمانِ الرسول؛ لأنَّه غرَّه وأخَذَ الدِّينارَ على أنَّه وَكِيلٌ للمُرْسِلِ. وإن قَبَض الدَّراهِمَ التي أُمِر بقَبْضِها، فضاعَتْ مِن الرسولِ بغيرِ تَفرِيطٍ، فهي مِن ضَمانِ صاحِبِ الدَّينِ. وقال أحمدُ في رِوَايَةِ مُهَنّا، في رجلٍ له عندَ آخَرَ دَنانِيرُ وثِيابٌ، فبَعَثَ إليه رسولًا، وقال: خُذْ دينَارًا و (¬4) ثَوْبًا. فأخَذَ دِينارَين وثَوْبَين، فضاعَتْ، فالضّمانُ على الباعِثَ. يَعْنِي الذي أعْطاه الدِّينارَين والثَّوْبَين. ويَرْجِعُ به على الرسولِ. يَعْنِي عليه ضَمانُ الدِّينارِ والثَّوْبِ الزّائِدَين، إنَّما جَعَل عليه الضَّمانَ؛ لأنَّه دَفَعَهما إلى مَن لم يُؤْمَرْ بدَفْعِهما إليه، ورَجَع بهما على الرسولِ؛ لأنَّه غَرَّه، وحَصَلِ التَّلَفُ في يَدِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. وللمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الوَكِيلِ؛ لأنَّه تَعَدَّى ¬

(¬1) في الأصل: «دنانير». (¬2) في م: «عنه». (¬3) سقط من: م. (¬4) في ر 1، م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَبْضِ لم يُؤْمَرْ بقَبْضِه. فإذا ضَمِنَه، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل في يَدِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. وقال أحمدُ، في رجلٍ وَكَّل وَكِيلًا في اقْتِضاءِ دَينِه، وغاب، فأخَذَ الوَكِيلُ به رَهْنًا، فتَلِفَ الرَّهْنُ في يَدِ الوَكِيلِ، فقال: أساء الوَكِيلُ في أخْذِ الرَّهْنِ، ولا ضَمانَ عليه. إنما لم يُضمِّنْه الرَّهْنَ (¬1)؛ لأنَّه رَهْنٌ فاسِدٌ، والقَبْضُ في العَقْدِ الفاسِدِ كالقَبْضِ في العَقْدِ الصَّحِيحِ، فما كان القَبْضُ في صَحِيحِه مَضْمُونًا، كان مَضْمُونًا في فاسِدِه، وما كان غيرَ مَضْمُونٍ في صَحِيحِه، كان غيرَ مضمونٍ في فاسِدِه. ونَقَل البَغَويُّ عن أحمدَ في رجلٍ أعْطَى آخَرَ دَراهِمَ ليَشْتَرِيَ له بها شاةً فخلَطَها مع دَراهِمِه، فضاعا، فلا شيءَ عليه. وإن ضاع أحَدُهما، أيُّهما ضاع غَرِمَه. قال القاضي: هذا مَحْمُولٌ على أنَّه خَلَطَها بما تَتَمَيَّزُ منه. ويَحْتَمِلُ أنَّه أذِنَ له في خَلْطِها. أمّا إن خَلَطَها بما لا تَتَمَيَّزُ منه بغيرِ إذْنِه، ضَمِنَها، كالوَدِيعَةِ. وإنَّما لَزِمَه الضَّمانُ إذا ضاع أحَدُهما؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ أنَّ الضّائِعَ دَراهِمُ المُوَكِّلِ، والأصْلُ بَقاؤُها. ومَعْنَى الضَّمانِ ههُنا، أنَّه يَحْسُبُ الضّائِعَ مِن دَراهِمِ نَفْسِه. فأمّا على المَحْمَلِ (¬2) الآخَرِ، وهو إذا خَلَطَها بما تَتَمَيَّزُ منه، فإذا ضاعَتْ دَراهِمُ المُوَكِّلِ وَحْدَها، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّها ضاعَتْ مِن غيرِ تَعَدٍّ منه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «المحمول».

فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ عَلَيهِ حَقٌّ لإِنْسَانٍ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّه وَكِيلُ صَاحِبِهِ في قَبْضِهِ، فَصَدَّقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّفْعُ إِلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في رِوايَةِ مُهَنّا: إذا دَفَعَ إلى رَجُلٍ ثَوْبًا ليَبِيعَه، ففَعَلَ، فوَهَبَ له المُشَتَرِي مِنْدِيلًا، فالمِنْدِيلُ لصاحِبِ الثَّوْبِ. إنَّما قال ذلك لأنَّ هِبَةَ المِنْدِيلِ سَبَبُها البَيعُ (1)، فكان المِنْدِيلُ زِيادَةً في الثَّمَنِ، والزِّيادَةُ في مَجْلِسِ العَقْدِ تَلْحَقُ به. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (فإن كان عليه حَقٌّ لإِنْسانٍ، فادَّعَى آخَرُ أنَّه وَكِيلُ صاحِبِه في قَبْضِه، فصدَّقَه، لم يَلْزَمْه الدَّفْعُ إليه) إلَّا أن تَقُومَ به بَيِّنَةٌ. وإن لم تَقُمْ به بَيِّنَةٌ، لم يَلْزَمْه الدَّفْعُ إليه وإن صَدَّقَه. وبه قال الشافعيُّ. وسَواءٌ كان الحَقُّ في ذِمَّتِه أو وَدِيعَةً عنده. ؤقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه وَفاءُ الدَّينِ إن صَدَّقَه. وفي الوَدِيعَةِ رِوايتَان، أشْهَرُهما، لا يَجبُ تَسْلِيمُها؛ لأنَّه أقَرَّ له بحَقِّ الاسْتِيفاءِ، فلَزِمَه إيفاؤُه, كما لو أقَرَّ أنَّه وارِثُه. ولَنا، أنَّه تَسْلِيمٌ لا يُبْرِئُه، فلا يَجِبُ (¬1) , كما لو كان الحَقُّ عَينًا، وكما لو أقَرَّ بأنَّ هذا وَصِيُّ الصَّغِيرِ. وفارَقَ الإِقْرارَ بكَوْنِه وارِثَه؛ لأنَّه يتَضَمَّنُ بَراءَتَه، فإنَّه أقَرَّ بأنَّه لا حَقَّ لسِواه. ¬

(¬1) بعده في م: «عليه».

2035 - مسألة: (وإن كذبه، لم يستحلف)

وَإِنْ كَذَّبَهُ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ. فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيهِ، فَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْوَكَالةَ، حَلَفَ، وَرَجَعَ عَلَى الدَّافِعَ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2035 - مسألة: (وإن كَذَّبَه، لم يُسْتَحْلَفْ) وقال أبو حنيفة: يُسْتَحْلَفُ. وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلافِ في وُجُوبِ الدَّفْعِ مع التَّصْدِيقِ، فمَن أوْجَبَ عليه ثَمَّ، أوْجَبَ عليه اليَمِينَ (¬1) مع التَّكْذِيبِ، كسائِرِ الحُقُوقِ، ومَن لم يُوجبْ عليه الدَّفْعَ مع التَّصْدِيقِ، لم يُلْزِمْه اليَمِينَ مع التَّكْذِيبِ؛ لعَدَمِ فائِدَتِها. 2036 - مسألة: (فإن دَفَعَه إليه، فأنْكَرَ صاحِبُ الحَقِّ الوَكالةَ، وحَلَف، رَجَع على الدّافِعِ وَحْدَه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن عليه الحَقُّ إذا دَفَعَه إلى الوَكِيلِ مع التَّصْدِيقِ أو عَدَمِه، فحَضَرَ المُوَكِّلُ وصَدَّقَ الوَكِيلَ، بَرِئَ الدّافِعُ، وإن كَذَّبَه، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينهِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. فإذا حَلَف ¬

(¬1) في الأصل: «الثمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان الحَقُّ دَينًا، لم يَرْجِعْ إلَّا على الدّافِعِ وَحْدَه؛ لأنَّ حَقَّه في ذِمَّتِه، ولم يَبْرأْ منه بتَسْلِيمِه إلى غيرِ وَكِيلِ صاحِبِ الحَقِّ، والذي أخَذَه الوَكِيلُ عَينُ مالِ الدّافِعِ في زَعْمِ صاحِبِ الحَقِّ، والوَكِيلُ والدّافِعُ يَزْعُمان أنَّه صار مِلْكًا لصاحِبِ الحَقِّ، وأنَّه ظالِمٌ للدّافِعِ بالأخْذِ منه، فيَرْجِعُ الدّافِعُ فيما أخَذَ منه الوَكِيلُ، ويكونُ قِصاصًا ممّا أخَذَ منه صاحِبُ الحَقِّ، وإن كان قد تَلِف في يَدِ الوَكِيلِ، لم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّه أمِينٌ لا ضَمانَ عليه، إلَّا أن يَتْلَفَ بتَعَدِّيه وتَفْرِيطِه، فيَرْجِعَ عليه.

2037 - مسألة: (وإن كان المدفوع وديعة، فوجدها، أخذها، وإن تلفت، فله تضمين من شاء منهما، ولا يرجع من ضمنه على الآخر)

وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ وَدِيعَةً، فَوَجَدَهَا، أَخَذَهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ، فَلَهُ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَلَا يَرْجِعُ مَنْ ضَمِنَهُ عَلَى الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2037 - مسألة: (وإن كان المَدْفُوعُ وَدِيعَةً، فوَجَدَها، أخَذَها، وإن تَلِفَت، فله تَضْمِينُ مَن شاء منهما، ولا يَرْجِعُ مَن ضَمِنَه على الآخَرِ) بشيءٍ إذا كان المَدْفُوعُ عَينًا فوَجَدَها صاحِبُها، أخَذَها، وله مُطالبَةُ مَن شاء برَدِّها؛ لأنَّ الدّافِعَ دَفَعها إلى غيرِ مُسْتَحِقِّها، والوَكِيلُ عَينُ مالِه في يَدِه. فإن طالبَ الدّافِعَ، فللدّافِعِ مُطالبَةُ الوَكِيلِ جها وأخْذُها مِن يَدِه؛ ليُسَلِّمَها إلى صاحِبِها. فإن تَلِفَتِ العَينُ أو تَعَذَّرَ رَدُّها، فلصاحِبِها الرُّجُوعُ ببَدَلِها على مَن شاء منهما؛ لأنَّ الدّافِعَ ضَمِنَها بالدَّفْعِ، والقابِضَ قَبَض ما لا يَسْتَحِقُّ قَبْضَه. وأيُّهما ضَمِنَه لم يَرْجِعْ على الآخَرِ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَدَّعِي أنَّ ما يَأْخُذُه ظُلْمٌ، ويُقِرُّ بأنَّه لم يُوجَدْ (¬1) مِن صاحِبِه تَعَدٍّ، فلا يَرْجِعُ على صاحِبِه بظُلْمِ غيرِه، إلَّا أن يكونَ الدّافِعُ دَفَعَها إلى الوَكِيلِ مِن غيرِ تَصْدِيقٍ، فيَرْجِعُ على الوَكِيلِ؛ لكَوْنِه لم يُقِرَّ بوَكالتِه، ولم تَثْبُتْ ببَيِّنَةٍ. وإن ضَمِن الوَكِيلُ، لم يَرْجِعْ على الدّافِعِ وإن صَدَّقَه، لكنْ إن كان الوَكِيلُ تَعَدَّى فيها أو فَرَّطَ اسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. فإن ضَمِن لم يَرْجِعْ على أحَدٍ، وإن ضَمِن الدّافِعُ، رَجَع عليه؛ لأنَّه وإن كان يُقِرُّ بأَنَّه قَبَضَه قَبْضًا شَرْعِيًّا، لكن إنَّما لَزِمَه الضَّمانُ لتَفْرِيطِه وتَعَدِّيه، فالدّافِعُ يقولُ: ظَلَمَنِي المالِكُ بالرُّجُوعِ عَلَيَّ. وله على الوَكِيلِ حَقٌّ ¬

(¬1) في م: «يؤخذ».

2038 - مسألة: (فإن كان ادعى أن صاحب الحق أحاله، ففي وجوب الدفع إليه مع التصديق، واليمين مع الإنكار وجهان)

وَإِنْ كَانَ ادَّعَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَحالهُ بِهِ، فَفِي وُجُوبِ الدَّفْعِ إِلَيهِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَالْيَمِينِ مَعَ الإِنْكَارِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْتَرِفُ به الوَكِيلُ، فيَرْجِعُ عليه به. 2038 - مسألة: (فإن كان ادَّعَى أنَّ صاحِبَ الحَقِّ أحاله، ففي وُجُوبِ الدَّفْعِ إليه مع التَّصْدِيقِ، واليَمِينِ مع الإِنْكارِ وَجْهان) أحَدُهما، لا يَلْزَمُه الدَّفْعُ إليه؛ لأنَّ الدَّفْعَ إليه غيرُ مُبْرِئٍ؛ لاحْتِمالِ أن يُنْكِرَ المُحِيلُ الحَوالةَ ويُضَمِّنَه، فأشْبَهَ المُدَّعِيَ للوَكالةِ. والثانِي، يَلْزَمُه الدَّفْعُ إليه؛ لأنَّه مُعْتَرِفٌ أنَّ الحَقَّ انْتَقَلَ إليه، أشْبَهَ الوارِثَ. والأوَّلُ أشْبَهُ؛ لأنَّ العِلَّةَ في جَوازِ مَنْعِ الوَكِيلِ كَوْنُ الدَّفْع (¬1) لا يُبْرِئُ، وهي مَوْجُودَةٌ ههُنا، والعِلَّةُ في وُجُوبِ الدَّفْعِ إلى الوارِثِ كَوْنُه مُسْتَحِقًّا، والدَّفْعُ إليه يُبْرِئُ، وهو مُتَخَلِّفٌ (¬2) ههُنا، فإلحاقه بالوَكِيلِ أوْلَى. فإن قُلْنا: يَلْزَمُه الدَّفْعُ مع الإِقْرارِ. لَزِمَتْه اليَمِينُ مع الإِنْكارِ. وإن قلنا: لا يَلْزَمُه الدَّفْعُ مع التَّصْدِيقِ. لم تَلْزَمْه اليمِينُ مع الإِنْكارِ؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ فيها. ومثلُ هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في م: «الدافع». (¬2) في الأصل: «مختلف».

2039 - مسألة: (وإن ادعى أنه مات، وأنا وارثه)

وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ، وَأَنَّهُ وَارِثُهُ، لَزِمَهُ الدَّفْعُ إِلَيهِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَالْيَمِينُ مَعَ الإِنْكَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2039 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى أنَّه مات، وأنا وارِثُه) فصَدَّقَه أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وارِثُ الحَقِّ لا وارِثَ له سِواه (لَزِمَه الدَّفْعُ إليه) بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه مُقِرٌّ له بالحَقِّ، وأنَّه يَبْرَأُ بهذا الدَّفْعِ، فلَزِمَه, كما لو جاء صاحِبُ الحَقِّ. وإن أنْكَرَ، لَزِمَتْه اليَمِينُ أنَّهُ لا يَعْلَمُ صِحَّةَ ما قال؛ لأنَّ اليَمِينَ ههُنا على نَفْي فِعْلِ الغيرِ، فكانت على نَفْي العِلْمِ، وإنَّما لَزِمَتْه اليَمِينُ ههُنا؛ لأنَّ مَن لَزِمَه الدَّفْعُ مع الإِقْرارِ، لَزِ مَتْه اليَمِينُ مع الإِنْكارِ كسائِرِ الحُقُوقِ المالِيَّةِ. فصل: ومَن طُلِب منه حَقٌّ فامْتَنَعَ مِن دَفعِه حتى يَشْهَدَ القابِضُ على نَفْسِه بالقَبْضِ، وكان الحَقُّ عليه بغيرِ بَيِّنَةٍ، لم يَلْزَمِ القابِضَ الإِشْهادُ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في ذلك، فإنَّه متى ادَّعَى الحَقَّ على الدّافِعِ بعدَ ذلك قال: لا يُسْتَحَقُّ عَلَيَّ شيءٌ. والقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه. وإن كان الحَقُّ ثَبَت ببَيِّنةٍ، وكان مَن عليه الحَقُّ يُقْبَلُ قَوْلُه في الرَّدِّ، كالمُودَعِ والوكِيلِ بلا جُعْلٍ، فكذلك؛ لأنَّه متى ادُّعِيَ عليه حَقٌّ، أو قامَتْ به بَيِّنَةٌ، فالقولُ في الرَّدِّ قَوْلُه. وإن كان ممَّن لا يُقْبَلُ قَوْلُه في الرَّدِّ، أو يُخْتَلَفُ في قَبُولِ قَوْلِه، كالغاصِبِ والمُسْتَعيرِ والمُرْتَهِنِ، لم يَلْزَمْه تَسْلِيمُ ما قَبِلَه إلَّا بالإِشْهادِ؛ لئَلَّا يُنْكِرَ القابضُ القَبْضَ. ولا يُقْبَلُ قولُ الدّافِعِ في الرَّدِّ. وإن أنْكَرَ، قامت عليه البَيِّنَةُ. ومتى أشْهَدَ القابِضُ على نَفْسِه بالقَبْضِ، لم يَلْزَمْه تَسْلِيمُ الوَثِيقَةِ بالحَقِّ إلى مَن عليه الحَقُّ؛ لأنَّ بَيِّنَةَ القَبْضِ تُسْقِطُ البَيِّنَةَ الأُولَى، والكِتابُ مِلْكُه، فلا يَلْزَمُه تَسْلِيمُه إلى غيرِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في الشَّهادَةِ على الوَكالةِ: إذا شَهِد بالوَكالةِ شاهِدٌ (¬1) وامْرَأتان، أو شاهِدٌ وحَلَف معه، فقال أصحابُنا: فيها رِوايَتان؛ إحْداهُما، تَثْبُتُ بذلك، إذا كانتِ الوَكَالةُ في المالِ. قال أحمدُ، في الرجلِ يُوَكِّلُ وَكِيلًا، ويُشْهِدُ على نَفْسِه رجلًا وامْرَأتَين: إذا كانتِ المُطالبَةُ بدَينٍ، فأمّا غيرُ ذلك فلا. والثانيةُ، لا تَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَين عَدْلَين. نَقَلَها الخِرَقِيُّ في قَوْلِه: ولا يُقْبَلُ فيما سِوَى الأمْوالِ (¬2) ممّا يَطَّلِع عليه الرِّجالُ أقَلُّ مِن رَجُلَين. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الوَكالةَ إثْباتٌ للتَّصَرُّفِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ قولُ الخِرَقِيِّ كالرِّوايَةِ الأُولَى؛ لأنَّ الوَكالةَ في المالِ يُقْصَدُ بها المالُ، فتُقْبَلُ شَهادَةُ النِّساءِ مع الرِّجالِ، كالبَيعِ والقَرْضِ. فإن شَهِدا بوَكالةٍ، ثم قال أحَدُهما: قد عَزَلَه. لم تَثْبُتْ وَكالتُه بذلك. وإن كان الشّاهِدُ بالعَزْلِ أجْنَبِيًّا، لم يَثْبُتِ العَزْلُ بشَهادَتِه وَحْدَه؛ لأنَّ العَزْلَ لا يَثْبُتُ إلَّا بما يَثْبُتُ به التَّوْكِيلُ. ومتى عاد أحَدُ الشّاهِدَين بالتَّوْكِيلِ، فقال: قد عَزَلَه. لم يُحْكَمْ بشَهادَتِهما؛ لأنَّه رُجُوعٌ عن الشَّهادَةِ قبلَ الحُكْمِ بها، فلا يَجُوزُ للحاكِمِ الحُكْمُ بما رَجَع عنه الشّاهِدُ. وإن كان حُكْمُ الحاكِمِ بشَهادَتِهما، ثم قال أحَدُهما: قد عَزَلَه بعدَ ما وَكَّلَه. لم يُلْتَفَتْ إلى قَوْلِه؛ لأنَّ الحُكْم (¬3) قد نَفَذ بالشَّهادَةِ، ولم يَثْبُتِ العَزْلُ. فإن قالا جَمِيعًا: كان ¬

(¬1) في م: «رجل». (¬2) بعده في ر، ق: «إلا». (¬3) في الأصل: «الحاكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد عَزَلَه. ثَبَت العَزْلُ؛ لأنَّ الشَّهادَةَ تَمَّتْ (¬1) في العَزْلِ، كتَمامِها في التَوْكِيلَ. فصل: فإن شَهِد أحَدُهما أنَّه وَكَّلَه يومَ الجُمُعَةِ، وشَهِدآخَرُ أنَّه وَكَّلَهُ يومَ السَّبْتِ، لم تَتِمَّ الشَّهادَةُ؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ يومَ الجُمُعَةِ غيرُ التَّوْكِيلِ يومَ السَّبْتِ، فلم تَكْمُلْ شَهادَتُهما على فِعْلٍ واحِدٍ. وإن شَهِد أحَدُهما أنَّه أقَرَّ بتَوْكِيلِه يومَ الجُمُعَةِ، وشَهِدآخَرُ أنَّه أقَرَّ به يومَ السَّبْتِ، تَمَّتِ الشَّهادَةُ؛ لأنَّ الإِقْرارَين إخْبارٌ عن عَقْدٍ واحِدٍ، ويَشُقُّ جَمْعُ الشُّهُودِ ليُقِرَّ عندَهم حالةً واحِدةً، فجَوَّزَ له الإِقْرارَ عندَ كلِّ واحِدٍ وَحْدَه. وكذلك لو شَهِد أحَدُهما أنَّه أقَرَّ عندَه بالوَكالةِ بالعَجَميَّةِ، وشَهِد آخَرُ أنَّه أقَرَّ بها بالعَرَبِيَّةِ، ثَبَتَتْ. ولو شَهِد أحَدُهما أنه وَكَّلَه بالعَرَبِيةِ وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه وَكَّلَه بالعَجَمِيَّةِ، لم تَكْمُلِ الشَّهادَةُ؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ بالعَرَبِيَّةِ غيرُ التَّوْكِيلِ بالعَجَمِيَّةِ، فلم تَكْمُلِ الشَّهادَةُ على فِعْلٍ واحَدٍ. وكذلك لو شَهِد أحَدُهما أنَّه قال: وَكَّلْتُك. وشَهِد الآخَرُ أنَّه قال: أذِنْتُ لك في التَّصَرُّفِ. أو أنَّه قال: جَعَلْتُك وَكِيلًا. أو شَهِد أنَّه قال: جَعَلْتُك جَرِيًّا. لم تَتِمَّ الشَّهادَةُ؛ لأنَّ اللَّفْظَ مُخْتَلِفٌ. والجَرِيُّ؛ الوَكِيلُ. ولو قال أحَدُهما: أشْهَدُ أنَّه وَكَّلَه. وقال الآخَرُ: أشْهَدُ أنَّه أذِنَ له في التَّصَرُّفِ. تَمَّتِ الشَّهادَةُ؛ لأنَّهما لم يَحْكِيا لَفْظَ المُوَكِّلِ، وإنَّما عَبَّرا عنه بلَفْظِهما، واخْتِلافُ لَفْظِهما لا يُؤَثِّرُ إذا اتَّفَقَ مَعْناه. ولو قال أحَدُهما: أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ ¬

(¬1) في م: «قد تمت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندِي أنَّه وَكِيلُه (¬1). وقال الآخَرُ: أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ عندِي أنَّه جَرِيُّه. أو: أنَّه وَصَّى إليه بالتَّصَرُّفِ في حَياتِه. ثَبَتَتِ الوَكالةُ بذلك. ولو شَهِد أحَدُهما أنَّه وَكَّلَه في بَيعِ عَبْدِه، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه وَكَّلَه وزيدًا، أو شَهِد أنَّه وَكَّلَه في بَيعِه، وقال: لا تَبِعْه حتى تَسْتَأْمِرَنِي، أو تَسْتَأْمِرَ فُلانًا. لم تَتِمَّ الشَّهادَةُ؛ لأنَّ الأوَّلَ أثْبَتَ اسْتِقْلاله (¬2) بالبَيعِ مِن غيرِ شَرْطٍ، والثاني يَنْفِي ذلك، فكانا مُخْتَلِفَين. وإن شَهِدَ أحَدُهما أنَّه وَكَّلَه في بَيعِ عبدِه، وشَهِد الآخَرُ أنَّه وَكَّلَه في بَيعِ عبدِه وجارِيَتِه، حُكِمَ بالوَكالةِ في العَبْدِ؛ لاتِّفاقِهما عليه، وزِيادَةُ الثاني لا تَقْدَحُ في تَصَرُّفِه في الأوَّلِ، فلا تَضُرُّ. وهكذا لو شَهِد أحَدُهما أنَّه وَكَّلَه في بَيعِه لزيدٍ، وشَهِد الآخَرُ أنَّه وَكَّلَه في بَيعِه لزيدٍ وإن شاء لعمرٍو. فصل: ولا تَثْبُتُ الوَكالةُ والعَزْلُ بخَبَرِ الواحِدِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَثْبُتُ الوَكالةُ (¬3) يخَبَرِ الواحِدِ، وإن لم يكنْ ثِقَةً. ويَجُوزُ التَّصَرُّفُ للمُخْبَرِ (¬4) بذلك، إذا غَلَب على ظَنِّه صِدْقُ المُخْبِرِ، بشَرْطِ الضَّمانِ إن أنْكَرَ المُوَكِّلُ، ويَثْبُتُ العَزْلُ بخَبَرِ الواحِدِ إذا كان رسولًا؛ لأنَّ اعْتِبارَ شاهِدَين عَدْلَين في هذا يَشُقُّ، فسَقَطَ اعْتبارُه، ولأنَّه ¬

(¬1) في الأصل، م: «وكله». (¬2) في م: «استقلالا». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «للخبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذْنٌ في التَّصَرُّفِ ومَنْعٌ منه، فلم تُعْتَبَرْ فيه شُرُوطُ الشَهادَةِ، كاسْتِخدامِ غُلامِه. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ مالِيٌّ، فلا يَثْبُتُ بخَبَرِ الواحِدِ، كالبَيعِ، وفارَق الاسْتِخْدامَ؛ فإنَّه ليس بعَقْدٍ. ولو شَهِد اثْنان أنَّ فُلانًا الغائِبَ وَكَّلَ فُلانًا الحاضِرَ، فقال الوَكِيلُ: ما عَلِمْتُ هذا، وأنا أتَصَرَّفُ عنه. ثَبَتَتِ الوَكالةُ؛ لأنَّ مَعْنَى ذلك أنِّي لم أعْلَمْ إلى الآنَ، وقَبُولُ الوَكالةِ يَجُوزُ مُتَراخِيًا، وليس مِن شَرْطِ التَّوكِيلِ حُضورُ الوَكِيلِ ولا عِلْمُه، فلا يَضُرُّ جَهْلُه به. وإن قال: ما أعْلَمُ صِدْقَ الشّاهِدَين. لم تَثْبُتْ وَكالتُه؛ لقَدْحِه في شَهادَتِهما. وإن قال: ما عَلِمْتُ. وسَكَتَ، قِيلَ له: فسِّرْ. فإن فَسَّرَ بالأوَّلِ، ثَبَتَتْ وَكالتُه، وإن فَسَّرَ بالثانِي، لم تَثْبُت. فصل: ويَصِحُّ سَماعُ البَيِّنَةِ بالوَكَالةِ على الغائِبِ، وهو أن يَدَّعِيَ أنَّ فُلانًا الغائِبَ وَكَّلَنِي في كذا. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ. بناءً على أنَّ الحُكْمَ على الغائِبِ لا يَصِحُّ. ولَنا، أنَّه لا يُعْتَبرُ رِضاه في سَماعِ البَيِّنَةِ، فلا يُعْتَبَرُ حُضُورُه، كغيرِه. وإذا قال له مَن عليه الحَقُّ: احْلِفْ أنَّك تَسْتَحِقُّ مُطالبَتِي. لم يُسْمَع؛ لأنَّ ذلك طَعْنٌ في الشَّهادَةِ. وإن قال: قد عَزَلَك المُوَكِّلُ، فاحْلِفْ أنَّه ما عَزَلك. لم يُسْتَحْلَفْ؛ لأنَّ الدَّعْوَى على المُوَكِّلِ، واليَمِينُ لا تَدْخُلُها النِّيابَةُ. وإن قال: أنت تَعْلَمُ أنَّ مُوَكِّلَك قد عَزَلَك. سُمِعَتْ دَعْواه. فإن طَلَبَ (¬1) اليَمِينَ مِن الوكيلِ (¬2)، حَلَف على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّ الدَّعْوَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الموكل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، وإن أقام الخَصْمُ بَيِّنةً بالعَزْلِ، سُمِعَتْ، وانْعَزَلَ الوَكِيلُ. فصل: وتُقْبَلُ شَهادَةُ الوَكِيلِ على مُوَكِّلِه؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ؛ لأنَّه لا يَجُرُّ بها نَفْعًا، ولا يَدْفَعُ بها ضَرَرًا. وتُقْبَلُ شَهادَتُه له فيما لم يُوَكِّلْه فيه؛ لكَوْنِه لا يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا. ولا تُقْبَلُ شَهادَتُه له فيما هو وَكِيل (¬1) فيه؛ لأنَّه يُثْبِتُ لنَفْسِه حَقًّا، بدَلِيلِ أنَّه إذا (¬2) وَكَّلَه في قَبضِ حَقٍّ، فشَهِدَ به، ثَبَت له اسْتِحْقاقُ قَبْضِه، ولأنَّه خَصْمٌ فيه، بدَلِيلِ أنَّه يَمْلِكُ المُخاصَمَةَ فيه. فإن شَهِد بما كان وَكِيلًا فيه بعدَ عَزْلِه، لم تُقْبَلْ أيضًا، سَواءٌ كان خاصَمَ فيه بالوَكالةِ أو لم يُخاصِمْ. وبهذا قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان لم يُخاصِمْ فيه، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه لا حَقَّ له فيه، [ولم] (¬3) يخاصِمْ فيه، فأشْبَهَ ما لو (¬4) لم يَكُنْ وَكِيلًا فيه. وللشافعيِّ قَوْلان كالمَذْهَبَين. ولَنا، أنَّه بعَقْدِ الوَكالةِ صار خَصْمًا فيه، فلم تُقْبَلْ شَهادَتُه فيه، كما لو خاصَمَ فيه، وفارَقَ ما لم يَكُنْ وَكِيلًا فيه؛ فإنَّه لم يَكُنْ خَصْمًا فيه. فصل: إذا كانتِ الأمَةُ بينَ نَفْسَين، فشَهِدَا (¬5) أنَّ زَوْجَها وَكَّلَ في طَلاقِها، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما، لأنَّهما يَجُرّانِ إلى أنْفُسِهما نَفْعًا، وهو زَوالُ ¬

(¬1) بعده في م: «له». (¬2) بعده في م: «كان». (¬3) في م: «وإن لم». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «فشهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّ الزَّوْجِ مِن البُضْعِ الذي هو مِلْكُهما. وإن شَهِدا بعَزْلِ الوَكِيلِ في الطَّلاقِ، لم تُقْبَلْ (¬1)؛ لأنَّهما يَجُرّان إلى أنْفُسِهما نَفْعًا، وهو إبْقاءُ النَّفَقَةِ على الزَّوْجِ. ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ ابْنَي الرجلِ له بالوَكالةِ، ولا أبوَيه؛ لأنَّهما يُثْبِتان له حَقَّ التَّصَرُّفِ. ولا يَثْبُتُ للإِنْسانِ حَقٌّ بشَهادَةِ ابْنِه ولا أبِيه، ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ ابْنَي المُوَكِّلِ ولا أبَوَيه بالوَكَالةِ. وقال بعضُ الشافعيَّةِ: تُقْبَلُ، لأنَّ هذا حَقٌّ على المُوَكِّلِ يَسْتَحِقُّ به الوَكِيلُ المُطالبَةَ، فقُبِلَتْ فيه شَهادَةُ قَرابَةِ المُوَكِّلِ، كالإِقْرارِ. ولَنا، أنَّ هذه شَهادَةٌ يَثْبُتُ بها حَقٌّ لأبيه أو ابْنِه، فلم تُقْبَلْ، كشهادَةِ ابْنَي الوَكِيلِ وأبوَيه، ولأنَّهما يُثْبِتانِ لأبِيهما نائِبًا مُتَصَرِّفًا له، وفارَق الشَّهادَةَ عليه بالإِقْرارِ، فإنَّها شَهادَةٌ عليه مُتَمَحِّضَةٌ. ولو ادَّعَى الوَكِيلُ الوَكالةَ، فأنْكَرَها المُوَكِّلُ، فشَهِدَ عليه ابْناه أو أربواه، ثَبَتَتِ الوَكالةُ، وأُمْضِيَ تَصَرُّفُه؛ لأنَّ ذلك شَهادَةٌ عليه. ولو ادَّعَى المُوَكِّلُ أنَّه تَصَرَّفَ بوَكالتِه، وأنْكَرَ الوَكِيلُ، فشَهِدَ عليه أبَواه أو ابْناه، قُبِل أيضًا؛ لذلك (¬2). وإنِ ادَّعَى وَكِيلٌ لمُوَكِّلِه الغائِبِ حَقًّا، وطالبَ به، فادَّعَى الخَصْمُ أنَّ المُوَكِّلَ عَزَلَه، وشَهِد له بذلك ابْنا المُوَكِّلِ، قُبِلَتْ شَهادَتُهما، وثَبَت العَزْلُ بها؛ لأنَّهما يَشْهَدان على أبيهما. وإن لم يَدَّعِ الخَصْمُ عَزْلَه، لم تُسْمَعْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما يَشْهَدان لمَن لا يَدَّعِيها. فإن قَبَض الوَكِيلُ، فحَضَرَ المُوَكِّلُ وادَّعَى أنَّه ¬

(¬1) بعده في ر 1: «شهادتهما في الطلاق». (¬2) في ق، م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان قد عَزَل الوَكِيلَ، وأنَّ حَقَّه باقٍ في ذمَّةِ. الغَرِيمِ، وشَهِد له ابْناه، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما يُثْبِتان حَقًّا لأبيهَما. ولو ادَّعَى مُكاتَبٌ الوَكالةَ، فشَهِدَ له سَيِّدُه، أو ابْنا سَيِّدِه، أو أبَواه، لم تُقْبَلْ؛ لأنَّ السَّيِّدَ يَشْهَدُ لعَبْدِه، وابْناه يَشْهَدان لعَبْدِ أبيهما، والأبَوان يَشهَدان لعَبْدِ ابْنِهما. وإن عَتَق، فأعاد الشَّهادَةَ، فهل تُقْبَلُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين. فصل: إذا حَضَر رَجُلانِ عندَ الحاكِمِ، فأقَرَّ أحَدُهما أنَّ الآخَرَ وَكِيلُه، ثم غاب المُوَكِّلُ، وحَضَر الوَكِيلُ، فقَدَّمَ خَصْمًا لمُوَكِّلِه، وقال: أنا وَكِيلُ فُلانٍ. فأنْكَرَ الخَصْمُ كَوْنَه وَكِيلًا، فإن قُلْنا: لا يَحْكُم الحاكِمُ بعِلْمِه. لم تُسْمَعْ دَعْواه حتى تَقومَ البَيِّنَةُ بوَكالتِه. وإن قُلْنا: يَحْكُمُ بعِلْمِه. وكان الحاكِمُ يَعْرفُ المُوَكِّلَ بعَينِه واسْمِه ونَسَبِه، صَدَّقَه ومَكَّنَه مِن التَّصَرُّفِ؛ لأنَّ مَعْرِفَتَه كالبَيِّنَةَ. وإن عَرَفَه بعَينِه دُونَ اسْمِه ونَسَبِه، لم يُقْبَلْ قَوْلُه حتى تَقُومَ البَيِّنَةَ عندَه بالوَكالةِ؛ لأنَّه يُرِيدُ تَثْبِيتَ نَسَبِه عندَه (¬1) بقَوْلِه، فلم يُقْبَلْ. فصل: ولو حَضَر عندَ الحاكِمِ رجلٌ، فادَّعَى أنَّه وَكِيلُ فُلانٍ الغائِبِ، في شيءٍ عَيَّنَه، وأحْضَرَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ له بالوَكَالةِ، سَمِعَها الحاكِمُ. ولو ادَّعَى حَقًّا لموَكِّلِه قبلَ ثُبُوتِ وَكالتِه، لم يَسْمَعِ الحاكِمُ دَعْواه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَسْمَعُها، إلَّا أن يُقَدِّمَ خَصْمًا مِن خُصَماءِ المُوَكِّلِ، فيَدَّعِيَ عليه حَقًّا، فإذا أجابَ المُدَّعَى عليه، حِينَئِذٍ يَسْمَعُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاكِمُ البَيِّنَةَ، فحَصَلَ الخِلافُ بينَنا في حُكْمَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ الحاكِمَ يَسْمَعُ البَيِّنةَ على الوَكَالةِ مِن غيرِ حُضُورِ خَصْمٍ، وعندَه لا يَسْمَعُ. والثاني، أنَّه لا يَسْمَعُ دَعْواه لمُوَكِّلِه قبلَ ثُبُوتِ وَكالتِه، وعندَه يَسْمَعُ. وبَنَى أبو حنيفةَ على أصْلِه في أنَّ (¬1) القَضاءَ على الغائِبِ لا يَجُوزُ، وسَماعَ البَيِّنَةِ بالوَكالةِ مِن غيرِ خَصْمٍ (¬2) قَضاءٌ على الغائِبِ، وأنَّ الوَكالةَ لا تَلْزَمُ الخَصْمَ ما لم يُجِبِ الوَكِيلُ عن دَعْوَى الخَصْمِ أنَّك لست بوَكِيلٍ. ولَنا، أنَّه إثْباتٌ للوَكالةِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى حُضُورِ المُوَكَّلِ عليه, كما لو كان المُوَكَّلُ (¬3) عليه جَماعةً، فأحْضَرَ واحِدًا منهم، فإنَّ الباقِين لا يُفْتَقَرُ إلى حُضُورِهم، كذلك ههُنا. والدَّلِيلُ على أنَّ الدَّعْوَى لا تُسْمَعُ قبلَ ثُبُوتِ الوَكالةِ، أنَّها لا تُسْمَعُ إلَّا مِن خَصْمٍ يُخاصِمُ عن نَفْسِه, أو عن مُوَكِّلِه، وهذا لا يُخاصِمُ عن نفْسِه، ولم يَثْبُتْ أنَّه وَكِيلٌ (¬4) لمَن يَدَّعِي له، فلا تُسْمَعُ دَعْواه, كما لو ادَّعَى لمَن لم يَدَّعِ وَكَالتَه. وفي هذا الأصْلِ جَوابٌ عمّا ذَكَرَه. فصل: ولو حَضَر رجلٌ، وادَّعَى على غائِبٍ مالًا في وَجْهِ وَكِيله، فأنْكَرَه، فأقام بَيِّنَةً بما ادَّعاه، حَلَّفَه الحاكِمُ، وحَكَم له بالمالِ. فإذا حَضَر ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «بها». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «وكل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُوَكِّلُ وجَحَد الوَكالةَ، أو ادَّعَى أنَّه كان قد عَزَلَه، لم يُؤَثِّرْ ذلك في الحُكْمِ؛ لأنَّ القَضاءَ على الغائِبِ لا يَفْتَقِرُ إلى حُضُورِ وَكِيلِه.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الشركة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الشَّركَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشَّركَةِ الشَّرِكَةُ: هي الاجْتِماعُ في اسْتِحْقاقٍ أو تَصَرُّفٍ. وهي ثابِتَةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمّا الكِتابُ فقَوْلُه سُبْحانَه وتعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬1). وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬2) الآية. والْخُلَطاءُ هم الشُّرَكاءُ. ومِن السُّنَّةِ ما رُوِيَ أنَّ البَراءَ بنَ عازِبٍ وزَيدَ بنَ أَرْقَمَ كانا شَرِيكَين، فاشْتَرَيا فِضَّةً بنَقْدٍ ونسِيئَةٍ، فبَلَغِ ذلك رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَهما أنَّ ما كان بنَقْدٍ فأجِيزُوه، وما كان نَسِيئةً فَرُدُّوه (¬3). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ¬

(¬1) سورة النساء 12. (¬2) سورة ص 24. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 371.

2040 - مسألة: (وهي على خمسمة أضرب؛ أحدها، شركة

وَهِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، شَرِكَةُ الْعِنَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَينِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَينِهِمَا». رَواه أبو داودَ (¬1). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «يَدُ اللهِ عَلَى الشَّرِيكَينِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا» (¬2). وأجْمَعَ المُسْلِمُون على جَوازِ الشَّرِكَةِ في الجُمْلَةِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في أنْواعٍ منها نُبَيِّنُها إن شاء اللهُ تعالى. والشَّرِكَةُ نَوْعانِ؛ شَرِكَةُ أمْلاكٍ، وشَرِكَةُ عُقُودٍ. وهذا البابُ لشَرِكَةِ العُقُودِ. 2040 - مسألة: (وهي على خَمْسَمةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، شَرِكَةُ ¬

(¬1) في: باب في الشركة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 229. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِنانِ) والثَّانِي، شَرِكَةُ (¬1) المُضارَبَةِ، وشَرِكَةُ الوُجُوهِ، وشَرِكَةُ الأبدانِ، وشَرِكَةُ المُفاوَضَةِ. ولا يَصِحُّ شيءٌ منها إلّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على التَّصَرُّفِ [في المالِ] (¬2)، فلم يَصِحَّ مِن غيرِ جائِزِ التَّصَرُّفِ في المالِ، كالبَيعَ. فصل: قال أحمدُ: يُشارِكُ اليَهُودِيَّ والنَّصْرانِيَّ، ولكِنْ لا يَخْلُو اليَهُودِيُّ والنَّصْرانيُّ بالمالِ دُونَه، ويَكُونُ هو الذي يَلِيه؛ لأنَّه يَعْمَلُ بالرِّبا. وبهذا قال الحَسَنُ، والثَّوْرِيُّ. وكَرِهَ الشافعيُّ مُشارَكَتَهم مُطْلَقًا؛ لأنَّه رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ أنَّه قال: أكْرَهُ أن يُشارِكَ المُسْلِمُ اليَهُودِيَّ. ولا يُعْرَفُ له مُخالِفٌ في الصَّحابَةِ، ولأنَّ مال اليَهُودِيِّ وانَّصْرانِيِّ ليس بطَيِّبٍ، فإنَّهم يَبِيعُون الخَمْرَ، ويَتَعامَلُون بالرِّبا، فكُرِهَتْ مُعامَلَتُهم. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ر، ق. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما روَى الخَلَّالُ (¬1) بإسْنادِه، عن عَطاءٍ قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنَ مُشارَكَةِ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ، إلَّا أن يَكُونَ الشِّراءُ والبَيعُ بيَدِ المُسْلِمِ. ولأنَّ العِلةَ في كَراهَةِ ما خَلَوْا به مُعامَلَتُهم بالرِّبا، وبَيعُ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ، وهذا مُنْتَفٍ فيما حَضَرَه المُسْلِمُ أو وَلِيَه. وقولُ ابنِ عباسٍ مَحْمُولٌ على هذا، فإنَّه عَلَّلَ بكَوْنِهم يُرْبُون. كذلك رَواه الأثْرَمُ (¬2) عن أبي حَمْزَةَ، عن ابنِ عباسٍ، أنه قال: لا تُشارِكَنَّ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولا مَجُوسِيًّا؛ لأنَّهم يُرْبُون، وإنَّ الرِّبا لا يَحِلُّ. وهو قولُ واحدٍ مِن الصَّحابَةِ لم يَنْتَشِرْ بينَهم، وهم لا يَحْتَجُّون به. وقَوْلُهم: إنَّ أمْوالهم غيرُ طَيِّبَةٍ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد عامَلَهم، ورَهَن دِرْعَه عندَ يَهُودِيٍّ على شَعِيرٍ أخَذَه لأَهْلِه (¬3)، وأرْسَلَ إلى آخَرَ يَطْلُبُ منه ثَوْبَين إلى المَيسَرَةِ (¬4)، وأَضافَه يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وإهَالةٍ سَنِخَةٍ (¬5). ولا يَأْكُلُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا الطَّيِّبَ. وما باعُوه مِن الخَمْرِ والخِنْزِيرِ قبلَ مُشارَكَةِ المُسْلِمِ، فثَمَنُه حَلالٌ؛ لاعْتِقادِهم حِلَّه؛ ولهذا قال عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: وَلُّوهُمْ ¬

(¬1) وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، في: باب مشاركة اليهودي والنصراني، من كتاب البيوع. المصنف 6/ 9. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا. . . .، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 335. وابن أبي شيبة، في: باب مشاركة اليهودي والنصراني، من كتاب البيوع. المصنف 6/ 8. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 87. (¬4) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 216، 217. والنسائي، في: باب البيع إلى الأجل المعلوم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 258 , 259. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 147. (¬5) تقدم تخريجه في 11/ 87.

وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ بِمَاليهِمَا لِيَعْمَلَا فِيهِ ببَدَنَيهِمَا، وَرِبْحُهُ لَهُمَا، فَيَنْفُذَ تَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِمَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ في نَصِيبهِ، وَالْوَكَالةِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعَها وخُذُوا أَثْمانَها (¬1). فأمّا ما يَشْتَرِيه أو يَبِيعُه مِن الخَمْرِ بمالِ الشَّرِكَةِ أو المُضارَبَةِ فإنّه يَقَعُ فاسِدًا، و (¬2) عليه الضَّمانُ؛ لأنَّ عَقْدَ الوَكِيلِ يَقَعُ للمُوَكِّلِ، والمُسْلِمُ لا يَثْبُتُ مِلْكُه على الخَمْرِ والخِنْزِيرِ، فأشبَهَ شِراءَ المَيتَةِ والمُعامَلَةَ بالرِّبا. وما خَفِي أمْرُه ولم يُعْلَمْ، فهو مُباحٌ بالأصْلِ. فأمّا المَجُوسِيُّ، فإنَّ أحمدَ كَرِهَ مُشارَكَتَه ومُعامَلَتَه؛ لأنَّه يَسْتَحِلُّ ما لا يَسْتَحِلُّ هذا. قال حَنْبَلٌ: قال عَمِّي: لا يُشارِكُه ولا يُضارِبُه. وهذا، واللهُ أَعْلَمُ، على سَبيلِ الاسْتِحْبابِ لتَرْكِ مُعامَلَتِه، والكَراهَةِ لمُشارَكَتِه. فإن فَعَل، صَحَّ؛ لأنَّ تَصَرُّفَه صَحِيحٌ. فصل: وشَرِكَةُ العِنانِ (أن يَشْتَرِكَ اثْنان بماليهما ليَعْمَلا فيه ببَدَنَيهما، ورِبْحُه لهما، فيَنْفُذَ تَصَرُّفُ كلِّ واحدٍ منهما فيهما بحُكْمِ المِلْكِ في نَصِيبِه، والوَكالةِ في نَصِيبِ شَرِيكِه) وهي جائِزَةٌ بالإِجْماعِ. ذَكَرَه ابنُ المُنْذِرِ. وإنَّما اخْتُلِفَ في بعضِ شُرُوطِها، واخْتُلِفَ في عِلَّةِ تَسْمِيَتِها بهذا الاسْمِ، فقِيلَ: سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّهما يَتَساوَيان في المالِ والتَّصَرُّفِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 430. (¬2) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالفارِسَيْن إذا سَوَّيا بينَ فَرَسَيهما وتساوَيا في السَّيرِ، فإنَّ عِنانَيهما يَكُونان سَواءً. وقال الفَرّاءُ: هي مُشْتَقَّةٌ مِن عَنَّ الشيءُ، إذا عَرَض، يُقالُ: عَنَّتْ [لي حاجَةٌ] (¬1). إذا عَرَضَتْ، فسُمِّيَتِ الشَّرِكَةُ بذالك؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما عَنَّ له أن يُشارِكَ صاحِبه. وقيل: هي مُشْتَقَّة مِن المُعانَنَةِ، وهي المُعارَضَةُ، يُقالُ: عانَنْتُ فُلانًا. إذا عارَضْتُه بمثْلِ مالِه وأفْعالِه، فكلُّ واحدٍ مِن الشَّرِيكَين مُعارِضٌ لصاحِبِه بمالِه وأفْعالِه. وهذا يَرْجِعُ إلى قولِ الفَرّاءِ. ¬

(¬1) في م: «إلى حاجبها».

2041 - مسألة: (ولا تصح إلا بشرطين؛ أحدهما، أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير)

وَلَا تَصِحُّ إلا بِشَرْطَينِ؛ أَحَدُهُمَا، أنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2041 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلَّا بِشَرطَين؛ أحَدُهما، أن يَكُونَ رَأْسُ المالِ دَراهِمَ أو دَنانِيرَ) ولا خِلَاف في أنَّه يَجُوزُ أن يُجْعَلَ رأْسُ المالِ دَراهِمَ أو دَنانِيرَ إذا كانَت غيرَ مَغْشُوشَةٍ؛ لأنَّهما قِيَمُ الأمْوالِ (¬1) وأثْمانُ البِياعاتِ، والنّاسُ يَشْتَرِكُون فيها مِن لَدُنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى زَمَنِنا هذا مِن غيرِ نَكِيرٍ. فصل: ولا تَصِحُّ بالعُرُوضِ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبي طالِبٍ، وحَرْبٍ. وحَكاه عنه ابنُ المُنْذِرِ. وكَرِه ذلك يحيى ابنُ أبِي كَثِيرٍ، وابنُ سِيرِينَ، والثَّوْرِيُّ، والشافِعِيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ إمَّا أن تَقَعَ على أعْيانِ العُرُوضِ أو قِيمَتِها أو أثْمانِها، لا يَجُوزُ وُقُوعُها على أعْيانِها؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ تَقتَضِي ¬

(¬1) في الأصل: «الآمال».

أوْ دَنَانِيرَ. وَعَنْهُ، تَصِحُّ بِالْعُرُوض، وَيُجْعَلُ رَأسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ عندَ المُفاضَلَةِ برَأسِ المالِ أو بمِثْلِه، وهذه لا مِثْلَ لها فيُرْجَعُ إليه (¬1)، وقد تَزِيدُ قِيمَةُ جِنْسِ أحَدِهما دُونَ الآخرِ، فيَسْتَوْعِبُ بذلك. جَمِيعَ الرِّبْحِ أو جَمِيعَ المالِ، وقد تَنْقُصُ قِيمَتُه (¬2)، فيُؤدِّي إلى أن يُشارِكَه الآخرُ (¬3) في ثَمَنِ مِلْكِه الذي ليس برِبْحٍ، ولا على قِيمَتِها؛ لأنَّ القِيمةَ غيرُ مُتَحَقِّقَةِ القَدْرِ، فيُفْضِي إلى التَّنازُعِ، وقد يُقَوَّمُ الشيءُ بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه، ولأنَّ القِيمَةَ قد تَزِيدُ في أحَدِهما قبلَ بَيعِه، فيُشارِكُه الآخَرُ في العَينِ المَمْلُوكَةِ له، ولا يَجُوزُ وُقُوعُها على أثْمانِها؛ لأنَّها مَعْدُومَةٌ حال العَقْدِ، ولا يَمْلِكانِها؛ لأنَّه إن أرادَ ثَمَنَها الذي اشْتَراها به، فقد خَرَج عن مِلْكِه وصار للبائِعِ، وإن أرادَ ثَمَنَها الذي يَبِيعُها به، فإنَّها تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقةً على شَرْطٍ، وهو بَيعُ الأعْيانِ، وهذا لا يَجُوزُ. وفيه رِوايَةٌ أُخرى، أنَّ الشَّرِكَةَ والمُضارَبَةَ تجُوزُ بالعُرُوضِ (ويُجْعَلُ رأسُ المالِ قِيمَتَها وَقْتَ العَقْدِ) (¬4). قال أحمدُ: إذا اشْتَرَكا في العُرُوضِ، يُقَسَّمُ الرِّبْحُ على ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) في م: «قيمتها». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل، ر، ق: «قيمتها وقت العقد رأس المال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما اشْتَرَطا. وقال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسألُ عن المُضارَبَةِ بالمَتاعِ، فقال: جائِزٌ. فظاهِرُ هذا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بها. اختارَه أبو بَكْرٍ، وأبو الخَطّاب. وهو قولُ مالكٍ، وابنِ أبي لَيلَى. وبه قال في المُضارَبَةِ طاوُسٌ، والأَوْزاعِيُّ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ؛ لأنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوازُ تَصَرُّفِهما (¬1) في المالين جميعًا، وكَوْنُ رِبْحِ المالين بينَهما، وهو حاصِل في العُرُوضِ كحُصُولِه في الأثْمانِ، فيَجبُ أن تَصِحَّ الشَّرِكَةُ والمُضارَبَةُ بها، كالأثْمانِ، ويَرْجِعُ كلُّ واحدٍ منهما عندَ المُفاضَلَةِ بقِيمَةِ مالِه عندَ العَقْدِ، كما أنَّنا جَعَلْنا نِصابَ زَكاتِها قِيمَتَها. وقال الشافعيُّ: إن كانَتِ العُرُوضُ مِن ذَواتِ الأمْثال كالحُبُوبِ والأدْهانِ، جازَتِ الشَّرِكَةُ بها في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأَنَّها مِن ذواتِ الأمْثالِ (¬2)، أشْبَهَتِ النُّقُودَ، ويَرْجِعُ عندَ المُفاضَلَةِ بمِثْلِها، وإن لم تَكُنْ مِن ذَواتِ الأمْثالِ، لم يَجُزْ، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بمِثْلِها. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه نَوْعُ شَرِكَةٍ، فاسْتَوَى فيها ما له مِثْلٌ مِن العُرُوضِ وما لا مِثْلَ له، كالمُضارَبَةِ، فإنَّه سَلَّمَ أنَّ المُضارَبَةَ لا تَجُوزُ بشيءٍ مِن العُرُوضِ؛ ولأنَّها ليست بنَقْدٍ، فلم تَصِحَّ الشَّرِكَةُ بها، كالذِي لا مِثْلَ له. ¬

(¬1) في الأصل: «تصرفها». (¬2) سقط من: م.

2042 - مسألة: (وهل تصح بالمغشوش والفلوس؟ على وجهين)

وَهَلْ تَصِحُّ بِالْمَغْشُوشِ وَالْفُلُوسِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2042 - مسألة: (وهل تَصِحُّ بالمَغْشُوشِ والفُلُوسِ؟ على وَجْهَينِ) اخْتَلَفَ أصْحابُنا في الشَّرِكَةِ بالمَغْشُوشِ مِن الأثْمانِ، هل تَصِحُّ؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا تَصِحُّ، سَواءٌ قَلَّ الغِشُّ أو كَثُر. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الغشُّ أقَلَّ مِن النِّصْفِ، جاز،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كَثُر، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالغالبِ في كَثِيرٍ مِن الأصُولِ. ولَنا، أنَّها مَغْشُوشَة، أشْبَهَ ما لو كان الغِشُّ أكثَر، ولأنَّ قِيمَتَها تَزِيدُ وتَنْقُصُ، أشْبَهتِ العُرُوضَ. وقَوْلُهم: الاعْتِبارُ بالغالِب. لا يَصِحّ، فإنَّ الفِضَّةَ إذا كانَتْ أقَلَّ، لم يَسْقُطْ حُكْمُها في الزَّكاةِ، وكذلك الذَّهَبُ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يَكونَ الغِشُّ قَلِيلًا لمَصْلَحَةِ النَّقْدِ، كَيَسِيرِ الفِضَّةِ في الدِّينارِ، كالحَبَّةِ ونَحْوها، فلا اعْتِبارَ به؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، ولا يُؤثِّرُ في رِبًا ولا غيرِه. والثّانِي، أنَّ الشَّرِكَةَ تَصِحُّ بها (¬1)؛ بناءً على صِحَّةِ الشَّرِكَةِ في العُرُوضِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. وحُكْمُ النُّقْرَةِ (¬2) في الشَّرِكَةِ بها كالحُكْمِ في العُرُوضِ (¬3)؛ لأنّ قِيمَتَها تَزِيدُ وتَنْقصُ، أشْبَهَتِ العُرُوضَ. ¬

(¬1) سقط من: م. وفي ر، ق: «بهما». (¬2) النُّقرة: القطعة المذابة من الذهب والفضة. (¬3) في الأصل: «القرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تَصِحُّ الشرِكَةُ بالفُلُوسِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وابنُ القاسِمِ صاحِبُ مالِكٍ. ويَتَخَرَّجُ الجَوازُ إذا كانَتْ نافِقَةً، فإنَّ أحمدَ قال: لا أرَى السَّلَمَ في الفُلُوسِ؛ لأنَّه يُشْبِهُ الصَّرْفَ. وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّها ثَمَنٌ، فأشْبَهَتِ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ الشَّرِكَةَ تجُوزُ بها على كلِّ حالٍ وإن لم تَكُنْ نافِقَةً؛ بِناءً على جَوازِ الشَّرِكَةِ بالعُرُوضِ. وَوَجْهُ الأوَّلِ أنَّها تَنْفُقُ مَرَّةً وتَكْسُدُ أُخرى، فأشْبَهَتِ العُرُوضَ، فإذا قُلْنا بصِحَّةِ الشَّرِكَةِ بها فإنَّها إن كانَتْ نافِقَةً كان رأسُ المالِ مِثْلَها، وإن كانَتْ كاسِدَةً كانَتْ قِيمَتُها كالعُرُوضِ. فصل: ولا يَجُوزُ أن يَكُونَ رَأسُ مالِ الشَّرِكَةِ مَجْهُولًا، ولا جُزافًا؛ لأنَّه لابُدَّ مِن الرجُوعِ به عندَ المُفاصَلَةِ، ولا يُمْكِنُ مع الجَهْلِ به. ولا يَجُوزُ بمالٍ غائِب، ولا دَينٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّصَرفُ فيه في الحالِ، وهو مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ.

2043 - مسألة: الشرط (الثاني، أن يشرطا لكل واحد)

وَالثَّانِي، أنْ يَشْترِطَا لِكُلِّ وَاحِدٍ جُزْءًا مِنَ الربحِ مُشَاعًا مَعْلُومًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2043 - مسألة: الشرْطُ (الثّانِي، أن يَشْرُطا لكلِّ واحِدٍ) منهما (جُزْءًا مِن الرِّبْحِ مُشاعًا مَعْلُومًا) كالنِّصْفِ والثُّلُثِ والرُّبْعِ؛ لأنَّها أحَدُ أنْواعِ الشَّرِكَةِ، فاشْتُرِطَ عِلْمُ نَصِيبِ كلِّ واحدٍ منهما مِن الرِّبْحِ، كالمُضارَبَةِ، ويَكُونُ الرِّبْحُ بينَهما على ما شَرَطاه، سَواءٌ شَرَطا لكلِّ واحدٍ منهما على قَدْرِ مالِه مِن الرِّبْحِ أو أقَلَّ أو أكثرً؛ لأنَّ العَمَلَ يُسْتَحَقُّ به الرِّبْحُ، بدَلِيلِ المُضارَبَةِ، وقد يتَفَاضَلان فيه لقُوَّةِ أحَدِهما وحِذْقِه، فجازَ أن يَجْعَلَ له حَظًّا مِن الرِّبْحِ، كالمُضارِبِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ: مِن شَرْطِ صِحَّتِها كَوْنُ الرِّبْحِ والخُسْرانِ على قَدْرِ

2044 - مسألة: (فإن قالا: الربح بيننا. فهو بينهما نصفين)

فَإِنْ قَالا: الرِّبْحُ بَينَنَا. فَهُوَ بَينَهُمَا نِصْفَينِ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا الرِّبْحَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المالين؛ لأنَّ الرِّبْحَ في هذه الشَّرِكَةِ تَبَعٌ (¬1) للمالِ، فلا يَجُوزُ تَغيِيرُه بالشَّرْطِ، كالوَضِيعةِ (¬2). ولَنا، أنَّ العَمَلَ مما يُسْتَحَقُّ به الربْحُ، فجازَ أن يتَفَاضَلا في الرِّبْحِ مع وُجُودِ العَمَلِ منهما، كالمُضارِبَين لرجل واحِدٍ، وذلك أنَّ أحَدَهما قد يَكُونُ أْبصَرَ بالتِّجارَةِ مِن الآخَرِ وأقْوَى على العَمَلِ، فجازَ أن يَشْتَرِطَ له زِيادَةً في الرِّبْحِ في مُقابَلَةِ عَمَلِه، كما يُشْتَرَطُ الرِّبْحُ في مُقابَلَةِ (¬3) عَمَلِ المُضارِبِ، وفارَقَ الوَضِيعَةَ، فإنَّها لا تَتَعَلَّقُ إلَّا بالمالِ، بدَلِيلِ المُضارَبَةِ. 2044 - مسألة: (فإن قالا: الرِّبْحُ بينَنا. فهو بينَهما نِصْفَين) لأنَّه إضافَةٌ (¬4) إليهما إضافَةً واحِدَةً مِن غيرِ ترْجِيحٍ، فاقْتَضَى التَّسْويَةَ، كقَوْلِه: هذه الدّارُ بيني وبينَك، وكذلك في المُضارَبَةِ إذا قال: الرِّبْحُ بينَنا. 2045 - مسألة: (فإن لم يَذْكُرَا الرِّبْحَ) لم يَصِحَّ، كالمُضارَبَةِ؛ لأنَّه المَقْصُودُ مِن الشَّرِكَةِ، فلا يَجُوزُ الإخْلالُ به، فعلى هذا يَكُونُ الرِّبْحُ بينَهما على قَدْرِ المالين. ¬

(¬1) في م: «بيع». (¬2) في الأصل: «كالوصية». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «لأن إضافته».

2046 - مسألة: وإن (شرطا لأحدهما جزءا مجهولا)

أوْ شَرَطَا لِأحَدِهِمِا جُزْءًا مَجْهُولًا، أوْ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، أوْ رِبْحَ أحَدِ الثَّوْبَينِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2046 - مسألة: وإن (شَرَطا لأحَدِهما جُزْءًا مَجْهُولًا) لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الجهالةَ تَمْنَعُ تَسْلِيمَ الواجِبِ، ولأنَّ الرِّبْحَ هو المَقْصُودُ في الشَّرِكَةِ، فلم يَصِحَّ مع الجَهالةِ، كالثَّمَنِ والأُجْرَةِ في الإجارَةِ. وإن قال: لك مِثْلُ ما شُرِط لفُلانٍ. وهما يَعْلَمانِه، صَحَّ. وإن جَهِلاه. أو أحَدُهما، لم يَصِحَّ، كالثَّمَنِ في البَيعِ (¬1). 2047 - مسألة: فإن شَرَطا لأحَدِهما في الشَّرِكَةِ أو (¬2) المُضارَبَةِ (دَراهِمَ مَعْلُومَةً، أو رِبْحَ أحَدِ الثَّوْبَينِ، لم يَصِحَّ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه متى جُعِلَ نَصِيبُ أحَدِ الشُّرَكاءِ دَراهِمَ مُعْلومَةً، أو جُعِلَ مع نَصِيبِه دَراهِمَ، مثلَ أن يَجْعَلَ لنَفْسِه جُزْءًا وعَشَرَةَ دَراهِمَ، بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَطُ عنه مِن أهْل العِلْمِ على إبْطالِ القِراضِ إذا جَعَل أحَدُهما أو كِلاهما لنفسِه دَراهِمَ مَعْلُومَة. وبه قال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأي. والجَوابُ فيما لو قال: لك نِصْفُ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ دَراهِمَ. أو: نِصْفُ الرِّبْحِ وعَشَرَةُ دَراهمَ. كالجَوابِ فيما إذا شَرَط دَراهِمَ مُفْرَدَةً. وإنَّما لم يَصِحَّ؛ لأمْرَين؛ أحَدُهما، أنَّه إذا شَرَط دَراهِمَ مَعْلُومَةً، احْتَمَلَ أن لا يَرْبَحَ ¬

(¬1) في الأصل: «المبيع». (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرَها، فيَحْصُلَ على جَمِيعِ الرِّبْحِ، واحْتَمَلَ أن لا يَرْبَحَها، فيَأخُذَ مِن رَأسِ المالِ. وقد يَرْبَحُ كَثيرًا فيَسْتَضِرُّ مَن شُرِطَتْ له الدَّراهِمُ. الثّانِي، أنَّ حِصَّةَ العامِلِ يَنْبَغِي أن تَكُونَ مَعْلُومَةً بالأجْزاءِ لَمّا تَعَذَّرَ كَوْنُها مَعْلُومَةً بالقَدْرِ، فإذا جُهِلَتِ الأجْزاءُ فَسَدَتْ، كما لو جُهِلَ القَدْرُ فيما يُشْتَرَطُ أن يَكُونَ مَعْلُومًا به. ولأنَّ العامِلَ في المُضارَبَةِ متى شَرَط لنفسِه دَراهِمَ مَعْلُومَةً، رُبَّما تَوانَى في طَلَبِ الرِّبْحِ لعَدَم فائِدَتِه منه، وحُصُولِ نَفْعِه لغيرِه، بخِلافِ ما إذا شُرِطَ له جُزْءٌ مِن الرِّبْحِ. فصل: وكذلك الحُكْمُ إذا شُرِطَ لأحَدِهما رِبْحُ أحَدِ الثَّوْبَين، أو رِبْحُ إحْدَى السَّفْرَتَين، أو رِبْحُ تِجارَتِه في شَهْر أو عام بعَينِّه؛ لأنَّه قد يَرْبَحُ في ذلك المُعَيَّنِ دُونَ غيرِه، وقد يَرْبَحُ في غيرِه دُونَه (¬1)، فيَخْتَصُّ أحَدُهما بالرِّبْحِ، وهو مُخالفٌ لِمَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وإن دَفَع إليه ألْفًا مُضارَبَةً، وقال: لك رِبْحُ نِصْفِه. لم يَجُزْ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ: يَجُوزُ، كما لو قال: لك نِصْفُ رِبْحِه. ولأنَّ رِبْح نِصْفِه هو نِصْفُ رِبْحِه، وَوَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه شُرِطَ لأحَدِهما رِبْحُ بعضِ المالِ دُونَ بعضٍ، فلم يَجُزْ، كما لو قال: لك رِبْحُ هذه الخَمْسِمائَةِ. ولأنَّه يُمْكِنُ أن يُفْرِدَ نِصْفَ المالِ فيَرْبَحَ فيه دُونَ النِّصْفِ الآخَرِ، بخِلافِ نِصْفِ الرِّبْحِ، فإنَّه لا يُؤدِّي إلى انفِرادِه ¬

(¬1) سقط من: م.

2048 - مسألة: (وكذلك الحكم في المساقاة والمزارعة)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ في الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أنْ يَخْلِطَا الْمَالينِ، وَلَا أن يَكُونَا مِنْ جِنْس وَاحِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ برِبْحَ شيءٍ مِن المالِ. 2048 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ في المُساقاةِ والمُزارَعَةِ) قِياسًا على الشَّرِكَةِ. 2049 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ أن يَخْلِطا المالينِ، ولا أن يَكُونا مِن جِنْس واحِدٍ) لا يُشْتَرَطُ اخْتِلاطُ المالين في شَرِكَةِ العِنانِ إذا عَيَّناهما (¬1) وأحضَراهما. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ. إلَّا أنّ مالِكًا شَرَط أن تَكُونَ أيدِيهما عليه، بأن يَجْعَلاه في حانُوتٍ لهما، أو في يَدِ (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: «عيناها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَكِيِلهما. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ حتى يَخلِطا المالين؛ لأنَّهما إذا لم يَخْلِطاهما فمالُ كلِّ واحدٍ منهما يَتْلَفُ منه دُونَ صاحِبِه، ويَزِيدُ له دُونَ صاحِبِه، فلم تَنْعَقِدِ الشَّرِكَةُ، كما لو كان مِن المَكِيلِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ يُقْصَدُ به الرِّبْحُ، فلم يُشْتَرَطْ فيه خَلْطُ المالِ، كالمُضارَبَةِ، ولأنَّه عَقْدٌ على التَّصَرُّفِ، فلم يُشْتَرَطْ فيه خَلْطُ المالِ، كالوَكالةِ. ولَنا على (¬1) مالِكٍ، فلم يَكُنْ مِن شَرْطِه أن تَكُونَ أيدِيهما عليه، كالوَكالةِ. وقَوْلُهم: إنَّه يَتْلَف مِن مالِ صاحِبِه، أو يَزِيدُ على مِلْكِ صاحِبِه. مَمْنُوعٌ، بل يَتْلَفُ مِن مالِهما، وزِيادَتُه لهما؛ لأن الشَّرِكَةَ اقْتَضَتْ ثُبُوتَ المِلْكِ لكلِّ واحِدٍ منهما في نِصْفِ مالِ صاحِبِه، فيَكُونُ تَلَفُه منهما وزِيادَتُه لهما. وقال أبو حنيفةَ: متى تَلِف أحدُ المالين فهو مِن ضَمانِ صاحِبِه. ولَنا، أنَّ الوَضِيعَةَ والضَّمانَ أحَدُ مُوجِبي الشَّرِكَةِ، فتَعَلَّقَ بالشَّرِيكَين، كالرِّبْحَ، وكما لو اخْتَلَطا. فصل: ولا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِها (¬2) اتِّفاقُ المالين في الجِنْسِ، بل يَجُوزُ أن يُخْرِجَ أحَدُهُما دَراهِمَ والآخَرُ دَنانِيرَ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ. وقال الشافعيُّ: لا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إلَّا أن يَتَّفِقا في مالٍ واحدٍ؛ بِناءً على أنَّ خَلْطَ المالين شَرْطٌ، ولا يُمْكِنُ إلَّا في المالِ الواحِدِ. ¬

(¬1) في ر 1: «قول». (¬2) في الأصل: «لصحتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحن لا نَشْتَرِطُ ذلك. ولَنا، أنَّهما مِن جِنْسِ الأثْمانِ، فصَحَّتِ الشَّرِكَةُ فيهما، كالجِنْسِ الواحِدِ، فعلى هذا، متى تَفاضَلا رَجَع هذا بدَنانِيرِه وهذا بدَراهِمِه، ثم اقْتَسَما الفَضْلَ. نَصَّ عليه أحمدُ، وقال: كذا يَقُولُ (¬1) محمدٌ، والحسنُ. وقال القاضي: متى أرادَا المُفاضَلَةَ قَوَّما المَتاعَ (¬2) بنَقْدِ البَلدِ، وقَوَّما مال الآخَرِ به. ويَكُونُ التَّقْويمُ حينَ صَرَفا الثَّمَنَ فيه. ولَنا، أنَّ هذه شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ، رَأسُ المالِ فيها الأثْمانُ، فيَكُونُ الرُّجُوعُ بجِنْسِ رَأسِ المالِ، كما لو كان الجِنْسُ واحدًا. فصل: ولا يُشتَرَطُ تَساوي المالين في القَدْرِ. وهو قولُ الحسنِ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأي. وقال بعض أصْحابِ الشافعيِّ: يُشتَرَطُ ذلك؛ لأنَّ صاحِبَ المالِ القَلِيلِ إن أخَذَ نِصْفَ الرِّبْحِ، أخَذَ [رِبْحَ مالٍ لا] (¬3) يَملِكُه، وإن أخَذَ بقَدْرِ مالِه، أخَذَ شَرِيكُه بعضَ الرِّبْحِ الحاصلِ بعَمَلِه؛ لاسْتِوائِهما في العَمَلِ. ولَنا، أنَّهما مالان مِن جِنْسِ الأثْمانِ، فجازَ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عليهما، كما لو تَساوَيا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «المبتاع». (¬3) في م: «مالا».

2050 - مسألة: (وما يشتريه كل واحد منهما بعد عقد الشركة، فهو بينهما)

وَمَا يَشتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ بَينَهُمَا. وَإنْ تَلِفَ أحَدُ الْمَالينِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2050 - مسألة: (وما يَشْتَرِيه كلُّ واحِدٍ منهما بعدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فهو بينَهما) شَرِكَةُ العِنانِ مَبْنِيَّةٌ على الوَكالةِ والأمانَةِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما بِدَفْعِ المالِ إلى صاحِبِه أمِنَه، وبإذْنِه له في التَّصَرُّفِ وَكَّلَه. ومِن شَرْطِ صِحَّتِها أن يَأذَنَ كلُّ واحِدٍ منهما لِصاحِبِه في التَّصَرُّفِ. فعلى هذا، ما يَشْتَرِيه كلُّ واحِدٍ منهما بعدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فهو بينَهما؛ لأن العَقْدَ وَقَع على ذلك. فأمّا ما يَشْتَرِيه لنَفْسِه، فهو له، والقولُ قَوْلُه في ذلك؛ لأنه أعْلَمُ بنِيَّتِه. 2051 - مسألة: (وإن تَلِف أحَدُ المالين، فهو مِن ضَمانِهِما) إذا خَلَطا المال، وإن لم يُخْلَطُ فكذلك؛ لأنَّ العَقْدَ اقْتَضَى أن يَكُونَ المالان كالمالِ الو احِدِ، فكذلك في الضَّمانِ، كحالِ الخُلْطَةِ. وقال أبو حنيفةَ: متى تَلِف [أحَدُ المالين] (¬1)، فهو مِن ضَمانِ صاحِبِه. وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على خِلافِه. ¬

(¬1) في الأصل: «المال».

2052 - مسألة: (والوضيعة على قدر المال)

وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2052 - مسألة: (والوَضِيعَةُ على قَدْرِ المالِ) الوَضِيعَةُ: هي الخُسْرانُ في الشَّرِكَةِ. على كلِّ واحدٍ منهما (¬1) بقَدْرِ مالِه، فإن كان مُتَساويًا في القَدْرِ، فالخُسْرانُ بينَهما نِصْفين، وإن كان أثْلاثًا، فالوَضِيعَةُ أثْلاثًا. قال شيخُنا (¬2): لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وبه يَقُولُ أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وغيرُهما. وفي شَرِكَةِ الوُجُوهِ تَكُونُ الوَضِيعَةُ على قَدْرِ مِلْكَيهِما في المُشْتَرَى (¬3)، سَواءٌ كان الرِّبْحُ بينَهما كذلك أو لم يَكُنْ، وسَواءٌ كانَتِ الوَضِيعَةُ لتَلَفٍ أو نُقْصانٍ في الثَّمَن عمّا اشْتَرَيا به، أو غيرِ ذلك. والوَضِيعَةُ في المُضارَبَةِ على المال خاصَّة، لا شيءَ على العامِلِ منها (¬4)؛ لأنَّ الوَضِيعَةَ عِبارَة عن نُقْصانِ رَأسِ المالِ، وهو مُخْتَصٌّ بمِلْكِ رَبِّه، لا شيءَ فيه للعامِلِ، فيَكونُ نَقْصُه مِن مالِه دُونَ غيرِه، وإنَّما يَشْتَرِكان فيما يَحْصُلُ مِن النَّماءِ، فأشْبَهَ المُساقاةَ والمُزارَعَةَ، فإنَّ رَبَّ الأرْضِ والشَّجَرِ يُشارِكُ العامِلَ فيما يَحْدُثُ مِن الزَّرْعِ والثَّمَرِ، وإن تَلِف ¬

(¬1) بعده في ر، ق: «منها». (¬2) في: المغني 7/ 145. (¬3) في الأصل: «الشراء». (¬4) في الأصل: «منهما».

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أنْ يَبِيعَ وَيَشتَرِي، وَيَقْبِضَ وَيُقْبضَ، وَيُطَالِبَ بِالدَّينِ، وَيُخَاصِمَ فِيهِ، وَيُحِيلَ وَيَحْتَال، وَيَرُدَّ بِالْعَيبِ، وَيُقِرَّ بِهِ، وَيُقَايِلَ، وَيَفْعَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَةِ تِجَارَتِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّجَرُ، أو هَلَك شيءٌ مِن الأرْضِ بِغَرَقٍ أو غيرِه، لم يَكُنْ على العامِلِ شيءٌ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَهُ الله: (ويجُوزُ لكلِّ واحِدٍ منهما أن يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ، ويَقْبِضَ ويُقْبِضَ، ويُطالِبَ بالدَّينِ، ويُخاصِمَ فيه، ويُحِيلَ ويَحْتال، ويَرُدَّ بالعَيب، ويُقِرَّ به، ويُقايِلَ، ويَفْعَلَ كل ما هو مِن مَصْلَحَةِ تِجارَتِهما) يَجُوزُ لكلِّ واحِدٍ مِن الشَّرِيكَينِ أن يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ؛ مُساوَمَةً، ومُرابَحَةً، وتَوْلِيَةً، ومُواضَعَةً، كيف رَأى المَصْلَحَةَ؛ لأنَّ هذا عادةُ التُّجّارِ. وله أن يَقْبِضَ المَبِيعَ والثَّمَنَ ويُقْبِضَهما، ويُخاصِمَ في الدَّينِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُطالِبَ به، ويُحِيلَ ويَحْتال، ويَرُدَّ بالعَيبِ فيما وَلِيَه أو وَلِيَه صاحِبُه. وله أن يُقِرَّ به، يُقْبَلُ إقْرارُ الوَكِيلِ بالعَيبِ على مُوَكِّلِه. نصَّ عليه أحمدُ. وكذلك إن أقَرَّ بالثَّمَنِ أو بعضِه، أو أُجْرَةِ المُنادِي أو الحَمّالِ؛ لأنَّ هذا مِن تَوابعِ التِّجارَةِ، فهو كتسْلِيمِ المَبِيعِ وأداءِ ثَمَنِه، [لأن هذا عادَةُ التُّجّارِ] (¬1). ويَفْعَلُ كل ما هو مِن مَصْلَحَةِ التِّجارَةِ بمُطْلَقِ الشرِكَةِ؛ لأنَّ مَبْناها على الوَكالةِ والأمانَةِ، على ما ذَكَرْنا، فيَتَصَرفُ كلُّ واحِدٍ منهما في المالين، بحُكْمِ المِلْكِ (¬2) في نَصِيبه، والوَكالةِ في نَصِيبِ شَريكِه. وفي الإقالةِ وَجْهان؛ أصَحُّهما (¬3)، أنَّه يَمْلِكُها (¬4)؛ لأنَّها إن كانت بَيعًا (¬5)، فقد أذِنَ له فيه، وإن كانَت فَسْخًا، ففَسْخُ البَيعِ المُضِرِّ مِن مَصْلَحَةِ التِّجارَةِ، فمَلَكَه، كالرَّدِّ. والآخَرُ، لا يَمْلِكُها؛ لأنَّها فَسْخٌ، فلا يَدْخُلُ في الإذْنِ في التِّجارَةِ. وله أن يَسْتَأجِرَ مِن مالِ الشَّرِكَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «المالك». (¬3) في ر 1: «أحدهما وهو الأصح». (¬4) في م: «لا يملكها». (¬5) في الأصل: «تبعًا».

2053 - مسألة: (وليس له أن يكاتب الرقيق، ولا يزوجه، ولا يعتقه على مال)

وَلَيسَ لَهُ أنْ يُكَاتِبَ الرَّقِيقَ، وَلَا يُزَوِّجَهُ، وَلَا يَعْتِقَهُ بِمَالٍ، وَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُؤْجِرَ؛ لأنَّ المَنافِعَ أُجرِيَتْ مُجْرَى الأعْيانِ، فصارَ كالشِّراءِ والبَيعِ. وله المُطالبَةُ بالأجْرِ لهما وعليهما؛ لأنَّ حُقُوقَ العَقْدِ (¬1) لا تَخْتَصُّ العاقِدَ. فصل: فإن رُدَّتِ السِّلْعَةُ عليه بعَيبٍ، فله أن يَقْبَلَها، وأن يُعْطِيَ أرْشَ العَيبِ، أو يَحُطَّ مِن ثَمنِه، أو يُؤخِّرَ ثَمَنَه لأجْلِ العَيبِ؛ لأنَّ ذلك قد يَكُونُ أحَظَّ مِن الرَّدِّ. 2053 - مسألة: (وليس له أن يُكاتِبَ الرَّقِيقَ، ولا يُزَوِّجَه، ولا يَعْتِقَه على مالٍ) ولا غيرِه؛ لأن الشَّرِكَةَ انْعَقَدَتْ على التِّجارَةِ، وليست ¬

(¬1) في الأصل: «النقد».

2054 - مسألة: (ولا يضارب بالمال، ولا يأخذ به سفتجة، ولا يعطها، إلا بإذن شريكه)

يَهَبَ، وَلا يُقْرِضَ، وَلَا يُحَابِيَ، وَلَا يُضَارِبَ بالْمَالِ، وَلَا يَأخُذَ بِهِ سُفْتَجَة، وَلَا يُعْطِيَهَا، إلا بِإِذنِ شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الأشْياءُ تِجَارَةً، سِيَّما تَزْويجُ العَبْدِ، فإنَّه مَحْضُ ضَرَرٍ (ولا يَهَبَ، ولا يُقْرِضَ، ولا يُحابِىَ) لأنَّ ذلك ليس بتِجارَةٍ. 2054 - مسألة: (ولا يُضارِبَ بالمالِ، ولا يَأْخُذَ به سُفْتَجَةً، ولا يُعْطها، إلَّا بإذْنِ شَرِيكِهِ) ليس له أن يُشارِكَ بمالِ الشُّرِكَةِ، ولا يَدْفعَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُضارَبَةً؛ لأنَّ ذلك يُثْبِتُ في المالِ حُقُوقًا، ويُسْتَحَقُّ رِبْحُه لغيرِه. وليس له أن يَخْلِطَ مال الشَّرِكَةِ بمالِه، ولا بمالِ غيرِه؛ لأنَّه يَتَضَمَّنُ إيجابَ حُقوقٍ في المالِ، وليس هو مِن التِّجارَةِ المَأذُونِ فيها. وليس له أن يَأْخُذَ بالمالِ سُفْتَجَةً، ولا يُعْطها؛ لأنَّ فيه خَطَرًا، فإن أَذِنَ شَرِيكُه في ذلك، جاز؛

2055 - مسألة: (وهل له أن يودع، أو يبيع نساء، أو يبضع، أو يوكل فيما يتولى مثله)

وَهَلْ لَهُ أنْ يُودِعَ، أوْ يَبِيعَ نَسَاءً، أوْ يُبْضِعَ، أوْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ، أوْ يَرْهَنَ، أوْ يَرْتَهِنَ؟ عَلى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يَصِيرُ مِن التِّجارَةِ المَأذُونِ فيها ومَعْنَى قَوْله: يَأْخُذُ به سُفْتَجَةً. أنَّه يَدْفَعُ إلى إنْسانٍ شيئًا مِن مالِ الشَّرِكَةِ، ويَأخُذُ منه كِتابًا إلى بَلَدٍ آخَرَ، ليَسْتَوْفِيَ منه ذلك المال. ومعنى قَوْلِه: يُعْطِيها. أنَّه يَأْخُذُ مِن إنْسانٍ بِضاعَةً، ويُعْطِيه بثَمَنِ ذلك كِتابًا إلى بَلَدٍ آخَرَ، ليَسْتَوْفِىَ ذلك منه، فلا يَجُوزُ؛ لأن فيه خَطَرًا على المالِ. 2055 - مسألة: (وهل له أن يُودِعَ، أو يَبِيعَ نَساءً، أو يُبْضِعَ، أو يُوَكِّلَ فيما يَتَوَلَّى مثلَه) بنَفْسِه (أو يَرْهَنَ، أو يَرْتَهِنَ؟ على وَجْهَين) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الإيداعِ والإبضاعِ، على رِوايَتَين؛ إحْداهما، له ذلك؛ لأنَّه عادَةُ التُّجّارِ، وقد تَدْعُو الحاجَةُ إلى الإِيداعِ. والثّانِيَةُ، لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ؛ لأنَّه ليس مِن الشَّرِكَةِ، وفيه غَرَرٌ. والصَّحِيحُ أنَّ الإيداعَ يَجُوزُ عندَ الحاجَةِ إليه؛ لأنَّه مِن ضَرُورَةِ الشَّرِكَةِ، أشْبَهَ دَفْعَ المَتاعِ إلى الحَمّالِ. وهل له أن يَبِيعَ نَسَاءً؟ يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَين في الوَكِيلِ والمُضارِبِ؛ إحْداهم، له ذلك؛ لأنَّه عادَةُ التُّجّارِ، والرِّبْحُ فيه أكثَرُ. والأخْرَى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ فيه تَغْرِيرًا بالمالِ. فإنِ اشْتَرَى شيئًا بنَقْدٍ عندَه مثلُه، أو نَقْدٍ مِن غيرِ جِنْسِه، أو اشْتَرَى بشَيءٍ مِن ذَواتِ الأمْثالِ وعندَه مثلُه، جاز؛ لأنَّه إذا اشْتَرَى بجِنْسِ [ما عندَه، فهو يُؤدِّي مِمّا في يَدِه، فلا يُفْضِي إلى الزِّيادَةِ في الشَّرِكَةِ. وإن لم يَكُنْ في يَدِه نَقْدٌ ولا مِثْلِيٌّ مِن جِنْسِ ما] (¬1) اشْتَرَى به، أو كان عندَه عَرْضٌ فاستَدانَ عَرْضًا، فالشِّراءُ له خاصَّةً، ورِبْحُه له، وضَمانُه عليه؛ لأنَّه استَدانَ على مالِ الشَّرِكَةِ، وليس ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له ذلك؛ لِما نَذْكُرُه. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى أنَّه متى كان عندَه مِن مالِ الشَّرِكَةِ ما يُمْكِنُه أداءُ الثَّمَنِ منه ببَيعِه، أنَّه يَجُوزُ؛ لأنَّه أمْكَنَه أداءُ الثَّمَنِ مِن مالِ الشَّرِكَةِ، أشْبَهَ ما لو كان عندَه نَقْدٌ، ولأنَّ هذا عادَةُ التُّجّارِ، ولا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه. وهل له أن يُوكِّلَ فيما يَتَوَلَّى مثلَه بنَفْسِه؟ على وَجْهَين، بِناءً على الوَكِيلِ. وقِيلَ: يَجُوزُ للشَّرِيكِ التَّوْكِيلُ، بخِلافِ الوَكِيلِ؛ لأنَّه لو جاز للوَكِيلِ التَّوْكِيلُ، لاسْتَفادَ بحُكْمِ العَقْدِ مثلَ العَقْدِ، والشَّرِيكُ يَسْتَفِيدُ بعَقْدِ الشَّرِكَةِ ما هو أخَصُّ منه ودُونَه؛ لأنَّ التَّوْكِيلَ أخَصُّ مِن عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فإن وَكَّلَ أحَدُهما، مَلَك الآخرُ عَزلَه؛ لأنَّ لكلِّ واحِدٍ منهما التَّصَرُّفَ في حَقِّ صاحِبِه بالتَّوْكِيلِ، ¬

(¬1) في: المغني 7/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكذلك بالعَزْلِ. وهل لأحَدِهما أن يَرْهَنَ أو يَرْتَهِنَ بالدَّينِ الذي لهما؟ على وَجْهَين؛ أصَحُّهما، أنَّ له ذلك عندَ الحاجَةِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ [يُرادُ للإيفاءِ] (¬1)، والارْتِهانُ يُرادُ للاستيفاءِ، وهو يَمْلِكُ الإيفاءَ والاستيفاءَ، فمَلَكَ ما يُرادُ لهما. والثّانِي، ليس له ذلك؛ لأنَّ فيه خَطَرًا، ولا فَرْقَ بينَ أن يكُونَ مِمَّن وَلِيَ العَقْدَ، أو مِن غيرِه؛ لكَوْنِ القَبْضِ مِن حُقُوقِ العَقْدِ، وحُقُوقُ العَقْدِ لا تَخْتَصُّ العاقِدَ، فكذلك ما يُرادُ له. وهل له السَّفَرُ؟ فيه وَجْهان، نَذْكُرُهما في المُضارَبَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يزاد للإنفاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال له: اعْمَلْ برأيِكَ. جاز له أن يَعْمَلَ كلَّ ما نَفَع (¬1) في التِّجارَةِ؛ مِن الإبضاعِ، والمُضارَبَةِ بالمالِ، والمُشارَكَةِ به، وخَلْطِه بمالِه، والسَّفَرِ به، والإيداعِ، والبَيعِ نَساءً، والرَّهْنِ، والارْتهانِ، ¬

(¬1) كذا بالنسخ إلا في الأصل فغير منقوطة، وفي المغني 7/ 131: «يقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والإقالةِ، ونحو (¬1) ذلك؛ لأنَّه فَوَّضَ إليه الرَّأيَ في التَّصَرُّفِ الذي تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ، فجاز له كلُّ ما هو مِن التِّجارَةِ. فأمّا التَّملِيكُ بغيرِ عِوَضٍ؛ كالهِبَةِ، والحَطِيطَةِ لغيرِ فائِدَةٍ، والقَرْضِ، والعِتْقِ، ومُكاتَبَةِ الرَّقِيقِ، وتَزْويجِهم، ونحوه، فليس له فِعْلُه؛ لأنَّه إنّما فَوّضَ إليه العَمَلَ بِرَأْيِه في التِّجارَةِ، وليس هذا منها. ¬

(¬1) في الأصل: «يجوز».

2056 - مسألة: (وليس له أن يستدين على)

وَلَيسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الشَّرِكَةِ، فَان فَعَلَ، فَهُوَ عَلَيهِ، وَرِبْحُهُ لَهُ، إلَّا أن يَأْذَنَ شَرِيكُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2056 - مسألة: (وليس له أن يَسْتَدِينَ على) مالِ (الشَّرِكَةِ، فإن فَعَل، فهو عليه، ورِبْحُه له، إلَّا أن يَأْذَنَ شَرِيكُه) إذا اسْتَدانَ على مالِ الشَّرِكَةِ، لم يَجُزْ له ذلك، فإن فَعَل، فهو له، له رِبْحُه وعليه وَضِيعَتُه. قال أحمدُ في رِوايةِ صالِحٍ، في (¬1) مَن اسْتَدانَ في المالِ بوَجْهِه ألْفًا: فهو له، رِبْحُه له والوَضِيعةُ عليه. وقال القاضي: إذا اسْتَقْرَضَ شيئًا لَزِمَهُما، ورِبْحُه لهما، لأنَّه تَمْلِيكُ مالٍ بمالٍ، أشْبَهَ الصَّرْفَ. ومَنْصُوصُ أحمدَ يُخالِفُ هذا، لأنَّه أدْخَلَ في الشَّرِكَةِ أكْثَرَ مِمّا رَضِيَ الشَّرِيكُ بالمُشارَكَةِ فيه، فلم يَجُزْ، كما لو ضَمَّ إليها ألْفًا مِن مالِه. ويُفارِقُ الصَّرْفَ؟ فإنَّه بَيعٌ وإبدالُ عَين بعَين، فهو كَبَيعِ الثِّيابِ بالدَّراهِمِ. فإنْ أذِنَ شَرِيكُه في ذلك، جاز، كبَقِيَّةِ أفْعالِ التِّجارَةِ المَأْذُونِ فيها. ¬

(¬1) سقط من: م.

2057 - مسألة.: (وإن أخر حقه من الدين، جاز)

وإنْ أخَّرَ حَقَّهُ مِنَ الدَّين، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2057 - مسألة.: (وإن أخَّرَ حَقَّه مِن الدَّينِ، جاز) إذا كان لهما دَين حالٌّ فأخَّرَ أحَدُهما حِصَّتَه مِن الدَّينِ، جاز. وبه قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ. ولَنا، أنَّه أسْقَطَ حَقَّه مِن المُطالبَةِ، فصَحَّ أن يَنْفَرِدَ أحَدُهما به، كالإبراءِ.

2058 - مسألة: (وإن تقاسما الدين في الذمة، لم يصح)

وَإنْ تَقَاسَمَا الدَّينَ في الذِّمَّةِ، لَمْ يَصِحَّ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2058 - مسألة: (وإن تَقاسَما الدَّينَ في الذِّمَّةِ، لم يَصِحَّ) نَصَّ [عليه الإمام أحمدُ] (¬1) في رِوايَةِ حَنْبَلٍ لأنَّ الذِّمَمَ (¬2) لا تَتَكافَأُ ولا تَتَعادَلُ، والقِسْمَةَ تَقْتَضِي التَّعْدِيلَ، فأمّا القِسْمَةُ بغيرِ تَعْدِيلٍ، فهي بمَنْزِلَةِ البَيعِ، ولا يَجُوزُ بَيعُ الدَّينِ بالدَّينِ. فعلى هذا، لو تَقاسَما ثم تَوِي (¬3) بعضُ المالِ، رَجَع الذي تَوِيَ مالُه على الذي لم يَتْوَ. وبه قال ابنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِيُّ. ونَقَل حَرْبٌ جَوازَ ذلك؛ لأنَّ الاختِلافَ لا يَمْنَعُ القِسْمَةَ، كاخْتِلافِ الأعْيانِ. وبه قال الحَسَنُ، وإسْحاقُ. فعلى هذا، لا يَرْجِعُ مَن (¬4) تَوِيَ مالُه على مَن لم يَتْوَ، إذا أْبرَأ كلُّ واحِدٍ منهما صاحِبَه، وهذا إذا كان في ذِمَمٍ، فأمَّا في ذِمةٍ واحِدَةٍ فلا تُمْكِنُ القِسْمَةُ؛ لأنَّ القِسْمَةَ إفْرازُ حَقٍّ، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في ذِمَّةٍ واحِدَةٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الذِّمة». (¬3) توى: هلك. (¬4) سقط من: الأصل.

2059 - مسألة: (وإن أبرأ من الدين، لزم في حقه دون صاحبه)

وَإنْ أبْرأ مِنَ الدَّينِ، لَزِمَ في حَقِّهِ دُونَ صَاحِبِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أقَر بِمَالٍ. وَقَال الْقَاضِي: يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2059 - مسألة: (وإن أبْرَأ مِن الدَّينِ، لَزِم في حَقه دُونَ صاحِبِه) لأنَّه تَبَرُّعٌ، فلَزِمَ في حقِّه دُونَ شَرِيكِه (¬1)، كالصَّدَقَةِ. 2060 - مسألة: (وكذلك إن أقَر بمالٍ) سواءٌ أقَرَّ بعَين أو دَينٍ؛ لأن شَرِيكَه إنَّما أذِنَ في التِّجارَةِ، وليس الإقْرارُ داخِلًا فيها (وقال القاضي: يُقْبَلُ إقْرارُه على مالِ الشَّرِكَةِ) لأنَّ للشَّرِيكِ أن يَشْتَرِيَ مِن غيرِ أن يُسَلِّمَ ¬

(¬1) في م: «صاحبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنَ في المَجْلِسِ، فلو لم يُقْبَلْ إقْرارُه بالثِّمَنِ لَضاعَتْ أمْوالُ النّاسِ وامْتَنَعُوا مِن مُعامَلَتِه، ولأنَّ ذلك مِمّا يُحْتاجُ إليه في البَيعِ، أشْبَهَ الإقْرارَ بالعَيبِ.

2061 - مسألة: (وعلى كل واحد منهما أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه؛ من نشر الثوب وطيه، وختم الكيس وإحرازه)

وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَلَّى مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَتَولَّاهُ؛ مِنْ نَشْرِ الثَّوْبِ وَطَيِّهِ، وَخَتْمِ الْكِيسِ وَإحْرَازِهِ. فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَالأجْرَةُ عَلَيهِ. وَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَأجِرَ مَنْ يَفْعَلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2061 - مسألة: (وعلى كلِّ واحِدٍ منهما أن يَتَوَلَّى ما جَرَتِ العادَةُ أن يَتَولّاه؛ مِن نَشْرِ الثَّوْبِ وطَيِّه، وخَتْمِ الكِيسِ وإحْرازِه) لأنَّ إطْلاقَ الإذْنِ يُحْمَلُ على الغُرْفِ، والغُرْفُ أنَّ هذه الأُمُورَ يَتَوَلَّاها بنَفْسِه (فإنِ اسْتَأْجَرَ مَن يَفْعَل ذلك، فالأُجْرَةُ عليه) في مالِه؛ لأنَّه بَذَلَها عِوَضًا عمّا يَلْزَمُه (وما جَرَتِ العادَةُ أن يَسْتَنِيبَ فيه) كحَمْلِ المَتاعِ، ووَزْنِ ما يُنْقَلُ، والنِّداءِ (فله أن يَسْتَأْجِرَ مَن يَفْعَلُه) مِن مالِ القِراضِ؛ لأنَّه الغُرْفُ.

2062 - مسألة: (فإن فعله ليأخذ أجرته، فهل له ذلك؟ على وجهين)

فَإنْ فَعَلَهُ لِيَأْخُذَ أُجْرَتَهُ، فَهَلْ لَهُ ذَلكَ؟ عَلَى وَجْهَينِ. فَصْلٌ: وَالشُّرُوطُ في الشَّرِكَةِ ضَرْبَانِ؛ صَحِيحٌ، مِثْلَ أَنْ يَشْترِطَ أَلَّا يَتَّجِرَ إلَّا في نَوْعٍ مِنَ الْمَتَاعِ، أوْ بَلَدٍ بِعَينِهِ، أوْ لَا يَبِيعَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2062 - مسألة: (فإن فَعَلَه ليَأْخُذَ أُجْرَتَه، فهل له ذلك؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، لا يَسْتَحِقُّها. نَصَّ عليه؛ لأنَّه تَبَرَّعَ بما لم يَلْزَمْه، فلم يَكُنْ له أجْرُ ذلك (¬1)، كالمَرْأةِ التي تَسْتَحِقُّ على زَوْجِها خادِمًا إذا خَدَمَتْ نَفْسَها. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ له الأُجْرَةَ؛ لأنَّه فَعَل ما يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ فيه، فاسْتَحَقَّها، كالأجْنَبِيِّ. فصل: قال المُصَنِّفُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (والشُّرُوطُ في الشَّرِكَةِ ضَرْبانِ؛ صَحِيحٌ، مِثْلَ أن يَشْتَرِطَ أن لا يَتَّجِرَ إلَّا في نَوْعٍ مِن المَتاعِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

إلَّا بِنَقْدٍ مَعْلُومٍ، أوْ لَا يُسَافِرَ بِالْمَالِ، وَلَا يَبِيعَ إلَّا مِنْ فُلَانٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بَلَدٍ بعَينِه، أوْ لا يبيعَ إلَّا بنَقْدٍ مَعْلُوم، أو لا يُسافِرَ بالمالِ، أو لا يَبِيعَ إلَّا مِن فُلانٍ) أو لا يَشْتَرِيَ إلَّا مِن فُلانٍ. فهذا كلُّه صَحِيحٌ، سَواءٌ كان النَّوْعُ مِمّا يَعُمُّ وُجُودُه أو لا يَعُمُّ، أو الرجلُ مِمّا يَكْثُرُ عندَه المَتاعُ أو يَقِلُّ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ: إذا شَرَط أن لا يَشْتَرِيَ إلَّا مِن رجل بعَينِه، أو سِلْعَةً بعَينِها، أو ما لا يَعُمُّ وُجُودُه، كالياقُوتِ الأحْمَرِ، والخَيلِ البُلْقِ (¬1)، لم يَصِحّ؛ لأنَّه يُفَوِّتُ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ والمُضارَبَةِ، وهو التَّقَلُّبُ وطَلَبُ الرِّبْحِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَط أن لا يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ إلَّا بِن فلانٍ، أو أن لا يَبِيع إلَّا بمِثْلِ ما اشْتَرَى به. ولَنا، أنَّها شَرِكَة خاصَّةٌ، لا تَمْنَعُ الرِّبْحَ بالكُلِّيةِ، فصَحَّتْ، كما لو شَرَط أن لا يَتَّجِرَ إلَّا في نَوْعٍ يَعُمُّ وُجُودُه، ولأنَّه عَقْدٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُه بنَوْعٍ، ¬

(¬1) الأبلق من الخيل: ما فيه سواد وبياض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصَحَّ تَخْصِيصُه في رجل بعَينِه، وسِلْعَةٍ بعَينِها، كالوَكالةِ. قَوْلُهم: إنَّه يَمْنَعُ المَقْصُودَ. مَمْنُوعٌ، وإنَّما يُقَلِّلُه، وتَقْلِيلُه لا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كتَخْصِيصِه بالنَّوْعِ. ويُفارِقُ إذا شَرَط أن لا يَبِيعَ إلَّا برَأسِ المالِ، فإنَّه يَمْنَعُ الرِّبْحَ بالكُلِّيَّةِ. وكذلك إذا قال: لا تَبعْ إلَّا مِن فُلانٍ، ولا تَشْتَرِ إلَّا منه. فإنَّه يَمْنَعُ الرِّبْحَ أيضًا؛ لأنَّه لا يَشْتَرِي ما باعَه إلَّا بدُونِ ثَمَنِه الذي باعَه به، ولهذا لو قال: لا تَبعْ إلَّا مِمَّن اشَرَيتَ منه. لم يَصِحَّ؛ لذلك (¬1). ¬

(¬1) في ق: «كذلك».

2063 - مسألة: (وفاسد، مثل أن يشترط ما يعود بجهالة الربح، أو ضمان المال، أو أن عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله، أو أن يوليه ما يختار من السلع، أو يرتفق بها، أو)

وَفَاسِدٌ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا يَعُودُ بِجَهَالةِ الرِّبْحِ، أوْ ضَمَانِ الْمَالِ، أوْ أنَّ عَلَيهِ بِنَ الْوَضِيعَةِ أكْثَرَ مِنْ قَدْرِ مَالِهِ، أوْ أنْ يُوَلِّيَهُ مَا يَخْتَارُ مِنَ السِّلَعِ أوْ يَرْتَفِقَ بِهَا، أو لَا يَفْسَخَ الشَّركَةَ مُدَّةً بِعَينهَا. فَمَا يَعُودُ بجَهَالةِ الرِّبْحِ، يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَيُخرَّجُ في سَائِرِهَا رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2063 - مسألة: (وفاسدٌ، مثلَ أن يَشْتَرِطَ ما يَعُودُ بجَهالةِ الرِّبْحِ، أو ضَمانِ المالِ، أو أنَّ عليه مِن الوَضِيعَةِ أكثَرَ مِن قَدْرِ مالِه، أو أن يُوَلِّيَه ما يَخْتارُ مِن السِّلَعِ، أو يَرْتَفِقَ بها، أو) أن (لا يَفْسَخَ الشَّرِكَةَ مُدَّةً بعَينِها. فما يَعُودُ بِجَهالةِ الرِّبْحِ، يَفْسُدُ به العَقْدُ، ويُخَرَّجُ في سائِرِها رِوَايتَان) الشّرُوطُ الفاسِدَةُ في الشَّرِكَةِ والمُضارَبَةِ تَنْقَسِمُ ثَلاثَةَ أقْسامٍ؛ أحَدُها، ما يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، مثلَ أن يَشْتَرِطَ لُزُومَ المُضارَبَةِ، أو لا يَعْزِلَه مُدَّةً بعَينِها، أو لا يَبِيعَ إلَّا برَأسِ المالِ أو أقلَّ، أو لا يَبِيعَ إلَّا مِمَّن اشْتَرَى منه، أو شَرَطَ أن لا يَشْتَرِيَ، أو لا يَبِيعَ، أو أن يُوَلِّيَه ما يَخْتارُ مِن السِّلَعِ، أو نحوَ ذلك، فهذه شُرُوط فاسِدَةٌ؛ لأنَّها تُفَوِّتُ المَقْصُودَ مِن المُضارَبَةِ، وهو الرِّبْحُ، أو تَمْنَعُ الفَسْخَ الجائِزَ بحُكْمِ الأصْل. القِسْمُ الثّانِي، ما يَعُودُ بجَهالةِ الرِّبْحِ، مثلَ أن يَشْرُطَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُضارِب (¬1) جُزْءًا مِن الرِّبْحِ مَجْهُولًا، أو رِبْحَ أحَدِ الكِيسَين، أو أحَدِ الألْفَينِ، أَو أحَدِ العَبْدَين، أو أحَدِ السَّفْرَتَين، أو ما يَرْبَحُ في هذا الشَّهْرِ، أو أنَّ حَقَّ أحَدِهما في عَبْدٍ يَشْتَرِيه، أو يَشْرُطَ لأحَدِهما دَراهِمَ مَعْلُومَةً بجَمِيعِ حَقِّه أو ببَعْضِه، فهذه شرُوط فاسِدَةٌ؛ لأنَّها تُفضِي إلى جَهْلِ حَقِّ كلِّ واحِدٍ منهما مِن الرِّبْحِ، أو إلى فَواتِه بالكُلِّيَّةِ، ومِن شَرْطِ المُضارَبَةِ والشَّرِكَةِ كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا. القِسْمُ الثّالِثُ، اشْتِراطُ ما ليس مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ ولا مُقْتَضاه، مِثْلَ أن يَشْتَرِطَ على المُضارِبِ المُضارَبَةَ له في مالٍ آخَرَ، أو يَأخُذَه بضاعَةً، أو قَرْضًا، أو أن يَخْدِمَه في شيءٍ بعَينِه، أو يَرْتَفِقَ ببَعْضِ السِّلَعِ، مثلَ أن يَلْبَسَ الثَّوْبَ، ويَسْتَخْدِمَ العَبْدَ، أو يَشْرُطَ على المُضارِبِ ضَمانَ المالِ، أو سَهْمًا مِن الوَضِيعَةِ، أو أنَّه متى باعَ السِّلْعَةَ فهو أحَقُّ بها بالثَّمَنِ، أو شَرَطَ المُضارِبُ على رَبِّ المالِ شيئًا مِن ذلك، فهذه كُلُّها شُرُوطٌ فاسِدَةٌ، وقد ذَكَرْنا بعضَها في غيرِ هذا المَوْضِعِ مُعَلَّلًا. ومتى اشْتَرَطَ شَرْطًا فاسِدًا يَعُودُ بجَهالةِ الرِّبْحِ، فسَدَتِ المُضارَبَةُ والشَّرِكَةُ؛ لأنَّ الفَسادَ لمَعْنًى (¬2) في العِوَضِ المَعْقُودِ عليه، فأفْسَدَ العَقْدَ، كما لو جَعَل رَأسَ المالِ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا، ولأنَّ الجَهالةَ تَمْنَعُ مِن التَّسْلِيمِ، فيُفْضِي إلى التَّنازُعِ والاخْتِلافِ، ولا يَعْلَمُ ما يَدْفَعُه إلى المُضارِبِ. وما عَدا هذا مِن الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ ¬

(¬1) في الاصل، ر 1، ق: «المضارب». (¬2) في الأصل: «معنى».

2064 - مسألة: (وإذا فسد العقد، قسم الربح على قدر المالين)

وإذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، قُسِمَ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالينِ. وَهَلْ يَرْجِعُ أَحدُهُمَا بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أظْهَرِ الرِّوَايَتَين عنه، أنَّ العَقْدَ صَحِيحٌ. ذَكَرَه عنه الأثْرَمُ وغيرُه، ولأنَّه عَقْدٌ يَصِحُّ على مَجْهُولٍ، فلم تُبْطِلْه الشُّرُوطُ الفاسِدَةُ، كالنِّكاحِ والعَتاقِ. وفيه رِوايَةْ أُخْرَى، أنَّ العَقْدَ يَبْطُلُ. ذَكَرَها القاضي، وأبو الخَطّابِ؛ لأنه شَرْطٌ فاسِدٌ، فأبطَلَ العَقْدَ، كالمُزارَعَةِ إذا شُرِط البَذْرُ مِن العامِلِ، وكالشرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ، [ولأنَّه إنَّما رَضِيَ بالعَقْدِ بهذا الشَّرْطِ، فإذا فَسَد فات الرِّضا به] (¬1). ودَلِيلُ فَسادِ هذه الشُّرُوطِ، أنَّها لَيسَت مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ، ولا يَقْتَضِيها العَقْدُ، فإنَّ مَقْصُودَه الرِّبْحُ، فكيفَ يَقْتَضِي الضمانَ ولا يَقْتَضِي مُدَّةً مُعَيَّنَةً لأنَّه جائِزٌ؟ 2064 - مسألة: (وإذا فَسَد العَقْدُ، قُسِمَ الرِّبْحُ على قَدْرِ المالين) لأن التَّصَرُّفَ صَحِيحٌ، لكَوْنِه بإذْنِ رَبِّ المالِ، والوَضِيعَةُ عليه؛ لأنَّ كلُّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدٍ لا ضَمانَ في صَحِيحِه لا ضَمانَ في فاسِدِه. ويُقْسَمُ الرِّبْحُ على قَدْرِ المالين؛ لأنَّه نَماءُ المالِ، ويَرْجِعُ كلُّ واحِدٍ منهما على الآخَرِ بأُجْرَةِ عَمَلِه، يُسْقِطُ منها أُجْرَةَ عَمَلِه في مالِه، ويَرْجِعُ على الآخَرِ بقَدْرِ ما بَقِيَ له. فإن تَساوَى مالاهُما وعَمَلُهُما، تَقاصَّ الدَّينان، واقْتَسَما الرِّبْحَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفَين. وإن فَضَل أحَدُهما صاحِبَه بفَضْلٍ (¬1)، تَقاصَّ دَينُ القَلِيلِ بمِثْلِه، ويَرْجِعُ على الآخَرِ بالفَضْلِ. والوَجْهُ الثّانِي، ذَكَرَه الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر، أنَّهما يَقْتَسِمان الرِّبْحَ على ما شَرَطاه؛ لأنَّه عَقْدٌ يَجُوزُ أن يَكُونَ عِوَضُه مَجْهُولًا، فوَجَبَ المُسَمَّى في فاسِدِه، كالنِّكاحِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والشَّرِكَةُ مِن العُقُودِ الجائِزَةِ، تَبْطُل بمَوْتِ أحَدِ الشَّرِيكَين، وجُنُونِه، والحَجْرِ عليه للسَّفَهِ، وبالفَسْخِ مِن أحَدِهما؛ لأنَّه عَقْدٌ جائِزٌ، فبَطَلَتْ بذلك، كالوَكالةِ وإن عَزَل أحَدُهما صاحِبَه، انْعَزَلَ المَعْزُولُ، فلم يَكنْ له أن يَتَصَرفَ إلَّا في قَدْرِ نَصِيبِه، وللعازِلِ التَّصَرُّفُ في الجَمِيعِ؛ لأنَّ المَعْزُولَ لم يرجِعْ عن إذْنِه، هذا إذا نضَّ (¬1) المالُ. وإن كان عَرْضًا، فذَكَرَ القاضي أن ظاهِرَ كَلامِ أحمدَ، أنَّه لا يَنْعَزِلُ بالعَزْلِ، وله التَّصَرُّفُ حتى يَنِضَّ المالُ، كالمُضَارِبِ إذا عَزَلَه رَبُّ المالِ، ويَنبغِي أن يَكُونَ له التَّصَرُّفُ بالبَيعِ دُونَ المُعاوضَةِ بسِلْعَةٍ أُخْرَى، أو التَّصَرُّف بغيرِ ما يَنِضُّ به المالُ. وذَكَر أبو الخَطّابِ أنَّه يَنْعَزِلُ مُطْلَقًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، قِياسًا على الوَكالةِ. فعلى هذا، إنِ اتَّفَقا على البَيعِ أو القِسْمَةِ، فعَلا. وإن طَلَب أحَدُهما القِسْمَةَ والآخَرُ البَيعَ، قسِمَ ولم يُبعَ. فإن قِيلَ: ألَيس إذا فَسَخ رَبُّ المالِ المُضارَبَةَ، فطَلَبَ العامِلُ البَيعَ، أُجِيبَ إليه.؟ فالجَواب أنَّ حَقَّ العامِلِ في الرِّبْحِ، ولا يَظْهَر إلَّا بالبَيعِ، فاسْتَحَقَّه العامِلُ؛ لوُقُوفِ ¬

(¬1) نَضَّ المال: أي صار عينًا بعد أن كان متاعًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُصُولِ حَقِّه عليه. وفي مَسْألَتِنا ما يَحْصُلُ مِن الرِّبْحِ يَسْتَدْرِكُه كلُّ واحِدٍ منهما في نَصِيبِه مِن المَتاعِ (¬1)، فلم يُجْبَرْ عليه (¬2). قال شيخُنا (¬3): وهذا إنَّما يَصِحُّ إذا كان الرِّبْحُ على قَدْرِ المالين، أمّا إذا زاد رِبْحُ أحَدِهما عن مالِه، فإنَّه لا يَسْتَدْرِكُ رِبْحَه بالقِسْمَةِ، فيَتَعَيَّنُ البَيعُ، كالمُضارَبَةِ. فصل: إذا مات أحَدُ الشَّرِيكَين وله وارِثٌ رَشِيدٌ، فله أن يُقِيمَ على الشَّرِكَةِ، ويَأْذَنُ له الشَّرِيكُ في التَّصَرُّفِ، ويَأذَنُ للشَّرِيكِ في التَّصَرُّفِ (¬4)؛ لأنَّ هذا إتمامٌ للشَّرِكَةِ، وليس بابْتِدائِها، فلا تُعْتَبَرُ شُرُوطُها، وله المُطالبَةُ بالقِسْمَةِ، فإن كان مُوَلَّيًا عليه، قام وَلِيُّه مَقامَه في ذلك، إلَّا أنَّه لا يَفْعَلُ إلَّا ما فيه المَصْلَحَةُ للمُوَلَّى عليه. فإن كان المَيِّتُ قد وَصَّى بمالِ الشَّرِكَةِ أو ببَعْضِه لمُعَيَّنٍ، فالمُوصَى له كالوارِثِ فيما ذَكَرْنا. وإن وَصَّى به لغيرِ مُعَيَّنٍ، كالفُقَراءِ، لم يَجُزْ للوَصِيِّ (¬5) الإذْنُ ¬

(¬1) في الأصل: «المبدع». (¬2) في م: «على البيع». (¬3) انظر: الكافي 2/ 259. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «للموصى».

فَصْلٌ: الثَّانِي، الْمُضَارَبَةُ؛ وَهِيَ أنْ يَدْفَعَ مَالهُ إِلَى آخَرَ يَتَّجِرُ فِيهِ وَالرِّبْحُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه قد وَجب دَفْعُه إليهم، فيَعْزِلُ نَصِيبَه، ويُفَرِّقُه عليهم، فإن كان على المَيِّتِ دَينٌ (¬1) تَعَلَّقَ بتَرِكَتِه، فليس للوارِثِ إمْضاءُ الشَّرِكَةِ حتى يَقْضِيَ دَينَه، فإن قَضاه مِن غيرِ مالِ الشَّرِكَةِ، فله الإِتْمامُ، وإن قَضَاه منه، بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ في قَدْرِ ما قَضَى. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ تعالى: (الثّانِي، المُضارَبَةُ؛ وهي أن يَدْفَعَ ماله إلى آخَرَ يَتَّجِرُ فيه والرِّبْحُ بينَهما) فأهْلُ العِراقِ يُسَمُّونَه مُضارَبَةً، مَأْخُوذٌ مِن الضَّرْبِ في الأرْضِ، وهو السَّفَرُ فيها للتِّجارَةِ، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2). ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ مِن ضَرْبِ كلِّ واحِدٍ منهما بسَهْمٍ في الرِّبْحِ. ويُسَمِّيه أهْلُ الحِجازِ القِرَاضَ (¬3). قِيل: هو مُشْتَقٌّ مِن القَطْعِ. يُقالُ: قَرَض الفَأْرُ الثَّوْبَ. إذا قَطَعَه، فكأنَّ صاحِبَ المالِ اقْتَطَعَ مِن مالِه قِطْعَةً وسَلَّمَها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المزمل 20. (¬3) في الأصل، ر، ق: «القرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى العامِلِ، واقْتَطَعَ له قِطْعَةً مِن الرِّبْحِ. وقِيلَ: اشْتِقاقُه مِن المُساواةِ والمُوازَنَةِ. يُقالُ: تَقارَضَ الشّاعِران. إذا وازَنَ كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ بشِعْرِه. وههُنا مِن العامِلِ العَمَلُ، ومِن الآخَرِ المالُ، فتَوازَنا. ويَنْعَقِدُ بلَفْظِ المُضارَبَةِ والقِراضِ، وبكلِّ ما يُؤدِّى مَعْناهما؛ لأنَّ القَصْدَ المَعْنَى، فجاز بكلِّ ما دَلَّ عليه، كالوَكالةِ. وهي مُجْمَعٌ على جَوازِها في الجُمْلَةِ. ذَكَرَه ابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَ عن حُمَيدِ بن عبدِ اللهِ، عن أبيه، عنٍ جَدِّه، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ، رَضِيَ الله عَنه، أعْطاه مال يَتِيمٍ مُضَارَبَةً يَعْمَلُ به في العِرَاقِ (¬1). وروَى مالِكٌ (¬2)، عن زَيدِ بن أسْلَمَ، عن أبِيه، أنَّ عبدَ اللهِ وعُبَيدَ اللهِ، ابْنَيْ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ الله عَنهم، خَرَجَا في جَيشٍ إلى العِراقِ، فتَسَلَّفا مِن أبي مُوسَى مالًا وابْتاعا به مَتاعًا، وقَدِما به إلى المَدِينَةِ، فباعاه وَرَبِحا فيه، فأرادَ عُمَرُ أخْذَ رَأْسِ المالِ والرِّبْحِ كلِّه، فقال: لو تَلِف كان ضَمانُه علينا، فلمَ لا يكُونُ رِبْحُه لَنا؟ فقال رجلٌ: يا أمِيرَ المُؤْمِنين، لو جَعَلْتَه قِراضًا. قال: قد جَعَلْتُه. وأخَذَ ¬

(¬1) أخرج نحوه البيهقي، في: باب تجارة الوصى بمال اليتيم أو إقراضه، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 2، 3. (¬2) في: باب ما جاء في القراض، من كتاب القراض. الموطأ 2/ 687.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما نِصْفَ الرِّبْحِ. وهذا يَدُلُّ على جَوازِ القِراضِ. وعن مالكٍ (¬1)، عن العَلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ عُثمانَ، رَضِيَ الله عنه، قارَضَه. وعن قَتادةَ، عن الحَسَنِ، أنَّ عَليًّا، رضِيَ اللهُ عنه، قال: إذا خالفَ المُضارِبُ فلا ضَمانَ، هما على ما شَرَطا. وعن ابنِ مَسْعُودٍ، وحَكِيمِ بنِ حِزام، أنَّهما قارَضا، ولم يُعْرَفْ لهما في الصَّحابَةِ مُخالِفٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّ بالنّاس حاجَةً إلى المُضارَبَةِ، فإنَّ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ لا تُنَمَّى إلَّا بالتَّقْلِيبِ والتِّجارَةِ، وليس كلُّ مَن يَمْلِكُها يُحْسِنُ التِّجارَةَ، ولا كلُّ مَن يُحْسِنُ التِّجارَةَ له مالٌ، فاحْتِيجَ إليها مِن الجانِبَينِ. فشُرِعَتْ لدَفْعَ الحاجَتَين. فصل: ومِن شَرْطِ صِحَّتِها تَقْدِيرُ نَصِيبِ العامِلِ؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّه بالشَّرْطِ، فلم يُقَدَّرْ إلَّا به. فلو قال: خُذْ هذا المال مُضارَبَةً. ولم يَذْكُرْ سَهْمَ العامِلِ، فالرِّبْحُ كلُّه لرَبِّ المالِ، والوَضِيعَةُ عليه، وللعامِلِ أجْرُ مِثْلِه. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال الحَسَنُ، وابنُ سِيرِينَ، والأوْزاعِيُّ: الرِّبْحُ بينَهما نِصْفَين. كما لو قال: والرِّبْحُ بينَنا. فإنَّه يَكُون بينَهما نِصْفَين. كذا هذا. ولَنا، أنَّ المُضارِبَ إنَّما يَسْتَحِقُّ بالشَّرْطِ، ولم يُوجَدْ. وقَوْلُه: ¬

(¬1) في الموضع السابق.

2065 - مسألة: (فإن قال: خذه فاتجر به، والربح كله لي. فهو إبضاع)

فَإنْ قَال: خُذْهُ، فَاتَّجِرْ بِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي. فَهُوَ إبْضَاعٌ. وَإنْ قَال: وَالرِّبحُ كُلُّهُ لَكَ. فَهُوَ قَرْضٌ. وَإنْ قَال: وَالرِّبْحُ بَيننَا. فَهُوَ بَينَهُمَا نِصْفينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُضارَبَةً. اقْتَضَى أنَّ له جُزْءًا مِن الرِّبْحِ مَجْهُولًا، فلم تَصِحَّ المُضارَبَةُ، كما لو قال: ولك جُزْءٌ مِن الرِّبْحِ. فأمَّا إذا قال: الرِّبْحُ بينَنا. فإنَّ المُضارَبَةَ تَصِحُّ، وتَكُونُ بينَهما نِصْفَين؛ لأنَّه أضافَه إليهما إضافةً واحِدَةً، لم يَتَرَجَّحْ فيها أحَدُهما على الآخَرِ، فاقْتَضَى التَّسْويَةَ، كما لو قال: هذه الدّارُ بيني وبينَك. 2065 - مسألة: (فإن قال: خذْه فاتَّجرْ به، والرِّبْحُ كلُّه لي. فهو إبْضاعٌ) لأنهَّ قرَن به حُكمَ الإبْضاعِ، فانصَرَف إليه. [فإن قال مع ذلك: وعليك ضَمانُه. لم يَضْمَنْه؟ لأنَّ العَقْدَ يَقتَضِي كَوْنَه أمانَةً غيرَ مَضْمُونَةٍ، فلا يَزُولُ ذلك بشَرْطِه] (¬1). 2066 - مسألة: (وإن قال: والرِّبْحُ كلُّه لك. فهو قَرْضٌ) لا قِراضٌ؛ لأنَّ قَوْلَه: خُذْه فاتَّجِرْ به. يَصْلُحُ لهما، وقد قَرَن به حُكْمَ القَرْضِ، فانْصَرَفَ إليه. وإن قال مع ذلك: ولا ضَمانَ عليك. فهو قَرْضٌ شُرِطَ فيه نَفْيُ الضَّمانِ، فلا يَنْتَفِي بشَرْطِه، كما لو صَرَّحَ به، فقال: خُذْ هذا قَرْضًا ولا ضَمانَ عليك. 2067 - مسألة: (وإن قال: والرِّبْحُ بينَنا. فهو بينَهما نِصْفَين) لِمَا (¬2) ذكرنا (1). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «كما».

2068 - مسألة: (وإن قال: خذه مضاربة، والربح كله لك أو لي. لم يصح)

وَإنْ قَال: خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ أوْ لِيَ. لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2068 - مسألة: (وإن قال: خُذُه مُضارَبَةً، والرِّبْحُ كلُّه لك أو لي. لم يَصِحَّ) وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال: والرِّبْحُ كلُّه لي. كان إبْضاعًا صَحِيحًا؛ لأنَّه أثْبَتَ له حُكْمَ الإِبْضاعِ، فانْصَرَف إليه. كما لو قال: اتَّجِرْ به والرِّبْحُ كلُّه لي. وقال مالكٌ: يَكُونُ مُضارَبَةً صَحِيحَةً في الصُّورَتَين؛ لأنَّهما دَخَلا في القِراضِ، فإذا شَرَطَه لأحَدِهما فكأنَّه وَهَب الآخرَ نَصِيبَه، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ العَقْدِ. ولَنا، أنَّ المُضارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ بينَهما، فإذا شَرَط اخْتِصاصَ أحَدِهما بالرِّبْحِ فقد شَرَط ما يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، ففَسَدَ، كما لو شَرَط الرِّبْحَ كلَّه في شرِكَةِ العِنَانِ لأحَدِهما. ويُفارِقُ ما إذا لم يَقُلْ مُضارَبَةً؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِما أثْبَتَ حُكْمَه مِن الإبْضاعِ والقَرْضِ، بخِلافِ ما إذا صرَّحَ بالمُضارَبَةِ. وما ذَكَرَه مالكٌ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الهِبَةَ لا تَصِحُّ قبلَ وُجُودِ المَوْهُوبِ.

2069 - مسألة: (وإن قال: لك ثلث الربح. صح، والباقي لرب المال)

وَإنْ قَال: لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ. صَحَّ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ. وَإنْ قَال: وَلِي ثُلُثُ الرِّبْحِ. فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2069 - مسألة: (وإن قال: لك ثُلُثُ الرِّبْحِ. صَحَّ، والباقِي لِرَبِّ المالِ) إذا قَدَّرَ نَصِيبَ العامِلِ، فقال: لك ثُلُثُ الرِّبْح -أو- رُبْعُه -أو جُزْءُ مَعْلُومٌ. صَحَّ، والباقِي لرَبِّ المال؛ لأنُّه يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بمالِه؛ لكَوْنِه نَماءَه وفَرْعَه، والعامِلُ يَأْخُذُ بالشَّرْطِ، فما شُرِط له اسْتَحَقَّه، وما بَقِي فلرَبِّ المالِ بحُكْمِ الأصْلِ. 2070 - مسألة: (وإن قال: ولي ثُلُثُ الرِّبْحِ) ولم يَذْكُرْ نَصِيبَ العامِلِ، ففيهْ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ العامِلَ إنَّما يَسْتَحِقُّ بالشَّرْط، ولم يُشْتَرَطْ له شيءٌ، فتَكُونُ المُضارَبَةُ فاسِدَةً. والثاني، يَصِبحُّ، ويَكُونُ الباقِي للعامِلِ. وهو قولُ أبِي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّ الرِّبْحَ لا يَسْتَحِقُّه غيرُهما، فإذا قُدِّرَ نَصِيبُ أحَدِهما منه فالباقِي للآخَرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَفْهُومِ اللَّفْظِ، كما عُلِمَ ذلك مِن قَوْلِه تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬1). ولم يَذْكُرْ نَصِيبَ الأبِ، فعُلِمَ أنَّ الباقِيَ له. ولأنَّه لو قال: أوْصَيتُ بهذه المائَةِ لزَيدٍ وعَمْرٍو، ونَصِيبُ زَيدٍ منها ثَلاُثون. زكان الباقِي لعَمْرٍو، وكذا ها هنا، وهذا أصَحُّ إن شَاءَ الله تَعالى. فصل: فإن قال: لي النِّصْفُ ولك الثُّلُثُ. وسَكَت عن الباقي، صَحَّ، وكان لرَبِّ المالِ؛ لأنَّه لو سَكَت عن جَميعِ الباقِي بعدَ جُزْءِ العامِلِ كان لرَبِّ المالِ، فكذا إذا ذَكَر البعضَ وتَرَك البعضَ. وإن قال: خُذْه مُضارَبَةً على الثُّلُثِ. أو قال: بالثُّلُثِ. صَحَّ، وكان تَقْدِيرُ النَّصِيبِ للعامِلِ؛ لأنَّ الشَّرْطَ يُرادُ لأجْلِه؛ لأنَّ رَبَّ المالِ يَسْتَحِقُّ بمالِه لا بالشَّرْطِ، والعامِلُ يَسْتَحِقُّ بالعَمَلِ، وهو يَقِلُّ ويَكْثُرُ، وإنَّما تَتَقَدَّرُ حِصَّتُه بالشَّرْطِ، فكان الشَّرْطُ له. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) سورة النساء 11.

2071 - مسألة: (وإن اختلفا)

وَإنِ اخْتَلَفَا، لِمَنِ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ؟ فَهُوَ لِلْعَامِلِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2071 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا) في (الجُزْءِ المَشْرُوطِ، فهو للعامِلِ) قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا؛ لِما ذَكَرْنا، واليَمِينُ على مُدَّعِيه؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ خِلافَ ما قاله، فتَجِبُ اليَمِينُ لنَفْي الاحْتِمالِ، كما تَجِبُ على المُنْكِرِ لنَفْي ما يَدَّعِيه المُدَّعِي. 2072 - [مسألة: (وكذلك حُكْمُ المُساقاةِ والمُزارَعَةِ) قِياسًا عليها] (¬1). فصل: وإن قال: خُذْه مُضارَبَةً ولك ثُلُثُ الرِّبْحِ وثُلُثُ ما بَقِيَ. صَحَّ، وله خَمْسَةُ أتْساعِ (¬2) الرِّبْحِ؛ لأنَّ هذا مَعْناه. وإن قال: لك ثُلُثُ الرِّبْحِ ورُبْعُ ما بَقِيَ. فله النِّصْفُ. وإن قال: لك رُبْعُ الرِّبْحَ ورُبْعُ ما بَقِيَ. فله ثَلاثةُ أثْمانٍ ونِصْفُ ثُمْنٍ. وسواءٌ عَرَفا الحسابَ أو جَهِلاه؛ لأنَّ ذلك أجْزاءٌ مَعْلُومَةٌ مُقَدَّرَةٌ، أشْبَهَ ما لو شَرَط الخُمْسَين. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ كمَذْهَبِنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أسباع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أن يَدْفَعَ مالًا إلى اثْنَين مُضارَبَةً في عَقدٍ واحِدٍ. فإن شَرَط لهما جُزْءًا مِن الرِّبْحِ بينَهما نِصْفَين، صَحَّ. وإن قال: لكما (¬1) كذا وكذا مِن الرِّبْحِ. ولم يُبيِّنْ كيف هو بينَهما، فهو بينَهما نِصْفان؛ لأنَّ إطْلاقَ قَوْلِه: لكما. يَقْتَضِي التَّسْويَةَ، كما لو قال لعامِلِه: الرِّبْحُ بينَنا. وإن شَرَط لأحَدِهما ثُلُثَ الرِّبْحِ، وللآخَرِ رُبْعَه والباقِيَ له، جاز. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّهما شَرِيكان (¬2) في العَمَلِ بأبْدانِهما، فلم يَجُزْ تَفاضُلُهما في الرِّبْحِ، كشَرِيكَي الأبْدانِ. ولَنا، أنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَقْدان، فجاز أن يَشْتَرِطَ في أحَدِهما أكْثَرَ مِن الآخَرِ، كما لو انْفَرَدا. ولأنَّهما يَسْتَحِقّان بالعَمَلِ وهما يَتَفَاضَلان، فجاز تَفاضُلُهما في العِوَضِ، كالأجِيرَين. وشَرِكَةُ الأبْدانِ كمَسْألَتِنا لا يَجِبُ التَّساوي فيها، ثم الفَرْقُ بينَهما أنَّ ذاك عَقْدٌ واحِدٌ وهذان عَقْدان. فصل: وإن قارَضَ اثْنانِ واحِدًا بألْفٍ (¬3) لهما، جاز. فإن شَرَطا له رِبْحًا مُتَساويًا بينهما (¬4)، جاز. وكذلك إن شَرَط أحَدُهما له النِّصْفَ، والآخَرُ الثُّلُثَ، ويَكُون باقِي رِبحِ مالِ كلِّ واحِدٍ منهما له. وإن شَرَطا كَوْنَ الباقِي مِن الرِّبْحِ بينَهما نِصْفين، لم يَجُزْ. وهذا مُذْهَبُ الشافعيِّ. وكَلامُ القاضي يَقْتَضِي جَوازَه. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، وأبي ¬

(¬1) في م: «لك». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، ر، ق: «منهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَوْرٍ. ولَنا، أنَّ أحَدَهما يَحْصُلُ له مِن رِبْحِ مالِه النِّصْفُ، والآخَرَ الثُّلُثان، فإذا شَرَطَا (¬1) التَّساويَ فقد شَرَط أحَدُهما للآخَرِ جُزْءًا مِن رِبْحِ مالِه بغيرِ عَمَل، فلم يَجُزْ، كما لو شَرَط رِبْحَ مالِه المُنْفَرِدِ. فصل: إذا شَرَطَا جُزْءًا مِن الرِّبْحِ لغيرِ العامِلِ نَظَرْتَ؛ فإن شَرَطاه لعَبْدِ أحَدِهما أو لعَبْدَيهما، صَحَّ، وكان مَشْرُوطًا لسَيِّدِه. فإذا جَعَلا الرِّبْحَ بينَهما وبينَ عبدِ أحَدِهما أثْلاثًا، كان لصاحِبِ العَبْدِ الثُّلُثان، وللآخرِ الثُّلُثُ. وإن شَرَطاه لأجْنَبِيٍّ، أو لوَلَدِ أحَدِهما، أو امْرَأَتِه، أو قَرِيبِه، وشَرَطا عليه عَمَلًا مع العامِلِ، صَحَّ، وكانا عامِلَين. وإن لم يَشْرُطا عليه عَمَلًا، لم تَصِحَّ المُضارَبَةُ. وبه قال الشافعيُّ. وحُكِيَ عن أصْحابِ الرَّأْي أنَّه يَصِحُّ، والجُزْءُ المَشْرُوطُ له لرَبِّ المالِ، سواءٌ شَرَط لقَرِيبِ العامِلِ أو قَرِيبِ رَبِّ المال أو لأجْنَبِيٍّ؛ لأنَّ العامِلَ لا يَسْتَحِقُّ إلا ما شُرِط له، ورَبُّ المالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بحُكْمِ الأصْلِ، والأجْنَبِيُّ لا يَسْتَحِقُّ شيئًا؛ لأنَّ الرِّبْحَ إنَّما يُسْتَحَقُّ بمالٍ أو عَمَلٍ، وليس له واحِدٌ منهما، فما شُرِط لا يَسْتَحِقُّه، فرَجَعَ إلى رَبِّ المالِ، كما لو تَرَك ذِكْرَه. ولَنا، أنَّه شَرْطٌ فاسِدٌ يَعُودُ إلى الرِّبْحِ، ففَسَدَ به العَقْدُ، كما لو شَرَط دَراهِمَ مَعْلُومَةً. وإن قال: لك الثُّلُثان، على أن تُعْطِيَ امْرَأتَك نِصْفَه. فكذلك؛ لأنَّه شَرَط في الرِّبْحِ شَرْطًا لا يَلْزَمُ، فكان فاسِدًا. والحُكْمُ في الشَّرِكَةِ كالحُكْمِ في المُضارَبَةِ، فيما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في م: «شرط».

2073 - مسألة: (وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله، وفيما يلزمه فعله، وفي الشروط)

وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِيمَا لِلْعَامِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أوْ لَا يَفْعَلَهُ، وَمَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ، وَفِي الشُّرُوطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2073 - مسألة: (وحُكْمُ المُضارَبَةِ حُكْمُ الشَّركَةِ فيما للعامِلِ أن يَفْعَلَه أو لا يَفْعَلَه، وفيما يَلْزَمُه فِعْلُه، وفي الشُّرُوطِ) كلُّ ما جاز للشَّرِيكِ عَمَلُه جاز للمُضارِبِ، وما مُنِعَ منه الشَّرِيكُ (¬1) مُنِع منه المُضارِبُ، وما اخْتُلِفَ فيه ثَمَّ، فَههُنا مِثْلُه، وما جاز أن يَكُونَ رَأْسَ مالِ الشَّرِكَةِ، جاز أن يَكُونَ رَأْسَ مالِ المُضارَبَةِ، وما لا يَجُوزُ ثَمَّ لا يَجُوزُ ههُنا، على ما فَصَّلْناه؛ لأنَّها في مَعْناها. ¬

(¬1) سقط من: م.

2074 - مسألة: (وإذا فسدت، فالربح لرب المال، وللعامل الأجرة. وعنه، له الأقل من الأجرة أو ما شرط له من الربح)

وَإنْ فَسَدَتْ، فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْعَامِلِ الأُجْرَةُ: وَعَنْهُ، لَهُ الْأَقَلُّ مِنَ الأُجْرَةِ أوْ مَا شُرِطَ لَهُ مِنَ الرِّبْحَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2074 - مسألة: (وإذا فَسَدَتْ، فالرِّبْحُ لرَبِّ المالِ، وللعامِلِ الأُجْرَةُ. وعنه، له الأقَلُّ مِن الأُجْرَةِ أو ما شُرِط له مِن الرِّبْحِ) الكَلامُ في المُضارَبَةِ الفاسِدَةِ في فُصُولٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُها، أنَّه إذا تَصَرّفَ العامِلُ، نَفَذ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه أَذِنَ فيه رَبُّ المالِ، فإذا بَطَل عَقْدُ المُضارَبَةِ، بَقِي الإذْنُ، فمَلَكَ به التَّصَرُّفَ، كالوَكِيلِ. فإن قِيلَ: فلو اشْتَرَى الرجلُ شِراءً فاسِدًا ثم تَصَرَّفَ فيه، لم يَنْفُذْ، مع أنّ البائِعَ قد أذِنَ له في التَّصَرُّفِ. قُلْنا: لأنَّ المُشْتَرِيَ يَتَصَرَّفُ مِن جِهَةِ المِلْكِ لا بالإِذْنِ، فإن أذِنَ البائِعُ، كان على أنَّه مِلْكُ المَأْذُونِ له، فإذا لم يَمْلِكْ، لم يَصِحَّ، وههُنا أذِنَ له رَبُّ المالِ في التَّصَرُّفِ في مِلْكِ نَفْسِه، وما شَرَط مِن الشَّرْطِ الفاسِدِ، فليس بمَشْرُوطٍ في مُقابَلَةِ الإِذْنِ؛ لأنَّه أذِنَ له في تَصَرُّفٍ يَقَعُ (¬1) له. ¬

(¬1) في م: «ما يقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَصْلُ الثّانِي، أنَّ الرِّبْحَ جَمِيعَه لرَبِّ المالِ؛ لأنَّه نَماءُ مالِه، وإنَّما يَسْتَحِقُّ العامِلُ بالشَّرْطِ، فإذا فَسَدَتِ المُضارَبَةُ فَسَد الشَّرْطُ، فلم يَسْتَحِقَّ به شيئًا، ولكنْ له أجْرُ مِثْلِه. نَصَّ عليه أحمدُ (¬1). وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. واخْتارَ الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ أنَّ الرِّبْحَ بينَهما على ما شَرَط له. واحْتَجَّ بما رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا اشْتَرَكا في العُرُوض، قُسِم الرِّبْحُ على ما شَرَطا. قال: وهذه شَرِكَةٌ فاسِدَةٌ. واحْتَجَّ بأنَّه عَقْدٌ يَصِحُّ مع الجَهالةِ، فيَثْبُتُ المُسَمَّى في فاسِدِه، كالنِّكاحِ. قال: [ولا أجْرَ] (¬2) له. وجَعَل أحْكامَها كأحْكام الصَّحِيحَةِ. وقد ذَكَرْنا ذلك. قال القاضي أبو يَعْلَى: والمَذْهَبُ ما حَكَينا، وكَلامُ أحمدَ مَحْمُولٌ على أنَّه صَحَّحَ الشَّرِكَةَ بالعُرُوضِ. وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه يَرْجِعُ إلى قِراضِ المِثْلِ. وحُكِيَ عنه، إن لم يَرْبَحْ، فلا أجْرَ له. ومُقْتَضَى هذا، أنَّه إن رَبِح فله الأقَلُّ مِمّا شَرَط له أو أجْرِ مِثْلِه. وعن أحمدَ مثلُ ذلك؛ لأنَّ الأُجْرَةَ إن كانت أكْثَرَ، فقد رَضِيَ بإسْقاطِ الزّائدِ منها عن المُسَمَّى، لرِضائِه به، وإن كانت أقَلَّ، لم يَسْتَحِقَّ أكْثَرَ منها؛ لفَسادِ التَّسْمِيَةِ بفَسادِ العَقْدِ، لأنَّه لو اسْتَحَقَّ أجْرَ المِثْلِ، لتَوَسَّلَ إلى فَسادِ العَقْدِ [إذا رأى] (¬3) الخُسْرانَ. والمَشْهُورُ الأوَّلُ؛ لأنَّ تَسْمِيَةَ الرِّبْحِ مِن تَوابِعِ المُضارَبَةِ أو رُكْنٌ مِن أرْكانِها، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «والأجر». (¬3) في م: «وأدى إلى».

2075 - مسألة: (وإن شرطا تأقيت المضاربة، فهل تفسد؟ على روايتين)

وَإنْ شَرَطَا تَأْقِيتَ الْمُضَارَبَةِ، فَهَلْ تَفْسُدُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَسَدَتْ، فَسَدَتْ أرْكانُها وتَوابِعُها، كالصلاةِ. ونَمْنَعُ وُجُوبَ المُسَمَّى في النِّكاحِ الفاسِدِ، وإذا لم يَجِبْ له المُسَمَّى، وَجَب أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّه إنَّما عَمِل ليَأخُذَ المُسَمَّى، فإذا لم يَحْصُلْ له، وَجَب رَدُّ عَمَلِه إليه، وهو مُتَعَذِّرٌ، فتَجِبُ قِيمَته، وهي أجْرُ مِثْلِه، كما لو تَبايَعا بَيعًا (¬1) فاسِدًا، وتَقابَضا، وتَلِف أحَدُ العِوَضَين في يَدِ قابضِه، وَجَب رَدُّ بَدَلِه. فعلى هذا، له أجْر المِثْلِ، سواءٌ ظَهَر في المالِ رِبْحٌ أَو لم يَظْهَرْ. فإن رَضِيَ المُضارِبُ بالعَمَلِ بغيرِ عِوَضٍ، مثلَ أن يَقُولَ: قارَضْتُك والرِّبْحُ كلُّه لي. فالصَّحِيحُ أنَّه لا شيءَ للمُضارِبِ ههُنا؛ لأنَّه تَبَرَّعَ بعَمَلِه، أشْبَهَ ما لو أعانَه في شَيْءٍ، أو تَوَكَّلَ له بغيرِ جُعْلٍ، أو أخَذَ له بِضاعَةً. الفصلُ الثّالِثُ، أن لا يَضْمَنَ ما تَلِف بغيرِ تَعَدِّيه وتَفْرِيطِه؛ لأنَّ ما كان المَقْبُوضُ في صَحِيحِه مَضْمُونًا، كان مَضْمُونًا في فاسِدِه، وما لم يُضْمَنْ في صَحِيحِه لم يُضْمَنْ في فاسِدِه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: يَضْمَنُ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لا يَضْمَنُ ما قَبَضَه في صَحِيحِه، فلا يَضْمَنُ في فاسِدِه، كالوَكالةِ، ولأنَّها إذا فَسَدَتْ صارت إجارَةً، ولا يَضْمَنُ مَنُ الأجِيرُ ما تَلِف بغيرِ فِعْلِه ولا تَعَدِّيه، كذلك ههُنا. 2075 - مسألة: (وإن شَرَطا تَأْقِيتَ المُضارَبَةِ، فهل تَفْسُدُ؟ على رِوَايَتَين) وتَأْقِيتُها أن يَقُولَ: ضارَبْتُك على هذه الدَّراهِمِ سَنَةً، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْقَضَتِ السنَةُ فلا تَبعْ ولا تَشْتَرِ. إحداهما، يَصِحُّ. قال مُهَنّا: سألتُ أحمدَ عن رجلٍ أعْطىَ رجلًا ألْفًا مُضارَبَةً شَهْرًا، فإذا مَضَى شهْرٌ تَكُونُ قَرْضًا. قال: لا بَأْسَ به. قُلْتُ: فإن جاء الشَّهْرُ وهي مَتاعٌ. قال: إذا باع المَتاعُ يَكُونُ قَرْضًا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. والثّانِيَةُ، لا يَصِحُّ. وهو قولُ الشافعيِّ، ومالكٍ، واخْتِيارُ أبي حَفْصٍ العُكْبَرِيِّ؛ لأمُورٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُها، أنَّه عَقْدٌ يَقَعُ مُطْلَقًا، فإذا شَرَط قَطْعَه لم يَصِحَّ، كالنِّكاحِ. الثّانِي، أنَّه ليس مِن مُقْتَضَى العَقْدِ ولا فيه له مَصْلَحَةٌ، أشْبَهَ إذا شَرَط أن لا يَبِيعَ. وبيانُ أنَّه ليس مِن مُقْتَضَى العَقْدِ، أنَّه يَقْتَضِي أن يَكُونَ رَأْسُ المالِ ناضًّا، فإذا مَنَعَه البَيعَ لم يَنِضَّ. الثَّالِثُ، أنَّ هذا يُودِّي إلى ضَرَرٍ بالعامِلِ؛ لأنَّه قد يَكُونُ الرِّبْحُ والحَظُّ في تَبْقِيَةِ المَتاعِ وبَيعِه بعد السَّنَةِ، فيَمْتَنِعُ ذلك بمُضِيِّها. ولَنا، أنَّه تَصَرُّفٌ يَتَوَقَّتُ بنَوْعٍ مِن المَتاعِ، فجاز تَوْقِيتُه في الزَّمانِ، كالوَكالةِ. والمَعْنَى الأوَّلُ الذي ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالوَكالةِ

2076 - مسألة: (وإن قال: بع هذا العرض وضارب بثمنه. أو: اقبض وديعتي وضارب بها. أو: إذا قدم الحاج فضارب بهذا. صح)

وَإن قَال: بعْ هَذَا الْعَرْضَ وَضارِبْ بِثَمَنِهِ. أو: اقْبِضْ وَدِيعَتِي وَضَارِبْ بها. أو: إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَضَارِبْ بِهَذَا. صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَدِيعَةِ، والثّانِي والثّالِثُ يَبْطُلُ بتَخْصِيصِه بنَوْعٍ مِن المَتاع، ولأنَّ لرَبِّ المالِ مَنْعَه مِن التَّصَرُّفِ في كلِّ وَقْتٍ، إذا رَضِيَ أن يأْخُذَ بمالِه عَرْضًا (¬1)، فإذا شَرَط ذلك فقد شَرَط ما هو مِن مُقْتَضَى العَقْدِ، فصَحَّ، كما لو قال: إذا انْقَضَتِ السَّنَةُ فلا تَشْتَرِ شيئًا. وقد سَلَّمُوا صِحَّةَ ذلك. 2076 - مسألة: (وإن قال: بعْ هذا العَرْضَ وضارِبْ بثَمَنِه. أو: اقْبِضْ وَدِيعَتِي وضارِبْ بها. أو: إذا قَدِم الحاجُّ فضارِبْ بهذا. صَحَّ) في قَوْلِهم جَمِيعًا، ويَكُونُ وَكِيلًا في بَيعِ العَرْضِ، وقَبْضِ الوَدِيعَةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «عوضا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَأذُونًا له في التَّصَرُّفِ مُؤتَمَنًا عليه، فجاز جَعْلُه مُضارَبَةً، كما لو قال: اقْبِضِ المال مِن غُلامِي، فضارِبْ به. وأمّا إذا قال: إذا قَدِم الحاجُّ فضارِبْ بهذا. صَحَّ؛ لأنَّه أذِنَ في التَّصَرُّفِ، فجاز تَعْلِيقُه على شَرْطٍ مُسْتَقبَلٍ، كالوَكالةِ. فصل: فإن كان في يَدِ إنْسانٍ وَدِيعَةٌ، فقال له رَبُّ الوَدِيعَةِ: ضارِبْ بها. صَحَّ. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأي. وقال الحَسَنُ: لا يَجُوزُ حتى يَقْبِضَها منه، قِياسًا على الدَّينِ. ولَنا، أنَّ الوَدِيعَةَ مِلْكُ رَبّ المالِ، فجاز أن يُضارِبَه عليها، كما لو كانت حاضِرَةً فقال: قارَضْتُك على هذه الألْفِ. وفارَقَ الدَّينَ؛ فإنَّه لا يَصِيرُ مِلْكًا للغَرِيمِ إلَّا بقَبْضِه. فأمّا إن كانتِ الوَدِيعَةُ قد تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه وصارَتْ في الذمَّةِ، لم يَجُزْ أن يُضارِبَ عليها، لما نَذْكُرُه. فصل: ولو كان له في يَدِ غيرِه مالٌ مَغْصُوبٌ، فضارَبَ الغاصِبَ به، صَحَّ؛ لأنَّه مالٌ لرَبِّ المالِ، يَصِحُّ بَيعُه لغاصِبِه ولمَن يَقْدِرُ على أخْذِه منه، فأشْبَهَ الوَدِيعَةَ. فإذا ضارَبَ به، سَقَط ضَمانُ الغَصْبِ بعَقْدِ المُضارَبَةِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال القاضي: لا يَزُولُ ضَمانُ الغَصْبِ إلَّا بدَفْعِه ثَمَنًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ القِراضَ لا يُنافِي الضَّمانَ، بدَلِيلِ ما

2077 - مسألة: (وإن قال: ضارب بالدين الذي عليك. لم يصح)

وَإنْ قَال: ضَارِبْ بِالدَّينِ الَّذِي عَلَيكَ. لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو تَعَدَّى فيه. ولَنا، أنَّه مُمْسِكٌ للمالِ بإذنِ مالِكِه (¬1) لا يَخْتَصُّ بنَفْعِه ولم يَتَعدَّ فيه، فأشْبَهَ ما لو قَبَضَه وقَبَّضَه إيّاه. 2077 - مسألة: (وإن قال: ضارِبْ بالدَّينِ الذي عليك. لم يَصِحَّ) نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ أكثَرَ: أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه [مِن أهْلِ] (¬2) العِلْمِ، أنَّه لا يَجُوزُ أن يَجْعَلَ الرجلُ دَينًا له على رجلٍ مُضارَبَةً. ومِمَّن حَفِظْنا ذلك عنه؛ عطاءٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأي. وبه قال الشافعيُّ. وقال بعضُ أصحابِنا: يَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه إذا اشْتَرَى شيئًا للمُضارَبَةِ، فقد اشْتَراه بإذْنِ رَبِّ المالِ، ودَفَع الثَّمَنَ إلى (¬3) مَن أذِنَ له في دَفْعِ ثَمَنِه إليه، فتَبْرأُ ذِمَّتُه منه، ويَصِيرُ كما لو دَفَع إليه عَرْضًا (¬4) وقال: بِعْه وضاربْ بثَمَنِه. وجَعَل أصحابُ الشافعيِّ مَكانَ ¬

(¬1) في م: «مالك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «عوضًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الاحْتِمالِ أنَّ الشِّراءَ لرَبِّ المالِ، وللمُضارِبِ أجْرُ مِثلِه؛ لأنه عَلَّقَه بشَرْطٍ (¬1)، ولا يَصِحُّ عندَهم تَعْلِيقُ القِراضِ بشَرْطٍ. والمَذْهَبُ الأول؛ لأنَّ المال الذي في يَدَيْ مَن عليه الدينُ له، وإنَّما يَصِيرُ لغرِيمِه بقَبْضِه، ولم يُوجَدِ القَبْضُ ههُنا. فإن قال له: اعْزِلِ المال الذي لي عليك وقد قارَضتُكَ عليه. ففَعَلَ، واشْتَرَى بعَينِ ذلك المالِ شيئًا للمُضارَبَةِ، وَقَع الشِّراءُ له؛ لانه اشْتَرَى لغيرِه بمالِ نَفْسِه، فحَصَلَ الشِّراءُ له. وإنِ اشْتَرَى في ذِمَّتِه، فكذلك؛ لأنَّه عَقَد القِراضَ على ما لا يَمْلِكُه، وعَلَّقَه على شَرْطٍ لا يَمْلِكُ به المال. فصل: ومِن شَرْطِ صِحَّةِ المُضارَبَةِ كَوْنُ رَأسِ المالِ مَعْلُومَ المِقْدارِ. فإن كان مَجْهُولًا أو جُزافًا، لم تَصِحَّ، وإن شاهَداه. وبهذا قال الشافعيُّ. ¬

(¬1) في م: «على شرط».

2078 - مسألة: (وإن أخرج مالا ليعمل فيه هو وآخر، والربح بينهما، صح. ذكره الخرقي)

وَإنْ أخرَجَ مَالًا لِيَعْمَلَ هُوَ فِيهِ وَآخَرُ، وَالرِّبْحُ بَينَهُمَا، صَحَّ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرأي: تَصِحُّ إذا شاهَداه، والقولُ قول العامِلِ مع يَمِينه في قَدْرِه، لأنَّه أمِينُ رَبِّ المالِ، والقولُ قَوْلُه فيما في يَدِه، فقامَ ذلك مَقامَ المَعْرِفَةِ به. ولَنا، أنَّه مَجْهُول، فلم تَصِحَّ المُضارَبَةُ به، كما لو لم يُشاهِداه، ولأنَّه لا يَدْرِي بكم يَرْجِعُ عندَ المُفاصَلَةِ، ويُفْضِي إلى المُنازَعَةِ والاخْتِلافِ في مِقْدارِه، فلم يَصِحَّ، كما لو كان في الكِيسِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالسَّلَمِ، وبما إذا لم يُشاهِداه (¬1). فصل: ولو أحْضَرَ كِيسَين، في كلِّ واحِدٍ منهما مال مَعْلُومُ المِقْدارِ، وقال: قارَضْتُك على أحَدِهما. لم يَصِحَّ، سواء تَساوَى ما فيهما أو اخْتَلَفَ؛ لأنَّه عَقْدٌ تَمْنَعُ صِحَّتَه الجَهالةُ، فلم يَجُزْ على غيرِ مُعَيَّن، كالبَيعَ. 2078 - مسألة: (وإن أخْرَجَ مالًا ليَعْمَلَ فيه هو وآخَرُ، والرِّبْحُ بينَهما، صَحَّ. ذكَرَه الخِرَقِيُّ) ونَصَّ عليه أحمدُ في رِوَايةِ أبِي الحارِثِ. وتَكُونُ مُضارَبَةً؛ لأنَّ غيرَ صاحِبِ المالِ يَسْتَحِقُّ المَشْرُوطَ له ¬

(¬1) في م: «يشاهده».

وَقَال الْقَاضِي: إذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ أنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإنْ شَرَطَ عَمَلَ غُلَامِهِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الرِّبْحِ بعَمَلِه في مالِ غيرِه، وهذا حَقِيقَة المضارَبَةِ، (وقال) أبو عبدِ اللهِ ابن حامِدٍ، و (القاضي)، وأبو الخَطّابِ: (إذا شَرَط أن يَعْمَلَ معه رَبُّ المالِ، لم يَصِحَّ). وهذا مَذْهَب مالكٍ، والشافعيِّ، والأوْزاعِيِّ، وأصحابِ الرأىِ، وأبي ثَوْر، وابنِ المنذرِ. وقال: ولا تَصِحُّ المضارَبَة حتى تسَلِّمَ المال إلى العامِلِ ويخَلِّيَ بينَه وبينَه؛ لأنَّ المضارَبَةَ تَقْتَضِي تَسْلِيمَ المالِ إلى المضارِبِ، فإذا شَرَط عليه العَمَلَ فيه ولم يُسَلِّمْه، فيُخالِف مَوْضُوعَها. وتَأولَ القاضِي كَلامَ أحمدَ والخِرَقِيِّ، على أنَّ رَبَّ المالِ عَمِل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه مِن غيرِ اشْتِراطٍ. والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لأنَّ العَمَلَ (¬1) أحَدُ رُكْنَي المُضارَبَةِ، فجاز أن يَنْفَرِدَ به أحَدُهما مع وُجُودِ الأمْرَين مِن الآخَرِ، كالمالِ. وقَوْلُهم: إنَّ المُضارَبَةَ تَقْتَضِي تَسْلِيمَ المالِ إلى العامِلِ. مَمْنُوع، إنَّما تَقْتَضِي إطْلاقَ التَّصَرُّفِ في مالِ غيرِه بجُزْء مُشَاع مِن رِبْحِه، وهذا حاصِل مع اشْتِراكِهما في العَمَلِ، ولهذا لو دَفَع ماله إلى اثْنَين مُضارَبَةً، صَحَّ، ولم يَحْصُلْ تَسْلِيمُه إلى أحَدِهما. فصل: وإن شَرَط أن يَعْمَلَ معه غُلامُ رَبِّ المالِ، صَحَّ. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الشافعيِّ، وقولُ أكْثَرِ أصْحابِه (¬2). ومَنَعَه بعضُهم. وهو قولُ القاضي؛ لأنَّ يَدَ الغُلامِ كيَدِ سَيِّدِه. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه وَجْهان؛ أحَدُهما: الجَوازُ؛ لأنَّ عَمَلَ الغُلامِ مال لسيِّدِه، فَصَحَّ ضَمُّه إليه، كما يَصِحُّ أن يَضُمَّ إليه بَهِيمَتَه يَحْمِلُ عليها. والثانِي، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ يَدَ العَبْدِ كيَدِ سَيِّدِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الصحابة رضي الله عهم أجمعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَرَكَ مالانِ ببَدَنِ صاحِبِ أحَدِهما، فهذا يَجْمَعُ شَرِكةً ومُضارَبَة، وهو صَحِيح. فلو كان بينَ رَجُلَين ثَلاثةُ آلافِ دِرْهم؟ لأحَدِهما ألْف وللآخَرِ ألْفانِ، فأذِنَ صاحِبُ الألْفَين لصاحِبِ الألْفِ أن يَتَصَرّفَ فيه على أن يَكُونَ الرِّبْحُ بينَهما نِصْفَينِ، صحّ، ويَكُونُ لصاحِبِ الألْفِ ثُلُثُ الرِّبْحِ بحَقِّ مالِه، والباقي وهو ثُلُثا الرِّبْحِ، بينَهما؛ لصاحِبِ الألْفَين ثَلاثةُ أرْباعِه، وللعامِلِ رُبْعُه، وذلك لأنَّه جَعَل له نِصْفَ الرِّبْحِ فجَعَلْناه سِتَّةَ أسْهُم، منها ثَلاثة للعامِلِ، حِصَّةُ مالِه سَهْمان، وسَهْم يَسْتَحِقه بعَمَلِه في مالِ شَرِيكِهِ، وحِصةُ مالِ شَرِيكِه أرْبعَةُ أسْهُم، للعامِلِ سَهْم، وهو الرُّبْعُ. فإن قِيلَ فكيفَ تَجُوزُ المُضارَبَةُ ورَأسُ المالِ مُشَاع؟ قُلْنا: إنَّما تَمْنَعُ الإشاعةُ الجَوازَ إذا كانت مع غيرِ العامِلِ؛ لأنَّها تَمْنَعُه مِن التَّصَرُّفِ، [بخِلافِ ما إذا كانت مع العامِلِ، فإنَّها لا تَمْنَعُه مِن التَّصَرُّفِ] (¬1)، فلا تَمْنَعُ صِحَّةَ المُضارَبَةِ. وإن شَرَط للعامِلِ ثُلُثَ الرِّبْحِ فقط، فمالُ صاحِبِه بِضاعةٌ في يَدِه ولَيسَتْ مُضارَبَة؛ لأنَّ المُضارَبَةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما تَحْصُلُ إذا كان الرِّبْحُ بينَهما، فأمّا إذا قال: رِبْحُ مالِكَ لك ورِبْحُ مالِي لي. فقَبِلَ الآخَرُ، كان إبْضاعًا لا غيرُ. وبِهذا كلِّه قال الشافعي. وقال مالِك: لا يَجُوزُ أن يَضُمَّ إلى القِراضِ شَرِكةً، كما لا يَجُوزُ أن يَضُم إليه عَقْدَ إجارَةٍ. ولَنا، أنهما لم يَجْعَلَا أحَدَ العَقْدَين شَرْطًا للآخرِ، فلم يَمْنَعْ مِن جَمْعِهما، كما لو كانْ المالُ مُتَمَيِّزًا. فصل: إذا دَفَع إليه ألْفًا مُضارَبَةً، وقال: أضِفْ إليه ألْفًا مِن عِنْدِك واتَّجِرْ بهما، والرِّبْحُ بينَنَا، لك ثُلُثاه ولِي ثُلثه. جاز، وكان شَرِكَةً وقِراضًا. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ إذا وَقَعَتْ على المالِ، كان الرِّبْحُ تابِعًا له دُونَ العَمَلِ. ولَنا، أنهما تَساوَيا في المالِ، وانْفَرَدَ أحَدُهما بالعَمَلِ، فجاز أن يَنْفَرِدَ بزِيادَةِ الرِّبْحِ، كما لو لم يَكُنْ له مال. قَوْلُهم: إنَّ الرِّبْحَ تابع للمالِ وحدَه. مَمْنُوع، بل هو تابع لهما، كما أنه حاصِل بهما. فإن شَرَط غيرُ العامِلِ لنَفْسِه ثُلُثَي الرِّبْحِ، لم يَجُزْ. وقال القاضي: يَجُوزُ، بِناءً على جَوازِ تَفاضُلِهما في شَرِكَةِ العِنانِ. ولَنا، أنه شَرَطَ لنَفْسِه جُزْءًا مِن الرِّبْحِ لا مُقابِلَ له، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَ رِبْحَ مالِ العامِلِ المُنْفَرِدِ، وفارق شَرِكةَ العِنَانِ؛ لأنَّ فيها عَمَلًا منهما، فجاز أن يَتَفاضَلا في الرِّبْح؛ لتَفاضُلِهما في العَمَلِ، بخِلافِ مَسْألتِنا. وإن جَعَلا الرِّبْحَ بينَهما نِصْفين، ولم يَقُولا: مُضارَبَةً. جازَ، وكان إبْضاعًا، كما تَقَدَّمَ. وإن قالا: مُضارَبَة. فَسَد العَقْدُ؛ لِما ذَكَرْناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقد ذَكَرْنا أنَّ حُكْمَ المُضارَبَةِ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فيما للعامِلِ أن يَفْعَلَه أوْ لا يَفْعَلَه، والذي اخْتُلِفَ فيه في حَقِّ الشَّرِيكِ، فكذلك في حَق عامِلِ المُضارَبَةِ. وهل له أن يَبِيعَ نَساءً إذا لم يُنْهَ عنه؟ فيه رِوايَتان؛ إحْداهُما، ليس له ذلك. وبه قال مالك، وابنُ أبي لَيلَى، والشافعيُّ؛ لأنَّه نائِب في البَيعِ، فلم يَجُزْ له ذلك بغيرِ إذْنٍ، كالوَكِيلِ، يُحَقِّقُ ذلك أنَّ النائِبَ لا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ إلَّا على وَجْهِ الحَظِّ والاحْتِياطِ، وفي النَّسِيئَة تَغْرِيرٌ بالمالِ. والثّانِيَةُ، يَجُوزُ له ذلك. وهو قولُ أبي حنيفةَ، واخْتِيارُ ابنِ عَقِيل؛ لأنَّ إذنه في التِّجارَةِ والمُضارَبَةِ يَنْصَرِفُ إلى التِّجارَةِ المُعْتادَةِ، وهذا عادَةُ التُّجّارِ، ولأنَّه يَقْصِدُ به الرِّبْحَ، والرِّبْحُ في النَّساءِ أكْثَرُ، والحُكْمُ في الوَكالةِ مَمْنُوع، ثم الفَرْقُ بينَ الوَكالةِ المُطْلَقَةِ والمُضارَبَةِ، أنَّ الوَكالةَ المَقْصُودُ منها تَحْصِيلُ الثَّمَنِ فحَسْبُ، ولا تَخْتَصُّ بقَصْدِ الرِّبْحِ، فإذا أمْكَنَ تَحْصِيلُه مِن غيرِ خَطَر، كان أوْلَى، ولأنَّ الوَكالةَ المُطْلَقَةَ في البَيعِ تَدُلُّ على أنَّ حاجَةَ المُوَكِّلِ (¬1) إلى الثَّمَنِ ناجزَة، فلم يَجُزْ تَأخِيرُه، بخِلافِ المُضارَبَةِ. فإن قال له: اعْمَلْ برأَيِكَ. أو: تَصَرَّفْ كيف شِئْتَ. فله البَيعُ نَساءً. وقال الشافعي: ليس له ذلك؛ لأنَّ فيه تَغْرِيرًا، أشْبَهَ ما لو لم يَقُلْ له ذلك. ولَنا، أنَّه داخِل ¬

(¬1) في الأصل: «الوكيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في عُمُوم لَفْظِه، وقَرِينةُ حالِه تَدُلُّ على رِضاه برأيِه في صِفاتِ البَيعِ وفي أنْواعِ التِّجارَةِ، وهذا منها. فإذا قُلْنَا: له البَيعُ نَساءً. فالبَيعُ صَحِيح، ومهما فات مِن الثَّمَنِ. لا يَضْمَنُه، إلَّا أن يُفَرِّطَ ببَيعِ مَن لا يوثَقُ به، أو مَن لا يَعْرِفُه، فيَضْمَنُ الثمَنَ المُنْكَسِرَ على المُشْتَرِي. وإن قُلْنا: ليس له البَيعُ نَساءً. فالبَيعُ باطِل؛ لأنه فَعَل ما لم يُؤذَنْ له فيه، فهو كالبَيع. مِن الأجْنَبِيِّ، إلَّا على الروايَةِ التي تَقُولُ: يَقِفُ بَيعُ الأجْنَبِيِّ على الإِجازةِ. فههُنا مِثْلُه. ويَحْتَمِلُ كَلامُ الخِرَقِيِّ صِحةَ البَيعِ؛ فإنه قال: إذا باع المُضارِبُ نَساءً بغيرِ إذْنٍ، ضَمِن. ولم يَذْكُرْ فَسادَ البَيعِ. وعلى كلِّ حالٍ يَلْزَمُ العامِلَ الضمانُ؛ لأنَّ ذَهابَ الثَّمَن حَصَل بتَفْرِيطِه. وإذا قُلْنا بفَسادِ البَيعِ، ضَمِن المَبِيعَ بقِيمَتِه، إذا تَعَذر عليه اسْتِرْجاعُه، بتلَف المَبِيعِ أو امْتِناعِ المُشْتَرِي مِن رَده إليه. وإن قُلْنا بصِحتِه، احْتَملَ أن يَضْمَنَه بقِيمَتِه أيضًا؛ لأَنه لم يَفُتْ بالبَيعِ أكثرُ منها، ولا يَنْحَفِظُ (¬1) فيَ بتركِه سواها، وزيادَةُ الثمَن حَصَلَتْ بتَفْرِيطِه، فلا يَضْمَنُها، واحْتَمَل أن يَضْمَنَ الثَّمَنَ؛ لأنه وَجَب بالبَيعِ، وفات بتَفرِيطِ البائِعِ. فعلى هذا، إن نَقَص عن القِيمَةِ، فقد انْتَقَلَ الوُجُوبُ إليه، بدَلِيلِ أنه لو حَصَل الثَّمنُ، [لم يَضْمَنْ] (¬2) شيئًا. ¬

(¬1) في الأصل: «يحفظ». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل له السَّفَرُ بالمالِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس له ذلك. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّ في السَّفَرِ تَغْرِيرًا بالمالِ وخَطَرًا، ولهذا يُرْوَى: «إنَّ المُسافِرَ [وماله] (¬1) على قَلَتٍ، إلَّا ما وقَى الله» (¬2) أي هَلاكٍ. ولا يَجُوزُ له التَّغْرِيرُ بالمالِ بغيرِ إذْنِ مالِكِه. والثّانِي، له السَّفَرُ به إذا لم يَكُنْ مَخُوفًا. قال القاضي: قِياسُ المَذْهَبِ جَوازُه، بِناءً على السَّفَرِ بالوَدِيعَةِ. وهو قولُ مالك. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، لأنَّ الإذْنَ المُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلى ما جَرَتْ به العادَةُ، والعادَةُ جارِيَة بالتِّجارَةِ سَفَرًا و (¬3) حَضَرًا، ولأنَّ المُضارَبَةَ مُشْتَقَّة مِن الضَّرْبِ في الأرْضِ، فمَلَكَ ذلك بمُطْلَقِها. وهذان الوَجْهانِ في المُطْلَقِ. فأمّا إن أذِنَ فيه أو نُهِيَ عنه، أو وُجِدَتْ قَرِينة دالَّة على أحَدِ الأمْرَينِ، تَعَيَّنَ ذلك، وجاز مع الإِذْنِ (¬4)، وحَرُم مع النَّهْي. وليس له السَّفَرُ في مَوْضع مَخُوفٍ، على كِلا الوَجْهَين. وكذلك لو أذِنَ لا في السَّفَرِ مُطْلَقًا، لم يَكُنْ له السَّفَرُ في طَرِيقٍ مَخُوفٍ، ولا إلى بَلَدٍ مَخُوفٍ، فإن فَعَل فهو ضامِن لما يَتْلَفُ؛ لأنَّه تَعَدَّى بفِعْلِ ما ليس له فِعْلُه. فصل: وليس للمُضارِب البَيعُ بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ، ولا أن يَشْتَرِيَ بأكثر منه مِمّا لا يَتَغابَنُ الناسُ بمِثْلِه، فإن فَعَل، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، ¬

(¬1) في م: «وما معه». (¬2) ذكره ابن قتبية، في: غريب الحديث 2/ 564، وابن الأثير، في: النهاية 4/ 98. وانظر تلخيص الحبير 3/ 98، وإرواء الغليل 5/ 383، 384. (¬3) في م: «أو». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ البَيعَ يَصِحُّ، ويَضْمَنُ النقْصَ، كالوَكِيلِ، ولأنَّ الضَّرَرَ يَنْجَبِرُ بضَمانِ النَّقْصِ. قال شيخُنا (¬1): والقِياسُ بُطلانُ البَيعِ. وهو مذهَبُ الشافعي؛ لأنَّه بَيع لم يُؤذَنْ فيه، أشْبَهَ بَيعَ الأجْنَبِيِّ. فعلى هذا، إن تَعَذرَ رَدُّ المَبِيعِ، ضَمِن النَّقْصَ أيضًا، وإن أمْكَنَ رَدُّه، وَجَب إن كان باقِيًا، أو قِيمَتُه إن تَلِف، ولرَب المالِ مُطالبَةُ مَن شاء مِن العامِلِ أو المشتَرِي، فإن أخَذَ مِن المُشْتَرِي بقِيمَتِه، رَجَع المُشْتَرِي على العامِلِ بالثَّمَن، وإن رَجَع على العامِلِ بِقِيمَتِه، رَجَع العامِلُ على المُشْتَرِي بها ورَدَّ عليه الثَّمَنَ؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل في يَدِه. أمّا ما يَتَغابَنُ الناسُ بمِثْلِه فلا يُمْنَعُ منه؟ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. وأمّا إذا اشْتَرَى بأكْثَرَ مِن ثَمَن المِثْلِ بعَينِ المالِ، فهو كالبَيعِ. وإنِ اشْتَرَى في الذمةِ، لَزِم العامِلَ دُونَ رَب المالِ إلَّا أن يُجِيزَه، فيَكُونَ له. هذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِي. وقال القاضي: إن أطْلَقَ الشِّراءَ ولم يَذْكُرْ رَبَّ المالِ، فكذلك، وإن صَرَّحَ للبائِعِ أنِّي اشْتَرَيتُه فُلانٍ، فالبَيعُ باطِل أيضًا. فصل: وهل له أن يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ بغيرِ نَقْدِ البَلَدِ؟ على رِوايَتَين؛ أصَحُّهما، جَوازُه إذا رَأى المَصْلَحةَ فيه والرِّبْحَ حاصِلًا به، كما يَجُوزُ أن يَبِيعَ عَرْضًا بعَرْض ويَشْتَرِيَه به. فإن قُلْنا: لا يَمْلِكُ ذلك. ففَعَلَ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو اشْتَرَى أو باع بغيرِ ثَمَنِ المِثْلِ. وإن قال: اعْمَلْ برَأيِك. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 150.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فله ذلك، وهل له الزِّراعَةُ (¬1)؟ يَحْتَمِلُ أن لا يَملِكَها؛ لأن المُضارَبَةَ لا يُفْهَمُ مِن إطْلاقِها الزِّراعة (1)، وقد رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في مَن دَفَع إلى رجلٍ ألْفًا، وقال: اتَّجِرْ فيها بما شِئْتَ. فزَرَعَ زَرْعًا، فرَبحَ فيه، فالمُضارَبَة جائِزَة، والرِّبْحُ بينَهما. قال القاضي: ظاهِرُ هذا أن قَوْلَه: اتُّجِرْ بما شِئْتَ. دَخَلَتْ فيه المُزارَعةُ؛ لأنها مِن الوُجُوهِ التي يبتغَى بها النَّماءُ. فعلى هذا، لو تَوَى المالُ في المُزارَعَةِ، لم يَلْزَمْهُ ضَمانُه. فصل: وله أن يَشْتَرِيَ المَعِيبَ إذا رَأى المَصْلَحةَ فيه؛ لأن المَقْصُودَ الرِّبْحُ، وقد يَكُونُ الرِّبْحُ في المَعِيبِ. فإنِ اشْتَراه يَظنه سَلِيمًا فبانَ مَعِيبًا، فله فِعْلُ ما يَرَى فيه المَصْلَحَةَ؛ مِن رَدِّه، أو إمْساكِه وأخْذِ الأرْش. فإنِ اخْتَلَفَ العامِلُ ورَبُّ المالِ في الرَّدِّ، فطَلَبه أحَدُهما، واصباه الآخَرُ، فَعَل ما فيه النَّظَرُ والحَظُّ؛ لأنَّ المَقْصُودَ تَحْصِيلُه، فيُحْمَلُ الأمْرُ على ما فيه الحَظُّ. وأمّا الشريكان إذا اخْتَلَفا في رَد المَعِيبِ، فلِطَالِبِ الرَّدِّ رَدُّ نصِيبِه، وللآخَرِ إمْساكُ نَصِيبِه، إلَّا أن لا يَعْلَمَ البائِعُ أنَّ الشِّراءَ لهما، فلا يَلْزَمُه قَبُولُ رَدِّ بَعْضِه؛ لأنّ ظاهِرَ الحالِ أن العَقْدَ لمَن وَلِيَه، فلم يَجُزْ إدْخالُ الضَّرَرِ على البائِعِ بتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عليه. ولو أرادَ الذي وَلِيَ العَقْدَ رَدَّ بعضِ المَبِيعِ وإمْساكَ البَعْضِ، كان (¬2) حُكْمُه حُكْمَ ما لو أرادَ شَرِيكُه ذلك، على ما فَصَّلْناه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «المزارعة». (¬2) في م: «فإن».

فصلٌ: وَلَيسَ لِلْعَامِلِ شِرَاءُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. فَإِنْ فَعَلَ، صَحَّ، وَعَتَقَ، وَضَمِنَ ثَمَنَهُ. وَعَنْهُ، يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، عَلِمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وليس للعامِلِ شِراءُ مَن يَعْتِقُ على رَبِّ المالِ) [بغيرِ إذْنِه] (1)؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا، ولأنَّه لا حَظَّ للتِّجارةِ فيه. فإنِ اشْتَراه بإذْنِ رَبِّ المالِ، صَحَّ؛ لأنَّه يَصِحُّ شِراؤه بنَفْسِه، فإذا أذِنَ لغيرِه فيه، جاز، ويَعْتِقُ عليه، وتَنْفَسِخُ المُضارَبَةُ في قَدْرِ ثَمَنِه، [لأنَّه قد تَلِف، ويُحْسَبُ على رَبِّ المالِ، فإن كان ثَمَنُه كلَّ المالِ، انْفَسَخَتِ المُضارَبَةُ] (¬1) وإن كان في المالِ رِبْح، رَجَع العامِلُ بحِصَّتِه منه، فإن كان بغيرِ إذْنِ رَبِّ المالِ، احْتَمَلَ أن لا يَصِح الشراءُ إذا كان الثَّمَنُ عَينًا؛ لأنَّ العامِلَ اشْتَرَى ما ليس له أن يَشْتَرِيَه، فهو كما لو اشْتَرَى شيئًا بأكثرَ مِن ثَمَنِه، ولأنَّ الإذْنَ في المُضارَبَةِ إنَّما يَنْصَرفُ إلى ما يُمْكِنُ بَيعُه والرِّبْحُ فيه، وليس هذا كذلك. وإن كان اشْتَراه في الذِّمَّةِ، وَقَع الشِّراءُ للعاقِدِ، وليس له دَفْعُ الثَّمَنِ مِن مالِ المُضارَبَةِ، فإن فَعَل، ضَمِن. وهذا قولُ الشافعيِّ وأكثرَ الفُقَهاءِ. وقال القاضي: ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ صِحَّةُ ¬

(¬1) سقط من: م.

أوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَال أبو بَكْر: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَضْمَنْ. وَيَحْتَمِل ألا يَصِحَّ البَيع. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشِّراءِ؛ لأنَّه مالٌ متَقَوَّم قابِل للعُقُودِ، نصَحَّ شِراؤه، كما لو اشْتَرَى مَن نَذَر رَبُّ المالِ عتْقَه، ويَعْتِق على رَبِّ المالِ، وتَنْفَسِخ المضارَبَةُ فيه، ويَلْزَمُ العامِلَ الضَّمانُ، على ظاهِرِ كَلامٍ أحمدَ، عَلِم بذلك أو جَهِل، لأنَّ مال المضارَبَةِ تَلِف بسَبَبِه، ولا فَرْق في (¬1) الإتْلافِ المُوجبِ للضّمانِ بينَ العِلْمِ والجَهْلِ. ويَضْمَنُ قِيمَتَه في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ المِلْكَ ثَبَت فيه ثم تَلِف، أشْبَهَ ما لو أتْلَفَه بفِعْلِه. والثّانِي، يَضْمَن الثمَنَ الذي اشْتَراه به، لأنَّ التفْرِيطَ منه حَصَل بالشِّراءِ وبَذْلِ الثَّمَنِ فيما يَتْلَفُ بالشِّراء، فكان عليه ضَمانُ ما فَرّطَ فيه. ومتى ظَهَر في المالِ رِبْح، فللعامِلِ حِصته منه. (وقال أبو بَكْر: إن لم يَعْلَمِ) العامِلُ أنَّه يَعْتِقُ على رَبِّ المالِ (لم يَضْمَنْ) ¬

(¬1) في الأصل: «بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل لمَعْنًى في المَبِيعِ (¬1) لم يَعْلَمْ به، فلم يَضْمَنْ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا لم يَعْلَمْ عَيبَه، فتَلِفَ به. قال: ويَتَوَجَّهُ أن لا يَضْمَنَ، وإن عَلِم. ¬

(¬1) في الأصل: «البيع».

2079 - مسألة: (وإن اشترى امرأته، صح، وانفسخ نكاحهما)

وإنِ اشْتَرَى امْرَأتهُ، صَحَّ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2079 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى امْرَأتَه، صَح، وانْفَسَخَ نكاحُهما) لأنَّه مَلَكَها، فإن كان قبْلَ الدُّخولِ، فهل يَلْزَمُ الزَّوْجَ نِصْف الصَّداقِ؟ فيه وَجْهان، يُذْكَران فيما بعدُ، إن شاء الله تعالى. فإن قُلْنا: يَلْزَمُه. رَجَع به على العامِلِ؛ لأنه سبَبُ تَقْرِيرِه عليه، فرَجَعَ عليه، كما لو أفْسَدَتِ امْرأة نِكاحَه بالرَّضَاعِ. وإنِ اشْتَرَى زَوْجَ رَبَّةِ المالِ، صَحَّ، وانْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّها مَلَكَتْ زَوْجَها. وهذا قول أبي حنيفةَ. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي (¬1): لا يَصِح الشِّراءُ إلا أن يَكُونَ بإذْنِها؛ لأن الإذْن إنَّما يَتَناوَلُ شِراءَ مالها فيه حَظ، وهذا الشِّراءُ يَضُر بها؛ لأنَّه يَفْسَخُ نِكاحَها، ويُسْقِط حَقها (¬2) مِن النفَقَةِ والكُسْوَةِ، فلم يَصِحَّ، كشِراءِ ابنها (¬3). ولَنا، أنه اشْتَرَى ما يُمْكِنُ طَلَبُ الرِّبْحِ فيه، فجاز، كما لو اشْتَرَى أجْنَبِيًّا، ولا ضَمانَ على العامِلِ فيما يَفُوتُ مِن المَهْرِ ويَسْقُطُ مِن النَّفَقَةِ؛ لأنَّ ذلك لا يَعُودُ إلى المُضارَبَةِ، وإنَّما هو بسَبَب آخَرَ، ولا فَرْقَ بينَ شِرائِه في الذِّمةِ أو بعَينَ المالِ. فصل: وإنِ اشْتَرَى المَأذُونُ له مَن يَعْتِقُ على رَبِّ المالِ بإذْنِه، صَحَّ وعَتَق. فإن كان على المَأذُونِ له دَين يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه وما في يَدِه، وقلنا: يَتَعَلَّقُ الدَّينُ برَقَبَتِه. فعليه دَفْعُ قِيمَةِ العَبْدِ الذي عَتَق إلى الغُرَماءِ؛ لأنَّه الذي أتْلَفَ عليهم بالعتْقِ. وإن نَهاه عن الشِّراءِ، فالشِّراءُ باطِلٌ؛ لأنَّه يَمْلِكُه بالإذْنِ، وقد زال بالنَّهْي. وإن أطْلَقَ الإذْنَ، فقال أبو الخَطّابِ: يَصِح شِراؤه؛ لأنَّ مَن يَصِحُّ أن يَشْتَرِيَه السَّيِّدُ، صَحَّ مِن (¬4) المَأذُونِ له، كالأجْنَبِيِّ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ إذا أذِنَ له في التِّجارَةِ ولم يَدْفَعْ إليه مالًا. وقال القاضي: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فيه إتْلافًا على السَّيِّدِ، فإنَّ إذنه يَتَناوَلُ ما فيه حَظ، فلا يَدْخُلُ فيه الإِتْلافُ. وفارَقَ عامِلَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «حصتها». (¬3) في م: «أبيها». (¬4) في م: «شراء».

2080 - مسألة: (وإن اشترى)

وَإنِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ رِبْح، لَمْ يَعْتِقْ، وَإنْ ظَهَرَ رِبْحٌ، فَهَلْ يَعْتِقُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المضارَبَةِ؛ لأنَّه يَضْمَنُ القِيمَةَ، فيَزُولُ الضَّرَرُ. وللشافعيِّ قَوْلان كالوَجْهَين. وإنِ اشترَى امْرأةَ رَبِّ المالِ، أو زَوْجَ رَبَّةِ المالِ، فهل يَصِحُّ؟ على وَجْهَين أيضًا، كَشِراءِ مَن يَعْتِقُ بالشراءِ. 2080 - مسألة: (وإنِ اشْتَرى) المُضارِبُ (مَن يَعْتِقُ) عليه، صَحَّ الشِّراءُ، فإن (لم يَظْهَرْ في المالِ رِبْح، لم يَعْتِقْ) منه شيء (وإن ظَهَر) فيه (رِبْحٌ) ففيه وَجْهان، مَبْنِيّان على العامِلِ متى يَمْلِكُ الرِّبْحَ؟ فإن قُلْنا: يَمْلِكُه بالقِسْمَةِ. لم يَعْتِقْ منه شيء؛ لأنَّه [ما مَلَكَه] (¬1). وإن قُلْنا: يَمْلِكُه بالظُّهُورِ. ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا يَعْتِقُ. وهو قولُ أبي بكر؛ لأنَّه لم يتمَّ مِلْكُه عليه؛ لكَوْنِ الرِّبْحِ وقايةً لرَأسِ المالِ، فلم يَعْتِقْ؛ لذلك. والثاني، يَعْتِقُ بقَدْرِ حِصَّتِه مِن الرِّبْحِ، إن كان مُعْسِرًا، ويُقَوَّمُ عليه باقِيه ¬

(¬1) في م: «مالكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان مُوسِرًا؛ لأنَّه (¬1) مَلَكَه بفِعْلِه، فعَتَقَ عليه، كما لو اشْتَراه بمالِه. وهذا قولُ القاضِي، ومَذْهَبُ أصحابِ أبي حنيفةَ، لكنْ عِنْدَهم يسْتَسْعى في بَقِيَّته إن كان مُعْسِرًا. ولَنا رِوايَة كقَوْلِهم. وإنِ اشْتَراه ولم يَظْهَرْ رِبْحٌ، ثم ظَهَر بعدَ ذلك، والعَبْدُ باقٍ في التِّجارَةِ، فهو كما لو كان الربحُ ظاهِرًا وَقْتَ الشِّراءِ. وقال الشافعيُّ: إنِ اشْتَراه بعدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، لم يَصِحَّ؛ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى أن يُنْجزَ العامِلُ حَقَّه قبلَ رَبِّ المالِ. ولَنا، أنَّهما شَرِيكان، فصَحَّ شِراءُ كلِّ واحِدٍ منهما مَن يَعْتِقُ عليه، كشَرِيكَيِ العِنانِ. ¬

(¬1) في الأصل: «إلا أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس للمُضارِبِ أن يَشْترِيَ بأكثر مِن رَأسِ المالِ؛ لأنَّ الإِذْنَ ما تَناوَلَ أكْثَرَ منه. فإذا كان رَأسُ المالِ ألْفًا، فاشْتَرَى عَبْدًا بألْفٍ، ثم اشْتَرَى عَبْدًا آخَرَ بِعَينِ الألْفِ، فالشِّراءُ فاسِد؛ لأنَّه اشْتَرَى بمالٍ (¬1) تسْتَحَقُّ تَسْلِيمه في البَيعِ الأوَّلِ. وإنِ اشْتَراه في ذِمَّتِه، صَحَّ الشِّراء، والعَبْد له؛ لأنَّه اشْتَرَى في ذِمَّتِه لغيرِه بغيرِ إذْنِه في شِرَائِه فوَقَعَ له (¬2). وهل يَقِفُ على إجازَةِ رَبِّ المالِ؟ على رِوايَتَين. ومَذْهَب الشافعيِّ كنَحْو ما ذَكَرْنا. فصل: وليس للمُضارِبِ وَطْءُ أمَةِ المُضارَبَةِ (¬3)، سَواءٌ ظَهَر رِبْحٌ أو لا، فإن فَعَل، فعليه المَهْرُ والتَّعْزِيرُ. وإن عَلِقَتْ منه ولم يَظْهَرْ في المالِ رِبْحٌ، فوَلَده رَقِيق؛ لأنَّها عَلِقَتْ منه في غيرِ مِلْكٍ، ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، ولا تَصِير أمَّ وَلَدٍ له؛ لذلك. وإن ظَهَر في المالِ رِبْح، فالوَلَدُ حُرٌّ، وتَصِيرُ أمَّ وَلَدٍ له، وعليه قِيمَتُها. ونحوَ ذلك قال سفيان، ¬

(¬1) في الأصل: «بما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ر 1: «من مال المضاربة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسْحاقُ. وقال القاضي: إن لم يَظْهَرْ رِبْحٌ، فعليه الحَدُّ؛ لأنه وَطِئ في غيرِ مِلْكٍ (¬1) ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّ عليه التَّعْزِيرَ فقط؛ لأنَّ ظُهُورَ الرِّبْحِ يَنْبَنِي على التَّقْويمِ، وهو غيرُ مُتَحَقق، لاحْتِمالِ أنَّ السلع تُساوي أكْثَرَ مما قُوِّمَتْ به، فيَكُونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ، فإنّه يُدْرَأ بالشُّبُهاتِ. فصل: وليس لرَبِّ المالِ وَطْءُ الأمَةِ أيضًا؛ لأنَّه يَنْقُصُها إن كانت بِكْرًا، ويُعَرِّضُها للخُرُوجِ مِن المُضارَبَةِ والتَّلَفِ، فإذ فَعَل، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّها مِلْكُه، فإن أحْبَلَها، صارتْ أمَّ وَلَدٍ له، ووَلَدُه حُر؛ لذلك (¬2)، وتَخْرُجُ مِن المُضارَبَةِ، وتُحْسَبُ قِيمَتُها، ويُضافُ إليها بَقِيَّةُ المالِ، فإن كان فيه رِبْح فلِلعامِلِ حِصَّتُه منه. وليس لواحِدٍ منهما تَزْويجُ الأمَةِ؛ لأنه يَنْقُصُها، ولا مُكاتَبَةُ العَبْدِ كذلك (¬3). فإنِ اتَّفَقا عليه جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. فصل: وليس للمُضارِبِ دَفْعُ المالِ مُضارَبةً بغيرِ إذْنٍ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، وحَرْب، وعبدِ اللهِ. وخَرَّجَ القاضي وَجْهًا (¬4) في جَوازِ ذلك، بِناءً على تَوْكِيلِ الوَكِيلِ. ولا يَصِحُّ هذا التَّخْرِيجُ والقِياسُ؛ لأنَّه إنَّما دَفَع إليه المال ههُنا ليُضارِابَ به، ودَفْعُه إلى غيرِه مُضارَبَةً يُخْرِجُه ¬

(¬1) في الأصل: «ملكه». (¬2) في ق: «كذلك». (¬3) في: الأصل، ر، م: «لذلك». (¬4) في م: «وجهين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن كَوْنِه مُضارِبًا له، بخِلافِ الوَكِيلِ. ولأنَّ هذا يُوجِبُ في المالِ حَقًّا لغيرِه، ولا يَجُوزُ إيجابُ حَقٍّ في مالِ إنْسانٍ بغيرِ إذْنِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعي. ولا يُعْلَمُ عن غيرِهم خِلافُهم. فإن فَعَل فلمْ يَتْلَفِ المالُ ولا ظَهَر فيه رِبْحٌ، رَدَّه إلى مالِكِه، ولا شيءَ له ولا عليه. وإن تَلِف أو رَبِح فيه، فقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر: هو في الضَّمانِ والتّصَرُّفِ كالغاصِبِ، ولرَبِّ المال مُطالبةُ مَن شاء منهما برَدِّ المالِ إن كان باقِيًا، وبِرَدِّ بَدَلِه إن تَلِف أو تَعَذَّرَ رَدُّه، فإن طالب الأوَّلَ وضَمَّنَه قِيمَةَ التّالِفِ، ولم يكنِ الثّانِي عَلِم الحال، لم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ؛ لأَنه دَفَعَه إليه على وَجْهِ الأمانَةِ. وإن عَلِم، رَجَع عليه؛ لأنَّه قَبَض مال غيرِه على سَبِيلِ العُدْوانِ، وقد تَلِف تحتَ يَدِه، فاستقَرَّ عليه ضَمانُه. وإن ضَمَّنَ الثّانِيَ مع عِلْمِه بالحالِ، لم يَرْجِعْ على الأوَّلِ. وإن لم يَعْلَمْ، فكذلك في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل في يده، فاستقَرَّ الضَّمانُ عليه. والثّانِي، يَرْجِعُ عليه؛ لأنَّه غَرَّه، أشْبَهَ المَغْرُورَ بحُرِّيَّةِ أمَةٍ. وإن رَبِح، فالرِّبْحُ للمالِكِ، ولا شيءَ للمُضارِبِ الأوَّلِ، لأَنَّه لم يُوجَدْ منه مال ولا عَمَل. وهل للثّانِي أجْرَةُ مِثْلِه؟ على رِوايَتَين، إحْداهما، له ذلك، لأنَّه عَمِل في مالِ غيرِه بعِوَض لم يُسَلَّمْ له، فكان له أجْرُ مِثْلِه، كالمُضارَبَةِ الفاسِدَةِ. والثّانِيَةُ، لا شيءَ له، لأنَّه عَمِل في مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه (¬1)، أشْبَهَ الغاصِبَ. وفارَقَ المُضارَبَةَ؛ لأنَّه عَمِل في مالِه بإذْنِه. وسواء اشْتَرَى بِعَينِ المالِ أو في الذِّمَّةِ. ¬

(¬1) في م: «إذن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أنَّه إنِ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ يَكُونُ الربْحُ له؛ لأنَّه رَبِح فيما اشْتَراه في ذِمَّتِه مِمّا لم يَقَعِ الشِّراءُ فيه لغيرِه، فأشْبَهَ ما لو لم (¬1) يَنْقُدِ الثَّمَنَ مِن مالِ المُضارَبَةِ. قال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر: هذا قولُ أكثرَهم. يَعْنِي قولَ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان عالِمًا بالحالِ فلا شيءَ للعامِلِ، كالغاصِبِ، وإن جَهِل الحال، فله أجْرُ مِثْلِه، يَرْجِعُ به على المُضارِبِ (¬2) الأوَّلِ؛ لأنَّه غَرَّه واسْتَعْمَلَه بعِوَض لم يُسَلمْ له، فكان أجْرُه عليه، كما لو استعْمَلَه في مالِ نَفْسِه. وقال القاضي: إنِ اشْتَرَى بعَين المالِ، فالشِّراءُ باطِل، وإنِ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ ثم نَقَد المال، وكان قد شَرَطَ رَبُّ المالِ للمُضارِب النصْفَ، فدَفَعَه المُضارِبُ إلى آخَرَ على أنَّ لرَبِّ المالِ النِّصْفَ والنِّصْفَ الآخَرَ بينَهما، فهو على ما اتَّفَقُوا عليه؛ لأنَّ رَبَّ المالِ رَضِيَ بنِصْفِ الرِّبْحِ، فلا يَدْفَعُ [إليه أكْثَرَ منه، والعامِلان على ما اتَّفَقا عليه. وهذا قولُ الشافعيِّ في القَدِيمِ. وليس هذا موافقًا لأصُولِ المَذْهَبِ] (¬3)، ولا لنَصِّ أحمدَ؛ فإنَّ أحمدَ قال: لا يَطِيبُ الرِّبْحُ للمُضارِبِ. ولأنَّ المضارِبَ الأوَّلَ ليس له عَمَل ولا ما لم، ولا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ في المُضارَبَةِ إلَّا بواحِدٍ منهما، والثّانِيَ عَمِل في مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه ولا شَرْطِه، فلم يَسْتَحِقَّ ما شَرَطَه له غيرُه، كما لو دَفَعَه (¬4) إليه الغاصِبُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م. (¬2) في م: «الغاصب». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «دفع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُضارَبَةً، ولأنَّه إذا (¬1) لم يَسْتَحِق ما شَرَطَه له رَبُّ المالِ في المُضارَبَةِ الفاسِدَةِ، فما شَرَطَه له غيرُه بغيرِ إذْنِه أوْلَى. فصل: فإن أذِنَ رَبُّ المالِ في ذلك، جاز. نَصَّ عليه أحمدُ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ويَكُونُ المُضارِبُ الأوَّلُ وَكِيلَ رَبِّ المالِ في ذلك. فإذا دَفَعَه إلى آخَرَ ولم يَشرُطْ لنَفْسِه شيئًا مِن الرِّبْحِ، كان صَحِيحًا. وإن شَرَط لنَفْسِه شيئًا منه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ليس مِن جِهَتِه ما لم ولا عَمَلٌ، والرِّبْحُ إنَّما يُسْتَحَقُّ بواحدٍ (¬2) منهما. فإن قال: اعْمَلْ برأيِكَ -أو- بما أراكَ الله. جاز له دَفْعُه مُضارَبَةً. نَصَّ عليه؛ لأنَّه قد يَرَى أن يَدْفَعَه إلى أبصَرَ منه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ له ذلك؛ لأنَّ قَوْلَه: اعْمَلْ برأيِكَ. يَعْنِي في كَيفِيَّةِ المُضارَبَةِ والبَيعِ والشراءِ وأنواعِ التِّجارَةِ، [وهذا] (¬3) يَخْرُجُ به عن المُضارَبَةِ، فلا يَتَناوَلُه إذنه. فصل: وليس له أن يَخْلِطَ مال المُضارَبَةِ بمالِه، فإن فَعَل ولم يَتَمَيَّزْ، ضَمِنَه، لأنَّه أمانَة، فهو كالوَدِيعَةِ. فإن قال له: اعْمَلْ برأيِكَ. جاز ذلك. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرّأي. وقال الشافعي: ليس له ذلك، وعليه الضَّمانُ إن فَعَلَه؛ لأن ذلك ليس مِن التِّجارَةِ. ولَنا، أنَّه قد يَرَى الخَلْطَ أصْلَحَ له، فيَدْخُلُ في قَوْلِه: اعْمَلْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لواحد». (¬3) في م: «ولهذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ برأيِكَ. وهكذا القولُ في المُشارَكَةِ به، ليس له فِعْلُها، إلَّا أن يَقُولَ له: اعْملْ برَأيِكَ. فيَمْلِكُها. فصل: وليس له شِراءُ خَمْرٍ ولا خِنْزِير، سواء كانا مُسْلِمَينِ أو كان أحَدُهما مُسْلِمًا، فإن فَعَل، فعليه الضَّمانُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان العامِلُ ذِمِّيًّا، صَحَّ شِراوه للخَمْرِ وبَيعُه إيّاها؛ لأنَّ المِلْكَ عندَه يَنْتَقِلُ إلى الوَكِيلِ، وحُقُوقُ العَقْدِ تَتعلَّقُ به. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَصِحُّ شِراؤه إيّاها، ولا يَصِحُّ بَيعُه؛ لأنَّه يَبِيعُ ما ليس بمِلْكٍ له ولا لمُوَكِّلِه (¬1). ولَنا، أنَّه إن كان العامِلُ مُسْلِمًا، فقد اشْتَرَى خَمْرًا، ولا يَصِحُّ أن يَشْتَرِيَ خَمْرًا ولا يَبِيعَه، وإن كان ذِمِّيًّا، فقد اشْتَرَى للمُسْلِم ما لا يَصِحُّ أن يَمْلِكَه ابْتِداءً، فلا يَصِحُّ، كما لو اشْتَرَى الخِنْزِيرَ، ولأن الخَمْرَ مُحَرَّمَة، فلم يَصِحَّ شِراؤها له (¬2)، كالخِنْزِيرِ والمَيتَةِ، ولأنَّ ما لا يَجُوزُ بَيعُه لا يَجُوزُ شِراؤه، كالمَيتَةِ والدَّمِ. وكلُّ ما جازَ في الشَّرِكَةِ جاز في المُضارَبَةِ، وما جازَ في المُضارَبةِ جاز في الشَّرِكةِ، وما مُنِعَ منه (¬3) في إحْداهما (¬4) مُنِعَ منه في الأخْرَى؛ لأنَّ المُضارَبَةَ شَرِكة (¬5)، ومَبْنَى كلِّ واحِدٍ منهما على الوَكالة والأمانَةِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل، ق: «لأن الملك فيها ينتقل إلى الوكيل»، وفي ق: «المال» بدل: «الملك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «أحدهما». (¬5) في الأصل: «على الشركة».

2081 - مسألة: (وليس للمضارب أن يضارب لآخر، إذا كان فيه ضرر على الأول. فإن فعل، رد نصيبه من الربح في شركة الأول)

وَلَيسَ لِلْمُضَارِبِ أنْ يُضَارِبَ لِآخَرَ، إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَر عَلَى الأوَّلِ. فَإن فَعَلَ، رَدَّ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الأوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2081 - مسألة: (وليس للمُضارِبِ أن يُضارِبَ لآخَرَ، إذا كان فيه ضَرَر على الأوَّلِ. فإن فَعَل، رَدَّ نَصِيبَه من الرِّبْحِ في شَرِكَةِ الأوَّلِ) وجُملةُ ذلك، أنَّه إذا أخَذَ مِن إنْسانٍ مُضارَبَةً، ثم أرادَ أخْذَ مُضارَبَة مِن آخَرَ بإذْنِ الأوَّلِ، جاز. وكذلك إن لم يَأذَنْ ولم يَكُنْ عليه ضَرَر، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. فإن كان فيه ضَرَر على الأوَّلِ، ولم يَأذَنْ، مِثلَ أن يَكُونَ المال الثانِي كَثِيرًا يَسْتَوْعِبُ زَمانَه فيَشْغَلُه عن التِّجارَةِ في الأوَّلِ، أو يَكُونَ المالُ الأوَّلُ كثيرًا متى اشْتَغَلَ عنه بغيرِه انْقَطَعَ عن بعضِ تَصَرُّفاتِه، لم يَجُزْ ذلك. وقال أكْثَرُ الفُقَهاءِ: يَجُوزُ؛ لأنَّه عَقْد لا يَمْلِكُ به مَنافِعَه كُلَّها، فلم يَمْنَعْ مِن المُضارَبَةِ، كما لو لم يَكُنْ فيه ضَرَر، وكالأجِيرِ المُشْتَرَكِ. ولَنا، أنَّ المُضارَبَةَ على الحَظِّ والنَّماءِ، فإذا فَعَل ما يَمْنَعُه، لم يَجُزْ له، كما لو أرادَ التَّصَرُّفَ بالعَينِ، وفارَقَ ما لا ضَرَرَ فيه. فعلى هذا، إن فَعَل ورَبِح، رَدَّ الرِّبْحَ في شَرِكَةِ الأوَّلِ، ويَقْسِمانِه، فيَنْظُرُ ما رَبِح في المُضارَبَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثّانِيَةِ، فيَدْفَعُ إلى رَبِّ المالِ منه (¬1) نَصِيبَه، ويَأخُذُ المُضارِبُ نَصِيبَه مِن الرِّبْحِ فيَضُمُّه إلى رِبْحِ المُضارَبَةِ الأولَى، ويُقاسِمُه لرَبِّ المُضارَبَةِ الأولَى؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ حِصَّتَه مِن الرِّبْحِ بالمَنْفَعَةِ التي استُحِقَّتْ بالعَقْدِ الأوَّلِ، فكان بينَهما، كَرِبْحِ المالِ الأولِ. فأمّا حِصَّةُ رَبِّ المالِ الثّانِي مِن الرِّبْحِ فتُدْفَعُ إليه؛ لأنَّ العُدْوانَ مِن المُضارِبِ لا يُسْقِطُ حَقَّ رَبِّ المالِ الثّانِي، ولأنّا لو رَدَدْنا رِبْحَ الثانِي كلَّه في الشَّرِكَةِ الأولَى، لاخْتَصَّ الضَّرَرُ برَبِّ المالِ الثّانِي، ولم يَلحَقِ المُضارِبَ شيءٌ مِن الضَّرَرِ، والعُدْوانُ منه، بل رُبَّما انْتَفَعَ إذا كان قد شَرَط الأوَّلُ النِّصْفَ والثّانِي الثُّلُثَ، ولأنَّه لا يَخْلُو؛ إمّا أن يُحْكَمَ بفَسادِ المُضارَبَةِ الثّانِيَةِ، أو بصِحَّتِها، فإن كانت فاسِدَةً، فالرِّبْحُ كُله لرَبِّ المالِ، وللمُضارِبِ أجْرُ مِثْلِه، وإن حَكَمْنا بصِحَّتِها، وَجَب صَرْفُ حِصَّةِ رَبِّ المالِ إليه بمُقْتَضى العَقْدِ ومُوجِبِ الشَّرْطِ. قال شيخُنا (¬2): والنَّظَرُ يَقْتَضِي أن لا يَسْتَحِق ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: المغني 7/ 160.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَبُّ المُضارَبَةِ الأولَى مِن رِبْحِ الثَّانِيَةِ شيئًا؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ بمالٍ أو عَمَل، ولم يُوجَدْ واحِد منهما، وتَعَدِّي المُضارِبِ إنَّما هو بتَرْكِ العَمَل واشْتِغالِه عن المالِ الأوَّلِ، وذلك لا يُوجِبُ عِوَضًا، كما لو اشْتَغَلَ بالعَمَلِ في مالِ نَفْسِه، أو آجَرَ نفْسَه، أو تَرَك التِّجارَةَ للَعِبٍ أو اشْتِغالٍ بعِلْم أو غيرِ ذلك. ولأنه لو أوْجَبَ عِوَضًا لأوْجَبَ شيئًا مُقَدَّرًا لا يَخْتَلِفُ ولا يَتَقَدَّرُ برِبْحِه (¬1) في الثّانِي. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ربحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن دَفع إليه مُضارَبَةً واشْتَرَطَ النَّفَقَةَ، لم يَجُزْ أن يَأخُذَ لغيرِه بِضاعَة ولا مُضارَبَة وإن لم يَكُنْ على الأوَّلِ ضَرَرٌ؛ لقول أحمدَ: إذا اشْتَرَطَ النَّفَقَةَ صَار أجِيرًا له، فلا يَأخُذُ مِن أحَدٍ بِضاعةً، فإنَّها تَشْغَلُه عن المالِ الذي يُضارِبُ به. قِيلَ له: وإن كانت لا تشْغَلُه؟ قال: ما يُعْجِبُنِي إلَّا أن يَكُونَ بإذْنِ صاحِبِ المُضارَبَةِ، فإَّنه لا بدَّ مِن شُغْل. قال شيخُنا (¬1): هذا والله أعْلَمُ، على سَبِيلِ الاسْتِحْباب، وإن فَعَل فلا شيءَ عليه، لأنَّه لا ضَرَرَ على رَبِّ المُضارَبَةِ فيه. وإن أخذَ مِن رَجُل مُضارَبَةً، ثم أخَذَ مِن آخَرَ بِضاعَةً، أو عَمِل في مالِ نَفْسِه واتَّجَرَ فيه، فرِبْحُه في مالِ البِضاعَةِ لصاحِبِها، وفي مالِ نَفْسِه له. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أخَذَ مِن رَجُلٍ مائةً قِراضًا، ثم أخَذَ من آخَرَ مِثْلَها، فاشْتَرَى بكلِّ مائَة عبدًا، فاخْتَلَطَ العَبْدان ولم يَتَمَيَّزا، اصْطَلَحا عليهما، كما لو كانت لِرَجُلٍ (¬1) حِنْطَةٌ فانْثالتْ عليها أخْرَى. وذَكَر القاضي في ذلك وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَكُونان شَرِيكَين فيهما، كما لو اشْتَرَكا في عَقْدِ البَيعِ، فيُباعان، ويُقَسَّمُ (¬2) بينَهما، فإن كان فيهما رِبْحٌ، دَفَع إلى العامِل حِصَّتَه والباقِي (¬3) بينَهما نِصْفَين. والثّانِي، يَكُونان للعامِلِ، وعليه أداءُ رَأسِ المالِ، والرِّبْحُ له والخُسْرانُ عليه. وللِشافعيِّ قَوْلان كالوَجْهَين. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنّ مِلْكَ كلِّ واحِدٍ منهما ثابِتٌ في أحَدِ العَبْدَين، فلا يَزُولُ بالاشْتِباهِ عن جَمِيعِه ولا عن بَعْضِه بغيرِ رِضاه، كما لو لم يَكُونا في يَدِ المُضارِبِ، ولأنَّنا لو جَعَلْناهُما للمُضارِبِ، أدَّى إلى أن يَكُونَ تَفْرِيطُه سَبَبًا لانْفِرادِه بالرِّبْحِ وحِرْمانِ المُتَعَدَّى عليه، وعَكْسُ ذلك أوْلَى، وإن جَعَلْناهُما شَرِيكَين أدَّى إلى أن يَأخُذَ أحَدُهما رِبْحَ مالِ الآخَرِ بغيرِ رِضاه، وليس له مالٌ ولا عَمَل. فصل: إذا تَعَدَّى المُضارِبُ بفِعْلِ ما ليس له فِعْلُه، فهو ضامِنٌ للمالِ، في قولِ أكْثَرِ أهْلَ العِلْمَ. رُوِيَ ذلك عن أبِي هُرَيرَةَ، وحَكِيمَ بنَ حِزام، وأبي قِلَابَةَ، ونافِع، وإياس، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والحَكَمِ (¬4)، ¬

(¬1) في الأصل: «لرجلين». (¬2) في الأصل: «يقسمان». (¬3) في الأصل: «الثاني». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَمّادٍ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي. وعن علي، رَضِيَ اللهُ عنه: لا ضَمانَ على مَن شُورِكَ في الرِّبْحِ. ورُوِيَ مَعْنَى ذلك عن الحَسَن، والزُّهْرِيِّ. ولَنا، أنَّه مُتَصَرِّفٌ في مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلَزِمَه الضَّمان، كالغاصِبِ، ولا نَقُولُ بمُشارَكَتِه في الرِّبْحِ، فلا يَتَناوَلُه قولُ علي، رَضِيَ اللهُ عنه. ومتى اشْتَرَى ما لم يُؤذَنْ فيه، فرَبِح فيه، فالرِّبْحُ لرَبِّ المالِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أبو قِلَابَةَ، ونافِعٌ. وعن أحمدَ، أنهما يَتَصَدَّقان بالرِّبْحِ (¬1). وبه قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، وحَمّاد. قال القاضي: قولُ أحمدَ: يَتَصَدَّقان بالرِّبْحَ. على سبِيلِ الوَرَعِ، وهو لرَبِّ المَالِ في القَضاءِ. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ. وقال إيَاسُ بنُ مُعاويَةَ، ومالك: الرِّبْحُ على ما شَرَطاهُ؛ [لأنَّه نَوْعُ نَقْدٍ، فلا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّبْحِ بينَهما على ما شرَطاه] (¬2)، كما لو لَبِس الثَّوْبَ، ورَكِب دابَّةً ليس له رُكُوبُها. وقال القاضي: إنِ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ ثم نَقَدَ المال، فالرِّبْحُ لرَبِّ المالِ. وإنِ اشْتَرَى بعَينِ المالِ، فالشِّراءُ باطِل في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأخْرَى، هو مَوْقُوفٌ على إجازَةِ المالِكِ (¬3)، فإن أجازَه، صَحَّ، وإلَّا بَطَلَ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَم. وقال أبو بكر: لم يَرْو أنَّه يتَصَدَّقُ بالرِّبْح إلَّا حَنْبَلٌ. واحْتَجَّ أحمدُ بحدِيثِ عُرْوَةَ البارِقِيِّ، وهو ما روَى [أبو لَبِيدٍ] (¬4)، عن عُرْوَةَ بنِ الجَعْدِ، قال: عَرَض للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَلَبٌ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «على سبيل الورع». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «رب المال». (¬4) في م: «أبو الوليد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأعْطانِي دِينارًا، فقال: «يا (¬1) عُرْوَةُ، ائْتِ الجَلَبَ، فاشْتَرِ لَنَا شَاةً». فأتَيتُ الجَلَبَ فساوَمْتُ صاحِبَه، فاشْتَرَيتُ شاتَين بدِينار، فجِئْتُ أسُوقُهُما -أو أقُودُهما- فلَقِيَني رجل بالطَّرِيقِ، فساوَمَنِي، فبعْتُ منه شاةً بدِينارٍ، فجِئْتُ بالدِّينار وبالشّاةِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هذا دِينارُكُم، وهذه شاتُكُم. قال: «وكَيفَ صَنَعْتَ؟». فحَدَّثْتُه الحَدِيثَ، فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ له في صَفْقَةِ يَمِينهِ». رَواه الأثْرَمُ (¬2). ولأنَّه نَمَاءُ مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِ مالِكِه فكان لمَالِكِه، كما لو غَصَب حِنْطَةً فزَرَعَها. فأمّا المُضارِبُ، فَفِيه رِوَايتَانِ؛ إحْداهما، لا شيءَ له؛ لأَنه عَقَد عَقْدًا لم يُؤذَنْ له فيه، فلم يَكُنْ له شيء، كالغاصِبِ. وهذا اخْتِيارُ أبي بَكْر. والثّانِيَةُ، له أجْر؛ لأنَّ رَبَّ المالِ رَضِيَ بالبَيعِ وأخَذَ الرِّبْحَ، فاسْتَحَقَّ العامِلُ عِوَضًا، كما لو عَقَدَه بإذْنٍ (¬3). وفي قَدْرِ الأجْرِ رِوايتان؛ إحْداهُما، أجْرُ مِثْلِه ما لم يُحِطْ بالرِّبْحِ؛ لأنَّه عَمِل ما يَسْتَحِقُّ به العِوَضَ، ولم يُسَلَّمْ له المُسَمَّى، فكان له أجْرُ مِثْلِه، كالمُضارَبَةِ الفاسِدَةِ. والثّانِيَةُ، له الأقَل مِن المُسَمَّى أو أجْرِ المِثْلِ؛ لأنه إن كان المُسَمَّى أقَلَّ، فقد رَضِيَ به، فلم يَسْتَحِقَّ اكْثَرَ منه، وإن كان أجْرُ المِثْلِ أقَلَّ، فلم يَسْتَحِقَّ أكثر منه؛ لأَنه لم يَعْمَلْ ما أمِرَ به. فإن قَصَد الشراءَ ¬

(¬1) زيادة من: ر 1، وفي المسند 4/ 376: «أي». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 56. (¬3) في م: «بإذنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لنَفْسِه، فلا أجْرَ له، رِوَايَةً واحِدَةً. وقال القاضي، وأبو الخَطَّابِ: إنِ اشْتَرَى في ذِمَّتِه ونَقَد المال، فلا أجْرَ له، رِوَايةً واحِدةً، وإنِ اشْتَرَى بعَينِ المالِ، فعلى رِوايَتَين. فصل: وعلى العامِلِ أن يَتَوَلَّى بنَفْسِه كلَّ ما جَرَتِ العادَةُ أن يَتَولَّاه المُضارِبُ؛ مِن نَشْرِ الثَّوْبِ، وطَيِّه، وعَرْضِه على المُشْتَرِي، ومُساوَمَتِه، وعَقْدِ البَيعِ، وأخْذِ الثَّمَنِ، وانْتِقادِه (¬1)، وشَدِّ الكِيسِ، وخَتْمِه، وإحْرازِه، ونحو ذلك. ولا أجْرَ له عليه؛ لأنَّه استحَقَّ الرِّبْحَ في مُقابَلَتِه. فَإنِ اسْتَأجَرَ مَن يَفْعَلُ ذلك، فالأجْرُ عليه خاصَّةً؛ لأن العَمَلَ عليه. فأمّا ما لا يَليه في العادَةِ، كالنِّداءِ على المَتاعٍ، ونَقْلِه إلى الخانِ، فليس على العامِلِ عَمَلُه، وله أن يَكْتَرِيَ مَن يَعْمَلُه. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ العَمَلَ في المُضارَبَةِ غيرُ مَشْرُوطٍ؛ لمَشَقَّةِ اشْتراطِه، فرُجِعَ فيه إلى العُرْفِ. فإن فَعَل العامِلُ ما لا يَلْزَمُه مُتَبَرِّعًا، فلا أجْرَ له. وإن فَعَلَه ليَأخُذَ عليه أجْرًا، فنَصَّ أحمدُ على أنَّه لا شيءَ له. وخَرَّجَ أصحابُنا وَجْهًا، أن له الأجْرَ، بِناءً على الشَّرِيكِ إذا انْفَرَدَ بعَمَل لا يَلْزَمُه، هل له أجْر لذلك؟ على رِوايَتين. وهذا مِثْلُه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه لا أجْرَ له في المَوْضِعَين؛ لأنَّه عَمِل في مالِ غيرِه عَمَلًا لم يُجْعَلْ له في مُقابَلَتِه شيء، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كالأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «إنقاده». (¬2) في: المغني 7/ 164.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا غُصِبَ مالُ المُضارَبَةِ أو سُرِق، فهل للمُضارِبِ المُطالبَةُ به؟ على وَجْهين؛ أحدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّ المُضِارَبَةَ عَقْد على التِّجارَةِ، فلا يَدْخُلُ فيه الخُصُومَةُ. والثّانِي، له ذلك؛ لأنه يَقْتَضِي حِفْظَ المالِ، ولا يَتمُّ ذلك إلا بالخُصُومَةِ والمُطالبَةِ، سِيَّما إذا كان غائِبًا عن رَبِّ المالِ، فإنَّه حينَئذٍ لا مُطالب (¬1) بِه إلَّا المُضارِبُ، فإن تَرَكَه ضاع. فعلى هذا، إن تَرَك الخُصُومَةَ والطَّلَبَ به في هذه الحالِ، ضَمِن؛ لأنه ضَيَّعَه وفَرَّطَ فيه. فأمّا إن كان رَبُّ المالِ حاضِرًا، وعَلِم الحال، فإنَّه لا يَلْزَمُ العامِلَ طَلبه، ولا يَضْمَنُه إذا تَرَكَه؛ لأنَّ رَبَّ المالِ أوْلَى بذلك مِن وَكِيله. فصل: وإذا اشْتَرَى المُضارِبُ عَبْدًا، فقَتَلَه عَبْد لغَيرِه، ولم يَكُنْ ظَهَر في المالِ رِبْح، فالأمْرُ لرَبِّ المالِ؛ إن شاء اقْتَصَّ، وإن شاء عَفَا على غيرِ مالٍ، وتَبْطُلُ المُضارَبَةُ فيه؛ لذَهاب رَأسِ المالِ. وإن شاء عَفَا على مالٍ، فإن عَفَا على مِثْلِ رَأسِ المالِ أو أقَلَّ أَو أكثرَ، فالمُضارَبَةُ بحالِها، والرِّبْحُ بينَهما على ما شَرَطَاه؛ لأنَّه وُجِد بَدَل عن رَأسِ المالِ، فهو كما لو وَجَد بَدَلَه بالبَيعِ، وإن كان في العَبْدِ رِبْح، فالقِصَاصُ إليهما، والمُصالحَةُ كذلك؛ لكَوْنِهما شَرِيكَين فيه. والحُكْمُ في انْفِساخِ المُضارَبَةِ وبَقائِها على ما تَقَدّمَ. ¬

(¬1) في م: «لا يكون مطالبا».

2082 - مسألة: (وليس لرب المال أن يشتري من مال المضاربة شيئا لنفسه. وعنه، يجوز)

وَلَيسَ لِرَبِّ الْمَالِ أن يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيئًا لِنَفْسِهِ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ شِرَاءُ السَّيِّدِ مِن عَبْدِهِ الْمَأذُونِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2082 - مسألة: (وليس لرَبِّ المالِ أن يَشْتَرِيَ مِن مالِ المُضارَبَةِ شيئًا لنَفْسِه. وعنه، يَجُوزُ) إذا اشْتَرَى رَبُّ المالِ مِن مالِ المُضارَبَةِ شيئًا لنَفْسِه، لم يَصِحَّ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو قولُ الشافعيِّ. ويَصِحُّ في الأخْرَى. وبه قال مالك، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّه قد [تَعَلَّق به] (¬1) حَقُّ المُضارِبِ، فجاز شِراؤه، كما لو اشْتَرَى مِن مُكاتَبه. ولَنا، أنَّه مَلَكَه، فلم يَصِحَّ شِراؤه له، كَشِرائِه مِن وَكِيله، وفارَقَ المُكاتَبَ، فإن السَّيِّدَ لا يَمْلِكُ ما في يَدِه، ولا تَجِبُ زَكاتُه عليه، وله أخْذُ ما فيه شُفْعة منه. 2083 - مسألة: (وكذلك شِراءُ السَّيِّدِ مِن عَبْدِه المَأذُونِ) لما ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا، ويَحْتَمِلُ أن يَصِح إذا اسْتَغْرَقَتْه الديونُ؛ لأنَّ الغُرَماءَ يَأخذُون ما في يَدِه، ولأنَّ الدَّينَ إذا تَعَلَّقَ برَقَبَتِه، صار مُسْتَحَقا للغُرَماءِ، فصَحَّ شِرَاءُ السَّيِّدِ منه، كبَقِيَّةِ الغُرَماءِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأن مِلْكَ السَّيِّدِ لم يَزُلْ عنه وإن تَعَلَّقَ حَقُّ الغُرَماءِ به، كالعَبْدِ الجانِي. فصل: وإنِ اشْتَرَى المُضارِبُ مِن مالِ المُضارَبَةِ لنَفْسِه، ولم يَظْهَرْ رِبْح، صَحَّ. نَص عليه أحمدُ. وبه قال مالك، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ. وحُكِيَ ذلك عن أبي حنيفةَ. وقال أبو ثَوْرٍ: البَيعُ باطِل؟ لأنَّه شَرِيك. ولَنا، أنَّه مِلْك لغيرِه، فصَحَّ شِراؤه له، كَشِراءِ الوَكِيلِ مِن مُوَكِّلِه، وإنَّما يَكُونُ شَرِيكًا إذا ظَهَر الرِّبْحُ؛ لأنَّه إنَّما يُشارِكُ (¬1) في الرِّبْحِ دُونَ أصْلِ المالِ، فإن ظَهَر رِبْحٌ، فشِراؤه كَشِراءِ أحَدِ الشَّرِيكَين مِن شَرِيكِه. ¬

(¬1) في م: «شارك».

2084 - مسألة: (وإن اشترى أحد الشريكين نصيب شريكه، صح)

وإنِ اشْترَى أحَدُ الشَّرِيكَينِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، صَح. وإنِ اشْتَرَى الْجَمِيعَ، بَطَلَ فِي نَصِيبِهِ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَجْهَانِ. وَيَتَخَرجُ أنْ يَصِحَّ فِي الْجَمِيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2084 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى أحَدُ الشَّريكَين نَصِيبَ شَرِيكِه، صَحَّ) لأَنه يَشْتَري مِلْكَ غيرِه. قال أحمدُ، في الشَّرِيكَينِ في الطعامِ يُرِيدُ أحَدُهما بَيعَ حِصتِه مِن صاحِبِه: إن لم يَكُونا يَعْلَمان كَيلَه، فلا بَأسَ، وإن عَلِما كَيلَه، فلا بُدَّ مِن كَيله. يَعْنِي أنَّ مَن عَلِم مَبْلَغ شيءٍ لم يبعْه صُبْرَة، وإن باعَه إيّاه بالكَيلِ والوَزْنِ، جاز. 2085 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى الجَمِيعَ، بَطَل في نَصِيبِه) لأَنه مَلَكَه. وهل يَصِحُّ في حِصَّةِ شَرِيكِه؟ على وَجْهَين، بِناءً على تَفرِيقِ الصَّفْقَةِ (ويَتَخَرَّجُ أن يَصِحَّ في الجَمِيعِ) بِناءً على صِحَّةِ شِراءِ رَبِّ المالِ مِن مالِ المُضارَبَةِ.

2086 - مسألة: (وليس للمضارب نفقة إلا بشرط)

وَلَيسَ لِلْمُضَارِبِ نَفَقَةٌ إلا بِشَرْطٍ، فَإِنْ شَرَطَهَا لَهُ، وَأطلَقَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اسْتَأجَرَ (¬1) أحدُ الشَّرِيكَينِ مِن صاحِبِه دارًا، ليَحْرُزَ فيها مال الشَّرِكةِ أو غَرائِرَ، جاز. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ صالِح. وإنِ اسْتَأجَرَه لنَقْلِ الطَّعامِ، أو غُلامِه، أو دابَّتِه، جاز؟ لأنَّ ما [جاز أن يَسْتَأجِرَ له غيرَ الحيوانِ] (¬2)، جاز أن يَسْتَأجرَ له الحَيَوانَ، كَمالِ الأجْنَبِيِّ. وفيه رِواية أخرى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ هذا لا تَجِبُ الأجْرَةُ فيه إلَّا بالعَمَلِ، ولا يُمْكِنُ إيفاءُ العَمَلِ في المُشْتَرَكِ؛ لأنَّ نَصِيبَ المُسْتَأجِرِ غيرُ مُتَمَيِّز مِن نَصِيبِ المُؤجِرِ، فإذًا لا تَجِبُ الأجْرَةُ، والدّارُ والغرائِرُ لا يُعْتَبَرُ فيها إيقاعُ العَمَلِ، إنَّما يَجِبُ بوَضْعِ العَينِ في الدّارِ، فيُمْكِنُ تَسْلِيمُ المَعْقُودِ عليه. 2086 - مسألة: (وليس للمُضارِبِ نَفَقَة إلَّا بِشَرْطٍ) سواء كانت تِجارَتُه في الحَضَرِ أو السَّفَرِ. وبهذا قال ابنُ سِيرِينَ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وقال الحسنُ، والنَّخعِي، والأوْزاعِيُّ، ومالك، وإسحاقُ، وأبو ثَوْر، وأصحابُ الرَّأي: يُنْفِقُ مِن المالِ بالمَعْرُوفِ (¬3) إذا شَخَص به عن البَلَدِ؛ لأنَّ سَفَرَه لأجْلِ المالِ، ¬

(¬1) في الأصل: «اشترى من». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «المعروف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكانت نَفَقَتُه فيه، كأجْرِ الحَمّالِ. ولَنا، أنَّ نَفَقَتَه تَخُصُّه، فكانت عليه، كنَفَقَةِ الحَضَرِ، وأجْرِ الطيبِ، [وثَمَنِ الطِّيبِ] (¬1)؛ لأنَّه دَخَل على أنه لا يَسْتَحِقُّ مِن الرِّبْحِ إلَّا الجُزْءَ المُسَمَّى، فلا يَكُونُ له غيرُه، ولأنَّه لو اسْتَحَقَّ النَّققَةَ، أفْضَى إلى أن يَخْتَصَّ بالرِّبْحِ إذا لم يَرْبَحْ سِوَى النَّفَقَةِ. فأمّا إن شَرَط له النَّفَقَةَ، صَح، وله ذلك؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬2). فإن قَدَّرَ له ذلك فحَسَن؛ لأنَّ فيه قَطْعَ المُنازَعَةِ وزَوال الاخْتِلافِ. [قال أحمد في رِوايةِ الأثْرَم: أحَبُّ إليَّ أن يَشْتَرِطَ نَفَقَة مَحْدُودَةً] (¬3)، وله ما قَدّرَ له مِن مَأكُول ومَلْبُوَس ومَرْكوبٍ وغيرِه، وإن أطْلَقَ، صَح. نَص عليه. وله نَفَقَتُه مِن المأكُولِ خاصَّة، [ولا كُسْوَةَ] (3) له. قال أحمدُ: إذا قال: له نَفَقَتُه. فإنَّه يُنْفِقُ. قِيلَ له: فيَكْتَسِي؟ قال: لا، إنما له النَّفَقَةُ. فإن كان سَفَرُه طَويلًا يَحتاج إلى تَجْديدِ كُسْوَةٍ، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ جَوازُها؛ لأنَّه قِيلَ له: فلم يَشتَرِطِ الكُسْوَةَ، إلَّا أنَّه في بَلَدٍ بعيدٍ، وله مُقام طَويل يَحتاجُ فيه إلى الكُسْوَةِ؟ فقال: إذا أذِنَ له في النفَقَةِ، فَعَل ما لم يَحْمِلْ على مالِ الرَّجُلِ، ولم يكنْ ذلك قَصْدهَ. هذا مَعْناه. وقال القاضي، وأبو الخَطّابِ: إذا شَرَطَ له ¬

(¬1) سقط من الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 149. (¬3) سقط من: الأصل.

فَلَهُ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ؛ مِنْ مَأكُول وَمَلْبُوس بِالْمَعْرُوفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفَقَةَ (فله جَمِيعُ نَفَقَتِه؛ مِن مَأكُولٍ ومَلْبُوس بالمَعْرُوفِ) وقال أحمدُ: يُنْفِقُ على مَعْنَى ما كان يُنْفِقُ على نَفْسِه غيرَ مُتَعَدٍّ بالنَّفَقَةِ ولا مُضِر بالمالِ. ولم يَذْهَبْ أحمدُ إلى تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ؛ لأن الأسْعارَ تَخْتَلِفُ، وقد تَقِلُّ وقد تكثُرُ.

2087 - مسألة: (فإن اختلفا)

فَإن اخْتَلَفَا، رُجِعَ فِي الْقُوتِ إلى الإطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْمَلْبُوسِ إلَى أقَلِّ مَلْبُوسِ مِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2087 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفَا) في قَدْرِ النَّفَقَةِ، فقال أبو الخَطّابِ: يَرْجِعُ في القُوتِ إلى الإطْعامِ في الكَفّارةِ، وفي الملبوسِ إلى أقلِّ مَلْبوسِ مِثْلِه. [وهذا الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ] (¬1)، لأنَّه العادَةُ، فيَنْصَرِفُ الإطْلاقُ إليه، كما انْصَرفَ إليه في الإطْعامِ في الكَفّارةِ. فإن كان معه مالٌ لنَفْسِه، أو مُضارَبة أخْرَى، أو بِضاعَة لآخَرَ، فالنَّفَقَةُ على قَدْرِ المالينِ؛ لأنها لأجْلِ السَّفَرِ، والسَّافَرُ للمالين، فيَجِبُ أن تَكُونَ النَّفَقَةُ مَقْسُومَةً على قَدْرِهما، إلَّا أن يَكُونَ رَبُّ المالِ قد شَرَط له النَّفَقَةَ مِن مالِه مع (¬2) عِلْمِه بذلك. ولو أذِنَ له في السَّفر إلى مَوْضعٍ مُعَيَّن أو غيرِ مُعَيَّن، ثم لَقِيَه رَبُّ المالِ في السَّفَرِ في ذلك المَوْضعِ أو في غيرِه (¬3) وقد نَضَّ المالُ، فأخَذَ ماله، فطالبَه العامِلُ بنَفَقَةِ الرُّجُوعِ إلى بَلَدِه، لم يَكُنْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «و». (¬3) سقط من: الأصل.

2088 - مسألة: (فإن أذن له في التسري، فاشترى جارية، ملكها، وصار ثمنها قرضا. نص عليه)

وإنْ أذِنَ لَهُ فِي التَّسَرِّي، فَاشْتَرَى جَارِيَةً، مَلَكَهَا، وَصَارَ ثَمَنُهَا قَرْضًا. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له ذلك؛ لأَنه إنَّما اسْتَحَقَّ النَّفَقَةَ ما داما في القِراضِ، وقد زال، فزالتِ النَّفَقَةُ، ولِذلك لو مات، لم يَجِبْ تَكْفِينُه. وقِيلَ: له ذلك؛ لأنَّه كان شَرَط له نفقةَ ذَهابِه ورُجُوعِه، وغَرَّه بتَسْفِيرِه إلى المَوْضِعِ الذي أذِنَ (¬1) له فيه مُعْتَقِدًا أنَّه مُسْتَحِقٌّ للنفَقَةِ ذاهبًا وراجِعًا، فإذا قَطَع عنه النفَقَةَ، تَضَرَّرَ بذلك. 2088 - مسألة: (فإن أذِنَ له في التسَري، فاشْتَرَى جارِيَةً، مَلَكَها، وصار ثَمَنُها قَرْضًا. نَصّ عليه) أحمدُ؛ لأن البُضْعَ لا يُباحُ إلّا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِلْكٍ أو نِكاح؛ لقَوْلِه سُبْحانَه: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬1). ولم يُوجَدِ النِّكاحُ، فتَعَيَّنَ المِلْكُ، ويَخْرُجُ ثَمَنُها مِن المُضارَبَةِ، ويَكُونُ قَرْضًا في ذِمَّتِه؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سورة المؤمنون 6، سورة المعارج 30.

2089 - مسألة: (وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال)

وَلَيسَ لِلْمُضَارِبِ رِبْحٌ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأسَ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2089 - مسألة: (وليس للمُضارِبِ رِبْحٌ حتى يَسْتَوْفِيَ رَأسَ المالِ) يَعْنِي أنه لا يَسْتَحِقُّ أخْذَ شيءٍ مِن الرِّبْحِ حتى يُسَلِّمَ رَأسَ المالِ إلى رَبِّه، ومتى كان في المالِ خُسْرانٌ ورِبْحٌ، جُبِرَتِ الوَضِيعة مِن الرِّبْحِ، سواءٌ كان الرِّبْحُ والخُسْرانُ في مَرّةٍ واحدةٍ، أو الخُسْرانُ في صَفقَةٍ والرِّبْحُ في أخْرَى، وأحَدُهما في سَفْرَةٍ والآخَرُ في أخْرى؛ لأنَّ الرِّبْحَ هو الفاضِل عن رَأسِ المالِ، وما لم يَفْضُلْ فليس برِبْحٍ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. فصل: وفي مِلْكِ العامِلِ نَصِيبَه مِن الرِّبْحِ قبلَ القِسْمَةِ رِوايَتانِ؛ إحْداهُما، يَمْلِكُه. ذَكَرَه القاضي. وهو قولُ أبي حنيفةَ. والأخْرَى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَمْلِكُه. ذَكَرها أبو الخَطّاب. وهو قولُ مالكٍ. وللشافعيِّ قوْلان، كالرِّوايَتَين. واحْتَجَّ مَن لم يُمَلِّكْه بأنه لو مَلَكَه، لَاخْتَصَّ برِبْحِه، ولوَجَبَ أن يَكُونَ شَرِيكًا لرَبِّ المالِ، كَشَرِيكَي العِنانِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ الشَّرْطَ صَحِيح، فيَثْبُتُ مُقْتضاهُ، وهو أن يَكُونَ له جُزْء مِن الرِّبْحِ، فإذا وُجِدَ، وَجَب أن يَمْلِكَه بِحُكْمِ الشَّرْطِ، كما يَمْلِكُ المُساقِي حِصَّتَه مِن الثَّمَرَةِ بظُهُورِها، وقِياسًا على كلِّ شَرْطٍ صَحِيح في عَقْدٍ، ولأنَّه مَمْلُوك، فلا بُدَّ له مِن مالِك، ورَبُّ المالِ لا يَمْلِكُه اتِّفاقًا، ولا تَثْبُتُ أحْكامُ المِلْكِ في حَقِّه، فلَزِمَ أن يَكُونَ للمُضارِبِ، ولأنَّه يَمْلِكُ المُطالبةَ بالقِسْمَةِ، فكانَ مالِكًا، كأحَدِ شَرِيكَي العِنانِ. ولا يَمْتَنِعُ أن يَمْلِكَه، ويَكُونَ وقايَةً لرأسِ المالِ، كنَصِيبِ رَبِّ المالِ مِن الرِّبْحِ، وبهذا امْتَنَعَ اخْتِصاصُه برِبْحِه، ولأنَّه لو اخْتَصَّ برِبْحِه، لاسْتَحَقَّ مِن الرِّبْحِ أكثر مِمّا شَرَط له، ولا يَثْبُتُ بالشَّرْطِ ما يُخالِفُ مُقْتضاه. قال أحمدُ، في المُضارِبِ يَطَأ جارِيَةً مِن المُضارَبَةِ: فإن لم يَكُنْ ظَهَر في المالِ رِبْحٌ، لم تَكُنْ أمّ وَلَدِه، وإن ظَهَر فيه رِبْح، فهي أمُّ الدِه. وفيه دَلِيل على أنَّه يَمْلِكُ الرِّبْحَ بالظُّهُورِ. وهذا ظاهِر المَذهَبِ. فصل: إذا دَفَع إلى رَجُل مائَةً مُضارَبةً، فخَسِرَ عَشَرَةً، ثم أخَذَ رَبُّ المالِ منها عَشَرَةً، لم يَنْقُصْ رَأسُ المالِ بالخُسْرانِ؛ لأنَّه قد ربَحُ فيَجْبُرُ الخُسْرانَ، لكنَّه يَنْتَقِصُ بما أخَذَه رَبُّ المالِ، وهي العَشَرَةُ، وقِسْطُها مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُسْرانِ، وهو دِرْهَم وتُسْع، ويَبْقَى رَأسُ المالِ ثَمانِيَةً وثَمانِين وثَمانِيةَ أتْساعِ دِرْهم. فإن كان أخَذَ نِصْفَ التِّسْعِين الباقِيَةِ، بَقِيَ رَأسُ المالِ خَمْسِين؛ لأنَّه أخَذَ نِصْفَ المالِ، فسَقَطَ نِصْفُ الخُسْرانِ، وإن كان أخَذَ خَمْسِين، بَقِيَ أرْبَعَة وأرْبَعونَ وأرْبَعَةُ أتْساع. وكذلك (¬1) إذا رَبِح المالُ ثم أخَذَ رَبُّ المالِ بعضَه، كان ما أخَذَه مِن الرِّبْحِ ورَأسِ المالِ، فلو كان رَأسُ المالِ مائةً فرَبِحَ عِشرِين فأخَذَها رَبُّ المالِ، لبَقِىَ رَأسُ المالِ ثَلاثةً وثَمانِينَ وثُلُثًا؛ لأنه أخَذَ سُدْسَ المالِ، فنَقَصَ رَأسُ المالِ سُدْسَه، وهو سِتَّةَ عَشَرَ وثُلُثان، وحَظُّها (¬2) مِن الرِّبْحِ ثَلاثَة وثُلُث. ولو كان أخَذَ سِتِّين، بَقِي رَأسُ المالِ خَمْسِين؛ لأنَّه أخَذَ نِصْفَ المالِ، فبَقِيَ نِصْفُه، وإن كان أخَذَ خَمْسِين، بَقِي ثَمانِيَة وخَمْسُون وثُلُث؛ لأنّه أخَذَ رُبْعَ المالِ وسُدْسَه، بَقِيَ ثُلُثُه ورُبْعُه، وهو ما ذَكَرْنا. فإن أخَذَ سِتِّين ثم خسِر في الباقِي، فصارَ أرْبَعِين، فَرَدَّها، كان له على رَبِّ المالِ خَمْسَة؛ لأنَّ ما أخَذَه رَبُّ المالِ انْفَسَخَتْ فيه المُضارَبَةُ، فلا يَجْبُرُ برِبْحِه خُسْرانَ ما بَقِي في يَدِه، لمُفارَقَتِه إيّاه، وقد أخَذَ مِن (¬3) الرِّبْحِ عَشرةً؛ لأنَّ سُدْسَ ما أخَذَه رِبْح، فكانت العَشَرَةُ بينَهما، وإن لم يَرُدَّ الأرْبَعِين كُلَّها، بل رَدَّ منها إلى رَبِّ المالِ عِشرِين، بَقِي رَأسُ المالِ خمْسَةً وعِشرِين. ¬

(¬1) في م: «لذلك». (¬2) في م: «حقها». (¬3) في م: «منه».

2090 - مسألة: (وإن اشتري سلعتين، فربح في إحداهما، وخسر في الأخرى، أو تلفت، جبرت الوضيعة من الربح)

وَإنِ اشتَرَى سِلْعَتَينِ، فَرَبِح فِي إحْدَاهُمَا، وَخَسِرَ فِي الأخْرَى، أوْ تَلِفَتْ، جُبِرَتِ الْوَضِيعَة مِنَ الرِّبْحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2090 - مسألة: (وإن اشْتَرَي سِلْعَتَين، فرَبِحَ في إحْداهُما، وخسِر في الأخْرَى، أو تَلِفَتْ، جُبِرَتِ الوَضِيعَة مِن الرِّبْحِ) إذا دَفَع إلى المُضارِبِ ألْفَينِ، فاشْتَرَى بكلِّ ألْفٍ عَبْدًا، فرَبِحَ في أحَدِهما، وخَسِر في الآخَرِ، أو تَلِف، وَجَب جَبْرُ الخُسْرانِ مِن الرِّبْحِ، ولا يَسْتَحِقُّ المُضارِبُ شيئًا، إلَّا بعدَ كَمال الألْفَين. وبه قال الشافعي، إلَّا فيما إذا تَلِف أحَدُ العَبْدَين، فإنَّ أصْحابَه ذَكَرُوا فيه وَجْهًا ثانِيًا، أنَّ التّالِفَ مِن رَأسِ المالِ؛ لأنَّه بَدَلُ أحَدِ الألفَين، ولو تَلِف أحَدُ الألْفَين كان مِن رَأسِ المالِ، فكذلك بَدَلُه. ولَنا، أنَّ تَلَفَه بعدَ أن دار في القِراضِ، وتَصَرَّفَ في المالِ بالتِّجارَةِ، فكان تَلَفُه مِن الربْحِ، كما لو كان رَأسُ المالِ دينارًا فاشْتَرَى به سلْعَتَين، ولأنَّهما سِلْعتان، تُجْبَرُ خَسارَةُ إحداهما بِرَبح الأخْرَى، فجُبِرَ تَلَفُها به، كما لو كان رَأسُ المالِ دِينارًا واحِدًا، ولأنَّه رَأسُ مالٍ واحِدٍ، فلا يَسْتَحِقُّ المُضارِبُ فيه رِبْحًا حتى يَكْمُلَ رَأسُ المالِ، كالذي ذَكَرْنا.

2091 - مسألة: (وإن تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه، انفسخت فيه المضاربة)

وَإنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأسِ الْمَالِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، انْفَسَخَتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2091 - مسألة: (وإن تَلِف بعضُ رَأسِ المالِ قبلَ التَّصَرُّفِ فيه، انْفَسَخَتْ فيه المُضارَبَةُ) وكان رَأسُ المالِ الباقِيَ خاصَّة. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: مَذْهَبُ الشافعيِّ أنَّ التّالِفَ مِن الرِّبْحِ، لأنَّ المال إنما يَصِيرُ قِراضًا بالقَبْضِ، فلا فَرْقَ بينَ هَلاكِه قبلَ التَّصَرُّفِ و (¬1) بعدَه. ولَنا، أنَّه مال هَلَك على جِهَتِه قبلَ التَّصَرُّفِ فيه، فكان رَأسُ المالِ الباقِيَ، كما لو تَلِف قبْلَ القَبْضِ. وفارَقَ ما بعدَ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه دارَ في التِّجارَةِ، وشَرَع فيما قُصِدَ بالعَقْدِ مِن التصَرُّفاتِ المُؤديةِ إلى الرِّبْحِ. فصل: إذا دَفَع إليه ألْفًا مُضارَبَةً، ثم دَفَع إليه ألْفًا آخَرَ، مُضاربَةً (¬2) وأذِنَ له في ضَمِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ قبلَ التَّصَرُّفِ في الأوّلِ، جاز، وصار مُضارَبَةً واحِدَةً، كما لو دَفَعَهُما إليه جَمِيعًا، وإن كان بعدَ التَّصَرُّفِ في الأوّلِ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) سقط من: م.

2092 - مسألة: (وإن تلف المال، ثم اشترى سلعة للمضاربة، فهي له، وثمنها عليه)

وَإنْ تَلفَ الْمَالُ، ثُمَّ اشْتَرَى سِلْعَةً لِلْمُضَارَبَةِ، فَهِيَ لَهُ، وَثَمَنُهَا عَلَيهِ، إلا أنْ يُجِيزَهُ رَبُّ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في شِراءِ المَتاعِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ حُكْمَ الأوَّلِ اسْتَقَرَّ، وكان رِبْحُه وخُسْرانُه مُخْتَصًّا به (¬1)، فضَمُّ الثّانِي إليه يُوجِبُ جَبْرَ خُسْرانِ أحَدِهما بِرِبْح الآخَرِ. فإذا شَرَط ذلك في الثّانِي فَسَدَ. فإن نَضَّ الأوَّلُ، جاز ضَمُّ الثّانِي إِليه؛ لزَوالِ هذا المَعْنَى، وإن لم يَأذَنْ في ضَمِّ الثّانِي إلى الأوَّلِ، لم يَجُزْ. نصَّ عليه أحمدُ. وقال إسْحاقُ: له ذلك قبلَ أن يَتَصَرَّفَ في الأوَّلِ. ولَنا، أنه أفْرَدَ كلَّ واحِدٍ بِعَقْدٍ، فكانا عَقْدَين، لكُلِّ عَقْدٍ حُكْمُ نَفْسِه (¬2)، فلا يُجْبَرُ وَضِيعةُ أحَدِهما بِرِبْحِ الآخَرِ، كما لو نَهاه عن ذلك. 2092 - مسألة: (وإن تَلِف المالُ، ثم اشْتَرَى سِلْعَةً للمُضارَبَةِ، فهي له، وثَمَنُها عليه) سواء عَلِم بتَلَفِ المالِ قبلَ نَقْدِ الثَّمنِ أو جَهِل ذلك (إلا أن يُجِيزَه رَبُّ المالِ) وذلك لأَنه اشْتَراها في ذمَّتِه، وليست مِن مالِ المُضارَبَةِ، فاخْتَصَّت به؛ لأنَّه لو صَحَّ شِراؤه للمُضارَبَةِ، لكانَ مُسْتَدِينًا على غيرِه، والاسْتِدانَةُ على الإِنْسانِ بغيرِ إذْنِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في الأصل: «قبل».

2093 - مسألة: (وإن تلف بعد الشراء، فالمضاربة بحالها، والثمن على رب المال)

وَإنْ تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا، وَالثَّمَنُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَجُوزُ، فإن أجازَه رَبُّ المالِ، جاز، في إحْدَى الرِّوايَتَين، والثَّمَنُ عليه، لأنَّ مَنِ اشْتَرى شيئًا لغيرِه بغيرِ إذْنِه، وَقَف على إجازَته، فإن أجازَه، فهو له، وإلَّا فهو للمشْتَرِي، وهذا كذلك. والثّانِيَةُ، هو للعامِلِ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ هذا زِيادَةٌ في مالِ المُضارَبةِ، فلا تَجُوزُ. 2093 - مسألة: (وإن تَلِف بعدَ الشِّراءِ، فالمُضارَبَةُ بحالِها، والثَّمَنُ على رَبِّ المالِ) لأنَّه دار (¬1) في التِّجارَةِ، ويَصِيرُ رَأسُ المالِ (¬2) الثَّمَنَ دُونَ التّالِفِ؛ لأنَّ الأولَ تَلِف قبلَ التَّصَرُّفِ فيه. وهذا قولُ بعضِ الشافعيَّةِ، ومنهم مَن قال: رَأسُ المالِ [هذا و] (¬3) التّالِفُ. حُكِيَ عن أبي ¬

(¬1) في الأصل: «أذن». (¬2) بعده في م: «هذا». (¬3) في م: «هو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، ومحمد بنِ الحَسَنِ. ولَنا، أنَّ التّالِفَ تَلِف قبلَ التَّصَرُّفِ فيه، فلم يَكُنْ مِن رَأسِ المالِ، كما لو تَلِف قبلَ الشِّراءٍ. فلو اشْتَرَى عَبْدَين بمائَةٍ فتَلِفَ أحَدُهما، وباع الآخَرَ بخَمْسِين، فأخذَ منها رَبُّ المالِ خَمْسةً وعِشْرِين، بَقِيَ رَأسُ المالِ خمْسِين، لأنَّ رَبَّ المالِ أخَذَ نِصْفَ المالِ المَوْجُودِ، فسَقَطَ نِصْفُ الجُبْرانِ. ولو لم يَتْلَفِ العَبْدُ وباعَهُما بمائَةٍ وعِشْرِين، فأخَذَ ربُّ المالِ سِتِّين، ثم خَسِر العامِلُ فيما معه عِشْرِين، فله مِن الرِّبْحِ خَمْسَة، لأنَّ سُدْسَ ما أخَذَه رَبُّ المالِ رِبْح، للعامِلِ نِصْفه، وقد انْفَسَخَتِ المضارَبَةُ فيه، فلا [يُجْبَرُ به] (¬1) خُسْرانُ الباقِي، ويَبْقَي رَأسُ المال خَمْسِين، فإنِ اقْتَسَما الرِّبْحَ خاصَّةً ثم خَسِر عِشْرِين، فعلى العامِلِ رَدُّ ما أخَذَه، وبَقِي رَأسُ المالِ تِسْعِينَ، لأنَّ العَشَرَةَ الباقِيَةَ مع رَبِّ المالِ تُحْسَبُ مِن رَأسَ المالِ. فصل: ومهما بَقِيَ العَقْد على رَأسِ المالِ، وَجَب جَبْرُ خسْرانِه مِن رِبْحِه، وإنِ اقْتَسما الرِّبْحَ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن المُضارِبِ يَرْبَحُ ويَضَعُ مِرارًا؟ فقال: يَرُدُّ الوَدِيعَةَ على الرِّبْحِ، إلَّا أن ¬

(¬1) في الأصل: «يجبره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْبِضَ المال صاحِبُه، ثم يَرُدُّه إليه، فيَقُولُ: اعْمَلْ به ثَانِيَةً. فما رَبِح بعدَ ذلك لا يُجْبَرُ به وَضِيعَةُ الأوَّلِ، فهذا ليس في نَفْسِي منه شيء، وأمّا ما لم يَدْفَعْ إليه (¬1) فحتى يَحتَسِبا حِسابًا كالقَبْضِ، كما قال ابنُ سيرِينَ. قِيلَ: وكيف يَكُونُ حِسابًا كالقَبْضِ؟ قال: يَظْهَرُ المالُ. يَعْنِي يَنضُّ ويَجِئُ فيَحْتَسِبان عليه، فإن شاء صاحِبُ المالِ قَبَضَه. قِيلَ له، فيَحْتَسِبان على المَتاع؟ فقال: لا يَحْتَسِبان إلَّا على النّاضِّ؛ لأنَّ المَتاعَ قد يَنْحَط سِعْرُه ويَرْتفِعُ. قال أبو طالِبٍ: قِيلَ لأحمَد: رَجُل دَفَع إلى رَجُل عَشرَةَ آلافِ دِرْهَم مُضارَبَةً، فوَضِعَ (¬2)، فبَقِيَتْ ألْف، فحاسَبَه صاحِبُها، ثم قال له: اذْهَبْ فاعْمَلْ. بها فرَبِحٍ؟ قال: يُقاسِمُه ما فَوْقَ الألْفِ. يعني إذا كانتِ الألْفُ ناضَّة حاضِرَةً إن شاء صاحِبُها قَبَضَها. فهذا الحِسَابُ الذي كالقَبْضِ، فيَكُونُ أمْرُه بالمُضارَبَةِ بها في هذه الحالِ ابْتِداءَ مُضارَبَةٍ ثانِيَةٍ، كما لو قَبَضَها منه ثم رَدَّها إليه. فأمّا قبلَ ذلك فلا شيءَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وضِع: خسر.

2094 - مسألة: (وإذا ظهر الربح، لم يكن للعامل أخذ شيء، إلا بإذن رب المال)

وَإذَا ظَهَرَ الرِّبْح، لَمْ يَكنْ لِلْعَامِلِ أخْذ شَيْءٍ مِنْه، إلا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ. وَهَلْ يَمْلِكة الْعَامِل بِالظُّهورِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُضارِبِ حتى يُكْمِلَ عَشرَةَ آلافٍ (¬1). ولو أنَّ رَبَّ المالِ والمضارِبَ اقْتَسَما الرِّبْحَ، [أو أخَذَ] (¬2) أحَذهما منه (¬3) شيئًا بإذْنِ الآخَرِ، والمُضارَبَةُ بحالِها، ثم خَسِر المُضارِبُ، رَدّ ما أخَذَ مِن الرِّبْحِ، لأنَّنا تَبَينا أنَّه ليس برِبْح، ما لم تَنْجَبِرِ الخَسارَةُ. واللهُ أعلمُ. 2094 - مسألة: (وإذا ظَهَر الرِّبْحُ، لم يَكنْ للعامِلِ أخْذُ شيءٍ، إلَّا بإذْنِ رَبِّ المالِ) لا نَعْلَمُ في هذا بينَ أهْلِ العِلْمِ خِلافًا؟ لثَلاثةِ أمُور؛ أحَدُها، أنَّ الرِّبْحَ وقاية لرأسِ المالِ، فلا يُؤمَنُ الخُسْرانُ الذي يَكُونُ هذا الرِّبْحُ جابِرًا له، فيَخْرُجُ بذلك عن كَوْنِه رِبْحًا. الثَّانِي، أنَّ رَبَّ المالِ شَرِيكُه، فلم يَكُنْ له مُقاسَمَةُ نَفْسِه. الثّالث، أن مِلْكَه غيرُ مُسْتَقِر عليه؛ لأنَّه بعَرَضِ أن يَخْرُجَ عن يَدَيه لجُبْرانِ خَسارَةِ المالِ. فإن أذنَ رَبُّ المالِ في ذلك، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُج عنهما. ¬

(¬1) في الأصل: «الألف». (¬2) في الأصل: «فأخذ» وفي م، ر 1: «وأخذ». (¬3) سقط من: م.

2095 - مسألة: (وإن طلب العامل البيع، فأبى رب المال، أجبر إن كان فيه ربح، وإلا فلا)

وإنْ طَلَبَ الْعَامِلُ الْبَيعَ، فَأبَى رَب الْمَالِ، أجْبِرَ إنْ كَانَ فِيهِ رِبْح، وإلا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2095 - مسألة: (وإن طَلَب العامِلُ البَيعَ، فأبَى رَبُّ المالِ، أجْبِرَ إن كان فيه رِبْح، وإلَّا فلا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُضارَبَةَ مِن العُقُودِ الجائِزَةِ، تَنْفَسِخُ بفَسْخِ أحَدِهما، أيهما كان، وبموتِه، والحَجْرِ عليه لسَفَهٍ، كالوَكالةِ. ويَسْتَوي في ذلك ما قبلَ التَّصَرُّفِ وبعدَه. فإنِ انْفَسَخَتْ والمالُ ناضٌّ لا رِبْحَ فيه، أخَذَه رَبُّه، فإن كان فيه رِبْح، قَسَماه على ما شَرَطا. فإنِ انْفَسَخَتْ والمالُ عَرْض، فاتفَقا على بَيعِه أو قَسْمِه، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، فجاز ما اتَّفَقا عليه. وإن طَلَب العامِلُ البَيعَ، فأبَى رَبُّ المالِ، وقد ظَهَر في المال رِبْحٌ، أجْبِرَ رَبُّ المالِ على البَيعِ. وهذا قولُ الثّوْرِيِّ، وإسْحاقَ؛ لأنَّ حَقَّ العامِلِ في الرِّبْحِ، ولا يَظْهَرُ إلَّا بالبَيعِ. وإن لم يَظْهَرْ رِبْح، لم يُجْبَرْ؛ لأنَّه لا حَقَّ له فيه، وقد رَضِيَه مالِكُه كذلك، فلم يُجْبَرْ على بَيعِه. وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُجْبَرُ؛ لأنَّه رُبَّما زاد فيه راغِب فزاد على ثَمَنِ الْمِثِلِ، فيكونُ للعامِلِ [في البَيعِ] (¬1) حَظ. ولَنا، أنَّ المُضارِبَ إنَّما اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ إلى حينِ ¬

(¬1) في الأصل: «فيه».

2096 - مسألة: (وإن انفسخ القراض، والمال عرض، فرضي رب المال أن يأخذ بماله عرضا، أو طلب البيع، فله ذلك)

وإنِ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ، وَالْمالُ عَرْض، فَرَضِيَ رَبُّ الْمَالِ أنْ يَأخُذَ بِمَالِهِ عَرْضًا، أوْ طَلَبَ الْبَيعَ، فَلَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَسْخِ، وذلك لا يُعْلَمُ إلا بالتقْويمِ، ألا تَرَى أنَّ المُسْتَعِيرَ إذا غَرَس أو بَنَى، أو المُشْتَرِيَ، فإنَّ (¬1) للمُعِيرِ والشفِيعِ أن يَدْفَعا قِيمَةَ ذلك؛ [لأنه مُسْتَحِقٌّ للأرْضِ] (¬2)، فههُنا أوْلَى. وما ذكَرُوه مِن احْتِمالِ الزِّيادة بزِيادة راغِب على القِيمَةِ، فإنَّما حَدَث ذلك بعدَ فَسْخِ العَقْدِ، فلا يَستَحِقُّها العامِلُ. 2096 - مسألة: (وإنِ انْفَسَخَ القِراضُ، والمالُ عَرْض، فرَضِيَ رَبُّ المالِ أن يَأخُذَ بمالِه عَرْضًا، أو طَلَب البَيعَ، فله ذلك) أمّا إذا رَضِيَ ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) في الأصل، م: «إلى مستحق الأرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَبُّ المالِ أن يَأخُذَ بمالِه عَرْضًا، فله ذلك؛ لأنه أسْقَطَ البَيعَ عن المُضارِبِ وأخَذَ العُرُوضَ بثَمَنِها الذي يَحْصُلُ مِن غيرِه. وأمّا إذا طَلَب البَيعَ وأَبى العامِلُ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُجْبَرُ العامِلُ عليه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ عليه رَدَّ المالِ ناضًّا كما أخَذَه. والثّانِي، لا يُجْبَرُ إذا لم يَكُنْ في المال رِبْح، أو (¬1) أسْقَطَ العامِلُ حَقَّه مِن الرِّبْحِ؛ لأنَّه بالفَسْخِ زال تَصَرُّفُه، وصار أجْنَبِيا مِن المالِ، فأشْبَهَ الوَكِيلَ إذا اشْتَرَى ما يُسْتَحَقُّ رَده ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فزالتْ وَكالته قبلَ رَدِّه. ولو كان رَأسُ المالِ دَنانِيرَ فصار دَراهِمَ، أو بالعَكْسِ، فهو كا لو كان عَرْضًا على ما شُرِح. وإذا نَضَّ رَأسُ المالِ جَمِيعُه، لم يَلْزَم العامِلَ أن يَنضَّ له الباقِيَ، لأنَّه شَرِكَة بينَهما، ولا يَلْزَمُ الشرِيكَ أن يَنضَّ مال شَرِيكِه، ولأنَّه إنَّما لَزِمَه أن يَنضَّ رَأسَ المالِ ليرُدَّ إليه المال على صِفتِه، ولا يُوجَدُ هذا المعنى في الرِّبْحِ.

2097 - مسألة: (وإن كان دينا، لزم العامل تقاضيه)

وَإنْ كَانَ دَينًا، لَزِمَ الْعَامِلَ تَقَاضِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2097 - مسألة: (وإن كان دَينًا، لَزِم العامِلَ تَقاضِيه) سواء ظَهَر في المالِ رِبْح أولم يَظْهَرْ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُه إلَّا أن يَظْهَرَ رِبْح لأنَّه لا غَرَضَ له في العَمَلِ، فهو كالوَكِيلِ. ولَنا، أنَّ المُضارَبَةَ تَقْتَضِي رَدَّ المالِ على صِفَتِه، والديُون لا تَجْرِي مَجْرَى النّاضِّ، فلَزِمَه أن ينضَّه، كما لو ظَهَر رِبح، وكما لو كان رَأسُ المالِ عَرْضًاٍ. ويُفارِقُ الوَكِيلَ؛ فإنَّه لا يَلْزَمُه رَدُّ المالِ كما قَبَضَه، ولهذا لا يَلْزَمُه بَيعُ العُرُوض. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الفَسْخِ مِن العامِلِ أو رَبِّ المالِ، فإنِ اقْتَضَى منه قَدْرَ رَأس المالِ، أو كان الدَّينُ قَدْرَ الرِّبْحِ، أو دُونَه، لَزِم العامِلَ تَقاضِيه أيضًا؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ نَصِيبَه مِن الرِّبْحِ عندَ وُصُولِه إليهما على وَجْهٍ يُمْكِنُ قِسْمَتُه ووُصولُ كلِّ واحدٍ منهما إلى حَقِّه، و (¬1) لا يَحْصُلُ ذلك إلا بعدَ تَقاضِيه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا مات أحَدُ المُتَقارِضَين، أو جُنَّ، انْفَسَخَ القِراضُ. وقد ذَكَرْناه، فإن كان برَب المالِ، فأرادَ الوارِثُ أو وَلِيُّهِ إتْمامَه، والمالُ ناضٌّ، جاز، ويَكُونُ رَأسُ المالِ وحِصَّتُه مِن الربْحِ رَأسَ المالِ، وحِصةُ العامِلِ مِن الرِّبْحِ شَرِكَةً له مُشَاع. وهذه الإشاعَةُ لا تَمْنَعُ؛ لأنَّ الشرِيكَ هو العامِلُ، وذلك لا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ. وإن كان المالُ عَرْضًا وأرادُوا إتْمامَه، فظاهِرُ كَلام أحمدَ جَوازُه، لأنَّه قال في رِوايَةِ عليِّ بنِ سعيدٍ: إذا مات رَبُّ المالِ، لَم يَجُزْ للعامِلِ أن يَبِيعَ ويَشْتَرِيَ إلَّا بإذْنِ الوَرَثَةِ. فظاهِرُ هذا إبْقاءُ العامِلِ على قِراضِه. وهو مَنْصُوصُ الشافعي؛ لأنَّ هذا إتْمام للقِراضِ، لا ابْتِداء له، ولأنَّ القِراضَ إنَّما مُنِعَ منه في العُرُوضِ، لأنه يَحْتاجُ عندَ المُفاصَلةِ إلى رَدِّ مِثْلِها أو قِيمَتِها، ويَخْتَلِفُ ذلك باخْتِلافِ الأوقاتِ، وهذا غيرُ مَوْجُودٍ ههُنا، لأنَّ رَأسَ المالِ غيرُ العُرُوضِ، وحُكْمُه باقٍ، ألا تَرَى أنَّ للعامِلِ أن يبيعَه ليُسَلمَ رَأسَ المالِ ويَقْسِمَ الباقِيَ؟ وذَكَر القاضي وَجْهًا آخَرَ، أنَّه لا يَجُوزُ، لأنَّ القِراضَ قد بَطَل بالمَوْتِ، وهذا ابْتِداءُ قِراض على عُرُوض. قال شيخُنا (¬1): ¬

(¬1) في: المغني 7/ 175.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الوَجْهُ أقْيَسُ؛ لأنَّ المال لو كان ناضًّا، كان ابْتِداءَ قَرْضٍ، وكانت حِصَّةُ العامِلِ مِن الرِّبْحِ شَرِكَةً يَخْتَصُّ بها دُونَ رَبِّ المالِ. وإن كان المالُ ناقِصًا بخَسارَةٍ أو تَلَفٍ، كان رَأسُ المالِ المَوْجُودَ منه حال ابْتِداءِ القِراضِ، فلو جَوَّزْنا ابْتِداءَ القِراضِ هاهُنا وبِناءَهُما على القِراضِ، لصارَتْ حِصَّةُ المُضارَبَةِ مِن الرِّبْحِ غيرَ مُخْتَصَّةٍ به، وحِصَّتُهما (¬1) مِن الرِّبْحِ مُشْتَرَكَةً بينَهما، وحُسِبَتْ عليه العُرُوضُ بأكْثَرَ مِن قِيمَتِها فيما إذا كان المالُ ناقِصًا، وهذا لا يَجُوزُ في القِراضِ بلا خِلافِ. وكَلامُ أحمدَ مَحْمُولٌ على أنَّه يَبِيعُ ويَشْتَرِى بإذْنِ الوَرَثَةِ، كبَيعِه وشِرائِه بعدَ انْفِساخِ القِراضِ. فأمَّا إن مات العامِلُ أو جُنَّ، وأرادَ رَبُّ المالِ ابْتِداءَ القِراضِ مع وَارِثِه أو وَلِيِّه والمالُ ناضٌّ، جاز، كما قُلْنا فيما إذا مات رَبُّ المالِ. وإن كان عَرْضًا، لم يَجُزِ ابْتِداءُ القِراضِ [إلَّا على الوَجْهِ الذي يُجَوِّزُ ابتداءَ القِراضِ] (¬2) على العُرُوضِ، بأن تُقَوَّمَ العُرُوضُ، ويُجْعَلَ رَأسُ المالِ قِيمَتَها يَوْمَ العَقْدِ؛ لأن الذي كان منه العَمَلُ قد جُنَّ، أو مات، وذَهَب عَمَلُه، ولم يَخْلُفْ أصْلًا يَبْنِي عليه وارِثُه، بخِلافِ ما إذا مات رَبُّ المالِ، فإنَّ مال القِراضِ مَوْجُودٌ، ومَنافِعَه مَوْجُودةٌ، فأمْكَنَ اسْتِدامَةُ العَقْدِ، وبِناءُ الوارِثِ عليه. وإن كان المالُ ناضًّا، جاز ابْتِداءُ القِراضِ فيه، فإن لم يَبْتَدِئاه، لم يَكُنْ للوارِثِ شِراءٌ ولا بَيعٌ؛ لأنَّ رَبَّ المالِ إنَّما رَضِيَ باجْتِهادِ مَورُوثِه (¬3)، ¬

(¬1) في ق، م: «حصتها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «وارثه».

2098 - مسألة: (وإن قارض في المرض، فالربح من رأس المال وإن زاد على أجر المثل)

وَإنْ قَارَضَ فِي الْمَرَضِ، فَالرِّبْحُ مِنْ رَأسَ الْمَالِ وإنْ زَادَ عَلَى أَجْرِ الْمِثْل. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا لم يَرْضَ ببَيعِه، رَفَعه إلى الحاكِمِ ليَبِيعَه. فإن كان المَيِّتُ رَبَّ المالِ، فليس للعامِلِ الشِّراءُ؛ لأنَّ القِراضَ انْفَسَخَ. وأمّا البَيعُ فالحُكْمُ فيه وفي التَّقْويمِ واقْتِضاءِ الدَّينِ، على ما ذَكَرْناه إذا انْفَسَخَتِ المُضارَبَةُ ورَبُّ المالِ حَيٌّ. 2098 - مسألة: (وإن قارَضَ في المَرَضِ، فالرِّبْحُ مِن رَأسِ المالِ وإن زادَ على أجْرِ المِثْلِ) إذا قارَضَ في مَرَضِه، صَحَّ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَبْتَغِي فيه الفَضْلَ، أشْبَهَ البَيْعَ والشِّراءَ. وللعامِلِ ما شَرَطَ له وإن زاد على أجْرِ مِثْلِه، ولا يَحْتَسِبُ به مِن ثُلُثِه؛ لأنَّ ذلِكَ غيرُ مُسْتَحَقٍّ مِن مالِ (¬1) رَبِّ المالِ، وإنَّما حَصَل بعَمَلِ المُضارِبِ، فما يُوجَدُ مِن الرِّبْحِ المَشْرُوطِ ¬

(¬1) سقط من: م.

2099 - مسألة: (ويقدم به على سائر الغرماء)

وَيُقدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَإنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَهُوَ دَينٌ فِي تَرِكَتِهِ. وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْدُثُ على مِلْكِ العامِلِ، ولا يُزاحِمُ به أصْحابَ الوَصايَا؛ لأنَّه لو أقْرَضَ المال، كان الرِّبْحُ كُلُّه للمُقْتَرِضِ، فبَعْضُه أوْلَى، وهذا بخِلافِ ما لو حابَى الأجِيرَ في الأجْرِ، فإنَّه يَحْتَسِبُ بالمحاباة (¬1) مِن ثُلُثِه؛ لأنَّ الأجْرَ يُؤخَذُ مِن مالِه. ولو شَرَط في المُساقاةِ والمُزارَعَةِ أكثرَ مِن أجْرِ المِثْلِ، احْتَمَلَ [أنَّه كالقِراضِ] (¬2)؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ تَخْرُجُ على مِلْكَيهما، كالرِّبْحِ في المُضارَبَةِ، واحْتَمَلَ أن يَكُونَ مِن ثُلُثِه؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ زِيادَة في مِلْكِه خارِجَةٌ مِن عَينِه، والرِّبْحُ لا يَخْرُجُ مِن عَينِ المالِ، إنَّما يَحْصُلُ بالتَّقْلِيبِ. واللهُ أعلمُ. 2099 - مسألة: (ويُقَدَّمُ به على سائرِ الغُرَماءِ) إذا ماتَ رَبُّ المالِ؛ لأنَّه يَمْلِكُ الرِّبْحَ بالظهُورِ، فكان شَريكًا فيه، ولأنَّ حَقَّه مُتَعَلِّقٌ بعَين. المالِ دُونَ الذِّمةِ، فكان مُتَقَدِّمًا على المُتَعَلِّقِ بالذِّمَّةِ، كحَقِّ الجِنايةِ، أو كالمُرْتَهِنِ. 2100 - مسألة: (وإن مات المُضارِبُ، ولم يُعْرَفْ مالُ ¬

(¬1) م: «بما حاباه». (¬2) في م: «أن لا تَحْتسب به من ثلثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُضارَبَةِ، فهو دَيْنٌ في تَرِكَتِه، وكذلك الوَدِيعَةُ) [إذا مات المُضارِبُ، ولم يُعْرَفْ مالُ المُضارَبَةِ بعَينِه، صار دَينًا في ذِمَّةِ المُضارِبِ] (¬1)، ولصاحِبِه أُسْوَةُ الغُرَماءِ. وقال الشافعيُّ: ليس على المُضارِبِ شيءٌ؛ لأنَّه لم يَكُنْ في ذِمتِه وهو حَيٌّ، ولم يُعْلَمْ حُدُوث ذلك ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَوْتِ، فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ (¬1) المالُ قد هَلَك. ولَنا، أنَّ الأصْلَ بَقاءُ المالِ في يَدِه واخْتِلاطُه بجُمْلَةِ التَّرِكَةِ، ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ عَينه، فكان دَينًا، كالوَدِيعَةِ إذا لم يُعْرَفْ عَينُها، وكما إذا خَلَطَها بمالِه على وَجْهٍ لا يَتَمَيَّزُ منه، ولأنّه لا سَبِيلَ إلى إسْقاطِ حَقِّ رَبِّ المالِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاؤه، ولم ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوجدْ ما يُعارِضُ ذلك ويُخالِفُه، ولا سَبِيلَ إلى إعْطائِه عَينًا مِن التَّرِكَةِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن تَكُونَ مِن (¬1) غيرِ مالِ المُضارَبَةِ، فلم يَبْقَ إلَّا تَعَلُّقُه بالذِّمَّةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصْلٌ: وَالْعَامِلُ أمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ رَأسِ الْمَالِ، وَفِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ هَلَاكٍ وَخُسْرَانٍ، وَمَا يَذْكُرُ أنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ أوْ لِلْقِرَاضِ، وَمَا يُدَّعَى عَلَيهِ مِنْ خِيَانةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (والعامِلُ أمِينٌ، والقولُ قَوْلُه فيما يَدَّعِيه مِن هَلاكٍ وخُسْرانٍ) لأنَّهُ مُتَصَرِّفٌ في مال غيرِه بإذْنِه، لا يَخْتَصُّ بنَفْعِه، أشْبَهَ الوَكِيلَ، بخِلافِ المُسْتَعِيرِ، فإنَّ قَبْضَه لمَنْفَعتِه خاصَّةً. والقولُ قَوْلُه فيما يَدَّعِيه مِن تَلَفِ المالِ أو بعضِه أو خَسارَةٍ فيه، ولا ضَمانَ عليه في ذلك، كالوَكِيلِ. والقولُ قَوْلُه في نَفْي ما يُدَّعَى عليه مِن خِيانَةٍ أو تَفْرِيطٍ، وفيما يَدَّعِي أنَّه اشْتَراه لنَفْسِه أو للقِراضِ؛ لأنَّ الاخْتِلافَ هاهُنا في نِيَّته، وهو أعْلَمُ بها، لا يَطَّلِعُ عليها غيرُه، فكان القولُ قَوْلَه فيما نَواه، كما لو اخْتَلَفَ الزَّوجان في نِيَّةِ الزَّوْجِ بكِنايَةِ الطَّلاقِ. ولأنَّه أمِينٌ في الشِّراءِ، فكان القَوْلُ قَوْلَه، كالوَكِيلِ. ولو اشْتَرَى عَبْدًا، فقال رَبُّ المالِ: كُنْتُ نَهَيتُكَ عن شِرائِه. فأنْكَرَ العامِلُ، فالقولُ قَوْلُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ النَّهْي. ولا نَعْلَمُ في هذا كُلِّه خِلافًا. وكذلك (القولُ قَوْلُه في قَدْرِ رأسِ المالِ) كذلك قال الثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأي، حكاه

2101 - مسألة: (والقول قول رب المال في رده إليه)

وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي رَدِّهِ إِلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهم ابنُ المُنْذِرِ، وقال: أجْمَعَ على هذا كل مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، وبه نَقُولُ (¬1). لأنَّه يُدَّعَى عليه قَبْضُ شيءٍ وهو يُنْكِرُه، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. 2101 - مسألة: (والقَوْلُ قولُ رَبِّ المالِ في رَدِّه إليه) مع يَمِينه. نَصَّ عليه أحمدُ. ولأصْحاب الشافعيِّ وَجْهان؛ أحَدُهما كقَوْلِنا. والآخَرُ، يُقْبَلُ قولُ العامِلِ؛ لأَنَّه أمِين، ولأنَّ مُعْظَمَ النَّفْعِ لرَبِّ المالِ، فالعامِلُ كالمُودَعِ. ويَنْبَغِي أن يُخَرَّجَ لَنا مِثْلُ ذلك، بِناءً على دَعْوَى الوَكِيلِ الرَّدَّ إذا كان بجُعْلٍ. وَوَجْهُ الأوَّل، أنَّه قَبَضُ المال لنَفْعِ نَفْسِه، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه في الرَّدِّ، كالمُسْتَعِيرِ، ولأنَّ رَبَّ المالِ مُنْكِرٌ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ، والمُودَعُ لا نَفْعَ له في الوَدِيعَةِ. وقَوْلُهم: إن مُعْظَمَ النَّفْعِ لرَبِّ المال. مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ، إلَّا أنَّ المُضارِبَ لم يَقْبِضْه إلَّا لنَفْعِ نفْسِه، لم يَأخُذْه لنَفْعِ رَبِّ المالِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يقول».

2102 - مسألة: (وفي الجزء المشروط للعامل)

وَفِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2102 - مسألة: (وفي الجُزْءِ المَشْرُوطِ للعامِلِ) إذا اخْتَلَفا فيما شُرِطَ للعامِلِ، ففيه رِوايَتان، إحْداهما، القولُ قولُ رَبِّ المالِ. نَصَّ عليه في روايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ، وسِنْدِيٍّ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأي، وابنُ المُنْذِرِ، لأنَّ رَبَّ المالِ مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ التي ادَّعاها العامِلُ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. والثّانِيَةُ، أنَّ العامِلَ إنِ ادَّعَى أجْرَ المِثْلِ، أو ما يَتَغابَنُ الناسُ به، فالقولُ قَوْلُه، لأن الظّاهِرَ صِدْقُه، وإنِ ادَّعَى أكْثَرَ، فالقَوْلُ قولُ رَبِّ المالِ فيما زاد على أجْرِ المِثْلِ، كالزوْجَين إذا اخْتَلَفا في الصَّداقِ. وقال الشافعيُّ: يَتَحالفانِ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في

2103 - مسألة: وإن قال: أذنت لي في البيع نساء، وفي الشراء

وَفِي الإذْنِ فِي الْبَيعِ نَسَاءً، وفِي الشِّرَاءِ بِكَذَا. وَحُكِيَ عَنْهُ أنَّ الْقَوْلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضِ عَقْدٍ، فيَتَحالفانِ، كالمُتَبايِعَين. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬1). ولأَنه اخْتِلافٌ في المُضارَبَةِ، فلم يَتَحالفا، كسائِرِ ما قَدَّمْنا اخْتِلافَهُما فيه، والمُتَبايِعان يَرْجِعان إلى (¬2) رُءُوسِ أمْوالِهما، بخِلافِ ما نَحْنُ فيه. 2103 - مسألة: وإن قال: أذِنْتَ لي في البَيعِ نَساءً، وفي الشِّراءِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) في م: «على».

قَوْلُ الْعامِلِ إِنِ ادَّعَى أُجْرَةَ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بخَمْسَةٍ. فأنْكَرَه رَبُّ المالِ (¬1)، وقال: إنِّما أذِنْتُ لك في البَيعِ نَقْدًا، وفي الشِّراءِ بأرْبَعَةٍ (¬2). فالقولُ قولُ العامِلِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقِيلَ: القولُ قولُ رَبِّ المالِ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنّ الأصْلَ عَدَمُ الإِذْنِ، ولأنَّ القَوْلَ قولُ رَبِّ المال في أصْلِ الإِذْنِ، فكذلك في صِفَتِه. ولَنا، أنَّهما اتَّفَقا على الإذْنِ واخْتَلَفَا في صِفَتِه، فكان القولُ قولَ العامِلِ، كما لو قال: نَهَيتُكَ عن شِراءِ عَبْدٍ. فأنْكَرَ النَّهْيَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «فعلى وجهين إذا اختلفا وبه قال».

2104 - مسألة: (وإن قال: ربحت ألفا ثم خسرتها)

وَإنْ قَال الْعَامِلُ: رَبِحْتُ ألْفًا، ثُمَّ خَسِرْتُهَا. أوْ هَلَكَتْ، قُبِلَ قَوْلُهُ. وَإنْ قَال: غَلِطْتُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2104 - مسألة: (وإن قال: رَبِحْتُ ألْفًا ثم خَسِرْتُها) أو: تَلِفَتْ (قُبِلَ قَوْلُه) لأنَّه أمِينٌ يُقْبَلُ قَوْلُه [في التَّلفِ] (¬1)، فقُبِلَ في الخَسارةِ، كالوَكِيلِ. 2105 - مسألة: (وإن قال: غَلِطْتُ) أو نَسِيتُ (لم يُقْبَلْ قَوْلُه) لأنَّه مُقِرٌّ بحَقٍّ لآدَمِيٍّ، فلم يُقْبَلْ قَوْلُه في الرُّجُوعِ عنه، كما لو أقَرَّ بأنَّ رَأسَ المال ألْفٌ، ثم رَجَع. ولو أنَّ (¬2) العامِلَ خسِر، فقال لرَجُلٍ: أقْرِضْنِي ما أُتمِّمُ به رَأسَ المالِ لأعْرِضَه على رَبِّه، فإنِّي أخْشَى أن يَنْزِعَه مِني إن عَلِم بالخَسارَةِ. فأقْرَضَه، فعَرَضَه على رَبِّ المالِ، فقال: هذا رَأسُ مالِكَ. فأخَذَه، فله ذلك. ولا يُقْبَلُ رُجُوعُ العامِلِ عن إقْرارِه إن رَجَع. ولا شَهادَةُ المُقْرِضِ له، لأنَّه يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا. وليس له مُطالبَةُ رَبِّ المالِ، لأنَّ العامِلَ مَلَكَه بالقَرْضِ، ثم سَلَّمَه إلى رَبِّ المالِ، وأقرَّ أنَّه له، ولكنْ يَرْجِعُ المُقْرِضُ على العامِلِ لا غيرُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا دَفَع رَجُلٌ إلى رَجُلَين مالًا قِراضًا على النِّصْفِ، فنَضَّ المالُ وهو ثَلاثةُ آلافٍ، فقال رَبُّ المالِ: رَأسُ المالِ ألْفانِ. فصَدَّقَه أحَدُهما، وقال الآخَرُ: بل هو ألْفٌ. فالقَوْلُ قولُ المُنْكِرِ مع يَمِينه. فإذا حَلَف أنَّه ألفٌ، فالرِّبْحُ ألْفان، ونَصِيبُه منهما خَمْسُمائَةٍ، يبقَى ألْفان وخَمْسُمائَةٍ، يَأخُذُ رَبُّ المالِ ألْفَينِ؛ لأنَّ الآخَرَ يُصَدِّقُه، يَبْقَى خَمْسُمائَةٍ رِبْحًا بينَ رَبِّ المالِ والعامِلِ الآخرِ، يَقْتَسِمانِها (¬1) أثْلاثًا؛ لرَبِّ المالِ ثُلُثاها، وللعامِلِ ثُلُثُها؛ وذلك لأنَّ نَصِيبَ رَبِّ المالِ نِصْفُ الرِّبْحِ، ونَصِيبَ العامِلِ رُبْعُه، فيُقْسَمُ بينَهما باقِي الربْحِ على ثَلاثةٍ، وما أخَذَه الحالِفُ فيما زاد على قَدْرِ نَصِيبِه، كالتَّالِفِ منهما، والتّالِفُ يُحْسَبُ في المُضارَبَةِ مِن الرِّبْحِ. وهذا قولُ الشافعيِّ. فصل: إذا دَفَع إلى رَجُلٍ ألْفًا يَتَّجِرُ فيه، فرَبِحَ، فقال العامِلُ: كان قَرْضًا لي رِبْحُه كله. وقال رَبُّ المالِ: كان قِرَاضًا رِبْحُه بَينَنا. فالقَوْلُ قولُ رَبِّ المالِ؛ لأنَّه مِلْكُه، فكان القَوْلُ قَوْلَه في صِفَةِ خُرُوجِه عن يَدِه. فإذا حَلَف، قُسِم الرِّبْحُ بينَهما. ويَحْتَمِلُ أن يَتَحالفا ويَكُونَ للعامِلِ أكْثَرُ ¬

(¬1) في م: «يقسمانه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمْرَين مِمّا شَرَطَ له مِن (¬1) الرِّبْحِ أو أجْرِ مِثْلِه؛ لأنَّه إن كان الأكْثَرُ نَصِيبَه مِن الرِّبْحِ، فرَبُّ المالِ مُعْتَرِفٌ له به، وهو يَدَّعِي الرِّبْحَ كلَّه، وإن كان أجْرُ مِثْلِه أكثَرَ، فالقَوْلُ قَوْلُه في عَمَلِه، [مع يَمِينه] (¬2). كما أنَّ القَوْلَ قولُ رَبِّ المالِ في مالِه، فإذا حَلَف، قُبِلَ قَوْلُه في أنَّه ما عَمِل بهذا الشرْطِ، إنَّما عَمِل لغَرَضٍ لم يَسْلَمْ له، فيَكُونُ له أجْرُ المِثْلِ. فإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنةً بدَعْواه. فنَصَّ أحمدُ في رِوايَةِ مُهَنَّا، أنَّهما يَتعارَضان، ويُقسَمُ المالُ بينَهما نِصْفَين. وإن قال رَبُّ المالِ: كان بِضاعةً. وقال العامِلُ: كان قِرَاضًا. احْتَمَلَ أن يَكُونَ القَوْلُ قولَ العامِلِ؛ لأنَّ عَمَلَه له، فيَكُونُ القَوْلُ قَوْلَه فيه. ويَحْتَمِلُ أن يَتَحالفا ويَكُونَ للعامِلِ أقَلُّ الأمْرَين مِن نَصِيبِه مِن الرِّبْحِ أو أجْرِ مِثْلِه، لأنَّه لا (¬3) يَدَّعِي أكْثَرَ مِن نَصِيبِه مِن الرِّبْحِ، فلم يَسْتَحِقَّ زِيادَةً عليه (¬4)، وإن كان الأقَلُّ أجْرَ مِثْلِه، فلم يَثْبُتْ كونُه قِرَاضًا، فيكونُ له أجْرُ عَمَلِه، وإن قال رَبُّ المالِ: كان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل، م. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِضاعَةً. وقال العامِلُ: كان قَرْضًا. حلَف كلُّ واحِدٍ منهما على إنْكارِ ما ادَّعاهُ خَصْمُه، وكان للعامِلِ أجْرُ عَمَلِه لا غيرُ، وإن خَسِر المالُ أو تَلِف، فقال رَبُّ المالِ: كان قَرْضًا. وقال العامِلُ: كان قِراضًا -أو: بِضاعَةً. فالقَوْلُ قولُ رَبِّ المالِ. فصل: وإذا شَرَط المُضارِبُ النَّفَقَةَ، ثم ادَّعَى أنَّه أنْفَقَ مِن مالِه، وأرادَ الرجُوعَ، فله ذلك؛ سواء كان المالُ باقِيًا في يَدَيه، أو قد رَجَع إلى مالِكِه. وبه قال أبو حنيفةَ: إذا كان المالُ في يَدَيه، وليس له ذلك بعدَ رَدِّه. ولَنا، أنَّه أمِينٌ، فكان القَوْلُ قَوْلَه في ذلك، كما لو كان باقِيًا في يَدَيهِ، وكالوَصِيِّ إذا ادَّعَى النَّفَقَةَ. على اليَتيمِ. فصل: إذا كان عَبْدٌ بينَ رَجُلَين، فباعَه أحَدُهما بِأمْرِ الآخَرِ بِألْفٍ، وقال: لم (¬1) أقْبِضْ ثَمَنَه. وادَّعَى المُشْتَرِي أنَّه قَبَضَه، وصَدَّقَه الذي لم يَبعْ، بَرِئَ المُشْتَرِي مِن نِصْفِ ثَمَنِه؛ لاعْتِرافِ شَرِيكِ البائِع بقَبْضِ وَكِيله حَقَّه، فبَرِئ المُشْتَرِي منه، كما لو أقَرَّ بقَبْضِه بنَفْسِه، وتَبْقَى الخُصُومَةُ بينَ البائِع وشَرِيكِه والمُشْتَرِي، فإن خاصَمَه شَرِيكُه، وادَّعَى عليه أنَّك قَبَضْتَ (¬2) نصِيبِي مِن الثَّمَنِ، فأنْكَرَ، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمِينه، فإن كان للمُدَّعِي بَيَنةٌ، حُكِمَ بها، ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ المُشْتَرِي له؛ لأنَّه يَجُرُّ بها إلى نَفْسِه نَفْعًا. وإن خاصَمَ البائِعُ المُشْتَرِيَ، فالقَوْلُ قولُ البائِع ¬

(¬1) في م: «له». (¬2) في م: «قبضته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع يَمِينه في عَدَمِ القَبْضِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. فإذا حَلَف أخَذَ مِن المُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ، ولا يُشارِكُه فيه شَرِيكُه؛ لأَنه يُقِرُّ أنَّه يَأخُذُه ظُلْمًا، فلا يَسْتَحِقُّ مُشارَكَتَه فيه. وإن كانت للمُشْتَرِي بَيِّنة، حُكِم بها، ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ شَرِيكِه عليه؛ لأنَّه يَجُرُّ بها إلى نَفْسِه نَفْعًا ومَن شَهِد شَهادَةً يَجُرُّ بها إلى نَفْسِه نَفْعًا، بَطَلَتْ شَهادَتُه في الكُلِّ. ولا فَرْقَ بينَ مُخاصَمَةِ الشَّرِيكِ قبلَ مُخاصَمةِ المُشْتَرِي أو بعدَها. وإن ادَّعَى المُشْتَرِي أنَّ شَرِيكَ البائِعِ قَبَض الثَّمَنَ منه، فصَدَّقَه البائِعُ، نَظَرْتَ؛ فإن كان البائِعُ أذِنَ لشَرِيكِه في القَبْضِ، فهي كالتي قبلَها، وإن لم يَأذَنْ له [في القَبْضِ] (¬1)، لم تَبْرَأ ذِمَّةُ المُشْتَرِي مِن شيءٍ مِن الثَّمَنِ؛ لأنَّ البائِعَ لم يُوَكِّلْه في القَبْضِ، فقَبْضُه له لا يَلْزَمُه ولا يَبْرأُ المشْتَرِي منه، كما لو دَفَعَه إلى أجْنَبِي. ولا يُقْبَلُ قولُ المُشْتَرِي على شَرِيكِ البائِعِ؛ لأَنَّه يُنْكِرُه، وللبائِعِ المُطالبَةُ (¬2) بقَدْرِ نَصِيبِه لا غيرُ؛ لأنَّه مُقِرٌّ أنَّ شَرِيكَه قَبَض حَقَّه. ويَلْزَمُ المُشْتَرِيَ دَفْعُ نَصِيبِه إليه مِن غيرِ يَمِين؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ مُقِرٌّ ببَقاءِ حَقِّه. وإن دَفَعَه إلى شَريكِه، لم تَبْرَأ ذِمته، فإذا قَبَض حَقَّه، فلِشَرِيكِه مُشارَكَتُه فيما قَبَض؛ لأنَّ الدَّينَ لهما ثابتٌ بسَبِبٍ واحدٍ، فما قَبَض منه يَكُونُ بينَهما، كما لو كان مِيراثًا. وله أَن لا يُشارِكَه ويُطالِبَ المُشْتَرِيَ بِحَقِّه كلِّه. ¬

(¬1) في م: «فيه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ الشَّرِيكُ مُشارَكَتَه فيما قَبَض؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَسْتَحِقُّ ثَمَنَ نَصِيبِه الذي يَنْفَرِدُ به، فلم يَكُنْ لشَرِيكِه مشارَكَتُه فيما قَبَض مِن ثَمَنِه، كما لو باعَ كلُّ واحِدٍ نَصِيبَه في صَفْقَةٍ. ويُخالِفُ المِيراثَ؛ لأنَّ سَبَبَ اسْتِحقاقِ الوَرَثَةِ لا يَتَبَعَّضُ، فلم يَكُنْ للوَرَثَةِ تَبْعِيضُه، وهاهنا يَتَبَعَّضُ؛ لأنَّه إذا كان البائعُ اثْنَين كان بمَنْزِلَةِ عَقْدَين، ولأنَّ الوارِثَ نائبٌ عن المَوْرُوثِ، فكان ما يَقْبِضُه للمَوْرُوثِ، يَشْتَرِكُ فيه جَمِيعُ الوَرَثَةِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا، فإنَّ ما يَقْبِضُه لنَفْسِه. فإن قُلْنا: له مُشارَكَتُه فيما قَبَض. فعليه اليَمِينُ أنَّه لم يَسْتَوْفِ حَقَّه مِن المُشْتَرِي، ويَأخُذُ مِن القابضِ نِصْفَ ما قَبَضَه، ويُطالِبُ المُشْتَرِيَ ببَقِيَّةِ حَقِّه إذا حَلَف له أيضًا أَنَّه ما قَبَض منه شيئًا. وليس للمَقْبُوضِ منه أن يَرْجِعَ على المُشْتَرِي بعِوَضِ ما أخَذَ منه؛ لأنَّه مُقِرٌّ أنَّ المُشْتَرِيَ قد بَرِئَتْ ذِمَّتُه مِن حَقِّ شَرِيكِه، وإنَّما أخَذَ منه ظُلْمًا، فلا يَرْجِعُ بما ظَلَمَه هذا على غيرِه. وإن خاصَمَ المُشْتَرِي شَرِيكَ البائعِ، وادَّعَى عليه أنَّه قَبَض الثَّمَنَ منه، وكانت له بَيِّنة، حُكِم بها، وتُقْبَلُ شَهادَةُ البائعِ له إذا كان عَدْلًا، لأنَّه لا يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا، ولا يَدْفعُ عنه ضَرَرًا؛ لأنّه إذا ثَبَت أنَّ شَرِيكَه قَبض الثَّمَنَ، لم يَمْلِكْ مُطالبَتَه بشيءٍ؛ لأنَّه ليس بِوَكِيلٍ له في القَبْضِ، فلا يَقَعُ قَبْضُه له. هكذا ذَكَر بعضُ أصْحابِنا. قال شيخُنا (¬1): وعندِي لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له؛ لأنَّه يَدْفَعُ عن نفْسِه ضَرَرَ مُشَارَكةِ شَرِيكِه له فيما يَقْبِضُه مِن المُشْتَرِي. وإذا لم يَكُنْ ¬

(¬1) في: المغني 7/ 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيِّنةً فحَلَفَ، أخَذَ مِن المُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ، وإن نَكَل، أخَذَ المُشْتَرِي منه نِصْفه. فصل: إذا كان عَبْدٌ بينَ اثْنَين، فغَصَبَ رَجُلٌ نَصِيبَ أحَدِهما، بأن يسْتَوْلِيَ على العَبْدِ ويَمْنَعَ أحَدَهما الانْتِفاعَ دُونَ الآخرِ، ثم إنَّ مالِكَ نِصْفِه والغاصِبَ باعَا العَبْدَ صَفْقَةً واحِدَةً، صَحَّ في نَصِيبِ المالِكِ، وبَطَل في نَصِيبِ الغاصِبِ. وإن وَكَّلَ الشَّرِيكُ الغاصِبَ، أو وَكَّلَ الغاصِبُ الشَّرِيكَ في البَيعِ، فباعَ العَبْدَ كلَّه صَفْقَةً واحِدَةً، بَطَل في نَصِيبِ الغاصِب، في الصَّحِيحِ. وهل يَصِحُّ في نَصِيبِ الشَّرِيكِ؟ على رِوايَتَين، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وقد بَطَل البَيعُ في بعضِها، فيَبْطُلُ في سائِرِها. بخِلافِ ما إذا باع المالِكُ والغاصِبُ، فإنَّهما عَقْدان؛ لأنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَقْدان. ولو أنَّ الغاصِبَ ذَكَر للمُشْتَرِي أنَّه وَكِيلٌ في نِصْفِه، لَصَحَّ في نَصِيبِ الآذِنِ؛ لكَوْنِه كالعَقْدِ المُنْفَرِدِ. فصل: إذا كان لرَجُلَين دَينٌ [بِسَببٍ واحدٍ] (¬1)؛ إمّا عَقْدٍ أو مِيراثٍ أو اسْتِهلاكٍ أو غيرِ ذلك، فقَبَضَ أحَدُهما منه شيئًا، فللآخَرِ مُشارَكَتُه فيه في ظاهِرِ المَذْهَب. وعنِ أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ لأحَدِهما أخْذَ حَقِّه دُونَ صاحِبِه، ولا يُشارِكُه الآخرُ فيما أخَذَ. وهو قولُ أبي العالِيَةِ، وأبي قِلابَةَ، وابنِ سِيرِينَ، وأبي عُبَيدٍ. قِيلَ لأحمدَ: بِعْتُ أنا وصاحِبي مَتاعًا بيني وبينَه، فأعْطانِي حَقِّي، وقال: هذا حَقُّكَ خاصَّةً، وأنا أُعْطِي شَرِيكَكَ ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدُ؟ قال: لَا يجوزُ. قِيلَ له: فإن أخَّرَه أو أبرَأه مِن حَقِّه دُونَ صاحِبِه؟ قال: يَجُوزُ. قِيل: فقد قال أبو عُبَيدٍ: يَجُوزُ أن يَأخُذَ دُونَ صاحِبِه إذا كان له أن يُؤخِّرَ ويُبْرِئَه دُونَ صاحِبِه؟ ففَكَّرَ فيها، ثم قال: هذا يُشْبِهُ المِيراثَ إذا أخَذَ منه بعضُ الوَرَثَةِ دُونَ بعضٍ، وقد قال ابنُ سِيرينَ وأبو قِلَابَةَ وأبو العالِيَةِ: مَن أخَذَ شيئًا فهو مِن (¬1) نصِيبِه. قال: فرأيتُه قد احْتَجَّ له وأجَازَه. قال أبو بَكْرٍ: العَمَلُ عندِي على ما رَواه حَنْبَل وحَرْب، أنه لا يَجُوزُ أن يَكُونَ نَصِيبُ القابِضِ له فيما أخَذَه؛ لِما في ذلك مِن قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ مِن غيرِ رِضَا الشَّرِيكِ، فيَكُونُ المَأخُوذُ والباقي جَمِيعًا مُشْتَرَكًا. ولغيرِ القابِضِ الرُّجُوعُ [على القابِضِ] (¬2) بحِصَّتِه مِن الدَّينِ، سواءٌ كان المالُ باقِيًا في يَدِه، أو أخْرَجَه عنها برَهْنٍ أو قَضاءِ دَينٍ أو غيرِه. وله أن يَرْجِعَ على الغَرِيمِ؛ لأنَّ الحَقَّ يَثْبُت في ذِمَّتِه لهما على وَجْهٍ سواءٍ، فليس له تَسْلِيمُ حَقِّ أحَدِهما إلى الآخَرِ. فإن أخَذَ مِن الغَرِيمِ، لم يَرْجِعْ على الشَّرِيكِ بشيء؛ لأنَّ حَقَّه ثَبَت في أحَدِ المَحَلَّين، فإذا أجاز (¬3) أحَدُهما سَقَط حَقُّه مِن الآخَرِ، وليسِ للقابِضِ مَنْعُه مِن الرُّجُوعِ على الغَرِيمِ، بأن يَقُولَ: أنا أعْطِيكَ نِصْف ما قَبَضْتُ. بل الخِيَرَةُ إليه، مِن أيِّهما شاء قَبَض، فإن قَبَض مِن شَرِيكِه شيئًا، رَجَع الشَّرِيكُ على الغَرِيم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: م. (¬3) في م: «اختار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِثْلِه، فإن هَلَك المَقْبُوضُ في يَدِ القابِضِ، تَعَيَّن حَقَّه فيه، ولم يَضْمَنْه للشَّرِيكِ؛ لأَنه قَدْرُ حَقِّه فما تَعَدَّى بالقَبْضِ، وإنما كان لشَرِيكِه مشارَكَتُه لثُبُوتِه في الأصْلِ مُشْتَرَكًا. وإن أبرأ أحَدَ الشَّرِيكَين مِن حَقِّه، بَرِئ منه؛ لأَنه بمَنْزِلَةِ تَلَفِه، ولا يَرْجِعُ [عليه غَرِيمُه] (¬1) بشيءٍ، وإن أبرأ أحَدَهما مِن عُشْرِ الدَّينِ، ثم قَبَضا مِن الدَّينِ شيئًا، اقْتَسماه على قَدْرِ حَقهما في الباقِي؛ للمُبْرِئ (2) أرْبَعَةُ أتْساعِه، ولشَرِيكِه خَمْسَةُ أتْساعِه. فإن قَبَضا نِصْفَ الدَّين ثم أبرأ أحَدَهما مِن عُشْرِ الدَّينِ كلِّه، نَفَذَتْ بَراءَتُه في خُمْسِ الباقِي، وما بَقِيَ بينَهما على ثَمانِيَةٍ؛ للمُبْرِئ (¬2) ثَلاثةُ أثْمانِه، وللآخَرِ خَمْسَةُ أثْمانِه، فما قَبَضاه بعدَ ذلك اقْتَسَماه على هذا. وإنِ اشْتَرَى أحَدُهما بنَصِيبِه ثَوْبًا أو غيرَه، فللآخَرِ إبْطالُ الشراءِ، فإن بَذَل له المُشْتَرِي نِصْفَ الثَّوْبِ ولا يُبْطِلُ البَيعَ، لم يَلْزَمْه ذلك. وإن أجاز البَيعَ ليَمْلِكَ نِصْفَ الثَّوْبِ، انْبَنَى على بَيعِ الفُضُولِيِّ، هل يَقِفُ على الإِجازَةِ أو لا؟ وإن أخَّرَ أحَدُهُما حَقَّه مِن الدَّينِ، جاز؛ لأنه لو أسْقَطَ حَقَّه، جاز، فتَأخِيرُه أوْلَى. فإن قَبَض الشَّرِيكُ بعدَ ذلك شيئًا، لم يَكُنْ لشَرِيكِه الرُّجُوعُ عليه بشيءٍ. ذَكَرَه القاضي. والأوْلَى أنَّ له الرُّجُوعَ؛ لأنَّ الدَّينَ الحالَّ لا يتَأجَّلُ بالتَّأجِيلِ، فوُجُودُ التَّأجِيلِ كعَدَمِه. وأمّا إذا قُلْنا بالرِّوايَةِ الأخْرَى، وأنَّ ما يَقْبِضُه أحَدُهما له دُونَ صاحِبِه، فوَجْهُها أنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَنْتَقِلُ إلى ¬

(¬1) في الأصل: «عليه»، وفي م: «على غريمه». (¬2) في ر، ق: «للمشتري».

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، شَرِكَةُ الْوُجُوهِ؛ وَهِيَ أنْ يَشتَرِكَا، عَلَى أن يَشْتَرِيَا بِجَاهِهِمَا دَينًا فَمَا رَبِحَا فَهُوَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَينِ إلَّا بتَسْلِيمِه إلى غَرِيمِه أو وَكِيله، وما قَبَضَه أحَدُهما فليس لشَرِيكِه فيه قَبْضٌ ولا لوَكِيله، فلا يَثْبُتُ له فيه حَق ويَكُونُ لقابِضِه؛ لثُبُوتِ يَدِه عليه بحَق، فأشْبَهَ ما لو كان الدَّينُ بسَبَبَين. وليس هذا قِسْمَةَ الدَّينِ في الذِّمَّةِ، وإنَّما تَعَيَّنَ حَقه بقَبْضِه، فأشْبَهَ تَعْيِينَه بالإبراءِ، ولأنَّه لو كان لغيرِ القابِضِ حَقٌّ في المَقْبُوضِ لم يَسْقُطْ بتَلَفِه، كسائِرِ الحُقُوقِ، ولأنَّ هذا القَبْضَ إن كان بحَق، لم يُشارِكْه غيرُه فيه، كما لو كان الدَّينُ بسَبَبَين، وإن كان بغيرِ حَق، لم يَكُنْ له مُطالبَتُه؛ لأنَّ حَقَّه في الذِّمَّةِ لا في العَينِ، فأشْبَهَ ما لو أخَذَ غاصِبٌ منه مالًا. فعلى هذا، ما قَبَضَه القابِضُ يَخْتَصُّ به، وليسَ لشَرِيكِه الرُّجُوعُ عليه. وإنِ اشْتَرَى بنَصِيبِه شيئًا، صَحَّ، ولم يَكُنْ لشَرِيكِه إبْطالُ الشِّراءِ. وإن قَبَض أكْثَرَ مِن حَقِّه بغَيرِ إذْنِ شَرِيكه، لم يَبْرَأ الغَرِيمُ ممّا زاد على حَقه. فصل: (الثّالِثُ، شَرِكَةُ الوُجُوهِ) وقد اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِها، قال الخِرَقِي: وهو أن يَشْتَرِكَ اثْنانِ بمالِ غَيرِهما. وقال القاضي: مَعْناها أن يَدْفَعَ واحِدٌ ماله إلى اثْنَين مُضارَبَةً، فيَكُونُ المُضارِبان شَرِيكَين في الرِّبْح

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمالِ غيرِهما؛ لأنَّهما إذا (¬1) أخَذا المال بجَاهِهِما، لم يَكونا مُشْتَرِكَين بمالِ (¬2) غيرِهما. وهذا محْتَمِلٌ. وقال غيرُه: مَعْناها أنَّهما اشْتَركا فيما يَأخُذان مِن مالِ غيرِهما. وحُمِلَ كَلامُ الخِرَقِيِّ على ذلك؛ ليَكُونَ كَلامُه جامِعًا لأنْواعِ الشَّرِكَةِ، وعلى تَفْسِيرِ القاضِي، تَكُونُ الشَّرِكَةُ بينَ ثَلاثةٍ، ويَكُونُ الخِرَقِي قد أخَلَّ بذِكْرِ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الشَّرِكَةِ، وهي شَرِكَةُ الوُجُوهِ (¬3) على تَفْسِيرِ القاضي. فأمّا شَرِكَةُ الوُجُوهِ على ما ذَكَرَه شيخُنا في الكِتابِ المَشْرُوحِ، فهي أن يَشْتَركَ اثْنانِ فيما يَشتَرِيان بجَاهِهما وثِقَةِ التُّجّارِ بهما، مِن غيرِ أن يَكُونَ لهما رَأسُ مالٍ، على أنَّ ما اشْتَرَيا فهو بينَهما نِصْفَين أو أثْلاثًا أو نحوَ ذلك، ويَبِيعان ذلك، فما قَسَم الله مِن الرِّبْحِ، فهو بينَهما فهي جائِزَةٌ، سواءٌ عَيَّنَ أحَدُهما لصاحِبِه ما يَشتَرِيه، أو قَدْرَه، أو ذَكَر صِنْفَ المالِ، أو لم يُعَيِّنْ شيئًا مِن ذلك، بل قال: ما اشْتَرَيتَ مِن شيءٍ فهو بَينَنا. قال أحمدُ في رِوايَةِ ابن مَنْصُورٍ، في رَجُلَين اشْتَرَكا بغيرِ رُءُوسِ أمْوالِهما، على أنَّ ما يَشْتَرِيه كل واحِدٍ منهما بينَهما، فهو جائِز. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بملك». (¬3) في الأصل: «الوجه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَ الوَقْتَ أو المال أو صِنْفًا مِنِ الثِّيابِ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ: يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شَرائِطِ الوَكالةِ؛ لأنَّ شَرائِطَ الوَكالةِ مُعْتَبَرَةٌ في ذلك؛ مِن تَعْيِينِ الجِنْسِ، وغيرِه مِن شُرُوطِ الوَكالةِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما وَكِيلُ صاحِبِه. ولَنا، أنَّهما اشْتَرَكا في الابتِياعِ، وأذِنَ كلُّ واحِدٍ منهما للآخرِ فيه، فصَحَّ، وْكان ما (¬1) يَتَبايَعانه بينَهما، كما لو ذَكَرا أشْراطَ الوَكالةِ. وقَوْلُهم: إنَّ الوَكالةِ لا تَصِحُّ حتى [يَذْكُرَ قَدْرَ] (¬2) الثَّمَنِ والنَّوْعَ. مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ، فإنَّما يُعْتَبَرُ في الوَكالةِ المُفْرَدَةِ، أمّا الوَكالةُ الدّاخِلَةُ في ضِمْنِ الشَّرِكةِ، فلا يُعْتَبَرُ فيها ذلك، بدَلِيل المُضارَبَةِ وشَرِكَةِ العِنانِ، فإنَّ في ضِمْنِهما (¬3) تَوْكِيلًا، ولا يُعْتَبَرُ فيهما (¬4) شيءٌ مِن هذا، كذا هاهُنا. فعلى هذا، إن قال لرَجُلٍ: ما اشْتَريتَ اليَوْمَ مِن شيءٍ فهو بَيني وبَينَكَ نِصْفين. أو أطْلَقَ الوَقْتَ، فقال: نَعَم. أو قال: ما اشْتَرَيتُ أنا مِن شيءٍ فهو بَيني وبَينكَ نِصفان. جاز، وكانت شَرِكةً صَحِيحَةً؛ لأنَّه أذِنَ له في التِّجارَةِ على أن يَكُونَ المَبِيعُ بينَهما، وهذا مَعْنَى الشَّرِكَةِ، ويَكُونُ تَوْكِيلًا له في شِرَاءِ نِصْفِ المَتاعِ بنِصْفِ الثَّمَنِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يقدّر». (¬3) في م: «ضمنها». (¬4) في م: «فيها».

2106 - مسألة: (والملك بينهما على ما شرطاه)

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ كَفِيلٌ عَنْهُ بِالثَّمَنِ. وَالْمِلْكُ بَينَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيهِمَا فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ في مُقابَلَةِ مِلْكِه الحاصِلِ في المَبِيعِ، سواءٌ خَصَّ ذلك بنَوْعٍ مِن المَتاع أو أطْلَقَ. وكذلك لو قالا: ما اشْتَرَيناهُ. أو: ما اشْتَراه أحَدُنا مِن تِجارَةٍ، فهو بَيننا. صَحَّ (¬1). (فَكُلُّ واحِدٍ منهما وَكِيلُ صاحِبِه، كَفِيل عنه بالثَّمَنِ) لأنَّ مَبْناها على الوَكالةِ والكَفالةِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما وَكِيلُ الآخَرِ فيما يَشْتَرِيه ويَبِيعُه، كَفِيل عنه بذلك. 2106 - مسألة: (والمِلْكُ بينَهما على ما شَرَطاه) لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬2). (والوَضِيعَةُ على قَدْرِ مِلْكَيهما) قِياسًا على شَرِيكَيِ العِنانِ؛ لأنَّها في مَعْناها، والرِّبْحُ بينَهما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 149.

وَالرِّبْحُ بَينَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما شَرَطاه كذلك (¬1)، (ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ على قَدْرِ مِلْكَيهما) قاله القاضي؛ لأنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بالضَّمانِ، إذِ الشَّرِكَةُ وَقَعَتْ عليه خاصّةً، إذ لا مال لهما فيَشْتَرِكان على العَمَلِ فيه، والضَّمانُ لا تَفاضُلَ فيه، فلا يَجُوزُ التَّفاضُلُ في الرِّبْحِ. ولَنا، أنَّهما شَرِيكان في المَالِ والعَملِ، فجاز تَفاضُلُهما في الربْحِ مع تَساويهما في المالِ، كشَرِيكَي العِنانِ. ¬

(¬1) في م: «لذلك».

2107 - مسألة: (وهما في التصرفات كشريكي العنان)

وَهُمَا فِي التَّصَرّفَاتِ كَشَرِيكَي الْعِنَانِ. فَصْل: الرَّابع، شَرِكَة الْأبْدَانِ؛ وهِيَ أنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَكْتَسِبَانِ بِأبْدَانِهِمَا، فَهِيَ شَرِكَةٌ صَحِيحَة، وَمَا يَتَقَبَّله أحَدهمَا مِنَ الْعَمَلِ، يَصِير فِي ضَمَانِهِمَا يُطَالبَانِ بِهِ وَيَلْزَمهمَا عَمَلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2107 - مسألة: (وهما في التَّصَرُّفاتِ كَشَرِيكَي العِنَانِ) يَعْنِي فيما يَجِبُ لهما وعليهما، وفي إقْرارِهما وخُصُومَتِهما، وغيرِ ذلك، على ما ذَكَرْناه. وأيهما عَزَل صاحِبَه عن التَّصَرُّفِ، انْعَزَلَ؛ لأنَّه وَكِيلُه. وسُمِّيَت شَرِكَةَ الوُجُوهِ؛ لأنَّهما اشْتَرَكا فيما يَشْتَرِيانِ بجاهِهِما، والجاهُ والوَجْهُ واحِد، يُقالُ: فلان وَجِيه. إذا كان ذا جاهٍ، قال الله تعالى في مُوسَى عليه السّلامُ: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (¬1). فصل: (الرّابعُ، شَرِكَةُ الأبدانِ؛ وهي أن يَشْتَرِكا فيما يَكْتَسِبان بأبْدانِهِما، فهي شرِكَة صَحِيحة) فهي أن يَشْتَرِكَ اثْنان أو أكْثَرُ فيما ¬

(¬1) سورة الأحزاب 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكْتَسِبُونَه [بأيدِيهم أن يَعْمَلُوا في صِناعَتِهم، فما رَزَق اللهُ سُبْحانه، فهو بينَهم، وكذلك إذا اشْتَرَكُوا فيما يَكْتَسِبُون] (¬1) مِن المُباحِ؛ كالحَطَبِ، والحَشِيشِ، والثِّمارِ المَأخوذَةِ مِن الجِبالِ، والاصْطِيادِ، والمَعادِنِ، والتَّلَصُّصِ على دارِ الحَرْبِ، فهذا جائِز. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ أبي طالِبٍ، فقال: لا بَأسَ أن يَشْتَرِكَ القَوْمُ بِأبْدانِهم وليس لهم مالٌ، مِثْلَ الصَّيّادِين والحَمّالِين والنَّخّالِين، قد أشْرَكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ عَمّارٍ وسَعْدٍ وابنِ مَسْعُودٍ، فجاء سَعْدٌ بأسِيرَين ولم يَجِيئا بشيءٍ (¬2). وفَسَّرَ أحمدُ صِفَةَ الشرِكَةِ في الغَنِيمَةِ، فقال: يَشتَرِكان فيما يُصِيبان مِن سَلَبِ المَقْتُولِ؛ لأنَّ القاتِلَ يَخْتَصُّ به دُونَ الغانِمِين. وبه قال مالكٌ. وقال أبو حنيفةَ: تَصِحُّ في الصِّناعَةِ، ولا تَصِحُّ في اكْتِسابِ المُباحِ، كالاحْتِشاشِ والاغْتِنامِ؛ لأن الشَّرِكَةَ مُقْتَضاها الوَكالةُ، ولا تَصِحُّ الوَكالةُ في هذه الأشْياءِ؛ لأنَّ مَن أخَذَها مَلَكَها. وقال الشافعيُّ: شَرِكَةُ الأبدانِ كلُّها فاسِدَة؛ لأنها شَرِكَة على غيرِ مالٍ، فلم تَصِحَّ، كما لو اخْتَلَفَتِ الصِّناعاتُ. ولَنا، ما روَى أبو داوُدَ (¬3)، والأثْرَمُ، بإسْنادِهما عن عبدِ اللهِ قال: اشْتَرَكْنا أنا وسَعْدٌ وعَمّارٌ يومَ بَدْر، فلم أجِيء أنا وعمّارٌ بشيءٍ، وجاء سَعْدٌ بأسِيرَين. ومِثْلُ هذا لا يَخْفَى عن رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقد أقرَّهُم، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الشركة على غير رأس مال، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 230. والنسائي، في: باب الشركة بغير مال، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 280. (¬3) هو الحديث المتقدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد قال أحمدُ: أشْرَكَ بينَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فإن قِيلَ: فالمَغانِمُ مُشتَرَكَة بينَ الغانِمِين بحُكْمِ الله تِعالى، فكيف يَصِحُّ اخْتِصاصُ هؤلاء بالشَّرِكَةِ فيها؟ وقال بعضُ الشافعيّةِ: غَنائِمُ بَدْرٍ كانت لرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكان له أن يَدْفعَها إلى مَن يَشاءُ، فيَحْتَمِلُ أن يَكُونَ فَعَل ذلك لهذا. قُلْنا: أمَّا الأوَّلُ، فالجَوابُ عنه: أنَّ غَنائِمَ بَدْرٍ كانت لمَن أخَذَها قبل أن يُشرِكَ الله تعالى بينَهم، ولهذا نُقِلَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أخَذَ شَيئًا فَهُوَ لَهُ» (¬1). فكان ذلك مِن قَبِيلِ المباحاتِ؛ مَن سَبَق إلى أخْذِ (¬2) شيء، فهو له. ويَجُوزُ أن يَكُونَ شَرَّك بينَهم فيما يُصِيبُونَه مِن الأسْلابِ والنَّفَلِ. إلَّا أنّ الأوَّلَ أصَحُّ؛ لقَوْلِه: جاء سَعْدٌ بأسِيرَين ولم أجِئ أنا وعمّارٌ بشيء. وأمّا الثّانِي، فإنَّ اللهَ تعالى إنَّما جَعَل الغَنِيمَةَ لنَبيِّه عليه السّلامُ بعدَ أن غَنِمُوا واخْتَلَفُوا في الغَنائِمِ، فأنْزَلَ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3). والشَّرِكَةُ كانت قبلَ ذلك. ويَدُلُّ على صِحَّةِ هذا، أنَّها لو كانت لرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإمّا أن يَكُونَ قد أباحَهُم أخْذَها، فصارَتْ كالمُباحاتِ، أو لم يُبِحْها لهم، فكيفَ يَشْتَرِكُون في شيءٍ لغيرِهم؟ وفي هذا الخَبَرِ حُجَّة على أبي حنيفةَ أيضًا؛ لأنَّهم اشْتَرَكُوا في مُبَاحٍ، وفيما ليس بصِناعَةٍ (¬4)، وهو يَمْنَعُ ذلك، ولأنَّ العَمَلَ أحَدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 572. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة الأنفال 1. (¬4) في م: «بضاعة».

2108 - مسألة: وتصح مع اتفاق الصنائع رواية واحدة

وَهَلْ تَصِحُّ مَعَ اخْتِلَافِ الصَّنَائِعِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَتَصِحُّ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ جِهَتَي المُضارَبَةِ، فصَحَّتِ الشَّرِكَةُ عليه، كالمالِ، وعلى أبي حنيفةَ أيضًا، أنَّهما اشْتَرَكا في مَكْسَبٍ مُبَاح، فصَحَّ، كما لَو اشْتَرَكا في الخِياطَةِ والقِصارَةِ. ولا نُسَلِّمُ أنَّ الوَكالةَ لا تَصِحُّ في المُباحاتِ؛ فإنَّه يَصِحُّ أن يَسْتَنِيبَ في تَحْصِيلها بأجْرَةٍ، فكذلك يَصِحُّ بغيرِ عِوَض إذا تَبَرَّعَ أحَدُهما (¬1) بذلك، كالتَّوْكِيلِ في بَيعِ مالِه. ومَبْناها (¬2) على الوَكالةِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما وَكِيلُ صاحِبِه، وما يَتَقَبّلُه كلُّ واحِدٍ منهما مِن الأعْمالِ، فهو مِن ضَمانِهما، يُطالبُ به كل واحِدٍ منهما. 2108 - مسألة: وتَصِحُّ مع اتِّفاقِ الصَّنائِعِ روايَةً واحِدَةً، فأمّا مع اخْتِلافِهِما، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَصِحُّ. اخْتَارَه أبو الخَطّابِ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «آخذها». (¬2) في م: «مبناهما».

الاحتِشَاشِ، وَالاصْطِيَادِ، وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ مُقْتَضاها أنَّ ما يَتَقَبَّلُه كلُّ واحِدٍ منهما مِن العَمَلِ يَلْزَمُهما ويُطالبُ به كلُّ واحِدٍ منهما، فإذا تَقَبَّلَ أحَدُهما شيئًا مع اخْتِلافِ صَنائِعِهما، لم يُمْكِنِ الآخَرَ أن يَقُومَ به، فكيفَ يَلْزَمُه عَمَلُه؟ أم كيف يُطالبُ بما لا قُدْرَةَ له عليه! والثّانِي، تَصِحُّ. اخْتارَه القاضي؛ لأنهما اشْتَرَكا في مَكْسَبٍ مُباحٍ، فصَحَّ، كما لو اتَّفَقَتِ الصَّنائع، ولأنَّ الصَّنائع المُتَّفِقَةَ قد يَكُونُ أحَدُ الرَّجُلَينِ أحْذَقَ فيها مِن الآخَرِ، فربَّما يَتَقَبّلُ أحَدُهما ما لا يُمْكِنُ الآخَرَ عَمَلُهُ، ولم يَمْنَعْ ذلك صِحَّتَها، فكذلك إذا اخْتَلَفَت الصَّنائع. وقَوْلُهم: يَلْزَمُ كلَّ واحِدٍ منهما ما يَتَقَبَّلُه صاحِبُه. قال القاضي: يَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه ذلك، كالوَكِيلَين؛ بدَلِيلِ صِحَّتِها في المُباحِ، ولا ضَمانَ فيها. وإن قُلْنا: يَلْزَمُه. أمْكَنَه تَحْصِيلُ ذلك بالأجْرَةِ، أو بمن يَتَبَرَّعُ له بعَمَلِه. ويَدُلُّ على صِحَّةِ هذا، أنَّه لو قال أحَدُهما: أنا أتَقَبَّلُ وأنتَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْمَلُ. صَحَّتِ الشَّرِكَةُ، وعَمَلُ كلِّ واحِدٍ منهما غيرُ عَمَلِ صاحِبِه. وقال زُفَرُ: لا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إذا قال أحَدُهما: أنا أتَقَبَّلُ وأنْتَ تَعْمَلُ. ولا يَسْتَحِقُّ العامِلُ المُسَمَّى، وإنَّما له أجْرُ المِثْلِ. ولَنا، أنَّ الضَّمانَ يُسْتَحَقُّ به الرِّبْحُ، بدَلِيلِ شَرِكَةِ الأبدانِ، وتَقَبُّلُ العَمَلِ يُوجِبُ الضَّمانَ على المُتَقَبِّلِ، ويَسْتَحِقُّ به الرِّبْحَ، فصار كتَقَبُّلِه المال في المُضارَبَةِ، والعَمَلُ يَسْتَحِقُّ به العامِلُ الرِّبْحَ، كعَمَلِ المُضارِبِ، فيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ المُضارَبَةِ. فصل: والرِّبْحُ في شَرِكَةِ الأبدانِ على ما اتَّفَقُوا عليه، مِن مُساواةٍ أو تَفاضُل؛ لأنَّ العَمَلَ يُسْتَحَقُّ به الرِّبْحُ، وقد يَتفاضَلان في العَمَلِ، فجاز تَفاضُلُهُما في الرِّبْحِ الحاصِلِ به. ولكلِّ واحِدٍ منهما المُطالبةُ بالأجْرَةِ، وللمُسْتَأجِرِ دَفْعُها إلى كلِّ واحِدٍ منهما، وأيهما دَفَعَها إليه بَرِئ منها. وإن تَلِفَتْ في يَدِ أحَدِهما مِن غير تَفْرِيطٍ، فهي مِن ضَمانِهما؛ لأنَّهما كالوَكِيلَين في المُطالبةِ، وما يَتَقَبَّلُه كل واحِدٍ منهما مِن الأعْمالِ، فهو مِن ضَمانِهِما، يُطالبُ به كلُّ واحِدٍ منهما، ويَلْزَمُه عَمَلُه؛ لأنَّ هذه الشَّرِكَةَ لا تَنْعَقِدُ إلَّا على الضَّمانِ، ولا شيءَ فيها تَنْعَقِدُ عليه الشَّرِكَةُ حال الضَّمانِ، فكأن الشَّرِكَةَ تَضَمَّنتْ ضَمانَ كلِّ واحِدٍ منهما عنِ الآخَرِ ما يَلْزَمُه. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَ أحَدَهما ما لَزِم الآخرَ، كما ذَكَرْنا مِن قَبلُ. وما يَتْلَفُ بتَعَدِّي أحَدِهما أو تَفْرِيطِه أو تحتَ يَدِه على وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمانَ

2109 - مسألة: (وإن مرض أحدهما، فالكسب بينهما. فإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه، لزمه ذلك)

وَإنْ مَرِضَ أحدُهُمَا، فَالْكَسْبُ بَينَهُمَا. فَإِنْ طَالبَهُ الصَّحِيحُ أنْ يُقِيمَ مُقَامَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فهو عليه وَحْدَه، وإن أقَرَّ أحَدُهما بما في يَدِه، قُبِل عليه وعلى شَرِيكِه؛ لأنَّ اليَدَ له، فيُقْبَلُ إقْرارُه بما فيها، ولا يُقْبَلُ إقْرارُه بما في يَدِ شَرِيكِه، ولا بَدْينٍ عليه؛ لأنَّه لا يَدَ له على ذلك. 2109 - مسألة: (وإن مَرِض أحَدُهما، فالكَسْبُ بينَهما. فإن طَالبَه الصَّحِيحُ أن يُقِيمَ مُقَامَه، لَزِمَه ذلك) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا عَمِل أحَدُهما دُونَ الآخَرِ، فالكَسْبُ بينَهما. قال ابنُ عَقِيلٍ: نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ إسْحاقَ بنِ هانِئ وقد سُئِلَ عنِ الرَّجُلَين يَشتَرِكان في عَمَلِ الأبدانِ، فيأتِي أحَدُهما بشيءٍ ولا يأتِي الآخرُ بشيءٍ؟ فقال: نعم، هذا بمَنْزِلةِ حديثِ سعدٍ وعَمّارٍ وابنِ مَسْعُودٍ. يَعْنِي حيثُ اشْتَرَكُوا، فجاء سَعْدٌ بأسِيرَينِ، وأخْفَقَ الآخَران (¬1). ولأنَّ العَمَلَ مَضْمُونٌ عليهما معًا، وبضَمانِهِما له وَجَبَتِ الأجْرَةُ، فتَكُونُ لهما، كما كان الضَّمانُ عليهما، ويَكُونُ العامِلُ عَوْنًا لصاحِبِه في حِصَّتِه، ولا يَمْنَعُ ذلك اسْتِحقاقَه، كمنِ استَأجَرَ رَجُلًا ليَقْصُرَ له ثَوْبًا، فاسْتعانَ القَصّارُ بإنسانٍ فقَصَرَ معه، كانتِ الأجْرَةُ للقَصّارِ المُسْتَأجَرِ. كذا هاهُنا. وسواءٌ تَرَك العَمَلَ لمَرَض أو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 159.

2110 - مسألة: (وإن اشتركا على أن يحملا على دابتيهما والأجرة بينهما، صح)

فَإِنِ اشْتَرَكَا لِيَحْمِلَا عَلَى دَابَّتَيْهمَا وَالأُجْرَةُ بَينَهُمَا، صَحَّ. فَإن تَقَبَّلَا حَمْلَ شَيْءٍ، فَحَمَلَاهُ عَلَيهِمَا، صَحَّتِ الشَّرِكَةُ، وَالأجْرَةُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِه. فإن طالبَ أحَدُهما الآخَرَ أن يَعْمَلَ معه ويُقِيمَ مُقامَه مَن يَعمَلُ، فله ذلك. فإنِ امْتَنَعَ فللآخَرِ الفَسْخُ، ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا تَرَك العَمَلَ لغيرِ عُذْرٍ، أن لا يُشارِكَ صاحِبَه في أُجْرَةِ ما عَمِلَه دُونَه، لأنَّه إنَّما شارَكَه ليَعْمَلَا جميعًا، فإذا تَرَك أحَدُهما العَمَلَ، فما وَفَّى بما شَرَط على نَفْسِه، فلم يَسْتَحِقَّ ما جُعِل له في مُقابَلَتِه. وإنَّما احْتَملَ ذلك فيما إذا تَرَكَه لِعُذْرٍ، لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. 2110 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَكا على أن يَحْمِلا على دابَّتَيْهما والأجْرَةُ بينَهما، صَحَّ) لأنه نَوْعٌ مِن الاكْتِسابِ، والدّابَّتانِ آلتانِ، فأشْبَها الأداةَ. 2111 - مسألة: (فإذا تَقَبَّلا حَمْلَ شيءٍ، فحَمَلاه عليهما) أو على غيرِ الدّابَّتَيْن (صَحَّتِ الشَّرِكَةُ، والأجْرَةُ) بينَهما (على ما شَرَطاه، لأنَّ تَقَبُّلَهما الحَمْلَ أثْبَتَ الضَّمانَ في ذِمَّتِهما، ولهما أن يَحْمِلا بأيِّ ظَهْرٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَان، والشرِكَةُ تَنْعَقِدُ على الضَّمانِ، كشَرِكَةِ الوُجُوهِ، فأشْبَهَ ما لو تَقَبَّلا قَصارَةً فقَصَراها بغيرِ أداتِهما.

2112 - مسألة: (وإن أجراهما بأعيانهما، فلكل واحد منهما أجرة دابته)

وَإنْ أجَرَاهُمَا بِأعْيَانِهِمَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةُ دَابَّتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2112 - مسألة: (وإن أجَراهما بأعْيانِهِما، فلكُلِّ واحِدٍ منهما أُجْرَةُ دابَّتِه) أمّا إذا أجَرَا الدّابَّتينَ بأعْيانِهما على حَمْلِ شيءٍ بأجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، واشْتَرَكا على ذلك، لم تَصِح الشَّرِكَةُ، ولكُلِّ واحِدٍ منهما أُجْرَةُ دابَّتِه؛ لأنَّه لم يَجِبْ ضَمانُ الحَمْلِ في ذِمَّتهما (¬1)، وإنما اسْتَحَقَّ المُكْتَرِي مَنْفَعَةَ البَهِيمَةِ التي اسْتَأجَرَها، ولهذا تَنْفَسِخُ الإجارَةُ بمَوْتِ الدّابَّةِ المُسْتأجَرَةِ، ولأنَّ الشَّرِكَةَ إمّا أن تَنْعَقِدَ علي الضَّمانِ في ذِمَمِهما، أو على عَمَلِهما. وليس هذا بواحِدٍ منهما، فإنه لم يَثْبُتْ في ذِمَمِهما ضَمان، ولا عَمِلا بأبْدانِهما ما تَجِبُ الأجْرَةُ في مُقابَلَتِه، ولأنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضمَّنُ الوَكالةَ، ¬

(¬1) في م: «ذممهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَكالةُ على هذا الوَجْهِ لا تَصِحُّ، ولهذا لو (¬1) قال: آجِرْ عَبْدَك وتَكُونُ أُجْرَتُه بَيني وبَينَك. لَم يَصِحَّ، كما لو قال: بع عَبْدَك وثَمَنُه بَينَنا. لم يَصِحَّ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، كما لو اشْتَرَكا فيما يَكْتَسِبان بأبدانِهما مِن المُباحِ. فإن أعان أحَدُهما صاحِبَه في التحْمِيلِ والنَّقْلِ، كان له أجْرُ مِثْلِه؛ لأنَّها مَنافِعُ وَفّاها بشُبْهَةِ عَقْدٍ. فصل: فإن كان لأحَدِهما أداةُ قِصارَةٍ، ولآخَرَ بَيتٌ، فاشْتَرَكا على أن يَعْمَلا بأداةِ هذا في بَيتِ هذا، والكَسْبُ بينَهما، جاز، والأجْرَةُ على ما شَرَطا؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ على عَمَلِهما، والعَمَلُ يُسْتَحَقُّ به الرِّبْحُ في الشَّرِكَةِ، والآلةُ والبَيتُ لا يُسْتَحَقُّ بهما شيءٌ؛ لأنَّهما يُسْتَعْمَلان في العَمَلِ المُشْتَركِ، فصارا كالدّابتَّين اللَّتَين أجَراهُما لحَمْلِ الشيء الذي تَقَبَّلا حَمْلَه. وإن فَسَدتِ الشَّرِكَةُ، قُسِم الحاصِلُ لهما على قَدر أَجْرِ عَمَلِهما وأجْرِ الدارِ والأداةِ. وإنِ كانت لأحَدِهما آلة وليس للآخرِ شيءٌ، أو لأحَدِهما بَيتٌ وليس للآخرِ شيءٌ، فاتَّفَقا على أن يَعْمَلا بالآلةِ أو في البَيتِ، والأجْرَةُ بينَهما، جاز؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في المغني 7/ 115.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن دَفَع رَجُلٌ دابَّته إلى آخَرَ ليَعْمَلَا عليها، وما رَزَق الله بينَهما نِصْفَين، أو أثْلاثًا، أو ما شَرَطاه، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، ومحمدِ بنِ أبي حَرْب، وأحمدَ بنِ سعيدٍ. ونُقِل عن الأوزاعِيِّ ما يَدُلُّ على هذا. وكَرِه ذلك الحَسَنُ، والنّخَعِيُّ. وقال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرأي: لا يَصِحُّ، والرِّبْحُ كلُّه لرَبِّ الدّابَّةِ؛ لأنَّ الحِمْلَ الذي يُسْتَحَقُّ به العِوَضُ منها، وللعامِلِ أجْرُ مِثْلِه؛ لأنَّ هذا ليس مِن أقْسامِ الشَّرِكَةِ، إلَّا أن تَكُونَ المُضارَبَةُ، ولا تَصِحُّ المُضارَبَةُ بالعُرُوضِ، ولأنَّ المُضارَبَةَ تَكُونُ بالتِّجارَةِ في الأعْيانِ، وهذه لا يَجُوزُ بَيعُها ولا إخْراجُها عن مِلْكِ مالِكِها. وقال القاضي: يتَخَرَّجُ أن لا يَصِحَّ، بِناءً على أنَّ المُضارَبَةَ بالعُرُوضِ لا تَصِحُّ. فعلى هذا، إن كان أجَرَ الدّابَّةَ بعَينها، فالأجْرَةُ لمالِكِها، وإن تَقَبَّلَ حَمْلَ شيء فحَمَلَه عليها، أو حَمَل عليها شيئًا مُباحًا فباعَه، فالأجْرَةُ والثَّمَنُ له، وعليه أجْرُ مِثْلِها لمالِكِها. ولَنا، أنَّها عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ عليها، فصَحَّ العَقْدُ ببعض نَمائِها، كالدّراهِمِ والدَّنانِيرِ، وكالشَّجَرِ في المُساقاةِ، والأرْضِ في المُزارَعَةِ. [فإن رَجَح] (¬1) قَوْلُهم: إنَّه ليس مِن أقْسامِ الشَّرِكَةِ، ولا هو مُضارَبَةٌ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْنا: نَعَم، لكنَّه يُشْبِهُ المُساقاةَ والمُزارَعَةَ؛ فإنَّه دَفْعٌ لعَينِ المالِ إلى مَن يَعْمَلُ عليها ببَعْضِ نَمائِها مع بَقاءِ عَينها. وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّ تَخْرِيجَها على المُضارَبَةِ بالعُرُوضِ فَاسِدٌ؛ فإنَّ المُضارَبَةَ إنَّما تَكُونُ بالتِّجارةِ والتَّصَرُّفِ في رَقَبَةِ المالِ، وهذا بخِلافِه. وذَكَر القاضي في مَوْضِعٍ آخَرَ، في مَن اسْتَأجَرَ دابَّةً بنِصْفِ ما يَرْزُقُ الله تعالى أو ثُلُثِه، جاز. قال شيخُنا (¬1): ولا أرَى لهذا وَجْهًا، فإنَّ الإجارَةَ (¬2) يُشْتَرَطُ لصِحَّتِها العِلْمُ بالعِوَضِ، وتَقْدِيرُ المُدَّةِ أو العَمَلِ، ولم يُوجَدْ، ولأن هذا عَقْدٌ غيرُ مَنْصُوصٍ عليه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ، فهو كسائِرِ العُقُودِ الفاسِدَةِ، إلَّا أن يُرِيدَ بالإِجارَةِ المُعامَلَةَ على الوَجْهِ الذي تَقَدَّمَ. وقد أشار أحمدُ إلى ما يَدُلُّ على تَشْبيهِه لمِثْلِ هذا بالمُزارَعَةِ، فقال: لا بَأسَ بالثَّوْبِ يُدْفَعُ بالثُّلُثِ والرُّبْعِ؛ لحديث جابِر، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَى خَيبَرَ على الشَّطْرِ (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّه صار في هذا ومِثْلِه إلى الجَوازِ؛ لشَبَهِه بالمُساقاةِ والمُزارَعةِ لا إلى المُضارَبَةِ ولا إلى الإجارَةِ. فصل: نَقَل أبو داوُدَ عن أحمدَ، في مَن يُعْطِي فَرَسَه على النِّصْفِ مِن الغَنِيمَةِ: أرْجُو أن لا يَكُونَ به بَأسٌ. قال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: قال ¬

(¬1) في المغني 7/ 117. (¬2) في الأصل: «الأجرة». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الخرص، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 236. كما أخرجه أبو عبيدة، في: كتاب الأموال 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو عبدِ اللهِ: إذا كان على النِّصْفِ والربْعِ، فهو جائِزٌ. وبه قال الأوْزاعِيُّ. ونَقَل أحمدُ بنُ سعيدٍ، عن أحمدَ، في مَن دَفَع عَبْدَه إلى رَجُل ليَكْتَسِبَ عليه ويَكُونَ له ثُلُثُ ذلك، أو رُبْعُه، فجائِز. والوَجْهُ فيه ما ذَكَرْناه في مَسْألَةِ الدّابَّةِ. وإن دَفَع ثَوْبَه إلى خَيّاطٍ ليُفَصِّلَه قُمُصًا ويَبِيعَها، وله نِصْفُ رِبْحِها (¬1) بحَقِّ عَمَلِه، جاز. نَصَّ عليه في رِوايَةِ حَرْبٍ. وكذلك إن دَفَع غَزْلًا إلى رَجُل يَنْسِجُه بثُلُثِ ثَمَنِه أو رُبْعِه، جازَ. نَصَّ عليه. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يَجُوزُ شيءٌ مِن ذلك؛ لأنَّه عِوَضٌ مَجْهُولٌ وعَمَلٌ مَجْهُولٌ. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ جَوازِه، فإن جَعَل له مع ذلك دَرَاهِمَ، لم يَجُزْ. نَصَّ عليه. وعنه، يَجُوزُ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. قال أبو بكر: هذا قول قَدِيم، وما رُوِيَ غيرُ هذا فعليه المُعْتَمَدُ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يَقُولُ: لا بَأسَ بالثَّوْبِ يُدْفَعُ بالثُّلُثِ والرُّبْعِ. وسُئِلَ عن الرَّجُلِ يُعْطِي الثَّوْبَ بالثُّلُثِ ودِرْهَم أو دِرْهَمَين، قال: أكْرَهُه؛ لأنَّ هذا شيءٌ لا يُعْرَفُ، والثُّلُثُ إذا لم يَكُنْ معه شيءٌ، نَراه جائِزًا؛ لحديثِ جابِر، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطى خَيبَرَ على الشَّطْرِ. قِيلَ لأبِي عبدِ اللهِ: فإن كان النَّسَّاجُ لا يَرْضَى حتى يُزادَ على الثُّلُثِ دِرْهَمًا؟ قال: فلْيَجْعَلْ له ثُلُثًا [وعُشْرَى ثُلُثٍ] (¬2)، ونِصْفَ عُشْر، وما أشْبَهَه. وروَى الأثْرَمُ عن ابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، وأيوبَ، ¬

(¬1) في الأصل، ق: «ريعها». (¬2) في النسخ: «وعشرا ثلثا». وانظر المغني 7/ 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَعْلَى بنِ حَكِيمٍ (¬1)، أنَّهم أجازُوا ذلك. وقال ابنُ المُنْذِرِ: كَرِه هذا كلَّه الحَسَنُ. وقال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي: هذا كلُّه فاسِدٌ. واختارَه ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عَقِيل، [وقالوا] (¬2): لو دَفَع شَبَكَتَه إلى الصَّيادِ ليَصِيدَ بها السَّمَكَ بينَهما نِصْفَان، فالصَّيدُ كلُّه للصائِدِ، ولصاحِبِ الشَّبَكَةِ أجْرُ مِثْلِها. وقِياسُ ما نُقِل عن أحمدَ صِحَّةُ الشَّرِكَةِ وما رَزَق الله بينَهما على ما شَرَطاه؛ لأنَّها عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ فيها، فصَحَّ دَفْعُها ببعضِ نَمائِها، كالأرْضَ. فصل: وقد ذَكَر ابنُ عَقِيلٍ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قَفِيزِ الطَّحّانِ (¬3)، وهو أن يُعْطِيَ الطَّحّانَ أقْفِزَةً مَعْلُومةً يَطْحَنُها بقَفِيزِ دَقِيقٍ منها. وعِلَّةُ المَنْعِ، أنَّه جَعَل له بعضَ مَعْمُولِه أجْرًا لعَمَلِه، فيَصِيرُ الطَّحْنُ مُسْتَحَقًا له وعليه. وهذا الحديثُ لا نعْرِفُه، ولم تَثْبُتْ صِحَّتُه، ولا ذَكَرَه أصحابُ السُّنَنِ. وقِياسُ قولِ أحمدَ جَوازُه؛ لِما ذَكَرْنا عنه مِن المَسائِلِ. فصل: فإن كان لرجلٍ دابَّةٌ، ولآخَرَ إِكافٌ وجُوالِقَاتٌ، فاشْتَرَكا على أن يُؤجِرَاهُما والأجْرَةُ بينَهما نِصْفان، فهو فاسِدٌ؛ لأنَّ هذه أعيان لا يَصِحُّ الاشْتِراكُ فيها، كذلك في مَنافِعِها، إذ تَقْدِيرُه: آجِرْ دابَّتك لتَكُونَ ¬

(¬1) يعلى بن حكيم الثقفي مولاهم، المكي، سكن البصرة، وروى عن سعيد بن جبير وغيره، وكان ثقة صدوقا. تهذيب التهذيب 11/ 401. (¬2) في الأصل: «وقال». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 220.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُجْرَتُها بَينَنا، وأؤجرُ جُوَالِقاتِي لتَكُونَ أُجُرَتُها بَيننا. وتكونُ كلُّها لصاحِبِ البَهِيمَةِ؛ لَأنَّه مالِكُ الأصْلِ، وللآخَرِ أجْرُ مِثْلِه على صاحِبِ البَهِيمَةِ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى مَنافِعَ مِلْكِه بعَقْدٍ فاسِدٍ، هذا إذا أجَرَ الدّابَّةَ بما عليها مِن الإكافِ والجُوالِقاتِ في عَقْدٍ واحِدٍ، فأمّا إن أجَرَ كلُّ واحدٍ منهما مِلْكَه مُنْفَرِدًا، فَلِكُلِّ واحدٍ منهما (¬1) أجْرُ مِلْكِه. وهكذا لو قال رجلٌ لصاحِبِه: آجِرْ عَبْدِي، والأجْرُ بَينَنا. كان الأجْرُ لصاحِبِه، وللآخَرِ أجْرُ مِثْلِه. وكذلك في جميعِ الأعْيانِ. فصل: فإنِ اشْتَرَكَ ثَلاثَةٌ (¬2)؛ مِن أحَدِهِم دابَّةٌ، ومِن آخَرَ راويَةٌ (¬3)، ومِن آخَرَ العَمَلُ، على أنَّ ما رَزَق اللهُ تعالى فهو بينَهم، صَحَّ في قِياسِ قولِ أحمدَ، فإنَّه نصَّ في الدّابَّةِ يَدْفَعُها إلى آخَرَ يَعْمَلُ عليها على أنَّ لهما الأجْرَةَ على الصِّحَّةِ. وهذا مِثْلُه (1)؛ لأنَّه دَفَع دابَّتَهَ إلى آخَرَ يَعْمَلُ عليها، والرَّاويَةُ عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ عليها، فهي كالبَهِيمَةِ، فعلى هذا، يكونُ ما رَزَق اللهُ بينَهم على ما اتَّفَقُوا عليه. وهذا قولُ الشافعيِّ. ولأنَّهما وَكَّلَا العامِلَ في كَسْبٍ مُباحٍ بآلةٍ دَفَعاها إليه، فأشْبَهَ ما لو دَفَع إليه أرْضَه ليَزْرَعَها. وهكذا لو اشْتَرَكَ أرْبَعَةٌ؛ مِن أحَدِهِم دُكّان، ومِن آخَرَ رَحًى، ومِن آخَرَ بَغْلٌ، ومِن آخَرَ العَمَلُ، على أن يَطْحَنُوا بذلك، فما رَزَق اللهُ تعالى فهو بينَهم، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الراوية: وعاء كالقربة ونحوها، يحمل فيها الماء في السفر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ، وكان بينَهم على ما شَرَطُوه. وقال القاضي: العَقْدُ فاسِدٌ في المَسْألتَين جميعًا. وهو ظاهِرُ قولِ الشافعيِّ؛ لأنَّ هذا لا يَجُوزُ أن يكونَ مُشارَكَةً ولا مُضارَبَة؛ لكَوْنِه لا يَجُوزُ أن يكونَ رَأسُ مالِهِما العُرُوضَ، ولأنَّ مِن شَرْطِهِما عَوْدَ رَأسِ المالِ سَلِيمًا، بمَعْنَى أنَّه لا يُسْتَحَقُّ شيء مِن الرِّبْحِ حتى يُسْتَوْفَى رَأسُ المالِ بكَمَالِه، والرّاويَةُ هاهُنا تَخْلُقُ (¬1) وتَنْقُصُ، ولا إجَارةً؛ لأنَّها تَفْتَقِرُ إلى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وأجْرٍ مَعْلُوم، فتكونُ فاسِدَةً. فعلى هذا، يكونُ الأجْرُ كلُّه في المَسْألَةِ الأولَى للسَّقَّاءِ؛ لأنَّه لَمّا غَرَف الماءَ في الإِناءِ مَلَكَهُ، فإذا باعَه فثَمَنُه له؛ لأنَّه عِوَضُ مِلْكِه، وعليه لصاحِبَيه (¬2) أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّه اسْتَعْمَلَ مِلْكَهُما بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ لهما، فكان لهما أجْرُ المِثْلِ، كسائِرِ الإِجاراتِ الفاسِدَةِ. وأمّا في المسْألَةِ الثَّانِيَةِ، فإنَّهم إذا طَحَنُوا لرَجُلٍ طَعامًا بأُجْرَةٍ، نَظَرْتَ في عَقْدِ الإجارَةِ؛ فإن كان مِن واحدٍ منهم، ولم يَذْكُرْ أصحابَه ولا نَوَاهُم، فالأجْرُ كلُّه له، وعليه لأصْحابِه أجْرُ المِثْلِ، وإن نوَى أصْحابَه أو ذَكَرَهُم، كان كما لو عَقَد مع كلِّ واحدٍ منهم مُنْفَرِدًا، أو اسْتَأجَرَ مِن جَمِيعِهم، فقال: اسْتَأجَرْتُكُم لتَطْحَنُوا لي هذا الطَّعامَ بكذا. فالأجْرُ بينَهم أرْباعًا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم قد لَزِمَه طَحْنُ رُبْعِه، ويَرْجِعُ كلُّ واحدٍ منهم على أصْحابِه برُبْع ¬

(¬1) تخلق: تَبْلى. (¬2) في النسخ: «صاحبه». وانظر المغني 7/ 120.

2113 - مسألة: (وإن جمعا بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة، صح)

وَإنْ جَمَعَا بَينَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ وَالأبْدَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْمُضَارَبَةِ، صَحَّ. فَصْلٌ: الْخَامِسُ، شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ؛ وَهِيَ أنْ يُدْخِلَا فِي الشَّرِكَةِ الْأكْسَابَ النَّادِرَةَ، كَوجْدَانِ لُقَطَةٍ أوْ رِكَازٍ، أوْ مَا ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْرِ مِثْلِه، وإن كان (¬1) قال: اسْتَأجَرْتُ هذا الدكَّانَ والبَغْلَ والرَّحَى وهذا الرجلَ بكذا وكذا مِن الطَّعامِ. صَحَّ، والأجْرُ بينَهم على قَدْرِ أجْرِ مِثْلِهِم، لكلِّ واحدٍ مِن المُسَمَّى بقَدْرِ حصَّتِه، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ يكونُ بينَهم أرْباعًا، بناءً على ما إذا تَزَوَّجَ أرْبَعًا بمَهْرٍ واحدٍ، أو كاتَبَ أرْبَعَةَ أعبُدٍ بعِوَضٍ واحدٍ، هل يكونُ العِوَضُ أرْباعًا أو على قَدْرِ قِيمَتِهم؟ على وَجْهَين. 2113 - مسألة: (وإن جَمَعا بينَ شَرِكَةِ العِنانِ والأبدانِ والوُجُوهِ والمُضارَبَةِ، صَحَّ) لأنَّ كل واحدٍ منهما يَصِحُّ مُنْفَرِدًا، فصَحَّ مع غيرِه، كَحَالةِ الانْفِرادِ. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (الخامِسُ، شَرِكَةُ المُفاوَضَةِ؛ وهو أن يُدْخِلَا في الشَّرِكَةِ الأكْسابَ النّادِرَةَ، كَوجْدانِ لُقَطَةٍ أو رِكَازٍ، أو ¬

(¬1) سقط من: م.

يَحْصُلُ لَهُمَا مِنْ مِيرَاثٍ، وَمَا يَلْزَمُ أحَدَهُمَا مِنْ ضَمَانِ غَصْبٍ، أوْ أرشِ جِنَايَةٍ، وَنحْو ذَلِكَ، فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَحْصُلُ لهما مِن مِيراثٍ، أو ما يَلْزَمُ أحَدَهُما مِن ضَمانِ غَصْبٍ، أو أرْشِ جِنَايَةٍ، أو نحو ذلك، فهذه شَرِكَةٌ فاسِدَةٌ) وبهذا قال الشافعيُّ. وأجازَه الثَّوْرِيُّ، والأوزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ. وحُكِيَ ذلك عن مالكٍ. وشَرَط أبو حنيفةَ لها شرُوطًا؛ وهي أن يَكُونَا حُرَّين مُسْلِمَين، وأن يكونَ مالُهما في الشَّرِكَةِ سَواءٌ، وأن يُخْرِجَا جَمِيعَ ما يَمْلِكانِه مِن جنْسِ الشَّرِكَةِ، وهو الدَّراهِمُ والدَّنانِيرُ، واحْتَجُّوا بما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا تَفَاوَضْتُمْ فَأحْسِنُوا المُفَاوَضَةَ» (¬1). ولأنَّها نَوْعُ شَرِكَةٍ تَخْتَصُّ باسْمٍ، فكان منها صَحِيحٌ، كشَرِكَةِ العِنَانِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لا يَصِحُّ بينَ كافِرَين ¬

(¬1) قال ابن الهمام في حاشيته على الهداية في الفقه الحنفي: وهذا الحديث لم يعرف في كتب الحديث أصلا، والله أعلم به، ولا يثبت به حجة على الخصم. شرح فتح القدير 6/ 157، 158.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بينَ كافِرٍ ومُسْلِم، فلم يَصِحَّ بينَ المُسْلِمَينِ، كسائِرِ العُقُودِ الفاسِدَةِ، ولأنَّه عَقْدٌ لم يَرِدِ الشَّرْعُ بمِثْلِه، فلا يَصِحُّ، كما ذَكَرْنا، ولأنَّ فيه غَرَرًا، فلم يَصِحَّ، كَبَيعِ الغَرَرِ، بَيَانُ غَرَرِه أنَّه يَلْزَمُ كلَّ واحدٍ ما لَزِم الآخَرَ، وقد يَلْزَمُه شيءٌ لا يَقْدِرُ على القِيامِ به (¬1)، وقد أدْخَلَا فيه الأكسابَ النّادِرَةَ، فأمّا الخَبرُ فلا نَعْرِفُه، ولا رَواه أصحابُ السُّنَنِ، وليس فيه ما يَدُلُّ على أنَّه أراد هذا العَقْدَ، فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ المُفاوَضَةَ في الحدِيثِ، ولهذا رُوِيَ فيه: «ولا تَجَادَلُوا، فإنَّ المُجادَلَةَ مِنَ الشَّيطانِ». ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا القِياسُ فلا يَصِحُّ، فإنَّ اخْتِصاصَها باسْم لا يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، كبَيعِ المُنابَذَةِ والمُلامَسَةِ وسائِرِ البُيُوعِ الفاسِدَةِ. وشَرِكَةُ العِنَانِ تَصِحُّ (¬1) بينَ الكافِرَينِ والكافِرِ والمُسْلِمِ، بخِلَافِ هذا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

باب المساقاة

بَابُ المُسَاقَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُساقاةِ وهي أن يَدْفَعَ إنْسانٌ شَجَرَه إلى آخَرَ، ليَقُومَ بسَقْيِه وعَمَلِ سائِرِ ما يَحْتاجُ إليه، بجُزْءٍ مَعْلُومٍ له مِن الثَّمَرَةِ. وسُمِّيَتْ مُساقاةً لأنَّها مُفاعَلَةٌ مِن السَّقْي؛ لأنَّ أهْلَ الحِجازِ أكثرُ [حاجَةِ شَجَرِهم] (¬1) إلى السَّقْي، لكَوْنِهم يَسْقُون مِن الآبارِ، فسُمِّيَتْ بذلك. والأصْلُ في جَوازِها السُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أما السُّنَّةُ، فما روَى عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، قال: عامَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خَيبَرَ بشَطْرِ مَا يَخْرُجُ منها، مِن ثَمَرٍ أو زَرْعٍ. مُتَّفَق عليه (¬2). وأمّا الإِجْماعُ، فقال أبو جَعْفَرٍ [محمدُ بنُ] (¬3) عَلِيِّ بنِ ¬

(¬1) في م: «حاجتهم». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 313. ويضاف إليه: والبخاري، في: باب المزارعة بالشطر ونحوه، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 137. وهو عند مسلم في 3/ 1186 وليس في 3/ 186.كما أخرجه الدارمي، في: باب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل خيبر، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 270. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 17، 22، 37، 157. (¬3) سقط من: م.

2114 - مسألة: (تجوز المساقاة في النخل، وفي كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته)

تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ، وَفِي كُلِّ شَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأكُولٌ بِبَعْضِ ثَمَرَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ، رَضِيَ الله عنه وعن آبائِه: عامَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ خَيبَرَ بالشَّطرِ، ثم أبو بَكْرٍ، ثم عُمَرُ، ثم عُثْمانُ، ثم عَلِيٌّ، ثم أهلُوهُم إلى اليَوْمِ، يُعْطُون الثُّلُثَ والرُّبْعَ (¬1). وهذا عَمِلَ به الخُلَفاءُ الرَّاشِدُون مُدَّةَ خِلافَتِهم، واشْتَهَرَ ذلك، ولم يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا. 2114 - مسألة: (تجوزُ المُساقاةُ في النَّخْلِ، وفي كُل شَجَرٍ له ثَمَرٌ مَأكُولٌ ببعضِ ثَمَرَتِه) هذا قولُ الخُلَفاءِ الراشِدِين، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسالِمٌ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال داودُ: لا تجوزُ إلَّا في ثَمَرِ النَّخْلِ؛ لأنَّ الخَبَرَ إنَّما وَرَدَ بها فيه. وقال الشافعيُّ: لا تجوزُ إلَّا في النَّخْلِ والكَرْمِ؛ لأنَّ الزَّكاةَ تجبُ في ثَمَرتِهما. وفي سائِرِ الشَّجَرِ قولان؛ أحَدُهما، لا تجوزُ فيه؛ لأنَّ الزَّكاةَ لا تَجِبُ في نَمائِه، فأشْبَهَ ما ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب المزارعة بالشطر ونحوه، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 137.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا ثَمَرَةَ له. وقال أبو حنيفةَ، وزُفَرُ: لا تجوزُ بحالٍ؛ لأنَّها إجَارَةٌ بثَمَرَةٍ لم تُخْلَقْ، أو إجَارَةٌ بثَمَرَةٍ مَجْهُولَةٍ، أشْبَهَ إجَارَتَه بثَمَرةِ غيرِ الشَّجَرِ الذي يَسْقِيه. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ والإِجْماعِ، ولا يجوزُ التَّعْويلُ على ما خالفَهُما. فإن قِيلَ: راوي حَدِيثِ خَيبَرَ ابنُ عُمَرَ، وقد رَجَع عنه، فقال: كُنّا نُخابِرُ أرْبَعِين سَنَةً حتى حَدَّثَنا رافِعُ بنُ خَدِيجٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن المُخابَرَةِ (¬1). ولا يَنْعَقِدُ الإِجْماعُ مع مُخالفَتِه، ويَدُلُّ أيضًا على نسْخِ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ؛ لرُجُوعِه عن العَمَلِ به إلى حَدِيثِ رافِع. قلنا: لا يجوزُ حَمْلُ حَدِيثِ رافِع على ما يُخالِفُ الإِجْماع، ولا حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَزَلْ يُعامِلُ أهْلَ خَيبَرَ حتى ماتَ، ثم عَمِلَ (¬2) به الخُلفاءُ بعدَه، ثم مَن بعدَهم، فكيف يُتَصَوَّرُ نَهْيُ النبيِّ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 141. ومسلم، في: باب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1180، 1181. وأبو داود، في: باب في التشديد في ذلك، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 232، 233. والنسائي، في أول كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 41 - 45. وابن ماجه، في: باب كراء الأرض، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 820. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 465، 4/ 142. (¬2) في الأصل: «عامل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ثم يُخالِفه؟ أم كيف يُعْمَل ذلك في عَصْرِ الخلَفاءِ ولم يُخْبِرْهُم مَن سَمِعَ النَّهْيَ، وهو حاضِرٌ معهم وعالِمٌ بفِعْلِهم؟ فلو صَحَّ خبَر رافِعٍ لوجَبَ حَمْله على ما يُوافِق السُّنَّةَ والإِجْماعَ. على أنَّه قد رُوِيَ في تَفسِيرِ خبَرِ رافِعٍ عنه (¬1) ما يَدلُّ على صِحَّةِ قَوْلِنا، فرَوَى البُخارِيُّ (¬2)، بإسْنادِه، قال: كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ بالنّاحِيَةِ منها تُسَمَّى لِسَيِّدِ الأرْضِ، فَمِمّا (¬3) يُصَابُ ذلك وتَسْلَمُ الأرْضُ، ومِمَّا (3) تُصابُ الأرْضُ ويَسْلَمُ ذلك، فنُهِينَا، فأمّا الذَّهَبُ والوَرِقُ، فلم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. ورُوِيَ تَفسِيرُه أيضًا بشيءٍ غيرِ هذا مِن أنواعِ الفَسَادِ، وهو مُضْطَربٌ جِدًّا. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن حديثِ رافِع: نهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُزارَعةِ. فقال: رافِعٌ يُرْوَى عنه في هذا ضُرُوبٌ. كأنَّه يُرِيدُ أنَّ اخْتِلافَ الرِّواياتِ عنه يُوهِنُ حَدِيثَه. وقال طاوُسٌ: إنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب حدثنا محمد. . . .، من كتاب الحرث والمزارعة، وفي: باب الشروط في المزارعة، من كتاب الشروط. صحيح البخاري 3/ 137، 249. كما أخرجه مسلم، في: باب كراء الأرض بالذهب والورق، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1183. وأبو داود، في: باب في المزارعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 231، 232. والنسائي، في: باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن الكراء، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 39، 40. وابن ماجه، في: باب الرخصة في كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 821. والإمام مالك، في: باب ما جاء في كراء الأرض، من كتاب كراء الأرض. الموطأ 2/ 711. (¬3) في ق، م: «فربما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلَمَهُم، يَعْنِي ابنَ عَبّاسٍ، أخْبَرني أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْهَ عنه، ولكن قال: «لأنْ يَمْنَحَ أحدُكُمْ أخاهُ أرضَهُ، خَيرٌ مِنْ أن يَأخُذَ عَلَيهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا». رَواه البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ (¬1). وأنْكَرَ زَيدُ بنُ ثابتٍ حَدِيثَ رافعٍ عليه (¬2). فكَيف يجوزُ نَسْخُ [أمْرٍ فَعَلَه] (¬3) رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتَ وهو يَفْعَلُه، ثم أجْمَعَ عليه خُلَفاؤه وأصحابُه بعدَه، بخَبَرٍ (¬4) لا يجوزُ العَمَلُ به، ولو لم يُخالِفْه غيرُه! ورُجُوعُ ابنِ عُمَرَ إليه يَحْتَمِلُ أنَّه رَجَعَ عن شيءٍ مِن المُعامَلاتِ الفاسِدَةِ التي فسَّرَها رافِعٌ في حَدِيثه. وأمَّا غيرُ ابنِ عُمَرَ فقد أنْكَرَ على رافع ولم يَقْبَلْ حَدِيثَه، وحَمَلَه على أنَّه غَلِطَ في رِوايته. والمَعْنَى يَدُلُّ على ذلك؛ فإنَّ كثيرًا مِن أهْلِ النَّخِيلِ والشَّجَرِ يَعْجِزُونَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب حدثنا علي بن عبد الله. . . .، من كتاب الحرث والمزارعة، وفي: باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضا في المزارعة والثمرة، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 138، 141. ومسلم، في: باب الأرض تمنح، من كتاب البيوع 3/ 1184، 1185. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المزارعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 231. والنسائي، في: باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض. . . .، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 33. وابن ماجه، في: باب الرخصة في المزارعة. . . .، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 823. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 234، 281، 349. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المزارعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 231. والنسائي، في: كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 47. وابن ماجه، في: باب ما يكره من المزارعة، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 822. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 182، 187. (¬3) في الأصل: «فعل». (¬4) سقط من النسخ، وانظر المغني 7/ 529.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عِمارَتِه وسَقْيِه، ولا يُمْكِنُهم الاسْتِئْجارُ عليه، وكَثِيرٌ مِن النّاسِ لا شَجَرَ لهم، ويَحْتاجُون إلى الثَّمرِ، ففي تَجْويزِ المُساقاةِ دَفعٌ للحاجَتَين، وتَحْصِيلٌ لِمَصْلحةِ الفِئَتَينِ، فجازَ، كالمُضارَبَةِ بالأثْمانِ. فأمَّا قياسُهم فيَبْطُلُ بالمُضارَبَةِ، فإنَّه يَعْمَلُ في المالِ بنَمائِه، وهو مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ، وقد جازَ بالإجْماعِ، وهذا في مَعْناه. ثم إنَّ الشارِعَ قد جَوَّزَ العَقْدَ في الإجارةِ على المَنافِعِ المَعْدُومةِ للحاجَةِ، فلِمَ لا يجوزُ على الثَّمَرةِ المَعْدُومةِ للحاجَةِ، مع أنَّ القياسَ إنَّما يكونُ في إلْحاقِ المَسْكُوتِ عنه بالمَنْصُوصِ عليه، أو المُجْمَعِ عليه، فأمَّا في إبْطالِ نَصٍّ وخَرْقِ إجْماعٍ بقِياسِ نَصٍّ آخَرَ، فلا سَبِيلَ إليه. وأمَّا تَخْصِيصُ ذلك بالنَّخْلٍ، أو به وبالكَرْمِ، فيُخالِفُ عُمُومَ قولِه: عامَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ خيبَرَ بِشَطْرِ ما يَخْرُجُ مِنها مِنْ زَرعٍ أو ثَمَرٍ. وهذا عامٌّ في كلِّ ثَمَرٍ، ولا تكادُ بَلْدةٌ ذاتُ أشْجارٍ تَخْلُو مِن شجَرٍ غيرٍ النَّخِيلِ، وقد جاءَ في لَفْظِ بعضِ الأخْبارِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أهْلَ خيبَرَ بِشَطْرِ ما يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ والشَّجَرِ. [رَواه الدّارَقُطْنِيُّ] (¬1). ولأنَّه شَجَرٌ يُثْمِرُ كلَّ حَوْلٍ، فأشْبَهَ النَّخْلَ والكَرْمَ، ولأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق. وهذا اللفظ أخرجه الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 38، 39. وقال: ابن صاعد وهم في ذكر الشجر، ولم يقله غيره. ووافقه الحافظ في تلخيص الحبير 3/ 59.

2115 - مسألة: (وتصح بلفظ المساقاة)

وَتَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالْمُعَامَلَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجَةَ تَدْعُو إلى المُساقاةِ عليه كالنَّخْلِ وأكثرَ؛ لكَثْرَتِه، فأشْبَهَ النَّخْلَ، ووُجُوبُ الزَّكَاةِ ليس مِن العِلَّةِ (¬1) المُجَوِّزَةِ للمُساقاةِ، ولا أثَر له (¬2) فيها، وإنَّما العِلَّةُ ما ذَكَرْناه. فصل: فأمَّا ما لا ثَمَرَ له، كالصَّفْصافِ والجَوْزِ، أو له ثَمَرٌ غيرُ مَقْصُودٍ، كالصَّنَوْبَرِ والأَرْزِ، فلا تَجوزُ المُساقاةُ عليه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه غيرُ مَنْصُوصٍ عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ، ولأنَّ المُساقاةَ إنَّما تجوزُ بجُزْءٍ مِن الثَّمَرَةِ، وهذا لا ثَمَرَةَ له إلَّا أن يكونَ ممَّا يُقْصَدُ وَرَقُه أو زَهْرُه، كالتُّوتِ والوَرْدِ، فالقِياسُ يَقْتَضِي جَوازَ المُساقاةِ عليه؛ لأنَّه في مَعْنَى الثَّمَر، لكَوْنِه ممَّا يَتَكَرَّرُ كلَّ عام ويُمْكِنُ أخْذُه والمُساقاةُ عليه بجُزْءٍ منه، فيَثْبُتُ له حُكْمُه. 2115 - مسألة: (وتَصِحُّ بلَفْظِ المُساقَاةِ) لأنَّها مَوضُوعُها حَقِيقةً (و) بلَفْظِ (المُعامَلَةِ) لقَوْلِه في الحَدِيثِ: عامَلَ أهْلَ خيبَرَ على شَطْرِ ما يَخْرُجُ مِنْها. وتَصِحُّ بكُلِّ ما يُؤَدِّي مَعْناها مِن الألفاظِ، نحوَ: فالحْتُك. و: اعْمَلْ في بُسْتانِي هذا حتى تَكْمُلَ ثَمَرَتُه. وما أشْبَهَه؛ لأنَّ القَصْدَ المَعْنَى، فإذا أتَى به بأيِّ لَفْظٍ دَلَّ عليه، صَحَّ، كالبَيعِ. ¬

(¬1) في ق: «المعاملة». (¬2) سقط من: م.

2116 - مسألة: (وتصح بلفظ الإجارة، في أحد الوجهين)

وَتَصِحُّ بِلفْظِ الْإجَارَةِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَقَدْ نَصَّ أحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فِي مَنْ قَال: أجَرْتُكَ هَذِهِ الْأرْضَ بثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. أنَّهُ يَصحُّ. وَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ بِلَفْظِ الإجَارَةِ. ذَكَرَهُ أَبو الْخَطابِ. وَقَال أكْثَرُ أصْحَابِنَا: هِيَ إِجَارَة. وَالْأوَّلُ أقْيَسُ وَأصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2116 - مسألة: (وتَصِحُّ بلَفْظِ الإجارَةِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ) لأنَّه مُؤَدٍّ للمَعْنَى، فصَحَّ به العَقْدُ، كسائِرِ الألْفاظِ المُتَّفَقِ عليها. والثاني، لا تَصِحُّ. وهو اخْتِيارُ أبي الخَطَّابِ؛ لأنَّ الإجَارةَ يُشْتَرَطُ لها كَوْنُ العِوَضِ مَعْلُومًا، [والعَملِ مَعْلُومًا] (¬1)، وتَكُونُ لازِمَةً، والمُساقاةُ بخِلافِه. والأوَّلُ أقْيَسُ؛ لِما ذَكَرْنا. 2117 - مسألة: (وقد نَصَّ أحمدُ في رِوايةِ جماعةٍ، في مَن قال: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجرْتُكَ هذه الأرْضَ بثُلُثِ ما يَخْرُجُ منها. أنَّه يَصِحُّ. وهذه مُزارَعة بلَفْظِ الإِجَارَةِ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ) فمعنى قَوْلِه: أجَرْتُكَ هذه الأرْضَ بثُلُثٍ. أي، زارَعْتُكَ عليها بثُلُثٍ. عَبَّرَ عن المُزارَعَةِ بالإِجارَةِ على سَبِيلِ المَجازِ، كما يعَبَّرُ عن الشُّجَاعِ بالأسَدِ. فعلى هذا، يكونُ نَهْيُه - عليه السلام -[عن كِراءِ الأرضِ] (¬1) بثُلُثٍ أو رُبْعٍ، إنَّما يَنْصَرِفُ إلى الإِجارَةِ الحَقِيقِيَّةِ لا عن المُزارَعَةِ (وقال أكْثَرُ أصْحابِنا: هي إجارَة) لأنَّها مَذْكورَةٌ بلَفْظِها، فتكون إجارَةً حَقِيقِيّة، وتَصِحُّ ببَعْضِ الخارِجِ مِن الأرْضِ، كما تَصِحُّ بالدَّراهم. قال شيخُنا: (والأوَّلُ أقْيَسُ وأصَحُّ) لما سَبَقَ. ¬

(¬1) في م: «عنها».

2118 - مسألة: (وهل تصح على ثمرة موجودة؟ على روايتين)

وَهَلْ تَصِحُّ عَلَى ثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2118 - مسألة: (وهل تَصِحُّ على ثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ؟ على رِوايَتَينِ) إحداهما، تجوزُ. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي يُوسُف، ومحمدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّها إذا جازَتْ [في المَعْدُومَةِ] (¬1) مع كَثْرةِ الغَرَرِ فيها، فمع وُجُودِها وقِلَّةِ الغَرَرِ فيها أوْلَى. وإنَّما تَصِحُّ إذا بَقِيَ مِن العَمَلِ ما تَزِيدُ به الثَّمَرَةُ؛ كالتَّأبِيرِ، والسَّقْي، وإصْلاحِ الثَّمَرةِ، فإن بَقِيَ ما لا تَزِيدُ به الثَّمَرةُ، كالجِذاذِ ونحوه، لم يَجُزْ، بغيرِ خِلافٍ. والثانيةُ، لا تجوزُ. وهو القولُ الثاني للشافعيِّ؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بمَنْصُوص عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عامَلَ أهْلَ خَيبَرَ عَلى الشّطْرِ مِمَّا يَخْرُجُ مِن زَرْعٍ أوْ ثَمَرٍ. ولأنَّ هذا يُفضِي إلى أن يَسْتَحِقَّ بالعَقْدِ عِوَضًا مَوْجُودًا يَنْتَقِلُ المِلْكُ فيه عن رَبِّ المالِ إلى المُسَاقِي، فلم يَصِحَّ، كما لو بدا صَلاحُ الثَّمرةِ، ولأنَّه عَقْدٌ على العَمَل في المالِ بِبَعْضِ نَمائِه، فلم يَجُزْ بعد ظُهُورِ النَّماءِ، كالمُضَارَبَةِ، ولأنَّ هذا يَجْعَلُ العقدَ (¬1) إجارَةً بمَعْلُومٍ ومَجْهُولٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو اسْتَأْجَرَهُ على العَمَلِ بذلك. وقولُهم: إنَّها أَقلُّ غَرَرًا. قُلنا: قِلَّةُ الغَرَرِ ليست مِن المُقْتَضِي للجَوازِ، ولا كَثْرَتُه المَوْجُودَةُ في مَحَلِّ النَّصِّ مانِعَةً منه، فلا تُؤَثِّرُ قِلَّتُه شيئًا، والشَّرْعُ ورَدَ به على وَجْهٍ لا يَسْتَحِقُّ العامِلُ فيه عِوَضًا مَوْجُودًا، ولا يَنْتَقِلُ إليه مِن مِلْكِ رَبِّ المالِ شيءٌ، وإنَّما يَحْدُثُ النَّماءُ، الموجُودُ على مِلْكِهما، على ما شَرَطاه، فلم تَجُزْ مُخالفةُ هذا المَوْضُوعِ، ولا إثْباتُ عَقْدٍ ليس في مَعْناه إلْحاقًا به، كما لو بَدَا صَلاحُ الثَّمَرَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكالمُضارَبَةِ بعد ظُهُورِ الرِّبْحِ. ومَن نَصَرَ الروايةَ الأُولَى قال: نَصُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على المُساقَاةِ على الثَّمَرةِ المَعْدُومَةِ بجُزْءٍ منها، تَنْبِيهٌ على جَوَازِها على المَوْجُودَةِ، لِما ذَكَرْنا، ولا يَصحُّ القِياسُ على المُضارَبةِ إذا ظَهَر الرِّبْحُ، لأنَّها لا تَحْتاجُ إلى عَمَل، وههُنا العَمَلُ (¬1) يُحْتاجُ إليه، فلا يَصحُّ القِياسُ، ونَظِيرُ ذلك المُساقاةُ على الثَّمَرَةِ بعد بُدُوِّ صَلاحِها، فإنَّه لا يَصحُّ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، لكَوْنِ العَمَلِ لا يَزِيدُ في الثَّمَرَة بخِلافِ الرِّوايةِ الأُولى، فإنَّ العَمَلَ يَزِيدُ فيها، فافتَرَقا. فصل: وإذا ساقَاهُ على وَدِيِّ النَّخْلِ (¬2)، أو صِغارِ الشَّجَرِ، إلى مُدَّةٍ يَحْمِلُ فيها غالِبًا بجُزْءٍ من الثَّمَرَةِ، صَحَّ، لأنَّه ليس فيه أكْثَرُ مِن أنَّ عَمَلَ العامِلِ يَكْثُرُ، وذلك لا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كما لو جُعِلَ له سَهْمٌ مِن ألْفٍ. وفيه الأقْسامُ التي نَذْكُرُها في كِبَارِ النَّخْلِ والشَّجَرِ، فإن قلنا: المُساقاةُ عَقْدٌ جائِزٌ. لم يُحْتَجْ إلى ذِكْرِ مُدَّةٍ. وإن قُلنا: هو لازِمٌ. اشْتُرِطَ ذِكْرُ المُدَّةِ، وسَنَذْكُرُه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) ودى النخل: صغاره.

2119 - مسألة: (وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة، صح)

وَإنْ سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيهِ حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2119 - مسألة: (وَإنْ سَاقَاهُ عَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيهِ حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ، صَحَّ) والحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا ساقاهُ على صِغَارِ الشَّجَرِ على ما بَيَّنْتُه. قال أحمدُ في رِوَايةِ المَرُّوذِيِّ، في مَن قال لرَجُلٍ: اغْرِسْ في أرْضِي هذه شَجَرًا أو نَخْلًا، فما كان من غَلَّةٍ، فلك بِعَمَلِكَ كذا وبهذا سَهْمًا، مِن كذا وكذا. فأجازَه، واحْتَجَّ بحَدِيثِ خَيبَرَ (¬1) في الزَّرْعِ والنَّخْلِ، لكنْ بشَرْطِ أن يكونَ الغَرْسُ (1) مِن رَبِّ الأرْضِ، كما يُشْتَرَطُ في المُزارَعةِ كَوْنُ البَذْرِ مِن رَبِّ الأرْضِ. فإن كان مِن العامِلِ، خُرِّجَ على الرِّوايَتَين في المُزارَعَةِ، إذا شُرِطَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَذْرُ من العامِلِ. وقال القاضي: المُعَامَلَةُ باطِلةٌ، وصاحِبُ الأرْضِ بالخِيَارِ بينَ تَكْلِيفِه قَلْعَها، ويَضْمَنُ له نَقْصَها، وبين تَرْكِها في أَرْضِه، ويَدْفَعُ إليه قِيمَتَها، كالمُشْتَرِي إذا غَرَس في الأرضِ ثم جاء الشَّفِيعُ فأخَذها. وإنِ اخْتارَ العامِلُ قَلْعَ شَجَرِه، فله ذلك، سواءٌ بَذَلَ له القِيمَةَ أو لم يَبْذُلْها؛ لأنَّه مِلْكُه، فلم يُمْنَعْ تَحْويلَه. وإنِ اتَّفَقَا على إبْقاءِ الغَرْسِ ودَفْعَ أجْرِ الأرْضَ، جازَ. فصل: ولو دَفَع أرْضَه إلى رَجُلٍ يَغْرِسُها، على أنَّ الشَّجَرَ بينَهما، لم يَجُزْ. ويَحْتَمِلُ الجَوَازُ، بِنَاءً على المُزارَعَةِ، فإنَّ المُزارِعَ يَبْذُرُ في (¬1) الأرْضِ، فيَكونُ بينَه وبينَ صاحِبِ الأرْضِ، وهذا نَظِيرُه. فأمَّا إن دَفَعَها على أنَّ الأرْضَ والشَّجَرَ بينهما، فذلك فاسِدٌ، وَجْهًا واحدًا. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّه يُشْتَرَطُ اشْتِراكُهُما في الأَصْلِ، ففَسَد، كما لو دَفَع إليه الشَّجَرَ و (¬2) النَّخِيلَ؛ ليكونَ الأصْلُ والثَّمَرَةُ بينهما، أو شَرَط في المُزَارَعةِ كَوْنَ الأرْضِ والزَّرْعَ بينهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومِن شَرْطِ صِحَّةِ المُساقاةِ، تَقْدِيرُ نَصِيبِ العامِلِ بجُزْءٍ مَعْلُوم مِن الثَّمَرَةِ، كالثُّلُثِ والرُّبْعِ؛ لحديثِ ابنِ عُمَرَ في خَيبَرَ. وسواءٌ قَلَّ الجُزْءُ أو كَثُرَ، فلو جَعَل للعامِلِ جُزْءًا مِن مائةِ جُزْءٍ، أو جَعَل الجُزْءَ لنَفْسِه والباقِيَ للعامِلِ، جازَ، إذا لم يَفْعَلْ ذلك حِيلَةً. فإن عَقَد على جُزْءٍ مُبْهَمٍ، كالسَّهْمِ والجُزْءِ والنَّصِيبِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه إذا لم يكُنْ مَعْلومًا لا تُمْكِنُ القِسْمَةُ بينهما. ولو جَعَل له آصُعًا مَعْلُومَةً، أو جَعَل مع الجُزْءِ المَعْلُومِ آصُعًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّه رُبَّما لم يَحْصُلْ ذلك، أو لم يَحْصُل غيرُه، فيَسْتَضِرُّ رَبُّ الشَّجَرِ، أو يَكْثُرُ الحاصِلُ، فيَتَضَرَّرُ العامِلُ. وكذلك إن شَرَط له ثَمَرَ شَجَرٍ بعَينِه؛ لأنَّه قد لا يَحْمِلُ، وقد لا يَحْمِلُ غيرُها، ولهذه العِلَّةِ نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن المُزارَعةِ التي يَجْعَلُ فيها لرَبِّ الأرْضِ مكانًا مُعَيَّنًا وللعامِلِ مَكانًا مُعَيَّنًا. قال رافِعٌ: كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ على أنَّ لَنا هذه ولَهُم هذه، فرُبَّما أخْرَجَتْ هذه ولم تُخْرِجْ هذه، فنَهانا عن ذلك، فأمّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فلم يَنْهَنا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فمَتَى شَرَط شَيئًا من هذه الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ، فسَدَتِ المُساقاةُ، والثَّمَرَةُ كُلُّها لرَبِّ المالِ؛ لأنَّها نَماءُ مِلْكِه، وللعامِلِ أجْرُ مِثْلِه، كالمُضارَبةِ الْفاسِدَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُحْتاجُ أن يُشْرَطَ لرَبِّ المالِ؛ لأنَّه يَأْخُذُ بمالِه لا بالشَّرْطِ، فإذا قال: ساقَيتُكَ على أنَّ لك ثُلُثَ الثَّمَرَةِ. صَحَّ، والباقِي لرَبِّ المال. وإن قال: على أنَّ لِي ثُلُثَ الثَّمَرةِ. فقال ابنُ حامِدٍ: يَصِحُّ. وقيلَ: لا يَصِحُّ. وقد ذَكَرْنا تَعْلِيلَ ذلك في المُضارَبةِ. وإنِ اخْتَلَفا في الجُزْءِ المَشْرُوطِ، فهو للعامِلِ؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ بالشَّرْطِ كما ذَكَرْنا. فإنِ اخْتَلفا في قَدْرِ الجُزْءِ (¬1) المَشْرُوطِ للعامِلِ، فقال ابنُ حامِدٍ: القولُ قولُ رَبِّ المالِ. وقال مالكٌ: القولُ قولُ العامِلِ إذا ادَّعَى ما يُشْبِهُ؛ لأنَّه أقْوَى سَبَبًا، لتَسَلُّمِه الحائِطَ والعَمَلَ. وقد ذَكَرْنا في المُضارِبِ رِوايةً، أنَّ القولَ قَوْلُه إذا ادَّعَى أجْرَ المِثْلِ، فيُخَرَّجُ ههُنا مثلُه. وقال الشَّافعيُّ: يَتَحالفان، وكذلك إنِ اخْتَلَفا فيما تَناوَلَتْه المُساقاةُ مِن الشَّجَرِ. ولَنا، أنَّ رَبَّ المالِ مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ التي ادَّعاها العامِلُ، فكان القولُ قولَه. فإن كان مع أحَدِهما بَيِّنَةٌ حُكِمَ بها. وإن كان مع كلِّ واحدٍ منهما بَيِّنةٌ، انْبَنَى على بَيِّنةِ الدّاخِلِ والخارِجِ. فإن كان الشَّجَرُ لاثْنَينِ، فصَدَّقَ أحَدُهما العامِلَ وكَذَّبَه الآخَرُ، أخَذَ نَصِيبَه مما يَدَّعِيه مِن مالِ المُصَدِّقِ. وإن شَهِد على المُنْكِرِ، قُبِلَتْ شَهادَتُه إذا كان عَدْلًا؛ لأنَّه لا يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا ولا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدْفَعُ عنها ضَرَرًا، ويَحْلِفُ العامِلُ (¬1) مع شَهادَتِه (¬2)، وإن لم يكُنْ عَدْلًا كانت شَهادَتُه كعَدَمِها. ولو كانا عامِلَين، ورَبُّ المالِ واحِدًا، فشَهِدَ أحَدُهُما على صاحِبِه، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: وإذا كان في البُسْتانِ شَجَرٌ مِن أجْناسٍ؛ كالتِّينِ، والزَّيتُونِ، والكَرْمِ، فشَرَطَ للعامِلِ من كلِّ جِنْسٍ قَدْرًا؛ كنِصْفِ ثَمَرِ التِّينِ، وثُلُثِ الزَّيتُونِ، ورُبْعِ الكَرْمِ، أو كان فيه أنْواعٌ مِن جِنْسٍ، فشَرَطَ [مِن كلِّ نَوْعٍ] (¬3) قَدْرًا، وهما يَعْرِفانِ قَدْرَ كلِّ نوْعٍ، صَحَّ؛ لأنَّ ذلك كثَلاثةِ بَساتِينَ، ساقاهُ على كُلِّ بُسْتانٍ بقَدْرٍ مُخالِفٍ للقَدْرِ المَشْرُوطِ مِن الآخَرِ. وإن لم يَعْلَما قَدْرَه، أو أحَدُهُما، لم يَجُزْ؛ للجَهالةِ. ولو قال: ساقَيتُكَ علي هَذَين البُسْتانَين بالنِّصْفِ مِن هذا والثُّلُثِ مِن هذا. صَحَّ؛ لأنَّها صَفقَةٌ واحِدَةٌ جَمَعَتْ عِوَضَين، فصار كقَوْلِه: بِعْتُكَ دارَيَّ هاتَين، هذه بألْفٍ وهذه بمائةٍ. وإن قال: بالنِّصْف من أحَدِهِما، والثُّلُثِ مِن الآخَرِ. ولم يُعَيِّنْه، لم يَصِحَّ؛ للجَهالةِ؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ الَّذي يَسْتَحِقُّ نِصْفَه. ولو ساقاهُ على بُسْتانٍ واحِدٍ، نِصْفُه هذا بالنِّصْفِ، ونِصْفُه هذا بالثُّلُثِ، وهما مُتَمَيِّزان، صَحَّ؛ لأنَّهما كَبُسْتانَينِ. ¬

(¬1) زيادة من: ر 1. (¬2) في ق، ر: «شهادة». وفي م: «شاهده». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان البُسْتانُ لاثْنَين، فساقَيَا عامِلًا واحدًا، على أنَّ له نِصْفَ نَصِيبِ أحَدِهما، وثُلُثَ نَصِيبِ الآخَرِ، والعامِلُ عالِمٌ ما لكلِّ واحدٍ منهما، جاز؛ لأنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَقْدانِ. ولو أفْرَدَ كلَّ واحدٍ منهما بعَقْدٍ، كان له أن يَشْرُطَ ما اتَّفَقَا عليه. وإن جَهِل نَصِيبَ كلِّ واحدٍ منهما، لم يَجُزْ؛ لأنَّه غَرَرٌ، فإنَّه قد يَقِلُّ نَصِيبُ مَن شَرَط له النِّصْفَ، فيَقِلُّ حَظُّه، وقد يَكْثُرُ فيَتَوَفَّرُ حَظَّه. فأمّا إن شَرَطا قَدْرًا واحِدًا مِنِ مالِهِما، جازَ، وإن لم يَعْلَمْ قَدْرَ ما لِكُلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّها جَهالةٌ لا غرَرَ فيها ولا ضَرَرَ، فهو كما لو قالا: بِعْناكَ دارَنا هذه بألْفٍ. ولم يَعْلَمْ نَصِيبَ كلِّ واحدٍ منهما، جازَ (¬1)؛ لأنَّه أيُّ نَصِيبٍ كان، فقد عَلِمَ عِوَضَه، وعَلِمَ جُمْلةَ المَبِيعِ، فَصَحَّ. كذلك ههُنا. ولو ساقَى واحِدٌ اثْنَين، جاز، ويجوزُ أن يَشْرُطَ لهما التَّساوِيَ في النَّصِيبِ، وأن يَشْرُطَ لأحَدِهما أَكْثَرَ مِن الآخَرِ. فصل: ولو ساقاهُ ثَلاثَ سِنينَ على أنَّ له في الأولَى النِّصْفَ، وفي الثانِيَةِ الثُّلُثَ، وفي الثالِثَةِ الرُّبْعَ، جازَ؛ لأنَّ قَدْرَ ما لَه في كلِّ سَنَةٍ مَعْلُومٌ، فصَحَّ، كما لو شَرَط له من كلِّ نَوْعٍ قَدْرًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2120 - مسألة: (والمساقاة عقد جائز في ظاهر كلامه)

وَالْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ جَائِزٌ في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَصِحُّ المُساقَاةُ إلا على شَجَرٍ مَعْلُومٍ بالرُّؤْيَةِ، أو بالصِّفَةِ التي لا يُخْتَلَف معها، كالبَيعِ. فإن ساقاهُ على بُسْتانٍ لم يَرَه ولم يُوصَفْ له، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَجْهُولٍ، أشْبَهَ البَيعَ، وإن ساقاهُ على أحَدِ هذَينِ الحائِطَينِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها مُعاوَضةٌ يَخْتَلِفُ العِوَضُ فيها باخْتِلافِ الأعْيانِ، فلم يَجُزْ على غيرِ مُعَيَّنٍ، كالبَيعِ. فصل: وتَصِحُّ على البَعْلِ، كما تَصِحُّ على السَّقْي. وبه قال مالكٌ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا عند من يُجَوِّزُ المُساقاةَ؛ لأنَّ الحاجةَ تَدْعُو إلى المُعامَلةِ في ذلك، كَدُعائِها إلى المُعامَيَةِ في غيرِه، فيُقاسُ عليه. 2120 - مسألة: (والمُساقاةُ عَقْدٌ جائِزٌ في ظاهِرِ كَلامِهِ) وكذلك المُزارَعَةُ. أوْمأ إليه أحمدُ في رِوايةِ الأثْرَمِ، وقد سُئِلَ عن الأكَّارِ يَخْرُجُ من غيرِ أن يُخْرِجَه صاحِبُ الضَّيعَةِ، فلم يَمْنَعْه من ذلك. ذَكَرَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أبو عبدِ اللهِ] (¬1) ابنُ حامِدٍ. وهو قولُ بَعْضِ أصحاب الحَدِيثِ. وقال بَعْضُ أصْحابِنا: هو لازمٌ. وهو قولُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ؛ لأَنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فكان لازِمًا، كالإِجَارَةِ، ولأنَّه لو كان جائِزًا، جاز (¬2) لِرَبِّ المالِ فَسْخُه إذا ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ، فيَسْقُطُ سَهْمُ العامِلِ، فيَتَضَرَّرُ. ولَنا، ما رَوَى مُسلمٌ (¬3) عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ اليَهُودَ سَأَلُوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يُقِرَّهُم بخَيبَرَ، على أن يَعْمَلُوها، ويكونَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَطْرُ ما يَخْرُجُ منها مِن زَرْع أو ثَمَر، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذلِكَ مَا شِئْنَا». ولو كان لازِمًا لم يَجُزْ بغيرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، ولا أن يَجْعَلَ الخِيَرَةَ إليه في مُدَّةِ إقْرارِهم، ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لو قَدَّرَ لهم مُدَّةً لنُقِلَ؛ لأنَّ هذا مما يُحْتاجُ إليه، فلا يَجُوزُ الإِخْلالُ بنَقْلِه، وعُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنه، أجْلاهُم مِن أرْضِ الحِجازِ، وأَخْرَجَهُم مِن خَيبَرَ، ولو كانت لهم مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ، لم يَجُزْ إخْراجُهم فيها، ولأنَّه عَقدٌ على جُزْءٍ من نَماءِ المالِ، فكان جائِزًا: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كان». (¬3) في: باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1187، 1188. كما أخرجه البخاري، في: باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. . . .، من كتاب الحرث، وفي: باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم. . . .، من كتاب الخمس. صحيح البخاري 3/ 140، 4/ 116. وأبو داود، في: باب ما جاء في حكم أرض خيبر، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 141. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 149.

لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا، فَمَتَى انْفَسَخَتْ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُضارَبَةِ. وفارَقَ الإِجارَةَ؛ لأنَّها بَيع، فكانت لازِمَةً، كَبَيعِ الأعْيانِ، ولأنَّ عِوَضَها مَعْلُومٌ، أشْبَهَتِ البَيعَ. وقِياسُهُم يَنْتَقِضُ بالمُضارَبَةِ، وهي أشْبَهُ بالمُساقاةِ من الإِجارَةِ، فقِياسُها عليها أوْلَى. وقولُهم: إنَّه يُفْضِي إلى أنَّ رَبَّ المَالِ يَفْسَخُ بعدَ إدْراكِ الثَّمَرَةِ. قلنا: إذا ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ، ظَهَرَتْ على مِلْكَيهما، فلا يَسْقُطُ حَقُّ العامِلِ منها بفَسْخ ولا غيرِه؛ كما إذا فَسَخ المُضاربةَ (¬1) بعد ظُهُورِ الرِّبْحِ. فعلى هذا (لا يَفْتَقِرُ إلى ذِكْرِ مُدَّةٍ) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَضْرِبْ لأهْلِ خَيبَرَ مُدَّةً مَعْلُومةً، ولا خُلَفاؤُه حين عامَلُوهُم، ولأنَّه عَقْدٌ جائِزٌ فلم يَفتَقِرْ إلى ضَرْبِ مُدَّةٍ، كالمُضارَبَةِ وسائِرِ العُقُودِ الجائِزَةِ. و (متى) فَسَخ أحَدُهما (بعدَ ظُهُورِ ¬

(¬1) في م: «المضارب».

وَإنْ فَسَخَ الْعَامِلُ قَبْلَ ظُهُورِهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ فَسَخَ رَبُّ الْمَالِ، فَعَلَيهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَرَةِ، فهي بينهما) على ما شَرَطاهُ، وعلى العامِلِ تَمامُ العَملِ (¬1)، كما يَلْزَمُ المُضارِبَ بَيعُ العُرُوضِ إذا فُسِخَتِ المُضارَبَةُ بعد ظُهُورِ الرِّبْحِ، (وإن فَسَخ العامِلُ قبلَ) ذلك (فلا شيءَ له) لأنَّه رَضِيَ بإسْقاطِ حَقِّه، فهو كعامِلِ المُضارَبَةِ إذا فسخ قبلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وعامِلِ الجَعَالةِ إذا فَسَخ قبلَ إتْمامِ عَمَلِه (وإن فَسَخَ رَبُّ المالِ) قبل ظُهُورِ الثَّمَرَةِ (فعليه) أجْرُ المِثْلِ للعامِلِ؛ لأنَّه مَنَعَه إتْمامَ عَمَلِه الَّذي يَسْتَحِقُّ بِهِ العِوَضَ، فأشْبَهَ ما لو فَسَخ الجاعِلُ قبلَ إتْمامِ عَمَلِ الجَعَالةِ. وفارَقَ رَبَّ المالِ في المُضارَبَةِ إذا فَسَخَها قبلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ؛ لأنَّ عَمَلَ هذا مُفْضٍ إلى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ غالِبًا، فلَوْلا الفَسْخُ لَظَهَرتِ الثَمَرَةُ، فمَلَكَ نَصِيبَه منها، وقد قَطَع ذلك بِفَسْخِه، فأشْبَهَ فَسْخَ الجَعَالةِ، بخِلافِ المُضارَبَةِ، فإنَّه لا يُعْلَمُ إفْضاؤُها إلى الرِّبْحِ، ولأنَّ الثَّمَرَةَ إذا ظَهَرت في الشَّجَرِ، كان العَمَلُ عليها في الابْتِداءِ من أسْباب ظُهُورِها، والرِّبْحُ إذا ظَهَر في المُضارَبَةِ، قد لا يكونُ للعَمَلِ الأوَّلِ فيه أَثَرٌ أصْلًا. ¬

(¬1) في الأصل: «العلم».

2121 - مسألة: فإن قلنا: هي عقد لازم. فلا يصح إلا على مدة معلومة

وَقِيلَ: هِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ تَفْتَقِرُ إِلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ تَكْمُلُ الثَّمَرَةُ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2121 - مسألة: فإن قلنا: هي عَقْدٌ لازِمٌ. فلا يَصِحُّ إلا على مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو ثَوْرٍ: يَصِحُّ، ويَقَعُ على سَنَةٍ واحدةٍ. وأجازَه بعضُ الكُوفِيِّين اسْتِحْسانًا؛ لأنَّه لمّا شَرَط له جُزْءًا مِن الثَّمَرَةِ، كان ذلك دَلِيلًا على إرادَةِ مُدَّةٍ تَحْصُلُ فيها الثَّمَرَةُ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، فوَجَبَ تَقْدِيرُه بمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، كالإِجارةِ، ولأنَّ المُساقاةَ أشْبَهُ بالإِجارَةِ؛ لأنَّها تَقْتَضِي العَمَلَ على العَينِ مع بَقائِها، ولأنَّها إذا وَقَعَتْ مُطْلَقةً، لم يُمْكِنْ حَمْلُها على إطْلاقِها مع لُزُومِها؛ لأنَّه يُفضِي إلى أنَّ العامِلَ يَسْتَبِدُّ بالشَّجَرِ كُلَّ مُدَّتِه؛ فيَصِيرُ كالمالِكِ، ولا يُمْكِنُ تَقْدِيرُه بالسَّنَةِ؛ لأنَّه تحكُّمٌ، وقد تَكْمُلُ الثَّمَرَةُ في أقَلَّ مِن السَّنَةِ. فعلى هذا، لا تَتَقَدَّرُ أكْثَرُ المُدَّةِ، بل يجوزُ ما يَتَّفِقان عليه من المُدَّةِ التي يَبْقَى الشَّجَرُ فيها، وإن طالتْ. وقيل: لا يجوزُ أكثرُ مِن ثَلاثِينَ سَنَةً. وهذا تَحَكُّمٌ وتَوْقِيتٌ لا يُصارُ إليه إلَّا بنَصٍّ أو إجْماعٍ. فأمّا أقَلُّ المُدَّةِ، فيَتَقَدَّرُ بمُدَّةٍ تَكْمُلُ فيها الثَّمَرَةُ، ولا يجوزُ على أقَلَّ منها؛ لأنَّ المَقْصُودَ اشْتِراكُهُما في الثَّمَرَةِ، ولا يُوجَدُ في أقَلَّ مِن هذه المُدَّةِ.

2122 - مسألة: فإن شرطا مدة لا تكمل فيها، لم تصح

فَإِنْ جَعَلَا مُدَّةً لَا تَكْمُلُ فِيهَا، لَمْ تَصِحَّ. وَهَلْ لِلْعَامِلِ أُجْرَةٌ؟ عَلَى وَجْهَينِ. وإنْ جَعَلَا مُدَّةً قَدْ تَكْمُلُ فِيهَا، وَقَدْ لَا تَكْمُلُ، فَهَلْ تَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَينِ. فَإن قُلْنَا: لَا تَصِحُّ. فَهَلْ لِلْعَامِلِ أُجْرَةٌ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2122 - مسألة: فإن شَرَطا مُدَّةً لا تَكْمُلُ فيهِا، لَمْ تَصِحَّ؛ لذلك، فإذا عَمِلَ فيها فَظَهَرِتِ الثَّمَرَةُ فيها ولم تَكْمُلْ، فله أُجْرَةُ مِثْلِه في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخرِ لا شيءَ له؛ لأنَّه رَضِيَ بالعَمَلِ بغيرِ عِوَضٍ، فهو كالمُتَبرِّعِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ هذا لم يَرْضَ إلَّا بِعِوَضٍ، وهو جُزْءٌ مِن الثَّمَرَةِ، وذلك الجُزْءُ مَوْجُودٌ، لكنْ لا يُمْكِنُ تَسْلِيمُه إليه، فلَمَّا تَعَذَّرَ دَفْعُ العِوَضِ الَّذي اتَّفَقا عليه، كان له أجْرُ مِثْلِه كما في الإِجارَةِ الفاسِدَةِ، بخِلافِ المُتَبَرِّعِ، فإنه رَضِيَ بغيرِ شيءٍ. وإن لم تَظْهَرِ الثَّمَرَةُ، فلا شيءَ له، في أصَحِّ الوَجْهَين؛ لأنَّه رَضِيَ بالعَمَلِ بغيرِ عِوَضٍ. فصل: وإن ساقاهُ إلى مُدَّةٍ تَكْمُلُ فيها الثَّمَرَةُ غالِبًا، فلم تَحْمِلْ تلك السنةَ، فلا شيءَ للعامِلِ، لأنَّه عَقْدٌ صَحِيحٌ لم يَظْهَرْ فيه النَّماءُ، أشْبَهَ المُضارَبَةَ إذا لم يَرْبَحْ فيها، وإن ظَهَرَت الثَّمَرَةُ ولم تَكْمُلْ، فله نَصِيبُه منها، وعليه إتْمامُ العَمَل فيها، كما انْفَسَخَتْ قبلَ كَمالِها. 2123 - مسألة: وإن شَرَطَا مُدَّةً قد تَكْمُلُ فيها الثَّمَرَةُ وقد لا تَكْمُلُ، فَفِي صِحَّةِ المُساقاةِ وَجْهانِ؛ أحَدُهُما، يَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّجَرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتَمِلُ أن يَحْمِلَ ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْمِلَ، والمُساقاةُ جائِزَةٌ فيه. والثانِي، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَعْدُومٍ، ليس الغالِبُ وُجُودَه؛ فلم يَصِحَّ، كالسَّلَمِ في مِثْلِ ذلك، ولأنَّ ذلك غَرَرٌ أمْكَنَ التَّحَرُّزُ منه، فلم يَجُزِ العَقْدُ معه، كما لو شَرَط ثَمَرةَ نَخْلةٍ بعَينِها. وفارَقَ ما إذا شَرَط مُدَّة تَكْمُلُ فيها الثَّمَرَةُ، فإنّ الغالِبَ أنَّ الشَّجَرَ يَحْمِلُ، واحْتِمالُ أن لا يَحْمِلَ نادِرٌ لم يُمْكِنِ التَّحَرُّزُ عنه. فإن قُلْنا: العَقْدُ صَحِيح. فله حِصَّتُه مِن الثَّمَرِ. فإن لم يَحْمِلْ، فلا شيءَ له. وإن قُلْنا: هو فاسِدٌ. اسْتَحَقَّ أجْرَ المِثْلِ، سواءٌ حَمَل أو لَمْ يَحْمِلْ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بغيرِ عِوَضٍ، ولم يُسَلَّمْ له العِوَضُ، فاسْتَحَقَّ أجْرَ المِثْلِ، بخِلافِ ما إذا شَرَطا مُدَّةً لا يَحْمِلُ في مِثْلِها. وفيه وجه آخرُ، أنَّه لا شيءَ له، كما لو اشْتَرَطا مُدَّةً لا يَحْمِلُ فيها الشَّجَرُ غالبًا. ومتى خرَجَتِ الثَّمَرَةُ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، فله حَقُّه منها، إذا قُلْنا بصِحَّةِ العَقْدِ، وإن خَرَجَتْ بعدَها، فلا شيءَ له فيها. ومذهبُ الشافعيِّ في هذا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنا.

2124 - مسألة: (وإن مات العامل، تمم الوارث)

وَإنْ مَاتَ الْعَامِلُ، تَمَّمَ الْوَارِثُ، فَإنْ أَبَى، اسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2124 - مسألة: (وإن مات العامِلُ، تَمَّمَ الوارِثُ) فإن لم يَكُنْ له وارِثٌ، أقامَ الحاكِمُ مُقَامَه مِن تَرِكَتِه. وجُمْلَةُ ذلك، أنّا قد ذَكَرْنا أنَّ ظاهِرَ المذْهَبِ، أنَّ المُساقاةَ عَقْدٌ جائِزٌ لا يَفْتَقِرُ إلى ذِكْرِ مُدَّةٍ؛ لأنَّ إبْقاءَها إليهما، وفَسْخَها جائِزٌ لكلِّ واحدٍ منهما، فلم تَحْتَجْ إلى مُدَّةٍ، فإن قَدَّرَها بمُدَّةٍ، جاز؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في ذلك، وقد بَيَّنَّاه في المُضارَبَةِ، والمُساقاةُ مثلُها. فعلى هذا، تَنْفَسِخُ بمَوْتِ كُلِّ واحِدٍ منهما، وجُنُونِه، والحَجْرِ عليه للسَّفَهِ، كالمُضارَبَةِ، ويكونُ الحُكْمُ فَيها كما لو فَسَخَها أحَدُهما. فأمَّا إن قلنا بلُزُومِها، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ، ويَقُومُ الوارِثُ مَقامَ المَيِّتِ منهما؛ لأنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، أشْبَهَ الإِجَارةَ. فإن كان المَيِّتُ العامِلَ، فأبَى وارِثُه القِيامَ مَقَامَه، لم يُجْبَرْ؛ لأنَّ الوارِثَ لا يَلْزَمُه مِن الحُقُوقِ التي على مَوْرُوثِه إلَّا ما أمْكَنَ دَفْعُه مِن تَرِكَتِه، والعَمَلُ ليس مما يُمْكِنُ ذلك فيه. فعلى هذا،

2125 - مسألة: (فإن فسخ بعد ظهور الثمرة، فهي بينهما، وإن فسخ قبله، فهل للعامل أجرة؟ على وجهين)

مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ. فَإِنْ فَسَخَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَينَهُمَا. وَإنْ فَسَخَ قَبْلَهُ، فَهَلْ لِلْعَامِلِ أُجْرَةٌ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَأْجِرُ الحاكِمُ مِن التَّرِكَةِ مَن يَعْمَل العَمَلَ، فإن لم يَكُنْ له تَرِكَةٌ، أو تَعَذَّرَ الاسْتِئْجارُ (فَلِرَبِّ المالِ الفَسْخُ) لأنَّه تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ المَعْقُودِ عليه، فَثَبَتَ الفَسْخُ، كما لو تَعَذَّرَ ثَمَنُ المَبِيعِ قبلَ قَبْضِه. 2125 - مسألة: (فَإِنْ فَسَخَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَينَهُمَا، وَإنْ فَسَخَ قَبْلَهُ، فَهَلْ لِلْعَامِلِ أُجْرَةٌ؟ عَلَى وَجْهَينَ) أمّا إذا فَسَخ بعدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فهي بينَهما، كما إذا انْفَسَخَتِ المُضارَبَةُ بعدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ. فعلى هذا، يُباعُ مِن نَصِيبِ العامِلِ ما يُحْتاجُ إليه لأجْرِ ما بَقِيَ مِن العَمَلِ، واسْتؤْجِرَ مَن يَعْمَلُ ذلك. وإنِ احْتِيجُ إلى بَيعِ الجميعِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِيعَ. ثم لا يَخْلُو؛ إمّا (¬1) أن يكونَ قد بَدا صَلاحُ الثَّمَرَةِ أوْ لا، فإن كان قد بَدا صَلاحُها، خُيِّرَ المالِكُ بين البَيعِ والشِّراءِ، فإنِ اشْتَرَى نَصِيبَ العامِلِ، جازَ، وإنِ اخْتارَ بَيعَ نَصِيبِه، باعَهُ، وباعَ الحاكِمُ نَصِيبَ العامِلِ، وإن أربى البَيعَ والشِّراءَ، باعَ الحاكِمُ نَصِيبَ العامِلِ وحدَه، وما بَقِيَ على العامِلِ، يَسْتأجِرُ مَن يَعْمَلُه، والباقِي لِوَرَثَتِه. وإن كانت لم يَبْدُ صَلاحُها، خُيِّرَ المالِكُ أيضًا، فإن بِيعَ لأجْنَبِيٍّ، لم يجُزْ إلَّا بشَرْطِ القَطعِ. ولا يجوزُ بَيعُ نَصِيبِ العامِلِ وحدَه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ قَطْعُه إلَّا بِقَطْعِ نصِيبِ المالِكِ، ولا يجوزُ ذلك إلَّا بإذْنِه. وهل يجوزُ شِرَاءُ المالِكِ لها؛ على وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يَجُوزُ، كالأجْنَبِيِّ والثاني، يجوزُ، كما إذا باع نَخْلًا مُؤَبَّرًا، جاز للمُشْتَرِي أن يَبْتاعَ الثَّمَرَةَ التي للبائِعِ مِن غيرِ شَرْطِ القَطْعِ (¬2). وهكذا الحُكْمُ إذا انْفَسخَتِ المُساقاةُ بمَوْتِ العامِلِ، إذا قلنا بجَوازها، وأربى الوارِثُ العَمَلَ. فأمّا إن فَسَخ قبلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فللعامِلِ الأجْرَةُ في أحَدِ الوَجهَين؛ لأنَّه عَمَل بعِوَض لم يَصِحَّ له، فكانَتْ له الأجْرَةُ، كما لو فَسَخ بغيرِ عُذْرٍ. والثاني، لا شيءَ له؛ لأنَّ الفَسْخَ مُسْتَنِدٌ إلى مَوْتِه، ولا صُنْعَ لِرَبِّ المالِ فيه، أشْبَهَ إذا فَسَخ العامِلُ قبلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

2126 - مسألة: (وكذلك إن هرب العامل ولم يوجد له ما ينفق عليها)

وَكَذَلِكَ إِنْ هَرَبَ الْعَامِلُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2126 - مسألة: (وكذلك إن هَرَب العامِلُ ولم يُوجَدْ له ما يُنْفِقُ عليها) فهو كما لو مات، إن كان العَقْدُ جائِزًا، فَلِرَبِّ الأرْضِ الفَسْخُ. وإن قُلْنا بلُزُومِه، فوَجَدَ الحاكِمُ له مالًا، أو أمْكَنَه الاقْتِراضُ عليه من بَيتِ المالِ أو غيرِه، فَعَل، وإن لم يُمْكِنْه، وَوَجَدَ مَن يَعْمَلُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجلَةٍ إلى وَقْتِ إدْراكِ الثَّمَرَةِ، فَعل، فإن تَعَذَّرَ ذلك، فلِرَب المالِ الفَسْخُ؛ لِما ذَكَرْنا. وأمّا المَيِّتُ، فلا يَقْتَرِضُ عليه؛ لأنَّه لا ذِمَّةَ له. والأوْلَى في هذه الصُّورَةِ أن لا يكونَ للعامِلِ أُجْرَةٌ؛ لأنَّه تَرَكَ العَمَلَ اخْتِيارًا منه، فلم يَكُنْ له أُجْرَةٌ، كما لو تَرَك العَمَلَ مِن غيرِ هَرَبٍ مع القُدْرَةِ عليه.

2127 - مسألة: (فإن عمل فيها رب المال بإذن حاكم أو إشهاد، رجع به، وإلا فلا)

فَإِنْ عَمِلَ فِيهَا رَبُّ الْمَالِ بِإِذْنِ حَاكِم أوْ إِشْهَادٍ رَجَعَ بِهِ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2127 - مسألة: (فإن عَمِل فيها رَبُّ المالِ بإذْنِ حاكم أو إشْهادٍ، رَجَع به، وإلَّا فلا) قد ذَكَرْنا أنَّ لِرَبِّ المالِ الفَسْخَ، فإنِ اخْتارَ البَقاءَ على المُساقاةِ، لم يَنْفَسِخْ إذا قُلْنا بلُزُومِها، ويَسْتَأْذِن الحاكمَ في الإِنْفاقِ على الثَّمَرَةِ، ويَرْجِعُ بما أنْفَقَ. فإن عَجَز عن اسْتِئْذانِ الحاكمِ، فأنْفَقَ بِنِيِّةِ الرُّجُوعِ، وأشْهَدَ على الإنْفاقِ بشَرْطِ الرُّجُوعِ، رَجَع بما أنْفَقَ. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصحّاب الشافعيِّ؛ لأنَّه مُضْطر. وإن أمْكَنَه اسْتِئْذانُ الحاكِمِ، وأنْفَقَ بِنيَّةِ الرُّجُوعِ ولم يَسْتَأَذِنْه، فهل يَرْجِعُ بذلك؟ على وَجْهين، بِنَاءً على ما إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه. فإن تَبَرَّعَ بالإِنْفاقِ، لم يَرْجِعْ، كما لو تَجَرَّعَ بالصَّدَقَةِ. والحُكْمُ فيما إذا أنْفَقَ على الثَّمَرَةِ بعدَ فَسْخِ العَقْدِ (¬1) إذا تَعَذَّرَ بَيعُها، كالحُكْمِ ههُنا سَواءٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ مَا فِيهِ صَلَاح الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا؛ مِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَحِمَه الله: (وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ مَا فِيهِ صَلَاح الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا؛

السَّقْي، وَالْحَرْثِ، وَالزِّبَارِ، وَالتَّلْقِيحِ، وَالتَّشْمِيسِ وَإِصْلَاحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَمَوْضِعِ التَّشمِيسِ، وَنَحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن السَّقْي، والحَرْثِ، والزِّبارِ (¬1)، والتَّلْقِيحِ، والتَّشْمِيسِ، وإصلاحِ طُرُقِ الماءِ ومَوْضِعِ التَّشْمِيسِ، ونحوه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يَلْزَمُ العامِلَ بإطْلاقِ عَقدِ المُساقاةِ ما فيه صَلاحُ الثَّمَرَةِ وزِيادَتُها؛ مِن حَرْثِ الأَرْضِ تَحْتَ الشَّجَرِ، والبَقَرِ الَّذي يَحْرُثُ، وآلةِ الحَرْثِ، وسَقي الشَّجَرِ، واسْتِقاءِ الماء، وإصْلاحِ طُرُقِ الماءِ، وقَطْعِ الحَشِيش المُضِرِّ والشَّوْكِ، وقَطْعِ الشَّجَرِ اليابِسِ، وزِبارِ الكَرْم، وقَطْعِ ما يَحْتاجُ إلى قَطْعِه، وتَسْويَةِ الثَّمَرَةِ، وإصْلاحِ الأَجَاجِين، وهي الحُفَرُ التي يَجْتَمِعُ فيها الماءُ على أُصُولِ النَّخْلِ، وإدارةِ الدُّولابِ، وحِفْظِ فيِ الثَّمَرِ في الشَّجَرِ وبعدَه حتَّى يُقْسَمَ، وإن كان مما يُشَمَّسُ، فعليه تَشْمِيسُه؛ لأنَّ إطْلاقَ عَقْدِ المُساقاةِ يَقْتَضِي ذلك، فإنَّ مَوْضُوعَها على أنَّ العَمَلَ من العامِلَ. ¬

(¬1) الزِّبَار: تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة بقطعها بمنجل ونحوه.

2128 - مسألة: (وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل من سد الحيطان، وإجراء الأنهار، وحفر البئر والدولاب وما يديره)

وَعَلى رَبِّ الْمَالِ مَا فِيهِ حِفْظُ الأَصْلِ مِنْ سَدِّ الْحِيطَانِ، وَإجْرَاءِ الْأنْهَارِ، وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَالدُّولَابِ وَمَا يُدِيرُهُ. وَقِيلَ: مَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا لَا، فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2128 - مسألة: (وَعَلى رَبِّ الْمَالِ مَا فِيهِ حِفْظُ الأَصْلِ مِنْ سَدِّ الْحِيطَانِ، وَإجْرَاءِ الْأنْهَارِ، وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَالدُّولَابِ وَمَا يُدِيرُهُ) وكذلك شِراءُ ما يُلَقَّحُ به، إذا أطْلَقَا العَقْدَ، وإن شَرَطا ذلك كان تَأْكيدًا (وقيل: ما يَتَكَرَّرُ كلَّ عام، فهو على العامِلِ، وما لا، فلا) قال شيخُنا (¬1): وهذا صَحِيحٌ إلَّا في شِراءِ ما يُلَقَّحُ به، فإنَّه على رَبِّ المالِ وإنْ تَكَرَّرَ؛ لأنَّ هذا ليس مِن العَمَلِ. فأمّا البَقَرُ الَّذي يُدِيرُ الدُّولابَ، فقال أصحابُنا: هي على رَبِّ المالِ؛ لأنَّها ليستْ مِن العَمَلِ، أشْبَهَ ما يُلَقَّحُ به. قال شيخُنا (1): والأوْلَى أنَّها على العامِلِ؛ لأنَّها تُرَادُ للعَمَلِ، أشْبَهَتْ بَقَر الحَرْثِ، ولأنَّ اسْتِقاءَ الماءِ على العامِلِ إذا لم يَحْتَجْ إلى بَهِيمةٍ، فكان عليه وإنِ احْتاجَ إليها، كغَيرِهِ مِن الأعْمالِ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: ما يتَعلَّقُ بالأُصُولِ والثَّمَرَةِ معًا، كَكَسْحِ النَّهْرِ، هو على مَن شُرِطَ ¬

(¬1) في: المغني 7/ 539.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1) منهما، وإن أُهْمِلَ شَرْطُ ذلك على أحَدِهما، لم تَصِحَّ المُساقاةُ. وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على أنَّه على (¬2) العامِلِ. فأمّا تَسْمِيدُ الأَرْضِ بالزِّبْل إذا احْتاجَتْ إليه، فتَحْصِيلُه على رَبِّ المالِ؛ لأنَّه ليس مِن العَمَلِ، أشْبَهَ ما يُلَقَّحُ به، وتَفْرِيقُه في الأَرْضِ على العامِلِ، كالتَّلْقِيحِ. فصل: فإن شَرَطا على أحَدِهما شيئًا مِمّا يَلْزَمُ الآخَرَ، فقال القاضي، وأبو الخَطّاب: لا يجوزُ ذلك. فعلى هذا، تَفْسُدُ المُساقاةُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأَئه شَرْط يُخالِفُ مُقْتَضى العَقْدِ، فأفْسَدَه، كالمُضارَبةِ إذا شُرِطَ العَمَلُ فيها على رَبِّ المالِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك؛ فإنَّه ذَكَر أنَّ الجِذاذَ عليهما، فإن شَرَطه على العامِلِ، جازَ؛ لأنَّه شَرْطٌ لا يُخِلُّ بمَصْلَحَةِ العَقْدِ، ولا مَفْسَدَةَ فيه، فَصَحَّ، كتَأْجِيلِ الثَّمَنِ في البَيعِ، وشَرْطِ الرَّهْنِ والضَّمِينِ والخِيارِ فيه، لكنْ يشْتَرَطُ أن يكونَ ما يَلْزَمُ كلَّ واحدٍ منهما مِن العَمَلِ مَعْلُومًا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلى التَّنَازُعِ فيَخْتَلَّ العَمَلُ، وأن لا يكونَ على رَبِّ المالِ أَكْثَرُ العَمَلِ ولا نِصْفُه؛ لأنَّ العامِلَ إنَّما يَسْتَحِقُّ بعَمَلِه، فإذا لم يَعْمَلْ أكثر العَمَلِ، كان وُجُودُ عَمَلِه كَعَدَمِه، فلا يَسْتَحِقُّ شيئًا. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في ر، ر 1، ق، م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَرَط أن يَعْمَلَ معه غِلْمانُ رَبِّ المالِ، فهو كعَمَلِ رَبِّ المالِ، فإنَّ يَدَ الغُلامِ كَيَدِ مَوْلاه. وقال أبو الخَطّابِ: فيه وَجْهان؛ أحَدُهما كما ذَكَرْنا. والثَّاني، يَجوزُ؛ لأنَّ غِلْمانَه مالُه، فجاز أن يُجْعَلَ تَبَعًا لمالِه، كَثَوْرِ الدُّولابِ، وكما يجوزُ في القِراضِ أن يَدْفَعَ إلى العامِلِ بَهِيمَةً يَحْمِلُ عليها. وأمّا رَبُّ المالِ، لا يجوزُ جَعْلُه تَبَعًا. وهذا قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ، ومحمدِ بنِ الحَسَنِ. فإذا شَرَط غلْمانًا يَعْمَلُون معه، فنَفَقَتُهمُ على ما يَشْتَرِطان عليه، فإن أطْلَقَا، فهي على رَبِّ المالِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: نَفَقَتُهُم على المُساقِي، ولا يَنْبَغِي أن يَشْرُطَها على رَبِّ المالِ؛ لأنَّ العَمَلَ على المُساقِي، فمُؤْنَةُ مَنِ يَعْمَلُه عليه، كمُؤْنَةِ غِلْمانِه. ولَنا، أنَّه مَمْلُوكُ رَبِّ المالِ، فكانت نَفقتُه عليه عندَ الإِطْلاقِ، كما لو أجَرَه، فإن شَرَطَها على العامِلِ، جاز. ولا يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُها. وبه قال الشافعيُّ. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ: يُشْتَرَطُ؛ لأنَّه اشْتَرَطَ عليه ما لا يَلْزَمُه، فوَجَبَ أن يكونَ مَعْلُومًا، كسائِرِ الشُّرُوطِ. ولَنا، أنَّه لو وَجَب تَقْدِيرُها، لوَجَبَ ذِكْرُ صفاتِها، ولا يَجِبُ ذلك، فلم يَجِبْ تَقْدِيرُها. ولا بُدّ مِن مَعْرِفَةِ الغِلْمانِ المَشْرُوطِ عَمَلُهُم برُويةٍ، أو صِفَةٍ تَحْصُلُ بها مَعْرِفَتُهُم؛ في عَقْدِ الإِجارَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَرَط العامِلُ أنَّ أجْرَ الأُجَراء الَّذِينَ يَحتاجُ إلى الاسْتِعانةِ بهم مِن الثَّمَرةِ، وقَدَّرَ الأُجْرَةَ، لم يَصِحَّ؛ لَأنَّ العَمَلَ عليه، فإذا شَرَط أجْرَه (¬1) مِن المالِ، لم يَصِحَّ، كما لو شَرَط لنَفْسِه أجْرَ عَمَلِه. وكذلك إن لم يُقَدِّرْه؛ [لذلك، و] (¬2) لأنَّه مَجْهُودٌ. ويُفارق هذا ما إذا شَرَط المُضارِبُ [أَجْرَ من يَحْتاجُ إليهم مِن الحَمّالِين ونحْوهم؛ لأنَّ ذلك لا يَلْزَمُ العامِلَ، فكان على المالِ، ولو شَرَط أجْرَ ما يَلْزَمُه عَمَلُه بنَفْسِه، لم يَصِحَّ] (¬3). ¬

(¬1) في الأصل، م: «أجرة». (¬2) سقط من: ر 1، وسقطت الواو من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

2129 - مسألة: (وحكم العامل حكم المضارب فيما يقبل قوله فيه و)

وَحُكْمُ الْعَامِلِ حُكْمُ الْمُضَارِبِ فِيمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ وَمَا يُرَدُّ، وَإنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ، ضُمَّ إِلَيهِ مَنْ يُشَارِفُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ اسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2129 - مسألة: (وحُكْمُ العامِلِ حُكْمُ المُضارِبِ فيما يُقْبَلُ قولُه فيه و) في (ما يُرَدُّ) لأنَّ رَبَّ المال ائْتَمَنَهُ، فأشْبَهَ المُضارِبَ. فإنِ اتُّهِمَ حَلَف (وإن ثَبَتَتْ خِيانته ضُمَّ إليه مَن يُشارفُه) كالوَصِيِّ إذا ثَبَتَتْ خِيانَتُه (فإن لم يُمْكِنْ حِفْظُه، اسْتُؤْجِرَ مِن مالِه مَن يَعْمَلُ العَمَلَ). وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ مالكٍ: لا يُقَامُ غيرُه مُقامَه، بل يُحْفَظُ منه؛ لأنَّ فِسْقَه لا يَمْنَعُ اسْتِيفاءَ المَنافِعِ المَقْصُودَةِ منه، فأشْبَهَ ما لو فَسَق بغيرِ الخِيانَةِ. ولَنا، أنَّه تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ المَنافِعِ المَقْصُودَةِ منه (¬1)، فاسْتُوفِيَت بغيرِه، كما لو هَرَب، ولا نُسَلِّمُ إمْكانَ اسْتِيفاءِ المَنافِعِ منه؛ لأَنه لا يُؤْمَنُ منه (¬2) تَرْكُها، ولا يُوثَقُ منه بفِعْلِها، ولا نقولُ: إنَّ له فَسْخَ المُساقاةِ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما نقولُ: لمّا لم يُمْكِنْ حِفْظُها مِن خِيانَتِكَ، أقِمْ غيرَك يَعْمَلْ ذلك، وارْفَعْ يَدَكَ عنها؛ لأنَّ الأمانةَ قد تَعَذَّرَتْ في حَقِّكَ، فلا يَلْزَمُ رَبَّ المالِ ائْتِمانُك. وفارَقَ فِسْقَه بغيرِ الخِيانَةِ، فإنَّه لا ضَرَرَ على رَبِّ المالِ فيها، وههُنا يَفُوتُ مالُه. فإن عَجَز عن العَمَلِ لضَعْفِه مع أمانَتِه، ضُمَّ إليه غيرُه، ولا تُنْزَعُ يَدُه؛ لأنَّ العَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عليه، ولا ضَرَرَ في بَقاءِ يَدِه عليه. وإن عَجَز بالكُلِّيَّةِ، أقامَ مُقامَه مَن يَعْمَلُ، والأُجْرةُ عليه في المَوضعَين؛ لأنَّ عليه تَمامَ العَمَلِ، وهذا مِن تَمامِه. فصل: ويَمْلِكُ العامِلُ حِصَّتَه مِن الثَّمَرَةِ بظُهُورِها، فلو تَلِفَتْ كُلُّها إلَّا واحدةً، كانت بينَهما. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والثاني، يَمْلِكُه بالمُقاسَمةِ، كالمُضارِبِ. ولَنا، أنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، فيَثْبُتُ مُقْتَضاهُ، كسائِرِ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ، ومُقْتَضاهُ كَوْنُ الثَّمَرَةِ بينَهما على كل حالٍ. وأمّا القِراضُ، فنقولُ: إَّنه يَمْلِكُ الرِّبْحَ بالظُّهُورِ، كمسألَتِنا. وإن سُلِّمَ، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ الرِّبْحَ وقاية لرَأْسِ المالِ، فلم يَمْلِكْ حتَّى يُسَلِّمَ رَأْسَ المالِ لرَبِّه، وهذا ليس بوقايةٍ لشيءٍ، فإنَّه لو تَلِفَتِ الأُصُولُ كُلُّها، كان الثَّمَرُ بينَهما. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَلْزَمُ كُلَّ واحدٍ منهما (¬1) زَكَاةُ حِصَّتِه إذا بَلَغَتْ نِصابًا. نَصَّ عليه أحمدُ في المُزارَعَةِ. فإن لم تَبْلُغ نِصابًا إلَّا بجَمْعِهما، لم تَجِبْ إلَّا على قَوْلِنا: إنَّ الخُلْطَةَ تُؤَثِّرُ في غيرِ السائِمَةِ. فيُبْدَأُ بإخْراجِ الزكاةِ ثم يَقْتَسِمان ما بَقِيَ. فإن بَلَغَتْ حِصَّةُ أحَدِهما نِصابًا دونَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ، فعلى من بَلَغتْ حِصَّتُه نِصابًا الزَّكاةُ وحدَه، يُخْرِجُها بعدَ المُقاسَمَةِ، إلَّا أنْ يكونَ لمَن لم تَبْلُغْ حِصَّتُه نِصابًا ما يَتِمُّ به النِّصابُ مِن مَوْضِعٍ آخَرَ، فيَجبُ عليهما جيعًا. وإن كان أحَدُهما لا زَكاةَ عليه، كالمُكاتَبِ، والذِّمِّيِّ، فعلى الآخَرِ زَكاةُ حِصَّتِه إن بَلَغَتْ نِصابًا. وبهذا كلِّه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال اللَّيثُ: إن كان شَرِيكُه نَصْرَانِيًّا، أعْلَمَه أنَّ الزَّكاةَ مُبَدَّأَةٌ (¬1) في الحائِطِ، ثم يُقاسِمُه بعد الزَّكاةِ ما بَقِيَ. ولَنا، أنَّ النَّصْرانِيَّ لا زَكاةَ عليه، فلم يَخْرُجْ مِن حِصَّتِه شيءٌ، كما لو انْفَرَدَ بها، وقد روَى أبو داوُدَ، في «سُنَنِه» (¬2)، عن عائشةَ، رَضِيَ الله عنها، قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ عبدَ اللهِ بنَ رِواحَةَ، فيَخْرُصُ النَّخْلَ حينَ يَطِيبُ قَبْلَ أنْ يُؤْكَلَ، ثم يُخَيِّرُ يَهُودَ خيبَرَ، أيَأْخُذُونَه بذلك الخَرْصِ، أمْ يَدْفَعُونَهُ إليهم بذلك الخَرْصِ، لكى تُحْصَى الزَّكَاةُ قبلَ أن تُؤْكَلَ الثِّمارُ وتُفَرَّقَ (¬3). قال جابر: خرَصَها ابنُ رَواحَةَ أرْبَعِينَ ألْفَ وَسْقٍ. وزَعَم أنَّ اليَهُودَ لمّا خَيَّرَهُم ابنُ رَواحَةَ، أخَذُوا الثَّمَرَ وعَلَيهم عِشْرُونَ ألْفَ وَسْقٍ (¬4). فصل: وإن ساقاهُ على أرْضٍ خَراجِيَّةٍ، فالخَراجُ على رَبِّ المالِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «مؤداة». وفي: ر، ق: «مبتدأة». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 547. (¬3) في الأصل، ر، ر 1، ق: «تفترق». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الخرص، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 236. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 296.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ على الرَّقَبَةِ، بدَلِيلِ أنَّه يَجِبُ سواءٌ أثْمَرَتِ الشَّجرةُ أو لم تُثْمِرْ، ولأنَّ الخَراجَ يَجِبُ أُجْرَةٌ للأَرْضِ، فكان على رَبِّ الأرْضِ، كما لو اسْتَأْجَرَ أرْضًا وزارَع غيرَه فيها. وبه قال الشافعيُّ. وقد نُقِلَ عن (¬1) أحمدَ في الَّذي يَتَقَبَّلُ الأرْضَ البَيضاءَ ليَعْمَلَ عليها، وهي مِن أرْضِ السَّوادِ يَقْبَلُها مِن السُّلْطانِ، فعلى مَن يَقْبَلُها أن يُؤَدِّيَ وَظِيفَةَ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، ويُؤَدِّيَ العُشْرَ بعدَ وَظِيفَةِ عُمَرَ. وهذا معناهُ، واللهُ أعلمُ، إذا دَفَع السُّلْطانُ أرْضَ الخراجِ إلى رَجُل يَعْمَلُها ويُؤَدِّي خَراجَها، فإنَّه يَبْدأُ بخَراجِها، ثم يُزَكِّي ما بَقِيَ. كما ذَكَر الخِرَقِيُّ في بابِ الزَّكاةِ. ولا تَنافِيَ بينَ ذلك وبينَ ما ذَكَرْناه ها هنا. فصل: ولا يجوزُ أن يَجْعَلَ له فَضْلَ دَراهِمَ زائِدَةٍ على ما شَرَط له مِن الثَّمَرَةِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه رُبَّما [لم يَحْدُث مِن النَّمَاءِ] (¬2) بقَدْرِ تلك الدَّراهِمِ، فيَضُر برَبِّ المالِ، ولذلك مَنَعْنَا مِن اشْتِراطِ أقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ. فإن جَعَل له ثَمرةَ سَنَةٍ غيرِ السَّنةِ التي ساقاهُ عليها فيها، أو ثَمَرَ شَجَرٍ غيرِ الشَّجَرِ الَّذي ساقاهُ عليه، لم يَجُزْ. وكذلك لو شَرَطَ عليه عَمَلًا في غيرِ الشَّجَرِ الَّذي ساقاهُ عليه، أو عَمَلا في غيرِ السَّنةِ، فهذا يُفْسِدُ العَقْدَ، سواءٌ جَعَل ذلك كلَّ (¬3) حَقِّه أو بعضَه، أو جميعَ العَمَلِ أو بعضَه؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، ر، ق: «يحدث من النماء ضر»، وفي م: «يحدث من النماء». (¬3) في م: «كله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُخالِفُ مَوْضُوعَ المُساقاةِ، إذ مَوْضُوعُها أن يَعْمَلَ في شَجَرٍ مُعَيَّنٍ، بجُزْءٍ مُشاعٍ مِن ثَمَرَتِه، في ذلك الوَقْتِ الَّذي يُسْتَحَقُّ عليه فيه العَمَلُ. فصل: إذا ساقَى (¬1) رَجُلًا أو زَارَعَه، فعامَلَ العامِلُ غيرَه على الأرْضِ أو الشَّجَرِ، لم يَجُزْ. وبه قال أبو يوسُفَ، وأبو ثَوْرٍ. وأجازَه مالِكٌ إذا جاء برَجُلٍ أمِينٍ. ولَنا، أنَّه عامِلٌ في المالِ بجُزْءٍ مِن نَمائِه، فلم يَجُزْ أن يُعامِلَ غيرَه فيه، كالمُضارِبِ، ولأنَّه إنَّما أذِنَ له في العَمَلِ فيه، فلم يَجُزْ أن يَأْذَنَ لغيرِه، كالوَكِيلِ. فأمّا إن اسْتَأجَرَ أرْضًا، [فله أن] (¬2) يزارِعَ غيرَه فيها؛ لأنَّ منافِعَها صارت مُسْتَحَقَّةً له، فمَلَكَ المُزارَعَةَ فيها، كالمالِكِ، والأُجْرةُ على المُسْتَأْجر دُونَ المُزارِعِ، كما ذَكَرْنا في الخَراجِ. وكذلك يجوزُ لمَن في يَدِه أرْضٌ خراجِيَّة أن يُزارِعَ فيها؛ لأنَّها كالمُسْتَأَجَرةِ، وللمَوْقُوفِ عليه أن يُزارِعَ في الوَقْفِ ويُساقِيَ على شَجَرِه؛ لأنَّه إمّا مالكٌ لرَقَبَةِ ذلك، أو بمَنْزِلَةِ المالكِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا عند مَن أجازَ المُساقاةَ والمُزارَعَةَ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «ساقاه». (¬2) في م: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ساقاهُ على شَجَرٍ، فبانَ مُسْتَحَقًّا بعد العَمَلِ، أخَذَه ربُّه وثَمَرَتَه؛ لأنَّه عَينُ مالِه، ولا حَقَّ للعامِلِ في ثَمَرَتِه؛ لأنَّه عَمِلَ فيها بغيرِ إذْنِ مالِكِها، ولا [أجْرَ له عليه] (¬1)؛ لذلك، وله على الغاصِبِ أجْرُ مِثْلِه؛ لأنَّه غَرَّهُ واسْتَعْمَلَه، فأشْبَهَ ما لو غَصَب نُقْرَةً واسْتَأْجَرَ مَن ضَرَبَها دَراهِمَ. وإن شَمَّسَ الثَّمَرَةَ فلم تَنْقُصْ، أخَذَها رَبُّها، وإن نَقَصَتْ، فله أرْشُ نَقْصِها، يَرْجِعُ به على مَن شاءَ منهما. ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الغاصِبِ. وإنِ اسْتُحِقَّتْ بعد أن اقْتَسماها وأكَلَاهَا، فلِلْمالِكِ تَضْمِينُ مَن شاء منهما، فإن ضَمَّن الغاصِبَ، فله تَضْمِينُه الكلَّ، وله تَضْمِينُه قَدْرَ نَصِيبِه، وتَضْمِينُ العامِلِ قَدْرَ نَصِيبِه؛ لأنَّ الغاصِبَ سَبَبُ يَدِ العامِلِ، فلَزِمَه ضَمانُ الجميعِ، فإن ضَمَّنَه الكُلَّ، رَجَع على العامِلِ بقَدْرِ نَصِيبِه؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل في يَدِه، فاسْتَقرَّ الضَّمانُ عليه، ويَرْجِعُ العامِلُ على الغاصِبِ بأجْرِ مِثْلِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرْجِعَ الغاصِبُ على العامِلِ بشيءٍ؛ ¬

(¬1) في م: «أجرة له».

2130 - مسألة: (وإذا شرط إن سقى سيحا فله الربع، وإن سقى بكلفة فله النصف، أو إن زرعها شعيرا فله الربع، وإن زرعها حنطة فله النصف، لم يصح، في أحد الوجهين)

وَإذَا شَرَطَ إِنْ سَقَى سَيْحًا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَإنْ سَقَى بِكُلْفَةٍ فَلَهُ النِّصْفُ، أَو إنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَإنْ زَرَعَهَا حِنْطَةً فَلَهُ النِّصْفُ، لَمْ يَصِحَّ، في أَحدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه غَرَّهُ، فلم يَرْجِعْ عليه، كما لو أطْعَمَ إنسانًا شيئًا، وقال: كُلْهُ فإنَّه طَعامِي. ثم تَبَيَّنَ أنَّه مَغْصُوبٌ. وإن ضَمَّنَ العامِلَ، احْتَمَلَ أنَّه لا يُضَمِّنُه إلَّا نَصِيبَه خاصّةً؛ لأنَّه ما قَبَض الثَّمَرَةَ كلَّها، وإنَّما كان مُراعِيًا لها وحافِظًا، فلا يَلْزَمُه ضَمانُها ما لم يَقْبِضْها. ويَحْتَمِلُ أن يُضَمِّنَه الكُلَّ؛ لأنَّ يَدَهُ ثَبَتَتْ على الكُلِّ مُشاهَدةً بغيرِ حَقٍّ. فإن ضَمَّنَه الكُل، رَجَع على الغاصِبِ ببَدَلِ نَصِيبِه منها وأَجْرِ مِثْلِه. وإن ضَمَّنَ كلَّ واحِدٍ منهما ما صار إليه، رَجَع العامِلُ على الغاصِبِ بأجْرِ مِثْلِه لا غيرُ. وإن تَلِفت الثَّمَرَةُ في شَجَرِها، أو بعدَ الجِذَاذِ قبلَ القِسْمَةِ، فمَن جَعَل العامِلَ قابضًا لها بثُبُوتِ يَدِه على حائِطِها، قال: يَلْزَمُه ضَمانُها. ومَن قال: لا يكونُ قابِضًا إلَّا بأخْذِ نَصِيبِه منها. قال: لا يَلْزَمُه الضَّمانُ، ويكونُ على الغاصِبِ. 2130 - مسألة: (وَإذَا شَرَطَ إِنْ سَقَى سَيحًا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَإنْ سَقَى بِكُلْفَةٍ فَلَهُ النِّصْفُ، أَو إنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَإنْ زَرَعَهَا حِنْطَةً فَلَهُ النِّصْفُ، لَمْ يَصِحَّ، في أَحدِ الْوَجْهَينِ) لأنَّ العَمَلَ مَجْهُولٌ، والنَّصِيبَ مجهولٌ، وهو في مَعْنَى بَيعَتَين في بَيعَةٍ. والثاني، يَصِحُّ، بِناءً على قَوْلِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الإجارَةِ: إن خِطْتَه رُومِيًّا فلك دِرْهَمٌ، وإن خِطْتَه فارِسيًّا فلك نِصْفُ دِرْهَمٍ. فإنَّه يَصِحُّ في المَنْصُوصِ عنه، وهذا مثلُه. فإن (¬1) قال: ما زَرَعْتَها مِن شيءٍ فلِي نِصْفُه. صَحَّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ساقَى أهْلَ خَيبَرَ بشَطْرِ ما يَخْرُجُ منها من زَرْعٍ أو ثَمَرٍ (¬2). ولو جَعَل له في المُزارَعَةِ ثُلُثَ الحِنْطَةِ، ونِصْفَ الشَّعِيرِ، وثُلُثَي الباقِلَّا، وبَيَّنَا قَدْرَ ما يُزْرَعُ مِن كلِّ واحدٍ مِن هذه الأنْواعِ، إمّا بتَقْدِيرِ البَذْرِ، أو تَقْدِيرِ المَكانِ وتَعْيينِه، مثلَ أن يقولَ: تَزْرَعُ هذا المكانَ قَمْحًا، وهذا شَعِيرًا. أو: تَزْرَعُ مُدَّين حِنْطَةً ومُدَّين شَعِيرًا. جازَ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن هذه طَرِيق إلى العِلْمِ، فاكْتُفِيَ به. ¬

(¬1) في م: «فأما إن». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 313. وفي صفحة 181.

2131 - مسألة: (وإن قال: ما زرعت من شعير فلي ربعه، وما زرعت من حنطة فلي نصفه)

وَإنْ قَال: مَا زَرَعْتَ مِنْ شَعِيرٍ فَلِيَ رُبْعُهُ، وَمَا زَرَعْتَ مِنْ حِنْطَةٍ فَلِيَ نِصْفُهُ. أَوْ: سَاقَيتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ بِالنِّصْفِ، عَلَى أَنْ أُسَاقِيَكَ الْآخَرَ بِالرُّبْعِ. لَمْ يَصِحَّ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2131 - مسألة: (وَإنْ قَال: مَا زَرَعْتَ مِنْ شَعِيرٍ فَلِيَ رُبْعُهُ، وَمَا زَرَعْتَ مِنْ حِنْطَةٍ فَلِيَ نِصْفُهُ) لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ما يَزْرَعُه مِن كلِّ واحدٍ منهما مَجْهُولُ القَدْرِ، فهو كما لو شَرَط له في المُساقاةِ ثُلُثَ هذا النَّوْعِ ونِصْفَ النَّوْعِ الآخَرِ، وهو جاهِلٌ بما فيه منهما. 2132 - مسألة: ولو قال: (ساقَيتُك هذا البُسْتانَ بالنِّصْفِ، على أن أُساقِيَك الآخَرَ بالرُّبْعِ. لم يَصِحَّ، وَجْهًا واحِدًا) لأنَّه يَشْرُطُ عَقْدًا في عَقْدٍ، فصار في مَعْنَى قَوْلِه: بِعْتُك هذا على أن تَبِيعَني هذا، أو (¬1) تَشْتَرِيَ مِنِّي هذا. وإنَّما فَسَد لمَعْنَيَين؛ أحدُهما، أنَّه شَرَط في العَقْدِ عَقْدًا آخَرَ، والنَّفْعُ الحاصِلُ بذلك مَجْهُولٌ، فكأنَّه شَرَط العِوَضَ في مُقابَلَةِ ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْلُومٍ ومَجْهُولٍ. الثاني، أنَّ العَقْدَ الآخَرَ لا يَلْزَمُ بالشُّرْطِ، فيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وإذا سَقَط وَجَب رَدُّ الجُزْءِ الَّذي تَرَكَه مِن العِوَضِ لأجْلِه، وذلك مَجْهُولٌ، فيَصِيرُ الكُلُّ مَجْهُولًا. فصل: ولو قال: لك الخُمْسانِ إن كانت عليك خَسارَةٌ، وإن لم يَكُنْ عليك خَسارَةٌ فلَكَ الرُّبْعُ. لم يَصِحَّ، نَصَّ عليه أحمدُ، وقال: هذا شَرْطانِ في شَرْطٍ. وكَرِهَه. قال شيخُنا (¬1): ويُخَرَّجُ فيها مِثْلُ ما إذا شَرَط إن سَقَى سَيْحًا فله الرُّبْعُ، وإن سَقَى بكُلْفَةٍ فله النِّصْفُ. فصل: وإن ساقَى أحَدُ الشَّرِيكَينِ شَرِيكَه، وجَعَل له مِن الثَّمرِ أَكْثَرَ مِن نَصِيبه، مثلَ أن يكونَ الأصْلُ بينَهما نِصْفَين، فجَعَلَ له ثُلُثَي الثَّمَرَةِ، صَحَّ، وكان السُّدْسُ حِصَّتَه مِن المُساقاةِ، فصارَ كأنَّه قال: ساقَيتُكَ على نَصِيبي بالثُّلُثِ. وإن جَعَلَ الثَّمَرَةَ بينَهما نِصْفَين، أو جَعَل للعامِلِ الثُّلُثَ، فهي مُساقاةٌ فاسِدةٌ؛ لأنَّ العامِلَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَها بمِلْكِه، فلم يَجْعَلْ له في مُقابَلَةِ عَمَلِه شَيئًا، وإذا شَرَط له الثُّلُثَ، فقد شَرَط أنَّ غيرَ العامِلِ يَأْخُذُ مِن نَصِيبِ العامِلِ ثُلُثَه ويَسْتَعْمِلُه بلا عِوَض، فلا يَصِحُّ. فإذا عَمِل في الشَّجَرِ بِناءً على هذا، كانتِ الثَّمَرَةُ بينَهما بحُكْمِ المِلْكِ، ولا يَسْتَحِقُّ العامِلُ بعَمَلِه شيئًا؛ لأنه تَبَرَّعَ به لرِضاه بالعَمَلِ بغيرِ عِوَضٍ، فأشْبَهَ ما لو قال له: أنا أعْمَلُ فيه بغيرِ شيءٍ. وذَكَرَ أصحابُنا وَجْهًا آخَرَ، أنَّه يَسْتَحِقُّ أجْرَ المِثْلِ؛ لأنَّ المُساقاةَ تَقْتَضِي عِوَضًا، فلم تَسْقُطْ برِضاه بإسْقاطِه، ¬

(¬1) انظر المغني 7/ 536.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالنِّكاحِ إذا لم يُسَلَّمْ له المُسَمَّى، يَجِبُ فيه مَهْرُ المِثْلِ. ولَنا، أنَّه عَمِلَ في مالِ غيرِه مُتَبَرعًا، فلم يَسْتَحِقَّ عِوَضًا، كما لو لم يَعْقِدِ المُساقاةَ. ويفارِق النِّكاحَ مِن وَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ عَقْدَ النِّكاحِ صَحِيحٌ، فوَجَبَ به العِوَضُ لصِحَّتِه، وهذا فاسِدٌ لا يُوجِبُ شيئًا. والثاني، أن الأبْضاعَ لا تُسْتَباحُ بالبَذْلِ والإِباحَةِ، والعَمَلُ ههُنا يُسْتَباحُ بذلك. ولأنَّ المَهْرَ في النِّكاحِ لا يَخْلُو مِن أن يكونَ واجِبًا بالعَقْدِ، أو بالإِصابَةِ، أو بهما؛ فإن وَجَب بالعَقْدِ، لم يَصِحَّ قياسُ هذا عليهكما لوَجْهَين؛ أحدُهما، أنَّ النِّكاحَ صَحِيحٌ، وهذا فاسِدٌ. والثاني، أنَّ العَقْدَ ههُنا لو أوْجَبَ، وإن وْجَبَ قبلَ العَمَلِ، ولا خِلافَ أنَّ هذا لا يُوجِبُ قبلَ العَمَلِ شيئًا. وإن وَجَبَ بالإصابةِ، لم يَصِحَّ القِياسُ عليه أيضًا؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ الإِصابةَ لا تُسْتَباحُ بالإِباحةِ والبَذْلِ، بخِلافِ العَمَلِ. والثاني، أنَّ (¬1) الإصابَةَ لو خَلَتْ عن العَقْدِ لأوْجَبَتْ، وهذا بخِلافِه. وإن وَجَبَ بهما، امْتَنَعَ القِياسُ عليه أيضًا؛ لهذه الوُجُوهِ كلِّها. فأمَّا إن ساقَى أحَدُهُما شَرِيكَه على أن يَعْمَلَا معًا، فالمُساقاةُ فاسِدَةٌ، والثَّمَرَةُ بينَهما على قَدْرِ مِلْكَيهِما، ويَتَقاصّانِ العَمَلَ إن تَساوَيا فيه. وإن كان لأحَدِهما فَضْلٌ، نَظَرْتَ؛ فإن كان قد شُرِطَ له فَضْلٌ في مُقابلَةِ عَمَلِه، اسْتَحَقَّ ما فَضَلَ له مِن أجْرِ المِثْلِ، وإن لم يُشْرَطْ، فليس له شيءٌ إلَّا على الوَجْهِ الَّذي ذَكَرَه أصحابُنا، وتَكَلَّمْنا عليه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «أنه».

فصل في المزارعة

فَصْلٌ في الْمُزَارَعَةِ: وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مَعْلُوم يُجْعَلُ لِلْعَامِلَ مِنَ الزَّرْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَصْلٌ في الْمُزَارَعَةِ 2133 - مسألة: (وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ مِنَ الزَّرْعِ) في قولِ أَكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ. قال البُخارِيُّ (¬1): قال أبو جَعْفَر: ما بالمَدِينَةِ أهْلُ بَيتٍ إلَّا ويَزْرَعُونَ على الثُّلُثِ والرُّبْعِ. وزارَعَ عَلِيٌّ، وسَعْدٌ، وابنُ مَسْعُودٍ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والقاسِمُ، وعُرْوَةُ، وآلُ أبي بكرٍ، وآلُ عَلِيٍّ، وابنُ سِيرِينَ. وهو قولُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وطاوُسٍ، وعبدِ الرَّحْمنِ بنِ الأسْوَدِ، ومُوسَى بنِ طَلْحَةَ، والزُّهْرِيِّ، وعبدِ الرحْمنِ بنِ أبي لَيلَى، وابْنِه، وأبي يُوسُف، ومحمدٍ. ورُوِيَ ذلك عن مُعاذٍ، والحَسَنِ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ يزيدَ (¬2). قال البُخارِيُّ: وعامَلَ عُمَرُ الناسَ على أنَّه إن جَاءَ عُمَرُ بالبَذْرِ مِن عِنْدِه فله الشَّطْرُ، وإن جاءُوا بالبَذْرِ فلهم كذا وكذا. وكَرِهَها عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ الأمْرانِ جميعًا. وأجازَها ¬

(¬1) في باب المزارعة بالشَّطر، من كتاب الحرث. صحيح البخاري 3/ 137. (¬2) في م: «مرثد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافيُّ في الأرْضِ بينَ النَّخْلِ، إذا كان بياضُ الأرْضِ أقَلَّ، فإن كان أكْثَرَ، فعلى وَجْهَين. ومَنَعَها في الأرْضِ البَيضاءِ؛ لِما روَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ قال: كُنّا نُخابِرُ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَ أنَّ بعضَ عُمُومَتِه أتاهُ فقال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أمْر كان لَنا نافِعًا، وطَواعِيةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْفَعُ. قال: قلنا: ما ذاك؛؟ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْها وَلَا يُكْرِيها بِثُلُثٍ وَلَا بِرُبْع، وَلَا بِطَعَام مُسَمًّى» (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، قال: ما كُنَّا نَرَى بالمُزارَعَةِ بأْسًا حَتَّى سَمِعْتُ رافِعَ بنَ خَدِيجٍ يقولُ: نَهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنها (¬2). و [قال جابِرٌ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُخابَرَةِ (¬3). وهذه كلُّها أحادِيثُ صِحاحٌ مُتَّفَق عليها. والمُخابَرَةُ: المُزارَعةُ. واشْتِقاقُها مِن الخَبَارِ، وهي الأرْضُ اللَّيِّنَةُ. والخَبِيرُ: الأكّارُ. وقيل: المُخابَرَةُ: مُعامَلَةُ أهْلِ خيبَرَ. وقد جاء حَدِيثُ جابرٍ مُفَسَّرًا، فروَى البُخارِيُّ] (¬4)، عن جابِر، قال: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 141. ومسلم، في: باب كراء الأرض بالطعام، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1181. وأبو داود، في: باب في التشديد في ذلك، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 233. والنسائي، في: باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض. . . .، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 39. وابن ماجة، في: باب استكراء الأرض بالطعام، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجة 2/ 823، 824. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 465. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 183. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، من كتاب المساقاة. صحيح البخاري 3/ 151. ومسلم، في: باب النهي عن المحاقلة والمزابنة وعن المخابرة. . . .، وباب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1174، 1175، 1177. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المخابرة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235. والترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن الثنيا، وباب ما جاء في المخابرة والمعاومة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 290، 6/ 52. والنسائي، في: باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وباب الزرع بالطعام، وباب النهي عن بيع الثنيا حتَّى تعلم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 231، 232، 237، 260. والإمام أحمد، في المسند: 3/ 313. 356، 391. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانُوا يَزْرَعُونَها بالثُّلُثِ والرُّبْعِ والنِّصْفِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» (¬1). ورُوِيَ تَفْسِيرُها عن زَيدِ بنِ ثابتٍ، فروَى أبو داوُدَ (¬2) بإسْنادِه عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُخابَرَةِ. قلتُ: وما المُخابَرَةُ؟ قال: أنْ يَأْخُذَ الأرْضَ بنصْفٍ أوْ ثُلُثٍ أوْ رُبْع. ولنا، ما روَى ابنُ عُمَرَ قال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عامَلَ أهْلَ خَيبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ منها مِن زَرْعٍ أو ثَمَرٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وقد رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وجابرِ بنِ عبدِ الله (¬4). وقال أبو جَعْفَرٍ: عامَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ خيبَرَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: باب فضل المنيحة، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 217. ومسلم، في: باب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1177. وابن ماجة، في: باب المزارعة بالثلث والربع، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجة 2/ 819. (¬2) في: باب في المخابرة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 187، 188. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 313، وفي صفحة 181. (¬4) حديث ابن عباس أخرجه أبو داود، في: باب في المساقاة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235، 236. وابن ماجة، في: باب خرص النخل والعنب، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجة 1/ 582. وحديث جابر تقدم تخريجه في صفحة 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشَّطْرِ، ثم أبو بكرٍ، ثم عُمَرُ، ثم عُثْمانُ، ثم عَلِيٍّ، ثم أَهْلُوهُم إلى اليَوْم يُعْطُونَ الثُّلُثَ والرُّبْعَ (¬1). وهذا أمْرٌ (¬2) صَحِيحٌ مَشهُورٌ عَمِلَ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى مات، ثم خُلفاؤه الراشِدُون حتَّى ماتُوا، ثم أَهْلُوهُم ومَن بَعدَهم، ولم يَبْقَ بالمَدِينةِ أهْلُ بَيتٍ إلا عَمِلَ به. وعَمِلَ به أَزْواجُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن بعدِه، فرَوَى البُخارِيُّ (¬3) عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عامَلَ أَهَلَ خَيبَرَ بِشَطْرِ ما يَخْرُجُ منها مِن زَرْعٍ أو ثَمَرٍ، فكان يُعْطِي أزْواجَهُ مائةَ وَسْقٍ، ثمانُونَ وَسْقًا تَمْرًا، وعِشْرُون وَسْقًا شَعِيرًا، فقَسَمَ عُمَرُ خَيبَرَ، فخَيَّرَ أزْوْاجَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَقْطَعَ لَهُنَّ مِن الماءِ والأرْضِ، أو يُمْضِيَ لَهُنَّ الأَوْسُقَ، فَمِنْهُنَّ مَن اخْتارَ الأرْضَ، ومِنْهُنَّ مَن اخْتارَ الوَسْقَ، فكانت عائشةُ اختارَتِ الأرْضَ. فإن قِيل: حَدِيثُ خَيبَرَ مَنسُوخٌ بخبَرِ رافِعٍ. قلنا: مثلُ هذا لا يجوزُ أن يُنْسَخَ؛ لأن النَّسْخَ إنَّما يكون في حَياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمّا شيءٌ عَمِلَ به إلى أن مات، ثم عَمِلَ به خُلَفاؤُه بعدَه، وأجْمَعَتِ الصَّحابةُ، رَضِيَ اللهَ عنهم، عليه، وعَمِلُوا به، ولم يُخالِفْ فيه منهم أحَدٌ، فكيف يجوزُ نَسْخُه، ومتى نُسِخَ؟ فإن كان نُسِخَ في حياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف عُمِلَ به بعدَ نَسْخِه؟ وكيف خَفِيَ نَسْخُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 182. (¬2) سقط من: م. (¬3) انظر تخريجه عند البخاري ومسلم في 10/ 313.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَبْلُغْ خُلَفاءَه، مع اشْتِهارِ قِصّةِ خَيبَرَ وعَمَلِهِم فيها؟ وأين كان راوي النَّسْخِ حتَّى لم يَذْكُرْه ولم يُخْبِرْهُم به. فأمّا ما احْتَجُّوا به، فالجَوابُ عن حَدِيثِ رافع مِن أرْبَعِة أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنَّه قد فَسَّرَ (¬1) المَنْهِيَّ عنه في حَديِثِه بما لا يُخْتَلَفُ في فَسادِه، فإنَّه قال: كُنّا مِن أكْثَرِ الأنْصارِ حَقْلًا، فكُنّا نُكْري الأرْضَ على أنَّ لَنا هذه ولهم هذه، فرُبَّما أخْرَجَت هذه ولم تُخْرِجْ هذه، فَنهانا عن ذلك، فأمّا بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فلم يَنْهَنا. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفي لَفْظٍ: فأمَّا بشيءٍ مَعْلُوم مَضْمُونٍ فلا بَأْسَ. وهذا خارِجٌ عن مَحَلِّ الخِلافِ، فلا دَلِيلَ فيه عليه، ولا تَعَارُضَ بينَ الحَدِيثَين. الثاني، أنَّ خَبَرَه وَرَدَ في الكِراءِ بثُلُثٍ أو رُبْع، والنِّزاعُ في المُزارَعةِ، ولم يَدُل حَدِيثُه عليها (¬3) أصْلًا، وحَدِيثُه الَّذي فيه المُزارَعَةُ يُحْمَلُ على الكِراءِ أيضًا؛ لأنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ أتَتْ بأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فيَجِبُ تَفْسِيرُ أحَدِ اللَّفظَينِ بما يُوافِقُ الآخَرَ. الثَّالِثُ، أنَّ أحادِيثَ رافعٍ مُضْطَرِبةٌ جِدًّا، مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلافًا كَثِيرًا يُوجِبُ تَرْكَ العَمَلِ بها لو انْفَرَدتْ، فكيف تُقَدَّمُ على مِثْلِ حَدِيثِنا؟ قال الإمامُ أحمدُ: حَدِيثُ رافِعٍ أَلْوَانٌ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: قد جاءَتِ الأخبارُ عن رافِعٍ بعِلَلٍ تَدُلُّ على أنَّ النَّهْيَ كان ¬

(¬1) بعده في الأصل، ر، ر 1، ق: «حديث». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬3) في الأصل: «عليهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [لتلك العِللِ] (¬1)؛ منها الَّذي ذكَرْنا. ومنها، خَمْسٌ أخْرَى. وقد أنْكَرَه فَقِيهانِ مِن فُقَهاءِ الصَّحابَةِ؛ زَيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباس. قال زيدُ بنُ ثابتٍ: أنا أعْلَمُ بذلك منه، وإنَّما سَمِع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَينِ قد اقْتَتَلا فقال: «إنْ كَانَ هذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ». رَواه أبو دَاوُدَ (¬2). وروَى البخارِيُّ (¬3) عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ، قال: قُلْتُ لطاوُسٍ: لو تَركْتَ المُخابَرَةَ، فإنَّهم يَزْعُمُونَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنها. قال: إنَّ أعْلَمَهُم، يَعْني ابنَ عباسٍ، أخْبَرِني أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْهَ عنها، ولكن قال: «أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أخَاهُ، خيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأْخُذ عَلَيهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا». ثم إنَّ أَحادِيثَ رافعٍ منها ما يُخالِفُ الإجْماعَ، وهو النَّهْي عن كِراءِ المَزارِعِ على الإطْلاقِ، ومنها ما لا يُخْتَلَفُ في فَسادِه، كما قد بَيَّنَا. وتارَةً يُحَدِّثُ عن بَعْضِ عُمُومَتِه، وتارَةً عن سَماعِه، وتارةً عن ظَهِيرِ بنِ رافعٍ، وإذا كانت أخبارُ رافعٍ هكذا، وَجَبَ اطِّراحُها واسْتِعمالُ الأخْبارِ الوارِدَةِ في شَأنِ خَيبَرَ، الجارِيةِ مَجْرَى التَّواتُرِ، التي لا اخْتِلافَ فيها، وقد عَمِلَ بها الخُلَفاءُ الرَّاشِدُونَ وغيرُهم، فلا مَعْنَى لتَرْكِها بمِثلِ هذه الأحادِيثِ الواهيةِ (¬4). والجوابُ الرابعُ، أنَّه لو قُدِّرَ صِحّةُ خبَرِ رافعٍ، وامْتَنَعَ ¬

(¬1) في م: «لذلك». (¬2) تقدم تخريجه في 185. (¬3) تقدم تخريجه في 185. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَأْويلُه، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ، وَجَب حَمْلُه على أنَّه مَنْسُوخٌ؛ لأنَّه لا بُدَّ مِن نَسْخِ أحَدِ الخَبَرَين، ويَسْتَحِيلُ القولُ بنَسْخِ خبَرِ خَيبَرَ؛ لكَوْنِه مَعْمولًا به مِن جِهَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى حين مَوْتِه، ثم مِن بعدِه إلى عَصْرِ التابِعِينَ، فمتى كان نَسْخُه؛ فأمّا حَدِيثُ جابر في النَّهْي عن المُخابَرَةِ، فيَجِبُ حَمْلُه على أحدِ الوُجُوهِ التي حُمِلَ عليها خَبَرُ رافع، فإنَّه قد روَى حَدِيثَ خَيبَرَ أيضًا، فيَجِبُ الجمعُ بينَ حَدِيثَيه مَهما أمْكَنَ، ثم لو حُمِلَ على المُزارَعةِ، لكان مَنْسُوخًا بقِصّةِ خَيبَرَ، لاسْتِحالةِ نَسْخِها، كما ذَكَرْنا. وكذلك القولُ في حَدِيثِ زَيدِ بنِ ثابتٍ. فإن قال أصحابُ الشافعيِّ: تُحْمَلُ أحادِيثُكُم على الأرضِ التي بينَ النَّخِيلِ، وأحاديثُ النَّهْي على الأرْضِ البَيضاءِ، جَمْعًا بينَهما. قلنا: هذا بعيدٌ؛ لوُجُوهٍ خمسةٍ؛ أحدُها، أنَّه يَبْعُدُ أن تكُونَ بَلْدَةٌ كبيرةٌ يأتي منها أرْبَعُونَ أَلْفَ وَسْقٍ، ليس فيها أرضٌ بيضاءُ، وَيبْعُدُ أن يكونَ قد عامَلَهُم على بعضِ الأرْضِ دُونَ بعض، فيَنْقُلُ الرُّوَاةُ كُلهم القِصةَ على العُمُومِ مِن غيرِ تَفْصيلٍ، مع الحاجَةِ إليه. الثّاني، أنَّ ما يَذْكُرُونَه مِن التَّأْويلِ لا دَلِيلَ عليه، وما ذَكَرْناه دَلَّتْ عليه بعضُ الرِّواياتِ، وفَسَّرَه راويه بما ذكرناه. وليس معهم سوى الجمعِ بينَ الأحادِيثِ، والجمعُ بينَهما بحَمْلِ بعضِها على ما فَسَّرَه راويه به أوْلَى مِن التَّحَكمِ بما لا دَلِيلَ عليه. الثّالثُ، أنَّ قَوْلَهُم يُفْضي إلى تَقْيِيدِ كلِّ واحدٍ مِن الحَدِيثَين، وما ذَكَرْناه حَمْلٌ لأحَدِهما على بعضِ مُحْتَملاته لا غيرُ. الرابعُ، أنَّ فيما ذَكَرْناه مُوافَقَةَ عَمَلِ الخُلَفاءِ الراشِدِين وأهْلِيهِم

2134 - مسألة: (فإن كان في الأرض شجر، فزارعه الأرض، وساقاه على الشجر، صح)

فَإِنْ كَانَ في الْأَرْضِ شَجَرٌ، فَزَارَعَهُ الأَرْضَ، وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفُقهاءِ الصَّحابَةِ، وهم أعْلَمُ بحَدِيثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّتِه ومَعانِيها، فكان أوْلَى مِن قولِ مَن خالفَهُم. الخامسُ، أنَّ ما ذَهَبْنا إليه مُجْمَعٌ عليه على ما رَواه أبو جَعْفَرٍ، رَحْمَةُ اللهِ عليه، وما رُوِيَ في مُخالفَتِه فقد بَيَّنَا فَسادَهُ، فيكونُ هذا إجْماعًا مِن الصَّحابَةِ، رَضِيَ الله عنهم، فلا يَسُوغُ لأَحَدٍ خِلافُه. والقِياسُ يَقْتَضِيه، فإنَّ الأرْضَ عَينٌ تَنَمَّى بالعَمَلِ، فجازَتِ المُعامَلَةُ عليها ببعضِ نَمائِها، كالمالِ في المُضارَبَةِ، والنَّخْلِ في المُساقاةِ. ولأنَّه أرْضٌ، فجازَتِ المُزارعةُ عليها، كالأرْضِ بينَ النَّخِل. ولأنَّ الحاجَةَ داعِية إلى المُزارَعةِ؛ لأنَّ أصحابَ الأرضِ قد (¬1) لا يَقْدِرُون على زَرْعِها والعَمَلِ عليها، والأَكَرَةُ يَحتاجُون إلى الزَّرْعِ ولا أرْضَ لهم، فاقْتَضتِ الحِكْمةُ جوازَ المُزارَعةِ، كما قُلْنا في المُضارَبةِ والمُساقاةِ، بل ههُنا آكَدُ؛ لأنَّ الحاجَةَ إلى الزَّرْعِ آكَدُ منها إلى غيرِه؛ لكَوْنِه قُوتًا، ولأنَّ الأرْضَ لا يُنْتَفَعُ بها إلا بالعَمَلِ فيها، بخِلافِ المالِ. واللهُ أعلمُ. 2134 - مسألة: (فَإِنْ كَانَ في الْأَرْضِ شَجَرٌ، فَزَارَعَهُ الأَرْضَ، وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ، صَحَّ) سواء قَلَّ بَياضُ الأرضِ أو كَثُرَ. نَصَّ عليه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ، وقال: قد دَفَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيبَرَ على هذا. وبهذا قال كُلُّ مَن أجازَ المُزارَعَةَ في الأرْضِ المُفْرَدَةِ. فإذا قال: ساقَيتُكَ على الشَّجَرِ، وزارَعْتُكَ على الأرْضِ بالنِّصْفِ. جاز (¬1). وكذلك إن قال: عامَلْتُك [على الأرضِ والشجرِ] (¬2) على النِّصْفِ. لأن المُعامَلَةَ تَشْمَلُهُما. وإن قال: زَارَعْتُكَ الأرْضَ بالنِّصْفِ، وساقَيتُكَ على الشجَرِ بالرُّبْعِ. جازَكما يجوزُ أن يُساقِيَهُ على أنواعٍ مِن الشَّجَرِ ويَجْعَلَ له في كلِّ نَوْعٍ قَدْرًا. وإن قال: ساقَيتُكَ على الأرْضِ والشَّجَرِ بالنِّصْفِ. جازَ؛ لأنَّ المُزارَعَةَ مُساقاة مِن حيث إنَّها تَحْتاجُ إلى السَّقْي. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُساقاةَ لا تَتَناوَلُ الأرْضَ، فتَصِحُّ في النَّخْلِ وحدَه. وقيل: يَنْبَنِي على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ولَنا، أنَّه عَبَّرَ عن عَقْدٍ بلَفْظِ عَقْدٍ يُشارِكُه في المَعْنَى المَشْهُورِ به في الاشْتِقاقِ، فَصَحَّ، كما لو عَقَد بلَفْظِ البَيعِ في السَّلَمِ. وهكذا إن قال في الأرْضِ البَيضاءِ: ساقَيتُك على هذه الأرْضِ بنِصْفِ ما يُزْرَعُ فيها. فإن قال: ساقَيتُكَ على الشَّجَرِ بالنِّصْفِ. ولم يَذْكُرِ الأرْضَ، لم تَدْخُلْ في العَقْدِ، وليس للعامِلِ أن يَزْرَعَ. وبه قال الشافعيُّ. ¬

(¬1) سقط من: ق، ر، ر 1. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالكٌ، وأبو يُوسُفَ: للدّاخِلِ زَرْعُ البَياضِ، فإن تَشارَطا أنَّ ذلك بينَهما، فهو جائِزٌ، وإنِ اشْتَرَطَ صاحِبُ الأرْضِ أنَّه يَزْرَعُ البَياضَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الدَّاخِلَ يَسْقِي لِرَبِّ الأرْضِ، فتلك زِيادَة ازْدادَها عليه. ولَنا، أنَّ هذا لم يَتَناوَلْه العَقْدُ، فلم يَدْخُلْ فيه، كما لو كانت أرْضًا مُنْفَرِدَةً. فصل: وإن زارَعَه أرْضًا فيها شَجَراتٌ يَسِيرةٌ، لم يَجُزْ أن يَشْتَرِطَ العامِلُ ثَمَرتَها. وبه قال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وأجَازَه مالكٌ إذا كان الشَّجَرُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ أو أقَلَّ؛ لأنَّه يَسِير، فيَدْخُلُ تَبَعًا. ولَنا، أنَّه اشْتَرَط الثَّمَرَةَ كُلَّها، فلم يَجُزْ، كما لو كان الشَّجَرُ أَكْثَرَ مِن الثُّلُثِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أجَرَه بَياضَ الأرْضِ، وساقاه على الشَّجَرِ الَّذي فيها، جازَ؛ لأنَّهما عَقْدان يجوزُ إفْرادُ كلِّ واحدٍ منهما، فجازَ الجَمْعُ بينَهما، كالبَيعِ والإِجارَةِ. وقيل: لا يجوزُ، بِناءً على الوَجْهِ الَّذي لا يُجَوِّزُ الجَمْعَ بينَهما في الأصْلِ. والأوَّلُ أوْلَى، إلَّا أن يَفْعَلا ذلك حِيلَةً على شِراءِ الثَّمَرَةِ قبلَ وُجُودِها، أو قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، فلا يجوزُ، سواء جَمَعا بينَ العَقْدَين، أو عَقَدا أحَدَهُما بعدَ الآخَرِ؛ لِما ذَكَرْنا في إبْطالِ الحِيَلِ.

2135 - مسألة: (ولا يشترط كون البذر من رب الأرض. وظاهر المذهب اشتراطه)

وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأرْض. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2135 - مسألة: (وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأرْض. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في هذه المَسْألَةُ، فرُويَ عنه اشْتِراطُ كوْنِ البَذْرِ مِن رَبِّ الأرْضِ. نَصَّ عليه في رِوايَةِ جَماعةٍ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، وعامّةِ الأصْحابِ. وهو قولُ ابنِ سِيرِينَ، والشافعيِّ، وإسحاقَ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَشْتَرِكُ رَبُّ المالِ والعامِلُ في نَمائِه، فوَجَب أن يكونَ رأسُ الْمالِ كلُّه مِن عندِ أحَدِهِما، كالمُساقاةِ، والمُضارَبةِ. ورُوِيَ عنه ما يَدُلُّ على أنَّ البَذْرَ يجوزُ أن يكونَ مِن العامِلِ، فإنَّه قال في رِوايةِ مُهَنّا، في الرَّجُلِ يكونُ له الأرضُ فيها نَخْلٌ وشَجَرٌ، يَدْفَعُها إلى قومٍ يَزْرَعُون الأرْضَ ويَقُومُون على الشَّجَرِ على أنَّ (¬1) له النِّصْفَ، ولهم النِّصْفُ: فلا بَأْسَ بذلك، [قد دفع] (¬2) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في م: «أنَّه». (¬2) في الأصل، م: «فدفع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَيبَرَ على هذا. فأجازَ دَفْعَ الأَرْضِ ليَزْرَعَها مِن غيرِ ذِكْرِ البَذْرِ. فعلى هذا، أَيُّهما أخْرَجَ البَذْرَ، جازَ. رُوِيَ نحوُ ذلك عن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه. وهو قولُ أبي يوسُفَ، وطائفةٍ مِن أهْلِ الحَدِيثِ، وهو أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى. ورُوِيَ عن سَعْدٍ، وابنِ مَسْعُودٍ، وابنِ عُمَرَ، أنَّ البَذْرَ مِن العامِلِ. ولَعَلَّهُم أرادُوا به، أنَّه (¬1) يجوزُ أن يكونَ مِن العامِلِ، فيكونُ كقَوْلِ عُمَرَ، ولا يكونُ قَوْلًا ثالِثًا. والدَّلِيلُ على ذلك قولُ ابنِ عُمَرَ: دَفَع رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يَهُودِ خَيبَرَ نَخْلَ خَيبَرَ وأرْضَها، على أن يَعْمَلُوها مِن أمْوالِهم، ولرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَطْرُ ثَمَرِها (2). وفي لَفْظٍ: على أن يَعْمَلُوها ويَزْرَعُوها، ولهم شَطْرُ ما يَخرُجُ منها (¬2). فجَعَلَ عَمَلَها مِن أمْوالِهم، وزَرْعَها عليهم، ولم يَذْكُرْ شيئًا آخَرَ، وظاهِرُه أنَّ البَذْرَ مِن أهْلِ خَيبَرَ، والأصْلُ [المُعَوَّلُ عليه] (¬3) في المُزارَعةِ قِصَّةُ خَيبَر، ولم يَذْكُرِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ البَذْرَ على المسلمين، ولو كان شَرْطًا لَما أخَلَّ بذِكْرِه، ولو ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 313، وفي صفحة 181. (¬3) في م: «المعمول به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لَنُقِلَ، ولم يَجُزْ تَرْكُ نَقْلِه. ولأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، فَعَل الأمْرَين جميعًا. فروَى البخاريُّ (¬1) عنه، أَنَّه عامَلَ الناسَ على أنَّه إن جاء عُمَرُ بالبَذرِ مِن عِنْدِه فله الشَّطْرُ، وإن جاءُوا بالبَذْرِ فلهم كذا. وظاهِرُ هذا أنَّ ذلك اشْتَهَرَ فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا. فإن قِيلَ: فهذا بمَنْزِلَةِ بَيعَتَين في بَيعَةٍ، فكيف يَفْعَلُه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه؟ قلنا: يَحْتَمِلُ أنَّه فَعَل ذلك ليُخَيِّرَهُم في أيِّ العَقْدَين شاءُوا، فمَن اختارَ عَقدًا عَقَدَه معه مُعَيَّنًا، كما لو قال في البَيع: إن شِئْتَ بِعْتُكَ بعَشَرَةٍ صِحاحٍ، وإن شِئْتَ بأحَدَ عَشَرَ مُكَسَّرَةً. فاختارَ أحَدَهُما، فَعَقَدَ البَيعَ عليه مُعَيَّنًا. ويجوزُ أن يكونَ مَجِيئُه بالبَذْرِ، أو شُرُوعُه في العَمَلِ بغيرِ بَذْرٍ، مع إقْرارِ عُمَرَ له على ذلك وعِلْمِه به، جَرَى مَجْرَى العَقْدِ. ولهذا رُوِيَ عن أحمدَ صِحَّةُ الإجارةِ فيما إذا قال: إن خِطته رُوميًّا فلك دِرْهَمٌ، وإن خِطْتَه فارِسيًّا فلك نِصْفُ دِرْهمٍ. وما ذَكَره أصحابُنا مِن القِياسِ يُخالِفُ ظاهِرَ النَّصِّ والإجْماعَ الَّذي ذَكَرْناهُما، فكيف يُعْمَلُ به؟ ثم هو مُنْتَقِضٌ بما إذا اشْتَركَ مالانِ بِبَدَنِ صاحِبِ أحَدِهِما. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان البَذْرُ منهما نِصْفَينِ، وشَرَطا أنَّ الزَّرْعَ بينهما نِصْفانِ، فهو بينَهما، سواءٌ قُلنا بصِحَّةِ المُزارَعةِ أو فَسادِها؛ لأنَّها إن كانت صَحِيحةً، فالزَّرْعُ بينَهما على ما شَرَطاه، وإن كانت فاسِدةً فلِكُلِّ واحدٍ منهما بقَدْرِ بَذْرِه، لكنْ إن حَكَمْنا بصِحَّتِها، لم يَرْجِعْ أحَدُهُما على صاحِبِه بشيء. وإن قلنا: مِن شَرْطِ صِحَّتِها أن يكونَ البَذْرُ مِن رَبِّ الأرْضِ. فهي فاسِدَةٌ، فعلى العامِلِ نِصْفُ أجْرِ الأرْضِ، وله على رَبِّ الأَرْضِ نِصْفُ أجْرِ عَمَلِه، فيَتقاصّانِ بقَدْرِ الأقَلِّ منهما، ويَرْجِعُ أحَدُهُما على صاحِبِه بالفَضْلِ. وإن شَرَطَا التَّفاضلَ في الزَّرْعِ، وقلنا بصِحَّتِها، فالزَّرْعُ بينهما على ما شَرَطاه، ولا تَراجُعَ. وإن قلنا بفَسادِها، فالزَّرْعُ بينَهما على قَدْرِ البَذْرِ، ويَتَراجَعانِ، كما ذَكَرْنا. وكذلك إن تَفَاضَلا في البَذْرِ، وشَرَطا التَّساويَ في الزَّرْعِ، أو شَرَطا لأحَدِهما أكْثَرَ مِن قَدْرِ بَذْرِه أو أَقَلَّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال صاحِبُ الأرْضِ: أجَرْتُكَ نِصْفَ أرْضِي بنِصْفِ البَذْرِ ونِصْفِ مَنْفَعَتِكَ ومَنْفَعَةِ بَقَرِكَ وآلتِكَ. وأخْرَجَ المُزارِعُ البَذرَ كُلَّهْ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ غيرُ مَعْلُومَةٍ. وكذلك لو جَعَلَها أُجْرَةٌ لأرْضٍ أُخْرَى، أو دارٍ، لم يَجُزْ، والزَّرْعُ كلُّه للمُزارِعِ، وعليه أجْرُ مِثْلٍ الأرْضِ. فإن أمْكَنَ عِلْمُ المَنْفَعَةِ وضَبْطُها بما لا تَخْتَلِفُ معه، ومَعْرِفةُ البَذْرِ، جازَ، وإن كان الزَّرْعِ بينَهما. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّ البَذْرَ عِوَضٌ في الإِجارَةِ، فيُشْتَرَطُ قبْضُه، كما لو كان مَبِيعًا وما حَصَلِ فيه قَبْضٌ. وإن قال: أجَرْتُكَ نِصْفَ أرْضِي بنِصْفِ مَنْفَعَتِكَ، ومَنْفعَةِ بَقَرِك، وآلتِكَ، وأخْرَجا البَذْرَ، فهي كالتي قبلَها، إلَّا أنَّ الزَّرْعَ يكونُ بينهما على كلِّ حالٍ.

2136 - مسألة: (وإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره، ويقتسما الباقي)

وَإنْ شُرِطَ أنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْأرْضِ مِثْلَ بَذْرِهِ، وَيَقْتَسِمَا الْبَاقِي، أوْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً، أوْ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، أوْ زَرْعَ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةَ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2136 - مسألة: (وَإنْ شُرِطَ أنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْأرْضِ مِثْلَ بَذْرِهِ، وَيَقْتَسِمَا الْبَاقِي) لم يَصِحَّ؛ لأنَّه كأَنَّه اشْتَرَط لنَفْسِه (قُفْزَانًا مَعْلُومَةً) وهو شَرطٌ فاسِدٌ تَفْسُدُ به المُزارَعَةُ؛ لأنَّ الأرْضَ رُبَّما لا تُخْرِجُ إلَّا تلك القُفْزانَ، فيَخْتَصُّ رَبُّ المالِ بها، ورُبَّما لا تُخرِجُهُ. ومَوْضُوعُ المُزارَعةِ على اشْتِراكِهما في الزَّرْعِ. 2137 - مسألة: وكذلك لو شَرَطا لأحَدِهما (دراهِمَ مَعْلُومَةً، أو زَرْعَ ناحِيَةٍ مُعَيَنَّةَ) أو يَشْتَرِطُ لأحَدِهما ما على الجداولِ، إمّا مُنْفَرِدًا أو مع نصِيبِه، فهو فاسِدٌ بإجْماعِ العُلَماءِ؛ لأنَّ الخَبَر صَحِيحٌ في النَّهْي عنه، غيرُ مُعارَض ولا مَنْسُوخٍ، ولأنَّه رُبَّما تَلِف ما عُيِّنَ لأحَدِهما دُونَ الآخَرِ، فيَنْفَردُ أحَدُهما بالغَلّةِ دونَ صاحِبِه.

2138 - مسألة: (ومتى فسدت، فالزرع لصاحب البذر)

ومَتَى فَسَدَتْ، فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيهِ أُجْرَةُ صَاحِبِهِ. وَحُكْمُ الْمُزَارَعَةِ حُكْمُ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2138 - مسألة: (ومَتَى فَسَدَت، فالزَّرْعُ لصاحِبِ البَذرِ) لأنَّه عَينُ مالِه، يَنْقَلِبُ من حالٍ إلى حالٍ، ويُنَمَّى، فهو كصِغارِ الشَّجَرِ إذا غُرِسَ فطال (وعليه أُجْرَةُ صاحِبِه) فإن كان البَذْرُ مِن العامِلِ، فعليه أُجْرَةُ الأرْضِ؛ لأنَّ رَبَّها إنَّما بَذَلها بعِوَض لم يُسَلَّمْ له، فرَجَعَ إلى عِوَضِ مَنافِعِها الفائِتَةِ بزَرْعِها على الزّارِعِ وإن فَسَدَتْ والبَذْرُ مِن رَبِّ الأرضِ، فالزَّرْعُ له؛ لِما ذَكَرْنا، وعليه مثلُ أجْرِ العامِلِ؛ لذلك. وإن كان منهما، فالزَّرْعُ بينهما على قَدْرِ البَذْرِ، ويَتراجَعانِ بما يَفْضُلُ لأحَدِهما على ما ذَكَرنا. 2139 - مسألة: (وحُكْمُ المُزارَعَةِ حُكْمُ المُساقاةِ فيما ذَكَرْنا) مِن الجَوازِ، واللُّزُوم، وأنَّها لا تجوزُ إلَّا بجزْءٍ للعامِلِ مِن الزَّرْعِ، وما يَلْزَمُ العامِلَ ورَبَّ الأَرضِ وغيرِ ذلك مِن أحْكامِها؛ لأنَّها مُعامَلَة على الأرْضِ ببعضِ نَمائِها.

2140 - مسألة: (والحصاد على العامل. نص عليه. وكذلك الجداد. وعنه، أن الجداد عليهما)

وَالْحَصَادُ عَلَى الْعَامِلِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَكَذَلِكَ الجَدَادُ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْجَدَادَ عَلَيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2140 - مسألة: (وَالْحَصَادُ عَلَى الْعَامِلِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَكَذَلِكَ الجَدَادُ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْجَدَادَ عَلَيهِمَا) الجِذاذُ والحَصَادُ واللِّقاطُ على العامِلِ. نَصَّ عليه أحمدُ في الحَصادِ. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه مِن العَمَلِ، فكان على العامِلِ، كالتَّشْمِيسِ. ورُوِيَ عن أحمدَ في الجِذاذِ، أنَّه إذا شرَط على العامِلِ، فجائِزٌ؛ لأنَّ العَمَلَ عليه، وإن لم يَشْرُطْه فعلى رَبِّ المالِ بحِصّةِ ما يَصِيرُ إليه، وعلى العامِلِ بحصةِ ما يَصِيرُ إليه. فجَعَلَ الجِذاذَ عليهما، وأجازَ اشْتِراطَه على العامِلِ. وهو قولُ بعضِ الشافعيةِ. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ: تَفْسُدُ المُساقاةُ بشَرْطِه على العامِلِ؛ لأنَّه شَرْطٌ يُنافِي مُقتَضَى العَقدِ. واحْتَجَّ مَن جَعَله عليهما بأنَّه بعدَ تكامُلِ الثَّمَرَةِ وانقِضاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُعامَلَةِ، فأشْبَهَ نَقْلَه إلى مَنْزِله. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دفَعَ خَيبَرَ (¬1) إلى يَهُودِ خَيبَرَ على أنْ يَعْمَلُوها مِن أمْوالِهمِ، ولأنَّ هذا مِن العَمَلِ، أشْبَهَ التَّشْمِيسَ، وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. وفارَقَ النَّقْلَ إلى المَنْزِلِ، فإنَّه يكونُ بعدَ القِسْمَةِ وزَوالِ العَقْدِ، فأشْبَهَ المَخْزَنَ. فصل: وإن دَفَع رَجُلٌ بَذْره إلى صاحِبِ الأرْضِ ليَزْرَعَه في أرْضِه، ويكونَ ما يَخْرُجُ بينهما، فهو فاسِدٌ؛ لأنَّ البَذْرَ ليس مِن رَبِّ الأرْضِ ولا مِن العامِلٍ، ويكونُ الزَّرْعُ لمالِكِ البَذْرِ، وعليه أَجْرُ الأرْضِ والعَمَلِ. ويَتَخرَّجُ أن تَنْبَنِيَ صِحَّتُه على إحْدَى الرِّوايَتَين، كالمسألةِ التي بعدَها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2141 - مسألة: (وإن قال: أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي، وتسقيها بمائك، والزرع بيننا)

وَإِذَا قَال الْمُزَارِعُ: أَنَا أزْرَعُ الْأَرْضَ بِبَذْرِي وَعَوَامِلِي، وَتَسْقِيهَا بِمَائِكَ، وَالزَّرْعُ بَينَنَا. فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2141 - مسألة: (وَإِن قَال: أَنَا أزْرَعُ الْأَرْضَ بِبَذْرِي وَعَوَامِلِي، وَتَسْقِيهَا بِمَائِكَ، وَالزَّرْعُ بَينَنَا) ففيها رِوايَتان؛ إحْداهُما، لا تَصِحُّ. اخْتارَها القاضِي؛ لأنَّ مَوْضُوعَ المُزارَعَةِ على أن يكونَ مِن أحَدِهما الأرْضُ ومِن الآخَرِ العَمَلُ، وصاحِبُ الماءِ ليس منه أرْضٌ ولا عَمَل ولا بَذْرٌ، ولأنَّ الماءَ لا يُباعُ ولا يُسْتَأْجَرُ، فكيف تَصِحُّ المُزارَعةُ به؟ والثانيةُ، تَصِحُّ. اختارَها أبو بكرٍ. ونَقَلَها عن أحمدَ يَعْقُوبُ بنُ بَخْتانَ (¬1)، وحَرْبٌ؛ لأنَّ الماءَ أحَدُ ما يُحْتاجُ إليه في الزَّرْعِ، فجازَ أن يكونَ مِن أحَدِهما، كالأرْضِ والعَمَلِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ هذا ليس بمَنْصُوصٍ عليه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ. فصل: وإنِ اشْتَرَكَ ثلاثَةٌ؛ مِن أحَدِهم الأرضُ، ومِن الآخَرِ البَذْرُ، ومِن الآخَرِ البَقَرُ، والعَمَلُ على أنَّ ما رَزَق الله تَعالى بينهم، فعَمِلُوا، فهذا عَقْدٌ فاسِدٌ. نَصّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبي داودَ، ومُهَنّا، وأحمدَ بنِ القاسِمِ. وذَكَرَ حَدِيثَ مُجاهدٍ، في أرْبَعةٍ اشْتَرَكُوا في زَرْعٍ على عَهْدِ ¬

(¬1) هو يعقوب بن إسحاق بن بختان. تقدم في 2/ 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحَدُهُم: عَلَيَّ الفَدّانُ (¬1). وقال الآخَر: قِبَلِي الأرْضُ. وقال الآخَر: قِبَلي البَذْز. وقال الآخَر: قِبَلي العَمَل. فجَعَل النبيُّ الزَّرْعَ لصاحِبِ البَذْرِ، وألغَى صاحِبَ الأرْضِ، وجَعَل لصاحِبِ العَمَلِ كلَّ يوم دِرْهمًا، ولصاحِبِ الفَدّانِ شيئًا مَعْلُومًا (¬2). فقال أحمدُ: لا يَصِحُّ، والعَمَلُ على غيرِه. وذَكَر هذا الحَدِيثَ سَعِيد بنُ مَنْصُورٍ، عن الوَليدِ بنِ مُسْلِمٍ، عن الأوْزَاعِيِّ، عن واصِلِ بنِ أبي جَمِيلٍ، عن مُجاهِدٍ، وقالٍ في آخِرِه: فحَدَّثْت به مَكْحُولًا فقال: ما يَسُرُّنِي بهذا الحَدِيثِ وَصيفٌ (¬3). وحُكْمْ هذه المسألةِ حُكْمُ المسألةِ التي ذَكَرْناها في أوّل الفَصْلِ، وهما فاسِدَتانِ؛ لأنَّ مَوْضوعَ المُزارَعةِ على أن البَذْرَ مِن رَبِّ الأرْضِ أو مِن العامِلِ، وليس هو من (¬4) واحِدٍ منهما. وليست شَرِكةً؛ لأنَّ الشَّرِكَةَ تكونُ بالأَثْمانِ، فإن كانت بالعُرُوضِ، اعْتبرَ كَوْنها مَعْلُومَةً، ولم يُوجَدْ شيءٌ مِن ذلك هاهُنا. ولا هي إجارَةٌ؛ لأنَّ الإجارَةَ تَفْتَقِرُ إلى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وعِوَضٍ مَعْلُوم. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. فعلى هذا، يكونُ الزَّرْعُ لصاحِبِ البَذْرِ؛ لأنَّه نَمَاءُ مالِه، ولصاحِبَيه عليه أجْرُ مِثْلِهما؛ لأنَّهما دَخَلا على أن يُسَلِّمَ ¬

(¬1) الفدان: المحراث. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب القوم يشتركون في الزرع، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 123. (¬3) الوصيف: الخادم، غلاما أو جارية. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما المُسَمَّى، فإذا لم يُسَلِّمْ، عاد إلى بَدَلِه. وبهذا قال الشافعي، وأبو ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأي: يَتَصَدَّقُ بالفَضْلِ. والصَّحِيحُ أنَّ النَّماءَ لصاحِبِ البَذْرِ، لا تَلْزَمُه الصَّدَقَةُ به، كسائِرِ مالِه. فصل: فإن كانتِ الأرضُ لثلاثةٍ، فاشْتَركُوا على أن يَزْرَعُوها ببَذْرِهم ودَوابِّهم وأعْوانِهم، على أنَّ ما أخْرَجَ الله بينهم على قَدْرِ ما لَهم، جاز. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لأن أحَدَهُم لا يَفْضُلُ صاحِبَه بشيءٍ. فصل: فإن زارَعَ رَجُلًا، أو آجَرَه أرْضَه فزَرَعها، وسَقَط مِن الحَبِّ شيءٌ فنَبَتَ في تلك الأرْضِ عامًا آخَرَ، فهو لصاحِبِ الأرْضِ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ أبي داودَ، ومحمدِ بنِ الحارِثِ. وقال الشافعي: هو لصاحِب الحَبِّ؛ لأنَّه عَينُ مالِه، فهو كما لو بذَرَه قَصْدًا. ولَنا، أنَّ صاحِبَ الحَبِّ أسْقَطَ حَقَّه منه بحُكْمِ العُرْفِ، وزال مِلْكُه عنه؛ لأنَّ العادَةَ تَرْكُ ذلك لمَن يَأخُذُه، ولهذا أبِيحَ له الْتِقاطُه ورَعْيُه. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في إباحَةِ الْتِقاطِ ما خَلَفَه الحَصَّادُون مِن سُنْبُلٍ وحَب وغيرِهما، فجَرَى ذلك مجرَى نَبْذِه على سَبِيلِ التَّرْكِ له، وصار كالشيءِ التّافِهِ يَسْقُطُ منه، كالثَّمرةِ واللُّقْمَةِ ونحوهما، والنَّوَى لو الْتَقَطَه إنْسانٌ فغَرَسه كان له، دُونَ مَن سَقَط منه، كذا هذا.

2142 - مسألة: (وإن زارع شريكه في نصيبه، صح)

وَإنْ زَارَعَ شَرِيكَهُ فِي نَصِيبِهِ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2142 - مسألة: (وإن زارَعَ شَرِيكَه في نَصِيبِه، صَحَّ) إذا جَعَل له في الزرْعِ أكْثَرَ مِن نَصِيبِه، مثلَ أن تكونَ الأرضُ بينَهما نِصْفينِ، فجَعَل للعامِلِ الثُّلثَينِ، صَحَّ، وكان السُّدْسُ حِصتَه مِن المُزارَعةِ، فصار كأنَّه قال: زارَعْتُك على نصِيبي بالثُّلُثِ. فصَحَّ، كما لو زارَعَ أجْنَبِيًّا. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ النِّصْفَ للمُزارِعِ، ولا يَصِحُّ أن يُزارِعَ الإنْسانُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لنَفْسِه، فإذا فَسَد في نَصِيبِه، فَسَد في الجميعِ، كما لو جَمَع في البَيعِ بينَ ما يَصِحُّ وما لا يَصِحُّ، والأوَّلُ أصَحُّ؛ إن شاء الله تعالى، وقد ذَكَرْنا في المُساقاةِ نحوَ هذا.

فصل في إجارة الأرض

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَصْلٌ في إجارَةِ الأرضِ تجوزُ إجارَتُها بالذَّهَبِ والفِضَّةِ وسائرِ العُرُوضِ، غيرِ المَطْعُومِ، في قَوْلِ عامّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال أحمدُ: قَلَّما اخْتَلَفُوا في الذَّهَبِ والوَرِقِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ أهْلِ العِلْمِ على أنَّ اكْتِراءَ الأرضِ وقتًا مَعْلُومًا جائِز بالذَّهَبِ والفِضَّةِ. رُوِيَ هذا القولُ عن سَعْدٍ، ورافعِ بن خَديجٍ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عَبّاسٍ. وبه قال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وعُرْوَةُ، والقاسِمُ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي. ورُوِيَ عن طَاوُسٍ، والحَسَنِ، كَراهَةُ ذلك؛ لِما روَى رافِعٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن كِراءِ المَزارِعِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولَنا، أنَّ رافِعًا قال: أمّا بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فلم يَنْهَنا، يَعْنِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولِمُسْلِمٍ (¬3): أمَّا بِشَيءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فلا بَأسَ. وعن حَنْظَلَةَ بنِ قَيسٍ، أنَّه سأل رافِعَ بنَ خَدِيجٍ عن كِراءِ الأرضِ، فقال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن كِراءِ الأرْضِ. فقلتُ: بالذَّهَبِ والفِضَّةِ؟ قال: إنَّما نَهَى عنها بِبعضِ ما يَخْرُجُ منها، أمَّا بالذَّهَبِ والفِضَّةِ فلا بَأسَ. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 231. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬3) في: باب كراء الأرض بالذهب والورق، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1183. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المزارعة. من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 231، 232.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وعن سَعْدٍ قال: كُنّا نُكْرِي الأرْضَ بما على السَّواقِي، وما سَعِدَ (¬2) بالماءِ منها، فَنَهانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأمَرَنا أن نُكْرِيَها بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ. رَواهُ أبو دَاودَ (¬3). ولأنَّها عَينٌ يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ المُباحَةِ منها مع بَقائِها، فجازَتْ إجارَتُها بالأثْمانِ ونحوها، كالدُّورِ. والحُكْمُ في العُرُوضِ كالحُكْمِ في الأثْمانِ. وأما حَديثُهُم، فقد فَسَّرَه الرّاوى بما ذَكَرْنا عنه (¬4)، فلا يجوزُ الاحْتِجاجُ به على غيرِه. وحَدِيثُنا مُفَسِّرٌ لحَدِيثهم؛ فإنَّ راويَهما واحدٌ، وقد رَواهُ عامًّا وخاصًّا، فيُحْمَلُ العامُّ على الخاصِّ مع مُوافَقةِ الخاصِّ لسائرِ الأحادِيثِ والقِياسِ وقولِ أكْثرِ أهْلِ العِلْمِ. فأمّا إجارَتُها بطَعامٍ، فتَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يُؤْجِرَها بطَعامٍ مَعْلُومٍ غيرِ الخارِجِ منها، فيَجُوزُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ الحَسَنِ بنِ ثَوَابٍ. وهو قولُ أكثَرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم سَعِيدُ بنُ جُبَير، وعِكْرِمةُ، والنَّخَعِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي. ومَنَع منه مالكٌ، حتى مَنَع إجارَتَها باللبَنِ والعَسَلِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: رُبَّما تَهَيَّبتُه. قال القاضِي: هذا مِن أحمدَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬2) سعد الماء: جرى سَيْحًا. (¬3) في: باب في المزارعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 231. كما أخرجه النسائي، في: باب ذكر الأحاديث المختلفة. . . .، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 38. والدارمي، في: باب في الرخصة في كراء الأرض بالذهب والفضة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 271. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 178، 179، 182. (¬4) انظر ما تقدم في صفحة 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على سَبِيلِ الوَرَعِ، ومَذْهَبُه الجوازُ. واحْتَجَّ مالكٌ، بما روَى رافِعُ بنُ خَديجٍ عن بعضِ عُمُومَتِه قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَت لَهُ أرْضٌ فَلَا يُكْرِيهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى». رَواهُ أبو دَاودَ، وابنُ ماجَه (¬1). وروَى ظَهِيرُ بنُ رافعٍ قال: دَعانِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟» قلت: نُؤاجِرُها على الرُّبْعِ، أو على الأوْسُقِ مِن التَّمْرِ أو الشَّعِيرِ. قال: «لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا أو أمْسِكُوهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو (¬3) سعيدٍ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُحاقَلَةِ (¬4). والمُحاقَلَةُ؛ اسْتِكْراءُ الأرْضِ بالحِنْطَةِ. ولَنا قولُ رافعٍ، فأمّا بشيءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فلا بَأسَ به. ولأنَّه عِوَضٌ مَعْلُوم مَضْمُون، لا يُتَّخَذُ وَسِيلةً إلى الرِّبا، فجازَتْ إجارَتُها بها، كالأثْمانِ. وحَدِيثُ رافعٍ وظَهِيرٍ، قد سبَق الكَلامُ عليه في المُزارَعةِ، على أنَّه يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عن إجارَتِها بذلك ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 231. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب ما كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمرة، من كتاب الحرث. صحيح البخاري 3/ 141. ومسلم، في: باب كراء الأرض بالطعام، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1182. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يكره من المزارعة، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 821، 822. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 143. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب بيع المزابنة، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 99. ومسلم، في: باب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1179. وابن ماجه، في: باب كراء الأرض، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 820. والإمام مالك، في: باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 625. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 6، 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان خارِجًا منها، ويَحْتَمِلُ النَّهْيَ عنه إذا آجَرَها بالرُّبْعِ والأوْسُقِ. وحَدِيثُ أبي سَعِيدٍ يَحْتَمِلُ المَنْعَ مِن كِرائِها بالحِنْطَةِ إذا اكْتَراها لزَرْعِ الحِنْطَةِ. القسمُ الثاني، إجارَتُها بطَعامٍ مَعْلُومٍ مِن جِنْسِ ما يَزْرَعُ فيها، كإجارَتها بقُفْزانِ حِنْطَةٍ ليَزْرَعَها، فقال أبو الخَطّابِ: فيها رِوايتان؛ إحداهما، المَنْعُ. وهي التي ذكَرَها القاضِي مَذهَبًا. وهي قولُ مالكٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ، ولأنَّه ذَرِيعةٌ إلى المُزارَعَةِ عليها بشيءٍ مَعْلُومٍ مِن الخارِج منها؛ لأنَّه يَجْعَلُ مكانَ قَوْلِه: زارَعْتُكَ. آجَرْتُك، فتَصِيرُ مُزارَعةً بلَفْظِ الإجارَةِ، والذَّرائِعُ مُعْتَبَرَة. والثانيةُ، جوازُ ذلك. اختارَها أبو الخَطّاب. وهو قولُ أبي حَنيفةَ، والشافعيِّ؛ لِما ذَكَرْنا في القِسْمِ الأوَّلِ، ولأَنَّ ما جازَتْ إجارَتُه بغيرِ المطْعُومِ، جازَتْ به، كالدُّورِ. القسمُ الثّالثُ، إجارَتُها بجُزْءٍ مُشاعٍ مما يَخرُجُ منها، كنِصْفٍ، وثُلُثٍ، فالمَنْصوصُ عن أحمدَ جوازُه. وهو قولُ أكثرِ الأصحابِ (¬1). واختار أبو الخَطَّابِ أنَّها لا تَصحُّ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعي. وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لِما تَقَدَّمَ مِن الأحادِيثِ في النَّهْي مِن غيرِ مُعارِضٍ لها، ولأنَّها إجارَةٌ بعِوَضٍ مَجْهُولٍ، فلم تَصحَّ؛ كإجارَتِها بثُلُثِ ما يَخْرُجُ مِن أرضٍ أُخْرَى. فأمّا نَصُّ أحمدَ في الجوازِ، فيَتَعَيَّنُ حَمْلُه على المُزارَعَةِ بلَفْظِ الإجارَةِ، فيكونُ حُكْمُها حُكْمَ المُزارَعَةِ فيما ذَكَرْنا مِن أحْكامِهما. وقد ذَكَرْنا ذلك في المُساقاةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الفقهاء».

باب الإجارة

بَابُ الإجَارَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الإِجارَةِ (*) الأصْلُ في جَوازِها الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقَوْلُه تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1). وقال تعالى: {قَالتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَويُّ الْأَمِينُ (26) قَال إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَينِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬2). ورَوَى ابنُ ماجه في «سُنَنِه» (¬3) عن عُتْبةَ بنِ النُّدَّرِ قال: كُنّا عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقَرَأ: {طسم} حتى إذا بَلغ قِصَّةَ موسى قال: «إنَّ مُوسَى عَلَيهِ السَّلَامُ أجَرَ نَفْسَه ثَمَانِيَ حِجَج، أوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ». وقال الله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْرًا} (¬4). وهذا يَدُلُّ على جَوازِ أخْذِ الأجْرِ على إقامةِ الجِدارِ. وأمَّا ¬

(*) بداية الجزء الخامس من نسخة تشستربيتي. (¬1) سورة الطلاق 6. (¬2) سورة القصص 26، 27. (¬3) في: باب إجارة الأجير على طعام بطنه، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 817. قال في الزوائد: إسناده ضعيف. (¬4) سورة الكهف 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّنَّةُ، فثَبَتَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[وأبا بَكْرٍ] (¬1)، اسْتَأجَرَا رجلًا مِن بَنِي الدِّيل هادِيًا خِرِّيتًا (¬2). وروَى البُخاريُّ (¬3) عن أبي هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَال الله عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثة أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أجرَهُ». وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ في كل عَصْرٍ على جوازِ الإِجارَةِ، إلَّا ما يُحْكَى عن عبدِ الرحمنِ بنِ الأصَمِّ (¬4)، أنَّه قال: لا يَجُوزُ ذلك؛ لأنَّه غَرَرٌ. يَعْنِي أنَّه يَعْقِدُ على مَنافِعَ لم تُخْلَقْ. وهذا غَلَطٌ لا يَمْنَعُ انْعِقادَ الإجْماعِ الذي سَبَق في الأعْصارِ وسائِرِ الأمْصارِ. والعِبْرَةُ أيضًا دالَّةٌ عليها؛ فإنَّ الحاجَةَ إلى المَنافِعِ كالحاجَةِ إلى الأعْيانِ، فَلمّا جاز العَقْدُ على الأعْيانِ، وَجَب أن تَجُوزَ الإجارَةُ على المَنافِعِ، ولا تَخْفَى حاجَةُ النّاسِ إلى ذلك،. فإنَّه ليس لكل أحدٍ دارٌ يَمْلِكُها، ولا يَقْدِرُ كلُّ ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 129. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 49. (¬4) عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أبو بكر شيخ المعتزلة، اشتهر بالكلام والأصول والفقه، توفي سنة إحدى ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 402.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسافِرٍ على بَعِيرٍ أو دابَّةٍ يَمْلِكُها، ولا يَلْزَمُ أصحابَ الأمْلاكِ إسْكانُهم وحَمْلُهم تَطَوُّعًا، وكذلك أصحابُ الصَّنائعِ يَعْمَلُون بأجْر، ولا يُمْكِنُ كلَّ أحَدٍ عَمَلُ ذلك، ولا يَجِدُ مُتَطَوِّعًا به، فلا بُدَّ مِن الإجارَةِ؛ لذلك، بل ذلك ممّا جَعَلَه الله تعالى طَرِيقًا إلى الرِّزْقِ، حتى إنَّ أكْثَرَ المَكاسبِ بالصَّنائِعِ. وما ذَكَرَه (¬1) مِن الغَرَرِ، لا يُلْتَفَتُ إليه مع ما ذَكَرْنا مِن الحاجَةِ، فإنَّ العَقْدَ على المَنافِعِ لا يُمْكِنُ بعدَ وُجُودِها؛ لأنَّها تَتْلَفُ بمُضِيِّ الأوْقاتِ، فاحْتِيجَ إلى العَقْدِ عليها قبلَ وُجُودِها، كالسَّلَمِ في الأعْيانِ. واشْتِقاقُ الإجارَةِ مِن الأجْرِ، وهو العِوَضُ، قال الله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْرًا}. ومنه سُمِّيَ الثَّوابُ أجْرًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُعَوِّضُ العَبْدَ به على طاعَتِه أو صَبْرِه على مُصِيبَتِه. ¬

(¬1) في الأصل: «ذكروه».

2143 - مسألة: (وهي عقد على المنافع، تنعقد بلفظ الإجارة، والكراء، وما في معناهما، وفي لفظ البيع وجهان)

وَهِيَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الإجارَةِ، وَالْكِرَاءِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَفِي لَفْظِ الْبَيعِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2143 - مسألة: (وهي عَقْدٌ على المَنافِعِ، تَنْعَقِدُ بلَفْظِ الإجارَةِ، والكِرَاءِ، وما في مَعْناهما، وفي لَفْظِ البَيعِ وَجْهَان) الإجارَةُ عَقْدٌ على المَنافِعِ في قَولِ أكثَرِ العُلَماءِ؛ منهم أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وأكثرُ الشافعيَّةِ. وذَكَر بعضُهم أنَّ المَعْقُودَ عليه العَينُ؛ لأنها المَوْجُودَةُ، والعَقْدُ يُضافُ إليها، فيقولُ: أجَرْتُكَ دارِي. ولَنا، أنّ المَعْقُودَ عليه هو المُسْتَوْفَى بالعَقْدِ، وذلك هو المَنافِعُ دُونَ الأعْيانِ، ولأنّ الأجْرَ في مُقابَلَةِ المَنْفَعَةِ، ولهذا تُضْمَنُ دُونَ العَينِ، وما كان العِوَضُ في مُقابَلَتِه، فهو المَعْقُودُ عليه، وإنَّما أضِيفَ العَقْدُ إلى العَينِ؛ لأنَّها مَحَلُّ المَنْفَعَةِ [ومَنشَؤُها] (¬1)، وكما يُضافُ عَقْدُ المُساقاةِ إلى البُسْتانِ، والمَعْقُودُ عليه الثَّمرَةُ. ولو قال: أجَرْتُك مَنْفَعَةَ دارِي. جازَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهي نوعٌ مِن البَيعِ؛ لأنَّها تَمْلِيكٌ مِن كلِّ واحِدٍ منهما لصاحِبِه، فهي بَيعُ المَنافِعِ، والمَنافِعُ كالأعْيانِ؛ لأنها يَصِحُّ تَمْلِيكُها في الحياةِ وبعدَ المَوْتِ، وتُضْمَنُ باليَدِ والإتْلافِ، [وتكونُ عِوَضًا] (¬1) عَينًا ودَيْنًا. وإنَّما اخْتَصَّتْ باسْمٍ، كالصَّرْفِ، والسَّلَمِ، مع كَوْنِه بَيعًا. فعلى هذا، تَنْعَقِدُ بلَفْظِ الإجارَةِ، والكِراءِ؛ لأنَّهما مَوْضُوعانِ لها. وكذلك كلُّ ما يُؤَدِّي مَعْناهما؛ لحُصُول المَقْصُودِ به. وهل تَنْعَقِدُ بلَفظِ البَيعِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تنْعَقِدُ به؛ لأنها بَيعٌ، فانْعَقَدتْ بلَفْظِه، كالصَّرْفِ. والثاني، لا تَنْعَقِدُ به لأنَّ فيها مَعْنًى خاصًّا، فافْتَقَرتْ إلى لَفْظٍ يَدُلُّ على ذلك المَعْنَى، ولأنَّ الإجارَةَ تُضافُ إلى العَينِ التي يُضافُ إليها البَيعُ إضافَةً واحِدَةً، فاحْتِيجَ إلى لَفْظٍ يُعَرِّفُ ويُفَرِّقُ بينَهما، كالعُقُودِ المُتَبايِنَةِ. ولأنَّه عَقْدٌ يُخالِفُ البَيعَ في الحُكْمِ والاسْمِ، أشْبَهَ النِّكاحَ. فصل: ولا تَصِحُّ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه عَقْدُ تَمْليكٍ في الحَياةِ، أشْبَهَ البَيعَ. ¬

(¬1) في ر، ق: «ويكون عوضها».

2144 - مسألة: (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة؛ أحدها، معرفة المنفعة، إما بالعرف، كسكنى الدار شهرا، وخدمة العبد سنة، وإما

وَلَا تَصِحُّ إلا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ، أحَدُهَا، مَعْرِفَةُ الْمَنْفَعَةِ، إمَّا بِالْعُرْفِ، كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وخِدْمَةِ الْعَبْدِ سَنَةً، وَإمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ 2144 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلَّا بشُرُوطٍ ثَلاثةٍ؛ أحَدُها، مَعْرِفةُ المَنْفَعَةِ، إمّا بالعُرْفِ، كسُكْنَى الدّارِ شَهْرًا، وخِدْمةِ العَبْدِ سَنَةً، وإمّا

بِالْوَصْفِ كَحَمْلِ زُبْرَةِ حَدِيدٍ وَزْنُهَا كَذَا إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَبِنَاءِ حَائِطٍ يَذْكُرُ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَسُمْكَهُ وَآلتَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالوَصْفِ، كحَمْلِ زُبْرَةِ حَدِيدٍ وَزْنُها كذا إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أو بناءِ حائِطٍ يَذْكُرُ طُولَه وعَرْضَه وسُمْكَه وآلتَه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه لا بُدَّ مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْرِفَةِ المَنْفَعةِ في الإجارَةِ؛ لأنَّها المَعْقُودُ عليها، فاشْتُرِط العِلْمُ بها، كالمَبِيعِ، فإنَّ مَعْرِفَتَه شَرْط في صِحَّةِ البَيعِ، فكذلك مَعْرِفَةُ المَنْفَعَةِ في الإجارَةِ، فإنَّ بَيعَ المَجْهولِ لا يَصِحُّ إجْماعًا. فإن كان لها عُرْفٌ، كسكْنَى الدّارِ شَهْرًا، لم يحْتَجْ إلى ذِكْرِها، لأنَّها لا تُكْتَرَى إلَّا لذلك، فاسْتُغْنِيَ عن ذِكْرها، كالبَيعِ بثَمَنٍ مُطْلَقٍ في مَوضِعٍ فيه نَقْدٌ مَعْرُوفٌ. وخِدْمةُ العَبْدِ سَنَةٌ، كسُكْنَى الدّارِ؛ لأَنها مَعْلُومَة بالعُرْفِ. فأمّا إنِ اكْتَرَى لحَمْلِ زُبْرةِ حَدِيدٍ إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّن، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ الوَزْنِ هاهُنا والمَكانِ الذي تُحْمَلُ إليه؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ إنَّما تُعْرَفُ بذلك.

2145 - مسألة: (أو بناء حائط يذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته، وإجارة أرض معينة لزرع كذا، أو غرس، أو بناء معلوم)

وَإجَارَةِ أرْضٍ مُعَينَّةٍ لِزَرْعِ كَذَا، أوْ غَرْسٍ، أوْ بِنَاءٍ مَعْلُومٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2145 - مسألة: (أو بناءِ حائِطٍ يَذْكُرُ طُولَه وعَرْضَه وسُمْكَه وآلتَه، وإجارةِ أرْضٍ مُعَيَّنةٍ لزَرْعِ كذا، أو غَرْسٍ، أو بناءٍ مَعْلُومٍ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يَجُوزُ الاسْتِئْجار للبناءِ، ويُقَدَّرُ بالزَّمانِ والعَمَلِ، فإن قُدِّرَ بالعَمَلِ، فلا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ مَوْضِعِه؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ بقُرْبِ الماءِ وسُهُولَةِ التُّرابِ، ولابدَّ مِن ذِكْرِ طُولِه وعَرْضِه وسُمْكِه , وآلةِ البِناءِ مِن طِينٍ أو لَبِنٍ أو آجُرٍ أو حِجَارَةٍ أو شِيدٍ (¬1)، أو غيرِ ذلك. قال ابنُ أبي موسى: وإذا اسْتَأجَرَهُ لبِناءِ ألْفِ لَبِنَةٍ في جِدارٍ، أو اسْتَأجَرَه يَبْنِي له فيه يَوْمًا، فعَمِلَ ما اسْتُؤْجِرَ عليه، ثم سَقَط الحائِطُ، فله أجْرُه؛ لأنَّه وَفى العَمَلَ. فإن قال: ارْفَعْ لي هذا الحائِطَ عَشَرَةَ أذْرُعٍ. فرَفَعَ بعضَه، فسَقَطَ، فعليه إعادَةُ ما سَقَطَ، وإتْمامُ ما وَقَعَتْ عليه الإجارَةُ مِن الذَّرْعِ. وهذا إذا لم يكنْ سُقُوطُه في الأوَّلِ لأمْرٍ مِن جِهَةِ العامِلِ، فأمّا إن فَرَّطَ، أو بَناه مَحْلولًا، أو نحْوَ ذلك، فسَقَطَ، فعليه إعادَتُه وغَرامَةُ ما تَلِف منه (¬2). ¬

(¬1) الشيد: ما يطلى به الحائط من جص ونحوه. (¬2) في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ الاسْتِئْجارُ لتَطْيِينِ السُّطُوحِ والحِيطانِ وتَجْصِيصِها. ولا يَجُوزُ على عَمَلٍ مُعَيَّنٍ؛ لأن الطِّينَ يَختَلِفُ في الرِّقَّةِ والغِلَظِ، والأرضَ تَخْتَلفُ، منها العالي والنّازِل، وكذلك الحِيطان، فلذلك لم يَجُزْ إلَّا على مُدَّةٍ. فصل: وإذا اسْتَأجَرَ دارًا، جاز إطْلاقُ العَقْدِ، ولم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ السُّكْنَى، ولا صِفَتِها؛ لِما ذَكَرْنا. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَجُوزُ حتى يقولَ: أبِيتُ تَحتَها أنا وعِيَالِي؛ لأنَّ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ، ولو اكْتَراها ليَسْكُنَها، فتَزَوَّجَ امرأةً، لم يَكُنْ له أن يُسْكِنَها معه. ولَنا، أنَّ الدّارَ لا تُكْتَرى إلَّا للسُّكْنَى، فاسْتُغْنِيَ عن ذِكْرِه، كإطْلاقِ الثَّمَنِ في بَلَدٍ فيه نَقْدٌ مَعْرُوفٌ، والتَّفاوُتُ في السُّكْنَى يَسِيرٌ، فلم يَحْتَجْ إلى ضَبْطِه؛ لِما ذَكَرْنا. وما ذَكَره (¬1) لا يَصِحُّ؛ فإن الضَّرَرَ لا يَكادُ يَخْتَلِفُ بكَثْرَةِ مَن يَسْكُنُ وقِلَّتِهم، ولا يُمْكِنُ ضبْطُ ذلك، فاجْتُزِئ فيه بالعُرْفِ، كما في دُخُولِ الحَمّامِ وشِبْهِهِ، ولو اشْتُرِط ما ذَكَرَه، لوَجَبَ أن يَذْكُرَ عَدَدَ السُّكّانِ، وأن لا يَبِيتَ عندَه ضَيفٌ، ولا غيرُ مَن ذَكَرَه، ولكان يَنْبَغي أن يَعْلَمَ صِفَةَ السّاكِنِ كما يَعْلَمُ ذلك فيما إذا اكْترَى للرُّكُوبِ. ¬

(¬1) في م: «ذكروه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في إباحَةِ إجارَةِ العَقَارِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، على أنَّ اسْتِئْجارَ المَنازِلِ والدَّوابِّ جائزٌ. وقد ذَكَرْنا أنّه يَجُوزُ الاسْتِئْجارُ للخِدْمَةِ كلَّ شَهْر بشيءٍ مَعْلُوم، وسَواء كان الأجِيرُ رجلًا أو امرأةً، حُرًّا أو عَبْدًا. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ؛ لأنَّه تَجُوزُ النِّيابةُ فيه، ولا يَخْتَصُّ فاعِلُه بكَوْنِه مِن أهلِ القُرْبَةِ. قال أحمد: أجِيرُ المُشاهَرةِ يَشْهَدُ الأعيادَ والجُمُعَةَ، وإن لم يَشْتَرِطْ ذلك. قِيلَ له: فيَتَطَوَّعُ بالرَّكْعَتَين؟ قال: ما لم يَضُرَّ بصاحِبِه. وإنَّما أباح له ذلك؛ لأنَّ أوْقاتَ الصلاةِ مُسْتَثْناة مِن الخِدْمَةِ، ولهذا وَقَعَتْ مُسْتَثْناةً في حَقِّ المُعْتَكِفِ لتَرْكِ مُعْتَكَفِه لها. وقال ابنُ المُبارَكِ: لا بَأسَ أن يُصَلِّيَ الأجيرُ رَكَعاتٍ مِنَ السُّنَّةِ. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: ليس له مَنْعُه منها. قال أحمدُ: يَجُوزُ أن يَسْتَأجِرَ الأمَةَ والحُرَّةَ للخِدْمَةِ، ولكنْ يَصْرِفُ وَجْهَه عن النَّظَرِ، ليستِ الأمَةُ مثلَ الحُرَّةِ، ولا يَخْلُو معها في بَيتٍ، ولا يَنْظُرُ إليها مُتَجَرِّدَةً، ولا إلى شَعَرِها. إنما قال ذلك، لأنَّ حُكْمَ النَّظَرِ بعدَ الإجارَةِ كحُكْمِه قبلَها، وفَرَّق بينَ الحُرَّةِ والأمَةِ؛ لأنَّهما يَخْتَلِفان قبلَ الإجارَةِ، فكذلك بعدَها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اسْتَأجَر أرْضًا، احْتاج إلى ذِكْرِ ما تُكْتَرَى له مِن غِراس أو بناءٍ أو زَرْعٍ؛ لأنَّها تُكْتَرَى لذلك كُلِّه، وضَرَرُه يَخْتَلِفُ، فوَجَبَ بَيانُه، وفي إجارَةِ الأرْضِ للزَّرْعِ اخْتِلافٌ ذَكَرْناه في بابِ المُساقاةِ. فصل: ويَجُوزُ الاسْتِئْجارُ لضَرْبِ اللَّبِنِ؛ لِما ذَكَرْنا، ويكونُ على مُدَّةٍ أو عَمَلٍ، فإن قَدَّرَه بالعملِ، احْتاج إلى تَعْيينِ عَدَدِه، وذِكْرِ قالبِه، ومَوْضِعِ الضَّرْبِ؛ لأنَّ الأرْضَ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِه، لكَوْنِ التُّرابِ في بعضِ الأماكِنِ أسْهَلَ، والماءِ أقْرَبَ. فإن كان هناك قالبٌ مَعْرُوفٌ لا يَخْتَلِفُ، جاز، كما إذا كان المِكْيالُ مَعْرُوفًا. وإن قَدَّرَهُ بالطُّولِ والعَرْضِ والسُّمْكِ، جاز، ولا يَكْتَفِي بمُشاهَدَةِ قالبِ الضَّرْبِ إذا لم يَكُنْ مَعْرُوفًا؛ لأنَّ فيه غَرَرًا، وقد يَتْلَفُ القالبُ، فلا يَصِحُّ، كما لو أسْلَم في مِكْيالٍ بِعَينه.

2146 - مسألة: (وإن استأجر للركوب، ذكر المركوب، فرسا أو بعيرا أو نحوه)

وَإذَا اسْتَأجَرَ لِلرُّكُوبِ، ذَكَرَ الْمَرْكُوبَ، فَرَسًا أوْ بَعِيرًا أوْ نَحْوَه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2146 - مسألة: (وإنِ اسْتَأجَر للرُّكُوبِ، ذَكَر المَرْكُوبَ، فَرَسًا أو بَعِيرًا أو نحوَه) لأنَّ مَنافِعَها تَخْتَلِفُ. وتُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُه برؤيَةٍ أو صِفَةٍ؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه بهما، وذِكْرُ المُهَمْلَجِ والقَطُوفِ (¬1)؛ لأن سَيرَهُما يَخْتَلِفُ، ومَعْرِفةُ ما يُرْكَبُ به مِن سَرْجٍ أو غيرِه؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ ¬

(¬1) المهملج: ما ذَلُلَ وسَلِسَ قِيادُه من الدواب. والقطوف: التي تسئ السير وتبطئ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرُّكُوبِ والرّاكِبِ. ولا يَحْتَاجُ إلى ذِكْرِ الذُّكورِيَّةِ والأُنوثِيَّةِ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ بينَهما يَسِيرٌ. وقال القاضي: يَفتَقِرُ؛ لتَفاوُتِهما. ولا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ الرّاكِبِ برُؤيَةٍ أو صِفَةٍ. ذَكَره الخِرَقِيُّ. وقال الشَّرِيفُ: لا يُجْزِئُ فيه إلَّا بالرُّؤيَةِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لا تَأتِي عليه. ولا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ المَحامِلِ والأوْطِئَةِ والأغْطِيَةِ والمَعالِيقِ، كالقِدْرِ والسَّطيحَةِ (¬1) ونحوهما، إمَّا برُؤيَةٍ أو صِفَةٍ أو وَزْنٍ. ¬

(¬1) في م: «والسطحة». والسطيحة: المزادة تكون من جلدين لا غير.

2147 - مسألة: (فإن كان للحمل، لم يحتج إلى ذكره)

فَإنْ كَانَ لِلْحَمْلِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2147 - مسألة: (فإن كان للحَمْلِ، لم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِه) لعَدَمِ الغَرَضِ في مَعْرِفَتِه. فإن اتفَقَ وُجُودُ غَرَضٍ في الحُمُولةِ، مثلَ أن يكون المَحْمُولُ شيئًا تَضُرُّه كثرةُ الحَرَكَةِ، كالفاكِهَةِ والزُّجاجِ، أو كَوْنِ الطرِيقِ ممّا يَعْسُرُ على بعضِها دُونَ بعضٍ، فيَنْبَغِي أن يَذْكُرَه في الإجارَةِ، ذَكَرَه شيخُنا (¬1). وتُشْتَرَطُ مَعْرِفةُ المَتاعِ برُؤيَةٍ أو صِفَةٍ، ويَذْكُرُ جِنْسَه ¬

(¬1) في: المغني 8/ 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حَدِيدٍ أو قُطْنٍ أو نحوه؛ لأنَّ ضَرَرَه يَخْتَلِفُ، وقَدْرَه بالوَزْنِ إن كان مَوْزُونًا، أو بالكَيلِ إن كان مَكِيلًا؛ لأنَّ البَيعَ يَصِحُّ بكلا الأمْرَين، ويَحْصُلُ بالمُشاهَدَةِ؛ لأنَّها مِن أعْلَى طُرُقِ العِلْمِ، والصِّفَةِ إذا ذَكَر القَدْرَ والجِنْسَ. وذَكَرَ ابنُ عَقِيلٍ أنَّه إذا قال: أجَرْتُكَها لتَحْمِلَ عليها ثَلاثمائةِ رَطْلٍ ممّا شِئْتَ. جاز، ومَلَك ذلك، لكنْ لا يُحَمِّلُه حِمْلًا يَضُرُّ بالحَيوانِ. فلو أراد حَمْلَ حَدِيدٍ أو زِئْبَقٍ، يَنْبَغِي أن يُفَرِّقَه على ظَهْرِ الحَيوانِ، فلا يَجْتَمِعُ في مَوْضِعٍ واحدٍ مِن ظَهْرِه، ولا يَجْعَلُه في وعاءٍ يَمُوجُ فيه فيَكُدُّ البَهِيمةَ ويُتْعِبُها. وإنِ اكْتَرَى ظَهْرًا للحَمْلِ مَوْصُوفًا بجِنْسٍ، فأرادَ حَمْلَه على غيرِ ذلك الجِنْس، وكان الطّالِبَ لذلك المُسْتَأجِرُ، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ المُطالبَةَ بما لم يَعْقِدْ عليه. وإن طَلَبَه المُؤْجِرُ، وكان يَفُوتُ به غَرَضُ المُسْتَأجِرِ، مثلَ أن يكونَ غَرَضُه الاسْتِعْجال (¬1) في السَّيرِ، أو أن لا يَنْقَطِعَ عن القافِلَةِ، فيُعَيِّنُ الخَيلَ أو البغال، أو يكونَ غَرَضُه السُّكُونَ؛ لكَوْنِ المَحْمُولِ ممّا يَضُرُّهُ الهَزُّ، أو قُوَّتَها وصَبْرَها؛ لطُولِ الطرِيقِ وثِقَلِ الحُمُولَةِ، فيُعَيِّنُ الإبِلَ، لم يَجُزِ ¬

(¬1) في ر، ق: «الاستعمال».

فَصْلٌ: وَالثَّانِي، مَعْرِفَةُ الأجْرَةِ بِمَا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ العُدُولُ عنه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ غَرَضَ المُسْتَأجِرِ، فلم يَجُزْ ذلك كما في المَرْكُوبِ. وإن لم يُفَوِّتْ غَرَضًا، جاز، كما يجوزُ لمَن اكْتَرَى على حَمْلِ شيءٍ حَمْلُ مِثلِه. فإنِ اكْتَرَى بَهِيمَةً لحَمْلِ ما شاء، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يَدْخُلُ فيه ما يَقْتُلُ البَهِيمَةَ، وكذلك إن شَرَط طاقَتَها؛ لأنه لا ضابِطَ له. فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (الثّانِي، مَعْرِفَةُ الأجْرَةِ بما يَحْصُلُ به مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ) قِياسًا عليه. ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وقد رُوِيَ عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنِ اسْتَأجَرَ أجِيرًا، فَلْيُعْلِمْهُ أجْرَهُ» (¬1). ويُعْتَبَرُ العِلْمُ بالرُّؤيَةِ أو بالصِّفَةِ، كالبَيعِ. فإن كان العِوَضُ مَعْلُومًا بالمُشاهَدَةِ دُونَ القَدْرِ، كالصُّبْرَةِ، جاز في أحَدِ الوَجْهَين، كالثَّمَنِ في البَيعِ. والثاني، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه قد يَنْفَسِخُ العَقْدُ بعدَ تَلَفِ الصُّبْرَةِ، فلا يَدْرِي بكم يَرْجِعُ، فاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِه، كعِوَضِ السَّلَمِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ، ثم الفَرْقُ بينَهما أنَّ المَنْفَعَةَ هاهُنا أُجْرِيَتْ مُجْرَى الأعْيانِ؛ لأنها مُتَعلِّقةٌ بعَينٍ حاضِرَةٍ، والسَّلَمُ يتَعَلَّقُ بمَعْدُومٍ، فافْتَرَقا. وللشافعيِّ نَحْوُ ما ذَكَرْنا في هذا الفَصْلِ. فصل: وكُلُّ ما جاز أن يكونَ ثَمَنًا في البَيعِ، جاز عِوَضًا في الإِجارَةِ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيعَ. ¬

(¬1) أخرجه النسائي، في: باب الثالث من الشروط فيه المزارعة والوثائق، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 29 بنحوه موقوفًا على أبي سعيد. والبيهقي، في: باب لا تجوز الإجارة حتى تكون معلومة. . . .، من كتاب الإجارة. سنن البيهقي 6/ 120، مرفوعًا. وابن أبي شيبة، في: باب من كره أن يستعمل الأجير حتى يبين له أجره، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 303، موقوفًا على أبي هريرة وأبي سعيد.

2148 - مسألة: (إلا أنه يجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر)

إلا أنَّهُ يَصِحُّ أن يَسْتَأجِرَ الأجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ. وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2148 - مسألة: (إلَّا أنَّه يجوزُ أن يَسْتَأجِرَ الأجِيرَ بطَعَامِه وكُسْوَتِه، وكذلك الظِّئْرُ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللهُ، في مَن اسْتَأجَرَ أجيرًا بطَعامِه وكُسْوَتِه، أو جَعَل له أجْرًا وشَرَط طَعامَه وكُسْوَتَه، فرُوىَ عنه جوازُ ذلك. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، وإسحاقَ. ورُوِيَ عن أبي بكر، وعُمَرَ، [وأبي موسى] (¬1)، رَضِيَ الله عنهم، أنَّهم اسْتَأجَرُوا الأجَراءَ بطَعامِهم وكُسْوَتِهم. ورُوِيَ عنه، أنَّ ذلك جائِزٌ في الظِّئْرِ دُونَ غيرِها. اخْتارَه القاضي. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «وابن أبي موسى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ذلك مَجْهُولٌ، وإنَّما جازَ في الظِّئْرِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). أوْجَبَ لَهُنَّ النَّفَقَةَ والكُسْوَةَ على الرَّضاعِ، ولم يُفَرِّقْ بينَ المُطَلَّقَةِ وغيرِها، بل في الآيَةِ قَرينةٌ تَدُلُّ على طَلاقِها؛ لأنَّ الزَّوْجَةَ تَجِبُ نَفَقَتُها وكُسْوَتُها بالزَّوْجِيَّةِ وإن لم تُرْضِعْ، ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. والوارِثُ ليس بزوجٍ. ولأنَّ المَنْفَعَةَ في الرَّضاعِ والحَضانَةِ غيرُ مَعْلُومةٍ، فجاز أن يكونَ عِوَضُها كذلك. ورُوِيَ عنه رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّ ذلك لا يَجُوزُ بحالٍ، في الظِّئْرِ ولا في غيرِها. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ اخْتِلافًا كثيرًا مُتَبايِنًا، فيَكُون مَجْهُولًا، والأجْرُ مِن شَرْطِه أن يَكُونَ مَعْلُومًا. ولَنا، ما روَى ابنُ ماجه (¬2) عن عُتْبَةَ بنِ النُّدَّرِ، قال: كُنّا عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرأ: {طسم} حتى إذا بَلَغ قِصَّةَ موسى عليه السَّلامُ قال.: «إنَّ موسَى أجَرَ نَفْسَه ثَمَانِيَ سِنِينَ أوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ، وطَعَامِ بَطْنِه». وشَرْعُ ¬

(¬1) سورة البقرة 233. (¬2) في تش: «أحمد وابن ماجه». والحديث تقدم تخريجه عند ابن ماجه في صفحة 259. ولم نجده في مسند الإمام أحمد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن قبلَنا شَرْعٌ لَنا ما لم يَثْبُتْ نَسْخُه. وعن أبي هُرَيرَةَ أنَّه قال: كُنْتُ أجِيرًا لابنةِ غَزْوانَ بطعامِ بَطْنِي، وعُقْبَةِ رِجْلِي (¬1)، أحْطِبُ لهم إذا نَزَلُوا، وأحْدُو بهم إذا رَكِبُوا. رواه الأثْرَمُ، وابنُ ماجه (¬2). ولأنَّه فِعْلُ مَن ذَكَرْنا مِن الصَّحابَةِ، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، ولأنَّه قد ثَبَت في الظِّئرِ في الآيَةِ، فيَثْبُتُ في غيرِها بالقِياسِ عليها، ولأنَّه عِوَضُ مَنْفَعةٍ، فقام العُرْفُ فيه مَقامَ التَّسْمِيَةِ، كنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ. ولأنَّ للكُسْوَةِ عُرْفًا، وهي كُسْوَةُ الزَّوْجاتِ، وللإطْعامِ عُرْفٌ، وهو الإطْعامُ في الكَفّاراتِ، فجاز إطْلاقُه، كنَقْدِ البَلَدِ. ونَخُصُّ أبا حَنِيفةَ بأنَّ ما جاز عِوَضًا في الرَّضاعِ، جاز في الخِدْمَةِ، كالأثْمانِ. إذا ثَبَت هذا، وتَشاحّا في مِقْدارِ الطعامِ والكُسْوةِ، رَجَع في القُوتِ إلى الإطْعامِ في الكَفّارَةِ، وفي الكُسْوَةِ (¬3) إلى أقَل مَلْبُوسِ مثلِه؛ لأنَّ الإِطْلاقَ (¬4) يُجْزِء فيه أقَلُّ ما يَتَناوَلُه اللَّفْظُ، كالوَصِيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على المَلْبُوسِ في الكَفّارَةِ، كالمَطْعُومِ. قال أحمدُ: إذا تَشاحّا في الطَّعامِ حُكِم بمُدٍّ كُلَّ يَوْمٍ. ذَهَب به إلى ظاهِرِ ما أمَرَ الله تعالى مِن إطْعامِ ¬

(¬1) أي للنوبة من الركوب. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب إجارة الأجير على طعام بطنه، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 817. في الزوائد: إسناده صحيح. (¬3) في م: «الملبوس». (¬4) بعده في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَساكِينِ، ففَسَّرَتْ ذلك السُّنَّةُ بأَنه مُدٌّ لكُلِّ مِسْكِين. ولأنَّ الإِطْعامَ مُطْلَقٌ في المَوْضِعَين، فما فُسِّرَ به أحَدُهما يُفَسَّرُ به الآخَرُ. وليس له إطْعامُ الأجِيرِ إلَّا ما يُوافِقُه مِن الأغْذِيةِ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا، ولا يُمْكِنُه اسْتِيفاءُ الواجِبِ له منه. فصل: فإن شَرَط الأجِيرُ كُسْوَةً ونَفَقَةً مَعْلُومة مَوْصُوفَةً، كصِفَتِها في السَّلَمِ، جاز عندَ الجميعِ، وإن لم يَشْرُطْ طَعامًا ولا كُسْوَةً، فنَفَقَتُه وكُسْوَتُه على نَفْسِه، وكذلك الظِّئرُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ عن أحَدٍ خِلافًا فيما ذَكَرْتُ. وإن شَرَط للأجِيرِ طَعامَ غيرِه وكُسْوَتَه مَوْصُوفًا، جاز؛ لأنَّه مَعْلُومٌ، فهو كما لو شَرَط دَراهِمَ مَعْلُومَةً، ويَكُونُ ذلك للأجِيرِ، إن شاء أطْعَمَه، وإن شاء تَرَكَه. وإن لم يَكُنْ مَوْصُوفًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ ذلك مَجْهُولٌ، احْتَمَلَ فيما إذا شَرَطَه للأجِيرِ للحاجةِ إليه وجَرْيِ العادَةِ به، فلا يَلْزَمُ احْتِمالُها مع عَدَمِ ذلك. ولو اسْتَأجَرَ دابَّةً بعَلَفِها، أو بأجْرٍ مُسَمَّى وعَلَفِها، لم يَجُزْ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ، ولا عُرْفَ له يَرْجِعُ إليه، ولا نَعْلَمُ أحدًا قال بجَوازِه، إلَّا أن يَشْتَرِطَه مَوْصُوفًا، فيَجُوزُ. فصل: فإنِ اسْتَغْنَى الأجِيرُ عن طَعامِ المُسْتَأجِرِ بطَعامِ نَفْسِه أو غيرِه، أو عَجَز عن الأكْلِ لمَرَضٍ أو غيرِه، لم تَسْقُطْ نَفَقتُه، وكان له المُطالبَةُ بها؛ لأنَّها عِوَضٌ، فلا تَسْقُطُ بالغِنَى عنه، كالدَّراهِمِ. وإنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتاجَ إلى دَواءٍ لمَرَضِه، لم يَلْزَمِ المُسْتَأجِرَ؛ لأنَّه لم يَشْرُطْ له إلَّا طَعامَ الأصِحّاءِ، لكنْ يَلْزَمُه بقَدْرِ طَعام الصَّحِيحِ؛ لأنَّ ما زاد على ذلك لم يَقَعِ العَقْدُ عليه، فلم يَلْزَمْ، كالزَّائِدِ في القَدْرِ. فصل: فإن قَبَضَ الأجيرُ طَعامَه، فأحَبَّ أن يَسْتَفْضِلَ بعضَه لنَفْسِه، وكان المُؤجِرُ دَفَع إليه أكْثَرَ مِن الواجِبِ له ليَأكُلَ منه قَدْرَ حاجَتِه ويُفْضِلَ الباقيَ، أو كان في تَرْكِه لأكْلِه كُلِّه ضَرَرٌ على المُؤْجِرِ، بأن يَضْعُفَ عن العَمَلِ، أو يَقِلَّ لَبَنُ (¬1) الظِّئْرِ، مُنِع منه؛ لأنَّه في الصُّورَةِ الأولَى لم يُمَلِّكْه، وإنَّما أباحَه قَدْرَ حاجَتِه. وفي الثانيةِ على المُؤْجِرِ ضَرَرٌ بتَفويتِ بعضِ مَنْفَعَتِه عليه، فمُنِع منه، كالجَمّالِ إذا امْتَنَعَ مِن عَلْفِ الجِمالِ. وإن دَفَع إليه قَدْرَ الواجِبِ فَقَط أو أكثرَ منه، فمَلَّكَه إيّاه، ولم يكنْ في تَفْضِيله لبعضِه ضَرَرٌ بالمُؤْجِرِ، جاز؛ لأنَّه [حَقٌّ لا ضَرَرَ] (¬2) فيه على المُؤْجِرِ، أشْبَهَ الدَّراهِمَ. ¬

(¬1) في م: «لأن». (¬2) في م: «ضرر لاحق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَدَّمَ إليه طَعامًا فنُهِبَ أو تَلِف قبلَ أكْلِه، وكان على مائِدةٍ لا يَخُصُّه فيها بطَعامِه، فهو مِن ضَمانِ المُسْتَأجِرِ؛ لكَوْنِه لم يُسَلِّمْه إليه. وإن خَصَّه بذلك وسَلَّمَه إليه، فهو مِن [ضَمانِ الأجِيرِ] (¬1)؛ لأنَّه تَسَلَّمَ عِوَضَه على وَجْهِ التَّمليكِ، أشْبَهَ البَيعَ. فصل: قال أحمدُ في رِوايةِ مُهَنّا: لا بَأسَ أن يَحْصُدَ الزَّرْعَ، ويَصْرِمَ النَّخْلَ، بسُدْسِ ما يَخرُجُ منه، وهو أحَبُّ إليَّ مِن المُقاطَعَةِ. إنَّما جاز هاهُنا؛ لأنَّه مَعْلُومٌ بالمُشاهَدَةِ، وهي أعْلَى طُرُقِ العِلْمِ، ومَن عَلِم شيئًا عَلِم جُزْءَه المُشاعَ، فيكونُ أجْرًا مَعْلُومًا. واختارَه على المُقاطَعَةِ معَ جَوازِها (¬2)؛ لأنَّه رُبَّما لم (¬3) يَخْرُجْ مِن الزَّرْعِ مثلُ الذي قاطَعَ عليه، وهاهُنا هو أقَلُّ منه يَقِينًا. فصل: يَجُوزُ اسْتِئْجارُ الظِّئْرِ بطَعامِها وكُسْوَتِها، وفيه خِلافٌ ذَكَرْناه. وقد أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على اسْتِئْجارِ الظِّئْرِ، وهي المُرْضعَةُ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬4). واسْتَرْضَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لوَلَدِه إبراهيمَ (¬5). ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه أكْثَرَ مِن الحاجَةِ إلى غيرِه، فإنَّ الطِّفْلَ في العادَةِ إنَّما يَعِيشُ بالرَّضاعِ، وقد يَتَعَذَّرُ ¬

(¬1) في م: «مال الأجير»، وفي الأصل: «ضمان الأجير لأجير». (¬2) في م: «وجودها». (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة الطلاق 6. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال. . . .، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1808.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضاعُه مِن أُمِّه، فجاز ذلك، كالإجارَةِ في سائرِ المَنافِعِ. فإنِ اسْتَأجَرَها للرَّضاعِ دُونَ الحَضانَةِ، أو للحضانَةِ دُونَ الرَّضاعِ، أو لَهما، جازَ. وإن أطْلَقَ العَقْدَ على الرَّضاعِ، دَخَلَتْ فيه الحَضانةُ في أحدِ الوَجْهَينِ. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأي؛ لأنَّ العُرْفَ جارٍ بأنَّ المُرْضِعَةَ تَحْضُنُ الصَّبِيَّ، فَحُمِلَ (¬1) الإطْلاقُ عليه. والثاني، لا تَدْخُلُ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ العَقْدَ ما تَناوَلَها. ولأصْحابِ الشافعيِّ كهذين الوَجْهَينِ. والحَضانَةُ: تَرْبِيةُ الصَّبِيِّ وحِفْظُه وجَعْلُه في سَرِيرِه، ورَبْطُه، ودَهْنُه، وكَحْلُه، وتَنْظِيفُه، وغَسْلُ خِرَقِه، وأشْباهُ ذلك. واشْتِقاقُه مِن الحِضْنِ، وهو ما تحتَ الإِبطِ وما يَلِيه. وسُمِّيَتِ التَّرْبِيةُ حَضانةً تَجَوُّزًا مِن حَضانَةِ الطَّيرِ لبَيضِه وفِراخِه؛ لأنَّه يَجْعَلُها تحتَ جَناحِه، فَسُمِّيَتْ تَرْبِيةُ الصَّبِيِّ بذلك أخْذًا مِن فِعْلِ الطّائِرِ. فصل: ولهذا العَقْدِ أرْبَعةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، العِلْمُ بمُدَّةِ الرَّضاعَةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَقْدِيرُه إلَّا بِها؛ لأنَّ السَّقْيَ والعَمَلَ فيها يَخْتَلِفُ. الثاني، مَعْرِفةُ الصَّبِيِّ بالمُشاهَدَةِ؟ لأنَّ الرَّضاعَ يَخْتَلِفُ بكِبَرِ الصَّبِيِّ وصِغَرِه، ونَهْمَتِه وقَناعَتِه. وقال القاضي: يُعْرَفُ بالصِّفَةِ، كالرَّاكِبِ. الثالثُ، مَوْضِعُ الرَّضاعِ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ، فيَشُقُّ عليها في بَيته، ويَسْهُلُ في بَيتها. الرابعُ، مَعْرِفة العِوَضِ؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمَعْقُودُ عليه في الرَّضاعِ خِدْمَةُ الصَبِيِّ وحَمْلُه ووَضْعُ الثَّدْيِ في فِيه، واللَّبَنُ تَبَعٌ، كالصِّبْغِ في إجارَةِ الصَّبّاغِ، وماءِ البِئْرِ في الدّارِ؛ لأنَّ اللَّبَنَ عَينٌ، فلا يُعْقَدُ عليه في الإِجارَةِ، كلَبَنِ غيرِ الآدَمِيِّ. وقِيلَ: هو اللَّبَنُ. قال القاضي: وهو أشْبَهُ؛ لأنَّه المَقْصُودُ دُونَ الخِدْمَةِ، ولهذا لو أرْضَعَتْه ولم تَخْدُمْه، اسْتَحَقَّتِ الأجْرَةَ، ولو خَدَمَتْه ولم تُرْضِعْه، لم تَسْتَحِقَّ شيئًا، ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. فجَعَلَ الأجْرَ مُرَتَّبًا على الإِرْضاعِ، فيَدُلُّ على أنَّه المَعْقُودُ عليه. ولأنَّ العَقْدَ لو كان على الخِدْمةِ، لَما لَزِمها سَقْيُه لَبَنَها، وإنَّما جازَ العَقْدُ عليه مع كَوْنِه عَينًا رُخْصَةً؛ لأنَّ غيرَه لا يَقُومُ مَقَامَه، والضَّرُورَةُ تَدْعُو إلى اسْتِيفائِه. وإنَّما جازَ في الآدَمِيِّينَ دُونَ سائِرِ الحَيَوانِ؛ للضَّرُورَةِ إلى حِفْظِ الآدَمِيِّ، والحاجةِ إلى إبْقائِه. فصل: وعلى المُرْضِعَةِ أن تَأكُلَ وتَشْرَبَ ما يُدِرُّ لَبَنَها، ويَصْلُحُ به، وللمُكْتَرِي مُطالبَتُها بذلك؛ لأنَّه مِن تَمامِ التَّمْكِينِ مِن الرَّضاعِ، وفي تَرْكِه إضْرارٌ بالصَّبِيِّ. فإن لم تُرْضِعْه، لكِنْ سَقَتْه لَبَنَ الغَنَمِ، أو أطْعَمَتْه، فلا أجْرَ لها؛ لأنَّها لم تُوَفِّ المَعْقُودَ عليه، أشْبَهَ ما لو اسْتَأجَرَها لخِياطَةِ ثَوْبٍ، فلم تَخِطْه. وإن دَفَعَتْه إلى خادِمِها فأرْضَعَتْه، فكذلك. وبه قال أبو ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأي (¬1): لها أجْرُها؛ لأنَّ رَضاعَه حَصَل بفِعْلِها. ولَنا، أنَّها لم تُرْضِعْه، أشْبَهَ ما لو سَقَتْه لَبَنَ الغَنَمِ، فإن قالت: ¬

(¬1) سقط من: م.

2149 - مسألة: (ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو وليدة، إذا كان المسترضع موسرا)

وَيُسْتَحَبُّ أن تُعْطىَ عِنْدَ الْفِطَامِ عَبْدًا أوْ وَلِيدَةً، إِذَا كَانَ الْمُسْتَرْضِعُ مُوسِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْضَعْتُه. فأنْكَرَ المُسْتَرْضِعُ، فالقولُ قَوْلُها؛ لأنَّها مُؤْتَمَنَة. 2149 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن تُعْطَى عندَ الفِطامِ عَبْدًا أو وَلِيدَةً، إذا كان المُسْتَرْضِعُ مُوسِرًا) لِما روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، عن هِشام بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن حَجّاجِ بنِ حَجّاجٍ الأسْلَمِيِّ، عن أبيه، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يُذهِبُ عَنِّي مَذمَّةَ الرَّضاعِ؟ قال: «الغُرَّةُ؛ الْعَبْدُ (¬2) أو الأمَةُ». قال الترْمِذِيُّ: حديثٌ حسن صَحيحٌ. المَذِمَّةُ بكَسْرِ الذّالِ، مِن الذِّمامِ، وبفَتْحِها مِن الذَّم. قال ابنُ عَقِيل: إنَّما خَصَّ الرَّقَبَةَ بالمُجازاةِ دُونَ غيرِها؛ لأنَّ فِعْلَها مِن الرَّضاعَةِ والحضانةِ سَبَبُ حَياةِ الوَلَدِ وبَقائِه وحِفْظِ رَقَبَتِه، فاسْتُحِبَّ جَعْلُ الجَزاءِ هِبَتَها ¬

(¬1) في: باب في الرضخ عند الفصال، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 476. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء ما يذهب مذمة الرضاع، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 98. والنسائي، في: باب حق الرضاع وحرمته، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 89، والإمام أحمد، في: المسند 3/ 450. (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [رَقَبَةً؛ [ليُناسِبَ ما] (¬1) بينَ النِّعْمَةِ والشُّكْرِ، ولهذا جَعَل الله تعالى المُرْضِعَةَ أمًّا، فقال سبْحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي] (¬2) أَرْضَعْنَكُمْ} (¬3). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إلَّا أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ (¬4) فَيُعْتِقَهُ» (¬5). وإن كانتِ المُرْضِعَةُ مَمْلُوكَةً اسْتُحِبَّ إعْتاقها؛ لأنَّه يُحَصِّلُ أخَصَّ الرِّقابِ بها لها، وتَحْصُلُ به المجازاةُ التي جَعَلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُجازاةً للوالِدِ مِن النَّسَبِ. ¬

(¬1) في م: «للتناسب». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة النساء 23. (¬4) زيادة من: الأصل. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب فضل عتق الوالد، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1148. وأبو داود، في: باب في بر الوالدين، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 628. والترمذي، في: باب ما جاء في حق الوالدين، من أبواب البر. عارضة الأحوذي 8/ 99. وابن ماجه، في: باب بر الوالدين، من كتاب الأدب، سنن ابن ماجه 2/ 1207 والإمام أحمد، في: المسند 2/ 230، 263، 376، 445.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ للرَّجُلِ أن يُؤْجِرَ أمَتَه، ومُدَبَّرَتَه، وأُمَّ وَلَدِه، والمُعَلَّقَ عِتْقُها بصِفَةٍ، والمَأذُونَ لها في التِّجارَةِ للإرْضاعِ؛ لأنَّه عَقدٌ على مَنْفَعَتِها، أشْبَهَ إجارَتَها للخِدْمَةِ. وليس لواحِدَةٍ مِنْهُنَّ إجارَةُ نَفْسِها؛ [لأنَّ مَنْفَعَتَها] (¬1) لسَيِّدِها. فإن كان لها وَلَدٌ، لم يَجُزْ إجارَتُها للإرْضاعِ، إلَّا أن يكونَ فيها فَضْلٌ عن رِيِّه؛ لأنَّ الحَقَّ لوَلَدِها، ليس لسَيِّدِها إلَّا الفاضِلُ عنه. فإن كانت مُزَوَّجَةً، لم تَجُزْ إجارَتُها؛ لذلك، إلَّا بإذْنِ الزَّوْجَ؛ لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّه، لاشْتِغالِها عنه بالرَّضاعِ والحَضانَةِ. فإن أجَرَها ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للرَّضاعِ، ثم زَوَّجَها، صَحَّ النِّكاحُ، ولا تَنْفَسِخُ الإجارَةُ، وللزَّوْجِ الاسْتِمْتاعُ بها وَقْتَ فرَاغِها مِن الرَّضَاعِ والحَضانَةِ. وقال مالكٌ: ليس لزَوْجِها وَطْؤُها إلا برِضَى المُسْتأجِرِ؛ لأنَّه يَنْقُصُ اللبَنَ وقد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْطَعُه. ولَنا، أنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ فلا يَسْقُطُ لأمْرٍ مَشْكُوكٍ فيه. وليس للسَّيِّدِ إجارَةُ مُكاتَبَتِه؛ لأنَّ مَنافِعَها لها، ولذلك لا يَمْلِكُ (¬1) ¬

(¬1) في م: «يمكن».

2150 - مسألة: (وإن دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليعملاه، ولهما عادة بأجرة، صح، ولهما ذلك وإن لم يعقدا عقد إجارة. وكذلك دخول الحمام، والركوب في سفينة الملاح)

وإنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى قَصَّارٍ أوْ خَيَّاطٍ لِيَعْمَلَاهُ، وَلَهُمَا عَادَةٌ بِأُجْرَةٍ، صَحَّ، وَلَهُمَا ذَلِكَ، وَإنْ لَمْ يَعْقِدَا عَقْدَ إِجَارَةٍ. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ، والرُّكُوبُ فِي سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزْويجَها ولا وَطْأها ولا إجارَتَها لغيرِ الرَّضَاعِ، ولها أن تُؤْجِرَ نَفْسَها، لأنَّه مِن الاكتِسابِ. 2150 - مسألة: (وإن دَفَعَ ثَوْبَه إلى خَيّاطٍ أو قَصّارٍ ليَعْمَلاهُ، ولهما عادَةٌ بأُجْرةٍ، صَحَّ، ولهما ذلك وإن لم يَعْقِدا عَقْدَ إجارَةٍ. وكذلك دُخُولُ الحَمَّامِ، والرُّكُوبُ في سَفِينةِ المَلَّاحِ) إذا دَفَعَ ثَوْبَه إلى خَيّاطٍ ليَخِيطَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو قَصّارٍ لِيَقْصِرَهُ، مِن غيرِ عَقْدٍ ولا شَرْطٍ، ولا تَعْويض بأجْر، مثلَ أن يقولَ: خُذْ هذا فاعْمَلْه، وأنا أعْلَمُ أنَّك إنَّما تَعْمَلُه بأجْر. وكان الخَيّاطُ والقَصّارُ مُنْتَصِبَين لذلك، ففَعَلا ذلك، فلَهُما الأجْرُ. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: لا أجْرَ لهما؛ لأنَّهما فَعَلا ذلك مِن غيرِ عِوَض جُعِلَ لهما، أشْبَهَ ما لو تَبَرَّعا بعَمَلِه. ولَنا، أن العُرفَ الجارِيَ بذلك يَقُومُ مَقامَ القَوْل، فصار كنَقْدِ البَلَدِ، وكما لو دَخَل حَمّامًا أو جلس في سَفِينةِ مَلَّاح، ولَأنَّ شاهِدَ الحالِ يَقْتَضِيه، فصار كالتَّعويضِ. فأمّا إن لِم يَكُونا مُنْتَصِبَين لذلك، لم يَسْتَحِقًّا أجْرًا إلَّا بعَقْدٍ أو شَرْطِ العِوَضِ، أو تعْويض به؛ لأنَّه لم يَجْرِ عُرْفٌ يَقُومُ مَقَام العَقْدِ، فهو كما لو تَبَرَّعَ به، أو عَمِلَه بغيرِ إذْنِ مالِكِه. وكذلك لو دَفَعَ ثَوْبَه إلى رَجُلٍ ليَبِيعَه، وكان مُنْتَصِبًا يَبِيعُ للنّاسِ بأجْرِ مِثْلِه، فهو كالقَصّارِ والخَيّاطِ فيما ذَكَرْنا، له الأجْرُ. نصَّ عليه أحمدُ. وإن لم يَكُنْ كذلك فلا شيءَ له؛ لِما تَقَدَّمَ. ومتى دَفَع ثَوْبَه إلى أحَدِ هؤُلاءِ ولم يُقاطِعْه على أجْرٍ، فله أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ الثِّيابَ يَخْتَلِفُ أجْرُها، ولم يُعَيِّنْ شيئًا، فجَرَى مَجْرى الإجارَةِ الفاسِدَةِ. فإن تَلِفَ الثَّوْبُ مِن حِرْزِه، أو بغيرِ فِعْلِه، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ ما لا يُضْمَنُ في العَقْدِ الصَّحِيحِ لا يُضْمَنُ في الفاسِدِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اسْتَأجَرَ رَجُلًا ليَحْمِلَ له كتابًا إلى مَكةَ أو غيرِها إلى إنْسانٍ، فحَمَلَه، فوَجَدَ المَحْمُولَ إليه غائِبًا، فرَدَّهُ، اسْتَحَق الأجْرَ لحَمْلِه في الذهابِ والرَّدِّ؛ لأنَّه حَمَلَه في الذَّهابِ بإذْنِ صاحِبِه صَرِيحًا، وفي الرَّدِّ تَضْمِينًا؛ لأنَّ تَقْدِيرَ كَلامِه: وإن لم تَجِدْ صاحِبَه فَرُدَّه. إذ ليس سِوَى رَدِّه إلا تَضْيِيعُه. وقد عَلِمَ أنَّه لا يَرْضَى تَضْيِيعَه، فتَعَيَّنَ رَدُّه.

2151 - مسألة: (ويجوز إجارة دار بسكنى دار، وخدمة عبد، وتزويج امرأة)

وَتَجُوزُ إجَارَةُ دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ، وَخِدْمَةِ عَبْدٍ، وَتَزْويجِ امْرَأةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2151 - مسألة: (ويجوزُ إجارَةُ دارٍ بِسُكْنَى دارٍ، وخِدْمةِ عَبْدٍ، وتَزْويجِ امرأةٍ) وجُملةُ ذلك، أنَّ كل ما جازَ أن يكون ثَمَنًا في البَيعِ، جاز عِوَضًا في الإجارَةِ؛ لأنه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَه البَيعَ. فعلى هذا، يَجُوزُ أن يَكُونَ العِوَضُ عَينًا أو مَنْفَعَةً أُخْرَى، سَواءٌ كان الجِنْسُ واحدًا، كمَنْفَعةِ دارٍ بمَنْفَعةِ أُخْرَى. أو مخْتَلِفًا، كمَنْفَعةِ دارٍ بمَنْفَعةِ عَبْدٍ. قال أحمدُ: لا بَأسَ أن يَكْتَرِيَ بطَعَام مَوْصُوفٍ مَعْلُوم. وبه قال الشافعيُّ. قال اللهُ تعالى إخْبًارًا عن شُعَيب، أَنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَينِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬1). فجَعَلَ النِّكاحَ عِوَضَ الإجارَةِ. وقال أبو حنيفةَ فيما حُكِيَ عنه: لا تَجُوزُ إجارَةُ دارٍ بسُكْنَى أخْرَى، ولا يَجُوزُ إلَّا أن يَخْتَلِفَ جِنْسُ المَنْفَعةِ، كَسُكْنَى دارٍ بمَنْفَعةِ بَهِيمةٍ؛ لأنَّ الجِنْس الواحِدَ عندَه يُحَرَّمُ النَّساءُ فيه. وكره الثَّوْرِيُّ الإجارَةَ بطَعام مَوْصُوفٍ. والصَّحِيحُ جِوازُه، وهو قولُ إسحاقَ، وأصحابِ الرَّأي، وقياسُ قوْلِ الشافعيِّ؛ لأنه عِوَضٌ يَجُوزُ في البَيعِ، فجازَ في الإجارَةِ، كالذَّهَبِ والفِضَّةِ. وما قاله أبو حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المنافِعَ في الإجارَةِ ليست في تَقْدِيرِ النَّسِيئةِ، ولو كانت نَسِيئةً ما جاز في جِنْسَينِ؛ لأنَّه يكونُ بَيعَ دَين بِدَين. ¬

(¬1) سورة القصص 27.

2152 - مسألة: (وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه.

وَتَجُوزُ إِجَارَةُ الْحَلْي بِأُجْرَةٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2152 - مسألة: (وتَجُوزُ إجَارَةُ الحَلْي بأُجْرةٍ مِن جِنْسِه. وقيلَ: لا تَصحُّ) تجوزُ إجارَةُ الحَلْي [للُّبْسِ والعارِيَّةِ] (¬1) نصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ ابْنِه عبدِ اللهِ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعي، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال في إجارَةِ الحَلْي: ما أدْرِي ما هو؟ قال القاضِي: هذا مَحْمُول على إجارَته بأُجْرةٍ مِن جِنْسِه، فأمّا بغيرِ جنْسِه، فلا بَأسَ؛ لتَصْرِيحِ أحمدَ بجَوازِه. وقال مالكٌ في إجارَةِ الحَلْي والثيابِ: هو مِن المُشْتَبِهاتِ. ولعَلَّه يَذْهَبُ إلى أنَّ المَقْصُودَ بذلك الزينَةُ، وليس ذلك مِن المَقاصِدِ الأصْلِيَّةِ. ومَن مَنَع ذلك بأجْرٍ مِن جِنْسِه، احْتَجَّ بأنَّها تَحْتَكُّ بالاسْتِعْمالِ، فيَذْهَبُ منه أجْزاء وإن كانت يَسِيرَةً، فيَحْصُلُ الأجْرُ في مُقابَلَتِها ومُقابَلَةِ الانْتِفاعِ بها، فيُفْضِي إلى بَيع ذَهَبٍ بذَهَبٍ وشيءٍ آخَرَ. ولَنا، أنَّها عَين يُنْتَفَعُ بها مَنْفَعَةً مُباحَة مَقْصُودَة مع بَقاءِ عَينها، فأشْبَهَتْ سائِرَ ما يَجُوزُ إجارَتُه. والزِّينَةُ مِن المقاصِدِ الأصْلِيَّةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى امْتَنَّ بها علينا بقَوْلِه: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (¬2). وقولِه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (¬3). وأباح الله تَعالى ¬

(¬1) سقط من: ق، ر، م. (¬2) سورة النحل 8. (¬3) سورة الأعراف 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن التَّحَلِّي واللِّباسِ للنِّساءِ (¬1) ما حَرَّمَ على الرِّجَالِ؛ لحاجَتِهِنَّ إلى التَّزَيُّنِ للأزْواجِ، وأسْقَطَ الزَّكاةَ عن حَلْيِهِنَّ مَعُونَةً لَهُنَّ على اقْتِنائِه. وما ذَكَرُوه مِن نَقْصِها بالاحْتِكاكِ لا يَصحُّ؛ لأنَّ ذلك يَسير لا يُقابَلُ بعِوَض، ولا يَكادُ يَظْهَرُ في وَزْنٍ، ولو ظهر، فالأجْرُ في مُقابَلَةِ الانْتِفاعِ، لا في مقابَلَةِ الأجْزاءِ؛ لأنَّ الأجْرَ في الإجارَةِ إنَّما هو عِوَضُ المَنْفَعَةِ، كما في سائِرِ المواضِعِ، ولو كان في مُقابَلَةِ الجُزْءِ الذّاهِبِ، لَما جازَ إجارَةُ أحَدِ النَّقْدَين بالآخَرِ؛ لإِفْضائِه إلى التَّفْرُّقِ في مُعاوَضَةِ أحَدِهما بالآخَرِ قبل القَبْضِ. فصل: ولو استأجَرَ مَن يَسْلُخُ له بَهِيمةً بجِلْدِها، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ هل يَخْرُجُ الجِلْدُ سَلِيمًا أوْ لا؟ وهل هو ثَخِينٌ أوْ رَقِيق؟ ولأنَّه لا يَجُوزُ أن يكون عِوَضًا في البَيعِ، فلا يَجُوزُ أن يكونَ عِوَضًا في الإِجارَةِ، كسائِرِ المَجْهُولاتِ. فإن سَلَخَه بذلك، فله أجْرُ مِثْلِه. وإنِ استَأجَرَه لطَرْحِ مَيتَةٍ بجِلْدِها، فهو أْبلَغُ في الفَسادِ؛ لأنَّ جِلْدَ المَيتَةِ نَجِسٌ لا يجوزُ بَيعُه، وقد خَرَج بمَوْتِه عن كَوْنِه مِلْكًا، وله أجْرُ مِثْلِه إن فَعَل. فصل: ولو استأجَرَ راعِيًا لغَنم بثُلَثِ دَرِّها وصُوفِها وشَعَرِها ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَسْلِها، أو نِصْفِه أو جَمِيعِه، لم يَجُزْ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ جَعْفَرِ (¬1) بن محمدٍ النَّسائيِّ؛ لأنَّ الأجْرَ غيرُ مَعْلُوم، ولا يَصْلُحُ عِوضًا في البيعِ. قال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ: سألتُ أحمدَ عن الرجلِ يَدْفَعُ البَقَرَةَ إلى الرجلِ على أن يَعْلِفَها ويَحْفَظَها، ووَلَدُها بينهما. فقال: أكْرَه ذلك. وبه قال أبو أيُّوبَ وأبو خَيثَمَةَ. ولا أعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّ العِوَضَ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ لا يُدْرَى أيوجَدُ أمْ لا، والأصْلُ عَدَمُه، ولا يَصْلُحُ أن يَكُونَ ثَمَنًا. فإن قيل: فقد جَوَّزْتُم دَفْعَ الدّابَّةِ إلى مَن يَعْمَلُ عليها بنِصْفِ مَغَلِّها (¬2). قلنا: إنَّما جازَ ثَمَّ تَشْبِيهًا بالمُضارَبةِ، ولأنَّها عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ، فجازَ اشْتِراطُ جُزْء مِن النَّماءِ، كالمُضارَبَةِ والمُساقاةِ. وفي مَسألَتِنا لا يُمْكِنُ ذلك؛ لأنَّ النَّماءَ الحاصِلَ في الغَنَمِ لا يَقِفُ حُصُولُه على عَمَلِه فيها، فلم يُمْكِنْ إلْحاقُه بذلك. وذَكَر صاحِبُ المُحَرَّرِ روايةً أخرى: أنَّه يَجُوزُ، بِنَاءً على ما إذا دَفَع دابتَّهَ أو عَبْدَه بجُزْءٍ مِن كَسْبِه. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الفَرْقِ. وعِلى قِياسِ ذلك، إذا دَفَعَ نَحْلَهُ إلى مَن يَقُومُ عليه بجُزْءٍ مِن عَسَلِه وشَمْعِه، يُخرَّجُ على الرِّوايَتَين. فإنِ اكْتَراه على رَعْيِها مُدَّةً مَعْلُومةً بجُزْءٍ مَعْلُومٍ منها، صَحَّ؛ لأنَّ العَمَلَ والمُدَّةَ والأجْرَ مَعْلُومٌ، فصَحَّ، كما لو جَعَل الأجْرَ دَراهِمَ، ويَكُونُ النَّماءُ الحاصِلُ بينهما بحُكْمِ المِلْكِ؛ لأنَّه مَلَكَ الجُزْءَ المَجْعُولَ له منها في الحالِ، فكان له نَماؤه، كما لو اشْتَراه. ¬

(¬1) في النسخ: «سعيد». وانظر: طبقات الحنابلة 1/ 124. (¬2) أي غلتها التي تأتي من العمل عليها.

2153 - مسألة: (وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم. فهل يصح؟ على روايتين)

وَإنْ قَال: إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ. فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2153 - مسألة: (وإن قال: إن خِطْتَ هذا الثوْبَ اليومَ فلَكَ دِرْهَم، وإن خِطتَه غَدًا فلك نِصْفُ دِرْهَم. فهل يَصِحُّ؟ على رِوايَتَين) إحداهما، لا يَصِحُّ، وله أجْرُ المِثْلِ، نَقَلَها أبو الحارِثِ عن أحمدَ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعي، وإسحاقَ، وأبي ثورٍ؛ لأنَّه عَقْدٌ واحِدٌ اخْتَلَفَ فيه العِوَضُ بالتَّقْدِيمِ والتَّأخِيرِ، فلم يَصِحَّ. كما لو قال: بِعْتُكَ بدِرْهمٍ نَقْدًا وبدِرْهَمَين نَسِيئةً. والثانيةُ، يَصِحُّ. وهو قولُ الحارِثِ العُكْلِيِّ، وأبي يوسف، ومحمدٍ؛ لأنَّه سَمَّى لكلِّ عَمَلٍ عِوَضًا مَعْلُومًا، فصَحَّ. كما لو قال: كُلُّ دَلْوٍ بتَمْرَةٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن خاطَه اليومَ فله دِرْهَم، وإن خاطَه غدًا لم يَزِدْ على دِرْهَم (¬1)، ولا (¬2) يَنْقُصُ عن نِصْفِ دِرْهم؛ لأنَّ المُؤْجِرَ قد جَعَل له نِصْفَ دِرْهَم، فلا يَنْقُصُ، منه. وقد رَضِيَ في أكْثَرِ العَمَلِ بدِرْهم فلا يُزَادُ عليه. وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّه إن صَحَّ العَقْدُ، فله المُسَمَّى، وإن فَسَد فوُجُودُه كعَدَمِه، فيَجِبُ أجْرُ المِثْلِ، كسائِرِ العُقُودِ الفاسِدَةِ. ¬

(¬1) في م: «درهمين». (¬2) في م: «وقد».

2154 - مسألة: (وإن قال: إن خطته روميا فلك درهم، وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم)

وَإنْ قَال: إنْ خِطتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَم، وَإنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَم. فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2154 - مسألة: (وإن قال: إن خِطْتَه رُومِيًّا فلك دِرْهَم، وإن خِطْتَه فارِسيًّا فلك نِصْف درهمٍ) فهل يَصِحُّ؟ (على وَجْهَين) بِناءً على التي قبلَها، والخِلافُ فيها كالتي قبلَها، إلَّا أن أبا حنيفةَ وافَقَ صاحِبَيهِ في الصِّحَّةِ هاهُنا. ولَنا، أنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، لم يتَعَيَّنْ فيه العِوَضُ ولا المُعَوَّضُ، فلم يَصِحَّ. كما لو قال: بِعْتُكَ هذا بدِرْهم أو: هذا بدِرْهَمَينِ. وفارَقَ هذا كلَّ دَلْو بتَمْرةٍ، مِن وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أنَّ العَمَلَ الثانِي يَنْضَم إلى العَمَلِ الأوَّلِ، ولكلِّ واحدٍ منهما عِوَضٌ مُقَدَّرٌ، فأشْبَهَ ما لو قال: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَةَ، كلَّ قَفِيز بدِرْهَم. وهاهُنا الخِياطَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةٌ، شَرَط فيها عِوَضًا إن وُجِدَتْ على صِفَةٍ، وعِوَضًا آخَرَ (¬1) إن وُجِدَتْ على أخْرَى، أشْبَهَ ما لو باعَه بعَشَرَةٍ صِحَاحٍ أو أحَدَ عَشَرَ مُكَسَّرةً. والثاني، أنَّه وَقَف الإِجارَةَ على شَرْطٍ بقَوْلِه: إن خِطْتَه كذا، فلك كذا وإن خِطْتَه كذا فلك كذا، بخِلافِ قَوْلِه: كلُّ دَلْوٍ بتَمْرةٍ. فصل: نَقَل مُهَنَّا عن أحمدَ، في مَن اسْتأجَرَ مِن حَمّالٍ (¬2) إلى مِصْرَ بأرْبَعِين دِينارًا، فإن نَزَل دِمَشْقَ، فكِراؤه ثَلاُثون، فإن نَزَل الرَّقَّةِ، فكِرَاؤه عِشْرُون. فقال: إذا اكْتَرَى إلى الرَّقَّةَ بعِشْرِينَ (¬3)، واكْتَرَى إلى دِمَشْقَ بعَشَرَةٍ، وإلى مِصْرَ بعَشَرَةٍ، جازَ، ولم يَكُنْ للحَمّالِ (¬4) أن يَرْجِعَ. فظاهِرُ هذا، أنَّه لم يَحْكُمْ بصِحَّةِ العَقْدِ الأوَّلِ؛ لأنَّه في مَعْنَى ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في الأصل، تش، ر 1، م: «جمال». (¬3) في م: «بعشرة». (¬4) في ر 1، م: «للجمال».

2155 - مسألة: (وإن أكراه دابة، وقال: إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة. فقال أحمد: لا بأس به. وقال القاضي: تصح في اليوم الأول دون الثاني)

وَإنْ أكْرَاهُ دَابَّةً، وَقَال: إنْ رَدَدْتَهَا الْيَوْمَ فَكِرَاؤهَا خَمْسَةٌ، وَإنْ رَدَدْتَهَا غَدًا فَكِرَاؤهَا عَشَرَةٌ. فَقَال أحْمَدُ: لَا بَأسَ بِهِ. وَقَال الْقَاضِي: تَصِحُّ فِي الْيَوْمِ الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعَتَينِ في بَيعَةٍ؛ لكَوْنِه خَيَّرَه بينَ ثلاثةِ عُقُودٍ. ويَتَخَرَّج فيه أن يَصِحَّ، بِنَاءً على المَسْألتَين قبلَ هذا. ونُقِلَ عن أحمدَ في رَجُلٍ اسْتأجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ له كِتابًا إلى الكُوفَةِ، وقال: إن أوصَلْتَ الكتابَ يومَ كذا، فلك عِشْرُون، وإن تَأخرْتَ بعدَ ذلك بيوم فلك عَشَرَة. فالإجارَةُ فاسِدَة، وله أجْرُ مِثْلِه، وهذا مثلُ الذي قبله. 2155 - مسألة: (وإن أكْراه دابَّةً، وقال: إن رَدَدْتَها اليومَ فكِراؤها خَمْسة، وإن رَدَدْتَها غدًا فكِراؤها عَشَرَة. فقال أحمدُ: لا بَأسَ به. وقال القاضِي: تَصِحُّ في اليومِ الأوَّلِ دُونَ الثّانِي) فنَقَلَ عبدُ اللهِ في مَن اكْتَرَى دابةً، وقال: إن رَدَدْتَها غدًا فكِراؤها عَشَرَة، وإن رَدَدْتَها

2156 - مسألة: (وإن أكراه دابة عشرة أيام بعشرة دراهم، فما زاد فله بكل يوم درهم، فقال أحمد)

وإنْ أكْرَاهُ دَابةً عَشَرَةَ أيام بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْم دِرْهَم، فَقَال أحْمَدُ: هُوَ جَائِزٌ. وَقَال الْقَاضِي: تَصِحُّ فِي الْعَشَرَة وَحْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ اليومَ فكِراؤها خَمْسَة. لا بَأسَ به. وهذه الرِّوايةُ تَدُلُّ على صِحَّةِ الإجارَةِ. والظّاهِرُ عن أحمدَ برِوايةِ الجَماعَةِ فيما ذَكَرْنا فَسادُ العَقْدِ، على قِياسِ بَيعَتَينِ في بَيعةٍ. وقال القاضِي: يَصِحُّ في اليومِ الأولِ دُونَ الثّانِي. وقِياسُ حَدِيثِ على والأنصارِيِّ صِحَّتُه؛ فإن عَلِيًّا آجَرَ نَفْسَهُ ليَهُودِي يَسْتَقِي له كلَّ دَلْوٍ بتَمْرَةٍ (¬1)، وكذلك الأنْصارِي (¬2)، وسَنَذْكُرُ ذلك. 2156 - مسألة: (وإن أكْراه دابَّةً عَشَرَةَ أيام بعَشَرَةِ دَراهِمَ، فما زادَ فله بكلِّ يوم دِرْهَمٌ، فقال أحمدُ) في رِوايةِ أبي الحارِثِ (هو جائِزٌ) ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب الرجل يسقي كل دلو بتمرة ويشترط جلدة، من كتاب الرُّهون. سنن ابن ماجه 2/ 818. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 90. وانظر إرواء الغليل 5/ 313. (¬2) أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق. وفي الزوائد: في إسناده عبد الله بن سعيد بن كيسان ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَقَل ابنُ منصورٍ عنه في مَن اكْتَرَى دابَّةً مِن مَكةَ إلى جُدَّةَ بكذا، فإن ذَهَب إلى عَرَفاتٍ بكذا. فلا بَأسَ. ونَقَل عبدُ اللهِ عنه، لو قال: أكْرَيتُكَها (¬1) بعَشَرَةٍ. فما حَبَسَها فعليه في كلِّ يوم عَشَرَة، أنَّه يَجُوزُ. وهذه الرِّواياتُ تَدُلُّ على أن مَذْهَبَه، أنَّه متى قَدَّرَ لكلِّ عَمَل مَعْلُوم أجْرًا مَعْلُومًا، صَح. وتَأوَّلَ القاضِي هذا كُلَّه، على أنه يَصِح في الأوَّلِ ويَفْسُدُ في الثانِي؛ لأنَّ مُدَّتَه غيرُ مَعْلُومةٍ، فلم يَصِحَّ العَقْدُ فيه، كما لو قال: اسْتَأجَرْتُكَ لتَحْمِلَ لي هذه الصُّبْرَةَ، وهي عَشَرَةُ أقْفِزَةٍ بدِرْهَم، وما زادَ فبِحِسابِ ذلك. قال شيخُنا (¬2): والظّاهِرُ عن أحمدَ خِلافُ هذا، فإنَّ قَوْلَه: فهو جائِزٌ. عادَ إلى جَمِيعِ ما ذَكَرَ (¬3) قبلَه، وكذلك قولُه: لا بَأسَ. ولأنَّ لكلِّ عَمَلٍ عِوَضًا مَعْلُومًا، فَصَحَّ، كما لو اسْتَقَى له كل دَلْو بتَمْرَةٍ، وقد ثَبَت الأصْلُ بالخَبَرِ الوارِدِ فيه [على ما نَذْكُرُه] (¬4). ومَسائِلُ الصُّبْرَةِ لا نَصَّ فيها عن الإمامِ، وقِياسُ نُصُوصِه صِحَّةُ الإجارَةِ، وإن سُلِّمَ فَسادُها؛ فلأنَّ القُفْزانَ التي شَرَطَ حَمْلَها (¬5) غيرُ مَعْلُومةٍ بتَعْيِينٍ ولا صِفَةٍ، وهي مُخْتَلِفةٌ، فلم يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لجَهالتِها، بخِلافِ الأيامِ، فإنَّها مَعْلُومة. ¬

(¬1) في م: «اكتريتها». (¬2) في: المغني 8/ 87. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «عملها».

2157 - مسألة: (ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته)

وَنَصَّ أحْمَدُ عَلَى أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يَكْتَرِيَ لِمُدَّةِ غَزَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2157 - مسألة: (ونَصَّ أحمدُ على أنَّه لا يَجُوزُ أن يَكْتَرِيَ لمُدَّةِ غَزاتِه) وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، منهم، الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرأي. وقال مالكٌ: قد عُرِفَ وَجْهُ ذلك، وأرْجُو أن يَكُونَ خَفِيفًا. ولنا، أنَّ المُدَّةَ مَجْهُولةٌ والعَمَلَ مَجْهُولٌ، فلم يَجُزْ، كما لو اكْتَراها لمُدَّةِ سَفَرِه في تِجارَتِه، ولأنَّ مُدَّةَ الغَزِاةِ تَطُولُ وتَقْصُرُ، ولا حَدَّ لها تُعْرَفُ به، والعَمَلُ فيها يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ونهايةُ سَفرِهم تَقْرُبُ وتَبْعُدُ، فلم يَجُزِ التَّقْدِيرُ بها، كغَيرِها مِن الأسْفارِ المَجْهُولَةِ. فإن فعل ذلك فله أجْرُ المِثْلِ، كالإِجاراتِ الفاسِدَةِ.

2158 - مسألة: (وإن سمى لكل يوم شيئا معلوما، فجائز)

وَإنْ سَمَّى لِكُلِّ يَوْم شَيئًا مَعْلُومًا، فَجَائِزٌ. وَإنْ أكْرَاهُ كُلَّ شَهْرٍ بدرْهَم، أوْ كُلَّ دَلْو بتَمْرَةٍ، فَالْمَنْصُوصُ أنهُ يَصِحُّ، وَكُلَّمَا دَخَلَ شَهْرٌ لَزِمَهُمَا حُكْمُ الْإجَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2158 - مسألة: (وإن سَمَّى لكل يوم شَيئًا مَعْلُومًا، فجائِزٌ) وقال الشافعي: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مُدَّةَ الإجارَةِ مَجْهُولةٌ. ولنا، أن عَلِيًّا، رَضِيَ الله عنه، أجَر نَفْسَه كُلَّ دَلْو بتَمْرةٍ، وكذلك الأنْصارِيُّ، فلم يُنْكِرْه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأنَّ كلَّ يَوْم مَعْلُومٌ مُدَّتُه وأجْرُه، فصَحَّ، كما لو أجَرَه شَهْرًا كُلَّ يَوْمٍ بدِرْهم، أو اسْتَأجَرَه لنَقْلِ صُبْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كُلَّ قَفِيز بدِرْهَمٍ إذا ثَبَت هذا، فلا بُدَّ مِن تَعْيِينِ ما يَسْتَأجرُ له، مِن رُكُوبٍ، أو حَمْلٍ مَعْلُوم (¬2). ويَسْتَحِقُّ الأجْرَ المُسَمَّى لكلِّ يوم، سواء أقامَتْ أو سارَتْ؛ لأنَّ المنافِعَ ذَهَبت في مُدَّتِه، أشبَهَ ما لو اكْتَرَى دارًا وغَلَقها ولم يَسْكُنها. 2159 - مسألة: (وإن أكْراه كلَّ شَهْرٍ بدِرْهَم، أو كلَّ دَلْو بتَمْرةٍ، فالمنْصُوصُ) عن أحمدَ (أنَّه يَصِحُّ، وكلَّما دَخَل شَهْرٌ لَزِمَهما ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 301. (¬2) سقط من: الأصل.

مِنْهُمَا الْفَسْخُ عِنْدَ تَقَضِّي كُلِّ شَهْر. وَقَال أبو بَكْرٍ، وَابْنُ حَامِدٍ: لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمُ الإجارَةِ، ولكلِّ واحدٍ منهما الفَسْخُ عندَ تَقَضِّي كلِّ شَهْر. وقال أبو بكرٍ، وابنُ حامِدٍ: لا يَصِحُّ) اخْتَلَفَ أصحابُنا في ذلك، فقال القاضِي: يَصِحُّ. ونَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهو اخْتِيارُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيِّ. [إلَّا أنَّ] (¬1) الشَّهْرَ الأوَّلَ تَلْزَمُ الإجارَةُ فيه بإطْلاقِ العَقْدِ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ يَلي العَقْدَ، وأجْرُه مَعْلُومٌ، وما بعدَه مِن الشُّهُورِ يَلْزَمُ العَقْدُ فيه بالتَّلبُّسِ به، وهو السُّكْنَى في الدّارِ، إن أجَرَه دارًا؛ لأنَّه مَجْهُولٌ حال العَقْدِ، فإذا تَلَبَّسَ به، تَعَيَّنَ بالدُّخُولِ (¬2) فيه، فصَحَّ بالعَقْدِ الأولِ. وإن لم يتَلبَّسْ به، أو فَسَخ العَقْدَ عندَ انْقِضاء الأولِ، انْفَسَخَ، وكذلك حُكْمُ كلِّ شَهْرٍ يَأتِي. وهذا مَذْهَبُ أبي ثَوْرٍ، وأصَحاب الرأي. وحُكِيَ عن مالكٍ نحوُ هذا. إلَّا أنَّ الإِجارَةَ لا تَكُونُ لازِمَةً عندَه؛ لأنَّ المنافِعَ مُقَدَّرَةٌ بتَقْدِيرِ الأجْرِ، فلا يُحْتاجُ إلى ذِكْرِ المُدَّةِ إلَّا في اللُّزُوم. واختار أبو بكرٍ عبدُ العزيز، و [أبو عبدِ الله] (¬3) بنُ حامِدٍ، وابنُ عَقِيلٍ، أنَّ العَقْدَ لا يَصِحُّ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والصَّحيحُ مِن قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ «كلَّ» اسمٌ للعَدَدِ، فإذا لم يُقَدِّرْه كان مُبْهَمًا (¬4) مَجْهُولًا، فيَكُونُ فاسِدًا، كقَوْلِه: أجَرْتُكَ أشْهُرًا. وحَمَل (¬5) أبو بكرٍ، وابنُ حامدٍ كَلامَ أحمدَ على أنَّه وَقَع على أشْهُر مُعَيَّنةٍ. وَوَجْهُ الأولِ، ¬

(¬1) في ر 1، م: «لأن». (¬2) في م: «الدخول». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل، م. (¬5) في الأصل: «حكى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ الله عنه، اسْتَقَى لرَجُلٍ مِن اليَهُودِ كلَّ دَلْوٍ بتَمْرةٍ، وجاء به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأكَلَ منه. قال عَليٌّ (¬1): كُنْتُ أدْلُو الدَّلْوَ بتَمْرَةٍ وأشْتَرِطُها جَلْدَةً. وعن رَجُلٍ مِن الأنصارِ أَنه قال ليَهُودِيّ: أسْقِي نَخْلَكَ؟ قال: نعم، كل دَلْو بتَمْرةٍ. واشْتَرَط الأنصاريُّ أن لا يَأخُذَها خَدِرَةً (¬2) ولا تارِزَةً (¬3) ولا حَشَفةً (¬4)، ولا يَأخُذُ إلا جَلْدَةً. فاسْتَقَى بنَحْو مِن صاعَين، فجاء به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. رواهما ابنُ ماجه [في «سُنَنِه»] (¬5). وهو نظيرُ مسألةِ إجارَةِ الدّارِ، ونَصَّ في المسألةِ الأخرى. ولأنَّ شُرُوعَه في كلِّ شَهْر مع ما تَقَدَّمَ (¬6) مِن الاتِّفاقِ على تَقْدِيرِ أجْرِه والرِّضا ببَذْلِه به، جَرَى مَجْرَى ابْتداءِ العَقد عليه، وصار كالبَيعِ بالمُعاطاةِ، إذا وَجَد مِن المُسَاوَمةِ ما دَلَّ على التَّراضِي بها. فعلى هذا، مَتَى تَرَكَ التَّلبسَ به في شَهْر، لم تَلْزَمِ الإجارَةُ فيه؛ لعَدَم العَقْدِ. وكذلك إن فَسَخ، وليس بفَسْخٍ في الحَقِيقةِ؛ لأنَّ العَقْدَ الثاني ما ثَبَت. والقِياسُ يَقْتَضِي عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لأنَّ العَقْدَ تَناوَلَ جَمِيعَ الأشْهُرِ، وذلك مَجْهُولٌ. ثم لا وَجْهَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الخدرة: التي تقع من النخل قبل نضجها. (¬3) في الأصل، ر 1: «بارزة». والتارزة: اليابسة. (¬4) الحشف: أردأ التمر. (¬5) سقط من: م. وتقدم تخريجهما في صفحة 301. (¬6) بعده في م: «العقد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لاعْتِبارِ الشُّرُوعِ في الشهْرِ الذي يلي الأولَ، مع كَوْنِ الشُّهُورِ كلِّها داخِلةً في اللَّفْظِ. فأمّا أبو حنيفةَ فَذَهَب إلى أنَّهما إذا تَلبَّسا بالشهْرِ الثاني، فقد اتَّصَلَ القَبْضُ بالعَقْدِ الفاسِدِ. قال شيخُنا (¬1): ولا يَصِحُّ هذا العُذْرُ؛ لأن العَقْدَ الفاسِدَ في الأعْيانِ لا يَلْزَمُ بالقَبْضِ، ولا يُضْمَنُ بالمُسَمَّى، ثم لم يَحْصُلِ القَبْضُ هاهُنا إلَّا فيما (¬2) اسْتَوْفاهُ. وقولُ مالكٍ لا يَصِحُّ؛ لأن الإجارَةَ مِن العُقُودِ اللازِمَةِ، فلا يَجُوزُ أن تَكُونَ جائِزَةً. فصل: إذا قال: أجَرْتُكَ دارِي عِشْرِينَ شَهْرا، كلَّ شَهْر بدِرْهَم، جازَ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه (¬3)؛ لأنَّ المُدةَ مَعْلُومَة والأجْرَ مَعْلُومٌ، وليس لواحِدٍ منهما فَسْخٌ بحالٍ؛ لأنها مُدَّة (¬4) واحِدَة، فأشْبَهَ ما لو قال: أجَرْتُكَ عِشْرِين شهرًا بعِشْرِين دِرْهمًا. فإن قال: أجَرْتُكَها شَهْرًا بدِرْهَم، وما زاد فبِحِسَاب ذلك. صَحَّ في الشَّهْرِ الأولِ؛ لأنَّه أفْرَدَه بالعَقْدِ، وبَطَل في الزّائِدِ؛ لأَنَّه مَجْهُول. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ في كل شَهْر تَلَبَّسَ به، كما لو قال: أجَرْتُكَها كلَّ شهر بدِرْهَم؛ لأنَّ مَعْناهُما واحِدٌ. ولو قال: أجَرْتُكَها هذا الشَّهْرَ بدِرْهَم، وكلَّ شَهْر بعدَ ذلك بدِرْهَم أو بدِرْهَمَين. صَحَّ في الأولِ، وفيما بعدَه وَجْهان؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 22. (¬2) بعده في تش: «إذا». (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في تش: «معلومة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في مَسائِلِ الصُّبْرَةِ: وفيها عَشْرُ مَسائِلَ؛ أحدُها، أن يَقولَ: اسْتَأجَرْتُكَ لحَمْلِ هذه الصُّبْرَةِ إلى مِصْرَ بعَشَرةٍ. فهي صَحِيحَة بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ الصُّبْرَةَ مَعْلُومَة بالمُشاهَدَةِ، فجاز الاسْتِئْجارُ عليها، كما لو عَلِم كَيلَها. الثانيةُ، قال: اسْتَأجَرْتُكَ لتَحْمِلَها، كلَّ قَفِيز بدِرْهَم. فيَصِحُّ. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ في قَفِيزٍ، ويبطُلُ فيما زادَ. وَمَبْنى الخِلافِ على الخِلافِ في بَيعِها، وقد ذَكَرْناه. الثالثةُ، قال: لتَحْمِلَها لي قَفِيزًا بدِرْهَم، وما زاد فبِحِساب ذلك. فيَجُوزُ، كما لو قال: كلَّ قَفِيز بدِرْهَم. وكذلك كل لَفْظٍ يَدُلُّ على إرادَةِ حَمْلِ جَمِيعِها، كقَوْلِه: لتَحْمِلَ قَفِيزًا منها بدِرْهَم، وسائِرَها -أو- باقِيَها بحِسابِ ذلك. أو قال: وما زادَ بحِسَابِ ذلك. يُرِيدُ باقِيَها كلَّه، إذا فَهِما ذلك مِن اللَّفْظِ، لدَلالتِه عندَهما عليه، أو لقَرِينَةٍ صُرِفَتْ إليه. الرابعةُ، قال: لتَحْمِلَ قَفِيزًا منها بدِرْهَم، وما زادَ فبحِسابِ ذلك. يُرِيدُ مهما حَمَلْتَه مِن باقِيها. فلا يَصِحُّ. ذَكَرَه القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه بعضُها، وهو مَجْهُول. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأَنه في مَعْنَى: كلَّ دَلْوٍ بتَمْرَةٍ. الخامسةُ، قال: لتَنْقُلَ لي منها كلَّ قَفِيز

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدِرْهَمٍ. فهي كالرابعةِ سواءً. السادسةُ، قال: لتَحْمِلَ لي منها قَفِيزًا بدِرْهَم، على أن تَحْمِلَ الباقِيَ بحِسَاب ذلك. فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه في مَعْنَى بَيعَتَين في بَيعةٍ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّ مَعْناه: لتَحْمِلَ لي كلَّ قَفِيز منها بدِرْهَم. السابعةُ، قال: لتَحْمِلَ لي هذه الصُّبْرَةَ، كلَّ قَفِيز بدِرْهَم، وتَنْقُلَ لي صُبْرَةً أُخْرَى في البَيتِ بحِسابِ ذلك. فإن كانا يَعْلَمان الصُّبْرَةَ التي في البَيتِ بالمُشاهَدَةِ، صَحَّ فيهما؛ لأنَّهما كالصُّبْرَةِ الواحِدَةِ. وإن جَهِلَها (¬1) أحَدُهما، صَحَّ في الأولَى، وبَطَل في الثانيةِ؛ لأنَّهما عَقْدان، أحدُهما على مَعْلُوم، والثاني على مَجْهُولٍ، فصَحَّ في المَعْلُومِ، وبَطَل في المَجْهُولِ، كما لو قال: بِعْتُكَ عَبْدِي هذا بعَشَرَةٍ، وعَبْدِي الذي في البَيتِ بعَشَرةٍ. الثامنةُ، قال: لتَحْمِلَ لي هذه الصُّبْرَةَ والتي في البَيتِ بعَشَرَةٍ. فإن كانا يَعْلَمان التي في البَيتِ، صَحَّ فيهما، وإن جَهِلاها، بَطَل فيهما؛ لأنَّه عَقْدٌ واحِدٌ بعِوَضٍ واحدٍ، على مَعْلُوم ومَجْهُولٍ، بخِلافِ التي ¬

(¬1) في م: «جهل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَها. فإن كانا يَعْلَمان التي في البَيتِ، لكنَّها مَغْصُوبَة، أو امْتَنَعَ تَصْحِيحُ العَقْدِ فيها لمانِعٍ اخْتَصَّ بها، بَطَل العَقْدُ فيها، وفي صِحَّتِه في الأخْرَى وَجْهان، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، إلَّا أنَّها إن كانت قُفْزانُهما (¬1) مَعْلُومةً، أو قَدْرُ إحْداهما مَعْلُومٌ مِن الأخْرَى، فالأوْلَى صِحَّتُه؛ لأنَّ قِسْطَ الأجْرِ فيها مَعْلُومٌ، وإن لم يَكُنْ كذلك، فالأوْلَى بُطْلانُه؛ لِجهالةِ العِوَضِ فيها. التاسعةُ، قال: لتَحْمِلَ لي هذه الصُّبْرَةَ، وهي عَشَرَةُ أقْفِزَةٍ، بدِرْهَم، فإن زادَتْ على ذلك، فالزّائِدُ بحِسابِ ذلك. صَحَّ في العَشَرَةِ؛ لأنَّها مَعْلُومة، ولم يَصِحَّ في الزِّيادَةِ؛ لأنَّها مَشْكُوكٌ فيها، ولا يَجُوزُ العَقْدُ على ما يُشَكُّ فيه. العاشرةُ، قال: لتَحْمِلَ لي هذه الصُّبْرَةَ، كلَّ قَفِيز بدِرْهَم، فإن قَدِمَ لي طَعَامٌ فحَمَلْتَه، فبحِسابِ ذلك. صَحَّ أيضًا في الصُّبْرَةِ، وفَسَد في الزِّيادَةِ؛ لِما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «قفزانها».

فَصْلٌ: الثالِثُ، أنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً مَقْصُودَةً، فَلَا تَجُوزُ الإجَارَةُ عَلَى الزِّنَى، وَالزَّمْرِ، وَالْغِنَاءِ، وَلَا إجَارَةُ الدَّارِ لِتُجْعَلَ كَنِيسَةً أوْ بَيتَ نَار، أو لبَيعِ الْخَمْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال المُصَنِّفُ، رَحِمَه اللهُ تعالى: (الثالثُ، أن تَكُونَ المَنْفَعَةُ مُباحةً مَقْصُودَةً، فلا تَجُوزُ الإجارَةُ على الزنَى، والزَّمْرِ، والغِناءِ، ولا إجارَةُ دارٍ لتُجْعَلَ كَنِيسَةً أو بَيتَ نار، أو لبَيعِ الخَمْرِ) أو القِمارِ. وجلةُ ذلك، أنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ الإجارَةِ أن تَكُونَ المَنْفَعَةُ مُباحَةً، فإن كانت مُحَرَّمَةً، كالزنَى، والزَّمْرِ، والنَّوْحِ، والغِناءِ، لم يَجُزْ الاسْتِئْجارُ لفِعْلِه. وبه قال مالك، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ (¬1)، وصاحِباه، وأبو ثَوْرٍ. وكَرِهَ ذلك الشَّعْبِي، والنَّخَعِي؛ لأنَّه مُحَرَّم، فلم يَجُزْ الاسْتِئْجارُ عليه، كإجارَةِ الأمَةِ للزِّنى. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على إبْطالِ إجارَةِ النائِحَةِ والمُغَنِّيَةِ. فصل: ولا يَجُوزُ اسْتِئْجارُ كاتِبٍ ليَكْتُبَ له غِناءً أو نَوْحًا. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ. ولنا، أنَّه انْتِفاع بمُحَرَّم، أشْبَهَ ما ذَكَرْنا. ولا يَجُوزُ الاسْتِئْجارُ على كَتْبِ شِعْر مُحَرَّم، ولا بِدْعةٍ، ولا شيءٍ مُحَرم؛ لذلك. فصل: ولا يَجُوزُ للرَّجُلِ (¬2) إجارَةُ دارِه لمن يَتَّخِذُها كَنِيسةً أو بِيعةً، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

2160 - مسألة: (ولا يجوز الاستئجار على حمل الميتة والخمر. وعنه، يصح)

وَلَا يَصِحُّ الاسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْلِ الْمَيتَةِ وَالْخَمْرِ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ، وَيُكْرَهُ أكْلُ أجْرَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لبَيعِ الخَمْرِ، أو القِمارِ. وبه قال الجَماعَةُ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان بَيتُكَ في السَّواد فلا بَأسَ. وخالفَه صاحِبَاه. واخْتَلَفَ أصحابُه في تَأويل قَوْلِه. ولَنا، أنَّه فِعْل مُحَرَّم، فلم تَجُزِ الإجارَةُ عليه، كإجارَةِ عَبْدِه للفُجُورِ. ولو اكْتَرَى ذِمِّي مِن مُسْلِم دارًا، فأرادَ بَيعَ الخَمْرِ فيها، فلصاحِبِ الدّارِ مَنْعُه. وبذلك قال الثوْرِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان بَيتُكَ في السَّوادِ والجَبَلِ، فله أن يَفْعَلَ ما يَشاءُ. ولَنا، أنَّه مُحَرَّم، جاز المنْعُ منه في المِصْرِ، فجاز في السَّوادِ، كقَتْلِ النفْسِ المُحَرَّمَةِ. 2160 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الاسْتِئْجارُ على حَمْلِ المَيتَةِ والخَمْرِ. وعنه، يَصِحُّ) للحُرِّ (ويُكْرَهُ أكْلُ أجْرَتِه) لا يَجُوزُ الاسْتِئْجارُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على حَمْلِ الخَمْرِ لمن يَشْرَبُها (¬1)، أو يأكُلُ المَيتَةَ، ولا على حَمْل خِنْزِير، كذلك. وبه قال أبو يوسفَ، ومحمد، والشافعي. وقال أبو حنيفةَ: يَجُوزُ؛ لأنَّ العَمَلَ لا يَتَعَيَّنُ عليه، بدَلِيلِ أنَّه لو حَمَلَه مثلُه، جاز، ولأنَّه لو قَصَدَ إراقَتَه أو طَرْحَ المَيتَةِ، جاز. وقد رُوِيَ عن أحمدَ في مَن حَمَلَ خِنْزِير الذِمِّيَّةٍ، أو خمْرًا لنَصْرانِي: أكْرَهُ أكْلَ كِرائِه، ولكنْ يُقْضَى للحَمّالِ بالكِراءِ، فإذا كان لِمُسْلِم فهو أشَدُّ. قال القاضي: هذا مَحْمُود على أنَّه اسْتَأجَرَه ليُريقَها، فأمّا للشُّرْبِ فمَحْظُورٌ، لا يَحِلُّ أخْذُ الأجْرِ عليه. قال شيخُنا (¬2): وهذا تَأويل بَعِيد؛ لقَوْلِه: أكْرَه أكْلَ كِرائِه، وإذا كان لمُسْلِم فهو أشَدُّ. والمَذْهَبُ خِلافُ هذه الرِّوايَةِ؛ لأنه اسْتِئْجار لِفعْل مُحَرَّم، فلم يَصِحَّ، كالزِّنَى. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَن حامِلَها ¬

(¬1) في م: «يشتريها». (¬2) في: المغني 8/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَحْمُولَةَ إلَيهِ (¬1)، وقولُ أبي حنيفةَ: لا يَتَعَيَّنُ. يَبْطُلُ بما لو اسْتَأجَرَ أرْضًا ليَتَّخِذَها مَسْجدًا. فأمّا حَمْلُ الخَمْرِ لإراقَتِها، والمَيتَةِ لطَرْحِها، والاسْتِئجارُ لكَسْحِ الكُنُفِ، فجائِر؛ لأنَّ ذلك مُباح، وقد اسْتَأجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا طَيبةَ فحَجَمَه (¬2). وقد قال أحمد، في رِوايَةِ ابنَ منصور، في مَن يُؤاجِرُ نَفْسَه لنِظارَةِ كَرْمِ نَصْرَانِي: يُكْرَه ذلك؛ لأنَّ الأصْلَ في ذلك راجِعٌ إلى الخَمْرِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 337. (¬2) أبو طيبة مولى الأنصار. انظر ترجمته في: الإصابة 7/ 233. والحديث أخرجه البخاري، في: باب ذكر الحجام، وباب من أجرى أمر الأنصار على ما يتعارفون. . . . من كتاب البيوع، وباب ضريبة العبد، من كتاب الإجارة، وباب الحجامة من الداء، من كتاب الطب. صحيح البخاري 3/ 82، 103، 122، 7/ 161. ومسلم، في: باب حل أجرة الحجامة، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1204.كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب الإجارة. سنن أبي داود 2/ 239. والترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في كسب الحجام، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 278. والدارمي، في: باب في الرخصة في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 272. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الحجامة وأجرة الحجام. الموطأ 2/ 974. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 100، 174، 182، 353.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قد ذَكَرْنا أنَّ الاسْتِئْجارَ لكَسْحِ الكُنُفِ جائِز؛ إلَّا أَنه يُكْرَهُ له أكْلُ أجْرَتِه، كأجْرَةِ الحَجَّامِ، بل هذا أوْلَى. وقد روَى سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، أنَّ رَجُلًا حَج، وأتَى ابنَ عَبَّاس، فقال له: إنِّي رَجُل أكنُسُ، فما تَرَى في مَكْسَبِي؟ قال: أي شيءٍ تَكْنُسُ؟ قال: العَذِرَةَ. قال: ومنه حَجَجْتَ، ومنه تَزَوَّجْتَ؟! قال: نعم. قال: أنت خَبِيثٌ، وحَجُّك خَبِيثٌ، وما تَزَوَّجْتَ خَبِيثٌ. أو نحوَ هذا (¬1). ولأنَّ فيه دَناءَةً، فكُرِهَ، كالحِجامَةِ. وإنَّما قُلْنا بجَوازِ الإجارَةِ عليه؛ لدُعُوِّ الحاجَةِ إليه، ولا يَنْدَفِعُ ذلك إلَّا بالإباحَةِ، فجازَ، كالحِجامَةِ. ¬

(¬1) أخرج البيهقي نحوه عن عبد الله بن عمرو. السنن الكبرى 6/ 139.

فَصْلٌ: وَالْإجَارَةُ عَلَى ضَرْبَينِ؛ أحَدُهُمَا، إجَارَةُ عَين، فَتَجُوزُ إجَارَةُ كُلِّ عَين يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ أن تَكُونَ المَنْفَعَةُ مَقْصُودَةً، فلا يَجُوزُ اسْتِئْجارُ شَمْعٍ ليَتَجَملَ به ويَرُدَّهُ، ولا طعام ليَتَجَملَ به على مائِدَتِه ثم يَرُده، ولا النقُودِ ليَتَجَمَّلَ بها الدكّانُ؛ لأنَّها لم تُخْلَقْ لذلك ولا تُرادُ له، فبذلُ العِوَضِ فيه سَفَهٌ، وأخْذُه مِن أكْلِ المالِ بالباطِلِ، وكذلك اسْتِئْجارُ ثَوْبٍ ليُوضَعَ على سَرِيرِ المَيِّتِ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (والإجارَةُ على ضَرْبَين؛ أحدُهما، إجارَةُ عَينٍ، فتَجُوزُ إجارَةُ كُلِّ عَين يُمْكِنُ اسْتِيفاءُ المَنْفَعةِ المُباحةِ منها مع بَقائِها) كالأرْضِ، والدّارِ، والعَبْدِ، والبَهِيمَةِ، والثِّيابِ، والفَساطِيطِ، والحِبالِ، والخِيامِ، والمَحامِلِ، والسُّرُجِ، واللِّجامِ، والسَّيفِ، والرُّمْحِ، وأشْباهِ ذلك. وقد ذَكَرْنا بعضَ ذلك في مَواضِعِه.

2161 - مسألة: (ويجوز له استئجار حائط ليضع عليه أطراف خشبه)

فَيَجُوزُ لَهُ اسْتِئْجَارُ حَائِطٍ لِيَضَعَ عَلَيهِ أطْرَافَ خَشَبِهِ، وَحَيَوَانٍ لِيَصِيدَ بِهِ، إلَّا الكَلْبَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2161 - مسألة: (ويَجُوزُ له اسْتِئْجارُ حائِطٍ ليَضَعَ عليه أطرافَ خَشَبِه) إذا كان الخَشَبُ مَعْلُومًا، والمُدَّةُ مَعْلُومةً. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ. ولَنا، أنَّ هذه مَنْفَعَة مَقْصُودَة، مَقْدُور على تَسْلِيمِها واسْتِيفائِها، فجازتِ الإجارَةُ عليها، كاسْتِئْجارِ السَّطْحِ للنَّوْمِ عليه. 2162 - مسألة: (و) يجوزُ استِئْجارُ (حَيَوانٍ ليَصِيدَ به، إلَّا الكَلْبَ) يَجُوزُ اسْتِئْجارُ الفَهْدِ، والبازِي، والصَّقْرِ، ونحوه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصَّيدِ (¬1)، في مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ؛ لأنَّ فيه نَفْعًا مُباحًا، تَجُوزُ إعارَتُه له (¬2)، فجازت إجارَتُه له، كالدَّابّةِ. فأمّا إجارَةُ سباع البَهائِمِ والطَّيرِ التي لا تَصْلُحُ للصَّيدِ، فلا تَجُوزُ إجارَتُها؛ لأنَّه لا نفْعَ فيها، وكذلك إجارَةُ الكلْبِ والخِنْزِيرِ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ بَيعُه. ويَتَخَرَّجُ جَوازُ إجارَةِ الكَلْبِ الذي يُباحُ اقْتِناؤه؛ لأنَّ فيه نَفْعًا مُباحًا تَجُوزُ إعارَتُه له، فجازت إجارَتُه له، كغيرِه. ولأصحابِ الشافعيِّ فيه (¬3) وَجْهان، كهذَين. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: ر 1، م.

2163 - مسألة: (و)

وَاسْتِئْجَارُ كِتَابٍ يَقْرأ فِيهِ، إلا الْمُصْحَفَ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2163 - مسألة: (و) يَجُوزُ (اسْتِئْجارُ كِتابٍ ليَقْرأ فيه، إلَّا المُصْحَفَ، في أحَدِ الوَجْهَين) تَجُوزُ إجارَةُ كُتُب العِلْمِ التي يَجُوزُ بَيعُها للانتْفاعَ بها مِن القِرَاءَةِ فيها، والنَّسْخِ منها، والرِّوايةِ، وغيرِ ذلك من الانْتِفاعِ المَقْصُودِ المُحْتاجِ إليه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ومُقْتَضى قَوْلِ أبي حنيفةَ، أَنه لا تَجُوزُ إجارَتُها؛ لأَنه عَلَّلَ مَنْعَ إجارَةِ المُصْحَف بأنَّه ليس في ذلك أكْثَرُ مِن النَّظَرِ إليه، ولا تَجُوُز الإجارَةُ لمِثْلِ ذلك، كما لا يَجُوزُ أن يَسْتَأجِرَ سَقْفًا ليَنْظُرَ إلى عَمَلِه. ولَنا، أنَّ فيه نَفْعًا مُباحًا يُحْتاجُ إليه، تَجُوزُ الإعارَةُ له، فجازتِ الإجارَةُ له، كسائرِ المَنافِعِ. وفارَق النَّظَرَ إلى السَّقْفِ؛ فإنَّه لا حاجَةَ إليه، ولا جَرَتِ العادَةُ بالإِعارَةِ مِن أجْلِه. وتَجُوزُ إجارَةُ كِتَابٍ فيه خَطٌّ حَسَن، يَنْقُلُ منه ويَكْتُبُ عليه، على قِياسِ ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفي إجارَةِ المُصْحَفِ وَجْهان؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ إجارَتُه؛ لأنه لا يَصِحُّ بَيعُه؛ إجْلالًا لكتابِ اللهِ تعالى وكَلامِه عن المُعاوَضةِ به وابتذالِه بالثمَنِ في البَيعِ والأجْرِ في الإجارَةِ. والثاني، يَصِحُّ. وهو مَذْهَبُ الشافعي؛ لأنه انْتِفاع مُباحٌ، تَجُوزُ الإعارَةُ مِن أجْلِه، فجازت إجارَتُه، كسائِرِ الكُتُبِ. ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ جَوازِ البَيعِ عَدَمُ جَوإزِ الإجارَةِ، كالحُرِّ. فصل: والذي يَحْرُمُ بَيعُه تَحْرُمُ إجارَتُه، إلَّا الحُرَّ، والوَقْفَ، وأم الوَلَدِ، فإنَّه يَجُوزُ إجارَتُها وإن حَرُمَ بَيعُها، وما عدا ذلك لا تَجُوزُ إجارَتُه، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاءَ اللهُ تعالى.

2164 - مسألة: (و)

وَاسْتِئْجَارُ النقْدِ لِلتحَلِّي وَالْوَزْنِ لَا غَيرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2164 - مسألة: (و) يَجُوزُ (اسْتِئْجارُ النقْدِ للتحَلِّي والوَزْنِ لا غيرُ) إذا كان في مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ. وبه قال أبو حنيفةَ. وهو أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ، والوَجْهُ الآخَرُ، أنَّه لا تَجُوزُ إجارَتُها؛ لأن هذه المَنْفَعَةَ ليستِ المَقْصُودَ منها، ولذلك لا تُضْمَنُ مَنْفَعَتُها بغَصْبِها، فأشْبَهَتِ الشَّمْعَ. ولَنا، أنها عَين أمْكَنَ الانْتِفاع بها معِ بَقاءِ عَينها مَنْفَعَةً مُباحَة، فأشْبَهَتِ الحَلْىَ، وفارَقَ الشَّمْعَ؛ فإنه لا يُنْتَفعُ به إلَّا بما يُتْلِفُ عَينَه.

2165 - مسألة: (فإن أطلق الإجارة)

فَإن أطْلَقَ الإجَارَةَ، لَمْ تَصِح فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ، وَتَصِحُّ فِي الآخَرِ، وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2165 - مسألة: (فإن أطْلَقَ الإجارَةَ) صَحَّت (ويَنْتَفِعُ بها في ذلك) وهذا اخْتيارُ أبي الخَطابِ؛ لأنَّ مَنْفَعَتَها في الإجارَةِ مُتَعَينة في التحَلِّي والوَزْنِ، وهما مُتَقارِبانِ، فوَجَبَ أن تُحْمَلَ الإجارَةُ عندَ الإطْلاقِ عليهما، كاستئْجارِ الدّارِ مُطْلَقًا، فإنَّه يَتَناوَلُ السُّكْنَى وَوَضْعَ المَتاعِ فيها. فعلى هذا يَنْتَفِعُ بها فيما شاءَ منهما. وقال القاضي: لا تَصِحُّ الإجارَةُ، وتكون قَرْضًا. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الإجارَةَ تَقْتَضِي الانْتِفاعَ، والانْتِفاعُ المُعْتادُ بالدراهِمِ والدَّنانِيرِ إنَّما هو بأعْيانِها، فإذا اطْلِقَ الانْتِفاعُ حُمِلَ على الانْتِفاعِ المُعتادِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا تَصِحُّ الإجارَة، ولا تَكُونُ قَرْضًا؛ لأن التحَلِّيَ يَنْقُصُها، والوَزْنُ لا يَنْقُصُها، فقد اخْتَلَفَت جهَةُ الانْتِفاعِ، فلم يَجُزْ إطْلاقُها. ولا يَجُوزُ أن يُعَبرَ بها عن القَرْضِ؛ لَأنَّ القَرْضَ تَمْلِيك للعَينِ، والإجارَة تَمْلِيك للمَنْفَعَةِ تَقْتَضِي الانْتِفاعَ مع بقاءِ العَينِ، فلم يَجُزِ التَّعْبِيرُ بأحَدِهما عن الآخَرِ. ولأن التَّسْمِيَةَ والألفاظَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُؤْخَذُ نَقْلًا، ولم يُعْهَدْ في اللِّسانِ التَّعْبِيرُ بالإجارَةِ عن القَرْضِ. قال شيخُنا (¬1): وقولُ أبي الخَطَّابِ أصَحُّ إن شاءَ الله تَعالى؛ لأنَّ العَقْدَ متى أمْكَنَ حَمْلُه على الصحَّةِ، كان أوْلَى مِن إفْسادِه، وقد أمْكَنَ حَمْلُها على إجارَتِها للجِهَةِ التي تَجُوزُ إجارَتُها فيها. وقولُ القاضي، لا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنا. وما ذَكَر أصحاب الشافعيِّ مِن نَقْصِ العَينِ بالاسْتِعْمالِ في التَّحَلِّي، فبَعِيدٌ؛ فإن ذلك يَسِير لا أثَرَ له، فوجودُه كعَدَمِه. فصل: ويَجوز أن يَسْتَأجِرَ نَخْلًا لتجَفِّفَ عليها الثِّيابَ، أو يَبسطَها عليها ليَسْتَظِلَّ بظِلِّها. ولأصْحابِ الشافعيِّ في ذلك وَجْهان؛ لِما ذَكَروه في الأثْمانِ. ولنا، أنَّها لو كانت مَقْطُوعَةً، لجاز اسْتِئْجارها لذلك، فكذلك النّابِتَةُ، وذلك لأنَّ الانْتِفاعَ يَحْصل بهما على السواءِ في الحالتَين، فما جاز في إحْداهما يَجوز في الأخْرَى. ولأنها شَجَرَةٌ، فجاز اسْتِئْجارها لذلك، كالمَقْطُوعَةِ. ولأنَّها مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ يمْكِن اسْتِيفاؤها مع بَقَاءِ العَينِ، فجاز العَقْد عليها، كما لو كانت مَقْطوعَةً. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 127.

2166 - مسألة: (ويجوز استئجار ولده لخدمته، وامرأته لرضاع ولده وحضانته)

وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ وَلَدِهِ لِخِدْمَتِهِ، وَامْرَأتِهِ لِرَضَاعَ وَلَدِهِ، وَحَضَانَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجوز اسْتِئْجاز ما يَبقَى مِن الطِّيبِ والصَّنْدَلِ، وقِطَع الكافورِ، والنَّدِّ؛ ليَشمَّه المَرْضَى وغيرهم مدةً ثم يَردُّه؛ لأنها مَنْفعَةٌ مباحَة (¬1) أشْبَهَتِ الوَزْنَ والتحَلِّيَ، مع أنه لا يَنْفَكُّ مِن إخْلاقٍ وبِلًى. فصل: يَجوز اسْتِئْجار دار يَتخِذها مَسْجِدًا يصَلِّي فيه. وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجوز؛ لأنَّ فِعْلَ الصلاةِ لا يَجوز اسْتِحْقاقه بعَقْدِ الإجارَةِ بحالٍ، فلا تجوزُ الإجارَةُ لذلك. ولَنا، أن هذه مَنْفَعَة مباحَة يمْكِنُ اسْتِيفاؤها مِن العَين مع بَقائِها، فجاز اسْتِئْجار العَينِ لها، كالسُّكْنَى، ويفارِق الصلاةَ؛ فإنها لا تَدْخُل النِّيابَة فيها، بخِلافِ المَسْجِدِ. 2166 - مسألة: (ويَجوزُ اسْتئجار وَلَدِه لخِدْمَتِه، وامْرَأتِه لرَضاعِ وَلَدِه وحَضانَتِه) يَجوزُ اسْتِئْجار وَلَدِه لخِدْمَتِه، كالأجْنَبِيِّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واسْتِئْجارُ أمهِ وأخْتِه وابْنَتِه لرَضاعِ وَلَدِه، وكذلك سائِرُ أقاربِه بغيرِ خِلافٍ، كالأجانِبِ. فأمّا اسْتِئْجار امْرَأتِه لرَضاع وَلَدِه منها، فيَجُوزُ في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَب. قال الخِرَقِي: إن أرادَتِ الأم أن ترْضِعَ وَلَدَها بأجْرَةِ مِثْلِها، فهي أحَق به مِن غيرِها، سواء كانت في حِبالِ الزَّوْجِ أو مُطَلَّقَةً. وقال القاضي: لا يَجُوزُ. وتَأوَّلَ كَلامَ الخِرَقِيِّ على أنها في حِبالِ زَوْج آخَرَ. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأي. وحُكِيَ عن الشافعيِّ؛ لأنَّه قد اسْتَحَقَّ حَبْسَها والاسْتِمْتاعَ بها بعِوَضٍ، فلا يَجوزُ أن يَلْزَمَه عِوَض (¬1) آخَرُ؛ لذلك. ولَنا، أنَّ كل عَقْدٍ يَصِحُّ أن تَعْقِدَه صع غيرِ الزَّوْجِ، يَصِحُّ أن تَعْقِدَه معه، كالبَيعِ، ولأنَّ مَنافِعَها في الرَّضاع والحَضانَةِ غيرُ مُسْتَحَقَّةٍ للزَّوْجِ، بدَلِيلِ أنَّه لا يَمْلِكُ إجْبارَها على ذلك، ويَجُوزُ أن تَأخُذَ عليها العِوَضَ مِن غيرِه، فجاز لها أخْذُه منه، كثمَنِ مالِها. وقولُهم: إنها اسْتَحَقَّتْ عِوَضَ الحَبْسِ والاسْتِمْتاعِ. قلنا: هذا غيرُ الحَضانَةِ، واسْتِحقاقُ مَنْفَعةٍ مِن وَجْهٍ لا يَمْنعُ اسْتِحقاقَ مَنْفَعةٍ سِوَاها بعِوَض آخَرَ، كما لو اسْتَأجَرَها كم تَزَوَّجَها. وتَأويلُ القاضي كَلامَ الخِرَقِيِّ ¬

(¬1) سقط من: م.

2167 - مسألة؛ [قال، رضي الله عنه]

وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أحَدُهَا، أنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْعِ الْعَين دُونَ أجْزَائِهَا، فَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ الطَّعَامِ لِلأكْلِ، وَلَا الشمْعِ لِيُشْعِلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُخالِفُ الظّاهِرَ مِن وَجْهَين؛ أحدُهما، أنَّ الألِفَ واللامَ في الزوْج للمَعْهُودِ، وهو أبو الطِّفْلِ. الثاني، أنَّها إذا كانت في حِبالِ زوْجٍ آخَرَ لا تكونُ أحَقَّ به، بل يَسْقُطُ حَقُّها مِن الحَضانَةِ، ثم ليس لها أن ترْضِعَ إلَّا بإذنِ زَوْجِها، ففَسَدَ التَّأويلُ. 2167 - مسألة؛ [قال، رَضِيَ اللهُ عنه] (¬1): (ولا تَصِحُّ) الإجارَةُ (إلَّا بشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أحدُها، أن يَعْقِدَ على نَفْعِ العَينِ دُونَ أجْزائِها) لأنَّ الإجارَةَ هي بَيعُ المَنافِعَ، فأمّا الأجْزاءُ، فلا تَدْخُلُ في الإجارَةِ (فلا يَصِحُّ إجارَة الطَّعامِ للأكْلِ، ولا الشَّمْعِ ليُشْعِلَه) لأنَّ هذا لا يُنْتَفَعُ به إلَّا بإتْلافِ ¬

(¬1) سقط من: م.

2168 - مسألة: (ولا)

وَلا حَيَوَانٍ لِيَأخذ لبَنَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَيْنِه، فلم يَجُزْ، كما لو اسْتَأجَرَ دِينارًا ليُنْفِقَه، فإنِ اسْتَأجَرَ شَمْعةً ليُسْرِجَها، ويَرُدَّ بَقِيتها وثَمَنَ ما ذَهَب وأجْرَ الباقِي، فهو فاسِد؛ لأنه يَشْمَلُ بَيعًا وإجارَةً، وما وَقع عليه البَيعُ مَجْهُول، وإذا جُهِلَ البَيعُ، جُهِلَ المُسْتَأجَرُ أيضًا، فيَفْسُدُ العَقْدان. 2168 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ استِئْجارُ (حَيَوانٍ ليَأخُذَ لَبَنَه) كاسْتِئْجارِ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ ليَأخُذَ لَبَنَها، أو ليَسْتَرْضِعَها

2169 - مسألة: (إلا في الظئر ونقع

إلا فِي الظِّئْرِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ، يَدْخُلُ تَبَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْخاله (¬1)، ونحوَها، ولا ليَأخُذَ صُوفَها وشَعَرَها ووَبَرَها، ولا اسْتِئْجارُ شَجَرةٍ ليَأخُذَ ثَمَرَتَها أو شيئًا مِن عَينها؛ لِما ذَكَرْناه. 2169 - مسألة: (إلَّا في الظِّئْرِ ونَقْعِ (¬2) البِئْرِ، يَدْخُلُ تَبَعًا) أمّا الظِّئْرُ فقد سَبَقَ ذِكْرُها. وأمّا نَقْعُ البِئرِ، فقال ابنُ عَقِيل: يَجُوزُ اسْتِئْجارُ ¬

(¬1) في م: «أسخالها». وهي أولاد الإبل والبقر والغنم. (¬2) في م: «نفع» بالفاء الموحدة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البِئْر ليَسْتَقِيَ منه أيامًا مَعْلُومَةً أو دِلاءً مَعْلُومةً؛ لأنَّ هَواءَ البِئْرِ وعُمْقَها فيه نَوْعُ انْتِفاعٍ بمرُورِ الدَّلْو فيه. فأمّا الماءُ فيؤخَذُ على أصْلِ الإباحَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجُوزُ اسْتِئْجارُ الفَحْلِ للضِّرابِ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأي. وخَرَّجَ أبو الخَطَّابِ وَجْهًا في جَوازِه، بِناءً على إجارَةِ الظئرِ للرَّضاعِ؛ لأنَّ الحاجَة تَدْعُو إليه. وهو قولُ الحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن عَسْبِ الفَحْلِ. مُتَّفَق عليه (¬1). ولأنَّ المَقْصُودَ الماءُ الذي يُخْلقُ منه الوَلَدُ، فيَكُونُ عَقْدُ الإجارَةِ لاسْتِيفاءِ عَين [فلم يَجُزْ] (¬2)، كإجارَةِ الغَنَمِ لأخْذِ لَبَنِها، ولأنَّ الماءَ مُحَرَّم لا قِيمَةَ له، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه، كالمَيتَةِ. فأمّا مَن أجازَه، فيَنْبَغِي أن يُوقِعَ العَقْدَ على العَمَكِ، ويُقَدِّرَه بمَرَّةٍ أو مَرَّتَينِ. وقيل: يُقَدِّرُه بالمُدَّةِ. وهو بَعِيدٌ، فإنَّ مَن أرادَ إطْراقَ فَرَسِه (¬3) مَرَّةً، فقَدَّره بمُدَّةٍ تَزِيدُ على قَدْرِ الفِعْلِ، لم يُمْكِنِ اسْتِيعابُها به، ورُبَّما لا يَحْصُلُ الفِعْلُ في المُدَّةِ، ويَتَعَذَّرُ ضَبْطُ مِقْدارِ الفِعْلِ، فيَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ بالفِعْلِ، إلَّا أن يَكْتَرِيَ فَحْلًا لإطْراق ماشِيَةٍ كَثيرَةٍ، كتَيْسٍ يَتْرُكُه في غَنَمِه، فإنَّه إنَّما يَكْتَرِيه مُدَّةً مَعْلُومَةً. والمَذْهَبُ أنه لا يَجُوزُ إجارَتُه؛ لِما ذَكَرْناه، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب عسب الفحل، من كتاب الإجارة. صحيح البخاري 3/ 123. ولم يخرجه مسلم، انظر: تحفة الأشراف 6/ 188. كما أخرجه أبو داود، في: باب في عسب الفحل، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 239. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية عسب الفحل، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 274. والنسائي، في: باب بيع ضراب الجمل، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 273. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 14. (¬2) في م: «فهو». (¬3) في الأصل: «فسره».

2170 - مسألة: (الثاني، معرفة العين برؤية أو صفة، في أحد الوجهين، ويصح في الآخر بدونه، وللمستاجر خيار الروية)

الثَّانِي، مَعْرِفَةُ الْعَينِ بِرُؤيَةٍ أوْ صِفَةٍ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ، وَتَصِحُّ فِي الآخَرِ بِدُونِهِ، وَلِلْمُستَأجِرِ خِيَارُ الرؤيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِ احْتاجَ إلى ذلك، ولم يَجِدْ مَن يُطْرِقُ له، جاز له أن يَبْذُلَ الكِراءَ، وليس للمُطْرِق أخْذُه؛ لأنَّ ذلك بَذْلُ مالٍ لتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ مُباحةٍ تَدْعُو الحاجَةُ إليها، فجاز، كشراءِ الأسِيرِ، ورِشْوَةِ الظّالِمِ ليَدْفَعَ ظُلْمَه. وإن أطْرَقَ إنْسان فَحْلَه بغيرِ إجارَةٍ ولا شَرْطٍ، فأُهْدِيَتْ له هَدِيَّة، أو أكْرِمَ بكَرامةٍ لذلك، فلا بَأسَ به؛ لأنَّه فَعَل مَعْرُوفًا، فجازَتْ مُجازاتُه عليه، كما لو أهدَى هَدِيةً فجُوزِيَ عليها. واللهُ أعلمُ. 2170 - مسألة: (الثاني، مَعْرِفةُ العَينِ برُؤيةٍ أو صِفَةٍ، في أحَدِ الوَجْهَين، ويَصِحُّ في الآخرِ بدُونِه، وللمُسْتَاجِرِ خِيارُ الرُّويةِ) يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ العَينِ المُسْتَأجَرَةِ بالمُشاهَدَةِ إن كانت لا تَنْضَبِطُ بالصِّفاتِ، أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالصِّفَةِ إن كانت تَنْضَبِطُ بها، قِياسًا على البَيعِ. وفيه وَجْه آخَر، أنَّه لا يُشْتَرَطُ، ويَثْبُتُ للمُسْتَأجِر خِيارُ الرُّويةِ. وهو قولُ أصْحابِ الرأي. والخِلافُ ههُنا مَبْنِيٌّ على الخِلافِ في البَيعِ. وقد ذَكَرْناه، والمَشْهُورُ الأوَّلُ. فعلى هذا، إذا كانت ممّا لا يَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، كالدورِ، والحَمّامِ، فلا بُدَّ مِن رُؤيتها، كالبَيعِ؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ بصِغَرِها، وكِبَرِها، ومَرافِقِها، ومُشاهَدَةِ قَدْرِ الحَمّامِ؛ ليَعْلَمَ كِبَرَها مِن صِغَرِها، ومَعْرِفةِ مائِهِ، ومُشاهَدَةِ الإيوانِ (¬1)، ومُطَّرَحِ الرَّمادِ، ومَوْضِح الزِّبْلِ، ومَصْرِفِ ماءِ الحَمّامِ. فمتى أخَلَّ بهذا أو بعضِه، لم يَصِحَّ؛ للجَهالةِ بما يَخْتَلِفُ به الغَرَضُ. وقد كَرِه أحمدُ، رَحِمَهُ الله، كَرْىَ الحَمّامِ؛ لأنَّه يَدْخُلُه مَن يَكْشِفُ عَوْرَتَه فيه. قال ابنُ حامدٍ: هذا على طَرِيقِ كَراهَةِ التنزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، فأمّا العَقْدُ فصَحِيح في قولِ أكثر أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ، أنَّ كِراءَ الحَمّامِ جائِر، إذا حَدَّدَه، وذَكَر جميعَ آلتِه شُهُورًا مُسَمّاةً. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرأي؛ لأنَّ المُكْتَرِي إنَّما يَأخُذُ الأجْرَ عِوَضًا عن دُخُولِ الحَمّامِ والاغْتِسالِ بمائِهِ، وأحْوالُ المُسْلِمِين مَحْمُولَةٌ على السَّلامَةِ، وإن وَقَعَ مِن بعضِهم فِعْلُ ما لا يَجُوزُ، ¬

(¬1) في الأصل: «الأبواب».

2171 - مسألة: (الثالث، القدرة على التسليم، فلا يصح إجازة الآبق والشارد، ولا المغصوب)

الثَّالث، الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلا تَصحُّ إِجَارَةُ الآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَلَا الْمَغْصُوبِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أخْذِهِ. وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ مُفْرَدًا لِغَيرِ شَرِيكِهِ. وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُحَرَّمِ الأجْرُ المَأخُوذُ منه، كما لو اكْتَرَى دارًا ليَسْكُنَها، فشربَ فيها خَمْرًا. 2171 - مسألة: (الثالثُ، القُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ، فلا يَصِحُّ إجازَةُ الآبِقِ والشّارِدِ، ولا المَغْصُوبِ) مِن غيرِ غاصِبِه، إذا لم يَقْدِرْ على أخْذِه منه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ المَعْقُودِ عليه، فلم تَصِحَّ إجارَتُه، كبَيعِه. 2172 - مسألة: (ولا تَجُوزُ إجارَةُ المُشَاعِ مُفْرَدًا لغيرِ شَرِيكِه. وعنه ما يَدُلُّ على الجَوازِ) قال أصحابُنا: لا تَجُوزُ إجارَةُ المُشاعِ لغيرِ الشَّرِيكِ، إلَّا أن يُؤْجِرَ الشرِيكان معًا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وزُفَرَ؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، فلم تَصِحَّ إجارَتُه، كالمَغْصُوبِ، يُحَقِّقُ ذلك أنَّه لا يَقدِرُ على تَسْلِيمه إلَّا بتَسْليمِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، ولا ولايةَ له على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِ شَرِيكِه. واخْتارَ أبو حَفْص العُكْبَرِي جَوازَه. وقد أوْمأ إليه أحمدُ. وهو قولُ مالك، والشافعيِّ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ؛ لأنه مَعْلُوم يَجُوزُ بَيعُه، فجازَتْ إجارَتُه، كالمُفْرَدِ. ولأنَّه عَقْد في مِلْكِه يَجُوزُ مع شَرِيكِه، فجاز مع غيرِه، كالبَيعِ. ومَن نَصَر الأولَ، فَرّقَ بينَ مَحَلِّ النِّزاعِ وبينَ ما إذا أجَرَه الشرِيكان، أو أجَرَه لشَرِيكِه، فإنَّه يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلى المُسْتَأجِرِ، فأشْبَهَ إجارَةَ المَغْصُوبِ مِن غاصِبِه دُونَ غيرِه. وإن كانت لواحدٍ فأجَرَ نِصْفَها، صَح؛ لأنه يُمْكِنُه تَسْلِيمُه، ثم إن أجَرَ نِصْفَها الآخَرَ للمُسْتَأجِرِ الأولِ، صَحَّ؛ لإمْكانِ تَسْلِيمِه إليه. وإن أجَرَه لغيرِه، فَفِيه وَجْهان، كالمسألة التي قبلَها؛ لأنه لا يُمْكِنُه تَسْلِيمُ ما أجَرَه إليه. وإن أجَرَ الدّارَ لاثْنَين، لكُلِّ واحدٍ منهما نصفها، وكذلك؛ لأنه لا يُمْكِنُه تَسْلِيمُ نَصيبِ كُلِّ واحدٍ إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَجُوزُ إجارَةُ المُسْلِمِ للذِّمِّيِّ لخِدْمَتِه. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، فقال: إن أجَرَ نَفْسَه مِن الذِّمِّيِّ في خِدْمَتِه لم يَجُزْ، وإن كان في عَمَل شيءٍ جاز. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: تَجُوزُ، لأَنه يَجُوزُ له إجارَةُ نَفْسِه في غيرِ الخِدْمَةِ، فجاز فيها، كإجارَته مِن المُسْلِمِ. ولَنا، أَنه عَقْد يَتَضَمَّنُ حَبْسَ المُسْلِمِ عندَ الكافِرِ وإذْلاله له واسْتِخْدامَه، أشبَهَ البَيعَ، يُحَقِّقُه أنَّ عَقْدَ الإجارَةِ للخِدْمَةِ يَتَعَيَّنُ فيه حَبْسُه مُدَّةَ الإجارَةِ واسْتِخدامُه، والبَيعُ لا يَتَعَيَّنُ فيه ذلك، فإذا مُنِعَ منه، فالمَنْعُ مِن الإجارَةِ أوْلَى. فأمّا إن أجَرَ نفْسَه منه في عَمَل مُعَيَّن في الذِّمَّةِ، كخِياطَةِ ثَوْبٍ، جاز بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ الله عنه، أجَرَ نَفْسَه مِن يَهُودِيٍّ يَسْتَقِي له كلَّ دَلْوٍ بتَمْرةٍ، وأخْبَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فلم يُنْكِرْه، وكذلك الأنْصاري (¬1). ولأنه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ لا يَتَضَمَّنُ إذْلال المُسْلِمِ ولا استِخْدامَه، فأشْبَهَ مُبايَعَتَه. وإن أجَرَ نَفْسَه منه [لعمل غيرِ] (¬2) الخِدْمةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، جاز أيضًا، في ظاهِرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 301. (¬2) في م: «لغير».

2173 - مسألة: (الرابع، اشتمال العين على المنفعة. فلا يجوز استئجار بهيمة زمنة للحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع)

الرَّابعُ، اشْتِمَالُ الْعَينِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَلَا تَجُوزُ إِجَارَةُ بَهِيمَةٍ زَمِنَةٍ لِلْحَمْلِ، وَلَا أرْض لَا تُنْبِتُ لِلزَّرْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامِ أحمدَ؛ لقولِه: وإن كان في عَمَلِ شيءٍ جاز. ونَقَلَ عنه أحمدُ بنُ سعيدٍ: لا بَأسَ أن يُؤَاجِرَ نَفْسَه مِن الذِّمِّيِّ. وهذا مُطْلَق في نَوْعيِ الإجارَةِ. وذَكَرَ بعضُ أصحابِنا أنَّ ظاهِرَ كَلامِ أحمدَ مَنْعُ ذلك وأشار إلى ما رَواه الأثْرَمُ، واحْتَجَّ بأنه عَقْد يَتَضَمَّنُ حَبْسَ المُسْلِمِ، أشْبَهَ البَيعَ. والصَّحِيحُ ما ذَكَرْنا، فإنَّ كلامَ أحمدَ يَدُلُّ على خِلافِ ما قاله، فإنَّه خَصَّ المَنْعَ بالإجارَةِ للخِدْمةِ، وأجازَ إجارَتَه للعَمَلِ، وهذا إجارَة للعَمَلِ، ويُفارِق البَيعَ؛ فإنَّ فيه إثْباتَ المِلْكِ على المُسْلِمِ، ويُفارِق إجارَتَه للخِدْمَةِ؛ لتَضَمُّنِها الإذْلال. فصل: نَقَل إبراهيمُ الحَرْبي، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَكْتَرِي الدِّيكَ ليُوقِظَه لوَقْتِ الصَّلاةِ، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ ذلك يَقِفُ على فِعْلِ الدِّيكِ، ولا يُمْكِنُ اسْتِخْراجُ ذلك منه بضَرْبٍ ولا غيرِه، وقد يَصِيحُ وقد لا يَصِيحُ. ورُبَّما صاحَ بعدَ الوَقْتِ. 2173 - مسألة: (الرابعُ، اشْتِمالُ العَينِ على المَنْفَعَةِ. فلا يَجُوزُ اسْتِئْجارُ بَهِيمَةٍ زَمِنَةٍ للحَمْلِ، ولا أرْضٍ لا تُنْبِتُ للزَّرْعِ) لأنَّ الإِجارَةَ

2174 - مسألة: (الخامس، كون المنفعة مملوكة للمؤجر، أو مأذونا له فيها)

الْخَامِسُ، كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَمْلُوكَةً لِلْمُؤجِرِ، أو مَأذُونًا لَهُ فِيهَا، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأجرِ إجَارَةُ الْعَينِ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدٌ على المَنْفَعةِ، ولا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ هذه المَنْفَعَةِ مِن هذه العَينِ، فلا تَجُوزُ إجارَتُها، كالعَبْدِ الآبِقِ. 2174 - مسألة: (الخامسُ، كَوْنُ المَنْفَعَةِ مَمْلُوكةً للمُؤْجِرِ، أو مَأذُونًا له فيها) لأنَّه تَصَرُّفٌ فيما لا يَمْلِكُه ولا أذِنَ فيه مالِكُه، فلم يَجُزْ، كَبَيعِه. ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ ويَقِفَ على إجازَةِ المالِكِ، بِنَاءً على بَيع العَينِ بغيرِ إذْنِ مالِكِها. [وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك في كتابِ البيعِ] (¬1). 2175 - مسألة: (يَجُوزُ للمُسْتَأجِرِ إجارَةُ العَينِ لمَن يَقُومُ مَقامَه) مِن المُؤْجِرِ وغيرِه. يَجُوزُ للمُسْتَأجِرِ [أن يُؤجِرَ] (¬2) العَينَ المُسْتَأجَرَةَ إذا قَبَضَها. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إجارة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ سِيرِينَ، ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، وأبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبيِّ، والثَّوْريِّ، والشافعيِّ، وأصحاب الرأي. وذَكَر القاضي فيه رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن رِبْح ما لم يُضْمَنْ (¬1). والمَنافِعُ لم تَدْخُلْ في ضَمانِه، ولأنَّه عَقَدَ على ما لم يَدْخُلْ في ضَمانِه، فلم يَجُزْ، كبَيعِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ قبل قَبْضِه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ قَبْضَ العَينِ قامَ مَقامَ قَبْضِ المَنافِعِ، بدَلِيلِ أنّه يجوزُ التَّصَرُّفُ فيها، فجاز العَقْدُ عليها، كبَيعِ الثَّمَرَةِ على الشّجَرةِ، وبهذا الأصْلِ يَبْطُلُ قياسُ الرِّوايةِ الأخْرَى. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا تَجُوزُ إجارَتُه إلَّا لمَن يَقُومُ مَقامَه، أو دُونَه في الضَّرَرِ؛ لأن هذه المَنْفَعَةَ صارَتْ مَمْلُوكَةً له، فله أن يَستوْفِيَها بنَفْسِه وبنائِبهِ. والمُسْتأجَرَةُ لا تَجُوزُ إجارَتُها لمَن هو أكثرُ ضَرَرًا منه، ولا لمَن يُخالِفُ ضَرَرُه ضَرَرَه؛ لِما نَذْكُرُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 216.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا إجارَتُها قبلَ قَبْضِها، فتَجُوزُ مِن غيرِ المُؤْجِرِ في أحَدِ الوَجْهَين. وهو قولُ بعضِ الشافعيةِ؛ لأنَّ قَبْضَ العَينِ لا يَنْتَقِلُ به الضَّمانُ إليه، فلم يَقِفْ جَوازُ التَّصَرُّفِ عليه. والثاني، لا يَجُوزُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والمَشْهُورُ مِن قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ المَنافِعَ مَمْلُوكَة بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فاعْتُبِرَ في جَوازِ العَقْدِ عليها القَبْضُ، كالأعْيانِ. وأمّا إجارَتُها للمُؤْجِرِ قبلَ القَبْضِ، فإذا قُلْنا: لا يَجوزُ مِن غيرِ المُؤْجِرِ. ففيها ههُنا وَجْهان؛ أحدهما، لا يَجوز كغيرِه. والثاني، يَجُوزُ؛ لأنَّ القَبْضَ لا يَتَعَذَّرُ عليه، بخِلافِ الأجْنَبِيِّ، وأصْلُهما بَيعُ الطَّعامِ قبلَ قَبْضِه، هل يَصِحُّ مِن بائِعِه؛ على رِوايَتَين. وتَجوزُ إجارَتُها مِن المُؤْجِرِ بعدَ قَبْضِها. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى تَناقُضِ الأحكامِ؛ لأنَّ التسْلِيمَ مُسْتحَقٌّ على (¬1) المُكْرِى، فإذا اكْتَراها صار ¬

(¬1) في م: «من».

2176 - مسألة: (وتجوز)

وَتَجُوزُ لِلْمُؤجِرِ وَغَيرِهِ بِمِثْلِ الأجْرَةِ وَزِيَادَةٍ. وَعَنْهُ، لَا تَجُوزُ بِزِيَادَةٍ. وَعَنْهُ، إِنْ جَدَّدَ فِيهَا عِمَارَةً، جَازَتِ الزِّيَادةُ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَحِقًّا له، فيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا لِما يُسْتَحَقُّ عليه، وهو تَناقُضٌ. ولَنا، أنَّ كلَّ عَقْدٍ جاز مع الأجْنَبِيِّ، جاز مع العاقِدِ، كالبَيعِ. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ التَّسْلِيمَ قد حَصَل، وهذا المُسْتحَقُّ له تَسْلِيمٌ آخَرُ، ثم يَبْطُلُ بالبَيعِ، فإنَّه يُسْتَحَقُّ عليه تَسْلِيمُ العَينِ، فإذا اشْتَراها اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَها. فإن قِيلَ: التُّسْلِيمُ ههُنا مُسْتَحَق في جَميعِ المُدَّةِ. قلنا: المُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُ العَينِ، وقد حَصَل. وليس عليه تَسْلِيمٌ آخَرُ، غيرَ أنَّ العَينَ مِن ضَمانِ المُؤْجِرِ، فإذا تَعَذَّرَتِ المَنافِعُ بتَلَفِ الدّارِ، أو غَصْبِها، رَجَعَ عليه؛ لأنها تَعَذَّرَت بسَبَبٍ كان في ضَمانِه. 2176 - مسألة: (وتَجُوزُ) إجارَتُها (بمِثْلِ الأجْرَةِ وزِيادَةٍ. وعنه، لا تَجُوزُ بزِيادَةٍ. وعنه، إن جَدُّدَ فيها عِمارَةً، جازَتِ الزِّيادَةُ، وإلَّا فلا) إذا قلنا بجَوازِ إجارَةِ العَينِ المُسْتَأجَرَةِ، جازَتْ بمِثْلِ الأجْرَةِ وزِيادَةٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، ورُوِيَ عن عطاءٍ، والحَسَنِ، والزُّهْرِيِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال الشافعي، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ: لا تَجُوزُ بزِيادَةٍ، تُرْوَى كراهَةُ ذلك عن ابن المُسَيَّبِ، وأبي سَلَمَةَ، وابنِ سِيرِينَ، ومُجاهدٍ، وعِكْرِمَةَ، والنَّخَعِيِّ. وعنه، إن جَدَّدَ فيها عمارةً جازَتِ الزيادَةُ، وإلَّا فلا، فإن فَعَل تَصَدَّقَ بالزِّيادَة. رُوِيَ ذلك عن الشَّعْبِي. وبه قال الثَّوْرِي، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّه يَرْبَحُ بذلَك فيما لم يَضْمَنْ، وقد نهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ. ولأَنه يَرْبَحُ فيما لم يَضْمَنْ، فلم يَجُزْ، كما لو رَبِحَ في الطَّعامِ قبلَ قَبْضِه، ويُخالِفُ ما إذا عَمِلَ فيها، فإنَّ الرِّبْحَ في مُقابلَةِ العَمَلِ. وعن أحمدَ رِوايَة أخْرَى، إن أذِنَ له المالِكُ في الزِّيادَةِ، جاز، وإلَّا لم يَجُزْ. ولَنا، أنَّه عَقْد يَجُوزُ برَأسِ المالِ، فجاز بزِيادَةٍ، كبَيعِ المَبِيعِ بعدَ قَبْضِه، وكما لو أحْدَثَ فيها عِمارَةً لا يُقابِلُها جُزْءٌ مِن الأجْرِ (¬1). وأمّا الخَبَرُ، فإنَّ المَنافِعَ قد دَخَلَتْ في ضَمانِه مِن وَجْهٍ، بدَلِيلِ أنَّها لو فاتَتْ مِن غيرِ اسْتِيفائِه، كانت مِن ضَمانِه. والقِياسُ على بَيعِ الطَّعامِ قبلَ قَبْضِه لا يَصِحُّ، فإنَّه لا يَجُوزُ وإن لم يَرْبَحْ فيه. وتَعْلِيلُهم بأنَّ الرِّبْحَ في مُقابَلةِ عَمَلِه مُلْغًى بما إذا كَنَس الدّارَ ونَظَّفَها، فإنَّ ذلك يَزِيدُ في أجْرِها عادةً. واللهُ أعلَمُ. فصل: وسُئِلَ أحمدُ عن الرَّجُلِ يَقْبَلُ العَمَلَ مِن الأعْمالِ، فيُقَبلُه بأقَلَّ مِن ذلك، أيجُوزُ له الفَضْلُ؟ قال: ما أدْرِي، هي مسألة فيها بعضُ الشيءِ. قلتُ: ألَيسَ كان الخَيّاطُ أسْهَلَ عِنْدَك إذا قَطَع الثَّوْبَ أو غيرَه، ¬

(¬1) في الأصل: «الربح».

2177 - مسألة: (وللمستعير إجارتها إذا أذن له المعير مدة بعينها)

وَلِلْمُسْتَعِيرِ إجَارَتُهَا إِذَا أذِنَ لَهُ الْمُعِيرُ مُدَّةً بِعَينهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا عَمِلَ في العَمَلِ شيئًا؟ قال: إذا عَمِلَ فهو أسْهَلُ. قال النَّخَعِيُّ: لا بَأسَ أن يَقْبَلَ الخَيّاطُ الثِّيابَ بأجْر مَعْلُوم، ثم يُقَبِّلُها بعدَ ذلك بعدَ أن يُعِينَ فيها، أو يَقْطَعَ، أو يُعْطِيَه سُلُوكًا أو إبَرًا، [أو يَخِيطَ فيها شيئًا] (¬1). فإن لم يُعِنْ فيها بشيءٍ، فلا يَأخُذَنَّ فَضْلًا. وهذا يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ النَّخَعِي قاله بِناءً على مَذْهَبِه، في أنَّ مَن اسْتَأجَرَ شيئًا لا يُؤْجرُه بزِيادَةٍ. وقِياسُ المَذْهَبِ جَوازُ ذلك، سواء أعَانَ فيها بشيءٍ أو لم يُعِنْ؛ لأنَّه إذا جاز أن يُقَبِّلَهُ بمثلِ الأجْرِ الأولِ، جاز بزِيادَةٍ عليه، كالبَيعِ، وكإجارَةِ العَينِ. 2177 - مسألة: (وللمُسْتَعِيرِ إجارَتُها إذا أذِنَ له المُعِيرُ مُدَّةً بعَينها) لأنَّه لو أذِنَ له في بَيعِها، جازَ، فكذلك إذا أذِنَ له في إجارَتِها، ولأنَّ الحَقَّ له، فجازَ بإذْنِه. ولا بُدَّ مِن تَعْيِينِ المُدَّةِ في الإذْنِ؛ لأنَّ الإجارَةَ عَقْد لازِم، لا تَجُوزُ إلَّا مُدَّةً مُعَيَّنَةً. ¬

(¬1) سقط من: م.

2178 - مسألة: (وتجوز إجارة الوقف)

وَتَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2178 - مسألة: (وتَجُوزُ إجارَةُ الوَقْفِ) لأنَّ مَنافِعَه مَمْلُوكَةٌ للمَوْقُوفِ عليه، فجازَ له إجارَتُها، كالمُسْتَأجِرِ.

2179 - مسألة: (فإن مات المؤجر، فانتقل إلى من بعده، لم تنفسخ الإجارة، في أحد الوجهين، وللثاني حصته من الأجرة)

فَإنْ مَاتَ الْمُؤجِرُ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، لَمْ تَنْفَسِخِ الإجَارَةُ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ، وَلِلثَّانِي حِصَّتُهُ مِنَ الأجْرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2179 - مسألة: (فإن ماتَ المُؤْجِرُ، فانْتَقَلَ إلى مَن بَعدَه، لم تَنْفَسِخِ الإجارَةُ، في أحَدِ الوَجْهَين، وللثاني حِصَّتُه مِن الأجْرةِ) لأنَّه أجَرَ مِلْكَه في زَمَنِ ولايته، فلم تَبْطُلْ بمَوْتِه، كما لو أجَرَ مِلْكَه المُطْلَقَ (¬1). والثاني، تَنْفَسِخُ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ؛ لأنَّا تَبَيَّنَّا أنَّه أجَرَ مِلْكَه ومِلْكَ غيرِه، فَصَحَّ في مِلْكِه دُونَ مِلْكِ غيرِه، كما لو أجَرَ دارَين، إحداهما له والأخْرَى لغيرِه، بخِلافِ المطْلَقِ (1)، فإنَّ المالِكَ يَمْلِك مِن ¬

(¬1) في م: «الطلق».

2180 - مسألة: (وإن أجر الولي اليتيم)

وإنْ أجَرَ الْوَلِيُّ الْيَتيمَ أو السَّيِّدُ الْعَبْدَ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِي، وَعَتَقَ الْعَبْدُ، لَمْ تَنْفَسِخِ الإجَارَةُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ تَنْفسِخَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جِهَةِ المَوْرُوثِ، فلا يَمْلِكُ إلَّا ما خَلَّفَه، وما تَصَرَّفَ فيه في حَياتِه لا يَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ، والمَنافِعُ التي أجَرَها قد خَرَجَتْ عن مِلْكِه بالاجارَةِ فلا تَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ، والبَطْنُ الثاني في الوَقْفِ يَمْلِكُونَ مِن جِهَةِ الواقِفِ، فما حَدَث فيها بعدَ البطْنِ الأولِ كان مِلْكًا لهم، فصادَفَ (¬1) تَصَرُّفَ المُؤْجِرِ في مِلْكِهم مِن غيرِ إذْنِهم، ولا ولايةٍ له عليهم. ويَتَخَرَّجُ أن تَبْطُلَ الاجارَةُ كُلُّها، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وهذا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشافعيِّ. فعَلَى هذا، إن كان المُؤْجِرُ قَبَض الأجْرَ كُلَّه، وقلنا: تَنْفَسِخُ الإجارَةُ. فلمَن انْتَقَلَ إليه الوَ قْفُ أخْذُه، ويَرْجِعُ المُسْتَأجِرُ على وَرَثَةِ المُؤْجِرِ بحِصَّةِ الباقِي مِن الأجْرِ. وإن قلنا: لا تَنْفسِخُ. رَجَع مَن انْتَقَل إليه الوَقْفُ على التَّرِكَةِ بحِصَّتِه. 2180 - مسألة: (وإن أجَرَ الوَلِيُّ اليَتيمَ) أو ماله مُدَّةً، فبَلَغَ في أثْنائِها، فليس له فَسْخُ الإِجارَةِ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه عَقْد لازِمٌ عَقَدَه ¬

(¬1) في م: «فقد صادف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحَقِّ الولايةِ، فلم يَبْطُلْ بالبُلُوغِ، كما لو باعَ دارَه أو زَوَّجَه. ويَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ الإجارَةُ فيما بعدَ البُلُوغِ؛ لِزَوالِ الولايةِ، لِما ذَكَرْنا في إجارَةِ الوَقْفِ. ويَحْتَمِلُ أَنه إذا أجَرَه مُدَّةً يتَحَقَّقُ فيها بُلُوغُه، وهو أن يُؤجِرَ ابنَ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَتَينِ، فيَبْطُلُ في السّادِسَ عَشَرَ؛ لأنَّنا نَتَيَقَّنُ أنَّه أجَرَه فيها بعدَ بُلُوغِه. وهل يَصِحُّ في الخامِسَ عَشَرَ؛ على وَجْهَينِ، بِناءً على تَفرِيقِ الصَّفْقَةِ. وإن لم يتَحَقَّقْ فيها بُلُوغُه كالذي أجَرَه الخامِسَ عَشَرَ وَحْدَه، فبَلَغ في أثْنائِه، فيكونُ فيه ما ذَكَرْنا في صَدْرِ الفَصْلِ؛ لأنّا لو قُلْنا: يُلْزَمُ الصَّبِي بعَقْدِ الوَلِيِّ مُدَّةً يتَحَقَّقُ فيها بُلُوغُه، أفْضَى إلى أن يَعْقِدَ على مَنافِعِه طولَ عُمُرِه، وإلى أن يتَصرَّفَ فيه في غيرِ زَمَنِ ولايته عليه. ولا يُشْبِهُ النِّكاحَ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ مُدَّتِه، فإنَّه إنَّما يُعْقَدُ للأبدِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا بَلَغ الصَّبِي، فله الخِيارُ؛ لأنَّه عَقَد على مَنافِعِه في حال لا يَمْلِكُ التَّصرُّفَ في نَفْسِه، فإذا مَلَك، ثَبَتَ له الخيارُ، كالأمَةِ إذا عَتَقَتْ تحتَ زَوْج. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، عُقِد عليه قبلَ أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ، فإذا مَلَكَه لم يَثْبُتْ له الخِيارُ، كالأبِ إذا زَوَّجَ وَلَدَه. والأمَةُ إنما ثَبَتَ لها الخِيارُ إذا عَتَقَتْ تحت عَبْدٍ؛ لأجْلِ العَيبِ، لا لما ذَكره، بدِليلِ أنَّها لو عَتَقَتْ تحت حُر، لم يَثْبُتْ لها الخِيارُ. وإن ماتَ الوَلِيُّ المُؤْجرُ للصَّبِيِّ أو مالِه، أو عُزِلَ وانْتَقَلَتِ الولايةُ إلى غيرِه، لم يَبْطُلْ عَقْدُه؛ لأَنه تَصَرَّفَ وهو من أهْلِ التَّصَرُّفِ في مَحَلِّ ولايته، فلم يَبْطُلْ تَصرُّفُه بمَوْتِه أو عَزْلَه، كما لو ماتَ ناظِرُ الوَقْفِ أو عُزِلَ، أو ماتَ الحاكِمُ بعد تَصَرُّفِه فيما له النَّظَرُ فيه. ويُفارِق ما لو أجَرَ المَوْقوف عليه الوَقْفَ مُدَّةً ثم ماتَ في أثنائِها؛ لأنَّه أجَرَ مِلْكَ غيرِه بغيرِ إذْنِه في مُدَّةٍ لا ولايةَ له فيها، وههُنا إنَّما يَثْبُتُ للوَلِيِّ (¬1) الثاني التَّصَرُّفُ فيما لم يتَصَرَّفْ فيه الأوَّلُ، وهذا العَقْدُ قد تَصرَّفَ فيه الأوَّلُ، فلم تَثْبُتْ للثاني ولاية على ما تَناوَلَه (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «للوالي». (¬2) بعده في م: «الخبر».

2181 - مسألة: فإن أجر السيد عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها، صح العتق، ولم يبطل عقد الإجارة، في قياس المذهب. ولا يرجع العبد على مولاه بشيء. وهذا أحد قولي الشافعي. وقال في القديم: يرجع على مولاه بأجر المثل؛ لأن المنافع تستوفى منه بسبب كان من جهة السيد، فرجع به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2181 - مسألة: فإن أجَرَ السيِّدُ عَبْدَه مُدَّةً ثم أعْتَقَه في أثْنائِها، صَحَّ العِتْقُ، ولم يَبْطُلْ عَقْدُ الإجارَةِ، في قِياسِ المَذْهَبِ. ولا يَرْجِع العَبْدُ على مَوْلاهُ بشيء. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيٍّ. وقال في القَدِيمِ: يَرْجِعُ على مَوْلاهُ بأجْرِ المِثْلِ؛ لأنَّ المنافِعَ تُسْتَوْفى منه بِسَبَبٍ كان مِن جِهَةِ السَّيدِ، فرَجَعَ به (¬1) عليه،؛ لو أكْرَهَهُ بعد عِتْقِه على ذلك العَمَلِ. ولَنا، أنَّها مَنْفَعَةٌ اسْتُحِقَّتْ بالعَقْدِ قبلَ العِتْقِ، فلم يَرْجِعْ ببَدَلِها، كما لو زَوَّجَ أمَتَه ثم أعْتَقَها بعد دُخُولِ الزَّوْج بها، فإنَّ ما يَسْتَوْفِيه السَّيدُ لا يَرْجِعُ به عليه. ويُخالِفُ المُكْرَهَ، فإنَّه تعَدَّى بذلك. وقال أبو حنيفةَ: للعَبْدِ الخِيارُ في الفَسْخِ أو الإمْضاءِ، كالصَّبِيِّ إذا بَلَغ؛ للمَعْنَى الذي ذَكَرَه ثَمَّ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِم على ما يَمْلِكُ، فلا يَنْفَسِخُ بالعِتْقِ، ولا يَزُولُ مِلْكُه عنه،؛ لو زَوَّجَ أمَتَه ثم باعَها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ نَفَقَةَ العَبْدِ إن لم تَكُنْ مَشرُوطةً على المُسْتَأجِرِ، فهي على مُعْتِقِه؛ لأنَّه كالبَاقِي في ملكِه، لكَوْنِه يَمْلِكُ عِوَضَ نَفْعِه، ولأنَّ العَبْدَ عاجِر عن نَفَقَتِه؛ لأَنه مَشْغُول بالإجارَةِ، ولم تَجِبْ على المُسْتَأجِرِ؛ لأَنه اسْتَحَقَّ مَنْفَعَتَه بعِوَض غيرِ نَفَقَتِه، لم يَبْقَ إلَّا أنها على المَوْلَى. ويتَخَرَّجُ أن تَنْفَسِخَ الإجارَة، كالصَّبِيِّ، والله أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصْلٌ: وَإجَارَةُ الْعَينِ تَنْقَسِمُ قِسْمَينِ أحَدُهُمَا، أنْ تَكُونَ عَلَى مُدَّةٍ، كَإجَارَةِ الدَّارٍ شَهْرًا، والْأرْضِ عَامًا، وَالْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ أوْ لِلرَّعْي مُدَّةً مَعْلُومَة، يُسَمَّى الْأجِيرُ فِيهَا الْأجِيرَ الْخَاصَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإجارَةُ العَينِ تَنْقَسِمُ قِسْمَينِ؛ أحدُهما، أن تكونَ على مُدَّةٍ، كإجارَةٍ الدَّارِ شَهْرًا، والأرْضِ عامًا، والعَبْدِ للخِدْمةِ أو للرَّعْي مُدَّةً مَعْلُومَة، ويُسَمَّى الأجِيرُ فيها الأجِيرَ الخاصَّ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ إجارةَ العَينِ مُدَةً مَعْلُومةً (¬1) تكون في الآدَمِيِّ ¬

(¬1) سقط من: م.

2182 - مسألة: (ويشترط أن تكون المدة معلومة، يغلب على الظن بقاء العين فيها، وإن طالت)

وَيُشْتَرَطُ أنْ تَكُونَ المُدَّةُ مَعْلُومَةً، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْعَين فِيهَا، وَإنْ طَالتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرِه؛ فأمّا غيرُ الآدَمِيِّ، فمثلُ إجارَةِ الدارِ شَهْرًا، والأرْضِ عامًا. وأمّا إجارَةُ الآدَمِيِّ، فمثلُ أن يَسْتَاجِرَ رَجُلًا يَبْنِي معه يومًا، أو يَخِيطَ له شهرًا، فهذا يُسَمَّى الأجِيرَ الخاصّ؛ لأنَّ المُسْتَأجِرَ يَخْتَص بمَنْفَعتِه في مُدَّةِ الإجارَةِ، لا يُشارِكُه فيها غيرُه. 2182 - مسألة: (ويُشْتَرَطُ أن تكونَ المُدَّةُ مَعْلومةً، يَغْلِبُ على الظَّنِّ بَقَاءُ العَينِ فيها، وإن طالتْ) [كالشهْر والسَّنَةِ ونحو ذلك، وأقلَّ وأكثرَ، إذا كان مَضْبُوطًا] (¬1). فأمّا ضَبْطُها بالشَّهْرِ والسَّنَةِ، فلا نَعْلَمُ فيه خلافًا، وإنَّما اشْتُرِطَ العِلْمُ بالمُدَّةِ؛ لأنَّها هي الضّابِطَةُ، فاشتُرِطَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْرِفَتُها، كعَدَدِ المَكِيلاتِ فيما بِيعَ بالكَيلِ. فإن قدَّرَ المُدةَ بسَنَةٍ مُطْلَقةٍ، حُمِلَ على السنةِ الهِلالِيةِ؛ لأنَّها المَعْهودَةُ، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1). فوَجَبَ أن يُحْمَلَ العَقْدُ عليه. فإن قال: هِلَالِيةً. كان تَوْكِيدًا، وإن قال: عَدَدِيَّةً. أو: سَنَةً بالأيامِ. فهي ثَلاثُ مائةٍ وسِتُّونَ يَوْمًا؛ لأن الشَّهْرَ العَدَدِيَّ ثَلاُثونَ يَوْمًا. وإنِ اسْتَأجَرَ سَنَةً هِلاليَّةً في أوَّلِها، عَدَّ اثْنَي عَشَرَ شَهْرًا بالأهِلَّةِ، سواء كان الشَّهْرُ تامًّا أو ناقِصًا؛ لأنَّ الشَّهْرَ الهِلالِيَّ ما بينَ الهِلالينِ، يَنْقُصُ مَرَّةً ويَزِيدُ أُخْرَى. وكذلك إن كان العَقْدُ على أشْهُر دُونَ السَّنَةِ. وإن جَعَلَا المُدَّةَ سَنةً رُومِيَّةً أو شَمْسِيَّةً أو فارِسِيَّةً أو قِبْطِيَّةً، وهما يَعْلَمانِها، جازَ، وهي ثَلاثُ مِائةٍ وخَمْسَة وسِتُّونَ يَوْمًا ورُبْع يَوْمٍ؛ [فإنَّ الشهُورَ الرُّومِيَّةَ منها سَبْعَة أحَد وثَلاثونَ يومًا، وأرْبَعَة ثَلاثونَ يومًا، وشَهْر واحدٌ ثمانِية وعِشْرُونَ يومًا، وشُهُورُ القِبْطِ كلها ثَلاثونَ ثَلاثون، وزادُوها خَمْسَةَ أيام لِتُساويَ سَنَتُهم السَّنَةَ الرُّومِيَّةَ] (¬2). وإن جَهِلَا ذلك أو أحَدُهما، لم يَصِحَّ. ¬

(¬1) سورة البقرة 189. (¬2) زيادة من: ر، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أجَرَه إلى العِيدِ، انْصَرَفَ إلى الذي يلِيه، وتَعَلَّقَ بأوَّلِ جُزْءٍ منه؛ لأنّه جَعَلَه غايةً، فتَنْتَهِي مُدَّةُ الإِجارَةِ بأوَّلِه. وقال القاضِي (¬1): لا بُدَّ مِن تَعْيِينِ العِيدِ فِطْرًا أو أضْحَى، مِن هذه السَّنَةِ أو مِن سَنةِ كذا. وكذلك الحُكْمُ إن عَلَّقَه بشَهْر يَقَعُ اسْمُه على شَهْرَين، كجُمادَى ورَبِيعٍ، يَجِبُ على قَوْلِه أن يَذْكُرَ الأوّلَ أو الثاني من سَنَةِ كذا. وإن عَلَّقه بشَهْر مُفْرَدٍ؛ كرَجَبٍ (1) فلا بُدَّ أن يبينه مِن أيِّ سَنَةٍ، وإن عَلَّقَه بِيَوْم، بَيَّنَه مِن أيِّ أسْبوع، وإن عَلَّقَهُ بعِيدٍ مِن أعيادِ الكُفَّارِ وهما يَعْلَمانِه، صَحَّ، وإلَّا لم يَصِحَّ. فصل: ولا تتَقَدَّرُ أكثرُ مُدَّةِ الإجارَةِ، بل يجوزُ إجارةُ (¬2) العَينِ مُدّةً يَغْلِبُ على الظن بَقَاءُ العَينِ فيها، وإن طالتْ. وهذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، غيرَ أنَّ أصحابَ الشافعيِّ اخْتَلَفُوا في مَذْهَبِه، فمِنْهم مَن قال: له قَوْلان؛ أحْدُهما، كما ذَكَرْنا، وهو الصَّحِيحُ. والثاني، لا يجوزُ أكْثَرَ مِن سَنةٍ؛ لأنَّ الحاجَةَ لا تَدْعُو إلى أكْثَرَ منها. ومنهم من قال: له قَوْل ثالِث: أنَّها لا تجوزُ أكثَرَ مِن [ثلاثينَ سَنَةً] (¬3). وحَكَى القاضِي في كِتابِ الخِلافِ عن ابنِ حامِدٍ، أنَّ أصحابَنا اخْتَلَفُوا في مُدَّةِ الإجارَةِ، فمِنْهُم مَن قال: لا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أجرة». (¬3) في الأصل: «ثلاث سنين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تجوزُ أكثر مِن سَنَةٍ. واختارَه. ومنهم مَن قال: إلى ثَلاثينَ سنةً، [لأنَّ الغالِبَ أنَّ الأعْيانَ لا تَبْقَى أكثر منها وتَتَغَيّرُ الأسْعارُ والأجْرُ] (¬1). ولَنا، قولُه تعالى إخْبارًا عن شُعَيب، - عليه السلام -، أنَّه قال: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬2). وشَرعُ مَن قَبْلَنا شَرْع لَنا ما لم يَقُمْ على نَسْخِه دَلِيل. ولأن ما جاز العَقْدُ عليه سَنَة، جازَ أكثر منها، كالبَيعِ، والنِّكاحِ، والمُساقاةِ، والتَّقْدِيرُ بسَنةٍ وثَلاثينَ تَحَكُّمٌ لا دَليلَ عليه، وليس هو بأوْلَى مِن التَّقْدِيرِ بزِيادَةٍ عليه أو نُقْصانٍ منه. فصل: وإذا اسْتَأجَره سِنِينَ، لم يَحْتَج إلى تَقْسِيطِ الأجْرِ على كلِّ سَنَةٍ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ، كما لو اسْتَأجَرَ سَنَة لم يَحْتَجْ إلى تَقْسِيطِ أجْرِ كلِّ شَهْر بالاتِّفاقِ، وكذلك لا يَفْتَقِرُ إلى تَقْسِيطِ أجْرِ كل يوم إذا اسْتَأجَرَ شَهْرًا، ولأن المَنْفَعَةَ كالأعْيانِ في البَيعِ، ولو اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ على أعْيانٍ، لم يَلْزَمْه تَقْدِيرُ ثَمَنِ كلِّ عَين، كذلك ها هنا. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: يَفْتَقِرُ إلى تَقْسِيطِ أجْرِ كلِّ سَنَةٍ؛ لأنَّ المنافِعَ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ السِّنينَ، فلا يَأمَنُ أن يَنْفَسِخَ العَقْدُ فلا يَعْلَمُ بم يَرْجِعُ، وهذا يبطُلُ بالشهُورِ، فإنه لا يَفْتَقِرُ إلى تَقْسِيطِ الأجْرِ على كل شَهْر مع الاحْتِمالِ الذي ذَكَرُوه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة القصص 27.

2183 - مسألة: (ولا يشترط أن تلي العقد، فلو أجره سنة خمس في سنة أربع، صح، سواء كانت العين مشغولة وقت العقد أو لم تكن)

وَلَا يُشْتَرَطُ أنْ تَلِيَ الْعَقْدَ، فَلَوْ أجَرَهُ سَنَةَ خَمْسٍ فِي سَنَةِ أرْبَعٍ، صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَينُ مَشْغُولَةً وَقْتَ الْعَقْدِ أوْ لَمْ تَكُنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2183 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ أن تَلِيَ العَقْدَ، فلو أجَرَه سَنَةَ خَمْسٍ في سَنَةِ أرْبَعٍ، صَحَّ، سواء كانتِ العَينُ مَشْغُولَةً وَقْتَ العَقْدِ أو لم تَكُنْ) وكذلك إن أجَرَه شهْرَ رَجَبٍ في المُحَرَّمِ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعي: لا يَصِحُّ إلَّا أن يَسْتَأجِرَها مَن هي في إجارَتِه، ففيه قَوْلانِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على ما لا (¬1) يُمْكِنُ تَسْلِيمُه في الحالِ، فأشْبَهَ إجارَةَ العَينِ المَغْصُوبةِ. قال: ولا يجوزُ أن يَكْتَرِيَ بَعِيرًا بِعَينه إلا عندَ خُرُوجِه؛ لذلك. ولَنا، أنَّها مُدَّة يجوزُ العَقْدُ عليها مع غيرِها، فجازَ العَقْدُ عليها مُفْرَدَةً مع عُمُومِ الناسِ، كالتي تَلِي العَقْدَ، وإنَّما تُشْتَرَطُ القُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ عندَ وُجُوبِه، كالسَّلَمِ، فإنَّه لا يُشْتَرَطُ وُجُودُ القُدْرةِ عليه حال (¬2) العَقْدِ، ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِها مَشْغُولةً أو غيرَ مَشْغُولةٍ؛ لِما ذَكَرْناه، وما ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «حين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرهُ يَبْطُلُ بما إذا أجَرَها مِن المُكْتَرِي، فإنه يَصِح مع ما ذَكَرُوه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الأجارَةَ إن كانتْ على مُدةٍ تَلِي العَقْدَ، لم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ ابْتدائِها مِن حينِ العَقْدِ، وإن كانتْ لا تَلِيه فلا بُدَّ مِن ذِكْرِه؛ لأنها أحَدُ طَرَفي العَقْدِ، فاحْتِيجَ إلى مَعْرِفَتِه، كالانْتِهاءِ. وإن أطْلَقَ، فقال: أجَرْتُكَ سَنَةً أو شَهْرًا. صَحَّ، وكان ابْتِداؤها مِن حينِ العَقْدِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. وقال الشافعيُّ، وبعضُ أصحابِنا: لا يَصِحُّ حتى يُسَمِّىَ الشَّهْرَ، ويَذْكُرَ في (¬1) أيِّ سَنَةٍ هي. قال أحمدُ في رِوايةِ إسماعيلَ بنِ سعيدٍ: إذا اسْتَأجَرَ أجِيرًا شَهْرًا، فلا يجوزُ حتى يُسَمِّي الشَّهْرَ؛ [لأنه مُطْلَق مُفْتَقِرٌ إلى التَّعْيِينِ، كما لو قَرَّرَ صَوْمَ شَهْر] (¬2). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى حِكايةً عن شُعَيبٍ، - عليه السلام -: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}. لم يَذْكُرِ ابْتِداءَها. ولأنه تَقْدِير بمُدَّةٍ ليس فيها قُرْبة، فإذا أطْلَقَها وَجَب أن تَلِيَ السَّبَبَ، كَمُدَّةِ السَّلَمِ والإيلاءِ، وتُفارِقُ النَّذْرَ، فإنه قُرْبَة. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَمَّتِ الإجارَةُ وكانت على مُدَّةٍ، مَلَك المُسْتَأجِرُ المَنافِعَ المَعْقُودَ عليها إلى المُدَّةِ وتَحْدُثُ على مِلْكِه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَحْدُثُ على مِلْكِ المُؤْجِرِ، ولا يَمْلِكُها المُسْتأجرُ بالعَقْدِ؛ لأنها مَعْدُومة. فلا تكونُ مَمْلوكةً، كالوَلَدِ والثَّمَرَةِ. ولَنا، أنَّ المِلْكَ عِبارَة عن حُكْم يَحْصُلُ به تَصَرُّف مَخْصُوص، وقد ثَبَت أن المَنْفَعَةَ المُسْتَقْبَلَةَ كان مالِكُ العَينِ يتَصَرَّفُ فيها كتَصَرُّفِه في العَينِ، فلَمّا أجَرَها كان المُسْتَأجِرُ مالِكًا للتَّصرُّفِ فيها؛ كان يَمْلِكُه المُؤْجِرُ، فثَبَتَ أنها كانت مَمْلوكةً لمالِكِ العَينِ. ثم انْتَقَلَتْ إلى المُسْتَأجِرِ، بخِلافِ الوَلَدِ والثَّمَرَةِ فإنَّ المُسْتَأجرَ لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيها. قولُهم: إن المَنافِعَ (¬1) مَعْدُومة. قلنا: هي مُقَدَّرةُ الوُجُودِ؛ لأنَّها جُعِلَتْ مَورِدًا [للعَقْدِ، والعَقْدُ] (¬2) لا يَرِدُ إلا على مَوْجُودٍ. ¬

(¬1) في م: «المنفعة». (¬2) في م: «للفعل والقدر».

2184 - مسألة: (وإذا أجره في أثناء شهر سنة، استوفى شهرا بالعدد، وسائرها بالأهلة)

وَإذَا أجرَهُ فِي أثْنَاءِ شَهْرٍ سَنَةً، اسْتَوْفَى شَهْرًا بِالعَددِ، وَسَائِرَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 2184 - مسألة: (وإذا أجَرَه في أثْناءِ شَهْر سَنَةً، اسْتَوْفَى شَهْرًا بالعَدَدِ، وسائِرَها بالأهلَّةِ) لأنَّه تَعَذَّرَ إتْمامُه بالهِلالِ، فتَمَّمْناه بالعَدَدِ،

بِالْأهِلَّةِ. وَعَنْهُ، يَسْتَوْفِي الْجَمِيعَ بِالْعَدَدِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْأشْهُرُ؛ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَشَهْرَي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمْكَنَ اسْتِيفاءُ ما عداه بالهلالِ، فوَجب ذلك؛ لأنَّه الأصلُ (وعنه، يَسْتَوفِي الجميعَ بالعددِ) لأنَّها مدة يُستَوْفَى بَعضها بالعدد، فوَجَب استيفاءُ جَمِيعِها به، كما لو كانتِ المُدَّةُ شَهْرًا واحِدًا، ولأنَّ الشَّهْرَ الأوَّلَ يَنْبَغِي أن (¬1) يَكْمُلَ مِن الشَّهْرِ الذي يلِيه، فيَحْصُلُ ابتداءُ الشَّهْرِ الثانِي في أثْنائِه، وكذلك كلُّ شَهْر يَأتِي بعدَه. ولأبي حنيفةَ والشافعيِّ كالرِّوايَتَين (وكذلك الحُكْمُ في كلِّ ما يُعْتَبَرُ فيه الأشْهُر؛ كَعِدَّةِ. الوَفاةِ، وشَهْرَي صِيامِ الكَفّارَةِ). فصل: ومَن اكْتَرَى دابَّةً إلى العشاءِ، فآخِرُ المُدَّةِ غُرُوبُ الشَّمْسِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو ثَور: آخِرُها زَوالُ الشَّمْسِ؛ لأنَّ العِشاءَ آخِرُ النَّهارِ، وآخِرُه النِّصْفُ الآخرُ مِن الزَّوالِ، وكذلك جاء في حَدِيثِ ذي اليَدَينِ، عن أبي هرَيرَة، قال: صَلَّى بِنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْدَى صَلَاتَيِ (¬1) العَشِيِّ. يَعْنِي الظُّهْرَ أو العَصْرَ. هكذا تَفْسِيرُه (¬2). ولَنا، قولُه تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} (¬3). يَعْنِي العَتَمَةَ. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا ان أشُقَّ عَلَى أمَّتِي لأخَّرْتُ العِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيلِ» (¬4). وإنما تَعَلَّقَ الحُكْمُ بغُرُوب الشَّمسِ؛ لأنَّ هذه الصَّلاةَ تُسَمَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ، فيَدُلُّ على أنَّ الأوَلَى المَغْرِبُ، وهو في العُرْفِ كذلك، فوَجَبَ أن يَتَعَلَّقَ الحُكْمُ به؛ لأنَّ المُدَّةَ إذا جُعِلَتْ إلى وَقْتٍ، تَعَلَّقَتْ بأوَّلِه، كما لو جَعَلَها إلى اللَّيلِ، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ لَفْظَ العَشِيِّ غيرُ لَفْظِ العِشاءِ، فلا يجوزُ الاحْتِجاجُ بأحَدِهما على الآخَرِ حتى يَقُومَ دَلِيل على أنَّ مَعْنَى اللَّفْظَينِ واحِدٌ. ثم لو ثَبَت أنَّ مَعْناهُما واحدٌ، غيرَ أنَّ أهْلَ العُرْفِ لا يَعْرِفُونَ غيرَ ما ذَكَرْنا. فإنِ اكْتَراها إلى اللَّيل، فهو إلى أوَّلِه، وكذلك إنِ اكْتَراها إلى النَّهارِ، فهو إلى أوَّلِه. ويَتَخرَّجُ أن يَدْخُلَ اللَّيلُ في المُدَّةِ الأولَى، والنَّهارُ في الثانيةِ؛ لِما ذَكَرْنا في مُدَّةِ الخِيارِ. وإنِ اكْتَراها نَهارًا، فهو إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وإنِ اكْترَاها ¬

(¬1) في الأصل، م: «صلاة». (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 26. (¬3) سورة النور 58. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 162.

الْقِسْمُ الثَّانِي، إجَارَتُهَا لِعَمَل مَعْلُوم؛ كإجَارَةِ الدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِع مُعَيَّن، أوْ بَقَرة حَرْثِ مكَانٍ أوْ دِيَاسِ زَرْع، أو ـــــــــــــــــــــــــــــ لَيلَة، فهي إلى طلُوعِ الفَجْرِ، في قولِ الجميعِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في لَيلَةِ القَدْرِ: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1). وقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ثم قال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} (¬2). فصل: وإنِ اكْتَرَى فُسْطاطًا إلى مَكَّةَ، ولم يَقُلْ متى أخْرُجُ، فالكِراءُ فاسِد. وبه قال أبو ثَوْرٍ. وهو قِياس قولِ الشافعيِّ. وقال أصحابُ الرَّأي: يَجُوزُ اسْتِحْسانًا، بخِلافِ القِيَاس. ولَنا، أنَّها مُدَّة غيرُ مَعْلُومةِ الابتداءِ، فلم يَجُزْ، كما لو قال: أجرْتُكَ دارِي مِن حينِ يَخْرُجُ الحاجُّ إلى رَأس السَّنَةِ. وقد اعْتَرَفُوا بمُخَالفتِه الدَّلِيلَ، وما ادَّعَوْه دَلِيلًا نمْنَعُ كَوْنَه دَلِيلًا. (القِسمُ الثاني، إجارَتُها لِعَمَل مَعْلُوم؛ كإجارَةِ الدَّابَّةِ للرُّكُوبِ إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّن، أو بَقَر لِحَرْثِ مكانٍ أو دِياس زَرْع، واسْتِئْجارِ عَبْدٍ ¬

(¬1) سورة القدر 5. (¬2) سورة البقرة 187.

اسْتِئْجَار عَبْدٍ لِيَدُلَّه عَلَى طَرِيقٍ، أوْ رَحًى لِطَحْنِ قفْزَانٍ مَعْلومَةٍ، فَيُشْتَرَط مَعْرِفَة الْعَمَلِ، وَضَبْطهُ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليَدُلَّه على طَرِيقٍ، أو رَحًى لِطَحْنِ قُفْزانٍ مَعْلُومَةٍ، فيُشْترَط مَعْرِفَةُ العَمَلِ، وضَبْطُه بما لا يَخْتَلِفُ) لأنَّ الإِجارَةَ عَقْد مُعاوَضةٍ، فوَجَبَ أن يكونَ العِوَضُ فيها مَعْلُومًا، لِئَلَّا يُفْضِي إلى الاخْتلافِ والتَّنازعِ، كقَوْلِنا في البَيعِ. والعِلْمُ بمِقْدارِ المَنْفَعة؛ إمّا أن يَحْصلَ بتَقْدِيرِ المدَّةِ، كما ذَكَرْنا في إجارَةِ الدَّارِ وخِدْمةِ العَبْدِ مدَّةً مَعْلُومةً، وإمّا [أن يكونَ] (¬1) بتَقْدِيرِ العَمَلِ، ووَصْفِ ما يَعْمَلُه وضَبْطِه بما لا يُخْتَلَفُ فيه، كالمَبِيعاتِ. فصل: يجوز أن يَكْتَرِيَ بَقَرًا لِحَرْثِ مَكانٍ؛ لأنَّ البَقَرَ خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ، ولذلك (¬2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَينَمَا رَجُل يَسوقُ بَقَرَةً، أرَادَ أنْ يَرْكَبَهَا، فَقَالتْ: إِنِّي لَمْ اخْلَقْ لِهَذَا، إنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ». مُتَّفَق عليه (¬3). ويَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ الأرْضِ وتَقْدِيرِ العَمَلِ، فأمّا الأرْض فلا تُعْرَفُ إلَّا بالمُشاهَدَةِ؛ فإنَّها تَخْتَلِفُ، فتكونُ صُلْبَةً تُتْعِب البَقَرَ والحَرّاثَ ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في ر، ق: «وكذلك». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب استعمال البقر للحراثة، من كتاب المزارعة، وفي: باب حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب. . . .، من كتاب الأنبياء، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذا خليلا. . . .، من كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. صحيح البخاري 3/ 136، 4/ 212، 5/ 6، 7. ومسلم، في: باب من فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1857. كما أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا عبد بن حميد. . . .، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتكونُ فيها حِجارَة تتَعَلَّقُ فيها السِّكَّةُ (¬1)، وتكونُ رَخْوة يَسْهُلُ حَرْثُها، ولا تَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، فتَحتاجُ إلى الرُّؤيةِ. وأمّا تَقْدِيرُ العَمَلِ، فيجوزُ بأحَدِ شَيئَينِ؛ إمّا بالمُدَّةِ، كيَوْم، وإمّا بمَعْرِفةِ الأرْضِ، كهذه القِطْعةِ، أو مِن ههُنا إلى ههُنا، أو بالمِساحَةِ، كجَرِيب أو جَرِيبَينِ، أو كذا ذِراعًا في كذا، كلُّ ذلك جائِزٌ؛ لحُصُولِ العِلْمِ به. فإن قَدَّرَهُ بالمُدَّةِ، فلا بُدَّ مِن مَعْرِفةِ البَقَرِ التي يَعْمَلُ عليها؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِها، في القُوَّةِ والضعْفِ. ويجوزُ أن يَسْتَأجِرَ البَقَرَ مُفْرَدَةً؛ ليَتَولَّى رَبُّ الأرْضِ الحَرْثَ بِها، ويَجُوزُ أن يَسْتَأجِرَها مع صاحِبِها، ويجوزُ اسْتِئْجارُها بآلتِها، وبدُونِها وتكونُ الآلةُ مِن عندِ صاحِبِ الأرْضِ، ويجوزُ اسْتِئْجارُ البَقَرِ وغيرِها لدِراسِ (¬2) الزَّرْعِ؛ لأنها مَنْفَعة مُباحة مَقْصُودَة، أشْبَهَتِ الحَرْثَ. ويجوزُ على مُدَّةٍ أو زَرْع مُعَين، أو مَوْصُوفٍ، كما ذَكَرْنا في الحَرْثِ. ومتى كان على مُدَّةٍ، احْتِيجَ إِلى مَعْرِفةِ الحَيوانِ؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ به، فمنه ما رَوْثُه طاهِر ومنه نجس، ولا يَحْتاجُ إلى مَعْرِفةِ عَينِ الحَيوانِ. ويجوزُ أن يَسْتَأجِرَ الحَيَوانَ بآلتِه وغيرِ ها، مع صاحِبِه ومُنْفَرِدًا، كما ذَكَرْنا في الحَرْثِ. فصل: ويجوزُ اسْتِئْجارُ غَنَمٍ لتَدُوسَ له طِينًا أو زَرْعًا. ولأصْحابِ الشافعيِّ فيه وَجْه، أنه لا يجوزُ؛ لأنَّها مَنْفعَةٌ غيرُ مَقْصُودةٍ مِن هذا الحَيَوانِ. ¬

(¬1) السكة: حديدة المحراث التي يحرث بها. (¬2) في م: «لدواس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولنا، أنَّها مَنْفعة مُبَاحة يُمْكِنُ اسْتِيفاؤها، أشْبَهَتْ سائِرَ المَنافعِ المُباحةِ، وكالتي قبلَها. فصل: فإنِ اكْتَرَى حَيَوانًا لِعَمَلٍ لم يُخْلَقْ له، كمَنِ اسْتَأجَرَ البَقَر للرُّكُوب أو الحَمْلِ، أو الإبلَ والحُمُرَ (¬1) للحَرْثِ، جازَ؛ لأنَّها مَنْفَعة مَقْصُودَةَ أمْكَنَ اسْتِيفاؤها مِن الحَيوانِ لم يَرِدِ الشَّرعُ بتَحْرِيمِها، فجازَ، كالتي خُلِقَتْ له، ولأنَّ مُقْتَضَى المِلْكِ جَوازُ التَّصرُّفِ بكلِّ ما تَصْلُحُ له العَينُ المَمْلوكَةُ ويُمْكِنُ تَحْصِيلُها منها، ولا يَمْتَنعُ ذلك إلا بمُعارِض راجِحٍ، أو ما وَرَد بتَحْرِيمِه نَص أو قِياسٌ صَحِيح، أو رُجْحانُ مَضَرَّةٍ على مَنْفعةٍ، ولم يُوجَدْ واحد منها، وكَثِير مِن الناسِ يَحْمِلُونَ على البَقَرِ ويَرْكَبُونَها، وفي بعضِ البِلادِ يُحْرَثُ على الإبِلِ والبغالِ والحَمِيرِ، فيكونُ مَعْنَى خَلْقِها لِلْحَرْثِ، إن شاء الله تعالى، أنَّه مُعْظَمُ نَفْعِها، ولا يمنعُ ذلك الانْتِفاع بها في شيءٍ آخَرَ،؛ أنَّ الخَيلَ خُلِقَتْ للرُّكوبِ والزِّينَةِ، ويباحُ أكْلُها، واللؤْلُؤُ خُلِقَ للْحِلْيَةِ، ويجوزُ اسْتِعمالُه في الأدْويةِ وغيرِها. فصل: ويجوزُ اسْتِئْجارُ بَهِيمَةٍ لإدارةِ الرَّحَى، ويَفْتَقِرُ إلى شَيئَين (¬2)؛ مَعْرِفَةُ الحَجَرِ بالمُشاهَدَةِ أو الصِّفَةِ؛ لأنَّ عَمَلَ البَهِيمةِ يَخْتَلِفُ فيه بثِقَلِه وخِفَّتِه، فيَحْتاجُ صاحِبُها إلى مَعْرِفَتِه. الشاق، تَقْدِيرُ العَمَلِ بالزّمانِ، كيَوْم أو يَوْمَين، أو بالطَّعامِ، فيقولُ: قَفِيزًا -أو- ¬

(¬1) في م: «الحمير». (¬2) في م: «شيء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَفِيزَينِ. وذِكْرُ جِنْسِ المَطْحُونِ إن كان يَخْتَلِفُ؛ لأنَّ منه ما يَسْهُلُ طَحْنُه، ومنه ما يَشُقُّ. وإنِ اكْتَراها لادارَةِ دُولابٍ، فلا بُدَّ مِن مُشاهَدَتِه ومشاهَدةِ دِلائِه، لاخْتِلافِها، وتَقْدِيرِ ذلك بالزَّمانِ أو مِلْءِ هذا الحَوْضِ. وكذلك إنِ اكْتَراها للسَّقْي بالغَرْبِ (¬1)، فلا بُدَّ مِن معرِفَتِه؛ لأنه يَخْتَلِفُ بكِبَرِه وصِغَرِه. ويُقَدَّرُ بالزَّمانِ، أو بعَدَدِ الغُرُوبِ، أو بِمِلْءِ بِرْكةٍ، [ولا] (¬2) يجوزُ تَقْدِيرُ ذلك بِسَقْيِ أرْض؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ، فقد تكونُ الأرْضُ شَدِيدَةَ العَطَش لا يَرْويها القَلِيلُ، وتكونُ قَريبةَ العَهْدِ بالماءِ فيَكْفِيها (¬3) اليَسِيرُ. وإن قَدَّرَه بِسَقْي ماشِيَةٍ، احْتَمَلَ أن لا يجوزَ؛ لذلك. ويَحْتَمِلُ الجوازُ؛ لأنَّ شُرْبَها يَتَقارَبُ في الغالِبِ. ويجوزُ اسْتِئْجارُ دابَّةٍ ليَسْتَقِيَ عليها ماءً، ولا بُدَّ مِن مَعْرِفةِ الآلةِ التي يَسْتَقِي فيها؛ مِن رَاويةٍ أو قِرَبٍ أو جِرار، إمّا بالرُّؤيةِ، وإمّا بالصِّفَةِ. ويُقَدِّرُ العَمَلَ بالزَّمانِ، أو بالعَدَدِ، أو بِمِلْءِ شيءٍ مُعين، فإن قَدَّرَه بعَدَدِ المرّاتِ، احْتاجَ إلى مَعْرِفةِ المَكانِ الذي يَسْتَقِي منه، والذي يَذْهَبُ إليه؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بالقُرْبِ والبُعْدِ، والسُّهُولةِ والحُزُونةِ، وإن قَدَّرَه على (¬4) شيءٍ مُعَيَّن، احْتاجَ إلى مَعْرِفَتِه، ومَعْرِفةِ ما يَسْتَقِي منه. ويجوزُ أن يَكْتَرِيَ البَهِيمةَ بآلتِها وبدُونِها، مع صاحِبِها ووَحْدَها. فإن اكْتَراها لِبَلِّ تُرابٍ مَعْرُوفٍ، جازَ؛ لأنَّه يُعْلَمُ ¬

(¬1) الغرب: الدلو الكبير. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فيرويها». (¬4) في م: «إلى».

2185 - مسألة: يجوز (استئجار رجل ليدله على طريق)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعُرْفِ. وكلُّ مَوْضِع وَقَع العَقْدُ على مُدةٍ، فلا بُدَّ مِن مَعْرِفةِ الظَّهْرِ الذي يَعْمَلُ عليه؛ لأن الغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِها في القُوَّةِ والضعْفِ. وإن وَقَع على عَمَل مُعَيَّن، لم يَحْتَجْ إلى ذلك؛ لأنه لا يَخْتَلِفُ. ويَحْتَمِلُ أن يَحْتاجَ إلى ذلك في اسْتِقاءِ الماءِ عليه؛ لأن منه ما رَوْثُه وجِسْمُه طاهِر، كالخَيلِ والبَقَرِ، ومنه ما رَوْثُه نَجِس وفي جِسْمِه اخْتِلاف، كالبِغَالِ، فرُبما نَجَّسَ يَدَ المُسْشَقِي أو دَلْوَه، فيَتَنَجَّس الماءُ به، فيَخْتَلِفُ الغرَضُ بذلك، فاحْتِيجَ إلى مَعْرِفَتِه. 2185 - مسألة: يجوزُ (اسْتِئْجارُ رَجُل ليَدُلَّهُ على طَرِيقٍ) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر اسْتَأجَرَا عَبْدَ اللهِ بنَ الأرَيقِطِ هادِيًا خِرِّيتًا (¬1). وهو الماهِرُ بالهِدايةِ، ليَدُلَّهُما على الطرِيقِ إلى المَدِينةِ. 2186 - مسألة: (و) يَصِحُّ اسْتِئْجارُ (رَحًى لِطَحْنِ قُفْزانٍ مَعْلُومةٍ) ويَحْتاجُ إلى مَعْرِفةِ جِنْسِ المَطْحُونِ؛ بُرًّا، أو شَعِيرًا، أو ذُرَةً، أو غيرَه؛ لأنَّ ذلك يَخْتَلِفُ، فمنه ما يَسْهُلُ طَحْنُه، ومنه ما يَعْسُرُ، فاحْتِيجَ إلى مَعْرِفَتِه، لتَزُولَ الجَهالةُ. فصل: يجوزُ اسْتِئْجارُ كَيّالٍ، ووَزَّانٍ لِعَمَل مَعْلُوم، أو في مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وبه قال مالك، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وقد رُوِيَ في حَدِيثِ سُوَيدِ بنِ قَيس: أتانا رسولُ اللهِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - فاشْتَرَى مِنّا رجلٌ سَراويلَ، وثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بأجْرٍ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «زِنْ وأرْجِحْ». رَواه أبو داوُدَ (¬1). فصل: ويجوزُ اسْتِئْجارُ رَجُل لِيُلازِمَ غَرِيمًا تُسْتَحَقُّ مُلازَمَتُه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه كَرِهَ ذلك، وقال: غيرُ هذا أعْجَبُ إليَّ. وإنَّما كَرِهَه؛ لأنَّه يَئُولُ إلى الخُصُومَةِ، وفيه تَضْيِيقٌ على المُسْلِمِ، ولا يَأمَنُ أن يكونَ ظالِمًا فيُساعِدَه على ظُلْمِه. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: لا بأس به؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّه مُحِقٌّ (¬2)، فإنَّ الحاكِمَ في الظاهِرِ لا يَحْكُمُ إلَّا بحَق، ولهذا أجَزْنا للمُوَكلِ فِعْلَه. فصل: ويجوزُ الاسْتِئْجارُ لِحَفْرِ الآبارِ والأنْهارِ والقُنِيِّ؛ لأنها مَنْفَعة مَعْلُومة، يجوزُ أن يَتَطوَّعَ بها، [الرجلُ على غيرِه] (¬3)، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالخِدْمَةِ. ولابدَّ مِن تَقْدِيرِ العَمَلِ بمُدَّةٍ أو عَمَل مُعَيَّن، فإن قَدَّرَهُ بمُدَّةٍ، نحوَ أن يَسْتَأجِرَه شَهْرًا لِيَحْفِرَ له بِئْرًا أو نَهْرًا؛ لم يَحْتَجْ إلى مَعْرِفةِ القَدْرِ، وعليه الحَفْرُ في ذلك الشَّهْرِ، قَلِيلًا حَفَر أو كثيرًا. قال شيخُنا (¬4): ويَفْتَقِرُ إلى مَعْرِفةِ الأرْضِ التي يَحْفِرُ فيها. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَحْتاجُ إلى ذلك؛ لأنَّ الغَرَضَ لا يَخْتَلِفُ بذلك. والأوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لأنَّ الأرْضَ الصلْبَةَ يَشُقُّ حَفْرُها، واللَّيِّنَةَ يَسْهُلُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 202. (¬2) في م: «بحق». (¬3) سقط من: تش، م. (¬4) في المغني 8/ 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قَدَّرَه بالعَمَلِ، فلابُدَّ مِن مَعْرِفةِ المَوْضِعِ بالمُشاهَدةِ؛ لكَوْنِها تَخْتَلِفُ بالسُّهُولةِ والصَّلَابَةِ، ولذلك (¬1) لا يَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، ويَعْرِفُ دَوْرَ البِئرِ، وعُمْقَها، وطُولَ النَّهْرِ، وعَرْضَه، وعُمْقَه؛ لأنَّ العَمَلَ يَخْتَلِفُ بذلك. وإذا حَفَر بئرًا فعليه شَيلُ التُّرابِ؛ لأَنه لا يُمْكِنُه الحَفْرُ إلَّا بذلك، فقد تَضَمَّنَه العَقْدُ. فإن تَهَوَّرَ تُرابٌ مِن جانِبَيها أو سَقَطَتْ فيه بَهِيمةٌ أو نحو ذلك، لم يَلْزَمْه شَيلُه، وكان على صاحِبِ البِئْرِ؛ لأنَّه سَقَط فيها مِن مِلْكِه، ولا يتَضَمَّنُ عَقْدُ الإجارَةِ رَفْعَه. وإن وَصَل إلى صَخْرةٍ أو جَمادٍ يَمْنَعُ الحَفْرَ، لم يَلْزَمْه حَفْرُه؛ لأنَّ ذلك مُخالِف لِما شاهَدَه مِنَ الأرضِ، وإنَّما اعْتُبِرَتْ مُشاهَدَةُ الأرْضِ؛ لأنَّها تَخْتَلِفُ، فإذا ظَهَر فيها ما يُخالِفُ المُشاهَدَةَ، كان له الخِيارُ في الفَسْخِ، فإن فَسَخ، كان له مِنَ (¬2) الأجْرِ بحِصَّةِ ما عَمِلَ، فيُسقَطُ الأجْرُ على ما بَقِيَ وما عَمِلَ، فيقال: كم أجْرُ ما عَمِلَ، وكم أجْرُ ما بَقِيَ؟ فيُقَسَّطُ الأجْرُ المُسَمَّى عليهما. ولا يجوزُ تَقْسِيطُه على عَدَدِ الأذْرُعٍ؛ لأنَّ أعْلَى البِئرِ يَسْهُلُ نَقْلُ التُّراب منه، وأسْفَلَه يَشُقُّ ذلك فيه. وإن نبَع منه ما مَنَعَه مِنَ الحَفْرِ، فهو كالصَّخْرةِ، على ما ذَكَرْنا. فصل: ويجوزُ اسْتِئْجارُ ناسِخٍ لِيَنْسَخَ له كُتُبًا مِنَ الفِقْهِ والحَدِيثِ والشِّعْرِ المُباحِ، أو سِجِلاتٍ، نص عليه في روايةِ مُثَنَّى بنِ جامِع، ¬

(¬1) في م: «وذلك». (¬2) سقط من: «م».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَأله عن كِتابَةِ الحَدِيثِ بالأجْرِ، فلم يَرَ به بَأسًا. ولابدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بالمُدَّةِ أو العَمَلِ، فإن قَدَّرَه بالعَمَلِ، ذَكَر عَدَدَ الوَرَقِ، وقَدرَه، وعَدَدَ السُّطُورِ في كلِّ ورَقةٍ، وقَدْرَ الحَواشِي، ودِقةَ القَلَمِ وغِلَظَه. فإن عَرَفَ الخَطَّ بالمُشاهَدَةِ، جازَ، وإن أمْكَنَه (¬1) بالصِّفَةِ ضَبَطَه، وإلَّا فلابُدَّ مِنَ المُشاهَدةِ؛ لأنَّ الأجْرَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِه. ويجوزُ تَقْدِيرُ الأجْرِ بأجْزاءِ الفَرْعِ، وبأجْزاءِ الأصْلِ. وإن قاطَعَه على نَسْخِ الأصْلِ بأجْر واحدٍ، جازَ. وإن أخْطَأ بالشَّيءِ اليَسِيرِ، عُفِيَ عنه؛ لأَنه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه. وإن كان كثيرًا بحيث يَخْرُجُ عنِ العادَةِ، فهو عَيب يُرَدُّ به. وقال ابنُ عَقِيلٍ: ليس له مُحادَثَةُ غيرِه حال النَّسْخِ. ولا التَّشاغُلُ بِما يَشْغَلُ سِرَّه ويُوجِبُ غَلَطَه، ولا لغيرِه تَحْدِيثُه وشَغْلُه. وكذلك الأعْمالُ التي تَخْتلُّ بِشَغْلٍ السِّرِّ والقَلْبِ، كالقِصارَةِ والنِّساجَةِ ونحوهما. ويجوزُ أن يَسْتَأجِرَ على نسْخِ مُصْحَفٍ، في قولِ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم جابرُ بنُ زَيدٍ، ومالِكُ بنُ دينار، وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ سِيرينَ: لا بَأسَ أن يَسْتَأجرَ الرجلَ شَهْرًا، ويَسْتَكْتِبَه مُصْحَفًا. وكَرِهَ عَلْقَمةُ كِتابَةَ المُصْحَفِ بالأَجْرِ، ولَعَلَّه يَرَى ذلك مما يَخْتَصُّ كَوْنَ فاعِله مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فكَرِهَ الأجْرَ عليه، كالصَّلاةِ. ولَنا، أَنه فِعْل مُباح يجوزُ أن يَنُوبَ فيه الغيرُ عن الغيرِ، فجازَ أخْذُ الأجْرِ عليه، ¬

(¬1) في م: «أمكن ضبطه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَكِتابَةِ الحَدِيثِ، وقد جاء في الخَبَرِ: «أَحَقُّ مَا أخَذْتُمْ عَلَيهِ أجْرًا كِتَابُ اللهِ» (¬1). فصل: يَجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ لحَصادِ زَرْعِه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكان إبراهيمُ بنُ أدْهَمَ يُؤْجِرُ نَفْسَه لحَصادِ الزَّرْعِ. ويجوزُ تَقْدِيرُه بمُدَّةٍ وبِعَمَلٍ، مثلَ أن يُقاطِعَه على حَصادِ زَرْعٍ مُعَيَّنٍ. ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ رجلًا لِسَقْي زَرْعِه وتَنْقِيَتِه ودياستِه (¬2) ونَقْلِه إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا يَحْتَطِبُ له؛ لأنَّه عَمَلٌ مُباحٌ، تَدْخُلُه النِّيابةُ، أشْبَهَ حَصادَ الزَّرْعِ. قال أحمدُ في رجلٍ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا على أن يَحْتَطِبَ له على حِمارَينِ كلَّ يَوْمٍ، فكان الرجلُ يَنْقُلُ عليهما وعلى حَمِيرٍ لرجلٍ آخَرَ، ويَأْخُذُ منه الأُجْرَةَ، فإن كان يَدْخُلُ عليه ضَرَرٌ، يَرْجِعُ عليه بالقِيمَةِ. وظاهِرُ هذا أن المُسْتأْجِرَ يَرْجِعُ على الأجِيرِ بقِيمَةِ ما اسْتَضَرَّ باشْتِغالِه عن عَمَلِه؛ لقولِه: إن كان يَدْخُلُ عليه ضَرَرٌ، يَرْجِعُ (¬3) بالقِيمَةِ. فاعْتَبَرَ الضَّرَرَ. وظاهِرُ هذا أنَّه إذا لم يَسْتَضِرَّ، لا يَرْجِعُ بشيءٍ؛ لأنَّه اكْتَراه لعَمَلٍ فَوفّاه على التَّمامِ، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو اسْتَأْجَرَه لِعَمَلٍ، فكان يَقْرَأُ القُرآنَ في حال عَمَلِه، فإن ضَرَّ المُسْتَأْجِرَ، رَجَع عليه بقِيمَةِ ما فَوَّتَ عليه. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّه يَرْجِعُ عليه بقِيمَةِ ما عَمِلَه لغيرِه؛ لأنَّه صَرَف مَنافِعَه المَعْقُودَ عليها إلى عَمَلِ غيرِ المُسْتَأْجِرِ، فكان عليه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب، من كتاب الإجارة، وفي: باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، من كتاب الطب. صحيح البخاري 3/ 121، 7/ 171. (¬2) في م: «دياسه». (¬3) في م: «رجع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَتُها، كما لو عَمِلَ لِنَفْسِه. وقال القاضي: معناه أنَّه يَرْجِعُ عليه بالأجْرِ الذي أخَذَه مِنَ الآخَرِ؛ لأنَّ مَنافِعَه في هذه المُدَّةِ مَمْلُوكَةٌ لغيرِه، فما حَصَل في مُقابَلَتِها يكونُ للذي اسْتَأْجَرَه. فصل: يجوزُ الاستِئجارُ لِاسْتِيفاءِ القِصاصِ، في النَّفْسِ وما دُونَها. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ في النَّفْسِ؛ لأنَّ عَدَدَ الضَّرَباتِ يَخْتَلِفُ، ومَوْضِعُ الضَّرَباتِ غيرُ مُتَعَيَّنٍ، إذْ يُمْكِنُ أن يَضْرِبَ ممَّا يَلِي الرَّأْسَ، وممّا يَلي الكَتِفَ، فكان مَجْهُولًا. ولَنا، أنَّه حَقٌّ يجوزُ التَّوْكِيلُ في اسْتِيفائِهِ، لا يَخْتَصُّ فاعِلُه بكَوْنِه (¬1) مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليه، كالقِصاصِ في الطَّرفِ. وقولُه: إنَّ عَدَدَ الضَّرَباتِ يَخْتَلِفُ وهو مَجْهُولٌ. يَبْطُلُ بخِياطَةِ الثَّوْبِ، فإنَّ عَدَدَ الغَرَزاتِ مَجْهُولٌ. وقولُه: إن مَحَلَّه غيرُ مُتَعَيَّنٍ. قلنا: هو مُتَقارِبٌ، فلا يَمْنَعُ ذلك صِحَّتَه، كمَوْضِعِ الخِياطةِ مِن حاشِيَةِ الثَّوْبِ. فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ سِمْسارًا يَشْتَرِي له ثِيابًا. ورَخَّصَ فيه ابنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِيُّ. وكَرِهَه الثَّوْرِيُّ، وحَمّادٌ. ولَنا، أنَّها مَنْفَعَةٌ مُباحةٌ تجوزُ النِّيابةُ فيها، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالبِناءِ. وتجوزُ على مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ، مثلَ أن يَسْتَأْجِرَه عَشَرَةَ أيامٍ يَشْتَرِي له فيها؛ لأنَّ المُدَّةَ مَعْلُومةٌ، والعَمَلَ مَعْلُومٌ، فأشْبَهَ الخَيّاطَ والقَصّارَ. وإن عَيَّنَ العَمَلَ دُونَ الزَّمانِ، فجَعَلَ له مِن كلِّ ألْفِ دِرْهَمٍ شَيئًا مَعْلُومًا، صَحَّ أيضًا. وإن ¬

(¬1) في تش، م: «أن يكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: كُلَّما اشْتَرَيتَ ثَوْبًا فلَكَ دِرْهَمٌ أجْرًا. وكانتِ الثِّيابُ مَعْلُومةً بِصِفَةٍ، أو مُقَدَّرَةً بثَمَنٍ، جازَ، وإن لم تَكُنْ كذلك، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يجوزُ؛ لأنَّ الثِّيابَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أثْمانِها، والأَجْرُ يَخْتَلفُ باخْتِلافِها. فإن اشْتَرَى فله أجْرُ مِثْلِه. وهذا قولُ أبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه عَمِلَ عَمَلًا بِعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له، فكان له أجْرُ المِثْلِ، كسائِرِ الإِجاراتِ الفاسِدَةِ. فصل: وإنِ اسْتَأْجَرَه لِيَبِيعَ له ثِيابًا بِعَينِها، صَحَّ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ ذلك يتَعَذَّرُ عليه، فأشْبَهَ ضِرابَ الفَحْلِ، وحَمْلَ الحَجَرِ الكَبِيرِ. ولَنا، أنَّه عَمَلٌ مُباحٌ مَعْلُومٌ، تجوزُ النِّيابةُ فيه، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليه، كَشِراءِ الثِّيابِ؛ ولأنَّه يجوزُ الاسْتِئْجارُ عليه مُقَدَّرًا بزَمَنٍ، فجاز مُقَدَّرًا بالعَمَلِ، كالخِياطَةِ. وقولُهم: إنه يتَعَذَّرُ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الثِّيابَ لا تَنْفَكُّ عن راغبٍ فيها، ولذلك صَحَّتِ المُضارَبةُ، ولا تكونُ إلَّا بالبَيعِ والشِّراءِ، بخِلافِ ما قاسُوا عليه، فإنَّه يتَعَذَّرُ. وإنِ اسْتَأْجَرَه على شِراءِ ثِيابٍ مُعَيَّنةٍ من رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، [أو على بيعِها مِن رجلٍ مُعَيَّنٍ] (¬1)، احْتَمَلَ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه قد يتَعذَّرُ، لامْتِناعِ صاحِبِها مِنَ البَيعِ، فيَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُ العَمَلِ بحُكْمِ الظاهِرِ، بخِلافِ البَيعِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأَنه مُمْكِنٌ في الجُملةِ، فإن حَصَل مِن ذلك شيءٌ، اسْتَحَقَّ الأجْرَ، وإلَّا بَطَلَتِ الإِجارَةُ، كما لو لَمْ يُعَيِّنِ البائِعَ ولا المُشْتَرِيَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِي، عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ، مَضْبُوطَةٍ بِصِفَاتٍ، كَالسَّلَمِ؛ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وَبِنَاءِ دَارٍ، وَحَمْلٍ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. وَلَا يَكُونُ الْأَجِيرُ فِيهَا إِلَّا آدَمِيًّا جَائِزَ التَّصَرُّفِ، وَيُسَمَّى الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (الضَّرْبُ الثاني، عَقْدٌ على مَنْفَعَةٍ في الذِّمَّةِ، مَضْبُوطةٍ بصِفَاتٍ، كالسَّلَمِ؛ كخِياطَةِ ثَوْبٍ، وبِناءِ دارٍ، وحَمْلٍ إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. ولا يكونُ الأجِيرُ فيها إلَّا آدِميًّا جائِزَ التَّصَرُّفِ، ويُسَمَّى الأجِيرَ المُشْتَركَ) يجوزُ للآدَمِيِّ أَن يُؤْجِرَ نَفْسَه، بغيرِ خِلافٍ، وقد أجَرَ مُوسَى، - عليه السلام -، نَفْسَه لرِعايةِ الغَنَمِ، واسْتَأْجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ، -رَضِيَ اللهُ عنه-، رَجُلًا ليَدُلَّهُما على الطَّرِيقِ (¬1)؛ لأنَّه يجوزُ الانْتِفاعُ به مع بَقاءِ عَينِه، أشْبَهَ الدُّورَ، ثمَّ إنَّ إجارَتَه تَقَعُ على مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ، كالسَّلَمِ، ومتى كانت (¬2) على عَمَلٍ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ لم يَكُنِ الأجيرُ فيها إلا آدَمِيًّا جائِزَ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّ الذِّمَّةَ لا تكونُ لغيرِ الآدَمِيِّ، ولا تَثْبُتُ المُعاوَضَةُ لِعَمَلٍ في الذِّمَّةِ لغيرِ جائِزِ التَّصَرُّفِ، ولا بُدَّ أن يكونَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 129. (¬2) في م: «كان».

2187 - مسألة: (ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل، كقوله: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم. وعنه، يجوز)

وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَينَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ لِيَ هَذَا الثَّوْبَ فِي يَوْمٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمَلُ الذي يَتَعَلَّقُ بالذِّمَّةِ مَضْبوطًا بصِفاتِ السَّلَمِ ليَحْصُلَ العِلْمُ به [وقد ذكرنا ذلك] (¬1). ويُسَمَّى الأجِيرُ فيها الأجِيرَ المُشْتَرَكَ، مثلَ الخَيّاطِ الذي يَتَقَبَّلُ الخِياطَةَ لجَماعَةٍ، وكذلك القَصَّارُ، ومَن في معناه، فتكونُ مَنْفَعَتُه مُشْتَرَكةً بينهم. 2187 - مسألة: (ولا يجوزُ الجَمْعُ بين تَقْدِيرِ المُدَّةِ والعَمَلِ، كقَوْلِه: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ لِيَ هذا الثَّوْبَ في يومٍ. وعنه، يجوزُ) لا يجوزُ الجَمْعُ بينَ تَقْدِيرِ المُدَّةِ والعَمَلِ، كقَوْلِه: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَ لِيَ هذا الثَّوْبَ في يَوْمٍ. أو: تَبنىَ هذه الدّارَ في شَهْرٍ. وهو قولُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ الجَمْعَ بينهما يَزِيدُ الإِجارَةَ غَرَرًا لا حاجَةَ إليه؛ لأنَّه قد يَفْرَغُ مِنَ العَمَلِ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، فإنِ اسْتُعْمِلَ في بَقِيَّةِ المُدَّةِ، فقد زادَ على ما وَقَع عليه العَقْدُ، وإن لم يَعْمَلْ، كان تاركًا للعَمَلِ في بعضِ المُدَّةِ، فهذا غَرَرٌ قد أمْكَنَ التَّحرُّزُ منه، ولم يُوجَدْ مِثلُه في محَلِّ الوفاقِ، فلم يَجُزِ العَقْدُ معه. ورُوِيَ عن أحمدَ في مَن اكْتَرَى دابَّةً إلى مَوْضِعٍ على أن يَدْخُلَه في ثلاثٍ، فدَخَلَه في سِتٍّ، قال: قد أضَرَّ به. فقِيلَ: يَرْجِعُ عليه بالقِيمَةِ؟ قال: لا، يُصالِحُه (¬1). وهذا يَدُلُّ على جَوازِ تَقْدِيرِهما جَمِيعًا، وهو قولُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لأنَّ الإِجارَةَ مَعْقُودةٌ على العَمَلِ (¬2)، والمُدَّةُ إنَّما ذُكِرَتْ للتَّعْجِيلِ، فلا تَمْنَعُ ذلك. فعلى هذا، إذا أتمَّ العَملَ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، لم يَلْزَمْه العَمَلُ في بَقِيَّتِها؛ لأنَّه وَفَّى ما عليه قبل مُدَّتِه، فلم يَلْزَمْه شيءٌ آخَرُ، كما لو قَضَى الدَّينَ قبلَ أجَلِه، وإن مَضَتِ المُدَّةُ قبلَ العَمَلِ (¬3)، فلِلمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الإِجارَةِ؛ لأنَّ الأجِيرَ لم يَفِ له بشَرْطِه، فإن رَضِيَ بالبَقاءِ عليه لم يَمْلِكِ الأجِيرُ الفَسْخَ؛ ¬

(¬1) في م: «ويصالحه». (¬2) في الأصل: «أن العمل يفي». (¬3) سقط من: الأصل. وفي تش: «أجله».

2188 - مسألة: (ولا تجوز الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة؛ كالحج، والأذان، ونحوهما. وعنه، تصح)

وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ؛ كَالْحَجِّ، وَالْأَذَانِ، وَنَحْوهِمَا. وَعَنْهُ؛ تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الإِخْلال بالشَّرْطِ منه، فلا يكونُ ذلك وَسِيلةً له إلى الفَسْخِ، كما لو تَعَذَّرَ المُسَلَّمُ فيه في وَقْتِه لم يَمْلِكِ المُسَلَّمُ إليه الفَسْخَ، ومَلَكَهُ المُسَلِّمُ، فإن اخْتارَ إمْضاءَ العَقْدِ طالبَه بالعَمَلِ لا غيرُ، كالمُسَلِّمِ إذا صَبَر عند تَعَذُّرِ المُسَلَّمِ فيه إلى حينِ وُجُودِه، لم يَكُنْ له أكْثَرُ مِن المُسَلَّمِ فيه، وإن فَسَخ العَقْدَ قبلَ العَمَلِ، سَقَط الأجْرُ والعَمَلُ، وإن كان بعد عَمَلِ بعضِه، فله أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ العَقْدَ قد انْفَسَخَ، فسَقَطَ المُسَمَّى، ورَجَع إلى أجْرِ المِثْلِ. 2188 - مسألة: (ولا تجوزُ الإِجارَةُ على عَمَلٍ يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ من أهْلِ القُرْبَةِ؛ كالحَجِّ، والأذانِ، ونحوهما. وعنه، تَصِحُّ) معنى قولِه: يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ. أنَّه يكونُ مُسْلِمًا. وقد اخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في الاسْتِئْجارِ على ما (¬1) ¬

(¬1) في م: «عمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ مُسْلِمًا؛ كالإِمامَةِ، والحَجِّ، والأذانِ، وتَعْلِيمِ القُرْآنِ، فرُوِيَ عنه، أنَّها لا تَصِحُّ. وبه قال عَطاءٌ، والضَّحّاكُ بنُ قَيسٍ، وأبو حنيفةَ، والزُّهْرِيُّ. وكَرِهَ إسحاقُ تَعْلِيمَ القُرْآنِ بأجْرٍ. قال عبدُ اللهِ بنُ شَقِيقٍ: هذه الرُّغْفانُ التي يَأْخُذُها المُعَلِّمُونَ مِنَ السُّحْتِ. وكَرِهَ أجْرَ المُعَلِّمِ مع الشَّرْطِ؛ الحَسَنُ، وابنُ سِيرِينَ، وطاوُسٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أخرى، أنَّه يجوزُ. حكاهَا أبو الخَطّابِ، ونَقَل أبو طالبٍ عن أحمدَ أنَّه قال: التَّعْلِيمُ أحَبُّ إليَّ مِن أن يتَوَكَّلَ لهؤلاءِ السَّلاطِينِ، ومِن أن يتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِن عامَّةِ الناسِ في ضَيعةٍ، ومِن أن يَسْتَدِينَ ويَتَّجِرَ، لعلَّه لا يَقْدِرُ على الوَفاءِ فيَلْقَى اللهَ بأماناتِ الناسِ، التَّعْلِيمُ أحَبُّ إليَّ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ مَنْعَه منه في مَوْضِعِ مَنْعِه للكَراهةِ لا للتَّحْرِيمِ. ومِمَّنْ أجازَ ذلك مالكٌ، والشافعيُّ. ورَخَّصَ في أُجُورِ المُعَلِّمينَ أبو قِلابَةَ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوَّجَ رَجُلًا بما مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فإذا جازَ تَعْلِيمُ القُرآنِ عِوَضًا في النِّكاحِ وقامَ مَقامَ المَهْر، جازَ أخْذُ الأُجْرةِ عليه في الإِجارَةِ. وقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ علَيهِ أَجْرًا كِتابُ اللهِ» (¬2). حَديِثٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب وكالة الامرأة الإمام في النكاح، من كتاب الوكالة، وفي: باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وباب القراءة عن ظهر قلب، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب تزويج المعسر. . .، وباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وباب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وباب إذا كان الولى هو الخاطب، وباب السلطان ولي، وباب إذا قال الخاطب للولي زوجني فلانة. . .، وباب التزويج على القرآن وبغير صداق، من كتاب النكاح، وفي: باب خاتم الحديد، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 3/ 132، 6/ 236، 237، 7/ 8، 17، 19، 22، 23، 24، 26، 202. ومسلم، في: باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن. . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1041. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التزويج على العمل يعمل، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 487. والترمذي، في: باب مما جاء في مهور النساء، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 34، 35. والنسائي، في: باب الكلام الذي ينعقد به النكاح، وباب هبة المرأة نفسها لرجل بغير صداق، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 76، 100، 101. وابن ماجه، في: باب صداق النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 608. والدارمي، في: باب ما يجوز أن يكون مهرا، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 142. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 334، 336. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ. وفي حَدِيثِ أبي سعيدٍ أنَّ رَجلًا رَقَى رَجُلًا بِفاتِحَةِ الكِتابِ على جُعْلٍ، فَبَرأ، وأخَذَ أصحابُه الجُعْلَ، فأتَوْا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرُوه وسَألُوه، فقال: «لَعَمْرِي لَمَنْ أكَلَ بِرُقْيَةِ باطِلٍ، لَقَدْ أكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ، كُلُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» (¬1). حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وإذا جازَ أخْذُ الجُعْلِ، جازَ أخْذُ الأجْرِ؛ لأنَّه في مَعْناه، ولأنَّه يجوزُ أخْذُ الرِّزْقِ عليه مِن بَيتِ المالِ، فجازَ أخْذُ الأجْرِ عليه، كبِناءِ المَساجِدِ، ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى الاسْتِنابةِ في الحَجِّ عَمَّنْ وَجَب عليه وعَجَز عن فِعْلِه، ولا يَكادُ يُوجَدُ مُتَبَرِّعٌ بذلك، فيُحْتاجُ إلى بَذْلِ الأجْرِ فيه. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى، ما رَوَى عُثمانُ بنُ أبي العاصِ، قال: إنَّ آخِرَ ما عَهِدَ إليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أنِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، من كتاب الإجارة، وفي: باب فاتحة الكتاب، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب الرقى بفاتحة الكتاب، وباب النفث في الرقية، من كتاب الطب. صحيح البخاري 3/ 121، 6/ 231، 7/ 170، 173. ومسلم، في: باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1727، 1728. وأبو داود، في: باب كسب الأطباء، من كتاب البيوع، وفي: باب كيف الرقى، من كتاب الطب. سنن أبي داود 2/ 237، 238، 340. والترمذي، في: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ، من أبواب الطب. عارضة الأحوذي 8/ 223. وابن ماجه، في: باب أجر الراقي، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 729. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 2، 10، 44، 83. أما قوله: «لعمرى لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق». فأخرجها أبو داود في قصة الرجل المعتوه، في: باب كسب الأطباء، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 238. وليست من رواية أبي سعيد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لا يَأْخُذُ على أذانِه أجْرًا. قال التِّرْمِذِيُّ (¬1): هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وروَى عُبادَةُ بنُ الصّامِتِ، قال: عَلَّمْتُ أُناسًا مِن أهْلِ الصُّفَّةِ القُرْآنَ والكِتابةَ، فأهْدَى إليَّ رَجُلٌ منهم قَوْسًا، قال: قلتُ: قَوْسٌ ولَيسَتْ بمالٍ (¬2)، أتَقَلَّدُها في سَبِيلِ اللهِ. فذَكَرْتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقَصَّ عليه القِصَّةَ، قال: «إِنْ سَرَّكَ أنْ يُقَلِّدَكَ اللهُ قَوْسًا مِنْ نارٍ فَاقْبَلْها» (¬3). وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، أنَّه عَلَّمَ رجلًا سُورَةً مِن القُرآنِ، فأهْدَى له خَمِيصَةً (¬4) أو ثَوْبًا. فذَكَرَ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لَوْ أنَّكَ لَبِسْتَها، أوْ أخَذْتَها، ألْبَسَكَ اللهُ مَكانَها ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» (¬5) وعن أُبَيٍّ، قال: كُنْتُ أَخْتَلِفُ إلى رجلٍ مُسِنٍّ قد أصابَتْه عِلَّةٌ، قد احْتَبَسَ في بَيتِه أُقْرِئُه القُرآنَ، فكان عندَ فَراغِه ممَّا أُقْرِئُه يقولُ لجارِيَةٍ له: هَلُمِّى طَعامَ أخِي. فيُؤْتَى بطَعامٍ لا آكُلُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب في كراهية أن يأخذ على الأذان أجرًا، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 11. والنسائيُّ، في: باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرا، من كتاب الأذان. المجتبى 2/ 20. وابن ماجه، في: باب السنة في الأذان، من كتاب الأذان. سنن ابن ماجه 1/ 236. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 217. (¬2) بعده في م: «قال: قلت». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في كسب المعلم، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 237. وابن ماجه، في: باب الأجر على تعليم القرآن، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 730. (¬4) الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام. (¬5) أخرجه ابن ماجه، في: باب الأجر على تعليم القرآن، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 730.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَه بالمَدِينةِ، فحاكَ في نَفْسِي منه شيءٌ، فذَكَرْتُه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إنْ كَانَ ذَاكَ الطَّعامُ طَعَامَهُ وطَعامَ أهْلِه فَكُلْ مِنْهُ، وإن كان يُتْحِفُكَ به فَلَا تَأْكُلْهُ» (¬1). وعن عبدِ الرحمنِ بنِ شِبْلٍ الأنْصارِيِّ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «اقْرَأُوا القُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فيه، ولا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» (¬2). روَى هذه الأحادِيثَ كُلَّها الأثْرَمُ في «سُنَنِه». ولأنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ هذه الأفْعالِ كَوْنَها قُرْبةً إلى اللهِ تعالى، فلم يَجُزْ أخْذُ الأجْرِ عليها، كما لو اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ خَلْفَه الجُمُعَةَ أو التَّراويحَ. فأمَّا الأخْذُ على الرُّقْيَةِ، فإنَّ أحمدَ اخْتارَ جَوازَه، وقال: لا بَأْسَ. وذَكَرَ حَدِيثَ أبي سعيدٍ. والفَرْقُ بينه وبينَ ما اخْتُلِفَ فيه، أنَّ الرُّقْيَةَ نَوْعُ مُداواةٍ؛ والمَأْخُوذُ عليها جُعْلٌ، والمُداواةُ يُباحُ أخْذُ الأجْرِ عليها، والجَعالةُ أوْسَعُ مِنَ الإِجارَةِ، ولهذا تجوزُ مع جَهالةِ العَمَلِ والمُدَّةِ. وقولُه - عليه السلام -: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ». يَعْنِي به الجُعْلَ أيضًا في الرُّقْيَةِ؛ لأنَّه ذَكَر ذلك في سِياقِ خَبَرِ الرُّقْيَةِ. وأمَّا جَعْلُ تَعْلِيمِ القُرْآنِ صَداقًا، فعنه فيه اخْتِلافٌ، وليس في الخَبَرِ تَصْرِيحٌ ¬

(¬1) لم نجده. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 428، 444. وقال الحافظ: سنده قوي. الفتح 9/ 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنَّ التَّعْلِيمَ صَداقٌ، إنَّما قال: «زَوَّجْتُكهَا [على ما] (¬1) مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». فيَحْتَمِلُ أنَّه [زَوَّجه إياها] (¬2) بغيرِ صَداقٍ إكْرامًا له، كما زَوَّجَ أبا طَلْحةَ أُمَّ سُلَيمٍ على إسْلامِه (¬3)، ونُقِلَ عنه جوازُه. والفَرْقُ بين المَهْرِ والأجْرِ، أنَّ المَهْرَ ليس بعِوَضٍ مَحْضٍ وإنَّما وَجَب نِحْلَةً ووُصْلَةً، ولهذا جاز خُلُوُّ العَقْدِ عن تَسْمِيَتِه، وصَحَّ مع فَسادِه، بخِلافِ الأجْرِ في غيرِه. فصل: فأمَّا الرِّزْقُ مِن بَيتِ المالِ، فيجوزُ على ما يَتَعَدَّى نَفْعُه مِن هذه الأُمُورِ؛ لأنَّ بَيتَ المالِ مِن مَصالِحِ المُسْلِمِين، فإذا كان بَذْلُه لمن يَتَعَدَّى نَفْعُه إلى المُسْلِمِين مُحْتاجًا إليه، كان مِنَ المَصالِحِ، وكان له أخْذُه؛ لأنَّه مِن أهْلِه، وجَرَى مَجْرَى الوَقْفِ على مَن يَقُومُ بهذه المَصالِحِ، بخِلافِ الأجْرِ. فصل: فإن أُعْطِيَ المُعَلِّمُ شَيئًا مِن غيرِ شَرْطٍ، جازَ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ، فإنَّه قال، في رِوايةِ أيُّوبَ (¬4) ابنِ سافرى: لا يَطْلُبُ، ولا يُشارِطُ، فإن أُعْطِيَ شيئًا أخَذَه. وقال، في رِوايةِ أحمدَ بنِ سعيدٍ: أكْرَهُ أجْرَ المُعَلِّمِ إذا شَرَط. وقال: إذا كان المُعَلِّمُ لا يُشارِطُ، ولا يَطْلُبُ ¬

(¬1) في م: «بما». (¬2) في م: «زوجها إياه». (¬3) انظر: الإصابة 8/ 228. (¬4) في الأصل: تش، ر، ق: «يعقوب». وهو أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري، انتقل إلى الرملة، وحدث بها وبمصر، وحدث بمسائل كثيرة صالحة عن الإمام أحمد، وتوفي بدمشق سنة تسع وخمسين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 117، 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أحَدٍ شيئًا، إن أتاهُ شيءٌ قَبِلَه. كأنَّه يَراه أهْوَنَ. وكَرِهَهُ طائِفَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ لِما تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ القَوْسِ والخَمِيصَةِ التي أُعْطِيَهما (¬1) أُبَيٌّ وعُبادَةُ مِن غيرِ شَرْطٍ. ولأنَّ ذلك قُرْبةٌ، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه بِشَرْطٍ ولا بغيرِه، كالصَّلاةِ والصِّيامِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيرِ مسألةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ فَخُذْهُ وتَمَوَّلْهُ، فَإنَّه رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيكَ» (¬2). وقد أرْخَصَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيٍّ (¬3) في أكْلِ طَعامِ الذي كان يُعَلِّمُه إذا كان طَعامَه وطَعامَ أهْلِه. ولأنَّه إذا كان بغيرِ شَرْطٍ كان هِبَةً مُجَرَّدَةً، فجازَ، كما لو لم يُعَلِّمْه شيئًا. فأمَّا حَدِيثُ القَوْسِ والخَمِيصَةِ فقَضِيَّتان في عَينٍ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ أنَّهما فَعَلا ذلك خالِصًا، فكَرِهَ أخْذَ العِوَضِ عنه مِن غيرِ اللهِ تعالى، ويَحْتَمِلُ غيرَ ذلك. فأمَّا إن أُعْطِيَ المُعَلِّمُ أجْرًا على تَعْلِيمِ الخَطِّ وحِفْظِه، جازَ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: إن كان المُعْطِي يَنْوي أنَّه يُعْطِيه لحِفْظِ الصَّبِيِّ وتَعْلِيمِه، فأرْجُو إذا كان كذا. ولأنَّ هذا ممَّا يجوزُ أخْذُ الأجْرِ ¬

(¬1) في م: «أعطيها». (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 292، 323، 490، 4/ 221، 5/ 65، 6/ 77، 259، 367. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه مُفْرَدًا، فجازَ مع غيرِه، كسائِرِ ما يجوزُ الاسْتِئْجارُ عليه. وهكذا لو كان إمامُ المَسْجِدِ [قَيِّمًا يَكْنُسُه] (¬1)، ويُسْرِجُ قَنادِيلَه، ويُغْلِقُ بابَه ويَفْتَحُه، فأخَذَ أجْرًا على خِدْمَتِه، أو كان النائِبُ في الحَجِّ يَخْدِمُ المُسْتَنِيبَ له في طَرِيقِ الحَجِّ، ويَشُدُّ (¬2) له، ويَحُجُّ عن قَرِيبِه، فدَفَعَ إليه أجْرًا لخِدْمَتِه، جازَ ذلك، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: فأمَّا ما لا يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ، كتَعْلِيمِ الخَطِّ والحِسابِ والشِّعْرِ المُباحِ (¬3) وشِبْهِه، وبناءِ المَساجِدِ والقَناطِرِ، فيجوزُ أخْذُ الأجْرِ عليه؛ لأنَّه يَقَعُ تارَةً قُرْبةً، وتارَةً غيرَ قُرْبةٍ، فلم يُمْنَعْ مِن الاسْتِئْجارِ لِفِعْلِه، كغَرْسِ الأشْجارِ، وبناءِ البُيُوتِ. وكذلك في تَعْلِيمِ الفِقْهِ والحَدِيثِ. ذَكَرَه شَيخُنا (¬4). وذَكَر القاضِي في «الخِلافِ» أنَّهما مِن القِسْمِ الأوَّلِ. والأوْلَى، إن شاء اللهُ، ما ذَكَرَه شَيخُنا؛ لكَوْنِ فاعِلِها (¬5) لا يَخْتَصُّ أن يكونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ، واللهُ ¬

(¬1) في الأصل، ر، ق: «فيما يكتسبه». (¬2) في م: «ليشد». (¬3) سقط من: م. (¬4) في: المغني 8/ 141. (¬5) في م: «فاعله».

2189 - مسألة: (وإن استأجر من يحجمه، صح، ويكره للحر أكل أجرته، ويطعمه الرقيق والبهائم. وقال القاضي: لا يصح)

فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْجُمَهُ، صَحَّ، وَيُكْرَهُ لِلْحُرِّ أَكْلُ أُجْرَتِهِ، وَيُطْعِمُهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ. وَقَال الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلمُ. وأمَّا ما لا يَتَعَدَّى نَفْعُه فاعِلَه مِن العِباداتِ المَحْضَةِ، كالصِّيامِ، وصَلاةِ الإِنْسانِ لِنَفْسِه، وحَجِّه عن نَفْسِه، وأداءِ زَكاةِ نَفْسِه، فلا يجوزُ أخْذُ الأجْرِ عليه بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ الأجْرَ عِوَضٌ للانْتِفاعِ، ولم يَحْصُلْ لغيرِه ههُنا انْتِفاعٌ، فأشْبَهَ إجارَةَ الأعْيانِ التي لا نَفْعَ فيها. 2189 - مسألة: (وإنِ اسْتَأْجَرَ مَن يَحْجُمُه، صَحَّ، ويُكْرَهُ للْحُرِّ أكْلُ أُجْرَتِه، ويُطْعِمُه الرَّقِيقَ والبَهائِمَ. وقال القاضي: لا يَصِحُّ) يجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ حَجّامًا لِيَحْجُمَه، وأجْرُه مُباحٌ. اختارَه أبو الخَطّابِ. وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، قال: أنا آكُلُه. وبه قال عِكْرِمةُ، والقاسِمُ، ومحمدُ بنُ عليِّ بنِ الحُسَينِ، ورَبِيعَةُ، ويَحْيَى الأنْصارِيُّ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال القاضي: لا يجوزُ. وذَكَرَ أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه، قال: وإن أُعْطِيَ شيئًا مِن غيرِ عَقْدٍ ولا شَرْطٍ، فله أخْذُه، ويَصْرِفُه في عَلْفِ دابَّتِه، وطُعْمِ عَبْدِه، ومُؤْنَةِ صِناعَتِه، ولا يَحِلُّ أكْلُه. وكَرِهَ كَسْبَ الحَجّامِ عثمانُ، وأبو هريرةَ، والحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال: «أطْعِمْهُ ناضِحَكَ ورَقِيقَكَ» (¬2). ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: احْتَجَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأعْطَى الحَجّامَ أجْرَه، ولو عَلِمَه حَرامًا لم يُعْطِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفي لَفْظٍ: ولو عَلِمَه خَبِيثًا لم يُعْطِه. ولأنَّها مَنْفَعةٌ مُباحَةٌ، لا يَخْتَصُّ فاعِلُها بكَوْنِه مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالخِتانِ، ولأنَّ بالناسِ حاجَةً إليها، ولا نَجِدُ كُلَّ أحَدٍ مُتَبَرِّعًا بها، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالرَّضَاعِ، ولأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كَسْبِ الحَجّامِ: «أطْعِمْهُ رَقِيقَكَ». دَلِيلٌ على إباحَتِه، إذ غيرُ جائزٍ أن يُطْعِمَ رَقِيقَه ما يَحْرُمُ ¬

(¬1) هذا الحديث لم يرد في صحيح البخاري بهذا اللفظ. وأخرجه مسلم في: باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1199. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 238. والترمذي، في: باب ما جاء في ثمن الكلب، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 276. والدارمي، في: باب النهي عن كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 272. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 464، 465، 4/ 14، 141. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 307، 308. ويضاف إليه كما أخرجه أبو داود، في: باب كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 238. (¬3) أخرجه البخاري، في باب خراج الحجام، من كتاب الإجارة. صحيح البخاري 3/ 122. ومسلم، في: باب حل أجرة الحجامة، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1205. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 239. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 316، 324، 333، 351، 365.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْلُه؛ فإنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيٌّ يُحَرَّمُ عليه أكْلُ ما حُرِّمَ على الحُرِّ، وتَخْصِيصُ ذلك بما أُعْطِيَه مِن غيرِ اسْتِئْجارٍ تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه. فعلى هذا، تَسْمِيةُ كَسْبِه خَبِيثًا لا يَلْزَمُ منه التَّحْرِيمُ، فقد سَمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثُّومَ والبَصَلَ خَبِيثَينِ (¬1) مع إباحَتِهما، وإنَّما كَرِهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك للحُرِّ تَنْزِيهًا له؛ لِدَناءةِ صِناعَتِه، وليس عن أحمدَ نَصٌّ في تَحْرِيمِ (¬2) كَسْبِ الحَجّامِ ولا اسْتِئْجارِه عليها، وإنَّما قال: نحنُ نُعْطِيه كما أعْطَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ونقولُ له كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا سُئِلَ عن أكْلِه نَهاهُ، وقال: «أَعْلِفْهُ النَّاضِحَ والرَّقِيقَ». هذا مَعْنَى كلامِه في جميعِ الرِّواياتِ، وليس هذا صَرِيحًا في تَحْرِيمِه، بل فيه دَلِيلٌ على إباحَتِه، كما في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على ما بَيَّنّا، فإنَّ إعْطاءَه للحَجّامِ دَلِيلُ إباحَتِه، إذ لا يُعْطِيه ما يَحْرُمُ عليه، وهو عليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب نهى من أكل ثوما أو بصلا. . .، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 396. وأبو داود، في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 325. والنسائيُّ، في: باب من يخرج من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 34، 35. وابن ماجه، في: باب من أكل الثوم فلا يقربن المسجد، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 324. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 15، 28، 4/ 19. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السلامُ، يُعَلِّمُ الناسَ ويَنْهاهم عن المُحَرَّماتِ، فكيف يُعْطِيهم إيّاها؟! فعلى هذا، يكونُ نَهْيُه - عليه السلام - عن أكْلِه نَهْيَ كَراهةٍ لا نهْيَ تَحْرِيمٍ، وكذلك قولُ الإِمامِ أحمدَ، فإنَّه لم يَخْرُجْ عن قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفِعْلِه، بل قَصَد اتِّباعَه، وكذلك سائِرُ مَن كَرِهَه مِنَ الأئِمَّةِ، يتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهم على الكَراهةِ، فلا يكونُ في المَسْألةِ قائِلٌ بالتَّحْرِيمِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُكْرَهُ للحُرِّ أكْلُ أُجْرَةِ الحَجّامِ، ويُكْرَهُ تَعَلُّمُ صِناعَةِ الحِجامةِ وإجارَةُ نَفْسِه لها؛ لِما ذَكَرْنا مِنَ الأخْبارِ، ولأنَّ فيها دَناءةً، فَكُرِه الدُّخُولُ فيها، كالكَسْحِ. وفيما ذَكَرْناه إن شاء اللهُ تعالى جَمْعٌ بين الأخْبارِ وتَوْفِيقٌ بينَ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عليها. فعلى هذا، يُطْعِمُه الرَّقِيقَ والبَهائِمَ، كما جاء في الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ. واللهُ أعلمُ. فصل: فأمَّا اسْتِئْجارُ الحَجّامِ لغيرِ الحِجامةِ، كالفَصْدِ، وحَلْقِ الشَّعَرِ وتَقْصِيرِه، والخِتانِ، وقَطْعِ شيءٍ مِن الجَسَدِ للحاجةِ إليه، فجائِزٌ؛ لأنَّ قَولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ». يُرِيدُ بالحِجامَةِ، كما نَهَى عن مَهْرِ البَغِيِّ، أي في البِغاءِ. ولذلك (¬1) لو كَسَب بصِناعةٍ (¬2) أُخْرَى لم يَكُنْ خَبِيثًا، بغيرِ خِلافٍ. وهذا النَّهْي مُخالِفٌ لِلْقِياسِ فيَخْتَصُّ بالمَحلِّ الذي وَرَد فيه، ولأنَّ هذه الأُمُورَ تَدْعُو الحاجَةُ إليها، ولا تَحْرِيمَ فيها، فجازَتِ الإِجارَةُ فيها، كسائِرِ المنافِعِ المُباحَةِ. ¬

(¬1) في ق، ر، ر 1: «وكذلك». (¬2) في م: «في بضاعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ كَحّالًا لِيَكْحَلَ عَينَه؛ لأنَّه عَمَلٌ جائِزٌ، ويُمْكِنُ تسْلِيمُه ويُقَدِّرُ (¬1) ذلك بالمُدَّةِ؛ لأنَّ العَمَلَ غيرُ مَضْبُوطٍ، ويَحْتاجُ إلى بَيانِ عَدَدِ ما يَكْحَلُه، في كلِّ يومٍ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ. فإن قَدَّرَها بالبُرْءِ، فقال القاضي: لا يجوزُ؛ لأنَّه غيرُ مَعْلُومٍ. وقال ابنُ أبي موسى: لا بَأْسَ بمُشارَطةِ الطَّبِيبِ على البُرْءِ؛ لأنَّ أبا سَعِيدٍ حينَ رَقَى الرجلَ شارَطَه على البُرْءِ. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، جوازُ ذلك، لكن (¬3) يكونُ جَعالةً لا إجارَةً؛ فإنَّ الإِجارَةَ لابُدَّ فيها مِن مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ، أو عَمَلٍ مَعْلُومٍ، والجَعالةُ تجوزُ على عَمَلٍ مَجْهُولٍ، كَرَدِّ اللُّقَطَةِ والآبِقِ. وحَدِيثُ أبي سَعيدٍ في الرُّقْيَةِ إنَّما كان جَعالةً، فيجوزُ ههُنا مثلُه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الكُحْلَ إن كان مِن العَلِيلِ، جازَ؛ لأنَّ آلاتِ العَمَلِ تكونُ مِن المُسْتَأْجِرِ، كاللَّبِنِ في البِناءِ والطِّينِ والآجُرِّ ونحوها. وإن شَرَطَه على الكَحّالِ، جازَ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لأنَّ الأعْيانَ لا تُمْلَكُ بعَقْدِ الإِجارَةِ، فلا يَصِحُّ اشْتِراطُه على العامِلِ، كَلَبِنِ الحائِطِ. ولَنا، أنَّ العادَةَ جارِيَةٌ به، ويَشُقُّ على العَلِيلِ (¬4) تَحْصِيلُه، وقد ¬

(¬1) بعده في م: «على». (¬2) في: المغني 8/ 120. (¬3) في م: «لكى». (¬4) في م: «العامل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْجِزُ عنه بالكُلِّيَّةِ، فجازَ ذلك، كالصِّبْغِ مِن الصَّبّاغِ، والحِبْرِ والأقْلامِ مِن الوَرّاقِ. وما ذَكَرَه يَنتَقِضُ بهذَينِ الأصْلَينِ. وفارَقَ لَبِنَ الحائِطِ؛ لأنَّ العادَةَ تَحْصِيلُ المُسْتَأْجِرِ إيّاه، ولا يَشُقُّ ذلك، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وقال أصحابُ مالكٍ: يجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ مَن يَبْنِي له جِدارًا والآجُرُّ مِن عندِه؛ لأنَّه اشْتَرَى ما يُتِمُّ به الصَّنْعَةَ التي عَقَد عليها، فإذا كان مَعْرُوفًا، جازَ، كما لو اسْتَأْجَرَه لِيَصْبُغَ له ثَوْبًا والصِّبْغُ مِن عندِه. ولَنا، أنَّ عَقْدَ الإِجارَةِ عَقْدٌ على المَنْفَعَةِ، فإذا شَرَط بَيعَ العَينِ، صار كبَيعَتَين في بَيعةٍ. ويُفارِقُ الصِّبْغَ، مِن حيثُ إنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه؛ لأنَّ تَحْصِيلَ الصِّبْغِ يَشُقُّ على صاحِبِ الثَّوْبِ، وقد يكونُ الصِّبْغُ لا يَحْصُلُ إلَّا في حببٍ (¬1) يَحْتاجُ إلى مُؤْنةٍ كَثِيرةٍ، لا يَحْتاجُ إليها في صَبْغِ هذا الثَّوْبِ، فجازَ؛ لِمَسِيسِ الحاجَةِ إليه، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فصل: فإنِ اسْتَأْجَرَه مُدَّةً، فكَحَلَه فيها، فلم تَبْرَأْ عَينُه، اسْتَحَقَّ الأجْرَ. وبه قال الجماعةُ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه لا يَسْتَحِقُّ أجْرًا حتى تَبْرَأَ عَينُه. ولم يَحْكِ ذلك أصحابُه، وهو فاسِدٌ؛ لأنَّ المُسْتَأْجِرَ قد وَفَّى ¬

(¬1) في تش، م: «خنب». وفي الأصل غير منقوطة. والحُبُّ: الجرة صغيرة كانت أو كبيرة، فارسي معرب. تاج العروس (ح ب ب).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمَلَ الذي وَقَع العَقْدُ عليه، فوَجَبَ له الأجْرُ وإن لم يَحْصُلِ الغَرَضُ، كما لو اسْتَأْجَرَه لبِناءِ حائِطٍ يَوْمًا، أو لخِيَاطةِ قَمِيصٍ، فلم يُتِمَّه فيه. فإن بَرِئَتْ عَينُه في أثْناءِ المُدَّةِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِنَ المُدَّةِ؛ لتَعَذُّرِ العَمَلِ، فهو كما لو حَجَز عنه أمْرٌ غالِبٌ، وكذلك لو ماتَ. فإنِ امْتَنَعَ عن الاكْتِحالِ مع بَقاءِ المَرَضِ، اسْتَحَقَّ الكَحّالُ الأجْرَ بمُضِيِّ المُدَّةِ، كما لو اسْتَأْجَرَه يومًا للبِناءِ فلم يَسْتَعْمِلْه فيه. فأمَّا إن شارَطَه على البُرْءِ، فهي جَعالةٌ لا يَسْتَحِقُّ شيئًا حتى يُوجَدَ البُرْءُ، سواءٌ وُجِدَ قَرِيبًا أو بَعِيدًا، فإن بَرِئَ بغيرِ كَحْلِه أو تَعَذَّرَ الكَحْلُ لمَوْتِه أو غيرِ ذلك مِن المَوانِعِ التي مِن جِهَةِ المُسْتَأْجِرِ، فله أجْرُ مِثْلِه، كما لو عَمِلَ العامِلُ في الجَعالةِ ثمَّ فَسَخ العَقْدَ. فإنِ امْتَنَعَ لأمرٍ مِنْ جِهَةِ الكَحّالِ أو غيرِ المُسْتَأْجِرِ، فلا شيءَ له. وإن فَسَخ الجاعِلُ الجَعالةَ بعدَ عَمَلِ الكَحّالِ، فعليه أجْرُ عَمَلِه، وإن فَسَخ الكَحّالُ، فلا شيءَ له، على ما يُذْكَرُ في بابِ الجَعالةِ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: ويَصِحُّ أن يَسْتَأْجِرَ طَبِيبًا لِمُداواتِه. والكلامُ فيه كالكَلامِ في الكَحّالِ سواءً، [إلَّا أنَّه] (¬1) لا يجوزُ اشْتِراطُ الدَّواءِ على الطَّبِيبِ؛ لأنَّه إنَّما جازَ في الكَحّالِ على خِلافِ الأصْلِ؛ للحاجَةِ إليه، وجَرْي العادَةِ به، ولم يُوجَدْ ذلك المَعْنَى (¬2) ههُنا، فيَثْبُتُ الحُكْمُ فيه على وَفْقِ الأصْلِ. ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) في م: «المنع».

فَصْلٌ: وَلِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ وَبِمِثْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْهُ، وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ ضَرَرُهُ ضَرَرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ مَن يَقْلَعُ ضِرْسَه؛ لأنَّها مَنْفَعةٌ مُباحَةٌ مَقْصُودَةٌ، فجاز ذلك عليها، كالخِتانِ. فإنْ أخْطَأَ فقَلَعَ غيرَ ما أُمِرَ بقَلْعِه، ضَمِنَه؛ لأنَّه مِن جِنايَتِه. وإن بَرَأ الضِّرْسُ قبلَ قَلْعِه، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ؛ لأنَّ قَلْعَه لا يجوزُ. وإن لم يَبْرَأْ، لكنِ امْتَنَعَ المُسْتَأْجِرُ مِن قَلْعِه، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأنَّ إتْلافَ جُزْءِ الآدَمِيِّ مُحَرَّمٌ في الأصْلِ، وإنَّما أُبِيحَ إذا صار بقَاؤُه ضَرَرًا، وذلك مُفَوَّضٌ إلى كلِّ إنْسانٍ في نَفْسِه إذا كان أهْلًا لذلك، فصاحِبُ الضِّرْسِ أعْلَمُ بمَضَرَّتِه ونَفْعِه وقَدْرِ ألَمِه. فصل: قال، - رَضِيَ اللهُ عنه -: (وللمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ بنَفْسِه وبِمثْلِه، [ولا يجوزُ بِمَن هو أكْثَرُ ضَرَرًا منه، ولا بِمَن يُخالِفُ ضَرَرُه ضَرَرَه) كلُّ مَن اسْتَأْجَرَ عَينًا لمَنْفَعَتِها فله أن يَسْتَوْفِيَ المَنْفَعَةَ بنَفْسِه وبِمثْلِه] (¬1). فإذا اكْتَرَى دارًا للسُّكْنَى فله أن يُسْكِنَها مثلَه؛ لأنَّه لم يَزِدْ على اسْتِيفاءِ حَقِّه، ولأنَّه حَقُّه، فجازَ أن يَسْتَوْفِيَه بنَفْسِه وبِوَكِيلِه إذا كان مِثْلَه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الضَّرَرِ أو دُونَه، كقَبْضِ المَبِيعِ، واسْتِيفاءِ الدَّينِ. ويَضَعُ فيه ما جَرَتْ عادَةُ السّاكِنِ به مِن الرَّحْلِ والطَّعامِ، ويَخْزُنُ فيها الثِّيابَ وغيرَها ممَّا لا يَضُرُّ بها. ولا يُسْكِنُها مَن يَضُرُّ بها كالقَصّارِينَ والحَدّادِينَ، ولا يَجْعَلُ فيها الدَّوابَّ؛ لأنَّها تَرُوثُ فيها وتُفْسِدُها، ولا يَجْعَلُ فيها السِّرْجِينَ ولا رَحىً، ولا ما يَضُرُّ بها، ولا شيئًا ثَقِيلًا فوقَ سَقْفٍ؛ لأنَّه يُثْقِلُه، وقد يَكْسِرُ خَشَبَه، فإن شَرَط ذلك، جازَ. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. ولا يَمْلِكُ فِعْلَ ما يَضُرُّ بها؛ لأنَّه فوقَ المَعْقُودِ عليه، فلم يَكُنْ له فِعْلُه، كما لو اشْتَرَى شيئًا لم يَمْلِكْ أخْذَ أكْثَرَ منه، فإن جَعَل الدّارَ مَخْزَنًا للطَّعامِ، فقال أصحابُنا: يجوزُ ذلك؛ لأنَّه يجوزُ أن يَجْعَلَها مَخْزَنًا لغيرِه، ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَخْرِيقِ الفأرِ أرْضَها وحِيطانَها، وذلك ضَرَرٌ لا يَرْضَى به صاحِبُ الدّارِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اكْتَرَى ظَهْرًا لِيَرْكَبَه، فله أن يُرْكِبَه مِثْلَه ومَن هو أخَفُّ منه، ولا يُرْكِبُه مَن هو أثْقَلُ منه؛ لأنَّ العَقْدَ اقْتَضَى اسْتِيفاءَ مَنْفَعَةٍ مُقَدَّرةٍ بذلك الرّاكِبِ، فكان له أن يَسْتَوْفِيَ ذلك بنَفْسِه ونائِبِه، وله اسْتِيفاءُ أقَلَّ منه؛ لأنَّه بعضُ حَقِّه، وليس له اسْتِيفاءُ أكْثَرَ منه؛ لأنَّه أكْثَرُ ممّا عَقَدَ عليه. ولا يُشْتَرَطُ التَّساوي في الطُّولِ والقِصَرِ، ولا المَعْرِفةِ بالرُّكُوبِ. وقال القاضي: يُشْتَرطُ أن يكونَ مِثْلَه في هذه الأوْصافِ كلِّها؛ لأنَّ قِلَّةَ المَعْرِفةِ بالرُّكُوبِ يُثْقِلُ على المَرْكُوبِ ويَضُرُّ به. قال الشاعر: لم يَرْكَبُوا الخَيلَ إلَّا بَعْدَما كَبِرُوا … فَهُمْ ثِقالٌ عَلَى أكْفالِهَا عُنُفُ (¬1) ولَنا، أنَّ التَّفاوُتَ في هذه الأُمُورِ مع التَّساويِ في الثِّقَلِ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عنه، ولهذا لا يُشْتَرَطُ ذِكْرُه في الإِجارَةِ، ولو اعْتُبِرَ ذلك لاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُه في الإِجارَةِ، كالثِّقَلِ والخِفَّةِ. فصل: فإن شَرَط أن لا يَسْتَوْفِيَ المَنْفَعَةَ بمِثْلِه ولا بمَن دُونَه، فقِياسُ قولِ أصحابِنا صِحَّةُ العَقْدِ وبُطْلانُ الشَّرْطِ، فإنَّهم قالُوا في مَن شَرَط أن يَزْرَعَ في الأرْضِ حِنْطَةً ولا يَزْرَعَ غيرَها: يَبْطُلُ الشَّرْطُ ويَصِحُّ العَقْدُ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ الشَّرْطُ. وهو أحَدُ الوَجْهَين للشّافِعيَّةِ؛ لأنَّ ¬

(¬1) البيت من شواهد لسان العرب، والتاج (ع ن ف).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ المَنافِعَ مِن جِهَةِ المُؤْجِرِ، فلا يَمْلِكُ ما لم يَرْضَ به، ولأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في تَخْصِيصِه باسْتِيفاءِ هذه المَنْفَعَةِ. وقالوا في الوَجْهِ الآخَرِ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لأنَّه يُنَافِي مُوجِبَ العَقْدِ، إذ مُوجِبُه مِلْكُ المَنْفَعَةِ والتَّسْلِيطُ على اسْتِيفائِها بنَفْسِه ونائِبِه، واسْتِيفاءُ بعضِها بنَفْسِه وبعضِها بنائِبِه، والشَّرْطُ يُنافِي ذلك، فكان باطِلًا. ولا يَبْطُلُ به العَقْدُ في أصَحِّ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا يُؤَثِّرُ في حَقِّ المُؤْجِرِ نَفْعًا ولا ضَرًّا، فأُلْغِي، وبَطَل العَقْدُ على مُقْتَضاه. والآخَرُ يُبْطِلُه؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضاه، أشْبَهَ ما لو شَرَط أن لا يَسْتَوْفِيَ المَنافِعَ.

2190 - مسألة: (وله استيفاء المنفعة وما دونها في الضرر من جنسها)

وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ وَمَا دُونَهَا فِي الضَّرَرِ مِنْ جِنْسِهَا، فَإِذَا اكْتَرَى لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ، فَلَهُ زَرْعُ الشَّعِيرِ وَنَحْوهِ، وَلَيسَ لَهُ زَرْعُ الدُّخْنِ وَنَحْوهِ. وَلَا يَمْلِكُ الْغَرْسَ وَلَا الْبِنَاءَ. وَإِنِ اكْتَرَاهَا لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَمْلِكِ الْآخَرَ. فَإِنِ اكْتَرَاهَا لِلْغَرْسِ، مَلَكَ الزَّرْعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2190 - مسألة: (وله اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ وما دُونَها في الضَّرَرِ مِن جِنْسِها) قال أحمدُ: إذا اسْتَأْجَرَ دابَّةً ليَحْمِلَ عليها تَمْرًا، فَحَمَل عليها حِنْطَةً، أرْجُو أن لا يكونَ به بَأْسٌ إذا كان الوَزْنُ واحِدًا. وإن كانت المَنْفَعَةُ التي يَسْتَوْفِيها أكْثَرَ ضَرَرًا، أو مُخالِفَةً للمَعْقُودِ عليها في الضَّرَرِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يَسْتَوْفِي أكْثَرَ مِن حَقِّه أو غيرَ ما يَسْتَحِقُّه. 2191 - مسألة: فإذا اسْتَأْجَرَ أرْضًا (لزَرْعِ الحِنْطةِ، فله زَرْعُ الشَّعِيرِ ونحوه. وليس له زَرْعُ الدُّخْنِ ونَحْوه. ولا يَمْلِكُ الغَرْسَ ولا البِناءَ. وإنِ اكْتَراها لأحَدِهما، لم يَمْلِكِ الآخَرَ. وإنِ اكْتَراها لِلْغَرْسِ، مَلَك الزَّرْعَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ إجارَةَ الأرْضِ صَحِيحةٌ، وقد ذَكَرْنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلكَ. ولا يَصِحُّ حتى يَرَى الأرْضَ؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِها، ولا تُعْرَفُ إلَّا بالرُّؤْيةِ؛ لِكَوْنِها لا تَنْضَبِطُ بالصِّفَةِ، ولا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَ ما يَكْتَرِي له؛ مِن زَرْعٍ، أو غَرْسٍ، أو بِناءٍ؛ لأنَّ الأرْضَ تَصْلُحُ لذلك كلِّه، وتَأْثِيرُه في الأرْضِ يَخْتَلِفُ، فوَجَبَ بَيانُه. فإن قال: أجَرْتُكَها لِتَزْرَعَها أو تَغْرِسَها. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لم يُعَيِّنْ أحَدَهُما، أشْبَهَ ما لو قال: بِعْتُكَ أحَدَ هَذَين العَبْدَين. فإن قال: لِتَزْرَعَهَا ما شِئْتَ، وتَغْرِسَها ما شِئْتَ. صَحَّ. وهذا مَنْصُوصُ الشافعيِّ. وخالفَه أكْثَرُ أصحابِه، فقالوا: لا يجوزُ؛ لأنَّه لا يَدْرِي كم يَزْرَعُ ويَغْرِسُ. وقال بعضُهم: يَصِحُّ، ويَزْرَعُ نِصْفَها ويَغْرِسُ نِصْفَها. ولَنا، أنَّ العَقْدَ اقْتَضَى إباحَةَ هَذَين الشَّيئَين، فصَحَّ، كما لو قال: لتَزْرَعَها ما شِئْتَ. ولأنَّ اخْتِلافَ الجِنْسَينِ كاخْتِلافِ النَّوْعَينِ. وقولُه: لِتَزْرَعَها ما شِئْتَ. إذْنٌ في نَوْعَينِ وأنْواعٍ، وقد صَحَّ، كذلك (¬1) في الجِنْسَين. وله أن يَغْرِسَها كُلَّها، وأن يَزْرَعَها كُلَّها، كما لو أذِنَ له في أنْواعِ الزَّرْعِ كلِّه، كان له زَرْعُها نَوْعًا واحِدًا، وزَرْعُها جَمِيعِها مِن نوْعَين، كذلك ههُنا. ¬

(¬1) في م: «فكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اكْتَرَاها (¬1) للزَّرْعِ وحدَه، ففيه أرْبَعُ مَسائِلَ؛ إحْداهُنَّ، اكْتَراها للزَّرْعِ مُطْلَقًا، أو قال: لِزَرْعِ (¬2) ما شِئْتَ. فيَصِحُّ، وله زَرْعُ ما شاءَ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ عن ابنِ (¬3) سُرَيجٍ أنَّه لا يَصِحُّ حتى يُبَيِّنَ الزَّرْعَ؛ لأنَّ ضَرَرَه يَخْتَلِفُ، فلم يَصِحَّ بدُونِ البَيانِ، كما لو لم يَذْكُرْ ما يَكْتَرِي له؛ مِن زَرْعٍ أو غَرْسٍ أو بِناءٍ. ولَنا، أنَّه يجوزُ اسْتِئْجارُها لأكْثَرِ الزَّرْعِ ضَرَرًا، ويُباحُ له جَمِيعُ الأنواعِ؛ لأنَّها دُونَه، فإذا عَمَّمَ أو أطْلَقَ، تَناوَلَ الأكْثَرَ، وكان له ما دُونَه، ويُخالِفُ الأجْناسَ المُخْتَلِفَةَ، فإنَّه لا يَدْخُلُ بعضُها في بعضٍ. فإن قِيلَ: فلو اكْتَرَى دابَّةً للرُّكُوبِ وَجَب تَعْيِينُ الرّاكِبِ. قلنا: لأنَّ إجارَةَ المَرْكُوبِ لأكْثَرِ الرُّكّابِ ضَرَرًا لا تجوزُ، بخِلافِ المَزْرُوعِ، ولأنَّ لِلْحَيَوانِ حُرْمَةً في نَفْسِه، فلم يَجُزْ إطْلاقُ ذلك فيه، بخِلافِ الأرْضِ. فإن قِيلَ: فلو اسْتَأْجَرَ دارًا للسُّكْنَى مُطْلَقًا، لم يَجُزْ أن يُسْكِنَها مَن يَضُرُّ بها، كالقَصّارِ والحَدّادِ، فلِمَ قُلْتُم: إنَّه يَجُوزُ أن يَزْرَعَها ما يَضُرُّ بها؟ قُلْنا: السُّكْنَى ¬

(¬1) في م: «أكراها». (¬2) في م: «لتزرع». (¬3) في ر: «أبى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَقْتَضِي ضَرَرًا، فلذلك مُنِعَ مِن إسْكانِ مَن يَضُرُّ بها؛ لأنَّ العَقْدَ لم يَقْتَضِه، والزَّرْعُ يَقْتَضِي الضَّرَرَ، فإذا أطْلَقَ كان راضِيًا بأكْثَرِه، فلهذا جازَ. وليس له أن يَغْرِسَ [ولا يَبْنِيَ في الأرْضِ] (¬1)؛ لأنَّ ضَرَرَه أكْثَرُ مِن المَعْقُودِ عليه. المسألةُ الثانيةُ، اكْتَراها (¬2) لِزَرْعِ حِنْطَةٍ أو نَوْعٍ بعَينِه، فإنَّ له زَرْعَ ما عَيَّنَه وما ضَرَرُه كضَرَرِه أو دُونَه، ولا يَتَعَيَّنُ ما عَيَّنَه في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا أهْلَ الظّاهِرِ، فإنَّهم قالوا: لا يجوزُ له زَرْعُ غيرِ ما عَيَّنَه، حتى لو وَصَف الحِنْطَةَ بأنَّها سَمْراءُ، لم يَجُزْ أن يَزْرَعَ بَيضاءَ؛ لأنَّه عَيَّنَه بالعَقْدِ، فلم يَجُزِ العُدُولُ عنه، كما لو عَيَّنَ المَرْكُوبَ، أو عَيَّنَ الدَّراهِمَ في الثَّمَنِ. ولَنا، أنَّ المَعْقُودَ عليه مَنْفَعَةُ الأرْضِ دُونَ القَمْحِ، ولهذا يَسْتَقِرُّ عليه الأجْرُ بمُضِيِّ المُدَّةِ إذا تَسَلَّمَ الأرْضَ ولم يَزْرَعْها. وإنَّما ذَكَر القَمْحَ لتَتَقَدَّرَ به المَنْفَعَةُ، فلم يَتَعَيَّنْ، كما لو اسْتَأْجَرَ دارًا لِيَسْكُنَها، فله أن يُسْكِنَها غيرَه. وفارَقَ المَرْكُوبَ والدَّراهِمَ في الثَّمَنِ، فإنَّه مَعْقُودٌ عليهما، فتَعَيَّنا، والمَعْقُودُ عليه ههُنا مَنْفَعةٌ مُقَدَّرَةٌ، وقد تَعَيَّنَتْ أيضًا، ولم يَتَعَيَّنْ ما قُدِّرَتْ ¬

(¬1) في م: «في هذه الأرض ولا يبنى». (¬2) في م: «أكراها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به، كما لا يَتَعَيَّنُ المِكْيالُ والمِيزانُ في المَكِيلِ والمَوْزُونِ. فعلى هذا، يجوزُ له زَرْعُ القَمْحِ والشَّعِيرِ والباقِلَّا؛ لأنَّه أقَلُّ ضَرَرًا، وليس له زَرْعُ الدُّخْنِ والذُّرَةِ والقُطْنِ؛ لأنَّه إمّا أن يكونَ أكْثَرَ ضَرَرًا، فيَأْخُذَ فَوْقَ حَقِّه، أو يكونَ ضَرَرُه مُخالِفًا لضَرَرِ القَمْحِ، فيَأْخُذَ ما لم يَتناوَلْه العَقْدُ ولا شيئًا مِن جِنْسِه. المسألةُ الثالثةُ، قال: ازْرَعْها حِنْطةً وما ضَرَرُه كضَرَرِها أو دُونَه. فهذه كالتي قَبْلَها، إلَّا أنَّه لا مُخالِفَ فيها؛ لأنَّه شَرَط ما اقْتَضاهُ الإِطْلاقُ، وبَيَّنَ ذلك بصَرِيحِ نَصِّه، فزال الإِشْكالُ. المسألةُ الرابعةُ، قال: ازْرَعْها حِنْطةً ولا تَزْرَعْ غيرَها. فذَكَرَ القاضِي، أنَّ الشَّرْطَ باطِلٌ؛ لمُنافاتِه مُقْتَضَى العَقْدِ؛ لأنَّه يَقْتَضِي اسْتِيفاءَ المَنْفَعَةِ كيف شاءَ، فلم يَصِحَّ الشَّرْطُ، كما لو شَرَط عليه اسْتِيفاءَ المَبِيعِ بنَفْسِه. والعَقْدُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ فيه، ولا غَرَضَ لأحَدِ المُتَعاقِدَين؛ لأنَّ ما ضَرَرُه مِثْلُه، لا يَخْتَلِفُ في غَرَضِ المُؤْجِرِ، فلم يُؤَثِّرْ في العَقْدِ، فأشْبَهَ شَرْطَ اسْتِيفاءِ المَبِيعِ أو الثَّمنِ بنَفْسِه. وقد ذَكَرْنا فيما إذا شَرَط مُكْتَرِي الدّارِ أن لا يُسْكِنَها غيرَه، وَجْهًا في صِحَّةِ الشَّرْطِ، ووَجْهًا في فسادِ العَقْدِ، فيُخَرَّجُ ههُنا مِثْلُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اكْتَراها (¬1) للغِراسِ، ففيه ما ذَكَرْنا مِن المَسائِلِ، إلَّا [أنَّ لَه] (¬2) أن يَزْرَعَها؛ لأنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أقَلُّ مِن ضَرَرِ الغِراسِ، وهو مِن جِنْسِه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَضُرُّ بباطِنِ الأرْضِ. وليس له البِناءُ؛ لأنَّ ضَرَرَه مُخَالِفٌ لضَرَرِه، فإنَّه يَضُرُّ بظاهِرِ الأرضِ. وإنِ اكْتَراها للزَّرْعِ، لم يَمْلِكِ الغَرْسَ ولا البِناءَ؛ لأنَّ ضَرَرَ الغَرْسِ أكْثَرُ، وضَرَرُ البناء مُخالِفٌ لضَرَرِه. وإنِ اكْتَراها للبناءِ، لم يَكُنْ له الغَرْسُ ولا الزَّرْعُ؛ لأنَّ ضَرَرَهما يُخالِفُ ضَرَرَه. فصل: ولا تَخْلُو الأرْضُ مِن قِسْمَين؛ أحَدُهما، أن يكونَ لها ماءٌ دائِمٌ؛ إمّا مِن نَهْرٍ لم تَجْرِ العادَةُ بانْقِطاعِه، أو لا يَنْقَطِعُ إلَّا مُدَّةً لا تُؤَثِّرُ في الزَّرْعِ، أو مِن عَينٍ تَنْبُعُ، أو بِرْكَةٍ مِن مِياهِ الأمْطارِ يَجْتَمِعُ فيها الماءُ ثمَّ يَسْقِي به، أو مِن بِئْرٍ يَقُومُ بكِفايَتِها، أو ما يَشْرَبُ بعُرُوقِه لِنَداوَةِ الأرْضِ وقُرْبِ الماءِ الذي تحتَ الأرْضِ، فهذا كلُّه دائِمٌ، ويَصِحُّ اسْتِئْجارُها للغَرْسِ والزَّرْعِ، وكذلك الأرْضُ التي تَشْرَبُ مِن مِياهِ الأمْطارِ، ويُكْتَفَى بالمُعْتادِ منه (¬3)؛ لأنَّ ذلك بِحُكْمِ العادَةِ، لا تَنْقَطِعُ إلَّا نادِرًا، فهي كسائِرِ الصُّوَرِ المَذْكُورَةِ. والثاني، أن لا يكونَ لها ماءٌ دائِمٌ، وهي نوعان؛ أحَدُهما، ما يَشْرَبُ مِن زِيادةٍ مُعْتادةٍ تَأْتِي وَقْتَ الحاجةِ، كأرضِ مِصْرَ الشّارِبَةِ مِن زِيادَةِ النِّيلِ، وما يَشْرَبُ مِن زِيادةِ الفُراتِ وأشْباهِه، ¬

(¬1) في م، تش: «أكراها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «منها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأرْضِ البَصْرَةِ الشّارِبَةِ مِن المَدِّ والجَزْرِ، وأرْضِ دِمَشْقَ الشّارِبَةِ من زِيادَةِ بَرَدَى، أو ما يَشْرَبُ مِن الأوْدِيَةِ الجارِيَةِ مِن ماءِ المَطَرِ، فتَصِحُّ إجارَتُها قبلَ وُجُودِ الماءِ الذي تُسْقَى به وبعدَه. وحَكَى ابنُ الصَّبّاغِ ذلك مَذْهَبًا للشافعيِّ. وقال أصحابُه: إن أكْراها بعدَ الزِّيادَةِ، صَحَّ، ولا تَصِحُّ قبلَها؛ لأنَّها مَعْدُومَةٌ، لا يُعْلَمُ هل يَقْدِرُ عليها أو لا. ولَنا، أنَّ هذا مُعْتادٌ، الظاهِرُ وُجُودُه، فجازَتْ إجارَةُ الأرْضِ الشّارِبَةِ منه، كالشّارِبَةِ مِن مياهِ الأمْطارِ، ولأنَّ ظَنَّ القُدْرَةِ على التَّسْلِيمِ في وَقْتِه يَكْفِي في صِحَّةِ العَقْدِ، كالسَّلَمِ في الفاكِهَةِ إلى أوانِها. النوعُ الثاني، أن يكونَ مَجِئُ الماءِ نادِرًا، أو غيرَ ظاهِرٍ، كالأرْضِ التي لا يَكْفِيها إلا المَطَرُ الشَّدِيدُ الكَثِيرُ الذي يَنْدُرُ وُجُودُه. أو يكونُ شُرْبُها مِن فَيضِ ماءٍ وُجُودُه نادِرٌ، أو مِن زِيادةٍ نادِرَةٍ في نَهْرٍ أو عَينٍ غالِبَةٍ، فهذه إن أجَرَها بعدَ وُجُودِ ماءٍ يَسْقِيها به، صَحَّ؛ لأنَّه أمْكَن الانْتِفاعُ بها وزَرْعُها، فجازَت إجارَتُها، كذاتِ الماءِ الدائِمِ. وإن أجَرَها قبلَه (¬1)، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يتَعَذَّرُ الزَّرْعُ غالِبًا، أو يتَعَذَّرُ المَعْقُودُ عليه في الظاهِرِ، فلم تَصِحَّ إجارَتُها، كالآبِقِ والمَغْصُوب. وإنِ اكْتَراها على أنَّها لا ماءَ لها، جازَ؛ لأنَّه يتَمَكَّنُ مِن الانْتِفاعِ بها بالنُّزُولِ فيها، ووَضْعِ رَحْلِه، وجَمْعِ الحَطَبِ فيها، وله أن يَزْرَعَها رَجاءَ الماءِ. وإن حَصَل له ماءٌ قبلَ زَرْعِها، فله زَرْعُها؛ لأنَّ ذلك مِن مَنَافِعِها المُمْكِنِ اسْتِيفاؤُها. وليس له أن يَبْنِيَ ولا يَغْرِسَ؛ ¬

(¬1) بعده في ر، ق: «للزرع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ذلك يُرادُ للتَّأْبِيدِ، وتَقْدِيرُ الإِجارَةِ بمُدَّةٍ يَقْتَضِي تَفْرِيغَها عندَ انْقِضائِها. فإن قيلَ: فلو اسْتَأْجَرَها للغِراسِ والبِناءِ صَحَّ مع تَقدِيرِ المُدَّةِ. قلنا: التَّصْرِيحُ بالبناءِ والغِرَاسِ صَرَفَ التَّقْدِيرَ عن مُقْتَضاه، بظاهِرِه في التَّفْرِيغِ عندَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، إلَّا أن يَشْتَرِطَ قَلْعَ ذلك عند انْقضاءِ المُدَّةِ، فيُصْرَفُ الغِراسُ والبِناءُ عَمّا يُرادُ له بظاهِرِه، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وإن أطْلَقَ إجارَةَ هذه الأرضِ، مع العِلْمِ بِحَالِها وعَدَمِ مائِها، صَحَّ؛ لأنَّهُما دَخَلَا في العَقْدِ عَلَى أنَّها لَا مَاءَ لَهَا، فَأَشْبَهَ ما لو شَرَطَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَمَ مَائِها أو ظَنَّ المُكْتَرِي أنَّه يُمْكِنُ تَحْصِيلُ ماءٍ لها بوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، لم يَصِحَّ العَقْدُ؛ لأنَّه رُبَّما دَخَل في العَقْدِ بِناءً على أنَّ المالِكَ يُحَصِّلُ لها ماءً، وأنَّه يَكْتَرِيها للزِّراعَةِ مع تعَذُّرِها. وقيل: لا يَصِحُّ العَقْدُ مع (¬1) الإِطْلاقِ وإن عَلِمَ حالها؛ لأنَّ إطْلاقَ كِرَاءِ الأرْضِ يَقْتَضِي الزِّراعةَ. والأَوْلَى صِحَّتُه؛ لأنَّ العِلْمَ بالحالِ يَقُومُ مَقامَ الاشْتِراطِ، كالعِلْمِ بالعَيبِ يَقُومُ مَقامَ شَرْطِه. ومتى كان لها ماءٌ غيرُ دائِمٍ، أو الظاهِرُ انْقِطاعُه قبلَ الزَّرْعِ، أو لا يَكْفِي الزَّرْعَ، فهي كالتي لا ماءَ لها. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا كلِّه كما ذَكَرْنا. فصل: وإنِ اكْتَرَى أرْضًا غارِقةً بالماءِ، لا يُمْكِنُ زَرْعُها قبل انْحِسارِه عنها، وقد يَنْحَسِرُ ولا يَنْحَسِرُ، فالعَقْدُ باطِلٌ؛ لأنَّ الانْتِفاعَ بها في الحالِ غيرُ مُمْكِنٍ، ولا يَزُولُ المانِعُ غالِبًا. وإن كان يَنْحَسِرُ عنها وَقْتَ الحاجَةِ ¬

(¬1) في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الزِّراعةِ، كأرْضِ مِصْرَفي وَقْتِ مَدِّ النِّيلِ، صَحَّ العَقْدُ؛ لأنَّ المَقْصُودَ مُتَحَقِّقٌ (¬1) بحُكْمِ العادَةِ [المَشْهُورَةِ. وإن] (¬2) كانتِ الزراعةُ فيها مُمْكِنةً، ويُخافُ غَرَقُها، والعادَةُ غَرَقُها، لم تَجُزْ إجارَتُها؛ لأنَّها في حُكْمِ الغارِقَةِ بحُكْمِ العادَةِ المُسْتَمِرةِ. فصل: ومتى زَرَع فغَرِقَ الزَّرْعُ، أو هَلَك بحَرِيقٍ أو جَرادٍ أو بَرْدٍ أو غيرِه، فلا ضَمانَ على المُؤْجِرِ، ولا خِيارَ لِلْمُكْتَرِي. نَصَّ عليه أحمدُ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ التّالِفَ غيرُ المَعْقُودِ عليه، وإنَّما تَلِفَ مالُ المُكْتَرِي فيه، فأشْبَهَ مَن اكْتَرَى دُكّانًا فاحْتَرَقَ مَتاعُه فيه. ثمَّ إن أمْكَنَ المُكْتَرِيَ الانْتِفاعُ بالأرْضِ بغيرِ الزَّرْعِ، أو بالزَّرْعِ في بقيَّةِ المُدَّةِ، فله ذلك، وإن تَعَذَّرَ ذلك، لَزِمَه الأجْرُ؛ لأنَّ تَعَذُّرَه لِفَواتِ وَقْتِ الزِّراعةِ بِسَبَبٍ غيرِ مَضْمُونٍ على المُؤْجِرِ، لا لِمَعْنىً في العَينِ. وإن تَعَذَّرَ الزَّرْعُ بِسَبَبِ غَرَقِ الأرْضِ أو (¬3) انْقِطاعِ مائِها، فلِلْمُسْتَأْجِرِ الخِيارُ؛ لأنَّه (¬4) لِمَعْنىً في العَينِ. وإن تَلِفَ الزَّرْعُ بذلك، فليس على المُؤْجِرِ ضَمانُه؛ لأنَّه لم يَتْلَفْ بمُباشَرةٍ ولا بِسَبَبٍ. وإن قَلَّ الماءُ بحيث لا يَكْفِي الزَّرْعَ، فله الفَسْخُ؛ لأنَّه عَيبٌ. فإن كان ذلك بعدَ الزَّرْعِ، فله الفَسْخُ أيضًا، ويَبْقَى الزَّرْعُ في الأرْضِ إلى أن يَسْتَحْصِدَ، وعليه مِن المُسَمَّى ¬

(¬1) في م: «يتحقق». (¬2) في م، تش: «المستمرة فإن». (¬3) في م: تش: «و». (¬4) في الأصل: «لا».

2192 - مسألة: (وإن اكترى دابة للركوب، أو الحمل، لم يملك الآخر. وإن اكتراها لحمل الحديد، أو القطن، لم يملك حمل

وَإِنِ اكْتَرَى دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، أَو الْحَمْلِ، لَمْ يَمْلِكِ الْآخَرَ. وَإِنِ اكْتَرَاهَا لِحَمْلِ الْحَدِيدِ، أَو الْقُطْنِ، لَمْ يَمْلِكْ حَمْلَ الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحِصَّتِه إلى حينِ الفَسْخِ، وأجْرُ المِثْلِ لِما بَقِيَ مِن المُدَّةِ لأرْضٍ لها مِثْلُ ذلك الماءِ. وكذلك إنِ انْقَطَعَ الماءُ بالكُلِّيَّةِ، أو حَدَثَ بها عَيبٌ مِن غَرَقٍ يَهْلِكُ به بعضُ الزَّرْعِ، أو تَسُوءُ حالتُه به. 2192 - مسألة: (وإنِ اكْتَرَى دابَّةً لِلرُّكُوبِ، أو الحَمْلِ، لم يَمْلِكِ الآخَرَ. وإنِ اكْتَراها لِحَمْلِ الحَدِيدِ، أو القُطْنِ، لم يَمْلِكْ حَمْلَ (¬1) الآخَرِ) إذا اكْتَرَى دابَّةً للرُّكُوبِ، لم يَمْلِكِ الحَمْلَ عليها؛ لأنَّ الرّاكِبَ يُعِينُ الظَّهْرَ بحَرَكَتِه. وإنِ اكْتَراها لِيَحْمِلَ عليها، فليس له رُكُوبُها؛ لأنَّ الرّاكِبَ يَقْعُدُ في مَوْضِعٍ واحدٍ، فيَشْتَدُّ على الظَّهْرِ، والمَتاعُ يَتَفَرَّقُ على جَنْبَيها. وإنِ اكْتَراها لِيَرْكَبَها عَرِيًّا، لم يَجُزْ أن يَرْكَبَ بِسَرْجٍ؛ لأنَّه يَحْمِلُ عليه أكْثَرَ ممَّا عَقَد عليه. وإنِ اكْتَرَاها لِيَرْكَبَها بِسَرْجٍ، فليس له رُكُوبُها عَرِيًّا؛ لأنَّ الرُّكُوبَ بغيرِ سَرْجٍ يَحْمَى به الظَّهْرُ، فرُبَّما عَقَرَها. وإنِ اكْتَرَاها لِيَرْكَبَ بِسَرْجٍ، لم يَجُزْ أن يَرْكَبَ بأثْقَلَ منه. فإنِ اكْتَرَى حِمارًا بِسَرْجٍ، لم يَجُزْ أن يَرْكَبَه بِسَرْجِ البِرذَونِ إن كان أثْقلَ مِن سَرْجِه. وإنِ اكْتَرَى دابَّةً بِسَرْجٍ، فرَكِبَها بأثْقَلَ منه أو أضَرَّ مِنْه، لم يَجُزْ. وإن كان أخَفَّ أو أقَلَّ ضَرَرًا، فلا بَأْسَ. وإنِ اكْتَرَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دابَّةً لِيَحْمِلَ عليها حَدِيدًا، لم يَحْمِلْ عليها قُطْنًا؛ لأنَّه يتَجافَى، وتَهُبُّ فيه الرِّيحُ، فيُتْعِبُ الظَّهْرَ. وإن اكْتَرَاها لِحَمْلِ القُطْنِ، فليس له حَمْلُ الحَدِيدِ؛ لأنَّه يَجْتَمِعُ في مَوْضِعٍ واحدٍ، فيَثْقُلُ عليه، والقُطْنُ يتَفَرَّقُ فيَقِلُّ (¬1) ضَرَرُه. ومتى فَعَل ما ليس له فِعْلُه كان ضامِنًا، وعليه أجْرُ المِثْلِ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ. فصل: وإنِ اكْتَرَى دابَّةً لِيَرْكَبَها في مَسافَةٍ مُعَيَّنةٍ مَعْلُومَةٍ، أو يَحْمِلَ عليها فيها، فأراد العُدُولَ بها (¬2) إلى ناحيةٍ أُخرى مِثْلِها في القَدْرِ، وهي أضَرُّ منها، أو يُخالِفُ ضَرَرُها ضَرَرَها، بأن تكونَ إحْداهما أخْوَفَ والأُخْرَى أخْشَنَ، لم يَجُزْ، وإن كانت مِثْلَها في السُّهُولَةِ والحُزُونَةِ والأمْنِ، أو التي يَعْدِلُ إليها أقَلَّ ضَرَرًا، فذَكَرَ القاضِي أنَّه يَجوزُ. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَسافَةَ عُيِّنَتْ لِيَسْتَوْفِيَ بها المَنْفَعَةَ، ويَعْلَمَ قَدْرَها بها، فلم تَتَعَيَّنْ، كَنَوْعِ المَحْمُولِ والرّاكِبِ. قال شيخُنا (¬3): ويَقْوَى عِنْدِي، أنَّه متى كان لِلْمُكْرِي (¬4) غَرَضٌ في تلك الجِهَةِ المُعَيَّنَةِ، لم يَجُزِ العُدُولُ إلى غيرِها، مثلَ مَن يُكْرِى جِماله إلى مَكَّةَ لِيَحُجَّ معها، فلا يجوزُ له أن يَذْهَبَ بها إلى غيرِها. ولو أكْراها إلى بَغْدادَ، لكَوْنِ أهْلِه بها أو بِبَلَدِ العِراقِ، فليس له الذَّهابُ بها (¬5) إلى مِصْرَ، ولو أكْرَى جِماله ¬

(¬1) في النسخ: «فيكثر». وما أثبتناه موافق للسياق، وانظر المغني 8/ 57. (¬2) في الأصل: «عنها». (¬3) في: المغني 8/ 58. (¬4) في م: «للمكتري». (¬5) سقط من: م.

2193 - مسألة: (وإن فعل)

فَإِنْ فَعَلَ، فَعَلَيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جُمْلةً إلى بَلَدٍ، لم يَجُزِ التَّفْرِيقُ بينها بالسَّفَرِ ببعضِها إلى جِهَةٍ وبِباقِيها إلى غيرِها؛ وذلك لأنَّه عَيَّنَ المَسافَةَ لِغَرَضٍ في فَواتِه ضَرَرٌ، فلم يَجُزْ تَفْويتُه، كما في حَقِّ المُكْتَرِي (¬1)، فإنَّه لو أراد حَمْلَه إلى غيرِ المكانِ الذي اكْتَرَى إليه، لم يَجُزْ، وكما لو عَيَّنَ طَرِيقًا سَهْلًا أو آمِنًا، فأرادَ سُلُوكَ ما يُخالِفُه في ذلك. فصل: إذا اكْتَرَى قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ، جازَ؛ لأنَّ الانْتِفاعَ به مُمْكِنٌ مع بَقَاءِ عَينِه ويجوزُ بَيعُه، أشْبَهَ العَقارَ. ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ المنْفَعَةِ بالمُدَّةِ، فإن كانت العادَةُ في بَلَدِه نَزْعَ ثِيابِهم عندَ نَوْمِ اللَّيلِ، فعليه نَزْعُه؛ لأنَّ الإِطْلاقَ يُحْمَلُ على العادَةِ، وله لُبْسُه فيما سِوَى ذلك، ولا يَلْزَمُه نَزْعُه إذا نامَ نَهارًا؛ لأنَّه العُرْفُ. ويَلْبَسُ القَمِيصَ على ما جَرَتِ العادَةُ به [وليس له] (¬2) أن يَتَّزِرَ به؛ لأنَّه يَعْتَمِدُ عليه فيَشُقُّه، وفي اللُّبْسِ لا يَعْتَمِدُ. ويجوزُ الارْتِداءُ به؛ لأنَّه أخَفُّ مِن اللُّبْسِ. ومَن مَلَك شيئًا، مَلَك ما هو أخَفُّ منه. وقيل: لا يجوزُ؛ لأنَّه اسْتِعْمالٌ له فيما لا تَجْرِي العادَةُ به في القَمِيصِ، أشْبَهَ الاتِّزارَ به. واللهُ أعلمُ. 2193 - مسألة: (وإن فعل) ما ليس له فِعْلُه (فعليه أجْرُ المِثْلِ) ¬

(¬1) في الأصل: «المكرى». (¬2) في م: «لا».

2194 - مسألة: (وإن اكتراها لحمولة شيء، فزاد عليه، أو إلى

وَإِنِ اكْتَرَاهَا لِحُمُولَةِ شَيءٍ، فَزَادَ عَلَيهِ، أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً غيرَ التي عَقَد عليها [لا يجوزُ له اسْتِيفاؤُها] (¬1) فَلَزِمَه أجْرُ المِثْلِ، كالغاصِبِ. 2194 - مسألة: (وإنِ اكْتَرَاها لحُمولةِ شيءٍ، فزادَ عليه، أو إلى ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَجَاوَزَهُ، فَعَلَيهِ الْأُجْرَةُ الْمَذْكُورَةُ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلزَّائِدِ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: عَلَيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْجَمِيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْضِعٍ، فجاوَزَهُ، فعليه الأُجْرَةُ المَذْكُورَةُ وأُجْرَةُ المِثْلِ للزّائِدِ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وقال أبو بكرٍ: عليه أُجْرَةُ المِثْلِ للجَمِيعِ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَنِ اكْتَرَى دابَّةً لحُمُولةِ شيءٍ فزادَ عليه، كمَن اكْتَرَى لحَمْلِ قَفِيزَين فحَمَلَ ثلاثةً، أو إلى مَوْضِعٍ فجاوَزَه؛ مثلَ أن يَكْتَرِيَها مِن دِمَشْقَ إلى القُدْسِ فيَرْكَبَها إلى مِصْرَ، وَجَب عليه الأجْرُ المُسَمَّى، وأجْرُ المِثْلِ لِما زاد، وضَمانُها إن تَلِفَتْ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ونَصَّ عليه أحمدُ، فيما إذا اسْتَأْجَرَها إلى مَوْضِعٍ فجاوَزَه. وإليه ذَهَب ابنُ شُبْرُمَةَ، والحَكَمُ، وهو الظاهِرُ مِن قَوْلِ الفُقَهاءِ السَّبْعَةِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: لا أجْرَ عليه لِما زادَ؛ لأنَّ مَنافِعَ الغَصْبِ غيرُ مَضْمُونَةٍ عندَهما. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه إذا تَجاوَزَ بها إلى مَسافَةٍ بَعِيدةٍ، خُيِّرَ صاحِبُها بينَ أَجْرِ المِثْلِ وبينَ المُطالبةِ بقِيمَتِها يومَ التَّعَدِّي؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بإمْساكِها، فكان لصاحِبِها تَضْمِينُها إيّاهُ. ولَنا، أنَّ العَينَ باقِيةٌ بحالِها يُمْكِنُ أخْذُها، فلم تَجِبْ قِيمَتُها، كما لو كانت المَسافَةُ قَرِيبةً. وما ذَكَرُوه (¬1) تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه ولا نَظِيرَ له، فلا يجوزُ المَصِيرُ إليه. وسَيأتِي الكَلامُ مع أبي حنيفةَ في بابِ ¬

(¬1) في ر 1: «ذكره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَصْبِ، إن شاء اللهُ تعالى. وحَكَى القاضي، أنَّ قولَ أبي بكرٍ فيما إذا اكْتَرَى لحُمُولَةِ شيءٍ فزادَ عليه، وُجُوبُ أجْرِ المِثْلِ [في الجَمِيع] (¬1)، [أخْذًا مِن قولِه في مَن اسْتَأْجَرَ أرْضًا لِيَزْرَعَها شَعِيرًا، فزَرَعَها حِنْطَةً، أنَّ عليه أجْرَ المِثْلِ للجَمِيعِ] (¬2)؛ لأنَّه عَدَل عن المَعْقُودِ عليه إلى غيرِه، فأشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ أرْضًا فَزَرَع أُخْرَى. فجَمَعَ القاضي بينَ مَسْألَةِ الخِرَقِيِّ ومَسْألَةِ أبي بكرٍ، وقال: يُنْقَلُ قولُ كلِّ واحدٍ مِن إحْدَى المسْألَتَين إلى الأُخْرَى؛ لِتَساويهِما في أنَّ الزِّيادَةَ لا تَتَمَيَّزُ، فيكونُ في المَسْألَتَين وَجْهانِ. وليس الأمْرُ كذلك، فإنَّ بينَ المَسْألَتَين فَرْقًا ظاهِرًا، فإنَّ الذي حَصَل التَّعَدِّي فيه في الحَمْلِ مُتَمَيِّزٌ عن المَعْقُودِ عليه، وهو القَفِيزُ الزائِدُ، بخِلافِ الزَّرْعِ، ولأنَّه في مسألةِ الحَمْلِ اسْتَوْفَى المَنْفَعَةَ المَعْقُودَ عليها وزادَ، وفي الزَّرْعِ لم يَزْرَعْ ما وَقَع العَقْدُ عليه، ولهذا عَلَّلَه أبو بكرٍ بأنَّه عَدَل عن المَعْقُودِ عليه، ولا يَصِحُّ هذا القَوْلُ في مَسْألةِ الحَمْلِ، فإنَّه قد حَمَل المَعْقُودَ عليه وزادَ عليه، بل إلحاقُ هذه المسْألةِ بما إذا اكْتَرَى إلى مَسافَةٍ فزادَ عليها أشَدُّ، وشَبَهُها بها أشَدُّ؛ لأنَّه في مَسْألَةِ الحَمْلِ مُتَعَدٍّ بالزِّيادَةِ وَحْدَها، وفي مَسْألةِ الزَّرْعِ مُتَعَدٍّ بالزَّرْعِ كلِّه، فأشْبَهَ الغاصِبَ. ¬

(¬1) في م، تش: «للجميع». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا مَسْألَةُ الزَّرْعِ فيما إذا اكْتَرَى لِزَرْعِ الشَّعِيرِ، فزَرَعَ حِنْطَةً، فقد نَصَّ أحمدُ، في رِوايةِ عبدِ اللهِ، فقال: يَنْظُرُ ما يَدْخُلُ على الأرْضِ مِن النُّقْصانِ ما بينَ الحِنْطةِ والشَّعِيرِ، فيُعْطِي رَبَّ الأرْضِ. فجَعَلَ هذه المَسْألةَ كمسْألَتَي الخِرَقِيِّ، في إيجابِ المُسَمَّى وأجْرِ المِثْلِ للزّائِدِ. ووَجْهُه، أنَّه لمّا عَيَّنَ الشَّعِيرَ، لم يَتَعَيَّنْ، ولم يَتَعَلَّقِ العَقْدُ بِعَينِه، كما سَبَقَ ذِكْرُه، ولهذا قُلْنا: له زَرْعُ مِثْلِه وما هو دُونَه في الضَّرَرِ. فإذا زَرَع حِنْطةً، فقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّه وزِيادَةً، أشْبَهَ ما لو اكْتَرَاها إلى مَوْضِعٍ فجاوَزَه. وقد ذَكَرْنا قولَ أبي بكرٍ أنَّ له أجْرَ المِثْلِ؛ لأنَّه عَدَل عن المَعْقُودِ عليه (¬1)، فإنَّ الحِنْطَةَ ليست بشَعِيرٍ وزِيادَةٍ. وإن قلنا: إنَّه قدِ اسْتَوْفَى المَعْقُودَ عليه وزِيادَةً، غيرَ أنَّ الزِّيادَةَ ليست مُتَمَيِّزَةً عن المَعْقُودِ عليه. بخِلافِ مَسْألَتَي الخِرَقِيِّ. وقال الشافعيُّ: المُكْرِي مُخَيَّرٌ بينَ أخْذِ الكِراءِ وما نَقَصتِ الأرْضُ عمّا يَنْقُصُها الشَّعِيرُ، وبينَ أخْذِ كِراءِ مِثلِها لِلْجَمِيعِ؛ لأنَّ هذه المَسْألةَ أخَذَتْ شَبَهًا مِن أصْلَين؛ أحدهما، إذا رَكِبَ دابَّةً فجازَ (¬2) بها المَسافَةَ المُشْتَرَطةَ، لكَوْنِه اسْتَوْفَى المَعْقُودَ عليه ¬

(¬1) سقط من: م، تش. (¬2) في م: «فجاوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وزِيادةً. والثاني، إذا اسْتَأْجَرَ أرْضًا فَزَرَع غيرَها؛ لأنَّه زَرَع مُتَعَدِّيًا، فلهذا خَيَّرَه بينَهما، ولأنَّه وُجِدَ سَبَبٌ يَقْتَضِي كلَّ واحدٍ مِن الحُكْمَين، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ بينَهما، فكان له أوْفَرُهُما. وفَوَّضَ اخْتِيارَه إلى المُسْتَحِقِّ، كقَتْلِ العَمْدِ. والأَوْلَى، إن شاء اللهُ تعالى، قولُ أبي بكرٍ، فإنَّ هذا مُتَعَدٍّ بالزَّرْعِ كلِّه، فكان عليه أجْرُ المِثْلِ، كالغاصِبِ، ولهذا مَلَك رَبُّ الأرْضِ مَنْعَه مِن زَرْعِه، ويَمْلِكُ [أخْذَه بنَفَقَتِه] (¬1) إذا زَرَعَه. ويُفارِقُ مَن زادَ على حَقِّه زِيادَةً مُتَمَيِّزَةً، في كَوْنِه لم يَتَعَدَّ بالْجَمِيعِ، إنَّما تَعَدَّى بالزِّيادَةِ فقط، ولهذا لا يَمْلِكُ المُكْرِي مَنْعَه مِن الجَمِيعِ. ونَظِيرُ هاتَين المسْألتَين، مَن اكْترَى (¬2) غُرْفةً لِيَجْعَلَ فيها أقفِزَةَ حِنْطةٍ، فجَعَلَ أكْثَرَ منها، ومَنِ اكْتَراها ليَجْعَلَ فيها قِنطارَ قُطْنٍ، فجَعَلَ فيها قِنْطارَ حَدِيدٍ، ففي الأُولَى، له المُسَمَّى وأجْرُ الزِّيادَةِ، وفي الثّانيةِ، يُخَرَّجُ فيها مِن الخِلافِ كقَوْلِنا في مسألةِ الزَّرْعِ. وحُكْمُ المُسْتَأْجِرِ الذي يَزْرَعُ أضَرَّ مِمّا اكْتَرَى له حُكْمُ الغاصِبِ، لِرَبِّ الأرْضِ مَنْعُه في الابْتِداءِ؛ لِما يَلْحَقُه مِن الضَّرَرِ، فإن زَرَع، فرَبُّ الأرْضِ مُخيَّرٌ بين تَركِ الزَّرْعِ بالأجْرِ (¬3) وبينَ أخْذِه ودَفْعِ النَّفَقَةِ، وإن لم يَعْلَمْ حتى أخَذَ المُسْتَأْجِرُ زَرْعَه، فله الأجْرُ، على ما نَذْكُرُ في الغَصْبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أخذ بقيته». (¬2) في الأصل، ر، ق: «أكرى». (¬3) في الأصل: «بالأرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اكْتَرَى دابَّةً إلى مَسافَةٍ، فسَلَكَ أشَقَّ منها، فهي كمَسْألَةِ الزَّرْعِ، يُخَرَّجُ فيها وَجْهانِ. وقِياسُ مَنْصُوصِ أحمدَ، أنَّ له الأجْرَ المُسَمَّى وزِيادَةً، لكَوْنِ المَسافَةِ لا تَتَعَيَّنُ على قولِ أصْحابِنا. وقِياسُ قولِ أبي بكرٍ، أنَّ له أجْرَ المِثْلِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ غيرُ مُتَمَيِّزَةٍ، ولأنَّه مُتَعَدٍّ بالجَمِيعِ، بدَلِيلِ أنَّ لِرَبِّ الدَّابَّةِ مَنْعَه مِن سُلُوكِ تِلك الطَّرِيقِ كلِّها، بخِلافِ مَن سَلَك تلك الطَّرِيقَ وجازَها (¬1)، فإنَّه إنَّما يَمْنَعُه الزِّيادَةَ لا غيرُ. وإنِ اكْتَرَى لِحَمْلِ قُطْنٍ فحَمَلَ بوَزْنِه حَدِيدًا، أو بالعَكْسِ، فعليه أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ ضَرَرَ أحَدِهما مُخالِفٌ لِضَرَرِ الآخَرِ، فلم يَتَحَقَّقْ كَوْنُ المَحْمُولِ مُشْتَمِلًا على المُسْتَحَقِّ بعَقْدِ الإِجارَةِ وزِيادَةٍ عليه، بخِلافِ ما قبلَها مِن المسائلِ. وسائِرُ مَسائِلِ العُدْوانِ يُقاسُ على ما ذَكَرْنا مِن المَسائِلِ، ما كان مُتَمَيِّزًا وما لم يَكُنْ مُتَمَيِّزًا، فتُلْحَقُ كلُّ مَسْألةٍ بنَظِيرَتِها. ¬

(¬1) في م: «جاوزها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: [فإنِ اكْتَرَاها] (¬1) لِحَمْلِ قَفِيزَينِ، فحَمَلَهُما، فوَجَدَهُما ثلاثةً، فإن كان المُكْتَرِي تَوَلَّى الكَيلَ ولم يَعْلَمِ المُكْرِي بذلك، فهو كمَنِ اكْتَرَى لحُمُولَةِ شيءٍ فزَادَ عليه، وإن كان المُكْرِى تَوَلَّى كَيلَه وتَعْبِئَتَه ولم يَعْلَمِ المُكْتَرِي، فهو غاصِبٌ، لا أجْرَ له في حَمْلِ الزّائِدِ. وإن تَلِفَتْ دابَّتُه، فلا ضَمانَ لها؛ لأنَّها تَلِفَتْ بِعُدْوانِ صاحِبِها، وحُكْمُه في ضَمانِ الطَّعامِ حُكْمُ مَن غَصَبَ طَعامَ غيرِه. وإن تَوَلَّى ذلك أجْنَبِيٌّ، ولم يَعْلَما، فهو مُتَعَدٍّ عليهما، عليه لصاحِبِ الدَّابَّةِ الأَجْرُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُها، وعَلَيهِ لِصاحِبِ الطَّعامِ ضَمانُ طَعَامِه، وسَواءٌ كاله أحَدُهما وَوَضَعَهُ الآخَرُ على ظَهْرِ الدَّابَّةِ، أو كان الذي كالهُ وعَبَّأهُ وَضَعَه على ظَهْرِها. وقال أصحابُ الشافعيِّ، في أحَدِ الوَجْهَينِ: إذا كاله المُكْتَرِي وَوَضَعَه المُكْرِي على ظَهْرِ البَهِيمَةِ، لا ضَمانَ على المُكْتَرِي؛ لأنَّ المُكْرِيَ مُفَرِّطٌ في حَمْلِه. ولَنا، أنَّ التَّدْلِيسَ مِن المُكْتَرِي إذ أخْبَرَه بكَيلِها بخِلافِ ما هو به، فلَزِمَه الضَّمانُ، كما لو أمَرَ أجْنَبِيًّا بتَحْمِيلِها. فأمَّا إن كالها المُكْتَرِى وَوَضَعَها المُكْرِى على الدّابَّةِ عالِمًا بكَيلِها، لم يَضْمَنِ المُكْتَرِى الدّابَّةَ إذا تَلِفَتْ؛ لأنَّه فَعَلَ ذلك من غيرِ تَدْلِيسٍ ولا تَغْرِيرٍ، وله أجْرُ القَفِيزِ الزّائِدِ، في أحَدِ ¬

(¬1) في م، تش، ر: «وإن اكتراه». وفي ق: «فإن أكراه».

2195 - مسألة: (وإن تلفت)

وَإِنْ تَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، إلا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ صَاحِبِهَا، فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَينِ؛ لأنَّهما اتَّفقا على حَمْلِه على سَبِيلِ الإِجارَةِ فجَرَى مَجْرَى المُعاطاةِ في البَيعِ، ودُخُولِ الحَمّامِ مِن غيرِ تَقْدِيرِ أجْرٍ. والثاني، لا أجْرَ له؛ لأنَّ المُكْتَرِيَ لم يَجْعَلْ له على ذلك أجْرًا. وإن كاله المُكْرِي وحَمَلَه المُكْتَرِي على الدّابَّةِ عالِمًا بذلك مِن غيرِ أن يَأْمُرَه بحَمْلِه، فعليه أجْرُ القَفِيزِ الزّائِدِ، وإن أمَرَه بحَمْلِه، فَفِي وُجُوبِ الأجْرِ وَجْهانِ، كَما لو حَمَله المُكْرِي عليها؛ لأنَّه إذا أمَرَ به كان ذلك كفِعْلِه. وإن كالهُ أحَدُهما وحَمَلَه أجْنَبِيٌّ، فهو كما لو حَمَلَه الذي كالهُ، وإن كان بِأمْرِ الآخَرِ، فهو كما لو حَمَلَه الآخَرُ، وإن حَمَلَه بغيرِ أمْرِهِما، فهو كما لو كالهُ ثمَّ حَمَلَهُ. 2195 - مسألة: (وإن تَلِفَتْ) ضَمِنَها (إلَّا أن تكونَ في يَدِ صاحِبِها، فيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِها، في أحَدِ الوَجْهَينِ) إذا تَلِفَتِ الدّابَّةُ التي تَعَدَّى فيها، إمّا بزِيادَةٍ على الحَمْلِ، أو زِيادَةٍ على المَسافةِ، ضَمِنَها بقِيمَتِها، سواءٌ تَلِفَتْ في الزِّيادَةِ أو بعدَ رَدِّها إلى المَسافةِ، وسواءٌ كان صاحِبُها مع المُكْتَرِي أو لم يَكُنْ. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ والفُقَهاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّبْعةِ، إذا تَلِفَتْ حال التَّعَدِّي. وقال القاضِي: إن كان المُكْتَرِي نَزَل عنها، وسَلَّمَها إلى صاحِبِها ليُمْسِكَها أو يَسْقِيَها، فتَلِفَتْ، فلا ضَمانَ على المُكْتَرِي، وإن هَلَكَتْ والمُكْتَرِي راكِبٌ عليها، أو حِمْلُه عليها، ضَمِنَها. وقال [أبو الخَطّابِ] (¬1): إن كانت يَدُ صاحِبِها عليها، احْتَمَلَ أن [يَلْزَمَ المُكْتَرِيَ] (¬2) جميعُ قِيمَتِها، واحْتَمَلَ أن يَلْزَمَه النِّصْفُ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن لم يَكُنْ صاحِبُها معها لَزِمَ المُكْتَرِيَ جميعُ القِيمَةِ، وإن كان معها فتَلِفَتْ في يَدِ صاحِبِها لم يَضْمَنْها المُكْتَرِي؛ لأنَّها تَلِفَتْ في يَدِ صاحِبِها، أشْبَهَ ما لو تَلِفَتْ بعد مُدَّةِ التَّعَدِّي. وإن تَلِفَتْ تَحْتَ الراكِبِ، ففيه قَوْلانِ؛ أحدُهما، يَلْزَمُه نِصْفُ القِيمَةِ؛ لأنَّها تَلِفَتْ بفِعْلٍ مَضْمُونٍ [وغيرِ مَضْمُونٍ] (¬3)، أشْبَهَ ما لو تَلِفَتْ بجِراحَتِه وجِراحَةِ مالِكِها. والثاني، تُقَسَّطُ القِيمَةُ على المَسافَتَين، فما قابَلَ مَسافَةَ الإِجارَةِ سَقَط، وَوَجَب الباقِي. ونحوُ هذا قولُ أبي حنيفةَ، فإنَّه قال في مَن اكْتَرَى جَمَلًا لِحَمْلِ تِسْعَةٍ فحَمَلَ عَشَرَةً، فتَلِفَ: فعلى المُكْتَرِي عُشْرُ قِيمَتِه. قال شيخُنا (¬4): ومَوْضِعُ الخِلافِ في لُزُومِ كَمالِ القِيمَةِ إذا كان صاحِبُها ¬

(¬1) في الأصل: «القاضي». (¬2) في الأصل: «للمكتري». (¬3) سقط من: م. (¬4) في: المغني 8/ 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع راكِبها، أو تَلِفَتْ في يَدِ صاحِبها. فأمَّا إن تَلِفَتْ في حالِ التَّعَدِّي، ولم يَكُنْ صاحِبُها مع راكِبِها، فلا خِلافَ في ضَمانِها بكَمالِ قِيمَتِها؛ لأنَّها تَلِفَتْ في يَدٍ عادِيَةٍ، فوَجَبَ ضَمانُها، كالمَغْصُوبِ. وكذلك إذا تَلِفَتْ تحتَ الرّاكِبِ أو تحتَ حِمْلِه وصاحِبُها معها؛ لأنَّ اليَدَ للرّاكِبِ وصاحِبِ الحِمْلِ، بدَليلِ ما لو تَنازَعا دابَّةً أحَدُهُما راكِبُها أو له عليها حِمْلٌ، والآخَرُ آخِذٌ بزِمامِها، كانت لصاحِبِ الحِمْلِ والرّاكِبِ، ولأنَّ الرّاكِبَ مُتَعَدٍّ بالزِّيادَةِ، وسُكُوتُ صاحِبِها لا يُسْقِطُ الضَّمانَ، كمَن حَرَق (¬1) ثِيابَ إنْسانٍ وهو ساكِتٌ. ولأنَّها إن تَلِفَتْ بسَبَبِ تَعَبِها، فالضّمانُ على المُتَعَدِّي، كمَن ألْقَى حَجَرًا في سَفِينَةٍ مُوقَرَةٍ فغرَّقَها. فأمَّا إن تَلِفَتْ في يَدِ صاحِبِها بعدَ نُزُولِ الرّاكِبِ عنها، وكان تَلَفُها بِسَبَبِ تَعَبِها بالحِمْلِ والسَّيرِ، فهو كتَلَفِها تحت الحِمْلِ والرّاكِبِ، وإن كان بِسَبَبٍ آخَرَ مِن افْتِراسِ سَبُعٍ أو سُقُوطٍ في هُوَّةٍ، فلا ضَمانَ فيها؛ لأنَّها لم تَتْلَفْ في يَدٍ عادِيَةٍ، ولا بِسَبَبِ عُدْوانٍ. وقولُهم: تَلِفَتْ بفِعْلٍ مَضْمُونٍ وغيرِ مَضْمُونٍ، أشْبَهَ ما لو تَلِفَتْ بجِرَاحَينِ. يَبْطلُ بما إذا قُطِعَ السّارِقُ ثمَّ قَطَع آخَرُ يَدَه عُدْوانًا، فمات منْهُما. وفارَقَ ما لو جَرَح نَفْسَه وجَرَحَه غيرُه؛ لأنَّ الفِعْلَين عُدْوانٌ، فَقُسِّمَ الضَّمانُ عليهما. ¬

(¬1) في م: «خرق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَسْقُطُ الضَّمانُ برَدِّها إلى المَسافَةِ. وبه قال أبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ، والشافعيُّ. وقال محمدٌ: يَسْقُطُ، كما لو تَعَدَّى في الوَدِيعَةِ ثمَّ رَدَّها. ولَنا، أنَّها يَدٌ صارَتْ ضامِنَةً فلا يَزُولُ الضَّمانُ عنها إلا بإذْنٍ جَدِيدٍ، ولم يُوجَدْ. والأصْلُ مَمْنُوعٌ إلَّا أن يَرُدَّها إلى مالِكها، أو يُجَدِّدَ له (¬1) إذْنًا. ¬

(¬1) في م، تش: «لها».

فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْمُؤْجِرَ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، كَزِمَامِ الْجَمَلِ، وَرَحْلِهِ، وَحِزَامِهِ، والشَّدِّ عَلَيهِ، وَشَدِّ الْأَحْمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ويَلْزَمُ المُؤْجِرَ) كلُّ (ما يَتَمَكَّنُ بهِ مِن النَّفْعِ، كزِمامِ الجَمَلِ، وَرَحْلِه، وحِزامِه، والشَّدِّ عليه، وشَدِّ

وَالْمَحَامِلِ، وَالرَّفْعِ، وَالْحَطِّ، وَلُزُومِ الْبَعِيرِ لِيَنْزِلَ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَمَفَاتِيحِ الدَّارِ، وَعِمَارَتِهَا، وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحْمالِ والمَحامِلِ، والرَّفْعِ، والحَطِّ، ولُزُومِ البعِيرِ ليَنْزِلَ لِصَلاةِ الفَرْضِ، ومَفاتِيحِ الدّارِ، وعِمارَتِها، وكلِّ ما جَرَتْ عادَتُه به) يَلْزَمُ المُكْرِيَ كلُّ ما جَرَتِ العادَةُ أن يُوطَأَ به للرُّكُوبِ، مِن الحِداجَةِ (¬1) لِلْجَمَلِ، والقَتَبِ، وما يَتَمَكَّنُ به الرّاكِبُ مِن النَّفْعِ، كزِمامِ الجَمَلِ، والبُرَةِ التي في أنْفِه، إن كانت العادَةُ جارِيةً بها، والسَّرْجُ واللِّجامُ للفَرَسِ، والبَرْذَعةُ والإِكافُ للبَغْلِ والحِمارِ، على ما يَقْتَضِيه العُرْفُ بِحَمْلِ الإِطْلاقِ عليه. وما زادَ على ذلك مِن المَحْمِلِ والمحَارَةِ، والحَبْلِ الذي يُشَدُّ به بين المَحْمِلَينِ، على المُكْتَرِي؛ لأنَّه مِن مَصْلَحَةِ الحِمْلِ (¬2)، وكذلك الوطاءُ الذي يُشَدُّ فَوْقَ الحداجَةِ تحتَ المَحْملِ. وعلى المُكْرِي رَفْعُ المَحْمِل وحَطُّه وشَدُّه على الجَمَلِ، ورَفْعُ الأحْمالِ وشَدُّها وحَطُّها؛ لأنَّ هذا هو العُرْفُ، وبه يَتَمكَّنُ مِن الرُّكُوبِ. ويَلْزَمُه القائِدُ والسائِقُ، ¬

(¬1) الحداجة: مركب للنساء كالمحفة. (¬2) في تش: «الجمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا إذا كان الكِراءُ على أن يَذْهَبَ مع المُكْتَرِي، فإن كان على أن يَتَسَلَّمَ الراكِبُ البَهِيمَةَ ليَرْكبَها بنَفْسِه، فكلُّ ذلك عليه؛ لأنَّ الذي على المُكْرِي تَسْلِيمُ البَهِيمَةِ، وقد سَلَّمَها. فأمَّا الدَّلِيلُ فهو على المُكْتَرِي؛ لأنَّ ذلك خارِجٌ عن البَهِيمَةِ المُكْتَراةِ وآلَتِها، فأشْبَهَ الزّادَ. وقيل: إن كان اكْتَرَى منه بَهِيمَةً بعَينِها، فأُجْرةُ الدَّلِيلِ على المُكْتَرِي؛ لأنَّ الذي عليه تَسْلِيمُ الظَّهْرِ، وقد سَلَّمَه، وإن كانتِ الإِجارَةُ على حَمْلِه إلى مكانٍ مُعَيَّنٍ في الذِّمَّةِ، فهو على المُكْرِي (¬1)؛ لأنَّه مِن مُؤْنَةِ إيصالِه إليه وتَحْصِيلِه فيه. فإن كان الرّاكِبُ مِمَّن لا يَقْدِرُ على الرُّكُوبِ والبَعِيرُ قائِمٌ، كالمَرْأةِ والشَّيخِ والضَّعِيفِ والسَّمِينِ، فعلى الجَمّالِ أن يُبْرِكَ الجَمَلَ لِرُكُوبِه ونُزُولِه؛ لأنَّه لا يتَمَكَّنُ مِنْهُما إلَّا به، وإن كان مِمَّن يُمْكِنُه الرُّكُوبُ والنُّزُولُ مع قِيامِ البَعِيرِ، لم يَلْزَمِ الجَمّال أن يُبْرِكَ الجَمَلَ؛ لإِمْكانِ اسْتِيفاءِ المَعْقُودِ عليه بدُونِه. فإن كان قَويًّا حال العَقْدِ، فتَجَدَّدَ له الضَّعْفُ، أو ¬

(¬1) في م: «المكتري».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعَكْسِ، فالاعْتِبارُ بحالِ الرُّكُوبِ؛ لأنَّ العَقْدَ اقْتَضَى رُكُوبَه بحَسَبِ العادَةِ. ويَلْزَمُ الجَمّال أن يَقِفَ البَعِيرَ لِيَنْزِلَ لِصَلاةِ الفَرْضِ، وقَضاءِ حاجَةِ الإِنْسانِ، والطَّهارَةِ، ويَدَعَ البَعِيرَ واقِفًا حتى يَفْعَلَ ذلك؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه فِعْلُ شيءٍ مِن هذا على ظَهْرِ البَعِيرِ. وما يُمْكِنُه فِعْلُه عليه مِن الأكْلِ والشُّرْبِ وصَلاةِ النّافِلةِ، لا يَلْزَمُه أن يَقِفَه له مِن أجْلِه، فإن أرادَ المُكْتَرِي إتمامَ الصَّلاةِ فطالبَه الجَمّالُ بقَصْرِها، لم يَلْزَمْه ذلك؛ بل تكونُ خَفِيفَةً في تَمامٍ. فصل: إذا اكْتَرَى ظَهْرًا في طَرِيقٍ العادَةُ فيه النُّزُولُ والمَشْيُ عندَ اقْتِرابِ المَنْزِلِ، والرّاكِبُ امْرَأةٌ أو ضَعِيفٌ، لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّه اكْتَرَى جَمِيعَ الطَّرِيقِ، [ولم تَجْرِ له عادَةٌ بالمَشْي، فلَزِمَ حَمْلُه في جَمِيعِ الطَّرِيقِ] (¬1)، كالمَتاعِ. وإن كان جَلْدًا قَويًّا، احْتَمَلَ أن لا يَلْزَمَه أيضًا؛ لأنَّه عَقَد على جَمِيعِ الطَّرِيقِ (¬2)، أشْبَهَ الضَّعِيفَ. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه؛ لأنَّه مُتعارَفٌ، والمُتعارَفُ كالمَشْرُوطِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المُكْتَرَى دارًا أو حَمّامًا، فعلى المُكْرِي ما يَتَمَكَّنُ به مِن الانْتِفاعِ، كتَسْلِيمِ مَفاتِيحِ الدّارِ والحَمّامِ؛ لأنَّ عليه التَّمْكِينَ مِن الانْتِفاعِ، وتَسْلِيمُ مَفاتِيحِها تَمْكِينٌ مِن الانْتِفاعِ. فإن ضاعَتْ أو تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطِ المُسْتَأْجِرِ، فعلى المُؤْجِرِ بَدَلُها؛ لكَوْنِها أمانَةً في يَدِ المُسْتَأْجِرِ، فأشْبَهَ حِيطانَ الدّارِ وأبْوابَها. وإن سَقَط حائِطٌ أو خَشَبَةٌ أو انْكَسَرَتْ، فعليه إبْدالُها وبِناءُ الحائِطِ. وعليه تَبْلِيطُ الحَمّامِ، وعَمَلُ الأبْوابِ والبِرَكِ ومَجْرَى الماءِ؛ لأنَّ بذلك يَحْصُلُ الانْتِفاعُ، ويَتَمَكَّنُ منه؛ وما كان لاسْتِيفاءِ المَنافِعِ كالحَبْلِ والدَّلْو والبَكْرَةِ (¬1)، فعلى المُكْتَرِي. فأمَّا التَّحْسِينُ والتَّزْويقُ، فلا يَلْزَمُ واحِدًا منهما؛ لأنَّ الانْتِفاعَ مُمْكِنٌ بدُونِه. ¬

(¬1) في م: «البركة».

2196 - مسألة. (فأما تفريغ البالوعة والكنيف، فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة)

فَأَمَّا تَفْرِيغُ البَالُوعَةِ وَالْكَنِيفِ، فَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2196 - مسألة. (فأمّا تَفْرِيغُ البالُوعَةِ والكَنِيفِ، فيَلْزَمُ المُسْتَأْجِرَ إذا تسَلَّمَها فارِغَةً) إنِ احْتِيجَ إلى تَفْرِيغِ البالُوعَةِ والكَنِيفِ عندَ الكِراءِ، فعلى المُكْرِي؛ لأنَّه ممّا يَتَمَكَّنُ به مِن الانْتِفاعِ، وإن امْتلأتْ بفِعْلِ المُسْتَأْجِرِ، فتَفْرِيغُها عليه. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو ثَوْرٍ: هو على رَبِّ الدّارِ؛ لأنَّ به يَتَمَكَّنُ مِن الانْتِفاعِ، أشْبَهَ ما لو اكْتَراها وهي مَلْأى. وقال أبو حنيفةَ: القِياسُ أنَّه على المُكْتَرِي،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاسْتِحْسانُ أنَّه على رَبِّ الدّارِ؛ لأنَّ ذلك عادَةُ الناسِ. ولَنا، أنَّ ذلك حَصَل بفِعْلِ المُكْتَرِي، فكان عليه تَنْظِيفُه، كما لو طَرَح فيها قُماشًا. والقولُ في تَفْرِيغِ جِيَّةِ (¬1) الحَمّامِ، التي هي مَصْرِفُ مائِه، كالقَوْلِ في بالُوعَةِ الدّارِ. وإنِ انْقَضَتِ الإِجارَةُ وفي الدّارِ زِبْلٌ أو قُمامَةٌ مِن فِعْلِ الساكِنِ، فعليه نَقْلُه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي. فصل: فإن شَرَط على مُكْتَرِي الحَمّامِ، أو غيرِه، أنَّ مُدَّةَ تَعْطِيلِه عليه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يُؤْجِرَ مُدَّةً لا يُمكِنُه الانْتِفاعُ [في بعضِها] (¬2)، ولا يجوزُ أن يَشْتَرِطَ أنَّه يَسْتَوْفِي بقَدْرِها بعدَ (¬3) انْقِضاءِ مُدَّتِه؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى أن يكونَ انْتِهاءُ مُدَّةِ الإِجارَةِ مَجْهُولًا. فإن أطْلَقَ، وتَعَطَّلَ، فهو عَيبٌ حادِثٌ، والمُكْتَرِي بالخِيارِ بينَ الإِمْساكِ بكُلِّ الأجْرِ وبينَ الفَسْخِ. ويَتَخَرَّجُ أنَّ له أَرْشَ العَيبِ، كالمَبِيعِ المَعِيبِ. فإن لم يَعْلَمْ بالعَيبِ حتى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِجارَةِ، فعليه جَمِيعُ الأجْرِ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى المَعْقُودَ عليه، فأشْبَهَ ما لو عَلِمَ العَيبَ بعد العَقْدِ فَرَضِيَه، ويتَخَرَّجُ أنَّ له أَرْشَ العَيبِ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا فلم يَعْلَمْ عَيبَه حتى تَلِفَ في يدِه، أو أكَلَه. ¬

(¬1) الجية: الموضع الذي يجتمع فيه الماء. (¬2) في ر، ق: «ببعضها». (¬3) في م: «عند».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن شَرَط على المُكْتَرِي النَّفَقَةَ الواجِبَةَ على المُكْرِي؛ كَعِمارَةِ الحَمّامِ، فالشَّرْطُ فاسِدٌ؛ لأنَّ العَينَ مِلْكٌ للمُؤْجِرِ، فنَفَقَتُها عليه. فإن أَنْفَقَ بِناءً على هذا الشَّرْطِ، احْتَسَبَ به على المُكَرِي (¬1)؛ لأنَّه أنْفَقَه على مِلْكِه بشَرْطِ العِوَضِ. فإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ ما أنْفَقَ، ولا بَيِّنَةَ، فالقْولُ قولُ لمُكْرِي؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، فإن لم يَشْرُطْ، لكن أذِنَ له في الإِنْفاقِ ليَحْتَسِبَ له به مِن الأجْرِ، فَفَعَلَ، ثمَّ اخْتَلَفا، فالقولُ قولُ المُكْرِي أيضًا. وإن أنْفَقَ مِن غيرِ إذْنِه، لم يَرْجِعْ بشيءٍ؛ لأنَّه أنْفَقَ على مالِه بغيرِ إذْنِه نَفَقَةً غيرَ واجِبَةٍ على المالِكِ، أشْبَهَ ما لو عَمَرَ له دارًا أُخْرَى. فصل: لا خِلافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ في جَوازِ كِراءِ الإِبِلِ وغيرِها مِن الدَّوابِّ إلى مَكَّةَ وغيرِها، قال اللهُ تعالى: {وَالْخَيلَ وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (¬2). ولم يُفَرِّقْ بينَ المَمْلُوكَةِ والمُسْتَأْجَرَةِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى: {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬3). أن يَحُجَّ ويُكْرِيَ. ونحوُه عن ابنِ عُمَرَ. ولأنَّ بالنّاسِ حاجَةً إليه، وقد فَرَض اللهُ تعالى الحَجَّ على النَّاسِ، وليس لكلِّ أحَدٍ بَهِيمَةٌ يَمْلِكُها، ولا يُحْسِنُ القِيامَ بها والشَّدَّ عليها، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى اسْتِئْجارِها، فجاز ذلك؛ دَفْعًا للحاجَةِ. إذا ثَبَت هذا، فمِن شَرْطِ ¬

(¬1) في م: «المكتري». (¬2) سورة النحل 8. (¬3) سورة البقرة 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صِحَّةِ العَقْدِ مَعْرِفَةُ المُتَعاقِدَين المَعْقُودَ عليه؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيعَ. فأمَّا الجَمّالُ فيَحْتاجُ إلى مَعْرِفةِ الرّاكِبَينِ بالرُّؤْيةِ أو بالصِّفَةِ؛ لأنَّ المَعْرِفَةَ بالصِّفَةِ تَقُومُ مَقامَ الرُّؤْيَةِ، إذا وَصَفَهُما بالطُّولِ والقِصَرِ، والهُزالِ والسِّمَنِ، والصِّغَرِ والكِبَرِ، والذُّكُورِيَّةِ والأنُوثِيَّةِ. وقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ، وأبو الخَطّابِ: لا يَكْفِي في ذلك الصِّفَةُ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ بثِقَلِه وخِفَّتِه، وسُكُونِه وحَرَكَتِه، ولا يَنْضَبِطُ بالوَصْفِ، فيَجِبُ تَعْيِينُه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولهم في المَحْمِلِ وَجْهٌ، أنَّه لا يُكْتَفَى فيه بالصِّفَةِ، ويَجِبُ تَعْيِينُه. ولَنا، أنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ مُضافٌ إلى حَيَوانٍ، فاكْتُفِيَ فيه بالصِّفَةِ، كالبَيعِ، وكالمَرْكُوبِ في الإِجارَةِ. ولأنَّه لو لم يُكْتَفَ فيه بالصِّفَةِ، لمَا جاز للرّاكِبِ أن يُقِيمَ غيرَه مُقامَه؛ لأنَّه إنَّما يَعْلَمُ كَوْنَه مِثْلَه لِتَساويهما في الصِّفاتِ، فما لا تَأْتِي عليه الصِّفاتُ، لا يَعْلَمُ تَساويَهما فيه. ولأنَّ الوَصْفَ يُكْتَفَى به في البَيعِ، فاكْتُفِيَ به في الإِجارَةِ، كالرُّؤْيَةِ. والتَّفاوُتُ بعد ذِكْرِ الصِّفاتِ يَسِيرٌ، تَجْرِي المُسامَحةُ فيه، كالمُسْلَمِ فيه. ويَحْتاجُ إلى مَعْرِفَتِه (¬1) الآلَةَ التي يَرْكَبانِ فيها، مِن مَحْمِلٍ ومَحارَةٍ وقَتَبٍ، وغيرِ ذلك. وهل يكونُ مُغَطّىً أو مَكْشوفًا؟ فإن كان مُغَطّىً، احْتاجَ إلى مَعْرِفَةِ الغِطاءِ. ويَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ الوطاءِ، ومَعْرِفَةِ المَعالِيقِ التي معه، مِن قِرْبَةٍ وسَطِيحةٍ وقِدْرٍ وسُفْرَةٍ ونحوها، وذِكْرِ سائِرِ ما يَحْمِلُ معه. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، إلَّا أنَّ الشافعيَّ قال: ¬

(¬1) في م، تش: «معرفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوزُ إطْلاقُ غطاءِ المَحْمِلِ؛ لأنَّه لا يَخْتَلِفُ اخْتِلافًا كثيرًا مُتَباينًا. وحُكِيَ عنه في المَعالِيقِ قولٌ، أنَّه يجوزُ إطْلاقُها، ويُحْمَلُ على العُرْفِ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه يجوزُ إطْلاقُ الراكِبينَ؛ لأنَّ أجْسامَ الناسِ مُتقارِبةٌ في الغالِبِ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال: في المَحْمِلِ رَجُلانِ، وما يُصْلِحُهما مِن الوطَاءِ والدُّثُرِ. جاز اسْتِحْسانًا؛ لأنَّ ذلك يَتقارَبُ في العادَةِ، فحُمِلَ على العَادَةِ، كالمَعاليقِ. وقال القاضِي في غِطَاءِ المَحْمِلِ كَقَوْلِ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّ هذا يَخْتَلِفُ وَيتَبايَنُ كثيرًا، فاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُه، كالطَّعامِ الذي يَحْمِلُه معه. وقولُ مالكٍ: إنَّ أجسامَ الناسِ مُتقارِبةٌ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ منهم الكَبِيرَ والصَّغِيرَ، والطَّويلَ والقَصِيرَ، والسَّمِينَ والهَزِيلَ، والذَّكَرَ والأُنْثَى، ويَخْتَلِفُون بذلك، ويَتَبايَنُونَ كثيرًا. ويَتَفاوَتُون أيضًا في المَعالِيقِ؛ منهم مَن يُكْثِرُ الزّادَ والحَوائِجَ، ومنهم مَن يَقْنَعُ باليَسِيرِ، ولا عُرْفَ له يُرْجَعُ إليه، فاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُه، كالمَحْمِلِ والأوْطِئَةِ. وكذلك غِطاءُ المَحْمِلِ، مِن الناسِ مَن يَخْتارُ الواسِعَ الثَّقِيلَ الذي يَشْتَدُّ على المَحْمِلِ (¬1) في الهَواءِ، ومنهم مَن يَقْنَعُ بالضَّيِّقِ الخَفِيفِ، فتَجِبُ مَعْرِفَتُه، كسائِرِ ما ذَكَرْنا. فإن رَأَى الرّاكِبَين أو وُصِفا له وذُكِر الباقِي بأرْطالٍ مَعْلُومَةٍ، جازَ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وأمَّا الرّاكِبُ، فيَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ الدّابَّةِ التي يَرْكَبُ عليها؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ بذلك، ويَحْصُلُ بالرُّؤْيَةِ؛ لأنَّها أعْلَى طُرُقِ العِلْمِ، إلَّا أن يكونَ ممَّا ¬

(¬1) في تش، ر، ق: «الحمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ صِفَةِ المَشْي؛ كالرهوالِ (¬1) وغيرِه، وإمّا أن يُجَرِّبَه فيَعْلَمَ ذلك برُؤْيَتِه. ويَحْصُلُ بالصِّفَةِ، فإذا وُجِدَت، اكْتَفَى بها؛ لأنَّه يُمْكِنُ ضَبْطُه بالصِّفَةِ، فجازَ العَقْدُ عليه، كالبَيعِ. وإذا اسْتَأْجَرَ بالصِّفَةِ للرُّكُوبِ، احتاج إلى ذِكْرِ الجِنْسِ؛ فَرَسًا، أو بَعِيرًا، أو بَغْلًا، أو حِمارًا. و (¬2) النَّوْعِ فيقولُ في الإِبِلِ: بُخْتِيٌّ أو عَرَبيٌّ (¬3). وفي الخَيلِ: عَرَبيٌّ (3) أو بِرْذَوْنٌ. وفي الحَمِيرِ: مِصْرِيٌّ أو شامِيٌّ. وإن كان في النَّوْعِ ما يَخْتَلِفُ، كالمُهَمْلَج مِن الخَيلِ، والقَطُوفِ، احْتِيجَ إلى ذِكْرِه؛ لأنَّ الغَرَضَ يَخْتَلِفُ به. وقد ذَكَرْنا ذلك والخِلافَ فيه. قال شيخُنا (¬4): ومتى كان الكِراءُ إلى مَكَّةَ، فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ الجِنْسِ ولا النَّوْعِ؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الذي يُحْمَلُ عليه في طَرِيقِ مَكَّةَ الجِمالُ العِرابُ دُونَ البَخاتِيِّ. فصل: إذا كان الكِراءُ إلى مَكَّةَ، أو طَرِيقٍ لا يكونُ السَّيرُ فيه إلى اخْتِيارِ المُتَكارِيَين، فلا وَجْهَ لذِكْرِ تَقْدِيرِ السَّيرِ فيه؛ لأنَّ ذلك ليس إليهما، ولا مَقْدُورٌ عليه لهما. وإن كان في طَرِيقٍ السَّيرُ فيه إليهما، اسْتُحِبَّ ذِكْرُ قَدْرِ السَّيرِ في كلِّ يَوْمٍ. فإن أطْلَقَ وللطَّرِيقِ مَنازِلُ مَعْرُوفَةٌ، جازَ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ بالعُرْفِ. ومتى اخْتَلفا في ذلك، وفي وَقْتِ السَّيرِ لَيلًا أو نهارًا، ¬

(¬1) الرهوال، بالكردية: البرذون إذا كان لين الظهر في السير. الألفاظ الفارسية المعربة 74. (¬2) في م: «أو». (¬3) في م: «عرابي». (¬4) في: المغني 8/ 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو في مَوْضِعِ المَنْزِلِ إمّا في داخِلِ البَلَدِ أو خارِجٍ منه، حُمِلَا على العُرْفِ، كما لو أطْلَقَا الثَّمَنَ في بَلَدٍ فيه نَقْدٌ مَعْرُوف. وإن لم يَكُنْ للطَرِّيقِ عُرْفٌ، فقال القاضِي: لا يَصِحُّ، كما لو أطْلَقَا الثَّمَنَ في بَلَدٍ لا عُرْفَ فيه. والأوْلَى أنَّ هذا ليس بشَرْطٍ؛ لأنَّه لو كان شَرْطًا لَما صَحَّ العَقْدُ بدُونِه في الطَّريقِ المَخُوفِ، ولأنَّه لم تَجْرِ العادَة بتَقْدِيرِ السَّيرِ في طَرِيقٍ، فإنِ اخْتَلَفا، رُجِعَ إلى العُرْفِ في غيرِ تلك الطَّريقِ. فصل: فإن شَرَط حَمْلَ زادٍ مُقَدَّرٍ، كمائةِ رَطْلٍ، وشَرَط أنَّه يُبْدِلُ منها ما نَقَصَ بالأَكْلِ أو غيرِه، فله ذلك، وإن شَرَط أنَّ ما نَقَص بالأكْلِ لا يُبْدِلُه، فليس له إبْدالُه. فإن ذَهَب بغيرِ الأكْلِ، كَسَرِقَةٍ أو سُقُوطٍ، فله إبْدالُه؛ لأنَّ ذلك لم يَدْخُلْ في شَرْطِه. وإن أطْلَقَ العَقْدَ، فله إبْدالُ ما ذَهَب بسَرِقَةٍ أو سُقُوطٍ أو أكْلٍ غيرِ مُعْتادٍ، بغيرِ خِلافٍ. وإن نَقَص بالأكْلِ المُعْتادِ، فله إبْدالُه أيضًا؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ حَمْلَ مِقْدارٍ مَعْلُومٍ، فمَلَكَ إبْدال ما نَقَص منه،؛ لو نَقَص بِسَرِقَةٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ ذلك؛ لأنَّ العُرْفَ جارٍ بأنَّ الزّادَ يَنْقُصُ ولا يُبْدَلُ، فحُمِلَ العَقْدُ عليه عندَ الإِطْلاقِ، وصار كالمُصَرَّحِ به. وقال الشافعيُّ: القِياسُ أنَّ له إبْداله. ولو قِيلَ: ليس له إبْدالُه. كان مَذْهَبًا؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الزَّادَ لا يَبْقَى جَمِيعَ المَسافَةِ، ولذلك يَقِلُّ أجْبرُه عن أجْرِ المَتاعِ. فصل: إذا اكْتَرَى جَمَلًا لِيَحُجَّ عليه، فله الرُّكُوبُ عليه إلى مَكَّةَ، ومِن مَكَّةَ إلى عَرَفَةَ، والخُرُوجُ عليه إلى مِنًى؛ لأنَّه مِن تَمامِ الحَجِّ. وقيل:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس له الركُوبُ إلى مِنًى؛ لأنَّه بعدَ التَّحَلُّلِ مِن الحَجِّ. والأَولَى أنَّ له ذلك؛ لأنَّه مِن تَمامِ الحَجِّ وتَوابِعِه، ولذلك وَجَب على مَن وَجَبَ عليه دُونَ غيرِه، فدَخَلَ في قولِ اللهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ} (¬1). ولو اكْتَرَى إلى مَكَّةَ فقط، فليس له الرُّكُوبُ إلى الحَجِّ؛ لأنَّها زِيادَةٌ. ويَحْتَمِلُ أنَّ له ذلك؛ لأنَّ الكِراءَ إلى مَكَّةَ عِبارَة عن الكِراءِ للحَجِّ؛ لكَوْنِها لا يُكْتَرَى إليها إلَّا للحَجِّ غالِبًا، فكان بمَنْزِلَةِ المُكْتَرِي للحَجِّ. فصل: قال أصحابُنا: يَصحُّ كِراءُ العُقْبَةِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ومَعْناها: الرُّكُوبُ في بَعْضِ الطَّرِيقِ، يَرْكَبُ شيئًا ويَمْشِي شيئًا؛ لأنَّه إذا جازَ اكْتِراؤُها في الجَمِيعِ، جازَ في البَعْضِ. ولا بُدَّ مِن العِلْمِ بها، إمّا بالفَراسِخِ، وإمّا بالزَّمانِ، مثلَ أن يَرْكَبَ لَيلًا ويَمْشِيَ نهارًا، ويُعْتَبَرُ في هذا زَمانُ السَّيرِ دُونَ زَمانِ النُّزُولِ. وإن شَرَط أن يَرْكَبَ يَوْمًا ويَمْشِيَ يَومًا، جازَ، فإن أطْلَقَ، احْتَمَلَ الجَوازَ، [ويُحْمَلُ على العُرْفِ] (¬2). واحْتَمَلَ أن لا يَصحَّ؛ لأنَّه يَخْتَلِفُ، وليس له ضابِطٌ، فيكونُ مَجْهُولًا. وإنِ اتَّفَقا على أن يَرْكَبَ ثَلاثةَ أيّامٍ ويَمْشِيَ ثلاثةً، أو ما زادَ ونَقَص، جازَ. وإنِ اخْتَلَفَا، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ منهما؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا على كل واحدٍ منهما؛ الماشِي لِدَوامِ المَشْي عليه، والدّابَّةِ لدَوَامِ الرُّكُوبِ عليها، ولأنَّه إذا ¬

(¬1) سورة آل عمران 97. (¬2) سقط من: م.

فَصلٌ: وَالإجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنَ الطرَّفَينِ، لَيسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَكِبَ بعد شِدَّةِ التَّعَبِ، كان أثْقَلَ على البَعِيرِ. وإنِ اكْتَرَى اثْنانِ جَمَلًا يتَعاقَبانِ عليه، جازَ، ويكونُ كِراؤُهما (¬1) كلَّ الطَرِّيقِ، والاسْتِيفاءُ بينهما على ما يَتَّفقانِ عليه. وإن تَشاحّا، قُسِمَ بينهما لكُلِّ واحدٍ منهما فَراسِخُ مَعْلُومَةٌ، أو لأحَدِهما اللَّيلُ وللآخُرِ النَّهارُ. وإن كان لذلك عُرْفٌ رُجِعَ إليه. وإنِ اخْتَلَفا في البادِئ منهما، أُقْرِعَ بينَهما (¬2). ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ كِراؤُهما (¬3)، إلَّا أن يَتَّفِقَا على رُكُوبٍ مَعْلُوم لكلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَجْهُولٍ بالنِّسْبَةِ إلى كلِّ واحدٍ منهما، فلم يَصِحَّ، كما لو اشْتَرَيا عَبْدَينِ على أنَّ [لكُلِّ واحدٍ عَبْدًا] (¬4) منهما. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (والإِجارَةُ عَقْدٌ لازِمٌ مِن الطَّرَفَينِ، ليس لأحَدِ هما فَسْخُها) وبه قال مالكٌ، والشافعي، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّها عَقْدُ مُعاوَضةٍ، فكانت لازِمةً، كالبَيعِ، ولأنّها نَوْع مِن البَيعِ، وإنَّما ¬

(¬1) في م: «كراؤه». (¬2) سقط من: م، تش. (¬3) في م: «كراؤها». (¬4) في م: «لكل واحد منهما عبدا معينا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَصَّتْ بِاسْم كالصَّرْفِ والسَّلَمِ، إلَّا (¬1) أن يَجِدَ العَينَ مَعِيبَةً عَيبًا لم يَكُنْ عَلِمَ به، فله الفَسْخُ بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: إذا اكْتَرَى دابَّةً بعَينها، فوَجَدَها جَمُوحًا، أو عَضُوضًا، أو نَفُورًا، أو بها عَيبٌ غيرُ ذلك مما يُفْسِدُ رُكُوبَها، فلِلْمُكْتَرِي الخِيارُ، إن شاءَ رَدَّها وفَسَخ الإِجارَةَ، وإن شاءَ أخَذَها. وهذا قولُ [أبي ثَوْرٍ] (¬2) وأصحابِ الرَّأْي. و (¬3) لأنَّه عَيبٌ في المَعْقُودِ عليه، فأثْبَتَ الخِيارَ، كالعَيبِ في بُيُوعِ الأعْيانِ، والعَيبِ الذي يَرُدُّ به ما تَنْقُصُ به المَنْفَعَةُ، كتَعَثُّرِ الظَّهْرِ في المَشيِ، والعَرَجِ الذي يتَأخَّرُ به عن القافِلَةِ، ورَبْضِ البَهِيمَةِ بالحِمْلِ، وكونِها جَمُوحًا أو عَضُوضًا، وأشْباهِ (¬4) ذلك. وفي المُكْتَرَى للخِدْمَةِ، ضَعْفُ البَصَرِ، ¬

(¬1) في م: «لا». (¬2) في م: «الثوري». (¬3) سقط من: م، تش. (¬4) في م، تش: «ونحو».

2197 - مسألة: (وإن بدا له قبل تقضي المدة، فعليه الأجرة)

وَإنْ بَدَا لَهُ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ، فَعَلَيهِ الأُجْرَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والجُنُونُ، والجُذَامُ، والبَرَصُ. وفي الدّارِ؛ انْهِدامُ الحائِطِ، والخَوْفُ مِن سُقُوطِها، وانْقِطاعُ الماءِ مِن بِئرِها، أو تَغَيُّرُه بحيثُ يَمْنَعُ الشُّرْبَ والوضُوءَ، وأشْباهُ ذلك مِن النَّقائِصِ. فإنِ رَضِيَ بالمُقامِ ولم يَفْسَخْ؛ لِزَمَه جميعُ الأجْرَةِ؛ لأنَّه رَضِيَ به ناقِصًا، أشْبَهَ ما لو رَضِيَ بالمَبِيعِ مَعِيبًا. وإنِ اخْتَلَفا في المَوْجُودِ، هل هو عَيبٌ أو لا؟ رُجِعَ فيه إلى أهْلِ الخِبْرَةِ، مثلَ أن تكونَ الدّابَّةُ خَشِنَةَ المَشْي، أو أنَّها تُتْعِبُ راكِبَها لكَوْنِها لا تُرْكَبُ كثيرًا، فإن قالوُا: هو عَيبٌ. فله الفَسْخُ، وإلَّا فلا. هذا إذا كان العَقْدُ تَعَلَّقَ بعَينها، فإن كانت مَوْصُوفَةً في الذِّمَّةِ، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ، وعلى المُكْرِي إبْدالُها، كالمُسْلَمِ فيه إذا وَجَدَه مَعِيبًا أو على غيرِ صِفَتِه. فإن عَجَز عن إبْدالِها أو امْتَنَعَ منه، ولم يُمْكِنْ إجْبارُه، فلِلْمُكْتَرِي الفَسْخُ أيضًا. 2197 - مسألة: (وإن بَدَا له قبلَ تَقَضِّي المُدَّةِ، فعليه الأُجْرَةُ) قد ذَكَرْنا أنَّ الإِجارَةَ عَقْدٌ لازِمٌ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ المُؤْجِرِ الأجْرَ، والمُسْتَأْجِرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنافِعَ. فإذا فَسَخ المُسْتَأْجِرُ الإِجارَةَ قبلَ انْقِضاءِ مُدَّتها وتَرَك الانْتِفاعَ اخْتِيارًا منه، لم تَنْفَسِخِ الإِجارَةُ، وتَلْزَمُه الأجْرَةُ، ولا يَزُولُ مِلْكُه عن المنافِعِ، كما لو اشْتَرَى شَيئًا وقَبَضَه ثم تَرَكَه. قال الأثرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: رَجُلٌ اكْتَرَى بَعِيرًا، فلما قَدِمَ المَدِينَةَ، قال له: فاسِخْنِي. قال: ليس ذلك له، قد لَزِمَه الكِراءُ. قلتُ: فإن مَرِضَ المُسْتَكْرِي بالمَدِينةِ؟ فلم يَجْعَلْ له فَسْخًا؛ لأنَّه عَقْدٌ لازِمٌ مِن الطَّرَفَينِ، فلم يَمْلِكْ أحَدُ المُتعاقِدَينِ فَسْخَه، وإن فَسَخَه، لم يَسْقُطِ العِوَضُ الواجِبُ، كالبَيعِ. فصل: قد ذَكَرْنا أنَّ المُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ المَنافِعَ بالعَقْدِ، كما يَمْلِكُ المُشْتَرِي المَبِيعَ بالبَيعِ، ويَزُولُ مِلْكُ المُؤْجرِ عنها، كما يَزُولُ مِلْكُ البائِع عن المَبِيعِ، فلا يجوزُ له التَّصرُّفُ فيها؛ لَأنَّها صارتْ مَمْلُوكَةً لغيرِه. فإن تَصرَّفَ فيها، وكان ذلك في حالِ يَدِ المُسْتَأْجِرِ قبلَ تَقَضِّي المُدَّةِ، مثلَ أن يَكْتَرِيَ دارًا سَنَةً، فيَسْكُنُها شَهْرًا ويَتْرُكُها، فيَسْكُنُها المالِكُ بَقِيَّةَ السَّنةِ، أو يُؤْجِرُها لغيرِه، احْتَمَلَ أن يَنْفَسِخَ العَقْدُ فيما اسْتَوْفاهُ المالِكُ؛ لأنَّه تَصرَّفَ فيه قبلَ قَبْضِ المُكْتَرِي له، أشْبَهَ ما لو أتْلَفَ المَكِيلَ قبلَ تَسْلِيمِه وسَلَّمَ باقِيَه. فإن تَصرَّفَ في بعضِ المُدَّةِ دُونَ بعضٍ، انْفَسَخَ العَقْدُ في قَدْرِ ما تَصرَّفَ فيه خاصَّةً، وعلى المُسْتَأْجِرِ أجْرُ ما بَقِيَ. فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَكَن المُسْتَأْجِرُ شَهْرًا [وتَرَكَها شَهْرًا (¬1)] (¬2)، وسَكَن المالِكُ عَشَرَةَ أشْهُرٍ، لَزِمَ المُسْتَأْجِرَ أجْرُ شَهْرَينِ. وإن سَكَنَها شَهْرًا، وسَكَن المالِكُ شَهْرَين ثم تَرَكَها، فعلى المُسْتَأْجِرِ أجْرُ عَشَرَةِ أشْهُر. واحْتَمَلَ أن يَلْزَمَ المُسْتَأْجِرَ أجْرُ جَمِيعِ المُدَّةِ، وله على المالِكِ أجْرُ المِثْلِ لِما سَكَن أو تَصَرَّفَ فيه، يَسْقُطُ ذلك ممّا على المُسْتَأْجِرِ مِنَ الأجْرِ، ويَلْزَمُه الباقِي، لأنَّه تَصَرَّفَ فيما مَلَكَه المُسْتَأْجِرُ عليه بغيرِ إذْنِه، أشْبَهَ ما لو تَصَرَّفَ في المَبِيع بعدَ قَبْضِ المُشْتَرِي إيّاه. وقَبْضُ الدّارِ ههُنا قام مَقامَ قَبْضِ المنافِع، بدَلِيلِ أنَّه يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في المَنافِعِ بالسُّكْنَى والإِجارَةِ وغيرِها. فعلى هذا، لو كان أجْرُ المِثْلِ الواجِبُ على المالِكِ بقَدْرِ الأجْرِ المُسَمَّى في العَقْدِ، لم يَجِبْ على المُسْتَأْجِرِ شيءٌ. وإن فَضَلَتْ منه فَضْلَة، لَزِمَ المالِكَ أداؤُها إلى المُسْتَأْجِرِ. والأوّلُ أوْلَى. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وإن تَصَرَّفَ المالِكُ قبلَ تَسْلِيمِه العَينَ، أو امْتَنَعَ مِن تَسْلِيمِها حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِجارَةِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، وَجْهًا واحدًا، لأنَّ العاقِدَ أتْلَفَ المَعْقُودَ عليه قبلَ تَسْلِيمِه، فانْفَسَخَ العَقْدُ،؛ لو باعَه طَعامًا فأتْلَفَه قبلَ تَسْلِيمِه. وإن سَلَّمَها إليه في أثناءِ المُدَّةِ، انْفَسَخَتْ فيما مَضَى، ويَجِبُ أجْرُ الباقِي بالحِصَّةِ، كالمَبِيعِ إذا سَلَّمَ بَعْضَه وأتْلَفَ بعضًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

2198 - مسألة: (وإن حوله المالك قبل تقضيها)

وَإنْ حَوَّلَهُ الْمَالِكُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا، لَمْ تَكُنْ لَهُ أجْرَةٌ لِمَا سَكَنَ. نَصَّ عَلَيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ مِنَ الأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2198 - مسألة: (وإن حَوَّلَه المالِكُ قبلَ تَقَضِّيها) فليس له (أجْرَةٌ لِما سَكَن. نَصّ عليه، ويَحْتَمِلُ أنَّ له مِن الأجْرَةِ بقِسْطِه) إذا اسْتَأْجَرَ عَقارًا (¬1) مُدَّةً، فسَكَنَه بعضَ المُدَّةِ، ثم أخْرَجَه المالِكُ ومَنَعَ تَمامَ السُّكْنَى، فلا شيءَ له مِن الأجْرِ. نصَّ عليه أحمدُ. وذَكَرَه الخِرَقِيُّ. ويَحْتَمِلُ أنَّ له مِن الأجْرِ بقِسْطِه. وهو قولُ أكثَرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى مِلْكَ غيرِه على وَجْهِ المُعاوَضَةِ، فلَزِمَه عِوَضُه، كالمَبِيعِ إذا اسْتَوْفَى بعضَه ومَنَعَه المالِكُ بَقِيَّتَه. ولَنا، أنَّه لم يُسَلِّم إليه ما تَناوَلَه عَقْدُ الإِجارَةِ، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو اسْتَأْجَرَه لحَمْلِ كِتابٍ إلى بَلَدٍ فحَمَلَه بعض الطَّرِيقِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لِيَحْفِرَ له عِشْرِينَ ذِراعًا، فحَفَرَ له عَشْرًا وامْتَنَعَ مِن حَفْرِ الباقِي. وقِياسُ الإِجارَةِ على الإِجارَةِ أوْلَى مِن قِياسِها على البَيعِ. والحُكْمُ في مَنِ اكْتَرَى دابَّةً فامْتَنَعَ المُكْرِي (¬1) مِن تَسْلِيمِها. في بعضِ المُدَّةِ، أو أجَرَ نَفْسَه أو عَبْدَه للخِدْمَةِ مُدَّةً وامْتَنَعَ مِن إتْمامِها، أو أجَرَ نفْسَه لِبناءِ حائِطٍ أو خِياطةٍ، أو حَفْرِ بِئْرٍ، أو حَمْلِ شيءٍ إلى مكانٍ، وامْتَنَعَ مِن إتْمامِ العَمَلِ معِ القُدْرَةِ عليه، كالحُكْمِ في العَقارِ يَمْتَنِعُ مِن تَسْلِيمِه، وأنَّه لا يسْتَحِقُّ شيئًا؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في ق، تش: «المكتري».

2199 - مسألة: (وإن هرب الأجير حتى انقضت المدة، انفسخت الإجارة، وإن كانت على عمل، خير المستأجر بين الفسخ والصبر)

وَإنْ هَرَبَ الْأَجيرُ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، انْفَسَخَتِ الإجَارَة، وَإنْ كَانتْ عَلَى عَمَلٍ، خُيِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَينَ الْفَسْخ وَالصَّبْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2199 - مسألة: (وإن هَرَب الأجِيرُ حتَّى انْقَضَتِ المُدَّةُ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، وإن كانت على عَمَل، خُيِّرَ المُسْتَأْجِرُ بينَ الفَسْخِ والصَّبْرِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا هَرَب الأجِيرُ، أو شَرَدَتِ الدّابَّةُ، أو أخَذَ المُؤْجِرُ العَينَ وهَرَب بها، أو مَنَعه اسْتِيفاءَ المَنْفَعَةِ منها مِن غيرِ هَرَبٍ، لم تَنْفَسِخِ الإِجارَةُ، لكن يَثْبُتُ للمُسْتَأْجِرِ خِيارُ الفَسْخِ، فإن فَسَخ (¬1) فلا كلامَ، وإن لم يَفْسَخْ وكانت الإِجارَةُ على مُدَّةٍ، انْفَسَخَتْ بمُضِيِّ المُدَّةِ يومًا فيومًا. فإن عادَتِ العَينُ في أثْناءِ المُدَّةِ، اسْتَوْفَى ما بَقِيَ منها. وإنِ انْقَضَتِ المُدَّةُ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ؛ لِفَواتِ المَعْقُودِ عليه. وإن كانت الإِجارَةُ على مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ؛ كخِيَاطةِ ثَوْبٍ، أو بِناءِ حائطٍ، أو حَمْلٍ إلى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، اسْتُؤْجِرَ مِن مالِه مَن يَعْمَلُه، كما لو أسْلَمَ ¬

(¬1) في م: «انفسخ».

2200 - مسألة: (وإن هرب الجمال، أو مات

وَإنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ، أَوْ مَاتَ وَتَرَكَ الْجِمَال، أنْفَقَ عَلَيهَا الْحَاكِمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه في شيءٍ فَهَرَب، ابْتِيعَ (¬1) مِن مالِه. فإن تَعَذَّرَ، فلِلْمُسْتَأْجِرِ الفَسْخُ، فإن لم يَفْسَخْ وصَبَر إلى أن يَقْدِرَ عليه، فله مُطالبَتُه بالعَمَلِ؛ لأنَّ ما في الذِّمَّةِ لا يَفُوتُ بهَرَبِه. وكلُّ مَوْضِعٍ امْتَنَعَ الأجِيرُ مِن العَمَلِ فيه، أو مَنَع المُؤْجِرُ المُسْتَأْجِرَ مِن الانْتِفاعِ، إذا كان بعدَ عَمَلِ البَعْضِ، فلا أجْرَ له فيه، على ما سَبَق، إلَّا أن يَرُدَّ العَينَ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، أو يُتِمَّ العَمَلَ إن لم يَكُنْ على مُدَّةٍ قبلَ فَسْخِ المُسْتَأْجِرِ، فيكونُ له أجْرُ ما عَمِلَ. فأمّا إن شَرَدَتِ الدّابَّةُ، أو تَعذَّرَ اسْتِيفاءُ المَنْفَعةِ بغيرِ فِعْلِ المُؤْجِرِ، فله مِن الأجْرِ بقَدْرِ ما اسْتَوْفَى بكلِّ حالٍ. 2200 - مسألة: (وإن هَرَب الجَمّالُ، أو ماتَ ¬

(¬1) في م: «بيع».

مِنْ مَالِ الْجَمَّالِ، أوْ أذِنَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي النَّفَقَةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الإجَارَةُ بَاعَهَا الْحَاكِمُ وَوَفَّى الْمُنْفِقَ، وَحَفِظَ بَاقِيَ ثَمَنِهَا لِصَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَرَك الجِمال، أنْفَقَ عليها الحاكِمُ مِن مالِ الجَمّالِ، أو أذِنَ لِلمُسْتَأْجِرِ في الإِنْفاقِ، فإذا انْقَضَتِ الإجارَةُ باعَها الحاكِمُ ووَفَّى المُنْفِقَ، وحَفِظَ باقِيَ ثَمَنِها لِصَاحِبه) إذا هَرَب الجَمّالُ في بعضِ الطَّرِيقِ، أو قبلَ الدُّخُولِ فيها، لم يَخْلُ مِن حالينِ؛ أحدُهما، أن يَهْرُبَ بجِمالِه. فإن لم يَجِدِ المُسْتَأْجِرُ حاكِمًا، أو وَجَدَ حاكِمًا لم يُمْكِنْ إثْباتُ الحالِ عندَه، أو أمْكَنَ ولم يَحْصُلْ له [ما يَكْتَرِي به] (¬1) ما يَسْتَوْفِي به حَقَّه منه، فلِلْمُسْتَأْجِرِ الفَسْخُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ عليه قَبْضُ المَعْقُودِ عليه، أشْبَهَ ما إذا أفْلَسَ المُشْتَرِي. فإن فَسَخ العَقْدَ وكان الجَمّالُ قد قَبَض الأجْرَ، كات دَينًا في ذِمَّتِه، وإن اخْتارَ المُقامَ على العَقْدِ وكانت الإِجارَةُ على عَمَلٍ في الذمَّةِ، فله ذلك، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومتى قَدَر على الجَمّالِ طالبَه به، وإن كان العَقْدُ على مُدَّةٍ انْقَضَتْ في هَرَبِه، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ [وقد ذَكَرْناه] (¬1). وإن أمْكَنَ إثْباتُ الحالِ عندَ الحاكِمِ، وكان العَقْدُ على مَوْصُوفٍ غيرِ مُعَيَّن، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ، ويَرْفَعُ الأمْرَ إلى الحاكِمِ، ويُثْبِتُ عندَه حاله. فإن وَجَد الحاكِمُ للجَمّالِ مالًا، اكْتَرَى به، وإن لم يَجِدْ له مالًا وأمْكَنَه أن يَقتَرِضَ عليه ما يَكْتَرِي له به، فَعَلَ. فإن دَفَع الحاكِمُ المال إلى المُكْتَرِي ليَكْتَرِيَ به لِنَفْسِه، جازَ في ظاهِرِ كلام أحمدَ. وإن كان القَرْضُ مِن المُكْتَرِي، جاز، وصار دَينًا في ذِمَّةِ الجَمّالِ. وإن كان العَقْدُ على مُعَيَّن، لم يَجُزْ إبْدالُه ولا اكْتِراءُ غيرِه، لأنَّ العَقْدَ تَعَلَّقَ بعَييه، فيُخَيَّرُ المُكْتَرِي بينَ الفَسخِ، أو الصَّبْرِ إلى أن يَقْدِرَ عليه فيُطالِبَه بالعَمَلِ. الحالُ الثاني، إذا هَرَب وترَك جِماله، فإنَّ المُكْتَرِيَ يَرْفَعُ الأمْرَ إلى الحاكِمِ، فإن وَجَد للجَمّالِ مالًا، اسْتَأْجَرَ به مَن يَقُومُ مَقامَه في الإِنْفاقِ على الجِمالِ، والشَّدِّ عليها، وفِعْلِ ما يَلْزَمُ الجَمّال. فإن لم يَجِدْ له غيرَ الجِمالِ، وكان فيها فَضْلَةٌ عن الكِراءِ، باعَ بِقَدْرِ ذلك، وإن لم يَكُنْ فيها فَضْلٌ، أو لم يُمْكِنْ بَيعُه، اقْتَرَضَ عليه الحاكِمُ، كما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن ادّانَ مِن المُكْتَرِي وأنْفَقَ، جازَ. وإن أذِنَ لِلْمُكْتَرِى في الإِنْفاقِ مِن مالِه بالمَعْرُوفِ؛ ليكونَ دَينًا على الجَمّالِ، جازَ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجةٍ. فإذا رَجَع، واخْتَلَفا فيما أنْفَقَ، وكان الحاكِمُ قَدَّرَ النَّفَقَةَ، قُبِلَ قَوْلُ المُكْتَرِي في ذلك، دُون ما زادَ، وإن لم يُقَدِّرْ له، قُبِلَ قولُه في قَدْرِ النَّفَقَةِ بالمَعْرُوفِ؛ لأنَّه أمِينٌ، فأشْبَهَ الوَصِيَّ إذا ادَّعَى النَّفَقَةَ على الأيتامِ بالمَعْرُوفِ، وما زادَ لا يَرْجِعُ به؛ لأنَّه مُتَطَوِّعٌ به. وإذا وَصَل المُكْتَرِي، رَفَع الأمْرَ إلى الحاكِمِ، فيَفْعَلُ ما يَرَى الحَظَّ فيه، مِن بَيعِ الجِمالِ، فيُوَفِّي عن الجَمّالِ ما لَزِمَه مِن الدَّينِ للمُكْتَرِي أو لغيرِه، ويَحْفَظُ باقِيَ الثَّمَنِ له. وإن رَأى بَيعَ بعضِها وحِفْظَ باقِيها، والإنْفاقَ على الباقِي مِن ثَمَنِ ما باعَ، جازَ. وإن لم يَجدْ حاكِمًا، أو عَجَز عن اسْتِئْذانِه، فله أن يُنْفِقَ عليها، ويُقِيمَ مُقامَ الجَمّالِ فيما يَلْزَمُه، ولا يَرْجِعُ بذلك إن فَعَلَه مُتَبَرِّعًا. وإن نَوَى الرُّجُوعَ وأشْهَدَ على ذلك، رَجَع به؛ لأنَّه حالُ ضَرُورةٍ. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ. وإن لم يُشْهِدْ، ونَوَى الرُّجُوعَ، فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَرْجِعُ به، لأنَّ تَرْكَ الجِمالِ مع العِلْمِ بأنَّها لا بُدَّ لها مِن نَفَقةٍ إذْن في الإِنْفاقِ. والثاني، لا يَرْجِعُ به؛ لأنَّه (¬1) يُثْبِتُ لِنَفْسِه حَقًّا على غيرِه. وكذلك إن لم [يَجِدْ مَن يُشْهِدُه] (¬2) وأنْفَقَ مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ. قال شيخُنا (¬3): وقِياسُ المَذْهَبِ، أنَّ له ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في م: «يشهد». (¬3) في: المغني 8/ 96.

2201 - مسألة: (وتنفسخ الإجارة بتلف العين المعقود عليها)

وَتَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِتَلَفِ الْعَينِ الْمَعْقُودِ عَلَيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ، كقَوْلِنا: يَرْجِعُ بما أنْفَقَ على الآبِقِ، وعلى عِيالِ الغائِبِ وزَوْجاتِه، والدّابَّةِ المَرْهُونةِ. فإن قَدَر على اسْتِئْذانِ الحاكِمِ، فأنْفَقَ مِن غيرِ اسْتِئْذانِه، وأشْهَدَ على ذلك، ففِي رُجُوعِه وَجْهانِ أيضًا. وحُكمُ مَوْتِ الجَمّالِ حُكْمُ هَرَبه. وقال أبو بكرٍ: مَذْهَبُ أحمدَ، أنَّ المَوْت لا يفْسَخُ الإِجارَةَ، وله أَن يَرْكَبَها ولا يُسْرِفَ في عَلْفِها، ولا يُقَصِّرَ، ويَرْجِعُ بذلك في مالِ المُتَوَفَّى، فإن لم يَكُنْ في يَدِ المُسْتَأْجِرِ ما يُنْفِقُ، لم يَجُزْ أن يَبيعَ منها شيئًا؛ لأنَّ البَيعَ إنَّما يَجُوزُ مِن المالِكِ أو نائِبِه، أو مِمَّن له (¬1) ولايةٌ عليه. 2201 - مسألة: (وتَنْفَسِخُ الإِجارَةُ بتَلَفِ العَينِ المَعْقُودِ عليها) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ مَن اسْتَأْجَرَ عَينًا مُدَّةً، فتَعَذَّرَ (¬2) الانْتِفاعُ بها، [فإن كان بتَلَفِ] (¬3) العَينِ، كَدابَّةٍ نَفَقَتْ وعَبْدٍ ماتَ، فهو على ثلاثةِ أقْسامٍ؛ ¬

(¬1) في م: «لا». (¬2) في م: «فحيل بينه وبين». (¬3) في م: «لم يخل من أقسام أحدها أن تتلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، أن تَتْلَفَ قبلَ قَبْضِها، فتَنْفَسِخَ الإِجارَةُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه تَلِف قبلَ القَبْضِ، أشْبَهَ تَلَفَ الطَّعامِ المَبِيعِ قبلَ قَبْضِه. القِسْمُ الثاني، أن تَتْلَفَ عَقِيبَ قَبْضِها، فتَنْفَسِخَ الإِجارَةُ أيضًا، ويَسْقُطَ الأجْرُ عندَ عامَّةِ الفُقهاءِ. وحُكِيَ عن أبي ثَوْرٍ، أنَّ الأجْرَ يَسْتَقِرُّ، لأنَّ المَعْقُودَ عليه تَلِفَ بعدَ قَبْضِه، أشْبَهَ المَبِيعَ. [ولا يَصِحُّ ذلك] (¬1)؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه المنافِعُ، وقَبْضُها باسْتِيفائِها أو [التَّمَكُّنِ منها] (¬2). ولم يَحْصُلْ ذلك، فأشْبَهَ تَلَفَهَا قبلَ قَبْضِ العَينِ. الثالثُ، أن تَتْلَفَ بعدَ مُضِي بعضِ (¬3) المُدَّةِ، فَتَنْفَسِخَ الإِجارَةُ فيما بَقِي مِن المُدَّةِ خاصَّة (¬4) ويكون [على المُسْتَأْجِرِ] (¬5) مِن الأجْرِ بقَدْرِ ما اسْتَوْفى مِن المَنْفَعَةِ. قال أحمدُ، في رِوايةِ إبراهيمَ بنِ الحارِثِ: إذا اكْتَرى بَعِيرًا بعَييه فنَفَقَ، يُعْطِيه بحسابِ ما رَكِبَ. وذلك لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ المَعْقُودَ عليه المنافِعُ، وقد تَلِفَ بعضُها قبلَ قَبْضِه، فبَطَلَ العَقْدُ فيما تَلِفَ دُونَ ما قُبِضَ، كما لو اشْتَرَى صُبْرَتَين، فقَبَض إحْداهُما، وتَلِفَتِ الأخْرَى قبلَ قَبْضِها، ثم يُنْظَرُ، فإن كان أجْرُ المُدَّةِ مُتَساويًا، فعليه بِقَدْرِ ما مَضى؛ إن كان النِّصْفُ، فعليه ¬

(¬1) في م: «وهذا غلط». (¬2) في م: «التمكن من استيفائها». وفي تش، ر 1: «التمكين منه». وفي ر، ق: «التمكن منه». (¬3) في م: «شيء من». (¬4) في م: «دون ما مضى». (¬5) في م: «للمؤجر».

2202 - مسألة: (وموت الصبي المرتضع)

وَمَوْتِ الصَّبِيِّ المُرْتَضِعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْف الأُجْرةِ، وإن كان [أكثرَ أو أقلَّ، فبِحِسابِ ذلك] (¬1)، كما يُقَسَّمُ الثَّمَنُ على المَبِيعِ المُتساوي. وإن اخْتَلَفَ، كَدارٍ أجْرُها في الشِّتاءِ أكْثَرُ مِن الصَّيفِ، وأرْضٍ أجْرُها في الصَّيفِ أكْثَرُ مِن الشِّتاءِ، أو دارٍ لها مَوْسِمٌ، كَدُورِ مَكَّةَ، رُجِعَ في تَقْويمِه إلى أهْلِ الخِبْرةِ، فيُقَسَّطُ (¬2) الأجْرُ المُسَمَّى على قَدْرِ قِيمَةِ المَنفَعَةِ، كَقِسْمَةِ الثَّمَنِ الأعْيانِ المُخْتَلِفَةِ في البَيعِ. وكذلك لو كان الأجْرُ على قَطْعِ مَسافةٍ، كَبَعِيرٍ اسْتُؤْجِرَ على حَمْلِ شيءٍ إلى مكانٍ مُعَيَّنٍ؛ وكانتْ مُتَساويَةَ الأجْزاءِ أو مُخْتَلِفَةً. وهذا (¬3) مَذْهَبُ الشافعيِّ. 2202 - مسألة: (ومَوْتِ الصَّبِيِّ المُرْتَضِعِ) لأنَّه تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ المَعْقُودِ عليه، [لكَوْنِ غيرِهِ لا يقومُ مَقامَه، لاختِلافِهم في الرَّضاعِ، ولذلك وَجَبَ تَعْيِينُه، ولأنَّ اللَّبَنَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِهم، وقد تُدِرُّ] (¬4) على ¬

(¬1) في م: «قد مضى الثلث فعليه الثلث». (¬2) في ر 1، م: «فيسقط». (¬3) بعده في م: «ظاهر». (¬4) في م: «لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم فإنه قد يدر».

2203 - مسألة: (وموات الراكب، إذا لم يكن له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة)

وَمَوْتِ الرَّاكِبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدِ الوَلَدَينِ دُونَ الآخَرِ. وهذا مَنْصُوصُ الشافعيِّ. [فإن مات الصَّبِيُّ عَقِيبَ العَقْدِ] (¬1) بَطَلَتِ الإِجارَةُ من أصْلِها، ورَجَعَ المُسْتَأْجِرُ بالأجْرِ كُلِّه، وإن كان في أثْناءِ المُدَّةِ، رَجَعَ بحِصَّةِ ما بَقِيَ، [كما ذَكَرْنا] (¬2). فصل (¬3): وتَنْفَسِخُ الإِجارَةُ بمَوْتِ المُرْضِعَةِ؛ لِفَواتِ المَنْفَعَةِ بهَلاكِ مَحَلِّها. وحُكِيَ عن أبي بكرٍ، أنَّها لا تَنْفَسِخُ، ويَجِبُ في مالِها أجْرُ مَن تُرْضِعُه تَمامَ الوَقْتِ؛ لأنَّه كالدَّينِ. ولَنا، أنَّه هَلَك المَعْقُودُ عليه، أشْبَهَ هَلاكَ البَهِيمَةِ المُسْتَأْجَرَةِ. 2203 - مسألة: (ومَوْاتِ الرَّاكِبِ، إذا لم يَكُنْ له مَن يَقُومُ مَقامَه في اسْتِيفاءِ المَنْفَعَةِ) إذا ماتْ المُكْتَرِي ولم يَكُنْ له وارِثٌ يَقُومُ مَقامَه في ¬

(¬1) في م: «إذا انفسخ العقد عقيبه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِيفاءِ المَنْفَعَةِ، أو كان الوارِثُ (¬1) غائِبًا، كمَن يَمُوتُ في طَرِيقِ مَكَّةَ ويَتْرُكُ جَمَلَه الذي اكْتَراه، وليس له عليه شيءٌ يَحْمِلُه (¬2)، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّ الإِجارَةَ تَنْفَسِخُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ؛ لأنَّه قد جاءَ أمْرٌ غالِبٌ يَمْنَعُ المُسْتَأْجِرَ مَنْفَعَةَ العَينِ، فأشْبَهَتْ ما لو غُصِبَتْ، ولأنَّ بَقاءَ العَقْدِ ضَرَرٌ في حَقِّ المُكْتَرِي والمُكْرِي؛ لأنَّ المُكْتَرِيَ يَجِبُ عليه الكِراءُ مِن غيرِ نَفْعٍ، والمُكْرِيَ يَمْتَنِعُ عليه التَّصَرُّفُ في مالِه، مع ظُهُورِ امْتِناعِ الكِراءِ عليه. وقد نُقِلَ عن أحمدَ، في رَجُل اكْتَرَى بَعِيرًا، فمات المُكْتَرِي في بعضِ الطَّرِيقِ، فإن رَجَع البَعِيرُ خالِيًا، فعليه بقَدْرِ ما وَجَب له، وإن كان عليه ثِقْلُه وَوطاؤُه، فله الكِراءُ إلى المَوْضِعِ. وظاهِرُ هذا أنَّه حَكَم بِفَسْخِ العَقْدِ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ، إذا مات المُسْتَأْجِرُ ولم يَبْقَ له به انْتِفاعٌ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ بأمْرٍ مِن اللهِ تعالى، فأشبَهَ ما لو اكْتَرَى مَن يَقْلَع له ضِرْسَه، فبَرَأ، أو انْقَلَعَ قبلَ قَلْعِه، أو اكْتَرَى كَحّالًا لِيَكْحَلَ عَينه فَبَرَأَتْ، أو ذَهَبَتْ. ويَجِبُ أن يُقَدِّرَ أنَّه لم يَكُنْ ثَمَّ مِن وَرَثَتِه مَن يَقُومُ مَقامَه في الانْتِفاعِ؛ لأنَّ الوارِثَ يَقُومُ مَقامَ المَورُوثِ. وتَأوَّلَها القاضِي على أنَّ المُكْرِيَ قَبَض البَعِيرَ ومَنَع الوَرَثَةَ الانْتِفاعَ، ولولا ذلك لَما انْفَسخَ العَقْدُ؛ لأنَّه لا يَنْفَسِخُ بعُذْرٍ في المُسْتَأْجِرِ مع سَلامةِ المَعْقُودِ عليه، كما لو حُبِسَ مُسْتَأْجِرُ الدّارِ ومُنِع سُكْنَاها. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «ولا وارث له حاضر يقوم مقامه».

2204 - مسألة: (وانقلاع الضرس الذي اكترى لقلعه، أو برئه)

وَانْقِلَاعِ الضِّرْسِ الَّذِي اكْتَرَى لِقَلْعِهِ، أو بُرْئِهِ، وَنَحْو هَذَا وَإنِ اكْتَرَى دَارًا فَانْهَدَمَتْ، أوْ أَرضًا لِلزَّرْعِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا، انْفَسَخَتِ الْإجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ خِيَارُ الْفَسْخِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو مَنَعَ الوارِثَ الانْتفاعَ، لَما اسْتَحَقَّ شيئًا مِن الأجْرِ، ويُفارِقُ هذا ما لو حُبِسَ المُسْتَأجِرُ؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه انْتِفاعُه، وهذا لم يُؤيَسْ منه بالحَبْسِ؛ لأنَّه يُمْكِنُ خُرُوجُه فىَ كلِّ وَقْتٍ مِن الحَبْسِ وانْتِفاعُه، ويُمْكِنُ أن يَسْتَنِيبَ مَن يَسْتَوْفِي المَنْفَعَةَ له؛ إمّا بأجْرَةٍ أو غيرِه، بخِلافِ المَيِّتِ، فإنَّه قد فاتَ انْتِفاعُه بنَفْسِه ونائِبِه، أشْبَهَ ما ذَكَرْنا مِن الصُّوَرِ. 2204 - مسألة: (وانْقِلاعِ الضِّرْسِ الذي اكْتَرَى لِقَلْعِه، أو بُرْئِه) وكذلك إنِ اكْتَرَى كَحّالًا لِيَكْحَلَ عَينَه فبَرَأتْ أو ذَهَبَتْ، انْفَسَخَ العَقْدُ؛ لأنه تَعَذَّرَ استِيفاءُ المَعْقُودِ عليه، أشْبَهَ ما لو تَعَذَّرَ بالمَوْتِ. 2205 - مسألة: (وإنِ اكْتَرَى دارًا فانْهَدَمَتْ، أو أرْضًا للزَّرْعِ فانْقَطَعَ ماؤُها، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. وفي الآخَرِ، يَثْبُتُ للمُسْتَأجِرِ خِيارُ الفَسْخِ) وجملةُ ذلك،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه إذا حَدَث في العَينِ المُكْتَراةِ ما يَمْنَعُ نَفْعَها، كَدارٍ انْهَدَمَتْ، أو أرْض غَرِقَتْ، أو انْقَطَعَ ماؤُها، فهذه يُنْظرُ فيها؛ فإن لم يَبْقَ فيها نَفْعٌ أصْلًا، فهي كالتّالِفَةِ سواءً، وإن بَقِيَ فيها نَفْع غيرَ ما اسْتَأْجَرَها له، مثل أن يُمْكِنَ الانْتِفاعُ بِعَرْصَةِ الدّار أو الأرْضِ لِوَضْعِ حَطَبٍ فيها، أو وَضْعِ خَيمَةٍ في الأرْضِ التي اسْتَأْجَرَها للزَّرْعِ، أو صَيدِ السَّمَكِ مِن الأرْضِ التي غَرِقَتْ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ أيضًا؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ التي وَقَع العَقْدُ عليها تَلِفَتْ، فانْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، كما لو اسْتَأْجَرَ دابَّةً ليَرْكَبَها فزَمِنَتْ، بحيثُ لا تَصْلُحُ إلَّا لِتَدُورَ في الرَّحَى. وقال القاضِي، في الأرْضِ التي انْقَطَعَ ماؤُها: لا تَنْفَسِخُ الإِجارَةُ فيها. وهو مَنْصُوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ لم تَبْطُلْ جُمْلَةً؛ لأنَّه يُمْكِنُ الانْتِفاعُ بعَرْصَةِ الأرْضِ بِنَصْبِ خَيمَةٍ أو جَمْعِ حَطَبٍ فيها، فأشْبَهَ ما لو نَقَص نَفْعُها مع بَقائه. فعلى هذا، يُخَيَّرُ المُسْتَأْجِرُ بينَ الفَسْخِ والإِمْضاءِ، فإن فَسَخ، فحُكْمُه حُكْمُ العَبْدِ إذا ماتَ، وإن اخْتارَ إمْضاءَ العَقْدِ، فعليه جميعُ الأُجْرةِ؛ لأنَّ ذلك عَيبٌ، فإذا رَضِيَ به، سَقَط حُكْمُه، فإن لم يَخْتَرِ الفَسْخَ ولا الإِمْضاءَ؛ إمّا لجَهْلِه بأنَّ له الفَسْخَ، أو لغيرِ ذلك، فله الفَسْخُ بعدَ ذلك. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَقاءَ غيرِ المَعْقُودِ عليه لا يَمْنَعُ انْفِساخَ العَقْدِ بتَلَفِ المَعْقُودِ عليه، كالأعْيانِ في البَيعِ. ولو كان النَّفْعُ الباقِي في العَينِ ممّا لا يُباحُ اسْتِيفاؤُه بالعَقْدِ، كدابَّةٍ اسْتأْجَرَها للرُّكُوبِ فصارَتْ لا تَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ أو بالعَكْسِ، انْفَسَخَ العَقْدُ، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ الباقِيَةَ لا يَمْلِكُ اسْتِيفاءَها مع سَلامَتِها، فلا يَمْلِكُها مع تَعَيُّبِها، كبَيعِها، فأمّا إن أمْكَنَ الانْتِفاعُ بالعَينِ فيما (¬1) اكتَراها له على نَعْتٍ مِن القُصُورِ (¬2)، مثلَ أن يُمْكِنَه زَرْعُ الأرْضِ ¬

(¬1) في م: «وفيما». (¬2) في تش، ر 1: «المقصود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ ماءٍ، أو كان الماءُ مُنْحَسِرًا عن الأرْضِ التي غَرِقَتْ على وَجْهٍ يَمْنَعُ بعضَ الزِّراعةِ، أو يَسُوءُ (¬1) الزَّرْعَ، أو كان يُمْكِنُه سُكْنَى ساحَةِ الدّارِ، إمّا في خَيمَةٍ أو غيرِها، لم تَنْفَسِخِ الإِجارَةُ؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ المَعْقُودَ عليها لم تَزُلْ بالكُلِّيَّةِ، فأشْبَهَ ما لو تَعَيَّبَتْ، وللمُسْتَأْجِرِ خِيارُ الفَسْخِ، على ما ذَكَرْنا، إلَّا في الدّارِ إذا انْهَدَمَتْ، ففيها وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا تَنْفَسِخُ الإِجارَةُ. والثّاني، تَنْفَسِخُ؛ لأنَّه زال اسْمُها بِهَدْمِها، وذَهَبَت المَنْفَعَةُ التي تُقْصَدُ منها، ولذلك لا يَسْتَأْجِرُ أحَدٌ عَرْصَةَ دارٍ لِيَسْكُنَها. فأمّا إن كان الحادِثُ في العَينِ لا يَضُرُّها، كغَرَقِ الأرْضِ بماءٍ يَنْحَسِرُ عن قَرِيبٍ، بحيثُ لا يَمْنَعُ الزَّرْعَ ولا يَضُرُّه، وانْقِطاعِ الماءِ عنها إذا ساقَ المُؤْجِرُ إليها ماءً مِن مكانٍ آخَرَ، أو كان انْقِطاعُه في زَمَن لا يَحْتاجُ إليه فيه، فليس للمُسْتَأْجِرِ الفَسْخُ؛ لأنَّ هذا ليس بِعَيبٍ. وَإن حَدَث الغَرَقُ المُضِرُّ أو انْقِطاعُ الماءِ أو الهَدْمُ بِبَعْضِ العَينِ المُسْتَأْجَرَةِ، فلذلك البعضِ حُكْمُ نَفْسِه في الفَسْخِ أو ثُبوتِ الخِيارِ، وللمُكْتَرِي الخِيارُ في بَقِيَّةِ العَينِ؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ تَبعَّضَتْ عليه. فإنِ اخْتارَ الإِمْساكَ أمْسَكَ بالحِصَّةِ مِن الأجْرِ، كما إذا تَلِفَ أحَدُ القَفِيزَينِ مِن الطَّعامِ في يَدِ البائِعِ. ¬

(¬1) في تش: «يسوغ».

2206 - مسألة: (ولا تنفسخ بموت المكتري أو المكري)

وَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ المُكْرِي وَالْمُكْتَرِي، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2206 - مسألة: (ولا تَنْفَسِخُ بمَوْتِ المُكْتَرِي أو المُكْرِي) وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، والْبَتِّيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْريُّ، وأصْحابُ الرَّأي، واللَّيثُ: تَنْفَسِخُ الإجارَةُ بمَوْتِ أحَدِهما؛ لأنَّ اسْتِيفاءَ المَنْفَعَةِ يتَعَذَّرُ بالمَوْتِ؛ لأنَّه اسْتَحَق بالعَقْدِ اسْتِيفاءَها على مِلْكِ المُؤْجِرِ، فإذا ماتَ زال مِلْكُه عن العَينِ، فانْتَقَلَتْ إلى وَرَثَتِه، فالمنافِعُ تَحْدُثُ على مِلْكِ الوارِثِ، فلا يَسْتَحِقُّ المُسْتَأْجِرُ اسْتِيفاءَها؛ لأنَّه ما عَقَد مع الوارِثِ، وإذا ماتَ المُسْتَأْجِرُ لم

2207 - مسألة: (ولا)

ولَا بِعُذْرٍ لأحَدِهمَا؛ مِثْلَ أَنْ يَكْتَرِيَ لِلحَجِّ فَتَضِيعَ نَفَقَتُهُ، أَوْ دُكَّانًا فيَحْتَرِقَ مَتَاعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنْ إيجابُ الأجْرِ في تَرِكَتِه. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، فلم يَنْفَسِخْ بمَوْتِ العاقِدِ مع سَلامةِ المَعْقُودِ عليه، كما لو زَوَّجَ أمَتَه ثم مات. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ المُسْتَأْجِرَ قد مَلَك المَنافِعَ، وأنَّ الأُجْرَةَ قد مُلِكَتْ عليه كامِلَةً في وَقْتِ العَقْدِ، على ما نَذْكُرُه، ويَلْزَمُهم ما لو زَوَّجَ أمَتَه ثم ماتَ. ولو صَحَّ ما ذَكَرُوه؛ لكن (¬1) وُجُوبُ الأجْرِ ها هنا بِسَبَبٍ مِن المُسْتَأجِرِ، فوَجَبَ في تَرِكَتِه بعدَ مَوْتِه، كما لو حَفَر بِئْرًا فوَقَعَ فيها شيءٌ بعدَ مَوْتِه، ضَمِنَه في مالِه؛ لأنَّ سَبَبَ ذلك كان منه في حَياتِه، كذا ههُنا. 2207 - مسألة: (ولا) تَنْفَسِخُ (بعُذْرٍ لأحَدِهما؛ مثلَ أن يَكْتَرِيَ للحَجِّ فتَضِيعَ نَفَقَتُه، أو دُكّانًا فيَحْتَرِقَ مَتاعُه) وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ، وأصحابُه: يجُوزُ للمُكْتَرِي ¬

(¬1) في المغني 8/ 44: «لكان».

2208 - مسألة: (وإن غصبت العين، خير المستأجر بين الفسخ)

وَإنْ غُصِبَتِ الْعَينُ، خُيِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَينَ الفَسْخِ وَمُطَالبَةِ الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ فَسَخَ، فَعَلَيهِ أُجْرَةُ مَا مَضَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَسْخُها لِعُذْرٍ في نَفْسِه، مثلَ أن يَكْتَرِيَ جَمَلًا لِيَحُجَّ عليه فيَمْرَضَ فلا يَتَمَكَّنُ مِن الخُرُوجِ، أو تَضِيعَ نَفَقَتُه، أو يَكْتَرِيَ دُكّانًا للبَزِّ فيَحْتَرِقُ مَتاعُه، وما أشْبَهَ هذا؛ لأنَّ هذا العُذْرَ يتَعَذَّرُ معه اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ المَعْقُودِ عليها، فمَلَكَ به الفَسْخَ، كما لو اسْتَأْجَر عَبْدًا فأبَقَ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لا يجوزُ فَسْخُه لغيرِ عُذْرٍ، فلم يَجُزْ لِعُذْرٍ في غيرِ المَعْقُودِ عليه، كالبَيعِ؛ ولأنَّه لو جازَ فَسْخُه لِعُذْرِ المُكْتَرِي، لجازَ لعُذْرِ المُكْرِي، تَسْويةً بينَ المُتعاقِدَينِ ودَفْعًا للضَّرَرِ عن كلِّ واحدٍ منهما، ولم يَجُزْ ثَمَّ، فلا يجوزُ ههُنا. ويُفارِقُ الإِباقَ؛ فإنَّه عُذْر في المَعْقُودِ عليه. 2208 - مسألة: (وإن غُصِبَتِ العَينُ، خُيِّرَ المُسْتَأْجِرُ بينَ الفَسْخِ) والإِمْضاءِ (ومُطالبَةِ الغاصِب بأُجْرَةِ المِثْلِ) إذا غُصِبَتِ العَينُ المُسْتَأْجَرةُ، فللمُسْتَأْجِرِ الفَسْخُ؛ لأَنَّ فيه تَأْخِيرَ حَقِّه، فإن فَسَخ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالحُكْمُ فيه كما لو انْفَسَخَ العَقْدُ بِتَلَفِ العَينِ، وإن لم يَفْسَخْ حتى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإجارَةِ، فله الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ بالمُسَمَّى، وبينَ البَقاءِ على العَقْدِ ومُطالبةِ الغاصِبِ بأجْرِ المِثْلِ؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه لم يَفُتْ مُطلقًا، بل إلى بَدَلٍ، وهو القِيمَةُ، فأشْبَهَ ما لو أتْلَفَ الثَّمَرةَ المَبِيعَةَ آدَمِيٌّ قبلَ قَطْعِها، ويَتَخَرَّجُ انْفِساخُ العَقْدِ بكلِّ حالٍ على الرِّوايةِ التي تقولُ: إنَّ مَنافِعَ الغَصْبِ لا تُضْمَنُ. وهو قولُ أصحاب الرَّأْي. ولأصْحابِ الشافعيِّ في ذلك اخْتِلافٌ. فإن رُدَّتِ العَينُ في أثناءِ المُدَّةِ، ولم يَكُنْ فَسَخ، اسْتَوْفَى ما بَقِيَ منها، ويكونُ فيما مَضَى مِن المُدَّةِ مُخَيَّرًا، كما ذَكَرْنا. وإن كانتِ الإجارَةُ على عَمَل، كخِياطَةِ ثَوْبٍ، أو حَمْلِ شَيءٍ إلى مَوْضِع مُعَيَّنٍ، فغُصِبَ جَمَلُه الذي يَحْمِلُ عليه، أو عَبْدُه الذي يَخِيطُ له، لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ، وللمُسْتَأْجِرِ مُطالبَةُ الأجِيرِ بعِوَضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَغْصُوبِ وإقامَةِ مَن يَعْمَلُ العَمَلَ؛ لأنَّ العَقْدَ على ما في الذِّمَّةِ، كما لو وَجَد بالمُسْلَمِ فيه عَيبًا فرَدَّه، فإن تَعَذَّرَ البَدَلُ، ثَبَتَ للمُسْتَأجِرِ الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والصَّبْرِ إلى أن يَقْدِرَ على العَينِ المَغْصوبةِ، فيَسْتَوْفِيَ منها. فصل: فإن حَدَث خَوْفٌ عامٌّ يَمْنَعُ مِن سُكْنَى المَسْكَنِ الذي فيه العَينُ المُسْتَأْجَرَةُ، أو يُحْصَرُ البَلَدُ، فيَمْتَنِعُ خُرُوجُ المُسْتَأْجِرِ إلى الأرضٍ المُسْتَأْجَرَةِ للزَّرْعِ، ونحو ذلك، ثبتَ للمُسْتَأْجرِ خِيارَ الفَسْخِ؛ لأنَّه أمْرٌ غالِبٌ [مَنَع المُسْتَأْجِرَ] (¬1) اسْتِيفاءَ المَنْفَعَةِ، فأَثْبَتَ الخِيارَ، كغَصْبِ العَينِ. ولو اكْتَرَى دابّةً لِيَرْكَبَها، أو يَحْمِلَ عليها إلى مَوْضِع مُعَيَّن، فانْقَطَعَتِ الطَّرِيقُ إليها لِخَوْفٍ حادِثٍ، أو اكْتَرَى إلى مَكَّةَ فلم يَحُجَّ الناسُ ذلك العامَ مِن تلك الطرَّيقِ، مَلَك كلُّ واحدٍ منهما فَسْخَ الإِجارَةِ. وإنِ اخْتارَا (¬2) إبْقاءَها إلى حينِ إمْكانِ اسْتِيفاءِ المَنْفَعَةِ، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. فأمّا إن كان الخَوْفُ خاصًّا بالمُسْتَأْجِرِ، كمَن خافَ وحدَه؛ لِقُرْبِ أعْدائِه مِن المَوْضِعِ المُسْتَأْجَرِ، أو حُلُولِهم في طَرِيقِه، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ، لأنَّه عُذْرٌ يَخْتَصُّ به، لا يَمْنَعُ اسْتِيفاءَ المَنْفَعَةِ بالكُلِّيَّةِ، أشْبَهَ مَرَضَه. ¬

(¬1) في م: «يمنع من» وفي تش، ر 1: «منعه من». (¬2) في الأصل، م: «اختار».

2209 - مسألة: (ومن استؤجر لعمل شيء فمرض، أقيم مقامه

قَال الْخِرَقِيُّ: فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ يَحْجُزُ الْمُسْتَأْجِرَ فَي مَنْفَعَةِ مَا وَقَعَ عَلَيهِ الْعَقْدُ، فَعَلَيهِ مِنَ الأُجْرَةِ بِقَدْرِ مُدَّةِ انْتِفَاعِهِ. وَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِعَمَلِ شَيْءٍ فَمَرِضَ، أُقِيمَ مُقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُهُ، وَالأُجْرَةُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك لو حُبِسَ، أو مَرِضَ؛ لأنَّه تَرَكَ اسْتِيفاءَ المَنْفَعةِ لِمَعْنًىَ مِن جِهَتِه، فلم يَمْنَعْ ذلك وُجُوبَ أجْرِها عليه، كما لو تَرَكَها اخْتِيارًا (قال الخِرَقِيُّ: فإن جاء أمْرٌ غالِبٌ يَحْجُزُ المُسْتَأْجِرَ عن مَنْفَعةِ ما وَقَع عليه العَقْدُ) لَزِمَه (مِن الأُجْرَةِ بقَدْرِ مُدَّةِ انْتِفاعِه) وقد شَرَحْناه. 2209 - مسألة: (ومَن اسْتُؤْجِرَ لِعَمَلِ شيءٍ فمَرِضَ، أُقِيمَ مُقامَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن يَعْمَلُه، والأجْرَةُ عليه) لا خِلافَ بينَ أهلِ العِلْمِ في جَوازِ اسْتِئْجارِ الآدَمِيِّ، وقد أجَرَ مُوسَى، - عليه السلام -، نَفْسَه لِرَعْي الغَنَمِ (¬1)، واسْتَأْجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بَكْر رجلًا ليَدُلَّهُما على الطَّرِيقِ (¬2). ولأنَّه يجوزُ الانْتِفاعُ به مع بَقَاءِ عَينِه، فجازَتْ إجارَتُه، كالدُّورِ. ثم إجَارَتُه تَنْقَسِمُ قِسْمَينِ؛ أحدُهما، استِئْجارُه مُدَّةً بعَينِها لِعَمَل مُعَيَّن، كإجارَةِ مُوسَى، - عليه السلام -، نَفْسَه ثَمانِيَ حِجَج لِرَعْي الغَنَمِ. والثاني، اسْتِئْجارُه على عَمَل (¬3) مُعَيَّنٍ في الذِّمَّةِ، كاسْتِئْجارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ رَجُلًا لِيَدُلَّهُما على الطرَّيقِ، واسْتِئْجارِ رجل لخِياطَةِ قَمِيص أو بِناءِ حائِطٍ. ويَتَنوَّعُ ذلك نَوْعَينَ؛ أحَدُهما، أن تَقَعَ الإِجارَةُ على عَينٍ، كإجارَةِ عَبْدِه لرِعايةِ غَنَمٍ، أو وَلَدِه لِعَمَل مُعَيَّن. والثاني، أن تَقَعَ على عَمَلٍ (¬4) في الذِّمَّةِ، كخِياطَةِ قَمِيصٍ، وبِناءِ حائِطٍ، فمتى كانت على عَمَل في ذِمَّتِه، فمَرِضَ، وَجَب عليه أن يُقِيمَ مُقامَه مَن يَعْمَلُه؛ لأنَّه حَقٌّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 259. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 129. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في ر، ق: «معين».

2210 - مسألة: (وإن وجد العين معيبة)

وَإنْ وَجَدَ الْعَيْنَ مَعِيبَةً، أوْ حَدَثَ بِهَا عَيبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَعَليهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَب في ذِمَّتِه، فوَجَبَ عليه إيفاؤُه، كالمُسْلَمِ فيه، ولا يَلْزَمُ المُسْتَأْجرَ إنْظارُه؛ لأنَّ العَقْدَ بإطْلاقِه يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، وفي التَّأْخِيرِ إضْرارٌ به. فأَمّا إن كانتِ الإِجارَةُ على عَينِه في مُدَّةٍ أو غيرِها، فمَرِضَ، لم يَقُمْ غيرُه مَقامَه؛ لأنَّ الإجارَةَ وَقَعَتْ على عَمَلِه بِعَينِه لا على شيءٍ في ذِمَّتِه، وعَمَلُ غيرِه ليس بمَعْقُودٍ عليه، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى مُعَيَّنًا، لم يَجُزْ أن يَدْفَعَ إليه غيرَه ولا يُبْدِلَه له، بخِلافِ ما لو وَقَع في الذِّمَّةِ، فإنَّه يجوزُ إبْدالُ المَعِيبِ، ولا يَنْفَسِخُ العَقْدُ بِتَلَفِ ما تَسَلَّمَه، والمَبِيعُ المُعَيَّنُ (¬1) بخِلافِه، فكذلك الإِجارَةُ. فإن كانتِ الإِجارَةُ على عَمَل في الذِّمَّةِ لكنْ لا يَقومُ غيرُ الأجيرِ مَقامَه، كالنَّسْخِ، فإنَّه يَخْتَلِفُ القَصْدُ فيه باخْتِلافِ الخُطُوطِ، لم يُكَلَّفْ إقامَةَ غيرِه مُقَامَه، ولا يَلْزَمُ المُسْتَاجِرَ قَبُولُ ذلكَ إن بَذَلَه الأجِيرُ، لأنَّ العِوَضَ لا يَحْصُلُ مِن غيرِ النّاسِخِ كَحُصُولِه منه، فأشْبَهَ ما لو أسْلَمَ إليه في نوْعٍ، فسَلَّمَ إليه غيرَه، وكذلك كلّ ما يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأعْيانِ. 2210 - مسألة: (وإن وَجَد العَينَ مَعِيبةً) فله الفَسْخُ كما لو وَجَد ¬

(¬1) سقط من: تش.

أُجْرَةُ مَا مَضَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعَ مَعِيبًا، وقد ذَكَرْناه وإن (حَدَث بها عَيبٌ، فله الفَسْخُ، وعليه أُجْرَةُ ما مَضَى) لأنَّ المنافِعَ لا يَحْصُلُ قَبْضُها إلَّا بالاسْتِيفاءِ، فهي كالمَكِيلِ يَتَعَيَّبُ قبلَ قَبْضِه. فإن بادرَ المُكْرِي إلى إزالةِ العَيبِ مِن غيرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ المُسْتَأْجِرَ، كَدارٍ تَشَعَّثَتْ فأصْلَحَها، فلا (¬1) خِيارَ للمُسْتَأْجرِ، لِعَدَمِ الضَّرَرِ، وإلَّا فله الفَسْخُ. وإن سَكَنَها مع عَيبِها، فَعَلَيهِ الأَجْرَةُ، عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى جَمِيعَ المَعْقُودِ عليه مَعِيبًا، فلَزِمَه البَدَلُ، كالمَبِيعِ المَعِيبِ إذا رَضِيَهُ. ¬

(¬1) في م: «ولا».

2211 - مسألة: (ويجوز بيع العين المستأجرة، ولا تنفسخ

وَيَجُوزُ بَيعُ الْعَينِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَلَا تَنْفَسِخُ الإجَارَةُ، إلَّا أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2211 - مسألة: (ويجوزُ بَيعُ العَينِ المُسْتَأْجَرةِ، ولا تَنْفَسِخُ

يَشْتَرِيَهَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَتُفْسَخُ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإجارَةُ، إلَّا أن يَشْتَرِيَها المُسْتَأْجرُ، فتَنْفَسخُ، في إحْدَى الرِّوايَتَينِ) يَصِحُّ بَيعُ العَينِ المُسْتَأْجَرَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. سواءٌ باعَها للمُسْتَأْجِرِ أو لغيرِه. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: إن باعَها لغيرِ المُسْتَأْجِرِ لم يَصِحَّ؛ لأنَّ يَدَ المُسْتَأْجِرِ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلى المُشْتَرِي، فمَنَعَتِ الصِّحَّةَ، كما في بَيعِ المَغْصُوبِ. ولَنا، أنَّ الإِجارَةَ عَقْدٌ على المَنافِعِ، فلم تَمْنعِ الصِّحَّةَ، كَبَيعِ الأمَةِ إذا زَوَّجَها. وقولُهم: يَدُ المُسْتأْجِرِ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ يَدَ المُسْتَأْجرِ إنَّما هي على المَنافِعِ، والبَيعُ على الرَّقَبَةِ، فلا يَمْنَعُ ثُبُوتُ اليَدِ على أَحَدِهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْلِيمَ الآخَرِ، كما لو باعَ الأمَةَ المُزَوَّجَةَ، ولأنَّها مَنَعَتِ التَّسْلِيمَ في الحالِ، فلا تَمْنَعُ في الوَقْتِ الذي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فيه، وهو عندَ انْقِضاء الإِجارَةِ، ويَكْفِي القُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ حينئذٍ، كالمُسْلَمِ فيه. وقال أَبو حنيفةَ: البَيعُ (¬1) مَوْقوفٌ على إجازَةِ المُسْتَأْجِرِ، فإن أجازَه، جازَ، وبَطَلَتِ الإِجارَةُ، وإن رَدَّه، بَطَل. ولَنا، أنَّ البَيعَ على غيرِ المَعْقُودِ عليه في الإِجارَةِ، فلم تُعْتَبرْ إجازَتُه، كَبَيعِ الأمَةِ المُزَوَّجةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ المُشْتَرِيَ يَمْلِكُ المَبِيعَ مَسْلُوبَ المَنْفَعَةِ إلى حينِ انْقِضاءِ الإِجارَةِ، ولا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ العَينِ إلَّا حِينئذٍ؛ لأنَّ تَسْلِيمَ العَينِ إنَّما يُرادُ لاسْتِيفاءِ نَفْعِها، وإنَّما يَسْتَحِقُّ نَفْعَها إذا انْقَضَتِ الإِجارَةُ، فهو كمَن اشْتَرَى عَينًا في مكانٍ بَعِيدٍ، لا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَها إلَّا بعدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ إحْضارُها فيه. وكالمُسْلَمِ إلى وَقْتٍ لا يَسْتَحِقُّ تَسْليِمَ المُسْلَمِ فيه إلَّا في وَقْتِه، فإن لم يَعْلَمِ المُشْتَرِي بالإِجارَةِ، فله الخِيارُ بينَ الفَسْخِ وإمْضاءِ البَيعِ بكلِّ الثَّمَنِ؛ لأنَّ ذلك عَيبٌ و (¬2) نَقْصٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «هو». (¬2) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ بَيعُها للمُسْتَأْجِرِ؛ لأنَّه إذا صَحَّ بَيعُها لغيرِه، فله أوْلَى؛ لأنَّ العَينَ في يَدِه. وهل تَبْطُلُ الإِجارَةُ؟ فيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه مَلَك المَنْفَعَةَ، ثم مَلَك الرَّقَبَةَ المَسْلُوبَةَ بعَقْدٍ آخَرَ، فلم يَتَنافَيا، كما يَمْلِكُ الثَّمَرةَ بعَقْدٍ ثم يَمْلِكُ الأصْلَ بعَقْدٍ آخَرَ. ولو أجَرَ المُوصَى له بالمَنْفَعَةِ مالِكَ الرَّقَبةِ، صَحَّتِ الإِجارَةُ، فدَلَّ على أنَّ مِلْكَ المَنْفَعةِ لا يُنافِي العَقْدَ على الرَّقَبةِ. وكذلك (¬1) لو اسْتَأْجَرَ المالِكُ العَينَ المُسْتَأْجَرَةَ مِن مُسْتَأْجِرِها، جازَ. فعلى هذا، يكونُ الأجْرُ باقِيًا على المُشْتَرِي، وعليه ¬

(¬1) في تش، م: «ولذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنُ، ويَجْتَمِعانِ للبائِعِ، كما لو كان المُشْتَرِي غيرَه. والثاني، تَبْطُلُ الإجارَةُ فيما بَقِيَ مِن المُدَّةِ؛ لأنَّه عَقَدَ على مَنْفَعَةِ العَينِ، فبَطَلَ بمِلْكِ العاقِدِ الرَّقَبَةَ، كما لو تَزَوَّجَ أمَةً ثم اشْتَراها، بَطَل نِكاحُه، ولأنَّ مِلكَ الرَّقَبةِ يَمْنَعُ ابْتِداءَ الإِجارَةِ، فمَنَعَ اسْتِدامَتَها، كالنِّكاحِ. فعلى هذا، يَسْقُطُ عن المُشْتَرِي الأجْرُ فيما بَقِيَ مِن مُدَّةِ الإِجارَةِ، كما لو بَطَلَتِ الإِجارَةُ بتَلَفِ العَينِ. وإن كان المُؤْجِرُ قد قَبَض الأجْرَ كُلَّه، حَسَبَه عليه مِن الثَّمَنِ إن كان مِن جِنْسِ الثَّمَنِ. فصل: [وإن وَرِثَ] (¬1) المُسْتَأْجِرُ العَينَ المُسْتَأْجَرَةَ، فالحُكْمُ فيه كما لو اشْتَراها، في بُطْلانِ الإِجارَةِ وبَقائِها. فلو اسْتَأْجَرَ إنْسانٌ مِن أبِيه دارًا، ثم مات الأبُ وخَلَفَ ابْنَينِ، أحَدُهما المُسْتَأْجِرُ، فالدّارُ بينهما نِصْفَينِ، والمُسْتَأْجِرُ أحَقُّ بمَنْفَعَتِها؛ لأنَّ النِّصْفَ الذي لأخِيه الإِجارَةُ باقِيَةٌ فيه، والنِّصْفَ الذي وَرِثَه يَسْتَحِقُّه، إمّا بحُكْمِ المِلْكِ أو بحُكْمِ الإِجارَةِ، وما عليه مِن الأُجْرةِ بينهما نِصْفَينِ. فإن كان أبُوه قد ¬

(¬1) في م: «فإن رد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبَض الأجْرَ، لم يَرْجِعْ على أخِيه بشيء منه، ولا على تَرِكَةِ أبِيه، ويكونُ ما خَلَفَه أبُوه بينهما نِصْفَينِ؛ لأنَّه لو رَجَع بشيءٍ أفْضَى إلى أن يكونَ قد وَرِثَ النِّصْفَ بمَنْفَعَتِه، وَوَرِثَ أخُوه نِصْفًا مَسْلُوبَ المَنْفَعَةِ، واللهُ سُبْحانَه قد سَوَّى بينَهُما في المِيراثِ. ولأنَّه لو رَجَع بنِصْفِ أجْرِ النِّصْفِ الذي انْتَقَضتِ الإِجارَةُ فيه، لوَجَبَ أن يَرْجِعَ أخُوه بنِصْفِ المَنْفَعَةِ التي بَطَلَتِ الإِجارَةُ فيها، إذ لا يُمْكِنُ أن يُجْمَعَ له بينَ المَنْفَعَةِ وأخْذِ عِوَضِها مِن غيرِه. فصل: فإنِ اشْتَرَى المُسْتَأْجِرُ العَينَ، فوَجَدَها مَعِيبةً، فرَدَّها، فإن قُلْنا: لا تَنْفَسِخُ الإِجارَةُ بالبَيعِ. فهي باقيةٌ بعدَ رَدِّ العَينِ كما كانتْ قبلَ البَيعِ. وإن قُلْنا: قد انْفَسَخَتْ. فالحُكْمُ فيها كما لو انْفَسَخَتْ بتَلَفِ العَينِ. فإن كان المُشْتَرَى أجْنَبيًّا، فرَدَّ المُسْتَأْجِرُ الإِجارَةَ لِعَيبٍ، فيَنْبَغِي أن تَعُودَ المَنْفَعَةُ إلى البائِعِ؛ لأَنَّه يَسْتَحِقُّ عِوَضَها على المُسْتَأجِرِ، وإذا سَقَط العِوَضُ، عاد إليه المُعَوَّضُ. ولأنَّ المُشْتَرِيَ مَلَك العَينَ مَسْلُوبةَ المَنْفَعةِ مُدَّةَ الإجارَةِ، فلا يَرْجِعُ إليه، ما لم يَمْلِكْهُ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يَرْجِعُ إلى المُشْتَرِي؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ تابِعَةٌ للرَّقَبةِ، وإنَّما اسْتُحِقَّتْ بعَقْدِ الإِجارَةِ، فإذا زالتْ، عادَتْ إليه، كما لو اشْتَرَى أمَةً مُزَوَّجةً فطَلَّقَها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجُ. قال شيخُنا (¬1): ولا يَصِحُّ هذا القِياسُ؛ لأنَّ مَنْفَعَةَ البُضْعِ قد اسْتَقَرَّ عِوَضُها للبائِعِ بمُجَرَّدِ دُخُولِ الزَّوْجِ بها، ولا يَنْقَسِمُ العِوَضُ على المُدَّةِ، ولهذا لا يَرْجِعُ الزَّوجُ بشيءٍ مِن الصَّداقِ فيما إذا انْفَسَخَ النِّكاحُ أو وَقَع الطلاقُ، بخِلافِ الأجْرِ في الإِجارَةِ، فإنَّ المُؤْجِرَ يَسْتَحِقُّ الأجْرَ في مُقابَلَةِ المَنْفَعَةِ مَقْسُومًا على مُدَّتِها، فإذا كان له عِوَضُ المَنْفَعَةِ المُسْتَقْبَلَةِ. فزال بالفَسْخِ، رَجَع إليه مُعَوِّضُها، وهو المَنْفَعَةُ. ولأنَّ مَنْفَعةَ البُضْعِ لا يجوزُ أن تُمْلَكَ بغيرِ مِلْكِ الرَّقَبةِ أو النِّكاحِ، فلو رَجَعَتْ إلى البائعِ، لمُلِكَتْ بغيرِهما. ولأنَّها ممّا لا يجوزُ للزَّوْجِ نَقْلُها إلى غيرِه ولا المُعاوَضَةُ عنها، ومَنْفَعةُ البَدَنِ بخِلافِها. فصل: وإذا وقَعَتِ الإِجارَةُ على عَين، كمَن اسْتَأْجَرَ عَبْدًا للخِدْمَةِ، أو للرَّعْي، فتَلِفَ، انْفَسَخَ العَقْدُ، وقد ذَكَرْناه. وإن خَرجَتِ العَينُ مُسْتَحَقَّةً، تَبَينا أنَّ العَقْدَ باطِلٌ. وإن وَجَد بها عَيبًا فرَدَّها، انْفَسَخَ العَقْدُ أيضًا، ولم يَمْلِكْ إبْدالها؛ لأنَّ العَقْدَ على مُعَيَّن، فتَثْبُتُ هذه الأحكامُ، [كما لو] (¬2) اشْتَرَى عَينًا. وإن وَقَعَتْ على عَين مَوْصُوفةٍ في ¬

(¬1) في: المغني 8/ 50. (¬2) في ر 1، م: «كمن».

فَصْلٌ: وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأجِيرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الَّذِي يُسَلِّمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الذِّمَّةِ، انْعَكَسَتْ هذه الأحْكامُ، فمتى (¬1) سَلَّمَ إليه عَينًا فتَلِفَتْ، أو خَرَجَتْ مَغْصُوبةً، أو وَجَد بها عَيبًا، فرَدَّها، لم تَنْفَسِخِ الإِجارَةُ، ولَزِمَ المُؤْجِرَ إبْدالُها، لأنَّ المَعْقُودَ عليه غيرُ هذه العَينِ، وهذه بَدَلٌ عنه، فلم يُؤَثِّرْ ذلك في إبْطالِ العَقْدِ، كما لو اشْتَرَى بثَمَنٍ في الذِّمَّةِ، على ما قُرِّرَ في مَوْضِعِه. فإن قِيلَ: فقد قُلْتُمْ في مَن اكْتَرَى جَمَلًا لِيَرْكَبَه، جازَ أن يَرْكَبَه مَن هو مِثْلُه. ولو اكْتَرَى أرْضًا لِزَرْعِ شيءٍ بعَينِه، جازَ له زَرْعُ ما هو مِثْلُه أو دُونَه في الضَّرَرِ. فِلم قُلْتُم: إذا اكْتَرَى جَمَلًا بعَينه لا يجوزُ أن يُبْدِلَه؟ قلنا: المَعْقُودُ عليه مَنْفَعَةُ العَينِ، فلم يَجُزْ أن يَدْفَعَ إليه غيزَ المَعْقُودِ عليه، كما لو اشْتَرَى عينًا، لا يَجُوزُ أن يَأْخُذَ غيرَها، والراكِبُ غيرُ مَعْقُودٍ عليه، إنَّما هو مُسْتَوْفٍ لِلْمَنْفَعةِ، وإنَّما يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُه لِتُقَدَّرَ به المَنْفَعَةُ، لا لِكَوْنِه مَعْقُودًا عليه. وكذلك الزَّرْعُ في الأرْضِ، فإنَّما يُعَيَّنُ لِيُعْرَفَ به قَدْرُ المَنْفَعَةِ المُسْتَوْفاةِ، فيَجُوزُ الاسْتِيفاءُ بغَيرِها، كما لو وَكَّلَ المُشْتَرِي غيرَه في اسْتِيفاءِ المَبيعِ، ألا تَرَى أنَّه لو تَلِفَ البَعِيرُ أو الأرْضُ انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، ولو ماتَ الرّاكِبُ أو تَلِفَ البَذْرُ لم تَنْفَسِخْ، وجازَ أن يَقُومَ غيرُه مَقامَه، فافتَرَقا. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (ولا ضَمانَ على الأجيرِ ¬

(¬1) في م: «فمن».

نَفْسَهُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا يَتْلَفُ فِي يَدِهِ، إلَّا أنْ يَتَعَدَّى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخاصِّ، وهو الذي يُسَلِّمُ نَفْسَه إلى المُسْتَأْجِرِ فيما تَلِفَ في يَدِه) [بغيرِ تَفْرِيطٍ] (¬1) (إلَّا أن يَتَعَدَّى) وجُملةُ ذلك، أنَّ الأجِيرَ على ضَرْبَينِ؛ خاصٌّ، ومُشْتَرَكٌ. فالخاصُّ: الذي يَقَعُ العَقْدُ عليه في مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ، يَسْتَحِقُّ المُسْتَأْجِرُ نَفْعَه في جَمِيعِها، كمَن اسْتُؤْجِرَ لخِدْمةٍ، أو خِياطَةٍ، أو رِعايةٍ، شَهْرًا أو سَنَةً، سُمِّيَ خاصًّا؛ لأنَّ المُسْتَأْجِرَ يَخْتَصُّ بنَفْعِه في تلك المُدَّةِ دُونَ سائِرِ الناسِ. والمُشْتَرَكُ: الذي يَقَعُ العَقْدُ معه على عَمَل مُعَيَّنٍ، كخِياطةِ ثَوْبٍ، أو بِناءِ حائِطٍ، وحَمْلِ شيءٍ إلى مكانٍ مُعَيَّنٍ، أو على عَمَلٍ في مُدَّةٍ لا يَسْتَحِق جَمِيعَ نَفْعِه فيها، كالكَحّالِ والطَّبِيبِ، سُمِّيَ مُشْتَرَكًا؛ لأنَّه يَتَقَبَّلُ أعمالًا لاثْنَينِ وأكْثَرَ في وَقْتٍ واحدٍ، ويَعْمَلُ لهم، فيَشْتَرِكونَ في مَنْفَعَتِه، فسُمِّى مُشْتَرَكًا؛ لاشْتراكِهم في مَنْفَعَتِه. فأمّا الأجِيرُ الخاصُّ، فلا ضَمانَ عليه ما لم يَتَعَدَّ. قال أحمدُ في رِوايةِ مُهَنّا ¬

(¬1) سقط من: م، تش، ر 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في رَجُلٍ أمَرَ غُلامَه يَكِيلُ لرَجُلٍ بَزْرًا، فسَقَطَ الرَّطْلُ مِن يَدِه فانْكَسَرَ: لا ضَمان عليه. فَقِيلَ: ألَيسَ هو بمَنزِلَةِ القَصّارِ؟ قال: لا، القَصّارُ مُشْتَرَكٌ. قيلَ: فرَجُلٌ اكْتَرَى رَجُلًا يَسْتَقِي ماءً فكَسَرَ الجَرَّةَ؛ فقال: لا ضَمانَ عليه. قيلَ له: فإنِ اكْتَرَى رَجُلًا يَحْرُثُ له على بَقَرةٍ، فكَسَرَ الذي يَحْرُثُ به؟ قال: فلا ضَمانَ عليه. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأصحابِه، وظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وله قولٌ آخَرُ، أنَّ جَمِيعَ الأجَراءِ يَضْمَنُونَ، ورَوَى في مُسْنَدِه (¬1) أنَّ عَلِيًّا كان يُضَمِّنُ الأُجَراءَ، ويقولُ: لا يُصْلِحُ الناسَ إلَّا هذا. ولَنا، أنَّ عَمَلَه غيرُ مَضْمُونٍ عليه، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، كالقِصاصِ، وقَطْعِ يَدِ السّارِقِ. وخَبَرُ ¬

(¬1) لم نجده في مسند الشافعي، وأخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في تضمين الأجراء، من كتاب الإجارة. السنن الكبرى 6/ 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلِيٍّ مُرْسَلٌ، والصَّحِيحُ فيه أنَّه كان يُضَمِّنُ الصَّبّاغَ والصَّوَاغَ، وإن رُوِيَ مُطْلَقًا حُمِلَ على هذا، فإنَّ المُطْلَقَ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ. ولأنَّ الأجِيرَ الخاصَّ نائِبٌ عن المالِكِ في صَرْفِ مَنافِعِه إلى ما أمَرَه به، فلم يَضْمَنْ مِن غيرِ تَعَدٍّ، كالوَكِيلِ والمُضارِبِ. فأمّا ما تَلِفَ بتَعَدِّيه، فعليه ضَمانه، مثلَ الخَبّازِ الذي يُسْرِفُ في الوَقُودِ، أو يَلْزَقُه قبلَ وَقْتِه، أو يَتْرُكُه بعدَ وَقتِه حتى يَحْتَرِقَ؛ لأَنه تَلِفَ بتَعَدِّيه، فضَمِنَ، كغيرِ الأجِيرِ. فصل: وإنِ اسْتَأْجَرَ الأجِيرُ المُشْتَرَكُ أجِيرًا خاصًّا، كالخَيّاطِ في دُكّانٍ

2212 - مسألة: (ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده، من تخريق الثوب، وغلطه في تفصيله)

وَيَضْمَنُ الأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ مَا جَنَتْ يَدُهُ؛ مِنْ تَخْرِيقِ الثَّوْبِ، وَغَلَطِهِ فِي تَفْصِيلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَأْجِرُ أجيرًا مُدَّةً يَسْتَعْمِلُه فيها، فتَقَبَّلَ صاحِبُ الدُّكّانِ خِياطَةَ ثَوْبٍ، ودَفَعَه إلى أَجيرِه فخَرَقَه أو أفْسَدَه، لم يَضْمَنْه، لأنَّه أجِيرٌ خاصٌّ، ويَضْمَنُه صاحِبُ الدُّكّانِ، لأنَّه أجِيرٌ مُشْتَرَكٌ. 2212 - مسألة: (ويَضْمَنُ الأجِيرُ المُشْتَرَكُ ما جَنَتْ يَدُه، مِن تَخْرِيقِ الثَّوْبِ، وغَلَطِه في تَفْصِيلِه) قد ذَكَرْنا أنَّ الأجِيرَ المُشْتَرَكَ هو الصّانِعُ الذي لا يَخْتَصُّ المُسْتَأْجِرُ بنَفْعِه، فيَضْمَنُ ما جَنَتْ يَدُه، فالحائِكُ إذا أفْسَدَ حِياكَتَه ضامِنٌ لِما أفْسَدَ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ. والقَصّارُ ضامِنٌ لِما يَتَخَرَّقُ مِن دَقِّه أو مَدِّه أو عَصْرِه أو بَسْطِه. والطّبّاخُ ضامِنٌ لِما أفْسَدَ مِن طَبِيخِه. والخَبّازُ ضامِن لِما أفْسَدَ مِن خُبْزِه. والحَمّال يَضْمَنُ ما سَقَطَ مِن حِمْلِه عن دابَّتِه، أو تَلِفَ مِن عَثْرَتِه. والجَمّالُ يَضْمَنُ ما تَلِفَ بقَوْدِه وسَوْقِهِ، وانْقِطاعِ حَبْلِه الذي يَشُدُّ به حِمْلَه. والمَلَّاحُ يَضْمَنُ ما تَلِفَ مِن مَاه، أو جَذْفِه، أو ما يُعالِجُ به السَّفِينَةَ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعَلِيٍّ، و [عبدِ الله] (¬1) بنِ عُتْبةَ، وشرَيحٍ، والحَسَنِ، ¬

(¬1) في الأصل، ر، ق: «عبيد الله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَكَمَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: لا يَضْمَنُ ما لم يَتَعَدَّ. قال الرَّبِيعُ: هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، وإن لم يَبُحْ به. رُوِيَ ذلك عن عَطاءٍ، وطَاوُسٍ، وزُفَرَ؛ لأنَّها عَين مَقْبُوضةٌ بعَقْدِ الإجارَةِ، فلم تَصِرْ مَضْمُونةً، كالعَينِ المُسْتَأجَرَةِ. ولَنا، ما روَى جَعْفَرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن عَلِيٍّ، أنَّه كان يُضَمِّنُ الصّبّاغَ والصَّوّاغَ، وقال: لا يَصْلُحُ الناسُ إلَّا على ذلك (¬1). ورَوَى الشافعيُّ بإسْنادِه عن عَلِيٍّ، أنَّه كان يُضَمِّنُ الأُجَراءَ ويَقُولُ: لا يُصْلِحُ النّاسَ إلَّا هذا (1). ولأنَّ عَمَلَ الأجِيرِ المُشْتَرَكِ مَضْمُون عليه، فما تَوَلَّدَ منه يَجِبُ أن يكونَ مَضْمُونًا، كالعُدْوانِ بقَطْعِ عُضْوٍ، بخِلافِ الأجِيرِ الخاصِّ. والدَّلِيلُ على أنَّ عَمَلَه مَضْمُونٌ عليه، أنَّه لا يَسْتَحِقُّ العِوَضَ إلَّا بالعَمَلِ، وأنَّ الثَّوْبَ لو تَلِفَ في حِرْزِه بعدَ عَمَلِه، لم يَكُنْ له أجْر فيما عَمِلَ فيه، وكان ذَهَابُ عَمَلِه مِن ضَمانِه، بخِلافِ الخاصِّ، فإنَّه إذا أمْكَنَ المُسْتَأْجِرَ مِن اسْتِعمالِه، اسْتَحَقَّ العِوَضَ بمُضِيِّ المُدَّةِ وإن لم يَعْمَل، وما عَمِلَ فيه مِن شيءٍ فتَلِفَ مِن حِرْزِه، لم يَسْقُطْ أجْرُه بِتَلَفِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 473.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: ذَكَر القاضِي أنَّ الأجِيرَ المُشْتَرَكَ إنَّما يَضْمَنُ إذا كان يَعْمَلُ في مِلْكِ نفْسِه، [مثلَ الخَبّازِ] (¬1) يَخْبِزُ في تَنُّورِه، والقَصّارِ والخَيّاطِ في دُكَّانَيهِما، قال: ولو دَعَا الرجلُ خَبّازًا فخَبَزَ له في دارِه، أو خَيّاطًا أو قَصّارًا لِيَقْصِرَ ويَخِيطَ عندَه، لا ضَمانَ عليه فيما أتْلَفَ، ما لم يُفَرِّطْ؛ لأنَّه سَلَّمَ نَفْسَه إلى المُسْتَأْجِرِ، فصار كالأجِيرِ الخاصِّ. قال (¬2): ولو كان صاحِبُ المتاعِ مع المَلَّاحِ في السَّفِينَةِ، أو راكِبًا على الدّابّةِ فوقَ حِمْلِه، فعَطِبَ الحِمْلُ، لا ضَمانَ على المَلَّاحِ والمُكارِي؛ لأنَّ يَدَ صاحِبِ المَتَاعِ لم تَزُلْ. ولو كان رَبُّ المَتاعِ والحَمّالُ راكِبَينِ على الحِمْلِ، فتَلِفَ حِمْلُه، لم يَضْمَنِ الحَمّالُ؛ لأنَّ رَبَّ المَتاعِ لم يُسَلِّمْه إليه. ومَذْهَبُ مالكٍ والشافعيِّ نحوُ هذا. قال أصحابُ الشافعيِّ: لو كان العَمَلُ في دُكّانِ الأجِيرِ، والمُسْتَأْجِرُ حاضِرٌ، أو اكْتَراهُ لِيَعْمَلَ له شيئًا وهو معه، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ يَدَه عليه، فلم يَضمَنْ مِن غيرِ جِنايَةٍ، ويَجِبُ له أجْرُ عَمَلِه؛ لأنَّ يَدَه عليه، فكُلَّما عَمِلَ شيئًا صار مُسَلَّمًا إليه. وظاهِرُ كلامَ الخِرَقِيِّ أنَّه لا فَرْقَ بينَ كَوْنِه في مِلْكِ نَفْسِه أو مِلْكِ مُسْتَأْجِرِه، ¬

(¬1) في م: «كالخباز». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كان صاحِبُ العَمَلِ حاضِرًا عنده أو غائِبًا، أو كَوْنِه مع المَلَّاحِ أو الحَمّالِ أوْ لا، وكذلك (¬1) قال ابنُ عَقِيل: ما تَلِفَ بجِنايَةِ المَلَّاحِ بجَذْفِه، أو بجِنايةِ المُكارِي بِشَدِّه المَتاعَ، ونحوه، فهو مَضمُونٌ عليه، سواءٌ كان صاحِبُ المَتاعِ معه أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ وُجُوبَ الضَّمانِ عليه لِجنايَةِ يَدِه، فلا فَرْقَ بينَ حُضُورِ المالِكِ وغَيبَتِه، كالعُدْوانِ، ولأنَّ جِنايَةَ الحَمّالِ والمَلَّاحِ إذا كان صاحِبُ المَتاعِ راكِبًا معه تَعُمُّ المتاعَ وصاحِبَه، وتَفْرِيطَه يَعُمُّهُما، فلم يُسْقِطْ ذلك الضَّمَانَ، كما لو رَمَى إنسانًا مُتَتَرِّسًا فكَسَرَ تُرْسَه وقَتَلَه، ولأنَّ الطَّبِيبَ والخَتّانَ إذا جَنَتْ يَداهُما، ضَمِنا مع حُضُورِ المُطَبَّبِ والمَخْتُونِ. وقد ذَكَرَ القاضِي، أنَّه لو كان حَمّالٌ يَحْمِلُ على رَأْسِه ورَبُّ المتاعِ معه، فعَثَرَ، فسَقَطَ المَتاعُ فتَلِفَ، ضَمِنَ، وإن سُرِق، لم يَضْمَنْ، لأنَّه في العِثارِ تَلِف بجِنايَتِه، والسَّرِقَةُ ليست مِن جِنايَتِه، ورَبُّ المالِ لم يَحُلْ بينه وبينه. وهذا يَقْتَضِي أنَّ تَلَفَه بجِنايَتِه مَضْمُونٌ عليه، سواء حَضَر رَبُّ المالِ أو غاب، بل وُجُوبُ الضَّمانِ في محَلِّ النزاع أوْلَى؛ لأنَّ الفِعْلَ في ذلك المَوْضِعِ مَقْصُودٌ لِفاعِلِه، والسَّقْطَةُ مِن الحَمّالِ غيرُ مَقْصودةٍ له، فإذا وَجَب الضَّمانُ ههُنا، فثَمَّ أوْلَى. ¬

(¬1) في ر 1، م: «ولذلك».

2213 - مسألة: (ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه، أو بغير فعله، ولا أجرة له فيما عمل فيه. وعنه، يضمن)

وَلَا ضَمَانَ عَلَيهِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ، أوْ بِغَيرِ فِعْلِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ. وَعَنْهُ، يَضْمَنُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وذَكَر القاضِي أنَّه إذا كان المُسْتَأْجَرُ على حَمْلِه عَبِيدًا، صِغارًا أو كِبارًا، فلا ضَمانَ على المُكارِي فيما تَلِفَ مِن سَوْقِه وقَوْدِه، إذ لا يَضْمَنُ بَنِي آدَمَ مِن جهَةِ الإِجارَةِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعةٍ. والأوْلَى وُجُوبُ الضَّمانِ؛ لأنَّ الضَّمانَ ههُنا مِن جِهَةِ الجِنايَةِ، فوَجَبَ أن يَعُمَّ بَنِي آدَمَ وغيرَهم، كسائِرِ الحَيواناتِ، وما ذَكَرَه يَنْتَقِضُ بجِنايَةِ الطَّبِيبِ والخاتِنَ. 2213 - مسألة: (ولا ضَمانَ عليه فيما تَلِفَ مِن حِرزِه، أو بغيرِ فِعْلِه، ولا أُجْرَةَ له فيما عَمِلَ فيه. وعنه، يَضْمَنُ) اختَلَفتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الأجِيرِ المُشْتَرَكِ إذا تَلِفَتِ العَينُ مِن حِرْزِه مِن غيرِ تَعَدٍّ منه ولا تَفْرِيطٍ، فرُويَ عنه، لا يَضْمَنُ. في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهو قولُ طَاوُس، وعَطاءٍ، وأبي حنيفةَ، وزُفَرَ، وقولٌ للشافعيِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ، إن كان هَلاكُه بما يُسْتَطاعُ، ضَمِنَه، وإن كان غَرَقًا أو عَدُوًّا غالِبًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا ضَمانَ عليه. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي طالبٍ: إذا جَنَتْ يَدُه، أو ضاعَ مِن بينِ مَتاعِه، ضَمِنَه، وإن كان عَدُوًّا أو غَرَقًا فلا ضَمانَ. ونحوَ هذا قال أبو يُوسُفَ. والصَّحِيحُ في المَذْهَبِ الأوَّلُ. وهذه الرَّوايةُ تَحْتَمِلُ أنَّه إنَّما أوْجَبَ عليه الضَّمانَ إذا تَلِفَ مِن بينِ مَتاعِه خاصَّةً؛ لأنَّه يُتَّهَمُ. ولهذا قال في الوَدِيعةِ، في رِوايةٍ: إنَّه يَضْمَنُ إذا ذَهَبَتْ مِن بينِ مالِه، فأمّا في غيرِ ذلك، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ تَخْصِيصَه التَّضْمِينَ بما إذا تَلِفَ (¬1) مِل، بينِ مالِه، يَدُلُّ على أنَّه لا يَضْمَنُ إذا تَلِفَ مع (¬2) مَتاعِه، ولأنَّه إذا لم يَكُنْ منه تَفْرِيطٌ ولا عُدْوانٌ، لم يَجِبْ عليه الضَّمانُ، كما لو تَلِفَ ¬

(¬1) في م: «أتلف». (¬2) في الأصل: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأمْرٍ غالِبٍ. وقال مالكٌ، وابنُ أبي لَيلَى: يَضْمَنُ بكلِّ حالٍ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى اليَدِ مَا أَخذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» (¬1). ولأنَّه قَبَضَ العَينَ لِمَنْفَعةِ نَفْسِه مِن غيرِ اسْتِحْقاقٍ، فلَزِمَه ضَمانُها، كالمُسْتَعِيرِ. ولَنا، أنَّها عَينٌ مَقْبُوضةٌ بِعَقْدِ الإِجارَةِ، لم يُتْلِفْها بفِعْلِه، فلم يَضْمَنْها، كالعَينِ المُسْتَأْجَرَةِ، ولأنَّه قَبَضَها بإذْنِ مالِكِها لِنَفْعٍ يَعُودُ إليهما، فلم يَضْمَنْهِا؛ كالمُضارِبِ، والشَّرِيكِ، والمُسْتَأْجِرِ. ويُخالِفُ العارِيَّةَ، فإنَّه يَنْفرِدُ بِنَفْعِها. والخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِما ذَكَرْنا مِن الأصُولِ، فنَخُصُّ مَحَلَّ النِّزاعِ بالقِياسِ عليها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا أجْرَ له فيما عَمِلَ فيها؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْ عَمَلَه إلى المُسْتَأْجِرِ، فلم يَسْتَحِقَّ عِوَضَه، كالمَبِيعِ مِن الطَّعامِ إذا تَلِفَ في يَدِ البائِعِ قبلَ تَسْلِيمِه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 265. والترمذي، في: باب ما جاء في أن العارية مؤداة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 269. وابن ماجه، في: باب العارية، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 802. والدارمي، في: باب في العارية مؤداة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 264. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 8، 12.

2214 - مسألة: (ولا ضمان على حجام، ولا ختان، ولا بزاغ

وَلَا ضَمَانَ عَلَى حَجَّام، وَلَا خَتَّانٍ، وَلَا بَزَّاغٍ، وَلَا طَبِيبٍ، إِذَا عُرِفَ مِنْهُمْ حِذْقُ الصَّنْعَةِ وَلَمْ تَجْنِ أيدِيِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2214 - مسألة: (ولا ضَمانَ على حَجّامٍ، ولا خَتّانٍ، ولا بَزّاغٍ (¬1)، ولا طَبِيبٍ، إذا عُلِم منهم حِذْقُ الصَّنْعَةِ، ولم تَجْنِ أيدِيهِم) وجملةُ ذلك، أنَّ هؤلاءِ إذا فَعَلُوا ما أُمِرُوا به لم يَضْمَنُوا بِشَرْطَينِ؛ أحَدُهما، أن يَكُونُوا ذَوي حِذْقٍ في صِناعَتِهم؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ كذلك، لم يَحِلَّ ¬

(¬1) في م: «نزاع». والبزاغ: البيطار الذي يعالج الدواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له مُباشَرَةُ القَطْعِ، فإذا قَطَع مع هذا، كان فِعْلًا مُحَرَّمًا، فيَضْمَنُ سِرَايَتَه، كالقَطْعِ ابْتداءً. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَطَبَّبَ بِغَير عِلْمٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ»، رَوَاه أبو داودَ (¬1). والثاني، أن لا تَجْنِيَ أيدِيهُم، فيَتَجاوَزَوا ما يَنْبَغِي أن يُقْطَعَ. فإذا وُجِدَ هذان الشَّرْطان لم يَضْمَنُوا؛ لأَنهم قَطَعُوا قَطْعًا مَأْذُونًا فيه، فلم يَضْمَنُوا سِرايَتَه، كقَطْعِ الإمامِ يَدَ السّارِقِ. فأمّا إن كان حاذِقًا وجَنَتْ يَدُه، مثلَ أن يُجاوزَ قَطْعَ الخِتانِ إلى الحَشَفَةِ، أو إلى بعضِها، أو يَقْطَعَ في غيرِ مَحَلِّ القَطْعِ، أو قَطَع سَلْعَة (¬2) مِن إنْسانٍ، ¬

(¬1) في: باب في من تطبب بغير علم فأعنت، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 501. وقال أبو داود: هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا. كما أخرجه النسائي، في: صفة شبه العمد، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 44. وابن ماجه، في: باب من تطبب ولم يعلم منه طب، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1148. (¬2) السلعة: غُدَّة في الجسد أو خُرّاجٌ في العنق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَجاوَزَ بها مَوْضِعَ القَطْعِ، أو يَقْطَعَ بآلةٍ كالَّةٍ يَكْثُرُ أَلَمُها، أو في وَقْتٍ لا يَصْلُحُ القَطْعُ فيه، وأشْباهُ هذا، ضَمِنَ فيه كلِّه؛ لأنَّه إتْلافٌ لا يَخْتَلِفُ ضَمانُه بالعَمْدِ والخَطَأ، فأشْبَهَ إتْلافَ المالِ، ولأنَّه فِعْل مُحَرَّمٌ، فيَضْمَنُ سِرايَتَه، كالقَطْعِ ابْتِداءً. وكذلك الحُكْمُ في البزّاغِ (¬1)، والقاطِعِ في القِصَاصِ، وقاطِعِ يَدِ السّارِقِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي. ولا نَعْلَمُ فيه مخالفًا. ¬

(¬1) في م: «النزاع».

2215 - مسألة: (ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد)

وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن خَتَنَ صَبِيًّا بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه، أو قَطَع سَلْعَةً مِن إنْسانٍ بغيرِ إذْنِه، أو مِن صَبِيٍّ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه، فَسَرَتْ جِنايَتُه، ضَمِنَ؛ لأنَّه قَطْعٌ غيرُ مَأْذُونٍ فيه، وإن فَعَل ذلك الحاكِمُ، أو وَلِيُّه، أو فَعَلَه مَن أذِنَا له، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه مَأْذُونٌ فيه شَرْاعًا. 2215 - مسألة: (ولا ضَمانَ على الرّاعِي إذا لم يَتَعَدَّ) يَصِحُّ اسْتِئْجارُ الرّاعِي، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وقد أجَرَ مُوسَى، - عليه السلام -، نَفْسَه لرِعايةِ الغَنِمِ (¬1). إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه لا يَضْمَنُ ما تَلِفَ مِن الماشِيةِ إذا لم يَتَعَدَّ أو يُفرِّطْ في حِفْظِها. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا ما رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ أنَّه كان يُضَمِّنُ الرّاعِيَ. ولَنا، أنَّه مُؤْتَمَن على حِفْظِها، فلم يَضْمَنْ منِ غيرِ تَعَدٍّ ولا تَفْرِيطٍ، كالمُودَعِ، ولأنَّه قَبَضَ العَينَ بحُكْمِ الإِجارَةِ، فلم يَضْمَنْها مِن غيرِ تَعَدٍّ كالعَينِ المُسْتَأْجَرَةِ. فأمّا ما تَلِفَ بتَعَدِّيه، فيَضْمَنُه بغيرِ خِلافٍ، مثلَ أن يَنامَ عن الماشِيةِ، أو يَغْفُلَ عنها، أو يَتْرُكَها تَتَباعَدُ عنه أو تَغِيبُ عن نَظَرِه وحِفْظِه، أو يُسْرِفَ في ضَرْبِها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يَضْرِبَها في غيرِ مَوْضِعِ الضَّرْبِ، أو مِن غيرِ حاجَةٍ إليه، أو يَسْلُكَ بها مَوْضِعًا تَتَعَرَّضُ فيه للتَّلَفِ، وأشْباهُ هذا ممّا يُعَدُّ تَفْرِيطًا وتَعَدِّيًا، فتَتْلَفُ به، فيَضْمَنُها؛ لأنَّها تَلِفَتْ بعُدْوانِه، فضَمِنَها، كالمُودَعِ إذا تَعَدَّى. فإنِ اخْتَلَفا في التَّعَدِّي وعَدَمِه، فالقولُ قولُ الرَّاعِي؛ لأنَّه أمِينٌ. وإن فَعَل فِعْلًا اخْتَلفا في كَوْنِه تَعَدِّيًا، رُجِعَ إلى أهلِ الخِبْرةِ. ولو جاء بجِلْدِ شاةٍ وقال: ماتَتْ. قُبِلَ قَوْلُه، ولم يَضْمَنْ. وعن أحمدَ، أنَّه لا يُقْبَلُ قولُه، ويَضْمَنُ. والصَّحِيحُ الأوّلُ؛ لأنَّ الأُمَناءَ يُقْبَلُ قولُهم، كالمُودَعِ، ولأنَّه يَتَعَذَّرُ عليه إقامَةُ البَيِّنةِ في الغالِبِ، أشْبَهَ المُودَعَ. وكذلك إذا ادَّعَى مَوْتَها ولم يَأْتِ بجِلْدِها. فصل: ولا يَصِحُّ العَقْدُ في الرَّعْي إلَّا على مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ؛ لأنَّ العَمَلَ لا يَنْحَصِرُ. ويجوزُ العَقْدُ على رَعْي ماشِيةٍ مُعَيَّنةٍ، وعلى جِنْسٍ في الذمَّةِ، فإن عَقَد على مُعَيَّنةٍ، كمائةِ شاةٍ مُعَيَّنةٍ، فذَكَرَ أصحابُنا، أنَّه يَتَعَلَّقُ بأعْيانِها، كما لو اسْتأْجَرَ (¬1) لخِياطَةِ ثَوْبٍ بعَينه، فلا يَجُوزُ إبْدالُها (¬2)، ويبْطُلُ العَقْدُ بتَلَفِها. وإن تَلِفَ بعضُها، بَطَلَ العَقْدُ فيه، وله أجْرُ ما بَقِيَ ¬

(¬1) في م: «استأجره». (¬2) في م: «إبداله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحِصَّةِ. وإن وَلَدَتْ، لم يَكُنْ عليه رَعْيُ سِخالِها (¬1)؛ لأنَّها زِيادَةٌ لم يَتناوَلْها العَقْدُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يتَعَلَّقَ بأعْيانِها؛ لأنَّها ليستِ المَعْقُودَ عليها، إنَّما يَسْتَوْفِي المَنْفَعَةَ بها، فأشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ ظَهْرًا لِيَرْكَبَه فله أن يُرْكِبَ غيرَه مكانَه، ولو اسْتَأْجَرَ دارًا لِيَسْكُنَها جاز (¬2) أن يُسْكِنَها مثلَه، وإنَّما المَعْقُودُ عليه مَنْفَعةُ الرَّاعِي، ولهذا تَجبُ له الأجْرَةُ إذا سَلَّمَ نَفْسَه وإن لم يَرْعَ. ويُفارِقُ الثَّوْبَ في الخياطةِ، لأنَّ الثِّيابَ في مَظنَّةِ الاخْتِلافِ في سُهُولَةِ خِياطَتِها ومَشَقَّتِها، بخِلافِ الرَّعْي. فعلى هذا، له إبْدالُها بمِثْلِها، وإن تَلِفَ بعضُها لم يَنْفَسِخِ العَقْدُ فيه، وكان له إبْداله. ¬

(¬1) السخلة: ولد الشاة. (¬2) في ر 1، م: «فله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَقَع العَقْدُ على مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ جِنْسِ الحَيوانِ ونَوْعِه، إبلًا، أو بَقَرًا، أو غَنَمًا، أو ضَأْنًا، أو مَعْزًا. وإن أطْلَقَ ذِكْرَ البَقَرِ والابِلِ، لم يَتَناوَلِ الجَوامِيسَ والبَخاتِيَّ؛ لأنَّ إطلاقَ الاسْمِ لا يَتناوَلُها عُرْفًا، إلَّا أن يَقَعَ العَقْدُ في مكانٍ يَتَناوَلُها إطلاقُ (¬1) الاسْمِ، فيَحْتاجُ إلى ذِكْرِ نَوْعِ ما يَرْعاهُ منها، كالغَنَمِ؛ لأنَّ كلَّ نَوْع له أثَرٌ في إتْعابِ الرَّاعِي. ويَذْكُرُ الكِبَرَ والصِّغَرَ، فيقولُ: كِبارًا. أو: صِغارًا. أو: عَجاجِيلَ. أو: فُصْلانًا. إلَّا أن يكونَ ثَمَّ قَرِينَةٌ أو عُرْفٌ صارِفٌ إلى بعضِها، فيُكْتَفَى بذلك. ومتى عَقَد على عَدَدٍ مَوْصوفٍ، كالمائةِ، لم يَجِبْ عليه رَعْيُ زِيادةٍ عليها (¬2)، من سِخالِها ولا مِن غيرِها. وإن أطْلَقَ ولم يَذْكُرْ عَدَدًا، لم يَجُزْ. وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وقال القاضِي: يَصِحُّ، ويُحْمَلُ على ما جَرَتْ به العادَةُ، كالمائةِ مِن الغَنَمِ ونحوها. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ العادَةَ في ذلك تَختَلِفُ وتَتَباينُ كثيرًا، والعَمَلُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِه. ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) سقط من: م.

2216 - مسألة: (وإذا حبس الصانع الثوب على أجرته، فتلف، ضمنه)

وَإذَا حَبَسَ الصَّانِعُ الثَّوْبَ عَلَى أُجْرَتِهِ، فَتَلِفَ، ضمِنَهُ. وَإنْ أَتْلَفَ الثَّوْبَ بَعْدَ عَمَلِهِ، خُيِّرَ مَالِكُهُ، بَينَ تَضْمِينِهِ إِيَّاهُ غَيرَ مَعْمُولٍ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، وَبَينَ تَضْمِينِهِ إِيَّاهُ مَعْمُولًا وَيَدْفَعُ إِلَيهِ أُجْرَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2216 - مسألة: (وإذا حَبَس الصانِعُ الثَّوْبَ على أُجْرَتِه، فتَلِفَ، ضَمِنَه) لأنَّه لم يَرْهَنْه عنده، ولا أذِنَ له في إمْساكِه، فلَزِمَه الضَّمانُ، كالغاصِبِ. 2217 - مسألة: (وإن أتْلَفَ الثَّوْبَ بعد عَمَلِه خُيِّرَ) المالِكُ (بينَ تَضْمِنِه إيّاه غيرَ مَعْمُولٍ ولا أُجْرَةَ له، وبينَ تَضْمِينِه إيّاه مَعْمُولًا ويَدْفَعُ إليه) الأُجْرةَ. وكذلك لو وَجَب عليه ضَمانُ المَتاعِ المَحْمُولِ، فصاحِبُه مُخَيَّر بينَ تَضْمِينِه قِيمَتَه في المَوْضِعِ الذي سَلَّمَه إليه ولا أجْرَ له،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينَ تَضْمِينِه إيّاه في المَوْضِعِ الذي أفْسَدَه ويُعطِيه الأجْرَ إلى ذلك المكانِ. وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّه إذا أحَبَّ تَضْمِينَه مَعْمُولًا، أو في المكانِ الذي أفسَدَه فيه، فله ذلك؛ لأنَّه مَلَكَه في ذلك المَوْضِعِ على تلك الصِّفَةِ، فمَلَكَ المُطالبَةَ بعِوَضِه حينئذٍ، وإن أحَبَّ تَضْمِينَه قبل ذلك، فلأنَّ أجْرَ العَمَلِ لا يَلْزمُه قبلَ تَسْلِيمِه، وما سُلِّمَ إليه فلا يَلْزَمُه. فصل: إذا أخْطَأَ القَصّارُ فدَفَعَ الثَّوْبَ إلى غيرِ مالِكِه، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه فَوَّتَه على مالِكِه. قال أحمدُ: يَغْرَمُ القَصّارُ، ولا يَسعُ المَدْفُوعَ إليه لُبْسُه إذا عَلِمَ أنَّه ليس بثَوْبِه. ويَرُدُّه إلى القَصّارِ ويُطالِبُه بثَوْبِه. فإن لم يَعْلَم القابِضُ حتى قَطَعَه ولَبِسَه، ثم عَلِمَ، رَدَّه مَقْطُوعًا، وضَمِنَ أرْشَ القَطْعِ، وله مُطالبتُه بثَوْبِه إن كان مَوْجُودًا. وإن هَلَك عند القَصّارِ، ضَمِنَه، في إحدى الرِّوايتين؛ لأنَّه أمْسَكه بغيرِ إذْنِ صاحِبه بعد طَلَبِه، فضَمِنَه، كما لو عَلِمَ. والثانيةُ، لا يَضْمَنُهُ؛ لأنَّه لم يُمْكِنْه رَدُّه، فأشْبَهَ ما لو عَجَز عن دَفْعِه لِمَرَضٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والعَينُ المُسْتَأْجَرَةُ أمانةٌ في يَدِ المُسْتَأْجِرِ، إن تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ لم يَضْمَنْها. قال الأثْرمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ الله يُسْألُ عن الذين يُكْرُونَ الخَيمَةَ إلى مَكَّةَ، فَتَذْهَبُ مِن المُكْتَرِي بِسَرَقٍ، هل يَضْمَنُ؟ قال: أرْجُو أن لا يَضْمَنَ، وكيف يَضْمَنُ؟ إذا ذَهَب لا يَضْمَنُ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّه قَبَض العَينَ لاسْتِيفاءِ مَنْفَعةٍ يَسْتَحِقُّها منها، فكانت أمَانَةً، كما لو قَبَض العَبْدَ المُوصَى له بخِدْمَتِه سَنَةً، أو قَبَض الزَّوْجُ امْرَأتَه الأمَةَ. ويُخالِفُ العارِيَّةَ؛ فإنَّه لا يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَتَها، وإذا انْقَضَتِ المُدَّةُ فعليه رَفْعُ يَدِه عنها، وليس عليه الرَّدُّ. أومَأَ إليه في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ. قِيلَ له: إذا اكْتَرَى دابَّةً، أو اسْتعارَ، أو اسْتُودِعَ، فليس عليه أن يَحْمِلَها؟ فقال أحمدُ: مَن اسْتَعارَ شيئًا، فعليه رَدُّه مِن حيث أخَذَه. فأوْجَبَ الرَّدَّ في العارِيَّةِ، ولم يُوجِبْه في الإِجارَةِ والوَدِيعَةِ. وَوَجْهُ ذلك، أنَّه عَقْدٌ لا يَقْتَضِي الضَّمانَ، فلا يَقْتَضِي رَدَّه ومُؤْنَتَه، كالوَدِيعةِ، بخِلافِ العارِيَّةِ، فإنَّ ضَمانَها يَجِبُ، فكذلك رَدُّها. وعلى هذا متى انْقَضَتِ المُدَّةُ، كانتِ العَينُ في يَدِه أمانةً، كالوَدِيعةِ إن تَلِفَتْ مِن غيرِ تَفرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ بعضِ الشافعيَّةِ. وقال بعضُهم: يَضْمَنُ؛ لأَنه بعد انْقِضاءِ الإجارَةِ غيرُ مَأذُونٍ له في إمساكِه، أشْبَه العارِيَّةَ المُؤَقَّتَةَ بعدَ وَقْتِها. ولَنا، أنَّها أمانة، أشْبَهتِ الوديعَةَ، ولأنَّه لو وَجَب ضَمانُها لوَجَبَ رَدُّها. أمّا العارِيَّةُ فإنَّها مَضْمُونةٌ بكلِّ حالٍ، بخِلافِ مَسْألَتِنا، ولأنَّه يَجِبُ رَدُّها. ومتى طَلَبها صاحِبُها، وَجَب تَسْلِيمُها إليه، فإنِ امتَنَعَ مِن ذلك لغيرِ عُذْرٍ، صارَتْ مَضْمُونةً، كالمَغْصُوبةِ. فصل: فإن شَرَط المُؤْجِرُ على المُسْتَأجِرِ ضَمانَ العَينِ، فالشّرطُ فاسِدٌ؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، وتَفسُدُ به الإِجارَةُ، في أحدِ الوَجْهينِ، بِناءً على الشرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. قال أحمدُ، فيما إذا شَرَط ضَمانَ العَينِ: الكِراءُ والضَّمانُ مَكْرُوهٌ. ورَوَى الأثْرمُ بإسْنادِه عن ابنِ عُمَرَ، قال: لا يَصلُحُ الكِراءُ بالضَّمانِ. وعن فُقَهاءِ المَدِينةِ أنَّهم كانوا يقولون: لا نُكْرِي بضَمانٍ، إلَّا أنَّه مَن شَرَط على كَرِيٍّ ألا يَنْزِلَ بمَتاعِه بَطْنَ وادٍ، أو لا يَسِيرَ به لَيلًا، مع أشْباهِ هذه الشرُوطِ، فتَعَدَّى ذلك، فتَلِف شيءٌ ممّا حَمَل في ذلك التَّعَدِّي، فهو ضامِنٌ. فأمّا غيرُ ذلك، فلا يَصِحُّ شَرطُ الضَّمانِ فيه، كان شَرَطَه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ما لا يَجِبُ ضَمانه لا يَصِيرُ مَضْمُونًا بالشَّزطِ. وعن أحمدَ أنَّه سُئِلَ عن ذلك، فقال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْلِمونَ عَلَى شُرُوطِهِم. وهذا يَدُلُّ على وُجُوبِ الضَّمانِ بشَرطِه، وسَنَذْكُرُ ذلك في العارِيةِ. فأمّا إن أكْراهُ عَينًا، وشَرَطَ أن لا يَسِيرَ بها في اللَّيلِ، أو وَقْتَ القائِلَةِ، أو لا يَتأخرَ بها عن القافِلَةِ، أو لا يَجْعَل سيرَه في آخِرها، وأشْباهُ هذا ممّا له فيه غَرَض، فخالفَ، ضَمِنَ؛ لأنه مُتَعد لشرطِ كَرْيِه (¬1)، فضَمِنَ ما تَلِفَ به، كما لو شَرَط عليه إلا يَحمِلَ إلَّا قَفِيزًا فحَمَلَ قَفِيزَينِ. وحُكْمُ الإجارةِ الفاسِدَةِ حُكْمُ الصَّحِيحَةِ، في أَنه لا يَضْمَنُ إذا تَلِفَتِ العَينُ مِن غيرِ تَفْرِيطٍ ولا تَعَدٍّ، لأَنه عَقْد لا يَقْتَضِي الضَّمانَ صَحِيحُه، فلا يَقْتَضِيه فاسِدُه، كالوَكالةِ. وحُكْمُ كلِّ عَقْدٍ فاسِدٍ في وُجُوبِ الضَّمانِ وعَدَمِه حُكْمُ صَحِيحِه، فما وَجَب الضَّمانُ في صَحِيحِه، وَجَب في فاسِدِه، وما لا، فلا. ¬

(¬1) في م: «كريته».

2218 - مسألة: (وإذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة، أو كبحها، أو الرائض الدابة، لم يضمن)

وَإذَا ضَرَبَ الْمُسْتأجِرُ الدَّابَّةَ بِقدرِ الْعَادَةِ، أو كَبَحَها، أَو الرَّائِضُ الدَّابَّةَ، لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِف بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُعَلِّمُ إِذَا ضَرَبَ الصَّبِيَّ، أَو الزَّوج امرَأَتَهُ فِي النشُوزِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2218 - مسألة: (وإذا ضَرَب المُسْتأجِرُ الدّابَّةَ بقَدرِ العادَةِ، أو كَبَحَها، أو الرائِضُ الدّابَّةَ، لم يَضْمَنْ) وجملةُ ذلك، أنَّ للمُسْتَأجِرِ ضَربَ الدّابَّةِ بما جَرَتْ به العادَةُ، ويَكْبَحُها باللِّجامِ للاسْتِصلاح، ويَحُثُّها على السَّيرِ لِيَلْحَقَ القافِلَةَ، فقد صَحَّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَخسَ بَعِيرَ جابر وضَرَبَه (¬1). وكان أبو بكر، رَضِيَ اللهُ عنه، يَخرِشُ بَعِيرَه بمِحجَنه. وللرّائِضِ ضَربُ الدّابَّةِ للتأدِيبِ وتَرتِيبِ المَشْي والعدو والسَّيرِ (¬2). 2219 - مسألة: (وكذلك المُعَلِّمُ إذا ضَرَب الصَّبِيَّ) للتَّأدِيبِ. قال الأثْرَمُ: سُئِلَ أحمدُ عن ضَربِ المُعَلِّمِ الصِّبْيانَ. قال: على قَدرِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الثيبات. وباب تستحد المغيبة وتمتشط، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 6، 51. ومسلم، في: باب استحباب نكاح البكر، من كتاب الرضاع، وباب بيع البعير واستثناء ركوبه، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 2/ 1089، 3/ 1221، 1222، 1223. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 372، 373. (¬2) في م: «اليسير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذُنوبِهم، ويَتَوَقَّى بجُهدِه الضّربَ، وإذا كان صَغِيرًا لا يَعقِلُ فلا يَضْرِبْه. ومَن (¬1) ضَرَب مِن هؤلاء كُلِّهم الضَّربَ المَأذُونَ فيه، لم يَضْمَنْ ما تَلِفَ. وبهذا في الدّابَّةِ قال مالكٌ، والشافعي، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو يوسُفَ، ومحمد. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: يَضْمَنُ؛ لأنه تَلِفَ بجِنايته، فضَمِنَ، كغيرِ المُسْتأجِرِ. وكذلك قال الشافعيُّ في المُعَلمِ يَضْرِبُ الصَّبِيَّ؛ لأنَّه يُمكِنُه تَأدِيبُه بغيرِ الضربِ. ولَنا، أنَّه تَلِفَ مِن فِعل مُسْتَحَقٍّ، فلم يَضْمَنْ، كما لو تَلِفَ تحتَ الحملِ، ولأنَّ الضَّربَ مَعنًى تَضَمَّنَه عَقْدُ (¬2) الإجارَةِ، فإذا تَلِفَ منه لم يَضْمَنْ، كالرُّكُوبِ. وفارَق غيرَ المُسْتأجِرِ؛ لأنه مُتَعد. وقولُ الشافعيِّ: يُمكِنُ التَّأدِيبُ بغيرِ الضَّربِ. لا يَصِحُّ، فإنَّ العادَةَ خِلافُه، ولو أمكَنَ التّأدِيبُ بدُونِ (¬3) الضّربِ، لَما جازَ الضَّربُ، إذْ فيه إيلام لا حاجَةَ إليه. فإن أسْرَفَ في هذا كلِّه، أو زادَ على ما يَحصُلُ الغِنَى به، أو ضَرَب مَن لا عَقْلَ له مِن الصِّبْيانِ، فعليه الضَّمانُ؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ حَصَلَ التَّلَفُ بعُدوانِه. وحُكْمُ ضَربِ الرَّجُلُ (امرأتَه في النُّشُوزِ) على ما ذَكَرنا، قِياسًا على الصَّبِيِّ. ¬

(¬1) في م: «متى». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بغير».

2220 - مسألة: (وإن قال: أذنت لي في تفصيله قباء. قال: بل قميصا. فالقول قول الخياط. نص عليه)

وَإنْ قَال: أذِنْتَ لِي فِي تَفْصِيلهِ قَبَاءً. قَال: بَلْ قَمِيصًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2220 - مسألة: (وإن قال: أذِنْتَ لي في تَفْصيلِه قَباءً. قال: بل قَمِيصًا. فالقولُ قولُ الخَيّاطِ. نَصَّ عليه) إذا اخْتَلَفَ المُؤجِرُ والمُسْتأجَرُ فقال: أذِنْتَ لي في قَطْعِه قَمِيصَ امرأةٍ. قال: بل أذِنْتُ لك في قَطعِه قَمِيصَ رَجُل. أو قال: أذِنْتَ لي في قَطْعِه قَمِيصًا. قال: بل قَباءً. أو قال الصَّبّاغُ: أمَرتَنِي بصَبْغِه أخمَرَ. قال: بل أسْوَدَ. فالقولُ قولُ الخَيّاطِ والصَّبّاغِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصُور. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ: القولُ قولُ صاحِبِ الثَّوْبِ. واخْتَلَف أصحابُ الشافعيِّ؛ فمِنْهُم مَن قال: له قَوْلانِ، كالمَذهبَينِ. ومنهم مَن قال: له قولٌ ثالِثٌ، أنَّهما يَتَحالفان، كالمُتَبايِعَين يَخْتَلِفَانِ في الثَّمَنِ. ومنهم مَن قال: الصَّحِيحُ أنَّ القَوْلَ قولُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في صِفَةِ إذْنِه، والقولُ قولُه في أصلِ الإِذْنِ، فكذلك في صِفَتِه، ولأنَّ الأصلَ عَدَمُ الإذْنِ المُخْتَلَفِ فيه، فالقولُ قولُ مَن يَنْفِيه. ولَنا، أنَّهُما اتَّفَقا على الإِذْنِ، واخْتَلَفا في صِفَتِه، فكان القولُ قولَ المَأذُونِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له، كالمُضارِبِ إذا قال: أذِنْتَ لي في البَيعِ نَسَاءً. فأنْكَرَه. ولأنَّهما اتَّفقَا على مِلْكِ الخَيّاطِ القَطْعَ، والصَّبّاغِ الصِّبْغَ. والظاهِرُ أنَّه فَعَل ما مَلَكَه، واخْتَلَفا في لزُوم الغُرمِ له، والأصلُ عَدَمُه. فعلى هذا، يَخلِفُ الخَيّاطُ والصَّبّاغُ: لقد أذِنْتَ لي في قَطْعِه قَبَاءً وصَبْغِه أحمَرَ. ويَسْقُطُ عنه الغُرمُ، ويَسْتَحِقُّ أجْرَ المِثْلِ؛ لأنَّه ثَبَت وُجُودُ فِعلِه المَأذُونِ فيه بعِوَض، ولا يَسْتَحِقُّ المُسَمَّى؛ لأنَّ المُسَمَّى يَثْبُتُ بقَوْلِه ودَعواه، فلا يَجِبُ بِيَمينه، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يُعطَى النَّاسُ بِدعوَاهم لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وأموَالهُم، وَلِكنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ». أخْرَجَه مُسْلِمٌ (¬1). فأمّا المُسَمَّى في العَقْدِ فإنَّما يَعتَرِفُ رَبُّ الثَّوْبِ بتَسْمِيَته أجْرًا، لِقَطْعِه قَمِيصًا، أو صَبْغِه أسْوَدَ. وأمّا مَن قال: القَوْلُ قولُ رَب الثَّوْبِ. فإنَّه يَحْلِفُ باللهِ: ما أذِنْتُ في قَطْعِه قَبَاءً، ولا صَبْغِه أحمَرَ. ويَسْقُطُ عنه المُسَمَّى، ولا يَجِبُ للخَيّاطِ والصَّبّاغِ أجْر؛ لأنَّهما فَعَلا غيرَ ما أذِنَ لهما فيه. وذَكَر ابنُ أبي موسى، عن أحمدَ رِوايةً أخْرَى، أنَّ صاحِبِ الثَّوْبِ إذا لم يَكُنْ مِمَّن (¬2) يَلْبَسُ الأقْبِيةَ والسَّوادَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) بعده في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالقولُ قولُه، وعلى الصّانِع (¬1) غُرمُ ما نَقَص بالقَطْعِ، وضَمان ما أفْسَدَ، ولا أجْرَ له؛ لأنَّ قَرِينَةَ حالِ رَبِّ الثَّوْبِ تَدُل على صِدقِه، فتَتَرَجَّحُ دَعواه بها، كما لو اخْتلَفَ الزَّوْجانِ في مَتاعِ البَيتِ، رَجَّحنَا دعوَى كل واحدٍ منهما فيما يَصلُحُ له. ولو اخْتَلَفَ صانِعان في الآلةِ التي في دُكّانِهما، رَجّحنا قولَ كلِّ واحد منهما في آلةِ صِنَاعَتِه. فعلى هذا، يَخلِفُ رَبُّ الثَّوْبِ: ما أذِنْتُ لك في قَطْعِه قَبَاءً. ويَكْفي هذا؛ لأنَّه يَنْتَفِي به الإذْنُ، فيَصِيرُ قاطِعًا لغيرِ ما أذِنَ فيه. فإنْ كان القَباءُ مَخِيطًا بخُيُوطٍ لِمالكِه، لم يَملِكِ الخَيّاطُ فَتْقَه، وكان لِمالِكِه أخْذُه مَخِيطًا بلا عِوَض، لأنَّه عَمِلَ في مِلْكِ غيرِه عَمَلًا مُجَرَّدًا عن عَين مَملُوكةٍ له، فلم يَكُنْ له إزالته، كما لو نَقَل مِلْكَ غيرِه مِن مَوْضِع إلى مَوْضِع، لم يَكُنْ له رَدُّه إذا رَضِيَ صاحِبُه بتَركِه فيه. كان كانت الخُيُوطُ للخَيّاطِ، فله نَزْعُها؛ لأنَّها عَينُ مالِه، ولا يَلْزَمُه أخْذُ قِيمَتِها؛ لأنَّها مِلْكُه، ولا يَتْلَفُ بأخْذِها ما لَه حُرمَةٌ. فإنِ اتَّفَقَا على تَعويضه عنها، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، وإن قال رَبُّ الثَّوْبِ: أنا أشُدُّ في ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الصباغ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّ خَيطٍ خَيطًا. حتى إذا سَلَّه (¬1) عادَ خَيطُ رَبِّ الثَّوْبِ في مكانِه، لم يَلْزَمِ الخَيّاطَ الإِجابَةُ إلى ذلك؛ لأنَّه انْتِفاعٌ بمِلْكِه. وحُكْمُ الصَّبّاغِ في قَلْعِ الصِّبْغِ إنِ اخْتارَه، وفي غيرِ ذلك مِن أحكامِه، حُكْمُ صِبْغِ الغاصِبِ (¬2) على ما يأتِي في بَابِه. قال شيخُنا (¬3): والذي يَقْوَى عندي، أنَّ القَوْلَ قولُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِما ذَكَرنا في دَلِيلهم. وما قاسُوا عليه فيما إذا قال المُضارِب: أذِنْتَ لي في البَيعِ نَساءً. فأنْكَرَ رَبُّ المالِ، أنَّ القَوْلَ قَوْلُ المُضارِبِ، مَمنُوعٌ. فصل: إذا دَفَع إلى خَيّاطٍ ثَوْبًا، فقال: إن كان يُقْطَعُ قَمِيصًا فاقْطَعهُ. فقال: هو يُقْطَعُ. وقَطَعَه، فلم يَكْفِ، ضَمِنَه. ولو قال: انْظُر هذا يَكْفِيني قَمِيصًا. قال: نعم. قال: اقْطَعهُ. فقَطَعَه، فلم يَكْفِه، لمِ يَضْمَنْ. وبه قال الشافعيّ، وأصحابُ الرأي. وقال أبو ثَوْرٍ: لا ضَمان عليه في المسْألَتَين، لأنَّه لو كان غَرَّه في الأولَى، لكان قد غَرَّهُ في الثانيةِ. ولَنا، أنَّه إنَّما أذِنَ له في الأولَى بِشَرطِ كِفايته، فقَطَعَه بدُونِ شَرطِه، وفي الثانيةِ أذِنَ له مِن غيرِ شَرْطٍ، فافْتَرَقا، ولم يَجِبْ عَليه الضَّمانُ في الأولَى لِتَغْرِيرِه، بل لِعَدَمِ الإذْنِ في قَطْعِه، لأنَّ إذنه مُقَيَّد بشَرطِ كِفايته فلا يكونُ إذنًا في غيرِ ما وُجِدَ فيه الشَّرطُ، بخِلافِ الثانيةِ. ¬

(¬1) في م: «سلمه». (¬2) في م، ر 1: «الصباغ». (¬3) في: المغني 8/ 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أمَرَه أن يَقْطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصَ رَجُل، فقَطَعَه قَمِيصَ امرَأةٍ، فعليه غُرمُ ما بينَ قِيمَتِه صَحِيحًا ومَقْطُوعًا؛ لأنَّ هذا قَطْعٌ غيرُ مَأذُونٍ فيه، فأشْبَه ما لو قَطَعَه مِن غيرِ إذْنٍ. وقيل: يَغْرَمُ ما بينَ قَمِيصِ رَجُل وقَميص امرَأةٍ؛ لأنه مَأذُونٌ في قَمِيص في الجُملَةِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ المَأذُونَ فيه قَمِيص مَوْصُوف بصِفَةٍ، فإذا قَطَع قَمِيصًا غيرَه، لم يَكُنْ فاعِلًا لِما أذِنَ فيه، فكان مُتَعديا بابْتِداءِ القَطْعِ، ولذلك لا يَسْتَحِقُّ على القَطْعِ أجْرًا، ولو فَعَل ما أمِرَ به، لاسْتَحَقَّ أجْرَه. فصل: إذا دَفَع إلى حائِكٍ غَزْلًا، فقال: انْسِجْه لي عَشَرَةَ أذْرُعٍ في عَرضِ ذِراعٍ. فنَسَجَه زائدًا على ما قَدَّرَ له في الطُّولِ والعرضِ، فلا أجْرَ له في الزِّيادَةِ؛ لأنَّه غيرُ مَأمُورٍ بها، وعليه ضَمانُ (¬1) نَقْصِ الغَزْلِ المَنْسوجِ فيها. فأمّا ما عَدا الزّائِدَ فيُنْظَرُ فيه؛ فإن كان جاءَهُ زائِدًا في الطّولِ وحدَه، ولم يَنْقُصِ الأصلُ بالزِّيادَةِ، فله ما سَمَّى له مِن الأجْرِ، كما لو اسْتَأجَرَه أن يَضْرِبَ له مائةَ لَبِنَةٍ فضَرَبَ له مائَتَينِ. وإن جاء به زائدًا في العَرضِ وحدَه، أو فيهما، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا أجْرَ له؛ لأنَّه مُخالِفٌ لأمرِ المُسْتَأجِرِ، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو اسْتأجَرَه على بِناءِ حائِطٍ ¬

(¬1) بعده في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَرضَ ذِراعٍ، فبَناه عَرضَ ذراعِين. والثاني، له المُسَمَّى؛ لأنَّه زادَ على ما أمِرَ به، فأشْبَه زِيادَةَ الطُّولَ. ومَن قال بالوَجْهِ الأوّلِ، فَرَّقَ بينَ الطولِ والعرضِ، بأنَّه يُمكِنُ قَطْعُ الزّائِدِ في الطُّولِ، ويَبْقَى الثَّوْبُ على ما أرَادَ، ولا يمكِنُ ذلك في العَرضِ. فأمّا إن جاءَ به ناقِصًا في الطُّولِ والعَرضِ، أو في أحَدِهما، ففيه أيضًا وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا أجْرَ له، وعليه ضَمانُ نَقْصِ الغَزْلِ؛ لأنَّه مُخالِف لِما أمِرَ به، فأشْبَه ما لو استأجَرَه على بِناءِ حائطٍ عَرضَ ذراعٍ فبَناهُ عَرضَ نِصفِ ذِراعٍ. والثاني، له بحِصَّتِه مِن المُسَمَّىَ، كمَن اسْتُؤْجِرَ على ضَربِ لَبِن فضَرَبَ بعضَه. ويَحتَمِلُ أنَّه إن جاءَ به ناقِصًا في العرضِ فلا شيءَ له، وإن كان ناقِصًا في الطُّولِ فله بحِصَّتِه مِن المُسَمَّى؛ لِما ذَكَرنا مِنِ الفَرقِ بينَ الطُّولِ والعَرضِ. كان جاء به زائِدًا في أحَدِهما ناقِصًا في الآخرِ، فلا أجْرَ له في الزّائِد، وهو في النّاقِصِ على ما ذَكَرنا مِن التَّفْصِيلِ فيه. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ، في المَوْضِعَينِ: يتَخَيَّرُ صاحِبُ الثَّوْبِ بينَ دَفْعِ الثَّوْبِ إلى النسّاجِ ومُطالبَتِه بثَمَنِ غَزْلِه، وبينَ أن يأخُذَه ويدفَعَ إليه المُسَمَّى في الزّائِدِ وبحِصَّةِ المَنْسُوجِ في النّاقِصِ؛ لأنَّ غَرَضَه لم يَسْلَم له؛ لأنَّه (¬1) يَنتَفِعُ ¬

(¬1) في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالطَّويلِ ما لا يَنْتَفِعُ بالقَصِيرِ، ويَنْتَفِعُ بالقَصِيرِ ما لا يَنْتَفِعُ بالطَّويلِ، فكأنه أتلف عليه غَزْلَه. ولَنا، أنَّه وَجَد عَينَ مالِه، فلم يَكُنْ له المُطالبَةُ بعِوَضِه، كما لو جاء به زائِدًا في الطول وحدَه. فأمّا إن أثَّرتِ الزِّيادَةُ أو النَّقْصُ في الأصلِ، مثلَ أن يَأمُرَه بِنَسْجِ كشَرَةِ أذْرُعٍ؛ ليكُونَ الثَّوْبُ صَفِيقًا، فنَسجَه خَمسَةَ عَشَرَ، فصارَ خَفِيفًا، أو بالعَكْس، فلا أجْرَ له بحالٍ، وعليه ضَمانُ نَقْصِ (¬1) الغَزْلِ؛ لأنَّه لم يَأتِ بشيءٍ ممّا أمِرَ به. فصل: إذا اخْتَلَفَ المُتكارِيانِ في قَدرِ الأجْرِ، فقال: أجَرتَنِيها سَنةً بدِينارٍ. قال: بل بدِينارَين. تحالفا، ويُبْدَأ بيَمينِ الآجِرِ. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الإِجارَةَ نوْع مِن البَيعِ. فإذا تَحالفا قبلَ مُضِيِّ شيءٍ مِن المُدَّةِ، فَسَخَا العَقْدَ ورَجَعَ كل واحدٍ منهما في مالِه. وإن رَضِيَ أحَدُهما بما حَلَف عليه الآخَرُ، أقِرَّ العَقْدُ. وإن فَسَخا العَقْدَ بعدَ المُدَّةِ أو شيءٍ منها، سَقَطَ المُسَمَّى ووَجَبَ أجْرُ المِثْلِ، كما لو اخْتَلَفا في المَبِيعِ بعدَ تَلَفِه. وهذا قولُ الشافعيِّ. وبه قال أبو حنيفةَ إن لم يَكُنْ عَمِلَ العَمَلَ، ¬

(¬1) في م: «نسج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان عَمِلَه فالقولُ قولُ المُسْتَأجرِ فيما بينَه وبينَ أجْرِ مِثْلِه. وقال أبو ثَوْرٍ: القولُ قولُ المُستَأجرِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ في الأجْرِ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. ولَنا، أنَّ الإجارَةَ نوْعٌ مِن البَيعِ، فيَتحالفان عندَ اخْتِلافِهما في عِوَضِها، كالبَيعِ، وكما قَبْلَ أن يعملَ العَمَلَ عندَ أبي حنيفةَ. وقال ابنُ أبي موسى: القولُ قولُ المالكِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايعَانِ، فالقولُ ما قَال البائِعُ» (¬1). وهذا يَحتَمِلُ أن يَتناوَلَ ما إذا اخْتَلَفا في المُدَّةِ. وأمّا إذا اخْتَلَفَا في العِوَضِ، فالصَّحِيحُ أنَّهما يتَحالفان؛ لِما ذَكرناه. فصل: فإنِ اخْتَلَفا في المُدَّةِ، فقال: أجَرْتُكَها سنةً بدِينارٍ. فقال: بل سَنَتَين بدِينارَينِ. فالقولُ قولُ المالِكِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، فكان القولُ قولَه فيما أنْكَره، لو قال: بِعتُكَ هذا العَبْدَ بمائةٍ. فقال: بل هذَين العَبْدَين بمائتين. كان قال: أجَرتُكَها سَنَةً بدِينارٍ. فقال: بل سَنَتَين بدِينارٍ (¬2). فههُنا قد اخْتَلفا في قَنرِ العِوَضِ والمُدَّةِ فيتَحالفانِ؛ لأنَّه لم يُوجَد الاتِّفاقُ منهما على مُدَّةٍ بعِوَض، فصارَ كما لو اخْتَلفا في العِوَضِ مع اتّفاقِ المُدَّةِ. وإن قال المالِكُ: أجَرتُكَها سَنَةً بدِينارٍ. فقال الساكِنُ: بل اسْتَأجَرتَنِي على حِفْظِها بدِينارٍ. فقال أحمدُ: القولُ قولُ رَبِّ الدارِ، إلَّا أن تكونَ للساكِنِ بَيِّنة. وذلك لأنَّ سُكْنَى الدارِ قد وُجِدَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 468. (¬2) في الأصل: «بدينارين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن السّاكنَ واسْتِيفاءَ مَنْفَعَتِها، وهي مِلْكُ صاحِبِها، والقولُ قولُه في مِلْكِه، والأصلُ عَدَمُ [اسْتِئجارِ السّاكِنِ] (¬1) في الحِفْظِ، فكان القولُ قولَ مَن يَنْفِيه، ويَجبُ على الساكِنِ أجْرُ المِثْلِ. فصل: وإنِ اخْتَلَفا في التَّعَدِّي في العَينِ المُسْتَأجَرَةِ، فالقولُ قولُ المُسْتأجِرِ، لأنَّه أمِين، فأشْبَه المُودَعَ، ولأنَّ الأصلَ عَدَمُ العُنوانِ والبَرَاءةُ مِن الضَّمانِ. وإنِ ادَّعَى أنَّ العَبْدَ أبقَ مِن يَدِه، وأنَّ الدّابَّةَ شَرَدتْ أو نَفَقتْ، وأنْكَرَ المُؤْجِرُ، فالقولُ قولُ المُسْتأجِرِ؛ لِما ذَكَرنا، ولا أجْرَ عليه إذا حَلَفَ أنَّه ما انْتَفَعَ بها؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الانْتِفاعِ. وعنه، القولُ قولُ المُؤْجِرِ؛ لأن الأصلَ السَّلامةُ. فأمّا إنِ ادَّعَى أن العَبْدَ مَرِضَ في يَدِه؛ فإن جاء به صَحِيحًا، فالقولُ قولُ المالِكِ، سواء وافَقَه العَبْدُ أو خالفَه. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن جاء به مَرِيضًا، فالقولُ قولُ المُسْتَأجِرِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه إذا جاء به صحيحًا، فقد ادَّعَى ما يُخالِف الأصلَ، وليس معه دَلِيل عليه، وإن جاء به مَرِيضًا، فقد وُجِدَ ما يُخالِف الأصلَ يَقِينًا، فكان القولُ قولَه في مُدَّةِ المَرَضِ؛ لأنَّه أعلَمُ بذلك، لكَوْنِه في يَدِه. وكذلك لو ادَّعَى إبَاقَه في حالِ إباقِه. ونَقَلَ إسحاقُ بنُ مَنْصورٍ عن أحمدَ، أنَّه يُقْبَلُ قولُه في إباقِ العَبْدِ دُونَ مَرَضِه. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ. قال أبو بكر: وبالأوَّلِ أقُولُ؛ لأنَّهما سواء في تَفْويتِ مَنْفَعتِه، فكانا سواءً ¬

(¬1) في م: «استئجاره للساكن».

فصلٌ: وَتَجِبُ الأجْرَةُ بِنَفْس الْعَقْدِ، إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تأخِيرِها. ـــــــــــــــــــــــــــــ في دَعوَى ذلك. وإن هلَكَتِ العَينُ، فاخْتَلَفا في وَقْتِ هلاكِها، أو أبقَ العَبْدُ أو مَرِضَ، واخْتَلَفا في وَقْتِ ذلك، فالقولُ قولُ المُسْتَأجِرِ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ العَمَلِ، ولأنَّ ذلك حَصَلَ في يَدِه، وهو أعلَمُ به. فصل: قال المُصَنِّفُ، رحمَه اللهُ: (وتَجِبُ الأجْرةُ بنَفْسِ العَقْدِ، إلَّا أن يَتَّفِقا على تَأخِيرِها) مَتَى أُطْلِقَ العَقْدُ في الإِجارَةِ مَلَكَ المُؤْجِرُ الأجْرةَ بنَفْسِ العَقْدِ، كما يَملِكُ البائِع الثَّمَنَ بالبَيعِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، [ومالكٌ] (¬1): لا يملِكُها ولا يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ بها إلَّا يَومًا بِيَوْم، إلَّا أن يَشْتَرِطَ تَعجِيلَها. قال أبو حنيفةَ: إلَّا أن تكونَ مُعَيَّنة، كالثَّوْبِ، والدّارِ، والعَبْدِ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬2). أمَرَ بإيتائِهِنَّ بعدَ الرَّضاعِ. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الطلاق 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثة أنا خَصمُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ؛ رَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيرًا فَاسْتَوْفى مِنْهُ ولم يُوَفِّه أجرَهُ» (¬1). فتَوَعُّدُه على الامتِناعِ مِن دَفْعِ الأجْرِ بعدَ العَمَلِ دَلَّ على أنَّها حالةُ الوُجُوبِ. ورُوِيَ عنه، عليه الصلاةُ والسلامُ، أنَّه قال: «أعطُوا الأجِيرَ أجْرَه قبلَ أن يَجِفَّ عَرَقُه». رَواهُ ابنُ ماجه (¬2). ولأنَّه عِوَض لم يَملِكْ مُعَوَّضَه، فلم يَجِبْ تَسْلِيمُه، كالعِوَضِ في العَقْدِ الفاسِدِ، فإنَّ المَنافِعَ مَعدُومة لم تُملَكْ. ولو مُلِكَتْ فلم يَتَسَلمها؛ لأنَّه يتَسلَّمُها شيئًا فشيئًا، فلا يَجِبُ عليه العِوَضُ مع تَعذر التَّسْلِيمِ في العَقْدِ. ولَنا، أنَّه عِوَضٌ أُطْلِقَ ذِكْرُه في عَقْدِ مُعاوَضةٍ، فيُسْتَحقُّ بمُطْلَقِ العَقْدِ، كالثَّمنِ، والصداقِ، أو نقولُ: عِوَضٌ في عَقْدٍ يُتَعَجَّلُ بالشَّرطِ، فوَجَبَ أن يُتَعَجَّلَ بمُطْلَقِ العَقْدِ، كالذي ذَكرنا. فأمّا الآيةُ فيَحتَمِلُ أنَّه أرادَ الإِيتاءَ عندَ الشُّرُوعِ في الإِرضاعِ، أو تَسْلِيم نَفْسِها، كقولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬3). أي: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 49. (¬2) في: باب أجر الأجراء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 817. (¬3) سورة النحل 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أرَدتَ القِراءَةَ. ولأنَّ هذا تَمسُّكٌ (¬1) بدَلِيلِ الخِطابِ؛ ولا يقولُون به، وكذلك الحَدِيثُ، يُحَقِّقُه أنَّ الأمرَ بالإيتاءِ في وقتٍ لا يَمنَعُ وُجُوبَه قبلَه، كقولِه تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬2). ¬

(¬1) في الأصل، م: «تمثيل». (¬2) سورة النساء 24.

2221 - مسألة: (ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة حتى يتسلمه)

وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ أجْرَةِ الْعَمَلِ فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يَتَسَلَّمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والصداقُ يَجِبُ قبلَ الاسْتِمتاعِ. وهذا هو الجَوابُ عن الحَدِيثِ، ويَدُلُّ عليه أنَّه إنَّما تَوَعَدَّ على تَزكِ الإيفاءِ بعدَ الفراغِ مِن العَمَلِ، وقد قُلْتُم: يَجِبُ الأجْرُ شيئًا فشيئًا. ويَحتَمِلُ أَنه تَوَعَّدَه على تَركِ الوَفاءِ في الوَقْتِ الذي تَتَوَجَّه المُطالبة فيه عادةً. جَوابٌ آخَرُ، أنَّ الآيَةَ والأخْبارَ إنَّما وَرَدَتْ في مَن اسْتُؤْجِرَ على عَمَل، فأمّا إن وَقَعتِ الإجارَةُ فيه على مُدَّةٍ فلا تَعَرضَ لها به. 2221 - مسألة: (ولا يَجبُ تَسْلِيمُ أجْرَةِ العَمَلِ في الذِّمَّةِ حتى يَتَسَلَّمَه) إذا اسْتُؤْجِرَ على عَمَل، فإنَّ الأجْرَ يُفلَكُ بالعَقْدِ أيضًا، لكن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُه إلا عندَ تَسْلِيمِ العَمَلِ. وقال ابنُ أبي موسى: مَن اسْتُؤْجِرَ لعَمَل مَعلُوم، اسْتَحَقَّ الأجْرَ عندَ إيفاءِ العَمَلِ، وإنِ اسْتُؤْجرَ في كلِّ يوم بأجْر مَعلُوم، فله أجْرُ كلِّ يوم عندَ تَمامِه. وقال أَبو الخَطّابِ: الأجْرُ يُملَكُ بالعَقْدِ، ويُسْتَحَقُّ التَّسْلِيمُ ويَسْتَقِرُّ بمُضِيِّ المُدَّةِ. وإنَّما تَوقَّفَ اسْتِحقاقُ تَسْلِيمِه على العَمَلِ؛ لأنَّه عِوَضٌ، فلا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُه إلَّا مع تَسْلِيمِ المُعَوَّضِ، كالصَّداقِ، والثَّمَنِ في المَبِيعِ. وفارَقَ الإِجارَةَ على الأعيانِ؛ لأن تَسْلِيمَها أجْرِىَ مُجْرَى تَسْلِيم نَفْعِها، ومتى كانت على مَنْفَعةٍ في الذِّمَّةِ لم يحصُلْ تَسْلِيمُ المَنْفَعةِ ولا ما يَقُومُ مَقامَها، فتَوقَّفَ اسْتِحقاقُ تَسْلِيمِ الأجْرِ على تَسْلِيم العَمَلِ. وقولُهم: لم يَملِكِ المَنافِعَ. قد سَبَقَ الجَوابُ عنه. فإن قِيلَ: فإنَّ المُؤْجِرَ إذا قَبَضَ الأجْرَ، انْتَفَع به كلِّه، بخِلافِ المُسْتأجِرِ، فإنَّه لا يحصُلُ له اسْتِيفاءُ المَنْفعةِ كلِّها. قلنا: لا يَمنَعُ هذا، كما لو شَرَطَ التعجِيلَ وكانت الأجْرةُ عَينًا. فأمّا إن شَرَطَ التَّأجِيلَ في الأجْرِ، فهو على ما شَرَطَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن شَرَطَ مُنَجَّمًا يومًا يومًا، أو شَهْرًا شهرًا، فهو على ما شَرَطاه؛ لأنَّ إجارَةَ العَينِ كبَيعِها، وبَيعُها يَصِحُّ بثَمَنٍ حالٍّ ومُؤَجَّل، كذلك إجارَتُها. وفيه وَجْه آخَرُ: أنَّ الإِجارَةَ على المَنْفَعةِ في الذِّمَّةِ لا يجوزُ تَأجِيلُ عِوَضِها، [كالمُسْلَمِ فيه] (¬1). فصل: إذا اسْتَوْفَى المُسْتأجِرُ المَنافِعَ، اسْتَقَرَّ الأجْرُ؛ لأنَّه قَبَضَ المَعقُودَ عليه، فاسْتَقَرَّ عليه البَدَلُ، كما لو قَبَض المَبِيعَ. وإن تَسَلَّمَ العَينَ المُسْتَأجَرَةَ، ومَضَتِ المُدَّةُ، و (¬2) لا مانِعَ له مِن الانْتِفاعِ، اسْتَقَرَّتِ الأجْرَةُ أيضًا كان لم يَنْتَفِع؛ لأنَّ المَعقُودَ عليه تَلِفَ تحت يَدِه، وهي حَقُّه، فاسْتَقَرَّ عليه بَدَلُها، كثَمَنِ المَبِيعِ إذا تَلِفَ في يَدِ البائِعِ. فإن كانت الإجارَةُ على عَمَل، فتَسلَّم (¬3) المَعقُودَ عليه، ومَضَتْ مُدَّة يمكِنُ اسْتِيفاءُ المَنْفَعةِ فيها، مثلَ أن يَكْتَرِيَ دابَّةً لِيركَبَها إلى حِمصَ، فقَبَضَها، ومَضَتْ ¬

(¬1) في م: «كالسلم». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فسلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُدَّة يمكِنُ رُكُوبُها فيها، فقال أصحابُنا: يَسْتَقِرُّ عليه الأجْرُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَنافعَ تَلِفَتْ تحت يَدِه باخْتِيارِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمان عليه، كما لو تَلِفَتِ العَينُ في يَدِ المُشْتَرِي، وكما لو كانتِ الإجارَةُ على مُدَّةٍ فمَضَتْ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَسْتَقِرُّ الأجْرُ عليه حتى يَسْتَوْفِيَ المَنْفَعةَ؛ لأنَّه عَقْد على مَنْفَعةٍ غيرِ مُؤَقَّتةٍ بزَمَن، فلم يَسْتَقِرَّ بَدَلُها قبلَ اسْتِيفائِها، كالأجْرِ في الأجِيرِ المُشْتَرَكِ. وإن بَذَلَ تَسْلِيمَ العَينِ، فلم يَأخُذْها المُسْتَأجِرُ حتى انْقَضَتِ المُدَّةُ، اسْتَقَرَّ الأجْرُ عليه؛ لأنَّ المنافِعَ تَلِفَتْ باخْتِيارِه في مُدَّةِ الإِجارَةِ، فاسْتَقَرَّ عليه الأجْرُ، كما لو كانت في يَدِه. وإن بَذَلَ تَسْلِيمَ العَينِ، وكانت الإِجارَةُ على عَمَل، فقال أصحابُنا: إذا مضتْ مُدَّة يمكنُ الاسْتِيفاءُ فيها، اسْتَقَرَّ عليه الأجْرُ. وبهذا قال الشافعيُّ؛ لأنَّ المَنافِعَ تَلِفَتْ باخْتِيارِه. وقال أبو حنيفةَ: لا أجْرَ عليه. قال شيخُنا (¬1): وهو أصَحُّ (¬2) عندي، لأنَّه عَقْدٌ على ما في الذِّمَّةِ، فلم يَسْتَقِرَّ عِوَضُه ببَذْلِ التَّسْلِيمِ، كالمُسْلَمِ فيه، ولأنَّه عَقدٌ على مَنْفَعةٍ غيرِ مُؤَقَّتةِ بزَمَن، فلم يَسْتَقِرَّ عِوَضُها بالبَذْلِ، كالصَّداقِ إذا بَذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِها، وامتَنَعَ الزَّوْجُ مِن أخْذِها. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 20. (¬2) في م: «الصحيح».

2222 - مسألة: (وإذا انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو بناء، لم يشترط قلعه عند انقضاء)

وَإذَا انْقَضَتِ الإجَارَةُ وَفِي الْأرضِ غِرَاسٌ أوْ بِنَاءٌ لَمْ يُشْتَرَطْ قَلْعُهُ عِنْدَ انْقِضَائِها، خُيِّرَ الْمَالِكُ بَينَ أخذِهِ بِالْقِيمَةِ، أو تَركِهِ بِالأجْرَةِ، أو قَلْعِهِ وَضَمَانِ نَقْصِهِ. وإنْ شُرِطَ قَلْعُهُ لَزِمَ ذَلِكَ، وَلَم تَجِبْ تَسْويَةُ الْأرضِ إلا بِشَرطٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2222 - مسألة: (وإذا انْقَضتِ الإِجارَةُ وفي الأرضِ غرِاس أو بِناء، لم يُشْتَرَطْ قَلْعُه عندَ انْقِضاءِ) الأجَلِ، فلِلمالِكِ (أخْذُه بالقِيمة) و (تَركُه بالأجْرةِ، أو قَلْعُه وضَمانُ نَقْصِه. وإنِ) اشْتَرطَ القَلْعَ (لَزِمَه ذلك) ولا يَلْزَمُه (تَسْويةُ الأرضِ إلَّا بشَرطٍ) إذا اسْتَأجَرَ أرضًا للغِراسِ أو للبناءِ سَنَةً، صَحَّ؛ لأنَّه يُمكِنُه تَسْلِيمُ مَنْفَعَتِها المُباحَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَقْصُودَةِ، فأشْبَهتْ سائِرَ المَنافِعِ، وسواء شَرَطَ قَلْعَ الغِراسِ والبِناءِ عندَ انْقِضاءِ المُدَّةِ أو أطلَقَ، وله أن يَغْرِسَ قبلَ انْقِضاءِ المُاةِ، فإذا انْقَضَتْ لم يَكُنْ له أن يَغْرِسَ ولا أن يبنِيَ؛ لِزَوالِ عَقْدِه، فإذا انْقَضَتِ السنةُ، وكان قد شَرَطَ القَطْعَ عندَ انْقِضائِها، لَزِمَه ذلك؛ وَفاءً بمُوجَبِ شَرطِه. وليس على صاحِبِ الأرضِ غَرامةُ نَقْصِه، ولا على المُسْتأجِرِ تَسْويةُ الحَفْرِ وإصلاحُ الأرضِ؛ لأنهما دَخَلا على هذا؛ لرِضاهُما بالقَلْعِ، واشْتِراطِهما عليه. وإنِ اتفَقا على إبْقائِه بأجْرةٍ أو غيرِها، جازَ، إذا شَرَطا مُدَّةً مَعلُومةً. وكذلك لو اكْتَرَى الأرضَ سَنةً بعدَ سَنةٍ، كما انْقَضَى عَقْد جَدَّدَ آخَرَ. وإن أطْلَقَ العَقْدَ، فللمُكْتَرِي القَلْعُ؛ لأنَّه مِلْكُه، فله أخْذُه، كطعامِه في الدَّارِ التي باعها. وإذا قَلَع فعليه تسْويةُ الحَفْرِ؛ لأنه نَقْصٌ دَخَلَ على مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه. وهكذا إن قَلَعَه قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ ههُنا وفي التي قبلَها؛ لأنَّ القَلْعَ قبلَ الوَقْتِ لم يأذَنْ فيه المالِكُ، ولأنَّه تَصَرَّفَ في الأرضِ تَصرُّفًا نَقَصَها لم يَقْتَضِه عَقْدُ الإجارَةِ، وإن أبى القَلْعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُجْبَر عليه، إلا أن يَضْمَنَ له المالِكُ النَّقْصَ، فيُجْبَرُ (¬1) حينئذٍ. وبهذا قال الشافعيّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: عليه القَلْعُ مِن غيرِ ضَمانِ النَّقْصِ له؛ لأنَّ تَقْدِيرَ المُدَّةِ في الإجارَةِ يَقْتَضِي التَّفْرِيغَ عندَ انْقِضائِها، كما لو اسْتَأجَرَها للزَّرعِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيسَ لِعِرقٍ ظالِم حَقٌّ» (¬2). مَفْهُومُه أنَّ غيرَ الظالِمِ له حَق، وهذا غيرُ ظالِم، ولأنه غَرَسَ بإذْنِ المالِكِ، ولم يَشْرُطْ قَلْعَه، فلم يُجْبَر على القَلْعِ مِن غيرِ ضَمانِ النَّقْصِ، كما لو اسْتعارَ منه أرضًا للغَرسِ مُدَّةً فرَجَعَ قبلَ انْقِضائِها، ¬

(¬1) في ر، م: «فيخير». (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 299.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُخالف الزّرعَ، فإنَّه لا يَقْتَضِي التَّأبِيدَ. فإن قِيلَ: فإن كان إطْلاقُ العَقْدِ في الغِراسِ يَقْتَضِي التّأبِيدَ، فشَرطُ القْلعِ يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، فيَنْبَغِي أن يُفْسِدَه. قلنا: إنَّما اقْتَضَى التّأبِيدَ مِن حيثُ إنَّ العادَةَ في الغِرَاسِ التبقِيَةُ، فإذا أطْلَقَه، حُمِلَ على العادَةِ، وإذا شَرَطَ خِلافَه، جازَ، كما إذا باعَ بغيرِ نَقْدِ البَلَدِ، أو شَرَطَ في الإِجارَةِ سَيرًا يُخالِف العادَةَ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ رَبَّ الأرضِ يُخَيَّرُ بينَ ثلاثةِ أشياءَ؛ أحدُها، أن يَدفَعَ قِيمةَ الغِراسِ والبِنَاءِ، فيَملِكَه مع أرضِه؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَزُولُ عنهما به، أشْبَه الشَّفِيعَ في غِراسِ المُشْتَرِي الثاني، أن يَقْلَعَ الغِراسَ والبِنَاءَ، ويَضْمَنَ أرشَ نَقْصِه لذلك. الثالثُ أن يُقِرَّ الغِراسَ والبِناءَ، ويأخُذَ منه أجرَ المِثْلِ. وبهذا قال الشافعي؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَزُولُ عنهما بذلك. وقال مالكٌ: يتَخَيَّرُ بينَ دَفْعِ قِيمَتِه فيَملِكُه وبينَ مُطالبَتِه بالقَلْعِ مِن غيرِ ضَمانٍ، وبينَ تركِه، فيكونان شَرِيكَين. والأوَّلُ أصَحُّ. فإنِ اتَّفَقَا على بَيعِ الغَرسِ والبناءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمالِكِ، جازَ، وإن باعَهُما صاحِبُهما لغيرِ مالِكِ الأرضِ، جازَ، ومُشْتَرِيهما يَقُومُ مَقامَ البائِعِ فيهما. وقال أصحابُ الشافعي في أحَدِ الوَجْهينِ: ليس له بَيعُهما لغيرِ مالكِ الأرضِ؛ لأنَّ مِلْكَه ضَعِيفٌ، بدَلِيل أنَّ لِصاحِبِ الأرضِ تملُّكَه عليه بالقِيمةِ بغيرِ رِضاه. ولَنا، أنَّه مِلك له يجوزُ بَيعُه لمالِكِ الأرضِ، فجازَ لغيره، كالشِّقْصِ المَشْفُوعِ، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه، فإنَّ للشَّفِيعِ تملُّكَ الشِّقْصِ بغيرِ رِضَا المُشْتَرِي، ويجوزُ بَيعُه لغيرِه (¬1). فصل: فإن شَرَطَ في العَقْدِ تَبْقِيةَ الغِراسِ، فذَكَرَ القاضِي أنَّه صَحِيحٌ، وحُكْمُه حُكمُ ما لو أطْلَقَ العَقْدَ سواء. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ. ويَحتَمِلُ أن يَبْطُلَ العَقْدُ؛ لأنَّه شَرَطَ ما يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَ ذلك في الزَّرعِ الذي لا يَكْمُلُ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، ولأنَّ الشرطَ باطِل؛ بدَلِيلِ أنَّه لا يَجِبُ الوَفاءُ به، وهو مُؤثِّر. فأبْطَلَه، كشَرطِ تَبْقِيةِ الزّرعَ بعدَ مُدَّةِ الإِجارَةِ. ¬

(¬1) في ق: «كغيره».

2223 - مسألة: (وإن كان فيها زرع بقاؤه بتفريط المستأجر، فللمالك أخذه بالقيمة، وتركه بالأجرة. وإن كان بغير تفريط، لزم تركه بالأجرة)

وَإنْ كَانَ فِيها زَرعٌ بَقَاؤهُ بِتَفْرِيطِ الْمُسْتَأجِرِ، فَلِلْمَالِكِ أخْذُهُ بِالْقِيمَةِ، وَتَركُهُ بِالأجْرَةِ. وَإنْ كَانَ بِغَيرِ تَفْرِيطٍ، لَزِمَ تركُهُ بِالأجْرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2223 - مسألة: (وإن كان فيها زَرعٌ بقاؤه بتَفْرِيطِ المُسْتَأجِرِ، فللمالِكِ أخْذُه بالقِيمَةِ، وتَركُه بالأجْرَةِ. وإن كان بغيرِ تَفْرِيطٍ، لَزِمَ تَركُه بالأجْرَةِ) إذا اسْتَأجَرَ أرضًا للزِّراعةِ مُدَّةً، فانقْضَتْ، وفيها زَرع لم يَبْلُغْ حَصادَه، لم يَخْلُ مِن حالينِ؛ أحدُهما، أن يكونَ لتَفْرِيطِ المُسْتَأجِرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ أن يَزْرَعَ زَرعًا لم تَجْرِ العادَةُ بكَمالِه قبلَ انْقِضاء المُدَّةِ، فحُكْمُه حُكْمُ زَرعِ الغاصِبِ، يُخَيَّرُ المالِكُ [بعدَ المُدَّة] (¬1) بينَ أخَذِه بالقِيمةِ، أو تَركِه بالأجْرَةِ لِما زادَ على المُدَّةِ؛ لأنَّه أبقَى زَرعَه في أرضِ غيرِه بعُنوانِه، وإنِ اخْتارَ المُسْتَأجِرُ قَطْعَ زَرعِه في الحالِ وتَفْرِيغَ الأرضِ، فله ذلك؛ لأنَّه يُزِيلُ الضَّرَرَ، ويُسَلِّمُ الأرضَ على الوَجْهِ الذي اقْتَضاه العَقْدُ. وذَكَرَ القاضِي، أنَّ على المُسْتَأجِرِ نَقْلَ الزّرعِ وتَفْرِيغَ الأرضِ، وإنِ اتفقَا على تَركِه بعِوَض أو غيرِه، جازَ. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ، بِناءً على قَوْلِه في الغاصِبِ. وقِياسُ المَذْهبِ ما ذَكَرناه. الحالُ الثاني، أن يكونَ بَقاؤه بغير ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَفْرِيطِه، مثلَ أن يَزْرَعَ زَرعًا يَنْتَهِي في المُدَّةِ عادَةً، فأبْطَأ لبَردٍ أو غيرِه، فيَلْزَمُ المُؤْجرَ تركُه بالأجْرةِ إلى أن يَنْتَهِيَ، وله المُسَمى وأجْرُ المِثْلِ لِما زاد. وهذا أَحَدُ الوَجهينِ لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الثانِي، يَلْزَمُه نَقْلُه؛ لأنَّ المُدَّةَ ضُرِبَتْ لِنَقْلِ الزَّزعِ، فلَزِمَ العَمَلُ بمُوجَبِه، وقد وُجدَ منه تَفْرِيطٌ؛ لأنَّه كان يُمكِنُه أن يَسْتَظْهِرَ في المُدَّةِ، فلم يَفْعَلْ. ولَنا، أن الزَّرعَ حَصَلَ في أرضِ غيرِه بإذْنِه مِن غيرِ تَفْرِيطٍ، فلَزِمَه (¬1) تَركُه، كما لو أعارَه أرضًا فزَرَعَها ثم رَجَعَ المالِكُ قبلَ كَمالِ الزَّرعِ. وقولُهم: إنَّه مُفرِّطٌ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ هذه المُدَّةَ التي جَرَتِ العادَةُ بكَمالِ الزَّرعِ فيها، وفي زِيادَةِ المُدَّةِ تَفْويتُ زِيادَةِ الأجْرِ بغيرِ فائِدَةٍ، وتَضْيِيعُ زِيادَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لِتَحصِيلِ شيءٍ مُتَوَهَّم، على خِلافِ العادَةِ، هو التَّفْرِيط، فلم يَكُنْ تَركُه تَفْرِيطًا. ومتى أرادَ المُسْتأجِرُ زَرعَ شيءٍ لا يُدرَكُ مِثلُه في مُدَّةِ الإِجارَةِ، فللمالِكِ مَنْعُه؛ لأَنه سَبَبٌ لوُجُودِ زَرعِه في أرضِه بغيرِ حَق. فإن زَرَعَ لم يملِكْ مُطالبَتَه بقَلْعِه قبلَ المُدَّةِ؛ لأنَّه في أرض يَملِكُ نَفْعَها، ولأنَّه لا يَملِكُ ذلك بعدَ المُدَّةِ، فقَبْلَها أوْلَى، ومَن أوْجَبَ عليه قَطْعَه بعدَ المُدَّةِ، قال: إذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن المُطالبةِ بالنَّقْلِ، فليَكُنْ عندَ المُدَّةِ التي يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَها إلى المُؤْجِرِ فارِغَةً. ¬

(¬1) في م: «فله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اكْتَرَى (¬1) الأرضَ لِزَرعِ مُدَّةٍ لا يَكْمُلُ فيها، مثلَ أنِ اكْتَرَى خَمسةَ أشْهُرٍ لِزَرع لا يَكْمُلُ إلا في سِتَّةٍ، نَظَرنا؛ فإن شَرَطَ تَفْرِيغَها عندَ انْقِضاءِ المُدَّةِ ونَقْلَه عنها، صَحَّ؛ لأنَّه لا يُفْضِي إلى الزِّيادَةِ على مُدَّتِه، وقد يكونُ له غرضٌ في ذلك، لأخْذِه إيّاه قَصِيلًا (¬2) أو غيرَه، ويَلْزَمُه ما الْتَزَمَ. وإن أطْلَقَ العَقْدَ، ولم يَشْرُطْ شيئًا، احتَمَلَ أن يَصِحَّ؛ لأنَّ الانْتِفاعَ بالزرعِ (¬3) في هذه المُدَّةِ ممكِنٌ، واحتَمَلَ أنَّه إن (4) أمكَنَ أن يَنْتَفِعَ بالأرضِ في زَرع ضَرَرُه كَضَرَرِ الزَّرعِ المَشْرُوطِ ودُونِه، مثلَ أن يَزْرَعَها شَعِيرًا يأخُذُه قَصِيلًا، صَحَّ العَقْدُ (¬4)؛ لأنَّ الانْتِفاعَ بها في بعضِ ما اقْتَضاه العَقْدُ مُمكِن، وإن لم يَكُنْ كذلك، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه اكْترَى للزَّرعِ ما لا يُنْتَفَعُ بالزرعِ فيه، فأشْبَه إجارَةَ السَّبْخَةِ له. فإن قلنا: يَصِحُّ. فإذا انْقَضَتِ المُدَّةُ، ففيه وجهان؛ أحدُهُما، حُكْمُه حُكْمُ زرع ¬

(¬1) في الأصل: «أكرى». (¬2) القصيل: ما جمع من الزرع أخضر. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل، تش، م.

2224 - مسألة: (وإذا تسلم العين بالإجارة الفاسدة، فعليه أجرة المثل، سكن أو لم يسكن)

وَإذَا تَسَلَّمَ الْعَينَ فِي الإجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، فَعَلَيهِ أجْرَةُ الْمِثْلِ، سَكَنَ أوْ لَمْ يَسْكُنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَأجِرِ لِما لا يَكْمُلُ في (¬1) مُدَّتِه؛ لأنَّه ههُنا مُفَرِّط، واحتَمَلَ أن يَلْزَمَ المُكْرِيَ تَركُه بالأجْرِ (1)؛ لأنَّ التَّفْرِيطَ منه، حيثُ أكْرَاه مُدَّةً لِزَرع لا يَكْمُلُ فيها. كان شَرَطَ تَبْقِيَتَه حتى يَكْمُلَ، فالعَقْدُ فاسِد؛ لأنَّه جَمَعَ بينَ متضادينِ فإنَّ تَقْدِيرَ المُدَّةِ يَقْتَضِي النَّقْلَ فيها، وشَرطُ التبقِيةِ يُخِالِفُه، ولأنَّ مُدَّةَ التبقِيةِ مَجْهُولة، فإن زَرَع لم يُطالبْ بنَقْلِه، كالتي تقدمت. 2224 - مسألة: (وإذا تَسَلَّمَ العَينَ بالإجارَةِ الفاسِدَةِ، فعليه أجْرَةُ المِثْلِ، سَكَنَ أو لم يَسْكُنْ) إذا قَبَض العَينَ في الإجارَةِ الفاسِدَةِ، ومَضَتِ المُدَّةُ أو مُدَّة يُمكِنُ استِيفاءُ المَنْفَعَةِ فيها أو لا يُمكِنُ، ففيه روايتان؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهُما، عليه أُجْرَةُ المِثْلِ لمُدَّةِ بَقائِها في يَدِه. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَنافِعَ تَلِفَتْ تحتَ يَدِه بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له، فرَجَعَ إلى قِيمَتِها، كما لو اسْتَوْفاها. والثانيةُ، لا شيءَ له. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه عَقْدٌ فاسِدٌ على مَنافِعَ لم يَسْتَوْفِها، فلم يَلْزَمْه عِوَضُها (¬1) كالنِّكاحِ الفاسِدِ. فأمّا إن بَذَلَ له التَّسْلِيمَ في الإجارَةِ الفاسِدَةِ فلم يَتَسَلَّمْها، فلا أجْرَ عليه؛ لأنَّ المَنافِعَ لم تَتْلَفْ تحتَ يَدِه ولا في مِلْكِه، وإنِ اسْتَوْفَى المَنْفعةَ في العَقْدِ الفاسِدِ، فعليه أجْرُ المِثْلِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِبُ أقَلُّ الأمْرَينِ مِن المُسَمَّى أو أجْرِ المِثْلِ، بِنَاءً منه على أنَّ (¬2) المَنافِعَ لا تُضْمَن إلا بالعَقْدِ. ولَنا، أنَّ ما ضُمِنَ بالمُسَمَّى في العَقْدِ الصَّحِيحِ، وَجَبَ ضَمانُه بجَمِيعِ القِيمَةِ في الفاسِدِ، كالأعْيانِ، وما ذَكَرُوه غيرُ مُسَلَّمٍ. ¬

(¬1) في م: «عوضه». (¬2) سقط من: م.

2225 - مسألة: (إذا اكترى بدراهم، وأعطاه عنها دنانير، ثم انفسخ العقد، رجع المستأجر بالدراهم)

وَإذَا اكْتَرَى بِدَرَاهِمَ، وَأَعْطَاهُ عَنْها دَنَانِيرَ، ثُمَّ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالدَّرَاهِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2225 - مسألة: (إذا اكْتَرَى بدَراهِمَ، وأعْطاه عنها دَنانِيرَ، ثم انْفَسخَ العَقْدُ، رَجَعَ المُسْتَأْجِرُ بالدَّراهمِ) لأنَّ العَقْدَ إذا انْفَسَخَ، رَجَعَ كلُّ واحِدٍ مِن المُتعاقِدَين في العِوَضِ الذي بَذَلَه، وعِوَضُ العَقْدِ هو الدَّراهِمُ، فكان الرُّجُوعُ بها، والدَّنانِيرُ إنَّما أخَذَها المُؤْجِرُ بعَقْدٍ آخَرَ سِوَى الإجارَةِ، ولم يَنْفَسِخْ، فأشْبَهَ ما إذا قَبَضَ الدَّراهمَ ثم صَرَفَها بالدَّنانِيرِ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب السبق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ السَّبْقِ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَالأَقْدَامِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالسُّفُنِ، وَالْمَزَارِيقِ، وَغَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ السَّبْقِ 2226 - مسألة: (تَجُوزُ المُسابَقَةُ على الدَّوابِّ، والأقْدام) والخَيلِ (والسُّفُنِ والمَزارِيقِ (¬1)، وسائِرِ الحَيَواناتِ) والأصْلُ في ذلك السُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمّا السُّنَّةُ، فرَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ بينَ الخَيلِ المُضْمَرَةِ (¬2) مِن الْحَفْياء إلى ثَنِيَّةِ الوَداعِ، وبينَ التي لم تُضْمَرْ ¬

(¬1) المزاريق: الرماح القصيرة. (¬2) المضمرة: التي قلل علفها، وأدخلت بيتا كنينا، وجُلِّلت فيه لتعرق ويجف عرقها، فيخف لحمها وتقوى على الجري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن [ثَنِيَّةِ الوَداعِ] (¬1) إلى مَسْجدِ بني زُرَيقٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال موسى بنُ عُقْبَةَ: مِن (¬3) الحَفْياءِ إلى ثَنِيَّةِ الوَداعِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبْعَةُ أمْيالٍ. وقال سُفْيانُ: مِن الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بني زُرَيقٍ مِيلٌ أو نحوُه. وأجْمَعَ المسلمون على جَوازِ المُسابَقَةِ في الجُمْلَةِ. والمُسابَقَةُ على ضَرْبَين؛ مُسابَقَة بغيرِ ¬

(¬1) في ر 1، م: «الثنية». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب هل يقال: مسجد بني فلان؟ من كتاب الصلاة، وفي: باب إضمار الخيل للسبق. . . .، من كتاب الجهاد، وفي: باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحَضَّ على اتفاق أهل العلم. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري، 1/ 114، 4/ 38، 9/ 129. ومسلم، في: باب المسابقة بين الخيل وتضميرها، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1491. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرهان والسبق، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 189، 190. والنسائي، في: باب غاية السبق للتي لم تضمر، وباب إضمار الخيل للسبق، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 187، 188. وابن ماجه، في: باب السبق والرهان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 960. والدارمي، في: باب في السبق، من كتاب الجهاد. سنن الدارمي 2/ 212. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها. . . .، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 467، 468. (¬3) في م: «بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضٍ، ومُسابَقَةٌ بعوَضٍ. فأمّا المسابَقَةُ بغيرِ عِوَضٍ، فتَجُوزُ مُطْلَقًا مِن غيرِ تَقْيِيدٍ بشيءٍ مُعَيَّن؛ كالمُسابَقَةِ على الأقْدامِ، والسُّفُنِ، والطُّيورِ، والبِغالِ، والحُمُرِ، والفِيَلَةِ، والمَزارِيقِ. وتَجُوزُ المُصارَعَةُ، ورَفْعُ الحِجارَة؛ ليُعْرَفَ الأَشَدُّ، وغيرُ هذا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان مع عائشةَ في سَفَرٍ، فسابَقَتْه على رِجْلِها فسَبَقَتْه، قالت: فلَمّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سابَقْتُه فسَبَقَنِي، فقال: «هذِهِ بتِلْكَ». رَواه أبو داودَ (¬1). وسابَقَ سَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ رجلًا مِن الأنْصارِ بينَ يَدَي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في يَوْمِ ¬

(¬1) في: باب في السبق على الرِّجل، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 28. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 264.

2227 - مسألة: (ولا تجوز بعوض، إلا في الخيل، والإبل، والسهام)

وَلَا تَجُوزُ بِعِوَضٍ، إلَّا فِي الْخَيلِ، وَالْإبِلِ، وَالسِّهَامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذي قَرَدٍ (¬1). وصارَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رُكانَةَ فصَرَعَه. رَواه التِّرمِذِيُّ (¬2). ومَرَّ بقَوْم يَرْبَعُونَ حَجَرًا -يَعْنِي يَرْفَعُونَه- ليَعْرِفُوا الأشَدَّ منهم، فلم يُنْكِرْ عليهم (¬3). وسائِرُ المُسابَقَةِ يُقاسُ على هذا. 2227 - مسألة: (ولا تَجُوزُ بعِوَض، إلَّا في الخَيلِ، والإبِلِ، والسِّهامِ) لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ، أوْ ¬

(¬1) ذو قرد: ماء نحو يوم من المدينة، مما يلي بلاد غطفان. والحديث أخرجه مسلم، في: باب غزوة ذي قرد وغيرها، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1439. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 53. (¬2) في: باب العمائم على القلانس، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 278. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العمائم، من كتاب اللباس، سنن أبي داود 2/ 376. (¬3) ذكره أبو عبيد، في: غريب الحديث 1/ 15، 16.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُفٍّ، أوْ حَافِرٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). فالسَّبْقُ بسُكُونِ الباءِ؛ المُسابَقَةُ، والسَّبَقُ بفَتْحِها؛ الجُعْلُ (¬2) المُخْرَجُ في المُسابَقَةِ. واخْتَصَّتْ هذه الثَّلاثةُ بتَجْويزِ العِوَضِ فيها؛ لأنَّها مِن آلاتِ الحَرْبِ المَأْمُورِ بتَعَلُّمِها وإحْكامِها والتَّنَوِّقِ (¬3) فيها. وفي المُسابَقَةِ بها مع العِوَضِ مُبالغَةٌ في الاجْتِهادِ فيها والإحْكامِ لها، وقد وَرَد الشَّرْعُ بالأمْرِ بها والتَّرْغِيبِ في فِعْلِها، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (¬4). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «ألَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ». [رَواه مسلمٌ] (¬5). ¬

(¬1) في: باب في السبق، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 28. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرهان والسبق، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 192. والنسائي، في: باب السبق، من كتاب الخيل. المجتبى 6/ 188. وابن ماجه، في: باب السبق والرهان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 960. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 256، 358، 385، 474. (¬2) زيادة من: م. (¬3) في م: «التفوق». والتنوق: المبالغة في الإجادة. (¬4) سورة الأنفال 60. (¬5) سقط من: تش، ر 1، م. والحديث أخرجه مسلم، في: باب فضل الرمي والحث عليه،. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1522. وأبو داود، في: باب في الرمي، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 13. والترمذي، في: باب سورة الأنفال، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 11/ 214. وابن ماجه، في: باب الرمي في سبيل الله، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 940. والدارمي في: باب في فضل الرمي. . . .، من كتاب الجهاد. سنن الدارمي 2/ 204. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬1) عن خالِدِ بنِ زيدٍ، قال: كُنْتُ رجلًا رِامِيًا، وكان عُقْبَةُ بنُ عامِر الجُهَنِيُّ (¬2) يَمُرُّ فيقولُ: يا خالدُ، اخْرُجْ بنا نَرْمِي. فلَمّا كان ذاتَ يومٍ، أْبْطَأتُ عنه، فقال: هَلُمَّ أُحَدِّثْكَ حَدِيثًا سَمِعْتُه مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الله يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثةً الْجَنَّةَ؛ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الْخَيرَ، والرَّامِيَ بِهِ، ومُنْبلَهُ، ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأنْ تَرْمُوا أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ تَرْكَبُوا، وَلَيسَ مِنَ اللَّهْو إلَّا ثَلاثٌ؛ تأدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، ومَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعدَ مَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا». رَواه أبو داودَ (¬3). وعن مُجاهِدٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَلائكَةَ لَا تَحْضُرُ مِنْ لَهْوكُمِ إلَّا الرِّهَانَ وَالنِّضَال» (¬4). قال الأزْهَرِيُّ: النِّضالُ في الرَّمْي، والرِّهانُ في الخَيلِ، والسِّباقُ فيهما. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الرمي وفضله، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 171. (¬2) في الأصل «الجهمي» خطأ. (¬3) في: باب في الرمي، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 12، 13. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 135، 136. والنسائي. في: باب ثواب من رمى بسهم. . . .، من كتاب الجهاد. وفي: باب تأديب الرجل فرسه، من كتاب الخيل. المجتبى 6/ 24، 185. وابن ماجه، في: باب الرمي في سبيل الله، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 940. والدارمي، في: باب في فضل الرمي والأمر به، من كتاب الجهاد. سنن الدارمي 2/ 204، 205. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 144، 146، 148. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور، في الباب السابق. السنن 2/ 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مُجاهِدٌ: أدْرَكْتُ (¬1) ابنَ عُمَرَ يَشْتَدُّ بينَ الهَدَفَين، إذا أصاب خَصْلَةً قال: أنا بها، أنا بها. وعن حُذَيفَةَ مِثْلُه (¬2). فلا تَجُوزُ المُسابَقَةُ بعِوَضٍ إلَّا في هذه الثلاثةِ. وبهذا قال الزُّهْرِيُّ، ومالِكٌ. وقال أهلُ العِراقِ: يَجُوزُ (¬3) ذلك في المُسابَقَةِ على الأقْدامِ، والمُصارَعَةِ؛ لوُرُودِ الأثَرِ بهما؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ عائشةَ، وصارَعَ رُكانَةَ (¬4). ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان، كالمَذْهَبَين. ولهم في المُسابَقَةِ بالطُّيورِ والسُّفُنِ وَجْهان، بِناءً على الوَجْهين في المُسابَقَةِ على الأقْدامِ والمُصارَعَةِ. ولَنا، ما ذَكرْنا مِن الحديثِ، فنَفَى السَّبْقَ في غيرِ هذه الثلاثةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد به نَفْيَ الجُعْلِ، أي لا يَجُوزُ الجُعْلُ إلَّا في هذه الثلاثةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُرادَ به نَفْيُ المُسابَقَةِ بعِوَضٍ، فإنَّه يتَعَيَّنُ حَمْلُ الخَبَرِ على أحَدِ الأمْرَين؛ للإِجْماعِ على جَوازِ المُسابَقَةِ بغيرِ عِوَضٍ في غيرِ هذه الثلاثةِ، وعلى كلِّ ¬

(¬1) في الأصل: «إذا ركب». (¬2) أخرجهما سعيد بن منصور، في الباب السابق. السنن 2/ 172، 173. (¬3) في م: «نحو». (¬4) تقدم تخريجهما في صفحة 7، 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقْديرٍ فالحديثُ حُجَّةٌ لَنا. ولأنَّ غيرَ هذه الثلاثةِ لا يُحْتاجُ إليها في الجِهادِ كالحاجَةِ إلى الثلاثةِ، فلم تَجُزِ المُسابَقَةُ عليها بعِوضٍ، كالرَّمْي بالحِجَارَةِ ورَفْعِها. إذا ثَبَت هذا، فالمُرادُ بالنَّصْلِ السِّهامُ مِن النُّشَّابِ والنَّبْلِ [دُونَ غيرِها] (¬1)، وبالحافِرِ الخَيلُ وَحْدَها، وبالخُفِّ الإبِلُ خاصَّةً. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: تَجُوزُ المُسابَقَةُ بكلِّ ما له نَصْلٌ مِن المَزارِيقِ، وفي الرُّمْحِ والسَّيفِ وَجْهان، وفي الفِيلِ والبِغالِ والحَمِيرِ وَجْهان؛ لأنَّ للمَزارِيقِ والرِّماحِ والسُّيُوفِ نَصْلًا، وللفِيلِ خُفًّا، وللبِغالِ والحميرِ حَوافِرَ، فتَدْخُلُ في عُمُومِ الخبرِ. ولَنا، أنَّ هذه الحَيَواناتِ المُخْتَلَفِ فيها لا تَصْلُحُ للكَرِّ والفَرِّ، ولا يُقاتَلُ عليها، ولا يُسْهَمُ لها، والفِيلُ لا يُقاتِلُ عليه أهلُ الإِسلام، والرِّماحُ والسُّيُوفُ لا يُرْمَى بها، فلم تَجُزِ المُسابَقَةُ عليها، كالبَقَرِ والتِّراسِ (¬2)، والخَبَرُ ليس بعامٍّ فيما تَجُوزُ المُسابَقَةُ به، لأنَّه نَكِرَةٌ في إثْباتٍ، وإنَّما هو عامٌّ في نَفْي ما لا تجوزُ المُسابَقَةُ به بعِوَضٍ؛ لكَوْنِه نَكِرَةً في سِياقِ النَّفْي، ثم لو كان عامًّا، لحُمِلَ على ما عُهِدَتِ المُسابَقَةُ عليه ووَرَد الشَّرْعُ بالحَثِّ على تَعَلُّمِه، وهو ما ذَكَرناه. ¬

(¬1) في م: «وغيرها». (¬2) التراس: جمع الترس.

2228 - مسألة: ولا تصح إلا (بشروط خمسة؛ أحدها، تعيين المركوب والرماة)

بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أَحَدُهَا، تَعْيِينُ الْمَرْكُوبِ وَالرُّمَاةِ، سَوَاءٌ كَانَا اثْنَينِ أوْ جَمَاعَتَينِ. وَلَا يُشْترطُ تَعْيِينُ الرَّاكِبَينِ، وَلَا الْقَوْسَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2228 - مسألة: ولا تَصِحُّ إلَّا (بشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أحَدُها، تَعْيِينُ المَرْكُوبِ والرُّماةِ) لأنَّ القَصْدَ مَعْرِفَةُ جَوْهَرِ الدّابَّتَين وسُرْعَةِ عَدْوهما، ومَعْرِفَةُ حِذْقِ الرُّماةِ، ولا يَحْصُلُ إلَّا بالتَّعْيِينِ؛ لأنَّ المقْصُودَ مَعْرِفَةُ حِذْقِ رامٍ بعَينِه، لا مَعْرِفَةُ حِذْقِ رامٍ في الجُمْلَةِ، فلو عَقَدَ اثْنانِ نِضالًا على أنَّ مع كلِّ واحِدٍ منهما ثلاثةً غيرَ مُتَعَيِّنِين، لم يَجُزْ؛ لذلك. 2229 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الرّاكِبَين ولا القَوْسَين) لا يُشْتَرطُ تَعْيِينُ القَوْسِ ولا السِّهامِ في المُناضَلَةِ، ولو عَيَّنَها لم تَتَعَيَّنْ؛ لأنَّ القَصْدَ مَعْرِفَةُ الحِذْقِ، وهو لا يَخْتَلِفُ إلَّا بالرّامِي (¬1) دُونَ القَوْسِ والسِّهامِ. وفي الرِّهانِ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الحَيَوانِ الذي يُسابَقُ به؛ لِما ذَكرْنا. ولا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الرّاكِبِ؛ لأنَّ المقْصودَ مَعْرِفَةُ عَدْو الفَرَسِ، لا حِذْقِ الرّاكِبِ. وكلُّ ما يتَعَيَّنُ لا يَجُوزُ إبْدالُه، كالمُتَعَيِّنِ في البَيعِ. وما لا يَتَعَيَّنُ يَجُوزُ إبْدالُه لعُذْرٍ وغيرِه. فعلى هذا، إن شَرَطا أن لا يَرْمِيَ بغيرِ هذا القَوْس، ولا بغيرِ هذا السَّهْمِ، أو لا يَرْكَبَ غيرُ هذا الرّاكِبِ، فهي شُرُوطٌ فاسِدَةٌ؛ لأنَّها (¬2) تُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، فهو كما لو شَرَط إصابَةً بإصابَتَين. ¬

(¬1) في م: «بالرمي». (¬2) في تش، م: «وهي».

2230 - مسألة: (الثاني، أن يكون المركوبان والقوسان من نوع واحد، فلا يجوز بين عربي وهجين، ولا بين قوس عربية وفارسية. ويحتمل الجواز)

الثَّانِي، أَن يَكُونَ الْمَركُوبَانِ وَالْقَوْسَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ بَينَ عَرَبِيٍّ وَهَجِينٍ، وَلَا بَينَ قَوْس عَرَبِيَّةٍ وَفَارِسِيَّةٍ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ عَقْدُ النِّضالِ على اثْنَين، وعلى جَماعَةٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على أصْحابٍ له يَنْتَضِلُون، فقال: «ارْمُوا، وأنَا مَعَ ابنِ الأدْرَعِ». فأمْسَكَ الآخَرُون، وقالُوا: كيف نَرْمِي وأنت مع ابنِ الأدْرَعِ؟ فقال: «ارْمُوا، وَأنَا مَعَكُم كُلِّكُمْ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). ولأنَّه إذا جاز أن يَكُونا اثْنَين، جاز أن يَكُونا جَماعَتَين؛ لأنَّ المَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الحِذْقِ، وهو يَحْصُلُ في الجَماعَتَين. وكذلك في سِباقِ الخَيلِ، وقد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ بينَ الخَيلِ المُضْمَرَةِ، وبينَ الخَيلِ التي لم تُضْمَرْ (¬2). 2230 - مسألة: (الثّانِي، أن يَكُونَ المَرْكُوبان والقَوْسان مِن نَوْعٍ واحِدٍ، فلا يَجُوزُ بينَ عَرَبِيٍّ وهَجِين، ولا بينَ قَوْسٍ عَرَبِيَّةٍ وفارسِيَّةٍ. ويَحْتَمِلُ الجَوَازُ) إذا كانا مِن جِنْسَين، كالفَرَسِ والبَعِيرِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ البَعِيرَ لا يَكادُ يَسْبِقُ الفَرَسَ، فلا يَحْصُلُ الغَرَضُ مِن هذه ¬

(¬1) في: باب التحريض على الرمي، من كتاب الجهاد، وفي: باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل. . . .، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 4/ 45، 46، 179، 219.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 50. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسابَقَةِ. فإن كانا مِن نَوْعَين؛ كالعَرَبِيِّ والهَجِينِ، والبُخْتِيِّ والعِرابِيِّ (¬1)، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ بينَهما في الجَرْي مَعْلُومٌ بحُكْمِ العادَةِ، فأشْبَها الجنْسَين. والثانِي، يَصِحُّ. ذَكَرَه القاضي. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ، [لأنَّهما مِن جِنْسٍ واحِدٍ، وقد يَسْبِقُ كلُّ واحِدٍ منهما الآخَرَ، والضّابِطُ الجِنْسُ، وقد وُجدَ، ويَكْفِي في المَظِنَّةِ احْتِمالُ الحِكْمَةِ ولو على بُعْدٍ. وكذلك الحُكْمُ لو تَناضَلا على أن يَرْمِيَ أحَدُهما بقَوْسٍ عَرَبيَّةٍ والآخَرُ بالفارِسِيَّةِ، هل يَصِحُّ؟ فيه الوَجْهان؛ يَصِحُّ عندَ القاضي. وهو مَذْهبُ الشافعيِّ. ولا يَصِحُّ عندَ أبي الخَطّابِ؛ لِما ذَكَرْنا] (¬2). ¬

(¬1) البختي: الإبل الخراسانية. والعرابي: الخيل العربية. (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأْسَ بالرَّمْي بقَوْسٍ فارِسِيَّةٍ، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ. وقد نَصَّ على جَواز المُسابَقَةِ بها. وقال أبو بكر: يُكْرَه؛ لأنَّه قد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه رَأَى مع رجل قَوْسًا فارِسِيَّة، فقال: «ألْقِها فإنَّها مَلْعُونَةٌ، وَلَكِنْ عليكم بالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِرِمَاحِ الْقَنَا، فَبِها يُؤيِّدُ اللهُ الدِّينَ، وَبِهَا يُمَكِّنُ اللهُ لَكُم فِي الأَرْضِ». رَواه الأثْرَمُ (¬1). ولَنا، انْعِقادُ الإجْماعِ على الرَّمْي بها وإباحَةِ حَمْلِها، فإنَّ ذلك جارٍ في أكْثرَ الأعْصارِ، وهي التي يَحْصُلُ الجِهادُ بها في عَصْرِنا هذا. وأمَّا الخَبَرُ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لَعَنَها؛ لأنَّ حَمَلَتَها في ذلك العَصْرِ العَجَمُ، ولم يَكُونُوا أسْلَمُوا بعدُ، ومَنَع العَرَبَ مِن حَمْلِها لعَدَمِ مَعْرِفَتِهم بها، ولهذا أمَرَ برِماحِ القَنا، ولو حَمَل إنْسان رُمْحًا غيرَها لم يكنْ مَذْمُومًا. وحَكَى أحمدُ، أنَّ قَوْمًا اسْتَدَلُّوا على القِسِيِّ الفارِسِيَّةِ بقَوْلِه تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬2). لدُخُولِه في عُمُومِ الآيَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) وأخرجه ابن ماجه، في: باب في السلاح، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 939. وفي الزوائد: في إسناده عبد الله بن بشر الجياني، ضعفه يحيى القطان وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات لكنه ما أجاد في ذلك. (¬2) سورة الأنفال 60.

2231 - مسألة: (الثالث، تحديد المسافة، والغاية، ومدى الرمي، بما جرت به العادة)

الثَّالِثُ، تَحْدِيدُ الْمَسَافَةِ، وَالْغَايَةِ، وَمَدَى الرَّمْي، بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2231 - مسألة: (الثّالِثُ، تَحْدِيدُ المَسافَةِ، والغايَةِ، ومَدَى الرَّمْي، بما جَرَتْ به العادَةُ) يُشْتَرَطُ في المُسابَقَةِ بالحَيَوانِ تَحْدِيدُ المَسافَةِ، وأن يكونَ لابْتِداءِ عَدْوهما وآخِرِه غايَةٌ لا يَخْتَلِفان فيها؛ لأنَّ الغَرَضَ مَعْرِفَةُ أسْبَقِهما، ولا يُعْلَمُ ذلك إلَّا بتَساويهما في الغايَةِ؛ لأنَّ أحَدَهما قد يكونُ مُقَصِّرًا في أوَّلِ عَدْوه، سَرِيعًا في انْتِهائِه، وبالعَكْسِ، فيَحْتاجُ إلى غايَةٍ تَجْمَعُ حالتَيه، ومِن الخَيلِ ما هو أصْبَرُ، والقارِحُ أصْبَرُ مِن غيرِه. وروَى ابنُ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّقَ بينَ الخَيلِ، وفَضَّلَ القُرَّحَ في الغايَةِ.

2232 - مسألة: (الرابع، كون العوض معلوما)

الرَّابعُ، كَوْنُ الْعِوَضَ مَعْلُومًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه أبو داودَ (¬1). فإنِ اسْتَبَقا بغيرِ غايَةٍ ليُنْظَرَ أيُّهما يَقِفُ أوَّلًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى أن لا يَقِفَ أحَدُهما حتى تَنْقَطِعَ فَرَسُه، ويَتَعَذَّرَ الإشْهادُ على السَّبْقِ فيه. ولذلك (¬2) يُشْتَرَطُ مَعْرِفةُ مَدَى الرَّمْي؛ إمّا بالمُشاهَدَةِ، أو بالذُّرْعانِ، نَحْوَ مائةِ ذِراعٍ، أو مائَتَيْ ذِراعٍ؛ لأنَّ الإصابَةَ (¬3) تَخْتَلِفُ بالقُرْبِ والبُعْدِ. ويَجُوزُ ما يَتَّفِقان عليه، إلَّا أن يَجْعَلا مسافَةً بَعِيدَةً تَتَعَذَّرُ الإصابَة في مِثْلِها غالِبًا، وهو ما زاد على ثَلاثمائَةِ ذراعٍ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الغَرَضَ يَفُوتُ بذلك، وقد قيل: إَّنه ما رَمَى في أرْبَعِمائَةِ ذِراعٍ إلَّا عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ الجُهَنِيُّ، رَضِي اللهُ عنه. 2232 - مسألة: (الرّابعُ، كَوْنُ العِوَضِ مَعْلُومًا) لأنَّه مالٌ في عَقْدٍ (¬4)، فوَجَبَ العِلْمُ به، كسائِرِ العُقُودِ؛ إمّا بالمُشاهَدَةِ، أو بالقَدْرِ، أو بالصِّفَةِ، على ما تَقَدَّمَ في غيرِ مَوْضِعٍ. ويَجُوزُ أن يكونَ حالًّا ¬

(¬1) في: باب في السبق، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 28. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 157. (¬2) في ق: «وكذلك». (¬3) بعده في م: «به». (¬4) في الأصل: «عوض».

2233 - مسألة

الْخَامِسُ، الْخُرُوجُ عَنْ شِبْهِ الْقِمَارِ، بِأَنْ لَا يُخْرِجَ جَمِيعُهُمْ، فَإنْ كَانَ الْجُعْلُ مِنَ الْإِمَامِ، أَوْ أحَدٍ غَيرِهِمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ أَخَذَهُ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُؤَجَّلًا، وبَعْضُه حالًّا وبَعْضُه مُؤَجَّلًا، فلو قال: إن فَضَلْتَنِي (¬1) فلك دِينارٌ حالٌّ وقفيزُ حِنْطَةٍ بعدَ شهرٍ. جاز؛ لأنَّ ما جاز أن يكونَ حالًّا ومُؤَجَّلًا، جاز أن يكونَ بَعْضُه حالًّا وبَعْضُه مُؤجَّلًا، كالبَيعِ، غيرَ أنَّه يُحْتاجُ إلى صِفَةِ الحِنْطَةِ بما تُعْلَمُ به، كالسَّلَمِ. 2233 - مسألة (¬2): الشَّرْطُ (الخامِسُ، الخُرُوجُ عن شِبْهِ القِمارِ، بأن لا يُخْرِجَ جَمِيعُهم) متى اسْتَبَقَ اثْنان والجُعْلُ منهما، فأخْرَجَ كلُّ واحِدٍ منهما (¬3)، لم يَجُزْ، وكان قِمارًا؛ لأنَّ كلّ واحِدٍ منهما لا يَخْلُو مِن أن يَغْنَمَ أو يَغْرَمَ، وهذا قِمارٌ. 2234 - مسألة: (فإن كان الجُعْلُ مِن الإمامِ، أو أحَدٍ غيرِهما، أو أحَدِهما على أنَّ مَن سَبَق أخَذَه، جاز) وجملةُ ذلك، أنَّ المُسابَقَةَ إذا كانت بينَ اثْنَين أو حِزْبَين، لم يَخْلُ؛ إمّا أن تكونَ منهما، أو مِن غيرِهما، فإن كان مِن غيرِهما، أو كان مِن الإمام، جاز، سَواءٌ كان مِن مالِه، أو مِن بيتِ المالِ؛ لأنَّ في ذلك مَصْلَحَةً وَحَثًّا على تَعَلُّمِ الجِهادِ، ونَفْعًا ¬

(¬1) في ق: «نضلتني». (¬2) سقط من الأصل، ر، ق، تش. (¬3) في ق: «بينهما».

2235 - مسألة: (فإن جاءا معا، فلا شيء لهما)

فَإنْ جَاءَا مَعًا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، فَإن سَبَقَ الْمُخْرجُ، أَحْرَزَ سَبَقَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْآخَرِ شَيئًا، وَإِنْ سَبَقَ الآخَرُ، أَحْرَزَ سَبَقَ صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمسلمين. وإن كان غيرَ الإمامِ، فله بَذْلُ العِوَض مِن مالِه. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالِكٌ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّ هذا ممّا يُحْتاجُ إليه للجِهادِ، فاخْتَصَّ به الإمامُ، كتَوْلِيَةِ الولاياتِ وتَأْميرِ الأُمَراءِ. ولَنا، أنَّه بَذْلٌ لمالِه فيما فيه مَصْلَحَةٌ وقُرْبَةٌ، فجاز، كما لو اشْتَرَى به خَيلًا أو سِلاحًا. فأمّا إن كان منهما (¬1)، اشْتُرِطَ كونُ الجُعْلِ مِن أحَدِهما، فيقولُ: إن سَبَقْتَنِي فلَكَ عَشَرَةٌ، وإن سَبَقْتُك فلا شيء عليكْ. فهو جائِزٌ. وحُكِيَ عن مالِكٍ، أنَّه لا يَجُوزُ؛ لأنَّه قِمارٌ. ولَنا، أنَّ أحَدَهما يَخْتَصُّ بالسَّبَقِ، فجازَ، كما لو أخْرَجَه الإمامُ. ولا يَصِحُّ ما ذكَرَه؛ لأنَّ القِمارَ لا يَخْلُو كلُّ واحدٍ منهما مِن أن يَغْنَمَ أو يَغْرَمَ، وههُنا لا خَطَرَ على أحَدِهما، فلا يكونُ قِمارًا. 2235 - مسألة: (فإن جاءا مَعًا، فلا شيءَ لهما) لأنَّه لا سابقَ فيها (وإن سَبَق المُخْرِجُ، أحْرَزَ سَبَقَه) ولا شيءَ له على صاحِبِه؛ لأَنَّه لو أخَذَ منه شيئًا، كان قِمارًا (وإن سَبَق الآخَرُ، أحْرَزَ سَبَقَ) المُخْرِجِ فمَلَكَه، وكان كسائِرِ أمْوالِه؛ لأنَّه عِوَضٌ في الجَعالةِ، فمُلِكَ ¬

(¬1) في الأصل: «من أحد».

2236 - مسألة: (وإن أخرجا معا، لم يجز، إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما، أو بعيره بعيريهما، أو رميه رمييهما، فإن سبقهما أحرز سبقهما، وإن سبقاه، أحرزا سبقيهما، ولم يأخذا منه شيئا، وإن سبق أحدهما أحرز السبقين، وإن سبق معه المحلل، فسبق الآخر بينهما)

فَإنْ أَخْرَجَا مَعًا، لَمْ يَجُزْ، إلا أَنْ يُدْخِلَا بَينَهُمَا مُحَلِّلًا يُكَافِئُ فَرَسُهُ فَرَسَيهِمَا، أَوْ بَعِيرُهُ بَعِيرَيهِمَا، أَوْ رَمْيُهُ رَمْيَيْهِمَا، فَإنْ سَبَقَهُمَا أَحْرَزَ سَبَقَيهِمَا، وَإنْ سَبَقَاهُ أَحَرَزَا سَبَقَيهِمَا، وَلَم يَأْخُذَا مِنْهُ شَيئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحْرَزَ السَّبَقَينِ، وَإنْ سَبَقَ مَعَهُ الْمُحَلِّلُ، فَسَبَقُ الآخرِ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، كالعِوَضِ المَجْعُولِ (¬1) في رَدِّ الضَّالَّةِ. فإن كان العِوَضُ في الذِّمَّةِ، فهو دَينٌ يُقْضَى به عليه، ويُجْبَرُ على تَسْليمِه إن كان مُوسِرًا، وإن أفْلسَ، ضَرَب به مع الغُرَماءِ. 2236 - مسألة: (وإن أخْرَجا مَعًا، لم يَجُزْ، إلَّا أن يُدْخِلا بينَهما مُحَلِّلًا يُكافِئُ فَرَسُه فَرَسَيهما، أو بَعِيرُه بَعِيرَيهما، أو رَمْيُه رَمْيَيهما، فإن سَبَقَهما أحْرَزَ سَبَقَهما، وإن سَبَقاه، أحْرَزا سَبَقَيهما، ولم يَأْخُذا منه شيئًا، وإن سَبَق أحَدُهما أحْرَزَ السَّبَقَين، وإن سَبَق معه المُحَلِّلُ، فسَبَقُ الآخَرِ بينَهما) السَّبَقُ، بفَتْحِ الباءِ: الجُعْلُ الذي يُسابَقُ عليه، ويُسَمَّى الخَطَرَ والنَّدَبَ، والقَرَعَ، والرَّهْنَ. ويقال: سَبَق. إذا أخَذَ، وإذا أعْطَى. وهو مِن الأضْدادِ. متى اسْتَبَقَ اثْنان، فأخْرَجَ كلُّ واحِدٍ منهما لم يَجُزْ، وكان ¬

(¬1) في ر: «للمجهول»، في م: «المجهول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِمارًا (¬1)؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما لا يَخْلُو مِن أن يَغْنَمَ أو يَغْرَمَ. وسَواءٌ كان ما أخْرَجاه مُتَساويًا، أو مُتَفاوتًا (¬2)، مثلَ أن أخْرَج أحَدُهما عَشَرَةً والآخَرُ خَمْسَةً. ولو قال: إن سَبقْتَنِي فلَكَ عَلَيَّ (¬3) عشرةٌ، وإن سبَقْتُك فلي عليك قَفِيزُ حِنْطَةٍ. أو قال: إن سبَقْتَنِي فلك عَلَيَّ عَشَرَةٌ، ولي عليكَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ. لم يَجُزْ؛ لِما ذَكَرْناه. فإن أدْخَلا بينَهما مُحَلِّلًا، وهو ثالِثٌ لم يُخْرِجْ شيئًا، جاز. وبهذا قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْي. وحَكَى أشْهَبُ عن مالِكٍ، أنَّه قال في المُحَلِّلِ: لا أُحِبُّه. وعن جابِرِ بنِ زيدٍ، أَنه قِيلَ له: إنَّ أصْحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانُوا لا يَرَوْن بالدَّخِيلِ بَأْسًا. قال: هُم أعَفُّ مِن ذلك. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أدْخَلَ فَرَسًا بَينَ فَرَسَينِ، وهُوَ لَا يُؤْمَنُ أنْ يَسْبِقَ، فَلَيسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أدْخَلَ فَرَسًا بَينَ ¬

(¬1) في حاشية تش: «حكاه ابن عبد البر إجماعًا». (¬2) في تش: «متقاربا». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرَسَينِ، وقَد أَمِنَ أنْ يَسْبقَ، فَهُوَ قِمَارٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). فجَعَلَه قِمارًا إذا أمِنَ أن يَسْبِقَ؛ لأنَّه لا يَخْلُو كلُّ واحِدٍ منهما مِن أن يَغْنَمَ أو يَغْرَمَ، وإذا لم يُؤْمَنْ أن يَسْبِقَ، لم يكنْ قِمارًا؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَجُوزُ أن يَخْلُوَ عن ذلك. ويُشْتَرَطُ أن يكونَ فَرَسُ المُحَلِّلِ مُكافِئًا لفَرَسَيهِما، أو بَعِيرُه لبَعِيرَيهما، أو رَمْيُه لرَمْيَيهما، فإن لم يكنْ مُكافِئًا، مثلَ أن تكونَ فَرَساهما أجْودَ مِن فَرَسِه، فيكُونا جَوادَين وهو بَطِئٌ، فهو قِمارٌ؛ للخَبَرِ، ولأنَّه مَأْمُونٌ سَبْقُه، فوُجُودُه كعَدَمِه. وإن كان مُكافِئًا، جاز. فإن جاءُوا الغايَةَ دَفْعَة واحِدَةً، أحْرَزَ كُلُّ واحدٍ منهما سَبَقَ نَفْسِه، ولا شيءَ للمُحَلِّلِ؛ لأنَّه لا سابِقَ فيهم، وكذلك إن سَبَقا المُحَلِّلَ. وإن سَبَق ¬

(¬1) في: باب في المحلل، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 28، 29. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب السبق والرهان، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 960. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 505. قال أبو حاتم: أحسن أحواله أن يكون موقوفًا على سعيد بن المسيب. انظر تلخيص الحبير 4/ 163. وذكره الإمام مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب بمعناه، في: باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها. . . .، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 468.

2237 - مسألة: (وإن قال المخرج: من سبق فله عشرة، ومن صلى فله ذلك. لم يجز إذا كانا اثنين. وإن قال: من صلى فله خمسة. جاز)

وَإنْ قَال الْمُخْرِجُ: مَنْ سَبَقَ، فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَمَنْ صَلَّى فَلَهُ كَذَلِكَ. لَمْ يَصِحَّ إذَا كَانَا اثْنَينِ. وَإِنْ قَال: وَمَن صَلَّى فَلَهُ خَمْسَةٌ. صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحَلِّلُ، أحْرَزَ السَّبَقَين بالاتِّفاقِ، وإن سَبَق أحَدُ المُسْتَبِقَين وَحْدَه، أحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِه، وأخَذَ سَبَقَ صاحِبِه، ولم يَأْخُذْ مِن المُحَلِّلِ شيئًا، وإن سَبَقَ أحَدُ المُسْتَبِقَين والمُحَلِّلُ، أحْرَزَ السّابِقُ مال نَفْسِه، ويكونُ سَبَقُ المَسْبُوقِ بينَ السّابِقِ والمُحَلِّلِ نِصْفين. وسَواءٌ كان المُسْتَبِقُون اثْنَين أو أكْثَرَ، حتى لو كانُوا مائَةً وبينَهم مُحَلِّلٌ لا سَبَقَ منه، جاز. وكذلك (¬1) لو كان المُحَلِّلُ جَماعَةً، جاز؛ لأنَّه لا فَرْقَ بينَ الاثْنَين والجَماعَةِ. وهذا كلُّه (¬2) مَذْهبُ الشافعيِّ. 2237 - مسألة: (وإن قال المُخْرِجُ: مَن سَبَق فله عَشَرَةِ، ومَن صَلَّى فله ذلك. لم يَجُزْ إذا كانا اثْنَين. وإن قال: مَن صَلَّى فله خَمْسَةٌ. جاز) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا كان المُخْرِجُ غيرَ المُتَسابِقَين، فقال لهما أو لجَماعَةٍ: أيُّكم سَبَق فله عَشَرَةٌ. جاز؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم يَطْلُبُ أن يكونَ سابِقًا، فأيُّهم سَبَق اسْتَحَقَّ العَشَرَةَ، فإن جاءُوا جَمِيعًا، فلا شيءَ لواحِدٍ منهم؛ لأنَّه لا سابِقَ فيهم. وإن قال لاثْنَين: أيُّكما سَبَق فله عَشَرَةٌ، وأيُّكما صَلَّى فله ذلك. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في طَلَبِ السَّبْقِ، فلا يَحْرِصُ عليه. وإن قال: ومَن صَلَّى فلَه خَمْسَة. صَحَّ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ ¬

(¬1) في م: «ولذلك». (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما يَطْلبُ السَّبْقَ لفائِدَتِه فيه بزِيادَةِ الجُعْلِ. وإن كانُوا أكْثَر مِن اثْنَين، فقال: مَن سَبَق فله عَشَرَةٌ، ومَن صَلَّى فله ذلك. صَحَّ؛ لأنَّ كل واحدٍ منهم يَطْلُبُ أن يكونَ سابِقًا أو مُصَلِّيًا. والمُصَلِّي هو الثانِي؛ لأنَّ رَأْسَه عندَ صَلَى الآخَرِ، والصَّلَوان؛ هما العَظْمان النّاتِئان مِن جانِبَي الذَّنَبِ. وفي الأثَرِ في عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: سَبَق أبو بكرٍ، وصَلَّى عُمَرُ، وخَبَطَتْنا فِتْنَةٌ (¬1). قال الشّاعِرُ (¬2): إنْ تُبْتَدَرْ غَايَةٌ يَوْمًا لِمَكْرُمَةٍ … تَلْقَ السَّوابِقَ مِنَّا (¬3) وَالْمُصَلِّينَا فإن قال: للمُجَلِّي، وهو الأوَّلُ مائةٌ، وللمُصَلِّي، وهو الثانِي، تِسْعُون، ولِلتّالِي، وهو الثالثُ، ثَمانون، وللنّازِعِ، وهو الرابعُ، سَبْعُون، وللمُرْتاحِ، وهو الخامِسُ، سِتُّون، وللحَظِيِّ، وهو السّادِسُ، خَمْسُون، وللعاطِفِ، وهو السابعُ، أرْبَعُون، وللمُؤمِّلِ، وهو الثامِنُ، ثَلاثُون، وللَّطِيمِ، وهو التاسِعُ، عِشْرُون، وللسِّكِّيتِ، وهو العاشِرُ، عَشَرَةٌ، وللفُسْكُلِ، وهو الآخِرُ، خمسةٌ. صَحَّ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ يَطْلُبُ السَّبْقَ، فإذا فاتَه طَلَب ما يَلِي السّابِقَ. والفُسْكُلُ اسمٌ للآخِرِ، ثم اسْتُعْمِلَ هذا في غيرِ المُسابَقَةِ بالخَيلِ تَجَوُّزًا، كما رُوِيَ أن أسْماءَ بنتَ عُمَيس كانت تَزَوَّجَتْ جَعْفَرَ بنَ أبي طالِبٍ، فوَلَدَتْ له عبدَ اللهِ ومحمدًا وعَوْنًا، ثم تَزَوَّجَها أبو بكر الصِّدِّيقُ، فوَلَدَت له محمدَ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 124، 132، 147. وإسناده حسن. (¬2) البيت لبشامة بن الغدير. الحماسة 1/ 78. (¬3) في الأصل، تش، م: «فينا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنَ أبي بكرٍ، ثم تَزَوَّجَها عليُّ بنُ أبي طالبِ، فقالت له: إنَّ ثلاثةً أنت آخِرُهم لأخْيارٌ. فقال لولَدِها: فَسْكَلَتْنِي أُمُّكم (¬1). وإن جَعَل للمُصَلِّي أكْثَرَ مِن السّابِقِ، أو جَعَل للتّالِي أكثرَ مِن المُصَلِّي، أو لم يَجْعَلْ للمُصَلِّي شيئًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ ذلك يُفْضِي إلى أن لا يَقْصِدَ السَّبْقَ بل يَقْصِدَ التَّأخُّرَ، فيَفُوتَ المَقْصُودُ. فصل: وإذا قال لعَشَرَةٍ: مَن سَبَق منكم فله عَشَرَة. صَحَّ. فإن جاءُوا معًا فلا شيءَ لهم؛ لأنَّه لم يُوجَدِ الشَّرْطُ الذي يُسْتَحَقُّ به الجُعْلُ في واحِدٍ منهم. وإن سَبَقَهم واحِدٌ، فله العَشَرَةُ؛ لوُجُودِ الشَّرْطِ فيه. وإن سَبَق اثْنان، فلهما العَشَرَةُ. وإن سَبَق تِسْعَةٌ وتَأخَّرَ واحِدٌ، فالعَشَرَةُ للتِّسْعَةِ؛ لأنَّ الشَّرْطَ وُجِد فيهم، فكان الجُعْلُ بينَهم، كما لو قال: مَن رَدَّ عَبْدِي الآبِقَ فله كذا. فرَدَّه تِسْعَة. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لكلِّ واحِدٍ مِن السّابِقِين عَشَرَةٌ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم سابِقٌ، فيَسْتَحِقُّ الجُعْلَ بكَمالِه، كما لو قال: مَنْ رَدَّ عَبْدًا لي فله عَشَرةٌ. فرَدَّ كلُّ واحِدٍ عَبْدًا. وفارَقَ ما لو قال: مَن رَدَّ عَبْدِي. فردَّه تِسْعَةٌ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم لم يَرُدَّه، إنَّما رَدُّه حَصَل مِن الكلِّ. ويَصِيرُ هذا كما لو قال: مَن قَتَل قَتِيلًا فله سَلَبُه. فإن قَتَل كلُّ واحِدٍ واحِدًا، فلكلِّ واحِدٍ سَلَبُ قَتِيِله كامِلًا. وإن قَتَل الجَماعَةُ واحِدًا، فلجَمِيعِهم سَلَبُ واحدٍ. وههُنا كلُّ واحِدٍ له سَبْقٌ مُفْرَدٌ، فكان له الجُعْلُ كامِلًا. فعلى هذا، لو قال: مَن سَبَق فله عَشَرَةٌ، ومَن صَلَّى فله خَمْسَةٌ. ¬

(¬1) انظر الخبر في: نوادر المخطوطات لعبد السلام هارون 1/ 77.

2238 - مسألة: (وإن شرطا أن السابق يطعم السبق أصحابه أو غيرهم، لم يصح الشرط. وفي صحة المسابقة وجهان)

وَإنْ شَرَطَا أنَّ السَّابِقَ يُطْعِمُ السَّبَقَ أَصْحَابَهُ أَوْ غَيرَهُمْ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَفِي صِحَّةِ الْمُسَابَقَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فسَبَقَ خَمْسَةٌ، وصَلَّى خَمْسَةٌ، فعلى الوَجْهِ الأوَّل، للسّابِقِين عَشَرَةٌ، لكلِّ واحدٍ منهم دِرْهمان، وللمُصَلِّين خَمْسَةٌ، لكل واحِدٍ منهم دِرْهَمٌ. وعلى الوَجْهِ الثانِي، لكلِّ واحِدٍ مِن السّابِقِين عَشَرَةٌ، فيكونُ لهم خَمْسُون، ولكلِّ واحِدٍ مِن المُصَلِّين خَمْسَةٌ، فيكونُ لهم خَمْسَةٌ وعِشْرُون. ومَن قال بالوَجْهِ الأوَّلِ، احْتَمَل على قَوْلِه أن لا يَصِحَّ العَقْدُ على هذا الوَجْهِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَسْبِقَ تِسْعَةٌ، فيكونَ لهم عَشَرَةٌ، لكلِّ واحِدٍ منهم دِرْهَمٌ وتُسْعٌ، ويُصَلِّيَ واحِدٌ، فيكونَ له خَمْسَةٌ، فيكونَ للمُصلِّي مِن الجُعْلِ أكْثَرُ ممّا للسّابِقِ، فيفوتَ المَقْصودُ. 2238 - مسألة: (وإن شَرَطا أنَّ السّابِقَ يُطْعِمُ السَّبَقَ أصْحابَهُ أو غيرَهم، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ. وفي صِحَّةِ المُسابَقَةِ وَجْهان) لأنَّه عِوَضٌ على عَمَلٍ، فلا يَسْتَحِقُّه غيرُ العامِلِ، كالعِوَضِ في رَدِّ الآبِقِ. ولا يَفْسُدُ العَقْدُ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يَفْسُدُ. ولَنا، أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدٌ لا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُه على تَسْمِيَةِ بَدَلٍ، فلم يَفْسُدْ بالشَّرْطِ الفاسِدِ، كالنِّكاحِ. وذَكَرَ القاضي أنَّ الشُّرُوطَ الفاسِدَةَ في المُسابَقَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَين؛ أحَدُهما، ما يُخِلُّ بشَرْطِ صِحَّةِ العَقْدِ، نحوَ أن يَعُودَ إلى جَهالةِ العِوَضِ، أو المَسافَةِ، ونحوهما، فيَفْسُدُ العَقْدُ؛ لأنَّ العَقْدَ لا يَصِحُّ مع فَواتِ شَرْطِه. والثانِي، ما لا يُخِلُّ بشَرْطِ العَقْدِ، نحوَ أن يَشْتَرِطَ أن يُطْعِمَ السَّبَقَ أصْحابَه أو غيرَهم، أو يَشْتَرِطَ أنّه إذا نَضَل لا يَرْمِي أبدًا، أو لا يَرْمِي شَهْرًا، أو شَرَطا أنَّ لكلِّ واحِدٍ منهما أو لأحَدِهما فَسْخَ العَقْدِ متى شاء بعدَ الشُّرُوعِ في العَمَلِ، وأشْباهُ هذا، فهذه شُرُوطٌ باطِلَةٌ في نَفْسِها، وفي العَقْدِ المُقْتَرِنِ بها وَجْهان؛ أحَدُهما، صِحَّتُه؛ لأنَّ العَقْدَ تَمَّ بأرْكانِه وشُرُوطِه، فإذا حُذِف الزّائِدُ الفاسِدُ بَقِيَ العَقْدُ صَحِيحًا. والثانِي، يَبْطُلُ (¬1)؛ لأنَّه بَذَل العِوَضَ لهذا الغَرَضِ، فإذا لم يحْصُلْ له غَرَضُه، لا يَلْزَمُه العِوَضُ. وكلُّ مَوْضِعٍ فَسَدَتِ المُسابَقَةُ، فإن كان السّابِقُ المُخْرِجَ، أمْسَكَ سَبَقَه، وإن كان الآخَرَ، فله أجْرُ عَمَلِه؛ لأنَّه عَمَلٌ بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له، فاسْتَحَقَّ أجْرَ المِثْلِ، كالإجارَةِ الفاسِدَةِ. ¬

(¬1) في م: «لا يبطل».

فَصْلٌ: وَالْمُسَابَقَةُ جَعَالةٌ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا، إلا أنْ يَظْهَرَ الْفَضْلُ لأحَدِهِمَا، فَيَكُونَ لَهُ الْفَسْخُ دُونَ صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (والمُسابَقَةُ جَعالةٌ، لكلِّ واحِدٍ منهما فَسْخُها، إلَّا أن يَظْهَرَ الفَضْلُ لأحَدِهما، فيَكُونَ له الفَسْخُ دُونَ صاحِبِه) ذَكَرِه ابنُ حامِدٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخرِ: هو لازِمٌ إن كان العِوَضُ منهما، وجائِزٌ إن كان مِن أحَدِهما أو مِن غيرِهما. وذَكَرَه القاضي احْتِمالًا؛ لأنَّه عَقْدٌ مِن شَرْطِه أن يكونَ العِوَضُ والمُعَوَّضُ مَعْلُومَين (¬1)، فكان لازِمًا، كالإِجارَةِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ على ما لا تتَحَقَّقُ القدْرَةُ على تَسْلِيمِه، فكان جائِزًا، كرَدِّ الآبِقِ، وذلك لأنَّه عَقْدٌ على الإِصابَةِ، ولا يدْخُلُ تحتَ قُدْرَته، وبهذا فارَقَ الإِجارَةَ. فعلى هذا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكلِّ واحِدٍ مِن المُتَعاقِدَين الفَسْخُ قبلَ الشُّرُوعِ في المُسابَقَةِ. وإن أراد أحَدُهما الزِّيادَةَ فيها أو النُّقْضانَ منها، لم يَلْزَمِ الآخَرَ إِجابَتُه. فأمّا بعدَ الشُّرُوعِ فيها، فإن لم يَظْهَرْ لأحَدِهما فَضْلٌ [على الآخرِ، جاز الفَسْخُ لكلِّ واحِدٍ منهما، وإن ظَهَر لأحَدِهما فَضْلٌ] (¬1)، مثلَ أن يَسْبِقَه بفَرَسِه في بعضِ المسافَةِ، أو يُصِيبَ بسِهامِه أكْثَرَ منه، فللفاضِلِ الفَسْخُ دُونَ المَفْضُولِ؛ لأنَّه لو جاز له ذلك لفات غَرَضُ المُسابَقَةِ، فلا يحْصُلُ المَقْصُودُ. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: إذا قُلْنا: العَقْدُ جائِزٌ. ففي جَوازِ الفَسْخِ [مِن المَفْضُولِ] (1) وَجْهان. ¬

(¬1) سقط من: م.

2239 - مسألة: (وتنفسخ بموت أحد المتعاقدين)

وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ المُتَعَاقِدَينِ. وَقِيلَ: هِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَيسَ لأحَدِهِمَا فَسْخُهَا، لَكِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمَرْكُوبَينِ، وَاحدِ الرَّامِيَينِ، وَلَا تَبْطُلُ بمَوْتِ أَحَدِ الرَّاكِبَينِ، وَلَا تَلَفِ أَحَدِ الْقَوْسَينِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، أَقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2239 - مسألة: (وتَنْفَسِخُ بمَوْتِ أحَدِ المُتعاقِدَين) إذا قُلْنا: إنَّها عَقْدٌ جائِزٌ. قِياسًا على العُقُودِ الجائِزَةِ مِن الوَكالةِ، والشَّرِكَةِ، والمُضارَبَةِ، ونحوها. وإن قُلْنا بلُزُومِها، انْفَسَخَتْ (بمَوْتِ أحَدِ المَرْكُوبَين والرّامِيَين) لأنَّ العَقْدَ تَعَلَّقَ بعَينِ المَرْكُوبِ والرّامِي، فانْفَسَخَ بتَلَفِه، كما لو تَلِف المَعْقُودُ عليه في الإِجارَةِ (ولا تَبْطُلُ بمَوْتِ الرّاكِبَين، ولا تَلَفِ أحَدِ القَوْسَين) لأنَّه غيرُ المَعْقُودِ عليه، فلم يَنْفَسِخِ العَقْدُ بتَلَفِه، كمَوْتِ أحَدِ المُتَبايِعَين. فعلى هذا (يَقُومُ وارِثُ المَيِّتِ مَقامَه) كما لو اسْتَأْجَرَ شيئًا ثم مات (فإن لم يكنْ له وارِثٌ، أقام الحاكِمُ مُقامَه مِن تَرِكَتِه) كما لو أَجَرَ نَفْسَه لعَمَلٍ مَعْلُومٍ، ثم مات.

2240 - مسألة: (والسبق في الخيل بالرأس، إذا تماثلت الأعناق، وفي مختلفي العنق والإبل بالكتف)

وَالسَّبْقُ فِي الْخَيلِ بالرَّأْسِ، إذَا تَمَاثَلَتِ الْأَعْنَاقُ، وَفِي مُخْتَلِفِي الْعُنُقِ وَالْإِبِلَ بِالْكَتِفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2240 - مسألة: (والسَّبْقُ في الخَيلِ بالرَّأْسِ، إذا تَماثَلَت الأعْناقُ، وفي مُخْتَلِفِي العُنُقِ والإِبِلِ بالكَتِفِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنه يُشْتَرَطُ في المُسابَقَةِ إرْسالُ الفَرَسَين والبَعِيرَين دَفْعَةً واحِدَةً، فإن أرْسَلَ أحَدَهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الآخَرِ ليَعْلَمَ هل يُدْرِكُه الآخَرُ أو لا؟ لم يَجُزْ هذا في المُسابَقَةِ بعِوَضٍ؛ لأنَّه قد لا يُدْرِكُه مع كَوْنِه أسْرَعَ منه؛ لبُعْدِ المَسافَةِ بينَهما. ويَكونُ عندَ أوَّلِ المَسافَةِ مَن يُشاهِدُ إرْسالهما ويُرَتِّبُهما، وعندَ الغايَةِ مَن يَضْبِطُ السّابِقَ منهما؛ لئَلَّا يخْتَلِفا في ذلك. ويَحْصُلُ السَّبْقُ في الخَيلِ بالرَّأْسِ إذا تَماثَلَتِ الأعْناقُ، فإنِ اخْتَلَفَا في طُولِ العُنُقِ، أو كان ذلك في الإِبِلِ، اعْتُبِرَ السَّبْقُ بالكَتِفِ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالرَّأْسِ مُتَعَذِّرٌ، فإنَّ طَويلَ العُنُقِ قد يَسْبِقُ رَأْسُه؛ لطُولِ عُنُقِه، لا بسُرْعَةِ عَدْوه، وفي الإِبِلِ ما يَرْفعُ رَأْسَه، وفيها ما يَمُدُّ عُنُقَه، فرُبَّما سَبَق رَأسُه لمَدِّ عُنُقِه، لا بسَبْقِه، فلذلك اعْتُبِرَ بالكَتِفِ. فإن سَبَق رَأْسُ قَصِيرِ العُنُقِ، فهو سابِقٌ بالضَّرُورَةِ، وإن سَبَق رَأْسُ طَويلِ العُنُقِ بأكْثَرَ ممّا بينَهما في طُولِ العُنُقِ، فقد سَبَق، وإن كان بقَدْرِه لم يَسْبِقْ، وإن كان أقَلَّ، فالآخَرُ سابِقٌ. ونحوُ هذا كلِّه قولُ الشافعيِّ. وقال الثَّوْرِيُّ: إذا سَبَق أحَدُهما بالأُذُنِ كان سابِقًا. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ أحَدَهما قد يَرْفَعُ رَأْسَه ويَمُدُّ الآخَرُ (¬1) عُنُقَه، فيَسْبِقُ بأُذُنِه لذلك، لا لسَبْقِه. وإن شَرَط السَّبْقَ بأقْدام مَعْلُومَةٍ، كثَلاثَةٍ أو أكْثَرَ أو أقَلَّ، لم يَصِحَّ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: يَصِحُّ، ويَتَحاطّان ذلك، كما في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّمْي. ولا يَصِحُّ، لأنَّ هذا لا يَنْضَبِطُ ولا يَقِفُ الفَرَسانِ عندَ الغايَةِ بحيث يُعْرَفُ مِساحَةُ ما بينَهما. وقد روَى الدّارَقُطنِيُّ (¬1)، بإسْنادِه عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ: «قَدْ جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ السَّبْقَةَ بَينَ النَّاسِ». فخرجَ عليٌّ، فدَعا سُراقَةَ بنَ مالِكٍ، فقال: يا سُراقَةُ، إنِّي قد جَعَلْتُ إليك ما جَعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عُنُقِي مِن هذه السَّبْقَةِ في عُنُقِك، فإذا أتَيتَ المَيْطانَ (¬2) -قال أبو عبدِ الرحمنِ: المَيطانُ مُرْسَلُها مِن الغايَةِ- فصُفَّ الخيلَ، ثم نادِ: هل مِن مُصْلِح للِجامٍ، أو حاملٍ لغُلامٍ، أو طارِحٍ لجِلٍّ (¬3). فإذا لم يُجِبْك أحَدٌ فكَبِّرْ ثلاثًا، ثم خَلِّها عندَ الثالثةِ، فيُسْعِدُ اللهُ بسَبَقِه مَن شاء مِن خَلْقِه. وكان على يَقْعُدُ عندَ مُنْتهَى الغايَةِ يَخُطُّ خَطًّا، ويُقِيمُ رَجُلَين مُتَقابِلَين عندَ طَرَفِ الخَطِّ، طَرَفُه بينَ إبْهامَيْ أرْجُلِهما، وتَمُرُّ الخَيلُ بينَ الرَّجُلَين، ويقولُ لهما: إذا خَرَج أحَدُ الفَرَسَين على صاحِبِه بطَرَفِ أُذُنَيه، أو أُذُنٍ، أو عِذارٍ، فاجْعَلُوا السَّبَقَةَ له، وإن ¬

(¬1) في: كتاب السبق بين الخيل. سنن الدارقطني 4/ 305 - 307. كما أخرجه البيهقي، في: باب لا جلب ولا جنب في الرهان، من كتاب السبق. السنن الكبرى 10/ 22. (¬2) الميطان، بفتح الميم وسكون الياء: من جبال المدينة. معجم البلدان 4/ 716. (¬3) الجِلُّ: ما تُلبَسُه الدابة لتصان به.

2241 - مسألة: (ولا يجوز أن يجنب أحدهما مع فرسه فرسا، يحرضه على العدو، ولا يصيح به في وقت سباقه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا جلب ولا جنب»)

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْنُبَ أَحَدُهُمَا مَعَ فَرَسِهِ فَرَسًا يُحَرِّضُهُ عَلَى الْعَدْو، وَلَا يَصِيحَ بِهِ وَقْتَ سِبَاقِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ». ـــــــــــــــــــــــــــــ شَكَكْتُما، فاجْعَلُوا سَبَقَهما نِصْفَين. وهذا الأدَبُ الذي ذَكَرَه في هذا الحديثِ، في ابْتداءِ الإِرْسالِ وانْتِهاءِ الغايَةِ، من أحْسَنِ ما قِيلَ في هذا، مع كَوْنِه مَرْويًّا عن أمِيرِ المُؤْمِنِين عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، في قَضِيَّةٍ أمَرَه بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفَوَّضَها إليه، فيَنْبَغِي أن تُتَّبَعَ، ويُعْمَلَ بها. 2241 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أن يَجْنُبَ أحَدُهما مع فَرَسِه فَرَسًا، يُحَرِّضُه على العَدْو، ولا يَصِيحَ به في وَقْتِ سِبَاقِه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ») رَواه أبو داودَ (¬1). مَعْنَى الجَنَبِ، أن يَجْنُبَ ¬

(¬1) في: باب أين تصدق الأموال، من كتاب الزكاة، وفي: باب في الجلب على الخيل في السباق، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 1/ 369، 2/ 29.كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 51، 52. والنسائي، في: باب الشغار، من كتاب النكاح، وفي: باب الجلب، وباب الجنب، من كتاب الخيل. المجتبى 6/ 91، 89، 190. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 180، 215، 216، 3/ 162، 197، 4/ 429، 439، 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسابِقُ إلى فَرَسِه فَرَسًا لا راكِبَ عليه، يُحرِّضُ الذي تحتَه على العَدْو، ويَحُثُّه عليه. وقال القاضي: مَعْناه أن يَجْنُبَ فرَسًا يَتَحَوَّلُ عندَ الغايَةِ عليها، لكَوْنِها أقَلَّ كَلالًا وإعْياءً. قال ابنُ المُنْذِرِ: كذا قِيلَ، ولا أحْسَبُ هذا يَصِحُّ؛ لأن الفَرَسَ التي يُسابقُ بها لابُدَّ مِن تَعْيِينِها، فإن كانتِ التي يتَحَوَّلُ عنها، فما حَصَل السَّبْقُ بها، وإن كانتِ التي يَتَحَوَّلُ إليها، فما حَصَلَتِ المُسابَقَةُ بها في جَمِيعِ الحَلْبَةِ، ومِن شَرْطِ السِّباقِ ذلك، ولأن هذا متى احْتاجَ إلى التَّحَوُّلِ والاشْتِغالِ به، فرُبَّما سُبِق باشْتِغالِه، لا بسُرْعَةِ غيرِه، ولأنَّ المَقْصُودَ مَعْرِفَةُ عَدْو الفَرَسِ في الحَلْبَةِ كلِّها، فمتى كان إنَّما يَرْكَبُه في آخِرِ الحَلْبَةِ، فما حَصَل المَقْصُودُ. وأمّا الجَلَبُ، فهو أن يَتْبَعَ الرجلُ فَرَسَه، يَرْكُضُ خلفَه، ويَجْلِبُ عليه، ويَصِيحُ وراءَه، يَسْتَحِثُّه بذلك على العَدْو. وهكذا فَسَّرَه مالِكٌ (¬1). وقال قَتادَةُ: الجَلَبُ والجَنَبُ في الرِّهانِ (1). وعن أبي عُبَيدٍ كقولِ مالِكٍ. وحُكِيَ عنه، أنَّ الجَلَبَ أن يَحْشُرَ السَّاعِي أهلَ الماشِيَةِ ليَصْدُقَهم، قال: فلا يَفْعَلْ، لِيَأْتِهم على مِياهِهم فيَصْدُقَهم (¬2). والتَّفسيرُ الأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما روَى عِمْرانُ بنُ حُصَينٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ في الرِّهَانِ». رَواه أبو داودَ (¬3). ويُرْوَى عن ابنَ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) أخرجهما البيهقي، في: باب لا جلب ولا جنب في الرهان، من كتاب الرمي. السنن الكبرى 10/ 21، 22. (¬2) انظر: غريب الحديث 3/ 127، 128. (¬3) في: باب في الجلب على الخيل في السباق، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 29.

فَصْلٌ فِي الْمُنَاضَلَةِ: وَتُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ أرْبَعَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ عَلَى مَنْ يُحْسِنُ الرَّمْيَ، فَإنْ كَانَ فِي أَحدِ الْحِزْبَينِ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ، وَأُخْرِجَ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ مِثْلُهُ، وَلَهُمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: «مَنْ أجْلَبَ عَلَى الْخَيلِ يَوْمَ الرِّهَانِ فَلَيسَ مِنَّا» (¬1). قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (فصلٌ في المُناضلَةِ) وهي المُسابَقَةُ في الرَّمْي بالسِّهامِ، والمُناضَلَةُ: مَصْدَرُ ناضَلْتُه نِضالًا ومُناضَلَةً، وسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضالًا؛ لأنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى نَضْلًا، فالرَّمْيُ به عَمَل بالنَّضْلِ، فسُمِّيَ نِضالًا ومُناضَلَةً، مثلِ جادَلْتُه جِدالًا ومُجادَلَةً (ويُشْتَرَطُ لها شُرُوط أرْبَعَةٌ؛ أحَدُها، أن تكون على مَن يُحْسِنُ الرَّمْيَ، فإن كان في أحَدِ الحِزْبَين مَن لا يُحْسِنُه، بَطَل العَقْدُ فيه) [إذا كان كلُّ حِزْبٍ جَماعَةً] (¬2) (وأُخْرِجَ مِن الحِزْبِ الآخَرِ) مَن جُعِل بإزائِه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الزَّعِيمَين يَخْتارُ واحِدًا، ويَخْتارُ الآخرُ في مُقابَلَتِه آخَرَ، كما لو بَطَل العَقْدُ في بَعْضِ المَبِيعِ، بَطَل في ثَمَنِه. وهل ¬

(¬1) لم نجده. (¬2) سقط من: م.

الْفَسْخُ إِنْ أحَبُّوا. الثَّانِي مَعْرِفَةُ عَدَدِ الرِّشْقِ، وَعَدَدِ الْإِصَابَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْطُلُ في الباقِين؟ على وَجْهَين، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فإن قُلْنا: لا يَبْطُلُ. فلكلِّ حِزْبٍ الخيارُ لتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ في حَقِّهم، فإن كان يُحْسِن الرَّمْيَ، لكنَّه قَلِيلُ الإِصابَةِ، فقال حِزْبُه: ظَنَنّاه كَثِيرَ الإِصابَةِ. أو: لم نَعْلَمْ حاله. وإن بان كَثِيرَ الإِصابَةِ، فقال الحِزْبُ الآخَرُ: ظَنَنّاه قَلِيلَ الإِصابَةِ. لم يُسْمَعْ ذلك منهم؛ لأنَّ شَرْطَ دُخُولِه في العَقْدِ أن يكونَ مِن أهلِ الصَّنْعَةِ دُونَ الحِذْقِ، كما لو اشْتَرَى عَبْدًا على أنَّه كاتِبٌ، فبان حاذِقًا أو ناقِصًا فيها (¬1)، لم يُؤثِّرْ (الثانِي، مَعْرِفَةُ عَدَدِ الرِّشْقِ، وعَدَدِ الإِصابَةِ) الرِّشْقُ، بكَسْرِ الرّاءِ: عَدَدُ الرَّمْي. وأهلُ العَرَبِيَّةِ يَقُولُون: هو عِبارَةٌ عمّا بينَ العِشْرِين والثَّلاثين. والرَّشقُ، بفَتْحِ الرّاءِ: الرَّمْيُ، مَصْدَرُ رَشَقْتُ. رَشْقًا. وإنَّما اشْتُرِطَ عِلْمُه؛ لأنَّه لو كان مَجْهُولًا أفْضَى إلى الاخْتِلافِ، لأنَّ أحَدَهما قد يُرِيدُ القَطْعَ، والآخَرُ الزِّيادَةَ. ولا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ عَدَدِ الإِصابَةِ، فيَقُولان: الرِّشْقُ عِشْرُون، والإصابَةُ خَمْسَةٌ -أو- سِتَّةٌ. أَو ما يَتَّفقان عليه، إلَّا أنَّه لا يَصِحُّ اشْتِراطُ إصابَةٍ تَنْدُرُ، كإصابَةِ جَمِيعِ الرِّشْقِ، أو تِسْعَةٍ مِن عَشَرَةٍ، ونحو هذا؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لا يُوجَدُ، فيَفُوتُ الغَرَضُ. وإنَّما اشْتُرِطَ العِلْمُ بعَدَدِ الإِصابَةِ؛ ليَتَبَيَّنَ حِذْقُهما. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ اسْتِواؤُهما في عَدَدِ الرِّشْقِ والإِصابَةِ وصِفَتِها، وسائِرِ أحْوالِ الرَّمْي. فإن جَعَلا رِشْقَ أحَدِهما عَشَرَةً، والآخرِ عِشْرِين، أو شَرَطا أن يُصِيبَ أحَدُهما خَمْسَةً، والآخَرُ ثَلاثَةً، أو شَرَطا إصابَةَ أحَدِهما خَواسِقَ والآخَرِ خَواصِلَ، أو شَرَطا أن يَحُطَّ أحَدُهما مِن إصابَتِه سَهْمَين، أو يَحُطَّ سَهْمَين من إصابَتِه بسَهْمٍ مِن إصابَةِ صاحِبه، أو شَرَطا (¬1) أنْ يَرْمِيَ أحَدُهما مِن بُعْدٍ والآخَرُ مِن قُرْبٍ، أو أن يَرْمِيَ أحدُهما وبينَ أصابِعِه سَهْمٌ، والآخَرُ بينَ أصابِعِه سَهْمان، أو أن يَرْمِيَ أحَدُهما وعلى رَأْسِه شيءٌ والآخرُ خالٍ عن شاغِلٍ، أو أن يَحُطَّ عن أحَدِهما واحِدًا مِن خَطَئِه لا له ولا عليه، وأشْباهُ هذا ممّا تَفُوتُ به المُساواةُ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ مَوْضُوعَها على المساواةِ، والغرضُ معرفةُ الحِذْقِ وزيادةِ أحَدُهما على الآخَرِ فيه، ومع التَّفاضُلِ لا يَحْصُلُ، فإنَّه رُبَّما أصاب أحَدُهما لكَثْرَةِ رَمْيِه لا لحِذْقِه، فاعْتُبِرَتِ المُساواةُ، كالمُسابَقَةِ بالحَيَوانِ. ¬

(¬1) في م: «شرط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ أن تكونَ المُسابَقَةُ على الإِصابَةِ لا على البُعْدِ، فلو قال: السَّبَقُ لأبْعَدِنا رَمْيًا. لم يَجُزْ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن الرَّمْي الإِصابَةُ لا بُعْدُ المَسافَةِ، فإنَّ المَقْصُودَ مِن الرَّمْي إمّا قَتْلُ العَدُوِّ أو جَرْحُه، أو الصّيدُ، ونحوُ ذلك، وكلُّ هذا إنَّما يَحْصُلُ مِن الإِصابَةِ، لا مِن الإِبْعادِ. فصل: إذا عَقَدا النِّضال، ولم يَذْكُرا قَوْسًا، صَحَّ في ظاهِرِ كَلامِ القاضي، ويَسْتَويانِ في القَوسِ، إمّا العَرَبِيَّةُ وإمّا الفارِسِيَّةُ. وقال غيرُه: لا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَا نَوْعَ القَوْسِ الذي يَرْمِيان عليه في الابْتِداءِ؛ لأنَّ إطْلاقَه رُبَّما أفْضَى إلى الاخْتِلافِ، وقد أمْكَنَ التَّحَرُّزُ عنه بالتَّعْيِينِ للنَّوْعِ، فَيجِبُ ذلك. وإنِ اتَّفَقا على أنَّهما يَرْمِيان بالنُّشّابِ في الابتِداءِ، صَحَّ، ويَنْصَرِفُ إلى القَوْسِ الأعْجَمِيَّةِ؛ لأنَّ سِهامَها هو المُسمَّى بالنُّشّابِ، وسِهامَ العَرَبِيَّةِ يُسَمَّى نَبْلًا. فإن عَيَّنا نَوْعًا، لم يَجُزِ العُدُولُ عنها إلى غيرِها؛ لأنَّ أحَدَهما قد يكونُ أحْذَقَ بالرَّمْي بأحَدِ النَّوْعَين دُونَ الآخَرِ.

الثَّالِثُ، مَعْرِفَةُ الرَّمْي، هَلْ هُوَ مُفَاضَلَةٌ أَوْ مُبَادَرَةٌ؟ فَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يَقُولَا: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إِصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً، فَقَدْ سَبَقَ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إِلَيهَا مَعَ تَسَاويهِمَا فِي الرَّمْي فَهُوَ السَّابِقُ، وَلَا يَلْزَمُ إتْمَامُ الرَّمْيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثالثُ، مَعْرِفَةُ الرَّمْي، هل هو مُفاضَلَةٌ أو مُبادَرَةٌ؟) المُناضَلَةُ على ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أحَدُها، يُسَمَّى (المُبادَرَةَ) وهي (أن يقُولا: مَن سَبَق إلى خَمْسِ إصاباتٍ مِن عِشْرِين رَمْيَةً، فهو السّابِقُ. فأيُّهما سَبَق إليها مع تَساويهما في الرَّمْي) فقد سَبَق. فإذا رَمَيا عَشَرَة عَشَرَةً، فأصاب أحَدُهما خَمْسًا، ولم يُصِبِ الآخَرُ خمسًا، فالمُصِيبُ خَمْسًا هو السّابِقُ؛ لأنَّه قد سَبَق إلى خمْسٍ، وسَواءٌ أصاب الآخَرُ أرْبَعًا، أو ما دُونَها، أو لم يُصِبْ شيئًا (ولا) حاجَةَ إلى (إتْمامِ الرَّمْي) لأنَّ السَّبْقَ قد حَصَل بسَبْقِه إلى ما شَرَطا السَّبْقَ إليه. فإن أصاب كل واحِدٍ منهما مِن العَشْرِ خَمْسًا، فلا سابِقَ فيهما، ولا يُكْمِلان الرِّشْقَ؛ لأن جَمِيعَ الإِصابَةِ المَشْرُوطَةِ قد حَصَلَتْ، واسْتَوَيا فيها. فإن رَمَى أحَدُهما عَشْرًا فأصاب

وَالْمُفَاضَلَةُ أَنْ يَقُولَا: أَيُّنَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِخَمْسِ إِصَابَاتٍ مِنْ عِشْرِينَ رَمْيَةً، سَبَقَ، فَأَيُّهُمَا فَضَلَ بِذَلِكَ، فَهُوَ السَّابِقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسًا، ورَمَى الآخَرُ تِسْعًا فأصاب أرْبعًا، لم يُحْكَمْ بالسَّبْقِ ولا بعَدَمِه، حتى يَرْمِيَ العاشِرَ، فإن أصاب به، فلا سابِقَ فيهما، وإن أخْطَأ به، فقد سَبَق الأوَّلُ. فإن لم يكنْ أصاب مِن التِّسْعَةِ إلَّا ثلاثًا، فقد سُبِق، ولا يَحْتاجُ إلى رَمْي العاشِرِ؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يَحْتَمِلُ أن يُصِيبَ به، ولا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مَسْبُوقًا. الثانِي (المُفاضَلَةُ) وهي (أن يَقُولا: أيُّنا فَضَل صاحِبَه) بإصابَةٍ أو إصابَتَين أو ثَلاثٍ (مِن عِشْرِين رَمْيَةً) فقد (سَبَق). وتُسَمَّى مُحاطَّةً؛ لأنَّ ما تَساوَيا فيه مِن الإِصابَةِ مَحْطُوطٌ غيرُ مُعْتَدٍّ به. ويَلْزَمُ إكْمالُ الرِّشْقِ إذا كان فيه فائِدَةٌ. فإذا قالا: أيُّنا فَضَل صاحِبَه بثَلاثٍ، فهو سابِقٌ. فرَمَيَا اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، فأصاب بها أحَدُهما، وأخْطَأها (¬1) الآخرُ كلَّها، لم ¬

(¬1) في م: «أخطأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمْ إتْمامُ الرِّشْقِ؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يُمْكِنُ أن يُصِيبَ الآخَرُ الثّمانِيَةَ الباقِيَةَ، ويُخْطِئَها (¬1) الأوَّلُ، ولا يَخْرُجُ الأوَّلُ بهذا عن كَوْنِه سابِقًا. وإن كان الأوَّلُ إنَّما أصاب مِن الاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَشْرًا، لَزِمَهما أن يَرْمِيا الثالثةَ عَشْرَةَ، فإن أصابا بها أو أخْطآ، أو أصابَها الأوَّلُ وَحْدَه، فقد سَبَق، ولا يَحْتاجُ إلى إتْمام الرِّشْقِ. وإن أصابَها الآخَرُ [دُون الأوَّلِ] (¬2)، فعليهما أن يَرْمِيا الرّابِعَةَ عَشرَةَ، والحُكْمُ فيها وفيما بعدَها، كالحُكْم في الثالثةَ عَشْرَةَ، [في أنَّه] (¬3) متى ما أصاباها، أو أخْطآ، أو أصابَها الأوَّلُ، فقد سَبَق، ولا يَرْمِيان ما بعدَها. وإن أصابَها الآخَرُ وَحْدَه، رَمَيا ما (¬4) بعدَها. وكذا كلُّ مَوْضِعٍ يكونُ في إتْمامِ الرِّشْقِ فائِدَةٌ لأحَدِهما، يَلْزَمُ إتْمامُه، وإن يَئس مِن الفائِدَةِ، لم يَلْزَمْ إتْمامُه. فإذا بَقِيَ مِن العَدَدِ ما يُمْكِنُ أن يَسْبِقَ أحَدُهما به صاحِبَه، أو يُسْقِطَ به سَبْقَ صاحِبِه، لَزِم الإِتْمامُ، وإلَّا فلا. فإذا كان السَّبْقُ يَحْصُلُ بثَلاثِ إصاباتٍ مِن عِشْرِين، فرَمَيا ثَمانِيَ عَشْرَةَ، فأخْطآها، أو أصاباها، أو تَساوَيا في الإِصابَةِ فيها، لم يَلْزَمِ الإِتْمامُ؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يَحْتَمِلُ أن يُصِيبَ أحَدُهما هاتَين الرَّمْيَتَين، ويُخْطِئَهما الآخَرُ، ولا يَحْصُلُ السَّبْقُ بذلك. وكذلك إن فَضَل أحَدُهما الآخَرَ بخَمْسِ إصاباتٍ فما زاد، لم يَلْزَمِ الإِتْمامُ؛ لأنَّ إصابَةَ الآخَرِ السَّهْمَين ¬

(¬1) في الأصل، ر، ق: «يحطها». (¬2) في تش، ر 1، م: «وحده». (¬3) في م: «فإنه». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباقِيَين، لا يُخْرِجُ الآخَرَ عن كَوْنِه فاضِلًا بثلاثِ إصاباتٍ، وإن لم يَفْضُلْه إلَّا بأرْبَعٍ، رَمَيا السَّهْمَ الآخِرَ، فإن أصابَه المَفْضُولُ وَحْدَه، فعليهما رَمْيُ الآخِرِ، فإن أصابَه المَفْضُولُ أيضًا، سَقَط سَبْقُ الأوَّلِ، وإن أخْطآ في أحَدِ السَّهْمَين، أو أصاب الأوَّلُ في أحَدِهما، فهو سابِقٌ. الثالثُ (أن يَقُولا: أيُّنا أصاب خَمْسًا مِن عِشْرِينِ، فهو سابِقٌ) فمتى أصاب أحَدُهما خَمْسًا مِن العِشْرِين، ولم يُصِبْها الآخرُ، فالأوَّلُ سابِقٌ، وإن أصاب كل واحِدٍ منهما خَمْسًا، أو لم يُصِبْ واحِدٌ منهما خَمْسًا، فلا سابِقَ فيهما. وهذه في مَعْنَى المُحاطَّةِ، في أنَّه يَلْزَمُ إتْمامُ الرَّمْي ما كان فيه فائِدَةٌ، ولا يَلْزَمُ إذا خلا [عن الفائِدَةِ] (¬1). ومتى أصاب كلُّ واحِدٍ منهما خَمْسًا، لم يَلْزَمْ إتْمامُه، ولم يكنْ فيهما سابِقٌ. وإن رَمَيا سِتَّ عَشْرَةَ رَمْيَةً، فلم يُصِبْ واحِدٌ منهما شيئًا، لم يَلْزَمْ إتْمامُه، ولا سابِقَ فيهما؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يَحْتَمِلُ أن يُصِيبَها أحَدُهما وَحْدَه (¬2)، ولا يَحْصُلُ السَّبْقُ بذلك. واخْتَلَفَ أصْحابُنا، فقال أبو الخَطّاب: لا بدَّ مِن معْرِفَةِ الرَّمْي، هل هو مُبادَرَةٌ أو مُحاطَّةٌ أو مُفاضَلَةٌ؟ لأنَّ غَرَضَ الرُّماةِ يَخْتَلِفُ؛ فمنهم مَن تَكْثُرُ إصابَتُه في الابْتِداءِ دُونَ الانْتِهاءِ، ومنهم بالعَكْسِ، فوَجَبَ بَيانُ ذلك؛ ليَعْلَمَ ما دَخَل فيه. وهذا الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكِتابِ المَشْرُوحِ. وظاهِرُ كَلامِ القاضِي، أنَّه لا يُحْتاجُ إلى اشْتِراطِ ذلك؛ لأنَّ مُقْتَضَى ¬

(¬1) في م: «عنها». (¬2) في الأصل، تش: «واحدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّضالِ المُبادَرَةُ، وأنَّ مَن بادَرَ إلى الإِصابَةِ فهو السّابِقُ؛ فإنَّه إذا شُرِط السَّبْقُ لمَن أصاب خَمْسَةً مِن عِشْرِين، فسَبَقَ إليها واحِدٌ، فقد وُجِد الشَّرْطُ. ولأصْحابِ الشافعيّ وَجْهان كهَذَين. فصل: فإن شَرَطَا إصابَةَ مَوْضِعٍ مِن الهَدَفِ، على أن يُسْقِطَ ما قَرُب مِن إصابَةِ أحَدِهما ما بَعُد مِن إصابَةِ الآخَرِ، ففَعَل، ثم فَضَل أحَدُهما الآخَرَ بما شَرَطاه، كان سابقًا. ذَكَرَه القاضي. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه نَوْعٌ مِن المُحاطَّةِ. فإذا أَصاب أحَدُهما مَوْضِعًا بينَه وبينَ الغَرَضِ شِبْرٌ، وأصاب الآخَرُ مَوْضِعًا بينَه وبينَ الغَرَضِ أقَل مِن شِبْرٍ، سَقَط الأوَّلُ، وإن أصاب الأوَّلُ الغَرَضَ، أسْقَطَ الثانِيَ، وإن أصاب الثانِي الدّائِرَةَ التي في الغَرَضِ، لم يُسْقِطِ الأوَّلَ؛ لأنَّ الغَرَضَ كلَّه مَوْضِعُ الإِصابَةِ، فلا يَفْضُلُ أحَدُهما صاحِبَه إذا أصاباه، إلَّا أن يَشْتَرِطَا ذلك. وإن شَرَطا أن يَحْسِبَ (¬1) كلُّ واحِدٍ منهما خاسِقَه بإصابَتَين، جاز؛ لأنَّ أحَدَهما لم يَفْضُلْ صاحِبَه بشيءٍ، فقد اسْتَوَيا. فصل: فإنْ عقَدَ النِّضال جماعةٌ ليَتَفاصَلُوا (¬2) حِزْبَين، فذَكَرَ القاضي أنَّه يَجُوزُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يجوزَ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وقبلَ التَّفاصُلِ لم يَتَعَيَّنْ مَن في كُلِّ واحِدٍ مِن الحِزْبَين. فعلى هذا، إذا تفاصَلُوا، عَقَدُوا النِّضال بعدَه. وعلى قولِ القاضي، يجوزُ العَقْدُ قبلَ ¬

(¬1) في م: «يحتسب». (¬2) في م: «ليتناضلوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّفاصُلِ. ولا يَجُوزُ أن يَقْتَسِمُوا بالقُرعَةِ؛ لأنَّها قد تَقَعُ على الحُذّاقِ في أحَدِ الحِزْبَين، وعلى الكَوادنِ في الآخرِ، فيَبْطُلُ مَقْصُودُ النِّضالِ، بل يكونُ لكلِّ حِزْبٍ زَعِيمٌ (¬1)، فيَخْتارُ أحَدُهما واحِدًا، ثم يَخْتارُ الآخَرُ واحِدًا كذلك، حتى يَتَفاصَلُوا جَمِيعًا. ولا يَجُوزُ أن يُجْعَلَ الْخِيارُ إلى أحَدِهما في الجَمِيعِ، ولا أن يَخْتارَ جَمِيعَ حِزْبِه أوَّلًا؛ لأنَّه يَخْتارُ الحُذّاقَ في حِزْبِه. ولا يَجُوزُ أن يُجْعَلَ رَئِيسُ الحِزْبَين واحِدًا؛ لأنَّه يَمِيلُ إلى حِزْبِه، فتَلْحَقُه التُّهْمَةُ. ولا يجوزُ أن يَخْتارَ كلُّ واحِدٍ مِن الرَّئِيسين أكْثَرَ مِن واحِدٍ واحِدٍ؛ لأنَّه أبْعَدُ مِن التَّساوي. فإذا اخْتَلَفا في المُبْتَدِئِ بالخِيارِ، أُقْرِعَ بينَهما. ولو قال أحَدُهما: أنا أخْتارُ أوَّلًا وأُخْرِجُ السَّبَقَ، أو يُخْرِجُه أصْحابِي. لم يَجُزْ؛ لأنَّ السَّبَقَ إنَّما يُسْتَحَقُّ بالسَّبْقِ، لا في مُقابَلَةِ تَفَضُّلِ أحَدِهما بشيءٍ. فصل: إذا أخْرَجَ أحَدُ الزَّعِيمَين السَّبَقَ مِنِ عندِه، فسُبِقَ حِزْبُه، لم يكُنْ على حِزْبِه شيءٌ؛ لأنَّه جَعَلَه على نَفْسِه دُونَهم. وإن شَرَطَه عليهم، فهو عليهم بالسَّويَّةِ، ويُقْسَمُ على الحِزْبِ الآخَرِ بالسَّويَّةِ، مَن أصاب ومَن أخْطَأ، في أحَدِ الوَجْهَين، كما أنَّه على الحِزْبِ الآخَرِ بالسَّويَّةِ. وفي الوَجْهِ الآخَرِ، يُقْسَمُ بينَهم على قَدْرِ الإِصابَةِ، ولا شيءَ لمَن لم يُصِبْ؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَه بالإِصابَةِ، فكان على قَدْرِها، واخْتَصَّ بمَن وُجِدَت فيه، بخِلافِ المَسْبُوقِين، فإنَّه وَجَب عليهم لالْتِزامِهم به، وقد اسْتَوَوْا في ¬

(¬1) في الأصل: «غريم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. فصل: ومتى كان النِّضالُ بينَ حِزْبَين، اشْتُرِطَ كونُ الرِّشْقِ يُمْكِنُ قَسْمُه بينَهم يغيرِ كَسْرٍ، ويَتَساوَوْنَ فيه، فإن كانوا ثَلاثَةً، وَجَب أن يكونَ له ثُلُثٌ، وكذلك ما زاد؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ كذلك، بَقِيَ سَهْمٌ أو أكْثَرُ بينَهم لا يُمْكِنُ الجَماعَةَ الاشْتِراكُ فيه. فصل: ولا يَجُوزُ أن يقولُوا: نُقْرِعُ، فمَن خَرَجَتْ قُرْعَتُه فهو السّابِقُ. ولا أنَّ مَن خَرَجَتْ قُرْعَتُه فالسَّبَقُ عليه. ولا أن يَقُولُوا: نَرْمِي، فأيُّنا أصاب فالسَّبَقُ على الآخَرِ. لأنَّه عِوَضٌ في عَقْدٍ، فلا يُسْتَحَقُّ بالقُرْعَةِ، ولا بالإِصابَةِ. وإن شَرَطُوا أن يكونَ فُلانٌ مُقَدَّمَ حِزْبٍ، وفُلانٌ مُقَدَّمَ الآخَرِ، ثم فُلانٌ ثانيًا (¬1) مِن (¬2) الحِزْبِ الأوَّلِ، وفلانٌ ثانيًا (1) مِن الحِزْبِ الثانِي، كان فاسِدًا؛ لأنَّ تَقْدِيمَ كلِّ واحِدٍ مِن الحِزْبَين يكونُ إلى زَعِيمِه، وليس للحِزْبِ الآخَرِ مُشارَكَتُه في ذلك، فإذا شَرَطُوه كان فاسِدًا. فصل: إذا تَناضَلَ اثْنان، وأخْرَجَ أحَدُهما السَّبَقَ، فقال أجْنَبِيٌّ: أنا شَرِيكُك في الغُرْمِ والغُنْمِ، إن نَضَلَك فنِصْفُ السَّبَقِ عَلَيَّ، وإن نَضَلْتَه فنِصْفُه لي. لم يَجُزْ. وكذلك لو كان المُتَناضِلُون ثلاثةً منهما (¬3) مُحَلِّلٌ، ¬

(¬1) في الأصل، ق: «نائبا». (¬2) في تش، م: «في». (¬3) أي مع الاثنين محلل.

2242 - مسألة: (وإذا أطلقا الإصابة، تناولها على أي صفة كانت)

وَإذَا أَطْلَقَا الإِصَابَةَ، تَنَاوَلَهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ. فَإِنْ قَالا: خَوَاصِلَ. كَانَ تَأْكِيدًا، لأَنَهُ اسْمٌ لَهَا كَيفَمَا كَانَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رابعٌ للمُسْتَبِقَين: أنا شَرِيكُكما في الغُنْمِ والغُرْمِ. كان باطِلًا؛ لأنَّ الغُنْمَ والغُرْمَ إنَّما يكون مِن المُناضِلِ، فأمّا مَن لا يَرْمِي، فلا يكونُ له غُنْمٌ ولا عليه غُرْمٌ. ولو شَرَطا في النِّضالِ أنَّه إذا جَلَس المُسْتَبِقُ كان عليه السَّبَقُ، لم يَجُزْ (¬1)؛ لأنَّ السَّبَقَ على النِّضالِ، وهذا الشَّرْطُ يُخالِفُ مُقْتَضَى النِّضالِ، فكان فاسِدًا. فصل: ولو فَضَل أحَدُ المُتَناضِلَين صاحِبَه، فقال المَفْضُولُ: اطْرَحْ فَضْلَك وأُعْطِيك دينارًا. لم يَجُزْ؛ لأنَّ المَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الحِذْقِ، وذلك يَمْنَعُ منه. وإن فَسخا العَقْدَ وعَقَدا عَقْدًا آخَرَ، جاز. وإن لم يَفْسَخاه، ولكنْ رَمَيا تَمامَ الرِّشْقِ، فتَمَّتِ الإِصابَةُ له مع ما أسْقَطَه، اسْتَحَقَّ السَّبَقَ، ورَدَّ الدِّينارَ إن كان أخَذَهُ. 2242 - مسألة: (وإذا أطْلَقا الإِصابَةَ، تَناوَلَها على أيِّ صِفَةٍ كانت) لأنَّها إصابَة. وذَكَر شيخُنا صِفَةَ الإِصابَةِ شَرْطًا لصِحَّةِ المُناضَلَةِ في كتابِ «المُغْنِي» (¬2). 2243 - مسألة (¬3): (فإن قالا: خَواصِلَ. كان تَأْكيدًا) لها ¬

(¬1) في م: «يصح». (¬2) 13/ 417. (¬3) سقط من: تش، ر 1، م.

2244 - مسألة: (فإن قالا: خواسق. وهو ما خرق الغرض وثبت فيه. أو: خوازق. وهو ما خرقه)

وَإنْ قَالا: خَوَاسِق. وَهُوَ مَا خَرَقَ الْغَرَضَ وَثَبَتَ فِيهِ. أَوْ: خَوَازِقَ. وَهُوَ مَا خزَقَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ. أَوْ: خَوَاصِرَ. وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي أَحَدِ جَانِبَي الْغَرَضِ، تَقَيَّدَتْ بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (لأنَّه اسْمٌ لها كَيفَما كانت) قال الأزْهَرِيُّ (¬1): يُقالُ: خَصَلْتُ مُناضِلِي خَصْلَةً وخَصْلًا. ويُسَمَّى ذلك الفَرْعَ والقَرْطَسَةَ، يُقال: قَرْطَسَ. إذا أصاب. 2244 - مسألة: (فإن قالا: خَواسِقَ. وهو ما خَرَق الغَرَضَ وثَبَت فيه. أوْ: خَوَازِقَ. وهو ما خَرَقَه) ووَقَع بينَ يَدَيه. أو: مَوارِقَ. وهو مَا نفَذَ الغَرَضَ، وَوَقَعَ مِن (¬2) وَرائِه. أو: خَوارِمَ. وهو مَا خَرَم جانِبَ الغَرَضِ. أو: حَوابِيَ. وهو ما وَقَع بينَ يَدَي الغَرَضِ، ثم وَثَبَ إليه. ومنه يُقالُ: حَبا الصَّبِيُّ (أو: خَواصِرَ. وهو ما كان في أحَدِ جانِبَي الغَرَضِ) ومنه قِيلَ: الخَاصِرَةُ؛ لأنَّها في جانِبِ الإِنْسانِ (تَقَيَّدَتِ) المُناضَلَةُ (بذلك) لأنَّ المَرْجِعَ في المُسابَقَةِ إلى شَرْطِهما، فيُقَيَّدُ بما شَرَطاه ههُنا. وإن شَرَطا الخَواسِقَ والحَوابِيَ معًا، صَحَّ. ¬

(¬1) في: تهذيب اللغة 7/ 141، 142. (¬2) سقط من: م.

2245 - مسألة: (وإن شرطا إصابة موضع من الغرض، كالدائرة فيه، تقيد به)

وَإِنْ شَرَطَا إِصَابَةَ مَوْضِعٍ مِنَ الْغَرَضِ، كَالدَّائِرَةِ فِيهِ، تَقَيَّدَ بهِ. الرَّابِعُ، مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْغَرَضِ؛ طُولِهِ، وَعَرْضِهِ، وَسُمْكِهِ، وَارْتِفَاعِهِ مِنَ الْأَرْضِ. وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْمُبْتَدِئِ بِالرَّمْي، أُقْرِعَ بَينَهُمَا. وَقِيلَ: يُقَدَّمُ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ بِإِخْراجِ السَّبَقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2245 - مسألة: (وإن شَرَطا إصابَةَ مَوْضِعٍ مِن الْغَرَضِ، كالدّائِرَةِ فيه، تَقَيَّدَ به) لِما ذَكَرْنا. (الرّابِعُ، مَعْرِفَةُ قَدْرِ الغَرَضَ؛ طُولِه، وعَرْضِه، وسُمْكِه، وارتِفاعِه مِن الأرْضِ) الغَرَضُ ما يُقْصَدُ إصابَتُه؛ مِن قِرْطاسٍ أو جِلْدٍ أو خشَبٍ أو قَرْعٍ أو غيرِه، سُمِّيَ غَرَضًا؛ لأنَّه يُقْصَدُ، ويُسَمَّى شارةً وشَنًا. قال الأزْهَرِيُّ (¬1): ما نُصِب في الهَدَفِ فهو القِرْطاسُ، وما نُصِب في الهَواءِ فهو الغَرَضُ. ويَجِبُ أن يكونَ قَدْرُه مَعْلُومًا بالمُشاهَدَةِ، أو بتَقْدِيرِه بشِبْرٍ أو نحوه، بحَسَبِ الشَّرْطِ، فإنَّ الإِصابَةَ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ صِغَرِه وكِبَرِه، وغِلَظِه ورِقَّتِه، فوَجَبَ اعْتِبارُ ذلك. 2246 - مسألة: (وإن تَشاحّا في المُبْتَدِئِ) منهما (أُقْرِعَ بينهما. وقِيلَ: يُقَدَّمُ مَن له مَزِيَّةٌ بإخْرَاجِ السَّبَقِ) [لأنَّه تَمَيَّزَ بذلك] (¬2). وجُمْلَةُ ¬

(¬1) في: تهذيب اللغة 7/ 8، 9/ 390. (¬2) سقط من: ر 1، م.

2247 - مسألة: (وإذا بدأ أحدهما في وجه، بدأ الآخر في الثاني)

وَإذَا بَدَأَ أَحَدُهُمَا فِي وَجْهٍ، بَدَأَ الْآخَرُ فِي الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّه لا بُدَّ في المُناضَلَةِ مِن أن يَبْتَدِئَ أحَدُهما بالرَّمْي؛ لأنَّهما لو رَمَيا معًا أفْضَى إلى الاخْتِلافِ، ولم يُعْرَفِ المُصِيبُ منهما. فإن كان المُخْرِجُ أجْنَبِيًّا، قُدِّمَ مَن يَخْتارُه منهما، فإن لم يَخْتَرْ وتَشاحّا، أُقْرِعَ بينَهما، لأنَّهما تَساوَيا في اسْتحْقاقِ هذا، فصارا إلى القُرْعَةِ، كما لو تَنازَعَ المُتَقاسِمان في اسْتِحْقاقِ سَهْمٍ مُعَيَّنٍ، أو في المُبْتَدِئِ بالأخْذِ. وأيُّهما كان أحَقَّ بالتَّقْديمِ فبدَرَه الآخرُ فَرَمى، لم يُعْتَدَّ له بسَهْمِه، أصاب أم أخْطَأ. 2247 - مسألة: (وإذا بَدَأ أحَدُهما في وَجْهٍ، بَدَأ الآخَرُ في الثّانِي) تَعْدِيلًا بينَهما. فإن شَرَطا البَداءَةَ لأحَدِهما في كلِّ الوُجُوهِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ مَوْضُوعَ المُناضَلَةِ على المُساواةِ، وهذا تَفاضُلٌ، فإن فَعَلا ذلك مِن غيرِ شَرْطٍ برِضاهما، جاز؛ لأنَّ البَداءَةَ لا أثَرَ لها في الإِصابَةِ، ولا في جَوْدَةِ الرَّمْي. وإن شَرَطا أن يَبْدَأَ كلُّ واحِدٍ منهما مِن (¬1) وَجْهَين مُتوالِيَين، جاز؛ لتَساويهما. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ اشْتِراط البَداءَةِ في كلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنا غيرَ لازِمٍ، ولا يُوثِّرُ في العَقْدِ؛ لأنَّه لا أثَرَ له في تَجْويدِ رَمْيٍ، ولا كَثْرَةِ إصابَةٍ، وكثِيرٌ مِن الرُّماةِ يَخْتارُ التَّأَخُّرَ على البِدايَةِ، فيكونُ وُجُودُ هذا الشَّرْطِ كعَدَمِه. وإذا رَمَى البادِئُ بسَهْمٍ، رَمَى الثانِي بسَهْمٍ كذلك، ¬

(¬1) سقط من: م.

2248 - مسألة: (والسنة أن يكون لهما غرضان)

وَالسُّنَّةُ أنْ يَكُونَ لَهُمَا غَرَضَانِ، إذَا بَدَأَ أَحَدُهُمَا بِغرَضٍ، بَدَأَ الْآخَرُ بِالثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى يَقْضِيَا رَمْيَيهما؛ لأنَّ إطْلاقَ المُناضَلَةِ يقْتَضِي المُراسَلَةَ، ولأنَّه أقْرَبُ إلى التَّساوي، وأنْجَزُ للرَّمْيِ، لأنَّ أحَدَهما يُصْلِحُ قَوْسَه (¬1) ويَعْدِلُ سَهْمَه حتى يَرْمِيَ الآخَرُ. وإن رَمَيا سَهْمَين سَهْمَين، فحَسَنٌ. وإنِ اشْتَرَطا أن يَرْمِيَ أحَدُهما رِشْقَه، ثم يَرْمِيَ الآخَرُ، أو يَرْمِيَ أحَدُهما عَدَدًا، ثم يَرْمِيَ الآخَرُ مِثْلَه، جاز؛ لأنَّه لا يُؤثِّرُ في مَقْصودِ المُناضَلَةِ، وإن خالفَ مُقْتَضَى الإِطْلاقِ، كما يَجُوزُ أن يَشْتَرِطَ في البَيعِ ما لا يَقْتَضِيه الإِطْلاقُ مِن النُّقُودِ والخِيارِ والأجَلِ، لَمّا كان غيرَ مانِعٍ مِن المَقْصُودِ. 2248 - مسألة: (والسُّنَّةُ أن يكونَ لهما غَرَضان) يَرْمِيان أحَدَهما، ثم يَمْضِيانِ إليه، فيَأْخُذان السِّهامَ يَرْمِيانِ الآخَرَ؛ لأنَّ هذا كان فِعْلَ أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَا بَيْنَ الغَرَضَينِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» (¬2). وقال إبراهيمُ التيمِيُّ: رَأيتُ حُذَيفَةَ يَشْتَدُّ بينَ الهَدَفَين يقولُ: أنا بها (¬3). في قَمِيصٍ. وعن ابنِ عُمَرَ مِثْلُ ذلك (¬4). والهَدَفُ ما يُنْصَبُ الغَرَضُ عليه؛ إمّا تُرابٌ ¬

(¬1) في م: «فرسه». (¬2) أخرجه الديلمي، في مسند فردوس الأخبار 2/ 61 بلفظ: «تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة». (¬3) بعده في م: «أنا بها». (¬4) تقدم الأثران في صفحة 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَجْمُوعٌ، أو حائِطٌ. ويُرْوَى أنَّ أصْحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانُوا يَشْتَدُّون بينَ الأغْراضِ يَضْحَكُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، فإذا جاء اللَّيلُ كانُوا رُهْبانًا. فإن جَعَلُوا غَرَضًا واحِدًا، جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ به، وهو عادَةُ أهْلَ عَصْرِنا. فصل: وإذا تَشاحّا في الوُقُوفِ، فإن كان المَوْضِعُ الذي طَلَبَه أحَدُهما أوْلَى، مثلَ أن يكونَ في أحَدِ المَوْقِفَين (¬1) يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ، أو رِيحًا يُؤْذِيه اسْتِقْبالُها، ونحوَ ذلك، والآخَرُ يَسْتَدْبِرُها، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب اسْتِدْبارَها؛ لأنَّه العُرْفُ، إلَّا أن يكونَ في شَرْطِهما اسْتِقْبالُ ذلك، فالشَّرْطُ أوْلَى، كما لو اتَّفَقا على الرَّمي ليلًا. وإن كان المَوْقِفان سَواءً، كان ذلك إلى الذي يَبْدَأُ، فيَتْبَعُه الآخرُ، فإذا كان في الوَجْهِ الثانِي، وَقَف الثاني حيث شاءَ، ويَتْبَعُه الأوَّلُ. فصل: فإن أراد أحَدُهما التَّطْويلَ والتَّشاغُلَ عن الرَّمْي بما لا حاجَةَ إليه؛ مِن مَسْحِ القَوْسِ والوَتَرِ، ونحو ذلك، إرادَةَ التَّطْويلِ على صاحِبِه، لَعَلَّه يَنْسَى القَصْدَ الذي أصاب به أو يَفْتُرُ، مُنِع مِن ذلك، وطُولِبَ بالرَّمْي، ولا يُزْعَجُ بالاسْتِعْجالِ بالكُلِّيَّةِ، بحيث يُمْنَعُ مِن تحَرِّي الإِصابَةِ. ويُمْنَعُ كل واحِدٍ منهما مِن الكَلامِ الذي يَغِيظُ به صاحِبَه، مثلَ أن يَرْتَجِزَ، ويَفْتَخِرَ، ويَتَبَجَّحَ بالإِصابَةِ، ويُعَنِّفَ صاحِبَه على الخَطَأ، ¬

(¬1) في ر: «الموقعين»، وفي ق: «المرفقين».

2249 - مسألة: (وإذا أطارت الريح الغرض، فوقع السهم موضعه، فإن كان شرطهما خواصل، احتسب)

وَإِذَا أَطَارَتِ الرِّيحُ الْغَرَضَ، فَوَقَعَ السَّهْمُ مَوْضِعَهُ، فَإِنْ كَانَ شَرْطُهُمْ خَوَاصِلَ، احْتُسِبَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَوَاسِقَ، لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهِ وَلَا عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يُظْهِرَ (¬1) أنَّه يُعَلِّمُه. وهكذا الحاضِرُ معهما، مثلُ الأمِينِ والشّاهِدَين، يُكْرَهُ لهم مَدْحُ المُصِيبِ وتَعْنِيفُ المُخْطِئِ وزَجْرُه؛ لأنَّ فيه كَسْرَ قَلْبِ أحَدِهما وغَيظَه. 2249 - مسألة: (وإذا أطارَتِ الرِّيحُ الغَرَضَ، فوَقَعَ السَّهْمُ مَوْضِعَهُ، فإن كان شَرْطُهما خَواصِلَ، احْتُسبَ) له (به) لعِلْمِنا أنَّه لو كان الغَرَضُ في مَوْضِعِه أصابَه. 2250 - مسألة: (وإن كَانَ) شَرْطُهما (خَواسِقَ، لم يُحْتَسَبْ له به، ولا عليه) وهذا قولُ أبي الخَطّابِ؛ لأنّا لا نَدْرِي هل يَثْبُتُ في الغَرَضِ إن كان مَوْجُودًا أو لا؟ وقال القاضي: يُنْظَرُ؛ فإن كانت صَلابَةُ الهَدَفِ كصَلابَةِ الغَرَضِ، فثَبَت في الهَدَفِ، احْتُسِبَ له به؛ لأنَّه ¬

(¬1) بعده في ر، م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو بَقِيَ مَكانَه لثَبَتَ فيه، كثُبُوتِه في الهَدَفِ، وإن لم يَثْبُتْ فيه مع التَّساوي، لم يُحْتَسَبْ. وإن كان الهَدَفُ أصْلَبَ فلم يَثْبُتْ فيه، أو كان رِخْوًا، لم يُحْتَسَبِ السَّهْمُ له ولا عليه؛ لأنَّنا لا نَعْلَمُ هل كان يَثْبُتُ في الغَرَضِ لو بَقِيَ مَكانَه أو لا؟ وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. فإن وَقَع السَّهْمُ في غيرِ مَوْضِعِ الغَرَضِ، احْتُسِبَ به على رامِيه؛ لأنَّه أخْطَأَ، ولو وَقَع في الغَرَضِ في المَوْضِعِ الذي طار إليه، حُسِب عليه أيضًا، إلَّا أن يكونا اتَّفَقا على رَمْيِه في المَوْضِعِ الذي طار إليه. وكذلك الحُكْمُ إذا ألْقَتِ الرِّيحُ الغَرَضَ على وَجْهِه. فصل: إذا كان شَرْطُهما خَواصِلَ، فأصاب بنَصْلِ السَّهْمِ، حُسِب له كيف كان، فإن أصاب بعَرْضِه، أو بفُوقِه، نحوَ أن يَنْقَلِبَ السَّهْمُ بينَ يَدَي الغَرَضِ، فيُصِيبَ فُوقُه الغَرَضَ، لم يُعْتَدَّ به؛ لأنَّ هذا مِن سَيِّئِ الخَطَأ. فإنِ انْقَطَعَ السَّهْمُ قِطْعَتَين، فأصابَتِ القِطْعَةُ الأُخْرَى، لم يُعْتَدَّ به. وإن كان الغَرَضُ جِلْدًا خِيطَ عليه شَنْبَرٌ كَشَنْبَرِ المُنْخُلِ، وجَعَلا له عُرًى وخُيُوطًا تُعَلَّقُ به في العُرَى، فأصاب الشَّنْبَرَ أو العُرَى، نَظَرْتَ في شَرْطِهما؛ فإن شَرَطا إصابَةَ الغَرَضِ، اعْتُدَّ له؛ لأنَّ ذلك مِن الغَرَضِ، فأمّا المَعالِيقُ، وهي الخُيُوطُ، فلا يُعْتَدُّ له بإصابَتِها على كلا الشَّرْطَين؛ لأنَّها ليسَتْ مِنَ الجِلْدَةِ ولا مِنَ الغَرَضِ، فهي كالهَدَفِ. فصل: فإن كان شَرْطُهما خَواسِقَ، وهو ما ثَقَب الغَرَضَ وثَبَت فيه، فمتى أصاب الغَرَضَ بنَصْلِه وثَبَت فيه، احْتُسِبَ به. وإن خَدَشَه ولم يَثْقُبْه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُحْتَسَبْ له، وحُسِب عليه. وإن مَرَق منه، احْتُسِبَ له به؛ لأنَّ ذلك لِقُوَّةِ رَمْيِه، فهو أبْلَغُ مِن الخاسِقِ، وإن خَرَقَه ووَقَع بينَ يَدَيه، احْتُسِبَ له به، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه ثَقَب ثَقْبًا يَصْلُحُ للخَسْقِ، وإنَّما لم يَثْبُتِ السَّهْمُ لسَبَبٍ آخَرَ، مِن سَعَةِ الثَّقْبِ أو غيرِه. والثانِي، لا يُحْتَسَبُ له. وهو أوْلَى؛ لأنَّ الخاسِقَ ما ثَبَت، وهذا لم يَثْبُتْ، وثُبُوتُه يكونُ لحِذْقِ الرّامِي، وقَصْدِه برَمْيِه ما اتَّفَقا عليه، إلَّا أن يكونَ امْتِناعُ السَّهْمِ مِن الثبوتِ لوُجُودِ ما يَمْنَعُ الثُّبُوتَ؛ مِن حَصاةٍ، أو حَجَرٍ، أو عَظْمٍ، أو أرْضٍ غَلِيظَةٍ، ففيه الوَجْهان أيضًا؛ إلَّا أنَّه إذا لم يُحْتَسَبْ له، لم يُحْتَسَبْ عليه؛ لكونِ العارِضِ مَنَعَه مِن الثُّبُوتِ، أشْبَهَ ما لو مَنَعَه عارِضٌ مِن الإصابَةِ. فإنِ اخْتَلَفا في وُجُودِ العارِضِ؛ فإن عُرِف مَوْضِعُ الثَّقْبِ باتِّفاقِهما أو بَيِّنَةٍ، نُظِر في المَوْضِعِ؛ فإن لم يكنْ فيه ما يَمْنَعُ، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ، وإن كان فيه ما يَمْنَعُ، فالقولُ قولُ المُدَّعِي، بغيرِ يَمِينٍ؛ لأنَّ الحال تَشْهَدُ بصِدْقِ ما ادَّعاه. وإن لم يَعْلَما مَوْضِعَ الثَّقْبِ، إلَّا أنَّهما اتَّفَقا على أنَّه خَرَق الغَرَضَ، ولم يكنْ وراءَه شيءٌ [يَمْنَعُ، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ بغيرِ يَمِينٍ أيضًا؛ لأنَّه لا مانِعَ. وإن كان وراءَه ما يَمْنَعُ] (¬1)، وادَّعَى المُصابُ عليه أنَّه لم يكنِ السَّهْمُ في مَوْضِع وراءَه ما يَمْنَعُ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإِصابَةِ مع احْتِمالِ ما يَقُولُه المُصِيبُ. وإن أنْكَرَ أن يكونَ خَرَق، فالقولُ قَوْلُه أيضًا مع يَمِينِه؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2251 - مسألة: (وإن عرض عارض؛ من كسر قوس، أو

وَإنْ عَرَضَ عَارِضٌ؛ مِنْ كَسْرِ قَوْسٍ، أَوْ قَطْعِ وَتَرٍ، أَوْ رِيحٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا شَرَطا خاسِقًا، فوَقَعَ السَّهْمُ في ثَقْبٍ في الغَرَضِ، أو مَوْضِعٍ بالٍ، فثَقَبَه وثَبَت في الهَدَفِ مُعَلَّقًا في الغَرَضِ؛ فإن كان الهَدَف صُلْبًا كصَلابَةِ الغَرَضِ، حُسِب له؛ لأنَّه عُلِم أنَّه لو كان الغَرَضُ صَحِيحًا، لثَبَتَ فيه، وإن كان الهَدَفُ تُرابًا أُهِيلَ، لم يُحْتَسَبْ له ولا عليه؛ لأنا لا نَعْلَمُ هل كان يَثْبُتُ في الغَرَضِ لو أصاب مَوْضِعًا منه قَويًّا أو لا؟ وإن صادَفَ السَّهْمَ في ثَقْبٍ في الغَرَضِ قد ثَبَت في الهَدَفِ مع قِطْعَةٍ مِن الغَرَضِ؛ فقال. الرّامِي: خَسَقْتُ، وهذه الجِلْدَةُ قَطَعَها سَهْمِي لشِدَّةِ الرَّمْيَةِ. فأنْكَرَ الآخرُ، وقال: بل كانت مَقْطُوعَةً. فإن عُلِم أنَّ الغَرَضَ كان صَحِيحًا، فالقولُ قولُ الرّامِي، وإنِ اخْتَلَفا، فذَكَرَ القاضي أنَّها كالتي قبلَها؛ إن كانْ الهدَفُ رِخْوًا [لم يُعْتَدَّ به] (¬1)، وإن كان قَويًّا صُلْبًا اعْتُدَّ به. وإن وَقَع سَهْمُه في سَهْمٍ ثابِتٍ في الغَرَضِ، اعْتُدَّ له به إن كان شَرْطُهما خَواصِلَ، وإن كان خَواسِقَ، لم يُحْتَسَبْ له ولا عليه؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ يَقِينًا أنَّه لولا فُوقُ السَّهْمِ الثّابِتِ لخَسَقَ. وإن أصابَ السَّهْمَ ثم سَبَح عنه فخَسَقَ، احْتُسِبَ له به. 2251 - مسألة: (وإن عَرَض عارِضٌ؛ مِن كَسْرِ قَوْسٍ، أو ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، م.

شَدِيدَةٍ، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيهِ بِالسَّهْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعِ وَتَرٍ، أو رِيحٍ شَدِيدَةٍ، لم يُحْتَسَبْ عليه بالسَّهْمِ) إذا أخْطَأ لعارِضٍ ممّا ذَكَرْنا، أو حَيَوانٍ اعْتَرَضَ بينَ يَدَيه، أو رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرُدُّ السَّهْمَ عَرْضًا، لم يُحْتَسَبْ عليه بذلك السَّهْمِ؛ لأنَّ خَطَأَه للعارِضِ، لا لسُوءِ رَمْيِه. قال القاضي: ولو أصاب لم يُحْتَسَبْ له، لأنَّه إذا لِم يُحْتَسَبْ عليه، لم يُحْتَسَبْ له؛ لأنَّ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ كما يَجُوزُ أن تَصْرِف الرَّمْيَ الشَّدِيدَ فيُخْطِيء، يجوزُ أن تَصْرِفَ السَّهْمَ المُخْطِئَ عن خَطَئِه فيَقَعَ مُصِيبًا، فتكونَ إصابَتُه بالرِّيحِ، لا بحِذْقِ رَمْيِه. فأمّا إن وَقَع السَّهْمُ في حائِلٍ بينَه وبينَ الغَرَضِ فمَرَقَه وأصاب الغَرَضَ، حُسِب له، لأنَّ إصابَتَه لسَدادِ رَمْيِه، ومُروقَه لقُوَّتِه، فهو أوْلَى مِن غيرِه. وإن كانتِ الرِّيحُ لَيِّنَةً لا تَرُدُّ السَّهْمَ عادَةً، لم يُمْنَعْ، لأنَّ الجَوَّ لا يَخْلُو مِن رِيحٍ، ولأنَّ الرِّيحَ اللَّيِّنةَ لا تُوثِّرُ إلَّا في الرَّمْي الرِّخْو الذي لا يُنْتَفَعُ به. فصل: إذا قال رجلٌ لآخَرَ: ارْمِ هذا السَّهْمَ، فإن أصَبْتَ به فلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِرْهَمٌ. صَحَّ، وكان جَعالةً؛ لأنَّه بَذَل مالًا في فِعْل له فيه غَرَضٌ (¬1) صَحِيحٌ، ولم يكُنْ نِضالًا؛ لأنَّ النِّضال يكونُ بينَ اثْنَين أو جَماعَةٍ على أن يَرْمُوا جَمِيعًا، ويكونُ الجُعْلُ لبَعْضِهم إذا كان سابِقًا. وإن قال: إن أصَبْتَ به فلك دِرْهَمٌ، وإن أخْطَأْتَ فعليك دِرْهَمٌ (¬2). لم يَصحَّ، لأنَّه قِمارٌ. وإن قال: ارْمِ عَشَرَةَ أسْهُمٍ، فإن كان صَوابُك أكْثَرَ مِن خَطَئِك، فلك دِرْهَم. صَحَّ؛ لأنَّه جَعَل الجُعْلَ في مُقابَلَةِ إصابَةٍ مَعْلُومَةٍ، فإنَّ أكثَرَ العَشرَةِ أقَلُّه سِتَّةٌ، وليس ذلك مَجْهُولًا؛ لأنَّه بالأقَلِّ يَسْتَحِقُّ الجُعْلَ. وإن قال: إن كان صَوابُك أكْثَرَ، فلك بكلِّ سَهْمٍ أصَبْتَ به دِرْهَمٌ. صَحَّ. وكذلك إن قال: ارْمِ عَشَرَةً ولك بكلِّ سَهْمٍ أصَبْتَ به منها دِرْهَمٌ. أو قال: فلك بكلِّ سَهْمٍ زائِدٍ على النِّصْفِ مِن المُصِيباتِ دِرْهَمٌ (¬3). لأن الجُعْلَ مَعْلُومٌ بتَقْدِيرِه بالإِصابَةِ، فأشْبَهَ ما لو قال: اسْتَقِ لي مِن هذا البئْرِ، ولك بكل دَلْوٍ تَمْرَةً. أَو قال: مَن رَدَّ عَبْدًا مِن عَبِيدِي، فله بكلِّ عَبْدٍ درْهَمٌ. وإن قال: إن كان خَطَؤُك أكْثَرَ، فعليك درْهَمٌ. أو نحوَ هذا، لَم يَجُزْ؛ لأنَّه قِمارٌ. وإن قال: ارْمِ عَشَرَةً، فإن أخْطَأْتَها فعليك دِرْهَمٌ. أو نحوَ هذا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الجُعْلَ يكونُ في مُقابَلَةِ عَمَل، ولم يُوجَدْ مِن المُقابِلِ (¬4) عَمَلٌ فيَسْتَحِقُّ به شيئًا. وكذلك (¬5) لو قال الرّامِي لأجْنَبِيٍّ: ¬

(¬1) في الأصل: «نفع». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في الأصل: «صح». (¬4) في تش، ر، م: «القابل». وفي ق: «القائل». (¬5) في م: «ولذلك».

2252 - مسألة: (وإن عرض مطر أو ظلمة، جاز تأخير الرمي)

وَإنْ عَرَضَ مَطَرٌ أوْ ظُلْمَةٌ، جَازَ تَأْخِيرُ الرَّمْي. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن أخْطَأْتَ فلك دِرْهَمٌ. لم يَجُزْ؛ لذلك. فصل: وإن شَرَطا أن يَرْمِيا أرْشاقًا كَثِيرَةً، جاز؛ لأنَّه إذا جاز على القَلِيلِ جاز على الكَثِيرِ، ولا بُدَّ أن تكونَ مَعْلُومَةً. فإن شَرَطا أن يَرْمِيا منها كلَّ يَوْم قَدْرًا اتَّفَقا عليه، جاز؛ لأنَّ الغَرَضَ في ذلك صَحِيحٌ، فإنَّهما أو أحَدَهما قد يَضْعُفُ عن الرَّمْي كلِّه مع حِذْقِه. وإن أطْلَقا العَقْدَ، جاز، وحُمِل على التَّعْجِيلِ والحُلُولِ، كسائِرِ العُقُودِ، فيَرْمِيان مِن أوَّلِ النَّهارِ إلى آخِرِه، إلَّا أن يَعْرِضَ عُذْرٌ يَمْنَعُ؛ مِن مَرَضٍ، أو عُذْرٍ، كرِيحٍ تُشَوِّشُ السِّهامَ، أو لحاجَةٍ إلى طَعامٍ أو شَرابٍ أو صلاةٍ أو قَضاءِ حاجَةٍ؛ لأنَّ هذه مُسْتَثْناةٌ بالعُرْفِ. وإذا جاء اللَّيلُ تَرَكاه؛ لأنَّ العادَةَ تَرْكُ الرَّمْي بالليلِ، فحُمِلَ العَقْدُ عليه مع الإطْلاقِ، إلَّا أن يَشْتَرِطاه ليلًا، فيَلْزَمَ. فإن كانَتِ اللَّيلَةُ مُقْمِرَةً مُنِيرَةً، اكْتَفِيَ بذلك، وإلَّا رَمَيَا في ضَوْءِ شَمْعَةٍ أو مِشْعَلٍ. 2252 - مسألة: (وإن عَرَض مَطرٌ أو ظُلْمَةٌ، جاز تَأْخِيرُ الرَّمْي) لأنَّ المَطَرَ يُرْخِي الوَتَرَ ويُفْسِدُ الرِّيشَ. وإن عَرَض ظُلْمَةٌ، كمَجِئِ اللَّيلِ، تَرَكا الرَّمْيَ إلى الغَدِ؛ لأنَّ العادَةَ الرَّمْيُ نَهارًا، إلَّا أن يَشْتَرِطا الرَّمْيَ ليلًا، فيَأخُذُ أحَدُهما صاحِبَه بذلك، وقد ذَكَرْناه في الفَصْلِ قبلَه.

2253 - مسألة

وَيُكْرَهُ لِلْأَمِينِ وَالشُّهُودِ مَدْحُ أَحَدِهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2253 - مسألة (¬1): (ويُكْرَهُ للأمِينِ والشهُودِ مَدْحُ أحَدِهما) وزَهْزَهَتُه (¬2) إذا أصاب، وعَيبُه إذا أخْطَأ (لِما فيه مِن كَسْرِ قَلْبِ صاحِبِه) وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) أي: جعله يختال بنفسه.

كتاب العارية

كِتَابُ العَارِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ العارِيّةِ وهي مُشْتَقَّةٌ مِن عارَ الشيءُ: إذا ذَهَب وجاءَ. ومنه قِيلَ للبَطَّالِ: عَيَّارٌ؛ لِتَرَدُّدِه في بَطَالتِه. والعَرَبُ تقولُ: أعَاره وعَارَه. مثلَ أطَاعَه وطَاعَه. وهي إباحَةُ الانْتِفاعِ بعَين مِن أعْيانِ المالِ. والأصْلُ فيها الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أما الكِتابُ فقَوْلُه تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬1). رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ قالا: العَوَارِيُّ. وفَسَّرَها ابنُ مسعودٍ، قال: القِدْرُ والمِيزانُ والدَّلْوُ. وأما السُّنَّةُ فرُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خُطْبَتِه في حَجَّةِ الوَدَاعَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالدَّينُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» (¬2). قال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وروَى صَفْوانُ بنُ أمَيَّةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعارَ منه أدْراعًا يَوْمَ حُنَينٍ، فقال: أغَصْبًا يا محمدُ؟ قال: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ». رَواه أبو داودَ (¬3). وأجْمَعَ المُسْلِمون على جَوازِ العارِيّةِ واستِحْبابِها. ولأنَّه لمّا جازَتْ هِبَةُ الأعْيانِ، جازَت هِبَةُ المَنافِعِ، ولذلك ¬

(¬1) سورة الماعون 7. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 6. (¬3) في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 256. كما أخرجه الإمام أحمد، في: السند 3/ 401، 6/ 465.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتِ الوَصِيَّةُ بالأعْيانِ والمَنافِعِ جَمِيعًا. وهي مَنْدُوبٌ إليها غيرُ واجِبَةٍ في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقِيلَ: هي واجِبَةٌ؛ للآيَةِ، ولِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّها». الحديث. قيل: يا رسولَ اللهِ، وما حَقُّهَا؟ قال: «إعَارَةُ دَلْوهَا، وَإطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَمِنْحَةُ لَبَنِهَا يَوْمَ وُرُودِهَا» (¬1). فذَمَّ الله تَعالى مانِعَ العارِيّةِ، وتَوَعَّدَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما ذَكَره في خَبَرِه. ولنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَدَّيتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيتَ مَا عَلَيكَ». رَواه ابنُ المُنْذِرِ (¬2). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَيسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» (¬3). وفي حَدِيثِ الأعرابِيِّ الذي سَألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ماذا فَرَض اللهُ عَلَيَّ مِن الصَّدَقَةِ؟ أو قال: «الزَّكَاة». قال: هل عَلَيَّ غَيرُها؟ قال: «لَا، إلَّا أنْ تَتَطَوَّعَ شَيئًا» (¬4). أو كما قال. والآيَة فَسَّرَها ابنُ عُمَرَ والحَسَنُ بالزَّكَاةِ، وكذلك زَيدُ بنُ أسْلَمَ. وقالْ عِكْرِمَةُ: إذا جَمَعَ ثلاثتَها فله الوَيلُ، إذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب إثم مانع الزكاة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 684، 685. والنسائي، في: باب مانع زكاة البقر، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 18. والدارمي، في: باب من لم يؤد زكاة الإبل والبقر والغنم، من كتاب الزكاة. سنن الدارمي 1/ 379، 380. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 321. ولم يروه أحد من أصحاب هذه المصادر عن أبي هريرة بهذا اللفظ إنما روَوه عن جابر بن عبد الله. وانظر مصنف عبد الرزاق 4/ 26 - 30. والفتح الرباني 198/ 8، 15/ 128، 129. وإرواء الغليل 5/ 346، 347. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك، من أبواب الزكاة. عارضة الأحوذي 3/ 97. وابن ماجه، في: باب ما أدى زكاته ليس بكنز، من كتاب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/ 570. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 146. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 126.

2254 - مسألة: (وهي هبة منفعة، تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع)

وَهِيَ هِبَةُ مَنْفَعَةٍ، تَجُوزُ فِي كُلِّ الْمَنَافِعِ إلا مَنَافِعَ الْبُضْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهَا عن الصلاةِ ورَاءَى ومَنَعَ المَاعُونَ. فصل: ولا تَجُوزُ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في المالِ، أشْبَهَ البَيعَ. وتَنْعَقِدُ بكلِّ لَفْظٍ أو فِعْلٍ يَدُلُّ عليها؛ كقولِه: أعَرْتُكَ هذا. أو يَدْفَعُ إليه شيئًا ويقولُ: أَبَحْتُكَ الانْتِفاعَ به. أو: خُذْ هذا فانْتَفِعْ به. أو يقولُ: أَعِرْنِي هذا. أو: أعْطِنِيه أَرْكَبْه، أو أحْمِلْ عليه. فيُسَلِّمُه (¬1) إليه. وأَشْباهُ هذا؛ لأنَّه إباحَةٌ للتَّصَرُّفِ، فصَحَّ بالقَوْلِ والفِعْلِ الدَّالِّ عليه، كإباحَةِ الطَّعَامِ بقَوْلِه وتَقْدِيمِه إلى الضَّيفِ. 2254 - مسألة: (وهي هِبَةُ مَنْفَعَةٍ، تَجُوزُ في كلِّ المَنافِعِ إلَّا مَنافِعَ البُضْعِ) تَجُوزُ إعارَةُ كلِّ عَين يُنْتَفَعُ بها مَنْفَعَةً مُباحَةً مع بَقائِها على الدَّوَامِ؛ كالدُّورِ، والعَبِيدِ، والجَوَارِي، والدَّوَابِّ، والثِّياب، والحَلْي لِلُّبْسِ، والفَحْلِ للضِّرابِ، والكَلْبِ للصَّيدِ، وغيرِ ذلك؛ لَأنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «أو يسلمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعارَ أدْراعًا، وذَكَر إعارَةَ دَلْوها وفَحْلِها. وذَكَر ابنُ مسعودٍ عارِيَّةَ القِدْرِ والمِيزانِ، فثَبَتَ الحُكْمُ في هذه الأشياءِ، وما عداها يُقاسُ عليها إذا كان في مَعْناها. ولأنَّ ما جازَ للمالِكِ اسْتِيفاؤُه مِن المَنافعِ، مَلَكَ إباحَتَه إذا لم يَمْنَعْ منه مانِعٌ، كالثِّيابِ. ويَجُوزُ اسْتِعارَة الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ للوَزْنِ، فإن اسْتَعارَها ليُنْفِقَها، فهو قَرْضٌ. وهذا قولُ أصحابِ الرأي. وقيلَ: لا يَجُوز ذلك، ولا تكونُ العارِيَّة في الدَّنانيرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس له أن يَشْتَرِيَ بها شيئًا. ولنا، أنَّ هذا مَعْنى القَرْضِ، فانْعَقَدَ القَرْضُ به، كما لو صَرَّحَ به. فأما مَنافِعُ البُضْعِ فلا تُسْتَباحُ بالبَذْلِ ولا بالإِباحَةِ إجْماعًا، وإنَّما يُباحُ بأحَدِ شَيئَينِ؛ الزَّوْجِيّةِ، ومِلْكِ اليَمِينِ، قال الله سبحانَه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). ولأنَّ مَنافِعَ البُضْعِ لو أُبِيحَتْ بالبَذْلِ والعارِيَّةِ لم يُحَرَّمِ الزِّنَى؛ لأنَّ الزَّانِيَةَ تَبْذُلُ نَفْسَها (¬2) له، والزَّانِي مِثْلُها. ¬

(¬1) سورة المؤمنون: 5 - 7، سورة المعارج: 29 - 31. (¬2) في م: «نفعها».

2255 - مسألة: (ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر)

وَلَا تَجُوزُ إِعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ. وَتُكْرَهُ إِعَارَةُ الْأَمَةِ الشَّابَّةِ لِرَجُلٍ غَيرِ مَحْرَمِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2255 - مسألة: (ولا تَجُوزُ إعَارَةُ العَبْدِ المُسْلِمِ لكافِرٍ) لأنَّه لا يَجُوزُ تَمْكِينُه مِن اسْتِخْدامِه، فلم تَجُزْ عارِيَّتُه لذلك. ولا تَجُوزُ إعارَةُ الصَّيدِ لمُحْرِمٍ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له إمْسَاكُه. 2256 - مسألة: (وتُكْرَهُ إعارَةُ الأَمَةِ الشّابَّةِ لرجلٍ غيرِ مَحْرَمِها) إن كان يَخْلُو بها، أو (¬1) يَنْظُرُ إليها؛ لأنَّه لا يُؤمَنُ عليها. فإن ¬

(¬1) في م: «و».

2257 - مسألة: (واستعارة والديه للخدمة)

وَاسْتِعَارَةُ وَالِدَيهِ لِلْخِدْمَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت شَوْهاءَ، أو كَبِيرةً، فلا بَأْسَ؛ لأنَّها لا يُشْتَهَى مِثْلُها. وتَجُوزُ إعارَتُها لامْرأةٍ، ولذي مَحْرَمِها؛ لعَدَمِ ذلك. ولا تَجُوزُ إعارَةُ العَينِ لنَفْع مُحَرَّم، كإعارَةِ الدّارِ لمَن يَشْرَبُ فيها الخَمْرَ، أو يَبِيعُه، أو يَعْصِي اللهَ تعالى فيها، ولا إعارَةُ عَبْدٍ للزَّمْرِ، أو ليَسْقِيَه (¬1) الخَمْرَ، أو يَحْمِلَها إليه، أو يَعْصِرَها، ونَحْو ذلك؛ لأنَّه إعانَةٌ على المُحَرَّمِ. 2257 - مسألة: (واسْتِعارَةُ والِدَيه للخِدْمةِ) [يُكْرَهُ أن يَسْتَعِيرَ والِدَيه لخِدْمَتِه] (¬2)؛ لأنَّه يُكْرَهُ اسْتِخْدامُهما، فكُرِهَ اسْتِعارَتُهُما لذلك. ¬

(¬1) في م: «لسقيه». (¬2) سقط من: م.

2258 - مسألة: (وللمعير الرجوع)

وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ، مَا لَمْ يَأْذَنْ فِي شَغْلِهِ بِشَيْءٍ يَسْتَضِرُّ الْمُسْتَعِيرُ بِرُجُوعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2258 - مسألة: (وللمُعِيرِ الرُّجُوعُ) فيها (متى شاءَ، ما لم يَأْذَنْ في شَغْلِها بشيءٍ يَسْتَضِرُّ المُسْتَعِيرُ برُجُوعِه) تَجُوزُ العارِيَّةُ مُطْلَقَةً ومُؤقَّتَةً؛ لأنها إباحَةٌ، فأشْبَهَتْ إباحَةَ الطَّعامِ. وللمُعِيرِ الرُّجُوعُ فيها متى شاءَ، سَواءٌ كانت مُطْلَقَةً أو مُؤقَّتةً. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيّ. وقال مالكٌ: إن كانت مُؤَقَّتةً، فليس له الرُّجُوعُ قبلَ الوَقْتِ، وإن لم تُؤقَّتْ له مُدَّة، لَزِمَه تَرْكُه مُدَّةً يُنْتَفَعُ بها في مِثْلِها؛ لأنَّ المُعِيرَ قد مَلَّكَه المَنْفَعَةَ مُدَّةً، وصارتِ العَينُ في يَدِه بعَقْدٍ مُباحٍ، فلم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فيها بغيرِ رِضَا المالكِ، كالعَبْدِ المُوصَى بخِدْمَتِه والمُسْتَأْجَرِ. ولَنا، أنَّ المَنافِعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَقْبَلَةَ لم تَحْصُلْ في يَدِه، فلمِ يَمْلِكْها بالإِعارَةِ، كما لو لم تَحْصُلِ العَينُ في يَدِه، ولأنَّ المَنافِعَ إنَّما تُسْتَوْفى شيئًا فشيئًا، فكُلَّما اسْتَوْفَى مَنْفعَةً فقد قَبَضَها، والذي لم يَسْتَوْفِه لم يَقْبِضْه، فجازَ الرُّجُوعُ فيه، كالهِبَةِ قبلَ القَبْضِ. وأمَّا العَبْدُ المُوصَى بخِدْمَتِه، فللمُوصِي الرُّجُوعُ، ولم يَمْلِكِ الوَرَثَةُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ التبرعَ مِن غيرِهم، وأما المُسْتَأْجَرُ، فهو مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فيَلْزَمُ، بخِلافِ مسألتِنا. ويَجُوزُ للمُسْتَعِيرِ الرَّدُّ متى شاء. بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه إباحَةٌ، فكان لمَن أُبِيحَ له تَرْكُه، كإبَاحةِ الطَّعامَ.

2259 - مسألة: فإن أذن له في شغله بشيء يستضر المستعير برجوعه فيه، لم يجز له الرجوع؛ لما فيه من الإضرار بالمستعير (مثل أن يعيره سفينة لحمل متاعه)

مِثْلَ أَنْ يُعيِرَهُ سَفِينَةً لِحَمْلِ مَتَاعِهِ، فَلَيسَ لَهُ الرُّجُوعُ مَا دَامَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَإنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلدَّفْنِ، لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يَبْلَى الْمَيتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2259 - مسألة: فإن أذِنَ له في شَغْلِه بشيءٍ يَسْتَضِرُّ المُسْتَعِيرُ برُجُوعِه فيه، لم يَجُزْ له الرُّجُوعُ؛ لما فيه مِن الإِضْرارِ بالمُسْتَعِيرِ (مثلَ أن يُعِيرَهُ سَفِينَةً لحَمْلِ مَتاعِه) أو لَوْحًا يَرْقَعُ به سَفِينةً، فرَقَعَها به ولَجَّجَ في البَحْرِ (لم يَجُزِ الرُّجُوعُ ما دامَتْ في لُجَّةِ البَحْرِ) لذلك، وله الرُّجُوعُ قبلَ دُخُولِها في البَحْرِ، وبعدَ الخُرُوجِ منه؛ لعَدَمِ الضَّرَرِ. 2260 - مسألة: (وإن أعارَه أرْضًا للدَّفنِ، لم يَرْجِعْ حتى يَبْلَى المَيتُ) وله الرُّجُوعُ فيها قبلَ الدَّفْنِ، وليس له الرُّجُوعُ بعدَ الدَّفْنِ حتى يَصِيرَ المَيتُ رَمِيمًا. قاله ابنُ البَنَّا.

2261 - مسألة: (وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه، لم يرجع ما دام عليه)

وَإنْ أعَارَهُ حَائِطًا لِيَضَع عَلَيهِ أطْرَافَ خَشَبِهِ، لَمْ يَرْجِعْ مَا دَامَ عَلَيهِ، فَإنْ سَقَطَ عَنْهُ لِهَدْمٍ أَوْ غَيرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2261 - مسألة: (وإن أعارَه حائِطًا ليَضَعَ عليه أطْرافَ خَشَبِه، لم يَرْجِعْ ما دامَ عليه) إذا أعارَه حائِطًا ليَضَعَ عليه أطْرافَ خَشَبِه، جازَ، كما تَجُوزُ إعارَةُ الأرْضِ للغِراسِ والبِنَاءِ، وله الرُّجُوعُ قبلَ الوَضْعِ، وبعدَه، ما لم يَبْنِ عليه؛ لأنَّه لا ضَرَرَ عليه فيه، فإن بَنَى عليه لم يَجُزِ الرجُوعُ، لِما في ذلك مِن هَدْمِ البِنَاء. وإن قال: أنا أدْفَعُ إليك ما يَنْقُصُ بالقَلْعِ. لم يَلْزَمِ المُسْتَعِيرَ ذلك؛ لأَنَه إذا قَلَعَه انْقَلَعَ ما في مِلْكِ المُسْتَعِيرِ منه. ولا يَجِبُ على المُسْتَعِيرِ قَلْعُ شيءٍ مِن مِلْكِه بضَمانِ القِيمةِ. 2262 - مسألة: (وإن سَقَط عنه لهَدْم أو غيرِه، لم يَمْلِكْ رَدَّه) سَواءٌ بَنَى الحائِطَ بِآلَتِه أو بغيرِها؛ لأنَّ العارِيّةَ لا تَلْزَمُ، وإنَما امْتَنَعَ الرُّجُوعُ قبلَ انْهِدامِه؛ لِما فيه مِن الضرَرِ بالمُسْتَعِيرِ بإزَالةِ المَأذُونِ في وَضْعِه، وقد زال ذلك بانْهِدامِه، وسَواءٌ زال الخَشَبُ عنه بذلك، أو أزَاله المُسْتَعِيرُ باخْتِيارِه، وكذلك لو زال الخَشَبُ والحائِطُ بحالِه.

2263 - مسألة: (وإن أعاره أرضا للزرع، لم يرجع إلى الحصاد، إلا أن يكون مما يحصد قصيلا فيحصده)

وَإنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلزَّرْعِ، لَمْ يَرْجِع إلَى الْحَصَادِ، إلا أنْ يَكُونَ مِمَّا يُحْصَدُ قَصِيلًا فَيَحْصُدَهُ. وَإنْ أَعَارَهَا لِلْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، وَشَرَطَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2263 - مسألة: (وإن أعَارَه أرْضًا للزَّرْعِ، لم يَرْجِعْ إلى الحَصَادِ، إلَّا أن يكونَ مِمّا يُحْصَدُ قَصِيلًا فيَحْصُدَه) إذا أعارَه أرْضًا للزَّرْعِ، فله الرُّجُوعُ فيها ما لم يَزْرَعْ، فإذا زَرَع، لم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فيها إلى أن يَنْتَهِيَ الزَّرْعُ. فإن بَذَل المُعِيرُ له قِيمةَ الزَّرْعِ ليَمْلِكَه، لم يكنْ له ذلك. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ له وَقْتًا يَنْتَهِي إليه. فإن كان مِمّا يُحْصَدُ قَصِيلًا، فله الرُّجُوعُ في وَقْتِ إمْكانِ حَصادِه؛ لعَدَمِ الضَّرَرِ فيه. 2264 - مسألة: (وإن أعارَها للْغَرْسِ وَالبِنَاءِ، وشَرَطَ عليه القَلْعَ

عَلَيهِ الْقَلْعَ فِي وَقْتٍ أوْ عِنْدَ رُجُوعِهِ، ثُمَّ رَجَعَ، لَزِمَهُ الْقَلْعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْويَةُ الْأرْضِ إلا بِشَرْطٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في وَقْتٍ أو عندَ رُجُوعِه، ثم رَجَع، لَزِمَه القَلْعُ) لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «المُؤمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬1). حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ولأنَّ العارِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ غيرُ مُطْلَقَةٍ، فلم تَتَناوَلْ ما عدا المُقَيَّدَ؛ لأنَّ المُسْتَعِيرَ دَخَل في العارِيَّةِ راضِيًا بالْتزامِ الضَّرَرِ الدّاخِلِ عليه بالقَلْعِ، وليس على صاحِبِ الأرْضِ ضَمانُ نَقْصِه. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. فأما تَسْويَةُ الحُفَرِ، فإن كانت مَشْرُوطَةً عليه، لَزِمَه؛ لِما ذَكَرْنا، وإلَّا لم يَلْزَمْه؛ لأنَّه رَضِيَ بضَرَرِ القَلْعِ مِن الحَفْرِ ونَحْوه، بشَرْطِ القَلْعِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149.

2265 - مسألة: (وإن لم يشترط القلع، لم يلزمه، إلا أن يضمن له المعير النقص)

وإنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيهِ الْقَلْعَ، لَمْ يَلْزَمْهُ، إلَّا أنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمُعِيرُ النَّقْصَ. فَإِنْ قَلَعَ، فَعَلَيهِ تَسْويَةُ الْأَرْضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2265 - مسألة: (وإن لم يَشْتَرِطِ القَلْعَ، لم يَلْزَمْه، إلَّا أن يَضْمَنَ له المُعِيرُ النَّقْصَ) إذا لم يَشْتَرِطِ المُعِيرُ القَلْعَ، لم يَلْزَمِ المُسْتَعِيرَ القَلْعُ؛ لِما فيه مِن الضَّرَرِ عليه، فإن ضَمِن له النَّقْصَ، لَزِمَه؛ لأنَّه رُجُوعٌ في العارِيَّةِ مِن غيرِ إضْرارٍ (فإن قَلَع، فعليه تَسْويَةُ الأرْضِ) وكذلك إنِ اخْتارَ أخْذَ بِنائِه وغِراسِه، فإنَّه يَمْلِكُه، فمَلَكَ نَقْلَه؛ لأنَّ القَلْعَ باخْتِيارِه، لو امْتَنَعَ منه لم يُجْبَرْ عليه، [ولأنَّه] (¬1) قَلَعَه لِاسْتِخْلاصِ مِلْكِه مِن مِلْكِ غيرِه، فلَزِمَتْه التَّسْويةُ، كالشَّفِيعِ إذا أخَذَ غَرْسَه. وقال القاضِي (¬2): لا يَلْزَمُه ذلك؛ لأنَّ المُعِيرَ رَضِيَ بذلك حيثُ أعارَه مع عِلْمِه بأنَّ له قَلْعَ غَرْسِه الذي لا يُمْكِنُ إلَّا بالحَفْرِ. ¬

(¬1) سقط من: تش، ر 1، م، وفي الأصل: «لأنه». (¬2) بعده في تش: «وابن عقيل».

2266 - مسألة: (فإن أبى القلع)

وَإنْ أَبَى الْقَلْعَ، فَلِلْمُعِيرِ أَخْذُهُ بقِيمتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2266 - مسألة: (فإن أبَى القَلْعَ) في الحالِ التي لا يُجْبَرُ عليه فيها، فبَذَل له المُعِيرُ قِيمَةَ الغِرَاسِ والبِنَاءِ ليَمْلِكَه، أُجْبِرَ المُسْتَعِيرُ عليه، كالشَّفِيعِ مع المُشْتَرِي، والمُؤجِرِ مع المُسْتَأْجِرِ. فإن قال المُسْتَعِيرُ: أنا أدْفَعُ قِيمَةَ الأرضِ لتَصِيرَ لي. لم يَلْزَمِ المُعِيرَ؛ لأنَّ الغِراسَ والبِنَاءَ تاجٌ، والأرْضَ أَصلٌ، ولذلك يَتْبَعُها الغِرَاسُ والبنَاءُ في البَيعَ، ولا تَتْبَعُهُما. وبهذا كلِّه قال الشافعيُّ. وقال أَبو حنيفةَ، ومالكٌ: يُطالِبُ المُسْتَعِيرَ بالقَلْعِ مِن غيرِ ضَمانٍ، إلَّا أن يكونَ أعارَه مُدّةً مَعْلُومةً فرَجَعَ قبلَ انْقِضائِها؛ لأنَّ المُعِيرَ لم يَغُرَّه، فكان عليه القَلْعُ، كما لو شَرَطه عليه. ولَنا، أنَّه بَنَى وغَرَسَ بإذْنِ المُعِيرِ مِن غيرِ شَرْطِ القَلْعِ، فلم يَلْزَمْه القَلْعُ مِن غيرِ ضَمانٍ، كما لو طالبَه قبلَ انْقِضاءِ الوَقْتِ. وقولُهم: لم يَغُرَّه. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الغِراسَ والبِنَاءَ يُرادُ للتَّبْقِيَةِ، وتَقْدِيرُ المُدَّةِ يَنْصَرِفُ إلى ابْتِدائِه، كأنَّه قال: لا تَغْرِسْ بعدَ هذه المُدَّةِ.

2267 - مسألة: فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر، لم يقلع؛ لأن العارية تقتضي الانتفاع بغير ضمان، والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضا بالإبقاء، ولأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لعرق ظالم حق»

فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بِيعَا لَهُمَا، فَإِنْ أَبَيَا الْبَيعَ تُرِكَ بِحَالِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2267 - مسألة: فإنِ امْتَنَعَ المُعِيرُ مِن دَفْعِ القِيمَةِ وأَرْشِ النَّقْصِ، وامْتَنَعَ المُسْتَعِيرُ مِن القَلْعِ ودَفْعِ الأجْرِ، لم يُقْلَعْ؛ لأنَ العارِيَّةَ تَقْتَضِي الانْتِفاعَ بغير ضَمانٍ، والإِذْنَ فيما يَبْقَى على الدَّوَامِ وتَضُرُّ إزالتُه رِضًا بالإِبقاءِ، ولأن قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» (¬1). مَفْهُومُه أنَّ العِرْقَ الذي ليس بظَالِمٍ له حَقٌّ. 2268 - [مسألة: (فإن أبَى ذلك بيعَا لهما)] (¬2) فعندَ (¬3) ذلك، إنِ اتَّفقَا على البَيعِ بِيعَتِ الأرْضُ بغِرَاسِها وبِنائِها، ودُفِعَ إلى كلِّ واحدٍ منهما قَدْرُ حَقِّه، فيُقالُ: كم قيمَةُ الأرْضِ بلا غِرَاسٍ ولا بِنَاءٍ؟ فإذا قيل: عَشَرَةٌ. قُلْنا: وكم تُساوي مَغْرُوسةً مَبْنِيَّةً؟ فإن قالوا: خَمْسَةَ عَشَرَ. فيكونُ للمُعِيرِ ثُلُثَا الثَّمَنِ، وللمُسْتَعِيرِ ثُلُثُه. 2269 - مسألة: (فإن أبَيَا البَيعَ، تُرِكَ بحَالِه) وقُلْنا لهما: تَصَرَّفَا (¬4)، فلا حُكْمَ لَكُما عندَنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 296. (¬2) سقط من: تش، ر، ر 1، م. (¬3) في الأصل: «قصد»، وفي م: «فبعد». (¬4) في م: «انصرفا».

2270 - مسألة: (وللمعير التصرف في أرضه على وجه لا يضر بالشجر)

وَلِلْمُعِيرِ التَّصَرُّفُ فِي أرْضِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالشَّجَرِ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ الدُّخُولُ لِلسَّقْيَ وَالإِصْلَاحِ وَأخْذِ الثَّمَرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2270 - مسألة: (وللمُعِيرِ التَّصَرُّفُ في أرْضِه على وَجْهٍ لا يَضُرُّ بالشَّجَرِ) وجُمْلَتُه، أنَّ للمُعِيرِ التَّصَرُّفَ في أرْضِه، ودُخُولَها، والانْتِفاعَ بها كيفَ شاء، بما لا يَضُرُّ بالغِرَاسِ والبِنَاءِ، ولا يَنْتَفِعُ بهما (وللمُسْتَعِيرِ الدُّخُولُ للسَّقْيَ والإِصْلاحَ وأخْذِ الثَّمَرَةِ) وليس له الدُّخُولُ لغيرِ حاجَةٍ، مِن التَّفَرُّجِ ونَحْوه؛ لأَنه قد رَجَعَ في الإِذْنِ له، ولأنَّ الإِذْنَ في الغَرْسِ إذْنٌ فيما يَعُودُ بصَلاحِه. ولكلِّ واحدٍ منهما بَيعُ ما يَخْتَصُّ به مع المِلْكِ ومُنْفَرِدًا، فيَقُومُ المُشْتَرِي مَقامَ البائِعِ. وقال بعضُ الشافِعِيّةِ: ليس للمُسْتَعِيرِ البَيعُ؛ لأنَّ مِلْكَه في الشَّجَرِ والبِناءِ غيرُ مُسْتَقِرٌّ، لأنَّ للمُعِيرِ أخْذَه منه متى شاءَ بقِيمَتِه. قُلْنا: عَدَمُ اسْتِقْرارِه لا يَمْنَعُ بَيعَه، بدَلِيلِ الشِّقْصِ المَشْفُوعِ، والصَّدَاقِ قبلَ الدُّخُولِ.

2271 - مسألة: (ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة من حين الرجوع، [وذكروا عليه أجرة في الزرع، وهذا مثله، فيخرج فيهما وفي سائر المسائل وجهان)

وَلَمْ يَذْكُرْ أصْحَابُنَا عَلَيهِ أُجْرَةً مِن حِينِ الرُّجُوعِ، وَذَكَرُوا عَلَيهِ أُجْرَةً فِي الزَّرْعِ، وَهَذَا مِثْلُهُ، فيُخَرَّجُ فِيهِمَا وَفِي سَائِرِ الْمَسَائِل وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2271 - مسألة: (ولم يَذْكُرْ أصحابُنا عليه أُجْرَةً مِن حينِ الرُّجُوعِ، [وذَكَرُوا عليه أُجْرَةً في الزَّرْعِ، وهذا مثلُه، فيُخَرَّجُ فيهما وفي سائِرِ المَسائِلِ وَجْهان) وجُمْلته، أنَّ أصحابَنا لم يَذْكُروا عليه] (¬1) في شيءٍ مِن هذه المَسائِلِ، إلَّا فيما إذا اسْتَعارَ أرضًا فزَرَعَها، ورَجَع المُعِيرُ فيها قبلَ كَمالِ الزَّرْعِ، فعليه أجْرُ مِثْلها مِن حينِ الرُّجُوعِ؛ لأنَّ الأصْلَ جَوازُ الرُّجُوعِ، وإنَّما مُنِعَ مِن القَلْعِ؛ لِما فيه مِن الضَّرَرِ، ففي دَفْعِ الأجْرِ جَمْعٌ بينَ الحَقَّينِ، فيُخَرَّجُ في سائِرِ المَسائِلِ مثلُ هذا. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَجِبُ الأجْرُ في شيءٍ مِن المَواضِعِ؛ لأنَّ حُكْمَ العارِيَّةِ باقٍ فيه، لكَوْنِها صارت لازِمةً؛ للضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِفَسْخِها، والإِعارَةَ تَقْتَضِي الانْتِفاعَ [بغيرِ عِوَضٍ] (¬2). ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. (¬2) سقط من: م.

2272 - مسألة: (وإن غرس أو بنى بعد الرجوع أو بعد الوقت، فهو غاصب، يأتي حكمه)

وَإنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى بَعْدَ الرُّجُوعِ أَوْ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَهُوَ غَاصِبٌ، يَأْتِي حُكْمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2272 - مسألة: (وإن غَرَسَ أو بَنَى بعدَ الرُّجُوعِ أو بعدَ الوَقْتِ، فهو غاصِبٌ، يَأْتِي حُكْمُه) العارِيَّةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَين؛ مُطْلَقَةً ومُؤقَّتَةً، [فالمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي إباحَةَ الانْتِفاعِ ما لم يَرْجِعْ، والمُؤقَّتَةُ] (¬1) تُبِيحُ الانْتِفاعَ ما لم يَنْقَضِ الوَقْتُ؛ لأنَّه اسْتَباحَ ذلك بالإِذْنِ، ففيما عَدَا مَحَلَّ الإِذْنِ يَبْقَى على أصْلِ المَنْعِ، فإن كان المُعارُ أرْضًا، لم يَكُنْ له أن يَغْرِسَ ولا يَبْنِيَ ولا يَزْرَعَ بعدَ الوَقْتِ أو الرُّجُوعِ، فإن فَعَل شيئًا مِن ذلك، فهو غاصِبٌ، يَأْتِي حُكْمُه في بابِ الغَصْبِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: يَجُوزُ أن يَسْتَعِيرَ دابَّةً ليَرْكَبَها إلى مَوْضِعٍ مَعْلوم؛ لأنَّ إجارَتَها جائِزَةٌ، والإِعارَةُ أوْسَعُ؛ لجَوازِها فيما لا تَجُوزُ إجَارَتُه، كالكَلْبِ للصَّيدِ. فإنِ اسْتَعارَها إلى مَوْضِعٍ فجاوَزَه، فقد تَعَدَّى، وعليه أَجْرُ المِثْلِ للزَّائدِ خاصَّةً. وإنِ اخْتَلَفَا، فقال المالِكُ: أَعَرْتُكَها إلى فَرْسَخٍ. وقال المُسْتَعِيرُ: إلى فَرْسَخَينِ. فالقَوْلُ قولُ المالكِ. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي. وقال مالكٌ: إن كان يُشْبِهُ ما قال المُسْتَعِيرُ، فالقولُ قولُه، وعليه الضَّمانُ. ولَنا، أنَّ المالِكَ مُدَّعًى عليه فكان القَولُ قولَه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» [مُتَّفَقٌ على مَعْناه] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: ر 1، م. والحديث تقدم تخريجه في 12/ 478.

2273 - مسألة: (وإن حمل السيل بذرا إلى أرض فنبت فيها، فهو لصاحبه)

وَإِنْ حَمَلَ السَّيلُ بَذْرًا إلَى أرْضٍ فَنَبَتَ فِيهَا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ، مُبَقّى إِلَى الْحَصَادِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ. وَقَال الْقَاضِي: لَا أُجْرَةَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2273 - مسألة: (وإن حَمَل السَّيلُ بَذْرًا إلى أرْضٍ فنَبَتَ فيها، فهو لصاحِبِه) ولا يُجْبَرُ على قَلْعِه. وقال أصحابُ الشافِعِيِّ: يُجْبَرُ عليه في أحَدِ الوَجْهَين، إذا طالبَه رَبُّ الأرْضِ به؛ لأنَّ مِلْكَه حَصَل في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فأشْبَهَ ما لو انْتَشَرَتْ أغْصانُ شَجَرَتِه في هَواءِ مِلْكِ جارِه (¬1). ولَنا، أنَّ قَلْعَه إتْلافٌ للمالِ على مالِكِه، ولم يُوجَدْ منه تَفْرِيطٌ، ولا يَدُومُ ضَرَرُه، فلا يُجْبَرُ على ذلك، كما لو حَصَلَتْ دابَّتُه في دارِ غيرِه على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ خُرُوجُها إلا بِقَلْعِ البابِ أو قَتْلِها، فإنَّه لا يُجْبَرُ على قَتْلِها. ويُفارِقُ أغْصانَ الشَّجَرَةِ، فإنَّه يَدُومُ ضَرَرُه، ولا يُعْرَفُ قَدْرُ ما يَشْغَلُ من الهَواءِ فيُؤدِّي أجْرَه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُقَرُّ في الأرْضِ إلى حينِ حَصَادِه بأَجْرِ مثلِه (وقال القاضي: لا أجْرَ عليه) لأنَّه حَصَل في أرْضِ غيرِه بغيرِ تَفْرِيطِه، أشْبَهَ ما إذا باتَتْ دابَّتُه في أرْضِ إنسانٍ بغيرِ تَفْرِيطِه. والأوّلُ أوْلَى؛ لأنَّ إلْزامَه تَبْقِيَةَ زَرْعٍ ما أذِنَ فيه في أرْضِه، بغيرِ أجْرٍ ولا انْتِفاعٍ، ¬

(¬1) في ر 1، م: «غيره».

أَنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أخْذَهُ بِقِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إضْرارٌ به، وشَغْلٌ لمِلْكِه بغيرِ اخْتِيارِه [بغيرِ عِوَضٍ] (¬1)، فلم يَجُزْ، كما لو أرادَ إبْقاءَ البَهِيمةِ في دارِ غيرِه عامًا. ويُفارِقُ مَبِيتَها؛ لأنَّ ذلك لا يُجْبَرُ المالِكُ عليه، ولا يُمْنَعُ مِن إخْراجِها، فإذا تَرَكَها اخْتِيارًا منه، كان راضيًا به، بخِلافِ مسألَتِنا. ويكونُ الزَّرْعُ لمالِكِ البَذْرِ؛ لأنَّه عَينُ مالِه (ويَحْتَمِلُ أنَّ لصاحِبِ الأرْضِ أخْذَه بقِيمَتِه) كزَرْعِ الغاصِبِ، على ما نَذْكُرُه. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّه بغيرِ عُدْوانٍ، وقد أمْكَنَ جَبْرُ حَقِّ مالِكِ الأرْضِ بدَفْعِ الأجْرِ إليه. وإن أحَبَّ مالِكُه قَلْعَه فله ذلك، وعليه تَسْويةُ الحَفْرِ، وما نَقَصَتْ؛ لأنَّه أَدْخَلَ النَّقْصَ على مِلْكِ غيرِه لِاسْتِصْلاحِ مِلْكِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

2274 - مسألة: (فإن حمل)

وَإنْ حَمَلَ غَرْسَ رَجُلٍ، فَنَبَتَ فِي أَرْضِ غَيرِهِ، فَهَلْ يَكُونُ كَغَرْسِ الشَّفِيعِ، أوْ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2274 - مسألة: (فإن حَمَل) السَّيلُ (غَرْسَ رجلٍ) أو نَوًى (فنَبَتَ في أرضِ غيرِه) كالزَّيتُونِ ونَحْوه، فهو لمالِكِ النَّوَى والغَرْس (¬1)؛ لأنَّه مِن نَماءِ مِلْكِه، فهو كالزَّرْعِ. ويُجْبَرُ على قَلْعِه ههُنا؛ لأنَّ ضَرَرَه يدومُ، فهو كأغْصانِ الشَّجَرَةِ المُنْتَشِرَةِ في هَواءِ مِلْكِ غيرِه و (هل يكونُ كغَرْسِ الشَّفِيعِ، أو كغَرْسِ الغاصِب؟ على وَجْهَينِ) أحدُهما، يكونُ كغَرْسِ الغاصِب؛ لأنَّه حَصَل في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه. والثاني، كَغَرْسِ الشَّفِيعِ؛ لأنَّه حَصَل في مِلْكِ غيرِه بغيرِ تَفْرِيطٍ منه ولا عُدْوانٍ. ¬

(¬1) سقط من: تش، ر 1، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَمَل السَّيلُ أرْضًا بشَجَرِها، فنَبَتَتْ في أرْضِ آخَرَ كما (¬1) كانت، فهي لمالِكِها، يُجْبَرُ على إزَالتِها، كما ذَكَرْنا. وفي كلِّ ذلك، إذا تَرَك صاحِبُ الأرْضِ المُنْتَقِلَةِ أو الشَّجَرِ أو الزَّرْعِ ذلك لصاحِب الأرْضِ التي انْتَقَل إليها، لم يَلْزَمْه نَقْلُه ولا أَجْرُه، ولا غيرُ ذلك؛ لأنَّه حَصَل بغيرِ تَفْرِيطِه ولا عُدْوانِه، وكانتِ الخِيَرَةُ إلى صاحِبِ الأرْضِ المَشْغُولَةِ به، إن شاءَ أخَذَه لنَفْسِه، وإن شاء قَلَعَه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لو».

فَصْلٌ: وَحُكْمُ الْمُسْتَعِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْمُسْتَأْجِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (وحُكْمُ المُسْتَعِيرِ في اسْتِيفاءِ المَنْفَعَةِ حُكْمُ المُسْتَأْجرِ) لأنَّه مَلَك التَّصَرُّفَ بقَوْلِ المالِكِ وإذْنِه، فأشْبَهَ المُسْتَأْجرَ؛ لَأنَّه مَلَكَه بإذْنِه، فوَجَبَ أن يَمْلِكَ ما يَقْتَضِيه الإِذْنُ، كالمُسْتَأْجِرِ. فعلى هذا، إن أعارَه للغِرَاسِ أو (¬1) البِنَاءِ، فله أن يَزْرَعَ ما شاء. وإنِ اسْتَعارَها للزَّرعِ، لم يَغْرِسْ، ولم يَبْنِ. وإِنِ اسْتَعارَها للغَرْسِ أو البِنَاء مَلَك المَأْذُون له فيه منهما (¬2) دونَ الآخرِ؛ لأنَّ ضَرَرَهُما مُخْتَلِفٌ. وكذلك إنِ اسْتَعارَها لزَرْعِ الحِنْطَةِ. فله زَرْعُ الشَّعِيرِ، وقد ذَكَرْنا ذلك مُفَصَّلًا في الإِجارَةِ. وكذلك إن أذِنَ له في زَرْعِ مَرَّةٍ، لم يَكُنْ له أن يَزْرَع أكْثَرَ منها. وإن أذِنَ له في غَرْسِ شَجَرَةٍ، فانْقَلَعَتْ، لم يَمْلِكْ غَرْسَ أُخْرَى؛ لأنَّ الإِذْنَ اخْتَصَّ بشيءٍ لم يُجاوزْه. فصل: ومَن اسْتَعارَ شيئًا، فله اسْتِيفاءُ مَنْفَعَتِه بنَفْسِه وبوَكِيلِه؛ لأنَّ وَكِيلَه ناب عنه، ويَدُه كيَدِه. وليس له أن يُؤْجِرَه إلَّا أن يَأْذَنَ فيه؛ لأنَّه لم يَمْلِكِ المَنافِعَ، فلم يَكُنْ له أن يَمْلِكَها. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ولا خِلافَ بينَهم أنَّ المُسْتَعِيرَ لا يَمْلِكُ العَينَ. وأجْمَعُوا على أنَّ للمُسْتَعِيرِ اسْتِعْمال المُعارِ فيما أَذِنَ له فيه. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «منها».

2275 - مسألة: (والعارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وإن شرط نفي ضمانها)

وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ، وَإنْ شُرِطَ نَفْيُ ضَمَانِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس له أن يَرْهَنَه بغيرِ إذْنِ مالِكِه، وله ذلك بإذْنِه، بشُرُوطٍ ذَكَرْناها في بابِ الرَّهْنِ مُفَصَّلَةً، وذَكَرْنا الاخْتِلافَ في ذلك. ولا يَصِيرُ المُعِيرُ ضامِنًا للدَّينِ. وقال الشّافِعِيُّ: يَصِيرُ ضامِنًا في رَقَبَةِ عَبْدِه. في أحَدِ قَوْلَيه؛ لأنَّ العارِيَّةَ ما يُسْتَحَقُّ به مَنْفَعَةُ العَينِ، والمَنْفَعَةُ ههُنا للمالِكِ، فدَلَّ على أنَّه ضَمانٌ. ولَنا، أنَّه أعَارَه ليَقْضِيَ منه حاجَةً (¬1)، فلم يكُنْ ضامِنًا، كسائِرِ العَوَارِي، وإنَّما يَسْتَحِقُّ بالعارِيَّةِ النَّفْعَ المَأْذُونَ فيه، وما عداه مِن النَّفْعِ فهو لمالِكِ العَينِ. واللهُ أعْلَمُ. 2275 - مسألة: (والعارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ بقِيمَتِها يومَ التَّلَفِ، وإن شُرِطَ نَفْيُ ضَمانِها) سَواء تَعَدَّى المُسْتَعِيرُ فيها أو لم يَتَعدَّ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وأبي هُرَيرَةَ. وهو قولُ الشافعيِّ، وإسحاقَ. وقال ¬

(¬1) في م: «حاجته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ (¬1): هي أمانَةٌ، لا يَجبُ ضَمانُها إلَّا بالتَّعَدِّي؛ لِما روَي عَمْرُو بنُ شعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيسَ عَلَى المُسْتَعِيرِ غَير المُغِلِّ (¬2) ضَمَانٌ» (¬3). ولأنَّه قَبَضَها بإذْنِ مالِكِها، فكانت أمانَةً، كالوديعَةِ. قالوا: وقولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «الْعَارِيَّةُ مُؤدَّاةٌ» (¬4). يَدُلُّ على أنَّه أمانَة؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬5). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ صَفْوانَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَة» (¬6). وروَى الحَسَنُ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ». ¬

(¬1) في الأصل، ر، ق: «سيرين». (¬2) المغل: الخائن. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العارية، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 178. والدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 41. والبيهقي، في: باب من قال لا يغرم، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 6/ 91. (¬4) تقدم تخريجه في 13/ 6. (¬5) سورة النساء 58. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حَدِيثٌ حَسَن غَرِيبٌ. ولأنَّه أخَذَ مِلْكَ غيرِه لنَفْعِ نَفْسِه مُنْفَرِدًا بنَفْعِه، مِن غيرِ اسْتِحْقاقٍ ولا إذْنٍ في الإتْلافِ، فكان مَضْمُونًا، كالمَغْصُوبِ، والمَأْخُوذِ على وَجْهِ السَّوْمِ. وحَدِيثُهم يَرْويه عمرُ (¬2) بنُ عبدِ الجَبَّارِ، عن عُبَيدِ بنِ حَسَّانٍ، عن عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، وعُمَرُ وعُبَيدٌ ضَعِيفان. قاله الدَّارَقُطْنِيُّ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ ضَمانَ المَنافِعِ والأجْرِ، وقِياسُهُم مَنْقُوضٌ بالمَقْبُوضِ على وجهِ السَّوْمَ. فصل: وإن شَرَط نَفْيَ الضَّمانِ، لم يَسْقُطْ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حَفْص العُكْبَرِيُّ: يَسْقُطُ. قال أبو الخَطّابِ: أَوْمأَ إليه أحمدُ. وبه قال قَتادَةُ، والعَنْبَرِيُّ؛ لأنَّه لو أَذِنَ في إتْلافِها، لم يَجِبْ ضَمانُها. فكذلك إذا أسْقَطَ عنه ضَمانَها. وقيل. بل مَذْهَبُ قَتادَةَ والعَنْبَرِيِّ، أنَّها لا تُضْمَنُ إلَّا أنَّ يَشْتَرِطَ ضَمانَها فيَجِبَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في تضمين العارية، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 265. والترمذي، في: باب ما جاء في أن العارية مؤداة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 269. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب العارية، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 802. والدارمي، في: باب في العارية مؤداة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 264. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 8، 12. (¬2) في الأصل، تش: «عمرو».

2276 - مسألة: (وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونا بشرطه)

وَكُلُّ مَا كَانَ أمَانَةً لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، وَمَا كَانَ مَضْمُونًا ـــــــــــــــــــــــــــــ لصَفْوانَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ». ولَنا، أنَّ كلَّ عَقْدٍ اقْتَضَى الضَّمانَ، لم يُغَيِّرْه الشَّرْطُ، كالمَقْبُوضِ ببَيعٍ صَحِيحٍ أو فاسِدٍ، وما اقْتَضَى الأمانَةَ فكذلك، كالوَدِيعةِ والشَّرِكَةِ والمُضارَبَةِ. والذي كان مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إخْبارٌ بصِفَةِ العارِيَّةِ وحُكْمِها. وفارَقَ ما إذا أَذِنَ في الإتْلافِ، فإنَّ الإتْلافَ فِعْلٌ يَصِحُّ فيه الإِذْنُ، ويَسْقُطُ حُكْمُه، إذ لا يَنعَقِدُ مُوجِبًا للضَّمانِ مع الإِذْنِ فيه، وإسْقاطُ الضَّمانِ ههُنا نَفْيٌ للحُكْمِ مع وُجُودِ سَبَبِه، وليس ذلك للمالِكِ، ولا يَمْلِكُ الإذْنَ فيه. فصل: وتُضْمَنُ بقِيمَتِها يومَ التَّلَفِ، إلَّا على الوَجْهِ الذي يَجِبُ فيه ضَمانُ الأجْزاءِ التّالِفَةِ بالانْتِفاعِ المَأْذُونِ فيه، فإنَّه يَضْمَنُها بقِيمَتِها قبلَ تَلَفِ أجْزائها إن كانت قِيمَتُها حِينَئِذٍ أكثرَ، وإن كانت أقَلَّ، ضَمِنَها بقِيمَتِها يومَ تَلَفِها على الوَجْهَين جَمِيعًا، ويَضْمَنُها بمثلِها إن كانت مِثْلِيَّةً. 2276 - مسألة: (وكلُّ ما كان أمانَةً لا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِه) لأنَّ مُقْتَضَى العَقْدِ كَوْنُه أمَانة، فإذا شَرَط ضَمانَه، فقد الْتَزَمَ ضَمانَ ما لم يُوجَدْ سَبَبُ ضَمانِه، فلم يَلْزَمْه، كما لو اشْتَرَطَ ضَمانَ الوَدِيعَةِ، أو ضَمانَ مالٍ في يَدِ مالِكِه (وما كان مَضْمُونًا لا يَنْتَفِي ضَمانُه بِشَرْطِه) لأنَّ مُقْتَضَى العَقْدِ الضَّمانُ، فإذا شَرَط نَفْيَ ضَمانِه لا يَنْتَفِي مع وُجُودِ سَبَبِه،

2277 - مسألة: (وإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال؛ كخمل

لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَال: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. فَيَدُلُّ عَلَى نَفْي الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ. وَإنْ تَلِفَتْ أَجْزَاؤهَا بِالاسْتِعْمَالِ؛ كخَمْلِ الْمِنْشَفَةِ، فَعَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمانِ ما يتَعَدّى فيه (وعن أحمدَ، أنَّه ذُكِرَ له ذلك فقال: المُؤمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. وهذا يَدُلُّ على نَفْي الضَّمانِ بشَرْطِه) والأوّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لِما ذَكَرْناه. 2277 - مسألة: (وإن تَلِفَتْ أجْزاؤُها بالاسْتِعْمالِ؛ كخَمْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِنْشَفَةِ (¬1)، فعلى وَجْهَينِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُسْتَعِيرَ إذا انْتَفَعَ بالعارِيَّةِ ثم رَدَّها على صِفَتِها، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ المَنافِعَ مَأْذُونٌ في إتْلافِها، فلا يَجِبُ عِوَضُها (¬2). وإن تَلِفَ شيءٌ مِن أجْزائِها التي لا تَذْهَبُ بالاسْتِعْمالِ، ضَمِنَه؛ لأنَّ ما تُضْمَنُ جُمْلته تُضْمَنُ أجْزاؤُه، كالمَغْصُوبِ. فأمّا أجزاؤُها التي تَذْهَبُ بالاسْتِعْمالِ كخَمْلِ المِنْشَفَةِ والقَطِيفَةِ، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَجِبُ ضَمانُه؛ لأنها (¬3) أَجزاءُ عَينٍ مَضمُونَةٍ، فوَجَبَ ضَمانُها، كالمَغْصُوبِ، ولأنَّها أجْزاءٌ يَجِبُ ضَمانُها لو تَلِفَتِ العَينُ قبلَ اسْتِعْمالِها، فتُضْمَنُ إذا تَلِفَتْ وَحْدَها، كالأَجزاءِ التي لا تَتْلَفُ بالاسْتِعْمالِ. والثاني، لا يَضْمَنُها. وبه قال الشافعيُّ، لأنَّ الإِذْنَ في الاسْتِعْمالِ تَضَمَّنَه، فلا يَجِبُ ضَمانُه، كالمنافِعِ، وكما لو أَذنَ في إتْلافِها صَرِيحًا. وفارَقَ ما إذا تَلِفَتِ العَينُ قبلَ اسْتِعْمالِها؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَمْيِيزُها مِن العَينِ، ولأنَّه إنَّما أذنَ في إتْلافِها على وَجْهِ الانْتِفاعِ، فإذا ¬

(¬1) خمل المنشفة: هدبها. (¬2) في الأصل: «ضمانها». (¬3) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَلِفَتْ قبلَ ذلك، فقد فاتتْ (¬1) على غيرِ الوَجْهِ الذي أَذِنَ فيه، فضَمِنَها، كما لو أَجَرَ العَيْنَ المُسْتَعارَةَ، فإنَّه يَضْمَنُ مَنافِعَها. فإن قُلْنا: لا يَضْمَنُ الأجْزاءَ. فتَلِفَتِ العَينُ بعدَ ذَهَابِها بالاسْتِعْمالِ، قُوِّمَتْ حال التِّلَفِ؛ لأنَّ الأجْزاءَ التالِفَةَ تَلِفَتْ غيرَ مَضْمُونَةٍ؛ لكَوْنِها مَأذُونًا في إتْلافِها، فلا يَجُوزُ تَقْويمُها عليه. وإن قُلْنا: تُضْمَنُ الأَجْزاءُ. قُوِّمَتِ العَينُ قبلَ تَلَفِ أجْزائِها. فإن تَلِفَتِ الأجْزاءُ باسْتِعْمالٍ غيرِ مَأْذُونٍ فيه، كمَنِ اسْتَعارَ ثَوْبًا ليَلْبَسَه، فحَمَلَ فيه تُرَابًا، فإنَّه يَضْمَنُ نَقصَه ومَنافِعَه؛ لأنَّه تَلِفَ بتَعَدِّيهِ. وإن تَلِفَتْ بغيرِ تَعَدٍّ منه ولا اسْتِعْمالٍ، كتَلَفِها بمُرُورِ الزَّمانِ الطَّويلِ عليها، ووُقُوعِ نارٍ فيها، ضَمِن ما تَلِف بالنارِ ونَحْوها؛ لأنَّه تَلَفٌ لم يَتَضَمَّنْه الاسْتِعمالُ المَأذُونُ فيه، فهو كتَلَفِها بفِعْل لم يَأْذَنْ فيه. وما تلِف بطولِ الزَّمانِ كالذي تلِف بالاسْتِعْمالِ؛ لأنَّه تلِف بالإِمْساكِ المَأذُونِ فيه، فأشْبَهَ تَلَفَه بالفِعْلِ المَأْذُونِ فيه. ¬

(¬1) في ر 1: «تلفت».

2278 - مسألة: (وليس للمستعير أن يعير)

وَلَيسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أنْ يُعِيرَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ ضَمانُ وَلَدِ العارِيَّةِ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه لم يَدْخُلْ في الإِعارَةِ (¬1)، فلم يَدْخُلْ في الضَّمانِ، ولا فائِدَةَ للمُسْتَعِيرِ فيه، أشْبَهَ الوَدِيعَةَ. ويَضْمَنُ في الآخَرِ؛ لأنَّه وَلَدُ عَيْنٍ مَضْمُونةٍ، أشْبَهَ وَلَدَ المَغْصُوبةِ. والأوّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ وَلَدَ المَغْصُوبَةِ لا يُضْمَنُ إذا لم يَكُنْ مَغْصُوبًا، وكذلك وَلَدُ (¬2) العارِيَّةِ إذا لم يُوجَدْ (¬3) مع أُمه. [وإنَّما يُضْمَنُ وَلَدُ المَغْصُوبَةِ إذا كان مَغْصُوبًا، فلا أثَرَ لكَوْنِه وَلَدًا لها] (¬4). 2278 - مسألة: (وليس للمُسْتَعِيرِ أنَّ يُعِيرَ) وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ. وفي الآخَرِ، له ذلك. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه يُمَلِّكُه على حَسَبِ ما مَلَكَه، فجاز، كإجَارَةِ المُسْتَأْجِرِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ مَذْهَبًا لأحمدَ [في العارِيَّةِ المُؤقَّتةِ، بناءً] (¬5) على كَوْنِه إذا أعَارَه أَرْضَه سَنَةً ليَبْنِيَ فيها، لم يَحِلَّ الرُّجُوعُ قبلَ السَّنَةِ؛ لأنَّه قد مَلَك ¬

(¬1) في تش، ر 1: «العارية». (¬2) سقط من: الأصل، تش، م. (¬3) في تش، م: «يؤخذ». (¬4) سقط من: تش، ر 1، م. (¬5) في الأصل، ر، ق: «بناء في العارية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنْفَعَةَ، فجازَتْ له إعارَتُها، كالمُسْتَأْجِرِ بعَقْدٍ لازِم. [وحَكاه صاحِبُ «المُحَرَّرِ» قَوْلًا لأحمدَ. قال أصحابُ الرَّأْي: إذا اسْتَعارَ ثَوْبًا ليَلْبَسَه هو، فأعَطاه غيرَه، فلَبِسَه، فهو ضامِنٌ، وإن لم يُسَمِّ مَن يَلْبَسُه، فلا ضمانَ عليه. وقال مالكٌ: إذا لم يَعْمَلْ بها إلَّا الذي كان يَعْمَلُ الذي أُعِيرَهَا، فلا ضَمانَ عليه] (¬1). ولَنا، أنَّ العارِيَّةَ إباحَةُ المَنْفَعَةِ، [فلم يَجُزْ] (¬2) أنَّ يُبِيحَها غيرَه، كإباحَةِ الطَّعامِ. وفارَقَ الإِجَارَةَ؛ فإنَّه مَلَك ¬

(¬1) جاء هذا في الأصل، ر، ق بعد قوله: «فجاز، كإجارة المستأجر»، السابق. وفي م: «المجرد» بدلا من: «المحرر». (¬2) في م: «فلا يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الانْتِفاعَ على كلِّ وَجْهٍ، فمَلَكَ أن يُمَلِّكَها، وفي العارِيَّةِ لم يمْلِكْها، إنَّما مَلَك اسْتِيفاءَها على وَجْهِ ما أُذِنَ فيه، فأشْبَهَ مَن أُبِيحَ له أَكْلُ الطَّعامِ. فعلى هذا، إن أعارَ، فللمالِكِ الرُّجُوعُ بأَجرِ المِثْلِ، وله أنَّ يُطالِبَ مَن شاءَ منهما؛ لأنَّ الأوَّلَ سَلَّطَ غيرَه على أخْذِ مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، والثاني

2279 - مسألة: وإن تلفت عند الثاني، فللمالك (تضمين أيهما شاء)

فَإِنْ فَعَلَ فَتَلِفَ عِنْدَ الثَّانِي، فَلَهُ تَضْمِينُ أيِّهِمَا شَاءَ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوْفاهُ بغيرِ إذْنِه، فإن ضَمَّنَ الأوَّلَ، رَجَع على الثانِي؛ لأنَّ الاسْتِيفاءَ حَصَل منه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، وإن ضَمَّنَ الثانِيَ، لم يَرْجِعْ على الأوَّلِ، إلَّا أنَّ يكونَ الثَّاني لم يَعْلَمْ بحَقِيقَةِ الحالِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ يَسْتَقِرَّ الضَّمانُ على الأوَّلِ؛ لأنَّه غَرَّ الثانيَ ودَفَع إليه العَينَ على أنَّه يَسْتَوْفِي مَنافِعَها بغيرِ عِوَضٍ. 2279 - مسألة: وإن تَلِفَت عند الثَّاني، فللِمالِكِ (تَضْمِينُ أيِّهِما شاء) لما ذَكَرْنا (ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الثانِي) بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه قَبَضَها على أنَّها مَضْمُونَةٌ عليه، فإن ضَمَّنَ الأوّلَ، رَجَع الأولُ على الثَّاني، ولا يَرْجِعُ الثَّاني إن ضَمَّنَه على أحَدٍ.

2280 - مسألة: (وعلى المستعير مؤنة رد العارية)

وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ مُؤْنَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ، لَا مُؤْنَةُ عَينِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2280 - مسألة: (وعلى المُسْتَعِيرِ مُؤْنَةُ رَدِّ العارِيَّةِ) لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَارِيَّةُ مُؤدَّاة» (¬1). وقولِه: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» (¬2). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ويَجِبُ رَدُّها إلى المُعِيرِ أو وَكِيلِه في قَبْضِها، [إلى المَوْضِعِ الذي أخَذَها منه، إلَّا أنَّ يَتَّفِقا على رَدِّها إلى غيرِه، كالمَغْصُوبِ] (¬3)، ويَبْرأُ بذلك مِن ضَمانِها. وإن رَدَّها إلى المَكانِ الذي أخَذَها منه، أو إلى مِلْكِ صاحِبِها، لم يَبْرَأْ مِن ضَمانِها. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَبْرَأُ؛ لأنَّها صارَتْ كالمَقْبُوضَةِ، فإنَّ رَدَّ العَوارِيِّ في العادَةِ يكونُ إلى أمْلاكِ أرْبابِها، فيكونُ مَأْذُونًا فيه عادَةً. ولَنا، أنَّه لم يَرُدَّها إلى مالِكِها، ولا نائِبِه فيها، فلم يَبْرَأْ منها، كما لو دَفَعَها إلى أجْنَبِيٍّ. وما ذكرُوه يَبْطُلُ بالسّارِقِ إذا رَدَّ المَسْرُوقَ إلى الحِرْزِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ العادَةَ ما ذَكَرَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 6. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 90. (¬3) سقط من: تش، ر 1، م.

2281 - مسألة: (فإن رد الدابة إلى إصطبل المالك أو غلامه، لم يبرأ من الضمان، إلا أن يردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده، كالسائس ونحوه)

فَإنْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى إِصْطَبْلِ الْمَالِكِ أَوْ غُلَامِهِ، لَمْ يَبْرأْ مِنَ الضَّمَانِ، إِلَّا أنْ يَرُدَّهَا إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِجَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ، كالسَّائِس وَنَحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2281 - مسألة: (فإن رَدَّ الدّابَّةَ إلى إصْطَبْلِ المالِكِ أو غُلامِه، لم يَبرَأْ من الضَّمانِ، إلَّا أنَّ يَرُدَّها إلى مَن جَرَتْ عادَته بجَريانِ ذلك على يَدِه، كالسّائِسِ ونحوه) قد ذَكَرْنا في المسألةِ التي قبلَها إذا رَدَّها إلى المكانِ الذي أخَذَها منه. وإن رَدَّها إلى زَوْجَتِه المُتَصَرِّفةِ في مالِه، أو رَدَّ الدّابَّةَ إلى سائِسِها، فقال القاضي: يَبْرأُ في قِياسِ المَذْهَب؛ لأنَّ أحمدَ قال في الوَدِيعةِ: إذا سَلَّمَها إلى امْرَأَته، لم يَضْمَنْها؛ لأنَّه مَأْذُون في ذلك، أشْبَهَ ما لو أَذِنَ فيه نُطْقًا.

فَصْلٌ: وَإذَا اخْتَلَفَا، فَقَال: أَجَرْتُكَ. قَال: بَلْ أعَرْتَنِي عَقِيبَ الْعَقْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن اسْتَعارَ شيئًا فانْتَفَعَ به، ثم ظَهَر مُسْتَحَقًّا، فلمالِكِه أَجْرُ مثلِه، يُطالِبُ به مَن شاء منهما، فإن ضَمَّنَ المُسْتَعِيرَ، رَجَع على المُعِيرِ بما غَرِم؛ لأنَّه غَرَّه بذلك وغَرَّمَه؛ لأنَّه دَخَل على أنَّ لا أجْرَ عليه. وإن ضَمَّنَ المُعِيرَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لأنَّ الضَّمانَ اسْتَقَرَّ عليه. قال أحمدُ، في قَصَّارٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلى غيرِ صاحِبِه، فلَبِسَه، فالضَّمانُ على القَصّارِ دُونَ اللَّابِسِ. وسَنَذْكُرُ ذلك في الغَصْبِ، إن شاءَ الله تعالى. فصل: (وإنِ اخْتَلَفَا، فقال: أجَرْتُكَ. قال: بل أعرتَني عَقِيبَ العَقْدِ) [والبَهِيمةُ قائمة] (¬1) (فالقولُ قولُ الرَّاكِبِ) إذا اخْتَلَفَ رَبُّ الدّابَّةِ والرَّاكِبُ، فقال الرّاكِبُ: هي عارِيَّةٌ. وقال المالِكُ: أكْرَيتُكَها. وكانتِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ر، ق.

2282 - مسألة: (وإن كان بعد مضي مدة لها أجرة، فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها)

وَإنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ دُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّابَّةُ باقِيةً لم تَنْقُصْ، وكان الاخْتِلافُ عَقِيبَ العَقْدِ، فالقولُ قولُ الرّاكِبِ (¬1)؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ عَقْدِ الإجارَةِ، وبَراءَةُ ذِمَّتِه منها، ويَرُدُّ الدّابّةَ إلى مالِكِها، وكذلك إذا ادَّعَى المالِكُ أنَّها عارِيَّة، وقال الرّاكِبُ: قد أكْرَيتَنِيها. فالقولُ قولُ المالِكِ مع يَمِينه؛ لِما ذَكَرْنا. 2282 - مسألة: (وإن كان بعدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لها أُجْرَةٌ، فالقولُ قولُ المالِكِ فيما مَضَى مِن المُدَّةِ دونَ ما بَقِيَ منها) [وإن كان الاخْتِلافُ بعدَ مُضِيِّ مدَّةٍ لمثْلِها أُجْرَةٌ، فالقولُ قولُ المالِكِ مع يَمِينه] (¬2). حُكِيَ ذلك عن مالكٍ. وقال أصحابُ الرَّأْي: القولُ. قولُ الرّاكِبِ. وهو مَنْصُوصُ الشافِعِيِّ؛ لأنَّهما اتَّفَقَا على تَلَفِ المَنافِعِ على مِلْكِ الرّاكِبِ، وادَّعَى المالِكُ ¬

(¬1) بعدها في ر 1، م: «مع يمينه». (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضًا لها، والأصْلُ عَدَمُ وُجُوبِه وبَراءَةُ ذِمَّةِ الرّاكِبِ منه، [فكان القولُ قولَه] (¬1). ولَنا، أنَّهما اخْتَلَفَا في كَيفِيَّةِ انْتِقالِ المَنافِعِ إلى مِلْكِ الرّاكِبِ، فكان القولُ قولَ المالِكِ، كما لو اخْتَلَفَا في عَين، فقال المالِكُ: بِعْتُكَها. وقال الآخرُ: وَهَبْتَنِيها. ولأنَّ المَنافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الأعْيانِ في المِلْكِ والعَقْدِ عليها، ولو اخْتَلَفا في الأَعْيانِ، كان القولُ قولَ المالِكِ، كذا ههُنا. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بهذه المسألةِ. ولأنَّهما اتَّفَقا على أنَّ المَنافِعَ لا تَنْتَقِلُ إلى الرّاكِبِ إلَّا بنَقْلِ المالِكِ لها، فيكونُ القولُ قولَه في كَيفِيَّةِ الانْتِقالِ، كالأعْيانِ، فيَحْلِفُ المالِكُ، ويَسْتَحِقُّ الأجْرَ. ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2283 - مسألة: (وهل يستحق أجرة المثل، أو المدعى إن زاد عليها؟ على وجهين)

وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، أو الْمُدَّعَى إِنْ زَادَ عَلَيهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2283 - مسألة: (وهل يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ المِثْلِ، أو المُدَّعَى إن زاد عليها؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، أَجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّهما لو اتَّفَقا على وُجُوبِه، واخْتَلَفا في قَدْرِه، وَجَب أجْرُ المِثْلِ، فمع الاخْتِلافِ في أصْلِه أوْلَى. والثاني، المُسَمَّى؛ لأنَّه وَجَب بقولِ المالِكِ ويَمِينِه، فوَجَبَ ما حَلَف عليه، كالأصْلِ. والأوّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الإِجَارَةَ لا تَثْبُتُ بِدَعْوَى المالِكِ بغير بَيَنةٍ، وإنَّما يَسْتَحِقُّ بَدَلَ المَنْفَعَةِ وهو أجْرُ المِثْلِ. وقيلَ: يَلْزَمُه أقَلُّ الأمرَين [مِن المُسَمَّى وأَجرِ المِثْلِ] (¬1)؛ لأنَّه إن كان المُسَمَّى أقَلَّ فقد رَضِيَ به، وإن كان أكْثَرَ، فليس له إلا أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ الإجارَةَ لم تَثْبُتْ، وإنَّما يكونُ القولُ قولَ المالِكِ إذا اخْتَلَفا في أثْناءِ المُدَّةِ فيما مَضَى منها، وأمّا فيما بَقِيَ فالقولُ قولُ المُسْتَعِيرِ؛ لأنَّ ما بَقِيَ بمَنْزلةِ ما لو اخْتَلَفا عَقِيبَ العَقْدِ. وإنِ ادَّعَى المالِكُ في هذه الصُّورةِ أنَّها عارِيَّةٌ، وادَّعَى الآخَرُ أنَّها بأُجْرَةٍ، فهو يَدَّعِي اسْتِحْقاقَ المَنافِعِ، ويَعْتَرِفُ بالأَجرِ للمالِكِ، والمالِكُ يُنْكِرُ ذلك كله، فالقولُ قوله مع يَمِينه، فيَحْلِفُ، ويَأْخُذُ بَهِيمَتَه. ¬

(¬1) سقط من: تش، ر 1، م.

2284 - مسألة: وإن اختلفا بعد تلف الدابة فقال المالك (أعرتك)

وَإنْ قَال: أَعَرْتُكَ، قَال: بَلْ أجَرْتَنِي، وَالْبَهِيمَةُ تَالِفَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2284 - مسألة: وإنِ اخْتَلَفَا بعدَ تَلَف الدّابَّةِ فقال المالِكُ (أَعرْتُكَ) وقال الراكِبُ (بل أَجَرْتَنِي. فالقولُ قولُ المالِكِ) إذا كان قبلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لمِثْلِها (¬1) أُجْرةٌ، سَواءٌ ادَّعَى الإِجارَةَ أو الإعارَةَ (¬2)؛ لأنَّه إنِ ادَّعَى الإِجارَةَ فهو مُعْتَرِفٌ للرّاكِبِ بِبَراءَةِ ذِمَّتِه مِن ضَمانِها، فيُقْبَلُ إقْرارُه ¬

(¬1) في تش، ر 1، م: «لها». (¬2) في م: «العارية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَفْسِه، وإنِ ادَّعَى الإعارَةَ، فهو يَدَّعِي قِيمَتَها، والقولُ قولُه؛ لأنَّهما اخْتَلَفَا في صِفَةِ القَبْضِ، والأصْلُ فيما يَقْبِضُه الإِنسان مِن مالِ غيرِه الضَّمانُ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّه» (¬1). حَدِيثٌ حَسَن. وإذا حَلَف المالِكُ اسْتَحَقَّ القِيمةَ، والقولُ في قَدْرِها قولُ الراكِبِ مع يَمِينه؛ لأنّه مُنْكِر للزِّيادَةِ المُخْتَلَفِ فيها، والأصْلُ عَدَمُها. وإنِ اختلفا في ذلك بعدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لمِثْلِها (¬2) أجْرٌ، والبَهِيمَةُ تالِفَةٌ، وكان الأجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِها، أو كان ما يَدَّعِيه المالِكُ أقَلَّ مِمّا يَعْتَرِفُ به الرّاكِبُ، فالقولُ قولُ المالِكِ بغيرِ يَمِين، سَواءٌ ادَّعَى الإِجارَةَ أو الإِعارَةَ، إذ لا فائِدَةَ في اليمينِ على شيءٍ يَعْتَرِفُ له به خَصْمُه. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَأْخُذَه إلَّا بِيَمِين؛ لأنَّه يَدَّعِي شيئًا لا يُصَدَّقُ فيه، ويَعْتَرِفُ له خَصْمُه بما لا يَدَّعِيه، فيَحْلِفُ على ما يَدَّعِيه. وإن كان ما يَدَّعِيه المالِكُ أكثَرَ، بأن تكونَ قِيمَةُ الدّابَّةِ أكْثَرَ مِن أجْرِها، فادَّعَى المالِكُ أنَّها عارِيَّة لتَجبَ له القِيمَةُ، وأنْكَرَ اسْتِحْقاقَ الأَجْرِ، وادَّعَى الرّاكِبُ أنَّها مُكْتَراةٌ، أَو كان الكِراءُ أكْثَرَ مِن قِيمَتِها، فادَّعَى المالِكُ أنَّه أجَرَها؛ ليَجِبَ له الكِرَاءُ، وادَّعَى الرّاكِبُ أنَّها عارِيَّةٌ، فالقَوْلُ قولُ المالِكِ في الصُّورَتَين؛ لِما قَدَّمْنا، فإذا حَلَف، اسْتَحَقَّ ما حَلَف عليه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا كلِّه نَحْوُ ما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 90. (¬2) في تش، ر 1، م: «لها».

2285 - مسألة: (وإن قال: أجرتني. أو: أعرتني. قال: بل غصبتني. فالقول قول المالك. وقيل: قول الغاصب)

وَإِنْ قَال: أَعَرْتَنِي. أوْ: أَجَرْتَنِي. قَال: بَلْ غَصَبْتَنِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. وَقِيلَ: قَوْلُ الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2285 - مسألة: (وإن قال: أجَرْتَنِي. أو: أعَرْتَنِي. قال: بل غَصَبْتَنِي. فالقولُ قولُ المالِكِ. وقيل: قولُ الغاصِبِ) إذا كان الاخْتِلاف عَقِيبَ العَقْدِ، والدّابّةُ قائِمة لم تَنْقُصْ، فلا مَعْنَى للاخْتِلافِ، ويَأْخُذُ المالِكُ دابَّتَه. وكذلك إن كانتِ الدّابَّةُ تالِفَةً، وادَّعَى الرّاكِبُ العارِيَّةَ؛ لأنَّ القِيمَةَ تَجِبُ على المُسْتَعِيرِ كوُجُوبِها على الغاصِبِ. وإن كان الاخْتِلافُ بعدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لها أُجْرة، فالاخْتِلافُ في وُجُوبِه، والقولُ قولُ المالِكِ. وهذا ظاهِرُ قولِ الشافعيِّ. ونَقَل المُزَنِيُّ عنه، أنَّ القولَ قولُ الرّاكِبِ. وذَكَرَه بعضُ أصحابِنا؛ لأنَّ المالِكَ يَدَّعِي عليه عِوَضًا الأصْلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَراءَةُ ذِمّتِه منه، ولأنَّ الظاهِرَ مِن اليَدِ أنها بِحَقٍّ، فكان القولُ قولَ صاحِبِها. ولَنا، ما قَدَّمْنا في المسألةِ التي قبلَها، بل هذا أوْلَى؛ لأنَّهما ثَمَّ اتَّفَقَا على أنَّ المَنافِعَ مِلْكٌ للرّاكِبِ، وههُنا لم يَتَّفِقَا على ذلك، فإنَّ المالِكَ يُنْكِرُ انْتِقال المِلْكِ فيها إلى الرَّاكِبِ، والرَّاكِبُ يَدَّعِيه، والقولُ قولُ المُنْكِرِ؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ الانْتِقالِ، فيَحْلِفُ، ويَسْتَحِقُّ الأجْرَ. فإنه قال المالِكُ: غَصَبْتَها. وقال الراكبُ: أجَرْتَنِيها. فالاخْتِلاف ههُنا في وُجُوبِ القِيمَةِ؛ لأنَّ الأجْرَ يَجِبُ في المَوْضِعَين، إلَّا أنَّ يَخْتَلِفَ المُسَمَّى وأجْرُ المِثْلِ، فالقولُ قولُ المالِكِ مع يَمِينه في وُجُوبِ القِيمَةِ. فإن كانتِ الدّابَّةُ تالِفَةً عَقِيبَ أَخذِها، حَلَف وأخَذَ قيمَتَها، وإن كانت قد بَقِيَتْ (¬1) مُدَّةً لمِثْلِها أَجْرٌ، والمُسَمَّى بقَدْرِ أَجْرِ المِثْلِ، أخَذَه المالِكُ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «تعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لاتِّفاقِهِما على اسْتِحْقاقِه، وكذلك إن كان أجْرُ المِثْلِ دونَ المُسَمَّى. وفي اليَمِينِ وَجْهان. وإن كان زائِدًا عن المُسَمَّى، لم يَسْتَحِقَّه إلَّا باليمينِ، وَجْهًا واحِدًا. وااللهُ أعلمُ.

كتاب الغصب

كتَابُ الْغَصْبِ وَهُوَ الاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيرِ قَهْرًا بِغَيرِ حَقٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الغصْبِ (وهو الاسْتِيلاءُ على مالِ الغيرِ قَهْرًا بغيرِ حَقٍّ) وهو مُحَرَّمٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمَّا الكتابُ، فقولُه تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1). وقولُه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). وأَمَّا السُّنَّةُ، فروَى جابِرٌ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبَتِه يومَ النَّحْرِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوالكُمْ حَرامٌ عَلَيكُمْ (¬3)، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا». رَواه مُسْلِمٌ ¬

(¬1) سورة النساء 29. (¬2) سورة البقرة 188. (¬3) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرُه (¬1). وعن سعيدِ بنِ زيدٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ أخَذَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أرَضِينَ» مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو حُرَّةَ الرَّقاشِيُّ، عن عمِّه وعمرو بنِ يَثْرِبِيٍّ، عن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363. من حديث جابر في صفة الحج. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، من كتاب المظالم. وفي: باب ما جاء في سبع أرضين، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخاري 3/ 170، 4/ 130. ومسلم، في: باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، من كتاب المساقاة 3/ 1230، 1232. كما أخرجه الدارمي، في: باب من أخذ شبرًا من الأرض، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 267. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 187 - 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئ مُسْلِمٍ، إلَّا عن طيبِ نَفْسٍ منه». رَواه الجُوزْجانيُّ (¬1). وأجْمَعَ المسلمون على تحريمِ الغَصْبِ في الجملةِ، وإنَّما اخْتَلَفوا في فروعٍ منه، نَذْكُرُها إن شاء الله تَعالى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 432.

2286 - مسألة: (وتضمن أم الولد والعقار بالغصب)

وَتُضْمَنُ أمُّ الْوَلَدِ وَالْعَقَارُ بِالْغَصْبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2286 - مسألة: (وتُضْمَنُ أُمُّ الولدِ والعقارُ بالغَصْبِ) وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ، ومحمدٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُضْمَنُ؛ لأنَّ أُمَّ الولدِ لا تجْرِي مَجْرَى المالِ، بدليلِ أنَّه لا يتَعَلَّقُ بها حَقُّ الغيرِ، فأشْبَهَتِ الحُرَّ. ولَنا، أنَّها تُضمَنُ بالقيمَةِ، فتُضمَنُ بالغَصْبِ، كالْقِنِّ، ولأنَّها مَمْلوكةٌ، أشْبَهَتِ المُدَبَّرَةَ، وفارَقَتِ الحُرَّةَ، فإنَّها ليست مملوكةً، ولا تُضْمَنُ بالقِيمَةِ. 2287 - مسألة: (و) يُضْمَنُ (العقارُ بالغَصْبِ) ويُتَصَوَّرُ

وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْعَقَارَ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غَصْبُ الأراضِي والدُّورِ، ويَجِبُ ضَمانُه على غاصِبِه. هذا ظاهرُ مَذْهَبِ أحمدَ. وهو المنصوصُ عندَ أصحابِه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وروَى ابنُ منصورٍ عن أحمدَ، في مَن غَصَب أرضًا فزرعَها، ثم أصابَها غَرَقٌ مِن الغاصِبِ، غَرِمَ قِيمَةَ الأرضِ، فإن كان سَبَبًا (¬1) مِن السماءِ، لم يكنْ عليه شيءٌ. فظاهرُ هذا أنَّها لا تُضْمَنُ بالغَصْبِ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: لا يُتَصَوَّرُ غَصْبُها، ولا تُضْمَنُ بالغَصْبِ، فإن أتلفَها، ضَمِنها بالإِتْلافِ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ فيها النَّقْلُ والتَّحْويلُ، فلم يَضْمَنْها، كما لو حال بينَه وبينَ متاعِه، فتَلِفَ المتاعُ، ولأنَّ الغَصْبَ إثْباتُ اليَدِ على المالِ عُدْوانًا، على وَجْهٍ تَزُولُ به يَدُ المالكِ، ولا يُمْكِنُ ذلك في العقارِ. ولَنا، قولُه - عليه السلام -: «مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الأَرضِ، طُوِّقَهُ يَوْمَ القيامةِ مِنْ سَبْعِ أْرضِينَ». مُتَّفَق على معناه. وفي لفظٍ: «مَنْ غَصَبَ ¬

(¬1) في م: «شيئًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ» (¬1). فأخْبَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يُغْصَبُ ويُظْلَمُ فيه. ولأنَّ ما ضُمِنَ في البيعِ، وَجبَ ضَمانُه في الغَصْبِ، كالمَنْقُولِ، ولأنَّه يُمْكِنُ الاسْتِيلاءُ عليه على وَجْهٍ يَحُولُ بينَه وبينَ مالِكِه، مثلَ أنَّ يَسْكُنَ الدّارَ ويَمْنَعَ مالِكَها مِن دُخُولِها، فأشْبَه ما لو أخَذَ الدّابَّةَ والمتاعَ. وأمَّا إذا حال بينَه وبينَ متاعِه، [فما اسْتَوْلَى] (¬2) على مالِه، فنَظِيرُه ههُنا أنَّ يَحْبِسَ المالِكَ، ولا يَسْتَوْلِيَ على دارِه. وأمَّا ما تَلِفَ مِن الأرضَ بفِعْلِه أو بسببِ فِعْلِه، كهَدْمِ حيطانِها وتَغْرِيقِها، وكَشْطِ تُرابِها وإلقاءِ الحجارةِ فيها، أو نَقْص يَحْصُلُ بغِراسِه أو بنائِه، فيَضْمَنُه بغيرِ خلافٍ بينَ العلماءِ؛ لأنَّ هذا إتلافٌ، والعَقارُ يُضْمَنُ بالإِتْلافِ، مِن غيرِ اخْتِلافٍ. فصل: ولا يَحْصُلُ الغَصْبُ مِن غيرِ استيلاءٍ، فلو دَخَل أرضَ إنسانٍ أو دارَه، لم يَضْمَنْها بدُخُولِه، سواءٌ دَخلَها بإذْنِه أو غيرِ إذْنِه، وسواءٌ ¬

(¬1) أخرجه الطبراني من حديث وائل بن حجر، بلفظ: «من غصب رجلا أرضا ظلما لقي الله تعالى وهو عليه غضبان». المعجم الكبير 22/ 18. (¬2) في تش، م:: «واستولى». وفي الأصل، ر 1: «فاستولى».

2288 - مسألة: (وإن غصب كلبا فيه نفع، أو خمر ذمي، لزمه ردهما)

وَإنْ غَصَبَ كَلْبًا فِيهِ نَفْعٌ، أوْ خَمْرَ ذِمِّيٍّ، لَزِمَهُ رَدُّهُ. وَإنْ أَتْلَفَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان صاحِبُها فيها أو لم يكنْ. وقال [بعضُ الشافِعِيَّةِ] (¬1): إن دَخَلَها بغيرِ إذْنِه، ولم يكنْ صاحِبُها فيها، ضَمِنَها، سواءٌ قَصَد ذلك، أو ظَنَّ أنَّها دارُه أو دارٌ أُذَنَ له في دُخُولِها؛ لأنَّ يَدَ الداخِلِ تَثْبُتُ عليها بذلك، فيصيرُ غاصبًا، فإنَّ الغَصْبَ إثْباتُ اليَدِ العادِيَةِ، وهذا قد ثَبَتَتَ يَدُه، بدليلِ أنَّهما لو تنازعا في الدارِ، ولا بَيِّنةَ، حُكِمَ بها لِمَن هو فيها دُونَ الخارجِ منها. ولنا، أنَّه غيرُ مُسْتَوْلٍ عليها، فلم يَضْمَنْها، كما لو دَخَلَها بإذْنِه، أو دَخَل صَحْراءَه (¬2)، ولأنَّه إنَّما يَضْمَنُ بالغَصْبِ ما يَضْمَنُه في العارِيَّةِ، وهذا لا تَثْبُتُ به العارِيَّةُ، ولا يَجِبُ به الضمانُ فيها، فكذلك لا يَثْبُتُ به الغَصْبُ إذا كان بغيرِ إذْنٍ. 2288 - مسألة: (وإن غَصَب كَلْبًا فيه نَفْعٌ، أو خَمْرَ ذِمِّيٍّ، لَزِمَه رَدُّهُما) إذا غَصَب كَلْبًا يَجُوزُ اقْتِناؤُه، وَجَب رَدُّه؛ لأَنه يَجُوز الانْتِفاعُ به واقْتِناؤُه، فأشْبَهَ المال. وإن أتْلَفَه، لم يَغْرَمْه. وفيه اخْتِلافٌ ذكرناه ¬

(¬1) في م: «أصحاب الشافعي». (¬2) في تش، م: «صحراة له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في البَيعِ، وهو مَبْنِيٌّ على جَوازِ بَيعِه. وإن حَبَسَه مُدَّةً، لم يَلْزَمْه أجْرٌ؛ لأنَّه لا تَجُوزُ [إجارَتُه. وقد ذَكَرْناه في بابِ الإِجارَةِ] (¬1). وإن غَصَب خَمْرَ ذِمِّيٍّ، لَزِمَه رَدُّها؛ لأنَّه يُقَرُّ على شُرْبِها (فإن أتْلَفَه، لم تَلْزَمْه قِيمَتُه) سواءٌ أتْلَفَه مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ، وسَواءٌ كان لمُسْلِم أو ذِمِّيٍّ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبي الحارِثِ، في الرَّجُلِ يُهَرِيقُ مُسْكِرًا لمُسْلم أو لذِمِّيٍّ، فلا ضَمانَ عليه. وكذلك الخِنْزِيرُ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَجِب (¬2) ضَمانُ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ إذا أتْلَفَهُما على ذِمِّيٍّ. قال أبو حنيفةَ: إن كان مُسْلِمًا بالقِيمَةِ، وإن كان ذِمِّيًّا بالمِثْلِ؛ لأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ إذا عَصَم عَينًا قَوَّمَها، كنَفْسِ الذِّمِّيِّ، وقد عَصَمَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، بدَلِيل أنَّ المُسْلِمَ يُمْنَعُ مِن إتْلافِها، فيَجِبُ أنَّ يُقَوِّمَها، ولأنَّها مالٌ لهم يتَمَوَّلُونَها؛ لِما رُوِيَ عن عُمْرَ، رضي الله عنه، أنَّ عامِلَه كَتَب إليه: إنَّ أهْلَ الذِّمَّةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمُرُّونَ بالعاشِرِ (¬1) ومَعَهُم الخُمُورُ. فكَتَبَ إليه عمرُ: وَلُّوهُمْ بَيعَها، وخُذُوا منهم عُشْرَ ثَمَنِها. فإذا كانت مالًا لهم، وَجَب ضَمانُها، كسائِرِ أَموالِهم. ولَنا، ما روَى جابرٌ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلَا إنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الخَمْرِ والمَيتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأصْنَامِ». مُتَّفَق [على صِحَّتِه] (¬2). وما حَرُمَ بَيعُه لا لحُرْمَتِه، لم تَجبْ قِيمَتُه، كالمَيتَةِ، ولأنَّ ما لم يَكُنْ مَضمُونًا في حَقِّ المُسْلِمِ، لا يكَونُ مَضْمُونًا في حَقِّ الذِّمِّيِّ، كالمُرْتَدِّ، ولأنَّها غيرُ مُتَقَوَّمَةٍ (¬3)، فلا تُضْمَنُ، كالمَيتَةِ، ودَلِيلُ أنَّها غيرُ مُتَقَوَّمَةٍ، [أنَّها غيرُ مُتَقَوَّمَةٍ] (¬4) في حَق المسلمِ، فكذلك في حَقِّ الذِّمِّيِّ، فإنَّ تحْرِيمَها ثَبَت في حَقِّهِما، وخِطابُ النَّواهِي يَتَوَجَّهُ إليهما، فما ثَبَت في حَقِّ أحَدِهما، ثَبَت في حَقِّ الآخَرِ، ولا نسَلِّمُ أنَّها مَعْصُومَةٌ، بل متى أُظْهِرَتْ حَلَّتْ إرَاقَتُها، ثم لو عَصَمَها ما لَزِمَ تَقْويمُها؛ فإنَّ نِسَاءَ أهْلِ الحَرْبِ وصِبْيانَهُم مَعْصُومُونَ غيرُ مُتَقَوَّمِينَ. وقولُهم: إنَّها مالٌ عندَهم. ¬

(¬1) العاشر: عامل الزكاة الذي يقدر العشر. وتقدم تخريج الأثر في 10/ 430. (¬2) في م، تش: «عليه». والحديث تقدم تخريجه في 2/ 307 حاشية (2). (¬3) في الأصل: «مضمونة». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ينْتَقِضُ بالعَبْدِ المُرْتَدِّ، فإنَّه مالٌ عندَهم. فأمّا حديثُ عمرَ، فمَحْمُولٌ على أنَّه أرادَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لهم، وإنَّما أَمَرَ بأخْذِ عُشْرِ أثْمانِها؛ لأنَّهم إذا تَبايَعُوا وتَقابَضُوا، حَكَمْنا لهم بالمِلْكِ (¬1) ولم نَنْقُضْه، وتَسْميَتُها أثمانًا مَجازٌ، كما سَمَّى الله تَعالى ثَمَنَ يُوسفَ ثَمَنًا، فقال: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «بذلك». (¬2) سورة يوسف 20.

2289 - مسألة: (وإن غصب جلد ميتة، فهل يجب رده؟ على

وَإِنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيتَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن غَصَب مِن مُسْلِم خَمْرًا، حُرمَ رَدُّها، ووَجَبَتْ إراقَتُها؛ لأنَّ أبا طَلْحَةَ سَألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أَيتام وَرِثُوا خَمْرًا، فأَمَرَه بإرَاقَتِها (¬1). وإن أتْلَفَها أو تَلِفَتْ عندَه، لم يَجِبْ ضَمانُها؛ لما روَى ابنُ عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إنَّ اللهَ إذَا حَرَّمَ شَيئًا حَرَّمَ ثَمَنَه» (¬2). ولأنَّ ما حُرِّمَ الانْتِفاعُ به، لم يَجِبْ ضَمانُه، كالمَيتَةِ والدَّمِ. فإن أمْسَكَها حتى صارتْ خَلًّا، لَزِمَه رَدُّها؛ لأنَّها صارتْ خَلًّا على حُكْمِ مِلْكِه، فلَزِمَ رَدُّها. فإن تَلِفَتْ، ضَمِنَها له؛ لأنَّها مالُ المَغْصُوبِ منه تَلِفَ في يَدِ الغاصِب. فإن أَرَاقَها، فجَمَعَها إنْسانٌ فتَخَلَّلَتْ عندَه [لم يَلْزَمْه] (¬3) رَدُّ الخَلِّ؛ لأَنَه أخَذَها بعدَ إتْلافِها وزَوَالِ اليَدِ عنها. 2289 - مسألة: (وإن غَصب جِلْدَ مَيتَةٍ، فهل يَجِبُ رَدُّه؟ على ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الخمر خلل، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 293. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 119، 180، 260. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 50. (¬3) سقط من: م.

2290 - مسألة: (وإن دبغه، وقلنا بطهارته، لزمه رده)

فَإِنْ دَبَغَهُ، وَقُلْنَا بِطَهَارَتِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين) بِناءً على طهارَتِه بالدِّبَاغِ، [وفيه رِوايَتان] (¬1)، فمَن قال بطَهَارَتِه، أَوْجَبَ رَدَّهُ؛ لأنَّه يُمْكِنُ إصْلاحُه، فهو كالثَّوْبِ النَّجِسِ. ومَن قال: لا يَطْهُرُ. لم يُوجِبْ رَدَّه؛ لانَّه لا سَبِيلَ إلى إصْلاحِه. وإن أتْلَفَه أو أْتْلَفَ مَيتةً بجِلْدِها، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه لا قِيمَةَ له، بدَلِيلِ أنَّه لا يَحِلُّ بَيعُه. 2290 - مسألة: (وإن دَبَغَه، وقُلْنا بطَهَارَتِه، لَزِمَه رَدُّه) ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2291 - مسألة: (وإن استولى على حر، لم يضمنه بذلك)

وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ، لَمْ يَضْمَنْهُ بِذَلِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالخَمْرِ إذا تَخَلَّلتْ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَجِبَ رَدُّه؛ لأنَّه صارَ مالًا بفِعْلِه، بخِلافِ الخَمْرِ. وإن قلنا: لا يَطْهُرُ. لم يَجِبْ رَدُّه؛ لأنَّه لا يُباحُ الانْتِفاع به. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَجِبَ رَدُّه إذا قلنا: يُبَاحُ الانْتِفاعُ به في اليابِساتِ. لأنَّه نَجِسٌ يُباحُ الانْتِفاعُ به، أشْبَهَ الكَلْبَ، وكذلك قبلَ الدَّبغِ. 2291 - مسألة: (وإنِ اسَتْوَلَى على حُرٍّ، لم يَضْمَنْه بذلك) لا

2292 - مسألة

إلا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَضْمَنُهُ. فَهَلْ يَضْمَنُ ثِيَابَهُ وَحَلْيَهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتُ الغصْبُ فيما ليس بمالٍ، كالحُرِّ؛ فإَّنه لا يُضْمَنُ بالغَصْب، إنَّما يُضْمَنُ بالإتْلافِ، فإن حَبَس حُرًّا فماتَ عندَه، لم يَضْمَنْه؛ لأَنه ليس بمالٍ. 2292 - مسألة (¬1): (إلَّا أنَّ يكونَ صَغِيرًا، ففيه وَجهانِ) أحَدُهما، لا يَضْمَنُه؛ لأَنَّه حُرٌّ، أشْبَهَ الكَبِيرَ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. والثاني، يَضْمَنُه؛ لأنَّه يُمْكِنُ الاسْتِيلاءُ عليه مِن غيرِ مُمانَعَةٍ منه، أشْبَهَ العَبْدَ الصَّغِيرَ (فإن قُلْنا: لا يَضْمَنُه. فهل يَضْمَنُ ثِيابَه وحَلْيَه؟ على وَجْهَينِ) أحَدُهما، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه تَبَعٌ له، وهو تحت يَدِه، أشْبَهَ ثِيابَ الكبيرِ. والثاني، يَضْمَنُه؛ لأنَّه اسْتَوْلَى عليه، أشْبَهَ ما لو كان مُنْفَرِدًا. ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2293 - مسألة: (وإن استعمل الحر كرها، فعليه أجرته)

وَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْحُرَّ كَرْهًا، فَعَلَيهِ أُجْرَتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2293 - مسألة: (وإنِ اسْتَعْمَلَ الحُرَّ كَرْهًا، فعليه أُجْرَتُه) لأنَّه اسْتَوْفَى مَنافِعَه، وهي مُتَقَوَّمَةٌ، فلَزِمَه ضَمانُها، كمَنافِعِ العَبْدِ.

2294 - [مسألة: (وإن حبسه مدة، فهل تلزمه أجرته؟ على وجهين)]

وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً، فَهَلْ تَلْزَمُهُ أُجْرَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2294 - [مسألة: (وإن حَبَسَه مُدَّةً، فهل تَلْزَمُه أُجْرَتُه؟ على وَجْهَين)] (¬1) إذا حَبَسَه مُدَّةً لمِثْلِها أُجْرَةٌ، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يَلْزَمُه أَجْرُ تلك المُدَّةِ، لأنَّه فَوَّتَ مَنْفَعَتَه، وهي مالٌ يَجُوزُ أَخْذُ العِوَضِ عنها، ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

فَصْلٌ: وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَغْصُوبِ إِنْ قَدَرَ عَلَى رَدِّهِ، وَإنْ غَرِمَ عَلَيهِ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فضُمِنَتْ بالغَصْبِ، كمنافعِ العَبْدِ. والثاني، لا يَلْزَمُه أجْرُ تلك المُدَّةِ؛ لأنَّها تابِعَةٌ لما لا يَصِحُّ غَصْبُه، فأشْبَهَتْ ثِيابَه إذا بَلِيَتْ عليه، وأطْرافَه، ولأنَّها تَلِفَتْ تحتَ يَدَيه، فلم يَجبْ ضَمانُها، كما ذَكَرْنا. ولو مَنَعَه العَمَلَ مِن غيرِ حَبْسٍ لم يَضْمَنْ مَنافِعَه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه لو فعَل ذلك بالعَبْدِ لم يَضْمَنْ مَنافِعَه، فالحُرُّ أوْلَى. ولو حَبَسَ الحُرَّ وعليه ثِيابٌ، لم يَلْزَمْه ضَمانُها؛ لأنَّها تابِعَةٌ لما لم تَثْبُتِ اليَدُ عليه في الغصْب. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافِعِيِّ. فصل: وقال الشيخُ، رَحِمَه الله: (ويَلْزَمُه رَدُّ المَغْصُوب إن قَدَر على رَدِّه، وإن غَرِم عليه أضْعافَ قِيمَتِه) [وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المَغْصُوبَ متى كان باقِيًا وَجَب رَدُّه] (¬1)؛ لقَوْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تَرده (¬2)». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه، والتِّرْمِذِيُّ (¬3). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وروَى عبدُ اللهِ بنُ السّائِبِ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَأْخُذْ أحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِه لَاعِبًا جادًّا (¬4)، وَمَنْ أخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا». رَواه أبو ¬

(¬1) في تش، م: «إذا كان باقيا». (¬2) في مصادر التخريج: «تؤديه». (¬3) تقدم تخريجه في 4/ 90. (¬4) في الأصل وسنن أبي داود: «ولا جادا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). يَعْنِي أنَّه يَقْصِدُ المَزْحَ مع صاحِبِه بأَخْذِ مَتاعِه، وهو جادٌّ في إدْخالِ الغَمِّ والغَيظِ عليه. ولأنَّه أَزال يَدَ المالِكِ عن مِلْكِه بغيرِ حَقٍّ، فلَزِمَتْه إعادَتُها. وأجْمَعَ العُلَماءُ على وُجُوبِ رَدِّ المَغْصُوبِ إذا كان بِحالِه لم يتَغَيرْ، ولم يَشْتَغِلْ بغيرِه. فصل: فإن غَصَبَ شيئًا فبَعَّدَه، لَزِم رَدُّه وإن غَرِم عليه أضْعافَ قِيمَتِه؛ لأنَّه جَنَى بتَبْعِيدِه، فكان ضَرَرُ ذلك عليه. فإن قال الغاصِبُ: خُذْ مِنِّي أجْرَ رَدِّه وتَسَلَّمْه مِنِّي ههُنا. أو بَذَلَ له أكْثَرَ مِن قِيمَتِه ولا يَسْتَرِدُّه، لم يَلْزَمِ المالِكَ قَبُولُ ذلك؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ، فلا يُجْبَرُ عليها، كالبَيعِ. وإن قال المالِكُ: دَعْهُ لي في مَكانِه الذي نَقَلْتَه إليه. لم يَمْلِكِ الغاصِبُ رَدَّه؛ لأنَّه أسْقَطَ عنه حَقًّا، فسَقَطَ وإن لم يَقْبَلْه، كما لو أَبْرأَهُ مِنِ دَينِه. وإن قال: رُدَّه لي إلى بعضِ الطرَّيقِ. لَزِمَه؛ لأنَّه يَلْزَمُه جَمِيعُ المَسافةِ، فلَزِمَه بعضُها المَطْلُوبُ، وسَقطَ عنه ما أسْقَطَه، كما لو أسْقَطَ عنه بعضَ دَينِه. وإن طَلَبَ منه حَمْلَه إلى مَكانٍ آخَرَ في غيرِ طَرِيقِ الرَّدِّ، لم يَلْزَم الغاصِبَ ذلك، سَواء كان أقْرَبَ مِن المكانِ الذي يَلْزَمُه رَدُّه إليه أَوْ لا؛ لأَنَّه مُعاوَضَةٌ. وإن قال: دَعْهُ في مَكانِه وأعْطِنِي أَجرَ رَدِّه. لم يَلْزَمْه ذلك، ومهما اتَّفَقا عليه مِن ذلك جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما. ¬

(¬1) في: باب من يأخذ الشيء على المزاح، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 597. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء لا يحل لمسلم أن يروع مسلما، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 5. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 221.

2295 - مسألة: (وإن خلطه بما يتميز منه، لزمه تخليصه ورده)

وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، لَزِمَهُ تَخْلِيصُهُ وَرَدُّهُ. وَإِنْ بَنَى عَلَيهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، إلا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2295 - مسألة: (وإن خَلَطَه بما يَتَمَيَّزُ منه، لَزِمَه تَخْلِيصُه ورَدُّه) مثلَ أن يَخْلِطَ حِنْطَةً بشَعِيرٍ أو بسِمْسِمٍ، أو صِغارَ الحَبِّ بكِبارِه، أو زَبِيبًا أَسْوَدَ بأحْمَرَ؛ لِما ذكَرْنا. وأَجْرُ المُمَيِّزِ عليه، كأَجْرِ رَدِّه إذا بعَّدَه. وإن أمْكَنَ تَمْييزُ بعضِه وَجَب تَمْيِيزُ ما أمْكَنَ منه، وإن لم يُمْكِنْ تَمْيِيزُ شيءٍ منه، فسَنَذْكُرُه، إن شاء اللهُ تعالى. 2296 - مسألة: (وإن بَنَى عليه، لَزِمَه رَدُّه، إلَّا أنَّ يكونَ قد بَلِيَ) إذا غَصَب. شيئًا فشَغَلَه، بمِلْكِه؛ كحَجَر بَنَى عليه، أو خَيطٍ خاطَ به ثَوْبَه، أو نحوه، فإن بَلِيَ الخَيطُ أو انْكَسَرَ الحَجَرُ، أو كان مَكانَه خَشَبَة فتَلِفَتْ، لم يَجِبْ رَدُّه، ووَجَبَتْ قِيمَتُه؛ لأنَّه صار هالكًا، فوَجَبَتْ قِيمَتُه، كما لو تَلِفَ. وإن كان باقِيًا بحالِه، لَزِمَه رَدُّه وإنِ انْتَقَضَ البِناءُ وتَفَصَّلَ الثَّوْبُ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجِبُ رَدُّ (¬1) الخَشَبةِ والحَجَرِ؛ لأَنه صارَ تابعًا لمِلْكِه يَسْتَضِرُّ بقَلْعِه، فلم يَجبْ رَدُّه، كما لو غَصَب خَيطًا فخاطَ به جُرْحَ عَبْدِه. ولَنا، أنَّه مَغْصُوبٌ أمكَنَ رَدُّه، ¬

(¬1) في تش، م: «أداء».

2297 - مسألة: (وإن سمر بالمسامير بابا، لزمه قلعها وردها)

وَإنْ سَمَّرَ بِالْمَسَامِيرِ بَابًا، لَزِمَهُ قَلْعُهَا وَرَدُّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجُوزُ له، فوَجَبَ (¬1)، كما لو بَعَّدَ العَينَ، ولا يُشْبِهُ الخَيطَ الذي يُخافُ على العَبْدِ مِن قَلْعِه؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له رَدُّه، لما في ضِمْنِه مِن تَلَفِ الآدَمِيِّ، ولأنَّ حاجَتَه إلى ذلك تُبِيح أَخذَه ابْتِداءً، بخِلافِ البِنَاءِ. 2297 - مسألة: (وإن سَمَّرَ بالمَسامِيرِ بابًا، لَزِمَه قَلْعُها ورَدُّها) لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثِ. فصل: وإن غَصَب فَصِيلًا فأَدْخَلَه دارَه، فكَبِرَ ولم يَخْرُجْ مِن البابِ، أو خَشَبة وأدْخَلَها دارَه، ثم بَنَى البابَ ضَيِّقًا لا يَخْرُجُ منه إلَّا بنَقْضِه، وَجَب نَقْضُه ورَدُّ الفَصِيلِ والخَشَبَةِ،؛ يُنْقَضُ البِنَاءُ لرَدِّ السّاجَةِ (¬2). فإن كان حُصُولُه في الدّارِ بغيرِ تَفْرِيطٍ مِن صاحِبِ الدّارِ، نُقِض البابُ، وضَمانُه على صاحِبِ الفَصِيلِ؛ لأنَّه لِتَخْلِيصِ مالِه مِن غيرِ تَفْرِيطٍ مِن صاحِبِ الدّارِ. وأمّا الخَشَبَةُ، فإن كان كَسْرُها أكْثَرَ ضَرَرًا مِن نَقْضِ البابِ، فهي كالفَصِيلٍ، وإن كان أقَلَّ، كُسِرَتْ. ويَحْتَمِلُ في الفَصِيلِ مثلُ هذا، متى كان ذبْحُه أقَلَّ ضَرَرًا، ذُبِحَ وأُخْرِجَ لحمًا؛ لأنَّه في مَعْنَى الخَشَبةِ، وإن كان حُصُولُه في الدّارٍ بعُدْوانٍ مِن صاحِبِه، كرجل غَصَب دارًا وأَدْخَلَها فَصِيلًا أو خَشَبَةً، أو تعَدَّى على إنْسانٍ فأَدْخَلَ دارَه فَرَسًا ونحوَها، كُسِرَتِ الخَشَبَةُ وذُبِحَ الحَيَوانُ وإن زاد ضَرَرُه على ¬

(¬1) في تش، م: «فيجوز». (¬2) الساج: نوع من الخشب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَقْضِ البِنَاءِ؛ لأنَّ سَبَبَ هذا الضَّرَرِ عُدْوانُه، فيكون عليه. ولو باعَ دارًا فيها خَوَابٍ (¬1) لا تَخْرج إلَّا بنَقْضَ البابِ، أو خَزائِن، أو حَيَوانٌ، وكان نَقْضُ البابِ أَقلَّ ضَرَرًا مِن بَقاءِ ذلك في الدّارِ أو تَفْصِيلِه أو ذَبْحِ الحَيَوانِ، نقِضَ، وكان إصلاحُه على البائِعِ؛ لأنَّه لتَخْلِيصِ مالِه. وإن كان أكْثَرَ ضَرَرًا، لم يُنْقَضْ؛ لأَنه لا فائِدَةَ فيه، ويَصْطَلِحان على ذلك، إمّا بأن يَشْتَرِيَه مُشْتَرِي الدّارِ، أو غيرِ ذلك. فصل: وإن غَصَب جَوْهَرةً فابْتَلَعَتْها بَهِيمَةٌ، فقال أصحابُنا: حُكْمُها حُكْمُ الخَيطِ الذي خاطَ به جُرْحَها. على ما نَذْكُرُه. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أنَّ الجَوْهَرةَ متى كانت أكثَرَ قِيمةً مِن الحيوانِ، ذُبِحَ ورُدَّتْ إلى مالِكِها، وضَمانُ الحَيَوانِ على الغاصِبِ، إلَّا أنَّ يكونَ الحَيَوانُ آدَمِيًّا. ويُفارِقُ الخَيطَ، فإنَّه في الغالِبِ أقَلُّ قِيمةً مِن الحَيَوانِ، والجَوْهَرةُ أكْثَرُ قِيمَةً، ففي ذَبْحِ الحَيَوانِ رِعَايَةُ حَقِّ المالِكِ برَدِّ عَينِ مالِه إليه، ورِعايَة حَقِّ الغاصِبِ بتَقْلِيلِ الضَّمانِ عليه. وإنِ ابْتَلَعَتْ شاةُ رجل جَوْهَرَةَ آخَرَ غيرَ مَغْصُوبَةٍ، ولم يُمْكِنْ إخْراجُها إلَّا بذَبْحِ الشّاةِ، ذُبِحَتْ إذا كان ضَرَرُ ذَبْحِها أَقَلَّ، وضَمانُ نَقْصِها على صاحِبِ الجَوْهَرَةِ؛ لأنَّه لتَخْلِيصِ مالِه، فإن كان التَّفْرِيطُ مِن صاجِبِ الشّاةِ، بكَوْنِ يَدِه عليها، فلا شيءَ على صاحِبِ الجَوْهَرَةِ؛ لأنَّ التَّفْرِيطَ مِن غيرِه، فكان الضَّرَرُ على المُفَرِّطِ. ¬

(¬1) الخابية: وعاء الماء الذي يحفظ فيه. (¬2) في: المغني 7/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أَدْخَلَتْ رَأْسَها في قُمْقُمٍ، ولم يُمْكِنْ إخْراجُه إلَّا بذَبْحِها أو كَسْرِ القُمْقُم، وكان ضَرَرُ ذَبْحِها أَقَلَّ، ذُبِحَت، وإن كان ضَرَرُ (¬1) كَسْرِ القُمْقُمِ أَقَلَّ، كُسِرَ، فإن كان التَّفْرِيطُ مِن صاحِبِ الشّاةِ، فالضَّمانُ عليه، وإن كان مِن صاحِبِ القُمْقُمِ، بأن وَضَعَه في الطَّرِيقِ، فالضَّمانُ عليه، وإن لم يَكُنْ منهما تَفْرِيطٌ، فالضَّمانُ على صاحِبِ الشّاةِ إن (¬2) كُسِرَ القُمْقُمُ؛ لأنَّه كُسِرَ لتَخْلِيصِ شاتِه، وإذا ذُبِحَتِ الشّاةُ، فالضَّمانُ على صاحِبِ القُمْقُمِ؛ لأنَّه لتَخْلِيصِ مالِه. فإن قال مَن عليه الضَّمانُ منهما: أنا أُتلِفُ مالِي ولا أَغْرَمُ شيئًا للآخرِ. فله ذلك؛ لأنَّ إتْلافَ مالِ الآخَرِ إنَّما كان لحَقِّه وسَلَامةِ مالِه وتَخْلِيصِه، فإذا رَضِيَ بتَلَفِه، لم يَجُزْ إتْلافُ غيرِه. وإن قال: لا أُتْلِفُ مالِي ولا أَغْرَمُ شيئًا. لم نُمَكِّنْه مِن إتْلافِ مالِ صاحِبِه، لكنَّ صاحِبَ القُمْقُمِ لا يُجْبَرُ على شيءٍ؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ له، فلا يُجْبَرُ صاحِبُه على تَخْلِيصِه، وأما صاحِبُ الشّاةِ، فلا يَحِلُّ له تَرْكُها؛ لِما فيه مِن تَعْذِيبِ الحَيوانِ، فيُقالُ له: إما أنَّ تَذْبَحَ الشاةَ لتُرِيحَها مِن العَذَاب، وإمّا أنَّ تَغْرَمَ القُمْقُمَ لصاحِبِه إذا كان كَسْرُه أَقَلَّ ضَرَرًا؛ لَأنَّ ذلك مِن ضَرُورَةِ إبْقائِها أو تَخْلِيصِها مِن العَذابِ، فلَزِمَه، كعَلَفِها. فإن كان الحَيَوانُ غيرَ مَأْكُولٍ، احْتَمَلَ أنَّ يكونَ حُكْمُه حُكْمَ المَأْكُولِ فيما ذَكَرْنا واحْتَمَلَ أنَّ يكْسَرَ القُمْقُمُ. وهو قولُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش، م: «وإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابِنا؛ لأنَّه لا نَفعَ في ذَبْحِه، ولا هو مَشْرُوعٌ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذَبْحِ الحَيَوانِ لغيرِ مَأْكَلَةٍ (¬1). ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ كالمَأْكُول في أنَّه متى كان قَتْلُه أقَلَّ ضَرَرًا، أو كانتِ الجِنايَةُ مِن صاحِبِه، قُتِلَ؛ لأن حُرْمَتَه مُعارَضَةٌ بحُرْمَةِ مالِ الآدَمِيِّ الذي يُتْلَفُ، والنَّهْيُ عن ذَبْحِه مُعارَضٌ بالنَّهْيِ عن إضَاعَةِ المالِ، وفي كَسْرِ القُمْقُم مع كَثْرةِ قِيمَتِه إضاعَةُ المالِ. واللهُ أعلمُ. فصل: وإن غَصَب دِينارًا فوَقَعَ في مِحْبَرَتِه، أو أخَذَ دِينارَ غيرِه، فسَهَا فوَقَعَ في مِحْبَرَتِه، كُسِرَتْ ورَدَّ الدِّينارَ، كما يُنْقَضُ البِنَاءُ لرَدِّ الخَشَبَةِ، وكذلك إن كان دِرْهَمًا أو أقلَّ. وإن وَقَع مِن غيرِ فِعْلِه، كُسِرَتْ لرَدِّ الدِّينارِ إن أَحَبَّ صاحِبُه، والضَّمانُ عليه؛ لأنَّه (¬2) لتَخْلِيصِ مالِه. وإن غَصَب دِينارًا، فوَقَعَ في مِحْبَرَةِ آخَرَ بفِعْلِ الغاصِبِ أو بغيرِ فِعْلِه، كُسِرَتْ لرَدِّه، وعلى الغاصِبِ ضَمانُ المِحْبَرَةِ؛ لأنَّه السَّبَبُ في كَسْرِها. وإن كان كَسْرُها أكْثَرَ ضَررًا مِن تَبْقِيَةِ الواقِعِ فيها، ضَمِنَه الغاصِبُ، ولم يُكْسَرْ. وإن رَمَى إنسانٌ دِينارَه في مِحْبَرَةِ غيرِه عُدْوانًا، فأبَى صاحبُ المِحْبرَةِ كَسْرَها، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأنَّ صاحِبَه تَعَدَّى برَمْيِه فيها، فلم يُجْبَرْ صاحِبُها على إتْلافِ مالِه لإِزَالةِ ضَرَرِ عُدْوانِه عن نَفْسِه، وعلى الغاصِبِ نَقْصُ المِحْبَرَةِ بوُقُوعِ الدِّينارِ فيها. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُجْبَرَ على كَسْرِها لرَدِّ عَينِ مالِ الغاصِبِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 61. (¬2) سقط من: تش، م.

2298 - مسألة: (وإن زرع الأرض وردها بعد أخذ الزرع، فعليه أجرتها)

وَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وَرَدَّهَا بَعْدَ أَخْذِ الزَّرْعِ، فَعَلَيهِ أَجْرَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَضْمَنُ الغاصِبُ قيِمَتَها، كما لو غَرَسَ في أرْضِ غيرِه، مَلَك حَفْرَ الأرْضِ بغيرِ إذْنِ المالِكِ لأخْذِ غَرْسِه ويَضْمَنُ، نَقْصَها بالحَفْرِ. وعلى الوَجْهَين، لو كَسَرَها الغاصِبُ قَهْرًا، لم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن قِيمَتِها. 2298 - مسألة: (وإن زَرَع الأرْضَ ورَدَّها بعدَ أَخْذِ الزَّرْعِ، فعليه أُجْرَتُها) إذا غَصَبَ أرضًا فزَرَعَها ورَدَّها بعدَ حَصادِ الزَّرْعِ، فهو

2299 - مسألة: (وإن أدركها ربها والزرع قائم، خير بين تركه

وَإنْ أَدْرَكَهَا رَبُّهَا والزَّرْعُ قَائِمٌ، خُيِّرَ بَينَ تَرْكِهِ إِلَي الْحَصَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــ للغاصِبِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه نَماءُ مالِه، وعليه أجْرُ المِثْلِ إلى وَقتِ التَّسْلِيمِ، وضَمانُ النَّقْصِ. ولو لم يَزْرَعْها، فنَقَصَت لتَرْكِ الزِّراعَةِ، كأرَاضِي البَصْرَةِ، أو نَقَصَتْ لغيرِ ذلك، ضَمِن نَقْصَها؛ لِما نَذْكُرُه فيما إذا غَرَسَها أو بَنَى فيها، إن شاءَ الله تعالى. 2299 - مسألة: (وإن أَدرَكَها رَبُّها والزَّرْعُ قائِمٌ، خُيِّرَ بينَ تَرْكِه

بِأُجْرَتِهِ، وَبَينَ أخْذِهِ بِعِوَضِهِ. وَهَلْ ذَلِكَ قيمَتُهُ أوْ نَفَقَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الحَصادِ بأْجْرَةِ مِثْلِه، وبينَ أَخْذِه بعِوَضِه. وهل ذلك قِيمَتُه أو نَفَقَتُه؛ على رِوايَتَين) قولُه: أَدرَكَها والزَّرْعُ قائِمٌ. يَعْنِي اسْتَرْجَعَها مِن الغاصِبِ وقَدَرَ على أخذِها منه. متى أدرَكَها رَبُّها والزَّرْعُ قائمٌ، لم يَمْلِكْ إجْبارَ الغاصِبِ على قَلْعِ الزَّرْع، وخُيِّرَ المالِكُ بينَ أنَّ يُقِرَّ الزَّرْعَ في الأَرضِ إلى الحَصادِ ويَأْخُذ مِن الغاصِبِ أُجْرَةَ الأرْضِ وأرْشَ نَقْصِها، وَبينَ أنَّ يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه ويكونَ له الزَّرْعُ. وهذا قولُ أبي عُبَيدٍ. وقال أكْثَرُ الفُقَهاءِ: يَمْلِكُ إجْبارَ الغاصِبِ على قَلْعِه؛ لقَوْلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لَيسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ» (¬1). و (¬2) لأنَّه زَرَعَ في أرْضِ غيرِه ظُلْمًا، أشْبَهَ الغَرْسَ. ولَنا، ما روَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن زَرَعَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 299. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِي أرْضِ قَوْم بِغيرِ إذْنِهِم، فَلَيسَ لَهُ منَ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَعَلَيهِ نَفَقَتُهُ». رَواه أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬2). فيه دَلِيلٌ على أنَّ الغاصِبَ لا يُجْبَرُ على القَلْعِ؛ لأنَّه مِلْكٌ للمَغْصُوبِ منه، ولأنَّه أمْكَنَ رَدُّ المَغْصُوبِ إلى مالِكِه مِن غيرِ إتْلافِ مالِ الغاصِبِ على قُرْبٍ مِن الزَّمانِ، فلم يَجُزْ إتْلافُه، كما لو غَصَب سَفِينَةً في حَمَلَ فيها ماله وأدْخَلَها البَحْرَ، أو غَصَبَ لَوْحًا فَرَقَّعَ به سَفِينةً، فإنَّه لا يُحْبَرُ على رَدِّ المَغْصُوبِ في اللُّجَّةِ، ويُنْتَظَرُ حتى تُرْسَى؛ صِيانَةً للمالِ عن التَّلَف، كذا هذا. وفارَقَ الشَّجَرَ؛ لأنَّ مُدَّتَه تَتَطاوَلُ، ولا يُعْلَمُ متى يَنْقَلِعُ مِن الأرْضِ، فانْتِظارُه يُؤدِّي إلى تَرْكِ رَدِّ الأصْلِ بالكُلِّيَّةِ. وحَدِيثُهم وَرَد في الغَرْسِ، وحَدِيثُنا في الزَّرْعِ، فيُجْمَعُ بينَ الحَدِيثَينِ، ويُعْمَلُ بكلِّ واحِدٍ منهما في مَوْضِعِه، وهو أَوْلَى مِن إبْطالِ أحَدِهما. إذا ثَبَت هذا، فمتى رَضِيَ المالِكُ بتَرْكِ الزَّرْعِ للغاصِبِ ويَأْخُذُ منه أَجْرَ الأرْضِ، فله ذلك؛ لأنَّه شَغَل المَغْصُوبَ بمالِه، فمَلَكَ صاحِبُه أَخْذَ أَجْرِه، كما لو تَرَك في الدارِ طَعامًا يَحْتاجُ في نَقْلِه إلى مُدَّةٍ. وإن أحَبَّ أَخْذَ الزَّرْعِ، فله ذلك، كما يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أخْذَ شَجَرِ المُشْتَرِي بقِيمتِه. وفيما يُرَدُّ على الغاصِبِ رِوَايتانِ؛ إحداهما، قِيمَةُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 234. والترمذي، في: باب ما جاء في من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 125. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 824. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 465. (¬2) في م: «حسن صحيح».

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَيهِ الأجْرَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّرْعِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عن الزَّرْعِ، فيُقدَّرُ بقِيمَتِه، كما لو أَتْلَفَه، ولأنَّ الزَّرْعَ للغاصِبِ إلى حينِ (¬1) انْتِزاعِه منه، بدَلِيلِ أنَّه لو أَخَذَه قبلَ انْتِزاعِ المالِكِ، كان مِلْكًا له يَأْخُذُه، فيكونُ أَخْذُ المالِكِ له تَمَلُّكًا له، إلَّا أنَّ يُعَوِّضَه، فيَجِبُ أنَّ يكونَ بقِيمَتِه، كما لو أخَذَ الشِّقْصَ المَشْفُوعَ. فعلى هذا، يَجِبُ على الغاصِبِ أَجْرُ الأرْضِ إلى حينِ تَسْلِيمِ الزَّرْعِ؛ لأنَّ الزَّرْعَ كان مَحْكُومًا له به، وقد شَغَل به أَرْضَ غيرِه. والروايةُ الثانيةُ، يَرُدُّ على الغاصِبِ ما أنْفَقَ مِن البَذْرِ ومُؤْنَةِ الزَّرْعِ في الحَرْثِ والسَّقْي وغيرِه. وهذا الذي ذكَره القاضِي. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، وظاهِرُ الحَدِيثِ؛ لقولِه، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «عَلَيهِ نَفَقَتُهُ». وقِيمةُ الشيءِ لا تُسَمَّى نَفَقةً له. والحَدِيثُ مَبْنِيٌّ على هذه المسألةِ، فإنَّ أحمدَ إنَّما ذَهَبَ إلى هذا الحُكْمِ اسْتِحْسانًا، على خِلافِ القِياسِ، فإنَّ القِياسَ أنَّ الزَّرْعَ لصاحِبِ البَذْرِ؛ لأنَّه نَماءُ مالِه، فأشْبَهَ ما لو غَصَب دَجَاجَةً فحَضَنَتْ بَيضًا له، كان النَّماءُ له. وقد صَرَّحَ به أحمدُ، فقال: هذا شيءٌ لا يُوافِقُ القِياسَ، أسْتَحْسِنُ أنَّ يَدْفَعَ إليه نَفقَتَه؛ للأثَرِ. ولذلك جَعَلْناه للغاصِبِ إذا أُخِذَتْ منه الأرْضُ بعدَ أخْذِه الزَّرْع، وإذا كان العَمَلُ بالحَدِيثِ، فيَجِبُ أن يُتبَّعَ مَدْلُولُه (ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ الزَّرْعُ للغاصِبِ، وعليه الأجْرَةُ) كما إذا رَجَع ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَعِيرُ. فصل: فإن كان الزَّرْعُ (¬1) مِمّا تَبْقَى أُصُولُه في الأرْضِ، ويُجَزُّ مَرّةً بعدَ أُخْرَى، كالرَّطْبَةِ (¬2)، احْتَمَلَ أنَّ يكونَ حُكْمُه ما ذَكَرْنا؛ لدُخُولِه في عُمُومِ الزَّرْعِ؛ لأنَّه ليس له فَرْعٌ قَويٌّ، أشْبَهَ الحِنْطَةَ والشَّعِيرَ. واحْتَمَلَ أنَّ حُكْمَه حُكْمُ الغَرْسِ؛ لبقَاءِ أصْلِه، وتَكَرُّرِ أخْذِه، ولأن القِياسَ يَقْتَضِي أنَّ يَثْبُتَ لكلِّ زَرْعٍ مثلُ حُكْمِ الغَرْسِ، وإنَّما ترِكَ فيما تَقِلُّ مُدَّتُه للأثَرِ، ففيما عَداه يَبْقَى على قَضِيَّةِ القِياسِ. ¬

(¬1) زيادة من: ر، ق. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن غَصَب أرْضًا فغَرَسَها فأَثْمَرتْ، فأدْرَكَها رَبُّها بعدَ أخْذِ الغاصِبِ ثَمَرَتَها، فهي له. فإن أدْرَكَها والثَّمرةُ فيها، فكذلك؛ لأنَّها ثَمَرةُ شَجَرِه، فكانت له، كما لو كانت في أَرْضِه، ولأنَّها نَماءُ أصْلٍ مَحْكُومٍ به للغاصِبِ، فكان له، كأَغْصانِها ووَرَقِها، ولَبَنِ الشّاةِ ونَسْلِها. وقال القاضي: هي لمالِكِ الأرضِ إن أدْرَكَها في الغِراسِ؛ لأن أحْمدَ قال في رِوايَةِ عليٍّ بنِ سعيدٍ: إذا غَصَب أرْضًا فغَرَسَها، فالنَّماءُ لمالِكِ الأرْضِ. قال القاضِي: وعليه مِن النَّفَقَةِ ما أَنْفَقَه الغارِسُ مِن مُؤْنَةِ الثَّمَرَةِ؛ لأنَّ الثَّمَرَةَ في مَعْنَى الزَّرْعِ، فكان لصاحِبِ الأرْضِ إذا أدْرَكَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قائِمًا فيها، كالزَّرْعِ. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ أحمدَ قد صَرحَ بأنَّ أَخْذَ رَبِّ الأرْضِ الزَّرْعَ شيءٌ لا يُوافِقُ القِياسَ، وإنَّما صار إليه للأثَرِ، فيَخْتَصُّ الحُكْمُ به، ولا يُعَدَّى (¬2) إلى غيرِه، ولأنَّ الثَّمَرةَ تُفارِقُ الزَّرْعَ مِن وَجْهين؛ أحَدُهما، أنَّ الزَّرْعَ نَماءُ الأرْضِ، فكان لصاحِبِها، والثَّمرةُ نَماءُ الشَّجَرِ، فكانت لصاحِبِه. الثاني، أنَّه يَرُدُّ عِوَضَ الزَّرْعِ إذا أخَذَه، مثلَ البَذْرِ الذي نَبتَ منه الزَّرْعُ، مع ما أنْفَقَ عليه، ولا يُمْكِنُه مثلُ ذلك في الثَّمَرَةِ. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 379. (¬2) في م: «يتعدى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن غَصَب شَجَرًا فأَثْمَرَ، فالثَّمَرُ لصاحِبِ الشَّجَرِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه نَماءُ مِلْكِه، ولأنَّ الشَّجَرَ عَينُ مِلْكِه نَمَا وزَادَ، فأشْبَهَ ما لو طالتْ أغْصانُه. ويَرُدُّ الثَّمَرَ إن كان باقِيًا، وبَدَلَه إن تَلِفَ، وإن كان رُطَبًا فصار تَمْرًا، أو عِنَبًا فصار زَبِيبًا، فعليه رَدُّه وأرْشُ نَقْصِه إن نقَص، ولا شيءَ له بعَمَلِه فيه، ولا أُجْرَةَ عليه للشَّجَرِ؛ لأنَّ أُجْرَتَها لا تَجُوزُ في العُقُودِ، فكذلك في الغَصْبِ، ولأن نَفْعَ الشَّجَرِ تَربِيَةُ الثَّمَرِ وإخْراجُه، وقد عادتْ هذه المَنافِعُ إلى المالِكِ. ولو كانت ماشِيَةً، فعليه ضَمان وَلَدِها إن وَلَدتْ عندَه، وضَمانُ لَبَنِها بمثلِه؛ لأنَّه مِن ذَواتِ الأَمْثالِ، ويَضْمَنُ أوبارَها وأَشْعارَها بمثلِه، كالقُطْنِ. وفي ضَمانِ زَوائِدِ الغَصْبِ المُنْفَصِلَةِ اخْتِلافٌ نذكُرُه فيما يأتِي إن شَاءَ الله تَعالى.

2300 - مسألة: (وإن غرس أو بنى، أخذ بقلع غرسه وبنائه، وتسوية الأرض وأرش نقصها وأجرتها)

وَإِنْ غَرَسَهَا أَوْ بَنَى فِيهَا، أُخِذَ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ، وَتَسْويَةِ الأرْضَ وَأَرْشَ نَقْصِهَا وَأُجْرَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2300 - مسألة: (وإن غَرَس أو بَنَى، أُخِذَ بقَلْعِ غَرْسِه وبِنائِه، وتَسْويَةِ الأرْضِ وأَرْشِ نَقْصِها وأُجْرَتِها) متى غَرَس في أرضِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، أو بَنَى فيها، وطَلَب صاحِبُ الأرضِ قَلْعَ غِراسِه وبنائِه، لَزِم الغاصِبَ ذلك. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لما روَى سعيدُ بنُ زَيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيلٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1) وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وروَى أبو داودَ، وأبو عُبَيدٍ في الحَدِيثِ أنَّه قال: فلقد أخْبَرنِي الذي حَدَّثَنِي هذا الحَدِيثَ أنَّ رجلًا غَرَس في أرْضِ. رجل مِن الأنْصارِ، مِن بَنِي بَيَاضةَ، فاخْتَصَما إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَضَى للرَّجُلِ بأَرْضه، وقَضَى للآخَرِ أن يَنْزِعَ نَخْلَه. قال: فلقد رَأَيتُها يُضْرَبُ في أصُولِها بالفئوس، وإنَّها لَنَخْلٌ عُمٌّ (¬2). ولأنَّه شَغَل مِلْكَ غيرِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 299. (¬2) أخرجه أبو داود في التخريج السابق. وأبو عبيد، في: غريب الحديث 1/ 296. وعُمٌّ: أي طوال. اللسان (ع م م).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِلْكِه الذي لا حُرْمَةَ له في نَفْسِه بغيرِ إذْنِه، فلَزِمَه تَفرْيِغُه، كما لو جَعَل فيه قُمَاشًا. وإذا قَلَعَها، لَزِمَهُ تَسْويَة الحَفْرِ، وَرَدُّ الأرْضِ إلى ما كانت عليه؛ لأنَّه ضَرَرٌ حَصَل في مِلْكِ غيرِه بفِعْلِه، فلَزِمَتْه إزالتُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أرادَ صاحِبُ الأرْضِ أخْذَ الشَّجَرِ والبِناءِ بغيرِ عِوَضٍ، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّه عَينُ مالِ الغاصِبِ، فلم يَمْلِكْ صاحِبُ الأرضِ أخْذَه، كما لو وَضَع فيها أَثَاثًا أو حَيَوانًا. وإن طَلَب أخْذَه بقِيمَتِه، وأبَى مالِكُه إلَّا (¬1) القَلْعَ، فله ذلك؛ لأنَّه مِلْكُه، فمَلَكَ نَقْلَه، ولا يُجْبَرُ على أخْذِ القِيمَةِ؛ لأنَّها (¬2) مُعاوَضَةٌ، فلم يُجْبَرْ عليها. وإنِ اتَّفقَا على تَعْويضِه عنه، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، فجازَ ما اتَّفَقا عليه. وإن وَهَب الغاصِبُ الغِرَاسَ والبناءَ لمالِكِ الأرْضِ؛ ليَتَخَلَّصَ مِن قَلْعِه (¬3)، فقَبِلَه المالِكُ، جازَ. وإن أبَى قَبُولَه، وكان في قَلْعِه غَرَضٌ صَحِيحٌ، لم يُجْبَرْ على قَبُولِه، وإن لم يَكُنْ فيه غَرَضٌ صَحِيحٌ، احْتَمَلَ أنَّ يُجْبَرَ عَلَى قَبُولِه؛ لأَنَّ فِيهِ رَفْعَ الخُصُومَةِ مِن غَيرِ غَرَض يَفُوتُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ؛ لأنَّ فِيه إجْبارًا على عَقْدٍ يُعْتَبَرُ الرِّضا فيه. وإن غَصَب أرضًا وغِراسًا مِن رجلٍ واحدٍ فغَرَسَه فيها، فالكُلُّ لمالِكِ الأرْضِ. فإن طالبَه المالِكُ بقَلْعِه، وله في قَلْعِه غَرَضٌ، أُجْبِرَ على قَلْعِه؛ لأَنه فَوَّتَ عليه غَرَضًا مَقْصُودًا بالأرْضِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لأنَّه». (¬3) في الأصل، ر: «فعله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأُخِذَ بإعادَتِها إلى ما كانت، وعليه تَسْويَةُ الأرْضِ، ونَقْصُها ونَقْصُ الغِرَاسِ؛ لأنَّه نَقْصٌ حَصَل في يَدِ الغاصِبِ، أشْبَهَ ما لو غَصَب طَعامًا فتَلِفَ بعضُه، وإن لم يَكُنْ في قَلْعِه غَرَضٌ صَحِيحٌ، لم يُجْبَرْ على قَلْعِه؛ لأنَّه سَفَهٌ، فلا يُجْبَرُ عليه. وقيلَ: يُجْبَرُ؛ لأنَّ المالِكَ مُحَكَّمٌ في مِلْكِه، والغاصِبَ غيرُ مُحَكَّم. فإن أرادَ الغاصِبُ قَلْعَه، ومَنَعَه المالِكُ، لم يَمْلِكْ قَلْعَه؛ لأنّ الجَمِيعَ مِلْكٌ للمَغْصُوبِ منه، فلم يَمْلِكْ غيرُه التَّصَرُّفَ فيه بغيرِ إذْنِه. فصل: والحُكْمُ فيما إذا بَنَى في الأرِضِ، كالحُكْمِ فيما إذا غَرَس فيها في هذا التَّفْصِيلِ جَميعِه، إلَّا أنَّه يتَخرَّجُ أنَّه إذا بَذَل مالِكُ. الأرْضِ القِيمَةَ لصاحِبِ البِنَاءِ، أُجْبِرَ على قَبُولِها إذا لم يَكُنْ في النَّقْضِ غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ لأنَّ النَّقْضَ سَفَهٌ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما روَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَنَى في رِبَاعِ قَوْمٍ بإِذْنِهِم فَلَهُ الْقِيمَةُ، وَمَنْ بَنَى بِغَيرِ إذْنِهِمْ فَلَهُ النَّقْضُ» (¬1). ولأنَّ ذلك مُعاوَضَةٌ، فلا يُجْبَرُ عليها، وإذا كانتِ الآلة مِن تُرابِ الأرْضِ وأحْجارِها، فليس للغاصِبِ النَّقْضُ، على ما ذَكَرْنا في الغَرْسِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب من بنى أو غرس في أرض غيره، من كتاب الغصب. السنن الكبرى 6/ 91. وضعف إسناده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن غَصَب أَرْضًا، فكَشَطَ تُرابَها، لَزِمَه رَدُّه وفَرْشُه على ما كان، إن طالبَه المالِكُ وكان فيه غَرَضٌ، وإن لم يَكُن فيه غَرَضٌ، فهل يُجْبَرُ على فَرْشِه؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين. وإن مَنَعَه المالِكُ فرْشَه أو رَدَّه، وطَلَب الغاصِبُ ذلك، وكان في رَدِّه غَرَضٌ مِن إزَالةِ ضَرَرٍ أو ضَمانٍ، فله فَرْشُه ورَدُّه، وعليه أَجْرُ مِثْلِها مُدَّةَ شَغْلِها وأَجْرُ نَقْصِها. وإن أخَذَ تُرابَ أَرْض، فضَرَبَه لَبِنًا، رَدَّه ولا شيءَ له، إلَّا أنَّ يَجْعَلَ فيه تِبْنًا له، فله أنَّ يَحُله ويَأْخُذَ تِبْنَه. فإن كان لا يَحْصُلُ منه شيء، ففيه وَجْهان، بِنَاءً على كَشْطِ التَّزْويقِ إذا لم يَكُنْ له قِيمةٌ، وسنذكُره. وإن طالبَه المالِكُ بِحَلِّه، لَزِمَه ذلك إذا كان فيه غَرَضٌ، فإن لم يَكُنْ فيه غَرَضٌ، فعلى وَجْهَينِ. فإن جَعَلَه آجُرًّا أو فَخَّارًا، لَزِمَه رَدُّه، ولا أجْرَ له لعَمَلِه، وليس له كَسْرُه، ولا للمالِكِ إجْبارُه عليه؛ لأنَّه سفهٌ وإتْلافٌ للمالِ وإضاعَةٌ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضَاعَةِ المالِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وعليه ضَمانُ نَقْصِ الأرْضِ إن نَقَصَتْ بالغَرْسِ والبِناءِ. وهكذا كلُّ عَين مَغْصُوبَةٍ، على الغاصِبِ ضَمانُ نَقْصِها، إذا كان نَقْصًا مُسْتَقِرُّا، كإناءٍ تكَسَّرَ، وطَعامٍ سَوَّسَ [أو تَلِف بعضُه، وثَوْبٍ تَخَرَّقَ؛ لأنَّه نَقْصٌ حَصَل في يَدِ الغاصِبِ، فوَجَبَ ضَمانُه، كتَلَفِ بعضِ الطَّعامِ وذِراعٍ مِن الثَّوْبِ] (¬1). وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا شَقَّ لرجلٍ ثَوْبًا شَقًّا قَلِيلًا، أخَذَ أَرْشَه، وإن كَثُرَ، فصاحِبُه بالخِيارِ بين تَسْلِيمِه وأَخْذِ قِيمَتِه، وبينَ إمْساكِه مع الأَرْشِ. ورُويَ عن أحمدَ كَلامٌ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتَمِلُ هذا، فإنَّه قال في رِوايَةِ مُوسَى بنِ سعيدٍ: إن شاءَ شَقَّ الثَّوْبَ، وإن شاء مثلَه. يَعْنِي، واللهُ أعلمُ، إِنْ شاء أخَذَ أَرْشَ الشَّقِّ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الجِنَايَةَ أَتْلَفَتْ مُعْظَمَ نَفْعِهِ، فَكانتْ له المُطالبَةُ بقِيمَتِه، كما لو قَتَل شاةً له. وحَكَى أصْحابُ مالِكٍ عنه، إذا جَنَى على عَينٍ فأتْلَفَ غَرَضَ صاحِبِها فِيها، كان المَجْنِيُّ عليه، بالخِيارِ؛ إن شاء رَجَعَ بما نَقَصَتْ، وإن شاء سَلَّمَها وأخَذَ قِيمَتَها. ولَعَلَّ ما يُحْكَى عنه مِن قَطْعِ ذَنَبِ حِمارِ القاضِي يَنْبَنِي على ذلك؛ لأنَّه أتْلَفَ غَرَضَه به، فإنَّه لا يَرْكَبُه في العادَةِ. وحُجَّتُهم أنَّه أتْلَفَ المَنْفَعَةَ المَقْصُودَةَ مِن السِّلْعَةِ، فلَزِمَتْه قِيمَتُها، كما لو أتْلَفَها. ولَنا، أنَّها جِنَايَةٌ على مالٍ أَرْشُها دُونَ قِيمَتِه، فلم يَمْلِكِ المُطالبَةَ بجَمِيعِ قِيمَتِه، كما لو كان الشَّقُّ يَسِيرًا، ولأنَّها جِنايَة تَنْقُصُ بها القِيمَةُ، أشْبَهَ ما لو لم يَتْلَفْ غَرَضُ صاحِبِها، وفي الشّاةِ أتْلَفَ جَمِيعَها؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالمَجْنِيِّ عليه، لا بغَرَضِ صاحِبِه، لأنَّه إن لم يَصْلُحْ لصاحِبه صَلَح لغَيرِه. وعليه، أَجْرُ الأرضِ منذُ غَصَبَها إلى وَقْتِ تَسْلِيمِها (¬1). وهكذا كلُّ ما لَه أجْرٌ، فعلى الغاصِبِ أَجْرُ مِثْلِه، سَواءٌ اسْتَوْفَى المَنافِعَ أو تَلِفَتْ تحتَ يَدِه؛ لأنَّها تَلِفَتْ في يَدِه العادِيَةِ، فكان عليه، عِوَضُها، كالأعْيانِ. وفيه اخْتِلافٌ نَذْكُرُه فيما يَأْتِي إن شاءَ الله تعالى. وإن غَصَب أرْضًا فبنَاها دارًا، فإن ¬

(¬1) في م: «تسليمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت آلاتُ بِنائِها مِن مالِ الغاصِبِ، فعليه أجْرُ الأرْضِ دُونَ بِنائِها؛ لأنَّه إنَّما غَصَب الأرْضَ، والبِناءُ له، فلم يَلْزَمْه أَجْرُ مالِه، وإن بَناهَا بتُرابٍ منها وآلاتٍ للمَغْصُوبِ منه، فعليه أجْرُها مَبْنِيَّةً؛ لأنَّ الدّارَ كُلَّها مِلْكٌ للمَغْصُوبِ منه، وإنَّما للغاصِب فيها أَثَرُ الفِعْلِ، فلا يكونُ في مُقابَلَتِه أَجْرٌ؛ لأنَّه وَقع عُدْوانًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن غَصَب دارًا فنَقَضَها ولم يَبْنِها، فعليه أَجْرُ دارٍ إلى حينِ نَقْضِها، وأَجْرُها مَهْدُومَةً مِن حينِ نَقْضِها إلى حينِ رَدِّها؛ لأنَّ البِناءَ انْهَدَمَ وتَلِفَ، فلم يَجِبْ أجْرُه مع تَلَفِه. وإن نَقَضَها، ثم بَناهَا بآلةٍ مِن عندِه، فالحُكْمُ كذلك. وإن بنَاها بآلَتِها أو آلةٍ من تُرابِها، أو مِلْكِ المَغْصُوبِ منه، فعليه أجْرُها عَرْصَةً منذُ نَقَضَها إلى أن بَناهَا، وأَجْرُها دارًا فيما قبلَ ذلك وبعدَه؛ لأنَّ البِناءَ للمالِكِ. وحُكْمُها في نَقْضِ بِنائِها الذي بَناه الغاصِبُ حُكْمُ ما لو غَصَبَها عَرْصَةً فبَناهَا. وإن كان الغاصِبُ باعَها فبَنَاها المُشْتَرِي، أو نَقَضَها ثم بَنَاها، لم يَخْتَلِفِ الحُكْمُ، وللمالِكِ مُطالبَةُ مَن شاءَ منهما، والرُّجُوعُ عليه، فإن رَجَع على الغاصِبِ، رَجَع الغاصِبُ على المُشْتَرِي بقِيمَةِ ما تَلِفَ (¬1) مِن الأعْيانِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ دَخَل على أنَّه مَضْمُونٌ عليه بالعِوَضِ، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، وإن رَجَع المالِكُ على المُشْتَرِي، رَجَع المُشْتَرِي على الغاصِبِ بنَقْص (¬2) التّالِفِ، ولم يَرْجِعْ بقِيمَةِ ما تَلِفَ. وهل يَرْجِعُ كلُّ واحِدٍ منهما على صاحِبِه بالأجْرِ؟ على رِوايَتَينِ. وليس له مُطالبَةُ المُشْتَرِي مِن الأَجْرِ إلَّا بأَجْرِ مُدَّةِ مُقامِها في يَدِه؛ لأنَّ يَدَه إنَّما تَثْبُتُ حِينَئِذٍ. ¬

(¬1) في تش، م: «أتلف». (¬2) في تش، م: «في نقص».

2301 - مسألة: (وإن غصب لوحا، فرفع به سفينة، لم يقلع حتى ترسو)

وَإِنْ غَصَبَ لَوْحًا، فَرَقَّعَ بِهِ سَفِينَةً، لَمْ يُقْلَعْ حَتَّى تَرْسُوَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2301 - مسألة: (وإن غَصَب لَوْحًا، فرَفَّعَ به سَفِينَةً، لم يُقْلَعْ حتى تَرْسُوَ) [إذا غَصَب لَوْحًا فرَقَّعَ به سَفِينَةً وكانت على السّاحِلِ، رَدَّه. وإن كانت في لُجَّةِ البَحْرِ واللَّوْحُ في أعْلاها بحيثُ لا تَغْرَقُ بقَلْعِه، لَزِم قَلْعُه. وإن خِيفَ غَرَقُها بذلك، لم يُقْلَعْ حتى تَخْرُجَ إلى السّاحِلِ] (¬1). ولصاحِبِ اللَّوْحِ طَلَبُ قِيمَتِه، فإذا أمْكَنَ رَدُّ اللَّوْحِ، اسْتَرْجَعَه ورَدَّ القِيمَةَ، كما لو غصَب عَبْدًا، فأَبَقَ. وقال أبو الخَطَّابِ: إن كان فيها حَيَوانٌ له حُرْمَةٌ أو مالٌ لغيرِ الغاصِبِ (¬2)، لم يُقْلَعْ،، كالخَيطِ. ¬

(¬1) في تش، م: «إذا كانت السفينة يخاف غرقها بقلع اللوح لم يقلع حتى تخرج إلى الساحل وإن كان في أعلاها لا تغرق بقلعه لزمه قلعه». (¬2) في الأصل: «صاحب اللوح»، وفي ر، ق: «صاحبه».

2302 - مسألة: (وإن غصب خيطا، فخاط به جرح حيوان، وخيف عليه من قلعه، فعليه قيمته، إلا أن يكون الحيوان مأكولا للغاصب، فهل يلزمه رده ويذبح الحيوان؟ على وجهين)

وَإِنْ غَصَبَ خَيطًا، فَخَاطَ بهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ، وَخِيفَ عَلَيهِ مِنْ قَلْعِهِ، فَعَلَيهِ قِيمَتُهُ، إلا أنْ يَكُونَ الحَيَوَانُ مَأْكُولًا لِلْغَاصِبِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَيُذْبَحُ الْحَيَوَانُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان فيها مالٌ للغاصِبِ، أو لا مال فيها، فكذلك، في (¬1) أحَدِ الوَجْهَينِ. والثاني، يُقْلَعُ في الحالِ؛ لأنَّه أمْكَنَ رَدُّ المَغْصُوبِ، فلَزِمَه وإن أفْضَى إلى تَلَفِ مالِ الغاصِبِ، كرَدِّ السّاجَةِ المَبْنِيِّ عليها. ولأَصحابِ الشافِعِيِّ وَجْهان كهذَين. ولَنا، أنَّه أمْكَنَ رَدُّ المَغْصُوبِ مِن غيرِ إتْلافٍ، فلم يَجُزِ (¬2) الاتْلافُ، كما لو كان فيها مالُ غيرِه. وفارَقَ السّاجَةَ في البِناءِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ رَدُّها مِن غيرِ إتْلافٍ. 2302 - مسألة: (وإن غَصَب خَيطًا، فخاطَ به جُرْحَ حَيَوانٍ، وخِيفَ عليه مِن قَلْعِه، فعليه قِيمَتُه، إلَّا أن يكونَ الحَيَوانُ مَأْكُولًا للغاصِبِ، فهل يَلْزَمُه رَدُّه ويُذْبَحُ الحَيَوانُ؟ على وَجْهَين) هذه المسألةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في تش، م: «مع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَخْلُو مِن ثَلاثَةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يَخِيطَ به جُرْحَ حَيَوانٍ لا حُرمَةَ له؛ كالمُرْتَدِّ والخِنْزِيرِ والكَلْبِ العَقُورِ، فيَجِبُ رَدُّه؛ لأنَّه لا (¬1) يَتَضَمَّنُ تَفْويتَ ذِي حُرْمَةٍ، أشْبَهَ ما لو خاطَ به ثَوْبًا. الثاني، أن يَخِيطَ به جُرْحَ حَيَوانٍ مُحْتَرَمٍ لا يَحِلُّ أكْلُه، كالآدَمِيِّ، فإن خِيفَ مِن نَزْعِه الهَلاكُ أو إبْطَاءُ بُرْئِه، فلا يَجِبُ؛ لأنَّ الحَيَوانَ آكَدُ حُرْمَةً مِن عَينِ (¬2) المالِ، ولهذا جازَ له أخْذُ مالِ غيرِه لحِفْظِ حَياتِه، وإتْلافُ المالِ لتَبْقِيَتِه، وهو ما يَأْكُلُه. وكذلك الدَّوَابُّ التي لا يُؤْكَلُ لَحْمُها، كالبَغْلِ والحِمارِ الأَهْلِيِّ. الثالثُ، أن يَخِيطَ به جُرْحَ حَيَوانٍ مَأْكُولٍ، فإن كان مِلْكًا لغيرِ الغاصِبِ، وخِيفَ تَلَفُه بقَلْعِه، لم يُقْلَعْ؛ لأنَّ، فيه إضْرارًا بصاحِبِه، ولا يُزَالُ الضُّرَرُ بالضَّرَرِ، ولا يَجِبُ إتْلافُ مالِ مَن لم يَجْنِ صِيانَةً لمالِ آخَرَ، وإن كان للغاصِبِ، فقال القاضِي: يَجِبُ رَدُّه؛ لأنَّه يُمْكِنُ ذَبْحُ الحَيَوانِ والانْتِفاعُ بلَحْمِه، وذلك جائزٌ، وإن حَصَل فيه نَقْصٌ على الغاصِبِ فليس ذلك بمانِعٍ ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في تش، م: «غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن وُجُوبِ رَدِّ المَغْصُوبِ، كنَقْضِ البِنَاءِ. وقال أبو الخَطّاب: فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، هذا. والثاني، لا يَجِبُ قَلْعُه؛ لأنَّ للحَيوانِ حُرْمَةً في نَفْسِه، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذَبْحِ الحَيَوانِ لغيرِ مَأْكَلَةٍ (¬1). ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذَين. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يُفَرَّقَ بينَ ما يُعَدُّ للأَكْلِ مِن الحيوانِ، كبَهِيمَةِ الأَنْعامِ والدَّجاجِ، وبينَ ما لا يُعَدُّ له، كالخَيلِ، وما يُقْصَدُ صَوْتُه مِن الطَّيرِ؛ فيَجِبُ ذَبْحُ الأوَّلِ إذا تَوَقَّفَ رَدُّ الخَيطِ عليه، ولا يَجِبُ ذَبْحُ الثاني؛ لأنَّه إتْلافٌ له، فجَرَى مَجْرَى ما لا يُؤْكَلُ لَحْمُه. ومتى أمْكَنَ رَدُّ الخَيطِ مِن غيرِ تَلَفِ الحَيَوانِ، أو بعضِ أعْضائِه، أو ضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَجَب رَدُّه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 61. (¬2) في: المغني 7/ 408.

2303 - مسألة: (فإن مات الحيوان، لزمه رده، إلا أن يكون آدميا)

وَإِنْ مَاتَ الْحَيَوَانُ، لِزَمَهُ رَدُّهُ، إلا أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2303 - مسألة: (فإن مات الحَيوانُ، لَزِمَه رَدُّه، إلَّا أن يكونَ آدَمِيُّا) مَعْصُومًا؛ لأنَّ غيرَ الآدَمِيِّ لا حُرْمَةَ له بعدَ المَوْتِ، وحُرْمَةُ الآدَمِيِّ باقِيةٌ؛ ولهذا قال، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ» (¬1). فعلى هذا يَرُدُّ قِيمَتَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 270.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا غَصَب أَرْضًا، فحُكْمُها في جَوازِ دُخُولِ غيرِه إليها حُكْمُها قبلَ الغَصْبِ. فإن كانت مُحَوَّطَةً، كالدَّارِ والبُسْتانِ المُحَوَّطِ عليه، لم يَجُزْ دُخُولُها لغيرِ مالِكِها إلَّا بإذْنِه؛ لأنَّ مِلْكَ مالِكِها لم يَزُلْ عنها، فلم يَجُزْ دُخُولُها بغيرِ إذْنِه، كما لو كانتْ في يَدِه. قال الإِمامُ أحمدُ، رَضِيَ اللهُ عنه، في الضَّيعَةِ تَصِيرُ غَيضَةً (¬1) فيها سَمَكٌ: لا يَصِيدُ فيها أحَدٌ إلَّا بإذْنِهِم. وإن كانت صَحْراءَ، جازَ الدُّخُولُ فيها ورَعْيُ حَشِيشِها. قال الإمامُ أحمدُ: لا بَأْسَ برَعْي الكَلَأ في الأرْضِ المَغْصُوبةِ. وذلك لأنَّ الكَلَأَ لا يُمْلَكُ بملْكِ الأرْضِ. ويتَخَرَّجُ في كلِّ واحِدَةٍ مِن الصُّورَتَين مثلُ حُكْمِ الأُخْرى، قِياسًا لها عليها. ونَقَل عنه المَرُّوذِيُّ، في دارٍ طَوَابِيقُها غَصْبٌ: لا يَدْخُلُ على والدَيه؛ لأنَّ دُخُولَه عليهما تَصَرُّفٌ في الطَّوابِيقِ المَغْصُوبةِ. ¬

(¬1) الغيضة: ماء يجتمع فينبت فيه الشجر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَقَل عنه الفَضْلُ بنُ عبدِ الصَّمَدِ (¬1)، في رجلٍ له إِخْوةٌ في أرْضِ غَصْبٍ: يَزُورُهُم ويُرَاودُهُمِ على الخُرُوجِ فإن أجَابُوه وإلَّا لم يُقِمْ معهم، ولا يَدَعُ زيارَتهُم. يعني يَزُورُهُم؛ يَأْتِي بابَ دَارِهم، ويَتَعَرَّفُ أخْبارَهم، ويُسَلِّمُ عليهم، ويُكُلِّمُهُم، ولا يَدْخُلُ إليهم. ونَقَل المَرُّوذِيُّ عنه: أَكْرَهُ المَشْيَ على العَبَّارَةِ التي يَجْرِي فيها الماءُ؛ وذلك لأنَّ العَبّارَةَ وُضِعَتْ لعُبُورِ الماءِ لا للْمَشْيِ عليها، [ورُبَّما أضَرَّ بها المَشْيُ عليها] (¬2). قال أحمدُ: لا يَدْفِنُ في الأَرْضِ المَغْصوبةِ؛ لِما في ذلك مِن التَّصَرُّفِ في أَرْضِهِم بغيرِ إذْنِهِم. وقال أحمدُ في مَن ابْتاعَ طَعامًا مِن مَوْضِعِ غَصْبٍ ثم عَلِمَ: رَجَع إلى المَوْضِعِ الذي أخَذَه منه فرَدَّه. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: يَطْرَحُه. يَعْنِي على مَن ابْتاعَه منه؛ وذلك لأنَّ قُعُودَه فيه حَرامٌ مَنْهِيٌّ ¬

(¬1) أبو يحيى الفضل بن عبد الصمد الأصفهاني، رجل جليل، عنده جزء من مسائل الإمام أحمد، لزم طرسوس، ومات في الأسر بعد سنة إحدى وسبعين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 254. (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، فكان البَيعُ فيه مُحَرَّمًا، ولأنَّ الشِّراءَ مِمَّن يَقْعُدُ في المَوْضِعِ المُحَرَّمِ يَحْمِلُهم على القُعُودِ والبَيعِ فيه، وتَرْكُ الشِّرَاءِ منهم يَمْنَعُهُم القُعُودَ. وقال: لا يَبْتاعُ مِن الخَاناتِ التي في الطُّرُقِ، إلَّا أن لا يَجِدَ غيرَه، كأَنَّه بمَنْزِلَةِ المُضْطَرِّ. وقال في السُّلْطانِ إذا بَنَى دارًا، وجَمَع النّاسَ إليها: أَكْرَهُ الشِّراءَ منها. قال شيخُنا (¬1): وهذا على سَبِيلِ الوَرَعِ، إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لِما فيه مِن الإِعَانَةِ على فِعْلِ المُحَرَّمِ، والظاهِرُ صِحَّةُ البَيعِ؛ لأنَّه إذا صَحَّتِ الصَّلاةُ في الدّارِ المَغْصُوبةِ في رِوَايَةٍ، وهي عِبادَةٌ، فما ليس بعِبادَةٍ أَوْلَى. وقال في مَن غَصَب ضَيعَةً، وغُصِبَتْ مِن الغاصِبِ، وأرادَ الثاني رَدَّها: جَمَع بينَهما. يَعْنِي بينَ مالِكِها والغاصِبِ الأوّلِ. وإن ¬

(¬1) في: المغني 7/ 381.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ماتَ بعضُهم، جَمَع وَرَثَتَه. إنَّما قال هذا احْتِياطًا، خَوْفَ التَّبِعَةِ مِن الغاصِبِ الأوّلِ؛ لأنَّه رُبّما طالبَ بها فادَّعاها مِلكًا باليَدِ، وإلَّا فالواجِبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَدُّها على مالِكِها. وقد صَرَّحَ بهذا في رِوايَةِ عبدِ اللهِ، في رجلٍ اسْتَوْدَعَ رجلًا ألْفًا، فجاءَ رجل إلى المُسْتَوْدَعِ، فقال: إنَّ فُلانًا غَصَبَنِي الألْفَ

2304 - مسألة: (وإن غصب جارحا فصاد به أو شبكة أو شركا فأمسك شيئا، أو فرسا فصاد عليه أو غنم، فهو لمالكه)

فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ، لَزِمَهُ رَدُّهُ بِزِيَادَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً؛ كَالسِّمَنِ وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، أَوْ مُنْفَصِلَةً؛ كَالْوَلَدِ وَالْكَسْب. وَلَوْ غَصَبَ جَارِحًا فَضَادَ بِهِ، أَوْ شَبَكَةً أَوْ شَرَكًا فَأَمْسَكَ شَيئًا، أَوْ فَرَسًا فَصَادَ عَلَيهِ أَوْ غَنِمَ، فَهُوَ لِمَالِكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي اسْتَوْدَعَكَهُ. وصَحَّ ذلك عندَ المُسْتَوْدَعِ. فإن لم يَخَفِ التَّبِعةَ، وهو أن يَرْجِعُوا به عليه، دَفَعَهُ إليه. [فصل: قال الشيخُ، رضي اللهُ عنه: (وإن زاد، لَزِمَه رَدُّه بزِيادَتِه، سَواءٌ كانت مُتَّصِلَةً؛ كالسِّمَنِ وتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، أو مُنْفَصِلَةً؛ كالوَلَدِ والكَسْبِ) لأنَّه مِن نَماءِ المَغْصُوبِ، وهو لمالِكِه، فلَزِمَ رَدُّه، كالأصْلِ] (¬1). 2304 - مسألة: (وإن غَصَب جارِحًا فصادَ به أو شَبَكَةً أو شَرَكًا فأمْسَكَ شيئًا، أو فَرَسًا فصادَ عليه أو غَنِم، فهو لمالِكِه) كما لو غَصَب ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدًا، فصادَ، فإنَّ الصيدَ لسَيِّدِ العَبْدِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه للغاصِبِ؛ لأنَّ الصّائِدَ والجارِحَةَ آلَةٌ، ولهذا اكْتُفِيَ بتَسْمِيَتِه عندَ إرْسالِ الجارِحِ. وفيما إذا غَصَب فَرَسًا أو سَهْمًا أو شَبَكَةً فصادَ به وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه للغاصِبِ؛ لأنَّ الصيدَ حَصَل بفِعْلِه، وهذه آلاتٌ، فأَشْبَهَ ما لو ذَبَح بسِكِّينِ غيرِه. فإن قُلْنا: هو للغاصِبِ. فعليه أُجْرَةُ ذلك كلِّه مُدَّةَ مُقَامِه في يَدِه إن كان له أجْرٌ. وإن قُلْنا: هو للمالِكِ. لم يَكُنْ له أَجْرٌ في مُدَّةِ اصْطِيادِه، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ مَنافِعَه في هذه المُدَّةِ عادَت إلى المالِكِ، فلم يَسْتَحِقَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضَها على غيرِه، كما لو زَرَع أرْضَ إنسانٍ فأخَذَ المالِكُ الزَّرْعَ بنَفَقَتِه. والثاني، عليه أَجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّه اسْتَوْفى مَنافِعَه، أشبَهَ ما لو لم يَصِدْ. ولو غَصَب عَبْدًا، فصادَ أو كَسَب، فالكَسْبُ للسَّيِّدِ. وفي وُجُوبِ أُجْرَةِ العَبْدِ على الغاصِبِ في مُدَّةِ كَسْبِه وصَيدِه الوَجْهانِ. وإن غَصَب مِنْجَلًا، فقَطَعَ به خَشَبًا أو حَشِيشًا، فهو للغاصِبِ؛ لأنَّ هذه آلةٌ، فهو كالحَبْلِ يُرْبَط به.

2305 - مسألة: (وإن غصب ثوبا فقصره، أو غزلا فنسجه، أو فضة أو حديدا فضربه، أو خشبا فنجره، أو شاة فذبحها وشواها، رد ذلك بزيادته وأرش نقصه، ولا شيء له)

وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَصَرَهُ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ فِضَّةً أَوْ حَدِيدًا فضَرَبَهُ، أَوْ خَشَبًا فَنَجَرَهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا، رَدَّ ذَلِكَ بِزِيَادَتِهِ وَأَرْشَ نَقْصِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2305 - مسألة: (وإن غَصَب ثَوْبًا فقَصَرَه، أو غَزْلًا فنَسَجَه، أو فِضَّةً أو حَدِيدًا فضَرَبَه، أو خَشَبًا فنَجَرَه، أو شاةً فذَبَحَها وشَوَاها، رَدَّ ذلك بزِيادَتِه وأَرْشَ نَقْصِه، ولا شيءَ له) [إذا غَصَب حِنْطَةً فَطَحَنَها، أو شاةً فذَبَحَها وشَوَاها، أو حَدِيدًا فعَمِلَه إبَرًا أو أوَانِيَ، أو خَشَبَةً فَنَجَرَها بابًا، أو ثَوْبًا فقَطَعَه وخاطَه، لم يَزُلْ مِلْكُ صاحِبِه عنه، ويَأْخُذُه وأَرْشَ نَقْصِه، ولا شيءَ للغاصِبِ في زِيادَتِه] (¬1). هذا ظاهِرُ المَذْهَبِ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ في هذه المسائِلِ: يَنْقَطِعُ حَقُّ صاحِبِها عنها، إلَّا أنَّ الغاصِبَ لا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيها إلَّا بالصَّدَقةِ، إلَّأ أن يَدْفَعَ قِيمَتَها فيَمْلِكَهَا ويَتَصَرَّفَ فيها كيف شاءَ. وروَى ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمدُ بنُ الحَكَمِ عن أحمدَ، ما يَدُلُّ على أنَّ الغاصِبَ يَمْلِكُها بالقِيمَةِ، إلَّا أنَّه قولٌ قَدِيمٌ رَجَع عنه، فإنَّ محمدًا ماتَ قبلَ أبي عبدِ اللهِ بنحو مِن عِشْرِينَ سَنةً. واحْتَجُّوُا بما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَارَ قَوْمًا مِن الأنْصارِ في دارِهِم، فقَدَّمُوا إليه شاةً مَشْويَّةً، فتَناوَلَ منها لُقْمَةً، فجَعَلَ يَلُوكُها ولا يَسِيغُها، فقال: «إنَّ هذِهِ الشَّاةَ لتُخْبِرُنِي أنَّها أُخِذَتْ بِغَيرِ حَقٍّ». فقالوا: نعم يا رسولَ اللهِ، طَلَبْنا في السُّوقِ فلم نَجِدْ، فأخَذْنا شاةً لبعضِ جِيرَانِنا، ونحن نُرْضِيهِم مِن ثَمَنِها. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَطْعِمُوهَا الأَسْرَى». رَواه أبو داودَ (¬1) بنَحْو مِن هذا. وهذا يَدُلُّ على أنَّ حَقَّ أَصْحابِها انْقَطَعَ عنها، ولولا ذلك لأَمَرَ بِرَدِّها عليهم. ولَنا، أنَّ عَينَ (¬2) مال المَغْصُوبِ منه قائِمةٌ، فلَزِمَ رَدُّها إليه، كما لو ذَبَحَ الشّاةَ ولم يَشوهَا، ولأَنَّه لو فَعَلَه بمِلْكِه لم يَزُلْ عنه، فكذلك إذا فَعَلَه بمِلْكِ غيرِه، كذَبْحِ ¬

(¬1) في: باب في اجتناب الشبهات، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 219. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 293. (¬2) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ، يَكُونُ شَرِيكًا بِالزِّيَادَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّاةِ، وضَرْبِ النُّقْرَةِ دَرَاهِمَ. ولأنَّه لا يُزِيلُ المِلْكَ إذا كان بغيرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ، فلم يُزِلْه إذا فَعَلَه آدَمِيٌّ، كالذي ذَكَرْناه. وأمّا الخَبَرُ فليس بمَعْرُوفٍ كما رَوَوْهُ، [وليس] (¬1) في رِوَايَةِ أبي داودَ: ونَحْنُ نُرْضِيهِم عَنْهَا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا شيءَ للغاصِبِ بعَمَلِه، سَواءٌ زادَتِ العَينُ أو لم تَزِدْ. وهذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. (وعنه، يكونُ شَرِيكًا بالزِّيادَةِ) ذَكَرَها أبو الخَطّابِ؛ لأنَّها حَصَلَتْ بمَنافِعِه، والمَنافِعُ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الأعيانِ، فأشْبَهَ ما لو غَصَب ثَوْبًا فصَبَغَه. والمَذْهَبُ الأوّلُ. ذَكَرَه أبو بكرٍ، والقاضِي؛ لأنَّ الغاصِبَ عَمِل في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَسْتَحِقَّ لذلك عِوَضًا، كما لو أَغْلَى زَيتًا فزادَتْ قِيمَتُه، أو بَنَى حائِطًا لغيرِه، أو زَرَع حِنْطَةَ إنْسانٍ في أرْضِه. فأمّا صَبْغُ الثَّوْبِ، فإنَّ الصِّبْغَ عَينُ مالٍ، لا يَزُولُ مِلْكُ صاحِبِه عنه بِجَعْلِه مع مِلْكِ غيرِه، وهذا حُجَّةٌ عليه؛ لأنَّه إذا ¬

(¬1) سقط من: م. وليس هذا اللفظ في المسند أيضًا.

وَقَال أَبُو بَكْرٍ: يَمْلِكُهُ، وَعَلَيهِ قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَزُلْ مِلْكُه عن صِبْغِه بجَعْلِه في مِلْكِ غيرِه، وجَعْلِه كالصِّفَةِ، فَلأَنْ لا يَزُولَ مِلْكُ غيرِه بعَمَلِه فيه أَوْلَى. فإنِ احْتَجَّ بأنَّ مَن زَرَع في أرْضِ غيرِه تُرَدُّ عليه نَفَقَتُه، قُلْنا: الزَّرْعُ مِلْكٌ للغاصِبِ؛ لأنَّه عَينُ (¬1) مالِه، ونَفَقَتُه عليه تَزْدادُ به قِيمَتُه، فإذا أخَذَه مالِكُ الأرْضِ، احْتَسَبَ بما أنْفَقَ على مِلْكِه، وفي مسألتِنا عَمَلُه في مِلْكِ المَغْصُوبِ منه بغيرِ إذْنِه، فكان لاغِيًا، على أنَّنا نقولُ: إنَّما تَجِبُ قِيمَةُ الزَّرْعِ على إحدى الرِّوايَتَين (وقال أبو بكرٍ: يَمْلِكُه، وعليه قِيمَتُه) لِما روَى محمدُ بنُ الحَكَمِ. ووَجْهُه [ما ذكرناه في صدر المسألة] (¬2). والصَّحِيحُ الأوَّلُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كما ذكرنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَقَصَتِ العَينُ دونَ القِيمَةِ، رَدَّ المَوْجُودَ وقِيمَةَ النَّقْصِ، وإن نَقَصَتِ العَينُ والقِيمَةُ، ضَمِنَهما معًا، كالزَّيتِ إذا أَغْلاه. وهكذا القولُ في كلِّ ما تَصَرَّفَ فيه، كنُقْرَةٍ ضَرَبَها دَرَاهِمَ أو حَلْيًا، أو طِينًا جَعَلَه لَبِنًا، أو غَزْلًا نَسَجَه، أو ثَوْبًا قَصَرَه؛ لأنَّه نَقَص بفِعْلٍ غيرِ مَأْذُونٍ فيه، أشْبَهَ ما لو أَتْلَفَ بعضَه. وإن جَعَل فيه شيئًا مِن عَينِ مالِه، مثلَ أن سَمَّرَ الدُّفُوفَ بمَسامِيرِه، فله قَلْعُها، ويَضْمَنُ ما نَقَصَتِ الدُّفُوفُ، وإن كانت المَسامِيرُ مِن الخَشَبَةِ المَغْصُوبةِ، أو مالِ المَغْصُوبِ منه، فلا شيءَ للغاصِبِ، وليس له قَلْعُها، إلَّا أن يَأْمُرَه المالِكُ بذلك (¬1) فيَلْزَمَه. وإن كانت المَسَامِيرُ للغاصِبِ فوَهَبَها (¬2) للمالِكِ، لم يُجْبَرْ على قَبُولِها، في أقْوَى الوَجْهَين. وإنِ اسْتَأْجَرَ الغاصِبُ على عَمَلِ شيءٍ مِن هذا الذي ذكَرْناه، فالأجْرُ عليه. والحُكْمُ في زِيادَتِه ونقْصِه كما لو فَعَل ذلك بنَفْسِه، ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في الأصل: «قومها».

2306 - مسألة: (وإن غصب أرضا، فحفر فيها بئرا، ووضع

وَإِنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا، وَوَضَعَ تُرَابَهَا فِي أَرْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمالِكِ تَضْمِينُ النَّقْصِ مَن شاءَ منهما، فإن غَرَّمَ الغاصِبَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ إذا لم يَعْلَمِ الأجِيرُ الحال، وإن ضَمَّنَ الأجِيرَ، رَجَع على الغاصِبِ؛ لأنَّه [غَرَّه. وإن عَلِم الأجِيرُ الحال فغَرَّمَه، لم يَرْجِعْ به على الغاصِبِ؛ لأنَّه] (¬1) أتْلَفَ مال غيرِه بغيرِ إذْنِه عالِمًا بالحالِ، وإن ضَمَّنَ الغاصِبَ، رَجَع على الأجِيرِ؛ لأنَّ النَّقْصَ حَصَل منه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، وإنِ اسْتَعان بمَن فَعَل ذلك، فهو كالأجِيرِ. 2306 - مسألة: (وإن غَصَب أرْضًا، فحَفَرَ فيها بِئْرًا، ووَضَع ¬

(¬1) سقط من: م.

مَالِكِهَا، لَمْ يَمْلِكْ طَمَّهَا إِذَا أَبْرَأَةُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَتْلَفُ بِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُرابَها في أَرْضِ مالِكِها، لم يَمْلِكْ طَمَّها إذا أبْرَأَه المالِكُ مِن ضَمانِ ما يَتْلَفُ بها، في أحَدِ الوَجْهَين) [إذا غَصَب أرضًا، فحَفَرَ فيها بِئْرًا] (¬1) فطَالبَهَ (¬2) المالِكُ بطَمِّها، لَزِمَه؛ لأنَّه يَضُرُّ بالأرْضِ، ولأنَّ التُّرابَ مِلْكُه نَقَلَه مِن مَوضْعِه، فلَزِمَه رَدُّه، كتُرابِ الأرْضِ. وكذلك إن حَفَر فيها نَهْرًا، أو حَفَر بِئْرًا في مِلْكِ رجلٍ بغيرِ إذْنِه. وإن أرادَ الغاصِبُ طَمَّها فمَنَعَه المالِكُ، نَظَرْنا؛ فإن كان له غَرَضٌ في طَمِّها، بأن يَسْقُطَ عنه ضَمانُ ما يَقَعُ فيها، أو يكونَ قد نَقَل تُرابَها إلى مِلْكِه أو مِلْكِ غيرِه، أو طَرِيقٍ يَحْتاجُ إلى تَفْرِيغِه، فله ذلك؛ لِما فيه مِن الغَرَضِ. وبه قال الشّافِعِيُّ. وإن لم يَكُنْ له غَرَضٌ [في طَمِّ البِئْرِ] (1)، مثلَ أن يكونَ قد وَضَع التُّرابَ في مِلْكِ المَغْصُوبِ منه (¬3)، وأَبْرَأَهُ مِن ضَمانِ ما يَتْلَفُ بها، لم يَكُنْ له طَمُّها، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه إتْلافٌ لا نَفْعَ فيه، فلم يَكُنْ له فِعْلُه، كما لو غَصَب نُقْرَةً ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إذا طمه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فطَبَعَهَا دَرَاهِمَ ثم أرادَ رَدَّها نُقْرَةً. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والمُزَنِيُّ، وبعضُ الشّافِعِيّةِ. وقال بعضُهم: له طَمُّها. وهو الوَجْهُ الثاني لنا؛ لأنَّه لا يَبْرَأُ مِن الضَّمانِ بإبْراءِ (¬1) المالِكِ، لكَوْنِه أبْرَأَ مِمّا لم يَجِبْ بعدُ، وهو أيضًا ¬

(¬1) في الأصل: «فأبرأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إبْراءٌ مِن حَقِّ غيرِه وهو الواقِعُ فيها. ولَنا، أنَّ الضَّمانَ إنَّما يَلْزَمُه لوُجُودِ التَّعدِّي، فإذا رَضِيَ صاحِبُ الأرضِ زال التَّعدِّي، فزَال الضَّمانُ، وليس هذا إبْراءً مِمّا يَجبُ، إنَّما هو إسْقاطُ التَّعَدِّي برِضَاه به. وهكذا يَنْبَغِي أن يكونَ الحُكْمُ إذا لم يَتَلَفَّظْ بالإِبْراءِ، لكن مَنَعَه مِن طَمِّها؛ لأنَّه يَتَضَمَّنُ رِضَاه بذلك.

2307 - مسألة: (وإن غصب حبا فزرعه، أو نوى فصار غرسا، أو بيضا فصار فراخا، رده، ولا شيء للغاصب)

وَإِنْ غَصَبَ حَبًّا فَزَرَعَهُ، أَوْ بَيضًا فَصَارَ فِرَاخًا، أَوْ نَوًى فَصَارَ غرْسًا، رَدَّهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2307 - مسألة: (وإن غَصَب حَبًّا فزَرَعَه، أو نَوًى فصار غَرْسًا، أو بَيضًا فصارَ فِراخًا، رَدَّه، ولا شيءَ للغاصِبِ) لأنَّه عَينُ مالِ المَغْصُوبِ منه. ويَتَخَرَّجُ أن يَمْلِكَه الغاصِبُ، كما إذا قَصَر الثَّوْبَ، أو ضَرَب الفِضَّةَ، لكَوْنِه غَيَّره بفِعْلِه، والتَّغْيِيرُ (¬1) في البَيضَةِ أعْظَمُ، فإنَّه اسْتَحال بزَوَالِ اسْمِه، فعلى هذا، يتَخَرَّجُ أيضًا أن يكونَ شَرِيكًا بالزِّيادَةِ، كالمسألةِ الأُولَى. ¬

(¬1) في م: «فالتغيير».

فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَصَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ نَقْصِهِ بِقِيمَتِهِ، رَقِيقًا كَانَ أَوْ غَيرَهُ. وَعَنْهُ، أَنَّ الرَّقِيقَ يُضْمَنُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن غَصَب دَجاجَةً، فباضَتْ عندَه، ثم حَضَنَتْ بَيضَها، فصار فِرَاخًا، فهما لمالِكِها، ولا شيءَ للغاصِب في عَلْفِها. قال أحمدُ في طَيرَةٍ جاءَتْ إلى دارِ قَوْمٍ فأَفْرَختْ عندَهم: يَرُدُّها وفِرَاخَها إلى أصحابِ الطَّيرَةِ، ولا شيءَ للغاصِبِ فيما عَمِلَ. وإن غَصَب شاةً فأنْزَى عليها فَحْلَه، فالوَلَدُ لصاحِبِ الشّاةِ؛ [لأنَّه مِن نَمائِها. وإن غَصَب فَحلًا فأنْزاه على شاتِه، فالوَلَدُ لصاحِبِ الشّاةِ] (¬1)؛ لأنَّه يَتْبَعُ الأُمَّ، ولا أُجْرَةَ له؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن عَسْبِ الفَحْلِ (¬2). وإن نَقَصَه الضِّرَابُ ضَمِنَه. [فصل: قال الشيخ، رضي اللهُ عنه] (¬3): (وإن نَقَصَ) المَغْصُوبُ، (لَزِمَه ضَمانُ نَقْصِه بقِيمَتِه، رَقِيقًا كان أو غيرَه) وبه قال الشافعيُّ. وعن أحمدَ في العَبْدِ رِوَايةٌ أخرى، أنَّه (يُضْمَنُ بما يُضْمَنُ به في الإِتْلافِ) فيَجِبُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 331. (¬3) سقط من: م.

الإِتْلَافِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَينِ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في يَدِه نِصْفُ قِيمَتِه، وفي مُوضِحَتِه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِه. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه ضَمانٌ لأبْعاضِ العَبْدِ، فكان مُقَدَّرًا مِن قِيمَتِه، كأَرْشِ الجِنَايَةِ. ولَنا، أَنه ضَمانُ مالٍ من غيرِ جنَايةٍ، فكان الواجِبُ ما نَقَص، كالبَهِيمَةِ، وكنَقْصِ الثَّوْبِ، يُحَقِّقُه أَنَّ القَصْدَ بالضَّمانِ (¬1) جَبْرُ حَقِّ المالِكِ بإيجابِ قَدْرِ المُفَوَّتِ عليه، وقَدْرُ النَّقْصِ هو الجابِرُ، ولأنَّه لو فاتَ الجَمِيعُ لوَجَبَتْ قِيمَتُه، فإذا فاتَ منه شيءٌ، وَجَبَ قَدْرُه مِن القِيمَةِ، كغَيرِ (¬2) الحَيوانِ. وضَمانُ الجنايَةِ على أَطْرافِ العَبْدِ مَعْدُولٌ به عن القِياسِ، للإِلْحاقِ بالجِنَايةِ على الحُرِّ، والواجِبُ ههُنا ضَمانُ اليَدِ، وهي لا تَثْبُتُ على الحُرِّ، فوَجَبَ البَقاءُ فيه على مُوجِبِ الأصْلِ، وإلْحاقُه بسائِرِ الأمْوالِ المَغْصُوبةِ. على أنَّ في الجِنايةِ على العَبْدِ رِوايَةً، أنَّه يَضْمَنُ بما نَقص، فتَتَّفِقُ الرِّوايَتان، والتَّفْرِيعُ على الأوَّلِ (ويَتَخرَّجُ أن يَضْمَنَه بأكْثْرَ الأمْرَين منهما) لأنَّ سَبَبَ كلِّ واحَدٍ منهما قد وُجِدَ. فأمّا إن كان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «كعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّقْصُ في الرَّقِيقِ مِمّا لا مُقَدّرَ فيه، كنَقْصِه لِكِبَرٍ أو مَرَضٍ أو شَجَّةٍ دونَ المُوضِحَةِ، فعليه ما نَقَص مع الرَّدِّ لا غيرُ. لا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا. فإن كان العَبْدُ أمْرَدَ فنَبَتَتْ لِحْيَتُه فنَقَصَتْ قِيمَتُه، وَجَب ضَمانُ نَقْصِه. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَجِبُ ضَمانُه؛ لأنَّ الفائِتَ لا يُقْصَدُ قَصْدًا صَحِيحًا، أشْبَهَ الصِّناعَةَ المُحَرمَةَ. ولَنا، أنَّه نَقْصٌ في القِيمَةِ بتَغَيُّرِ صِفَةٍ، فيَضْمَنُه، كبَقِيَّةِ الصُّوَرِ.

2308 - مسألة: (وإن غصبه وجنى عليه، ضمنه بأكثر الأمرين)

وَإِنْ غَصَبَهُ وَجَنَى عَلَيهِ، ضَمِنَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2308 - مسألة: (وإن غَصَبَه وجَنَى عَلَيهِ، ضَمِنَه بأكثَرِ الأمرين) وجُمْلةُ ذَلِكَ، أنَّه إذا غَصَب عَبْدًا وجَنَى عليه جِنايَةً مُقَدَّرَةَ الدِّيَةِ، فعلى قَوْلِنا: ضَمانُ الغَصْبِ ضَمانُ الجِنايَةِ. يكونُ الواجِبُ أَرْشَ الجنايَةِ، كما لو جَنَى عليه مِن غيرِ غَصْبٍ ونَقَصَتْه الجِنايَةُ أَقَلَّ مِن ذلك أو (¬1) أكْثَرَ. وإن قُلْنا: ضَمانُ الغَصْبِ غيرُ ضَمانِ الجِنايَةِ. وهو الصَّحِيحُ، فعليه أكْثَرُ الأمْرَين مِن أَرْشِ النَّقْصِ أو دِيَةِ ذلك العُضو؛ ¬

(¬1) في الأصل: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ سَبَبَ كلِّ واحِدٍ منهما وُجِدَ، فوَجَبَ أكْثَرُهما، ودَخَل الآخَرُ فيه، فإنّ الجِنايَةَ واليَدَ وُجِدَا جَمِيعًا. فلو غَصَب عَبْدًا (¬1) وقِيمَتُه ألْفٌ، فَزادَتْ قِيمَتُه إلى ألْفَين، ثم قَطَع يَدَه، فنَقَضَ ألْفًا، لَزِمَه ألْفٌ، ورَدَّ العَبْدَ؛ لأنَّ زِيادَةَ السُّوقِ إذا تَلِفَتِ العَينُ مَضْمُونةٌ، ويَدُ العَبْدِ كنِصْفِه، فكَأَنَّه بقَطْعِ يَدِه فَوَّتَ نِصْفَه، وإن نَقَص ألْفًا وخَمْسَمائةٍ، وقُلْنا: الواجِبُ ما نَقَص. فعليه ألْفٌ وخَمْسُمائةٍ، ويَرُدُّ العَبْدَ. وإن قُلْنا: ضَمانُ الجِنايَةِ. فعليه أَلْفٌ.، ورَدُّ العَبْدِ حَسْبُ. وإن نَقَص خَمْسَمائةِ، فعليه رَدُّ العَبْدِ. وهل يَلْزَمُه أَلْفٌ أو خَمْسُمائةٍ؟ على وَجْهَين. ¬

(¬1) سقط من: م.

2309 - مسألة: (وإن جنى عليه غير الغاصب، فله تضمين الغاصب أكثر الأمرين، ويرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية، وله تضمين الجاني أرش الجناية، وتضمين الغاصب ما بقي من النقص)

وَإِنْ جَنَى عَلَيهِ غَيرُ الْغَاصِبِ، فَلَهُ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ بأَكْثَرِ الْأَمْرَينِ، وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْجَانِي بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْجَانِي أَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَتَضْمِينُ الْغَاصِبِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2309 - مسألة: (وإن جَنَى عليه غيرُ الغاصِبِ، فله تَضْمِينُ الغاصِبِ أكْثَرَ الأَمْرَين، ويَرْجِعُ الغاصِبُ على الجانِي بأرْشِ الجِنايَةِ، وله تَضمِينُ الجانِي أَرْشَ الجِنايَةِ، وتَضْمِينُ الغاصِبِ ما بَقِيَ مِن النَّقْصِ) إذا غَصَب عَبْدًا فقَطَعَ آخَرُ يَدَه، فللمالِكِ تَضْمِينُ مَن شاءَ منهما؛ لأنَّ الجانِيَ قَطَع يَدَه، والغاصِبَ حَصَل النَّقْصُ في يَدِه، فإن ضَمَّنَ الجانِيَ ضَمَّنَه نِصْفَ القِيمَةِ لا غيرُ، ولم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لأنَّه لم يُضَمِّنْه أكْثَرَ مِمَّا وَجَب عليه، ويَضْمَنُ الغاصِبُ ما زادَ على نِصْفِ القِيمَةِ إن نَقَص أَكْثَرَ مِن النِّصْفِ، ولا يَرْجعُ على أحَدٍ. وإن قُلْنا: ضَمانُ الغَصْبِ ضَمانُ الجِنايَةِ. أو لم يَنْقُصْ أكْثَرَ مِن نِصْفِ قِيمَتِه. لم يَضْمَنِ الغاصِبُ ها هنا شيئًا. وإنِ اخْتارَ

2310 - مسألة: (وإن غصب عبدا فخصاه، لزمه رده ورد قيمته)

وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا فَخَصَاهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ وَرَدُّ قِيمَتِهِ. وَعَنْهُ، فِي عَينِ الدَّابَّةِ مِنَ الْخَيلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ رُبْعُ قِيمَتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَضْمِينَ الغاصِبِ وقُلْنا: إنَّ ضَمانَ الغَصْبِ (¬1) كضَمانِ الجِنايَةِ. ضَمَّنَه نِصْفَ القِيمَةِ، ورَجَع بها الغاصِبُ على الجانِي؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل بفِعْلِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. وإن قُلْنا: إنَّ ضَمانَ الغَصْبِ بما نَقَص. فَلِرَبِّ العَبْدِ تَضْمِينُه بأكْثَرِ الأمْرَينِ؛ لأنَّ ما وُجِدَ في يَدِه فهو في حُكْمِ المَوْجُودِ منه، ثم يَرْجِعُ الغاصِبُ على الجانِي بنِصْفِ القِيمَةِ؛ لأنَّها أَرْشُ جِنايَتِه، فلا يَجِبُ عليه أَكْثَرُ منها. 2310 - مسألة: (وإن غَصَب عَبْدًا فخَصَاه، لَزِمَه رَدُّه ورَدُّ قِيمَتِه) إذا غَصَب عَبْدًا، فقَطَعَ خُصْيَتَيه، أو يَدَيه، أو ذَكَرَه، أو لِسَانَه، أو ما تَجِبُ فيه الدِّيَةُ مِن الحُرِّ، لَزِمَه رَدُّه ورَدُّ قِيمَتِه كلِّها. نصَّ عليه ¬

(¬1) في الأصل: «الغاصب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ (¬1). وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: يُخَيَّرُ المالِكُ بينَ أن يَصْبِرَ ولا شيءَ له، وبينَ أَخْذِ قِيمَتِه ويَمْلِكُه الجانِي؛ لأنَّه ضَمانُ مالٍ، فلا يَبْقَى مِلْكُ صاحِبه عليه مع ضَمانِه، كسائِرِ الأمْوالِ. ولَنا، أنَّ المُتْلَفَ البَعْضُ، فلا يَقِفُ ضَمانُه على زَوالِ المِلْكِ، كقَطْعِ ذَكَرِ المُدَبَّرِ، ولأنَّ المَضْمُونَ [هو المُفَوَّتُ] (¬2)، فلا يَزُولُ المِلْكُ عن غيرِه بضَمانِه، كما لو قَطَع تِسْعَ أصَابِعَ. وبهذا يَنْفَصِلُ عما ذَكَرُوه، فإنَّ الضَّمانَ في مُقابَلَةِ التّالِفِ، لا في مُقابَلَةِ الجُمْلَةِ. فإن ذهَبَتْ هذه الأعْضاءُ بغيرِ جِنايَةٍ، فهل يَضْمَنُها ضَمانَ الإِتْلافِ أو ما نَقَصَ؟ على رِوَايَتَين مَضَى ذكْرُهما. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ عَينَ الدّابَّةِ تُضْمَنُ برُبْعِ قِيمَتِها مِن الخَيلِ والبِغالِ والحَمِيرِ، فإنَّه قال في رِوايَةِ أبي الحارِثِ، في رجلٍ فَقَأَ عَينَ دابَّةٍ: عليه رُبْعُ قِيمَتِها. قيل له: فَقَأَ العَينَينِ. قال: إذا كانت واحِدَةً، فقال عُمَرُ: رُبْعُ القِيمةِ. وأمَّا العَينانِ، فما سَمِعْتُ فيهما شيئًا. قِيلَ له: فإن كان بَعِيرًا أو بَقَرَةً أو شاةً. فقال: هذا غيرُ الدّابَّةِ، هذا يُنْتَفَعُ بلَحْمِه، يُنْظَرُ ما نَقَصَها. وهذا يَدُلُّ على أنَّ أحمدَ إنَّما أوْجَبَ مُقَدَّرًا في العَينِ الواحِدَةِ مِن الدّابَّةِ، وهي الفَرَسُ والبَغْلُ والحِمارُ خاصَّةً؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «التالف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للأَثَرِ الوارِدِ فيه، وما عَدَا هذا يُرْجَعُ إلى القِيَاسِ. واحْتَجَّ أصحابُنا لهذه الرِّوايَةِ بما روَى زَيدُ بنُ ثابِتٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في عَينِ الدّابّةِ برُبْعِ قِيمَتِها (¬1). ورُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كَتَب إلى شُرَيحٍ لمَّا كَتَب إليه يَسْأَلُه عن عَينِ الدّابّةِ: إَّنا كُنّا نُنْزِلُها مَنْزِلَةَ الآدَمِيِّ، إلَّا أنَّه (¬2) أجْمَعَ رَأْيُنا أنَّ قِيمَتَها رُبْعُ الثَّمنِ (¬3). وهذا إجْماعٌ يُقَدَّمُ على القِيَاسِ. ذَكَر هذَين أبو الخَطَّابِ في «رُءُوسِ المَسائِلِ». وقال أبو حنيفةَ: إذا قَلَع عَينَيْ بَهِيمَةٍ يُنْتَفَعُ بها مِن وَجْهَين؛ كالدَّابَّةِ والبَعِيرِ والبَقَرَةِ، وَجَب نِصْفُ قِيمَتِها، وفي إحداهما رُبْعُ قِيمَتِها؛ لقولِ عُمَرَ: أجْمَعَ رأيُنا على أنَّ قِيمَتَها رُبْعُ الثَّمَنِ. والمَذْهَبُ أنَّ قَدْرَ الأَرْشِ ما نَقَص مِن القِيمَةِ، كسائِرِ الأعْيانِ. فأمَّا حَدِيثُ زَيدِ بنِ ثابتٍ، فلا أصْلَ له، ولو كان صَحِيحًا، لَما احْتَجَّ أحمدُ وغيرُه بحَدِيثِ عمرَ وتَرَكُوه، [فإنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ أن يُحْتَجَّ به] (¬4). وأمّا قولُ عُمَرَ، فمَحْمُولٌ عِلى أنَّ ذلك كان قَدْرَ نَقْصِها، كما رُوِيَ عنه أنَّه قَضَى في العَينِ القائِمَةِ بخمْسِينَ دِينارًا. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في: المعجم الكبير 5/ 153. وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد 6/ 298. وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب عين الدابة، من كتاب العقول. المصنف 10/ 76، 77. وابن أبي شيبة، في: باب في عين الدابة، من كتاب الديات. المصنف 9/ 275، 276. (¬4) سقط من: تش، م.

2311 - مسألة: (وإن نقصت)

وَإِنْ نَقَصَتِ الْعَينُ لِتَغَيُّرِ الْأَسَعَارِ، لَمْ يَضْمَنْ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2311 - مسألة: (وإن نَقَصَتْ) قِيمَةُ (العَينِ لتَغَيُّرِ الأسْعارِ، لم يَضْمَنْ. نَصَّ عليه) وهو قولُ جُمْهُورِ العُلَماءِ. وحُكِيَ عن أبي ثَوْرٍ، أنَّه يَضْمَنُه؛ لأنَّه يَضْمَنُه إذا تَلِفَتِ العَينُ، فيَلْزَمُه إذا رَدَّها، كالسِّمَنِ. وذَكَرَه ابنُ أبي مُوسَى رِوايَةً عن أحمدَ. ولَنا، أنَّه رَدَّ العَينَ بحَالِها لم تَنْقُصْ منها عَينٌ ولا صِفَةٌ، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو لم تَنْقُصْ، ولا نُسَلِّمُ أنَّه يَضْمَنُها مع تَلَفِ العَينِ، وإن سَلَّمْنا فَلأنَّه وَجَبَتْ قِيمَةُ العَينِ أكْثَرَ ماكانت قِيمَتُها، فدَخَلَتْ في التَّقْويمِ، بخِلافِ ما إذا رَدَّها، فإنَّ القِيمَةَ لا تَجِبُ، ويُخالِفُ السِّمَنَ، فإنَّه مِن عَينِ (¬1) المَغْصُوبِ، والعِلْمُ بالصِّناعَةِ صِفَةٌ فيها، وههُنا لم تَذْهَبْ عَينٌ ولا صِفَةٌ؛ ولأنَّه لا حَقَّ للمَغْصُوبِ منه في القِيمَةِ مع بَقاءِ العَينِ، وإنَّما حَقُّه في العَينِ، وهي باقِيَةٌ كما كانت، ولأنَّ الغاصِبَ يَضْمَنُ ما غَصَبَه، والقِيمَةُ لا تَدْخُلُ في الغَصْبِ، بخِلافِ زِيادَةِ العَينِ، فإنَّها مَغْصُوبَةٌ وقد ذَهَبَتْ. ¬

(¬1) في تش: «غير».

2312 - مسألة: (وإن نقصت القيمة لمرض)

وَإِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ لِمَرَضٍ، ثُمَّ عَادَتْ بِبُرْئِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2312 - مسألة: (وإن نَقَصَتِ القِيمَةُ لمَرَضٍ) أو غيرِه (ثم عادَتْ ببُرْئِه، لم يَلْزَمْه شيءٌ) إلَّا رَدَّه، إذا مَرِضَ المَغْصُوبُ ثم بَرَأ، أو ابْيَضَّتْ عَينُه ثم زال بَياضُها، أو غَصَب جارِيَةً حَسْناءَ فَسمِنَتْ سِمَنًا

2313 - [مسألة: (وإن زاد من جهة أخرى؛ مثل أن تعلم)]

وَإِنْ زَادَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، مْثِلَ أَنْ تَعَلَّمَ صَنْعَةً فَعَادَتِ الْقِيمَةُ، ضَمِنَ النَّقْصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَقَصَها، ثم خَفَّ سِمَنُها فعاد حُسْنُها وقِيمَتُها، رَدَّها ولا شيءَ عليه؛ لأنَّه لم يَذْهَبْ ما لَه قِيمَةٌ، والعَيبُ الذي أَوْجَبَ الضَّمانَ زال في يَدَيه. وكذلك لو حَمَلَتْ فنَقَصَتْ ثم وَضَعَتْ فزَال نَقْصُها، لم يَضْمَنْ شيئًا. فإن رَدَّ المَغْصُوبَ ناقِصًا بمَرَضٍ، أو عَيبٍ، أو سِمَنٍ مُفْرِطٍ، أو حَمْلٍ، فعليه أَرْشُ نَقْصِه، فإن زال عَيبُه في يَدِ مالِكِه، لم يَلْزَمْه رَدُّ ما أخَذَ؛ لأنَّه اسْتَقَرَّ ضَمانُه برَدِّ المَغْصُوبِ. وكذلك إن أخَذَ المَغْصُوبَ دُونَ أَرْشِه، ثم زال العَيبُ قبلَ أَخْذِ أَرْشِه، لم يَسْقُطْ ضَمانُه لذلك. 2313 - [مسألة: (وإن زاد مِن جِهَةٍ أُخْرَى؛ مثلَ أن تَعَلَّمَ)] (¬1) ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2314 - مسألة: (وإن زادت القيمة لسمن أو نحوه

وَإِنْ زادَتِ الْقِيمَةُ بِسِمَنٍ أَوْ نَحْوهِ ثُمَّ نَقَصَتْ، ضَمِنَ الزِّيَادَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [صَنْعَةً فعادَتِ القِيمَةُ، ضَمِن النَّقْصَ) لأنَّ الزِّيادَةَ الثانيةَ مِن غيرِ جِنْسِ الأُولَى، فلا يَنْجَبِرُ بها] (¬1). 2314 - مسألة: (وإن زادَتِ القِيمَةُ لسِمَنٍ أو نَحْوه (¬2) ثم نَقَصَتْ، ضَمِنَ الزِّيادَةَ) إذا زادَتْ قِيمَةُ المَغْصُوبِ في يَدِ الغاصِبِ لسِمَنٍ أو تَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، مثلَ ما إذا غَصَب عَبْدًا أو أمَةً وقِيمَتُه مِائَةٌ، فزَادَ بتَعْلِيمِه، أو في بَدَنِه، حتى صارت قِيمَتُه مِائَتَين، ثم نَقَص بنُقْصانِ بَدَنِه، أو نِسْيانِ ما عُلِّمَ حتى صارتْ قِيمَتُه مِائَةً، لَزِمَه رَدُّه، ويَأخُذُ مِن الغاصِبِ مِائَةً. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حنفيةَ، ومالكٌ: لا يَجِبُ عليه عِوَضُ الزِّيادَةِ، إلَّا أن يُطالبَ برَدِّها زائِدَةً فلا يَرُدُّها؛ لأنَّه رَدَّ العَينَ كما أخَذَها ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في م: «غيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَضْمَنْ نَقْصَ قِيمَتِها، كنَقْصِ سِعْرِها (¬1). وذَكَر ابنُ أبي مُوسَى في «الإِرْشادِ» رِوايَةً، أنَّ المَغْصُوبَ إذا زادَتْ قيمَتُه بسِمَنٍ، أو تَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، ثم نَقَصَتْ بزَوَالِ ذلك، فلا ضَمانَ عليه إذا رَدَّه بعَينِه. ولَنا، أنَّها زِيادَةٌ في نَفْسِ المَغْصُوبِ، فلَزِمَ الغاصِبَ ضَمانُها، كما لو طالبَهُ برَدِّها فلم يَفْعَلْ، ولأنَّها زادَتْ على مِلْكِ المَغْصُوبِ منه، فلَزِمَه ضَمانُها، كما لو كانت مَوْجُودَةً حال الغَصْبِ. وفارَقَ زِيادَةَ السِّعْرِ (¬2)؛ لأنَّها لو كانت مَوْجُودَةً حال الغَصْبِ، لم يَضْمَنْها، والصِّناعَةُ إن لم تَكُنْ مِن عَينِ المَغْصُوبِ فهي صِفَةٌ فيه، ولذلك يَضْمَنُها إذا طُولِبَ برَدِّ العَينِ وهي مَوْجُودَةٌ فلم يَرُدَّها، وأجْرَيناها هي والتَّعْلِيمَ مُجْرَى السِّمَنِ الذي هو عَينٌ؛ لأنَّها صِفَةٌ تَتْبَعُ العَينَ، وأجْرَينا الزِّيادَةَ الحادِثَةَ في يَدِ الغاصِبِ مُجْرَى الزِّيادَةِ المَوْجُودَةِ حال الغَصْبِ؛ لأنَّها زِيادَةٌ في العَينِ المَمْلُوكَةِ للمَغْصُوبِ منه، فتكونُ مَمْلُوكَةً له؛ لأنَّهِا تابِعَة للعَينِ. فأمَّا إن غَصَب العَينَ سَمِينَةً، أو ذاتَ صِناعَةٍ، فَهَزَلَتْ أو نسِيَتْ، فنَقَصتْ قِيمَتُها، فعليه ضَمانُ نَقْصِها. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّها نَقَصَتْ عن حالِ غَصْبِها نَقْصًا أثَّرَ في قِيمَتِها، فوَجَبَ ضَمانُها، كما لو ذَهَب بعضُ أَعْضائِها. ¬

(¬1) في ق: «شعرها». (¬2) في ق: «الشعر».

2315 - مسألة: (فإن عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها)

وَإِنْ عَادَ مِثْلُ الزِّيَادَةِ الْأَولَى مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا غَصَبَها وقِيمَتُها مائَةٌ، فسَمِنَتْ فبَلَغَتْ قِيمَتُها ألْفًا، ثم تَعَلَّمَتْ صِنَاعَةً فَبَلغتْ ألْفَينِ، ثم هَزَلَتْ ونَسِيَتْ فعادَتْ إلى مائةٍ، رَدَّها ورَدَّ ألْفًا [وتِسْعَمائةٍ. وإن بَلَغَتْ بالسِّمَنِ ألْفًا، ثم هَزَلَتْ فعادَتْ إلى مِائَةٍ، ثم تَعَلَّمَتْ فبَلَغَتْ ألْفًا، ثم نَسِيَتْ فعادَتْ إلى مِائَةٍ، رَدَّها ورَدَّ ألْفًا] (¬1) وثَمانِمائَةٍ؛ لأنَّها نَقَصَتْ بالهُزَالِ تِسْعَمائَةٍ، وبالنِّسْيانِ تِسْعَمائَةٍ. وإن سَمِنَتْ فَبَلَغَتْ ألْفًا، ثم هَزَلَتْ فعادَتْ إلى مائةٍ، ثم تَعَلَّمَتْ فعادَتْ إلى ألْفٍ، رَدَّها وتِسْعَمائَةٍ؛ لأنَّ زَوال الزِّيادَةِ الأُولَى أَوْجَبَ الضَّمانَ، ثم حَدَثَتْ زِيادَةٌ أُخْرَى مِن وَجْهٍ آخَرَ على مِلْكِ المَغْصُوبِ منه، فلا يَنْجَبِرُ مِلْكُ الإِنْسانِ بمِلْكِه. 2315 - مسألة: (فإن عادَ مثلُ الزِّيادَة الأُولَى مِن جِنْسِها) مثلَ أن كانت قِيمَتُها مائِةً فسَمِنَت فبَلَغَتْ ألْفًا، ثم هَزَلَتْ فعادَتْ إلى مائَةٍ، ثم سَمِنَتْ فعادَتْ إلى ألْفٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَرُدُّها زائِدَةً، ويَضْمَنُ نَقْصَ الزِّيادَةِ الأُولَى، كما لو كانا مِن جِنْسَين؛ لأنَّ الزِّيادَةَ الثّانِيةَ غيرُ الّاُولَى. فعلى هذا، إن هَزَلَتْ مَرَّةً ثانِيةً فعادَتْ إلى مِائَةٍ، ضَمِنَ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّقْصَين بألْفٍ وثَمانِمائَةٍ. والثاني، إذا رَدَّها سَمِينَةً، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ ما ذَهَب عادَ، فهي كما لو مَرِضَتْ فنَقَصَتْ، ثم بَرِئَتْ فعادَتِ القِيمَةُ، أو نَسِيَتْ صِناعَةً ثم تَعَلَّمَتْها، أو أَبَقَ عَبْدٌ ثم عاد. وفارَقَ ما إذا زادَتْ مِن جِهَةٍ أُخْرَى؛ لأنَّه لم يَعُدْ ما ذَهَب. وهذا الوَجْهُ أقْيَسُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الشَّواهِدِ. فعلى هذا، لو سَمِنَتْ بعدَ الهُزالِ ولم تَبْلُغ قِيمَتُها إلى ما بَلَغَتْ بالسِّمَنِ الأوَّلِ، أو زادَتْ عليه، ضَمِن أكْثَرَ الزِّيادَتين، و (¬1) تَدْخُلُ فيها الأُخْرَى. وعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَضمَنُهما جَمِيعًا. فأمّا إن زادَتْ بالتَّعْلِيمِ أو الصِّناعَةِ، ثم نسِيَتْ ثم تَعَلَّمَتْ ما نَسِيَتْه فعادَتِ القِيمَةُ الأُولَى، لم يَضْمَنِ النَّقْصَ الأوّلَ؛ لأنَّ العِلْمَ الثانيَ هو الأوَّلُ، فقد عادَ ما ذَهَب. وإن تَعَلَّمَتْ (¬2) عِلْمًا آخَرَ أو صِناعَةً أُخْرَى، فهو كعَوْدِ السِّمَنِ، فيه وَجْهان. ذَكَرَه القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو الخَطّابِ: متى زادَتْ ثم نَقَصَتْ، ثم زادَتْ مِثْلَ الزِّيادَةِ الأُولَى، ففي ذلك وَجْهان، سَواءٌ كانَا مِن جِنْسٍ، كالسِّمَنِ مَرَّتَين، أو مِن جنْسَين كالسِّمَنِ والتَّعَلُّمِ، والأوَّلُ أَوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل، تش: «تعلم».

2316 - مسألة: (وإن كانت من غير جنس الأولى، لم يسقط ضمانها)

وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيرِ جِنْسِ الْأُولَى، لَم يَسْقُطْ ضَمَانُهَا. وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا مُفْرِطًا فِي السِّمَنِ، فهَزَلَ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ، رَدَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2316 - مسألة: (وإن كانت مِن غيرِ جِنْسِ الأُولَى، لم يَسْقُطْ ضَمانُها) وقد ذكَرْناه في المسألة قبلَها. 2317 - مسألة: (وإن غَصَب عَبْدًا مُفْرِطًا في السِّمَنِ، فهَزَلَ فزادَتْ قِيمَتُه) أو لم يَنْقُصْ (رَدَّه، ولا شيءَ عليه) لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما أَوْجَبَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا ما نَقَص مِن القِيمَةِ، ولم يُقَدِّرْ بَدَلَه، ولم تَنْقُصِ القِيمَةُ، فلم يَجِبْ شيءٌ. قال: فإن نَقَصَتْ عَينُ المَغْصُوبِ دُونَ قِيمَتِه، لم يَخْلُ مِن ثَلاثةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يكونَ الذاهِبُ مُقَدَّرَ البَدَلِ، كعَبْدٍ خَصَاه، وزَيتٍ أَغْلاه، ونُقْرَةٍ ضَرَبَها دَرَاهِمَ فنَقَصَتْ عَينُها دُونَ قِيمَتِها، فإنَّه يَجِبُ ضَمانُ النَّقْصِ، فيَضْمَنُ العَبْدَ بقِيمَتِه، ونَقْصَ الزَّيتِ والنُّقْرَةِ بمِثلِها، مع رَدِّ الباقِي منهما؛ لأنَّ الناقِصَ مِن العَينِ [له بَدَلٌ] (¬1) مُقَدَّرٌ، فلَزِمَ ما يُقَدَّرُ به، كما لو أذْهَبَ الكُلَّ. الثاني، أن لا يكونَ مُقَدَّرًا، كهُزَالِ العَبْدِ إذا لم تَنْقُصْ قِيمَتُه، وقد ذَكَرْناه. الثالثُ، أن يكونَ النَّقْصُ مُقَدَّرَ البَدَلِ، لكِنَّ الذاهِبَ منه أجْزاءٌ غيرُ مَقْصُودَةٍ، كعَصِيرٍ أغْلاه فذَهَبَتْ مائِيَّتُه وانْعَقَدَتْ أجْزاؤُه، فنَقَصَتْ عَينُه دونَ قِيمَتِه، فلا شيءَ فيه، في أحَدِ الوَجْهَينِ، سِوَى رَدِّه؛ لأنَّ النّارَ إنَّما أذْهَبَتْ مائِيَّتَه التي يُقْصَدُ إذْهابُها، ولهذا تَزْدادُ حَلاوَتُه وتَكْثُرُ قِيمَتُه، فهو كسِمَنِ العَبْدِ الذي لا تَنْقُصُ به قِيمَتُه إذا ذَهَب. والثاني، يَجِبُ ضَمانُه؛ لأنَّه مُقَدَّرُ البَدَلِ، فأشْبَهَ الزَّيتَ إذا أغْلاه. وإن نَقَصَتِ العَينُ والقِيمَةُ جَمِيعًا، وَجَب في الزَّيتِ وشِبْهِه ضَمانُ النَّقْصَينِ جَمِيعًا؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مَضْمُونٌ مُنْفَرِدًا، فكذلك إذا اجْتَمَعَا، وذلك مثلُ رَطْلِ زَيتٍ قِيمَتُه دِرْهَمٌ، فأغْلاه فنَقَصَ ثُلُثُه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2318 - مسألة: (وإن نقص المغصوب نقصا غير مستقر، كحنطة ابتلت وعفنت)

وَإنْ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ نَقْصًا غَيرَ مُسْتَقِرٍّ، كَحِنْطَةٍ ابْتَلَّتْ وَعَفِنَتْ، خُيِّرَ بَينَ أَخْذِ مِثْلِهَا، وَبَينَ تَرْكِهَا حَتَّى يَسْتَقِرَّ فَسَادُهَا وَيَأْخُذَهَا وَأَرْشَ نَقْصِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصار قِيمَةُ الباقي نِصْفَ دِرْهَمٍ، فعليه ثُلُثُ رَطْلٍ وسُدْسُ دِرْهَمٍ، وإن كان قِيمَةُ الباقِي (¬1) ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، فليس عليه أكْثَرُ مِن ثُلُثِ رَطْلٍ؛ لأنَّ قِيمَةَ الباقِي لم تَنْقُصْ. وإن خَصَى العَبْدَ فنَقَصَتْ قِيمَتُه، فليس عليه أكْثَرُ مِن ضَمانِ خُصْيَتَيه؛ لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ ما لو فَقَأَ عَينَه. 2318 - مسألة: (وإن نَقَص المَغْصُوبُ نَقْصًا غيرَ مُسْتَقِرٍّ، كحِنْطَةٍ ابْتَلَّتْ وعَفِنَتْ) وخشِىَ فسَادَها، فعليه ضَمانُ نَقْصِه. وقال القاضي: عليه بَدَلُه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ قَدْرُ نَقْصِه. وهذا مَنْصُوصُ الشافِعِيِّ. ¬

(¬1) في ق: «الثاني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وله قولٌ آخَرُ، أنَّه يَضْمَنُ نَقْصَه، وكلما نَقَص شيءٌ ضَمِنَه؛ لأنَّه يَسْتَنِدُ إلى السَّبَبِ المَوْجُودِ في يَدِ الغاصِبِ، فكان كالمَوْجُودِ في يَدِه. وقال أبو الخَطّابِ: يَتَخَيَّرُ صاحِبُه بينَ أَخْذِ بَدَلِه وبينَ تَرْكِه حتى يَسْتَقِرَّ فَسادُه، ويَأْخُذَ أرْشَ نَقْصِه. وهو الذي ذكَره شيخُنا في الكِتَابِ المَشْرُوحِ. وقال أبو حنيفةَ: يَتَخَيَّرُ بينَ أَخْذِه، ولا شيءَ له، أو تَسْلِيمِه إلى الغاصِبِ ويَأْخُذُ قِيمَتَه؛ لأنَّه لو ضَمِن النَّقْصَ مع أَخْذِه لَحَصَلَ له مِثْلُ كَيْلِه وزِيادةٌ، وهذا لا يَجُوزُ، كما لو باع قَفِيزًا جَيِّدًا بقَفِيزٍ رَدِئٍ [ودِرْهَمٍ] (¬1). ولَنا، أنَّ عَينَ مالِه باقِيَةٌ، وإنَّما حَدَثَ فيه نَقْصٌ، فوَجَبَ فيه ما نَقَص، كما لو كان عَبْدًا فمَرِضَ. وقد وافقَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ على هذا في العَفَنِ، وقال: يَضْمَنُ ما نَقَص. قَوْلًا واحِدًا، ولا يَضْمَنُ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2319 - مسألة: (وإن جنى المغصوب، فعليه أرش جنايته، سواء جنى على سيده أو غيره)

وَإِنْ جَنَى الْمَغْصُوبُ، فَعَلَيهِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، سَوَاءٌ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما تَوَلَّدَ فيه؛ لأنَّه ليس مِن فِعْلِه. وهذا الفَرْقُ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ البَلَلَ قد يكونُ مِن غيرِ فِعْلِه أيضًا، وقد يكونُ العَفَنُ بسَبَبٍ منه. ثم إنَّ ما وُجدَ في يَدِ الغاصِبِ فهو مَضْمُونٌ عليه؛ لوُجُودِه في يَدِه، فلا فَرْقَ. وقولُ أبي حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطَّعامَ عَينُ مالِه، وليس ببَدَلٍ عنه. قال شيخُنا (¬1): وقولُ أبي الخَطّابِ لا بَأْسَ به. واللهُ أعْلَمُ. 2319 - مسألة: (وإن جَنَى المَغْصُوبُ، فعليه أرْشُ جِنايَتِه، سَواءٌ جَنَى على سَيِّدِه أو غيرِه) إذا جَنَى العَبْدُ المَغْصُوبُ، فجِنايَتُه مَضْمُونَةٌ على الغاصِبِ؛ لأنَّه نَقْصٌ في العَبْدِ الجانِي، لكَوْنِ الجنايَةِ تتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، فكان مَضْمُونًا على الغاصِبِ، كسائِرِ نَقْصِه. وسَواءٌ في ذلك ما يُوجِبُ القِصَاصَ أو المال. ولا يَلْزمُه أكْثَرُ مِن النَّقْصِ الذي لَحِقَ العَبْدَ. وكذلك إن جَنَى على سَيِّدِه؛ لأنَّها مِن جُمْلَةِ جِناياتِه، فكان مَضْمُونًا [على الغاصِبِ] (¬2)، كالجِنايَةِ على الأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 376. (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: [إذا جَنَى العَبْدُ المَغْصُوبُ جِنايَةً أوْجَبَتِ القِصاصَ، فاقْتصَّ منه، ضَمِنَه الغاصِبُ بقِيمَتِه؛ لأنَّ التَّلَفَ في يَدِه، فإن عُفِيَ عنه على مالٍ، تَعَلَّقَ برَقَبَتِه، وضَمانُه على الغاصِبِ؛ لأنَّه نَقْصٌ حَدَث في يَدِه، فلَزِمَه ضَمانُه] (¬1)، ويَضْمَنُه بأقَلِّ الأَمْرَين مِن قِيمَتِه أو أَرْشِ جِنايَتِه، كما يَفْدِيه سَيِّدُه. وإن جَنَى على ما دونَ النَّفْسِ، مثلَ أن قَطَع يَدًا فقُطِعَتْ يَدُه قِصَاصًا، فعلى الغاصِبِ ما نَقَص العَبْدُ بذلك دونَ أَرْشِ اليَدِ؛ لأنَّ اليَدَ ذَهَبَتْ بسَبَبٍ غيرِ مَضْمُونٍ، فأشْبَهَ ما لو سَقَطَتْ. وإن عُفِيَ عنه على مالٍ، تَعَلَّقَ أرْشُ اليَدِ برَقَبَتِه، وعلى الغاصِبِ أقَلُّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه أو أرْشِ اليَدِ. فإن زادَتْ جِنَايَةُ العَبْدِ على قِيمَتِه، ثم ماتَ، فعلى الغاصِبِ قِيمَتُه، يَدْفَعُها إلى سَيِّدِه، فإذا أخَذَها تَعَلَّقَ أرْشُ الجِنايَةِ بها؛ لأنَّها كانت مُتَعَلِّقَةً بالعَبْدِ، فتعَلَّقَتْ ببَدَلِه، كما أنَّ الرَّهْنَ إذا أَتْلَفَه مُتْلِفٌ وَجَبَتْ قِيمَتُه وتَعَلَّقَ الرَّهْنُ بها. فإذا أخَذَ وَلِيُّ الجِنَايةِ القِيمَةَ مِن المالِكِ، رَجَع المالِكُ على الغاصِبِ بقِيمَتِه مَرَّةً أُخْرَى؛ لأنَّ القِيمَةَ التي أخَذَها اسْتُحِقَّت بسَبَبٍ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان في يَدِ الغاصِبِ، فكان مِن ضَمانِه. ولو كان العَبْدُ وَدِيعَةً فجَنَى جنايَةً اسْتَغْرَقَتْ قِيمَتَه، ثم إنَّ المُودَعَ قَتَلَه بعدَطا، فعليه قِيمَتُه، وتَعَلَّقَ بها أَرْشُ الجِنايَةِ، فإذا أخَذَها وَلِيُّ الجِنايَةِ، لم يَرْجِعْ على المُودَعِ؛ لأنَّه جَنَى وهو غيرُ مَضْمُونٍ عليه. ولو جَنَى العَبْدُ في يَدِ سَيِّدِه جِنايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه، [ثم غُصِبَ فجَنَى في يَدِ الغاصِبِ جِنايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه] (¬1)، بِيعَ في الجنايَتَينِ، وقُسِمَ ثَمَنُه بينَهما، ورَجَع صاحِبُ العَبْدِ على الغاصِب بما أخَذَه الثاني منهما؛ لأنَّ الجِنايَةَ كانت في يَدِه، وكان للمَجْنِيِّ عليه أوّلًا أنَّ يَأْخُذَه دونَ الثاني؛ لأنَّ الذي يَأْخُذُه المالِكُ مِن الغاصِبِ هو عِوَضُ ما أخَذَه المَجْنِيُّ عليه ثانِيًا، فلا يَتَعَلَّقُ به حَقُّه، ويتَعَلَّقُ به حَقُّ الأوّلِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عن قِيمَةِ الجانِي، لا يُزاحَمُ فيه. وإن مات هذا العَبْدُ في يَدِ الغاصِبِ، فعليه قِيمَتُه تُقْسَمُ بينَهما، ويَرْجعُ المالِكُ على الغاصِبِ بنِصْفِ القِيمَةِ؛ لأنَّه ضامِنٌ للجِنايَةِ الثانِيَةِ، ويكَونُ للمَجْنِيِّ عليه أوَّلًا أن يَأْخُذَه؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2320 - مسألة: (وجنايته على الغاصب وعلى ماله هدر)

وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْغاصِبِ وَعَلَى مَالِهِ هَدَرٌ. وَتُضْمَنُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ؛ كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ إذَا تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ، كَالْأَصْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2320 - مسألة: (وجِنايَتُه على الغاصِبِ وعلى مالِه هَدَرٌ) لأنَّه إذا جَنَى على أَجْنَبِيٍّ وَجَب أرْشُه على الغاصِبِ، فلو وَجَب له شيءٌ، لوَجَبَ على نَفسِه، فكان هَدَرًا. 2321 - مسألة: (وتُضْمَنُ زَوائِدُ الغَصْبِ؛ كالوَلَدِ، والثَّمَرَةِ إذا تَلِفَتْ أو نَقصتْ، كالأصْلِ) سَواءٌ تَلِف (¬1) مُنْفَرِدًا أو مع أَصْلِه، مثلَ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، ووَلَدِ الحَيَوانِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يَجِبُ ضَمانُ زَوائِدِ الغَصْبِ إلَّا أن يُطالبَ بها فيَمْتَنِعَ ¬

(¬1) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أدائِها؛ لأنَّها غيرُ مَغْصُوبَةٍ، فلا يَجِبُ ضَمانُها، كالوَدِيعَةِ. ودَلِيلُ عَدَمِ الغَصْبِ أنَّه فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، [وثُبُوتُ] (¬1) يَدِه على هذه الزَّوائدِ [ليس مِن فِعْلِه؛ لأنَّه انْبَنَى على وُجُودِ الزَّوائِدِ في يَدِه، ووُجُودُها ليس بفِعْلٍ مُحَرَّمٍ منه. ولَنا، أنَّه مالُ المَغْصُوبِ منه، حَصَل في يَدِه، فيَضْمَنُه بالتَّلَفِ، كالأصْلِ. قَوْلُهم: إنَّ إثْباتَ يَدِه ليس مِن فِعْلِه. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه بإمْساكِ الأُمِّ تَسَبَّبَ إلى إثْباتِ يَدِه على هذه الزَّوائِدِ] (¬2)، وإثْباتُ يَدِه على الأُمِّ مَحْظُورٌ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «بثبوت». (¬2) سقط من: م.

2322 - مسألة: (وإن خلط المغصوب بماله على وجه لا يتميز منه، مثل أن خلط حنطة أو زيتا بمثله، لزمه مثله منه، في أحد الوجهين. وفي الآخر، يلزمه مثله من حيث شاء)

فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَطَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ خَلَطَ حِنْطَةً أَوْ زَيتًا بِمِثْلِهِ، لَزِمَهُ مِثْلُهُ مِنْهُ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ مِنْ حَيثُ شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2322 - مسألة: (وإن خَلَط المَغْصُوبَ بمالِه على وَجْهٍ لا يتَمَيَّزُ منه، مثلِ أن خَلَط حِنْطَةً أو زَيتًا بمِثْلِه، لَزِمَه مِثْلُه منه، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، يَلْزَمُه مثْلُه مِن حيثُ شاءَ) إذا خَلَط المَغْصُوبَ بمالِه بحيثُ لا يتَمَيَّزُ منه، كزَيتٍ بزَيتٍ، أو دَقِيقٍ بمِثْلِه، أو دَراهِمَ أو دَنانِيرَ بمِثْلِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال ابنُ حامِدٍ: يَلْزَمُه مِثْلُ المَغْصُوبِ منه. وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ؛ لأنَّه (¬1) نَصَّ على أنه يكونُ شَرِيكًا إذا خَلَطَه بغيرِ جنْسِه، فيكونُ تَنْبيهًا على ما إذا خَلَطَه بجِنْسِه. وهو قولُ بعضِ الشّافِعِيَّةِ، إلَّا في الدَّقِيقِ، فإنَّه تَجِبُ قِيمَتُه؛ لأنَّه عندَهم ليس بمِثْلِيٍّ. وقال القاضِي: قِياسُ المَذْهَبِ أنَّه يَلْزَمُه مثلُه مِن حيثُ شاءَ الغاصِبُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ عليه رَدُّ عَينِ مالِه بالخَلْطِ، أشْبَهَ ما لو تَلِفَ؛ لأنَّه لا يَتَمَيَّزُ له شيءٌ مِن مالِه. ولَنا، أنَّه قَدَر على دَفْعِ بعضِ مالِه إليه مع رَدِّ المِثْلِ في الباقِي، فلم يَنْتَقِلْ إلى المِثْلِ في الجَمِيعِ، كما لو غَصَب صاعًا فتَلِفَ بعضُه؛ وذلك لأنَّه إذا دَفَع إليه منه، فقد دَفَع إليه بعضَ مالِه وبَدَلَ الباقِي، فكان أَوْلَى مِن دَفْعِه مِن غيرِه. ¬

(¬1) بعده في م: «لا».

2323 - مسألة: (وإن خلطه بدونه، أو خير منه، أو بغير جنسه)

وَإِنْ خَلَطَهُ بِدُونِهِ، أَوْ خَيرٍ مِنْهُ، أَو بِغَيرِ جِنْسِهِ، لَزِمَهُ مِثْلُهُ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ بقَدْرِ مِلْكَيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2323 - مسألة: (وإن خَلَطَه بدُونِه، أو خَيرٍ منه، أو بغيرِ جِنْسِه) فله (مِثْلُه في قِياسِ التي قبلَها. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّهما شَرِيكان بقَدْرِ مِلْكَيهِما) فإنَّه قال في رِوايَةِ أبي الحارِثِ، في رجلٍ له

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَطْلُ زَيتٍ وآخَرَ له رَطْلُ شَيرَجٍ اخْتَلَطَا: يُبَاعُ الدُّهْنُ كُلُّه ويُعْطَى كلُّ واحِدٍ منهما قَدْرَ حِصَّتِه؛ وذلك أنَّنا إذا فَعَلْنا ذلك، أوْصَلْنا إلى كلِّ واحِدٍ منهما بَدَلَ عَينِ مالِه. وإن نَقَص المَغْصُوبُ عن قِيمَتِه مُنْفَرِدًا، فعلى الغاصِبِ ضَمانُ النَّقْصِ، لأنَّه حَصَل بفِعْلِه. وقال القاضِي: قِياسُ المَذْهَبِ أن يَلْزَمَ الغاصِبَ مثلُه؛ لأنَّه صار بالخَلْطِ مُسْتَهْلَكًا، [وكذلك] (¬1) لو اشْتَرَى زَيتًا فخَلَطَه بزَيتِه ثم أَفْلَسَ، صارَ البائِعُ كبعضِ الغُرَماءِ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ عليه الوُصُولُ إلى عَينِ مالِه، فكان له بَدَلُه، كما لو كان تالِفًا. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كَلامُ أحمدَ على ما إذا اخْتَلَطَا مِن غيرِ غَصْبٍ، أمّا المَغْصُوبُ، فقد وُجِدَ مِن الغاصِبِ ما مَنَع المالِكَ أَخْذَ حَقِّه مِن المِثْلِيّاتِ مُتَمَيِّزًا (¬2)، فلَزِمَه مثلُه، كما لو أتْلَفَه. ¬

(¬1) في تش، م: «ولذلك». (¬2) في الأصل: «مميزا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إلَّا أنَّه إذا خَلَطَه بخَيرٍ منه، وبَذَل لصاحِبِه مثلَ حَقِّه منه، لَزِمَه قَبُولُه؛ لأنَّه أَوْصَلِ إليه بعضَ حَقِّه بعَينِه، وتَبَرَّعَ بالزِّيادَةِ في مثلِ الباقِي. وإن خَلَطَه بأَدْنَى منه، فرَضِيَ المالِكُ بأَخْذِ قَدْرِ حَقِّه منه، لَزِمَ الغاصِبَ بَذْلُه؛ لأنَّه أَمْكَنَه رَدُّ بعضِ المَغْصُوبِ ورَدُّ مثلِ الباقِي مِن غيرِ ضَرَرٍ. وقيلَ: لا يَلْزَمُ الغاصِبَ ذلك؛ لأنَّ حَقَّه انْتَقَلَ إلى الذِّمَّةِ، فلم يُجْبَرْ على عينِ مالٍ (¬1). وإن بَذَلَه للمَغْصُوبِ منه فأبَاهُ، لم يُجْبَرْ على قَبُوله، [لأنَّه دُونَ حَقِّه، وإن تَراضَيا بذلك، جازَ، وكان المالِكُ مُتَبَرِّعًا بتَرْكِ بعضِ حَقِّه. وإنِ اتَّفَقا على أن يَأْخُذَ أكثرَ مِن حَقِّه] (¬2) من الرَّدِئِ، أو دونَ حَقِّه مِن الجَيِّدِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه رِبًا، لكَوْنِه يَأْخُذُ الزِّيادَةَ في القَدْرِ عِوَضًا عن الجَوْدَةِ. وإن كان بالعَكْسِ، فرَضِيَ بأخْذِ دونِ حَقِّه مِن الرَّدِئِ، أو سَمَح الغاصِبُ بدَفْعِ أكْثَرَ مِن حَقِّه مِن الجَيِّدِ، جازَ؛ لأنَّه لا مُقابِلَ للزِّيادَةِ، وإنَّما هي تَبَرُّعٌ مُجَرَّدٌ. وإن خَلَطَه بغيرِ جِنْسِه، فتَراضَيَا على أن يَأْخُذَ أكْثَرَ مِن قَدْرِ حَقِّه أو أقَلَّ، جازَ؛ لأنَّه بَدَلُه مِن غيرِ جِنْسِه، فلا تَحْرُمُ الزِّيادَةُ بينَهما. ¬

(¬1) في ر 1، م: «ماله». (¬2) في م: «لأنه إن كان دون حقه».

2324 - مسألة: (وإن غصب ثوبا فصبغه، أو سويقا فلته بزيت)

وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ سَويقًا فَلَتَّهُ بِزَيتٍ، فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُمَا، أَوْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا، ضَمِنَ النَّقْصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن خَلَطَه بما لا قِيمَةَ له، كزَيتٍ خَلَطَه بماءٍ، أو لَبَنٍ شابَه بماءٍ، فإن أمْكَنَ تَخْلِيصُه خَلَّصَه، ورَدَّه ورَدَّ نَقْصَه وإن لم يُمْكِنْ تَخْلِيصُه، أو كان ذلك يُفْسِدُه، لَزِمَه مثلُه؛ لأنَّه صار كالهالِكِ، وإن لم (¬1) يُفْسِدْه، رَدَّه ورَدَّ نَقْصَه، وإنِ احْتِيجَ في تَخْلِيصِه إلى غَرامَةٍ، لَزِمَ الغاصِبَ ذلك؛ لأنَّه بسببِه. ولأصْحابِ الشافعيِّ في هذه الفُصولِ نَحْوُ ما ذكَرْنا. 2324 - مسألة: (وإن غَصَب ثَوْبًا فَصَبَغَه، أو سَويقًا فَلَتَّه بزَيتٍ) وكان الصِّبْغُ والزَّيتُ مِن مالِ الغاصِبِ، فإن (نَقَصَتْ قِيمَتُهما، أو قِيمَةُ أحَدِهما، ضَمِن) الغاصِبُ (النَّقْصَ) لأنَّه بتَعَدِّيه، إلَّا أن يَنْقُصَ لتَغَيُّرِ ¬

(¬1) في تش، م: «كان».

2325 - مسألة: (وإن لم تنقص ولم تزد)

وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدْ، أَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مَاليهِمَا، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا، فَالزِّيَادَةُ لِصَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسْعارِ، فلا يَضْمَنُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. 2325 - مسألة: (وإن لم تَنْقُصْ ولم تَزِدْ) مِثْلَ أن كانت قِيمَةُ كلِّ واحِدٍ منهما خَمْسةً، فصارت قِيمَتُهما عَشَرَةً، فهما شَرِيكانِ؛ لأنَّ الصِّبْغَ والزَّيتَ عَينُ مالٍ له قِيمَةٌ، فإن تَرَاضَيَا بتَرْكِه لهما، جازَ، وإن باعَاه (¬1)، فثَمَنُه بينَهما نِصْفَين. 2326 - مسألة: وإن (زادتْ قِيمَتُهما) [وكانتِ الزِّيادَةُ لزيادَةِ قِيمَةِ أحَدِهما، فالزِّيادَةُ لصاحِبِه] (¬2). مثلَ أن كانت قِيمَةُ كلِّ واحِدٍ منهما ¬

(¬1) في م: «باعه». (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسَةً فصارت قِيمَتُهما عِشْرِينَ، فإن كان ذلك لِزِيادَةِ الثِّيابِ في السوقِ، كانتِ الزِّيادَةُ لصاحِبِ الثَّوْبِ، وإن كانت لِزِيادَةِ الصِّبْغِ، فهي لصاحِبِ الصِّبْغِ. وإن كانت لِزِيادَتِهِما معًا، فهي بينَهما على قَدْرِ زِيادَةِ كلِّ واحِدٍ منهما. فإن تَساوَيَا في الزِّيادَةِ في السُّوقِ، تَساوَى صاحِبَاهما (¬1) فيها. وإن زادَ أحَدُهما ثَمانِيَة والآخرُ اثْنَين، فهي بينَهما كذلك. وإن زادَا بالعَمَلِ، فالزيادَةُ بينَهما؛ لأنَّ عَمَلَ الغاصِبِ زادَ به في الثَّوْبِ والصِّبْغِ، وما عَمِلَه في المَغْصُوبِ للمَغْصُوبِ منه إذا كان أثَرًا، وزِيادَةُ مالِ الغاصِبِ له. ¬

(¬1) في م: «صاحباها».

2327 - مسألة: (وإن أراد أحدهما قلع الصبغ، لم يجبر الآخر عليه. ويحتمل أن يجبر إذا ضمن)

وَإنْ أرَادَ أحَدُهُمَا قَلْعَ الصِّبْغِ لَمْ يُجْبَرِ الآخَرُ عَلَيهِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يُجْبَرَ إذَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ النَّقْصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2327 - مسألة: (وإن أَرادَ أحَدُهما قَلْعَ الصِّبْغِ، لم يُجْبَرِ الآخَرُ عليه. ويَحْتَمِلُ أن يُجْبَرَ إذا ضَمِنَ) له (الغاصِبُ النَّقْصَ) إذا أَرادَ الغاصِبُ قَلْعَ الصِّبْغِ، فقال أصحابُنا: له ذلك، سَواء أضَرَّ بالثَّوْبِ أو لم يَضُرَّ، ويَضْمَنُ نَقْصَ الثَّوْبِ إن نَقَصِ. وبهذا قال الشافعيُّ؛ لأنَّه عَينُ مالِه، فمَلَكَ أخْذَه، كما لو غرَس في أرضِ غيرِه. ولم يُفَرِّقْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُنا بينَ ما يَهْلِكُ صِبْغُه بالقَلْعِ وبينَ ما لا يَهْلِكُ. قال شيخُنا (¬1): ويَنْبَغِي أنَّ ما يَهْلِكُ بالقَلْعِ لا يَمْلِكُ قَلْعَه؛ لأنَّه سَفَه. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه لا يَمْلِكُ قَلْعَه إذا تَضَرَّرَ به الثَّوْبُ؛ لأنَّه قال، في المُشْتَرِي إذا بَنَى أو غَرَس في الأرضِ المَشْفُوعَةِ: فله أخذُه إذا لم يَكُنْ في أخْذِه ضَررٌّ. وقال أبو حنيفةَ: ليس له أخْذُه؛ لأنَّ فيه إضْرارًا بالثَّوْبِ المَغْصُوبِ، فلم يُمَكَّنْ منه، كقَطْعِ خِرْقَةٍ منه. وفارَقَ قَلْعَ الغَرْسِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ قَلِيل، ويَحْصُلُ به نَفْعُ قَلْعِ العُرُوق مِن الأرْضِ. وإنِ اخْتارَ المَغْصُوبُ منه قَلْعَ الصِّبْغِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَمْلِكُ إجْبارَ الغاصِبِ عليه، كما يَمْلِكُ إجْبارَه على قَلْعِ شَجَرِهِ مِن أرْضِه، وذلك لأنَّه شَغَل مِلْكَه بمِلْكِه على وَجْهٍ أمْكَنَ تَخْلِيصُه، فلَزِمَه تَخْلِيصُه وإنِ اسْتَضَرَّ الغاصِبُ، كقَلْعِ الشَّجَرِ، وعلى الغاصِبِ ضَمانُ نَقْصِ الثَّوْبِ وأجْر القَلْعِ، كما يَضْمَنُ ذلك في الأرضِ. والثاني، لا يَمْلِك إجْبارَه عليه، ولا يُمَكَّنُ مِن قَلْعِه؛ لأنَّ الصِّبْغَ يَهْلِكُ بالاسْتِخْراجِ، وقد أمْكَنَ وُصُولُ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه بدُونِه بالبَيعِ، فلِم يُجْبَرْ [على قَلْعِه] (¬2)، كقَلْعِ الزَّرْعِ مِن الأرْضِ، وفارَق الشَّجَرَ، فإنّه ¬

(¬1) في: المغني 7/ 415. (¬2) في الأصل: «عليه».

2328 - مسألة: (وإن وهب)

وَإنْ وَهَبَ الصِّبْغَ لِلْمَالِكِ، أو وَهَبَهُ تَزْويقَ الدَّارِ وَنَحْوهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَتْلَفُ بالقَلْعِ. قال القاضي: هذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ. ولَعَلَّه أخَذَ ذلك مِن قولِ أحمدَ في الزَّرْعِ، وهذا مُخالف للزَّرْعِ؛ لأنَّ له غايَةً يَنْتَهِي إليها، ولصاحِبِ الأرْضِ أخْذُه بنَفَقَتِه، فلا يَمْتَنِعُ عليه اسْتِرْجاعُ أرْضِه في الحالِ، بخِلافِ الصِّبْغِ، فإنَّه لا نِهايَةَ له إلَّا تلف الثَّوْبِ، فهو أشْبَهُ بالشَّجَرِ (¬1) في الأرْضِ. ولا يَخْتَصُّ وُجُوبُ القَلْعِ في الشَّجَرِ بما لا يَتْلَفُ. فإنَّه يُجْبَرُ على قَلْع ما يَتْلَفُ وما لا يَتْلَف. ولأصحابِ الشّافِعِيِّ وَجْهانِ كهذَينِ. فصل: وإن بَدَل رَبُّ الثوْبِ قِيمَةَ الصِّبْغِ للغاصِبِ ليَمْلِكَه، لم يجْبَرْ على قَبُولِه؛ لأنَّه إجْبار على بَيعِ مالِه، فلم يُجْبَرْ عليه، كما لو بَدَل له قِيمَةَ الغِرَاسِ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْبَرَ على ذلك إذا لم يَقْلَعْه، قِياسًا على الشَّجَرِ والبِناءِ في الأرْضِ المَشْفُوعَةِ، والعارِيَّةِ، وفي الأرْضِ المَغْصُوبَةِ إذا لم يَقْلَعْه الغاصِبُ، ولأنَّه أمْرٌ يَرْتَفِعُ به النِّزاعُ، ويَتَخَلَّصُ به أحَدُهما مِن صاحِبِه من غيرِ ضَرَرٍ، فأُجْبِرَ عليه، كما ذَكَرْنا. وإن بَدَل الغاصِبُ قيمَةَ الثَّوْبِ لصاحِبِه ليَمْلِكَه، لم يُجْبَرْ على ذلك، كما لو بَدَل صاحِبُ الغَرْسِ قِيمَةَ الأرْضِ لمالِكِها في هذه المَواضِعِ. 2328 - مسألة: (وإن وَهَب) الغاصِبُ (الصِّبْغَ للمالِكِ، أو ¬

(¬1) في م: «بالشجة».

فَهَلْ يَلْزَم الْمَالِكَ قَبُولُهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَهَبَه تَزْويقَ الدّارِ ونحوها، فهل) يَلْزَمُه قَبُولُه؟ (على وَجْهَين) أحَدُهما، يَلْزَمُه؛ لأنَّ الصِّبْغَ صار مِن صِفَاتِ العَينِ، فهو كزِيادَةِ الصِّفَةِ في المُسْلَمِ فيه. وهذا ظاهِرُ كَلام الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه قال في الصّدَاقِ: إذا كان ثَوْبًا فَصَبَغَتْه (¬1)، فبَذَلَتْ له نِصفَه مَصْبُوغًا، لَزِمَه قَبُولُه. والثاني، لا يُجْبَرُ؛ لأنها أعْيان مُتَمَيِّزَة، فأشْبَهَتِ الغِرَاسَ. وإن أَرادَ المالِكُ بَيعَ الثَّوْبِ، وأبى الغاصِبُ، فله بَيعُه؛ لأنَّه مِلْكُه، فلا يَمْلِكُ الغاصِبُ مَنْعَهْ مِن بَيعِ مِلْكِه بِعُدْوانِه، وإن أَرادَ الغاصِبُ بَيعَه، لم يُجْبَرِ المالِكُ على بَيعِه؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ (¬2)، فلم يَسْتَحِقَّ إزَالةَ مِلْكِ صاحب الثَّوْبِ عنه بعُدْوانِه. ويَحْتَمِلُ أن يُجْبَرَ؛ ليَصِلَ الغاصِبُ إلى ثَمَنِ صِبْغِه. ¬

(¬1) في ر 1: «فصبغه». (¬2) في م: «منه».

2329 - مسألة: (وإن غصب صبغا فصبغ به ثوبا، أو زيتا فلت به سويقا، احتمل أن يكون كذلك)

وإنْ غَصَبَ صِبْغًا فَصَبَغَ بِهِ ثَوْبًا، أوْ زَيتًا فَلَتَّ بِهِ سَويقًا، احْتَمَلَ أنْ يَكُون كَذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ أنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُ، أوْ مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2329 - مسألة: (وإن غَصَب صِبْغًا فصَبَغَ به ثَوْبًا، أو زَيتًا فَلَتَّ به سَويقًا، احْتَمَلَ أن يكونَ كذلك) كما إذا غَصَب ثَوْبًا فصَبَغَه، حُكْمُه كحُكْمِه، إذا كان الثَّوْبُ والسَّويقُ للغاصِبِ؛ لأنَّه خَلَط المَغْصُوبَ بمالِه. (ويَحتَمِلُ أن يَلْزَمَه قِيمَتُه، أو مِثلُه إن كان مِثْلِيًّا) لأنَّ المَغْصُوبَ الصِّبْغُ، وقد تَفَرَّقَ في الثَّوْبِ وتَلِفَ، بخِلافِ المسألةِ المُتَقَدِّمَةِ.

2330 - مسألة: (وإن غصب ثوبا وصبغا، فصبغه به، رده وأريق نقصه، ولا شيء له في زيادته)

وَإنْ غَصَبَ ثَوْبًا وَصِبْغًا، فَصَبَغَهُ بِهِ، رَدَّهُ وَأرْشَ نَقْصِهِ، وَلا شَيءَ لَهُ في زِيَادَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2330 - مسألة: (وإن غَصَب ثَوْبًا وصِبْغًا، فصَبَغَه به، رَدَّه وأرْيقَ نَقْصِه، ولا شيءَ له في زِيادَتِه) إذا غَصَب ثَوْبًا وصِبْغًا مِن واحِدٍ، فصَبَغَه به، فلم تَزِدْ قِيمَتُهما ولم تَنْقُصْ، أو زادَتِ القِيمَةُ، رَدَّهُما ولا شيءَ عليه، وليس للغاصِبِ شيءٌ في الزِّيادَةِ؛ لأنَّه إنَّما له في الصِّبْغِ أثَرْ لا عَينٌ، وإن نَقَص، لَزِمَه ضَمان النَّقْصِ؛ لأنَّه بتَعَدِّيه، إلَّا أن يَنْقُصَ لتَغَيُّرِ الأسْعارِ. فصل: وإن غَصَب ثَوْبَ رجل وصِبْغَ آخَرَ، فصبَغَه به، فإن كانتِ القِيمَتان بحالِهما فهما شَرِيكانِ بقَدْرِ ماليهِما، وإن زادَتْ، فالزِّيادَةُ لهما، وإن نَقَصَتْ بالصِّبْغَ، فالضَّمانُ على الغاصِبِ، ويكونُ النَّقْصُ (¬1) مِن صاحِبِ الصِّبْغِ؛ لأنَّه تَبَدَّدَ في الثَّوْب، ويَرْجِعُ بها على الغاصِبِ، وإن نقَص لنَقْصِ سِعْرِ الثِّيابَ أو الصِّبْغِ، أَو لنَقْصِ سِعْرِهما، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فصْلٌ: وَإنْ وَطِيء الْجَارِيَةَ، فَعَلَيهِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَإنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً، وَأرشُ الْبَكَارَةِ. وَعَنْهُ، لا يَلْزَمُهُ مَهْرُ الثَّيِّب. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَضْمَنْه الغاصِبُ، وكان نَقْصُ كلِّ واحِدٍ منهما مِن صاحِبِه. وإن أَرادَ صاحِبُ الصِّبْغِ قَلْعَه، أو أَرادَ ذلك صاحِبُ الثَّوْبِ، فالحُكْمُ فيه كما لو صَبَغَه الغاصِبُ بصِبْغ مِن عِنْدِه، على ما مَرَّ بَيانُه. والحُكْمُ فيما إذا غَصَب سَويقًا فلتَّه بزَيتٍ، أو عَسَلًا ونَشَاءً، فعَقَدَه حَلْوَاءَ، حُكْمُ ما لو غَصب ثَوْبًا فصَبَغَه، على ما ذُكِرَ فيه. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ الله عَنْهُ: (وإن وَطِئ الجارِيَةَ، فعليه الحَدُّ والمَهْرُ وأرشُ البَكَارَةِ وإن كانت مُطاوعَةً) إذا غَصَب جارِيَةً فوَطِئها فهو زَانٍ؛ لأنَّها ليست زَوْجَةً ولا مِلْكَ يَمِينٍ، وعليه حَدُّ الزِّنَى إن كان عالِمًا بالتَّحْرِيمِ؛ [لأنَّه لا مِلْكَ له عليها ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ] (¬1). وعليه مَهْرُ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2331 - مسألة: (وإن ولدت، فالولد رقيق للسيد)

وَإنْ وَلَدَتْ، فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلسَّيِّدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِها، مُكْرَهَةً كانت أو مُطاوعَةً. وقال الشافعيُّ: لا مَهْرَ للمُطاوعَةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن مَهْرِ البَغِيِّ. [مُتَّفَق عليه] (¬1). ولَنا، أنَّ المَهْرَ حَق للسَّيِّدِ، فلم يَسْقُطْ بمُطَاوَعَتِها، كما لو أَذنَتْ في قَطعِ يَدِها, ولأنَّه حَقّ للسَّيِّدِ يَجِبُ مع الإكْراهِ، فيَجِبُ مع المُطاوَعَةِ، كأجْرِ مَنافِعِها، والخَبَرُ مَحْمُولٌ على الحُرَّةِ. ويَجبُ أرْشُ بَكَارَتِها, لأنَّه (¬2) بَدَلُ جُزْءٍ منها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ؛ لأنَّه يدخلُ في مَهْرِ البِكْرِ، ولهذا يَزِيدُ على مَهْرِ الثيبِ عادَةً؛ لأجْلِ ما يَتَضَمَّنُه مِن تَفْويتِ البَكَارَةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يُضْمَنُ مُنْفَرِدًا، بدَلِيلِ أنَّه لو وَطِئها ثيِّبًا وَجَب مَهْرُها، وإذا افْتَضَّها بإصْبَعِه، وَجَب أرْشُ بَكارَتِها، فكذلك وَجَب أن يَضْمَنَهُما إذا اجْتَمَعَا (وعنه، لا يَلْزَمُه مَهْر الثيبِ) لأنَّه لم يَنْقُصْها، ولم يُؤلمْها، أشْبَهَ ما لو قَبَّلَها. والأوَّلُ أوْلَى. 2331 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ، فالوَلَدُ رَقِيقٌ للسَّيِّدِ) لأنَّه مِن ¬

(¬1) سقط من: تش، والحديث تقدم تخريجه في 11/ 44. (¬2) في تش، م: «لأنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَمائِها وأجْزائِها , ولا يَلْحَقُ نَسَبُه بالواطِئ؛ لأنَّه مِن زِنًى. وإن وَضَعَتْه حَيًّا، وجَب رَدُّه معها، كزَوائدِ الغَصْبِ، وإن اسْقَطَتْه مَيِّتًا، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ حَياتَه قبلَ هذا. هذا قولُ القاضِيّ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافعيّ عندَ أصْحابِه. وقال القاضي أبو الحُسَينِ: يَجِبُ ضَمانُه بقِيمَتِه لو كان حَيًّا. نَصَّ عليه الشافعيُّ؛ لأنَّه يَضْمَنُه لو سَقَط بضَرْبِه، وما يُضْمَنُ بالإتْلافِ، يَضْمَنُه الغاصِبُ إذا تَلِفَ في يَدِه، كأُجْرَةِ الأرْضِ. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى، إن شاء الله، أنَّه يَضْمَنُه بعُشرِ قِيمَةِ أُمِّه؛ لأنَّه الذي يَضْمَنُه به بالجِنَايَةِ. وإن وَضَعَتْه حَيًّا ثم ماتَ، ضَمِنَه بقِيمَتِه. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 392.

2332 - مسألة: (ويضمن نقص الولادة)

وَيَضْمَنُ نَقْصَ الْولادَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2332 - مسألة: (ويَضْمَنُ نَقْصَ الولادَةِ) ولا يَنْجَبِرُ بزِيادَتِها بالوَلَدِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَنْجَبِرُ نَقْصُها بوَلَدِها. ولَنا، أنَّ وَلَدَها مِلْك للمَغْصُوبِ منه، فلا يَنْجَبِرُ به نَقْص حَصَل بجِنايَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغاصِبِ، كالنقْصِ الحاصِلِ بغيرِ الولادَةِ. وإن ضَرَب الغاصِبُ بَطْنَها، فألقَتِ الجَنِينَ مَيتا، فعليه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه، وإن فَعَلَه أجْنَبِي، ففيه مِثْل ذلك، وللمالِكِ تَضْمِينُ أيهما شاءَ، ويَسْتَقِرُّ الضمانُ. على الضارِبِ؛ لأن الإتْلافَ وُجِدَ منه. وإن ماتتِ الجارِيَةُ، فعليه قِيمَتُها أكْثَرَ ما كانت. ويَدْخُلُ في ذلك أرْشُ بَكَارَتها ونَقْصُ ولادَتِها, ولا يدخلُ فيه ضَمانُ وَلَدِها ولا مَهْرُ مِثْلِها. ولا فرْقَ في هذه الأحْوالِ بينَ المُكْرَهَةِ والمُطاوعَةِ؛ لأنها حُقُوقٌ لسَيِّدِها، فلا تَسْقُطُ بمُطاوَعَتِها، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في مَهْرِ المُطاوعَةِ. فأمّا حُقُوق اللهِ تعالى مِن الحَدِّ والإثْمِ (¬1) والتعْزِيرِ، فإن كانت مُطاوعَةً عالِمَةً بالتَّحْرِيمِ، فعليها الحَدُّ إذا كانت مِن أَهْلِه، وإلَّا فلا. فصل: فإن كان الغاصِبُ جاهلًا بتَحْرِيمِ ذلك؛ لقُرْبِ عَهْده بالإِسلامِ، أو ناشِئًا ببادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى عليه مثلُ هذا، أو اعْتَقَدها أمَتَه، فوَطِئها (¬2)، ثم بأن أنَّها غيرُها، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّ الحُدُودَ تُدْرَأ بالشُّبُهاتِ، وعليه المَهْرُ وأرشُ البَكارَةِ. وإن حَمَلَتْ، فالوَلَدُ حُرٌ؛ لاعْتِقادِه أنَّها مِلْكُه، ويَلْحَقُه النَسَبُ؛ لمَكانِ الشُّبْهَةِ. وإن وَضَعَتْه مَيِّتًا، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه لم يَعْلَمْ حَياتَه ولأنَّه لم يَحُلْ بينَه وبينَه، وإنَّما ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في تش، م: «فأخذها».

2333 - مسألة: (وإن باعها، أو وهبها لعالم بالغصب فوطئها، فللمالك تضمين أيهما شاء نقصها ومهرها وأجرتها وقيمة ولدها إن تلف،

وَإنْ بَاعَهَا، أوْ وَهَبَهَا لِعَالِمٍ بالْغَصْبِ فَوَطِئهَا، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أيهِمَا شَاءَ، نَقْصَهَا وَمَهْرَهَا وَأُجْرَتَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا إِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجب تَقْويمُه لأجْلِ الحَيلُولةِ. وإن وَضَعَتْه حَيًّا، فعليه قِيمَتُه يومَ انْفِصالِه؛ لأنَّه فَوَّتَ عليه رِقَّه باعْتِقادِه، ولا يمْكِنُ تَقْويمُه حَمْلًا، فقُوِّمَ عليه (¬1) عندَ انْفِصالِه؛ لأنَّه أوَّلُ حالِ إمْكانِ تَقويمِه، ولأنَّهُ وَقْت الحَيلُولةِ بينَه وبينَ سَيِّدِه. وإن ضَرَب الغاصِبُ بَطنها، فألقَتْ جَنِينًا مَيتًا، فعليه غُرَّةٌ، قِيمَتُها خَمسٌ مِن الإبِلِ، مَوْرُوثَةً عنه، لا يَرِثُ الضارِبُ منها شيئًا؛ لأنَّه أتْلَفَ جَنينًا حُرًّا، وعليه للسيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لأنَّ الإِسْقاطَ لمّا تَعَقبَ الضَّرْبَ نُسِبَ إليه؛ لأنَّ الظّاهِرَ حُصُولُه به، وضَمانُه للسَّيِّدِ ضَمان المَمالِيكِ، ولهذا لو وَضَعَتْه حَيًّا، قَوَّمْنَاه مَمْلُوكًا. وإن ضَرَبَه أجْنَبِيٌّ، فعليه غُرَّةُ دِيَةِ الجَنِينِ الحُرِّ؛ لأنَّه مَحْكُوم بحُرِّيَّته، وتكونُ مَوْرُوثَةً عنه، وعلى الغاصِبِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه؛ لأنه يَضْمَنُه ضَمانَ المَمالِيكِ، وقد فوَّتَ رِقَّه على السَّيِّدِ، وحَصَل التَّلَفُ في يَدَيه. والحُكْمُ في المَهْرِ، والأرْش، والأجْرِ، ونَقْصِ الولادَةِ، وقيمَتِها إن تَلِفَتْ، على ما ذَكَرْنا إن كانا عالِمَينِ؛ لأنَّ هذه حُقُوق الآدَميِّينَ، فلا تَسْقُط بالجَهْلِ والخَطأ، كالديةِ. 2333 - مسألة: (وإن باعَها، أو وَهَبَها لعالِم بالغَصْبِ فوَطِئها، فللمالِكِ تَضْمِينُ أيُّهما شاء نَقْصَها ومَهْرَها وأُجْرَتَها وقِيمَةَ وَلَدِها إن تَلِفَ، ¬

(¬1) بعده في ق: «عبدا».

تَلِفَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَى الآخَرِ، وَلا يَرْجِعُ الْآخَرُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن ضَمَّنَ الغاصِبَ، رَجَع على الآخَرِ، ولا يَرْجِعُ الآخَرُ عليه) تَصَرُّفُ الغاصِبِ في العَينِ المَغْصُوبَةِ (¬1) فاسِدٌ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في مالِ الغيرِ بغيرِ إذْنِه، وفيه اخْتِلاف نَذْكُرُه إن شاء اللهُ تعالى. فإذا باعَ الجارِيَةَ المَغْصُوبةَ، أو وَهَبَهَا لعالِم بالغَصْبِ فوَطِئها، فللمالِكِ تَضْمِين الغاصِبِ؛ لأنَّه السَّبَبُ في إيصالِها إلى المُشْتَرِي، وله تَضْمِين المُشْتَرِي والمُتَّهِبِ؛ لأنَّه المُتْلِفُ، ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على المُشْتَرِي؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما غاصِبٌ؛ لأنَّ الغَصْبَ الاسْتِيلاءُ على مالِ الغَيرِ قَهْرًا بغيرِ حَق، وقد وُجِدَ منهما, ولأنَّ كل واحدٍ منهما يَلْزَمُه رَدُّها إذا كانت في يَدِه؛ لأنَّ يَدَه عليها بغيرِ حَق، وقد قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدّيَ» (¬2). ويَلْزَم المُشْتَرِيَ كلُّ ما يَلْزَم الغاصِبَ مِن النَّقْصِ والمَهْرِ وغيرِه؛ لأنَّه غاصِبٌ، وقد ذَكَرْنا دَلِيلَه في المسألةِ قبلَها، إلَّا أنَّ المالِكَ إن ضَمنَ الغاصِبَ، رَجَع على المُشْتَرِي والمُتَّهِبِ، ولا يرْجِعُ (¬3) الآخَرُ على الغاصِبِ بما ضَمَّنَه؛ لأنَّه المُتْلِفُ، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. ¬

(¬1) في تش، م: «المضمونة». (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 481. (¬3) بعده في ر، ق: «المشترى».

2334 - مسألة: (وإن لم يعلما بالغصب فضمنهما، رجعا على الغاصب)

وَإنْ لَمْ يَعْلَمَا بِالْغَصْبِ فَضَمَّنَهُمَا، رَجَعَا عَلَى الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2334 - مسألة: (وإن لم يَعْلَمَا بالغَصْبِ فضَمَّنَهُما، رَجَعَا على الغاصِبِ) إذا باعَ الغاصِبُ الجارِيَةَ، فبَيعُه فاسِد؛ لِما ذَكَرْنا. وفيه رِوايَة أخْرَى، أنَّه يَصِحُّ، ويَقِفُ على إجازَةِ المالِك. [وقد ذَكَرْناه في البَيعِ] (¬1). وفيه رِوايَة ثالثة، أنَّ البَيعَ يَصِحُّ؛ لما نَذْكُرُه. والتَّفْرِيعُ على الرِّوَايَةِ الأولَى. والحُكْمُ في وَطْءِ المُشْتَرِي كالحُكْمِ في وَطْءِ الغاصِبِ، إلَّا أنَّ المُشَترِيَ إذا ادَّعَى الجَهالةَ، قُبِلَ منه، بخِلافِ الغاصِبِ، فإنَّه ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2335 - مسألة: (وإن ولدت)

وإنْ وَلَدَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُقْبَلُ منه إلَّا بالشرْطِ الذي ذَكَرْناه. ويَجِبُ رَدُّ الجارِيَةِ إلى سَيِّدِها، وللمالِك مُطالبَةُ أَيّهما شاء برَدِّها؛ لأنَّ الغاصِبَ أَخَذَها بغيرِ حَق، والمُشْتَرِيَ أخَذَ مال غيرِه بغيرِ حَق أَيضًا، فيَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَ». وهذا لا خِلافَ فيه بحمدِ اللهِ تعالى. ويَلْزَم المُشْتَرِيَ المَهْرُ؛ لأنَّه وَطِئ جارِيَةَ غيرِه بغيرِ نِكَاح، وعليه أرْشُ البَكارَةِ ونَقْصُ الولادةِ، كالغاصِبِ. ويَلْزَمُ ذلك مع الجَهْلِ؛ لأنَّ الإتْلافَ لا يُعْذَرُ فيه بالجَهْلِ والنِّسْيانِ. 2335 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ) منه (فالوَلَدُ حُر) لأنَّه اعْتَقَد أنَّه يَطَأُ مَمْلُوكَتَه، فمَنَعَ ذلك انْخِلاقَ الوَلَدِ رَقِيقًا، ويَلْحَقُه النَّسَبُ، وعليه فِداؤُهُم؛ لأنَّه فَوَّتَ رِقَّهم على السَّيِّدِ باعْتِقادِه حِلَّ الوَطْءِ. هذا الصَّحِيح مِن المذهبِ، وعليه الأصْحاب. وقد نَقَل ابنُ مَنْصُور عن أحمدَ، أنّ المُشْتَرِيَ لا يَلْزَمُه فِداءُ أوْلادِه، وليس للسَّيِّدِ بَدَلُهُم؛ لأنَّهم كانوا في حالِ العُلُوقِ أحْرارًا، ولم تَكُنْ لهم قِيمَة حِينَئذٍ. قال الخَلَّالُ: أحْسَبُه قولًا لأبي

2336 - مسألة: (ويفديه بمثله في صفاته تقريبا)

وَيَفْديهِ بِمِثْلِهِ في صِفَاتِهِ تَقْرِيبًا. وَيَحْتَمِلُ أنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ في الْقِيمَةِ، وَعَنْهُ، يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ اللهِ أوَّلَ، والذي أذْهَب إليه أنَّه (¬1) يَفْدِيهِم. وقد نَقَلَه ابن مَنْصور أَيضًا، وجَعْفَر بن محمدٍ. وهو قول أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. ويَفْدِيهِم ببَدَلِهم يومَ الوضْعِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَجِب يومَ المطالبَةِ؛ لأن وَلَدَ المَغْضوبِ لا يَضْمَنه عندَه إلَّا بالمَنعِ، وقبل المطالبَةِ لم يَحْصُلْ مَنْعٌ، فلم يَجِبْ. وقد ذَكَرْنا فيما مَضَى أنَّه يَحْدُث مَضْمونًا عليه، وقُوِّمَ يومَ وَضْعِه؛ لأنَّه أوَّلُ حالٍ أمْكَنَ تَقْويمه. 2336 - مسألة: (ويَفْدِيه بمِثْلِه في صفَاتِه تَقْرِيبًا) هذا ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنهم أحْرارٌ، والحرُّ لا يضْمَن بقِيمَتِه. وقال أبو بكر: يَفْدِيهِم ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِثْلِهم في القِيمَةِ. وعن أحمدَ رِوايَة ثالِثَة، أَنه يَفْدِيهِم بقِيمَتِهِم. حكَاها أبو الخَطّابِ. وهو قول أبِي حنيفةَ، والشافعيِّ. وهي أَصَحُّ، إن شاء

2337 - مسألة: (ويرجع)

وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله تعالى؛ لأنَّ الحَيَوانَ ليس بمثْلِي، فيُضْمَنُ بقِيمَتِه (¬1)، كسائِرِ المُتَقَوَّماتِ، ولأنَّه لو أتْلَفَه ضَمِنَه بقِيمَتِه، كذلك هذا. 2337 - مسألة: (ويَرْجِعُ) بذلك (على الغاصِبِ) يَعْنِي بالمَهْرِ وما فَدَى به الأوْلادَ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ دَخَل على أن يُسَلِّمَ له الأوْلادَ، وأن يتَمَكنَ مِن الوَطْءِ بغيرِ عِوَض، فإذا لم يُسَلِّمْ له ذلك، فقد غَرَّه البائعُ، فيَرْجِعُ به عليه. وإن كانتِ الجارِيَةُ باقِيةً، رَدَّها إلى سَيِّدِها, ولا يَرْجِعُ بِبَدَلِها؛ لأنها مِلْكُ المَغْصُوبِ منه، رَجَعَتْ عليه، لكنَّه يَرْجِعُ على الغاصِب بالثَّمَنِ الذي أخَذَه منه؛ لقَوْلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَ» (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «بمثله». (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 481.

2338 - مسألة: (وإن تلفت، فعليه قيمتها)

وإنْ تَلِفَتْ، فَعَلَيهِ قِيمَتُهَا، وَلا يَرْجِعُ بِهَا إنْ كَانَ مُشْتَرِيًا، وَيَرْجِعُ بِهَا الْمُتَّهِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2338 - مسألة: (وإن تَلِفَتْ، فعليه قِيمَتُها) لمالِكِها، كما يَلْزَمُه نَقْصُها (ولا يَرْجِعُ بها) على الغاصِبِ (إن كان مُشْشَرِيًا) لأن المُشْتَرِيَ دَخَل مع الغاصِب على أن يكونَ ضامِنًا لذلك بالثَّمَنِ، فإذا ضَمنَه القِيمَةَ لم يَرْجِعْ بها, لكنه يَرْجِعُ بالثمَنِ؛ لأن البَيعَ باطِل، فلم يَدُخْلِ الثمَنُ في مِلْك الغاصِبِ، كما لو وَجَد العَينَ باقِية فأَخَذَها المالِكُ، فإنَّه يَرْجِعُ بالثمَنِ. فأمّا المُتَّهِبُ، فيَرْجِعُ بالقِيمَةِ على الغاصِبِ؛ لأنَّه دَخَل مع الغاصِبِ على (¬1) أن يُسَلِّمَ له العَينَ، فيَنبغِي أن يَرْجِعَ بما غَرِم مِن قِيمَتِها على الغاصِبِ، كقِيمَةِ الأوْلادِ. ¬

(¬1) في الأصل: «قبل».

2339 - مسألة: (وعنه، أن ما حصلت له به منفعة، كالأجرة والمهر وأرش البكارة، لا يرجع به)

وَعَنْهُ أنَّ مَا حَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَنْفَعَة، كَالأجْرَةِ وَالْمَهْرِ وَأرْش الْبَكَارَةِ، لا يَرْجِعُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2339 - مسألة: (وعنه، أن ما حَصَلَتْ له به مَنْفَعَة، كالأُجْرَةِ والمَهْرِ وأرشِ البَكارَةِ، لا يَرْجِعُ به) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المالِكَ إذا رَجَع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُشْتَرِي، فأرادَ المُشْتَرِي الرُّجُوعَ على الغاصِبِ، فهو على ثَلاثةِ أضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ لا يَرْجع به، وهو قِيمَتُها إن تَلِفَتْ في يَدِه وأرْشُ بَكارَتها. وفيه رِوايَة أخْرَى (¬1)، أنَّه يَرْجِعُ به، كالمَهْرِ، وبَدَلِ جُزْءٍ مِن أجْزائها؛ لأنَّه دَخَل مع الغالبِ على أن يكونَ ضامِنًا لذلك بالثَّمَنِ، فإذا ضَمِنَه, لم يَرْجِعْ به. وضَرْب يَرْجِعُ به، وهو بَدَلُ الوَلَدِ إذا وَلَدَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه؛ لأنَّه دَخَل معه في العَقْدِ على أن لا يكونَ الوَلَدُ مَضْمُونًا عليه (¬1)، ولم يَحْصُلْ مِن جِهَتِه إتْلاف، وإنَّما الشَّرْعُ أتْلَفَه بحُكْمِ بَيعِ الغاصِبِ منه، وكذلك نَقْصُ الولادَةِ. وضَرْب اخْتُلِفَ فيه، وهو مَهْرُ مِثْلِها، وأجْرُ نَفعِها، وفيه رِوَايتانِ؛ إحداهُما، يَرْجِعُ به. وهو قول الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2340 - مسألة: (فإن ضمن الغاصب، رجع على المشتري بما لا يرجع به عليه)

وإنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا لا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَخَل في (¬1) العَقْدِ على أن يُتْلِفَه بغيرِ عِوَض، فإذا غَرِمَه رَجَع به، كبَدَلِ الوَلَدِ، ونَقْصِ الولادةِ. والثانيةُ، لا يَرْجِعُ به. وهو اخْتِيارُ أبي بكر، وقولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه غَرِم ما اسْتَوْفَى بَدَلَه، فلا يَرْجِعُ، كَقِيمَةِ الجارِيَةِ، وبَدَلِ أجْزائها. وللشافعيِّ قَوْلان، كالرِّوايَتَين. 2340 - مسألة: (فإن ضَمَّن الغاصِبَ، رَجَع على المُشْتَرِي بما لا يَرْجِعُ به عليه) [كل ما] (¬2) لو رَجَع به على المُشْتَرِي لا يَرْجِعُ به ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي على الغاصِبِ، إذا رَجَع به المالِكُ على الغاصِبِ رَجَع الغاصِبُ به على المُشْتَرِي، وكُل ما لو رَجَعَ به على المُشْتَرِي رَجَعَ به المُشْتَرِي على الغاصِبِ، إذا غَرِمَه الغاصِبُ لم يَرْجِعْ به على المُشْتَرِي؛ لأنَّ الضَّمانَ اسْتَقَرَّ على الغاصِبِ. فإن رَدَّها حامِلا، فماتَتْ مِن الوَضْعِ، فهي مَضْمُونَةٌ على الواطِئ؛ لأن التَّلَفَ بسَبَبٍ مِن جِهَتِه.

2341 - مسألة: (وإن ولدت من زوج فمات الولد، ضمنه بقيمته)

وإنْ وَلَدَتْ مِنْ زَوْج فَمَاتَ الْوَلَدُ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ؟ عَلَى روَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2341 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ مِن زَوْجٍ فماتَ الوَلَدُ، ضَمِنَه بقِيمَتِه) إذا اشْتَرَى الجارِيَةَ المَغْصُوبَةَ مَن لا يَعْلَمُ بذلك، فزَوَّجَها لغيرِ عالِم بالغَصْبِ، فوَلَدَتْ مِن الزَّوْجِ، فهو مَمْلوكٌ؛ لأنَّه مِن زَوائِدِها ونَمائِها، فيكونُ مَضْمونًا عَلَى مَن هو في يَدِه بقِيمَتِه إذا تَلِفَ؛ لأنَّه مال، وليس بمِثْليٍّ (وهل يَرْجِع بها على الغاصِبِ؟ على رِوَايتين) في ما ذَكَرْنا فيما إذا ضَمِن المُشْتَرِي ما حَصَلَ له (¬1) به نَفْعٌ، ووَجْهُ الرِّوَايَتَين ما سَبَقَ. فصل: إذا وَهَب المَغْضوبَ لعالِم بالغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، ¬

(¬1) سقط من: م.

2342 - مسألة: (وإن أعارها فتلفت عند المستعير، استقر ضمان قيمتها عليه، وضمان الأجرة على الغاصب)

وَإنْ أعَارَهَا فَتَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ، اسْتَقَر ضَمَانُ قِيمَتِهَا عَلَيهِ، وَضَمَان الأجْرَةِ عَلَى الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَرْجِعُ به على أحَدٍ؛ لأنَّه غاصِبٌ، ولم يَغُرَّه أحدٌ، وإن لم يَعْلَمْ فلِصاحِبِها (¬1) تَضْمِينُ أيهما شاءَ، ويرجِعُ المُتهِبُ على الواهِبِ بقِيمَةِ العَينِ والأجْر؛ لأنَّه غَرَّه وقال أبو حنيفة: أيُّهما ضُمِّنَ، لم يَرْجِعْ على الآخرِ. ولَنا، أنَّ المُتَّهِبَ دَخَل على أن تُسَلَّمَ له العَينُ، فيَجِبُ أن يَرْجِعَ بما غَرِم مِن قِيمَتِها، كقِيمَةِ الأوْلادِ، فإنّه وافَقَنا على الرُّجُوعِ بها. فأمَّا الأجْرُ والمَهْرُ وأرْش البَكارَةِ، ففيه وَجْهانِ مَبْنِيَّانِ على الروَايَتَين في المُشْتَرِي. 2342 - مسألة: (وإن أعَارَها فتَلِفَتْ عندَ المُسْتَعِيرِ، اسْتَقَرَّ ضَمانُ قِيمَتِها عليه، وضَمان الأجْرِة على الغاصِبِ) [إذا أعَار العَينَ المَغْصُوبَةَ فتَلِفَتْ عندَ المُسْتَعِيرِ، فللمالِكِ تَضْمِينُ أيُّهما شَاءَ أجْرَها وقِيمَتَها] (¬2)، فإن ضَمَّنَ المُسْتَعِيرَ مع عِلْمِه بالْغَصْبِ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ، ¬

(¬1) في تش، م: «فلصاحبه». (¬2) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن ضَمَّنَ الغاصِبَ، رَجَع على المُسْتَعِيرِ. وإن لم يَكُنْ عَلِم بالغَصْبِ فضَمَّنَه، لم يَرْجِعْ بقِيمَةِ العَينِ؛ لأنَّه قَبَضَها على أنَّها مَضْمُونَة عليه. وفي الرُّجُوعِ بالأجْرِ وجْهان؛ أحَدُهما، يَرْجِعُ؛ لأنَّه دَخَل على أنَّ المَنافِعَ له (¬1) غيرَ مَضْمُونَةٍ عليه. والثاني، لا يَرْجِعُ به؛ لأنَّه انْتَفَعَ بها، فقد ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوْفَى بَدَلَ ما غَرِمَ. وكذلك الحُكْمُ فيما تَلِفَ مِن الأجْزاءِ (¬1) بالاسْتِعْمالِ. إذا كانتِ العَينُ وَقْتَ القَبْضِ أكثر قِيمَةً مِن يومِ التَّلَفِ، فضَمِنَ الأكْثَرَ، فيَنْبَغِي أن يَرْجِعَ بما بينَ القِيمَتَين؛ لأنَّه دَخَل على أنَّه لا يَضْمَنُه، ولم يَسْتَوْفِ بَدَلَه. فإن رَدَّها المُسْتَعِيرُ على الغاصِبِ، لم يَسْقُطْ عنه الضَّمانُ؛ لأنَّه فَوَّتَ المِلْكَ على مالِكِه بتَسْلِيمِه إلى غيرِ مُسْتَحِقِّه. ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الغاصِبِ إن حَصَل التَّلَفُ في يَدِه، وكذلك الحُكْمُ في المُودَع. ¬

(¬1) في الأصل: «الأجر».

2343 - مسألة: (وإن اشترى أرضا فغرسها أو بنى فيها، فخرجت مستحقة، وقلع غرسه وبناؤه، رجع المشتري على البائع بما غرمه. ذكره القاضي في القسمة)

وَإذَا اشْتَرَى أرْضًا فَغَرَسَهَا أوْ بَنَى فِيهَا، فَخَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، فَقُلِعَ غَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائعِ بمَا غَرِمَهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي في الْقِسْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2343 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى أرْضًا فغَرسَها أو بَنَى فيها، فخَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، وقُلِع غَرْسُه وبِناؤه، رَجَع المُشْتَرِي على البائِعِ بما غَرِمَه. ذَكَرَه القاضِي في القِسْمةِ) لأنَّه ببيعِه إيّاها غَرَّه وأوْهَمَه أنَّها مِلْكُه، وكان ذلك سببًا في بِنائِه وغَرْسِه، فرَجَعَ عليه بما غَرِمَه عليها، كرُجُوعِه بما أعْطاهُ مِن ثَمَنِها.

2344 - مسألة: (وإن أطعم المغصوب لعالم بالغصب، استقر الضمان عليه)

وإنْ أطْعَمَ الْمَغْصُوبَ لِعَالِم بِالْغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2344 - مسألة: (وإن أطْعَمَ المَغْصُوبَ لعالِم بالغَصْبِ، اسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه) لكَوْنِه أتْلَفَ مال غيرِه بغيرِ إذْنِه عالِمًا مِن غيرِ تَغْرِير. وللمالِك تضْمِين الغاصِبِ؛ لأنَّه حال بينَه وبينَ مالِه، والآكِلِ؛ لأنَّه أتْلَفَ مال غيرِه بغيرِ إذْنِه، وقَبَضَه مِن يَدِ ضامِنِه بغيرِ إذْنِ مالِكِه. فإن ضَمَّنَ الغاصِبَ، رَجَع على الآكلِ، وإن ضَمَّنَ الآكِلَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ.

2345 - مسألة: (وإن لم يعلم، وقال له الغاصب: كله، فإنه طعامي. استقر الضمان على الغاصب)

وإنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَقَال لَهُ الْغَاصِبُ كُلْهُ، فَإنَّهُ طَعَامِي. اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإنْ لَمْ يَقُلْ، فَفِي أيِّهِمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيهِ الضَّمَانُ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2345 - مسألة: (وإن لم يَعلَمْ، وقال له الغاصِبُ: كُلْهُ، فإنَّه طَعَامِي. اسْتَقَرَّ الضَّمانُ على الغاصِبِ) لاعْتِرافِه بأنَّ الضَّمانَ باقٍ عليه، وأنه لم يَلْزَم الآكِلَ شيء، ولأنَّه غَرَّ الآكِلَ. 2346 - مسألةَ: (وإن لم يَقُلْ، فَفي أيِّهما يَسْتَقِرُّ عليه الضَّمانُ

2347 - مسألة: (وإن أطعمه لمالكه ولم يعلم، لم يبرأ. نص عليه)

وَإنْ أطْعَمَهُ لِمَالِكِهِ ولَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَبْرأ. نَصَّ عَلَيهِ، في رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ تَبِعَةٌ، فَأوْصَلهَا إِليهِ، عَلَى أنهَا صِلَةٌ، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهان) أحَدُهما، يَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الآكِلِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ في الجَدِيدِ؛ لأنَّه ضَمنَ [ما أتلفَ] (¬1)، فلم يَرْجع به على أحَدٍ. والثاني، يَسْتَقِرُّ على الغاصِبِ؛ لأنَّه غَرَّ الآكِلَ، وأطْعَمَه على أنَّه لا يَضْمَنُه. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ. وأيُّهما اسْتَقَرَّ عليه الضمانُ فغَرِمَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ، وإن غَرِم صاحِبُه، رَجَع عليه. 2347 - مسألة: (وإن أطعَمَه لمالِكِه ولم يَعْلَمْ، لم يَبْرَأ. نَصَّ عليه) إذا أطْعَمَ المَغْصُوبَ لمالِكِه، فأكَلَه (¬2) عالِمًا أنَّه طَعامُه، بَرِئ الغاصِبُ. وإن لم يَعْلَمْ، وقال له: كُلْهُ، فإنّه طَعَامِي. استقَرَّ الضَّمانُ على الغاصِبِ؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كانت له بَيِّنَةٌ بأنَّه طَعام المَغْصُوبِ منه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

هَدِيَّةٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ: كَيفَ هَذَا؟ يَعْنِي أنَّهُ لا يَبْرأ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن، يَقُلْ ذلك، بل قَدَّمَه إليه، وقال: كُلْهُ. فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يَبْرَأ، لأنَّه قال في رِوايَةِ الأثْرَمِ، في رجل له قِبَلَ رجل تَبِعَةٌ، فأوْصَلَها إليه على سَبِيلِ صَدَقَةٍ أو هَدِيَّةٍ، فلم يَعْلَمْ، فقال: (كيف هذا؟) هذا يَرَى أنَّه هَدِيَّة، يقولُ له: هذا لك عِنْدِي. وهذا يَدُلُّ على (أنَّه لا يَبرأ) ههُنا، فيَأكُلُ المالِكُ طَعامَه بطَرِيقِ الأوْلَى، لأنَّه ثَمَّ رَدَّ إليه يَدَه وسُلْطانَه، وههُنا بالتَّقْدِيمِ إليه لم يَعُدْ إليه اليَدُ والسُّلْطانُ، فإنَّه لا يَتَمَكَّنُ مِن التَّصَرُّفِ فيه بكلِّ ما يُرِيدُ مِن أخْذِه وبَيعِه والصَّدَقَةِ به، فلم يَبْرَأ به الغاصِبُ، كما لو عَلَفَه لدَوَابِه. ويَتَخَرَّجُ أن يَبْرَأ، بِنَاءً على ما إذا أطْعَمَه لأجْنَبِي، فإنَّه يَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الآكِلِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين، فكذلك ها هنا. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَهَب المَغْصُوبَ لمالِكِه، أو أهْداه إليه، بَرِئ في الصَّحِيحِ؛ لأنَّه سَلَّمَه إليه تَسْلِيمًا تامًّا، وزالتْ يَد الغاصِبِ. وكَلامُ أحمدَ في رِوايَةِ الأثْرَمِ مَحْمُولٌ على ما إذا أعْطاه عِوَضَ حَقِّه على سَبِيلِ الهِبَةِ، فأخَذَه المالِكُ على هذا الوَجْهِ لا على سَبِيلِ العِوَضِ، فلم تَثْبُتِ المُعاوَضَةُ، ومسألتُنا فيما إذا رَدَّ إليه (¬1) عَينَ مالِه، وأعَادَ يَدَه التي أزَالها. وإن باعَه إيّاهُ وسَلَّمَه إليه، بَرِئ مِن الضمانِ؛ لأنَّه قَبَضَه بالابتِياعِ، وهو مُوجِب للضَّمانِ. وكذلك إن أقْرَضَه إيَّاهُ؛ لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في م: «عليه».

2348 - مسألة: (وإن رهنه عند مالكه، أو أودعه إياه، أو أجره، أو استأجره على قصارته أو خياطته)

وإِن رَهَنَهُ عِنْدَ مَالِكِهِ، أوْ أوْدَعَهُ إيَّاهُ، أوْ أجَرَهُ، أو اسْتَأجَرَهُ عَلَى قِصَارَتِهِ وَخِيَاطَتِهِ، لَمْ يبرَأ إلَّا أنْ يَعْلَمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2348 - مسألة: (وإن رَهَنَه عندَ مالِكِه، أو أوْدَعَه إيّاهُ، أو أجَرَه، أو اسْتَأجَرَه على قِصَارَته أو خِياطَتِه) ولم يَعْلَمْ، لم يَبْرَأ مِن الضَّمانِ؛ لأنَّه لم يَعُدْ إليه سُلْطانُه، إنَّما قَبَضَه على أنَّه أمَانةٌ. وقال بعضُ أصحابِنا: يبرأُ؛ لأنَّه رَدَّه إلى يَدِه وسُلْطانِه. وهذا أحَد الوَجْهَين لأصْحاب الشافعيِّ. والأولُ أوْلَى؛ فإنّه لو أباحَه أكْلَه فأكَلَه , لم يَبْرأ، فههُنا أَوْلَى.

2349 - مسألة: (وإن أعاره إياه، برئ، علم أو لم يعلم)

وإنْ أعَارَهُ إيَّاهُ، بَرِئ، عَلِمَ أوْ لَمْ يَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2349 - مسألة: (وإن أعَارَه إيّاهُ، بَرِئ، عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ) لأنَّ

2350 - مسألة: (وإن اشترى عبدا فأعتقه، فادعى رجل أن البائع غصبه منه، فصدقه أحدهما، لم يقبل على الآخر. وإن صدقاه مع العبد،

وَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأعْتَقَهُ، فَادَّعَى رَجُلٌ أنَّ الْبَائِعَ غصَبَهُ منه، فَصَدَّقَهُ أحَدُهُمَا، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الْآخَرِ. وإن ـــــــــــــــــــــــــــــ العارِيَّةَ تُوجِبُ الضَّمانَ على المُسْتَعِيرِ، فلو وَجَب الضَّمانُ على الغاصِبِ رَجَع به على المُسْتَعِيرِ، ولا فائِدَةَ في وُجُوبِ شَيءٍ عليه يَرْجِعُ به على مَن وَجَب له. 2350 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى عَبْدًا فأعْتَقَه، فادَّعَى رجل أنَّ البائعَ غَصَبَه منه، فصَدَّقَه أحَدُهما، لم يُقْبَلْ على الآخَرِ. وإن صَدَّقَاهُ مع العَبْدِ،

صَدَّقَاهُ مَعَ الْعَبْدِ، لَم يَبْطُلِ الْعِتْقُ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ إذا صَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَبْطُلِ العِتْقُ، ويَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على المُشْتَرِي. ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ العِتْقُ إذا صَدَّقُوهُ كُلُّهُم) إذا أقامَ المُدَّعِي، بَيِّنَّةَ بما ادَّعاه، بَطَل البَيعُ والعِتْقُ، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي على البائع بالثَّمَن. وإن صَدَّقَه البائعُ أو المُشْتَرِي، لم يُقْبَلْ قولُ أحَدِهما على الآخرِ؛ لأنَّه لا يُقْبَلُ إقْرارُه في حَقِّ غيرِه. وإن صَدَّقَاه جَمِيعًا، لم يَبْطُلِ العِتْقُ، وكان العَبْدُ حُرًّا؛ لأنَّه قد تَعَلَّقَ به حَق لغَيرِهما. فإن وافَقَهُما العَبْدُ، فقال القاضِي: لا يُقْبَلُ أَيضًا؛ لأنَّ الحُرِّيّةَ حَقٌّ يتَعَلَّقُ بها حَق الله تعالى، ولهذا لو شَهِدَ شاهِدانِ بالعِتْقِ مع اتِّفاق السَّيِّدِ والعَبْدِ على الرِّقِّ، قُبِلَتْ شَهادَتُهُما. ولو قال رجل: أنا حُرُّ. ثم أقَر بالرِّقِّ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ العِتْقُ إذا اتَّفَقُوا عليه كُلُّهُم، ويَعُود العَبْدُ إلى المُدَّعِي؛ لأنَّه مَجْهُولُ النَّسبِ، أقَرَّ بالرِّقِّ لمَن يَدعيه، فصَحَّ، كما لو لم يُعْتِقْه المُشْتَرِي. ومتى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَكَمْنا بالحريَّةِ، فللمالِكِ تَضْمِينُ أيِّهِما شاء قِيمَتَه يومَ عِتْقِه، فإن ضَمَّنَ البائعَ، رَجَع على المُشْتَرِي؛ لأنَّه أتْلَفَه، وإن ضَمَّنَ المُشْتَرِي، لم يَرْجِعْ على البائِعِ إلَّا بالثَّمَنِ؛ لأن التَّلَفَ حَصَل منه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه. وإن ماتَ العَبْدُ وخَلَّف مالًا، فهو للمُدَّعِي؛ لاتِّفاقِهِم على أنَّه له. وإنَّما لم يُرَدَّ العَبْدُ إليه لتَعَلُّقِ حَقِّ الحُرِّيَّةِ به، إلَّا أن يُخَلِّفَ وارِثًا فيَأخُذَه، وليس عليه وَلاءٌ؛ لأنَّ أحدًا لا يَدَّعِيه. وإن صَدَّقَ المُشْتَرِي البائعَ وَحْدَه، رَجَع عليه بقِيمَتِه، ولم يَرْجِعِ المُشْتَرِي بالثَّمَنِ. وبَقِيَّةُ الأقْسامِ على ما نَذْكُرُ في الفَصْلِ بعدَه. فصل: وإن كان المُشْتَرِي لم يُعْتِقْه، وأقَامَ المُدَّعِي بَينةً بما ادَّعاه، انْتَقَضَ البَيعُ، ورَجَع المُشْتَرِي على البائِعِ بالثَّمَنِ، وكذلك إذا أقَرَّا بذلك. وإن أقَرَّ أحَدُهما، لم يُقْبَلْ على الآخَرِ، فإن كان المُقِرُّ البائعَ، لَزِمَتْه القِيمَةُ للمُدَّعِي؛ لأنَّه حال بَينَه وبينَ مِلْكِه، ويُقَرُّ العَبْدُ في يَدِ المُشْتَرِي؛ لأنَّه مِلْكُه في الظاهِرِ، وللبائعِ إحْلافُه، ثُمَّ إن كان البائعُ لم يَقْبِضِ الثَّمَنَ، فليس له مُطالبَةُ المُشْتَرِي، لأنَّه لا يَدَّعِيه. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ مُطالبَتَه بأقَلِّ الأمْرَين مِن الثَّمنِ أو قِيمَةِ العَبْدِ؛ لأنَّه يَدَّعِي القِيمَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُشْتَرِي، والمُشْتَرِي يُقِرُّ له بالثمَنِ، فقد اتَّفَقا على اسْتِحْقاقِ أقَلِّ (¬1) الأمْرَين، فوَجَبَ، ولا يَضُرُّ اخْتِلافُهُما في السَّبَبِ بعدَ اتفاقِهِما على حُكْمِه، كما لو قال: لي عليك ألفٌ مِن ثمَنِ مَبِيعٍ. فقال: بل ألْف مِن قَرْض. وإن كان قد قَبَضَ الثمنَ، فليس للمُشْتَرِي اسْتِرْجاعُه؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه. ومتى عادَ العَبْدُ إلى البائعِ بفسْخ أو غيرِه، لَزِمَه رَدُّه إلى مُدَّعِيه، وله اسْتِرْجاعُ ما أخَذَ منه. وإن كان إقْرار البائِعِ في مُدَّةِ الخِيَارِ، انْفَسَخَ البَيعُ؛ لأنَّه يَمْلِكُ فَسْخَه، فقُبِلَ إقْرارُه بما يَفْسَخُه. وإن كان المُقِرُّ المُشْتَرِيَ وَحْدَه، لَزِمَه رَدُّ العَبْدِ (¬2)، ولم يُقْبَلْ إقْرارُه على البائِعِ، ولا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليه بالثمَنِ إنْ كان قَبَضَه، وعليه دَفْعُه إليه إن لم يكُنْ قَبَضَه. فإن أقام المشتري بينةً بما أقَر به، قُبِلَتْ، وله الرُّجوعُ بالثمنِ. وإن كان البائعُ المُقِر، فأقَامَ بَينةً، فإن كان في حالِ البَيعِ، قال: بِعْتُكَ عَبْدِي هذا أو مِلْكِي. لم تُقْبَلْ بَيِّنتُه؛ لأنَّه يُكَذِّبُها، وإن لم يَكُنْ قال ذلك، قُبِلَتْ؛ لأنَّه يَبِيعُ مِلكَه وغيرَه، وإن أقَامَ المُدعِي البَيِّنةَ، سُمِعَتْ، ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ البائِعِ له؛ لأنَّه يَجُرُّ بها إلى نفْسِه نَفْعًا. وإن أنكَراه جَمِيعًا، فله إحْلافُهُما. قال أحمدُ، في رجل يَجِدُ سَرِقَتَه عندَ إنسانٍ بعَينِها، قال: هو مِلْكُه، يَأخُذُه، أذْهَبُ إلى حَدِيثِ سَمُرَةَ، رَضِيَ الله عَنْهُ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ مَتاعَهُ عِنْدَ رَجُل فَهُوَ أحَقُّ بِهِ، ويَتْبَعُ ¬

(¬1) في الأصل: «أولى». (¬2) في م: «العيب».

فَصْلٌ: وإنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، إنْ كَانَ مَكِيلًا أوْ مَوْزُونًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُبْتَاعُ مَنْ بَاعَه» (¬1). رَواه هُشَيم، عن مُوسَى بنِ السّائبِ، عن قَتادَةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ. ومُوسَى بن السّائبِ ثِقَةٌ. فصل: قال، رَضِيَ الله عَنه: (وإن تَلِفَ المَغْصُوبُ، ضَمِنَه بمِثْلِه، إن كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا) متى تَلِفَ المَغْصُوبُ في يَدِ الغاصِبِ، لَزِمَه رَدُّ بَدَلِه؛ لقَوْلِه تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} (¬2). ولأنَّهُ لما تَعَذرَ رَدُّ العَينِ، لَزِمَه رَدُّ ما يَقُومُ مَقامَها. فإن كان المُتْلَفُ مِثْلِيًّا؛ كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ (¬3)، وَجَب ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 255. كما أخرجه النَّسائيّ، في: باب الرَّجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 276. (¬2) سورة البقرة 194. (¬3) بعده في تش، م: «مكيلًا أو موزونًا».

2351 - مسألة: (وإن أعوز المثل، فعليه قيمة مثله يوم إعوازه. وقال القاضي)

وَإنْ أعْوَزَ الْمِثْلُ، فَعَلَيهِ قِيمَةُ مِثْلِهِ يَوْمَ إعْوَازِهِ. وَقَال الْقَاضِي: يَضْمَنُهُ. بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ. وَعنه، تَلْزَمُهُ قيمَتُهُ يَوْمَ تَلَفِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المِثْل، قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: كُل مَطْعُوم مِن مَأكُولٍ أو مَشْرُوبٍ، فمُجْمَعٌ على أنَّه يَجِبُ على مُسْتَهْلِكِه مِثْلُه لا قِيمَتُه. ولأنَّ المِثْلَ أقْرَبُ إليه مِن القِيمَةِ، فهو مُماثِل له مِن طَرِيقِ الصُّورَةِ والمُشاهَدَةِ (¬1) والمَعْنَى، والقِيمَةُ مُماثِلَة مِن طَرِيقِ الظَّنِّ والاجتِهادِ، فقُدِّم ما طَرِيقُه المُشاهَدَة، كالنَّصِّ، لمَّا كان طَرِيقُه الإدْراكَ بالسَّماعِ كان أوْلَى مِن القِياسِ؛ لأنَّ طَرِيقَه الظَّنُّ والاجْتِهادُ. 2351 - مسألة: (وإن أعْوزَ المِثْلُ، فعليه قِيمَةُ مِثْلِه يومَ إعْوازِه. وقال القاضي): تَجِبُ قِيمَتُه يومَ قبضِ البَدَلِ؛ لأنَّ الواجِبَ المِثْلُ إلى ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حينِ قَبْضِ البَدَلِ، بدَلِيلِ أنَّه لوْ وُجِدَ المِثْلُ بعدَ إعْوازِه، لكان الواجِبُ هو دونَ القِيمَةِ. وقال أبو حنيفةَ، ومالك وأكثرُ أصحابِ الشافعيِّ: تَجِبُ قِيمَتُه يومَ المُحاكَمَةِ؛ لأن القِيمَةَ لم تَنتقِلْ إلى ذِمَّتِه إلَّا حينَ حكَم بها الحاكِمُ. ولَنا، أن القِيمَةَ وَجَبَتْ في الذِّمَّةِ حينَ انْقِطاعِ المِثْلِ، فاعْتُبِرَتِ القِيمَةُ حِينَئِذٍ، كتَلَفِ المُتَقَوِّمِ، ودَلِيلُ وُجُوبِها حينئِذٍ أَنه يَسْتَحِقُّ طَلَبَها واسْتِيفاءَها (¬1)، ويَجِبُ على الغاصِبِ أداؤها , ولا يَنْفِي وُجُوبَ المِثْلِ؛ لأنَّه مَعْجُوز عنه، والتكْلِيفُ يَسْتَدْعِي الوُسْعَ، ولأنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ طَلَبَ المِثْلِ ولا اسْتِيفاءَه، ولا يَجِبُ على الآخَرِ أداؤه، فلم ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَكُنْ واجِبًا، كحالةِ المُحَاكَمَةِ. وأمَّا إذا قَدَر على المِثْل بعدَ فَقْدِه، فإنَّه يَعُودُ وُجُوبُه؛ لأنَّه الأصْلُ قَدَر عليه قبلَ أدَاءِ البَدَلِ، فأَشْبَهَ القُدْرَةَ على الماءِ بعدَ التيمُّمِ، وهذا لو قَدَر عليه بعدَ المُحاكَمَةِ وقبلَ الاسْتِيفاءِ، اسْتَحَقَّ المالِكُ طَلَبَه وأخْذَه (وعنه، تَلْزَمُه قِيمَتُه يومَ تَلَفِه) لأن القِيمَةَ إنما ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ حينَ التَّلَفِ؛ لأنه قبلَ، التَّلَفِ يَجِبُ رَدُّه، فإذا تَلِفَ وَجَبَتْ قِيمَتُه [في الذِّمةِ حِينَئِذٍ وكان الواجبُ قِيمَتَه يومَ ثَبَت في الذِّمَّةِ، ولأنَّه مَضْمُون بالقِيمَةِ فوَجَبَت قِيمَتُه] (¬1) يومَ تَلَفِه، كغَيرِ المِثْلِيِّ. ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

2352 - مسألة: (وإن لم يكن مثليا، ضمنه (بقيمته يوم تلفه في بلده من نقده)

وَإنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ تَلَفِهِ في بَلَدِهِ مِنْ نَقْدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2352 - مسألة: (وإن لم يَكُنْ مِثْلِيًّا، ضَمِنَه (بقِيمَتِه يومَ تَلَفِه في بَلَدِه مِن نَقْدِه) لِما روَى عبد اللهِ بنُ عمرَ، رضي الله عنهما، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيهِ قِيمَةُ العِدْلِ». مُتَّفَق (¬1) ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [عليه (¬1). فأمَرَ بالتَّقْويمِ في حِصَّةِ الشَّرِيك؛ لألها مُتْلَفَةٌ بالعِتْقِ، ولم يَأمُرْ بالمِثْلِ. ولأنَّ هذه الأشْياءَ لا تتساوَى أجْزاوها، وتَخْتَلِفُ صِفاتُها، فالقِيمَةُ فيها أعْدَلُ وأقْرَبُ إليها فكانت أوْلَى] (¬2). في قولِ الجَماعَةِ. وحُكِيَ عن العَنْبَرِيِّ: يَجِبُ في كلِّ شيءٍ مثلُه؛ لِما رَوَتْ جَسْرَةُ بنتُ دَجاجَةَ، عن عائشةَ، رَضِيَ الله عنها، أنها قالت: ما رَأيتُ صانِعًا مثلَ حَفْصَةَ، صَنَعَتْ طَعامًا فَبَعَثَتْ به إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأخَذَنِي الأفْكَلُ (¬3) فكَسَرْتُ الإنَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رسول اللهِ، ما كَفَّارَةُ ما صَنَعْتُ؟ فقال: ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة العدل، وباب الشركة في الرقيق، من كتاب الشركة، وفي: باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين، وباب إذا أعتق نصيبًا في عبد. . . .، من كتاب العتق. صحيح البُخَارِيّ 3/ 182، 184، 185، 189، 190. ومسلم، في: أول كتاب العتق، وفي: باب من أعتق شركًا له في عبد، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 2/ 1139، 1140، 3/ 1286، 1287. كما أخرجه أبو داوود، في: باب في من أعتق نصيبًا له من مملوك، وباب من ذكر السعاية في هذا الحدث، وباب في من روى أنَّه لا يستسعى، من كتاب العتاق. سنن أبو داود 2/ 348 - 350. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، من أبواب الاحكام. عارضة الأحوذي 6/ 92 - 94. والنسائي، في: باب الشركة بغير مال، وباب الشركة في الرقيق، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 280، 281. وابن ماجه، في: باب من أعتق شركًا له في عبد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 844. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 2، 15، 4/ 37. (¬2) سقط من: تش، م. (¬3) الأفكل: الرعدة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَاءٌ مِثْلُ الإنَاءِ، وَطَعَامٌ مِثْلُ الطَّعَام». رَواه أبو داودَ (¬1). وعن أنس، أنَّ إحْدَى نِسَاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَسَرتْ قَصْعَةَ الأُخرَى، فدَفَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَصْعَةَ الكَاسِرَةِ إلى رسولِ صاحِبَةِ المَكْسُورَةِ وحَبَسَ المَكْسُورَةَ في بَيته، رَواه التِّرْمِذِيّ بنَحْوه (¬2). وقال: حَسَنٌ صَحِيح. [ولَنا، حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، في العِتْقِ، وما ذَكَرْنا مِن المَعْنَى في الحديثِ مَحْمُولٌ على أنَّه جَوَّزَ ذلك بالتَّراضِي وعَلِم أنَّها تَرْضَى به] (¬3). ويكونُ ذلك يومَ تَلَفِه؛ لِما ذَكَرنا. ويكُون في بَلَدِه ¬

(¬1) في: باب في من أفسد شيئًا يغرم مثله، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 267. كما أخرجه النسائي، في: باب الغيرة، من كتاب عشرة النساء. المجتبى 7/ 66. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 148، 277. (¬2) في: باب في من يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 113.؛ أخرجه البُخَارِيّ، في: باب إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره، من كتاب المظالم. صحيح البُخَارِيّ 3/ 179. وأبو داود، في: باب في من أفسد شيئًا يغرم مثله، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 267. (¬3) سقط من: تش، م.

وَيَتَخَرَّجُ أنْ يَضْمَنَهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ غَصَبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن نَقْدِه؛ لأنَّه مَوْضِعُ الضَّمانِ، يَعْنِي يَضْمَنُه في البَلَدِ الذي غَصَبَه فيه مِن نَقْدِه (ويَتَخَرَّجُ أن يَضْمَنَه بقِيمته يومَ غَصَبَه) وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. ورُويَ عن أحمدَ، لأَته فَوَّته عليه غَصْبِه، فكان عليه قِيمَةُ ما فوَّتَ عليه حينَ فَوَّتَه. وقد رُويَ عن أحمدَ، في رجل أخَذَ مِن رجل أرطالًا مِن كذا وكذا: أعْطاه على السِّعْرِ يومَ أخَذَه لا يومَ مُحاسَبَتِه. وكذلك (¬1) رُويَ عنه في حوائجِ البَقّالِ: عليه القيمةُ يومَ الأخْذِ. وهذا يَدُل على أنَّ القيمةَ تُعْتَبَرُ يومَ الغَصْبِ، والأوَّل أوْلَى. قال شيخُنا (¬2): ويُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بينَ هذا وبينَ الغَصْبِ مِن قِبَل أنَّ ما أخَذَه ها هنا بإذْنِ مالِكِه مَلَكَه وحَلَّ له التَّصَرُّفُ فيه، فثَبَتَتْ قِيمَتُه يومَ مَلَكَه، ولم يَتَغَيَّرْ (¬3) ما ثَبَت في ¬

(¬1) في تش، م: «ولذلك». (¬2) في: المغني 7/ 405. (¬3) في تش، م: «يعتبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِمَّتِه بتَغَيُّرِ قِيمَةِ ما أخَذَه؛ لأنَّه مِلْكُه، والمَغْصُوبُ مِلْكُ المَغْصُوبِ منه، والواجِبُ رَدُّه لا قِيمَتُه، وإنَّما تَثْبُتُ قِيمَتُه في الذِّمَّةِ يومَ تَلَفِه أو انْقِطاعِ مِثْلِه، فاعْتُبِرَتِ القِيمَةُ حِينَئِذٍ، وتَغَيَّرَتْ بتَغَيُّرِه قبلَ ذلك، فأمَّا إن كان المَغْصُوبُ باقِيًا وتَعَذَّرَ رَدُّه، فأوجَبْنا رَدَّ قِيمَتِه، فإنَّه يُطالِبُه بها يومَ قَبْضِها، لأنَّ القِيمَةَ لم تَثْبُتْ في الذِّمةِ قبلَ ذلك، ولهذا يتَخَيَّرُ بينَ أخْذِها والمُطَالبَةِ بها، وبينَ الصَّبْرِ إلى وَقْتِ إمْكانِ الرد ومُطالبَةِ الغاصِبِ بالسَّعْيِ في رَدِّهِ، وإنَّما يَأخُذُ القِيمَةَ لأجْلِ الحَيلُولَةِ بينَه وبينَه، فيُعْتَبَرُ ما يَقُومُ مَقامَه؛ لأنَّ مِلْكَه لم يَزُلْ عنه بخِلافِ غيرِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقد ذَكَرْنا أنَّ ما تَتَماثَلُ أجزاؤه وتَتَقارَبُ؛ كالأثْمانِ والحُبُوبِ والأدْهانِ، يُضْمَنُ بمِثْلِه. وهذا لا خِلافَ فيه. فأمّا سائِرُ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّه يَضْمَنُه بمِثْلِه أَيضًا، فإنَّه قال في رِوايَةِ حَرْب: ما كان مِن الدَّرَاهِمِ والدَّنانِيرِ، وما يُكالُ ويُوزَنُ. فظاهِرُه وجُوبُ المثْلِ في كلِّ مَكِيلٍ وَمْوُزونٍ، إلَّا أن يكونَ مِمّا فيه صِناعَةٌ مُباحَةٌ، كمَعْمُولِ الحَدِيدِ، والنُّحَاسِ، والرَّصَاص، والصُّوفِ، والشَّعَرِ المَغْزُولِ، فإنَّه يُضْمَنُ بقِيمَتِه؛ لأنَّ الصِّناعَةَ تُؤَثِّرُ في قِيمَتِه، وهي مُخْتَلفَة، فالقِيمَةُ فيه أحْصَرُ، فأشْبَهَ غيرَ المَكِيلِ والمَوْزُونِ. وذَكَرَ القاضي أنَّ النُّقْرَةَ والسَّبِيكَةَ مِن الأثْمانِ، والعِنَبَ، والرُّطَبَ، والكُمَّثْرَى، إنما يُضْمَنُ بقِيمَتِه. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ يَدُلُّ على ما قُلْنا. وإنَّما خَرَج منه ما فيه الصِّناعَةُ؛ لِما ذَكَرْنا. ويَحْتَمِلُ أن تُضْمَنَ النُّقْرَةُ بقِيمَتِها؛ لتَعَذُّرِ وُجودِ مِثْلِها إلَّا بكَسْرِ النُّقُودِ المَضْرُوبَةِ وسَبْكِها، وفيه إتْلافٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقد قال الخِرَقِي في مَن غَصَب جارِيَةً حامِلًا فَوَلَدَتْ في يَدَيه، ثم ماتَ الوَلَدُ: أَخَذَها سَيِّدُها وقِيمَةَ وَلَدِها أكثَرَ ما كانت قِيمَتُه. فحَمَلَ القاضِيّ قولَ الخِرَقِيِّ على ما إذا اخْتَلَفَتِ القِيمَةُ لتَغَيُّرِ الأسْعارِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. فعلى هذا، إذا تَلِف المَغْصُوبُ، لَزِم الغاصِبَ قِيمَتُه أكثرَ ما كانت مِن يوم الغَصْبِ إلى يومِ التَّلَفِ؛ لأنَّ أكثر القِيمَتَين فيه للمَغْصُوبِ منه، فإذا تَعَذَّرَ رَدُّها، ضَمِنَه، كقِيمَتِه يومَ التَّلَفِ، وإنَّما سَقَطَتِ القِيمَةُ مع رَدِّ العَينِ. والمَذْهَب أنَّ زِيادَةَ القِيمَةِ بتَغَيُّرِ الأسْعارِ غيرُ مَضْمُونَةٍ على الغاصِبِ، وقد ذَكَرْنا ذلك. وعلى هذا، فكَلام الخِرَقِيّ محمولٌ على ما إذا اخْتَلَفَتِ القِيمَةُ لمَعْنًى في المَغْصُوبِ، مِن كِبَر، وصِغَر، وسِمَن، وهُزَالٍ، ونِسْيانٍ، ونحو ذلك، فالواجِبُ القِيمَةُ أكثر ما كانت؛ لأنَّها مَغْصُوبَةٌ في الحالِ التي زادَتْ فيها، والزيادَةُ لمالِكِها مَضْمُونَة على الغاصِبِ على ما قَدَّرْناه، بدَلِيلِ أنَّه لو رَدَّ العَينَ ناقِصَةً، لَزِمَه أرْش نَقْصِها وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَدَلُ الزِّيادَةِ. فإذا ضَمِنَ الزِّيادَةَ مع رَدِّها (¬1)، ضَمِنَها عندَ تَلَفِها، بخِلافِ زِيادَةِ القِيمَةِ لتَغيُّرِ الأسْعارِ، فإنَّها لا تُضْمَنُ مع رَدِّها، فكذلك مع تَلَفِها. وقولُهم: إنَّها إنَّما سَقَطَتْ مع رَدِّ العَينِ. لا يَصِحُّ؛ لأنها لو وَجَبَتْ ما سَقَطَتْ بالردِّ، كزِيادَةِ السِّمَنِ. قال القاضِي: ولم أجِدْ عن أحمدَ رِوايَةً بأنها تُضْمَنُ بأكثرِ القِيمَتَين لتَغَيُّرِ الأسْعارِ. فعلى هذا، تُضْمَنُ بقِيمَتِها يومَ التَّلَفِ. وقد رُويَ عن أحمدَ، أنَّها تُضْمَنُ بقِيمَتِها يومَ الِغَصْبِ، إلَّا أنَّ الخَلَّال قال: جَبُنَ أحمدُ عنه. كأنَّه رَجَع إلى القولِ الأوّلِ، وقد ذكرْناه. ¬

(¬1) سقط من: تش، وفي م: «بقائها».

2353 - مسألة: (فإن كان مصوغا أو تبرا تخالف قيمته وزنه، قومه بغير جنسه)

فَإِنْ كَانَ مَصُوغًا أَوْ تِبْرًا تُخَالِفُ قِيمَتُهُ وَزْنَهُ، قَوَّمَهُ بِغَيرِ جِنْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2353 - مسألة: (فإن كان مَصُوغًا أو تِبْرًا تُخالِفُ قِيمَتُه وَزْنَه، قَوَّمَه بغَيرِ جِنْسِه) متى كان المُصَاغُ تَزِيدُ قِيمَتُه على وَزْنه أو تَنْقُصُ، والصِّناعَةُ مُباحَةٌ، كحَلْيِ النِّساءِ، وَجَب ضَمانُه بقِيمَتِه، لكن يُقَوِّمُه بغيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جِنْسِه، فيُقَوِّم الذَّهَبَ بالفِضَّةِ، والفِضَّةَ بالذَّهَب؛ لِئِلَّا يُفْضِيَ ذلك إلى الرِّبَا. وقال القاضي: يَجُوزُ تَقْويمُه بجِنْسِه؛ لأنَّ ذلك قِيمَتُه، والصَّنْعَةُ لها قِيمَة، بدَلِيلِ أنَّه لو اسْتَأجَرَه لِعَمَلِها جازَ، ولو كَسَرَ الحَلْيَ وَجَب عليه أرْشُ ذلك، ويُخالِفُ البَيعَ؛ لأنَّ الصَّنْعةَ لا يُقابِلُها العِوَضُ في العُقُودِ، ويُقابِلُها في الإتْلافِ، ألا تَرَى أنَّها لا تَنْفَرِدُ بالعَقْدِ وتَنْفرِدُ بضَمانِها في الإتْلافِ. قال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وذَكَر بعضُهم مثلَ القَوْلِ الأوّلِ، وهو الذي ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ القِيمَةَ مَأخُوذَة على سَبِيلِ العِوَضِ، فالزِّيادَةُ رِبًا، كالبَيعِ وكالنَّقْص. وقد قال أحمدُ، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا كَسَر الحَلْيَ، يُصْلِحُه أحَبُّ إلَيَّ. قال القاضي: هذا مَحْمُولٌ على أنَّهما تَراضَيا بذلك، لا على طَرِيقِ الوُجُوبِ. فإن كانتِ الصِّناعَةُ مُحَرَّمَة؛ كالأوانِي، وحلْيِ الرِّجالِ المُحَرَّمِ، لم يَجُزْ ضَمانُه بأكْثَرَ مِن وَزْنِه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ الصِّناعَةَ لا قِيمَةَ لها شَرْعًا.

2354 - مسألة: (فإن كان محلى بالنقدين معا، قومه بما شاء منهما)

فَإِنْ كَانَ مُحَلّى بِالنَّقْدَينِ مَعًا، قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَأعْطَاهُ بِقِيمَتِهِ عَرْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2354 - مسألة: (فإن كان مُحَلَّى بالنَّقْدَين معًا، قَوَّمَه بما شاءَ منهما) للحاجَةِ (وأعْطاهُ بقِيمَتِه عَرْضًا) لِئَلَّا يُفْضِيَ إلى الرِّبَا, ولا يُمْكِنُ تَقْويمُه إلَّا بأحدِهما؛ لأنَّهما قِيَم الأمْوالِ، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى تَقويمِهما بأحدِهما, وليس أحدُهما بأوْلَى من الآخرِ، فكانتِ الخِيَرَةُ إليه في تقويمِه

2355 - مسألة: (وإن تلف بعض المغصوب، فنقصت قيمة باقيه؛ كزوجي خف تلف أحدهما، فعليه رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص. وقيل: لا يلزمه أرش النقص)

وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَغْصُوب، فَنَقَصَتْ قِيمَةُ بَاقِيهِ؛ كَزَوْجَيْ خُفٍّ تَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَعَلَيهِ رَدُّ الْبَاقِي وَقِيمَةُ التَّالِفِ وَأَرْشُ النَّقْصِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بما شاء منهما. والدَّلِيلُ على أنَّه لا يُمْكِنُ تَقْويمُه [إلَّا بأحَدِ النَّقْدَين، أنَّه لا يُمْكِنُ تَقْويمُه] (¬1) بكلِّ واحِدٍ [مِن النَّقْدَين] (¬2) مُنْفَرِدًا؛ لعَدَمِ مَعْرِفَةِ ما فيه منه، ولأنَّ قِيمَةَ الحِلْيَةِ قد تَنْقُصُ بالتَّحْلِيَةِ بها، وقد تَزِيدُ، ولا يُمكنُ إفْرادُها بالبَيعِ ولا بغيرِه مِن التَّصرُّفاتِ، وإنَّما يُقَوَّمُ المُحَلَّى كالسَّيفِ، بأن يُقال: كَمْ قِيمَةُ هذا؟ ولو بِيعَ، ما كان الثَّمَنُ إلَّا عِوَضًا له؛ لأنَّ الحِلْيَةَ صارت صِفَةً له وزِينَةً فيه، فكانتِ القِيمَةُ فيه مَوْصُوفةً بهذه الصِّفَةِ، كقِيمَتِه في بَيعِه. والله أعلمُ. 2355 - مسألة: (وإن تَلِفَ بعضُ المَغْصُوبِ، فنَقَصَتْ قِيمَةُ باقِيه؛ كَزَوْجَيْ خُفٍّ تَلِفَ أحَدُهما، فعليه رَدُّ الباقِي وقِيمَةُ التّالِفِ وأَرْشُ النَّقْصِ. وقيلَ: لا يَلْزَمُه أَرْشُ النَّقْصِ) إذا غَصَب شَيئَين يَنْقُصُهما ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في تش، م: «منهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّفْرِيقُ، كزَوْجَيْ خُفٍّ، أو مِصْرَاعَيْ بابٍ، فتَلِفَ أحَدُهما، رَدَّ الباقِيَ وقِيمَةَ التالِفِ وأَرْشَ نَقْصِهِما. فإذا كانت قِيمَتُهُما سِتّةَ دَراهِمَ، فصارَت قِيمَةُ الباقِي بعدَ التَّلَفِ دِرْهَمَين، رَدَّه وأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَلْزَمُه إلَّا قِيمَةُ التّالِفِ مع رَدِّ الباقِي. وهو أحدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه لم يَتْلَفْ غيرُه، ولأنَّ نَقْصَ الباقِي نقْصُ قِيمَةٍ، فلا يَضْمَنُه، كالنَّقْصِ لتَغَيُّرِ الأسْعارِ. ولَنا، أنَّه نَقْصٌ حَصَل بجِنايَتِه، فلَزِمَه ضَمانُه، كما لو غَضَب ثَوْبًا فشَقَّه ثم تَلِف أحَدُ الشِّقَّين، فإنَّه يَلْزَمُه رَدُّ الباقِي وقِيمَةُ التالِفِ وأَرشُ النَّقْصِ إن نَقَص، بخِلافِ نَقْصِ السِّعْرِ، فإنَّه لم يَذهَبْ مِن المَغْصُوبِ عَينٌ ولا مَعْنًى، وههُنا فَوَّتَ مَعْنًى، وهو إمْكانُ الانْتِفاعِ به، وهذا هو المُوجِبُ لنَقْصِ قِيمَتِه، وهو حاصِلٌ مِن جِهَةِ الغاصِبِ، فيَنْبَغِي أن يَضْمَنَه, كما لو فَوَّتَ بَصَرَه أو سَمْعَه أو عَقْلَه، أو فَكَّ تَرْكِيبَ بابٍ ونَحْوه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن غَصَب ثَوْبًا فلَبِسَه، فأَبْلَاه، فنَقَصَ نِصْفَ قِيمَتِه، ثم غَلَتِ الثِّيابُ، فعادَتْ قِيمَتُه كما كانت، مثلَ أن غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُه عَشَرَةٌ، فنَقَصَه لُبْسُه حتى صارَتْ قِيمَتُه خَمْسَةً، ثم زادَتْ قِيمَتُه فصارتْ عشرَةً، رَدَّه وأَرْشَ نَقْصِه؛ لأنَّ ما تَلِفَ قبلَ غَلَاءِ الثَّوْبِ ثَبَتَتْ قِيمَتُه في الذِّمَّةِ، فلا يَتَغَيَّرُ. ذلك بغَلَاءِ الثَّوْبِ ولا رُخْصِه. وكذلك بو رَخُصَتِ الثِّيابُ، فصارتْ قِيمَتُه ثَلاثَةً، لم يَلْزَمِ الغااصِبَ إلَّا خَمْسَةٌ مع رَدِّ الثَّوْبِ. ولو تَلِفَ الثَّوْبُ كلُّه وقِيمَتُه عَشَرَةٌ، ثم غَلَتِ الثِّيابُ، فصارت [قِيمَةُ الثَّوْبِ] (¬1) عِشْرِينَ، لم يَضْمَنْ إلَّا عَشَرَةً؛ لأنَّها ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ عَشَرَةً، فلا تُزادُ بغَلَاءِ الثِّيابِ، ولا تَنْقُصُ برُخْصِها. فصل: فإن غَصَب ثَوْبًا أو زِلِّيًّا (¬2) فذَهَبَ بعضُ أجْزائِه؛ كخَمْلِ المِنْشَفةِ، فعليه أَرْشُ نَقْصِه. وإن أقَامَ عندَه مُدَّةً لمِثْلِها أُجْرةٌ، لَزِمَتْه أُجْرَتُه، سَواءٌ اسْتَعْمَلَه أو تَرَكَه. ولا اجْتَمَعا، مثلَ أن أقَامَ عندَه مُدَّةً وذَهَب بعضُ أجْزائِه، فعليه ضَمانُهُما معًا؛ الأُجْرَةُ وأَرْشُ النَّقْصِ، سَواءٌ كان ذَهَابُ الأَجْزاءٍ بالاسْتِعْمالِ، [أو بغيرِه. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: إن نقَص بغيرِ الاسْتِعْمالِ] (¬3)، كثَوْبٍ يَنْقُصُه النَّشْرُ (¬4)، نَقَص ¬

(¬1) في تش، م: «قيمته». (¬2) الزِّلَّيَّة: نوع من البسط. جمعها زلالى. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «اللبس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنَشْرِه، وبَقِيَ عندَه مُدَّةً، ضَمِن الأَجْرَ والنَّقْصَ، وإن كان النَّقْصُ بالاسْتِعمالِ؛ كَثَوْبٍ لَبِسَه فأَبْلَاه، فكذلك يَضْمَنُهما معًا، في أحَدِ الوَجْهينِ. والثاني، يَجِبُ أَكْثَرُ الأَمْرَين مِن الأَجْرِ أو أَرْشِ النَّقْصِ؛ لأنَّ ما نَقَص مِن الأجْزاءِ في مُقابَلَةِ الأَجْرِ، ولذلك (¬1) لا يَضْمَنُ المُسْتَأْجِرُ تلك الأَجْزاءَ. ويتَخَرَّجُ لنا مثلُ ذلك. ولَنا، أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَنْفَرِدُ بالإِيجابِ عن صاحِبِه، فإذا اجْتَمَعا وَجَبَا, كما لو أقَامَ في يَدِه مُدَّةً ثم تَلِف، والأُجْرَةُ تَجِبُ في مُقابَلَةِ ما يَفُوتُ مِن المنافِعِ، لا في مُقابَلَةِ الأجْزاءِ، [ولذلك يَجِبُ الأجْرُ وإن لم تَفُتِ الأجْزاءُ] (¬2). وإن لم يَكُنْ للمَغْصُوبِ أُجْرَةٌ، كثَوْبٍ غيرِ مَخِيطٍ، فليس على الغاصِبِ إلَّا ضَمان نَقْصِه. فصل: فإن نَقَص المَغْصُوبُ عندَ الغاصِبِ ثم باعَه، فتَلِفَ عندَ المُشْتَرِي، فله تَضمِينُ مَن شاءَ منهما، إذا لم يَكُنِ النَّقْصُ لتَغَيُّرِ الأسْعارِ، وقد ذَكَرْناه. فإن ضَمُّنَ الغاصِبَ، ضَمَّنَه قِيمَتَه أكْثَرَ ما كانت مِن حينِ الغَصْبِ إلى حينِ التَّلَفِ؛ لأنَّه في ضَمانِه مِن حينِ غَصْبِه إلى يومِ تَلَفِه، وإن ضَمَّنَ المُشْتَرِيَ، ضَمَّنَه قِيمَتَه أكْثَرَ ما كانت مِن حينِ قَبْضِه إلى يومِ تلفِه؛ لأنَّ ما قبلَ القَبْضِ لم يَدْخُلْ في ضَمانِه. وإن كانت له أُجْرَةٌ، فله الرُّجُوعُ على الغاصِبِ بجَمِيعِها، وعلى المُشْتَرِي بأَجْرِ مُقَامِه في يَدَيه، ¬

(¬1) في الأكل: «وكذلك». (¬2) سقط من: الأصل.

2356 - مسألة: (وإن غضب عبدا فأبق، أو فرسا فشرد، أو شيئا تعذر رده مع بقائه، ضمن قيمته، فإن قدر عليه بعد، رده وأخذ القيمة)

وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا، فَأَبَقَ، أَوْ فَرَسًا فَشَرَدَ، أَوْ شَيئًا تَعَذَّرَ رَدُّهُ مَعَ بَقَائِهِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيهِ بَعْدُ، رَدَّهُ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالباقِي على الغاصِبِ. الكلامُ في رُجُوعِ كلِّ واحدٍ منهما على صاحِبِه قد ذَكَرْناه فيما مَضَى. 2356 - مسألة: (وإن غَضب عَبْدًا فأَبَقَ، أو فَرَسًا فشَرَدَ، أو شيئًا تَعَذَّرَ رَدُّه مع بَقائِه، ضَمِن قِيمَتَه، فإن قَدَر عليه بعدُ، رَدَّه وأخَذَ القِيمَةَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن غَصَب شيئًا فعَجَزَ عن رَدِّه مع بَقائِه، كعَبْدٍ أبَقَ، فللمَغْصُوبِ منه المُطالبةُ بَبدَله، فإذا أخَذَه مَلَكَه، ولم يَمْلِكِ الغاصِبُ العَينَ المَغْصُوبَةَ، بل متى قَدَرَ عليه لَزِمَه رَدُّه، ويَسْتَرِدُّ بَدَلَها الذي أدَّاه. وبه قال الشافِعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَتَخَيَّرُ المالِكُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَ الصَّبْرِ أبي إمْكانِ رَدِّها فيَسْتَرِدُّها، وبينَ تَضْمِينِه إيّاها، فيَزُولُ مِلْكُه عنها وتَصِيرُ مِلْكًا للغاصِبِ لا يَلْزَمُه رَدُّها، إلَّا أن يكونَ دَفَع دُونَ قِيمَتِها، فهو له مع يَمِينِه؛ لأنَّ المالِكَ مَلَك البَدَلَ، فلا يَبْقَى مِلْكُه على المُبْدَلِ، كالبَيعِ، ولأنّه تَضْمِينٌ فيما يُنْقَلُ المِلْكُ فيه، فنَقَلَه, كما لو خَلَط زَيتَه بزَيتِه. ولَنا، أنَّ المَغْصُوبَ لا يَصِحُّ تَمَلُّكُه بالبَيعِ ههُنا، فلا يَصِحُّ بالتَّضْمِينِ، كالتَّالِفِ، ولأنَّه ضَمِن ما تَعَذَّرَ عليه رَدُّه بخُرُوجِه عن يَدِه، فلا يَمْلِكُه بذلك, كما لو كان المَغْصُوبُ مُدَبَّرًا، وليس هذا جَمْعًا بينَ البَدَل والمُبْدَلِ؛ لأنَّه مَلك القِيمَة لأجْلِ الحَيلُولَةِ، لا على سَبِيلِ العِوَضِ، ولهذا إذا ردَّ المَغْصُوبَ إليه، رَدَّ القِيمَةَ عليه، ولا يُشْبِهُ الزَّيتَ؛ لأنَّه يَجُوزُ بَيعُه، ولأنَّ حَقَّ صاحِبِه انْقَطَعَ عنه لتَعَذُّرِ رَدِّه. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّه، إذا

2357 - مسألة: (وإن غصب عصيرا فتخمر، فعليه)

وَإِنْ غَصَبَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ، فَعَلَيهِ قِيمَتُهُ. فَإِنِ انْقَلَبَ خَلًّا، رَدَّهُ، وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدَر على المَغْصُوبِ رَدَّه ونَماءَه المُنْفَصِلَ والمُتَّصِلَ، وأَجْرَ مِثْلِه إلى حينٍ دَفْعِ بَدَلِه. ويَجِبُ على المالِكِ رَدُّ ما أخَذَه بَدَلًا عنه إلى الغاصِبِ؛ لأنَّه أخَذَه بالحَيلُولةِ، وقد زالتْ، فيَجِبُ رَدُّ ما أخَذَ مِن أَجْلِها إن كان باقِيًا بعَينِه، وَرَدُّ زِيادَتِه المُتَّصِلَةِ؛ لأنَّهَا تَتْبَعُ في الفُسُوخِ، [وهذا فَسْخٌ، ولا يَلْزَمُ (¬1) رَدُّ زِيادَتِه المُنْفَصِلَةِ؛ لأنَّها وُجِدَتْ في مِلْكِه، ولا تَتْبَعُ في الفُسُوخِ] (¬2)، فأشْبَهَتْ زِيادَةَ المَبِيعِ المَرْدُودِ بعَيب. وإن كان البَدَلُ تالِفًا، فعليه مِثْلُه، أو قِيمَتُه إن لم يَكُنْ مِن ذَوَاتِ الأمْثالِ. 2357 - مسألة: (وإن غَصَب عَصِيرًا فتَخَمَّرَ، فعليه) مِثْلُه؛ لأنَّه تَلِفَ في يَدِه. فإن صار خَلًّا وَجَبَ رَدُّه (وما نَقَص مِن قِيمَةِ العَصِيرِ) ¬

(¬1) بعده في م: «منه». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَسْتَرْجِعُ ما أَدَّاه مِن بَدَلِه. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يَرُدُّ الخَلَّ، ولا يَسْتَرْجِعُ البَدَلَ، لأنَّ العَصِيرَ تَلِفَ بتَخَمُّرِه، فوَجَبَ ضَمانُه، فإن عادَ خَلًّا، كان كما لو هَزَلَتِ الجارِيَةُ السَّمِينَةُ، ثم عادَ سِمَنُها، فإنَّه يَرُدُّها وأَرْشَ نَقْصِها. ولَنا، أنَّ الخَلَّ عَينُ العَصِيرِ، تَغَيَّرَتْ صِفَتُه، وقد رَدَّه، فكان له اسْتِرْجاعُ ما أدَّاه بَدَلًا عنه, كما لو غَصَبَه فغَصَبَه منه غاصِبٌ ثم رَدَّه عليه، وكما لو غصَب حَمَلًا فصار كَبْشًا. وأمَّا السِّمَنُ الأوَّلُ فلَنَا فيه مَنْعٌ، وإن سَلَّمْناه، فالثانِي غيرُ الأوَّلِ، بخِلافِ مسألتِنا. فصل: إذا غَصَب أثْمانًا، فطَالبَه مالِكُها بها في بَلَدٍ آخَرَ، وَجَب رَدُّها إليه؛ لأنَّ الأثْمانَ قِيَمُ الأَمْوالِ، فلا يَضُرُّ اخْتِلافُ قِيمَتِها. وإن كان المَغْصُوبُ مِن المُتَقَوَّماتِ، لَزِمَ دَفْعُ قِيمَتِه في بَلَدِ الغَصْبِ. وإن كان مِن

فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَغْصُوب أُجْرَةٌ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ في يَدِهِ. وَعَنْهُ، التَّوَقُّفُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: ـــــــــــــــــــــــــــــ المِثْلِيّاتِ وقِيمَتُه في البَلَدَينِ واحِدَةٌ، أو هي أَقَلُّ في البَلَدِ الذي لَقِيَه فيه، فله مُطالبَتُه بمِثْلِه؛ لأنَّه لا ضَرَرَ على الغاصِبِ فيه. وإن كانت أكثَرَ، فليس له المِثْلُ؛ لأنّا لا نُكَلِّفُه النَّقْلَ إلى غيرِ البَلَدِ الذي غَصَب فيه، وله المُطالبَةُ بقِيمَتِه في بَلَدِ الغَصْبِ. وفي جَمِيعِ ذلك، متى قَدَر على المَغْصُوبِ أو المِثْلِ في بَلَدِ الغَصْبِ، رَدَّه وأخَذَ القِيمَةَ, كما لو غَصَب عَبْدًا فأَبَقَ. فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (فإن كانت للمَغْصُوبِ أُجْرَةٌ، فعلى الغاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِه مُدَّةَ مُقامِه في يَدِه) سَواءٌ اسْتَوْفَى المَنافِعَ أو تَرَكَها تَذْهَبُ. هذا المَعْرُوفُ في المَذْهَبِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ الأثرَمِ.

هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَضْمَنُ المَنافِعَ. وهو الذي نَصَرَه أصحابُ مالكٍ. وقد روى محمدُ بنُ الحَكمِ عن أحمدَ، في مَن غَصَب دارًا فسَكَنَها عِشْرِينَ سنة: لا أَجْتَرِئُ أن أَقُولَ: عليه أجْرُ (¬1) ما سَكَن. وهذا يَدُلُّ على تَوَقُّفِه عن إِيجابِ الأَجْرِ، إلَّا أنَّ أبا بكرٍ قال: (هذا قولٌ قَدِيمٌ) لأنَّ محمدَ بنَ الحَكَمِ ماتَ قبلَ أبِي عبدِ اللهِ بعِشْرِينَ سنة. واحْتَجَّ مَن لم يُوجِبِ الأجْرَ بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» (¬2). وضَمَانُها على الغاصِبِ. ولأنَّه اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَه بغيرِ عَقْدٍ ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، أشْبَهَ ما لو زَنى بامْرأةٍ مُطاوعَةٍ. ولَنا، أنَّ كلَّ ما ضَمِنَه ¬

(¬1) في تش، م: «سكنى». (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإِتْلافِ في العَقْدِ الفاسِدِ، جازَ أن يَضْمَنَه بمُجَرَّدِ الإتْلافِ، كالأَعْيانِ، ولأنَّه أَتْلَفَ مُتَقَوَّمًا، فوَجَبَ ضَمانُه، كالأعْيانِ. أو نقولُ: مالٌ مُتَقَوَّمٌ مَغْصُوبٌ، فوَجَبَ ضَمانُه، كالعَينِ. وأمّا الخَبَرُ فوارِدٌ في البَيعِ، ولا يَدْخُلُ فيه الغاصِبُ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له الانْتِفاعُ بالمَغْصُوبِ بالإِجْماعِ. ولا يُشْبِهُ الزِّنَى؛ لأنَّها رَضِيَتْ بإتْلافِ مَنافِعِها بغيرِ عِوَضٍ ولا عَقْدٍ يَقْتَضِي العِوَضَ، فكان بمَنْزِلَةِ مَن أعَارَه دارَه. ولو أكْرَهَها عليه، لَزِمَه مَهْرُها، والخِلافُ فيما له مَنافِعُ تُسْتَباحُ بعَقْدِ الإِجَارَةِ؛ كالعَقَارِ، والثِّيَابِ، والدَّوَابِّ، ونَحْوها. فأمّا الغَنَمُ والشَّجَرُ والطَّيرُ ونحوها، فلا شيءَ فيها؛ لأنَّه لا مَنافِعَ لها يُسْتَحَقُّ بها عِوَضٌ. ولو غَصَب جارِيَةً ولم يَطَأْها، ومَضَى عليها زَمَنٌ يُمْكِنُ الوَطْءُ فيه، لم يَضْمَنْ مَهْرَها؛ لأنَّ مَنافِعَ البُضْعِ لا تَتْلَفُ إلَّا بالاسْتِيفاءِ، بخِلافِ غيرِها، ولأنَّها لا تُقَدَّرُ بزَمَنٍ فيُتْلِفُها مُضِيُّ الزَّمَنِ، بخِلافِ المَنْفَعَةِ. ولو أَطْرَقَ الفَحْلَ لم يَضْمَنْ مَنْفَعَتَه؛ لأنَّه لا عِوَضَ له، لكنْ عليه ضَمانُ نَقصِه.

2358 - مسألة: (وإن تلف المغصوب، فعليه أجرته إلى وقت تلفه)

وَإِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ، فَعَلَيهِ أُجْرَتُهُ إلَى وَقْتِ تَلَفِهِ. وَإِنْ غَصَبَ شَيئًا فَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ، فَأَدَّى قِيمَتَهُ، فَعَلَيهِ أُجْرَتُهُ إلى وَقْتِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2358 - مسألة: (وإن تَلِفَ المَغْصُوبُ، فعليه أُجْرَتُه إلى وَقْتِ تَلَفِه) لأنَّه بعدَ التَّلَفِ لم تَبْقَ له مَنْفَعَةٌ، فلم يَجِبْ ضَمانُها, كما لو أَتْلَفَه مِن غيرِ غَصْبٍ. 2359 - مسألة: (وإن غَصَب شيئًا، فعَجَزَ عن رَدِّه، فأدَّى قِيمَتَه، فعليه أُجْرَتُه إلى وَقْتِ أَدَاءِ القِيمَةِ) لأنَّ مَنافِعَه إلى وَقْتِ أداءِ القِيمةِ

فصْلٌ: وَتَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ الْحُكْمِيَّةُ؛ كَالْحَجِّ، وَسَائِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ مَمْلُوكَةٌ لصاحِبِه، فلَزِمَه ضَمانُها. وهل يَلْزَمُه أَجْرُه مِن حينِ دَفْعِ بَدَلِه إلى رَدِّه؟ فيه وَجْهان؛ أَصَحُّهُما، لا يَلزَمُه؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ الانتِفاعَ ببَدَلِه الذي أُقِيمَ مُقامَه، فلم يَسْتَحِقَّ الانْتِفاعَ به وبما قامَ مَقامَه. والثاني، له الأَجْرُ؛ لأنَّ العَينَ باقِيةٌ على مِلْكِه، والمَنْفَعَةَ له. فصل: [قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه] (¬1): (وتَصَرُّفاتُ الغاصِبِ الحُكْمِيَّةُ؛ كالحَجِّ، وسائِرِ العِبادَاتِ، والعُقُودُ؛ كالبَيعِ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

الْعِبَادَاتِ، وَالْعُقُودِ؛ كَالْبَيعِ، وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوهَا، بَاطِلَةٌ في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ، وَالْأُخْرَى صَحِيحَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنِّكَاحِ، ونحوها، باطِلَةٌ في إحْدَى الرِّوَايَتَين، والأُخْرَى صَحِيحَةٌ) تَصَرُّفاتُ الغاصِبِ كتَصرُّفَاتِ الفُضُولِيِّ، وفيه رِوَايتانِ؛ أظْهَرُهما بُطْلانُها. والثانيةُ، صِحَّتُها ووُقُوفُها (¬1) على إجَازَةِ المالِكِ. وقد ذكَرَ شيخُنا في الكِتَابِ المَشْرُوحِ رِوايةً أنَّها تَقَعُ صَحِيحةً، وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وسَواءٌ في ذلك العِبادَاتُ؛ كالطَّهارَةِ، والصلاةِ، والزَّكاةِ، والحَجِّ، والعُقُودُ؛ كالبَيعِ، والإِجارَةِ، والنِّكَاحِ. وهذا يَنْبَغِي أن يَتَقَيَّدَ في العُقُودِ بما لم يُبْطِلْه المالِكُ، فأمّا ما اخْتارَ المالِكُ إبْطاله وأَخْذَ المَعْقُودِ عليه، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وأمّا ما لم يُدْرِكْه المالِكُ، فوَجْهُ التَّصْحِيحِ فيه أنَّ الغاصِبَ تَطُولُ مُدَّتُه وتَكْثُرُ تَصَرُّفاتُه، ففي القَضاءِ ببُطْلانِها ضَرَرٌ كَثِيرٌ، ورُبَّما عادَ الضَّرَرُ على المالِكِ، فإنَّ الحُكْمَ بصِحَّتِها يَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ للمالِكِ، والعِوَضِ بنَمائِه وزِيادَتِه له، والحُكْمَ ببُطْلانِها يَمْنَعُ ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «وقوعها».

2360 - مسألة: (وإن اتجر بالدراهم، فالربح لمالكها)

وَإِنِ اتَّجَرَ بالدَّرَاهِمِ، فَالرِّبْحُ لِمَالِكِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2360 - مسألة: (وإنِ اتَّجَرَ بالدَّرَاهِمِ، فالرِّبْحُ لمالِكِها) إذا غَصَب أثمانًا فاتَّجَرَ بها، أو عُرُوضًا فباعَها واتَّجَرَ بثَمَنِها، فقال أصحابُنا: الرِّبْحُ للمالِكِ، والسِّلَعُ المُشْتَراةُ له. وقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ، وأبو الخَطَّابِ: إن كان الشِّرَاءُ بعَينِ المالِ، فالرِّبْحُ للمالِكِ؛ لأنَّه نَماءُ مِلْكِه. قال الشَّرِيفُ: وعن أحمدَ، أنَّه يَتَصَدَّقُ به؛ لوُقُوعِ الخِلَافِ فيه.

2361 - مسألة: (وإن اشترى في ذمته ثم نقدها، [فكذلك إذا اشترى في ذمته]

وَإِنِ اشْتَرَى في ذِمَّتِهِ ثُم نَقَدَهَا، فَكَذَلِكَ. وَعَنْهُ، الرِّبْحُ لِلْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2361 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى في ذِمَّتِه ثم نَقَدَها، [فكذلك إذا اشْتَرَى في ذِمَّتِه] (¬1)، احْتَمَلَ أن يكونَ الرِّبْحُ للغاصِبِ. وكذلك ذَكَرَه أبو الخَطّابِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَي الشافِعِيِّ؛ لأنَّه اشْتَرَى لنَفْسِه في ذِمَّتِه، فكان الشِّراءُ له والرِّبْحُ له، وعليه بَدَلُ المَغْصُوبِ. وهذا قِياسُ قَوْلِ الخِرَقِيِّ، ورُوِيَ ذلك عن أحمدَ. واحْتَمَل أن يكونَ للمالِكِ؛ لأنَّه نَماءُ مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَى بعَينِ المالِ. وهذا المَشْهُورُ في ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَذْهَبِ. قال صاحِبُ «المُحَرَّرِ»: إذا اشْتَرَى في ذِمَّتِه بنِيَّةِ نَقْدِها؛ لِئَلَّا يَتَّخِذَ ذلك طَرِيقًا إلِي غَصْبِ مالِ الغَيرِ والتِّجارَةِ به. وإن خَسِر، فهو على الغاصِبِ؛ لأنَّه نَقْصٌ حَصَل في المَغْصُوبِ. وإن دَفَع المال إلى مَن يُضارِبُ به، فالحُكْمُ في الرِّبْحِ على ما ذَكَرْنا. وليس على المالِكِ مِن أجْرِ العامِلِ شيءٌ؛ لأنَّه لم يَأْذَنْ له في العَمَل في مالِه. وإن كان المُضارِبُ عالِمًا بالغَصْبِ، فلا أَجْرَ له؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بالعَمَلِ، ولم يَغُرَّه أحَدٌ. وإن لم يَعْلَمْ، فعلى الغاصِبِ أَجْرُ مِثْلِه؛ لأنَّه اسْتَعْمَله عَمَلًا بعِوَضٍ لم يَحْصُلْ له، فلَزِمَه أَجْرُه، كالعَقْدِ الفاسِدِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أَجَرَ الغاصِبُ المَغْصُوبَ، فالإِجازَةُ باطِلَةٌ، في إحْدَى الرِّواياتِ، كالبَيعِ، وللمالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهما شاءَ أَجْرَ المِثْلِ، فإن ضَمَّنَ. المُسْتَأْجِرَ، لم يَرْجِعْ بذلك؛ لأنَّه دَخَل في العَقْدِ على أنَّه يَضْمَنُ المَنْفَعَةَ ويَسْقُطُ عنه المُسَمَّى في العَقْدِ. وإن كان دَفَعَه إلى الغاصِبِ، رَجَع به. وإن تَلِفَتِ العَينُ في يَدِ المُسْتَأْجِرِ، فلمالِكِها تَضْمِينُ مَن شاءَ منهما قِيمَتَها، فإن ضَمَّنَ المُسْتَأْجِرَ، رَجَع بذلك على الغاصِبِ (¬1)؛ لأنَّه دَخَل معه على أنَّه لا يَضْمَنُ العَينَ، ولم يَحْصُلْ له (¬2) بَدَلٌ في مُقابَلَةِ ما غَرِمَ. وإن كان عالِمًا بالغصْبِ، لم يَرْجِعْ على الغاصِبِ؛ لأنَّه دَخَل على بَصِيرَةٍ، وحَصَل ¬

(¬1) في م: «الغارم». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّلَفُ في يَدِه، فاسْتَقَرَّ الضَّمانُ عليه، فإن ضَمَّنَ الغاصِبَ الأجْرَ والقِيمَةَ، رَجَع بالأَجْرِ على المُسْتَأْجِرِ، عَلِم أو لم يَعْلَمْ، ويَرْجِعُ بالقِيمَةِ إن كان المُسْتَأْجِرُ عَلِمَ بالغَصْبِ. وهذا قولُ الشافِعِيِّ، ومحمدِ بنِ الحسنِ، في هذا الفَصْلِ. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّ الأَجْرَ للغاصِبِ دونَ صاحِبِ الدّارِ. وهو فاسِدٌ؛ لأنَّ الأجْرَ عِوَضُ المنافِعِ المَمْلُوكَةِ لرَبِّ الدّارِ، فلم يَمْلِكْها الغاصِبُ، كعِوَضِ الأجْزاءِ.

2362 - مسألة: (وإن اختلفا في قيمة المغصوب، أو قدره، أو صناعة فيه، فالقول قول الغاصب)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ صِنَاعَةٍ فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2362 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في قِيمَةِ المَغْصُوبِ، أو قَدْرِه، أو صناعَةٍ فيه، فالقولُ قولُ الغاصِبِ) إذا اخْتَلَفَ المالِكُ والغاصِبُ في قِيمَةِ المَغْصُوبِ ولا بَيِّنَةَ، فالقولُ قولُ الغاصِبِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه، فلا يَلْزَمُه ما لم يَقُمْ عليه حُجَّةٌ, كما لو ادَّعَى عليه دَينًا فأقَرَّ ببَعْضِه. وكذلك إنِ اخْتَلَفَا في قَدْرِه، فقال: غَصَبْتَنِي مِائَةً. قال: بل خَمْسِينَ. لِما ذَكَرْنا. وكذلك إن قال المالِكُ: كان كاتِبًا -أو- له صِناعَةٌ. فأنْكَرَ الغاصِبُ، فالقولُ قولُه كذلك (¬1). فإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بالصِّفَةِ، ثَبَتَت. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «لذلك».

2363 - مسألة: (وإن اختلفا في رده، أو عيب، فالقول قول المالك)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في رَدِّهِ، أَوْ عَيبٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2363 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في رَدِّه، أو عَيبٍ، فالقولُ قولُ المالِكِ) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الردِّ وبَقاؤُه في يَدِ الغاصِبِ. وإن قال الغاصِبُ: كانت فيه سَلْعَةٌ -أو- إصْبَعٌ زائِدَةٌ -أو- عَيبٌ. وأنْكَرَ المالِكُ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك. وإنِ اخْتَلَفا بعدَ زِيادَةِ قِيمَةِ المَغْصُوبِ في وَقْتِ الزِّيادَةِ، فقال المالِكُ: زادَتْ قبلَ تَلَفِه. وقال الغاصِبُ: بعدَ تَلَفِه. فالقولُ قولُ الغاصِبِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِه. وإن [شاهَدَتِ البَيِّنَةُ] (¬1) العَبْدَ مَعِيبًا، فقال الغاصِبُ: كان مَعِيبًا قبلَ غَصْبه. وقال المالِكُ: تَعَيَّبَ عندَك. فالقولُ قولُ الغاصِبِ؛ لأنَّه غارِمٌ، ولأَنَّ الظّاهِرَ أنَّ صِفَةَ العَبْدِ لم تَتَغَيَّرْ. ويَتَخَرَّجُ أنَّ القولَ قولُ المالِكِ، كما إذا اخْتَلَفَ البائِعُ والمُشْتَرِى في العَيبِ: هل كان عندَ البائِعِ، أو حَدَث عندَ المُشْتَرِي؟ فإنَّ فيه رِوايَةً، ¬

(¬1) في م: «شاهدنا».

2364 - مسألة: (وإن بقيت في يده غصوب لا يعلم أربابها، تصدق بها عنهم، بشرط الضمان، كاللقطة)

وَإِنْ بَقِيَتْ في يَدِهِ غُصُوبٌ لَا يَعْرفُ أَرْبَابَهَا، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُمْ، بِشرْطِ الضَّمَانِ، كَاللُّقَطَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ القَوْلَ قولُ البائِعِ، كذلك هذا. وإن غَصَبَه خَمْرًا، فقال المالِكُ: تَخَلَّلَ عندَك. وأنْكَرَ الغاصِبُ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ تَغيُّرِه وبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الغاصِبِ. وإنِ اخْتَلَفَا في تلَفِه، فالقولُ قولُ الغاصِبِ إذا ادَّعَى التَّلَفَ؛ لأنَّه أَعْلَمُ بذلك، وتَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنةِ عليه، فإذا حَلَف، فللمالِكِ المُطالبَةُ ببَدَلِه؛ لأنَّه تَعَذَّرَ رَدُّ العَينِ، فلَزِمَ بَدَلُها, كما لو غَصَب عَبْدًا فأَبَقَ. وقيلَ: ليس له المُطالبَةُ بالبَدَلِ؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه. وإن قال: غَصَبْتَ مني حَدِيثًا. قال: بل عَتِيقًا. فالقولُ قولُ الغاصِبِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الحَدِيثِ، وللمالِكِ المُطالبَةُ بالعَتِيق؛ لأنَّه دُونَ حَقِّه. وإنِ اخْتَلَفا في الثِّيابِ التي على العَبْدِ، فهي للغاصِبِ؛ لأنَّها في يَدِه، فكان القَول قوْله فيها، ولم يَثْبُتْ أنَّها كانت لمالِكِ العَبْدِ. 2364 - مسألة: (وإن بَقِيَتْ في يَدِه غُصُوبٌ لا يَعْلَمُ أَرْبابَها، تَصَدَّقَ بها عنهم، بشَرْطِ الضَّمَانِ، كاللُّقَطَةِ) لأنَّه عاجِزٌ عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَدِّها على أصحابِها، فإذا تَصَدَّقَ بها عنهم كان ثَوابُها لأرْبابِها، فيُسْقِطُ ذلك إثْمَ غَصْبِها، ولأنَّ قَضاءَ الحُقُوقِ في الآخِرَةِ بالحَسَناتِ وحَمْلِ السَّيِّئاتِ، فإذا طُلِبَ منه عِوَضُ الغصْبِ أحَالهُم بثَوابِ الصَّدَقَةِ. [وعنه في اللُّقَطَةِ، لا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ] (¬1) بها. فيُخَرَّجُ ههُنا مثلُه. فعلى هذا، له دَفْعُه إلى نائِبِ الإِمَامِ، كالضَّوَالِّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَمَنْ أَتْلَفَ مَالًا مُحْتَرَمًا لِغَيرِه، ضَمِنَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (ومَن أَتْلَفَ مالًا مُحْتَرَمًا لغيرِه، ضَمِنَه) إذا كان بغيرِ إذْنِه. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّه فَوَّتَه عليه، فوَجَبَ عليه ضَمانه, كما لو غَصَبَه فتَلِفَ عندَه.

2365 - مسألة: (وإن فتح قفصا عن طائره)

وَإِنْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرِهِ، أَوْ حَلَّ قَيدَ عَبْدِهِ، أَوْ رِبَاطَ فَرَسِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2365 - مسألة: (وإن فَتَح قَفَصًا عن طائِرِه) فطَارَ (أَوْ حَلَّ قَيدَ عَبْدِه، أو رِبَاطَ فَرَسِه) [إذا حَلَّ رِباطَ دابَّةٍ فذَهَبَتْ، أو فَتَح قَفَصًا عن طائِرِهِ فطار، ضَمِنَهما] (¬1). وبه قال مالِكٌ. وقال أبو حنيفةَ، والشافِعِيُّ: لا ضَمانَ عليه، إلَّا أن يكونَ أهَاجَهُما حتى ذَهَبَا. وقال أصحابُ الشافِعِيِّ: إن وَقَفَا بعدَ الحَلِّ والفَتْحِ، ثم ذَهَبَا، لم يَضْمَنْهُما، ¬

(¬1) في تش، م: «فذهبت ضمنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن ذَهَبَا عَقِيبَ ذلك، ففيه قَوْلانِ. واحْتَجَّا بأنَّ لهما اخْتِيارًا، وقد وُجِدَتْ منهما المُباشَرَةُ، ومِن الفاتِحِ سَبَبٌ غيرُ مُلْجِئٍ، فإذا اجْتَمَعَا، لم يَتَعَلَّقِ الضَّمانُ بالسببِ، كما لو حَفرَ بِئْرًا فجاء عَبْدٌ لإِنْسانٍ فرَمَى نَفْسَه فيها. ولَنا، أنَّه ذَهَب بسَبَبِ فِعْلِه، فلَزِمَه الضَّمانُ، كما لو نَفَّرَه، أو ذَهَب عَقِيبَ فَتْحِه وحَلِّه، والمُباشَرَةُ إنَّما حَصَلتْ مِمَّن لا يُمْكِنُ إحَالةُ الحُكْمِ عليه، فيَسْقُطُ، كما لو نَفَّرَ الطائِرَ، وأهَاجَ الدّابَّةَ، أو أشْلَى (¬1) كَلْبًا على صَبِيٍّ فقَتَلَه، أو أطْلَقَ نارًا في مَتاعِ إنْسانٍ، فإنَّ للنارِ فِعْلًا، لكنْ لَمَّا لم يُمْكِنْ إحالةُ الحُكْمِ عليها، كان وُجُودُه كعَدَمِه، ولأنَّ الطائِرَ وسائِرَ الصَّيدِ مِن طَبْعِه النُّفُورُ، وإنَّما يَبْقَى بالمانعِ، فإذا أُزِيلَ المانِعُ ذَهَبَ بطَبْعِه، فكان ضَمانُه على مَن أزَال المانِعَ، كمَن قَطَع عِلَاقَةَ قِنْدِيلٍ فوَقَعَ فانْكَسَرَ. وهكذا لو حَلَّ قَيدَ عَبْدٍ فذَهَبَ، أو أَسِيرٍ فأَفْلَتَ؛ لأنَّه تَلِفَ بسَبَبِ فِعْلِه. ¬

(¬1) أشلاه: أغراه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا إن فَتَح القَفَصَ، وحَلَّ الفَرَسَ، فبَقِيَا واقِفَين، فجاء إنْسانٌ فنَفَّرَهُما فذَهَبَا، فالضَّمانُ على مُنَفِّرِهِما؛ لأنَّ سَبَبَه أخَصُّ فاخْتَصَّ الضَّمانُ به، كالدّافِعِ مع الحافِرِ. وإن وَقَع طائِرُ إنْسانٍ على جِدَارٍ، فنَفَّرَه إنْسانٌ فطَارَ، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّ تَنْفِيرَه لم يَكُنْ سَبَبَ فَوَاتِه، فإنَّه كان مُمْتَنِعًا قبل ذلك. وإن رَمَاه فقتَله، ضَمِنَه وإن كان في دارِه؛ لأنَّه كانْ يُمْكِنُه تَنْفِيرُه بغيرِ قَتْلِه. وكذلك لو مَرَّ طائِرٌ في هَواءِ دارِه فرَمَاه فقَتَلَه، ضَمِنَه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ مَنْعَ الطائِرِ مِن هَواءِ الدّارِ، فهو كما لو رَمَاه في هَواءِ دارِ غيرِه.

2366 - مسألة: وإن حل (وكاء زق مائع، أو جامد فأذابته الشمس، أو بقي بعد حله قاعدا، فألقته الريح فاندفق، ضمنه)

أَوْ وكَاءَ زِقِّ مَائِعٍ، أَوْ جَامِدٍ فَأذَابَتْهُ الشَّمْسُ، أَوْ بَقِيَ بَعْدَ حَلِّهِ قَاعدًا فَأَلقَتْهُ الرِّيحُ فَانْدَفَقَ، ضَمِنَهُ. وَقَال الْقَاضِي: لَا يَضْمَنُ مَا أَلْقَتْهُ الرِّيحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2366 - مسألة: وإن حَلَّ (وكَاءَ زِقِّ مائعٍ، أو جامِدٍ فأذَابَتْه الشمسُ، أو بَقِيَ بعدَ حَلِّه قاعِدًا، فأَلْقَتْه الرِّيحُ فانْدَفقَ، ضَمِنَه) إذا حَلَّ وكَاءَ زِقٍّ مائعٍ فانْدَفَقَ، أو كان جامِدًا، فذَابَ بشمسٍ، أو سَقَط برِيحٍ أو بزَلْزَلةٍ، ضَمِنَه، سَواءٌ خَرَج في الحالِ، أو قَلِيلًا قَلِيلًا (¬1)، أو خَرَجَ منه شيءٌ بَلَّ أَسْفَلَه، فسَقَطَ، أو ثَقَّلَ أحَدَ جانِبَيه، فلم يَزَلْ يَمِيلُ قَلِيلًا قليلًا حتى سَقَطَ، [أو سَقَط بزَلْزَلَةٍ أو رِيحٍ، أو كان جامِدًا فذابَ بشمسٍ] (¬2)؛ لأنَّه تَلِفَ بسَبَبِ فِعْلِه (وقال القاضي: لا يَضْمَنُ) إذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: تش، م.

2367 - مسألة: (وإن ربط دابة في طريق فأتلفت، أو اقتنى كلبا عقورا فعقر، أو خرق ثوبا، ضمن)

وَإِنْ رَبَطَ دَابَّةً في طَرِيقٍ فَأَتْلَفَتْ، أَو اقْتَنَى كَلْبًا عَقُورًا فَعَقَرَ، أَوْ خَرَقَ ثَوْبًا ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَقَطَ برِيحٍ أو زَلْزَلَةٍ، ويَضْمَنُ فيما سِوَى ذلك. وبه قال أصحابُ الشافعيِّ. ولهم فيما إذا ذابَ بالشمسِ وَجْهان، قالوا: لأنَّ فِعْلَه غيرُ مُلْجِئٍ، والمَعْنَى الحادِثُ مُباشَرَةٌ، فلم يتَعَلَّقِ الضَّمانُ بفِعْلِه, كما لو دَفَعَه إنْسانٌ. ولَنا، أنَّ فِعْلَه سَبَبُ تَلَفِه، ولم يَتَخَلَّلْ بينَهما ما يُمْكِنُ إحالةُ الحُكْمِ عليه، فوَجَبَ عليه الضَّمانُ, كما لو خَرَج عَقِيبَ فِعْلِه، أو مال قَلِيلًا قَلِيلًا، وكما لو جَرَح إنْسانًا فأصَابَه الحَرُّ أو البرْدُ فسَرَتِ الجِنايَةُ، فإنَّه يَضْمَنُ. وأمّا إذا دَفَعَه إنْسانٌ، فإنَّ المُتَخَلِّلَ بينَهما مُباشَرَةُ مَن تُمْكِنُ الإِحالةُ عليه، بخِلافِ مسألَتِنا. 2367 - مسألة: (وإن رَبَط دابَّةً في طَرِيقٍ فأتْلَفَتْ، أو اقْتَنَى كَلْبًا عَقُورًا فَعَقَرَ، أو خَرَق ثَوْبًا، ضَمِن) إذا أَوْقَفَ الدّابَّةَ في طَرِيقٍ ضَيِّقٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمِن ما جَنَتْ بيَدٍ أو رِجْلٍ أو فَمٍ؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بوَقْفِها فيه. وإن كان الطَّرِيقُ واسِعًا، ضَمِن في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو مذهبُ الشافِعِيِّ؛ لأنَّ انْتِفاعَه بالطَّرِيقِ مَشْرُوطٌ بالسَّلامَةِ. وكذلك (¬1) لو تَرَك في الطَّرِيقِ طِينًا فزَلَقَ به إنْسانٌ، ضَمِنَه. والثانيةُ، لا يَضْمَنُ؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ بوَقْفِها في الطَّرِيقِ الواسِعِ، فلم يَضْمَنْ, كما لو وَقَفَها في مَوَاتٍ. وفارَقَ الطِّينَ؛ فإَّنه مُتَعَدٍّ بتَرْكِه في الطَّرِيقِ. وأمَّا الكَلْبُ، فيَلْزَمُه ضَمانُ ما أتْلَفَ؛ لأنَّه تَعَدَّى بذلك، فلَزِمَه الضَّمانُ, كما لو بَنَى في الطَّرِيقِ دُكّانًا. ¬

(¬1) في تش، م: «ولذلك».

2368 - مسألة: (إلا أن يكون دخل منزله بغير إذنه)

إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغيرِ إِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2368 - مسألة: (إلَّا أن يكونَ دَخَل مَنْزِلَه بغيرِ إذنِه) لأنَّه مُتَعَدٍّ بالدُّخُولِ، فقد تَسَبَّبَ إلى إتْلافِ نَفْسِه بجِنايَتِه، وإن دَخَل بإذْنِ المالِكِ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه تَسَبَّبَ إلى إتْلافِه. فإن أَتْلَفَ الكَلْبُ بغيرِ العَقْرِ، مثلَ أن وَلَغ في إناءِ إنْسانٍ أو بال، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّ هذا لا يَخْتَصُّ الكَلْبَ العَقُورَ. قال القاضي: وإنِ اقْتَنَى سِنَّوْرًا يَأْكُلُ أفْراخَ الناسِ، ضَمِن ما أتْلَفَه، كالكَلْبِ العَقُورِ، ولا فَرْقَ بينَ اللَّيلِ والنَّهَارِ. فإن لم تَكُنْ له عادَةٌ بذلك،

2369 - مسألة: (وقيل: في الكلب روايتان في الجملة)

وَقِيلَ: في الْكَلْب رِوَايَتَانِ في الْجُمْلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَضْمَنْ صاحِبُه جِنايَتَة، كالكَلْبِ الذي ليس بعَقُورٍ. ولو أنَّ الكَلْبَ العَقُورَ أو السِّنَّوْرَ حَصَل عندَ إنْسانٍ مِن غيرِ اقْتِنائِه ولا اخْتِيارِه فأفْسَدَ، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه لم يَحْصُلِ الإِتْلافُ بتَسَبُّبِه. فإنِ اقْتَنَى حَمامًا أو غيرَه مِن الطَّيرِ فأرْسَلَه نَهارًا، فلَقَطَ حَبًّا، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّ العادَةَ إرْسالُه. 2369 - مسألة: (وقيلَ: في الكَلْب رِوَايتانِ في الجُمْلَةِ) إحداهما، يَضْمَنُ، سَواءٌ كان في مَنْزِلِ صاحِبِه أَو خارِجًا، وسَواءٌ دَخَل بإذْنِ صاحِبِ المَنْزِلِ أو بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّ اقْتِناءَه الكَلْبَ العَقُورَ سَبَبٌ للعَقْرِ وأَذى الناسِ، فضَمِنَ صاحِبُه، كَمن رَبَط دابَّةً في طَرِيقٍ ضَيِّقٍ. والثانيةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَضْمَنُ؛ لقولِه، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «العَجْماءُ (¬1) جُبَارٌ (¬2)». ولأنَّه أتْلَفَ مِن غيرِ أن تكونَ يَدُ صاحِبِه عليه، أشْبَهَ سائِرَ البَهائِمِ. ¬

(¬1) في م: «جرح العجماء». (¬2) جُبار: أي هدر. وتقدم تخريجه في 6/ 587.

2370 - مسألة: (وإن أجج نارا في ملكه، أو سقى أرضه،

وَإِنْ أَجَّجَ نَارًا فِي مِلْكِهِ، أَوْ سَقَى أَرْضَهُ، فَتَعَدَّى إلَى مِلْكِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2370 - مسألة: (وإن أَجَّجَ نارًا في مِلْكِه، أو سَقَى أرْضَه،

غَيرِهِ فَأَتْلَفَهُ، ضَمِنَ إِذَا كَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِيهِ، أوْ فَرَّطَ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَعَدَّى إلى مِلْكِ غيرِه فأتْلَفَه، ضَمِنَ إذا كان قد أَسْرَفَ فيه، أو فَرَّطَ، وإلَّا فلا) وجُمْلَتُه، أنَّه إذا فَعَل ذلك، لم يَضْمَنْ إذا كان ما جَرَتْ به العادَةُ مِن غيرِ تفرِيطٍ؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ، ولأنَّها سِرَايَة فِعْلٍ مُباحٍ، فلم يَضْمَنْ، كسِرَايَةِ القَوَدِ. وفارَقَ مَن حَلَّ وكَاءَ زِقٍّ فانْدَفَقَ؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بحَلِّه، ولأنَّ الغالِبَ خُروجُ المائِعِ مِن الزِّقِّ المَفْتوحِ، بخِلافِ هذا. فإن كان بتَفْرِيطٍ منه أو إسْرافٍ؛ بأن أَجَّجَ نارًا تَسْرِى في العادَةِ لكَثْرَتِها، أو في رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَحْمِلُها، أو فَتَحَ ماءً كثيرًا يتَعَدَّى، أو فَتَح الماءَ في أرْضِ غيرِه، أو أَوْقَدَ في دارِ غيرِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ به وإن سَرَى إلى غيرِ الدّارِ التي أَوْقَدَ فيها، والأرضِ التي فَتَحَ الماءَ فيها؛ لأنَّها سِرَايَةُ غدْوانٍ، أشْبَهَ سِرايَةَ الجُرْحِ الذي تَعَدَّى به. وكذلك (¬1) إن يَبَّسَتِ النارُ أغْصانَ شَجَرَةِ غيرِه، يَضْمَن؛ لأنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا مِن نارٍ كَثِيرَةٍ، إلَّا أن تكونَ الأغْصان في هَوائِه، فلا يَضْمَنُ؛ لأنَّ دُخُولَها إليه غيرُ مُسْتَحَقٍّ، فلا يُمْنَعُ مِن التَّصَرُّفِ في دارِه؛ لحُرْمَتِها. ومَذْهَبُ الشافِعِيِّ كما ذَكَرْنا في هذا الفصلِ. ¬

(¬1) في م: «ولذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ألْقَتِ الرِّيحُ إلى دارِه ثَوْبَ غيرِه، لَزِمَه حِفْظُه؛ لأنَّه أمانَةٌ حَصَلَتْ تحتَ يَدِه، أشْبَهَتِ اللُّقَطَةَ. فإن لم يَعْرِفْ صاحِبَه، فهو لُقَطَةٌ يَثْبُتُ فيها أحْكامُها. وإن عَرَف صاحِبَه، لَزمَه إعْلَامُه، فإن لم يَفْعَلْ، ضَمِنَه؛ لأنَّه أمْسَكَ مال غيرِه بغيرِ إذنِه مِن غيرِ تَعْرِيفٍ، فهو كالغاصِبِ. وإن سَقَط طائِرٌ في دارِه، لم يَلْزَمْه حِفْظُه، ولا إعْلامُ صاحِبِه؛ لأنَّه مَحْفُوظٌ بنَفْسِه، إلَّا أن يكونَ غيرَ مُمْتَنِعٍ، فهو كالثَّوْبِ. وإن دَخَل بُرْجَه، فأغْلَقَ عليه البابَ ناويًا إمْساكَه لنَفْسِه، ضَمِنَه؛ لأنَّه أمْسَكَ مال غيره لنَفْسِه، فهو كالغاصِبِ، وإلَّا فلا ضَمان عليه؛ لأنَّه يَتَصَرَّف في بُرْجِه كيف شاءَ، فلا يَضْمَنُ مال غيرِه بتَلَفِه ضِمْنًا (¬1)، لتَصَرُّفِه الذي لم يَتَعَدَّ فيه. ¬

(¬1) في الأصل: «ضمانا».

2371 - مسألة: (وإن حفر في فنائه بئرا لنفسه، ضمن ما تلف بها)

وَإِنْ حَفَرَ في فِنَائِهِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2371 - مسألة: (وإن حَفَر في فِنائِه بِئْرًا لنَفْسِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ بها) الفِنَاءُ ما كان خارِجَ الدّارِ قَرِيبًا منها. إذا حَفَر في الطَّرِيقِ بِئْرًا لنَفْسِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ بها، سَواءٌ حَفَرَها بإذْنِ الإِمامِ أو بغيرِ إذْنِه، وسَواءٌ كان فيها ضَرَرٌ أو لا. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن حَفَرَها بإذْنِ الإِمامِ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ للإِمَام أن يَأْذَنْ في الانْتِفاعِ بما لا ضَرَرَ فيه، بدَلِيلِ أنَّه يَجُوزُ أن يَأْذَنَ في القُعُودِ (¬1) فيه، ويُقْطِعَه لمَن يَبِيعُ فيه. ولَنا، أنَّه تَلِفَ بحَفْرِ حُفْرَةٍ في مَكانٍ مُشْتَرَكٍ بغيرِ إذْنِ أهْلِه لغيرِ مَصْلَحَتِهم، ¬

(¬1) في الأصل، م: «العقود».

2372 - مسألة: (وإن حفرها في سابلة؛ لنفع المسلمين، لم يضمن، في أصح الروايتين)

وَإِنْ حَفَرَهَا في سَابِلَةٍ؛ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَضْمَنْ، في أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فضَمِنَ, كما لو لم يَأْذَنْ فيه الإِمَامُ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ للإِمامِ الإِذْنَ في هذا. وإنَّما جازَ الإِذْنُ في القُعُودِ (¬1)؛ لأنَّه لا يَدُومُ، ويُمْكِنُ إزَالتُه في الحالِ، أشْبَهَ القُعُودَ في المَسْجِدِ، ولأنَّ (¬2) القُعُودَ جائِزٌ مِن غيرِ إذْنِ الإِمَام، بخِلافِ الحَفْرِ. 2372 - مسألة: (وإن حَفَرَها في سابِلَةٍ؛ لنَفْعِ المسلمينَ، لم يَضْمَنْ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين) مثلَ أن يَحْفِرَها ليَنْزِلَ فيها ماءُ المَطَرِ، أو ليَشْرَبَ منه المارَّةُ، ونحو هذا، فلا يَضْمَنُ؛ لأنَّه مُحْسِنٌ بفِعْلِه غيرُ مُتَعَدٍّ، أشْبَهَ باسِطَ الحَصِيرِ في المَسْجِدِ. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَضْمَنُ إذا ¬

(¬1) في الأصل: «العقود». (¬2) في الأصل: «وليس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان بإذْنِ الإمامِ، وإن كان بغيرِ إذْنِه، لم يَضْمَنْ في إحدى الرِّوايَتَين، فإنَّ أحمدَ مَال في رِوايَةِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ: إذا أَحْدَثَ بِئْرًا لماءِ المَطَرِ، ففيه (¬1) نَفْعٌ للمُسْلِمِينَ، أَرْجُو أن لا يَضْمَنَ. والثانيةُ، يَضْمَنُ. أَوْمَأَ إليه أحمدُ؛ لأنَّه افْتأَتَ علي الإِمَامِ. ولم يَذْكُرِ المَاضِي سِوَى هذه الرِّوايَةِ. والصَّحِيحُ الأوّلُ؛ لأن هذا مِمّا تَدْعُو الحاجَةُ إليه، ويَشُقُّ اسْتِئْذانُ الإِمَامِ فيه، وتَعُمُّ البَلْوَى به، ففي وُجُوبِ الاسْتِئْذانِ فيه تَفْويتٌ لهذه المَصْلَحَةِ العامَّةِ؛ لأنَّه لا يَكادُ يُوجَدُ مَن يَتَحَمَّلُ كُلْفَةَ الاسْتِئْذانِ والحَفْرِ معًا، فتَضِيعُ هذه المَصْلَحَةُ، فوَجَبَ سُقُوطُ الاسْتِئْذانِ, كما في سائِرِ المَصالِحِ العَامّةِ؛ مِن بَسْطِ حَصِيرٍ في المَسْجِدِ، أو وَضْعِ سِرَاجٍ، أو رَمِّ شَعَثٍ، وأشْباهُ ذلك. وحُكمُ البِناءِ في الطَّرِيقِ حُكْمُ الحَفْرِ فيها، على ما ذَكَرْنا مِن التَّفْصِيلِ والخِلافِ، وهو أنَّه متى بَنَى بِناءً يَضُرُّ؛ لكَوْنِه في طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، ¬

(¬1) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو واسِعٍ إلَّا أنَّه يَضُرُّ بالمارَّةِ، أو بَنَى (¬1) لنَفْسِه، ضَمِن ما تَلِفَ به، وسَواءٌ في ذلك كلِّه إذْنُ الإِمَامِ وعَدَمُ الإِذْنِ. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يُعْتَبَرَ إذْنُ الإِمامِ في البِنَاءِ لنَفْعِ المُسْلِمينَ دونَ الحَفْرِ؛ لأنَّ الحَفْرَ تَدْعُو الحاجَةُ إليه لنَفْعِ الطَّرِيقِ، وإصْلاحِها، وإزالةِ الطِّينِ والماءِ منها، بخِلافِ البِناء، فجَرَى حَفْرُها مَجْرَى تَنْقِيَتها، وحَفْرِ هِدْفَةٍ (¬3) منها، وقَلْعِ حَجَرٍ يَضُرُّ بالمارَّةِ، ووَضْعِ الحَصَى في حُفْرَةٍ فيها [لِيَمْلَأَها ويُسَهِّلَها] (¬4) بإزَالةِ الطِّينِ ونحوه منها، وتَسْقِيفِ ساقِيةٍ فيها، ووَضْعِ حَجَرٍ في [طِينِ فيها] (¬5) ليَطَأَ الناسُ عليه، فهذا كُلُّهُ مُباحٌ، لا يَضْمَنُ ما ¬

(¬1) في م: «بناه». (¬2) في: المغني 12/ 91. (¬3) الهدفة: القطعة. (¬4) في تش: «ويملأها ليسهلها»، وفي م: «ليسهلها ويملكها». (¬5) في الأصل: «طينها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَلِفَ به. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك يَنْبَغِي أن يكونَ في بِناءِ القَناطِرِ. ويَحْتَمِلُ أن يُعْتَبَرَ إذْنُ الإِمَامِ فيها؛ لأنَّ مَصْلَحَتَه لا تَعُمُّ، بخِلافِ غيرِه. قال بعضُ أصحابِنا في حَفْرِ البِئْرِ: يَنْبَغِي أن يَتَقَيَّدَ سُقُوطُ الضَّمانِ إذا حَفَرَها في مَكانٍ مائِلٍ عن القارِعَةِ، وجَعَل عليه حاجِزًا يُعْلَمُ به ليُتَوَقَّى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَفَر العَبْدُ بِئْرًا في مِلْكِ إنْسانٍ بغيرِ إذْنِه، أو في طَرِيقٍ، يَتَضَرَّرُ به، ثم أُعْتِقَ، ثم تَلِفَ بها شيءٌ، ضَمِنَه العَبْدُ. وبه قال الشّافِعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: الضَّمانُ على السَّيِّدِ؛ لأنَّ الجِنايَةَ بالحَفْرِ (¬1) في حالِ رِقِّه، وكان ضَمانُ جِنايَتِه حِينَئذٍ على سَيِّدِه، ولا يَزُولُ ذلك بعِتْقِه, كما لو جَرَح في حالِ رِقِّه ثم سَرَى جُرْحُه بعدَ عِتْقِه. ولَنا، أنَّ التلَفَ المُوجِبَ للضَّمانِ وُجِدَ بعدَ العِتْقِ، فكان الضَّمانُ عليه, كما لو اشْتَرَى سَيفًا في حالِ ¬

(¬1) في الأصل: «الحفر».

2373 - مسألة: (وإن بسط في مسجد حصيرا، أو علق فيه قنديلا)

وَإِنْ بَسَطَ في مَسْجِدٍ حَصِيرًا، أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا، لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رِقِّه ثم قَتَل به بعدَ عِتْقِه. وفارَقَ ما قاسُوا عليه؛ لأنَّ الإِتْلافَ المُوجِبَ للضَّمانِ وُجِدَ حال رِقِّه، وههُنا حَصَل بعدَ عِتْقِه. وكذلك القولُ في نَصْبِ حَجَرٍ أو غيرِه مِن الأسْبابِ التي يَجِبُ بها الضَّمانُ. 2373 - مسألة: (وإن بَسَط في مَسْجِدٍ حَصِيرًا، أو عَلَّقَ فيه قِنْدِيلًا) أو سَقَفَه، أو نَصَب عليه بابًا، أو جَعَل فيه رَفًّا ليَنْتَفِعَ به الناسُ، فتَلِفَ به شيءٌ، فلا ضَمانَ عليه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن فَعَل شيئًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ذلك بغير إذْنِ الإِمامِ، ضَمِن في أحَدِ الوَجْهَين. وقال أبو حنيفةَ: يَضْمَنُ إذا لم يَأْذَنْ فيه الجِيرانُ. ولَنا، أنَّ هذا فِعْلٌ أحْسَنَ به ولم يَتَعَدَّ فيه، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به, كما لو أَذنَ فيه الإِمامُ والجِيرانُ، ولأَنه فَعَل ما يَنْتَفِعُ به المُسْلِمونَ غالِبًا، فلم يَضْمَنْ، كمَن مَهَّدَ الطَّرِيقَ، ولأنَّ هذا مَأذُونٌ فيه عُرْفًا؛ لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بالتبَّرُّعِ به مِن غيرِ اسْتِئْذانٍ، فلم يَضْمَنْ فاعِلُه، كالمأْذُونِ فيه نُطْقًا.

2374 - مسألة: (وإن جلس في مسجد أو طريق واسع، فعثر به حيوان)

وَإِنْ جَلَسَ في مَسجِدٍ أوْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ فَعَثَرَ بِهِ حَيَوَانٌ، لَمْ يَضْمَنْ، في أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2374 - مسألة: (وإن جَلَس في مَسْجِدٍ أو طَرِيقٍ واسعٍ، فعَثَرَ به حَيوانٌ) فتَلِفَ (لمِ يَضْمَنْ، في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه جَلَس في مَكانٍ له الجُلُوسُ فيه مِن غيرِ تعَدٍّ على أحَدٍ. وفي الآخرِ، يَضْمَن؛ لأنَّ الطَّرِيقَ إنَّما جُعِلَتْ للمُرُورِ فيها لا الجُلُوسِ، والمَسْجِدُ للصَّلَاةِ وذِكْرِ الله تِعالى. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّه فَعَل فِعْلًا مُباحًا. وقولُهم: إنَّ الطَّرِيقَ إنَّما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جُعِلَتْ للمُرُورِ. مَمْنوعٌ، فإنَّ الطَّرِيقَ الواسِعَ يُجْلَسُ فيه عادةً، وكذلك المَسْجِدُ جُعِلَ للصلاةِ وانْتِظارِها والاعْتِكافِ فيه في جَميعِ الأوْقاتِ، وبعضُها لا تُباحُ الصَّلاةُ فيه، ولأنَّ انْتِظارَ الصلاةِ والاعْتِكافَ قُرْبَةٌ، فلم يتَعَلَّقْ به الضَّمانُ، كالصلاةِ. والله أعلمُ.

2375 - مسألة: (وإن أخرج جناحا أو ميزابا إلى الطريق، فسقط على شيء فأتلفه، ضمن)

وَإِنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا أَوْ مِيزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ، فَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ أَتْلَفَهُ، ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2375 - مسألة: (وإن أخْرَجَ جَنَاحًا أو مِيزَابًا إلى الطَّرِيقِ، فسَقَطَ على شيءٍ فأتْلَفَه، ضَمِنَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا أَخْرَجَ إلى الطَّرِيقِ النافِذِ جَناحًا، أو سابَاطًا، فسَقَطَ، أو شيءٌ منه على شيءٍ، فأتْلَفَه، ضَمِنَه المُخْرِجُ. وقال أصحابُ الشافِعِيِّ: إن وَقَعَتْ خَشَبَةٌ ليست مُرَكَّبَةً على حائِطٍ، [وَجَب ضَمانُ ما أتْلَفَتْ، وإن كانت مُرَكَّبَةً على حائِطِه] (¬1)، وَجَب نِصْفُ الضمانِ؛ لأنَّه تَلِفَ بما وَضَعَه على مِلْكِه ومِلْكِ غيرِه، فيُقْسَمُ الضَّمانُ عليهما. ولَنا، أنَّه تَلِفَ بما أخْرَجَه إلى هَواءِ (¬2) الطَّرِيقٍ، فضَمِنَه, كما لو بَنَى حائِطَه مائِلًا إلى الطَّرِيقِ [فأَتْلَفَ، أو أقامَ خَشَبَةً في مِلْكِه مائِلَةً إلى الطريقِ] (1)، أو كما لو لم تَكُنِ الخَشَبَةُ الساقِطَةُ مَوْضُوعَةً على الحائِطِ. ولأنَّه إخْراجٌ يَضمَنُ به البَعْضَ، فضَمِنَ به الكلَّ، كالذي ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في الأصل: «هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا. ولأنَّه تَلِف بعُدْوانِه، فضَمِنَه, كما لو وَضَع البِناءَ على أرْضِ الطرَّيقِ. والدَّلِيلُ على عُدْوانِه وُجُوبُ ضَمانِ البعضِ؛ لأنَّه لو كان مُباحًا لم يَضْمَنْ به، كسائِرِ المُباحاتِ، ولأنَّ هذه خَشَبَةٌ لو سَقَط الخارِجُ منها حَسْبُ، فأتْلَفَ شيئًا، ضَمِنَه، فيَجِبُ أن يَضْمَنَ ما أَتْلَفَ جَمِيعَها، كسائِرِ المَواضِعِ التي يَجِبُ الضَّمانُ فيها، ولأنَّنا لم نَعْلَمْ مَوْضِعًا يَجِبُ الضَّمانُ كلُّه ببعضِ الخَشَبَةِ ونِصْفُه بجَمِيعِها. وإن كان إخْراجُ الجَناحِ إلى دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ بغيرِ إذْنِ أهْلِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ به وإن كان بإذْنِهِم، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ فيه. فصل: وإن أخْرَجَ مِيزابًا إلى الطَّرِيقِ النافِذِ، فسَقَطَ على إنْسانٍ أو شيءٍ فأتْلَفَه، ضَمِن. وبهذا قال أبو حنيفة. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه لا يَضْمَنُ ما أتْلَفَه؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ بإخْراجِه، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به, كما لو أخْرَجَه إلى مِلْكِه. وقال الشافعيُّ: إن سَقَط كلُّه فعليه نِصْفُ الضَّمانِ؛ لأنَّه تَلِف بما وَضَعَه على مِلْكِه ومِلْكِ غيرِه، وإنِ انْقَصَفَ المِيزابُ فسَقَطَ منه الخارِجُ حَسْبُ، ضَمِنَ الجَمِيعَ؛ لأنَّه كلَّه في غيرِ مِلْكِه. ولَنا، ما سَبَق في

2376 - مسألة: (وإن مال حائطه، فلم يهدمه حتى أتلف شيئا]

وَإِنْ مَال حَائِطُهُ، فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيئًا، لَمْ يَضْمَنْهُ، نَصَّ عَلَيهِ. وَأَوْمَأَ في مَوْضِعٍ، أَنَّهُ إِنْ تُقُدِّمَ إِلَيهِ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَناحِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ إخْراجَه مُباحٌ، بل هو مُحَرَّمٌ؛ لأنَّه أخْرَجَ إلى هَواءِ مِلْكِ غيرِه شَيئًا [يضُرُّ به، أشْبهَ ما أخْرَجَه إلى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ بغيرِ إذْنِه. فأمَّا إن أخْرَجَه إلى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ بغيرِ إذْنِه، فهو مُتَعَدٍّ، ويَضْمَنُ ما تَلِفَ به. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلَافًا. 2376 - مسألة: (وإن مال حائِطُه، فلم يَهْدِمْه حتى أَتْلَفَ شيئًا] (¬1)، لم يَضْمَنه. نَصَّ عليه. وأوْمَأَ في مَوْضِعٍ، أنَّه إن تُقُدِّمَ إليه لنَقْضِه وأُشْهِدَ عليه، فلم يَفْعَلْ، ضَمِن) إذا كان في مِلْكِه حائِطٌ مُسْتَوٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أو مائِلٌ إلى مِلْكِه] (¬1)، أو بِناءٌ كذلك، فسَقَطَ مِن غيرِ اسْتِهْدامٍ ولا مَيلٍ، فلا ضَمانَ على صاحِبِه فيما تَلِفَ به؛ لأنَّه لم يَتَعدَّ ببِنائِه، ولا حَصَل منه تَفْرِيطٌ بإبْقائِه، وإن مال قبلَ وُقُوعِه إلى مِلْكِه ولم يَتَجاوَزْه، فلا ضَمان عليه أيضًا؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ بِنائِه مائِلًا في مِلْكِه، وإن مال قبلَ وُقُوعِه إلى هَواءِ الطَّرِيقِ، أو إلى مِلْك إنْسانٍ، أو مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بينَه وبينَ غيرِه، وكان بحيثُ لا يُمْكِنُه نَقْضُه، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه لم يتَعدَّ ببِنائِه، ولا فَرَّطَ في تَرْكِ نَقْضِه؛ لعَجْزِه عنه، أشْبَهَ ما لو سَقَط مِن غيرِ مَيلٍ. فإن أمْكَنَه نَقْضُه ولم يَنْقُضْه ولم يُطالبْ بذلك، لم يَضْمَنْ، في المَنْصُوصِ عن أحمدَ. وهو الظّاهِرُ (¬2) عن الشافعيِّ. ونحوُه قولُ الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «المنصوص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه بَناه في مِلْكِه، والمَيلُ حادِثٌ بغيرِ فِعْلِه، أشْبَهَ ما لو وَقَع قبلَ مَيلِه. وذَكَر بعضُ أصحابِنا فيه وَجْهًا آخَرَ، أنَّ عليه الضَّمانَ. وهو قولُ ابنِ أبي لَيلَى، وأبِي ثَوْرٍ، وإسحاقَ؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بتَرْكِه مائِلًا فضَمِنَ ما تَلِفَ به، كما لو بَناه مائِلًا إلى ذلك ابْتِداءً، ولأنَّه لو طُولِبَ بنَقْضِها فلم يَفْعَلْ، ضَمِن ما تَلِف به، ولو لم يَكُنْ مُوجبًا للضَّمانِ لم يَضْمَنْ بالمُطالبَةِ, كما لو لم يَكُنْ مائِلًا أو كان مائِلًا إلى مِلْكِه. وأمّا إن طُولِبَ بنَقْضِه فلم يَفْعَلْ، فقد تَوَقَّفَ أحمدُ عن الجَوابِ فيها. وقال أصحابُنا: يَضْمَنُ. وقد أوْمَأَ إليه أحمدُ. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ. ونحوَه قال الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: الاسْتِحْسانُ أن يَضْمَنَ؛ لأنَّ حَقَّ الجَوازِ للمُسْلِمينَ، ومَيلُ الحائِطِ يَمْنَعُهم ذلك، فكان لهمُ المُطالبَةُ بإزالتِه، فإذا لم يُزِلْه، ضَمِنَ, كما لو وَضَع شيئًا على حائِطِ نَفْسِه فسَقَطَ في مِلْكِ غيرِه فطُولِبَ برَفْعِه فلم يَفْعَلْ حتى عَثَر به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْسانٌ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا ضَمانَ عليه. قال أبو حنيفةَ: وهو القِياسُ. لأنَّه بَناه في مِلْكِه ولم يَسْقُطْ بفِعْلِه، فأشْبَهَ ما لو لم يُطالبْ بنَقْضِه، أو سَقَط قبلَ مَيلِه، أو لم يُمْكِنْه نَقْضُه، ولأنَّه لو وَجَب الضَّمانُ به لم تُشْتَرَطِ المُطالبَةُ به، كما لو بَناه مائِلًا إلى غيرِ مِلْكِه. فإن قُلْنا: عليه الضَّمانُ إذا طُولِبَ. فإنَّ المُطالبَةَ مِن كلِّ مُسْلمٍ أو ذِمِّيٍّ تُوجِبُ الضَّمانَ، إذا كان مَيلُه إلى الطَّرِيقِ؛ لأنَّ لكلِّ واحِدٍ منهم حَقَّ المُرُورِ، فكانت له المُطالبَةُ, كما لو مال الحائِطُ إلى مِلْكِ جَماعَةٍ كان لكلِّ واحِدٍ منهم المُطالبَةُ. وإذا طالبَ واحِدٌ، فاسْتَأْجَلَه صاحِبُ الحائِطِ، أو أَجَّلَه الإِمامُ، لم يَسْقُطْ عنه الضَّمانُ؛ لأنَّ الحَقَّ لجميعِ المُسْلِمينَ، فلا يَمْلِكُ الواحِدُ منهم إسْقاطَه. وإن كانتِ المُطالبَةُ لمُسْتَأْجِرِ الدّارِ ومُرْتَهِنِها ومُسْتَعِيرِها أو (¬1) ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَوْدَعِها، فلا ضَمانَ عليهم؛ لأنَّهم لا يَمْلِكُونَ النَّقْضَ، وليس الحائِطُ مِلْكًا لهم، وإن طُولِبَ المالِكُ في هذه الحالِ، فلم يُمْكِنْه اسْتِرْجاعُ الدّارِ ونَقْضُ الحائِطِ، فلا ضَمانَ عليه؛ لعَدَمِ تَفْرِيطِه، وإن أمْكَنَه اسْتِرْجاعُها كالمُعِيرِ والمُودِعِ والرَّاهِنِ إذا أمْكَنَه فَكاكُ الرَّهْنِ فلم يَفْعَلْ، ضَمِن؛ لأنَّه أمْكَنَه النَّقْضُ. وإن كان المالِكُ مَحْجُورًا عليه لسَفَهٍ أو صِغَرٍ أو جُنُونٍ، فطُولِبَ هو، لم يَلْزَمْه الضَّمانُ؛ لأنَّه ليس أهْلًا للمُطالبَةِ، وإن طُولِبَ وَلِيُّه أو وَصِيُّه، فلم يَنْقُضْه، فالضَّمانُ على المالِكِ؛ لأنَّ سَبَبَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّمانِ مالُه، فكان الضَّمانُ عليه دونَ المُتَصَرِّفِ (¬1)، كالوَكِيلِ مع المُوَكِّلِ. وإن كان المِلْكُ مُشْتَرَكًا بين (¬2) جَماعَةٍ، فطُولِبَ أحَدُهُم بنَقْضِه، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يَلْزَمُه شيءٌ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه نَقْضُه بدونِ إذْنِهِم، فهو كالعاجِزِ. والثاني، يَلْزَمُه بحِصَّتِه؛ لأنَّه يتَمَكَّنُ مِن النَّقْضِ بمُطالبَتِه شُرَكاءَه وإلْزَامِهِم النَّقْضَ، فصارَ بذلك مُفَرِّطًا. فإن كان مَيلُ الحائِطِ إلى مِلْكِ آدَمِيّ مُعَيَّن إمّا واحِدٍ أو جَماعَةٍ، فالحُكْمُ على ما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّ المُطالبَةَ تكونُ للمالكِ، أو ساكِنِ المِلْكِ الذي مال إليه دُونَ غيرِه. وإن كان لجَماعَةٍ، فأَيُّهم طالبَ، وَجَب النَّقْضُ بمُطالبَتِه، كما لو طالبَ واحِدٌ بنَقْضِ المائِلِ إلى الطَّرِيقِ، إلَّا أنَّه متى طُولِبَ ثم أجَّلَه صاحِبُ المِلْكِ، أو أبْرَأَة منه، أو فَعَل ذلك ساكِنُ الدّارِ التي مال إليها، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لِه، وهو يَمْلِكُ إسْقاطَه. وإن مال إلى دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ، فالحَقُّ لأَهلِ الدَّرْبِ، والمُطالبَةُ لهم؛ لأنَّ المِلْكَ لهم، ويَلْزَمُ النَّقْضُ بمُطالبَةِ أحَدِهِم، ولا يَبْرَأُ بإبْرائِه وتَأْجيلِه، إلَّا أن يَرْضَى بذلك جَمِيعُهم؛ لأنَّ الحَقَّ للجَمِيعِ. ¬

(¬1) في م: «التصرف». (¬2) في الأصل: «مع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن لم يَمِلِ الحائِطُ لكنْ تَشَقَّقَ، فإن لم يُخْشَ سُقُوطُه؛ لكَوْنِ شُقُوقِه بالطُّولِ، لم يَجِبْ نَقْضُه، وحُكْمُه حُكْمُ الصَّحِيحِ، قِياسًا عليه. وإن خِيفَ وُقُوعُه؛ لكَوْنِه مَشْقُوقًا بالعَرْضِ، فحُكْمُه حُكْمُ المائلِ؛ لأنَّه يُخافُ منه التَّلَفُ، أشْبَهَ المائِلَ. فصل: ولو بَنَى في مِلْكِه حائِطًا مائِلًا إلى الطَّريقِ أو إلى مِلْكِ غيرِه، فتَلِفَ به شيءٌ أو سَقَط على شيءٍ أتْلَفَه، ضَمِن؛ لتَعَدِّيه، فإنَّه ليس له البِناءُ في هَواءِ مِلْكِ غيرِه أو هَواءٍ مُشْتَرَكٍ، ولأنَّه يُعَرِّضُه للوُقُوعِ على غيرِه في غيرِ مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو نَصَب فيه مِنْجَلًا يَصِيدُ به. وهذا مَذْهَبُ الشافِعِيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تُقُدِّمَ إلى صاحِبِ الحائِطِ المائِلِ بنَقْضِه، فبَاعَه مائِلًا، فسَقَطَ على شيءٍ، فتَلِفَ به، فلا ضَمانَ على بائِعِه؛ لأنَّه ليس بمِلْكِه، ولا على المُشْتَرِي؛ لأنَّه لم يُطالبْ بنَقْضِه، وكذلك إن وَهَبَه وأقْبَضه، وإن قُلْنا بلُزُومِ الهِبَةِ، زال الضَّمانُ عنه بمُجَرَّدِ العَقْدِ. وإذا وَجَب الضَّمانُ وكان التّالِفُ به آدَمِيًّا، فالدِّيَةُ على عاقِلَتِه، فإن أنْكَرَتِ العاقِلَةُ كَوْنَ الحائِطِ لصاحِبِهم، لم يَلْزَمْهُم، إلَّا أنَّ يَثْبُتَ ذلك ببَيِّنةٍ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ عليهِم، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ، وإنِ اعْتَرَفَ صاحِبُ الحائِطِ، فالضَّمانُ عليه دُونهم؛ لأنَّ العاقِلَةَ لا تَحْمِلُ الاعْتِرافَ، وكذلك إن أنْكَرُوا مُطالبَتَه بنَقْضِه، فالحُكْمُ على ما ذَكَرْنا. وإن كان الحائِطُ في يَدِ صاحِبِهم، وهو ساكِنٌ في الدّارِ، لم يَثْبُتْ بذلك الوُجُوبُ عليهم؛ لأنَّ دَلالةَ ذلك على المِلْكِ مِن جِهَةِ الظاهِرِ، والظاهِرُ لا تَثْبُتُ به الحُقُوقُ، وإنَّما تُرَجَّحُ به الدَّعْوَى.

2377 - مسألة: (وما أتلفت البهيمة، فلا ضمان على صاحبها، إلا أن تكون في يد إنسان؛ كالراكب والسائق والقائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها دون ما جنت برجلها)

وَمَا أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، إلا أنْ تَكُونَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ؛ كَالرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ، فَيَضْمَنُ مَا جَنَت يَدُهَا أوْ فَمُهَا دُونَ مَا جَنتْ رِجْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2377 - مسألة: (وما أَتْلفَتِ البَهِيمَةُ، فلا ضَمانَ على صاحِبِها، إلَّا أنَّ تكونَ في يَدِ إنسانٍ؛ كالرَّاكِبِ والسَّائِقِ والقائِدِ، فيَضْمَنُ ما جَنَتْ يَدُها أو فَمُها دونَ ما جَنَتْ برِجْلِها) إذا أتْلَفَتِ البَهِيمَةُ شيئًا، فلا ضَمانَ على صاحِبِها، إذا لم تَكُنْ يَدُ أَحَدٍ عليها؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» (¬1). يَعْنِي هَدْرًا. فأمَّا إن كانت يَدُ صاحِبِها عليها، كالرَّاكِبِ والسَّائِقِ والقائِدِ، فإنَّه يَضْمَنُ. وهذا قولُ شُرَيح، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وقال مالكٌ: لا ضَمانَ عليه؛ لِما ذَكَرْنا مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 587.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدِيثِ، ولأنَّه جنايَةُ بَهِيمَةٍ، فلم يَضْمَنْها، كما لو لم تَكُنْ يَدُه عليها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الرِّجْلُ (¬1) جُبَارٌ». رَواه سعيدٌ (¬2)، بإسْنادِه، عن الهُزَيلِ بنِ شُرَحْبيل، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي هُرَيرَةَ (¬3) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وتَخْصِيصُ الرِّجْلِ بكَوْنِها جُبارًا دَلِيلٌ على وُجُوبِ الضَّمَانِ في جِنايَةِ غيرِها، ولأنَّه يُمْكِنُه حِفْظُها مِن الجِنايَةِ إذا كان راكِبَها أو يَدُه عليها، بخِلَافِ مَن لا يَدَ له عليها، وحَدِيثُه مَحْمُولٌ على مَن لا يَدَ له عليها. ¬

(¬1) في: تش، م: «والرجل». (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب العجماء، من كتاب العقول. المصنف 10/ 67. والدارقطني، في: كتاب الحدود والديات. سنن الدارقطني 3/ 153، 154. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الدابة تنفح برجلها، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 502.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَضْمَنُ ما جَنَتْ برِجْلِها. وبه قال أبو حنيفةَ. وعن أحمدَ رِوَيَة أُخرَى، أنَّه يَضْمَنُها. وهو قول شرَيحٍ، والشافِعِيِّ؛ لأنَّه مِن جنايَةِ بَهِيمَةٍ يَدُه عليها، فضَمِنَه، كجِنايَةِ يَدِها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «الرِّجْلُ جُبَارٌ». ولأنَّه لا يَمْلِكُ حِفْظَ رِجْلِها عن الجِنايَةِ، فلم يَضْمَنْها، كما لو لم تَكُنْ يَدُه عليها. فأمّا إن كانت جِنايَتُها بفِعْلِه، مثلَ أنَّ كَبَحَها أو ضَرَبَها في وَجْهِها ونحو ذلك، فإنَّه يَضْمَنُ جِنايَةَ رِجْلِها؛ لأنَّه السَّبَبُ في جِنايَتِها، فكان عليه ضَمانُها، ولو كان السَّبَبُ غيرَه، مثلَ أنَّ نَخَسَها أو نَفَّرَها، فالضَّمانُ على مَن فَعَل ذلك دونَ راكِبِها وسائِقِها وقائدِها؛ لأنَّه السَّبَبُ في جِنايَتِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان على الدَّابَّةِ راكِبانِ، فالضَّمانُ على الأوَّلِ منهما؛ لأنَّه المُتَصَرِّفُ فيها القادِرُ على كَفِّها، إلَّا أنَّ يكونَ الأوَّلُ منهما صَغِيرًا أو مَرِيضًا ونحوَهما، ويكونَ الثاني هو المُتَوَلِّيَ لتَدْبِيرِها، فيكونُ الضمانُ عليه. فإن كان مع الدّابَّةِ قائِدٌ وسائِقٌ، فالضَّمانُ عليهما؛ لأن كلَّ واحِدٍ منهما لو انْفَرَدَ ضَمِن، فإذا اجْتَمَعا ضَمِنَا. وإن كان معهما أو مع أحَدِهما راكِبٌ، فالضَّمانُ عليهم جَمِيعًا، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لذلك. والثاني، الضَّمانُ على الرّاكِبِ؛ لأنَّه أقْوَى يَدًا وتَصَرُّفًا. ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ على القائِدِ؛ لأنَّه لا حُكْمَ للرَّاكِبِ معه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والجَمَلُ المَقْطُورُ على الجَمَلِ الذي عليه راكِبٌ، يَضْمَنُ جِنايَتَه؛ لأنَّه في حُكْمِ القائِدِ، فأمّا الجَمَلُ المَقْطُورُ على الجَمَلِ الثاني، فيَنْبَغِي أنَّ لا يَضْمَنَ جِنايَتَه، إلَّا أنَّ يكونَ له سائِقٌ؛ لأن الرَّاكِبَ الأوَّلَ لا يُمْكِنُه حِفْظُه عن الجِنايةِ. ولو كان مع الدَّابَّةِ وَلَدُها، لم يَضْمَنْ جِنايَتَه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه حِفْظُه. وذَكَر ابنُ أبي مُوسَى في «الإرْشادِ» أنَّه يَضْمَنُ، قال: لأنَّه يُمْكِنُه حِفْظُه (¬1) بالشَّدِّ. ¬

(¬1) في تش، م: «ضبطه».

2378 - مسألة: (و)

وَمَا أفْسَدَتْ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ لَيلًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا أفْسَدَتْ مِنْ ذَلِكَ نَهَارًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2378 - مسألة: (و) يَضْمَنُ (ما أفْسَدَتْ مِن الزَّرْعِ والشَّجَرِ لَيلًا، ولا يَضْمَنُ ما أفْسَدَت مِن ذلك نَهارًا) يَعْنِي إذا لم تَكُنْ يَدُ أحدٍ عليها. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأكْثَر فُقَهاء الحِجَازِ. وقال اللَّيثُ: يَضْمَنُ مالِكُها ما أفْسَدتْه لَيلًا ونَهارًا، بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَتِها أو قَدْرِ ما أتْلَفَتْه، كالعَبْدِ إذا جَنَى. وقال أبو حنيفةَ: لا ضَمانَ عليه بحالٍ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «العَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ». يَعْنِي هَدْرًا. ولأنَّها أفْسَدَتْ وليست يَدُه عليها، فلم يَضْمَنْ، كالنَّهارِ، أو كما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أتْلَفَتْ غيرَ الزَّرْعِ. ولَنا، ما روَى مالِكٌ (¬1)، عن الزُّهْرِي، عن حَرامِ بنِ سَعدِ (¬2) بنِ (¬3) مُحَيِّصَةَ، أنَّ ناقَةً للبَراءِ دَخَلَتْ حائِطَ قَوْم فأفْسَدَتْ، فقَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ على أهْلِ الأمْوالِ حِفْظَها بالنَّهَارِ، وما أفْسَدَتْ باللَّيلِ فهو مَضْمُون عليهم. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: إن كان هذا مُرْسَلًا فهو مَشْهُورٌ حَدَّثَ به الأئِمَّةُ الثِّقَاتُ، وتَلَقَّاه فُقَهاءُ الحِجازِ بالقَبُولِ. ولأنَّ العادَةَ مِن أهْلِ المَواشِي إرْسالُها في النَّهَارِ للرَّعْي وحِفْظُها لَيلًا، وعادَةُ أهْلِ الحَوائِطِ حِفْظُها نَهارًا دونَ اللَّيلِ، فإذا ذَهَبَتْ لَيلًا، كان التَّفْرِيطُ مِن أهْلِها بتَرْكِهِم حِفْظَها في وَقْتِ عادَةِ الحِفْظِ، وإن تَلِفَتْ نَهارًا كان التفْرِيطُ مِن أهْلِ الزَّرْعِ، فكانَ عليهم، وقد فَرَّقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما، وقَضَى على كلِّ إنسانٍ بالحِفْظِ في وَقْتِ عادَتِه. ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب القضاء في الضواري والحريسة، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 747، 748. كما أخرجه أبو داود، في: باب المواشي تفسد زرع القوم، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 267. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 435، 436. (¬2) في م: «سعيد». (¬3) في الأصل: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال بعضُ أصحابِنا: إنَّما يَضْمَنُ مالِكُها ما أتْلَفَتْه لَيلًا إذا فَرَّطَ بإرْسالِها لَيلًا أو نَهارًا، أو (¬1) لم يَضمَّها باللَّيلِ، أو ضَمَّها بحيثُ يُمْكِنُها الخُرُوجُ، أمَّا إذا ضَمَّها فأخْرَجَها غيره بغيرِ إذْنِه أو فَتَح عليها بابَها، فالضَّمانُ على مُخْرِجِها أو فاتِحِ بابِها؛ لأنَّه المُتْلِفُ. قال القاضِي: هذه المسألَةُ عندي مَحْمُولَة على مَوْضِع فيه مَزارِعُ ومَرَاعٍ، أمَّا القرَى العامِرَة التي لا مَرْعَى فيها إلَّا بينَ قَرَاحَين (¬2) كساقِيَةٍ وطَرِيقٍ وطَرَفِ زَرْعٍ، فليس لِصاحِبِها إرْسالُها بغيرِ حافِظٍ عن الزَّرْعِ، فإن فَعَل، فعليه الضَّمانُ؛ لتَفْرِيطِه. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافِعِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) القراح: الأرض المخلاة للزرع وليس عليها بناء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أتْلَفَتِ البَهِيمَةُ غيرَ الزَّرْعِ والشَّجَرِ، لم يَضْمَنْ مالِكُها ما أتْلَفَتْه، لَيلًا كان أو نَهارًا، ما لم تَكُنْ يَدُه عليها. وحُكِيَ عن شُرَيح أنَّه قَضَى في شاةٍ وَقَعَتْ في غَزْلِ حائِكٍ لَيلًا، بالضَّمانِ على صاحِبِها، وقَرَأَ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} (¬1). قال: والنَّفْشُ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ. وعن الثَّوْرِيِّ، يَضْمَنُ وإن كان نَهارًا؛ لتَفْرِيطِه بإرْسالِها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). أي هَدْرٌ. وأمَّا الآيَةُ، فالنَّفْشُ هو الرَّعْيُ باللَّيلِ، وكان هذا في الحَرْثِ الذي تُفْسِدُه البَهائِمُ طَبْعًا بالرَّعْي، وتَدْعُوها نَفْسُها إلى أكْلِه، بخِلافِ غيرِه، فلا يَصِحُّ قِياسُ غيرِه عليه. ¬

(¬1) سورة الأنبياء 78. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 587.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اسْتَعارَ بَهِيمَةً فأتْلَفَتْ شيئًا، وهي في (¬1) يَدِ المُسْتَعِيرِ، فضَمانُه عليه، سَواءٌ كان المُتْلَفُ لمالِكِها أو لغيرِه؛ لأنَّ ضَمانَه يَجِبُ باليَدِ، واليدُ للمُسْتَعِيرِ. وإن كانت البَهِيمَةُ في يَدِ الرَّاعِي، فأَتلَفتْ زَرْعًا أو شَجَرًا، فالضَّمانُ على الرَّاعِي دونَ المالِكِ؛ لأنَّ إتْلافَ ذلك في النَّهارِ لا يُضْمَنُ إلَّا بثُبُوتِ اليَدِ عليها، واليَدُ للرَّاعِي دونَ المالِكِ، فضَمِنَ، كالمُسْتَعِيرِ. وإن كان الزّرْعُ للمالِكِ وكان لَيلًا، ضَمِن أيضًا؛ لأنَّ ضَمانَ اليَدِ أقْوَى، بدَلِيلِ أنَّه يَضْمَنُ في اللَّيلِ والنَّهارِ جَمِيعًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2379 - مسألة: (ومن صال عليه آدمي أو غيره، فقتله دفعا عن نفسه، لم يضمنه)

وَمَنْ صَال عَلَيهِ آدَمِيٌّ أَوْ غَيرُهُ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2379 - مسألة: (ومَن صال عليه آدَمِيٌّ أو غيرُه، فقَتَلَه دَفْعًا عن نَفْسِه، لم يَضْمَنْه) لأنَّه قَتَلَه بالدَّفْعِ الجائِزِ، فلم يَجِبْ ضَمانُه. فإن كان الصّائِلُ بَهِيمَةً فلم يُمْكِنْه دَفْعُها إلَّا بقَتْلِها، جازَ له قَتْلُها إجْماعًا،. ولا يَضْمَنُها إذا كانت لغيرِه. وهذا قولُ مالكٍ، والشافِعِيِّ، وإسحاقَ. وقال أبو حنيفةَ: يَضْمَنُها؛ لأنَّه أتْلَفَ مال غيرِه لإحْياءِ نَفسِه، فضَمِنَه، كالمُضْطَرِّ إذا أكَلَ طَعامَ غيره. وكذلك الخِلافُ في غيرِ المُكَلَّفِ مِن الآدَمِيِّين، كالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، يَجُوزُ قتْله ويَضْمَنُه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ إباحَة نَفْسِه، ولذلك (¬1) لو ارْتَدَّ لم يُقْتَلْ. ولَنا، أنَّه قَتَلَه بالدَّفْعِ الجائِزِ، فلم يَضْمَنْه، كالعَبْدِ، ولأنَّه حَيَوانٌ جازَ إتْلافُه، فلم يَضْمَنْه، كالآدَمِيِّ المُكَلَّفِ، ولأنَّه قَتَلَه لدَفْعِ شَرِّه، فأشْبَهَ العَبْدَ، وذلك أنَّه إذا ¬

(¬1) في الأصل: «وكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَتَلَه لدَفْعِ شَرِّه، كان الصّائِلُ هو القاتِلَ لنَفْسِه، فأشْبَهَ ما لو نَصَب حَرْبَةَ في طَرِيقِه فقَذَفَ نَفْسَه عليها فماتَ بها. وفارَقَ المُضْطَرَّ، فإنَّ الطَّعامَ لم يُلْجِئْه إلى إتْلافِه ولم يَصْدُرْ منه ما يُزِيل عِصْمَتَه، ولهذا لو [قَتَل المُحْرِمُ صَيدًا] (¬1) لِصِيَالِه، لم يَضْمَنْه، ولو قَتَلَه [لاضْطِرارِه إليه، ضَمِنَه، ولو قَتَل المُكَلفَ لِصيالِه، لم يَضْمَنْه، ولو قَتَلَه] (¬2) ليَأْكُلَه في المَخْمَصَةِ، وَجَب عليه الضَّمانُ، وغيرُ المُكَلَّفِ كالمُكَلَّف في هذا. وقولُهم: لا يَمْلِكُ إبَاحَةَ نَفْسِه. قُلْنا: والمُكَلَّفُ لا يَمْلِكُ إباحَةَ نَفْسِه، ولو قال: أبَحْتُ دَمِي. لم يُبَحْ، مع أنَّه إذا صَال فقد أُبِيحَ دَمُه بفِعْلِه، فلم يَضْمَنْه، كالمُكَلَّفِ. ¬

(¬1) في م: «قتله». (¬2) سقط من: تش، م.

2380 - مسألة: (وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا، ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها)

وَإِنِ اصْطَدَمَتْ سَفِينَتَانِ فَغَرِقَتَا، ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفِينَةَ الْآخَرِ وَمَا فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2380 - مسألة: (وإن اصْطَدَمَتْ سَفِينَتانِ فغرِقَتَا، ضَمِن كلُّ واحِدٍ منهما سَفينَةَ الآخَرِ وما فيها) إذا اصْطَدَمَتْ سَفِينتانِ مُتَساويَتانِ؛ كاللَّتَين في بَحْر أو ماءٍ واقِفٍ، فإن كان القَيِّمانِ مُفَرِّطَين، ضَمِن كلُّ واحِدٍ منهما سَفِينَةَ الآخرِ بما فيها مِن نَفْس ومالٍ، كالفارِسَين إذا تَصادَمَا، وإن لم يَكُونَا مُفَرِّطَين، فلا ضَمانَ عليهما. وقال الشافِعِيُّ: يَضْمَنُ. في أحَدِ القَوْلَين (¬1)؛ لأنَّهما في أيدِيهما، فضَمِنَا، كما لو اصْطَدَمَ فارِسَانِ لغَلَبَةِ الفَرَسَين لهما. ولَنا، أنَّ المَلَّاحَين لا يُسَيِّرانِ السَّفِينَتَين بفِعْلِهِما، ولا يُمْكِنُهما ضَبْطُهُما في الغالِبِ ولا الاحْتِرازُ مِن ذلك، فأشْبَهَ الصّاعِقَةَ إذا نَزَلَتْ فأحْرَقَتْ سَفِينَةً، ويُخالِفُ الفَرَسَين، فإنَّه يُمْكِنُ ضَبْطُهُما ¬

(¬1) في تش، م: «الوجهين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاحْتِرازُ مِن طَرْدِهِما. وإن كان أحَدُهما مُفَرِّطًا وحدَه، ضَمِن وحدَه. وإنِ اخْتَلَفا في تَفْرِيطِ القَيِّمِ ولا بَيِّنَةَ، فالقولُ قولُه مع يَمِينه؛ لأن الأصْلَ عَدَمُه، وهو أمِينٌ، أشْبَهَ المُودَعَ. وعندَ الشافِعِيِّ أنَّهما إذا (¬1) كانا مُفَرِّطَين، فعلى كلِّ واحِدٍ مِن القَيِّمَينِ ضَمانُ نِصْفِ سَفِينَتِه ونِصْفِ سَفِينَةِ صاحِبِه، وقال مثلَ ذلك في الفارِسَين المُصْطَدِمَين (¬2)، وسَنَذْكُرُه، إن شاء اللهُ تَعالى. والتَّفْرِيطُ أنَّ يكونَ قادِرًا على ضَبْطِها أو رَدِّها عن الأخْرَى فلم يَفْعَلْ، أو أمْكَنَه أنَّ يَعْدِلَها إلى ناحِيةٍ أُخْرَى فلم يَفْعَلْ، أو لم يُكْمِلْ آلتَها مِن الرِّجالِ والحِبَالِ وغيرِهما. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

2381 - مسألة: (وإن كانت إحداهما منحدرة، فعلى صاحبها ضمان المصعدة، إلا أن يكون غلبه ريح، فلم يقدر على ضبطها)

فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُنْحَدِرَةً، فَعَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانُ الْمُصْعِدَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ غَلَبَهُ رِيحٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2381 - مسألة: (وإن كانت إحْداهُما مُنْحَدِرَةً، فعلى صاحِبِها ضَمانُ المُصْعِدَةِ، إلَّا أنَّ يكونَ غلبَه رِيحٌ، فلم يَقْدِرْ على ضَبْطِها) متى كان قَيِّمُ المُنْحَدِرَةِ مُفَرِّطًا، فعليه ضَمانُ الصاعِدَةِ؛ لأنَّها تَنْحَطُّ عليها مِن عُلْوٍ فيكون ذلك سَبَبًا لغَرَقِها، فتنزِلُ المُنْحَدِرَة بمَنْزِلَةِ السّائِرِ، والصاعِدَةُ بمَنْزِلَةِ الواقِفِ، إذا اصْطَدَمَا. وإن غَرِقَتَا جَمِيعًا، فلا شيءَ على المُصْعِدِ، وعلى المُنْحَدِرِ قِيمَةُ المُصْعِدَةِ، أو أرْشُ ما نَقَصَتْ إن لم تَتْلَفْ كلُّها، إلَّا أَنْ يكونَ التَّفْرِيط مِن المصْعِدِ، بأن يُمْكِنَه العدُولُ بسَفِينَتِه، والمُنْحَدِرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ قادِرٍ ولا مُفَرِّطٍ، فيكونُ الضمانُ علي المُصْعِدِ. وإن لم يَكُنْ مِن واحِدٍ منهما تَفْرِيطٌ، لكن هاجَتْ ريحٌ، أو كان الماءُ شَدِيدَ الجرْيَةِ فلم يُمْكِنْه ضَبْطُها، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه لا يَدْخُلُ في وُسْعِه، وَلَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إلَّا وُسْعَها. فإن كانت إحْدَى السَّفِينَتَين واقِفَةً والأخْرَى سائِرَةً، فلا شيءَ على الواقِفَةِ، وعلى السائِرَةِ ضَمانُ الواقِفَةِ إن كان القَيِّمُ مُفَرِّطًا، ولا ضَمانَ عليه إذا لم يُفَرِّطْ، على ما ذَكَرْنا. فصل: فإن خِيفَ على السَّفِينَةِ الغَرَقُ، فألْقَى بعضُ الرُّكْبانِ مَتاعَه لتَخِفَّ وتَسْلَمَ مِن الغَرَقِ، لم يَضْمَنْه أحَدٌ؛ لأنَّه أتْلَفَ مَتاعَ نَفْسِه باخْتِيارِه لصَلاحِه وصَلاحِ غيرِه. وإن ألْقَى مَتاعَ غيرِه بغيرِ إذْنِه، ضَمِنَه وحدَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال لغيرِه: ألْقِ مَتاعَكَ. فقَبِلَ منه، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه لم يَلْتَزِمْ ضَمانَه. وإن قال: ألْقِه وأنا ضامِنٌ له. أو: عليَّ قِيمَتُه. لَزِمَه ضَمانُه؛ لأنَّه أتْلَفَ ماله بعِوَض لمَصْلَحَةٍ، فوَجَب له العِوَضُ على مَن الْتَزَمَه، كما لو قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ وعَلَيَّ ثَمَنُه. وإن قال،: ألْقِه، وعليَّ وعلى رُكّابِ السَّفِينةِ ضَمانُه. فألْقاه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه ضَمانه وحدَه. ذَكَرَه أبو بكر. وهو نَصُّ الشافِعِيِّ؛ لأنَّه الْتَزَمَ ضَمانَ جَميعِه، فلَزِمَه ما الْتَزَمَه. وقال القاضِي: إن كان ضَمانَ اشْتراكٍ، مثلَ أن يقولَ: نحن نضْمَنُ لك. أو قال: على كلِّ واحِدٍ مِنّا ضَمانُ قِسْطِه أو رُبْعُ مَتاعِكَ. لم يَلْزَمْه إلَّا ما يَخُصُّه مِن الضَّمانِ. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافِعِيِّ؛ لأنَّه لم يَضْمَنْ إلَّا حِصَّتَه، وإنَّما أخْبَرَ عن الباقِينَ بالضَّمانِ فسَكَتُوا، وسُكُوتُهم ليس بضَمانٍ. وإنِ الْتَزَم ضَمانَ الجَمِيعِ وأخْبَرَ عن كلِّ واحِدٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم بمثلِ ذلك، لَزِمَه ضَمانُ الكلِّ؛ لأنَّه ضَمِن الكُلَّ. وإن قال: ألْقِه على أنَّ أضْمَنَه لك أنا ورُكْبانُ السَّفِينَةِ، فقد أذِنُوا لي في ذلك. فأنْكَرُوا الإذْنَ، فهو ضامِنٌ للجَمِيعِ. وإن قال: أْلْقِى مَتاعِي وتَضْمَنُه؟ فقال: نعم. ضَمِنَه له. وإن قال: أْلْقِ مَتاعَكَ، وعليَّ ضَمانُ نِصْفِه، وعلى أخِي ضَمانُ ما بَقِيَ. فألْقاه، فعليه ضَمانُ النِّصْف وحدَه، ولا شيءَ على الآخَرِ؛ لأنَّه لم يَضْمَنْ، واللهُ أعْلَمُ. فصل: إذا خَرَق سَفِينَةً فغَرِقَتْ بما فيها، وكان عَمْدًا، وهو مِما يُغْرِقُها غالِبًا ويُهْلِكُ مَن فيها؛ لكَوْنِهم في اللُّجّةِ، أو لعَدَمِ مَعْرِفَتهِم بالسَّباحَةِ، فعليه القِصَاصُ إن قُتِلَ مَن يَجِبُ القِصاصُ بقَتْلِه، وعليه ضَمانُ السَّفِينَةِ بما فيها مِن مالٍ ونَفْس. وإن كان اخطَأ، فعليه ضَمانُ العَبِيدِ، ودِيَةُ الأحْرارِ على عاقِلَتِه، وإن كان عَمْدَ خَطَأ، مثلَ أنَّ أخَذَ السَّفِينَةَ ليُصْلِحَ مَوْضِعًا، فقَلَعَ لَوْحًا، أو يُصْلِحَ مِسْمارًا فنَقَبَ مَوْضِعًا، فهو عَمْدُ الخَطَأ. ذكَرَه

2382 - مسألة: وإن كسر (مزمارا، أو طنبورا، أو صليبا)

وَمَنْ أَتْلفَ مِزْمَارًا، أوْ طُنْبُورًا، أَوْ صَلِيبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشافِعِيِّ. والصَّحِيحُ أنَّ هذا خَطَأٌ مَحْضٌ؛ لأنَّه قَصَد فِعْلًا مُباحًا، فأَفْضَى إلى التَّلفِ لما لم يُرِدْه، فأشْبَهَ ما لو رَمَى صَيدًا فأصَابَ آدَمِيًّا فقَتَلَه، ولكن إن قصَد قَلْعَ اللَّوْحِ في مَوْضِع الغالِبُ أنَّه لا يُتْلِفُها فأتْلَفَها، فهو عَمْدُ الخَطَأ، فيه ما فيه. 2382 - مسألة: وإن كَسَر (مِزْمارًا، أو طُنْبُورًا، أو صَلِيبًا) لم يَضْمَنْه. وقال الشافِعِيُّ: إن كان ذلك إذا فُصِلَ يَصْلُحُ لنَفْع مُباح، وإذا كُسِرَ لم يَصْلُحْ، لَزِمَه ما بينَ قِيمَتِه مُفْصَلًا ومَكْسُورًا؛ لأنَّه أتلَفَ بالكَسْرِ ما لهُ قِيمَةٌ، وإن كان لا يَصْلُحُ لمَنْفَعَةٍ مُباحَةٍ، لم يَضْمَنْ. وقال أبو حنيفةَ:

2383 - مسألة: وإن (كسر)

أَوْ كسَرَ إِناءَ فِضَّةٍ أَوْ ذهَبٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضْمَنُ. ولَنا، أنَّه لا يَحِلُّ بَيعُه، فلم يَضْمَنْه، كالمَيتَةِ، والدَّلِيلُ على أنَّه لا يَحِلُّ بَيعُه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيعَ الْخَمْرِ وَالْمَيتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأصْنَامِ». مُتَّفَق عليه (¬1). وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «بُعِثْتُ بِمَحْقِ القَيناتِ والْمَعازِفِ» (¬2). 2383 - مسألة: وإن (كَسَر) آنِيةَ (فِضَّةٍ أو ذَهَبٍ) لم يَضْمَنْها. وحَكَى أبو الخَطَّابِ رِوايَةً أُخْرَى عن أحمدَ، أنَّه يَضْمَنُ، فإنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عنه، في مَن هَشَم على غيرِه إبْرِيقَ فِضَّةٍ: عليه قيِمَتُه، يَصُوغُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 307، حاشية (2). (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 257، 268.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما كان. فَقِيلَ له: أَليسَ قد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّخاذِها (¬1)؟ فسَكَتَ. والصَّحِيحُ أنَّه لا يَضْمَنُ. نَصَّ عليه في رِوَاية المَرُّوذِيِّ في مَن كَسَر إبْرِيقَ فِضةٍ: لا ضَمانَ عليه. لأنَّه أتْلَفَ ما ليس بمُباحٍ، فلم يَضْمَنْه، كالمَيتَةِ. ورِوايَةُ مُهَنَّا تَدُلُّ على أنَّه رَجَع عن قَوْلِه ذلك؛ لكَوْنِه سَكَتَ حينَ ذَكر السّائِلُ النَّهْيَ عنه، ولأنَّ (¬2) في رِوايَةِ مُهَنَّا أنَّه قال: يَصُوغُه. ولا تَحِلُّ صِنَاعَتُه، فكيف تَجِبُ؟! ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الأمر باتباع الجنائز، من كتاب الجنائز، وفي: باب حق إجابة الوليمة والدعوة. . . .، من كتاب النكاح، وفي: باب خواتيم الذهب، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 2/ 90، 7/ 31، 200. ومسلم، في: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة. . . .، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1635 - 1637. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسي، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 252. والنسائي، في: باب الأمر باتباع الجنائز، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 44. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 284، 299، 5/ 385، 408. (¬2) في م: «وليس».

2384 - مسألة: وإن كسر (إناء خمر، لم يضمنه)

أوْ إِنَاءَ خَمْرٍ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَعَنْهُ، يَضْمَنُ آنِيَةَ الْخَمْرِ أنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2384 - مسألة: وإن كَسَرَ (إنَاءَ خَمْر، لم يَضْمَنْه) في أصَحِّ الرِّوايَتَين؛ لما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، قال: أمَرَنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن آتِيَه بمُدْيَةٍ، وهي الشَّفْرَةُ، فأتَيتُه بها، فأَرسَلَ بها فأُرْهِفَتْ، ثم أَعطَانِيها وقال: «اغْدُ عَلَيَّ بِهَا». ففَعَلْتُ، فخَرَجَ بأصحابِه إلى أسْواقِ المَدِينَةِ، وفيها زِقَاقُ الخَمْرِ قد جُلِبَتْ مِن الشّامِ، فأخَذَ المُدْيَةَ مِنِّي، فشَقَّ ما كان مِن تلك الزِّقَاقِ بحَضْرَتِه كلِّها، وأَمرَ أصحابَه الذين كانوا معه أنَّ يَمْضُوا مَعِي، ويُعاونُونِي، وأَمرَنِي أنَّ آتِيَ الأسْواقَ كلَّها، فلا أَجِدُ فيها زِقَّ خَمْرٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا شَقَقْتُه. رَواهُ أحمدُ (¬1). ورُوِيَ عن أنس، قال: كُنْتُ أسْقِي أبا طَلْحَةَ، وأُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، وأبا عُبَيدَةَ شَرَابًا مِن فَضِيخٍ (¬2)، فأتَانَا آتٍ، فقال: إنَّ الخَمْرَ قد حُرِّمَتْ. فقال أبُو طَلْحةَ: قُمْ يا أَنَسُ إلى هذه الدِّنَانِ فاكْسِرْها (¬3). وهذا يَدُلُّ على سُقُوطِ حُرْمَتِها وإباحَةِ إتْلافِها، فلا يَضْمَنُها، كسائِرِ المُباحَاتِ. والثانيةُ، يَضْمَنُها إذا كان يُنْتَفَعُ بها في غيرِه؛ لأنَّها مالٌ يُمْكِنُ الانْتِفاعُ به ويَحِلُّ بَيعُه، فيَضْمَنُها، كما لو لم يَكُنْ فيها خَمْرٌ، ولأنَّ جَعْلَ الخَمْرِ فيها لا يَقْتَضِي سُقُوطَ ضَمانِها، كالبَيتِ الذي جُعِل مَخْزنًا للخَمْرِ (¬4). ¬

(¬1) في: المسند 2/ 133. (¬2) الفضيخ: عصير العنب. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب نزل تحريم الخمر، من كتاب الأشربة، وفي: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، من كتاب الآحاد. صحيح البخاري 7/ 136، 9/ 108، 109. ومسلم، في: باب تحريم الخمر، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1572. والإمام مالك، في: باب جامع تحريم الخمر، من كتاب الأشربة. الموطأ 2/ 846. (¬4) آخر الجزء الرابع من مخطوطة أحمد الثالث والمشار إليها بالأصل، وآخر الجزء الرابع من نسخة جامعة الرياض المشار إليها بالرمز (ر).

باب الشفعة

بَابُ الشُّفْعَةِ وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الْإِنْسَانِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشُّفْعَةِ (¬1) (وهي اسْتِحْقاقُ الإِنْسانِ انْتِزاعَ حِصَّةِ شَرِيكِه مِن يَدِ مُشْتَرِيها) وهي ثابتَةٌ بالسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمَّا السُّنَّةُ فما روَى جابِرٌ، قال: قَضَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالشفْعَةِ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ. مُتَّفَق عليه (¬2). ولمسلم قال: قَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَةِ في كلِّ ما لم يُقْسَمْ؛ رَبْعَةٍ (¬3)، أو حائِطٍ، لا يَحِلُّ له أنَّ يَبِيعَ حتى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَه، فإن شاءَ أخَذَ، وإن شاءَ تَرَكَ، فإن باعَ ولم يَسْتَأْذِنْه، فهو أَحَقُّ ¬

(¬1) من هنا يشار إلى نسخة تشستربيتي على أنها الأصل، والتي تجد أرقام صفحاتها في مواضعها من التحقيق. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب بيع الشريك من شريكه، وباب بيع الأرض والدور والعروض، من كتاب البيوع، وفي: باب الشفعة ما لم يقسم. . . .، من كتاب الشفعة، وفي: باب الشركة في الأرضين، وباب إذا اقتسم الشركاء. . . .، من كتاب الشركة. صحيح البخاري 3/ 104، 114، 183. ومسلم، في: باب الشفعة، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1229. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الشفعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 256. والترمذي، في: باب ما جاء إذا أحدت الحدود. . . .، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 131. والنسائي، في: باب ذكر الشفعة وأحكامها، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 282. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 296، 316، 372، 399. (¬3) الربعة: الدار والمسكن ومطلق الأرض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به. وللبخارِيِّ: إنّما جَعَل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الشُّفْعَةَ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ. وأمَّا الإجْماعُ، فقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على إثْباتِ الشُّفْعَةِ للشَّرِيكِ الذي لم يُقاسِمْ، فيما بِيعَ مِن أَرْضٍ أو دارٍ أو حائطٍ. والمَعْنَى في ذلك أنَّ أحَدَ الشَّرِيكَين إذا أرادَ أنَّ يَبِيعَ نصِيبَه، وتَمَكَّنَ مِن بَيعِه لشَرِيكِه، وتَخْلِيصِه مِمّا كان بصَدَدِه مِن تَوَقُّعِ الخَلَاصِ والاسْتِخْلاصِ، فالذي يَقْتَضِيه حُسْنُ العِشْرَةِ أنَّ يَبِيعَه منه؛ ليَصِلَ إلى غَرَضِه مِن بَيعِ نَصِيبِه، وتَخْلِيص شَريكِه مِن الضَّرَرِ، فإذا لم يَفْعَلْ ذلك وباعَه لأَجْنَبِيٍّ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ على صَرْفِ ذلك إلى نَفْسِه. قال شيخُنا (¬1): ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَ هذا إلَّا الأصَمَّ، فإنه قال: لا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؛ فإنَّ في ذلك إضْرَارًا بأرْبابِ الأَملاكِ، فإن المُشْتَرِيَ إذا عَلِمَ أنَّه يُؤخَذُ منه إذا اشْتَراه لم يَبْتَعْه، ويَتَقاعَدُ الشَّرِيك عن الشِّراءِ، فيَسْتَضِرُّ المالِكُ. وهذا الذي ذَكَره ليس ¬

(¬1) في: المغني 7/ 436.

2385 - مسألة: (ولا يحل الاحتيال)

وَلَا يَحِلُّ الاحْتِيَال لإسْقَاطِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بشيءٍ؛ لمُخالفَتِه الأحادِيثَ الصَّحِيحَةَ والإِجْماعَ المُنْعَقِدَ قبلَه. والجَوابُ عما ذكره مِن وَجْهَين؛ أحدُهما، أَنّا نُشَاهِدُ الشُّرَكاءَ يَبِيعُون، ولا يُعْدَمُ مَن يَشْتَرِي منهم غيرَ شُرَكائِهِم، ولم يَمْنَعْهُم اسْتِحْقاقُ الشُّفْعَةِ مِن الشِّراءِ. الثاني، أنَّه يُمْكِنُه إذا لَحِقَتْه بذلك مَشَقَّةٌ أن يُقاسِمَ، فتَسْقُطَ الشُّفْعَةُ. واشْتِقاقُها مِن الشَّفْعِ، وهو الزَّوْجُ، فإنَّ الشَّفِيعَ كان نَصِيبُه مُنْفَرِدًا في مِلْكِه، فبالشُّفْعَةِ يَضُمُّ المَبِيعَ إلى مِلْكِه فيَشْفَعُه به. وقيلَ: اشْتِقاقُها مِن الزِّيادَةِ؛ لأن الشَّفِيعَ يَزِيدُ المَبِيعَ في مِلْكِه. 2385 - مسألة: (ولا يَحِلُّ الاحْتِيالُ) على إسْقاطِها. فإن فَعَل، لم يَسْقُطْ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ إسْماعيلَ بنِ سعيدٍ، وقد سَأَلَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الحِيلَةِ في إبْطالِ الشُّفْعَةِ، فقال: لَا يَجُوزُ شيءٌ مِن الحِيَلِ في ذلك، ولا في إبْطالِ حَقِّ مسلم. وبهذا قال أبو أيُّوبَ، وأبو خَيثَمَةَ، وابنُ أبي شَيبَةَ، وأبو إسْحاقَ الجُوزْجَانِيُّ. وقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: مَن يَخْدَعِ اللهَ يَخْدَعْه. ومَعْنَى الحِيلَةِ: أنَّ يُظْهِرُوا في البَيعِ شيئًا لا يُوخَذُ بالشُّفْعَةِ معه، ويَتَواطَئُونَ في الباطِنِ على خِلافِه، مثلَ أنَّ يَشْتَرِيَ شَيئًا يُساوي عَشَرَةَ دَنانِيرَ بألْفِ دِرْهَمٍ ثم يَقْضِيَهِ عنها عَشَرَةَ دَنانِيرَ، أو يَشْتَرِيَه بمائةِ دِينارٍ ويَقْضِيَه عنها مائةَ دِرْهمٍ، أو يَشْتَريَ البائِعُ مِن المُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُه مائة بأَلْفٍ في ذِمَّتِه ثم يَبِيعَه الشِّقصَ بالأَلْفِ، أَوْ يَشتَرِيَ شِقصًا بأَلْفٍ ثم يُبْرِئه البائِعُ مِن تِسْعِمائةٍ، أو يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِن الشِّقْصِ بمائةٍ ثم يَهَبَ له البائِعُ باقِيَه، أو يَهَبَ الشِّقْصَ للمُشْتَرِي ويَهَبَ المُشْتَرِي له الثَّمَنَ، أو يُعْقَدَ البَيعُ بثَمَن مَجْهُولِ المِقْدارِ، كحَفْنَةِ قُرَاضَةٍ، أو جَوْهَرَةٍ مُعَيَّنةٍ، أو سِلْعَةٍ مُعَيَّنةٍ غيرِ مَوْصُوفَةٍ، أو بمائةِ دِرْهَم ولُؤْلُؤَةٍ، وأشباهُ هذا. فإن وَقَع ذلك مِن غيرِ تَحَيُّل، سَقَطَتِ الشفْعَةُ. وإن تَحَيَّلَا به على إسْقاطِ الشُّفْعَةِ لم تَسْقُطْ، ويَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ في الصُّورَةِ الأُولَى بعَشَرَةِ دَنانِيرَ أو قِيمَتِها مِن الدَّراهِمِ. وفي الثانيةِ بمائةِ دِرْهَم أو قِيمَتِها ذَهَبًا. وفي الثالثةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقِيمَةِ العَبْدِ المَبِيعِ. وفي الرَّابِعَةِ بالباقِي بعدَ الإبراءِ. وفي الخامسةِ، يَأْخُذُ الجُزْءَ المَبِيعَ مِن الشِّقْص بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كلَّه بجَمِيعِ الثَّمنِ؛ لأَنهَ إنَّما وَهَبَه بَقِيَّةَ الشِّقْصِ عِوَضًا عن الثَّمَنِ الذي اشْتَرَى به جُزْءًا مِن الشِّقْصِ. وفي السادسةِ يَأْخُذُ بالثَّمَنِ المَوْهُوبِ. وفي سائِرِ الصُّوَرِ المَجْهُولِ ثَمَنُها يَأْخُذُه بمِثلِ الثَّمنِ، أو قِيمَتِه إن لم يَكُنْ مِثْلِيًّا إذا كان الثَّمَنُ مَوْجُودًا، فإن لم يُوجَدْ، دَفَع إليه قِيمَةَ الشِّقْصِ؛ لأن الأغْلَبَ وُقُوعُ العَقْدِ على الأشْياءِ بقِيمَتِها. وقال أصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ: يَجُوز ذلك كلُّه، وتَسْقُطُ به الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه لم يَأْخُذْ بما وَقَع [البَيعُ به] (¬1)، فلم يَجُزْ، كما لو لم (¬2) يَكُنْ حِيلَةً. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَينَ فَرَسَينِ، وَلَا يَأمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيسَ بِقِمَارٍ، وَإنْ أمِنَ أنْ يَسْبِقَ، فَهُوَ قِمَارٌ». رَواه أبو داودَ وغيرُه (¬3). فجَعَلَ إدْخال ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 12/ 133، 13/ 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرَسِ المُحَلِّلِ قِمَارًا في المَوْضِعِ الذي يَقْصِدُ به إباحَةَ إخْراجِ كلِّ واحِدٍ مِن المُتَسَابقين جُعْلًا، مع عَدَمِ مَعْنَى المُحَلِّلِ فيه، وهو كونُه بحالٍ يَحْتَمِلُ أنَّ يَأْخُذَ سَبَقَهُما. وهذا يَدُلُّ على إبْطالِ كلِّ حِيلَةٍ لم يُقصَدْ بها إلَّا إباحَةُ المُحَرَّمِ، مع عَدَمِ المَعْنَى فيها. واسْتَدَلَّ أصحابُنا بما روَى أبو هُرَيرَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبتِ اليَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأدْنَى الْحِيَلِ» (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ الله اليَهُودَ، إنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأكَلُوا ثَمَنَهُ». مُتَّفَق عليه (¬2). ولأنَّ اللهَ تَعالى ذَمَّ المُخادِعِينَ له بِقَولِه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون} (¬3). والحِيَلُ مُخادَعَةٌ، وقد مَسَخَ اللهُ تَعَالى الذينَ اعْتَدَوْا في السَّبْتِ قِرَدَةً بحِيَلهِم، فإنَّه رُوِيَ عنهم أنَّهم كانوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُم يومَ الجُمُعَةِ، ومنهم مَن يَحْفِرُ جِبَابًا، ويُرْسِلُ الماءَ إليها يومَ الجُمُعَةِ، فإذا ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 492، وحسن إسناده. وانظر إرواء الغليل 5/ 375. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 307 رقم (2) ويضاف إليه: البخاري، في: باب قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا. . . .}، من تفسير سورة الأنعام، من كتاب التفسر. صحيح البخاري 6/ 72. (¬3) سورة البقرة 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جاءتِ الحِيتانُ يومَ السَّبْتِ وَقَعَتْ في الشِّبَاكِ والجِبَابِ، فَيَدَعُونَها إلى لَيلَةِ الأحَدِ، فيَأْخُذُونَها، ويَقُولُونَ: ما اصْطَدْنَا يومَ السَّبْتِ شيئًا. فمَسَخَهُم الله تَعالى بحِيلَتِهِم. وقال تَعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَينَ يَدَيهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). قِيلَ: يَعْنِي به أمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. أي ليَتَّعِظَ بذلك أمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيَجْتَنِبُوا مِثلَ فِعْل المُعْتَدِينَ. ولأنَّ الحِيلَةَ خَدِيعَةٌ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَحِلُّ الخَدِيعَةُ لِمُسْلِم» (¬2). ولأنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لدَفْعِ الضَّرَرِ، فلو سَقَطَتْ بالتَّحَيُّلِ لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فلم تَسْقُطْ، كما لو أسْقَطها المُشْتَرِي عنه بالوَقْفِ والبَيعِ. وفارَقَ ما لم يُقْصَدْ به التَّحَيُّلُ؛ لأنَّه لا خِدَاعَ فيه، ولا قصِدَ به إبْطالُ حَقٍّ، والأعْمالُ بالنِّيَّاتِ. فإنِ اخْتَلَفَا هل وَقَعَ شيءٌ مِن هذا حِيلَةً أو لا؟ فالقولُ قولُ المُشْتَرِي مع يَمينه؛ لأنَّه أعْلَمُ بنِيَّته وحالِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الغَرَرَ في الصُّورَتَين الأُولَيَين على المُشْتَرِي؛ لشِرَائِه ما يُسَاوي ¬

(¬1) سورة البقرة 66. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 347.

2386 - مسألة: (ولا تثبت إلا بشروط خمسة؛ أحدها، أن يكون مبيعا، ولا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحال)

وَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أَحَدُهَا، أنْ يَكُونَ مَبِيعًا. وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا انْتَقَلَ بِغَيرِ عِوَضٍ بِحَالٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَشَرَةً بمائةٍ، وما يُساوي مائَةَ دِرْهَم بمائةِ دِينَارٍ، وأشْهَدَ على نَفْسِه أنَّ عليه ألْفًا، فرُبَّما طالبَه بها، فلَزِمَه في ظاهِرِ الحُكْمِ. وفي الثالثةِ الغَرَرُ على البائِعِ؛ لأنَّه اشْتَرَى عَبْدًا يُساوى مائةً بأَلفٍ. وفي الرابعةِ الغَرَرُ على المُشتَري؛ لأنَّه اشْتَرَى بعض شِقصًا قِيمَتُه مائة بأَلْفٍ. وكذلك في الخامسةِ؛ لأنَّه اشْتَرَى بعضَ الشِّقْصِ بثَمَنِ جَمِيعِه. وفي السادسةِ على البادِئ منهما بالهِبَةِ؛ لأنَّه قد لا يَهَبُ له الآخَرُ شيئًا. فإن خالفَ أحَدُهما ما تَوَاطَآ عليه، فطالبَ صاحِبَه بما أظْهَرَه، لَزِمَه في ظاهِرِ الحُكْمِ؛ لأنَّه عَقَدَ البَيعَ مِع صاحِبِه بذلك مُخْتارًا، فأمّا في ما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فلا يَحِلُّ لمَن غرَّ صاحِبَه الأخْذُ بخِلافِ ما تَواطَآ عليه؛ لأنَّ صاحِبَه إنَّما رَضِيَ بالعَقْدِ للتَّوَاطُؤ، فمع فَواتِه لا يتَحَقَّقُ الرِّضا به. 2386 - مسألة: (ولا تَثْبُتُ إلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ؛ أحَدُها، أنَّ يكونَ مبيعًا، ولا شُفعَةَ فيما انْتَقَلَ بغيرِ عِوَض بحالٍ) كالهِبَةِ بغيرِ ثوابٍ، والصَّدَقَةِ، والوَصِيَّةِ، والإِرْثِ، فلا شُفْعَةَ فيه في قَوْلِ الأكْثَرِينَ؛ منهم مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُ الرَّأي، إلَّا أنَّه حُكِيَ عن مالكٍ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ في المُنْتَقِلِ بهِبَةٍ أو صَدَقَةٍ، ويَأْخُذه الشَّفِيعُ بِقيمَتِه. وحُكِيَ عن ابنِ أبي لَيلَى؛ لأنَّ الشفْعَةَ تَثْبُت لإِزالةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وهو مَوْجُود في الشرِكَةِ كيفما كان، ولأنَّ

2387 - مسألة: (ولا)

وَلَا فِيمَا عِوَضُهُ غَيرُ الْمَالِ؛ كَالصَّدَاقِ، وَعِوَض الْخُلْعَ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بالمُتَّهِبِ دُونَ ضَرَرِ المُشْتَرِي؛ لأنَّ إقْدامَ المُشْتَرِي على شِرَاءِ الشِّقْصِ وبَذْلِ مالِه، دَلِيلُ حاجَتِه إليه، فانْتِزاعُه منه أعْظَمُ ضَرَرًا مِن أخْذِه مِمّن لم يُوجَدْ منه دَلِيلُ الحاجَةِ إليه. ولَنا، أنَّه انْتَقَلَ بغيرِ عِوَض، أشْبَهَ المِيراثَ، ولأنَّ محَلَّ الوفَاقِ هو البَيعُ، والخَبَرُ وَرَد فيه، وليس غيرُه في مَعْناه؛ لأنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُه مِن المُشْتَرِي بمِثْلِ السَّبَبِ الذي انْتَقَل إليه به، ولا يُمْكِنُ هذا في غيرِه، ولأنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بثَمَنِه، لا بقِيمَتِه، وفي غيرِه يَأْخُذُه بقِيمَتِه، فافْتَرَقَا. 2387 - مسألة: (ولا) تَجِبُ (فيما عِوَضُه غيرُ المالِ؛ كالصَّدَاقِ، وعِوَضِ الخُلْعِ، والصُّلْحِ عن دَمِ العَمْدِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ) المُنْتَقِلُ بعِوَض على ضَرْبَينِ؛ أحدُهما، ما عِوضُه المالُ، كالبَيعِ، ففيه الشُّفْعَةُ، بغيرِ خِلافٍ، وكذلك كلُّ ما جَرَى مَجْراه، كالصُّلْحِ بمَعْنَى البَيعِ، والصُّلْحِ عن الجِنايَةِ المُوجِبَةِ للمالِ، والهِبَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَشْرُوطِ فيها ثَوابٌ مَعْلُومٌ؛ لأن ذلك بَيعٌ يَثْبُتُ فيه أحْكامُ البَيعِ، وهذا منها. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ وأصحابَه قالوا: لا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ في الهِبَةِ المَشْرُوطِ فيها ثَوابٌ حتى يتَقَابَضَا؛ لأنَّ الهِبَةَ لا تَثْبُتُ إلَّا بالقَبْضِ، فأشْبَهَتِ البَيعَ بشَرْطِ الخِيارِ. ولَنا، أنَّه تَمَلَّكَها بعِوَضٍ، هو مالٌ، فلم يَفْتَقِرْ إلى القَبْضِ في اسْتِحْقاقِ الشُّفْعَةِ، كالبَيعِ. ولا يَصِحُّ ما قالوه مِن اعْتِبارِ لَفْظِ الهِبَةِ؛ لأن العِوَضَ صَرَفَ اللَّفْظَ عن مُقْتَضاه، وجَعَلَه عِبارَةً عن البَيعِ خاصَّةً عندَهم، فإنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْعَقِدُ بها النِّكاحُ الذي لا تَصِحُّ الهِبَةُ فيه بالاتِّفاقِ (¬1). الضربُ الثاني، ما انْتَقَلَ بعِوَض غيرِ المالِ، نَحْوَ أنَّ يَجْعَلَ الشِّقْصَ مَهْرًا أو عِوَضًا في الخُلْعِ، أو في الصُّلْحِ عن دَمِ العَمْدِ، فلا شُفعَةَ، فيه، في ظاهِرِ كَلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه لم يَتَعَرَّضْ في جَمِيعِ مَسائِلِه لغيرِ البَيعِ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وبه قال الحَسَنُ، والشَّعْبِي، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. حَكاه عنهم ابنُ المُنْذِرِ واخْتارَه. وقال ابنُ حامِدٍ: تَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ. وبه قال ابنُ شُبْرُمَةَ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، ومالكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والشافعيُّ؛ لأنَّه عَقارٌ مَمْلُوكٌ بعقدِ مُعاوَضةٍ، أشْبَهَ البيعَ. ووجهُ الأوَّلِ، أنَّه مَمْلُوكٌ بغيرِ مالٍ، أشْبَهَ المَوْهُوبَ والمَوْرُوثَ، ولأنَّه يَمْتَنِعُ أخْذُه بمَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّنا لو أوْجَبْنا مَهْرَ المِثْلِ لقَوَّمْنا البُضْعَ على الأجانِبِ، وأضْرَرْنَا بالشَّفِيعِ؛ لأنَّ مَهْرَ المِثْلِ يتَفَاوَتُ مع المُسَمَّى؛ لتَسامُحِ الناسِ فيه في العادَةِ. ويَمْتَنِعُ أخْذُه بالقِيمَةِ؛ لأنَّها ليست عِوَضَ الشِّقْصِ، فلا يَجُوزُ الأخْذُ بها، كالمَوْرُوثِ، فيَتَعَذَّرُ أخْذُه. وفارَقَ البَيعَ، فإنَّه أمْكَنَ الأخْذُ ¬

(¬1) في م: «بالإنفاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضِه. فإن قُلْنا: يُؤْخَذُ بالشُّفْعَةِ. فطَلَّقَ الزَّوْجُ قبلَ الدُّخُولِ بعدَ (¬1) عَفْو الشَّفِيعِ، رَجَع بنِصْفِ ما أصْدَقَها؛ لأنَّه مَوْجُود في يَدِها بصِفَتِه، وإن طَلَّقَ بعدَ أخْذِ الشَّفِيع، رَجَع بنِصْف قِيمَتِه؛ لأنَّ مِلْكَها زال عنه، فهو كما لو باعَتْه. وإن طَلقَ قبلَ عِلْمِ الشَّفِيعِ ثم عَلِم، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ؛ لأنَّه ثَبَت بالنِّكَاحِ السّابِقِ على الطَّلاقِ، فهو أسْبَقُ. والثاني، حَقُّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ؛ لأنَّه ثَبَت بالنَّصِّ والإجْماعِ، والشُّفْعَةُ ههُنا لا نَصَّ فيها ولا إجْماعَ. فأمّا إن عَفَا الشَّفِيعُ، ثم طَلَّقَ الزَّوْجُ فرَجَعَ في نِصْفِ الشِّقْصِ، لم يَسْتَحِقَّ الشَّفِيعُ الأخْذَ منه؛ لأنَّه عادَ إلى المالِكِ؛ لزَوالِ العَقْدِ، فلم يَسْتَحِقَّ به الشَّفِيعُ، كالرَدِّ بالعَيبِ. وكذلك كلُّ فَسْخٍ يَرْجِعُ به الشِّقْصُ إلى العاقِدِ؛ كرَدِّه بعَيب، أو مُقايَلةٍ، أو اخْتلافِ المُتَبايِعَين، أو رَدِّه لغَبْنٍ. وقد ذَكَرْنا في الإِقَالةِ رِوايَةً أُخْرَى، أنَّها بَيعٌ، فتَثْبُتُ فيها الشُّفْعَةُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. فعلى هذا، لو لم يَعْلَم الشَّفِيعُ حتى تَقايَلَا، فله أنَّ يَأْخُذَ مِن أيِّهما شاء، وإن عَفَا عن الشُّفْعَة في البَيعِ ثم تَقايَلَا، فله الأخْذُ بها. فصل: فإذا جَنَى جِنايَتَين عَمدًا وخَطَأً، فصالحَه منهما على شِقْص، فالشفْعَةُ في نِصْفِ الشِّقْصِ دُونَ باقِيه. وبه قال أبو يُوسُف، ومحمدٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «قيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا على الرِّوايَةِ التي نقولُ فيها: إن مُوجَبَ العَمْدِ القِصَاصُ عَينًا. وإن قُلْنا: مُوجَبُه أحَذ شَيئين. وَجَبَتِ الشُّفْعَة في الجَمِيعِ. وقال أبو حنيفةَ: لا شفْعَةَ في الجَمِيعِ، لأنَّ الأخْذَ بها تَبْعِيضٌ للصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي. ولَنا، أنَّ ما قابَلَ الخَطَأ عِوَضٌ عن مالٍ، فوَجَبَتْ فيه الشُّفْعَةُ، كما لو انْفَرَدَ، ولأنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ ما يَجِبُ فيه وما لا يَجِبُ، فوَجَبَتْ فيما يَجِبُ دُونَ الآخَرِ، كما لو اشْتَرَى شِقْصًا وسَيفًا. وبهذا الأصْلِ يَبْطُلُ ما ذَكَرَه. قال شيخُنا (¬1): وقولُ أبي حنيفةَ أقْيَسُ؛ لأنَّ في الشُّفْعَةِ تَبْعِيضَ الشِّقْصِ على المُشْتَرِي، ورُبَّما لا يَبْقَى منه إلَّا ما لا نَفْعَ فيه، فأشْبَهَ ما لو أرادَ أخْذَ بعضِه مع عَفْو صاحِبِه، بخِلافِ مسألَةِ الشِّقْصِ والسَّيفِ. وأمّا إذا قُلْنا: إنَّ الواجبَ أحَدُ شَيئَين. فباخْتِيارِه الصُّلْحَ سَقَط القِصاصُ وتعيَّنَتِ الدِّيَة، فكان الجَمِيعُ عِوَضًا عن مالٍ. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 446.

2388 - مسألة: (الثاني، أن يكون شقصا مشاعا من عقار ينقسم، فأما المقسوم المحدود فلا شفعة لجاره فيه)

فَصْلٌ: الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ شِقْصًا مُشَاعًا مِنْ عَقَارٍ يَنْقَسِمُ، فَأَما الْمَقْسُومُ الْمُحَادُ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2388 - مسألة: (الثاني، أنَّ يَكُونَ شِقْصًا مُشَاعًا مِن عَقارٍ يَنْقَسِمُ، فأمّا المَقْسُومُ المَحْدُودُ فلا شُفْعَةَ لجارِه فيه) وبه قال عمرُ، وعُثمانُ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، وابنُ المُسَيَّبِ، وسُلَيمانُ بنُ يَسَارٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِيُّ، ويحيى الأنْصارِيُّ، وأبو الزِّنَادِ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى، وأصحابُ الرَّأْي: الشُّفْعَةُ بالشَّركَةِ، ثم بالشَّرِكَةِ في الطَّرِيقِ، ثم بالجِوارِ. قال أبو حنيفةَ: يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ، فإن لم يَكُن، وكان الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا، كالدَّرْبِ الذي لا يَنْفُذُ، تَثْبُتُ الشفْعَةُ لِجَمِيع أهْلِ الدَّرْبِ؛ الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، فإن لم يَأْخُذُوا، ثَبَتَتْ للمُلاصِقِ مِن دَرْبٍ آخَرَ خاصَّة. وقال العَنبرِيُّ، وسَوَّارٌ: تَثْبُتُ بالشَّرِكَةِ في المِلْكِ، وبالشَّرِكَةِ في الطَّرِيق. واحْتَجُّوا بما روَى أبو رافعٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْجَارُ أَحَقُّ بصَقَبِهِ». رَواه البخاريُّ، وأبْو داودَ (¬1). وروَى الحسنُ عن سَمُرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «جَارُ الدَّارِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، من كتاب الشفعة، وفي: باب في الهبة والشفعة، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 3/ 115، 9/ 35. وأبو داود، في: باب في الشفعة. من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 256. كما أخرجه النسائي، في: باب ذكر الشفعة وأحكامها، من كتاب البيوع. المجتبي 7/ 281، 282. وابن ماجه، في: باب الشفعة والجوار، من كتاب الشفعة. سنن ابن ماجه 2/ 833، 834. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 389، 390، 6/ 10، 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَحَقُّ بِالدَّارِ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وروَى التِّرْمِذِيُّ (¬2) في حَدِيثِ جابر: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِه بِدَارِهِ يَنتظِرُ بهِ إذَا كَانَ غَائِبًا، إذَا كَانَ طَريقُهُما وَاحِدًا». وقال: حَدِيث حَسَنٌ. ولأنَّه اتِّصَالُ (¬3) مِلْك يَدُومُ ويَتَأَيَّدُ، فثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ به، كالشَّرِكَةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ». رواه البخاريُّ (¬4). وروَى ابنُ جُرَيجٍ، عن الزهْرِيِّ، عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أو عن أبي سَلَمَةَ، أو عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا قُسِمَتِ الأرْضُ وَحُدَّتْ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا». رَواه أبو داودَ (¬5). ولأن الشُّفْعَةَ ثَبَتتْ في مَوْضِعِ الوفَاقِ على خِلاف ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الشفعة، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 129. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الشفعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 256. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 388، 5/ 8، 12، 13، 17، 18. (¬2) في: باب ما جاء في الشفعة للغائب، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 130. كما أخرجه أبو داود، في: باب الشفعة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 256. وابن ماجه، في: باب الشفعة والجوار، من كتاب الشفعة. سنن ابن ماجه 2/ 833. والدارمي، في: باب في الشفعة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 273. (¬3) في م: «إيصال». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 357. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 357.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصْلِ لمَعْنًى مَعْدُوم في مَحَلِّ النِّزاعِ، فلا تَثْبُتُ فيه، وبَيانُ انْتِفاءِ المَعْنَى، هو أنَّ الشَّرِيكَ رُبَّما دَخَل عليه شَرِيكٌ، فيَتَأذَّى به، فتَدْعُوه الحاجَةُ إلى مُقاسَمَتِه، أو يَطْلُبُ الدَّاخِلُ المُقاسَمَةَ، فيَدْخُلُ الضَّرَرُ على الشَّرِيكِ بنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِه وما يَحْتاجُ إلى إحْداثِه مِن المَرافِقِ، وهذا لا يُوجَدُ في المَقْسُومِ. فأمّا حَدِيثُ أبي رافعٍ، فليس بصَرِيحٍ في الشُّفْعَةِ، فإنَّ الصَّقَبَ القُرْبُ. يقال بالسِّينِ والصّادِ. قال الشاعرُ (¬1): كُوفِيَّةٌ نازِحٌ مَحِلَّتُها … لا أمَمٌ دارُها ولا صَقَبُ ¬

(¬1) هو ابن قيس الرقيات، والبيت في ديوانه 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بإحْسانِ جارِه وصِلَتِه وعِيادَتِه ونحو ذلك. وخَبَرُنا صَحِيحٌ صَرِيحٌ، فيُقَدَّمُ، وبَقِيَّةُ الأحَادِيثِ في أسَانِيدِها مَقَالٌ، فحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْويه عنه (¬1) الحَسَنُ، ولم يَسْمَعْ منه إلَّا حَدِيثَ العَقِيقَةِ. قاله أصحابُ الحَدِيثِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: الثابِتُ عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثُ جابرٍ الذي رَوَيناه، وما عَدَاه مِن الأحَادِيثِ فيها مَقَالٌ. على أنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بالجارِ الشَّرِيكَ؛ فإَّنه جارٌ أيضًا، وتُسَمَّى الضَّرَّتانِ جارَتَين؛ لاشْتِراكِهما في الزَّوْجِ. قال حَمَلُ بنُ مالكٍ: كُنْتُ بينَ جارَتَيْن لي، فضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرَى بمِسْطَحٍ (¬2) فقَتَلَتْها وجَنِينَها. وهذا يُمْكنُ في تَأْويلِ حَدِيثِ أبي رافِعٍ أيضًا. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مُفْرَدَةً أو مُشْتَرَكَةً. ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) المسطح: عمود الخباء. والحديث أخرجه أبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 497، 498. وابن ماجه، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 882. والدارمي، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن الدارمي 2/ 196. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 364، 4/ 80.

وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ، كَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالْبِئْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ، في رِوايَةِ ابنِ القاسِمِ، في رجلٍ له أرْضٌ تَشْرَبُ هي وأرْضُ غيرِه مِن نَهْرٍ واحدٍ: فلا شُفْعَةَ له مِن أجْلِ الشُّرْبِ، إذا وَقَعَتِ الحُدُودُ فلا شُفْعَةَ. وقال في رِوايَةِ أبي طالبٍ، وعبدِ اللهِ، ومُثَنَّى، في مَن لا يَرَى الشفْعَةَ بالجِوَارِ وقدِّمَ إلى الحاكِمِ فأنْكَرَ: لم يَحْلِفْ، إنَّما هو اخْتِيارٌ، وقد اخْتَلَفَ الناسُ فيه. قال القاضي: إنَّما قال هذا؛ لأنَّ يَمِينَ المُنْكِرِ ههُنا على القَطْعِ والبَتِّ، ومسائِلُ الاجْتِهادِ مَظْنُونَةٌ، فلا يُقْطَع ببُطْلانِ مَذْهَبِ المُخالِفِ. ويُمْكِن أنَّ يُحْمَلَ كَلامُ أحمدَ ههُنا على الوَرَعِ لا على التَّحْرِيمِ؛ لأنَّه لم (¬1) يَحْكُمْ ببُطْلانِ مَذْهَبِ المُخالِفِ. ويجوز للمُشْتَرِي الامْتِناعُ به مِن تَسْلِيمِ المَبِيعِ، فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى. فصل: (ولا) تَثْبُتُ (الشفْعَةُ فيما لا تَجِبُ قِسْمَتُه؛ كالحَمَّامِ ¬

(¬1) زيادة من: م.

وَالطُّرُقِ، وَالعِرَاصِ الضَّيِّقَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّغِيرِ، والبِئْرِ، والطُّرُقِ) الضَّيِّقَةِ، والرَّحَى الصَّغِيرَةِ، والعِضَادَةِ (¬1) (والعِرَاصِ الضَّيِّقَةِ) في إحْدَى الرِّوايَتَينِ عن أحمدَ. وبه قال يحيى الأنْصارِيُّ، وسعيدٌ، ورَبِيعَةُ، والشافعيُّ. والثانيةُ، فيها الشُّفْعَةُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ سُرَيجٍ (¬2). وعن مالكٍ كالرِّوَايَتَين؛ لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ». وسائِرِ النُّصُوصِ العامَّةِ، ولأنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لإزالةِ ضَرَرِ المُشارَكَةِ، والضَّرَرُ في هذا النَّوْعِ أكثرُ؛ لأنَّه يتَأَبَّدُ ضَرَرُه. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ ¬

(¬1) عضادتا الباب: خشبتان منصوبتان مثبتتان في الحائط على جانبيه. (¬2) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا شُفْعَةَ فِي فِناءٍ وَلَا طَرِيقٍ وَلَا مَنْقَبَةٍ» (¬1). والمَنْقَبَةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ. رَواه أبو الخَطّابِ في «رُءُوسِ المَسائِلِ». ورُوِيَ عن عثمانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لا شُفْعَةَ في بِئْرٍ ولا فَحْل. ولأنَّ إثْباتَ الشُّفْعَةِ في هذا يَضُرُّ بالبائِعِ، لأنَّه لا يُمْكِنُه أنَّ يَتَخَلَّصَ مِن إثْباتِ الشُّفْعَةِ في نَصِيبِه بالقِسْمَةِ، وقد يَمْتَنِعُ المُشْتَرِي لأجْلِ الشَّفِيعِ، فيَتَضَرَّرُ البائِعُ، وقد يَمْتَنِعُ البَيعُ فتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ، فيُؤَدِّي إثْباتُها إلى نَفْيِها. ويُمْكِنُ أنَّ يُقال: إنَّ الشُّفْعَةَ إنَّما تَثْبُتُ لدَفْعِ الضَّرَرِ الذي يَلْحَقُه بالمُقاسَمَةِ؛ لِما يَحْتاجُ إليه مِن إحْداثِ المَرافِقِ الخاصَّةِ، ولا يُوجَدُ هذا فيما لا يَنْقَسِمُ. قولُهم: إنَّ الضَّرَرَ ها هنا أكْثَرُ لتَأَبُّدِه. قُلْنا: إلَّا أنَّ الضَّرَرَ في مَحَلِّ الوفَاقِ ¬

(¬1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق، في: باب هل في الحيوان أو البئر أو النخل أو الدين شفعة، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ جِنْسِ هذا الضَّرَرِ، وهو ضَرَرُ الحاجَةِ إلى إحْداثِ المَرافِق الخاصَّةِ، فلا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ، وفي الشُّفْعَةِ ههُنا ضَرَرٌ غيرُ مَوْجودٍ في مَحَلِّ الوفَاقِ، وهو ما ذَكَرْناه، فتَعَذَّرَ الإِلْحاقُ. فأمّا ما أمْكَنَ قِسْمَتُه مِمّا ذَكَرْنا، كالحَمَّامِ الكَبِيرِ الواسِعِ بحيثُ إذا قُسِمَ لا يُسْتَضَرُّ بالقِسْمَةِ وأمْكَنَ الانْتِفاعُ به حَمّامًا، فإنّ الشُّفْعَة تَجِبُ فيه. وكذلك البِئْرُ والدُّورُ والعَضائِدُ متى أمْكَنَ أنَّ يَحْصُلَ مِن ذلك شَيئانِ، كالبِئْرِ تُقْسَمُ بِئْرَينِ يَرْتَقِي الماءُ منهما (¬1) وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ أيضًا، لأنَّه يُمْكِنُ القِسْمَةُ. وهكذا الرَّحَى إن كان لها حِصْنٌ يُمْكِنُ قِسْمَتُه، بحيثُ يَحْصُلُ الحَجَرانِ في أحَدِ القِسْمَين، أو كان فيها أرْبَعَةُ أحْجارٍ دائِرَة يُمْكِنُ أنَّ يُفْرَدَ كلُّ واحِدٍ منهما بحَجَرَين، ¬

(¬1) في م: «منهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ. وإن لم [يُمكنْ ذلك، بأن] (¬1) يَحْصُلَ لكلِّ واحِدٍ منهما ما لا يتَمَكَّنُ به مِن إبْقائِها رَحًى، لم تَجِبِ الشُّفْعَةُ. فأمّا الطَّرِيقُ، فإنّ الدّارَ إذا بيعَتْ ولها طَرِيقٌ في شارعٍ أو دَرْبٍ نافِذٍ، فلا شُفْعَةَ في الدّارِ ولا في الطَّرِيقِ؛ لأنَّه لا شَرِكَةَ لأحَدٍ في ذلك. وإن كان الطَّرِيقُ في دَرْبٍ غيرِ نافذٍ ولا طَرِيقَ للدّارِ سِوَى ذلك الطَّرِيقِ، فلا شُفْعَةَ أيضًا؛ لأنَّ إثْباتَ ذلك يَضُرُّ بالمُشْتَرِي؛ لأنَّ الدّارَ تَبْقَى بلا طَرِيقٍ. وإن كان للدَّرْبِ بابٌ آخَرُ يُسْتَطْرَقُ منه، أو كان لها مَوْضِعٌ يُفْتَحُ منه بابٌ لها إلى الطَّرِيقِ النّافِذِ، نَظَرْنا في الطَّرِيق المَبِيعِ مع الدَّارِ، فإن كان مَمَرًّا لا تُمْكِنُ قِسْمَتُه فلا شُفْعَةَ فيه، وإن كان يُمْكِنُ قِسْمَتُه وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فيه؛ لأنَّه أرضٌ مُشْتَرَكَة تَحْتَمِلُ القِسْمَةَ، فوَجَبَتْ فيها الشفْعَةُ، كغيرِ الطرِيقِ، ويَحْتَمِلُ أنَّ لا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فيها بحالٍ؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ المُشْتَرِيَ بتَحْويلِ الطرِيقِ إلى مَكانٍ آخَرَ، مِع ما في الأخْذِ بالشفْعَةِ مِن تَفْرِيقِ صَفقَتِه وأخْذِ بعضِ المَبِيعِ مِن العَقَارِ دُون بعضٍ، فلم يَجُزْ، كما لو كان الشَّرِيكُ في الطَّرِيقِ شَرِيكًا في الدّارِ فأرادَ أخْذَ الطَّرِيقِ وَحْدَها. والقولُ في دِهْلِيزِ الدّارِ وصَحْنِه، كالقَوْلِ في الطَّرِيقِ المَمْلُوكِ. وإن كان نَصِيبُ المُشْتَرِي مِن الطرِيقِ أكْثَرَ مِن حاجَتِه، فذَكَرَ القاضِي أنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ في الزَّائِدِ بكل حال؛ لوُجُودِ المُقْتَضِي وعَدَمِ المانِعِ. والصَّحِيحُ أنَّه لا شُفْعَةَ فيه؛ لأن في ثُبُوتِها تَبْعِيضَ صَفْقَةِ المُشْتَرِي، ولا يَخْلُو مِن الضَّرَرِ. ¬

(¬1) في م: «يكن إلا أن».

2389 - مسألة: (و)

وَمَا لَيسَ بِعَقَارٍ؛ كَالشَّجَرِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْبِنَاءِ الْمُفْرَدِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. إلَّا أنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ يُؤخَذُ تَبَعًا لِلْأرْضِ، وَلَا تُؤخَذُ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ تَبَعًا، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2389 - مسألة: (و) لا تَجِبُ فيما (ليس بعَقَارٍ؛ كالشَّجَرِ، والحَيَوانِ، والبِنَاءِ المُفْرَدِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. إلَّا أنَّ الغِراسَ والبِنَاءَ يُؤْخَذُ تَبَعًا للأرْضِ، ولا يُؤْخَذُ الزَّرْعُ والثَّمَرَةُ تَبَعًا، في أحَدِ الوَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مِن شُرُوطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، أنَّ يكونَ المَبِيعُ أرْضًا؛ لأنَّها التي تَبْقَى على الدَّوامِ ويَدُومُ ضَرَرُها، وغيرُها يَنْقَسِمُ قِسْمَينِ؛ أحدُهما، تَثْبُتُ فيه الشُّفْعَةُ تَبَعًا للأرْضِ، وهو البِنَاءُ والغِراسُ يُباعُ مع الأرْضِ، فإنَّه يُؤْخَذُ بالشُّفْعَةِ تَبَعًا، بغيرِ خِلافٍ في المَذْهَب، ولا نعْرِفُ فيه بينَ مَن أثْبَتَ الشُّفْعَةَ خِلافًا. وقد دَلَّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَضاؤُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشُّفْعَةِ في كلِّ شِرْكٍ لم يُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أو حائِطٍ (¬1). وهذا يَدْخُلُ فيه البِنَاءُ والأشْجارُ. القسمُ الثاني، ما لا تَثْبُتُ فيه الشُّفْعَةُ تَبَعًا ولا مُفْرَدًا، وهو الزَّرْعُ والثَّمَرَةُ الظاهِرَةُ، ويُباعُ مع الأرْضِ، فلا يُؤْخَذُ بالشفْعَةِ مع الأصلِ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يؤْخَذُ بالشفْعَةِ مع أُصُولِه. وقد ذَكَر أصحابُنا وَجْهًا مثلَ قَوْلِهما؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ بما فيه الشُّفْعَةُ، فثَبَتَتْ فيه الشُّفْعَةُ تَبَعًا، كالبِنَاءِ والغِرَاسِ. ولَنا، أنَّه لا يَدْخُل في البَيعِ تَبَعًا، فلا يؤْخَذُ بالشُّفْعَةِ، كقُماشِ الدّارِ، وعَكْسُه البِنَاءُ والغِرَاسُ، يُحَقِّقُ ذلك أنَّ الشُّفْعَةَ بَيعٌ في الحَقِيقَةِ، لكنَّ الشّارِعَ جَعَل له سُلْطانَ الأخْذِ بغيرِ رِضَا المُشْتَرِي. فإنْ بِيعَ الشَّجَرُ وفيه ثَمَرةٌ غير ظاهِرَةٍ، كالطَّلْعِ غيرِ المُؤَبَّرِ، دَخَل في الشُّفْعَةِ؛ لأنَّها تَتْبَغ في البَيعِ، فأشْبَهَتِ الغِراسَ في الأرْضِ. فإن بِيعَ ذلك مُفْرَدًا، فلا شُفْعَةَ فيه، سَواءٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 357.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مِمّا يُنْقَلُ؛ كالحَيَوانِ، والثِّيابِ (¬1)، والسُّفُنِ، والحِجَارَةِ، والزَّرْعِ، والثِّمارِ، أو لا يُنْقَلُ؛ كالبِنَاءِ، والغِرَاسِ، إذا بِيعَ مُفْرَدًا. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْى. ورُوِيَ عن الحَسَنِ، والثَّوْرِيِّ، والأوزاعِيِّ، والعَنْبَرِيِّ، وقَتادَةَ، ورَبِيعَةَ، وإسحاقَ: لا شُفْعَةَ في المَنْقُولاتِ. واخْتلِفَ فيه عن عَطَاء، ومالكٍ، فقالا مَرَّةً كذلك، ومَرَّة قالا: الشُّفْعَةُ في كلِّ شيءٍ حتى في الثَّوْبِ. قال ابن أبي مُوسَى: وقد رُوِيَ عن أبي عبدِ الله رِوايَة أُخْرَى، أنَّ الشُّفْعَةَ واجِبَةٌ فيما لا يَنْقَسِمُ؛ كالحَجَرِ، والسَّيفِ، والحَيَوانِ، وما في مَعْنَى ذلك. قال أبو الخَطّابِ: وعن أحمدَ، أنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ في البِنَاءِ، والغِرَاسِ، وإنْ بِيعَ مُفْرَدًا. وهو قولُ مالكٍ؛ لعُمُومِ قولِه - عليه السلام -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ». ولأنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لدَفْعِ الضَّرَرِ، والضرَرُ فيما لا يَنْقَسِمُ أبْلَغُ منه فيما يَنْقَسِمُ. وقد روَى ابنُ أبي مُلَيكَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الشُّفْعَةُ فِي كلِّ شَيءٍ» (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «النبات». (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء أن الشريك شفيع، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ». لا يتَنَاوَلُ إلَّا ما ذَكَرْناه، وإنَّما أرادَ ما لا يَنْقَسِمُ مِن الأرْضِ؛ لقَوْلِه: «فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ». ولأنَّ هذا مِمّا لا يَتَباقَى ضَرَرُه على الدَّوَامِ، فلم تَجِبْ فيه الشُّفْعَةُ، كصُبْرَةِ الطَّعامِ. وحَدِيثُ ابنِ أبي مُلَيكَةَ مُرْسَلٌ، ولم يُرْوَ في الكُتُبِ المَوْثُوقِ بها. والحُكْمُ في الغِرَافِ (¬1) والدُّولابِ والنّاعُورَةِ، كالحُكْم في البِنَاءِ. فأمّا إن بيعَتِ الشَّجَرَةُ مع قَرَارِها مِن الأرْضِ، مُفْرَدَةً عمّا يتَخَلَّلُها مِن الأرْضِ، فحُكْمُها حُكْمُ ما لا يَنْقَسِمُ مِن العَقَارِ، فيه مِن الخِلافِ ما ذَكَرْناه؛ لأَنه مِمّا لا يَنْقَسِمُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فيها بحالٍ؛ لأنَّ القَرارَ تابعٌ لها، فإذا لم تَجِبِ الشُّفْعَةُ فيها مُفْرَدَةً لم تَجِبْ في تَبَعِها. وإن بِيعَتْ حِصّةٌ مِن عُلْو دَارٍ مُشْتَرَكٍ، وكان السَّقْفُ الذي تحتَه لصاحِبِ السُّفْلِ، فلا شُفْعَةَ في العُلْو؛ لأنَّه بِنَاءٌ مُفرَدٌ، وإن كان لصاحِبِ العُلْو، فكذلك؛ لأنَّه بِنَاء مُفْرَدٌ؛ لكَوْنِه لا أرْضَ له، فهو كما لو لم يَكُنِ السَّقْفُ له. ويَحْتَمِلُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ فيه؛ لأنَّ له قَرَارًا، أشْبَهَ السُّفْلَ. ¬

(¬1) الغراف: ما يغرف به.

فصلٌ: الثَّالِثُ، الْمُطَالبَةُ بِهَا عَلى الْفَوْرِ سَاعَةَ يَعْلَمُ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال الْقَاضِي: لَهُ طَلبُهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإنْ طَال فَإنْ أخَّرَهُ، سَقَطَتْ شُفعَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الشرْطُ (الثالِثُ، المُطالبَةُ بها على الفَورِ ساعَةَ يَعْلَمُ. نَصَّ عليه. وقال القاضي: له طَلَبُها في المَجْلِسِ وإن طال، فإن أخَّرَ الطَّلَبَ، سَقَطَتْ شُفْعَتُه) ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ حَقَّ الشفْعَةِ على الفَوْرِ إن طالبَ بها ساعَةَ يعْلَمُ بالبَيعِ، وإلَّا بَطَلَتْ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبي طالِبٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: الشُّفْعَةُ بالمُواثَبَةِ ساعَةَ يَعْلَمُ. وهو قولُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، والبَتِّيِّ، والأوْزاعِيِّ، وأبي حنيفةَ، والعَنْبَرِيِّ، والشافعيِّ في جَدِيدِ قَوْلِه. وعن أحمدَ، روايَةٌ ثانيةٌ، أنَّ الشُّفْعَةَ على التَّرَاخِي، لا تَسْقُطُ ما لم يُوجَدْ منه ما يَدُلُّ على الرِّضا مِن عَفْوٍ أو مُطالبَةٍ بقِسْمَةٍ ونحوه. وهو قولُ مالكٍ، وقولُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ مالِكًا قال: تَنْقَطِعُ بمُضِيِّ سَنَةٍ. وعنه، بمُضِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ أنَّه تارِكٌ لها؛ لأنَّ هذا الخِيارَ لا ضَرَرَ في تَرَاخِيه، فلم يَسْقُطْ بالتَّأخِيرِ، كحَقِّ القِصَاصِ. وبَيانُ عَدَمِ الضَّرَرِ، أنَّ النَّفْعَ للمُشْتَرِي باسْتِغْلالِ المَبِيعِ. فإن أحْدَثَ فيه عِمَارةً مِن بِنَاءٍ أو غِرَاس، فله قِيمَتُه. وحُكِيَ عن ابنِ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيِّ، أنَّ الخِيارَ مُقَدَّرٌ بثَلاثَةِ أيام. وهو أحَدُ أقْوالِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الثلاثَ حُدَّ بها خِيارُ الشَّرْطِ، فصَلَحَتْ حَدًّا لهذا الخِيَارِ. ولَنا، ما روَى ابنُ البَيلَمانِيٍّ (¬1) عن أبِيه عن عُمَرَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ العِقَالِ». رَواه ابنُ ماجه (¬2). وفي لَفْظٍ: «الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ العِقَالِ، إنَّ قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَاللَّوْمُ ¬

(¬1) في م: «السلماني». (¬2) في: باب طلب الشفعة، من كتاب الشفعة. سنن ابن ماجه 2/ 835. كما أخرجه البيهقي، في: باب رواية ألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء في مسائل الشفعة. من كتاب الشفعة. السنن الكبرى 6/ 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَى مَن تَرَكَهَا». ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَها». رَواه الفُقَهاءُ في كُتُبِهم (¬1). ولأنَّه خِيَارٌ لدَفْع الضَّرَرِ عن المالِ، فكان على الفَوْرِ، كخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ، [ولأنَّ] (¬2). إثْباتَه على التَّراخِي يَضُرُّ المُشْتَرِيَ؛ لكَوْنِه لا يَسْتَقِرُّ مِلْكُه على المَبِيعِ، ويَمْنَعُه مِن التَّصرُّفِ بعِمارَةٍ خَشْيَةَ أخْذِه منه، ولا يَنْدَفِع عنه الضرَرُ بدَفْعِ قِيمَتِه؛ لأنَّ خَسارَتَها في الغالبِ أكْثرُ مِن قِيمَتِها مع تَعَبِ قَلْبِه وبَدَنِه فيها. والتَّحْدِيدُ بثَلاثةِ أيام تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه، والأصْلُ المَقِيسُ عليه مَمْنُوعٌ، ثم هو باطِلٌ بخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. إذا تَقَرَّرَ هذا، فقال ابن حامِدٍ: يتَقَدَّرُ الخِيارُ بالمَجْلِسِ. وهو قولُ القاضِي. وبه قال أبو حنيفةَ. فمتَى طالبَ في مَجْلِسِ العِلْمِ، ثَبَتتِ الشُّفْعَة، وإن طال؛ لأنَّ المَجْلِسَ كلَّه ¬

(¬1) ذكره الحافظ ابن حجر، في: كتاب الشفعة. تلخيص الحبير 3/ 56، 57. وأخرجه عبد الرزاق من قول شريح، في: باب الشفيع يأذن قبل البيع. . . .، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 83. (¬2) في م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حُكْمِ حالةِ العَقْدِ، بدَلِيلِ أنَّ القَبْضَ فيه لِما يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ، كالقَبْضِ حالةَ العَقْدِ. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّه لا يَتَقَدَّرُ بالمَجْلِسِ، بل متى طالبَ عَقِيبَ عِلْمِه، وإلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُه. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، وقولُ الشافعيِّ في الجَدِيدِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ والمَعْنَى. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بخيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. فعلى هذا، متى أخَّرَ المُطالبَةَ عن وَقْتِ العِلْمِ لغيرِ عُذْرٍ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه، وإن أخَّرَها لعُذْرٍ؛ مثلَ أن لا يَعْلَمْ، أو يَعْلَمَ لَيلًا فيُؤَخِّرَ إلى الصبْحِ، أو لشِدَّةِ جُوع أو عَطَش حتى يَأْكلَ ويَشْرَبَ، أو أخَّرَها لطَهارَةٍ أو إغْلاقِ بابٍ، أو ليَخْرُجَ مِن الحَمَّامِ، أو ليُؤَذِّنَ ويُقِيمَ ويَأتِيَ بالصلاةِ وسُنَّتِها، أو ليَشْهَدَها في جَماعَةٍ يَخافُ فَوْتَها، لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ العادَةَ تَقْدِيمُ هذه الحَوائِجِ على غيرِها، فلا يكونُ الاشتِغالُ بها رِضًا بتَرْكِ الشُّفْعَةِ، إلَّا أنَّ يكونَ المُشتَرِي حاضِرًا عندَه في هذه الأحْوالِ، فيُمْكِنَه مُطالبَتُه مِن غيرِ اشْتِغالِه عن أشْغَالِه، فإنَّ شُفعَتُه تَبْطُلُ بتَرْكِه المُطَالبَةَ؛ لأنَّ هذا لا يَشْغَلُه عنها، ولا تَشْغَلُه المُطالبَةُ عنه. فأمّا مع غَيبَتِه فلا؛ فإنَّ العادَةَ تَقْدِيمُ هذه الأشْياءِ، فلم يَلْزَمْه تَأْخِيرُها، كما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أمْكَنَه أنَّ يُسْرِعَ في مَشْيِه [أو يُحَرِّكَ] (¬1) دابَّتَه، فلم يَفْعَلْ ومَضَى على حَسَبِ عادَتِه، لم تَسْقُطْ شُفْعَتُه؛ لأنَّه طَلَبَ بحُكْمِ العادَةِ. وإذا فَرَغ مِن حَوائِجِه، مَضَى على حَسَبِ عادَتِه إلى المُشْتَرِي، فإذا لَقِيَه بَدَأه بالسَّلامِ؛ لأنَّ ذلك السُّنَّةُ؛ [وقد جاء] (¬2) في الحَدِيثِ: «مَنْ بَدَأ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَا تُجِيبُوهُ» (¬3). ثم يُطالِبُ. فإن قال بعدَ السَّلامِ: باركَ الله لك في صَفْقَةِ يَمِينِكَ. أو دَعَا له بالمَغْفِرَةِ ونحو ذلك، لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ ذلك يَتَّصِلُ بالسَّلَامِ، فهو مِن جُمْلَتِه، والدُّعَاءُ له بالبَرَكَةِ في الصَّفْقَةِ دُعَاءٌ لنَفْسِه؛ لأنَّ الشِّقْصَ يَرْجِعُ إليه، فلا يكونُ ذلك رضًا، فإنِ اشْتَغلَ بكَلام آخَرَ، أو سَكَتَ لغيرِ حاجَةٍ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه؛ لِما قَدَّمْنَا. ¬

(¬1) في م: «ويحرك». (¬2) في الأصل، م: «لأن». (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في السلام قبل الكلام، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذي 10/ 174.

2390 - مسألة: (إلا أن يعلم وهو غائب، فيشهد على الطلب، ثم إن أخر الطلب بعد الإشهاد مع إمكانه)

إلا أَنْ يَعْلَمَ وَهُوَ غَائِبٌ، فَيُشْهِدَ عَلَى الطَّلَبِ بِهَا، ثُمَّ إِنْ أخَّرَ الطَّلَبَ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ، أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَلَكِنْ سَارَ فِي طَلَبِهَا، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2390 - مسألة: (إلَّا أن يَعْلَمَ وهو غائِبٌ، فيُشْهِدَ على الطَّلَبِ، ثم إن أخَّرَ الطَّلَبَ بعدَ الإِشْهادِ مع إمْكانِه) أو تَرَك الإِشْهَادَ (أو لم يُشْهِدْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولكن سارَ في طَلَبِها، فعلى وَجْهَين) متى عَلِمَ الغائِبُ بالبَيعِ، وقدَرَ على الإِشْهادِ على المُطالبَةِ فلم يَفْعَلْ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه، سَواءٌ قَدَر على التَّوْكِيلِ أو عَجَز عنه، أو سار عَقِيبَ العِلْمِ أو أقَامَ. هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، في روايَةِ أبي طالبٍ، وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ، وهو وَجْهٌ للشافعيِّ. والوَجْهُ الآخَرُ، لا يَحْتاجُ إلى الإشْهادِ؛ لأنَّه إذا ثَبَت عُذْرُه، فالظاهِرُ أنَّه تَرَك الشُّفْعَةَ لذلك، فقُبِلَ قولُه فيه. ولَنا، أنَّه قد يَتْرُكُ الطَّلَبَ للعُذْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وغيرِه] (¬1)، وقد يَسِيرُ لطَلَبِ الشُّفْعَةِ ويَسِيرُ لغيرِه، وقد قَدَر على أن يُبَيِّنَ ذلك بالإِشْهادِ، فإذا لم يَفْعَلْ سَقَطَتْ شُفْعَتُه، كتاركِ الطَّلَبِ مع الحُضُورِ. وقال القاضِي: إن سارَ عَقِيبَ عِلْمِه إلى البَلَدِ الذي فيه المُشْتَرِي مِن غيرِ إشْهادٍ، احْتَمَلَ أن لا تَبْطُلَ شُفْعَتُه؛ لأنَّ ظاهِرَ سَيرِه أنَّه للطَّلَبِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، والعَنْبَرِيِّ، وقولٌ للشافعيِّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: له مِن الأجَل بعدَ العِلْمِ قَدْرُ السَّيرِ، فإن مَضَى الأجَلُ قبلَ أن يَطْلُبَ أو يَبْعَثَ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه. وقال العَنْبَرِيُّ: له مَسافَةُ الطَّرِيقِ ذاهِبًا وجائِيًا؛ لأنَّ عُذْرَه في تَرْكِ الطَّلَبِ ظاهِرٌ فلم يَحْتَجْ معه إلى الشَّهادَةِ. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ القَوْلِ الأوَّلِ. ¬

(¬1) في م: «وقد يتركه لغيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخَّرَ الطَّلَبَ بعدَ الإِشْهادِ مع إمْكانِه، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّ الشُّفْعَةَ بحَالِها. وقال القاضِي: تَبْطُلُ إذا قَدَرَ على المَسِيرِ وأخَّرَه. وإن لم يَقْدِرْ على المَسِيرِ وقَدَر على التَّوْكِيلِ في طَلَبِها، فلم يَفْعَلْ، بَطَلَتْ أيضًا، لأنَّه تاركٌ للطَّلَبِ بها مع قُدْرَتِه عليه، فسَقَطَتْ، كالحاضِرِ، أو كما لو لم يُشْهِدْ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ لهم فيما إذا قَدَر على التوكيلِ فلم يَفْعَلْ وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا تَبْطُلُ شُفْعَتُه؛ لأنَّ له غَرَضًا في المُطالبَةِ بنَفْسِه؛ لكَوْنِه أقْوَمَ بذلك، أو يَخافُ الضررَ مِن جِهَةِ وَكِملِه، بأن يُقِرَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه برِشْوَةٍ أو غيرِ ذلك فيَلْزَمَه إقْرارُه، فكان مَعْذُورًا. ولَنا، أنَّ عليه في السَّفَرِ ضَرَرًا بالْتِزَامِه كُلْفَتَه، وقد يكونُ له حَوائِجُ وتِجارَةٌ يَنْقَطِعُ عنها وتضيعُ بغَيبَتِه، والتَّوْكِيلُ إن كان بجُعْلٍ لَزِمَه غُرْمٌ، وإن كان بغيرِ جُعْلٍ ففيه مِنَّةٌ، ويَخافُ الضَّرَرَ مِن جِهَتِه، فاكْتُفِيَ بالإِشْهادِ. فأمّا إن تَرَك السَّفَرَ؛ لعَجْزِه عنه، أو لضَرَرٍ يَلْحَقُه فيه، لم تبطُلْ شُفْعَتُه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه مَعْذُورٌ، فهو كمَن لم يَعْلَمْ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: تَجِبُ الشُّفْعَةُ للغائِبِ في قولِ الأكْثَرِينَ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ عن النَّخَعِيِّ، ليس للغائِبِ شُفْعَةٌ. وبه قال الحارِثُ العُكْلِيُّ، والبَتِّيُّ، إلَّا للغائِبِ القَرِيبِ؛ لأنَّ إثْباتَها يَضُرُّ بالمُشْتَرِي ويَمْنَعُ اسْتَقِرارَ مِلْكِه وتَصَرُّفَه على حَسَبِ اخْتِيارِه خَوْفًا مِن أخْذِه، فلم تَثْبُتْ كما لا تَثْبُتُ للحاضِرِ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّرَاخِي. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السَّلامُ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» (¬1). وسائِرُ الأحادِيثِ. ولأنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ مالِيٌّ وُجِدَ سَبَبُه بالنِّسْبةِ إلى الغائِبِ، فيَثْبُتُ له، كالإِرْثِ، ولأنَّه شَرِيكٌ لم يَعْلَمْ بالبَيعِ، فتَثْبُتُ له الشُّفْعَةُ عندَ عِلْمِه، كالحاضِرِ إذا كُتِمَ عنه البَيعُ، والغائِبِ غَيبَة قَرِيبَةً، وضَرَرُ المُشْتَرِي يَنْدَفِعُ بإيجاب الثَّمَنِ له، كما في الصُّوَرِ المَذْكُورَةِ. إذا ثَبَت هذا، ولم يَعْلَمْ بالبَيعِ إلَّا عندَ قُدُومِه، فله المُطالبَةُ وإن طالتْ غَيبَتُه؛ لأنَّه خِيارٌ ثَبَت ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 357.

2391 - مسألة: (فإن ترك الطلب والإشهاد لعجزه عنهما؛ كالمريض، والمحبوس، ومن لا يجد من يشهده)

وَإِنْ تَرَكَ الطَّلَبَ وَالْإِشْهَادَ لِعَجْزِهِ عَنْهُمَا؛ كَالْمَرِيضِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَمَنْ لَا يَجِدُ مَنْ يُشْهِدُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِزالةِ الضَّرَرِ عن المالِ، فَتَراخِي الزَّمانِ قبلَ العِلْمِ به لا يُسْقِطُه، كالرَّدِّ بالعَيبِ، ومتى عَلِم فحُكْمُه في المُطالبَةِ حُكْمُ الحاضِرِ، في أنَّه إن طالبَ على الفَوْرِ اسْتَحَقَّ، وإلّا بَطَلَتْ شُفْعَتُه، وحُكْمُ المَرِيضِ والمَحْبُوسِ ومَن لم يَعْلَمْ بالبَيعِ حُكْمُ الغائِبِ؛ لِما ذَكَرْنا. 2391 - مسألة: (فإن تَرَك الطَّلَبَ والإِشْهادَ لعَجْزِه عنهما؛ كالمَرِيضِ، والمَحْبُوسِ، ومَن لا يَجِدُ مَن يُشْهِدُه) لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه. أمّا إذا كان مَرَضُه لا يَمْنَعُ المُطالبَةَ؛ كالصُّداعِ اليَسِيرِ والألَمِ القَلِيلِ، فهو كالصَّحِيحِ. وإن كان. المَرَضُ يَمْنَعُ المُطالبَةَ؛ كالحُمَّى وأشْباهِها، فهو كالغائِبِ في الإِشْهادِ والتَّوْكِيلِ. وأمّا المَحْبُوسُ، فإن كان حُبِسَ ظُلْمًا، أو بدَينٍ لا يُمْكِنُه أداؤُه، فهو كالمَرِيضِ، وإن كان مَحْبُوسًا بحَقٍّ يَلْزَمُه أداؤُه وهو قادِرٌ عليه، فهو كالمُطْلَقِ إن لم يُبادِرْ إلى المُطالبَةِ ولم يُوَكِّلْ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه.

2392 - مسألة: (أو لإظهارهم زيادة في الثمن، أو نقصا في

أَوْ لإِظهَارِهِمْ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ، أُوْ نقصًا فِي المَبِيعِ، أَوْ أَنَّهُ مَوْهُوبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عَجَز عن الإِشْهادِ في سَفَرِه، لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه مَعْذُورٌ في تَرْكِه، فأشْبَهَ ما لو تَرَك الطَّلَبَ لعُذْرٍ أو لعَدَمِ العِلْمِ. ومتى قَدَر على الإِشْهادِ فأخَّرَه، كان كتَأْخِيرِ الطَّلَبِ بالشُّفْعَةِ؛ إن كان لعُذْرٍ لم تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ، وإن كان لغيرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ؛ لأنَّ الإِشْهادَ قائِمٌ مَقامَ الطَّلَبِ ونائِبٌ عنه، فيُعْتَبَرُ له ما يُعْتَبَرُ للطَّلَبِ. ومَن لم يَقْدِرْ إلَّا على إشْهادِ مَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه؛ كالمَرْأةِ، والفاسِقِ، فتَرَكَ الإِشْهادَ، لم تَسْقُطْ شُفْعَتُه بتَرْكِه؛ لأنَّ قَوْلَهم غيرُ مَقْبُولٍ، فلم تَلْزَمْ شَهادَتُهم، كالأطْفالِ والمَجانِينِ. وإن لم يَجِدْ مَن يُشْهِدُه إلَّا مَن لا يَقْدَمُ معه إلى مَوْضِعِ المُطالبَةِ، فلم يُشْهِدْ، فالأوْلَى أنَّ شُفْعَتَه لا تَبْطُلُ؛ لأنَّ إشْهادَه لا يُفِيدُ، فأشْبَهَ إشْهادَ مَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه. وإن لم يَجِدْ إلَّا مَسْتُوري الحالِ، فلم يُشْهِدْهُما، احْتَمَلَ أن تَبْطُلَ؛ لأنَّ شَهادَتَهما يُمْكِنُ إثْباتُها بالتَّزْكِيَةِ، فأشْبَهَا العَدْلَينِ، ويَحْتَمِلُ أن لا تَبْطُلَ؛ لأنَّه يَحْتاجُ في إثباتِ شَهادَتِهِما إلى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ، وقد لا يَقْدِرُ على ذلك، فلا تُقْبَلُ شَهادَتُهما، فإن أشْهَدَهُما، لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه، سَواءٌ قُبِلَتْ شَهادَتُهما أو لم تُقْبَلْ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه أكثْرُ مِن ذلك؛ فأشْبَهَ العاجِزَ عن الإشْهادِ، وكذلك إن لم يَقْدِرْ إلَّا على إشْهادِ واحِدٍ فأشْهَدَه، أو تَرَك إشْهادَه. 2392 - مسألة: (أو لإظْهارِهِم زِيادَةً في الثَّمَنِ، أو نَقْصًا في

لَهُ، أو أَنَّ الْمُشْتَرِىَ غَيرُهُ، أَوْ أَخْبَرَهُ مَن لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ مَنْ يُقْبَلُ خبَرُهُ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، أَوْ قَال لِلْمُشْتَرِي: بِعْنِي مَا اشْتَرَيتَ. أَوْ: صَالِحْنِي. سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعِ، أو أنَّ المُشْتَرِيَ غَيرُه، أو أخْبَرَه مَن لا يُقْبَلُ خَبَرُه فلم يُصَدِّقْه، أو قال للمُشْتَرِي: بعْنِي ما اشْتَرَيتَ. أو: صالِحْني. سَقَطَتْ شُفْعَتُه) إذا أظْهَرَ المُشْتَرِي أنَّ الثَّمَنَ أكْثَرُ مِمّا وَقَع عليه العَقْدُ فتَرَكَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، لم تَبْطُلْ بذلك. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، ومالكٌ، إلَّا أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: بعدَ أن يَحْلِفَ: ما سَلَّمْتُ الشُّفْعَةَ إلَّا لمَكانِ الثَّمَنِ الكَثِيرِ. وقال ابنُ أبي لَيلَى: لا شُفْعَةَ له؛ لأنَّه سَلَّمَ ورَضِيَ. ولَنا، أَنه تَرَكَها للعُذْرِ، فإنَّه لا يَرْضاه بالثَّمَنِ الكَثِيرِ، ويَرْضاه بالقَلِيلِ، وقد يَعْجَزُ عن الكَثِيرِ، فلم تَسْقُطْ بذلك، كما لو تَرَكَها لعَدَمِ العِلْمِ. وكذلك إنْ أظْهَرَ (¬1) أنَّ المَبِيعَ سِهامٌ قَلِيلَةٌ فبانَتْ كَثِيرَةً؛ لأنَّه قد يَرْغَبُ في الكَثِيرِ دُونَ القَلِيلِ، وكذلك إن كان بالعَكْسِ؛ لأنَّه قد يَقْدِرُ على ثَمنِ القَلِيلِ دُونَ الكَثِيرِ، أو أنَّهما تَبايَعَا بدَنانِيرَ فبانَتْ بدَرَاهِمَ أو بالعَكْسِ. وبه قال الشافعيُّ وزُفَرُ. وقال أبو حنيفةَ، وصاحِبَاه: إن كان قِيمَتُهما سَواءً، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ؛ لأنَّهما كالجِنْسِ الواحِدِ. ولَنا، أنَّهما جِنْسان، أشْبَهَا الثِّيابَ والحَيَوانَ، ولأنَّه قد يَمْلِكُ النَّقْدَ الذي وَقَع به البَيعُ دُونَ ما أظْهَرَه، فيَتْرُكُه (¬2) لعَدَمِ مِلْكِه له. وكذلك إن أظْهَرَ أنَّه اشْتَراه بنَقْدٍ فبانَ أنَّه ¬

(¬1) في م: «ظهر». (¬2) في الأصل: «فتركه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَراه بعَرْضٍ، أو بالعَكْسِ، أو بنَوْعٍ مِن العُرُوضِ، فبانَ أَنه بغيرِه، أو أظْهَرَ أنَّه اشْتَراه له فبانَ أنَّه اشْتَراه لغيرِه، أو بالعَكْسِ، أو أنَّه اشْتَراه لإِنْسانٍ فبانَ أنَّه اشْتَراه لغيرِه؛ لأنَّه قد يَرْضَى بشَرِكَةِ إنْسانٍ دُونَ غيرِه، وقد يُحابِى إنْسانًا أو يَخافُه فيَتْرُكُ لذلك. وكذلك إن أظْهَرَ أنَّه اشْتَرَى الْكُلَّ بِثَمَنٍ فبانَ أنّه اشتَرَى نِصْفَه بنِصْفِه أو أنّه اشتَرَى نِصْفَه بثَمَن فبانَ أنّه اشتَرَى جَمِيعَه بضِعْفِه، أو أنّه اشتَرَى الشِّقْصَ وحدَه فبانَ أَنه اشْتَراهُ هو وغيرُه، أو بالعَكْسِ، لم تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ في جَمِيعِ ذلك؛ لأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ فيما أبْطَنَه دُونَ ما أظْهَرَه، فَيَتْرُكُ لذلك، فلم تَسْقُطْ شُفْعَتُه، كما لو أظْهَرَ أنَّه اشْتَراه بثَمَنٍ فبان أقَلَّ منه. فأمَّا إن أظْهَرَ أنَّه اشْتَراه بثَمَنٍ فبان أنَّه اشْتَراه بأكْثَرَ، أو أنَّه اشْتَرَى الكلَّ بثَمَنٍ فبانَ أنَّه اشْتَرَى به بعضَه سَقَطَتْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ الضَّرَرَ فيما أبْطَنَه أكْثَرُ، فإذا لم يَرْضَ به (¬1) بالثَّمَنِ القَلِيلِ مع قِلَّةِ ضَرَرِه، فبالكَثِيرِ أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخْبَرَه بالبَيعِ مُخْبِرٌ فصَدَّقَه، ولم يُطالِبْ بالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُه، سَواءٌ كان المُخْبِرُ مِمَّن يُقْبَلُ خَبَرُه أو لا؛ لأنَّ العِلْمَ قد يَحْصُلُ بخَبَرِ مَن لا يُقْبَلُ خَبَرُه؛ لقَرائِنَ دَالَّةٍ على صِدْقِه. وإن قال: لم أُصَدِّقْه. وكان المُخْبِرُ مِمَّن يُحْكَمُ بشَهادَتِه؛ كرَجُلَين عَدْلَين، بَطَلَتْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ قولَهم حُجَّةٌ تَثْبُتُ بها الحُقُوقُ. وإن كان مِمَّن لا يُعْمَلُ بقَوْلِه، كالفاسِقِ، والصَّبِيِّ، لم تَبْطُلْ. وحُكِيَ عن أبي يُوسُفَ، أنَّها تَسْقُطُ؛ لأنَّه خَبَرٌ يُعْمَلُ به في الشَّرْعٍ في الإِذْنِ في دُخُولِ الدّارِ وشِبْهِه، فسَقَطَتْ، كخَبَرِ العَدْلِ. ولَنا، أنَّه خبَرٌ لا يُقْبَلُ في الشَّرْعِ، أشْبَهَ قَوْلَ الطِّفْلِ والمَجْنُونِ. وإن أخْبَرَه رجلٌ عَدْلٌ، أو مَسْتُورُ الحالِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُه. ويَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ. ويُرْوَى هذا عن أبي حنيفةَ، وزُفَرَ؛ لأنَّ الواحِدَ لا تَقُومُ به البَيِّنَةُ. ولَنا، أنَّه خَبَرٌ لا تُعْتَبَرُ فيه الشَّهادَةُ، فقُبِلَ مِن العَدْلِ، كالرِّوايَةِ، والفُتْيَا، وسائِرِ الأخْبارِ الدِّينِيَّةِ، وفارَقَ الشَّهادَةَ، فإنَّه يُحْتاطُ لها باللَّفْظِ، والمَجْلِسِ، وحُضُورِ المُدَّعَى عليه، وإنْكارِه،

2393 - مسألة: وإن قال الشفيع للمشتري: بعني ما اشتريت. أو: قاسمني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الشَّهادَةَ يُعارِضُها إنْكارُ المُنْكِرِ، وتُوجبُ الحَقَّ عليه، بخِلافِ هذا الخَبَرِ، والمَرْأةُ كالرَّجُلِ في ذلك، والعَبْدُ كالحُرِّ. وقال القاضي: هما كالفاسِق والصَّبِيِّ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ قَوْلَهما لا يَثْبُتُ به حَقٌّ. ولَنا، أنَّ هذا خَبَرٌ وليس بشَهَادَةٍ، فاسْتَوَى فيه الرجلُ والمَرْأةُ، والعَبْدُ والحرُّ، كالرِّوايَةِ، والأخْبارِ الدِّيِنيَّةِ. والعَبْدُ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ فيما عَدَا الحُدُودَ والقِصَاصَ، وهذا مِمّا عَداهما، فأشْبَهَ الحُرَّ. 2393 - مسألة: وإن قال الشَّفِيعُ للمشْتَرِي: بِعْنِي ما اشْتَرْيَتَ. أو: قاسِمْني. بَطَلَتْ شُفْعَتُه؛ لأنَّه يَدُلُّ على رِضَاه بشِرائِه وتَرْكِه الشُّفْعَةَ. وإن قال: صالِحْنِي على مالٍ. سَقَطَتْ أيضًا. وهو قولُ أبي الخَطّابِ. وقال القاضِي: لا تَسْقُطُ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بإسْقاطِها، وإنَّما رَضِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمُعاوَضَةِ عنها (¬1)، ولم تَثْبُتِ المُعاوَضَةُ، فبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ. ولَنا، أنَّه رَضِيَ بتَرْكِها وطَلَبَ عِوَضَها، فثَبَتَ التَّرْكُ المَرْضِيُّ به، ولم يَثْبُتِ العِوَضُ. كما لو قال: بِعْنِي. فلم يَبِعْه. ولأنَّ تَرْكَ المُطالبَةِ بها كافٍ في سُقُوطِها، فمع طَلَبِ عِوَضِها أوْلَى. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجهان كهذَين. فإن صالحَه عنها بعِوَضٍ، لم يَصِحَّ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: يَصِحُّ؛ لأنَّه عِوَضٌ عن إزالةِ مِلْكٍ، فجازَ، كأخْذِ العِوَضِ عن تَمْليكِ المَرْأةِ أمْرَها. ولَنا، أنَّه خِيارٌ لا يَسْقُطُ إلى مالٍ، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه، كخِيَارِ الشَّرْطِ، وبه يَبْطُلُ ما قاله. وأمّا الخُلْعُ، فهو مُعاوَضَةٌ عمّا مَلَكَه بعِوَضٍ، وههُنا بخِلافِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن لَقِيَه الشَّفِيعُ في غيرِ بَلَدِه فلم يُطَالِبْه، وقال: إنَّما تَرَكْتُ المُطالبَةَ لأُطالِبَه في البَلَدِ الذي فيه البَيعُ، أو المَبِيعُ. أو: لآخُذَ (¬1) الشِّقْصَ في مَوْضِعِ الشُّفْعَةِ. سَقَطَتْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ ذلك ليس بعُذْرٍ في تَرْكِ المُطالبَةِ، فإنَّها لا تَقِفُ على تَسْلِيمِ الشِّقْصِ، ولا على حُضُورِ البَلَدِ الذي هو فيه. وإن قال: نَسِيتُ فلم أذْكُرِ المُطالبَةَ. أو: نَسِيتُ البَيعَ. سَقَطَتْ شُفْعَتُه؛ لأنَّه خِيارٌ على الفَوْرِ، فإذا أخَّرَه نِسْيانًا، بَطَلَ، كالرَّدِّ بالعَيبِ، وكما لو أمْكَنَتِ المُعْتَقَةُ زَوْجَها مِن وَطْئِها نِسْيانًا. ويَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ المُطالبَةُ؛ لأنَّه تَرَكَها لعُذْرٍ، فأشبَهَ ما لو تَرَكَها لعَدَمِ عِلْمِه بها. وإن تَرَكَها جَهْلًا لاسْتِحْقاقِه لها، إذا كان مِثْلُه يَجْهَلُ ذلك، بَطَلَتْ، كالرَّدِّ بالعَيبِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَبْطُلَ، كما إذا ادَّعَتِ المُعْتَقَةُ الجَهْلَ بمِلْكِ الفَسْخِ. ¬

(¬1) في م: «لا آخذ».

2394 - مسألة: (وإن دل في البيع)

المقنع دَلَّ فِي الْبَيعِ، أَوْ تَوَكَّلَ لأَحَدِ الْمُتَبَايِعَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2394 - مسألة: (وإن دَلَّ في البَيعِ) لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه؛ لأنَّ ذلك لا يَدُلُّ على الرِّضَا بإسْقاطِها، بل لعَلَّه أرادَ البَيعَ ليَأْخُذَ بالشُّفْعَةِ. 2395 - مسألة: وإن (تَوَكَّلَ) الشَّفِيعُ في البَيعِ، لم تَسْقُطْ شُفْعَتُه بذلك، سَواءٌ تَوَكَّلَ للبائِعِ أو للمُشْتَرِي. ذَكَرَه الشَّرِيفُ، وأبو الخَطَّابِ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وقال القاضي، وبعضُ الشافعيَّةِ: إن كان وَكِيلَ البائِعِ، فلا شُفْعَةَ له؛ لأنَّه تَلْحَقُه التُّهْمَةُ في البَيعِ؛ لكَوْنِه يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الثَّمَنِ ليَأْخُذَ به، بخِلافِ المُشْتَرِي. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا شُفْعَةَ لوَكِيلِ المُشْتَرِي. بِناءً على أصْلِهم أنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ إلى الوَكِيلِ، فلا يَسْتَحِقُّ على نَفْسِه. ولَنا، أَنه وَكِيلٌ، فلا تَسْقُطُ شُفْعَتُه، كالآخَرِ (¬1)، ولا نُسَلِّمُ أنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ إلى الوَكِيلِ، بل يَنْتَقِلُ إلى المُوَكِّلِ، ثم لو انْتَقَلَ إلى الوَكِيلِ، لَما ثَبَت في مِلْكِه، إنَّما يَنْتَقِلُ في الحالِ إلى المُوَكِّلِ، فلا يكونُ الأخْذُ مِن نَفْسِه، ولا الاسْتِحْقاقُ عليها. وأمّا التُّهْمَةُ فلا تُؤَثِّرُ؛ لأنَّ المُوَكِّلَ وَكَّلَه مع عِلْمِه بثُبُوتِ شُفْعَتِه راضِيًا بتَصَرُّفِه، فلم يُؤثِّرْ، كما لو وَكَّلَه في الشِّراءِ مِن نَفْسه. فعلى هذا، لو قال ¬

(¬1) في م: «كالأجر».

2396 - مسألة: وإن (جعل له الخيار فاختار إمضاء البيع، فهو على شفعته)

أَوْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ فَاخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيعِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لشَريكِه: بعْ نِصْفَ نَصِيبي مع نِصْفِ نَصِيبِكَ. ففَعَلَ، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لكلِّ واحدٍ منهما في المَبِيعِ مِن نَصِيبِ صاحِبِه. وعندَ القاضي: تَثْبُت في نَصِيبِ الوَكِيلِ دُونَ نَصِيب المُوَكِّلِ. 2396 - مسألة: وإن (جَعَل له الخِيارَ فاخْتارَ إمْضاءَ البَيعِ، فهو على شُفْعَتِه) إذا شَرَط للشَّفِيعِ الخِيارَ فاخْتارَ إمْضاءَ العَقْدِ، أو ضَمِن العُهْدَةَ للمُشْتَرِي، فالشُّفْعَةُ بحَالِها. وبه قال الشافعيُّ. وقال

2397 - مسألة: (وإن أسقط شفعته قبل البيع، لم تسقط. ويحتمل أن تسقط)

وَإِنْ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ قَبْلَ الْبَيعِ، لَمْ تَسْقُطْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُ الرَّأْي: تَسْقُطُ؛ لأنَّ العَقْدَ تَمَّ به، فأشْبَهَ البائِعَ إذا باعَ بعضَ نَصِيبِ نَفْسِه. ولَنا، أنَّ هذا سَبَبٌ سَبَقَ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، فلم تَسْقُطْ به الشُّفْعَةُ، كالإِذْنِ في البَيعِ، والعَفْو عن الشُّفْعَةِ قبلَ تَمامِ البَيعِ. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ البَيعَ لا يَقِفُ على الضَّمانِ، ويَبْطُلُ بما إذا كان المُشْتَرِي شَرِيكًا، فإنَّ البَيعَ تَمَّ به، وثَبَتَتْ له الشُّفْعَةُ بقَدْرِ نَصِيبِه. 2397 - مسألة: (وإن أسْقَطَ شُفْعَتَه قبلَ البَيعِ، لم تَسْقُطْ. ويَحْتَمِلُ أن تَسْقُطَ) إذا عَفَا الشَّفِيعُ عن الشُّفْعَةِ قبلَ البَيعِ، فقال: قد أذِنْتُ في البَيعِ. أو: أسْقَطْتُ شُفْعَتِي. أو ما أشْبَهَ ذلك، لم تَسْقُطْ، وله المُطالبَةُ بها، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، والبَتِّيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بذلك؛ فإنَّ إسماعيلَ بنَ سعيدٍ قال: قُلْتُ لأحمدَ: ما مَعْنَى قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ بَينَهُ وَبَينَ أَخِيه رَبْعَةٌ فَأَرادَ بَيعَهَا، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيهِ» (¬1). وقد جاء في بعضٍ الحديثِ: «لَا يَحِلُّ لَهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَها عَلَيهِ». إذَا كَانتِ الشُّفْعَةُ ثابتة له (¬2)؟ فقال: ما هو ببَعِيدٍ مِن أن يكونَ على ذلك، وأن لا تكونَ ¬

(¬1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 312، 316، 397. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له شُفْعةٌ. وهذا قولُ الحَكَمِ، والثَّوْرِيِّ، وأبي خَيثَمةَ، وطائفةٍ مِن أهْلِ الحَدِيثِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وقد اخْتُلِفَ فيه عن أحمدَ، فقال مَرَّةً: تَبْطُلُ شُفْعَتُه. وقال مَرَّةً: لا تَبْطُلُ. واحْتَجُّوا بقَوْل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِكَةٌ فِي أَرْض؛ رَبْعَةٍ أوْ حَائِطٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإنْ شَاءَ أخَذَ، وَإنْ شَاءَ تَرَكَ» (¬1). ومُحَالٌ أن يَقُولَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ». فلا يَكُونُ لتَرْكِه مَعْنًى. ولأنَّ مَفْهُومَ قَوْلِه: «فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْه فَهُوَ أحَقُّ بِهِ». أنَّه إذا باعَه بإذْنِه لا حَقَّ له. ولأنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ في مَوْضِعِ الاتِّفاقِ على خِلافِ الأصْلِ؛ لكَوْنِه يَأْخُذُ مِلْكَ المُشْتَرِي بغيرِ رِضَاه، ويُجْبِرُه على المُعاوَضَةِ به لدُخولِه مع البائِع [في العَقْدِ] (¬2) الذي أساءَ فيه بإدْخالِه الضَّرَرَ على شَرِيكِه، وتَرْكِه الإِحْسانَ إليه في عَرْضِه (¬3) عليه. وهذا المعنى مَعْدُومٌ ههُنا، فإنَّه قد عَرَضَه عليه، وامْتِناعُه مِن أخْذِه دَلِيلٌ على عَدَمِ الضَّرَرِ في حَقِّه ببَيعِه، فإن كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 357. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عوضه».

2398 - مسألة: (وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ، لم تسقط، وله الأخذ بها إذا كبر، وإن تركها لعدم الحظ فيها، سقطت. ذكره ابن حامد. وقال القاضي: يحتمل أن لا تسقط)

وَإنْ تَرَكَ الْوَلِيُّ شُفْعَةً لِلصَّبِيِّ فِيهَا حَظٌّ، لَمْ تَسْقُطْ، وَلَهُ الْأَخْذُ بِهَا إِذَا كَبِرَ، وَإِنْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ الْحَظِّ فِيهَا، سَقَطَتْ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَقَال الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَلَّا تَسْقُطَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه ضَرَرٌ، فهو أدْخَلَه على نَفْسِه، فلا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ، كما لو أخَّرَ المُطالبَةَ بعدَ البَيعِ. ووَجْة الأوَّلِ، أنَّه إسْقاطُ حَقٍّ قبلَ وُجُوبِه، فلم يَصِحَّ، كما لو أبْرَأه مِمّا يَجِبُ له، أو لو أسْقَطَتِ المَرْأةُ صَدَاقَها قبلَ التَّزْويجِ، وأمّا الخَبَر، فيَحْتَمِل أنَّه أرادَ العَرْضَ عليه ليَبْتَاعَ ذلك إن أرادَ، فَتخِفَّ عليه المؤْنَةُ ويَكْتَفِيَ بأخْذِ المُشْتَرِي الشِّقْصَ، لا إسْقاطَ حَقِّه مِن شفْعَتِه. 2398 - مسألة: (وإن تَرَك الوَلِيُّ شُفْعَةً للصَّبيِّ فيها حَظٌّ، لم تَسْقُطْ، وله الأخْذ بها إذا كَبِرَ، وإن تَرَكَها لعَدَمِ الحَظِّ فيها، سَقَطَتْ. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ. وقال القاضِي: يَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ) إذا بِيعَ في شَرِكَةِ الصَّغِيرِ شِقْصٌ، ثَبَتَتْ له الشُّفْعَةُ في قولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ؛ منهم، الحسنُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطَاءٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وسَوَّارٌ، والعَنْبَرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال ابنُ أبي لَيلَى: لا شُفْعَةَ له. ورُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ، والحارِثِ العُكْلِيِّ؛ لأنَّ الصَّبِيَّ لا يُمْكِنُه الأخْذُ، ولا يُمْكِنُ انْتِظارُه حتى يَبْلُغَ؛ لِما فيه مِن الإِضْرارِ بالمُشْتَرِي، وليس للوَلِيِّ الأخْذُ؛ لأنَّ مَن لا يَمْلِكُ العَفْوَ لا يَمْلِكُ الأخْذَ، كالأجْنَبِيِّ. ولَنا، عُمُومُ الأحَادِيثِ، ولأنَّه خِيارٌ جُعِلَ لإِزالةِ الضَّرَرِ عن المالِ، فثَبَتَ في حَقِّ الصَّبِيِّ، كخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. قولُهم: لا يُمْكِنُ الأخْذُ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الوَلِيَّ يَأْخُذُ بها كما يَرُدُّ بالعَيبِ. قولُهم: لا يُمْكِنُه العَفْوُ. يَبْطُلُ بالوَكِيلِ فيها، وبالرّدِّ بالعَيبِ، فإنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ لا يُمْكِنُه العَفْوُ، ويُمْكِنُه الرَّدُّ. ولأنَّ في الأخْذِ تَحْصِيلًا للمِلْكِ للصَّبِيِّ، ونظرًا له، وفي العَفْو تَضيِيعٌ وتَفْرِيطٌ في حَقِّه، ولا يَلْزَمُ مِن مِلْكِ ما فيه الحَظُّ مِلْكُ ما فيه تَضْيِيعٌ، ولأنَّ العَفْوَ إسْقاطٌ لحَقِّه، والأخْذَ اسْتِيفاءٌ له، ولا يَلْزَمُ مِن مِلْكٌ الوَليِّ اسْتِيفاءَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّ المُوَلَّى عليه مِلْكُ إسْقاطِه، بدَلِيلِ سائِرِ حُقُوقِه ودُيُونِه. فإن لم يَأْخُذِ الوَلِيُّ، انْتُظِرَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ، كما يُنْتَظَرُ قُدُومُ الغائِبِ. وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه مِن الضَّرَرِ في الانْتِظارِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الصَّغِيرَ إذا كَبِر فله الأخْذُ بها، في ظاهِرِ قَوْلِ الخِرَقِيِّ، سَواءٌ عَفَا عنها الوَلِيُّ أو لم يَعْفُ، وسَواءٌ كان الحَظُّ في الأخْذِ بها أو في تَرْكِها. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ، وزُفَرَ، ومحمدِ بنِ الحَسَنِ. وحَكَاه بعضُ أصحابِ الشافعيِّ عنه؛ لأنَّ المُسْتَحِقَّ للشُّفْعَةِ يَمْلِكُ الأخْذَ بها، سَواءٌ كان له الحَظُّ فيها أو لم يَكُنْ (¬1)، فلم تَسْقُطْ بتَرْكِ غيرِه، كالغائِبِ إذا تَرَك وَكِيلُه الأخْذَ بها. وقال ابنُ حامِدٍ: إن تَرَكَها الوَلِيُّ لحَظِّ الصَّبِيِّ، أو لأنَّه ليس للصَّبِيِّ ما يَأْخُذُها به، سَقَطَتْ. وهو ظاهِرُ مَذهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الوَلِيَّ فَعَل ما له فِعْلُه، فلم يَجُزْ للصَّبِيِّ نَقْضُه، كالرَّدِّ بالعَيبِ، ولأنَّه ¬

(¬1) في م: «يمكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَل ما للصّبِيِّ فيه حَظٌّ، فصَحَّ، كالأخْذِ مع الحَظِّ. وإن تَركَها لغيرِ ذلك، لم تَسْقُطْ. وقال أبو حنيفةَ: تَسْقُطُ بعَفو الوَلِيِّ عنها في الحالينِ؛ لأنَّ مَن مَلَك الأخْذَ بها مَلَك العَفْوَ عنها، كالمالِكِ. وخالفَه صاحِبَاه في هذا؛ لأنَّه أسْقَطَ حَقًّا للمُوَلَّى عليه، ولا حَظَّ له في إسْقاطِه، فلم يَصِحَّ، كالإِبْراءِ، وخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. ولا يَصِحُّ قِياسُ الوَلِيِّ على المالِكِ؛ لأنَّ للمالِكِ التَّبرُّعَ والإِبراءَ وما لا حَظَّ له فيه، بخِلافِ الوَلِيِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الوَلِيُّ، فإن كان للصَّبِيِّ حَظٌّ في الأخْذِ بها، مثلَ أن يكونَ الشِّراءُ رَخِيصًا، أو بثَمَنِ المِثْلِ، وللصَّبِيِّ ما يَشْتَرِي به العَقَارَ، لَزِم وَلِيَّه الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ عليه الاحْتِياطَ له، والأخْذَ بما فيه الحَظُّ، فإذا أخَذَ بها، ثَبَت المِلْكُ للصَّبِيِّ، ولم يَمْلِكْ نَقْضَه بعدَ البُلُوغِ، في قولِ مالِكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال الأوْزاعِيُّ: ليس للوَلِيِّ الأخْذُ بها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ العَفْوَ عنها، ولا يَمْلِكُ الأخْذَ بها، كالأجْنَبِيِّ، وإنَّما يَأْخُذُ بها الصَّبِيُّ إذا كَبِرَ. وهذا لا يصِحُّ؛ لأنَّه خِيَارٌ جُعِلَ لإِزالةِ الضَّرَرِ عن المالِ، فمَلَكَه الوَلِيُّ، كالرَّدِّ بالعَيبِ. وقد ذَكَرْنا فَسادَ قِياسِه فيما مَضَى. فإن تَرَكَها الوَلِيُّ مع الحَظِّ للصَّبِيِّ، فللصَّبِيِّ الأخْذُ بها إذا كَبِر، ولا يَلْزَمُ الوَلِيَّ غُرْمٌ لذلك؛ لأنَّه لم يُفَوِّتْ شيئًا مِن مالِه، وإنَّما تَرَك تحْصِيلَ ما له الحَظُّ فيه، فأشْبَهَ ما لو تَرَك شِراءَ العَقَارِ له مع الحَظِّ في شِرائِه، وإن كان الحَظُّ في تَرْكِها، مثلَ أن يكونَ المُشْتَرِي قد غُبِنَ، أو كان في الأخْذِ بها يَحْتاجُ إلى أن يَسْتَقْرِضَ ويَرْهَنَ مال الصَّبِيِّ، فليس له الأخْذُ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ فِعْلَ ما لا حَظَّ للصَّبِيِّ فيه. فإن أخَذَ، لم يَصِحَّ في إحْدَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوَايَتَين، ويكونُ باقِيًا على مِلْكِ المُشْتَرِي؛ لأنَّه اشْتَرَى له ما لا يَمْلِكُ شِرَاءَه، فلم يَصِحَّ، كما لو اشْتَرَى بزِيادَةٍ كَثِيرَةٍ على ثَمَنِ المِثْلِ، أو اشْترَىَ مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيبَه، ولا يَمْلِكُ الوَلِيُّ المَبِيعَ؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ تُؤْخَذُ بحَقِّ الشَّرِكَةِ، ولا شَرِكَةَ للوَلِيِّ، ولذلك لو أرادَ الأخْذَ لنَفْسِه لم يَصِحَّ، فأشْبَهَ ما لو تَزَوَّجَ لغيرِه بغيرِ إذْنِه، فإنَّه يَقَعُ باطِلًا، ولا يَصِحُّ لواحِدٍ منهما، كذا ههُنا. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. والثانيةُ، يَصِحُّ الأخْذُ للصَّبِيِّ؛ لأنَّه اشْتَرَى له ما يَنْدَفِعُ عنه الضَّرَرُ به، فصَحَّ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا لا يعْلَمُ عَيبَه، والحَظُّ يَخْتَلِفُ ويَخْفَى، فقد يكونُ له حَظٌّ في الأخْذِ بأكْثَرَ مِن ثَمَنِ المِثْلِ، لزِيادَةِ قِيمَةِ مِلْكِه والشِّقْصِ الذي يَشْتَرِيه بزَوَالِ الشَّرِكَةِ، أو لأنَّ الضَّرَرَ الذي يَنْدَفِعُ بِأخْذِه كَثِيرٌ، فلا يُمْكِنُ اعْتِبارُ الحَظِّ بنَفْسِه لخفائِه، ولا بكَثْرَةِ الثَّمَنِ؛ لما ذَكَرْناه، فسَقَطَ اعْتِبارُه، وصَحَّ البَيعُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ وَصِيُّ الأيتامِ، فباعَ (¬1) لأحَدِهم نَصِيبًا في شَرِكَةِ الآخَرِ، فله الأخْذُ للآخَرِ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّه كالشِّراءِ له. وإن كان الوَصِيُّ شَرِيكًا لمَن باعَ عليه، فليس له الأخْذُ؛ للتُّهْمَةِ في البَيعِ، ولأنَّه بمَنْزِلَةِ مَن يَشْتَرِي لنَفْسِه مِن مال يَتِيمِه. ولو باعَ الوَصِيُّ نَصِيبَه، كان له الأخْذُ لليَتِيمِ بالشُّفْعَةِ مع الحَظِّ لليَتِيمِ؛ لأنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ، فإنَّه لا يَقْدِرُ على الزِّيادَةِ في ثَمَنِه؛ لكَوْنِ المُشْتَرِي لا يُوافِقُه، ولأنَّ الثَّمَنَ حاصِلٌ له مِن المُشْتَرِي، كحُصُولِه مِن اليَتِيمِ؛ بخِلافِ بَيعِه مال اليَتِيمِ، فإنَّه يُمْكِنُه تَقْلِيلُ الثَّمَنِ ليَأْخُذَ الشِّقْصَ به، فإن رُفعَ الأمْرُ إلى الحاكِمِ فباعَ عليه، فللْوَصِيِّ الأخْذُ حِينَئِذ؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ، فإن كان مكانَ الوَصِيِّ أبٌ فباع شِقْصَ ولدِه، فله الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ له أن يَشْتَرِيَ مِن نفسِه مال ولدِه؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ. وإن بِيعَ شِقْصٌ في شَرِكَةِ حَمْلٍ، لم يَكُنْ لوَلِيِّه الأخْذُ له بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَمْلِيكُه بغيرِ الوَصِيَّةِ. فإذا وُلِدَ الحَمْلُ ثم كَبِر، فله الأخْذُ بالشُّفْعَةِ، كالصَّبِيِّ إذا كَبرَ. فصل: وإذا عَفَا وَلِيُّ الصَّبِيِّ عن شُفْعَتِه التي له فيها حَظٌّ، ثم أرادَ الأخْذَ بها، فله ذلك، في قياسِ المَذهَبِ؛ لأنَّها لم تسْقطْ ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْقاطِه، ولذلك مَلَك الصَّبِيُّ الأخْذَ بها إذا كَبِر، ولو سقَطَتْ لم يَمْلِكِ الأخْذَ بها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ الأخْذَ بها؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ على التَّرَاخِي، وذلك على خِلافِ الخَبَرِ والمَعْنَى. ويُخالِفُ أخْذَ الصَّبِيِّ بها إذا كَبِر؛ لأنَّ الحَقَّ يَتَجَدَّدُ له عندَ كِبَرِه، فلا يمْلِكُ تَأْخِيرَه حينئذٍ، وكذلك أَخْذُ الغائبِ بها إذا قَدِم. فأمَّا إن تركها لعدم الحَظِّ فيها، ثم أراد الأخْذَ بها، والأمرُ بحالِه، لم يَمْلِكْ ذلك، كما لم يَملِكْه ابْتداءً. وإن صارَ فيها حَظٌّ، أو كان مُعْسِرًا عندَ البَيعِ، فأيسَرَ بعدَ ذلك، انْبَنَى ذلك على سُقُوطِها بذلك، فإن قُلْنا: لا تَسْقُطُ، وللصَّبِيِّ الأخْذُ بها إذا كَبِر. فحُكْمُها حُكْمُ ما فيه الحَظٌّ. وإن قُلْنا: تَسْقُطُ. فليس له الأخْذُ بها بحالٍ؛ لأنَّها قد سَقَطَتْ مُطْلَقًا، فهو كما لو عَفَا الكَبِيرُ عن شُفْعَتِه. فصل: والحُكْمُ في المَجْنُونِ المُطْبِقِ كالحُكْمِ في الصَّبِيِّ سَواءً؛ لأنَّه مَحْجُوزٌ عليه لحَظِّه، وكذلك السَّفيهُ، فأمّا المُغْمَى عليه، فحُكْمُه حُكْمُ الغائِبِ؛ لأنَّه لا ولايةَ عليه، وكذلك المَحْبُوسُ، فعلى هذا، نَنْتَظِرُ إفاقَتَه. وأمّا المُفْلِسُ فله الأخْذُ بالشُّفْعَةِ والعَفْوُ عنها، وليس لغُرَمائِه الأخْذُ بها؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ فلا يُجْبَرُ عليها، كسائِرِ المُعاوَضاتِ. وليس لهم إجْبارُه على العَفْو؛ لأنَّه إسْقاطُ حَقٍّ، فلا يُجْبَرُ عليه (¬1). وسَواءٌ كان له حَظٌّ في الأخْذِ بها أو لم يَكُنْ؛ لأنَّه يَأْخُذُ في ذِمَّتِه، وليس بمَحْجُورٍ عليه في ذِمَّتِه، ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْل: الرَّابعُ، أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ، فَإِنْ طَلَبَ أَخْذَ الْبَعْضِ، سَقَطَتْ شُفعَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن لهم مَنْعُه مِن دَفْعِ مالِه في ثَمَنِها؛ لتَعَلُّقِ حُقُوقِهم بمالِه، فأشْبَهَ ما لو اشْتَرَى في ذِمَّتِه شِقْصًا غيرَ هذا. ومتى مَلَك الشِّقْصَ المَأْخُوذَ بالشُّفْعَةِ، تَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الغُرَماءِ به، سَواءٌ أخَذَه برِضَاهُم أو بغيرِه؛ لأنَّه مالٌ له، فأشْبَهَ ما لو اكْتَسَبَه. وأمّا المُكاتَبُ، فله الأخْذُ والتَّرْكُ، وليس لسَيِّدِه الاعْتِراضُ عليه؛ لأنَّ التَّصَرُّفَ يَقَع له دُونَ سَيِّدِه. وكذلك المَأْذُونُ له في التِّجارَةِ مِن العَبِيدِ، له الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّه مَأْذُونٌ له في الشِّراءِ، وإن عَفَا عنها لم يَنْفُذْ عَفْوُه؛ لأنَّ المِلْكَ للسَّيِّدِ، ولم يَأْذَنْ في إبْطالِ حُقوقِه. فإن أسْقَطَها السَّيِّدُ، سَقَطَتْ، ولم يَكُنْ للعَبْدِ أن يَأْخُذَ؛ لأنَّ للسَّيِّدِ الحَجْرَ عليه، ولأنَّ الحَقَّ قد أسْقَطَه مُسْتَحِقُّه، فسَقَطَ بإسْقاطِه. فصل: الشرطُ (الرابعُ، أن يَأْخُذَ جَميعَ المَبِيعِ، فإن طَلَب أخْذَ البَعْضِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُه) وبه قال محمدُ بنُ الحَسَنِ، وبعضُ أصحابِ الشافعيِّ. وقال أبو يُوسُفَ: لا تَسْقُطُ؛ لأنَّ طَلَبَه لبَعْضِها طَلَبٌ لجَمِيعِها؛ لكَوْنِه لا يَتَبَعَّضُ، ولا يَجُوزُ أخْذُ بَعْضِها. ولَنا، أَنه تارِكٌ لطَلَبِ بعضِها، فتَسْقُطُ، ويَسْقُطُ باقِيها؛ لأنَّها لا تَتَبَعَّضُ، ولا يَصِحُّ ما

2399 - مسألة: (وإن كانا شفيعين، فالشفعة بينهما على قدر ملكيهما. وعنه، على عدد الرءوس)

فَإِنْ كَانَا شَفِيعَينِ، فَالشُّفْعَةُ بَينَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيهِمَا. وَعَنْهُ، عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه؛ فإنَّ طَلَبَ بعضِها ليس بطَلَبِ جَمِيعِها، وما لا يَتَبَعَّضُ لا يَثْبُتُ حتى يَثْبُتَ السَّبَبُ في جَمِيعِه، كالنِّكاحِ، بخِلافِ السُّقُوطِ؛ فإنَّ الجَمِيعَ يَسْقُطُ بوُجُودِ السَّبَبِ في بعضِه، كالطَّلاقِ. فصل: فإن أخَذَ الشِّقْصَ بثَمَنٍ مَغْصُوبٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تَسْقُطُ شُفْعَتُه؛ لأنَّه بالعَقْدِ اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بمِثْلِ ثَمَنِه في الذِّمَّةِ، فإذا عَيَّنه فيما لا يَمْلِكُه، سَقَطَ التَّعْيِينُ، وبَقِيَ الاسْتِحْقاقُ في الذِّمَّةِ، أشْبَهَ ما لو أخَّرَ الثَّمَنَ، أو ما لو اشْتَرَى شَيئًا آخَرَ ونَقَد فيه ثَمَنًا مَغْصُوبًا. والثاني، يَسقُطُ؛ لأنَّ أخْذَه للشِّقْصِ بما لا يَصِحُّ أخْذُه به تَرْكٌ له وإعْراضٌ عنه، فسَقَطَتِ الشُّفْعَةُ، كما لو تَرَك الطَّلَبَ بها. 2399 - مسألة: (وإن كانا شَفِيعَين، فالشُّفْعَةُ بينَهما على قَدْرِ مِلْكَيهما. وعنه، على عَدَدِ الرُّءُوسِ) ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ الشِّقْصَ المَشْفُوعَ إذا أخَذَه الشُّفَعاءُ، قُسِمَ بينَهم على قَدْرِ أمْلاكِهِم. اخْتارَه أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكرٍ. ورُوِيَ ذلك عن الحَسَنِ، وابنِ سِيرِينَ، وعَطاءٍ. وبه قال مالكٌ، وسَوَّارٌ، والعَنْبَرِيُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثانيةٌ، أنَّه يُقسَمُ بينَهم على عَدَدِ الرُّءُوسِ. اخْتارَها ابنُ عَقِيلٍ. ورُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ. وهو قولُ ابنِ أبي لَيلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم لو انْفَرَدَ لاسْتَحَقَّ (¬1) الجَمِيعَ، فإذا اجْتَمَعُوا تَساوَوْا، كالبَنِينَ في المِيراثِ، وكالمُعْتَقِينَ في سِرَايَةِ العِتْقِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ يُسْتَفادُ بسَبَبِ المِلْكِ، فكان على قَدْرِ الأمْلاكِ، كالغَلَّةِ، ودَلِيلُهم يَنْتَقِضُ بالابْنِ والأبِ أو الجَدِّ، وبالفُرْسانِ والرَّجَّالةِ في الغَنِيمَةِ، وبأصحابِ الدُّيُونِ والوَصَايَا إذا نَقَصَ مالُه عن دَينِ أحَدِهم، أو الثُّلُثُ عن وَصِيَّةِ أحَدِهِم. وأمَّا الإعْتاقُ فلنا فيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ فلأنَّه إتْلافٌ، والإتْلافُ يَسْتَوي فيه القَلِيلُ ¬

(¬1) في م: «لا يستحق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكَثِيرُ، كالنَّجاسَةِ تُلْقَى في مائِعٍ. وأمّا البَنُونَ فإنَّهم تَسَاوَوْا في السَّبَبِ وهو البُنُوَّةُ، فتَسَاوَوْا في الإرْثِ بها، فنَظِيرُه في مَسْألَتِنا تَسَاوي الشُّفَعاءِ في سِهَامِهِم، فإذا كانت دارٌ بينَ ثَلاثةٍ، لأحَدِهم النِّصْفُ، وللآخَرِ الثُّلُثُ، وللآخَرِ السُّدْسُ، فباعَ أحَدُهُم، [نَصِيبَه، فإنَّك تَنْظُرُ] (¬1) مَخْرَجَ سِهَامِ الشُّرَكاءِ كلِّهم، فتَأْخُذُ منها (¬2) سِهامَ الشُّفَعاءِ، فإذا عَلِمْتَ عِدَّتَها، قسَمْتَ السَّهْمَ المَشْفُوعَ عليها، ويَصِيرُ العَقَارُ بينَ الشُّفَعاءِ على تلك العِدَّةِ، كما يُفْعَلُ في مَسائِلِ الرَّدِّ. فَفِي هذه المسألَةِ مَخْرَجُ سِهَامِ الشُّرَكاءِ سِتَّةٌ، فإذا باعَ صاحِبُ النِّصْفِ، فسِهامُ الشُّفَعاءِ ثَلاثةٌ، لصاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمان، وللآخرِ سَهْمٌ، فالشُّفْعَةُ بينَهم على ثَلاثةٍ، ويَصِيرُ العَقارُ بينَهم أثْلاثًا، لصاحِب الثُّلُثِ ثُلُثاه، وللآخَرِ ثُلُثُه. وإن باعَ صاحِبُ الثُّلُثِ، كانت بينَ الآخَرَين أرْباعًا، لِصاحِبِ النِّصْفِ ثَلاثَةُ أرْباعِها، وللآخَرِ رُبْعُها. وإن باع صاحِبُ السُّدْسِ، كانت بينَ الآخَرَين أخْماسًا، لِصاحِبِ النِّصْفِ ثَلاثةُ أخْماسِه، وللآخَرِ خُمْساه. هذا على ظاهِرِ المَذْهَبِ. وعلى الرِّوايَةِ الثانيةِ، يَنْقَسِمُ الشِّقْصُ المَشْفُوعُ بينَ الآخَرَين نِصْفَين، فإذا باعَ صاحِبُ النِّصْفِ، قُسِمَ النِّصْفُ بينَ الآخَرَينِ، لكلِّ واحِدٍ الرُّبْعُ، فيَصِيرُ لصاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثٌ ورُبْعٌ، وللآخرِ رُبْعٌ وسُدْسٌ. وإن باعَ صاحِبُ الثُّلُثِ، صار لصاحِبِ النِّصْفِ ¬

(¬1) في م: «فعلى هذا ينظر». (¬2) في م: «منهم».

2400 - مسألة: (فإن ترك أحدهما شفعته، لم يكن للآخر إلا أن يأخذ الكل أو يترك)

فَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا شُفْعَتَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلا الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثُّلُثانِ، وللآخَرِ الثُّلُثُ. وإن باعَ صاحِبُ السُّدْسِ، فلصاحِبِ النِّصْفِ ثُلُثٌ ورُبْعٌ. ولصاحِبِ الثُّلُثِ رُبْعٌ وسُدْسٌ. 2400 - مسألة: (فإن تَرَك أحَدُهما شُفْعَتَه، لم يَكُنْ للآخَرِ إلَّا أن يَأْخُذَ الكُلَّ أو يَتْرُكَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا كان الشِّقْصُ بينَ شُفَعاءَ، فتَرَكَ بعضُهم، فليس للباقِينَ إلَّا أخْذُ الجَمِيعِ أو تَرْكُ الجَميعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كل مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على هذا. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ في أخْذِ البَعْضِ إضْرارًا بالمُشْتَرِي بتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عليه، ولا يُزَالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، ولأنَّ الشُّفْعَةَ إنَّما تَثْبُت على خِلافِ الأصْلِ دَفْعًا لضَرَرِ الشَّرِيكِ الدّاخِلِ، خَوْفًا مِن سُوءِ المُشارَكَةِ ومُؤْنَةِ القِسْمَةِ، فإذا أخَذَ بَعْضَ الشِّقْصِ لم يَنْدَفِعْ عنه الضَّرَرُ، فلمَ يَتَحَقَّقِ المَعْنَى المُجَوِّز لمُخالفَةِ الأصْلِ، فلا تَثْبُتُ. وإن وَهَب بعضُ الشرُّكاءِ نَصِيبَه مِن الشُّفْعَةِ لبعضِ الشُّرَكاءِ أو لغيرِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ذلك عَفْوٌ وليس بهِبَةٍ، فلم يَصِحَّ لغيرِ مَن هو عليه، كالعَفْو عن القِصَاصِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الشُّفَعاءُ غائِبِين، لم تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ؛ لمَوْضِعِ العُذْرِ. فإذا قَدِم أحَدُهم، فليس له إلَّا أن يَأْخُذَ الكلَّ أو يَتْرُكَ؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ اليومَ مُطالِبًا سِواه، ولأنَّ في أخْذِه البَعْضَ تَبْعِيضًا لصَفْقَةِ المُشْتَرِي، فلم يَجُزْ ذلك، كما لو لم يَكُنْ معه غيرُه، ولا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّه إلى أن يَقْدَمَ شُرَكاؤُه؛ لأنَّ في التَأْخِيرِ ضَرَرًا بالمُشْتَرِي. فإذا أخَذَ الجَمِيعَ ثم حَضَرَ آخَرُ، قاسَمَه إن شَاءَ، أو عَفَا فيَبْقَى للأوَّلِ؛ لأنَّ المُطالبَةَ إنَّما وُجِدَتْ منهما. فإن قاسَمَه، ثم حَضَر الثالِثُ، قاسَمَهُما إن أحَبَّ، أو عَفَا فيَبْقَى للأوَّلَين. فإن نَمَا الشِّقْصُ في يَدِ الأوَّلِ نَماءً مُنْفَصِلًا، لم يُشَارِكْه فيه واحِدٌ منهما؛ لأنَّه انْفَصَلَ في مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو انْفَصَلَ في يَدِ المُشْتَرِي قبلَ الأخْذِ بالشُّفْعَةِ. وكذلك إذا أخَذَ الثاني فَنَمَا في يَدِه نَماءً مُنْفَصِلًا، لم يُشارِكْه الثالِثُ فيه. فإن خَرَج الشِّقْصُ مُسْتَحَقًّا، فالعُهْدَةُ على المُشْتَرِي، يَرْجِعُ الثلاثةُ عليه، ولا يَرْجِعُ أحَدُهُم على الآخَرِ؛ فإنَّ الأخْذَ وإن كان مِن الأوَّلِ، فهو بمَنْزِلَةِ النائِبِ عن المُشْتَرِي في الدَّفْعِ إليهما،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنائِبِ عنهما في دَفْعِ الثَّمَنِ إليه؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عليه لهم. هذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وإن امْتَنَعَ الأوَّلُ مِن المُطالبَةِ حتى يَحْضُرَ صاحِبَاه، أو قال: آخُذُ قَدْرَ حَقِّي. ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَبْطُلُ حَقُّه؛ لأنَّه قَدَرَ على أخْذِ الكلِّ وتَرَكَه، فأشْبَهَ المُنْفَرِدَ. والثاني، لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه تَرَكَه لعُذْرٍ، وهو خَوْفُ قُدُومِ الغائِبِ فيَنْتَزِعُه منه، والتَّرْكُ لعُذْرٍ لا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، بدَلِيلِ ما لو أظْهَرَ المُشْتَري ثَمَنًا كَثِيرًا، فتَرَكَ لذلك، فبانَ خِلافُه. وإن تَرَك الأوَّلُ شُفْعَتَه، تَوَفَّرَتِ الشُّفْعَةُ على صاحِبَيه، وإذا قَدِم الأوَّلُ منهما، فله أخْذُ الجَمِيعِ، على ما ذَكَرْنا في الأوَّلِ. فإن أخَذَ الأوَّلُ بها، ثم رَدَّ ما أخَذَه بعَيبٍ، فكذلك. وبهذا قال الشافعيُّ. وحُكِيَ عن محمدِ بنِ الحَسَنِ، أنَّها لا تَتَوَفَّرُ عليهما، وليس لهما أخْذُ نَصِيبِ الأوَّلِ؛ لأنَّه لم يَعْفُ، وإنَّما رَدَّ نَصيبَه بالعَيبِ، فأشْبَهَ ما لو رَجَع إلى المُشْتَرِي بِبَيعٍ أو هِبَةٍ. ولَنا، أنَّ الشَّفِيعَ فَسَخ مِلْكَه، ورَجَع إلى المُشْتَرِي بالسَّبَبِ الأوَّلِ، فكان لشَرِيكِه أخْذُه، كما لو عَفَا. ويُفارِقُ عَوْدَه بسَبَبٍ آخَرَ؛ لأنَّه عادَ غيرَ المِلْكِ الأوَّلِ الذي تَعَلَّقَتْ به الشُّفْعَةُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا حَضَر الثاني بعدَ أخْذِ الأوَّلِ، فأخَذَ نِصْفَ الشِّقْصِ منه، واقْتَسَما، ثُم قَدِم الثالِثُ، وطالبَ بالشُّفْعَةِ، وأخَذَ بها، بَطَلَتِ القِسْمَةُ؛ لأنَّ هذا الثالِثَ إذا أخَذَ بالشُّفْعَةِ، فهو كأنَّه مُشارِكٌ حال القِسْمَةِ؛ لثُبُوتِ حَقِّه، ولهذا لو باعَ المُشْتَرِي، ثم قَدِمَ الشَّفِيعُ، كان له إبْطالُ البَيعِ. فإن قِيلَ: وكيف تَصِحُّ القِسْمَةُ وشَرِيكُهما الثالِثُ غائِبٌ؟ قُلْنا: يَحْتَمِلُ أن يكونَ وَكَّلَ في القِسْمَةِ قَبْلَ البَيعِ أو قبْلَ عِلْمِه به، أو يكونَ الشَّرِيكان رَفَعَا ذلك إلى الحاكِمِ وطالبَاه بالقِسْمةِ عن الغائِبِ، فقاسَمَهُما، وبَقِيَ الغائِبُ على شُفْعَتِه. فإن قِيلَ: وكيف تَصِحُّ مُقاسَمَتُهُما للشِّقْصِ وحَقُّ الثالِثِ ثابِتٌ فيه؟ قُلْنا: ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لا يَمْنَعُ التَّصرُّفَ؛ لأنَّه يَصِحُّ (¬1) بَيعُه وهِبَتُه وغيرُهما، ويَمْلِكُ الشَّفِيعُ إبْطاله، كذا ههُنا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الثالِثَ إذا قَدِم فوَجَدَ أحَدَ شَرِيكَيه غائِبًا، أخَذَ مِن الحاضِرِ ثُلُثَ ما في يَدِه؛ لأنَّه قَدْرُ ما يَسْتَحِقُّه، ثم إن حَكَم له القاضِي على الغائِب، أخَذَ ثُلُثَ ما في يَدِه أيضًا، وإن لم يَقْضِ، انْتَظرَ الغائبَ حتى يَقْدَمَ؛ لَأنَّه مَوْضِعُ عُذْرٍ. ¬

(¬1) في م: «لا يصح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أخَذَ الأوَّلُ الشِّقْصَ كلَّه بالشُّفْعَةِ، فقَدِمَ الثاني، فقال: لا آخُذُ منك نِصْفَه، بل أقْتَصِرُ على قَدْرِ نَصِيبِي وهو الثُّلُثُ. فله ذلك؛ لأنَّه اقْتَصَرَ على بعضِ حَقِّه، وليس فيه تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي، فجاز، كتَرْكِ الكلِّ. فإذا قَدِم الثالِثُ، فله أن يَأْخُذَ مِن الثاني ثُلُثَ ما في يَدِه فيُضِيفَه إلى ما في يَدِ الأوَّلِ، ويَقْتَسِمانِه (¬1) نِصْفَينِ. فتَصِحُّ قِسْمَةُ الشِّقْصِ مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لأنَّ الثالِثَ أخَذَ حَقَّه مِن الثانِي ثُلُثَ الثُّلُثِ، ومَخْرَجُه تِسْعَةٌ فيَضُمُّهُ إلى الثُّلُثَين، وهي سِتَّةٌ، صارَت سَبْعَةً، ثم قَسَمَا السَّبْعَةَ نِصْفَين، لا تَنْقَسِمُ، فاضْرِب اثْنَين في تِسْعَةٍ يَكُنْ ثَمانِيةَ عَشَرَ، للثانِي أرْبَعَةٌ، ولكلِّ واحِدٍ مِن شَرِيكَيه سَبْعةٌ. وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّ الثانِي تَرَك سُدْسًا كان له أخْذُه، وحَقُّه منه ثُلُثاه، وهو السُّبْعُ (¬2) فيُوَفِّرُ ذلك على شَرِيكَيه في الشُّفْعَةِ، فللأوَّلِ والثالثِ أن يَقُولَا: نحن سَواءٌ في الاسْتِحْقاقِ، ولم يَتْرُكْ واحِدٌ مِنّا شَيئًا مِن حَقِّه، فنَجْمَعُ ما معنا فنَقْسِمُه. فيكونُ على ما ذَكَرْنا. وإن قال الثاني: أنا آخُذُ الرُّبْعَ. فله ذلك؛ لِما ذَكَرْنا في التي قبلَها، فإذا قَدِم الثالِثُ، أخَذَ منه نِصْفَ ¬

(¬1) في م: «يقسمانه». (¬2) في الأصل: «التسع».

2401 - مسألة: (وإن كان المشتري شريكا، فالشفعة بينه وبين الآخر)

فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا، فَالشُّفْعَةُ بَينَهُ وَبَينَ الْآخَرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ سُدْسٍ، وهو ثُلُثُ ما في يَدِه، فضَمَّه إلى ثَلاثِةِ الأرْباعِ، وهي تِسْعةٌ، يَصِيرُ الجَمِيعُ عَشَرَةً فيَقْتَسِمانِها (¬1)، لكلِّ واحِدٍ منهما خَمْسَةٌ، وللثاني سَهْمانِ، وتصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ. 2401 - مسألة: (وإن كان المُشْتَرِي شَرِيكًا، فالشُّفْعَةُ بينَه وبينَ الآخَرِ) وللآخَرِ الأخْذُ بقَدْرِ نَصِيبِه. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وحُكِيَ عن الحَسَنِ، والشَّعْبِيِّ، والبَتِّيِّ، لا شُفْعَةَ للآخَرِ؛ لأنَّها تَثْبُتُ لدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الدّاخِلِ، وهذا شَرِكَتُه مُتَقَدِّمَةٌ، فلا ضَرَرَ في شِرائِه. وحَكَى ابنُ الصَّبّاغِ عنهم، أنَّ الشُّفْعَةَ كلَّها لغيرِ المُشْتَرِي، ولا شيءَ للمُشْتَرِي فيها؛ لأنَّها تُسْتَحَقُّ عليه فلا يَسْتَحِقُّها على نَفْسِه. ولَنا، أنَّهما تَساوَيَا في الشَّرِكَةِ فتَساوَيَا في الشُّفْعَةِ، كما لو اشْتَرَى أجْنَبِيٌّ، بل المُشتَرِي أوْلى؛ لأنَّه قد مَلك الشِّقصَ المَشفوعَ مِن غيرِ نظرٍ إلى ¬

(¬1) في م: «فيقسمانها».

2402 - مسألة: (وإن ترك)

فَإِنْ تَرَكَ شُفْعَتَهُ؛ لِيُوجِبَ الْكُلَّ عَلَى شَرِيكِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي، وقد حَصَلَ شِراؤُه. والثاني، لا يَصِحُّ أيضًا؛ لأنَّا لا نَقُولُ: إنَّه يَأْخُذُ مِن نَفْسِه بالشُّفْعَةِ. وإنَّما يَمْنَعُ الشَّرِيكَ أن يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّه بالشُّفْعَةِ، فيَبْقَى على مِلْكِه، ثم لا يَمْتَنِعُ أن يَسْتَحِقَّ الإنْسانُ على نَفْسِه لأجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ به، ألا تَرَى أنَّ العَبْدَ المَرْهُونَ، إذا جَنَى على عَبْدٍ آخَرَ لسَيِّدِه، ثَبَت للسَّيِّدِ على عَبْدِه أرْشُ الجِنايَةِ؛ لأجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ المُرْتَهِنِ، ولو لم يَكُنْ رَهْنًا ما تَعَلَّقَ به. وإذا ثَبَت هذا، فإنَّ لشَرِيك المُشْتَرِي أخْذَ قَدْرِ نَصِيبِه لا غيرُ، أو العَفْوَ. 2402 - مسألة: (وإن تَرَك) المُشْتَرِي (شُفْعَتَه؛ ليُوجِبَ الكُلَّ على شَرِيكِه، لم يَكُنْ له ذلك) إذا قال المُشْتَرِي: قد أسْقَطْتُ شُفْعَتِي، فخُذِ الكُلَّ أو اتْرُكْ. لم يَلْزَمْه ذلك، ولم يَصِحَّ إسْقاطُ المُشْتَرِي؛ لأنَّ مِلْكَه اسْتَقَرَّ على قَدْرِ حَقِّه، فجَرَي مَجْرَى الشَّفِيعَين إذا أخَذَا بالشُّفْعَةِ ثم عَفَا أحَدُهما عن حَقِّه. ولذلك لو حَضَر أحَدُ الشَّفِيعَين، فأخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ بالشُّفْعَةِ، ثم حَضَر الآخرُ، فله أخْذُ النِّصْفِ مِن ذلك. فإنْ قال الأوَّلُ: خُذِ الكُلَّ أو دَعْ، فإنِّي قد أسْقَطْتُ شُفْعَتِي. لم يَكُنْ له ذلك. فإن قِيلَ: هذا تَبْعِيضٌ للصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي. قُلْنا: هذا تَبْعِيضٌ اقْتَضاه دُخُولُه في العَقْدِ، فصارَ كالرِّضَا منه به، كما قُلْنا في الشَّفِيعِ الحاضِرِ إذا أخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ، وكما لو اشْتَرَى شِقْصًا وسَيفًا.

2403 - مسألة: (وإذا كانت دار بين اثنين، فباع أحدهما نصيبه لأجنبي صفقتين، ثم علم الشريك، فله أن يأخذ بالبيعين، وله أن يأخذ بأحدهما، فإن أخذ بالثاني، شاركه المشتري في شفعته، في أحد الوجهين، وإن أخذ بالأول، لم يشاركه، وإن أخذ بهما)

وَإذَا كَانَتْ دَارٌ بَينَ اثْنَينِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِأجْنَبِيٍّ صَفْقَتَينِ، ثُمَّ عَلِمَ شَرِيكُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذ بِالْبَيعَينِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَذَ بِالثَّانِي، شَارَكَهُ الْمُشْتَرِي فِي شُفْعَتِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ، لَمْ يُشَارِكْهُ، وَإِنْ أَخَذَ بِهِمَا، لَمْ يُشَارِكْهُ فِي شُفْعَةِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ يُشَارِكُهُ فِي شُفْعَةِ الثَّانِي؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2403 - مسألة: (وإذا كانت دارٌ بينَ اثْنَين، فباعَ أحَدُهما نَصِيبَه لأجْنَبِيٍّ صَفْقَتَين، ثم عَلِم الشَّرِيكُ، فله أن يَأْخُذَ بالبَيعَين، وله أن يَأْخُذَ بأحَدِهما، فإن أخَذَ بالثانِي، شارَكَه المُشْتَرِي في شُفْعَتِه، في أحَدِ الوَجْهَينِ، وإن أخَذَ بالأوَّلِ، لم يُشارِكْه، وإن أخَذَ بهما) جَمِيعًا (لم يُشارِكْه في شُفْعَةِ الأوَّلِ، وهل يُشارِكُه في شُفْعَةِ الثاني؟ على وَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الشَّرِيكَ إذا باعَ بعضَ الشِّقْصِ لأجْنَبِيٍّ، ثم باعَه باقِيَه في صَفْقَةٍ أُخْرَى، ثم عَلِم الشَّفِيعُ، فله أخْذُ المَبِيعِ الأوَّلِ والثاني، وله أخْذُ أحَدِهما، فإن أخَذَ الأوَّلَ، لم يُشارِكْه في شُفْعَتِه أحَدٌ، وإن أخَذَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالثانِي، فهل يُشارِكُه المُشْتَري في شُفْعَتِه بنَصِيبِه الأوَّلِ؟ فيه ثَلاثَةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، يُشارِكُه فيها. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، وبعضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه شَرِيكٌ في وَقْتِ البَيعِ الثاني بمِلْكِه الذي اشْتَراهُ أوَّلًا. والثاني، لا يُشارِكُه؛ لأنَّ مِلْكَه على الأوَّلِ لم يَسْتَقِرَّ؛ لكَوْنِ الشَّفِيعِ يَمْلِكُ أخْذَه. والثالثُ، إن عَفَا الشَّفِيعُ عن الأوَّلِ شارَكَه في الثاني، وإن أخَذَ بهما جَميعًا لم يُشارِكْه. وهذا مَذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه إذا عفا عنه، اسْتَقَرَّ مِلْكُه، بخِلافِ ما إذا أخَذَ. فإن قُلْنا: يُشارِكُ (¬1) في الشُّفْعَةِ، ففي قَدْرِ ما يَسْتَحِقُّ وَجْهان؛ أحَدُهما، ثُلُثُه. والثانِي، نِصْفُه بِناءً على الرِّوايَتَين في قَسْمِ الشُّفْعَةِ على قَدْرِ الأمْلاكِ أو عَدَدِ الرُّءُوسِ. فإذا قُلْنا: يُشارِكُه. فَعَفَا له عن الأوَّلِ، صار له ثُلُثُ العَقَارِ، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، ثَلاثةُ أثْمانِه، وباقِيه لشَرِيكِه. وإن لم يَعْفُ عن الأوَّلِ، فله نِصْفُ سُدْسِه، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، ثُمْنُه، والباقِي لشَرِيكِه. وإن باعَه الشَّرِيكُ الشِّقْصَ في ثَلاثِ صَفَقاتٍ مُتَساويَةٍ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو باعَه لثَلاثَةِ أنْفُسٍ، على ما نَذْكُرُه. ويَسْتَحِقُّ ما يَسْتَحِقُّونَ، وللشَّفِيع ههُنا مثلُ ما لَه مع الثَّلاثةِ. واللهُ أعْلَمُ. ¬

(¬1) في م: «يشاركه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كانت دارٌ بينَ ثَلاثَةٍ، فوَكَّلَ أحَدُهُم شَرِيكَه في بَيعِ نَصِيبِه مع نَصِيبِه، فباعَهُما لرجلٍ واحِدٍ، فلشَرِيكِهما الشُّفْعَةُ فيهما، وهل له أخْذُ أحَدِ النَّصِيبَينِ دُونَ الآخرِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له ذلك؛ لأنَّ المالِكَ اثْنانِ، فهما بَيعانِ، فكان له أخْذُ نَصِيبِ أحَدِهما، كما لو تَولَّيا العَقْدَ. والثاني، ليس له ذلك؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ واحِدَةٌ، وفي أخْذِ أحَدِهما تَبْعيضُ الصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي، فلم يَجُزْ، كما لو كانا لرجلٍ واحِدٍ. وإن وَكَّلَ رجلٌ رجلًا في شِراءِ نِصْفِ نَصِيبِ أحَدِ الشُّرَكاءِ، فاشْتَرَى الشِّقْصَ كلَّه لنَفْسِه ولِمُوَكِّلِه، فلشَرِيكِه أخْذُ نَصِيبِ أحَدِهِما؛ لأنَّهما مُشتَرِيان، أشْبَهَ ما لو وَلِيَا العَقْدَ. والفَرْقُ بينَ هذه الصُّورَةِ والتي قبلَها أنَّ أخْذَ أحَدِ النَّصِيبَين لا يُفْضِي إلى تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي، ولأنَّه قد يَرْضَى شَرِكَةَ أحَدِ المُشْتَرِيَين دُونَ الآخَرِ، بخِلافِ التي قبلَها، فإنَّ المُشْتَرِيَ واحِدٌ.

2404 - مسألة: (وإن اشترى اثنان حق واحد، فللشفيع أخذ حق أحدهما)

وَإِنِ اشْتَرَى اثْنَانِ حَقَّ وَاحِدٍ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ حَقِّ أَحَدِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2404 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى اثْنانِ حَقَّ واحِدٍ، فللشَّفِيعِ أخْذُ حَقِّ أحَدِهما) وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ في إحْدَى الرِّوايَتَين عنه. وقال في الأُخْرَى: يَجُوزُ له ذلك بعدَ القَبْضِ، ولا يَجُوزُ قبلَه؛ لأنَّه قبلَ القَبْضِ يُبَعِّضُ صَفْقَةَ البائِعِ. ولَنا، أنَّهما مُشتَرِيان، فجازَ للشَّفِيعِ أخْذُ نَصِيب أحَدِهما، كما بعدَ القَبْضِ، وما ذكَرُوه مَمْنُوعٌ. على أنَّ المُشْتَرِيَ الآخَرَ يَأْخُذُ نَصِيبَه، فلا يكونُ تَبْعِيضًا. فإن باعَ اثْنان مِن اثْنَين، فهي أرْبَعةُ عُقُودٍ، وللشَّفِيعِ أخْذُ الكُلِّ، أو ما شاءَ منها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا باعَ شِقْصًا لثلاثةٍ دَفْعَةً واحِدَةً، فلشَرِيكِه أن يَأْخُذَ مِن الثَّلاثةِ، وله أن يَأْخُذَ مِن أحَدِهم، وله أن يَأْخُذَ مِن اثْنَين دُونَ الثّالِثِ؛ لأنَّ كلَّ عَقْدٍ منها مُنْفَرِدٌ، فلا يَتَوَقَّفُ الأخْذُ به على الأخْذِ بما في العَقْدِ الآخَرِ، كما لو كانت مُتَفَرِّقَة. وإذا أخَذَ نَصِيبَ أحَدِهِم، لم يَكُنْ (¬1) للآخَرَين مُشارَكَتُه في الشُّفْعَةِ؛ لأنَّ مِلْكَهُما لم يَسْبِقْ مِلْكَ مَن أخَذَ نصِيبَه، ولا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ إلَّا بمِلْكٍ سابِقٍ. فأمّا إن باعَ نَصِيبَه لثلاثةٍ في ثَلاثةِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ثم عَلِمَ الشَّفِيعُ، فله أيضًا أن يَأْخُذَ الثَّلاثَةَ، وله أن يَأْخُذَ ما شاءَ منها، فإن [أخَذَ نِصيبَ الأوَّلِ، لم يَكُنْ للآخَرَين مُشارَكَتُه في شُفْعَتِه؛ لأنَّهما لم يَكُنْ لهما مِلْكٌ حينَ بَيعِه] (¬2)، وإن أخَذَ نَصِيبَ الثانِي وحدَه، لم يَمْلِكِ الثالِثُ مُشارَكَتَه؛ لذلك، ويُشارِكُه الأوَّلُ في شُفْعَتِه؛ لأن مِلْكَه سابِقٌ لشِراءِ الثاني، فهو شَرِيكٌ في اسْتِحْقاقِها حال شِرائِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يُشارِكَه؛ لأنَّ مِلْكَه حال شِراءِ الثاني يَسْتَحِقُّ أخْذَه بالشُّفْعَةِ؛ فلا يَكونُ سَبَبًا [في اسْتِحْقاقِها] (¬3). وإن أخَذَ مِن الثالِثِ وعَفَا ¬

(¬1) في م: «يمكن». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الأوَّلَين، ففي مُشارَكَتِهما له وَجْهان. وإن أخَذَ مِن الثَّلاثَةِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يشارِكُه واحدٌ منهم؛ لأنَّ أمْلاكَهُم قد اسْتَحَقَّها بالشُّفْعَةِ، فلا يَسْتَحِقُّ عليه بها شُفْعَةً. والثاني، يُشارِكُه الثاني في شُفْعَةِ الثالِثِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وبعضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه كان مالِكًا مِلْكًا صَحِيحًا حال شِراءِ الثالِثِ، ولذلك اسْتَحَقَّ مُشارَكَتَه إذا عَفَا عن شُفْعَتِه، فكذلك إذا لم يَعْفُ؛ لأنَّه إنَّما اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ بالمِلْكِ الذي صار به شَرِيكًا؛ لا بالعَفْو عنه، ولذلك قُلْنا في الشَّفِيعِ إذا لم يَعْلَمْ بالشُّفْعَةِ حتى باعَ نَصِيبَه: إنَّ له أخْذَ نَصِيبِ المُشْتَرِي الأوَّلِ، وللمُشْتَرِي الأوَّلِ أخْذُ نَصِيبِ المُشْتَرِي الثاني. وعلى هذا، يُشارِكُه الأوَّلُ في شُفْعَةِ الثانِي والثالِثِ جَمِيعًا. فعلى هذا، إذا كانت دارٌ بينَ اثْنَين نِصْفَين، فباعَ أحَدُهما نَصِيبَه لثلاثةٍ في ثَلاثةِ عُقُودٍ، في كلِّ عَقْدٍ سُدْسًا، فللشَّفِيعِ السُّدْسُ الأوَّلُ وثَلاثةُ أرْباعِ الثاني وثَلاثةُ أخْماسِ الثالِثِ، وللُمشْتَرِي الأوَّلِ رُبْعُ السُّدْسِ الثاني وخُمْسُ الثالِثِ، وللمُشْتَرِي الثاني خُمْسُ الثالِثِ، فتَصِحُّ المسألةُ مِن مائةٍ وعِشرِينَ سَهْمًا، للشَّفِيعِ الأوَّلِ مائةٌ وسَبْعَةُ أسْهُمٍ، وللثانِي تِسْعَةٌ، وللثالثِ أرْبَعَةٌ. وإن قُلْنا: إنَّ الشُّفْعَةَ على عَدَدِ الرُّءُوسِ. فللمُشْتَرِي الأوَّلِ نِصْفُ السُّدْسِ الثاني وثُلُثُ الثالِثِ، وللثاني ثُلُثُ الثالِثِ، وهو نِصْفُ التُّسْعِ، فتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ وثَلاثِينَ، فللشَّفِيعِ تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ، وللثانِي خَمْسَةٌ، وللثالث سَهْمانِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: دارٌ بينَ أرْبعةٍ أرْباعًا، باعَ ثَلاثَةٌ منهم في عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ولم يَعْلَمْ شَرِيكُهُم، ولا بعضُهم ببعض، فللَّذِى لم يَبِعِ الشُّفْعَةُ في الجَميعِ. وهل يَسْتَحِقُّ البائعُ الثاني والثالِثُ الشُّفْعَةَ فيما باعَه البائِعُ الأوَّلُ؟ على وَجْهَين. وكذلك هل يَسْتَحِقُّ الثالِثُ الشُّفْعَةَ فيما باعَه الأوَّلُ والثانِي؟ على وَجْهَين. وهل يَسْتَحِقُّ مُشْتَرِي الرُّبْعِ الأوَّلِ الشُّفْعَةَ فيما باعَه الثاني والثالِثُ؟ وهل يَسْتَحِقُّ الثاني شُفْعَةَ الثالِثِ؟ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، يَسْتَحِقَّانِ؛ لأنَّهما مالِكان حال البَيعِ. والثاني، لا حَقَّ لهما؛ لأنَّ مِلْكَهُما مُتَزَلْزِلٌ يَسْتَحِقُّ أخْذَه بالشُّفْعَةِ، فلا تَثْبُتُ به. والثالثُ، إن عَفَا عنهما أخَذَا (¬1) وإلَّا فلا. فإذا قُلْنا: يَشْتَرِكُ الجَمِيعُ. فللَّذِي لم يَبعْ ثُلُثُ كلِّ رُبْعٍ؛ لأنَّ له شَرِيكَين، فصارَ له الرُّبْعُ مَضْمُومًا (¬2) إلى مِلْكِه، ¬

(¬1) في م: «أخذ». (¬2) في الأصل: «مضمونا».

2405 - مسألة: (وإن اشترى واحد حق اثنين، أو اشترى شقصين من دارين صفقة واحدة، فللشفيع أخذ أحدهما، على أصح الوجهين)

وَإِنِ اشْتَرَى وَاحِدٌ حَقَّ اثْنَينِ، أَو اشْتَرَى وَاحِدٌ شِقْصَينِ مِنْ أَرْضَينِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ أَحدِهِمَا، عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكَمَلَ له النِّصْفُ، وللبائِع الثالِثِ والمُشْتَرِي الأوَّلِ الثُّلُثُ، لكلِّ واحِدٍ منهما سُدْسٌ؛ لأنَّه شَرِيكٌ في شُفْعَةِ مَبِيعَين. وللبائِعِ الثاني والمُشْتَرِي الثاني السُّدْسُ، لكلِّ واحِدٍ منهما نِصْفُه؛ لأنَّه شَرِيكٌ في شُفْعَةِ بَيعٍ واحِدٍ، وتَصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ. 2405 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى واحِدٌ حَقَّ اثْنَين، أو اشْتَرَى شِقْصَين مِن دارَين صَفْقَةً واحِدَةً، فللشَّفِيعِ أخْذُ أحَدِهما، على أصَحِّ الوَجْهَين) إذا اشْتَرَى رجلٌ مِنِ رَجُلَين شِقْصًا صَفْقَةً واحِدَةً، فللشَّفِيعِ أخْذُ نَصِيبِ أحَدِهما دُونَ الآخَرِ. وبه قال الشافعيُّ. وحُكِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن القاضِي، أنَّه لا يَمْلِكُ ذلك. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ؛ لئَلَّا تَتَبَعَّضَ صَفْقَةُ المُشْتَرِي. ولَنا، أنَّ عَقْدَ الاثْنَين مع واحِدٍ عَقْدان؛ لأنَّه مُشْتَرِ مِن كلِّ واحِدٍ منهما مِلْكَه بثَمَنٍ مُفْرَدٍ، فكان للشَّفِيعِ أخْذُه، كما لو أفْرَدَه بعَقْدٍ، وبهذا يَنْفَصِلُ عمّا ذَكَرُوه. وأمَّا إذا باعَ شِقْصَين مِن أرْضَين صَفْقَةً واحِدَةً لرجلِ واحِدٍ، وكان الشَّرِيكُ في أحَدِهما غيرَ الشَّرِيكِ في الآخَرِ، فلهما أن يَأْخُذَا ويَقْسِما الثَّمَنَ على قَدْرِ القِيمَتَين، وإن أخَذَ أحَدُهُما دُونَ الآخَرِ، جازَ، ويَأْخُذُ الشِّقْصَ الذي في شَرِكَتِه بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ. ويتَخَرَّجُ أن لا شُفْعَةَ له؛ لأنَّ فيه تَبْعِيضَ الصَّفْقَةِ على المُشْتَرِي،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك ضَرَرٌ به، وليس له أخْذُهُما معًا؛ لأنَّ أحَدَهما لا شَرِكَةَ له فيه، ولا هو تابعٌ لما فيه الشُّفْعَةُ، فجَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ والسَّيفِ على ما نَذْكُرُه. وإن كان الشَّرِيكُ فيهما واحِدًا، فله أخْذُهُما وتَرْكُهُما؛ لأنَّه شَرِيكٌ فيهما، وله أخْذُ أحَدِهما دُونَ الآخَرِ. وهو منْصُوصُ الشافعيِّ. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه لا يَمْلِكُ ذلك، ومتى اخْتارَه، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فيهما؛ لأنَّه أمْكَنَه أخْذُ المَبِيعِ كلِّه، فلم يَمْلِكْ أخْذَ بعضِه، كما لو كان شِقْصًا واحِدًا. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ، وبعضُ الشافعيَّةِ. ولَنا، أنَّه يَسْتَحِقُّ كلُّ واحِدٍ منهما بسَبَبٍ غيرِ الآخَرِ، فجَرَى مَجْرَى الشَّرِيكَين، ولأنَّه لو جَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ الواحِدِ لوَجَبَ -إذا كانا شَرِيكَين، فتَرَكَ أحَدُهُما شُفْعَتَه- أن يكونَ للآخَرِ أخْذُ الكلِّ، والأمْرُ بخِلافِه.

2406 - مسألة: (وإن باع شقصا وسيفا، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن. ويحتمل أن لا يجوز)

وَإنْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيفًا، فَلِلشَّفِيعِ أخْذُ الشِّقْص بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2406 - مسألة: (وإن باعَ شِقْصًا وسَيفًا، فللشَّفِيعِ أخْذُ الشِّقْصِ بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ) إذا باع شِقْصًا مَشْفُوعًا ومعه ما لَا شُفْعَةَ فيه، كالسَّيفِ، والثَّوْبِ، في عَقْدٍ واحِدٍ، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ في الشِّقْصِ بحِصَّتِه مِن الثَّمنِ دُونَ ما معه، فيُقَوَّمُ كلُّ واحِدٍ منهما، ويُقْسَمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهما، فما يَخُصُّ الشِّقْصَ يَأْخُذُ به الشَّفِيعُ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ؛ لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ صَفْقَةُ (¬1) المُشْتَرِي، وفي ذلك إضْرارٌ به، أشْبَهَ ما لو أرادَ أخْذَ بعضِ الشِّقْصِ. وقال مالكٌ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فيهما؛ لذلك. ولَنا، أنَّ السَّيفَ لا شُفْعَةَ فيه، ولا هو تابعٌ لما فيه الشُّفْعَةُ، فلم يُؤْخَذْ بالشُّفْعَةِ، كما لو أفْرَدَه، والضَّرَرُ اللَّاحِقُ بالمُشْتَرِي هو ألْحَقَه بنَفْسِه لجَمْعِه في العَقْدِ بينَ ما تَثْبُتُ فيه الشُّفْعَةُ وما لا تَثْبُتُ، ولأنَّ في الأخْذِ بالكُلِّ إضْرارًا بالمُشْتَرِي أيضًا؛ لأنَّه رُبَّما كان غَرَضُه في إبْقاءِ السَّيفِ له، ففي أخْذِه منه إضْرارٌ به مِن غيرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيه. ¬

(¬1) في م: «شفعة».

2407 - مسألة: (وإن تلف بعض المبيع، فله أخذ الباقي بحصته من الثمن. وقال ابن حامد: إن كان تلفه بفعل الله تعالى، فليس له أخذه إلا بجميع الثمن)

وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ، فَلَهُ أخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالى، فَلَيسَ لَهُ أَخْذُهُ إلا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2407 - مسألة: (وإن تَلِف بعضُ المَبِيعِ، فله أخْذُ الباقِي بحِصَّتِه مِن الثَّمَنِ. وقال ابن حامِدٍ: إن كان تَلَفُه بفِعْلِ اللهِ تِعالى، فليس له أخْذه إلَّا بجَمِيعِ الثَّمَن) إذا تَلِف الشِّقْصُ أو بعضُه في يَدِ المُشْتَرِي، فهو مِن ضَمانِه؛ لأنَّه مِلْكُه تَلِف في يَدِه، فإن أرادَ الشَّفِيعُ الأخْذَ إذا تَلِف بعضُه، أخَذَ المَوْجُودَ بحِصَّتِه مِن الثَّمنِ، سَواءٌ كان التَّلَفُ بفِعْلِ اللهِ تَعالى أو بفِعْلِ آدَمِيٍّ، وسَواءٌ تَلِفَ باخْتِيارِ المشْتَرِي؛ كنَقْضِه البِنَاءَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بغيرِ اخْتِيارِه، مثلَ أنِ انْهَدَمَ. ثم إن كانتِ الأنْقاضُ (¬1) مَوْجُودَةً، أخَذَها مع العَرْصَةِ بالحِصَّةِ، وإن كانت مَعْدُومَةً، أخَذَ العَرْصَةَ (¬2) وما بَقِيَ مِن البِنَاءِ. هذا ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ في روايةِ ابنِ القاسِمِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والعَنْبرِيِّ، وأبي يُوسُفَ، وقولٌ للشافعيِّ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان التَّلَفُ بفِعْلِ آدَمِيٍّ، كما ذَكَرْنا، وإن كان بفِعْلِ اللهِ تَعالى؛ كانْهِدامِ البِناءِ بنَفْسِه، أو حَرِيقٍ، أو غَرَقٍ، فليس للشَّفِيعِ أخْذُ الباقِي إلَّا بكلِّ الثَّمَنِ، أو يَتْرُكُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وقولٌ للشافعيِّ؛ لأنَّه متى كان النَّقْصُ بفِعْلِ آدَمِيٍّ، رَجع بَدَلُه إلى المُشْتَرِي، فلا يَتَضرَّرُ، ومتى كان بغيرِ ذلك، لم يَرْجِعْ إليه شيءٌ، فيكونُ الأخْذُ منه إضْرارًا به، والضَّرَرُ لا يُزَالُ بالضَّرَرِ. ولَنا، أنَّه تَعَذَّرَ على الشَّفِيعِ أخْذُ الجميعِ، وقَدَر على أخْذِ البَعْضِ، فكان له بالحِصَّةِ، كما لو تَلِفَ بفعلِ آدَمِيٍّ سِوَاه، وكما لو كان له شَفِيعٌ آخَرُ، أو نقولُ: أخَذَ بعضَ ما دَخَل معه في العَقْدِ، فأخَذَه بالحِصَّةِ، كما لو كان معه سَيفٌ. وأمَّا الضَّرَرُ فإنَّما حَصَل بالتَّلَفِ، ولا صُنْعَ للشَّفِيعِ فيه، والذي يَأْخُذُه الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَه، فلا يَتَضرَّرُ المُشْتَرِي بأخْذِه. وإنَّما قُلْنا: يَأْخُذُ الأنْقاضَ (1) وإن كانت مُنْفَصِلَةً؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَه كان حال عَقْدِ البَيعِ، وفي تلك الحالِ كان مُتَّصِلًا اتِّصالًا ليس مَالُه إلى الانْفِصالِ، وانْفِصالُه بعدَ ذلك لا يُسْقِطُ حَقَّ الشفْعَةِ. ¬

(¬1) في م: «الأبعاض». (¬2) في م: «العوض».

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، أَنْ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ مِلْكٌ سَابِقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُفارِقُ الثَّمَرَةَ غيرَ المُؤَبَّرَةِ إذا أُبِّرَتْ، فإنَّ مَآلَها إلى الانْفِصالِ والظُّهُورِ، فإذا ظَهَرَتْ فقد انْفَصَلَتْ، فلم تَدْخُلْ في الشُّفْعَةِ. وإن نَقَصَتِ القِيمَةُ مع بَقاءِ صُورَةِ المَبِيعِ، مثلَ أنِ انْشَقَّ الحائِطُ، واسْتَهْدَمَ البِناءُ، وشَعِثَ الشَّجَرُ، وبارَتِ الأرْضُ، فليس له إلَّا أن يَأْخُذَ بجَمِيعِ الثَّمَنِ أو يَتْرُكَ؛ لأنَّ هذه المَعانِيَ لا يُقابِلُها الثَّمَنُ، بخِلافِ الأعْيانِ، ولهذا لو بَنَى المُشْتَرِي، أعْطاه الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنائِه، ولو زادَ المَبِيعُ زِيادَةً مُتَّصِلَةً، دَخَلَتْ في الشُّفْعَةِ. فصل: الشرطُ (الخامسُ، أن يكونَ للشَّفِيعِ مِلْكٌ سابِقٌ) لأنَّ الشُّفْعَةَ إنَّما ثَبَتَتْ للشَّرِيكِ لدَفْعِ الضَّرَرِ عنه، وإذا لم يَكُنْ له مِلْكٌ سابقٌ فلا ضَرَرَ عليه، فلا تَثْبُتُ له الشُّفْعَةُ.

2408 - مسألة: (فإن اشترى اثنان دارا صفقة واحدة، فلا شفعة لأحدهما على صاحبه)

فَإِنِ اشْتَرَى اثْنَانِ دَارًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلَا شُفْعَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا السَّبْقَ، فَتَحَالفَا، أَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَاهُمَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2408 - مسألة: (فإنِ اشْتَرَى اثْنان دارًا صَفْقَةً واحِدَةً، فلا شُفْعَةَ لأحَدِهما على صاحِبِه) لأنَّه لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما على صاحِبِه؛ لتَساويهِما. 2409 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما السَّبْقَ، فتَحالفَا، أو تَعارَضَتْ بَيِّنَتاهُما، فلا شُفْعَةَ لهما) إذا كانت دارٌ بينَ رَجُلَين، فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما على صاحِبِه أَنه يَسْتَحِقُّ ما في يَدِه بالشُّفْعَةِ، سُئِلَا: متى مَلَكْتُماهَا؟ فإن قالا: مَلَكْناها دَفْعَةً واحِدَةً. فلا شُفْعَةَ لأحَدِهما على الآخَرِ؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ إنَّما ثَبَتَتْ بمِلْكٍ سابِقٍ في مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ بعدَه. وإن قال كلُّ واحِدٍ منهما: مِلْكِي سابِقٌ. ولأحَدِهما بَيِّنَةٌ بما ادَّعاهُ، قُضِيَ له. وإن كان لكلِّ واحِدٍ (¬1) منهما بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ أسْبَقُهُما تارِيخًا، فإن شَهِدَتْ بَيِّنَةُ كلِّ واحِدٍ منهما بسَبْقِ مِلْكِه وتَجَدُّدِ مِلْكِ صاحِبِه، تَعارَضَتَا. وإن لم يَكُنْ لواحِدٍ منهما بَيِّنَةٌ، سَمِعْنا دَعْوَى السّابِقِ، وسَألْنا خَصْمَه، فإن أنْكَرَ، فالقَوْلُ قولُه مع يَمينِه، فإن حَلَف، سَقَطَتْ دَعْوَى الأوَّلِ، ثم نَسْمَعُ دَعْوَى الثاني على الأوَّلِ، فإن أنْكَرَ وحَلَف، سَقَطَتْ دَعْواهُما جَمِيعًا. وإنِ ادَّعَى الأوَّلُ فَنَكَل الثانِي عن اليَمِينِ، قَضَينَا عليه، ولم نسْمَعْ دَعْواه؛ لأنَّ خَصْمَه قد اسْتَحَقَّ مِلْكَه. وإن حَلَف الثاني ونَكَل ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2410 - مسألة: (ولا شفعة بشركة الوقف، في أحد الوجهين)

وَلَا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ الْوَقْفِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوَّلُ، قَضَينا عليه. 2410 - مسألة: (ولا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ الوَقْفِ، في أحَدِ الوَجْهَين) ذَكَرَه القاضِيَان ابنُ أبي مُوسَى، وأبو يَعْلَى. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّه لا يُؤْخَذُ بالشُّفْعَةِ، فلا تَجِبُ به، كالمُجاورِ وما لا يَنْقَسِمُ. ولأنَّنا إن قُلْنا: هو غيرُ مَمْلُوكٍ. فالمَوْقُوفُ عليه غيرُ مالكٍ. وإن قُلْنا: هو مَمْلُوكٌ. فمِلْكُه غيرُ تامٍّ؛ لأنَّه لا يُبيح (¬1) إباحَةَ التَّصَرُّفِ في الرَّقَبَةِ، فلا يَمْلِكُ به مِلْكًا تامًّا. وقال أبو الخَطّابِ: إن قُلْنا: هو مَمْلُوكٌ. وَجَبَتْ به الشُّفْعَةُ؟؛ لأنَّه مَمْلُوكٌ بِيعَ في شَرِكَتِه شِقْصٌ، فوَجَبَتْ به الشُّفْعَةُ، كالطِّلْقِ (¬2)، ولأنَّ الضَّرَرَ يَنْدَفِعُ عنه بالشُّفْعَةِ، فوَجَبَتْ فيه، كوُجُوبِها في الطِّلْقِ، وإنَّما لم يَسْتَحِقَّ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ الأخْذَ بها بَيعٌ، وهو مِمّا لا يَجُوزُ بيعُه. ¬

(¬1) في الأصل: «يصح». (¬2) لعله أراد به غير الوقف.

فَصْلٌ: وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الطَّلَبِ بِوَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ. نَصَّ عَلَيهَا. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لَا تَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وإن تَصَرَّفَ المُشْتَرِي في المَبِيع قبلَ الطَّلَبِ بوَقْفٍ أو هِبَةٍ، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ. نَصَّ عليه) في رِوايَةِ عليِّ بنِ سعيدٍ، وبكرِ بنِ محمدٍ. وحُكِيَ ذلك عنِ الماسَرْجِسِيِّ (¬1) في الوَقْفِ؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ إنَّما تَثْبُتُ في المَمْلُوكِ، وقد خرَج بهذا عن كَوْنِه مَمْلُوكًا. قال ابنُ أبي مُوسَى: مَن اشْتَرَى دارًا فجَعَلَها مَسْجِدًا، فقد اسْتَهْلَكَها، ولا شُفْعَةَ فيها. ولأنَّ في الشُّفْعَةِ ههُنا إضْرارًا بالمَوْهُوبِ له، والمَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّ مِلْكَه يَزُولُ عنه بغيرِ عِوَضٍ، ولا يُزَالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، بخِلافِ البَيعِ، فإنَّه إذا فَسَخ ¬

(¬1) في حاشية الأصل، ر 1، ر 2: «الماسرجسي من الشافعية». وهو محمد بن علي بن سهل النيسابوري الماسرجسي أبو الحسن، شيخ القاضي أبي الطيب الطبري، كان إماما من الفقهاء الشافعية من أعلم الناس بالمذهب وفروع المسائل، توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو ابن ست وثمانين سنة. طبقات الشافعية (للأسنوي) 2/ 380، 381. تهذيب الأسماء 2/ 212 - 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيعَ الثانِيَ، رَجَع المُشْتَرِي الثاني بالثَّمَنِ الذي أُخِذَ منه، فلا يَلْحَقُه ضَرَرٌ، ولأنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ ههُنا يُوجِبُ رَدَّ العِوَضِ إلى غيرِ المالِكِ وسَلْبَه عن المالِكِ، وفي ذلك ضَرَرٌ، فيكونُ مَنْفِيًّا. وقال أبو بكرٍ: للشَّفِيعِ فسْخُ ذلك وأخْذُه بالثَّمَنِ الذي وَقَع به البَيعُ. وهذا قولُ مالكٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ (¬1)، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأن الشَّفِيعَ يَمْلِكُ فَسْخَ البَيعِ الثاني والثالِثِ مع إمْكانِ الأخْذِ بهما، فَلأنْ يَمْلِكَ فسْخَ عَقْدٍ لا يُمْكِنُه الأخْذُ به أوْلَى، ولأنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أسْبَقُ، وجَنَبَتُه أقْوَى، فلم يَمْلِكِ المُشْتَرِي تَصَرفًا يُبْطِلُ حَقَّه، ولا يَمْتَنِعُ أن يَبْطُلَ الوَقْفُ لأجْلِ حَقِّ الغَيرِ، كما لو وَقَف المَرِيضُ أمْلاكَه وعليه دَينٌ، فإنَّه إذا مات رُدَّ الوَقْفُ إلى الغُرَماءِ والوَرَثَةِ فيما زادَ على ثُلُثِه، بل لهم إبْطالُ العِتْقِ، والوَقْفُ أوْلَى. فإذا قُلْنا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، أخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِمَّن هو في يَدِه، ويَفْسَخُ عَقْدَه، ويَدْفَع الثمَنَ إلى المُشْتَرِي. وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه يكونُ للمَوْهُوبِ له؛ لأَنه يَأْخُذُ مِلْكَه. ولَنا، أنَّ الشَّفِيعَ يُبْطِلُ الهِبَةَ، ويَأْخُذُ الشِّقْصَ بِحُكْم العَقْدِ الأوَّلِ، ولو لم يَكُنْ وَهَب كان الثَّمَنُ له، فكذلك بعدَ الهِبَةِ المَفْسُوخَةِ.

2411 - مسألة: (وإن باع فللشفيع الأخذ بأي البيعين شاء، فإن أخذ بالأول، رجع الثاني على الأول)

وَإِنْ بَاعَ فَلِلشَّفِيعِ الأْخْذُ بأْيِّ الْبَيعَينِ شَاءَ، فَإِن أَخَذَ بِالأَوَّلِ، رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2411 - مسألة: (وَإِنْ بَاعَ فَلِلشَّفِيعِ الأْخْذُ بأْيِّ الْبَيعَينِ شَاءَ، فَإِن أَخَذَ بِالأَوَّلِ، رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الأَوَّلِ) إذا تَصَرَّفَ المُشْتَرِي في المَبِيعِ قبلَ أخْذِ الشَّفِيعِ أو قبلَ عِلْمِه، صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه مَلَكَه، وصَحَّ قَبْضُه له، ولم يَبْقَ إلا أنَّ الشَّفِيعَ مَلَك أن يتَمَلَّكَه عليه، وذلك لا يَمْنَعُ مِن تَصَرُّفِه، كا لو كان أحَدُ العِوَضَين في البَيعِ مَعِيبًا (¬1)، لم يَمْنَعِ التَّصَرُّف في الآخرِ، والمَوْهُوبُ له يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فِي الهِبَةِ. وإن كان الواهِبُ مِمَّن له الرُّجُوعُ فيه، فمتى تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا تَجِبُ به الشُّفْعَةُ، كالبَيعِ، فللشَّفِيعِ الخِيارُ، إن شاء فَسَخ البَيعَ الثانيَ وأخَذَه بالبيعِ الأوَّل بثَمَنِه؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ له قبلَ تَصَرُّفِ المُشْتَرِي، وإن شاءَ أمْضَى تَصَرفَه وأخَذَ بالشُّفْعَةِ مِن المُشْتَرِي الثاني؛ لأنَّه شَفِيعٌ في العَقْدَين، فكان له الأخْذُ بأَيِّهما شاءَ. وإن تَبايَعَ ذلك ثلاثةٌ، فله أن يَأْخُذَ بالبَيعِ الأوَّلِ، ويَنْفَسِخُ العَقْدان الآخَران، وله أن يَأْخُذَه بالثاني، ويَنْفَسِخُ الثالِثُ وحدَه، وله أن يَأْخُذَه بالثالِثِ، ولا يَنْفَسِخُ شيءٌ مِن العُقُودِ، فإذا أخَذَه مِن الثالِثِ، دَفَع إليه ¬

(¬1) في م: «معينا».

2412 - مسألة: (وإن فسخ البيع بعيب أو إقالة أو تحالف،

وَإنْ فُسِخَ الْبَيعُ بِعَيبٍ أوْ إِقَالةٍ أَوْ تَحَالُفٍ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنَ الَّذي اشْتَرَى به، ورَجَع الثالِثُ عليه بما أعْطاه؛ لأنَّه قد انْفَسَخَ عَقْدُه وأُخِذَ الشِّقْصُ منه، فرَجَعَ بثَمَنِه على الثاني؛ لأنَّه أخَذَه منه، وإن أخَذَ بالبَيعِ الأوَّلِ، دَفَع إلى المُشْتَرِي الأوَّلِ الثَّمَنَ الَّذي اشْتَرَى به، وانْفَسخَ عَقْدُ الآخَرَين، ورَجَع الثالِثُ على الثاني بما أعْطاه، والثاني على الأوَّلِ بما أعْطاهُ، فإن كان الأوَّلُ اشْتَراه بعَشَرةٍ، ثم اشْتَراه الثاني بعِشْرِين، ثم اشْتَراه الثالِثُ بثَلاثِينَ، فأخَذَه بالبَيعِ الأوَّلِ، دَفَع إلى الأوَّلِ عَشَرَةً، وأخَذَ [الثّاني مِن الأوَّلِ] (¬1) عِشْرِينَ، وأخَذَ الثالِثُ مِن الثاني ثَلاثِينَ؛ لأْنَّ الشِّقْصَ إنَّما يُؤْخَذُ مِن الثالِثِ؛ لكَوْنِه في يَدِه، وقد انْفَسَخَ عَقْدُه، فيَرْجِعُ بثَمَنِه الَّذي وَرِثَه. ولا نَعْلَم في هذا خِلافًا. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعيُّ، والعَنْبَرِي، وأصحابُ الرَّأْي. وما كان في مَعْنَى البَيعِ مِمّا تَجبُ به الشُّفْعَةُ، فهو كالبَيعِ، على ما ذَكَرْنا، وإن كان مِمّا لا تجِبُ به الشَفْعَةُ، فهو كالهِبَةِ والوَقْفِ، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ فيه. والله أعْلَمُ. 2412 - مسألة: (وإن فُسِخَ البَيعُ بعَيبٍ أو إقالةٍ أو تَحالُفٍ، ¬

(¬1) في م: «الأول من الثاني».

وَيَأْخُذُهُ فِي التَّحَالفِ بِمَا حَلَفَ عَلَيهِ الْبَائِعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فللشَّفِيعِ أخْذُه، وَيَأْخُذُهُ فِي التَّحَالفِ بِمَا حَلَفَ عَلَيهِ الْبَائِعُ) إذا رَدَّ المُشْتَري الشِّقْصَ بعَيبٍ أو قايَلَ البائِعَ، فللشَّفِيعِ فَسْخُ الإقالَةِ والرَّدِّ والأخْذ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ حَقَّه سابِقٌ عليهما، ولا يُمْكِنُه الأَخْذ معهما. وإن تَحالفَا على الثَّمَنِ وفَسَخَا البَيعَ، فللشَّفِيعِ أن يَأْخذَ الشِّقْصَ بما حَلَف عليه البائِع؛ لأن البائِعَ مُقِرٌّ بالبَيعِ بالثَّمَنِ الَّذي حَلَف عليه، ومُقِرٌّ للشَّفِيعِ باسْتِحْقاقِ الشُّفْعَةِ بذلك، فإذا بَطَل حَقُّ المُشْتَرِي بإنْكارِه، لم يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ بذلك، وله أن يُبْطِلَ فَسْخَهُما ويَأْخُذَ؛ لأنَّ حَقَّه أسْبَق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَرَى شِقْصًا بعَبْدٍ»، ثم وجَد بائِعُ الشِّقْصِ بالعَبْدِ عَيبًا، فله رَدُّ العَبْدِ واسْتِرْجاعُ الشِّقْصِ، ويُقَدَّمُ على حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لأنَّ في تَقْدِيمِ حَقِّ الشَّفِيعِ إضْرارًا بالبائِع، بإسْقاطِ حَقِّه مِن الفَسْخِ الَّذي اسْتَحَقَّه، والشُّفْعَةُ تَثْبُتُ لإزايَةِ الضَّرَرِ، فلا تَثْبُتُ على وَجْهٍ يَحْصُلُ به الضَّرَرُ؛ فإن الضَّرَرَ لا يُزَالُ بالضَّرَر. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأن حَقَّه أسْبَقُ، فوَجَبَ تَقْدِيمُه، كما لو وَجَد المُشْتَرِي بالشِّقْصِ عَيبًا فرَدَّه. ولَنا، أنَّ في الشُّفْعَةِ إبْطال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّ البائِعِ، وحَقُّه أسْبَقُ؛ لأنَّه اسْتَنَدَ إلى وُجُودِ العَيبِ، وهو مَوْجُودٌ حال البَيعِ، والشُّفْعَةُ ثَبَتَتْ بالبَيعِ، فكان حَقُّ البائِعِ سابقًا، وفي الشُّفْعَةِ إبْطالُه، فلم تَثْبُتْ، ويُفارِقُ ما إذا كان الشِّقْصُ مَعِيبًا، فإنَّ حَقَّ المُشْتَرِي إنَّما هو في اسْتِرْجاعِ الثَّمَنِ، وقد تَحَصَّلَ له مِن الشَّفِيعِ، فلا فائِدَةَ في الرَّدِّ، وفي مسألتِنا حَقُّ البائِعِ في اسْتِرْجاعِ الشِّقْصِ، ولا يَحْصُلُ ذلك مع الأَخْذِ بالشفْعَةِ، فافْتَرَقَا. فإن لم يَرُدَّ البائِعُ العَبْدَ المَعِيبَ حتَّى أخَذَ الشَّفِيعُ، كان له رَدُّ العَبْدِ، ولم يَمْلِكِ اسْتِرْجاعَ المَبِيعِ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَه بالأخْذِ، فلم يَمْلِكِ البائِعُ إبْطال مِلْكِه، كما لو باعَه المُشْتَرِي لأجْنَبِيٍّ، فإن الشُّفْعَةَ بَيعٌ في الحَقِيقَةِ، ولكنْ يَرْجِعُ بقِيمَةِ الشِّقْصِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ التَّالِفِ، والمُشْتَرِي قد أخَذَ مِن الشَّفِيعِ قِيمَةَ العَبْدِ، فهل يَتَراجَعانِ؟ فيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا يَتَراجَعانِ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ أخَذَ بالثَّمَنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الَّذي وَقَع عليه العَقْدُ، وهو قِيمَةُ العَبْدِ صَحِيحًا لا عَيبَ فيه، بدَلِيلِ أنَّ البائِعَ إذا عَلِمَ بالعَيبِ مَلَك رَدَّه. ويَحْتَمِلُ أن يَأخُذَه بقِيمَتِه مَعِيبًا؛ لأنَّه إنَّما أعْطَى عَبْدًا مَعِيبًا، فلا يَأْخُذُ قِيمَةَ غيرِ ما أعْطَى. والثاني، يَتَراجَعان؛ لأنَّ الشَّفِيعَ إنَّما يَأْخُذُ بالثَّمَنِ الَّذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ، والذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ قِيمَةُ الشِّقْصِ. فإذا قُلْنا: يَتراجعان. فأيُّهما كان ما دَفَعَه أكْثَرَ، رَجَع بالفَضْلِ على صاحِبِه، وإن لم يَرُدَّ البائِعُ العَبْدَ، ولكنْ أخَذَ أَرْشَه، لم يَرْجِعِ المُشْتَرِي على الشَّفِيعِ بشيءٍ؛ لأنَّه إنَّما دَفَع إليه قِيمَةَ العَبْدِ غيرَ مَعِيبٍ. وإن أدَّى قِيمَتَه مَعِيبًا، رَجَع المُشْتَرِي عليه بما أدَّى مِن أرْشِه. وإن عَفَا عنْه ولم يَأْخُذْ أرْشًا، لم يَرْجِعِ الشَّفِيعُ عليه بشيءٍ؛ لأنَّ البَيعَ لازِم مِن جِهَةِ المُشْتَرِي، لا يَمْلِكُ فسْخَه، فأشْبَهَ ما لو حَطَّ عنه بعضَ الثَّمَنِ بعدَ لُزُومِ العَقْدِ. وإن عادَ الشِّقْصُ إلى المُشْتَرِي ببَيع أو هِبَةٍ أو إرْثٍ أو غيرِه، فليس للشَّفِيعِ أخْذُه بالبَيعِ الأوَّلِ؛ لأنَّ مِلْكَ المُشْتَرِي زال عنه، وانْقَطَعَ حَقُّهِ منه، وانْتَقَلَ حَقُّه إلى القِيمَةِ، فإذا أخَذَها لم يَبْقَ له حَق، بخِلافِ ما لو غَصَب شيئًا لم يَقْدِرْ على رَدِّه فأدَّى قِيمَتَه ثم قَدَر عليه، فإَّنه يَرُدُّه؛ لأنَّ مِلْكَ المَغْصُوبِ منه لم يَزُلْ عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كان ثَمَنُ الشِّقْصِ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، فتَلِفَ قبلَ قَبْضِه، بَطَل البَيعُ، وبَطَلَتِ الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ، فتَعَذَّرَ إمْضاءُ العَقْدِ، فلم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ، كما لو فَسَخ البَيعَ في مُدَّةِ الخِيارِ، بخِلافِ الإِقالَةِ والرَّدِّ بالعَيبِ، وإن كان الشَّفِيعُ قد أخَذَ الشِّقْصَ، فهو كما لو أخَذَه في المسأْلَةِ التي قبلَها؛ لأنَّ لمُشْتَرِي الشِّقْصِ التَّصرُّفَ فيه قبلَ تَقْبِيضِ ثَمَنِه، فأشْبَهَ ما لو اشْتَراه منه أجْنَبِيٌّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اشْتَرَى شِقْصًا بعَبْدٍ أو ثَمَن مُعَيَّن، فخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، فالبَيعُ باطِل، ولا شُفْعَةَ فيه؛ لأنَّها إنَّما تَثْبُتُ في عَقْدٍ يَنْقُلُ المِلْكَ إلى المُشْتَرِي، وهو العَقْدُ الصَّحِيحُ، فأمّا الباطِلُ فوُجُودُه كعَدَمِه. فإن كان الشَّفِيعُ قد أخَذَ بالشُّفْعَةِ، لَزِمَه رَدُّ ما أخَذَ على البائِعِ، ولا يَثْبُتُ ذلك إلَّا بِبَينةٍ أو إقْرارٍ مِن الشَّفِيعِ والمُتَبايعَين. وإن أقَرَّ المُتَبايعان وأنْكَرَ الشَّفِيعُ، لم يُقْبَلْ قَوْلُهما عليه، وله الأخْذُ بالشُّفْعَةِ، ويُرَدُّ العَبْدُ إلى صاحِبِه، ويَرْجِعُ البائِعُ على المُشْتَرِي بقِيمَةِ الشِّقْصِ. وإن أقَرَّ الشَّفِيعُ أو المُشْتَرِي دُونَ البائِعِ، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ، ويَجِبُ على المُشْتَرِي رَدُّ قِيمَةِ العَبْدِ على صَاحِبِه، ويَبْقَى الشِّقْصُ معه، يَزْعُمُ أنَّه للبائِعِ، والبائِعُ يُنْكِرُه، ويَدَّعِي عليه وُجُوبَ رَدِّ العَبْدِ، والمُشْتَرِى يُنْكِرُه، فيَشْتَرِي الشِّقْصَ منه، ويَتَبارءانِ. وإن أقَرَّ الشَّفِيعُ والبائِعُ وأنْكَرَ المُشْتَرِي، وَجَب على البائِعِ رَدُّ العَبْدِ على صاحِبِه، ولم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ، ولم يَمْلِكِ البائعُ مُطالبَةَ

2413 - مسألة: (وإن أجره)

وَإنْ أَجَرَهُ، أخَذَهُ الشَّفِيعُ، وَلَهُ الأُجْرَةُ مِنْ يَوْمِ أَخْذِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي بشيءٍ؛ لأن البَيعَ صَحِيحٌ في الظاهِرِ، وقد أدَّى ثَمَنَه الَّذي هو مِلْكُه في الظاهِرِ. وإن أقَرَّ الشَّفِيعُ وحدَه، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ، ولا يَثْبُتُ شيء مِن أحْكامِ البُطْلانِ في حَقِّ المُتَبايعَين. فأمّا إنِ اشْتَرَى الشِّقْصَ بثَمَنٍ في الذِّمَّةِ ثم نَقَد الثَّمَنَ، فبانَ مُسْتَحَقًّا، كانتِ الشُّفْعَةُ واجِبَةً؛ لأن البَيعَ صَحِيحٌ، فإن تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمَنِ مِن المُشْتَرِي لإعْسارٍ أو غيرِه، فللبائِعِ فَسْخُ البَيعِ، ويُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ؛ لأنَّ بالأَخْذِ بها يَحْصُلُ للمُشْتَرِي ما يُؤَدِّيه ثَمَنًا، فتَزُولُ عُسْرَتُه، ويَحْصُلُ الجَمْعُ بينَ الحَقَّينِ، فكان أوْلَى. فصل: وإذا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ، وقَضَى القاضِي بها، والشِّقْصُ في يَدِ البائِعِ، ودَفَع الثَّمَنَ إلى المُشْتَرِي، فقال البائِعُ للشَّفِيعِ: أقِلْنِي. فأقالهُ، لم تَصِحَّ الإقالةُ؛ لأنَّها تَصِحُّ بينَ المُتَبايِعَين، وليس بينَ الشَّفِيعِ والبائِعِ بَيعٌ، وإنَّما هو مُشْتَرٍ مِن المُشْتَرِي، فإن باعَه إيّاهُ، صَحَّ؛ لأن العَقَارَ يَجُوزُ التَّصرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه. 2413 - مسألة: (وإن أجَره) المُشْتَرِي (أخَذَه الشَّفِيعُ، وله الأُجْرَةُ مِن يومِ أخْذِه) لأنَّه صار مِلْكَه بأخْذِه.

2414 - مسألة: (وإن استغله)

وَإِنِ اسْتَغَلَّهُ، فَالْغَلَّةُ لَهُ، وَإِنِ أخَذَهُ الشَّفِيعُ وَفِيهِ زَرْعٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2414 - مسألة: (وإنِ اسْتَغلَّهُ) المُشْتَرِي (فالغَلَّةُ له) لأنَّها نَماءُ مِلْكِه. 2415 - مسألة: (وَإِنِ أخَذَهُ الشَّفِيعُ وَفِيهِ زَرْعٌ أو ثَمَرَةٌ ظاهِرَةٌ،

أو ثَمَرٌ ظَاهِرٌ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي مُبَقًّى إلَى الْحَصَادِ وَالْجِذَاذِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي مُبَقَّاةٌ إلَى الْحَصَادِ وَالْجِذَاذِ) إذا زَرَع المُشْترِي الأرْضَ، فللشفِيعِ الأخْذُ بالشُّفْعَةِ، ويَبْقَى زَرْعُ المُشْتَرِي إلى الحَصَادِ؛ لأنَّ ضَرَرَهُ لا يَتَبَاقَى، ولا أُجْرَةَ عليه؛ لأنَّه زَرَعَه في مِلْكِه، ولأنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الأرْضَ وفيها زَرْع للبائِعِ، فكان له مُبَقًّى إلى الحَصَادِ بلا أُجْرَةٍ، كغيرِ المَشْفُوعِ. وإن كان في الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظاهِرٌ أثْمَرَ في مِلْكِ المُشْتَرِي، فهو له مُبَقًّى إلى الجِذاذِ، كالزَّرْعَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا نَما المَبِيعُ في يَدِ المُشْتَرِي، لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحَدُهما، أن يكونَ نَمَاءً مُتَّصِلًا، كالشَّجَرِ إذا كَبِرَ، أو ثَمَرَةٍ غيرِ ظاهِرَةٍ، فإنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُه بزِيادَتِه؛ لأنَّها زِيادَةٌ غيرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فتَبِعَتِ الأصْلَ، كما لو رُدَّ بعَيبٍ أو خِيارٍ أو إقالةٍ. فإن قيل: فلِمَ لا يَرْجِعُ الزَّوْجُ في نِصْفِه زائِدًا إذا طَلَّقَ قبلَ الدُّخُولِ؟ قُلْنا: لأنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ على الرُّجُوعِ بالقِيمَةِ إذا فاتَه الرُّجُوعُ في العَينِ، وفي مسألتِنا إذا لم يَرْجِعْ في الشِّقْصِ سَقَطَ حَقُّه مِن الشُّفْعَةِ، فلم يَسْقُطْ حَقُّه مِن الأصْلِ لأجْلِ ما حَدَث مِن البائِعِ، وَإذا أخَذَ الأصْلِ تَبِعَهُ نَماؤُه المُتَّصِلُ، كما ذَكَرْنا في الفُسُوخِ كلِّها. الحالُ الثاني، أن تكون الزِّيادَةُ مُنْفَصِلَةً، كالغَلَّةِ، والأُجْرَةِ، والطَّلْعِ المُؤَبَّرِ، والثَّمَرَةِ الظاهِرَةِ، فهي للمُشْتَرِي؛ لأنَّها حَدَثَتْ في مِلْكِه، وتكونُ مُبَقّاةً في رُءُوسِ النَّخْلِ إلى الجِذَاذِ؛ لأنَّ أخْذَ الشَّفِيعِ مِن المُشْتَرِي شِراءٌ ثانٍ، فيكونُ حُكْمُه حُكْمَ ما لو اشْتَرَى برِضَاه. وإنِ اشْتَراهُ وفيه طَلْعْ غيرُ مُؤَبَّرٍ، فأبَّدرَه ثم أخَذَه الشَّفِيعُ، أَخَذَ الأَصْلَ دُونَ الثَّمَرةِ، ويَأْخُذُ الأرضَ والنَّخِيلَ بحِصَّتِهما مِن الثَّمَنِ، كما لو كان المَبِيعُ شِقْصًا وسَيفًا (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

2416 - مسألة: (وإنا قاسم المشتري وكيل الشفيع، أو قاسم الشفيع؛ لكونه أظهر له زيادة في الثمن أو نحوه، وغرس أو بنى، فللشفيع أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء ويملكه، أو يقلعه ويضمن النقص. فإن اختار)

وَإنْا قَاسَمَ الْمُشْتَرِي وَكِيل الشَّفِيعِ، أو قَاسَم الشَّفِيعَ؛ لِكَوْنِهِ أظْهَرَ لَهُ زِيَادَةً في الثَّمَنِ أوْ نَحْوهِ، وَغرَسَ أَوْ بَنَى، فَلِلشَّفِيعِ أنْ يَدْفَعَ إِلَيهِ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَيَمْلِكَهُ، أوْ يَقْلَعَهُ وَيَضْمَنَ النَّقْصَ. فَان اخْتَارَ أخْذَهُ وَأرَادَ الْمُشْتَرِي قَلْعَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2416 - مسألة: (وَإنْا قَاسَمَ الْمُشْتَرِي وَكِيل الشَّفِيعِ، أو قَاسَم الشَّفِيعَ؛ لِكَوْنِهِ أظْهَرَ لَهُ زِيَادَةً في الثَّمَنِ أوْ نَحْوهِ، وَغرَسَ أَوْ بَنَى، فَلِلشَّفِيعِ أنْ يَدْفَعَ إِلَيهِ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَيَمْلِكَهُ، أوْ يَقْلَعَهُ وَيَضْمَنَ النَّقْصَ. فَإن اخْتَارَ) الشَّفِيعُ (أخْذَهُ وَأرَادَ الْمُشْتَرِي قَلْعَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ) بالقَلْعِ. وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يُتَصَوَّرُ بِنَاءُ المُشْتَرِي وغَرْسُه في الشِّقْصِ المَشْفُوعِ على وَجْهٍ مُباحٍ في مَسائِلَ؛ منها، أن يُظْهِرَ المُشْتَرِي أنَّه اشْتَراه بأكثرَ مِن ثَمَنِه، أو أنَّه وُهِبَ له، أو غيرُ ذلك مِمّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْنَعُ الشَّفِيعَ مِن الأخْذِ بها، فيَتْرُكَها ويُقَاسِمَه، ثم يَبْنِيَ المُشْتَرِي ويَغْرِسَ فيه. ومنها، أن يكونَ كائِبًا فيُقاسِمَه وَكِيلُه، أو صَغِيرًا فيُقاسِمَه وَلِيُّه، أو نحوَ ذلك، ثم يَقْدَمَ الغائِبُ، أو يَبْلُغ الصَّبِيُّ، فيَأْخُذَ بالشُّفْعَةِ. وكذلك إن كان غائِبًا أو صَغِيرًا، فطالبَ المُشْتَرِي الحاكِمَ بالقِسْمَةِ، فقاسَمَ، ثم قَدِم الغائِبُ، وبَلَغِ الصَّبِي، فأَخَذَ بالشُّفْعَةِ بعدَ غَرْسِ المُشْتَرِي وبنائِه، فإنَّ للمُشْتَرِي قَلْعَ غرْسِه وبِنَائِه، إِنِ اخْتَارَ ذلك؛ لأنَّه مِلْكُه، فإذا قَلَعَه، فليس عليه تَسْويَةُ الحَفْرِ ولا نَقْصُ الأرْضِ. ذَكَرَه القاضِي. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنه غَرَس وبَنَى في مِلْكِه، وما حَدَث مِن النَّقْص إنَّما حَدَثَ في مِلْكِه، وذلك مِمّا لا يُقابِلُه ثَمَن. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِي أنَّ عليه ضَمانَ النَّقْصِ الحاصِلِ بالقَلْعِ؛ لأنَّه اشْتَرَطَ في قَلْعِ الغَرْسِ والبِنَاءِ عَدَمَ الضَّرَرِ، وذلك لأنَّه نَقْصٌ دَخَل على مِلْكِ غيرِه لأجْلِ تَخْلِيضِ مِلْكِه، فلَزِمَه ضَمانُه، كما لو كَسَر مِحْبَرَةَ غيرِه لإخْراجِ دِينارِه منها. قولُهم: إنَّ النَّقْصَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَصَل في مِلْكِه. ليس كذلك؛ فإنَّ النَّقْصَ الحاصِلَ بالقَلْعِ إنَّما حَصَل في مِلْكِ الشَّفِيعِ. فأمَّا نَقْصُ الأرْضِ الحاصِلُ بالغَرْسِ والبِنَاءِ، فلا يَضْمَنُه، لِما ذَكَرُوه. فإن لم يَخْتَرِ المُشْتَرِي القَلْعَ، فللشَّفِيعِ الخِيَارُ بينَ ثَلاثةِ أشْياءَ؛ تَرْكِ الشُّفْعَةِ، وبينَ دَفْعِ قِيمَةِ الغِرَاسِ والبِنَاءِ، فيَمْلِكُه مع الأرْضِ، وبينَ قَلْعِ الغَرْسِ والبِنَاءِ، ويَضْمَنُ له. ما نقَصَ بالقَلْعِ. وبهذا قال الشَّعْبِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى، ومالكٌ، واللَّيث، والشافعيُّ، والبَتِّيُّ، وسَوَّارٌ، وإسْحاق. وقال حَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، والثَّوْرِي، وأصحابُ الرأي: يُكَلَّفُ المُشْتَرِي القَلْعَ، ولا شيءَ له؛ لأنَّه بَنَى فيما اسْتُحِقَّ عليه أَخْذُه، فأشْبَهَ الغاصِبَ، ولأنَّه بَنَى في حَقِّ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فأشْبَهَ ما لو كانت مُسْتَحَقَّةً. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرارَ» (¬1). ولا يَزُولُ الضَّرَرُ عنهما إلَّا بذلك، ولأنَّه بَنَى في مِلْكِه الَّذي مَلَك بَيعَه، فلم يُكَلَّفْ قَلْعَه مع الإِضْرارِ، كما لو لم يَكُنْ مَشْفُوعًا. وفارَقَ ما قاسُوا عليه، فإنَّه بَنَى في غيرِ مِلْكِه، ولأنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِرْقٌ ظالِمٌ، وليس لعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا يُمْكِنُ إيجابُ قِيمَتِه مُسْتَحِقًّا للبَقَاءِ في الأرْضِ؛ لأَنه لا يَسْتَحِقُّ ذلك، ولا قِيمَتَه مَقْلُوعًا؛ لأَنه لو وَجَبَتْ قِيمَتُه مَقْلُوعًا لوَجَبَ قَلْعُه، ولم يَضْمَنْ شيئًا، ولأَنه قد يكونُ مِمّا لا قِيمَةَ له إذا قَلَعَه. ولم يَذْكُرْ أصحابُنا كَيفِيَّةَ وُجُوبِ القِيمَةِ، فالظاهِرُ أنَّ الأرْضَ تُقَوَّمُ مَغْرُوسَة مَبْنِيَّةً، ثم تُقَوَّمُ خالِيةً منها، فيكونُ ما بينَهما قِيمَةَ الغَرْسِ والبِنَاءِ، فيَدْفَعُه الشَّفِيعُ إلى المُشْتَرِي إن أحَبَّ، أو ما نَقَص منه إنِ اخْتارَ القَلْعَ؛ لأنَّ ذلك هو الَّذي زادَ بالغَرْسِ والبِنَاءِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقَوَّمَ الغَرْسُ (¬1) والبِنَاءُ مُسْتَحِقًّا للتَّرْكِ بالأُجْرَةِ، أو لأخذِه بالقِيمَةِ إذا امْتَنَعا مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَلْعِه، فإن كان للغَرْسِ وَقتٌ يُقْلَعُ فيه فيكون له قِيمةٌ، وإن قُلِعَ قبلَه لم يَكنْ له قِيمَةٌ، أو تكون قِيمَتُه قَلِيلَةً، فاخْتارَ الشَّفِيعُ قَلْعَه قبلَ وَقتِه، فله ذلك؛ لأنَّه يَضْمَنُ النَّقْصَ، فيَنْجبرُ به ضَرَرُ المُشْتَرِي، سَواءٌ كَثُرَ النَّقْصُ أو قَلَّ، ويَعُودُ ضَرَرُ كَثْرَة النَّقْصِ على الشَّفِيعِ، وقد رَضِيَ بتَحَمُّلِه. وإن غرَس أو بَنَى مع الشَّفِيعِ أو وَكِيلِه. في المُشاعِ، ثم أخَذَه الشَّفِيعُ، فالحُكْمُ في أخْذِ نصِيبِه مِن ذلك كالحُكْمِ في أخْذِ جَمِيعِه بعدَ المُقاسَمَةِ.

2417 - مسألة: (وإن باع الشفيع ملكه قبل العلم لم تسقط شفعته، في أحد الوجهين، وللمشتري الشفعة فيما باعه الشفيع، في أصح الوجهين)

وَإنْ بَاعَ الشَّفِيعُ مِلْكَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَلِلْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ فيمَا بَاعَهُ الشَّفِيعُ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2417 - مسألة: (وَإنْ بَاعَ الشَّفِيعُ مِلْكَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَلِلْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ فيمَا بَاعَهُ الشَّفِيعُ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَين) وجُملَةُ ذلك، أنَّ الشَّفِيعَ إذا باعَ مِلْكَه عالِمًا بالحالِ، سَقَطَت شُفْعَتُه؛ لأَنه لم يَبْق له مِلْكٌ يَسْتَحِقُّ به، ولأنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لإِزالةِ الضَّرَرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاصِلِ بالشَّرِكَةِ عنه (¬1)، وقد زال ذلك ببَيعِه. وإن باعَ بعضَه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَسْقُطُ أيضًا؛ لأنَّها اسْتُحِقَّتْ بجَمِيعِه، وإذا باعَ بعضَه، سَقَط ما تَعَلَّقَ بذلك مِن الشُّفْعَةِ، فسَقَطَ باقِيها؛ لأنَّها لا تَتَبَعَّضُ، فيَسْقُطُ جَميعُها بسُقُوطِ بعضِها، كالرِّقِّ والنِّكَاحِ، وكما لو عَفَا عن بعْضِها. والثاني، لا تَسْقُطُ؛ لأنَّه قد بَقِيَ مِن نَصِيبِه ما يَسْتَحِقُّ به الشُّفْعَةَ في جَمِيعِ المَبِيعِ لو انْفَرَدَ، فكذلك إذا بَقِيَ. وللمُشْتَرِي الأوَّلِ الشُّفْعَةُ على الثانِي في المسألةِ الأُولَى، وفي الثانيةِ، إذا قُلْنا بسُقُوطِ شُفْعَةِ البائِعِ الأوَّلِ؛ لأنَّه شَرِيكٌ في المَبِيعِ. وإن قُلْنا: لا تَسْقُطُ شُفْعَةُ البائِعِ. فله أخْذُ الشِّقْصِ مِن المُشْتَرِي الأَوَّلِ. وهل للمُشْتَرِي الأوَّلِ شُفْعَةٌ علي المُشْتَرِي الثاني؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه شَرِيكٌ، فإنَّ المِلْكَ ثابِتٌ له، يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه بجَمِيعِ التَّصرُّفاتِ، ويَسْتَحِقُّ نَماءَه وفوائِدَه، واسْتِحْقاقُ الشُّفْعَةِ به مِن فَوائِدِه. والثاني، لا شُفْعَةَ له؛ لأنَّ مِلْكَه يُؤْخَذُ بها، فلا تُؤخَذُ الشُّفْعَةُ به، ولأنَّ مِلْكَهُ مُتَزَلْزِلٌ ضَعِيفٌ، فلا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ به لضَعْفِه. قال شيخُنا (¬1): والأَوَّلُ أقْيَسُ؛ فإنَّ اسْتِحْقاقَ أخْذِه منه لا يَمْنَعُ أن يَسْتَحِقَّ به الشُّفْعَةَ، كالصَّداقِ قبلَ الدُّخُولِ، والشِّقْصِ المَوْهُوبِ للوَلَدِ (¬2). فعلى هذا، للمُشْتَرِي الأوَّلِ الشُّفْعَةُ على المُشْتَرِي الثاني، سَواءٌ أُخِذَ منه المَبِيعُ بالشُّفْعَةِ أو لم يُؤْخَذ، وللبائِعِ الثاني إذا باعَ بعضَ الشِّقْصِ الأَخْذُ مِن المُشْتَرِي الأوَّلِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. فأمّا إن باعَ الشَّفِيعُ مِلْكَه قبلَ عِلْمِه بالبَيعِ الأوَّلِ، فقال القاضي: تَسْقُطُ شُفْعَتُه أيضًا؛ لِما ذَكَرْناه. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولأنَّه زال السَّبَبُ الَّذي يَسْتَحِقُّ به الشُّفْعَةَ، وهو المِلْكُ الَّذي يَخافُ الضَّرَرَ بسَبَبِه، فصارَ كمَن اشْتَرَى مَعِيبًا لا يَعْلَمُ عَيبَه حتَّى زال أو حتَّى باعَه. فعلى هذا، حُكْمُه حُكْمُ ما لو باعَ مع (¬3) عِلْمِه، سَواءٌ فيما إذا باعَ جَمِيعَه أو بعضَه. وقال أبو الخَطَّابِ: لا تَسْقُطُ شُفْعَتُه؛ لأنَّها ثَبَتَت له، ولم ¬

(¬1) في: المغني 7/ 460. (¬2) في م: «للولى. (¬3) في الأَصل: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوجَدْ منه رَضًا بتَرْكِها، ولا ما يَدُلُّ على إسْقاطِها، والأصْلُ بَقاؤُها؛ بخِلافِ ما إذا عَلِمَ، فإنَّ بَيعَه دَلِيلٌ على رِضَاه بتَرْكِها. فعلى هذا، للبائِع الثاني أخْذُ الشِّقْصِ مِن المشْتَرِي الأوَّلِ، فإن عَفَا عنه، فللمُشْتَرِي الأوَّلِ أخْذُ الشِّقْصِ مِن المُشْتَرِي الثاني. وإن أخَذَ منه، فهل للمُشْتَرِي الأوَّلِ (¬1) الأَخْذُ مِن الثاني؛ على وَجْهَين؛ أوْلَاهما، أنَّ له الأَخْذَ؛ لأنَّ مِلْكَه كان ثابِتًا حال البَيعِ ولم يُوجَدْ منه ما يَمْنَعُ ذلك. ¬

(¬1) زيادة من: م.

2418 - مسألة: (وإن مات الشفيع بطلت الشفعة إلا أن يموت بعد طلبها، فتكون لوارثه)

وَإنْ مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ إلا أنْ يَمُوتَ بَعْدَ طَلَبِهَا، فَتَكُونَ لِوَارِثِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2418 - مسألة: (وَإنْ مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ إلا أنْ يَمُوتَ بَعْدَ طَلَبِهَا، فَتَكُونَ لِوَارِثِهِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الشَّفِيعَ إذا ماتَ قبلَ الأخْذِ بالشُّفْعَةِ، فإن كان قبلَ الطَّلَبِ بها، سَقَطَتْ، ولا يَنْتَقِلُ إلى الوَرَثَةِ. قال أحمدُ: الموتُ يَبْطُلُ به ثلاثةُ أشْياءَ؛ الشُّفْعَةُ، والحَدُّ إذا ماتَ المَقْذُوفُ، والخِيارُ إذا ماتَ الَّذي اشْتَرَطَ الخِيَارَ، لم يَكُنْ للوَرَثَةِ هذه الثلاثةُ أشياء (¬1)، إنَّما هي بالطَّلَبِ، فإذا لم يَطْلُبْ، فليس تَجِبُ، إلَّا أن يُشْهِدَ أنِّي على حَقِّي مِن كذا وكذا، وأنِّي قد طَلَبْتُه. فإن ماتَ بعدَه، كان لوارِثِه الطَّلَبُ به. رُوِيَ سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بالمَوْتِ عن الحَسَنِ، وابنِ ¬

(¬1) في م: «أيضًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال مالكٌ، والشافعيُّ، والعَنْبَرِيُّ: يُورَثُ. قال أبو الخَطَّابِ: ويَتَخَرَّجُ لنا مثلُ ذلك؛ لأنَّه خِيَارٌ ثابِتٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ عن المالِ، فيُورَثُ، كخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. ولَنا، أنَّه حَقُّ فَسْخٍ ثَبَت لا لفواتِ جُزْءٍ، فلم يُورَثْ، كالرُّجُوعِ في الهِبَةِ، ولأنّه نوْعُ خِيَارٍ جُعِل للتَّمْلِيكِ، أشْبَهَ خِيارَ القَبُولِ، فأمّا خِيارُ الردِّ بالعَيبِ، فإنَّه لاسْتِدْراكِ جُزْءٍ فاتَ مِن المَبِيعِ. فصل: فإن ماتَ بعدَ طَلَب الشُّفْعَةِ، انْتَقَلَ حَقُّ المُطالبَةِ بالشُّفْعَةِ إلى الوَرَثةِ، قَوْلًا واحِدًا. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وقد ذَكَرْنا نَصَّ أحمدَ عليه؛ لأنَّ الحَقَّ يَتَقَررُ بالطَّلَبِ، ولذلك لا يَسْقُطُ بتَأْخِيرِ الأَخذِ (¬1) بعدَه، وقبلَه يَسْقُطُ. وقال القاضي: يَصِيرُ الشِّقْصُ مِلْكًا للشَّفِيعِ بنَفْسِ المُطالبَةِ. والأوَّلُ أصَحُّ، فإنَّه لو صارَ مِلْكًا للشَّفِيعِ، لم يَصِحَّ العَفْوُ عن الشُّفْعَةِ بعدَ طَلَبِها، كما لا يَصِحُّ العَفْوُ عنها بعدَ الأخذِ بها. فإذا ثَبَت هذا، فإنَّ الحَقَّ يَنْتَقِلُ إلى جَمِيعِ الوَرَثَةِ على قَدْرِ إرْثهم؛ لأنَّه حَقٌّ مالِيٌّ مَوْرُوثٌ، ¬

(¬1) في م: «الحق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَنْتَقِلُ إلى الجَمِيعِ، كسائِرِ الحقُوقِ الماليةِ، وسَواءٌ قُلْنا: الشُّفْعَةُ على قَدْرِ الأمْلاكِ. أو: على عَدَدِ الرُّءُوسِ. لأنَّ هذا يَنْتَقِلُ إليهم مِن مَوْرُوثِهم. فإن تَرَك بعضُ الوَرَثَةِ حَقَّه، تَوَفَّرَ الحَقُّ على باقِي الوَرَثَةِ، ولم يَكُنْ لهم إلَّا أن يَأْخُذُوا الكُلَّ، أو يَتْرُكُوا كالشُّفَعاءِ إذا عَفَا بعضُهم عن شُفْعَتِه، لأنَّا لو جَوَّزْنا أخْذَ بعضِ الشِّقْصِ، لتَشَقَّصَ المَبِيعُ وتَبَعَّضَت الصَّفْقَةُ على المُشْتَرِي، وهذا ضَرَرٌ في حَقِّه. فصل: وإن أشْهَدَ الشَّفِيعُ على مُطالبَتِه بها للعُذْرِ، ثم ماتَ، لم تَبْطُلْ، وللوَرَثَةِ المُطالبَةُ بها. نَصَّ عليه أحمدُ، لأنَّ الإِشْهادَ على الطَّلَبِ عندَ العَجْزِ عنه يَقُومُ مَقامَه، فلم تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ بالمَوْتِ بعدَه، كنَفْسِ الطَّلَبِ. فصل: وإذا بِيعَ شِقْصٌ له شَفِيعان، فعَفَا عنها أحَدُهما وطالبَ بها الآخَرُ، ثم ماتَ الطالِبُ، فوَرِثَه العافِي، فله أخْذُ الشِّقْصِ بها؛ لأنَّه وارِثٌ لشَفِيعٍ مُطالِبٍ بالشُّفْعَةِ، فمَلَكَ الأخْذَ بها، كالأجْنَبِيِّ. وكذلك لو قَذَفَ رجلٌ أُمَّهُما وهي مَيِّتَةٌ، فعَفا أحَدُهما وطَلَب الآخَرُ، ثم ماتَ الطالِبُ، فوَرِثَه العافِي، ثَبَت له اسْتِيفاؤُه بالنِّيابَةِ عن أخِيه المَيِّتِ، إذا قُلْنا بوُجُوبِ الحَدِّ بقَذفِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو ماتَ مُفْلِسٌ وله شِقْصٌ، فباعَ شَرِيكُه، كان لوَرَثَتِه الشُّفْعَةُ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا شُفْعَةَ لهم؛ لأنَّ الحَقَّ انْتَقَلَ إلى الغُرَماءِ. ولَنا، أنَّه بَيعٌ في شَرِكَةِ ما خَلَّفَه مَوْرُوثُهُم مِن (¬1) شِقْصٍ، فكان لهم المُطالبَةُ بشُفْعَتِه، كغيرِ المُفْلِسِ. ولا نُسَلِّمُ أنَّ التَّرِكَةَ انْتَقَلَتْ إلى الغُرماءِ، بل هي للوَرَثَةِ، بدَلِيلِ أنَّها لو نَمَتْ أو زادَ ثَمَنُها، لحُسِبَ على الغُرَماءِ في قَضَاءِ دُيُونِهم، وإنَّما تَعَلَّقَ حَقُّهُم به، فلم يَمْنَع ذلك مِن الشُّفْعَةِ، كما لو كان لرجل شِقْصٌ مَرْهُونٌ، فباعَ شَرِيكُه، فإنَّه يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ به. ولو كانت للمَيِّتِ دارٌ، فبِيعَ بعضُها في قَضاءِ دَينِه، لم يَكُنْ للوَرَثَةِ شُفْعَةٌ؛ لأنَّ البَيعَ يَقَعُ لهم، فلا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ على أنْفُسِهم. ولو كان الوارِثُ شَرِيكًا للمَوْرُوثِ فباعَ نَصِيبَ المَوْرُوثِ في دَينِه، فلا شُفْعَةَ أيضًا؛ لأنَّ نَصِيبَ المَوْرُوثِ انْتَقَلَ بمَوْتِه إلى الوارِثِ، فإذا بِيعَ، فقد بِيعَ مِلْكُه، فلا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ على نَفْسِه. ¬

(¬1) زيادة من: المغني 7/ 512.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اشْتَرَى شِقْصًا مَشْفُوعًا، ووَصَّى به، ثم ماتَ، فللشَّفِيعٍ أخْذُه بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ حَقَّه أسْبَقُ مِن حَقِّ المُوصَى له، فإذا أخَذَه، دَفع الثَّمَنَ إلى الوَرَثَةِ، وبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ؛ لأنَّ المُوصَى به ذَهَب، فبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ به، كما لو تَلِفَ، ولا يَسْتَحِقُّ المُوصَى له بَدَلَه؛ لأنَّه لم يُوصَ له إلَّا بالشِّقْصِ، وقد فاتَ بأَخْذِه. ولو وَصَّى رجلٌ لإِنسانٍ بشِقصٍ، ثم ماتَ، فبِيعَ في شَرِكَتِه شَقْصٌ قبلَ قَبُولِ المُوصَى له، فالشُّفْعَةُ للوَرَثَةِ في الصَّحِيح؛ لأنَّ المُوصَى به لا يَصيرُ للمُوصَى له إلَّا بعدَ القَبُولِ، ولمِ يُوجَدْ، فيكونُ باقِيًا على مِلْكِ الوَرَثَةِ ويَحْتَمِلُ أن يكون للمُوصَى له (¬1)، إذا قُلْنا: إنَّ المِلْكَ يَنْتَقِل إليه بمُجَرَّدِ المَوْتِ. فإذا قَبِلَ الوَصِيَّةَ اسْتَحَقَّ المُطالبَةَ؛ لأنَّا تَبَيَّنَا أنَّ المِلْكَ كان له، فكان المَبِيعُ في شَرِكَتِه. ولا يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ قبلَ القَبُولِ، لأنَّا لا نَعْلَمُ أنَّ المِلْكَ له قبلَ القَبُولِ، وإنَّما يَتَبَيَّنُ ذلك بقَبُولِه، فإن قَبِل تَبَيَّنَا أنَّه كان له، وإن رَدَّ تَبَيَّنَا أنَّه كان للوَرَثَةِ، ولا يَسْتَحِقُّ الوَرَثَةُ المُطالبَةَ أيضًا؛ لذلك. ويَحْتَمِلُ أنَّ لهم المُطالبَةَ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ القَبُولِ وبَقاءُ الحَقِّ لهم. ويُفارِقُ المُوصَى له مِن وَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ الأصْلَ عَدَمُ القَبُولِ منه. والثاني، أنَّه يُمْكِنُه ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَقْبَلَ ثم يُطالِبَ، بخِلافِ الوارِثِ؛ فإنَّه لا سَبِيلَ له إلى فِعْلِ ما يَعْلَمُ به ثُبُوتَ المِلْكِ له أو لغيرِه. فإذَا طالبوا ثم قَبلَ الوَصِيُّ الوَصِيَّةَ، كانتِ الشُّفْعَةُ له، ويَفْتَقِرُ إلى الطَّلَبِ منه؛ لأنَّ الطَّلَبَ الأوَّلَ تَبَيَّنَ أنَّه مِن غيرِ، المُسْتَحِقِّ. وإن قُلْنا بالرِّوايَةِ الأُولَى، فطالبَ الوَرَثَةُ بالشُّفْعَةِ، فلهم الأَخْذُ بها، وإذا قَبِلَ (¬1) الوَصِيُّ أخْذَ الشِّقْصِ المُوصَى به دُونَ الشِّقْصِ المَشْفُوعِ؛ لأنَّ الشِّقْصَ المُوصَى به إنَّما انْتَقَلَ إليه بعدَ الأخْذِ بشُفْعَتِه، فأشْبَهَ ما لو أخَذَ بها المُوصِي في حَياتِه. وإن لم يُطالِبُوا بالشُّفْعَةِ حتَّى قَبِلَ المُوصَى له، فلا شُفْعَةَ له؛ لأنَّ البَيعَ وَقَع قبلَ ثُبُوتِ المِلْكِ له وحُصُولِ شَرِكَتِه. وفي ثُبُوتِها للوَرَثَةِ وَجْهانِ، بِنَاءً على ما لو باعَ الشَّفِيعُ نَصِيبَه قبلَ عِلْمِه بِبَيعِ شَرِيكِه. فصل: ولو اشْترَى رجلٌ شِقْصًا ثم ارْتَدَّ، فقُتِلَ أَوْ ماتَ، فللشَّفِيعِ أخْذُه بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّها وَجَبَتْ بالشِّراءِ، وانْتِقالُه إلى المُسْلِمِين بقَتْلِه أو مَوْتِه لا يَمْنَعُ الشُّفْعَةَ، كما لو ماتَ على الإسْلامِ فوَرِثَه وَرَثَتُه، أو صار مالُه لبَيتِ المَالِ لعَدَمِ وَرَثَتِه، والمُطالِبُ بالشُّفْعَةِ وَكِيلُ بَيتِ المالِ. ¬

(¬1) في ر 1: «قيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اشْتَرَى المُرْتَدُّ شِقْصًا، فتَصَرُّفُه مَوْقُوفٌ، فإنْ قُتِلَ على رِدَّتِه أو ماتَ عليها، تَبَيَّنَا أنَّ شِراءَه باطِلٌ، ولا شُفْعَةَ فيه، وإن أسْلَمَ، تَبَيَّنَا صِحَّتَه وثُبُوتَ الشُّفْعَةِ فيه. وقال أبو بكرٍ: تَصَرُّفُه غيرُ صَحِيح في الحالين؛ لأنَّ مِلْكَه يَزُولُ برِدَّتِه، فإذا أسْلَمَ عادَ إليه تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا. وقال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ: تَصَرُّفُه صَحِيحٌ في الحالينِ، وتَجِبُ الشُّفْعَةُ [فيه. ومَبْنَى الشُّفْعَةِ] (¬1) ههُنا على صِحَّةِ تصَرُّفِ المُرْتَدِّ، ويُذْكَرُ في غيرِ هذا المَوْضِعِ. وإن بِيعَ شِقْصٌ في شَرِكَةِ المُرْتَدِّ، وكان المُشْتَرِي كافِرًا، فأَخذَه بالشُّفْعَةِ، انْبَنَى على ذلك أيضًا؛ لأنَّ أخْذَه بالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ للشِّقْصِ مِن المُشْتَرِي، فأشْبَهَ شِراءَه لغيرِه. وإن ارْتَدَّ الشَّفِيعُ المُسْلِمُ، وقُتِلَ، بالرِّدَّةِ أو ماتَ عليها، انْتَقَلَ مالُه إلى المسْلِمِينَ فإن كان طالبَ بالشُّفْعَةِ، انْتَقَلَتْ أيضًا إلى المسْلِمِين، يَنْظُرُ فيها الإِمامُ أو نَائِبُه. وإن قُتِلِ أو مات قَبْلَ طَلَبِها، بَطَلَتْ شُفْعَتُه، كما لو ماتَ على إسْلامِه. ولو مات، الشَّفِيعُ المُسْلِمُ ولم يُخَلِّفْ وارِثًا سِوَى بَيتِ المالِ، انْتَقَلَ نَصِيبُه إلى المُسْلِمِينَ إن ماتَ بعدَ الطَّلَبِ، وإلَّا فلا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أوْ عَنْ بَعْضِهِ، سَقَطَتْ شُفعَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (ويَأْخُذُ الشَّفِيعُ بالثَّمَنِ الَّذي وَقَعَ عليه العَقْدُ، فإن عَجَز عنه أو عن بَعْضِه، سَقَطَتْ شُفْعَتُه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِن المُشْتَرِي بالثَّمَنِ الَّذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ؛ لِما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِيَ في حَدِيثِ جابِرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هُوَ أحَقُّ بِهِ بالثَّمَنَ» (¬1). رَواه الجُوزْجَانِيُّ في «كِتابِه». ولأنَّ الشَّفِيعَ إنَّما اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بالبَيعِ، فكان مُسْتَحِقًّا له بالثَّمَنِ، كالمُشْتَرِي. فإن قِيلَ: إنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ أخْذَه بغيرِ رِضا مالِكِه، فيَنْبَغِي أن يَأْخُذَه بقِيمَتِه، كالمُضْطَرِّ يَأْخُذُ طَعامَ غيرِه. قُلْنا: المُضْطَرُّ اسْتَحَقَّ أخْذَه بسَبَبِ حاجَةٍ خاصَّةٍ، فكانَ المَرْجِعُ في بَدَلِه إلى قِيمَتِه، والشَّفِيعُ اسْتَحَقَّه لأجْلِ البَيعِ. ولهذا لو انْتَقَلَ بهِبَةٍ أو مِيراثٍ، لم يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ، وإذا اسْتَحَقَّ ذلك بالبَيعِ، وَجَب أن يكونَ بالعِوَضِ الثابِتِ بالبَيعِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّنا نَنْظُرُ في الثَّمَنِ، فإن كان دَرَاهِمَ أو دَنانِيرَ، أعْطاه الشَّفِيعُ مِثْلَه. ¬

(¬1) هذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 310، 382. وضعفه الألباني. انظر: إرواء الغليل 5/ 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَأْخُذُ بالشُّفْعَةِ مَن لا يَقْدِرُ على الثَّمَنِ؛ لأنَّ في أَخْذِه بدُونِ دَفْعِ الثَّمَنِ إضْرارًا بالمُشْتَرِي، ولا يُزالُ الضَّرَرُ بالضَّرَرِ، فإن أحْضَرَ رَهْنًا أو ضَمِينًا، لم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ قَبُولُه؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في تَأْخِيرِ الثَّمَنِ، فلم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ ذلك، كما لو أرادَ تَأْخِيرِ ثَمَنٍ حالٍّ. وإنْ بَذَل عِوَضًا عن الثَّمَنِ، لم يَلْزَمْه قَبُولُه؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ، فلم يُجْبَرْ عليها. وإذا أخَذَ بالشُّفْعَةِ، لم يَلْزَمِ المُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الشِّقْصِ حتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، فإن كان مَوْجُودًا سَلَّمَه، وإن تَعَذَّرَ في الحالِ، فقال أحمدُ، في رِوايَةِ حَرْبٍ: يُنْظَرُ الشَّفِيعُ يَوْمًا أو يَوْمَين، بقَدْرِ ما يَرَى الحاكِمُ، فإذا كان أكَثَر، فلا. وهذا قولُ مالكٍ. وقال، ابن شُبْرُمَةَ، وأصحابُ الشافعيِّ: يُنْظَرُ ثَلاثًا؛ لأنَّها آخِرُ حَدِّ القِلَّةِ، فإن أحْضَرَ الثَّمَنَ، وإلَّا فَسَخ عليه. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: لا يَأْخُذُ بالشُّفْعَةِ، ولا يَقْضي القاضِي بها حتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بغيرِ اخْتِيارِ المُشْتَرِي، فلا يَسْتَحِقُّ. ذلك إلَّا بإحْضارِ عِوَضِه، كتَسْلِيمِ المَبِيعِ. ولَنا، أنَّه تَمَلّكٌ للمَبِيعِ بعِوَضٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَقِفُ على إحْضارِ العِوَضِ، كالبَيعِ، وأمّا التَّسْلِيمُ في البَيعِ، فالتَّسْلِيمُ في الشُّفْعَةِ مثلُه، وكَوْنُ الأخْذِ بغيرِ اخْتِيارِ المُشْتَرِي يَدُلُّ على قُوَّتِه، فلا يَمْنَعُ مِن اعْتِبارِه في الصِّحَّةِ، ومتى أجَّلْناه مُدَّةً فأحْضَرَ الثَّمَنَ فيها، وإلَّا فَسَخ الحاكِمُ الأخْذَ ورَدَّه إلى المُشْتَرِي. وكذا لو هَرَب الشَّفِيعُ بعدَ الأخْذِ. قال شيخُنا (¬1): والأُوْلَى أنَّ للمُشْتَرِي الفَسْخَ مِن غيرِ حاكِمٍ؛ لأنَّه فاتَ شَرْطُ الأَخْذِ، ولأنَّه تَعَذَّرَ على البائِعِ الوُصُولُ إلى الثَّمَنِ، فمَلَكَ الفَسْخَ، كغيرِ مَن أُخِذَتِ الشُّفْعَةُ منه، وكما لو أفْلَسَ الشَّفِيعُ، والشُّفْعَةُ لا تَقِفُ على حُكْمِ الحاكِمِ، فلا يَقِفُ فَسْخُ الأخْذِ بها على الحاكِمِ، كفَسْخِ غيرِها مِن البُيُوعِ، وكالرَّدِّ بالعَيبِ، ولأنَّ وَقْفَ ذلك على الحاكِمِ يُفْضِي إلى الضَّرَرِ بالمُشْتَرِي؛ لأنَّه قد يَتَعَذَّرُ عليه إثْباتُ ما يَدَّعِيه، وقد يَصْعُبُ عليه حُضُورُ مَجْلِسِ الحاكِمِ لبُعْدِه أو غيرِ ذلك، فلا يُشْرَعُ فيها ما يُفضِي إلى الضَّرَرِ، ولأنَّه لو وَقَفَ الأمْرُ على الحاكِمِ، لم يَمْلِكِ الأخْذَ إلَّا بعد إحْضارِ الثَّمَنِ، لئلَّا يُفْضِيَ إلى هذا الضَّرَرِ. وإن أفْلَسَ الشَّفِيعُ، خُيِّرَ المُشْتَرِي بينَ الفَسْخِ وبينَ أن يَضْرِبَ مع الغُرَماءِ بالثَّمَنِ، كالبائِعِ إذا أفْلَسَ المُشْتَرِي. ¬

(¬1) في: المغني 7/ 484، 485.

2419 - مسألة: (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار يلحق به، وما بعد ذلك لا يلحق به)

وَمَا يُحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ أوْ يُزَادُ فِيهِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ يُلْحَقُ بِهِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُلْحَقُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2419 - مسألة: (وما يُزادُ في الثَّمَنِ أو يُحَطُّ منه في مُدَّةِ الخِيارِ يُلْحَقُ به، وما بعدَ ذلك لا يُلْحَقُ به) قد ذَكَرْنا أنَّ الشَّفِيعَ إنَّما يَسْتَحِقُّ الشِّقْصَ بالثَّمَنِ الَّذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ، فلو تَبايَعَا بقَدْرٍ، ثم غَيَّراه في زَمَنِ الخِيارِ بزِيادَةٍ أو نَقْصٍ، ثَبَت ذلك التَّغْيِيرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لأنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّما يَثْبُتُ إذا تَمَّ العَقْدُ، وإنَّما يُسْتَحَقُّ بالثَّمَنِ الَّذي هو ثابتٌ حال اسْتِحْقاقِه، ولأنَّ زَمَنَ الخِيارِ بمَنْزِلَةِ حالةِ العَقْدِ، والتَّغْيِيرُ يَلْحَقُ بالعَقْدِ فيه؛ لأنَّهما على اخْتِيارِهما فيه، كما لو كانا في حالِ العَقْدِ. فأمّا إذا انْقَضَى الخِيارُ وانْبَرَمَ العَقْدُ، فزادَا أو نَقَصَا، لم يَلْحَقْ بالعَقْدِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ بعدَه هِبَةٌ تُعْتَبَرُ لها شُرُوطُ الهِبَةِ، والنَّقْصُ إبْراءٌ مُبْتَدَأٌ، ولا يَثْبُتُ ذلك في حَقِّ الشَّفِيعِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَثْبُتُ النَّقْصُ في حَقِّ الشَّفِيعِ دُونَ الزِّيادَةِ. وإن كانا عندَه مُلْحَقانِ بالعَقْدِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ تَضُرُّ بالشَّفِيعِ، فلم يَمْلِكَاها، بخِلافِ النَّقْصِ. وقال مالكٌ: إن بَقِيَ ما يكون

2420 - مسألة: (وإن كان مؤجلا، أخذه الشفيع بالأجل إن كان مليئا، وإلا أقام كفيلا مليا وأخذه به)

وَإنْ كَانَ مُؤْجَّلًا، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالأَجَلِ إِنْ كَانَ مَلِيًّا، وَإلَّا أَقَامَ كَفِيلًا مَلِيًّا وَأَخَذَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَنًا أخَذَ به، وإن حَطَّ الأَكْثَرَ أخَذَه بجَمِيعِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ. ولَنا، أنَّ ذلك يُعْتَبَرُ بعدَ اسْتِقرارِ العَقْدِ، فلم يَثْبُتْ في حَقِّ الشَّفِيعِ، كالزِّيادَةِ، ولأنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ الأخْذَ بالثَّمَنِ الأوَّلِ قبلَ التَّغْيِيرِ، فلم يُوثِّرِ التَّغْيِيرُ بعدَ ذلك فيه، كالزِّيادَةِ. وما ذَكَرُوه مِن العُذْرِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ ذلك لو لَحِق العَقْدَ لَزِم الشَّفِيعَ وإن أضَرَّ به، كالزِّيادَةِ في مُدَّةِ الخِيارِ، ولأنَّه حَطٌّ بعدَ لُزُومِ العَقْدِ، فأشْبَهَ حَطَّ الجَمِيعِ أو الأَكْثَرِ عندَ مالِكٍ. 2420 - مسألة: (وإن كان مُؤَجَّلًا، أخَذَه الشَّفِيعُ بالأجَلِ إن كان مَلِيئًا، وإلَّا أقامَ كَفِيلًا مَلِيًّا وأخَذَه به) وبهذا قال مالكٌ، وعبدُ المَلِكِ، وإسحاقُ. وقال الثَّوْريُّ: لا يَأْخُذُها إلَّا بالنَّقْدِ حالًّا. وقال أبو حنيفةَ: لا يَأْخُذُ إلَّا بثَمَنٍ حالٍ، أو يَنْتَظِرُ مُضِيَّ الأَجَلِ ثم يَأْخُذُ. وعن الشافعيِّ كمَذْهَبِنا ومَذْهَبِ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه أخْذُه بالمُؤَجَّلِ، لأنَّه يُفْضِي إلى أن يَلْزَمَ المُشْتَرِيَ قَبُولُ ذِمَّةِ الشَّفِيعِ، والذِّمَمُ لا تَتَماثَلُ، وإنَّما يَأْخُذُ بمِثْلِه، ولا يَلْزَمُه أن يَأْخُذَ بمِثْلِه حالًا، لئلَّا يَلْزَمَه أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ المُشْتَرِيَ، ولا بسِلْعَةٍ بمثلِ الثَّمَنِ إلى الأجَلِ؛ لأنَّه إنَّما يَأْخُذُه بمثلِ الثَّمَنِ أو القِيمَةِ، والسِّلْعَةُ لَيست واحِدًا منهما، فلم يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ. ولَنا، أنَّ الشَّفِيعَ تابعٌ

2421 - مسألة: (وإن كان الثمن عرضا، أعطاه مثله إن كان ذا مثل، وإلا أعطاه قيمته)

وَإنْ كَانَ الثَّمَنُ عَرْضًا، أعْطَاهُ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ، أوْ قِيمَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُشْتَرِي في قَدْرِ الثَّمَنِ وصِفَتِه، والتَّأْجِيلُ مِن صِفاتِه، ولأنَّ في الحُلُولِ زِيادَةً على التَّأْجِيلِ، فلم يَلْزَمِ الشَّفِيعَ، كزِيادَةِ القَدْرِ. وما ذَكَرُوه مِن اخْتِلافِ الذِّمَمِ، فإنَّا لا نُوجِبُها حتَّى تُوجَدَ الملَاءَةُ في الشَّفِيعِ، أو في الضَّامِنِ، بحيثُ يَنْحَفِظُ المالُ، فلا يَضُرُّ اخْتِلافُهُما فيما وراءَ ذلك كما لو اشْتَرَى الشِّقْصَ بسِلْعَةٍ وَجَبَتْ قِيمَتُها، ولا يَضُرُّ اخْتِلافُهُما. ومتى أخَذَه الشَّفِيعُ بالأجَلِ، فماتَ الشَّفِيعُ أو المُشْتَرِي، وقُلْنا: يَحِلُّ الدَّينُ بالمَوْتِ. حَلَّ الدَّينُ على المَيِّتِ منهما دُونَ صاحِبِه؛ لأنَّ سَبَبَ حُلُولِه المَوْتُ، فاخْتَصَّ بمَن وُجِدَ في حَقِّه. 2421 - مسألة: (وإن كان الثمَنُ عَرْضًا، أعْطاه مثلَه إن كان ذا مِثْلٍ، وإلَّا أعْطاه قِيمَتَه) أمَّا إذا كان مِن المِثْلِيّاتِ؛ كالحُبُوبِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأدْهانِ، فهو كالأثْمانِ، قِياسًا عليها، فيُعْطِيه الشَّفِيعُ مِثْلَها. هكذا ذَكَرَه أصحابُنا. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، وأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ هذا مِثْلٌ (¬1) مِن طَرِيقِ الصُّورَةِ والقِيمَةِ، فكان أوْلَى مِن المُماثِلِ في أحَدِهما، ولأنَّ الواجِبَ بَدَلُ (¬2) الثَّمَنِ، فكان مثلَه، كبَدَلِ العَرْضِ والمُتْلَفِ. وإن كان مِمّا لا مِثْلَ له؛ كالثِّيابِ، والحَيَوانِ، فإنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشِّقْصَ بقِيمَةِ العَرْضِ (¬3). وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. وبه يقولُ أصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ. وحُكِيَ عن الحَسَنِ، وسَوَّارٍ، أنَّ الشُّفْعَةَ لا تَجِبُ ههُنا؛ لأنَّها تَجِبُ بِمثلِ الثَّمَنِ، وهذا لا مِثْلَ له، فتَعَذَّرَ الأخْذُ، فلم يَجِبْ، كما لو جُهِلَ الثَّمَنُ. ولَنا، أنَّه أحَدُ نَوْعَي الثَّمَنِ، فجازَ أن تَثْبُتَ به الشُّفْعَةُ في المَبِيعِ، كالمِثْلِيِّ، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المِثْلَ يكونُ مِن طَرِيقِ الصورَةِ ومِن طَرِيقِ القِيمَةِ، كبَدَلِ المُتْلَفِ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «بذل». (¬3) في م: «الثمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان الثَّمَنُ تَجِبُ قِيمَتُه، فإنَّها تُعْتَبَرُ وَقْتَ البَيعِ؛ لأنَّه وَقْتُ الاسْتِحْقاقِ، ولا اعْتِبارَ بعدَ ذلك بالزِّيادَةِ والنَّقْصِ في القِيمَةِ. وإن كان فيه خِيارٌ، اعْتُبرَتِ القِيمَةُ حينَ انْقضاءِ الخِيارِ واسْتِقْرارِ العَقْدِ؛ لأنَّه حينُ اسْتِحْقاقِ الشُّفْعَةِ. وبه قال الشافعيُّ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه يَأْخُذُه بقِيمَتِهِ يومَ المُحاكَمَةِ. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ وَقْتَ الاسْتِحْقاقِ وَقْتُ العَقْدِ، وما زادَ بعدَ ذلك حَصَل في مِلْكِ البائِعِ، فلا يكونُ للمُشْتَرِي، وما نَقَصَ فمِن مالِ البائِعِ، فلا يَنْقُصُ به (¬1) حَقُّ المُشْتَرِي. ¬

(¬1) سقط من: م.

2422 - مسألة: (وإن اختلفا في قدر الثمن، فالقول قول المشتري، إلا أن تكون للشفيع بينة)

وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَالقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، إلا أَنْ تَكُونَ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2422 - مسألة: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَالقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، إلا أَنْ تَكُونَ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ) إذا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ والمُشْتَرِي في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنِ، فقال المُشْتَرِي: اشْتَرَيتُه بمائةٍ. فقال الشَّفِيعُ: بل بخَمْسِينَ. فالقولُ قولُ المُشْتَرِي؛ لأنَّه العاقِدُ، فهو أعْرَفُ بالثَّمَنِ، ولأنَّ الشِّقْصَ مِلْكُهُ فلا يُنْزَعُ منه بالدَّعْوَى بغيرِ بَيِّنَةٍ. وبهذا قال الشافعيُّ. فإن قِيلَ: فهَلَّا قُلْتُم: القولُ قولُ الشَّفِيعِ؛ لأنَّه غارِمٌ ومُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، فهو كالغاصِبِ، والمُتْلِفِ، والضَّامِنِ نَصِيبَ شَرِيكِه إذا أعْتَقَ؟ قُلْنا: الشَّفِيعُ ليس بغارِمٍ؛ لأنَّه لا شيءَ عليه، وإنَّما يريدُ أن يَمْلِكَ الشِّقْصَ بثَمَنِه، بخِلافِ الغاصِبِ والمُتْلِفِ والمعْتِقِ. فأمَّا إن كان للشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها، وكذلك إن كان للمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها، واسْتُغْنِيَ عن يَمِينِه. ويَثْبُتُ ذلك بشاهِدٍ ويَمِينٍ، وشَهادَةِ رجلٍ وامْرأتَين، ولا تُقْبَلُ شَهِادَةُ البائِعِ؛ لأنَّه إذا شَهِدَ للشَّفِيعِ كان مُتَّهَمًا؛ لأنَّه يَطْلُبُ تَقْلِيلَ الثَّمَنِ خوْفًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الدَّرَكِ عليه. فإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً، احْتَمَلَ تعارُضُهما؛ لأنَّهما يَتَنازَعان فيما وَقَع عليه العَقْدُ، فيَصِيرَان كمَن لا بَيِّنَةَ لهما. وذَكر الشَّريفُ أنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ تُقَدّمُ؛ لأنَّها خارِجَةٌ. ويَقْتَضِيه قولُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الخارِجِ عندَه تُقَدَّمُ على بَيِّنَةِ الداخِلِ، والشَّفِيعُ خارِج. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال صاحِبَاه: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ المُشْتَرِي؛ لأنَّها تَتَرَجَّحُ بقَوْلِ المُشْتَرِي، فإنَّه مُقَدَّم على قولِ الشَّفِيعِ، ويُخالِفُ الخارِجَ والدّاخِلَ؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ يَجُوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَنِدَةً إلى يَدِه، وفي مسألتِنا البَيِّنَةُ تَشْهَدُ على نَفْسِ العَقْدِ، كشَهادَةِ بَيِّنَةِ الشَّفِيعِ. ولَنا، أنَّهُما بَيِّنَتَان تَعارَضَتا، فقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مَن لا يُقْبَلُ قَوْلُه عندَ عَدَمِها، كالدَّاخِلِ والخارِجِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْرَعَ بينَهما؛ لأنَّهما يَتَنازَعان في العَقْدِ، ولا يَدَ لهما عليه، فصارَا كالمُتَنازِعَين عَينًا في يَدِ غيرِهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال المُشْتَرِي: لا أَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ. فالقولُ قولُه؛ لأنَّ ما يَدَّعِيه مُمْكِن، يَجُوزُ أن يكونَ اشْتَراهُ جُزَافًا، أو بثَمَنٍ نَسِيَ قَدْرَه، ويَحْلِفُ (¬1)، فإذا حَلَف سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ؛ لأنَّها لا تُسْتَحَقُّ بغيرِ بَدَلٍ، ولا يُمْكِنُ أن يَدفَعَ إليه ما لا يَدَّعِيه. فإنِ ادَّعَى أنَّكَ فَعَلْتَ ذلك تَحَيُّلًا (¬2) على إسْقاطِ الشُّفْعَةِ، حَلَف على نَفْي ذلك. فصل: فإنِ اشْتَرَى شِقْصًا بعَرْضٍ، واخْتَلَفا في قِيمَتِه، فإن كان مَوْجُودًا عَرَضْناه على المُقَوِّمِينَ، وإن تَعَذَّرَ إحْضارُه فالقولُ قولُ المُشْتَرِي، كما لو اخْتَلَفا في قَدْرِه. فإنِ ادَّعَى جَهْلَ قِيمَتِه، فهو على ما ذَكَرْنا فيما إذا ادَّعَى جَهْلَ ثَمَنِه. وإنِ اخْتَلَفَا في الغِرَاسِ والبِنَاءِ في الشِّقْصِ، فقال المُشْتَرِي: أنا أحْدَثْتُه. فأنْكَرَ الشَّفِيعُ (¬3)، فالقَوْلُ قولُ المُشْتَرِي؛ لأنَّه مِلْكُه، والشَّفِيعُ يُرِيدُ تَمَلُّكَه عليه، فكان القولُ قولَ المالِكِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «تحليلا». (¬3) سقط من: م.

2423 - مسألة: (وإن قال المشتري: اشتريته بألف. وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين، فللشفيع أخذه بألف. وإن قال المشتري: غلطت. فهل يقبل قوله مع يمينه؟ على وجهين)

وَإِنْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيتُهُ بِأَلْفٍ. وَأقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفَينِ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِأَلْفٍ. وَإنْ قَال الْمُشْتَرِي: غَلِطْتُ. فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2423 - مسألة: (وَإِنْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيتُهُ بِأَلْفٍ. وَأقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفَينِ، فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِأَلْفٍ. وَإنْ قَال الْمُشْتَرِي: غَلِطْتُ. فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؟ عَلَى وَجْهَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ للشَّفِيعِ أن يَأْخُذَه بما قال الْمُشْتَرِي؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ مُقِرٌّ له باسْتِحْقاقِه بأَلْفٍ، ويَدَّعِي أنَّ البَائِعَ ظَلَمَه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن حَكَم الحاكِمُ بأَلْفَين أخَذَه الشَّفِيعُ بهما؛ لأنَّ الحاكِمَ إذا حَكَم عليه (¬1) بالبَيِّنَةِ، بَطَل قَوْلُه، وثبَت ما حَكَم به الحاكِمُ (1). ولَنا، أنَّ المُشْتَرِيَ يُقِرُّ بأنَّ هذه البَيِّنَةَ كاذِبَةٌ، وأنَّه ظُلِمَ بألْفٍ، فلم يُحْكَمْ له به، وإنَّما حُكِم بها للبائِعِ؛ لأنَّه لا يُكَذِّبُها فإن قال المُشْتَرِي: صَدَقَتِ البَيِّنَةُ وكُنْتُ أنا كاذِبًا -أو- ناسِيًا. ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُقْبَلُ رُجُوعُه؛ لأنَّه رُجُوعٌ عن إقْرارٍ تَعَلَّقَ به حَقُّ آدَمِيٍّ غيرِه، فأشْبَهَ ما لو أقَرَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له بدَينٍ. والثاني، يُقْبَلُ قولُه. قال القاضِي: هو قِياسُ المَذْهَب عندِي، كما لو أخْبَرَ في المُرابَحَةِ بثَمَنٍ، ثم قال: غَلِطْتُ، والثَّمَنُ أكْثَرُ قُبلَ قولُه مع يَمِينِه، بل ههُنا أوْلَى؛ لأنَّه قد قامَتِ البَيِّنَةُ بكَذِبه، وحَكَم الحاكِمُ بخِلافِ قَوْلِه، فقُبِلَ رُجُوعُه عن الكَذِبِ. وإن لمَ تَكُنْ للبائِعِ بَيِّنَةٌ، فتَحالفا، فللشَّفِيعِ أخْذُه بما حَلَف عليه البائِعُ، فإن أرادَ أخْذَه بما حَلَف عليه المُشْتَرِي، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّ للبائِعِ فَسْخَ البَيعِ، وأخْذُه بما قال المُشْتَرِي يَمْنَعُ ذلك، ولأنَّه يُفْضِي إلى إلْزامِ العَقْدِ بما حَلَف عليه المُشْتَرِي، ولا يَمْلِكُ ذلك. فإن رَضِيَ المُشْتَرِي بأخْذِه بما قال البائِعُ، جازَ، ومَلَك الشَّفِيعُ أخْذَه بالثَّمَنِ الَّذي حَلَف عليه المُشْتَرِي؛ لأنَّ حَقَّ البائِعَ مِن الفَسْخَ قد زال. فإن عادَ المُشْتَرِي فصَدَّقَ البائِعَ، وقال: الثَّمَنُ ألْفانِ وكُنْتُ غالِطًا. فهل للشَّفِيعِ أخْذُه بالثَّمَنِ الَّذي حَلَف عليه؟ فيه وَجْهان، كما لو قامَتْ به بَيِّنَةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو اشْتَرَى شِقْصًا له شَفِيعان، فادَّعَى على أحَدِ الشَّفِيعَين أنَّه عَفَا عن الشُّفْعَةِ، وشَهِد له بذلك الشَّفِيعُ الآخرُ قبلَ عَفْوه عن شُفْعَتِه، لم تُقْبَلْ شَهادَتُه؛ لأنَّه يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا، وهو تَوَفُّرُ الشُّفْعَةِ عليه. فإذا رُدَّتْ شَهادَتُه، ثم عَفَا عن الشُّفْعَةِ، ثم أعادَ تلك الشَّهادَةَ، لم تُقْبَلْ؛ لأنَّها رُدَّتْ للتُّهْمَةِ، فلم تُقبَلْ بعدَ زَوالِها، كَشَهادَةِ الفاسِقِ إذا رُدَّت ثم تابَ وأعادَها، لم تُقْبَلْ. ولو لم يَشْهَدْ حتَّى عَفَا، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لعَدَمِ التُّهْمَةِ، ويَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مع شَهادَتِه، ولو لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ مع يَمِينِه. وإن كانتِ الدَّعْوَى على الشَّفِيعَين معًا، فحَلَفا، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ. وإن حَلَف أحَدُهُما ونَكَل الآخَرُ، نَظرنا في الحالِفِ؛ فإن صَدَّقَ شَرِيكَه في الشُّفْعَةِ في أنَّه لم يَعْفُ، لم يَحْتَجْ إلى يَمِين، وكانتِ الشُّفْعَةُ بينَهما؛ لأنَّ الحَقَّ له، فإنَّ الشُّفْعَةَ تَتَوَفَّرُ عليه إذا سَقَطَتْ شُفْعَةُ شَرِيكِه. وإنِ ادَّعَى أنَّه عَفَا، فنَكَلَ، قُضِيَ له بالشُّفْعَةِ كلِّها. وسَواءٌ وَرِثَا الشُّفْعَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كانا شَرِيكَين. فإن شَهِد أجْنَبِيٌّ بعَفْو أحَدِ الشَّفِيعَين، واحْتِيجَ إلى يَمِينٍ معه قبلَ عَفْو الآخَرِ، حَلَف، وأخَذَ الكلَّ بالشُّفْعَةِ. وإن كان بعدَه، حَلَف المُشْتَرِي، وسَقَطَتِ الشُّفْعَةُ. وإن كانوا ثَلاثَةَ شُفَعاءَ، فشَهِدَ اثْنانِ منهم على الثالِثِ بالعَفْو بعدَ عَفْوهما، قُبِلَتْ، وإن شَهِدَا قبلَه رُدَّتْ. وإن شَهِدَا بعدَ عَفْو أحَدِهما وقبلَ عَفْو الآخَرِ، رُدَّتْ شَهادَةُ غيرِ العافِي، وقُبِلَتْ شَهادَةُ العافِي. وإن شَهِد البائِعُ بعَفْو الشَّفِيعِ عن شُفْعَتِه بعدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، قُبِلَتْ شَهادَتُه. وإن كان قبلَه، قُبِلَتْ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّهما سَواءٌ عندَه. والثاني، لا تُقْبَلُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ قصَد ذلك ليُسَهِّلَ اسْتيفاءَ الثَّمَنِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِن الشَّفِيعِ، فيَسْهُلُ عليه وَفاؤُه، أو يَتَعَذَّرُ على المُشْتَرِي الوَفاءُ لفَلَسِه، فيَسْتَحِقُّ اسْتِرْجاعَ المَبِيعِ. وإن شَهِد لمُكاتَبه بعَفْو شفْعَتِه (¬1)، أو شَهِدَ بشَراءِ شيءٍ لمُكاتبِه فيه شفْعَةٌ، لم تُقْبَلْ؛ لأنَّ المُكاتَبَ عَبْدُه، فلا تُقْبَلُ شَهادَتُه له، كمُدَبَّرِه، ولأنَّ ما يَحْصُلُ للمُكاتَبِ يَنتفِعُ به السَّيِّدُ؛ لأنَّه إن عَجَز صارَ له، وإن لم يَعْجِزْ، سَهُلَ عليه وَفاؤُه. وإن شَهِدَ على مُكَاتَبِه بشيءٍ مِن ذلك، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ، فأشْبَهَ الشَّهادَةَ على وَلَدِه. ¬

(¬1) كذا بالنسخ وفي بعض نسخ المغني: «شفيعه»، وفي بعضها: «شفعة».

2424 - مسألة: (وإن ادعى أنك اشتريته بألف، قال: بل اتهبته. أو: ورثته. فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل عنها، أو قامت للشفيع بينة، فله أخذه، ويقال للمشتري: إما أن تقبل الثمن، وإما أن تبرئ منه)

وَإِنِ ادَّعَى أَنَّكَ اشتَرَيتَهُ بِأَلْفٍ، قال: بَلَ اتَّهَبْتُهُ. أَوْ: وَرثْتُهُ. فَالْقَولُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا، أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إِمَّا أَنْ تَقْبَلَ الثَّمَنَ، وَإِمَّا أنْ تُبْرِئَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2424 - مسألة: (وَإِنِ ادَّعَى أَنَّكَ اشتَرَيتَهُ بِأَلْفٍ، قال: بَلَ اتَّهَبْتُهُ. أَوْ: وَرثْتُهُ. فَالْقَولُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا، أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ أَخْذُهُ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إِمَّا أَنْ تَقْبَلَ الثَّمَنَ، وَإِمَّا أنْ تُبْرِئَ مِنْهُ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى الشَّفِيعُ على بعضِ الشُّرَكاءِ أنَّك اشْتَرَيتَ نَصِيبكَ، فلي أخْذُه بالشُّفْعَةِ، فإنَّه يَحْتاجُ إلى تَحْرِيرِ دَعْواه، فيُحَدِّدُ المَكانَ الَّذي فيه الشِّقْصُ، ويَذْكُرُ قَدْرَ الشِّقْصِ والثَّمَنِ، ويَدَّعِي الشُّفْعَةَ فيه، فإذا ادَّعَى، سُئِل المُدَّعَى عليه، فإن أقَرَّ، لَزِمَه، وإن أنْكَرَ وقال: إنَّما اتَّهَبْتُه. أو: وَرِثْتُه، فلا شُفْعَةَ لك فيه. فالقولُ قولُ مَن يَنْفِيه، كما لو ادَّعَى عليه نَصِيبَه مِن غير شُفْعَةٍ، فإن حَلَف، بَرِئَ، وإن نَكَل، قُضِيَ عليه. وإن قال: لا يَسْتَحِقُّ عليَّ شُفْعَةً. فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، ويكون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمينُه على حَسَبِ كونِه (¬1) في الإِنْكارِ، وإذا نَكَل وقُضِيَ عليه بالشُّفْعَةِ، عَرَض عليه الثَّمَنَ، فإذا أخَذَه دَفَع إليه. وإن قال: لا أسْتَحِقُّه. ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، يُقَرُّ في يَدِ الشَّفِيعِ إلى أن يَدَّعِيَه المُشْتَرِي، فيُدْفَعَ إليه، كما لو أقَرَّ له بدارٍ فأنْكَرَها. والثاني، يَأْخُذُه الحاكِمُ، فيَحْفَظُه لصاحِبِه إلى أن يَدَّعِيَه، ومتى ادَّعاهُ المُشْتَرِي، دُفِعَ إليه. والثالثُ، يُقالُ له: إمّا أن تَقْبِضَه، وإمّا أن تُبْرِئَ منه. كسَيِّدِ المُكاتَبِ إذا جاءَه المُكاتَبُ بمالِ الكِتَابَةِ، فادَّعَى أنَّه حَرامٌ. اختارَه القاضِي. وهذا يُفارِقُ المُكاتَبَ؛ لأنَّ سَيِّدَه يُطالِبُه بالوَفاءِ مِن غيرِ هذا الَّذي أتَاه به، فلا يَلْزَمُه ذلك بمُجَرَّدِ دَعْوَى سَيِّدِه تَحْرِيمَ ما أتَاه به، وهذا لا يُطالِبُ الشَّفِيعَ بشيءٍ، فلا يَنْبَغي أن يُكَلَّفَ الإِبْراءَ مِمّا لا (¬2) يَدَّعِيه. والوَجْهُ الأوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ اللهُ تَعالى. ¬

(¬1) في م: «قوله». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: اشْتَرَيتُه لفُلانٍ. وكان حاضِرًا، اسْتَدْعاه الحاكِمُ وسَأْلَه، فإن صَدَّقَه، كان الشِّراءُ له والشُّفْعَةُ عليه. وإن قال: هذا مِلْكِي، ولم أشْتَرِه. انْتَقَلتِ الخُصُومَةُ إليه، وإن كَذَّبَه، حَكَم بالشِّراءِ لمَن اشْتَراه، وأخَذَ منه بالشُّفْعَةِ. وإن كان المُقَرُّ له غائِبًا، أخَذَه الحاكِمُ ودَفَعَه إلى الشَّفِيعِ، وكان الغائِبُ على حُجَّتِه إذا قَدِمَ، لأَنَّنا لو وَقَفْنا الأمْرَ في الشُّفْعَةِ إلى حُضُورِ المُقَرِّ له، كان في ذلك إسْقاطُ الشُّفْعَةِ؛ لأنَّ كلَّ مُشتَرٍ يَدَّعِي أنَّه لغائِب. وإن قال: اشْتَرَيتُه لابْنِي الطِّفْلِ. أو: لهذا الطِّفْلِ. وله عليه ولايَةٌ، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ، في أحَدِ الوَجْهَين، لأنَّ المِلْكَ ثَبَت للطِّفْلِ، ولا تَجبُ الشُّفْعَةُ بإقْرارِ الوَلِيٍّ عليه؛ لأنَّه إيجابُ حَقٍّ في مالِ صَغِير بإقْرارِ وَلِيِّه. والثاني، تَثْبُتُ، لأنَّه يَمْلِكُ الشِّراءَ له، فصَحَّ إقْرارُه فيه، كما يَصِحُّ إقْرارُه بعَيبٍ في مَبِيعِه. فأمَّا إنِ ادَّعَى عليه شُفْعَةً في شِقصٍ، فقال: هذا لفُلانٍ الغائِبِ. أو: لفُلانٍ الطِّفْلِ. ثم أقَرَّ بشِرائِه له، لم تثْبُتْ فيه الشُّفْعَةُ، إلَّا أن تَثْبُتَ ببَيِّنَةٍ، أو يَقْدَمَ الغائِبُ، ويَبْلُغَ الطِّفْلُ، فيُطالِبَهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها؛ لأنَّ المِلْكَ ثَبَت لهما بإقْرارِه به، وإقْرارُه بالشِّراءِ بعدَ ذلك إقْرارٌ في مِلْكِ غيرِه، فلا يُقْبَلُ، بخِلافِ ما إذا أقَرَّ بالشِّراءِ ابْتِداءً؛ لأنَّ المِلْكَ ثَبَت لهما بذلك الإِقْرارِ المُثْبِتِ للشُّفْعَةِ، فَثَبَتَا جَمِيعًا. وإن لم يَذْكُرْ سَبَبَ المِلْكِ، لم يَسْأْلَه الحاكِمُ عنه، ولم يُطالبْ ببَيانِه؛ لأنَّه لو صَرَّحَ بالشِّراءِ لم تَثْبُتْ به شُفْعَةٌ، فلا فائِدَةَ في الكَشْفِ عنه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ كُلِّه كمَذْهَبِنا. فصل: وإذا كانت دارٌ بينَ حاضِرٍ وغائِبٍ، فادَّعَى الحاضِرُ على مَن في يَدِه نَصِيبُ الغائِبِ أنَّه اشْتَراه منه، وأنَّه يَسْتَحِقُّه بالشُّفْعَةِ، فصَدَّقَه، فللشَّفِيع أخْذُه بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ من في يَدِه العَينُ يُصَدَّقُ في تَصَرُّفِه فيما في يَدِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وأصحابُه. ولأصحّابِ الشافعيِّ في ذلك وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس له أخْذُه؛ لأنَّ هذا إقْرارٌ على غيرِه. ولَنا، أنَّه أقَرَّ بما في يَدِه، فقُبِلَ إقْرارُه، كما لو أقَرَّ بأصْلِ مِلْكِه. وهكذا لو ادَّعَى عليه أنَّك بِعْتَ نَصِيبَ الغائِب بإذْنِه، وأقَرَّ الوَكِيلُ، كان كإقْرارِ البائِع بالبَيعِ. فإذا قَدِم الغائِبُ فأَنْكَرَ البَيعَ، أو الإِذْنَ في البَيعِ، فالقولُ قوله مع يَمِينِه، ويَنْتزِعُ الشِّقْصَ، ويُطالِبُ بأُجْرَتِه مَن شاءَ منهما، ويَسْتقِرُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّمانُ على الشَّفِيعِ؛ لأنَّ المَنافِعَ تَلِفَتْ تحتَ يَدِه؛ فإن طَالبَ الوَكِيلَ، رَجَع على الشَّفِيعِ، وإن طالبَ الشَّفِيعَ، لم يَرْجِعْ على أحَدٍ. وإنِ ادَّعَى على الوَكِيلِ أنَّك اشْتَرَيتَ الشِّقْصَ الَّذي في يَدِكَ، فأنْكَرَ، وقال: إنَّما أنا وَكِيلٌ فيه. أوْ: مُسْتَوْدَعٌ له. فالقولُ قولُه مع يَمِينِه. وإن كان للمُدَّعِي بَيِّنَةٍ، حُكِمَ بها. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، مع أنَّ أبا حنيفةَ لا يَرَى القَضاءَ على الغائِبِ؛ لأنَّ القَضاءَ ههُنا على الحاضِرِ، لوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عليه، واسْتِحْقاقِه انْتَزاعَ الشِّقْصِ مِن يَدِه، فحَصَلَ القَضاءُ على الغائِبِ ضِمْنًا. فإن لم تَكُنْ بَيِّنَةٍ، وطَلَب الشَّفِيعُ يَمِينَه (¬1)، ونَكَل الشفيعُ (¬2) عنها، احْتَمَلَ أن يَقْضِيَ عليه؛ لأنَّه لو أقَرَّ لقَضَى عليه، فكذلك إذا نَكَل. واحْتَمَلَ أن لا يَقْضِيَ عليه؛ لأنَّه قَضاءٌ على الغائِبِ بغيرِ بَيِّنَةٍ ولا إقْرارِ مَنِ الشِّقْصُ في يَدِه. فصل: وإذا ادَّعَى على رجل شُفْعَةً في شِقْصٍ اشْتَراه، فقال: ليس له مِلْكٍ في شَرِكَتِي. فعلى الشَّفِيعِ إقامَةُ البَيِّنَةِ بالشَّرِكَةِ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ، والشافعيُّ. وقال أبو يُوسُفَ: إذا كان في يَدِه، اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ به؛ لأنَّ الظاهِرَ مِن اليَدِ المِلْكُ. ولَنا، أنَّ المِلْكَ لا يَثْبُتُ بمُجَرَّدِ اليَدِ، وإذا لم يَثْبُتِ المِلْكُ الَّذي يَسْتَحِقُّ به الشُّفْعَةَ، لم تَثْبُتْ، ومُجَرَّدُ ¬

(¬1) في م: «بينة». (¬2) في م: «الوكيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهِرِ لا يَكْفِي، كما لو ادَّعَى وَلَدَ أمَةٍ في يَدِه. فإنِ ادَّعَى أنَّ المُدَّعِيَ (¬1) يَعْلَمُ أنَّه شَرِيكٌ، فعلى المُشْتَرِي اليَمِينُ أنَّه لا يَعْلَمُ ذلك؛ لأنَّها يَمِينٌ على نَفْي فِعْلِ الغيرِ فكانت على العِلْمِ، كاليَمِينِ على نَفْي دَينِ المَيِّتِ، فإذا حَلَف، سَقَطَتْ دَعْواه، وإن نَكَل، قُضِيَ عليه. فصل: إذا ادَّعَى على شَرِيكِه، أنَّك اشْتَرَيتَ نَصِيبَكَ مِن عَمْرٍو، فلِي شُفْعَتُه. فصَدَّقَه عَمْرٌو، وأنْكَرَ الشَّرِيكُ، وقال: بل وَرِثْتُه مِن أبى. فأقامَ المُدَّعِي بَيِّنَةً أنَّه كان مِلْكَ عَمْرٍو، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ بذلك. وقال محمدٌ: تَثْبُتُ، ويُقالُ له: إمّا أن تَدْفَعَه وتَأْخُذَ الثَّمَنَ، وإمّا أن تَرُدَّه إلى البائِعِ، فيَأْخُذَه الشَّفِيعُ؛ لأنَّهما شَهِدَا بالمِلْكِ لعَمْرو، فكأنَّهما شَهِدَا بالبَيعِ. ولَنا، أنَّهما لم يَشْهَدَا بالبَيعِ، وإقْرارُ عَمْرٍو على المُنْكِرِ بالبَيعِ لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه إقْرارٌ على غيرِه، فلا يُقْبَلُ في حَقِّه، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُه عليه، وليستِ الشُّفْعَةُ مِن حُقُوقِ العَقْدِ فيُقْبَلُ فيها قولُ البائِعِ، فصارَ بمَنْزِلَةِ ما لو حَلَف: أنِّي ما اشْتَرَيتُ الدّارَ. فقال مَن كانتِ الدّارُ مِلْكَه: أنا بِعْتُه إيّاها. لم يُقْبَلْ عليه في الحِنْثِ، ولا يَلْزَمُ عليه (¬2) إذا أقَرَّ البائِعُ بالبَيعِ والشِّقْصُ في يَدِه، وأنْكَرَ المُشْتَرِي الشِّراءَ؛ لأنَّ الَّذي في يَدِه الدّارُ مُقِرٌّ بها للشّفيعِ، ولا مُنازِعَ له (¬3) فيها سِوَاه، وههُنا مَنِ الدّارُ في يَدِه يَدَّعِيها لنَفْسِه، والمُقِرُّ ¬

(¬1) في م: «المدعى عليه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

2425 - مسألة: (وإن كان عوضا في الخلع)

وَإنْ كَانَ عِوَضًا في الْخُلْعِ أو النِّكَاحِ أَو عَنْ دَمٍ عَمْدٍ، فَقَال الْقَاضِي: يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ. وَقَال غيرُهُ: يَأْخُذُهُ بالدِّيَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالبَيعِ لا شيءَ في يَدِه، ولا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِ (¬1) الشِّقْصِ، فافْتَرَقَا. 2425 - مسألة: (وإن كان عِوَضًا في الخلْعِ) والصَّدَاقِ والصُّلْحِ (عن دَمِ العَمْدِ) وقلْنا بوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فيه (فقال القاضي: يَأْخذه بقِيمَتِه) قال: وهو قِياسُ قولِ ابنِ حامِدٍ. وهو قولُ مالكٍ، وابن شُبْرُمَةَ، وابنِ أبي لَيلَى؛ لأنَّه مَلَك الشِّقْصَ القابِلَ للشُّفْعَةِ ببَدَلٍ ليس له مِثْل، فوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى قِيمَتِه في الأخْذِ بالشُّفْعَةِ، كما لو باعَه بسِلْعَةٍ لا مِثْلَ لها، ولأنَّنا لو أوْجَبْنا مَهْرَ المِثْلِ، لأفْضَى إلى تَقْويمِ البُضْعِ على الأجانِبِ، وأضَرَّ بالشَّفِيعِ؛ لأنَّ المَهْرَ يَتَفاوَتُ مع المُسَمَّى، لتَسامُحِ الناسِ فيه في العادَةِ، بخِلافِ البَيعِ (وقال غيرُ القاضِي: يَأْخُذُه بالدِّيَةِ ومَهْرِ المِثْلِ) وحَكَاه الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر عن ابنِ حامدٍ. وهو قولُ ¬

(¬1) في م: «تقسيم».

فَصْلٌ: وَلَا شُفْعَةَ في بَيعِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَيَحْتَمِلُ أن تَجِبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العُكْلِيِّ، والشافعيِّ؛ لأنَّه مَلَكَ الشِّقْصَ ببَدَلٍ ليس له مِثْلٌ، فيَجِبُ الرُّجُوعُ إلى قِيمَةِ البَدَلِ، إذا لم يَكُنْ نَقْدًا ولا مِثْلِيًّا، وعِوَضُ الشِّقْصِ هو البُضْعُ، وقِيمَةُ البُضْعِ مَهْرُ المِثْلِ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ تَعالى: (ولا شُفْعَةَ في بَيعِ الخِيَارِ قبلَ انقْضِائِه. نَصَّ عليه. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ) لا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بَيْعِ الخِيارِ قبلَ انْقِضائِه، سَواءٌ كان الخِيَارُ لهما أو لأحَدِهما وحدَه، أَيُّهما كان. وقال أبو الخَطَّابِ: يَتَخَرَّجُ أن تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ؛ لأنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ، فَثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ في مُدَّةِ الخِيارِ، كما بعدَ انْقِضائِه. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الخِيارُ للبائِعِ أو لهما، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ حتَّى يَنْقَضِيَ؛ لأنَّ في الأخْذِ بها إسْقاطَ حَقِّ البائِعِ مِن الفَسْخِ، وإلْزامَ البَيعِ في حَقِّه بغيرِ رِضَاه، ولأنَّ الشَّفِيعَ إنَّما يَأْخُذُ مِن المُشْتَرِي ولم يَنْتَقِلِ المِلْكُ إليه، وإن كان الخِيارُ للمُشْتَرِي، فقد انْثَقَلَ المِلْكُ إليه، ولا حَقَّ لغيرِه فيه، والشَّفِيعُ يَمْلِكُ أخْذَه بعدَ لُزُومِ البَيعِ واسْتِقْرارِ المِلْكِ، فلأنْ يَمْلِكَ ذلك قبلَ لُزُومِه أوْلَى، وغايةُ ما يُقَدَّرُ ثُبُوتُ الخِيَارِ له، وذلك لا يَمْنَعُ الأخْذَ بالشُّفْعَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو وَجَد به عَيْبًا. وللشافعيِّ قَوْلان كالمَذْهَبَين. ولَنا، أنَّه مَبِيعٌ فيه الخِيارُ، فلم تَثْبُتْ فيه (¬1) الشُّفْعَةُ، كما لو كان للبائِعِ؛ وذلك لأنَّ الأخْذَ بالشُّفْعَةِ يُلْزمِ المُشْتَرِيَ بالعَقْدِ بغيرِ رِضَاه، ويُوجِبُ العُهْدَةَ عليه، ويُفَوِّتُ حَقَّه مِن الرُّجُوعِ في عَينِ الثَّمَنِ، فلم يَجُزْ، كما لو كان الخِيارُ للبائِعِ، فإنَّنا إنَّما مَنَعْنا مِن الشُّفْعَةِ لما فيه مِن إبْطالِ خِيارِ البائِعِ، وتَفْويتِ حَقِّ الرُّجُوعِ في عينِ مالِه، وهما في نَظَرِ الشَّرْعِ على السَّواءِ. وفارَقَ الرَّدَّ بالعَيبِ؛ فإنَّه إنَّما ثَبَت لاستِدْراكِ الظُّلامَةِ، وذلك يَزُولُ بأخْذِ الشَّفِيعِ، فإن باعَ الشَّفِيعُ حِصَّتَه في مُدَّة الخِيارِ عالِمًا ببَيعِ الأوَّلِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُه، وقد ذَكَرْنا ذلك فيما مَضَى. فصل: وبَيعُ المَرِيضِ كبَيعِ الصَّحِيحِ في الصِّحَّةِ، وثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، وسائِرِ الأحْكامِ، إذا باعَ بثَمَنِ المِثْلِ سَواءٌ كان لوارِثٍ أو غيرِ وارِثٍ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُف، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ بَيعُ المَرِيضِ مَرَضَ المَوْتِ لوارِثِه؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه في حَقِّه، فلم يَصِحَّ بَيعُه، كالصَّبِيِّ. ولَنا، أنَّه إنَّما حُجِرَ عليه في التَّبَرُّعِ في حَقِّه، فلم يَمْنَعِ الصِّحَّةَ فيما سِوَاه، كالأجْنَبِيِّ إذا لم يَزِدْ على التَّبَرُّعِ بالثُّلُثِ؛ وذلك لأنَّ الحَجْرَ في شيءٍ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ غيرِه، كما أنَّ الحَجْرَ على المُرْتَهِنِ في الرَّهْنِ لا يَمْنَعُ التَّصرُّفَ في غيرِه، والحَجْرُ على المُفْلِسِ في مالِه لا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ في ذِمَّتِه. فأمّا بَيعُه بالمُحاباةِ فلا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْلُو؛ إمّا أن يكونَ لوارِثٍ أو لغيرِه، فإن كان لوارِثٍ، بَطَلَتِ المُحاباةُ؛ لأنَّها في المَرَضِ بمَنْزِلَةِ مُحاباةِ الوَصِيَّةِ، [والوَصِيَّةُ] (¬1) لوَارِثٍ لا تَجُوزُ، ويَبْطُلُ البَيعُ في قَدْرِ المُحاباةِ مِن المَبِيعِ. وهل يَصِحُّ فيما عَداهُ؟ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ [بَذَل الثَّمَنَ] (¬2) في كل المَبِيعِ، فلم يَصِحَّ في بعضِه، كما لو قال: بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ بعَشَرَةٍ. فقال: قَبِلْتُ البَيعَ في نِصْفِه. أو قال: قَبِلْتُه بخَمْسَةٍ. أو: قَبِلْتُ نِصْفَه بخَمْسَةٍ. ولأنَّه لا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ البَيعِ على الوَجْهِ الَّذي تَواجَبَا عليه، فلم يَصِحَّ، كتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. الثاني، أنَّه يَبْطُل البَيعُ في قَدْرِ المُحاباةِ، ويَصِحُّ فيما يُقابِلُ الثَّمَنِ المُسَمَّى، وللمُشْتَرِي الخِيارُ بينَ الأخْذِ والفَسْخِ؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ تَفرَّقَتْ عليه، وللشَّفِيعِ أخْذُ ما صَحَّ فيه البَيعُ. وإنَّما قُلْنا بالصِّحَّةِ؛ لأنَّ البُطْلانَ إنَّما جاءَ مِن المُحاباةِ، فاخْتَصَّ بما قابَلَها. الثالثُ، أنَّه يَصِح في الجَمِيعِ، ويَقِفُ على إجازَةِ الوَرَثَةِ؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ للوارِثِ صَحِيحَةٌ في أصَحِّ الرِّوايَتَين، وتَقِف على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فكذلك المُحاباةُ له، فإن أجازُوا المُحاباةَ، صَحَّ البَيع في الجَمِيعِ، ولا خِيارَ للمُشْتَرِي، ويَمْلِكُ الشَّفِيعُ الأخْذَ به؛ لأنَّه يَأْخُذُ بالثَّمَنِ، وإن رَدُّوا، بَطَل البَيعُ في قَدْرِ المُحاباةِ، وصَحَّ فيما بَقِيَ. ولا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الأخْذَ قبلَ إجازَةِ الوَرَثَةِ وردِّهم؛ لأنَّ حَقَّهُم مُتَعَلِّقٌ بالمَبِيعِ (¬3)، فلم ¬

(¬1) في م: «في الوصية». (¬2) في م: «أبرأ الضامن». (¬3) في م: «بالبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكْ إبْطاله، وله أخْذُ ما صَحَّ البَيعُ فيه، فإنِ اخْتارَ المُشْتَرِي الرَّدَّ في هذه الصُّورَةِ، وفي التي قبلَها، واخْتارَ الشَّفِيعُ الأخْذَ بالشُّفْعَةِ، قُدِّمَ الشَّفِيعُ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ على المُشْتَرِي، وجَرَى مَجْرَى المَعِيبِ إذا رَضِيَه الشَّفِيعُ بعَيبِه. فصل: إذا كان المُشْتَرِي أجْنَبِيًّا، والشَّفِيعُ أجْنَبِيًّا، فإن لم تَزِدِ المُحاباةُ على الثُّلُثِ، صَحَّ البَيعُ، وللشَّفِيعِ الأخْذُ بذلك الثَّمَنِ؛ لأنَّ البَيعَ حَصَل به، فلا يَمْنَعُ منها كَوْنُ المَبِيعِ مُسْتَرْخَصًا، فإن زادَتْ على الثُّلُثِ، فالحُكْمُ فيه حُكْمُ أصْلِ المُحاباةِ في حَقِّ الوارِثِ. وإن كان الشَّفِيعُ وارِثًا، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، له الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ المُحاباةَ وَقَعَتْ لغيرِه، فلم يَمْنَعْ منها تَمَكُّنُ الوارِثِ مِن أخْذِها، كما لو وَهَب غَرِيمَ وارِثِه مالًا فأخَذَه الوارِثُ. والثاني، يَصِحُّ البَيعُ، ولا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ؛ لأنَّنا لو أثْبَتْناهَا جَعَلْنا للمَوْرُوثِ سَبِيلًا إلى إثْباتِ حَقٍّ لوارِثِه في المُحاباةِ، ويُفارِقُ الهِبَةَ لغَرِيمِ الوارِثِ؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَ الوارِثِ الأخْذَ بدَينِه لا مِن جِهَةِ الهِبَةِ، وهذا اسْتِحْقاقُه بالبَيعِ الحاصِلِ مِن مَوْرُوثِه، فافْتَرَقا. ولأصحابِ الشافعي في هذا خَمْسَةُ أوْجُهٍ؛ وَجْهان كَهَذَين. والثالثُ، أنَّ البَيعَ باطِل مِن أصْلِه؛ لإفْضائِه إلى إيصالِ المُحاباةِ إلى الوارِثِ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ للبَيعِ، ولا يُبْطِلُ الأصْلَ فَرْعُه. وعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، ما حَصَلَتْ للوارِثِ المُحاباةُ إنَّما حَصَلَتْ لغيرِه، ووَصَلَتْ إليه بجِهَة الأخْذِ مِن المُشْتَرِي، فأشْبَهَ هِبَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غَرِيمِ الوارِثِ. الوجهُ الرابعُ، أنَّ للشَّفِيعِ أن يَأْخُذَ بقَدْرِ ما عَدَا المُحاباةَ بجَمِيعِ الثَّمَنِ، بمَنْزِلَةِ هِبَةِ المُقابِلِ للمحُاباةِ؛ لأنَّ المُحاباةَ بالنِّصْفِ مَثَلًا هِبَة للنِّصْفِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو كان بمَنْزِلَةِ هِبَةِ النِّصْفِ، ما كان للشَّفِيعِ الأجْنَبِيِّ أخْذُ الكلِّ؛ لأنَّ المَوْهُوبَ لا شُفْعَةَ فيه. الخامسُ، أنَّ البَيعَ يَبْطُلُ في قَدْرِ المُحاباةِ. وهو فاسِدٌ؛ لأنَّها مُحاباة لأجْنَبِيٍّ بما دُونَ الثُّلُثِ، فلا تَبْطُلُ، كما لو لم يَكُنِ الشِّقْصُ مَشْفُوعًا. فصل: ويَمْلِكُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بأخْذِه وبكلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ على أخْذِه، بأن يقولَ: قد أخَذْتُه بالثَّمَنِ. أو: تَمَلَّكْتُه بالثَّمَنِ. ونَحْو ذك، إذا كان الثَّمَنُ والشِّقْصُ مَعْلُومَين. ولا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ حاكِمٍ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال القاضي، وأبو الخَطَّابِ: يَمْلِكُه بالمُطالبَةِ؛ لأنَّ البَيعَ السابِقَ سَبَبٌ، فإذا انْضَمَّتْ إليه المُطالبَةُ، كان كالإِيجابِ في البَيعِ إذا انْضَمَّ إليه القَبُولُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْصُلُ إلَّا بحُكْمِ حاكِمٍ؛ لأنَّه نَقْل للمِلْكِ عن مالكِهِ إلى غيرِه قَهْرًا، فافْتَقَرَ إلى حُكْمِ حاكِمٍ، كأخْذِ دَينِه. ولَنا، أنَّه حَقٌّ ثَبَت بالنَّصِّ والإِجْماعِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى حُكْمِ حاكِمٍ كالرَّدِّ بالعَيبِ. وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه، وبأْخْذِ الزَّوْجِ نِصْفَ الصَّداقِ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، ولأنَّه مالٌ يَتَمَلَّكُه قَهْرًا، فَمَلَكَه بالأخْذِ، كالغَنائِمِ والمُباحاتِ، ومَلَكَه باللَّفْظِ الدّالِّ على الأخْذِ؛ لأنَّه بَيْعٌ في الحَقِيقَةِ، لكنَّ الشّفِيعَ يَسْتَقِلُّ به، فاسْتَقَلَّ باللَّفْظِ الدّالِّ عليه.

2426 - مسألة: (وإن أقر البائع بالبيع، وأنكر المشتري، فهل تجب الشفعة؟ على وجهين)

وَإنْ أقرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيعِ، وَأنكَرَ الْمُشْتَرِي، فَهَلْ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؟ عَلَى وَجهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولُهم: يَمْلِكُ بالمُطالبَةِ (¬1) بمُجَرَّدِها. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو مَلَك بها لما سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ بالعَفْو بعدَ المُطالبَةِ، ولَوَجَبَ إذا كان له شَفِيعان فطَلَبَا الشُّفْعَةَ ثم تَرَك أحَدُهما، أن يكونَ للآخَرِ أخْذُ قَدْرِ نَصِيبه، ولا يَمْلِكُ أخْذَ نَصِيبِ صاحِبِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا قال: قد أخذْتُ الشِّقْصَ بالثَّمَنِ الذي تَم عليه العَقْدُ. وهو عالِمٌ بقَدْرِه وبالمَبِيعِ، صَحَّ الأخْذُ، ومَلَك الشِّقْصَ، ولا خِيارَ له، ولا للمُشْتَرِي؛ لأنَّ الشِّقْصَ يُؤْخذُ قَهْرًا، والمَقْهُورُ لا خِيارَ له، والآخِذُ قَهْرًا لا خِيارَ له أيضًا، كمُسْتَرْجِعِ المَبِيعِ لعَيبٍ في ثَمَنِه، أو الثَّمَنِ لعَيبٍ في المَبِيعِ. وإن كان الثَّمَنُ مَجْهُولًا أو الشِّقْصُ، لم يَمْلِكْه بذلك، لأنَّه بَيعٌ في الحَقِيقَةِ، فيُعْتَبَرُ العِلْمُ بالعِوَضِ، كسائِرِ البُيُوعِ، وله المُطالبَةُ بالشُّفْعَةِ، ثم يَتَعَرَّفُ مِقْدارَ الثَّمَن مِن المُشْتَرِي أو مِن غيرِه، والمَبِيعَ، فيَأخُذُه بثَمَنِه. ويَحْتَمِلُ أنَّ له الأخْذَ مع جَهالةِ الشِّقْصِ، بِناءً على بَيعِ الغائِبِ. 2426 - مسألة: (وإن أقَرَّ البائِعُ بالبَيعِ، وأنْكَرَ المُشْتَرِي، فهل تَجِبُ الشُّفْعَةُ؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، تَجِبُ الشُّفْعَةُ. وهو قولُ أبي ¬

(¬1) في م: «المطالبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، والمُزَنِيِّ. والثاني، لا تَجِبُ. ونَصَرَه الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر في «مَسائِلِه». وهو قولُ مالكٍ، وابنِ شُرَيح؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ للبَيعِ، ولم يَثْبُتْ، فلا يَثْبُتُ فَرْعُه، ولأنَّ الشَّفِيعَ إنَّما يَأخُذُ الشِّقْصَ مِن المُشْتري، وإذا أنْكَرَ البَيعَ لم يُمْكِنِ الأخْذُ منه. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ البائِعَ أقَرَّ بحَقَّين، حَقٍّ للشَّفِيعِ وحَقِّ للمُشْتَرِي، فإذا سَقَطَ حَقُّ المُشْتَرِي بإنْكاره، ثَبَت حَقُّ الشَّفِيعِ، كما لو أقَرَّ بدارٍ لرَجُلَين فأذْكَرَ أحَدُهما، ولأنَّه أقَرَّ للشَّفِيعِ أنَّه مُسْتَحِقٌّ لأخْذِ هذه الدّارِ، والشَّفِيعُ يَدَّعِي ذلك، فوَجَبَ قَبُولُه، كما لو أقَرَّ أنَّها مِلْكُهُ. فعلى هذا، يَقْبِضُ الشَّفِيعُ مِن البائِعِ، ويُسَلِّمُ إليه الثَّمَنَ، ويكونُ دَرَكُ الشَّفِيعِ على البائِعِ؛ لأنَّ القَبْضَ منه، ولم يَثْبُتِ الشِّراءُ في حَقِّ المُشْتَرِي. وليس للشَّفِيعِ ولا للبائِع مُحاكَمَةُ المُشْتَرِي ليَثْبُتَ البَيعُ في حَقِّه، وتكونَ العُهْدَةُ عليه؛ لأنَّ مَقْصُودَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البائِعِ الثَّمَنُ، وقد حَصَل مِن الشَّفِيعِ، ومَقْصُودَ الشَّفِيعِ أخْذُ الشِّقْصِ وضَمانُ العُهْدَةِ، وقد حَصَل مِن البائِع، فلا فائِدَةَ في المُحاكَمَةِ. فإن قِيلَ: أليس لو ادَّعَى علي رجُل دَينًا، فقال آخَرُ: أنا أدْفَعُ إليك الدَّينَ الذي تَدَّعِيه، ولا تُخاصِمْه. لا يَلزَمُه قَبُولُه، فهَلَّا قُلْتُم ههُنا كذلك؟ قُلْنا: في الدَّينِ عليه مِنَّةٌ في قَبُولِه مِن غيرِ غَرِيمِه، وههُنا بخِلافِه، ولأنَّ البائِعَ يَدَّعِي أنَّ الثَّمَنَ الذي يَدْفَعُه الشَّفِيعُ حَق للمُشْتَرِي عِوَضًا عن هذا المَبِيعِ (¬1)، فصار كالنّائِبِ عن المُشْتَرِي في دَفْعِ الثَّمَنِ، والبائِعُ كالنّائِبِ عنه في دَفْعِ الشِّقْصِ، بخِلافِ الدَّينِ، فإن كان البائِعُ مُقِرًّا بقَبْضِ الثَّمَنِ مِن المُشْتَرِي، بَقِيَ الثَّمَنُ الذي على الشَّفِيعِ لا يَدَّعِيه أحَدٌ؛ لأنَّ البائِعَ يقولُ: هو للمُشْتَرِي. والمُشْتَرِي يقولُ: لا أسْتَحِقه. ففيه ¬

(¬1) في م: «البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أن يُقال للمُشْتَرِي: إمّا أن تَقْبِضَه، وإمّا أن تُبْرِئ منه. والثاني، يَأخُذُه الحاكِمُ عندَه. والثالثُ، يَبْقَى في ذِمَّةِ الشَّفِيعِ. وفي جَمِيعِ ذلك مَتَى ادَّعاه البائِعُ أو المُشْتَرِي، دُفِعَ إليه؛ لأَنه لأحَدِهما. وإن تَداعَياه جَمِيعًا، فأقَرَّ المُشْتَرِي بالبَيعِ، وأنْكَرَ البائِعُ أنَّه ما قَبَض منه شيئًا، فهو للمُشْتَرِي؛ لأنَّ البائِعَ قد أقَرَّ له به، ولأنَّ البائِعَ إذا أنْكَرَ القَبْضَ، لم يَكُنْ مُدَّعِيًا لهذا الثَّمَنِ؛ لأنَّ البائِعَ لا يَسْتَحِقُّ على الشَّفِيعِ ثَمَنًا، إنَّما يَسْتَحِقُّه على المُشْتَرِي، وقد أقَرَّ بالقَبْضِ منه، وأمّا المُشْتَرِي فإنَّه يَدَّعِيه، وقد أقَرَّ له باسْتِحْقاقِه، فوَجَبَ دَفْعُه إليه.

2427 - مسألة: (وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع)

وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِع. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2427 - مسألة: (وعُهْدَةُ الشَّفِيعِ على المُشْتَرِي، وعُهْدَةُ المُشْتَرِي على البائِعِ) إذا أخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فرُجُوعُه بالثَّمَنِ على المُشْتَرِي، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي على البائِعِ. وإن وَجَدَه مَعِيبًا فله رَدُّه على المُشْتَرِي، أو أخْذُ أرْشِه منه، والمُشْتَرِي يَرُدُّ على البائِعِ، أو يَأخُذُ الأرْش منه، سَواءٌ قَبَض الشِّقْصَ مِن المُشْترِي أو مِن البائِعِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال ابنُ أبي لَيلَى، والبَتِّيُّ: عُهْدَةُ الشَّفِيعِ على البائِعِ؛ لأنَّ الحَقَّ ثَبَت له بإيجابِ البائِعِ، فكان رُجُوعُه عليه، كالمُشْتَرِي. وقال أبو حنيفةَ: إن أخَذَه مِن المُشْتَرِي فالعُهْدَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، وإن أخَذَه مِن البائِعِ فالعُهْدَةُ عليه؛ لأنَّ الشَّفِيعَ إذا أخَذَه مِن البائِعِ، تَعَذَّرَ قَبْضُ المُشْتَرِي، فيَنْفَسِخُ البَيعُ بينَ البائِعِ والمُشْتَرِي، فكأنَّ الشَّفِيعَ أخَذَه مِن البائِعِ مالِكًا مِن جِهَتِه، فكانت عُهْدَتُه عليه. ولَنا، أنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقّة بعدَ الشِّراءِ وحُصُولِ المِلْكِ للمُشْتَرِي، ثم يَزُولُ المِلْكُ مِن المُشْتَرِي إلي الشَّفِيعِ بالثَّمَنِ، فكانتِ العُهْدَةُ عليه، كما لو أخَذَه منه ببَيعٍ، ولأنَّه مَلَكَه مِن جِهَةِ المُشْتَرِي بالثَّمَنِ، فمَلَكَ رَدّه عليه بالعَيبِ، كالمُشْتَرِي في البَيعِ الأوَّلِ. وقِياسُه على المُشْتَرِي في جَعْلِ عُهْدَتِه على البائِعِ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ مَلَكَه مِن البائِعِ، بخِلافِ الشَّفِيعِ. وأمّا إذا أخَذَه مِن البائِعِ، فالبائِعُ نائِبٌ عن المُشْتَرِي في التَّسْلِيمِ المُسْتَحَقِّ عليه. ولو انْفَسخَ العَقْدُ بينَ المُشْتَرِي والبائِعِ، بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ؛ لأَنها اسْتُحِقَّتْ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ الشَّفِيعِ في الرَّدِّ بالعَيبِ، حُكْمُ المُشْتَرِي مِن المُشْتَرِي، فإن عَلِمَ المُشْتَرِي بالعَيبِ، ولم يَعْلَمِ الشَّفِيعُ، فللشَّفِيعِ رَدُّه على المُشْتَرِي، أو أخْذُ أرْشِه منه، وليس للمُشْتَرِي شيء. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ الشَّفِيعُ أخْذَ الأرْشِ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ يَأخُذُ بالثَّمَنِ الذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ، فإذا أخَذَ الأرْشَ، فما أخَذَه بالثَّمَنِ الذي اسْتَقَرَّ على المُشْتَرِي. وإن عَلِمَ الشَّفِيعُ وحدَه، فليس لواحِدٍ منهما رَدٌ ولا أرْشٌ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ أخَذَه عالِمًا بعيبِه فلم يَثْبُتْ له رَدٌّ ولا أرْشٌ، كالمُشْتَرِي إذا عَلِم العَيبَ، والمُشْتَرِي قد اسْتَغْنَى عن الرَّدِّ لزَوال مِلْكِه عن المَبِيعِ، وحُصُولِ الثَّمَنِ له مِن الشَّفِيعِ، ولم يَمْلِكِ الأرْشَ؛ لأنَّه اسْتَدْرَكَ ظُلامَتَه، ورَجَع إليه جَمِيعُ الثَّمَنِ، فأشْبَهَ ما لو رَدَّه على البائِعِ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ أخْذَ الأرْشِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عن الجُزْءِ الفائِتِ مِن المَبِيعِ، فلم يَسْقُطْ بزَوالِ مِلْكِه عن المَبِيعِ، كما لو اشْتَرَى قَفِيزَين فتَلِف أحَدُهما وأخَذَ الآخرَ. فعلى هذا، ما يَأخُذُه مِن الأرْش يَسْقُطُ عن الشَّفِيعِ مِن الثَّمَنِ بقَدْرِه؛ لأنَّ الشِّقْصَ يَجِبُ عليه بالثَّمَنِ الذي اسْتَقَرَّ عليه العَقْدُ، فأشْبَهَ ما لو أخَذَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرْش قبلَ أخْذِ الشَّفِيعِ منه. وإن عَلِمَا جميعًا، فليس لواحِدٍ منهما رَدُّ ولا أرْشٌ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما دَخَل على بَصِيرَةٍ، ورَضِيَ ببَذْلِ الثَّمَنِ فيه بهذه الصِّفَةِ. وإن لم يَعْلَمَا، فللشَّفِيعِ رَدُّه على المُشْتَرِي، وللمُشْتَرِي رَدُّه على البائعِ، فإن لم يَرُدَّه الشَّفِيعُ، فلا رَدَّ للمُشْتَرِي؛ لِما ذَكَرْنا أوّلًا. وإن أخَذَ الشَّفِيعُ أرْشَه مِن المُشْتَرِي، فللمُشْتَرِي أخْذُه مِن البائِعِ. وإن لم يَأخُذْ منه شيئًا، فلا شيءَ للمُشْتَرِي. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ أخْذَه على الوَجْهِ الذي ذَكَرْناه. فإذا أخَذَه، فإن كان الشَّفِيعُ لم يُسْقِطْه عن المُشْتَرِي، سَقَط عنه مِن الثَّمَنِ بقَدْرِه؛ لأنَّه الثَّمَنُ الذي اسْتَقَرَّ عليه البَيعُ، وسُكُوتُه لا يُسْقِطُ حَقَّه، وإن أسْقَطَه عن المُشْتَرِي، تَوَفَّرَ عليه، كما لو زادَه على الثَّمَنِ باخْتِيارِه. فأمَّا إنِ اشْتَراه بالبَراءَةِ مِن كلِّ عَيبٍ، فالصَّحِيحُ مِن (¬1) المَذْهَبِ، أنَّه لا يَبْرأ، وحُكْمُه حُكْمُ ما لو لم يَشْتَرِطْ. وفيه رِوايَة أُخرَى، أنَّه يَبْرأ، إلَّا أن يكونَ البائِعُ عَلِم بالعَيبِ فَدَلَّسَه واشْتَرَطَ البَراءَةَ. فعلى هذه الروايةِ، إن عَلِم الشَّفِيعُ باشْتِراطِ البَراءَةِ، فحُكْمُه حُكْمُ المُشْتَرِي؛ لأنَّه دَخَل على شِرائِه، فصار [كمُشْتَر ثانٍ اشْتَرطَ] (¬2) البَراءَةَ، وإن لم يَعْلَم ذلك، فحُكْمُه كما (¬3) ما لو عَلِمَه المُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ. ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في م: «كمشتريين اشترطا». (¬3) في م: «حكم ما».

2428 - مسألة: (وإن أبى المشتري قبض المبيع، أجبره الحاكم عليه)

فَإِنْ أبَى الْمُشْتَرِي قَبْضَ الْمَبِيع، أجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيهِ. وَقَال أبو الْخَطَّابِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَأخُذَهُ الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2428 - مسألة: (وإن أبى المُشْتَرِي قَبْضَ المَبِيعِ، أجْبَرَه الحاكِمُ عليه) ثم يَأخُذُه الشَّفِيعُ منه. قاله القاضِي، قال: وليس له أخْذُه مِن البائِع. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ الشَّفِيعَ يَشْتَرِي الشِّقْصَ مِن المُشْتَرِي، فلا يَأخُذُه مِن غيرِه. وبَنَوْا ذلك على أنَّ البَيعَ لا يتم إلَّا بالقَبْضِ، فإذا فاتَ القَبْضُ، بَطَل العَقْدُ، وسَقَطَتِ الشُّفْعَةُ (وقال أبو الخَطّابِ: قِياسُ المَذْهَبِ أن يَأخُذَه الشَّفِيعُ مِن يَدِ البائِعِ) ويكونُ كأخْذِه مِن المُشْترِي. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ العَقْدَ يَلْزَمُ في بَيعِ العَقارِ قبلَ قَبْضِه، ويَدْخُلُ المَبِيعُ في مِلْك المُشْتَرِي وضَمانِه، ويَجُوزُ له التَّصَرُّف فيه بنَفْسِ العَقْدِ، فصارَ كما لو قَبَضَه المُشْتَرِي. واللهُ أعْلَمُ.

2429 - مسألة: (ولو ورث اثنان شقصا عن أبيهما، فباع أحدهما نصيبه، فالشفعة بين أخيه وشريك أبيه)

وَإذَا وَرِثَ اثْنَانِ شِقْصًا عَنْ أبِيهِمَا، فَبَاعَ أحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَالشُّفْعَةُ بَينَ أخِيهِ وَشَرِيكِ أبِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2429 - مسألة: (ولو وَرِثَ اثْنان شِقْصًا عن أبيِهما، فباعَ أحَدُهما نَصِيبَه، فالشُّفْعَةُ بينَ أخِيه وشَرِيكِ أبيه) وبه قال أبو حنيفةَ، والشّافعيُّ في الجَدِيدِ. وقال في القَدِيمِ: الأخُ أَحَقُّ بالشُّفْعَةِ. وبه قال مالكٍ؛ لأنَّ أخَاه أخَصُّ بشَرِكَتِه مِن شَرِيك أبِيه، لاشْتِراكِهِما في سَبَبِ المِلْكِ. ولَنا، أنَّهما شَرِيكان حال ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، فكانت بينَهما، كما لو مَلَكُوا كلُّهم بسَببٍ واحِدٍ، ولأنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الدّاخِلِ على شُركائِه بسَبَبِ شَرِكَتِه، وهو مَوْجُود في حَقِّ الكلِّ، وما ذَكَرُوه لا أصْلَ له، ولم يَثْبُتِ اعْتِبارُ الشَّرْعِ له في مَوْضِع، والاعْتِبارُ بالشَّرِكَةِ لا بسَبَبِها. وهكذا لو اشْتَرَى رجلٌ نِصْفَ دارٍ ثم اشْتَرَى اثْنانِ نِصْفَها الآخَرَ، أو وَرِثاه، أو اتَّهَباه، أو وَصَل إليهما بسَبَبٍ مِن أسْبابِ المِلْكِ، فباعَ أحَدُهما نَصِيبَه، أو وَرِثَ ثلاثةٌ دارًا فباعَ أحَدُهُم نَصِيبَه مِن اثْنَين، ثم باعَ أحَدُ الشَّرِيكَين نَصِيبَه، فالشُّفْعَةُ بينَ جَمِيعِ الشُّرَكاءِ. وكذلك لو مات رجلٌ وخَلَّف ابْنَين وأخْتَين، فباعَتْ إحْدَى البِنْتَين نَصِيبَها، أو إحدى الأخْتَين، فالشُّفعَةُ بينَ جَمِيعِ الشُّرَكاءِ. ولو ماتَ رجل وتَرَك ثَلاثَةَ بَنينَ وأرْضًا، فماتَ أحَدُهُم عن ابْنَين، فباعَ أحَدُ العَمَّين نَصِيبَه، فالشُّفْعَةُ بينَ أخِيه وابْنَيْ

2430 - مسألة: (ولا شفعة لكافر على مسلم)

وَلَا شُفْعَةَ لِكَافِر عَلَى مُسْلِم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخِيه. ولو خَلَّف ابْنَين [وأوْصَى] (¬1) بثُلُثِه لاثْنَين، فباعَ أحَدُ (¬2) الوَصِيِّين، أو أحَدُ الابنَين، فالشُّفْعَةُ بينَ شُرَكائِه كلِّهم. ولمُخَالِفِينا في هذه المسائِل اخْتِلافٌ يَطُولُ ذِكْرُه. 2430 - مسألة: (ولا شُفْعَةَ لكافِر على مُسْلِم) رُوِيَ ذلك عن الحَسَنِ، والشَّعْبِيِّ. وقال الثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشّافعيّ، وأصحابُ الرَّأي، وجَماعَة مِن أهلِ العِلْمِ: تَجبُ له الشُّفْعَةُ؛ لعمُومِ قولِه عليه السلامُ: «لَا يَحِل لَهُ أن يبيعَ حَتَّى يَسْتَأذِنَ شَرِيكَه، وَإنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أحقُّ بِهِ» (¬3). ولأنَّه خِيَارٌ ثَابِت لدَفْعِ الضَّرَرِ بالشِّراءِ، فاسْتَوَى فيه المُسْلِمُ والكافِرُ، كالرَّدِّ بالعَيبِ. ولَنا، ما روَى الدَّارقُطنيُّ، في كِتابِ «العِلَلِ»، بإسْنادِه عن أنس، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا شُفْعَةَ ¬

(¬1) في م: «أو وصى». (¬2) بعده في م: «الشريكين». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 357.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِنَصْرَانِيٍّ» (¬1). وهذا يَخُصُّ عُمُومَ ما احْتَجُّوا به. ولأنَّه مَعْنًى يَخْتَصُّ العَقارَ، فأشْبَهَ الاسْتِعلاءَ في البُنْيانِ، يُحَقِّقُه أن الشُّفْعَةَ إنَّما تثْبُتُ للمُسْلِمِ دَفْعًا للضرَرِ عن مِلْكِه، وقُدِّمَ دَفْعُ ضَرَرِه على دَفْعِ ضَرَرِ المُشْتَرِي، ولا يَلْزَمُ مِن تَقْدِيمِ دَفْعِ ضَرَرِ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ تَقْدِيمُ دَفْعِ ضَرَرِ الذِّمِّيِّ، فإنَّ حَقَّ المُسْلِمِ أرْجَحُ، ورِعايَتَه أوْلَى، ولأن ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ في مَحَلِّ الإجْماعِ على خِلافِ الأصْلِ، رِعايَة لحَقِّ الشَّرِيكِ المسلمِ، وليس الذِّمِّي في مَعْنَى المسلمِ، فيَبْقَى فيه على مُقْتَضَى الأصْلِ. وتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ للمسلمِ على الذِّمِّيِّ؛ لعُمُومِ الأدِلَّةِ، ولأنَّها إذا ثَبَتَتْ للمسلمِ على المسلمِ مع عِظَمِ حُرْمَتِه، فلأنْ تَثْبُتَ على الذِّمِّيِّ مع دَنَاءته أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 108، 109. وصوب أنَّه من قول الحسن البصري. وكذلك الدارقطني. وانظر إرواء الغليل 5/ 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَثْبُتُ للذِّمِّيِّ على الذِّمِّيِّ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ، ولأنَّهما تَساوَيَا في الدِّينِ، فتَثْبُتُ لأحَدِهما على الآخرِ، كالمُسْلِمَينِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. فإن تَبايَعُوا بخَمْر أو خِنْزِير، وأخَذَ الشَّفِيعُ بذلك، لم يُنْقَضْ ما فعلُوه. وإن جَرَى التَّقابُضُ بينَ المُتَبايِعَين دُونَ الشَّفِيعِ، وتَرافَعُوا إلينا، لم نَحْكُمْ له بالشُّفْعَةِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو الخَطَّابِ: إن تَبايَعُوا بخَمْرٍ، وقُلْنا: هي مالٌ لهم. حَكَمْنا له (¬1) بالشُّفْعَةِ. وقال أبو حنيفةَ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إذا كان الثَّمَنُ خَمْرًا؛ لأنَّها مالٌ لهم، فأشْبَهَ ما لو تَبايَعُوا بدَرَاهِمَ، لكنْ إن كان الشَّفِيعُ ذِمِّيًّا، أخَذَه بمِثْلِه، وإن كان مُسْلِمًا، أخَذَه بقِيمَةِ الخَمْرِ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ بخَمْر، فلم تَثْبُتْ فيه الشُّفْعَةُ، كما لو كان بينَ مُسْلِمَين ولأنَّه عَقْدٌ بثَمَن مُحَرَّم، أشْبَهَ البَيعَ بالخِنْزِيرِ والمَيتَةِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الخَمْرَ مالٌ لهم (¬2)؛ فإن اللهَ تَعالى حَرَّمَه كما حَرَّمَ الخِنْزِيرَ، واعْتِقادُهُم حِلَّه لا يَجْعَلُه مالًا، كالخِنْزِيرِ، وإنَّما لم يُنْقَضْ عَقْدُهُم إذا تَقابَضُوا؛ لأنَّنا لا نَتَعَرَّضُ لما فَعَلُوه مِمَّا يَعْتَقِدُونه في دِينهم ما لم يَتَحاكَمُوا إلينا قبلَ تَمامِه، ولو تحاكَمُوا إلينا قبلَ التَّقابُضِ لَفَسَخْناه. فأمَّا أهْلُ البِدَعِ فتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لمَن حَكَمْنا بإسْلامِه منهم، كالفاسِقِ بالأفْعالِ؛ لعُمُوم الأدِلَّةِ التي ذَكَرْناها. وروَى حَرْبٌ عن أحمدَ، أنَّه سُئِلَ عن أصحابِ البِدَعِ، هل لهم شُفعَةٌ؟ وذُكِرَ له عن ابنِ إدْرِيسَ أنَّه قال: ¬

(¬1) في م: «لهم». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس للرّافِضَةِ شُفْعَة؟ فضَحِكَ، وقال: أراد أن يُخْرِجَهُم مِن الإسْلامِ. فظاهِرُ هذا أنَّه أثْبَتَ لهم الشُّفْعَةَ، وهذا مَحْمُولٌ على غيرِ الغُلاةِ منهم، فأمَّا الغُلاةُ، كالمُعْتَقِدِ أنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ في الرِّسَالةِ فجاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما أرْسِلَ إلى عليٍّ، ونحوه، ومَن حُكِمَ بكُفْرِه مِن الدُّعاةِ إلى القَوْلِ بخَلْقِ القرآنِ، فلا شُفْعَةَ له؛ لأنَّ الشُّفْعَةَ إذا لم تثْبُتْ للذِّمِّيِّ الذي يُقَرُّ على كُفْرِه، فغيرُه أوْلَى. فصل: وتَثْبُتُ الشُّفعَةُ للبَدَويِّ على القَرَويِّ، وللقَرَويِّ على البَدَويِّ، في قولِ أكثرَ أهْلِ العِلْمِ. وقال الشَّعْبِيُّ، والبَتِّيُّ: لا شُفْعَةَ لمَن لم يَسْكُن المِصْرَ. وعُمُومُ الأدِلةِ واشْتِرِاكُها في المَعْنَى المُقْتَضِي لوُجُوبِ الشًّفْعَةِ يَدُلُّ على ثبوتِها لهم. فصل: قال أحمدُ، في رِوايَةِ حَنْبَل: لا نَرَى في أرْضِ السَّوادِ شُفْعَةً؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، وَقَفَها على المُسْلِمِينَ، فلا يَجُوزُ بَيعُها، والشُّفْعَةُ إنَّما تكونُ في البَيعِ. وكذلك الحُكْمُ في سائِرِ الأرْضِ التي وَقَفَها عمرُ، وهي التي فُتِحَتْ عَنْوَةً في زَمَنِه ولم يَقْسِمْها، كأرْضِ الشّامِ ومِصْرَ. وكذلك كلُّ أرْض فُتِحَتْ عَنْوَةً ولم تُقْسَمْ بينَ الغانِمِينَ، إلَّا أن يَحْكُمَ بِبَيعِها حاكِمٌ، أو يَفْعَلَه الإمامُ أو نائِبُه، فإن فَعَل ذلك ثَبَتَت فيه الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه فَصْل مُخْتَلَفٌ فيه، ومتى حَكَم الحاكِمُ في المُخْتَلَفِ فيه بشيءٍ، نَفَذ حُكْمُه.

2431 - مسألة: (وهل تجب الشفعة للمضارب على رب المال، أو لرب المال على المضارب فيما يشتريه من مال المضاربة؟ على وجهين)

وَهَلْ تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، أوْ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا يَشتَرِيهِ لِلْمُضَارَبَةِ؟ عَلَى وَجهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2431 - مسألة: (وهل تَجِبُ الشُّفْعَةُ للمُضارِبِ على رَبِّ المالِ، أو لرَبِّ المالِ على المُضارِبِ فيما يَشْتَرِيه مِن مالِ المُضارَبَةِ؟ على وَجْهَين) إذا بِيعَ شِقْصٌ في شَرِكَةِ مالِ المُضارَبَةِ، فللعامِلِ الأخْذُ بها إذا كان الحَظُّ فيها، فإن تَرَكَها فلرَبِّ المالِ الأخْذُ؛ لأنَّ مال المُضاربَةِ مِلْكُه، ولا يَنْفُذُ عَفْوُ العامِلِ؛ لأنَّ المِلْكَ لغيرِه، فلم يَنْفُذْ عَفْوُه، كالمَأذُونِ له. فإنِ اشْتَرَى المُضارِبُ بمالِ المُضارَبَةِ شِقْصًا في شَرِكَةِ رَبِّ المالِ، فهل لرَبِّ المالِ فيه شُفْعَة؟ على وَجْهَين مَبْنِيَّيْن على شِرَاءِ رَبِّ المالِ مِن مالِ المُضارَبَةِ، وقد ذَكَرْناهُما. وإن كان المُضارِبُ شَفِيعَه، ولا رِبْحَ في المالِ، فله الأخْذُ بها؛ لأنَّ المِلْكَ لغيرِه. وإن كان فيه رِبْح، وقُلْنا: لا يَمْلِكُ بالظُّهُورِ. فكذلك. وإن قُلْنا: يَمْلِكُ بالظُّهُورِ. ففيه وَجْهان، كرَبِّ المالِ. ومَذْهَبُ الشَّافعيِّ في هذا كلِّه على ما ذَكَرْنا. فإن باعَ المُضارِبُ شِقْصًا في شَرِكَتِه، لم يَكُنْ له أخْذُه بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّه مُتَّهَم، فأشْبَهَ شِراءَه مِن نَفْسِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كانت دارٌ بينَ ثَلاثةٍ، فقارَضَ واحِدٌ منهم أحَدَ شَرِيكَيه بألْفٍ، فاشْتَرَى به نِصْفَ نَصِيبِ الثالثِ، لم تَثْبُتْ فيه شُفْعَة في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ أحَدَ الشَّرِيكَين رَبُّ المالِ، والآخَرَ العامِلُ، فهما كالشَّرِيكَين في المَتاعِ، فلا يَسْتَحِقُّ أحَدُهما على الآخَرِ شُفْعَةً. وإن باعَ الثَّالِثُ باقيَ نَصِيبِه لأجْنَبِي، كانتِ الشُّفْعَةُ مُسْتَحَقَّةً بينَهم أخْماسًا، لرَبِّ المالِ خُمْساها (¬1)، وللعامِلِ مِثْلُه، ولمالِ (¬2) المُضارَبَةِ خُمْسُها بالسُّدْسِ الذي له، فيُجْعَلُ مالُ المُضارَبَةِ كشَرِيكٍ آخَرَ؛ لأنَّ حُكْمَه مُتَمَيِّز عن مالِ كلِّ واحِدٍ منهما. ¬

(¬1) في الأصل: «خمساه». (¬2) في م: «لرب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ الدّارُ بينَ ثَلاثة أثْلاثًا، فاشْتَرَى أجْنَبِيٌّ نَصِيبَ أحَدِهِم، فطالبَه أحَدُ الشَّرِيكَين بالشُّفْعَةِ، فقال: إنَّما اشْتَرَيتُه لشَرِيكِك. لم تُؤَثِّرْ هذه الدَّعْوَى في قَدْرِ ما يَسْتَحِقُّ مِن الشُّفْعَةِ، فإن الشُّفْعَةَ بينَ الشَّرِيكَين نِصْفَين، سَواءٌ اشْتَراها الأجْنَبِيُّ لنَفْسِه أو للشَّرِيكِ الآخَرِ. وإن تَرَك المُطالِبُ بالشُّفْعَةِ حَقَّه منها بِناءً على هذا القولِ، ثم تَبَيَّنَ كَذِبُه، لم تَسْقُطْ شُفْعَتُه. وإن أخَذَ نِصْفَ المَبِيعِ لذلك (¬1)، ثم تَبَيَّنَ كَذِبُ المُشْتَرِي، وعَفَا الشَّرِيكُ عن شُفْعَتِه، فله أخْذُ نصِيبِه مِن الشُّفْعَةِ؛ لأنَّ اقْتِصارَه على أخْذِ النِّصْفِ انْبَنَى على خَبَرِ المُشْتَرِي، فلم يُؤَثِّرْ في إسْقاطِ الشُّفْعَةِ، واستَحَقَّ أخْذَ الباقِي لعَفْو شَرِيكِه عنه. وإنِ امْتَنَعَ مِن أخْذِ الباقِي سَقَطَتْ شُفْعَتُه كلُّها، لأنَّه لا يمْلِكُ تَبْعِيضَ صَفقَةِ المُشْتَرِي. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْقُطَ حَقِّه مِن النِّصْفِ الذي أخَذَه، ولا يَبْطُلُ أخْذُه له، لأنَّ المشَترِيَ أقَرَّ بما تَضَمَّنَ اسْتِحْقاقَه لذلك، فلا يَبْطُلُ برُجُوعِه عن إقْرارِه. وإن أنْكرَ الشَّرِيكُ كَوْنَ الشِّراءِ له، وعَفَا عن شُفْعَتِه، وأصَرَّ المُشْتَرِي على الإقْرارِ للشَّرِيكِ به، فللشَّفِيعِ أخْذُ الكُلِّ؛ لأنَّه لا مُنازِعَ له في اسْتِحْقاقِه، وله الاقْتِصارُ على النِّصْفِ، لإقْرارِ المُشْتَرِي له باسْتِحْقاقِ ذلك. ¬

(¬1) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال أحَدُ الشَّرِيكَين للمُشْتَرِي: شِراؤكَ باطِلٌ. وقال الآخَرُ: هو صَحِيحٌ. فالشُّفْعَةُ كلها للمُعْتَرِفِ بالصِّحّةِ. وكذلك إن قال: ما اشْتَرَيتُه، إنَّما اتَّهَبْتُه. وصَدَّقَه الآخَرُ أنَّه اشْتَراه، فالشفْعَةُ للمُصَدِّقِ بالشِّراءِ؛ لأنَّ شَرِيكَه مُسْقِطٌ لحَقِّه باعْتِرافِه أنَّه لا بَيعَ، أو لا بَيعَ صَحِيحٌ. ولو احْتال المُشْتَرِي على إسْقاطِ الشُّفْعَةِ بحِيلَةٍ لا تُسْقِطُها، فقال أحَدُ الشَّفِيعَين: قد سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ. تَوَفَّرَتْ على الآخَرِ؛ لاعْتِرافِ صاحِبِه بسُقُوطِها. ولو تَوَكَّلَ أحَدُ الشَّفِيعَين في البَيعِ أو الشِّراءِ، أو ضَمِن عُهْدَةَ المَبِيعِ، أو عَفَا عن الشُّفْعَةِ قبلَ البَيعِ، وقال: لا شُفْعَةَ لي؛ لذلك. تَوَفَّرَتْ على الآخَرِ. وإنِ اعتَقَدَ أنَّ له شُفْعَةً، وطالبَ بها، فارْتَفَعا إلى حاكِم، فحَكَمَ بأنَّه لا شُفْعَةَ له، تَوَفَّرَتْ على الآخرِ؛ لأنَّها سَقَطَتْ بحُكْمِ الحاكِمِ، فأشْبَهَ ما لو سَقَطَتْ بإسْقاطِ المُسْتَحِقِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا ادَّعَى رجلٌ على آخَرَ ثُلُثَ دار، فأنكَرَه، ثم صالحَه عن دَعْواه بثُلُثِ دار أخْرَى، صَحَّ، ووَجَبَتِ الشُّفْعَةُ في الثُّلُثِ المصالحِ به؛ لأنَّ المُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّه مُحِقٌّ في دَعْواه، وأنَّ ما أخَذَه عِوَضٌ عن الثُّلُثِ الذي ادَّعاه، فلَزِمَه حُكْمُ دَعْواه، ووَجَبَتِ الشُّفْعَةُ، ولا شُفْعَةَ على المُنْكِر في الثُّلُثِ المُصالحِ عنه؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّه على مِلْكِه لم يَزُلْ، وإنَّما دَفَع ثُلُثَ دارِه إلى المُدَّعِي اكْتِفاءً لشَرِّه ودَفْعًا لضَرَرِ الخُصُومَةِ واليَمينِ عن نَفْسِه، فلم تَلْزَمْه فيه شُفْعَة. وإن قال المُنْكِرُ للمُدَّعِي: خُذِ. الثُّلُثَ الذي تَدَّعِيه بثُلُثِ دارِكَ. ففَعَلَ، فلا شُفْعَةَ على المُدَّعِي فيما أخَذَه، وعلى المُنْكِرِ الشُّفْعَةُ في الثُّلُثِ الذي يَأخُذُه؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّه أخَذَه عِوَضًا عن مِلْكِه الثابِتِ له. وقال أصحابُ الشَّافعيِّ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الثُّلُثِ الذي أخَذَه المُدَّعِي أيضًا؛ لأنَّها مُعاوَضَة مِن الجانِبَين بشِقْصَين، فوَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فيهما، كما لو كانت بينَ مُقِرَّين. ولَنا، أنَّ المُدَّعِيَ يَزْعُمُ أنَّ ما أخَذَه كان مِلْكًا له قبلَ الصُّلْح، ولم يَتَجَدَّدْ له عليه مِلْكٌ، وإنَّما اسْتَنْقَذَه بصُلْحِه، فلم تَجِبْ فيه شُفْعَة، كما لو أقَرَّ له به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كانت دارٌ بينَ ثلاثةٍ أثْلاثًا، فاشْتَرَى أحَدُهُم نَصِيبَ أحَدِ شَرِيكَيه، ثم باعَه لأجْنَبِي، ثم عَلِم شَرِيكُه، فله أن يَأخُذَ بالعَقْدَين، وله الأخْذُ بأحَدِهما؛ لأنَّه شَرِيكٌ فيهما. فإن أخَذَ بالعَقْدِ الثَّاني أخَذَ جَميع ما في يَدِ مُشْتَرِيه؛ لأنَّه لا شَرِيكَ له في شُفْعَتِه. وإن أخَذَ بالعَقْدِ الأوَّلِ، ولم يَأخُذْ بالثَّاني، أخذَ نِصْفَ المَبِيعِ، وهو السُّدْسُ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ شَرِيكُه في شُفْعَتِه، ويَأخُذُ نِصْفَه مِن المُشْتَرِي الأوَّلِ، ونِصْفَه مِن المُشْتَرِي الثَّاني؛ لأنَّ شَرِيكَه لمّا اشْتَرَى الثُّلُثَ كان بينَهما نِصْفين، لكلِّ واحِدٍ منهما السُّدْسُ، فإذا باع الثُّلُثَ مِن جَمِيعِ ما في يَدِه، وفي يَدِه ثُلُثان، فقد باع نِصْفَ ما في يَدِه، والشَّفِيعُ يَسْتَحِقُّ رُبْعَ ما في يَدِه، وهو السُّدْسُ، فصارَ مُنْقَسِمًا في يَدَيهِما نِصْفَين، فيَأخُذُ مِن كلِّ واحِدٍ منهما نِصفَه، وهو نِصْف السُّدْسِ، ويَدْفَعُ ثَمَنَه إلى الأوَّلِ، ورْجِعُ المُشْتَرِي الثَّاني على الأوَّلِ برُبْعِ الثَّمَنِ الذي اشْتَرى به، وتكونُ المسألةُ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، ثم تَرْجِعُ إلى أرْبَعَةٍ، للشَّفِيعِ نِصْف الدّارِ، ولكلِّ واحِدٍ مِن الآخَرَين الرُّبْع. وإن أخَذَ بالعَقْدَين أخَذَ جَمِيعَ ما في يَدِ الثَّاني ورُبْعَ ما في يَدِ الأوَّلِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصارَ له ثَلاثةُ أرْباعِ الدّارِ، ولشَرِيكِه الرُّبْعُ، ويَدْفَعُ إلى الأوَّلِ نِصْفَ الثَّمَنِ الأوَّلِ، ويَدْفَعُ إلى الثَّاني ثَلاثةَ أرْباعِ الثَّمَنِ الثَّاني، ويَرْجِعُ الثَّاني على الأوَّلِ برُبْع الثَّمَنِ الثَّاني؛ لأنَّه يَأخُذُ نِصْفَ ما اشْتَراه الأوَّلُ، وهو السُّدْسُ، فيَدْفعُ إليه نِصْفَ الثَّمَنِ؛ لذلك، وقد صار نِصْفُ هذا النِّصْفِ في يَدِ الثَّاني، وهو رُبْعُ ما في يَدِه، فيَأخُذُه منه، ويَرْجِعُ الثَّاني على الأوَّلِ بثَمَنِه، وبَقِيَ المَأخُوذُ مِن الثَّاني ثَلاثةَ أرْباعِ ما اشْتَراه، فأخَذَها منه، ودَفَع إليه ثلاثةَ أرْباعِ الثَّمَنِ. وإن كان المُشتَرِي الثَّاني هو البائِعَ الأولَ، فالحُكْمُ على ما ذَكَرْنا، لا يَخْتَلِفُ. وإن كانتِ الدّارُ بينَ الثلاثةِ أرْباعًا، لأحَدِهم نِصْفُها وللآخَرَين نِصْفُها بينَهما، فاشْتَرَى صاحِبُ النِّصْفِ مِن أحَدِ شَرِيكَيه رُبْعَه، ثم باعَ رُبْعًا مِمَّا في يَدِه لأجْنَبِي، ثم عَلِم شَرِيكُه فأخَذَ بالبَيعِ الثَّاني، أخَذَ جَمِيعَه، ودَفَع إلى المُشْتَرِي ثَمَنَه. وإن أخَذَ بالبَيعِ الأوَّلِ وحدَه، أخَذَ ثُلُثَ المَبِيعِ، وهو نِصْفُ سُدْسٍ؛ لأنَّ المَبِيعَ كلَّه رُبْعٌ، فثُلُثُه نِصْفُ سُدْس، ويَأخُذُ ثُلُثَيه مِن المُشْتَرِي الأوَّلِ، وثُلُثَه مِن الثَّاني، ومَخْرَج ذلك مِن سِتَّةٍ وثَلاثينَ، النِّصْفُ ثمانِيَةَ عَشرَ، ولكلِّ واحِدٍ منهما تِسْعَة، فلما اشْتَرَى صاحِبُ النِّصْفِ تِسْعَةً، كانت شُفْعَتُها بينَه وبينَ شَرِيكِه الذي لم يَبعْ أثْلاثًا، لشَرِيكِه ثُلُثُها ثَلاثة، فلما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باعَ صاحِبُ النِّصْفِ ثُلُثَ ما في يَدِه، حَصَل في المَبِيع مِن الثلاثةِ ثُلثها، وهو سَهْمٌ، بَقِيَ في يَدِ البائِعِ منها سَهْمان، فتُرَدُّ الثلاثةُ إلى الشَّرِيكِ، يَصِيرُ في يَدِه اثْنَا عَشَرَ، وهي الثُّلُثُ، ويبقى في يَدِ المُشْتَرِي الثَّاني ثَمانِيَةٌ، وهي تُسْعانِ، وفي يَدِ صاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةَ عَشَرَ، وهي أرْبعةُ أتْساع، ويَدفَعُ الشَّرِيكُ الثَّمَنَ إلى المُشْتَرِي الأوَّلِ ويَرْجِعُ المُشْتَرِي الثَّاني عليه بتُسْعِ الثَّمَنِ الذي اشْتَرَى به؛ لأنَّه قد أخَذَ منه تُسْعَ مَبِيعِه، وإن أخَذَ بالعَقْدَين، أخَذَ مِن الثَّاني جَمِيعَ ما في يَدِه، وأخَذَ مِن الأوَّلِ نِصْفَ التُّسْعِ، وهي سَهْمانِ مِن سِتَّةٍ وثَلاثينَ، فيَصِيرُ في يَدِه عشْرُونَ سَهْمًا، وهي خَمْسَةُ أتْساع ويَبْقَى في يَدِ الأوَّلِ سِتَّةَ عَشَرَ سهْمًا، وهي أرْبَعَةُ أتْساع، ويَدْفَعُ إليه ثُلُثَ الثَّمَنِ الأوَّلِ، ويَدْفَعُ إلى الثَّاني ثَمانِيَةَ أتْساعِ الثَّمَنِ الثَّاني، ويَرْجِعُ الثَّاني على الأوَّلِ بتُسْعِ الثَّمَنِ الثَّاني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كانت دارٌ بينَ ثلاثةٍ؛ لزَيدٍ نِصْفُها، ولعَمْرو ثُلثها، ولبَكْرٍ سُدْسُها، فاشْتَرَى بَكْرٌ مِن زَيدٍ ثُلُثَ الدّارِ، ثم باع عَمْرًا سُدْسَها، ولم يَعْلَمْ عَمْرُوٌ بشِرائِه للثُّلُثِ، ثم عَلِم، فله المُطالبَةُ بحَقِّه مِن شُفْعَةِ الثُّلُثِ، وهو ثُلُثاه، وهو تُسْعَا الدّارِ، فيَأخُذُ مِن بَكْر ثُلُثَيْ ذلك، وقد حَصَل ثُلُثُه الباقِي في يَدِه بشِرائِه للسُّدْسِ، فيَفْسَخُ بَيعَه فيه، ويَأخُذُه بشُفْعَةِ البَيعِ الأوَّلِ، ويَبْقَى مِن بَيعِه خَمْسَةُ أتْساعِه، لزَيدٍ ثُلُث شُفْعَتِه، فتُقْسَمُ بينَهما أثلاثًا. وتَصِحُّ المسألةُ مِن مائةٍ واثْنَين وسِتِّين سَهْمًا، الثُّلُثُ المَبِيعُ أرْبَعَة وخَمْسُونَ، لعَمْرو ثُلُثاهَا بشُفْعَتِه سِتَّة وثَلاثونَ سَهْمًا، يَأخُذُ ثُلُثَيها مِن بَكْرٍ، وهي أرْبَعَة وعِشْرُونَ سَهْمًا، وثُلُثُها في يَدِه اثْنا عَشَرَ سَهْمًا، والسُّدْسُ الذي اشْتَراه سَبْعَة وعِشْرُونَ سَهْمًا، قد أخَذَ منها اثْنيْ عَشَرَ بالشُّفْعَةِ، بَقِيَ منها خَمْسَةَ عَشَرَ، له ثُلُثاها عَشَرَة، ويَأخُذُ منها زَيدٌ خَمْسَةً، فحَصَلَ لزَيدٍ اثْنانِ وثَلاثونَ سهْمًا، ولبَكْر ثَلاثونَ سَهْمًا، ولعَمْرو مائةُ سَهْمٍ، وذلك نِصْف الدّارِ وتُسْعُها ونِصْفُ تُسْعِ تُسْعِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَدْفَعُ [عَمْروٌ إلى بَكْر] (¬1) ثُلُثَي الثَّمَنِ في البَيعِ الأوَّلِ، وعلى زَيدٍ خَمْسَةُ أتْساعِ الثَّمَنِ الثَّانِي بينَهما أثْلاثًا. فإن عَفَا عَمْرو عن شُفْعَةِ الثُّلُثِ، فشُفْعَةُ السُّدْسِ الذي اشْتَراه بينَه وبينَ زَيدٍ أثلاثًا، ويَحْصُلُ لعَمْرو أرْبَعَةُ أتْساعِ الدّارِ، ولزَيدٍ تُسْعاها، ولبَكْر ثُلثها، وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وإن باعَ بَكْرٌ السُّدْسَ لأجْنَبِي فهو كبَيعِه إيّاه لعَمْرو، إلَّا أنَّ لعَمْرو العَفْوَ عن شُفْعَتِه في السُّدْسِ، بخِلافِ ما إذا كان هو المُشْتَرِيَ، فإَّنه لا يَصِحُّ عَفْوُه عن نَصِيبِه منها. وإن باع بَكْر الثُّلُثَ لأجْنَبِي، فلعَمْرو ثُلُثَا شُفْعَةِ المَبِيعِ الأوَّلِ وهو التُّسْعانِ، يَأخُذُ ثُلُثَهُما مِن بَكْر وثُلُثَيهِم مِن المُشْتَرِي الثَّاني، وذلك تُسْعٌ وثُلُثُ تسع، يَبْقَى في يَدِ الثَّاني سُدْسٌ وسُدْسُ تُسْع، وهو عَشَرَة مِن أرْبَعَةٍ وخَمْسِينَ بينَ عَمْرو وزَيدٍ أثلاثًا، وتَصِحُّ أيضًا مِن مائةٍ واثْنَين وسِتِّينَ، ويَدْفَعُ عَمْرو إلى بَكْر ثُلُثَيْ ثَمَنِ مَبِيعِه، ويَدْفَعُ هو وزَيدٌ إلى المُشْتَرِي الثَّاني ثَمَنَ خَمْسَةِ أتْساعِ مَبِيعِه بينَهما أثلاثًا، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي الثَّاني على بَكْر بثَمَنِ أرْبَعَةِ أتْساعِ مَبِيعِه. وإن لم يَعْلَمْ عَمْروٌ حتَّى باع مِمَّا في يَدَيه سُدْسًا، لم تَبْطُلْ شُفْعَتُه في أحَدِ الوجوه، وله أن يَأخُذَ بها كما لو لم يَبع شيئًا. والثَّاني، تَبْطُلُ شُفْعَتُه كلُّها. والثَّالثُ، تَبْطُلُ في قَدْرِ ما باع، وتبْقَى فيما لم يَبعْ. وقد ذَكَرْنا تَوْجِيهَ هذه الوُجُوهِ. فأمَّا شُفْعَةُ ما باعَه، ففيها ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنَّها بينَ المُشْتَرِي الثَّاني وزَيدٍ ¬

(¬1) في م: «بكر إلى عمرو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَكْر أرْباعًا، للمُشْتَرِي نِصْفُها، ولكلِّ واحِدٍ منهما (¬1) رُبْعُها، على قَدْرِ أمْلاكِهِم حينَ بَيعِه. والثاني، أنَّها بينَ زَيدٍ وبَكْر على أرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لزَيدٍ تِسْعَة، ولبَكْر خَمْسَة؛ لأنَّ لزَيدٍ السُّدْسَ، ولبَكْر سُدْسٌ يَسْتَحِقُّ منه أرْبَعَةَ أتْساعِه بالشُّفْعَةِ، فيَبْقَى معه خَمْسَةُ أتْساعِ السُّدْسِ مِلْكُه مُستَقِرٌّ عليها، فأضَفْناه (¬2) إلى سُدْسِ زَيدٍ، وقَسَمْنا الشُّفْعَةَ على ذلك، ولم نُعْطِ المُشْتَرِيَ الثانيَ ولا بَكْرًا بالسِّهامِ المُسْتحَقَّةِ بالشُّفْعَةِ شيئًا؛ لأنَّ المِلْكَ عليها غيرُ مُسْتَقِرٍّ. والثَّالثُ، إن عَفَا لهم عن الشُّفْعَةِ اسْتَحَقُّوا بها، وإن أُخِذَتْ بالشُّفْعَةِ لم يَسْتَحِقُّوا بها شيئًا، وإن عَفَا عن بعضِهم دُونَ بعض، اسْتَحَق المَعْفُوُّ عنه بسِهَامِه دُونَ غيرِ المَعْفُوِّ عنه. وما بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ فيه ببَيعِ عَمْرو، فهو بمَنْزِلةِ المَعْفُوِّ عنه، فيُخَرَّجُ في قَدْرِه وَجْهانِ. ولو اسْتَقْصَينا فُرُوعَ هذه المسألةِ على سَبِيلِ البَسْطِ، لطَال، وخَرَجَ إلى الإمْلالِ. فصل: إذا كانت دارٌ بينَ أرْبَعَةٍ أرْباعًا، فاشْتَرَى اثْنانِ منهم نَصِيبَ أحَدِهم، اسْتَحَقَّ الرّابع الشُّفْعَةَ عليهما، واسْتَحَق كلُّ واحِدٍ مِن المُشْتَرِيَيْن الشُّفْعَةَ على صاحِبِه. فإن طالبَ كلُّ واحِدٍ منهم بشُفْعَتِه، قُسِمَ المَبِيعُ بينَهم أثلاثًا، وصارتِ الدّارُ بينَهم كذلك، وإن عَفَا الرّابع وحدَه، قُسِمَ المَبِيعُ بينَ المُشْتَرِيَين نِصْفَين. وكذلك إن عَفَا الجَمِيعُ عن ¬

(¬1) في م: «منهم». (¬2) في م: «فأضفناها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُفْعَتِهم، فيَصِيرُ لهما ثلاثةُ أرْباعِ الدَّارِ، وللرّابع الرُّبعُ بحالِه. وإن طالبَ الرابعُ وحدَه، أخَذَ منهما نِصْفَ المَبِيعِ؛ لأنَّ كلِّ واحِدٍ منهما له مِن المِلْكِ مثلُ ما للمُطالِبِ، فشُفْعَةُ مَبِيعِه بينَه وبينَ شَفِيعِه نِصْفَين، فيَحْصُلُ للرّابع ثلاثةُ أثْمانِ الدّارِ، وباقِيها بينَهما نِصْفَين، وتَصِحُّ مِن سِتَّةَ عَشَرَ. وإن طالبَ الرابعُ وحدَه أحَدَهُما دُونَ الآخَرِ، قاسَمَه الثَّمَنَ نِصْفَين، فيَحْصُلُ للمَعْفُوِّ عنه ثلاثةُ أثْمانٍ، والباقِي بينَ الرابعِ والآخَرِ نِصْفَين، وتَصِحُّ مِن سِتَّةَ عَشَرَ. وإن عَفَا أحَدُ المُشتَرِيَين ولم يَعْفُ الآخَرُ ولا الرابعُ، قسِمَ مَبِيعُ المَعْفُوِّ عنه بينَه وبينَ الرابع نِصْفين، ومِبيعُ الآخرِ بينَهم أثلاثًا، فيَحْصُلُ للذي لم يَعْفُ عنه رُبْع وثُلُثُ ثُمْنٍ، وذلك سُدْسٌ وثُمْن، والباقِي بينَ الآخرَين نِصْفَين، وتَصِحُّ مِن ثَمانِيَةٍ وأرْبَعِينَ. وإن عَفَا الرَّابع عن أحَدِهما، ولم يَعْفُ أحَدُهما عن صاحِبه، أخَذَ مِمَّن لم يَعْفُ عنه ثُلُثَ الثَّمَنِ، والباقِي بينَهما نِصْفَين، ويكَونُ الرَّابع كالعافِي في التي قبلَها، وتَصِحُّ أيضًا مِن ثَمانِيَةٍ وأرْبَعِينَ. وإن عَفَا الرَّابع، وأحَدُهما عن الآخَرِ، ولم يَعْفُ الآخَرُ، فلغيرِ العافِي رُبْعٌ وسُدْسٌ، والباقِي بينَ العافِيَين نِصْفَين، لكل واحِدٍ منهما سُدْسٌ وثُمْنٌ، وتَصحُّ مِن أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ، وما يُفَرَّعُ مِن المَسائِلِ، فهو على سِياقِ (¬1) ما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «مساق».

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب الوديعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب الوَدِيعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الوَدِيعَةِ والأصْلُ فيها الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ فقولُ الله تِعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1). وقَوْلُه تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬2). وأمّا السُّنَّةُ فقولُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أدِّ الأمانَةَ إلَى مَنِ ائتْمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذيُّ (¬3)، وقال: حدِيثٌ حسنٌ. ورُوِيَ عنه، عليه الصَّلاةُ والسلامُ، أنَّه كانت عندَه ودائِعُ، فلَمّا ¬

(¬1) سورة النساء 58. (¬2) سورة البقرة 283. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 260. والترمذي، في: باب حدَّثنا. . . .، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 268. والدارمي، في: باب في أداء الأمانة. . . .، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 264. والإمام أحمد، في: المستند 3/ 414.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أراد الهِجْرَةَ أوْدَعَها عندَ أمِّ أيمَنَ، وأمَرَ عليًّا أن يَرُدَّها على أهْلِها (¬1). وأمّا الإجْماعُ، فأجْمَعَ عُلَماءُ كلِّ عَصْر على جَوازِ الإيداعِ والاسْتِيداعِ، والعِبْرَةُ تَقْتَضِيها؛ لحاجَةِ النّاسِ إليها، فإنَّه يَتَعَذَّر على جَمِيعِهم حِفْظُ أمْوالِهم بأنْفُسِهم، ويَحْتاجُون إلى مَن يَحْفَظُها لهم. والوَدِيعَةُ فَعِيلة، مِن وَدَع الشيءَ: إذا تَرَكَه، أي هي مَتْرُوكَة عندَ المُودَعِ. واشْتِقاقُها بِن السُّكُونِ. يُقالُ: وَدَع، يَدَعُ. فكأنَّها ساكِنَة عندَ المُودَعِ مُسْتَقِرة. وقِيلَ: هي مُشْتَقَّةٌ مِن الحِفْظِ والدَّعَةِ، فكأنَّها في دَعة عندَ المُودَعِ. وقَبُولُها مُسْتَحبٌّ لمَن يَعْلَمُ مِن نَفْسِه الأمانَةَ؛ لأنَّ فيه قَضاءَ حاجَةِ أخِيه المُؤمِنِ ومُعاوَنَتَه. وهي عَقْدٌ جائِزٌ مِن الطَّرَفَين، متى أراد المُودِعُ أخْذَ وَدِيعَتِه لَزِم المُسْتَوْدَعَ رَدُّها؛ للآيَةِ. وإن رَدَّها المُسْتَوْدَعُ على صاحِبِها، لَزِمَه القَبُولُ؛ لأنَّ المُسْتَوْدَعَ مُتَبَرِّعٌ بإمْساكِها، فلا يَلْزَمُه التَّبرُّعُ في المُستقْبَلَ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في الترغيب في أداء الأمانات، من كتاب الوديعة. السنن الكبرى 6/ 289.

2432 - مسألة: (وهي أمانة لا ضمان عليه فيها، إلا أن يتعدى. وإن تلفت من بين ماله، لم يضمن، في أصح الروايتين)

وَهِيَ أمَانةٌ لَا ضَمَانَ عَلَيهِ فِيهَا، إلَّا بَعْدَ أن يَتَعَدَّى. وإنْ تَلِفَتْ مِنْ بَينِ مَالِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، فِي أصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2432 - مسألة: (وهي أمانَةٌ لا ضَمانَ عليه فيها، إلَّا أن يَتَعَدَّى. وإن تَلِفَتْ منِ بينِ مالِه، لم يَضْمَنْ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين) وجُمْلَةُ ذلك أنَّ الوَدِيعَةَ أمانة، إذا تَلِفَتْ مِن غيرِ تَعَدٍّ ولا تفْرِيطٍ مِن المُودَعِ، فليس عليه ضَمان، سَواءٌ ذَهَب معها شيءٌ مِن مالِ المُودَع أو لم يَذهَبْ. هذا قولُ أكْثرِ أهلَ العِلْمَ. رُوِيَ ذلك عن أبي بكر، وعليٍّ، وابنَ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال شُرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ، ومالِكٌ، وأبو الزِّنادِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيُّ، والشّافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأي. وعن أحمدَ رِوايَة، إن ذَهَبَتِ الوَدِيعَة مِن بينِ مالِه ضَمِنَها؛ لِما رُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّه ضَمَّنَ أنَسَ بنَ مالِكٍ وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِن بينِ مالِه (¬1). قال القاضي: والأوَّل أصَحُّ؛ لأنَّ الله تعالى سَمّاها أمانَةً، والضَّمان يُنافِي الأمانَةَ. وروَى الدّارَقطنيُّ (¬2)، لأنَّ عمرِو بنِ شعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيسَ عَلَى الْمُودَعِ ضَمَان». [ولأن المسْتَوْدَعَ مؤتَمَنٌ، فلم يَضْمَنْ ما تَلِف مِن غيرِ تَعَدِّيه ولا تَفْرِيطِه، كما لو ذَهَبَت مع مالِه] (¬3)، ولأنَّ المسْتَوْدَعَ إنَّما يَحْفَطها لصاحِبِها متَبَرِّعًا، مِن غيرِ نَفعٍ يَرْجِع إليه، فلو لَزِمَه الضَّمان لامْتَنَعَ النّاس مِنِ الاسْتِيداعِ، وذلك مضِرٌّ؛ لِما بَيَّناه مِن الحاجَةِ إليها. وما رُوِيَ عن عُمَرَ مَحْمولٌ على التَّفْرِيطِ مِن أنَسٍ في حِفْظِها، فلا ينافِي ما ذَكَرْناه. فإن تَعَدَّى المُودَع فيها، أو فَرَّطَ في حِفظِها، ضَمِنَها، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّه مُتْلِف لمالِ غيره، فضَمِنَه، كما لو أتْلَفَه مِن غير اسْتِيداع. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب لا ضمان على مؤتمن، من كتاب الوديعة. السنن الكبرى 6/ 289. (¬2) في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 41. بنحوه. كما أخرجه ابن ماجة، في: باب الوديعة، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجة 2/ 802. بنحوه أيضًا. (¬3) سقط من: م.

2433 - مسألة: (ويلزمه حفظها في حرز مثلها)

وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَرَط المُودِعُ على المُسْتَوْدَعِ ضَمانَ الوَدِيعَةِ، فقَبِلَه، أو قال: أنا ضامِنٌ لها. لم يَضْمَنْ. قال أحمدُ في المُودَعِ: إذا قال: أنا ضامِنٌ. فسُرِقَتْ، فلا شيءَ عليه. وكذلك كلُّ ما أصْلُه الأمانةُ، كالمُضارَبَةِ، ومالِ الشَّرِكَةِ، والرَّهْنِ، والوَكالةِ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وإسحاق، وابنُ المُنْذِرِ؛ وذلك لأنَّه شَرَط ضَمانَ ما لم يُوجَدْ سَبَبُ ضَمانِه، فلم يَلْزَمْه، كما لو شَرَط ضَمانَ ما يَتْلَفُ في يَدِ مالِكِه. 2433 - مسألة: (ويَلْزَمُه حِفْظُها في حِرْزِ مِثْلِها) إذا أودِعَ وَدِيعَةً، ولم يُعَيِّن، المُودِعُ له مَوْضِعًا لها، فإن المُودَعَ يَلْزَمُه حِفْظُها في حِرْزِ مِثْلِها، كما يَحْفَظُ ماله. وحِرْزُ مِثْلِها يُذْكَر في بابِ القطعِ في السَّرِقَةِ. فإن لم يَحْفَظْها في حِرْزِ مِثْلِها، ضَمِنَها؛ لأنَّه فَرَّطَ فيها، فإن وَضَعَها في حِرْزِ مِثْلِها، [ثم نَقَلَها عنه إلى حِرْزِ مثْلِها] (¬1)، لم يَضْمَنْها، سَواءٌ نَقَلَها إلى مِثْلِ الأوَّلِ أو دُونَه؛ لأنَّ صاحِبَها رَدَّ حِفْظَها إلى رَأيِه واجْتِهادِه، وأذِنَ له في إحْرازِها بما شاء مِن إحْرازِ مِثْلِها، ولهذا لو تَرَكَها في الثَّانِي أوَّلًا، لم يَضْمَنْها، فكذلك إذا نَقَلَها إليه. ولو كانتِ العَينُ في بَيتِ صاحِبِها، فقال لرجل: احْفَظْها في مَوْضِعِها. فنقَلَها عنه مِن غيرِ خَوْفٍ، ضَمِنَها؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2434 - مسألة: (وإن عين صاحبها حرزا، فجعلها في دونه، ضمن)

وإنْ عَيَّنَ صَاحِبُهَا حِرْزًا، فَجَعَلَهَا فِي دُونِهِ، ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه ليس بمُودَعٍ، إنَّما هو وَكِيل في حِفْظِها. وليس له إخْراجُها مِن مِلْكِ صاحِبِها، ولا مِن مَوْضِع اسْتَأجَرَه لها، إلَّا أن يَخافَ عليها، فعليه إخْراجُها؛ لأنَّه مَأمُور بحِفْظِها، وقد تَعَيَّن حِفْظُها في إخْراجِها، ويَعْلَمُ أنَّ صاحِبَها لو حَضَر في هذه الحالِ، أخْرَجَها، ولأنَّه مَأمُور بحِفْظِها على صِفَةٍ، فإذا تعَذَّرَتِ الصِّفَةُ، لَزِمَه حِفْظُها بدُونِها، كالمُسْتَوْدَعِ إذا خاف عليها. 2434 - مسألة: (وإن عَيَّن صاحِبُها حِرْزًا، فجَعَلَها في دُونِه، ضَمِن) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المُودِعَ إذا أمَرَ المُسْتَوْدَعَ بحِفْظِها في مكانٍ عَيَّنه، فحفظَها فيه، ولم يَخْشَ عليها، فلا ضَمانَ عليه، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه مُمْتَثِلٌ، غيرُ مُفرِّطٍ. وإن أحْرَزَها في دُونِه، ضمِن؛ لأنَّه مُخالِف، ولأنَّ صاحِبَها لم يَرْضَه.

2435 - مسألة: (وإن أحرزها في مثله، أو فوقه، لم يضمن)

وإن أحْرَزَهَا بِمِثْلِهِ، أوْ فَوْقَهُ، لَمْ يَضْمَنْ. وَكِيلَ: يَضْمَنُ إلَّا أن يَفْعَلَهُ لِحَاجَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2435 - مسألة: (وإن أحْرَزَها في مِثْلِه، أو فوقَه، لم يَضْمَنْ) وكذلك إن نَقَلَها إلى مِثْلِ ذلك الحِرْزِ لغيرِ جاجَةٍ. هذا قولُ القاضي. وهو مَذْهَبُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ تَقْيِيدَه بهذا الحِرْزِ، يَقْتَضِي ما هو مِثْلُه، كمَن اكْتَرَى أرْضًا لزَرْعِ الحِنْطَةِ، فله زَرْعُها وزَرْعُ مِثْلِها في الضَّرَرِ، ولأن مَن رَضِيَ حِرْزًا، رَضِيَ مِثْلَه أو فوقَه (وقِيلَ: يَضْمَنُ) ويَحْتَمِلُه كَلامُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ الأمْرَ بشيء يقْتَضِي تَعَيُّنه، فلا يُعْدَلُ عنه إلَّا بدَلِيل. وإن نَقَلَها إلى أحْرَزَ منه، فهو كما لو نَقَلَها إلى مِثْلِه، وإن فَعَلَه لحاجَةٍ، لم يَضْمَنْ؛ لِما نَذْكُرُه.

2436 - مسألة: (وإن نهاه)

وَإنْ نَهَاهُ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَأخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ التَّوَى، لَمْ يَضْمَنْ. وَإنْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ. وإن أخْرَجَهَا لِغَيرِ خوْفٍ، ضَمِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2436 - مسألة: (وإن نَهاه) المالِكُ (عن إخْراجِها) فأخْرَجَها (لغَشيانِ شيءٍ الغَالِبُ منه التَّوَى (¬1)، لم يَضْمَنْ. وإن تَرَكَها فتَلِفَتْ، ضَمِنَها. وإن أخْرَجَها لغيرِ خَوْفٍ، ضَمِن) إذا نَهاه المالِكُ عن إخْراجِها مِن ذلك المَكانِ، فالحُكْمُ فيه حُكْمُ ما لو لم يَنْهَه، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ فيه. فإن أخْرَجَها لشيءٍ الغالِبُ منه التَّوَى، مِثْلَ أن خاف عليها نَهْبًا، أو هَلاكًا، لم يَضْمَنْها؛ لأنَّه غيرُ مُفَرِّطٍ في حِفْظِها، لأنَّ حِفْظَها ¬

(¬1) التوى: الهلاك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَقْلُها؛ وتَرْكَها تَضْيِيعٌ لها. وإن نَقَلَها في هذه الحالِ إلى دُونِ الحِرْزِ؛ فإن أمْكَنَه إحْرازُها في مِثْلِه، أو أعْلى منه، ضَمِنَها؛ لتَفْرِيطِه، وإن لم يُمْكِنْه، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ إحْرازَها بذلك أحْفَظُ لها، وليس في وُسْعِه سِواه. وإن تَرَكَها فتَلِفَتْ، ضَمِن، سَواءٌ تَلِفَتْ بالأمْرِ المَخُوفِ أو بغيرِه؛ لأنَّه مُفَرِّط في حِفْظِها؛ لأنَّ حِفْظَها في نَقْلِها، وتَرْكُها تَضْيِيعٌ لها. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه لا يَضْمَنُ؛ لأنَّه امْتَثَلَ أمْرَ صاحِبِها، أشْبَهَ ما لو قال: لا تُخرِجْها وإن خِفْتَ عليها. فإن أخْرَجَها لغيرِ خَوْفٍ، ضَمِن سَواءٌ أخْرَجَها إلى مِثْلِ الحِرْزِ أو دُونِه أو فوقِه؛ لأنَّه خالفَ نَصَّ صاحِبها لغيرِ فائِدَةٍ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الشَّافعيِّ. وفيه قولٌ آخَرُ، أَنَّه لا يَضْمَنُ، كما لو لم يُعَيِّنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له حِرْزًا. وقد ذَكَرْناه. وهو قولُ القاضي. وقال أبو حنيفةَ: إن نَهاه عن نَقلِها مِن بَيتٍ، فنَقَلَها إلى بَيتٍ آخَرَ مِن الدّارِ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ البَيتَين مِن دار واحِدَةٍ حِرْزٌ واحِد، وطَرِيقُ أحَدِهما طَرِيقُ الآخَرِ، فأشْبَهَ ما لو نَقَلَها مِن زَاويَةٍ إلى زاويَةٍ. وإن نَقَلَها مِن دارٍ إلى دار أخْرَى، ضَمِن. ولَنا، أنَّه خالفَ أمْرَ صاحِبها بما لا مَصْلَحَةَ فيه، فيَضْمَنُ، كما لو نَقَلَها مِن دار إلى دار. ولا يَصِحُّ هذا الفَرْقُ؛ لأنَّ بُيُوتَ الدّارِ تَخْتَلِفُ، فمنها ما هو أقْرَبُ إلى الطَّرِيقِ، أو إلى الانْهِدامْ، أو إلى مَوْضِعِ الوَقُودِ، أو أسْهَلُ فَتْحًا، أو أضْعَفُ حائِطًا، أو أسْهَلُ نَقْبًا، أو يكون المالِكُ يَسْكُنُ به، أو غيرِه وأشْباه هذا ممّا يُؤثِّرُ في الحِفْظِ أو في عَدَمِه، فلا يَجُوزُ تَفْويت غَرَضِ رَبِّ الوَدِيعَةِ مِن تَعْيينه مِن غيرِ ضَرُورَةٍ.

2437 - مسألة: (فإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها. فأخرجها عند الخوف، أو تركها، لم يضمن)

فَإن قَال: لَا تُخْرِجْهَا وإن خِفْتَ عَلَيهَا. فَأخْرَجَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ، أوْ تَرَكَهَا، لَمْ يَضْمَنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2437 - مسألة: (فإن قال: لا تُخْرِجْها وإن خِفْتَ عليها. فأخْرَجَها عندَ الخَوْفِ، أو تَرَكَها، لم يَضْمَنْ) إذا أخْرَجَها في هذه الحالِ مِن غيرِ خَوْفٍ، ضَمِنَها؛ لأنَّه مُخالِفٌ شَرْطَ صاحِبِها لغيرِ حاجَةٍ. وإن أخْرَجَها عندَ خَوْفِه عليها، أو تَرَكَها، لم يَضْمَنْ إذا تَلِفَتْ؛ [لأن نَهْيَه] (¬1) مع خَوْفِ الهَلاكِ نصَّ فيه، وتَصْرِيحٌ به، فيكونُ مأذونًا في تَرْكِها في تلك الحالِ، فلم يَضْمَنْها؛ لامْتِثالِه أمْرَ صاحِبِها، أشْبَهَ ما لو أذِنَ له في إتْلافِها. ولا يَضْمَنُ إذا أخْرَجَها؛ لأنَّه زاده خَيرًا وحِفْظًا، فلم يَضْمَنْ، كما لو أذِنَ له في إتْلافِها، فلم يَفْعَلْ حتَّى تَلِفَتْ. فصل: إذا أخْرَجَ الوَدِيعَةَ المَنْهِيَّ عن إخْراجِها، فتَلِفَتْ، فادَّعَى أَنَّه أخْرَجَها لغَشيانِ نارٍ، أو سَيلٍ، أو أمْرٍ ظاهِرٍ، وأنْكَرَ صاحِبُها وُجُودَه، فعلي المُسْتَوْدَعِ البَيِّنةُ أَنَّه كان في ذلك المَوْضِعِ ما ادَّعاه؛ لأنَّه ممَّا لا تَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنةِ عليه؛ لظُهُورِه. فإذا ثَبَت ذلك، كان القولُ قَوْلَه في التَّلَفِ مع يَمِينِه، ولا يَحْتاجُ إلى بَيِّنةٍ؛ لأنَّه تَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنةِ، فلم يُطالبْ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها، كما لو ادَّعَى تَلَفَها بأمْر خَفِيّ. وهذا قولُ الشَّافعيِّ. والحُكْمُ في إخْراجِها مِن الخَرِيطَةِ (¬1) والصُّنْدُوق، حُكْمُ إخْراجِها مِن البَيتِ، على ما ذَكَرْنا مِن التَّفْصِيلِ. فصل: ولو أمَرَه أن يَجْعَلَها في مَنْزِلِه، فتَرَكَها في ثِيابِه، وخَرَج بها، ضَمِنَها؛ لأنَّ البَيتَ أحْرَزُ لها. وإن جاءَه بها في السُّوق، فقال: احْفَظْها في بَيتكَ. فقام بها في الحالِ، فتَلِفَتْ، لم يَضْمَنْ. وإن ترَكَها في دُكّانِه أو ثِيابه، ولم يَحْمِلْها إلى بَيته مع إمكانِه، فتَلِفَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّ بَيتَه أحْرَزُ لها. هَكذا قال أصْحابُنا. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أنَّه متى تَرَكَها عندَه إلى وَقْتِ مُضِيِّه إلى مَنْزِلِه فيَسْتَصْحِبُه (¬3) معه، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ المُودِعَ عالِمٌ بهذه العادَةِ، راضٍ بها، ولو لم يَرْضَ بها لشَرَطَ عليه خِلَافَها، وأمَرَه بتَعْجِيلِ حَمْلِها، فإمّا أن يَقْبَلَها بهذا الشَّرْطِ أو يَرُدَّها. ¬

(¬1) الخريطة: وعاء من جلد ونحوه يشد على ما فيه. (¬2) في: المغني 9/ 265، 266. (¬3) في م: «فيصطحبه».

2438 - مسألة: (وإن أودعه بهيمة، فلم يعلفها حتى ماتت، ضمنها، إلا أن ينهاه المالك عن علفها)

وَلَوْ أوْدَعَهُ بَهِيمَةً، فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى مَاتَتْ، ضَمِنَ، إلَّا أن يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ عَلْفِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2438 - مسألة: (وإن أوْدَعَه بَهِيمَةً، فلم يَعْلِفْها حتَّى ماتت، ضَمِنَها، إلَّا أن يَنْهاه المالِكُ عن عَلْفِها) إذا أوْدَعَه بَهِيمَةً، ولم يَأمُرْه بعَلْفِها، لَزِمَه ذلك. وبه قال الشافعيُّ. ويَحتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّه اسْتَحْفَظَه إيّاها، ولم يَأمُرْه بعَلْفِها، والعَلْف على مالكِها، فإذا لم يَعْلِفْها كان هو المُفَرِّطَ. ولَنا، أَنَّه لا يَجُوزُ إتْلافُها، ولا التَّفْرِيطُ فيها، فإذا أمَرَه بحِفْظِها تَضَمَّنَ ذلك عَلْفَها وسَقْيَها، فإن تَرَك عَلْفَها حتَّى تَلِفَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ فيها. فإن أمَرَه صاحِبُها بعَلْفِها وسَقْيِها، لَزِمَه ذلك لحُرْمَةِ صاحِبِها؛ لأَنه أخَذَها منه على ذلك، ولحُرْمَةِ البَهِيمَةِ، فإن الحَيَوانَ يَجِبُ إحْياؤه بالعَلْفِ والسَّقْي. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه عَلْفُها، إلَّا أن يَقْبَلَ ذلك؛ لأنَّ هذا تَبَرُّعٌ به، فلا يَلْزَمُه بمُجَرَّدِ أمْرِ صاحِبِها، كغيرِ الوَديعةِ. والأوَّلُ أوْلَى. ثم يُنْظَرُ؛ فإن قَدَر المُسْتَوْدَعُ على صاحِبِها أو وَكِيله، طالبَه بالإنْفاقِ عليها، أو يَرُدُّها عليه، أو يَأذَنُ له في الإنْفاقِ عليها ليَرْجِعَ به. فإن عَجَز عن صاحِبِها أو وكِيله، رَفَع الأمْرَ إلى الحاكِمِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن وَجَد لصاحِبِها مالًا أنْفَقَ عليها منه، وإن لم يَجِدْ مالًا فَعَل ما يَرَى لصاحِبِها الحَظَّ فيه، مِن بَيعِها، أو بَيعِ بَعْضِها وإنْفاقِه عليها، أو إجارَتها، أو الاسْتِدانَةِ على صاحِبِها، ويَدْفَعُه إلى المُودَعِ لينفِقَه عليها، أو إلى غيرِه فيُنْفِقُ عليها، إن رَأى ذلك. ويَجُوزُ أن يَأذَنَ للمُودعِ أن يُنْفِقَ عليها مِن مالِه، ويكونَ قابِضًا مِن نَفْسِه لنَفْسِه، ويَكِلُ ذلك إلى اجْتِهادِه في قَدْرِ ما يُنْفِقُ، ويَرْجِعُ به على صاحِبِها، فإنِ اخْتَلَفَا في قَدْرِ النَّفَقَةِ، قُبِل قولُ المُودَعِ إذا ادَّعَى النَّفَقَةَ بالمَعْرُوفِ، وإنِ ادَّعَي زِيادَةً، لم يُقْبَلْ. وإنِ اخْتَلَفا في قَدرِ المُدّةِ، فالقولُ قولُ صاحِبِها؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك. وإن لم يَقدِرْ على الحاكِمِ، فأنْفَقَ عليها مُحْتَسِبًا بالرُّجوعِ على صاحِبِها، وأشْهَدَ على الرُّجُوعِ، رَجَع بما أنْفَقَ؛ لأنه مَأذُونٌ فيه عُرْفًا، ولا تَفْرِيطَ منه إذ لم يَجِدْ حاكِمًا. وإن فَعَل ذلك مع إمْكانِ اسْتِئْذانِ الحاكِمِ مِن غيرِ إذْنِه، ففيه رِوايَتان. نَصَّ عليهما فيما إذا أنفَق على البَهِيمَةِ المَرْهُونَةِ مِن غيرِ إذْنِ الرّاهِن؛ إحْداهما، يَرْجِعُ؛ لأنَّه مَأذُونٌ فيه عُرْفًا. والثانيةُ، لا يَرْجِعُ؛ لأنَّه مُفرط بتَرْكِ اسْتِئْذانِ الحاكِمِ. وإن أنْفَقَ مِن غيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إشْهادٍ، مع العَجْزِ عن اسْتِئْذانِ الحاكِمِ، أو مع إمْكانِه، ففي الرُّجُوعِ أيضًا وَجْهان، وَجْهُهما ما ذَكَرْنا. ومتى عَلَف البَهِيمَةَ أو سَقاها في دارِه أو غيرِها، بنَفْسِه أو أمَرَ غلامَه أو صاحِبَه ففَعَلَ ذلك، كما يَفْعَلُ كما في بَهائِمِه، على ما جَرَتْ به العادَةُ، فلا ضَمانَ فيه؛ لأنَّ هذا مَأذُون فيه عُرْفًا، لجَرَيانِ العادَةِ به، فأشْبَهَ المُصَرَّحَ به. فصل: فإن نَهاه المالِكُ عن عَلْفِها وسَقْيِها، لم يَجُزْ له تَرْكُ عَلْفِها؛ لأنَّ للحَيَوانِ حُرْمَةً في نَفْسِه يَجِبُ إحْياؤه لحَقِّ اللهِ تعالى. فإن عَلَفَها وسَقاها، فهو كما لو لم يَنْهَه، وإن تَرَكَها حتَّى تَلِفَتْ، لم يَضْمَنْها. وهو قولُ أكْثَرِ أصْحابِ الشَّافعيِّ. وقال بَعْضُهم: يَضْمَنُ؛ لأنَّه تَعَدَّى بتَرْكِ عَلْفِها، أشْبَهَ ما إذا لم يَنْهَه. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ؛ لنَهْي رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَةِ المالِ، فيَصِيرُ أمْرُ مالِكِها وسُكوتُه سَواءً. ولَنا، أنَّه مُمْتَثِلٌ قولَ صاحِبِها، فلم يَضْمَنْها، كما لو أمَرَه بقَتْلِها، ففَعَل، وكما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو قال: لا تُخْرِجِ الوَدِيعَةَ وإن خِفْتَ عليها. فخاف عليها ولم يُخْرِجْها، أو أمَرَه بإلقائِها في نارٍ. وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه. ومَنَع ابنُ المُنْذِرِ الحُكْمَ فيما إذا أمَرَه بإتْلافِها فأتْلَفَها. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه نائِبُ صاحِبِها، فلم يَغْرَمْ، كما لو اسْتَنابَه في مُباحٍ، والتَّحْرِيمُ أثَرُه في بَقاءِ حَقِّ الله تعالى. وهو الإثْمُ، أمّا حَق الآدَمِيِّ فلا يَبْقَى مع إذْنِه في تَفْويته، ولأنَّها لم تَتْلَفْ بفِعْلِه، وإنَّما تَلِفَتْ بتَرْكِ العَلْفِ المَأذُونِ فيه، أشْبَهَ ما إذا نَهاه عن إخْراجِها مع الخَوْفِ، فلم يُخرِجْها.

2439 - مسألة: (وإن قال: اترك الوديعة في جيبك. فتركها في كمه، ضمن)

فَإِنْ قَال: اتْرُكِ الْوَدِيعَةَ فِي جَيبِكَ. فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ، ضَمِنَ. وَإنْ قَال: اتْرُكْهَا فِي كُمِّكَ. فَتَرَكَهَا فِي جَيبِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. فَإن تَرَكَهَا فِي يَدِهِ، احْتَمَلَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2439 - مسألة: (وإِن قال: اتْرُكِ الوَدِيعَةَ في جَيبك. فتَرَكَها في كُمِّه، ضَمِن) لأنَّه رُبَّما نسِيَ، فسَقَطَ الشيءُ مِن كُمِّه. وكذلك إن تَرَكَها في يَدِه؛ لأنَّ الجَيبَ أحْرَزُ (وإن قال: اتْرُكْها في كُمِّك. فتَرَكَها في [جَيبِه، لم يَضْمَنْ) لأنَّ الجَيبَ أحْرَزُ، على ما ذَكَرْنا. وإن قال: اتْرُكْها في كُمِّك (فتَرَكَها في] (¬1) يَدِه، احْتَمَلَ وَجْهَين) أحَدُهما، يَضْمَنُ؛ لأنَّ سُقُوطَ الشئِ مِن اليَدِ مع النِّسْيانِ أكْثَرُ مِن سُقُوطِه مِن الكُمِّ. والثَّانِي، لا يَضْمَنُ؛ لأنَّ اليَدَ لا يَنْبَسِطُ عليها الطَّرّارُ بالبَطِّ (¬2)، بخِلافِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) الطرار: النشال. وبط الكم: شقه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُمِّ، ولأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما أحْرَزُ مِن وَجهٍ، فتَساوَيا. ولِمَن نَصَر الأوَّلَ أن يقولَ: متى كان كلُّ واحِدٍ منهما أحْرَزَ مِن وَجْهٍ، وَجَب أن يَضْمَنَ؛ لأنَّه فَوَّتَ الوَجْهَ المَأمُورَ بالحِفْظِ به، وأتَى بما لم يُؤمَرْ به، فضَمِنَ لمُخالفَتِه. وعلى هذا، لو أمَرَه بتَرْكِها في يَدِه، فجَعَلَها في كُمِّه، ضَمِن لذلك (¬1). وقال القاضي: اليَدُ أحْرَزُ عندَ المُغالبَةِ، والكُمُّ أحْرَزُ عندَ عَدَمِ المُغالبَةِ. فعلى هذا، إن أمَرَه بتَرْكِها في يَدِه، فشَدَّها في كُمِّه من غيرِ حالِ المُغالبَةِ، فلا ضَمانَ عليه، وإن فَعَل ذلك عندَ المُغالبَةِ، ضَمِن. وإن أمَرَه بحِفْظِها مُطْلَقًا، فتَرَكَها في جَيبِه، أو شَدَّها في كُمِّه، لم يَضْمَنْها. وإن تَرَكَها في كُمِّه غيرَ مَشْدُودَةٍ، وكانت خَفِيفَةً لا يَشْعُرُ بها ¬

(¬1) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا سَقَطَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّه مُفَرِّط، وإن كانت ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بها، لم يَضْمَنْها؛ لأنَّ هذا عادَةُ النَّاسِ في حِفْظِ أمْوالِهم. وإن شَدَّها على عَضُدِه، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ ذلك أحْفَظُ لها. وقال القاضي: إن شَدَّها مِن جانِبِ الجَيبِ، لم يَضْمَنْها، وإن شَدَّها مِن الجانِبِ الآخَرِ، ضَمِن؛ لأنَّ الطَّرّارَ يَقْدِرُ على بَطِّها، بخِلافِ ما إذا شَدَّها ممّا يلي الجَيبَ. وهذا يَبْطُلُ بما إذا تَرَكَها في جَيبه، أو رَبَطَها في كُمِّه، فإنَّ الطَّرّارَ يَقْدِرُ على بَطِّها ولا يَضْمَنُ، وليس إمْكَانُ حِرْزِها بأحْفَظِ الحِرْزَين مانِعًا من إحْرازِها بما دُونَه، إذا كان حِرْزًا لمِثْلِها. وشَدُّها على العَضُدِ حِرْز لها كيفما كان؛ لأنَّ النّاسَ يُحَرِّزُون به أمْوالهم، فأشْبَهَ شَدَّها في الكُمِّ وتَرْكَها في الجيبِ، لكنْ لو أمَرَه بشَدِّها ممَّا يلي الجَيبَ، فشَدَّها مِن الجانِبِ الآخرِ، ضَمِن. وإن أمَرَه بشَدِّها ممّا يلي الجانِبَ الآخَرَ، فشَدَّها ممّا في الجَيبَ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه أحْرَزُ. وإن أمَرَه بشَدِّها على عَضُدِه مُطْلَقًا، أو أمَرَه بحِفْظِها معه، فشَدَّها مِن أيِّ الجانِبَين كان، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه مُمْتَثِل أمْرَ مالِكِها، مُحْرِز لها بحِرْزِ مِثْلِها. وإن شَدَّها على وَسَطِه، فهو أحْرَزُ لها، وكذلك إن تَرَكَها في بَيته في حِرزِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أمَرَه أن يَجْعَلَها في صُنْدُوق، وقال: لا تَقْفِلْ عليها، ولا تَنَمْ فوقَها. فخالفَه، أو قال: لا تَقْفِلْ عليها إلَّا قُفْلًا واحِدًا. فجَعَلَ عليها قُفْلَيْن، فلا ضَمانَ عليه. ذَكَرَه القاضي. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافعيِّ. وحُكِيَ عن مالِكٍ أنَّه يَضْمَنُ؛ لأَنه خالفَ رَبَّها في شيءٍ له فيه غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بحِفْظِها، أشْبَهَ ما لو نَهاه عن إخْراجِها عن مَنْزِلِه، فأخرَجَها لغيرِ حاجَةٍ؛ وذلك لأنَّ النَّوْمَ عليها، وتَرْكَ قُفْلَين، وزِيادَةَ الاحْتِفاظِ، يُنَبِّهُ اللِّصَّ عليها، ويَحُثُّه على الجِدِّ في سَرِقَتِها، والاحْتِيالِ لأخْذِها. ولَنا، أنَّ ذلك أحْرَزُ لها، فلم يَضْمَنْ بفِعْلِه، كما لو أمَرَه بتَرْكِها في صَحْنِ الدّارِ، فتَرَكَها في البَيتِ، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال: اجْعَلْها في هذا البَيتِ، ولا تُدْخِلْه أحَدًا. فأدْخَلَ إليه قَوْمًا، فسَرَقَها أحَدُهم، ضَمِنَها؛ لأَنها ذَهَبَتْ بتَعَدِّيه ومُخالفَتِه. وسَواءٌ سَرَقَها حال إدْخالِهم أو بعدَه؛ لأنَّه رُبَّما شاهَدَ الوَدِيعَةَ في دُخُولِه البَيتَ، وعَلِم مَوْضِعَها، وطَرِيقَ الوُصُول إليها. وإن سَرَقَها مَن لم يَدْخُلِ البَيتَ، فقال القاضي: لا يَضْمَنُ؛ لَأنَّ فِعْلَه لم يَكُنْ سَبَبًا لإتْلافِها. ويَحْتَمِلُ أن يَضْمَنَ؛ لأنَّ الدّاخِلَ رُبَّما دَلَّ عليها مَن لم يَدْخُلْ، ولأنَّها مُخالفَة تُوجِبُ الضَّمانَ إذا كانت سَبَبًا لإتْلافِها، فأوْجَبَتْه وإن لم تِكنْ سَبَبًا، كما لو نَهاه عن إخْراجِها، فأخْرَجَها لغيرِ حاجَةٍ. وإن قال: ضَعْ هذا الخاتَمَ في الخِنْصِرِ. فوَضَعَه في البِنْصِرِ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّها أغْلَظُ وأحْفَظُ له (1)، إلَّا أن (¬1) لا يَدْخُلَ فيها، فيَضَعَه في أنْمُلَتِها العُلْيَا، أو يَنْكَسِرَ لغِلَظِها عليه، فيَضْمَنَه في المَوْضِعَين؛ لأنَّ مُخالفَتَه سَبَبٌ لتَلَفِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

2440 - مسألة: (وإن دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله؛ كزوجته أو عبده، لم يضمن)

وَإنْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالهُ؛ كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2440 - مسألة: (وإن دَفَع الوَدِيعَةَ إلى مَن يَحْفَظُ ماله؛ كزَوْجَتِهِ أو عَبْدِه، لم يَضْمَنْ) نَصَّ على هذا أحمدُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشَّافعي: يَضْمَنُ؛ لأنَّه سَلَّمَ الوَدِيعَةَ إلى مَن لم يَرْضَ به صاحِبُها، فضَمِنَها، كما لو دَفَعَها إلى أجْنَبِيٍّ. ولَنا، أنَّه حَفِظَها بما يَحْفَظُ به ماله، أشْبَهَ ما إذا حَفِظَها بنَفْسِه، وكما لو دفع الماشِيَةَ إلى الرَّاعِي، أو البَهِيمَةَ إلى غُلامِه ليَسْقِيَها، ويُفارِقُ الأجْنَبِيَّ؛ فإنَّ دَفْعَها إليه لا يُعَدُّ حِفْظًا منه.

2441 - مسألة: (وإن دفعها إلى أجنبي أو حاكم، ضمن، وليس للمالك مطالبة الأجنبي. وقال القاضي: له ذلك)

وَإنْ دَفَعَهَا إِلَى أجْنَبِي أَوْ حَاكِم، ضَمِنَ، وَلَيسَ لِلْمَالِكِ مطَالبَةُ الْأجْنَبِيِّ. وَقَال الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2441 - مسألة: (وإن دَفَعَها إلى أجْنَبِي أو حاكِم، ضَمِن، وليس للمالِكِ مُطالبَةُ الأجْنَبِيِّ. وقال القَاضِي: له ذلك) إذا دَفَع الوَدِيعَةَ. إلى غيرِه لغيرِ عُذْرٍ، فعليه الضَّمانُ، بغيرِ خِلافٍ في المَذْهَب، إلَّا أن يَدْفَعَها إلى مَن جَرتْ عادَتُه بحِفْظِ مالِه. وقد ذَكَرْناه في المَسْألةِ قبلَها، وذَكَرْنا الخِلافَ فيه. وقال شُرَيح، ومالِكٌ، والشّافعيُّ، وأبو حنيفةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُه، وإسحاقُ: متى دَفَعَها إلى أجْنَبِي أو حاكِمٍ، ضَمِن. وقال ابنُ أبي لَيلَى: لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ عليه حِفْظَها وإحْرازَها، وقد أحْرَزَها عندَ غيرِه وحَفِظَها به، ولأنَّه يَحْفَظُ ماله بإيداعِه، فإذا أوْدَعَها فقد حَفِظَها بما يَحْفَظُ به ماله، فلم يَضْمَنْها، كما لو حَفِظَها في حِرْزِه. ولَنا، أنَّه خالفَ المُودِعَ فضَمِنَها، كما لو نَهاه عن إيداعِها؛ فإنَّه أمَرَه بحِفْظِها بنَفْسِه، فلم يَرْضَ لها غيرَه. فإن فَعَل فتَلِفَتْ عندَ الثَّانِي، مع عِلْمِه بالحالِ، فله تَضْمِينُ أيِّهما شاء؛ لأنَّهما مُتَعَدِّيان، ويَسْتَقِرُّ ضَمانُها على الثَّانِي؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَل عندَه، وقد دَخَل على أنَّه يَضْمَنُ، وإن لم يَعْلَمِ الحال، فله تضْمِينُ الأوَّلِ، وليس للأوَّلِ الرجُوعُ على الثَّانِي؛ لأنَّه دَخَل معه في العَقْدِ على أنَّه أمِينٌ له (¬1) لا ضَمانَ عليه. وإن أحَبَّ المالِكُ تَضْمِينَ الثَّانِي، فليس له تَضْمِينُه، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ. قاله القاضي؛ لأنَّ أحمدَ ذَكَر الضَّمانَ على الأوَّل فقط. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه قَبَض قَبْضًا مُوجِبًا للضَّمانِ على الأوَّلِ، فلم يُوجِبْ ضَمانًا آخَرَ. ويُفارِقُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَبْضَ مِن الغاصِبِ؛ فإنَّه لم يُوجِبِ الضَّمانَ على الغاصِبِ، إنَّما لَزِمَه الضَّمانُ بالغَصْبِ. قال شَيخُنا (1): ويَحْتَمِلُ أنَّ له تَضْمِينَ الثَّانِي أيضًا. وهو قولُ القاضي، ومَذْهَبُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّه قَبَض مال غيرِه على وَجْهٍ لم يكنْ له قَبْضُه، ولمِ يَأذَنْ له مالِكُه، فيَضْمَنُه، كالقابِضِ مِن الغاصِبِ. وذِكْرُ أحمدَ الضَّمان على الأوَّلِ لا يَنْفِي الضَّمانَ عن الثّانِي، كما أنَّ الضَّمانَ يَلْزَمُ الغاصِبَ، ولا يَنْفِي وُجُوبَه على القابِضِ منه. فعلى هذا، يَسْتَقِرُّ الضَّمانُ على الأوَّلِ، فإن ضَمَّنَه لم يَرْجِعْ على أحَدٍ، وإن ضَمَّنَ الثّانِيَ رَجَع على الأوَّلِ. وهذا القولُ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، وما ذَكَرْنا للقولِ الأوَّلِ لا أصْلَ له، ثم هو مُنْتَقِضٌ بما إذا دَفَع الوَدِيعَةِ إلى إنْسانٍ عارِيَّةً أو هِبَة.

2442 - مسألة: (وإن أراد سفرا، أو خاف عليها عنده، ردها على مالكها)

وإنْ أرَادَ سَفَرًا، أوْ خَافَ عَلَيهَا عِنْدَهُ، رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2442 - مسألة: (وإن أرَاد سَفَرًا، أو خافَ عليها عِنْدَه، رَدَّها على مالِكِها) أو وَكِيله فِي قَبضِها إن قَدَر على ذلك، ولم يَجُزْ له دَفْعُها إلى الحاكِمِ، ولا إلى غيرِه؛ لأنَّه ليس للحاكِمِ ولاية على الحاضِرِ، فإن فَعَل، ضَمِنَها؛ لأنَّه دَفَعَها إلى غيرِ مالِكِها بغيرِ إذْنِه مِن غيرِ عُذْرٍ، فضَمِنَها، كالصُّورَةِ الأولَى.

2443 - مسألة: (فإن لم يجده، حملها معه إن كان أحفظ لها)

فَإن لَمْ يَجِدْهُ، حَمَلَهَا مَعَهُ إنْ كَانَ أحفَظَ لَهَا، وَإلَّا دَفَعَهَا إلَى الْحَاكِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2443 - مسألة: (فإن لم يَجِدْه، حَمَلَها معه إن كان أحْفَظَ لها) إذا أراد السَّفَرَ بها وقد نَهاه صاحِبُها عنه، ضَمِنَها؛ لمُخالفَتِه، وإن لم يَنْهَه، لكنّ الطَّرِيقَ مَخُوفٌ، أو البَلَدَ الذي يُسافِرُ إليه مَخُوفٌ، ضَمِنَها؛ لأنَّه فَرَّطَ في حِفْظِها. وإن لم يكنْ كذلك، فله السَّفَرُ بها. نَصَّ عليه أحمدُ. سَواءٌ كان به ضَرُورَة إلى السَّفَرِ أو لم يكنْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشَّافعي: إن سافَرَ بها مِع القُدْرَةِ على صاحِبِها أو وَكِيله أو الحاكِمِ أو أمِينٍ، ضَمِنَها؛ لأنَّه سافرَ بها مِن غير ضَرُورَةٍ، أشْبَهَ ما لو كان السَّفَرُ مَخُوفًا. ولَنا، أنَّه نَقَلَها إلى مَوْضِعٍ مَأمُونٍ، فلم يَضْمَنْها، كما لو نَقَلَها إلى البَلَدِ، ولأنَّه سافَرَ بها سَفَرًا غيرَ مَخُوفٍ، أشبَهَ ما لو لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِدْ أحَدًا يَدَعُها عندَه. قال شيخُنا (¬1): ويَقْوَى عندِي أنَّه متى سافَرَ بها مع القُدْرَةِ على مالِكِها أو وَكِيله فيها بغيرِ إذنِه، فهو مُفَرِّطٌ عليه الضَّمان؛ لأنَّه يُفَوِّتُ على صاحِبِها إمْكانَ استرْجاعِها، ويُخاطِرُ بها، فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) في: المغني 9/ 261.

2444 - مسألة: فإن لم يجد صاحبها ولا وكيله، فله دفعها إلى الحاكم، سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «المُسَافِرُ وَمَالُهُ عَلَى قَلَتٍ، إلَّا مَا وَقَى الله» (¬1). أي على هَلاكٍ. ولا يَلْزَمُ مِن الإِذْنِ في إمْساكِها على وَجْهٍ لا يَتَضَمَّنُ هذا الخَطَرَ ولا يُفَوِّتُ إمْكانَ رَدِّها على صاحِبِها الإِذْنُ فيما يتَضَمَّنُ ذلك. فأمَّا مع غَيبَةِ المالِكِ [ووَكِيِله] (¬2)، فله السَّفَرُ بها إذا كان أحْفَظَ لها؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ فيَخْتارُ ما فيه الحَظُّ. وهذا الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكِتابِ المَشرُوحِ. 2444 - مسألة: فإن لم يَجِدْ صاحِبَها ولا وَكِيله، فله دَفْعُها إلى الحاكِمِ، سَواءٌ كان به ضَرُورَةٌ إلى السَّفَرِ أو لم يكُنْ؛ لأنَّه مُتَبَرِّعٌ بإمْساكِها، فلا يَلْزَمُه اسْتِدامَتُه، والحاكِمُ يَقُومُ مَقامَ صاحِبِها عندَ غَيبَتِه. فإن أوْدَعَها مع قُدْرَتِه على الحاكِمِ، ضَمِنَها؛ لأنَّ غيرَ الحاكِمِ لا ولايةَ ¬

(¬1) انظر الكلام عليه في 14/ 80. (¬2) في الأصل: «أو وكيله».

2445 - مسألة: (فإن تعذر ذلك، أودعها ثقة، أو دفنها وأعلم بها ثقة يسكن تلك الدار، فإن دفنها ولم يعلم بها أحدا، أو أعلم بها من لا يسكن الدار، ضمنها)

فَإِنْ تعَذَّرَ ذَلِكَ، أوْدَعَهَا ثِقَةً، أوْ دَفَنَهَا وَأعْلَمَ بِهَا ثِقَةً يَسْكُنُ تِلْكَ الدَّارَ، وَإنْ دَفَنَهَا وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أحَدًا، أو أعْلَمَ بِهَا مَنْ لَا يَسْكُنُ الدَّارَ، ضَمِنَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ له. ويَحْتَمِلُ أن يَجُوزَ له إيداعُها؛ لأنَّه قد يكونُ أحْفَظَ لها وأحَبَّ إلى صاحِبِها. وإن لم يَقْدِرْ على الحاكِمِ، فأوْدَعَها ثِقَةً، لم يَضْمَنْها؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. وذَكَر القاضي أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ أنَّه يَضْمَنُها، ثم تَأوَّلَ كَلامَه على أنَّه أوْدَعَها مِن غيرِ حاجَةٍ، أو مع قُدْرَته على الحاكِمِ. 2445 - مسألة: (فإن تَعَذَّرَ ذلك، أوْدَعَها ثِقَةً، أو دَفَنَها وأعْلَمَ بها ثِقَةً يَسْكُنُ تلك الدَّارَ، فإن دَفَنَها ولم يُعْلِمْ بها أحَدًا، أو أعْلَمَ بِها مَن لا يَسْكُنُ الدَّارَ، ضَمِنَها) إذا دَفَنَها في مَوْضِع، وأعْلَمَ بها ثِقَة يَدُه على المَوْضِعِ، وكانت ممّا لا يَضُرُّها الدَّفْنُ، فهو كإيداعِها عندَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يُعْلِمْ بها أحدًا، ضَمِنَها؛ لأنَّه فَرَّطَ في حِفْظِها، فإنَّه لا يَأْمَنُ أن يَمُوتَ في سَفَرِه فلا تَصِلُ إلى صاحِبِها، ورُبَّما نَسِيَ مَكانَها، أو أصابَها آفَةٌ مِن هَدْمٍ أو حَرْقٍ أو غرَقٍ، فتَضِيعُ. وإِن أعْلَمَ بها غيرَ ثِقَةٍ، ضَمِنَها؛ لأنَّه رُبَّما أخَذَها. وكذلك إن أعْلَمَ بها ثِقَةً لا يَدَ له على المَكانِ؛ لأنَّه لم يُودِعْها إيّاه، ولا يَقْدِرُ على الاحْتِفاظِ بها. فصل: وإن حَضَرَه المَوْتُ، فحُكْمُه حُكْمُ السَّفَرِ، على ما مَضَى

2446 - مسألة: (وإن تعدى فيها، فركب الدابة لغير نفعها،

وَإنْ تَعَدَّى فِيهَا، فَرَكِبَ الدَّابَّةَ لِغَيرِ نَفْعِهَا، وَلَبِسَ الثّوْبَ، وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ لِيُنْفِقَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أحْكامِه، إلَّا في أخْذِها معه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما سَبَبٌ لخُرُوجِها عن يَدِه. 2446 - مسألة: (وإن تَعَدَّى فيها، فرَكِبَ الدّابَّةَ لغيرِ نَفْعِها،

2447 - مسألة: فإن (جحدها ثم أقر بها)

أوْ جَحَدَهَا ثُمَّ أقَرَّ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَبِس الثَّوْبَ) أو أخَذَ الوَدِيعَةَ ليَسْتَعْمِلَها، أو ليَخُونَ (¬1) فيها (ثم رَدَّها) إلى مَوْضِعِها بنِيَّةِ الأمانَةِ، ضَمِنَها؛ لتَعَدِّيه، ولم يَزُلْ عنه الضَّمانُ برَدِّها. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَبْرأُ؛ لأنَّه مُمْسِكٌ لها بإذْنِ مالِكِها، فأشْبَهَ ما قبلَ التَّعَدِّي. ولَنا، أنَّه ضَمِنَها بعُدْوانٍ فبَطَلَ الاسْتِئْمانُ، كما لو جَحَدَها ثم أقَرَّ بها، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرَه. 2447 - مسألة: فإن (جَحَدَها ثم أقَرَّ بها) فتَلِفَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّه بجَحْدِها خَرَج عن الاسْتِئْمانِ عليها، فلم يَزُلْ عنه ¬

(¬1) في م: «ليخزن».

2448 - مسألة: فإن (كسر ختم كيسها)

أوْ كَسَرَ خَتْمَ كِيسِهَا، أوْ خَلَطَهَا بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ، ضمِنَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّمان بالإقْرارِ بها؛ لأنَّ يَدَه صارت يَدَ عُدْوانٍ. 2448 - مسألة: فإن (كَسَر خَتْمَ كِيسِها) أو كانت مَشْدُودَةً فحَلَّ الشَّدَّ، ضَمِن، سَواءٌ أخْرَجَ منها شيئًا أو لم يُخْرِجْ؛ لأنَّه هَتَك الحِرْزَ بفِعْلٍ تَعَدَّى به. فإن خَرَق الكِيسَ فوقَ الشَّدِّ، فعليه ضَمانُ ما خَرَق خاصَّةً؛ لأنَّه لمّا هَتَك الحِرْزَ. وقال أبو حنيفةَ: إذا كَسَر خَتْمَ الكِيسِ، لم يَلْزَمْه ضَمانُ الوَدِيعَةِ؛ لأنَّه لم يَتَعَدَّ في غيرِه. ولَنا، أنَّه هَتَك حِرْزَها، فضَمِنَها إذا تَلِفَتْ، كما لو أوْدَعَه إيّاها في صُنْدُقٍ مُقْفَلٍ، ففَتَحَه وتَرَكه مَفْتوحًا، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لم يتَعَدَّ في غيرِ الخَتْمِ. 2449 - مسألة: وإن (خَلَطَها بما لا تَتَمَيَّزُ منه، ضَمِنَها) إذا خَلَطَها بما لا تَتَمَيَّزُ منه مِن مالِه أو مالِ غيرِه، ضَمِنَها، سَواءٌ خَلَطَها بمِثْلِها أو دُونِها، أوَ أجْوَدَ مِن جنْسِها أو مِن غيرِ جِنْسِها، مثلَ أن يَخْلِطَ الدَّراهِمَ بدَراهِمَ، أَوْ دُهْنًا بدُهْنٍ، كالزَّيتِ بالزيتِ أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّمْنِ أو بغيرِه. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي. وقال ابنُ القاسِمِ: إن خَلَط دَراهِمَ بدَراهِمَ على وَجْهِ الحِرْزِ، لم يَضْمَنْ. وحُكِيَ عن مالِكٍ، لا يَضْمَنُ إلَّا أن تكونَ دُونَها، لأنَّه لا يُمْكِنُه رَدُّها إلَّا ناقِصَةً. ولنا، أنَّه خَلَطَها بمالِه خَلْطًا لا يَتَمَيَّزُ، فوَجَبَ أن يَضْمَنَها، كما لو خَلَطَها بدُونِها، ولأنَّه إذا خَلَطَها بما لا يَتَمَيَّزُ، فقد فَوَّتَ على نَفْسِه إمْكانَ رَدِّها، فلَزِمَه ضَمانُها، كما لو ألْقاها في لُجَّةِ بَحْرٍ. فإن أمَرَه صاحِبُها بخَلْطِها بمالِه أو بغيرِه، ففَعَلَ ذلك، فلا ضَمانَ عليه، لأنَّه فَعَلَ ما أمَرَه به، فكان نائِبًا عن المالِكِ فيه. وقد نَقَل مُهَنّا عن أحمدَ، في رجلٍ اسْتُودِعَ عَشَرَةَ دَراهِمَ، واسْتَوْدَعَه آخَرُ عَشَرَةً، وأمَراه (¬1) أن يَخْلِطَها، فخَلَطَها، فضاعَتِ الدَّرِاهِمُ، فلا شيءَ عليه. فإن أمَرَه أحَدُهما بخَلْطِ دَراهِمِه، ولم يَأْمُرْه الآخرُ، فعليه ضَمانُ دَراهِمِ مَن لم يَأْمُرْه دُونَ الأخْرَى. وإنِ اخْتَلَطَتْ هي بغيرِ تَفْرِيطٍ منه، فلا ضَمانَ عليه، كما لو تَلِفَتْ بغيرِ تَفرِيطِه. وإن خَلَطَها غيرُه، فالضَّمانُ على مَن خَلَطَها، لأنَّ العُدْوانَ منه، أشْبَهَ ما لو أتْلَفَها. ¬

(¬1) في م: «أمره».

2450 - مسألة: (وإن خلطها بمتميز، أو ركب الدابة ليسقيها، لم يضمن)

وَإنْ خَلَطَهَا بِمُتَمَيِّزٍ، أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَسْقِيَهَا، لَمْ يَضْمَنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2450 - مسألة: (وإن خَلَطَها بمُتَمَيِّزٍ، أو رَكِب الدّابَّةَ ليَسْقِيَها، لم يَضْمَنْ) أمّا إذا خَلَطَها بما تَتَمَيَّزُ منه، مِثْلَ أن خَلَط دَراهِمَ بدَنانِيرَ، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّها تَتَمَيَّزُ منها، فلا يَعْجِزُ بذلك عن رَدِّها، فلم يَضْمَنْها، كما لو تَرَكَها في صُنْدُوقٍ فيه أكْياسٌ له. وبهذا قال الشافعيُّ، ومالِكٌ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك الحُكْمُ إذا خَلَط بِيضًا بسُودٍ. وقد حُكِيَ عن أحمدَ، في مَن خَلَط دَراهِمَ بِيضًا بسُودٍ: يَضْمَنُها. ولَعَلَّه قال ذلك لكَوْنِها تَكْتَسِبُ منها سَوادًا، ويَتَغَيَّرُ لَوْنُها، فتَنْقُصُ قِيمَتُها، فإن لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ، فلا ضَمانَ عليه. وإن رَكِب الدّابَّةَ ليَسْقِيَها أو يَعْلِفَها، لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ رُكُوبَها لذلك مَأذُونٌ فيه عُرْفًا وشَرْعًا، لأنَّه مَأْذُون له في سَقْيِها، كما (¬1) أُذِنَ له في عَلْفِها، والعادَةُ أنَّ مَن يَسْقِيها يَرْكَبُها، فالإذْنُ في السَّقْي إذْنٌ في الرُّكُوبِ المُعْتادِ، ولهذا لو قال لوَكِيلِه: اسْقِ الدّابَّة. فإنَّه يُفهَمُ منه: ارْكَبْها له. ¬

(¬1) بعده في م: «لو».

2451 - مسألة: (وإن أخذ درهما ثم رده، فضاع الكل، ضمنه وحده)

وَإنْ أَخَذَ دِرْهَمًا ثُمَّ رَدَّهُ، فَضَاعَ الْكُلُّ، ضَمِنَهُ وَحْدَهُ. وَعَنْهُ، يَضْمَنُ الْجَمِيعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2451 - مسألة: (وإن أخَذَ دِرْهَمًا ثم رَدَّه، فضاع الكلُّ، ضَمِنَه وَحْدَه) اخْتَارَه الخِرَقِيُّ (وعنه، يَضمَنُ الجَمِيعَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن أُودِعَ شيئًا فأخَذَ بَعْضَه، لَزِمَه ضَمانُ ما أخَذَ؛ لتَعَدِّيه، فإن رَدَّه أو مِثْلَه، لم يَزُلِ الضَّمانُ (¬1) عنه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالِكٌ: لا ضَمانَ عليه إذا رَدَّه أو مِثْلَه. وقال أصْحابُ الرَّأْي. إن لم يُنْفِقْ ما أخَذَه، [ورَدَّه] (¬2)، لم يَضْمَنْ، وإن أنْفَقَه ثم رَدَّه أو مِثْلَه، ضَمِن. ولَنا، أنَّ الضَّمانَ تَعَلَّقَ بذِمَّتِه بالأخْذِ، بدَلِيلِ أنَّه لو تَلِف في يَدِه قبلَ رَدِّه ضَمِنَه، فلا يَزُولُ إلَّا برَدِّه إلى صاحِبِه كالمَغْصُوبِ. فأمّا سائِرُ الوَدِيعَةِ، فيُنْظرُ فيه، فإن لم تكنِ الدَّراهِمُ في كِيسٍ، أو كانت في كِيسٍ غيرِ مَشْدُودٍ، أو كانت ثِيابًا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «رده».

وَإنْ رَدَّ بَدَلَهُ مُتَمَيِّزًا، فَكَذَلِكَ، وَإنْ كَانَ غَيرَ مُتَمَيِّزٍ، ضَمِنَ الْجَمِيعَ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَضْمَنَ غَيرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخَذَ منها واحِدًا ثم رَدَّه بعَيِنه، لم يَضْمَنْ غيرَه؛ لأنّه لم يَتَعَدَّ في غيرِه. وكذلك إن رَدَّ بَدَلَه مُتَمَيِّزًا؛ لِما ذَكَرْنا. وإن لم يكنْ مُتَمَيِّزًا، فظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه (لا يَضْمَنُ غيرَه) لأنَّ التَّعَدِّيَ اخْتَصَّ به، فاخْتَصَّ الضَّمانُ به، وخَلْطُ المَرْدُودِ بغيرِه لا يَقْتَضِي ضَمانَ الجَمِيعِ؛ لأنَّه يَجِبُ رَدُّه معها، فلم يُفَوِّتْ على نَفْسِه إمْكانَ رَدِّها، بخِلافِ ما إذا خَلَطَه بغيرِه. ولو أذِنَ له صاحِبُ الوَدِيعَةِ في الأخْذِ منها، ولم يَأْمُرْه برَدِّ بَدَلِه، فأخَذَ ثم رَدَّ بَدَل ما أخَذَ، فهو كرَدِّ بَدَلِ ما لم يُؤْذَنْ في أخْذِه. وقال القاضي: يَضْمَنُ الكلَّ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنه خَلَط الوَدِيعَة بما لا تَتَمَيَّزُ منه، فضَمِنَ الكلَّ، كما لو خَلَطَها بغيرِ البَدَلِ. وقد ذَكَرْنا فَرْقًا بينَ البَدَلِ وغيرِه، فلا يَصِحُّ القِياسُ. وإن كانتِ الدَّراهِمُ في كِيسٍ مَخْتُومٍ أو مَشْدُودٍ، فكَسر الخَتْمَ أو حَلَّ الشَّدَّ، ضَمِنَها، وقد ذَكَرْناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا ضَمِن الوَدِيعَةَ بالاسْتِعْمالِ أو بالجَحْدِ، ثم رَدَّها إلى صاحِبِها، زال عنه الضَّمانُ، فإن رَدَّها صاحِبُها إليه، فهو ابْتِداءُ اسْتِئْمانٍ، وإن لم يَرُدَّها إليه، ولكنْ جَدَّدَ له الاسْتِئْمانَ، أو أَبْرَأه مِن الضَّمانِ، بَرِئَ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّ الضَّمانَ حَقُّه، فإذا أَبْرَأه منه بَرِئَ كما لو أَبْرَأه مِن دَينٍ في ذمَّتِه. وإذا جَدَّدَ له اسْتِئْمانًا، فقد انتَهَى القَبْضُ المَضْمُون به، فزال الضَّمانُ. وقد قال أصْحابُنا: إذا رَهَن المَغْصُوبَ عندَ الغاصِبِ، أو أوْدَعَه عندَه، زال عنه ضَمانُ الغَصْبِ. فههُنا أوْلَى.

2452 - مسألة: (وإن أودعه صبي وديعة، ضمنها، ولم يبرأ إلا بالتسليم إلى وليه)

وَإنْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ وَدِيعَةً، ضَمِنَهَا، وَلَمْ يَبْرَأْ إلا بِالتَّسْلِيمِ إِلى وَلِيِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2452 - مسألة: (وإن أوْدَعَه صَبِيٌّ وَدِيعَةً، ضَمِنَها، ولم يَبْرَأْ إلَّا بالتَّسْلِيمِ إلى وَلِيِّهِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه لا يَصِحُّ الإيداعُ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ، فإن أوْدَعَ طِفْلٌ أو مَعْتُوة إنْسانًا وَدِيعَةً، ضَمِنَها بقَبْضِها؛ لأنّه أخَذَ ماله بغيرِ إذْنٍ شَرْعِيٍّ، أشْبَهَ ما لو غَصَبَه، ولا يَزُولُ الضَّمانُ عنه برَدِّها إليه، وإنَّما يَزُولُ بدَفْعِها إلى وَلِيِّه النّاظِرِ في مالِه. فإن كان الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا،

2453 - مسألة: (وإن أودع الصبي)

وَإِنْ أوْدَعَ الصَّبِيَّ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ أتْلَفَهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَال الْقَاضِي: يَضْمَنُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ إيداعُه لِما أُذِنَ له في التَّصَرُّفِ فيه؛ لأنَّه كالبالِغِ (¬1) بالنِّسْبَةِ إلى ذلك. فإنْ خاف أنَّه إذا لم يَأْخُذْه منه أتْلَفَه، لم يَضْمَنْه بأخْذِه؛ لأنَّه قَصَد تَخْلِيصَه مِن الهَلاكِ، فلم يَضْمَنْه، كما لو وَجَدَه في سَيل فأخْرَجَه منه. 2453 - مسألة: (وإن أوْدَعَ الصَّبِيَّ) أو المَعْتُوهَ (وَدِيعَةً، فتَلِفَتْ بتَفْرِيطِه، لم يَضْمَنْ) فإن أتْلَفَها، أو أكلَها، ضَمِنَها في قولِ القاضي، وظاهِرِ مَذْهَبِ الشافعيِّ. ومِن أصْحابِنا مَن قال: لا ضَمانَ ¬

(¬1) في الأصل، م: «كالبائع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه سَلَّطَه على إتْلافِها بدَفْعِها إليه، فلا يَلْزَمُه. ألا تَرَى أنَّه لو دَفَع إلى صَغِيرٍ سِكِّينًا، فوَقَعَ عليها، كان ضَمانُه على عاقِلَتِه؟ ولنا، أنَّ ما ضَمِن بإتْلافِه قبلَ الإيداعِ، ضَمِنَه بعدَ الإيداعِ، كالبالِغِ. ولا يَصِحُّ قَوْلُهم: إنَّه سَلَّطَه على إِتْلافِها. وإنَّما اسْتَحْفَظَه إيّاها، وفارَقَ دَفْعَ السِّكِّينِ، فإنَّه سَبَبٌ للإتْلافِ، ودَفْعُ الوَدِيِعَةِ بخِلافِه.

2454 - مسألة: (وإن أودع عبدا وديعة فأتلفها)

وَإنْ أوْدَع عَبْدًا وَدِيعَةً فَأتْلَفَهَا، ضَمِنَهَا في رَقَبَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2454 - مسألة: (وإن أوْدَعَ عَبْدًا وَدِيعَةً فأتْلَفَها) خُرِّجَ على الوَجْهَين في الصَّغِيرِ، إذا أتْلَفَ (¬1) الوَدِيعَةَ، فإن قُلْنا: لا يَضْمَنُ الصَّبِيُّ. كانت في ذِمَّتِه. وإن قُلْنا: يَضْمَنُ. كانت في رَقَبَتِه. ¬

(¬1) في م: «تلفت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أوْدَعَه شيئًا، ثم سَألَه دَفْعَه إليه في وَقْتٍ أمْكَنَه ذلك، فلم يَفْعَلْ حتى تَلِف، ضَمِنَه. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ رَدِّ الوَدِيعَةِ على مالِكِها إذا طَلَبَها، فأمْكَنَ أداؤُها إليه بغيرِ ضَرُورَةٍ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى بذلك، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1). وقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» (¬2). يَعْنِي عندَ طَلَبِها. ولأنَّها حَقٌّ لمالِكِها لم يتَعَلَّقْ بها حَقُّ غيرِه، فلَزِم أداؤُها إليه، كالمَغْصُوبِ والدَّينِ الحالِّ. فإنِ امْتَنَعَ مِن دَفْعِها في هذه الحال، فتَلِفَتْ، ضَمِنَها؛ لأنَّه صار غاصِبًا، لأنَّه أمْسَكَ مال غيرِه بغيرِ إذْنِه بفِعْل مُحَرَّمٍ، أشْبَهَ الغاصِبَ. فأمّا إن طَلَبَها في وَقْتٍ لم يُمْكِنْ دَفْعُها؛ لبُعْدِها، أولمَخافَةٍ في طَرِيقِها، أو للعَجْزِ عن حَمْلِها، أو غيرِ ذلك، لم يكنْ مُتَعَدِّيًا بتَرْكِ تَسْلِيمِها؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها. فإن تَلِفَتْ لم يَضْمَنْها؛ لعَدَمِ عُدْوانِه. وإن قال: أمْهِلُونِي حتى أقْضِيَ صَلاتِي -أو- آكُلَ، فإنِّي جائِعٌ -أو- أنامَ فإنِّي ناعِسٌ -أو- يَنْهَضِمَ عنِّي الطَّعامُ، فإني مُمْتَلِئٌ. أُمْهِلَ بقَدْرِ ذلك. ¬

(¬1) سورة النساء 58. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس على المُسْتَوْدَعِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وحَمْلُها إلى رَبِّها، إذا كانت ممّا لحَمْلِها مُؤْنَةٌ، قَلَّتِ المُؤْنَةُ أو كَثُرَتْ؛ لأنَّه قَبَض العَينَ لمَنْفَعَةِ مالِكِها على الخُصُوصِ، فلم تَلْزَمْه الغَرامَةُ عليها، كما لو وَكَّلَه في حِفْظِها في مِلْكِ صاحِبِها، وإنّما عليه التَّمْكِينُ مِن أخْذِها. فإن سافَرَ بها بغيرِ إذْنِ رَبِّها، رَدَّها إلى بَلَدِها؛ لأنَّه بَعَّدَها بغيرِ إذْنِ رَبِّها، فلَزِمَه رَدُّها، كالغاصِبِ. فصل: إذا مات الرجلُ، وثَبَت أنَّ عندَه وَدِيعَةً لم تُوجَدْ بعَينِها، فهي دَينٌ عليه، تُغْرَمُ مِن تَركَتِه، فإن كان عليه دَينٌ سِواها، فهما سَواءٌ إن وَفَّتْ تَرِكَتُه بهما، وإلَّا اقْتَسماها (¬1) بالحِصَصِ. وبه قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وداودُ بنُ (¬2) أبي هِنْدٍ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه، وإسحاقُ. ورُوِيَ ذلك عن شُرَيح، ومَسْرُوقٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، والزُّهْرِيِّ، وأبي جَعْفَرٍ محمدِ بنِ عليّ. ورُوِيَ عنِ النَّخَعِيِّ: الأمانَةُ قبلَ الدَّين. وقال الحارِثُ العُكْلِيُّ: الدَّينُ قبلَ الأمانَةِ. ولَنا، أنَّهما حَقَّان وَجَبا في ذِمَّتِه، فتَساوَيا كالدَّينَين. وسَواءٌ وُجِد في تَرِكَتِه مِن جِنْسِ الوَدِيعَةِ أو لم يُوجَدْ. وهذا إذا أقَرَّ المُودَعُ أنَّ عندِي وَدِيعَةً، أو عليَّ وَدِيعَةً لفُلانٍ، أو ثَبَتَتْ بَيِّنَةٌ أنَّه مات وعندَه وَدِيعَةٌ. فأمّا إن كانت عندَه وَدِيعَةٌ ¬

(¬1) في الأصل، ر 2: «اقتسماه». (¬2) في الأصل، م: «وابن». وهو داود بن أبي هند واسمه دينار بن عذافر القشيري مولاهم، من فقهاء التابعين بالبصرة، توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. طبقات الفقهاء للشيرازي 90، تهذيب التهذيب 3/ 204.

فَصْلٌ: وَالْمُودَعُ أمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ رَدٍّ وَتَلَفٍ وَإذْنٍ في دَفْعِهَا إِلَى إِنْسَانٍ، وَيُدَّعَى عَلَيهِ مِنْ خِيَانَةٍ وَتَفْرِيطٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في حَياتِه، ولم تُوجَدْ بعَينِها، ولم يُعْلَمْ هل هي باقِيَةٌ عندَه أو تَلِفَتْ؟ ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، وُجُوبُ ضَمانِها؛ لأنَّ الوَديعَةَ يَجِبُ رَدُّها، إلَّا أن يَثْبُتَ سُقُوطُ الرَّدِّ بالتَّلَفِ مِن غيرِ تَعَدٍّ، ولم يَثْبُتْ ذلك، ولأنَّ الجَهْلَ بعَينِها كالجَهْلٍ بها، وذلك لا يُسْقِطُ الرَّدَّ. والثانِي، لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ الوَدِيعَةَ أمانةٌ، والأصْلُ عَدَمُ إتْلافِها والتَّعَدِّي فيها، فلم يَجِبْ ضَمانُها. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى، وأحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ. والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ؛ لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ (¬1) الرَّدِّ، فيَبْقَى عليه، ما لم يُوجَدْ ما يُزِيلُه. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (والمُودَعُ أمِينٌ، والقولُ قَوْلُه فيما يَدَّعِيه مِن رَدٍّ أو تَلَفٍ أو إذْنٍ في دَفْعِها إلى إنْسانٍ) إذا ادعى المُسْتَوْدَعُ تَلَفَ الوَدِيعَةِ، فالقولُ قَوْلُه بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلَّ ¬

(¬1) في م: «وجود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْ نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ المُودَعَ إذا أحْرَزَ الوَدِيعَةَ، ثم ذَكَر أنَّها ضاعَتْ، أنَّ القولَ قَوْلُه. وقال أكْثَرُهم: مع يَمِينِه. وإنِ ادَّعَى رَدَّها على صاحِبِها، فالقولُ قَوْلُه مع يَمينِه. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي، وإسحاقُ. وبه قال مالِكٌ إن كان دَفَعَها إليه بغيرِ بَيِّنةٍ، وإن كان أوْدَعَه إيّاها ببَيِّنةٍ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه في الرَّدِّ إلَّا ببَيِّنةٍ. وحَكاه القاضي أبو الحُسَينِ رِوايَةً عن أحمدَ. ولَنا، أنَّه أمِينٌ لا مَنْفَعَةَ له في قَبْضِها، فقُبِل قَوْلُه في الرَّدِّ بغيرِ بَيِّنةٍ، كما لو أُودِعَ بغيرِ بَيِّنةٍ. وإن قال: دَفَعْتُها إلى فُلانٍ بأمْرِكَ. فأنْكَرَ مالِكُها الإذْنَ في دَفْعِها، فالقولُ قولُ المُودَعِ. نَصَّ عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ منصورٍ. وهو قولُ ابنِ أبي لَيلَى. وقال مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والعَنْبَرِيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي: القولُ قولُ المالِك؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإِذْنِ، وله تَضْمِينُه. ولَنا، أنَّه ادَّعَى دَفْعًا يَبْرأُ به مِن الوَدِيعَةِ، فكان القولُ قَوْلَه، كما لو ادَّعَى رَدَّها على مالِكِها. ولو اعْتَرَفَ المالِكُ بالإِذْن، ولكنْ قال: لم يَدْفَعْها. فالقول قول المُسْتَوْدَعِ أيضًا، ثم يُنْظرُ في المَدْفُوعِ إليه؛ فإن أقَرَّ بالقَبْضِ، وكان الدَّفْعُ في دَينٍ، فقد بَرِئَ الكلُّ، وإن أنْكَرَ، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه. وقد ذَكَر أصْحابُنا أنَّ الدّافِعَ يَضْمَنُ؛ لكونِه قَضَى الدَّينَ بغيرِ بَيِّنةٍ، ولا تَجِبُ اليَمِينُ على صاحِبِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَدِيعَةِ؛ لأنْ المُودَعَ مُفَرِّطٌ، لكونِه أذِنَ له في قَضاءٍ يُبَرِّئُه مِن الحَقِّ ولم يَبْرَأْ بدَفْعِه، فكان ضامِنًا، سَواءٌ صَدَّقَه أو كَذَّبَه. وإن أمَرَه بدَفْعِه وَدِيعَةً، لم يَحْتَجْ إلى بَيِّنةٍ؛ لأنّ المُودَعَ يُقْبَلُ قَوْلُه في التّلَفِ والرَّدِّ، فلا فائِدَةَ في الإشْهادِ عليه. فعلى هذا، يَحْلِفُ المُودَعُ ويَبرَأُ، ويَحْلِفُ الآخَرُ ويَبْرَأُ أيضًا، ويكونُ ذَهابُها مِن مالِكِها. وإنِ ادَّعَى عليه خِيانَةً أو تَفْرِيطًا، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك، أشْبَهَ الوَكِيلَ.

2455 - مسألة: (وإن قال: لم تودعني. ثم أقر بها، أو ثبتت ببينة، ثم ادعى الرد أو التلف، لم يقبل)

وَإِنْ قَال: لَمْ تُودِعْنِي. ثُمَّ أقَرَّ بِهَا، أوْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنةٍ، فَادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ أقَامَ بِهِ بَيِّنةً. وَيَحْتَمِلُ أنْ تُقْبَلَ بَيِّنتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2455 - مسألة: (وإن قال: لم تُودِعْني. ثم أقَرَّ بها، أو ثَبَتَتْ ببَيِّنةٍ، ثم ادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، لم يُقْبَلْ) قَوْلُه (وإن أقام به بَيِّنَةً. ويَحْتَمِلُ أن تُقْبَلَ بَيِّنتُه) إذا ادَّعَى على رجلٍ وَدِيعَةً، فأنْكَرَ، ثم ثَبَت أنَّه أوْدَعَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: أوْدَعْتَنِي، وهَلَكَتْ مِن حِرْزي. لم يُقْبَلْ قَوْلُه، وعليه ضَمانُها. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعيُّ، وإسحاق، وأَصْحابُ الرَّأْي؛ لأنَّه مُكذِّبٌ لإنْكارِه الأوَّلِ، ومُعْتَرِفٌ على نَفْسِه بالكَذِبِ المُنافِي للأمانَةِ. وإن أقَرَّ صاحِبُها له بتَلَفِها مِن حِرْزِه قبلَ جَحْدِها، فلا ضَمانَ عليه. وإن أقَرَّ أنَّها تَلِفَتْ بعدَ جُحُودِه، لم يَسْقُطْ عنه الضَّمانُ؛ لأنَّه خَرَج بجُحُودِه عن الأمانَةِ، فصار ضامِنًا، كمَن طُولِبَ بالوَدِيعَةِ فامْتَنَعَ مِن رَدِّها. وكذلك إن أقام بَيِّنةً بتَلَفِها بعدَ الجُحُودِ؛ لذلك. وإن شَهِدَتْ بتَلَفِها قبلَ الجُحُودِ

2456 - مسألة: (وإن قال: ما لك عندي شيء.

وَإنْ قَال: مَالكَ عِنْدِى شَيْءٌ. قُبِلَ قَوْلُهُ في الرَّدِّ والتَّلَفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الحِرْزِ، فهل تُسْمَعُ بيِّنتُه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تُسْمَعُ؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ لها بإنْكارِه الإيداعَ. والثَّاني، تُسْمَعُ؛ لأنَّ صاحِبَها لو أقرَّ بذلك سَقَط عنه، فتُسْمَعُ البَيِّنةُ به، فإنْ شَهِدَتْ بالتَّلَفِ من الحِرْزِ ولم تُعَيِّنْ قبلَ الجُحُودِ ولا بعدَه، واحْتَمَلَ الأمْرَين، لم يَسْقُطِ الضَّمانُ؛ لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُه، فلا يَنْتَفِي بأمْرٍ مُتَرَدِّدٍ. 2456 - مسألة: (وإن قال: ما لَكَ عندِي شيءٌ. قُبِل قَوْلُه في الرَّدِّ والتَّلَفِ) إذا قامت بَيِّنةٌ بالإِيداعِ، أو أقَرَّ به المُودَعُ بعدَ قَوْلِه: ما لَكَ عندِي شيءٌ -أو- لا حَقَّ لك عليَّ. ثم قال: ضاعَت مِن حِرْزِي. كان القولُ قَوْلَه مع يَمِينِه، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ قَوْلَه لا يُنافِي ما شَهِدَتْ به البَيِّنةُ، ولا يُكَذِّبُها، فإنَّ مَن تَلِفَتِ الوَدِيعَةُ مِن حِرْزِه بغيرِ تَفْرِيطِه لا شيءَ لمالِكِها عندَه، ولا يَسْتَحِقُّ عليه شيئًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَوَى الخِيانَةَ في الوَدِيعَةِ بالجُحُودِ أو الاسْتِعْمالِ، ولم يَفعَل ذلك، لم يَصِرْ ضامِنًا؛ لأنَّه لم يُحْدِث في الوَدِيعَةِ قولًا ولا فِعْلًا، فلم يَضْمَن، كما لو لم يَنْو. وقال ابنُ سُرَيجٍ: يَضْمَنُها؛ لأنَّه أمْسَكَها بنِيَّةِ الخِيانةِ، فضَمِنَها، كاللُّقَطَةِ بقَصْدِ التَّمْليكِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ، وما حَدَّثَتْ به أنْفسَها، ما لمْ تَتَكَلَّمْ بِه، أوْ تعْمَل بِهِ» (¬1). ولأنَّه لم يَخُنْ فيها بقولٍ ولا فِعْلٍ، فلم يَضْمَنْها، كالذي لم يَنْو، وفارَقَ المُلْتَقِطَ بقَصْدِ التَّمْلِيكِ، فإنه عَمِل فيها (¬2) بأخْذِها ناويًا للخِيانَةِ فيها، فوَجَبَ الضمان بفِعْلِه المَنْويِّ، لا بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ولو الْتَقَطَها قاصِدًا لتَعْرِيفِها، ثم نَوَى بعدَ ذلك إمْساكَها لنَفْسِه، كانت كمسْأَلتِنا. وإن أخْرَجَها بنِيِّةِ الاسْتِعْمالِ، فلم يَسْتَعْمِلْها، ضَمِنَها. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَضْمَنُها إلَّا بالاسْتِعْمالِ؛ لأنَّه لو أخْرَجَها لنَقْلِها لم يَضْمَنْها. ولنا، أنَّه تَعَدَّى بإخْراجِها، أشْبَهَ ما لو اسْتَعْمَلَها، بخِلافِ ما إذا نَقَلَها. ¬

(¬1) الطرف الأول للحديث تقدم تخريجه في 1/ 276. والطرف الثاني تقدم تخريجه في 7/ 428. (¬2) في م: «بها».

2457 - مسألة: (وإن مات المودع، فادعى وارثه التسليم، لم يقبل إلا ببينة)

وَإِنْ مَاتَ الْمُودَعُ، وَادَّعَى وَارِثُهُ الرَّدَّ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنةٍ. وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ. قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهَا، لَمْ يَضْمَنْهَا، وَبَعْدَهُ يَضْمَنُهَا، في أحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2457 - مسألة: (وإن مات المُودَعُ، فادَّعَى وارِثُه التَّسْلِيمَ، لم يُقْبَلْ إلَّا ببَيِّنَةٍ) لأنَّ صاحِبَها لم يَأْتَمِنْه عليها، فلا يُقْبَلُ قَوْلُه عليه، بخِلافِ المُودَعِ، فإنه ائْتَمَنَه، فقُبِلَ قَوْلُه بغيرِ بَيِّنةٍ. 2458 - مسألة: (فإن تَلِفَتْ عندَه قبلَ إمْكانِ رَدِّها، لم يَضْمَنْها)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا تَفْرِيطَ منه ولا تَعَدٍّ. وإن كان بعدَ الإمْكانِ فتَلِفَتْ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَضْمَنُها؛ لتَأخُّرِ رَدِّها مع إمْكانِه. والآخَرُ، لا يَضْمَنُها؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ في إِثْباتِ يَدِه عليهِا، إنَّما حَصَلَتْ في يَدِه بغيرِ فِعْلِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا مات المُودَعُ وعندَه وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بعَينِها، فعلى وَارِثِه تَمْكِين صاحِبِها مِن أخْذِها، فإن لم يَفْعَلْ، ضَمِن كالمُودَعِ، فإن لم يَعْلَمْ صاحِبُها بمَوْتِ المُودَعِ، فعلى الوَرَثَةِ إعْلامُه، وليس لهم إمْساكها قبلَ أن يَعْلَمَ بها رَبُّها؛ لأنَّه لا يَأْتَمِنهم عليها، وإنّما حَصَل مال غيرِهم بأيدِيهم، بمَنْزِلةِ مَن أطارَتِ الرِّيحُ إلى دارِه ثوْبًا وعَلِمَ به، فعليه إعْلامُ صاحِبِه به، فإن أخَّرَ (¬1) ذلك مع الإمْكانِ ضَمِن. كذا ها هنا. ¬

(¬1) في م: «أحرز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَثْبُتُ الوَدِيعَة إلَّا بإقْرارٍ مِن المَيِّتِ أو وَرَثَتِه، أو بَيِّنةٍ. وإن وُجِدَ عليها مَكْتوبٌ وَدِيعَةً، لم يكنْ حُجَّةً عليهم، لجَوازِ أن يكونَ الوعاء كانت فيه وَدِيعَةٌ قبلَ هذه، أو كان وَدِيعَةً لمَوْرُوثِهم عندَ غيرِه، أو كانت وَدِيعَةً فابْتاعَها، وكذلك لو وَجَد في رُزْمَانَجِ (¬1) أبيه أنَّ لفلانٍ عندِي وَدِيعةً كذا، لم يَلْزَمْه بذلك؛ لجَوازِ أن يكون قد رَدَّها ونَسِيَ الضَّرْبَ على ما كَتَب، أو غيرِ ذلك. وهذا قولُ أصْحابِ الشافعيِّ. وحَكَى القاضي أبو الحُسَينِ، أنَّ المَذْهَبَ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلى مَن هو مكْتوبٌ باسْمِه. أوْمَأ إليه أحمدُ، كما لو وَجَد في رُزْمَانَجِ أبيه دَينًا على غيرِه بخَطِّ أبيه، كان له أن يَعْمَلَ على خَطِّه، ويَحْلِفَ على اسْتِحْقاقِه بالخَطِّ، فإذا وَجَد دَينًا عليه كان أَوْلَى وأحْوطَ. ¬

(¬1) أصله الروزنامه، وهي مركبة من روز، أي يوم، ونامه أي كتاب والمقصود الدفتر الذي يسجل فيه. الألفاظ الفارسية المعربة 75.

2459 - مسألة: (وإن ادعى الوديعة اثنان، فأقر بها لأحدهما، فهي له مع يمينه)

وَإذَا ادَّعَى الْوَدِيِعَةَ اثْنَانِ، فَأقَرَّ بِهَا لِأحَدِهِمَا، فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَحْلفُ الْمُودَعُ أيضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2459 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الوَدِيعَةَ اثْنان، فأقَرَّ بها لأحَدِهما، فهي له مع يَمِينِهِ) لأنَّ يدَه دَلِيلُ (¬1) مِلْكِه، بدَلِيلِ أنَّه لو ادَّعاها لنَفْسِه، ¬

(¬1) بعده في م: «على.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان القولُ قَوْلَه، فكذلك إذا أقَرَّ بها لغيرِه، ويَلْزَمُه أن يَحْلِفَ للآخَرِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ لحَقِّه، فإن حَلَفَ بَرِئَ، وإن نَكَلَ لَزِمَه أن يَغْرَمَ له قِيمَتَها؛ لأنَّه فَوَّتَها عليه. وكذلك لو أقَرَّ له بها بعدَ أن أقَرَّ بها للأوَّلِ، فإنَّها تُسَلَّمُ إلى الأوَّلِ، ويَغْرَمُ قِيمَتَها للثانِي. نَصَّ عليه أحمدُ.

2460 - مسألة: (وإن أقر بها لهما)

وَإِنْ أَقَرَّ بهَا لَهُمَا، فَهِيَ لَهُمَا، وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَال: لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا. حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَيُقْرَعُ بَينَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2460 - مسألة: (وإن أقَرَّ بها لهما) جَمِيعًا، فهي بينَهما، ويَلْزَمُه اليَمِينُ لكلِّ واحِدٍ منهما في نِصْفِها (وإن قال: لا أعْرِفُ صاحِبَها) فاعْتَرَفا له بجهْلِه بعَين المُسْتَحِقِّ لها، فلا يَمِينَ عليه. وإنِ ادَّعَيا مَعْرِفَتَه، لَزِمَتْه يَمِينٌ واحِدَةٌ أنَّه لا يَعْلَمُ ذلك. وقال أبو حنيفةَ: يَحْلِفُ يمِينَينِ، كما لو أنْكَرَهما. ولَنا، أنَّ الذي يُدَّعَى عليه أمْرٌ واحِدٌ، وهو العِلْمُ بعَينِ المالِكِ، فكَفاه يَمِينٌ واحِدَةٌ، كما لو ادَّعَياها فأقَرَّ بها لأحَدِهما، ويُفارِقُ ما إذا أنْكَرَهما؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَدَّعِي عليه أنَّها له، فهما دَعْوَيان، فإن حَلَف أَقْرِعَ بينَهما، وسُلِّمَتْ إلى مَن تَقَعُ له الُقْرعَةُ. وقال الشافعيُّ: يَتَحالفان، ويُوقَفُ الشيءُ بينَهما حتى يَصْطَلِحا. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ المالِكَ منهما. وللشافعيِّ قولٌ آخَرُ، أنَّها تُقْسَمُ بينَهما، كما لو أقَرَّ بها لهما. وهذا الذي حَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن ابنِ أبي لَيلَى. وهو قولُ أبي حنيفةَ وصاحِبَيه فيما حُكِى عنهم، قالوا: ويَضْمَنُ المُودَعُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفَها لكلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّه فَوَّتَ ما اسْتُودِعَ بجَهْلِهِ. ولَنا، أنَّهما تَساوَيا في الحَقِّ فيما ليس بأيديِهما، فوَجَبَ أن يُقْرَعَ بينَهما، كالعَبْدَين إذا أعْتَقَهما في مَرَضِه، فلم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا أحَدُهما، أو كما لو أرادَ السَّفَرَ بإحْدَى نِسائِه. وقولُ أبي حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ العَينَ لم تَتْلَفْ، ولو تَلِفتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ منه، فلا ضَمانَ عليه، وليس في جَهْلِهِ تفْرِيطٌ، إذْ ليس في وُسْعِه أن لا يَنْسَى ولا يَجْهَلَ.

2461 - مسألة: (وإن أودعه اثنان مكيلا أو موزونا، فطلب أحدهما نصيبه، سلمه إليه)

وَإِنْ أوْدَعَهُ اثْنَانِ مَكِيلًا أوْ مَوْزُونًا، فَطَلَبَ أحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، سَلَّمَهُ إلَيهِ. وَإنْ غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ، فَهَلْ لِلْمُودِعِ الْمُطَالبَةُ بِهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2461 - مسألة: (وإن أوْدَعَه اثْنان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، فطَلَبَ أحَدُهما نَصِيبَه، سَلَّمَه إليه) لأنَّ قِسْمَتَه مُمْكِنَةٌ بغيرِ غَبْنٍ ولا ضَرَرٍ. اخْتارَه أبو الخَطّابِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَجُوزُ في غَيبَةِ الشَّرِيكِ، إلَّا أن يَحْكُمَ بها حاكِمٌ. قاله القاضي. 2462 - مسألة: (وإن غُصِبَتِ الوَدِيعَةُ، فهل للمُودِعِ المُطالبَةُ بِهَا؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، له المُطالبَةُ بها؛ لأنّه مأْمُورٌ بحِفْظِها، وذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حِفْظِها. والثَّاني، ليس له ذلك؛ لأنَّه لم يُؤْمَرْ به. ولا ضَمانَ على المُودَعِ، سواءٌ أُخِذَتْ مِن يَدِه قَهْرًا، أو أُكْرِهَ على تَسْلِيمِها فسَلَّمَها بنَفْسِه؛ لأنَّ الإكْراهَ عُذْرٌ له يُبيحُ دَفْعَها، فلم يَضْمَنْها، كما لو أُخِذَتْ مِن يَدِه قَهْرًا. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.

باب إحياء الموات

بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَهِيَ الْأرْضُ الدَّاثِرَةُ الَّتِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا مُلِكَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ إحْياءِ المَوَاتِ (وهي الأرْضُ الدّاثِرَةُ التي لا يُعْلَمُ أنَّها مُلِكَتْ) المَواتُ: الأرْضُ الدّارِسَةُ. تُسَمَّى مَيتَةً ومَواتًا ومَوَتَانًا، بفَتْحِ المِيمِ والواو. والمُوتانُ: بضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ الواو: المَوْتُ الذَّرِيعُ. ورجل مَوْتَانُ القَلْبِ، بفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الواو، يَعْنِي أعْمَى القَلْبِ، لا يَفْهَمُ. والأصْلُ في إحْياءِ المَواتِ ما روَى جابِرٌ، رَضِيَ اللهُ عَنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ» (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيِحٌ. ورَوَى سعيدُ بنُ زيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فهِيَ لَهُ» (¬2). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ. وروَى مالِكٌ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري تعليقا، في: باب من أحيا أرضا مواتا، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 139، 140. والترمذي، في: باب ما ذكر في إحياء أرض الموات، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 149. والدارمي، في: باب من أحيا أرضا ميتة فهي له، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 267. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 338، 381. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 299.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «مُوَطَّئِه»، وأبو داودَ في «سُنَنِه» (¬1) عن عائشةَ مِثْلَه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وهو مُسْنَدٌ صَحِيحٌ مُتَلَقَّى بالقَبُولِ عندَ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ وغيرِهم. وروَى أبو عُبَيدٍ في «الأمْوالِ» (¬2) عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْيا أَرْضًا لَيسَتْ لِأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ بِهَا». قال عُرْوَةُ: وقَضَى بذلك عُمَرُ بنُ الخَطّابِ في خِلافتِه. وعامةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ على أنَّ المَواتَ يُمْلَكُ بالإِحْياءِ، وإنِ اخْتَلَفُوا في شُرُوطِه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إِحياء الموات، من كتاب الخراج والإمارة والفئ. سنن أبي داود 2/ 158. والإمام مالك، في: باب القضاء في عمارة الموات، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 743. (¬2) في: باب إِحياء الأرضين واحتجارها. . .، الأموال 286. كما أخرجه البخاري، في: باب من أحيا أرضا مواتا، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 140.

2463 - مسألة: (فإن كان فيها آثار الملك ولا يعلم لها مالك، ففيه روايتان)

فَإنْ كَانَ فِيِهَا آثارُ الْمِلْكِ وَلَا يُعْلَمُ لَهَا مَالِكٌ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2463 - مسألة: (فإن كان فيها آثارُ المِلْكِ ولا يُعْلَمُ لها مالِكٌ، ففيه رِوايَتانِ) وجملةُ ذلك، أن المَواتَ قِسْمان؛ أحَدُهما، ما لم يَجْرِ عليه مِلْكٌ لأحَدٍ ولم يُوجَدْ فيه أثَرُ عِمارَةٍ، فهذا يُمْلَكُ بالإحْياءِ، بغيرِ خِلافٍ بينَ القائِلِين بالإحْياءِ؛ لأنَّ الأخْبارَ المَرْويَّةَ مُتَناولَةٌ له. القِسْمُ الثانِي، ما جَرَى عليه مِلْكٌ، وهو ثَلاثةُ أنْواعٍ؛ أحَدُها، ما له مالِكٌ مُعَيَّنٌ، وهو ضَرْبان؛ أحَدُهما، ما مُلِك بشِراءٍ أو عَطيَّةٍ، فهذا لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ، بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ العُلَماءُ أنَّ ما عُرِف بمِلْكِ مالِكٍ غيرِ مُنْقَطِعٍ، أنَّه لا يَجُوزُ إحياؤُه لأحَدٍ غيرِ أرْبابِه. الثانِي، ما مُلِك بالإحْياءِ ثم تُرِك حتى دَثَر وعاد مَواتًا، فهو كالذي قبلَه سَواءً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالِكٌ: تُمْلَكُ؛ لعُمُومِ قَوْلِه: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ». ولأنَّ أصْلَ هذه الأرْضِ مُباحٌ، فإذا تُرِكَتْ حتى تَصِيرَ مَواتًا، عادَتْ إلى الإباحَةِ، كمَن أخَذَ ماءً مِن نَهْرٍ ثم رَدَّه فيه. ولَنا، أنَّ هذه أرْضٌ يُعْرَفُ مالِكُها، فلم تُمْلَكْ بالإحْياءِ، كالتي مُلِكَتْ بشِراءٍ أو عَطيَّةٍ، والخَبَرُ مُقَيَّدٌ بغيرِ المَمْلُوكِ، بقَوْله في الرِّوايَةِ الأخْرَى: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً لَيسَتْ لأحَدٍ». وقَوْلِه: «مِنْ غيرِ حَقِّ مُسْلِمٍ» (¬1). وهذا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مُطْلَقِ حَدِيثِه. وقال هِشامُ بنُ عُرْوَةَ، في تَفْسِيرِ قَوْلِه عليه السّلامُ: «لَيسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»: والعِرْقُ الظّالِمُ أن يَأْتِيَ الرجلُ الأرْضَ المَيتَةَ لغيرِه، فيَغْرِسَ فيها. رَواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ في «سُنَنِه». ثم الحديث مَخْصُوصٌ بما مُلِك بشِراءٍ أو عَطيَّةٍ، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزاعِ. ولأنَّ سائِرَ الأمْوالِ لا يَزُولُ المِلْكُ عنها بالتَّرْكِ، بدَلِيلِ سائِرِ الأمْلاكِ إذا تُرِكَتْ حتى ¬

(¬1) انظر تخريج البخاري السابق في صفحة 76.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَشَعَّثَتْ. وما ذَكَرُوه يَبطُلُ بالمَواتِ إذا أحْياه إنْسانٌ ثم باعَه، فتَرَكَه المُشْتَرِي حتى عاد مَواتًا، وباللُّقَطَةِ إذا مَلَكَها ثم ضاعَتْ منه، ويُخالِفُ ماءَ النَّهْرِ، فإنَّه اسْتُهْلِكَ. النَّوْعُ الثانِي، ما يُوجَدُ فيه آثارُ مِلْكٍ قَدِيمٍ جاهِلِيٍّ، كآثارِ الرُّومِ ومَساكِنِ ثَمُودَ ونحوهم، فهذا يُمْلَكُ بالإِحْياءِ، في أظْهَرِ الرِّوايَتَين؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ، ولأنَّ ذلك المِلْكَ لا حُرْمَةَ له؛ لِما روَى طاوُسٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «عَادِيُّ الأرْضِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ بَعْدُ». رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه»، وأبو عُبَيدٍ في «الأمْوالِ» (¬1). وقال: عادِيُّ الأرْضِ؛ التي كان بها ساكِنٌ في آبادِ الدَّهْرِ، فانْقَرَضُوا، فلم يَبْقَ منهم أنِيسٌ، وإنَّما نَسَبَها إلى عادٍ؛ لأنَّهم كانُوا مع تَقَدُّمِهِم ذوي قُوَّةٍ وبَطْشٍ وآثارٍ كَثِيرةٍ، فنُسِبَ كلُّ أثَرٍ قَدِيمٍ إليهم. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا تُمْلَكُ؛ لأنها إمّا لمُسْلم أو ذِمِّيٍّ أو بَيتِ المالِ، أشْبَهَ ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد، في: باب الإقطاع، من كتاب أحكام الأرضين في إقطاعها. . .، الأموال 272. كما أخرجه البيهقي، في: باب لا يترك ذمي يحييه. . .، من كتاب إحياء الموات. السنن الكبرى 6/ 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لو تَعَيَّنَ مالِكُه. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّ كلَّ ما فيه أثَرُ المِلْكِ، ولم يُعْلَمْ زَوالُه قبلَ الإسْلامِ أنَّه لا يُمْلَكُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ المسلمين أخَذُوه عامِرًا فاسْتَحَقُّوهْ، فصار مَوْقُوفًا بوقْفِ عُمَرَ له، فلم يُمْلَكْ، كما لو عُلِم مالِكُه. النَّوْعُ الثالثُ، ما جَرَى عليه المِلكُ في الإسْلامِ لمُسلِمٍ أو ذِمِّيٍّ غيرِ مُعَيَّنٍ، فظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ. وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، نَقَلَها عنه أبو داودَ، وأبو الحارثِ؛ لِما روَى كَثِيرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَوَاتًا في غَيرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ» (¬2). ¬

(¬1) في: المغني 8/ 147. (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 76. كما أخرجه البيهقي، في: باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد. . .، من كتاب إحياء الموات. السنن الكبرى 6/ 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقَيَّدَه بكَوْنِه في غيرِ حَقِّ مُسْلِمٍ. ولأن هذه الأرْضَ لها مالِكٌ، فلم يَجُزْ إحْياؤُها، كما لو كان مُعَيَّنًا، فإنَّ مالِكَها إن كان له وَرَثةٌ، فهي لهم، وإن لم يَكُنْ له وَرَثَةٌ، وَرِثَه المسلمون. والثانيةُ، أنَّها تُمْلَكُ بالإحْياءِ. نَقَلَها صالِحٌ وغيرُه. وهي مَذْهَبُ أبي حنيفةَ، ومالِكٍ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ، ولأنَّها أرْضٌ مَواتٌ لا حَقَّ فيها لقَوْمٍ بأعْيانِهم، أشْبَهَتْ ما لم يَجْرِ عليه مِلْكُ مالِكٍ، ولأنَّها إن كانت في دارِ الإسْلامِ، فهي كلُقَطَةِ دارِ الإسْلامِ، وإن كانت في دارِ الكُفْرِ، فهي كالرِّكازِ.

2464 - مسألة: (ومن أحيا أرضا ميتة فهي له)

وَمَنْ أحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ، مُسْلِمًا كَانَ أو كَافِرًا، في دَارِ الإسْلَامِ وَغَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2464 - مسألة: (ومَنْ أحيا أرْضًا مَيتَةً فهي له) للأخْبارِ التي رَوَيناها (مُسْلِمًا كان أو كافِرًا، في دارِ الإسْلامِ وغيرِها) لعُمُومِ الأخْبارِ، ولأن عامِرَ دارِ الحَرْبِ إنَّما يُمْلَكُ بالقَهْرِ والغَلَبةِ، كسائِرِ أمْوالِهم. فأمّا ما عُرِف أنَّه كان مَمْلُوكًا في دارِ الحَرْبِ، ولم يُعْلَمْ له مالِكٌ مُعيَّنٌ، فهو على الرِّوايَتَين. فإن قِيلَ: هذا مِلْكُ كافِرٍ غيرُ مُحْتَرَم، فأشْبَهَ دِيارَ عادٍ، وقد دَلَّ عليه قَوْلُه عليه السَّلامُ: «عَادِيُّ الأرْضِ لله ولِرَسُولِهِ، ثمَّ هِيَ لَكمْ بَعْدُ». ولأنَّ الرِّكازَ مِن أمْوالِهم، ويَمْلِكه واجِدُه، فهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. قُلْنا: قَوْلُه: «عَادِيُّ الأرْضِ». يَعْنِي ما تَقَدَّمَ مِلْكُه ومَضَتْ عليه الأزْمانُ، وما كان كذلك فلا حُكْمَ لمالِكِه. فأمّا ما قَرُب مِلْكُه، فيَحْتَمِلُ أنَّ له مالِكًا باقِيًا وإن لم يَتَعَيَّنْ، فلهذا قُلْنا: لا يُمْلَكُ على إحْدَى الرِّوايَتَين. وأمّا الرِّكازُ، فإَّنه يُنْقَلُ ويُحَوَّلُ، وهذا يُخالِفُ الأرْضَ، بدَلِيلِ أنَّ لُقَطَةَ دارِ الإسْلامِ تُمْلَكُ بعدَ التَّعْرِيفِ، بخِلافِ الأرْضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ بينَ المُسْلِمِ والذِّمِّيِّ في الإحْياءِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال مالِكٌ: لا يَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بالإحْياءِ في دارِ الإسْلام. قال القاضي: وهو مَذْهَبُ جَماعَةٍ مِن أصحابِنا؛ لقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَوَتَان الأرْضِ لِلّهِ ولِرَسُولِهِ، ثمّ هِيَ لَكمْ مِنِّي» (¬1). فجَمَعَ المَوَتانَ، ثم جَعَلَه للمسلمين. ولأن مَوَتانَ الأرْضِ مِن حُقُوقِها، والدّارَ للمسلمين، فكان مَواتها لهم، كمَرافِقِ المَمْلُوكِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السّلامُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ» (¬2). ولأنَّ هذه جِهَةٌ مِن جهاتِ التَّملِيكِ، فاشْتَرَكَ فيها المُسْلِمُ والذِّمِّيُّ، كسائِرِ جِهاتِه. وحديثُهُم لا ¬

(¬1) انظر تخريج حديث: «عادي الأرض لله ولرسوله». صفحة 79. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في صفحة 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَعْرِفُه، إنّما نَعْرِفُ قَوْلَه: «عَادِيُّ الأرْضِ لِلّه وَرَسُولِه ثُمَّ هِيَ لَكُمْ بَعْدُ، وَمَنْ أحْيَا مَوَاتًا مِنَ الأرْضِ فَلَهُ رَقَبَتُها». هكذا رَواه (¬1) سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، وهو مُرْسَلٌ، رَواه طاوُسٌ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ثم لا يَمْتَنِعُ أن يُرِيدَ بقَوْلِه: «هِيَ لَكُمْ». أي لأهْلِ دارِ الإسْلامِ. والذِّمِّيُّ مِن أهْلِ ¬

(¬1) في م: «روى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّارِ، تَجْرِي عليه أحْكامُها. وقَوْلُهم: إنَّها مِن حُقُوقِ دارِ الإسْلامِ. قُلْنا: هو مِن أهْلِ الدّارِ، فيَمْلِكُها كما يَمْلِكُها بالشِّراءِ، ولأنَّه يَمْلِكُ مُباحاتِها مِن الحَشِيشِ والخَطَبِ والصُّيُودِ والرِّكازِ والمَعْدِنِ واللُّقَطَةِ، وهي مِن مَرافِقِ دارِ الاسْلامِ، فكذلك المَواتُ.

2465 - مسألة: ويملكه (بإذن الإمام وغير إذنه)

بإِذْنِ الإِمَام أوْ غَيرِ إذْنِهِ إلا مَا أحْيَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أرْضِ الْكُفَّارِ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2465 - مسألة: ويَمْلِكُه (بإذْنِ الإِمَامِ وغيرِ إذْنِه) وجملةُ ذلك، أنَّ إحْياءَ المَواتِ لا يَفْتَقِرُ إلى إِذْن الإمامِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: يَفْتَقِرُ إلى إذْنِه؛ لأنَّ للإمام مَدْخَلًا في النَّظَرِ في ذلك، بدَلِيلِ مَن تَحَجَّرَ مَواتًا فلم يُحْيِه، فإنَّه يُطالِبُه بَالإحْياءِ أو التَّرْكِ، فافْتَقَرَ إلى إِذنِه، كمالِ بَيتِ المالِ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه عليه السّلامُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ». ولأنَّ هذه عَيْنٌ مُباحَةٌ، فلا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُها إلى إذْنِ الإمامِ، كأخْذِ الحَشِيشِ والحَطَبِ، ونَظَرُ الإمامِ في ذلك لا يَدُلُّ على اعْتِبارِ إذْنِه، ألا تَرَى أنَّ مَن وَقَف في مَشْرَعةٍ، طالبَه الإمامُ أن يَأْخُذَ حاجَتَه ويَنْصَرِفَ، ولم يَفْتَقِرْ ذلك إلى إذْنِه. وأمّا مالُ بَيتِ المالِ فهو مَمْلُوكٌ للمسلمين، وللإمام تَعْيِين مَصارِفِه وتَرْتِيبُها، فافْتَقَرَ إلى إذْنِه، بخِلافِ مسألتِنا، فإنَّ هذا مُباحٌ، فمَن سَبَق إليه كان أحَقَّ النّاسِ به، كسائِرِ المُباحاتِ. 2466 - مسألة: (إلَّا ما أحْياه مُسْلِمٌ مِن أرْضِ الكُفّارِ التي صُولِحُوا عليها) وجملة ذلك، أنَّ جَمِيعَ البلادِ فيما ذَكَرْنا سَواءٌ، المَفْتوحُ عَنْوَةً، كأرْضِ الشّام والعِراقِ، وما أسْلَمَ أهْلُه عليه كالمَدِينَةِ، وما صُولِحَ أهْلُه على أنَّ الأرْضَ للمسلمين؛ كأرْضِ خَيبَرَ، إلَّا الذي صُولِحَ أهْلُه على أن الأرْضَ لهم ولَنا الخَراجَ عنها، فإن أصْحابَنا قالوا: لو دَخَل

2467 - مسألة: (وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، لا يملك بالإحياء. فإن لم يتعلق بمصالحه، فعلى روايتين)

وَمَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ، لَمْ يُمْلَكْ بِالْإحْيَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصَالِحِهِ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إليها مُسْلِمٌ فأحْيا فيها مَوَاتًا لم يَمْلِكْه؛ لأنَّهم صُولِحُوا في بِلادِهم، فلا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لشيءٍ منها، عامِرًا كان أو مَوَاتًا؛ لأنَّ المَوَاتَ تابعٌ للبَلَدِ، فإذا لم يَمْلِكْ عليهم البَلَدَ لم يَمْلِكْ مَوَاتَه. ويُفارِقُ دارَ الحَرْبِ، حيث يَمْلِكُ مَواتَها؛ لأنَّ دارَ الحَرْبِ على أصْلِ الإباحَةِ، وهذه صالحْناهم على تَرْكِها لهم. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَها مَن أحْياها؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّها مِن مُباحَاتِ دارِهم، فجاز أن يَمْلِكَها مَن وُجِد منه سبَبُ تَمَلُّكِها، كالحَشِيشِ والحَطَبِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه ليس في السَّوادِ مَواتٌ. يَعْنِي سَوادَ العِراقِ. قال القاضي: هو مَحْمُولٌ على العامِرِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ قال ذلك لكونِ السَّوادِ كان مَعْمُورًا كلَّه في زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخَطّاب، حينَ أخَذَه المسلمون مِن الكُفّارِ، حتى بَلَغنا أنَّ رَجُلًا منهم (¬1) سَأل أَن يُعْطَى خَرِبَةً، فلم يَجِدُوا له خَرِبةً فقال: إنَّما (1) أرَدْتُ أن أُعْلِمَكم كيف أخَذْتُمُوها مِنّا. وإذا لم يكنْ فيها مَواتٌ حينَ مَلَكَها المسلمون، لم يَصِرْ فيها مَواتٌ بعدَه؛ لأنَّ ما دَثَر مِن أمْلاكِ المسلمين لم يَصِرْ مَواتًا، على إحْدَى الرِّوايَتَين. 2467 - مسألة: (وما قَرُب مِن العامِرِ وتَعَلَّقَ بمَصالِحِه، لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ. فإن لم يتَعَلَّقْ بمَصالِحه، فعلى رِوَايَتَينِ) كلُّ ما تعَلَّقَ بمَصالِح ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العامِرِ؛ مِن طُرُقِه، ومَسِيلِ مائِه، ومُطَّرَحِ قُمامَتِه، ومُلْقَى تُرابِه، وآلاتِه، لا يَجُوزُ إحْياوه، بغيرِ خِلافٍ في المَذْهَبِ. وكذلك ما تعَلَّقَ بمَصالِحِ القَرْيَةِ؛ كفِنائِها، ومَرْعَى ماشِيَتِها، ومُحْتَطبِها، وطُرُقِها، ومَسِيلِ مائِها، لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ، لا نَعْلَمُ فيه أيضًا خِلافًا بينَ أهلِ العِلْم. وكذلك حَرِيمُ البِئْرِ والنَّهْرِ والعَينِ، وكلُّ مَمْلُوكٍ لا يَجُوزُ إحْياءُ ما تعَلَّقَ بمَصالِحِه؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسّلامُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً في غَيرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» (¬1). مَفْهُومُه أنَّ ما تَعَلَّق به حَقُّ مُسْلِمٍ لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ. ولأنَّه تابعٌ للمَمْلُوكِ، ولو جَوَّزْنا إحياءَه، لبَطَلَ المِلْكُ في العامِرِ علي أهْلِه. وذَكَر القاضي أنَّ هذه المَرافِقَ لا يَمْلِكُها المُحْيي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإحْياءِ، لكنْ هو أحَقُّ بها مِن غيرِه؛ لأنَّ الإحْياءَ الذي هو سَبَبُ المِلْكِ لم يُوجَدْ فيها. وقال الشافعيُّ: يَمْلِكُ بذلك. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ في حَرِيمِ البِئرِ؛ لأنَّه مَكانٌ اسْتَحَقَّه بالإحْياءِ، فمَلَكَه، كالمُحْيِي، ولأنَّ مَعْنَى المِلْكِ مَوْجُودٌ فيه؛ لأنَّه يَدْخُلُ مع الدّارِ في البَيعِ، ويَخْتَصُّ به صاحِبُها. فأمّا ما قَرُب مِن العامِرِ ولم يتَعَلَّقْ بمَصالِحِه، فيَجُوزُ إحياؤُه، في إحْدَى الرِّوايَتَين. قال أحمدُ في رِوايَةِ أبي الصَّقْرِ، في رَجُلَين أحْيَيا قِطْعَتَين مِن مَواتٍ، وبَقِيَتْ بينَهما رُقْعَةٌ، فجاء رجلٌ ليُحْيِيَها، فليس لهما مَنْعُه. وقال في جَبّانَةٍ بينَ قَرْيَتَينِ: مَن أحْياها فهي له. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لعُمُومِ قَوْلِه عليه السَّلامُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ بِلال بنَ الحارِثِ العَقِيقَ (¬1)، وهو يَعْلَمُ أنه بينَ (¬2) عِمارَةِ المَدِينَةِ. ولأنَّه مَواتٌ لم تتَعَلَّقْ به مَصْلَحَةُ العامِرِ، فجاز إحْياؤُه، كالبَعِيدِ. والثانيةُ، لا يَجُوزُ إحْياؤُه. وبه قال أبو حنيفةَ، واللَّيثُ؛ لأنَّه في مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ المَصْلَحَةِ به، فإَّنه يَحْتَمِلُ أن يَحْتاجَ إلى فَتْحِ بابٍ في حائِطِه إلى فِنائِه ويَجْعَلَه طَرِيقًا، أو يَخْرَبَ حائِطُه فيَجْعَلَ آلاتِ البِناءِ في فِنائِه، وغيرِ ذلك، فلم يَجُزْ تَفْويت ذلك عليه، بخِلافِ البَعِيدِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّما يُرْجَعُ في القَرِيبِ والبَعِيدِ إلى العُرْفِ. وقال اللَّيثُ: حَدُّه غَلْوَةٌ (¬3)، وهو [خُمْسُ خُمْسِ الفَرْسَخِ] (¬4). وقال أبو حنيفةَ: حَدُّ البَعِيدِ هو الذي إذا وَقَفَ الرجلُ في أدْناه، فصاح بأعْلَى صَوْتِه، لم يَسْمَعْ أدْنَى أهْلِ المِصْرِ إليه. ولَنا (¬5)، أنَّ التَّحْدِيدَ لا يُعْرَفُ إلَّا بالتَّوْقِيفِ، ولا يُعْرَفُ بالرَّأْي والتَّحَكُّمِ، ولم يَرِدْ مِن الشَّرْعِ تَحْدِيدٌ له، فوَجَبَ أن يُرْجَعَ في ذلك إلى العُرْفِ، كالقَبْضِ والإِحْرازِ، فقولُ مَن حَدَّدَ بهذا تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 6/ 577 وما سيأتي في صفحة 127. (¬2) في م: «من». (¬3) تقدر بثلاثمائة إلى أربعمائة ذراع. (¬4) في المغني 8/ 150: «خمس الفرسخ». (¬5) في م: «الثاني».

2468 - مسألة: (ولا تملك المعادن الظاهرة؛ كالملح، والقار، والكحل، والجص، والنفط، بالإحياء، وليس للإمام إقطاعه)

وَلَا تُمْلَكُ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ، كَالْمِلْحِ، وَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَالْكُحْلِ، وَالْجَصِّ، بِالْإحْيَاءِ، وَلَيسَ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس ذلك بأوْلَى مِن تَحْدِيدِه بشيءٍ آخَرَ، كمِيلٍ أو نِصْفِ مِيلٍ. وهذا التَّحْدِيدُ الذي ذَكَرُوه، واللهُ أَعلمُ، يَخْتَصُّ بما قَرُب مِن المِصْرِ أو القَرْيَةِ، ولا يَجُوزُ أن يكونَ حَدًّا لكلِّ ما قَرُب مِن عامِرٍ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى أنَّ مَن أحْيا أرْضًا في مَواتٍ، حَرُم إحْياءُ شيءٍ مِن ذلك المَواتِ على غيرِه، ما لم يَخْرُجْ عن ذلك الحَدِّ. 2468 - مسألة: (ولا تُمْلَكُ المَعادِنُ الظّاهِرَةُ؛ كالمِلْحِ، والقارِ، والكُحْلِ، والجَصِّ، والنِّفْطِ، بالإحْياءِ، وليس للإمامِ إقْطاعُه) وجملةُ ذلك، أنَّ المَعَادِنَ الظّاهِرَةَ، وهي التي يُوصَلُ إلى ما فيها مِن غيرِ مُؤْنَةٍ، يَنْتابُها النّاسُ، ويَنْتَفِعُون بها؛ كالمِلْحِ، والماءِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكِبْرِيتِ، والقِيرِ (¬1)، والمُومْيا (¬2)، والنِّفْطِ، والكُحْلِ، والبِرامِ (¬3)، والياقُوتِ، ومَقاطِعِ الطِّينِ، وأشْباهِ ذلك، لا يُمْلَكُ بالإحْياءِ، ولا يَجُوزُ إقْطاعُه لأحَدٍ مِن النّاسِ، ولا احْتِجارُه دُونَ المسلمين؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا بالمسلمين وتَضْيِيقًا عليهم، ولِما روَى أبو عُبَيدٍ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، بإسْنادِهِم (¬4)، عن أَبْيَضَ بنِ حَمّالٍ، أنَّه اسْتَقْطَعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المِلْحَ الذي بمَأْرِبَ، فلَمّا وَلَّى، قِيلَ: يا رسولَ اللهِ، أتَدْرِي ما أقْطَعْتَ له؟ إنَّما أقْطَعْتَه الماءَ العِدَّ (¬5). فرَجَعَه منه. قال: قلتُ: يا ¬

(¬1) القير: الزفت. (¬2) موميا: مادة تجمد فتصير قارا تفوح منه رائحة الزفت المخلوط بالماء، تلطخ به أجساد الموتى حتى تحفظ لا تتغير. الجامع لمفردات الأدوية 4/ 169. (¬3) البرام: القدور من الحجارة. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 155، 156. والترمذي، في: باب ما جاء في القطائع، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 149، 150. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب إقطاع الأنهار والعيون، في كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 827. والدارمي، في: باب في القطائع، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 268. وأبو عبيد في الأموال 275. (¬5) العِدّ: الجاري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللهِ، ما يُحْمَى (¬1) مِن الأرَاكِ؟ قال: «مَا لَمْ تَنَلْهُ أخْفَافُ الْإبِلِ». وهو حديثٌ غريبٌ. ورَواه سعيدٌ، قال: حَدَّثَنِي إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ، عن عَمْرِو بنِ قَيس المَأْرِبِيِّ (¬2)، عن أبيه، عن أَبْيَضَ بن حَمّالٍ المَأْرِبِيِّ (2) قال: اسْتَقْطَعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعْدِنَ المِلْحِ بمَأْرِبَ، فأقْطَعَنِيه، فقِيلَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّه بمَنْزِلَةِ الماء العِدِّ. يَعْنِي أنَّه لا يَنْقَطِعُ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلا إذَنْ». ولأنَّ هذا يتَعَلَّقُ به مَصالِحُ المسلمين العامَّةُ، فلم يَجُزْ إحْياؤُه ولا إقْطاعُه، كمَشارِعِ الماءِ وطُرُقاتِ المسلمين. قال ابنُ عَقِيلٍ: هذا مِن مَوَادِّ اللهِ الكريمِ، وفيضِ جُودِه الذي لا غَناءَ عنه، ولو مَلَكَه أحَدٌ بالاحْتِجارِ، مَلَك مَنْعَه، فضاق على النّاسِ، فإن أخَذَ العِوَضَ عنه أغْلاه، فخَرَجَ عن الوَضْعِ الذي وَضَعَه الله به مِن تَعْمِيمِ ذوي الحَوائِجِ مِن غيرِ كُلْفَةٍ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولا أعْلَمُ فيه مُخالِفًا. ¬

(¬1) بعده في م: «لي». (¬2) في ر 1: «المازني». وانظر المشتبه للذهبي 564.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا المَعادِنُ الباطِنةُ، وهي التي لا يُوصَلُ إليها إلَّا بالعَمَلِ والمُؤْنَةِ؛ كمعادِنِ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والحَدِيدِ، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ، والبَلُّورِ، والفَيرُوزَجِ، فإن كانت ظاهِرَةً، لم تُمْلَكْ أيضًا بالإِحْياءِ؛ لِما ذكَرْنا في التي قبلَها. وإن لم تكنْ ظاهِرَةً، فحَفَرَها إنْسانٌ وأَظْهَرَها، لم يمْلِكْها بذلك في ظاهِرِ المَذْهَبِ، وظاهِرِ مَذْهَبِ الشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَها بذلك. وهو قولٌ للشافعيِّ؛ لأنَّه مَواتٌ لا يُنْتَفَعُ به إلَّا بالعَمَلِ والمُؤْنَةِ، فمُلِكَ بالإِحْياءِ، كالأرْضِ، ولأنَّه بإظْهارِه تَهَيَّأَ للانْتِفاعِ به مِن غيرِ حاجةٍ إلى تَكْرارِ ذلك العَمَلِ، فأشْبَهَ الأرْضَ إذا أحْياها بماءٍ أو حاطَها. وَوَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الإِحْياءَ الذي يُمْلَكُ به هو العِمارَةُ التي يتَهَيّأُ بها المُحْيَا للانْتِفاعِ مِن غيرِ تَكْرارِ عَمَلٍ، وهذا حَفْرٌ وتَخْرِيبٌ يَحْتاجُ إلى تَكْرارٍ عندَ كلِّ انْتِفاعٍ. فإن قِيلَ: فلو احْتَفَرَ

2469 - مسألة: (فإن كان بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء صار ملحا، ملك بالإحياء، وللإمام إقطاعه)

فَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ السَّاحِلِ مَوْضِعٌ إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْمَاءُ صَارَ مِلْحًا، مَلَكَهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِئْرًا مَلَكَها ومَلَكَ حَرِيمَها. قُلْنا: البِئْرُ تَهَيَّأتْ للانْتِفاعِ بها مِن غيرِ تَجْدِيدِ حَفْرٍ ولا عِمارَةٍ، وهذه المَعادِنُ تَحْتاجُ عندَ كلِّ انْتِفاعٍ إلى عَمَلٍ وعِمارَةٍ، فافْتَرقَا. قال أصْحابُنا: وليس للإِمامِ إقْطاعُها؛ لأنَّها لا تُمْلَكُ بالإِحْياءِ. والصَّحِيحُ جَوازُ ذلك؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ بِلال بنَ الحارِثِ مَعادِنَ القَبَلِيَّةِ، جَلْسِيَّها وغَوْرِيَّها (¬1). رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬2). 2469 - مسألة: (فإن كان بقُرْبِ السّاحِلِ مَوْضِعٌ إذا حَصَل فيه الماءُ صار مِلْحًا، مُلِك بالإِحْياءِ، وللإِمامِ إقْطاعُه) لأنَّه (¬3) لا يُضَيِّقُ على المسلمين بإحْداثِه، بل يَحْدُثُ نَفْعُه بفِعْلِه، فلم يُمْنَعْ منه، كبَقِيَّةِ المَواتِ. وإحْياءُ هذا تَهْيِئَتُه لِما يَصْلُحُ له؛ مِن حَفْرِ تُرابِه، وتَمْهِيدِه، وفَتْحِ قَناةٍ إليه تَصُبُّ الماءَ فيه؛ لأنَّه يَتَهَيَّأُ بهذا للانْتِفاعِ به. ¬

(¬1) الجلسى: ما كان من أرض نجد. والغورى: ما كان من بلاد تهامة. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 577. (¬3) سقط من: م.

2470 - مسألة: (وإذا ملك المحيا، ملك ما فيه من المعادن الباطنة، كمعادن الذهب والفضة)

وَإِذَا مَلَكَ الْمُحْيَا مَلَكَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2470 - مسألة: (وإذا مَلَك المُحْيَا، مَلَك ما فيه مِن المَعادِنِ الباطِنَةِ، كمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ) إذا مَلَك الأرْضَ بالإِحْياءِ، فظَهَرَ فيها مَعْدِنٌ جامِدٌ، مَلَكَه، ظاهِرًا كان أو باطِنًا؛ لأنَّه مَلَك الأرْضَ بجَمِيعِ أجْزائِها وطَبَقَاتِها، وهذا منها. ويُفارِقُ الكَنْزَ، فإنَّه مُودَعٌ فيها، وليس مِن أجْزائِها. ويُفارِقُ ما إذا كان ظاهِرًا قبلَ إحْيائِها؛ لأنَّه قَطَعَ على المسلمين نَفْعًا كان واصِلًا إليهم، ومَنَعَهم انْتِفاعًا كان لهم، وههُنا لم يَقْطَعْ عنهم شيئًا؛ لأنَّه إنَّما ظَهَر بإظْهارِه. ولو تَحَجَّرَ الأرْضَ أو أقْطَعَها، فظَهَرَ فيها المَعْدِنُ قبلَ إحْيائِها، كان له إحْياؤُها، ويَمْلِكُها بما فيها؛ لأنَّه صار أحَقَّ بتَحَجُّرِه وإقْطاعِه، فلم يُمْنَعْ مِن إتْمامِ حَقِّه.

2471 - مسألة: (وإن ظهر فيه عين ماء أو معدن جار أو كلأ أو شجر، فهو أحق به)

وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَينُ مَاءٍ أَوْ مَعْدِنٌ جَارٍ أَوْ كَلَأٌ أَوْ شَجَرٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2471 - مسألة: (وإن ظَهَر فيه عَينُ ماءٍ أو مَعْدِنٌ جارٍ أو كَلأٌ أو شَجَرٌ، فهو أحَقُّ به) لأنَّه في مِلْكِه. ويَمْلِكُه في إحْدَى الرِّوايَتَين؛ لأنَّه خارِجٌ مِن أرْضِه، أشْبَهَ المَعادِنَ الجامِدَةَ والزَّرْعَ. والثانيةُ، لا يَمْلِكُه. وهي أصَحُّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «النَّاسُ شُرَكاءُ في ثَلَاثٍ؛ فِي الْمَاءِ، وَالْكَلأ، وَالنَّارِ». رَواه الخَلَّالُ (¬1). ولأنَّها ليست مِن أجْزاءِ الأرْضِ، فلم يَمْلِكْها بمِلْكِ الأرْضِ، كالكَنْزِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 79.

2472 - مسألة: ويلزمه بذل (ما فضل من مائه لبهائم غيره)

وَمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2472 - مسألة: ويَلْزَمُه بَذْلُ (ما فَضَل مِن مائِه لبَهائِمِ غيرِه) لِما روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ ليَمْنَعَ

وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيرِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِهِ فَضْلَ الْكَلأ، مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ» (¬1) (وهل يَلْزَمُه بَذْلُه لزَرْعِ غيرِه؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ الزَّرْعَ لا حُرْمَةَ له في نَفْسِه. والثانيةُ، يَلْزَمُه؛ لِما روَى إياسُ بنُ عبْدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيعِ فَضْلِ الْمَاءِ (¬2). وعن بُهَيسَةَ (¬3) عن أبِيها، أنَّه قال: يا نبيَّ اللهِ، مَا الشيءُ الذي لا يَحِلُّ مَنْعُه؟ قال: «الْمَاءُ». رَواه أبو داودَ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ قريب منه، في: المسند 2/ 183، 221. والذي عن أبي هريرة: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ونحوه، عند البخاري 9/ 31. ومسلم 3/ 1198. وأبي داود 2/ 248. والترمذي 5/ 273. وابن ماجه 2/ 828. والإمام أحمد 2/ 244، 272، 309، 360، 440، 482، 494، 500. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 79. وهناك أنَّه إياس بن عبد الله، والصواب ما هنا. انظر مصادر التخريج المتقدمة، وتهذيب التهذيب 1/ 389، 390. (¬3) في م: «بهنسة». (¬4) في: باب ما لا يجوز منعه، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 388. كما أخرجه الدارمي، في: باب في الذي لا يحل منعه، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 269، 270. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 480، 481.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو شَرَع إنْسانٌ في حَفْرِ مَعْدِنٍ ولم يَصِلْ إلى النَّيلِ، صار أحَقَّ به، كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ. فإذا وَصَل إلى النَّيلِ صار أحَقَّ بالأخْذِ منه، ما دام مُقِيمًا على الأخْذِ منه. وهل يَمْلِكُه بذلك؟ فيه ما قد ذَكَرْنا مِن قبلُ. فإن حَفَر آخَرُ مِن ناحِيَةٍ أُخْرَى، لم يكنْ له مَنْعُه، وإذا وَصَل إلى ذلك العِرْقِ، لم يكنْ له مَنْعُه، سَواءٌ قُلْنا: إنَّ المَعْدِنَ يُمْلَكُ بحَفْرِه. أو لم نَقُلْ؛ لأنَّه إن مَلَكَه، فإنَّما يَمْلِكُ المَكانَ الذي حَفَره، وأمَّا العِرْقُ الذي في الأرْضِ فلا يَمْلِكُه بذلك، ومَن وَصَل إليه مِن جِهَةٍ أُخْرَى، فله أخْذُه. ولو ظَهَر في مِلْكِه مَعْدِنٌ بحيثُ يَخْرُجُ النَّيلُ عن أرْضِه، فحَفَرَ إنْسانٌ مِن خارِجِ أرْضِه، كان له أن يَأْخُذَ ما خَرَج عن أرْضِه منه؛ لأنَّه لم يَمْلِكْه، إنَّما مَلَك ما هو مِن أجْزاءِ أرْضِه، وليس لأحَدٍ أن يَأْخُذَ ما كان داخِلًا في أرْضِه مِن أجْزاءِ الأرْضِ الباطِنَةِ، كما لا يَمْلِكُ أخْذَ أجْزائِها الظّاهِرَةِ. ولو حَفَر كافِرٌ في دارِ الحَرْبِ مَعْدِنًا فوَصَلَ إلى النَّيلِ، ثمَّ فَتَحَها المسلمون عَنْوَةً، لم يَصِرْ غَنِيمَةً، وكان وُجُودُ عَمَلِه (¬1) وعَدَمُه واحِدًا؛ لأنَّ عامِرَه لم يَمْلِكْه بذلك، ولو مَلَكَه فإنَّ الأرْضَ تَصِيرُ كلَّها وَقْفًا للمسلمين، وهذا يَنْصَرِفُ إلى مَصْلَحةٍ مِن مَصالِحِهم، فتَعَيَّنَ لها، كما لو ظَهَر بفِعْلِ اللهِ تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «علمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن مَلَك مَعْدِنًا، فعَمِلَ فيه غيرُه بغيرِ إذْنِه، فما حَصَّلَه منه فهو لمالِكِه، ولا أجْرَ للغاصِبِ على عَمَلِه؛ لأنَّه عَمِل في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فهو كما لو حَصَد زَرْعَ غيرِه. وإن قال مالِكُه: اعْمَلْ فيه ولك ما يَخْرُجُ منه. فله ذلك، وليس لصاحِبِ المَعْدِنِ فيه شيءٌ؛ لأنَّه إباحَةٌ مِن مالِكِه، فمَلَك ما أخَذَه، كما لو أباحَه الأخْذَ مِن بُسْتانِه. وإن قال: اعْمَلْ فيه على أنَّ ما رَزَق اللهُ مِن نَيلٍ كان بينَنا نِصْفَين. فعَمِل، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَجُوزُ، وما يَأْخُذُه يكونُ بينَهما، كما لو قال: احْصُدْ هذا الزَّرْعَ بنِصْفِه -أو- ثُلُثِه. ولأنَّها عَينٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ عليها، فصَحَّ العَمَلُ فيها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ببَعْضِه، كالمُضارَبَةِ في الأثْمانِ. والثّانِي، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ ما يَحْصُلُ منه مَجْهُولٌ، ولأنَّه لا يَصِحُّ أن يكونَ إجارَةً، لأنَّ العِوَضَ مَجْهُولٌ، والعَمَلَ مَجْهُولٌ، ولا جَعالةً؛ لأنَّ العِوَضَ مَجْهُولٌ، ولا مُضارَبَةً؛ لأنَّ المُضارَبَةَ إنَّما تَصِحُّ بالأثْمانِ على أن يُرَدَّ رَأْسُ المالِ ويكونَ له حِصَّةٌ مِن الرِّبْحِ، وليس ذلك ههُنا. وفارَقَ حَصادَ الزَّرْعِ بنِصْفِه أو جُزْءٍ منه؛ لأنَّ الزَّرْعَ مَعْلُومٌ بالمُشاهَدَةِ، وما عُلِم جَمِيعُه عُلِم جُزْؤُه، بخِلافِ هذا. وإن قال: اعْمَلْ فيه كذا ولك ما يَحْصُلُ منه، بشَرْطِ أن تُعْطِيَنِي ألْفًا -أو- شيئًا مَعْلُومًا. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه بَيعٌ لمَجْهُولٍ، ولا يَصِحُّ أن يكونَ مَعْلُومًا (¬1)، كالمُضارَبةِ؛ لِما ذَكَرْنا؛ ولأنَّ المُضارَبةَ تكونُ بجُزْءٍ مِن النَّماءِ لا دَراهِمَ مَعْلُومَةٍ. قال أحمدُ: إذا أخَذَ مَعْدِنًا مِن قَوْمٍ على أن يَعْمُرَه يَعْمَلَ فيه ويُعْطِيَهم ألْفَيْ مَنٍّ (¬2) أو ألْفَ مَنٍّ صُفْرًا، فذلك مَكْرُوهٌ. ولم يُرَخِّصْ فيه. ¬

(¬1) في المغني 8/ 159: «معاملة». (¬2) المَنّ: كيل أو ميزان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اسْتَأْجَرَ رجلًا ليَحْفِرَ له عَشَرَةَ أذْرُعٍ في دَورِ كذا بدِينارٍ، صَحَّ؛ لأنَّها إجارَةٌ مَعْلُومَةٌ. وإن ظَهَر عِرْقُ ذَهَبٍ، فقال: اسْتَأْجَرْتُك لتُخْرِجَه بدِينارٍ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ العَمَلَ مَجْهُولٌ. وإن قال: إنِ اسْتَخْرَجْتَه فلك دِينارٌ. صَحَّ، ويكونُ جَعالةً؛ لأنَّ الجَعالةَ تَصِحُّ على عَمَلٍ مَجْهُولٍ، إذا كان العِوَضُ مَعْلُومًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما نَضَب عنه الماءُ مِن الجَزائِرِ، لم يُمْلَكْ بالإِحْياءِ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ العَبّاسِ بنِ موسى (¬1): إذا نَضَب الماءُ عن جَزِيرَةٍ إلى قَناةِ رجلٍ، لم يَبْنِ فيها؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا، وهو أنَّ الماءَ يَرْجِعُ. يَعْني أنَّه يَرْجِعُ إلى ذلك المَكانِ، فإذا وَجَدَه مَبْنِيًّا، رَجَع إلى الجانِبِ الآخَرِ، فأضَرَّ بأهْلِه. ولأنَّ الجَزائِرَ مَنْبِتُ الكَلَأ والحَطَبِ، فجَرَى مَجْرَى المَعادِنِ الظّاهِرَةِ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا حِمَى في (¬2) الأرَاكِ» (¬3). قال أحمدُ، في رِوايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عن عُمَرَ أنَّه أباح الجَزائِرَ. يَعْنِي أباح ما يَنْبُتُ في الجَزائِرِ مِن النّباتِ، وقال: إذا نَضَب الفُراتُ عن شيءٍ، ثمَّ نَبَت فيه نَباتٌ، فجاء رجلٌ يَمْنَعُ النّاسَ منه، فليس له ذلك. فأمَّا إن غَلَب الماءُ على مِلْكِ إنْسانٍ، ثمَّ عاد فنَضَب عنه، فله أخْذُه، ولا يَزُولُ مِلْكُه بغَلَبةِ الماءِ عليه. فإن كان ما نَضَب عنه الماءُ لا يَنْتَفِعُ به أحَدٌ، فعَمَّرَه رجلٌ عِمارَةً لا تَرُدُّ الماءَ، مثلَ أن يَجْعَلَه مَزْرَعَةً، فهو أحَقُّ به مِن غيرِه؛ لأنَّه مُتَحَجِّرٌ لِما ليس لمُسْلِمٍ فيه حَقٌّ، فأشْبَهَ التَّحَجُّرَ في المَواتِ. ¬

(¬1) العباس بن محمد بن موسى الخلال، بغدادي، من أصحاب الإمام أحمد الأولين، الذين كان يعتد بهم، وله مسائل عن أبي عبد الله، يقول فيها: قبل الحبس وبعده. طبقات الحنابلة 1/ 239. (¬2) في م: «إلا في». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 156. والدارمي، في: باب في الحمى، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 269.

فَصْلٌ: وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ أَنْ يَحُوزَهَا بِحَائِطٍ، أَوْ يُجْرِيَ لَهَا مَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (وإحْياءُ الأرْضِ أن يَحُوزَها بحائِطٍ، أو يُجْرِيَ لها ماءً) ظاهِرُ كلامِه ههُنا، أنَّ تَحْويطَ الأرْضِ إحْياءٌ لها، سَواءٌ أرادَها للبِناءِ أو للزَّرْعِ، أو حَظِيرَةً للغَنَمِ، أو الخَشَبِ. وهو ظاهِرُ كلامِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيِّ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ عليِّ بنِ سعيدٍ، فقال: الإِحْياءُ: أن يُحَوِّطَ عليها حائِطًا، أو يَحْفِرَ فيها بِئْرًا أو نَهْرًا. ولا يُعْتَبَرُ في ذلك تَسْقِيفٌ، وذلك لِما روَى الحَسَنُ عن سَمُرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أحَاطَ حَائِطًا عَلَى أرْضٍ فَهِيَ لَهُ». رَوَاهُ أبو داودَ، والإِمامُ أحمدُ في «مُسْنَدِه» (¬1). ورُوِيَ عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثلُه (¬2). ولأنَّ الحائِطَ حاجِزٌ مَنِيعٌ، فكان إحْياءً، أشْبَهَ ما لو جَعَلَها حَظِيرَةً للغَنَمِ. ويُبَيِّنُ هذا أنَّ القَصْدَ لا اعْتِبارَ به، بدَلِيلِ ما لو أرادَها حَظِيرَةً للغَنَمِ (¬3)، فبَناهَا بجِصٍّ وآجُرٍّ وقَسَمَها بُيُوتًا، فإنَّه يَمْلِكُها. وهذا لا يُصْنَعُ للغَنَمِ مثلُه. ولابُدَّ أن يكونَ الحائِطُ مَنِيعًا يَمْنَعُ ما وراءَه، ويكونَ ممَّا جَرَتِ العادَةُ بمثلِه. ويَخْتَلِفُ باخْتِلافِ البُلْدانِ، فإن كان مِمّا (¬4) جَرَتْ عادَتُهم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إحياء الموات، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 159. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 12، 21. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 381. (¬3) بعده في النسخ: «كما لو جعلها حظيرة للغنم». وانظر المغني 8/ 177. (¬4) في م: «ممن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالبِناءِ بالحَجَرِ وَحْدَه، كأهْلِ حَوْرَانَ، أو بالطّيِنِ، كأهْلِ الغُوطَةِ بدِمَشْقَ، أو بالخَشَبِ أو القَصَبِ، كأهْلِ الغَوْرِ، كان ذلك إحْياءً. وإن بَناه بأقْوَى ممَّا جَرَتْ به عادَتُهم، كان أوْلَى. وقال القاضي: في صِفَةِ الإِحْياءِ رِوايَتانِ؛ إحْداهُما، ما ذَكَرْنا. والثّانيةُ، الإِحْياءُ ما تَعارَفَه النّاسُ إحْياءً؛ لأنَّ الشَّرْعَ وَرَد بتَعْلِيقِ المِلْكِ عليه، ولم يُبَيِّنْه، ولا ذَكَر كَيفِيَّتَه، فيَجِبُ الرُّجُوعُ فيه إلى ما كان إحْياءً في العُرْفِ، كما أنَّه لَمّا وَرَد باعْتِبارِ القَبْضِ والحِرْزِ ولم يُبَيِّنْ كَيفِيَّتَه، كان المَرْجِعُ فيه إلى العُرْفِ، ولأنَّ الشّارِعَ لو عَلَّقَ الحُكْمَ على مُسَمًّى باسْمٍ، لتَعَلَّقَ بمُسَمّاه عندَ أهْلِ اللِّسانِ، فكذلك (¬1) يَتَعَلَّقُ الحُكْمُ بالمُسَمَّى إحياءً عندَ أهْلِ العُرْفِ، ¬

(¬1) في م: «فلذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُعَلِّقُ الحُكْمَ على ما ليس إلى مَعْرِفَتِه طَرِيقٌ، فلَمّا لم يُبَيِّنْه، تَعَيَّنَ العُرْفُ طَرِيقًا لمَعْرِفَتِه، إذ ليس له طَرِيقٌ سِواه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الأرْضَ تُحْيَى دارًا للسُّكْنَى، وحَظِيرَةً، ومَزْرَعَةً، فإحْياءُ كلِّ واحِدَةٍ مِن ذلك بما تَتَهَيَّأُ به للانْتِفاعِ الذي أُرِيدَتْ له. فأمَّا الدّارُ، فبأن يَبْنِيَ حِيطانَها بما جَرَتْ به العادَةُ، ويُسَقِّفَها؛ لأنَّها لا تَصْلُحُ للسُّكْنَى إلَّا بذلك. والحَظِيرَةُ إحْياؤُها بحائِطٍ جَرَتْ به العادَةُ لِمْثلِها، وليس مِن شَرْطِها التَّسْقِيفُ؛ لأنَّ العادَةَ لم تَجْرِ به، وسَواءٌ أرادَها حَظِيرَةً للماشِيَةِ، أو للخَشَبِ، أو للحَطَبِ، أو نحو ذلك. فإن جَعَل عليها خَنْدَقًا، لم يَكُنْ إحياءً؛ لأنَّه ليس بحائطٍ ولا عِمارَةٍ، إنَّما هو حَفْرٌ وتَخْرِيبٌ، وكذلك إن حاطَها بشَوْكٍ وشِبْهِه، لا يكونُ إحياءً، ويكونُ تَحَجُّرًا، لأنَّ المُسافِرَ قد يَنْزِلُ مَنْزِلًا ويُحَوِّطُ على رَحْلِه بنحوٍ مِن ذلك، ولو نَزَل مَنْزِلًا فنَصَبَ فيه بَيتَ شَعَرٍ أو خَيمَةً، لم يكنْ إحْياءً. وإن أرادَها للزِّراعَةِ، فبأن يُهَيِّئَها لإِمْكانِ الزَّرْعِ فيها، فإن كانت لا تُزْرَعُ إلَّا بالماءِ، فبأنْ يسُوقَ إليها ماءً مِن نَهْرٍ أو بِئْرٍ، وإن كان المانِعُ مِن زَرْعِها كَثْرَةَ الأحْجارِ، كأرْضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّجاةِ (¬1)، فإحْياؤُها بقَلْعِ أحْجارِها وتَنْقِيَتِها حتى تَصْلُحَ للزَّرْعِ، وإن كانت غِياضًا وأشْجارًا، كأرْضِ الشِّعْرَى (¬2)، فبأنْ يَقْلَعَ أشْجارَها، ويُزِيلَ عُرُوقَها المانِعَةَ مِن الزَّرْعِ. وإن كانت ممَّا لا يُمْكِنُ زَرْعُه إلَّا بحَبْسِ الماءِ عنه، كأرْضِ البَطائِحِ، فإحياؤُها بِسَدِّ الماءِ عنها وجَعْلِها بحالٍ يُمْكِنُ زَرْعُها؛ لأنَّ بذلك يُمْكِنُ الانْتِفاعُ بها فيما أرادَها له، مِن غيرِ حاجَةٍ إلى تَكْرارِ ذلك في كلِّ عامٍ، فكان إحياءً، كسَوْقِ الماءِ إلى أرْضٍ لا ماءَ لها. ولا يُعْتَبَرُ في إحْياءِ الأرْضِ حَرْثُها، ولا زَرْعُها؛ لأنَّ ذلك ممَّا يتَكَرَّرُ كلَّما أراد الانْتِفاعَ بها، فلم يُعْتَبَرْ في الإِحْياءِ، كسَقْيِها، وكالسُّكْنَى في البُيُوتِ، ولا يَحْصُلُ الإِحْياءُ بذلك إذا فَعَلَه بمُجَرَّدِه؛ لِما ذَكَرْنا. ولا يُعْتَبَرُ في إحْياءِ الأرْضِ للسُّكْنَى نَصْبُ الأبْوابِ على البُيُوتِ. وبه قال الشافعيُّ فيما ذَكَرْنا في الرِّوايَةِ الثانيةِ، إلَّا أنَّ له وَجْهًا في أنَّ حَرْثَها وزَرْعَها إحياءٌ لها، وأنَّ ذلك مُعْتَبَرٌ في إحْيائِها لا يَتِمُّ بدُونِه، وكذلك نَصْبُ الأبْوابِ على البُيُوتِ؛ لأنّه ممَّا جَرَتِ العادَةُ به، أشْبَهَ السَّقْفَ. ولا يَصِحُّ هذا؛ لِما ذَكَرْنا، ولأنَّ السُّكْنَى مُمْكِنَةٌ بدُونِ نَصْبِ الأبْوابِ، فأشَبَهَ تَطْيِينَ سُطُوحِها وتَبْيِيضَها. ¬

(¬1) في م: «الحجاز». واللَّجاة: اسم للحَرَّة السوداء التي بأرض صَلْخَد من نواحي الشام، فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة. معجم البلدان 4/ 350. (¬2) الشعرى: جبل عند حرة بني سليم.

2473 - مسألة: (وإن حفر بئرا عادية، ملك حريمها خمسين ذراعا. وإن لم تكن عادية، فحريمها خمسة وعشرون)

وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا عَادِيَّةً، مَلَكَ حَرِيمَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادِيَّةً، فَحَرِيمُهُا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2473 - مسألة: (وإن حَفَر بِئْرًا عادِيَّةً، مَلَك حَرِيمَها خَمْسِين ذِرَاعًا. وإن لم تكنْ عادِيَّةً، فحَرِيمُها خمسةٌ وعِشْرُون) البِئْرُ العادِيَّةُ، بتَشْدِيدِ الياءِ: القَدِيمَةُ، مَنْسُوبَةً إلى عادٍ. ولم يُرِدْ عادًا بعَينِها، لكنْ لَمَّا كانت عادٌ في الزَّمَنِ الأوَّلِ، وكانت لها آثارٌ في الأرْضِ، نُسِب إليها كلُّ قَدِيمٍ. فكلُّ مَن سَبَق إلى بِئْرٍ عادِيَّةٍ كان أحَقَّ بها؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَقَ إلى مَا لَمْ يَسْبِقْ إليه مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» (¬1). وله حَرِيمُها خَمْسُون ذِراعًا مِن كلِّ جانِبٍ. وإن حَفَر بِئْرًا في مَواتٍ للتَّمْلِيكِ، فله حَرِيُمها خَمْسَةٌ وعِشْرُون ذِراعًا مِن كلِّ جانِبٍ. نَصَّ أحمدُ على هذا في رِوايَةِ حَرْبٍ، وعبدِ اللهِ. واخْتارَه أكْثَرُ أصْحابِنا. وقال ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي، وأبو الخَطَّابِ: ليس هذا على طَرِيقِ التَّحْدِيدِ، بل حَرِيمُها في الْحَقِيقَةِ ما يَحْتاجُ إليه في تَرْقِيَةِ مائِها منها، فإن كان بدُولابٍ فقَدْرُ مَدَارِ (¬1) الثَّوْرِ أو غيرِه، وإن كان بساقِيَةٍ، فبقَدْرِ طُولِ البِئْرِ؛ لما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «حَرِيمُ البِئْرِ مَدُّ (¬2) رِشَائِها». أخْرَجَه ابنُ ماجه (¬3). ولأنَّه المَكانُ الذي تَمْشِي إليه البَهِيمَةُ. وإن كان يَسْتَقِي منها بيَدِه، فبِقَدْرِ ما يَحْتاجُ إليه الواقِفُ عندَها. وإن كان المُسْتَخْرَجُ عَينًا، ¬

(¬1) في م: «مد». (¬2) في الأصل: «قدر». (¬3) في: باب حريم البئر، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 831.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَرِيمُها القَدْرُ الذي يَحْتاجُ إليه صاحِبُها للانْتِفاعِ بها (¬1)، ولا يَسْتَضِرُّ بأخْذِه منه، ولو كان ألْفَ ذِراعٍ. وحَرِيمُ النَّهْرِ مِن جانِبَيه ما يَحْتاجُ إليه لطَرْحِ كِرايَتِه (¬2) بحُكْمِ العُرْفِ؛ وذلك أنَّ هذا إنَّما ثَبَت للحاجَةِ، فيَنْبَغِي أن تُراعَى فيه الحاجَةُ دُونَ غيرِها. وقال أبو حنيفةَ: حَرِيمُ البئْرِ أرْبَعُون ذِراعًا، وحَرِيمُ العَينِ خَمْسُمائَةِ ذِراعٍ؛ لأنَّ أبا هُرَيرَةَ روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «حَرِيمُ البِئْرِ أرْبَعُونَ ذِراعًا لأعْطانِ الإِبِلِ والغَنَمِ». وعن الشَّعْبِيِّ مثلُه. رَواه أَبو عُبَيدٍ (¬3). ولَنا، ما روَى الدّارَقُطْنِيُّ (¬4) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الكراية: ما يخرج من حفر النهر. (¬3) في: باب إحياء الأرض واحتجارها. . .، الأموال 291. عن أبي هريرة والشعبي. كما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة، في: المسند 2/ 494. (¬4) في: كتاب الأقضية. سنن الدارقطني 4/ 220. وقال: الصحيح من الحديث أنَّه مرسل عن ابن المسيّب، ومن أسنده فقد وهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخَلّالُ بإسْنادِهما عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «حَرِيمُ البِئْرِ البَدِئِ (¬1) خَمْسٌ وعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ البِئْرِ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا». وهذا نَصُّ. وروَى أبو عُبَيدٍ (¬2) بإسْنادِه، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ الأنصارِيِّ أنَّه قال: السُّنَّةُ في حَرِيمِ القَلِيبِ العادِيِّ خمْسُون ذِراعًا، والبَدِئِ خَمْسٌ وعِشْرُون ذِراعًا. وبإسْنادِه (2) عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: حَرِيمُ البِئْرِ البَدِئِ خَمْسٌ وعِشْرُون ذِراعًا مِن نَواحِيها كلِّها، وحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلاثُمائَةِ ذِراعٍ مِن نَواحِيها كلِّها، وحَرِيمُ البِئْرِ العادِيِّ خمْسُونَ ذِراعًا ¬

(¬1) البدئ: المبتدأ حفره، أي المحدث. (¬2) في: باب إحياء الأرضين واحتجارها. . . الأموال 292.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن نواحِيها كلِّها. ولأنَّه مَعْنىً يُمْلَكُ به المَواتُ، فلا يَقِفُ على قَدْرِ الحاجَةِ، كالحائِطِ، ولأنَّ الحاجَةَ إلى البِئْرِ لا تَنحَصِرُ في تَرْقِيَةِ الماءِ، فإنَّه يَحْتاجُ إلى ما حَوْلَه عَطَنًا لإِبِله، ومَوْقِفًا لدَوابِّه وغَنَمِه، ومَوْضِعًا يَجْعَلُ فيه أحْواضًا يَسْقِي منها ماشِيَتَه، ومَوْقِفًا لدابَّتِه التي يَسْتَقِي عليها، وأشْباهِ ذلك، فلم يَخْتَصَّ الحَرِيمُ بما يَحْتاجُ إليه في تَرْقِيَةِ الماءِ. فأمَّا حديثُ أبي حنيفةَ فحَدِيثُنا أصَحُّ منه، وراويهما (¬1) أبو هُرْيَرَةَ، فيَدُلُّ على ضَعْفِه. ¬

(¬1) في م: «رواهما».

2474 - مسألة: (وقيل: حريمها قدر مد رشائها من كل جانب)

وَعِنْدَ الْقَاضِي، حَرِيمُهَا قَدْرُ مَدِّ رِشَائِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَقِيلَ: بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيهِ فِي تَرْقِيَةِ مَائِهَا. وَقِيلَ: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ مَا عُدَّ إِحْيَاءً، وَهُوَ عِمَارَتُهَا بِمَا تَتَهَيَّأُ بِهِ لِمَا يُرَادُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ. وَقِيلَ: مَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ؛ كَالسَّقْي، وَالْحَرْثِ، فَلَيسَ بِإِحْيَاءٍ، وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ إِحْيَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2474 - مسألة: (وقِيلَ: حَرِيمُها قَدْرُ مَدِّ رِشائِها مِن كلِّ جانِبٍ) لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ ظاهِرَ كَلامِه في هذا الكِتابِ، وظاهِرَ كَلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه يَمْلِكُ حَرِيمَ البِئْرِ. ونُقِل عن الشافعيِّ. وقال القاضي: بل يكونُ أحَقَّ به. 2475 - مسألة: (وقِيلَ: إحْياءُ الأرْضِ ما عُدَّ إحْياءٌ، وهو عِمارَتُها بما تَتَهَيَّأُ به لِما يُرَادُ منها) وقد ذَكَرْنا ذلك (وقِيلَ: ما يتَكَرَّرُ كلَّ عامٍ؛ كالسَّقْي، والحَرْثِ، فليس بإحْياءٍ، وما لا يتَكَرَّرُ فهو إحْياءٌ) لأنَّ العُرْفَ أنَّ حَرْثَ الأرْضِ مَرَّةً ليس بإحْياءٍ، وأنَّ عَمَلَ الحائطِ عليها ونحوه إحْياءٌ. وللشافعيِّ وَجْهٌ في أنَّ الزَّرْعَ والحَرْثَ إحْياءٌ. وقد ذَكَرْناه. فإن كانت كثيرَةَ الدَّغَلِ (¬1) والحَشيشِ، كالمُرُوجِ التي لا يُمْكِنُ زَرْعُها إلَّا بتَكْرارِ حَرْثِها وتَنْقِيَةِ دَغَلِها وحَشِيشِها المانِعِ مِن زَرْعِها، كان إحْياءٌ على قِياسِ ما ذكَرْنا أوَّلًا. ¬

(¬1) الدغل: اشتباك النبات وكثرته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولابُدَّ أن يكونَ البِئْرُ فيها ماءٌ، فإن لم تَصِلْ إلى الماءِ، فهو كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ، على ما نَذْكُرُه. وقَوْلُه: ومَن حَفَر بِئْرًا عادِيَّةً. يُحْمَلُ على البِئْرِ التي انْطَمَّتْ وذَهَب ماؤُها، فجَدَّدَ حَفْرَها وعِمارَتَها، أو انْقَطَعَ ماؤُها، فاسْتَخْرَجَه، ليكونَ ذلك إحْياءً لها. فأمَّا البِئْرُ التي لها ماءٌ يَنْتَفِعُ به المسلمون، فليس لأحَدٍ احْتِجارُه ومَنْعُه؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ المَعادِنِ الظّاهِرَةِ التي يَرْتَفِقُ بها النّاسُ، وهكذا العُيُونُ النّابِعَةُ، ليس لأحَدٍ أن يَخْتَصَّ بها. ولو حَفَر رجلٌ بِئْرًا للمسلمين يَنْتَفِعُونَ بها، أو يَنْتَفِعُ بها مُدَّةَ إقامَتِه عندَها ثمَّ يَتْرُكُها، لم يَمْلِكْها، وكان له الانْتِفاعُ بها، فإذا تَرَكَها كانت للمسلمين كلِّهم، كالمَعادِنِ الظّاهِرَةِ، وهو أحَقُّ بها ما دام مُقِيمًا عندَها؛ لأنَّه سابِقٌ إليها، فهو كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ. فصل: وإذا كان لإنْسانٍ شَجَرَةٌ في مَواتٍ، فله حَرِيمُها قَدْرَ ما تَمُدُّ إليه أغْصانَها حَواليها، وفي النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِيدِها؛ لِما روَى أبو سعيدٍ قال: اخْتُصِمَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فأمَرَ بجَرِيدَةٍ مِن جَرائِدِها فَذُرِعَتْ، فكانت سَبْعَةَ أذْرُعٍ أو خَمْسَةَ أذْرُعٍ، فَقَضَى بذلك. رَواه أبو داودَ (¬1). وإن غَرَس شَجَرَةً في مَواتٍ، فهي له وحَرِيمُها، وإن سَبَق إلى شَجَرٍ مُباحٍ؛ كالزَّيتُونِ، والخَرُّوبِ، فسَقاه وأصْلَحَه، فهو له، كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ، فإن طَعَمَه (¬2) مَلَكَه ¬

(¬1) في: باب أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 284. (¬2) في الأصل: «ركبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك وحَرِيمَه؛ لأنَّه تَهَيَّأَ للانْتِفاعِ به لِما يُرادُ منه، فهو كسَوْقِ الماءِ (¬1) إلى الأرْضِ المَواتِ، ولقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬2). فصل: ومَن كانت له بِئْرٌ فيها ماءٌ، فحَفَرَ آخَرُ قَرِيبًا منها بِئْرًا يَنْسَرِقُ إليها ماءُ البِئْرِ الأُولَى، فليس له ذلك، سَواءٌ كان مُحْتَفِرُ الثانيةِ في مِلْكِه؛ مثلَ رَجُلَين مُتَجاورَين في دارَين، حَفَر أحَدُهما في دارِه بِئْرًا، ثمَّ حَفَر (¬3) الآخَرُ بِئْرًا أعْمَقَ منها، فسَرَى إليها ماءُ الأُولَى، أو كانتا في مَواتٍ، فسَبَق أحَدُهما فحَفَرَ بِئْرًا، ثمَّ جاء آخَرُ فحَفَر قَرِيبًا منها بِئْرًا تَجْتَذِبُ ماءَ الأُولَى. ووافَقَ الشافعيُّ في هذه الصُّورَةِ الثانيةِ؛ لأنَّه ليس له أن يَبْتَدِئَ مِلْكَه على وَجْهٍ يَضُرُّ بالمالِكِ قبلَه. وقال في الأُولَى: له ذلك؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ مُباحٌ في مِلْكِه، فجازَ له فِعْلُه، كتَعْلِيةِ دارِه. وهكذا الخِلافُ في كلِّ ما يُحْدِثُه الجارُ ممَّا يَضُرُّ بجارِه، مثلَ أن يَجْعَلَ دارَه مَدْبَغَةً أو حَمّامًا يَضُرُّ بعَقارِ جارِه بِحَمْي نارِه ورَمادِه ودُخَانِه، أو يَحْفِرَ في أصْلِ حائِطِه حُشًّا (¬4) يتَأَذَّى جارُه برائِحَتِه وغيرِها، أو يَجْعَلَ دارَه مَخْبِزًا في وَسَطِ العَطّارِين، ونحوه ممَّا يُؤْذِي جارَه. وقال الشافعيُّ: له ذلك كلُّه. ورُوِيَ ذلك عن أحمدَ. وهو قولُ بعضِ الحَنَفِيَّةِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ مُباحٌ في مِلْكِه، أشْبَهَ بِناءَه ونَقْضَه. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «المال». (¬2) تقدم تخريجه في 5/ 291. (¬3) سقط من: م. (¬4) الحش: بيت الخلاء.

2476 - مسألة: (ومن تحجر مواتا، لم يملكه، وهو أحق به، ووارثه من بعده، ومن ينقله إليه. وليس له بيعه. وقيل: له ذلك)

وَمَنْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا لَمْ يَمْلِكْهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَوَارِثُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ يَنْقُلُهُ إِلَيهِ، وَلَيسَ لَهُ بَيعُهُ. وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» (¬1). ولأنَّه إحْداثُ ضَرَرٍ بجارِه، فلم يَجُزْ، كالدَّقِّ الذي يَهُزُّ الحِيطانَ ويُخَرِّبُها، وكإلْقاءِ السَّمادِ والتُّرابِ في أصْلِ حائِطِه على وَجْهٍ يَضُرُّ به. ولو كان لرجُلٍ مَصْنَعٌ، فأراد جارُه غَرْسَ شَجَرَةٍ ممَّا تَسْرِي عُرُوقُه فتَشُقُّ حائِطَ مَصْنَعِ جارِه وتُتْلِفُه، لم يَمْلِكْ ذلك، وكان لجارِه مَنْعُه، وقَلْعُها إن غَرَسَها. ولو كان هذا الذي حَصَل منه الضَّرَرُ سابِقًا، مثلَ مَن له في مِلْكِه مَدْبَغَةٌ أو مَقْصَرَةٌ، فأحْيا إنْسانٌ إلى جانِبِه مَواتًا، وبَناهُ دارًا، فتَضَرَّرَ بذلك، لم يَلْزَمْه إزالةُ الضَّرَرِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه لم يُحْدِثْ ضَرَرًا. 2476 - مسألة: (ومَن تَحَجَّرَ مَوَاتًا، لم يَمْلِكْه، وهو أحَقُّ به، وَوَارِثُه مِن بعدِه، ومَن يَنْقُلُه إليه. وليس له بَيعُه. وقِيلَ: له ذلك) تَحَجُّرُ المَواتِ الشُّروعُ في إحْيائِه، مثلَ أن يُدِيرَ حَوْلَ الأرْضِ تُرَابًا أو أحْجارًا، أو يُحِيطَها بجِدارٍ صَغِيرٍ، لم يَمْلِكْها بذلك؛ لأنَّ المِلْكَ بالإِحْياءِ، وليس هذا إحْياءً، لكنْ يَصِيرُ أحَقَّ الناسِ به؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيه مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ». رَواه أبو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). فإن مات، فوارثُه أحَقُّ به؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أوْ مَالًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِه» (¬2). فإن نَقَلَه إلى غيرِه، صار الثَّانِي أحَقَّ به؛ لأنَّ صاحِبَه أقامَه مُقامَه. وليس له بَيعُه. فإن باعَهُ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُه، فلم يَمْلِكْ بَيعَه، كحَقِّ الشُّفْعَةِ قبلَ الأخْذِ به، وكمَنْ سَبَق إلى مَعْدِنٍ أو مُباحٍ قبلَ أخْذِه. وقِيلَ: له بَيعُه؛ لأنَّه أحَقُّ به. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 291. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 188.

2477 - مسألة: (فإن لم يتم إحياءه، قيل له: إما أن تحييه، وإما أن تتركه)

فَإِنْ لَمْ يُتِمَّ إِحْيَاءَهُ، قِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُحْيِيَهُ أَوْ تَتْرُكَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2477 - مسألة: (فإن لم يُتِمَّ إحْياءَه، قِيلَ له: إمّا أن تُحْيِيَه، وإمّا أن تَتْرُكَه) إذا طالتِ المُدَّةُ بعدَ التَّحَجُّرِ، ولم يُحْيِه، فيَنْبَغِي أن يَقُولَ له (¬1) السُّلْطانُ: إمّا أن تُحْيِيَه أو تَتْرُكَه ليُحْيِيَه غيرُك؛ لأنَّه ضَيَّقَ على النّاسِ في حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بينَهم، فلم يُمَكَّنْ مِن ذلك، كما لو وَقَف في طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، أو مَشْرَعَةِ ماءٍ، أو مَعْدِنٍ لا يَنْتَفِعُ به، ولا يَدَعُ غيرَه. ¬

(¬1) سقط من: م.

2478 - مسألة: (فإن طلب الإمهال، أمهل)

فَإِنْ طَلَبَ الْإِمْهَال، أُمْهِلَ الشَّهْرَينِ، وَالثَّلَاثَةَ، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيرُهُ فَهَلْ يَمْلِكُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2478 - مسألة: (فإن طَلَب الإِمْهال، أُمْهِلَ) مُدَّةً قَرِيبَةً؛ كالشَّهْرَين، والثَّلاثَةِ، ونحوها؛ لأنَّه يَسِيرٌ. فإن بادَرَ غيرُه فأحْياهُ في مُدَّةِ المُهْلَةِ أو قبلَ ذلك، مَلَكَه بالإِحْياءِ، في أحَدِ الوَجْهَين. لأنَّ الإِحْياءَ يُمْلَكُ به، والتَّحَجُّرَ لا يُمْلَكُ به، فيَثْبُتُ المِلْكُ بما يُمْلَكُ به دُونَ ما لا يُمْلَكُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به، كمَن سَبَق إلى مَعْدِنٍ أو مَشْرَعَةٍ، فجاء غيرُه فأزاله وأخَذَه، ولعُمُومِ الحديثِ في الإِحْياءِ. والثانِي، لا يَمْلِكُه؛ لأنَّ مَفْهُومَ قَوْلِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيتَةً في غَيرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» (¬1). أنَّها لا تكونُ له إذا كان لمُسْلِمٍ فيها حَقٌّ، وكذلك قَوْلُه: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬2). وروَى سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬3) أنَّ عُمَرَ قال: مَن كانت له أرْضٌ -يَعْنِي من تحَجَّرَ أرْضًا- فعَطَّلَها ثَلاثَ سِنِين، فجاءَ قَوْمٌ يُعَمِّرُونَها، فهم أحَقُّ بها. وهذا يَدُلُّ على أنَّ مَن عَمَّرَها قبلَ ثَلاثِ سِنِين لا يَمْلِكُها. ولأنَّ الثانِيَ أحْيا في حَقِّ غيرِه فلم يَمْلِكْه، كما لو أحْيا ما تتَعَلَّقُ به مَصالِحُ مِلْكِ غيرِه، ولأنَّ حَقَّ المُتَحَجِّرِ أسْبَقُ، فكان أوْلَى، كحَقِّ الشَّفِيعِ يُقَدَّمُ على شِراءِ المُشْتَرِي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في:. (¬2) تقدم تخريجه في 5/ 291. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر، من كتاب إحياء الموات. السنن الكبرى 6/ 148.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن ضُرِبَتْ للمُتَحَجِّرِ مُدَّةٌ، فانْقَضَتِ المُدَّةُ ولم يُعَمِّرْ، فلغَيرِه أن يُعَمِّرَه ويَمْلِكَه؛ لأنَّ المُدَّةَ ضُرِبَتْ له ليَنْقَطِعَ حَقُّه بمُضِيِّها، وسَواءٌ أَذِنَ له السُّلْطانُ في عِمارَتِها أو لم يَأْذَنْ. وإن لم يَكُنْ للمُتَحَجِّرِ عُذْرٌ في تَرْكِ العِمارَةِ، قِيلَ له: إمّا أن تُعَمِّرَ، وإمّا أن تَرْفَعَ يَدَك. فإن

فَصْلٌ: وَلِلْإِمَامِ إِقْطَاعُ مَوَاتٍ لِمَنْ يُحْيِيهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِقْطَاعِ، بَلْ يَصِيرُ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُعَمِّرْها، كان لغيرِه عِمارَتُها. فإن لم يُقَلْ له شيءٌ، واسْتَمَرَّ تَعْطِيلُها، فقد ذَكَرْنا حديثَ عُمَرَ في المسألَةِ قبلَها. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ والمسألةِ قبلَها على نحو ما ذَكَرْنا. فصل: (وللإِمامِ إقْطاعُ المَواتِ لمَن يُحْيِيه، ولا يُمْلَكُ بالإِقْطاعِ، بل يَصِيرُ كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ) على ما ذَكَرْنا. ولا يَنْبَغِي أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْطَعَ إلَّا ما قَدَر على إحْيائِه؛ لأنَّ إقْطاعَه أكْثَرَ منه إدْخالُ ضَرَرٍ على المسلمين بلا فائدَةٍ فيه. فإن فَعَل ثمَّ تَبَيَّنَ عَجْزَه عن إحْيائِه، اسْتَرْجَعَه منه، كما اسْتَرْجَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عنه - مِن بِلَالِ بنِ الحارِثِ ما عَجَز عن عِمارَتِه مِن العَقِيقِ الذي أقْطَعَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فرُوىَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ بلال بنَ الحارِثِ العَقِيقَ أَجْمَعَ، [فلَمّا كان] (¬1) عُمَرُ، قال لبِلالٍ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يُقْطِعْك لتَحِيزَه (¬2) عن النّاسِ، إنَّما أقْطَعَك لتُعَمِّرَ، فخُذْ منها ما قَدَرْتَ على عِمارَتِه، ورُدَّ الباقِيَ. رَواه أبو عُبَيدٍ في «الأمْوالِ» (¬3). وذكر سعيدٌ في «سُنَنِه» [قال: حَدَّثَنا] (¬4) عبدُ العزيزِ بنُ مُحمدٍ، عن رَبِيعةَ، قال: سَمِعْتُ الحارِثَ بنَ بلالِ بنِ الحارِثِ يقولُ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ بِلال بنَ الحارِثِ العَقِيقَ، فلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، قال: ما أُقْطِعْتَه لتَحْجُبَه، فأقْطِعْهُ النّاسَ. وروَى عَلْقَمَةُ بنُ وائلٍ، عن أبِيه، ¬

(¬1) في م: «وإن». (¬2) في م: «لتحجبه». (¬3) في: باب الإقطاع، من كتاب أحكام الأرضين. الأموال 273. كما أخرجه البيهقي، في: باب من أقطع قطيعة أو تحجر أرضا. . .، من كتاب إحياء الموات. السنن الكبرى 6/ 149. وانظر ما تقدم في صفحة 91. (¬4) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَه أرْضًا بحَضْرَ مَوْتَ (¬1). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال سعيدٌ: حَدَّثَنا سُفيانُ، عن ابنِ أبي نُجَيحٍ، عن عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَ ناسًا مِن جُهَينَةَ أو مُزَينَةَ أرْضًا، فعَطَّلُوها، فجاء قَوْمٌ فأحْيَوْها، فخاصَمَهم الذين أقْطَعَهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال عُمَرُ: لو كانت قَطِيعَةً منِّي أو مِن أبي بكرٍ، لم أرُدَّها، ولكِنَّها قَطِيعَةٌ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأنا أرُدُّها (¬2). فصل: وقد روَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقْطَعَه أرْضًا، فأرْسَلَ مُعاويَةَ، أن أعْطِه إيّاهُ، أو أَعْلِمْه إيَّاهُ. حديثٌ صحيحٌ (¬3). وأقْطَعَ الزُّبَيرَ حُضْرَ فَرَسِه (¬4)، فأجْرَى فَرَسَه حتى قام ورَمَى بسَوْطِه، فقال: «أعْطُوهُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 154. والترمذي، في: باب ما جاء في القطائع، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 151، 152. والدارمي، في: باب في القطائع، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 268. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 399. (¬2) أخرجه حميد بن زنجويه، في: باب إحياء الأرض وإحيازها. . . من كتاب أحكام الأرضين وإقطاعها. . . الأموال 2/ 644. (¬3) هو المتقدم في الحاشية قبل السابقة. (¬4) حضر فرسه: عدوها، أي قدر ما تعدو عدوة واحدة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ حَيثُ وَقَعَ السَّوْطُ». رَواه سعيدٌ، وأبو داودَ (¬1). وذَكَر البُخارِيُّ (¬2)، عن أنَسٍ قال: دَعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأنْصارَ ليُقْطِعَ لهم بالبَحْرَين، فقالُوا: يا رسولَ اللهِ، إن فَعَلْتَ فاكْتُبْ لإِخْوانِنا [مِن قُرَيشٍ] (¬3) بمِثْلِها. ورُوِيَ أنَّ أبا بكرٍ أقْطَعَ طَلْحَةَ بنَ عُبَيدِ اللهِ أرْضًا، وأقْطَعَ عُثمانُ خَمْسَةً مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ الزُّبَيرَ، وسَعْدًا، وابنَ مسعودٍ، وأُسامَةَ بنَ زيدٍ، وخَبَّابَ بنَ الأرَتِّ. ورُوِيَ عن نافعٍ أبي عبدِ اللهِ، أنَّه قال لعُمَرَ: إنَّ قِبَلَنا أرْضًا بالبَصْرَةِ، ليست مِن أرْضِ الخَراجِ، ولا تَضُرُّ بأحَدٍ مِن المسلمين، فإن رَأيتَ أن تُقْطِعَنِيها أَتَّخِذُ فيها قَصِيلًا (¬4) لخَيْلِي. قال: فكَتَبَ عُمَرُ إلى أبي موسى: إن كانت كما يَقُولُ، فأقْطِعْها إيّاه. رَوَى هذه الآثارَ كلَّها أبو عُبَيدٍ في «الأمْوالِ» (¬5). إذا ثَبَت هذا، فإنَّ مَن أقْطَعَهُ الإِمامُ شيئًا مِن المَواتِ، لم يَمْلِكْه بذلك، لكنْ يَصِيرُ أحَقَّ به، كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ، على ما ذَكَرْنا مِن حديثِ بِلالِ بنِ الحارِثِ، حيث اسْتَرْجَعَ منه عُمَرُ ما عَجَز عن إحْيائِه (¬6). ولو ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 158. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 156. (¬2) في: باب القطائع، وباب كتابة القطائع، من كتاب المساقاة. صحيح البخاري 3/ 150. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 111. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) القصيل: ما اقتطع من الزرع أخضر لعلف الدواب. (¬5) في: باب الإقطاع، من كتاب أحكام الأرضين. . . الأموال 276 - 278. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 127.

2479 - مسألة: (وله إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ورحاب المساجد، ما لم يضيق على الناس)

وَلَهُ إِقْطَاعُ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقِ الوَاسِعَةِ وَرِحَابِ الْمَسْجِدِ، مَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى النَّاسِ. وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَيَكُونُ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَلَكَه، لم يَجُزِ اسْتِرْجاعُه. ورَدَّ عُمَرُ أيضًا قَطِيعَةَ أبي بكرٍ لعُيَينَةَ بنِ حِصْنٍ، فسَألَ عُيَينَةُ بنُ حِصْنٍ أبَا بكرٍ أن يُجَدِّدَ له كِتابًا، فقال: واللهِ لا أُجَدِّدُ شيئًا رَدَّه عُمَرُ. رَواه أبو عُبَيدٍ (¬1). فعلى هذا، يكونُ المُقْطَعُ أحَقَّ بها مِن سائِرِ النّاسِ، وأوْلَى بإحْيائِه، وحُكْمُه حُكْمَ المُتَحَجِّرِ الشّارِعِ سَواءً. وقد مَرَّ ذِكْرُه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ على نحو ما ذَكَرْنا. 2479 - مسألة: (وله إقْطاعُ الجُلُوسِ في الطُّرُقِ الواسِعَةِ ورِحابِ المَسَاجِدِ، ما لم يُضَيِّقْ على النّاسِ) القَطائِعُ ضَرْبان؛ أحَدُهما، إقْطاعُ مَواتٍ لمَن يُحْيِيه. وقد ذَكَرْناه. والثانِي، إقْطاعُ إرْفاقٍ، وذلك ¬

(¬1) في الباب السابق 276، 277.

2480 - مسألة: (فإن لم يقطعها، فلمن يسبق إليها الجلوس فيها، ويكون أحق بها ما لم ينقل قماشه عنها)

فَإِنْ لَمْ يُقْطِعْهَا، فَلِمَنْ سَبَقَ إِلَيهَا الْجُلُوسُ فِيهَا، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ يَنْقُلْ قُمَاشَهُ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كإقْطاعِ مَقاعِدِ الأسْواقِ والطُّرُقِ الواسِعَةِ، ورِحابِ المَساجِدِ، فللإِمامِ إقْطاعُها لمَن يَجْلِسُ فيها؛ لأنَّ له في ذلك اجْتِهادًا، مِن حيث إنَّه لا يَجُوزُ الجُلُوسُ إلَّا فيما لا يَضُرُّ بالمارَّةِ، فكان للإِمامِ أن يُجْلِسَ فيها مَن لا يَرَى أنَّه يتَضَرَّرُ بجُلُوسِه. ولا يَمْلِكُها المُقْطَعُ بذلك، بل يكونُ أحَقَّ بالجُلُوسِ فيها مِن غيرِه، بمنْزِلَةِ السّابِقِ إليها مِن غيرِ إقْطاعٍ، إلَّا في أنَّ السّابِقَ إذا نَقَل مَتاعَه عنها، فلغيرِه الجُلُوسُ فيها؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَه لها بسَبْقِه إليها ومُقامِه فيها، فإذا انْتَقَل عنها، زال اسْتِحْقاقُه؛ لزَوالِ المَعْنَى الذي اسْتَحَقَّ به، وهذا اسْتَحَقَّ بإقْطاعِ الإِمامِ، فلا يَزُولُ حَقُّه بنَقْلِ مَتاعِه، ولا لغيرِه الجُلُوسُ فيه. وحُكْمُه في التَّظْلِيلِ على نَفْسِه بما ليس بَيتًا، ومَنْعِه مِن البِناءِ، ومَنْعِه إذا طال مُقامُه، حُكْمُ السّابِقِ، على ما نَذْكُرُه. 2480 - مسألة: (فإن لم يُقْطِعْها، فلمَن يَسْبِقُ إليها الجُلُوسُ فيها، ويكونُ أحَقَّ بها ما لم يَنْقُلْ قُماشَه عنها) ما كان مِن الشَّوارِعِ والطُّرُقاتِ والرِّحابِ بينَ العُمْرانِ، فليس لأحَدٍ إحْياؤُه، سَواءٌ كان واسِعًا أو ضَيِّقًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَواءٌ ضَيَّقَ على النّاسِ بذلك أو لم يُضَيِّقْ؛ لأنَّ ذلك يَشْتَرِكُ فيه المسلمونُ، وتتَعَلَّقُ به مَصْلَحَتُهم، أشْبَهَ مَساجِدَهم. ويَجُوزُ الارْتِفاقُ بالقُعُودِ في الواسِعِ مِن ذلك للبَيعِ والشِّراءِ على وَجْهٍ لا يُضَيِّقُ على أحَدٍ ولا يَضُرُّ بالمارَّةِ؛ لاتِّفاقِ أهْلِ الأمْصارِ في جَمِيعِ الأعْصارِ، على إقْرارِ النّاسِ على ذلك مِن غيرِ إنْكارٍ، ولأنَّه ارْتِفاقٌ بمُباحٍ مِن غيرِ إضْرارٍ، فلم يُمْنَعْ منه، كالاجْتِيازِ. قال أحمدُ، في السّابِقِ إلى دَكاكِينِ السُّوقِ غُدْوَةً: فهو له إلى اللَّيلِ. وكان هذا في سُوقِ المَدِينةِ فيما مَضَى، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنىً مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» (¬1). وله أن يُظَلِّلَ على نَفْسِه بما لا ضَرَرَ فيه؛ مِن بارِيَّةٍ (¬2)، وكِساءٍ، ونحوه؛ لأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إليه مِن غيرِ مَضَرَّةٍ فيه. وليس له أن يَبْنِيَ دَكَّةً ولا غيرَها؛ لأنَّه يُضَيِّقُ على النّاسِ، وتَعْثُرُ به المارَّةُ باللَّيلِ، والضَّرِيرُ في اللَّيلِ والنَّهارِ، وتَبْقَى على الدَّوامِ، ورُبَّما ادَّعَى مِلْكَه بذلك. والسّابِقُ أحَقُّ به ما كان فيه؛ فإن قام وتَرَك مَتاعَه فيه، لم يَجُزْ لغيرِه إزالتُه؛ لأنَّ يَدَ الأوَّلِ عليه، وإن نَقَل مَتاعَه، كان لغيرِه أن يَقْعُدَ فيه؛ لأنَّ يَدَه قد زالت. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 77. (¬2) البارية: الحصير.

2481 - مسألة: فإن طال مقامه، منع

فَإِنَ أَطَال الْجُلُوسَ فِيهَا، فَهَلْ يُزَالُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2481 - مسألة: فإن طال مُقامُه، مُنِع، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه يَصِيرُ كالتَّمَلُّكِ، ويَخْتَصُّ بنَفْعٍ يُساويه غيرُه في اسْتِحْقاقِه. والثانِي، لا يُمْنَعُ؛ لأنَّه سَبَق إلى ما لم يَسْبِقْ إليه مُسْلِمٌ.

2482 - مسألة: (وإن سبق اثنان)

فَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ أُقْرِعَ بَينَهُمَا، وَقِيلَ: يُقَدِّمُ الإِمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2482 - مسألة: (وإن سَبَق اثْنان) إليه، احْتَمَلَ أن يُقْرَعَ بينَهما، واحْتَمَلَ أن (يُقَدِّمَ الإِمامُ مَن يَرَى منهما) فإن كان الجالِسُ يُضَيِّقُ على المارَّةِ لم يَحِلَّ له الجُلُوسُ فيه، وليس للإِمامِ تَمْكِينُه بعِوَضٍ ولا غيرِه. قال أحمدُ: ما كان يَنْبَغِي لَنا أن نَشْتَرِيَ مِن هؤلاءِ الذين يَبِيعُونَ على الطَّرِيقِ. قال القاضي: هذا مَحْمُولٌ على أنَّ الطَّرِيقَ ضَيِّقٌ، أو يكونُ يُؤْذِي المارَّةَ؛ لِما تَقَدَّمَ. وقال: لا يُعْجِبُنِي الطَّحْنُ في العُرُوبِ إذا كانت في طَرِيقِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النّاسِ. وهي السُّفُنُ التي يُطْحَنُ فيها في الماءِ الجارِي. إنَّما كَرِه ذلك، لتَضْيِيقِها طَرِيقَ السُّفُنِ المارَّةِ في الماءِ. قال أحمدُ: رُبَّما غَرِقَتِ السُّفُنُ، فأرَى للرَّجُلِ أن يَتَوقَّى الشِّراءَ مِمّا يُطْحَنُ بها.

2483 - مسألة: (وإن سبق إلى معدن، فهو أحق بما ينال منه)

وَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَعْدِنٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَا يَنَالُ مِنْهُ. وَهَلْ يُمْنَعُ إِذَا طَال مُقَامُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2483 - مسألة: (وإن سَبَقَ إلى مَعْدِنٍ، فهو أحَقُّ بما يَنالُ منه) لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬1). وسَواءٌ كان المَعْدِنُ ظاهِرًا أو باطِنًا، إذا كان في مَواتٍ. فإن أخَذَ قَدْرَ حاجَتِه، وأراد الإِقامَةَ فيه بحيث يَمْنَعُ غيرَه، مُنِع مِن ذلك؛ لأنَّه يُضَيِّقُ على النّاسِ بما لا نَفْعَ فيه له، أشْبَهَ ما لو وَقَف في مَشْرَعَةِ الماءِ لغيرِ حاجَةٍ. 2484 - مسألة: (وهل يُمْنَعُ إذا طال مُقامُه) للأخْذِ؟ (على وَجْهَين) أحَدُهما، يُمْنَعُ؛ لأنَّه يَصِيرُ كالمُتَمَلِّكِ. والآخَرُ، لا يُمْنَعُ؛ لإِطْلاقِ الحديثِ. وإنِ اسْتَبَقَ إليه اثْنانِ أو أكْثَرُ، وضاق المَكانُ عنهما، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُقْرِعَ (¬1) بينَهما؛ لأنَّه لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما على الآخَرِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ بينَهما؛ لأنَّه يُمْكِنُ قِسْمَتُه، وقد تَساوَيا، فقُسِمَ بينَهما، كما لو تَداعَيا عَينًا في أيدِيهما ولا بَيِّنَةَ لأحَدِهما. ويَحْتَمِلُ أن يُقَدِّمَ الإِمامُ مَن يَرَى منهما؛ لأنَّ له نَظَرًا. وذَكَر القاضي وَجْهًا رابِعًا، وهو أنَّ الإِمامَ يَنْصِبُ مَن يَقْسِمُ بينَهما. وهذا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «أقر».

2485 - مسألة: (ومن سبق إلى مباح؛ كصيد، أو عنبر، وحطب، وثمر)

وَمَنْ سَبَقَ إِلَى مُبَاحٍ؛ كَصَيدٍ، وَعَنْبَرٍ، وَحَطَبٍ، وَثَمَرٍ، وَمَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ، رَغْبَةً عَنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِنْ سَبَقَ إِلَيهِ اثْنَانِ، قُسِمَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2485 - مسألة: (ومَن سَبَق إلى مُباحٍ؛ كصَيدٍ، أو عَنْبَرٍ، وحَطَبٍ، وثَمَرٍ) ولُقَطَةٍ، ولَقِيطٍ (وما يَنْبِذُه النّاسُ رَغْبَةً عنه) أو يَضِيعُ منهم ممَّا لا تَتْبَعُه النَّفْسُ، وما يَسْقُطُ مِن الثَّلْجِ (¬1) وسائِرِ المُباحاتِ (فهو أحَقُّ به) بإذْنِ الإِمامِ وغيرِ إذْنِه، لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ (¬2) فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (وإن سَبَق إليه اثْنان، قُسِمَ بينَهما) لأنَّ قِسْمَتَه مُمْكِنَةٌ، فلا يُؤَخَّرُ حَقُّ أحَدِهما؛ لأنَّه لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما ¬

(¬1) في م: «البلح». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الآخَرِ. وإن سَبَق إلى مواتٍ أو بِئْرٍ عادِيَّةٍ فهو أحَقُّ بها؛ لِما ذَكَرْنا.

2486 - مسألة: (وإذا كان الماء في نهر غير مملوك؛ كمياه الأمطار، فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى الكعب، ثم يرسل إلى من يليه)

وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ فِي نَهْرٍ غَيرِ مَمْلُوكٍ؛ كَمِيَاهِ الْأَمْطَارِ، فَلِمَنْ فِي أَعْلَاهُ أَنْ يَسْقِيَ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ، ثُمَّ يُرْسِلَ إِلَى مَنْ يَلِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2486 - مسألة: (وإذا كان الماءُ في نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ؛ كِمياهِ الأمْطارِ، فلِمَن في أعْلاه أن يَسْقِيَ ويَحْبِسَ الماءَ حتى يَصِلَ إلى الكَعْبِ، ثمَّ يُرْسِلَ إلى مَن يَلِيه) وجملةُ ذلك، أنَّه لا يَخْلُو الماءُ مِن حالين؛ إمّا أن يكونَ جارِيًا، أو واقِفًا. والجارِي ضَرْبانِ؛ أحَدُهما، أن يكونَ في نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، وهو قِسْمان؛ أحَدُهما، أن يكونَ نَهْرًا عَظِيمًا؛ كالنِّيلِ، والفُراتِ، الذي لا يَسْتَضِرُّ أحَدٌ بالسَّقْي منهما، فهذا لا تَزاحُمَ فيه، ولكلِّ أحَدٍ أن يَسْقِيَ منها متى شاء وكيفَ شاء. القِسْمُ الثانِي، أن يكونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النّاسُ فيه، ويَتَشاحُّون في مائِه، أو سَيلًا يَتَشاحُّ فيه أهْلُ الأرَضِينَ الشّارِبَةِ منه، فيُبْدَأُ بمَن في أوَّلِ النَّهْرِ، فيَسْقِي ويَحْبِسُ الماءَ حتى يَبْلُغَ الكَعْبَ، ثمَّ يُرْسِلُ إلى الذي يَلِيه، فيَصْنَعُ كذلك، وعلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا حتى تَنْتَهِيَ الأراضِي كلُّها. فإن لم يَفْضُلْ عن الأوَّلِ شيءٌ، أو عن الثانِي، أو عَمَّن يَلِيهما، فلا شيءَ للباقِينَ؛ لأنَّهم ليس لهم إلَّا ما فَضَل، فهم كالعَصَبَةِ في المِيراثِ. وهذا قولُ فُقَهاءِ المَدِينَةِ، ومالِكٍ، والشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ، أنَّ رجلًا مِن الأنْصارِ خاصَمَ الزُّبَيرَ في شِراجِ الحَرَّةِ التي يَسْقُونَ بها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اسْقِ يَا زُبَيرُ، ثُمَّ أرْسِلِ الْمَاءَ إلَى جَارِكَ». فغَضِبَ الأنْصارِيُّ، وقال: يا رسولَ اللهِ: أن كان ابنَ عَمَّتِك. فتَلَوَّنَ وَجْهُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ قال: «يا زُبَيرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الجَدْرِ». فقال الزُّبَيرُ: فواللهِ إِنِّي لأَحْسَبُ هذه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ} (¬1). مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء 65. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب سكر الأنهار، وباب شرب الأعلى قبل الأسفل، وباب شرب الأعلى إلى الكعبين، من كتاب المساقاة، وفي: باب إذا أشار الإمام بالصلح. . .، من كتاب الصلح، وفي: باب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ. . .}، من كتاب التفسير. صحيح البخاري 3/ 145، 146، 245، 6/ 57، 58. ومسلم، في: باب وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1829، 1830. كما أخرجه أبو داود، في: أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 283، 284. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء، من أبواب الأحكام، عارضة الأحوذي 6/ 119، 120. والنسائي، في: باب الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان، وباب إشارة الحاكم بالرفق، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 209، 215. وابن ماجه، في: باب تعظيم حديث رسول الله. . . .، من المقدمة، وفي: باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 1/ 7، 8، 2/ 829. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر عبدُ الرَّزّاقِ (¬1)، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، قال: نَظَرْنا في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ احْبِسِ الماءَ (¬2) حَتَّى يَبْلُغَ الجَدْرَ». وكان ذلك إلى الكَعْبَين. قال أبو عُبَيدٍ: الشِّراجُ: جَمْعُ شَرْجٍ. والشَّرْجُ: نَهْرٌ صَغِيرٌ. والحَرَّةُ: أرضٌ مُلْتَبِسَةٌ بحِجارَةٍ سُودٍ. والجَدْرُ: الجِدارُ. وإنَّما أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزُّبَيرَ أن يَسْقِيَ ثمَّ يُرْسِلَ، تَسْهِيلًا على غيرِه، فلَمّا قال الأنْصارِيُّ ما قال، اسْتَوْفَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للزُّبَيرِ حَقَّه. وروَى مالِكٌ في «المُوَطَّأ» (¬3) عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بكرِ بنِ عَمْرِو (¬4) بنِ حَزْمٍ، أنَّه بَلَغَه أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في سَيلِ مَهْزُورٍ (¬5) ومُذَينِيبٍ: «يُمْسِكُ حَتَّى يَبْلُغَ الكَعْبَينِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الأعْلَى على الأسْفَلِ». قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا حديثٌ مَدَنِيٌّ ¬

(¬1) لم نجده في مصنف عبد الرزاق. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب القضاء في المياه، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 744. كما أخرجه أبو داود، في: أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 284. وابن ماجه، في: باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 830. (¬4) في م: «عمر». (¬5) في م: «مهزوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْهورٌ عندَ أهلِ المَدِينَةِ مَعْمُولٌ به عندَهم. قال عبدُ المَلِكِ بنُ حَبِيبٍ (¬1): مَهْزُورٌ (¬2) ومُذَينِيبٌ، وادِيان مِن أوْدِيَةِ المَدِينَةِ يَسِيلانِ بالمَطَرِ، يَتَنافَسُ أهْلُ الحَوائِطِ في سَيلهِما. وروَى أبو داودَ (¬3) بإسْنادِه، عن ثَعْلَبَةَ بنِ أبي مالِكٍ، أنَّه سَمِع كُبَراءَهم يَذْكُرُون، أنَّ رجلًا مِن قُرَيشٍ كان له سَهْمٌ في بَنِي قُرَيظَةَ، فخاصَمَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَهْزُورٍ -السَّيلِ الذي يَقْتَسِمُونَ ماءَه- فقَضَى بينَهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الماءَ إلى الكَعْبَين، لا يَحْبِسُ الأعْلَى على الأسْفَلِ. ولأنَّ مَن أرْضُه قَرِيبَةٌ مِن رَأْسِ النَّهْرِ سَبَق (¬4) إلى المَاءِ (¬5)، فكان أوْلَى به، كالسّابِقِ إلى المَشْرَعَةِ. فإن كانت أرْضُ صاحِبِ الأَعْلَى مُخْتَلِفَةً، منها عالِيَةٌ ومنها مُسْتَفِلَةٌ، سَقَى كلَّ واحِدَةٍ منها على حِدَتِها. فإنِ اسْتَوَى اثْنان في القُرْبِ مِن أوَّلِ النَّهْرِ، اقْتَسَما ¬

(¬1) عبد الملك بن حبيب بن سليمان أبو مروان السلمى الأندلسي الفقيه، كان حافظًا للفقه نبيلا، ذابًّا عن مذهب مالك، صنف في الفقه والتاريخ والأدب، له «الواضحة» في الفقه. توفي رابع رمضان سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وله أربع وستون سنة. تهذيب التهذيب 6/ 390، 391. (¬2) في الأصل، م: «مهزوز». (¬3) في: أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 284. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «المكان».

2487 - مسألة: (فإن أراد إنسان إحياء أرض)

فَإِذَا أَرَادَ إِنْسَانٌ إِحْيَاءَ أَرْضٍ بسَقْيِهَا مِنْهُ، جَازَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماءَ بينَهما إن أمْكَنَ، وإلَّا أُقْرِعَ بينَهما، فَقُدِّمَ مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ، فإن كان الماءُ لا يَفْضُلُ عن أحَدِهما، سَقَى مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ بقَدْرِ حَقِّه مِن الماءِ، ثمَّ تَرَكَه للآخَرِ، وليس له السَّقْيُ بجَمِيعِ الماءِ؛ لمُساواةِ الآخَرِ له في اسْتِحْقاقِ الماءِ، وإنَّما القُرْعَةُ للتَّقْدِيمِ في اسْتِيفاءِ الحَقِّ لا في أصْلِ الحَقِّ، بخِلافِ الأعْلَى مع الأسْفَلِ، فإنَّه ليس للأسْفَلِ حَقٌّ إلَّا في الفاضِلِ عن الأعْلَى. فإن كانت أرْضُ أحَدِهما أكْبَرَ مِن أرْضِ الآخَرِ، قُسِم الماءُ بينَهما على قَدْرِ الأرْضِ؛ لأنَّ الزائِدَ مِن أرْضِ أحَدِهما مُساوٍ في القُرْبِ، فاسْتَحَقَّ جُزءًا مِن الماءِ، كما لو كان لثالِثٍ. 2487 - مسألة: (فإن أراد إنسانٌ إحْياءَ أرْضٍ) ليَسْقِيَها مِن ماءِ النَّهْرِ (جاز، ما لم يَضُرَّ بأهْلِ الأرْضِ الشّارِبَةِ منه) إذا كان لجَماعَةٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَسْمُ شُرْبٍ مِن نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، أو سَيلٍ، فجاء إنْسانٌ ليُحْيِيَ مَواتًا أقْرَبَ مِن رَأْسِ النَّهْرِ مِن أرْضِهم، لم يكنْ له أن يَسْقِيَ قبلَهم؛ لأنَّهم أسْبَقُ إلى النَّهْرِ منه، ولأنَّ مَن مَلَك أرْضًا مَلَكَها بحُقُوقِها ومَرافِقِها، ولا يَمْلِكُ غيرُه إبْطال حُقُوقِها، وهذا مِن حُقُوقِها. وهل لهم مَنْعُه مِن إحْياءِ ذلك المَواتِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس لهم مَنْعُه؛ لأنَّ حَقَّهم في النَّهْرِ لا في المَواتِ. والثانِي، لهم مَنْعُه؛ لِئَلَّا يَصِيرَ ذلك ذَرِيعَةً إلى مَنْعِهم حَقَّهم مِن السَّقْي؛ لتَقْدِيمِه عليهم في القُرْبِ إذا طال الزَّمانُ وجُهِل الحالُ. فإذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْنا: ليس لهم مَنْعُه. فسَبَقَ إلى مَسِيلِ ماءٍ أو نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ فأحْيا في أسْفَلِه مَواتًا، ثمَّ أحْيا آخَرُ فوقَه، ثمَّ أحْيا ثالثٌ فوقَ الثانِي، كان للأسْفَلِ السَّقْيُ أوَّلًا ثمَّ الثاني ثمَّ الثالثِ، ويُقَدَّمُ السَّبْقُ إلى الإِحْياءِ على السَّبْقِ إلى أوَّلِ النَّهْرِ، لِما ذَكَرْنا. فصل: الضَّرْبُ الثانِي، الجارِي في نَهْرٍ مَمْلُوكٍ، وهو قِسْمان؛ أحَدُهما، أن يكونَ الماءُ مُباحَ الأصْلِ، مثلَ أن يَحْفِرَ إنْسانٌ نَهْرًا صَغِيرًا يتَّصِلُ بنَهْرٍ كبيرٍ مُباحٍ، فما لم يتَّصِلِ الحَفْرُ لا يَمْلِكُه، وإنَّما هو تَحَجُّرٌ وشُرُوعٌ في الإِحْياءِ، فإذا اتَّصَلَ الحَفْرُ، مَلَكَه؛ لأنَّ المِلْكَ بالإِحْياءِ أن تَنْتَهِيَ العِمارَةُ إلى قَصْدِها، بحيث يتَكَرَّرُ الانْتِفاعُ بها على صُورَتِها، وهذا كذلك. وسَواءٌ أجْرَى فيه الماءَ أو لم يُجْرِه؛ لأنَّ الإِحْياءَ يَحْصُلُ بتَهْيِئَتِه للانْتِفاعِ به دُونَ حُصُولِ المَنْفَعةِ، فيَصِيرُ مالِكًا لقَرارِ النَّهْرِ وحافَّتَيه، وهَواؤُه حَقٌّ له، وكذلك حَرِيمُه، وهو مَلْقَى الطَّينِ مِن جَوانِبِه. وعندَ القاضي أنَّ ذلك غيرُ مَمْلُوكٍ لصاحِبِ النَّهْرِ، وإنَّما هو حَقٌّ مِن حُقُوقِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِلْكِ. وظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّه مَمْلُوكٌ لصاحِبِه (¬1)، قِياسًا على قَوْلِه في حَرِيمِ البِئْرِ، أنَّه يَمْلِكُه. إذا تَقَرَّرَ ذلك، فكان النَّهْرُ لجَماعَةٍ، فهو بينَهم على حَسَبِ العَمَلِ والنَّفَقَةِ؛ لأنَّه إنَّما مُلِك بالعِمارَةِ، والعِمارَةُ بالنَّفَقَةِ، فإن كَفَى جَمِيعَهم، فلا كَلامَ، وإن لم يَكْفِهم فتَراضَوْا على قِسْمَتِه بالمُهايَأَةِ أو غيرِها، جاز؛ لأنَّه (¬2) حَقُّهم، لا يَخْرُجُ عنهم. وإن تَشاحُّوا فيه، قَسَمَه الحاكِمُ بينَهم على قَدْرِ أمْلاكِهم؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم ¬

(¬1) في م: «لغير صاحبه». (¬2) في م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكُ مِن النَّهْرِ بقَدْرِ ذلك، فتُؤْخَذُ خَشَبَةٌ، أو حَجَرٌ مُسْتَوي الطَّرَفَين والوَسَطِ فيُوضَعُ على مَوْضِعٍ مُسْتَوٍ مِن الأرْضِ في مَصْدَمِ الماءِ، فيه حُزُوزٌ أو ثُقُوبٌ مُتَساويَةٌ في السَّعَةِ على قَدْرِ حُقُوقِهم يَخْرُجُ (¬1) مِن كلِّ [حَزٍّ أو ثُقْبٍ] (¬2) إلى (¬3) ساقِيَةٍ مُفْرَدَةٍ لكلِّ واحِدٍ منهم، فإذا حَصَل الماءُ في ساقِيَتِه، انْفَرَدَ به، فإن كانت أمْلاكُهم مُخْتَلِفَةً، قسِمَ على قَدْرِ ذلك، فإذا كان لأحَدِهم نِصْفُه، وللثانِي ثُلُثُه، وللثالثِ سُدْسُه، جُعِل فيه سِتَّةُ ثُقُوبٍ؛ لصاحِبِ النِّصْفِ ثَلاثَةُ نُصُبٍ في ساقِيَتِه، ولصاحِبِ الثُّلُثِ اثْنان، ولصاحِبِ السُّدْسِ واحِدٌ. فإن كان لواحِدٍ الخُمْسانِ، والباقِي لاثْنَين على السَّواءِ، جُعِل عَشَرَةُ ثُقُوبٍ؛ لصاحِبِ الخُمْسَين أرْبَعةُ نُصُبٍ في ساقِيَتِه، ولكلِّ واحِدٍ مِن الآخَرَين ثلاثةٌ. فإن كان النَّهْرُ لعَشَرَةٍ، لخَمْسَةٍ منهم أراضٍ قَرِيبَةٌ (¬4) مِن أَوَّلِ النَّهْرِ، ولخَمْسَةٍ أراضٍ بَعِيدَةٌ، جُعِل لأصْحابِ القَرِيبَةِ خَمْسَةُ ثُقُوبٍ، لكلِّ واحِدٍ ثُقْبٌ، وجُعِل للباقِين خَمْسَةٌ، تَجْرِي في النَّهْرِ حتى تَصِلَ إلى أرْضِهِم، ثمَّ تُقْسَمٌ بينَهم قِسْمَةً ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ر 1: «خرق أو نقب». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «الريبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْرَى. فإن أراد أحَدُهم أن يُجْرِيَ ماءَه في ساقِيَةِ غيرِه ليُقاسِمَه في مَوْضِعٍ آخَرَ، لم يَجُزْ بغيرِ رِضَاه؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ في ساقِيَتِه، ويَخْرُبُ حافَّتَها بغيرِ إذْنِه، ويَخْلِطُ حَقَّه بحقِّ غيرِه على وَجْهٍ لا يتَمَيَّزُ، فلم يَجُزْ ذلك. ويَجِئُ على قَوْلِنا: إنَّ الماءَ لا يُمْلَكُ. أنَّ حُكْمَ الماءِ في هذا النَّهْرِ حُكْمُه في نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، وأنَّ الأسْبَقَ أحَقُّ بالسَّقي، ثمَّ الذي يَلِيه، على ما ذَكَرْنا. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ كلِّه على نحو ما ذَكَرْنا. فصل: وإذا حَصَل نَصِيبُ إنْسانٍ في ساقِيَتِه (¬1)، فله أن يَسْقِيَ به ما شاءَ مِن الأرْضِ، سَواءٌ كان لها رَسْمُ شُرْبٍ مِن هذا النَّهْرِ أو لم يَكُنْ. وله أن يُعْطِيَه مَن يَسْقِي به. وقال القاضي، وأصحابُ الشافعيِّ: ليس له سَقْيُ أرْضٍ ليس لها رَسْمُ شُرْبٍ مِن هذا الماءِ؛ لأنَّ ذلك دالٌّ على أنَّ لها قَسْمًا مِن هذا الماءِ، فرُبَّما جُعِلَ (¬2) سَقْيُها منه دَلِيلًا على اسْتِحْقاقِها لذلك، فيَسْتَضِرُّ الشُّرَكاءُ، ويَصِيرُ هذا كما لو كان له دارٌ بابُها في دَرْبٍ لا يَنْفُذُ، ودارٌ بابُها في دَرْبٍ آخَرَ، ظَهْرُها مُلاصِقٌ لظَهْرِ دارِه الأُولَى، فأراد تَنْفِيذَ إحْداهما إلى الأُخْرَى، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يَجْعَلُ لنَفْسِه اسْتِطْراقًا مِن كلِّ واحِدةٍ مِن الدّارَين. ولَنا، أنَّ هذا ماءٌ انْفَرَدَ باسْتِحْقاقِه، فكان له أن يَسْقِيَ منه ما شاء، كما لو انْفَرَدَ به مِن أصْلِه. ولا نُسَلِّمُ ما ذَكَرَه ¬

(¬1) في م: «ساقية». (¬2) في الأصل: «حصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الدّارَين، وإن سَلَّمْنا فالفَرْقُ بينَهما أنَّ كلَّ دارٍ يَخْرُجُ منها إلى دَرْبٍ مُشْتَرَكٍ؛ لأنَّ الظّاهِرَ أن لكلِّ دارٍ سُكانًا، فيَجْعَلُ لسُكّانِ كلِّ واحِدَةٍ منهما اسْتِطْراقًا إلى دَرْبٍ غيرِ نافِذٍ لم يَكُنْ لهم حَقٌّ في اسْتِطْراقِه، وههُنا إنَّما يَسْقِي مِن ساقِيَتِه المُفْرَدَةِ التي لا يُشارِكُه غيرُه فيها، فلو صار لتلك الأرْضِ رَسْمٌ مِن الشُّرْبِ مِن ساقِيَتِه لم يَتَضَرَّرْ بذلك أحَدٌ. ولو كان يَسْقِي مِن هذا النَّهْرِ بدُولابٍ، فأحَبَّ أن يَسْقِيَ بذلك الماءِ أرْضًا لا رَسْمَ لها في الشُّرْبِ مِن ذلك النَّهْرِ، فالحُكْمُ في ذلك على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. وإن كان الدُّولابُ يَغْرِفُ مِن نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، جاز أن يَسْقِيَ بنَصِيبِه مِن الماءِ أرْضًا لا رَسْمَ لها في الشُّرْبِ منه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. فإن ضاق الماءُ، قُدِّمَ الأسْبَقُ فالأسْبَقُ، على ما مَضَى. فصل: ولكلِّ واحِدٍ منهم أن يَتَصَرَّفَ في ساقِيَتِه المُخْتَصَّةِ به بما أحَبَّ مِن إجْراءِ (¬1) غيرِ هذا الماءِ فيها، أو عَمَلِ رَحىً عليها، أو دُولابٍ، أو عَبَّارةٍ، وهي خَشَبَةٌ تُمَدُّ على طَرَفَي النَّهْرِ، أو قَنْطَرَةٍ يَعْبُرُ فيها الماءُ، أو غيرِ ذلك مِن التَّصَرُّفاتِ؛ لأنَّها مِلْكُه، ولا حَقَّ فيها لغيرِه. فأمَّا النَّهْرُ المُشْتَرَكُ، فليس لواحِدٍ منهم أن يتَصَرَّفَ فيه بشيءٍ مِن ذلك؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في النَّهْرِ المُشْتَرَكِ، أو في حَرِيمِه بغيرِ إذْنِ شُرَكائِه. وقال القاضي في العَبّارَةِ: هذا يَنْبَنِي على الرِّوايَتَين في مَن أراد أن يُجْرِيَ ماءَه في أرْضِ غيرِه. ¬

(¬1) بعده في م: «ماء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحِيحُ أنَّه لا يَجُوزُ ههُنا، ولا يَصِحُّ قِياسُ هذا على إجْراءِ الماءِ في أرْضِ غيرِه؛ لأنَّ إجْراءَ الماءِ في أرْضٍ يَنْفَعُ صاحِبَها، لأنَّه يَسْقِي عُرُوقَ شَجَرِه، ويَشْرَبُه أوَّلًا وآخِرًا. وهذا لا يَنْفَعُ النَّهْرَ، بل رُبَّما أفْسَدَ حافَّتَيه، ولا يَسْقِي له شيئًا. ولو أراد أحَدُ الشُّرَكاءِ أن يَأْخُذَ مِن النَّهْرِ قبل قَسْمِه شيئًا يَسْقِي به أرْضًا في أوَّلِ النَّهْرِ أو في غيرِه، أو أراد إنسانٌ غيرُهم ذلك، لم يُجزْ؛ لأنَّهم صارُوا أحَقَّ بالماءِ الخاصِّ في نهْرِهم مِن غيرِهم، ولأنَّ الأخْذَ مِن الماءِ رُبَّما احْتاجَ إلى تَصَرُّفٍ في حافَّةِ النَّهْرِ المَمْلُوكِ لغيرِه، أو المُشْتَرَكِ بينَه وبينَ غيرِه. ولو فاض ماءُ هذا النَّهْرِ إلى أرْضِ إنْسانٍ، فهو مُباحٌ، كالطّائِرِ يُعَشِّشُ في مِلْكِ إنْسانٍ. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في ذلك على نحو ما ذَكَرْنا. فصل: وإن قَسَمُوا ماءَ النَّهْرِ المُشْتَرَكِ بالمُهايَأةِ، جاز، إذا تَراضَوْا به وكان حَقُّ كلِّ. واحِدٍ منهم مَعْلُومًا، مثلَ أن يَجْعَلُوا لكلِّ حِصَّةٍ يومًا ولَيلَةً. وان قَسَمُوا النَّهارَ، فجَعَلُوا لواحِدٍ مِن طُلُوعِ الشَّمْسِ إلى الزَّوالِ، وللآخَرِ مِن الزَّوالِ إلى الغُرُوبِ، ونحوَ ذلك، جاز. وإن قَسَمُوه ساعاتٍ، وأمْكَنَ ضَبْطُ ذلك بشيءٍ مَعْلُومٍ، جاز. فإذا حَصَل الماءُ لأحَدِهم في نَوْبَتِه، فأراد أن يَسْقِيَ به أرْضًا ليس لها رَسْمُ شُرْبٍ مِن هذا، أو يُؤْثِرَ به إنْسانًا، أو يُقْرِضَه إيَّاه على وَجْهٍ لا يَتَصَرَّفُ في حافَّةِ النَّهْرِ، جاز. وعلى قولِ القاضي، وأصحابِ الشافعيِّ، يَنْبَغِي أن لا يجوزَ؛ لِما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقَدَّمَ. وإن أراد صاحِبُ النَّوْبَةِ أن يُجْرِيَ [مع مائِه ماءً له آخَرَ، يَسْقِي به أرْضَه التي لها رَسْمُ شُرْبٍ مِن النَّهْرِ] (¬1)، أو أرْضًا له أُخْرَى، أو سَألَه إنْسانٌ [أن يُجْرِيَ] (¬2) له ماءً مع مائِه في هذا النَّهْرِ ليُقاسِمَه إيّاه في مَوْضِعٍ آخَرَ على وَجْهٍ لا يَضُرُّ بالنَّهْرِ ولا بأحدٍ، جاز ذلك، في قِياسِ قولِ أصْحابِنا؛ فإنهم قالوا في مَن اسْتَأْجَرَ أرْضًا: جاز أن يُجْرِيَ فيها ماءً في نَهْرٍ مَحْفُورٍ، إذا كان فيها. ولأنَّه مُسْتَحِقٌّ. لنَفْعِ النَّهْرِ في نَوْبَتِه بإجْراءِ الماءِ، فأشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَها لذلك. فصل: القِسْمُ الثّانِي، أن يكونَ مَنْبَعُ الماءِ مَمْلُوكًا، مثلَ أنِ اشْتَرَكَ جَماعَةٌ في اسْتِنْباطِ عَينٍ وإجْرائِها، فإنَّهم يَمْلِكُونَها أيضًا، لأنَّ ذلك إحْياءٌ لها، ويَشْتَرِكُون فيها وفي ساقِيَتِها على حَسَبِ ما أنْفَقُوا عليها وعَمِلُوا فيها، كما ذَكَرْنا في النَّهْرِ في القِسْمِ الذي قبلَه، إلَّا أنَّ الماءَ غيرُ مَمْلُوكٍ ثَمَّ؛ لأنَّه مُباحٌ دَخَل مِلْكَه، فأشْبَه ما لو دَخَل بُسْتانَه صَيدٌ، وههُنا يُخْرَّجُ على رِوايَتَين، أصَحُّهما أنَّه غيرُ مَمْلُوكٍ أيضًا، وقد ذَكَرْنا ذلك في كِتابِ البَيعِ (¬3). وعلى كلِّ حالٍ فلكلِّ أحَدٍ أن يَسْتَقِيَ مِن الماءِ الجارِي لشُرْبِه ووُضُوئِه وغُسْلِه وغَسْلِ ثِيابِه، ويَنَتْفِعَ به في أشْباهِ ذلك ممَّا لا يُؤَثِّرُ فيه، مِن غيرِ إذْنِه، إذا لم يَدْخُلْ إليه في مكانٍ مُحَوَّطٍ عليه. ولا يَحِلُّ (¬4) ¬

(¬1) في الأصل: «له ماء مع مائه في هذا النهر». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) انظر ما تقدم في: 11/ 78. (¬4) في م: «يحصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لصاحِبِه المَنْعُ مِن ذلك؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إلَيهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ رَجُلٌ كَانَ بِفَضْلِ مَاءٍ بالطَّرِيق فمَنَعَهُ ابْنَ السَّبِيلِ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). وعن بُهَيسَةَ، عن أبِيها، أنَّه قال: يا نبيَّ اللهِ، ما الشيءُ الذي لا يَحِلُّ مَنْعُه؟ قال: «الماءُ». قال: يا نَبِيَّ اللهِ، ما الشيءُ الذي لا يَحِلُّ مَنْعُه؟ قال: «المِلْحُ». قال: يا نَبِيَّ اللهِ، ما الشيءُ الذي لا يَحِلُّ مَنْعُه؟ قال: «أنْ تَفْعَلَ الخَيرَ خَيرٌ لَكَ». رَواه أبو داودَ (¬2). ولأَنَّ ذلك لا يُؤَثِّرُ في العادَةِ، وهو فاضِلٌ عن حاجَةِ صاحِبِ النَّهْرِ. وأمَّا ما يُؤَثِّرُ، كسَقْي الماشِيَةِ الكَثِيرَةِ، فإن فَضَل عن حاجَتِه، لَزِمَه بَذْلُه، وإلَّا لم يَلْزَمْه، وقد ذَكَرْناه. فصل: إذا كان النَّهْرُ أو السّاقِيَةُ مُشْتَرَكًا بينَ جَماعَةٍ، فأرادُوا إكْراءَه، أو سَدَّ شِقٍّ (¬3) فيه، أو إصْلاحَ حائِطِه، أو شيءٍ منه، كان ذلك عليهم على حَسَبِ مِلْكِهم فيه، فإن كان بعضُهم أدْنَى إلى أوَّلِه مِن بعضٍ، اشْتَرَكَ الكلُّ في إصْلاحِه وإكْرائِه، إلى أن يَصِلُوا إلى الأوَّلِ، ثمَّ لا شيءَ على الأوَّلِ، ويَشْتَرِكُ الباقُونَ حتى يَصِلُوا إلى الثانِي، ثمَّ يَشْتَرِكُ مَن بعدَه كذلك، كلَّما انْتَهَى العَمَلُ إلى مَوْضِعِ واحِدٍ منهم، لم يَكُنْ عليه فيما بعدَه ¬

(¬1) في: باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، من كتاب المساقاة. صحيح البخاري 3/ 145. كما أخرجه أبو داود، في: باب في منع الماء، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 249. وابن ماجه، في: باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 744. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 100. (¬3) في م: «بثق».

2488 - مسألة: (وللإمام أن)

وَلِلامَامِ أنْ يُحْييَ أرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ، تَرْعَى فِيهَا دَوَابُّ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَقُومُ بِحِفْظِهَا، مَا لمْ يُضَيِّقْ عَلَى النَّاسِ. وَلَيس ذَلِكَ لِغَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء. وبهذا قال الشافعي، وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمد: يَشْتَرِكُ جَمِيعُهم في إكْرائِه كلِّه؛ لأنَّهم يَنْتَفِعُونَ بجَمِيعِه، فإن ما جاوَزَ الأوَّلَ مَصَب لمائِه، وإن لم يَسْقِ أرْضَه. ولَنا، أنَّ الأوَّلَ إنما يَنْتَفِعُ بالماءِ الذي في مَوْضِعِ شرْبِه، وما بعدَه إنَّما يَخْتَصُّ بالانْتِفاعِ (¬1) مِن دُونِه، فلا يُشارِكُهم في مُؤنَتِه، كما لا يُشارِكُهم في نَفْعِه. فإن كان يَفْضُلُ عن جَمِيعِهم منه ما يَحْتاجُ إلى مَصْرِفٍ، فمُؤنته على جَمِيعِهم؛ لاشْتِراكِهم في الحاجَةِ إليه والانْتِفاعِ به، فكانت مُؤنته عليهم كلِّهم، كأوَّلِه. 2488 - مسألة: (وللإِمامِ أن) يَحْمِيَ (أرْضًا مِن المَواتِ، تَرْعَى فيها دَوابُّ المسلمين التي يَقُومُ بحِفْظِها، ما لم يُضَيِّقْ على النّاسِ) ولا يجوزُ ذلك (لغيرِه) مَعْنَى الحِمَى، أن يَحْمِيَ أرْضًا، يَمْنَعُ النّاسَ رَعْيَ حَشِيشِها، ليَخْتَصَّ بها. وكانتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ تَعْرِفُ ذلك، فكان منهم مَن إذا انْتَجَعَ بَلَدًا أقام كَلْبًا على نَشْزٍ، ثم اسْتَعْواه، ووَقَف له مِن كلِّ ناحِيَةٍ مَن يسْمَع صَوْتَه بالعُواءِ، فحيثُ انْتَهَى صَوْتُه حَماه مِن كل ناحِيَةٍ لنَفْسِه، ويَرْعَى مع النّاسِ فيما سِواه. فنَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ لِما ¬

(¬1) بعده في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِيه مِن التضْيِيقِ على النّاسِ ومَنْعِهِم مِن الانْتِفاعِ بشيء لهم فيه حَق، فرَوَى الصَّعْبُ بنُ جَثّامَةَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لا حِمَى إلَّا للهِ وَلِرَسُولِه». رَواه أبو داودَ (¬1). وقال عليه الصلاةُ والسّلامُ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ في ثَلَاث؛ فِي المَاءِ، والنَّارِ، والكَلَأ». رَواه الخَلالُ (¬2). فليس لأحَد مِن النّاسِ أن يَحْمِيَ سِوَى الأئِمّةِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الخَبَرِ والمَعْنَى. فأمّا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقد كان له أن يَحْمِيَ لنَفْسِه وللمسلمين؛ لقَوْلِه: «لا حِمَى إلَّا لِلّهِ ولِرَسُولِهِ». ولم يَحْمِ لنَفْسِه شيئًا، وإنَّما حَمَى للمسلمين، فرَوَى ابنُ عُمَرَ، قال: حَمَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّقِيعَ لخَيلِ المسلمينُ. رَواه أبو عُبَيدٍ (¬3). والنَّقِيعُ، بالنُّونِ: مَوْضِعٌ يُنْتَقَعُ فيه الماءُ، فيَكْثُرُ فيه الخِصْبُ؛ لمَكانِ الماءِ الذي يَصِيرُ فيه. وأمّا سائِرُ أئِمَّةِ المسلمين، فليس لهم أن يَحْمُوا لأنْفُسِهِم شيئًا، ولكن لهم أن يَحْمُوا مواضِعَ لتَرْعَى فيها خَيلُ المُجاهِدِين، ونَعَمُ الجِزْيَةِ، وإبِلُ الصَّدَقَةِ، وضَوالُّ الناسِ التي يَقُومُ الإمامُ بحِفْظِها، وماشِيَةُ الضَّعِيفِ مِن النّاسِ، على وَجْهٍ لا يَسْتَضِرُّ به مَن سِواه مِن الناسِ. وبهذا ¬

(¬1) في: باب في الأرض يحميها الإمام أو الرجل، من كتاب الخراج. سنن أبي داود 2/ 160. كما أخرجه البخاري، في: باب لا حمى إلا لله ولرسوله، من كتاب المساقاة، وفي: باب أهل الدار يبيتون. . . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 3/ 148، 4/ 74. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 38، 71، 73. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 80. (¬3) في: باب حمى الأرض ذات الكلأ والماء. الأموال 298.كما أخرجه الإمام أحمد، في: السند 2/ 155، 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعي في صَحِيحِ قَوْلَيه. وقال في الآخَرِ: ليس لغيرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْمِيَ؛ لقَوْلِه: «لَا حِمَى إلَّا لِلّهِ ولِرَسُولِهِ». ووَجْهُ الأولِ، أن عُمَرَ وعُثْمانَ حَمَيا، واشْتَهَر ذلك في الصحابةِ، فلم يُنْكَرْ عليهما، فكان إجْماعًا، فرَوَى أبو عُبَيدٍ (¬1)، بإسْنادِه، عن عامِرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ، أحْسَبُه عن أبيه، قال: أتى أعْرابِي عُمَرَ، فقال: يا أمِيرَ المُومِنِينَ، بِلادُنا قاتَلْنا عليها في الجاهِلِيةِ، وأسْلَمْنا عليها في الإسْلامِ، عَلامَ تَحْمِيها؟ قال: فأطْرَقَ عُمَرُ، وجَعَلَ يَنْفُخ ويَفْتِلُ شارِبَه وكان إذا كَرَبَه أمْر قتَل شارِبَه، ونَفَخ. فلَمّا رَأى الأعْرابِيُّ ما به جَعَل يُرَدِّدُ ذلك، فقال عُمَرُ: المال مالُ اللهِ، والعِبادُ عِبادُ اللهِ، واللهِ لولا ما أحْمِلُ عليه في سَبِيلِ اللهِ ما حَمَيتُ مِن الأرْضِ شِبْرًا في شِبْر. قال مالِك: بَلَغَنِي أنَّه كان يَحْمِلُ في كلِّ عام على أرْبَعِين ألْفًا مِن الظَّهْرِ. وعن أسْلَمَ تال: سَمِعْتُ عُمَرَ يقولُ لِهُنَيٍّ حينَ اسْتَعْمَلَه على حِمَى الربْذَةِ (¬2): يا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَناحَك عن الناسِ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإنها مُجابَةٌ، وأدْخِلْ رَبَّ الصرِيمَةِ والغَنِيمَةِ، ودَعْنِي مِن نَعَمِ بنِ عَوْفٍ ونَعَمِ بنِ عَفّانَ، فإنَّهما إن هَلَكَتْ ماشِيَتُهما رَجَعا إلى نَخْل وزَرْع، وإن هذا المِسْكِينَ إن هَلَكَتْ ماشِيَتُه جاء يَصْرُخُ: يا أمِيرَ المُومِنِينَ. فالكَلأ أهْوَنُ عَلَيَّ أمْ غُرْمُ الذَّهَبِ والوَرِق، إنَّها أرْضُهم قاتلُوا عليها في الجاهِلِيةِ، وأسْلَمُوا عليها ¬

(¬1) في: الأموال 299. (¬2) الربذة: موضع قرب المدينة.

2489 - مسألة: (وما حماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس لأحد نقضه)

وَمَا حَمَاهُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَيسَ لِأحَدٍ نَقْضُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الإسْلامِ، وإنهُم ليَرَوْنَ أنّا نَظْلِمُهم، ولولا النعَمُ التي نَحْمِلُ عليها في سَبِيلِ اللهِ ما حَمَيتُ على الناسِ مِن بلادِهم شيئًا أبدًا (¬1). وهذا إجْماع منهم. ولأن ما كان لمَصالِحِ المسلمين، قامَتِ الأئِمةُ فيه مَقامَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «مَا أطْعَمَ الله لنبي طعْمَةً إلا (¬2) جَعَلَها طُعْمَةً لِمَنْ بَعْدَهُ» (¬3). والخَبَرُ مَخْصُوص. وما حَماه لنَفْسِه يُفارِقُ حِمَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لنَفْسِه؛ لأن صَلاحَه يَعُودُ إلى صَلاحِ المسلمين، ومالَه كان يَرُده على المسلمين. وليس لهم أن يَحْمُوا إلا قَدْرًا لا يُضَيِّقُ على (¬4) المسلمين ويَضُرُّ بهم؛ لأنه إنَّما جاز لِما فيه مِن المَصْلَحَةِ لِما يَحْمِي، وليس مِن المَصْلَحَةِ إدْخالُ الضرَرِ على أكثَرِ الناسِ. 2489 - مسألة: (وما حَماه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فليس لأحَدٍ نَقْضُه) ولا تَغْيِيرُه مع بَقاءِ الحاجَةِ إليه؛ لأنَّ ما حَكَم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَص ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا أسلم قوم في دار الحرب. . . . إلخ، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 4/ 87. (¬2) في م: «لا». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 130. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 4. (¬4) في م: «عن».

وَمَا حَمَاهُ غَيرُهُ مِنَ الْأئِمَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَجُوزُ نَقْضه بالاجْتِهادِ. ومَن أحْيا منه شيئًا لم يَمْلِكْه. وان زالتِ الحاجَةُ إليه، ففيه وَجْهانِ؛ أصَحُّهما، أنَّه لا يَجُوز نَقْضُه؛ لِما ذَكَرْنا. فأمّا (ما حَماه غيرُه مِن الأئِمّةِ) فغيَّرَه هو أو غيرُه مِن الأئِمَّةِ، جاز. وإن أحْياه إنسانٌ، مَلَكَه، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ حِمَى الأئِمَّةِ اجْتِهادٌ، ومِلْك الأرْضِ بالإحْياءِ نَصٌّ، والنصُّ تقَدَّمُ على الاجْتِهادِ. والوَجهُ الآخَرُ، لا يَمْلِكُه؛ لأن اجْتِهادَ الإمامِ لا يَجُوز نَقْضُه، كما لا يجوزُ نقْضُ حكْمِه. والأول أوْلَى؛ لأن الاجْتِهادَ في حِماه في تلك المدَّة دُونَ غيرِه، ولهذا مَلَك الحامِي نَقْضَه. ومَذْهَبُ الشافعيّ في هذا على نحو ما ذَكَرْنا.

باب الجعالة

بَابُ الجَعَالةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الجَعالةِ (¬1) الجَعالةُ أن يَجْعَلَ جُعْلًا مِن رَدِّ آبِقٍ أو ضالةٍ، أو بناءِ حائِطٍ، أو خِياطَةِ ثَوْبٍ، وسائِرِ ما تَجُوزُ الإجارَةُ عليه. وهذا قولُ أَبي حنيفةَ، ومالك، والشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالفًا. والأصْلُ في ذلك قولُ اللهِ تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬2). وروَى أبو سعيدٍ، أنَّ ناسًا مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أتَوْا حَيًّا مِن أحْياءِ العَرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبَينا هم كذلك إذ لُدِغ سَيِّدُ أولئك، فقالُوا: هل فيكم راقٍ؟ فقالُوا: لم تَقْرُونا، فلا نَفْعَلُ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلًا. فجَعَلُوا لهم قَطِعَ شِياهٍ، فجَعَل رجل منهم يَقْرأ بأمِّ القُرْآنِ، ويَجْمَعُ بُزاقه ويَتْفُلُ، فبَرَأ الرجلُ، فأتَوْهم بالشاءِ. فقالُوا: لا نَأخُذُها حتى نَسْألَ عنها رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فسَألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «وَمَا أدرَاكَ أنَّهَا رُقية؟ خُذُوهَا، واضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْم». رَواه البخاري (¬3). ولأن الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلك، فإن العَمَلَ قد يَكونُ مَجْهُولًا، كرَدِّ الضّالةِ والآبِقِ، فلا تَنْعَقِدُ الإجارَةُ عليه، وقد ¬

(¬1) سقط هذا الباب من المطبوعة. (¬2) سورة يوسف 72. (¬3) تقدم تخريجه في 14/ 381.

2490 - مسألة: (وهي أن يقول: من رد عبدي، أو لقطتي، أو بنى لي هذا الحائط، فله كذا)

وَهِيَ أنْ يَقولَ: مَنْ رَد عَبْدِي، أوْ لُقَطَتِي، أوْ بَنَى لِيَ هَذَا الْحَائطَ، فَلَهُ كَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَجِدُ مَن يَتَبَرَّعُ به، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى بَذْلِ العِوَضِ فيه مع جَهالةِ العَمَلِ؛ لأنها غيرُ لازِمةٍ، بخِلافِ الإجارَةِ، ألا تَرَى أن الإجارَةَ لمّا كانت لازِمَةً، افْتَقَرَتْ إلى تَقْدِير مُدَّةٍ، والعُقُودُ الجائِزَةُ كالشرِكَةِ والوَكالةِ لا يَجِبُ تَقْدِيرُ مُدَّتِها، لأنَّ الجائِزَةَ (¬1) لكلِّ واحدٍ منهما تَرْكُها، فلا يُؤَدِّي إلى أن يَلْزَمَه مَجْهُول، بخِلاف اللازِمَةِ. 2490 - مسألة: (وهي أن يقولَ: مَن رَدَّ عَبْدِي، أو لُقَطَتي، أو بَنَى لي هذا الحائِطَ، فله كذا) فإذا قال ذلك صَح، وكان عَقْدًا جائِزًا، لكلِّ واحدٍ منهما الرُّجُوعُ فيه قبلَ حُصُولِ العَمَلِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2491 - مسألة: (فمن فعله بعد أن بلغه الجعل، استحقه)

فَمَنْ فَعَلَهُ بَعْدَ أنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ اسْتَحَقهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2491 - مسألة: (فمَن فَعَلَه بعدَ أن بَلَغه الجُعْلُ، اسْتَحَقه) لِما

2492 - مسألة: (وإن فعله جماعة، فهو بينهم)

وَإنْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ، فَهُوَ بَينَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا مِن الآيَةِ وحديثِ أبي سعيد. ولأَنه عِوَض يُسْتَحَق بالعَمَلِ، فلا يَسْتَحِقه مَن لم يَعْمَلْ، كالأجْرَةِ في الإجارَةِ. 2492 - مسألة: (وإن فَعَلَه جَماعَةٌ، فهو بينَهم) وجُمْلَةُ ذلك، أَنه يَجُوزُ أن يَجْعَلَ الجُعْلَ لواحِد بعَينه، فيَقُولَ: إن رَدَدْتَ عَبْدِي، فلك دِينارٌ. فلا يَسْتَحِقُّ الجُعْلَ مَن رَدَّه سِواه. ويَجُوزُ أن يَجْعَلَه لغيرِ مُعَيَّن، فيَقُولَ: مَن رَدَّ عَبْدِي فله دِينار. فمَن رَدة اسْتَحَقَّ الجُعْل. ويَجُوزُ أن يَجْعَلَ لواحِد في رَدِّه شيئًا مَعْلُومًا، ولآخَرَ أكثَرَ منه أو أقَل. ويَجُوزُ أن يَجْعَلَ للمُعَينِ عِوَضًا، ولسائِرِ النّاسِ عِوَضا آخَرَ؛ لأنَّه يَجُوزُ أن يَكُونَ الأجْرُ (¬1) في الإجارَةِ مُخْتَلِفًا مع التَّساوي في العَمَلِ، فههنا أوْلَى. فإن قال: مَن رَدَّ لُقطِتي فله دِينارٌ. فرَدها ثَلاثة، فلهم الدِّينارُ بينهم أثْلاثًا؛ لأنَّهم اشْتَرَكُوا في العَمَلِ الذي يُسْتَحَقُّ به العِوَضُ، فاشْتَرَكُوا في العِوَضِ، كالأجْرِ في الإجارَةِ. فإن قيلَ: أليس لو قال: مَن دَخَل هذا النَّقْبَ فله دِينار. فدَخَلَه جَماعَة، اسْتَحَقَّ كلُّ واحد منهم دِينارًا كامِلًا، فلِمَ لا يَكُونُ ههُنا كذلك؟ قُلْنا: لأنَّ كلَّ واحد مِن الدّاخِلِين دَخَل دُخُولًا كامِلا، كدُخُولِ المُنْفَرِدِ، فاسْتَحَقَّ العِوَضَ كامِلًا، وههُنا لم يردَّه واحدٌ منهم كامِلًا، إنَّما اشْتَرَكُوا فيه، فاشْتَرَكُوا في عِوَضِه. فنَظيرُ مَسْألةِ الدُّخُولِ ما لو قال: مَن رَدَّ عَبْدًا مِن عَبِيدِي فله دِينار. فرَدَّ كل واحِد منهم عَبْدًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَظيرُ مَسألةِ الردِّ ما لو قال: مَن نَقَب السُّورَ فله دِينارٌ. فنَقَبَ ثَلاثة نَقْبًا واحِدًا، فإن جَعَل لواحِدٍ في رَدِّها دِينارًا، ولآخَرَ دِينارَين، ولثالثٍ ثَلاثةً، فلكُلِّ واحِدٍ منهم ثُلُثُ ما جَعَل له؛ لأنه عَمِلِ ثُلُثَ العَمَلِ، فاسْتَحَقَّ ثُلُثَ المُسَمى. فإن جَعَل لواحِدٍ دِينارًا، ولآخرَين عِوَضًا مَجْهُولًا، فرَدُّوه معًا، فلصاحِبِ الدِّينارِ ثُلثه، وللآخَرَين أجْرُ عَمَلِهما. فإن جَعَل لواحِدٍ شيئًا في رَدِّها، فرَدها هو وآخَرَانِ معه (¬1)، وقالوا: رَدَدْناها مُعاوَنَةً له. اسْتَحَق جَمِيعَ الجُعْلِ، ولا شيءَ لهما. وإن قالا: رَدَدْناه لنَأخُذَ العِوَضَ لأنْفُسِنا. فلا شيءَ لهما، وله ثُلُثُ الجُعْلِ؛ لأنه عَمِل ثُلُثَ العَمَلِ، فاسْتَحَق ثُلُثَ الجُعْلِ، ولم يَسْتَحِق الآخَرانِ شيئًا؛ لأنهما عَمِلا مِن غيرِ جُعل. وهذا كلُّه مذهبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فصل: وإن قال: مَن رَد عَبْدي مِن بَلَدِ كذا فله دِينار. فرَده إنْسان مِن نِصْفِ طَرِيقِ ذلك البَلَدِ، اسْتَحَقَّ نِصْفَ الجُعْلِ؛ لأنه عَمِل نِصْفَ العَمَلِ. وكذلك لو قال: مَن رَد عَبْدي فله دِينارٌ. فرَد أحَدَهُما، فله نِصْفُ الدِّينارِ؛ لأنه رَد نِصْفَ العَبْدَين. وإن رَد العَبْدَ مِن غيرِ البَلَدِ المُسَمَّى، فلا شيءَ له؛ لأنه لم يَجْعَلْ في رَدِّه منه شيئًا، فأشْبَهَ ما لو جَعَل في رَدِّ أحَدِ عَبْدَيه شيئًا (1) مُعَيَّنًا فرَد الآخَرَ. ولو قال: مَن رَد عَبْدي فله دِينار. فرَدَّه إنْسان إلى نِصْفِ الطرِيقِ، فهَرَبَ منه، لم يَسْتَحِق شيئًا؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2493 - مسألة: (وإن فعله قبل ذلك لم يستحقه، سواء رده قبل بلوغه الجعل أو بعده)

وَمَنْ فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِك لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، سَواء رَدَّهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْجُعْل أوْ بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه شَرَط المجعْلَ برَدِّه، ولم يَرُده. وكذلك لو ماتَ. كما لو اسْتَأجَرَ لخِياطَةِ ثَوْبٍ، فخاطَه ولم يُسَلِّمْه حتى تَلِف، لم يَسْتَحِق أجْرَةً. فإن قيل: فإن كان الجاعِلُ قد قال: مَن وَجَدَ لُقَطِتي فله دِينار. فقد وُجد الوجْدانُ؟ قُلْنا: قَرِينَةُ الحالِ تَدُلُّ على اشْتِراطِ الرَّدِّ إذ المَقْصُودُ الرَّدُّ لا الوجْدانُ المُجَرَّدُ، وإنَّما اكْتَفَى بذِكْرِ الوجْدانِ؛ لأنه سَبَبُ الردِّ، فصارَ كأنه قال: مَن وَجَد لُقَطِتي فرَدها عَلَيَّ فله دِينار. 2493 - مسألة: (وإن فَعَلَه قبلَ ذلك لم يَسْتَحِقَّه، سواء رَده قبلَ بُلُوغِه الجعل أو بعدَه) إذا الْتَقَطَ لُقَطَةً قبلَ أن يَبلُغه الجُعْلُ، لم يَسْتَحِقَّ الجُعْلَ؛ لأنه الْتَقَطَها بغيرِ عِوَض، وعَمِل في مالِ غيرِه بغيرِ جُعْل جُعِل (¬1) له، فلم يَسْتَحِق شيئًا، كما لو الْتَقَطَها ولِم يَجْعَلْ رَبها فيها شيئًا. وفارَقَ المُلْتَقِطَ بعدَ بُلُوغِ الجُعْلِ، فإنه إنما بَذلَ مَنافِعَه بعِوَض جُعِل له، فاسْتَحَقه، كالأجِيرِ إذ عَمِل بعدَ العَقْدِ. وسَواء كان الْتِقاطُه لها بعدَ الجُعْلِ أو قبلَه؛ لِما ذَكَرناه. ولا يَسْتَحِق أخْذَ الجُعْلِ برَدِّها؛ لأنَّ الرَّد واجِبٌ عليه مِن غيرِ عِوَض، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عن الواجِب، كسائِرِ الواجِباتِ، وسَواء رَدها قبلَ العِلْمِ بالجُعْلِ أو بعدَه؛ لذلك، وإنما يَأخُذُه المُلْتَقِطُ في مَوْضِع يَجُوزُ له أخْذُه عِوَضًا عن الالْتِقاطِ المُباحِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2494 - مسألة: (وتصح على مدة مجهولة، وعمل مجهول، إذا كان العوض معلوما)

وَتَصِحُّ عَلَى مُدةٍ مَجْهُولَةٍ، وَعَمَل مَجْهُولٍ، إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2494 - مسألة: (وتَصِحُّ على مُدةٍ مَجْهُولَةٍ، وعَمَل مَجْهُول، إذا كان العِوَضُ مَعْلُومًا) لأنها عَقْد جائِر مِن الطرَفَين، فجازَ أن يَكُونَ العَمَلُ فيها مَجْهُولًا والمُدةُ مَجْهُولَةً، كالشرِكَةِ والوَكالةِ، ولأن الجائِزَةَ لكلِّ واحدٍ منهما فَسْخُها، فلا يُؤَدِّي إلى أن يَلْزَمَه مَجْهُول عنده إذا كان العِوَضُ مَعْلُومًا، ولأن الحاجَةَ تَدْعُو إلى كَوْنِ العَمَلِ مَجْهُولًا، وكذلك المُدةُ؛ لكَوْنِه لا يَعْلَمُ مَوْضِعَ الضّالَّةِ والآبِقِ، ولا حاجَةَ إلى جَهالةِ العِوَضِ، ولأن العَمَلَ لا يَصِيرُ لازِمًا، فلم يُشْتَرَطْ كَوْنُه مَعْلُومًا، والعِوَضُ يَصِيرُ لازِمًا بإتْمامِ العَمَلِ، فاشْتُرِطَ العِلْمُ به. قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ الجَعالةُ مع الجَهْلِ بالعِوَضِ، إذا كانت جَهالةً لا تَمْنعُ التسْلِيمَ، نحوَ أن يقولَ: مَن رَد عَبْدِي الآبِقَ فله نِصْفُه، ومَن رَد ضالتِي فله ثُلثها. قال أحمدُ: إذا قال الأمِيرُ في الغَزْو: مَن جاءَ بعَشْرَةِ أرْؤس فله رَأس. جازَ. وقالوا: إذا جَعَل جُعْلًا لمَن يَدُلُّه على قَلْعَةٍ، أو طَرِيقٍ سهْلٍ، وكان الجُعْلُ مِن مالِ الكُفّارِ، كجارِيةٍ يُعَيِّنها (¬2) العامِلُ. جازَ. فيُخَرَّجُ ههُنا مِثْلُه. فأمّا إن كانتِ الجَعالةُ تَمْنَعُ التسْلِيمَ، لم تَصِح الجَعالةُ، وَجْهًا واحدًا. فعلى هذا، يَسْتَحِقُّ العامِلُ أجْرَ المِثْلِ؛ لأنه عَمِل عَملًا بعِوَض لم يُسَلمْ له، فاسْتَحَق أجْرَ المِثْلِ، كما في الإجارَةِ. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 324. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ ما جازَ أن يكُونَ عِوَضًا في الإجارَةِ، جازَ أن يَكُونَ عِوَضًا في الجَعالةِ، وكلُّ ما جازَ أخْذُ العِوَضِ عليه في الإجارَةِ مِن الأعْمالِ، جازَ أخْذُه عليه في الجَعالةِ، وما لا يَجُوزُ أخْذُ العِوَضِ عليه في الإجارَةِ، كالغِناءِ (¬1)، والزَّمْرِ، وسائِرِ المُحَرَّماتِ، لا يَجُوزُ أخْذُ الجُعْلِ عليه، وما يَخْتَصُّ فاعِلُه أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ القُرْبَةِ مِمَّا لا يَتَعَدى نَفْعُه فاعِلَ؛ كالصَّلاةِ والصيامِ، لا يَجُوزُ أخْذُ الجُعْلِ عليه، فأما ما يَتَعَدى نَفْعُه؛ كالأذانِ والحَج، ففيه وَجْهانِ، كالروايَتَين في الإجارَةِ. ويفارِقُ الإجارَةَ في أنَّها عَقْدٌ جائزٌ، وهي عَقْد لازِم، وأنَّه لا يُعْتَبَرُ العِلْمُ بالمُدَّةِ، ولا بمِقدارِ العَمَلِ، ولا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ العقْدِ مع واحدٍ مُعَيَّن، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في ر 2: «كالبغاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان العَمَلُ مَعْلُومًا، مثلَ أن يَقُولَ: مَن رَدَّ عَبْدِي مِن البَصْرَةِ. أو: بَنَى لي هذا الحائِطَ. أو: خاطَ قَمِيصِي هذا، فله كذا. صَحَّ؛ لأنَّه إذا صَحَّ مع الجَهالةِ، فمع العِلْمِ أوْلَى. وإن عَلَّقَه بمُدةٍ مَعْلُومَةٍ، فقال: مَن رَدَّ عَبْدِي مِن العِراقِ في شَهْر فله دِينار. أو: مَن خَاطَ قَمِيصِي في هذا اليومِ فله دِرْهَم. صَح؛ لأنَّ المُدَّةَ إذا جازَتْ مَجْهولَةً، فمع التَّقْدِيرِ أوْلَى. فإن قيل: مثلُ هذا لا يَجوزُ في الإجارَةِ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَب، فكيفَ جازَ في الجَعالةِ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها، أن الجَعالةَ يَحْتَمِلُ فيها الغرَرُ، وتَجُوزُ مع جَهالةِ العَمَل. والمُدَّةِ، بخِلافِ الإجارَةِ. الثاني، أنَّ الجَعالةَ عَقد جائِز، فلا يَلْزَمُ بِالدخُولِ فيها مع الغرَرِ ضَرَرٌ، بخِلافِ الإجارَةِ، فإنها عَقْدٌ لازِمٌ، فإذا دَخَل فيها مع الغَرَرِ، لَزِمَه ذلك. الثالثُ، أن الإجارَةَ إذا قُدِّرَتْ بمُدَّةٍ، لَزِمَه العَمَلُ في جَمِيعِها، ولا يَلْزَمُه بعدَها، فإذا جَمَع بينَ تَقْدِيرِ المُدَّةِ والعَمَلِ فرُبَّما عَمِلَه قبلَ المُدَّةِ، فإن قُلْنا: لا يَلْزَمُه. فقد خلا بعضُ المُدةِ مِن العَمَلِ، وإنِ انقَضَتِ المُدةُ قبلَ عَمَلِه، فألزَمْناه

2495 - مسألة: (وهي عقد جائز، لكل واحد منهما فسخها. فمتى فسخها العامل، لم يستحق شيئا، وإن فسخها الجاعل بعد الشروع، فعليه للعامل أجرة عمله)

وَهِيَ عَقْد جَائِز، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا. فَمَتَى فَسَخَهَا الْعَامِلُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيئًا، وَإنْ فَسَخَهَا الْجَاعِلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَعَلَيهِ لِلْعَامِلِ أجْرَةُ عَمَلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إتْمامَ العَمَلِ [فقد لزِمَه العَمَلُ في غيرِ المُدّةِ المَعْقُودِ عليها. وإن قُلْنا: لا يَلْزَمُه العَمَلُ] (¬1). فما أتَى بالمَعْقُودِ عليه مِن العَمَلِ، بخِلافِ مَسْألتِنا، فإنّ العَمَلَ الذي يَسْتَحِق به الجُعْلَ عَمَل مُقَيد بمُدَّةٍ، إن أتَى به فيها اسْتَحَق الجُعْلَ، ولم يَلْزَمْه شيء آخَرُ، وإن لم يَفِ به فيها، فلا شيءَ له. 2495 - مسألة: (وهِيَ عَقْد جائزٌ، لكلِّ واحِدٍ منهما فَسْخُها. فمتى فَسَخَها العامِلُ، لم يَسْتَحِقَّ شَيئًا، وإن فَسَخَها الجاعِلُ بعدَ الشرُوع، فعليه للعامِلِ أجْرَةُ عَمَلِه) لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. فمتى فَسَخَها العامِلُ قبلَ تَمامِ العَمَلِ، لم يَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لأنه أسْقَطَ حَقَّ نَفْسِه، حيث لم يَأتِ بما شَرَطَ عليه العِوَضَ، ويَصِيرُ كعامِلِ المُضارَبَةِ إذا فَسَخَها قبلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وإن فَسخَها الجاعِلُ قبلَ الشُّرُوعِ في العَمَلِ، فلا شيءَ عليه، وإن كان بعدَ التلبسِ بالعَمَلِ، فعليه للعامِلِ أجْرُ مِثْلِه؛ لأنَّه عَمِل بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له. وإن زادَ في الجُعْلِ أو نَقَص منه قبلَ الشُّرُوعِ في العَمَلِ، جازَ؛ لأنه عَقْدٌ جائِز، فجازَتِ الزِّيادَةُ والنُّقْصان قبلَ العَمَلِ، كالمُضارَبَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2496 - مسألة: (وإن اختلفا في أصل الجعل، أو قدره، فالقول قول الجاعل)

وإنِ اخْتَلَفَا فِي أصْلِ الْجُعْلِ، أوْ قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجاعِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2496 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في أصْلِ الجُعْلِ، أو قَدْرِه، فالقَوْلُ قَوْلُ الجاعِلِ) مع يَمِينه؛ لأنه مُنْكِر، والأصْلُ بَراءَةُ ذِمَّتِه. ويَحْتَمِلُ أن يَتَحالفا إذا اختَلَفا في قدْرِ العِوَضِ، كالأجِيرِ والمُستَأجِرِ إذا اخْتَلَفا في قدْرِ الأجْرَةِ. فإذا تَحالفا، فُسِخَ العَقْدُ، ووَجَب أجْرُ المِثْلِ. وكذلك الحُكْمُ إذا اخْتَلَفا في المَسافَةِ، فقال: جَعَلْتُ لك الجُعْلَ على رَدِّها مِن حَلَبَ. قال: بل على رَدِّها مِن حِمْصٍ. وإذا اخْتَلَفا في عَينِ العَبْدِ الذي جُعِل الجُعْلُ في رَدِّه، فقال: رَدَدْت العَبْدَ الذي شرَطْتَ ليَ الجُعْلَ فيه. فأنْكَرَ الجاعِلُ، وقال: بل شَرَطْتُه في العَبْدِ الذي لم تَرُده. فالقولُ قولُ المالِكِ؛ لأنه أعْلَمُ بشَرْطِه، ولأنه ادعَى عليه شَرْطًا فأنْكَرَه، والأصْلُ عَدَمُه.

2497 - مسألة: (ومن عمل لغيره عملا بغير جعل، فلا شيء له، إلا في رد الآبق)

وَمَنْ عَمِلَ لِغَيرِهِ عَمَلًا بِغَيرِ جُعْل، فَلَا شَيْءَ لَهُ، إلا فِي رَدِّ الآبِقِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2497 - مسألة: (ومَن عَمِل لغيرِه عَمَلًا بغيرِ جُعْل، فلا شيءَ له، إلا في رَدِّ الآبِقِ) لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنه عَمَل يَسْتَحِق به العِوَضَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع المُعاوَضَةِ، فلا يَسْتَحِقُّ (¬1) مع عَدَمِها، كالعَمَلِ في الإجارَةِ. ¬

(¬1) بعده في ر 1: «الجعل».

2498 - مسألة: فأما رد الآبق، فإنه يستحق الجعل برده وإن لم يشرط له

فَإِنَّ لَهُ بِالشَّرْعِ دِينَارًا أو اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2498 - مسألة: فأمّا رَد الآبِقِ، فإنه يَسْتَحِق الجُعْلَ برَدِّه وإن لم يَشرُطْ له. رُويَ ذلك عن عُمَرَ، وعليّ، وابنِ مسعودٍ، وبه قال شُرَيح، وري بنُ عبدِ العزِيزِ، ومالك، وأصحابُ الرأي. ورُويَ عن

وَعَنْهُ، إنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ فَلَهُ أرْبَعُونَ دِرْهَمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، أنَّه لم يَكُنْ يُوجِبُ ذلك. قال ابنُ مَنْصُور: سئل أحمدُ (¬1) عن جعْل الآبِقِ؟ فقال: لا أدْرِي، قد تَكَلمَ الناسُ فيه. لم يَكُنْ عندَه فيه حَدِيث صَحِيح. فظاهِر هذا أنه لا جعْلَ له فيه. وهو ظاهِر قَوْلِ الخِرَقِيِّ، فإنه قال: وإذا أبَقَ العَبْد فلِمَن جاءَ به إلى سَيِّدِه ما أنْفَقَ عليه. ولم يَذْكُرْ جعْلًا. وهذا قول النخَعِيِّ، والشافعيِّ (¬2)، وابنِ المنْذِرِ؛ لأنه عَمِل لغيرِه عَمَلًا مِن غيرِ أن يَشْرطَ له عِوَضًا، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو رَدَّ جَمَلَه الشارِدَ. ووجْهُ الرِّوايَةِ الأولَى، ما روَى عَمْرو (¬3) بن دينارٍ، وابنُ أبي ملَيكَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل في رَدِّ الآبِقِ، إذا جاءَ به خارِجًا مِن الحَرَمِ، دِينارًا (¬4). وأيضًا فإنه قول مَن سَمَّينا مِن الصحابَةِ، ولم نَعْرفْ لهم في زَمَنِهم مخالِفًا، فكان إجْماعًا. ولأن في شَرْطِ الجعْلِ في رَدِّهم حَثًّا على رَدِّ الأُبَّاق (¬5) وصِيانَةً لهم عن الرجوعِ إلى دارِ الحَرْبِ ورِدَّتِهم عن دِينهم وتَقْويَةِ أهْلِ الحَرْبِ بهم، فيَنْبَغِي أن يكونَ مَشْروعًا؛ لهذه المَصْلَحَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في حاشية الأصل: «والليث والخرقي وأهل الظاهر ويروى عن الحكم». (¬3) في ر 2: «عمر». (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، في كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 540، 542، 543. (¬5) في الأصل: «الآبق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا فارَقَ الشّارِدَ، فإنه لا يُفْضِي إلى ذلك. قال شَيخُنا (¬1): والرِّوايَةُ الأخْرَى أقْرَبُ إلى الصِّحةِ؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ الوُجُوبِ، والخَبَرُ المَروي في هذا مُرْسَلٌ، وفيه مَقال، ولم يَثْبُتِ الإجْماعُ فيه ولا القِياسُ، فإنه لم يَثْبُتِ اعْتِبارُ الشرْعِ لهذه المَصْلَحَةِ المَذْكُورَةِ فيه، ولا تَحَققَتْ أيضًا، فإنه ليس الظاهِرُ هَرَبَهم إلى دارِ الحَرْبِ إلا في المَجْلُوبِ منها، إذا كانت قَرِيبةً، وهذا بَعِيد فيهم. فأمّا عنه الرِّوايَةِ الأولَى، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في قَدْرِ الجُعْلِ، فرُوىَ عنه، أنه عَشَرَةُ دَراهِمَ، أو دِينَار، إن رَده مِن ¬

(¬1) في: المغني 8/ 329.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِصْرِ، وإن رَده مِن خارِجِه، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَلْزَمُه دِينارٌ، أو اثْنا عَشَرَ دِرْهَمًا؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ، ولأن ذلك يُرْوَى عن عمرَ، وعليّ، رَضِيَ الله عنهما. والثانيةُ، له (¬1) أرْبَعُونَ دِرْهَمًا إذا رَده مِن خارِجِ المِصْرِ. اخْتارَهَا الخَلالُ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ، وشُرَيح، فرَوَى أبو عمرو الشيباني، قال: قُلْتُ لعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: إنِّي أصَبْتُ عَبِيدًا أبَّاقًا. فقال: لك أجْرٌ وغَنِيمة. فقلتُ: هذا الأجْرُ، فما الغَنِيمةُ؟ فقال: مِن كلِّ رَأس أرْبَعون (¬2) دِرْهَمًا (¬3). وقال أبو إسحاقَ: أعْطَيتُ الجُعْلَ في زَمَنِ مُعاويَةَ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وهذا يَدُلُّ على أنه مُسْتَفِيض في العَصْرِ الأولِ. قال الخَلَّالُ: حَدِيثُ ابنِ مسعودٍ أصَحُّ إسْنادًا. ورُوِيَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزنرِ، أنه قال: إذا وَجَدَه على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسخ: «أربعين» والمثبت كما في مصنف عبد الرزاق. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 541. وعبد الرزاق، في: باب الجعل في الآبق، من كتاب البيوع. المصنف 8/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسِيرَةِ ثَلاثٍ، فله ثَلاثةُ دَنانِيرَ. وقال أبو حنيفةَ: إن رَده مِن مَسِيرَةِ ثلاثةِ أيام، فله أرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وإن كان مِن دُونِ ذلك، يرْضخُ له على قَدْرِ المَكانِ الذي تَعَنَّى إليه. ولا فَرْقَ عندَ إِمامِنا بينَ أن يَزِيدَ الجُعْلُ على قِيمَةِ العَبْدِ أو لا يَزِيدَ. وبهذا قال أبو يُوسُف، ومحمد. وقال أبو حنيفةَ: إن كان قَليِلَ القِيمَةِ، نَقَص الجُعْلُ عن قِيمَتِه دِرْهَمًا؛ لئلا يَفُوتَ عليه العَبْدُ جَمِيعُه. ولَنا، عُمُومُ الدلِيلِ؛ ولأنه جُعْلٌ يُسْتَحَقُّ في رَدِّ الآبِقِ، فاسْتَحَقَّه

2499 - مسألة: (ويأخذ منه ما أنفق)

وَيَأخذ مِنْه مَا أنْفقَ عَلَيهِ فِي قُوتِهِ، وإنْ هَرَبَ مِنْه فِي طَرِيقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن زادَ على قِيمَتِه، كالذي جَعَلَه صاحِبُه. 2499 - مسألة: (ويَأخُذُ منه ما أنْفَقَ) على الآبِقِ في قُوتِه، سَواء رَدَّه أو هَرَب منه في طَرِيقِه؛ لأن نَفَقَتَه على مَميِّدِه، وقد قامَ الذي جاءَ به مَقامَ السَّيِّدِ في أداءِ الواجِبِ عليه، فرَجَعَ به، كما لو أذِن له. وقال أبو حنيفةَ، والشافع: لا يَرْجِعُ؛ لانه أنْفَقَ بغيرِ إذْنِ سيِّدِه، أشْبَهَ غيرَ الآبِقِ. ولَنا على أبي حنيفةَ، أنه إنما اسْتَحَق الجُعْلَ؛ لِما في رَدِّه مِن المَصْلَحَةِ؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يَرْتَد ويَلْحَقَ بدارِ الحَرْبِ، وهذا المَعْنَى مَوْجُود في النَّفَقَةِ، ولأن هذه مَصْلَحَة لجماعَةِ المُسْلِمِين، وهو مِن جُمْلَتِهم، فيَجِبُ أن يُحْتَسَبَ له بذلك، كما لو أعارَ رجلًا عَبْدًا ليَرْهَنَه، فرَهَنَه، وامْتَنَعَ المُسْتَعيرُ مِن فَكاكِه، فافْتَكَّه مالِكُه، احْتُسِبَ له بما وَرِثَه عنه؛ لأن له فيه مَصلَحَةً. وقد وافَقَ الشافعيُّ على ذلك.

2500 - مسألة: (وإن مات السيد، استحق ذلك في تركته)

فَإنْ مَاتَ السَّيِّدُ، اسْتُحِقَّ ذَلِك فِي تَرِكَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2500 - مسألة: (وإن ماتَ السَّيِّد، اسْتحِقَّ ذلك في تَرِكَتِه) يَعْنِي الجعْلَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ: إن كان الذي رَدَّه مِن وَرَثَةِ المَوْلَى، سَقَط الجعْل. ولَنا، أن هذا عِوَض عن عَمَلِه، فلا يَسْقط بالمَوْتِ، كالأجْرِ في الإجارَةِ، وكما لو كان مِن غيرِ وَرَثَةِ المَوْلَى. أن اثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ كَوْنِ مَن رَدَّه مَعْروفًا برَدِّ الأُبَّاق أو لم يَكنْ. وبهذا قال أصْحابُ الرأي. وقال مالك. إذا كان مَعْروفًا، اسْتَحَقَّ الجعْلَ، وإلا فلا. ولَنا، الخَبَر، والأثر المَذْكور مِن غيرِ تَفرِيق، ولأنَّه رَدَّ آبِقا، فاستَحَقَّ الجعْلَ، كالمَعْرُوفِ برَدِّهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أخْذُ الآبِقِ لمَن وَجَده. وبه قال مالكٌ، والشافعي، وأصحابُ الرأي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأن العَبْدَ الآبِقَ لا يُؤْمَنُ لَحاقُه بدارِ الحَرْبِ وارْتدادُه، واشْتِغالُه بالفَسادِ في البِلادِ، بخِلافِ الضوالِّ التي تَحْفَظُ نَفْسَها. فإذا أخَذَه، فهو أمانَةٌ في يَدِه، وإن تَلِف بغيرِ تَفْرِيطِه، فلا ضَمانَ عليه، وإن وَجَد صاحِبَه، دَفَعَه إليه إذا اعْتَرَفَ العَبْدُ أنه سَيِّدُه، أو أقامَ به بَينةً. فإن لم يَجِدْ سَيِّدَه، دَفَعَه إلى الإمامِ أو نائِبِه، فيَحْفَظُه لصاحِبِه، أو بَبِيعُه إن رأى المَصْلَحَةَ فيه. ونحوُه قولُ مالك، وأصحابِ الرأي. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا. وليس للمُلْتَقِطِ بَيعُه ولا تَمَلُّكُه بعدَ تَعْرِيفِه؛ لأن العَبْدَ يَنْحَفِظُ بنَفْسِه، فهو كضَوالِّ الإبِلِ. وإن باعَه، فالبَيعُ فاسِدٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قولِ عامةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وان باعَه الإمامُ لمَصْلَحَةٍ رآها في بَيعِه، فجاءَ سَيِّدُه فاعْترَف أنه كان أعْتَقَه، قُبِلَ منه؛ لأنه لا يَجُرُّ إلى نَفْسِهْ نَفْعًا، ولا يَدْفَعُ عنها ضَرَرًا. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ؛ لأنه مِلْك لغيرِه، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه بعِتْقِه، كما لو باعَه السَّيِّدُ ثم أقَر بعِتْقِه. فعلى هذا، ليس لسَيِّدِه أخْذُ ثَمَنِه؛ لأنه يُقِرُّ أنَّه حُر، لا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَه، ولكنْ يُؤخَذُ إلى بَيتِ المالِ؛ لأنه لا يُسْتَحَقُّ له، فهو كتَرِكةِ مَن لا وارِث له. فإن عادَ السيِّدُ فأنْكَرَ العِتْقَ، وطَلَب المَال، دُفِع إليه؛ لأنه لا مُنازِعَ له فيه.

باب اللقطة

بَابُ اللُّقَطَةِ وَهِيَ الْمَالُ الضائِعُ مِنْ رَبهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اللُّقَطَةِ (وهي المالُ الضّائِعُ مِن رَبِّه) يَلْتَقِطُه غيرُه. قال الخَليلُ بنُ أحمدَ: اللقَطَةُ، بفَتْحِ القافِ: اسْم للمُلْتَقِطِ؛ لأنَّ ما جاءَ على فُعَلَةٍ، فهو اسم للفاعِلِ، كالصُّحَلَةِ والصُّرَعَةِ، واللُّقْطَةُ، بسُكُونِ القافِ: المالُ المَلْقُوطُ، مِثلُ الضُّحْكةِ، الذي يُضْحَكُ منه، والهُزْأةُ الذي يُهْزأ به. وقال الأصْمَعِي، وابنُ الأعْرابِيِّ، والفَرّاءُ: هي بفَتْحِ القافِ، اسْمُ المالِ المَلْقُوطِ أيضًا. والأصْلُ فيها ما روَي زَيدُ بنُ خالِدٍ الجُهَنِي، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن لُقَطَةِ الذَّهَبِ والوَرِقِ، فقال: «اعْرِفْ وكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْها سَنَةً، فَإنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، ولتَكنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإنْ جَاءَ طَالِبُها يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَادْفَعْهَا إلَيهِ». وسَأله عن ضالَّةِ الإبِلِ، فقال: «مَالكَ وَلَهَا، دَعْهَا فَإنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأكلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا». وسَألهُ عن الشّاةِ فقال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «خُذْهَا، فَإنَّمَا هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ». مُتَّفَق عليه (¬1). الوكَاءُ: الخَيطُ الذي يُشَدُّ به المالُ في الخِرْقَةِ. والعِفاصُ: الوعاءُ الذي هي فيه؛ مِن خِرْقَةٍ أو قِرْطاس أو غيرِه. قاله أبو عُبَيدٍ. والأصْلُ في العِفاصِ أنَّه الجِلْدُ الذي يُلْبِسُه رَأسَ القارُورَةِ. وقَوْلُه: «مَعَهَا حِذَاءَهَا». يَعْنِي خُفَّها؛ لأنَّه لقُوتِه وصَلابَتِه يَجْرِي مَجْرَى الحِذاءِ. وسِقاؤها: بَطْنُها تَأخُذُ فيه ماءً كَثِيرًا، فيَبْقَى معها يَمْنَعُها العَطَشَ. والضّالّةُ: اسْم للحَيَوانِ خاصَّةً دُونَ سائِرِ اللُّقَطَةِ، والجَمْعُ ضَوال. ويُقالُ لها أيضًا: الهوامِي والهَوامِلُ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الغضب في الموعظة والتعليم. . . .، من كتاب العلم، وفي: باب شرب الناس والدواب من الأنهار، من كتاب المساقاة، وفي: باب ضالة الإبل، وباب ضالة الغنم، وباب إذا لم يوجد صاحب اللقطة. . . .، وباب إذا جاء صاحب اللقطة. . . .، وباب من عرف اللقطة ولم يدفعها. . . .، من كتاب اللقطة، وفي: باب ما يجوز من الغضب والشدة. . . .، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 1/ 34، 3/ 149، 163، 165، 166، 8/ 34. ومسلم، في: كتاب اللقطة. صحيح مسلم 3/ 1347، 1348، 1349. كما أخرجه أبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 395، 396. والترمذي، في: باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 136. وابن ماجه، في: باب ضالة الإبل والبقر والغنم، من أبواب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 837، 838. والإمام مالك، في: باب القضاء في اللقطة، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 757. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 115، 116، 117.

2501 - مسألة: (وتنقسم ثلاثة أقسام؛ أحذها: ما لا تتبعه الهمة؛ كالسوط، والشسع

وَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أقْسَامٍ: أحدُهَا، مَا لَا تَتْبَعُهُ الْهِمَّةُ، كَالسَّوْطِ، وَالشِّسْعِ، وَالرَّغِيفِ، فَيُمْلَكُ بِأخْذِهِ بِلَا تَعْرِيفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2501 - مسألة: (وتَنْقَسِمُ ثَلاثَةَ أقْسام؛ أحذها: ما لا تَتْبَعُه الهِمَّةُ؛ كالسَّوْطِ، والشِّسْعِ (¬1)، والرَّغِيفِ، فيَمْلِكُه بأخْذِه. بلا تَعْرِيفٍ) لِما روَى جابِر، قال: رَخَّصَ لنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في العَصا والسَّوْطِ والحَبْلِ وأشباهِه، يَلْتَقِطُه الرجلُ فيَنْتَفِعُ به. رَواه أبو داودَ (¬2). وكذلك التَّمْرَةُ، والكِسْرَةُ، والخِرْقَةُ، وما لا خَطر له، يَجُوزُ الانْتِفاعُ به مِن غيرِ تَعْرِيفٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْكِرْ على واجِدِ التَّمْرَةِ حيث أكلَها، بل قال له: «لَوْ لَمْ تَأتِهَا لأتتْكَ» (¬3). ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تَمْرَةً فقال: «لَوْلَا أنِّي أخشَى أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ، لأكَلْتُهَا» (¬4). ولا نَعْلَمُ خِلافًا بين أهلِ العِلمِ في إباحَةِ اليَسِير والانْتِقاعِ به. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعَلِي، وابنِ عُمَرَ، وعائشةَ. وبه قال عَطاء، وجابرُ بنُ زَيد، ¬

(¬1) الشسع: سَير يُمسكُ النعل بأصابع القدم. (¬2) في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 399. (¬3) أخرجه ابن حبان. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 8/ 33. (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وطاوس، والنَّخَعِيُّ، ويحيى بنُ أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحابُ الرأي. قال شيخُنا (¬1): وليس عن أحمدَ تحديدُ اليَسِيرِ الذي يُباحُ. وروَى عن أحمدَ أبو بكرِ بنُ صَدَقَةَ: إذا أخَذَ دِرْهَمًا عَرّفه سَنة. وقال، في رِوايةِ عبدِ اللهِ: ما كان نحوَ التَّمْرَةِ، والكِسْرَةِ، والخِرْقَةِ، وما لا خَطَرَ له، فلا بَأسَ. ونحوُ ذلك قولُ الشافعيِّ. وذَكَرَ القاضِي ذلك في كتابِ «الخِلافِ». ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ تَعرِيفُ (¬2)، ما لا يُقْطَعُ به السّارِقُ. [ذَكَرَه شيخُنا في كِتابِ «الكافِي». وقال مالك، وأبو حنيفةَ: لا يَجِبُ تَعْرِيفُ ما لا يُقْطَعُ به السّارِقُ] (¬3). وهو رُبْعُ دِينارٍ عندَ مالكٍ، وعَشَرَةُ دَراهِمَ عندَ أبي حنيفةَ؛ لأن ما دونَ ذلك تافِهٌ، فلا يَجِبُ تَعْرِيفُه، كالكِسْرَةِ والتَّمْرَةِ؛ بدَليلِ قولِ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها: كانوا لا يَقْطَعُون في الشيءِ التّافِهِ. ورُوِيَ عن علي، رَضِيَ الله ¬

(¬1) في: المغني 8/ 296. (¬2) سقط: من الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، أَنه وَجَدَ دِينارًا فتَصَرَّف فيه (¬1). وروَى الجُوزْجانِي، عن سَلْمَى بنتِ كَعْبٍ، قالت: وَجَدت خاتَمًا مِن ذَهَبٍ في طَرِيقِ مَكةَ، فسألْتُ عائشةَ عنه، فقالت: تَمَتَّعِي به (¬2). ورَخصَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحَبْلِ، في حَدِيثِ جابر، وقد تكونُ قيمتُه دَراهِمَ. وعن سُوَيدِ بنِ غَفَلَةَ قال: خَرجْتُ مع سلمانَ بنِ رَبيعَةَ، وزَيدِ بنِ صُوحانَ حتى إذا كُنّا بالعُذَيبِ، الْتَقَطْتُ سَوْطًا، فقال لي: ألْقِه. فأبَيت، فلمّا قَدِمْنا المدينةَ، أتَيتُ أبيَّ بنَ كَعْبٍ، فذَكَرْتُ ذلك له، فقال: أصَبْتَ (¬3). قال التِّرْمِذِي: هذا حَديث حسن صَحيح. وللشافعيَّةِ ثلاثةُ أوْجُهٍ كالمذاهِبِ الثَّلاثة. ولَنا على إبْطالِ تَحْدِيدِه بما ذَكَروه، عُمُومُ حديثِ زَيدِ بنِ خالدٍ في كُلِّ لُقَطَةٍ، فيَجبُ إبْقاؤه على عُمومِه إلَّا ما خرَج منه بالدَّلِيلِ، ولم يَرِدْ بما ذَكَرُوه نَص، ولا هو في مَعْنَى ما ورَدَ به النَّصُّ. ولأنَّ التَّحْدِيدَ لا يُعْلَمُ بالقِياسِ، وإنَّما يُؤْخَذُ مِن نَص أو إجْماع، وليس فيما ذَكَرُوه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 398. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في اللقطة ما يصنع بها، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 461. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 141. وابن ماجه، في: باب اللقطة، من كتاب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 837.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصٌّ ولا إجْماعٌ. فأمّا حَدِيثُ عليّ، فهو ضَعِيفٌ، رَواه أبو داودَ وقال: طرُقُه كُلُّها مُضْطَرِبَة، ثم هو مُخالِفْ لمَذهَبِهِم ولسائِرِ المذاهِبِ، فتَعَينَ حَمْلُه على وَجْهٍ مِن الوُجوهِ غيرِ اللُّقَطَةِ، إمّا لكَوْنِه مضْطَرًّا إليه، أو غيرِ ذلك. وحَدِيثُ عائِشةَ قَضِيَّة في عَين، لا يُدْرَى كم قَدْرُ الخاتَمِ، ثم هو قولُ صحابي، وهم لا يَرَوْنَ ذلك حُجةً، وسائِرُ الأحادِيثِ ليس فيها تَقْدِير، لكن يباحُ ما ذَكَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - ورَخصَ فيه مِن السَّوْطِ والعَصا والحَبْلِ، وما قِيمَتُه كقِيمَةِ ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والذي يَجُوزُ التِقاطُه والانْتِفاعُ به مِن غيرِ تَعْرِيفٍ، كالكِسْرَةِ، والتَّمْرَةِ، والعصا، ونحو ذلك، إذا التَقَطَه إنْسان وانْتَفَعَ به وتَلِف، فلا ضَمانَ فيه. ذَكَرَه صاحِبُ المُستوعِبِ. وكذلك ما قِيمَتُه كقِيمَةِ ذلك؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فيه، ولم يَذْكُرْ عليه ضَمانًا، ولا يَجُوزُ تَأخِيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجَةِ، وكذلك يُخَرَّجُ في السَّوْطِ والحَبْلِ وشِبْهِه، المَذْكُورِ في حديثِ جابِر. وقَدرَه الشيخُ أبو الفَرَجِ (¬1) بما دونَ القيراطِ. ولا يَصِحُّ تَحْدِيدُه؛ لِما ذَكَرْناه. وذَكَرَ القاضِي، أنَّه لا يَجِبُ تعريفُ الدّانِقِ. ¬

(¬1) يعني ابن الجوزى عبد الرحمن بن علي.

الثَّانِي، الضوالُّ الَّتِي تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، كَالْإبِل، وَالْبَقَرِ، وَالْخَيلِ، وَالْبِغَالِ، وَالظِّبَاءِ، وَالطَّيرِ، وَالفُهُودِ، وَنحْوهَا، فَلَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا، وَمَنْ أخذَهَا ضَمِنَهَا، فَإنْ دَفَعَهَا إِلَى نَائِبِ الإمَامِ زَال عَنْهُ الضَّمَانُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسمُ (الثاني، الضَّوالُّ التي تَمْتَنِعُ مِنْ صِغارِ السِّباعِ؛ كالإِبِلِ، والبَقَرِ، والخَيلِ، والبِغالِ، والظِّباءِ، والطَّيرِ، والفُهودِ، ونحوها، لا يَجوزُ التِقاطُها) كُلُّ حَيَوانٍ يَقْوَى على الامْتِناعِ مِن صِغارِ السِّباعِ، ووُرُودِ الماءِ، لا يَجُوزُ التِقاطُه، سَواءٌ كان لكِبَرِ جُثَّتِه؛ كالإبِلِ، والخَيلِ، أو لطيرانِه؛ كالطّيورِ كُلِّها، أو لعَدْوه؛ كالظِّباءِ، أو بنابِهِ، كالكِلابِ، والفُهودِ. قال عُمر، رَضِي الله عنه: مَن أخَذَ الضّالَّةَ فهو ضالّ. أي مُخْطِئٌ. وبهذا قال الشافعيّ، وأبو عُبَيدٍ. وقال مالك، واللَّيثُ، في ضالَّةِ الإبِلِ: مَن وَجَدَها في الصَّحْراءِ لا يَقْرَبُها. ورَواه المُزَنِيُّ عن الشافعيِّ. وكان الزُّهْرِيُّ يقولُ: مَن وَجَدَ بَدَنَةً فليعَرِّفْها، فإن لم يَجِدْ صاحِبَها فلْيَنْحَرْها قبلَ أن تَنْقَضِيَ الأيامُ الثّلاثةُ. وقال أبو حنيفةَ: يُباحُ التِقاطُها؛ لأنها لُقَطَةٌ، أشْبَهَتِ الغَنَمَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سُئِلَ عنها: «مَا لكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا فَإِن مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَتَأكل الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» (¬1). وسُئِلَ - صلى الله عليه وسلم - فقِيلَ: يا رسولَ اللهِ إنّا نُصِيبُ (¬2) هَوامِيَ الإبِلِ. فقال: «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النارِ» (¬3). وعن جَرِير بن، عبدِ اللهِ، أنَّه أمَرَ بطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ ببَقَره حتى تَوَارَتْ، وقال سمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا يُؤْوي الضَّالَّةَ إلا ضَال». رَواه أبو داودَ بمعناه (¬4). وقِياسُهُم يُعارِضُ صَرِيحَ النَّصِّ، وكيف. يَجُوزُ تَرْكُ نَصِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وصَرِيحِ قولِه بقِياسِ نَصِّه في مَوْضِعٍ آخَرَ! على أن الإبِلَ تُفارِقُ الغَنَمَ؛ لضَعْفِها، وقِلَّةِ صَبْرِها عن الماءِ، والخَوْفِ عليها مِن الذِّئبِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬2) في م: «نجد». (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن الشرب قائما، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذي 8/ 74. وابن ماجه، في: باب ضالة الإبل والبقر الغنم، من كتاب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 836. والدارمي، في: باب في الضالة، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 266. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 25، 5/ 80. (¬4) أخرجه أبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 399. وابن ماجه، في: باب ضالة الإبل والبقر والغنم، من كتاب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 836. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ الصُّيُودُ مُسْتَوْحِشَةً إذا تُرِكَتْ رَجَعَتْ إلى الصَّحْراءِ وعَجَزَ عنها صاحِبُها، جاز التقاطُها؛ لأنَّ تَرْكَها أضْيَعُ لها مِن سائِرِ الأمْوالِ. والمَقْصُودُ حِفْظُها لصاحِبِها، لا حِفْظُها في نَفْسِها، ولو كان المقصودُ حِفْظَها في نَفْسِها، لمَا جازَ الْتِقاطُ الأثْمانِ، فإنَّ الدِّينارَ دِينار حيث كان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والبَقَرُ كالإبِلِ. نَص عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أن البَقَرةَ كالشّاةِ. ولَنا، خبَرُ جَرِير فإنه طَرَد البَقَرَةَ ولم يَأخُذْها، ولأنها تَمْتَنِعُ مِن صِغارِ السِّباعِ، وتُجْزِئ في الأضْحِيَةِ عن سَبْعَةٍ، فأشْبَهَتِ الإبِلَ. وكذلك الحُكْمُ في الخَيلِ والبِغالِ. فأمّا الحُمُرُ، فجَعَلَها أصْحَابُنا مِن هذا القِسْمِ الذي لا يَجُوزُ الْتِقاطُه؛ لكِبرِ أجْسامِها، فأشْبَهَتِ الخَيلَ والبِغال. قال شَيخُنا (¬1): والأوْلَى إلْحاقُها بالشّاةِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّلَ الإبِلَ بأنَّ معها سِقاءها، يُرِيدُ شِدَّةَ صَبْرِها عن الماءِ؛ لكَثْرَةٍ ما تُوعِي في بُطُونِها منه، وقُوتِها على وُرُودِه، وفي إباحَةِ ضالَّةِ الغَنَمِ بأنها مُعَرَّضَة لأخْذِ الذِّئْب إيّاها، [بقولِه: «هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ] (¬2). والحُمُرُ مُساويِة للشّاةِ في عِلَّتِها، فإنَّها لا تَمْتَنِعُ مِن الذِّئْبِ، وتُفارقُ الإبِلَ في علَّتِها؛ لكَوْنِها لا صَبْرَ لها عن الماءِ، ولهذا يُضْرَبُ المَثَلُ بقِلَّةِ صَبْرِها عن الماءِ، فيُقالُ: ما بَقِيَ من مُدَّتِه إلَّا ظمْء (¬3) حِمار. وإلْحاقُ الشيءِ بما ساواه في عِلَّةِ الحُكْمِ وفارَقَه في الصُّورَةِ أوْلَى مِن إلْحاقِه بما قَارَبَه في الصُّورَةِ وفارَقَه في العِلَّةِ. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 344. (¬2) سقط من: الأصل. والحديث تقدم تخريجه صفحة 186. (¬3) الظمْء: ما بين الشربتين. وانظر: مجمع الأمثال، للميداني 3/ 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا غيرُ الحَيَوانِ، فما كان منه يَنْحَفِظُ بنَفْسِه، كأحْجارِ الطَّواحِينِ، والكَبِيرِ مِن الخَشَب، وقُدُورِ النُّحاسِ، فهو كالإِبِلِ في تَحْرِيمِ أخْذِه، بل أوْلَى منه؛ لأنَّ الإِبِلَ مُعَرَّضَة للتَّلَفِ في الجُمْلَةِ بالأسَدِ وبالجُوعِ والعَطَشِ، وغيرِ ذلك، وهذه بخِلافِ ذلك، ولأنَّ هذه لا تَكادُ تَضِيعُ عن صاحِبِها ولا تَبْرَحُ مِن مكانِها، بخِلافِ الحَيوانِ، فإذا حُرِّمَ أخْذُ الحَيَوانِ، فهذه أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخَذَ الحَيَوانَ الذي لا يَجوزُ أخْذُه على سَبِيلِ الالْتِقاطِ، ضَمِنَه، إمامًا كان أو غيرَه؛ لأنَّه أخَذَ مِلْكَ غيرِه بغير إذْنِه ولا إذْنِ الشّارِعِ له، فهو كالغاصِب. فإن رَدَّه إلى مَوْضِعِه، لم يَبْرأ مِن الضّمانِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالك: يَبرأ؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، قال: أرْسِلْه إلى المَوْضِعِ الذي أصَبتَه فيه (¬1). وجَرِير طَرَد البَقَرَةَ التي لَحِقَتْ ببَقَرِه. ولَنا، أنَّ ما لَزِمَه ضَمانُه لا يَزُولُ عنه إلَّا بِرَدة إلى صاحِبِه أو نائِبِه، كالمَسْرُوقِ والمَغْصُوبِ. وأمّا حَدِيثُ جَرِير، فإنَّه لم يَأخُذِ البَقَرَةَ، إنَّما لَحِقَتْ بالبَقَرِ فطَرَدَها، فأشْبَهَ ما لو دَخَلَتْ دارَه فأخْرَجَها. وأمّا عُمَرُ، فهو كان الإِمامَ، فأمْرُه برَدِّها إلى مَكانِها كأخْذِها. فعلى هذا، متى لم يَأخُذْها بحيثُ تَثْبُتُ يَدُه عليها لا يَلْزَمُه ضَمانُها، سواء طَرَدَها أو لم يَطْرُدْها. فإن دَفَعَها إلى نائِبِ الامامِ، زال عنه الضّمانُ؛ لأنَّ له نَظَرًا في ضَوالِّ النّاسِ، بدَلِيلِ أنَّ له أخْذَها، فكان نائِبًا عن أصْحابِها فِيها. ¬

(¬1) أخرجه مالك، في: باب القضاء من الضوال، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 759. وأخرجه أبو داود بمعناه في: كتاب اللقطة. عنن أبي داود 1/ 399. وانظر تخريج حديث: «لا يؤوى الضالة إلا ضال» في صفحة 193.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وللإمامِ أو نائِبِه أخْذُ الضّالَّةِ ليَحْفَظَها لصاحِبِها؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، حَمَى مَوْضِعًا يُقالُ له النَّقِيعُ لخَيلِ المُجاهِدِين والضَّوَالِّ، ولأنَّ للإِمامِ نَظَرًا في حِفْظِ مال الغائِبِ، وفي أخْذِ هذه حِفْط لها عن الهَلاكِ. ولا يَلْزَمُه تَعْرِيفُها؛ لأَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، لم يَكُنْ يُعَرِّف الضَّوالَّ، ولأَنه إذا عُرِفَ ذلك، فمَن كانت له ضالة فإنَّه يَجِئُ إلى مَوْضِعِ الضَّوالِّ، فإذا عَرَف ضالَّتَه، أقامَ البَينةَ عليها وأخَذَها، ولا يُكْتَفَى فيها بالصِّفَةِ؛ لأنَّها ظاهِرَة بينَ النّاسِ، فيَعْرِفُ صِفَاتِها مَن رَآها مِن غيرِ أهْلِها، فلم تَكُنِ الصِّفَةُ دَلِيلًا على مِلْكِه لها. ولأنَّ الضَّالَّةَ كانت ظاهِرَةً للنَّاسِ حين كانت في يَدِ مالِكِها، فلا يَخْتَصُّ هو بمَعْرِفَةِ صِفاتِها دُونَ غيرِها، فلم يَكُنْ ذلك دَلِيلًا، ويُمْكِنُه إقامَةُ البَينةِ عليها لظُهُورِها للنّاسِ، ومَعْرِفَةِ خُلَطائِه وجيِرانِه تَمَلكَه إيّاها. فصل: وإن أخَذَها غيرُ الإِمامِ أو نائِبه ليَحْفَظَها لصاحِبِها، لم يَجُزْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له ذلك، ولَزِمَه ضَمانُها؛ لأنَّه لا ولايةَ له على صاحِبِها. وهذا ظاهِر مَذْهَبِ الشافعيِّ. ولأصْحابه وَجْه، أنَّ له أخْذَها لحِفْظِها، كالإمامِ أو نائِبِه، [ولا يَصِحُّ] (¬1)؛ [لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منَع أخْذَها مِن غير تَفْرِيقٍ بين قاصِدِ الحِفْظِ وقاصِدِ الالْتِقاطِ، ولا يَصِحُّ] (¬2) القِياس على الإمامِ؛ لأنَّ له ولَايةً، وهذا لا ولايةَ له. فإن وَجَدها في مَوْضِع يَخَاف عليها به، كأرْضِ مَسْبَعَةٍ، يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ الأسَدَ يَفتَرِسُها إن تُرِكَتْ به، أو قَرِيبًا مِن دارِ الحَرْبِ، يَخافُ عليها مِن أهْلِها، أو بمَوْضِع يَسْتَحِل أهْلُه أمْوال المُسْلِمِين، أو في بَرِّيَّةٍ لا ماءَ بها ولا مَرْعَى، فالأوْلَى جَواز أخْذِها للْحِفْظِ، ولا ضَمانَ على آخِذِها؛ لأن فيه إنْقاذَها مِن الهَلاكِ، فأشْبَهَ تَخْلِيصَها مِن غَرَقٍ أو حَرِيق، وإذا أخَذَها سَلمها إلى نائِبِ الإمامِ، وبَرِئ مِن ضَمانِها، ولا يَمْلِكُها بالتَّعْرِيفِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بذلك فيها. فصل: ويَسِم الإِمامُ ما يَحْصُلُ عنده مِن الضَّوَال بأنها ضالَّة، ويُشْهِدُ عليها، ثم إن كان له حِمى تَرْعَى فيه تَرَكَها فيه إن رَأى ذلك، وإن رأى المَصْلَحَةَ في بَيعِها، أو لم يَكُنْ له حِمي، باعَها بعدَ أن يَحْلِيَها ويَحْفَظَ صِفاتِها، ويَحْفَظُ ثَمَنَها لصاحِبِها، فإن ذلك أحْفَظُ لها؛ لأنَّ تَرْكَها يفْضِي إلى أن تَأكُلَ جَمِيعَ ثَمَنِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَنْ ترك دابَّةً بمَهْلَكَةٍ، فأخَذَها إنْسان فأطْعَمَها وسَقاها وخَلصَها، مَلَكَها. وبه قال اللَّيثُ، والحَسَنُ بنُ صالِح، وإسحاقُ، إلَّا أن يكونَ تَرَكَها لتَرْجِعَ إليه، أو ضَلَّتْ منه. وقال مالك: هي لمالِكِها، ويَغْرَمُ ما أنْفَقَ عليها. وقال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: هي لمالِكِها، والآخَرُ مُتَبَرِّع بالنَّفَقَةِ، لا يَرْجِعُ بشيءٍ؛ لأنَّه مِلْكُ غيرِه، فلم يَمْلِكْه بغيرِ عِوَض مِن غيرِ رِضاه، كما لو كانت في غيرِ مَهْلَكَةٍ، ولا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بما أنْفَقَ، لأنَّه أنْفَقَ على مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلم يَرجعْ به، كما لو بَنَى دارَه. ولَنا، ما روَى الشّعْبِيُّ، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَز عَنْهَا أهلُها فَسَيبوهَا، فأخَذهَا فَأحيَاهَا، فَهِيَ لَهُ». قال [عُبَيد اللهِ بنُ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ] (¬1): فقلتُ -يعني للشَّعْبِيِّ-: مَنْ حَدَّثَكَ بهذا؟ قال: غيرُ واحدٍ مِن أصحابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أبو داودَ (¬2). وفي لَفْظٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بمَهْلَكَة، فَأحيَاهَا رَجُل، فَهيَ لِمَنْ أحْيَاهَا». ولأنَّ في الحُكْمِ بملْكِها إحياءَها وإنْقاذَها مِن الهَلَاكِ، ومُحافَظَةً على حُرْمَةِ الحَيَوانِ، وفي القَوْلِ بأنَّها لا تُمْلَكُ تَضْيِيعٌ لذلك كلِّه مِن غيرِ مَصْلَحَةٍ تَحْصُلُ، ولأنه نُبِذَ رَغْبَةً عنه وعَجْزًا عن أخْذِه، فمَلَكَه آخِذُه، كالساقِطِ مِن السُّنْبُلِ، وسائِرِ ما يَنْتَبِذُه الناسُ رَغْبَةً عنه. فأمّا إن تَرَكَ مَتاعًا، فخَلَّصَه إنْسان، لم يَمْلِكْه؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ له في نَفْسِه، ¬

(¬1) في م: «عبد الله بن عبد الرحمن». وانظر: تهذيب التهذيب 7/ 9. (¬2) في: باب في من أحيا حسيرا، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُخْشَى عليه التَّلَفُ كالخَشْيَةِ على الحَيَوانِ؛ فإنَّ الحَيَوانَ يَمُوتُ إذا لم يُطْعَمْ ويُسْقَى، وتَأكلُه السِّباعُ، والمَتَاعُ يَبْقَى حتى يَرْجعَ إليه صاحِبُه. وإن كان المَتْرُوكُ عَبْدًا، لم يَأخُذْه؛ لأنَّ العَبْدَ في العادَةِ يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ إلى الأماكِنِ التي يَعِيشُ بها، بخِلافِ البَهِيمَةِ. وله أخْذُ العَبْدِ والمَتَاعِ ليُخَلِّصَه لِصاحِبِه، وله أجْرُ مِثْلِه في تَخْلِيصِ المَتَاعِ. نَصَّ عليه، وكذلك العَبْدُ على قِيَاسِه. قال القاضِي: يَجِبُ أن يُحْمَلَ قولُه في وُجُوبِ الأجْرِ، على أنَّه جَعَل له ذلك أو أمَرَه به، فأمّا إن لم يَجْعَلْ له شيئًا، فلا شيءَ له؛ لأنَّه عَمِلَ في مال غيرِه بغيرِ جُعْل، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كالمُلْتَقِطِ، وهذا خِلاف ظاهِرِ كلامِ أحمدَ؛ فإنَّه لو جَعَل له جُعْلًا لَاسْتَحَقَّه، ولم يَجْعَلْ له أجْرَ المِثْلِ. ويُفارِقُ هذا المُلْتَقِطَ، فإنه لم يُخَلِّصِ اللُّقَطَةَ مِن الهَلاكِ، ولو تَرَكَها أمكنَ أن يَرْجِعَ صاحِبُها فيَطْلُبَها في مَكانِها فيَجِدَها، وههُنا إن لم يُخْرِجْه هذا ضاع وهَلَك، ولم يَرْجِعْ إليه صاحِبُه، فَفِي جَعْلِ الأجْرِ فيه حِفْظُ الأمْوالِ مِن الهَلاكِ مِن غيرِ مَضَرَّةٍ، فجازَ، كالجُعْلِ في الآبِقِ. ولأنَّ اللُّقَطَةَ جَعَل فيها الشارِع ما يَحُثُّ على أخْذِها، وهو مِلْكها إن لم يَجيء صاحِبُها، فاكْتَفَى به عن الأجْرِ، فَيَنْبَغِي أن يُشْرَحَ في هذا ما يَحُثُّ على تَخْلِيصِه بطَرِيقِ الأوْلَى، وليس إلَّا الأجْرُ، كَرَدِّ لآبِقِ. فصل: فأمّا ما ألقاه رُكّابُ البَحْرِ فيه خَوْفًا مِن الغَرَقِ، فلم أعْلَمْ لأصْحابِنا فيه قَوْلًا، سِوَى عُمُومِ قَوْلِهم الذي ذَكَرْناه. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا مَنْ أخَذَه. وهو قولُ اللَّيثِ. وبه قال الحَسَنُ، فيما أخْرَجه، قال: وما نَضَبَ عنه الماءُ فهو لأهْلِه. وقال ابنُ المُنْذِرِ: يَرُدُّه على أصْحابِه، ولا شيءَ له. ويَقْتَضِيه قولُ الشافعيِّ، والقاضِي؛ لِما تَقَدَّمَ في الفَصْلِ قَبلَه. ويَقْتَضِي قولُ الإِمامِ أبي عبدِ اللهِ، أنَّ لمَن أنْقَذَه أجْرَ مِثْلِه؛ لِما ذَكَرْنا. قال شَيخُنا (1): ووَجْهُ ما ذَكَرْنا مِن الاحْتِمالِ أنَّ هذا مال ألْقَاهُ أصْحابُه فيما يتلَفُ ببَقائِه فيه اخْتِيارًا منهم، فمَلَكَه مَن أخَذَه، كالذي ألْقَوْه رَغْبَةً عنه، ولأنَّ فيما ذَكَرُوه تَحْقِيقًا لإتْلافِه، فلم يَجُزْ، كمُباشَرَتِه بالاتْلافِ. فأمّا إن انْكَسَرتِ السَّفِينَة، فأخرَجَه قوم. فقال مالِك: يَأخُذُ أصحابُ المَتاعِ مَتاعَهُم، ولا شيءَ للذين أصابُوه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ، والقاضِي. وعلى قِياسِ نَصِّ أحمدَ يكونُ لمُسْتَخْرِجِه ههُنا أجْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ ذلك وَسيلة إلى تَخْلِيصِه وحِفْظِه لصاحِبه وصِيانَتِه عن الغَرَقِ، فإنَّ الغَوّاصَ إذا عَلِمَ أنَّه يُدْفَعُ إليه الأَجْرُ، بادَرَ إلى التَّخْلِيصِ ليُخَلِّصَه، وإن عَلِمَ أنَّه يُؤْخَذُ منه بغيرِ شيءٍ، لم يُخاطِرْ بنَفسِه في اسْتِخْراجِه، فيَنْبَغِي أن يُقْضَى له بالأجْرِ، كجُعْلِ رَدِّ الآبِقِ. فصل: ذَكَرَ القاضِي فيما إذا الْتَقَطَ عَبْدًا صَغِيرًا، أو جارِيَةً، أنَّ قِياسَ المَذْهَبِ أَنه لا يُمْلَكُ بالتَّعْرِيفِ. وقال الشافعيّ: يُمْلَكُ العَبْدُ دونَ الجارِيَةِ؛ ولأن التَّمَلكَ بالتَّعْرِيفِ عندَه اقْتِراض، والجاريَةُ عندَه لا تُمْلَكُ بالقرْضِ. قال شيخُنا (¬1): وهذه المسألةُ فيها نَظَر؛ فإنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُوم ¬

(¬1) في: المغني 8/ 349.

الثَّالِثُ، سَائِرُ الْأمْوَالِ؛ كَالْأثْمَانِ، وَالْمَتَاعِ وَالْغَنَم وَالفصْلَانِ، وَالْعَجَاجِيلِ، وَالأفْلَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحُرِّيته، وإن كان مِمّن يُعَبِّرُ (¬1) عن نَفْسِه، فأقَرَّ بأنه مَمْلُوك، لم يُقْبَلْ إقْرارُه؛ لأنَّ الطِّفْلَ لا قَوْلَ له، ولو اعْتُبِرَ قَوْلُه في ذلك، لاعْتُبِرَ في تعْرِيفِه لسَيِّدِه. (الثالثُ، سائِرُ الأمْوالِ؛ كالأثْمانِ، والمَتاعِ، والغَنَمِ، والفُصْلان، والعَجاجِيلِ، والأفْلاءِ) (¬2) فيجوزُ الْتِقاطُها لمَن يَقْصِدُ تَعْرِيفَها وتَمَلُّكَها بعدَه؛ لحَدِيثِ زَيدِ بنِ خالِدٍ في لُقَطَةِ الذَّهَبِ والوَرِقِ، وقولِه في الشّاةِ: «خُذْهَا فَإنَّما هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أو للذِّئْبِ» (¬3). ثَبَت في الذّهَبِ والفِضَّةِ، وقِسْنَا عليه المَتاعَ، وقِسْنا على الشّاةِ كلَّ حَيَوانٍ ¬

(¬1) في الأصل: «لا يعبر». (¬2) الأفلاء: جمع فلو، وهو ولد الفرس. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَمْتَنِعُ بنَفْسِه مِن صِغارِ السباعِ، وهي الثَّعْلَبُ، وابنُ آوَى، والذِّئْبُ، وَوَلَدُ الأسَدِ، ونحوُها، ومنه الدَّجَاجُ، والإوَزُّ، ونحوُها، يجوزُ الْتِقاطُها. ورُوِيَ عن أحمدَ رِواية أخْرَى، ليس لغيرِ الإِمامِ الْتِقاطُها، يَعْنِي الشّاةَ ونحوَها مِن الحَيَوانِ. وقال اللَّيثُ بنُ سعدٍ: لا أخْتارُ أن يَقْرَبَها، إلَّا أن يُحْرِزَها لصاحِبِها؛ لقولِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُؤْوي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» (¬1). ولأنَّه حيَوان، أشْبَهَ الإبِلَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الشّاةِ: «خُذْهَا، فَإنَّمَا هِيَ لَكَ أوْ لأخِيك أوْ للذِّئْبِ». مُتَّفق عليه. ولأنَّه يُخْشَى عليه التَّلَفُ والضَّياعُ، أشْبَهَ لُقَطَةَ غيرِ الحَيوانِ، وحَدِيثُنا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 193.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخَصُّ مِن حَدِيثهم، فنَخُصُّه به، ولو قُدِّرَ التَّعارضُ قُدِّم حَدِيثُنا؛ لأنَّه أصَحُّ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الإبِلِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّلَ مَنْعَ الْتِقاطِها بأنَّ مَعَها حِذاءَها وسِقاءَها، وهذا مَعْدُوم في الغَنم، ثم قد فَرقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بينَهما في خَبَر واحدٍ، فلا يجوزُ الجَمْعُ بين ما فرَّقَ الشّارِعُ بينَهما، ولا قِياسُ ما أمَر بالْتِقاطِه على ما مَنَع منه. فصل: ولا فَرْقَ بين أن يَجِدَها بمِصْرٍ أو مَهْلكةٍ وقال مالك، وأبو عبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ، في الشّاةِ تُوجَدُ في الصَّحْراء: اذْبَحْها وكُلْها. وفي المِصْرِ: ضُمَّها حتى يَجِدَها صاحِبُها؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أوْ للذِّئْبِ» (¬1). ولا يكونُ الذِّئْبُ في المِصْرِ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر بأخْذِها، ولم يفَرِّقْ ولم يَسْتَفْصِلْ، ولو افْتَرَقَ الحالُ لاسْتَفْصَلَ، ولأنَّها لُقَطَة، فاسْتَوَى فيها المِصْرُ وغيرُه، كسائِرِ اللُّقَطاتِ. وقَوْلُهم: لا يكونُ الذِّئْبُ في المِصْرِ. قُلْنا: كونُها للذِّئْبِ في الصَّحْرَاءِ، لا يَمْنَعُ كَوْنَها لغيرِه في المِصْرِ. ومَتى عَرَّفَها حَوْلًا مَلَكَها. وذَكَر القاضِي، وأبو الخَطّابِ، عن أحمدَ رِوَايَةً: أنَّه لا يَمْلِكُها. ولَعَلَّها الرِّوايَةُ التي مَنَع مِن الْتِقاطِها فيها. ولَنا، قولُه - عليه السلام -: «هِيَ لَكَ». أضافَها إليه بلامِ التَّمْلِيكِ، ولأنَّ الْتِقاطَها مُباحٌ، فمُلِكَتْ بالتَّعْرِيفِ، كالأثْمانِ. وقد حكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ إجْماعًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186.

2502 - مسألة: (فمن لا يأمن نفسه عليها، ليس له أخذها)

فَمَنْ لَا يَأمَنُ نَفْسَهُ عَلَيهَا، لَيس لَهُ أخْذُهَا، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهَا وَلَمْ يَمْلِكْهَا وَإنْ عَرَّفَهَا. وَمَنْ أمِنَ نفْسَهُ عَلَيهَا. وَقَوىَ عَلَى تَعْرِيفِهَا، فَلَهُ أخدهَا، وَالْأفْضَلُ تَرْكُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2502 - مسألة: (فمَن لا يَأمَنُ نَفْسَه عليها، ليس له أخْذُها) فإن أخَذُها، لَزِمَه ضَمانُها (ولا يَمْلِكُها وإن عَرَّفَها) إذا الْتَقَطَ لُقَطَةً، عازِمًا على تَمَلُّكِها بغيرِ تَعْرِيفٍ، فقد فَعَل مُحَرَّمًا، ولا يَحِلُّ له أخْذُها بهذه النِّيةِ، فإن أخَذَها، لَزِمَه ضَمانُها، سواءٌ تَلِفَتْ بتَفْرِيطٍ، أو بغيرِ تَفْرِيطٍ، ولا يَملِكُها وإن عَرَّفَها؛ لأنَّه أخَذَ مال غيرِه على وَجْه ليس له أخْذُه، فهو كالغاصِبِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَها؛ لأنَّ مِلْكَها بالتَّعْرِيف والالْتِقاطِ، وقد وُجدا، فيَمْلِكُها بذلك، كالاصْطِيادِ، والاحْتِشاشِ، إذا دَخَل مِلْكَ غيرِه بغيرِ إذْنِه فاصْطَادَ أو احْتَشَّ منه، مَلَك الصَّيدَ والحَشِيشَ، وإن كان دُخُولُه مُحَرَّمًا، كذا ههُنا. ولأنَّ عمُومَ النَّصِّ يَتَناوَلُ هذا المُلْتَقَطَ، فيَثْبُتُ حُكْمُه فيه، ولأنَّنا لو اعْتَبَرْنا نِيَّةَ التَّعْرِيف وَقْتَ الالْتِقاطِ، لافْتَرَقَ الحالُ بينَ العَدْلِ والفاسِقِ، والصَّبِيِّ والسَّفِيهِ؛ لأنَّ الغالِبَ على هَؤُلاءِ الالْتِقاطُ للتَّمْلِيكِ لا للتَّعْرِيفِ. 2503 - مسألة: (ومَن أمِن نَفْسَه عليها، وقَوىَ على تَعْرِيفِها، فله أخْذُها) لِما ذَكَرْنا (والأفْضَلُ تَرْكُها) قاله أحمدُ. رُوِيَ مَعْنَى ذلك عن ابنِ عَبّاس، وابنِ عُمَرَ. وبه قال جابرُ بنُ زَيدٍ، والرَّبِيعُ بنُ خثَيم،

وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ: إن وَجَدَهَا بمَضْيَعَةٍ فَالْأفْضَلُ أخْذُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطَاء. وقال أبو الخَطّابِ: إذا وَجَدَها بمَضْيَعَةٍ وأمِنَ نَفْسَه عليها (فالأفْضَلُ أخْذُها). وهذا قولٌ للشافعيِّ (¬1) وعنه، أنَّه يَجِبُ أخْذُها، لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2). وإذا كان وَلِيَّه، وَجَب عليه حِفْظُ مالِه، كوَلِيِّ اليَتيمِ. ومِمَّن رأى أخْذَها سَعِيد بنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ بنُ صالح، وأبو حنيفةَ. وأخَذَها أبيُّ بنُ كَعْبٍ، وسُوَيدُ بنُ غَفَلَةَ. وقال مالك: إن كان شيئًا له بال، يأخذُه أحَبُّ إلَيَّ ويُعَرِّفُه، لأن (¬3) فيه حِفْظَ مالِ المُسْلِمِ عليه، فكان أوْلَى مِن تَضْيِيعِه، كتَخْلِيصِه مِن الغَرَقِ. ولَنا، قولُ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عبّاس، ولا يُعْرَفُ لهما مُخالِفٌ في الصَّحابةِ، ولأنَّه يُعَرِّضُ نَفْسَه لأكْلِ ¬

(¬1) في الأصل، والمغني: «الشافعي». (¬2) سورة التوبة 71. (¬3) في م: «ولأن».

2504 - مسألة: (ومتى أخذها ثم ردها إلى موضعها، [أو فرط فيها، ضمنها)

وَمَتَى أخَذَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، أوْ فَرَّطَ فِيهَا، ضَمِنَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرامِ، وتَضْيِيعِ الواجِبِ مِن تَعْرِيفِها وأداءِ الأمَانةِ فيها، فكان تَركُه أوْلَى وأسْلَمَ، كولايةِ مالِ اليَتيمِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالضَّوالِّ، فإنه لا يجوزُ أخْذُها مع ما ذَكَرُوه، وكذلك ولايةُ مالِ الأيتامَ. 2504 - مسألة: (ومتى أخَذَها ثم رَدَّها إلى مَوضِعِها، [أو فَرَّطَ فيها، ضَمِنَها) إذا أخَذَ اللُّقَطَةَ، ثم رَدَّها إلى مَوْضِعِها] (¬1)، ضَمِنَها. رُوِيَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك عن طَاوُس، وبه قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه رُوِيَ عن عُمَرَ، أنَّه قال لرجل وَجَد بَعِيرًا: أرْسِلْه حيث وَجَدْتَه. رَواه الأثْرَمُ (¬1). ولِما رُوِيَ عن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّه رَأى في بَقَرِه بَقَرة قد لَحِقَتْ بها، فأمَرَ بها فَطُرِدَتْ حتى تَوارَتْ (¬2). ولَنا، أنَّها أمانَة حَصَلَتْ في يَدِه، لَزِمَه حِفْظُها، وتَرْكُها تَضْيِيعُها. فأمّا حَدِيثُ عُمَرَ، فهو في الضّالَّةِ التي لا يَحِلُّ أخْذُها. فإذا أخَذَه احْتَمَلَ أنَّ له رَدَّه إلى مكانِه، ولا ضَمانَ عليه؛ لهذه الآثارِ، ولأنَّه كان واجِبًا عليه تَرْكُه في مكانِه ابْتِداءً، فكان له ذلك بعد أخْذِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَبْرَأ مِن ضَمانِه برَدِّه؛ لأنَّه دَخَل في ضَمانِه، فلم يَبْرَأ برَدِّه إلى مكِانِه، كالمَسْرُوقِ، وما يَجُوزُ الْتِقاطُه. فعلى هذا، لا يَبْرأ إلَّا برَدِّه إلى الإِمامِ أو نائِبِه. وأمّا عُمَرُ فهو كان الإِمامَ، فإذا أمَر برَدِّه. فهو كأخْذِه منه. وحَدِيثُ جَرِير لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه لم يَأخُذِ البَقَرَةَ، ولا أخَذَها غُلامُه، إنَّما لَحِقَتْ بالبَقَرِ مِن غيرِ فِعْلِه ولا اخْتِيارِه. كذلك (¬3) يَلْزَمُه ضَمانُها إذا فَرَّط فيها؛ لأنَّها أمانَة، فهي كالوَدِيعةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 197. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 197. (¬3) في م: «ولذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن ضاعَتِ اللّقَطَةُ مِن مُلْتَقِطِها في حَوْلِ التَّعْرِيفِ بغيرِ تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّها أمانة في يَدِه، فهي كالوَدِيعةِ. فإن الْتَقَطَها آخَرُ، فعَلِمَ أنَّها ضاعتْ مِن الأوَّلِ فعليه رَدُّها إليه؛ لأنَّه قد ثَبَت له حَقُّ التَّمَوُّلِ وَولايةُ التَّعْرِيفِ والحِفْظِ، فلا يَزُولُ بالضياعِ. فإن لم يَعْلَمِ الثّاني بالحالِ حتى عَرَّفَها حَوْلًا، مَلَكَها؛ لأنَّ سَبَبَ المِلكِ وُجِدَ منه مِن غيرِ عُدْوانٍ، فَثَبَتَ المِلْكُ به، كالأوَّلِ، ولا يَمْلِكُ الأوَّلُ انْتِزاعَها منه؛ لأنَّ المِلْكَ مُقَدَّمٌ على حَقِّ التَّملُّكِ. فإذا جاء صاحبُها أخَذَها مِن الثاني، وليس له مُطَالبةُ الأوَّلِ؛ لأنَّه لم يُفَرِّطْ. وإن عَلِمَ الثاني بالأوَّلِ، فرَدَّها إليه، فأبَى أخْذَها، وقالْ: عَرِّفْها أنت. فعرَّفَها، مَلَكَها أيضًا؛ لأنَّ الأوَّلَ تَرَك حَقَّه، فسَقَطَ. وإن قال: عَرِّفْها، ويكونُ مِلْكُها لي. ففَعَلَ، فهو نائِبُه في التَّعْرِيفِ، ويَمْلِكُها الأولُ؛ لأنَّه وَكَّلَه في التَّعْرِيفِ، فصَحَّ، كما لو كانتْ في يَدِ الأوَّلِ. وإن قال: عَرِّفْها، وتكونُ بَينَنا. ففَعَلَ، صَحَّ أيضًا، وكانتْ بينهما؛ لأنَّه أسْقَطَ حَقَّه مِن نِصْفِها، ووَكَّلَه في الباقِي. وإن قَصَد الثّاني بالتَّعْرِيفِ تَمَلُّكَها لنَفْسِه دُونَ الأوَّل، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحدُهما، يَمْلِكُها الثّاني، لأنَّ سَبَبَ المِلْكِ وُجِدَ منه، فمَلَكَها، كما لو أذِنَ له الأوَّلُ في تَعْرِيفِها لنَفْسِه. والثّانِي، لا يَمْلِكُها؛ لأنَّ ولايةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّعْرِيفِ للأوَّلِ، أشْبَهَ ما لو غَصَبَها مِن المُلْتَقِطِ غاصِبٌ فعَرفَها. وكذلك الحُكْمُ إذا عَلِمَ الثّانِي بالأوَّلِ فعَرَّفها، ولم يُعْلِمْه بها. ويُشْبِهُ هذا مَن تحَجَّرَ مَواتًا إذا سَبَقَه غيرُه (¬1) إلى ما حَجَّرَه، فأحْياهُ بغيرِ إذْنِه. فأمّا إن غَصَبَها غاصِبٌ مِن المُلْتَقِطِ فعَرَّفَها، لم يَمْلِكْها، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه تَعَدَّى بأخْذِها ولم يُوجَدْ منه سَبَبُ تَملّكِها، فإنَّ الالْتِقاطَ مِن جُمْلَةِ السَّبَبِ، ولم يُوجَدْ منه. ويُفارِقُ هذا إذا الْتَقَطَها ثانٍ، فإنَّه وُجِدَ منه سببُ (¬2) الالتِقاطِ والتَّعْرِيفِ. فصل: ومَن اصْطادَ سَمَكةً مِن البَحْرِ، فوَجَدَ فيها دُرَّةً أو عَنْبَرَةً، أو شيئًا مِمّا يكونُ في البَحْرِ، فهو للصَّيّادِ؛ لأنَّ ذلك يكون في البَحْرِ. قال اللهُ تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬3). ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ مِلْكِها لغَيرِه. فإن باعَها الصَّيّادُ ولم يَعْلَمْ، فوَجَدَها المُشْتَرِي في بَطْنِها، فهي للصَّيادِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه إذا لم يَعْلَمْ به، فما باعهُ ولا رَضِيَ بزَوالِ مِلْكِه عنه، فأشْبَهَ مَن باع دارًا له مال مَدْفُونٌ فيها. فإن وَجَدَ دَراهِمَ أو دَنانِيرَ، فهي لُقَطَةٌ، لأنَّ ذلك لا يُخْلَقُ في البَحْرِ، ولا يكونُ إلَّا للآدَمِيِّ، فكان لُقَطَةً، كما لو وَجَدَه في البَرِّ (¬4). وكذلك الحُكْمُ في الدُّرَّةِ والعَنْبَرَةِ إذا كان فيها أثَرٌ لآدَمِيٍّ، كالمَثْقُوبَةِ، والمُتَّصِلَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة فاطر 12. (¬4) في النسخ: «البحر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ أو غيرِهما. أو كانتِ العَنْبَرَةُ تُفّاحَةً ونحوَ ذلك، مِمَّا لا يُخْلَقُ عليه في البَحْرِ تكونُ لُقَطَةً، لأنَّها لم تَقَعْ في البَحْرِ، حتى تَثْبُتَ اليَدُ عليها، فهي كالدِّينارِ، فمتى وَجَدَها الصَّيّادُ فعليه تَعْرِيفُها، لأنَّه مُلْتَقِطُها، وإن وَجَدَها المُشْتَرِي، فالتَّعْرِيف عليه؛ لأنَّه واجِدُها، ولا حاجَةَ إلى البِدايَةِ بالبائِعِ، فإنَّه لا يَحْتَمِلُ أن تكونَ السَّمَكَةُ ابْتَلَعَتْ ذلك بعدَ اصْطِيادِها ومِلْكِ الصَّيّادِ لها، فاسْتَوَى هو وغيرُه. فأمّا إن اشْتَرَى شاةً ووَجَدَ في بَطْنِها دُرَّةً أو عَنْبَرَةً أو دَنانِيرَ أو دَراهِمَ، فهي لُقَطَةٌ يُعَرِّفُها، ويَبْدَا بالبائِعِ، لأنَّه يَحْتَمِلُ أن تكونَ ابْتَلَعَتْها مِن مِلْكِه، فيَبْدَا به، كقَوْلِنا في مَن اشْتَرَى في دارًا فوَجدَ فيها مالًا مَدْفُونًا. وإن اصْطادَ السَّمَكَةَ مِن غيرِ البَحْرِ، كالنَّهْرِ والعَينِ، فحُكْمُها حُكْمُ الشّاةِ، في أنَّ ما وُجِدَ في بَطْنِها مِن ذلك فهو لُقَطَةٌ، لأنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا في البَحْرِ عادَةً. ويَحْتَمِلُ أنَّ النَّهْرَ إذا كان مُتَّصِلًا بالبَحْرِ، فهو كما لو صادَها منه؛ لأنَّها قد تَبتَلِعُ ذلك في البَحْرِ، ثم تَخْرُجُ إلى النَّهْرِ، وإن لم يَكُنْ مُتَّصِلا به، فهو لُقَطَةٌ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ للصَّيّادِ، لقولِ اللهِ تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. فصل: وإن وَجَدَ عَنْبَرَةً على السّاحِلِ، فهي له، لأنَّه يُمْكنُ أنَّ البَحْرَ ألْقاها، والأصْلُ عَدَمُ المِلْكِ فيها، فكانت مُباحَةً لآخِذِها، كالصَّيدِ. وقد روَى سَعِيدٌ، عن إسماعيلَ بنِ عَيّاش، عن مُعاويَةَ بنِ عَمْرِو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَبْدَرِيِّ (¬1)، قال: ألْقَى بَحْرُ عَدَنَ عَنْبَرَةً مِثلَ البَعِيرِ، فأخَذَها ناسٌ بعَدَنَ، فكَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، فكَتَبَ إلينا، أن خُذُوا منها الخُمْسَ، وادْفَعُوا إليهم سائِرَها، وإن باعوكُمُوها فاشْتَرُوها. فأرَدْنا أن نَزِنَها، فلم نَجِدْ مِيزانًا يُخْرِجُها، فقَطَعْناها ثِنْتَينِ ووَزَنّاها، فوَجَدْناها (¬2) سِتَّمائةَ رَطْل، فأخَذْنا خُمْسَها، ودَفَعْنا سائِرَها إليهم، ثم اشْتَرَيناها بخَمْسَةِ الآفِ دِينارٍ، وبَعَثْنا بها إلى عُمَرَ، فلم يَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حتى باعَها بثَلاثةٍ وثَلاثِين ألْفَ دِينارٍ. فصل: وإن صاد غَزالًا فوَجَدَه مَخْضُوبًا، أو في عُنُقِه خَرَزٌ، أو في أذُنِه قُرْط، ونحوَ ذلك ممّا يَدُلُّ على ثُبُوتِ اليَدِ عليه، فهو لُقَطَة؛ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على أنَّه كان مَمْلُوكًا. قال أحمدُ، في مَن ألْقَى شَبَكَةً في البَحْرِ فوَقَعَتْ فيها سَمَكَةٌ، فجَذَبَتِ الشَّبَكَةَ، فمَرَّت بها في البَحْرِ، فصادَها رَجُلٌ: فإنَّ السَّمَكَةَ له، والشَّبَبهَةُ يُعَرِّفُها ويَدْفَعُها إلى صاحِبِها. فجَعَلَ الشَّبَكَةَ لُقَطَةً؛ لأنَّها كانت (¬3) مَمْلُوكَةً لآدَمِي، والسَّمَكَةُ لمَن صادَها؛ لأنَّها كانت مُباحَةً، ولم يَمْلِكْها صاحِبُ الشَّبَكَةِ؛ لكَوْنِ شَبَكَتِه لم تُثْبِتْها، فبَقِيَتْ على الإِباحةِ. وهكذا لو نَصَب فَخًّا أو شرَكًا، فوَقَعَ فيه صَيدٌ مِن صُيُودِ البَرِّ فأخَذَه وذَهَب به، فصادَه آخَرُ، فهو لمن صادَه، ويَرُدُّ الآلةَ إلى صاحِبِها، فإن لم يَعْرِفْ صاحِبَها ¬

(¬1) في م: «الصدرى». وفي المغني 8/ 318: «العبدى». ولم نهتد إليه. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهي لُقَطَةٌ. وقال أحمدُ، في رَجُل انْتَهَى إلى شَرَكٍ فيه حِمارُ وَحْش أو ظَبي قد شارَفَ المَوْتَ، فخَلَّصَه وذَبَحه: فهو لصاحِبِ الحِبَالةِ (¬1)، وما كان من الصَّيدِ في الحِبَالةِ (1) فهو لمَن نَصَبَها، وإن كان بازِيًّا أو صَقْرًا أو عُقَابًا. وسُئِلَ عن بازِي أو صَقْر أو كَلْبٍ مُعَلَّم أو فَهْدٍ، ذَهَب عن صاحِبِه، فدَعَاهُ فلم يُجِبْه، ومَرَّ في الأرضَ حتى أتَى لذلك أيام، فأتَى قَرْيَةً، فسَقَطَ على حائِطٍ، فدَعَاهُ رَجُل فأجابَهُ. قال: يَرُدُّه على صاحِبِه. قيلَ له: فإن دَعَاهُ فلم يُجِبْه، فنَصَبَ له شَرَكًا فصادَه به. قال: يَرُدُّه على صاحِبِه. فجَعَلَه لصاحِبِه؛ لأنَّه قد مَلَكَه، فلم يزُلْ مِلْكُه عنه بذَهَابِه، والسَّمَكَةُ في الشَّبَكَةِ لم يَكُنْ مَلَكَها ولا حازَها، وكذلك جَعَل ما وَقَع في الحِبَالةِ مِن الصَّقْرِ والعُقابِ لصاحِبِ الحِبَالةِ (1)، ولم يَجْعَلْه ههُنا لمَن وَقَع في شَرَكِة؛ لأنَّ هذا فيما عُلِمَ أنَّه قد كان مَمْلُوكًا لإِنْسانٍ فذَهَبَ، وإنَّما يُعْلَمُ هذا بالخَبَرِ، أو بوُجُودِ ما يَدُلّ على المِلْكِ فيه، كوُجُودِ السَّيرِ في رِجْلِه أو آثار التَّعْلِيمِ، مثلَ اسْتِجابَتِه للذي يَدْعُوه، ونحو ذلك، فإن لم يُوجَدْ ما يَدُلّ على أنَّه مَمْلُوك، فهو لمَن صادَه؛ لأنَّ الأصْلَ إباحَتُه وعَدَمُ الملْك فيه. فصل: ومَن أخِذَتْ ثِيابُه في الحَمّامِ ووَجَد بَدَلَها، أو أخِذَ مَداسُه وتُرِكَ له بَدَلُه، لم يَمْلِكْه بذلك. قال أحمدُ، في مَن سُرِقَتْ ثيابُه ووَجَدَ غيرَها: لم يَأخُذْها، فإن أخَذَها عَرَّفَها سَنَةً، ثم تَصدَّقَ بها. إنَّما قال ¬

(¬1) في الأصل: «الحبولة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك؛ لأنَّ آخِذَ الثِّيابِ لم تَقَع بينَه وبينَ مالِكِها مُعاوَضَة تَقْتَضِي زَوال مِلْكِه عن ثِيابِه، فإذا أخَذَها فقد أخَذ مال غيرِه، ولا يَعرِفُ صاحِبَه، فيُعَرفُه، ويَتَصَدَّقُ به، كالصَّدَقَةِ باللُّقَطَةِ. قال شيخُنا (¬1): ويحتَمِلُ أن يُنْظَرَ في هذا، فإن كانت ثَمَّ قَرِينةٌ تَدُلُّ على السَّرِقَةِ، بأن تكونَ ثِيابُه أو مَداسُه خَيرًا مِن المتْرُوكِ له، وكانت مما لا يَشْتَبهُ على الآخِذِ بثِيابِه ومَداسِه، فلا حاجَةَ إلى التَّعرِيفِ؛ لأنَّ التَّعرِيفَ إنَّما جُعِلَ على المالِ الضّائِعِ مِن رَبِّه، ليَعلَمَ به ويَأخُذَه. وتارِكُ هذا عالِمٌ به راض بِبَدَلِه عِوَضًا عما أخَذَه، ولا يَعتَرِفُ أنَّه له، فلا يحصُلُ مِن تَعرِيفِه فائِدَةٌ، فإذًا ليس بمَنْصُوص عليه، ولا هو في مَعنَى المَنْصُوصِ. وفيما يَصنَعُ به ثَلاثة أوْجُهٍ؛ أحدُها، يتَصَدَّقُ بها، على ما ذَكَرنا. والثاني، أنه يُباحُ له أخْذُها؛ لأنَّ صاحِبَها في الظّاهِرِ تَرَكَها له باذِلًا إيّاها عِوَضًا عمّا أخَذَه، قصارَ كالمُبِيحِ له أخْذَها بلِسانِه، فصارَ كمَن قَهر إنْسانًا على أخْذِ ثَوْبِه ودَفَع إليه دِرهمًا. والثالثُ، يَرفَعُها إلى الحاكِمِ ليَبِيعَها ويَدفَعَ إليه ثَمَنَها عِوَضًا عن مالِه. والوَجْهُ الثاني أقْرَبُ إلى الرِّفْقِ بالنّاسِ؛ لأنَّ فيه نَفْعًا لمَن سُرِقَتْ ثِيابُه بحُصُولِ عِوَض عنها، ونَفْعًا للسّارِقِ بالتَّخْفِيفِ عنه مِن الإِثمِ، وحِفْظًا لهذه الثِّيابِ المَتْرُوكَةِ مِن الضَّياعِ، وقد أباحَ بعضُ أهْلِ العِلْم في من له على إنْسانٍ حَقٌّ مِن دَين أو غَصبٍ، أن يَأخُذ مِن مالِه بقدرِ حَقِّه إذا عَجَز عن اسْتِيفائِه بغيرِ ذَلك، فههُنا مع رِضَاءِ مَن عليه الحَقُّ بأخْذِه ¬

(¬1) في: المغني 8/ 319.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. وإن كانت ثَمَّ قَرِينةٌ دالَّةٌ على أنَّ الآخِذَ للثِّيابِ إنَّما أخَذَها ظَنًّا منه أنّها ثِيابُه، مثلَ أن تكون المَتْروكَةُ مثلَ الأخُوذَةِ أو خيرًا منها، وهي مما تَشْتَبِهُ بها، فيَنْبَغِي أن يُعَرِّفَها ههُنا؛ لأنَّ صاحِبَها لم يَتْرُكْها عَمدًا، فهي بمَنْزِلَةِ الضّائِعَةِ. والظاهِرُ أنَّه إذا عَلِمَ بها أخَذها ورَدَّ ما كان أخَذَه، فتَصِيرُ كاللُّقَطَةِ في المعنَى، وبعدَ التَّعرِيفِ إذا لم تُعرَفْ، فَفِيها الأوْجُهُ الثلاثةُ المَذْكُورَةُ، إلَّا أنَّنا إذا قُلْنا: يأخُذُها أو يَبِيعُها الحاكِمُ ويَدفَعُ إليه ثَمَنَها. فإنَّما يأخُذُ بقَدرِ قِيمَةِ ثِيابِه مِن غيرِ زِيادَةٍ؛ لأنَّ الزّائِدَ فاضِلٌ عَمّا يَسْتَحِقُّه، ولم يَرضَ صاحِبُها بتَركِها عِوَضًا عَمّا أخَذَه، فإنَّه لم يأخُذْ غيرَها اخْتِيارًا منه لتَركِها، ولا رضِىَ بالمُعاوَضَةِ بها. وإذا قُلْنا: إنَّه يَنفَعُها إلى الحاكِمِ ليَبِيعَها ويَدفَعَ إليه ثَمَنَها. فله أن يَشْتَرِيَها عمَّا (¬1) في ذمَّتِه، في يسْقِطَ عنه مِن ثَمَنِها ما قابَلَ ثِيابَه، ويَتَصَدَقَ بالباقِي. فصل: نَقَلَ الفَضْلُ بنُ زِيادٍ، عن أحمدَ، إذا تتازَعَ صاحِبُ الدّارِ والسّاكِنُ في دِفْنِ في الدّارِ، فقال كلٌّ مِنْهُما: أنا دَفَنْتُه. يُبَين كلُّ واحدٍ منهما ما الذي دَفنَ، فكُلُّ مَن أصابَ الوَصفَ فهو له، وذلك لأنَّ ما يوجدُ من الدَّفْنِ في الأرضِ ممّا عليه علامةُ السلمين، فهو لُقَطَة، واللُّقَطَةُ تُسْتَحَقُّ بوصفِها، ولأنَّ المُصِيبَ للْوَصفِ في الظّاهِرِ هو مَن كان ذلك في يَدِه، فكان أحَقَّ به، كما لو تَنازَعَهُ أجْنَبِيّان، فوَصَفَه أحَدُهما. فصل: ومَنْ وَجَد لُقَطَةً في دارِ الحربِ، فكان في جَيشٍ، فقال ¬

(¬1) في م: «بثمن».

2505 - مسألة: (وهي على ثلاثة أضرب؛ حيوان، فيخير بين أكله)

وَهِيَ عَلَى ثَلًاثَةِ أضْرُبٍ؛ حَيَوان، فَيُخَيَّرُ بَينَ أكْلِهِ وَعَلَيهِ قِيمَتُهُ، وَبَينَ بَيعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، وَبَينَ حِفْظِهِ والإنْفَاقِ عَلَيهِ مِنْ مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ: يُعَرِّفُها سَنَةً في دارِ الإِسْلامِ، ثم يَطْرَحُها في المَقْسِمِ. إنَّما عَرَّفَها في دارِ الإِسْلامِ، لأنَّ أموال أهْلِ الحَربِ مُباحَةٌ، ويجوزُ أن تكونَ لمُسْلِم، وقد لا يُمكِنه المُقَامُ في دارِ الحَرب لتَعرِيفِها. ومَعناه، واللهُ أعلمُ، أنَّه يُتِمُّ التَّعرِيفَ في دارِ الإِسْلامِ، فأَمّا ابْتِداءُ التّعرِيفِ فيكونُ في (¬1) الجَيشِ الذي هو فيه، لأنَّه يَحتَمِلُ أن تكونَ لأحَدِهِم، فإذا قَفَل أتَمَّ التَّعرِيفَ في دارِ الإِسْلامِ. فأمّا إن دَخَل دارَهُم بأمَانٍ، فيَنْبَغِي أن يُعَرِّفَها في دارِهِم، لأن أموالهُم مُحَرّمةٌ عليه، فإذا لم تُعرَفْ مَلَكَها، كما يَملِكُها في دارِ الإِسْلامِ. وإن كان في الجَيشِ، طَرَحَها في المَقسِمِ بعدِ التَّعرِيفِ؛ لأنَّه وَصَل إليها بقُوَّةِ الجَيشِ، فأشْبَهتْ مُباحاتِ دارِ الحربِ إذا أخَذَ منها شيئًا. فإن دَخَل إليهم مُتَلَصِّصًا فوَجَدَ لُقَطَةً، عَرَّفَها في دارِ الإِسْلامِ، لأنَّ أموالهُمٍ مُباحَةٌ له، ثم يكونُ حُكْمُها حُكْمَ غَنِيمَتِه. ويَحتَمِلُ أن تكونَ غَنِيمة له لا تَحتاجُ إلى تَعرِيفٍ، لأنَّ الظاهِرَ أنَّها مِن (1) أموالِهِم، وأمْوالُهُم غَنِيمَةٌ، واللهُ أعلَمُ. 2505 - مسألة: (وهي على ثَلاثَةِ أضْرُبٍ؛ حيوانٌ، فيُخَيَّرُ بين أكلِه) في الحالِ (وعليه قِيمَتُه، وبينَ بَيعِه وحِفْظِ ثَمَنِه، وبينَ تَركِه ¬

(¬1) سقط من: م.

وهل يَرجِعُ بِذَلِكَ؛ عَلَى وَجْهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والإنْفاقِ عليه مِن مالِه. وهل يَرجِعُ) به؟ (على وَجْهين) وجُملَةُ ذلك، أنَّ مُلْتَقِطَ الشّاةِ وما كان مِثْلَها ممَّا يُبَاحُ أكْلُه، يتَخَيَّرُ مُلْتَقِطُها بين ثلاثةِ أشياءَ؛ أحدُها، أكْلُها في الحالِ. وبه قال مالكٍ، وأبو حنيفةَ، والشافعي، وغيرُهم. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعُوا على أنَّ ضالَّةَ الغَنَمِ في المَوْضِعِ المَخُوفِ عليها، له أكْلُها؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ لَكَ أوْ لِأخِيكَ أوْ لِلذِّئْب». جَعَلَها له في الحالِ، وسَوَّى بينَه وبينَ الذِّئْبِ، والذِّئْبُ لا يُؤَخِّرُ أكلَها، ولأنَّ في أكْلِها في الحالِ إغْناءً غن الإِنْفاقِ عليها، وحِراسَةً لمالِيَّتها على صاحِبِها إذا جاء، فإنَّه يأخُذُ قِيمَتَها بكَمالِها، وفي إبْقائِها تَضْييعٌ للمالِ بالإنْفاقِ عليها والغَرَامَةِ في عَلْفِها، فكان أكْلُها أوْلَى. وإذا أرادَ أكلَها حَفِظَ صِفَتَها، فمتى جاء صاحِبُها غَرِمَها له، في قولِ عامّةِ أهْلِ العِلْمِ، وقال مالكٌ: كُلْها ولا غُرمَ عليك لصاحبِها ولا تَعرِيفَ لها؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ لَكَ». ولم يُوجِبْ فيها تَعرِيفًا ولا غرمًا، ولأنَّه سَوَّى بينَه وبينَ الذِّئْبِ، والذِّئْبُ لا يُعَرِّفُ ولا يَغْرَمُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لم يُوافِقْ مالِكًا أحَدٌ مِن العُلَماءِ على قولِه. وقولُ النبيِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرو: «رُدَّ عَلَى أخِيكَ ضَالَّتَهُ» (¬1). دَلِيلٌ على أنَّ الشّاةَ على مِلك صاحبِها. ولأنَّها لُقَطَة لها قِيمَةٌ، وتَتْبَعُها النَّفْسُ، فتَجِبُ غَرامَتُها لصاحِبِها إذا جاء، كغيرها، ولأنَّها مِلْك لصاحِبِها، فلم يَجُزْ تَمَلُّكُها عليه بغيرِ عِوَض مِن غيرِ رِضاه، كما لو كانت بينَ البُنْيانِ، ولأنَّها عَين يَجِبُ رَدُّها مع بَقائِها،. فوَجَبَ غُرمُها إذا أتْلَفَها، كَلُقَطَةِ الذَّهبِ. وكونُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هِيَ لَكَ» لا يَمنَعُ وُجُوبَ غَرامَتِها، فإنَّه قد أذِنَ في لُقَطَةِ الذّهبِ والوَرِقِ بعدَ تَعرِيفِها، في أكْلِها وإنْفاقِها، وقال: «هِيَ كَسَائِرِ مَالِكَ» (¬2). ثم أجْمَعنا على وُجُوبِ غَرَامَتِها، كذلك الشّاةُ. ولا فرقَ في إباحةِ أكْلِها بينَ وجْدانِها في الصَّحراءِ أو في المِصرِ. وقال مالكٍ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الشافعيِّ: ليس له أكلُها في المِصرِ؛ لأنَّه يُمكِنُ بَيعُها، بخِلافِ الصَّحراءِ. ولَنا، أنَّ ما جازَ أكْلُه في الصَّحراءِ جازَ في المِصرِ، كسائِرِ المَأكُولاتِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هِيَ لَكَ». ولم يَسْتَفْصِلْ، ولأنَّ أكْلَها معلَّلٌ بما ذَكرنا ¬

(¬1) أخرجه الطحاوي. شرح معاني الآثار 4/ 135. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186. ولفظ: «هي كسائر مالك» ليست في مصادر التخريج إلا عند ابن ماجه «فهي كسبيل مالك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الاسْتِغْناءِ عن الإنْفاقِ عليها، وهذا في المِصرِ أشَدُّ منه في الصَّحراءِ. الثاني، تركُها والإنْفاقُ عليها مِن مالِه، ولا يَتَمَلَّكُها، فإن تَرَكَها ولم يُنْفِقْ عليها، ضَمِنَها؛ لأنَّه فَرَّطَ فيها. كان أنْفَقَ عليها مُتَبَرِّعًا، لم يَرجع على صاحِبِها، فإن أنْفَقَ بِنيَّةِ الرُّجُوعِ على صاحِبِها، وأشْهدَ على ذلك، رَجَع عليه بما أنْفَقَ، في إحدَى الرِّوايَتَين. نصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في طيرَةٍ أفْرَخَتْ عندَ قَوْم، فقَضَى أنَّ الفِراخَ لصاحِبِ الطيرَةِ، ويَرجِعُ بالعَلَفِ إذا لم يَكُنْ مُتَطَوِّعًا. وقَضَى عمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ في مَن وَجَد ضالَّةً فأنْفَقَ عليها، فجاء رَبُّها، فإنَّه يَغْرَمُ له ما أنْفَقَ؛ وذلك أنَّه أنْفَقَ على اللُّقَطةِ لحِفْظِها، فكان مِن مالِ صاحِبِها، كمُؤْنَةِ تَجْفِيفِ الرُّطَبِ والعِنَبِ. والثّانِيةُ، لا يَرجِعُ بشيءٍ. وهو قولُ الشَّعبِيِّ، والشافعيِّ، ولم يُعجِبِ الشَّعبِيَّ قَضَاءُ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ؛ لأنَّه أنْفَقَ على مالِ غيرٍ بغيرِ إذْنِه، فلم يَرجِع به، كما لو بَنَى دارَه، ويُفارِقُ العِنَبَ والرُّطَبَ، فإنه قد يَكونُ تَجْفِيفُه والإِنْفاقُ عليه أحَظَّ لصاحِبِه؛ لأنَّ النَّفَقَةَ عليه لا تَتَكَرَّرُ، والحَيَوانُ يَتَكَرَّرُ الإِنْفاقُ عليه، فرُبَّما اسْتَغْرَقَ ثَمَنَه، فكان بَيعُه وأكْلُه أحَظَّ، فلذلك لم يَرجِعِ المُنْفِقُ عليها بما أنْفَقَ. الثالثُ، بَيعها وحِفْظُ ثَمَنِها لصاحِبِها، وله أن يَتَوَلَّى ذلك بنَفْسِه. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبِيعُها بإذْنِ الإِمامِ. ولَنا، أنَّه إذا جاز له أكلُها مِن غيرِ إذْنٍ فبَيعُها أوْلَى. ولم يَذْكر أصحابُنا لها تَعرِيفًا في هذه المواضِعِ. وهو قولُ مالكٍ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذْها، فَإنمَا هِيَ لَكَ أوْ لِأخِيكَ أوْ لِلذِّئبِ». ولم يَأمر بتَعرِيفِها، كما أمَرَ في لُقَطَةِ الذَّهبِ والوَرِقِ. ولَنا، أنَّها لُقَطَةٌ لها خَطَرٌ، فوَجَبَ تعرِيفُها، كالمَطْعُومِ الكَثِيرِ، وإنَّما تَرَك ذِكْرَ تَعرِيفِها؛ لأنَّه ذَكَرَها بعدَ بَيانِ التَّعرِيفِ فيما سِواها، فَاسْتَغْنَى بذلك عن ذِكْرِه فيها، ولا يَلْزَمُ مِن جَوازِ التَّصَرُّفِ فيها في الحَوْلِ سُقُوطُ تَعرِيفِها، كالمَطْعُومِ، وإذا أرادَ بَيعَها أو أكْلَها، لَزِمَه حِفْظُ صِفَتِها؛ لحَدِيثِ زَيدِ بنِ خالدٍ، وسَنَذْكُرُه إن شاء اللهُ. فصل: وإذا أكَلَها ثَبَتَتْ قِيمَتُها في ذِمَّتِه، ولا يَلْزَمُه عَزْلُها؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ فيه، فإنَّها لا تُنْقَلُ مِن الذِّمَّةِ إلى المالِ المَغزُولِ. ولو عَزَل شَيئًا ثم أفْلَسَ، كان صاحِبُ اللُّقَطَة أسْوَةَ الغُرَماءِ، ولم يَخْتَصَّ بالمالِ المَعزُولِ. فأمَّا إن باعَها وحَفِظَ ثَمَنَها، وجاء صاحِبُها، أخَذَه، ولم يُشارِكْه فيه أحَدٌ مِن الغُرَماءِ؛ لأنَّه عَينُ مالِه، ولا شيءَ للمُفْلِسِ فيه، فهو كالوَدِيعَةِ.

2506 - مسألة: (الثاني، ما يخشى فساده، فيخير بين بيعه وأكله)

الثَّانِي، مَا يُخْشَى فَسادُهُ، فَيَتَخَيَّرُ بَينَ بَيعِهِ وَأكْلِهِ إلا أنْ يمكِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2506 - مسألة: (الثاني، ما يُخْشَى فَسادُه، فيُخَيَّرُ بين بَيعِه وأكلِه) إن كان ممّا لا يُمكِنُ تَجْفِيفُه، كالفاكِهةِ التي لا تُجَفَّفُ، والطَّبِيخِ، والبِطِّيخِ، والخَضْراواتِ، فهو مُخَيَّر بينَ أكْلِه، وبَيعِه وحِفْظِ ثَمَنِه، ولا يجوزُ إبْقاؤه؛ لأنَّه يَتْلَفُ. فإن تَركَه حتى تَلِفَ، ضَمِنَه؛ لأنَّه فَرَّطَ في حِفْظِه، فهو كالوَدِيعَةِ. فإن أكلَه ثَبَتتِ القِيمَةُ في ذِمَّتِه، على ما ذَكَرنا في الشّاةِ. وهذا ظاهِرُ مَذْهبِ الشافعيِّ. وله أن يَتَوَلَّى بَيعَه بنَفْسِه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: ليس له بَيعُه إلَّا بإذْنِ الحاكِمِ، فإن عَجَز عنه، جاز البَيعُ بنَفْسِه، لأنَّه حالُ ضَرُورَةٍ، فأمّا مع القُدرَةِ على اسْتِئْذائِه فلا يجوزُ مِن غيرِ إذنْه، لأنَّه مالٌ معصُوم لا ولايةَ عليه، فلم يَجُزْ لغيرِ الحاكِمِ بَيعُه، كغيرِ المُلْتَقَطِ. ولَنا، أنَّه مال أبِيحَ للمُلْتَقِطِ أكلُه، فأبيحَ له بَيعُه، كمالِه. ومتى أرادَ بَيعَه أو أكْلَه، حَفِظَ صِفاتِه، ثم

تَجْفِيفُهُ؛ كَالْعِنَبِ، فَيَفْعَلَ مَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ لِمَالِكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَرَّفَه عامًا، على ما نَذْكُرُه. فإن تَلِفَ الثَّمَنُ قبلَ تَمَلُّكِه مِن غيرِ تَفْرِيطٍ أو نَقْصٍ، أو تَلِفَتِ العَينُ أو نَقَصَتْ مِن غيرِ تَفرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه. وإن تَلِفَ أو نقَصَ بتَفْرِيطِه، أو تَلِفَتِ اللُّقَطَةُ بتَفْرِيطِه، فعليه ضَمانُه، وكذلك إن تَلِفَ بعد تَمَلكِه أو نقَصَ. وإن كان ممّا (يمكِنُ تَجْفِيفُه؛

2507 - مسألة: (وغرامة التجفيف منه)

وغَرَامَةُ التَّجْفِيفِ مِنْهُ. وَعَنْهُ، يَبِيعُ الْيَسِيرَ، وَيَدفَعُ الْكَثِيرَ إِلَى الْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعِنَبِ) والرُّطَبِ، فيَنْظُرُ ما فيه الحَظُّ لمالِكِه، فإن كان في التَّجْفِيفِ فعَلَه، ولم يَكُنْ له إلَّا ذلك؛ لأنَّه مالُ غيرِه، فلَزِمَه فعلُ (¬1) ما فيه الحَظُّ لصاحِبِه، كوَلِيِّ اليَتيمِ. 2507 - مسألة: (وغَرامَةُ التَّجْفِيفِ منه) وله بَيعُ بعضِه في ذلك؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. فإن أنْفَقَ مِن مالِه رَجَع به؛ لأنَّ النَّفَقَةَ ههُنا لا تُكَرَّرُ، بخِلافِ نَفَقةِ الحَيَوانِ، فإنَّها تُكَرَّرُ، فرُبَّما اسْتَوْعَبَتْ قِيمَتَه، فلا يكونُ لصاحِبِها حَظٌّ في إمساكِها إلَّا بإسْقاطِ النَّفَقَةِ. وإن كان الحَظُّ في بَيعِه باعَهُ وحَفِظَ ثَمَنَه، كالطَّعامِ الرَّطْبِ. فإن تَعَذَّرَ بَيعُه، ولم يُمكِنْ تَجْفِيفُه، تَعَيَّنَ أكلُه، كالبِطِّيخِ (¬2). وإن كان أكلُه أنْفَعَ لصاحِبِه، فله أكلُه أيضًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كالطبيخ».

2508 - مسألة: (الثالث، سائر المال، فيلزمه حفظه، ويعرف الجميع بالنداء عليه في مجامع الناس؛ كالأسواق، وأبواب المساجد

الثَّالِثُ، سَائِرُ الْمَالِ، فَيَلْزَمُهُ حِفْظُهُ، وَيُعَرِّف الْجَمِيعَ بِالنِّدَاءِ عَلَيهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ؛ كَالْأَسْوَاقِ وَأبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي أوْقَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): ويَقْتَضِي قولُ أصحابِنا: إنَّ العُرُوضَ لا تُملَكُ بالتّعرِيفِ. وأنَّ (¬2) هذا كُلّه لا يجوزُ له أكلُه، لكن يُخَيَّرُ بين الصَّدَقَةِ به وبينَ بَيعِه، وقد قال أحمدُ في مَن وَجَد في مَنْزِلِه طَعامًا لا يَعرِفُه: يُعَرِّفُه ما لم يَخشَ فَسادَه، فإن خَشِيَ فَسادَه، تَصَدَّقَ به، فإن جاء صاحِبُه غَرِمَه. وكذلك قال مالكٍ، وأصحابُ الرَّأي، في لُقَطَةِ ما لا يَبْقَى سنةً: يَتَصَدَّق به. وقال الثَّوْرِي: يَبِيعُه ويَتَصَدَّقُ بثَمَنِه. ولَنا على جَوازِ أكْلِه، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضَالَّةِ الغَنَمِ: «خُذْها، فإنَّما هِيَ لَكَ أوْ لِأخِيكَ أوْ لِلذِّئبِ». وهذا تَجْويزٌ للأكْلِ. فإذا جاز أكْلُ ما هو مَحفُوظٌ بنَفْسِه، ففيما (¬3) يَفْسُدُ بِبَقائِه أوْلَى. وعن أحمدَ، أنَّه (يَبِيعُ اليَسِيرَ، ويَنفَعُ الكَثِيرَ إلى الحاكِمِ) لأنَّ الكَثِيرَ مالٌ لغيرِه، لم يَأذَنْ له في بَيعِه، فيكونُ أمرُه إلى الحاكِمِ. وأمّا اليَسِيرُ فتدخُلُه المُسامَحَةُ، ويَشُقُّ رَفْعُه إلى السُّلْطانِ، ورُبَّما تَضِيعُ عندَ السُّلْطانِ. 2508 - مسألة: (الثّالثُ، سائِرُ المالِ، فيَلْزَمُه حِفْظُه، ويُعَرِّفُ الجَمِيعَ بالنداءِ عليه في مَجامِعِ النّاسِ؛ كالأسْواقِ، وأبوابِ المَسَاجِدِ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 342. (¬2) في النسخ: «وأن». وانظر ما يأتي في صفحة 240. (¬3) في م: «فما».

الصَّلَوَاتِ، حَوْلًا كَامِلا: مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيء أوْ نَفَقَةٌ. وَأجْرَةُ الْمُنَادِي عَلَيهِ. وَقَال أبو الْخَطَّابِ: مَا لَا يملَكُ بِالتّعرِيفِ، وَمَا يُقْصَدُ حِفْظُهُ لِمَالِكِهِ، يَرجِعُ بِالأجْرَةِ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أوْقاتِ الصَّلَواتِ، حَوْلًا كامِلًا، مَن ضاع منه شيءٌ أو نَفَقَةٌ. وأجْرَةُ المُنادِي عليه. وقال أبو الخَطَّابِ: ما لا يُملَكُ بالتّعرِيفِ، وما يُقْصَدُ حِفْظُه لمالِكِه، رَجَع بالأجْرِ عليه) وجُملةُ ذلك، أنَّ في التعْرِيفِ فُصُولًا سِتّةً: في وُجُوبِه، وقَدرِه، وزَمانِه، ومَكَانِه، ومَن يَتَوَلَّاه، وكَيفِيّته. أمّا وُجُوبُه، فهو واجِبٌ على كُلِّ مُلْتَقِطٍ، سواءٌ أرادَ تَملُّكَها أو حِفْظَها لصاحِبِها، إلَّا في اليَسِيرِ الذي لا تَتْبَعُه النَّفْسُ، وقد ذَكَرناه. وقال الشافعيُّ: لا يَجِبُ على مَن أرادَ حِفْظَها لصاحِبِها. ولَنا، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَر به زَيدَ بنَ خالِدٍ، وأبيَّ بنَ كَعبٍ (¬1)، ولم يُفَرِّقْ، ولأنَّ حِفْظَها ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب وإذا أخبر رب اللقطة بالعلامة دفع إليه، وباب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع. . . . من كتاب اللقطة. صحيح البخاري 3/ 162، 166. ومسلم، في: كتاب اللقطة. صحيح مسلم 3/ 1350، 1351. وأبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 395. والترمذي، في: باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم، من أبواب الأحكام من عارضة الأحوذي 6/ 141. وابن ماجه، في: باب اللقطة، من كتاب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 838. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 126، 127، 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لصاحِبِها إنَّما فائِدَتُه إيصالُها إليه، وطَرِيقُه التَّعريفُ، أنها بقَاؤها في يَدِ المُلْتَقِطِ مِن غيرِ وُصُولِها إلى صاحِبِها، فهو وَهلَاكُها سِيّانِ، ولأنَّ إمساكَها مِن غيرِ تعرِيفٍ تَضْيِيعٌ لها عن صاحِبِها، فلم يَجُزْ، كَرَدِّها إلى مَوْضِعِها، أو إلْقائِها في غيرِه، ولأنَّه لو لم يَجِبِ التّعرِيفُ، لَمَا جازَ الالْتِقاطُ، لأنَّ بَقاءَها في مَكانِها إذًا أقْرَبُ إلى وُصُولِها إلى صاحِبِها؛ إمّا بأن يَطْلُبَها في المَوْضِعِ الذي ضاعَتْ منه فيَجِدَها، وإمّا بأنْ يَأخُذَها مَن يَعرِفُها، وأخْذُ هذا لها يُفَوِّتُ الأمرَين، فيَحرُمُ، فلمّا جاز الالْتِقاطُ لَزِمَ وُجُوبُ التعريفِ، كَيلَا يحصُلَ هذا الضَّرَرُ، ولأنَّ التعْرِيفَ واجب على مَن أرادَ تَمَلُّكَها، وكذلك على (¬1) مَن أرادَ حِفْظَها، فإنَّ التَّمَلُّكَ غيرُ واجِبٍ، فلا تجِبُ الوَسِيلَةُ إليه، فَيَلْزَمُ أن يكونَ الوُجُوبُ في المَحَلِّ المُتَّفَقِ عليه؛ لصيَانَتِها عن الضيَاعِ عن صاحِبِها، وهذا مَوْجُودٌ في مَحَلِّ النِّزَاعِ. الفصل الثاني، في قَدرِ التَّعرِيفِ، وذلك سَنَةً. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وعليّ، وابنِ عَباس. وبه قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والشَّعبِيُّ، ومالك، والشافعيُّ، وأصحابُ الرأي. ورُويَ عن عُمَرَ رِوايَة أُخْرى: يُعَرِّفُها ثَلاثةَ أشْهُرٍ. وعنه ثلاثةَ أعوام؛ لأنَّ أبَي بنَ كَعبٍ روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَعرِيفِ مائةِ الدينارِ ثلاثةَ أعوام. وقال أبو أيوبَ الهاشِمِيُّ (¬1): ما دُونَ الخَمسِين دِرهمًا يُعَرِّفُها ثلاثةَ أيام إلى سَبْعةِ أيامٍ. وقال الحَسَنُ بنُ صالح: ما دُونَ عَشَرَةِ دَراهِمَ يُعَرِّفُها ثَلاثةَ أيام. وقال الثَّوْرِيُّ في الدِّرهمِ: يُعَرِّفُه أربعةَ أيامٍ. وقال إسحقُ: ما دُونَ الدِّينارِ يُعَرِّفُه جُمُعةً أو نحوَها. وروى أبو إسحقَ الجُوزجانِيُّ، بإسْنادِه، عن يَعلَى بنِ أمَيَّةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ الْتَقَطَ دِرهمًا أو حَبْلًا، أو شِبْه ذَلِكَ، فَلْيُعَرِّفْهُ ثَلاثةَ أيام، فَإنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَلْيُعَرِّفْه سَبْعةَ أيامٍ» (¬2). ولَنا، حَدِيثُ زَيدِ بنِ خالدٍ الصَّحِيحُ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه بعَام واحدٍ، ولأنَّ السَّنَةَ لا تَتَأخَّرُ عنها القَوافِلُ، ويَمضِي فيها الزَّمانُ الذي تُقْصَدُ فيه البِلادُ مِن للحَرِّ والبردِ والاعتِدالِ، فصَلُحَتْ قَدرًا، كُمدَّةِ أجَلِ العِنِّينِ (¬3). فأمّا حدِيثُ أبَيّ، فقد قال الرّاوي: لا أدرِي ثَلاثةَ أعوام، أو عامًا واحِدًا. قال أبو داوُدَ: شَكَّ الرّاوي في ذلك. وحَدِيثُ يَعلَى لم يَقُلْ به قائِلٌ على وَجْهِه، وحَدِيثُ زَيدِ بن خالدٍ وأبَيٍّ أصَحُّ منه وأوْلَى. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَجِبُ أن تكونَ هذه السَّنَةُ تلِي الالْتِقاطَ، وتكونُ مُتَوالِيةً؛ ¬

(¬1) سليمان بن داود بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، أبو أيوب، قال عنه أحمد بن حنبل: لو قيل لي: اختر للأمة رجلا، اخترته. توفي سنة تسع عشرة ومائتين: تهذيب التهذيب 4/ 187، 188. (¬2) انظر: ما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 173. والبيهقي، في: باب ما جاء في قليل اللقطة، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 6/ 195. والهيثمي، في: باب اللقطة، من كتاب البيوع. مجمع الزوائد 4/ 169. (¬3) العِنِّين: هو من لا يأتي النساء عجزًا، أو لا يريدهن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر بتَعرِيفِها حين سُئِلَ عنها، والأمرُ يَقْتَضِي الفَوْرَ، ولأنَّ القصدَ بالتَّعرِيفِ وُصُولُ الخَبَرِ إلى صاحِبِها، وذلك يَحصُلُ بالتَّعرِيفِ عَقِيبَ ضَياعِها مُتَوالِيًا؛ لأنَّ صاحِبَها في الغالِبِ إنَّما يَطْلُبُها عَقِيبَ ضَياعِها، فيَجِبُ تَخْصِيصُ التّعرِيفِ به. الفصل الثالث، في زَمانِه، وهو النَّهارُ دُونَ اللَّيلِ؛ لأنَّ النَّهارَ مَجْمَعُ الناسِ ومُلْتَقاهُم، بخِلافِ اللَّيلِ، ويكونُ ذلك في اليَوْمِ الذي وَجَدها والأسْبُوعِ؛ لأنَّ الطَّلَبَ فيه أكثَرُ، ولا يَجِبُ فيما بعدَ ذلك متَواليًا. وقد روى الجُوزْجانِيُّ بإسْنادِه، عن مُعاويَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ بَدرٍ الجُهني، قال: نَزَلْنا مُنَاخَ رَكْب فوَجَدتُ خِرقة فيها قَرِيب مِن مائةِ دِينار، فجِئْتُ بها إلى عُمَرَ، فقال: عَرِّفْها ثلاثةَ أيام على بابِ المَسْجِدِ، ثم أمسِكْها حتى قَرنِ السَّنَةِ، ولا يَفِدُ مِن رَكْبٍ إلا أنْشَدتَها، وقلتَ: الذَّهبُ بطَرِيقِ الشّامِ. ثم شَأنَكَ بها (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب القضاء في اللقطة، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 757، 758. وليس فيه لفظ: «عرفها ثلاثة أيام». والبيهقي، في: باب تعريف اللقطة ومعرفتها والإشهاد عليها، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 6/ 193.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الرابع، في مكانِه، وهو الأسْواقُ، وأبوابُ المَساجِدِ والجَوامِعِ، في الوَقْتِ الذي يَجْتَمِعُون فيه، كأدبارِ الصَّلَواتِ في المَساجِدِ، وكذلك في مَجامِعِ النّاسِ؛ لأنَّ المَقْصُودَ إشَاعَةُ ذِكْرِها وإظْهارُها؛ ليَظْهرَ عليها صاحِبُها، فيَجِبُ تَحَرِّي مَجامِعِ الناسِ، ولا يُنْشِدُها في المَسْجدِ لأنَّ المَسْجِدَ لم يُبْنَ لهذا. ورَوَى أبو هُرَيرَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فِي المَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها اللهُ إِليكَ. فَإِنَّ المَساجِدَ لَمْ تُبْنَ لهذَا» (¬1). وأمَرَ عُمَرُ واجِدَ اللُّقَطَةِ بتَعرِيفِها على بابِ المَسْجِدِ. الفصل الخامس، في كَيفِيّةِ تعرِيفِها، فيَذْكُرُ جِنْسَها لا غيرُ، فيقولُ: مَنْ ضاعَ منه ذَهبٌ، أو فِضَّة، أو دَرَاهِمُ، أو دَنانِيرُ، أو ثِيَابٌ. ونحوُ ذلك؛ لقولِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، لِوَاجِدِ الذَّهبِ: قُل: الذَّهبُ بطَريقِ الشّامِ. ولا يَصِفُها؛ لأنَّه لو وَصَفَها لعَلِمَ صِفَتَها مَن يَسْمَعُها، فلا تَبْقَى صِفَتُها دَلِيلًا على مِلْكِها؛ لمُشارَكَةِ مَن يَسْمَعُه للمالِكُ في ذلك، ولأنَّه لا يَأمَنُ أن يَدَّعِيَها مَن سَمِع صِفَتَها، ويَذْكُرَ صِفَتَها التي يَجِبُ دَفْعُها بها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 119.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَأخُذَها، فتَفُوتَ على مالِكِها. الفصل السادس، في مَن يَتَوَلَّى تَعرِيفَها، وللمُلْتَقِطِ تَوَلِّي ذلك بنَفْسِه، وأن يَسَتنيبَ فيه، فإن وَجَد مُتَبَرِّعًا بذلك. وإلَّا اسْتَأجَرَ، والأجْرَةُ على المُلْتَقِطِ. وبهذا قال الشافعي، وأصحابُ الرَّأي. واخْتارَ أبو الخَطّابِ، أنَّه إن قَصَد حِفْظَها لمالِكِها دُونَ تَمَلُّكِها رَجَع بالأجْرَةِ عليه. وكذلك قال ابنُ عَقِيلٍ فيما لا يُمْلَكُ بالتَّعرِيفِ؛ لأنَّه مِن مُؤْنَةِ إيصالِها إلى مالِكِها، فكان على مالكِها، كمُؤْنَةِ تَجْفِيفِها، وأجْرةِ مَخْزَنِها. ولَنا، أنَّ هذا أجْر واجِبٌ على المُعَرِّفِ، [فكان عليه، كما لو قَصَد تمَلُّكَها] (¬1)، ولأنَّه لو وَلِيَه بنَفْسِه، لم يَكُنْ له أجْر على صاحِبِها، فكذلك إذا اسْتَأَجرَ عليه، ولأنَّه سَبَبٌ لمِلْكِها، فكان على المُلْتَقِطِ، كما لو قَصَد تَمَلُّكَها. وقال مالك: إن أعطَى منها شيئًا لمَن عَرَّفَها، فلا غرمَ عليه، كما لو دَفَع منها شيئًا لمَن حَفِظَها. وقد ذَكَرنَا الدَّلِيلَ على ذلك. فصل: إذا أخَّرَ التَّعرِيفَ عن الحَوْلِ الأوَّلِ مع إمكانِه، أثِمَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر به فيه، والأمرُ يَقْتضِي الوُجوبَ. وقال في حَدِيثِ عِياضِ بنِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حِمار: «لا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ» (¬1). ولأنَّ ذلك وَسِيلةٌ إلى أن لا يَعرِفَها صاحِبُها؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّه بعدَ الحَوْلِ يَسْلُو عنها ويَيأسُ، فيَتْرُكُ طَلَبَها. ويَسْقُطُ التَّعرِيفُ بتأخِيرِه عن الحَوْلِ الأوَّلِ في المَنْصوصِ عن أحمدَ؛ لأنَّ حِكْمَةَ التَّعرِيفِ لا تَحصُلُ بعدَه. فإن تَرَكَه في بعضِ الحَوْلِ، عَرَّفَ بَقِيَّتَه، ويَتَخرَّجُ أن لا يَسْقُطَ التَّعرِيفُ بتَأخِيرِه؛ لأنهَّ واجب، فلا يَسْقُطُ بتَأخِيرِه عن وَقْتِه، كالعِباداتِ وسائِرِ الواجِباتِ، ولأَنَّ التعرِيفَ في الحوْل الثاني يحصُلُ به المَقْصودُ على نعتٍ مِن القُصُورِ، فيَجِبُ الإتْيانُ به؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أمرتُكُم بِأمر فَائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطعتُم» (¬2). فعلى هذا، إذا أخَّر التَّعرِيف بعضَ الحَوْلِ، أتى بالتعرِيفِ في بَقِيته، وأتَمَّهُ مِن الحَوْلِ الثّاني. وعلى كلا القَوْلَينِ، لا يملِكُها بالتّعرِيفِ فيما عدا الحَوْلِ الأولِ؛ لأنَّ شَرطَ المِلْكِ التعرِيفُ فيه، ولم يُوجد، ولذلك لو تَرَك التّعرِيفَ في بعضِ الحَوْلِ الأوّلِ، لا يَملِكُها بالتعْرِيفِ بعده؛ لأنَّ الشَّرطَ لم يَكْمُلْ، وعَدَمُ بعضِ الشَّرطِ كعَدَمِ جَمِيعِه، كما لو اخْتَل بعضُ الطهارَةِ في الصَّلاةِ. فأمّا إن تَرَك التعرِيفَ في ¬

(¬1) يأتي الحديث بتمامه في الصفحة بعد التالية. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَوْلِ الأوَّلِ لعَجْزِه عنه؛ كالمَرِيضِ والمحبُوسِ، أو لنِسْيانٍ ونحوه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، حُكْمُه حُكْمُ مَن تَرَكَه لغيرِ عُذْرٍ؛ لأنَّ تَعرِيفَه في الحَوْلِ الأوَّلِ سَبَبُ المِلْكِ، والحُكْمُ يَنْتَفِي لانْتِفاءِ سَبَبِه، سواء انْتَفَى لعُذْرٍ أو لغيرِه. والثاني، يَملِكُها بالتَّعرِيفِ في الحَوْلِ الثاني، لأنَّه لم يُؤَخره عن وَقْتِ إمكانِه، أشْبَه تَعرِيفَها في الحَوْلِ الأوّلِ. فصل: ومَتَى عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلا فلم تُعرَفْ، مَلَكَها، غَنِيًّا كان أو فَقِيرًا، رُوِيَ نحوُ (¬1) ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مَسْعُودٍ، وعائِشَةَ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال عَطاءٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَ عن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ علي، وابنِ عَبّاس، والشعبيِّ، والنَّخَعِيِّ، وطَاوُسٍ، وعِكْرِمَةَ نحوُ ذلك. وقال مالكٌ، والحَسنُ بنُ صالح، والثَّوْرِيّ، وأصحابُ الرَّأي: يَتَصَدَّقُ بها، فإذا جاء صاحِبُها خُيِّرَ بينَ الأجْرِ والغُرمِ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ عن اللّقَطَةِ، فقال: «عَرِّفْها حَوْلًا». ورُوِيَ: «ثَلاثَةَ أحوَال، فإنْ جَاءَ رَبها، وَإلَّا تَصَدَّقْ بِها، فإذَا جَاءَ رَبُّها، فَرَضِيَ بالأجْرِ، وَإلَّا غَرِمَها» (¬1). ولأنَّها مال المعصُوم لم يَرضَ بزَوالِ مِلْكِه عنها، ولا يُوجَدُ منه سَبَبٌ يَقْتَضِي ذلك، فلم يَزُلْ مِلْكُه عنه، كغيرِها. قالوا: وليس له أن يتَمَلَّكَها. إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: له ذلك إن كان فَقِيرًا مِن غيرِ ذَوى القُربَى؛ لِما روَى عِياضُ بنُ حِمارٍ المُجاشِعِي، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «منْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشهِد عَلَيها ذَا عدلٍ -أوْ ذوَيْ عَدلٍ- وَلَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ، فَإنْ وَجَدَ صَاحِبَها فَلْيَرُدَّها عَلَيهِ، وَإلا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ». رَواه النَّسَائِيُّ (¬2). قالوا: وما يُضافُ إلى اللهِ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في كتاب الرضاع. سنن الدارقطني 4/ 182. وانظر: مصنف عبد الرزاق 10/ 138، 139، ومصنف ابن أبي شيبة 6/ 452. (¬2) في: باب الإشهاد على اللقطة، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 3/ 418.كما أخرجه أبو داود، في: كتاب اللقطة. سنن أبي داود 1/ 397. وابن ماجه، في: باب اللقطة، من كتاب اللقطة. سنن ابن ماجه 2/ 837. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 162، 266.

2509 - مسألة: (فإن لم تعرف، دخلت في ملكه بعد الحول حكما كالميراث. وعند أبي الخطاب، لا يملكه حتى يختار ذلك)

فَإِنْ لَم يُعرَفْ، دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بَعدَ الْحَوْلِ حُكْمًا، كَالْمِيرَاثِ. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ، لَا يملِكُهُ حَتَّى يَخْتَارَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى، إنَّما يَتَمَلَّكُه مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ. ونقلَ حَنْبَل عن أحمدَ مثلَ هذا القَوْل، فأنْكَرَه الخَلَّالُ، وقال: ليس هذا مَذْهبًا لأحمدَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ زَيدِ بنِ خالدٍ (¬1): «فَإن لَم تُعرَفْ فَاستَنْفِقها». وفي لَفْظٍ: «وَإلَّا فَهِيَ كَسَائِرِ مَالِكَ». وفي لَفْظٍ: «ثُمَّ كُلها». وفي لَفْظٍ: «فَانْتَفع بِها». وفي لَفْظٍ: «فَشأنكَ بِها». في حَدِيثِ أبي بن كَعبٍ (¬2) وفي لَفْظٍ: «فاسْتَمتع بِها». وهو حَدِيث صحيح (¬3)، ولأنَّ مَن مَلَك بالقَرضِ مَلَك اللَقَطَةَ، كالفَقِيرِ، ومَن جازَ له الالْتِقاطُ مَلَك به بعدَ التّعرِيفِ، كالفَقِيرِ، وحَدِيثُهم عن أبي هُرَيرَةَ لم يَثْبُتْ، ولا نُقِلَ في كتابٍ يُعتَمَدُ عليه، ولا يوثَقُ به. ودَعواهُم في حَدِيثِ عِياض أنَّ ما يُضَافُ إلى اللهِ تعالى لا يَتَمَلَّكُة إلَّا مَن يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ، لا بُرهانَ لها، وبُطْلانُها ظاهِر، فإنَّ الأشْياءَ كُلَّها تضافُ إلى اللهِ تعالى خَلْقًا ومِلْكًا، قال اللهُ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬4). 2509 - مسألة: (فإن لم تُعرَفْ، دَخَلَتْ في مِلْكِه بعد الحَوْلِ حُكْمًا كالمِيراثِ. وعندَ أبي الخَطَّابِ، لا يَملِكُه حتى يَخْتارَ ذلك) نَصَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 227. (¬3) انظر مواضع هذه الألفاظ في: إرواء الغليل 6/ 21، 22. (¬4) سورة النور 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه أحمدُ، في رِوايةِ الجَماعةِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لقولِه: «وإلَّا كَانَتْ كَسَائِرِ مَالِهِ». وعندَ أبي الخَطَّابِ: لا تدخُلُ في (¬1) مِلْكِه حتى يَخْتارَ. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ؛ فقال بعضُهم كقَوْلِنا. وقال قَوْمٌ: يَملِكُها بالنيةِ. ومنهم مَن قال: يَملِكُها بقَوْلِه: اخْتَرتُ مِلْكَها. ومنهم من قال: لا يملِكُها إلَّا بقَوْلِه والتَّصَرُّفِ فيها؛ لأنَّ هذا تَملّكٌ بعِوَض، فلم يَحصُلْ إلَّا باخْتِيار المُتَمَلِّكِ، كالقَرضِ. ولَنا، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُها وَإلَّا فَهِيَ كَسَائِرِ مالِكَ». وقولُه: «فَاسْتَنْفِقها». ولو وَقَف مِلْكُها على تَمَلُّكِها لبَيَّنهَ له، ولم يُجَوِّزْ له التَّصَرُّفَ قبلَه. وفي لَفْظٍ: «كُلْها». وهذه الألْفاظُ كلّها تَدُلُّ على ما قُلْنا، ولأنَّ الالْتِقاطَ والتعريف سَبَب للتَّمَلُّكِ، فإذا تَمَّ، وَجَب أن يَثْبُتَ به المِلْكُ حُكْمًا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالإِحياءِ والاصطِيادِ. ولأنَّه سَببٌ يُملَكُ به، فلم يَقِفِ المِلْكُ بعدَه على قَوْلِه ولا اخْتِيارِه، كسائِرِ الأسْباب، وذلك لأنَّ المُكَلَّفَ ليس إليه إلَّا مُباشَرَةُ الأسْبابِ، فإذا أَتَى بها، ثَبَت الحُكْمُ قَهْرًا وجَبْرًا مِن الله عَزَّ وَجَل، غيرَ مَوْقُوفٍ على اخْتِيارِ المُكَلَّفِ. فأمّا الاقْتِراضُ فهو السببُ في نَفْسِه، فلم يَثْبُتِ المِلْكُ بدُونِه. فعلى هذا، لو الْتَقَطَها اثْنان فعَرَّفاها حَوْلًا، مَلَكاها جَمِيعًا. فإن قُلْنا: يَقِف المِلْكُ على الاخْتِيارِ. فاخْتارَ أحَدُهُما دُونَ الآَخَرِ، مَلَك المُخْتارُ نِصفَها وحدَه. فصل: فإن رَأياها مَعًا، فأخَذَها أحَدُهما وحدَه، أو رآها أحَدُهما، فأعلمَ بها صاحِبَه، فأخَذَها، فهي لآخِذِها، لأنَّ اسْتِخقاقَها بالأخْذِ لا بالرؤيَةِ، كالاصطِيادِ. وإن قال أحَدُهما لصاحِبِه: هاتِها. فأخَذَها لنَفْسِه، فهي له دُونَ الآمِرِ، وإن أخَذَها الآمِرُ فهي له، كما لو وَكَّلَه في الاصطِيادِ له.

2510 - مسألة: (وعن أحمد، لا تملك إلا الأثمان. وهو ظاهر المذهب. وهل له الصدقة بغيرها؟ على روايتين)

وَعَنْ أحمَدَ، لَا تُملَكُ إلا الْأثْمَانُ. وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذهبِ. وَهل لَهُ الصَّدَقَةُ بِغَيرها؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2510 - مسألة: (وعن أحمدَ، لا تُملَكُ إلَّا الأثْمانُ. وهو ظاهِرُ المَذْهبِ. وهل له الصَّدَقَةُ بغيرِها؟ على رِوايَتَين) كُل ما جازَ الْتِقاطُه، مُلِكَ بالتَّعرِيف عندَ تَمامِه، أثْمانًا كان أو غيرَها. وهو ظاهِرُ كلامِ الخرَقِيِّ. ونُقِلَ ذلك عن أحمدَ، فرَوَى عنه محمدُ بنُ الحَكَمِ، في الصَّيّادِ يَقَعُ في شَبَكَتِه الكِيسُ أو النُّحاسُ، يُعَرِّفُه سَنَةً، فإن جاء صاحِبُها، وإلا فهو كسائِرِ مالِه. وهذا نَصّ في النُّحاس. وقال ابنُ أبي مُوسى: هل حُكْمُ العُرُوضِ في التعرِيفِ وجَوازِ التَّصَرُّفِ بعدَ ذلك حُكْمُ الأثْمانِ؟ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتَين؛ أظْهرُهما، أنَّها كالأثْمانِ. قال شَيخُنا (¬1): ولا أعلَمُ بينَ أكْثَرِ أهْلِ العلْمِ فرقًا بينَ الأثْمانِ والعُرُوضِ في ذلك. وقال أكْثَرُ أصحابِنا: لا تملَكُ العُرُوضُ بالتعرِيفِ. قال القاضِي: نص عليه أحمدُ في رِوايةِ الجَماعةِ. واخْتَلَفُوا فيما يصنَعُ بها، فقال أبو بكر، وابنُ عَقِيل: يُعَرِّفُها أبدًا. وقال القاضي: هو بالخِيارِ بينَ أن يُقِيمَ على تَعرِيفِها حتى يَجِئَ صاحِبُها، وبينَ دَفْعِها إلى الحاكِمِ ليَرَى رَأيَه فيها. وهل له بَيعُها بعدَ الحَوْلِ والصَّدَقَةُ. بها؟ على روايَتَين؛ إحداهُما، يَجُوزُ، كما تجوزُ الصدَقَة بالغُصُوبِ التي لا يُعرَفُ أربابُها. والثّانيةُ، لا يجوزُ؛ لأنّه يَحتَمِلُ أن يَظْهرَ صاحِبُها فيَأخُذَها. وقال الخَلَّالُ: كُل مَن روَى عن أحمدَ، روَى عنه أنَّه يُعَرِّفُه سَنَةً ويَتَصَدَّقُ به، والذي روَى عنه أنّه يُعَرِّفُها أبدًا، قول قَدِيم ¬

(¬1) في: المغني 8/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجَع عنه. واحتَجُّوا بأنَّه قد رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عَبّاس، وابنِ مَسْعُودٍ مثلُ قَوْلِهم. ولأنَّها لُقَطَة لا تُملَكُ في الحَرَمِ، فلا تُملَكُ في غيرِه، كالإِبِلِ. ولأنَّ الخَبَرَ وَرَد في الأثْمانِ، وغيرُها لا يُساويها؛ لعَدَم الغَرَضِ المُتَعَلِّقِ بعَينها، فمثلُها يَقُومُ مَقامَها مِن كُلِّ وَجْهٍ. ولَنا، عُمُومُ الأَحادِيثِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في اللُّقَطَةِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن اللُّقَطَةِ، فقال: «عَرِّفها سَنَةً». ثم قال في آخِرِه: «فَشَأنَكَ بِها». أو: «فَانْتَفع بِها». وفي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَدِيثِ عِياضِ بنِ حمارٍ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً». وهو لَفْط عام. وقد روَى الجُوزْجانيُّ، والأثْرَمُ في كِتابَيهما: ثنا أبو نُعَيم، ثنا هِشَامُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: أتَى رَجل رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ تَرَى في مَتَاع يُوجَدُ في الطَرِيقِ المُعتادِ، أو في قَريَةٍ مَسْكُونَةٍ؟ قال: «عَرِّفْهُ سَنَة، فَإنْ جَاءَ صاحِبُهُ، وإلَّا فَشْأنَكَ بِهِ» (¬1). ورَوَيا أنَّ سُفْيانَ بنَ عبدِ اللهِ وَجَد عَيبَةً (¬2)، فأتَى بها عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، فقال: عَرِّفْها سَنَةً، فإن عُرِفَتْ وَإلَّا فَهِيَ لَكَ. زاد الجُوزْجانِيُّ: فلم تُعرَفْ، فلَقِيَه بها العامَ المُقْبِلَ (¬3) فذَكَرها له، فقال عُمَرُ: هي لك، إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَنا بذلك. ورَواه النسَائِي (¬4). وهذا نَصُّ في غيرِ الأثْمانِ. وروَى الجُوزْجانِيُّ بإسْنادِه، عن الحُرِّ بنِ الصَّيَّاحِ (¬5)، قال: كنتُ عند ابنِ عُمَرَ بمَكَّةَ، إذ جاءَه رَجُلٌ، فقال: إنِّي وَجَدتُ هذا البُردَ، وقد نَشَدتُه وعَرَّفْتُه، فلم يَعرِفْه أحَدٌ، وهذا يَوْمُ الترويَةِ، يوم يَتَفَرَّقُ النّاسُ. فقال: إن شِئْتَ قَوَّمتَه قِيمَةَ عَدْلٍ ولَبِسْتَه، وكنتَ له ضامِنًا، متى جاء صاحِبُه دَفَعتَ إليه ثَمَنَه، وإن ¬

(¬1) أخرجه النسائي، في: باب المعدن، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 33. (¬2) العيبة: وعاء من خوص ونحوه، أو وعاء من جلد ونحوه يكون فيه المتاع. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب ذكر الاختلاف على الوليد بن كثير. . . .، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 3/ 421. كما أخرجه الطحاوي، في: باب اللقطة والضوال، من كتاب الإجارات. شرح معاني الآثار 4/ 137، 138. (¬5) في م: «الصباح»:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَجِيء له طالِب فهو لك إن شِئْتَ. ولأنّ ما جازَ الْتِقاطُه مُلِكَ بالتَّعرِيفِ، كالأثْمانِ، وما حَكَوه عن الصحابةِ إن صَحَّ، فقد حَكَينا عن عُمَرَ وابْنِه خِلافَه. وقولُهم: إنَّها لُقَطَة لا تُملَكُ في الحَرَمِ. مَمنُوعٌ، ثم هو مَنْقُوض بالأثْمانِ، وقِياسُها على الإبِلِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ معها حِذَاءَها وسِقَاءَها، تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشَّجَرَ حتى يَأتِيها رَبُّها، ولا يُوجَدُ ذلك في غيرِها، ولأنَّ الإبلَ لا يجوزُ الْتِقاطُها، فلا تُملَكُ، وههُنا يَجُوزُ الْتِقاطُها، فتملَكُ به، كالأثْمانِ. وقَوْلُهم: إنَّ النَّصَّ خاصٌّ في الأثْمانِ. قُلْنا بل هو عام في كُلِّ لُقَطَةٍ، فيَجِبُ العَمَلُ بعُمُومِه، كان وَرَد فيها نَصّ خاص، فقد رُوِيَ خَبَر عام، فيُعمَلُ بهما، ثم قد رَوَيناه في العُرُوضِ، فيَجبُ العَمَلُ به، كما وجَب العَمَلُ بالخاصِّ في الأثْمانِ ثم لو اخْتَصَّ الخَبَرُ بالأثْمانِ، لوَجَبَ أن يُقاسَ عليها ما في مَعناها، كسائِرِ النُّصُوصِ التي عُقِلَ مَعناها ووُجِدَ في (¬1) غيرِها، وههُنا قد وُجدَ المعنَى، فيَجِبُ قِياسُه على المَنْصُوصِ عليه، بل المَعنَى ههُنا آكَدُ، فيَثْبُتُ الحُكْمُ فيه بطَرِيقِ التنبِيهِ (¬2) بَيانُه أنَّ الأثْمانَ لا تَتْلَفُ بمُضِيِّ الزَّمانِ عليها وانْتِظارِ صاحِبِها بها أبدًا، والعُرُوضُ تَتْلَفُ بذلك، ففي النِّداءِ عليها دائِمًا هلَاكُها وضَياعُ مالِيَّتها على صاحِبِها ومُلْتَقِطِها وسائِرِ النّاسِ، وفي إباحَةِ الانْتفاعِ بها ومِلْكِها بعدَ التَّعرِيفِ حِفْظ لمالِيَّتها على صاحِبِها بدَفْعِ قِيمَتِها إليه، ونَفْعٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «البينة».

2511 - مسألة: وعن أحمد، أن (لقطة الحرم لا تملك بحال)

وَعَنْهُ، لَا تُمْلَكُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيرِه، فيَجِبُ ذلك؛ لنَهْي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[عن إضاعَةِ المالِ] (¬1)، ولِما فيه مِن المَصْلَحَةِ والحِفْظِ لمالِ المُسْلِمِ عليه، ولأنَّ في إثْباتِ المِلْكِ حَثًّا على الْتِقاطِها وحِفْظِها وتَعْرِيفِها؛ لكَوْنِه وَسِيلةً إلى المِلْكِ المَقْصُودِ للآدَمِيِّ، وفي نَفْي مِلْكِها تَضْيِيعٌ لها، لِما في الْتِقاطِها مِن الخَطَرِ والمَشَقَّةِ والكَلَفِ مِن غيرِ نَفْعٍ يَصِلُ إليه، فيُؤَدِّي إلى أن لا يَلْتَقِطَها أحَدٌ، فتَضِيعَ. وما ذَكَرُوه (¬2) في الفَرْقِ مُلْغًى في الشّاةِ، فقد ثَبَتٍ المِلْكُ فيها مع هذا الفَرْقِ، ثم يُمْكِنُنا أن نَقِيسَ على الشّاةِ، فلا يَحْصُلُ هذا الفَرْقُ بين الفَرْعِ والأصْلِ، ثم نَقْلِبُ دَلِيلَهُم فنقولُ: لُقَطَةً لا تُمْلَكُ في الحَرَمِ، فما أُبِيحَ الْتِقاطُه منها مُلِكَ إذا كان في الحِلِّ، وما لا يُباحُ لا يُمْلَكُ، كالإبِلِ. 2511 - مسألة: وعن أحمدَ، أنَّ (لُقَطَةَ الحَرَمِ لا تُمْلَكُ بحالٍ) المَشْهُورُ عن أحمدَ وفي المَذْهَبِ، أنَّ لُقَطَةَ الحَرَمِ والحِلِّ سَواءٌ. وهو ظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وابنِ عباسٍ، وعائِشَةَ، وابنِ المُسَيَّبِ. وهو مَذْهبُ مالِكٍ، وأبي حنيفةَ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه لا يَجُوزُ الْتِقاطُ لُقَطَةِ الحَرَمِ للتَّمْلِيكِ، ويجوزُ لحِفْظِها لصاحِبِها، فإنِ الْتَقَطَها عَرَّفَها أبَدًا حتى يَأْتِيَ صاحِبُها. وهو قولُ عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ، وأبي عُبَيدٍ. وعن الشافعيِّ كالمَذْهَبَينِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مَكَّةَ: «لَا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ذكره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحِلُّ سَاقِطَتُها إلَّا لمُنْشِدٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والمُنْشِدُ المُعَرِّفُ. قاله أبُو عُبَيدٍ (¬2). والنّاشِدُ الطّالِبُ. ويُنْشَدُ: * إصَاخَةَ النّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ (¬3) * فيكونُ مَعْناه: لا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكّةَ إلَّا لمَن يُعَرِّفُها؛ لأنَّها خُصَّتْ بهذا مِن بينِ سائِرِ البُلْدانِ. وروَى أبو داوُدَ (¬4)، بإسْنادِه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن لُقَطَةِ الحاجِّ. قال ابنُ وَهْبٍ: يَعْنِي يَتْرُكُها حتى يَجِدَها صاحِبُها. وَوَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى عمُومُ الأحادِيثِ، ولأنَّه أحَدُ الحَرَمَين، أشْبَه حَرَمَ المَدِينةِ، ولأنَّها أمانَةٌ، فلم يَخْتَلِفْ حُكْمُها بالحِلِّ والحَرَمِ، كالوَدِيعَةِ. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا لِمُنْشِدٍ». يَحْتَمِلُ أنَّه يُرِيدُ إلَّا لمَن عَرَّفَها عامًا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، من كتاب اللقطة، وفي: باب وقال الليث حدثني يونس. . . .، من كتاب المغازي، وفي: باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، من كتاب الديات. صحيح البخاري 3/ 164، 165، 5/ 194، 9/ 6. ومسلم، في: باب تحريم مكة وصيدها وخلاها. . . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989. كما أخرجه أبو داود، في: باب تحريم حرم مكة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 465. والنسائي، في: باب النهي أن ينفر صيد الحرم، من كتاب المناسك. المجتبى 5/ 166. وابن ماجه، في: باب فضل مكة، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1038. والدارمي، في: باب النهي عن لقطة الحاج، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 265. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 318، 348، 2/ 238. (¬2) في غريب الحديث 2/ 133. (¬3) عجز بيت للمثقب العبدي. ديوانه 41. وصدره: * يصيخ للنبأة أسماعه * (¬4) في كتاب اللقطة، سنن أبي داود 1/ 399. كما أخرجه مسلم، في: باب في لقطة الحاج، من كتاب الحج. صحيح مسلم 3/ 1351. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 499.

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي اللُّقَطَةِ حَتَّى يَعْرِفَ وعَاءَهَا، وَوكَاءَهَا، وَقَدْرَهَا، وَجنْسَهَا، وَصِفَتَهَا. وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ عِنْدَ وجْدَانِهَا، وَالإشْهَادُ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَخْصِيصُها بذلك لتَأْكِيدِها؛ لقَوْلِه - عليه السلام -: «ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حَرَقُ النَّارِ» (¬1) وضالَّةُ الذِّمِّيِّ مَقِيسَةٌ عليها. والله أعلمُ. فصل: (ولا يجوزُ له التَّصرُّفُ في اللُّقَطَةِ حتى يَعْرِفَ وعاءَها، وَوكاءَها، وقَدْرَها، وجِنْسَها، وصِفَتَها. ويُسْتَحَبُّ ذلك عند وجْدانِها، في الإشْهادُ عليها) لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَديثِ زَيدٍ: «اعْرِفْ وكَاءَهَا وعِفَاصَهَا» (¬2). وقال في حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: «اعْرِفْ عِفَاصَها وَوكَاءَهَا وعَدَدَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةٌ» (¬3). وفي لَفْظٍ عن أُبَيِّ بنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 193. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 227.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَعْبٍ، أنَّه قال: وَجَدْتُ مائةَ دِينارٍ، فأتَيتُ بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «عَرِّفْهَا حَوْلًا». فعَرَّفْتُها حَوْلًا فلم تُعْرَفْ، فرَجَعْتُ إليه، فقال: «اعْرِفْ عِدَّتَها وَوعَاءَهَا ووكاءَها واخْلِطْهَا بمَالِكَ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأدِّهَا إلَيهِ؟. ففي هذا الحَدِيثِ أمَرَه بمَعْرِفَةِ صِفَاتِها بعد التَّعْرِيفِ، وفي غيرِه أمَرَه بمَعْرِفَتِها حين (¬1) الْتقاطِها قبلَ تَعْرِيفِها، وهو الأوْلَى؛ لِيَحْصُلَ عندَه ¬

(¬1) في م: «بعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِلْمُ ذلك، فمتى جاء صاحِبُها فنَعَتَها، غَلَب على ظَنِّه صِدْقُه فدَفَعَها إليه. وإن أخَّرَ مَعْرِفَةَ ذلك إلى حينِ مجئِ باغِيها، جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ بمَعْرِفَتِها (¬1) حينَئِذٍ. فإن لم يَجئْ طالِبُها، فأرادَ التَّصَرُّفَ فيها بعدَ الحَوْلِ، لم يَجُزْ له حتى يَعْرِفَ صِفاتِها؛ لأنَّ عَينَها تَنْعَدِمُ بالتَّصَرُّفِ، فلا يَبْقَى له سَبِيلٌ إلى مَعْرِفَةِ صِفاتِها إذا جاء طالِبُها، وكذلك إن خَلَطَها بمالِه على وَجْهٍ لا تَتَمَيَّزُ منه، فيكونُ أمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيٍّ بمَعْرِفَةِ صِفاتِها عند خَلْطِها بمالِه أمْرَ إيجابٍ مُضَيَّقٍ، وأمْرُه لزَيدِ بنِ خالدٍ بمَعْرِفَةِ ذلك حينَ الالْتِقاطِ أمْرَ اسْتِحْبابٍ. قال القاضي: يَنْبَغِي أن يَعْرِفَ جِنْسَها، ونَوْعَها، وإن كانت ثِيابًا عَرَف لُفافَتَها وجِنْسَها، ويَعْرِفَ قَدْرَها بالكَيلِ، أو الوَزْنِ، أو العَدَدِ، أو الذَّرْعِ، ويَعْرِفَ العَقْدَ عليها، هل ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو عَقْدٌ واحِدٌ أو أكْثَرُ؟ أُنْشُوطَةٌ (¬1) أو غيرُها؟ ويَعْرِفَ صِمامَ القارُورَةِ الذي يَدْخُلُ رَأْسَها، وعِفاصَها الذي تَلْبَسُه. ويُسْتَحَبُّ أن يُشْهِدْ عليها حينَ يَجِدُها. قال أحمدُ: لا أُحِبُّ أن يَمَسَّها حتى يُشْهِدَ عليها. فظاهِرُ هذا أنَّه مُسْتَحَبٌّ غيرُ وأُجِبٍ، وأنَّه لا ضَمانَ عليه إذا لم يُشْهِدْ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَضْمَنُها إذا لم يُشْهِدْ عليها؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ، أو ذَوَيْ عَدْل» (¬2). وهذا أمْرٌ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، ولأنَّه إذا لم يُشْهِدْ، كان الظّاهِرُ أنَّه أخَذَها لنَفْسِه. ولنَا، خَبَرُ زَيدِ بنِ خالدٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، فإنَّه أمَرَهُما بالتَّعْرِيفِ دُونَ الإشْهادِ، ولو كان واجِبًا لبَيَّنَه، فإنَّه لا يجوزُ تَأخِيرُ البيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، سِيَّما وقد سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن حُكْمِ اللُّقَطَةِ، فلم يَكُنْ ليُخِلَّ بذِكْرِ الواجبِ فيها، فيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الأمْرِ في حَدِيثِ عِياضٍ على الاسْتِحْبابِ. ولأنَّه أَخْذُ أمانَةٍ، فلم يَفْتَقِرْ إلى الإِشْهادِ، كالوَدِيعَةِ. والمَعْنَى الذي ذَكَرُوه غيرُ صَحِيحٍ. فإنَّه إذا حَفِظَها وعَرَّفَها لم يَأْخُذْها لنَفْسِه، وفائِدَةُ الإِشْهادِ صِيانَةُ نَفْسِه مِن الطَّمَعِ فتيها، وحِفْظُها مِن وَرَثَتِه إن مات، ومن غُرَمائِه إن أفْلَسَ، وإذا أشْهَدَ عليها، لم يَذْكُرْ ¬

(¬1) الأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 235.

2512 - مسألة: (فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه بنمائها المتصل، وزيادتها المنفصلة لمالكها قبل الحول، ولواجدها بعده، في أصح الوجهين)

فَمَتَى جَاءَ طَالِبُهَا فَوَصَفَهَا، لَزِمَ دَفْعُهَا إِلَيهِ بِنَمَائِهَا الْمُتَّصِلِ، وَزِيَادَتُهَا الْمُنْفَصِلَةُ لِمَالِكهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلوَاجِدِهَا بَعْدَهُ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للشُّهُودِ صِفاتِها، كما قُلْنا في التَّعْرِيفِ، لكِنْ يَذْكُرُ للشُّهُودِ ما يَذْكُرُه في التَّعْرِيفِ مِن الجِنْسِ والنَّوْعِ. قال أحمدُ، في رِوايةِ صالحٍ، وقد سَألَه: إذا أشْهَدَ عليها، هل يُبَيِّنُ كم هي؟ قال: لا، ولكنْ يقولُ: قد أصَبْتُ لُقَطَةً. ويُسْتَحَبُّ أن يَكْتُبَ صِفاتِها؛ ليكونَ أثْبَتَ له، مَخافَةَ أن يَنْساها إنِ اقْتَصَرَ على حِفْظِها بقَلْبِه، فإنَّ الإنْسانَ عُرْضَةُ النِّسْيانِ. 2512 - مسألة: (فمتى جاء طالِبُها فوَصَفَها، لَزِم دَفْعُها إليه بنَمائِها المُتَّصِلِ، وزِيادَتُها المُنْفَصِلَةُ لمالِكِها قبلَ الحَوْلِ، ولِواجِدِهَا بعدَه، في أصَحِّ الوَجْهين) إذا جاء طالِبُ اللُّقَطَةِ فوَصَفَها، وَجَب دَفْعُها إليه بغيرِ بَيِّنَةٍ، سواءٌ غَلَب على ظَنِّه صِدْقُه أو لم يَغْلِبْ. وبهذا قال مالكٌ، وأبو عُبَيدٍ (¬1)، وداوُدُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يُجْبَرُ على ذلك إلَّا ببيِّنَةٍ، ويَجوزُ له دَفْعُها إليه إذا غَلَب على ظَنِّه صِدْقُه. وقال أصحابُ الرَّأْي: إن شاء دَفَعَها إليه، ¬

(¬1) بعده في حاشية الأصل: «وإسحاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخَذَ كَفِيلًا بذلك؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي» (¬1). ولأنَّ صِفَةَ المُدَّعِي لا يَسْتَحِقُّ بها، كالمَغْصُوبِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنْ جَاءَكَ أحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِها وَوعَائِهَا وَو كَائِها، فَادْفَعْهَا إلَيهِ» (¬2). وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ. وفي حَدِيثِ زَيدٍ: «اعْرِفْ وكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفهَا سَنَةً، فَإنْ لم تُعْرَفْ فاسْتَنْفِقْهَا، وإنْ جَاءَ طَالِبُها يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأدِّهَا إلَيهِ» (¬3). يَعْنِي إذا ذَكَرَ صِفَاتِهِا؛ لأنَّ ذلك هو المَذْكُورُ في صَدْرِ الحَدِيثِ، ولم يَذْكُرِ البَيِّنَةَ، ولو كانتْ شَرْطًا للدَّفْعِ لذَكَرَها؛ لأنَّه لا يجوزُ تَأُخِيرُ البَيَانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، ولأنَّ إقامَةَ البَيِّنَةِ على اللُّقَطَةِ تَتَعَذَّرُ؛ لأنَّها إنَّما تَسْقُطُ حال الغَفْلَةِ، فتَوَقُّفُ دَفْعِها على البَيِّنةِ منعٌ ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي، في: باب ما جاء أن البينة على المدعي. . . .، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 87. وكذلك أخرجه الدارقطني، في سننه 3/ 110، 111. والبيهقي، في السنن الكبرى 10/ 252. وتقدم تخريجه من حديث ابن عباس في 13/ 241. وليس في بقية المصادر المذكورة هناك هذا اللفظ. وحديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم. . . . ولكن اليمين على المدعى عليه». تقدم تخريجه في 12/ 478. وانظر إرواء الغليل 8/ 264 - 267، 279. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬3) تقدم تخريجه في 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِوُصُولِها إلى صاحِبِها أبدًا، وهذا يُفَوِّتُ مَقْصُودَ الالْتِقاطِ، ويُفْضِي إلى تَفْويتِ أمْوالِ النّاسِ، وما هذا سَبِيلُه يَسْقُطُ اعْتِبارُ البَيِّنةِ فيه، كالإِنْفاقِ على اليَتِيمِ. والجَمْعُ بين هذا القَوْلِ وبينَ تَفْضِيلِ الالْتِقاطِ على تَرْكِه مُتَناقِضٌ؛ لأنَّ الالْتِقاطَ حِينَئِذٍ يكونُ تَضْيِيعًا لمالِ المُسْلِمِ، وإتْعابًا لنَفْسِه بالتَّعْرِيفِ الذي لا يُفِيدُ، والمُخاطَرَةِ بدِينه بتَرْكِه الواجِبَ مِن تعْرِيفِها، وما هذا سَبِيلُه يَجِبُ أن يكونَ حَرَامًا، فكيف يكونُ فاضِلًا. وعلى هذا نقولُ: لو لم يَجِبْ دَفْعُها بالصِّفَةِ، لم يَجُزِ الْتِقاطُها؛ لِما ذَكَرْناه، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي». يَعْنِي إذا كان ثَمَّ مُنْكِرٌ؛ لقولِه في سِيَاقِه: «وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ». ولا مُنْكِرَ ههُنا، على أنَّ البَيِّنَةَ تَخْتَلِفُ، وقد جَعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَةَ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ وصْفَها، فإذا وَصَفَها فقد أقامَ بَيِّنَتَه. وقِياسُ اللُّقَطَةِ على المَغْصُوبِ غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ النِّزاعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَّ في كَوْنِه مَغْصُوبًا، في الأصْلُ عَدَمُه، وقولُ المُنْكِرِ يُعارِضُ دَعْوَاه، فاحْتِيجَ إلى البَيِّنَةِ، وههُنا قد ثَبَت كونُ هذا المالِ لُقَطةً، وأنَّ له صاحِبًا غيرَ مَن هو في يَدِه، ولا مُدَّعِيَ له إلَّا الواصِفُ، وقد تَرَجَّحَ صِدْقُه، فيَنْبَغِي أن يُدْفَعَ إليه. فصل: ويَدْفَعُها إليه بزِيادَتِها المُتَّصِلةِ والمُنْفَصِلةِ، إذا كان قبلَ الحولِ؛ لأنَّها نماءُ (¬1) مِلْكِه، فإن وَجَدَها زائِدةً بعدَ الحَوْلِ، أخَذَها بزِيادَتِها المُتَّصِلَةِ؛ لأنَّها تَتْبَعُ في الرَّدِّ بالعَيبِ والإقَالةِ، فتَبعَتْ ههُنا. وإن حَدَث بعدَ الحَوْلِ لها نَماءٌ مُنْفَصِلٌ، فهو للمُلْتَقِطِ؛ لأَنَّه نَماءُ مِلْكِه مُتَمَيِّزٌ لا يَتْبَعُ في الفُسُوخِ، فكان له، كَنَماءِ المَبِيعِ إذا رُدَّ بعَيبٍ. وذكر أبو الخَطَّابِ فيه وَجْهًا آخَرَ، أنَّه يكونُ لصاحِبِ اللُّقَطَةِ، بِنَاءً على المُفْلِسِ إذا اسْتُرْجِعَتْ منه العَينُ بعدَ أن زادَتْ زِيادَةً مُتَمَيِّزةً، والوَلَدِ إذا اسْتَرْجَعَ ¬

(¬1) سقط من: م.

2513 - مسألة: (وإن تلفت أو نقصت قبل الحول، لم يضمنها، وبعده يضمنها)

وَإنْ تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ، لَمْ يَضْمَنْهَا، وَإنْ كَانَ بَعْدَهُ ضَمِنَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبُوه ما وَهَبَه له بعدَ زِيادَتِه المُنْفَصِلَةِ. والصَّحِيحُ أنَّ الزِّيادَةَ للمُلْتَقِطِ؛ لِما ذَكَرْناه، وكذلك الصَّحِيحُ في المَوْضِعَين اللَّذَين ذكَرَهما أنَّ الزِّيادَةَ لمن حَدَثَتْ في مِلْكِه. ثم الفَرْقُ بينَهما أنَّه في مَسألَتِنا يَضْمَنُ النَّقْصَ، فتكونُ الزِّيادَةُ له؛ ليكونَ الخَرَاجُ بالضَّمانِ، وثَمَّ لا ضَمانَ عليه، فأمْكَنَ أن لا يكونَ الخَرَاجُ له (¬1). ومتى اخْتَلَفَا في القِيمَةِ أو المِثْلِ، فالقَوْلُ قولُ المُلْتَقِطِ مع يَمِينه، إذا كانتِ اللُّقَطَةُ قد اسْتُهْلِكَت في يَدِ المُلْتَقِطِ؛ لأنَّه غارِمٌ. 2513 - مسألة: (وإن تَلِفَتْ أو نَقَصَتْ قبلَ الحَوْلِ، لم يَضْمَنْها، وبعدَه يضْمَنُها) لأنَّها أمانةٌ في يَدِه، إلَّا أن تكونَ تَلِفَتْ أو نَقَصَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَفْرِيطِه، كالوديعَةِ. وإن أتْلَفَهَا المُلْتَقِطُ أو تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه، ضَمِنَها بمِثْلِها إن كانت مِن ذواتِ الأمْثالِ، أو بقِيمَتِها إن لم تكُنْ مِثْلِيَّةً. قال شَيخُنا (¬1): لا أعْلَمُ فيه خِلافًا. وإن تَلِفَتْ بعدَ الحَوْلِ، ثَبَت في ذِمَّتِه مِثْلُها أو قِيمَتُها بكلِّ حالٍ؛ لأنَّها دَخَلَتْ في مِلْكِه، وتَلِفَتْ من مالِه، وسواءٌ فَرَّطَ أو لم يُفَرِّطْ. وإن وَجَد العَينَ ناقِصَةً بعدَ الحَوْل، أخَذَ العَينَ وأَرْشَ النَّقْصِ؛ لأنَّ جَمِيعَها مَضْمُونٌ إذا تَلِف، فكذلك أَرْشُ نَقْصِها. وهذا قولُ أكْثَرِ العُلَماءِ الَّذِين حَكَمُوا بمِلْكِه لها بمُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ. فأمّا مَن قال: لا يَمْلِكُها إلَّا باخْتِيارِه. لم يُضَمِّنْه إيّاها حتى يَتَمَلَّكَها، وحُكْمُها قبلَ ذلك كَحُكْمِها قبلَ مُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ. ومَن قال: لا يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ بحالٍ. لم يُضَمِّنْه إيّاها. وبهذا قال الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأبو مِجْلَزٍ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، [ومالِكٌ] (¬2)، وأبو يُوسُفَ، قالوا: لا يَضْمَنُ، وإن ضاعتْ بعدَ الحَوْلِ. وقد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ دَلِيلَ دُخُولِها في مِلْكِه. وقال داوُدُ: إذا تَمَلَّكَ العَينَ وأتْلَفَها، لم يَضْمَنْها. وحَكَى ابنُ أبي مُوسَى، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 313. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أحمدَ، أنَّه لَوَّحَ إلى مِثْلِ هذا القولِ؛ لحَدِيثِ عِياض، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «فَإِنْ جَاءَ رَبُّها، وَإلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» (¬1). وقولِه في حَدِيثِ أُبَيِّ بنِ كعْبٍ: «فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُها، وَإلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مالِكَ» (¬2). وفي حَديثِ زَيدٍ: «فإنْ جَاءَ صَاحِبُها، وإِلَّا فَشَأنَكَ بِهَا» (¬3). ورُوِيَ «فَهِيَ لَكَ». ولم يَأْمُرْهُ بِرَدِّ بَدَلِها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْها، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإن جَاء طَالِبُها يَوْمَا مِنَ الدَّهْرِ فَادفَعْهَا إلَيهِ» (¬4). قال الأثْرَمُ: قال أحمدُ: أذْهَبُ إلى حَدِيثِ الضَّحّاكِ بنِ عُثْمَانَ. جَوَّدَه، ولم يَروه أحَدٌ مثلَ ما رَوَاهُ: «إنْ جَاءَ صَاحِبُها بَعدَ سَنةٍ وَقَد أَنفَقَهَا، رَدَّها اليهِ» (¬5). ولأنَّها عَينٌ يَلْزَمُه رَدُّها لو كانت باقِيةً، فيَلْزَمُه ضَمانُها إذا أتْلَفَها، كما قَبْلَ الحَوْلِ، ولأنَّه مالُ مَعْصُومٍ، فلم يَجُزْ إسْقاطُ حَقِّه منه مُطْلَقًا، كما لو اضْطُرَّ إلى مالِ غيرِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 235. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 227. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَجَد العَينَ بعدَ خرُوجِها مِن مِلْكِ المُلْتَقِطِ ببَيعٍ أو هِبَةٍ أو نحوهما، لم يكُنْ له أخْذُها، وله أخْذُ بَدَلِها؛ لأنَّ تَصرُّفَ المُلْتَقِطِ وَقَع صَحيحًا؛ لأنَّه مَلَكَها. فإن صَادَفَها وقد عادَتْ إلى المُلْتَقِطِ بفَسْخٍ أو شِراءٍ أو غيرِ ذلك، فله أخْذُها؛ لأنَّه وَجَد عَينَ مالِه في يَدِ مُلْتَقِطِه، فكان له أخْذُها، كالزَّوْجِ إذا طَلَّقَ قبلَ الدُّخُولِ فوَجَدَ الصَّداقَ قد رَجَع إلى المَرْأةِ. وسائِرُ أحْكامِ (¬1) الرُّجُوعِ ههُنا كَحُكْمِ رُجُوعِ الزَّوْجِ، على ما نَذْكُرُه، إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) سقط من: م.

2514 - مسألة: (وإن وصفها اثنان، قسمت بينهما، في أحد الوجهين)

وَإنْ وَصَفَهَا اثْنَانِ، قُسِمَتْ بَينَهُمَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وفَىِ الْآخَرِ يُقْرَعُ بَينَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2514 - مسألة: (وإن وَصَفَها اثْنان، قُسِمَتْ بينَهما، في أحَدِ الوَجْهَين) ذَكَرَه أبو الخَطَّاب؛ لأنَّهما تَساوَيَا فيما يُسْتَحَقُّ به الدَّفْعُ، فتَساوَيا فيها، كما لو كانت في أيدِيهما. والوَجْهُ الثّانِي أنَّه (يُقْرَعُ بينهما) فمَن وَقَعَتْ له القُرْعَةُ حَلَف وسُلِّمَتْ إليه. ذَكَرَه القاضِي. وهكذا إن أقاما بَيِّنتَينِ. وهذا الوَجْهُ أشْبَهُ بأُصُولِنَا، فيما إذا تَداعَيا عَينًا في يَدِ غيرِهما، ولأنَّهما تداعَيَا عَينًا في يَدِ غيرِهما، وتَساوَيا في البَيِّنَةِ أو عَدَمِها، فتكونُ لمَن وقَعَتْ له القُرْعَةُ، كما لو ادَّعَيا وَدِيعَةً في يَدِ إنْسانٍ، فقال: هي لأحَدِكُما، لا أعْرِفُ عَينَه. وفارَقَ ما إذا كانت في أيدِيهما؛ لأنَّ يَدَ كلِّ واحدٍ منهما على نِصْفِه، فرَجَحَ قَوْلُه فيه.

2515 - مسألة: (فإن أقام آخر بينة أنها له)

وَإنْ أَقَامَ آخَرُ بَيَّنةً أنَّهَا لَهُ، أَخَذَهَا مِنَ الْوَاصِفِ، فَإِنْ تَلِفَتْ ضَمِنَهَا مَنْ شَاءَ مِنَ الْوَاصِفِ أَوْ الدَّافِعِ إِلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2515 - مسألة: (فإن أقَامَ آخَرُ بَيِّنةً أنَّها له) قُدِّمَ؛ لأنَّ البَيَّنةَ أقْوَى مِن الوَصْفِ، فإن كان الواصِفُ قد أخَذَها، رُدَّتْ إلى صاحِبِ البَيِّنةِ؛ لأنَّنا تَبَيَّنّا أنَّها له. فإن كانت قد هَلَكَتْ، فلصاحِبِها تَضْمِينُ مَن شاءَ مِن الواصِفِ والدَّافِعِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ويتَخَرَّج أن لا يَلْزَمَ المُلْتَقِطَ شيءٌ، إذا قُلْنا بوُجُوبِ الدَّفْعِ عليه؛ لأنَّه فَعَل ما أَمِرَ به، ولم يُفَرِّطْ، وهو أمِينٌ؛ فلم يَضمَنْ، كما لو دَفَعَها بأمْرِ الحاكِمِ، ولأنَّه إذا كان الدَّفْعُ واجِبًا عليه يأْثَمُ بترْكِه، فكأنَّه دَفَع بغيرِ اخْتِيارِه، فلم يَضْمَنْ،

2516 - مسألة: (إلا أن يدفعها بحكم حاكم)

إلا أَنْ يَدْفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيهِ. وَمَتَى ضَمِنَ الدَّافِعُ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو أُخِذَتْ منه كَرْهًا. وَوَجْهُ الأوّلِ، أنَّه دَفَع مال غيرِه إلى غيرِ مُسْتَحِقِّه اخْتِيارًا منه، فَضَمِنَه، كما لو دَفَع الوَدِيعةَ إلى غيرِ مالِكِها إذا غَلَب على ظَنِّه أنَّه مالِكُها. 2516 - مسألة: (إلَّا أن يَدْفَعَها بحُكْمِ حاكِمٍ) فلا يَمْلِكُ صاحِبُها مُطالبَتَه؛ لأنَّها مَأْخُوذَةٌ منه على سَبِيلِ القَهْرِ، فلم يَضْمَنْها، كما لو غَصبَها غاصِبٌ، ومتى ضَمِن الواصِفُ لم يَرْجِعْ على أحَدٍ؛ لأنَّ العُدْوانَ منه والتَّلَفَ عندَه. وإن (ضَمِنَ الدافِعُ، رَجَع على الواصِفِ) لأنَّه كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَبَ تَغْرِيمِه، إلَّا أن يكونَ المُلْتَقِطُ قد أقَرَّ للواصِفِ أنَّها له، فإنَّه لا يَرْجِعُ عليه؛ لأنَّه أقَرَّ أنَّه مالِكُها ومُسْتَحِقُّها، وأنَّ صاحِبَ البَيِّنةِ ظَلَمَه بتَضْمِينِه، فلا يَرْجِعُ على غيرِ ظالِمِه. وإن كانتِ اللُّقَطَةُ قد تَلِفَتْ عندَ المُلْتَقِطِ، فضَمَّنَه إيّاها، رَجَع على الواصِفِ بما غَرِمَه، وليس لمالِكِها تَضْمِينُ الواصِفِ؛ لأنَّ الذي قَبَضَه إنَّما هو مالُ المُلْتَقِطِ لا مالُ صاحِبِ اللُّقَطَةِ، بخِلافِ ما إذا سَلَّمَ العَينَ. فأمّا إن وَصَفَها إنْسان فأخَذَها، ثم جاء آخرُ فوَصَفَها وادَّعاها، لم يَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لأنَّ الأوَّلَ اسْتَحَقَّها لوَصْفِه إيّاها وعَدَمِ المُنازِعِ فيها، وثَبَتَتْ يَدُه عليها، ولم يُوجَدْ ما يَقْتَضِي انْتِزاعَها منه، فوَجَبَ إبْقاؤُها في يدِه (¬1)، كسائِرِ مالِه. فصل: ولو جاء مُدَّعٍ للُقَطَةٍ فلم يَصِفْها، ولا أقامَ بَيَنةً أنَّها له، لم يَجُزْ دَفْعُها إليه، سواءٌ غَلَب على ظَنِّه صِدقُه أو كَذِبُه؛ لأنَّها أمانةٌ، فلم يَجُزْ دَفْعُها إلى مَنْ لم يُثْبتْ أنَّه صاحِبُها، كالوَدِيعة. فإنْ دَفَعَها فجاء آخَرُ فوصَفَهَا، أو أقامَ بها بَيِّنةً، لَزِمَ الدّافِعَ غَرامَتُها له، لأنَّه فَوَّتَها على مالِكِها بتَفْرِيطِه، وله الرُّجُوعُ على مُدَّعِيها، لأنَّه أخَذ مال غيرِه، ولصاحِبِها تَضْمِينُ آخِذِها، فإذا ضَمَّنَه، لم يَرْجِع على أحَدٍ. وإن لم يَأْتِ أحَدٌ يَدَّعِيها فلِلْمُلْتَقِطِ مُطالبةُ آخِذِها؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ مَجِئَ صاحِبِها فيُغَرِّمُه إيّاها، ولأنَّها أمانةٌ في يَدِه، فمَلكَ الأخْذَ مِن غاصِبِها، كالوَدِيعةِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المُلْتَقِطُ قد مات واللُّقَطَةُ مَوْجُودةٌ، قام وارِثُه مَقَامَه في تَعْرِيفِها، أو إتمامِه إن مات قبلَ إتْمامِ (¬1) الحَوْلِ، ويَمْلِكُها بعد إتْمامِ التَّعْرِيفِ. وإن مات بعد تَمامِ الحَوْلِ، وَرِثَها الوارِثُ، كسائِرِ أمْوالِ المَيِّتِ، ومتى جاء صاحِبُها، أخَذَها مِن الوارِثِ، كما يأْخُذها مِن المَوْرُوثِ، وإن كانت مَعْدُومَةَ العَينِ، فصاحِبُها غَرِيمٌ للمَيِّتِ بمِثْلِها إن كانت مِن ذواتِ الأمْثالِ، أو بقِيمَتِها إن لم تَكنْ كذلك، فيَأْخُذُ ذلك مِن تَرِكَتِه إنِ اتَّسَعَتْ لذلك، فإن ضاقَتِ التَّرِكَةُ زاحَمَ الغُرَماءَ ببَدَلِها، سواءٌ تَلِفَتْ بعد الحَوْلِ بفِعْلِه أو بغيرِ فِعْلِه؛ لأنَّها قد دَخَلَتْ في مِلْكِه بمُضِيِّ الحَوْلِ. وإن عَلِمَ أنَّها تَلِفَتْ قبلَ الحَوْلِ بغيرِ تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه، ولا شيءَ لصاحِبِها؛ لأنَّها أمانةٌ في يَدِه تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ، فلم يَضْمَنْها، كالوَدِيعةِ. وكذلك إن تَلِفَتْ بعد الحَوْل قبلَ تَملُّكِها بغيرِ تَفريطٍ، عند مَن يَرَي أنَّها لا تَدْخُلُ في مِلْكِه حتى يتَملَّكَها، أو أنَّها لا تُمْلَكُ بحالٍ. وقد مَضَى الكلامُ في ذلك. فأمّا إن لم يَعْلَم تَلَفَها، ولا وُجِدَتْ في تَرِكَتِه، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه غرِيمٌ بها، سَواءٌ كان قبلَ الحَوْلِ أو بعدَه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَ المُلْتَقِطَ شيءٌ، ويَسْقُطَ حَقُّ صاحِبِها؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمَّةِ المُلْتَقِطِ منها؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن تكونَ قد تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ، فلا تُشْغَلُ ذِمَّتُه بالشَّكِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان المَوْتُ قبلَ الحَوْلِ فلا شيءَ عليه؛ لأنَّها كانتْ أمانةً عنده، ولم تُعْلمْ خِيانَتُه (¬2) ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في ر 1: «جنايته».

فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَينَ كَوْنِ الْمُلْتَقِطِ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا، مُسْلِمًا أَو كَافِرًا، عَدْلًا أَو فَاسِقًا، تَأْمَنُ نَفْسَهُ عَلَيها. وَقِيلَ: يُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ فِي تَعْرِيفِهَا وَحِفْظِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، والأصْلُ بَراءَةُ ذِمَّتِه منها. وإن ماتَ بعدَ الحَوْلِ، فهي في تَرِكَتِه؛ لأنَّ الأصْلَ بقاؤُها إلى ما بعد الحَوْلِ، ودُخُولُها في مِلْكِه، ووُجُوبُ بَدَلِها عليه. فإن قِيلَ: فقد قُلْتُم: إنَّ صاحِبَها لو جاء بعد بَيْعِ المُلْتَقِطِ إيّاها أو هِبَتِه لم يَكُنْ له إلَّا بَدَلُها. فلِمَ قُلْتُم: إنَّها إذا انْتَقَلَتْ إلى الوارِثِ يَمْلِكُ صاحِبُها أخْذَها؟ قُلْنا: لأنَّ الوارِثَ خَلِيفةُ المَوْرُوثِ، وإنَّما يَثْبُتُ له المِلْكُ فيها على الوَجْهِ الذي كان ثابتًا لمَوْرُوثِه، ومِلْكُ مَوْرُوثِه فيها كان مُرَاعًى مَشْرُوطًا بعَدَمِ مَجِئِ صاجِبِها، فكذلك مِلْكُ وارِثِه، بخِلافِ مِلْكِ المُشْتَرِي والمُتَّهِبِ، فإنَّهما يَمْلِكانِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المُلْتَقِطِ غَنِيًّا أو فَقِيرًا، مُسْلِمًا أو كافرًا، عَدْلًا أو فاسِقًا، يأَمَنُ نَفْسَه عليها. وقيل: يُضَمُّ إلى الفاسِقِ أمِينٌ في تَعْرِيفِها وحِفْظِها) إذا الْتَقَطَ الغَنِيُّ لُقَطَةً وعَرَّفَها حَوْلًا، مَلَكَها، كالفَقِيرِ، رُوِيَ نحوُ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مَسْعُودٍ، وعائشةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَلِيٍّ، وابنِ عَبّاسٍ، وعَطاءٍ، والشّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وطاوُسٍ، وعِكْرِمَةَ. وبه قال الشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: ليس له أن يَتَمَلَّكَها، إلَّا أن يكونَ فَقِيرًا مِن غيرِ ذَوي القُرْبَى؛ لِما روَى عِياضُ بنُ حِمارٍ المُجاشِعِيُّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيها ذَا عَدْلٍ -أو ذَوَيْ عَدْلٍ- وَلَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ، فَإِنْ وَجَدَ صاحِبَها فَلْيَرُدَّهَا عَلَيه، وَإلَّا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ». رَواه النَّسَائِيُّ (¬1). قالوا: وما يُضَافُ إلى اللهِ تعالى إنَّما يتَمَلَّكُه مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ. ونَقَل حَنْبَلٌ عن أحمدَ مثلَ هذا القَوْل. وأنْكَرَه الخَلَّالُ، وقال: ليس هذا مَذْهَبًا لأحمدَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ زَيدِ بنِ خالدٍ (¬2): «فَإِنْ لم تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْها». وفي لَفْظٍ: «فَشَأنَكَ بها». وفي لَفْظٍ: «وَإلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مالِكَ». ولأنَّ مَن مَلَك بالقَرْضِ مَلَك اللُّقَطَةَ، كالفَقِيرِ، ومَن جاز له الالْتِقاطُ مَلَك به بعدَ التَّعْريفِ، كالفَقِيرِ، ودَعْواهُم في حَدِيثِ عِياض أنَّ ما يُضافُ إلى اللهِ تعالى لا يتَمَلَّكُه إلَّا مَن يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ، لا دَلِيل عليها (¬3)، وبُطْلانُها ظاهِر، فإنَّ الأشياءَ كُلَّها تُضافُ إلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 535. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬3) في الأصل، م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى؛ مِلْكًا وخَلْقًا، قال اللهُ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬1). فصل: ويَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بالالْتِقاطِ كالمُسْلِم. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: ليس له الالْتِقاطُ في دارِ الإِسلامِ؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ الأمانةِ. ولَنا، أنَّه نَوْعُ اكْتِسابٍ، فكان مِن أهْلِه، كالاحْتِشاشِ [والاصطِيادِ] (¬2) والاحتِطاب -وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، فإنَّه يَصِحُّ الْتِقاطُهُما مع عَدَمِ الأَمانةِ. ومتى عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا، مَلَكَها، كالمُسْلِمِ، وإن عَلِم بها الحاكِمُ أقَرَّهَا في يَدِه، وضَمَّ إليه مُشْرِفًا عَدْلًا يُشْرِفُ عليه ويُعَرِّفُها؛ لأنَّنا لا نَأْمَنُ الكافِرَ على تَعْرِيفِها، ولا نَأْمَنُ أن يُخِلَّ في التَّعْرِيفِ بشيءٍ ¬

(¬1) سورة النور 33. (¬2) سقط من: م.

2517 - مسألة: (وإن وجدها صبي أو سفيه، قام وليه بتعريفها، فإذا عرفها، فهي لواجدها)

وَإنْ وَجَدَهَا صَبِيٌّ أَوْ سَفِيهٌ، قَامَ وَلِيُّهُ بِتَعْرِيفِهَا، فَإِذَا عَرَّفَهَا، فَهِيَ لِوَاجِدِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الواجِبِ عليه فيه، وأجْرُ المُشْرِفِ عليه، فإذا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ، مَلَكَها المُلْتَقِطُ. ويَحْتَمِلُ أن تُنْزَعَ مِن يَدِ الذِّمِّيِّ وتُوضَعَ على يَدِ عَدْلٍ؛ لأنَّه غيرُ مَأْمُونٍ عليها. فصل: ويَصِحُّ الْتِقاطُ الفاسِقِ؛ لأنَّها جِهة مِن جِهاتِ الكَسْبِ، فصَحَّ الْتِقاطُه، كالعَدْلِ، ولأنَّه إذا صَحَّ الْتِقاطُ الكافِرِ، فالمُسْلِمُ أوْلَى، إلَّا أنَّ الأوْلَى له ألا يأْخُذَها؛ لأنَّه يُعَرِّضُ نَفْسَه للأمانةِ، وليس مِن أهْلِها. وإذا الْتَقَطَها فعَرَّفَها حَوْلًا، مَلَكَها، كالعَدْلِ، وإن عَلِمَ الحَاكِمُ أو السُّلْطانُ بها، أقَرَّها في يَدِه، وضَمَّ إليه مُشْرِفًا يُشْرِفُ عليه ويَتَولَّى تَعْرِيفَها، كما قُلْنا في الذِّمِّيِّ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ [في أحَدِ قَوْلَيه] (¬1)، وقال في الآخَرِ: يَنْزِعُها مِن يَدِه ويَدَعُها في يَدِ عَدْلٍ. ولَنا، أنَّ مَن خُلِّيَ بينَه وبينَ الوَدِيعَةِ، لم تَزُلْ يَدُه عن اللُّقَطَةِ، كالعَدْلِ، والحِفْظُ يَحْصُلُ بضَمِّ المُشْرِفِ إليه، فأمّا إن لم يُمْكِنِ المُشْرِفَ حِفْظُها منه، انْتُزِعَتْ مِن يَدِه وتُرِكَتْ في يَدِ العَدْلِ، فإذا عَرَّفَها مَلَكَها المُلْتَقِطُ؛ لوُجُودِ سَبَبِ المِلْكِ منه. 2517 - مسألة: (وإن وَجَدَهَا صَبِيٌّ أو سَفِيهٌ، قام وَلِيُّه بتَعْرِيفِها، فإذا عَرَّفَها، فهي لواجِدِها) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الصَّبِيَّ والسَّفِيهَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَجْنُونَ، إذا الْتَقَطَ أحَدُهُم لُقَطةً، ثَبَتَتْ يَدُه عليها؛ لعُمُومِ الأخبارِ، ولأنَّه نَوْعُ تَكَسُّبٍ، فصَحَّ منه، كالاصطِيادِ والاحْتِطابِ. فإن تَلِفَتْ في يَدِه بغيرِ تَفْرِيطٍ، فلا ضَمانَ عليه، وإن تلِفَتْ بتَفْرِيطِه، ضَمِنَها في مالِه، وإذا عَلِمَ بها وَلِيُّه، لَزِمَه أخْذُها منه؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ الحِفظ والأمانةِ، فإن تَرَكَهَا في يَدِه، ضَمِنَها؛ لأنَّه يَلْزَمُه حِفْظُ ما يتَعَلَّقُ به حقُّ الصَّبيِّ، وهذا يَتَعَلَّقُ (¬1) به حَقُّه، فإذا تَرَكَها في يَدِه كان مُضَيِّعًا لها. ويُعَرِّفُها الوَلِى إذا أخَذَها؛ لأنَّ واجِدَها ليس مِن أهْلِ التَّعْرِيفِ، فإذا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ دَخَلَتْ في مِلْكِ واجِدِها؛ لأنَّ سَبَبَ التَّمَلُّكِ تَمَّ بشَرْطِه، فثَبَتَ المِلْكُ له، كما لو اصْطادَ صَيدًا. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ، إلَّا أنّ أصحابَه قالوا: إذا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعرِيفِ، فكان الصبيُّ والمَجْنُونُ بحيثُ يُسْتَقْرَضُ لهما، يَمْلِكُه لهما، وإلَّا فلا. وقال بعضُهم: يتَمَلَّكُه لهما بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ الظّاهِرَ عَدَمُ ظُهُورِ صاحِبِه، فيكونُ تَمَلُّكُه مَصْلَحةً له. ولَنا، عُمُومُ الأخبارِ، ولو جَرَى هذا مَجْرَى الاقْتِراضِ لَما صَحَّ الْتِقاطُ صَبِيٍّ لا يجوزُ الاقتِراضُ له؛ لأنَّه يكونُ تَبَرُّعًا بحِفْظِ مالِ غيرِه مِن غيرِ فائِدَةٍ. ¬

(¬1) في م: «يتلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في رِوايةِ العَبّاسِ بنِ مُوسَى (¬1)، في غُلامٍ له عَشْرُ سِنِينَ الْتَقَطَ لُقَطَةً، ثم كَبِرَ: فإن وَجَد صاحِبَها دَفَعَها إليه، وإلَّا تَصَدَّقَ بها، قد مَضَى أجَلُ التَّعْرِيفِ فيما تَقَدَّمَ مِن السِّنِين. ولم يَرَ عليه اسْتِقْبال أجَلِ التَّعْرِيفِ. [قال. وقد كنتُ سَمِعْتُه قبلَ هذا أو بعدَه يقول في انْقِضاء أجَلِ التَّعْرِيفِ] (¬2) إذا لم يَجِدْ صاحِبَها: أيَتَصَدَّقُ بمالِ الغَيرِ! وهذه المسألةُ قد مَضَى نحوُها فيما إذا لم يُعَرِّفِ المُلْتَقِطُ اللقَطَةَ (3) في حَوْلِها الأوَّلِ، فإنَّه لا يَمْلِكُها وإن عَرَّفَها فيما (¬3) بعدَ ذلك؛ لكَوْنِ التَّعْرِيفِ بعدَه لا يُفيدُ ظاهِرًا، لكَوْنِ صاحِبِها يَيأَسُ منها ويَتْرُكُ طَلَبَها. وهذه المسألةُ تَدُلُّ على أنَّه إذا تَرَك التَّعْرِيفَ لعُذْرٍ، فهو كَتَرْكِه لغيرِ عُذرٍ؛ لكونِ الصَّبِيِّ مِن أهْلِ العُذْرِ، وقد ذَكَرْنا فيه وَجْهَين، فيما تَقَدَّمَ. وقال أحمدُ، في غُلامٍ لم يَبْلُغْ أصَابَ عَشَرَةَ دَنانِيرَ، فذَهَبَ بها إلى مَنْزِلِه فضاعَتْ، فلمّا بَلَغ أرادَ رَدَّها، فلم يَعْرِفْ صاحِبَها: تَصَدَّقَ بها، فإن لم يَجدْ عَشَرَةً، وكان يُجْحِفُ به، تَصَدَّقَ قليلًا قَليلًا. قال. القاضِي: هذا مَحْمُولٌ على أنَّها تَلِفَتْ بتَفْرِيطِ الصَّبِيِّ، وهو أنَّه لم يُعلِمْ وَلِيَّه حتى يَقُومَ بتَعْريفِها. ¬

(¬1) أي العباس بن محمد بن موسى الخلال. تقدمت ترجمته. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل.

2518 - مسألة: (وإن)

وَإنْ وَجَدَهَا عَبْدٌ، فَلِسَيِّدِهِ أَخذُهَا مِنْهُ وَتَرْكُهَا مَعَهُ، يَتَوَلَّى تَعْرِيفَهَا إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَإنْ لَمْ يَأْمَنِ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ عَلَيها، لَزِمَهُ سَتْرُهَا عَنْهُ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَهِيَ فِي رَقَبَتِهِ، وَإنْ أَتلَفَهَا بَعْدَهُ، فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2518 - مسألة: (وإن) الْتَقَطَها (عَبْدٌ، فلِسَيِّدِه أخْذُها منه وتَرْكُها معه، يَتَوَلَّى تَعْرِيفَها إن كان عَدْلًا، فإن لم يَأْمَنِ العَبْدُ سَيِّدَه عليها، لَزِمَه سَتْرُها عنه، فإن أتْلَفها قبلَ الحَوْلِ، فهي في رَقَبَتِه، وإن أتْلَفَها بعدَه، فهي في ذِمَّتِه) يَصِحُّ الْتِقاطُ العَبْدِ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ (¬1)، والشافعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيه وقال في الآخَرِ: لا يَصِحُّ الْتِقاطُه؛ لأنُّ اللُّقَطَةَ في الحَوْلِ الأوَّلِ أمانَةٌ وَولايَةٌ، وفي الثاني تَمَلُّكٌ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَبْدُ ليس مِن أهْلِ الولاياتِ ولا التَّمَلُّكِ. ولَنا، عُمُومُ الخَبر، ولأنَّ الالْتِقاطَ سَببٌ يَمْلِكُ به الصَّبِيُّ ويَصِحُّ منه، فَصَحَّ مِن العَبْدِ، كالاصْطِيادِ والاحْتِطابِ، ولأنَّ مَن جاز له قَبولُ الوَدِيعَةِ، صَحَّ منه الالْتِقاطُ، كالحُرِّ. قولُهم: إنَّ العَبْدَ ليس مِن أهْلِ الولاياتِ والأماناتِ. يَبْطُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالصَّبِي والمَجْنُونِ، فإنَّهما أدْنَى حالًا منه في هذا. وقولُهم: إن العَبْدَ لا يَمْلِكُ. مَمْنوعٌ، وإن سَلَّمْنا، فإنَّه يَتَمَلَّكُ لسَيِّدِه، كما يَحْصُلُ بسائِرِ الاكْتِساباتِ، ولأنَّ الالْتِقاطَ تَخْلِيصُ مالٍ مِن الهَلاكِ، فجازَ مِن العَبْدِ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، كإنْقاذِ المالِ الغَرِيقِ والمَغْصُوبِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ اللُّقَطَةَ تكونُ أمانةً في يَدِ العَبْدِ، إن تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ في حَوْلِ التَّعْرِيفِ لم يَضْمَنْ، فإن عَرَّفَها، صَحَّ تَعْرِيفُه؛ لأنَّ له قَوْلًا صَحِيحًا، فصَحَّ تَعْرِيفُه، كالحرِّ، فإذا تَمَّ حَوْلُ التَّعْرِيفِ، مَلَكَها سَيِّدُه، لأنَّ الالْتِقاطَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَسْبُ العَبْدِ، وكَسْبُه لسَيِّدِه. فإن عَلِمَ السَّيِّدُ بلُقَطَةِ عَبْدِه، كان له انْتِزاعُها منه؛ لأنَّها مِن كَسْبِ العَبْدِ، وللسَّيِّدِ انْتِزاعُ كَسْبِه مِن يَدِه، فإنِ انْتَزَعَها بعدَ أن عَرَّفَها العَبْدُ، مَلَكَها، وإن كان لم يُعَرِّفْها، عَرَّفَها سَيِّدُه حَوْلًا، وإن كان العَبْدُ عَرَّفَها بعضَ الحَوْلِ، عَرَّفَها السَّيِّدُ تَمامَه. وللسَّيِّدِ إقْرارُها في يَدِ العَبْدِ إن كان أمِينًا، ويكونُ مُسْتَعِينًا بعَبْدِه في حِفْظِها، كما يَسْتَعِينُ به في حِفْظِ مالِه، فإن كان العَبْدُ غيرَ أمِينٍ، كان السَّيِّدُ مُفَرِّطًا بإقْرارِها في يَدِه، ولَزِمَه ضَمانُها، كما لو أخَذَها مِن يَدِه ورَدَّها؛ لأنَّ يَدَ العَبْدِ كيَدِه، وما يَسْتَحِقُّ بها لسَيِّدِه. وإن أُعْتِقَ العَبْدُ بعد الالْتِقاطِ، فله انْتِزاعُ اللُّقَطَةِ مِن يَدِه؛ لأنَّها مِن كَسْبِه، وأكْسابُه لسَيِّدِه. ومتى عَلِمَ العَبْدُ أن سَيِّدَه غيرُ مَأْمُونٍ عليها، لَزِمَه سَتْرُها عنه، ويُسَلِّمُها إلى الحاكِمِ ليُعَرِّفَها، ثم يَدْفَعُها إلى سَيِّدِه بشَرْطِ الضَّمانِ. فإن أتْلَفَها العَبْدُ في الحَوْلِ الأوّلِ فهي في رَقَبَتِه، كجِناياتِه، وكذلك إن تَلِفَتْ بتَفْرِيطِه، وإن أتْلَفَها بعدَه، فهي في ذِمَّتِه إن قُلْنا: إنَّ العَبْدَ يَمْلِكُها بعد التَّعْرِيفِ. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُها. فهو كما لو أتْلَفها في حَوْلِ التَّعْرِيفِ. ويَصْلُحُ أن يَنْبَنِيَ ذلك على اسْتِدانةِ العَبْدِ، هل تتَعَلَّقُ برَقَبتِه أو ذِمَّتِه؟ على رِوايَتينِ، وقد مَرَّ ذِكْرُه في الحَجْرِ.

2519 - مسألة: (والمكاتب كالحر)

وَالْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ، وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، فَهِيَ بَينَهُ وَبَينَ سَيِّدِهِ، إلا أَنْ يَكُونَ بَينَهُمَا مُهَايَأَةٌ فَهَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأةِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2519 - مسألة: (والمُكاتَبُ كالحُرِّ) في اللُّقَطَةِ؛ لأنَّ المال له في الحالِ، وأكْسابُه له دُونَ سَيِّدِه، وهي مِن أكْسابِه، فإن عَجَز عاد عَبْدًا، وصار حُكْمُه في لُقَطَتِه حُكْمَ العَبْدِ. وأُمُّ الوَلَدِ والمُدَبَّرُ والمُعَلَّقُ عِتْقُه بصفَةٍ، كالقِنِّ (ومَنْ بعضه حُرٌّ) إذا الْتَقَطَ لُقَطةً (فهي بَينَه وبينَ سَيِّدِه) إذا لم يكُنْ بينَهما مُهايَأةٌ كالحُرَّين إذا الْتَقَطا لُقَطةً. (وإن كان بينَهما مُهايأةٌ، لم تَدْخل في المُهايأةِ) في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنها كسْبٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نادِرٌ، لا يُعْلَمُ وُجُودُه، ولا يُظَنُّ، فلم يَدْخُلْ في المُهايَأة كالإرْثِ. فعلى هذا، يكونُ بينَهما. والثاني، يَدْخُلُ في المُهايَأةِ؛ لأنَّها مِن كَسْبه، أشْبَهتْ سائِرَ أكْسابِه، فيكونُ لمَن يُوجَدُ في يَوْمِه. وكذلك الحُكْمُ في الهَدِيَّةِ والوَصِيَّةِ وسائِرِ الأكْسابِ النادِرَةِ، فيها الوَجْهانِ. فإن كان العَبْدُ بين اثْنَين شَرِكَةً فلُقَطَتُه بينَهما، على ما ذَكَرْنا في مَن بعضُه حُرٌّ. واللهُ وأعلمُ.

باب اللقيط

بَابُ اللَّقِيطِ وَهُوَ الطِّفْل الْمَنْبُوذُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اللَّقِيطِ (وهو الطِّفْلُ المَنْبُوذُ) واللَّقِيطُ بمَعْنَى المَلْقُوطِ، كالقَتِيلِ والجَرِيحِ. والْتِقاطُه واجِبٌ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬1) ولأنَّ فيه إحْياءَ نَفْسِه، فكان واجِبًا، كإطْعامِه إذا اضْطُرَّ، وإنْجائِه مِن الغَرَقِ. وهو من فُرُوضِ الكِفاياتِ، إذا قام به مَن يَكْفِي سَقَط عن الباقِين، وإن تَرَكَه الجماعةُ، أثِمُوا كُلُّهُم إذا تَرَكُوه مع إمْكانِ أخْذِه. وقد رُوِيَ عن سُنَينٍ أبي جَمِيلَةَ، قال: وَجَدْتُ مَلْقُوطًا فأتَيتُ به عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، فقال عَرِيفِي: يا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّه رَجُلٌ صالِحٌ. فقال عُمَرُ: أكَذِلكَ هُوَ؟ قال: نعم. قال: فَاذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، ولَكَ وَلاؤُه، وعَلَينا نَفَقَتُه. رَواه سَعِيدٌ (¬2) عن سُفْيانَ عن الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ سُنَينًا أبا جَمِيلةَ بهذا، وقال: وعَلَينا رَضَاعُهُ. ¬

(¬1) سورة المائدة 2. (¬2) وأخرجه الإمام مالك، في: باب الفضاء في المنبوذ، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 738. والبيهقي، في: باب التقاط المنبوذ. . . .، من كتاب اللقطة. السنن الكبرى 6/ 201، 202.

2520 - مسألة: (وهو حر)

وَهُوَ حُرٌّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2520 - مسألة: (وهو حُرٌّ) اللَّقِيط حُرٌّ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا النَّخَعِيَّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمعَ عوامُّ أهْلِ العِلْمِ على أنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ. رُوِيَ هذا القولُ عن عُمَرَ، وعَلِيٍّ، رَضِيَ الله عنهما. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، ومالكٌ،

2521 - مسألة: (ينفق عليه من بيت المال إن لم)

يُنْفَقُ عَلَيهِ مِنْ بَيتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُنْفَقُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّورِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي، ومَن تَبِعَهُم. وقال النَّخَعِيُّ: إنِ الْتَقَطَه للْحِسْبَةِ، فهو حُرٌّ، وإن كان أرادَ أن يَسْتَرِقَّه، فذلك له. وهذا قولٌ شَذَّ فيه عن الخُلَفاء والعُلَماءِ، ولا يَصِحُّ في النَّظرَ، فإنَّ الأصْلَ في الآدَمِيِّينَ الحُرِّيَّةُ، فإنَّ الله تعالى خَلَق آدمَ وذُرِّيَّتَهَ أحْرارًا، وإنَّما الرِّقُّ لعارِض، فإذا لم يُعْلَمْ ذلك العارِضُ، فله حُكْمُ الأصْلَ. 2521 - مسألة: (يُنْفَقُ عليه مِن بَيتِ المالِ إن لم) يُوجَدْ (معه ما يُنْفَقُ عليه) إذا لم يُوجَدْ مع اللَّقِيطِ شيءٌ، لم يَلْزَمِ المُلْتَقِطَ الإِنْفاقُ عليه، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمعَ كلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ غيرُ واجبَةٍ على المُلْتَقِطِ كوُجُوبِ نَفَقةِ الوَلَدِ. وذلك لأن أسْبابَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ مِن القَرابةِ، والزَّوْجِيَّة،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمِلْكِ، والوَلاءِ، مُنْتَفِيَةٌ، فالالْتِقاطُ إنَّما هو تَخْلِيصٌ له مِن الهلاكِ، وتَبَرُّعٌ بحِفْظِه، فلا يُوجِبُ ذلك النَّفَقَةَ، كما لو فَعَلَه بغيرِ اللَّقِيطِ. وتَجِبُ نفقَتُه في بَيتِ المالِ، لقولِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، في حَدِيثِ أبي جَميلةَ: اذْهَبْ فهو حُرٌّ، ولك وَلاؤُه، وعلينا نَفَقَتُه. وفي روايةٍ: مِن بيتِ المالِ. ولأنَّ بيتَ المالِ وارِثُه، ومالُه مَصْرُوفٌ إليه، فكانت نَفَقَتُه عليه، كَقرابَتِه ومَولاه. فإن تَعَذَّرَ الإِنْفاقُ عليه مِن بَيتِ المالِ، لكَوْنِه لا مال فيه، أو كان في مكانٍ لا إمامَ فيه، أو لم يُعْطَ شيئًا، فعَلَى من عَلِمَ حاله مِن المُسْلِمِينَ الإِنْفاقُ عليه؛ لقَوْلِ الله تِعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. ولأنَّ في تَركِ الإِنْفاقِ عليه هَلاكَه، وحِفْظُه مِن ذلك واجِبٌ، كإنقاذِه مِن الغَرَقِ. وهو فَرْضُ كِفايةٍ، ومن أنْفَقَ عليه مُتَبَرِّعًا، فلا شيءَ له، سواءٌ كان المُلْتَقِطَ أو غيرَه، وإن لم يَتَبرَّعْ أحَدٌ بالإنْفاقِ عليه، فأنْفَقَ عليه المُلْتَقِطُ أو غيرُه مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ عليه إذا أيسَرَ، وكان ذلك بأمْرِ الحاكِمِ، لَزِم اللَّقِيطَ ذلك إذا كانتِ النَّفَقَةُ قَصْدًا بالمَعْرُوفِ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ. فإن أنْفَقَ بغيرِ أمْرِ الحاكِمِ مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ عليه، فقال أحمدُ: تُؤَدَّى النَّفَقَةُ مِن بيتِ المالِ. وقال شُرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ عليه بالنَّفَقَةِ إذا أشْهَدَ عليه، يحْلِفُ ما أنْفَقَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتِسابًا، فإن حَلَف اسْتُسْعِيَ (¬1). وقال الشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَرْجِعُ بشيءٍ؛ لأنَّه أنْفَقَ عليه مِن غيرِ إذْنِه، ولا إذْنِ وَلِيِّه، ولا إذْنِ الحاكِمِ، فلم يَرْجِعْ بشيءٍ، كما لو تَبَرَّعَ به. ولَنا، أنَّه أدَّى مالًا وَجَب على غيرِه، فكان له الرُّجُوعُ على مَن كان الوُجُوبُ عليه، كالضّامِنِ إذا قَضَى عن المَضْمُونِ عنه. ¬

(¬1) أي اللقيط.

2522 - مسألة: (ويحكم بإسلامه، إلا أن يوجد في بلد الكفار ولا مسلم فيه، فيكون كافرا. فإن كان فيه مسلم، فعلى وجهين)

وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، إلا أنْ يُوجَدَ فِي بَلَدِ الْكُفَّارِ وَلَا مُسْلِمَ فِيهِ، فَيَكُونَ كَافِرًا. فَإِنْ كَانَ فِيهِ مُسْلِمٌ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2522 - مسألة: (ويُحْكَمُ بإسْلامِه، إلَّا أن يُوجَدَ في بَلَدِ الكُفّارِ ولا مُسْلِمَ فيه، فيكونَ كافِرًا. فإن كان فيه مُسْلِمٌ، فعلى وَجْهَين) إذا وُجِدَ اللَّقِيطُ في دارِ الإِسْلامِ، فهو مَحْكُومٌ بإسْلامِه وإن كان فيها أَهْلُ الذِّمَّةِ؛ تغْلِيبًا للإِسْلام، ولظاهِرِ الدّارِ، ولأنَّ الإِسْلامَ يَعْلُو ولا يُعْلَى. ودارُ الإسْلام قِسْمان؛ أَحدُهما، ما اختَطَّهُ المُسْلِمونَ؛ كبَغْدادَ، والبَصْرَةِ، فلَقِيطُها محْكُومٌ بإسْلامِه، على ما ذَكَرْنا. الثاني، دارٌ فَتَحَها المُسْلِمونَ؛ كمَدائِنِ الشّامِ، فهذه إن كان فيها مُسْلِمٌ حُكِمَ بإسْلامِ لَقِيطِها؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ لذلك المُسْلِمِ، تَغْلِيبًا للإسْلامِ، وإن لم يَكُنْ فيها مُسْلِمٌ، بل كان أهْلُها أهْلَ ذِمَّةٍ، حُكِمَ بكُفْرِه؛ لأنَّ تَغْلِيبَ حُكْمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسْلامِ إنَّما يكونُ مع الاحْتِمالِ. فأمّا بَلَدُ الكُفّارِ فضَرْبانِ؛ أحَدُهما، بَلَدٌ كان للمسلمين فغَلَبَ الكُفّارُ عليه، كالسّاحِلِ، فهذا كالقِسْمِ الذي قبلَه: إن كان فيه مُسْلِمٌ حُكِمَ بإسْلامِ لَقِيطِه، وإن لم يَكُنْ فيه مُسْلِمٌ فهو كافِرٌ. وقال القاضِي: يُحْكَمُ بإسْلامِه أيضًا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ فيه مُؤْمِن يَكْتُمُ إيمانَه، بخِلافِ الذي قبلَه، فإنَّه لا حاجَةَ به إلى كَتْمِ إيمانِه في دارِ الإسْلامِ. الثّاني، دارٌ لم تَكُنْ للمسلمين أصْلًا؛ كبِلادِ الهِنْدِ والرُّومِ، فإن لم يَكُنْ فيها مُسْلِمٌ، فلَقِيطُها كافِرٌ؛ لأنَّ الدّارَ لهم وأهْلَها منهم. وإن كان فيها مُسْلِمونَ؛ كالتُّجّارِ، وغيرِهم، ففيه وَجْهانِ؛

2523 - مسألة: (وما وجد معه؛ من فراش تحته، أو ثياب، أو مال في جيبه أو تحت فراشه، أو حيوان مشدود بثيابه، فهو له. وإن

وَمَا وُجِدَ مَعَهُ، مِنْ فِرَاشٍ تَحْتَهُ، أوْ ثِيَابٍ، أوْ مَالٍ فِي جَيبِهِ أوْ تَحْتَ فِرَاشِهِ، أوْ حَيَوَانٍ مَشْدُودٍ بِثِيَابِهِ، فَهُوَ لَهُ. وَإنْ كَانَ مَدْفُونًا ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، يُحْكَمُ بإسْلامِه، تَغْلِيبًا للإِسْلامِ. والثّاني، يُحْكَمُ بكُفْرِه، تَغْلِيبًا للدّارِ والأكْثَرِ. وهذا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ أهْلِ العِلْمِ على أنَّ الطِّفْلَ إذا وُجِدَ في بلادِ المسلمين مَيِّتًا في أيِّ مكانٍ وُجِدَ، أنَّه يَجِبُ غَسْلُه ودَفْنُه في مقابِرِ المسلمين، وقد مَنَعُوا أن يُدْفَنَ أطْفالُ المُشْرِكين في مقابِرِ المسلمين. قال: وإذا وُجِدَ لَقِيطٌ في قَرْيَةٍ ليس فيها إلَّا مُشْرِكٌ، فهو على ظاهِرِ ما حَكَمُوا به أنَّه كافِرٌ. هذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. 2523 - مسألة: (وما وُجِدَ معه؛ من فِراشٍ تَحْتَه، أو ثِيابٍ، أو مالٍ في جَيبِه أو تَحْتَ فِراشِه، أو حَيوانٍ مَشْدُودٍ بثِيابِه، فهو له. وإن

تَحْتَهُ، أو مَطْرُوحًا قَرِيبًا مِنْهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مَدْفُونًا تَحْتَه، أو مَطْرُوحًا قريبًا منه، فعلى وَجْهَينِ) وجملةُ ذلك، أنَّ ما وُجِدَ مع اللَّقِيطِ فهو له، يُنْفَقُ عليه منه. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ الطِّفْلَ يَمْلِكُ، وله يَدٌ صَحِيحةٌ، بدَلِيلِ أنَّه يَرِثُ ويُورَثُ، ويَصِحُّ أن يَشْتَرِيَ له وَلِيُّه ويَبِيعَ، ومَن له مِلْكٌ صَحِيحٌ فله يَدٌ صَحِيحةٌ، كالبالِغِ. إذا ثَبَت هذا، فكلُّ ما كان مُتَّصِلًا به أو مُتَعلِّقًا بمنْفَعَتِه، فهو تحتَ يَدِه، ويَثْبُتُ بذلك مِلْكًا له في الظّاهِرِ، فمِن ذلك، ما كان لابِسَه، أو مَشْدُودًا في مَلْبُوسِه، أو في يَدَيهِ، أو تحتَه مَجْعُولًا (¬1) ¬

(¬1) في م: «أو مجعولًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه؛ كالسَّرِيرِ، والسَّفَطِ (¬1)، وما فيه من فَرْيقٍ أو دَراهِمَ، والثِّيابُ التي تحتَه والتي عليه. وإن كان مَشْدُودًا على دابَّةٍ، أو كانت مَشدُودَةً في ثِيابِه، أو كان في خَيمَةٍ أو دارٍ، فهي له. وأمّا المُنْفَصِلُ عنه، فإن كان بعيدًا منه، فليس في يَدِه. وإن كان قَرِيبًا منه؛ كَثَوْبٍ مَوْضُوعٍ إلى جانِبه، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّه مُنْفَصِلٌ عنه، فهو كالبَعِيدِ. والثاني، هو له؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه تُرِكَ له، فهو كالذي تَحْتَه، ولأنَّ القَرِيبَ مِن البالِغِ يكونُ في يَدِه، ألا تَرَى أنَّ الرجلَ يَقْعُدُ في السُّوقِ وَمَتَاعُه بقرْبِه، ويُحْكَمُ بأنَّه في يَدِه، والحَمّالُ إذا جَلَس للاسْتِراحَةِ، تَرَك حِمْلَه قريبًا منه. وهذا أصَحُّ. فأمَّا المَدْفُونُ تَحْتَه، فقال ابنُ عَقِيلٍ: إن كان الحَفْرُ ¬

(¬1) السفط: وعاء يوضع فيه الطب ونحوه من أدوات النساء.

2524 - مسألة: (وأولى الناس بحضانته واجده إن كان أمينا)

وَأوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَتِهِ وَاجِدُهُ إِنْ كَانَ أمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَرِيًّا فهو له، وإلَّا فلا؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّه إذا كان طَرِيًّا فواضِعُ اللَّقِيطِ حَفَرَه، وإذا لم يَكُنْ طَرِيًّا، كان مَدْفُونًا قبل وَضْعِه. وقيل: ليس هو له بحالٍ، لأنَّه بمَوْضِع لا يَسْتَحِقُّه إذا لم يَكُنِ الحَفْرُ طَرِيًّا، فلم يَكُنْ له إذا كان طَرِيًّا، كالبَعِيدِ منه، ولأنَّ الظّاهِرَ أنَّه لو كان له، لَشَدَّه واضِعُه في ثِيابِه، ليُعْلَمَ به، ولم يَتْرُكْه في مكانٍ لا يُطَّلَعُ عليه. وكلُّ ما حَكَمْنا بأنَّه ليس له، فحُكْمُه حُكْمُ اللُّقَطَةِ أو الرِّكازِ. 2524 - مسألة: (وأوْلَى النّاسِ بحَضانَتِه واجِدُه إن كان أمِينًا) لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أقَرَّ اللَّقِيطَ في يَدِ أبي جَمِيلَةَ، حين قال عَرِيفُه: إنَّه رَجُلٌ صالِحٌ. ولأنَّه سَبَق إليه، فكان أوْلَى به؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ

2525 - مسألة: (وله الإنفاق. عليه مما وجد معه بغير إذن حاكم. وعنه، ما يدل على أنه لا ينفق عليه إلا بإذنه)

وَلَهُ الإنفَاقُ عَلَيهِ مِمَّا وُجدَ مَعَهُ بِغَيرِ إِذْنِ حَاكِمٍ. وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬1). وهل يَجِبُ الاشْهادُ عليه؟ فيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا يَجِبُ، كما لا يَجبُ الإِشْهادُ في اللُّقَطَةِ. والثّاني، يَجبُ؛ لأنَّ القَصْدَ بالإِشْهادِ حِفْظُ النَّسَبِ والحُرِّيَّةِ، فاخْتَصَّ بوُجُوبِ الشَّهادَةِ، كالنِّكاحِ. وفارَقَ اللُّقَطَةَ؛ فإنَّ المَقْصُودَ منها حِفْظُ المالِ، فلم يَجِبِ الإشْهادُ فيها، كالبَيعِ. 2525 - مسألة: (وله الإِنْفاقُ. عليه ممّا وُجِدَ معه بغيرِ إذْنِ حاكِم. وعنه، ما يَدُلُّ على أنَّه لا يُنْفِقُ عليه إلَّا بإذْنِه) وجُمْلةُ ذلك، أنَّه يُنْفِقُ على اللَّقِيطِ ممّا وُجدَ معه وما حُكِمَ له به، فإن كان فيه كِفايَتُه، لم تَجِبْ نَفَقَتُه على أحَدٍ؛ لأَنَّه ذو مالٍ، فأشْبَهَ غيرَه مِن النّاسِ. ولمُلْتَقِطِه الإِنْفاقُ عليه منه بغيرِ إذْنِ الحاكِمِ. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّه وَلِيُّه، فلم يُعْتَبَرْ في الإِنْفاقِ عليه إذْنُ الحاكِمِ، كوَلِيِّ اليَتِيمِ. ولأنَّ هذا مِن الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، فاسْتَوَى فيه الإمامُ وغيرُه، كتَبْدِيدِ الخَمْرِ. وروَى أبو الحارِثِ، عن أحمدَ، في رَجُل أوْدَعَ رَجُلًا مالًا، وغابَ وطالتْ غَيبَتُه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وله وَلَدٌ، ولا نَفَقةَ له، هل يُنْفِقُ عليهم هذا المُسْتَوْدَعُ مِن مالِ الغائِبِ؟ فقال: تقُومُ امْرأتُه إلى الحاكِمِ، حتى يَأْمُرَه بالإِنْفاقِ عليهم. فلم يَجْعَلْ له الإنْفاقَ مِن غيرِ إذْنِ الحاكِمِ، فقال بعضُ أصحابِنا: هذا مِثْلُه. والصَّحِيحُ أنَّ هذا مُخالِفٌ له مِن وَجْهَينِ؛ أحدُهما، أنَّ المُلْتَقِطَ له ولايَةٌ على اللَّقِيطِ وعلى مالِه؛ فإنَّ له ولايةَ أخْذِه وحِفْظِه. والثّانِي، أنَّه يُنْفِقُ على اللَّقِيطِ مِن مالِه، وهذا بخِلافِه، ولأنَّ الإِنْفاقَ على الصَّبِيِّ مِن مالِ أبيه (¬1) مَشْرُوطٌ بكَوْنِ الصَّبِيِّ مُحْتاجًا إلى ذلك؛ لعَدَمِ مالِه، وعَدَمِ نَفَقةٍ تَرَكَها أبُوه برَسْمِه، وذلك لا يُقْبَلُ فيه قولُ المُودَعِ، فاحْتِيجَ إلى إثْباتِ ذلك عند الحاكِمِ، ولا كذلك في مسألتِنا، فلا يَلْزَمُ مِن وُجُوبِ اسْتِئْذانِ الحاكِمِ ثَمَّ وُجُوبُهْ في اللَّقِيطِ. ومتى لم يَجِدْ حاكِمًا، فله الإنْفاقُ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه حالُ ضَرُورَةٍ. وقال الشافعيُّ: ليس له أن يُنْفِقَ بغيرِ إذْنِ حاكِمٍ في مَوْضِعٍ يَجِدُ حاكِمًا، وإن أنْفَقَ ضَمِنَ، بمَنْزِلَةِ ما لو كان لأبي الصَّغِيرِ وَدِيعةٌ عند إنْسانٍ فأنْفَقَ عليه منها، وذلك لأنَّه لا ولايةَ له على مالِه، وإنَّما له حَقُّ الحَضانةِ. فإن لم يَجِدْ حاكِمًا، ففي جَوازِ الإِنْفاقِ وَجْهان. ولَنا، ما ذَكَرْناه ابْتِداءً، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا ولايةَ له على مالِه، فإنّا قد بَيَّنّا أنَّ له ¬

(¬1) في م: «الله».

2526 - مسألة: (وإن كان)

وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْذَه وحِفْظَه، وهو أوْلَى النّاسِ به، وذَكَرْنا الفَرْقَ بينَ اللَّقِيطِ وبينَ ما قاسُوا عليه. إذا ثَبَت هذا، فالمُسْتَحَبُّ أن يَسْتَأْذِنَ الحاكِمَ في مَوْضِعٍ يَجِدُ حاكِمًا؛ لأنَّه أْبعَدُ مِن التُّهْمَةِ، وأقْطَعُ للظِّنَّةِ، وفيه خُرُوجٌ مِن الخِلافِ وحِفظٌ لمالِه مِن أن يَرْجِعَ عليه بما أنْفَقَ. ويَنْبَغِي أن يُنْفِقَ عليه بالمَعْرُوفِ، كما ذَكَرْنا في وَلِيِّ اليَتِيمِ. فإن بَلَغ اللَّقِيطُ، واخْتَلَفا في قَدْرِ ما أنْفَقَ، وفي التَّفْرِيطِ في الإِنْفاقِ، فالقولُ قولُ المُنْفِقِ؛ لأنَّه أمِينٌ، فكان القولُ قولَه في ذلك، كوَلِيِّ اليَتِيمِ. 2526 - مسألة: (وإن كان) المُلْتَقِطُ (فاسِقًا) لم يُقَرَّ في يَدِه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ حِفْظَه للولايةِ عليه، ولا ولايةَ لفاسِقٍ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه يُقَرُّ في يَدِه، لقَوْلِه: وإن لم يَكُنْ مَن وَجَد اللَّقِيطَ أمِينًا، مُنِعَ مِن السَّفَرِ به؛ لئلَّا يَدَّعِيَ رِقَّهُ. فعلى قولِه، يَنْبَغِي أن يَجِبَ الإِشْهادُ عليه، ويُضَمَّ إليه مَن يُشْرِفُ عليه؛ لأنَّنا إذا ضَمَمْنا إليه في اللُّقَطَةِ مَنْ يُشْرِفُ عليه، فههُنا أوْلَى. قال القاضِي: والمَذْهَبُ أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُنْزَعُ مِن يَدِه. ويُفارِقُ اللُّقَطَةَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّ في اللُّقَطَةِ مَعْنَى الكَسْبِ، وليس ههُنا إلَّا الولايةُ. الثّانِي، أنَّ اللُّقَطَةَ لو انْتَزَعْناها منه رَدَدْناها إليه بعد الحَوْلِ، فلذلك احْتَطْنا عليها مع بَقائِها في يَدِه، وههُنا لا يُرَدُّ إليه بعد الانْتِزاعِ منه بحالٍ، فكان الانْتِزاعُ أحْوَطَ (¬1). والثّالِثُ، أنَّ المَقْصُودَ ثَمَّ حِفْظُ المالِ، ويُمْكِنُ الاحْتِياطُ عليه بأن يَسْتَظْهِرَ عليه في التَّعْرِيفِ، أو ينصِبَ الحاكِمُ مَن يُعَرِّفُها، وههُنا المَقْصُودُ حِفْظُ الحُرِّيَّةِ والنَّسَبِ، ولا سَبِيلَ إلى الاسْتِظْهارِ عليه؛ لأنَّه قد يَدَّعِي رِقَّه في بعضِ البُلْدانِ، أو في بعضِ الزَّمانِ، ولأنَّ اللُّقَطَةَ إنَّما يُحْتاجُ إلى حِفْظِها والاحْتِياطِ عليها عامًا واحِدًا، وهذا يُحْتاجُ إلى الاحْتِياطِ عليه في جَميعِ زَمانِه. وقد ذَكَرْنا أنَّ ظاهِرَ قَوْلِ الخِرَقِيِّ أنَّه لا يُنْتَزَعُ منه؛ لأنَّه قد ثَبَتَتْ له الولايةُ بالْتِقاطِه إيّاه وسَبْقِه إليه، وأمْكَنَ حِفْظُه في يَدَيهِ بالإِشْهادِ عليه، وضَمِّ أمِينٍ يُشارِفُه إليه ويُشِيعُ أمْرَه، فيَظْهَرُ أنَّه لَقِيطٌ، فيَنْحَفِظُ بذلك ¬

(¬1) في م: «أحفظ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ زَوالِ ولايَتِه، جَمْعًا بين الحَقَّين، كاللُّقَطَةِ، وكما لو كان الوَصِيُّ خائِنًا. قال شيخُنا (¬1): وما ذَكَرَه القاضِي مِن التَّرْجِيحِ لِلُّقَطَةِ، يُمْكِنُ مُعارَضَتُه بأنَّ اللَّقِيطَ ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ لا تَخْفَى الخِيانَةٌ فيه؛ بخِلافِ اللُّقَطَةِ؛ فإنَّها خَفِيَّةٌ تَتَطَرَّقُ إليها الخِيانَةُ ولا يُعْلَمُ بها، ويُمْكِنُ أخْذُ بعَضِها وتَنْقِيصُها وإبْدالُها، بخِلافِ اللَّقِيطِ. ولأنَّ المال مَحَلُّ الخِيانةِ، والنُّفُوسُ إلى أخْذِه داعِيَةٌ؛ بخِلافِ النُّفُوسِ. فعلى هذا، متى أرادَ هذا المُلْتَقِطُ السَّفَرَ باللَّقِيطِ، مُنِعَ منه؛ لأنَّه يُبْعِدُه مِمَّن عَرَف حاله، فلا يُؤْمَنُ أن يَدَّعِيَ رِقَّهُ ويَبِيعَه. فصل: فإن كان المُلْتَقِطُ مَسْتُورَ الحالِ، لم تُعْرَفْ منه حَقِيقهُّ العَدالةِ ولا خِيانةٌ، أُقِرَّ اللَّقِيطُ في يَدَيه؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُ العَدْلِ في لُقَطَةِ المالِ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 361.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والولايةِ في النِّكاحِ والشَّهادَةِ فيه، وفي أكْثَرِ الأحْكامِ؛ لأنَّ الأصْلَ في المُسْلِمِ العَدَالةُ؛ ولذلك قال عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: المُسْلِمون عُدُولٌ بعضُهم على بعضٍ. فإن أرادَ السَّفَرَ بلقِيطِه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يُقَرُّ في يَدَيهِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لم تَتَحَقَّقْ أمانته، فلا تُؤْمَنُ الخيانَةُ منه فيه. والثّاني، يُقَرُّ في يَدَيه؛ لأنَّه يُقَرُّ في يَدَيه في الحَضرِ مِن غيرِ مُشْرِفٍ يُضَمُّ إليه، فأشْبَهَ العَدْلَ، ولأنَّ الظّاهِرَ السَّتْرُ والصِّيانَةُ. فأمّا مَنْ عُرِفَتْ عدالتُه وظَهَرِتْ أمانَتُه، فيُقَرُّ اللَّقِيطُ في يَدِه حَضَرًا وسَفَرًا؛ لأنَّه مَأمُونٌ إذا كان سَفرُه لغيرِ النُّقْلَةِ.

2527 - مسألة: فإن كان الملتقط رقيقا، لم يقر في يده

أوْ رَقِيقًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2527 - مسألة: فإن كان المُلْتَقِطُ رَقِيقًا، لم يُقَرَّ في يَدِه. وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه ليس للعَبْدِ الْتِقاطُ الطِّفْلِ المَنْبُوذِ إذا وُجِدَ مَنْ يَلْتَقِطُه سِواه؛ لأنَّ مَنافِعَه مَمْلُوكة لسَيِّدِه، فلا يُذْهِبُها في غيرِ نَفْعِه إلَّا بإذْنِه، ولأنَّه لا يَثْبُتُ على اللَّقِيطِ إلَّا الولايةُ، ولا ولايةَ لعَبْدٍ. فإنِ الْتَقَطَه، لم يُقَرَّ في يَدِه إلَّا بإذْنِ السَّيِّدِ، فإن أذِنَ له، أُقِرَّ في يَدِه؛ لأنَّه اسْتَعانَ به في ذلك، فصارَ كما لو الْتَقَطَه سيِّدُه وسَلَّمَه إليه. قال ابنُ عَقِيلٍ: إذا أذِنَ له السَّيِّدُ، لم يَكُنْ له الرُّجُوعُ بعدَ ذلك، وصار كما لو الْتَقَطَه السَّيِّدُ. والحُكْمُ في الأمَةِ كالحُكْمِ فىَ العَبْدِ. فأمّا إن لم يَجِدْ أحَدًا يَلْتَقِطُه سِوَاه، وَجَب الْتِقاطُه؛ لأنَّه تَخْلِيصٌ له مِن الهَلاكِ، فهو كتَخْلِيصِه مِن الغَرَقِ. والمُدَبَّرُ، وأُمُّ الوَلَدِ، والمُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفَةٍ؛ كالقِنِّ، وكذلك المُكاتَبُ؛ لأنَّه ليس له التبرعُ بمالِه ولا بمَنافِعِه إلَّا أن يَأْذَنَ له سَيِّدُه في ذلك.

2528 - مسألة: (أو كافرا واللقيط مسلم)

أَوْ كَافِرًا وَاللَّقِيطُ مُسْلِمٌ، أوْ بَدَويًّا يَنْتَقِلُ في الْمَوَاضِعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2528 - مسألة: (أو كافِرًا واللَّقِيطُ مُسْلِمٌ) ليس للكافِرِ الْتِقاطُ مَنْ حُكِمَ بإسْلامِه؛ لأنَّه لا ولايَةَ لكافِرٍ على مُسْلِمٍ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ أن يُعَلِّمَه الكُفْرَ، بل الظّاهِرُ أنَّه يُرَبِّيه على دِينِه، ويَنْشَأ على ذلك، كوَلَدِه. فإنِ الْتَقَطَه، لم يُقَرَّ في يَدِه. فإن كان الطِّفْلُ مَحْكُومًا بكُفْرِه، فله الْتِقاطُه؛ لأنَّ الذين كَفَرُوا بعضُهم أوْلِياء بعضٍ. 2529 - مسألة: (أو بَدَويًّا يَنْتَقِلُ في المواضِعِ) ففيه وَجْهان؛ أحدهما، أنه يُقَرُّ في يَدِه؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّه ابن بَدَويَّينِ، وإقْرارُه في يَدِ مُلْتَقِطِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِه. والثّانِي، يُؤْخَذُ منه فيُدْفَعُ إلى صاحِبِ قَرْيَةٍ؛ لأنَّه أرْفَهُ له وأخَفُّ عليه.

2530 - مسألة: وإن (وجده في الحضر وأراد نقله إلى البادية، لم يقر في يده)

أَوْ وَجَدَهُ فِي الْحَضَرِ فَأرَادَ نَقْلَهُ إلَى الْبَادِيَةِ، لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِه. وَإنِ الْتَقَطَهُ فِي الْبَادِيَةِ مُقِيمٌ فِي حِلَّةٍ، أوْ مَنْ يُرِيدُ نَقْلَهُ إِلَى الْحَضَرِ أُقِرَّ مَعَهُ. وَإنِ الْتَقَطَهُ فِي الْحَضَرِ مَنْ يُرِيدُ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَهَلْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2530 - مسألة: وإن (وَجَدَه في الحَضَرِ وأرادَ نَقْلَه إلى البادِيَةِ، لم يُقَرَّ في يَدِه) لوَجْهَين؛ أحدُهما، أنَّ مُقامَه في الحَضَرِ أصْلَحُ له في دِينِه ودُنْياه، وأرْفهُ له. والثّانِي، أنَّه إذا وُجدَ في الحَضَرِ، فالظّاهِرُ أنَّه وُلِدَ فيه، فبَقاؤُه فيه أرْجَى لِكشْفِ نَسَبِه، وظُهُورِ أهْلِه، واعْتِرافِهِم به. 2531 - مسألة: (وإنِ الْتَقَطَه في البادِيَةِ مُقِيمٌ في حِلَّةٍ) أُقِرَّ في يَدِه؛ لأنَّه يَنْقُلُه مِن أرْضِ البُؤْسِ والشَّقَاءِ إلى الرَّفاهِيَةِ والدَّعَةِ والدِّينِ. 2532 - مسألة: (وإنِ الْتَقَطَه في الحَضَرِ مَن يُرِيدُ نَقْلَه إلى بَلَدٍ آخَرَ) للإِقامَةِ فيه، لم يَجُزْ في أحَدِ الوَجْهين؛ لأنَّ بقاءَه في بَلَدِه أرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِه، فلم يُقَرَّ في يَدِه، قِياسًا على المُنْتَقِلِ به إلى البادِيَةِ. والثّاني،

2533 - مسألة: (وإن التقطه اثنان، قدم الموسر منهما على المعسر، والمقيم على المسافر)

وَإنِ الْتَقَطَهُ اثْنَانِ، قُدِّمَ الْمُوسِرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالْمُقِيمُ عَلَى الْمُسَافِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقَرُّ في يَدِه؛ [لأنَّ ولايتَه ثابِتَةٌ] (¬1)، والبَلَدُ الثاني كالأوَّلِ في الرَّفاهِيَةِ، فيُقَرُّ في يَدِه، كالمُنْتَقِلِ مِن أحَدِ جانِبي البَلَدِ إلى الجانِبِ الآخرِ، وفارَقَ المُنْتَقِلَ به إلى البادِيَةِ؛ لأنَّه يَضُرُّ به بتَفْويتِ الرَّفاهِيَةِ عليه. 2533 - مسألة: (وإن الْتَقَطَه اثْنان، قُدِّم المُوسِرُ منهما على المُعْسِرِ، والمُقيمُ على المُسافِرِ) فإن اسْتَوَيَا وتَشاحّا أُقْرِعَ بينهما. إذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْتَقَطَه اثْنان وتَناوَلاه تَناوُلًا واحِدًا، لم يَخْلُ مِن ثَلاثةِ أقسام؛ أحدُها، أن يكونَ أحَدُهما مِمَّن يُقَرُّ في يَدِه، كالمُسْلِمِ العَدْلِ الحُرِّ، والآخَرُ لا يُقَرُّ في يَدِه، كالكافِرِ -إذا كان المُلْتَقَطُ (¬1) مُسْلِمًا- والفاسِقِ، والعَبْدِ إذا لم يَأْذَنْ له سَيِّدُه، فإنَّه يُسَلَّمُ إلى مَن يُقَرُّ في يَدِه دُونَ شَرِيكِه، كمن الْتَقَطَه وحدَه، ولأنَّ الشَّرِيكَ لو الْتَقَطَه وحدَه لم يُسَلَّمْ إليه، فإذا شارَكَه مَن هو مِن أهْلِ الالْتِقاطِ، كان أوْلَى بالتَّسْلِيمِ إليه وإقْرارِه في يَدِه. الثّاني، أن يكونا جَمِيعًا مِمَّن لا يُقَرُّ في يَدَيْ واحدٍ منهما، فإنَّه يُنْزَعُ منهما ويُسَلَّمُ إلى غيرِهما. الثالثُ، أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما مِمَّنْ يُقَرُّ في يَدِه لو انْفَرَدَ، إلَّا أنَّ أحَدَهُما أحَظُّ للَّقِيطِ مِن الآخرِ، بأن يكونَ أحَدُهُما مُوسِرًا والآخَرُ مُعْسِرًا، فالمُوسِرُ أحَقُّ؛ لأنَّ ذلك أحَظُّ للطِّفْلِ، وكذلك إن كان أحَدُهُما مُقِيمًا والآخَرُ مُسافِرًا؛ لأنَّه أرْفَقُ بالطِّفْلِ. ¬

(¬1) في ر 1: «اللقيط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن الْتَقَطَ مُسْلِمٌ وكافِرٌ طِفْلًا مَحْكُومًا بكُفْرِه، فالمُسْلِمُ أحَقُّ. وقال أصحابُنا، وأصحابُ الشافعيِّ: هما سَواءٌ؛ لأنَّ للكافِرِ ولإيَةً على الكافِرِ، ويُقَرُّ في يَدِه إذا انْفَرَدَ بالْتِقاطِه، فساوَى المُسْلِمَ في ذلك. ولَنا، أنَّ دَفْعَه إلى المُسْلِمِ أحَظُّ له؛ لأنَّه يَصِيرُ مُسْلِمًا، فيَسْعَدُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ويَنْجُو مِن النّارِ، ويَتَخَلَّصُ مِن الجِزْيَةِ والصَّغارِ، فالتَّرْجِيحُ بهذا أوْلَى مِن التَّرْجِيحِ باليسارِ الذي إنَّما يَتَعَلَّقُ به توْسِعَة عليه في الإنْفاقِ، وقد يكونُ المُوسِرُ بَخِيلًا، فلا تَحْصُلُ التَّوْسِعَةُ، فإن تعارَضَ التَّرْجِيحان، فكان المُسْلِمُ فقيرًا والكافِرُ مُوسِرًا، فالمُسْلِمُ أوْلَى؛ لأنَّ النَّفْعَ الحاصِلَ له بإسْلامِه أعْظَمُ مِن النَّفْعِ الحاصِلِ له بيَسارِه مع كُفْرِه. وعندَهم، يُقَدَّمُ الكافِرُ. وعلى قِياسِ قَوْلِهم في تَقْدِيم المُوسِرِ، يَنْبَغي أن يُقَدَّمَ الجَوَادُ على البَخِيلِ؛ لأنَّ حَظَّ الطِّفْلِ عندَه أكْثَرُ مِن الجِهَةِ التي يَحْصُلُ له الحَظُّ فيها باليَسارِ.

2534 - مسألة

فَإِنْ تَسَاوَيَا وَتَشَاحَّا، أُقْرِعَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2534 - مسألة (¬1): (فإن تَساوَيا وتَشاحّا، أُقْرِعَ بينهما) إذا تَساوَيا في الأوْصافِ التي تَقتَضِي تَقديمَ أحَدِهما على الآخرِ، فرَضِيَ أحَدُهُما بتَسْليمِه إلى صاحِبِه، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ له، فلا يُمْنَعُ مِن الإِيثارِ به. وإن تَشاحّا أُقْرِعَ بينهما؛ لقَوْلِه تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬2). ولأنَّه لا يُمْكِنُ كَوْنُه عندَهما في حالةٍ واحدةٍ. وإن تَهايَآهُ يومًا ويَوْمًا أو أكْثَرَ، أضَر بالطِّفْلِ؛ لاخْتِلافِ الأغْذِيَةِ عليه والأُنْسِ والإِلْفِ، ولا يُمْكِنُ دَفْعُهْ إلى أحَدِهما بغيرِ قُرْعَةٍ؛ لأنَّ حَقَّهُما مُتَساوٍ، فتَقْدِيمُ أحَدِهما بغيرِ قُرْعَةٍ تَحكُّم لا يجوزُ، فتَعَيَّنَ الإقْراعُ بينهما، كما يُقْرَعُ بينَ الشُّرَكاءِ في تَعْيِينِ السِّهام في القِسْمَةِ، وبينَ النِّساء في البِدايَةِ بالقِسْمَةِ، وبينَ العَبيدِ في الإعْتاقِ. والرَّجُلُ والمرأةُ سَوَاءٌ، ولا تُرَجَّحُ المرأة ههُنا كما تُرَجَّحُ في حَضانَةِ وَلَدِها على أبِيه؛ لأنَّها رُجِّحَتْ ثَمَّ لشَفَقَتِها على وَلَدِها، وتَوَلِّيها لحَضانَتِه بنَفْسِها والأبُ يَحْضُنُه بأجْنَبيَّةٍ، فكانت أُمُّه أحَظَّ له وأرْفَقَ به، أمّا ههُنا فهي أجْنَبِيَّةٌ مِن اللَّقِيطِ، والرَّجُلُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة آل عمران 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْضُنُه بأجْنَبِيَّةٍ، فاسْتَوَيا. ومَذْهَبُ الشافعيِّ [في هذا] (¬1) على ما ذَكَرْنا. فإن كان أحَدُهُما مَسْتُورَ الحالِ والآخَرُ ظاهِرَ العَدَالةِ، احْتَمَل تَرجِيحُ ظاهِرِ العَدالةِ؛ لأنَّ المانِعَ مِن الالْتِقاطِ مُنْتَفٍ في حَقِّه بغيرِ شَكٍّ، والآخرَ مَشْكُوكٌ فيه، فيكونُ الحَظُّ للطِّفْلِ في تَسْلِيمِه إليه أتَمَّ. ويَحْتَمِلُ أن يتَساوَيا، لأنَّ احْتِمال وُجُودِ المانِعِ لا يؤَثِّرُ في المَنْعِ، فلا يُوثِّرُ في التَّرْجِيحِ. فصل: وإن رَأياهُ جميعًا، فسَبَقَ (¬2) أحَدُهُما فأخَذَه، أو وَضَع يَدَه عليه، فهو أحَقُّ به؛ لقولِه، - عليه السلام -: «مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» (¬3). فإن رَآه أحَدُهما قبلَ صاحِبِه، فسَبَقَ إلى أخْذِه الآخَرُ، فالسّابِقُ إلى أخْذِه أحَقُّ؛ لأنَّ الالْتِقاطَ هو الأخْذُ دُونَ الرُّؤْيَةِ. فإن قال أحَدُهُما لصاحِبِه: نَاولْنِيه. فأخَذَه الآخَرُ، نَظَرْنا إلى نِيَّتِه؛ فإن نَوَى أخْذَه لنَفْسِه، فهو أحَقُّ به، كا لو لم يَأْمُرْه الآخَرُ بمُناولَتِهِ إيّاه، وإن نَوَى مُناوَلَتَه فهو للآخَرِ؛ لأنَّه فَعَل ذلك بِنيَّةِ النِّيابَةِ عنه، فأشْبَهَ ما لو تَوَكَّلَ له في تَحْصِيلِ مُباحٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «إليه». (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 291.

2535 - مسألة: (فإن اختلفا في الملتقط منهما، قدم من له بينة)

فَإِنِ احْتَلَفَا فِي الْمُلْتَقِطِ مِنْهُمَا، قُدِّمَ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2535 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفا في المُلْتَقِطِ منهما، قُدِّمَ مَن له بَيِّنَةٌ) لأنَّها أقْوَى. فإن كان لكل واحدٍ منهما بَيِّنةٌ، قُدِّمَ أسْبَقُهُما تارِيخًا؛ لأن الثانيَ إنَّما أخَذَ ما قد ثَبَت الحَقُّ فيه لغيرِه. فإنِ اسْتَوَى تارِيخُهُما، أو أُطْلِقَتا، أو أُرِّخَت إحْداهُما وأُطْلِقَتِ الأُخْرَى، تَعارَضَتا، وهل يَسْقُطانِ أو يُسْتَعْمَلان؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَسْقُطان، فيَصِيران كَمَن لا بَيِّنَةَ لهما. والثاني، يُسْتَعْمَلان، ويُقْرَعُ بينهما، فمَن قَرَع صاحِبَه فهو أوْلَى. ونَذكُرُ ذلك في بابه، إن شاء اللهُ تعالى. فإن كان اللَّقِيطُ في يَدِ أحَدِهما، فهل تُقَدَّمُ بَيِّنَتُه، أَو تُقَدَّمُ بَيِّنةُ الخارِجِ؛ فيه وَجْهان مبْنِيّان على الرِّوايَتَين في دَعْوَى المالِ.

2536 - مسألة: (فإن لم يكن لهما بينة، قدم صاحب اليد)

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ قُدِّمَ صَاحِبُ الْيَدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2536 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ لهما بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ صاحبُ اليَدِ) فيكونُ القَوْلُ قَوْلَه مع يَمِينِه أنَّه الْتَقَطَه. ذَكَره أبو الخَطّابِ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال القاضِي: قِياسُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَحْلِفُ، كما في الطلاقِ والنِّكاحِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بدَعْوَاهُم، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأمْوَالهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ». رَواه مسلمٌ (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478.

2537 - مسألة: (فإن كان في أيديهما، أقرع بينهما)

فَإِنْ كَانَ فِي أَيدِيهِمَا، أُقْرِعَ بَينَهُمَا. وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا يَدٌ فَوَصَفَهُ أَحَدُهُمَا، قُدِّمَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2537 - مسألة: (فإن كان في أيدِيهما، أُقْرِعَ بينَهما) فيُسَلَّمُ إلى مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ مع يَمِينِه. وعلى قولِ القاضِي، لا تُشْرَعَ اليمِينُ ههُنا، ويُسَلَّمُ إليه بمُجَرَّدِ وُقُوعِ القُرْعَةِ له. 2538 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ لهما يدٌ فوَصَفَه أحدُهما، قُدِّمَ) نحوَ أن يَقُولَ: في ظَهْرِهِ شامَةٌ. أو: بجَسَدِه عَلامةٌ. فيُقَدَّمُ بذلك. ذَكَره

وَإلَّا سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ إِلَى مَنْ يَرَى مِنْهُمَا أوْ مِنْ غَيرِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ أبِي حَنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يُقَدَّمُ بالصِّفَةِ، كما لو وَصَف المُدَّعِي المُدَّعَى، فإنَّ دَعْواهُ لا تُقَدَّمُ بذلك. ولَنا، أنَّ هذا نَوْعٌ مِن اللُّقَطَةِ، فقُدِّمَ بوَصْفِها، كلُقَطةِ المالِ، ولأنَّ ذلك يَدُلُّ على قُوَّةِ يَدِه، فكان مُقَدَّمًا بها. وقِياسُ اللَّقِيطِ على اللُّقَطَةِ أوْلَى مِن قِياسِه على غيرِها؛ لأنَّ اللَّقِيطَ لُقَطَةٌ. وإن لم يَصِفْه أحَدُهما، فقال القاضِي، وأبو الخطَّابِ: يُسَلِّمُه الحاكِمُ إلى مَن يَرَى منهما أو مِن غيرهما؛ لأنَّه لا حَقَّ لهما. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى أن يُقرَعَ بينهما، كما لو كان في أيديهما؛ لأنَّهما تَنازَعا حَقًّا في يَدِ غيرِهما، أشْبَهَ ما لو تَنازَعا وَدِيعةً عند غيرِهما. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 366.

فَصْلٌ: وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ وَدِيَتُهُ إِنْ قُتِلَ لِبَيتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه الله: (ومِيراثُ اللَّقِيطِ ودِيَتُه إن قُتِلَ لبَيتِ المالِ) إن لم يُخَلِّفْ وارِثًا. ولا وَلاءَ عليه. وإنَّما يَرِثُه المُسْلِمون؛ لأنَّهم خُوِّلُوا كلَّ مالٍ لا مالِكَ له، ولأنَّهم يَرِثُون مال مَنْ لا وارِثَ له غيرَ اللَّقِيطِ، فكذلك اللَّقِيطُ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقال شُرَيحٌ، وإسحاقُ (¬1): عليه الوَلاءُ لمُلْتَقِطِه؛ لقَوْلِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، لأبي جَميلَةَ في لَقِيطِه: هو حُرٌّ، ولك وَلاؤُه (¬2). ولِما روَى واثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المَرْأةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ؛ ¬

(¬1) بعده في حاشية الأصل: «والليث». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيهِ». أخْرَجَه أبو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حَدِيثٌ حَسنٌ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ» (¬2). ولأنَّه لم يَثْبُتْ عليه رِقٌّ، ولا على آبائِه، فلم يَثْبُتْ عليه وَلاءٌ، كمَعْرُوفِ النَّسَبِ. ولأنَّه لا وَلاءَ عليه إن كان ابنَ حُرَّين، وإن كان ابنَ مُعْتَقَيْن، فلا يكونُ عليه وَلاءٌ لغيرِ مُعْتِقِهما. وحَدِيثُ واثِلَةَ لا يَثْبُتُ. قالهُ ابنُ المُنْذِرِ. وقال في خَبَرِ عُمَر: أبو جَمِيلَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، لا تَقُومُ بحَدِيثِه حُجَّةٌ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنه، عَنَى بقَوْلِه: لَكَ وَلاؤُه. ولايَةَ القِيامِ به وحِفْظِه. ولذلك ذَكَرَه عَقِيبَ قولِ عَرِيفِه: إنَّه رَجُلٌ صالِحٌ. وهذا يَقْتَضِي تَفْويضَ الولايةِ إليه؛ لكَوْنِه مَأمُونًا عليه، دُونَ المِيرَاثِ. إذا ثَبَت هذا، فحُكْمُ اللَّقِيطِ في المِيراثِ حُكْمُ مَن عُرِفَ نَسَبُه وانْقَرَضَ أهْلُه، يُدْفَعُ إلى بَيتِ المالِ إذا لم يَكُنْ له وارِث، فإن كانت له زَوْجَةٌ فلها الرُّبْعُ، والباقِي لبَيتِ المالِ، كمَنْ عُرِفَ نَسَبُه. واللهُ أعْلَمُ. فإن قُتِلَ خَطَأً فالدِّيَةُ لبيتِ المالِ؛ لأنَّ حُكْمَها حُكْمُ المِيراثِ، وهو لبَيتِ المالِ، فكذلك الدِّيَةُ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ميراث ابن الملاعنة، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 113. والترمذي، في: باب ما جاء ما يرث النساء، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 267. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب المرأة تحوز ثلاث مواريث، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 916. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 490، 4/ 107. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 234.

2539 - مسألة: (وإن قتل عمدا، فوليه الإمام، إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية)

وَإنْ قُتِلَ عَمْدًا، فَوَلِيُّهُ الإِمَامُ، إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ (¬1)، وَإنْ شَاءَ أخَذَ الدِّيَةَ. وإنْ قُطِعَ طَرَفُهُ عَمْدًا، انْتُطرَ بُلُوغُهُ، إلا أنْ يَكُونَ فَقِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَلِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ يُنْفَقُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2539 - مسألة: (وإن قُتِلَ عَمْدًا، فوَلِيُّه الإمامُ، إن شاء اقْتَصَّ، وإن شاء أخَذَ الدِّيَةَ) أيَّ ذلك فَعَل جاز إذا رآه أصْلَحَ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ يُخَيِّرُه بين القِصاصِ والمُصالحَةِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَالسُّلْطانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» (¬2). ومتى عَفَا على مالٍ أو صالحَ عليه، كان لبَيتِ المالِ، كجِنايَةِ الخَطأ المُوجِبَةِ للمالِ. 2540 - مسألة: (وإن قُطِعَ طَرَفُه عَمْدًا، انْتُظِرَ بُلُوغُه، إلَّا أن يكونَ فَقِيرًا أو مَجْنُونًا، فللإمامِ العَفْوُ على مالٍ يُنْفَقُ عليه) إذا جُنِيَ على ¬

(¬1) في حاشية المخطوطة: «وإن شاء عفا». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الولي، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 481. والترمذي، في: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 13. وابن ماجه، في: باب لا نكاح إلا بولي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّقِيطِ جِنايَةٌ فيما دُونَ النَّفْسِ. تُوجِبُ المال، قبلَ بُلُوغِه، فلِوَلِيِّه أخْذُ الأَرْشِ. وإن كانت مُوجِبَةً للقِصاصِ وله مالٌ يَكْفِيه، وَقَفَ الأمْرُ على بُلُوغِه ليَقْتَصَّ أو يَعْفُوَ، سواءٌ كان عاقِلًا أو مَعْتُوهًا. وكذلك إن لم يَكُنْ له مالٌ وكان عاقِلًا. وإن كان مَعْتُوهًا، فللإمام العَفْوُ على مالٍ يُنْفَقُ عليه؛ لأنَّ المَعْتُوهَ ليست له حالٌ مَعْلُومَةٌ تُنْتَظرُ؛ لأنَّ ذلك قد يَدُومُ به، بخِلافِ العاقِلِ، فإنَّ له حالةً تُنْتَظَرُ. ويُحْبَسُ الجانِي في الحالِ التي يُنْتَظَرُ بُلُوغُه حتى يَبْلُغَ ويَسْتَوْفِيَ لِنَفْسِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ للإمامِ اسْتِيفاءَ القِصاصِ له قبلَ بُلُوغِه. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه أحَدُ نَوْعَي القِصاصِ، فكان للإمامِ اسْتِيفاؤُه عن اللَّقِيطِ؛ كالنَّفْسِ. ولَنا، أنَّه قِصاصٌ لم يَتَحَتَّمِ اسْتِيفاؤُه، فوَقَفَ على مَن هو له، كما لو كان بالِغًا غائِبًا. وفارَقَ القِصَاصَ في النَّفْسِ؛ لأنَّ القِصاصَ ليس هو له، بل هو لِوارِثِه، والإمامُ المُتَوَلِّي له. ¬

_ = من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 605. والدارمي، في: باب النهي عن النكاح بغير ولي، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 137. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 250، 6/ 47، 66، 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا جَنَى اللَّقِيطُ جِنايَةً تَحْمِلُها العاقِلةُ، فهي على بَيتِ المالِ؛ لأنَّ مِيراثَه له، ونَفَقَتَه عليه. وإن جَنَى جِنايَةً لا تَحْمِلُها العاقِلَةُ، فحُكْمُه فيها حُكْمُ غيرِ اللَّقِيطِ؛ إن كانتْ تُوجِبُ القِصاصَ وهو بالِغٌ عاقِلٌ، اقْتُصَّ منه، وإن كانت مُوجِبَةً للمالِ وله مالٌ، اسْتُوْفِيَ منه، وإلا كان في ذِمَّتِه حتى يُوسِرَ. وإن قَذَف اللَّقِيطُ بعدَ بُلُوغِه مُحْصَنًا، حُدَّ ثمانِينَ؛ لأنَّه حُرٌّ.

2541 - مسألة: (وإن ادعى الجاني عليه أو قاذفه رقه، وكذبه اللقيط بعد بلوغه، فالقول قول اللقيط)

وَإنِ ادَّعَى الْجَانِي عَلَيهِ أوْ قَاذِفُهُ رِقَّهُ، وَكَذَّبَهُ اللَّقِيطُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2541 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الجانِي عليه أو قاذفُه رِقَّه، وكَذَّبَه اللَّقِيطُ بعد بُلُوغِه، فالقولُ قولُ اللَّقِيطِ) إذا قَذَف اللَّقِيطَ قاذِفٌ، وهو مُحْصَنٌ، فعليه الحَدُّ، فإنِ ادَّعَى القاذِفُ رِقَّه، فصَدَّقَه اللَّقِيطُ، سَقَطَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدُّ؛ لإِقْرارِ المُسْتَحِقِّ بسُقُوطِه. وإنِ ادَّعى أنَّه عَبْدٌ فصَدَّقَه، وَجَب على القاذِفِ التَّعْزِيرُ؛ لقَذْفِه مَنْ ليس بمُحْصَنٍ. وإن كَذَّبَه اللَّقِيطُ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّه مَحْكُوم بحُرِّيَّتِه، فقَوْلُه مُوافِقٌ للظّاهِر، ولذلك أوْجَبْنا عليه حَدَّ الحُرِّ إذا كان قاذِفًا. وإنِ ادَّعَى الجانِي رِقَّهُ وكَذَّبَه اللَّقِيطُ وادَّعَى الحُرِّيَّةَ، أوْجَبْنا له القِصاصَ وإن كان الجانِي حُرًّا؛ لِما ذَكَرْنا. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يكونَ القولُ قولَ القاذِفِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ صِحَّة قَوْلِه، بأن يكونَ ابنَ أمَةٍ، فيكونَ ذلك شُبْهَةً، والحَدُّ يَنْدَريء بالشُّبُهاتِ. وفارَقَ القِصاصَ له إذا ادَّعَى الجانِي عليه أنَّه عَبْدٌ لأنَّ القِصَاصَ ليس بحَدٍّ، وإنَّما وَجَب حَقًّا لآدَمِيٍّ، ولذلك جازَتِ المُصالحَةُ عنه وأخْذُ بَدَلِه، بخِلافِ حَدِّ القَذْفِ. وإن قُلْنا: إنَّ القَذْفَ حَقُّ لآدَمِيٍّ. فهو كالقِصَاصِ. ويُخَرَّجُ مِن هذا أنَّ اللَّقِيطَ إذا كانْ قاذِفًا، فادَّعَى أنَّه عَبْدٌ ليَجِبَ عليه حَدُّ العَبْدِ، قُبِلَ منه؛ لذلك. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ مَن كان مَحْكُومًا بحُرِّيَّتِه، لا يَسْقُطُ الحَدُّ عن قاذِفِه باحْتِمالِ رِقِّه، بدَلِيل مَجْهُولِ النَّسَبِ، ولو سَقَط لهذا الاحْتِمالِ، لسَقَطَ وإن لم يَدَّعِ القاذِف رِقَّه؛ لأنَّه مَوْجُودٌ وإن لم يَدَّعِه. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 354.

2542 - مسألة: (وإن ادعى إنسان أنه مملوكه، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن أمته ولدته في ملكه. ويحتمل ألا يعتبر قولها في ملكه)

وَإنِ ادَّعَى إِنْسَانٌ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، لَمْ يُقْبَلْ إلا بِبَيِّنةٍ تَشْهَدُ أنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ، وَيَحْتَمِلُ ألا يُعْتَبَرَ قَوْلُهَا فِي مِلْكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2542 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى إنْسانٌ أنَّه مَمْلُوكُه، لم يُقْبَلْ إلَّا ببَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أنَّ أمَتَه وَلَدَتْه في مِلْكِه. ويَحْتَمِلُ ألا يُعْتَبَرَ قَوْلُها في مِلْكِه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ مُدَّعٍ، سُمِعَتْ دَعْواهُ؛ لأنَّها مُمْكِنَةٌ، وإن كانت مُخالِفَةً لظاهِرِ الدّارِ. فإن لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ، فلا شيءَ له؛ لأنَّها دَعْوَى تُخالِفُ الظّاهِرَ. وتُفارِقُ دَعْوَى النَّسَبِ مِن وَجْهَين؛ أحدُهما، أن دَعْوَى النَّسَبِ لا تُخالِفُ الظّاهِرَ، ودَعْوَى الرِّقِّ تُخالِفُه. الثاني، أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعْوَى النَّسَبِ يُثْبِتُ بها حَقًّا لِلَّقِيطِ، ودَعْوَى الرِّقِّ يُثْبِتُ بها حَقًّا عليهْ، فلم تُقْبَلْ بمُجَرَّدِها، كما لو ادَّعَى رِقَّ غيرِ اللَّقِيطِ. فإن لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ، سَقَطَتِ الدَّعْوَى. وإن كانت له بَيِّنةٌ، فَشَهِدَتْ بالمِلْكِ أو باليَدِ، لم يُقْبَلْ فيه إلا شَهادَةُ رَجُلَينِ، أو رَجُلٍ وامْرَأتَين، وإن شَهِدَتْ بالولادَةِ، قُبِلَ فيه رَجُلٌ واحِدٌ وامْرأةٌ واحدةٌ؛ لأنَّه ممّا لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ. ومتى شَهِدَتِ البَيِّنةُ باليَدِ، فإن كانت للمُلْتَقِطِ، لم يَثْبُتْ بها مِلْكً؛ لأنَّنا عَرَفْنا سَبَب يَدِه، وإن كانت لأجْنَبِيٍّ، حُكِمَ له باليَدِ، والقَوْلُ قولُه مع يَمِينِه في المِلْكِ. وإن شَهِدَتْ بالمِلْكِ، فقالت: نَشْهَدُ أنَّه عبْدُه -أو- مَمْلُوكُه. حُكِمَ بها، وإن لم تَذْكُرْ سَبَبَ المِلْكِ، كما لو شَهِدَتْ بمِلْكِ دارٍ أو ثَوْبٍ. فإن شَهِدَتْ بأنَّ أمَتَه وَلَدَتْه في مِلْكِه، حُكِمَ له به؛ لأنَّ أمَتَه لا تَلِدُ في مِلْكِه إلَّا مِلْكَه. وإن تَشْهَدْ أنَّه ابْنُ أمَتِه، أو أنَّ أمَتَه وَلَدَتْه، ولم تَقُلْ: في مِلْكِه. احْتَمَلَ أن يَثْبُتَ له المِلْكُ بذلك، كقَوْلِها: في مِلْكِه. لأنَّ أمَتَه مِلْكُه، فنَماؤُها مِلْكُه، كَسِمَنِها. واحْتَمَلَ أن لا يَثْبُتَ به المِلْكُ؛ لأنَّه يجوزُ أن تَلِدَه قبلَ مِلْكِه إيّاها، فلا يكونُ له وهو ابنُ أمَتِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ الدَّعْوَى بعد بُلُوغِ اللَّقِيطِ، كُلِّفَ إجابَتَه، فإن أنْكَرَ ولا بَيَنةَ للمُدَّعِي، لم تُقْبَلْ دَعْواهُ، وإن كانت له بَيِّنةٌ، حُكِم بها، فإن كان اللَّقِيطُ قد تَصرَّف قبلَ ذلك بِبَيعٍ أو شِرَاءٍ، نُقِضَتْ تَصرُّفاته؛ لأنَّ تَصرُّفَه [بان أنَّه] (¬1) بغيرِ إذْنِ مالِكِه. ¬

(¬1) في م: «كان».

2543 - مسألة: (وإن أقر بالرق بعد بلوغه، لم يقبل. وعنه، يقبل. وقال القاضي: يقبل فيما عليه، رواية واحدة، وهل يقبل في غيره؟ على روايتين)

وَإنْ أقَرَّ بِالرِّقِّ بَعْدَ بُلُوغهِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَعَنْهُ، يُقْبَلُ. وَقَال الْقَاضِي: يُقْبَلُ فِيمَا عَلَيهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهَلْ يُقْبَلُ فِي غَيرِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2543 - مسألة: (وإن أقَرَّ بالرِّقِّ بعد بُلُوغِه، لم يُقْبَلْ. وعنه، يُقْبَلُ. وقال القاضِي: يُقْبَلُ فيما عليه، رِوايةً واحِدَةً، وهل يُقْبَلُ في غيرِه؟ على رِوايَتَين) إذا ادَّعَى إنْسانٌ رِقَّ اللَّقِيطِ بعد بُلُوغِه، فصَدَّقَه، وكان قد اعْتَرَفَ بالحُرِّيَّةِ لنَفْسِه قبلَ ذلك، لم يُقْبَلْ إقْرارُه بالرِّقِّ؛ لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اعْتَرَفَ بالحُرِّيَّةِ، وهي حَقٌّ للهِ تعالى، فلا يُقْبَلُ رُجُوعُه في إبْطالِها. وإن لم يَكُنِ اعْتَرَفَ بالحُرِّيَّةِ، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يُقْبَلُ. وهو. قولُ أصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه مَجْهُولُ الحالِ، أقَرَّ بالرِّقِّ، فَقُبِلَ، كما لو قَدِمَ رَجُلانِ مِن دِارِ الحَرْبِ، فأقَرَّ أحَدُهما للآخَرِ بالرِّقِّ، وكإقْرارِه بالحَدِّ والقِصاصِ في نفْسِه، فإنَّه يُقْبَلُ وإن تَضَمَّنَ فَواتَ نَفسِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ. قال شَيخُنا (¬1): وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه يَبْطُلُ به حَقُّ اللهِ تعالى في الحُرِّيَّةِ المَحْكُومِ بها، فلمِ يَصِحَّ، كما لو أقَرَّ بالحُرِّيَّةِ قبل ذلك، ولأنَّ الطِّفْلَ المَنْبُوذَ لا يَعْلَمُ رِقَّ نفْسِه ولا حُرِّيَّتَها، ولم يَتَجَدَّدْ له حالٌ يَعْرِفُ به رِقَّ نَفْسِه؛ لأنَّه في تلك الحالِ مِمَّن لا يَعْقِلُ، ولم يَتَجَدَّدْ له رِقٌّ بعدَ الْتقاطِه، فكان إقْرارُه باطِلًا. وهذا قولُ ابنِ القاسِمِ، وابنِ المُنْذِرِ. وللشافعيِّ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 385.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهانِ، كما ذَكَرْنا. فإن قُلْنا: يُقْبَلُ إقْرارُه. صارَتْ أحْكامُه أحْكامَ العَبِيدِ فيما عليه خاصَّةً. وهذا الذي قاله القاضِي. وبه قال أبو حنيفةَ، والمُزَنِيُّ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّه أقَرَّ بما يُوجِبُ حَقًّا عليه وحَقًّا له، فوَجَبَ أن يَثْبُتَ ما عليه دُونَ ماله، كما لو قال: لِفُلانٍ عَلَيَّ ألْفٌ، وَلِي عندَه رَهْنٌ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُقْبَلُ إقْرارُه في الجَميعِ. وهو القَوْلُ الثاني للشافعيِّ؛ لأنَّه يَثْبُتُ ما عليه، فيَثْبُتُ ما لَه، كالبَيِّنةِ، ولأنَّ هذه الأحكامَ تَبَعٌ للرِّقِّ، فإذا ثَبَتَ الأصْلُ بقَوْلِه، ثَبَتَ التَّبَعُ، كما لو شَهِدَتِ امْرأةٌ بالولادةِ، ثَبَتَت، وثَبَتَ النَّسَبُ تَبَعًا لها. فصل: فأمّا إن أقَرَّ بالرِّقِّ ابْتداءً لإِنْسانٍ، فصَدَّقَه، فهو كما لو أقَرَّ به جَوابًا، وإن كَذَّبَه، بَطَل إقْرارُه. فإن أقَرَّ به بعدَ ذلك لرَجُلٍ آخَرَ، جازَ. وقال بعضُ أصحابِنا: يَتَوَجَّهُ أن لا يُسْمَعَ إقْرارُه الثاني؛ لأنَّ إقْرارَه الأوَّلَ يَتَضَمَّنُ الاعْتِرافَ بنَفْي مالكٍ له سِوَى المُقَرِّ له، فإذا بَطَل إقْرارُه برَدِّ المُقَرِّ له، بَقِيَ الاعْتِرافُ بنَفْي مالكٍ له غيرِه، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما نَفَاهُ، كما لو أقَر بالحُرِّيَّةِ ثم أقَرَّ بعد ذلك بالرِّقِّ. ولَنا، أنَّه إقْرارٌ لم يَقبَلْه المُقَرُّ له، فلم يَمْنَعْ إقْرارَه ثانيًا، كما لو أقَرَّ له بثَوْبٍ ثم أقَرَّ به لآخَرَ بعدَ رَدِّ الأوَّلِ، وفارَقَ الإِقْرارَ بالحُرِّيَّةِ، فإن الإقْرارَ بها لم يَبْطُلْ ولم يُرَدَّ. فصل: فإذا قَبِلْنا إقْرارَه بالرِّقِّ بعد نِكاحِه، وهو ذَكَرٌ، وكان قبلَ الدُّخُولِ، فَسَد النِّكاحُ في حَقِّه؛ لأنَّه عَبْدٌ تَزَوَّجَ بغيرِ إذْنِ مَوالِيه، ولها عليه نِصْفُ المَهْرِ؛ لأنَّه حَق عليه، فلم يَسْقُطْ بقَوْلِه. وإن كان بعدَ الدُّخُولِ، فَسَد نِكاحُه، وعليه المَهْرُ كلُّه؛ لِما ذَكَرْنا، لأنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلاقَ. فإذا أقَرَّ به قُبِلَ، ووَلَدُه حُرٌّ تابعٌ لأُمِّه. وإن كان مُتَزَوِّجًا بأمَةٍ فوَلَدُه لسَيِّدِها ويتَعَلَّقُ المَهْرُ برَقَبَتِه؛ لأنَّ ذلك مِن جِناياتِه، يَفْدِيه سَيِّدُه أو يُسَلِّمُه. وإن كان في يَدِه كَسْبٌ، اسْتَوْفَى المَهْرَ منه؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ إقْرارُه به لسَيِّدِه بالنِّسْبةِ إلى امْرَأتِه، ولا يَنْقَطِعُ حَقُّها منه بإقْرارِه. وإن قُلْنا: يُقْبَلُ قَوْلُه في جميعِ الأحكامِ. فالنِّكاحُ فاسِدٌ؛ لكَوْنِه تَزَوَّجَ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، ويُفَرَّقُ بينهما، ولا مَهْرَ لها عليه إن لم يَكُنْ دَخَل بها، وإن كان دَخَل بها، فلها عليه المَهْرُ المُسَمَّى، في إحْدَى الرِّوايَتَين، والأُخْرَى، خُمْسَاه. فصل: وإن كان اللَّقِيطُ أُنْثَى، وقُلْنا: يُقْبَلُ فيما عليه خاصَّةً. فالنِّكاحُ صَحِيح في حَقِّه. فإن كان قَبْلَ الدُّخُولِ فلا مَهْرَ لها؛ لإقْرارِها بفَسادِ نِكاحِها، وأنَّها أمَةٌ تَزَوَّجَتْ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، والنِّكاحُ الفاسِدُ لا يَجبُ المَهْرُ فيه إلَّا بالدُّخُولِ. وإن كان دَخَل بها، لم يَسْقُطْ مَهْرُها، ولسَيِّدِها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأقَلُّ؛ مِن المُسَمَّى أو مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّ المُسَمَّى إن كان أقَلَّ، فالزَّوْجُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزِّيادَةِ عليه، وقَولُها غيرُ مَقْبُولٍ في حَقِّه. وإن كان الأقَلُّ مَهْرَ المِثْلِ، فهي وسَيِّدُها يُقِرّان بفَسادِ النِّكاحِ، وأنَّ الواجِبَ مَهْرُ المِثْلِ، فلا يَجِبُ أكْثَرُ منه، إلَّا على الرِّوايَةِ التي يَجِبُ فيها المُسَمَّى في النِّكاحِ الفاسِدِ، فيَجِبُ ها هنا قَلَّ أو كَثُرَ؛ لإقْرارِ الزَّوْجِ بوُجُوبِه. وأمّا الأوْلادُ، فأحْرارٌ، لا تَجِبُ قِيمَتُهم؛ لأنَّها لو وَجَبت لوَجَبَتْ بقَوْلِها، ولا يَجِبُ بقَوْلِها حَقٌّ على غيرِها، ولا يَثْبُتُ الرِّقُّ في حَقِّ أوْلادِها بقَوْلِها. فأمّا بقاءُ النِّكاحِ، فيُقالُ للزَّوْجِ: قد ثَبَت أنَّها أمَةٌ وَلَدُها رَقِيق لسَيِّدِها، فإنِ اخْتَرْتَ المُقَامَ على ذلك فأقْم، وإن شِئْتَ فَفارِقْها. وسواءٌ كان مِمَّن يَجُوزُ له نِكاحُ الإِمَاءِ أو لم يَكُنْ؛ لأنَّنا لو اعْتَبَرْنا ذلك وأفْسَدْنا نِكاحَه، لكان إفسادًا للعَقْدِ جَمِيعِه بقَوْلِها؛ لأنَّ شُرُوطَ نِكاحِ الأمَةِ لا تُعْتَبَرُ في اسْتِدامَةِ العَقْدِ، إنَّما تُعْتَبرُ في ابْتِدائِه. فإن قيل: فقد قَبِلْتُمْ قَوْلَها في أنَّها أمَةٌ في المُسْتَقْبَلِ، وفيه ضَرَرٌ على الزَّوْجِ. قُلْنا: لم يُقْبَلْ قَوْلُها في إيجابِ حَقٍّ لم يَدْخُلْ في العَقْدِ عليه، فأمّا الحُكْمُ في المُسْتَقْبَلِ، فيُمْكِنُ إيفاءُ حَقِّه وحَقِّ مَن ثَبَت له الرِّقُّ عليها، بأن يُطَلِّقَها، فلا يَلْزَمُه ما لم يَدْخُلْ عليه، أو يُقِيمَ على نِكاحِها، فلا يَسْقُطُ حَقُّ سَيِّدِها. فإن طَلَّقَها اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الحُرَّةِ؛ لأنَّ عِدَّةَ الطَّلاقِ حَقٌّ للزَّوْجِ، بدَلِيلِ أنَّها لا تَجِبُ إلَّا بالدُّخُولِ، وسَبَبُها النِّكاحُ السابِقُ، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها في تَنْقِيصِها، وإن مات، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الأمَةِ؛ لأنَّ المُغَلَّبَ فيها حَقُّ الله تِعالى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدَلِيلِ وُجُوبِها قبلَ الدُّخُولِ، فقُبِلَ قَوْلُها فيها. وإن قُلْنا بقَبُولِ قَوْلِها في جميِعِ الأحْكامِ، فهي أمَةٌ تَزَوَّجَتْ بغيرِ إذْن سَيِّدِها، فنِكاحُها فاسِدٌ، ويُفرَّقُ بينَهما، ولا مَهْرَ لها إن كان قبلَ الدُّخولِ. وإن كان دَخَل بها، وَجَب لها مَهْرُ أمَةٍ تَزَوَّجَتْ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، على ما ذُكِرَ في مَوْضِعِه. وهل يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ أو المُسَمَّى؟ فيه روايتان. وتَعْتَدُّ حَيضَتَينِ؛ لأنَّه وَطْءٌ في نِكاحٍ فاسِدٍ. وأوْلادُه أحْرارٌ؛ لاعْتقادِه حُرِّيَّتَها، فهو مَغْرُورٌ، وعليه قيمَتُهُم يومَ الوَضْعِ. وإن مات فليس عليها عِدَّةُ الوَفاةِ. فصل: فإن كان قد تَصَرَّفَ ببَيع أو شِراءٍ، فتَصرُّفُه صَحِيحٌ، وما عليه مِن الحُقُوقِ والأثْمانِ يُؤَدَّى مِمّا في يَدِه، وما بَقِيَ ففي ذِمَّتِه؛ لأنَّ مُعامِلَه لا يُقِرُّ برِقِّه. وإن قُلْنا بقَبُولِ إقْرارِه في جميعِ الأحْكامِ، فَسَدَتْ عُقُودُه كلُّها، ووَجَبَ رَدُّ الأعْيانِ إلى أرْبابِها إن كانت باقِيةً، وإن كانت تالِفةً وَجَبَتْ قِيمَتُها في رَقَبَتِه أو في ذِمَّتِه، على ما ذَكَرْنا في اسْتِدانَةِ العَبْدِ؛ لأنَّه ثَبَت برِضَا صاحِبِه. فصل: فإن كان قد جَنَى جنايَةً مُوجِبَةً للقِصاصِ، فعليه القَوَدُ، حُرًّا كان المَجْنِيُّ عليه أو عَبْدًا؛ لأنَّ إقْرارَه بالرِّقِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ القَوَدِ عليه، فيما إذا كان المَجْنِيُّ عليه عَبْدًا أو حُرًّا، فقُبِلَ إقْرارُه فيه. وإن كانتِ الجنايَةُ خطأً، تَعَلَّقَ أرْشُها برَقَبَتِه؛ لأنَّ ذلك مُضِرٌّ به، فإن كان أرْشُها أكْثَرَ مِن قِيمَتِه، وكان في يَدِه مالٌ، اسْتَوْفَى منه. وإن كانْ ممَّا تَحْمِلُه العاقِلَةُ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه في إسْقاطِ الزِّيادَةِ؛ لأنَّ ذلك يَضُرُّ بالمَجْنِيِّ عليه، فلا يُقْبَلُ

2544 - مسألة: (وإن قال: إني كافر. لم يقبل قوله، وحكمه حكم المرتد. وقيل: يقبل، إلا أن يكون قد نطق بالإسلام وهو يعقله)

وَإنْ قَال: إِنِّي كَافِرٌ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَوْلُه إلا أنْ يَكُونَ قَدْ نَطَقَ بِالإسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُه فيه. وقيلَ: تَجِبُ الزِّيادَةُ في بَيتِ المالِ؛ لأنَّ ذلك كان واجِبًا للمَجْنِيِّ عليه، فلا يُقْبَلُ قَوْلُه في إسْقاطِه. وإن جُنِيَ عليه جِنايَةٌ مُوجِبَةٌ للقَوَدِ، وكان الجانِي حُرًّا، سَقَط؛ لأنَّ الحُرَّ لا يُقادُ بالعَبْدِ، وقد أقَرَّ المَجْنِيُّ عليه بما يُسْقِطُ القِصَاصَ. وإن كانت مُوجِبَةً للمالِ تَقِلُّ بالرِّقِّ، وَجَب أقَلُّ الأمْرَينِ. وإن كان مُساويًا للواجِبِ قَبْلَ الإِقْرارِ، وَجَب، ويَدْفَعُ الواجِبَ إلى سَيِّدِه. وإن كان الواجِبُ يَكْثُرُ؛ لكَوْنِ قِيمَتِه عَبْدًا أكْثَرَ مِن دِيَتِه حُرًّا، لم يَجِبْ إلَّا أرْشُ الجِنايَةِ على الحُرِّ. وإن قُلْنا: يُقْبَلُ قَوْلُه في جميعِ الأحْكامِ. وَجَب أرْشُ الجِنايةِ على العَبْدِ. وإن كل الأرْشُ تَحْمِلُه العاقِلَةُ إذا كان حُرًّا، سَقَط عن العاقِلَةِ، ولم يَجِبْ على الجانِي؛ لأنَّ إقْرارَه بالرِّقِّ يتَضَمَّنُ إقْرارَه بالسُّقُوطِ عن العاقِلَةِ، ولم يُقْبَلْ إقْرارُه على الجانِي، فسَقَطَ. وقيلَ: لا يَتَحَوَّلُ عن العاقِلَةِ. وعلى قولِ مَن قال: يُقْبَلُ إقْرارُه في الأحْكامِ كلِّها. يُوجِبُ الأرْشَ على الجانِي. واللهُ أعْلَمُ. 2544 - مسألة: (وإن قال: إنِّي كافِرٌ. لم يُقْبَلْ قَوْلُه، وحُكْمُه حُكْمُ المُرْتَدِّ. وقيل: يُقْبَلُ، إلَّا أن يكونَ قد نَطَق بالإسْلامِ وهو يَعْقِلُه) وجُمْلَةُ ذلك، أنّا في المَوْضِعِ الذي حَكَمْنا بإسْلامِ اللَّقِيطِ، إنَّما ذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرًا لا يَقِينًا؛ لاحْتمالِ أن يكونَ وَلَدَ كافِرَين، ولهذا لو أقامَ كافِرٌ بَيِّنَةً أنَّه وَلَدُه وُلِدَ على فِراشِه، حَكَمْنا له به. وسَنَذْكُرُ ذلك. ومَتَى بَلَغ اللَّقِيطُ حَدًّا يَصِحُّ فيه إسْلامُه ورِدَّتُه فوَصَفَ الإسْلامَ، فهو مُسْلِمٌ، سواءٌ كان مِمَّن حُكِمَ بإسْلامِه أو كُفْرِه، ولا يُقْبَلُ إقْرارُه بالكُفْرِ بعدَ ذلك؛ لأنَّه إنْكارٌ بعدَ إقْرارِه، فلا يُقْبَلُ، كغَيرِه. وإن وَصَفَ الكُفْرَ وهو مِمَّنْ حُكِمَ بإسْلامِه بالدّارِ، فهو مُرْتَدٌّ لا يُقَرُّ على كُفْرِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وذَكَرَ القاضِي وَجْهًا، أنَّه يُقَرُّ على كُفْرِه. وهو مَنْصُوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّ قَوْلَه أقْوَى مِن ظاهِرِ الدّارِ. وهذا وَجْهٌ بَعِيدٌ؛ لأنَّ دَلِيلَ الإسْلامِ وُجِدَ عَرِيًّا عن المُعَارِضِ، فثَبَتَ حُكْمُه واسْتَقَرَّ، فلا يَجُوزُ

فصْلٌ: وَإنْ أقَرَّ إنْسَانٌ أَنَّهُ وَلَدُهُ، أُلحِقَ بِهِ، مُسْلِمًا كَانَ أوْ كَافِرًا، رَجُلًا كَانَ أَو امْرَأةً، حَيًّا كَانَ اللَّقِيطُ أوْ مَيِّتًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إزالةُ حُكْمِه، كما لو كان ابْنَ مُسْلِمٍ. ولأنَّ قَوْلَه لا دَلالةَ فيه أصْلًا؛ لأنَّه لا يَعْرِفُ في الحالِ مَن كان أبُوه، ولا ما كان دِينُه، وإنَّما يَقُولُ هذا مِن تِلْقاءِ نَفْسِه. فعلى هذا، إذا بَلَغ اسْتُتِيبَ ثَلاثًا، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ. فأمّا على قَوْلِهم، فقال القاضِي: إن وَصَف كُفْرًا يُقَرُّ عليه بالجِزْيَةِ، عُقِدَتْ له الذِّمَّةُ، فإنِ امْتَنَعَ مِن التِزامِها، ووصَفَ كُفْرًا لا يُقَرُّ أهْلُه عليه، أُلْحِقَ بمَأْمَنِه. قال شيَخُنا (¬1): وهذا بَعِيدٌ جِدًّا؛ فإنَّ هذا اللَّقِيطَ لا يَخْلُو إمّا أن يكونَ ابْنَ حَرْبِيٍّ، فهو حاصِلٌ في أيدِي المُسْلِمِينَ بغيرِ عَهْدٍ ولا عَقْدٍ، فيكونُ لواجِدِه، ويَصِيرُ مُسْلِمًا بإسْلامِ سابِيه، أو يكونَ ابْنَ ذِمِّيَّين، أو أحَدُهما ذِمِّيٌّ، فلا يُقَرُّ على الانْتِقالِ إلى غيرِ دِينِ أهْلِ الكِتَاب، أو يكونَ ابْنَ مُسْلم أو مُسْلِمَين، فيكونَ مُسْلِمًا. وقد قال أحمدُ، في أَمَةٍ نَصْرانِيَّةٍ وَلَدَتْ مِن فُجُورٍ: وَلَدُها مُسْلِمٌ؛ لأنَّ أبَوَيه يُهَوِّدانِه ويُنَصِّرانِه، وهذا ليس معه إلَّا أُمُّهُ. وإذا لم يَكُنْ لهذا الوَلَدِ حالٌ يَحْتَمِلُ أن يُقَرَّ فيها على دِينٍ لا يُقَرُّ أهْلُه عليه، فكَيفَ يُرَدُّ إلى دارِ الحَرْبِ! فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإن أقَرَّ إنْسانٌ أنَّه وَلَدُه، أُلْحِقَ به، مُسْلِمًا كان أو كافِرًا، رَجُلًا أو امْرَأةً، حيًّا كان اللَّقِيطُ أو مَيِّتًا) وجملةُ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 352.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى مدَّعٍ نَسَبَ اللَّقِيطِ، لم يَخْلُ مِن قِسْمَينِ؛ أحدُهما، أن يَدَّعِيَه واحدٌ يَنْفرِدُ بدَعْوَتِه، فإن كان المدَّعِي حُرًّا مُسْلِمًا، لَحِقَه نَسَبُه إذا أمْكَنَ أن يكُونَ منه، بغيرِ خِلافٍ بينَ أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّ الإِقْرارَ مَحْضُ نَفْعٍ للطِّفْلِ لاتِّصالِ نَسَبِه، ولا ضَرَرَ على غيرِه فيه، فَقُبِلَ، كما لو أقَرَّ له بمالٍ. فإن كان المُقِرُّ به مُلْتَقِطَه أُقِرَّ في يَدِه. وإن كان غيرَه، فله أن يَنْتَزِعَه مِن المُلْتَقِطِ؛ لأنَّه قد ثَبَت أنَّه أبُوه، فيكونُ أحَقَّ به، كما لو قامَتْ به بَيِّنَةٌ. فصل: فإن كان المُدَّعِي عَبْدًا، أُلْحِقَ به؛ لأنَّ لمَائِهِ حُرْمَةً، فلَحِقَ به نَسَبُهُ، كالحُرِّ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وغيرِه، غيرَ أنَّه لا تَثْبُتُ له حَضانَةٌ؛ لأنَّه مَشْغولٌ بخِدْمَةِ سَيِّدِه، ولا تَجِبُ عليه نَفَقَتُه؛ لأنَّه لا مال له، ولا تَجِبُ على سَيِّدِه؛ لأنَّ الطِّفْلَ مَحْكُوم بحُرِّيَّتِه. فعلى

2545 - مسألة: (ولا يتبع الكافر في دينه إلا أن يقيم بينة أنه ولد على فراشه)

وَلَا يَتْبَعُ الْكَافِرَ فِي دِينِهِ إلا أنْ يُقِيمَ بَيَنةً أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَعَنْهُ، لَا يُلْحَقُ بِامْرَأةٍ ذَاتِ زَوْجٍ، وَعَنْهُ، إِنْ كَانَ لهَا إِخْوَةٌ أوْ نَسَبٌ مَعْرُوف، لَمْ يُلْحَقْ بِهَا وَإلَّا لَحِقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا، تكونُ نَفَقَتُه في بَيتِ المالِ. فصل: فإن كان المُدَّعِي ذِمِّيًّا، لَحِقَ به؛ لأنَّه أقْوَى مِن العَبْدِ في ثُبُوتِ الفِراشِ، فإنَّه يَثْبُتُ له النِّكاحُ والوَطْءُ في المِلْكِ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَلْحَقُ به؛ لأَنَّه مَحْكُومٌ بإسْلامِه. ولَنا، أنَّه أقَرَّ بنَسَبِ مَجْهُولِ النَّسَبِ، يُمْكِنُ أن يكونَ منه، وليس في إقْرارِه إضْرارٌ لغيرِه، فيَثْبُتُ إقْرارُه، كالمُسْلِمِ. 2545 - مسألة: (ولا يَتْبَعُ الكافِرَ في دِينِه إلَّا أن يُقِيمَ بَيِّنةً أنَّه وُلِدَ على فِراشِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يَتْبَعُ الكافِرَ في النَّسَب لا في الدِّينِ، ولا حَقَّ له في حَضانَتِه، ولا يُسَلَّمُ إليه؛ لأنَّه لا ولايَةَ للكَافِرِ على المُسْلِمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيهِ: يَتْبَعُه في دِينِه؛ لأنَّ كُلَّ ما لَحِقَ به بنَسَبِه لَحِقَه به في دِينِه؛ كالبَيِّنَةِ، إلَّا أنَّه يُحالُ بَينَه وبَينَه. ولَنا، أنَّ هذا مَحْكُومٌ بإسْلامِه، فلا يُقْبَلُ قَوْلُ الذِّمِّيِّ في كُفْرِه، كما لو كان مَعْرُوفَ النَّسَب، ولأنَّها دَعْوَى تُخالِفُ الظاهِرَ، فلم تُقْبَلْ بمُجَرَّدِها، كدَعْوَى رِقِّه، ولَأنَّه لو تَبِعَه في دِينِه لم يُقْبَلْ إقرارُه بنَسَبِه؛ لأنَّه يكونُ إضْرارًا به، فلا يُقْبَلُ، كدَعْوَى الرِّقِّ. أما مُجَرَّدُ النَّسَبِ بدُونِ اتِّباعِه في الدِّينِ، فمَصْلَحَةٌ عارِيَةٌ عن الضَّرَرِ، فَقُبِلَ قَوْلُه فيه. ولا يجوزُ قَبُولُه فيما هو أعْظَمُ الضَّرَرِ والخِزْيِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ. فإن أقام بَيِّنَةً أنَّه وُلِدَ على فِراشِه لَحِقَ به نَسَبًا ودِينًا. كذلك ذَكرَه ههُنا. وهو قولُ بعضِ أصحابِنا؛ لأنَّه ثَبَت أنَّه ابْنُه ببَيِّنَةٍ. وقِياسُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَلْحَقُه في الدِّينِ، إلَّا أن تَشْهَدَ البَيِّنةُ أنَّه وَلَدُ كافِرَينِ حَيَّينِ؛ لأنَّ الطِّفْلَ يُحْكَمُ بإسْلامِه بإسلامِ أحَدِ أبَوَيهِ أو مَوْتِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المُدَّعِي امْرأةً، فرُويَ عن أحمدَ، أنَّ دَعْوَتَها تُقْبَلُ، ويَلْحَقُها نَسَبُه؛ لأنَّها أحَدُ الأبَوَين، أشْبَهَتِ الأبَ، ولأنَّه يُمْكِنُ كَوْنُه منها، كما يُمْكِنُ أن يكونَ مِن الرَّجُلٍ بل أكْثَرُ؛ لأنَّها تَأْتِي به مِن زَوْجٍ ووَطْءِ شُبْهةٍ، ويَلْحَقُها وَلَدُها مِن الزِّنى دُونَ الرَّجُلِ. وقد رُوِيَ في قِصَّةِ داوُدَ وسُليمانَ، عليهما السلامُ، حين تحاكَمَ إليهما امْرأتان كان لهما ابْنان، فذَهَبَ الذِّئْبُ بأحَدِهما، فادَّعَتْ كلُّ واحِدَةٍ منهما أنَّ الباقِيَ ابْنُها، فحَكَمَ به داوُدُ للكُبْرَى، وحَكَم به سليمانُ للصُّغْرَى بمُجَرَّدِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّعْوَى منهما (¬1). وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. فعلى هذه الرِّوايَةِ، يَلْحَقُ بها دُونَ زَوْجِها؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَلْحَقَه نَسَبُ وَلَدٍ لم يُقِرَّ به. ولذلك إذا ادَّعَى الرَّجُلُ نَسَبَه، لم يَلْحَقْ بزَوْجَتِه. فإن قِيلَ: الرَّجُلُ يُمْكِنُ أن يكونَ له وَلَدٌ مِن امْرأةٍ أُخْرَى، ومِن أمَتِه، والمَرْأةُ لا يَحِلُّ لها نِكاحُ غيرِ زَوْجِها، ولا يَحِلُّ لغيرِه وَطْؤُها. قُلْنا: يُمْكِنُ أن تَلِدَ مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ أو غيرِه. وإن كان الوَلَدُ يَحْتَمِلُ أن يكونَ مَوْجُودًا قبلَ تَزَوُّجِها بهذا الزَّوْجِ، أمْكَنَ أن يكُونَ مِن زَوْجٍ آخَرَ. فإن قيل: إنَّما قُبِلَ الإقْرارُ بالنَّسَبِ مِن الزَّوْجِ لِما فيه من المَصْلَحَةِ ودَفْعِ العارِ عن الصَّبِيِّ، وصِيانَتِه عن النِّسْبَةِ إلى كَوْنِه وَلَدَ زِنًى، ولا يَحْصُلُ هذا بإلْحاقِ نَسَبِه بالمَرْأةِ، بل في إلْحاقِ نَسَبِه بها دُونَ زَوْجِها تَطَرُّقُ العارِ إليه وإليها. قُلْنا: بل قَبِلْنا دَعْواه؛ لأنَّه يَدَّعِي حَقًّا لا مُنازِعَ له فيه، ولا مَضَرَّةَ فيه على أْحَدٍ، فَقُبِلَ قَوْلُه فيه، كدَعْوَى المالِ، وهذا مُتَحَقِّق في دَعْوَى المَرْأةِ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّها إن كانَتْ ذاتَ زَوْجٍ، لم يَثْبُتِ النَّسَبُ بدَعْواها؛ لإفْضائِه إلى إلْحاقِ النَّسَبِ بزَوْجِها بغيرِ إقْرارِه ولا رِضاه، أو إلى أنَّ امْرَأتَه وُطِئَتْ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ. . . .} من كتاب الأنبياء، وفي: باب إذا ادعت المرأة ابنا، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 4/ 198، 8/ 194، 195. والنسائي، في: باب حكم الحاكم بعلمه، من كتاب القضاء. المجتبى 8/ 206، 207.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بزِنًى أو شُبْهَةٍ، وفي ذلك ضَرَرٌ عليه، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها فيما يُلْحِقُ الضَّرَرَ به. وإن لم يَكُنْ لها زَوْجٌ، قُبِلَتْ دَعْواها؛ لعَدَمِ الضَّرَرِ. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ أيضًا. ورُوِيَ عن أحمدَ رِوايةٌ ثالِثَةٌ، نَقَلَها الكَوْسَجُ عن أحمدَ، في امْرَأةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: إن كان لها إخْوةٌ أو نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فلا تُصَدَّق إلَّا بِبَيِّنةٍ، وإن لم يَكُنْ لها دافِعٌ، لم يُحَلْ بينَها وبَينَه؛ لأنَّه إذا كان لها أهْلٌ ونَسَبٌ مَعْرُوفٌ، لم تَخْفَ ولادَتُها عليهم، ويَتَضرَّرُون بإلْحاقِ النَّسَبِ بها؛ لِما فيه مِن تَعْيِيرِهم بولادَتِها مِن غيرِ زَوْجِها، وليس كذلك إذا لم يَكُنْ لها أهْلٌ. قال شَيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ النَّسَبُ بدَعْوَاها بحالٍ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحاب الرَّأْي. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ النَّسَبَ لا يَثْبُتُ بدَعْوَى المَرْأةِ؛ لأنَّها يُمْكِنُها إقامةُ البَيِّنَةِ على الولادَةِ، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها بمُجَرَّدِه، كما لو عَلَّقَ زَوْجُها طَلَاقَهَا بولادَتِها. ولَنا، أنَّها أحَدُ الوالِدَين، أشْبَهَتِ الأبَ، وإمْكانُ البَيِّنَةِ لا يَمْنَعُ قَبُولَ القَوْلِ، كالرَّجُلِ، فإنَّه يُمْكِنُه إقامَةُ البَيِّنَةِ أنَّ هذا وُلِدَ على فِراشِه. وإن كان المُدَّعِي أمَةً فهي كالحُرَّةِ، إلَّا أنّا إذا قَبِلْنا دَعْواهَا في نَسَبِه، لم نَقْبَلْ قَوْلَها في رِقِّه؛ لأنَّنا لا نَقْبَلُ الدَّعْوَى فيما يَضُرُّه، كما لم نَقْبَلِ الدَّعْوَى في كُفْرِه إذا ادَّعَى نَسَبَه كافِرٌ. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 370.

2546 - مسألة: (فإن ادعاه اثنان أو أكثر، لأحدهم بينة، قدم بها. فإن استووا في البينة أو عدمها، عرض معهما على القافة أو مع أقاربهما إن ماتا)

وَإنِ ادَّعَاهُ اثْنَانِ أوْ أكْثَرُ، لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ بهَا. وَإنْ تَسَاوَوْا فِي الْبَيِّنَةِ أوْ عَدَمِهِا، عُرِضَ مَعَهُمَا عَلَى الْقَافَةِ أوْ مَعَ أقَارِبِهِمَا إِنْ مَاتَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2546 - مسألة: (فإنِ ادَّعاه اثْنان أو أكْثَرُ، لأحَدِهم بَيِّنةٌ، قُدِّمَ بها. فإنِ اسْتَوَوْا في الْبَيِّنَةِ أو عَدَمِها، عُرِضَ معهما على القافَةِ أو مع أقارِبِهما إن ماتا) الكلامُ في ذلك في فُصُولٍ؛ أحدُها، أنه إذا ادَّعاه مُسْلِمٌ وكافِرٌ، أو حُرٌّ وعَبْدٌ، فهما سَوَاءٌ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: المُسْلِمُ أوْلَى مِن الذِّمِّيِّ، والحُرُّ أوْلَى مِن العَبْدِ؛ لأنَّ على اللَّقِيطِ ضَرَرًا في إلْحاقِه بالعَبْدِ والذِّمِّيِّ، فيكونُ إلْحاقُه بالحُرِّ المُسْلِمِ أوْلَى، كما لو تَنازَعُوا في الحَضانةِ. ولَنا، أنَّ كُلَّ واحدٍ لو انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُه، فإذا تَنازَعُوا تَساوَوْا في الدَّعْوَى، كالأحْرارِ المُسْلِمِينَ. وما ذَكَرُوه مِن الضَّرَرِ لا يَتَحَقَّقُ، فإنَّنا لا نَحْكُمُ برِقِّه ولا كُفْرِه. ولا يُشْبِهُ النَّسَبُ الحَضانَةَ، بدَلِيلِ أنَّنا نُقَدِّمُ في الحَضانَةِ المُوسِرَ والحَضَرِيَّ، ولا نُقَدِّمُهُما في دَعْوَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّسَبِ. ولأنَّ الحَضانَةَ إنَّما يُراعَى فيها حَقُّ الطِّفْلِ حَسْبُ، وهاهُنا يَنْبَغِي أن يُرَاعَى حَقُّ المُدَّعِي أيضًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: إذا كان عَبْدٌ (¬1)، امْرَأته أمَة، في أيدِيهما صَبِيٌّ، فادَّعَى رَجُلٌ مِن العَرَبِ امْرأتُه عَرَبِيَّة أنَّه ابْنُه مِن امْرأتِه، وأقامَ العَبْدُ بَيِّنةً بدَعْواه، فهو ابنُه في قولِ أبي ثَوْرٍ وغيرِه. وقال أصحابُ الرأي: يُقْضَى به للعَرَبِيِّ، للعِتْقِ الذي يَدْخُلُ فيه، وكذلك إن كان المُدَّعِي مِن المَوالِي عِندَهم. قال شَيخُنا (¬2): وهذا غيرُ صَحِيح؛ لأنَّ العَرَبَ وغيرَهم في أحْكامِ اللهِ تعالى ولُحُوقِ النَّسَبِ بهم سَواءٌ. الفصلُ الثاني، أنَّه إذا ادَّعاهُ اثْنان أو أكثرُ، وكان لأحَدِهما بَيِّنة، فهو ابْنُه، وإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهم بَيِّنةً، تَعارَضَتْ وسَقَطَتْ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِعْمالُها هاهُنا؛ لأنَّ اسْتِعْمالها في المالِ إمّا بقِسْمَتِه بين المُتنازِعَينِ، ولا يمكنُ هاهُنا، أو بالقُرْعَةِ، والقُرْعَةُ لا يَثْبُتُ بها النَّسَبُ. فإن قِيلَ: إنما يَثْبُتُ هاهُنا بالبَيِّنةِ لا بالقُرْعَةِ، وإنَّما القُرْعَةُ مُرَجحَة. قُلْنا: فيَلْزَم أنَّه إذا اشْتَرَكَ رَجُلانِ في وَطْءِ امْرأةٍ، وأتَتْ بوَلَدٍ، أن يُقْرَعَ بينَهما، ويكونَ لُحُوقه بالوَطْءِ لا بالقُرْعَةِ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «عند». (¬2) في: المغني 8/ 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثالثُ، أنَّه إذا لم تَكُنْ بَيِّنة، أو تعارَضَتْ بَيِّنتان وسَقَطَتا، أُرِيَ القافَةَ معهما، أو مع عَصَبَتِهما عند فَقْدِهِما، فَتُلْحِقهُ بمَن ألْحَقَتْه به منهما. هذا قولُ أنس، وعطاءٍ، والأوْزاعِيِّ، والليثِ، والشافعيِّ، [وأبِي ثَوْرٍ] (¬1). وقال أصحابُ الرَّأي: لا حُكْمَ للقافَةِ، ويُلْحَقُ بالمُدَّعِيَين جميعًا؛ لأنَّ الحُكْمَ بالقِيافَةِ مَبْنِيٌّ على الشَّبَهِ والظَّنِّ والتَّخْمِينِ، فإنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بين الأجانِبِ، ويَنْتَفِي بينَ الأقارِبِ، ولهذا رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رَجُلًا أتَاهُ، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ امْرَأتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أسْوَدَ. فقال: «هَلْ لَكَ مِن إبلٍ؟» قال: نعم. قال: «فما ألْوَانُهَا؟» قال: حُمْرٌ. قال: «هَلْ فيها مِنْ أوْرَقَ؟» قال: نعم. قال: «أنَّى أتاها ذَلِكَ؟» قال: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ. قال: «وهذا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ». مُتَّفَق عليه (¬2). قالوا: ولو كان الشَّبَهُ كافِيًا لاكتُفِيَ به في وَلَدِ المُلاعِنَةِ، وفيما إذا أقَرَّ أحَدُ الوَرَثةِ بأخٍ فأنْكَرَهُ الباقُونَ. ولَنا، ما رُوِيَ ¬

(¬1) في الأصل، ر 2، م: «وأبي». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب من شبه أصلا معلوما. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 9/ 125. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1137. كما أخرجه أبو داود، في: باب إذا شك في الولد، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 525. والنسائي، في: باب إذا عرض بامرأته. . . .، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 146، 147. والإمام أحمد، في المسند 2/ 239، 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عائِشةَ، رَضِيَ الله عنها، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَل عليها مَسْرُورًا تَبْرُقُ أسَارِيرُ وَجْهِه، فقال: «ألمْ تَرَي أنَّ مُجَزِّزًا المُدْلِجِيَّ نَظَر آنِفًا إلَى زَيدٍ وَأُسَامَةَ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُما وَبَدَتْ أقْدَامُهُمَا، فَقَال: إنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ؟». مُتَّفَق عليه (¬1). فَلولا جَوازُ الاعْتِمادِ على القيَافَةِ لَما سُرَّ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا اعْتَمَدَ عليه، ولأن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، قَضَى به بحَضْرَةِ الصَّحابةِ، فلم يُنْكِرْه مُنْكِر، فكان إجْماعًا، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في وَلَدِ المُلاعِنَةِ: «انْظُرُوهَا، فَإنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَين (¬2) كَأنه وَحَرَةٌ (¬3)، فَلَا أرَاهُ إلا قَدْ كَذَبَ عَلَيهَا، وَإنْ جَاءَت بِهِ جَعْدًا، جُمالِيًّا (¬4)، سَابغَ الألْيَتَين، خَدَلَّجَ السَّاقَين (¬5)، فَهُوَ للَّذِي رُمِيَتْ بِهِ». ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب المناقب، وفي: باب مناقب زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل، وفي: باب القائف، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 4/ 229، 5/ 29، 8/ 195. ومسلم، في: باب العمل بإلحاق القائف الولد، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1081، 1082. كما أخرجه أبو داود، في: باب في القافة، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 526. والترمذي، في: باب ما جاء في القافة، من أبواب الولاء. عارضة الأحوذي 8/ 290، 291. والنسائي، في: باب القافة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 151، 152. وابن ماجه، في: باب القافة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 787. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 82، 226. (¬2) حمش الساقين: أي رقيقهما. (¬3) الوحرة: وزغة تكون في الصحارى، كسامٍّ أبرصَ، لا تطأ شيئًا من طعام أو شراب إلا سمَّته. (¬4) جمالى: ضخم الأعضاء تام الأوصال، كأنه الجمل. (¬5) خدلج الساقين: ممتلؤهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأتَتْ به على النَّعْتِ المَكْرُوهِ، فقال النبيُّ: «لَوْلَا الأيمَانُ لَكَانَ لِيَ وَلَهَا شَأنٌ» (¬1). فحَكَم به النبي - صلى الله عليه وسلم - للَّذِي أشْبَهَهُ منهما. وقَوْلُه: «لَوْلَا الأيمَانُ لَكَانَ لِيَ وَلَهَا شَانٌ». يَدُلُّ على أنَّه لم يَمْنَعْه مِن العَمَل بالشَّبَهِ إلَّا الأيمانُ، فإذا انْتَفَى المانِعُ يَجِبُ العَمَلُ به لوُجُودِ مُقْتَضِيه. وكذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ابنِ أمَةِ زَمْعَةَ، حينَ رأى به شَبَهًا بَيِّنا بعُتْبَةَ بنِ أبي وَقّاص: «احْتَجِبِي مِنْهُ يا سَوْدَةُ» (¬2). فعمِلَ بالشَّبَهِ في حَجْبِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة. . . .، من كتاب الشهادات، وفي: باب ويدرأ عنها العذاب. . . .، من كتاب التفسير، وفي: باب يبدأ الرجل بالتلاعن، وباب التلاعن في المسجد، وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت راجما بغير بينة، وباب قول الإمام: اللهم بيِّن، من كتاب الطلاق، صحيح البخاري 3/ 233، 6/ 126، 7/ 69 - 72. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1134. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 251 - 525. والترمذي، في: باب تفسير سورة النور، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 1/ 45، 46. والنسائي، في: باب اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه، وباب كيف اللعان، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 140، 141. وابن ماجه، في: باب اللعان، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 668. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 238، 239، 3/ 142. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب تفسير المشبهات، وباب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، من كتاب البيوع، وفي: باب دعوى الوصي للميت، من كتاب الخصومات, وفي: باب أم الولد، من كتاب العتق، وفي: باب قول الموصي تعاهد ولدي. . . .، من كتاب الوصايا، وفي: باب وقال الليث. . . .، من كتاب المغازي، وفي: باب الولد للفراش، وباب من ادعى أخا أو اين أخ، من كتاب الفرائض، وفي: باب للعاهر الحجر، من كتاب الحدود، وفي: باب من قضى له بحق أخيه. . . .، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 3/ 70، 106، 161، 4/ 4، 5/ 192، 8/ 191، 194، 205، 9/ 90. ومسلم، في: باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1080، 1081. وأبو داود، في: باب الولد للفراش، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 528، 529. والترمذي، في: باب ما جاء أن الولد للفراش، من أبواب الرضاع، وفي: باب ما جاء لا وصية لوارث، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذي 5/ 102، 103، 8/ 275، 278. والنسائي، في: باب إلحاق الولد بالفراش. . . .، وباب فراش الأمة، من كتاب الطلاق. . . . المجتبى 6/ 148، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَوْدَةَ. فإن قِيلَ: فالحَدِيثانِ حُجَّة عليكُم؛ إذ لم يَحْكُمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشبَهِ فيهما، بل ألْحَقَ الوَلَدَ بزَمْعَةَ، وقال لعبدِ بنِ زَمْعَةَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ للْفِرَاش، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ». ولم يَعْمَلْ بشَبَهِ وَلَد المُلاعِنَةِ في إقامَةِ الحَدِّ عليها لشَبَهِه بالمَقْذُوفِ. قُلْنا: إنَّما لم يَعْمَلْ به في ابْنِ أمَةِ زَمْعَةَ؛ لأنَّ الفِراشَ أقْوَى، وتَرْكُ العَمَلِ بالبَيِّنةِ لمُعارَضَةِ ما هو أقْوى منها، لا يُوجب الإِعْراضَ عنها إذا خَلَتْ عن المُعارِضِ. ولذلك ترَك إقامَةَ الحَد عليها مِن أجْلِ أيمانِها، بدَلِيلِ قولِه: «لَوْلَا الأيمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأنٌ». على أنَّ ضَعْفَ الشَّبَهِ عن إقامَةِ الحَد لا يوجب ضَعْفَه عن إلْحاقِ النّسَبِ، فإنَّ الحَدَّ في الزنَى لا يَثْبُتُ إلَّا بأقْوَى البَيِّناتِ، وأكْثَرِها عَدَدًا، وأقْوَى الإِقْرارِ، حتى يُعْتَبَرَ فيه تَكْرارُه أرْبَعَ مَرَّاتٍ، ويُدْرَأ بالشُّبُهاتِ. والنَّسَبُ يَثْبُتُ بشَهادَةِ امْرأةٍ على الولادَةِ، ويَثْبُتُ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مع ظُهُورِ انْتِفائِه، حتى لو أنَّ امْرَأةً أتَتْ بوَلَدٍ وزَوْجُها غائِبٌ منذ عِشْرين سَنة، لَحِقَه وَلَدُها، فكَيفَ يَحْتَجُّ على نَفيِه بعَدَمِ إقامَةِ الحَدِّ! لأَنه حَكَم بِظَنٍّ غالِبٍ ورَأىٍ راجِح، مِمَّن هو مِن أهْلِ الخِبْرَةِ، فجازَ، كقَوْلِ المُقَوِّمِين. وقَوْلُهم: إنَّ الشَّبَهَ يجوزُ وُجُودُه ¬

_ = 149. وابن ماجه، في: باب الولد للفراش وللعاهر الحجر، من كتاب النكاح، وفي: باب لا وصية لوارث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 1/ 646، 647، 2/ 905. والدارمي، في: باب الولد للفراش، من كتاب النكاح. وفي: باب في ميراث ولد الزنا، من كتاب الفرائض. سننن الدارمي 2/ 152، 389. والإمام مالك، في: باب القضاء لإلحاق الولد بأبيه، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 739. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 37، 129، 200، 226، 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَدَمُه. قُلْنا: الظّاهِرُ وُجُودُه، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين قالتْ أمُّ سَلَمَةَ: أوَ تَرَى ذلك المَرْأةُ؟ قال: «فَمِنْ أينَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟» (¬1). والحَدِيثُ الذي احْتَجُّوا به حُجَّة عليهم؛ لأنَّ إنْكارَ الرَّجُلِ ولَدَه لمُخالفَةِ لَوْنِه لَوْنَه، وعَزْمَهُ على نَفْيِه لذلك، يَدُلُّ على أنَّ العادَةَ خِلافُه، وأنَّ في طِباعِ النّاسِ إنْكارَه، فإنَّ ذلك إنَّما يُوجَدُ نادِرًا، وإنَّما ألْحَقَه النبي - صلى الله عليه وسلم - به لوُجُودِ الفِراشِ، وتَجُوزُ مُخالفَةُ الظّاهِرِ للدَّلِيلِ، ولا يجوزُ تَرْكُه لغيرِ دَلِيل، ولأنَّ ضَعْفَه عن نَفْي النَّسَبِ لا يَلْزَمُ منه ضَعْفُه عن إثْباتِه. فإنَّ النَّسَبَ يُحْتاطُ (¬2) لإِثْباتِه، ويَثْبُتُ بأدْنَى دَلِيل، ويَلْزَمُ مِن ذلك التَّشْدِيدُ في نَفْيِه، وأنَّه لا يَنْتَفِي إلَّا بأقْوَى الأدِلَّةِ، كما أنَّ الحَدَّ لمّا انْتَفَى بالشبْهَةِ، لم يَثْبُتْ إلَّا بأقْوَى دَلِيل، فلا يَلْزَمُ حِينَئذٍ مِن المَنْعِ مِن نَفيِه بالشَّبَهِ في الخَبَرِ المَذْكُورِ أن لا يَثْبُتَ به النَّسَبُ في مسألَتِنا. فإن قيل: فهاهُنا إذا عَمِلْتُم بالقِيافَةِ فقد نَفيتُم النَّسَبَ عَمَّن لم تُلْحِقْه القافَةُ به. قُلْنا: إنَّما انْتَسب هاهُنا لِعَدَم دَلِيله؛ لأنَّه لم يُوجَدْ إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وقد عارَضَها مِثلُها، فسَقَطَ حُكْمُها، وكان الشَّبَهُ مُرَجِّحًا لأحَدِهما، فانْتَفتْ دَلالةُ الأخْرَى، فلَزِمَ انْتِفاءُ النَّسَبِ لانْتِفاءِ دَلِيله، وتَقْدِيمُ اللِّعانِ عليه لا يَمْنَعُ العَمَلَ به عندَ عَدَمِه، كاليَدِ تُقَدَّمُ عليها البَيِّنةُ، ويُعْمَلُ بها عندَ عَدَمِها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: 2/ 80. ويضاف إليه. وأخرجه البخاري، في: باب الحياء في العلم، من كتاب العلم، وفي: باب قول الله تعالى: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري 1/ 44، 4/ 160. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 292، 306، 377. (¬2) بعده في م.: «له».

2547 - مسألة: (فإن ألحقته بأحدهما، لحق به)

فَإِنْ ألحَقَتْهُ بِأحَدِهِمَا، لَحِقَ بِهِ، وَإنْ ألْحَقَتْهُ بِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُون الأنْسابَ بالشَّبَهِ، ولا يَخْتَصُّ ذلك بقَبِيلَةٍ مُعَيَنةٍ، بل مَنْ عُرِفَ منه المَعْرِفةُ بذلك، وتَكَرَّرَتْ منه الإِصابَةُ، فهو قائِفٌ. وقيل: أكثَرُ ما يكونُ في بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ الذي رَأى أسَامَةَ وزَيدًا قد غَطَّيا رُءُوسَهُما وبَدَتْ أقْدامُهُما، فقال: إنَّ هذه الأقْدامَ بعضُها مِن بعضٍ. وكان إيَاسُ بنُ مُعاويةَ المُزَنِيُّ قائِفًا، وكذلك قِيلَ في شُرَيحٍ. 2547 - مسألة: (فإن ألْحَقَتْه بأحَدِهما، لَحِقَ به) لتَرَجُّحِ جانِبِه (وإن ألْحَقَتْه بهما لَحِقَ بهما) وكان ابنَهما يَرِثُهُما مِيراثَ ابْن، ويَرِثانِه جميعا مِيراثَ أبٍ واحدٍ. يُرْوَى ذلك عن عُمَرَ، وعَلِي، رَضِيَ اللهُ عنهما. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأي: يُلْحَقُ بهما بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وقال الشافعيّ: لا يُلْحَقُ بأكْثَرَ مِن واحدٍ، فإن ألْحَقَتْهُ بهما سَقَط قَوْلُهما، ولم يُحْكَمْ به. واحْتَجَّ برِوايةٍ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ القافَةَ قالت: قد (¬1) اشْتَرَكَا فيه. فقال عُمَرُ: وَالِ أيهما شِئْتَ. ولأنَّه لا يُتَصَوَّرُ كَوْنُه مِن رَجُلَين، فإذا ألْحَقَتْه القافَةُ بهما تَبَينا كَذِبَهُما، فسَقَطَ قَوْلُهما، كما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو ألْحَقَتْه بأمَّينِ، ولأنَّ المُتَداعِيَينِ لو اتَّفَقَا على ذلك، لم يَثْبُتْ، ولو ادَّعاهُ كلُّ واحدٍ منهما وأقامَ بَيِّنةً، سَقَطَتا، ولو جاز أن يُلْحَقَ بهما لثَبَتَ باتِّفاقِهِما، وألحِقَ بهما عندَ تَعارُضِ بَينتِهما. ولَنا، ما روَى سَعِيدٌ في «سُنَنِه»، ثنا سُفْيانُ، عن يَحْيى بنِ سعيدٍ، عن سلَيمانَ بنِ يَسارٍ، عن عُمَرَ في امْرَأةٍ وَطِئَها رَجُلان في طُهْر، فقال القائِفُ: قد اشْتَرَكا فيه جَمِيعًا. فجَعَلَه بَينَهُما. وبإسْنادِه عن الشَّعْبِيِّ قال: وعلى يقولُ: هو ابْنُهُما وهما أبوَاه، يَرِثُهُما ويَرِثانِه. ورَواه الزُّبَيرُ بنُ بَكّارٍ بإسْنادِه عن عُمَرَ. وقال الإمامُ أحمدُ: حَدِيثُ قَتادَةَ عن سَعيدٍ عن عُمَرَ جَعَلَه بينَهما. وقال قابُوسٌ، عن أبيه، عن عَلِيّ (¬1)، جَعَلَه بَينَهُما. وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، في رَجُلين اشْتَركا في طُهْرِ امْرأةٍ، فحَمَلَتْ، فوَلَدَتْ غُلامًا يُشْبِهُهُما، فَرُفِعَ ذلك إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فدَعَى القافَةَ فنَظَرُوا، فقالوا: نَراهُ يُشْبِهُهما. فألْحَقَه بهما وجَعَلَه يَرِثُهُما ويَرِثانِه (¬2). قال سعيدٌ: عَصَبَتُه الباقِي منهما. وما ذَكَرُوه عن عُمَرَ لا نَعْلَمُ صِحَّتَه، وإن صَحَّ، فيَحْتَمِلُ أنَّه تَرَك قَوْلَهما لأمْر آِخَرَ، إمّا لِعَدَمِ ثِقَتِهما، وإمّا لأنَّه ظَهَر له مِن قَوْلِهما واخْتِلافِه ما يُوجِبُ ترْكَه، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب من قال: يقرع بينهما إذا لم يكن قافة، من كتاب الدعوى والبينات. السنن الكبرى 10/ 268. وعبد الرزاق، في: باب النفر يقعون على المرأة في طهر واحد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 360. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب القافة ودعوى الولد، من كتاب الدعوى والبينات. السنن الكبرى 10/ 264. وعبد الرزاق، في: باب النفر يقعون على المرأة في طهر واحد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 360.

2548 - مسألة: (ولا يلحق بأكثر من أم واحدة)

وَلَا يُلْحَقُ بِأكْثَرَ مِنْ أمٍّ وَاحِدَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَنْحَصِرُ المانِعُ مِن قَبُولِ قَوْلِهِما أنَّهما اشْتَرَكا فيه. قال أحمدُ: إذا ألْحَقَتْه القافَةُ بهما وَرِثَهُما ووَرِثاه، فإن مات أحَدُهما فهو للباقِي منهما، ونَسَبُهُ مِن الأوَّلِ قائِم لا يُزِيلُه شيء. ومَعْنَى قولِه: هو للباقِي منهما. واللهُ أعلَمُ، أنَّه يَرِثُه مِيراثَ أبٍ كامِل، كما أنَّ الجَدَّةَ إذا انْفَرَدَتْ أخَذَتْ ما تَأخُذُه الجَدَّاتُ، والزَّوْجَةُ تَأخذُ وَحْدَها ما يَأخُذُ جَمِيعُ الزَّوْجاتِ. 2548 - مسألة: (ولا يُلْحَقُ بأكْثَرَ مِن أمٍّ واحِدَةٍ) إذا ادَّعَتِ امْرَأتانِ نَسَبَ اللَّقِيطِ، فهو مَبْنِيٌّ على قَبُول دَعْوَتِهما. وقد ذَكَرْنا ذلك. وإن كانت إحداهُما مِمَّن تُقْبَلُ دَعْوَتُها دُونَ الأخْرَى فهو ابْنُها، كالمُنْفَرِدَةِ، وإن كانتا مِمّن لا تُقْبَلُ دَعْوَتُهما فوُجُودُها كَعَدَمِها، وإن كانتا جميعًا مِمَّن تُقْبَلُ دَعْوَتُهُما، فهما في إثْباتِه بالبَينةِ وكَوْنِه يُرَى القافةَ عندَ عَدَمِها أو تَعارُضِهما كالرَّجُلَين. قال أحمدُ، في رِوايَةِ بَكْرِ بنِ محمدٍ، في يَهُودِيَّةٍ ومُسْلِمَةٍ وَلَدَتا، فادَّعَتِ اليَهُودِيَّةُ وَلَدَ المُسْلِمَةِ، فتَوَقَّفَ، فَقِيلَ: يُرَى القافةَ. فقال: ما أحْسَنَهُ. ولأنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بينها وبين ابْنِها كوُجُودِه بين الرَّجُلِ وابْنِه، بل أكثَرُ، لاخْتصاصِها بحَمْلِه وتَغْذِيَته، والكافِرَةُ والمُسْلِمَةُ، والحُرَّةُ والأمَةُ، في الدَّعْوَى واحِدَة، كقَوْلِنا في الرِّجالِ. وهذا قولُ أصحابِ الشافعيِّ على الوَجْهِ الذي يَقُولُون فيه (¬1) بقَبُولِ دَعْواها. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه لا يُلْحَقُ بأكْثَرَ مِن أم واحِدَةٍ، فإن ألْحَقَتْه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القافَةُ بأُمَّينِ، سَقَط قَوْلُهما، لأنَّنا (¬1) نَعْلَمُ خَطَأه قَطْعًا. وقال أصحابُ الرَّأي: يُلْحَقُ بهما بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، لأنَّ الأمَّ أحَدُ الأبوَينِ، فجازَ أن يُلْحَقَ باثْنَتَين، كالآباءِ. ولَنا، أنَّ هذا مُحَالٌ يَقِينًا، فلم يَجُزِ الحُكْمُ به، كما لو كان أكبَرَ منهما أو مِثْلَهُما، بخِلافِ الرَّجُلَينِ، فإنَّ كَوْنَه منهما مُمْكِنٌ، فإنَّه يَجُوزُ اجْتِماعُ نُطْفَتَي الرَّجُلَين في رَحِمِ امْرَأةٍ، فيُمْكِنُ أن يُخْلَقَ منهما وَلَدٌ كما يُخْلَقُ مِن نُطْفَةِ الرَّجُلِ الواحِدِ (¬2) والمَرْأةِ، ولذلك قال القائِفُ لعُمَرَ: قد اشْتَرَكَا فيه. ولا يَلْزَمُ مِن إلْحاقِه بمَن يُتَصَوَّرُ كَوْنُه منه إلْحاقُه بمَن يَسْتَحِيلُ ذلك منه، كما لا يَلْزَمُ مِن إلْحاقِه بمَنْ يُولَد مِثْلُه لِمِثْلِه إلْحاقُه بأصْغَرَ منه. فصل: فإنِ ادَّعَى نَسَبَه رَجُل وامْرَأةٌ فلا تَنَافِيَ بينَهُما، لإِمْكانِ كَوْنِه منهما بنِكاح كان بينهما، أو وَطْءِ شُبْهةٍ، فيُلْحَقُ بهما جميعًا، ويكونُ ابْنَهُما بمُجَرَّدِ دَعْواهما، كما لو انْفَرَدَ كلُّ واحِدٍ منهما بالدَّعْوَى. وإن قال الرَّجُلُ: هذا ابْنِي مِن زَوْجَتِي. وادَّعَتْ زَوْجَتُه ذلك، وادَّعَتْه امرأةٌ. أخْرَى، فهو ابْنُ الرَّجُلِ، وتُرَجَّحُ زَوْجَتُه على الأخْرَى؛ لأنَّ زَوْجَها أبوه، فالظّاهِرُ أنَّها أمُّه. ويًحْتَمِلُ أن يتَسَاوَيا، لأنَّ كلَّ واحِدَةٍ منهما لو انْفَرَدَتْ أُلحِقَ بها، فإذا اجْتَمَعَتا تَساوَتَا. ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو وَلَدَتْ امْرأتانِ ابْنًا وبِنْتًا، فادَّعَتْ كل واحِدَةٍ منهما أنَّ الابنَ وَلَدُها، احْتَمَلَ وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أن تَرَى المَرأتين القافَة مع الوَلَدَين، فيُلْحَقُ كل منهما بمَنْ ألْحَقَتْه به، كما لو لم يَكُنْ لهما وَلَدٌ آخَرُ. والثاني، يُعْرَضُ لَبَنُهُما على أهْلِ الطِّبِّ والمَعْرِفَةِ، فإنَّ لَبَنَ الذَّكَرِ يُخالِفُ لَبَنَ الأنْثَى في طَبْعِه وزِنَتِه، وقد قيلَ: لَبَنُ الابنِ ثَقِيل، ولَبَنُ البِنْتِ خَفِيف. فيُعْتَبران بطباعِهما ووَزْنِهِما؛ وما يَخْتَلِفانِ به عندَ أهْلِ المَعْرِفةِ، فمن كان لَبَنُها لَبَنَ الابن فهو وَلَدُها، والبِنْتُ للأخْرى. فإن لم يُوجَدْ قافَةٌ اعْتُبِرَ باللَّبَنِ خاصَّة. فأمّا إن تَنازَعا أحَدَ الولدين، وهما ذَكَرَانِ أو ابْنَتان، عُرِضُوا على القافَةِ. كما ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ. فصل: فإنِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلانِ، فقال أحَدُهما: هو ابْنِي. وقال الآخَرُ: هو ابْنَتِي. فإن كان ابْنًا فهو لمُدَّعِيه، وإن كان بِنْتًا فهي لمدَّعِيها؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما لا يَسْتَحِقُّ غيرَ ما ادِّعاهُ. فإن كان خُنْثَى مُشْكِلًا، أُرِيَ القافَةَ؛ لأنَّه ليس قولُ كلِّ واحدٍ منهما أوْلَى مِن الآخرِ. فإن أقامَ كل واحدٍ منهما بَيِّنةً بما ادَّعاهُ، فالحُكْمُ فيهما كالحُكْم فيما لو انْفَرَدَ كل واحدٍ منهما بالدَّعْوَى؛ لأنَّ بَيِّنةَ الكاذِبِ منهما كاذِبَة فوُجُودُها كَعَدَمِها، والأُخْرَى صادِقَةٌ، فيَتَعَيَّنُ الحُكْمُ بها.

2549 - مسألة: (فإن ادعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم، لحق وإن كثروا)

وَإنِ ادَّعَاهُ أكْثَرُ مِنِ اثْنَين فَألِحِقَ بِهِمْ، لَحِقَ بِهِمْ وإنْ كَثُرُوا. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُلْحَقُ بِأكثرَ مِنِ اثنَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2549 - مسألة: (فإنِ ادَّعاهُ أكثرُ مِن اثْنَين فألْحَقَتْه بهم، لَحِقَ وإن كَثُروا) وقد نَصَّ أحمدُ في رِوايَةِ مُهَنَّا، أنَّه يُلْحَقُ بثَلاثةٍ. ومُقْتَضَى هذا أنَّه يُلْحَقُ بمَن ألْحَقَتْه القافَةُ، وإن كَثُرُوا. (وقال ابنُ حامِدٍ: لا يُلْحَقُ بأكْثَرَ مِن اثْنَين) وهو قولُ أبي يُوسُفَ؛ لأنَّنا صِرْنا إلى ذلك للأثَرِ، فيُقْتَصَرُ عليه. وقال القاضِي: لا يُلْحَقُ بأكثر مِن ثَلاثةٍ. وهو قولُ محمدِ بنِ الحَسَنِ. ورُوِيَ ذلك عن أبي يوسفَ أيضًا. ولَنا، أنَّ المَعْنَى الذي لأجْلِه أُلحِقَ باثْنَين مَوْجُودٌ فيما زاد عليه، فيُقَاسُ عليه. وإذا جازَ أن يُخْلَق مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اثْنَين، جازَ أن يُخْلَقَ مِن أكْثَرَ منهما. وقولُهم: إنَّ إلْحاقَه باثْنَين على خِلافِ الأصْلِ. مَمْنُوعٌ، وإن سَلَّمْناه، لكنّه ثَبَت لمَعْنى مَوْجُودٍ في غيره، فيَجِبُ تَعْدِيَةُ الحُكْمِ به، كما أنَّ إباحَةَ أكْلِ المَيتةِ عند المَخْمَصَةِ أُبِيحَ على خِلافِ الأصْلِ، ولا يَمْنَعُ مِن أن يُقاسَ على ذلك مالُ الغيرِ، والصَّيدُ الحَرَمِيُّ، وغيرُهما مِن المُحَرَّماتِ، لوُجُودِ المَعْنَى، وهو إبْقاءُ النَّفْسِ وتَخْلِيصُها مِن الهَلاكِ. وأمّا قولُ مَن قال: يجوزُ إلْحاقُه بثَلاثةٍ، ولا يُزادُ عليه. فَتَحَكُّمٌ، فإنَّه لم يَقتَصِرْ على المَنْصُوصِ عليه، ولا عَدَّى الحُكْمَ إلى ما في مَعْناه، ولا نَعْلَمُ في الثّلاثةِ مَعْنى خاصًّا يَقْتَضِي إلْحاقَ النَّسَبِ بهم دُونَ ما زاد عليهم، فلم يَجُزْ الاقْتِصارُ عليه بالتَّحَكُّمِ.

2550 - مسألة: (فإن نفته القافة عنهم، أو أشكل عليهم، أو لم يوجد قافة، ضاع نسبه، في أحد الوجهين. وفي الآخر، يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء. أومأ إليه أحمد)

وَإنْ نَفَتْهُ الْقَافَةُ عَنْهُمْ، أوْ أشْكَلَ عَلَيهِمْ، أوْ لَمْ يُوجَدْ قَافَةٌ، ضَاعَ نسَبُهُ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ وَفِي الْآخَرِ، يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنهُمْ. أَوْمَأ إِلَيهِ أَحْمَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2550 - مسألة: (فإن نَفَتْه القافةُ عنهم، أو أشْكَلَ عليهم، أو لم يُوجَدْ قافَةٌ، ضاع نَسَبُه، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، يُتْرَكُ حتى يَبْلُغَ فيَنْتَسِبَ إلى مَن شاءَ. أوْمَأ إليه أحمدُ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعاهُ أكْثَرُ مِن واحدٍ وأُرِيَ القافَةَ فَنَفَتْه عنهم، أو لم يُوجَدْ قافَة، أو تَعارَضَتْ أقْوالُهم، أو لم يُوجَدْ مَن يُوثَقُ بقَوْلِه، لم يُرَجَّحْ أحَدُهم بذِكْرِ عَلامةٍ في جَسَدِه؛ لأنَّ ذلك لا يُرَجَّحُ به في سائِرِ الدَّعاوي، سِوَى الالْتِقاطِ في المالِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللَّقِيطُ ليس بمالٍ، فعلى هذا، يَضِيعُ نَسَبُه. هذا قولُ أبي بكرٍ؛ لأنَّه لا دَلِيلَ لأحَدِهم، أشْبَهَ مَن لم يَدَّعِ أحَدٌ نَسَبَه. وقال ابنُ حامِدٍ: يُتْرَكُ حتى يَبْلُغَ فيَنْتَسِبَ إلى مَن شاء منهم. قال القاضِي: وقد أوْمَأ أحمدُ إلى هذا في رَجُلَين وَقَعا على امْرأةٍ في طُهْرٍ واحدٍ، إلى أنَّ الابنَ يُخَيَّرُ أيهما أحَبَّ. وهو قولُ الشافعيِّ في الجَدِيدِ، وقال في القَدِيمِ: حتى يُميِّزَ؛ لقَوْلِ عُمَرَ: وَالِ أيُّهُما شِئْتَ. ولأنَّ الإِنْسانَ يَمِيلُ طَبْعُه إلى قَرِيبه دُونَ غيرِه، ولأنَّه مَجْهُولُ النَّسَبِ أقَرَّ به مَن هو مِن أهْلِ الإقْرارِ، فَثَبَتَ نَسَبُه، كما لو انْفَرَدَ. وقال أصحابُ الرَّأي: يُلْحَقُ بالمُدَّعِيَين بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم لو انْفَرَدَ سُمِعَتْ دَعْواهُ، فإذا اجْتَمَعَا وأمْكَنَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمَلُ بهما، وَجَب، كما لو أقَرَّ له بمالٍ. ولَنا، أنَّ دَعْواهُما تَعارَضَت، ولا حُجَّةَ لواحدٍ منهما، فلم يَثْبُتْ، كما لو ادَّعَى رِقَّه، وليس هو في أيدِيهما. قال شَيخُنا: وقولُ أبي بكر أقْرَبُ لِما ذَكَرْنا. وقَوْلُهُم: يَمِيلُ طَبْعُه إلى قَرايَتِه. قُلْنا: إنَّما يَمِيلُ إلى قَرابَته بعدَ مَعْرِفَةِ أنها (¬1) قَرابَتُه، فالمَعْرِفَة بذلك سَبَبُ المَيلِ، فلا يَثْبُتْ قبلَه، ولو سُلِّم ذلك، فإنَّه يَمِيلُ أيضًا إلى مَنْ أحْسَنَ إليه، فإنَّ القُلُوبَ جُبِلَتْ على حُبِّ مَن أحْسَنَ إليها وبُغْضِ مَن أساءَ إليها، وقد يَمِيلُ إليه لإساءَةِ الآخَرِ إليه، وقد يَمِيلُ إلى أحْسَنِهِما خُلُقًا وأعْظَمِهِما قَدْرًا أو جاهًا أو مالًا، فلا يَبْقَى للمَيلِ أثَر في الدَّلالةِ على النَّسَبِ. ولا خِلافَ بين أصحابِنا في أنَّه لا يَثْبُتُ نسَبُه بالانْتِسابِ قبل البُلُوغِ. قولُهم: إنَّه صَدَّقُ المُقِرَّ بنَسبِه. قُلْنا: لا يَحِلُّ له تَصْدِيقُه، ¬

(¬1) في النسخ: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَن مَن ادَّعَى إلى غيرِ أبِيه (¬1). وهذا لا (¬2) يَعْلَمُ أنه أبوه، فلا نَأمَنُ أن يكونَ مَلْعُونًا بتَصْدِيقِه. ويُفارِقُ ما إذا انْفَرَدَ؛ فإنَّ المنْفَرِدَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بقَوْلِه مِن غيرِ تَصْدِيقٍ، وقولُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: وَالِ أيَّهما شِئْتَ. لم يَثْبُتْ، ولو ثَبَتَ لم يَكُنْ فيه حُجَّةٌ؛ لأنَّه إنَّما أمَرَه بالمُوالاةِ لا بالانْتِسابِ. وعلى قولِ مَن جَعَل له الانْتِسابَ إلى أحَدِهما، إذا انْتَسَبَ إلى أحَدِهما، ثم عاد فانْتَسَبَ إلى الآخَرِ، أو نَفَى نَسَبَه مِن الأوَّلِ ولم يَنْتَسِبْ إلى أحَدٍ، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّه قد ثَبَت نَسَبُه فلا يُقْبَلُ رُجُوعُه عنه، كما لو ادَّعَى مُنْفَرِدٌ نَسَبَه ثم أنْكَرَه. ويُفارِقُ الصَّبِيَّ الذي يُخَيَّرُ بين أبوَيه فيَخْتارُ أحَدَهُما ثم يَرُدُّ إلى الآخَرِ، إذا اخْتارَه، فإنَّه لا حُكْمَ لقولِ الصَّبِيِّ، وإنَّما تَبعَ اخْتيارَه وشَهْوَتَه، فهو كما لو اشْتَهَى طَعامًا في يومٍ وغَيرَه في يومٍ آخَرَ. فأمَّا إن قامَتْ للآخَرِ بَينةٌ بِنَسَبِه، عُمِلَ بها؛ لأنَّها تُبْطِلُ قولَ القافَةِ الذي هو مُقَدَّمٌ على الانْتِسابِ، فأوْلَى أن تُبْطِلَ الانْتِسابَ. وإن وُجدَتْ قافَةٌ بعد انْتِسابِه، فألْحَقَتْه بغير مَن انْتَسَبَ إليه، بَطَل انْتِسابُه؛ لأنَّه أقْوَى، فبَطَلَ به الانْتِسابُ كالبَيِّنةِ مع القافَةِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 870. والإمام أحمد، في المسند 1/ 309، 317، 4/ 186. (¬2) سقط من: م.

2551 - مسألة: (وكذلك الحكم إن وطئ اثنان امرأة بشبهة، أو جارية مشتركة بينهما في طهر واحد، أو وطئت زوجة رجل أو أم ولده بشبهة، وأتت بولد يمكن أن يكون منه، فادعى الزوج أنه من الواطئ، أري القافة معهما)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ وَطِئ اثْنَانِ امْرأةً بِشُبْهَةٍ، أوْ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَينَهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، أوْ وُطِئَتْ زَوْجَةُ رَجُل أوْ أمُّ وَلَدِهِ بِشُبْهَةٍ، وَأتتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنْه، فَادَّعَى الزَّوْجُ أنهُ مِنَ الْوَاطِئ، أُرِيَ الْقَافَةَ جَمعَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2551 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ إن وَطِئ اثْنان امْرَأةً بشُبْهَةٍ، أو جارِيَةً مُشْتَرَكَةً بينهما في طُهْرٍ واحدٍ، أو وُطِئَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ أو أُمُّ ولَدِه بشُبْهَةٍ، وأتَتْ بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ منه، فادَّعَى الزَّوْجُ أنه مِن الواطِئَ، أُرِيَ القافَةَ معهما) كاللَّقِيطِ، فأُلحِقَ بمَن ألْحَقُوه به منهما، سواءٌ ادَّعَياه أو جَحَداه أو أحَدُهُما، وقد ثَبَت الافْتِراشُ. ذَكَرَه القاضِي. وشَرَط أبو الخَطَّابِ في وَطْءِ الزَّوْجَةِ أن يَدَّعِيَ الزَّوْجُ أنَّه مِن الشُّبْهَةِ، ذَكَرَه في «المُحَرَّرِ». وكذلك إن تَزَوَّجَها كلُّ واحدٍ منهما تَزْويجًا فاسدًا، أو كان نِكاحُ أحَدِهما صَحِيحًا والآخَرُ فاسِدًا، مثلَ أن يُطَلِّقَ امْرَأتَه فيَنْكِحَها غيرُه في عِدَّتِها ويَطَأها، أو يَبِيعَ أمَةً فيَطَأها المُشْتَرِي قبلَ اسْتِبْرَائِها، وتَأتِي بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ منهما، فإنَّه يُرَى القافَةَ معهما، فبأيهما ألْحَقُوه لَحِقَ. والخِلافُ فيه كالخِلافِ في اللَّقِيطِ، على ما ذَكَرْنا.

2552 - مسألة: (ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرا عدلا، مجربا في الإصابة)

وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ إلا أن يَكُونَ ذَكَرًا عَدْلًا، مُجَرَّبًا فِي الإصَابَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2552 - مسألة: (ولا يُقْبَلُ قولُ القائف إلا أن يكونَ ذَكَرًا عَدْلًا، مُجَرَّبًا في الإِصَابَةِ) وفي اعْتِبارِ حُرِّيَّته وَجْهان مِن «المُحَرَّرِ» (¬1). القافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُون الأنْسابَ بالشَّبَهِ، ولا يَخْتَصُّ ذلك بقَبيلةٍ. وقد قِيلَ: أكثرُ ما يكونُ ذلك في بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ المُدْلِجِيِّ. وكان إياسُ بنُ مُعاويَةَ ¬

(¬1) بعده في م: «قوله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُزَنِيُّ قائِفًا. ولا يُقْبَلُ قولُ القائِفِ إلَّا أن يَكُونَ ذَكَرًا عَدْلًا، مُجَرَّبًا في الإِصابَةِ؛ لأنَّ قَوْلَه حُكْمٌ، فاعْتُبِرَتْ له هذه الشُّرُوطُ. قال القاضي، في مَعْرِفةِ القائِفِ بالتَّجْرِبةِ: هو أن يُتْرَكَ الصَّبِيُّ مع عَشَرَةِ رِجالٍ غيرِ مَن يَدَّعِيه، ويُرَى إيّاهُم، فإن ألْحَقَه بواحدٍ منهم، سَقَطَ قَوْلُه؛ لِتَبَيُّنِ خَطَئِه. وإن لم يُلْحِقْه بواحدٍ منهم أرَيناهُ إيّاه مع عِشْرِينَ منهم مُدَّعِيه، فإن ألْحَقَه به لَحِق. ولو اعْتُبِرَ بأن يَرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مع قَوْم فيهم أبوه أو أخُوه، فإذا ألْحَقَه بقَرِيبِه، عُرِفَتْ إصابَتُه، وإن ألْحَقَه بغيرِه سَقَطَ قَوْلُه , جازَ. وهذه التَّجْرِبَةُ عندَ عَرْضِه على القائِفِ للاحْتِياطِ في مَعْرِفَةِ إصَابَتِه، ولو لم نجَرِّبْه بعدَ أن يكونَ مَشْهُورًا بالإِصابَةِ وصِحَّةِ المَعْرِفَةِ في مَرّاتٍ كثيرةٍ، جازَ، فقد رُوِيَ أنَّ رَجُلًا شَرِيفًا شَكَّ في وَلَدِه مِن جارِيته، وأبى أن يَسْتَلْحِقَه، فمَر به إياسُ بنُ مُعاويَةَ في المَكْتَبِ، ولا يَعْرِفُه، فقال له: ادْعُ لي أباكَ. فقال له المُعَلِّمُ: ومَن أبو هذا؟ قال: فلانٌ. قال: مِن أين عَلِمْتَ أنَّه أبوه؟ قال: هو أشْبَهُ به مِن الغُرَابِ بالغُرَابِ. فقامَ المُعَلِّمُ مَسْرُورًا إلى أبِيه فأعْلَمَه بقَوْلِ إياسٍ، فخَرَجَ الرَّجُلُ وسأل إياسًا: مِن أينَ عَلِمْتَ أنَّ هذا وَلَدِي؟ فقال: سُبْحانَ اللهِ، وهل يَخْفَى ذلك على أحَدٍ، إنَّه لأشْبَهُ بك مِن الغُرَابِ بالغُرَابِ. فَسُرَّ الرجُلُ واسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: نُقِلَ عن أحمدَ، أنَّه لا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ اثْنَين مِن القافَةِ، ولَفْظُ الشَّهادَةِ منهما، فرَوَى عنه الأثْرَمُ أنَّه قِيلَ له: إذا قال أحَدُ القافَةِ: هو لهذا. وقال الآخَرُ: هو لهذا. قال: لا يُقبَلُ قَوْلُ واحدٍ حتى يَجْتَمِعَ اثْنانِ فيَكُونانِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شاهِدَين. فإذا شَهِدَ اثْنان مِن القافَةِ أنَّه لهذا، فهو لهذا؛ لأنَّه قَوْلٌ يَثْبُتُ به النَّسَبُ، أشبَهَ الشهادَةَ. ولأنَّه حُكْمٌ بالشَّبَهِ في الخِلْقَةِ، فاعتُبِرَ فيه اثْنانِ، كالحُكْمِ بالمثلِ في جَزَاءِ الصَّيدِ. وقال القاضِي: يُقْبَلُ قولُ الواحِدِ؛ لأنَّه حُكْم، ويَكْفِي في الحُكْمِ قَوْلُ واحدٍ. وحَمَل كَلامَ أحمدَ على ما إذا تَعارَضَ قَوْلُ القائفين، فقال: إذا خالفَ القائِفُ غيرَه تَعارضا وسَقَطا. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَفَى بقَوْلِ مُجَزِّزٍ وحدَه. فإن قال اثْنانِ قَوْلًا وخَالفَهُما واحدٌ، فقَوْلُهما أوْلَى؛ لأنَّه أقْوَى مِن قَوْلِ واحدٍ، وإن عارَضَ قَوْلُ اثْنَين قَوْلَ اثْنَينِ، سَقَطَ قولُ الجَمِيعِ. فإن عارَضَ قولُ اثْنَين قولَ ثَلاثةٍ أو أكثَرَ، لم يُرَجَّحْ وسَقَط الجميعُ، كما لو كانت إحْدَى البَيِّنتَين اثْنَين، والأُخْرَى ثلاثةً، فأمّا إن ألْحَقَتْه القافةُ بواحِدٍ، فجاءَتْ قافَةٌ أُخْرَى فألْحَقَتْه بآخَرَ، كان للأوَّلِ؛ لأنَّ قَوْلَ القائِفِ جَرَى مَجْرَى حُكْمِ الحاكِمِ، إذا حَكَم حُكْمًا لم يَنْتَقِضْ بمُخَالفةِ غيرِه (¬1) له، وكذلك (¬2) لو ألْحَقَتْه بواحدٍ ثم عادَتْ فألْحَقَتْه بغيرِه كذلك. وإن أقَامَ الآخَرُ بَيِّنةً أنَّه وَلَدُه، حُكِمَ له به وسَقَط قولُ القائِفِ؛ لأنَّه بَدَلٌ، فسَقَطَ بوُجُودِ الأصْلِ، كالتَّيَمُّمِ مع الماءِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا ألْحَقَتْه القافَةُ بكافِرٍ أو رَقِيقٍ، لم يُحْكَمْ بكُفْرِه ولا رِقِّه؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ والإسْلامَ ثَبَتا له بظاهِرِ الدّارِ، فلا يَزُولُ ذلك بمُجَرَّدِ الشبَهِ والظَّنِّ، كما لم يَزُلْ ذلك بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِن المُنْفَرِدِ. وإنَّما قَبِلْنا قولَ القافةِ في النَّسَب للحاجَةِ إلى إثْباتِه، ولكَوْنِه غيرَ مُخالِفٍ للظّاهِرِ، ولهذا اكْتَفَينا فيه بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِن المُنْفَرِدِ، ولا حاجَةَ إلى إثْباتِ رِقِّه وكُفْرِه، وإثْباتُهُما يُخالِفُ الظّاهِرَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: لو ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ إنْسان، فأُلحِقَ نَسَبُه به؛ لانْفِرادِه بالدَّعْوَى، ثم جاء آخَرُ فادَّعاهُ، لم يَزُلْ نَسَبُه عن الأوَّلِ؛ لأنَّه حُكِمَ له به، فلا يَزُولُ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. فإن ألْحَقَتْه به القافَةُ، لَحِقَ به وانْقَطَعَ عن الأوَّلِ، لأنَّها بَيِّنةٌ في إلْحاقِ النَّسَبِ، فيَزُولُ بها الحُكْمُ الثابِتُ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، كالشَّهَادَةِ.

كتاب الوقف

كتابُ الْوَقْفِ وَهُوَ تَحْبِيسُ الأصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الوَقْفِ (وهو تَحْبِيسُ الأصْلِ وتَسْبِيلُ المَنْفَعةِ) وهو مُسْتَحَبٌ. والأصْلُ فيه ما روَى عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، قال: أصابَ عُمَرُ أرْضًا بخيبرَ، فأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَأمِرُه فيها، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أصَبْتُ أرْضًا بخَيبَرَ، لم أُصِبْ قَطُّ مالًا أنْفَسَ عِنْدِي منه، فما تَأمُرُنِي فيه؟ قال: «إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا، وتَصَدَّقْتَ بِها، غَيرَ أنَّه لَا يُبَاعُ أصْلُهَا، ولا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ». قال: فتَصَدَّقَ بها عُمَرُ في الفُقَراءِ، وذَوي القُرْبَى، والرِّقابِ، وابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيفِ، لا جُنَاحَ على مَن وَلِيَها أن يَأكلَ منها، أو يُطْعِمُ صَدِيقًا بالمَعْرُوفِ، غَيرَ مُتَأثِّلٍ فيه، أو غيرَ مُتَمَوِّلٍ فيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُه إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِه، أوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ». قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ورَواه مسلمٌ (¬2). فصل: والقولُ بصِحَّةِ الوَقْفِ قولُ أكثرَ أهْلِ العِلْمِ مِن السَّلَفِ ومَن بعدَهم. قال جابِرٌ: لم يَكُنْ أحَدٌ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَف. ولم يَرَه شُرَيحٌ، وقال: لا حَبْسَ عن فرائِضِ اللهِ. قال أحمدُ: هذا مَذْهَبُ أهْلِ الكُوفةِ. وحَدِيثُ ابنِ عُمَرَ حُجةٌ على مَن خالفَه، وهو صَرِيحٌ في الحُكْمِ مع صِحَّتِه، وقولُ جابِرٍ نَقْلٌ للإِجْماعِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى خِلافِ ذلك. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الشروط في الوقف، من كتاب الشروط، وفي: باب ما للوصي أن يعمل في مال اليتيم. . . .، وباب الوقف كيف يكتب، من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 3/ 260، 4/ 11، 12، 14. ومسلم، في: باب الوقف، من كتاب الوصية. صحيح مسلم 3/ 1255، 1256. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 105. والترمذي، في: باب في الوقف، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 143. والنسائي، في: باب كيف يكتب الحبس. . . .، من كتاب الأحباس. المجتبى 6/ 191، 192. وابن ماجه، في: باب من وقف، من كتاب الصدقات. سنن ابن ماجه 2/ 801. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 12، 13، 55، 125. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 261.

2553 - مسألة: (وفيه روايتان؛ إحداهما، أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه؛ مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها، أو سقاية ويشرعها لهم)

وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أنهُ يَحْصُل بِالقوْلِ والفِعْلِ الدَّال عَلَيهِ؛ مِثْلَ أنْ يبنِيَ مَسْجِدًا وَيَأذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، أوْ يَجْعَلَ أرْضَهُ مَقْبَرَةً وَيَأذَنَ لَهُمْ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، أوْ سِقَايَةً وَيَشرَعَهَا لَهُمْ. وَالأُخْرَى، لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَوْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2553 - مسألة: (وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أنهُ يَحْصُل بِالقوْلِ والفِعْلِ الدَّال عَلَيهِ؛ مِثْلَ أنْ يبنِيَ مَسْجِدًا وَيَأذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، أوْ يَجْعَلَ أرْضَهُ مَقْبَرَةً وَيَأذَنَ لَهُمْ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، أوْ سِقَايَةً وَيَشرَعَهَا لَهُمْ) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ الوَقْفَ يَحْصُلُ بالفِعْلِ مع القَرائِنِ الدّالَّةِ عليه التي ذكرناها. قال أحمدُ في روايةِ أبي داودَ، وأبي طالبٍ، في مَن أدْخَلَ بَيتًا في المَسْجِدِ وأذِن فيه: لم يَرْجِعْ فيه. وكذلك إذا اتَّخَذَ المَقابِرَ وأذِن للناسِ، والسِّقايَةَ، فليس له الرُّجُوعُ. هذا قولُ أبي حنيفةَ. (و) الرِّواية (الأخْرَى، لا يَصِحُّ إلَّا بالقَوْلِ) ذَكَرَها القاضي. وهو مَذْهَبُ الشافعي. وأخَذَه القاضي مِن قولِ أحمدَ، إذ سَألَه الأثْرَمُ عن رجلٍ أحاطَ حائِطًا على أرْض ليَجْعَلَها مَقْبَرَةً، ونَوَى بقَلْبِه، ثم بَدا له العَوْدُ؟ فقال: إن كان جَعَلَها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للهِ فلا يَرْجِعُ. قال شيخُنا (¬1): وهذا لا يُنافِي الرِّوايةَ الأولَى، فإنَّه إن (¬2) أرادَ بقَوْلِه: إن كان جَعَلَها للهِ. أي نَوَى بتَحْويطِها جَعْلَها للهِ، فهذا تَأكيدٌ للرِّوايةِ الأولَى وزِيادَةٌ عليها، إذ مَنَعَه مِن الرُّجُوعِ بمُجَرَّدِ التَّحْويطِ مع النِّيَّةِ، وإن أرادَ بقَوْلِه: جَعَلَها للهِ. أي اقْتَرَنَتْ بفِعْلِه قَرائِنُ دالَّةٌ على إرادَةِ ذلك مع إذْنِه للناسِ في الدَّفْنِ فيها، فهو الرِّوايَةُ الأولَى بعَينها، وإن أرادَ: إذا وَقَفَها بقولِه. فيَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّ الوَقْفَ لا يَحْصُلُ بمُجَرَّدِ التَّحْويطِ والنيَّةِ، وهذا لا يُنافِي الرِّوايةَ الأولَى؛ لأنَّه في الأولَى انْضَمَّ إلى فِعْلِه إذنه للناسِ في الدَّفْنِ، ولم يُوجَدْ هاهُنا، فلا تَنافِيَ بينهما، ولم يُعْلَمْ مُرادُه مِن هذه الاحْتِمالاتِ، فانْتَفَتْ هذه الرِّوايةُ، وصارَ المذْهَبُ رِوايةً واحِدَةً. واحْتَجُّوا بأنَّ هذا تَحْبِيسٌ على وَجْهِ القُرْبَةِ، فوَجب أن لا يَصِحَّ بدُونِ اللَّفْظِ، كالوَقْفِ على الفُقَراءِ. ولَنا، أنَّ العُرْفَ جارٍ بذلك، وفيه دَلالة على الوَقْفِ، فجاز أن يَثْبُتَ به، كالقَوْلِ، وجَرَى ¬

(¬1) في: المغني 8/ 190. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَجْرَى مَن قَدَّمَ إلى ضَيفِه طَعامًا كان إذنا في أكْلِه، ومَن مَلأ خابِيَةَ ماءٍ على الطَّرِيقِ كان تَسْبِيلًا له، ومَن نَثَر نِتارًا كان إذنا في أخْذِه، كذلك دُخُولُ الحَمّام واسْتِعْمالُ مائِه مِن غيرِ إذنٍ مُباحٌ بدَلالةِ الحالِ. وقد ذَكَرْنا في البَيعِ أنَّه يَصِحُّ بالمُعاطاةِ، وكذلك الهِبَةُ والهَدِيَّةُ؛ لدَلالةِ الحالِ، كذلك هذا. وأمّا الوَقْفُ على المَساكِينِ، فلم تَجْرِ به عادَة بغيرِ لَفْظٍ، ولو كان شيءٌ جَرَتْ به العادَة أو دَلَّتِ الحالُ عليه، كان كمَسْألتِنا.

2554 - مسألة: (وصريحه: وقفت، وسبلت، وحبست)

وَصَرِيحُه: وَقَفْتُ، وَحَبَّسْتُ، وَسَبَّلْتُ. وَكِنَايَتُهُ: تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ، وَأبدتُ. فَلَا يَصِح الْوَقْفُ بِالْكِنَايَةِ إِلا أنْ يَنْويَهُ، أوْ يَقْرِنَ بِهَا أحَدَ الألفَاظِ الْبَاقِيَةِ، أوْ حُكْمَ الْوَقْفِ، فيَقُولَ: تَصَدَّقْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2554 - مسألة: (وصَرِيحُه: وَقَفْتُ، وسَبَّلْتُ، وحَبَّسْتُ) فمتى أتَى بواحِدَةٍ منها، صار وَقْفًا مِن غيرِ انْضِمامِ أمْر زائِدٍ؛ لأنَّ هذه الألْفاظَ ثَبَت لها عُرْفُ الاسْتِعْمالِ بينَ الناسِ، وانْضَمَّ إلى ذلك عُرْفُ الشَّرْعِ، بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ: «إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا، وَسَبَّلْتَ ثَمَرَتَها» (¬1). فصارَتْ هذه الألْفاظُ في الوَقْفِ كلَفْظِ التَّطْلِيقِ في الطَّلاق. والكِنايَةُ (تَصَدَّقْتُ، وحَرَّمْتُ، وأبَدْتُ) فليست صَرِيحةً؛ لأنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ والتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَة، فإن الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ في الزكاةِ والهِباتِ، والتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ في الظِّهارِ والأيمانِ، ويَكونُ تَحْرِيمًا على نَفسِه وعلى غيرِه، والتَّأبِيدَ يَحْتَمِلُ تَأبِيدَ التَّحْرِيمِ، وتَأبِيدَ الوَقْفِ، فلم يَثْبُتْ لهذه الألْفاظِ عُرْفُ الاسْتِعْمالِ، فلا يَصِحُّ الوَقْفُ بمُجَرَّدِها، ككِناياتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في حديث عمر في صفحة 362.

صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أو مُحَبَّسَةً، أوْ مُسَبَّلَةً، أو مُحَرَّمَةً، أو مُؤبّدَةً، أو لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الظِّهارِ. فإذا انْضَمَّ إليها أحَدُ ثَلاثةِ أشْياءَ، حَصَل الوَقف بها؛ أحَدُها، أن يَنْوِيَ الوَقف، فيكونَ على ما نَوَى، إلَّا أنَّ النيةَ تَجْعَله وَقْفًا في الباطِنِ دُونَ الظّاهِرِ؛ لعَدَمِ الاطِّلاعِ عليها، فإنِ اعْتَرَفَ بما نَواهُ، لَزِم في الحُكْمِ؛ لظُهُورِه، وإن قال: ما أرَدْتُ الوَقف. فالقول قولُه؛ لأنَّه أعْلَمُ بما نَوَى. الثاني، أن يُضِيفَ إليها لَفْظَةً تُخَلِّصُها مِن الألْفاظِ الخَمْسَةِ، (فيقولَ: صَدَقَة مَوْقُوفَة، أو مُحَبَّسَة، أو مُسَبَّلَةٌ، أو مُؤبَّدَة، أو مُحَرَّمَةٌ) أو يقولَ: هذه مُحَرَّمَةٌ مَوْقُوفَة، أو مُحَبَّسَة، أو مُسَبَّلَةٌ، أو مُؤبَّدَةٌ. الثالثُ، أن يَصِفَها بصِفاتِ الوَقْفِ، فيقولَ: صَدَقَة (لا تُباعُ، ولا تُوهَبُ، ولا تُورَثُ) لأنَّ هذه القَرِينَةَ تُزِيلُ الاشْتِراكَ.

2555 - مسألة: (ولا يصح)

وَلَا يَصِحُّ إلا بِشرُوطٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدهَا، أنْ يَكونَ فِي عَين يَجُوز بَيعُهَا وَيمْكِنُ الانْتِفَاعُ بِهَا دَائِمًا مَعَ بَقَاءِ عَينهَا؛ كَالْعَقَارِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْأثَاثِ، وَالسِّلَاحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2555 - مسألة: (ولا يَصِحُّ) الوَقْفُ (إلَّا بشُرُوطٍ أرْبعةٍ؛ أحدُها، أن يكونَ في عَين يَجوزُ بَيعُها ويُمْكِنُ الانْتِفاعُ بها دائِمًا مع بَقاءٍ عَينها؛ كالحَيَوانِ، والعَقارِ، والأثاثِ، والسِّلاح) وجملةُ ذلك، أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يَصِحُّ وَقْفُه ما جاز بَيعُه مع بَقاءِ عَينه، وكان أصْلًا يَبْقَى بَقاءً مُتَّصِلًا؛ كالعَقارِ، والحَيَوانِ، والسِّلاحِ، والأثاثِ، وأشْباهِ ذلك. قال أحمدُ، في رِوايَةِ الأثْرَم: إنَّما الوَقْفُ في الدُّورِ والأرَضِينَ، على ما وَقَف أصْحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقال في مَن وَقَف خمْسَ نَخَلاتٍ على مَسْجِدٍ: لا بَأسَ به. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو يُوسُفَ: لا يَجوزُ وَقْفُ الحَيوانِ، ولا الرَّقِيقِ، ولا العُرُوضِ إلَّا الكُراعَ (¬1)، والسِّلاحَ، والغِلْمانَ، والبَقَرَ، والآلةَ في الأرْضِ المَوْقُوفَةِ تَبَعًا لها؛ لأنَّ هذا حَيوانٌ لا يُقاتَلُ عليه، فلم يَجُزْ وَقْفُه، كما لو كان الوَقْفُ إلى مُدَّةٍ. وعن مالكٍ في الكُرَاعِ والسِّلاحِ رِوايتان. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما خَالِدٌ فإنَّه قَدِ احْتَبَسَ أدرَاعَهُ واعْتَادَهُ في سَبِيلِ اللهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2)، وفي روايةٍ «أعتُدَهُ». ¬

(¬1) الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح. وفي المغني 8/ 232. «ولا الكراع». وما هنا يوافق ما حكاه عن أبي يوسف في فتح القدير 6/ 216. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ. . . .}، من كتاب الزكاة، وفي: باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 2/ 151، 4/ 49. ومسلم، في.: باب في تقديم الزكاة ومنعها، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 677. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تعجيل الزكاة. من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 376. والنسائي، في: باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 24. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْرَجَه البُخارِيّ. قال الخَطّابي (¬1): الأعْتادُ ما يُعِدُّه الرجل مِن مَرْكُوبٍ وسِلاحٍ وآلةِ الجهادِ. ورُوِيَ أنَّ أمَّ مَعْقِل جاءتْ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا مَعْقِلٍ جَعَل ناضِحَه في سَبِيلِ اللهِ، وإنِّي أرِيدُ الحَجَّ، أفَأرْكَبُه؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ارْكَبِيهِ، فإنَّ الحَجَّ والعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللهِ» (¬2). ولأنَّه يَحْصُلُ فيه تَحْبِيس الأصْلِ وتَسْبِيل المَنْفَعَةِ، فصَحَّ وَقْفُه، كالعَقارِ والفَرَسِ الحَبِيسِ، أو نقولُ: يَصِحُّ وَقْفُه مع غيرِه، فَصَح وَحْدَه، كالعَقارِ. فصل: قال أحمد، رحمه الله، في رجل له دارٌ في الرَّبَضِ (¬3)، أو قَطعَة، فأرادَ التَّنَزُّهَ منها، قال: يَقِفُها. وقال: القَطائِعُ تَرْجِعُ إلى الأصْلِ. أرادَ (¬4) جَعْلَها للمَساكِينِ. فظاهِرُ هذا إباحَةُ وَقْفِ السَّوادِ، وهو في الأصْلِ وَقْف، ومعناه أنَّ وَقْفَها يُطابِقُ الأصْلَ، لا أنَّها تَصِيرُ بهذا القَوْلِ وَقْفًا. ¬

(¬1) في: معالم السنن 2/ 53. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب العمرة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 459. (¬3) الربض هنا: ما حول المدينة من أرض فضاء. (¬4) هكذا في النسخ، وفي المغني 8/ 233، والمبدع 5/ 316 «إذا».

2556 - مسألة: (ويصح وقف المشاع)

وَيَصِحُّ وَقْف الْمُشَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2556 - مسألة: (ويَصِحُّ وَقفُ المُشاعِ) وبهذا قال مالك، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ. وقال محمدُ بنُ الحسَنِ: لا يَصِحُّ. وبَناه على أصْلِه في أنَّ القَبْضَ شَرْط، وهو لا يَصِحُّ في المُشاعِ. ولَنا، أنَّ في حَدِيثِ عُمَرَ، أنَّه أصابَ مائةَ سَهْم مِن خَيبَرَ، فاسْتَأذَنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيها، فأذِنَ له في وَقفِها. وهذا صِفَةُ المُشاعِ، ولأنَّه عَقْد يَجوزُ على بعضِ الجُمْلَةِ مُفْرَدًا، فجاز عليه مُشاعًا، كالبَيعِ، ولأنَّ الوَقفَ تَحْبِيس الأصْلِ وتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ، وهذا يَحْصُلُ في المُشاعِ كحُصُولِه في المُفْرَدِ (¬1)، ولا نُسَلِّمُ اعْتِبارَ القَبْضِ، وإن سَلَّمْنا، فهو يَصِحُّ في الوَقفِ كما يَصِحُّ في البَيْعِ. ¬

(¬1) في م: «المقرر».

2557 - مسألة: (ويصح وقف الحلي على اللبس والعارية)

وَيَصِحُّ وَقْفُ الْحَلْي عَلَى اللُّبْسِ وَالْعَارِيةِ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وقف دارَه على جهَتَين مُخْتَلِفَتَين، مثلَ أن يَقِفَها على أوْلادِه وعلى المَساكِينِ؛ نِصْفَين، أو أَثْلاثًا، أو كيفما كان، جاز. وسواء جَعَلِ مَال المَوْقُوفِ على أوْلادِه وعلى (¬1) المَساكِينِ، أو على جِهَةٍ سِواهم؛ لأنه إذا جاز وَقْفُ الجُزْءِ مُفْرَدًا، جاز وَقْفُ الجُزْأْينِ. وإن أطْلَقَ الوَقْفَ، فقال: وَقَفْتُ دارِي هذه على أوْلادِي، وعلى المَساكِينِ. فهي بينَهما نِصْفَين؛ لأنَّ إطْلاقَ الإضافَةِ إليهما يَقْتَضِي التَّسْويَةَ بينَ الجِهَتَين، ولا تتَحَقَّقُ إلَّا بالتنصِيفِ. وإن قال: وَقَفْتها على زَيدٍ وعَمْرو والمَساكِينِ. فهي بينَهم أثْلاثًا. 2557 - مسألة: (ويَصِحُّ وَقْفُ الحَلْي على اللبْسِ والعارِيَّةِ) لأنَّ ذلك نَفْعٌ مُباحٌ مَقصُود يجوزُ أخْذُ الأجْرَةِ عليه، فصحَّ الوَقْفُ عليه، كوَقْفِ السلاح في سَبِيلَ اللهَ، ولِما روَى نافِع، قال: ابْتاعَتْ حَفْصَةُ حَلْيًا بعِشرِين ألْفًا، فحَبَّسَتْه على نِساءِ آلِ الخَطّابِ، فكانت لا تُخْرِجُ ¬

(¬1) في النسخ: «على»، والمثبت من المغني 8/ 233.

2558 - مسألة؛ (ولا يصح الوقف في الذمة؛ كعبد، ودار)

وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فِي الذِّمَّةِ؛ كَعَبْدٍ، وَدَارِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ زَكاتَه. رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬1). ولأنَّه عَينٌ يُمْكِنُ الانْتِفاعُ بها مع بَقائِها دائمًا، فصَحَّ وَقْفُها، كالعَقارِ. وهو قولُ الشافعيِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه لا يَصِحُّ وَقْفُها عليه. وأنْكَرَ الحَدِيثَ عن حَفْصَةَ في وَقْفِه. ووَجْهُ هذه الرِّوايةِ أنَّ التَّحَلِّيَ ليس هو المَقْصُودَ الأصْلِيَّ مِن الأثْمانِ، فلم يَصِحَّ وَقْفُها عليه، كما لو وَقَف الدَّنانِيرَ والدَّراهِمَ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكرنا، والتَّحَلِّي مِن المَقاصِدِ المُهِمَّةِ، والعادَةُ جارِيَةٌ به، وقد اعْتَبَرَه الشَّرْعُ في إسْقاطِ الزكاةِ عن مُتَّخِذِه، وجَوَّزَ إجارَتَه لذلك. ويُفارِقُ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ، فإنَّ العادَةَ لم تَجْرِ بالتَّحَلِّي بها، ولا اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذلك في إسْقاطِ زَكاةٍ، ولا ضَمانِ نَفْعِه في الغَصْبِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. 2558 - مسألة؛ (ولا يَصِحُّ الوَقْفُ في الذِّمَّةِ؛ كعَبْدٍ، ودارٍ) وسِلاحٍ غيرِ معيَّنٍ؛ لأنَّ الوَقْفَ إبْطالٌ لمَعْنَى المِلْكِ فيه، فلم يَصِحَّ في غيرِ مُعَيَّن، كالعِتْق. ¬

(¬1) قال في الإرواء 6/ 34: لم أقف على إسناده.

2559 - مسألة: (ولا)

وَلَا غَيرِ مُعَيَّن، كَأحَدِ هَذَينِ، وَلَا وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيعُهُ، كَأمِّ الْوَلَدِ، وَالْكَلْبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2559 - مسألة: (ولا) يَصِحُّ في (غيرِ مُعَيَّن؛ كأحَدِ هذَين) العَبْدَين؛ لأنَّه نَقْل للمِلْكِ على وَجْهِ القرْبَةِ، فلم يَصِحَّ في غيرِ مُعَيَّن، كالهِبَةَ. 2560 - مسألة: (ولا) يَصِحُّ (وَقْف) ما لا يَجُوزُ بَيعُه؛ كأمِّ الوَلَدِ، والكَلْبِ) والمَرْهُونِ، وكذلك الخِنْزِيرُ، وسائِرُ سِباعِ البَهائِم التي لا تَصْلُحُ للصَّيدِ، وجَوارِحُ الطَّيرِ التي لا يُصادُ بها؛ لأنَّه نَقْل للمِلْكِ فيها في الحياةِ، فلم يَجُزْ، كالبَيع، ولأنَّ الوَقْف تَحْبِيسُ الأصْلِ وتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ، وما لا مَنْفَعَةَ فيه مُباحة فلا يَحْصُلُ فيه تَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ، والكلْبُ أُبِيحَ الانْتِفاعُ به على خِلافِ الأصْلِ للضَّرُورَةِ، فلم يَجُزِ التَّوَسُّعُ فيها، والمَرْهُونُ في وَقْفِه إبْطال حَقِّ المُرْتَهِنِ منه، فلم يَجُزْ إبْطالُه. ولا يَصِحُّ وَقْف الحَمْلِ المُنْفَرِدِ؛ لأنَّه لا يجوزُ بَيعُه.

وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقائِهِ دَائِمًا؛ كَالْأثْمانِ، وَالمَطْعُومِ، وَالريَاحِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ولا) يَصِحُّ وَقْفُ (ما لا يُنْتَفَعُ به مع بَقائِه دائِمًا؛ كالأثْمانِ، والمَطْعُومِ، والرَّياحِينِ) ما لا يُمْكِنُ الانْتِفاعُ به مع بَقاءِ عينه؛ كالدّارهم والدنانير، المَطعُوَم (¬1)، والمَشْرُوب، وأشْباهه من الرَّياحِينِ، لايجوزُ وَقْفُه في قولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ وأهْلِ العِلْمِ، إلَّا شيئًا حُكِيَ عن مالكٍ، والأوْزاعِيِّ، في وَقْفِ الطَّعامِ، أنَّه يجوزُ. ولم يَحْكِه أصْحابُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ الوَقْفَ تَحْبِيسُ الأصْلِ وتَسْبِيل المَنْفَعَةِ، وما لا يُنْتَفعُ به إلَّا بالإتْلافِ لا يَصِحُّ ذلك فيه. وقيل في الدَّراهِمِ والدنانِيرِ: يَصِحُّ وَقْفُها. عندَ مَن أجاز إجارَتَها. ولا يَصِحُّ؛ لأن تلك المَنْفَعَةَ ليستِ المَقْصُودَ الذي خُلِقَتْ له الأثْمانُ، ولهذا لا تُضْمَنُ في الغَصْبِ، فلم يَجُزِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَقْفُ له، كوقفِ الشَّجَرِ على نَشْرِ الثِّيابِ، والغَنَمِ على دَوْسِ الطِّينِ، والشَّمْعِ ليُتَجَمَّلَ به. وكذلك (¬1) لا يَصِحُّ وَقْفُ الشَّمْعِ للإِشْعالِ؛ لأنَّه يَتْلَف بالانْتِفاعِ به، فهو كالمَأكَولِ. ¬

(¬1) في م: «لذلك».

الثَّانِي، أنْ يَكونَ عَلَى بِرٍّ؛ كَالْمَسَاكِينِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْأقَارِبِ، مُسْلِمِينَ كَانُوا أوْ مِنْ أهْلِ الذمَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثاني، أن يكونَ على بِرٍّ، كالمَساكِينِ، والمَساجِدِ، والقَناطِرِ، والأقارِبِ مسلمين كانوا أو مِن أهْلِ الذِّمَّةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الوَقْفَ لا يَصِحُّ إلَّا على بِرٍّ أو مَعْرُوفٍ؛ كوَلَدِه (¬1) وأقارِبِه، والمَساجِدِ، والقَناطِرِ، وكُتُبِ الفِقْهِ والعِلْمِ، والقُرْآنِ، والسقاياتِ، والمَقابِرِ، وسبيلِ اللهِ، وإصْلاحِ الطرق، ونحو ذلك مِن القُرَبِ. ويَصِحُّ على أهْلِ الذِّمَّةِ، لأنَّهم يَمْلِكُون مِلْكًا محْتَرَمًا، وتَجُوزُ الصَّدَقَةُ عليهم، قال اللهُ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِمْ} (¬2). وإذا جازتِ الصدَقَةُ عليهم جاز الوَقْفُ عليهم، كالمسلمين. ورُوِيَ أنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَتْ على أخٍ لها يَهُودِيّ (¬3). ولأنَّ مَن جاز أن يَقِفَ عليه الذِّمِّيُّ جاز أن يَقِفَ المسْلِم عليه، كالمسْلِمِ. ولو وَقَف على مَن يَنْزِلُ كَنائِسَهم وبِيَعَهم مِن المارَّةِ والمُجْتازِين مِن أهْلِ الذِّمَّةِ وغيرِهم، صَحَّ، لأنَّ الوَقْف عليهم لا على المَوْضِعِ. ¬

(¬1) في م: «لولده». (¬2) سورة الممتحنة 8. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب عطية المسلم الكافر ووصيته له، من كتاب أهل الكتاب. وفي: باب الميراث لا يقسم حتى يسلم، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 6/ 33، 10/ 349. وسعيد، في: باب وصية الصبي، من كتاب الوصايا. السنن 1/ 128. والبيهقي، في: باب الوصية للكفار، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 281.

2561 - مسألة: (ولا يصح على الكنائس، وبيوت النار)

وَلَا يَصِحُّ على الْكَنَائِس وَبُيُوتِ النَّارِ، وَكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيل. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2561 - مسألة: (ولا يَصِحُّ على الكَنائِسِ، وبُيُوتِ النّارِ) والبِيَعِ (وكُتُبِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ) لأن ذلك مَعْصِيَة، فإنَّ هذه المَواضِعَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُنِيَتْ للكُفْرِ، وكُتُبُهم مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، ولذلك غَضب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عُمَرَ حينَ رأى معه صَحِيفَة فيها شيءٌ مِنٍ التَّوْراةِ، وقال: «أفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟ ألَم آتِ بها بَيضاءَ نقِيَّة؟ لو كان أخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّباعِي» (¬1). ولولا أنَّ ذلك مَعْصِيَة ما غَضِب منه. وحُكْمُ الوَقْفِ على قَنادِيلِ البِيعَةِ وفَرْشِها ومَن يَخْدِمُها ومَن يَعْمُرُها كالوَقْفِ عليها؛ لأنَّه يُرادُ لتَعْظِيمِها. والمُسْلِمُ والذِّمِّيُّ في ذلك سواء. قال أحمدُ، في نَصارَى وَقَفُوا على البِيعَةِ ضِياعًا وماتُوا، ولهم أبناء نَصارَى فأسْلَمُوا، والضِّياعُ بيَدِ النَّصارَى: فلهم أخْذُها، وللمُسْلِمين عَوْنُهم حتى يَسْتَخْرِجُوها مِن أيدِيهم. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬2): ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّ ما لا يَصِحُّ مِن المُسْلِمِ الوَقْفُ عليه، لا يَصِحُّ وَقْفُ الذِّمِّيِّ، كغيرِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 387. وبلفظ آخر أخرجه الدارمي، في: باب ما يتقى من تفسير حديث النبي وقول غيره عند قوله - صلى الله عليه وسلم -، من المقدمة، سنن الدارمي 1/ 115، 116. وانظر إرواء الغليل 6/ 34 - 38. (¬2) في: المغني 8/ 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُعَيَّنِ. فإن قِيلَ: فقد قُلْتُم: إنَّ أهْلَ الكِتابِ إذا عَقَدُوا عُقُودًا فاسِدَةً، وتَقابَضُوا، ثم أسْلَمُوا وتَرافَعُوا إلينا، لم نَنْقُضْ ما فَعَلُوه، فكيف أجَزْتُمُ الرُّجوعَ فيما وَقَفُوه على كَنائِسِهم؟ قُلْنا: الوَقْفُ ليصر بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، إنّما هو إزالةُ مِلْكٍ في المَوْقُوفِ على وَجْهِ القُرْبَةِ، فإذا لم يَقَعْ صَحِيحًا، لم يَزُلِ المِلْكُ، فبَقِيَ (¬1) بحالِه، كالعِتْقِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في مَن أشْهَدَ في وَصِيَّته، أن غُلامَه فلانًا يَخْدِمُ البِيعَةَ خَمْسَ سِنِين، ثم هو حُرٌّ، ثم مات مَوْلاه وخَدَم سَنَةً، ثم أسْلَمَ، ما عليه؟ قال: هو حُرٌّ، ويَرْجِعُ على الغُلام بأجْرِ خِدْمَتِه مَبْلَغَ أرْبعِ سِنِينَ. ورُي عنه، قال: هو حُرٌّ ساعةَ مات مَوْلاه؛ لأنَّ هذه مَعْصِيَة. وهذه الروايَةُ أصَحُّ وأوْفَقُ لأصُولِه. ويَحْتَمِلُ أنَّ قَوْلَه: يَرْجِعُ عليه بخِدْمَتِه أرْبَعَ سِنِين. لم يكُنْ لصِحةِ الوَصِيَّةِ (¬2)، بل لأَنه إنَّما أعْتَقَه بعِوَض يَعْتَقِدان صِحَّتَه، فإذا تَعذَّرَ العِوَضُ بإسْلامِه، كان عليه ما يَقُومُ مَقامَه، كما لو تَزَوجَ الذِّمِّيُّ ذِميةً على ذلك ثم أسْلَمَ، فإَّنه يَجِبُ عليه المَهْرُ، كذا ههُنا يَجِبُ عليه العِوَضُ. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الوظيفة».

2562 - مسألة: (ولا)

وَلَا عَلَى حَرْبي، وَلَا مُرْتَدٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2562 - مسألة: (ولا) يَصِحُّ الوَقْفُ (على حَرْبِي، ولا مُرْتَد) لأنَّ أمْوالهم مُباحَةٌ في الأصْلِ، تجوزُ إزالتها، فما يَتَجَدَّدُ لهم أوْلَى، والوَقْفُ يَجِبُ أن يكونَ لازِمًا؛ لأنَّه تَحْبِيسُ الأصْلِ.

2563 - مسألة: (ولا يصح على نفسه، في إحدى الروايتين)

وَلَا يَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2563 - مسألة: (ولا يَصِحُّ على نَفْسِه، في إحدى الرِّوايَتَين) فإن وَقَف على غيرِه، واسْتَثْنَى الأكْلَ منه مُدةَ حَياته، صَحَّ. اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في مَن وَقَف على نَفْسِه، ثم على المَساكِينِ، أو على وَلَدِه، فقال في رِوايَةِ أبي طالبٍ، وقدَ سُئِل عن هذا، فقال: لا أعْرِفُ الوَقْفَ إلَّا ما أخْرَجَه للهِ تعالى أو في سَبِيله، فإذا وَقَفَه عليه حتى يَمُوتَ، فلا أعْرِفُه. فعلى هذه الرِّوايَةِ يكونُ الوَقْفُ عليه باطِلًا. وهل يَبْطُلُ على مَن بعدَه؟ على وَجْهَين، بِناءً على الوَقْفِ المُنْقَطِعِ الابتِداءِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الوَقْفَ تَمْلِيك للرَّقَبَةِ أو للمَنْفَعَةِ، ولا يجوزُ أن يُمَلِّكَ الإِنْسانُ نَفْسَه مِن نَفْسِه، كما لا يجوزُ أن يَبيعَ ماله مِن نَفْسِه، ولأنَّ الوَقْفَ على نَفْسِه إنَّما حاصِلُه مَنْعُ نَفْسِه مِن التَّصَرُّفِ في رَقَبَةِ المِلْكِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَصِحَّ ذلك، كما لو أفْرَده بأن يقولَ: لا أبِيعُ هذا ولا أهَبُه ولا أوَرِّثُه. ونَقَل جَماعَة أنَّ الوَقْف صَحِيح، اخْتارَ ابنُ أبي موسى. قال ابنُ عَقِيلٍ: وهي أصَحُّ. وهو قولُ ابنِ أبي لَيلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، وأبي يُوسُف، وابن سُرَيجٍ (¬1)؛ لِما نَذْكُرُه في المَسألةِ بعدَها، ولأَنه يَصِحُّ أن يَقِفَ وَقْفًا عامًّا فيَنْتَفِعَ به، كذلك إذا خَصَّ نَفْسَه بانْتِفاعِه. والأوّلُ أقْيَسُ. ¬

(¬1) في ر 1، م: «شريح».

2564 - مسألة: (وإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة

وإنْ وَقَفَ عَلَى غَيرِهِ وَاسْتَثْنَى الْأكْلَ مِنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، صَح. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن وَقَف وَقْفًا صَحِيحًا على إنْسانٍ، فقد صارَتْ مَنافِعُه جَمِيعُها للمَوْقُوفِ عليه، وزال مِلْكُه عن الواقِفِ، ومِلْكُ مَنافِعِه، فلم يَجُزْ أن يَنْتَفِعَ بشيءٍ منها. فأمّا إن وَقَف شيئًا للمسلمين، دَخَل في جُمْلَتِهم؛ مثلَ أن يَقِفَ مَسْجِدًا، فله أن يُصَلِّيَ فيه، أو مَقْبَرَةً، فله الدَّفْنُ فيها، أو بِئْرًا للمسلمين، فله أن يَسْتَقِيَ منها، أو سِقايَةً، أو شيئًا يَعُم المسلمين، فيكونُ كأحَدِهم. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وقد رُوِيَ عن عُثْمانَ بنِ عَفّانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَبَّلَ بِئْرَ رُومَةَ، وكان دَلْوُه فيها كدِلاءِ المُسْلِمِين (¬1). 2564 - مسألة: (وإن وَقف على غيرِه واسْتَثْنَى الأكْلَ منه مُدَّةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 82. ويضاف إليه: ووصله البخاري، في: باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا. . . . من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 4/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَياتِه، صَحَّ) إذا وَقَف وَقْفًا على غيرِه، وشَرَط أن يُنْفِقَ منه على نَفْسِه، صَحَّ الوَقْفُ والشَّرْطُ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال الأثْرَمُ: قِيل لأبِي عبدِ اللهِ: أشْتَرِطُ في الوَقْفِ أنِّي أنْفِقُ على نَفْسِي وأهْلِي؟ قال: نعم. واحْتَجَّ، قال: سَمِعْتُ ابنَ عُيَينَةَ، عن ابنِ طاوُس، عن أبيه، عن حُجْر المَدَريِّ (¬1) أنَّ في صَدَقَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَأكلَ أهْلُه منها بالمَعْرُوفِ غيرِ المُنْكَرِ. قال القاضي: يَصِحُّ الوَقْفُ، رِوايةً واحِدَةً؛ لأنَّ أحمدَ نصَّ عليها في رِوايةِ جَماعَةٍ. وبذلك قال ابنُ أبِي لَيلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو يُوسُفَ، والزُّبَيرِيُّ، وابنُ سُرَيجٍ، وقال مالكٌ، والشافعيّ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ: لا يَصِحُّ الوَقْفُ؛ لأنَّه إزالةُ المِلْكِ، فلم يَجُزِ اشْتِراطُ نَفْعِه لنَفْسِه، كالبَيعِ والهِبَةِ، وكما لو أعْتَقَ عَبْدًا واشْتَرَطَ أن يَخْدِمَه، ولأنَّ ما يُنْفِقُه على نَفسِه مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه، كما لو باعَ شيئًا واشترط أن ينتفع به. ولنا، ¬

(¬1) قال ابن حجر في الإصابة 2/ 207: أرسل حديثًا فأخرجه بقي بن مخلد في الصحابة، وهو وهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَبَرُ (¬1) الذي ذَكَرَه الإمامُ أحِمدُ، ولأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، لَمّا وَقَف، قال: لا بَأسَ على مَن وَلِيَها أن يَأكُلَ منها، أو يُطْعِمَ صَدِيقًا، غيرَ مُتَمَوِّلٍ منه (¬2). وكان الوَقْفُ في يَدِه إلى أن مات. ولأنه إذا وَقَف وَقْفًا عامًّا، كالمَساجِدِ، والسِّقاياتِ، والمَقابِرِ، كان له الانْتِفاعُ به، فكذلك ههُنا. ولا فَرْقَ بينَ أن يَشْتَرِطَ لنَفْسِه الانْتِفاعَ به مُدَّةَ حَياتِه، أو مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنةً، وسواء قَدَّرَ ما يَأكُلُ منه، أو أطْلَقَه، فإنَّ عُمَرَ لم يُقَدِّرْ ما يَاكُلُه الوالِي ويُطْعِمُ إلَّا بقَوْلِه: بالمَعْرُوفِ. وفي حديثِ صَدَقَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه شَرَط أن يَأكل أهْلُه منها بالمَعْرُوفِ غيرِ المُنْكَرِ. إلَّا أنَّه إذا شَرَط أن يَنْتَفِعَ بها مُدّةً مُعَيَّنة، فمات فيها، فيَنْبَغِي أن يكونَ ذلك لوَرَثَتِه، كما لو باعَ دارًا واشْتَرطَ أن يَسْكُنَها سَنَةً فماتَ في أثْنائِها. ¬

(¬1) في م: «أن الخبر». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ أن يَشتَرِطَ أن يَأكُلَ منها أهْلُه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَرَط ذلك في صَدَقَتِه. وإن شَرَط أن يَأكُلَ منه مَن وَلِيَه ويُطْعِمَ صَدِيقًا، صَحَّ؛ لأنَّ عُمَرَ شَرَط ذلك في صَدَقَتِه التي اسْتَأمَرَ فيها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإن وَلِيَها الواقف، كان له أن يَأكلَ ويُطْعِمَ صَدِيقًا؛ لأنَّ عُمَرَ وَلِيَ صَدَقَتَه. وإن وَلِيَها أحَد مِن أهْلِه، فله ذلك؛ لأنَّ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ كانت تَلِي صَدَقَتَه بعدَ مَوْتِه، ثم وَلِيَها بعدَها عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ (¬1). فصل: فإنِ اشْتَرَطَ أن يَبِيعَه متى شاءَ، أو يَهَبَه، أو يَرْجِعَ فيه، بَطل الوَقف والشَّرْطُ. لا نَعْلَمُ في بُطْلانِ الشَّرْطِ خِلافًا؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضَى الوَقْف. ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ الشَّرْطُ ويَصِحَّ الوَقف، بِناءً على الشُّرُوطَ الفاسدَةِ في البَيعِ. وإن شَرَط الخِيارَ في الوَقْف، فَسَد. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو يُوسُف في رِوايةٍ عنه: يَصِحُّ؛ لأنَّ الوَقف تَمْلِيكُ المَنافِعِ، فجاز شَرْطُ الخِيارِ فيه، كالإجارَةِ. ولَنا، أنَّه شَرْط يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَط أنَّ له بَيعَه متى شاءَ، ولأنه إزالةُ مِلْكٍ للهِ تعالى، فلم يَصِحَّ شَرْطُ الخِيارِ فيه، كالعِتْقِ، ولأنَّه ليس بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُ الخِيارِ فيه، كالهِبَةِ، بخِلافِ الإجارَةِ، فإنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، وههُنا لو ثَبَت الخِيارُ لثَبَتَ مع ثُبُوتِ حُكْمَ الوَقْف، فافْتَرَقا. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 161، وفيه: «الأكابر من آل عمر»، وليس: «عبد الله بن عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن شَرَط في الوَقْفِ أن يُخْرِجَ مَن شاءَ مِن أهْلِ الوَقف، ويُدْخِلَ مَن شاءَ مِن غيرِهم، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه شَرْط يُنافِي مُقْتَضَى الوَقف فأفْسَدَه، كما لو شَرَط أن لا يَنْتَفِعَ به. فأمّا إن شَرَط للنّاظِرِ أن يُعْطِيَ مَن يَشاءُ مِن أهْلِ الوَقف، ويَمْنَعَ مَن يشاءُ، جاز؛ لأنَّ ذلك ليس بإخْراجٍ للمَوْقُوفِ عليه مِن الوَقْف، وإنَّما عَلَّقَ اسْتِحْقاقَ الوَقْف بصِفَةٍ، فكأنّه جَعَل له حَقًّا في الوَقْفِ إذا اتَّصَفَ بإرادَةِ النّاظِرِ عَطِيَّتَه، ولم يَجْعَلْ له حَقا إذا انتَفتْ تلك الصِّفَةُ فيه، فأشْبَهَ ما لو وَقَفَه على المُشْتَغِلِين بالعِلْمِ مِن وَلَدِه، فإنَّه يَسْتَحِقُّ منهم مَن اشْتَغلَ دُونَ مَن لم يَشْتَغِلْ، فمتى تَرَك المُشْتَغِلُ الاشْتِغال، زال اسْتِحْقاقُه، فإن عاد إليه عاد اسْتِحْقاقُه. فصل: إذا جَعَل عُلْوَ دارِه مَسْجِدًا دُونَ أسْفَلِها، أو أسْفَلَها دُونَ عُلْوها، صَحَّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ، لأنَّ المَسْجِدَ يَتْبَعُه هَواؤه. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ بَيعُها كذلك، فصَحَّ وَقْفُها، كالدّارِ جَمِيعِها، ولأنَّه تَصَرُّفٌ يُزِيلُ المِلْكَ إلى مَن يَثْبُتُ له حَقُّ الاسْتِقْرارِ والتَّصَرُّفِ، فجاز فيما ذكَرْنا، كالبَيع. فصل: فإن جَعَل وَسَطَ دارِه مَسْجِدًا، ولم يَذْكُرْ الاسْتِطْراقَ، صَحَّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَ الاسْتِطْراقَ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ يُبِيحُ الانْتِفاعَ، مِن ضَرُورَتِه الاسْتِطْراقُ، فصَحَّ وإن لم يَذْكُرْه، كما لو أجَرَ بَيتًا مِن دارِه.

2565 - مسألة: (الثالث، أن يقفه على معين يملك. ولا يصح على مجهول؛ كرجل، ومسجد)

الثَّالِثُ، أنْ يَقِفَ عَلَى مُعَيَّن يَمْلِكُ. وَلَا يَصِح عَلَى مَجْهُولٍ؛ كَرَجُلٍ وَمَسْجِدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2565 - مسألة: (الثالثُ، أن يَقِفَه على مُعَيَّن يَمْلِكُ. ولا يَصِحُّ على مَجْهُولٍ؛ كرجل، ومَسْجِدٍ) لأنَّه تَمْلِيك، أشْبَهَ البَيعَ، ولأن الوَقْفَ تَمْلِيكٌ للعَينِ أو للمَنْفَعَةِ، فلا يَصِحُّ عك غيرِ مُعَيَّن، كالإجارَةِ.

2566 - مسألة: (ولا)

وَلَا عَلَى حَيَوَانٍ لَا يَمْلِكُ؛ كَالْعَبدِ، وَالْحَمْل، والملك، وَالْبَهِيمَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2566 - مسألة: (ولا) يَصِحُّ (على حَيوانٍ لا يَمْلِكُ؛ كالعَبْدِ) القِنِّ، وأمِّ الوَلَدِ، والمُدَبَّرِ، والمَيِّتِ (والحَمْلِ، والمَلَكِ، والبَهِيمَةِ) والجِنِّ. قال أحمدُ في مَنِ وَقَف على مَمالِيكِه: لا يَصِحُّ الوَقْفُ حتى يُعْتِقَهم. وذلك لأنَّ الوَقْف تَمْلِيك، فلا يَصِحُّ على مَن لا يَمْلِكُ. فإن قِيل: فقد جَوَّزْتُمُ الوَقْفَ على المَساجِدِ والسِّقاياتِ وأشْباهِها، وهي لا تَمْلِكُ. قُلْنا: الوَقْفُ هناك على المُسْلِمِين، إلَّا أنَّه عُيِّنَ في نَفْع خاص

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم. فإن قِيلَ: فيَنْبَغِي أن يَصِحَّ الوَقْفُ على الكَنائِسِ، ويكونَ الوَقْفُ على أهْلِ الذِّمَّةِ، والوَقْفُ عليهم جائِز. قُلْنا: على الجِهَةِ التي عُيِّنَ صَرْفُ الوَقْفِ فيها ليست نَفْعًا، بل هي مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَة، يَزْدادُون بها عِقابًا وإثْمًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ المَساجِدِ. فإن قِيل: فلِمَ لا يَصِح الوَقْفُ على العَبْدِ إذا قلنا: إنَّه يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ؟ قلنا: لأنَّ الوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الأصْلِ، والعَبْدَ لا يَمْلِكُ مِلْكًا لازِمًا. ولا يَصِحُّ على المُكاتَبِ وإن كان يَمْلِكُ؛ لأنَّ مِلْكَه غيرُ مُسْتَقِرٍّ.

2567 - مسألة: (الرابع، أن يقف ناجزا، فإذا علقه على شرط، لم يصح، إلا أن يقول: هو وقف بعد موتي. فيصح في قول الخرقي. وعند أبي الخطاب، لا يصح)

الرَّابعُ، أنْ يَقِف نَاجِزًا، فَإنْ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ، لَمْ يَصِحَّ، إلَّا أنْ يَقُولَ: هُوَ وَقفٌ بَعْدَ مَوْتِي. فَيَصِحَّ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَال أبو الْخَطَّابِ: لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2567 - مسألة: (الرابُع، أن يَقِفَ ناجِزًا، فإذا عَلَّقَه على شَرْطٍ، لم يَصِحَّ، إلَّا أن يقولَ: هو وَقفٌ بعدَ مَوْتِي. فيَصِحَّ في قَوْلِ الخِرَقِيِّ. وعندَ أبِي الخَطّابِ، لا يَصِحُّ) لا يَصِحُّ تَعْلِيقُ ابْتِداءِ الوَقْفِ على شَرْطٍ في الحَياةِ، مثلَ أن يقولَ: إذا جاء رَأسُ الشّهْرِ فدارِى وَقفٌ -أو- فَرَسِي حَبِيسن -أو- إذا وُلِد لِي وَلَدٌ -أو- إذا قَدِم غائِب. ونحوُ ذلك. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنه نَقْل للمِلْكِ فيما لم يُبْنَ على التَّغْلِيبِ والسِّرايَةِ، فلم يَجُزْ تَعْلِيقُه على شَرْطٍ في الحَياةِ، كالهِبَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما إذا قال: هو وَقْف بعدَ مَوْتِي. فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِي أنَّه يَصِحُّ، ويُعْتَبَرُ مِن الثُّلُثِ، كسائرِ الوَصايا. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. وقال القاضي: لا يَصِحُّ هذا؛ لأنه تَعْلِيق للوَقْفِ على شَرْطٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو عَلَّقَه على شَرْطٍ في حَياتِه. وحَمَل كلامَ الخِرَقِي على أنَّه قال: قِفُوا بعدَ مَوْتِي. فيكونُ وَصِيَّةً بالوَقْفِ لا إيقافًا. ولَنا على صِحَّةِ الوَقْفِ المُعَلَّقِ بالمَوْتِ، ما احْتَجَّ به أحمدُ، أنَّ عُمَرَ أوْصَى، فكان في وَصيته: هذا ما أوْصَى به عبدُ اللهِ عُمَرُ أميرُ المُومِنِين إن حَدَث به حَدَث، أنَّ ثَمْغًا (¬1) صَدَقَةٌ، والعَبْدَ الذي فيه، والسَّهْمَ الذي بخَيبَرَ، ورَقِيقَه الذي ¬

(¬1) ثمغ: أرض تلقاء المدينة كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، والمائةَ وَسْقٍ الذي أطْعَمَنِي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، تَلِيه حَفْصَةُ ما عاشَتْ، ثم يلِيه ذو الرَّأي من أهْلِه، لا يُباعُ ولا يُشْتَرَى، يُنْفِقُه حيثُ؛ يَرَى مِن السائلِ، والمَحْرُومِ، وذَوي القُرْبَى، ولا حَرَجَ على مَن وَلِيَه إن أكَلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو اشْتَرَى رَقِيقًا. روَاهُ أبو دَاوُدَ (¬1) بنَحْو مِن هذا. وهذا نَصّ في مَسْألَتِنا، ووَقْفُه هذا كان بأمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولأنَّه اشْتَهَر في الصَّحابَةِ ولم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، ولأنَّ هذا تَبَرُّع مُعَلَّق بالمَوْتِ، فصَحَّ، كالهِبَةِ والصدَقَةِ المُطْلَقَةِ. أو نقولُ: صَدَقَةٌ مُعَلَّقَةٌ بالمَوْتِ، فأشْبَهتْ غيرَ الوَقْفِ. وفارَقَ هذا التَّعْلِيقَ على شَرْطٍ في الحياةِ، بدَلِيلِ الصَّدَقَةِ المُطْلَقَةِ، أو الهِبَةِ، وغيرِهما، وذلك لأنَّ هذا وَصِيَّة، والوَصِيَّةُ أوْسَعُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الرجل ووقف الوقف، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 105.

فَصْلٌ: وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ، إلَّا أنْ يَكُونَ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّن، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن التَّصَرُّفِ في الحياةِ، بدَلِيلِ جَوازِها بالمَجْهُولِ والمَعْدُومِ، وللمَجْهُولِ وللحَمْلِ، وغيرِ ذلك، وبهذا يَبِينُ فَسادُ قِياسِ مَن قاسَ على هذا الشَّرْطِ بَقِيَّةَ الشُّرُوطِ. وسَوَّى المُتَأخِّرُون مِن أصْحابِنا بينَ تَعْلِيقِه بالمَوْتِ، وتَعْلِيقِه بشَرْطٍ في الحَياةِ. ولا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الفَرْقِ بينَهما. فصل: (ولا يُشْتَرَطُ القَبُولُ، إلَّا أن يكونَ على آدَمِيٍّ مُعَيَّن، ففيه

فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أحَدُهُمَا، يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. فَإن لَمْ يَقْبَلْهُ أوْ رَدَّهُ، بَطَلَ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ، وَكَانَ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ ثُمَّ عَلَى مَنْ يَجُوزُ، يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أنهُ أنْ كَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيه يَعْرِفُ انْقِرَاضَهُ؛ كَرَجُل مُعَيَّن، صُرِفَ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إلَى أنْ يَنْقَرِضَ، ثُمَّ يُصْرَفُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُشْتَرَطُ. فإن لم يَقْبَلْ أو رَدَّه، بَطَل في حَقِّه دُونَ مَن بعدَه، وصار كما لو وَقَف على مَن لا يجوزُ ثم على مَن يجوزُ، يُصْرَفُ في الحالِ إلى مَن بعدَه) وجُمْلةُ ذلك، أنَّ الوَقْفَ إذا كان على غيرِ مُعَيَّنٍ؛ كالمَساكِينِ، أو مَن لا يُتَصَوَّرُ منه القَبُولُ كالمَساجِدِ والقَناطِرِ، لم يَفتَقِرْ إلى القَبُولِ. وإن كان على آدَمِيٍّ مُعَيَّن، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُشْتَرَطُ. اخْتارَه القاضي؛ لأنَّه أحَدُ نوْعَي الوَقْفِ، فلم يُشْتَرَطْ له القَبُولُ، كالنَّوْعِ الآخَرِ، ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ البَيْعِ والهِبَةَ والمِيراثَ، فلم يُعْتَبَرْ فيه قَبُول، كالعِتْقِ. والثاني، يُشْتَرطُ؛ لأنه تبَرُّعٌ لآدَمِيٍّ مُعَيّنٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان مِن شَرْطِه القَبُولُ، كالهِبَةِ والوَصِيَّةِ، يُحَقِّقُه أنَّ الوَصِيَّةَ إذا كانت لآدَمِيٍّ مُعَينٍ، وَقَفَتْ على قَبُولِه، وإن كانت لغيرِ مُعَيَّن، كالمساكِينِ أو لِمَسجِدٍ أو نحوه، لم تَفْتَقِرْ إلى قَبُولٍ، كذا ههُنا. والأوَّلُ أوْلَى، والفَرْقُ بينَه وبينَ الهِبَةِ والوَصِيَّةِ، أن الوَقْفَ لا يَخْتَصُّ المُعَيَّنَ، بل يتَعَلَّقُ به حَقُّ مَن يَأتِي مِن البُطُونِ في المُسْتَقْبَلِ، فيكونُ الوَقْفُ على جَمِيعِهم، إلَّا أنَّه مُرَتَّب، فصار بمَنْزِلَةِ الوَقْفِ على الفُقَراءِ الذي لا يَبطُلُ برَدِّ واحدٍ منهم ولا يَقِفُ على قَبُولِه، والوَصِيَّةُ للمُعَين بخِلافِه. وهذا مَذْهَبُ الشافعي. وإذا قُلْنا: لا يَفْتَقِرُ إلى القَبولِ. لم يبطُلْ بالرَّد، كالعِتْقِ. وإن قلْنا: يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ. فرَدَّه، بَطَل في حَقه دُونَ مَن بعدَه. وصار كالوَقْفِ المنْقَطِعِ الابتِداءِ، يُخَرَّجُ في صِحَّتِه في حَقِّ مَن سِواه وبُطْلانِه وَجْهان، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا وَقَف على مَن لا يجوزُ ثم على مَن يجوزُ، فهو وَقْفٌ مُنْقَطِعُ الابْتِداءِ، كالوَقْفِ على عَبْدِه، أو أمِّ وَلَدِه، أو مَجْهُولٍ، فإن لم يَذْكُرْ له مآلًا فالوَقْفُ باطِل. وكذلك إن جَعَل له مآلًا يجوزُ الوَقْفُ عليه؛ لأنَّه أخَلَّ بأحَدِ شَرْطَيِ الوَقْفِ، فبَطَلَ، كما لو وَقَف ما لا يجوزُ وَقْفُه. وإن جَعَل له مآلًا يجوزُ الوَقْفُ عليه، كمَن يَقِفُ على عَبْدِه ثم على المَساكِينِ، ففي صِحَّتِه وَجْهان، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وللشافعيِّ قَوْلان، كالوَجْهَين. فإذا قُلْنا: يَصِحُّ. وهو قولُ القاضي، وكان مَن لا يجوزُ الوَقْفُ عليه لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ انْقِراضِه؛ كالمَيِّتِ، والمَجْهُولِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكَنائِسِ، صُرِف في الحالِ إلى مَن يجوزُ الوَقْفُ عليه؛ لأنَّنا لَمّا صَحَّحْنا الوَقْفَ مع ذِكر ما لا يجوزُ الوَقْفُ عليه، فقد ألْغَيناه؛ لتَعَذُّرِ التَّصْحِيح مع اعْتِبارِه، وإن كان مَن لا يجوزُ الوَقْفُ عليه يُمْكِنُ اعْتِبارُ انْقِراضِه؛ كأمِّ وَلَدِه، وعَبْدٍ مُعَيَّن، فكذلك. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أَنه يُصْرَفُ في الحالِ (إلى مَصْرِفِ الوَقْفِ المُنْقَطِعِ، إلى أن يَنْقَرِضَ) مَن لا يجوزُ الوَقْفُ عليه، فإذا انْقَرَضَ صُرِف إلى مَن يجوزُ. ذَكَرَه القاضي، وابنُ عَقِيل؛ لأنَّ الواقِفَ إنَّما جَعَلَه وَقْفًا على مَن يجوزُ بشَرْطِ انْقِراضِ هذا، فلا يَثْبُتُ بدُونِه، ويُفارِقُ ما لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ انْقِراضِه؛ لتَعَذُّرِ اعْتِبارِه. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذَينِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الوَقْفُ صَحِيحَ الطرَفَين مُنْقَطِعَ الوَسَطِ، كمَن وَقَف على وَلَدِه، ثم على عَبِيدِه، ثم على المَساكِينِ، خُرِّجَ في صِحةِ الوَقْفِ وَجْهان، بِناءً (¬1) على ما نَذْكُرُه في الوَقْفِ المُنْقَطِعِ الانْتِهاءِ. ثم يُنْظَرُ فيما لا يجوزُ الوَقْفُ عليه، فإن لم يُمْكِنِ اعْتِبارُ انْقِراضِه ألْغَيناهُ، إذا قُلْنا بالصِّحَّةِ، وإن أمْكَنَ اعْتِبارُ انْقِراضِه، فهل يُعْتَبَرُ أو يُلْغَى؟ على وَجْهَين، كما تَقدَّمَ. فإن كان مُنْقَطِعَ الطَّرَفَين صَحِيحَ الوَسَطِ، كمَن وقَف على عَبْدِه، ثم على أوْلادِه، ثم على الكَنِيسَةِ، خُرِّجَ في صِحَّتِه أيضًا وَجْهان، ومَصْرِفُه بعدَ مَن يجوزُ الوَقْفُ عليه إلى مَصْرِفِ الوَقْفِ المُنْقَطِعِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2568 - مسألة: (وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلا، أو وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفت. وسكت، انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم، في إحدى الروايتين. والأخرى، إلى أقرب عصبته. وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين. وقال القاضي في موضع: يكون وقفا على المساكين)

وإنْ وَقَفَ عَلى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَآلًا، أوْ عَلَى مَنْ يَجُوزُ ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ، أوْ قَال: وَقَفْتُ. وَسَكَتَ، انصَرَفَ بَعْدَ انْقِرَاضِ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيهِ إِلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ وَقْفًا عَلَيهِمْ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَالأخْرَى، إِلَى أقْرَبِ عَصَبَتِهِ. وهَلْ يَخْتَصُّ بِهِ فُقَرَاؤهُم؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَقَال الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ: يَكُون وَقْفًا عَلَى الْمَساكِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2568 - مسألة: (وإن وَقَف على جِهَةٍ تَنْقَطِعُ ولم يَذْكُرْ له مآلًا، أو وَقَف على مَن يجوزُ ثم على مَن لا يجوزُ، أو قال: وَقَفْتُ. وسَكَت، انْصَرَفَ بعدَ انْقِراضِ مَن يجوزُ الوَقْفُ عليه إلى وَرَثَةِ الواقِفِ وَقْفًا عليهم، في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأخْرَى، إلى أقْرَبِ عَصَبَتِه. وهل يَخْتَصُّ به فُقَراؤهم؟ على وَجْهَين. وقال القاضي في مَوْضِعٍ: يكونُ وَقْفًا على المَساكِينِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الوَقْف الذي لا اختِلافَ في صِحَّتِه عندَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القائِلِين بصِحَّةِ الوَقْفِ، ما كان مَعْلُومَ الابتِداءِ والانْتِهاءِ، غيرَ مُنْقَطِعٍ، مثلَ أن يُجْعَل على المَساكِينِ، أو طائِفةٍ لا يجوزُ بحُكْمِ العادَةِ انْقِراضُهم. وإن كان غيرَ (¬1) مَعْلُومِ الانْتِهاءِ، مثلَ أن يَقِف على قَوْم يجوزُ انْقِراضُهم بحُكْمِ العادَةِ، ولم يَجْعَلْ آخِرَه للمَساكِينِ ولا لجِهَةٍ غيرِ مُنْقَطِعَةٍ، فهو صحِيحٌ أيضًا. وبه قال مالِك، وأبو يُوسُفَ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه. وقال [أبو حنيفةَ، و] (¬2) محمدُ بنُ الحَسَنِ: لا يَصِح. وهو القولُ الثاني للشافعيِّ؛ لأنَّ الوَقْفَ مُقْتَضاه التَّأبِيدُ، فإذا كان مُنْقَطِعًا صار وَقْفًا على مَجْهُولٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو وَقف على مَجْهُولٍ في الابتِداءِ. ولَنا، أنَّه تَصَرُّف مَعْلُومُ المَصْرِفِ، فصَحَّ، كما لو صَرَّحَ بمَصْرِفِه المُتَّصِلِ، ولأنَ الإطْلاقَ إذا كان له عُرْف، حُمِل عليه، كنَقْدِ البَلَدِ، وعُرْفُ المَصْرِفِ ههُنا أوْلَى الجِهاتِ به، فكأنه عَيَّنهَم. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يَنْصَرِفُ عندَ انْقِراضِ المَوْقُوفِ عليهم إلى أقارِبِ الواقِفِ. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: يكونُ وَقْفًا على أقْرَبِ الناسِ إلى الواقِفِ، الذَّكَرُ والأنثَى فيه سواء. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيدة من: الأصل. وهو قولهما. انظر فتح القدير 6/ 213.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنِ أحمدَ، أنَّه يُصْرَفُ إلى المَساكِينِ. اخْتارَه القاضِي، والشَّرِيف أبو جَعْفر؛ لأنَّهم مَصْرِفُ الصَّدَقاتِ وحُقُوقِ اللهِ تعالى مِن الكَفّاراتِ ونحوها، فإذا وُجِدَتْ صَدَقة غيرُ مُعَيَنةِ المَصْرِفِ، انْصَرَفَتْ إليهم، كما لو نَذَر صَدَقَةً مُطْلقَةً. وعن أحمدَ رِواية ثالثة، أنَّه يُجْعَلُ في بَيتِ مالِ المُسْلِمِين؛ لأنَّه مال لا مُسْتَحِقَّ له، فأشبَه مال مَن لا وارِثَ له. وقال أبو يُوسُفَ: يَرْجِعُ إلى الواقِفِ وإلى وَرَثَتِه، إلَّا أن يقولَ: صَدَقَة مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ منها على فلانٍ وفُلانٍ. فإذا انْقَرَضَ المُسَمَّى، كانت على الفُقَراءِ والمَساكِينِ؛ لأنَّه جَعَلَها صَدَقَةً على مُسَمى، فلا تكونُ على غيرِه، ويُفارِقُ ما إذا قال (¬1): يُنْفَقُ منها على فُلانٍ وفُلانٍ. فإنه جَعَل الصَّدَقَةَ مُطْلَقَةً. ولَنا، أنَّه أزَال مِلْكَه للهِ تعالى، فلم يَجُزْ أن يَرْجِعَ إليه، ¬

(¬1) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو أعْتَقَ عَبْدًا، والدَّلِيلُ على صَرْفِه إلى أقارِبِ الواقِفِ، أنَّهم أوْلَى الناسِ بصَدَقَتِه، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَتُكَ عَلَى غَيرِ ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ، وصَدَقَتُكَ على ذِي رَحِمِكَ صَدَقَة وصِلَة» (¬1). وقال: «إنَّكَ أنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عَالةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» (¬2). ولأنَّهم أوْلَى الناسِ بصَدَقاتِه النَّوافِلِ والمَفْرُوضاتِ، فكذلك صَدَقَتُه المَنْقُولَةُ. إذا ثَبَت هذا، فإَّنه يكونُ للفُقَراءِ منهم والأغْنِياءِ في إحْدى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقيِّ، لأنَّ الوَقْفَ لا يَخْتَصُّ الفُقَراءَ، ولأنَّه لو وَقَف ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 280. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 343. في حديث: «والثلث كثير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أولادِه، تَناوَلَ الأغْنِياءَ والفُقَراءَ، كذا ههُنا. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه يَخْتَصُّ الفُقَراءَ منهم؛ لأنَّهم أهْلُ الصَّدَقاتِ دُونَ الأغْنِياءِ، ولأنَّنا خَصَصْنا الأقارِبَ بالوَقْفِ، لكَوْنِهم أوْلَى الناسِ بالصَّدَقَةِ، وأوْلَى الناسِ بالصَّدَقَةِ الفُقَراءُ دُونَ الأغْنِياء. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في مَن يَسْتَحِقُّ الوَقْفَ مِن أقْرباء الواقِفِ، ففي إحْدى الرِّوايَتَين، يَختَصّ بالوَرَثةِ منهم؛ لأنهم الذين صَرَف اللهُ إليهم ماله بعدَ مَوْتِه واسْتِغْنائِه عنه، فكذلك يُصْرَفُ إليهم مِن مالِه ما لم يَذْكُرْ له مَصْرِفًا. فعلى هذا، يكونُ بينَهم على حَسَبِ مِيراثِهم، ويكونُ وَقْفًا عليهم. نَصَّ عليه أحمدُ، وذكَرَه القاضي؛ لأنَّ الوَقْفَ يَقتَضِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التّأكيدَ، وإنَّما صَرَفْناه إلى هؤلاءِ؛ لأنَّهم أحَقُّ الناسِ بصَدَقَتِه، فيُصْرَفُ إليهم مع بَقائِه صَدَقَةً. ويَحْتَمِلُ أن يُصْرَفَ إليهم على سَبِيلِ الإرْثِ، على ما ذَكَرَه الخِرَقِي، ويَبْطُلُ الوَقفُ فيه، كقَوْلِ أبي يُوسُفَ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، يكونُ وَقْفًا على أقْرَبِ عَصَبَةِ الواقفِ دُونَ بَقِيَّةِ الوَرَثَةِ (¬1)، ودُونَ البَعِيدِ مِن العَصَباتِ، فيُقَدَّمُ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، على حَسَبِ اسْتِحْقاقِهِم لوَلاءِ (¬2) المَوالِي، لأنَّهم خُصُّوا بالعَقْلِ عنه، وبمِيراثِ مَوالِيه، فخُصُّوا بهذا أيضًا. قال شيخُنا (¬3): وهذا لا يَقْوَى عندِي، فإنَّ اسْتِحْقاقَهم لهذا دُونَ غيرِهم مِن الناسِ لا يكونُ إلَّا بدَلِيل، مِن نَصٍّ أو إجْماعٍ، ولا نَعْلَمُ فيه نَصًّا ولا إجْماعًا، ولا يَصِحُّ قِياسُه على مِيراثِ وَلاءِ المَوالِي؛ لأنَّ عِلَّتَه لا تَتَحَقَّقُ ههُنا، وأقْرَبُ الأقْوالِ فيه صَرْفه ¬

(¬1) في م: «الوراث». (¬2) في الأصل، ر 1: «كولاء». (¬3) في: المغني 8/ 212.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المَساكِينِ، لأنَّهم مَصارِفُ مالِ اللهِ وحُقُوقِه، فإن كان في أقارِبِ الواقِفِ مَساكِينُ، كانوا أوْلَى به، لا على سَبِيلِ الوُجُوبِ، كما أنَّهم أوْلَى بزَكاتِه وصِلاته مع جَوازِ الصَّرْفِ إلى غيرِهم، ولأنّا إذا صَرَفْناه إلى أقارِبِه على سَبِيلِ التَّعْيِينِ، فهي أيضًا جِهَة مُنْقَطِعَة، فلا يَتَحَقَّقُ اتِّصالُه إلَّا بصَرْفِه إلى المَساكِينِ. فإن لم يَكُنْ للواقِفِ أقارِبُ، أو كان له أقارِبُ فانْقَرَضُوا، صُرِف إلى الفُقَراءِ والمَساكِينِ (¬1) وَقْفًا عليهم؛ لأنَّ القَصْدَ به الثَّوابُ الجارِي عليه على وَجْهِ الدَّوامِ، وإنَّما قَدَّمْنا الأقارِبَ على المَساكِينِ؛ لكَوْنِهم أوْلَى، فإذا لم يَكونُوا، فالمَساكِينُ أهْل لذلك، فصُرِفَ إليهم، إلَّا على قَوْلِ مَن قال: إنَّه يُصْرَفُ إلى وَرَثَةِ الواقِفِ مِلْكًا لهم. فإنَّه يُصْرَفُ عندَ عَدَمِهم إلى بَيتِ المالِ؛ لأنَّه بَطَل الوَقْفُ فيه بانْقِطاعِه، فصار مِيراثًا لا وارِثَ له، فكان بَيتُ المالِ أوْلَى به. ¬

(¬1) في م: «أو المساكين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَقَف على مَن يجوزُ، ثم على مَن لا يجوزُ، كمَن وَقَف على أوْلادِه، ثم على البِيَعِ، صَحَّ الوَقْفُ أيضًا، ويَرْجِعُ بعدَ انْقِراضِ مَن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوزُ الوَقف عليه إلى مَن يُصْرَفُ إليه الوَقْفُ المُنْقَطِعُ، كالمسألَةِ قبلَها؛ لأنَّ ذَكر مَن لا يجوزُ الوَقْفُ عليه وعَدَمَه واحِدٌ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ الوَقْفُ؛ لأَنه جَمَع بينَ ما يجوزُ وما لا يجوزُ، فأشبَهَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ. فصل: فإن قال: وَقَفْتُ هذا. وسَكَتَ، أو قال: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ. ولم يَذْكُرْ سَبِيلَه، فلا نَصَّ فيه. وقال ابنُ حامِدٍ: يَصِحُّ الوَقْف. قال

2569 - مسألة: (وإن قال: وقفت داري سنة)

وَإنْ قَال: وَقَفْتُهُ سَنَةً. لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَصِحَّ، وَيُصْرَفُ بَعْدَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: هو قِياسُ قَوْلِ أحمدَ، فإنَّه قال في النَّذْرِ المُطْلَقِ: يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لكَفّارَةِ اليَمِينِ. وهو قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ في أحَدِ قَوْلَيه؛ لأنَّه إزالةُ مِلْكٍ على وَجْهِ القُرْبَةِ، فوَجب أن يَصِحَّ مُطْلَقًا، كالأضْحِيَةِ، والوَصِيَّةِ. ولو قال: وَصَّيتُ بثُلُثِ مالِي. صَحّ، وإذا صَحّ صُرِف إلى مصارِفِ الوَقْفِ المُنْقَطِعِ عندَ انْقِراضِ المَوْقُوفِ عليه، كما ذَكَرْنا. 2569 - مسألة: (وإن قال: وَقَفْتُ دارِي سَنَةً) أو إلى يَوْمِ يَقْدَمُ الحاجُّ (لم يَصِحَّ) في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ مُقْتَضَى الوَقفِ

مَصْرِفَ الْمُنْقَطِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّأبِيدُ، وهذا يُنافِيه. والوَجْهُ الآخَرُ، يَصِحُّ؛ لأنَّه مُنْقَطِعُ الانْتِهاءِ، فهو ما لو وَقف على مُنْقَطِعِ الانْتِهاءِ. فإن قلنا: يَصِحُّ. فهو كمُنْقَطِعِ الانْتِهاءِ، يُصْرَفُ إلى مَصْرِفِ الوَقْفِ المُنْقَطِعِ الانْتِهاءِ. فصل: فإن قال: هذا وَقْف على وَلَدي سَنَةً، ثم على المَساكِينِ. صَحَّ. وكذلك إن قال: وَقْفٌ على وَلَدِي مدَّةَ حَياتِي، ثم هو بعدَ مَوْتِي للمَساكِينِ. صَحَّ؛ لأنَّه وَقْف مُتَّصِلُ الابتداءِ والانْتِهاءِ. وإن قال: وَقفٌ على المَساكِينِ، ثم على أوْلادِي. صَحَّ، ويَكونُ وَقْفًا على المَساكِينِ، ويَلْغُو قَوْلُه: على أولادِي. لأنَّ المَساكِينَ لا انْقِراضَ لهم.

2570 - مسألة: (ولا يشترط إخراج الوقف عن يده، في إحدى الروايتين)

وَلَا يُشْتَرطُ إِخْرَاجُ الْوَقْفِ عَنْ يَدِهِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2570 - مسألة: (ولا يُشْتَرَطُ إخْراجُ الوَقْفِ عن يَدِه، في إحْدَى الرِّوايَتَين) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ الوَقْفَ يَزُولُ به مِلْكُ الواقِفِ، ويَلْزَمُ بمُجَرَّدِ اللَّفْظِ؛ لأنَّ الوَقْفَ يَحْصُلُ به. وعن أحمدَ، أنَّه لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ وإخْراجِ الوَقْفِ عن يَدِه؛ فإنَّه قال: الوَقْفُ المَعْرُوفُ أن يُخْرِجَه مِن يَدِه إلى غيرِه، يُوَكِّلَ فيه مَن يَقُومُ به. اخْتارَه ابنُ أبي موسى، وهو قولُ محمدِ بنِ الحَسَنِ؛ لأنَّه تَبَرُّع بمالٍ لم يُخرِجْه عن المالِيَّةِ، فلم يَلْزَمْ بمُجَرَّدِه، كالهِبَةِ، والوَصِيَّةِ. ولَنا، ما رَوَيناه مِن حَدِيثِ عُمَرَ، ولأنه تَبَرُّع يَمْنَعُ البَيعَ والهِبَةَ والمِيراثَ، فيَلْزَمُ (¬1) بمُجَرَّدِه، كالعِتْقِ، ويُفارِقُ الهِبَةَ؛ فإنَّها تَمْلِيك مُطْلَق، والوَقْفُ تَحْبِيسُ الأصْلِ وتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ، فهو بالعِتْقِ أشْبَهُ، وإلْحاقُه به أوْلَى. ¬

(¬1) في الأصل: «فلم يلزم».

فَصْلٌ: وَيَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيهِ الْوَقْف. وَعَنْهُ لَا يَمْلِكُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (ويَمْلِكُ المَوْقُوفُ عليه الوَقْفَ. وعنه، لا يَمْلِكُه) ظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ في المَوْقُوفِ إلى المَوْقُوفِ عليه. قال أحمدُ: إذا وَقَف دارَه على وَلَدِ أخِيه، صارت لهم. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم مَلَكُوه. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه لا يُمْلَكُ، فإنَّ جَماعَةً نَقَلُوا عنه، في مَن وَقَف على وَرَثَتِه في مَرَضه: يجوزُ؛ لأنَّه لا يُباعُ ولا يُورَثُ، ولا يَصِيرُ مِلْكًا للوَرَثَةِ، وإنَّما يَنْتَفِعُون بغَلَّتِها. وهذا يَدُلُّ بظاهِرِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّهمِ لا يَمْلِكُون. ويحْتَمِلُ أن يُرِيدَ بقَوْلِه: لا يَمْلِكُون. أي لا يَمْلِكُون التَّصَرُّف في الرَّقَبَةِ، فإن فائِدَةَ المِلْلص وآثارَه ثابِتَة في الوَقفِ. وعن الشافعيِّ مِن الاخْتِلافِ نحوُ ما حَكَيناه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنتقِلُ المِلْكُ في الوَقْفِ اللَّازِمِ، بل يكونُ حَقًّا للهِ تعالى؛ لأَنه إزالةُ مِلْك عن العَينِ والمَنْفَعَةِ على وَجْهِ القُرْبَةِ بتَمْلِيكِ المَنْفَعَةِ، فانْتقَلَ إلى اللهِ تعالى، كالعِتْقِ. ولَنا، أنَّه سَبَب يُزِيلُ مِلْكَ الواقِفِ، وُجدَ (¬1) إلى مَن يَصِحُّ تَمْلِيكُه على وَجْهٍ لم يُخْرِجِ المال عن مالِيَّته، فوَجَب أَن يَنْقُلَ المِلْكَ إليه، كالهِبَةِ والبَيعِ، ولأنَّه لو كان تَمْلِيك المَنْفَعَةِ المُجَردَةِ، لم يَلْزَمْ، كالعارِيَّةِ والسُّكْنَى، ولم يَزُلْ مِلْكُ الواقِفِ عنه، كالعارِيَّةِ، ويُفارِقُ العِتْقَ، فإنَّه أخْرَجَه عن المالِيَّةِ، وامْتِناعُ التصَرُّفِ في الرّقَبةِ لا يَمْنَعُ المِلْكَ، كأمِّ الوَلَدِ. ¬

(¬1) في م: «وجه».

2571 - مسألة: (ويملك صوفه ولبنه وثمرته ونفعه)

وَيَمْلِكُ صُوفَهُ وَلَبَنَهُ وَثَمَرَتَهُ وَنَفْعَهُ. وَلَيسَ لَهُ وَطْءُ الْجَارِيَةِ، فَإن فَعَلَ، فَلَا حَدَّ عَلَيهِ وَلَا مَهْرَ. وإنْ أتَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَيهِ قِيمَتُهُ، يُشتَرَى بهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2571 - مسألة: (ويَمْلِكُ صُوفَه ولَبَنَه وثَمَرَتَه ونَفْعَه) لأنَّه نَماءُ مِلْكِه. ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 2572 - مسألة: (وليس له وَطْءُ الجارِيَةِ، فإن فَعَل، فلا حَدَّ عليه ولا مَهْرَ) لا يجوزُ للمَوْقُوفِ عليه وَطْءُ الأمَةِ المَوْقُوفَةِ؛ لأنَّا لا نَأمَنُ حَبَلَها، فتَنْقُصُ أو تَتْلَفُ أو تَخْرُجُ مِن الوَقْفِ بكَوْنِها أمَّ وَلَدٍ، ولأنَّ مِلْكَه ناقِص. فإن وَطِيء، فلا حَدَّ عليه؛ للشُّبْهَةِ، ولا مَهْرَ عليه؛ لأنه لو وَجَب لوَجَبَ له، ولا يَجِبُ للإنْسانِ شيء على نَفْسِه. 2573 - مسألة: وإن وَلَدَتْ، فالوَلَدُ حُر؛ لأنَّه مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ (وعليه قِيمَتُه) يومَ الوَضعِ، يُشْتَرَى بها عَبْد مكانَه؛ لأنه فَوَّتَ رِقَّه،

وَتَصِيرُ أمَّ وَلَدِهِ، تَعْتِقُ بِمَوتِهِ، وَتَجِبُ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ، وَيُشتَرَى بِهَا مِثْلُهَا وَتَكُونُ وَقْفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَصِيرُ أمَّ وَلَدٍ له؛ لأنه أحْبَلَها بِحُرٍّ في مِلْكِه. فإذا مات عَتَقَتْ (وتَجِبُ قِيمَتُها في تَرِكَتِه) لأَنه أتْلَفَها على مَن بعدَه مِن البُطُونِ، فيُشْتَرَى بها جارِيَة (تكونُ وَقْفًا) مكانَها. وإن قُلْنا: لا يَمْلِكُها المَوْقُوفُ عليه. لم تَصِرْ أمَّ وَلَدٍ له بذلك؛ لأَنها أجْنَبِيَّة. فصل: [فإن أعْتَقَ العَبْدَ الموْقُوفَ] (¬1)، لم يَنْفُذْ عِتْقُه؛ لأنَّه يَتَعَلَّقُ به حَقُّ غيرِه، ولأنَّ الوَقْفَ لازِم، فلا يَتَمكَّنُ مِن إبْطالِه. فإن كان نِصْفُ العَبْدِ وَقْفًا ونِصْفُه طَلْقًا، فأعْتَقَ صاحِبُ الطَّلْقِ، لم يَسْرِ عِتْقُه إلى الوَقْفِ؛ لأَنه إذا لم يَعْتِقْ بالمُباشَرَةِ فبالسِّرايَةِ أوْلَى. ¬

(¬1) في الأصل، م: «أعتقها».

2574 - مسألة: (وإن وطئها أجنبي بشبهة، فالولد حر)

وَإنْ وَطِئَهَا أجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ، فَأتَتْ بِوَلَدٍ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَعَلَيهِ الْمَهْرُ لأهْلِ الْوَقْفِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ. وإنْ تَلِفَت، فَعَلَيهِ قِيمَتُهَا، يُشْتَرَى بِهَا مِثْلُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2574 - مسألة: (وإن وَطِئَها أجْنَبِيّ بشُبْهَةٍ، فالوَلَدُ حُر) لاعْتِقادِه أنَّه يَطَأ في مِلْكِه، وإن كان الواطِئ عَبْدًا (وعليه المَهْرُ لأهْلِ الوَقْف) لأنَّه وَطِيء جارِيَتَهم في غيرِ مِلْكٍ، أشْبَهَ الأمَةَ المُطْلَقَةَ، وتجِبُ قِيمَتُه؛ لأنَّه كان مِن سَبِيله أن يكونَ مَمْلُوكًا، فمنَعَه اعْتِقادُ الحُرِّيةِ مِن الرِّقِّ، فوَجَبَتْ قِيمَتُه، يُشْتَرَى بها عَبْدٌ يكونُ وَقْفًا، وتُعْتَبَرُ قِيمَتُه يومَ تَضَعُه حَيًّا؛ لأَنه لا يُمْكِنُ تَقْويمُه قبلَ ذلك. وإن وَطِئَها مُكْرَهَةً أو طاوَعَتْه، فعليه الحَدُّ إذا انْتَفَتِ الشُّبْهَةُ، والمَهْرُ لأهْلِ الوَقْفِ؛ لأنَّه وَطِيء جارِيةَ غيرِه، ويكونُ وَلَدُها وَقْفًا معها؛ لأَنه تَبَع لها. 2575 - مسألة: (وإن تَلِفَتْ، فعليه قِيمَتُها، يُشْتَرَى بها مِثْلُها) سواء أتْلَفَها أجْنَبِي أو الواقفُ، كما لو أتْلَفَ غيرَ الوَقفِ. وإن أتْلَفَه المَوْقُوفُ عليه، فعليه قِيمَتُه أيضًا، يُشْتَرَى بها مِثْلُه

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ قِيمَةَ الْوَلَدِ هَهُنَا، وَلَا يَلْزَمُهْ قِيمَتُهُ إِنْ أَوْلَدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقُومُ مَقامَه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في رَقَبَتِه، إنَّما له نَفْعُه (ويَحْتَمِلُ أن يمْلِكَ) المَوْقُوفُ عليه (قِيمَةَ الوَلَدِ) فيما إذا وَطِئَها أجْنَبِيٌّ بشبْهَةٍ، فأتَتْ بوَلَدٍ (ولا يَلْزَمُه قِيمَتُه إن أوْلَدَها) لذلك.

2576 - مسألة: (وله تزويج الأمة وأخذ مهرها، وولدها وقف معها. ويحتمل أن يملكه)

وَلَهُ تَزْويجُ الْجَارِيَةِ وَأَخْذُ مَهْرِهَا، وَوَلَدُهَا وَقْفٌ مَعَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2576 - مسألة: (وله تَزْويجُ الأمَةِ وأخْذُ مَهْرِها، ووَلَدُها وَقْفٌ معها. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَه) يجوزُ للمَوْقُوفِ عليه تَزْويجُ الأمَةِ المَوْقُوفةِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعَتِها، أشْبَهَ الإِجارَةَ، ولأنَّ المَوْقُوفَ عليه لا يَمْلِكُ اسْتِيفاءَ هذه المَنْفَعَةِ، فلا يتضَرَّرُ بتَمْلِيكِ غيرِه إيّاها، والمَهْرُ للمَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّه بَدَلُ نَفْعِها، أشْبَهَ الأُجْرَةَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ تَزْويجُها؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعَتِها في العُمُرِ، فيُفْضِي إلى تَفْويتِ مَنْفَعَتِها في حَقِّ البَطْنِ الثانِي، ولأنَّ النِّكاحَ يتعَلَّقُ به حُقُوقٌ؛ مِن وُجُوبِ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِن اسْتِمْتاعِها، ومَبِيتِها عندَه، فتَفُوتُ خِدْمَتُها في اللَّيلِ على البَطْنِ الثانِي. فإن طَلَبَتِ التَّزْويجَ وَجَب تَزْويجُها؛ لأنَّه حَقٌّ لها طَلَبَتْه، فتَعَيَّنَتَ الإِجابَةُ إليه، وما فات مِن الحَقِّ به، يَفُوتُ تَبَعًا لإِيفائِها حَقَّها، فلا يكونُ مانِعًا

2577 - مسألة: (وإن جنى الوقف خطأ، فالأرش على الموقوف

وَإِنْ جَنَى الْوَقْفُ خَطَأً، فَالأَرْشُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيهِ. وَيَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن تَزْويجِها، كغيرِ المَوْقُوفَةِ إذا طَلَبتْ ذلك. وإذا زَوَّجَها فوَلَدَتْ مِن الزَّوْجِ، فوَلَدُها وَقْفٌ معها؛ لأنَّ وَلَدَ كلِّ ذاتِ رَحِمٍ حُكْمُه حُكْمُها؛ كأُمِّ الوَلَدِ، والمُكَاتَبَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ المَوْقُوفُ عليه وَلَدَها؛ لأنَّه مِن نَمائِها. 2577 - مسألة: (وإن جَنَى الوَقْفُ خَطَأً، فالأَرْشُ على المَوْقُوفِ

أَنْ يَكُونَ في كَسْبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ في كَسْبِه) إذا جَنَى الوَقْفُ جنايَةً مُوجِبَةً للمالِ، لم يتَعَلَّقْ أَرشُها برَقَبَتِه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ بَيعُها، ويَجِبُ أرشُها على المَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّه مِلْكُه تَعَذَّرَ تَعَلُّقُ أَرْشِه برَقَبَتِه، فكان على مالِكِه، كجِنايَةِ أُمِّ الوَلَدِ. ولا يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن قِيمَتِه، كأُمِّ الوَلَدِ. فإن قُلْنا: إنَّ الوَقْفَ لا يُمْلَكُ. فالأَرْشُ في كَسْبِه؛ لأنَّه تَعَذَّرَ تَعَلُّقُه برَقَبَتِه، لكَوْنِها لا تُباعُ، وبالمَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُه، فكان في كَسْبِه، كالحُرِّ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ في بَيتِ المالِ، كأَرْشِ جِنايَةِ الحُرِّ المُعْسِرِ. قال شيخُنا (¬1): وهذا احْتِمالٌ ضَعِيفٌ؛ فإنَّ الجِنايَةَ إنَّما تكونُ في بَيتِ المالِ في صُورَةٍ تَحْمِلُها العاقِلَةُ عندَ عَدَمِها، وجِنايَةُ العَبْدِ لا تَحْمِلُها العاقِلَةُ. وإن كان الوَقْفُ على المَساكِينِ، فيَنْبَغِي أن يكونَ الأَرْشُ في كَسْبِه؛ لأنَّه ليس له مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إيجابُ الأَرْشِ عليه، ولا يُمْكِنُ تَعَلُّقُه برَقَبَتِه، فتَعَيَّنَ في كَسْبِه. ويَحْتَمِلُ أن يَكونَ في بَيتِ المالِ. وإن جَنَى جِنايَةً تُوجِبُ القِصاصَ، وَجَب، سواءٌ كانت على المَوْقُوفِ عليه أو على غيرِه. فإن قُتِل بَطَل الوَقْفُ فيه، وإن قُطِع كان باقِيه وَقْفًا, كما لو تَلِف بفِعْلِ اللهِ تعالى. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن جُنِيَ على الوَقْفِ جِنايَةٌ مُوجِبَةٌ للمالِ، وَجَبَ؛ لأنَّ مالِيَّتَهَ لم تَبْطُلْ، ولو بَطَلَتْ مالِيَّتُه لم يَبْطُلْ أَرْشُ الجِنايَةِ عليه، فإنَّ الحُرَّ يَجِبُ أَرْشُ الجنايَةِ عليه. فإن قُتِل وَجَبَتْ قِيمَتُه، وليس للمَوْقُوفِ عليه العَفْوُ عنها؛ لأنَّه لا يَخْتَصُّ بها، ويُشْتَرَى بها (¬1) مثلُ المَجْنِيِّ عليه يكونُ وَقْفًا. وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ المَوْقُوفُ. عليه بالقِيمَةِ إن قُلْنا: إنَّه يَمْلِكُ المَوْقُوفَ؛ لأنَّها بَدَلُ مِلْكِه. ولَنا، أنَّه مِلْكٌ لا يَخْتَصُّ به، فلم يَخْتَصَّ بِبَدَلِه، كالعَبْدِ المُشْتَرَكِ والمَرْهُونِ، وبَيانُ عَدَمِ الاخْتِصاصِ ظاهِرٌ، فإَّنه يتعَلَّقُ به حَقُّ البَطْنِ الثاني، فلم يَجُزْ إبْطالُه، ولا نَعْلَمُ قَدْرَ ما يَسْتَحِقُّ هذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه فيَعْفُو عنه، فلم يَصِحَّ العَفْوُ عن شيءٍ منه, كما لو أتْلَفَ رجلٌ رَهْنًا، أُخِذَتْ منه قِيمَتُه فجُعِلَتْ رَهْنًا، ولم يَصِحَّ عَفْوُ واحِدٍ منهما عنه. وإن كانتِ الجنايَةُ عَمْدًا مَحْضًا مِن مُكافِئٍ له، فالظّاهِرُ أنَّه لا يَجِبُ القِصاصُ، لأنَّه مَحَلٌّ لا يَخْتَصُّ به (¬1) المَوْقُوفُ عليه، فلم يَجُزْ أن يَقْتَصَّ مِن قاتِلِه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعَبْدِ المُشْتَرَكِ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يكون ذلك إلى الإِمام. فإن قُطِعَتْ يَدُ العَبْدِ أو بعضُ أطْرافِه، فله اسْتِيفاءُ القِصَاصِ؛ لأَنَّه حَقُّه (¬1) لا يُشارِكُه فيه غيرُه. وإن كان القَطْعُ لا يُوجِبُ القِصَاصَ، أو يُوجِبُه فعُفِيَ عنه، وَجَب نِصْفُ قِيمَتِه، فإن أمْكَنَ أن يُشْتَرَى بها عَبْدٌ كامِلٌ، وإلَّا اشْتُرِيَ شِقْصٌ مِن عَبْدٍ. ¬

(¬1) في م: «حق».

2578 - مسألة: (وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين، فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين)

وَإِذَا وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رَجَعَ نَصِيبُهُ إِلَى الْآخرَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2578 - مسألة: (وإذا وَقَف على ثَلاثَةٍ ثم على المَساكِينِ، فمَن مات منهم رَجَع نَصِيبُه إلى الآخَرينِ) فإذا ماتا رَجَع إلى المَساكِينِ؛ لأنَّه جَعَلَه لهم مَشْرُوطًا بانْقِراضِ الثَّلاثَةِ، فوَجَبَ اتِّباعُ شَرْطِه في ذلك، كسائِرِ شُرُوطِه، وكما لو وَقَف على وَلَدِه ثم على المَساكِينِ، فإنَّه لا يُصْرَفُ إلى المَساكِينِ شيءٌ مِن الوَقْفِ إلَّا بعدَ انْقِراضِ الوَلَدِ، كذلك ههُنا.

فَصْلٌ: وَيُرْجَعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ في قَسْمِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيهِ، وَفِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّسْويَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَإِخْرَاجِ مَنْ شَاءَ بِصِفَةٍ وَإِدْخَالِهِ بِصِفَةٍ، وَفِي النَّاظِرِ فِيهِ، وَالإِنْفَاقِ عَلَيهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (ويُرْجَعُ إلى شَرْطِ الواقِفِ في قَسْمِه على المَوْقُوفِ عليهم؛ في التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرٍ، والجَمْعِ والتَّرْتِيبِ، والتَّسْويَةِ والتَّفْضِيلِ، وإخْراجِ مَن شاء بصِفةٍ وإدْخالِه بصِفَةٍ، وفي النّاظِرِ فيه، والإِنْفاقِ عليه، وسائِرِ أحْوَالِه) لأنَّه ثَبَت بوَقْفِه، فوَجَبَ أن يُتْبَعَ فيه شَرْطُه، ولأنَّ ابْتِداءَ الوَقْفِ مُفَوَّضٌ إليه، فكذلك تَفْضِيلُه (¬1) وتَرْتِيبُه. وكذلك إن شَرَط إخْراجَ بعضِهم بصِفَةٍ ورَدَّه بصِفَةٍ، مثلَ أن يقولَ: ¬

(¬1) في الأصل: «تفصيله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن تَزَوَّجَ منهم فله، ومَن فارَقَ فلا شيءَ له. أو عكس ذلك. أو: مَن حَفِظ القُرآنَ فله، ومَن نَسِيَه فلا شيءَ له. أو: مَن اشْتَغَلَ بالعِلْمِ فله، ومَن تَرَكَه فلا شيءَ له. أو: مَن كان على مَذْهَبِ كذا فله (¬1)، ومَن خرَجَ منه فلا شيءَ له. وكذلك إن وَقَف على أوْلادِه على أنَّ للأُنْثَى سَهْمًا وللذَّكَرِ سَهْمَين، أو على حَسَبِ مِيِراثِهم، أو بالعَكْسِ، أو على أنَّ للكَبِيرِ ضِعْفَ ما للصَّغِيرِ، أو للفَقِيرِ ضِعْفَ ما للغَنِيِّ، أو عكس ذلك، أو عَيَّنَ بالتَّفْضِيلِ واحِدًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعَيَّنًا، أو وَلَدَه، وما أشْبَهَ هذا، فهو على ما قال؛ لِما ذَكَرْنا. فكلُّ هذا صَحِيحٌ، وهو على ما شَرَط. وقد رَوَى هِشامُ بنُ عُرْوَةَ، أنَّ الزُّبَيرَ جَعَل دُورَه صَدَقَةً على بَنِيه، لا تُباعُ ولا تُوهَبُ، وأنَّ للمَرْدُودَةِ مِن بَناتِه أن تَسْكُنَ غيرَ مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإنِ اسْتَغْنَتْ بزَوْجٍ فلا حَقَّ لها في الوَقْفِ (¬1). وليس هذا تَعْلِيقًا للوَقْفِ بصِفَةٍ، بل وَقْفٌ مُطْلَقٌ، والاسْتِحْقاقُ له بصِفَةٍ. وكلُّ هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. ¬

(¬1) ذكره البخاري تعليقًا، في: باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا. . . .، من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 4/ 15. ووصله الدارمي، في: باب في الوقف، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 427.

2579 - مسألة: (فإن لم يشرط ناظرا، فالنظر للموقوف عليه. وقيل: للحاكم, وينفق عليه من غلته)

فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ نَاظِرًا، فَالنَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ. وَقِيلَ: لِلْحَاكِمِ وَيُنْفِقُ عَلَيهِ مِنْ غَلَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2579 - مسألة: (فإن لم يَشْرُطْ ناظِرًا، فالنَّظَرُ للمَوْقُوفِ عليه. وقِيلَ: للحاكِمِ, ويُنْفِقُ عليه مِن غَلَّتِه) النَّظَرُ في الوَقْفِ لمَن شَرَطَه الواقِفُ؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، جَعَل وَقْفَه إلى حَفْصَةَ، تَلِيه ما عاشَتْ، ثم يَلِيه ذُو الرَّأْي مِن أهْلِها (¬1). ولأنَّ مَصْرِفَ الوَقْفِ يُتْبَعُ فيه شَرْطُ الواقِفِ، فكذلك النَّظَرُ. فإن جَعَل النَّظَرَ لنَفْسِه، جاز، وإن جَعَلَه إلى غيرِه، صَحَّ. فإن لم يَجْعَلْه إلى أحدٍ، أو جَعَلَه لإِنْسانٍ فمات، فالنَّظَرُ للمَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّه مِلْكُه يَخْتَصُّ بنَفْعِه، فكان نَظَرُه إليه، كَمِلْكِه المُطْلَقِ. ويَحْتَمِلُ أن يَنْظُرَ فيه الحاكِمُ. اخْتارَه ابنُ أبي موسى. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يكونَ ذلك مَبْنِيًّا على أنَّ المِلْكَ فيه هل يَنْتَقِلُ إلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 391. (¬2) في: المغني 8/ 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْقُوفِ عليه، أو إلى اللهِ تعالى؟ فإن قُلْنا: هو للمَوْقُوفِ عليه. فالنَّظَرُ له فيه؛ لأنَّه يَمْلِكُ عَينَه ونَفْعَه. وإن قُلْنا: هو لله تعالى. فالحاكِمُ يتَوَلّاه، ويَصْرِفُه إلى مَصارِفِه؛ لأنَّه مالُ اللهِ، فكان النَّظَرُ فيه إلى حاكِمِ المُسْلِمِين، كالوَقْفِ على المَساكِينِ. فأمّا الوَقْفُ على المَساكِينِ والمساجِدِ ونحوها، أو على مَن لا يُمْكِنُ حَصْرُهم واسْتِيعابُهم، فالنَّظَرُ فيه إلى الحاكِمِ؛ لأنَّه ليس له مالِكٌ مُعَيَّنٌ يَنْظُرُ فيه وللحاكِمِ أن يَسْتَنِيبَ فيه؛ لأنَّ الحاكِمَ لا يُمْكِنُه تَوَلِّي النَّظَرِ بنَفْسِه. فصل: ومتى كان النَّظَرُ للمَوْقُوفِ عليه، إمّا بجَعْل، الواقِفِ النَّظَرَ له، أو لكَوْنِه أحَقَّ بذلك عندَ عَدَمِ ناظِرٍ سِواه، و (¬1) كان واحِدًا مُكَلَّفًا رَشِيدًا، فهو أحَقُّ بذلك، رجلًا كان أو امْرأةً، عَدْلًا أو فاسِقًا؛ لأنَّه يَنْظُرُ لنَفْسِه، فكان له ذلك في هذه الأحْوالِ، كمِلْكِه المُطْلَقِ. ويَحْتَمِلُ أن ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُضَمَّ إلى الفاسِقِ أمِينٌ؛ حِفْظًا لأصْلِ الوَقْفِ عن البَيعِ والتَّضْيِيعِ. وإن كان الوَقْفُ لجَماعَةٍ رَشِيدِين، فالنَّظَرُ للجَمِيعِ، لكلِّ إنْسانٍ في حِصَّتِه. فإن كان المَوْقُوفُ عليه صَغِيرًا أو مَجْنُونًا أو سَفِيهًا، قام وَلِيُّه في النَّظَرِ مَقامَه، كمِلْكِه المُطْلَقِ. وإن كان النَّظَرُ لغيرِ المَوْقُوفِ عليه بتَوْلِيَةِ الواقِفِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الحاكِمِ، أو لبعضِ المَوْقُوفِ عليهم، لم يَجُزْ أن يكونَ إلَّا أمِينًا، فإن لم يكنْ أمِينًا، لم تَصِحَّ ولايتُه إن كانت مِن الحاكِمِ، وأُزِيلَتْ يَدُه. وإن وَلَّاه الواقِفُ وهو فاسِقٌ، أو كان عَدْلًا ففَسَقَ، ضُمَّ إليه أمِينٌ لحِفْظِ الوَقْفِ، ولم تَزُلْ يَدُه؛ لأنَّه أمْكَنَ الجَمْعُ بينَ الحَقَّين. ويَحْتَمِلُ أن لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَصِحَّ تَوْلِيَةُ الفاسِق، ويَنْعَزِلُ إذا فَسَق؛ لأنَّها ولايَةٌ على حَقِّ غيرِه، فنافاها الفِسْقُ, كما لو وَلَّاه الحاكِمُ، وكما لو لم يُمْكِنْ حِفْظُ الوَقفِ منه مع بَقاءِ ولايَتِه، فإنَّ يَدَه تُزالُ؛ لأنَّ مُراعاةَ حِفْظِ الوَقْفِ أهَمُّ مِن إبْقاءِ ولايةِ الفاسِقِ عليه. فصل: ونَفَقَةُ الوَقْفِ مِنِ حيثُ شَرَط الواقِفُ؛ لأنَّه لَمّا اتُّبعَ شَرْطُه في مَصْرِفِه، وَجَب اتِّباعُه في نفَقَتِه. فإن لم يَكُنْ شَرَط، فمِن غَلَّتِه؛ لأنَّ الوَقْفَ اقْتَضَى تَحْبِيسَ أصْلِه وتَسْبِيلَ نَفْعِه، ولا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بالإِنْفاقِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فهو مِن ضَرُورَتِه. وكذلك عِمارَةُ الوَقْفِ، قِياسًا على نَفَقَتِه. فإن تَعَطَّلَتْ مَنافِعُ الحَيَوانِ المَوْقُوفِ، فنَفَقَتُه على المَوْقُوفِ عليه؛ لأنَّه مِلْكُه. ويَحْتَمِلُ وُجُوبَها في بَيتِ المالِ. ويجوزُ بَيعُه، على ما نَذْكُرُه.

2580 - مسألة: (وإن وقف على ولده ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث)

وَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَهُوَ لِوَلَدِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّويَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2580 - مسألة: (وإن وَقَف على وَلَدِه ثم على المَساكِينِ، فهو لوَلَدِه الذُّكُورِ والإِناثِ) والخَناثَى (¬1) (بالسَّويَّةِ). وكذلك إن قال: وَقَفْتُ على أوْلادِي. أو: على وَلَدِ فُلانٍ. لأنَّه شَرَّكَ بينَهم، وإطْلاقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي التَّسْويَةَ, كما لو أقَرَّ لهم بشيءٍ، وكَولَدِ الأُمِّ في المِيراثِ حينَ شَرَّكَ الله تعالى بينَهم فيه فقال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬2). تَساوَوْا فيه، ولم يُفَضِّلْ بعضَهم على بعضٍ، وليس كذلك في مِيراثِ وَلَدِ الأبَوَين، ووَلَدِ الأبِ، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (¬3). ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ¬

(¬1) في م: «الحبالى». (¬2) سورة النساء 12. (¬3) سورة النساء 176.

2581 - مسألة: (ولا يدخل فيه ولد البنات، وهل يدخل فيه ولد البنين؟ على روايتين)

وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2581 - مسألة: (ولا يَدْخُلُ فيه وَلَدُ البَناتِ، وهل يَدْخُلُ فيه وَلَدُ البَنِين؟ على روايتَين) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمه اللهُ، في ذلك، فرُوِيَ عنه ما يَدُلُّ على أنَّه يكونُ وَقْفًا على أوْلادِه، وأوْلادِ بَنِيه الذُّكُورِ والإِناثِ، ما لم تَكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُه عن ذلك، دُونَ أولادِ البَناتِ. قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَرُّوذِيُّ: قلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: ما تقولُ في رجلٍ وَقَف ضَيعَةً على وَلَدِه، فمات الأوْلادُ وتَرَكُوا النِّسْوَةَ حَوامِلَ؟ فقالي: كلُّ ما كان مِن أوْلادِ الذُّكُورِ، بناتٍ كُنَّ أو بَنِين، فالضَّيعَةُ مَوْقُوفَةٌ عليهم، وما كان مِن أوْلادِ البَناتِ فليس لهم فيه شيءٌ؛ لأنَّهم مِن رجلٍ آخَرَ. ووَجْهُ ذلك أنَّ اللهَ تعالى لَمّا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1). دَخَل فيه وَلَدُ البَنِين وإن سَفَلُوا، ولَمّا قال: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. تَناوَلَ وَلَدَ البَنِين. فالمُطْلَقُ مِن كَلامِ الآدَمِيِّ إذا خَلا عن قَرِينَةٍ، يَنْبَغِي أن يُحْمَلَ على المُطْلَقِ مِن كَلامِ اللهِ تعالى، ويُفَسَّرَ بما يُفَسَّرُ به. ولأنَّ وَلَدَ الوَلَدِ وَلَدٌ، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {يَابَنِي آدَمَ} ¬

(¬1) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ و: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ارْمُوا يا بَنِي إسْماعِيلَ، فَإنَّ أَباكُمْ كَانَ رَامِيًا» (¬1). وقال: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ» (¬2). ولأنَّه لو وَقَف على وَلَدِ فُلانٍ، وهم قَبِيلةٌ، دَخَل فيه وَلَدُ البَنِين، فكذلك إذا لم يَكونُوا قَبِيلَةً. والرِّوايةُ الثانيةُ، لا يَدْخُلُ فيه وَلَدُ الوَلَدِ بحالٍ، وسواءٌ في ذلك وَلَدُ البَنِين ووَلَدُ البَناتِ. اخْتارَه القاضي وأصْحابُه؛ لأنَّ الوَلَدَ حَقِيقَةً وعُرْفًا إنَّما هو وَلَدُه لصُلْبِه، وإنَّما سُمِّيَ وَلَدُ الوَلَدِ وَلَدًا مَجازًا، ولهذا يَصِحُّ نَفْيُه، فيقالُ: ما هذا وَلَدِي، إنَّما هو وَلَدُ وَلَدِي. فأمّا وَلَدُ البَناتِ فلا يَدْخُلُون بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّهم لم يَدْخُلُوا في قَوْلِه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}. قال الشاعِرُ (¬3): بَنُونا بَنُو أبْنائِنا وبَناتُنا … بَنُوهُنَّ أبْناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب التحريض على الرمي، من كتاب الجهاد، وفي: باب قول الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ. . . .}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 4/ 45, 179، 219. وابن ماجه، في: باب الرمي في سبيل الله، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 941. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 364, 4/ 50. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من نفى رجلا من قبيلة، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 871. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 871. (¬3) نسب البيت للفرزدق. وهو في: الحماسة، لأبي تمام 1/ 274. وانظر حاشية دلائل الإعجاز 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: على (¬1) وَلَدِي لصُلْبِي. فهو آكَدُ في اخْتِصاصِه بالوَلَدِ دونَ وَلَدِ الوَلَدِ. وإن قال: على وَلَدِي، [ووَلَدِ وَلَدِي] (¬2)، ثم على المَساكِينِ. دَخَل فيه البَطْنُ الأوّلُ والثانِي، ولم يَدْخُلْ فيه (¬3) البَطْنُ الثالِثُ. وإن قال: على وَلَدِي، ووَلَدِ وَلَدِي، ووَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي. دَخَل فيه ثلاثةُ بُطُونٍ دُونَ مَنْ بعدَهم. ومَوْضِعُ الخِلافِ المُطْلَقُ، فأمّا مع وُجُودِ دَلالةٍ تَصْرِفُ إلى أحَدِ المَحْمِلَين، فإنَّه يُصْرَفُ إليه بغيرِ خِلافٍ، مثلَ أن يقولَ: على وَلَدِ فلانٍ. وهم قَبِيلَةٌ ليس فيهم وَلَدٌ مِن صُلْبه، [فإنَّه يُصْرَفُ إلى وَلَدِ الأوْلادِ بغيرِ خِلافٍ. وكذلك إن قال: على أولادِي -أو- وَلَدِي. وليس له وَلَدٌ مِن صُلْبِه] (¬4). أو قال: ويُفَضَّلُ الوَلَدُ أكْبَرُ -أو- الأفْضَلُ -أو الأعْلَمُ- على غيرِهم. ¬

(¬1) بعده في م: «ولد». (¬2) في الأصل: «وولدي». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو قال: فإذا خَلَتِ الأرْضُ مِن عَقِبِي عاد إلى المَساكِينِ. أو قال: على وَلَدِ وَلَدِي غيرِ ولَدِ البَناتِ -أو- غيرِ وَلَدِ فلانٍ. أو قال: يُفَضَّلُ البَطْنُ الأعْلَى على الثانِي. أو قال: الأعْلَى فالأعْلَى. وأشباهُ ذلك. فهذا يَصْرِف لَفْظَه إلى جميعِ نَسْلِه وعاقِبَتِه. فإنِ اقتَرَنَتْ به قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ أوْلادِه لصُلْبِه بالوَقْفِ، مثلَ أن يقولَ: على وَلَدِي لصُلْبِي. أو: الذين يَلُوننِي. ونحو هذا، فإنَّه يَخْتَصُّ بالبَطْنِ الأوَّلِ دُونَ غيرِهم. وإذا قُلْنا بتَعْمِيمِهم، إمّا للقَرِينَةِ، وإمّا لقَوْلِنا: إنَّ المُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ. ولم يكُنْ في لَفْظِه ما يَقْتَضِي تَشْرِيكًا ولا تَرْتِيبًا، احْتَملَ أن يكونَ بينَ الجميعِ على التَّشْرِيكِ؛ لأنَّهم دَخَلُوا في اللَّفْظِ دُخُولًا واحِدًا، فوَجَبَ أن يَشْتَرِكُوا فيه, كما لو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقَرَّ لهم بدَينٍ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ على التَّرْتِيبِ، على حَسَبِ التَّرْتِيبِ في المِيراثِ. وهذا ظاهِرُ كلامَ أحمدَ؛ لقولِه في مَن وَقَفَ على وَلَدِ عليِّ بنِ إسماعيلَ، ولم يَقُلْ: إن مات وَلَدُ عليِّ بنِ إسماعيلَ دُفِعَ إلى وَلَدِ وَلَدِه. فمات وَلَدُ عليِّ بنِ إسماعيلَ، وتَرَك ولَدًا، فقال: إن مات وَلَدُ عليِّ بنِ إسماعيلَ دُفِعَ إلى وَلَدِه أيضًا؛ لأنَّ هذا مِن وَلَدِ عليِّ بنِ إسماعيلَ. فجعَلَه لوَلَدِ مَن مات مِن وَلَدِ عليِّ بنِ إسماعيلَ عندَ مَوْتِ أبيه، وذلك لأنَّ وَلَدَ البَنِين لَمّا دَخَلُوا في قولِ اللهِ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. لم يَسْتَحِقَّ وَلَدُ البَنِين شيئًا مع وُجُودِ آبائِهِم، واسْتَحَقوا عندَ فَقْدِهم، كذا ههُنا. فأمّا إن وَصَّى لوَلَدِ فُلانٍ، وهم قَبِيلَةٌ، فلا تَرْتِيبَ، ويَسْتَحِقُّ الأعْلَى والأسفلُ على كلِّ حالٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن رَتَّبَ فقال: وَقَفْتُ هذا على وَلَدِي، ووَلَدِ وَلَدِي، ما تَناسَلُوا وتَعاقَبُوا، الأعْلَى فالأعْلَى -أو (¬1) - الأقْرَبُ فالأقْرَبُ -أو- الأوَّلُ فالأوَّلُ -أو- البَطْنُ الأوّلُ ثم البطْنُ الثاني -أو- على أوْلادِي، ثم على أوْلادِ أوْلادِي -أو- على أوْلادِي، فإذا انْقَرضُوا فعلى أوْلادِ أوْلادِي. [فكلُّ هذا على] (¬2) التَّرْتِيبِ، لا يَسْتَحِقُّ البَطْنُ الثاني شيئًا حتى يَنْقَرِضَ البَطْنُ الأوّلُ كلُّه. ومتى بَقِيَ واحِدٌ مِن البَطْنِ الأوّلِ كان الجميعُ له؛ لأنَّ الوَقْفَ ثَبَت بقولِه، فيُتْبَعُ فيه (¬3) مُقتَضَى كلامِه. وإن قال: على أوْلادِي وأوْلادِ هم، ما تَعاقَبُوا وتَناسَلُوا، على أنَّه مَن مات منهم عن وَلِدٍ كان ما كان جارِيًا عليه جارِيًا على وَلَدِه. كان دَلِيلًا على التَّرْتِيبِ؛ لأنَّه لو اقْتَضَى التَّشْرِيكَ لاقْتَضَى التَّسْويةَ، ولو جَعَلْنا لوَلَدِ الوَلَدِ سَهْمًا مثلَ سَهْمِ أبِيه، ثم دَفَعْنا إليه سهْمَ أبِيه، صار له سَهْمان، ولغيرِه سهْمٌ، وهذا يُنافِي التَّسْويةَ، ولأنَّه يُفْضِي إلى تَفْضِيلِ وَلَدِ الابْنِ على الابْنِ، والظاهِرُ مِن إرادَةِ الواقِفِ خِلافُ هذا. فإذا ثَبَت التَّرْتِيبُ فإنَّه تَرْتِيبٌ بينَ كلِّ والدٍ ووَلَدِه، وإذا مات عن وَلَدٍ انْتقَلَ إلى وَلَدِه سَهْمُه، سواءٌ بَقِيَ مِن البَطنِ الأوّلِ أحَدٌ أو لم يَبْقَ. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «فعلى هذا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن رَتَّبَ بعضَهم دُونَ بعضٍ، فقال: وقَفْتُ على وَلَدِي ووَلَدِ وَلَدِي، ثم على أوْلادِهم. أو: على أوْلادِي، ثم على أوْلادِ أوْلادِي وأوْلادِهم، ما تَناسَلُوا وتعاقَبُوا. أو قال: على أوْلادِي وأوْلادِ أوْلادِي، ثم على أوْلادِهم وأوْلادِ أوْلادِهم، ما تناسَلُوا. فهو على ما قالِ، يَشتَرِكُ (¬1) مَن شَرَّكَ بينَهم بالواو المُقْتَضِيَةِ للجَمْعِ والتَّشْرِيكِ، ويُرَتَّبُ مَن رَتَّبَه بحَرْفِ التَّرْتِيبِ، ففي المسألةِ الأُولَى يَشْتَرِكُ الوَلَدُ ووَلَدُ الوَلَدِ، فإذا انقرَضُوا، صار لمَن بعدَهم. وفي الثانيةِ يَخْتَصُّ به الوَلَدُ، فإذا انْقَرضُوا، صار مُشْتَرَكًا بينَ مَن بعدَهم. وفي الثالثةِ يَشْتَرِكُ فيه البَطْنان الأوَّلان دُونَ غيرِهم، فإذا انْقَرَضُوا اشتَرَكَ فيه مَن بعدَهم. فصل: فإن قال: وَقَفْتُ على أوْلادِي، ثم على أوْلادِ أوْلادِي، على أنَّه مَن مات مِن أوْلادِي عن ولَدٍ، فنَصِيبُه لوَلَدِه -أو- فنَصِيبُه لإِخوَتِه -أو- لوَلَدِ وَلَدِه -أو- لوَلَدِ أخِيه -أو- لأخَواتِه -أو- لوَلَدِ أخَواتِه. فهو على ما شَرَطَه. وإن قال: ومَن مات منهم عن وَلَدٍ، فنَصِيبُه لوَلَدِه، ومَن مات منهم عن غيرِ وَلَدٍ، فنَصِيبُه لأهْلِ الوَقْفِ. وكان له ثلاثة بَنِين، فمات أحَدُهم عن ابْنَين، انْتَقَلَ نَصِيبُه إليهما، ثم مات الثَّاني عن غيرِ وَلَدٍ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فنَصِيبُه لأخِيه وابْنَيْ أخِيه بالسَّويَّةِ؛ لأنَّهم أهْلُ الوَقْفِ. ثم إن مات أحَدُ ابْنَيِ الابْنِ عن غيرِ وَلَدٍ، انْتقَلَ نَصِيبُه إلى أخِيه وعَمِّه؛ لأنَّهما أهْلُ الوَقْفِ. ولو مات أحَدُ البَنِين الثلاثةِ عن غيرِ وَلَدٍ، وخَلَّف أخَوَيه (¬1) وابْنَيْ أخٍ له، فنَصِيبُه لأخَوَيه دُونَ ابْنَيْ أخِيه؛ لأنَّهما ليسا مِن أهْلِ الوَقْفِ ما دام أبُوهُما حَيًّا، فإذا مات أبُوهُما صار نَصِيبُه لهما، فإذا مات الثالثُ، كان نَصِيبُه لابنَيْ أخِيه بالسَّويَّةِ، إن لم يُخَلِّفْ وَلَدًا، فإن خَلَّفَ ابْنًا واحدًا، فله نَصِيبُ أبِيه، وهو النِّصْفُ، ولابْنَيْ عَمِّه النِّصْفُ بينَهما نِصْفَين. وإن قال: مَن مات منهم عن غيرِ وَلَدٍ، كان ما كان جارِيًا عليه جاريًا على مَن هو في دَرَجَتِه. وكان الوَقْفُ مُرَتَّبًا بَطْنًا بعدَ بَطْنٍ، كان نَصيبُ المَيِّتِ عن غيرِ وَلَدٍ لأهْلِ البَطْنِ الذي هو منه، وإن كان مُشْتَرَكًا بينَ البُطُونِ كلِّها، احْتَمَلَ أن يكونَ نَصِيبُه بينَ جميعِ أهْلِ الوَقْفِ؛ لأنَّهم في اسْتِحْقاقِ الوَقْفِ سواءٌ، فكانوا في دَرَجَتِه مِن هذه الجِهَةِ، ولأنَّنا لو صَرَفْنا نَصيبَه إلى بعضِهم، أفْضَى إلى تَفْضيلِ بعضِهم على بعضٍ، والتَّشْرِيكُ يَقْتَضي التَّسْويَةَ. فعلى هذا، يكونُ وُجُودُ هذا الشَّرْطِ كعَدَمِه؛ لأنَّه لو سَكَت عنه كان الحُكْمُ كذلك. ويَحْتَمِلُ أن يَعُودَ نَصيبُه إلى سائِرِ البَطْنِ الذي ¬

(¬1) في الأصل: «إخوته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو منه؛ لأنَّهم في دَرَجَتِه في القُرْبِ إلى الجَدِّ (¬1) الذي يَجْمَعُهم، ويَسْتَوي في ذلك إخْوَتُه وبَنُو عَمِّه وبَنُو عَمِّ أبيه؛ لأنَّهم سواءٌ في القُرْبِ، ولأنَّنا لو شَرَّكْنا بينَ أهْلِ الوَقْفِ كلِّهم في نَصِيبِه، لم يَكُنْ في هذا الشَّرْطِ فائِدَةٌ، والظاهِرُ أنَّه قَصَدَ شَيئًا يُفِيدُ. فعلى هذا، إن لم يَكُنْ في دَرَجَتِه أحَدٌ، بَطَلَ هذا الشَّرْطُ، وكان الحُكْمُ فيه كما لو لم يَذْكُرْه. وإن كان الوَقْفُ على البَطْنِ الأوّلِ، على أنَّه مَن مات منهم عن وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُه إلى وَلَدِه، ومَن مات عن غيرِ وَلَدٍ انْتقَلَ نَصِيبُه إلى مَن في دَرَجَتِه، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أن يكونَ نَصِيبُه بينَ أهْلِ الوَقْفِ كلِّهم، يَتَساوَوْنَ فيه، سواءٌ كانوا مِن بَطْن واحدٍ أو مِن بُطُونٍ، وسواءٌ تَساوَتْ أنْصِباؤُهُم في الوَقْفِ أو اخْتَلَفَتْ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. والثاني، أن يكونَ لأهْلِ بَطْنِه، سواءٌ ¬

(¬1) في م: «الحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانوا مِن أهْلِ الوَقْفِ أو لم يكُونُوا، مثلَ أن يكونَ. البَطْنُ الأوَّلُ ثلاثةً، فمات أحَدُهم عن ابْنٍ، ثم مات الثاني عن ابْنَينِ، فمات أحَدُ الابْنَين وتَرَك أخاه وابْنَ عَمِّه وعَمَّه وابْنًا لعَمِّه الحَيِّ، فيكونَ نصِيبُه بينَ أخِيه وابْنَيْ عَمِّه. والثالثُ، أن يكونَ لأهْلِ بَطْنِه مِن أهْلِ الوَقفِ، فيكونَ على هذا لأخِيه وابْنِ عُمِّه الذي مات أبُوه. فإن كان في دَرَجَتِه في النَّسَبِ مَن ليس مِن أهْلِ الاسْتِحْقاقِ بحالٍ، كرجلٍ له أربعة بَنِين، وَقَف على ثلاثةٍ منهم على هذا الوَجْهِ المَذْكُورِ، وتَرَك الرابعَ، فمات أحَدُ الثّلاثةِ عن غيرِ وَلَدٍ، لم يَكُنْ للرّابعِ فيه شيءٌ؛ لأنَّه ليس مِن أهْلِ الاسْتِحْقاقِ، أشْبَهَ ابْنَ عَمِّهم. فصل: وإن وَقَف. على بَنِيه وهم ثلاثةٌ، على أنَّ مَن مات مِن فُلانٍ وفُلانٍ وأوْلادِهم عن وَلَدٍ فنَصِيبُه لوَلَدِه، وإن مات فلانٌ فنَصِيبُه لأهْلِ الوَقفِ، فهو على ما شَرَط. وكذلك إن كان بَنُون وبَناتٌ، فقال: مَن مات مِن الذُّكُورِ فنَصِيبُه لوَلَدِه، ومَن مات مِن البَناتِ فنَصِيبُها لأهْلَ الوَقفِ. فهو على ما قال. وإن قال: على أوْلادِي، على أن يُصْرَفَ إلى البَناتِ منه ألْفٌ، والباقي للبَنِين. لم يَسْتَحِقَّ البَنُون شيئًا حتى تَسْتَوْفِيَ البَناتُ الألْفَ؛ لأنَّه جَعَل للبَناتِ مُسَمًّى، وجَعَل للبَنِين الفاضِلَ عنه، والحُكمُ فيه على ما قال: لأنَّه جَعَل البَناتِ كذَوي الفُرُوضِ، وجَعَل البَنِين كالعَصَباتِ الذين لا يَسْتَحِقُّون إلَّا ما فَضَل عن ذَوي الفُرُوضِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان له ثلاثةُ بَنِينَ (¬1)، فقال: وَقَفْتُ على وَلَدِي فُلانٍ وفُلانٍ، وعلى وَلَدِ وَلَدِي. كان الوَقْفُ على الابْنَين المُسَمَّيَين، وعلى أوْلادِهما، وأوْلادِ الثالثِ، ولا شيءَ للثالثِ. وقال القاضي: يَدْخُلُ الثالثُ في الوَقْفِ. وذَكَر أنَّ أحمدَ قال في رجُلٍ قال: وَقَفْتُ هذه الضَّيعَةَ على وَلَدِي فُلانٍ وفُلانٍ، وعلى وَلَدِ ولَدِي. وله ولدٌ غيرُ هؤلاءِ، قال: يَشْتَرِكُون في الوَقْفِ. واحْتَجَّ القاضي بأنَّ قَوْلَه: وَلَدِي. يَسْتَغْرِقُ الجِنْسَ، فيَعُمُّ (¬2) الجميعَ، وقولَه: فُلانٍ وفُلانٍ. تَأْكِيدٌ لبعضِهم، ولا يُوجِبُ إخْراجَ بقِيَّتِهم، كالعَطْفِ في قَوْلِه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} (¬3). ولَنا، أنَّه أبْدَلَ بعضَ الوَلَدِ مِن اللَّفْظِ المتَناولِ للجميعِ، فاخْتَصَّ بالبعضِ المُبْدَلِ, كما لو قال: على وَلَدِي فُلانٍ. وذلك لأنَّ بَدَلَ البَعْضِ يُوجبُ اخْتِصاصَ الحُكْمِ به، كقوْلِ اللهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا} (¬4). لَمّا خَصَّ المُسْتَطِعَ بالذِّكْرِ، اخْتَصَّ الوُجُوبُ به. ولو قال: ضَرَبْت زَيدًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «فيعلم». (¬3) سورة البقرة 98. (¬4) سورة آل عمران 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَأْسَه. أو: رَأيتُ زَيدًا وَجْهَه. اخْتَصَّ الضَّرْبُ بالرَّأْسِ، والرُّؤْيَةُ بالوَجْهِ. ومنه قولُ القائِلِ: طَرَحْتُ الثِّيابَ بعضَها فوقَ بعضٍ. فإنَّ الفَوْقِيَّةَ تَخْتَصُّ بالبَعْضِ مع عُمُومِ اللَّفْظِ الأوَّلِ. كذا ههُنا. وفارَقَ العَطْفَ، فإنَّ عَطْفَ الخاصِّ على العامِّ يَقْتَضِي تَأْكِيدَه، لا تَخْصِيصَه. وكلامُ أحمدَ: هم شُرَكاءُ. يَحْتَمِلُ أن يَعُودَ إلى أوْلادِ أوْلادِه، أي يَشْتَرِكُ أوْلادُ المَوْقُوفِ عليهما وأوْلادُ غيرِهما؛ لعُمُومِ لَفْظِ الواقِفِ فيهم، ويتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلامِه عليه؛ لقِيامِ الدَّليلِ عليه. ولو قال: على وَلَدِي فُلانٍ وفُلانٍ، ثم على المَساكِينِ. خُرِّجَ فيه مِن الخِلافِ مثلُ ما ذكَرْنا. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَدْخُلَ في الوَقْفِ وَلَدُ ولَدِه؛ لأنَّنا قد ذَكَرْنا مِن قبلُ أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ أنَّ قولَه: وَقَفْتُ على وَلَدِ وَلَدِي. يتَناوَلُ نَسلَه وعاقِبَتَه كلَّها. فصل: ومَن وَقَف على أوْلادِه أبي أوْلادِ غيرِه، وله حَمْلٌ، لم يَسْتَحِقَّ شيئًا قبلَ انْفِصالِه؛ لأنَّه لم تَثْبُتْ له أحْكامُ الدُّنْيا قبلَ انْفِصالِه. وقال أحمدُ، في روايةِ جَعْفَرِ بنَ محمدٍ، في مَن وَقَف نَخْلًا على قَوْمٍ وما تَوالدُوا، ثم ¬

(¬1) في: المغني 8/ 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُلِد مَوْلُودٌ: فإن كانتِ النَّخْلُ قد أُبِّرَتْ، فليس له فيه شيءٌ، وهو للأولِ، وإن لم تَكُنْ قد أُبِّرَتْ، فهو معهم. وإنَّما قال ذلك لأنَّها قبلَ التَّأْبِيرِ تَتْبَعُ الأصْلَ في البَيعِ، وهذا المَوْجُودُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَه مِن الأصْلِ، فتَتْبَعُه حِصَّتُه مِن الثَّمرَةِ, كما لو اشْتَرَى ذلك النَّصِيبَ مِن الأصْلِ، وبعدَ التَّأْبيرِ لا تَتْبَعُ الأصْلَ، ويَسْتَحِقُّها مَن كان له الأصْلُ، فكانت للأولِ، لأنَّ الأصْلَ كان كلُّه له، فاسْتَحَقَّ ثَمَرَتَه, كما لو باعَ هذا النَّصِيبَ منها، ولم يَسْتَحِقَّ المَوْلُودُ منها شيئًا، كالمُشْتَرِي. وهكذا الحُكْمُ في سائِرِ الثَّمَرِ الظاهِرِ على الشَّجَرِ، لا يَسْتَحِقُّ المَوْلُودُ منه شيئًا، ويَسْتَحِقُّ مِمّا ظَهَر بعدَ ولادَتِه. وإن كان الوَقْفُ أرْضًا فيها زَرْعٌ يَسْتَحِقُّه البائِعُ، فهو للأوّلِ. وإن كان مِمّا يَسْتَحِقُّه المُشْتَرِي، فللمَوْلُودِ حِصَّتُه منه؛ لأنِّ المَوْلُودَ يَتَجَدَّدُ اسْتِحْقاقُه للأصْلِ كتَجَدُّدِ مِلْكِ المُشْتَرِي فيه.

2582 - مسألة: (وإن وقف على عقبه، أو ولد ولده، أو ذريته)

وَإِنْ وَقَفَ عَلَى عَقِبِهِ، أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ، أَوْ ذُرِّيَّتِهِ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ. وَنُقِلَ عَنْهُ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَنُقِلَ عَنْهُ في الْوَصِيَّةِ، يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَذَهَبَ إِلَيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2582 - مسألة: (وإن وَقَف على عَقِبِه، أو وَلَدِ وَلَدِه، أو ذُرِّيَّتِه) أو نَسْلِه (دَخَلَ فيه وَلَدُ البَنِين) بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وأمّا وَلَدُ البَناتِ، فقال الخِرَقِيُّ: لا يَدْخلُون فيه. وقد قال أحمدُ، في مَن وَقَف على وَلَدِه: ما كان مِن وَلَدِ البَناتِ، فليس لهم فيه شيءٌ. فهذا النَّصُّ يَحْتَمِلُ أن يُعَدَّى إلى هذه المسْألةِ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ مَقْصُورًا (¬1) في مَن وَقَف على وَلَدِه ولم يَذْكُر وَلَدَ وَلَدِه. وممَّن قال: لا يَدْخُلُ وَلَدُ البَناتِ في الوَقْفِ الذي على أوْلادِه وأوْلادِ أولادِه؛ مالكٌ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ. وكذلك إذا قال: على ذُرِّيَّتِه ونَسْلِه. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّهم يَدْخُلُون في الوَصِيَّةِ، ¬

(¬1) في م: «مقصودًا».

وَقَال أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ حَامِدٍ، رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالى: يَدْخُلُونَ في الْوَقْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَهَب إليه بعضُ أصْحابِنا. وهذا مثلُه (وقال أبو بكر، وابنُ حامدٍ) يَدْخُلُ فيه وَلَدُ البَناتِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ؛ لأنَّ البَناتِ أوْلادُه، فأوْلادُهُنَّ أوْلادُ أوْلادِه حَقِيقَةً، فيَجِبُ أن يَدْخُلُوا في اللَّفْظِ؛ لتَناوُلِه لهم، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {وَنُوحًا هَدَينَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ}. إلى قوله: {وَعِيسَى} (¬1). وهو وَلَدُ بِنْتِه، فجَعَلَه مِن ذُرِّيَّتِه، ولذلك ذَكَر اللهُ تعالى قِصَّةَ إبراهيمَ وعيسى وموسى وإسماعيلَ وإدْرِيسَ، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} (¬2). وعيسى معهم، ولَمّا قال اللهُ تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} (¬3). دَخَل في التَّحْرِيمِ حَلائِلُ أبناءِ البَناتِ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هذا ¬

(¬1) سورة الأنعام 84، 85. (¬2) سورة مريم 58. (¬3) سورة النساء 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَيِّدٌ» (¬1). ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى، أنَّهم لم يَدْخُلُوا في قولِ اللهِ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬2). ولأنَّه لو وَقَف على وَلَدِ فُلانٍ وقد صاروا قَبِيلةً، دَخَل فيه ولَدُ البَنِين دُونَ ولَدِ البَناتِ، وكذلك قبلَ أن يَصِيرُوا قَبِيلَةً؛ لأنَّ وَلَدَ البَناتِ مَنْسُوبُونَ إلى آبائِهم دُونَ أُمَّهاتِهم، قال الشاعرُ: بَنُونا بَنُو أبْنائِنا وبَناتُنا … بَنُوهنَّ أبْناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 288. (¬2) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولُهم: إنَّهم أوْلادُ أوْلادِه حَقِيقَةً. قُلْنا: [إنَّهم لا] (¬1) يَنْتَسِبُونَ إلى الواقِفِ عُرْفًا، وكذلك لو قال: أوْلاد أوْلادِي المُنْتَسِبِين إليَّ. لم يَدْخُلُوا في الوَقْفِ. ولأنَّ وَلَدَ الهاشِمِيَّةِ مِن غيرِ الهاشِمِيِّ ليس بهاشِمِيٍّ، ولا يَنْتَسِبُ إلى أبيها. وأمّا عيسى عليه السَّلامُ، فلم يَكُنْ له نَسَبٌ يَنْتَسِبُ إليه، فنُسِبَ إلى أُمِّه (¬2). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ». مجازٌ بالاتِّفاقِ، بدَلِيلِ قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬3). والقولُ بأنَّهم يَدْخَلُون أصحُّ وأقْوَى دَلِيلًا؛ لأنَّهم أوْلادُ أوْلادِه حَقِيقةً. فأمّا قِياسُهم على ما إذا كانُوا قَبِيلَةً، فيُفارِقُ ما إذا وَقَف على وَلَدِ فُلانٍ وليسُوا قَبِيلَةً؛ لأنَّه لو وَقَف على بَنِي فُلانٍ وهم قبيلةٌ، دَخَل فيه البَناتُ، بخِلافِ ما إذا وَقَف على بَنِي إنْسانٍ حَيٍّ أو مَيِّتٍ، وليسُوا قَبِيلَةً. وقِياسُهم على ما إذا قال: وَقَفْتُ على وَلَدِ ولَدِي المُنْتَسِبِين إليَّ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّهم خَرَجُوا مِن الوَقْفِ لكَوْنِهم لا يَنْتَسِبُون. وباقِي الأدِلَّةِ ضَعِيفةٌ جِدًّا. ¬

(¬1) في م: «لأنهم». (¬2) في م: «الله». (¬3) سورة الأحزاب 40.

2583 - مسألة: فإن قال: (على ولد ولدى لصلبي)

إلا أَنْ يَقولَ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي لِصُلْبِي فَلَا يَدْخُلُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2583 - مسألة: فإن قال: (على وَلَدِ ولَدِى لصُلْبِي) أو - المُنْتَسِبين إليَّ. لم يَدْخُلْ وَلَدُ البَناتِ. والخِلافُ إنَّما هو إذا لم يُوجَدْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَدُلُّ على تَعْيِينِ أحَدِ الأمْرَين، فأمّا إن وُجِد ما يَصْرِفُ اللَّفْظَ إلى أحَدِهما انْصَرفَ إليه. فلو قال: على أوْلادِي، وأوْلادِ أوْلادِي، على أنَّ لوَلَدِ البَناتِ سَهْمًا، ولوَلَدِ البَنِين سَهْمَين. أو قال: فإذا خَلَتِ الأرْضُ ممَّن يَرْجِع نَسَبُه إليَّ. مِن قِبَلِ أبٍ أو أُمٍّ، كان للمَساكِينِ. أو كان البَطْنُ الأوّلُ مِن أوْلادِه المَوْقوفِ عليهم كلُّهم بَناتٌ، ونحوُ هذا ممّا يَدُلُّ على إرادَةِ وَلَدِ البَناتِ بالوَقْفِ، دَخَلُوا في الوَقْفِ. وإن قال: على أوْلادِي، وأوْلادِ أوْلادِي المُنْتَسِبِين إليَّ (¬1) -أو- غيرِ ذَوي الأرْحام. أو نحو ذلك. لم يَدْخُلْ فيه وَلَدُ البَناتِ. وإن قال: على وَلَدِي فُلانٍ وفُلانةَ وفُلانةَ، وأوْلادِهم. دَخَل فيه وَلَدُ البَناتِ. وكذلك إن قال: علَى أنَّ مَن مات منهم عن وَلَدٍ فنَصِيبُه لوَلَدِه. وإن قال الهاشِمِيُّ: وَقَفْت على أوْلادِي، وأوْلادِ أوْلادِي الهاشِمِيِّين, لم يَدْخُلْ في الوَقْفِ مِن أوْلادَ بَناتِه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن كان غيرَ هاشِمِيٍّ. فأمّا مَن كان هاشِمِيًّا مِن غيرِ أوْلادِ بَنِيه، فهل يَدْخُلُون؟ على وَجْهَين؛ أَوْلاهما (¬1)، أنَّهم يَدْخُلُون؛ لأنَّه اجْتَمَعَ فيهم الصِّفَتان جميعًا، كَوْنُهم مِن أوْلادِ أوْلادِه, وكَوْنُهم هاشِمِيِّين. والثاني، لا يَدْخُلُون؛ لأنَّهم لم يَدْخُلُوا في مُطْلَقِ أوْلادِ أوْلادِه، فأشْبَهَ ما لو لم يَقُل: الهاشِمِيِّين. وإن قال: على أوْلادِي، وأوْلادِ أوْلادِي، ممَّن يُنْسَبُ إلى قَبِيلَتِي. فكذلك. ¬

(¬1) في م: «أولهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُسْتَحَبُّ أن يَقْسِمَ الوَقْفَ على أوْلادِه على حَسَبِ قِسْمَةِ اللهِ تعالى المِيراثَ بينَهم، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيين. وقال القاضي: المُسْتَحَبُّ التَّسْويَةُ بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى؛ لأنَّ القَصْدَ القُرْبَة على وَجْهِ الدَّوامِ، وقد اسْتَوَوْا في القَرابَةِ. ولَنا، أنَّه إيصالٌ للمالِ إليهم، فيَنْبَغِي أن يكونَ بينَهم على حَسَب المِيراثِ، كالعَطِيَّةِ، ولأنَّ الذَّكَرَ في مَظِنَّةِ الحاجَةِ أكْثَرَ مِن الأُنْثَى؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما في العادَةِ يتَزوَّجُ، ويكونُ له الوَلَدُ، فالذَّكَرُ تَجِبُ عليه نَفَقةُ امْرَأتِه وأوْلادِه، والمرأةُ يُنْفِقُ عليها زَوْجُها، ولا تَلْزَمُها نَفَقةُ أوْلادِها، وقد فَضَّلَ الله تعالى الذَّكَرَ على الأُنْثَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المِيراثِ على وَفْقِ هذا المَعْنَى، فيَصِحُّ تَعْلِيلُه به، ويتَعَدَّى إلى الوَقْفِ والعَطايا والصِّلاتِ. وما ذَكَرَه القاضي لا أصْلَ له، وهو مُلْغًى بالمِيراثِ والعَطِيَّةِ. وإن خالفَ فسَوَّى بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى، أو فَضَّلَها عليه، أو فَضَّلَ بعضَ البَنِين أو بعضَ البَناتِ على بعضٍ، أو خَصَّ بعضَهم بالوَقْفِ دُونَ بعض، فقال أحمدُ، في رِوايةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ: إن كان على طَرِيقِ الأثَرَةِ، فأكْرَهُه، وإن كان على أنَّ بعضَهم له عِيالٌ وبه حاجَةٌ. يَعْنِي فلا بَأْسَ به. ووَجْهُ ذلك أنَّ الزُّبَيرَ خَصَّ المَرْدُودَةَ مِن بَناتِه دُونَ المُسْتَغْنِيةِ مِنْهُنَّ بصَدَقَتِه (¬1). وعلى قياسِ قولِ أحمدَ، لو خصَّ المُشْتَغِلين بالعِلْمِ مِن أوْلادِه بوَقْفِه، تَحْرِيضًا لهم على [طَلَبِ العِلْمِ] (¬2)، أو ذا الدِّينِ دُونَ الفُسّاقِ، أو المريضَ، أو مَن له فَضِيلَةٌ مِن أجْلِ فَضِيلَتِه، فلا بَأْسَ. وقد دَلَّ على ذلك أنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ الله عنه، نَحَل عائِشةَ جِذاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا دُونَ سائِرِ وَلَدِه (¬3). وحَدِيثُ عُمَرَ، أنَّه كَتَب: ¬

(¬1) غدم تخريجه في صفحة 442. (¬2) في م: «طلبه». (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النحل، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 752.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بسمِ اللهِ الرَّحَمن الرَّحِيم، هذا ما أوْصَى به عبدُ اللهِ عُمَرُ أمِيرُ المُؤمِنِين، إن حَدَث به حَدَثٌ، أنَّ ثَمْغًا و [صِرْمَةَ بنَ الأَكْوَعِ] (¬1) و (¬2) العَبْدَ الَّذي فيه، والمائةَ سَهْم التي بخَيبَرَ، ورَقِيقَه الَّذي فيه، الَّذي أطْعَمَه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالوادِ، تَلِيه حَفْصَةُ ما عاشَتْ، ثم تَلِيه ذُو الرَّأْي مِن أهْلِها، أن لا يُباعَ ولا يُشْتَرَى، يُنْفِقُه حيثُ رَأى مِن السائِلِ والمَحْرُومِ وذَوي القُرْبَى، لا حَرَجَ على مَن وَلِيَه إن أكَلَ أو آكَلَ أو اشْتَرَى رَقِيقًا منه. رَواه أبو دَاوُدَ (¬3). فيه دَلِيلٌ على تَخْصِيصِ حَفصَةَ دُونَ إخوَتِها وأخَواتِها. ¬

(¬1) صرمة بن الأكوع: مال كان لعمر بن الخطاب في المدينة وقفه. والصرمة هي القطعة الخفيفة من النخل. وقيل من الإِبل. (النهاية لابن الأثير 3/ 26). (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 400.

2584 - مسألة: (وإن وقف على بنيه، أو بني فلان فهو للذكور خاصة)

وَإنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ، أَوْ بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ لِلذُّكُورِ خَاصَّةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2584 - مسألة: (وَإنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ، أَوْ بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ لِلذُّكُورِ خَاصَّةً) دُونَ الإِناثِ والخَناثَى عندَ الجُمْهُورِ. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الحَسَنُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ: هو للذَّكَرِ والأُنْثَى جميعًا؛ لأنَّه لو وَقَفَ على بَنِي فُلانٍ، أو أوْصَى لهم، وهم قَبِيلَة، دَخَل فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى. وقال الثَّوْرِيُّ: إن كانوا ذُكُورًا وإناثًا، فهو بينَهم، وإن كُنَّ إناثًا لا ذَكَرَ معَهُنَّ، فلا شيءَ لهُنَّ؛ لأنَّه متى اجْتَمَعَ الذُّكُورُ والإِناثُ، غَلَب لَفْظُ التَّذْكِيرِ، ودَخَل فيه الإناثُ، كلَفْظِ المُسْلِمين. ولَنا، أنَّ لَفْظَ البَنِين يَخْتَصُّ الذُّكُورَ، قال الله تَعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (¬1). وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَكُمْ بِالْبَنِينَ} (¬2). وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (¬3). وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا} (¬4). وقد أخْبَر أنَّهم لا يَشْتَهُون البَناتِ، فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلّه الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم ما يَشْتَهُونَ} (¬5). وإنَّما دَخَلُوا في الاسْمِ إذا صاروا قَبِيلةً؛ لأنَّ ¬

(¬1) سورة الصافات 153. (¬2) سورة الزخرف 16. (¬3) سورة آل عمران 14. (¬4) سورة الكهف 46. (¬5) سورة النحل 57.

2585 - مسألة: (إلا أن يكونوا قبيلة، فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم)

إلا أن يَكُونُوا قَبِيلَةً، فَيَدْخُلَ فِيهِ النِّسَاءُ دُونَ أَولَادِهِنَّ مِنْ غَيرِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْمَ نُقِل فيهم عن الحَقِيقَةِ إلى العُرْفِ، ولهذا تقولُ المرأةُ: أنا مِن بَنِي فُلانٍ إذا انْتَسَبَتْ إلى القَبِيلَةِ، ولا تقولُ ذلك إذا انْتَسَبَتْ إلى أبِيها. فأمّا إن وَقَف على بَناتِه، أو وَصَّى لهُنَّ، دَخَل فيه البَناتُ دُونَ غيرِهِنَّ، ولا يَدْخُلُ فيهِنَّ الخُنْثَى المُشْكِلُ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كونُه أُنْثَى. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 2585 - مسألة: (إلَّا أن يكونوا قَبِيلَة، فيَدْخُلُ فيه النِّساءُ دُونَ أوْلادِهِنَّ مِن غيرِهم) أمّا إذا وَقَف على بَنِي فُلانٍ، أو وَلَدِ فُلانٍ، وهم قَبِيلَةٌ، كبَنِي هاشِمٍ، وتَمِيمٍ، فإنَّه يَدْخُلُ فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى والخُنْثَى، ويَدْخُلُ وَلَدُ الرجلِ معه، ولا يَدْخُلُ فيه وَلَدُ بَناتِهم مِن غيرِهم؛ لأنَّ اسْمَ القَبيلَةِ يَشْتَمِلُ ذَكَرَها وأُنْثَاها، قال اللهُ تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} (¬1). {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬2) يُرِيدُ الجَمِيعَ. ورُوِيَ أنَّ جَوارِيَ بَنِي النَّجّارِ قُلْنَ: ¬

(¬1) سورة الأعراف 26، 27، 31، 35. (¬2) سورة الإسراء 70.

2586 - مسألة: (وإن وقف على قرابته، أو قرابة فلان، فهو للذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتجاوز بسهم ذوي القربى)

وَإنْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ، أوْ قَرَابَةِ فُلَانٍ، فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى مِنْ أوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ، لِأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَجَاوَزْ بِسَهْمِ ذَوي الْقُرْبَى بَنِي هَاشِمٍ. وَعَنْهُ، إِنْ كَانَ يَصِلُ قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ في حَيَاتِهِ صُرِفَ إِلَيهِمْ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ نحنُ جَوارٍ مِن بَنِي النَّجارِ … يا حَبَّذا محمدٌ مِن جارِ (¬1) ويقال: امْرَأةٌ مِن بَنِي هاشِمٍ. ولا يَدْخُلُ ولَدُ البَناتِ فيهم؛ لأنَّهم لا يَنْتَسِبُون إلى القَبِيلةِ. 2586 - مسألة: (وَإنْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ، أوْ قَرَابَةِ فُلَانٍ، فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى مِنْ أوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ، لِأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَجَاوَزْ بِسَهْمِ ذَوي الْقُرْبَى) وجُمْلة ذلك، أنَّ الرجل إذا وَقَف على قَرابَتِه أو قَرابَةِ فُلانٍ، صُرِف الوَقْفُ إلى الذَّكَرِ والأُنْثَى مِن أوْلادِه وأوْلادِ أبِيه وجَدِّه وجَدِّ أبِيه، ويَسْتَوي فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، ولا يَنْصَرِفُ ¬

(¬1) انظر: سبل الهدى والرشاد 3/ 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى مَن هو أَبْعَدُ منهم شيءٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمّا قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬1). يَعْنِي قُرْبَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أعْطَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أوْلادَه وأوْلادَ عبدِ المُطَّلِبِ وأوْلادَ هاشِمٍ، ذكَرَهم وأُنْثاهم، ولم يُعْطِ مَن هو أَبعدُ منهم، كبَنِي عبدِ شَمسٍ وبَنِي نَوْفِلٍ شيئًا، إلَّا أنَّه أعْطَى بَنِي المُطَّلِبِ بنِ عبدِ مَنافٍ، وعَلَّلَ عَطِيَّتَهَم بأنَّهم لم يُفارِقُوا بَنِي هاشِم في جاهِلِيَّةٍ ولا إسْلَام (¬2). ولم يُعْطِ قَرابةَ أُمِّه، وهم بَنُو زُهْرَةَ شيئًا، ولم يُعْطِ منهم إلَّا مُسْلِمًا. فَحُمِل مُطْلَقُ كلامِ الواقِفِ على ما حُمِل عليه المُطْلَقُ مِن كلام الله تعالى، وفُسِّرَ بما فُسِّرَ به. ويُسَوَّى بينَ قَرِيبِهم وبعيدِهم، وذَكَرِهم وأُنْثاهم؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهم، وبينَ الكَبِيرِ والصَّغِيرِ، والغَنِيِّ والفَقِيرِ؛ لذلك. ولا يَدْخُلُ فيه الكُفّارُ؛ لأنَّهم لم يَدْخلوا في المُسْتَحِقِّ مِن قُرْبَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. ¬

(¬1) سورة الحشر 7. (¬2) انظر ما تقدم في 7/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد نَقَل عبدُ اللهِ، وصالِحٌ، عن أبِيهما رِوايةً أُخْرَى، أنَّه يُصْرَفُ إلى قَرابَةِ أُمِّه، إن كان يَصِلُهم في حَياتِه؛ كإخْوَتِه مِن أُمِّه، وأخْوالِه، وخَالاتِه، وإن كان لا يَصِلُهم في حَياتِه، لم يُعْطَوْا شيئًا؛ لأنَّ صِلَتَه إيّاهم في حَياتِه قَرِينة دالَّة على إرادَتِهم بصِلَتِه هذه. وعنه رِواية ثالثةٌ، أنَّه يُجاوزُ بها أرْبعةَ آباءٍ. ذَكَرَها ابنُ أبي موسى في «الإِرْشادِ»، وهي تَدُلُّ على أنَّ لَفْظَه لا يَتَقَيَّدُ بالقَيدِ الَّذي ذكَرْناه. فعلى هذا، يُعْطَي كلُّ مَن يُعْرَفُ بقَرَابَتِه مِن قِبَلِ أبيه وأُمِّهِ، الذين يَنْتَسِبُون إلى الأبِ الأدْنى. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّهم قَرابَة، فيَتَناوَلُهم الاسْمُ، ويَدْخُلُون في عُمُومِه. وإعطاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ قَرابَتِه تَخْصِيصًا لا يَمْنَع مِن العَمَلِ بالعُمُومِ في غيرِ هذا الموضِعِ. وقال أبو حنيفةَ: قَرابَتُه كلّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَم، فيُعْطَى مِن أدْناهم اثْنان فصاعِدًا، فإذا كان له عَمٌّ وخالان، أُعْطِي عَمُّه النِّصْفَ وخالاه النِّصْفَ. هكذا رُوِيَ عنه فيما إذا أوْصَى لقَرابَتِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال قَتادَةُ: للأعْمامِ الثُّلُثان، وللأخْوالِ الثُّلُثُ. وهو قولُ الحَسَنِ. قال: ويُزادُ الأقْرَبُ بعضَ الزِّيادَة. وقال مالِكٌ: يُقْسَمُ على الأقْرَبِ فالأقْرَبِ بالاجْتِهادِ. ولَنا، أنَّ هذا لَه عُرْفٌ في الشَّرْعِ، وهو ما ذَكَرْناه، فيَجِبُ حَمْلُه عليه وتَقْدِيمُه على العُرْفِ اللُّغَويِّ، كالوضوءِ والصلاةِ والصوْمِ والحَجِّ، ولا وَجْهَ لتَخْصِيصِه بذِي الرَّحِمِ المَحْرَمِ، فإنَّ اسْمَ القَرابَةِ يَقَعُ على غيرِهم عُرْفًا وشَرْعًا، وقد يُحَرَّمُ على الرجلِ رَبِيبَتُه وأُمَّهاتُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِسائِه، ولا قَرَابةَ لهم، وتَحِلُّ له ابْنةُ عَمِّه وخالِه، وهُنَّ مِن أقارِبِه، وما ذَكَرُوه مِن التَّفْضِيلِ (¬1) لا يَقْتَضِيه اللَّفْظُ، ولا يَدُلُّ عليه دَلِيلٌ، فالمَصِيرُ إليه تَحَكُّمٌ. فأمّا إن كان في لَفْظِه ما يَدُلُّ على إرادَةِ قَرابَةِ أُمِّه، كقَوْلِه: وتُفَضَّلُ قَرابَتِي مِن جِهَةِ أبِي على قَرابَتِي مِن جِهَةِ أُمِّي. أو قولِه: إلَّا ابْنَ خالتِي فُلانًا. أو نحوَ ذلك، أو قَرِينةٍ تُخْرِجُ بعضَهم، عُمِل بما دَّلَّتْ عليه القَرِينَةُ، لأنَّها تَصْرِفُ اللَّفْظَ عن ظاهِرِه إلى غيرِه. ¬

(¬1) في ر 1: «التفصيل».

2587 - مسألة: (وأهل بيته بمنزلة قرابته. وقال الخرقي: يعطى من قبل أبيه وأمه)

وَأهْلُ بَيتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَرَابَتِهِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يُعْطَى مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2587 - مسألة: (وَأهْلُ بَيتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَرَابَتِهِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يُعْطَى مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ) المَنْصُوصُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ أهْلَ بَيتِه بمَنْزِلَةِ قَرابَتِه، فإنَّه قال، في رِوايةِ عبدِ اللهِ: إذا أوْصَى بثُلُثِ مالِه لأهْلِ بَيتِه، فهو بمَثابَةِ قَوْلِه: لقَرابَتِي. وحَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، وقال: قال أحمدُ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِي ولِأَهْلِ بَيتِي» (¬1). فجَعلَ سَهْمَ ذَوي القُرْبَى لهم عِوَضًا عن الصَّدَقَةِ التي حُرِّمَت عليهم، فكان ذَوو القُرْبَى الذين سَمَّاهم اللهُ تعالى هم أهْلُ بَيتِه الَّذين حُرِّمَتْ عليهم الصَّدَقَةُ. وذَكَر حَدِيثَ زَيدِ بنِ أرْقَمَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهلِ بَيتِي». قال: قُلْنا: مَن أهْلُ بَيتِه، نِساؤُه؟ قال: لا، أصْلُه وعَشِيرَتُه الَّذين حُرِّمَتْ عليهم الصَّدَقَةُ بعدَه؛ آلُ عَلِيٍّ، وآلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيلٍ، وآلُ جَعْفَرٍ، وآلُ عَبّاس (¬1). قال القاضِي: قال ثَعْلَبٌ: أهْلُ البَيتِ عندَ العَرَبِ آباءُ الرجلِ وأوْلادُهم، كالأجْدادِ والأَعْمامِ وأوْلادِهم، ويَسْتَوي فيه الذُّكُورُ والإِناثُ. وذَكَر القاضي أنَّ أوْلادَ الرجلِ لا يَدْخُلُون في اسْمِ القَرابةِ ولا أهْلِ بَيتِه. وليس هذا بشيءٍ، فإنَّ وَلَدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن أهْلِ بَيتِه وأقارِبِه الذين حُرِمُوا الصَّدَقَةَ، وأُعْطُوا مِن سَهْمِ ذي القُرْبَى، وهُم أَقرَبُ أقارِبِه، فكيف لا يَكُونُون مِن أقارِبِه؟ وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطِمَةَ ووَلَدَيها وزَوْجِها: «اللَّهُمَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيتِي، فَأَذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» (¬2). ولو وَقَف على أقارِبِ رجلٍ، أو وَصَّى لأقارِبِه، دَخَل فيه وَلَدُه (¬3)، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. والخِرَقِيُّ قد عَدَّهُم في القَرابةِ بقَوْلِه: لا يُجاوزُ به أرْبعَةَ آبَاءٍ (¬4)؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُجاوزْ بَنِي هاشِم بسَهْمِ ذَوي القُرْبَى. فجَعلَ هاشِمًا الأبَ الرابعَ، ولا يكونُ رابعًا إلَّا أن يَعُدَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَبًا؛ لأنَّ هاشِمًا إنَّما هو رابعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ووَجْهُ قَوْلِ الخِرَقِيِّ أنَّ أُمَّه مِن أهْلِ بَيتِه، فكذلك أقارِبُها مِن أوْلادِها وأبوَيها وإخْوَتِها وأخَوَاتِها. ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، في: باب فضل من قرأ القرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدرامي 2/ 432 مختصرًا. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 367. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب فضل فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 249. والإمام أحمد، في: «المسند 6/ 292، 298، 304. (¬3) في م: «وولده». (¬4) سقط من: م.

2588 - مسألة: (وقومه ونسباؤه كقرابته)

وَقَوْمُهُ وَنُسَبَاؤُهُ كَقَرَابَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2588 - مسألة: (وَقَوْمُهُ وَنُسَبَاؤُهُ كَقَرَابَتِهِ) لأنَّ قَوْمَ الرجلِ قَبِيلَتُه، وهم نُسَباؤُه، قال الشاعرُ: فقلْتُ لها أمّا رَفِيقِي فقَوْمُه … تَمِيمٌ وأمّا أُسْرَتِي فَيمان وقال أبو بكرٍ: هو بمَثابةِ أهْلِ بَيتِه؛ لأنَّ أهْلَ بَيتِه أقارِبُه، وأقارِبُه هم قَوْمُه ونُسَباؤُه. وقال القاضِي: إذا قال: لرَحِمِي، أو لأرْحامِي،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لنُسَبائِي، أو لمُناسِبِي. صُرِف إلى قَرابَتِه مِن قِبَلِ أبِيه وأُمِّه، ويتَعَدَّى وَلَدَ الأب الخامِسِ. فعلى هذا، يُصْرَفُ إلى كلِّ مَن يَرِثُ بفَرْضٍ أو تَعْصِيبٍ أوَ بالرَّحِمِ في حالٍ مِن الأحْوالِ. قال شيخُنا (¬1): وقوْلُ أبِي بكرٍ في المُناسِبِين أوْلَى مِن قوْلِ القاضِي، لأنَّ ذلك في العُرْفِ على مَن كان مِن العَشِيرَةِ التي يَنْتَسِبان إليها، وإذا كان كلُّ واحدٍ منهما يَنْتَسِبُ إلى قَبِيلةٍ غيرِ قَبِيلةِ صاحِبِه، فليس بمُناسِبٍ له. فصل؛ وآلُه مثلُ قَرابَتِه، فإنَّ في بعضِ ألفاظِ حَدِيثِ زَيدِ بنِ أرْقَمَ: مَن آلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أصْلُه وعَشِيرَتُه الَّذين حُرِمُوا الصَّدقةَ بعدَه؟ آلُ عَلِي، وآلُ عَبّاس، وآلُ جَعْفَرٍ، وآلُ عَقِيلٍ. والأصْلُ في آلِ أهْلٌ، فقلِبَتِ الهاءُ هَمْزةً، كما قالوا: هَرَقْتُ الماءَ وأرَقْتُه. ومُدَّتْ لئَلَّا تَجْتَمِعَ هَمْزَتان. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 535.

2589 - مسألة: (والعترة هم العشيرة)

وَالْعِتْرَةُ هُمُ الْعَشِيرَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2589 - مسألة: (والعِتْرَةُ هم العَشِيرَةُ) الأدْنَوْن في عُرْفِ الناسِ، ووَلَدُه الذُّكُورُ والإِناثُ وإن سَفَلُوا، [وبذلك] (¬1) فَسَّرَه ابنُ قُتَيبةَ (¬2). وقد تَوَقَّفَ أحمدُ في ذلك. وقال ثَعْلَبٌ، وابنُ الأعْرابِيِّ: العِتْرَةُ الأَوْلادُ وأوْلادُ الأوْلادِ. ولم يُدْخِلا في ذلك العَشِيرةَ. والأوّلُ أصَحُّ وأشْهَرُ في عُرْفِ النَّاسِ. ووَجْهُ الأوّلِ قوْلُ أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنه، في مَحْفِلٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نحن عِتْرَةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبَيضَتُه التي تَفَقَّأتْ عنه. فلم يُنْكِرْه أحَدٌ، وهم أهْلُ اللِّسانِ، فلا يُعَوَّلُ على ما خالفَه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: غريب الحديث 1/ 230.

2590 - مسألة: (وذوو رحمه كل قرابة له من جهة الآباء والأمهات)

وَذَوُو رَحِمِهِ كُلُّ قَرَابَةٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2590 - مسألة: (وَذَوُو رَحِمِهِ كُلُّ قَرَابَةٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ والأُمَّهَاتِ) قال القاضي: يَنْصَرِفُ إلى قَرابَتِه مِن جِهَةِ أبِيه وأُمِّه، ويتَعَدَّىَ وَلَدَ الأبِ الخامسِ. وقد ذَكَرْنا ذلك في مسألةِ القَوْمِ والنُّسَباءِ.

2591 - مسألة: (والأيامى والعزاب، من لا زوج له من الرجال والنساء. ويحتمل)

وَالأَيَامَى وَالْعُزَّابُ، مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَيَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2591 - مسألة: (وَالأَيَامَى وَالْعُزَّابُ، مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَيَحْتَمِلُ) ذكَرَه أصحايُنا. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَخْتَصَّ اسْمُ الأيامَى النِّساءَ اللَّاتي لا أزْواجَ لهُنَّ، قال اللهُ تعالى: {وَأنْكِحُوا الْأيَامَى مِنْكُمْ} (¬2). وفي الحَدِيثِ: «أعُوذُ باللهِ مِنْ بَوَارِ الأَيِّمِ» (¬3). ووَجْهُ الأوّلِ ما رَوَى سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّه قال: آمَتْ حَفْصَةُ بنتُ عُمَرَ مِن زَوْجِها، وآمَ عثمانُ مِن رُقَيَّةَ. قال الشاعر (¬4): فإنْ تَنْكِحِي أنْكِحْ وإن تَتَأْيَّمِي … وإن كُنْتُ أفْتَى مِنْكُمُ أتأيَّمُ (¬5) ¬

(¬1) في: المغني 8/ 453. (¬2) سورة النور 32. (¬3) انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 161. (¬4) البيت في اللسان والتاج (أى م). (¬5) عجز البيت في اللسان: «يدا الدهر ما تنكحى أتأيم». وفي التاج: «أبد الدهر».

2592 - مسألة: (فأما الأرامل، فهن النساء اللاتي فارقهن أزواجهن)

أنْ يَخْتَصَّ الْأَيَامَى بِالنِّسَاء، وَالْعزَّابُ بالرِّجَالِ. فَأمَّا الْأَرَامِل، فَهُنَّ النِّسَاءَ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ أَزْوَاجهُنَّ. وَقِيلَ: هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوْلُ شيخِنا أوْلَى؛ لأنَّ العُرْفَ يَخْتَصُّ النِّساءَ بهذا الاسْمِ، والحُكْمُ للاسْمَ العُرْفِيِّ. ولأنَّ قوْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعوذُ بالله مِنْ بَوَارِ الأَيِّمَ». إنَّما أرادَ به النِّساءَ. وأمَّا العُزَّابُ فهم الذين لا أزْواجَ لهم مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، يقالُ: رجلٌ عَزَبٌ، وامرأة عَزَبَةٌ. قاله ثعلب. وإنَّما سُمِّيَ عَزَبًا لانْفِرادِه (ويَحْتَمِلُ أن يَخْتَصَّ الأيامَى بالنِّساءِ، والعُزَّابُ بالرجالِ) ولذلك يقالُ: امرأةٌ أيِّمٌ. بغيرِ هاءٍ، ولا يقالُ: أيِّمةٌ. ولو كان الرجل مُشارِكًا لها لقِيلَ: أيِّمٌ وأيِّمةٌ. مثلَ: قائِمٌ وقائِمَةٌ. ولأنَّ العُرْفَ أنَّ العَزَبَ يَخْتَصُّ بالرجلِ. 2592 - مسألة: (فأمَّا الأرامِلُ، فهُنَّ النِّساءُ اللَّاتي فارَقَهُنَّ أزواجُهُنَّ) بمَوْتٍ أو غيرِه. قال أحمدُ في رِوايةِ حَرْبٍ، وقد سُئِل عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجُلٍ وَصَّى لأرامِلِ بَنِي فُلانٍ. فقال: قد اخْتلَفَ الناسُ فيها، فقال قومٌ: للرجالِ والنِّساءِ، والذي يُعْرَفُ مِن كلامِ الناسِ أنَّ الأرامِلَ النِّساءُ. وقال الشَّعْبِيُّ، وإسحاقُ: هو للرجالِ والنِّساءِ. وأنْشَدَ: هَذِي الأرامِلُ قد قَضَّيتَ حاجَتَها … فمَنْ لِحاجَةِ هذا الأرْمَلِ الذَّكَرِ (¬1) وقال آخرُ (¬2): أُحِبُّ أن أصْطادَ [ضَبًّا سَحْبَلا] (¬3) … رَعَى الرَّبِيعَ والشِّتاءَ أرْمَلَا ¬

(¬1) البيت لجرير، في اللسان (ر م ل)، وهو أيضًا في معجم مقاييس اللغة 2/ 442. وليس في ديوان جرير. (¬2) الرجز في اللسان، والتاج، وتهذيب اللغة 15/ 205 (ر م ل) و (س ح ب ل). والأول منه في اللسان والتاج (ر ب ل). (¬3) ضبًّا سَحْبَلا: ضخمًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الأوّلِ أنَّ المَعْرُوفَ مِن كلام الناسِ أنَّه للنِّساءِ، فلا يُحْمَلُ اللَّفْظُ إلَّا عليه، ولأنَّ الأرامِلَ جَمْعُ أرْمَلَةٍ، فلا يكونُ جَمْعًا للمُذَكَّرِ؛ لأنَّ ما يَخْتَلِفُ لَفْظُ الذَّكَرِ والأُنْثَى في واحدِه يخْتَلِفُ في جَمْعِه، وقد أنْكَرَ ابنُ الأنْبارِيِّ على قائلِ القَوْلِ الأوّل، وخَطَّأه فيه، والشِّعْرُ الَّذي احْتَجَّ به حُجَّة عليه، فإنَّه لو كان لَفْظُ الأَرامِلِ يَشْمَلُ الذَّكَرَ والأُنْثَى، لقال: حاجَتَهمْ. إذ لا خِلافَ بينَ أهْلِ اللِّسانِ في أنَّ اللَّفْظَ متى كان للذكَرِ والأُنْثَى، ثم رُدَّ عليه ضَمِيرٌ، غُلِّب فيه لَفْظُ التَّذْكِيرِ وضَمِيرُه، فلمّا رُدَّ الضَّمِيرُ على الإِناثِ، عُلِم أنَّه مَوْضُوعٌ لَهُنَّ على الانْفِرادِ، وسَمَّى نَفْسَه أرْمَلًا تَجَوُّزًا وتَشْبِيهًا بهِنَّ، ولذلك وَصَف نَفْسَه بأنَّه ذَكَرٌ. وكذلك الشِّعْرُ الآخرُ، ويَدُلُّ على إرادَةِ المَجازِ أنَّ اللَّفْظَ عندَ إطْلاقِه لا يُفهَمُ منه إلَّا النِّساءُ، ولا يُسَمَّى به في العُرْفِ غيرُهُنَّ، وهذا دَلِيلٌ على أنَّه لم يُوضَعْ لغيرِهِنَّ، ثم لو ثَبَت أنَّه في الحَقِيقةِ للنِّساءِ والرجالِ لكنَّ أهْلَ العُرْفِ قد خَصُّوا به النِّساءَ، وتُرِكَتِ الحَقِيقةُ حتَّى صارتْ مَغْمُورَةً (¬1)، لا تُفْهَمُ مِن لَفْظِ المُتَكَلِّمِ، ولا يتَعلَّقُ بها حُكْمٌ، كسائِرِ الأَلْفاظِ العُرْفِيَّةِ. فصل: وإن وَقَف على أخَواتِه، فهو للإِناثِ خاصَّةً، وإن وَقَف على إخْوَتِه، دَخَل فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى جميعًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَإِنْ كَانُوَا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} (¬2). وقال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬3). ¬

(¬1) في م: «مهجورة». (¬2) سورة النساء 176. (¬3) سورة النساء 11.

2593 - مسألة: (وإن وقف على أهل قريته أو قرابته، لم يدخل فيهم من يخالف دينه. وفيه وجه آخر، أن المسلم يدخل وإن كان الواقف كافرا)

وَإنْ وَقَفَ عَلَى أهْلِ قَرْيَتِهِ أوْ قَرَابَتِهِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْمُسْلِمَ يَدْخُلُ وَإنْ كَانَ الْوَاقِفُ كَافِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجْمَعَ العُلَماءُ على حَجْبِها بالذَّكَرِ والأُنْثَى. وإن قال: لعُمُومَتِه. فالظّاهِرُ أنَّه مِثْلُ الإِخْوَةِ، يشْمَلُ (¬1) الذَّكَرَ والأُنْثَى؛ لأنَّهم إخْوَةُ أَبِيه. وإن قال: لبَنِي إخْوَتِه. أو: لبَنِي عَمِّه. فهو للذُّكُورِ دُونَ الإِناثِ. إذا لم يكونُوا قَبِيلةً، والفَرْقُ بينَهما أنَّ الإِخْوَةَ والعُمُومَةَ ليس لهما لَفْظٌ مَوْضُوع يَشْمَلُ الذَّكَرَ والأُنْثَى سِوى هذا اللَّفْظِ، وبَنو الإخْوَةِ والعَمِّ لهم لَفْط يَشْمَلُ الجَمِيعَ، وهو لَفْظُ الأوْلادِ، فإذا عَدَل عن اللَّفْظِ العامِّ إلى لَفْظِ البَنِين، دَلَّ على إرادَةِ الذُّكُورِ، ولأنَّ لَفْظَ العُمُومَةِ أشْبَهُ بلَفْظِ الإخْوَةِ، ولَفْظُ بَنِي الإخْوَةِ والعَمِّ يُشْبِهُ بَنِي فُلانٍ، وقد دَلَّلْنا عليهما. والحُكْمُ في تَناوُلِ اللَّفْظِ للبَعِيدِ مِن العُمُومَةِ وبَني العَمِّ والإِخْوَةِ، حُكْمُ ما ذَكَرْنا في وَلَدِ الوَلَدِ، مع القَرِينةِ وعَدَمِها في المَسائِلِ المُتَقَدِّمَةِ. 2593 - مسألة: (وَإنْ وَقَفَ عَلَى أهْلِ قَرْيَتِهِ أوْ قَرَابَتِهِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْمُسْلِمَ يَدْخُلُ وَإنْ كَانَ الْوَاقِفُ كَافِرًا) وجملةُ ذلك، أنَّ الإِنسَانَ إذا وَقَف على أهْلَ قَرْيَتِه أو قَرابَتِه ¬

(¬1) في م: «لا يشمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أتَى بلَفْظٍ عامٍّ يَدْخُلُ فيه المسلمون والكُفّارُ، والواقِفُ مُسْلِمٌ، فهو للمسلمين خاصَّة، ولا شيءَ للكفَّارِ. وقال الشافعيُّ: يَدْخُلُ فيه الكفّارُ، لأنَّ اللَّفْظَ يَتَناوَلُهم بعُمُومِه. ولَنا، أنَّ الله تعالى قال: {يُوْصِيِكُمُ اللهُ فِي أوْلَادِكُمْ} (¬1). فلم يَدْخُلْ فيه الكُفّارُ إذا كان المَيِّتُ مُسْلِمًا، وإذا لم يَدْخُلُوا في لَفْظِ القرْآنِ مع عُمُومِه، لم يَدْخُلُوا في لَفْظِ الواقِفِ، ولأنَّ ظاهِرَ حالِه أنَّه (¬2) لا يُرِيدُ الكُفّارَ، لِما بينَه وبينَهم مِن عَداوَةِ الدِّينِ، وعَدَمِ الوُصْلَةِ المانِعَةِ (¬3) مِن المِيراثِ ووُجُوبِ النَّفَقةِ، ولذلك خَرَجُوا مِن عُمُومِ اللَّفْظِ في الأوْلادِ والإِخْوَةِ والأزْواجِ، وسائِرِ الألْفاظِ العامَّةِ في المِيراثِ، فكذا ههُنا، فإن صَرَّحَ بهم دَخَلُوا، لأنَّ إخْراجَهم يُتْرَكُ به صَرِيح المَقال، وهو أقْوَى مِن قَرِينةِ الحالِ. وإن وَقَف عليهم وأهْلُ القَرْيةِ كلُّهم كُفَّارٌ، أو وَقَف على قَرابَتِه وكلُّهم كُفّارٌ، دَخَلُوا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهم، إذ في إخْراجِهم رَفْعُ اللَّفْظِ بالكُلِّيَّةِ. فإن كان فيها مُسْلِمٌ واحِدٌ والباقِي كُفّارٌ، دَخَلُوا أيضًا، لأنَّ إخْراجَهم ههُنا ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «المانع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّخْصِيصِ بَعيدٌ، وفيه مُخالفةُ الظاهِرِ مِن وَجْهَين؛ أحدُهما، مُخالفَةُ لَفْظِ العُمُومِ. والثاني، حَمْلُ اللَّفْظِ الدّالِّ على الجَمْعِ على المُفْرَدِ. وإن كان أكْثَرُ كُفَّارًا، فهو للمُسْلِمِين، في ظاهرِ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه أمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عليهم وصَرْفُه إليهم، والتَّخْصِيصُ يَصِحُّ، وإن كان بإخْراجِ الأَكْثَرِ. ويَحْتَمِلُ أن يَدْخُلَ الكُفّارُ في الوَصِيّةِ؛ لأنَّ التَّخْصِيصَ فِي مثلِ هذا بَعِيدٌ، فإنَّ تَخْصِيصَ الصُّورَةِ النّادِرَةِ قَرِيبٌ، وتَخْصِيصَ الأَكْثَرِ بَعِيدٌ يَحْتاجُ إلى دَلِيل قَويٍّ. والحُكْمُ في سائرِ ألْفاظِ العُمُوم؛ كالإِخْوَةِ، والأعْمامِ، وبَنِي عَمِّه، واليَتامَى، والمَساكِينِ، كالحُكمِ في أهْلِ قَرْيَتِه. فأما إن كان الواقِفُ كافِرًا، فإنَّه يَتَناوَلُ أهْلَ دِينِه؛ لأنَّ لَفْظَه يَتَناوَلُهم، والقَرِينَةُ تَدُلُّ على إرادَتِهم، فأشْبَهَ وَقْفَ المُسْلِمِ، يَتناوَلُ أهْلَ دِينِه. وهل يَدْخُلُ فيه المُسْلِمون؛ يُنْظرُ؛ فإن وُجِدَتْ قَرِينَةٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دالَّةٌ على دُخُولِهم، مثلَ أن لا يكونَ في القَرْيةِ إلَّا مُسْلِمُون، دَخَلُوا، وكذلك إن لم يَكُنْ فيها إلَّا كافِرٌ واحِدٌ وباقي أهْلِها مُسْلِمُون، وإنِ انْتَفَتِ القَرائِنُ، ففي دُخُولِهم وَجْهان؛ أحَدُهُما، لا يَدْخُلُون؛ كما لم يَدْخُلِ الكُفّارُ في وَقْفِ المُسْلِمِ. والثاني، يَدْخُلُون؛ لأنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَتَناوَلُهم، وهم أحَقُّ بوَصِيَّتِه مِن غيرِهم، فلا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عن مُقْتضاه ومَن هو أحَقُّ بحُكْمِه إلى غيرِه. فإن كان في القَرْيةِ كافِرٌ مِن غيرِ أهْلِ دِينِ الواقفِ، لم يَدْخُلْ؛ لأنَّ قَرِينةَ الحالِ تُخْرِجُه، ولم يُوجَدْ فيه ما وُجِد في المُسْلِمِ مِن الأوْلَويَّةِ (¬1)، فبَقِيَ خارِجًا بحالِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَخْرُجَ، بِناءً على تَوْرِيثِ الكُفّارِ بعضِهم مِن بعض مع اخْتِلافِ دِينِهم. ¬

(¬1) في م: «الأُولى».

2594 - مسألة: (وإن وقف على مواليه، وله موال من فوق ومن أسفل، تناول جميعهم. وقال ابن حامد: يختص الموالي من فوق)

وَإنْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقَ وَمِنْ أَسْفَلَ، تَنَاوَلَ جَمِيعَهُمْ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يَخْتَصُّ الْمَوَالِيَ مَنْ فَوْقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2594 - مسألة: (وَإنْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقَ وَمِنْ أَسْفَلَ، تَنَاوَلَ جَمِيعَهُمْ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يَخْتَصُّ الْمَوَالِيَ مَنْ فَوْقَ) إذا وَقَف على مَوالِيه وله مَوالٍ مِن فوْقَ حَسْبُ، وهم مُعْتِقوه، اخْتَصَّ الوَقفُ بهم؛ لأنَّ الاسْمَ يَتَناوَلُهم، وقد تَعَيَّنُوا بوُجُودِهم دُونَ غيرِهم. وإن لم يَكُنْ له إلَّا مَوالٍ مِن أسْفَلَ، فهو لهم؛ لذلك (¬1). وإنِ اجْتَمَعُوا، فهو لهم جميعًا يَسْتَوُون فيه؛ لأنَّ الاسْمَ يَشْمَلُهم جميعًا. وقال أصْحابُ الرَّأْي: الوَصِيَّةُ باطِلَة؛ لأنَّها لغيرِ مُعَيَّن. وقال أبو ثَوْرٍ: يُقْرَعُ بينَهما؛ لأنَّ أحَدَهما ليس بأَوْلى مِن الآخَرِ. وقال ابنُ القاسِمِ: هو للمَوالِي ¬

(¬1) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أسْفَلَ. ولأصْحابِ الشافعيِّ أَرْبَعةُ أوْجُهٍ، كقَوْلِنا، وكقَوْلِ أصْحابِ الرأي، والثالثُ، هو للمَوالِي مِن فَوْقَ؛ لأنَّهم أقْوَى، لكونِهم عَصَبَتَه ويَرِثُونَه، بخِلافِ عُتقَائِه. وهو قولُ ابنِ حامدٍ. والرابعُ، يَقِفُ الأمْرُ حتَّى يَصْطَلِحُوا. ولَنا، أنَّ الاسْمَ يَتناوَلُ الجميعَ، فدَخَلُوا فيه، كما لو وَقَف على إخْوَتِه. وقَوْلُهم: إنَّها لغيرِ مُعَيَّن. غيرُ صَحِيح، فإنَّ التَّعْمِيمَ يَحْصُلُ مع التَّعْيِينِ، ولذلك لو حَلَف: لا كَلَّمْتُ مَوْلايَ. حَنَث بكلامِ أَيِّهم كان. وقوْلُهم: إنَّ المَوْلَى مِن فَوْقِ، أقْوَى. قُلْنا: مع شُمُولِ الاسْمِ لهم يَدْخُلُ فيه الأقْوَى والأضْعَفُ، كإخْوَتِه، ولا يَدْخُلُ فيه وَلَدُ العَمِّ، ولا المَساكِينُ، ولا الحَلِيفُ، ولا غيرُ مَن ذَكَرْنا، لأنَّ الاسْمَ إن تَناوَلَهم حَقِيقَةً، لم يَتَناوَلْهم عُرْفًا، والأسْماءُ العُرْفِيَّةُ تُقَدَّمُ على الحَقِيقةِ. ولا يَسْتَحِقُّ مَوْلَى ابْنِه (¬1) مع وُجُودِ مَوالِيه. وقال زُفَرُ: يَسْتَحِقُّ. ولَنا، أنَّ مَوْلَى ابْنِه (1) ليس بمَوْلًى له حَقِيقةً إذا كان له مَوْلًى سِواه، فإن لم يَكُنْ له مَوْلًى، فقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: إِذا وَصَّى، لمَوالِيه وليس له مَوْلًى، فهو لمَوْلَى أبِيه (1). وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: لا شيءَ له، لأنَّه ليس ¬

(¬1) في م: «الله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِمَوْلًى. واحْتَجَّ الشَّرِيفُ بأنَّ الاسْمَ يَتَناوَلُهم مَجازًا، فإذا تَعذَّرَتِ الحَقِيقةُ، وَجَب صَرْفُ الاسْمِ إلى المَجازِ والعَمَلِ به، تَصْحِيحًا لكَلامِ المُكَلَّفِ عندَ إمْكانِ تَصْحِيحِه، ولأنَّ الظاهِرَ إرادَتُه المَجازَ؛ لكَوْنِه مَحْملًا صَحِيحًا، وإرادَةُ الصَّحِيحِ أغْلَبُ مِن إرادَةِ الفاسِدِ. فإن كان له مَوالِي أبٍ حينَ الوَقْفِ، ثم انْقَرَضَ مَوالِيه، لم يَكُنْ لمَوالِي الأبِ على مُقْتَضَى ما ذكَرْناه، لأنَّ الاسْم يتَناوَلُ غيرَهم، فلا يَعُودُ إليهم إلَّا بعَقْدٍ، ولم يُوجَدْ. ولا يُشْبِهُ هذا قَوْلَه: أوْصَيتُ لأقرَبِ الناسِ إلَيَّ. وله ابْنٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ ابْن، فمات الابْنُ، حيث يَسْتَحِقُّ ابنُ الابْنِ، وإن كان لا يَسْتَحِقُّ في حَياةِ الابْنِ شيئًا؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ ههُنا لمَوْصُوفٍ وُجِدَتِ الصِّفَةُ في ابْنِ الابْنِ، كوُجُودِها في الابْنِ حَقِيقَةً، وفي المَوالِي (¬1) يَقَعُ الاسْمُ على مَوْلَى نَفْسِه حَقِيقةً، وعلى مَوْلَى أبِيه (¬2) مَجازًا، فمع وُجُودِهما جميعًا لا يُحْمَلُ اللَّفْظُ إلَّا على الحَقِيقَةِ، وهذه الصِّفةُ. لا تُوجَدُ في مَوْالِي (¬3) أبِيه (2). ¬

(¬1) في م: «المولى». (¬2) في م: «الله». (¬3) في م: «مولى».

2595 - مسألة: (وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم، وجب تعميمهم والتسوية بينهم)

وَإِذَا وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسْويَةُ بَينَهُمْ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2595 - مسألة: (وَإِذَا وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسْويَةُ بَينَهُمْ) لأنَّ اللَّفْظَ يَقتَضِي ذلك، وقد أمْكَنَ الوَفاءُ به، فوَجَب العَمَلُ بمُقْتضَاه، كقَوْلِه سُبْحانه: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬1). فإنَّه يَجِبُ تَعْمِيمُ الإِخْوَةِ مِن الأُمِّ والتَّسْويَةُ بينَهم، ولأنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي التَّسْويةَ، أشْبَهَ ما لو أقَرَّ لهم. ¬

(¬1) سورة النساء 12.

2596 - مسألة: فإن لم يمكن حصرهم؛ كالمساكين، والقبيلة الكثيرة؛ كبني هاشم، وبني تميم، صح الوقف عليهم

وَإلَّا جَازَ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يُجْزئَهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2596 - مسألة: فإن لم يُمْكِنْ حَصْرُهم؛ كالمَساكِينِ، والقَبِيلَةِ الكَثِيرةِ؛ كبَنِي هاشِمٍ، وبَنِي تَميمٍ، صَحَّ الوَقْفُ عليهم. وكذلك يَصِحُّ الوَقْفُ على المسلمِين كلِّهم، وعلى أهْلِ إقْليمٍ ومَدِينةٍ، كالشّامِ، ودِمَشْقَ. ويجوزُ للرجلِ أن يَقِفَ على عَشِيرَتِه، وأهْلِ مَدِينَتِه. وقال الشافعيُّ، في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَصِحُّ الوَقْفُ على مَن لا يُمْكِنُ اسْتِيعابُهم وحَصْرُهم، في غيرِ المَساكِينِ ونحوهم؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في حَقِّ الآدَمِيِّ، فلم يَصِحَّ مع الجَهالةِ، كما لو قال: وقَفْتُ على قَوْمٍ. ولَنا، أنَّ مَن صَحَّ الوَقْفُ عليهم إذا كانوا مَحْصُورِين، صَحَّ وإن لم يُحْصَوْا، كالفُقَراءِ، وقِياسُهم يَبْطُلُ بالوَقْفِ على المَساكِين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ تَعْمِيمُهم إجْماعًا؛ لأنَّه غيرُ مُمْكِن. ويَجُوزُ تَفْضِيلُ بعضِهم على بعضٍ، لأنَّ مَن جاز حِرْمانُه جاز تَفْضِيلُ غيرِه عليه. ويجوزُ الاقْتِصارُ على واحدٍ منهم. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَه أقَل مِن ثَلاثَةٍ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. ووَجْهُ القَوْلَينِ (¬1) قد ذُكِر في الزكاةِ، والأوَّلُ ظاهِرُ المَذْهَبِ. فصل: فإن كان الوَقْفُ في ابْتِدائِه على مَن يُمْكِنُ اسْتِيعابُه، فصار ممّا لا يُمْكِنُ اسْتِيعابُه، كرجل وَقَف على وَلَدِه ووَلَدِ وَلَدِه، وعَقِبِه ونَسْلِه، فصارُوا قَبِيلةً كَثِيرةً تَخْرُجُ عن الحَصْرِ، مثلَ وَقْفِ عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهِ، على وَلَدِه ونَسْلِهِ، فإنَّه يَجِبُ تَعْمِيمُ مَن أمْكَنَ منهم، والتَّسْويةُ بينَهم، لأنَّ التَّعْمِيمَ كان واجِبًا، وكذلك التَّسْويةُ، فإذا تَعذَّرَ، وَجَب منه ما أمْكَنَ، كالواجِبِ الَّذي يَعْجِزُ عن بعضِه؛ ولأنَّ الواقِفَ ههُنا أرادَ التَّعْمِيمَ والتَّسْويةَ، لإمْكانِه وصَلاحِ لَفْظِه لذلك، فيَجِبُ العَمَلُ بما أمْكَنَ، بخِلافِ ما إذا كانُوا حال الوَقْفِ ممَّن لا يُمْكِنُ ذلك فيهم. ¬

(¬1) في م: «القول».

2597 - مسألة: ولا يعطى كل واحد أكثر من القدر الذي يعطى من الزكاة. يعني (إذا كان الوقف على صنف من أصناف الزكاة)

فَإنْ كَانُوا مِنْ أهْلِ الزَّكَاةِ، لَمْ يُدْفَعْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أكْثَرُ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَيهِ مِنَ الزَّكَاةِ، إِذَا كَانَ الْوقْفُ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2597 - مسألة: ولا يُعْطَى كلُّ واحدٍ أَكْثَرُ مِن القَدْرِ الَّذي يُعْطَى مِن الزكاةِ. يَعْنِي (إذا كان الوَقْفُ على صِنْفٍ مِن أصْنافِ الزكاةِ) وجملةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّ مَن وَقَف على سَبِيلِ الله، أو ابنِ السَّبِيلِ، أو الرِّقابِ، أو الغارِمِين، فهم الذين يَسْتَحِقُّون السَّهْمَ مِن الصَّدَقاتِ، لا يَدْخُلُ معهم غيرُهم؛ لأنَّ المُطْلَقَ مِن كلامِ الآدَمِّيين يُحْمَلُ على المَعْهُودِ في الشَّرْعِ، فيُنْظَرُ؛ مَن كان يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِن الصَّدَقاتِ، فالوَقْفُ مَصْرُوفٌ إليه، وقد مَضَى شَرْحُ ذلك في الزكاةِ. فإن وَقَف على الأصْنافِ الثَّمانيةِ الذين يَأْخُذون الصَّدَقاتِ، صُرِف إليهم، ويُعْطَى كل واحدٍ منهم مِن الوَقْفِ مثلَ القَدْرِ الَّذي يُعْطَى مِن الزكاةِ، لا يُزادُ عليه، وقد ذَكَرْنا ذلك. وقد اخْتُلِفَ في القَدْرِ الَّذي يَحْصُّلُ به الغِنَى، فقال أحمدُ، في روَايةِ عليِّ بنِ سعيدٍ، في الرجلِ يُعْطَى مِن الوَقْفِ خمْسِينَ دِرْهَمًا، فقال: إن كان الواقِف ذَكَر في كِتابِه المَساكِينَ، فهو مِثلُ الزكاةِ، وإن كان مُتَطَوِّعًا، أعْطَى مَن شاء وكيف شاء. فقد نصَّ على إلْحاقِه بالزكاةِ، فيكونُ الخِلافُ فيه كالخِلافِ في الزكاةِ. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ، وابنُ عَقِيلٍ، زِيادَةَ المِسْكِينِ على خَمْسينَ دِرْهمًا؛ لأنَّ لَفْظَ أحمدَ لا تَقيِيدَ فيه. قال أبو الخَطّابِ: وفي المَسْأْلَةِ وَجْهان وجهُهما ما سَبَقَ. فصل: فإن وَقَف على الأصْنافِ كلِّها، أو على صِنْفَين أو أكثَرَ، فهل يجوزُ الاقْتِصارُ على صِنْفٍ واحدٍ، أو يَجِبُ إعْطاءُ بعضِ كلِّ صِنْفٍ؟ فيه وَجْهان، بِناءً على الزكاةِ.

2598 - مسألة: (والوصية كالوقف في هذا التفصيل)

وَالْوَصِيَّةُ كَالْوَقْفِ في هَذَا الْفَصْلِ. فَصْلٌ: وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ، لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِإِقَالةٍ وَلَا غَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2598 - مسألة: (والوَصِيَّةُ كالوَقْفِ في هذا التَّفْصِيلِ) لأنَّ مَبْناها على لَفْظِ المُوصِي، أشْبَهتِ الوَقْف. فصل: (وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ، لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِإِقَالةٍ وَلَا غَيرِهَا) ويَلْزَمُ بمُجَرَّدِ القَوْلِ؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ البَيعَ والهِبَةَ والمِيراثَ، فلَزِمَ بمُجَرَّدهِ، كالعِتْقِ. وعنه: لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ وإخْراجِ الوَقْفِ عن يَدِه. اخْتاره ابنُ أبي موسى. كالهِبَةِ. والصَّحِيحُ الأوّلُ، وقد ذَكَرْناه. وذَهَب أبو حنيفةَ إلى أنَّ الوَقْفَ لا يَلْزَمُ بمُجَرَّدِه، وللواقِفِ الرُّجُوعُ فيه ألا أن يُوصِيَ به بعدَ مَوْتِه، فيَلْزَمُ، أو يَحْكُمَ بلُزُومِه حاكِمٍ. وحكاه بعضُهم عن عليٍّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ مَسْعُودٍ، وابنِ عَبَّاسٍ. وخالفَ أبا حنيفةَ صاحِبَاه، فقالا كقَوْلِ سائرِ أهْلِ العِلْمِ. واحْتَجَّ بعضُهم: بما رُوِيَ أنَّ عبَدَ اللهِ بنَ زيدٍ، صاحِبَ الأذَانِ، جَعَل حائِطَه صَدَقةً، وجَعَلَه إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أُبواه إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: يا رسولَ اللهِ، لم يَكُنْ لنا عَيشٌ إلَّا هذا الحائِطَ. فرَدَّه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ماتا فورِثهما. رَواه المَحَامِلِيُّ (¬1) في «أمالِيه» (¬2). ولأنَّه إخْراجُ مالِه على وَجْهِ القُرْبةِ مِن مِلْكِه، فلا يَلْزَمُ بمُجَرَّدِ القَوْل، كالصَّدَقَةِ. قُلْنا: هذا القَوْلُ يُخالِفُ السُّنّةَ الثابتَةَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإجماعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعُمَرَ في وَقْفِه: «لَا يُبَاعُ أصْلُها، وَلا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ» (¬3). قال التِّرْمِذِيُّ العَمَلُ على هذا الحَدِيثِ عندَ أهْلِ العِلْمِ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم، لا نَعْلَمُ بينَ المُتَقَدِّمِين منهم في ذلك ¬

(¬1) أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي المحاملي القاضي الفقيه، صاحب «الأمالي» المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة. تاريخ التراث العربي 1/ 1/ 357. (¬2) وأخرجه النسائي، في: ميراث الولد للوالد المنفرد، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 4/ 66. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتِلافًا. قال الحُمَيدِيُّ: تَصَدَّقَ أبو بكرٍ بدارِه على وَلَدِه، وعُمَرُ برَبْعِه عندَ المَرْوةِ على وَلَدِه، وعُثمانُ برُومَةَ (¬1)، وتَصَدَّقَ عليٌّ بأرْضِه بيَنْبُعَ، وتَصَدَّقَ الزُّبَيرُ بدارِه بمَكَّةَ ودارِه بمِصْرَ وأمْوالِه بالمَدِينةِ على وَلَدِه، وتَصَدَّقَ سَعْدٌ بدارِه بالمَدِينةِ ودارِه بمِصْرَ على وَلَدِه، وعَمْرُو بنُ العاصِ بالوَهْطِ (¬2) ودارِه بمَكَّةَ على وَلَدِه، وحَكِيمُ بنُ حِزام بدارِه بمَكَّةَ والمَدِينةِ على وَلَدِه، فذلك كله إلى اليَوْمِ (¬3). وقال جابر: لم يكُنْ أحدٌ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - له مَقْدِرَة إلَّا وَقَف. وهذا إجْماعٌ منهم، فإنَّ الَّذي قَدَر على الوَقْفِ منهم وَقَف، واشْتَهَرَ ذلك، فلم يُنْكِرْه أحَدٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بالوَصِيَّةِ، فإذا نَجَزَه في حالِ الحَياةِ لَزِم مِن غيرِ حُكْمٍ، كالعِتْقِ. وحَدِيثُ عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ إن ثَبَت ¬

(¬1) أي بئر رومة بالمدينة. (¬2) الوهط: مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب الصدقات المحرمات، من كتاب الوقف. السنن الكبرى 6/ 161.

2599 - مسألة:، (ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه، فيباع ويصرف ثمنه في مثله. وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد. وكذلك المسجد إذا لم ينتفع به في موضعه، وعنه، لا تباع المساجد لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر)

وَلَا يَجُوزُ بَيعُهُ إلا أنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ في مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إِذَا لَمْ يصْلُحْ لِلْغَزْو، بِيعَ وَاشْتُرِىَ بِثَمَنِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ في مَوْضِعِهِ، وَعَنْهُ، لَا تُبَاعُ الْمَسَاجِدُ لَكِنْ تنْقَلُ آَلتُهَا إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فليس فيه ذِكْرُ الوَقْفِ، والظاهِرُ أنَّه جَعَلَه صَدَقةً غيرَ مَوْقُوفٍ، اسْتَنابَ فيها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فرأى والِدَيه أحَقَّ النَّاسِ بصَرْفِها إليهما، ولهذا لم يَرُدَّها إليه، إنَّما دَفَعَها إليهما. ويَحْتَمِلُ أنَّ الحائِطَ كان لهما، وكان هو يَتَصَرَّفُ فيه بحُكْمِ النِّيابةِ عنهما، فتَصَرَّفَ بهذا التَّصَرُّفِ بغيرِ إذْنِهما، فلم يُنَفِّذاه، وأتَيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرَدَّه إليهما. والقِياسُ على الصَّدَقَةِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّها تَلْزَمُ في الحَياةِ بغيرِ حُكْمِ حاكِمٍ، وإنَّما يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ، والوَقْفُ لا يَفْتَقِرُ إليه، فافْتَرقا. 2599 - مسألة:، (وَلَا يَجُوزُ بَيعُهُ إلا أنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ في مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إِذَا لَمْ يصْلُحْ لِلْغَزْو، بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ في مَوْضِعِهِ، وَعَنْهُ، لَا تُبَاعُ الْمَسَاجِدُ لَكِنْ تنْقَلُ آَلتُهَا إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ) وجملةُ ذلك، أنَّه لا يجوزُ بَيعُ الوَقْفِ ولا هِبّتُه؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ عُمَرَ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «غَيرَ أنَّه لا يُبَاعُ أَصْلُها ولا يُبْتاعُ، وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» (¬1). فإن تَعطّلَتْ مَنافِعُه بالكُلِّيَّةِ؛ كدارٍ انْهَدَمَتْ، أو أرْضٍ خَرِبَتْ وعادَتْ مَواتًا لا يمكنُ عِمارَتُها، أو مَسْجِدٍ انْتَقلَ أهْلُ القَرْيةِ عنه، وصار في مَوْضعٍ لا يُصَلَّى فيه، أو ضاق بأهْلِه ولم يُمْكِنْ تَوْسِيعُه في مَوْضِعِه، فإن أمْكَنَ بَيعُ بعضِه ليُعَمَّرَ به بَقِيَّتُه، جاز بَيعُ البَعْضِ. وإن لم يُمْكِنْ الانْتِفاعُ بشيءٍ منه، بِيعَ جَمِيعُه. قال أحمدُ، في رِوايةِ أبي دَاوُدَ: إذا كان في المَسْجِدِ خَشَبتان لهما قِيمَة، جاز بَيعُهما وصَرْفُ ثَمَنِهما عليه. وقال في رِوايةِ صالح: يُحَوَّل المَسْجِدُ خَوْفًا مِن اللُّصُوصِ، وإذا كان مَوْضِعُه قَذِرًا. قال القاضي: يَعْنِي إذا كان ذلك يَمْنَعُ الصَّلاةَ فيه. ونَصَّ على جَوازِ بَيع عَرْصَتِه في رِوايةِ عبدِ اللهِ، وتكونُ الشَّهادَةُ في ذلك على الإِمامِ. قال أبو بكر: وقد رَوَى علي بنُ سعيدٍ، أنَّ المَساجِدَ لا تُباعُ، وإنَّما تُنْقَلُ آلتُها. قال: وبالقَوْلِ الأوَّلِ أقُولُ؛ لإِجْماعِهم على جَوازِ (¬2) بَيعِ الفَرَسِ الجَبِيسِ -يَعْنِي المَوْقُوفةَ على الغَزْو- إذا كَبِرَتْ فلم تَصْلُحْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 362. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للغَزْو، وأمْكَنَ الانْتِفاعُ بها في شيءٍ آخَرَ، مثلَ أن تَدُورَ في الرَّحَى، أو يُحْمَلَ عليها تُرابٌ، أو تكونَ الرَّغْبَةُ في نِتاجِها. أو حِصانًا يُتَّخَذُ للطِّراقِ، فإنَّه يَجوزُ بَيعُها، ويُشْتَرَى بثَمَنِها ما يَصْلُحُ للغَزْو. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ: إذا خَرِب المَسْجِدُ أو الوَقْفُ، عاد إلى مِلْكِ واقِفِه؛ لأنَّ الوَقْفَ إنَّما هو تَسْبِيلُ المَنْفعَةِ، فإذا زالتْ مَنْفَعَتُه زال حَقُّ المَوْقُوفِ عليه منه، فزال مِلْكُه عنه. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ: لا يجوزُ بَيعُ شيءٍ مِن ذلك؛ لقول رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ». ولأنَّ ما لا يَجُوزُ بَيعُه مع بَقاءِ مَنافِعِه، لا يجوزُ مع تَعَطُّلِها، كالمُعْتَقِ، والمَسْجِدُ أشْبَهُ الأشْياءِ بالمُعْتَقِ. ولَنا، ما رُوِيَ أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، كَتَب إلى سَعْدٍ، لمّا بَلَغَه أنَّه قَدْ نُقِب (¬1) بَيت المالِ الَّذي بالكُوفَةِ، أنِ انْقُلِ المَسْجِدَ الَّذي بالتَّمَّارينَ، واجْعَلْ بَيتَ المالِ في قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فإنَّه لن يَزال في المَسْجِدِ مُصَلٍّ. وكان هذا بمَشْهَدٍ مِن الصَّحابةِ، ولم يَظْهَرْ خِلافُه، فكان إجْماعًا. ولأنَّ فيما ذكَرْناه اسْتِبقاءً للوَقْفِ بمَعْناه عندَ تَعَذُّرِ إبْقائِه بصُورَتِه، فوَجَبَ ذلك، كما لو اسْتَوْلَدَ ¬

(¬1) نقب؛ بفتح القاف: تخرَّق. ونُقِب؛ بالبناء للمجهول: نقبه بعض الناس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجارِيَةَ المَوْقُوفةَ، أو قَبَّلَها، أو قَبَّلَها غيرُه. قال ابنُ عَقِيلٍ: الوَقْفُ مُوبَّدٌ، فإذا لم يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ على وَجْهِ تَخْصِيصِه، اسْتَبْقَينا الغَرَضَ، وهو الانْتِفاعُ على الدَّوامِ في عَينٍ أُخْرى، وإيصالُ الأَبدالِ جَرَى مَجْرَى الأعْيانِ، وجُمُودُنا على العَينِ مع تَعَطُّلِها تَضْيِيعٌ للغَرَضِ. ويَقْرُبُ هذا مِن الهَدْي إذا عَطِب، فإنَّه يُذْبَحُ في الحالِ، وإن كان يَخْتَصُّ بمَوْضِعٍ، فلّمَا تَعذَّرَ تَحْصِيلُ الغَرَضِ بالكُلِّيَّةِ، اسْتُوْفِيَ منه ما أمكنَ، وتُرِك مُراعاةُ المَحَلِّ الخاصِّ عندَ تَعَذُّرِه، لأنَّ مُراعاتَه مع تَعَذُّرِه تُفْضِي إلى فَواتِ الانْتِفاعِ به بالكُلِّيَّةِ، وهكذا الوَقْفُ المُعَطَّلُ المَنافِع. ولَنا على محمدِ بنِ الحَسَنِ، أنَّه إزالةُ مِلْكٍ على وَجْهِ القُرْبةِ، فلا يَعُودُ إلى مالِكِه باخْتِلالِه وذَهابِ مَنافِعِه كالعِتْقِ.

2600 - مسألة: (ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته)

وَيَجُوزُ بَيعُ بَعْضِ آلتِهِ وَصَرْفُهَا في عِمَارَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2600 - مسألة: (وَيَجُوزُ بَيعُ بَعْضِ آلتِهِ وَصَرْفُهَا في عِمَارَتِهِ)؛ يجوزُ بَيعُ الفَرَسِ الحَبِيسِ عندَ تَعَذُّرِ الانْتِفاعِ به وصَرْفُ ثَمَنِه فيما يَقُومُ مَقامَه، ولأنَّه إذا جاز بَيعُ الجَميعِ عندَ الحاجةِ إلى بَيعِه، فبَيعُ بعضِه مع بَقاءِ البعضِ أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا بِيعَ الوَقْفُ، فأيُّ شيءٍ اشْتُرِىَ بثَمَنِه ممّا يُرَدُّ على أهلِ الوَقْفِ وجاز، وإن كان مِن غيرِ جِنْسِه في ظاهرِ كلامِ الخِرَقِيِّ، لكنْ تكونُ المَنْفَعةُ مَصْرُوفةً إلى المَصْلَحةِ التي كانت الأُولَى تُصْرَفُ فيها؛ لأنَّه لا يجوزُ تَغْيِيرُ المَصْرِفِ مع إمْكانِ المُحافَظةِ عليه، كما لا يجوزُ تَغْيِيرُ الوَقْفِ بالبَيعِ مع إمْكانِ الانْتِفاعِ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَكْفِ ثَمنُ الفَرَسِ الحَبِيسِ لشراءِ فَرَسٍ أُخرى، أُعِينَ به في شِراءِ حَبِيس يَكُونُ بعضَ الثَّمنِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ المَقْصُودَ اسْتِيفاءُ مَنْفَعةِ الوَقْفِ المُمْكِنِ اسْتِيفاؤُها وصِيانَتُها عن الضَّياعِ، ولا سَبِيلَ إلى ذلك إلَّا بهذه الطَّرِيقِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم تَتَعطَّلْ مَنْفَعةُ الوَقْفِ بالكُلِّيَّةِ، لكنْ قَلَّتْ، وكان غيرُه أنْفَعَ منه وأكْثَرَ رَدًّا على أهْلِ الوَقْفِ، لم يَجُزْ بَيعُه؛ لأنَّ الأصْلَ تَحْرِيمُ البَيعِ، وإنَّما أُبِيحَ للضَّرُورَةِ، صِيانةً لمَقْصُودِ الوَقْفِ عن الضَّياعِ مع إمْكانِ تَحْصِيلِه، ومع الانْتِفاعِ ما يَضِيعُ المَقْصُودُ وإن قَلَّ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يَبْلُغَ في قِلَّةِ النَّفْعِ إلى حَدّا لا يُعَدُّ نَفْعًا، فيكونُ وُجُودُه كالعَدَمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في روايةِ أبي داودَ، في مَسْجِدٍ أرادَ أهْلُه رَفْعَه مِن الأرْضِ، ويُجعَلُ تحتَه شِقايَةٌ وحَوانِيتُ. فامْتَنَعَ بعضهم مِن ذلك: يُنْظَرُ إلى قوْلِ أكْثَرِهم. واخْتَلَفَ أصْحابُنا في تَأْويلِ كلامِ أحمدَ، فذَهَبَ ابنُ حامدٍ إلى أنَّ هذا مَسْجِدٌ أرادَ أهْلُه إنْشاءَه ابْتِداءً، واخْتلَفُوا كيف يُعْمَلُ، وسَمّاهُ مَسْجِدًا قبلَ بِنائِه تَجَوُّزًا، لأنَّ مآله إليه، أمّا بعدَ بِنائِه لا يجوزُ جَعْلُه سِقايةً ولا حَوانِيت. وذَهَب القاضي إلى ظاهِرٍ اللَّفْظِ، وهو أنَّه كان مَسْجِدًا، فأرادَ أهْلُه رَفْعَه وجَعْلَ ما تحتَه سِقايَةً، لحاجَتِهم إلى ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوّلُ أصَحُّ وأوْلَى، وإن خالفَ الظّاهِرَ، فإنَّ المَسْجدَ لا يجوزُ نَقْلُه وإبْدالُه وبَيعُ ساحَتِه وجَعْلُها سِقايَةً وحَوانِيتَ، إلَّا عندَ تَعَذَّرِ الانْتِفاعِ به، والحاجةُ إلى سِقَايةٍ وحَوانِيتَ لا تُعَطِّلُ نَفْعَ المَسْجِدِ، فلا يجوزُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صرْفُه في ذلك. ولو جاز جَعْلُ أسْفَلِ المَسْجِدِ سِقَايةً وحَوانِيتَ لهذه الحاجَةِ، لجاز تَخْرِيبُ المَسْجِدِ وجَعْلُه سِقايةً وحَوانِيتَ، ويَجْعَلُ بَدَلَه مَسْجِدًا في مَوْضِعٍ آخَرَ. وقال أحمدُ، في رِوايةِ بكرِ بنِ محمدٍ، عن أبِيه، في مَسْجِدٍ ليس بحَصِينٍ مِن الكِلابِ، وله مَنارَةٌ، فرَخَّصَ في نَقْضِها، وبِناءِ حائِطِ المَسْجِدِ بها للمَصْلَحةِ.

2601 - مسألة: (وما فضل من حصره وزيته)

وَمَا فَضَلَ مِنْ حُصُرِهِ وَزَيتِهِ جَازَ صَرْفُهُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، وَالصَّدَقَةُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2601 - مسألة: (وَمَا فَضَلَ مِنْ حُصُرِهِ وَزَيتِهِ) عن حاجَتِه (جَازَ صَرْفُهُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، وَالصَّدَقَةُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ) وكذلك إن فَضَل مِن قَصَبِه أو شيءٍ مِن نَقْضِه. قال أحمدُ، في مَسْجِدٍ يُبْنَى فيَبْقَى مِن خَشَبِه أو قَصَبِه أو شيءٍ مِن نَقْضِه، قال: يُعانُ به في مَسْجِدٍ آخَرَ. أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قال. وقال المَرُّوذِيُّ: سَألْتُ أبا عبدِ اللهِ عن بَوارِي المَسْجدِ (¬1)، إذا فَضَل منه الشيءُ، أو الخَشَبةُ، قال: يُتَصَدَّقُ به. وأرَى أنَّه قد احْتَجَّ بكُسْوَةِ البَيتِ إذا تَخَرَّقَتْ تُصْدِّقَ بها. وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ: قد كان شَيبَةُ يتَصَدَّقُ بخُلْقانِ الكَعْبةِ. ورَوَى الخَلالُ بإسْنادِه، عن عَلْقَمةَ، عن أُمِّه، أنَّ شَيبةَ بنَ عُثمانَ الحَجَبِيَّ جاء إلى عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، فقال: يا أُمَّ المُؤمِنين، إنَّ ثِيابَ الكَعْبةِ تَكْثُرُ عليها، فنَنْزِعُها، فنَحْفِرُ لها آبارًا فنَدْفِنُها فيها حتَّى لا تَلْبَسَها الحائِضُ والجُنُبُ. قالت عائشةُ: بِئْسَ ما صَنَعْتَ، ولم تُصِبْ، إنَّ ثِيابَ الكَعْبةِ إذا نُزِعَتْ لم يَضِرْها مَن لَبِسَها مِن حائِض أو جُنُب، ولكنْ لو بِعْتَها وجَعَلْتَ ثَمَنها في سَبِيلِ اللهِ والمَساكِينِ. فقال: فكان شَيبةُ يَبْعَثُ بها إلى اليَمنِ، فتُباعُ، فيَضَعُ ثَمَنها حيث أمَرَتْهُ عائشةُ. وهذه قَضِيَّة مثلُها يَنْتَشِرُ، ولم تُنْكَرْ، فتكونُ إجْماعًا، ولأنَّه مالُ الله تعالى، لم يَبْقَ له مَصْرِفٌ، فصُرِفَ إلى المَساكِينِ، كالوَقْفِ المُنْقَطِعِ. ¬

(¬1) بَوارى المسجد: حصره.

2602 - مسألة: (ولا يجوز غرس شجرة في المسجد)

وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ شَجَرَةٍ في الْمَسْجِدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2602 - مسألة: (ولا يجوزُ غَرْسُ شَجَرةٍ في المَسْجِدِ) نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: إن كانت غُرِستِ النَّخْلةُ بعدَ أن صار مَسْجِدًا، فهذه غرِسَتْ بغيرِ حَقٍّ، فلا أُحِبُّ الأَكْلَ منها، ولو قَلَعها الإِمامُ لجاز؛ وذلك لأنَّ المَسْجِدَ لم يُبْنَ لهذا، إنَّما بُنِيَ لذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ وقِراءةِ القُرْآنِ، ولأنَّ الشَّجَرةَ تُؤْذِي المَسْجِدَ وتَمْنَعُ المُصَلِّينَ مِن الصَّلاةِ في مَوْضِعِها، ويَسْقُطُ وَرَقُها في المَسْجِدِ وثَمَرُها، ويَسْقُطُ عليها الطَّيرُ وتَبُولُ في المَسْجِدِ، ورُبَّما اجْتَمَعِ الصِّبْيانُ في المَسْجِدِ مِن أجْلِها ورَمَوْها بالحِجارَةِ ليَسْقُطَ ثمَرُها.

2603 - مسألة: (فإن كانت مغروسة، جاز الأكل منها)

فَإِنْ كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِيهِ، جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2603 - مسألة: (فَإِنْ كَانَتْ مَغْرُوسَةً، جَازَ الْأَكْلُ مِنْهَا) يَعْنِي إذا كانتِ الشَّجرَةُ في أرْض، فجَعَلَها صاحِبُها مَسْجِدًا والشَّجَرةُ فيها،

رَحِمَهُ اللهُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالْمَسْجِدِ حَاجَةٌ إِلَى ثَمَنِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ صُرِفَ ذَلِكَ في عِمَارَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا بَأْسَ. قال أحمدُ في مَوْضِعٍ: لا بَأْسَ. يعني أن يَبِيعَها مِن الجِيرانِ. وقال في رِوايةِ أبي طالِبٍ، في النَّبْقَةِ (¬1): لا تُباعُ، وتُجْعَلُ للمُسْلِمين وأهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَها. وذلك، واللهُ أعْلَمُ، لأنَّ صاحِبَ الأرْضِ لمّا جَعَلَها مَسْجِدًا والشَّجَرةُ فيها، فقد وَقَف الأرْضَ والشَّجَرةَ معًا، ولم يُعَيِّنْ مَصْرِفَها، فصارَتْ كالوَقْفِ المُطْلَقِ الَّذي لم يُعَيَّنْ له مَصْرِفٌ. وقد ذَكَرْنا أنَّه للمَساكِينِ في بعضِ الرِّواياتِ. فأمَّا إن قال صاحِبُها: هذه وَقْفٌ على المَسْجِدِ. فيَنْبَغِي أن تُباعَ ثَمَرتُها وتُصْرَفَ إليه، كما لو وَقَفَها على المَسْجِدِ وهي في غيرِه. وقال أبو الخَطّابِ: عندِي أنَّ المَسْجِدَ إذا احْتاجَ إلى ثَمن ثَمرةِ الشَّجَرةِ، بِيعَتْ، وصُرِفَتْ في عِمارَتِه. وقَوْلُ (¬2) أحمدَ: يَأْكُلُها الجيرانُ. مَحْمولٌ على أنَّهم يَعْمُرُونَه، فإنِ اسْتَغْنَى المَسْجِدُ عنها، فلا بَأْسَ بالأَكْلِ منها. واللهّ سَبحانه وتعالى أعْلَمُ. ¬

(¬1) في م: «النفقة». (¬2) في م: «قال».

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب الهبة والعطية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي حَيَاتِهِ بِغَيرِ عِوَضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الهِبَةِ والعَطِيَّةِ (وهي تَمْلِيكٌ في الحَياةِ بغيرِ عِوَض) الهبَةُ والعَطيَّةُ والهَدِيَّةُ (¬1) والصَّدَقَةُ مَعانِيها مُتَقارِبَة، وهي تَمْلِيكٌ في الحياةِ بغيرِ عِوَض، واسْمُ الهِبَةِ والعَطِيَّةِ شامِل لجَمِيعِها. فأمّا الصَّدَقَةُ والهَدِيَّة فهما مُتَغايِران وإن دَخَلَا في مُسَمَّى الهِبَةِ والعَطِيَّةِ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ ولا يَأْكلُ الصَّدقَةَ (¬2). وقال في اللَّحْمِ الذي تُصُدِّقَ به على بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيها صَدَقَة، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» (¬3). فالظّاهِرُ أنَّ مَن أعْطَى شيئًا يَنْوي به التَّقَرُّبَ إلَى ¬

(¬1) في م: «الهبة». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 297. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 298.

2602 - مسألة: (فإن شرط فيها عوضا معلوما، صارت بيعا. وعنه، يغلب فيها حكم الهبة)

فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا عِوَضًا مَعْلُومًا، صَارَتْ بَيعًا. وَعَنْهُ، يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى للمُحْتاجِ، فهو صَدَقَةٌ، ومَن دَفَع إلى إنْسانٍ شيئًا للتَّقَرُّبِ إليه والمَحَبَّةِ لِه، فهو هَدِيَّة. وجَمِيعُ ذلك مَنْدُوبٌ إليه؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» (¬1). وأمّا الصَّدَقَةُ فما وَرَد في فَضْلِها كَثِير، وقد قال اللهُ تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬2). 2602 (*) - مسألة: (فإن شَرَط فيها عِوَضًا مَعْلُومًا، صارت بَيعًا. وعنه، يَغْلِبُ فيها حُكْمُ الهِبَةِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الهِبَةَ المُطْلَقَةَ لا تَقْتَضِي ثَوابًا، سَواءٌ كانت لمِثْلِه أو دُونِه أو أعْلَى منه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ كقَوْلِنا فيما إذا كانت لمِثْلِه أو دُونِه، وإن كانت لأعْلَى ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في المهاجرة، من كتاب حسن الخلق. الموطأ 2/ 908. (¬2) سورة البقرة 271. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: تكرر الترقيم 2602، 2603 هكذا في المطبوع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه اقْتَضتِ الثَّوابَ، في أحَدِ القَوْلَين. وهو قولُ مالِكٍ؛ لقولِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: مَن وَهَب هِبَةً أراد بها الثَّوابَ فهو على هِبَتِه، يَرْجِعُ فيها إذا لم يُرْضَ منها (¬1). ولَنا، أنَّها عَطِيَّة على وَجْهِ التَّبَرُّعِ، فلم تَقتَض ثَوابًا، كهِبَةِ المِثْلِ والوَصِيَّةِ، وقولُ عُمَرَ قد خالفَه ابْنُه وابنُ عباسٍ، فلا يَبْقَى حُجَّةً. فإن عَوَّضَه عن الهِبَةِ كانت هِبَةً مُبْتَدَأةً لا عِوَضًا، أيُّهما. أصاب عَيبًا لم يكنْ له الرَّدُّ. وإن خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً أخَذَها صاحِبُها، ولم يَرْجِعِ المَوْهُوبُ له ببَدَلِها. فإن شَرَط في الهِبَةِ ثَوابًا مَعْلُومًا، صَحَّ. نَصَّ عليه؛ لأنَّه تَمْلِيكٌ بعِوَض مَعْلُوم، فهو كالبَيعِ (¬2)، وحُكْمُها حُكْمُ البَيعِ في ثُبُوتِ الخِيارِ والشُّفْعَةِ. وبه قال أصحابُ الرَّأْي. ولأصحابِ الشافعيِّ قولٌ، أنَّها لا تَصِحُّ، لأنَّه شَرَط في الهبَةِ ما يُنافِي مُقْتَضاها. ولَنا، أنَّه تَمْلِيكَ بعِوَض، فصَحَّ، كما لو قال: مَلَّكْتُكَ هذا بدِرْهَمٍ. فإنَّه لو أطْلَقَ التَّملِيكَ كان هِبَةً، فإذا ذَكَر العِوَضَ صار بَيعًا. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى ذَكَرَها أبو الخَطّابِ، أنَّه يَغْلِبُ عليها حُكْمُ الهِبَةِ، فلا تَثْبُتُ فيها أحْكامُ البَيعَ المُخْتَصَّةُ به. ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب القضاء في الهبة، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 754. (¬2) في م: «كالهبة».

2603 - مسألة: (وإن شرط ثوابا مجهولا، لم تصح)

وَإِنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا، لَمْ تَصِحَّ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ قَال: يُرْضِيهِ بِشيْءٍ. فَعَلَى هَذَا، أنْ لَمْ يَرْضَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، أَوْ فِي عِوَضِهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2603 - مسألة: (وإن شَرَط ثَوابًا مَجْهُولًا، لم تَصِحَّ) الهِبَةُ، وحُكْمُها حُكْمُ البَيعِ الفاسِدِ؛ لأنَّه عِوَضٌ مَجْهُولٌ في مُعاوَضَةٍ، فلم يَصِحَّ، كالبَيعِ، ويَرُدُّها المَوْهُوبُ له بزِيادَتِها المُتَّصِلَةِ والمُنْفَصِلَةِ؛ لأنَّه نَماءُ مِلْك الواهِبِ. وإن كانت تالِفَةً رَدَّ قِيمَتَها. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ (وعنه، أنَّه قال: يُرْضِيه بشيءٍ) وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّها تَصِحُّ، فإذا أعْطاه عنها عِوَضًا رَضِيَه، لَزِم العَقْدُ بذلك. قال أحمدُ، في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَم: إذا قال الواهِبُ: هذا لك على أن تُثِيبَنِي. فله أن يَرْجِعَ إذا لم يُثِبْه؛ لأنَّه شَرْطٌ. وقال، في رِوايَةِ إسماعيلَ بنِ سعيدٍ: إذا وَهَب له على وَجْهِ الإثابَةِ، فلا يجوزُ إلَّا أن يُثِيبَه منها (فعلى هذا) عليه أن يُعْطِيَه حتى يُرْضِيَه، فإن لم يَفْعَلْ فللواهِبِ (الرُّجُوعُ فيها، أو عِوَضُها إن كانت تالِفَةً) لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ فاسِدٌ، فلَزِمَه ضَمانُ العَينِ إذا تَلِفَتْ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالبَيعِ الفاسِدِ. ويَحْتَمِلُ أن يُعْطِه قَدْرَ قِيمَتِها. والأوّلُ أصَحُّ؛ لأن هذا بَيعٌ، فيُعْتَبَرُ له التَّراضِي، إلَّا أنَّه بَيع بالمُعاطاةِ. فإذا عَوَّضَه عِوَضًا رَضِيَه حَصَل البَيعُ بما حَصَل مِن المُعاطاةِ مع التَّراضِي جمها، وإن لم يَحْصُلِ التَّراضِي لم يَصِحَّ؛ لعَدَمِ العَقْدِ، فإنَّه لم يُوجَدِ الإيجابُ والقَبُولُ ولا المُعاطاةُ ولا التَّراضِي. والأصْلُ في هذا قولُ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه: مَنْ وَهَب هِبَةً أراد بها الثَّوابَ فهو على هِبَتِه، يَرْجِعُ فيها ما لم يُرْضَ منها. ورُوِيَ مَعْنَى ذلك عن علِيٍّ، وفَضالةَ بن عُبَيدٍ، ومالِكِ بنِ أنَسٍ. وهو قولُ الشافعيِّ، على القولِ الذي يَرَى أنَّ الهِبَةَ المُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثَوابًا. وقد روَى أبو هُرَيرةَ، أنَّ أعْرابِيًّا وَهَب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ناقَةً، فأعْطاه ثَلاثًا فأبَى فزادَه ثَلاثًا، [فأبَى، فزادَه ثَلاثًا] (¬1) فلمّا كَمَلَتْ تِسْعًا، قال: رَضِيت. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لَا أتَّهِبَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أوْ أنْصَارِيٍّ أو ثَقَفِيٍّ أوْ دَوْسِيٍّ». من «المُسْنَدِ» (¬2). فإن تَغَيَّرَتِ العَينُ المَوْهُوبَةُ بزِيادَةٍ أو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) المسند 2/ 247. كما أخرجه أبو داود، في: باب في قبول الهدايا، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 260. والترمذي، في باب مناقب ثقيف وبني حنيفة، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 295، 296. والنسائي، في: باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، من كتاب العمرى. المجتبى 6/ 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نُقْصانٍ، أو لم يُثِبْه منها، فقال أحمدُ: لا أرَى عليه نُقْصانَ ما نَقَصَه عندَه إذا رَدَّه إلى صاحِبِه، إلَّا أن يكونَ ثَوْبًا لَبِسَه، أو جارِيَةً اسْتَخْدَمَها، فأمّا غيرُ ذلك إذا نَقَص فلا شيءَ عليه، فكان عندِي مثلَ الرَّهْنِ، الزِّيادَةُ والنُّقْصانُ لصاحِبِه.

2604 - مسألة: (وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة، من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة بما يدل عليها)

وَتَحْصُلُ الْهِبَةُ بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ هِبَةً، مِنَ الإيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْمُعَاطَاةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2604 - مسألة: (وتَحْصُلُ الهِبَةُ بما يَتَعارَفُه الناسُ هِبَةً، مِن الإِيجابِ والقَبُولِ والمُعاطاةِ المُقْتَرِنَةِ بما يَدُلُّ عليها) فالإيجابُ أن يقولَ: وَهَبْتُك. أو: أهْدَيتُ إليك. أو: مَلَّكْتُك. أو: هذا لك. ونحوَه مِن الألفاظِ الدّالَّةِ على هذا المَعْنَى. والقَبُولُ أن يقولَ: قَبِلْتُ. أو: رَضِيتُ. أو نحوَ هذا. وتَصِحُّ بالمُعاطاةِ المُقْتَرِنَةِ بما يَدُلُّ عليها (¬1)، وإن لم يَحْصُلْ إيجابٌ أو (¬2) قَبُولٌ. وذَكَر القاضي، وأبو الخَطّابِ، أنَّ الهِبَةَ والعَطِيَّةَ لا بُدَّ فيها مِن الإِيجابِ والقَبُولِ، ولا تَصِحُّ بدُونِه، سَواءٌ وُجِد القَبْضُ أو لم يُوجَدْ. وهو قولُ أكْثَرِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه عَقْدُ تَمْلِيكٍ، فافْتَقَرَ إلى الإيجابِ والقَبُولِ، كالنِّكاحِ. والصَّحِيحُ أنَّ المُعاطاةَ والأفْعال الدّالَّةَ على الإيجابِ والقَبُولِ كافِيَةٌ، ولا يُحْتاجُ إلى لَفْظٍ. اخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. وفي م: «عليهما». (¬2) في ر 1: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُهْدِي ويُهْدَى إليه، ويُعْطِي ويُعْطَى، ويُفَرِّقُ الصَّدَقاتِ، ويَأْمُرُ سُعاتَه بأخْذِها وتَفْرِيقِها، وكان أصحابُه يَفْعَلُون ذلك، ولم يُنْقَلْ عنهم في ذلك إيجابٌ ولا قَبُولٌ، ولا أمْرٌ به ولا تَعْلِيمُه لأحَدٍ، ولو كان ذلك شَرْطًا لنُقِلَ عنهم نَقْلًا مُشْتَهَرًا، وقد كان ابنُ عُمَرَ على بَعِيرٍ لعُمَرَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ: «بِعْنِيهِ». فقال: هو لك يا رسولَ اللهِ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ لَكَ يا عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ به ما شِئْتَ» (¬1). ولم يُنْقَلْ قَبُولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن عُمَرَ، ولا قَبُولُ ابنِ عُمَرَ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان شَرْطًا لفَعَلَه النبيُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 313.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - وعَلِمَه ابنُ عُمَرَ، ولم يكنْ ليَأمُرَه أن يَصْنَعَ به ما شاء قبلَ أن يَقْبَلَه. وروَى أبو هُرَيرَةَ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أُتِيَ بطَعام سَألَ عنه، فإن قالُوا: صَدَقَةٌ. قال لأصحابِه: «كُلُوا». ولم يَأْكُلْ، وإن قالُوا: هَدِيَّةٌ. ضَرَب بيَدِه فأكَلَ معهم (¬1). ولا خِلافَ بينَ العُلَماءِ فيما عَلِمْنا في أن تَقْدِيمَ الطَّعامِ بينَ يَدي الضِّيفانِ والإذْنَ في أكْلِه، أنَّ ذلك لا يَحْتاجُ إلى إيجابٍ ولا قَبُولٍ. ولأنه وُجِد ما يَدُلُّ على التَّراضِي بنَقْلِ المِلْكِ، فاكْتُفِيَ به، كما لو وُجِد الإيجابُ والقَبُولُ. قال ابنُ عَقِيلٍ: إنَّما يُشْتَرَطُ الإيجابُ مع الإطْلاقِ وعَدَمِ العُرْفِ القائِمِ مِن المُعْطِي والمُعْطىَ؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ عُرْفٌ يَدُلُّ على الرّضا، فلا بُدَّ مِن قولٍ دالٍّ عليه، أمّا مع قَرائِنِ الأحْوالِ والدَّلالةِ، فلا وَجْهَ لتَوَقُّفِه على اللَّفْظِ، ألا تَرَى أنّا اكْتَفَينا بالمُعاطاةِ في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 297.

2605 - مسألة: (وتلزم بالقبض. وعنه، تلزم في غير المكيل والموزون بمجرد الهبة)

وَتَلْزَمُ بِالْقَبْض. وَعَنْهُ، تَلْزَمُ فِي غَيرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيعِ، واكْتَفَينا بدَلالةِ الحالِ في دُخُولِ الحَمّامِ، وهو إجارَةٌ وبَيعُ أعْيانٍ، فإذا اكْتَفَينا في المُعاوَضاتِ مع تَأكُّدِها بدَلالةِ الحالِ، فإنَّها تَنْقُلُ المِلْكَ مِن الجانِبَين، فلأن نَكْتَفِيَ به في الهِبَةِ أوْلَى. وأمّا النِّكاحُ فإنَّه يُشْتَرَطُ فيه ما لا يُشْتَرَطُ في غيرِه مِن الإشْهادِ، ولا يَقَعُ إلَّا قَلِيلًا، فلا يَشُقُّ اشْتِراطُ الإِيجابِ والقَبُولِ فيه، بخِلافِ الهِبَةِ. والله سبحانه وتعالى أعْلَمُ. 2605 - مسألة: (وتَلْزَمُ بالقَبْضِ. وعنه، تَلْزَمُ في غير المَكِيلِ والمَوْزُونِ بمُجَرُّدِ الهِبَةِ) أمّا المَكِيلُ والمَوْزُونُ الذي لا يتَمَيَّزُ إلَّا بالكَيلِ والوزْنِ، فلا تَلْزَمُ الهِبَةُ فيه إلَّا بالقَبْضِ، وعلى قِياسِ ذلك المَعْدُودُ والمَذْرُوعُ. وهو قولُ أكثرَ الفُقَهاءِ؛ منهم النَّخَعِي، والثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ بنُ صالِحٍ، وأبو حنيفةَ، والشافعي. وقال مالِكٌ، وأبو ثَوْرٍ: تَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، لعُمُومِ قَوْلِه، عليه السَّلامُ: «العائِدُ في هِبَتِه كَالعائِدِ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَيْئِه» (¬1). ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ بغيرِ عِوَضٍ، فلَزِم بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كالوَقْفِ والعِتْقِ، ولأنَّه تَبَرُّعٌ فلا يُعْتَبَرُ فيه القَبْضُ، كالوَصِيَّةِ والوَقْفِ. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّه مَرْويٌّ عن أبي بكرٍ، وعُمَرَ، رَضِي اللهُ عنهما، ولم نَعْرِفْ لهما في الصَحابةِ مُخالِفًا. وقد روَى عُرْوَةُ عن عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، نخَلَها جِذاذَ عِشْرين وَسْقًا مِن مالِه بالغابة (¬2)، فلَمّا مَرِض قال: يا بُنَيَّةُ، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 6/ 544 من حديث عمر. وأخرجه البخاري، في: باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، وباب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، من كتاب الهبات. صحيح البخاري 3/ 207، 215. ومسلم، في: باب تحريم الرجوع في الصدقة، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1240، 1241. وأبو داود، في: باب الرجوع في الهبة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 261. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 301. والنسائي، في: باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده. . . .، وباب ذكر الاختلاف لخبر عبد الله بن عباس فيه، وباب ذكر الاختلاف على طاوس في الراجع في هبته، من كتاب الهبة. المجتبى 6/ 222 - 225. وابن ماجه، في: باب الرجوع في الهبة، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 797. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 217، 280، 289، 339، 342، 345، 349، 2/ 27، 78، 237، 2/ 259، 291، 327، 430، 492. (¬2) في ر 1، م: «بالعالية». والغابة: موضع قريب من المدينة من عواليها، وبها أموال لأهلها. النهاية في غريب الحديث 3/ 399.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أحَدٌ أحَبَّ إليَّ (¬1) غِنًى منك بعدِي، ولا أحَدٌ أعَزَّ عَلَى فَقْرًا منك، وكنتُ نَحَلْتُكِ جِذاذ عِشْرِين وَسْقًا، ووَدَدْتُ أنَّك حُزْتِيه أو قَبَضْتِيه، وهو اليومَ مالُ الوارِثِ، أخَواكِ واخْتاكِ، فاقْتَسِمُوا على كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. رَواه مالِكٌ في «مُوَطَّئِه» (¬2). وروَى ابنُ عُيَينَةَ، عن الزهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عبدٍ القاريِّ، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ قال: ما بالُ قَوْم يَنْحَلُونَ أوْلادَهم، فإذا مات أحَدُهم قال: مالِي وفي يَدِي. فإذا مات هو قال: قد كنت نَحَلْتُه وَلَدِي، ولا نِحْلَةَ إلَّا (¬3) نِحْلَة يحوزُها الوَلَدُ دُونَ الوالِدِ فإن مات وَرِثَه (¬4). قال المَروذِي: اتَّفَقَ أبو بكرٍ وعُمَرُ وعُثْمان وعلي، على أنَّ الهِبَةَ لا تَجوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. ولأنَّها هِبَة غيرُ مَقْبُوضَةٍ فلم تَلْزَمْ، كما لو مات الواهِبُ قبلَ أن يَقْبِضَ، فإنَّ مالِكًا يقولُ: لا يَلْزَمُ الوَرَثَةَ ¬

(¬1) زيادة من ر 1. (¬2) تقدم تخريجه 16/ 485. (¬3) في م: «لا». (¬4) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النحل، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 753.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّسْلِيمُ. والخَبرُ مَحْمُولٌ على المَقْبُوضِ. ولا يَصِحُّ القِياسُ على الوَقْفِ والوَصِيَّةِ والعِتْقِ؛ لأنَّ الوَقْفَ إخْراجُ مِلْكٍ إلى اللهِ تعالى، فخالفَ التَّمْلِيكاتِ، والوَصِيَّةُ تَلْزَمُ في حَق الوارِثِ، والعِتْقُ إسْقاطُ حَقٍّ وليس بتَمْلِيكٍ، ولأنَّ الوَقْفَ والعِتْقَ لا يكونُ في مَحَلِّ النِّزاعِ؛ لأنَّ النِّزاعَ في المَكِيلِ والمَوْزُونَ. فصل: وفي غيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ رِوايَتان؛ إحْداهما، أنَّ حُكْمَه حُكْمُ المَكِيلِ والمَوْزُونِ، في أنَّه لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ. وهو قولُ أكْثَرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ. قال المَرُّوذِيُّ: اتَّفَقَ أبو بكرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ وعليٌّ، على أنَّ الهبَةَ لا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. رُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والعَنْبَرِيِّ، والحَسَنِ بنِ صالِح، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لِما ذَكَرْنا في المَكِيلِ والمَوْزُونِ. والثانيةُ، أنَّها تَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، ويَثْبُتُ المِلْكُ في المَوْهُوبِ فيه قبلَ قَبْضِه، فرُوىَ عن علي، وابنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما قالا: الهِبَةُ جائِزَة إذا كانت مَعْلُومَةً، قُبِضَتْ أو لم تُقْبَضْ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ، لأنَّ الهِبَةَ أحَدُ نَوْعَي التَّمْلِيكِ، فكان منها ما لا يَلْزَمُ قبلَ القَبْضِ، ومنها ما يَلْزَمُ قبلَه، كالبَيعِ، فإنَّ منه ما لا يَلْزَمُ إلَّا بقَبْضٍ، وهو الصَّرفُ وبَيعُ الرِّبَويّاتِ، ومنه ما يَلْزَمُ قبلَه، وهو ما عَدا ذلك. فأمّا حديثُ أبي بكرٍ في هِبَتِه لعائشةَ،، فإنَّ جِذَاذَ عِشْرِين وَسْقًا يَحْتَمِلُ أنَّه أراد به عِشْرِين وَسْقًا مَجْذُوذَةً، فيكونُ مَكِيلًا غيرَ مُعَيَّن، وهذا لابُدَّ فيه مِن القَبْضِ، وإن أراد نَخْلًا يُجَذ عِشْرِين وَسْقًا، فهو أيضًا غيرُ مُعَيَّنٍ، فلا تَصِحُّ الهِبَةُ فيه قبلَ تَعْيِينه، فيكونُ مَعْناه: وَعَدْتُكِ بالنِّحْلَةِ. وقولُ عُمَرَ أراد به النَّهْيَ عن التَّحَيُّلِ بنِحْلَةِ الوالِدِ وَلَدَه نِحْلَةً مَوْقُوفَةً على المَوْتِ، فيُظْهِرُ: إنِّي نَحَلْتُ وَلَدِي شيئًا. ويُمْسِكُه في يَدِه يَسْتَعْمِلُه (¬1)، فإذا مات أخَذَه وَلَدُه بحُكْمِ النِّحْلَةِ التي أظْهَرَها، وإن مات وَلَدُه أمْسَكَه، ولم يُعْطِ [وَرَثَةَ ولدِه] (¬2) شيئًا. وهذا على هذا الوَجْهِ مُحَرَّمٌ، فنَهاهُم عن هذا حتى يَحُوزَها الوَلَدُ دُونَ والِدِه، فإن مات وَرِثَها ¬

(¬1) في م: «يستغله». (¬2) في م: «ورثته».

2606 - مسألة: (ولا يصح القبص إلا بإذن الواهب، إلا ما كان في يد المتهب، فيكفي مضي زمن يتأتى قبضه فيه. وعنه، لا يصح حتى يأذن في القبض)

وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ إلا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، إلا مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ، فَيَكْفِي مُضِيُّ زَمَن يَتَأَتَّى فيهِ قَبْضُهُ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَأْذَنَ فِي الْقَبْضَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَثته كسائِرِ مالِه. وإذا كان المَقْصُودُ هذا اخْتَصَّ بهِبَةِ الوَلَدِ وشِبْهِه. على أنَّه قد رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، خِلافُ ذلك، فتَعارَضتْ أقْوالُهم. فصل: قَوْلُه، في المَكِيلِ والمَوْزُونِ: إنَّ الهِبَةَ لا تَلْزَمُ فيه إلَّا بالقَبْضِ. مَحْمُولٌ على عُمُومِه في كلِّ ما يُكالُ ويُوزَنُ، وخَصَّه أصحابُنا المُتَأخِّرُون بما ليس بمُعَيَّن منه، كقَفِيزٍ مِن صُبْرَةٍ، ورَطْل مِن دَنٍّ. وقد ذَكَرْنا ذلك في البَيعِ، ورَجَّحْنا العُمُومَ. 2606 - مسألة: (ولا يَصِحُّ القَبْصُ إلَّا بإذْنِ الواهِبِ، إلَّا ما كان في يَدِ المُتَّهِبِ، فيَكْفِي مُضِيُّ زَمَن يتَأتَّى قَبْضُه فيه. وعنه، لا يَصِحُّ حتى يَأْذَنَ في القَبْضِ) إذا قُلْنا: إنَّ الهِبَةَ لا تَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ. لم يَصِحَّ القَبْضُ إلَّا بإذْنِ الواهِبِ؛ لأنَّه قَبْضٌ غيرُ مُسْتَحَق عليه، ولأنَّه أمْرٌ تَلْزَمُ به الهِبَةُ، فلم يَصِحَّ إلَّا بإذْنِ الواهِبِ، كأصْلِ العَقْدِ (¬1). فأمّا ما كان في يَدِ المُتَّهِبِ، كالوَدِيعَةِ والمَغْصُوبِ، فظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، أنَّها تَلْزَمُ ¬

(¬1) بعده في ر 2، م: «لأن قبضه مستدام، فأغنى عن الابتداء، كما لو باعه سلعة في يده. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى». ويأتي موضعها بعد قليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ قَبْضٍ ولا مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى فيها القَبْضُ؛ فإنَّه قال، في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا وَهَب امْرَأتَه شيئًا ولم تَقْبِضْه، فليس بينَه وبينَها خِيارٌ، هي معه في البَيتِ. فظاهِرُ هذا أَنه لم يَعْتَبِرْ قَبْضًا ولا مُضِيَّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى فيها؛ لكَوْنِها معه في البَيتِ، فيَدُها على ما فيه؛ لأنَّ قَبْضَه مُسْتَدامٌ، فأغْنَى عن الابتِداءِ، كما لو باعَه سِلْعَةً في يَدِه. وهو الصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى. قال القاضي: لابُدَّ مِن مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى القَبْضُ فيها. وهل يَفْتَقِرُ، إلى إذْنٍ في القَبْضِ؟ فيه روايتَان؛ إِحْداهما، يَفْتَقِرُ، كغيرِ المَقْبُوضِ. والثانيةُ، لا يَفْتَقِرُ؛ لأَنَّه مَقْبُوضٌ، فلا مَعْنَى لتَجْدِيدِ الإِذْنِ فيه. وقد ذَكَرْنا ذلك في الرَّهْن. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في الاخْتِلافِ في اعْتِبار الإِذنِ واعْتِبارِ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى القبْضُ فيها كمَذهَبِنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والواهِبُ بالخِيارِ قبلَ القَبْضِ، إن شاء أقْبَضَها، وإن شاء رَجَع فيها. فإن قَبَضَها المُتَّهِبُ بغيرِ إذْنِ الواهِبِ، لم يَصِحَّ القَبْضُ، ولم تَتِمَّ الهِبَةُ. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أَنه إذا قَبَضَها في المَجْلِسِ صَحَّ وإن لم يَأْذَنْ له؛ لأنَّ الهِبَةَ قامت مَقامَ الإِذْنِ في القَبْضِ، لكَوْنِها دالّةً على رِضاه بالتَّمْلِيكِ الذي لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبْضِ. ولَنا، أنَّه قَبَض الهِبَةَ بغيرِ إذْنِ الواهِبِ، فلم يَصِحَّ، كما بعدَ المَجْلِسِ، وكما لو نَهاه، ولأنَّ التَّسْلِيمَ غيرُ مُسْتَحَق على الواهِبِ، فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ إلَّا بإذْنِه، كما لو أخَذَ المُشْتَرِي المَبِيعَ مِن البائِعِ قبلَ قَبْضِ ثَمَنِه. ولا يَصِحُّ جَعْلُ الهِبَةِ إذنا في القَبْضِ كما بعدَ المَجْلِسِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا قَبَضَها بحَضْرَةِ الواهِبِ فسَكَتَ (¬1)، أن يَقُومَ ¬

(¬1) سقط من: م.

2607 - مسألة: (فإن مات الواهب، قام وارثه مقامه في الإذن والرجوع)

وَإنْ مَاتَ الْوَاهِبُ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإذْنِ وَالرُّجُوعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك مَقامَ الإذْنِ، كما جَعَلْنا أخْذَ المُتَّهِبِ لها بإذْنِ الواهِبِ دَلِيلًا على القَبُولِ. فإن أذِنَ الواهِبُ في القَبْضِ ثم رَجَع عن الإِذْنِ أو رَجَع في الهِبَةِ، صَحَّ رُجُوعُه؛ لأنَّ ذلك ليس بقَبْضٍ، وإن رَجَع بعدَ القَبْضِ، لم يَصِحَّ رُجُوعُه؛ لأنَّ الهِبَةَ تَمَّت. 2607 - مسألة: (فإنْ مات الواهِبُ، قام وارِثُه مَقامَه في الإِذْنِ والرُّجُوعِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا مات الواهبُ أو المُتَّهِبُ قبلَ القَبْضِ، بَطَلَتِ الهِبَةُ، سَواءٌ كان قبلَ الإِذْنِ في القَبْضِ أو بعدَه. ذكَره القاضي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَوْتِ الواهِب؛ لأنَّه عَقْدٌ جائِزٌ، فبَطَلَ بمَوْتِ أحَدِ المُتعاقِدَين، كالوَكالةِ. قال أحَمدُ، في رِوايَةِ أبي طالِبٍ، وأبي الحارِثِ، في رجل أهْدَى هَدِيَّةً، فلم تَصِلْ إلى المُهْدَى إليه حتى مات: فإنَّها تَعُودُ إلى صاحِبِها ما لم يَقْبِضْها. وروَى بإسْنادِه (¬1) عن أُمِّ كُلْثومٍ بِنْتِ أبي سَلَمَةَ (¬2)، ¬

(¬1) في: المسند 6/ 404. (¬2) في م: «سلمى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: لَمّا تَزَوَّجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ سَلَمَةَ، قال لها: «إنِّي قد أهْدَيتُ إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأوَاقِيَّ مِسْكٍ، وَلَا أرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ، وَلَا أرَى هَدِيَّتِي إلَّا مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإنْ رُدَّتْ فَهِيَ لَكِ». فكان كما قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورُدَّتْ عليه هَدِيته، فأعْطَى كلَّ امرأةٍ مِن نِسائِه أوقِيَّةً مِن مِسْكٍ، وأعْطَى أمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ المِسْكِ والحُلَّةَ. وإن مات المُهْدِي قبلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تَصِلَ إلى المُهْدَى إليه، رَجَعَتْ إلى وَرَثَةِ المُهْدِي، وليس للرسولِ حَمْلُها إلى المُهْدَى إليه، إلَّا أن يَأْذَنَ الوارِثُ. والهِبَةُ كالهَدِيَّةِ. وقال أبو الخَطّابِ: قام وارِثُه مَقامَه في الإذْنِ في القَبْضِ والفَسْخِ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ الهِبَةَ لم تَنْفسِخْ بمَوْتِه. وهو قولُ أكثَرِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه عَقْدٌ مآله إلى اللزُومِ، فلم يَنْفَسِخْ بالمَوْتِ، كالبَيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ. وكذلك يُخَرَّجُ فيما إذا مات المَوْهُوبُ له بعدَ القَبُولِ. وإِن مات أحَدُهما قبلَ القَبُولِ أو ما يَقُومُ مَقامَه، بَطَلَت، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ العَقْدَ لم يَتِمَّ،

2608 - مسألة: (وإن أبرأ الغريم غريمه من دينه، أو وهبه له، أو أحله منه، برئ وإن رد ذلك ولم يقبله)

وَإنْ أَبْرأَ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ مِن دَينِهِ، أوْ وَهَبَهُ لَهُ، أو أَحَلَّهُ مِنْهُ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَإنْ رَدَّ ذلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كما لو مات المُشْتَرِي بعدَ الإِيجابِ وقبلَ القَبُولِ. فإن قُلْنا: إنَّ الهِبَةَ لا تَبْطُلُ. فمات أحَدُهما بعدَ الإِذْنِ في القَبْضِ، بَطل الإِذْنُ؛ لأنَّ المَيِّتَ إن كان هو الواهِبَ، فقد انْتَقَلَ حَقُّه في الرُّجُوعِ في الهِبَةِ إلى وارِثِه، وإن كان المُتَّهِبَ، فلم يُوجَدِ الإِذْنُ لوَارِثِه، فلم يَمْلِكِ القَبْضَ بغيرِ إذْنٍ. والله أعلمُ. 2608 - مسألة: (وإن أْبرَأ الغَرِيمُ غَرِيمَه مِن دَينِه، أو وَهَبَه له، أو أحَلَّه منه، بَرِئَ وإن رَدَّ ذلك ولم يَقْبَلْه) لأنَّه إسْقاطٌ، فلم يَفْتَقِرْ إلى القَبُولِ، كإسْقاطِ القِصاصِ والشُّفْعَةِ وحَدِّ القَذْفِ، وكالعِتْقِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والطَّلاقِ. وكذلك إن قال: تَصَدَّقْتُ به عليك. فإنَّ القُرْآنَ وَرَد في الإِبْراءِ بلَفْظِ الصَّدَقَةِ، قال اللهُ تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَىَ أهْلِه إلَّا أن يَصَّدَّقُوا} (¬1). وإن قال: عَفَوْتُ لك عنه. صَحَّ، قال الله تعالى: {إلَّا أن يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬2). يُرِيدُ به الإبراءَ ¬

(¬1) سورة النساء 92. (¬2) سورة البقرة 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الصَّداقِ. فإن قال: أسْقَطْتُه عنك. صَحَّ؛ لأنَّه أتَى بحَقِيقَةِ اللَّفْظِ. وكذلك إن قال: مَلَّكْتُكَ. لأنَّه بمَنْزِلَةِ هِبَتِه إيّاه. فإن وَهَب الدَّينَ لغيرِ مَن هو في ذِمَّتِه، لم يَصِحَّ، قِياسًا على البَيعِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه لا غَرَرَ فيها على المُتَّهِبِ ولا الواهِبِ، فصَحَّ، كهِبَةِ الأعْيانِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَصِحُّ البَراءَةُ مِن المَجْهُولِ، إذا لم يكنْ لهما سَبِيلٌ إلى مَعْرِفَتِه. وقال أبو حنيفةَ: تَصِحُّ مُطْلَقًا. وقال الشافعيِّ: لا تَصِحُّ، إلَّا أول إذا أراد ذلك، قال: أبرَأتكَ مِن درْهَمٍ إلى ألْفٍ. لأنَّ الجَهالةَ إنَّما مُنِعَتْ لأجْلِ الغَرَرِ، فإذا رَضِيَ بالجُملَةِ فقد زال الغَرَرُ وصَحَّتِ البَراءَةُ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرَجُلَين اخْتَصَما إليه في مَوارِيثَ دَرَسَتْ: «اقْتَسِما، وتَوَخَّيَا الحَقَّ (¬1)، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثم تَحَالَّا». رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه إسْقاطٌ، فصَحّ في المَجْهُولِ، كالطَّلاقِ والعِتَاقِ، وكما لو قال: من دِرْهَم إلى ألْفٍ. ولأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى تَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ، ولا سَبِيلَ إلى العِلْمِ بما فيها، فلو وَقَفَت صِحَّةُ البَراءَةِ على العِلْمِ، لكان سَدًّا لبابِ عَفْو الإِنْسانِ عن أخِيه المُسْلِمِ وتَبْرِئَةِ ذِمَّتِه، فلم يَجُزْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 257.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، كالمَنْعِ مِن العِتْقِ. فأمّا إن كان مَن عليه الحَقُّ يَعْلَمُه ويَكْتُمُه المُسْتَحِقَّ؛ خوْفًا مِن أَنه إذا عَلِمَه لم يَسْمَحْ بإبْرائِه منه، فيَنْبَغِي أن لا تَصِحَّ البَراءَةُ فيه؛ [لأنَّ فيه] (¬1) تَغْرِيرًا بالمُبْرِئَ، وقد أمْكَنَ التَّحَرُّزُ منه. وقال أصحابُنا لو أبرَأه مِن مائةٍ، وهو يَعْتَقِدُ أنَّه لا شيءَ عليه، وكان له عليه مائةٌ، ففي صِحَّةِ البَراءَةِ وَجْهان؛ أحَدُهما، صِحَّتُها؛ لأنَّها صادَفَتْ مِلْكَه، فأسْقَطَتْه، كما لو عَلِمَها. والثانِي، لا تَصِحُّ؛ لأنَّه أبْرَأَه ممّا لا يَعْتَقِدُ أنَّه عليه، فلم يَكُنْ ذلك إبْراءً في الحَقِيقةِ. وأصْلُ الوَجْهَين ما لو باع مالًا كان لمَوْرُوثِه، يَعْتَقِدُ أنَّه باقٍ لمَوْرُوثِه، وكان مَوْرُوثُه قد مات وانْتَقلَ مِلْكُه إليه، فهل يَصِحُّ؟ فيه وَجْهان. وللشافعيِّ قَوْلان في البَيعِ، وفي صِحَّةِ الإِبراءِ وَجْهان. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان المَوْهُوبُ له طِفْلًا أو مَجْنُونًا، لم يَصِحَّ قَبْضُه ولا قَبُولُه؛ لأنَّه مِن غيرِ أهْلِ التَّصَرُّفِ، ويَقْبضُ له أبوه إن كان أمِينًا؛ لأنَّه أشفَقُ عليه وأقْرَبُ إليه. فإن لم يكنْ له أبٌ، قَبَض له وَصِيُّ أبِيه؛ لأنَّ الأبَ أقامَه مُقامَ نَفْسِه، فجَرَى مَجْرَى وَكِيلِه. وإن كان الأبُ غيرَ مَأْمُونٍ، أو كان مَجْنُونًا، أو (¬1) لا وَصِيَّ له، قَبِل له الحاكِمُ. ولا يَلِي ماله غيرُ هؤلاء الثلاثةِ، وأمِينُ الحاكِمِ يَقُومُ مَقامَه، وكذلك وَكِيلُ الأبِ الأمِينِ ووَصِيُّه، يَقُومُ كُلُّ واحِدٍ منهما مَقامَ الصبِيِّ والمَجْنُونِ في القَبُولِ والقَبْضِ إنِ احْتِيجَ إليه؛ لأنَّه قَبُولٌ لِما للصَّبِيِّ أو المَجْنُونِ فيه حَظٌّ، فكان إلى الوَلِيِّ، كالبَيعِ والشِّراءِ. ولا يَصِحُّ القَبْضُ مِن غيرِ هؤلاءِ، قال أحمدُ، في رِوايَةِ صالِح، في صَبِيٍّ وُهِبَتْ له هِبَةٌ، أو تُصُدِّقَ عليه بصَدَقَةٍ، فقَبَضَتِ الأُمُّ ذلك وأبوه حاضِر، فقال: لا أعْرِفُ للأمِّ قَبْضًا، ولا يكونُ إلَّا للأبِ. وقاق عُثْمانُ، رَضِيَ اللهُ عنه: أحَقُّ مَن يَحُوزُ للصَّبِيِّ أبوه. ¬

(¬1) بعده في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، لا أعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ القَبْضَ إنَّما يكونُ مِن المُتَّهِبِ أو نائِبِه، والوَلِيُّ نائِبٌ بالشَّرْعِ، فصَحَّ قَبْضُه له، أمّا غيرُه فلا نِيابَةَ له. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ القَبُولُ والقَبْضُ مِن غيرِهم عندَ عَدَمِهِم؛ لأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى ذلك، فإنَّ الصَّبِيَّ قد يكونُ في مكانٍ لا حاكِمَ فيه، وليس له أبٌ ولا وَصيٌّ، ويكونُ فقيرًا لا غِنَى به عن الصَّدَقاتِ، فإن لم يَصِحَّ قَبْضُ غيرِهم له انْسَدَّ بابُ وُصُولِها إليه، فيَضِيعُ ويَهْلِكُ، ومُراعاةُ حِفْظِه عن الهَلاكِ أوْلَى مِن مُراعاةِ الولايةِ. فعلى هذا، للأمِّ القَبْضُ له، وكلِّ مَن يَلِيه مِن أقْارِبِه وغيرِهم. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا، فحُكْمُه حُكْمُ الطِّفْلِ في قِيامِ وَلِيِّه مَقامَه؛ لأنَّ الولايةَ لا تَزُولُ عنه قبلَ البُلُوغِ، إلَّا أنَّه إذا قَبِل لنَفْسِه وقَبَض لها، صَحَّ؛ لأَنَه مِن أهْلِ التَّصَرُّفِ، فإنَّه يَصِحُّ بَيعُه وشِراؤه بإذْنِ الوَلِيِّ، فههُنا أوْلَى. ولا. يَحْتاجُ إلى إذْنِ الوَلِيِّ ههُنا؛ لأنه مَصْلَحَة لا ضَرَرَ فيه، فَصَحَّ مِن غيرِ إذْنِ وَلِيِّه، كوَصِيَّته وكَسْبِه المُباحاتِ. ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ صِحَّةُ القَبْضِ منه على إذْن وَلِيِّه دُونَ القَبُولِ؛ لأنَّ القَبْضَ يَحْصُلُ به مُسْتَوْلِيًا على المالِ، فلا يُؤْمَنُ تَضْيِيعُه له وتَفْرِيطُه فيه، فيتَعَيَّنُ حِفْظُه عن ذلك بتَوَقُّفِه على إذْنِ وَلِيِّه، كقَبْضِه لوَدِيعَتِه، بخِلافِ القَبُولِ، فإنّه يَحْصُلُ له به المِلْكُ مِن غيرِ ضَرَرٍ، فجاز مِن غيرِ إذْنٍ، كاحْتِشاشِه واصْطِيادِه. فصل: فإن وَهَب الأبُ لوَلَدِه الصَّغِيرِ شيئًا، قام مَقامَه في القَبْضِ والقَبُولِ، إنِ احْتِيجَ إليه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ الرجلَ إذا وَهَب لوَلَدِه الطِّفْلِ دارًا بعَينها، أو عَبْدًا بعَينه، وقَبَضَه له مِن نَفْسِه، وأشْهَدَ عليه، أن الهِبَةَ تامَّة. هذا قولُ مالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي. ورُويَ مَعْنَى ذلك عن شرَيح،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ. فإن كان المَوْهُوبُ ممّا يَفْتَقِرُ إلى قَبْض، اكْتُفِيَ بقَوْلِه: قد وَهَبْتُ هذا لابنِي، وقَبَضْتُه له. لأنه يُغْني عن القَبُولِ، كما ذَكَرْنا. ولا يَكْفِي قَوْلُه: قد قَبِلْتُه. لأن القَبُولَ لا يُغْنِي عن القَبْضِ. وإن كان ممّا لا يَفْتَقِرُ، اكْتُفِي بقَوْلِه: قد وَهَبْتُ هذا لابني. ولا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ قَبْضٍ ولا قَبُولٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ الفقَهاءُ على أن هِبَةَ الأبِ لوَلَدِه الصَّغِيرِ في حِجْرِه لا تَحْتاجُ إلى قَبْضٍ، وأنَّ الإشْهادَ فيها يُغْنِي عن القَبْضِ، وإن وَلِيهَا أبوه؛ لِما رَواه مالِكٌ، عن الزُّهْرِيِّ، عن ابنِ المُسَيَّبِ، أنَّ عُثْمانَ قالْ: مَن نَحَل وَلَدًا له صَغِيرًا لم يَبْلُغْ أن يَحُوزَ نِحْلَةً، فأعْلَنَ ذلك وأشْهَدَ على نَفْسِه، فهي جائِزَةٌ، وإن وَلِيَها أبُوه (¬1). وقال القاضي: لابُدَّ في هِبَةِ الوَلَدِ مِن أن يقولَ: قَبِلْتُه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الهِبَةَ عندَهم لا تَصِحُّ إلَّا بالإِيجابِ والقَبُولِ. وقد ذَكَرْنا مِن قبلُ أنَّ قَرائِنَ الأحْوالِ ودَلالتَها تُغْنِي عن لَفظِ القَبُولِ، ولا أدَلَّ على القَبُولِ مِن كونِ القابلِ هو الواهِبَ، فاعْتِبارُ لَفْظٍ لا يُفِيدُ مَعْنًى مِن غيرِ وُرُودِ الشَّرْعِ به تَحَكُّمٌ لا مَعْنَى له، مع مُخالفَتِه لظاهِرِ حالِ أمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابتِه. وليس هذا مَذْهَبًا لأحمدَ، فقد قال، في رِوايَةِ حَرْبٍ، في رجلٍ أشْهَدَ بسَهْمٍ مِن ضَيعَتِه، وهي مَعْرُوفَةٌ، لأبيه، وليس له وَلَدٌ غيرَه، فقال: أُحِبُّ أن يقولَ عندَ الإشْهادِ: قد قَبَضْتُه له. قِيلَ (¬2) له: فإن سَهَا. قال: إذا كان مُفْرَزًا رَجَوْتُ. فقد ذَكَر أحمدُ أنَّه يُكْتَفَى بقَوْلِه: ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب يقبض للطفل أبوه، من كتاب الهبات. السنن الكبرى 6/ 170. (¬2) في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد قَبَضْتُه له. وأنَّه يَرْجُو أن يُكْتَفَى مع التَّمْيِيزِ بالإشْهادِ فحَسْبُ. وهذا مُوافِقٌ للإجْماعِ المَذْكُورِ عن سائِرِ العُلَماءِ. وقال بعضُ اُصحابِنا: يُكْتَفَى بأحَدِ لَفْظين، إمّا أن يقولَ: قد قَبِلْتُه. أو: قد قَبَضْتُه. لأنَّ القَبُولَ يُغْنِي عن القَبْضِ. وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ ما ذَكَرْناه. ولا فَرْقَ بينَ الأثْمانِ وغيرِها فيما ذكَرْنا. وبه يقولُ أبو حنيفةَ، والشافعي. وقال مالِكٌ: إن وَهَب له ما لا يُعْرَفُ بعَينه؛ كالأثْمانِ، لم يَجُزْ، إلَّا أن يَضَعَها على يَدِ غيرِه؛ لأنَّ الأبَ قد يُتْلِفُ ذلك، أو يَتْلَفُ بغيرِ سَبَبه، فلا يُمْكِنُ أن يُشهِدَ على شيءٍ بعَينه، فلا يَنْفَعُ القَبْضُ شيئًا. ولَنا، أنَّ ذلك ممّا يَصِحُّ هِبَتُه، فإذا وَهَبَه لابنِه الصَّغِيرِ وقَبَضَه له، صَحَّ، كالعُرُوضِ. فصل: فإن كان الواهِبُ للصَّبِيِّ غيرَ الأبِ مِن أوْلِيائِه، فقال أصحابُنا: لابُدَّ أن يُوَكِّلَ مَن يَقْبَلُ للصَّبِيِّ ويَقْبِضُ له؛ ليكونَ الإِيجابُ منه، والقَبولُ والقَبْضُ مِن غيرِه، كما في البَيعِ، بخِلافِ الأبِ؛ فإنَّه يَجُوزُ أن يُوجِبَ ويَقْبَلَ ويَقْبضَ، لكَوْنِه يَجُوزُ أن يَبِيعَ لنَفْسِه. قال شيخُنا (¬1). والصَّحِيحُ عندِي أنَّ الأبَ وغيرَه في هذا سَواءٌ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَجُوزُ أن يَصْدُرَ منه ومِن وَكِيلِه، فجاز أن يَتَولَّى طَرَفَيه، كالأبِ. وفارَقَ البَيعَ؛ فإنَّه لا (¬2) يَجُوزُ أن يُوَكِّلَ مَن يَشْتَرِي له، ولأنَّ البَيعَ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ ومُرابَحَةٍ، فيُتَّهَمُ في عَقْدِه لنَفْسِه، والهِبَةُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لا تهْمةَ فيها، وهو وَلِيٌّ، فجاز ¬

(¬1) في: المغني 8/ 255. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يتَوَلَّى طَرَفَي العَقْدِ، كالأبِ، ولأنّ البَيعَ إنَّما مُنِع منه لِما يَأْخُذُه مِن العِوَضِ لنَفْسِه مِن مالِ الصَّبِيِّ، وهو ههُنا يُعْطِي ولا يَأْخُذُ، فلا وَجْهَ لمَنْعِه مِن ذلك وتَوْقِيفِه على تَوْكِيلِ غيرِه، ولأننا قد ذَكَرْنا أنه يُستَغْنَى بالإيجابِ والإشْهادِ عن القَبْضِ والقَبُولِ، فلا حاجَةَ إلى التَّوْكِيلِ فيهما مع غِناه عنهما. فصل: فأمّا الهِبَةُ مِن الصَّبِيِّ لغيرِه، فلا تَصِحُّ، سَواءٌ أذِنَ فيها الوَلِيُّ أو لم يَأْذَنْ؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه لِحَظِّ نَفْسِه، فلم يَصِح تَبَرُّعُه، كالسَّفِيهِ. فأمّا العَبْدُ فلا يَجُوزُ أن يَهَبَ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه؛ لأنَّه مالٌ لسَيِّدِه، ومالُه مالٌ لسَيِّدِه، فلا يجوزُ له إزالةُ مِلْكِ سَيِّدِه عنه بغيرِ إذْنِه، كالأجْنَبِيِّ. وقد ذَكَرْنا في جَوازِ الصَّدَقَةِ مِن قُوتِه بالرَّغِيفِ ونحوه رِوايَةً أنَّ ذلك جائِزٌ، وذَكَرْنا دَلِيلَه في الحَجْرِ (¬1). وللعَبْدِ أن يَقْبَلَ الهَدِيَّةَ والهِبَةَ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. نَصَّ عليه أحمدُ، لأنَّه تَحْصِيل للمالِ للسَّيِّدِ، فلم يُعْتَبَرْ إذنه فيه، كالالتِقاطِ والاصْطِيادِ ونحوه. فصل: والقَبْضُ في الهِبَةِ كالقَبْضِ في البَيعِ، وقد ذَكَرْنا ذلك والاخْتِلافَ فيه في كِتابِ البَيعِ، وهذا مَقِيسٌ عليه. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 13/ 429.

2609 - مسألة: (وتصح هبة المشاع)

وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2609 - مسألة: (وتَصِحُّ هِبَةُ المُشَاعِ) وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ. وسَواءٌ في ذلك ما أمْكَنَ قِسْمَتُه أو لم يُمْكِنْ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا تَصِحُّ هِبَةُ المُشاعِ الذي يُمْكِنُ قِسْمَتُه؛ لأنَّ القَبْضَ شَرْطٌ في الهِبَةِ، ووُجُوبُ القِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ القَبْضِ وتَمامَه، وتَصِحُّ هِبَة ما لا يُمْكِنُ قِسْمَتُه؛ لعَدَمِ ذلك فيه. فإن وَهَب واحِدٌ اثْنَين شيئًا ممّا يَنْقَسِمُ، لم يَجُزْ عندَ أبي حنيفةَ، وجاز عندَ صاحِبَيه. وإن وَهَب اثْنان اثْنَين شيئًا ممّا يَنْقَسِمُ، لم يَصِحَّ في قِياسِ قَوْلِهم؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن المُتَّهِبَينِ قد وُهِب له جُزْءٌ مُشاعٌ. ولَنا، أنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمّا جاءُوا يَطْلبون مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَرُدَّ عليهم ما غَنِمَه منهم، قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ». رَواه البُخارِيُّ (¬1). وهو هِبَةُ ¬

(¬1) في: باب إذا وهب شيئًا لوكيل. . . .، من كتاب الوكالة، وفي: باب من ملك من العرب رقيقا. . . .، من كتاب العتق، وفي: «باب من رأى الهبة الغائبة جائزة، من كتاب الهبة، وفي: باب من الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين. . . .، من كتاب الخمس، وفي باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. . . .} من كتاب المغازي. صحيح البخاري 3/ 130، 131، 193، 205، 206، 4/ 108، 5/ 95. وليس فيه لفظ: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم». ولكن أخرجه النسائي، في: باب هبة المشاع، من كتاب الهبة. المجتبى 6/ 220، 221. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 184، 218.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُشاعٍ. وروَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء رجلٌ ومعه كُبَّةٌ (¬1) مِن شَعْرٍ، فقال: أخَذْتُ هذه مِن الْمَغْنَمِ لأُصلِحَ بها بَرْذَعَةً لي، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَانَ لي وَلِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فهُوَ لكَ» (¬2). وروَى عُمَيرُ بنُ سَلَمَةَ الضَّمْرِيُّ، قال: خَرَجْنَا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أتَينا الرَّوْحاءَ، فرَأينا حِمارَ وَحْشٍ مَعْقُورًا، فأرَدْنا أخْذَه، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوهُ، فإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَجِئَ صَاحِبُه». فجاء رجلٌ مِن بَهْزٍ، وهو الذي عَقَرَه، فقال: يا رسولَ اللهِ، شَأْنُكُم بالحِمارِ. فأمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[أبا بكرٍ] (¬3) أن يَقسِمه بينَ النّاسِ. رَواهُ الإمامُ أحمدُ، والنَّسائِيُّ (¬4). ولأنه يجوزُ بَيعُه، فجازَتْ هِبَتُه، كالذي لا يَنْقَسِمُ. وقولُهم: إنَّ وُجُوبَ القِسْمَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ القَبْضِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ صِحَّتَه في البَيعِ، فكذا ههُنا. ومتى كانتِ الهِبَةُ لاثْنَين، فَقَبَضاه بإذْنِه، ثَبَت مِلْكُهما فيه، وإن قَبَضَه أحَدُهما، ثَبَت المِلْكُ في نَصِيبِه دُونَ نَصِيبِـ (¬5) صاحِبِه. ¬

(¬1) الكبة من الشعر: الخصلة المجتمعة منه. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في فداء الأسير بالمال، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 57، 58. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 184. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه النسائي، في: باب إباحة أكل لحوم حمر الوحش، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 181. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 418. (¬5) سقط من: م.

2610 - مسألة: (و)

وَكُلِّ مَا يَجُوزُ بَيعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2610 - مسألة: (و) تَصِحُّ هِبَةُ (كلِّ ما يَجُوزُ بَيعُه) لأنَّه تَمْلِيكٌ في الحَياةِ، فصَحَّ، كالبَيعِ. وتَصِحُّ هِبَةُ الكَلْبِ وما (¬1) يُباحُ الانْتِفاعُ به مِن النَّجاساتِ؛ لأنه تَبَرُّعٌ، فجاز في ذلك، كالوَصِيَّةِ. ومتى قُلْنا: إنَّ القَبْضَ شَرْط في الهِبَةِ. لم تَصِحَّ الهِبَةُ فيما لا يُمْكِنُ تَسْلِيمُه، كالعَبْدِ الآبِقِ، والجَمَلِ الشّارِدِ، والمَغْصُوبِ لغيرِ غاصِبِه، ممّن لا يَقْدِرُ على أخْذِه منه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ، ¬

(¬1) في الأصل: «ومالا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَه البَيعَ. فإن وَهَب المَغْصُوبَ لغاصِبِه، أو لمَن يَتَمَكَّن مِن أخْذِه منه، صَحّ؛ لإمكانِ قَبْضِه. وليس لغيرِ الغاصِبِ القَبْضُ إلَّا بإذْنِ الواهِبِ. فإن وَكَّلَ المالِكُ الغاصِبَ في تَقْبِيضِه، صَحَّ. وإن وَكَّلَ المتَّهِبُ الغاصِبَ في القَبْضِ له، فقَبِلَ (¬1) ومَضَى زَمَنٌ يُمْكِن قَبْضه فيه، صار مَقْبُوضًا، ومَلَكَه المُتَّهِبُ، وبَرِئَ الغاصِبُ مِن ضَمانِه. وإن قُلْنا: القَبْضُ ليس شَرْطًا في الهِبَةِ. فما لا يعْتَبر فيه القَبْضُ ذلك يَحْتَمِلُ أن لا يُعْتَبرَ في صِحَّةِ هِبَتِه القُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه تَمْلِيكٌ بلا عِوَضٍ، أشْبَهَ الوَصِيَّةَ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَصِحَّ هِبَتُه؛ لأنَّه لا يَصِحُّ بَيعه، أشْبَهَ الحَمْلَ في البَطْنِ. وكذلك يخَرَّجُ في هِبَةِ الطَّيرِ في الهَواءِ، والسَّمَكِ في الماء، إذا كان مَمْلُوكًا. ¬

(¬1) بعده في ر 1: «ومضى». وبعده في م: «في».

2611 - مسألة: (ولا تصح هبة المجهول)

وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2611 - مسألة: (ولا تَصِح هِبَةُ المَجْهُولِ) كالحَمْلِ في البَطْنِ، واللَّبَنِ في الضَّرْعِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ مَعْجُوزٌ عن تَسْلِيمِه، فلم تَصِحَّ هِبَتُه، كما لا يَصِحُّ بَيعُه. وفي الصُّوفِ على الظَّهْرِ وَجْهان، بِناءً علىٍ صِحَّةِ بَيعِه. ومتى أذِنَ له في جَزِّ الصُّوفِ، وحَلْبِ الشّاةِ، كان إباحَة، وإن وَهَب دُهْنَ سِمْسِمِه قبلَ عَصْرِه، أو زَيتَ زَيتُونِه، أو جَفْتَه (¬1)، لم يَصِحَّ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا. ولا تَصِحُّ هِبَةُ المَعْلُومِ، كالذي تَحْمِلُ أمَتُه أو شَجَرَتُه؛ لأنَّ الهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ في الحَياةِ، فلم تَصِحَّ في هذا كلِّه، كالبَيعِ. ¬

(¬1) الجفت: هو القشر الرقيق الذي بين اللحم والقشر الصلب الذي هو وعاء للحم شجر البلوط. انظر: معجم أسماء النبات 152، حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، للوزير 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قد ذَكَرْنا أنَّ هِبَةَ المَجْهُولِ لا تَصِحُّ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبي داودَ، وحَرْبٍ. وبه قال الشافعيُّ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّ الجَهْلَ إذا كان مِن الواهِبِ مَنَع الصِّحَّةَ؛ لأنَّه غَرَرٌ في حَقِّه، وإن كان مِن المَوْهُوبِ له لم يَمْنَعْها؛ لأنَّه لا غَرَر في حَقِّه، فلم يُعْتَبَرْ في حَقِّه العِلْمُ بما يُوهَبُ له، كالوَصِيةِ. وقال مالِكٌ: تصِحُّ هِبَة المَجْهُولِ؛ لأنَّه تبَرُّعٌ، فصَحَّ في المَجْهُولِ، كالنَّذْرِ والوَصِيَّةِ. ولَنا، أنَّه عَقْدُ تَمْلِيكٍ لا يَصِحُّ تَعْلِيقُه بالشُّرُوطِ، فلم يَصِحَّ في المَجْهُولِ، كالبَيعِ، بخِلافِ النَّذْرِ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 249، 250.

2612 - مسألة: (ولا يجوز تعليقها على شرط، ولا شرط ما ينافي مقتضاها، نحو أن لا يبيعها ولا يهبها)

وَلَا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْط، وَلَا شَرْطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، نَحْوَ أَلَّا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَصِيَّةِ. فأمّا (ما لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه) فتَصِحُّ هِبَتُه، في أحَدِ الاحْتِمالين، إذا قُلْنا: إنَّ القَبْضَ ليس بشَرْطٍ في صِحَّةِ الهِبَةِ. وقد ذَكَرناه. 2612 - مسألة: (ولا يَجُوزُ تَعْلِيقُها على شَرْطٍ، ولا شَرْطُ ما يُنافِي مُقْتَضاها، نحوَ أنَّ لا يَبِيعَها ولا يَهَبَها) لا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الهِبَةِ على شَرْطٍ، لأنَّها تَمْلِيكٌ لعَين في الحَياةِ، فلم يَجُزْ تَعْلِيقُها على شَرْطٍ، كالبَيعِ. فإن عَلَّقَها على شَرْطٍ، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّ سَلَمَةَ: «إنْ

2613 - مسألة: (ولا توقيتها، كقوله: وهبتك هذا سنة)

وَلَا توْقِيتُهَا، كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُكَ هَذَا سَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجَعَتْ هَدِيَّتنَا إلَى النَّجَاشِيِّ، فَهِيَ لَكِ» (¬1). كان وَعْدًا، لا هِبَةً. ومتى شَرَط شَرْطًا يُنافِي مُقْتَضاها، نحوَ أنَّ لا يَبِيعَها ولا يَهَبَها، أو بشَرْطِ أنَّ يَبِيعه أو يَهَبَه، أو أنَّ يَهَبَ فُلانًا شيئًا، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ، رِوايَةً واحِدَةً. وفي صِحَّةِ الهِبَةِ وَجْهان، بِناءً على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. 2613 - مسألة: (ولا تَوْقِيتُها، كقَوْلِه: وَهَبْتُكَ هذا سَنَةً) إذا وَقَّتَ الهِبَةَ، كقَوْلِه: وَهَبْتُكَ هذا سَنَةً، ثم يَعُودُ إلَيَّ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه عَقْدُ تَمْلِيكٍ لعَين، فلم يصِحَّ مُؤْقَّتًا، كالبَيعِ. فصل: وإن وَهَب أمَةً واسْتَثْنَى ما في بَطنها، صَحَّ في قِياسِ قولِ أحمدَ، في مَن أعْتَقَ أمَةً واسْتَثْنَى ما في بَطنها؛ لأنَّه تَبَرَّعَ بالأمِّ واسْتَثْنَى ما في بَطْنِها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 24.

2614 - مسألة: (إلا في العمرى)

إلا فِي الْعُمْرَى؛ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ. أوْ: أَرْقَبْتُكَهَا. أَوْ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمُرَكَ. أوْ: حَيَاتَكَ. فَإنَّهُ يَصِحُّ، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ العِتْقَ. وبه يقولُ في العِتْقِ النَّخَعِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. ويتَخَرَّجُ أنَّ لا يَصِحَّ، كما لو باع أمَةً واسْتَثْنَى ما في بَطْنِها، وقد ذَكَرْناه في البَيعِ (¬1). وقال أصْحابُ الرأي: تَصِحُّ الهِبَةُ ويَبْطُلُ الاسْتِثَناءُ. ولَنا، أنَّه لم يَهَبِ الوَلَدَ، فلم يَمْلِكْه المَوْهُوبُ له، كالمُنْفَصِلِ وكالمُوصَى به. 2614 - مسألة: (إلَّا في العُمْرَى) والرُّقْبَى (وهو أنَّ يقولَ: أعْمَرْتُكَ هذه الدّارَ. أو: أرْقَبْتُكَها. أو: جَعَلْتُها لك عُمُرَكَ. أو: حَياتَكَ. فإنه يَصِحُّ، وتكونُ للمُعْمَرِ ولِوَرَثَتِه مِن بعدِه) العُمْرَى والرُّقْبَى، نَوْعان مِن أنْواعِ الهِبَةِ، يَفْتَقِرَان إلى ما يَفْتَقِرُ إليه سائِرُ الهِبَاتِ، مِن الإيجابِ والقَبُولِ والقَبْضِ، أو ما يَقُومُ مَقامَ ذلك عندَ مَن اعْتَبَرهُ. وصُورَةُ العُمْرَى أنَّ يقولَ: أعْمَرْتُكَ دارِي هذه. أو: هي لك عُمُرَكَ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 11/ 128، 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: ما عِشْتَ. أو: مُدَّةَ حَياتِكَ. أو: ما حَيِيتَ. أو نحوَ هذا. سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِ ما بالعُمُرِ. والرُّقْبَى أنَّ يقولَ: أرْقَبْتُكَ هذه الدّارَ. أو: هي لك حَياتَكَ، على أنَّكَ إن مِتَّ قبلِي عادت إلَيَّ، وإن مِت قبلَك، فهي لك ولعَقِبِك. فكأنَّه يقولُ: هي لآخِرِنا مَوْتًا. ولذلك سُمِّيَتْ رُقْبَى؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَرْقُبُ مَوْتَ صاحِبِه. وهما جائِزان في قولِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وحُكِيَ عن بعضِهم أنَّها لا تَصِحُّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا» (¬1). ولَنا، ما روَى جابِرٌ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «العُمْرَى جَائِزَةٌ لِأهْلِها، والرُّقْبَى جَائِزَة لِأهْلِها». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬2). وقال: حديثٌ حَسَنٌ. فأمّا النَّهْي فإنَّما وَرَد على وَجْهِ الإِعْلامِ لهم إنَّكم إن أعْمَرْتُمْ أو أرْقَبْتُم يَعُدْ للمُعْمَر والمُرْقَبِ، ولم يَعُدْ إليكم منه شيءٌ. وسِياقُ الحديثِ يَدُلُّ عليه، فإنَّه قال: «فمَنْ أعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَها حَيًّا ومَيِّتًا وعَقِبِهِ». ولو أُرِيدَ به حَقِيقةُ النَّهْي، لم يَمْنَعْ ذلك صِحَّتَها، فإنَّ النَّهْيَ إنَّما يَمْنَعُ صِحَّةَ ما يُفِيدُ المَنْهِيُّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من قال فيه: ولعقبه، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 264. والنسائي، في: باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى. المجتبى 6/ 230. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الرقبى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 265. والترمذي، في: باب ما جاء في الرقبى، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 101. كما أخرجه النسائي، في: باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى، من كتاب العمرى. المجتبى 6/ 232. وابن ماجه، في: باب الرقبى، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 797. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 297، 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه فائِدَةً، أمّا إذا كان صِحّةُ المَنْهِيِّ عنه (¬1) ضَرَرًا على مُرْتَكِبِه، لم يَمْنَعْ صِحَّتَه، كالطَّلاقِ في زَمَنِ الحَيضِ، وصِحّةُ العُمْرَى ضَرَر على المُعْمِرِ، فإنَّ مِلْكَه يَزُولُ بغيرِ عِوَضٍ. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ العُمْرَى تَنْقُلُ المِلْكَ إلى المُعْمَرِ. وبهذا قال جابِرُ بنُ عبدِ الله، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباسٍ، وشُرَيحٌ، ومجاهِدٌ، وطاوُسٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ. وقال مالِكٌ، واللَّيثُ: العُمْرَى تَمْلِيكُ المَنافِعِ، لا تُمْلَكُ بها رَقَبَةُ المُعْمِرِ بحالٍ، ويكونُ للمُعْمَرِ السُّكْنَى، فإذا (¬2) مات، عادت إلى المُعْمِرِ. وإن قال: له ولعَقِبِه. كان سُكْناها لهم، فإذا انْقَرَضُوا عادت إلى المُعْمِرِ. واحْتَجُّوا (¬3) بما روَى يَحْيَى بنُ سعيدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسِمِ، قال: سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَسْألُ القاسِمَ بنَ محمدٍ عن العُمْرَى، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيه فإن». (¬3) في م: «واحتجا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يقولُ الناسُ فيها؟ فقال القاسِمُ: ما أدْرَكْتُ النَّاسَ إلَّا على شُروطِهِم في أمْوالِهم، وما أعْطَوْا. وقال إبراهيمُ الحَرْبِيُّ، عن ابنِ الأعْرابِيِّ: لم يَخْتَلِفِ العَرَبُ في العُمْرَى، والرُّقْبَى، والإِفْقارِ (¬1)، والمِنْحَةِ (¬2)، والعارِيَّةِ، والسُّكْنَى، والإِطْراقِ، أنَّها على مِلْكِ أرْبابِها، ومَنافِعُها لمَن جُعِلَتْ له. ولأنَّ التَّمْلِيكَ لا يَتَأقَّتُ، كما لو باعَه إلى مُدَّةٍ، فإذا كان لا يَتأقَّتُ حُمِل قَوْلُه على تَمْلِيكِ المَنافِعِ؛ لأنَّه يَصِحُّ تَوْقِيتُه. ولنا، ما روَى جابِرٌ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أمْسِكُوا عَلَيكُم أمْوالكُم ولَا تُفْسِدُوهَا، فإنَّه مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فهِيَ لِلَّذِي أعْمِرَهَا حَيًّا ومَيِّتًا ولِعَقِبِه». رَواه مسلمٌ (¬3). وفي لَفْظٍ: قَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَى لمَن وُهِبَتْ له. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وروَى ابنُ ماجه (¬5)، عن ابنِ عُمَرَ، قال: قال ¬

(¬1) الإفقار: أن يعطى الرجل الرجل دابته، فيركبها ما أحب في سفر أو حضر، ثم يردها عليه. (¬2) المنحة: أنَّ يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة، فيحتلبها عاما أو أقل أو أكثر. (¬3) في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1246، 1247. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرقبى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 265. والنسائي، في: باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى، من كتاب العمرى. المجتبى 6/ 231. وابن ماجه، في: باب العمرى، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 796. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 312، 386. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب ما قيل في العمرى. . . .، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 216. ومسلم، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1246. كما أخرجه أبو داود، في: باب في العمرى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 263. والنسائي، في: باب ذكر اختلاف يحيى بن أبي كثير. . . .، من كتاب العمرى. المجتبى 6/ 234. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 304، 393. (¬5) في: باب الرقبى، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 796.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا رُقْبَى، فَمَنْ أرْقِبَ. شَيئًا فَهُوَ لَهُ حَيَاتَه وَمَوْتَه». وعن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ العمْرَى للوارِثِ (¬1). وقد روَى مالِكٌ حديثَ العُمْرَى في «مُوَطَّئِه» (¬2). وهو صحيحٌ رَواه جابِرٌ، وابن عُمَرَ، وابن عباسٍ (¬3)، ومُعاويةُ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو هُرَيرَةَ (¬4). وقولُ القاسِمِ لا يُقْبَل في مُخالفَةِ مَن سَمَّينا مِن الصحابةِ والتّابِعِين، فكيف يُقْبَلُ في مُخالفَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِين! ولا يَصِحُّ دَعْوَى إجْماعِ أهْلِ المَدِينَةِ، لكَثْرَةِ مَن قال بها منهم، وقَضَى بها طارِقٌ (¬5) بالمَدِينةِ بأمْرِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ. وقولُ ابنِ الأعْرابِيِّ: إنَّها عندَ العَرَبِ تَمْلِيكُ المَنافِعِ. لا يَضرُّ إذا نَقَلَها الشَّرْعُ إلى تَمْلِيكِ الرقَبَةِ، كما نَقَل الصلاةَ مِن الدُّعاءِ إلى الأفْعالِ المَنْظومَةِ، ونَقَل الظِّهارَ والإيلاءَ مِن الطَّلاقِ إلى أحْكامٍ مَخْصوصَةٍ. ¬

(¬1) أخرجه النسائي، في: باب ذكر الاختلاف على أبي الزبير، من كتاب الرقبى، ومن كتاب العمرى. المجتبى 6/ 228، 229. وابن ماجه، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 796. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 189. (¬2) في: باب القضاء في العمرى، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 756. (¬3) أخرجه النسائي، في: باب ذكر الاختلاف على أبي الزبير، من كتاب الرقبى، ومن كتاب العمرى. المجتبى 6/ 272، 229. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب ما قيل في العمرى والرقبى. . . .، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 216. ومسلم، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1248. وأبو داود، في: باب في العمرى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 263. والنسائي، في: باب ذكر اختلاف يحيى بن أبي كثير. . . .، من كتاب العمرى. المجتبى 6/ 235. (¬5) هو طارق بن عمرو مولى عثمان. انظر أخبار القضاة لوكيع 1/ 124.

2615 - مسألة: (وإن شرط رجوعها إلى المعمر عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتا. صح الشرط. وعنه، لا يصح، وتكون للمعمر ولورثته)

وَإِنْ شَرَطَ رَجُوعَهَا إلَى الْمُعْمِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ، أَوْ قَال: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. صَحَّ الشَّرْطُ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلُهم: إنَّ التَّمْلِيكَ لا يتَأقَّت. قلْنا: فلذلك أبْطَلَ الشَّرْعُ تَأْقِيتَها، وجَعَلَها تَمْلِيكًا مُطْلَقًا. فإن قال في العُمْرَى: إنَّها للمُعْمَرِ وعَقِبِه. كان تَوْكِيدًا لحُكْمِها، وتكون للمُعْمَرِ ولوَرَثَتِه. وهو قول جَمِيعِ القائِلِين بها. 2615 - مسألة: (وإن شَرَط رُجُوعَها إلى المُعْمِرِ عندَ مَوْتِه، أو قال: هي لآخِرِنا مَوْتًا. صَحَّ الشَّرْط. وعنه، لا يَصِحُّ، وتكون للمُعْمَرِ ولِوَرَثَتِه) مِن بعدِه. أمّا إذا شَرَط رُجُوعَها إلى المُعْمِرِ عندَ مَوْتِه، أو قال: هي لآخِرِنا مَوْتًا. أو: إذا مِتَّ عادَتْ إلَيَّ إن كُنْتُ حَيًّا. أو: إلى وَرَثَتِي. ففيها رِوايتان؛ إحْداهما، صِحَّةُ العَقْدِ والشرْطِ، ومتى مات المُعْمَر رَجَعَتْ إلى المُعْمِرِ. وبه قال القاسِمُ بن محمدٍ، ويزيدُ بنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُسَيطٍ (¬1)، والزُّهْرِيُّ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، وابنُ أبي ذِئْبٍ، ومالِكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لِما روَى جابِرٌ، قال: إنَّما العُمْرَى التي أجاز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَن يقولَ: هي لَكَ ولعَقِبِكَ. فأمّا إذا قال: هي لك ما عِشْتَ. فإنَّها تَرْجِعُ إلى صاحِبِها. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى مالِكٌ في «مُوَطَّئِه» (¬3)، عن جابِرٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّمَا رَجُل أعْمَرَ عُمْرَى لَهُ ولِعَقِبِه، فإنَّها لِلذِي أُعْطِيَها، لَا تَرْجِعُ إلى مَنْ أعْطَاهَا». لأنَّه أعْطَى عَطاءً وَقَعَتْ فيه المَوارِيثُ. ولقولِ النبيِّ ¬

(¬1) هو يزيد بن عبد الله بن قسيط المدني الأعرج، أبو عبد الله، الإمام الفقيه الثقة. توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 266. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1246. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال فيه: ولعقبه، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 264. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 294. ولم نجده في البخاري: انظر الإرواء 6/ 55، واللؤلؤ والمرجان 2/ 186. (¬3) في: باب القضاء في العمرى، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 756. كما أخرجه مسلم، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1245، 1246. وأبو داود، في: باب من قال فيه: ولعقبه، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 264. والترمذي، في: باب ما جاء في العمرى، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 99. والنسائي، في: باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه، عن كتاب العمرى. المجتبى 6/ 233. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 360، 399.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬1). وقال القاسِمُ بنُ محمدٍ: ما أدرَكْتُ النَّاسَ إلَّا على شُرُوطِهم في أمْوالِهم. والثانيةُ، أنها تكونُ للمُعْمَرِ أيضًا ولوَرَثَتِه، ويَبْطُلُ الشَّرْطُ. وهو قولُ الشافعيِّ الجَدِيدُ (¬2)، وأبي حنيفةَ. قال شيخُنا (¬3): وهو ظاهِرُ المَذْهَبِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايَةِ أبي طالبٍ؛ للأحاديثِ المُطْلَقةِ التي ذَكَرْناها، ولقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا رُقْبَى، فمَنْ أُرْقِبَ شَيئًا فَهُوَ لَه حَيَاتَه وَمَوْتَه». قال مجاهِدٌ: والرُّقبَى، هو أنَّ يقولَ: هي للآخِرِ مِنِّي ومنك مَوْتًا. قال مجاهدٌ: سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يَرْقُبُ مَوْتَ صاحِبِه. وروَى الإمامُ أحمدُ (¬4)، بإسْنادِه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا عُمْرَى وَلَا رُقْبَى، فمَنْ أُعْمِرَ شَيئًا أوْ أُرْقِبَه فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ ومَوْتَهُ». وهذا صَرِيحٌ في إبْطالِ الشَّرْطِ؛ لأنَّ الرُّقْبَى يُشْتَرَطُ فيها عَوْدُها إلى المُرقِبِ إن مات الآخَرُ قبلَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149. (¬2) في ر 2، م: «في الجديد». (¬3) في: المغني 8/ 285. (¬4) في: المسند 2/ 34، 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا حديثُهم الذي احْتَجُّوا به، فمِن قولِ جابِر نَفْسِه، وإنَّما نَقْلُ لَفْظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمْسِكُوا عَلَيكُمْ أمْوالكُمْ ولا تُفْسِدُوَها، فإنَّه مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ للَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا ومَيِّتًا، ولِعَقِبِه». ولأنَّنا لو أجَزْنا هذا الشَّرْطَ، كانت هِبَةً مُؤقَّتَة، والهِبَةُ لا يجوزُ فيها التَّأْقِيتُ، وإنَّما لم يُفسِدْها الشَّرْطُ؛ لأنَّه ليس بشَرْطٍ على المُعْمَرِ، وإنَّما شَرْطُ ذلك على وَرَثَتِه، ومتى لم يكنِ الشَّرْطُ مع المَعْقُودِ معه، لم يُؤثِّرْ فيه. وأمّا (¬1) قَوْلُه في الحديثِ الآخرِ: لأنَّه أعْطَى عَطاءً وَقَعَتْ فيه المَوارِيثُ. فهذه الزِّيادَةُ مِن كَلامِ أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، كذلك رَواهُ ابنُ أبي ذِئْبٍ، وفَصَّلَ هذه الزِّيادَةَ فقال عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّه مضَى في مَن أُعْمِرَ عُمْرَى له ولعَقِبه فهي له بَتْلَةً (¬2)، لا يَجُوزُ للمُعْطِي فيها شَرْط ولا مَثْنَويَّة (¬3). قال أبو سَلَمَةَ: لأنَّه أعْطَى عَطاءً وَقَعَتْ فيه المَوارِيثُ (¬4). ¬

(¬1) في م: «ولنا». (¬2) بتلة: مقطوعة. (¬3) المثنوية. الاستثناء. (¬4) انظر ما تقدم عند مسلم والنسائي في تخريج حديث: «أيما رجل أعمر عمرى» في صفحة 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والرُّقْبَى كالعُمْرَى. قال أحمدُ: هي أنَّ يقولَ»: هي لك حَياتَك، فإذا مِتَّ فهي لفُلانٍ. أو: هي راجِعَة إلَيَّ. وهي كالعُمْرَي فيما إذا شَرَط عَوْدَها إلى المُعْمِر. قال عل، رَضِيَ اللهُ عنه: العُمْرَى والرُّقْبَى سواءٌ. وقال طاوُسٌ: مَن ارقِبَ شيئًا فهو سَبِيلُ المِيراثِ. وقال الزُّهْرِيُّ: الرُّقْبَى وَصِيَّة. يَعْنِي أنَّ مَعْناها إذا مِتُّ فهذا لك. وقال الحسنُ، ومالِكٌ، وأبو حنيفةَ: الرُّقْبَى باطِلَةٌ؛ لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أجاز العُمْرَى، وأبْطَلَ الرُّقْبَى (¬1). ولأنَّ مَعْناها أنَّها للآخِرِ مِنّا، وهذا تَمْلِيكُ مُعَلَّقٌ بخَطَرٍ، ولا ¬

(¬1) حديث إجازة العمرى، أخرجه البخاري، في: باب ما قيل في العمرى، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 216. ومسلم، في: باب العمرى، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1248. وأبو داود، في: باب في العمرى، وباب من قال فيه: ولعقبه، وباب في الرقبى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 263، 264، 265. والترمذي، في: باب ما جاء في العمرى: باب ما جاء في الرقبى، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 99، 100، 101. والإمام أحمد، في: السند 1/ 250، 347، 429، 468، 489، 3/ 297، 303، 319، 361، 364، 392. وحديث النهي عن الرقبى. أخرجه النسائي، في: باب الاختلاف على أبي الزبير، من كتاب الرقبى. المجتبى 6/ 227. وابن ماجه، في: باب الرقبى، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 796. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 26، 34، 73، 5/ 189.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بالخَطرِ. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ، وحديثُهم لا نعْرِفُه، ولا نُسَلِّمُ أنَّ مَعْناها ما ذكَرُوه، بل مَعْناها أنَّها لك حَياتَكَ، فإن مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ، فتكونُ كالعُمْرَى سَواءً، [إلَّا أنَّه] (¬1) زاد شَرْطَها لوَرَثَةِ المُرْقَبِ إن مات المُرْقَبُ قبلَه، وهذا يُبَيِّنُ تَأْكِيدَها على العُمْرَى. فصل: وتَصِحُّ العُمْرَى في الحَيَوانِ والثِّياب؛ لأنها نَوْعُ هِبَةٍ، فصَحَّت في ذلك، كسائرِ الهِباتِ. وقد رُوِيَ عن أحَمدَ، في الرجلِ يُعْمَرُ الجارِيةَ، أنَّه قال: لا أرَى له وَطْأها. قال القاضي: لم يَتَوَقَّفْ أحمدُ في وطْءِ الجارِيَةِ لعَدَمِ المِلْكِ فيها، لكنْ على طَرِيقِ الوَرَعِ؛ لكونِ الوَطْءِ اسْتِباحَةَ فرْجٍ، وقد اخْتُلِفَ في العُمْرَى، فجعَلَها بعضُهم تَمْلِيكَ المَنافِعِ، فلم يَرَ له وَطْأَها لهذا، ولو وَطِئَها، جاز. فصل: وقد ذَكَرْنا أنَّه لو وَقَّتَ الهِبَةَ في غيرِ العُمْرَى والرُّقْبَى كقَوْلِه: وَهَبْتُكَ هذا سَنَةً. أو: إلى أن يَقْدَمَ الحاجُّ. أو: إلى أنَّ يَبْلُغَ وَلَدِي. أو: ¬

(¬1) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُدَّةَ حَياةِ فُلانٍ. ونحوَ هذا، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها تَمْلِيكْ للرَّقَبَةِ، فلم تَصِحَّ مُؤقَّتَةً، كالبَيعِ، وتُفارِقُ العُمْرَى والرُّقْبَى؛ لأنَّ الإنْسانَ إنَّما يَمْلِكُ الشيءَ عُمُرَه، فإذا مَلَكَه عُمُرَه فقد وَقَّتَه بما هو مُوقَّتٌ به في الحَقِيقةِ، فصار ذلك كالمُطْلَقِ. فصل: فأمّا إن قال: سُكْناها لك عُمُرَك. فله أخْذُها في أيِّ وَقْتٍ أحَبَّ. وكذلك إن قال: اسْكُنْها. أو: أسْكَنْتُكَهَا عُمُرَكَ. أو نحوَ ذلك، فليس هذا عَقْدًا لازِمًا؛ لأنَّه في التَّحْقِيقِ هِبَةُ المَنافِعِ، والمَنافِعُ إنما تُسْتَوْفَى بمُضِيِّ الزَّمانِ شيئًا فشيئًا، فلا تَلْزَمُ إلَّا في قَدْرِ ما قَبَضَه منها واسْتَوْفاه بالسُّكْنَى. فعلى هذا، للمُسْكِنِ الرُّجُوعُ متى شاء، وتَبْطُلُ بمَوْتِ مَن مات منهما. وبه قال أكثَرُ أهلِ العِلْمِ؛ منهم الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الحسنُ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ: هي كالعُمْرَى، يَثْبُتُ فيها مِثْلُ حُكْمِها. وحُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ، أنَّه قال: إذا قال: هي لك، اسْكُنْ حتى تَمُوتَ. فهي له حَياتَه ومَوْتَه. وإن قال: دارِي هذه اسْكُنْها حتى تَمُوتَ. فإنَّها تَرْجِعُ إلى صاحِبِها؛ لأنَّه إذا قال: هي (¬1) لك. فقد جَعَل له رَقَبَتَها، فتكون عُمْرَى. وإذا قال: اسْكُنْ دارِي هذه. فإنَّما جَعَل له نَفْعَها دُونَ رَقَبَتِها، فتكونُ عارِيَّةً. ولَنا، أنَّ هذا إباحَةُ المَنافِعِ، فلم يَقَعْ لازِمًا، كالعارِيَّةِ، وفارَقَ العُمْرَى؛ فإنَّها هِبَةُ الرَّقَبةِ. فأمّا قَوْلُه: هذه لك، اسْكُنْها حتى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمُوتَ. فإنَّه يَحْتَمِلُ، لك سُكْنَاها حتى تَمُوتَ. وتَفْسِيرُها بذلك دَلِيل على أنَّه أراد السُّكْنَى، فأشْبَهَ ما لو قال: هذه لك سُكْنَاها. وإذا احْتَمَل أنه يُرِيدُ به الرَّقَبَةَ، واحْتَمَلَ أنَّ يُرِيدَ السُّكْنَى، فلا نُزِيلُ مِلْكَه بالاحْتِمالِ. فصل: إذا وَهَب هِبَةً فاسِدَةً، أو باع بَيعًا فاسِدًا، ثم وَهَب تلك العَينَ، أو باعَها بعَقْدٍ صحيحٍ مع عِلْمِه بفَسادِ الأوَّلِ، صَحَّ العَقْدُ الثانِي؛ لأنَّه تَصَرَّفَ في مِلْكِه عالِمًا بأنه مِلْكُه. وإنِ اعْتقَدَ صِحَّةَ العَقْدِ الأوَّلِ، ففي الثَّانِي وَجْهان؛ أحَدُهما، صِحَّتُه؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ صادَفَ مِلْكَه وتَمَّ (¬1) بشُرُوطِه، فصَحَّ (¬2)، كما لو عَلِم فَسادَ الأوَّلِ. والثانِي، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَعْتَقِدُ فَسادَه، ففَسَدَ، كما لو صَلَّى يَعْتَقِدُ أنَّه مُحْدِثٌ، فبان مُتَطَهِّرًا. وهكذا لو تَصَرَّفَ في عَين يَعْتَقِدُ أنَّها لأبيه، فبان أنَّه قد مات ومَلَكَها الوارِثُ، أو غَصَب عَينًا، فباعَها يَعْتَقِدُها مَغْصُوبَةً، فبان أنَّها مِلْكُه، فعلى الوَجْهَين. قال القاضي: أصْلُ الوَجْهَين مَن باشَرَ امرأةً بالطَّلاقِ يَعْتَقِدُها أجْنَبِيَّةً، فبانَتِ امْرأتَه، أو باشَرَ بالعِتْقِ مَن يَعْتَقِدُها حُرَّةً، فبانَتْ أمَتَه، ففي وُقُوعِ الطَّلاقِ والحُرِّيَّةِ رِوايَتان وللشّافِعِيَّةِ في هذه المَسْألةِ وَجْهان، كما حَكَينا. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «ثَمَّ». (¬2) في الأصل: «لم يصح».

فَصْلٌ: وَالْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الأوْلَادِ الْقِسْمَةُ بَينَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (والمَشْرُوعُ في عَطِيَّةِ الأوْلادِ القِسْمَةُ بينَهم على قَدْرِ مِيراثِهم) ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في اسْتِحْبابِ التَّسْويَةِ بينَهم، وكَراهِيَةِ التَّفْضِيلِ. قال إبراهيمُ: كانُوا يَسْتَحِبُّون التَّسْويَةَ بينَهم حتى في القُبَلِ. إذا ثَبَت هذا، فالتَّسْويَةُ المُسْتَحَبَّةُ أنَّ يَقْسِمَ بينَهم على حَسَبِ قِسْمَةِ اللهِ تعالى المِيراثَ، للذكَرِ مثلُ حَظ الأُنْثَيَين. وبه قال عَطاءٌ، وشُرَيحٌ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. قال شرَيحٌ لرجلٍ قَسَمَ ماله بينَ وَلَدِه: ارْدُدْهم إلى سِهامِ الله وفَرائضِه. وقال عَطاءٌ: ما كانُوا يَقْسِمُون إلَّا على كِتابِ اللهِ تعالى. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُبارَكِ: يُعْطِي الأُنثَى مثلَ ما يُعْطِي الذَّكَرَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لبَشِيرِ بنِ سَعْدٍ: «سَوِّ بَينَهُم». وعَلَّلَ ذلك بقَوْلِه: «أُيسُرُّكَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْ يَسْتَوُوا فِي بِرِّكَ». فقال: نعمَ. قال «فَسَوِّ بَينَهُم» (¬1). والبِنْتُ كالابنِ في اسْتِحْقاقِ برِّها، فكذلك في عَطِيَّتها. وعن ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «سَوُّوا بَينَ أوْلَادِكُمْ فِي العَطِيَّةِ، ولَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أحَدًا لآثرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَال». رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬2). ولأنَّها عَطِيَّةٌ في الحَياةِ، فاسْتَوَى فيها الذَّكَر والأُنْثَى، كالنَّفَقَةِ والكُسْوَةِ. ولَنا، أنَّ اللهَ تَعالى قَسَمَ بينَهم، فجَعَلَ للذَّكَرِ مثلَ حَظِّ الأُنْثَيَينِ، وأوْلَى ما اقْتُدِيَ به قِسْمةُ الله تعالى، ولأنَّ العَطِيَّةَ في الحَياةِ إحْدَى حالتَي العَطيَّةِ، فيُجْعَلُ للذَّكَرِ منها مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ، كحالةِ المَوْتِ، يَعْني المِيراثَ، يُحَقِّقه أنَّ العَطِيَّةَ اسْتِعْجالٌ لِما يكونُ بعدَ المَوْتِ، فيَنْبَغِي أنَّ تكونَ على حَسَبِه، كما أنَّ مُعَجِّلَ الزكاةِ قبلَ وُجُوبِها يُؤَدِّيها على صِفَةِ أدائِها بعدَ وُجُوبِها، ¬

(¬1) يأتي تخريجه من حديث النعمان بن بشير في صفحة 65. (¬2) في: باب من قطع ميراثا فرضه الله. السنن 1/ 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك الكَفّاراتُ المُعَجَّلَةُ، ولأنَّ الذَّكَرَ أحْوَجُ مِن الأُنْثَى، مِن قِبَل أنَّهما إذا تَزَوَّجا جَمِيعًا، فالصَّداقُ والنَّفَقَةُ ونَفَقَةُ الأوْلادِ على الذَّكرِ، والأُنْثَى لها ذلك، فكان أوْلَى بالتَّفْضِيلِ؛ لزيادَةِ حاجَتِه، وقد قَسَمَ اللهُ المِيراثَ، فَفَضَّلَ الذَّكَرَ مَقْرُونًا بهذا المَعْنَى، فيُعَلَّلُ به، ويتَعَدَّى ذلك إلى العَطِيَّةِ في الحَياةِ. وحديثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةُ عَينٍ، وحِكايَةُ حالٍ لا عُمُومَ لها، إنَّما يَثْبُتُ حُكْمها في مِثْلِها، ولا نَعْلَم حال أوْلادِ بَشِيرٍ، هل كان فيهم أُنْثَى أوْ لا. ولَعَلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد عَلِم أنَّه ليس له إلَّا ولَدٌ ذَكَرٌ. ثم تُحْمَلُ التّسْويَةُ على القِسْمَةِ على كِتاب اللهِ تعالى. ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد التَّسْويَةَ في أصْلِ العَطاءِ لا في صِفَتِه، فإنَّ التسْويَةَ لا تَقْتَضِي التَّسْويَةَ مِن كلِّ وَجْهٍ، وكذلك الحديث الآخَرُ، ودَلِيلُ ذلك قولُ عَطاءٍ: ما كانُوا يَقْسِمُونَ إلَّا على كِتابِ اللهِ تعالى. وهذا خَبَرٌ عن جَميعِهم. على أنَّ الصحيحَ في خَبَرِ ابنِ عباسٍ أنَّه مُرْسَلٌ.

2616 - مسألة: (فإن خص بعضهم أو فضله، فعليه التسوية بالرجوع أو إعطاء الآخر حتى يستووا)

فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ أوْ فَضَّلَهُ، فَعَلَيهِ التَّسْويَةُ بِالرُّجُوعِ أَوْ إِعْطَاءِ الْآخَرِ حَتَّى يَسْتَوُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2616 - مسألة: (فإن خَصَّ بعضَهم أو فَضَّلَه، فعليه التَّسْويَةُ بالرُّجُوعِ أو إعْطاءِ الآخَرِ حتى يَسْتَوُوا) قد ذَكَرْنا أنَّ المَشْرُوعَ أنَّ يُسَوِّيَ بينَ أوْلادِه في العَطيَّةِ على قَدْرِ مِيراثِهم، فإن خَصَّ بعضَهم بعَطِيَّتِه، أو فاضَلَ بينَهم، أثِمَ، إذا لم يَخْتَصَّ بمَعْنًى يُبِيحُ التَّفْضِيلَ، ووَجَب عليه التَّسْويَةُ، إمّا برَدِّ ما فَضَّلَ به البعضَ، أو إعْطاءِ الآخَرِ حتى يُتِمَّ نَصِيبَه. قال طاوُسٌ: لا يَجُوزُ ذلك، ولا رَغِيفٌ مُحْتَرِقٌ. وبه قال ابنُ المُبارَكِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ مَعْناه عن مُجاهِدٍ، وعُرْوَةَ. وكان الحَسَنُ يَكْرَهُه، ويُجيزُه (¬1) في القَضاءِ. وقال مالِك، واللَّيثُ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وَأصحابُ الرَّأي: يَجُوزُ ذلك. ورُوِيَ مَعْنَى ذلك عن شُرَيح، وجابرِ بنِ زيدٍ، والحسنِ بنِ صالِحٍ؛ لأنَّ أبا بكر، رَضِيَ الله عنه، نَحَل عائشةَ ابْنَتَه جذاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا دُونَ سائِرِ وَلَدِه (¬2). واحْتَجَّ الشافعيُّ بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ النُّعْمانِ بنِ بَشِير: «أشْهدْ عَلَى هَذَا غَيرِي». فأمَرَه بتَأَكِيدِها دُونَ الرُّجُوعِ فيها. ولأنَّها عَطِيَّةٌ تَلْزَمُ بمَوْتِ الأبِ، فكانت جائِزةً، كما لو سَوَّى بينَهم. ولَنا، ما روَى النُّعْمانُ بنُ بَشِير، قال: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أبي ببعضِ مالِه، فقالت أمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَواحَةَ: لا أرْضَى حتى تُشْهِدَ عليها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فجاء بِي إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليُشْهِدَه على صَدَقَتِي، فقال: «أكُلَّ وَلَدِكَ أعْطَيتَ مِثْلَه؟». قال: لا. قال: «فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَينَ أوْلادِكُمْ». قال: فَرَجَعَ أبي فرَدَّ تلك الصَّدَقَةَ. وفي لَفْظٍ قال: «فَارْدُدْهُ». وفي لَفْظٍ: «فَأرْجِعْهُ». وفي لَفْظٍ: «لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» وفي لَفْظٍ: «فلا تُشْهِدْنِي إذًا». وفي لفظٍ: «فَأشْهِدْ عَلَى ¬

(¬1) في م: «يخيره». (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 485.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا غَيرِي». وفي لَفْظٍ: «سَوِّ بَينَهُم». مُتفَق عليه (¬1). وهو (¬2) دَلِيلٌ على التَّحْرِيمِ؛ لأنَّه سَمَّاه جَوْرًا وأمَرَه برَدِّه، وامْتَنَعَ مِن الشَّهادَةِ عليه، والجَوْرُ حَرامٌ، والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، ولأنَّ تَفْضِيلَ بعضِهم يُورِثُ بينَهم العَداوَةَ والبَغْضاءَ وقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فمُنِعَ منه، كَتَزْويجِ المرأةِ على عَمَّتِها وخَالتِها. وقولُ أبي بكر لا يُعارِضُ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُحْتَجُّ بهْ معه. ويَحْتَمِلُ أنَّ أبا بكر، رَضِيَ اللهُ عنه، خَصَّها لحاجَتِها وعَجْزِها عن الكَسْبِ والتَّسَبُّبِ، مع اخْتِصاصِها بفَضْلِها وكونِها أمَّ المُؤْمِنِين، وغيرِ ذلك مِن فَضائِلِها. ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ نَحَلَها ونَحَل غيرَها مِن وَلَدِه، أو نَحَلَها وهو يُرِيدُ أنَّ يَنْحَلَ غيرَها، فأدْرَكَه المَوْت قبلَ ذلك. ويتَعَيَّنُ حَمْلُ حَدِيثِه على أحَدِ هذه الوُجُوهِ؛ لأنَّ حَمْلَه على مِثْلِ مَحَلِّ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الهبة للولد. . . .، وباب الإشهاد في الهبة، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 206. ومسلم، في: باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، من كتاب الهبات. صحيح مسلم 3/ 1241 - 1244. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 262. وابن ماجه، في: باب الرجل ينحل ولده، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 795. والإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النحل، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 751، 752. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 326، 4/ 268، 269، 270. (¬2) في م: «وفيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّزاعِ مَنْهِيٌّ عنه، وأقَلُّ أحْوالِه الكَراهَةُ، والظّاهِرُ مِن حالِ أبي بكر، رَضِيَ الله عنه، اجْتِنابُ المَكْرُوهاتِ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فأَشْهِدْ عَلَى هذا غَيرِي»: ليس بأمْرٍ؛ لأن أدْنَى أحْوالِ الأمْرِ الاسْتِحْبابُ والنُّدْبُ، ولا خِلافَ في كَراهَةِ هذا. وكيف يَجُوزُ أن يَأْمُرَ بتَأْكِيدِه مع أمْرِه برَدِّه، وتَسْمِيته إيّاه جَوْرًا؟ وحَمْلُ الحديثِ على هذا حَمْلٌ لحديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على التناقُضِ، ولو أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإشْهادِ غيرِه، لامْتَثَلَ بَشِيرٌ أمْرَه، ولم يَرُدُّه، وإنَّما هو تَهْدِيدٌ له [على هذا] (¬1)، فيُفيدُ ما أفادَه النَّهْيُ عن إتْمامِه. فصل: فأمّا إن خَصَّ بعضَهم لمَعْنًى يَقْتَضِيه تَخْصِيصُه؛ مِن حاجَةٍ، أو زَمانَةٍ، أو عَمًى، أو كَثْرةِ عائِلَةٍ، أو لاشْتِغالِه بالعِلْمِ، أو صَرَف عَطِيَّتَه عن بعضِ وَلَدِه؛ لفِسْقِه، أو بِدْعَتِه، أو (¬2) لكونِه يَعْصِي اللهَ تعالى بما يَأْخُذُه، فقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على جَوازِ ذلك؛ فإَّنه قال، في تَخْصِيصِ بعضِهم بالوَقفِ: لا بَأْس إذا كان لحاجَةٍ، وأكْرَهُه إذا كان ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على سَبِيلِ الأثَرَةِ. والعَطِيَّةُ في مَعْناه. ويَحْتَمِلُ ظاهِرُ لَفْظِه المَنْعَ مِن التَّفْضِيلِ على كلِّ حالٍ، لكونِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْ بَشِيرًا في عَطِيَّتِه. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أوْلَى إن شاء الله؛ لحديثِ أبي بكر، ولأنَّ بعضَهم اخْتَصَّ بمَعْنًى يَقْتَضِي العَطِيَّةَ، فجاز أن يَخْتَصَّ بها، كما لو اخْتَصَّ بالقَرابَةِ، وحديثُ بَشِير قَضِيَّة في عَين لا عُمُومَ لها، وتَرْكُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الاسْتِفْصال يَجُوزُ أنَّ يكونَ لعِلْمِه بالحالِ. فإن قِيلَ: لو عَلِم الحال لَما قال: «ألَكَ وَلَدٌ غَيرُهُ؟». قُلْنا: يَجُوزُ أنَّ يكونَ السُّؤالُ ههُنا لبَيانِ العِلَّةِ، كما قال، عليه الصلاةُ والسَّلامُ، للذي سَأله عن بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ: «أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟» قال: نعم. قال: «فَلَا إذًا» (¬2). وقد عَلِم أنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ، لكنْ نبَّهَ السّائِلَ بهذا على عِلَّةِ المَنْعِ. واللهُ أعلمُ. فصل: والأمُّ في المَنْعِ مِن المُفاضَلَةِ بينَ أوْلادِها كالأبِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بين أوْلَادِكُمْ». ولأنَّها أحَدُ الوالِدَين، أشْبَهَتِ الأبَ، ولأنَّ ما يَحْصُلُ بتَخْصِيص الأبِ بعضَ وَلَدِه مِن الحَسَدِ والتَّباغُضِ، يُوجَدُ مِثْلُه في تَخْصِيصِ الأمِّ، فيَثْبُتُ لها مِثْلُ حُكْمِه في ذلك. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 258. (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 51.

2617 - مسألة: (وإن مات قبل ذلك، ثبت للمعطى. وعنه، لا يثبت، وللباقين الرجوع. اختاره أبو عبد الله بن بطة)

فَإن مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثَبَتَ لِلْمُعْطَى. وَعَنْة، لَا يَثْبُت، وَلِلْبَاقِينَ الرُّجُوعُ. اخْتَارَة أَبُو عَبْدِ اللهِ بن بَطَّةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2617 - مسألة: (وإن مات قبلَ ذلك، ثَبَت للمُعْطَى. وعنه، لا يَثْبُتُ، وللباقِينَ الرُّجُوعُ. اخْتارَه أبو عبدِ اللهِ بن بَطَّةَ) إذا فاضَلَ بينَ وَلَدِه في العَطايا، أو خصَّ بعضَهم بعَطيَّةٍ، ثم مات قبلَ أنَّ يَسْتَرِدَّه، ثَبَت ذلك للمَوْهُوبِ له، ولَزِم، وليس لبَقِيَّةِ الوَرَثَةِ الرُّجُوعُ. هذا المَنْصُوصُ عن أحمدَ، في رِوَايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ، والمَيمُونِيِّ. واخْتارَه الخَلَّالُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاحِبُه أبو بكر. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، وأكْثَرُ أهلِ العلمِ. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وفيه روايَةٌ أُخْرَى، أنَّ لباقي الوَرَثَةِ أنَّ يَرْتَجِعُوا ما وَهَبَه. اخْتارَه أبو عبدِ اللهِ بنُ بَطَّةَ وأبو حَفْص العُكْبَرِيّانِ. وهو قولُ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ، وإسحاقَ. قال أحمدُ: عُرْوَةُ قد روَى الأحاديثَ الثلاثةَ؛ حديثَ عائشةَ، وحديثَ عُمَرَ، وحديثَ عُثْمانَ (¬1)، وتَرَكَها وذَهَب إلى حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يُرَدُّ في حَياةِ الرجلِ وبعدَ مَوْتِه (¬2). وهو قولُ إسحاقَ، إلَّا أنَّه قال: إذا مات الرجلُ فهو مِيراثٌ بينَهم، لا يَسَعُ أنَّ يَنْتَفِعَ أحَدٌ بما أُعْطِيَ دُونَ إخْوَتِه وأخَواتِه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمَّى ذلك جَوْرًا بقَوْلِه لبَشِير: «لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ». والجَوْرُ لا يَحِلُّ للفاعِلِ فِعْلُه، ولا للمُعْطَى تَناوُلُه، والمَوْت لا يُغَيِّرُه عن ¬

(¬1) يأتي تخريج حديث عائشة في صفحة 87، وحديث عمر تقدم في صفحة 7، وحديث عثمان في صفحة 35. (¬2) أي إلى أنَّ معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد في حياة الرجل وبعد موته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كونِه جَوْرًا حَرامًا، فيَجِبُ رَدُّه، ولأنَّ أبا بكر وعُمَرَ أمَرَا قَيسَ بنَ سَعْدٍ برَدِّ قِسْمَه أبيه حينَ وُلِد له وَلَدٌ لم يكنْ عَلِمَ به ولا أعْطاه شيئًا، وكان ذلك بعدَ مَوْتِ سَعْدٍ، فرَوَى سعيدٌ (¬1) بإسْنادِه مِن طَرِيقَين، أنَّ سعدَ بنَ عُبادَةَ قَسَمَ ماله بينَ أوْلادِه وخَرَج إلى الشّام، فمات بها، ثم وُلِدَ له بعدَ ذلك وَلَدٌ، فمَشَى أبو بكرٍ وعُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنهما، إلي قَيسِ بنِ سعدٍ فقالا: إنَّ سعدًا قَسَمَ ماله، ولم يَدْرِ ما يكونُ، وإنّا نَرَى أنَّ تَرُدَّ هذه القِسْمَةَ. فقال: لم أكُنْ لأُغَيِّرَ شيئًا صَنَعَه سعدٌ، ولكنْ نَصِيبِي له. وهذا مَعْنَى الخَبَرِ. وَوَجْهُ الرِّوايةِ الأولَى قولُ أبي بكر لعائشةَ، رَضِيَ الله عنهما، لمّا نَحَلَها نَخْلًا (¬2): وَدَدْتُ لو (¬3) أنَّكِ كُنْتِ حُزْتِيه (¬4). فيَدُلُّ على أنَّها لو كانت حازَتْه لم يكُنْ لهم الرُّجُوعُ. وقال عُمَرُ: لا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةٌ يَحُوزُها الوَلَدُ دُونَ الوالِدِ. ولأنَّها عَطِيَّة لوَلَدِه، فلَزِمَتْ بالمَوْتِ، كما لو انْفَرَدَ، ولأنَّه حَقٌّ للأَب يتعَلَّقُ بمالِ الوَلَدِ، فسَقَطَ بمَوْتِه، كالأخْذِ مِن مالِه. ¬

(¬1) في: باب من قطع ميراثا فرضه الله. السنن 1/ 97. (¬2) في م: «نحلا». (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 16/ 485.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس عليه التَّسْويَةُ بينَ سائِرِ أقارِبِه، ولا إعْطاؤُهم على قَدْرِ (¬1) مِيراثِهم، سَواءٌ كانُوا مِن جهَةٍ واحِدَةٍ، كإخْوَةٍ وأخَواتٍ، وبَنِي عَمٍّ، أو مِن جِهاتٍ، كَبناتٍ وأَخَواتٍ وغيرِهم. وقال أبو الخَطّابِ: المَشْرُوعُ في عَطِيَّةِ سائِرِ الأقارِبِ أن يُعْطيَهم على قَدْرِ مِيراثِهم، كالأوْلادِ فإن خالفَ، فعليه أنَّ يَرْجِعَ أو يَعُمَّهم بالنِّحْلَةِ؛ لأَنهم في مَعْنَى الأوْلادِ، فثَبَتَ فيهم حُكْمُهم. ولَنا، أنَّها عَطِيَّةٌ لغيرِ الأوْلادِ في صِحَّتِه، فلم تَجِبْ عليه التَّسْويَةُ، كما لو كانُوا غيرَ وارِثِينَ، ولأنَّ الأصْلَ إباحَةُ الإِنْسانِ التَّصَرُّفَ في مالِه كيف شاء، وإنَّما وَجَبَتِ التَّسْويَةُ بينَ الأوْلادِ للخَبَرِ، وليس غيرُهم في مَعْناهم؛ لأنهم اسْتَوَوْا في وُجُوبِ (¬2) بِرِّ والِدِهم، فاسْتَوَوْا في عَطِيَّتِه، وبهذا عَلَّلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حينَ قال لِبَشيرٍ: «أيَسُرُّكَ أنْ ¬

(¬1) في م: «قد». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَوُوا في بِرِّكَ؟». قال: نعم. قال: «فَسَوِّ بَينَهُمْ». ولم يُوجَدْ هذا في غيرِهم. ولأن للوالِدِ الرُّجُوعَ فيما أعْطَى وَلَدَه، فيُمْكِنُه أنَّ يُسَوِّيَ بينَهم في الرُّجُوعِ بما أعْطاه لبعضِهم، ولا يُمْكِنُ ذلك في غيرِهِم، ولأنَّ الأولادَ لشِدَّةِ مَحَبَّةِ الوالِدِ لهم، وصَرْفِه ماله إليهم عادَةً، يَتَنافسُون في ذلك، ويَشْتَدُّ عليهم تَفْضِيلُ بعضِهم، ولا يُساويهم في ذلك غيرُهم، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليهم، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد عَلِمَ أنَّ لِبَشِير زَوْجَةً، ولم يَأْمُرْه بإعْطائِها شيئًا حينَ أمَرَه بالتَّسْويَةِ بينَ أوْلادِه، ولم يَسْألْه هل لك وارِثٌ غيرُ وَلَدِكَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أعْطَى أحَدَ ابْنَيه في صِحَّتِه [ثم أعْطىَ الآخَرَ] (¬1) في مَرَضِه، فقد تَوَقَّفَ أحمدُ فيه، فإنَّه سُئِل عمَّن زَوَّجَ ابْنَه، فأعْطَى عنه الصَّداقَ، ثم مَرِض الأبُ وله ابن آخَرُ، هل يُعْطِيه في مَرَضِه كما أعْطَى الآخَرَ في صِحَّتِه؟ فقال: لو كان أعْطاه في صِحَّتِه. فيَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَطِيَتّهَ في مَرَضِه كوَصِيَّته له، ولو وَصَّى له لم يَصِحَّ، فكذلك إذا أعْطاه. والثاني، يَصِحُّ. وهو الصَّحِيحُ، إن شاء الله تعالى؛ لأنَّ التَّسْويَةَ بينَهما واجِبَةٌ، ولا طَرِيقَ لها في هذا المَوْضِعِ إلَّا بِعَطِيَّةِ الآخَرِ، فتكونُ واجِبَةً، فتَصِحُّ، كقَضَاءِ دَينِه. فصل: قال أحمدُ: أحَبُّ إلَيَّ أنَّ لا يَقْسِمَ ماله، ويَدَعَه على فَرائِض اللهِ تعالى، لَعَلَّه أنَّ يُولَدَ له، فإن أعْطَى وَلَدَه ماله ثم وُلِد له وَلَدٌ، فأعْجَبُ إلَيَّ أنَّ يَرْجِعَ فيُسَوِّيَ بينَهم. يَعْنِي يَرْجِعُ في الجَمِيعِ، أو يَرْجِعُ في بعضِ ما أعْطَى كلَّ واحِدٍ منهم ليَدْفَعَه إلى هذا الوَلَدِ الحادِثِ، ليُساويَ إخْوَته. فإن أعْطَى وَلَدَه، ثم مات، ثم وَلَدٌ له وَلَدٌ، اسْتُحِبَّ للمُعْطَى أنَّ يُساويَ المَوْلُودَ الحادِثَ بعدَ أبيه. ¬

(¬1) في م: «والآخر».

2618 - مسألة

وَإنْ سَوَّى بَينَهُمْ فِي الْوَقْفِ، أوْ وَقَفَ ثُلُثَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ، جَازَ. نصَّ عَلَيهِ. وَقِياسُ الْمَذْهَبِ، أَنْ لَا يَجُوزَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2618 - مسألة (¬1): (فإن سَوَّى بينَهم في الوَقْفِ، أو وَقَف ثُلُثَه في مَرَضِه على بعضِهم، جاز. نَصَّ عليه. وقِياسُ المَذْهَبِ، أنَّ لا يَجُوزَ) إذا سَوَّى بينَ أوْلادِه في الوَقْف، الذَّكَرِ والأُنْثَى، جاز. ذَكَرَه القاضي، وقال: هو المُسْتَحَبُّ؛ لأنَّ القَصْدَ القُرْبَةُ على وَجْهِ الدَّوامِ، وقد اسْتَوَوْا في القَرابَةِ. وقال شيخُنا (¬2): المُسْتَحَبُّ أنَّ يَقْسِمَ الوَقْفَ على أوْلادِه كقِسْمَةِ المِيراثِ، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين، كما قَسَمَ اللهُ تعالى بينَهم المِيراثَ؛ لأنَّه إيصالٌ للمالِ إليهم، فيَنْبَغِي أنَّ يكونَ بينَهم على حَسَب المِيراثِ، كالوَصِيَّةِ، ولأنَّ الذَّكَرَ في مَظِنَّةِ الحاجَةِ أكْثَرَ مِن الأُنثَى؛ لأنَّ الذَّكَرَ تَجِبُ عليه نَفَقةُ زَوْجَتِه وأوْلادِه، والمرأةُ يُنْفِقُ عليها زَوْجُها، ولا تَلْزَمُها نَفَقَةُ وَلَدِها إذا كان لهم أبٌ، وقد فَضَّلَ الله سبحانه الذَّكَرَ على الأُنْثَى ¬

(¬1) في حاشية الأصل: «قال الشيخ رحمه الله: هذه المسألة مذكورة في الوقف فلا حاجة إلى إعادتها». وانظر ما تقدم في 16/ 484، من كتاب الوقف. (¬2) في: المغني 8/ 206.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المِيراثِ على وَفْقِ هدْا المَعْنَى، فيَصِحُّ تَعْلِيلُه به، فيَنْبَغِي أنَّ يتَعَدَّى إلى الوَقْفِ. وما ذَكَرَه القاضي لا أصْلَ له، وهو مُلْغًى بالمِيراثِ. فإن خالفَ فسَوَّى بينَ الذَّكَرِ والأنثَى، أو فَضَّلَها عليه، أو فَضَّلَ بعضَ البَنِينَ على بعض في الوَقْفِ، أو بعضَ البَناتِ، أو خَصَّ بعضَهم بالوَقْفِ، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، في رِوايَةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ: إن كان في طَرِيقِ الأثَرَةِ، فأكْرَهُه، وإن كان على أنَّ بعضَهم له عِيالٌ أو به حاجَة، فلا بَأْسَ به. وذلك لأنَّ الزُّبَيرَ خَصَّ المَرْدُودَةَ مِن بَناتِه دُونَ المُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بصَدَقَتِه. [وقد ذَكَرْنا ذلك في الوَقْفِ] (¬1). ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأمّا إذا وَقَف ثُلُثَه في مَرَضِه على بعضِ وَرَثَتِه، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في ذلك فرُويَ عنه عَدَمُ الجَوازِ، فإن فَعَل، وَقَف على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فإَّنه قال، في رِوايَةِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ، في مَن وَصَّى لأولادِ بِنْتِه بأرْض تُوقَفُ عليهم، فقال: إن لم يَرِثوه فجائِزٌ. فظاهرُ هذا أنَّه لا يَجُوزُ الوَقْفُ عليهم في المَرَضِ. اخْتارَه أبو حَفْص العُكْبَرِيُّ، وابنُ عَقِيلٍ. وإليه ذَهَب الشافعيُّ. والثانيةُ، يَجُوزُ أنَّ يَقِفَ عليهم ثُلُثَه، كالأجانِبِ، فإنَّه قال، في رِوايَةِ جَماعَةٍ منهم المَيمُونِيُّ: يَجُوزُ للرجلِ أنَّ يَقِفَ في مَرَضِه على وَرَثَتِه. فقِيلَ له: أليس تَذْهَبُ إلى أنَّه لا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ؟ فقال: نعم، والوَقْفُ غيرُ الوَصِيَّةِ، ولأنَّه لا يُباعُ ولا يُورَثُ، ولا يَصِيرُ مِلْكًا للوَرَثَةِ، بل يَنْتَفِعُون بغَلَّتِها. وقال، في رِوايَةِ أحمدَ بنِ الحسنِ: إنَّه صَرَّحَ في مَسْألَتِه بوَقْفِ ثُلُثِه على بعضِ وَرَثَتِه دُونِ بعضٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: جائزٌ. قال الخَبْرِيُّ (¬1): وأجاز هذا الأكْثَرُون. واحْتَجَّ أحمدُ بحديثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنه، أنَّه قال: هذا ما أوْصَى به عبدُ اللهِ عُمَرُ أمِيرُ المُومِنِين إن حَدَث به حَدَثٌ، أنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ، والعَبْدَ الذي فيه، والسَّهْمَ الذي بخَيبَرَ، ورَقِيقَه الذي فيه، والمائةَ وَسْقٍ التي أطْعَمَنِي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، تَلِيه حَفْصَةُ ما عاشَتْ ثم يَلِيه ذو (¬2) الرَّأْي مِن أهْلِه، لا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُه حيث يَرى؛ مِن السّائِلِ، والمَحْرُومِ، وذوي القُرْبَى، ولا حَرَجَ على مَن وَلِيَه إن أكَلَ أو اشْتَرَى رَقِيقًا. رَواه أبو داودَ (¬3) بنَحْو مِن هذا. فالحُجَّةُ فيه أنَّه جَعَل حَفْصَةَ تَلِي وَقْفَه، وتَأْكُلُ منه، وتَشْتَرِي رَقِيقًا. قال المَيمُونِيُّ: قُلْتُ لأحمدَ: إنَّما أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ بالإيقافِ، وليس في الحديثِ «الوارِثُ». قال: فإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه وهو ذا قد وَقَفَها على وَرَثَتِه وحَبَّسَ الأصْلَ عليهم جَمِيعًا. ولأنَّ الوَقْفَ ليس في مَعْنَى المالِ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ التَّصَرفُ فيه، فهو كعِتْقِ الوارِثِ. ولَنا، أنَّه ¬

(¬1) أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الخبري، فقيه شافعي، يعرف العربية، ويكتب الخط الحسن، ويضبط الضبط الحسن، توفي سنة ست وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 6، 63. (¬2) في الأصل: «ذوو». (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْصِيصٌ لبعضِ الوَرَثَةِ بمالِه في مَرَضِه، فمُنِعَ منه، كالهِباتِ، ولأنَّ كلَّ مَن لا تَجُوزُ له الوَصِيَّةُ بالعَينِ، لا تجوزُ له بالمَنْفَعَةِ، كالأجْنَبِيِّ فيما زاد على الثُّلُثِ. وأمّا خَبَرُ عُمَرَ فإنَّه لم يَخُصَّ بعضَ الوَرَثَةِ بوَقْفِه، والنِّزاعُ إنَّما هو في تَخْصِيصِ بعضِهم. وأمّا جَعْلُ الولايةِ إلى حَفْصَةَ، فليس ذلك وَقْفًا عليها، فلا يكونُ ذلك وارِدًا في مَحَلِّ النِّزاعِ، وكونُه انتِفاعًا بالغَلَّةِ لا يَقْتَضِي جَوازَ التَّخْصِيصِ، بدَلِيلِ ما لو وَصَّى لوارِثِه بمَنْفَعَةِ عَبْدٍ، لم يَجزْ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُحْمَلَ كَلامُ أحمدَ، في رِوايَةِ الجَماعَةِ، على أنَّه وَقفٌ على جَمِيعِ الوَرَثَةِ؛ ليكونَ على وَفْقِ حديثِ عُمَرَ، وعلى وَفْقِ الدَّلِيلِ الذي ذَكَرْناه. والله أعلمُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَقَف دارَه وهي تَخْرُجُ مِن ثُلُثِه بينَ ابْنِه وبِنْتِه نِصْفَين في مَرَضِ مَوْته، صَحَّ على رِوايَةِ الجَماعَةِ، ولَزِم؛ لأنَّه لَمّا كان يَجُوزُ تَخْصِيصُ البِنْتِ بوَقْفِ الدّارِ كُلِّها، فنِصْفُها أوْلَى. وعلى الرِّوايَةِ التي نَصَرْناها، إن أجازَه الابنُ، جاز، وإن رَدَّه، بَطَل الوَقْفُ فيما زاد على نَصِيبِ الابنِ، وهو السُّدْسُ، ويَرْجِعُ إلى الابْنِ مِلْكًا، فيكونُ له النِّصْفُ وَقْفًا، والسُّدْسُ مِلْكًا طَلْقًا، والثُّلُثُ جَمِيعُه. للبِنْتِ وَقْفًا. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَبْطُلَ الوَقْفُ في نِصْفِ ما وَقَف على البِنْتِ، وهو الرُّبْعُ، ويَبْقَى ثلاثةُ أرْباعِ الدّارِ وَقْفًا، نِصْفُها للابنِ، ورُبْعُها للبِنْتِ، والرُّبْعُ الذي بَطَل الوَقْفُ فيه بينَهما أثلاثًا. وتَصِحُّ المسألةُ مِن اثْنَيْ عَشَرَ؛ للابنِ سِتَّةُ أسْهُم وَقْفًا وسَهْمان مِلْكًا، وللبِنْتِ ثلاثةُ أسْهُمٍ وَقْفًا وسَهْمٌ مِلْكًا. ولو وَقَفَها على ابنِه وزَوْجَتِه نِصْفَين، وهي تَخْرُجُ مِن ثُلُثِه، فرَدَّ الابنُ، صَحَّ الوَقْف على الابنِ في نِصْفِها، وعلى المرأةِ في ثُمْنِها. وللابنِ إبْطالُ الوَقْفِ في ثَلاثَةِ أثْمانِها، وتَرْجِعُ إليه مِلْكًا على الوَجْهِ الأوَّلِ، وعلى الوَجْهِ الثانِي، يَصِحُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَقْفُ [على الابنِ في نِصْفِها، وهو أرْبَعَةُ أسْباعِ نَصِيبِه، ويَرْجِعُ إليه باقِي نَصِيبِه مِلْكًا، ويَصِحُّ الوَقْف] (¬1) في أرْبَعةِ أسْباعِ الثمْنِ الذي للمرأةِ، وباقِيه يكون لها مِلْكًا، فاضْرِبْ سَبْعَةً في ثمانيةٍ تَكنْ سِتَّةً وخَمْسِين، للابنِ ثمانية وعِشْرون وَقْفًا، وأحَدٌ وعِشْرون مِلْكًا، وللمرأةِ أرْبَعة أسْهُمٍ وَقْفًا، وثلاثةٌ مِلْكًا. وهكذا ذَكَر أصحابُ الشافعيِّ. فأمّا إن كانتِ الدّارُ جَمِيعَ مِلْكِه فَوقَفَها كلَّها، فعَلى ما اخْتَرْناه، الحكْمُ فيها كما لو كانت تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، فإن الوارِثَ في جَمِيعِ المالِ كالأجْنَبِيِّ في الزّائِدِ عن الثُّلُثِ. وأمّا على ما رَواه الجَماعَةُ، فإن الوَقْفَ يَلْزَمُ في الثُّلُثِ مِن غيرِ اخْتِيارِ الوَرَثَةِ، وما زاد فلهما إبْطالُ الوَقْفِ فيه، وللابنِ إبْطالُ التَّسْويَةِ، فإنِ اخْتارَ إبْطال التَّسْويَةِ دُونَ إبْطالِ الوَقفِ، خرِّجَ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّه يَبطُل الوَقْف في التُّسْعِ، ويَرْجِعُ إليه مِلْكًا، فيَصِيرُ له النِّصْفُ وَقْفًا، والتُّسْعُ مِلْكًا، وللبِنْتِ الثُّلُثُ وَقْفًا، ونِصْفُ التُّسْعِ مِلْكًا؛ لِئلَّا تَزْدادَ البِنْت على الابنِ في الوَقْفِ. وتَصِح المَسْألة في هذا الوَجْهِ مِن ثمانيةَ عَشَرَ؛ للابنِ تِسْعَةٌ وَقْفًا، وسَهْمان مِلْكًا، وللبِنْتِ سِتَّة وَقْفًا، وسَهْمٌ مِلْكًا. وقال أبو الخَطَّابِ: له إبْطالُ الوَقْفِ في الرُّبْعِ كلِّه، ويَصِير له [النِّصْفُ وَقْفًا، والسُّدْس مِلْكًا، ويكونُ للبِنْتِ الرُّبعُ وَقْفًا، ونِصْفُ السُّدْسِ مِلْكًا، كما لو كانت] (1) الدّارُ تَخْرجُ مِن الثُّلثِ، وتَصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2619 - مسألة: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته إلا الأب. وعنه، ليس له الرجوع. وعنه، له الرجوع إلا أن يتعلق به حق أو رغبة، نحو أن يتزوج الولد أو يفلس)

وَلَا يَجُوزُ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلا الأبَ. وَعَنْهُ، لَيسَ لَهُ الرُّجُوع. وَعَنْهُ، لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ، نحْوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ يُفْلِسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2619 - مسألة: (ولا يجوزُ لواهِبٍ أنَّ يَرْجِعَ في هِبَتِه إلَّا الأبَ. وعنه، ليس له الرُّجوعُ. وعنه، له الرُّجوعُ إلَّا أنَّ يَتَعَلقَ به حقٌّ أو رغبةٌ، نحوَ أن يَتَزَوَّجَ الولدُ أو يُفْلِسَ) لا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّ غيرَ الأبِ والأمِّ لا يجوزُ له الرُّجُوعُ في الهِبَةِ والهَدِيَّةِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال النَّخَعِي، والثَّوْريُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي: مَن وَهَب لغيرِ ذي رَحِم، فله الرُّجُوعُ ما لم يُثَبْ عليها، ومَن وَهَب لذي رَحِمٍ، فليس له الرُّجُوعُ. ورُوي ذلك عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ الله عنه. لِما روَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرجُلُ أحَقُّ بهِبَتِه مَا لَمْ يُثَبْ مِنْها». رَواه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1). ولقولِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه: مَن وَهَب هِبَة يَرَى أنَّه أراد بها صِلَةَ الرَّحِمِ، أو على وَجْهِ صَدَقَة، فإنَّه لا يَرْجِعُ فيها، ومَن وَهَب هِبَةً أراد بها الثَّوابَ، فهو على هِبَتِه يَرْجعُ فيها ما لم يُرْضَ منها. رَواه مالِكٌ في «المُوَطَّأ» (¬2). ولأنَّه لم يَحْصُلْ عَنها عِوَضٌ، فجاز له الرُّجُوعُ فيها، كالعارِيَّةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «العَائِدُ في هِبَتِه كَالْعَائِدِ فِي قَيئه». وفي لَفْظٍ: «كالكَلْبِ يَعُودُ في قَيئه». وفي رِوايَةٍ: «لَيسَ لَنَا مَثَل السَّوْءِ، العائِدُ في هِبَتِه كالكَلْبِ يَعُودُ في قَيئِه». مُتَّفقٌ عليه (¬3). وروَى عَمْرُو بنُ ¬

(¬1) في: باب من وهب هبة رجاء ثوابها، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 798. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 7. (¬3) انظر ما تقدم في 6/ 544، وما تقدم في صفحة 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَرْجِعُ واهِبٌ فِي هِبَتِه، إلَّا الوَالِدَ مِنْ وَلَدِه» (¬1). ولأنَّه واهِبٌ لا ولايةَ له في المالِ، فلم يَرْجِعْ في هِبَتِه لذي الرَّحِمِ المَحْرَمِ. وأحادِيثُنا أصَحُّ مِن حَدِيثهم وأوْلَى. وقولُ عُمَرَ قد رُوِيَ عن ابنِه وابنِ عباس خِلافُه. وأمّا العارِيَّةُ فهي هِبَةُ المَنافِعِ، ولم يَحصُلِ القَبْضُ فيها. فإن قَبَضَها باسْتِيفائِها، فنَظيرُ مَسْألتِنا، ما اسْتَوْفَى مِن مَنافِعِ العارِيَّةِ فإنَّه لا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فيها. وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بهِبَةِ الأجْنَبِيِّ؛ فإنَّ فيها ثَوابًا، وقد جَوَّزُوا فيها الرُّجُوعَ، فحَصَلَ الاتِّفاقُ على أنَّ ما وَهَب الإنسانُ لذوي رَحِمِه المَحْرَمِ غيرِ الوَالِدَين لا رُجُوعَ فيه، وكذلك ما وَهَب الزَّوْجُ امْرَأتَه. والخِلافُ فيما عَدا هذا. فعندَنا لا يَرْجِعُ إلَّا الوَالِدُ، وعندَهم لا يَرْجِعُ إلَّا الأجْنَبِيُّ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب من أعطى ولده ثم رجع فيه، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 796. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الأبُ، فله الرُّجُوعُ فيما وَهَب لوَلَدِه، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، سَواءٌ قَصَد برُجُوعِه التَّسْويَةَ بينَ أوْلادِه أو لا. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وعن أحمدَ رِوايَة أُخْرَى: ليس له الرُّجُوعُ. وبها قال أصحابُ الرَّأْي، والثَّوْرِيُّ، والعَنْبَرِيُّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «العَائِدُ في هِبَتِه كالعَائِدِ في قَيئه». مُتَّفَق عليه. ولِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عُمَرَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لبَشِيرِ (¬1) بنِ سعدٍ: «فَارْدُدْهُ». ورُوِيَ: «فأرْجِعْهُ». رَواه كذلك (¬2) مالِكٌ عن ¬

(¬1) في م: «لقيس». وحديث بشير تقدم تخريجه في صفحة 65. (¬2) بعده في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزهْرِيِّ، عن حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن النُّعْمانِ. فأمَرَه بالرُّجُوعِ في هِبَتِها، وأقَلُّ أحْوالِ الأمْرِ الجَوازُ، وقد امْتَثَلَ بَشِيرُ بنُ سعدٍ ذلك، فرَجَعَ في هِبَتِهِ، لوَلَدِه، ألا تَراه قال في الحديثِ: فرَجَعَ أبي، فرَدَّ تلك الضدَقَةَ. فإن قِيلَ: يُحْمَلُ الحديثُ على أنَّه لم يكنْ أعْطاه شيئًا. قُلْنا: هذا يُخالِفُ ظاهِرَ الحديثِ؛ لقَوْلِه: تَصَدَّقَ أبي عَلَيَّ بصَدَقَةٍ. وقول بَشِير: إنِّي نَحَلْتُ ابْني غُلامًا. يَدُلُّ على أنَّه كان قد أعْطاهُ. وقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَارْدُدْهُ». وروَى طاوُسٌ، عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبّاس، يَرْفَعان الحديثَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: «لَيسَ لأحَدٍ أنْ يُعْطِيَ عَطيةً فيَرْجِعَ فيها، إلَّا الوَالِدَ فِيمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْطِي وَلَدَهُ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حديثٌ حسنٌ. وهذا يَخُصُّ عُمُومَ ما رَوَوْه. وقِياسُهم مَنْقُوضٌ بهِبَةِ الأجْنَبِيِّ، فإنَّ فيها أجْزًا وثَوابًا، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَدَب إليها. وعندَهم له الرُّجُوعُ فيها. والصَّدَقَةُ على الوَلَدِ كمَسْألتِنا، وقد دَلَّ حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِير على جَوازِ الرُّجُوعِ في الصَّدَقَةِ؛ لقَوْلِه: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أبي بصَدَقَةٍ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة، من أبواب الهبة. عارضة الأحوذي 8/ 294.كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجوع في الهبة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 261. وابن ماجه، في: باب من أعطى ولده ثم رجع فيه، من كتاب الهبات. سنن ابن ماجه 2/ 795. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الأُمُّ، فظاهِرُ كَلام أحمدَ، أنَّه ليس لها الرُّجُوعُ. قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبِي عبدِ اللهِ: الرُّجُوعُ لَلمرأةِ فيما أعْطَتْ وَلَدَها كالرجلِ؟ قال: ليس هي عندِي [في هذا] (¬1) كالرجلِ؛ لأنَّ للأبِ أنَّ يَأْخُذَ مِن مالِ وَلَدِه، والأمُّ لا تَأْخُذُ. وذَكَر حديثَ عائشةَ: «أطْيَبُ مَا أكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِه، وإنَّ وَلَدَه مِن كَسْبِه» (¬2). أي كأنَه الرجلُ. ولا يَصِحُّ قِياسُ الأمِّ علي الأبِ؛ لأنَّ للأبِ ولايةً على وَلَدِه، ويَحُوزُ جَمِيعَ المالِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يأكل من مال ولده، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 259. والترمذي، في: باب ما جاء أن الوالد يأخذ مال ولده، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 110. والنسائي، في: باب الحث على الكسب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 212. وابن ماجه، في: باب ما للرجل من مال ولده، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 769. والإِمام أحمد، في: المسند: 6/ 31، 41، 193، 162، 127، 42، 220.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِيراثِ، بخِلافِ الأمِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لها الرُّجُوعَ، وهو ظاهِرُ كَلام الخرَقِيِّ؛ فإنَّه قال: وإذا فاضَلَ بينَ أوْلادِه أُمِر برَدِّه. فيَدْخُلُ فيه الأمُّ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها داخِلَةٌ في قَوْلِه: «إلَّا الوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَه». ولأنَّها دَخَلَتْ في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «سَوُّوا بَينَ أوْلادِكُمْ». فيَنْبَغِي أنَّ تتَمَكَّنَ مِن الرُّجُوعِ في الهِبَةِ، ولأنَّه طَرِيقٌ إلى التسْويَةِ، ورُبَّما لا يكونُ لها طَرِيقٌ غيرُه إذا لم يُمْكِنْ إعطاءُ الآخَرِ كما أعْطَتِ الأوَّلَ؛ لأنَّها لما ساوَتِ الأبَ في تَحْرِيمِ تَفْضِيلِ بعضِ وَلَدِها، يَنبغِي أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُساويَه في التَّمَكنِ مِن الرُّجُوعِ فيما فَضَّلَتْه بهِ، تَخْلِيصًا لها مِن الإثْمِ، وإزالةً للتَّفْضِيلِ (¬1) المُحَرَّمِ، كالأبِ. وهذا الصحيحُ، إن شاء الله تُعالى. وقال مالِكٌ: للأمِّ الرُّجُوعُ فيما وَهَبَتْ وَلَدَها، ما كان أبوه حَيًّا، فإن كان مَيِّتًا فلا رُجُوعَ لها؛ لأنَّها هِبَةٌ ليَتِيم، وهِبَة اليَتِيمِ لازِمَةٌ، كصَدَقةِ التَّطَوُّعِ. ومِن مَذْهَبِه أنَّه لا يُرْجَعُ في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. فصل: وحُكْمُ الصُّدَقَةِ حُكْمُ الهِبَةِ فيما ذَكَرْنا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وفَرَّقَ مالِكٌ وأصحابُ الرأي بينَهما، فلم يُجِيزُوا الرُّجُوعَ في الصَّدَقَةِ بحالٍ، واحْتَجُّوا بحديثِ عُمَرَ: مَن وَهَب هِبَةً أراد بها صِلَةَ الرَّحِمِ، أو على وَجْهِ صَدَقَةٍ، فإنَّه لا يَرْجِعُ. ولَنا، حديثُ النُّعْمانِ، فإنَّه قال: تَصَدَّقَ أبي عَلَيَّ بصَدَقَةٍ، فرَجَعَ أبي فرَدَّ تلك الصَّدَقَةَ. وأيضًا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا الوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَه». وهذا يُقَدَّمُ على قولِ عُمَرَ، ثم هو خاصُّ في الوالِدِ (¬2)، وحديثُ عُمَرَ عام (¬3)، فيَجِبُ تَقْدِيمُ الخاصِّ عليه. فصل: وللرُّجُوعِ في هِبَةِ الوَلَدِ شُرُوط أرْبَعَة؛ أحَدُها، أنَّ يَبْقَى مِلْكُ الابنِ فيها، فإن خَرَجَتْ عن مِلْكِه ببَيع أو هِبَةٍ أو وَقْفٍ أو غيرِ ذلك، لم يكنْ، له الرجُوعُ فيها؛ لأنَّه إبْطالٌ لمِلكِ غير (¬4) الوَلدِ، فأشْبَهَ غيرَ ¬

(¬1) في النسخ: «التفضيل» والمثبت من المغني 8/ 263. (¬2) في م: «الولد». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْهُوبِ للوَلَدِ. الثانِي، أنَّ تكونَ العَينُ باقِيَةً في تَصَرُّفِ الوَلَدِ، يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في رَقَبَتِها، فإنِ اسْتَوْلَدَ الأمَةَ، لم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ المِلْكَ فيها لا يَحوزُ نَقْلُه إلى غيرِ سَيِّدِها. وكذلك إن أفْلَسَ وحُجِر عليه أو رَهَن العَينَ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى إبْطالِ حَقِّ غيرِ الوَلَدِ. فإن زال المانِعُ مِن التَّصَرُّفِ، فله الرُّجُوعُ؛ لأنَّ مِلْكَ الابنِ يَزُلْ، وإنَّما طَرَأ مَعْنًى قَطَع التَّصَرُّفَ مع بَقاءِ المِلْكِ فمَنَعَ الرُّجُوعَ، فإذا زال زال المَنْعُ. والصحيحُ في التَّدْبِيرِ أنَّه لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. فإن قُلْنا: يَمْنَعُ البَيعَ. مَنَع الرُّجُوعَ، كالاسْتِيلادِ. وكلُّ تصَرُّفٍ لا يَمْنَعُ الابنَ التَّصَرُّفَ في الرَّقَبَةِ؛ كالوَصِيَّةِ، والهِبَةِ قبلَ القَبْضِ فيما يَفْتَقِرُ إليه، والوَطْءِ، والتَّزْويجِ، والإجارَةِ، والمُزارَعَةِ عليها، وجَعْلِها مُضارَبَةً، أو في عَقْدِ شَرِ كَةٍ، فكل ذلك لا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ تصَرُّف الابنِ في رَقبَتِها، وكذلك تعْلِيقُ العِتْقِ بصِفةٍ. وإذا رَجَع وكان التَّصَرُّفُ لازِمًا؛ كالإجارَةِ، والتَّزْويجَ، والكِتابَةِ، فهو باقٍ بحالِه؛ لأنَّ الابنَ لا يَمْلِكُ إبْطاله، [فكذلك مَن انْتَقَلَ إليه. وإن كان جائِزًا، كالوَصِيَّةِ، والهبَةِ قَبلَ القَبْضِ، بَطَل، لأنَّ الابنَ يَمْلِكُ إبْطاله] (¬1). وأمّا التَّدْبِيرُ والمُعَلَّقُ عِتْقه بصِفةٍ، فلا يَبْقَى حُكْمُها في حَقِّ الأبِ، ومتى عاد إلى الابْنِ عادَ حُكْمُها. والبَيعُ الذي للابنِ فيه خِيارٌ، إمّا بالشَّرْطِ، أو عَيب في الثَّمَنِ، أو غيرِ ذلك، فيَمْنَعُ ¬

(¬1) سقط من: م.

2620 - مسألة: (وإن نقصت العين، أو زادت زيادة منفصلة، لم تمنع الرجوع، والزيادة للابن. ويحتمل أنها للأب. وهل تمنع

وَإنْ نَقَصَتِ الْعَينُ، أَوْ زَادَتْ زيَادَةً مُنْفَصِلَةً، لَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعَ، الزِّيَادَةُ لِلابْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لِلأَب. وَهَلْ تَمْنَعُ الْمُتَّصِلَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ؛ لأن الرُّجُوعَ يتَضمنُ فَسْخَ مِلْكِ الابنِ في عِوَضِ المَبِيعِ، ولم يَثْبُتْ ذلك مِن جِهَتِه. فصل: فإن تَعَلَّقَ بها رَغْبةٌ لغيرِ الوَلَدِ، مثلَ أنَّ يَهَبَ وَلَدَه شيئًا، فيَرْغَبَ النّاسُ في مُعامَلَتِه ويُداينُوه، أو في مُناكَحَتِه، فيُزَوِّجُوه، أو يَهَبَ بِنْتَه فتَتَزَوَّجَ لذلك، فعن أَحمدَ رِوايَتانِ؛ أولاهما، ليس له الرُّجُوعُ. قال أحمدُ، في رِوايَةِ أبي الحارِثِ، في الرجلِ يَهَبُ ابْنَه مالًا: فله الرُّجُوعُ إلَّا أنَّ يكونَ غَرَّ به قَوْمًا، فإن غَرَّ به، فليس له أنَّ يَرْجِعَ. وهذا مَذْهَبُ مالِكٍ؛ لأنَّه تَعَلَّقَ بها حَقُّ غيرِ الابنِ، ففي الرُّجُوعِ إبْطالُ حَقِّه، وقد قال، عليه الصلاةُ والسّلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» (¬1). وفي الرُّجُوعِ ضَرَرٌ، ولأنَّ في هذا تَحيُّلًا على إلْحاق الضَّرَرِ بالمسلمين، ولا يجوزُ ذلك. والثانيةُ، له الرُّجُوعُ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّ حَقَّ المُتَزَوِّجِ والغَرِيمِ لم يَتَعَلَّقْ بعَينِ هذا المالِ، فلم يَمْنَعِ الرجُوعَ فيه. وإن دايَنَه النّاسُ فأفْلَسَ ولم يُحْجَرْ عليه، فعلى الرِّوايَتَين. 2620 - مسألة: (وإن نَقَصَتِ العَينُ، أو زادت زِيادَةً مُنْفَصِلَةً، لم تَمْنَعِ الرُّجُوعَ، والزِّيادَةُ للابنِ. ويَحْتَمِلُ أنَّها للأبِ. وهل تَمْنَعُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368.

الرُّجُوعَ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَّصِلةُ الرُّجُوعَ؟ على رِوايَتَين) أمّا الزِّيادَةُ المُنْفَصِلَةُ؛ كالوَلَدِ، وثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وكَسْبِ العَبْدِ، فلا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. والزِّيادَةُ للوَلَدِ؛ لأنَّها حادِثَةٌ في مِلْكِه، ولا تَتْبَعُ في الفُسُوخِ، فلا تَتْبَعُ ههُنا. ويَحْتَمِل أنَّها للأبِ. ذكرَه القاضي، كالرَّدِّ بالعَيبِ. فإن كانتِ الزِّيادَةُ وَلَدَ أمَةٍ لا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بينَه وبينَ أُمِّه، مَنَع الرُّجُوعَ؛ لأنَّه يَلْزَمُ منه التُّفْرِيقُ بينَه وبينَ أُمِّه، وهو مُحَرَّمٌ، إلَّا أنَّ نقولَ: إنُّ الزِّيادَةَ المُنْفَصِلَةَ للأب. فلا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه يَرْجِعُ فيهما جَمِيعًا، أو يَرْجِعُ في الأمِّ، ويتَمَلكُ الوَلَدَ (1) مِن مالِ وَلَدِه. فصل: فإن تَلِف بعضُ العَين، أو نَقَصَتْ قِيمَتُها، لم يَمْنَعِ الرُّجُوعَ فيها، ولا ضَمان على الابنِ فيما تلِف منها؛ لأنَّه تلف على مِلكِه، سَواءٌ تَلِف بفِعْلِ الابنِ أو بغيرِ فِعْلِه. وإن جَنَى العَبْدُ جِنايَةً، تَعلُّقَ أرْشُها برَقَبَتِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كنُقْصانِه بذَهابِ بعضِ أجْزائِه، وللأبِ الرُّجُوعُ فيه، فإن رَجَع فيه، ضَمِن أرْشَ الجِنايَةِ. وإن جُنِيَ على العَبْدِ، فرَجَعَ الأبُ فيه، فأرْشُ الجنايَةِ عليه للابنِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ الزِّيادَةِ المُنْفَصِلَةِ. فإن قِيل: فلو أراد الأَبُ الرُّجُوعَ في الرَّهْنِ، وعليه فَكاكُه، لم يَمْلِكْ ذلك، فكيف يَمْلِكُ الِرُّجُوعَ في العَبْدِ الجانِي إذا أدَّى أرْشَ الجنايَةِ؟ قُلْنِا: الرَّهْنُ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ في العَينِ، بخِلافِ الجِنايَةِ، ولأنَّ فَكُّ الرَّهْنِ فَسْخٌ لعَقْدٍ عَقَدَه المَوْهُوبُ له، وههُنا لم يتَعَلَّقِ الحَقُّ به مِن جِهَةِ العَقْدِ، فافْتَرَقا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الزِّيادَةُ المُتَّصِلَةُ، كالسِّمَنِ والكِبَرِ وتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ، إذا زادت بها القِيمَةُ، فعن أحمدَ فيها روايَتان؛ إحْداهما، لا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وهو مَذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها زِيادَة في المَوْهُوبِ، فلم تمْنَعِ الرُّجُوعَ، كالزِّيادَةِ قبلَ القَبْضِ، والمُنْفَصِلَةِ. والثانيةُ، تَمْنَعُ. وهو مَذْهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ للمَوْهُوبِ له، لكونِها نَماءَ مِلْكِه، ولم تَنْتَقِلْ إليه مِن جِهَةِ أبيه، فلم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فيها، كالمُنْفَصِلَةِ، وإذا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فيها، امْتَنَعَ الرُّجُوعُ في الأصْلِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلى سُوءِ المُشارَكَةِ وضَرَرِ التَّشقِيصِ، ولأنَّه فسخُ اسْتِرْجاعٍ للمالِ بفَسْخِ عَقْدٍ لغيرِ عَيبٍ في عِوَضِه، فمَنَعَه الزِّيادَةُ المُتَّصِلَةُ، كاسْتِرْجاعِ الصَّداقِ بفَسْخِ النِّكاحَ، أو نِصْفِه بالطَّلاقِ، ورُجُوعِ البائِعِ في المَبِيعِ لفَلَسِ المُشْتَرِي. وفارَقَ الرَّدَّ بالعَيبِ مِن جِهَةِ أنَّ الرَّدَّ مِن المُشْتَرِي، وقد رَضِيَ ببَذْلِ الزِّيادَةِ. وإن فرض الكَلام فيما إذا باع عَرْضًا بعَرْض فزاد أحَدُهما، ووَجَد المُشْتَرِي بالآخَرِ عَيبًا، قُلْنا: بائِعُ المَعِيبِ سَلَّطَ المُشْتَرِيَ على الفَسْخِ ببَيعِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعِيبَ، فكأنَّ الفَسْخَ وُجِد منه. ولهذا قُلْنا فيما إذا فَسَخ الزَّوْجُ النِّكاحَ لعَيبِ المرأةِ قبلَ الدُّخُولِ: يَسْقُطُ صَداقُها، كما لو فَسَختْه. وعلى هذا، لا فَرْقَ بينَ الزِّيادَةِ في العَينِ؛ كالسِّمَنِ والطُّولِ ونحوهما، أو في المَعانِي؛ كتَعَلُّم. صِناعَةٍ، أو كِتابَةٍ، أو قُرْآنٍ، أو عِلْم، أو إسْلام، أو قَضاءِ دَينٍ عنه. وبهذا قال محمدُ بنُ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ: الزيادَةُ بتَعَلُّمِ القُرْآنِ وقَضاءِ دَينٍ عنه، لا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ. ولَنا، أنَّها زِيادَة لها مُقابِل مِن الثمَنِ، فمَنَعَتِ الرُّجُوعَ، كالسِّمَنِ، وتَعَلمِ صَنْعَةٍ. وإن زاد ببُرْئِه مِن مَرَضٍ أو صَمَمٍ، مَنَع الرُّجُوعَ، كسائرِ الزِّياداتِ. وإن كانت زِيادَةُ العَينِ أو التَّعَلمِ لا تزِيدُ في قِيمَتِه شيئًا أو تَنْقُصُ منها، لم تَمْنَعِ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه ليس بزِيادَةٍ في المالِيّةِ. فصل؛ فإن قَصَر العَينَ أو فَصَّلَها، فهي زِيادَةٌ مُتَّصِلَة، هل تَمْنَعُ الرُّجُوعَ أو لا؟ مَبْنِيٌّ على الرِّوايَتَين في السِّمَنِ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِل أن تَمْنَعَ هذه الزِّيادَةُ الرُّجُوعَ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّها حاصِلَةٌ بفِعْلِ الابنِ، فجَرَتْ مَجْرَى العَينِ الحاصِلَةِ بفِعْلِه، بخِلافِ السَّمَنِ، فإنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ للأبِ، فلا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه نَماءُ العَينِ، فيكونُ تابِعًا لها. وإن ¬

(¬1) في: المغني 8/ 267.

2621 - مسألة: (وإن باعه المتهب ثم رجع إليه بفسخ أو إقالة، فهل له الرجوع؟ على وجهين. وإن رجع إليه ببيع أو هبة، لم يملك الرجوع)

وَإِنْ بَاعَهُ الْمُتَّهِبُ ثُمَّ رَجَعَ اليهِ بِفَسْخ أَوْ إِقَالةٍ، فَهَلْ لَهُ الرُجُوعُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَإِنْ رَجَعَ إلَيهِ بِبَيع أَوْ هِبَةٍ، لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَهَبَه حامِلًا فوَلَدَتْ في يَدِ الابْنِ، فهي زِيادَةٌ مُتَّصِلَةٌ في الوَلَدِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ الوَلَدُ زِيادَةً مُنْفَصِلَةً إذا قُلْنا: الحَمْلُ لا حُكْمَ له. وإن وَهَبَه حامِلًا ثم رَجَع فيها حامِلًا، جاز، إذا لم تَزِدْ قيمَتُها، وإن زادتْ قِيمَتهِا، فهي زِيادَة مُتَّصِلَةٌ. وإن وَهَبَه حائِلًا فحَمَلَتْ، فهي زِيادَة مُنْفَصِلَةٌ، وله الرُّجُوعُ فيها دُونَ حَمْلِها. وإن قُلْنا: إنَّ الحَمْلَ لا حُكْمَ له. فزادت به قِيمَتُها، فهي زِيادَة مُتَّصِلَةٌ. وإن لم تَزِدْ، جاز الرُّجُوعُ فيها. وإن وَهَبَه نَخْلًا فحَمَلَتْ، فهي قبلَ التَّأْبِيرِ زِيادَة مُتَّصِلَةٌ، وبعدَه زِيادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ. 2621 - مسألة: (وإن باعَه المُتَّهِبُ ثم رَجَع إليه بفَسْخٍ أو إقالةٍ، فهل له الرُّجُوعُ؟ على وَجْهَين. وإن رَجَع إليه ببَيعٍ أو هِبَةٍ، لم يَمْلِكِ الرُّجُوعَ) إذا خَرَجَتِ العَينُ عن مِلْكِ الابْنِ ببَيعٍ أو هِبَةٍ، ثم عادت إليه بسَبَبٍ، كبَيعٍ أو هِبَةٍ أو وَصِيَّةٍ أو إرْثٍ أو نحوه، لم يَمْلِكِ الأبُ الرُّجُوعَ فيها؛ لأنَّها عادت بمِلْكٍ جَدِيدٍ لم يَسْتَفِدْه مِن قِبَلِ أبيه، فلا يَمْلِكُ فَسْخه

2622 - مسألة: (وإن وهبه المتهب لابنه، لم يملك أبوه الرجوع، إلا أن يرجع هو)

وَإِنْ وَهَبَهُ الْمُتَّهِبُ لابْنِهِ، لَمْ يَمْلِكْ أَبُوهُ الرُّجُوعَ، إلَّا أَنْ يَرْجِعَ هُوَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإزالتَه، كالذي لم يكنْ مَوْهُوبًا. وإن عادت إليه بفَسْخِ العَيب أو إقالةٍ أو فَلَسِ المُشْتَرِي، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ السَّبَبَ المُزِيلَ ارْتَفَعَ، وعاد المِلْكُ بالسَّبَبِ الأوَّلِ، فأشبَهَ ما لو فَسخ البَيعَ بالخِيارِ. والثانِي، لا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّ المِلْكَ عاد إليه بعدَ اسْتِقْرارِ مِلْكِ مَن انْتَقَلَ إليه عليه، أشْبَهَ ما لو عاد إليه بالهِبَةِ. فأمّا إن عاد إليه بخِيارِ الشّرْطِ أو خِيارِ المَجْلِسِ، فله الرُّجُوعُ؛ لأنَّ المِلْكَ لم يَسْتَقِرَّ عليه. 2622 - مسألة: (وإن وَهَبَه المُتَّهبُ لابنِه، لم يَمْلِكْ أبوه الرُّجُوعَ، إلَّا أنَّ يَرْجِعَ هو) لأنَّ رُجُوعَه إبْطالٌ لمِلْكِ غيرِ ابنِه. فإن رجَع الابنُ في هِبَتِه، احْتَمَلَ أنَّ يَمْلِكَ الأبُ الرُّجُوعَ في هِبَتِه؛ لأنَّه فَسَخ هِبَتَه

2623 - مسألة: (وإن كاتبه أو رهنه، لم يملك)

وَإنْ كَاتَبَهُ أوْ رَهَنَهُ، لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ، إلَّا أنْ يَنْفَكَّ الرَّهْنُ وَتَنْفَسِخَ الْكِتَابَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ برُجُوعِه، فعاد إليه المِلْكُ بالسَّبَبِ الأوَّلِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَمْلِكَ الأبُ الرُّجُوعَ؛ لأنَّهْ رَجَع إلى ابنِه بعدَ اسْتِقْرارِ مِلْكِ غيرِه عليه، فأشْبَهَ ما لو وَهَبَه ابنُ الابْنَ لأبيه (¬1). 2623 - مسألة: (وإن كاتَبَه أو رَهَنَه، لم يَمْلِكْ) أبوه (الرُّجُوعَ، إلَّا أنَّ يَنْفَكَّ الرَّهنُ وتَنْفَسِخَ) (¬2) أمّا إذا رَهَنَه الابنُ، فليس للأبِ ¬

(¬1) في الأصل، م: «لابنه». (¬2) أي الكتابة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعُ قبل انْفكاكِ الرهْنِ؛ لأنَّ في ذلك إبْطال حَقِّ غيرِ الوَلَدِ. فإنِ انْفَك الرَّهْنُ، فله الرُّجُوعُ؛ لزَوالِ المانِعِ، ولأنَّه عاد إلى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الابنِ فيه، أشْبَهَ غيرَ المَرْهُونِ. وحُكْمُ الكِتابَةِ كذلك عندَ مَن لا يَرَى بَيعَ المُكاتَبِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، وجَماعَةٍ غيرِه. فأمّا مَن أجاز بَيعَ المُكاتبِ فحُكْمُه عندَه كالعَينِ المُسْتَأجَرَةِ، والمُزَوَّجِ، على ما ذَكَرناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والرُّجُوعُ في الهِبَةِ أنَّ يقولَ: قد رَجَعْتُ فيها. أو: ارْتَجَعْتُها. أو: رَدَدْتُها. أو نحوَ ذلك مِن الألفاظِ الدّالَّةِ على الرُّجُوعِ. ولا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ حاكِمٍ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بقَضاءِ قاض؛ لأنَّ مِلْكَ المَوْهُوبِ له مُسْتَقِرٌّ. ولَنا، أنَّه خِيارٌ في فَسْخِ عَقْدٍ، فلم يَفْتَقِرْ إلى قَضاءٍ، كالفَسْخِ بخِيارِ الشرْطِ. فإن أخَذَ ما وَهَبَه لوَلَدِه ونَوَى به الرُّجُوعَ، كان رُجُوعًا، والقولُ قَوْلُه في نِيَّتِه؛ لأنَّ ذلك لا يُعْلَمُ إلَّا منه. فإن مات الأبُ ولم يُعْلَمْ هل نَوَى الرُّجُوعَ أوْ لا، ولم تُوجَدْ قَرِينَة تَدُلُّ على الرُّجُوعِ، لم نَحْكُمْ بأنَّه رُجُوعٌ؛ لأن الأخْذَ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وغيرَه، فلا نزِيلُ حُكْمًا يَقِينِيًّا بأمْر مَشْكُوكٍ فيه. فإنِ اقْتَرَنَتْ به قَرائِنُ دالّةٌ على الرُّجُوعِ، كان رُجُوعًا، في أحَدِ الوَجْهَين. اخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّنا اكْتَفَينا في العَقْدِ بدَلالةِ الحالِ في الفَسْخِ، ولأنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ إنما كان رُجُوعًا لدَلالتِه عليه، فكذلك كلُّ ما دَلَّ عليه. والآخَرُ، لا يكونُ رُجُوعًا. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المِلْكَ ثابِتٌ

2624 - مسألة: (وعن أحمد، في المرأة تهب زوجها مهرها: إن كان سألها ذلك رده إليها، رضيت أو كرهت؛ لأنها لا تهبه له إلا مخافة غضبه أو إضرار بها بأن يتزوج عليها)

وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَرأَةِ تَهَبُ زَوْجَهَا مَهْرَهَا: إنْ كَانَ سَأَلهَا ذلِكَ رَدَّهُ إِلَيهَا، رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ؛ لِأَنَهَا لَا تَهَبُ لَهُ إلَّا مَخَافَةَ غَضَبِهِ أَوْ إِضْرَارٍ بِهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمَوْهُوبِ له يَقِينًا، فلا يَزُولُ إلَّا بالصَّرِيحِ. قال شيخُنا (¬1): ويُمْكِنُ أنَّ يَنْبَنِيَ هذا على نَفْسِ العَقْدِ، فمَن أوْجَبَ الإيجابَ والقَبُولَ فيه، لم يَكْتَفِ ههُنا إلا بلَفْظٍ يَقْتَضِي زَواله، ومَن اكْتَفَى في العَقْدِ بالمُعاطاةِ الدّالَّةِ على الرِّضَا به، فههُنا أوْلَى. فإن نَوَى الرُّجُوعَ مِن غيرِ فِعْلٍ ولا قولٍ، لم يَحْصُلِ الرُّجُوعُ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه إثباتُ المِلْكِ على مالٍ مَمْلُوكٍ لغيرِه، فلم يَحْصُلْ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كسائِرِ العُقُودِ. وإن عَلَّقَ الرُّجُوعَ بشَرْطٍ، فقال: إذا جاء رَأْسُ الشَّهْرِ فقد رَجَعْتُ في الهِبَةِ. لم يَصِحَّ؛ لأن الفَسْخَ للعَقْدِ لا يَقِفُ على شَرْطٍ لا يَقِفُ العَقْدُ عليه. 2624 - مسألة: (وعن أحمدَ، في المرأةِ تَهَبُ زَوْجَها مَهْرَها: إن كان سَألَها ذلك رَدَّه إليها، رَضِيَتْ أو كَرِهَتْ؛ لأنَّها لا تَهَبُه له إلَّا مَخافَةَ غضَبِه أو إضْرارٍ بها بأن يَتَزَوَّجَ عليها) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في هِبَةِ المرأةِ زَوْجَها، فعنه، لا رُجُوعَ لها. وهذا ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ أبي بكرٍ. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، والنَّخَعِيُّ، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 269.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعَطاءٌ، وقَتادَةُ؛ لقولِ الله تعالى: {إلا أَنْ يَعْفُونَ} (¬1). وقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (¬2). الآية. وعُمُومِ الأحادِيثِ. وعنه رِوايَةٌ ثانيةٌ، لها الرُّجُوعُ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أحمدَ يُسْألُ عن المرأةِ تَهَبُ ثم تَرْجِعُ، فرَأيتُه يَجْعَلُ النِّساءَ غيرَ الرِّجالِ، ثم ذَكَر الحديثَ: «إنَّمَا يَرْجِعُ في المَوَاهِبِ النِّسَاءُ وشِرَارُ النّاسِ» (¬3). وذَكَر حديثَ عُمَرَ: إنَّ النِّساءَ يُعْطِينَ أزْواجَهُن رَغْبَة ورَهْبَةً، فأيُّما امرأةٍ أعْطَتْ زَوْجَها شيئًا ثم أرادت أنَّ تَعْتَصِرَه فهي أحَقُّ به (¬4). رَواه الأثْرَمُ (¬5). وهذا قولُ شرَيحٍ، والشعْبِيِّ. وحَكاه الزُّهْرِيُّ عن القُضاةِ. وعنه رِوايَةٌ ثالثةٌ، نَقَلَها عنه أبو طالِبٍ: إذا وَهَبَتْ له مَهْرَها، فإن كان سألها ذلك رَدَّه إليها، رَضِيَتْ أو كَرِهَتْ؛ لأنها لا تَهَبُ إلَّا مَخافَةَ غَضَبِه أو إضْرارٍ بأن يَتَزَوَّجَ عليها، وإن لم يكنْ سَألها وتَبَرَّعَتْ (¬6) به، فهو جائِزٌ. فظاهِرُ هذه الرِّوايَةِ، أنَّه متى كانت مع الهِبَةِ قَرِينَةٌ؛ مِن مَسْألَتِه لها، أو غَضَبٍ عليها، أو ما يَدُلُّ على خَوْفِها منه، فلها الرُّجُوعُ؛ لأن شاهِدَ الحالِ يَدُلُّ على أنَّها لم تَطِبْ به نَفْسًا، وإنَّما أباحه اللهُ تعالى عندَ طيبِ نَفْسِها بقَوْلِه تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. فيكونُ فيها ثلاثُ رِواياتٍ؛ ¬

(¬1) سورة البقرة 237. (¬2) سورة النساء 4. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العائد في هبته، من كتاب المواهب. المصنف 9/ 111. (¬4) سقط من: الأصل، م. (¬5) وأخرجه عبد الرزاق بنحوه. المصنف 9/ 115. (¬6) في م: «وترغب».

فَصْلٌ: وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَيَتَمَلَّكَهُ مَعَ حَاجَتِهِ وَعَدَمِهَا، فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، إذَا لَمْ تَتَعَلَّقْ حَاجَةُ الابْنِ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداها، لَيسَ لها الرُّجُوعُ، كالأجْنَبِيِّ. والثانيةُ، لها الرُّجُوعُ مُطْلَقًا؛ لحديثِ عُمَرَ. والثالثةُ، التَّفْصِيلُ الذي ذَكَرْناه. فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وللأبِ أنَّ يَأْخُذَ مِن مال وَلَدِه ما شاء، ويتَمَلَّكَه مع حاجَتِه وعَدَمِها، في صِغَرِه وكِبَرِه، ما لم تتَعلَّقْ حاجَةُ الابنِ به) إنَّما يَجُوزُ ذلك بشَرْطَين؛ أحَدُهما أنَّ لا يُجْحِفَ بالابنِ، ولا يَضُرَّ به، ولا يَأْخُذَ شيئًا تَعَلَّقَتْ به حاجَتُه. الثانِي، أنَّ لا يَأْخُذَ مِن مالِ وَلَدٍ فيُعْطِيه الآخَرَ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوَايَةِ إسماعِيلَ بنِ سعيدٍ؛ لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَمْنُوع مِن تَخْصِيصِ بعضِ وَلَدِه بالعَطِيَّةِ مِن مالِ نَفْسِه، فلَأن يُمْنَعَ مِن تَخْصِيصِه بما أخَذَه مِن مالِ وَلَدِه الآخَرِ أوْلَى. وقد رُوِيَ أنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَه بصداق عَشَرَةِ آلافٍ فأخَذَها فأنفَقَها في سَبِيلِ اللهِ، وقال للزَّوْج: جَهِّزِ امْرَأتكَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ: ليس له أنَّ يَأخُذَ مِن مالِ وَلَدِه إلَّا بقَدْرِ حاجَتِه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَلُكُمْ عَلَيكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هذا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى الحَسَنُ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أحَدٍ أحَقُّ بِكَسْبِه مِنْ وَلَدِه وَوَالِدِه والنَّاسِ أجْمَعِينَ». رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬2). ورُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَحِل مَالُ امْرِئ مُسْلِم إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِه». رَواه الدّارَقُطنيُّ (¬3). ولأن مِلْكَ الابنِ تامٌّ على مالِ نَفْسِه، فلم يَجُزِ انْتِزاعُه منه، كالذي تَعَلَّقَتْ به حاجَتُه. ولَنا، [ما رَوَتْ عائِشَةُ، رَضِيَ اللهُ عنها] (¬4)، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أطْيَبَ مَا أكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وإن أوْلَادَكُم مِنْ كَسْبِكُمْ». أخْرَجَه سعيدٌ، والتِّرْمِذيُّ (¬5)، وقال: حديث حسن. وروَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: جاء رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أبى اجْتاحَ مالي. فقال: «أنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ». رَواهُ الطَّبرَانِيُّ في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363. من حديث جابر في صفة الحج. (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب من قال يجب على الرجل مكاتبة عبده. . . .، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 319. عن حبان بن أبي جبلة. (¬3) تقدم تخريجه في 13/ 432. (¬4) سقط من: الأصل، م. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مُعْجَمِه» مُطَولًا، ورَواه ابنُ ماجه (¬1)، ورَوى أبو داودَ نحوَه، ورَواه غيرُه، وزاد: «وإن أوْلَادَكُم مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ أمْوالِهِمْ». وروَى محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ، والمُطَّلِبُ بنُ حَنْطَب، قال: جاء رجل إلي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ لي مالًا وعِيالًا، ولأبي مالٌ وعِيَالٌ، وأبي يُرِيدُ أنْ يَأْخُذَ مالي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ». رواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬2). ولأن الله تعالى جَعَل الوَلَدَ مَوْهُوبًا لأبيه فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (¬3). وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} (¬4). وقال زَكَرِيَّا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (¬5). وقال إبراهيمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (¬6). وما كان مَوْهُوبًا له كان له أخْذُ مالِه، كعَبْدِه. قال. سُفْيانُ بنُ عُيَينَةَ، في قَوْلِه تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} (¬7). ثم ذَكَر ¬

(¬1) أخرجه الطبراني، في الكبير 7/ 279 عن سمرة. وفي الصغير 1/ 8 عن عبد الله بن مسعود. وانظره الإرواء 3/ 325. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 94. (¬2) وأخرجه ابن ماجه، في: باب ما للرجل من مال ولده، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 769. (¬3) سورة الأنعام 84، والأنبياء 72، والعنكبوت 27. (¬4) سورة الأنبياء 90. (¬5) سورة مريم 5. (¬6) سورة إبراهيم 39. (¬7) سورة النور 61.

2625 - مسألة: (فإن تصرف فيه قبل تملكه؛ ببيع، أو عتق، أو إبراء من دين، لم يصح تصرفه)

وَإِنْ تَصَرَّفَ فيهِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ؛ بِبَيعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أوْ إبْرَاءٍ مِنْ دَين، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بُيُوتَ سائِرِ القَراباتِ إلَّا الأوْلادَ لم يَذْكُرْهم؛ لأنَّهم دَخَلُوا في قَوْلِه: {مِنْ بُيُوتِكُمْ}. فلَمّا كانت بُيُوتُ أوْلادِهم كبُيُوتِهم، لم يَذْكُرْ بُيُوتَ أوْلادِهم. ولأنَّ الرجلَ يَلِي مَال وَلَدِه مِن غيرِ تَوْلِيَةٍ، فكان له التَّصَرُّفُ فيه كمالِ نَفْسِه. وأمّا أحادِيثُهم فأحادِيثُنا تَخُصُّها وتُفَسِّرُها، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل مال الابنِ مالًا لأبِيه بقَوْلِه: «أنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ». ولا تَنافِيَ بينَهما. وقولُه عليه السَّلامُ: «أَحَقُّ بِه مِنْ وَالِدِه وَوَلَدِه». الحديث مُرْسَلٌ. ثم هو يَدُلُّ على تَرْجِيحِ حَقِّه على حَقِّ أبيه لا على نَفْي الحَقِّ بالكُلِّيَّةِ، والوَلَدُ أحَقُّ مِن الوالِدِ فيما تعَلَّقَتْ به حاجَتُه. 2625 - مسألة: (فإن تَصَرَّفَ فيه قبلَ تَمَلُّكه؛ ببَيعٍ، أو عِتْقٍ، أو إبْراءٍ مِن دَين، لم يَصِحَّ تَصرُّفُه) فيه. نَصَّ عليه أحمدُ، قال: لا يجوزُ عِتْقُ الأبِ لعَبْدِ ابْنِه ما لم يَقْبِضْه. فعلى هذا، لا يَصِحُّ إبْراؤُه مِن دَينِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا هِبَتُه لمالِه، ولا بَيعُه له؛ لأنَّ مِلْكَ الابنِ تامٌّ على مالِ نَفْسِه، يَصِحُّ تَصَرُّفُه فيه. وذَكَر ابنُ أبي موسى في «الإرْشادِ» قال: إذا وَهَب الابنُ مِن مالِه شيئًا فليس لأبيه الاعْتِراضُ عليه؛ إلا أنَّ يكونَ للوَلَدِ عَقارٌ يَكْفِيه ويَكْفِي أباه، ولا مال له غيرُه، ولا مال لأبيه، فإنَّ أحمدَ قال: إنِ اعْتَرَضَ عليه الوالِدُ رَأيتُ أنَّ يَرُدَّه الحاكِمُ على الأبِ ولا يَبْقى فَقِيرًا لا حِيلَةَ له. ويَحِلُّ له وَطْءُ جَوارِيه، ولو كان المِلْكُ مُشْتَرَكًا لم يَحِلَّ له الوَطْءُ كما لا يَحِلُّ وَطْءُ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ، وإنَّما للأبِ انْتِزاعُه منه، كالعَينِ التي وَهَبَها إيّاه، فقبلَ انْتِزاعِها لا يَصِحُّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه تَصَرَّفَ في مِلْكِ غيرِه بغيرِ ولايةٍ. وإن كان الابنُ صَغِيرًا، لم يَصِحَّ أيضًا؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بما لا حَظَّ للصَّغِيرِ فيه، وليس مِن الحَظِّ إسْقاطُ دَيِنِه وعِتْقُ عَبْدِه وهِبَةُ مالِه. قال أحمدُ: بينَ الرجلِ وبينَ وَلَدِه رِبًا. لِما ذَكَرْناه مِن أنَّ مِلْكَ الابنِ على مالِه تامٌّ.

2626 - مسألة: (وإن وطيء جارية ابنه فأحبلها، صارت أم ولد له، وولده حر لا تلزمه قيمته، ولا حد)

وَإنْ وَطِيء جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَحْبَلَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا مَهْرَ وَلَا حَدَّ. وَفِي التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2626 - مسألة: (وإن وَطِيء جارِيَةَ ابنِه فأحْبَلَها، صارت أمَّ وَلَدٍ له، ووَلَدُه حُرٌّ لا تَلْزَمُه قِيمَتُه، ولا حَدَّ) عليه (ولا مَهْرَ. وفي التَّعْزِيرِ وَجْهان) قال أحمدُ: لا يَطَأُ جارِيَةَ الابنِ إلا أنَّ يَقْبِضَها. يَعْنِي يتمَلكُها؛ لأنَّه إذا وَطِئَها قبلَ تَمَلُّكها، فقد وَطِئَها وليست زَوْجَةً ولا مِلْكَ يَمِين، فإن تَمَلَّكَها، لم يَحِلَّ له وَطْؤها حتى يَسْتَبْرِئَها؛ لأنَّه ابْتِداءُ مِلْك، فوَجَبَ الاسْتِبْراءُ فيه، كما لو اشْتَراها. فإن كان الابنُ قد وَطِئَها، لم تَحِلَّ له بحالٍ. فإن وَطِئَها قبلَ تَمَلكِها، ولم يكنْ الابنُ وَطِئَها، كان مُحَرَّمًا مِن وجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّه وَطِئَها قبلَ تَمَلُّكِها. والثانِي، أنَّه وَطِئَها قبلَ اسْتِبْرائِها. وإن كان الابنُ وَطِئَها، حُرِّمَتْ بوَجْهٍ ثالثٍ، وهو أنَّها صارت بمَنْزِلَةِ حَلِيلَةِ ابنه، فإن فَعَل، فلا حَدَّ عليه لشُبْهَةِ المِلْكِ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أضاف مال الوَلَدِ إلى أبيه، فقال: «أنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ». وإن وَلَدَتْ منه، صارت أُمَّ وَلَدٍ له، ووَلَدُه حُرٌّ؛ لأنَّه مِن وَطْءٍ سَقَط فيه الحَدُّ للشبْهَةِ، وليس للابنِ مُطالبَتُه بشيءٍ مِن قِيمَتِها ولا قِيمَةِ وَلَدِها ولامَهْر، ويَجِبُ تَعْزِيرُه في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّه وَطِيء وطْئًا مُحَرَّمًا، أشْبَهَ وَطْءَ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ. والثاني، لا يُعَزَّرُ؛ لأنَّه لا يُقْتَصُّ منه بالجِنَايةِ على وَلَدِه، فلا يُعَزرُ بالتَّصَرُّفِ في مالِه. والأوّلُ أوْلَى؛ لأنّ التعْزِيرَ ههُنا حَقٌّ للهِ تعالى، بخِلافِ الجِنَايةِ على وَلَدِه؛ لأنَّها حَقٌّ للوَلَدِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس لغيرِ الأبِ الأخْذُ مِن مالِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، للأحادِيثِ التي ذَكَرْناها؛ لأنَّ الخَبَرَ وَرَد في الأبِ بقَوْلِه (¬1) عليه السَّلامُ: «أنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ». ولا يَصِحُّ قِياسُ غيرِه عليه؛ لأنَّ للأبِ ولايَةً على وَلَدِه ومالِه إذا كان صَغِيرًا، وله شفقَةٌ تامَّةٌ وحَق مُتَأكِّدٌ، ولا يَسْقُطُ مِيراثُه بحالٍ. والأُمُّ لا تَأْخُذُ؛ لأنَّها لا ولايةَ لها، والجَدُّ أيضًا لا يَلِي على مالِ وَلَدِ ابْنِه، وشَفَقَتُه قاصِرَةٌ عن شَفَقَةِ الأبِ، ويُحْجَبُ به في المِيراثِ، وفي ولايَةِ النِّكاحِ. وغيرُهما مِن الأقارِب والأجانِبِ ليس لهم الأخْذُ بطَريقِ التَّنْبِيهِ؛ لأنَّه إذا امْتَنَعَ الأخْذُ في حَقِّ الأُمِّ والجَدِّ مع مُشارَكَتِهما للأب في بعض المَعانِي، فغيرُهما ممن لا يُشارِكُ في ذلك أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَجُوزَ للأمِّ؛ لدُخُولِ وَلَدِها في قولِ اللهِ تعالى: {وَأَوْلَادُكُمْ}. ¬

(¬1) في م: «بدليل قوله».

2627 - مسألة: (وليس للابن مطالبة أبيه بدين، ولا قيمة متلف، ولا أرش جناية، ولا غير ذلك)

وَلَيسَ لِلابْنِ مُطَالبَةُ أبِيهِ بِدَين، وَلَا قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَلَا أرْشِ جِنَايَةٍ، وَلَا غَيرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2627 - مسألة: (وليس للابنِ مُطالبَةُ أبيه بدَين، ولا قِيمَةِ مُتْلَفٍ، ولا أرْشِ جِنايَةٍ، ولا غيرِ ذلك) وبه قال الزُّبيرُ بنُ بَكّارٍ. ومُقْتَضَى قولِ سُفْيانَ بنِ عُيَينَةَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له ذلك؛ لأنَّه دَين ثابتٌ، فجازَتِ المُطالبَة به، كغيرِه. ولنا، أَنْ رجلًا جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأبيه يَقْتَضِيه دَينًا عليه، فقال: «أنْتَ وَمَالكَ لِأَبيكَ». رَواه الخَلَّال بإسْنادِه (¬1). وروَى الزُّبَير بن بَكّارٍ في «المُوَفَّقِيّاتِ» (¬2) أنَّ رجلًا اسْتَقْرَضَ مِن ابنِه (¬3) مالًا فحبَسه فأطال حَبْسَه، فاسْتَعْدَى عليه الابنُ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، وذَكَرَ قِصَّتَه في شِعْر، فأجَابَه أبوه بشِعْرٍ أيضًا، فقال عليٌّ رَضِيَ الله عنه: قد سَمِعَ القاضِي ومِن رَبِّي الفَهمْ المال لِلشَّيخِ جَزَاءٌ بالنّعَمْ يَأْكُلُه بِرَغْمِ أنْفِ مَن رَغِمْ مَنْ قال قَوْلًا غيرَ ذا فَقَدْ ظَلَمْ وجَارَ في الحُكْمِ وبِئْسَ ما جَرَمْ ¬

(¬1) وأخرجه ابن حبان: الإحسان 2/ 142، 10/ 74، 75. (¬2) الموفقيات 111، 112. (¬3) في ر 2، م: «أبيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الزُّبَيرُ: إلى هذا نَذْهَبُ. ولأنَّ المال أحَدُ نَوْعَي الحُقُوقِ، فلم يَمْلِكْ مُطالبَةَ أبيه به، كحُقُوق الأبدانِ. ويُفارِقُ الأبُ غيرَه بما يَثْبُتُ له مِن الحَق على وَلَدِه. فإن مات الابنُ فانْتقَلَ الدَّينُ إلى وَرَثَتِه، لم يَمْلِكُوا مُطالبَةَ الأبِ؛ لأنَّ مَوْرُوثَهم لم يكنْ له المُطالبَةُ، منهم أوْلَى. فإن مات الأبُ، فقِيلَ: يَرْجِعُ الابنُ في تَرِكَتِه بدَينِه؛ لأنَّ دَينَه عليه لم يَسْقُطْ عن الأبِ، وإنَّما تَأخَّرَتِ المُطالبَةُ. وعن أحمدَ، إذا مات الأبُ بَطَل دَينُ الابنِ. وقال، في مَن أخَذَ مِن مَهْرِ ابْنَتِه شيئًا فأنْفَقَه: ليس عليه شيءٌ، ولا يُؤْخَذُ مِن بعدِه، وما أصابت مِن المَهْرِ مِن شيء بعَينِه أخَذَتْه. وتأوَّلَ بعضُ (¬1) أصحابنا كلامَ أحمدَ على أنَّه أخَذَه على سَبِيلِ التَّمْلِيك؛ لأن أخْذَه له وإنْفاقَه دَلِيل على قَصْدِ التَّمْلِيك، فيَثْبُتُ المِلْكُ له بذلك الأخْذِ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2628 - مسألة: (والهدية والصدقة نوعان من الهبة)

وَالْهَدِيّةُ وَالصَّدَقَةُ نَوْعَانِ مِنَ الْهِبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2628 - مسألة: (والهَدِيَّةُ والصَّدَقَةُ نَوْعان مِن الهِبَةِ) الهبَةُ (1) والعَطِيَّةُ تَشْمَلُ الكلَّ، وكذلك النِّحْلَةُ، ومَعانِيها كلُّها مُتَقارِبَةٌ، إلَّا أنَّه في الغالِبِ مَن أعْطَى شيئًا يَنْوي به التَّقَرُّبَ إلى الله تعالى للمُحْتاجِين؛ سُمِّيَ صَدَقَةً، وإن دَفَع إلى غيرِ مُحْتاجٍ للتَّقَرُّبِ والمَحَبَّةِ فهي هِبَةٌ. ومَن بَعَث على هذا الوَجْهِ (¬1) إلى إنْسانٍ مع غيرِه سُمِّيَ هَدِيَّةً. وكل ذلك مُسْتَحَب مَنْدُوبٌ إليه. وأحْكامُ ذلك أحْكامُ الهِبَةِ، ويُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ مِن الشُّرُوطِ على ما سَبَق. ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ فِي عَطِيَّةِ المَريضِ: أمَّا الْمَرِيضُ غَيرَ مَرَضِ الْمَوْتِ، أو مَرَضًا غَيرَ مَخُوفٍ كَالرَّمَدِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَالصُّدَاعِ، وَنحْوهِ، فَعَطَايَاهُ كَعَطَايَا الصَّحِيحِ سَوَاءٌ، تَصِحُّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في عَطيَّةِ المَريضِ: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (أمّا المَرِيضُ غيرَ مَرَضِ المَوْتِ، أو مَرَضًا غيرَ مَخُوفٍ؛ كالرَّمَدِ، ووَجَعِ الضِّرْسِ، والصداعِ، ونحوه، فعَطاياه كعَطايا الصَّحِيحِ سَواءٌ، تَصِحُّ بن جَمِيعِ مالِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ عَطايا المَرِيضِ إذا بَرَأَ مِن مَرَضِه، أو كان مَرَضًا غيرَ مَخُوفٍ كالذي ذَكَرَه، وكذلك ما في مَعْناه؛ كالجَرَبِ، والحُمَّى اليَسِيرَةِ ساعَةً أو نحوَها، والإسْهالِ اليَسِيرِ مِن غيرِ دَم، فعَطاياه مثلُ عَطايا الصَّحِيحِ؛ لأنَّه لا يُخافُ منه في العادَةِ.

2629 - مسألة: (وإن كان مرض الموت المخوف، كالبرسام)

وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفَ؛ كَالْبِرْسَامِ، وَذَاتِ الْجَنْبِ، وَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، وَالْقِيَامِ الْمُتَدَارَكِ، وَالْفَالِجِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 2629 - مسألة: (وإن كان مَرَضَ المَوْتِ المَخُوفَ، كالبِرْسامِ) وهو بُخارٌ يَرْتَقِي إلى الرَّأْسِ، ويُؤثِّرُ في الدِّماغِ، فيَخْتَل عَقْلُ صاحِبِه (وذاتِ الجَنْب) وهو قَرْحٌ بباطِنِ الجَنْبِ، ووَجَعِ القَلْبِ والرِّئَةِ، فإنَّها لا تَسْكُنُ حَرَكَتُها، فلا يَنْدَمِلُ جُرْحُها (والرُّعافِ الدّائِمِ) فإنَّه يُصَفِّي الدَّمَ فيُذْهِبُ القُوَّةَ، والقُولَنْجِ، وهو أنَّ يَنْعَقِدَ الطَّعامُ في بعضِ الأمْعاءِ (¬1) ولا يَنْزِلَ عنه، فهذه مَخُوفةٌ وإن لم يكنْ معها حُمَّى، وهي مع الحُمَّى أشَدُّ خَوْفًا. وإن ثاوَرَه (¬2) الدَّمُ واجْتَمَعَ في عُضْو، كان مَخُوفًا؛ لأنَّه مِن الحَرارَةِ المُفْرِطَةِ. وإن هاجَتْ به الصَّفْراءُ، فهي مَخُوفةٌ؛ لأنَّها تُورثُ يُبُوسَةً، وكذلك البَلْغَمُ إذا هاج؛ لأنَّه مِن شِدَّةِ البُرُودَةِ، وقد تَغْلِبُ على الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ فَتُطفِئها. والطّاعُونُ مَخُوفٌ؛ لأنَّه مِن شِدَّةِ الحَرارَةِ، إلَّا أنَّه يكونُ في جَمِيع ¬

(¬1) في النسخ: «الأعضاء» والمثبت كما في المغني 8/ 490. (¬2) في م: «ثار».

ابْتِدَائِه، وَالسُّلِّ فِي انْتِهَائِه، وَمَا قَال عَدْلَانِ مِنْ أهْلِ الطِّبِّ: إنَّهُ مَخُوفٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ البَدَنِ. وأمّا الإسْهالُ، فإن كان مُتَحَرِّكًا لا يُمْكِنُه إمْساكُه، فهو مَخُوفٌ وإن كان ساعَةً؛ لأنَّ مَن لَحِقَه ذلك أسْرَعَ في هَلاكِه. وإن كان يَجْرِي تارَةً ويَنْقَطِعُ أُخْرَى، فإن كان يَوْمًا أو يَوْمَين فليس بمَخُوفٍ؛ لأن ذلك قد يكونُ مِن فَضْلَةِ الطَّعامِ، إلَّا أنَّ يكونَ معه زَحِيرٌ (¬1) أو تَقْطِيعٌ، كأنَّه يَخْرُجُ مُتَقَطِّعًا، فإنَّه يكونُ مَخُوفًا؛ لأن ذلك يُضْعِفُ. وإن دام الإسْهالُ فهو مَخُوفٌ، سَواءٌ كان معه ذلك أو لم يكنْ (و) كذلك (الفَالِجُ (¬2) في ابْتِدائِه؛ والسُّلُّ في انْتِهائِه) والحُمَّى المُطبقَةُ. وما أشْكَلَ مِن ذلك رُجِع فيه إلى قولِ عَدْلَين مِن الأطِبّاءِ؛ لأنهم أهْلُ الخِبْرَةِ بذلك. ولا يُقْبَلُ قولُ واحِدٍ؛ لأنَّه يتَعَلَّقُ به حَقُّ الوارِثِ والمُعْطِي. وقِياسُ قولِ الخِرَقِيِّ، ¬

(¬1) الزحير: تبرز متقطع معظمه دم ومخاط ويصحبه ألم وتعنٍّ. (¬2) الفالج: شلل يصيب أحد شقي الجسم طولا.

2630 - مسألة: (فعطاياه كالوصية في أنها لا تصح لوارث، ولا

فَعَطَايَاهُ كَالْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ، وَلَا تَجُوزُ لِأَجْنَبِيٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يُقْبَلُ قولُ واحِدٍ عَدْلٍ، إذا لم يُقدَرْ على طَبِيبين. فهذا الضرْبُ وما أشْبَهَه، عَطاياه صَحِيحَة؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، أوْصَى حينَ جُرِح فسَقاه الطَّيبُ لَبَنًا فخَرَجَ مِن جُرْحِه، فقال له الطَّيبُ: اعْهَدْه إلى النّاسِ. فعَهِدَ اليهم ووَصَّى (¬1). فاتَّفَقَ الصحابةُ على قَبُولِ عَهْدِه ووَصيَتِّيه. وكذلك أبو بكر، رَضِيَ اللهُ عنه، عَهِد إلى عُمَرَ حينَ اشْتَدَّ مَرَضُه، فَنَفَّذَ عَهْدَه. فصل: فإن كان المَرِيضُ يَتَحَقَّقُ تَعْجِيلُ مَوْتِه، فإن كان عَقْلُه قد اخْتَلَّ، مثلَ مَن ذُبِح، أو أُبِينَتْ حَشْوَتُه، فلا حُكْمَ لكَلامِه ولا لعَطيَّتِه. وإن كان ثابتَ العَقْلِ، كمَن خُرِقَتْ حَشْوَتُه، أو اشْتَدَّ مَرَضُه ولم يَتَغيَّرْ عَقْلُه، صَحَّ تَصَرُّفُه وعَطيَّتُه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه. وكذلك عليٌّ، رَضِي اللهُ عنه، بعدَ ضَرْبِ ابنِ مُلْجِمٍ، وَصَّى وأمَرَ ونَهَى (¬2). ولم يُخْتَلَفْ في صِحَّةِ ذلك. 2630 - مسألة: (فعَطاياه كالوَصِيَّةِ في أنَّها لا تصِحُّ لوارِثٍ، ولا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، من كتاب الجنائز، وفي: باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان، من كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. صحيح البخاري 2/ 128، 129، 5/ 20، 21. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 42. (¬2) أخرجه الطبراني في: المعجم الكبر 1/ 59، 60.

بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإجَازَةِ الْوَرَثَةِ، مِثْلَ الْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُحَابَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجْنَبِيٍّ بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ إلَّا بإجازَةِ الوَرَثَةِ؛ كالهِبَةِ، والعِتقِ، والكِتابةِ، والمُحاباةِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ التَّبرُّعاتِ المُنْجَزَةَ؛ كالعِتْقِ، والمُحاباةِ، والهِبَةِ المَقْبُوضَةِ، والصدَقَةِ، والوَقْفِ، والإبراءِ مِن الدَّينِ، والعَفْو عن الجِنايَةِ المُوجِبَةِ للمالِ، والكِتابَةِ، إذا كانت في الصِّحَّةِ، فهي مِن رَأْسِ المالِ. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وإن كانت في مَرَض مَخُوفٍ اتَّصَلَ به المَوْتُ، فهي مِن ثُلُثِ المالِ، في قولِ الجُمْهُورِ. وحُكِيَ عن أهلِ الظّاهِرِ في الهِبَةِ المَقْبُوضَةِ، أنها مِن رَأسِ المالِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تَصَدَّقَ عَلَيكُم عِندَ وَفَاتِكُم بثُلُثِ أمْوالِكُم، زِيادَةً لَكُم في أعْمالِكُم». رَواه ابنُ ماجه (¬1). وهذا يَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّه ليس له أكْثَرُ مِن الثُّلُثِ. وروَى عِمْرانُ بنُ حُصَين، أنَّ رجلًا أعْتَقَ سِتَّةَ أعْبُدٍ (¬2) له في مَرَضِه، لا مال له غيرُهم، فاسْتَدعاهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجَزَأهم ثلاثةَ ¬

(¬1) في: باب الوصية كالثلث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 904. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 491. (¬2) بعده في ر 2: «مملوكين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْزاءٍ وأقْرَعَ بينَهم، فأعْتَقَ اثْنَين وأرَقَّ أرْبَعَةً. رَواه مسلمٌ (¬1). وإذا لم يَنْفُذِ العِتْقُ مع سِرايَتِه، فغيرُه أوْلَى. ولأنَّ هذه الحال الظّاهِرُ منها المَوْتُ، فكانت عَطيَّتُه فيها في حَقِّ وَرَثَتِه لا تَتَجاوَزُ الثُّلُثَ، كالوَصِيَّةِ. فصل: وحُكْمُ العَطايا في مَرَضِ المَوْتِ حُكْمُ الوَصِيَّةِ في خَمْسَةِ أشياءَ؛ أحَدُها، أن يَقِفَ نُفُوذُها على خُرُوجِها مِن الثُّلُثِ، أو (¬2) إجازَةِ الوَرَثَةِ. الثانِي، أنَّها لا تَصِحُّ للوارِثِ إلَّا بإجازَةِ الوَرَثَةِ. الثالثُ، أنَّ فَضِيلَتَها ناقِصَةٌ عن فَضِيلةِ الصَّدَقَةِ في الصِّحَّةِ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن ¬

(¬1) في: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1288. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من أعتق عبيدا له لم يبلغهم الثلث، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 353. والترمذي، في: باب ما جاء في من يعتق مماليكه عند موته وليس له مال غيرهم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 121، 122. والنسائي، في: باب الصلاة على من يحيف في وصيته، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 51، 52. والإمام مالك، في: باب من أعتق رقيقا لا يملك مالا غيرهم، من كتاب العتق. الموطأ 2/ 744 مرسلًا. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 426، 428، 430، 431، 438 - 440، 445، 446. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أفْضَلِ الصَّدَقَةِ، قال: «أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الفَقْرَ، ولا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ: لفلانٍ كَذَا، ولِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كان لفُلانٍ». مُتَّفَق عليه (¬1). الرابعُ، أنَّ العَطايا تَتَزاحَمُ في الثُّلُثِ إذا وَقَعَتْ دَفْعَةً واحِدَةً، كتَزاحُمِ الوَصايا فيه. الخامسُ، أنَّ خروجَها مِن الثُّلُثِ يُعْتَبَرُ حال المَوْتِ لا قبلَه ولا بعدَه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة، وفي: باب الصدقة عند الموت، من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 2/ 136، 137، 4/ 5. ومسلم، في: باب بيان أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 716. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 102. والنسائي، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 51. وابن ماجه، في: باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 903. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 231، 250، 447، 415.

2631 - مسألة: (فأما الأمراض الممتدة؛ كالجذام)

فَأمَّا الْأمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ؛ كَالسُّلِّ، وَالْجُذَامِ، وَالْفَالِج فِي دَوَامِهِ، فَإِنْ صَارَ صَاحِبُهَا صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهِيَ مَخُوفَةٌ، وَإلَّا فَلَا، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنَ الثُلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2631 - مسألة: (فأمّا الأمْراضُ المُمْتَدَّةُ؛ كالجُذامِ) وحُمَّى الرِّبْعِ (¬1) (والسُّلِّ) في ابْتِدائِه (والفالِجِ في دَوامِه، فإن صار صاحِبُها صاحِبَ فِراشٍ فهي مَخُوفةٌ، وإلَّا فلا) قال القاضي: إذا كان يَذْهَبُ ويَجِئُ، فعَطاياه مِن جَمِيعِ المالِ، هذا تَحْقِيقُ المَذْهَبِ. وقد روَى حَرْبٌ، عن أحمدَ، في وَصِيَّةِ المَجْذُومِ والمَفْلُوجِ: مِن الثُّلُثِ. وهو مَحْمُولٌ على أنَّه صار صاحِبَ فِرَاشٍ وبه يقولُ الأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه، وأبو ثَوْرٍ. وذكر أبو بكرٍ وَجْهًا آخَرَ، أنَّ عَطايا هؤلاء مِن المالِ كلِّه. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لا يُخافُ تَعْجِيلُ المَوْتِ فيه، وإن كان لا يَبْرأُ منه فهو كالهَرِمِ. ولَنا، أنَّه مَرِيضٌ صاحِبُ فِرَاشٍ يَخْشَى التَّلَفَ، أشْبَهَ صاحِبَ الحُمَّى الدّائِمةِ، وأمّا الهَرِمُ فإن صار صاحِبَ فِرَاشٍ، فهو كمَسْألَتِنا. ¬

(¬1) حمى الربع: هي التي تعرض للمريض يوما وتدعه يومين ثم تعود إليه في اليوم الرابع.

2632 - مسألة: (ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب، أو في لجة البحر عند هيجانه، أو وقع الطاعون ببلده، أو قدم ليقتص منه، والحامل عند المخاض، فهو كالمريض)

وَمَنْ كَانَ بَينَ الصَّفَّينِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْب، أوْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، أوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدِهِ، أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، وَالْحَامِل عِنْدَ الْمَخَاضِ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إذَا صَارَ لَهَا سِتَّةُ أشْهُرٍ. وَقِيلَ عَنْ أحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطَايَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2632 - مسألة: (ومَن كان بينَ الصَّفَّينِ عندَ التِحامِ الحَرْبِ، أو في لُجَّةِ البَحْرِ عندَ هَيَجانِه، أو وَقَع الطّاعُونُ ببَلَدِه، أو قُدِّم ليُقْتَصَّ منه، والحامِلُ عندَ المَخاضِ، فهو كالمَرِيضِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الخَوْفَ يَحْصُلُ في هذه المواضِعِ الخَمْسَةِ المَذْكُورَةِ، فيَقُومُ مَقامَ (¬1) المَرَضِ؛ أحَدُها، إذا الْتَحَمَ الحَرْبُ واخْتَلَطَتِ الطّائِفَتان للقِتالِ، وكانت كلُّ واحِدَةٍ منهما مُكافِئَةً للأُخْرَى أو مَقْهُورَةً. فأمّا القاهِرَةُ منهما بعدَ ظُهُورِها فليست خائِفَةً. وكذلك إذا لم يَخْتَلِطُوا، بل كانت كلُّ واحِدَةٍ منهما مُتَمَيِّزَةً، سَواء كان بينَهما رَمْيُ السِّهامِ أو لم يكُنْ، فليست حالةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَوْفٍ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الطّائِفَتَين مُتَّفِقَتَين في الدِّينِ أوْ لا. وبه قال مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ. ونحوُه عن مَكْحُولٍ. وعن الشافعيِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، كقولِ الجَماعَةِ. والثانِي، ليس بخَوْفٍ؛ لأنَّه ليس بمَرِيضٍ (¬1). ولَنا، أنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ ههُنا كتَوَقُّعِ المَرَضِ أو أكْثَرَ، فوَجَبَ أن يُلْحَقَ به، ولأنَّ المَرَضَ إنَّما جُعِل مَخُوفًا لخَوْفِ صاحِبِه التَّلَفَ، وهذا كذلك. قال أحمدُ: إذا حَضَر القِتال كان عِتْقُه مِن الثُّلُثِ. وعنه، إذا الْتَحَمَ الحَرْبُ فوَصِيَّتُه مِن المالِ كلِّه، لكنْ يَقِفُ الزَّائِدُ عن الثُّلُثِ على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فإنَّ حُكْمَ وصِيَّةِ الصَّحِيحِ وخائِفِ التَّلَفِ واحِدٌ، فيَحْتَمِلُ أن يُجْعَلَ هذا رِوايَةً ثانيةً؛ وسَمَّى العَطيَّةَ وَصِيَّةً تَجَوُّزًا؛ لكَوْنِها في حُكْمِ الوَصِيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على حَقِيقَتِه في صِحَّةِ الوَصِيَّةِ مِن المالِ كلِّه. الثانيةُ، إذا قُدِّمَ ليُقْتَلَ، فهي حالةُ خَوْفٍ، سَواء أُرِيدَ قَتْلُه للقِصاصِ أو لغيرِه. وللشافعيِّ فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، هو مَخُوفٌ. ¬

(¬1) في م: «بمرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِي، إن جُرِح فهو مَخُوفٌ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه صَحِيحُ البَدَنِ، والظّاهِرُ العَفْوُ عنه. ولَنا، أنَّ التَّهْدِيدَ بالقَتْلِ جُعِل إِكْراهًا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلاقِ وصِحَّةَ البَيعِ، ويُبِيحُ كَثِيرًا مِن المُحَرَّماتِ، ولولا الخَوْفُ لم تثْبُتْ هذه الأحْكامُ، وإذا حُكِم للمَرِيضِ وحاضِرِ الحَرْبِ بالخَوْفِ مع ظُهُورِ السَّلامَةِ وبُعْدِ وُجُودِ التَّلَفِ، فمع ظُهُورِ التَّلَفِ وقُرْبِه أوْلَى، ولا عِبْرَةَ بصِحَّةِ البَدَنِ، فإنَّ المَرَضَ لم يكنْ مُثْبِتًا لهذا الحُكْمِ لعَينِه، بل لخَوْفِ إفضائِه إلى التَّلَفِ، فيَثْبُتُ الحُكْمُ ههُنا بطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، لظُهُورِ التَّلَفِ. الثالثةُ، إذا رَكِب البَحْرَ، فإن كان ساكِنًا، فليس بمَخُوفٍ، وإنِ اضْطَرَبَ وهَبَّتِ الرِّيحُ العاصِفُ، فهو مَخُوفٌ، وقد وَصَفَهَم الله تعالى بشِدَّةِ الخَوْفِ، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية إلى قَوْلِه: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (¬1). الرابعةُ، الأسِيرُ [والمَحْبُوس] (¬2) إذا كان مِن عادَتِهم القَتْلُ، فهو خائِفٌ، عَطيَّتُه مِن الثُّلُثِ، وإلَّا فلا. وهذا قولُ أبي ¬

(¬1) سورة يونس 22. (¬2) في الأصل: «المحبوس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، ومالِكٍ، وابنِ أبي لَيلَى، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال الحَسَنُ لَمّا حَبَسَ الحَجّاجُ إياسَ بنَ مُعاويةَ: ليس له مِن مالِه إلَّا الثُّلُثُ. وقال أبو بكرٍ: عَطِيَّةُ الأسِيرِ مِن الثُّلُثِ. ولم يُفَرِّقْ. وبه قال الزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وتَأوَّلَ القاضِي ما رُوِيَ، وهو على ما ذَكَرْناه مِن التَّفْصِيلِ ابْتِداءً. وقال الشَّعْبِيُّ، ومالِكٌ: الغازِي عَطِيَّتُه مِن الثُّلُثِ. وقال مَسْرُوقٌ: إذا وَضَع رِجْلَه في الغَرْزِ. وقال الأوْزاعِيُّ: المَحْصُورُ في سِبيلِ الله والمَحْبُوسُ يَنْتَظِرُ القَتْلَ، هو في ثُلُثِه. والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، ما ذَكَرْناه مِن التَّفْصِيلِ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ الحَبْسِ والأسْرِ مِن غيرِ خَوْفِ القَتْلِ، ليس بمَرَضٍ، ولا هو في مَعْنَى المَرَضِ في الخَوْفِ، فلم يَجُزْ إلحاقُه به، وإذا كان المَرِيضُ الذي لا يَخافُ التَّلَفَ، عَطِيَّتُه مِن رَأْسِ مالِه، فغيرُه أوْلَى. الخامسةُ، إذا وَقَع الطّاعُونُ ببَلَدِه، فعن أحمدَ، أنَّه مَخُوفٌ. ويَحْتَمِلُ أنَّه ليس بمَخُوفٍ، فإنَّه ليس بمَرِيضٍ، وإنَّما يَخافُ المَرَضَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكذلك الحامِلُ عندَ المَخاضِ؛ لأنَّه يَحْصُلُ لها أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخافُ منه التَّلَفُ، أشْبَهَتْ سائِرَ أصحابِ الأمْراضِ المَخُوفةِ، وما قبلَ ذلك فلا ألَمَ بها، فلا يكونُ مَخُوفًا (وقال الخِرَقِيُّ: وكذلك الحامِلُ إذا صار لها سِتَّةُ أشْهُرٍ) يَعْنِي عَطِيُتها مِن الثُّلُثِ. وبه قال مالِكٌ. وقال إسحاقُ: إذا ثَقُلَتْ لا يَجُوزُ لها إلا الثُّلُثُ. ولم يَحُدَّ حَدًّا. وحَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّب، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ: عَطِيَّةُ الحامِلِ مِن الثُّلُثِ. وقال أبو الخَطّابِ: عَطيَّتُها مِن المالِ كلِّه ما لم يَضْرِبْها المَخاضُ، فإذا ضَرَبَها المَخَاضُ، فعَطيَّتُها مِن الثُّلُثِ. وبه قال النَّخَعِيُّ، ومَكْحُولٌ، ويَحْيىَ الأنْصارِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والعَنبرِيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّها لا تَخافُ إلَّا إذا ضَرَبَها الطَّلْقُ، فأشْبَهَتْ صاحِبَ الأمْراضِ المُمْتَدَّةِ قبلَ أن يَصِيرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبَ فِراشٍ. وقال الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ: عَطيَّتُها كعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ. وهو القولُ الثانِي للشافعيِّ؛ لأن الغالِبَ سلامَتُها. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّ سِتَّةَ الأشْهُرِ وَقْتٌ يُمْكِنُ الولادَةُ فيه، وهو مِن أسْبابِ التَّلَفِ. والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى، ما ذَكَرْناه، مِن أنَّه إذا ضَرَبَها الطَّلْقُ كان مَخُوفًا، بخِلافِ ما قبلَ ذلك؛ لأنَّه لا ألَمَ بها، واحْتِمالُ وُجُودِه خِلافُ العادَةِ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ باحْتِمالِه البَعِيدِ مع عَدَمِه، كالصَّحِيحِ. وقِيلَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ عَطايا هؤلاءِ مِن المالِ كلِّه؛ لأنَّه لا مَرَضَ بهم. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك. فصل: فأمّا بعدَ الولَادَةِ، فإن بَقِيَتِ المَشِيمَةُ معها، فهو مَخُوفٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن مات الوَلَدُ معها، فهو مَخُوفٌ؛ لأنَّه يَصْعُبُ خُرُوجُه. فإن وَضَعَتِ الوَلَدَ وخَرَجَتِ المَشِيمَةُ، فحَصَلَ ثَمَّ وَرَمٌ أو ضَرَبانٌ شَدِيدٌ، فهو مَخُوفٌ. وإن لم يكنْ شيءٌ مِن ذلك، فقد رُوِيَ عن أحمدَ في النُّفَساءِ: إن كانت تَرْمِي الدَّمَ، فعَطيَّتُها مِن الثُّلُثِ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أراد بذلك إذا كان معه ألَمٌ للُزُومِه ذلك في الغالِبِ. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على ظاهِرِه، فإنَّها إذا كانت تَرَى (¬1) الدَّمَ كانت كالمَرِيضِ. وحُكْمُها بعدَ السَّقْطِ مثلُ حُكْمِها بعدَ الوَلَدِ التامِّ. فإن أسْقَطَتْ مُضْغَةً أو عَلَقَةً فلا حُكْمَ لها، إلَّا أن يكونَ ثَم مَرَضٌ أو ألَمٌ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ مُجَرَّدَ الدَّمِ عندَه ليس بمَخوفٍ. ¬

(¬1) في م: «ترمى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما لَزِم المَرِيضَ في مَرَضِه مِن حَقٍّ لا يُمْكِنُه دَفْعُه وإسْقاطُه، كأَرْشِ جِنايته، وجِنايَهَ عَبْدِه، وما عاوَضَ عليه بثَمَنِ المِثْلِ، وما يَتغابَنُ النّاسُ بمِثْلِه، فهو مِن رَأْسِ المالِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وهو قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وكذلك النِّكاحُ بمَهْرِ المِثلِ، يَجُوزُ مِن رَأْسِ المالِ؛ لأنَّه صَرَف ماله في حاجَةِ نَفْسِه، فقُدِّمَ بذلك على وارِثِه. وكذلك لو اشْتَرَى أمَةً للاسْتِمْتاعِ بها كَثِيرَةَ الثَّمَنِ بثَمَنِ مِثْلِها، أو اشْتَرَى مِن الأطْعِمَةِ التي لا يَأْكُلُ مثلُه مثلَها، جاز، وصَحَّ شِراؤُه له؛ لأنَّه صَرَفَ ماله في حاجَتِه. وإن كان عليه دَينٌ، أو مات وعليه دَينٌ، قُدِّمَ بذلك على وارِثِه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا إن قَضَى المَرِيضُ بعضَ غُرَمائِه، ووَفَّتْ تَرِكَتُه بسائِرِ الدُّيُونِ، صَحَّ قَضاؤُه، ولم يكنْ لسائِرِ الغُرَماءِ الاعْتِراضُ عليه. وإن لم تَفِ بها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّ لسائِرِ الغُرَماءِ الرُّجُوعَ عليه، ومُشارَكَتَه فيما أخَذَه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ حَقَّهم تَعَلَّقَ بمالِه بمَرَضِه، فمَنَعَ تَصَرُّفَه فيه بما يَنْقُصُ دُيُونَهم، كتَبَرُّعِه، ولأنَّه لو وَصَّى بقَضاءِ بعضِ دُيُونِه، لم يَجُزْ، فكذلك إذا قَضاها. والثانِي، لا يَمْلِكُون الاعْتِراضَ عليه ولا مُشارَكَتَه. وهو قِياسُ قولِ أحمدَ، ومَنْصُوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أدَّى واجِبًا عليه، فصَحَّ، كما لو اشْتَرَى شيئًا فأدَّى ثَمَنَه، أو باع بعضَ مالِه وسَلَّمَه. ويُفارِقُ الوَصِيَّة، فإنَّه لو اشْترى ثِيابًا مُثَمَّنَةً، صَحَّ، ولو وَصَّى بتَكْفِينِه بثِيابٍ مُثَمَّنَةٍ، لم يَصِحَّ. يُحَقِّقُ هذا أنَّ إيفاءَ ثَمَنِ المَبِيعِ قَضاءٌ لبعضِ غُرَمائِه، وقد صَحَّ عَقِيبَ البَيعِ، فكذلك إذا تَراخَى، إذ لا أثَرَ لتَراخِيه. فصل: وإذا تبرعَ المَرِيضُ أو أعْتَقَ ثم أقَرَّ بدَينٍ، لم يَبْطُلْ تَبَرُّعُه. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن أعْتَقَ عَبْدَه في مَرَضِه ثم أقَرَّ بدَينٍ، عَتَق العَبْدُ، ولم يُرَدَّ إلى الرِّقِّ؛ لأنَّ الحَقَّ ثَبَت بالتَّبَرُّعِ في الظّاهِرِ، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه فيما يَبْطُلُ به حَقُّ غيرِه.

2633 - مسألة: وإن لم يف (الثلث بالتبرعات المنجزة، بدئ بالأول فالأول)

وَإنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ بُدِئَ بِالأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2633 - مسألة: وإن لم يَفِ (الثُّلُثُ بالتَّبرُّعاتِ المُنْجَزةِ، بُدِئَ بالأوّلِ فالأوّلِ) سَواءٌ كان الأوَّلُ عِتْقًا أو غيرَه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: الجَمِيعُ سَواءٌ إذا كانت مِن جِنْس واحِدٍ، وإن كانت مِن أجْناس، وكانتِ المُحاباةُ مُتَقدِّمَةً، قُدِّمتْ، وإن تَأَخَّرَتْ سُوِّيَ بينَها وبينَ العِتْقِ، وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّ المُحاباةَ حَقُّ آدَمِيٍّ على وَجْهِ المُعاوضَةِ، فقُدِّمَتْ إذا تَقدَّمَتْ، كقَضاءِ الدَّينِ، وإذا تَساوَى جِنْسُها سُوِّيَ بينَها، لأنَّها عَطايا مِن جِنْسٍ واحِدٍ، تُعْتَبرُ مِن الثُّلُثِ، فسُوِّيَ بينَها، كالوَصِيَّةِ. وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: يُقَدَّمُ العِتْقُ، تقَدَّمَ أو تَأخَّرَ. ولَنا، أنَّهما عَطِيَّتانِ مُنْجَزَتانِ، فكانت أُولاهما أوْلَى، كما لو كانتِ الأُولَى مُحاباةً عندَ أبي حنيفةَ، أو عِتْقًا عندَ صاحِبِه، ولأنَّ العَطِيَّةَ المُنْجَزَةَ لازِمَةٌ في حَقِّ المُعْطِي، فإذا كانت خارِجَةً مِن الثُّلُثِ، لَزِمَتْ في حَقِّ الوَرَثَةِ، فلو شارَكَتْها الثانيةُ، لَمَنَع ذلك لُزُومَها في حَقِّ المُعْطِي؛ لأنَّه يَمْلِكُ الرُّجُوعَ في بعضِها بعَطِيَّةٍ أُخْرَى، بخِلافِ الوَصايا، فإنَّها غيرُ لازِمَةٍ في حَقِّه، وإنَّما تَلْزَمُ بالمَوْتِ [في حالٍ واحِدَةٍ، فاسْتَوَيا لاسْتِوائِهما في حالِ لُزُومِها، بخِلافِ المُنْجَزتَين. وما قاله في المُحاباةِ لا يَصِحُّ، فإنَّها] (¬1) بمَنْزِلَةِ الهِبَةِ، ولو كانت بمَنْزِلَةِ المُعاوَضَةِ أو الدَّين لَمَا كانت مِن الثُّلُثِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2634 - مسألة: (وإن تساوت قسم بين الجميع بالحصص. وعنه، يقدم العتق)

فَإِنْ تَسَاوَتْ قُسِمَ بَينَ الْجَمِيعِ بالْحِصَصِ. وَعَنْهُ، يُقَدَّمُ الْعِتْقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2634 - مسألة: (وإن تَساوَتْ قُسِمَ بينَ الجَمِيعِ بالحِصَصِ. وعنه، يُقَدَّمُ العِتْقُ) أمّا إذا وقَعَتْ دَفْعَةً واحِدَة، بأن وَكَّلَ جَماعَةً في هذه التَّبَرُّعاتِ، فأوْقَعُوها دَفْعَة واحِدَةً، فإن كانت كلُّها عِتْقًا أقْرَعْنا بينَهم، فكَمَّلْنا العِتْقَ في بعضِهم، وإن لم يكنْ فيها عِتْق قَسَمْنا الثُّلُثَ بينَهم على قَدْرِ عَطاياهم؛ لأنهم تَساوَوْا في الاسْتِحْقاقِ، فقسِمَ بينَهم على قَدْرِ حُقُوقِهم، كغُرَماءِ المُفْلِسِ. وإنَّما خُولِفَ هذا الأصْلُ في العِتْقِ؛ لحديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ (¬1). وسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه. وإن كان فيها عِتْقٌ وغيرُه، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، يُقَدَّمُ العِتْقُ لتَأكُّدِه. والثانيةُ، يُسَوَّى بينَ الكلِّ؛ لأنَّها حُقُوقٌ تَساوَتْ في اسْتِحْقاقِها، فتَساوَتْ في تَنْفِيذِها، كما لو كانت مِن جِنْسٍ واحِدٍ؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَها حَصَل في حالٍ واحِدَةٍ. فصل: إذا قال المَرِيضُ: إذا أعْتَقْتُ سَعْدًا فسعيدٌ حُرٌّ. ثم أعْتَقَ سعدًا، عَتَقَ سعيدٌ إن خَرَج مِن الثُّلُث، وإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا أحَدُهما، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 124.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَتَقَ سعدٌ وَحْدَه، ولم يُقْرَع بينَهما؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ سعدًا سَبَق بالعِتْقِ. والثانِي، أنَّ عِتْقَه شرْطٌ لعِتْقِ سعيدٍ، فلو رَقَّ بعضُه فات إعْتاقُ سعيدٍ أيضًا؛ لفَواتِ شَرْطِه، وإن بَقِيَ مِن الثُّلُثِ ما يَعْتِقُ به بعضُ سعيدٍ، عَتَقَ تَمامُ الثُّلُثِ منه. وإن قال: إن أعْتَقْتُ سعدًا فسعيدٌ وعَمْرٌو حُرّان. ثم أعْتَقَ سعدًا، ولم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا أحَدُهم، عَتَقَ سعدٌ وَحْدَه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن خَرَج مِن الثُّلُثِ اثْنانِ، أو واحِدٌ وبعضُ آخَرَ، عَتَقَ سعدٌ، وأُقْرِعَ بينَ سعيدٍ وعَمْرٍو فيما بَقِيَ مِنِ الثُّلُثِ؛ لأنَّ عِتْقَهما في حالٍ واحِدَةً، وليس عِتْقُ أحَدِهما شَرْطًا في عِتْقِ الآخرِ. ولو خَرَج مِن الثُّلُثِ اثنانِ وبعضُ الثالثِ، أقْرَعْنا بينَهما؛ لتَكْمِيلِ الحُرِّيَّةِ في أحَدِهما، وحُصُولِ التَّشْقِيصِ في الآخَرِ. وإن قال: إن أعْتَقْتُ سعدًا (¬1) فسعيدٌ حرٌّ. أو: فسعيدٌ وعَمْرٌو حُرّان في حالِ إعْتاقِي سعدًا. فالحُكْمُ سَواءٌ لا يَخْتَلِفُ؛ لأنَّ عِتْقَ سعدٍ شَرْطٌ لعِتْقِهما، فلو رَقَّ بعضُه لفات شَرْطُ عِتْقِهما، فوَجَبَ تَقْدِيمُه. فإن كان الشَّرْطُ في الصِّحَّةِ والإعْتاقُ في المَرَضِ، فالحُكْمُ على ما ذَكَرناه. ¬

(¬1) في الأصل: «سعيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: إن تَزَوَّجْتُ فعَبْدِي حُرٌّ. فتَزَوَّجَ في مَرَضِه بأكْثَرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فالزِّيادَةُ مُحاباةٌ تُعْتَبرُ مِن الثُّلُثِ. فإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا المُحاباةُ أو العَبْدُ، قُدِّمَتِ المُحاباةُ؛ لأنَّها وَجَبَتْ قبلَ العِتْقِ، لكون التَّزْويجِ شَرْطًا في العِتْقِ، فقد سَبَقَتِ العِتْقَ. ويَحْتَمِلُ أن يتَساوَيا؛ لأنَّ التَّزْويجَ سَبَبٌ لثُبُوتِ المُحاباةِ، وشَرْطٌ للعِتْقِ، فلا يَسْبِقُ وُجُودُ أحَدِهما صاحِبَه، فيكونان سَواءً. ثم هل يُقَدَّمُ العِتْقُ على المُحاباةِ؟ على روايَتَين. وهذا فيما إذا ثَبَتَتِ المُحاباةُ بأن لا تَرِثَ المرأةُ الزَّوْجَ، إمّا لوُجُودِ مانِعٍ مِن الإرْثِ، أو لمُفارَقَتِه إيّاها في حَياتِه، إمّا بمَوْتِها أو طَلاقِها أو نحوه. فأمّا إن وَرِثَتْه تَبَيَّنّا أنَّ المُحاباةَ لا تَثْبُتُ لها إلَّا بإجازَةِ الوَرَثَةِ، فيَنْبَغِي أن يُقَدَّمَ العِتْقُ عليها؛ لأَنه لازِم غيرُ مَوْقُوفٍ على الإِجازَةِ، فيكونُ مُتَقَدِّمًا. وإن قال: أنت حُرٌّ في حالِ تَزْويجي. فتَزَوَّجَ بأكْثَرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فعلى القولِ الأوَّلِ يَتَساويَان؛ لأنَّ التَّزْويجَ جعِل حالةً لإيقاعِ العِتْقِ كما في عِتْقِ سعدٍ وسعيدٍ، وبُطْلانُ المُحاباةِ لا يُبْطِلُ التَّزْويجَ ولا يُؤثِّرُ فيه. وعلى الاحْتِمالِ المَذْكُورِ يكونُ العِتْقُ سابقًا؛ لأنَّ المُحاباةَ إنَّما تَثْبُتُ بتَمامِ التَّزْويجِ، والعِتْقُ قبلَ تَمامِه، فيكونُ سابِقًا على المحُاباةِ، فيتَقَدَّمُ لهذا المَعْنَى، سِيّما إذا تأكّدَ بقُوَّتِه وكونِه غيرَ وارِثٍ. فصل: إذا أعْتَقَ المَرِيضُ شِقْصًا مِن عَبْدٍ، ثم أعْتَقَ شِقْصًا مِن آخَرَ، ولم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا العَبْدُ الأوَّلُ، عَتَقَ وَحْدَه؛ لأنَّه يَعْتِقُ حينَ تَلَفُّظِه بإعْتاقِ بعضِه. وإن خَرَج الأوَّلُ وبعضُ الثانِي، عَتَقَ ذلك. وإن أعْتَقَ

2635 - مسألة: (وأما معاوضة المريض بثمن المثل، فتصح من رأس المال وإن كانت مع وارث)

وَأمَّا مُعَاوَضَةُ الْمَرِيضِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَتَصِحُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإنْ كَانتْ مَعَ وَارِثٍ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا تَصِحَّ لِوَارِثٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشِّقْصَين معًا فلم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا الشِّقْصان، عَتَقَا ورَقَّ باقِي العَبْدَين. وإن لم يَخْرُجْ إلَّا أحَدُهما أُقْرِعَ بينَهما. وإن خَرَج الشِّقصانِ وباقِي أحَدِ العَبْدَين ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَكْمِيلُ العِتْقِ مِن أحَدِهما بالقُرْعَةِ بينَهما، كما لو أعْتَقَ العَبْدَين فلم يَخْرُجْ مِن الثلُث إلَّا أحَدُهما. والثانِي، يُقْسَمُ ما بَقِيَ مِن الثُّلُثِ بينَهما بغيرِ قُرْعَةٍ؛ لأنَّه أوقَعَ عِتْقًا مُشَقَّصًا فلم يُكْمِلْه، بخِلافِ ما لو أعْتَقَ العَبْدَين، ولهذا إذا لم يَخْرُجْ مِن الثلُثِ إلَّا الشِّقْصان أعْتَقْناهما بغيرِ قُرْعَةٍ، ولم نُكْمِلْه مِن أحَدِهما. ولو وَصَّى بإعْتاقِ النَّصِيبَين وأن يُكْمَلَ عِتْقُهما مِن ثُلُثِه، ولم يَخْرُجْ مِن الثلُثِ إلَّا النَّصِيبان وقِيمَةُ باقِي أحَدِهما، أقْرَعْنا بينَهما، فمَن خرَجَتْ قُرْعَتُه كَمَل العِتْقُ فيه؛ لأنَّ المُوصِيَ أوْصَى بتَكْمِيلِ العِتْقِ، فجَرَى مَجْرَى إعْتاقِهما، بخِلافِ التي قبلَها. 2635 - مسألة: (وأمّا مُعاوَضَةُ المَرِيضِ بثَمَنِ المِثْلِ، فتَصِح مِن رَأسِ المالِ وإن كانت مع وارِثٍ) لأنَّه ليس بوَصِيَّةٍ؛ لأن الوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ، وليس هذا تَبَرُّعًا، فاسْتَوَى فيه الوارِثُ وغيرُه (ويَحْتَمِلُ أن لا تَصِحَّ لوارِثٍ) لأنَّه خَصَّهُ بعَينِ المالِ، أشْبَهَ ما لو حاباه.

2636 - مسألة: (وإن حابى وارثه، فقال القاضي: تبطل في قدر ما حاباه، وتصح فيما عداه)

وَإنْ حَابَى وَارِثَهُ، فَقَال الْقَاضِي: تَبْطُلُ فِي قَدْرِ مَا حَابَاهُ، وَتَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2636 - مسألة: (وإن حابَى وارِثَه، فقال القاضي: تَبْطُلُ في قَدْرِ ما حاباه، وتَصِحُّ فيما عَداه) مثلَ أن يَبِيعَ شيئًا بنِصْفِ

2637 - مسألة: (فإن كان له شفيع، فله أخذه، فإن أخذه فلا خيار للمشتري)

وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؛ لِأنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ فِي حَقِّهِ. فَإن كَانَ لَهُ شَفِيعٌ، فَلَهُ أَخْذُهُ، فَإنْ أخَذَهُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمَنِه، فله نِصْفُه بجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأنَّه تَبرَّعَ له بنِصْفِ الثَّمَنِ، فبَطَلَ التصَرُّفُ فيما تَبَرَّعَ له به (وللمُشْتَرِي الخِيارُ؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ في حَقِّه). 2637 - مسألة: (فإن كان له شَفِيعٌ، فله أخْذُه، فإن أخَذَه فلا خِيارَ للمُشتَرِي) لزَوالِ الضَّرَرِ عنه؛ لأنَّه لو فسَخ البَيعَ رَجَع بالثَّمَنِ، وقد حَصَل له الثَّمَنُ مِن الشَّفِيعِ. فصل: فإن باع أجْنَبِيًّا وحاباه، لم يَمْنَعْ ذلك صِحَّةَ العَقْدِ عندَ الجُمْهُور. وقال أهلُ الظّاهِرِ: يَبْطُلُ العَقْدُ. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} (¬1). ولأنَّه تَصَرُّفٌ صَدَر مِن أهْلِه في مَحَلِّه، ¬

(¬1) سورة البقرة 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصَحَّ، كغيرِ المَرِيضِ. فعلى هذا، لو باع عَبْدًا لا يَمْلِكُ غيرَه قِيمَتُه ثَلاثُونَ بعَشَرَةٍ، فقد حابَى المُشْتَرِيَ بثُلُثَيْ مالِه، وليس له المحاباةُ بأكْثَرَ مِن الثُّلُثِ، فإن أجاز الوَرَثَةُ ذلك، لَزِم البَيعُ، وإن رَدُّوا فاخْتارَ المُشْتَرِي فَسْخَ البَيعِ، فله ذلك؛ لأن الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ في حَقِّه، فإنِ اخْتارَ إمْضاءَ البَيعِ، فقال شيخُنا (¬1): عندِي أَنه يَأْخُذُ نِصْفَ المَبِيعِ بنِصْفِ الثَّمَنِ، ويُفْسخُ البَيعُ في الباقِي. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الثانِي، أنَّه يَأْخُذُ ثُلُثَيِ المَبِيعِ بالثَّمَنِ كلِّه. وإلى هذا أشارِ القاضي في نحو هذه المَسْألَةِ؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ بالمُحاباةِ والثُّلُثَ الآخرَ بالثمنِ. وقال أهلُ العِراقِ: يقالُ له: إن شِئْتَ أدَّيتَ عَشَرَةً أُخْرى وأخَذْتَ المَبِيعَ، وإن شِئْتَ فَسَخْتَ ولا شيءَ لك. وعندَ مالِكٍ، له أن يَفْسَخَ ويَأْخُذَ ثُلُثَ المَبِيعِ بالمُحاباةِ، ويُسَمِّيه أصْحابُه خُلْعَ الثُّلُثِ. ولَنا، أنَّ ما ذَكَرْناه مُقابَلَةُ بعضِ المَبِيعِ بقِسْطِه مِن الثَّمَنِ عندَ تَعذُّرِ أخْذِ جَمِيعِه بجَمِيعِه، فصَحَّ ذلك، كما لو اشْتَرَى سِلْعَتَين بثَمَنٍ فانْفسَخَ البَيعُ في إحْداهما لعَيبٍ أو غيرِه، أو كما لو اشْتَرَى شِقْصًا وسَيفًا، فأخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، أو كما لو اشْتَرَى قَفِيزًا يُساوى ثَلاثينَ بقَفِيزٍ قِيمَتُه عَشَرَةٌ. وأمّا الوَجْهُ الثاني الذي اخْتارَه القاضي، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه أوْجَبَ له المَبِيعَ بثَمَنٍ، فيَأْخُذُ بعضه بالثَّمَنِ كلِّه، فلا يَصِحُّ،؛ لو قال: بِعْتُكَ هذا بمائةٍ. فقال: قد قَبِلْتُ نِصْفَه بها. ولأَنه إذا فَسَخ البَيعَ في بعضِه وَجَب أن يَفْسَخَه بقَدْرِه مِن ثَمَنِه، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 498.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجُوزُ فَسْخُ البَيعِ (1) فيه مع بَقاءِ ثَمَنِه، كما لا يَجُوزُ فَسْخُ البَيعِ (¬1) في الجَمِيعِ مع بَقاءِ ثَمَنِه. وأمّا قولُ أهلِ العِراقِ، فإنَّ فيه إجْبارًا للوَرَثَةِ على المُعاوَضَةِ على غيرِ الوَجْهِ الذي عاوَضَ مَوْرُوثُهم. وأمّا قولُ مالِكٍ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه إذا فَسَخ البَيعَ لم يَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لأنَّ المُحاباةَ إنَّما حَصَلَتْ في ضِمْنِ البَيعِ، فإذا بَطَل البَيعُ بَطَلَتْ، كما لو وَصَّى لرجلٍ بعَينِه أن يَحُجَّ عنه بمائةٍ، وأجْرُ المِثْلِ خَمْسُون، فطَلَبَ الخَمْسِين الفاضِلَةَ بدُونِ الحَجِّ. وإنِ اشْتَرَى عَبْدًا يُساوي عَشَرَةً بثَلاثِينَ، فإَّنه يَأْخُذُ [نِصْفَه بنِصْفِ الثَّمَنِ] (¬2). وإن باع العَبْدَ الذي يُساوي ثَلاثِين بخَمْسَةَ عَشَرَ، جاز البَيعُ في ثُلُثَيه بثُلُثَي الثَّمَنِ في قولِ شيخِنا. وعلى قولِ القاضي، للمُشْتَرِي خَمْسَةُ أسْداسِه بكلِّ الثمَنِ. وطَرِيقُ هذا أن يُنْسَبَ الثَّمَنُ وثُلُثُ المَبِيعِ إلى قِيمَتِه، فيَصِحَّ البَيعُ في مِقْدارِ تلك النِّسْبَةِ، وهو خَمْسَةُ أسْداسِه. وعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِن قِيمَةِ المَبِيعِ، ويُنْسَبُ الثلُثُ إلى الباقِي، فيَصِحُّ البَيعُ في قَدْرِ تلك النِّسْبَةِ، وهو ثُلُثاه بثُلُثَي الثّمَنِ. فإن خَلَّفَ البائِعُ عَشَرَةً أخْرَى، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَصِحُّ في ثَمانيةِ أتْساعِه بثمانيةِ أتْساعِ الثَّمَنِ، وعلى الوَجْهِ الثانِي، يَأْخُذ المُشْتَرِي نِصْفَه وأرْبَعَةَ أتْساعِه بجَمِيعِ الثمنِ. ¬

(¬1) في الأصل: «المبيع». (¬2) في الأصل: «نصفه بنصفه». وفي م: «نصفها بنصفه».

2638 - مسألة: (وإن باع المريض أجنبيا وحاباه، وكان شفيعه وارثا، فله الأخذ بالشفعة؛ لأن المحاباة لغيره)

وَإنْ بَاعَ الْمَرِيضُ أجْنَبِيًّا وَحَابَاهُ، وَكَانَ شَفِيعُهُ وَارِثًا، فَلَهُ الْأخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأنَّ الْمُحَابَاةَ لِغَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2638 - مسألة: (وإن باع المَرِيضُ أجْنَبِيًّا وحاباه، وكان شَفِيعُه وارِثًا، فله الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ المُحاباةَ لغيرِه) يَعْني إذا باع شِقْصًا تَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ؛ لأن المُحاباةَ إنَّما وَقَعَتْ للأجْنَبِيِّ، فأشْبَهَ ما لو وَصَّى لغَرِيمِ وارِثِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ الوارِثُ الشُّفعَةَ ههُنا (¬1)؛ لإفْضائِه إلى جَعْلِ سَبِيلٍ للإنْسانِ إلى إثباتِ حَقِّ وارِثِه في المُحاباةِ. وقد ذَكَرْنا ذلك والخِلافَ فيه في الشُّفْعَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2639 - مسألة: (ويعتبر الثلث عند الموت)

وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيرَهُ، ثُمَّ مَلَكَ مَالًا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ. وَإنْ صَارَ عَلَيهِ دَينٌ يَسْتَغْرِقُهُ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2639 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عندَ المَوْتِ) لأنَّه وَقْتُ لُزُومِ الوَصِيَّةِ واسْتِحْقاقِها، وتَثْبُتُ له ولايَةُ القَبُولِ والرَّدِّ (فلو أعْتَقَ عَبْدًا لا يَمْلِكُ غيرَه، ثم مَلَك مالًا يَخْرُجُ مِن ثُلُثِه، تَبَيَّنّا أنَّه عَتَقَ كلُّه) لخُرُوجه مِن الثُّلُثِ عندَ المَوْتِ (وإن صار عليه دَينٌ يَسْتَغْرِقُه، لم يَعْتِقْ منه شيءٌ) لأنَّ الدَّينَ يُقَدَّمُ على الوَصِيَّةِ؛ لِما رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالدَّينِ قبلَ الوَصِيَّةِ (¬1). ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ ثُلُثُه؛ لأنَّ تَصَرُّفَ المَرِيضِ في الثُّلُثِ كتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ في الجَمِيعِ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ميراث الأخوة من الأب والأم، من أبواب الفرائض، وفي: باب ما جاء يُبدأُ بالدين قبل الوصية، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذي 8/ 246، 279. وابن ماجه، في: باب الدين قبل الوصية، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 906. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 79، 131، 144.

فَصْلٌ: وَتفَارِقُ الْعَطِيَّة الوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ اشيَاءَ، أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالأَوَّلِ فَالأَوَّلِ مِنْهَا، وَالْوَصَايَا يُسَوِّي بَينَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا. وَالثَّانِي، أَنَّه لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْعَطِيَّةِ بخِلَافِ الْوَصِيَّةِ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ يُعْتَبَر قَبُولهُ لِلعَطِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَالوَصِيَّةُ بِخِلَافِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وتُفارِقُ العَطِيَّةُ الوَصِيَّةَ في أرْبَعَةِ أشْياءَ؛ أحَدُها، أنَّه يُبْدَأُ بالأوَّلِ فالأوّلِ منها، والوَصايا يُسَوَّى بينَ المُتَقَدِّمِ والمُتَأخِّرِ منها) أمّا العَطايا فقد ذَكَرْنا حُكْمَها والخِلافَ فيها. وأمّا الوَصايا فإنها تَبَرُّعٌ بعدَ المَوْتِ، فتُؤْخَذُ دَفْعةً واحِدَةً، ولذلك اسْتَوَى فيها المُتَقَدِّمُ (¬1) والمُتَأخِّرُ. (الثانِي، أنَّه لا يَجُوزُ الرُّجُوعُ في العَطِيَّةِ، بخِلافِ الوَصِيَّةِ) لأنَّ العَطِيَّةَ تَقَعُ لازِمَةً في حَقِّ المُعْطِي، تَنْتَقِلُ إلى المُعْطَى في الحَياةِ إذا اتَّصَلَ بها القَبُولُ والقَبْضُ، وإن كَثُرَتْ، فلم يكنْ له الرجُوعُ فيها، كالهِبَةِ، وإنَّما مُنِع المَرِيضُ مِن التَّبَرُّعِ بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ لحَقِّ الوَرَثةِ، لا لِحَقِّه، فلم يَمْلِكْ إجازَتَها ولا رَدَّها بخِلافِ الوَصِيَّةِ [وإنَّما كان له الرُّجُوعُ في الوَصِيَّةِ] (¬2)؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ بها مَشْرُوطٌ بالمَوْتِ، ففِيما قبلَ المَوْتِ لم يُوجَدِ التَّبَرُّعُ ولا العَطِيَّةُ، فهي كالهِبَةِ قبلَ القَبُولِ. (الثالثُ، أنَّه يُعْتَبَرُ قَبُولُه للعَطِيَّةِ عندَ وُجُودِها) ويَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ ¬

(¬1) آخر الجزء الخامس من مخطوطة جامعة الرياض (ر 1). (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَذْكُورَةِ؛ لأنَّها هِبَةٌ مُنْجَزَةٌ. فاعْتُبِرَ لها القَبُولُ عندَ وُجُودِها، كعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ، بخِلافِ الوَصِيَّةِ، فإنَّه لا حُكْمَ لقَبُولِها ولا رَدها إلَّا بعدَ المَوْتِ على ما يَأْتِي. فصل: والعَطِيَّةُ تُقَدَّمُ على الوَصِيَّةِ. وهو قولُ الشافعيِّ وجُمْهُورِ العُلَماءِ. وبه قال أبو حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ، وزُفَرُ، إلَّا في العِتْقِ، فإنَّه حُكِيَ عنهم تَقْدِيمُه؛ لأنَّ العِتْقَ يتَعَلَّقُ به حَقُّ اللهِ تعالي، ويَسْرِي ويَنْفُذُ في مِلْكِ الغيرِ، فيَجبُ تَقْدِيمُه. ولَنا، أنَّ العَطِيَّةَ لازِمَةٌ في حَقِّ المَرِيضِ، فقُدِّمَتْ على الوَصِيَّةِ، كعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ، أو فقُدِّمَتْ على العِتْق، كعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ.

2640 - مسألة: (فلو أعتق في مرضه عبدا، أو وهبه لإنسان، ثم كسب في حياة سيده شيئا، ثم مات سيده فخرج من الثلث، كان كسبه

وَالرَّابعُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْعَطِيَّةِ حينِهَا وَيَكُونُ مُرَاعًى، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدَ الْمَوْتِ،، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِهِ. فَلَوْ أعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا، أوْ وَهَبَهُ لإنْسَانٍ، ثُمَّ كَسَبَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ شَيئًا، ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهُ فَخَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، كَانَ كَسْبُهُ لَهُ إنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرابعُ، أنَّ المِلْكَ يَثْبُتُ في العَطِيَّةِ مِن حينِها ويكونُ مُراعًى، فإذا خَرَج مِن الثُّلُثِ عندَ المَوْتِ، تَبَيَّنّا أنَّ المِلْكَ كان ثابِتًا مِن حينِه) لأنَّ العَطيَّةَ في المَرَضِ تَمْلِيكٌ في الحالِ؛ لأنَّها إن كانت هِبَةً، فمُقْتَضاها تَمْلِيكُه المَوْهُوبَ في الحالِ، ولهذا يُعْتَبَرُ قَبُولُها في المَجْلِسِ، كما لو كانت في الصِّحَّةِ، وكذلك إن كانت مُحاباةً أو إعْتاقًا. وأمّا كونُها مُراعاةً، فلأنّا لا نَعْلَمُ هل هذا مَرَضُ المَوْتِ أو لا، ولا نَعْلَمُ هل يَسْتَفِيدُ مالًا أو يَتْلَفُ شيء مِن مالِه أو لا، فتَوَقَّفْنا لنَعْلَمَ عاقِبَةَ أَمْرِه فنَعْمَلَ عليها، فإذا انْكَشَفَ الحالُ عَلِمْنا حِينَئِذٍ ما ثَبَت حال العَقْدِ. ومثلُ ذلك، ما لو أسْلَمَ أحَدُ الزَّوْجَين بعدَ الدُّخُولِ، فإنَّا لا نَدْرِي هل يُسْلِمُ الثاني أم لا، فنَقِفُ الأمْرَ حتى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ، فإن أسْلَمَ الآخرُ في العِدَّةِ تَبَيَّنّا أنَّ النِّكاحَ كان صَحِيحًا باقِيًا، وإنِ انْقَضَتِ العِدَّةُ قبلَ إسْلامِه تَبَيَّنّا أنَّ النِّكاحَ انْفَسَخَ مِن حينَ اخْتَلَفَ دِينُهما. 2640 - مسألة: (فلو أعْتَقَ في مَرَضِه عَبْدًا، أو وَهَبَه لإنْسانٍ، ثم كَسَب في حَياةِ سَيِّدِه شيئًا، ثم مات سَيِّدُه فخَرَجَ مِن الثُّلُثِ، كان كَسْبُه

كَانَ مُعْتَقًا، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ إنْ كَانَ مَوْهُوبًا، وَإنْ خَرَجَ بَعْضُهُ، فَلَهُمَا مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. فَلَوْ أعْتَقَ عَبْدًا لَامَال لَهُ سِوَاهُ، فَكَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ شيءٌ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ، وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ شَيئَانِ، فَصَارَ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ نِصْفَينِ فَيَعْتِقُ ـــــــــــــــــــــــــــــ له إن كان مُعْتَقًا، وللمَوْهُوبِ إن كان مَوْهُوبًا، وإن خَرَج بعضُه، فلهما مِن كَسْبِه بقَدْرِ ذلك) فنقولُ (¬1): إذا (أعْتَقَ عَبْدًا لا مال له (¬2) سِوَاه، فكَسَبَ مثلَ قِيمَتِه قبلَ مَوْتِ سَيِّدِه) فللعَبْدِ مِن كَسْبه بقَدْرِ ما عَتَقَ منه، وباقِيه لسَيِّدِه، فيَزْدادُ به مالُ السَّيِّدِ، وتَزْدادُ الحُرِّيَّةُ لذلك، ويَزْدادُ حَقه مِن كَسْبِه، فيَنْقُصُ به حَقُّ السَّيِّدِ مِن الكَسْبِ، ويَنْقُصُ بذلك قَدْرُ المُعْتَقِ منه، فيَدْخُلُ الدَّوْرُ (¬3)، فيُسْتَخْرَجُ ذلك بالجَبْرِ، فيُقالُ: (عَتَق مِن العَبْدِ شيءٌ، وله مِن كَسْبِه شيءٌ) لأنّ كَسْبَه مثلُه، وللوَرَثَه مِن العَبْدِ [وكَسْبِه] (¬4) شَيئان؛ لأنَّ لهم مِثْلَيْ ما عَتَقَ، منه، وقد عَتَقَ منه شيءٌ، ولا يُحْسَبُ على العَبْدِ ما حَصَل له مِن كَسْبِه؛ لأنَّه اسْتَحَقَّه بجُزْئِه الحُرِّ لا مِن جِهَةِ سَيِّدِه، فصار للعَبْدِ شَيئان، وللوَرَثَةِ شَيئان، مِن العَبْدِ وكَسْبِه، فيُقْسَمُ العَبْدُ وكَسْبُه نِصْفَين، (فيَعْتِقُ منه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الدَّوْر: توقف كل من الشيئين على الآخر. (¬4) سقط من: م.

2641 - مسألة: (وإن كان موهوبا لإنسان)

مِنْهُ نِصْفُهُ، وَلَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُمَا. وَإنْ كَسَبَ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ صَارَ لَهُ شَيئَانِ وَعَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيئَانِ، فَيَعْتِقُ ثَلَاثَةُ أخْمَاسِهِ، وَلَهُ ثَلاثَةُ أخْمَاسِ كَسْبِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإنْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ، عَتَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ نِصْفُ شيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيئَانِ فَيَعْتِقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أسْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أسْبَاعِ كَسْبِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَإنْ كَانَ مَوْهُوبًا لإِنْسَانٍ، فَلَهُ مِنَ الْعَبْدِ بِقَدْرٍ مَا عَتَقَ مِنْهُ وَبِقَدْرِه ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُه، وله نِصْفُ كَسْبِه، وللوَرَثَةِ نِصْفُهما. وإن كَسَب مِثْلَيْ قِيمَتِه) فله مِن كَسْبِه شَيئان، صار له ثلاثةُ أشْياءَ، ولهم شَيئان، فيُقْسَمُ العَبْدُ وكَسْبُه أخْماسًا (يَعْتِقُ منه ثلاثةُ أخْماسِه، وله ثلاثةُ أخماسِ كَسْبِه، وللوَرَثَةِ خُمْساه وخُمْسَا كَسْبِه) وإن كَسَب ثلاثةَ أمْثالِ قِيمَتِه، فله مِن كَسْبِه ثلاثةُ أشياءَ مع ما عَتَقَ منه، وللوَرَثَةِ شَيئان، فيَعْتِقُ منه ثُلُثاه، وله ثُلُثا كَسْبِه، وللوَرَثَةِ ثُلُثهما. (وإن كَسَب نِصْفَ قِيمَتِه، عَتَقَ منه شيءٌ، وله مِن كَسْبِه نِصْفُ شيءٍ، ولهم شَيئان) فالجميعُ ثلاثةُ أشياءَ ونِصفُ شيءٍ، فإذا بَسَطْتَها أنْصافًا، صارت سَبْعَةً، فله ثلاثةُ أسْباعِها (فيَعْتِقُ منه ثلاثةُ أسْباعِه، وله ثلاثةُ أسْباعِ كَسْبِه، والباقِي للوَرَثَةِ) وذلك مِثْلَا ما عَتَقَ منه. 2641 - مسألة: (وإن كان مَوْهُوبًا لإِنسانٍ) فللمَوْهُوبِ له (مِن

مِنْ كَسْبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَبْدِ بقَدْرِ ما عَتَقَ منه) وله مِن كَسْبِه بقَدْرِ ذلك. فإن كانت قِيمَتُه مائةً، فكَسَبَ تِسْعَةً، فاجْعَلْ له مِن كلِّ دِينارٍ شيئًا، فقد عَتَقَ منه مائةُ شيءٍ (¬1)، وله مِن كَسْبِه تِسْعَةُ أشياءَ، ولهم مائَتا شيءٍ، فيَعْتِقُ منه مائةُ جُزْءٍ وتِسْعَةُ أجْزاءٍ مِن ثَلاثمائةٍ وتِسْعَةٍ، وله مِن كَسْبِه مثلُ ذلك، ولهم مائَتا جُزْءٍ مِن كَسْبِه. فإن كان على السَّيِّدِ دَين يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَه وقِيمةَ كَسْبِه، صُرِفا في الدَّينِ، ولم يَعْتِقْ منه شيءٌ؛ لأنَّ الدَّينَ مُقَدَّمٌ على التَّبَرُّعِ، وإن لم يَسْتَغْرِقْ قِيمَتَه وقيمةَ كَسْبِه، صُرِف مِن العَبْدِ وكَسْبِه ما يُقضَى به الدَّينُ، وما بَقِيَ منهما يُقْسَمُ على ما يُعْمَلُ في العَبْدِ الكامِلِ وكَسْبِه. فعلى هذا، لو كان على المَيِّتِ دَين بقِيمَةِ العَبْدِ، صُرِف فيه نِصْفُ العَبْدِ ونِصْفُ كَسْبِه، وقُسِم النِّصْفُ الباقِي بينَ الوَرَثَةِ والعِتْقِ نِصْفَين، وكذلك بَقِيَّةُ الكَسْبِ. فإن كَسَب العَبْدُ مثلَ قيمَتِه، وللسَّيِّدِ ماذ بقَدْرِ الكَسْبِ، قَسَمْتَ العَبْدَ ومِثْلَ قِيمَتِه على الأشياءِ الأرْبَعَةِ، لكلِّ شيءٍ ثلاثةُ أرْباعٍ، فيَعْتِقُ مِن العَبْدِ ثلاثةُ أرْباعِه، وله ثلاثةُ أرْباعِ كَسْبِه. فصل: وإن أعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُه عِشْرُون، ثم أعْتقَ عَبْدًا قِيمَتُه عَشَرَةٌ، فكَسَبَ كلُّ واحِدٍ منهما مثلَ قِيمَتِه، أُكْمِلَتِ الحُرِّيَّةُ في العَبْدِ الأوَّلِ، فيَعْتِقُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه شيءٌ، وله مِن كَسْبِه شيءٌ، وللوَرَثَةِ شَيئان، ويُقْسَمُ العَبْدانِ وكَسْبُهما على الأشْياء الأرْبَعَةِ، لكلِّ شيءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، فيَعْتِقُ منه بقَدْرِ ذلك، وهو ثلاثةُ أرباعِه، وله ثلاثةُ أرْباعِ كَسْبِه، والباقِي للوَرَثَةِ. وإنِ بَدَأ بعِتْقِ الأدْنى، عَتَقَ كلُّه، وأخَذَ كَسْبَه، ويَسْتَحِقُّ الوَرَثَةُ مِن العَبْدِ الآخرِ وكَسْبِه مِثْلَي العَبْدِ الذي عَتَقَ، وهو نِصْفُه ونِصْفُ كَسْبِه، ويَبْقَى نِصْفُه ونِصْفُ كَسْبِه بينَهما نِصْفَين، فيَعْتِقُ رُبْعُه، وله رُبْعُ كَسْبِه، ويَرِقُّ ثلاثةُ أرْباعِه، ويَتْبَعُه ثلاثةُ أرْباعِ كَسْبِه، وذلك مِثْلَا ما عَتَقَ منهما. وإن أعْتَقَ العَبْدَين دَفْعَةً واحِدَةً، أقْرَعْنا بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ، فهو كما لو بَدَأ بإعْتاقِه. فصل: فإن أعْتَقَ ثلاثةَ أعْبُدٍ قِيمَتُهم سَواءٌ، وعليه دَين بقَدْرِ قِيمَةِ أحَدِهم، وكَسْبُ أحَدِهم مِثْلُ قِيمَتِه، أقْرَعْنا بينَهم لإخْراجِ الدَّينِ، فإن وَقَعَتْ على غيرِ المُكْتَسِبِ، [بِيعَ في الدَّينِ، ثم أقْرَعْنا بينَ المُكْتَسِبِ والآخَرِ لأجْلِ الحُرِّيَّةِ، فإن وَقَعَتْ على غيرِ المُكْتَسِبِ] (¬1)، عَتَقَ كلُّه، والمُكْتَسِبُ ومالُه للوَرَثَةِ، وإن وَقَعَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ على المُكْتَسِبِ، عَتَقَ منه ثلاثةُ أرْباعِه، وله ثلاثةُ أرْباعِ كَسْبِه، وباقِيه وباقِي كَسْبِه والعَبْدُ الآخَرُ للوَرَثَةِ، كما قُلْنا فيما إذا كان للسَّيِّدِ مالٌ بقَدْرِ قِيمَتِه. ولو وَقَعَتْ قرْعَةُ الدَّينِ ابْتداءً على المُكْتَسِبِ، لقَضَينا الدَّينَ بنِصْفِه ونِصْفِ كَسْبِه، ثم ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقْرَعْنا بينَ باقِيه وبينَ العَبْدَين الآخَرَين في الحُرِّيَّةِ، فإن وقَعَتْ على غيرِه عَتَقَ كلُّه، وللوَرَثَةِ ما بَقِيَ، فإن وَقَعَتْ على المُكْتَسِبِ عَتَقَ باقِيه، وأخَذْنا باقِيَ كَسْبِه، ثم يُقْرَعُ بينَ العَبْدَين لإتْمامِ الثُّلُثِ، فمن وَقَعَتْ عليه القُرْعَةُ عَتَقَ ثُلُثُه، ويَبْقَى ثُلُثاه، والعَبْدُ الآخَرُ للوَرَثَةِ. فصل: رجلٌ أعْتَقَ عَبْدَين مُتَساويِي القِيمَةِ بكَلِمةٍ واحِدَةٍ لا مال له غيرُهما، ثم مات أحَدُهما في حَياتِه، أُقْرِعَ بينَ الحَيِّ والمَيِّتِ، فإن وَقَعَتْ على المَيِّتِ، فالحَيُّ رَقِيقٌ، وتَبَيَّنَ أنَّ المَيِّتَ نِصْفُه حُرٌّ؛ لأنَّ مع الوَرَثَةِ مِثْلَيْ نِصْفِه، وإن وَقَعَتْ على الحَيِّ، عَتَقَ ثُلُثُه، ولا يُحْسَبُ المَيِّتُ على الوَرَثَةِ؛ لأنَّه لم يَصِلْ إليهم. فصل: رجلٌ أعْتَقَ عَبْدًا لا مال له سِواه، قِيمَتُه عَشَرَةٌ، فمات قبلَ سَيِّدِه وخَلَّفَ عِشْرِين، فهي لِسَيِّدِه بالوَلاءِ، وتَبَيَّنَ أنَّه مات حُرًّا. وكذلك إن خَلَّفَ أرْبَعِين وبِنْتًا. وإن خَلَّفَ عَشَرَةً، عَتَقَ منه شيءٌ، وله مِن كَسْبِه شيءٌ، ولسَيِّدِه شَيئانِ، وقد حَصَل في يَدِ سَيِّدِه عَشَرَةٌ تَعْدِلُ شَيئَين (¬1)، فتَبَيَّنَ أنَّ نِصْفَه حُرٌّ، وباقِيَه رَقِيقٌ، والعَشَرَةُ يَسْتَحِقُّها السَّيِّدُ، نِصْفُها بحُكْمِ الرِّقِّ، ونِصْفُها بالوَلاءِ. فإن خَلَّفَ العَبْدُ ابنًا، فله مِن رَقَبَتِه شيءٌ، ومِن كَسْبِه شيءٌ لِابْنِه بالمِيراثِ، ولسَيِّدِه شَيئان، فتُقْسَمُ العَشَرَةُ على ثلاثةٍ، للابنِ ثُلُثها، وللسَّيِّدِ ثُلُثاها، ونَتَبَيَّنُ أنَّه عتَقَ مِن العَبْدِ ثُلُثُه. وإن خَلَّفَ بنتًا، فلها نِصْفُ شيءٍ، وللسَّيِّدِ شَيئان، ¬

(¬1) في م: «ستين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصارَتِ العَشَرَةُ على خَمْسَةٍ، للبِنْتِ خُمْسُها، وللسَّيِّدِ أرْبَعَةُ أخْماسِها، تَعْدِلُ شَيئَينَ (¬1)، فتَبَيَّنَ أن خُمْسَي العَبْدِ مات حُرًّا. وإن خَلَّفَ العَبْدُ عِشْرِين وابنًا، فله مِن كَسْبِه شَيئانِ، يكونان لابنه، ولسَيِّدِه شَيئان، فصارَتِ العِشرُون بينَ السَّيِّدِ وبينَ ابنِه نِصْفَين، وتَبَيَّنَ أنَّه عَتَقَ منه نِصْفُه. فإن مات الابنُ قبلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، [وكان] (¬2) ابنَ مُعْتَقِه (¬3)، وَرِثَه السَّيِّدُ؛ لأنَّنا تَبيَّنَا أنَّ أباه مات حُرًّا، لكونِ السَّيِّدِ مَلَك عِشرِين، وهي مِثْلَا قِيمَتِه، فعَتَقَ، وجَرَّ وَلاءَ ابنِه إلى سَيِّدِه فوَرِثَه. وإن لم يكنْ الابنُ ابنَ مُعْتَقِه (3)، لم يَنْجَرَّ وَلاؤُه، ولم يَرِثه سَيِّدُ أبِيه. وكذلك الحُكْمُ لو خَلَّفَ هذا الابنُ عِشْرِين ولم يُخَلِّفْ أبُوه شيئًا، أو مَلَك السَّيِّدُ عِشْرِين مِن أيِّ جِهَةٍ كانت. وإن لم يَمْلِكْ عِشْرِين، لم يَنجَرَّ وَلاءُ الابنِ إليه؛ لأنَّ الأبَ لم يَعْتِقْ، وإن عَتَقَ بعضُه جَرَّ مِن وَلاءِ ابنِه بقَدْرِه، فلو خَلَّفَ الابنُ عَشَرَةً، ومَلَك السَّيِّدُ خَمْسَةً، فإنَّكَ تقولُ: عَتَقَ مِن العَبْدِ شيءٌ، ويَجُرُّ مِن وَلاءِ ابنِه مِثْلَ ذلك، ويَحْصُلُ له مِن مِيراثِه شيءٌ مع خَمْسَةٍ، وهما يَعْدِلان شَيئَينِ، وباقِي العَشَرَةِ لمَوْلَى أُمِّه، فيُقْسَمُ بينَ السَّيِّدِ وبينَ مَوْلَى الأُمِّ نِصْفَين، ونتَبيَّنُ أنَّه قدْ عَتَقَ مِن العَبْدِ نِصْفُه، ويَحْصُلُ للسَّيِّدِ خَمْسَةٌ مِن مِيراثِ ابنِه. وكانت له خَمْسَةٌ، وذلك مِثْلَا ما عَتَقَ مِن العَبْدِ. فإن مات الابنُ في ¬

(¬1) في م: «ستين». (¬2) في م: «كان». (¬3) في م: «معتقة».

2642 - مسألة: (وإن أعتق جارية)

وَإنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ وَطِئَهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهِا نِصْفُ قِيمَتِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَسَبَتْ نِصْفَ قِيمَتِهَا، يَعْتِقُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا. وَلَوْ وَهَبَهَا مَرِيضًا آخَرَ لَا مَال لَهُ أيضًا، فَوَهَبَهَا الثَّانِي لِلْأَوَّلِ، صَحَّتْ هِبَةُ الأَوَّلِ فِي شَيْءٍ، وَعَادَ إِلَيهِ بِالْهِبَةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثُهُ، بَقِيَ لِوَرَثَةِ الْآخَرِ ثُلُثَا شَيْءٍ، وَلِلأَوَّلِ شَيئَانِ، فَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أرْبَاعِهَا، وَلِوَرَثَةِ الثَّانِي رُبْعُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَياةِ أبيه قبلَ مَوْتِ سَيِّدِه وخَلَّفَ مالًا، وحَكَمْنا بعِتْقِ الأبِ أو عِتْقِ بَعْضِه، وَرِثَ مال ابنه (¬1) إن كان حُرًّا، أو بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ إن كان بَعضُه حُرًّا، ولم يَرِثْ سَيِّدُه منه شيئًا. وفي هذه المَسائِلِ خِلافٌ تَرَكْنا ذِكْرَه مَخافَةَ التَّطْويلِ. 2642 - مسألة: (وإن أعْتَقَ جارِيَةً) لا مال له غيرُها (ثم وَطِئَها، ومَهْرُ مِثْلِها نِصْفُ قِيمَتِها، فهو كما لو كَسَبَتْ نِصْفَ قِيمَتِهَا، يَعْتِقُ منها ثلاثةُ أسْباعِها) وقد ذَكَرْنا ذلك. 2643 - مسألة: (وإن وَهَبَها مَرِيضًا آخَرَ لا مال له غيرُها، ثم وَهَبَها الثاني للأَوَّلِ) وماتا جَمِيعًا، فنقولُ: (صَحَّتْ هِبَةُ الأَوَّلِ فِي شَيْءٍ، وَعَادَ إِلَيهِ بِالْهِبَةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثُهُ، بَقِيَ لِوَرَثَةِ الثَّانِي ثُلُثَا شَيْءٍ، وَلِوَرَثَةِ لِلأَوَّلِ شَيئَانِ) فاضْرِبْها في ثُلُثِه ليَزولَ الكَسْرُ، يكنْ ثمانيةَ أشياءَ، تَعْدِلُ الأمَةَ ¬

(¬1) في م: «أبيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْهُوبَةَ، فلوَرَثَةِ الواهِبِ الأوَّلِ (ثلاثةُ أرْباعِها) سِتَّةٌ، (ولوَرَثَةِ الثانِي رُبْعُها) شَيئان، وإن شِئْتَ قُلْتَ: المسأَلةُ مِن ثلاثةٍ (¬1)؛ لأنَّ الهِبَةَ صَحتْ في ثُلُثِ المالِ، وهِبَةَ الثانِي صَحَّتْ في ثُلُثِ الثُّلُثِ، فتكونُ مِن ثلاثةٍ، اضْرِبْها في أصْلِ المسأَلةِ، تكُنْ تِسْعَةً، أسْقِطِ السَّهْمَ الَّذي صَحَّتْ فيه الهِبَةُ الثانيةُ؛ لأننا لو رَدَدْناه على الأوَّلِ لوَجَبَ رَدُّه على جَمِيعِ السِّهامِ الباقِيَةِ، إذ يَلْزَمُ مِن زِيادَةِ الباقِي للواهِبِ الأوَّلِ زِيادَةُ الجُزْءِ الَّذي صَحَّتْ فيه الهِبَةُ الأُوْلَى، فيَسْقُطُ كما يَسْقُطُ الباقِي في مَسْأَلةِ الرَّدِّ؛ إذِ العِلَّةُ في إسْقاطِه ثَمَّ أنَّنا لو رَدَدْناه لرَدَدْناه على جَمِيعِ السِّهامِ بالسَّويَّةِ، فإذا أسْقَطْا ذِكْرَه، عاد على جَمِيعِ السِّهامِ بالسَّويَّةِ (¬2) كذلك ههُنا، إذا أسْقَطْا هذا السَّهْمَ بَقِيَتِ المسألةُ مِن ثَمانِيَةٍ، كما ذكَرْنا. فُصُولٌ في هِبَةِ المَريضِ: رجلٌ وَهَب أخاه مائةً لا يَمْلِكُ غيرَها، فَقَبَضها ثم مات وخَلَّفَ بِنتًا، فقد صَحَّتِ الهِبَةُ في شيءٍ، والباقي للواهِبِ، ورَجَع إليه بالمِيراثِ نِصْفُ الشيءِ الَّذي جازَتِ الهِبَةُ فيه، صار معه مائةٌ إلا نِصْفَ شيءٍ يَعْدِلُ شَيئَينِ، فالشيءُ خُمْسَا ذلك أرْبَعُون (2)، رَجَع إلى الواهِبِ نِصْفُها عِشْرُونَ، صار معه ثَمانون، وبَقِيَ لوَرَثَةِ المَوْهُوبِ له عِشْرُون. وطَرِيقُها بالبابِ (¬3) أن تَأُخُذَ عَدَدًا لثُلُثِه ¬

(¬1) في الأصل: «ثمانية». (¬2) سقط من: م. (¬3) أي بابها في الحساب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفٌ، وهو سِتَّةٌ، فَتَأْخُذَ ثُلُثَه اثْنَين، وتُلْغِيَ نِصْفَه سَهْمًا، يَبْقَي سَهْمٌ، فهو للمَوْهُوبِ له، ويَبْقَى للواهِبِ أرْبَعةٌ، فتَقْسِمَ المائةَ بينَهما على خَمْسَةٍ، والسَّهْمُ الَّذي أسْقَطْتَه لا يُذْكَرُ؛ لأنَّه يَرْجِعُ على جَمِيعِ السِّهامِ الباقِيَةِ بالسَّويَّةِ، فيَجِبُ اطِّراحُه، كالسِّهامِ الفاضِيَةِ عن الفُرُوضِ في مسألةِ الرَّدِّ. [وقد ذَكَرْناه في المسألةِ قبلَها] (¬1). ولو كان (¬2) تَرَك ابْنَتَين، ضَرَبْتَ ثلاثةً في ثلاثةٍ، صارتْ تِسْعَةً، وأسْقَطْتَ منْهما سَهْمًا، يَبقَى سَهْمانِ، فهي التي تَبْقَى لوَرَثَةِ المَوْهُوبِ له، وتَبْقَى سِتَّةٌ للواهِبِ، وهي مِثْلا ما جازَتِ الهِبَةُ فيه. وإن خَلَّفَ امرأةً وبِنتًا، فمسألتُها مِن ثمانيةٍ، نَضْرِبُها في ثلاثةٍ، تكونُ أرْبَعَةً وعِشْرِين، يَسْقُطُ منها الثلَاثَةُ التي وَرِثَها الواهِبُ، يَبْقَى أحَدٌ وعِشْرُون، فهي المالُ، ويَأْخُذُ ثُلُثَ الأرْبَعَةِ والعِشْرِين وهي ثمانيةٌ، يُلْغَى منها الثلاثَةُ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، فهي (¬3) الباقِيَةُ لوَرَثَةِ المَوْهُوبِ له، والباقِي للواهِبِ، فتُقْسَمُ المائةُ على هذه السِّهامِ. فصل: فإن وَهَب رجلًا جارِيَةً، فقَبَضَها المَوْهُوبُ له وَوَطِئَها، ومَهْرُ مِثْلِها (¬4) ثُلُثُ قِيمَتِها، ثم مات الواهِبُ ولا شيءَ له سِواها، وقِيمَتُها ثَلاثُونَ، ومَهْرُها عَشَرَةٌ، فقد صَحَّتِ الهِبَةُ في شيءٍ، وسَقَط عنه مِن مَهْرِها ثُلُثُ شيءٍ، وبَقِيَ للواهِبِ أرْبَعُونَ إلا شيئًا وثُلُثًا يَعْدِلُ شَيئَين، اجْبُرْ ¬

(¬1) سقط من: ر 2، م. (¬2) سقط من: ر 2، م. (¬3) في ر 2، م: «في». (¬4) في م: «مهرها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقابِلْ، يَخْرُجِ الشيءُ، خُمْسُ ذلك وعُشْرُه، وهو اثْنا عَشَرَ وذلك خُمْسَا الجارِيَةِ، فقد صَحَّتِ الهِبَةُ فيه، ويَبْقَى لِلْواهِبِ (¬1) ثلاثةُ أخْماسِها، وله على المَوْهُوبِ له ثلاثةُ أخْماسِ مَهْرِها وهو سِتَّةٌ. ولو كان الواطِيءُ أجْنَبِيًّا فكذلك، ويكونُ عليه مَهْرُها، ثلاثةُ أخْماسِه للواهِبِ، وخُمْساه للمَوْهُوبِ له، إلَّا أنَّ نُفُوذَ (¬2) الهِبَةِ فيما زاد على الثُّلُثِ منها مَوْقُوفٌ على حُصُول المَهْرِ مِن الواطِئ، فإن لم يَحْصُلْ منه شيءٌ لم تَزِدِ الهِبَةُ على ثُلُثِها. وكلَّما حَصَل منه شيءٌ نَفَذَتِ الهِبَةُ في الزِّيادَةِ بقَدْرِ ثُلُثِه. فإن وَطِئَها الواهِبُ، فعليه (¬3) مِن عُقْرِها (¬4) بقَدْرِ ما جازَتِ الهِبَةُ فيه، وهو ثُلُثُ شيءٍ يَبْقَى معه ثَلاثُون إلَّا شيئًا وثُلُثًا، يَعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ تِسْعَةٌ، وهو خُمْسُ الجارِيَةِ وعُشْرُها، وسَبْعَةُ أعْشارِها لوَرَثَةِ الواطِئِ، وعليه عُقْرُ الَّذي جازَتِ الهِبَةُ فيه ثُلُثُه (¬5)، فإن أخَذَ مِن الجارِيَةِ بقَدْرِها، صار له خُمْساها. فصل: وإن وَهَب مَرِيضٌ عَبْدًا لا يَمْلِكُ غيرَه، فقَتَلَ العَبْدُ الواهِبَ، قِيلَ للمَوْهُوبِ له: إمّا أن نَفْدِيَه، وإمّا أن تُسَلِّمَه. فإنِ اخْتارَ تَسْلِيمَه سَلَّمَه كلَّه، نِصْفَه بالجِنايَةِ، ونِصْفَه لانْتِقاصِ الهِبَةِ؛ وذلك لأنَّ ¬

(¬1) في م: «للوارث». (¬2) في م: «تعود». (¬3) في ر 2، م: «عليها». (¬4) العُقْر بضم العين: مهر المرأة إذا وطئت على شبهة. (¬5) في م: «ثلاثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَبْدَ كلَّه قد صار إلى وَرَثَةِ الواهِبِ، وهو مِثْلَا نِصْفِه، فتَبَيَّنَ أنَّ الهِبَةَ جازَتْ في نِصْفِه. فإنِ اخْتارَ فِداءَه، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، يَفْدِيه بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَةِ نَصِيبِه فيه أو أرْشِ جِنايَتِه. والأُخْرَى، يَفْدِيه بقَدْرِ ذلك مِن أرْشِ جِنايَتِه، بالِغَةً ما بَلَغَتْ. فإن كانت قِيمَتُه دِيَةً، فإنَّك تقولُ: صَحَّتِ الهِبَةُ في شيءٍ. وتَدْفَعُ إليهم نِصْفَ العَبْدِ وقِيمَةَ نِصْفِه، وذلك يَعْدِلُ شَيئَين، فتَبَيَّنَ أنَّ الشيءَ نِصْفُ العَبْدِ. وإن كانتْ قِيمَتُه دِيَتَين، واخْتارَ دَفْعَه، فإنَّ الهِبَةَ تَجُوزُ في شيءٍ، وتَدْفَعُ إليهم نِصْفَه، يَبْقَى معهم عبدٌ إلَّا نِصْفَ شيءٍ، يَعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ خُمْساه، وتَرُدُّ إليهم ثلاثَةَ أخْماسِه لانْتِقاصِ (¬1) الهِبَةِ، وخُمْسًا مِن أجْلِ جِنايَتِه، فيَصِيرُ لهم أرْبَعَةُ أخْماسِه، وذلك مِثْلَا ما جازَتِ الهِبَةُ فيه. وإنِ اخْتارَ فِداءَه، فَداه بخُمْسَيِ الدِّيَةِ [ويَبْقَى لهم ثلاثةُ أخْماسِه وخُمْسَا الدِّيَةِ، وهي بمَنْزِلَةِ خُمْسِه، ويَبْقَى له خُمْساه. وإن كانت قِيمَتُه نِصْفَ الدِّيَةِ] (¬2) أو أقَلَّ، وقُلْنا: يَفْدِيه بأرْشِ جِنايَتِه. نَفَذَتِ الهِبَةُ في جَمِيعِه؛ لأنَّ أَرْشَها أكْثَرُ مِن مِثْلَيْ قِيمَتِه. وإن كانت قِيمَتُه ثلاثَةَ أخْماسِ الدِّيَةِ، فاخْتارَ فِداءَه بالدِّيَةِ، فقد صَحَّتِ الهِبَةُ في شيءٍ، ويَفْدِيه بشيءٍ وثُلُثَين، فصارَ مع الوَرَثَةِ عَبْدٌ وثُلُثَا شيءٍ يَعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ يَعْدِلُ ثلاثَةَ أرباعٍ، فتَصِحُّ الهِبَةُ في ثلاثَةِ أرْباعِ العَبْدِ، ويَرْجِعُ إلى الواهِبِ رُبْعُه مائةٌ وخمْسُون، ¬

(¬1) في م: «لانتقاض». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وثلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ سَبْعُمائةٍ وخَمْسُونَ، صار الجميعُ تِسْعَمائةٍ، وهو مِثْلَا ما صَحَّتِ الهِبَةُ فيه. فإن تَرَك الواهِبُ مائةَ دِينارٍ، فاضْمُمْها إلى قِيمَةِ العَبْدِ، فإنِ اخْتارَ دَفْعَ العَيدِ، دَفَع ثُلُثَه ورُبْعَه، وذلك قَدْرُ نِصْفِ جَمِيعِ المالِ بالجِنايَةِ وباقِيه لانْتقاصِ (¬1) الهِبَةِ، فيَصِيرُ للوَرَثَةِ العَبْدُ والمائة، وذلك مِثْلَا (¬2) ما جازَتِ الهِبَةُ فيه. وإنِ اخْتارَ الفِداءَ، فقد عَلِمْتَ أنَّه يَفْدِي ثلاثةَ أرْباعِه إذا لم يَتْرُكْ شيئًا، فَزِدْ على ذلك ثلاثةَ أرْباع من المائةِ، يَصِرْ ذلك سَبْعةَ أثْمانِ العَبْدِ، فيَفْدِيه بسَبْعَةِ أثْمانِ الدِّيَةِ. فصل في إعْتاقِ المَريضِ: مَرِيضٌ أَعْتَقَ عَبْدًا لا مال له (2) سِواه، قِيمَتُه مائةٌ، فقَطَعَ إِصْبَعَ سَيِّدِه خَطَأً، فإنَّه يَعْتِقُ نِصْفُه، وعليه نِصْفُ قِيمَتِه، ويَصِيرُ للسَّيِّدِ نِصْفُه ونِصْفُ قِيمَتِه، وذلك مِثْلَا ما عَتَقَ منه، وأوْجَبْنَا نِصْفَ قِيمَتِه عليه؛ لأنَّ عليه مِن أَرْشِ جِنايَتِه بقَدْرِ ما عَتَقَ منه، وحِسابُها أن تقولَ: عَتَقَ منه شيءٌ، وعليه شيءٌ للسَّيِّدِ، فصار مع السَّيِّدِ عَبْدٌ إلَّا شيئًا، وشيءٌ يَعْدِلُ شَيئين، فأسْقِطْ شيئًا (2) بشيءٍ، بَقِيَ ما معه مِن العَبْدِ (¬3) يَعْدِلُ شيئًا مثلَ ما عَتَقَ منه. وإن كانت قِيمَةُ العَبْدِ مائتَين، عَتَقَ خمْساه؛ لأنَّه يَعْتِقُ منه شيءٌ، وعليه نِصْف شيء للسِّيِّدِ، فصار للسَّيِّدِ نِصْفُ شيءٍ، وبَقِيَّةُ العَبْدِ تَعْدِلُ شَيئَين، فتكونُ بَقِيَّةُ العَبْدِ ¬

(¬1) في الأصل: «لانتقاض». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «العبيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْدِلُ شيئًا ونِصْفًا، وهو ثلاثَةُ أخْماسِه، والشيءُ الَّذي عَتَقَ خُمْساه. وإن كانت قِيمَتُه خَمْسِينَ أو أقَلَّ، عَتَقَ كلُّه؛ لأنَّه يَلْزَمُه مائةٌ، وهي مِثْلَاه أو أكْثَرُ. وإن كانت قِيمَتُه شَيئَين، قُلْنا: عَتَقَ منه شيءٌ، وعليه شيءٌ وثُلُثَا شيءٍ للسَّيِّدِ، مع بَقِيَّةِ العَبْدِ، تَعْدِلُ شَيئَيق، فبَقِيَّةُ العَبْدِ إذًا ثُلُثُ شيءٍ، فيَعْتِقُ منه ثلاثَةُ أرْباعِه. وعلى هذا القياسُ، إلَّا أنَّ ما زاد مِن العِتْقِ على الثُّلُثِ، يَنبغِي أن يَقِفَ على أداءِ ما يقابِلُه مِن القِيمَةِ، كما إذا دَبَّرَ عَبْدًا وله دَين في ذِمَّةِ غرِيمٍ له، فكلَّما اقْتَضَى مِن القِيمَةِ شيئًا عَتَقَ مِن المَوْقُوفِ بقَدْرِ ثُلُثِه. فصل: فإن أعْتَقَ عَبْدَين دَفْعَةً واحِدَةً، قِيمَةُ أحَدِهما مائةٌ والآخَرِ مائةٌ وخَمْسُونَ، فجَنَى الأدْنَى على الأرْفعِ جِنايَة نَقَصتْه ثُلُثَ قِيمَتِه، وأَرْشُها كذلك في حياةِ (¬1) السَّيِّدِ، ثم مات، أقْرَعْنا بينَ العَبْدَين، فإن وَقَعَت على الجانِي، عَتَقَ منه أرْبَعَةُ أخْماسِه، وعليه مِن أَرْشٍ الجِنايَةِ مثلُ ذلك، وبَقِيَ لوَرَثَةِ سَيِّدِه خُمْسُه وأَرْشُ جِنايَتِه والعَبْدُ الآخرُ، وذلك مائةٌ وسِتُّونَ، وهو مِثْلَا ما عَتَقَ منه، وحِسابُها أن تقولَ: عَتَقَ منه شيءٌ، وعليه نِصْف شيءٍ؛ لأنَّ جِنايَتَه بقَدْشِ نِصْفِ قِيمَتِه، بَقِيَ للسَّيِّد نِصْفُ شيءٍ، وبَقِيَّةُ العَبْدَين (¬2) تَعْدِلُ شَيئَين، فَعَلِمْتَ أنَّ بَقِيَّةَ العَبْدَين تَعْدِلُ شيئًا ونِصْفًا، فإذا أضَفْتَ إلى ذلك الشيءَ الَّذي عَتَقَ، صارا جَمِيعًا يَعْدِلان شَيئَين ¬

(¬1) في النسخ: «جناية» والمثبت كما في المغني 8/ 507. (¬2) في م: «العبد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونِصْفًا، فالشيءُ الكامِلُ خُمْسَاهما، وذلك أرْبَعةُ أخْماسِ أحَدِهما. وإن وَقَعَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ على المَجْنِيِّ عليه، عَتَقَ ثُلُثُه، وله ثُلُثُ أرْشِ جِنايَتِه، يتَعَلَّقُ برَقَبَةِ الجانِي، وذلك تُسْعُ الدِّيَةِ؛ لأنَّ الجِنايَةَ على مَن ثُلُثُه حُرٌّ تُضْمَنُ بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ والرِّقِّ، والواجِبُ مِن الأَرْشِ يَسْتَغْرِقُ قِيمَةَ الجانِي، فيَسْتَحِقُّه بها، ولا يَبْقَى لسَيِّدِه مالٌ سِواه، فيَعْتِقُ ثُلُثُه، ويَرِقُّ ثُلُثاه. فإن أعْتَقَ عَبْدَين، قِيمَةُ أحَدِهما خَمْسُون، والآخَرُ قِيمَتُه ثَلاثُون، فجَنَى الأدْنَى على الأرْفَعِ فنَقَصَه حتَّى صارت قِيمَتُه أرْبَعِين، أقْرَعْنا بينَهما، فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ للأدْنَى، عَتَقَ منه شيءٌ، وعليه ثُلُثُ شيءٍ، فبعدَ الجَبْرِ تَبَيَّنَ أنَّ العَبْدَين شَيئان وثُلُثان، فالشيءُ ثلاثَةُ أثْمانِهما، وقِيمَتُهما سَبْعُون، فثلاثةُ أثْمانِهما سِتَّةٌ وعِشْرُون ورُبْعٌ، وهي مِن الأدْنَى نِصْفُه ورُبْعُه وثُمْنُه. وإن وَقَعَتْ على الآخَرِ، عَتَقَ ثُلُثُه، وحَقُّه مِن الجِنايَةِ أَكْثَرُ مِن قِيمَةِ الجانِي، فيَأْخُذُه بها أو يَفْدِيه المُعْتِقُ. وقد بَقِيَتْ (¬1) فُرُوع كَثِيرَة، وفيما ذَكَرْنا ما يُسْتَدَلُّ به على غيرِه، إن شاء الله تعالى. وكل مَوْضِع زاد العِتْقُ على ثُلُثِ العَبْدَينِ مِن أجْلِ وُجُوبِ الأَرْشِ للسَّيِّدِ، تكونُ الزِّيادَةُ مَوْقُوفَة على أداءِ الأَرْشِ، كما ذَكَرْنا مِن قبلُ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «ثبتت».

2644 - مسألة: (وإن باع مريض قفيزا لا يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة)

وَإِنْ بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا لَا يَمْلِكُ غَيرَهُ يُسَاوي ثَلَاثِينَ بِقَفِيزٍ يُسَاوي عَشَرَةً، فَأَسْقِطْ قِيمَةَ الرَّدِئِ مِنْ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، ثُمَّ انْسِبِ الثُّلُثَ إِلَى الْبَاقِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ مِنْ عِشْرِينَ، تَجِدْهُ نِصْفَهَا، فَيَصِحُّ الْبَيعُ فِي نِصْفِ الْجَيِّدِ بِنِصْفِ الرَّدِئِ، وَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2644 - مسألة: (وَإِنْ بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا لَا يَمْلِكُ غَيرَهُ يُسَاوي ثَلَاثِينَ بِقَفِيزٍ يُسَاوي عَشَرَةً) وهما جِنْسٌ واحِدٌ، فيَحْتاجُ إلى تَصْحِيح البَيعِ في جُزْءٍ منه مع التَّخَلُّصِ مِن الرِّبا؛ لكونِه يَحْرُمُ التَّفاضُلُ بينَهما، فالطَّرِيقُ في ذلك أن (وَيُسْقِطْ قِيمَةَ الرَّدِئِ مِنْ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، ثُمَّ انْسِبِ الثُّلُثَ إِلَى ما بَقِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ مِنْ عِشْرِينَ، وذَلِك نِصْفَهَا، فَيَصِحُّ الْبَيعُ فِي نِصْفِ الْجَيِّدِ بِنِصْفِ الرَّدِئِ، وَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ) وطَرِيقُ الجَبْرِ أن تقولَ: يَصِحُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيعُ في شيءٍ من الأرْفَعِ بشيءٍ مِن الأدْنَى، وقِيمَتُه ثُلُث شيءٍ، فتكونُ المُحاباةُ بثُلُثَيْ شيءٍ، ألْقِها مِن الأرْفَعِ، يَبقَ قَفِيزٌ إلَّا ثُلُثَيْ شيءٍ، يَعْدِلُ مِثْلَي المُحاباةِ، وذلك شيءٌ وثُلُثٌ، فإذا جَبَرْتَه (¬1) عَدَل شَيئَين، والشيءُ ¬

(¬1) في م: «جبر به».

2645 - مسألة: (وإن أصدق امرأة عشرة)

وَإنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً عَشَرَةً لَا مَال لَهُ غَيرُهَا، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، فَمَاتَتْ قَبْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَلَهَا بِالصَّدَاقِ خَمْسَةٌ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُ القَفِيزِ، فإن كانت قِيمَةُ الأدْنَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فإذا أسْقَطْتَ قِيمَةَ الرَّدِئِ مِن قِيمَةِ الجَيِّدِ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، إذا نَسَبْتَ إليهما الثُّلُثَ يكونُ ثُلُثَيها، فيَصِحُّ البَيعُ في ثُلُثَي الجَيِّدِ بثُلُثَيِ الرَّدِئِ، فحَصَلَتِ المُحاباةُ بعَشَرَةٍ، وذلك ثُلُثُ المالِ. فإن كان الأدْنى يُساوي عِشْرِين، صَحَّتْ في جميعِ الجَيِّدِ بجَمِيعِ الرَّدِئِ. 2645 - مسألة: (وَإنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً عَشَرَةً) في مَرَضِه (لَا مَال لَهُ غَيرُهَا، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ، ومَاتَ) بعدَها، ولا مال لها سِوَى ما أصْدَقَها، دَخَلَها الدَّوْرُ فتقولُ: (لَهَا خَمْسَةٌ بِالصَّدَاقِ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ،) ويَبْقَى لوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ الأشياءِ (ورَجَع إليهم بمَوْتِها

رَجَعَ إِلَيهِ نِصْفُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا، صَارَ لَهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إلا نِصْف شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيئَينِ، اجْبُرْهَا بِنصْفِ شَيْءٍ وَقَابِلْ، يَخرُجِ الشَّيْءُ ثَلَاثَةً، فَلِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ وَلِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُ ذلك) وهو اثْنان ونِصْفٌ ونِصْفُ شيءٍ (صَارَ لَهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إلا نِصْف شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيئَينِ، اجْبُرْهَا بِنصْفِ شَيْءٍ وَقَابِل) فزِدْ على الشَّيئَينِ نِصْف شيءٍ، يَبْقَى سَبْعَةٌ ونِصْفٌ تَعْدِلُ شَيئَين ونِصْفًا، فالشيءُ ثلاثةٌ، فَلِورَثتِه سِتَّةٌ، ولوَرَثَتِها أرْبَعَةٌ؛ لأنَّها كان لها خَمْسَةٌ وشيءٌ، وذلك ثَمانِيَةٌ، رَجَع إلى وَرَثَتِه نِصْفُها، وهي أرْبَعَةٌ، صار لهم سِتَّةٌ، ولوَرَثَتِها أرْبَعةٌ، على ما ذَكَرْنا. فإن تَرَك الزَّوْجُ خَمْسَةً أُخْرَى، قُلْتَ: يَبْقَى مع وَرَثَةِ الزَّوْجِ اثْنا عَشَرَ ونِصْفٌ إلَّا نِصْفَ شيءٍ، تَعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ خَمْسَةٌ، فجازَتْ لها المُحاباةُ جَمِيعُها، ورَجَع جَمِيعُ ما حاباها به إلى وَرَثَةِ الزَّوْجِ، وبَقِيَ لوَرَثَتِها صَداقُ مِثْلِها. فإن كان للمرأةِ خَمْسَةٌ، ولمِ يكنْ للزَّوْجِ شيءٌ، قُلْتَ: يَبْقَى مع وَرَثَةِ الزَّوْجِ عَشَرَةٌ إلَّا نِصْفَ شيءٍ، تعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ أرْبَعةٌ، فيكونُ لها بالصَّداقِ تِسْعَةٌ مع خَمْسَتِها أرْبَعةَ عشَرَ، رَجَع إلى وَرَثَةِ الزَّوْجِ نِصْفُها مع الدِّينارِ الَّذي بَقِيَ لهم، صار لهم

2646 - مسألة: (وإن مات قبلها، ورثته، وسقطت المحاباة)

وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا، وَرِثَتْهُ، وَسَقَطَتِ الْمُحَابَاةُ. نَصَّ عَلَيهِ. وَعَنْهُ، تُعْتَبَرُ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ رَجَعَ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَمانِيَةٌ، ولوَرَثَتِها سَبْعَةٌ. وإن كان عليها دَينٌ ثلاثةٌ، قلتَ: يَبْقَى مع وَرَثَةِ الزَّوْجِ سِتّةٌ إلَّا نِصْفَ شيءٍ، تَعْدِلُ شَيئَين، فالشيءُ دِيناران وخُمْسانِ. والبابُ في هذا أن نَنْظُرَ ما يَبْقَى في يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، فخُمْساه هو الشيءُ الَّذي صَحَّتِ المُحاباةُ فيه؛ وذلك لأنه بعدَ الجَبْرِ يَعْدِلُ شَيئَين ونِصْفًا، والشَّيءُ هو خُمْساها، وإن شِئْتَ أسْقَطْتَ خَمْسَةً، وأخَذْتَ نِصْفَ ما بَقِيَ. 2646 - مسألة: (وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا، وَرِثَتْهُ، وَسَقَطَتِ الْمُحَابَاةُ) لأنَّ حُكْمَها في المَرَضِ حُكْمُ الوَصِيَّةِ في أنّها لا تَصِحُّ لوارِثٍ (وعنه، تُعْتَبَرُ المُحاباةُ مِن الثُّلُثِ) لأنَّها مُحاباةٌ لمَن تَجُوزُ لة الصَّدَقَةُ عليه، فاعْتُبِرَتْ مِن الثُّلُثِ، كمُحاباةِ الأجْنَبِيِّ، إلَّا أن أبا بكرٍ قال: هذا قولٌ قَدِيمٌ رَجَع عنه.

فَصْلٌ: وَلَوْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَقَرَّ في مَرَضِهٍ أَنَّهُ أعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ، عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْهُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَهُ كَان ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وَلَوْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَقَرَّ في مَرَضِهٍ أَنَّهُ أعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ) وهو وارِثُه (عَتَقَ ولم يَرِثْ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه لو وَرِثَه كان إقْرارُه لوارِثٍ) فيَبْطُلُ عِتْقه؛ لأنَّه مُرَتَّبٌ على صِحَّةِ الاقْرارِ، ولا يَصِحُّ الإِقْرارُ للوارِثِ، وإذا بَطَل عِتْقُه، سَقَط الإرثُ. فعلى هذا، تَثْبُتُ الحُرِّيَّةُ ولا يَرِثُ؛ لأنَّ تَوْرِيثَه يُفْضِي إلى إسْقاطِ

إِقْرَارُهُ لِوَارِثٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِياسِهِ، لَو اشْتَرَى ذَا رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ وَارِثُهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ فَقَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ. وَقَال الْقَاضِي: يَعْتِقُ وَيَرِثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَوْرِيثِه. ويحتَمِلُ أن يَرِثَ؛ لأنَّه حينَ الإِقْرارِ لم يكنْ وارِثًا، فوَجَبَ أن يَرِثَ، كما لو لم يَصِرْ وارِثًا. وعلى قياسِ ذلك (لَو اشْتَرَى ذَا رَحِمِهِ الْمَحْرَمِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ وَارِثُهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ فَقَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ) فالحُكْمُ في ذلك كالمسألةِ قبلَها سَواءٌ؛ لِما ذَكَرْنا. وذَكَر شيخُنا (¬1)، أنَّه إذا مَلَكَه بغيرِ عِوَضٍ، كالهِبَةِ والمِيراثِ، أنَّه يَعْتِقُ، ويَرِثُ المَرِيضَ إذا مات. وبه قال مالِكٌ، وأكْثَرُ أصْحاب الشافعيِّ. وقال بعضُهم: يَعْتِقُ ولا يَرِثُ. كما قال أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ عِتْقَه وَصِيَّةٌ، فلا تَجْتَمِعُ مع المِيراثِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو كان وَصِيَّةً لاعْتُبِرٍ مِن الثُّلُثِ، كما لو اشْتَراه، [وجَعَلِ أهْلُ العِرَاقِ عِتْقَ المَوْهُوبِ وَصِيَّة يُعْتَبَرُ خُرُوجُه من الثُّلُثِ] (¬2). وإن خرَج مِن الثُّلُثِ، عَتَقَ وَوَرِثَ، وإن لم يَخْرُجْ مِن ¬

(¬1) في: المغني 8/ 479. (¬2) مضروب عليها في الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثُّلُثِ، سَعَى في قِيمَةِ باقِيه، ولم يَرِث في قولِ أبي حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يُحْتَسبُ بقِيمَتِه مِن مِيراثِه، فإن فَضَل مِن قِيمَتِه شيءٌ، سَعَى فيه. ولَنا، أنَّ الوَصِيَّةَ هي التَّبَرُّعُ بمَالِه (¬1) بعَطِيَّةٍ أو إتْلافٍ، أو التَّسَبُّبُ إلى ذلك، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما؛ لأنَّ العِتْقَ ليس مِن فِعْلِه، ولا يَقِفُ على اخْتيارِه، وقَبُولُ الهِبَةِ ليس بعَطِيَّةٍ ولا إتْلافٍ لمالِه، إنَّما هو ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْصِيلٌ لشيءٍ يَتْلَفُ بتَحْصِيلِه، فأشْبَهَ قَبُولَه لشيءٍ لا يُمْكِنُه حِفْظُه، أو لِما يَتْلَفُ ببَقائِه في وَقْتٍ لا يُمْكِنُه التَّصَرُّفُ فيه، وفارَقَ الشِّراءَ، فإنَّه تَضْيِيعٌ لمالِه في ثَمَنِه. قال القاضي: هذا المَذْكُورُ قِياسُ قولِ أحمدَ؛ لأنَّه قال في مَواضِعَ: إذا وَقَف في مَرَضِه على وَرَثَتِه، صَحَّ، ولم تكنْ وَصِيَّةً؛ لأنَّ الوَقْف ليس بمالٍ؛ لأنَّه لا يُبَاعُ ولا يُورَثُ. قال الخَبْرِيُّ: هذا قولُ أحمدَ، وابنِ الماجِشُون، وأهْلِ البَصْرَةِ. ولم يَذْكُرْ فيه عن أحمدَ خِلافه. فأمّا إنِ اشْتَرَى مَن يَعْتِقُ عليه، فقال القاضي: إن حَمَلَه الثُّلُثُ، عَتَقَ ووَرِثَه. وهذا قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ. وإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ، ويَرِثُ بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ، وباقِيه على الرِّقِّ. فإن كان الوارِثُ ممَّن يَعْتِقُ عليه إذا مَلَكَه، عَتَقَ عليه إذا وَرِثَه. وقال أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوسُفَ، ومحمدٌ، لا وَصِيَّةَ لوارثٍ، ويُحْتَسَبُ بقِيمَتِه مِن مِيراثِه، وإن فَضَل مِن قِيمَتِه شيءٌ سَعَى فيه. وقال بعضُ أصحابِ مالكٍ: يَعْتِقُ مِن رَأْسِ المالِ ويَرِثُ، كالمَوهُوب والمَوْرُوثِ. وهو قِياسُ قولِ أحمدَ؛ لكَوْنِه لم يَجْعَلِ الوَقْفَ وَصِيَّةً، وأجَازَه للوارِثِ، فهذا أوْلَى؛ لأنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ رَقَبَتَه، فيُجْعَلُ ذلك وَصِيَّةً له، ولا يَجُوزُ أن يُجْعَلَ الثَّمَنُ وَصِيَّةً له؛ لأنَّه لم يَصِلْ إليه، ولا وَصِيَّةَ للبائِعِ؛ لأنَّه قد عاوَضَ عنه، وإنَّما هو كبناءِ مَسْجِدٍ. وقَنْطَرَةٍ، في أنَّه ليس بوَصِيَّةٍ لمَن يَنْتَفِعُ به، فلا يَمْنَعُه ذلك المِيراثَ. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ في قِياسِ قَوْلِه؛ فقال بعضُهم: إذا حَمَلَه الثُّلُثُ عَتَقَ وَورِثَ؛ لأنَّ عِتْقَه ليس بوَصِيَّةٍ له على ما ذَكَرْنا. وقِيلَ: يَعْتِقُ ولا وَرِثُ؛ لأنَّه لو وَرِث، لصارت وَصِيَّةً لوارِثِه، فتَبْطُلُ وَصِيَّتُه، ويَبْطُلُ عِتْقه وإرْثُه، فيُفضِي تَوْرِيثُه إلى إبْطال تَوْرِيثِه، فكان إبْطالُ تَوْرِيثِه أوْلَى. وقِيلَ على مَذْهَبِه: شِراؤُه باطِلٌ؛ لأنَّ ثَمَنَه وَصِيَّةٌ، والوَصِيَّةُ يَقِفُ خُرُوجُها مِن الثُّلُثِ، أو إجازَةِ الوَرَثَة، والبَيعُ عندَه لا يَجُوزُ أن يكونَ مَوْقُوفًا. ومن مسائِلِ ذلك: مَرِيضٌ وُهِب له ابنُه فقَبِلَه، وقِيمَتُه مائةٌ، وخَلَّفَ مائَتَيْ دِرْهَمٍ وابْنًا آخَرَ، فإنَّه يَعْتِقُ، وله مائةٌ ولأخِيه مائةٌ. وهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ مالِكٍ، وأبي حَنِيفةَ، والشافعيِّ. وقِيلَ على قولِ الشافعيِّ: لا يَرِثُ، والمِئَتان كلُّها للابنِ الآخَرِ. وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: يَرِثُ نِصْفَ نَفسِه ونِصْفَ المائَتَين، ويَحْتَسِبُ بقِيمَةِ نِصْفِه الباقِي مِن مِيراثِه. وإن كانت قيمَتُه مائَتَين، وبَقِيَّةُ التَّرِكَةِ مائةً، عَتَقَ مِن رَأْسِ المالِ، والمائة بينَه وبينَ أخِيه. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ منه نِصْفه؛ لأنَّه قَدْرُ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، ويَسْعَى في قِيمَةِ باقِيه ولا يَرِثُ؛ لأنَّ المُسْتَسْعَى عندَه كالعَبْدِ لا يَرِثُ إلا في أرْبَعَةِ مواضِعَ؛ الرجلُ يُعْتِقُ أمَتَه على أن تَتَزَوَّجَه. والمرأةُ تُعْتِقُ عَبْدَها على أن يَتَزَوَّجَها، فيَأْبَيانِ ذلك. والعَبْدُ المَرْهُونُ يُعْتِقُه سَيِّدُه. والمُشْتَرِي للعَبْدِ يُعْتِقُه (¬1) قبلَ قَبْضِه وهما مُعْسِران. ففي هذه المَواضِعِ يَسْعَى كلُّ واحِدٍ في قِيمَتِه، وهو حُرٌّ يَرِث. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَرِثُ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وذلك ثَلَاثَةُ أرْباعِ رَقَبَتِه، ويَسْعَى في رُبْعِ قِيمَتِه لأخِيه. فإن وُهب له ثلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ لا مال له سِواهُنَّ ولا وارِثَ، عَتَقْنَ مِن رَأْسِ المالِ. وهذا قولُ مالكٍ. وإن كان اشْتَراهُنَّ فكذلك، فيما ذَكَرَه الخَبْرِيُّ عن أحمدَ. وهو قولُ ابنِ ¬

(¬1) في النسخ: «نصفه» وانظر المغني 8/ 481.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الماجِشُون، وأهْلِ البَصْرَةِ، وبعضِ أصحابِ مالِكٍ. وعلى قولِ القاضِي، يَعْتِقُ ثُلُثُهُنَّ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. وهو قولُ مالِكٍ. وفي الآخَرِ، يَعْتِقْنَ كُلهُنَّ؛ لكَوْنِ وَصِيَّةِ مَن لا وارِثَ له جائِزَةً في جَمِيع مالِه، في أصَحِّ الرِّوايَتَين. وإن تَرَك مالًا يَخْرُجْنَ مِن ثُلُثِه، عَتَقْنَ ووَرِثنَ. وقال أبو حنيفةَ: إذا اشْتَراهُنَّ أو وُهِبْنَ له، ولا مال له سِواهُنَّ ولا وارِثَ، عَتَقْنَ، وتَسْعَى كلُّ واحِدَةٍ مِن الأُخْتِ للأب والأُخْتِ مِن الأُمِّ في نِصْفِ قِيمَتِها لأُخْتِ للأَبَوَينِ، وإنَّما لم تَرِثا؛ لأَنَّهما لو وَرِثَتَا، لكان لهما [خُمْسا الرِّقابِ] (¬1)، وذلك رَقَبَةٌ وخُمْسٌ، بينَهما نِصْفَين، فكان يَبْقَى عليهما سِعايَةٌ، وإذا بَقِيَتْ عليهما سِعايَةٌ، لم تَرِثا، وكانت لهما الوَصِيَّةُ، وهي رَقَبَةٌ بينَهما نِصْفَين. وأمّا الأُخْتِ للأَبَوَينِ، فإذا وَرِثَتْ عَتَقَتْ؛ ¬

(¬1) في م: «خمس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ لها ثلاثَةَ أخْماسَ الرِّقابِ، وذلك أكْثَرُ مِن قِيمَتِها، فورثَتْ وبَطَلَتْ وَصِيَّتُها. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَعْتِقْنَ، وتَسْعَى كلُّ واحِدَةٍ مِن الأُخْتِ للأبِ والأُخْتِ لأُمِّ للأُخْتِ مِن الأبوَين في خُمْسَيْ قِيمَتِها؛ لأنَّ كلَّ واحِدَةٍ منهما (¬1) تَرِثُ ثلاثَةَ أخْماسِ رَقَبةٍ. وعلى قولِ الشافعيِّ، لا يَعْتِقْنَ. فصل: وإذا اشْتَرَى المَرِيضُ أباه بألْفٍ لا مال له سِواه، ثم مات وخَلَّفَ ابنًا، فعلى القولِ الَّذي حَكاه الخَبْرِيُّ، يَعْتِقُ كلُّه على المَرِيضِ وله وَلاؤُه. وعلى قولِ القاضي: يَعْتِقُ ثُلُثُه بالوَصِيَّةِ ويَعْتِقُ الباقِي على الابنِ؛ لأنَّه جَدُّه، ويكونُ ثُلُثُ وَلائِه للمُشْتَرِي، وثُلُثاه لابنِه. وهذا قولُ مالِكٍ. وقِيلَ: هو مَذْهَبٌ للشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ ثُلُثُه بالوَصِيَّةِ، ويَسْعَى للابنِ في قِيمَةِ ثُلُثَيه. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَعْتِقُ سُدْسُه؛ لأنَّه وَرِثَه، ويَسْعَى في خَمْسَةِ أسْداسِ قِيمَتِه للابنِ، ولا وَصِيَّةَ له. وقِيلَ على قولِ الشافعيِّ: يَنْفَسِخُ البَيعُ، إلَّا أن يُجِيزَ الابنُ عِتْقَه. وقِيلَ: يُفْسَخُ في ثُلُثَيه، ويَعْتِقُ ثُلثه، وللبائِعِ الخِيارُ؛ لتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عليه. وقِيلَ: لا خِيار له؛ لأنَّه مُتْلِفٌ. فإن تَرَكَ ألْفَين سواه، عَتَقَ كلُّه، ووَرِثَ سُدْسَ الألْفَين، والباقِي للابنِ. وبهذا قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ. وقيلَ: نَحْوُه قولُ الشافعيِّ. وقِيلَ على قَوْلِه: يَعْتِقُ ولا يَرِث. وقِيلَ: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شِراؤُه مَفْسُوخٌ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَرِثُ الأبُ سُدْسَ التَّرِكَةِ، وهي (¬1) خَمْسُمائةٍ، يَحْتَسِبُ بها مِن رَقَبَتِه، ويَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِه، ولا وَصِيَّةَ له. فإنِ اشْتَرَى ابنَه بألْفٍ لا يَمْلِكُ غيرَه، ومات وخَلَّفَ أباه، عَتَقَ كلُّه بالشِّراءِ، في الوَجْهِ الأوَّلِ. وفي الثانِي، يَعْتِقُ ثُلُثُه بالوَصِيَّةِ، وثُلُثاه على جَدِّه عندَ المَوْتِ، ووَلاؤُه بينَهما أثْلاثًا. وبهذا قال مالِكٌ. وقولُ الشافعيِّ فيه على ما ذَكَرْنا في مَسْأَلةِ الأبِ. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ ثُلُثُه بالوَصِيَّةِ، ويَسْعَى في قِيمَةِ ثُلُثَيه للأبِ ولا يَرِثُ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمد: يَرِثُ خَمْسَةَ أسْداسِه، ويَسْعَى في قِيمَةِ سُدْسِه. فإن تَرَك ألْفَين سِواه، عَتَقَ كلُّه، وَوَرِثَ خَمْسَةَ أسْداسِ الألْفَين، وللأبِ السُّدْسُ. وبهذا قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: للأبِ سُدْسُ التَّرِكَةِ خَمْسُمائةٍ، وباقِيها للابنِ، يَعْتِقُ منها ويَأْخُذُ ألْفًا وخَمْسَمائةٍ. وإن خَلَّفَ مالًا يَخْرُجُ المَبِيعُ مِن ثُلُثِه، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَعْتِقُ كلُّه ويَرِثُ منه، كأنَّه حُرُّ الأصْلِ. وعلى الوَجْهِ الثانِي، يَعْتِقُ منه بقَدْر ثُلُثِ التَّرِكَةِ، ويَرِثُ بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيّةِ. فإن لم يُخَلِّفِ المُشْتَرِي إلا أخًا حُرًّا ولم يَتْرُكْ مالًا، عَتَقَ مِن رَأسِ المالِ على الوَجْهِ الأوّلِ، ويَعْتِقُ ثُلُثُه على الثانِي، ويَرِثُ الأخُ ثُلُثَيه، ثم يَعْتِقُ عليه. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ. ثُلُثُه، ويَسْعَى لعَمِّه في قِيمَةِ ثُلُثَيه. وقال أبو يُوسُف، ومحمدٌ: يَعْتِقُ كلُّه، ولا سِعايَةَ. وإن خَلَّفَ ألْفَين سِواه، عَتَقَ، ووَرِث الألْفَين، ولا شيءَ للأخِ في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأقْوالِ، إلَّا فيما قِيلَ على قولِ الشافعيِّ: إَّنه يَعْتِقُ ولا يَرِثُ. وقِيلَ: شِراؤُه باطِلٌ. فإنِ اشْتَرَى ابنَه بألْفٍ لا يَمْلِكُ غيرَه، وقِيمَتُه ثُلُثا الألْفِ، وخَلَّفَ ابْنًا آخَرَ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَعْتِقُ مِن رَأْسِ المالِ، ويَسْتَقِرُّ مِلْكُ البائِع على قَدْرِ قِيمَتِه مِن الثَّمَنِ، وله ثُلُثُ الباقِي؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ حاباه ولم يَبْقَ مِن التَّرِكَةِ سِواه، فيكونُ له ثُلُثُه، وهو تُسْعُ ألْفٍ، ويَرُدُّ التُّسْعَين، فتكونُ بينَ الابْنَين (¬1). وعلى الوَجْهِ الثاني، يَعْتِقُ ثُلُثُه، ويَرِثُ أخُوه ثُلُثَيه، ويَعْتِقُ عليه، وللبائِعِ ثُلُثُ المُحاباةِ، ويَرُدُّ ثُلُثَيها، فيكونُ مِيراثًا. وقال أبو حنيفةَ: الثلُثُ للبائِعِ، ويَسْعَى المُشْتَرِي في قِيمَتِه لأخِيه. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَسْعَى في نِصْفِ رَقَبَتِه ويَرِث نِصْفَها. وقال الشافعيُّ: المُحاباةُ مُقَدَّمَة لتَقَدُّمِها، ويَرِثُ الابنُ الحُرُّ أخاه فيَمْلِكُه. وقِيلَ: يُفْسَخُ البَيعُ في ثُلُثَيه ويَعْتِقُ ثُلُثُه، ولا تُقَدَّمُ المُحاباةُ، لأنَّ في تَقْدِيمِها تَقْرِيرَ مِلْك الأبِ على وَلَدِه. وقِيلَ: يُفْسَخُ البَيعُ في جَمِيعِه. فإن كانت قِيمَتُه [ثُلُثَ ألْفٍ] (¬2)، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَعْتِقُ مِن رَأْسِ المالِ، وتَنْفُذُ المُحاباةُ في ثُلُثِ الباقِي، وهو تُسْعَا الألْفِ، ويَرُدُّ البائِعُ أرْبَعَةَ أتْساعِ الألْفِ، فتكونُ بينَ الابنَينِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يُقَدَّمُ العِتْقُ على المُحاباةِ، فيَعْتِقُ ¬

(¬1) في م: «الاثنين». (¬2) في م: «ثلاثة آلاف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعُه، ويَرُدُّ البائِعُ ثُلُثَي الألْفِ، فيكونُ بينَهما. والثانِي، يَعْتِقُ ثُلُثُه، ويكونُ للبائِعِ تُسْعَا الألْفِ، ويَرُدُّ أرْبَعَةَ أتْساعِها، كما قُلْنا في الوَجْهِ الأوَّلِ. وقال أبو حنيفةَ: للبائِعِ بالمُحاباةِ الثُّلُثُ، ويَرُدُّ الثُّلُثَ، ويَسْعَى الابنُ في قِيمَتِه لأخِيه. وفي قولِ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ، يَرُدُّ البائِعُ ثُلُثَ الألْفِ، [فيكونُ للابنِ الحُرِّ، ويَعْتِقُ الآخَرُ بنَصِيبِه مِن المِيراثِ. وقِيلَ على قول الشافعيِّ: يَرُدُّ البائِعُ ثُلُثَ الألْفِ] (¬1)، فيكونُ ذلك مع المُشْتَرِي للابنِ الحُرِّ. وقِيلَ غيرُ ذلك. وإنِ اشْتَراه بألْفٍ لا يَمْلِكُ غيرَه، [وقِيمَتُه ثلاثَةُ آلافٍ] (¬2)، فمَن أعْتَقَه مِن رَأْسِ المالِ، جَعَلَه حُرًّا، ومَن جَعَل ذلك وَصِيَّةً، أعْتَقَ ثُلُثَه بالشِّراءِ، ويَعْتِقُ باقِيه على أخِيه، إلا في قولِ الشافعيِّ ومَن وافَقَه، فإنَّ الحُرَّ يَمْلِكُ بَقِيَّةَ أخِيه، فيَمْلِكُ مِن رَقَبَتِه قَدْرَ ثُلُثَي الثَّمَنِ، وذلك تُسْعا رَقَبَتِه؛ لأنَّهُ يَجْعَلُ ثَمَنَه مِن الثُّلُثِ دُونَ قِيمَتِه. وقِيلَ: يُفْسَخُ البَيعُ في ثُلُثَيه. وقيلَ: في جَمِيعِه. وقال أبو حنيفةَ: يَسْعَى لأخِيه في قِيمَةِ ثُلُثَيه. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَسْعَى له في نِصْفِ قِيمَتِه. فإن تَرَكَ ألْفَين سِواه، عَتَقَ كلُّه؛ لأنَّ التَّرِكَةَ هي الثَّمَنُ مع الألْفَينِ، والثَّمَنُ يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، فيَعْتِقُ، ويَرِثُ نِصْفَ الألْفَين. وهو قولٌ للشافعيِّ. وقِيلَ: يَعْتِقُ ولا يَرِثُ. وعندَ أبي حنيفةَ وأصحابِه، التَّرِكَةُ قِيمَتُه مع الألْفَينِ، وذلك خَمْسَةُ آلافٍ. فعلى قولِ أبي حنيفةَ: يَعْتِقُ منه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «قيمة ثلثه ألف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدْرُ ثُلُثِ ذلك، وهو ألْفٌ وثُلُثَا أَلْفٍ، ويَسْعَى لأخِيه في ألْفٍ وثُلُثِ ألْفٍ. وفي قولِ صاحِبَيه، يَعْتِقُ منه نِصْفُ ذلك، وهو خَمْسَةُ أسْداسِه، ويَسْعَى لأخِيه في خَمْسِمائةٍ. والأَلْفانِ لأخِيه في قَوْلِهم جَمِيعًا. فصل: ولو اشْتَرَى المَرِيضُ ابنيْ عَمٍّ له بألْفٍ لا يَمْلِكُ غيرَه، وقِيمَةُ كل واحِدٍ منهما ألْفٌ، فأعْتَقَ أحَدَهما، [ثم وَهَبَه أخاه] (¬1)، ثم مات وخَلَّفَهما وخَلَّفَ مَوْلاه، فإنَّ قِياسَ قولِ القاضي، إن شاء اللهُ، أن يَعْتِقَ ثُلُثا المُعْتَقِ، إلَّا أن يُجِيزَ المَوْلَى عِتْقَ جَمِيعِه، ثم يَرثُ بثُلُثَيه ثُلُثَيْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ، فيَعْتِقُ منه ثمانيةُ أتْساعِه، يَبقَى تُسْعُة وثُلُثُ أخِيه للمَوْلَى. ويَحْتَمِلُ أنْ يَعْتِقَ كلُّه، ويَرِثَ أخاه، فيَعْتِقانِ جَمِيعًا؛ لأنَّه يَصِيرُ بالإِعْتاقِ وارِثًا لثُلُثَيِ التَّرِكَةِ، فتَنْفُذُ إجازَتُه في إعْتاقِ باقِيه، فتَكْمُلُ له الحُرِّيَّةُ، ثم يَكْمُلُ له المِيراثُ. وفي قِياسِ قولِ أبي الخَطّابِ، يَعْتِقُ ثُلُثاه، ولا يَرِثُ؛ لأنَّه لو وَرِث لكان إعْتاقُه وَصِيَّةً له، فيَبْطُلُ إعْتاقُه، ثم يَبْطُلُ إرْثُه، فيُؤدِّي تَوْرِيثُه إلى إبْطالِ تَوْرِيثِه. وهذا قولُ الشافعيِّ. ويَبْقَى ثُلُثُه وابنُ العَمْ الآخَرِ للمَوْلَى. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ ثُلُثَا المُعْتَقِ ويَسْعَى في قِيمَةِ ثُلُثِه، ولا يَرِثُ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَعْتِقُ كلُّه، ويَعْتِقُ عليه أخوه بالهِبَةِ، ويكونُ أحَقَّ بالمِيراثِ مِن المَوْلَى. فإن كان للمَيِّتِ مالٌ سِواهما، أخَذا ذلك المال بالمِيراثِ، ويَغْرَمُ المُعْتَقُ لأخِيه المَوْهُوبِ نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِه ونِصْفَ قِيمَةِ أخِيه؛ لأنَّ عِتْقَ الأوَّلِ وَصِيَّة، ولا وَصِيَّةَ لوارِثٍ، ¬

(¬1) مضروب عليها في الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد صار وارِثًا مع أخيه، فوَرِثَ نِصْفَ قِيمَةِ رَقَبَتِه ونِصْفَ قِيمَةِ أخِيه، ووَرِثَ أخُوه الباقِيَ، وكان أخوه المَوْهُوبُ له هِبَةً مِن المَريضِ له، فيَعْتِقُ بقَرابَتِه له، ولم يَعْتِقْ مِن المَرِيضِ، فلم يكُنْ عِتْقُه وَصِيَّةً، بل اسْتَهْلَكَها بالعِتْقِ الَّذي جَرَى فيها فيَغْرَمُ الأوَّلُ نِصْف قِيمَتِه ونِصْفَ قِيمَةِ أخِيه لأخِيه. وأمّا قولُ أبي حنيفةَ، فإن كان المَيِّتُ لم يَدَعْ وارِثًا غيرَهما، عَتَقَ (¬1)، وغَرِمَ الأوَّلُ لأخِيه نِصْفَ قِيمَةِ أخِيه، ولم يَغْرَمْ له نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِه؛ لأنَّه إذا لم يَدَعْ وارِثًا، جازت وَصِيَّتُه؛ لأَنهما لا يَرِثانِ، ولا يَعْتِقانِ حتَّى تَجُوزَ وَصِيَّةُ الأوَّلِ؛ لأنَّه متى بَقِيَتْ عليه سِعايَةٌ، لم يَرِث واحِدٌ منهما، ولم يَعْتِقْ، فلا بُدَّ مِن أن تَنْفُذَ للمُعْتَقِ وَصِيَّة ليَصِيرَ حُرًّا، فيَعْتِقَ أخوه بعِتْقِه، وقد جازت له الوَصِيَّةُ في جَمِيعِ رَقَبَتِه؛ لأنَّ المَيِّتَ إذا لم يَدَعْ وارِثًا، جازت وَصِيَّتُه بجَمِيعِ مالِه، ويَرِثانِ جَمِيعًا، ويَرْجِعُ الثانِي على الأوَّلِ بنِصْفِ قِيمَتِه؛ لأنَّه يقولُ: قد صِرْتُ أنا وأنت وارِثَين، فلا تَأْخُذ مِن المِيراثِ شيئًا دُونِي، وقد كاتت رَقَبَتِي لك وَصِيَّةً فعَتَقَت مِن قِبَلِك، فاضْمَنْ لي نِصْفَ رَقَبَتِي. فإن كان مُعْسِرًا، أو هناك مالٌ غيرُهما، أخَذَ الثانِي نِصْفَه، ثم أخَذَ مِن النِّصْفِ الثانِي نِصْفَ قِيمَةِ نَفْسِه، وكان ما بَقِيَ مِيراثًا لأخِيه الأوَّلِ. ¬

(¬1) في المغني 8/ 486: «عتقا».

2647 - مسألة: (ولو أعتق أمته وتزوجها في مرضه)

وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَتَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ، لَمْ تَرِثْهُ عَلَى قِيَاسِ الأَوَّلِ، وَقَال الْقَاضِي: تَرِثُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2647 - مسألة: (ولو أعْتَقَ أمَتَه وتَزَوَّجَها في مَرَضِه) فنَقَلَ المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ، أنَّها تَرِثُ. اخْتارَه القاضي. وقال الشافعيُّ: لا تَرِثُ؛ لأنَّ تَوْرِيثَها يُفْضِي إلى إبْطالِ عِتْقِها؛ لأنَّه وَصِيَّةٌ، وإبْطالُ عِتْقِها يُبْطِلُ تَوْرِيثَها. ولَنا، أنَّ العِتْقَ في هذه الحالِ وَصِيَّةٌ بما لا يَلْحَقُه الفَسْخُ، فيَجِبُ تَصْحِيحُه للوارِثِ، كالعَفْو عن العَمْدِ في مَرَضِه، فإنَّه لا يُسْقِطُ مِيرَاثَه، ولا تَبْطُلُ الوَصِيَّةُ.

2648 - مسألة: (ولو أعتقها وقيمتها مائة، ثم تزوجها وأصدقها مائتين لا مال له سواهما، وهما مهر مثلها، ثم مات، صح العتق، ولم تستحق الصداق؛ لئلا يفضي إلى بطلان عتقها، ثم يبطل صداقها. وقال القاضي: تستحق المائتين)

وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ، ثمَّ تَزَوَّجَهَا وَأصْدَقَهَا مِائَتَينِ لَا مَال لَهُ سِوَاهُمَا، وَهُمَا مَهْر مِثْلِهَا، ثمَّ مَاتَ، صَحَّ الْعِتْقُ، وَلَمْ تَسْتَحِقَّ الصَّدَاقَ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا، ثُمَّ يَبْطلَ صَدَاقهَا. وَقَال الْقَاضِي: تَسْتَحِقُّ الْمِائَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2648 - مسألة: (وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ، ثمَّ تَزَوَّجَهَا وَأصْدَقَهَا مِائَتَينِ لَا مَال لَهُ سِوَاهُمَا، وَهُمَا مَهْر مِثْلِهَا، ثمَّ مَاتَ، صَحَّ الْعِتْقُ، وَلَمْ تَسْتَحِقَّ الصَّدَاقَ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا، ثُمَّ يَبْطلَ صَدَاقهَا. وَقَال الْقَاضِي: تَسْتَحِقُّ الْمِائَتَين) وتَعْتِقُ لأنَّ العِتْقَ وَصِيَّةٌ لها، وهي غيرُ وارِثَةٍ، والصَّداقُ اسْتَحَقَّتْه بعَقْدِ المُعاوَضَةِ، وهي تَنْفُذُ مِن رَأْسِ المالِ، فهو كما لو تَزَوَّجَ أَجْنَبِيَّةً وأصْدَقَها المائَتَين. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يَسْقُطُ مَهْرُها، ولا تَرِثُ؛ لكَوْنِها لا تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، وسُقُوطُ العِتْقِ في بعضِها يَبْطِلُ نِكاحَها (¬1) ويُسْقِطُ مَهْرَها (¬2)، فأسْقَطْنا المَهْرَ والمِيراثَ، وأنْفَذْنا العِتْقَ والنِّكاحَ، قال شيخُنا (¬3): وهذا أوْلَى مِن القولِ بصِحَّةِ العِتْقِ ¬

(¬1) في م: «مهرها». (¬2) في م: «نكاحها». (¬3) في: المغني 8/ 410.

2649 - مسألة: (وإن تبرع بالثلث، ثم اشترى أباه من الثلثين)

وَإنْ تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى أبَاهُ مِنَ الثُّلُثَينِ، فَقَال الْقَاضِي: ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّداقِ جَمِيعًا؛ لأنَّه يُفْضِي إلى القولِ بصِحَّةِ العِتْقِ في مَرَضِ المَوْتِ مِن جَمِيعِ المالِ، ولا خِلافَ في فَسادِ ذلك. ولو أصْدَقَ المائَتَين أجْنَبِيَّةً، صَح، وبَطَل العِتْقُ في ثُلُثَي الأمَةِ؛ لأنَّ الخُرُوجَ مِن الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ بحالةِ المَوْتِ، وحالةَ المَوْتِ لم يَبْقَ له مالٌ. وهكذا لو تَلِفَتِ المائتان قبلَ مَوْتِه، لم يَنْفُذْ مِن عِتْقِ الأمَةِ إلَّا الثُّلُثُ، وإذا بَطَلَ بعضُ عِتْقِها بذَهابِ المائَتَين إلى غيرِها، فأوْلى أن يَبْطُلَ بذَهابِها إليها، وبُطْلانُ عِتْقِها يُبْطِلُ نِكاحَها، فالقولُ بسُقُوطِ المَهْرِ وَحْدَه أوْلَى. 2649 - مسألة: (وإن تَبَرَّعَ بالثُّلُثِ، ثم اشْتَرَى أباه مِن الثُّلُثَين) وله ابنٌ، فعلى قولِ مَن قال: ليس الشِّراءُ بوَصِيَّةٍ. يَعْتِقُ الأبُ، ويَنْفُذ من التَّبَرُّعِ قَدْرُ ثُلُثِ المالِ حال المَوْتِ، وما بَقِيَ فللأبِ سُدْسُه وباقِيه

يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَلَا يَعْتِقُ، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَليهِمْ، وَلا يَرِث؛ لأنهُ لمْ يَعْتِقْ في حَيَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للابنِ. وعلى قولِ القاضي، ومَن جَعَلَه وَصِيَّةً، لا يَعْتِقُ الأبُ؛ لأنَّ تَبَرُّعَ المَرِيضِ إنَّما يَنْفُذُ في الثُّلُثِ، ويُقَدّمُ الأوَّلُ فالأوَّلُ، وإذا قُدِّمَ التَّبَرُّعُ لم يَبْقَ مِن الثُّلُثِ شيءٌ، ويَرِثُه الابنُ فيَعْتِقُ عليه، ولا يَرِثُ؛ لأنَّه إنَّما عَتَقَ بعدَ المَوْتِ. وإن وُهِب له أبوه، عَتَقَ، ووَرِثَ؛ لأنَّ الهِبَةَ ليست بوَصِيَّةٍ، وكذلك إن وَرِثَه. وإنِ اشْتَرَى أباه ثم أعْتَقَه، لم يَعْتِقْ على قولِ القاضِي؛ لأنَّه إذا لم يَعْتِقْ بالمِلْكِ وهو أقْوَى مِن الإعْتاقِ بالقولِ بدَلِيل نُفُوذِه في حَقِّ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، فأوْلَى أن لا يَنْفُذَ بالقولِ. والله سبحانه وتعالى أعْلَمُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فُصُولٌ في تَصَرُّفِ المَريض فصل: إذا أعْتَقَ أمَةً لا يَمْلِكُ غيرَها ثم تَزَوَّجَها، فالنِّكاحُ صَحِيحٌ في الظّاهِرِ. فإذا مات ولم يَمْلِكْ شيئًا آخَرَ، تَبَيَّنَ أنَّ نِكاحَها باطِلٌ، ويَسْقُطُ مَهْرُها إن كان لم يَدْخُلْ بها. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. ويَعْتِقُ منها ثُلُثُها ويَرِقُّ ثُلُثاها. فإن كان قد دَخَل بها ومَهْرُها نِصْف قِيمَتِها، عَتَقَ منها ثلاثةُ أسْباعِها، ويَرِقُّ أرْبَعَةُ أسْباعِها، وحِسابُ ذلك أن تقولَ: عَتَقَ منها شيء، ولها بصَداقِها نِصْفُ شيء، وللوَرَثَةِ شَيئانِ، فيُجْمَعُ ذلك فيكونُ ثلاثةَ أشْياءَ ونِصْفًا، نَبْسُطُها فتكونُ سَبْعَةً، لها منها ثلاثةٌ، ولهم أرْبَعَةٌ، ولا شيءَ للمَيِّتِ سِواهَا، فنَجْعَلُ لنَفْسِها منها ثلاثةَ أسْباعِها يكون حُرًّا والباقِي للوَرَثَةِ. وإن أحَبَّ الوَرَثَةُ أن يَدْفَعُوا إليها حِصَّتَها مِن مَهْرِها، وهو سُبْعاه، ويَعْتِقَ منها سُبْعاها، ويَسْتَرِقُّوا خَمْسَةَ أسْباعِها، فلهم ذلك. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُحْسَبُ مَهْرُها مِن قِيمَتِها, ولها ثُلُثُ الباقِي، ويَسْعَى فيما بَقِيَ، وهو ثُلُثُ قِيمَتِها. فإن كان يَمْلِكُ مع الجارِيَةِ قَدْرَ نِصْفِ قِيمَتِها، ولم يَدْخُلْ بها، عَتَقَ منها نِصْفُها وَرَقَّ نِصْفُها؛ لأنَّ نِصْفَها هو ثُلُثُ المال، وإن دخل بها، عَتَقَ منها ثلاثَةُ أسْباعِها, ولها ثلاثةُ أسْباعِ مَهْرِها. وابما قَلَّ العِتْقُ فيها؛ لأنَّها لَمّا أخَذَتْ ثلاثةَ أسْباعِ مهْرِها نَقَص المالُ به، فيَعْتِقُ منها ثُلُثُ الباقِي، وهو ثلاثةُ أسْباعِها. وطَرِيقُ حِسابِها أن تقولَ: عَتَقَ منها شيءٌ، ولها بمَهْرِها نِصْفُ شيءٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللوَرَثَةِ شَيئانِ، يَعْدِلُ ذلك الجارِيَةَ ونِصْفَ قِيمَتِها، فالشيءُ سُبْعاها وسُبْعَا نِصْف قِيمَتِها، وهو ثلاثةُ أسْباعِها، وهو الذي عَتَقَ منها، ويَأْخُذُ نِصْفَ ذلك مِن المالِ بمَهْرِها، وهو ثلاثةُ أسْباعِه. فإن كان يَمْلِكُ معها مِثْلَ قِيمَتِها ولم يَدْخُلْ بها، عَتَقَ ثُلُثاها، ورَقَّ ثُلُثُها، وبَطَل نِكاحُها. وإن كان دَخَل بها، عَتَقَ أرْبَعةُ أسْباعِها, ولها أرْبَعَةُ أسْباعِ مَهْرِها، ويَبْقَى للوَرَثَةِ ثلاثةُ أسْباعِها وخَمْسَةُ أسْباعِ قِيمَتِها، وهو يَعْدِلُ مِثْلَيْ ما عَتَقَ منها. وحسابُها أن تَجْعَلَ السَّبْعَةَ الأشْياءَ مُعادِلَةً لها ولقِيمَتِها، فيَعْتِقُ منها بقَدْرِ سُبْعَي الجَمِيعِ، وهو أرْبَعَةُ أسْباعِها، وتَسْتَحِقُّ سُبْعَ الجَمِيعِ بمَهْرِها، وهو أرْبَعَةُ أسْباعِ مَهْرِها. فإن كان يَمْلِكُ معها مِثْلَيْ قِيمَتِها، عَتَقَتْ كلها، وصَحَّ نِكاحُها؛ لأنَّها تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ إن أسْقَطَتْ مَهْرَها. وإن أربتْ أن تُسْقِطَه، لم يَنْفُذْ عِتْقُها، وبَطَل نِكاحُها، فإن كان لم يَدْخُلْ بها فيَنْبَغِي أن يُقْضَى بعِتْقِها ونِكاحِها، ولا مَهْرَلها؛ لأنَّ إيجابَه يُفْضِي إلى إسْقاطِه وإسْقاطِ عِتْقِها ونِكاحِها، فإسْقاطُه وَحْدَه أوْلَى. وإن كان دَخَل بها، عَمِلْنا فيها على ما تَقَدَّمَ، فيَعْتِقُ سِتَّةُ أسْباعِها, ولها سِتَّةُ أسْباعِ مَهْرِها، ويَبْطُلُ عِتْقُ سُبْعِها ونِكاحُها. ولو أعْتَقَها ولم يَتَزَوَّجْها ووَطِئَها، كان العَمَلُ فيها في هذه المواضِعِ كلِّها (¬1) كما لو تَزَوَّجَها. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وذَكر القاضي في مِثْلِ (1) هذه المسألةِ التي قبلَ الأخِيرَةِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَقْتَضِي صِحَّةَ نِكَاحِها وعِتْقِها، مع وُجُوبِ مَهْرِها فيما إذا أعْتَقَ (¬1) في مَرَضِه أمَةً قِيمَتُها مائة، وأصْدَقَها مائَتَين لا مال له سِواهما، وهو مَهْرُ مِثْلِها، وهو مَذْكُورٌ في هذا البابِ. وقال أبو حَنِيفةَ، فيما إذا تَرَك مِثْلَيْ قِيمَتِها، وكان مَهْرُها نِصْفَ قِيمَتِها؛ تُعْطَى مَهْرَها وثُلُثَ الباقِي، يُحْسَبُ ذلك مِن قِيمَتِها، وهو نِصْفُها وثُلُثُها، فيَعْتِقُ ذلك، وتَسْعَى في سُدْسِها الباقِي، ويَبْطُلُ نِكاحُها. فإن كان (¬2) خَلَّفَ أرْبَعَةَ أمْثالِ قِيمَتِها، صَحَّ عِتْقُها ونِكاحُها وصَداقُها، في قولِ الجَمِيعِ؛ لأنَّ ذلك يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، وتَرِثُ مِن الباقِي في قولِ أصحابِنا وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا تَرِث. وهو مُقْتَضَى قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّها لو وَرِثَتْ لكان عِتْقُها وَصِيَّةً لوارِثٍ، واعْتِبارُ الوَصِيَّةِ بالمَوْتِ. فصل: ولو أنَّ امرأةً مَرِيضَةً أعْتَقَتْ عَبْدًا قِيمَتُه عَشَرَةٌ، وتَزَوَّجَها بعَشَرَةٍ في ذِمّتِه، ثم ماتت وخَلَّفَتْ مائةً، اقْتَضَى قولُ أصحابِنا أن تُضَمَّ العَشَرَةُ التي في ذِمَّتِه إلى المائةِ، فيكونَ ذلك هو التَّرِكَةَ، ويَرِثَ نِصْف ذلك، ويبقَى للوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وخَمْسُون. وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ. وقال صاحِباه: تُحْسَبُ عليه قِيمَتُه أيضًا، وتُضَمُّ إلى التَّرِكَةِ، ويَبْقَى للورَثَةِ سِتُّون. وقال الشافعي: لا يَرِث شيئًا، وعليه أداءُ العَشَرَةِ التي في ذِمَّتِه؛ ¬

(¬1) في الأصل، م: «عتق». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لئلا يكونَ إعْتاقُه وَصِيَّةً لوارِثٍ. وهذا مُقْتَضَى قولِ الخِرَقِيِّ، إن شاء الله تعالى. فصل: فأمّا إن أعْتَقَ أمَتَه في صِحَّتِه ثم تَزَوَّجَها في مَرَضِه، صَحَّ، ووَرِثَتْه بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. فأمّا إن أعْتَقَها في مَرَضِه ثم تَزَوَّجَها، وكانت تَخْرُجُ مِن ثُلُثِه، عَتَقَتْ ووَرِثَتْ في اخْتِيارِ أصْحابِنا وقولِ أبي حنيفةَ. ونَقَلَه المَروذِيُّ عن أحمدَ، كما لو كان عِتْقُها في صِحَتِه. وقال الشافعيُّ: لا تَرِثُ. وقد ذَكَرْناه. والله أعلمُ (¬1). ¬

(¬1) آخر الجزء الخامس من نسخة تشستربيتي.

كتاب الوصايا

كتابُ الْوَصَايَا وَهِيَ الأمْرُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ هِيَ التبرعُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الوَصايا (¬1) (وهي الأمْرُ بالتَّصَرُّفِ بعدَ المَوْتِ) الوَصايا جَمْعُ وَصِيةٍ، مثل العَطايا جَمْعُ عَطيَّةٍ (والوَصِيَّةُ بالمالِ هي التبرُّعُ به بعدَ المَوْتِ) وقال أبو الخَطّابِ: هي التبرُّعُ بمالٍ يَقِفُ نُفُوذُه على خُرُوجِه مِنَ الثُّلُثِ. فعلى قَوْلِه، تكونُ العَطِيَّةُ في مَرَضِ المَوْتِ وَصِيَّةً. والصَّحِيحُ أنَّها ليست وَصِيَّة؛ فإنَّها تُخالِفُها في الاسمِ والحُكْمِ في أشياءَ ذَكَرْناها في عَطِيَّةِ المَرِيضِ. والأصْلُ فيها الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمّا الكِتَابُ، فقَوْلُه سبحَانه: {كُتِبَ عَلَيكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيرًا الْوَصِيَّةُ} (¬2). وقَوْلُه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬3). وأمّا السُّنَّةُ، فرَوَى سَعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ، رَضِيَ الله عنه، قال: جاءَني ¬

(¬1) من هنا يبدأ الجزء الخامس من مخطوطة مكتبة الرياض وهو المشار إليه بالأصل. (¬2) سورة البقرة 180. (¬3) سورة النساء 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعُودُنِي عامَ حَجةِ الوَداع مِن وَجَعٍ اشْتَدَّ بي، فقُلْتُ: يا رسولَ الله، قد بَلَغ لي مِن الوَجَعَ ما ترَى، وأنا ذو مالٍ، ولا يَرثُنِي إلَّا ابنةٌ، أفأتصَدَّقُ بثُلثَيْ مالِي؟ قال: «لا». قُلْتُ: فبِالشَّطْرِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لا». قلتُ: فبالثُّلُثِ؟ قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ خير مِنْ أنْ نَذَرَهُم عالة يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). وعن ابنِ عُمَرَ، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا حَقُّ امْرِئ مسلِم لَهُ ما يُوصِي فِيه يَبيتُ لَيلَتَينِ إلا وَوَصيَّته مَكْتُوبَة عِنْدَه». مُتفَقٌ عليه (¬2). وعن أبي أمامَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إن الله قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقهُ، فلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬3)، وقال: حديث حَسَن صحيح. وعن عَلِيٍّ، رَضِيَ الله عنه، قال: إنَّكُم تَقْرَءونَ هذه الآيةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ}. وإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالدينِ قبلَ الوَصِيَّةِ. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 343. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 12. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الوصية للوارث، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 103. والترمذي، في: باب ما جاء لا وصية لوارث، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذي 8/ 275، 278. كما أخرجه النسائي، في: باب إبطال الوصية للوارث، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 207. وابن ماجه، في: باب لا وصية لوارث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 905، 906. والدارمي، في: باب الوصية للوارث، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 419. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 186، 187، 238، 239، 5/ 267. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجْمَعَ العلَماء في جَميعِ الأمْصارِ والأعْصارِ على جَوازِ الوَصِيَّةِ. فصل: ولا تَجب إلَّا على مَن عليه دَين، أو عندَه وَدِيعَةٌ، أو عليه واجِبٌ يُوصَى بالخَروجِ منه؛ لأنَّ الله تعالى أوْجَبَ أداءَ الأماناتِ إلى أهلِها، وطَرِيقُه الوَصِيَّةُ، فتكونُ واجِبَةً عليه. فأمّا الوَصِيَّةُ ببعضِ مالِه، فليست واجِبَةً عندَ الجُمْهورِ. يُرْوى ذلك عن الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، وأصحابِ الرأي، والشافعيِّ، وغيرِهم. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعُوا على أن الوَصِيَّةَ غيرُ واجِبَةٍ إلَّا على مَن عليه حَقٌّ بغيرِ بَينةٍ، أو أمانَة بغيرِ إشْهادٍ، إلَّا طائِفَةً شَذَّتْ فأوْجَبَتْها. فرُوىَ عن الزُّهْرِيِّ أنَّه قال: جَعَل اللهُ الوَصِيةَ حَقًّا ممّا قَلَّ أو كَثُر. وقِيلَ لأبي مِجْلَزٍ: على كلِّ مَيِّتٍ وَصِيَّة؟ قال: إن تَرَك خَيرًا. وقال أبو بكر عبدُ العزيزِ: هي واجِبَةٌ للأقْرَبِين الذين لا يَرِثُون. وبه قال داودُ. وحُكِيَ ذلك عن مَسْرُوقٍ، وطاوُس، وإياس، وقتادَةَ، وابنِ جَرِيرٍ. واحْتَجُّوا بالآيَةِ، وبخَبَرِ ابنِ عُمَرَ، فقالُوا: نُسِخَتِ (¬1) الوَصِيَّةُ للوالِدَين والأقرَبِين الوارِثِين، وبَقِيَتْ في مَن لا يَرِثُ مِن الأقرَبِين. ولَنا، أنَّ أكْثَرَ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يُوصُوا، ولم يُنْقَلْ لذلك نَكِيرٌ، ولو كانت واجِبَةً ¬

(¬1) في م: «تستحب».

2650 - مسألة: (وتصح من البالغ الرشيد، عدلا كان أو فاسقا، رجلا أو امرأة، مسلما أو كافرا)

وَتَصِحُّ مِنَ الْبَالِغِ الرشِيدِ، عَدْلًا كَانَ أوْ فَاسِقًا، رَجُلًا أو امْرَأةً، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يخِلوا بذلك، ولَنُقِلَ عنهم نَقْلًا ظاهِرًا, ولأنَّها عَطيَّةٌ لا تَجِبُ في الحَياةِ فلم تَجِبْ بعدَ المَوْتِ، كعَطيةِ الأجانِبِ. فأمّا الآية، فقال ابن عباس: نَسَخَها قَوْله سبحانه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬1)، الآية. وقال ابن عُمَرَ: نَسَخَتْها آية المِيرَاثِ (¬2). وبه قال عِكْرِمَة، ومجاهِدٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ. وذَهَب جَماعَةٌ ممَّن يَرَى نَسْخَ القرآنِ بالسنَّةِ، إلى أنّها نسِخَتْ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقّ حَقَّه، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ». وحديث ابنِ عُمَرَ مَحْمولٌ على مَن عليه واجبٌ أو عندَه وَدِيعَةٌ. 2650 - مسألة: (وتَصِح مِن البالِغِ الرّشِيدِ، عَدْلًا كان أو فاسِقًا، رجلًا أو امرأةً، مُسْلِمًا أو كافرًا) لأنَّ هِبَتَهم صَحِيحَةٌ، فالوَصِيَّةُ أوْلَى. ¬

(¬1) سورة النساء 7. (¬2) أخرجهما البيهقي، في: باب من قال ينسخ الوصية. . . .، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 265.

2651 - مسألة: (و)

وَمِنَ السَّفِيهِ في أصَحِّ الْوَجْهَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2651 - مسألة: (و) تَصِحُّ (مِن السفِيهِ في أصَحِّ الوَجْهَين) المَحْجُورُ عليه للسَّفَهِ تَصِحُّ وَصِيته في قياسِ قولِ أحمدَ. قال الخَبْرِي: وهو قولُ الأكْثَرِين. وفيه وَجْه آخَرُ، أنها لا تَصِحُّ. حَكاه أبو الخَطّابِ؛ لأنّه مَحْجُورٌ عليه في تَصَرُّفاتِه، فلم تَصِحّ منه، كالهِبَةِ. ولَنا، أنّه عاقِلٌ مُكَلفٌ، فصَحَّت وَصِيَّتُه، كالرشِيدِ، ولأن وَصِيَّتُه مَحْضُ مَصلحةٍ مِن غيرِ ضَرَرٍ؛ لأنّه إن عاش لم يَذْهَبْ مِن مالِه شيءٌ، وإن مات فهو مُحْتاجٌ إلى الثَّوابِ، فصَحَّتْ وَصِيَّتُه، كعِباداتِه.

وَمِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا جَاوَزَ الْعَشْرَ، وَلَا تَصِحُّ مِمنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ، وَفِيمَا بَينَهُمَا رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (و) تَصِحُّ (مِن الصبِيِّ العاقِلِ إذا جاوَزَ العَشْرَ، ولا تَصِحُّ ممن له دُونَ السَّبْعِ، وفيما بينَهما رِوايتان) المَنْصُوصُ عن أحمدَ صِحة وَصيةِ الصَّبِيِّ العاقِلِ إذا جاوَزَ العَشْرَ. رَواه عنه صالِحٌ، وحَنْبَلٌ. قال أبو بكر: لا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أن مَن له عَشْرُ سِنِين تَصِحُّ وصيتُه، ومَن له دُونَ السَّبْعِ لا تَصِحُّ وَصمته، وفيما بينَ السَّبْعِ والعَشْرِ رِوايتان. وقال ابن أبي مُوسى: لا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الغُلامِ لدُونِ العَشْرِ، ولا الجارِيَةِ لدونِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تِسْعٍ، قولًا واحِدًا. وما زاد على العَشْرِ، فتَصِحُّ على المَنْصُوصِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا تَصِح حتى يبلُغ. وقال القاضي، وأبو الخَطّابِ: تَصِحُّ وصيةُ الصَّبِيِّ إذا عَقَل. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، أنّه أجاز وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ. وهو قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وشُرَيحٍ، وعَطاءٍ، والزُّهرِيِّ، وإياس، وعبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، ومالكٍ، وإسحاقَ. قال إسحاقُ: إذا بَلَغ اثنَتَى عَشْرَةَ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وعن ابنِ عباسٍ، لا تصِحُّ وصيتُه حتى يَبْلُغ. وبه قال الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وأصحابُ الرأي. وللشافعيِّ قولان كالمَذْهَبَين. ولأنَّه تَبَرُّعٌ بالمالِ، فلا يَصِحُّ مِن الصَّبِي، كالهبة والعتقِ. ولَنا، ما رُوِيَ أن صَبيًّا مِن غَسّانَ لَه عَشْرُ سِنين أوْصَى لأخوالٍ له، فرُفِعَ ذلك إلى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه، فأجازَ وَصِيَّتَه. رَواه سعيد (¬1). وروَى مالكٍ في «مُوَطَّئِه» (¬2) عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بكرٍ، عن أبيه، أنَّ عمرو بنَ سُلَيم أخْبَرَه أنه قِيلَ لعُمَرَ بنِ الخَطّابِ: إنَّ ها هُنا غُلَامًا يَفَاعًا لم يَحْتَلِمْ، ووَرَثته بالشّامِ، وهو ذو مالٍ، وليس له ها هُنا إلَّا ابنَةُ ¬

(¬1) في: باب وصية الصبيّ، من كتاب الوصايا. السنن 1/ 127. (¬2) في: باب جواز وصية الصغر. . . .، من كتاب الوصية. الموطأ 2/ 762. كما أخرجه الدارمي، في: باب الوصية للغلام، كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 424 مختصرًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمٍّ. فقال عُمَرُ: فلْيُوصِ لها. فأوْصَى لها (¬1) بمالٍ يُقالُ له: بِئْرُ جُشَمَ (¬2). قال عمرُو بنُ سليم: فبِعْتُ (¬3) ذلك المال بثَلاثين ألْفًا. وابنةُ عَمِّه التي أوْصَى لها هي أُمُّ عمرٍو (¬4) بنِ سُلَيمٍ. قال أبو بكرٍ: وكان الغُلامُ ابنَ عَشْر أو اثْنَتَى عَشْرَةَ سنة. وهذه قَضِيَّة انْتَشَرَتْ ولم تُنْكَرْ؛ ولأنه تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا للصَّبِيِّ، فصَحَّ منه كالإسْلامِ والصلاةِ، وذلك لأنَّ الوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُلُ ثَوابُها له بعدَ غِناه عن مِلْكِه، فلا يَلْحَقُه ضَرَرٌ في عاجِلِ دُنْياه ولا أخْراه، بخِلافِ الهِبَةِ والعِتْقِ المُنْجَزِ، فإنَّه يُفَوِّت مِن مالِه ما يَحْتاجُ إليه، وإذا رُدَّتْ رَجَعَتْ إليه، وها هُنا لا يَرْجِعُ إليه بالرَّدِّ، والطِّفْلُ لا عَقلَ له، ولا تَصِحُّ عِباداتُه ولا إسْلامُه. وأمّا مَن له فوقَ السَّبْعِ ولم يَبْلُغِ العَشْرَ، فقد ذَكَرْنا فيه رِوايَتَين؛ إحْداهما، تَصِحُّ وَصِيته. وهو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسخ: «خشم» والمثبت من مصادر التخريج ومعجم البلدان. (¬3) في م: «فبعث». (¬4) في النسخ: «عمر». والمثبت من مصادر التخريج.

2652 - مسألة: (ولا تصح من غير عاقل؛ كالطفل، والمجنون، والمبرسم. وفي السكران وجهان)

وَلَا تَصِح مِنْ غَيرِ عَاقِل؛ كَالطفْلِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُبَرْسَمِ. وَفِي السَّكْرَانِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرُ قولِ القاضي، وأبي الخَطّابِ؛ لأنه عاقِل يَصِحُّ إسلامُه، يُؤْمَرُ بالصلاةِ وتَصِحُّ منه، أشْبَهَ مَن جاوَزَ العَشْرَ. والثانيةُ، لا تَصِحُّ، كمن له دُونَ السبْعِ. والأولُ أقْيَسُ. واللهُ أعلمُ. قال الخِرَقِي: ومَن جاوَزَ العَشْرَ فوَصِيته جائِزَة إذا وافَقَ الحَق. يُرِيدُ إذا وَصَّى وَصيَّة يَصِحُّ مِثْلُها مِن البالِغِ صَحَّتْ منه، وما لا فلا. قال شُرَيحٌ، وعبدُ اللهِ بنُ عُتْبَةَ، وهما قاضِيان: مَن أصاب الحَق أجَزْنا وَصِيَّتَه. 2652 - مسألة: (ولا تَصِحُّ مِن غيرِ عاقِلٍ؛ كالطِّفْلِ، والمَجْنُونِ، والمُبَرْسَمِ. وفي السكرانِ وَجْهان) أمّا الطِّفْلُ، [وهو مَنْ] (¬1) ¬

(¬1) في النسخ: «ومن» والمثبت كما في المغني 8/ 510.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهُ دُونَ سَبْعِ سِنِين، والمَجْنُونُ، والمُبَرْسَمُ، فلا وَصِيةَ لهم، في قولِ الأكْثَرِين؛ منهم حُمَيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعي، وأصحابُ الرأي، ومَن تَبِعَهم. قال شيخُنا (¬1): ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَهم إلَّا إياسَ بنَ مُعاويَةَ، فإنّه قال في الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ: إذا وافَقَت وَصِيتهما الحَق جازت. وليس بصِحيِحٍ، فإنَّه لا حُكْمَ لكَلامِهما, ولا تَصِح عِباداتُهما ولا شيءٌ مِن تصَرُّفاتِهما، فكذلك الوَصِيَّةُ، بل أوْلَى، فإنَّه إذا لم يَصِح إسْلامُه، وصَلاُته التي هي مَحْضُ نَفْعٍ لا ضَرَرَ فيها، فأوْلَى أن لا يَصِح بَذْلُه لمالٍ يَتَضَرَّرُ به وارِثُه. فأمّا مَن يُفِيقُ في الأحْيانِ، فإذا أوْصَى حالَ جُنُونِه لم يَصِحَّ، وإن أوْصَى حال إفاقَتِه صَحَّتْ وَصِيَّتُه؛ لأنّه بمَنْزِلَةِ العُقَلاءِ في شَهادَتِه ووُجُوبِ العِباداتِ عليه، فكذلك وَصِيته. ولا تَصِحُّ وَصِيَّةُ السكْرانِ في أصَحِّ الوَجهين. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تَصِحُّ، بِناءً على طَلاقِه. والأولُ أصَح؛ لأنّه غيرُ عاقِلٍ، أشْبَهَ المجْنُونَ، وطَلاقُه إنَّما أوْقَعَه مَن أوْقعَه تَغْلِيظًا عليه، لارْتكابِه المَعصِيَةَ، فلا يَتَعَدَّى هذا إلى وَصِيَّته، فإنَّه لا ضَرَرَ عليه فيها، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 510.

2653 - مسألة: (وتصح وصية الأخرس بالإشارة، ولا تصح ممن اعتقل لسانه بها. ويحتمل أن تصح)

وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْأخْرَسِ بِالإشَارَةِ، وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ مَنِ اعْتَقَلَ لِسَانُهُ بِهَا، وَيحْتَمِلُ أنْ تَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما الضَّرَرُ على وارِثِه. فأمّا الضعِيفُ في عَقْلِه، فإن مَنَع ذاك رُشْدَه في مالِه، فهو كالسفِيهِ، وإلا فهو كالعاقِلِ. والله أعلمُ. 2653 - مسألة: (وتَصِحُّ وَصِيَّةُ الأخْرَسِ بالإشارَةِ، ولا تَصِحُّ مِمَّن اعْتَقَلَ لِسانُه بها. ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ) إذا فُهِمَتْ إشارَةُ الأخْرَسِ، صَحَّتْ وَصِيته بها؛ لأنها أُقِيمَتْ مُقامَ نُطقه في طَلاقِه ولِعانِه وغيرِهما، فإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه، فلا حُكْمَ لها. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعي، وغيرُهما. فأمّا النّاطِقُ إذا اعْتُقِلَ لِسانُه، فعُرِضَتْ عليه وَصِيَّتُه، فأشارَ بها وفُهِمَتْ إشارته، فلا تصحُّ وَصيته إذا لم يكنْ مَأيوسًا مِن نُطقه. ذَكَره القاضي، وابنُ عَقِيل. وبه قال الثوْرِي، والأوْزَاعِي، وأبو حنيفةَ. ويَحْتَمِلُ أن تَصِحَّ. وهو قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه غيرُ قادِرٍ على الكَلام، أشْبَهَ الأخْرَسَ. واحْتَجَّ ابنُ المُنْذِرِ بأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى وهو قاعِدٌ، فأشار إليهم فقَعَدُوا. رَواه البُخارِي (¬1). وخرَّجَه ابنُ عَقِيلٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه فيه 3/ 416 من حديث: «إنما جعل الإِمام ليؤتم به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهًا إذا اتَّصَلَ باعْتِقالِ لِسانِه المَوْتُ. ولَنا، إنّه غيرُ مأيُوس مِن نُطْقِه، فلم تَصِحَّ وَصِيَّتُه بالإشارَةِ، كالقادِرِ على الكلامِ. والخَبَرُ لا يُلْزِمُ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قادِرًا على الكَلامِ، ولا خِلافَ في أنَّ إشارَه القادِرِ لا تَصِحُّ بها وَصِيَّتُه ولا إقْرارُه، وفارَقَ الأخْرَسَ، فإنَّه مَأيوسٌ مِن نُطْقِه. فصل: وإن وَصَّى عَبْدٌ أو مُكاتَبٌ أو أمُّ وَلَدٍ وَصِيَّةً، ثم ماتُوا على الرقِّ، فلا وَصِيَّةَ لهم؛ لأنَّه لا مال لهم. وإن عَتَقُوا ثم ماتُوا ولم يُغيِّرُوا وَصِيتهم، صَحَّتْ؛ لأنَّ لهم قولًا صَحيحًا وأهْلِيَّةً تامَّةً، وإنَّما (¬1) فارَقُوا الحُرَّ بأنهم لا مال لهم، والوَصِيَّةُ تَصِحّ مع عَدَمِ المالِ، كما لو وَصَّي الفَقِيرُ ولا شيءَ له، ثم اسْتَغْنَى. وإن قال أحَدُهم: متى عَتَقْتُ ثم مِت، فثُلُثي لفُلان وَصِيَّة. فَعَتَقَ ثم مات، صَحَّتْ وَصِيَّتُه. وبه قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ. ولا أعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم. ¬

(¬1) سقط من: م.

2654 - مسألة: (وإن وجدت وصيته بخطه، صحت)

وَإنْ وُجِدَتْ وَصِيتهُ بِخَطِّهِ، صَحتْ. وَيَحْتَمِلُ ألا تَصِح حَتى يُشهِدَ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2654 - مسألة: (وإن وُجِدَتْ وَصِيَّتُه بخَطِّه، صَحَّتْ) وعنه (لا تَصِحُّ حتى يُشْهِدَ عليها) نَقَل إسحاقُ بنُ إبراهيمَ عن أحمدَ، أنه قال: مَن مات فوُجِدَتْ وَصِيَّتُه مَكْتُوبَة عند رَأسِه ولم يُشْهِدْ عليها، وعُرِف خَطُّه وكان مَشْهُورَ الخَطِّ، يقْبَلُ ما فيها. ووَجْهُ ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا حَق امْرِئ مُسْلِم لَهُ شيء يُوصِي فيه، يَبيتُ لَيلَتَين إلَّا ووَصِيته مَكْتُوبَة عِنْدَهُ» (¬1). ولم يَذْكُرْ شَهادَةً. ولأن الوَصِيَّةَ يُتَسامَحُ فيها، ويَصِح تَعْلِيقُها على الخَطَرِ والغرَرِ، وتَصِح للحَمْلِ وبالحَمْلِ، وبما لا يُقْدَرُ على تَسْلِيمِه، فجاز أن يُتَسامَحَ فيها بقَبُولِ الخَطِّ، كرِوايَةِ الحديثِ، وكما لو كَتَب الطلاقَ ولم يَلْفِظْ به. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يُقْبَلُ الخَطُّ في الوَصِيَّةِ، ولا يُشْهِدُ على الوَصِيَّةِ المَخْتُومَةِ حتى يَسْمَعَها الشُّهُودُ منه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تُقْرَأ عليه فيُقِرَّ بما فيها. وبهذا قال الحسنُ، وأبو قِلابَةَ، والشافعي، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّ الحُكْمَ لا يجوزُ برُويَةِ خَط الشّاهِدِ بالشَّهادَةِ، فكذا ها هُنا, وأبلَغُ مِن هذا أنَّ الحاكِمَ لو رَأى حُكْمَه بخَطِّه تَحتَ خَتْمِه، ولم يَذْكُرْ أنَّه حَكَمَ به، أو رَأى الشّاهِدُ شَهادَتَه بخَطِّه، ولم يَذْكُرِ الشَّهادَةَ، لم يَجُزْ للحاكِمِ إنْفاذُ الحُكْمِ بما وَجَدَه، ولا للشّاهِدِ الشَّهادَةُ بما رَأى خَطَّه به، فها هُنا أوْلَى. فصل (¬1): وإن كَتَب وَصِيَّتَه، وقال: اشْهَدُوا عَلَيَّ بما في هذه الوَرَقَةِ. أو قال: هذه وَصِيتي فاشْهَدُوا عَلَيَّ بها. فقد حُكِيَ عن أحمدَ، أنَّ الرجلَ إذا كَتَب وَصِيَّتُه وختَم عَليها، وقال للشهُودِ: اشهَدُوا على بما في هذا الكتابِ. لا يجوزُ حتى يَسْمَعُوا منه ما فيه، أو يُقْرَأ عليه فيُقِر بما فيه. وهو قولُ مَن سَمَّينا في المسألةِ الأولَى. ويَحْتَمِلُ جوازُه على ما نَقَلَه عن أحمدَ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ في المسألةِ قبلَها، وذَكَرَه الخِرَقِي. وممَّن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ذلك؛ عبدُ المَلِكِ بنُ يَعْلَى (¬1)، ومَكْحُولٌ، ونُمَيرُ بنُ إبراهيمَ (¬2)، ومالكٌ، واللَّيثُ، والأوْزاعِيُّ، ومحمدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وأبو عُبَيدٍ، وإسحاقُ. ورُوِيَ عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ، وقَتادَةَ، ولسَوَّارِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ، ومُعاذِ بنِ مُعاذٍ (¬3) العَنْبَرِيَّيْن. وهو مَذْهَبُ فُقَهاءِ أهلِ البَصْرَةِ وقُضاتِهم، واحْتَجَّ أبو عُبَيدٍ بكُتُبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمّالِه وأُمَرائِه في أمْرِ ولايته وأحْكامِه وسُنَنِه، ثم ما عَمِل به الخُلفاءُ الرّاشِدُون المَهْدِيُّون بعدَه مِن كُتُبِهم إلى وُلاتِهم بالأحْكامِ التي فيها الدِّماءُ والفُرُوجُ والأمْوالُ مَخْتُومَةً، لا يَعْلَمُ حامِلُها ما فيها، وأمْضَوْها على وَجْهِها. وذَكَرَ اسْتِخْلافَ سُلَيمانَ بنِ عبدِ المَلِكِ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ بكتابٍ كَتَبَه وخَتَم عليه. ولا نَعْلَمُ أحدًا أنْكَرَ ذلك مع شُهْرَتِه وانْتِشارِه في عُلَماءِ العَصْرِ، فيكونُ إجْماعًا. ووَجْهُ القولِ الأوَّلِ، أنَّه كِتابٌ لا يَعْلَمُ الشّاهِدُ ما فيه، فلم يَجُزْ أن يَشْهَدَ عليه، ككِتابِ القاضي إلى القاضي. والأوْلَى الجَوازُ إن شاء اللهُ تعالى؛ لظُهُورِ دَليلهِ. والأصْلُ لَنا فيه مَنْعٌ. ¬

(¬1) عبد الملك بن يعلى الليثي، قاضي البصرة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وعن عمران بن حصين، ثقة، توفي سنة مائة. تهذيب التهذيب 6/ 429. (¬2) لم نجد نمير بن إبراهيم. ولعل المقصود نمير بن أوس الأشعري، قاضي دمشق، معاصر مكحول. انظر: أخبار القضاة لوكيع 3/ 204 - 206. الإكمال 7/ 363. (¬3) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان أبو المثنى العنبري البصري، كان ثقة عالمًا فقيها, ولي قضاء البصرة لهارون، ثم عزل. ولد سنة تسع عشرة ومائة، وتوفي سنة ست وتسعين ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 194، 195.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأمّا إذا ثَبَتَتِ الوَصِيَّةُ بشَهادَةٍ، أو إقْرارِ الوَرَثَةِ به، فإنَّه يَثْبُتُ حُكْمُه ويُعْمَلُ به ما لم يُعْلَمْ رُجُوعُه عنه، وإن تطاوَلَتْ مُدَّتُه وتَغيرَتْ أحْوالُ المُوصِي، مثلَ أن يُوصِيَ في مَرَض فيَبْرَأ منه، ثم يَمُوتَ بعدُ أو يُقْتَلَ؛ لأن الأصْلَ بَقاؤه، فلا يَزُولُ حُكْمُه بمُجَرَّدِ الاحْتِمالِ والشكِّ، كسائِرِ الأحْكام. فصلَ: ويُسْتَحَب أن يَكْتُبَ المُوصِي وَصِيتَّه ويُشْهِدَ عليها؛ لأنه أحْوَطُ لها وأحْفَظُ لِما فيها، وقد ذَكَرنا حديثَ ابنِ عُمَرَ. وروَى أنَسٌ، رَضِيَ الله عنه، قال: كانوا يَكْتُبُون في صُدُورِ وَصاياهم: بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ، هذا ما أوْصَى به فلان، أنّه يَشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وَحْدَه لا شَريكَ له وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن السّاعَةَ آتِيَة لا رَيبَ فيها، وأن الله يَبعَثُ مَن في القُبُورِ، وأوْصَى مَن تَرَك مِن أهْلِه أن يَتَّقُوا الله ويُصْلِحُوا ذاتَ بينهم، ويُطعُوا الله ورسولَه إن كانوا مُؤْمِنِين، وأوْصاهم بما أوْصَى به إبراهيمُ بَنِيه ويَعْقُوبُ: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). أخْرَجَه سعيد (¬2)، عن فُضَيلِ بنِ ¬

(¬1) سورة البقرة 132. (¬2) في: أول كتاب الوصايا. السنن 1/ 104. كما أخرجه الدارمي، في: باب ما يستحب بالوصية من التشهد والكلام، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 404.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِياضٍ، عن هِشام بنِ حَسّان، عن ابنِ سِيرِينَ، عن أنَّس. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ. إنّه كتَب في وَصِيته: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، هذا ذِكْرُ ما وَصَّى به عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، إن حَدَث لي حادِثُ المَوْتِ مِن مَرَضِي (¬1) هذا، أن مَرْجِعَ وَصِيتي إلى اللهِ تعالى، ثم إلى الزبير بنِ العَوّامِ، وابنه عبدِ اللهِ، وأنهما في حِلٍّ وبِلٍّ (¬2) ممّا وَلِيا وَقضيا، وأنه لا تُزَوجُ امرأة مِن بَناتِ عبدِ اللهِ إلَّا بإذْنِهِما (¬3). وروَى ابنُ عبدِ البَر قال: كان في وَصِيَّةِ أبي الدرْداءِ: بسمِ اللهِ الرحمن. الرحيمِ، هذا ما أوْصَى به أبو الدَّرْداءِ، أنَّه يَشْهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ والنّارَ حَقٌّ، وأنَّ الله يَبعَثُ مَن في القُبُورِ، وأنَّه يُؤْمِنُ باللهِ ويَكْفُرُ بالطَّاغُوتِ، على ذلك يَحْيا ويَمُوتُ إن شاء الله، وأوْصَى فيما رَزَقه اللهُ بكذا وكذا، وأن هذه وَصِيته إن لم يُغيِّرْها. ¬

(¬1) في م: «مرضه». (¬2) بل، بكسر الباء: مباح مطلق. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب الأوصياء، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 282، 283. وإسناده منقطع؛ لأن عامر بن عبد الله لم يدرك عبد الله بن مسعود. انظر الإرواء 6/ 101، 102.

فَصْلٌ: وَالْوَصِيَّةُ مُسْتَحَبَّة لِمَنْ تَرَكَ خَيرًا -وهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ- بِخُمْسِ مَالِهِ، وَتُكْرَهُ لِغَيرِهِ إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَحِمَه الله: (والوَصِية مُسْتَحبة لمَن تَرك خَيرًا -وهو المالُ الكَثِير- بخمْسِ مالِه، وتكْرَهُ لغيرِه إن كان له وَرَثَة) وجملة ذلك، أن الوَصيةَ مسْتَحَبة لمَن تَرَك خَيرًا؛ لقولِ الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكم الْمَوْتُ إن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّة} (¬1). فنسِخَ الوجُوب، وبَقِيَ الاسْتِحْباب في حَقِّ مَن لا يَرِثُ. وروَى ابن عُمَرَ قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا ابْنَ آدَمَ، جَعَلْت لَكَ نَصِيبًا مِن مالِكَ حِينَ أخَذْت بكَظَمِكَ (¬2) لأطَهِّرَكَ وأزَكِّيَكَ». وعن أبي هريرَةَ قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تَصَدقَ عَلَيكمْ عِنْدَ وَفَاتِكمْ بِثلُثِ أمْوالِكمْ». رَواهما ابن ماجه (¬3). وقال الشعْبِي: مَن أوْصَى بوَصِيةٍ فلم يَجرْ ولم يَحِفْ، كان له مِن الأجْرِ مثلُ ما لو أعْطاها وهو صحيح. فأمّا الفَقِير الذي له وَرَثَةٌ ¬

(¬1) سورة البقرة 180. (¬2) الكظم: مخرج النفس. (¬3) الأول في: باب الوصية بالثلث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 904. وفي الزوائد: في إسناده مقال. والثاني تقدم تخريجه في صفحة 123.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحْتاجُون فلا يُسْتَحَبُّ له أن يُوصِيَ؛ لأنَّ الله تعالى قال في الوَصِيَّةِ: {إِنْ تَرَكَ خَيرًا الْوَصِيَّةُ}. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسَعْدٍ: «إنَّكَ أنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ، خَير مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عالةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ» (¬1). وقال: «ابْدَأ بنَفْسِك، ثم بمَن تَعُولُ» (¬2). وقال عَلِيٌّ، رَضِيَ الله عنه، لرجل أرادَ أن يُوصِيَ: إنَّكَ لم تَدَعْ طائِلًا، إنَّما تَرَكْتَ شيئًا يَسِيرًا، فدَعْه لوَرَثَتِك. ورُوِيَ عنه أنَّه قال في أرْبَعِمائةِ دِينارٍ: ليس فيها فَضْل عن الوارِثِ. ورُوِيَ عن عائشَةَ، رَضِيَ الله عنها، أنَّ رجلًا قال لها: لي ثلاثةُ آلافِ دِرْهَم، وأرْبَعةُ أولادٍ، أفأوصِي؟ فقالت: اجْعَلِ الثَّلاثةَ للأرْبَعَةِ (¬3). وعن ابنِ عباس قال: مَن تَرَكَ سَبْعَمائةِ دِرْهَم ليس عليه وَصِيَّة (3). وقال عُرْوَةُ: دَخَل عَلِيٌّ على صَدِيقٍ له يَعُودُه، فقال الرجلُ: إنِّي أريدُ أن أوصِيَ. فقال له عليٌّ: إنَّ الله تعالى يقولُ: {إِنْ تَرَكَ خَيرًا} وإنَّك إنَّما تَدَعُ شيئًا يَسِيرًا، فدَعْه لوَرَثَتِكَ (3). واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في القَدْرِ الذي لا تُسْتَحَبُّ الوَصِيَّةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 343. من حديث: «والثلث كثير». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 340. (¬3) انظر ما أخرجه البيهقي، في: باب من استحب ترك الوصية إذا لم يترك شيئًا كثيرًا. . . .، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 270.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لمالِكِه، فرُويَ عن أحمدَ: إذا تَرَك دُونَ الألْفِ لا تُسْتَحَبُّ له الوَصِيَّةُ. وعن علي، أرْبَعمائةِ دِينارٍ. وعن ابنِ عباس: إذا تَرَك المَيِّتُ سَبْعَمائةِ درْهم فلا يُوصِي. وقال: مَن تَرَك سِتِّين دِينارًا ما تَرَك خَيرًا. وقال طاوُسٌ الخَيرُ ثَمانون دينارًا. وقال النَّخَعِي: ألْفٌ إلى خَمْسِمائةٍ. وقال أبو حنيفةَ: القَلِيلُ أن يُصيبَ أقَل الوَرَثَةِ سَهْمًا خمسون درهَمًا. قال شيخُنا (¬1): والذي يَقْوَى عندِي، أنَّه متى كان المَتْرُوكُ لا يَفْضُلُ عن غِنَى الورثةِ، لم تُسْتَحَبَّ الوَصِيَّةُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّلَ المَنْعَ مِن الوَصِيَّةِ بقَوْلِه: «إنَّكَ أنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ، خَير مِنْ أن تَدَعَهُمْ عالةً». ولأنَّ إعْطاءَ القَرِيبِ المُحْتاجِ خير مِن إعْطاءِ الأجْنَبِيِّ، فمتى لم يَبْلُغِ المِيراثُ غِناهم، كان تَرْكُه لهم كعَطِيَّتهم إيّاه، فيكونُ أفْضَلَ مِن الوَصِيَّةِ به لغيرِهم. فعلى هذا، تَخْتَلِف الحالُ باخْتِلافِ الوَرَثَةِ في كثَرتِهم وقِلَّتِهم وغِناهم وحاجَتِهم، فلا يَتَقَيَّدُ بقَدْرٍ مِن المالِ. وقد قال الشعْبِي: ما مِن مالٍ أعْظَمُ أجْرًا مِن مالٍ يَتْرُكُه الرجلُ لوَلَدِه، يُغْنِيهم به عن النّاسِ. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 392، 393.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأوْلَى أن لا يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ بالوَصِيَّةِ وإن كان غَنِيًّا؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «والثُّلُثُ كثِيرٌ». قال ابنُ عباس: لو أن الناسَ غَضُّوا (¬1) مِن الثُّلُثِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الثُّلُث كثيرٌ». مُتَّفَق عليه. وقال القاضي، وأبو الخَطّابِ: إن كان غَنِيًّا استُحِبَّ الوَصِيَّةُ بالثُّلُثِ. ولَنا، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسَعْدٍ: «والثُّلُثُ كثير». مع إخْبارِه إيّاه بكَثْرَةِ مالِه وقِلَّةِ عيالِه، فإنَّه قال في الحديثِ: إنَّ لي مالًا كثيرًا, ولا يَرثُني إلَّا ابْنَتِي. وروَى سعيد (¬2)، ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللهِ، ثنا عَطاءُ بنُ السّائِبِ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ, عن سعدِ بنِ مالكٍ؛ قال: مَرِضْتُ مَرَضًا فعادَنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «أوْصَيتَ؟». فقُلْتُ: نعم، أوْصَيتُ بمالي كُلِّه للفُقَراءِ وفي سَبِيلِ اللهِ، فقال لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أوْصِ بالعُشْرِ». فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، مالِي كثير، ووَرَثَتي أغْنِياءُ. فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنَاقِصُني وأُناقِصُه حتى قال: «أوْصِ بالثُّلُثِ، والثُّلُثُ كثير». قال أبو عبدِ الرحمنِ: لم يكنْ منّا مَن يَبْلُغُ في وَصِيَّته الثُّلُثَ حتى يَنْقُصَ منه شيئًا؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثير». إذا ثَبَت هذا، ¬

(¬1) في م: «نقصوا». (¬2) في: باب هل يوصي الرجل من ماله بأكثر من الثلث؛ من كتاب الوصايا. السنن 1/ 106، 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالأفْضَلُ للغَنِيِّ الوَصِيةُ بالخُمْسِ. رُوِيَ نحوُ هذا عن أبي بكر الصِّدِّيقِ، وعليِّ بنِ أبي طالِبٍ، رَضِيَ الله عنهما (¬1). وهو ظاهِرُ قولِ السَّلَفِ، وعُلَماءِ أهلِ البَصْرَةِ. ويُرْوَى عن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، أنه جاءَه شيخٌ، فقال: يا أميرَ المؤمنينَ، أنا شيخ كَبِير، ومالِي كَثِير ويرِثُني أعْرابٌ مَوالٍ كَلالةٌ، مَنْزُوحٌ نَسَبُهم (¬2)، أفأوصِي بمالِي كُلِّه؟ قال: لا. فلم يَزَلْ يَحُطُّهُ حتى بَلَغ العُشْرَ (¬3). وقال إسحاقُ: السُّنةُ الرُّبْعُ، إلَّا أن يكونَ الرجلُ يَعْرِفُ في مالِه حُرْمَةَ شُبُهاتٍ أو غيرها، فله اسْتِيعابُ الثُّلُثِ. ولَنا، أنَّ أبا بكر الصِّدِّيقَ، رَضِيَ الله عنه، أوْصَى بالخُمْسِ، وقال: رَضِيتُ بما رَضِيَ اللهُ به لنَفْسِه. يُرِيدُ قوْلَه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬4). ورُوِيَ أنَّ أبا بكر وعليًّا، رَضِيَ الله ¬

(¬1) أخرجه عنهما سعيد بن منصور في الموضع السابق,. وانظر ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 66، 67. (¬2) في م: «بينهم». (¬3) أخرجه سعيد في: الباب السابق 1/ 107. والدارمي في: باب الوصية بأقل من الثلث، من كتاب الوصايا، سنن الدارمي 2/ 408 مختصرًا. (¬4) سورة الأنفال 41. وانظر ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 66، 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهما، أوْصَيا بالخُمْسِ. وعن عليّ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: لأن أوصِيَ بالخُمْسِ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أوصِيَ بالرُّبْعِ (¬1). وعن إبراهيمَ، قال: كانوا يقولون: صاحِبُ الرُّبْعِ أفْضَلُ مِن صاحِبِ الثُّلُثِ، وصاحِبُ الخُمْسِ أفْضَلُ مِن صاحِبِ الرُّبْعِ. وعن الشُّعْبِيِّ، قال: كان الخُمْسُ أحَبَّ إليهم مِن الثُّلثِ، فهو مُنْتَهَى الجامِحِ (¬2). وعن العَلاءِ بنِ زِيادٍ، قال: أوْصَى أبي أن أسألَ العُلَماءَ: أيُّ الوَصِيَّةِ أعْدَلُ؟. فما تَتَابَعُوا عليه فهو وَصِيَّة، فَتتابَعُوا على الخُمسِ (¬3). ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 9/ 66. (¬2) أخرجه عنهما ابنُ أبي شيبة في المصنف 11/ 201. (¬3) أخرجه سعيد في سننه 1/ 107، 108. والدارمي في: باب الوصية بأقل من الثلث، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 407.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأفْضَلُ أن يَجْعَلَ وَصِيَّتَه لأقَارِبِه الذين لا يَرِثُونَ، إذا كانوا فُقَراءَ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): لا خِلافَ بينَ العُلَماءِ عَلِمْتُ في ذلك، إذا كانوا ذَوي حاجَةٍ، وذلك لأنَّ الله تعالى كَتَب الوَصِيَّةَ للوالِدَين والأقْرَبِين، فخرَجَ منه الوارِثُون بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وبَقِيَ سائِرُ الأقارِبِ على الوَصِيَّةِ لهم، وأقلُّ ذلك الاسْتِحْبابُ، وقد قال اللهُ تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (¬2). وقال تعالى: {وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى} (¬3). فبَدَأ بهم. ولأنَّ الصدقةَ عليهم في الحَياةِ أفْضَلُ، فكذلك بعدَ المَوْتِ. فإن أوْصَى لغيرِهم وتَرَكهم، صَحَّتْ وَصِيَّتُه في قولِ أكثرَ أهلِ العلمِ، منهم؛ سالمٌ، ¬

(¬1) انظر التمهيد لابن عبد البر 14/ 300. (¬2) سورة الإسراء 26. (¬3) سورة البقرة 177.

2655 - مسألة: (فأما من لا وارث له، فتجوز وصيته بجميع ماله. وعنه، لا يجوز إلا الثلث)

فَأمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَتَجُوزُ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسُلَيمانُ بنُ يَسارٍ، وعَطاءٌ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وأصحابُ الرأي، والشافعي، وإسحاقُ. وحُكِيَ عن طاوُسٍ، والضَّحّاكِ، وعبدِ المَلَكِ بنِ يَعْلَى، أنهم قالُوا: يُنْزَعُ عنهم ويُرَدُّ إلى قَرابَتِه. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّب، والحسنِ، وجابِرِ بنِ زيدٍ: للذي أوْصَى له ثُلُثُ الثُّلُثِ، والباقِي يُرَدُّ إلى قَرابَةِ المُوصِي؛ لأنه لو أوْصَى بِمالِه كلِّه، لجاز منه الثُّلُثُ، والباقِي يُرَدُّ على الوَرَثَةِ، وأقَارِبُه الذين لا يَرِثُونَه في اسْتِحْقاقِ الوَصِيَّةِ كالوَرَثَةِ في اسْتِحْقاقِ المالِ كلِّه. ولَنا، ما روَى عِمْرانُ بنُ حُصَين، أنَّ رجلًا أعْتَقَ في مَرَضِه سِتَّةَ أعْبُدٍ، لم يكنْ له مالٌ غيرُهم، فبَلَغَ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فدَعاهم فجَزَّأهم ثلاثةَ أجْزاء ثم أقْرَعَ بينهم، فأعْتَقَ اثْنَين وأرَقَّ أربعةً (¬1). فأجاز العِتقَ في ثُلُثِه لغيرِ أقاربِه. ولأنَّها عَطِيَّةٌ فجازت لغيرِ أقاربِه، كالعَطِيَّةِ في الحَياةِ. 2655 - مسألة: (فأمّا مَن لا وارِثَ له، فتَجُوزُ وَصِيته بجَمِيعِ مالِه. وعنه، لا يَجُوزُ إلَّا الثُّلُثُ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 124.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَن لم يُخَلِّف مِن وُرّاثِه عَصَبَةً ولا ذا فَرْضٍ، فرُوِيَ عنه، أنَّ وَصِيَّتَه جائِزَةٌ بكلِّ مالِه. ثَبَت ذلك عن ابنِ مسعودٍ. وبه قال عَبِيدَةُ السّلْمانِيُّ، ومَسْرُوقٌ، وإسحاقُ، وأهلُ العراقِ. والرِّوايَةُ الأخْرَى، لا يجوزُ إلَّا الثُّلُثُ. وبه قال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ شبْرُمَةَ، والشافعيُّ، والعَنْبَرِيُّ؛ لأنَّ له مَن يَعْقِلُ عنه، فلم تَنْفُذْ وَصِيَّتُه في أكْثَرَ مِن الثُّلُثِ، كما لو تَرَك وارِثًا, ولأنَّ المسلمين يَرِثُونَه، وهو بَيتُ المالِ. ولَنا، أن المَنْعَ مِن الزِّيادَةِ على الثُّلُثِ إنَّما كان لتَعَلُّقِ حَقِّ الوَرَثَةِ به، بدَلِيلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكَ أن تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ، خَيرٌ مِن أن تَدَعَهُم عَالةً يتَكَففُونَ النّاسَ». وهَا هُنا لا وارِثَ (¬1) له يَتَعَلقُ حَقُّه بمالِه، فأشْبَهَ حال الصِّحّةِ، ولأنَّه لم يَتَعَلَّقْ بمالِه حَقُّ وارِثٍ ولا غَرِيمٍ، أشْبَهَ حال الصِّحَّةِ، والثُّلُثَ. ¬

(¬1) في م: «وراث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن خَلَّفَ ذا فَرْض لا يَرِثُ جَمِيعَ المالِ، كبنتٍ أو أُمٍّ، لم تكنْ له الوَصِيَّةُ بأكْثَرَ مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّ سعدًا قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا يَرِثُنِي إلا ابنةٌ. فمَنَعَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن الزِّيادَةِ على الثُّلُثِ، ولأنَّها تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ المالِ بالفَرْضِ والرَّدِّ، فأشْبَهَ العَصَبَةَ. وإن كان للمَيِّتةِ زوجٌ، أو كان للرجلِ امرأة، فكذلك؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ تَنْقُصُ حَقَّه؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ فرْضَه بعدَ الوَصِيَّةِ، لقولِ الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬1). وقيل: تَبْطُلُ في قَدْرِ فرْضِه مِن الثلُثَين. فإذا كان للمَيتةِ زوجٌ، فله الثُّلُثُ، وإن كان للمَيِّتِ امرأة، فلها السُّدْسُ، وهو رُبْعُ الباقِي بعدَ الثُّلُثِ، والباقِي للمُوصَى له. وهذا أوْلَى، إن شاء الله تعالى؛ لأن الثلثَ ليس للوارِثِ فيه أمر، إنَّما إجازَتُه ورَدُّه في الثُّلُثَين، ولم يَنْقصْ عليه منهما شيء. فأمّا ذَوو الأرْحامِ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه لا يمْنَعُ الوَصِيَّةَ بجَمِيعِ المالِ؛ لأنَّه قال: ومَن أوْصَى بجَمِيعِ مالِه ولا عَصَبَةَ له ولا مَوْلَى، فجائِزٌ. وذلك لأنَّ ذا الرَّحمِ إرْثُه كالفَضْلَةِ والصِّلَةِ، ولذلك لا يُصْرَفُ ¬

(¬1) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه شيءٌ إلَّا عندَ عَدَمِ الرَّدِّ والمَوْلَى، ولا تَجبُ نَفَقَتُهم في الصحيح. ويَحْتَمِلُ كلامُ شيخِنا في الكِتابِ المَشْرُوحِ أَنَّه لا تَنْفُذُ وَصِيته فيما زاد على الثُّلُثِ؛ لأنَّ له وارِثًا، فيَدْخُلُ في مَعْنَى قَوْلِه - عليه السلام -: «إنَّكَ أن تترُكَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءَ، خَير مِن أن تَدَعَهُمْ عَالةً يتَكَفَّفُونَ النّاسَ». ولأنَّهم وَرَثَة يَسْتَحِقُّون ماله بعدَ مَوْتِه، فأشبَهُوا ذوي الفُرُوضِ والعَصَباتِ، وتَقْدِيمُ غيرِهم عليهم لا يَمْنَعُ مُساوَاتهم لهم في مسألتِنا، كذوي الفُرُوضِ الذين يَحْجُبُ بعضُهم بعضًا. فصل: فإن خَلَّف ذا فَرْضٍ لا يَرِثُ المال كُلَّه بفَرْضِه، و (¬1) قال: أوْصَيت لفلانٍ بثُلُثِي، على أنَّه لا يَنْقُصُ ذا الفَرْضِ شيئًا مِن فَرْضِه. أو خَلَّفَ امرأةً، وقال: أوْصَيتُ لكَ بما فَضَل مِن المال عن فَرْضِها. صَحَّ في المسألةِ الأولَى؛ لأنَّ ذا الفَرْض يَرِثُ المال كلَّه لولا الوَصِيَّةُ، فلا فَرْق في الوَصِيَّةِ بينَ أن يَجْعَلَها مِن رأسِ المالِ، أو يَجْعَلَها مِن الزّائِدِ على ¬

(¬1) في م: «أو».

2656 - مسألة: (ولا تجوز لمن له وارث بزيادة على الثلث لأجنبي، ولا لوارثه بشيء إلا بإجازة الورثة)

وَلَا تَجُوزُ لِمَنْ لَهُ وَارِث بِزِيَادَةٍ عَلى الثُّلُثِ لأجْنَبِيٍّ، وَلَا لِوَارِثِهِ بِشَيْءٍ إلَّا بِإجَازَةِ الْوَرَثَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرْضِ. فأمّا المسألةُ الثانيةُ، فتَنْبَنِي على الوَصِيَّةِ بجَمِيعِ المالِ، فإن قُلْنا: تَصِحُّ ثَمَّ. صَحَّتْ ها هُنا؛ لأنَّ الباقِيَ عن فَرْضِ الزوجةِ مالٌ لا وارِثَ له، فصَحَّتِ الوَصِيَّةُ به، كما لو لم تكنْ زوجة. وإن قُلْنا: لا تَصِحُّ ثَمَّ. فها هنا مِثْلُه؛ لأنَّ بَيتَ المالِ جُعِل كالوارِثِ، فصار كأنه ذو وَرَثَةٍ يَسْتَغْرِقُون المال إذا عَيَّنَ الوَصِيَّةَ مِن نَصِيبِ العَصَبَةِ منهم. فعلى هذا، يُعْطَى المُوصَى له الثُّلُثَ مِن رَأسِ المالِ، ويَسْقُطُ تَخْصِيصُه. 2656 - مسألة: (ولا تجوزُ لمن له وارِث بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ لأجْنَبِيٍّ، ولا لوارثه بشيءٍ إلَّا بإجازةِ الوَرَثَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الوَصِيَّةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيرِ الوارِثِ تَلْزَمُ في الثُّلُثِ مِن غيرِ إجازةٍ، وما زاد على الثُّلُثِ يَقِفُ على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فإن أجازُوه جاز، وإن رَدُّوه بَطَل، في قولِ أكْثَرِ العُلَماءِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ حينَ قال: أوصِي بمالِي كُلِّه؟ قال: «لَا». الحديثُ، إلى أن قال: فبالثُّلُثِ؟ [قال: «الثُّلُثُ] (¬1)، والثُّلُثُ كثِيرٌ» (¬2). وقَوْلُه - عليه السلام -: «إنَّ الله تَصَدَّقَ عَلَيكُمْ بثُلُثِ أمْوالِكُمْ عِنْدَ مَمَاتِكُمْ» (¬3). يَدُلُّ على أنَّه لا شيءَ له في الزّائدِ عليه. وحديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَين في المَمْلُوكِينَ السِّتَّةِ الذين أعْتَقَهم المَرِيضُ ولم يكنْ له مالٌ سِواهُم، فجزَّأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أجْزاءٍ، فأعْتَقَ اثْنَين وأرَقَّ (¬4) أربعةً، وقال له قولًا شَدِيدًا. يَدُل على أنَّه لا يَصِحُّ تَصَرُّفه فيما زاد على الثُّلُثِ إذا لم يُجِزِ الوَرَثَةُ، ويجوزُ بإجازَتِهم؛ لأنَّ الحَقَّ لهم. وقد قِيلَ: إنَّ الوَصِيَّةَ بما زاد على الثُّلُثِ باطِلَةٌ. كما يُذْكَرُ فيما إذا أوْصَى للوارِثِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 343. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 123. (¬4) في م: «أرث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكْمُ الوَصِيَّةِ للوارِثِ كالحُكْمِ في الوَصِيَّةِ لغَيرِه بالزِّيادَةِ على الثُّلُثِ، في أنَّها تَبْطُلُ بالرَّدِّ، بغيرِ خِلافٍ بينَ العُلَماءِ. قال ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على هذا، وجاءتِ الأخْبارُ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فرَوَى أبو أمامَةَ، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الله قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». رواه أبو داودَ، وابنُ ماجه، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَنَع مِن تَفْضِيل بعضِ وَلَدِه على بعض في حالِ الصِّحَّةِ (¬2)، مع إمْكانِ تَلافي العَدْلِ بينَهم بإعْطاءِ الذي لم يُعْطِه فيما بعدَ ذلك، لِما فيه مِن إيقاعِ العَداوَةِ والحَسَدِ بينَهم، ففي حالِ مَوْتِه وتَعَلُّقِ الحُقُوقِ به وتَعَذّرِ تَلافِي العَدْلِ بينَهم، أوْلَى وأحْرَى. فإن أجازَها باقي الوَرَثَةِ، جازَتْ، في قولِ الجُمْهُورِ مِن أهلِ العلمِ. وقال بعضُ أصحابِنا: الوَصِيَّةُ باطِلَةٌ وإن أجازَها الوَرَثَةُ، إلَّا أن يُعْطُوه عَطِيَّةً مُبْتَدَأةً. أخْذًا مِن ظاهِرِ قولِ أحمدَ، رَحِمَه الله، في رِوايَةِ حَنْبَلٍ: لا وَصِيَّةَ لوارِثٍ. وهذا قولُ المُزَنِيِّ، وأهلِ الظّاهِرِ، وقولٌ للشافعيِّ. واحْتَجُّوا بظاهِرِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا وَصِيَّةَ لِوارِثٍ». ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 192. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِر مَذْهَبِ أحمدَ، والشافعيِّ، أنَّ الوَصِيَّةَ صحيحة في نَفْسِها؛ لأنَّه تَصَرُّف صَدَر مِن أهلِه في مَحَلِّه، فصَحَّ، كما لو وَصَّى لأجْنَبِي، والخَبَرُ قد رُوِيَ فيه: «إلَّا أن يُجِيزَ الورَثَةُ» (¬1). والاسْتِثْناءُ مِن النَّفْي إثْبات، فيكونُ ذلك دَلِيلًا على صِحَّةِ الوَصِيَّةِ عندَ الإِجازَةِ، ولو خلا مِن الاسْتِثْناءِ، جازَ أن يكونَ معناه: لا وصيةَ نافِذَةٌ أو لازمةٌ، أو ما أشْبَهَ هذا، أو يُقَدرُ فيه: لا وَصِيَّةَ لوارِثٍ عندَ عَدَمِ الإِجازَةِ مِن غيرِه مِن الوَرَثَةِ. وفائِدَةُ الخِلافِ أنَّ الوَصِيَّةَ إذا كانت صحيحةً، فإجازَةُ الوَرَثَةِ تنْفِيذٌ وإجازَةٌ مَحْضةٌ يَكْفِي فيها قولُ الوارِثِ: أجَزْتُ. وإن كانت باطِلَةً كانتِ الإِجازَةُ هِبَةً مُبْتَدَأةً. وسَنَذْكُرُ ذلك إن شاء اللهُ تعالى. فصل: وإن أسْقَطَ عن وارِثِه دَينًا، أو وَصَّى بقَضاء دَينه، أو أسْقَطَتِ المرأةُ صَداقَها عن زوجِها، أو عَفا عن جِنايَةٍ مُوجَبُها المالُ، فهو كالوَصِيَّةِ ¬

(¬1) أخرج هذه الزيادة الدارقطني، في: كتاب الفرائض، وفي: كتاب الوصايا. سنن الدارقطني 4/ 98، 152. والبيهقي، في: باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 264. وانظر تلخيص الحبير 3/ 92. وإرواء الغليل 6/ 96 - 98.

2657 - مسألة: فإن وصى (لكل وارث بمعين بقدر)

إلا أنْ يُوصِيَ لِكُلِّ وَارِثٍ بِمُعَيَّن بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له. وإن عَفا عن القِصاصِ، وقُلْنا: الواجِبُ القِصاصُ عَينًا. سَقَط إلى غيرِ بَدَلٍ. وإن قُلْنا: الواجِبُ أحَدُ شَيئَين. سَقَط القِصاصُ، ووَجَب المالُ. وإن عَفا عن حَدِّ القَذْفِ، سَقَط مُطْلَقًا. وإن وَصَّى لغَرِيمِ وارِثِه، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ. وكذلك إن وَهَب له. وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ: هي وصِيَّةٌ للوارِثِ؛ لأن الوارِثَ يَنْتَفِعُ بهذه الوَصِيَّةِ ويَسْتَوْفِي دَينَه منها. ولَنا، أنَّه وَصَّى لأجْنَبِيٍّ، فصَحَّ، كما لو وَصَّى لمَن عادَتُه الإِحْسانُ إلى وارِثِه. وإن وَصَّى لولدِ وارِثِه، صَح، فإن كان يَقْصِدُ بذلك نَفْعَ الوارِثِ، لم يَجُزْ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى. قال طَاووسٌ في قَوْلِه تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} (¬1). قال: أن يُوصِيَ لولدِ ابْنَتِه، وهو يُريدُ ابنتَه. رَواه سعيدٌ (¬2). وقال ابنُ عباس: الجَنَفُ في الوَصِيَّةِ والإِضْرارُ فيها مِن الكَبائِرِ (¬3). 2657 - مسألة: فإن وَصَّى (لكلِّ وارِثٍ بمُعَيَّن بقَدْرِ) نَصِيبِه؛ ¬

(¬1) سورة البقرة 182. (¬2) تفسير سعيد بن منصور 2/ 673.كما أخرجه البيهقي، في: باب من قال بنسخ الوصية للأقربين الذين لا يرثونه. . . .، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 265، 266. والدارقطني، في: كتاب الوصايا. سنن الدارقطني 4/ 152. (¬3) أخرجه سعيد في تفسيره 2/ 674.كما أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا. . . .}، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 271. وضعف رفعه.

2658 - مسألة: (وإن لم يف الثلث بالوصايا، تحاصوا فيه، وأدخل النقص على كل واحد بقدر وصيته. وعنه، يقدم العتق)

وَإنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْوَصَايَا، تَحَاصُّوا فِيهِ، وَأُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ وَصِيَّتهِ. وَعَنْهُ، يُقَدَّمُ الْعِتْقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كرجلٍ خَلّف ابنًا وبنتًا، وعَبْدًا قِيمَتُه مائة، وأمَةً قِيمَتُها خَمْسُون، فوَصَّى للابنِ بالعبدِ، وللبنتِ بالأمَةِ، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ حَقَّ الوارِثِ في القَدْرِ لا في العَينِ، بدَلِيلِ ما لو عاوَضَ المَرِيضُ بعضَ وَرَثَتِه أو أجْنَبِيًّا بجَمِيعِ مالِه، فإنَّه يَصِحُّ إذا كان بثَمَنِ المِثْلِ وإن تَضَمَّنَ فَواتَ عَينَ المالِ. والثانِي، يَقِفُ على إجازَةِ الوَرَثَةِ؛ لأنَّ في الأعْيانِ غَرَضًا صَحيحًا، فكما لا يجوزُ إبْطالُ حَقِّ الوارِثِ مِن قَدْرِ حَقه، لا يجوزُ مِن عَيْنه. 2658 - مسألة: (وإن لم يَفِ الثُّلُثُ بالوصايا، تحاصُّوا فيه، وأُدْخِلَ النَّقْصُ على كلِّ واحِدٍ بقَدْرِ وَصِيَّته. وعنه، يُقَدَّمُ العِتْقُ) إذا خَلَتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصايا مِن العِتْقِ، وتَجاوَزَتِ الثُّلُثَ، فرَدَّ الوَرَثَةُ الزِّيادَةَ، فإنَّ الثلُثَ يُقْسمُ بينَ المُوصَى لهم على قَدْرِ وَصاياهم، ويَدْخُلُ النَّقْصُ على كلِّ واحِدٍ منهم بقَدْرِ ما لَه في الوَصِيَّةِ، كمَسائِلِ العَوْلِ إذا زادَتِ الفُرُوضُ عن المالِ. فلو وَصَّى لرجلٍ بثُلُثِ مالِه، ولآخَرَ بمائةٍ، ولآخَرَ بمُعَيَّن قِيمَتُه خَمْسُون، ووصَّى بفِداءِ أسِيرٍ بثَلاثين، ولعِمارَةِ مسجدٍ بعِشْرِين، وثُلُثُ مالِه مائةٌ، جمعت الوصايا كلَّها فبَلَغَتْ ثلاثَمائةٍ، ونَسَبْتَ منها الثلُثَ فكان ثُلُثَها، فتُعْطِي كلَّ واحِدٍ منهم ثُلُثَ وَصيَّته، فلصاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ المائةِ، وكذلك صاحِبُ المائةِ، ولصاحِبِ الخَمْسِين سُدْسُها, ولفِداءِ الأسِيرِ عَشَرَةٌ، ولعِمارَةِ المَسْجِدِ سِتَّةٌ وثُلُثان. وإن كان فيها عِتْقٌ، ففيها رِوايَتان؛ إحْداهما، أنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بينَ الوصايا والعِتْقِ، كما هو لم يكنْ فيها عِتْقٌ. وهذا قولُ ابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنهم تَساوَوْا في سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ، فَتساوَوْا فيه، كسائِرِ الوصايا. والرِّوايَةُ الثانيةُ، يُقَدَّمُ العِتْقُ، وما فَضَلَ منه يُقْسَمُ بينَ سائِرِ الوصايا (¬1) على قَدْرِ وَصاياهم. ¬

(¬1) في المغني 8/ 577: «أهل الوصايا».

2659 - مسألة: (وإن أجاز الورثة الوصية، جازت)

وإِنْ أجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ، جَازَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ. وبه قال شُرَيح، ومَسْرُوق، وعَطاء الخُراسانِيُّ، وقَتادةُ، والزُّهْرِي، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّ فيه حَقًّا لله تعالى وللآدَمِيِّ، فكان آكَدَ، ولأنَّه لا يَلْحَقُه فَسْخ ويَلْحَقُ غيرَه، ولأنَّه أقْوَى، بدَلِيلِ سِرايته ونُفُوذِه مِن الرّاهِنِ والمُفْلِسِ. ورُوِيَ عن الحسنِ، والشافعيِّ، كالرِّوايَتَين. فصل: والعَطايا المُعَلَّقَةُ بالمَوْتِ، كقَوْلِه: إذا مِتُّ فأعْطُوا فُلانًا كذا -أو- أعْتِقُوا فلانًا. ونحوه، وَصايا حُكْمُها حُكْمُ غيرِها مِن الوصايا في [التَّسْويَةِ بينَ] (¬1) مُقَدَّمِها ومُؤَخَّرها، والخِلافِ في تَقدِيمِ العِتْقِ منها؛ لأنَّها تَلْزَمُ بالمَوْتِ، فتَتساوَى كلها. فصل: إذا وَصَّى بعِتْقِ عَبْدِه، لَزِم الوارِثَ إعْتاقُه، ويُجْبِرُه الحاكِمُ عليه إن أبَى؛ لأنَّه حَقٌّ واجِبٌ عليه، فأجْبِرَ عليه، كتَنْفِيذِ الوَصِيَّةِ بالعَطِيَّةِ. وإن أعْتَقَه الوارِثُ أو الحاكِمُ، فهو حُرٌّ مِن حينَ أعْتَقَه؛ لأنَّه حِينَئِذٍ عَتَقَ، ووَلَاؤه للمُوصِي؛ لأنَّه السَّبَبُ، وهؤلاء نُوّاب عنه، ولهذا لزِمِهم إعْتاقُه. فإن كانتِ الوَصِيَّةُ بعِتْقِه إلى غيرِ الوارِثِ، كان الإِعْتاقُ إليه؛ لأنّه نائِبُ المُوصِي في إعْتاقِه، فلم يَمْلِكْ ذلك غيرُه إذا لم يَمْتَنِعْ، كالوَكِيلِ في الحَياةِ. 2659 - مسألة: (وإن أجاز الوَرَثَةُ الوَصِيَّةَ، جازت) لأنَّ الحَقَّ لهم. وإن رَدُّوها، بَطَلَتْ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، فجاز بإجازَتِهم ¬

(¬1) سقط من: م.

وإجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ في الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ، وَلَا تَثْبُتُ أحكَامُهَا فِيهَا. فَلَوْ كَانَ الْمُجِيزُ أبا لِلْمُجَازِ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُجَازُ عِتْقًا كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُوصِي يَخْتَصُّ بِهِ عَصبَتُهُ، وَلَوْ كَانَ وَقْفًا عَلَى الْمُجِيزِينَ، صَحَّ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْإجَازَةَ هِبَة، فَتَنْعكِسُ هَذِهِ الْأحْكَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَطَل برَدِّهم (وإجازتُهم تَنْفِيذْ في الصحيح مِن المَذْهَبِ) لأنَّ ظاهِرَ المَذْهَبِ، أنَّ الوَصِيَّةَ للوارِثِ وللأجْنَبِيِّ بالزِّيادَةِ على الثُّلُثِ صَحيحةٌ مَوْقوفةٌ على إجازَةِ الوَرَثَةِ. فعلى هذا، تكونُ إجازَتُهُم تَنْفِيذًا وإجازَةً مَحْضةً، يَكْفِي فيها قولُ الوارِثِ: أجَزْتُ -أو- أمْضَيتُ -أو- نَفَّذْتُ. فإذا قال ذلك لَزِمَتِ الوَصِيَّةُ، ولا خِلافَ في تَسْمِيَتها إجازَةً، فعلى هذا (لا تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ، ولا تَثْبُتُ فيها أحْكامُ الهِبَةِ) لأنَّها ليست هِبَةً. وقال بعضُ أصْحابِنا: الوَصِيَّةُ باطِلَةٌ. فعلى هذا، تكونُ هِبَةً تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ، وتَثْبُتُ فيها أحْكامُها (فلو كان المُجِيزُ أبا للمُجازِ له، لم يكنْ له الرُّجُوعُ فيه) إذا قُلْنا: إنَّها إجازَةٌ مُجَرَّدَةٌ. وإن قُلْنا: هي هِبَةٌ مُبْتَدَأةٌ. فله الرُّجُوعُ. ولو أعْتَقَ عَبْدًا لا مال له سِواه في مَرَضِه، أو وَصَّى بعِتْقِه فأعْتَقُوه بوَصِيَّته، نَفَذ العِتْقُ في ثُلُثِه، ووَقَف عِتْقُ باقِيه على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فإن أجازُوه عَتَقَ جَميعُه، واخْتَصَّ عَصَباتُ المَيِّتِ بولائِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّه، على قولِنا بصِحَّةِ إعْتاقِه ووَصِيَّتِه. وكذلك لو تَبَرَّعَ بثُلُثِ مالِه في مَرَضِه، ثم أعْتَقَ أو وَصَّى بالإِعْتاقِ، فالحُكْمُ فيه على ما ذَكَرْنا. وإن قُلْنا: الوَصِيَّةُ باطِلَةٌ والإجازةُ عَطِيَّة مُبْتَدَأة. اخْتَصَّ عَصَباتُ المَيِّتِ بثُلُثِ وَلائِه، وكان ثُلُثاه لجميعِ الوَرَثَةِ بينَهم على قَدْرِ مِيراثِهم؛ لأنَّهم باشَرُوه بالإِعْتاقِ. ولو تَزوَّجَ رجلٌ ابنة عَمِّه، فأوْصَتْ له بوَصِيَّةٍ أو أعْطَتْه في مَرَضِ مَوْتِها، ثم ماتت وخَلَّفَتْه وأباه، فأجازَ أبوه وَصِيته وعَطِيته، ثم أراد الرُّجُوعَ، فليس له ذلك إن قُلْنا: هي تَنْفِيذٌ. وله الرُّجُوعُ إن قلنا: هي هِبَةٌ مُبْتَدأةٌ. ولو وَقَف في مَرَضِه على وَرَثَتِه، فأجازُوا الوَقفَ، صَحَّ إن قُلْنا: إجازَتُهم تَنْفِيذ. وإن قُلْنا: هي عَطِيَّة مُبْتَدَأة. انْبَنَى على صِحَّةِ وَقْفِ الإِنْسانِ على نَفْسِه، على ما ذُكِر مِن الخِلافِ فيه (¬1). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 16/ 386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ في الوَصِيَّةِ بينَ المَرَضِ والصِّحَّةِ. وقد رَوى حَنْبَلٌ عن أحمدَ، أنَّه قال: إن وَصَّى في المَرَضِ فهو مِن الثُّلُثِ، وإن كان صحيحًا فله أن يُوصِيَ بما شاء. قال القاضي: يُرِيدُ بذلك العَطِيَّةَ. أمّا الوَصيَّةُ فهي عَطية بعدَ المَوْتِ، فلا يجوزُ منها إلَّا الثُّلُثُ على كلِّ حالٍ.

2660 - مسألة: (ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث، فصار عند الموت غير وارث، صحت الوصية. وإن أوصى له وهو غير وارث، فصار عند الموت وارثا، بطلت؛ لأن اعتبار الوصية بالموت)

وَمَنْ أوصِىَ لَهُ وَهُوَ في الظَّاهِرِ وَارِثٌ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيرَ وَارِثٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ. وَإنْ أُوصِيَ لَهُ وَهُوَ غَيرُ وَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا، بَطَلَتْ؛ لأنَّ اعْتِبَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2660 - مسألة: (ومَن أُوصِيَ له وهو في الظّاهِرِ وارِثٌ، فصار عندَ المَوْتِ غيرَ وارِثٍ، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ. وإن أوصِىَ له وهو غيرُ وارِثٍ، فصار عندَ المَوْتِ وارِثًا، بَطَلَتْ؛ لأنَّ اعْتِبارَ الوَصِيَّةِ بالمَوْتِ) لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهْلِ العِلمِ في أنَّ اعْتِبارَ الوَصِيَّةِ بالمَوْتِ، فلو وَصَّى لثلاثةِ إخْوَةٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له مُفْتَرِقِين، ولا وَلَدَ له، ومات ولم يُولَدْ له (¬1)، لم تَصِحّ الوَصِيَّةُ لغيرِ الأخِ مِن الأبِ إلَّا بإجازَةِ الورثةِ. وإن وُلِد له ابن، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ للجَمِيعِ مِن غيرِ إجازَةٍ، إذا لم تَتَجاوَزِ الثُّلُثَ. وإن وُلِد له بنتٌ، جازَتِ الوَصِيَّةُ لغيرِ الأخِ مِن الأبوَينِ، فيكونُ لهما ثُلُثا المُوصَى به بينَهما, ولا يجوزُ للأخِ مِن الأبوَينِ؛ لأنَّه وارِثٌ. وبهذا يقولُ الشافعي، وأبو ثَوْرٍ، وابن المُنْذِرِ، وأصحابُ الرأي. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَ ذلك. وْلو وَصَّى لهم وله ابنٌ، فمات ابنُه قبلَ مَوْتِه، لم تَجُزِ الوَصِيَّةُ لأخِيه مِن أبوَيه، ولأ لأخيه مِن أمِّه، لي جازت لأخيه مِن أبيه. وإن مات الأخ مِن الأبوَين قبلَ مَوْتِه، لم تَجُزِ الوَصِيَّةُ للأخِ مِن الأبِ أيضًا؛ لأنَّه صار وارِثًا. فصل: ولو وَصَّى لامرأةٍ أجْنَبِيَّةٍ وأوْصَتْ له، ثم تَزَوَّجَها, لم تَجُزْ وَصِيَّتهما (¬2) إلَّا بإجازَةِ الوَرَثَةِ. وإن أوْصَى أحَدُهما للآخرِ ثم طَلَّقَها، جازَتِ الوَصِيَّةُ؛ لأنَّه صار غيرَ وارِثٍ، إلَّا أنَّه إن طَلَّقَها في مَرَضِ مَوْتِه، فقِياسُ المَذْهَبِ أنَّها لا تُعْطَى أكْثَرَ مِن مِيراثِها؛ لأنَّه يُتَّهَمُ أنّه طَلَّقَها ليُوصِلَ إليها ماله بالوَصِيَّةِ، فلم يُنَفَّذْ لها ذلك، كما لو طَلَّقَها في مَرَضِ موتِه وأوْصَى لها بأكثرَ مِن مِيراثِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وصيتها».

2661 - مسألة: (ولا تصح إجازتهم وردهم إلا بعد موت الموصي، وما قبل ذلك لا عبرة به)

وَلَا تَصِحُّ إجَازَتُهُمْ وَرَدُّهُمْ إلا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2661 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إجازَتُهم ورَدُّهم إلَّا بعدَ مَوْتِ المُوصِي، وما قبلَ ذلك لا عِبْرَةَ به) فلوْ أجازُوا قبلَ ذلك ثم رَدُّوا، أو أذِنُوا لمَوْرُوثِهم بالوَصِيَّةِ في حَياتِه بجَمِيعِ المالِ، أو بالوَصِيّةِ لبعضِ الوَرَثَةِ، ثم بَدا لهم فرَدُّوا بعدَ وَفاتِه، فلهم الرّدُّ، سواءٌ كانتِ الإجازَةُ في صِحَّةِ المُوصِي أو مَرَضِه. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبي طالِبٍ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ. وهو قولُ شُرَيح، وطاوُسٍ، والحَكَمِ، والثَّوْرِيِّ، والحسنِ بنِ صالِحٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبي حنيفةَ وأصحابِه. وقال الحسنُ، وعَطاءٌ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، وعبدُ الملِكِ بنُ يَعْلَى، والزُّهْرِيُّ، ورَبِيعَةُ، والأوْزَاعِيُّ، وابنُ أبي ليلى: ذلك جائِزٌ عليهم؛ لأن الحَقَّ للوَرَثَةِ، فإذا رَضُوا بتَرْكِه، سَقَط حَقُّهم،

2662 - مسألة: (ومن أجاز الوصية ثم قال: إنما أجزت لأني ظننت المال قليلا. فالقول قوله مع يمينه، وله الرجوع بما زاد على ما ظنه، في أظهر الوجهين، إلا أن تقوم به بينة)

وَمَنْ أجَازَ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ قَال: إِنَّمَا أجَزْتُ لأننِي ظَنَنْتُ الْمَال قَلِيلًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينهِ، وَلَهُ الرُّجُوع بِمَا زَادَ عَلَى مَا ظَنَّهُ، في أظْهَرِ الْوَجْهينِ، إلّا أن تقُومَ عَلَيهِ بَيِّنة. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو رَضِيَ المُشْتَرِي بالعَيبِ. وقال مالكٌ: إن أذِنُوا له في صِحَّتِه، فلهم أن يَرْجِعُوا، وإن كان ذلك في مَرَضِه وحينَ يُحْجَبُ عن مالِه، فذلك (¬1) جائِزٌ عليهم. ولَنا، أنَّهم أسْقَطُوا حُقُوقَهم فيما لم يَمْلِكُوه، فلم يَلْزَمْهم، كالمرأةِ إذا أسْقَطَتْ (¬2) صَداقَها قبلَ النِّكاح، أو أسْقَطَ الشَّفِيعُ حَقَّه مِن الشفْعَةِ قبلَ البَيعِ، ولأنَّها حالة لا يَصِحُّ فيها رَدُّهم للوَصِيَّةِ، فلم تَصِحَّ فيها إجازَتُهم، كما قبلَ الوَصِيَّةِ. 2662 - مسألة: (ومَن أجاز الوَصِيَّةَ ثم قال: إنَّما أجَزْتُ لأنِّي ظَنَنْتُ المال قَلِيلًا. فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينه، وله الرُّجُوعُ بما زاد على ما ظَنَّه، في أظْهَرِ الوَجْهَين، إلَّا أن تَقُومَ به بَيِّنةٌ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا وَصَّى بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ، فأجازَ الوارِثُ الوَصِيَّةَ، ثم قال: إنَّما أجَزْتُها ظَنًّا أنَّ المال قَلِيلٌ فبان كَثِيرًا. فإن كانت للمُوصَى له بَيِّنة تَشْهَدُ باعْتِرافِه بقَدْرِ المالِ، أو كان ¬

(¬1) في م: «فكذلك». (¬2) في م: «أصدقت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالُ ظاهِرًا لا يَخْفَى عليه، لم يُقْبَلْ قَوْلُه إذا قُلْنا: الإجازَةُ تَنْفِيذ. فإن قُلْنا: هي هِبَة مُبْتَدَأة. فله الرُّجُوعُ فيما يجوزُ الرُّجُوعُ في الهِبَةِ في مِثْلِه. وإن لم تَشْهَدْ بَيِّنة باعْتِرافِه، ولم يكنِ المالُ ظاهِرًا، فالقولُ قَوْلُه مع يَمينه؛ لأنَّ الإجازَةَ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الإبراءِ، فلا تَصِحُّ في المَجْهُولِ، والقولُ قَوْلُه في الجَهْلِ به مع يَمينه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ العلمِ، فإذا وَصَّى بنِصْفِ مالِه، فأجازه الوارِثُ، وكان المالُ سِتَّةَ آلافٍ، فقال: ظَنَنْتُه ثلاثةَ آلافٍ. فله الرُّجُوعُ بخَمْسِمائةٍ؛ لأنَّه رَضِيَ بإجازَةِ الوَصِيَّةِ على أنَّ الزّائِدَ على الثُّلُثِ خَمْسُمائةٍ، فكانتْ ألفًا، فيَرْجِعُ بخَمْسِمائةٍ، فيَحْصُلُ للموُصَى له ألفان وخَمْسُمائةٍ. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه لا يُقْبَلُ قَوْلُه؛ لأنَّه أجاز عَقْدًا له الخِيارُ في فَسْخِه، فبَطَلَ خِيارُه، كما لو أجاز البَيعَ مَن له الخِيارُ في فَسْخِه بعَيبٍ أو خِيارٍ، أو أقَرَّ بدَينٍ ثم قال: غَلِطْتُ.

2663 - مسألة: (وإن كان المجاز عينا)

وإنْ كَانَ الْمُجَازُ عَينًا، فَقَال: ظَنَنْتُ بَاقِيَ الْمَالِ كَثِيرًا. لَمْ يقْبَلْ قَوْلُهُ، في أظْهَرِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2663 - مسألة: (وإن كان المُجازُ عَيْنًا) كعَبْدٍ (¬1) أو فَرَسٍ يَزِيدُ على الثُّلُثِ، فأجازَ الوَصِيَّةَ بها (ثم قال: ظَنَنْتُ باقِيَ المالِ كَثِيرًا) تَخْرُجُ الوَصِيَّةُ مِن ثُلُثِه فبان قَلِيلًا. أو: ظَهَر عليه دَين لم أعْلَمْه. لم تَبْطُل الوَصيَّةُ؛ لأنَّ العَبْدَ مَعْلُومٌ لا جَهالةَ فيه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنه يَمْلِكُ الفَسْخَ؛ لأنَّه قد يَسْمَحُ بذلك ظَنًّا منه أن يَبْقَى له مِن المالِ ما يَكْفِيه، فإذا بأن خِلافُ ذلك لَحِقَه الضَّرَرُ في الإجازَةِ، فمَلَكَ الرُّجُوعَ، كالمسألةِ التي قبلَها. فصل: ولا تَصِحُّ الإجازَةُ إلا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ، ولا تَصِحُّ مِن الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ والمَحْجُورِ عليه للسَّفَهِ؛ لأنَّها تَبَرعٌ بالمالِ، فلم تصِحَّ منهم، كالهِبَةِ. فأمّا المَحْجُورُ عليه لفَلَسٍ، فتَصِح منه إن قُلْنا: هي تَنْفِيذٌ. وإن قلنا: هي هِبَة. لم تَصِحَّ منه؛ لأنَّه ليس له هِبَةُ مالِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

2664 - مسألة: (ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت، فأما رده وقبوله قبل ذلك فلا عبرة به)

وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ إلا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأمَّا قَبُولُهُ وَرَدُّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2664 - مسألة: (ولا يَثْبُتُ المِلْكُ للمُوصَى له إلَّا بالقَبُولِ بعدَ المَوْتِ، فأمّا رَدُّه وقَبُولُه قبلَ ذلك فلا عِبْرَةَ به) يُشْتَرطُ لثُبُوتِ المِلْكِ للمُوصَى له شَرْطان؛ أحَدُهما، القَبُولُ إذا كانت لمُعَيَّن يُمْكِنُ القَبُولُ منه، في قولِ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّها تَمْلِيكُ مالٍ لمَن هو مِن أهْلِ المِلْكِ، مُتَعَيِّنٌ، فاعْتُبِرَ قَبُولُه، كالهِبَةِ والبَيعِ. قال أحمدُ: الهِبَةُ والوَصِيَّةُ واحِدٌ. فإن كانت لغيرِ مُعَيَّن؛ كالفُقَراءِ والمَساكِينِ، أو لمَن لا يُمكِنُ حَصْرُهم؛ كبَنى تَمِيمٍ، أو على مَصْلَحَةٍ؛ كمسجدٍ أو حَجٍّ، لم تَفْتَقِرْ إلى قَبُولٍ، ولَزِمَتْ بمُجَرَّدِ المَوْتِ؛ لأنَّ اعْتِبارَ القَبُولِ مِن جَميعِهم مُتَعَذِّرٌ، فسَقَطَ اعْتِبارُه، كالوَقْفِ عليهم، ولا يَتَعَيَّنُ واحِدٌ منهم فيُكْتَفَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَبُولِه (¬1)، ولذلك لو كان منهم ذو رَحِمٍ مِن المُوصَى به، مثلَ أن يُوصِيَ بعَبْدٍ للفُقَراءِ، وأبوه فَقِير، لم يَعْتِقْ عليه. ولأن المِلْكَ لا يَثْبُتُ للمُوصَى لهم، بدَلِيلِ ما ذَكَرْنا مِن المسألةِ، وإنَّما يَثْبُتُ لكلِّ واحِدٍ منهم بالقَبْضِ، فيَقُومُ قَبْضُه مَقامَ قَبُولِه. أمّا الآدَمِي المُعَيَّنُ، فيَثْبُتُ له المِلْكُ، فيُعْتَبَرُ قَبُولُه، لكنْ لا يَتَعَيَّنُ القَبُولُ باللَّفْظِ، بل يَحْصُلُ بما قام مَقامه مِن الأخْذِ والفِعْلِ الدّالِّ على الرِّضا، كقَوْلِنا في الهِبَةِ والبَيعِ. ويَجُوزُ القَبُولُ على الفَوْرِ والتَّراخِي: الثاني، أن يَقْبَلَ بعدَ مَوْتِ المُوصِي؛ لأنه قبلَ ذلك لم يَثْبُتْ له حَقٌّ، ولذلك لم يَصِحَّ رَدُّه. ¬

(¬1) في الأصل: «بقوله».

2665 - مسألة: (وإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطلت الوصية)

فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2665 - مسألة: (وإن مات المُوصَى له قبلَ مَوْتِ المُوصِي، بَطَلَتِ الوصيةُ) هذا قولُ أكثَرِ أهلِ العلمِ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. وبه قال الزُّهْرِيُّ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، ورَبِيعةُ، ومالكٌ،

2666 - مسألة: (وإن ردها بعد موته، بطلت أيضا)

وَإنْ رَدَّهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، بَطَلَتْ أَيضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعي، وأصحابُ الرأي. وقال الحسنُ: تكونُ لوَلَدِ المُوصَى له. وقال عَطاءٌ: إذا عَلِم المَرِيضُ بمَوْتِ المُوصَى له، ولم يُحْدِثْ فيما أوْصَى به شيئًا فهو لوارِثِ المُوصَى له؛ لأنَّه مات بعدَ عَقْدِ الوَصِيَّةِ، فيَقُومُ الوارِثُ مَقامَه، كما لو مات بعدَ مَوْتِ المُوصِي وقبلَ القَبُولِ. ولَنا، أنها عَطِيَّةٌ صادَفَتِ المُعْطَى مَيِّتًا، فلم تَصِحَّ، كما لو وَهَبَ مَيِّتًا؛ وذلك لأنَّ الوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ بعدَ الموتِ. وإذا مات قبلَ القَبُولِ، بَطَلَتِ الوَصِيَّةُ أيضًا. وإن سَلَّمْنا صِحَّتَها، فإنَّ العَطِيَّةَ صادَفَتْ حَيًّا، بخِلافِ مسألتِنا. 2666 - مسألة: (وإن رَدَّها بعدَ موتِه، بَطَلَتْ أيضًا) لا يَخْلُو رَدُّ الوَصِيَّةِ مِن أرْبَعَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن يَرُدَّها قبلَ مَوْتِ المُوصِي، فلا يَصِحُّ الرَّدُّ؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ لم تَقَعْ بعدُ، أشْبَهَ رَدَّ المَبِيعِ قبلَ إيجابِ البَيعِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه ليس بمَحَلٍّ للقَبُولِ، فلا يكونُ مَحَلًّا للرَّدِّ، كما قبلَ الوصيةِ. الثاني، أن يَرُدَّها بعدَ المَوْتِ وقبلَ القَبُولِ، فيَصِحُّ الرَّدُّ وتَبْطُلُ الوَصِيَّةُ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافا؛ لأنَّه أسْقَطَ حَقَّه في حالٍ يَمْلِكُ قَبُولَه وأخْذَه، فأشْبَهَ عَفْوَ الشَّفِيعِ عن الشفْعَةِ بعدَ البَيعِ. الثالثُ، أن يَرُدَّ بعدَ القَبُولِ والقَبْضِ، فلا يَصِحُّ الرَّدُّ؛ لأنَّ مِلْكَه قد اسْتَقَرَّ عليه، فأشْبَهَ رَده لسائِرِ مِلْكِه، إلَّا أن يَرْضَى الوَرَثَةُ بذلك، فتكونَ هِبَة منه لهم تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ. الرّابعُ، أن يَرُدَّ بعدَ القَبُولِ وقبلَ القَبضِ، فيُنْظَرُ؛ فإن كان المُوصَى به مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، صَحَّ الرَّدُّ؛ لأنَّه لا يَسْتَقِرُّ. مِلْكه عليه قبلَ قَبْضِه، فأشْبَهَ رَدَّه قبلَ القَبُولِ، وإن كان غيرَ ذلك، لم يَصِحَّ الرَّد (¬1)؛ لأنَّ مِلْكَه قد اسْتَقَرَّ عليه، فهو كالمَقْبُوضِ. ويَحْتَمِل أن يَصِحَّ الرَّدُّ، بناءً على أن القَبْضَ مُعْتَبَر فيه. ولأصحابِ الشافعيِّ في هذه الحالِ وَجْهانِ، أَحَدُهما، يَصِحُّ الرَّدُّ في الجميعِ، فلا فرقَ بينَ المَكِيلِ والموزونِ وغيرِهما. وهو المنصوصُ عن الشافعيِّ؛ لأنَّهم لمّا مَلَكُوا الرَّدَّ مِن غيرِ قَبُولٍ، مَلَكُوا الرَّدَّ مِن غيرِ قَبْض، ولأنَّ مِلْكَ الوَصِيِّ لم يَستَقِرَّ عليه قبلَ القَبْصِ، فصَحَّ رَدُّه كما قبلَ القَبُولِ. والثاني، لا يَصِحُّ الرَّدّ؛ لأنَّ المِلْكَ يَحْصُلُ بالقَبُولِ مِن غيرِ قَبْضٍ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ مَوْضِعٍ صَحَّ الرَّدُّ فيه، فإنَّ الوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بالرُّدِّ، ويَرْجِعُ المُوصَى به إِلى التَّرِكَةِ، فيكونُ الجَميعُ للوارِثِ؛ لأنَّ الأصْلَ ثُبُوتُ الحَقِّ لهم، وإنَّما خرَج بالوَصِيَّةِ، فإذا بَطَلَتْ رَجَع إلى ما كان عليه، كأنَّ الوَصِيَّةَ لم تُوجَدْ. ولو عَيَّنَ بالرَّدِّ واحِدًا فقَصَدَ تَخْصِيصَه بالمَرْدُودِ، لم يكنْ له ذلك، وكان لجَمِيعِهم؛ لأنَّ رَدَّه امْتِناعٌ مِن تَمَلُّكِه، فبَقِيَ على ما كان عليه، ولأنَّه لا يَمْلِكُ دَفْعَه إلى أجْنَبِي، فلم يَمْلِكْ دَفْعَه إلى وارِثٍ يَخُصُّه به. وكلُّ موضعٍ امْتَنَعَ الرَّدُّ لاسْتقْرارِ مِلْكِه عليه، فله أن يَخصَّ به بعضَ الوَرَثَةِ، لأنَّه ابْتِداءُ هِبَةٍ، ولأنَّه يَمْلِكُ دَفْعَه إلى أجْنَبِيٍّ، فمَلَكَ دَفْعَه إلى الوارِثِ. فلو قال: رَدَدْتُ هذه الوَصِيَّةَ لفُلانٍ. قِيلَ له: ما أرَدْتَ بقَوْلِك لفُلانٍ؟ فإن قال: أرَدْتُ تَمْلِيكَه إيّاها وتَخْصِيصَه بها. فقَبِلَها، اخْتَصَّ بها. وإن قال: أرَدْتُ رَدَّها إلى جميعِهم ليَرْضَى فُلانٌ. عادت إلى الجميعِ إذا قَبِلُوها، فإن قَبِلَها بعضُهم دُونَ بعض فلمَن قَبِل حِصَّتُه منها. فصل: ويَحْصُلُ الرَّدُّ بقَوْلِه: رَدَدْتُ الوَصِيَّةَ. وقَوْلِه: ما أقْبَلُها. وما أدَّى هذا المَعْنَى. قال أحمدُ: إذا وَصَّى لرجلٍ بألْفٍ، فقال: لا أقْبَلُها. فهي لوَرَثَتِه (¬1). ¬

(¬1) في م: «لورثة الموصى له» وعلى حاشية الأصل: «يعني لورثة الموصى له». وفي المغني 8/ 416: «يعني لورثة الموصى».

2667 - مسألة: (وإن مات بعده وقبل الرد والقبول، قام وارثه مقامه. ذكره الخرقي. وقال القاضي: تبطل على قياس قوله)

وَإنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. وَقَال الْقَاضِي: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2667 - مسألة: (وإن مات بعدَه وقبلَ الرَّدِّ والقَبُولِ، قام وارِثُه مَقامَه. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وقال القاضي: تَبْطُلُ على قِياسِ قَوْلِه) إذا مات المُوصَى له بعدَ مَوْتِ المُوصِي وقبلَ الرَّدِّ والقَبُولِ، قام وارِثُه مَقامَه في القَبُولِ والرَّدِّ. كذلك ذَكَرَه الخِرَقِيُّ؛ لأنَّه حَقٌّ يَثْبُت للمَوْرُوثِ، فثَبَتَ للوارِثِ بعدَ مَوْتِه؛ لقَوْلِه، عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ تَرَك حَقًّا فَلِوَرَثَتِه» (¬1). وكخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. وقال أبو عبدِ اللهِ بنُ حامِدٍ: تَبْطُلُ الوَصِيَّةُ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فإذا مات مَن له القَبُولُ قبلَ القَبُولِ، بَطَل العَقْدُ، كالهِبَةِ. قال القاضي: هو قِياسُ المَذْهَبِ؛ لأنَّه خِيارٌ لا يُعْتاضُ عنه، فبَطَلَ، كخِيارِ المَجْلِسِ والشَّرْطِ وخِيارِ الأخْذِ بالشُّفْعَةِ. وقال أصحابُ الرَّأْي: تَلْزَمُ الوَصِيَّةُ في حَقِّ الوارِثِ، وتَدْخُلُ في مِلْكِه حُكْمًا بغيرِ قَبُولٍ؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ قد لَزِمَت مِن جِهَةِ المُوصِي، وإنَّما الخِيارُ للمُوصَى له، فإذا مات بَطَل خِيارُه ودَخَل ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 188.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مِلْكِه، كما لو اشْتَرَى شيئًا على أنَّ الخِيارَ له فمات قبل (¬1) انْقِضائِه. ولَنا على أنَّ الوَصِيَّةَ لا تَبْطُلُ بمَوْتِ الوَصِيِّ، أنَّها عَقْدٌ لازِمٌ مِن أحَدِ الطَّرَفَين، فلم يَبْطُلْ بمَوْتِ مَن له الخِيارُ، كعَقْدِ الرَّهْنِ والبَيعِ إذا شُرِط فيه الخِيارُ لأحَدِهما، ولأنَّه عَقْدٌ لا يَبْطُلُ بمَوْتِ المُوجِبِ له، فلا يَبْطُلُ بمَوْتِ الآخَرِ، كالذي ذَكَرْنا. ويُفارِقُ الهِبَةَ والبَيعَ قبلَ القَبُولِ مِن الوَجْهَين اللَّذَين ذَكَرْناهما، وهو أنَّه جائِزٌ مِن الطَّرَفَين، ويَبْطُلُ بمَوْتِ المُوجِبِ له، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الخِياراتِ؛ لأنَّ ثَمَّ يَبْطُلُ الخِيارُ، ويَلْزَمُ العَقْدُ، فنَظِيرُه في مسألتِنا قولُ أصحابِ الرَّأْي. ولَنا على إبْطالِ قولِهم، أنَّه عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلى قَبُولِ المُتَمَلِّكِ، فلم يَلْزَمْ قبلَ القَبُولِ، كالبَيعِ والهِبَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الوارِثَ يَقُومُ مَقامَ المُوصَى له في الرَّدِّ والقَبُولِ؛ لأنَّ كلَّ حَقٍّ مات عنه المُسْتَحِقُّ فلم يَبْطُلْ بالمَوْتِ، قام الوارِثُ فيه مَقامَه، فإن رَدَّ الوارِثُ الوَصِيَّةَ بَطَلَتْ، وإن قَبِلَها صَحَّتْ. وإن كان الوارِثُ جماعَةً، اعْتُبرَ القَبُولُ والرَّدُّ مِن جَميعِهم، فإن رَدَّ بعضُهم وقَبِل بعضٌ، ثَبَتَ المِلْكُ لمَن قَبِل في حِصَّتِه، وبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ في حَقِّ مَن رَدَّ. فإن كان منهم مَن ليس له التَّصَرُّفُ، قام وَلِيُّه مَقامَه في ذلك، وليس له أن يَفْعَلَ إلَّا ما للمُوَلَّى عليه فيه الحَظُّ، فإن فعَل غيرَه لم يَصِحَّ، فإذا كان الحظُّ في قَبولِها، لم يَصِحَّ ¬

(¬1) في م: «بعد».

2668 - مسألة: (وإن قبلها بعد الموت، ثبت الملك حين القبول، في الصحيح)

وَإنْ قَبِلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثَبَتَ الْمِلْكُ حِينَ الْقَبُولِ، فِي الصَّحِيحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الردُّ وكان له قَبولُها بعدَ ذلك، وإن كان الحَظُّ في رَدِّها، لم يَصِحَّ قَبُولُه لها؛ لأنَّ الوَلِيَّ لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ المُوَلَّى عليه بغيرِ ما له الحَظُّ فيه. فلو وَصَّى لصَبيٍّ بذي رَحِمٍ يعْتِقُ بمِلْكِه له، وكان على الصَّبيِّ ضَرَرٌ في ذلك، بأن تَلْزَمَه نَفَقةُ المُوصَى به؛ لكَونِه فَقِيرًا لا كَسْبَ له، والمُولَّى عليه مُوسِرٌ، لم يكنْ له قَبُولُ الوَصِيَّةِ، وإن لم يكنْ عليه ضَرَرٌ، لكونِ المُوصَى به ذا كَسْبٍ، أو لكَوْنِ المُوَلَّى عليه فَقِيرًا لا تَلْزَمُه نَفَقَتُه، تَعَيَّنَ القَبُولُ؛ لأنَّ في ذلك نَفْعًا للمُوَلَّى عليه، لعِتْقِ قَرابَتِه مِن غيرِ ضَرَرٍ يَعُودُ عليه، فتَعَيَّنَ ذلك. والله أعلم. 2668 - مسألة: (وإن قَبِلَها بعدَ المَوْتِ، ثَبَت المِلْكُ حينَ القَبُولِ، في الصَّحِيحِ) مِن المَذْهَبِ. وهو قولُ مالِكٍ، وأهلِ العِراقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ عن الشافعيِّ. وفيه وَجْهُ آخَرُ ذَكَرَه أبو الخَطّابِ، أنه إذا قَبِل تَبَيَّنَّا أنَّ المِلْكَ ثَبَت حينَ مَوْتِ المُوصِي. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّ ما وَجَب انْتِقالُه بالقَبُولِ، وَجَب انْتِقالُه مِن جِهَةِ المُوجِبِ عندَ الإِيجابِ، كالهِبَةِ والبَيعِ، ولأنَّه لا يجوزُ أن يَثْبُتَ المِلْكُ فيه للوارِثِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬1). والإِرْثُ بعدَ الوَصِيَّةِ، ولا يَبْقَى للمَيِّتِ؛ لأنَّه صار جَمادًا لا يَمْلِكُ شيئًا. وللشافعيِّ قولٌ ثالثٌ غيرُ مَشْهُورٍ، أنَّ الوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بالمَوْتِ، ويُحْكَمُ بذلك قبلَ القَبُولِ؛ لِما ذَكَرْنا. ولَنا، أنَّه تَمْلِيكُ عَينٍ لمُعَيَّنٍ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، ¬

(¬1) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَسْبِقِ المِلْكُ القَبُولَ، كسائِرِ العُقُودِ، ولأنَّ القَبُولَ مِن تَمامِ السَّبَبِ، والحُكْمُ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه، ولأنَّ القَبُولَ لا يَخْلُو مِن أن يكونَ شَرْطًا أو جُزْءًا مِن السَّبَبِ، والحُكْمُ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه ولا شَرْطَه، ولأنَّ المِلْكَ في الماضِي لا يجوزُ تَعْلِيقُه بشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ. فإن قِيلَ: فلو قال لامرأتِه: أنت طالقٌ قبلَ مَوْتِي بشَهْرٍ. ثم مات، تَبَيَّنّا وُقُوعَ الطلاقِ قبلَ مَوْتِه بشَهْرٍ. قُلْنا: ليس هذا شَرْطًا في وُقُوعِ الطَّلاقِ، وإنَّما نَتَبَيَّنُ الوَقْتَ الذي يَقَعُ فيه الطَّلاقُ. ولو قال: إذا مِتُّ فأنتِ طالِقٌ قبلَه بشَهْرٍ. لم يَصِحَّ. وأمّا انْتِقالُه مِن جِهَةِ الموُجِب في سائِرِ العُقُودِ فإنَّه لا يَنْتَقِلُ إلَّا بعدَ القَبُولِ، فهو كمسألتنا، غيرَ أنَّ ما بينَ الإيجابِ والقَبُولِ ثَمَّ يَسِير لا يَظْهَرُ له أثرٌ، بخِلافِ مسألتِنا. قولُهم: إنَّ المِلْكَ لا يَثْبُتُ للوارِثِ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ بحُكْمِ الأصْلِ، إلَّا أن يَمْنَعَ منه مانِع، فأمّا قولُ اللهِ تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ}. قُلْنا: المُرادُ به وَصِيَّةٌ مَقْبُولةٌ، بدَلِيلِ أنَّه لو لم يَقْبَلْ، لكان مِلْكًا للوارِثِ، وقبلَ قَبُولِها فليست مَقْبُولَةً. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المُرادُ بقَوْلِه: {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا} (¬1). أي لكم ذلك مُسْتَقِرٌّ. ولا يَمْنَعُ هذا ثُبُوتَ المِلْكِ غيرَ مُسْتَقِرٍّ. ولهذا لا يَمْنَعُ الدَّينُ ثُبُوتَ المِلْكِ في التَّرِكَةِ، وهو آكَدُ مِن ¬

(¬1) سورة النساء 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَصِيَّةِ. وإن سَلَّمْنا أنَّ المِلْكَ لا يَبْقَى للوارِثِ، فإَّنه يَبْقَى مِلْكًا للمَيِّتِ، كما إذا كان عليه دَينٌ وقولُهم: لا يَبْقَى له مِلْكٌ. مَمْنُوعٌ، فإّنه يَبْقَى مِلْكُه فيما يَحْتاجُ إليه مِن مُؤْنَةِ تَجْهِيزِه ودَفْنِه، وقَضاءِ دُيُونِه. ويجوزُ أن يَتَجَدَّدَ له مِلْكٌ في دِيَتِه إذا قُتِل، وفيما إذا نَصَب شَبَكَةً فوَقَعَ فيها صَيدٌ بعدَ مَوْتِه، بحيث تُقْضَى دُيُونُه، وتَنْفُذُ وصاياه، ويُجَهَّزُ إن كان قبلَ تَجْهِيزِه، فهذا يَبْقَى على مِلْكِه، لتَعَذُّرِ انْتِقالِه إلى الوارِثِ مِن أجْلِ الوَصِيَّةِ، وامْتِناعِ انْتِقالِه إلى الوَصِيِّ قبلَ تَمامِ السَّبَبِ، فإن رَدَّ المُوصَى له، أو قَبِل، انْتَقَلَ حِينَئِذٍ. فإن قلنا بالأوَّلِ، وأنَّه يَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ، فإنَّه يَثْبُتُ له المِلْكُ على وَجْهٍ لا يُفِيدُ إباحَةَ التَّصَرُّفِ، كثُبُوتِه في العَينِ المَرْهُونَةِ، فلو باع المُوصَى به، أو رَهَنَه، أو أعْتَقَه، أو تَصَرَّفَ بغيرِ ذلك، لم يَنْفُذْ شيءٌ مِن تَصَرُّفاتِه. ولو كان الوارِثُ ابنًا للمُوصَى به، مثلَ أن تَمْلِكَ امرأةٌ زَوْجَها الذي لها منه ابْنٌ، فتُوصِيَ به لأجْنَبِيٍّ، فإذا ماتت،

2669 - مسألة: فما حصل من كسب أو (نماء منفصل)

فَمَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ نَمَاءٍ مُنْفَصِلٍ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ، وإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا تَبِعَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ انْتَقَلَ المِلْكُ فيه إلى ابْنِه إلى (¬1) حينِ القَبُولِ، ولا يَعْتِقُ عليه. 2669 - مسألة: فما حَصَل مِن كَسْبٍ أو (نَماءٍ مُنْفَصِلٍ) في المُوصَى به بعدَ مَوْتِ المُوصِي وقبلَ القَبُولِ، كالوَلَدِ والثَّمَرَةِ والكَسْبِ (فهو للوَرَثَةِ) على الوَجْهِ الأوَّلِ؛ لأنَّه مِلْكُهم (فإن كان مُتَّصِلًا تَبعَها) لأنَّه يَتْبَعُ في العُقُودِ والفُسُوخِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2670 - مسألة: (وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول فأولدها، صارت أم ولد له، وولدها حر)

وَإنْ كَانَتِ الوَصِيَّةُ بِأَمَةٍ فَوَطِئَهَا الْوَارِثُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَأَوْلَدَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا مَهْرَ عَلَيهِ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَعَلَيهِ قِيمَتُهَا لِلْوَصِيِّ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2670 - مسألة: (وإن كانتِ الوَصِيَّةُ بأمَةٍ فَوَطِئَها الوارِثُ قبلَ القَبُولِ فأوْلَدَها، صارت أُمَّ وَلَدٍ له، وولَدُها حُرٌّ) لأنَّه وَطِئَها في مِلْكِه (وعليه قِيمَتُها للوَصِيِّ) إذا قَبِلَها؛ لأنَّه فوَّتَها عليه (ولا مَهْرَ عليه، ولا تَلْزَمُه قِيمَةُ الوَلَدِ) لذلك. فإن قِيلَ: فكيف قَضَيتُم بعتْقِها ههُنا، وهي لا تَعْتِقُ بإعْتاقِها؟ قلنا: الاسْتِيلادُ أقْوَى، ولذلك يَصِحُّ مِن المَجْنُونِ، والرّاهِنِ، والأبِ، والشَّرِيكِ المُعْسِرِ، وإن لم يَنْفُذْ إعْتاقهم. وعلى

2671 - مسألة: (وإن وصى له بزوجته فأولدها)

وَإنْ وَصّى لَهُ بزَوْجَتِهِ فَأَوْلَدَهَا قَبْلَ الْقَبُول لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ. وَمَنْ أُوْصِيَ لَهُ بِأَبِيهِ فَمَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَقَبِلَ ابْنُهُ، عَتَقَ الْمُوصَى بِهِ حِيَنَئِذٍ، وَلَمْ يَرِثْ شَيئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهِ الآخَرِ، يكونُ وَلَدُه رَقِيقًا والأمَةُ باقِيَةً على الرِّقِّ. فإن وَطِئَهَا المُوصَى له [قبلَ قَبُولِها، كان ذلك قَبُولًا لها] (¬1)، ويَثْبُتُ المِلْكُ له به؛ لأنَّه لا يجوزُ إلَّا في المِلْكِ، فإقْدامُه عليه دَلِيلٌ على اخْتِيارِه المِلْكَ، فأشْبَهَ ما لو وَطِئَ مَن له الرَّجْعَةُ زَوْجَتَه الرَّجْعِيَّةَ، أو وَطِئَ مَن له الخِيارُ في البَيعِ الأمَةَ المَبِيعَةَ، أو وَطِئَ مَن له خِيارُ فَسْخِ النِّكاحِ امرأتَه. 2671 - مسألة: (وإن وَصَّى له بزَوْجَتِه فأوْلَدَها) بعدَ مَوْتِ المُوصِي و (قبلَ القَبُولِ، فوَلَدُه رَقِيقٌ) للوارِثِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يكونُ (¬2) حُرَّ الأصْلِ، ولا وَلاءَ عليه، وأُمُّه أُمُّ وَلَدٍ؛ لأنَّها عَلِقَتْ منه بحُرٍّ في مِلْكِه. 2672 - مسألة: (وإن وَصَّى له بأبيه فمات قبلَ القَبُولِ، فقَبِلَ ¬

(¬1) في م: «قبل ذلك كان قبولا». (¬2) بعده في الأصل: «الموصى له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنه، عَتَقَ المُوصَى به، ولم يَرِثْ شيئًا) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا وَصَّى له بأبِيه، فمات المُوصَى له بعدَ مَوْتِ المُوصِي وقبلَ الرَّدِّ والقَبُولِ، فلوَارِثِه قَبُولُها، على قولِ الخِرَقِيِّ. وهو الصحيحُ، إن شاء اللهُ تعالى. فإن قَبِلَها ابنه، صَحَّ، وعَتَقَ عليه الجَدُّ، ولم يَرِثْ مِن ابنِه شيئًا؛ لأنَّ حُرِّيَّتَه إنَّما حَدَثَتْ حينَ القَبُولِ بعدَ أن صار المِيراثُ لغيرِه. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، تَثْبُت حُرِّيَّتُه مِن حينِ مَوْتِ المُوصِي، ويَرِثُ مِن ابنِه السُّدْسَ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: لا يَرِثُ أيضًا؛ لأنَّه لو وَرِث لاعْتبِرَ قَبُولُه، ولا يجوز اعْتِبارُ قَبُولِه قبلَ الحُكْمِ بحُرِّيَّتِه، وإذا لم يَجُزِ اعْتِبارُه لم يَعْتِقْ، فيُؤَدِّي تَوْرِيثُه إلى إبْطالِ تَوْرِيثِه. وهذا فاسِدٌ؛ فإنَّه لو أقَرَّ جَميعُ الوَرَثَةِ بمُشارِكٍ لهم في المِيرَاثِ، ثَبَتَ نَسَبُه، ووَرِث، مع أنَّه يَخْرُجُ المُقِرُّون

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ حِينَ الْمَوْتِ، فَتَنْعَكِسَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به عن كونِهم جَمِيعَ الوَرَثَةِ. ومِن فُرُوعِ ذلك، أنَّه لو مات المُوصَى له فقَبِلَ وارِثُه، لثَبَتَ المِلْكُ للوارِثِ القابِلِ ابْتِداءً مِن جِهَةِ المُوصِي، لا مِن جِهَةِ مَوْرُوثِه، ولم يَثْبُتْ للموصَى له شيءٌ، فحِينَئِذٍ لا تُقْضَى دُيُونُه ولا تَنْفُذُ وصاياه، ولا يَعْتِقُ مَن يَعْتِقُ عليه. فإن كان منهم مَن يَعْتِقُ على الوارِثِ، عَتَقَ عليه، وكان وَلاؤُه له دُونَ المُوصَى له. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، نَتبَيَّنُ أنَّ المِلْكَ كان ثابِتًا للمُوصَى له، وأنَّه انْتَقَلَ منه إلى وارِثِه، فتَنْعَكِسُ هذه الأحْكامُ، فتُقْضَى دُيُونُه، وتَنْفُذُ وصاياه، ويَعْتِقُ مَن يَعْتِقُ عليه، وله وَلاؤُه يَخْتَصُّ به الذُّكُورُ مِن وَرَثَتِه (ويَحْتَمِلُ أن يَثْبُتَ المِلْكُ مِن حينِ المَوْتِ، فتَنْعَكِسَ هذه الأحْكامُ) وقد ذَكَرْناه. فصل: وتَصِحُّ الوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً ومُقَيَّدةً: فالمُطلَقَة، أن يقولَ: إن مِتُّ فثُلُثِي للمَساكِينِ. أو: لزيدٍ. والمُقَيَّدَةُ، أن يقولَ: إن مِتُّ في مَرَضِي هذا. أو: في هذه البَلْدَةِ. أو: في سَفَرِي هذا، فثُلُثِي للمَساكِينِ. فإن بَرَأ مِن مَرَضِه، أو قَدِمَ مِن سَفَرِه، أو خرَج مِن البلدةِ، ثم مات، بطَلَتِ الوَصِيَّةُ المُقَيَّدَةُ دُونَ المُطْلَقَةِ. قال أحمدُ، في مَن وَصَّى وَصِيَّةً إن مات مِن مَرَضِه هذا أو مِن سَفَرِه هذا، ولم يُغَيِّرْ وَصِيَّتَه، ثم مات بعدَ ذلك: فليس له وَصِيَّةٌ. وبهذا قال الحسن، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ،

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْي. وقال مالكٌ: إن قال قولًا، ولم يَكْتُبْ كِتابًا، فهو كذلك، وإن كَتَب كتابًا ثم صَحَّ مِن مَرَضِه، وأقَرَّ الكِتابَ، فوَصِيَّتُه بحالِها ما لم يَنْقُضْها. ولَنا، أنَّها وصيةٌ بشَرْطٍ لم يُوجَدْ شَرْطُها، فبَطَلَتْ، كما لو لم يَكْتُبْ كتابًا، أو كما لو وَصَّى لقَوْمٍ فماتُوا قبلَه، ولأنَّه قَيَّدَ وَصِيته بقَيدٍ، فلا تَتَعدَّاه، كما ذَكَرْنا. وإن قال لأحَدِ عَبْدَيه: أنت حُرٌّ بعدَ مَوْتي. وقال للآخَرِ: أنت حُرٌّ إن مِتُّ مِن مَرَضِي هذا. فمات مِن مَرَضِه، فالعَبْدانِ سَواءٌ في التَّدْبِيرِ. وإن بَرَأ مِن مَرَضِه ذلك، بَطَل تَدْبِيرُ المُقَيَّدِ وبَقِيَ تَدْبِيرُ المُطْلَقِ بحالِه. ولو وَصَّى لرجلٍ بثُلُثِه، وقال: إن مِتَّ قبلِي فهو لعمرٍو. صَحَّتْ وَصِيَّتُه على حَسَبِ ما شَرَطَه. وكذلك سائِرُ الشُّرُوطِ، فإنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬1). فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (ويَجُوزُ الرُّجُوعُ في الوَصِيَّةِ) اتَّفَقَ أهلُ العلمِ على أنَّ للمُوصِي أن يَرْجِعَ في كلِّ ما وَصَّى به، وفي بعضِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149.

2673 - مسألة: (فإذا قال: قد رجعت في وصيتي. أو: أبطلتها. أو نحو ذلك)

فَإذَا قَال: قَدْ رَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي. أوْ: أَبْطَلْتُهَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، بَطَلَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا الوَصِيَّةَ بالإِعْتاقِ، فقد اخْتُلِفَ فيها، فالأكْثَرُون على جَوازِ الرُّجُوعِ فيها أيضًا. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: يُغيِّرُ الرجلُ ما شاء مِن وَصِيَّتِه (¬1). وبه قال عَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، والزُّهْرِيُّ، وقتادَةُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الشَّعْبِيُّ، وابنُ سِيرِينَ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والنَّخَعِيُّ: يُغَيِّرُ ما شاء منها إلَّا العِتْقَ؛ لأَنه إعْتاقٌ بعدَ المَوْتِ، فلم يَمْلِكْ تَغْيِيرَه، كالتَّدْبيرِ. ولَنا، أنَّها وَصِيَّةٌ، فمَلَكَ الرُّجُوعَ عنها، [كغيرِ العِتْقِ] (¬2)، ولأنَّها عَطِيَّةٌ تَنْجُزُ بالمَوْتِ، فجاز له الرُّجُوعُ عنها قبلَ تَنْجِيزِها، كهِبَةِ ما يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ قبلَ قَبْضِه. وأمّا التَّدْبِيرُ، فلَنا فيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ، فإنَّ الوَصِيَّةَ تُفارِقُ التَّدْبِيرَ، فإنَّه تَعْلِيقٌ على شَرْطٍ، فلم يَمْلِكْ تَغْيِيرَه، كتَعْلِيقِه (¬3) على صِفَةٍ في الحَياةِ. 2673 - مسألة: (فإذا قال: قد رجعتُ في وَصِيَّتِي. أو: أبْطلْتُها. أو نحوَ ذلك) كقولِه: غيَّرتُها (بَطَلَتْ) لأنَّه صريحٌ في ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، في: باب الرجوع عن الوصية، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 410. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كتعليته».

2674 - مسألة: وإن قال: (ما أوصيت به لفلان فهو لفلان.

وَإنْ قَال فِي الْمُوصَى بِهِ: هَذَا لِوَرَثَتِي. أوْ: مَا أوْصَيتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ. كَانَ رُجُوعًا. وَإنْ وَصَّى بِهِ لِآخَرَ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَهُوَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجوعِ (وإن قال في المُوصَى به: هو لوَرَثَتي) أو: في ميراثي. فهو رُجوعٌ؛ لأنَّ ذلك يُنافِي كونَه وصيَّةً. 2674 - مسألة: وإن قال: (ما أوْصَيتُ به لفُلانٍ فهو لفلانٍ. كان رُجُوعًا) وبه قال الشافعي، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّه صَرَّحَ بالرُّجُوعِ عن الأوَّلِ بذِكْرِه أنَّ ما أوْصَى به مَرْدُودٌ إلى الثانِي، أشْبَهَ ما لو قال: رَجَعْتُ عن وَصِيَّتِي لفلانٍ وأوْصَيتُ بها لفلانٍ. 2675 - مسألة: (وإن وَصَّى به لآخَرَ ولم يَقُلْ ذلك، فهو بينَهما) إذا وَصَّى لإِنسانٍ بمُعَيَّنٍ مِن مالِه ثم وَصَّى به لآخَرَ، أو وَصَّى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لرجلٍ بثُلُثِه ثم وَصَّى لآخَرَ بثُلُثِه، أو وَصَّى بجَمِيعِ مالِه لرجلٍ ثم وَصَّى به لآخرَ، فهو بينَهما، وليس ذلك رُجُوعًا في الوَصِيَّةِ الأولَى. وبه قال رَبيعَةُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وأَصحابُ الرَّأْي. وقال جابرُ بن زيدٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، وداودُ: وَصِيَّتُه للأخِيرِ منهما؛ لأنه وَصَّى للثانِي بما وَصَّى به للأوَّلِ، فكان رُجُوعًا، كما لو قال: ما وَصَّيتُ به لفلانٍ فهو لفلانٍ. ولأن الثانيةَ تُنافِي الأُولَى، فإذا أتَى بها كان رُجُوعًا، كما لو قال: هذا لوَرَثَتِي. ولَنا، أنَّه وَصَّى بها لهما، فاسْتَوَيا فيها، كما لو قال: وَصَّيتُ لكما بهذه العَينِ. وما قاسُوا عليه صَرَّحَ فيه بالرُّجُوعِ عن وَصِيَّةُ للأوَّلِ، وفي مسألتِنا يَحْتَمِلُ أنَّه قَصَد التَّشْرِيكَ، فلم تَبْطُلْ وَصِيَّةُ الآخَرِ بالشَّكِّ. فصل: إذا وَصَّى بعَبْدٍ لرجل ثم وَصَّى لآخَرَ بثُلُثِه، فهو بينَهما أرْباعًا. وعلى قولِ الآخَرِين يَنْبَغِي أن يكونَ للثانِي ثُلثه كامِلًا. وإن وَصَّى بعَبْدِه لاثْنَين، فرَدَّ أحَدُهما وَصِيتَّهَ، فللآخَرِ نِصْفُه. وإن وَصَّى لاثْنَين بثُلُثَي ماله، فرَدَّ الوَرَثَةُ ذلك، ورَدَّ أحَدُ الوَصِيَّين وَصِيَّتَه، فللآخَرِ الثُّلُثُ كامِلًا؛ لأنَّه وَصَّى له به مُنْفَرِدًا وزالتِ المُزاحَمَةُ، فكَمُلَ له، كما لو انْفَرَدَ به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أقَرَّ الوارِثُ أنَّ أباه وَصَّى بالثُّلُثِ لرجل، وأقام آخَرُ شاهِدَين أنَّه أوْصَى له بالثُّلُثِ، فرَدَّ الوارِثُ الوَصِيَّين، وكان الوارِثُ رجلًا عَدْلًا، وشَهِد بالوَصِيَّةِ، حَلَف معه المُوصَى له، واشتَرَكا في الثُّلُثِ. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ. وهو قِياسُ قولِ الشافعيِّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا يُشارِكُه المُقَرُّ له. بناءً منهم على أنَّ الشّاهِدَ واليَمِينَ ليس بحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ. وقد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بشاهِدٍ ويَمِينٍ. رَواهُ مسلمٌ (¬1). وإن كان المُقِرُّ ليس بعَدْلٍ، أو كان امرأةً، فالثُّلُثُ لمَن شَهِدَتْ له البَيِّنَةُ؛ لأنَّ وَصِيَّتَه ثابِتةٌ، ولم تَثبُتْ وَصِيَّةُ الآخَرِ. وإن لم يكنْ لواحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، فأقَرَّ الوارِثُ أنَّه أقَرَّ لفُلانٍ بالثُّلُثِ، أو بهذا العَبْدِ، و (¬2) أقَرَّ لآخَرَ به بكلامٍ مُتَّصِلٍ، فالمُقَرُّ به بينَهما. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وإن أقَرَّ به لواحِدٍ، ثم أقَرَّ به لآخَرَ في مجلِس آخَرَ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه؛ لأنَّه ثَبَت للأوَّلِ بإقْرارِه، فلا يُقْبَلُ قولُه فيما يَنْقُصُ به حَقُّ الأوَّلِ، إلَّا أن يكونَ عَدْلًا فيَشْهَدَ بذلك ويَحْلِفَ معه المُقَرُّ له، فيُشارِكَه، كما لو ثَبَت للأوَّل ببَيِّنَةٍ. وإن أقَرَّ للثانِي، في المَجْلِسِ بكَلامٍ مُنْفَصِلٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ حَقَّ الأوَّلِ ثَبَت في الجميعِ، فأشْبَهَ ما لو أقَرَّ له في مَجْلِسٍ آخَرَ. والثانِي، يُقْبَلُ؛ لأن المَجْلِسَ الواحِدَ كالحالِ الواحِدَةِ. ¬

(¬1) في: باب القضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1337. كما أخرجه أبو داود، في: باب القضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأفضية. سنن أبي داود 2/ 277. وابن ماجه، في: باب القضاء بالشاهد واليمين، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 793. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 248، 315، 323. (¬2) في م: «أو».

2676 - مسألة: (وإن باعه، أو وهبه، أو رهنه، كان رجوعا)

وَإِنْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ رَهَنَهُ، كَانَ رُجُوعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2676 - مسألة: (وإن باعَه، أو وَهَبَه، أو رَهَنَه، كان رُجُوعًا) إذا وَهَب المُوصَى به، أو تَصَدَّقَ به، أو أكَلَه، أو أطْعَمَه، أو أتْلَفَه، أو كان ثَوْبًا ففَصَّلَه ولَبِسَه، أو جارِيَةً فأحْبَلَها، أو ما أشْبَهَ ذلك، فهو رُجُوعٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ، أنَّه إذا أوْصَى لرجلٍ بطَعامٍ فأكَلَه، أو بشيءٍ فأتْلَفَه، أو وَهَبَه، أو تَصَدَّقَ به، أو بجارِيَةٍ فأحْبَلَها، أو أوْلَدَها، فإنه يكونُ رُجُوعًا، وكذلك إن باعَها. وحُكِيَ عن أصحابِ الرَّأي، أنَّ بَيعَه ليس برُجُوعٍ؛ لأنَّه أخَذَ بَدَلَه، بخِلافِ الهِبَةِ. ولَنا، أنَّه أزال مِلْكَه عنه، فكان رُجُوعًا، كما لو وَهَبَه. وإن عَرَضَه على البَيعِ، أو وَصَّى ببَيعِه، أو أوْجَبَ الهِبَةَ فلم يَقْبَلْها المَوْهُوبُ له، كان رُجُوعًا؛ لأنَّه يَدُلُّ على اخْتِيارِه للرُّجُوعِ، ووَصِيَّتُه بِبَيعِه أو إعْتاقِه رُجُوعٌ، لكونِه وَصَّى بما يُنافِي الوَصِيَّةَ الأُولَى.

2677 - مسألة: (وإن كاتبه، أو دبره، أو جحد الوصية، فعلى وجهين)

وَإنْ كَاتَبَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رَهَنَه، كان رُجُوعًا؛ لأنَّه عَلَّقَ به حَقًّا يجوزُ بَيعُه، فكان أعْظَمَ مِن عَرْضِه على البَيعِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه ليس برُجُوعٍ. وهو وَجْهٌ لأصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه لا يُزِيلُ المِلْكَ، أشْبَهَ إجارَتَه. 2677 - مسألة: (وإن كاتَبَه، أو دَبَّرَه، أو جَحَد الوَصِيَّةَ، فعلى وَجْهَين) أحَدُهما، يكونُ رجُوعًا؛ لأنَّ الكِتابةَ بَيعٌ، والتَّدْبِير أقْوى مِن الوَصِيَّةِ؛ لأنَّه يَنْتَجِزُ بالموتِ، فسَبَق أخْذَ المُوصَى له، وجَحْدُ الوَصِيَّةِ

2678 - مسألة: (وإن خلطه بغيره على وجه لا يتميز)

فَإن خَلَطَهُ بِغَيرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ، أَوْ أَزْال اسْمَهُ فَطَحَنَ ـــــــــــــــــــــــــــــ رُجُوعٌ؛ لأنَّه يدُلُّ (¬1) على الرُّجُوعِ، ولأنَّ جَحْدَه يَدُلُّ على أنَّه لا يريدُ إيصاله إلى المُوصَى له. والثانِي، لا يكونُ رُجُوعًا؛ لأنَّ الكِتابَةَ والتَّدْبِيرَ لا يَخْرُجُ بهما عن مِلْكِه، ولأنَّ الوَصيةَ عَقْدٌ، فلا تَبْطُلُ بالجُحُودِ، كسائِرِ العُقُودِ. وهو رِوايَةٌ عن أبي حنيفةَ. 2678 - مسألة: (وإن خَلَطَه بغيرِه على وَجْهٍ لا يَتَمَيَّزُ) منه، كان رُجُوعًا؛ لأنَّه يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُه، فيَدُلُّ على رُجُوعِه. وإن خَلَطَه بما يَتَمَيَّزُ منه، لم يكن رُجُوعًا؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ. وإن (أزال اسْمَه، فطَحَنَ ¬

(¬1) في م: «لا يدل».

الْحِنْطَةَ أوْ خَبَزَ الدَّقِيقَ، أوْ جَعَلَ الْخُبْزَ فَتِيتًا، أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ، أوْ نَجَرَ الْخَشَبَةَ بَابًا وَنَحْوَهُ، أو انْهَدَمَتِ الدَّارُ وَزَال اسْمُهَا، فَقَال الْقَاضِي: هُوَ رُجُوعٌ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِنْطَةَ) أو عَجَن الدَّقِيقَ، أو خَبَز العَجِينَ (¬1) (أو جَعَلَ الخُبْزَ فَتِيتًا) فهو رُجُوعٌ؛ لأنَّه أزال اسْمَه. وذَكَرَه القاضِي؛ لأنَّه أزال اسْمَه وعَرَّضَه للاسْتِعْمالِ، وذلك دَلِيلٌ على رُجُوعِه. وبهذا قال الشافعيُّ. وعلى قِياسِ ذلك إذا (نَجَر الخَشَبَةَ بابًا ونحوَه) لأنَّه أزال اسْمَه، فهو في مَعْناه. وإن كان قُطْنًا أو كَتّانًا فغَزَلَه، أو غَزْلًا فنَسَجَه، أو ثَوْبًا فقَطَعَه، أو نُقْرَةً (¬2) فضَرَبَها، أو شاةً فذَبَحها، كان رُجُوعًا. وبه قال أصحابُ الرَّأي، والشافعيُّ في ظاهِرِ مَذْهَبِه. واخْتارَ أبو الخَطّابِ، أنَّه ليس برُجُوعٍ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه لا يُزِيلُ اسْمَه. ولَنا، أنَّه عَرضَه للاسْتِعْمالِ، فكان رُجُوعًا؛ لأن فِعْلَه يَدُلُّ على الرُّجُوعِ. وقولُهم: إنَّه لا يُزِيلُ اسْمَه. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الثَّوْبَ لا يُسَمَّى غَزْلًا، والغَزْلَ لا يُسَمَّى كَتَّانًا. ¬

(¬1) في م: «الحنطة». (¬2) في م: «بقرة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَدَث بالمُوصَى به ما يُزِيلُ اسْمَه مِن غيرِ (¬1) فِعْل المُوصِي، مِثْلَ أن سَقَط الحَبُّ في الأرْضِ فصار زَرْعًا، أو انْهَدَمَتِ الدّارُ فصارت فَضاءً في حَياةِ المُوصِي، بَطَلَتِ الوَصِيّةُ بها؛ لأنَّ الباقيَ لا يَتَناوَلُه ¬

(¬1) سقط من: م.

2679 - مسألة: (وإن وصى له بقفيز من صبرة، ثم خلط الصبرة بأخرى، لم يكن رجوعا)

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، ثُمَّ خَلَطَ الصُّبْرَةَ بِأُخْرَى، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْمُ. وهو اخْتِيارُ القاضي. وذَكَر أبو الخَطّابِ، في الدّارِ إذا انْهَدَمَتْ وزال اسمُها وَجْهًا، أنَّه لا يكونُ رُجُوعًا؛ لأنَّ المُوصِيَ لم يَقْصِدْ ذلك. والأوَّلُ أوْلَى. وإن كان انْهِدامُ الدّارِ لا يُزِيلُ اسْمَها، سُلِّمَتْ إليه. 2679 - مسألة: (وإن وَصَّى له بقَفِيزٍ مِن صُبْرَةٍ، ثم خَلَط الصُّبْرةَ بأُخْرَى، لم يكن رُجُوعًا) سَواءٌ خَلَطَها بمِثْلِها، أو خَيرٍ منها، أو دُونِهَا؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه كان مُشاعًا، وبَقِيَ مُشاعًا، وقِيلَ: إن خَلَطَه بخيرٍ منه، كان رُجُوعًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه تَسْلِيمُ المُوصَى به إلَّا بتَسْلِيمِ خَيرٍ منه، ولا يَجِبُ على الوارِثِ تَسْلِيمُ خَيرٍ منه، فصار مُتَعَذِّرَ التَّسْلِيمِ، بخِلافِ ما إذا خَلَطَه بمِثْلِه أو دُونِه.

2680 - مسألة: (وإن زاد في الدار عمارة، أو انهدم بعضها، فهل يستحقه الموصى له؟ على وجهين)

وَإنْ زَادَ فِي الدَّارِ عِمَارَةً، أو انْهَدَمَ بَعْضُهَا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّهُ المُوصَى لَهُ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2680 - مسألة: (وإن زاد في الدّارِ عِمارَةً، أو انْهَدَمَ بعضُها، فهل يَسْتَحِقُّه المُوصَى له؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، لا يَسْتَحِقُّه؛ لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزِّيادَةَ لم تَتَناوَلْها الوصيةُ، والأنْقاضَ لا تَدْخُلُ في مُسَمَّى الدارِ، وإنَّما يَتْبَعُ الدارَ في الوصيةِ ما (¬1) يَتْبَعُها في البَيعِ. والوَجْهُ الآخَرُ، يَدْخُلانِ في الوَصِيَّةِ؛ لأن الزِّيادَةَ تابِعَةٌ للمُوصَى به، فأشْبَهَ سِمَنَ العَبْدِ وتَعْلِيمَه، والمُنْهدِمُ قد دَخَل في الوصيةِ، فتَبْقَى الوصيةُ ببَقائِه. فصل: نَقَل الحسنُ بنُ ثَوَابٍ، عن أحمدَ، في رجلٍ قال: هذا ثُلُثِي لفُلانٍ، ويُعْطَى فُلانٌ منه مائة في كلِّ شهر إلى أن يَمُوت. فهو للآخَرِ منهما، ويُعْطَى هذا مائةً في كلِّ شهرٍ، فإن مات وفَضَل شيءٌ؛ رُدَّ إلى صاحِبِ الثلُثِ. فحَكَمَ بصِحَّةِ الوَصِيَّةِ وإنْفاذِها، على ما أمَرَ به المُوصِي. ¬

(¬1) في م: «وما».

2681 - مسألة: (وإن وصى لرجل)

وَإِنْ أوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ قَال: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَهُوَ لَهُ. فَقَدِمَ في حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ لَهُ. وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخرِ، هُوَ لِلْقَادِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2681 - مسألة: (وإن وَصَّى لرجلٍ) بشيءٍ (ثم قال: إن قَدِم فلانٌ فهو له. فقَدِمَ في حَياةِ المُوصِي، فهو له) لأنَّه جَعَلَه له بشرْطِ قُدُومِه، وقد وُجِد الشَّرْطُ (وإن قَدِم بعدَ مَوْتِ المُوصِي، فهو للأوَّلِ، في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه لَمّا مات قبلَ قُدُومِه انْتَقَلَ إلى الأوَّلِ، لعَدَمِ الشرْطِ في الثانِي، وقَدِم الثانِي بعدَ مِلْكِ الأوَّلِ له وانْقِطاعِ حَقِّ المُوصِي منه، فيَبْقَى للأوَّلِ. ذَكَرَه القاضي (وفي الوَجْهِ الثانِي، هو للقادِم) لأنَّه مَشرُوْطٌ له بقُدُومِه، فأشْبَهَ ما لو قال: إن حَمَلَتْ نَخْلَتِي بعدَ مَوتِي فهو لفلانٍ. فحَمَلَتْ بعدَ مَوْتِه، فإنَّه يَسْتَحِقُّ حَمْلَها بعدَ مِلْكِ الوَرَثَةِ لأصْلِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أوْصَى بأمَةٍ لزَوْجِها الحُرِّ فقَبِلَها، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يَجْتَمِعُ مع مِلْكِ اليَمينِ. وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ المُوصَى له إنَّما مَلَك المُوصَى به بالقَبُولِ، فحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ النِّكاحُ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه إذا قَبِل، تَبَيَّنّا أنَّ المِلْكَ كان ثابِتًا مِن حينِ مَوْتِ المُوصِي، فتَبَيَّن أن النِّكاحَ انْفَسخَ مِن حينِ مَوْتِ المُوصِي. فإن أتت بوَلَدٍ، لم يَخْلُ مِن ثلاثةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن تكونَ حامِلًا به (¬1) حينَ الوصيةِ، ويُعْلَمُ ذلك بأن تَأْتِيَ به لأقَلَّ مِن سِتةِ أشْهُرٍ منذ أوْصَى، فالصَّحِيحُ أنَّه يكونُ مُوصَّى به معها؛ لأنَّ للحَمْلِ حُكْمًا، ولهذا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ به وله، وإذا صَحَّتِ الوصيةُ به مُنْفَرِدًا، صَحتْ به مع أُمِّه، فيَصِيرُ كما لو كان مُنْفَصِلًا، فأوْصَى بهما جميعًا. وفيه وَجْهٌ (1) آخَرُ، لا حُكْمَ للحَمْل، فلا يَدْخُلُ في الوصيةِ، وإنَّما يَثْبُتُ له الحُكمُ عندَ انفِصالِه، كأنَّه حَدَث حِينَئِذٍ. فعلى هذا، إنِ انْفَصَلَ في حَيَاةِ المُوصِي، فهو له (1)، كسائِرِ كَسْبِها، وإنِ انْفَصَلَ بعدَ مَوْتِه وقبلَ القَبُولِ، فهو للوَرَثَةِ، على ظاهِرِ المَذْهَبِ، وإنِ انْفَصَلَ بعدَه، فهو للوَصِيِّ (¬2). الحالُ الثانِي، أن تَحْمِلَ به بعدَ الوصيةِ، ويُعْلَمُ ذلك بأن تَضَعَه بعدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينَ أوْصَى؛ لأنَّها وَلَدَتْه لمُدَّةِ الحَمْلِ بعدَ الوَصِيَّةِ، فيَحْتَمِلُ أنَّها حَمَلَتْه بعدَها، فلم تَتَناولْه، والأصْلُ عَدَمُ الحَمْلِ حال الوَصيةِ، فلا نُثْبِتُه بالشَّكِّ، فيكونُ مَمْلُوكًا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «للموصى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُوصِي إن وَلَدَتْه في حَياتِه، وإن وَلَدَتْه بعدَه، وقُلْنا: للحَمْلِ حُكْمٌ. فكذلك. وإن قُلْنا: لا حُكْمَ له. فهو للوَرَثَةِ إن وَلَدَتْه قبلَ القَبُولِ، ولأبيه إن وَلَدَتْه بعدَه. وكلُّ مَوْضِع كان الوَلَدُ للمُوصَى له، فإنَّه يَعْتِقُ عليه بأنَّه ابنُه، وعليه وَلاءٌ لأبيه؛ لأنَّه عَتَقَ عليه بالقَرابَةِ، وأُمُّه أمَةٌ يَنْفَسِخُ نِكاحُها بالمِلْكِ، ولا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لأنَّها لم تَعْلَقْ منه بحُرٍّ في مِلْكِه. الحالُ الثالثُ، أن تَحْمِلَ بعدَ مَوْتِ المُوصِي وقبلَ القَبُولِ، ويُعْلَمُ ذلك بأن تَضَعَه لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ المَوْتِ، فإن وَضَعَتْه قبلَ القَبُولِ، فهو للوارِثِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأن المِلْكَ إنَّما يَثْبُتُ للمُوصَى له بعدَ القَبُولِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يكونُ للمُوصَى له. وإن وَضَعَتْه بعدَ القَبُولِ فكذلك؛ لأن الظّاهِرَ أنَّ للحَمْلِ حُكْمًا، فيكونُ حادِثًا على مِلْكِ الوارِثِ. وعلى الوَجْهِ الآخرِ، يكونُ للمُوصَى له. فعلى هذا، يكونُ حُرًّا لا وَلاءَ عليه؛ لأنَّها أمُّ وَلَدٍ لكونِها عَلِقَتْ منه بحُرٍّ في مِلْكِه، فهو كما لو حَمَلَتْ به بعدَ القَبُولِ. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ قَرِيبٌ ممّا قُلْناه. وقال أبو حنيفةَ: إذا وَضَعَتْه بعدَ مَوْتِ المُوصِي، دَخَل في الوصيةِ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّها تَسْتَقِرُّ بالمَوْتِ وتَلْزَمُ، فوَجَبَ أن تَسْرِيَ إلى الوَلَدِ، كالاسْتِيلادِ. ولَنا، أنَّها زيادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ حادِثَةٌ بعدَ عَقْدِ الوصيةِ، فلا تَدْخُلُ فيها، كالكَسْبِ، وكما لو وَصَّى بعِتْقِ جارِيَةٍ فوَلَدَتْ، ويُفارِقُ الاسْتِيلادَ؛ لأنَّ

فَصْلٌ: وَتُخْرَجُ الْوَاجِبَاتُ مِنْ رَأَسِ الْمَالِ، أَوْصَى بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ له تَغْلِيبًا وسِرايَةً. وهذا التَّفْرِيعُ فيما إذا خَرَجَتْ مِن الثُّلُثِ، وإن لم تَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، مَلَك منها بقَدْرِ الثُّلُثِ، وانْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأن مِلْكَ بعضِها يَفْسَخُ النِّكاحَ، كمِلْكِ جَمِيعِها. وكلُّ مَوْضِع يكونُ الوَلَدُ لأبيه، فإنَّه يكونُ له منه ههُنا بقَدْرِ ما مَلَك مِن أُمِّه، ويَسْرِي العِتْقُ إلى باقِيه إن كان مُوسِرًا، وإن كان مُعْسِرًا فقد عَتَقَ منه ما مَلَك وَحْدَه. وكلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: تكونُ أُمَّ وَلَدٍ. فإنَّها تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ههُنا، سواءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا، على قول الخِرَقِيِّ، إذا اسْتَوْلَدَ الأمَةَ المُشْتَرَكَةَ. وقال القاضي: يَصِيرُ منها أُمُّ وَلَدٍ بقَدْرِ ما مَلَك منها. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. واللهُ أعلمُ. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (وتُخْرَجُ الواجِباتُ مِن رَأْسِ المالِ، أوْصَى بها أو لم يُوصِ) كقَضاءِ الدَّينِ، والحَجِّ، والزكاةِ؛ لأنَّ حَقَّ الوَرَثَةِ بعدَ أداءِ الدَّينِ؛ لقَوْلِه سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ

أوْ لَمْ يُوصِ. فَإِنْ وَصَّى مَعَهَا بِتَبَرُّع، اعْتُبِرَ الثُّلُثُ مِنَ الْبَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَينٍ} (¬1). وقال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى (¬2) بالدَّينِ قبلَ الوَصِيَّةِ. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬3). والواجِبُ لحَقِّ اللهِ سبحانه بمَنْزَلةِ الدَّينِ، لقول رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَينُ اللهِ أحَقُّ أن يُقْضَى» (¬4) (فإن وَصَّى معها بتَبَرُّعٍ، اعْتُبِرَ الثلُثُ مِن الباقِي) فيُخْرَج الواجِبُ أوَّلًا مِن رَأْسِ المالِ، ثم يُخْرَجُ ثُلُثُ الباقِيَ، كمن تكونُ تَرِكَتُه، أرْبَعِينَ، فيُوصِي بثُلُثِ مالِه وعليه دَينٌ عَشرَةٌ، فتُخْرَجُ العَشَرَةُ أوَّلًا، وتُدْفَعُ إلى المُوصَى له بالثُّلُثِ عَشَرَةٌ، وهي ثُلُثُ الباقِي بعدَ الدَّينِ. ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) في م: «بدأ». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 146. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 260.

2682 - مسألة: (وإن قال: أخرجوا الواجب من ثلثي)

وَإِنْ قَال: أخْرِجُوا الْوَاجِبَ مِنْ ثُلُثي. فَقَال الْقَاضِي: يُبْدأُ بِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الثُّلُثِ شَيْءٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ التَّبَرُّع، وَإِلَّا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُزَاحِمُ بِهِ أَصْحَابَ الْوَصَايَا. فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا أنْ يُقْسَمَ الثُّلُثُ بَينَهُمَا، أوْ يُتَمَّمَ الْوَاجبُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَدْخُلُهُ الدَّوْرُ، فَلَوْ كَانَ الْمَالُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2682 - مسألة: (وإن قال: أخْرِجُوا الواجِبَ مِن ثُلُثي) أُخْرِجَ مِن الثُّلُثِ وتُمِّمَ مِن رَأْسِ المالِ على ما قال المُوصِي، كأنَّه قَصَد إرْفاقَ وَرَثَتِه بذلك. فإن كان معها وصيةٌ بتَبَرُّعٍ (فقال القاضي: يُبْدَأُ بالواجِبِ، فإن فَضَل) عنه (مِن الثُّلُثِ شيءٌ فهو لصاحِبِ التبرُّعِ) وإن لم يفضُلْ منه شيءٌ سَقَط، وذلك لأنَّ الدَّينَ تَجِبُ البَداءَةُ به قَبْلَ الميراثِ والتَّبَرُّعِ، فإذا عَيَّنَه في الثُّلُثِ وَجَب البدايةُ به، وما فَضَل للتَّبَرُّعِ. فإنْ لم يفْضُلْ شيءٌ سَقَطَ؛ لأنَّه لم يُوصِ له بشيءٍ، إلَّا أن يُجِيزَ الوَرَثةُ، فيُعْطَى ما أُوصِيَ له به (وقال أبو الخَطّابِ: يُزاحِمُ به أصحابَ الوصايا) فيَحْتَمِلُ ما قاله القاضي. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ الثُّلُثُ بينَ الواجِبِ والتبرُّعِ بالحِصَّةِ، فما بَقِيَ مِن الواجِبِ تُمِّمَ مِن الثُّلُثَين، فيَدْخُلُه الدَّوْرُ، ويَحْتاجُ إلى العَمَلِ

ثَلَاثينَ، وَالْوَاجبُ عَشَرَةً، وَالْوَصِيَّةُ عَشَرَةً، جَعَلْتَ تَتِمَّةَ الْوَاجِب شَيئًا يَكُنِ الثُّلُثُ عَشَرَةً إلا ثُلُثَ شَيْءٍ بَينَهُمَا، لِلْوَاجِبِ خَمْسَةٌ إلَّا سُدْسَ شَيْءٍ، تَضُمُّ إِلَيهِ شَيئًا يَكُنْ عَشَرَةً، فَتَجْبُرُ الْخَمْسَةَ بِسُدْسِ شَيْءٍ مِنَ الشَّيءِ، فَتَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ تَعْدِلُ خَمْسَةً، فَالشَّيْءُ سِتَّةٌ، وَيَحْصُلُ لِلْوَصِيِّ الْآخَرِ أَرْبَعَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بطَرِيقِ الجَبْرِ (¬1). (فلو كان المالُ ثَلاثينَ، والواجِبُ عَشَرَةً، والوصيةُ عَشَرَةً) فاجْعَلْ (تَتِمَّةَ الواجِبِ شيئًا) يَبْقَى ثَلاثُون إلا شيئًا، فثُلُثُه عَشَرَةٌ إلَّا ثُلُثَ شيءٍ، اقْسِمْها بينَ الواجِبِ والتبرُّعِ، يَحْصُلُ (للواجِبِ خَمْسَةٌ إلَّا سُدْسَ شيءٍ) فإذا أضَفْتَ إليها الشيءَ الذي هو تَتِمَّةُ الواجِبِ، كان عَشَرَةً، فاجْبُرِ الخَمْسَةَ مِن الشيءِ بسُدْسِه، يَبْقَى خَمْسَةُ أسْداسِ شيءٍ تَعْدِلُ خَمْسَةً، فتَبَيَّنَ أنَّ الشيءَ سِتَّةٌ، وللوَصِيِّ الآخَرِ، وهو صاحِبُ ¬

(¬1) في م: «الخبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّبَرُّعِ أرْبَعَةٌ. فصل: فإن كان عليه دَينٌ خَمْسَةٌ أيضًا، عُزِلَتْ تَتِمَّةُ الواجِبِ شيءٌ، وتَتِمَّةُ الدَّينِ نِصْفُ شيءٍ، بَقِيَ ثُلُثُ المال عَشَرَةٌ إلَّا نِصْفَ شيءٍ، فاقْسِمْه بينَ الوصايا، فيَحْصُلُ للواجِبِ أرْبَعَةٌ إلا خُمْسَ شيءٍ، اضْمُمْ إليها تَتِمَّتَه، يَصِيرُ شيئًا وأرْبَعَةً إلَّا خُمْسَ شيءٍ، تَعْدِلُ (¬1) عَشَرَةً، وبعدَ الجَبْرِ تَصِيرُ أرْبعةَ أخَمْاسِ شيءٍ (¬2)، تَعْدِلُ شيئًا، فرُدَّ على السِّنَّةِ رُبْعَها، تكنْ سَبْعَةً ونِصْفًا (¬3)، تَعْدِلُ شيئًا، فالشيءُ سَبْعَةٌ ونِصْفٌ، ونِصْفُ الشيءِ ثلاثةٌ ونصفٌ ورُبْعٌ، وبَقِيَّةُ المالِ ثمانيةَ عَشَرَ وثلاثةُ أرْباعٍ، ثُلُثُها سِتَّةٌ ورُبْعٌ، للدَّينِ خُمْسُها أحَدٌ ورُبْعٌ، إذا ضُمَّتْ إليه تَتِمَّتُه، كَمَل خَمْسَةٌ، وللواجِبِ اثْنان ونِصْفٌ، يَكْمُلُ بتَتِمَّتِه، وللصدقةِ اثْنان ونِصْفٌ. وفي عَمَلِها طَرِيقٌ آخَرُ، وهو أن يُقْسَمَ الثُّلُثُ بكَمالِه بينَ الوَصايا الواجِبِ أخَذْتَه مِنِ الوَرَثَةِ وصاحِبِ التَّبَرُّعِ بالقِسْطِ، ففي المسألةِ الأُولَى يَحْصُلُ للواجِبِ خمْسَة، يَبقَى له خمسةٌ، يَأْخُذُ مِن صاحِبِ التبرُّعِ دِينارًا، ومِن الوَرَثةِ أرْبَعَةً. وفي المسألةِ الثانيةِ، حَصَل للواجِبِ أرْبَعَةٌ، وبَقِيَ له سِتَّةٌ، وحَصَل للدَّينِ دِينارٌ، وبَقِيَ له ثلاثةٌ، فيَأْخُذان ما بَقِيَ لهما، وذلك تِسْعَةٌ، مِن الورثةِ نِصْفَها وثُلُثَها، وذلك سَبْعَةٌ ونِصْفٌ، ومِن صاحِبِ ¬

(¬1) في م: «تصير». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «نصفها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّبَرُّعِ سُدْسَها دِينارًا [ونِصفا] (¬1)، للواجبِ منها ثُلُثاها وللدَّينِ ثُلُثُها. فإن أوْصَى بالواجِبِ وأطْلَقَ، فهو مِن رأْسِ المالِ، فيُبْدأُ بإخْراجِه قبلَ التَّبَرُّعاتِ والمِيراثِ، فإن كانت ثَمَّ وَصِيَّةٌ بتَبَرُّع، فلِصاحِبِها ثُلُثُ الباقِي. وهذا قولُ أكْثَرِ أصحابِ الشافعيِّ. وذَهَب بعضُهم إلى أنَّ الواجِبَ مِن الثُّلُثِ كالقِسْمِ الذي قبلَه؛ لأنَّه إنَّما يَمْلِكُ الوصيةَ بالثُّلُثِ. ولَنا، أنَّ الواجِبَ مِن رَأْسِ المالِ، وليس في وَصِيَّتِه ما يَقْتَضِي تَغْيِيرَه، فيَبْقَى على ما كان عليه، كما لو لم يُوصِ به. وقولُهم: لا يَمْلِكُ الوَصِيَّةَ إلَّا بالثُّلُثِ. قُلْنا: في التَّبَرُّعِ، وأمّا في الواجِباتِ فلا تَنْحَصِرُ في الثُّلُثِ، ولا تَتَقَيَّدُ به. فإن أوْصَى بالواجِب وقَرَنَ به الوصيةَ بتَبَرُّعٍ، مثلَ أن يقولَ: حُجُّوا عني، وأدُّوا دَينِي، وتَصَدَّقُوا عني. ففيه وَجْهان؛ أصَحُّهما، أن الواجِبَ مِن رَأْسِ المالِ؛ لأنَّ الاقْتِرانَ في اللَّفْظِ لا يَدُلُّ على الاقْتِرانِ في الحُكْمِ ولا في كَيفِيَّتِه، ولذلك قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). والأكْلُ لا يَجِبُ، والإِيتاءُ يَجِبُ. ولأنَّه ههُنا قد عَطَف غيرَ الواجِبِ عليه، فكما لم يَسْتَويا في الوُجُوبِ لا يَلْزَمُ اسْتواؤُهما في مَحَلِّ الإِخْراجِ. والثانِي، أنَّه مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّه قَرَن به ما مَخْرَجُه مِن الثُّلُثِ. واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «ونصفها». (¬2) سورة الأنعام 141.

باب الموصى له

بَابُ الْمُوصَى لَه تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ؛ مِنْ مُسْلِمٍ، وَذِمِّيٍّ، وَمُرْتَدٍّ، وَحَرْبِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُوصَى له (تَصِحُّ الوصيةُ لكلِّ مَن يَصِحُّ تَمْلِيكه؛ مِن مُسْلِمٍ، وذِمِّيٍّ، وحَرْبِيٍّ، ومُرْتدٍّ) أمّا صِحَّةُ الوصيةِ للمُسلمِ والذِّمِّيِّ، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وبه قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. قال محمدُ بنُ الحَنَفِيَّةِ في قولِه تعالى: {إلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (¬1). هو وصيةُ المسلمِ لليهودِيِّ والنَّصْرانِيِّ. ولأن الهِبَةَ تَصِحُّ له، فصَحَّتِ الوصيةُ، كالمسلمِ. وتَصِحُّ وصيةُ الذِّمِّيِّ للمسلمِ؛ لأنَّه إذا صَحَّتْ وصيةُ المسلمِ للذميِّ، فوصيةُ الذميِّ للمسلمِ أوْلَى. وحُكْمُ وصيةِ الذميِّ حُكْمُ وصيةِ المسلمِ فيما ذَكَرْنا. وتَصِحُّ الوصيةُ للحَرْبِيِّ وإن كان في دارِ الحَرْبِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال مالكٌ، ¬

(¬1) سورة الأحزاب 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكْثَرُ أصحابِ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: لا تَصِح. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِمْ}. الآية إلى قولِه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} (¬1). الآية. فدَلَّ على أنَّ مَن قاتَلَنا لا يَحِلُّ بِرُّه. ولَنا، أنَّه تَصِحُّ هِبَتُه فصَحَّتِ الوصيةُ له، كالذِّمِّيِّ. وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَى عُمَرَ حُلَّةً مِن حَرِير، فقال: يا رسولَ اللهِ، كَسَوْتَنِيها وقد قُلْتَ في حُلَّةِ عُطارِدٍ ما قلتَ. فقال: «إنِّي لم أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَها». فكساها عُمَرُ أخًا له مُشْرِكًا بمَكَّةَ (¬2). وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ، قالت: أتَتْنِي أُمِّي وهي راغِبَةٌ، تَعْنِي عن الإِسلام، فسَألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أتَتْنِي أُمِّي وهي راغِبةٌ، أفأصِلُها؟ قال: «نَعَمْ» (¬3). وهذان فيهما ¬

(¬1) سورة الممتحنة 8، 9. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 296. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 296.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صِلَةُ أهلِ الحَرْبِ وبِرُّهم، والآيةُ حُجَّةٌ لَنا في مَن لم يُقاتِلْ، فأمّا المُقاتِلُ فإنَّما نُهِيَ عن تَوَلِّيه لا عن بِرِّه والوصيةِ له، وإِنِ احْتجَّ بالمَفْهُومِ، فهو لا يَراه حُجَّةً، ثم قد حَصَل الإِجماعُ على صِحَّةِ الهِبَةِ للحَرْبِيِّ، والوَصِيَّة في مَعْناها.

2683 - مسألة: وتصح للمرتد كما تصح الهبة له. ذكره أبو الخطاب (وقال ابن أبي موسى: لا تصح)

وَقَال ابْنُ أَبى مُوسَى: لَا تَصِحُّ لِمُرْتَدٍّ. وَتَصِحُّ لِمُكَاتَبِهِ، وَمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2683 - مسألة: وتَصِحُّ للمُرْتَدِّ كما تَصِحُّ الهِبَةُ له. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ (وقال ابنُ أبي مُوسى: لا تَصِحُّ) لأنَّ مِلْكَه غيرُ مُسْتَقِرٍّ، ولا يَرِثُ ولا يُورَثُ، فهو كالمَيِّتِ، ولأنَّ مِلْكَه يَزُولُ عن مالِه برِدَّتِه في قولِ أبي بكرٍ وجماعةٍ، فلا يَثْبُتُ له المِلْكُ بالوَصِيَّةِ. 2684 - مسألة: (وتَصِحُّ لمُكاتَبِه، ومُدَبَّرِه، وأُمِّ وَلَدِه) تَصِحُّ الوصيةُ للمُكاتَبِ، سواءٌ كان مُكاتَبَه أو مُكاتَبَ وارِثِه أو مُكاتَبَ أجْنَبِيٍّ، سواءٌ وَصَّى له بجُزْءٍ شائِعٍ أو مُعَيَّنٍ؛ لأنَّ وَرَثَتَه لا يَسْتَحِقُّونَ المُكاتَبَ ولا يَمْلِكُون ماله، ولأنَّه يَمْلِكُ المال بالعُقُودِ، فصَحَّتِ الوَصِيَّةُ له، كالحُرِّ. فإن قال: ضَعُوا عن مُكاتَبِي بعضَ كِتابَته -أو- بعضَ ما عليه. وَضَعُوا ما شاءُوا. وإن قال: ضَعُوا عنه نَجْمًا من نجُومِه. فلهم أن يَضَعُوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيَّ نَجْمٍ شاءُوا، وسواءٌ كانت نُجُومُه مُتَّفِقَةً أو مُخْتَلِفَةً، لتَناوُلِ اللَّفْظِ له. فإن قال: ضَعُوا عنه أيَّ نَجْمٍ شاء. رَجَع إلى مَشِيئَتِه؛ لأنَّ سَيِّدَه جَعَل المَشِيئَةَ إليه. وإن قال: ضَعُوا عنه أكْبَرَ (¬1) نجُوُمِه. وَضَعُوا عنه أكْثَرَها مالًا؛ لأنَّه أكْبَرُها قَدْرًا. وإن قال: ضَعُوا عنه أكْثَرَ نُجُومِه. وَضَعُوا عنه أكْثَرَ مِن نِصْفِها؛ لأنَّ أكْثَرَ الشيءِ يَزيدُ على نِصْفِه. فإن كانت نُجُومُه خَمْسَةً؛ وَضَعُوا ثلاثةً، وإن كانت سِتَّةً، وَضَعُوا أرْبَعَةً. ويَحْتَمِلُ أن يَنْصَرِفَ إلى واحِدٍ منها أكْثَرِها مالًا. فإن كانت نُجُومُه سواءً، تَعَيَّنَ القولُ الأوَّلُ. فإن قال: ضَعُوا عنه أوْسَطَ نُجُومِه. ولم يكنْ فيها إلَّا وَسَط واحِدٌ، تَعَيَّنَ، مثلَ أن تكونَ نُجُومُه مُتَساويَةَ القَدْرِ والأجَلِ، وعَدَدُها مُفْرَدٌ، فيَتَعَيَّنُ الأوْسَطُ في العَدَدِ، فإن كانت خَمْسَةً، تَعَيَّنَ الثالثُ، وإن كانت سَبْعَةً، فالرّابِعُ، فإن كان عَدَدُها مُزْدَوَجًا وهي مُخْتَلِفَةُ المِقْدارِ، فبعضُها مائةٌ، وبعضُها مائِتان، وبعضُها ثلاثُمائةٍ، فأوْسَطُها المائِتانِ فيَتَعَيَّنُ، وإن كانت مُتساويَةَ القَدْرِ مُخْتَلِفَةَ الأجَلِ، مثلَ أن يكونَ اثْنان إلى شَهْرٍ (¬2)، وواحِدٌ إلى شَهْرَين، وواحِدٌ إلى ثلاثةِ أشْهُرٍ، تَعَينَّتَ الوَصِيَّةُ في الَّذي إلى شَهْرَين. وإنِ اتَّفقَتْ هذه المعانِي في ¬

(¬1) في م: «أكثر». (¬2) بعده في م: «شهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ، تَعَيَّنَ. وإن كان لها أوْسَطُ في القَدْرِ، وأوْسَطُ في الأجَلِ، وأوْسَطُ في العَدَدِ، يُخالِفُ بعضُها بعضًا، رُجِع إلى قولِ الوَرَثَةِ. وإنِ اخْتَلَفَت الورثةُ والمُكاتَبُ في إرادَةِ المُوصِي منها، فالقولُ قولُ الورثةِ مع أيمانِهم أنَّهم لا يَعْلَمُون ما أراد. ومتى كان العَدَدُ وترًا، فأوْسَطُه واحِدٌ. وإن كان شَفْعًا، كأرْبَعَةٍ، فأوْسَطُه اثْنان. وهكذا القولُ فيما إذا أوْصَى بأوْسَطِ نُجُومِه. وإن قال: ضَعُوا عنه ما يَخِفُّ -أو- ما يَثْقُلُ -أو- ما يَكْثُرُ. رُجِع إلى تَقْدِيرِ الورثةِ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ يَخِفُّ إلى جَنْبِ (1) ما هو أثْقَلُ منه، ويَثْقُلُ إلى جنبِ (¬1) ما هو أخَفُّ منه،؛ قال أصحابُنا فيما إذا أقَرَّ بمالٍ عظيمٍ، أو كَثِيرٍ، أو ثَقِيلٍ، أو خَفِيفٍ. وإن قال: ضَعُوا عنه أكْثَرَ ما عليه. وُضِع عنهَ النِّصْفُ، وأدْنَى زِيادَةٍ. وإن قال: ضَعُوا عنه أكْثَرَ ما عليه ومِثْلَ نِصْفِه. فذلك ثلاثةُ أرباعٍ وأدْنَى زِيادَةٍ. وإن قال: ضَعُوا أكْثَرَ ما عليه ومِثْلَه. فذلك الكِتابَةُ كلُّها وزِيادَةٌ عليها، فيَصِحُّ في الكِتابَةِ ويَبْطُلُ في الزِّيادَةِ؛ لعَدَمِ مَحَلِّها. وإن قال: ضَعُوا عنه ما شاء. فشاء وَضْعَ كلِّ ما عليه، وُضِع؛ لِتَناوُلِه اللَّفْظَ. فإن قال: ضَعُوا عنه ما شاء مِن مالِ الكتابةِ. لم يَضَعُوا عنه الكلَّ؛ لأن «مِن» للتَّبْعِيضِ. ومَذْهَبُ الشافعيِّ على نحو ما ذَكَرْنا في هذا الفَصْلِ. ¬

(¬1) في م: «حيث».

2685 - مسألة: وتصح الوصية لمدبره؛ لأنه يصير حرا حين لزوم الوصية، فصحت الوصية له، كأم الولد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2685 - مسألة: وتَصِحُّ الوصيةُ لمُدَبَّرِه؛ لأنَّه يصيرُ حُرًّا حينَ لُزُومِ الوصيةِ، فصَحَّتِ الوصيةُ له، كأُمِّ الوَلَدِ. فإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ هو والوصيةُ جميعًا، قُدِّمَ عِتْقُه على الوصيةِ؛ لأنَّه أنْفَعُ له. وقال القاضي: يَعْتِقُ بعضُه، ويَمْلِكُ مِن الوصيةِ بقَدْرِ ما عَتَقَ منه. ولَنا، أنَّه وَصَّى لعَبْدِه وصيةً صحيحةً، فيُقَدَّمُ عِتْقُه على ما يَحْصُلُ له مِن المالِ،؛ لو وَصَّى لعبدِه القِنِّ بمُشاعٍ مِن مالِه. 2686 - مسألة: وتَصِحُّ الوصيةُ لأمِّ وَلَدِه؛ لأنَّها حُرَّةٌ حينَ لُزُومِ الوصيةِ. وقد رُوِيَ (¬1) عن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه أوْصَى لأُمَّهاتِ أوْلادِه بأرْبَعَةِ آلافٍ أربعةِ آلافٍ. رَواه سعيدٌ (¬2). ورُوِيَ ذلك عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ. وبه قال مَيمُونُ بنُ مِهْرانَ، والزُّهْرِيُّ، ويَحْيَى الأنْصارِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. ¬

(¬1) بعده في م: «ذلك». (¬2) في: باب وصية الصبي، من كتاب الوصايا. السنن 1/ 128. دون قوله: «أربعة آلاف». كما أخرجه الدارمي، في: باب من أوصى لأمهات أولاده، من كتاب الوصايا. سنن الدارمي 2/ 423.

2687 - مسألة: (وتصح لعبد غيره)

وَتَصِحُّ لِعَبْدِ غَيرِهِ. فَإِذَا قَبِلَهَا، فَهِيَ لِسَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2687 - مسألة: (وتَصِحُّ لعَبْدِ غيرِه) وتكونُ الوصيةُ لِسَيِّدِه، والقَبُولُ مِن العَبْدِ؛ لأنَّ العَقْدَ مُضافٌ إليه، أشْبَهَ ما لو وَهَبَه شيئًا. فإذا قَبِل، تَثْبُتُ لسَيِّدِه؛ لأنَّه مِن كَسْبِ عَبْدِه، وكَسْبُ العَبْدِ للسيِّدِ. ولا يَفْتَقِرُ في القَبُولِ إلى إذْنِ السَّيِّدِ؛ لأنَّه كَسْبٌ مِن غيرِ إذْنِ سَيِّدِه، كالاحْتِطابِ. وهذا قولُ أهلِ العِراقِ، والشافعيِّ. ولأصْحابِه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَفْتَقِرُ إلى إذْنِ السَّيِّدِ؛ لأنَّه تَصَرُّفُ العَبْدِ، فهو كبَيعِه وشِرائِه. ولَنا، أنَّه تَحْصِيلُ مالٍ بغيرِ عِوَضٍ، فلم يَفْتَقِرْ إلى إذْنِه، كقَبُولِ الهِبَةِ وتَحْصِيلِ المُباحِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَصَّى لعَبْدِ وارِثِه، فهي كالوَصِيَّةِ بوارِثِه، تَقِفُ على إجازَةِ الورثةِ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ. وقال مالكٌ: إن كان يَسِيرًا، جاز؛ لأنَّ العَبْدَ يَمْلِكُ، وإنَّما لسَيِّدِه أخْذُه مِن يَدِه، فإذا أوْصَي له بشيءٍ يَسِيرٍ، عُلِم أنَّه قَصَد بذلك العَبْدَ دُونَ سَيَّدِه. ولَنا، أنَّها وصيةٌ لعَبْدِ وارِثِه، أشْبَهَ الوصيةَ بالكَثِيرِ، وما ذَكَرَه مِن مِلْكِ العَبْدِ مَمْنُوعٌ لا اعْتِبارَ به، فإنَّه مع هذا القَصْدِ يَسْتَحِقُّ سَيِّدُه أخْذَه، فهو كالكَثِيرِ. فصل: وإذا وَصَّى بعِتْقِ أمَتِه على أن لا تَتَزَوَّجَ، ثم مات، فقالت: لا أتَزَوَّجُ. عَتَقَتْ. فإن تَزَوَّجَتْ بعدَ ذلك لم يَبْطُلْ عِتْقُها. وهذا مَذْهَبُ الأوْزاعِيِّ، واللَّيثِ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحاب الرَّأْي؛ لأنَّ العِتْقَ إذا وَقَع لم يُمْكِنْ رَفْعُه. فإن وَصَّى لأُمِّ وَلَدِه بألْفٍ على أَن لا تَتَزَوَّجَ،

2688 - مسألة: (وتصح لعبده بمشاع؛ كثلثه)

وَتصِحُّ لِعَبْدِهِ بِمُشَاعٍ؛ كَثُلُثِهِ. فَإِذَا وَصَّى لَهُ بِثُلُثِهِ، عَتَقَ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، وَإنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو على أن تَبِيتَ مع وَلَدِه، ففَعَلَتْ وأخَذَتِ الألْفَ، ثم تَزَوَّجَت، أو تَرَكَتْ وَلَدَه، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، تَبْطُلُ وَصِيَّتُها؛ لأنَّه فات الشَّرْطُ، ففاتَتِ الوصيةُ، وفارَقَ العِتْقَ، فإنَّه لا يُمْكِنُ رَفْعُه. والثانِي، لا تَبْطُلُ وَصِيَّتُها. وهو قولُ أصحاب الرَّأْي؛ لأن وَصِيَّتَهَا صَحَّتْ، فلم تَبْطُلْ بمُخالفَةِ ما شَرَط عليها، كالأُوَلَى. 2688 - مسألة: (وتَصِحُّ لعَبْدِه بمُشَاعٍ؛ كثُلُثِه) فإن خَرَج العَبْدُ مِن الوَصِيَّةِ، عَتَقَ واسْتُحِقَّ باقِيه، وإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ. وبهذا قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وأبو حنيفةَ، إلَّا أنَّهم قالُوا: إن لم يَخرُجْ مِن الثُّلُثِ، سَعَى في قِيمَةِ باقِيه. وقال الشافعيُّ: الوَصِيَّةُ باطِلَةٌ، إلَّا أن يُوصِيَ بعِتْقِه؛ لأنَّه أوْصَى (¬1) ¬

(¬1) بعده في الأصل: «بعتقه».

2689 - مسألة: (وإن وصى له بمعين)

وَإنْ أَوْصَى لَهُ بمُعَيَّنٍ، أوْ بِمِائَةٍ، لَمْ تَصِحَّ. وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لمالٍ يَصِيرُ للورثةِ، فلم يَصِحَّ، كما لو وَصَّى له بمُعَيَّنٍ. ولَنا، أنَّ الجُزْءَ الشّائِعَ يتَناوَلُ نَفْسَه أو بعضَها؛ لأنَّه مِن جُمْلَةِ الثُّلُثِ الشائعِ، والوصيةُ له بنَفْسِه تَصِحُّ ويَعْتِقُ، وما فَضَل اسْتَحَقَّه؛ لأنَّه يَصِيرُ حُرًّا، فمَلَكَ الوصيةَ، فيَصِيرُ كأنَّه قال: أعْتِقُوا عَبْدِي مِن ثُلُثِي، وأعْطُوه ما فَضَل منه. وفارَقَ ما إذا وَصَّى له بمُعَيَّنٍ؛ لأنَّه لا يَتَناوَلُ شيئًا منه، على أنَّ لَنا في الأصْلِ المَقِيسِ عليه مَنْعًا. 2689 - مسألة: (وإن وَصَّى له بمُعَيَّن) كثَوْبٍ أو دارٍ (أو مائةٍ، لم تَصِحَّ) الوصيةُ في قولِ الأكْثَرِينَ، منهم الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ، وإسحاقُ. وذَكَرَ ابنُ أبي موسى رِوايَةً عن أحمدَ (أنَّها تَصِحُّ) وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ. وقال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ: إن شاء الورثةُ أجازُوا، وإن شاءُوا رَدُّوا. ولَنا، أنَّ العَبْدَ يَصِيرُ مِلْكًا للورثةِ، فما وَصَّى به له فهو لهم، فكأْنَّه أوْصَى لوَرَثَتِه بما يَرِثُونه، فلا فائِدَةَ فيه. وفارَقَ ما إذا وَصَّى له بمُشاعٍ؛ لِما ذَكَرْناه.

2690 - مسألة: (وتصح)

وَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ إذَا عُلِمَ أْنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْوَصِيَّةِ، بِأَنْ تَضَعَهُ لِأقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشْهُرٍ، إنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَطَؤُهَا، أَوْ لأقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، إِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2690 - مسألة: (وتَصِحُّ) الوصيةُ (للحَمْلِ إذا عُلِم أنَّه كان مَوْجُودًا حينَ الوصيةِ، بأن تَضَعَه لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، إن كانت ذاتَ زَوْجٍ أو سَيِّدٍ يَطَؤُها، أو لأقَلَّ مِن أرْبَعِ سِنِينَ، إن لم تكنْ كذلك، في أحَدِ الوَجْهَين) وفي الآخرِ، لأقَلَّ مِن سَنَتَين. لا نَعْلَمُ في صِحَّةِ الوصيةِ للحَمْلِ خِلافًا. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ وذلك لأنَّ الوصيةَ جَرَتْ جرَى المِيراثِ مِن حيث كونُها انْتِقال المالِ مِن الإنسانِ بعدَ مَوْتِه إلى المُوصَى له بغيرِ عِوَضٍ، كانْتِقالِه إلى وارِثِه، وقد سَمَّى الله تعالى المِيراثَ وصيةً بقولِه سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (¬1). وقال سبحانه: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ غَيرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} (¬2). والحَمْلُ يَرِثُ، ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) سورة النساء 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَصِحُّ الوصيةُ له، ولأنَّ الوصيةَ أوْسَعُ مِن المِيراثِ؛ لأنَّها تَصِحُّ للمُخالِفِ في الدِّينِ، والعَبْدِ، بخِلافِ المِيراثِ، فإذا وَرِث الحَمْلُ، فالوصيةُ له أوْلَى، ولأنَّ الوصيةَ تَتَعَلَّقُ بخَطَرٍ وغَرَرٍ، فصَحَّتْ للحَمْلِ، كالعِتقِ. فإنِ انْفَصَلَ الحَمْلُ مَيِّتًا، بَطَلَتِ الوصيةُ؛ لأنَّه لا يَرِثُ، ولأنَّه يَحْتَمِلُ أن لا يكونَ حَيًّا حينَ الوصيةِ، فلا تَثْبُتُ له الوصيةُ والمِيراثُ بالشَّكِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَواءٌ مات لعارِضٍ؛ مِن ضَرْبِ البَطْنِ، أو [لدواءٍ شَرِبَتْه] (¬1)، أو غيره؛ لِما بَيَّنّا مِن أنَّه لا يَرِثُ. وإن وَضَعتْه حَيًّا، صَحَّتِ الوصيةُ له إذا حَكَمْنا بوُجُودِه حال الوصيةِ، بأن تَأْتِيَ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، إن كانتِ المرأةُ فِراشًا لزَوْجٍ أو سَيِّدٍ يَطَؤُها، فإنّا نَعْلَمُ وُجُودَه حينَ الوصيةِ، فإن أتَتْ به كْثَرَ منها، لم تَصِحَّ الوصيةُ؛ لاحْتِمالِ حُدُوثِه بعدَ الوصيةِ. وإن كانت بائِنًا فأتَتْ به لأكْثَرَ مِن أرْبَعِ سِنِين مِن حينِ الفُرْقَةِ، وأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ الوصيةِ، لم تَصِحَّ الوصيةُ له، وإن أتَتْ به لأقَل مِن ذلك، صَحَّتِ الوصيةُ؛ لأنَّ الوَلَدَ يُعْلَمُ وُجُودُه إذا كان لسِتَّةِ أشْهُرٍ، ويُحْكَمُ بوُجُودِه إذا أتَتْ به لأقَلَّ مِن أَرْبَعِ سِنِين مِن حينِ الفُرْقَةِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وإن وَصَّى لحَملِ امرأةٍ مِن زَوْجِها ¬

(¬1) في م: «شرب دواء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو سَيِّدِها، صَحَّتِ الوصيةُ له مع اشْتِراطِ إلْحاقِه به. فإن كان مَنْفِيًّا باللِّعانِ، أو دَعْوَى الاسْتِبراءِ، لم تَصِحَّ الوصيةُ له؛ لعَدَمِ نَسَبِه المُشْتَرَطِ في الوصيةِ، فإن كانتِ المرأةُ فِراشًا لِزَوْج أو سَيِّدٍ إلَّا أنَّه لا يَطَؤُها لكونِه غائِبًا في بَلَدٍ بَعِيدٍ، أو مَريضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الوَطْءَ، أو كان أسِيرًا أو مَحْبُوسًا، أو عَلِم الورثةُ أنَّه لم يَطَأْها، أو أقَرُّوا بذلك، فإن أصحابَنا لم يُفَرِّقُوا بينَ هذه الصُّوَرِ وبينَ ما إذا كان يَطَؤْها؛ لأنَّهما لم يَفْتَرِقا في لُحُوقِ النَّسَبِ بالزَّوْجِ والسَّيِّدِ، فكانت في حُكْمِ مَن يَطَؤُها. قال شيخنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أنَّها متى أتت به في هذه الحال، أو لوَقْتٍ يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّه كان مَوْجُودًا حال الوصيةِ؛ مثلَ أنْ تَضَعَه لأقَلَّ مِن غالِبِ مُدَّةِ الحَمْلِ، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 457.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تكونَ أماراتُ الحَمْلِ ظاهرةً، أو أتَتْ به على وَجْهٍ يَغْلِبُ على الظنِّ أنَّه كان موجودًا بأماراتِ الحَمْلِ بحيث يُحْكَمُ لها بكَوْنِها حامِلًا، صَحَّتِ الوصيةُ له؛ لأنَّه يَثْبُتُ له أحْكامُ الحَمْلِ في غيرِ هذا الحُكْمِ، وقد انْتَفَتْ أسبابُ حُدُوثِه ظاهِرًا، فيَنْبَغِي أن تَثْبُتَ لهَ الوصيةُ، والحُكْمُ بإلحاقِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالزَّوْجِ والسَّيِّدِ في تلك الصُّوَرِ إنَّما كان احْتِياطًا للنَّسَبِ، فإنَّه يَلْحَقُ بمُجَرَّدِ الاحْتِمالِ وإن كان بَعِيدًا، ولا يَلْزَمُ مِن إْثباتِ النَّسَبِ بمُطْلَقِ الاحْتِمالِ نَفْيُ اسْتِحْقاقِ الوصيةِ، فإنَّه لا يُحْتَاطُ لإِبْطالِ الوصيةِ كما يُحْتَاطُ لإِثْباتِ الَّسَبِ، فلا يَلْزَمُ إلحاقُ ما لا يُحْتاطُ له بما يُحْتاطُ له مع ظُهُورِ ما يُثْبِتُه ويُصَحِّحُه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه إذا أتَتْ به لأكْثَرَ مِن سَنَتَين إذا كانت بائِنًا، لا تَثْبُتُ له الوصيةُ، بِنَاءً على أنَّ أكْثَرَ مُدَّةِ الحَمْلِ سَنَتان.

2691 - مسألة: (وإن وصى لمن تحمل هذه المرأة، لم تصح)

وَإنْ وَصَّى لِمَنْ تَحْمِلُ هَذِهِ الْمَرْأةُ، لَمْ تَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2691 - مسألة: (وإن وَصَّى لِمَن تَحْمِلُ هذه المرأةُ، لم تَصِحَّ) وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: تَصِحُّ، كما تَصِحُّ الوصيةُ بما تَحْمِلُ هذه الجارِيةُ. ولَنا، أنَّ الوصيةَ تَمْليكٌ، فلا تَصِحُّ للمَعْدُومِ، بخِلافِ المُوصَى به، فإنَّه يُمْلَكُ، فلم يُعْتَبَرْ وُجُودُه، ولأنَّ الوصيةَ جَرَتْ مَجْرَى المِيراثِ، ولو مات إنْسانٌ لم يَرِثْه مِن الحَمْلِ إلَّا مَن كان مَوْجُودًا، كذلك الوصيةُ. ولو تَجَدَّدَ للمَيِّتِ مالٌ بعدَ مَوْتِه، بأن يَسْقُطَ في شَبَكَتِه صَيدٌ، لوَرِثَهُ وَرَثته، ولذلك قَضَينا بثُبُوتِ الإرْثِ في دِيَتِه، وهي تَتَجَدَّدُ بعدَ مَوْتِه، فجازَ أن تُمْلَكَ بالوصيةِ. فإن قِيلَ: فلو وَقَف على مَن يَحْدُث مِن وَلَدِه أو وَلَدِ فلانٍ، صَحَّ، فالوصيةُ أوْلَى؛ لأنَّها تَصِحُّ بالمَعْدُومِ والمَجْهُولِ، بخِلافِ الوَقْفِ. قلنا: الوصيةُ أُجْرِيَتْ مُجْرَى المِيراثِ، ولا يَحْصُلُ المِيراثُ إلَّا لمَوْجُودٍ، فكذا الوصيةُ، والوَقفُ يُرادُ للدَّوامِ، فمِن ضَرُورَته إثْباتُه للمَعْدُومِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَصَّى لحَمْلِ امرأةٍ، فوَلَدَتْ ذَكَرًا وأُنْثَى، فالوصيةُ لهما بالسَّويةِ؛ لأنَّ ذلك عَطِيَّةٌ وهِبَةٌ، فأشْبَهَ ما لو وَهَبَهما شيئًا بعدَ ولادَتِهما. وإن فاضَلَ بينَهما، فهو على ما قال، كالوَقْفِ. وإن قال: إن كان في بَطْنِها غُلامٌ فله دِيناران، وإن كانت فيه جارِيَةٌ فلها دِينارٌ. فوَلَدَتْ غُلامًا وجارِيَةً، فلكلِّ واحدٍ (¬1) منهما ما وَصَّى له به؛ لأنَّ الشَّرْطَ وُجِد فيه. وإن وَلَدَتْ أحَدَهما مُنْفَرِدًا، فله وَصِيَّتِه. ولو قال: إن كان حَمْلُها -أو- إن كان ما في بَطْنِها غُلامًا فله دِيناران، وإن كانت جارِيَةً فلها دِينارٌ. فوَلَدَتْ أحَدَهما مُنْفَرِدًا، فله وَصِيَّتِه. وإن وَلَدَتْ غُلامًا وجارِيةً، فلا شيءَ لهما؛ لأنَّ أحَدَهما ليس هو جَمِيعَ الحَمْلِ، ولا كلَّ ما في البَطْنِ. وبه قال أصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2692 - مسألة: (وإن قتل الوصي الموصي، بطلت الوصية، وإن جرحه، ثم أوصى له، فمات من الجرح، لم تبطل، في ظاهر كلامه. وقال أصحابنا: في الوصية للقاتل روايتان)

وَإِنْ قَتَلَ الْوَصِيُّ الْمُوصِيَ، بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَإِنْ جَرَحَهُ، ثُمَّ أَوْصَى لَهُ، فَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ، لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَال أَصْحَابُنَا: فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2692 - مسألة: (وإن قَتَل الوَصِيُّ المُوصِيَ، بَطَلَتِ الوصيةُ، وإن جَرَحَه، ثم أوْصَى له، فمات مِن الجُرْحِ، لم تَبْطُلْ، في ظاهِرِ كَلامِه. وقال أصحابُنا: في الوصيةِ للقاتِلَ روايتان) اخْتَلَفَ أصحابُنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوصيةِ للقاتِلِ على ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ فقال ابنُ حامدٍ: تَجُوزُ الوصيةُ له. واحْتَجَّ بقولِ أحمدَ، في مَن جَرَحٍ رجلًا خَطَأً فعَفا المَجْرُوحُ، فقال أحمدُ: تُعْتَبَرُ مِن الثُّلُثِ. قال: وهذه وصية لقاتِلٍ. وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وأظْهَرُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ الهِبَةَ له تَصِحُّ، فصَحَّتِ الوصيةُ له، كالذِّمِّيِّ. وقال أبو بكرٍ: لا تَصِحُّ الوصيةُ لة؛ فإنَّ أحمدَ قد نَصَّ على أنَّ المُدَبَّرَ إذا قَتَلَ سَيِّدَه، بَطَل تَدْبِيرُه، والتَّدْبِيرُ وصيةٌ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ القَتْلَ يَمْنَعُ المِيراثَ الذي هو آكَدُ مِن الوصيةِ، فالوصيةُ أوْلَى، ولأنَّ الوصيةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى المِيرِاثِ، فيَمْنَعُها ما يَمْنَعُه. وقال أبو الخَطّابِ: إن وَصَّى له بعدَ جَرْحِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ، وإن وَصى له قبلَه، ثم طَرَأ القَتْلُ على الوصيةِ، أي أبْطَلَها، جَمْعًا بينَ نَصَّيْ أحمدَ في المَوْضِعَين. وهو قولُ الحسنِ بنِ صالِحٍ. وهذا قولٌ حسنٌ؛ لأنَّ الوصيةَ بعدَ الجَرْحِ صَدَرَتْ مِن أهْلِها في مَحَلِّها، لم يَطْرأ عليها ما يُبْطِلُها، بخِلافِ ما إذا تَقَدَّمَتْ، فإنَّ القَتْلَ طَرَأ عليها فأبْطَلَها؛ فإنَّه يُبْطِلُ ما هو آكَدُ منها. يُحَقِّقُه أنَّ القَتْلَ إنَّما يَمْنَعُ المِيراثَ لكونِه بالقَتْلِ اسْتَعْجَلَ المِيراثَ الذي انْعَقَدَ سَبَبُه، فعُورِضَ بنَقِيضِ قَصْدِه، وهو مَنْعُ المِيراثِ؛ دَفْعًا لمَفْسَدَةِ قَتْلِ المَوْرُوثِين، ولذلك بَطَل التَّدْبِيرُ بالقَتْلِ الطّارِئِ عليه أيضًا، وهذا المَعْنَى مُتَحَقِّق في القَتْلِ الطارِئِ على الوَصِيّةِ، فإنه رُبَّما اسْتَعْجَلَها بقَتْلِه. وفارَقَ القَتْلَ قبلَ الوصيةِ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ به اسْتِعْجال مالٍ، لعَدَمِ انْعِقادِ سَبَبِه، والمُوصِى راضٍ بالوصيةِ له بعدَ ما صَدَر منه في حَقِّه. وعلى هذا، لا فَرْقَ بينَ الخَطَأ والعَمْدِ [في هذا] (¬1)، كما لا تَفْتَرِقُ الحالُ بذلك في المِيراثِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2693 - مسألة: (وإن وصى لصنف من أصناف الزكاة، أو لجميع الأصناف، صح)

وَإنْ وَصَّى لِصِنْفٍ مِنْ أصْنَافِ الزَّكَاةِ، أوْ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ، صَحَّ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الَّذِي يُعْطَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2693 - مسألة: (وإن وَصَّى لصِنْفٍ مِن أصْنافِ الزكاةِ، أو لِجَميعِ الأصْنافِ، صَحَّ) لأنَّهم مِن أبْوابِ البِرِّ، فصَحَّتْ لهم، كغيرِهم (ويُعْطَى كلُّ واحِدٍ منهم القَدْرَ الذي يُعْطاه مِن الزكاةِ) قِياسًا عليها؛ لأنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُطْلَقَ مِن كلامِ الآدَمِيِّ يُحْمَلُ على المُطْلَقِ مِن كلامِ اللهِ تعالى، ولَمّا أطْلَقَ اللهُ تعالى إعْطاءَهم مِن الزكاةِ حُمِل على ذلك، كذلك هذا. قال شيخُنا (¬1): وإذا وَصَّى لأصْنافِ الزكاةِ المَذْكُورِين في القرآنِ، فهم الذين يَسْتَحِقُّون الزكاةَ، ويَنْبَغِي أن يُجْعَلَ لكلِّ صِنْفٍ ثُمْنُ الوصيةِ، كما لو وَصَّى لثمانِ قَبائِلَ، والفَرْقُ بينَ هذا وبينَ الزكاةِ -حيث يَجُوزُ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 537.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاقْتِصارُ على صِنْفٍ واحِدٍ- أنَّ آيةَ الزكاةِ أُرِيدَ بها بَيانُ مَن يجوزُ الدَّفْعُ إليه، والوصيةُ أُرِيدَ بها بَيانُ مَن يَجِبُ الدَّفْعُ إليه. ويجوزُ الاقْتِصارُ مِن كلِّ صِنْفٍ على واحِدٍ في ظاهِرِ المَذْهَبِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِيعابُهم. وحُكِيَ هذا عن أصحابِ الرَّأْي. وعن محمدِ بنِ الحسنِ أنَّه قال: لا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلى أقَلَّ مِن اثْنَين. وعن أحمدَ روايةٌ ثانيةٌ، أنَّه لا يجوزُ الدَّفْعُ إلى أقَلَّ مِن ثلاثةٍ مِن كلِّ صِنْفٍ. حَكاها أبو الخَطّابِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وقد ذَكَرْنا ذلك وأدِلَّتَه في الزَّكاةِ (¬1). ولا يجوزُ الصَّرْفُ إلَّا إلى المُسْتَحِقِّ مِن أهْلَ بَلَدِه. كما ذَكَرْنا في الزكاةِ (¬2). فصل: وإذا أوْصَى للفُقَراءِ وَحْدَهم، دَخَل فيه المَساكِينُ، وكذلك إن وَصَّى للمَساكِينِ دَخَلَ فيه (¬3) الفُقَراءُ؛ لأنَّهم صِنْفٌ واحِدٌ في غيرِ الزكاةِ، إلَّا أن يَذْكُرَ الصِّنْفَين جيعًا، فيَدُلُّ ذلك على أنَّه أراد المُغايَرَةَ بينَهما. ويُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ مَن أمْكَنَ منهم، والدَّفْعُ إليهم على قَدْرِ الحاجَةِ، والبِدايَةُ بأقَارِبِ المُوصِي، كما ذَكَرْنا في الزكاةِ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 7/ 274 - 278. (¬2) انظر ما تقدم في 7/ 171 - 173. (¬3) في م: «فيهم».

2694 - مسألة: (وإن وصى لكتب القرآن، أو العلم، أو لمسجد، أو لفرس حبيس ينفق عليه، صح)

وَإنْ وَصَّى لِكَتْبِ الْقُرْآنِ، أو الْعِلْم, أوْ لِمَسْجِدٍ، أوْ لِفَرَسٍ حَبِيسٍ يُنْفَقُ عَلَيهِ، صَحَّ، وَإِنْ مَاتَ الْفَرَسُ رُدَّ الْمُوصَى بِهِ أوْ بَاقِيهُ إلَى الْوَرَثَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2694 - مسألة: (وإن وَصَّى لكَتْبِ القُرآنِ، أو العِلْمِ، أو لمسجدٍ، أو لفَرَسٍ حَبِيسٍ يُنْفقُ عليه، صَحَّ) لأنَّ ذلك قُرْبَةٌ يَصِحُّ بَذْلُ المالِ فيه، فصَحَّتِ الوصيةُ له، كالوصيةِ للفُقَراءِ (فإن مات الفَرَسُ رُدَّ المُوصَى به أو باقيه إلى الوَرَثَةِ) لأنَّه عَيَّنَ للوصيةِ جِهَةً، فإذا فاتَت عادت إلى الورثةِ، كما لو وصَّى أن يُشْتَرَى عبدُ زيدٍ فيَعْتِقَ، فمات العَبْدُ، أو لم يَبِعْه سَيِّدُه، أو تعَذَّرَ شِرَاؤُه. وإن أنْفَقَ بعضَ الدَّراهِمِ ثم مات الفَرَسُ، بَطَلَتِ الوصيةُ في الباقِي، كما لو وَصَّى بشِراءِ عَبْدَين مُعَيَّنَين، فاشْتَرَى أحَدَهما ومات الآخَرُ قبلَ شِرَائهِ. قال الأثْرمُ: سَمِعْتُ أَبا عبدِ اللهِ يُسْألُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن رجلٍ أوْصَى بألْفِ دِرْهَم في السَّبِيلِ، أيُجْعَلُ في الحَجِّ منها؟ قال: لا، إنَّما يَعْرِفُ النّاسُ السَّبِيلَ الغزْوَ. فصل: إذا قال: يَخْدِمُ عَبْدِي فُلانًا (¬1) سَنَةً، ثم هو حُرٌّ. صَحَّتِ الوصيةُ. فإن قال المُوصَى له بالخِدْمَةِ: لا أقْبَلُ الوصيةَ. أو قال: قد وَهَبْتُ الخِدْمَةَ له (¬2). لم يَعْتِقْ في الحالِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالك: إن وَهَب الخِدْمَةَ للعَبْدِ، عَتَقَ في الحالِ. ولَنا، أنَّه أوْقَعَ العِتْقَ بعدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، فلم يَقَعْ قبلَه، كما لو رَدَّ الوصيةَ. فصل: وإن وَصَّى أن يُشْتَرَى عَبْدُ زيدٍ بخَمْسِمائةٍ، فيُعْتَقَ، فلم يَبِعْه سَيِّدُه، فالخَمْسُمائةِ للورثةِ. وكذلك إنِ امْتَنَعَ مِن بَيعِه بالخَمْسِمائةِ، أو تَعَذَّرَ شِراؤُه بمَوْتِه، أو لعَجْزِ الثُّلُثِ عن ثَمَنِه، فالثَّمَنُ للورثةِ؛ لأنَّ الوصيةَ بَطَلَتْ لتَعَذُّرِ العَمَلِ بها، فأشْبَهَ ما لو وَصَّى لرجلٍ فمات قبلَ مَوْتِ المُوصِي، أو بعدَه ولم يَدَعْ وارِثًا. ولا يَلْزَمُ الورثةَ شِراءُ عَبْدٍ آخَرَ؛ لأنَّ الوصيةَ لمُعَيَّنٍ، فلا تُصْرَفُ إلى غيرِه، فإنِ اشْتَرَوْه بأقَلَّ مِن ذلك، فالباقي للورثةِ. وقال الثَّوْرِيُّ: يُدْفَعُ جميعُ الثَّمنِ إلى سَيِّدِ العَبْدِ؛ لأنَّه قَصَد إرْفاقَه بالثَّمَنِ ومُحاباتَه، فأشْبَهَ ما لو قال: بِيعُوه عَبْدِي بخَمْسِمائةٍ. وقِيمَتُه ¬

(¬1) في النسختين: «فلان». وانظر المغني 8/ 579. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْثَرُ منها، وكما لو وَصَّى أن يَحُجَّ عنه فلانٌ بخَمْسِمائةٍ، وهي أكْثرُ مِن أجْرِ المِثْلِ. وقال إسحاقُ: يُجْعَلُ بَقِيَّةُ الثَّمَنِ في العِتْقِ، كما لو وَصَّى أن يُحَجَّ عنه بخَمْسِمائةٍ، رُدَّ ما فَضَل في الحَجِّ. ولَنا، أنَّه أمَرَ بشِرائِه بخَمْسِمائةٍ، فكان ما فَضَل مِن الثَّمنِ راجِعًا إليه، كما لو وَكَّلَ في شِرائِه في حَياتِه، وفارَقَ ما إذا أوْصَى أن يَحُجَّ عنه رجل بخَمْسِمائةٍ؛ لأن القَصْدَ ثَمَّ إرْفاقُ الذي يَحُجُّ بالفَضْلَةِ، وفي مسألَتِنا المَقْصُودُ العِتْقُ. ويُفارِقُ ما إذا أوْصَى أن يُحَجَّ عنه بخَمْسِمائةٍ لغيرِ معَيَّنٍ؛ لأنَّ الوصيةَ ثَمَّ للحَجِّ مُطْلَقًا، فتُصْرَفُ جَميعُها فيه، وههُنا لمُعَيَّنٍ فلا تَتَعدّاه. وقولُه: إنَّه قَصَد إرْفاقَ زيدٍ ومُحاباتَه به. قلنا: إن كانت ثَمَّ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على ذلك، إمّا لكونِ البائِعِ صَدِيقَه، أو ذا حاجَةٍ، أو مِن أهلِ الفَضلِ الذين يُقْصدُونَ بهذا، أو كان يَعْلَمُ حُصُولَ العبدِ بدُونِ الخَمْسِمائة؛ لقِلَّةِ قِيمَتِه، فإنَّه يُدْفَعُ جَميعُ الثَّمَنِ إلى زيدٍ، كما لو صَرَّحَ بذلك، فقال: ادْفَعُوا إليه جَمِيعَها وإن بَذَلَه بدُونِها. وإن عُدِمَتْ هذه القَرائِنُ، فالظّاهِرُ أنَّه إنَّما قَصَد العِتْقَ، وقد حَصَل، فكان الثَّمَنُ عائِدًا إلى الوَرَثَةِ، كما لو أمَرَه بالشِّراءِ في حَياتِه. قال شيخُنا (¬1): وهذا الصحيحُ، إن شاء الله تعالى. فصل: ولو أوْصَى أن يُشْتَرَى عبدٌ بألْفٍ فيُعْتَقَ عنه، فلم يَخْرُجْ مِن ثُلُثِه، اشْتُرِيَ عَبْدٌ بالثُّلُثِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَبْطُلُ الوصيةُ؛ لأنَّه أمَرَ بشِراءِ عبدٍ بألْفٍ، فلا يَجُوزُ للمَأْمُورِ الشِّراءُ بدُونِه، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 524.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالوَكِيلِ. ولَنا، أنَّها وصيةٌ يَجِبُ تَنْفِيذُها إذا احْتَمَلَها الثُّلُثُ، فإذا لم يَحْمِلْها وَجَب تَنْفِيذُها فيما حَمَلَه، كما لو وَصَّى بعِتْقِ عَبْدٍ فلم يَحْمِلْه الثُّلُثُ، وفارَقَ الوَكالةَ، فإنَّه لو وَكَّلَه في إعْتاقِ عَبْدٍ لم يَمْلِكْ إعْتاقَ بَعْضِه، ولو وَصَّى إليه بإعْتاقِ عبدٍ، أعْتَقَ منه ما يَحْتَمِلُه الثُّلُثُ. فإن حَمَلَه الثُّلُثُ، فاشْتَراه وأعْتَقَه، ثم ظَهَر على المَيّتِ دَين يَسْتَغْرِقُ المال، فالوصيةُ باطِلَة، ويُرَدُّ العبدُ إلى الرِّقِّ إن كان اشْتَراه بعَينِ المالِ؛ لأننا تَبَيَّنّا أنَّ الشِّراءَ باطِل، لكونِه اشْتَرَى بمالٍ مُسْتَحَقٍّ للغُرَماءِ بغيرِ إذْنِهم، وإن كان اشْتَراه في الذِّمَّةِ، صَحَّ الشِّراءُ، ونَفَذ العِتْقُ، وعلى المُشْتَرِي غرامَةُ ثَمنِه، لا يَرْجِعُ به على أحَدٍ؛ لأنَّ البائِعَ ما غَرَّه، إنَّما غَرَّه المُوصِي، ولا تَرِكَةَ له فيَرْجِعَ عليها. وهذا ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. ويَحْتَمِلُ أن يُشارِكَ الغُرَماءَ في التَّرِكَةِ، ويَضْرِبَ معهم بقَدْرِ دَينِه؛ لأنَّ الدَّينَ غرمَه بتَغْرِيرِ المُوصِي، فيَرْجِعُ به عليه، فإذا كان مَيِّتًا لَزِمَه في تَرِكَتِه، كأَرْشِ جِنايَتِه. فصل: وإن وَصَّى بشِراءِ عَبْدٍ (¬1) وأطْلَقَ، أو بِبَيعِ عبدِه وأطْلَقَ، فالوصيةُ باطِلَةٌ؛ لأنَّ الوصيةَ لا بُدَّ لها مِن مُسْتَحِق، ولا مُسْتَحِقَّ ههُنا. فإن وَصَّى ببَيعِه بشَرْطِ العِتْقِ، صَحَّتِ الوصيةُ، وبِيعَ كذلك؛ لأنَّ في البَيعِ ههُنا (¬2) نَفْعًا للعَبْدِ بالعِتْقِ. فإن لم يُوجَدْ مَن يَشْتَرِيه كذلك، بَطَلَتِ الوصيةُ؛ لتَعَذُّرِها، كما لو وَصَّى بشِراءِ عَبْدٍ يُعْتَقُ، فلم يَبِعْه سَيِّدُه. وإن وَصَّى ببَيعِه لرجلٍ بعَينِه بثَمَنٍ مَعْلُومٍ، بِيعَ به (2)؛ لأنَّه قَصَد إرْفاقَه ¬

(¬1) في النسختين: «عين». وانظر المغني 8/ 525. (¬2) سقط من: م.

2695 - مسألة: (وإن وصى في أبواب البر)

وَإِنْ وَصَّى في أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ في الْقُرَبِ. وَقِيلَ عَنْهُ: يُصْرَفُ في أَرْبَعِ جِهَاتٍ؛ في أقَارِبِهِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ. وَعَنْهُ، فِدَاءُ الْأَسْرَى مَكَانَ الْحَجِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك في الغالِبِ. وإن لم يُسَمِّ ثَمَنًا، بِيعَ بقِيمَتِه، وتَصِحُّ الوصيةُ؛ لكونِه قَصَد إيصال العَبْدِ المُعَيَّنِ إلى رجل بعَينِه، فيَحْتَمِلُ أن يتَعلَّقَ الغَرَضُ بإرْفاقِ العَبْدِ بإيصاله إلى مَن هو مَعْرُوفٌ بحُسْنِ المِلْكِ وإعْتاقِ الرِّقاب. ويَحْتَمِلُ أن يُرِيدَ إرْفاقَ المُشْتَرِي لمعنًى يَحْصُلُ له مِن العبدِ. فإن تَعذَّرَ بَيعُه لذلك الرجل، أو أبى أن يَشْتَرِيَه بالثَّمنِ، أو بقِيمَتِه إن لم يُعَيِّنِ الثَّمَنَ، بَطَلَتِ الوصية. 2695 - مسألة: (وإن وَصَّى في أبوابِ البِرِّ) فقال شيخُنا: يُصْرَفُ في القُرَبِ كلِّها؛ لأنَّ اللَّفْظَ للعُمُومِ، فيَجِبُ حَمْلُه على عُمُومِه، ولا يجوزُ تَخْصِيصُ العُمُومِ بغيرِ دَلِيلٍ (وقيل) عن أحمدَ: (يُصْرَفُ في أرْبعِ جِهاتٍ؛ في الأقارِب، والمَساكِينِ، والحَجِّ، والجِهادِ. وعنه، فِداءُ الأسْرَى مكانَ الحَجِّ) لأنَّ الصدقةَ على الأقارِبِ صدقةٌ وصِلَةٌ، والمَساكِينُ مَصارِفُ الصدقاتِ، والزكاةُ والحَجُّ والجِهادُ مِن أكْبَرِ شَعائِرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِسلامِ، وفِداءُ الأسْرَى مِن أعْظَمِ القُرُباتِ. وقد نَقَلَ المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ، في مَن أوْصَى بثُلُثِه في أبوابِ البِرِّ: يُجَزَّأُ ثلاثةَ أجْزاءٍ؛ جُزْءًا في الجِهادِ، وجُزْءًا يُتَصَدَّقُ به في أقارِبِه، وجُزْءًا في الحَجِّ. وقال في رِوايةِ أبي داودَ: الغَزْوُ يُبْدأُ به. وحُكِيَ عنه، أنّه جَعَل جُزْءًا في فِداءِ الأسْرَى. قال شيخُنا (¬1): وهذا، واللهُ أعلمُ، ليس على سَبِيلِ اللزُومِ والتّحْدِيدِ، بل يجوزُ صَرْفُه في جِهَاتِ البِرِّ كلِّها؛ لأنَّ اللَّفْظَ للعُمُومِ، فيَجِبُ حَمْلُه على عُمُومِه، ولأنّه رُبما كان غيرُ هذه الجِهاتِ أحْوَجَ مِن بعضِها وأحَقَّ، فقد تَدْعُو الحاجَةُ إلى تَكْفِينِ مَيِّتٍ، وإصلاحِ طَرِيقٍ، وإعْتاقِ رَقَبَةٍ، وقَضاءِ دَينٍ، وإغاثَةِ مَلْهُوفٍ، أكْثرَ مِن دُعائِها إلى حَجِّ مَن لا يَجِبُ عليه الحَجُّ، فيُكَلَّفُ وُجُوبَ ما لم يكنْ عليه واجِبًا، وتَعَبًا كان الله تعالى قد أراحَه منه، مِن غيرِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ على أحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ تعالى، فتَقْدِيمُ هذا على ما مَصْلَحَتُه ظاهِرَةٌ والحاجَةُ إليه داعِيَة بغيرِ دَلِيلٍ، تَحَكُّمٌ لا مَعْنَى له. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 540.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال: ضَعْ ثُلُثِي حيث أراك الله. فله صَرْفُه في أيِّ جِهَةٍ مِن جِهاتِ القُرَبِ رَأى وَضْعَه فيها، عَمَلًا بمُقْتَضَى وَصِيَّتِه. وذَكَر القاضي أنَّه يَجِبُ صَرْفُه إلى الفُقَراءِ والمَساكِينِ، والأفْضَلُ صَرْفُه إلى فُقَراءِ أقارِبِه، فإن لم يَجِدْ، فإلى مَحارِمِه مِن الرَّضاعِ, فإن لم يَكُنْ، فإلى جِيرانِه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يَجِبُ ذلك؛ لأنَّه رَدَّه إلى اجْتِهادِه فيما فيه الحَظُّ، وهذا أحَظُّ. ولَنا، أنَّه قد يَرَى غيرَ هذا أهَمَّ منه وأصْلَحَ، فلا يجوزُ تَقْيِيدُه بالتَّحَكُّمِ. ونَقَل أبو داودَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن رجلٍ أوْصَى

2696 - مسألة: (وإن وصى أن يحج عنه بألف، صرف في حجة بعد أخرى حتى تنفد)

وَإِنْ وَصَّى أنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ، صُرِفَ في حَجَّةٍ بَعْدَ أخْرَى حَتَّى تَنْفَدَ، وَيُدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرُ مَا يَحُج بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بثُلُثِه في المَساكِينِ، وله أقارِبُ مَحاويجُ، فلم يُوصِ لهم بشيءٍ ولم يَرِثُوا، فإنَّه يُبْدأُ بهم، فإنَّهم أحَقُّ. قال: وسُئِلَ عن النَّصْرانِيِّ يُوصِي بثُلُثِه للفُقَراءِ مِنِ المسلمين، أيُعْطَى إخْوَتُه وهم فُقَراءُ؟ قال: نعم، هم أحَقُّ، يُعْطَوْن خمْسِين درْهَمًا لا يُزادُونَ على ذلك. يَعْنِي لا يُزادُ كلُّ واحِدٍ منهم على ذلك؛ لأنّهَ القَدْرُ الذي يَحْصُلُ به الغِنَى. 2696 - مسألة: (وإن وَصَّى أن يُحَجَّ عنه بألْفٍ، صُرِفَ في حَجَّةٍ بعدَ أُخْرَى حتَّى تَنْفَدَ) إذا أوْصَى أن يُحَجَّ عنه بقَدْرٍ مِن المالِ، صُرِف جَمِيعُ ذلك في الحَجِّ إذا حَمَلَه الثُّلُثُ؛ لأنه وَصَّى به في جِهَةِ قُرْبَةٍ، فوَجَبَ صَرْفُه فيها، كما لو وَصَّى في سَبِيلِ اللهِ تعالى. وليس للوَصِيِّ أن يَصْرِفَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى مَن يَحُجُّ أكْثَرَ مِن نَفَقَةِ المِثْلِ؛ لأنَّه أطْلَقَ له التَّصَرُّفَ في المُعاوَضَةِ، فاقْتَضَى عِوَضَ المِثْلِ، كالتَّوْكِيلِ في البَيعِ. ثم لا يَخْلُو؛ إمّا أن يكونَ بقَدْرِ نَفَقةِ المِثْلِ لحَجَّةٍ واحِدَةٍ، فيُصْرَف فيها، أو ناقِصًا، فيُحَجَّ به مِن حيثُ يَبْلُغُ، في ظاهِرِ مَنْصُوصِ أحمدَ، فإنَّه قال في رِوايةِ حَنْبَلٍ، في رجلٍ أوْصَى أن يُحَجَّ (¬1)، ولا تَبْلُغُ النَّفَقَةُ، فقال: يُحَجُّ عنه مِن حيثُ تَبْلُغُ النَّفَقةُ للرّاكِبِ مِن أهلِ مَدِينَتِه. وهذا قولُ العَنْبَرِيِّ. وقال القاضِي: يُعان به في الحَجِّ. وهو قولُ سَوَّارٍ القاضِي. حَكاه عنه العَنْبَرِيُّ. وعن أحمدَ، أنَّه مُخَيَّرٌ في ذلك؛ فإنَّه قال في روايةِ أبي داودَ، في امرأةٍ أوْصَتْ بحَجٍّ لا يَجِبُ عليها: أرَى أن يُؤْخَذَ ثُلُثُ مالِها، فيُعَانَ به في الحَجِّ، أو يُحَجَّ به مِن حيث يَبْلُغُ. فإن كان يَفْضُلُ عنِ الحَجَّةِ، دُفِع في حَجَّةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ، إلى أن يَنْفَدَ، أو يَبْقَى ما لا يَبْلُغُ حَجَّةً، فيُحَجُّ به مِن حيثُ يَبْلُغُ، أو يُعانُ ¬

(¬1) أي: عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به في الحَجِّ، على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ فيه. ولا يَسْتَنِيبُ في الحَجِّ مع الإمْكانِ إلَّا مِن بَلَدِ المَحْجُوجِ عنه؛ لأنَّه نائِبٌ عن المَيِّتِ وقائِمٌ مَقامَه، فيَنُوبُ عنه مِن مَوْضِعٍ لو حَجَّ المَنُوبُ عنه لحَجَّ منه. فإن كان المُوصَى به لا يَحْمِلُه الثُّلُثُ، لم يَخْلُ مِن أن يكونَ الحَجُّ فَرْضًا أو تَطَوُّعًا، فإن كان فَرْضًا أُخِذ أكثَرُ الأمْرَين؛ مِن الثُّلُثِ أو القَدْرِ الكافِي لحَجِّ الفَرْضِ، إن كان قد أوْصَى بالثُّلُثِ، فإن كان الثُّلُثُ أكْثَرَ، أُخِذَ، ثم يُصْرَفُ منه في الفَرْضِ قَدْرُ ما يَكْفِيه، ثم يُحَجُّ بالباقِي تَطَوُّعًا حتَّى يَنْفَدَ، كما ذَكَرْنا مِن قبلُ. وإن كان الثُّلُثُ أقَلَّ، تُمِّمَ قَدْرُ ما يَكْفِي الحَجَّ مِن رأسِ المالِ. وبهذا قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ: كلُّ واجِبٍ مِن رأسِ المالِ. وقال ابنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِيُّ، والشعْبِيُّ، وحَمّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وداودُ ابنُ أبي هِنْد: إن وَصَّى بالحَجِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ثُلُثِه، وإلَّا فليس على وَرَثَتِه شيءٌ. فعلى قَوْلِهم، إن لم يَفِ الثُّلُثُ بالمُوصَى به، وإلَّا لم يَزِدْ على الثُّلُثِ؛ لأنَّ الحَجَّ عِبادَةٌ، فلا يَلْزَمُ الوارِثَ، كالصلاةِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كان على أبِيكَ دَينٌ، أكُنْتَ تَقْضِيهِ (¬1)؟» قال: نعم. قال: «فَدَينُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى» (¬2). والدَّينُ مِن رأسِ المالِ، فما هو أحَقُّ منه أوْلَى، ولأنَّه واجِبٌ، فكان مِن رأسِ المالِ، كدَينِ الآدَمِيِّ. وإن كان تَطَوُّعًا، أُخِذ الثُّلُثُ لا غيرُ إذا لم يُجِزِ الوَرَثَةُ، ويُحَجُّ به، على ما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) في م: «قاضيه». (¬2) أخرجه النسائي، في: باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، من كتاب الحج، وفي: باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي إسحاق فيه، من كتاب آداب القضاة. المجتبى 5/ 89، 8/ 201، 202. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 5. وتقدم تخريجه من وجه آخر في 6/ 260.

2697 - مسألة: وإن وصى أن يحج عنه حجة بألف (دفع الكل إلى من يحج)

وَإِنْ قَال: يُحَجُّ عَنِّي حَجَّةٌ بِأَلْفٍ. دُفِعَ الْكُلُّ إلَى مَنْ يَحُجُّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2697 - مسألة: وإن وَصَّى أن يُحَجَّ عنه حَجَّة بألْفٍ (دُفِعَ الكلُّ إلى مَن يَحُجُّ) إذا وَصَّى أن يُحَجَّ عنه حَجَّةٌ واحِدَةٌ بقَدْرٍ مِن المالِ، وكان فيه فَضْلٌ عمّا يُحَجُّ به، فهو لمَن يَحُجُّ؛ لأنَّه قَصَد إرْفاقَه بذلك، فكأنَّه صَرَّحَ فقال: حُجُّوا عنى حَجَّةً واحِدَةً بألْفٍ، وما فَضَل منها فهو لمَن يَحُجُّ.

2698 - مسألة: (فإن عينه في الوصية، فقال: يحج عني فلان بألف)

فَإِنْ عَيَّنهُ في الْوَصِيَّةِ، فَقَال: يَحُجُّ عَنِّي فُلَانٌ بِأَلْفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2698 - مسألة: (فإن عَيَّنَه في الوصيةِ، فقال: يَحُجُّ عني فُلانٌ بألْفٍ) صُرِف ذلك إليه. وإن لم يُعَيِّنْ، فللمُوصَى إليه صَرْفُه إلى مَن شاء؛ لأنَّه فَوَّضَ إليه الاجْتِهادَ، إلَّا أنَّه لا يَمْلِكُ صَرْفَها إلى وارِثٍ إذا كان فيها فَضْلٌ إلَّا بإذْنِ الورثةِ، وإن لم يكنْ فيها فَضْلٌ، جاز؛ لأنَّه لا مُحاباةَ فيها. ثم يُنْظَرُ؛ فإن كان الحَجُّ المُوصَى به تَطَوُّعًا، اعْتُبِرَ مِن الثُّلُثِ، وإن كان واجِبًا، فالزّائِدُ عن نَفَقةِ المِثْلِ مُعْتَبَرٌ مِن الثُّلُثِ. وإن لم يَفِ المُوصَى به بالحَجِّ، أُتِمَّ مِن رأسِ المالِ. وفيه مِن الخِلافِ ما ذَكَرْنا.

2699 - مسألة: فإن (أبى الحج، وقال: اصرفوا لي الفضل. لم يعطه، وبطلت الوصية في حقه)

فَأبَى الْحَجَّ، وَقَال: اصْرِفُوا إِلَيَّ الْفَضْلَ. لَمْ يُعْطَهُ، وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ في حَقِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2699 - مسألة: فإن (أبَى الحَجَّ، وقال: اصْرِفُوا لي الفَضْلَ. لم يُعْطَه، وبَطَلَتِ الوصيةُ في حَقِّه) إذا قال المُعَيَّنُ ذلك، بَطَل التَّعْيِينُ، ويُحَجُّ عنه بأقَلِّ ما يُمْكِنُ إنْسانٌ ثِقَةٌ سِواه، ويُصْرَفُ الباقِي إلى الورثةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ الوصيةُ إن كان الحَجُّ تَطَوُّعًا؛ لأنَّه عَيَّنَ لها جِهَةً، فإذا لم يَقْبَلْها، بَطَلَتْ، كما لو قال: بِيعُوا عبدِي لفلانٍ بمائةٍ. فأبَى شِراءَه. والظّاهِرُ أنَّها لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه قَصَد القُرْبَةَ والتَّعْيِينَ، فإذا بَطَل التَّعْيِينُ، لم تَبْطُلِ القُرْبَةُ، كما لو قال: بِيعُوا عبدِي لفلانٍ وتَصَدَّقُوا بثَمَنِه. فلم يَقْبَل فلانٌ، فإنَّه يُباعُ مِن غيره ويُتَصَدَّقُ بثَمَنِه. فإن قال المُعَيَّنُ: اصْرِفوا لي الفَضْلَ عن نَفَقَةِ الحَجِّ؛ لأنَّه مُوصًى أتى لي به. لم يُصْرَفْ إليه شيءٌ؛ لأنَّه إنَّما أوْصَى به بالزِّيادَةِ بشَرْطِ أن يَحُجَّ، فإذا لم يُوجَدِ الشَّرْطُ، لم يَسْتَحِقَّ شيئًا. فصل: فإذا قال: حُجُّوا عني حَجَّةً. ولم يَذْكُرْ قَدْرًا مِن المالِ، فإنَّه لا يُدْفَعُ إلى مَن يَحُجُّ إلَّا قَدْرُ نَفَقَةِ المِثْلِ؛ لِما ذَكَرْنا، والباقِي للورثةِ. وهذا يَنْبَنِي على أنَّه لا (¬1) يجوزُ الاسْتِئْجارُ عليه، إنَّما يَنُوبُ عنه نائِبٌ، فما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُنْفَقُ عليه فيما يَحْتاجُ إليه فهو مِن مالِ المُوصِي، وما بَقِيَ للورثةِ. فإن تَلِفَ المالُ في الطَّريقِ، فهو مِن مالِ المُوصِي، وليس على النّائِبِ إتْمامُ الحَجِّ. وإن قُلْنا: يجوزُ الاسْتِئْجارُ على الحَجِّ. فلا يَسْتَأْجِرُ إلَّا ثِقَةً بأقَلِّ ما يُمْكِن، وما فَضَل فهو للأجِيرِ؛ لأنَّه مَلَك ما أُعْطِيَ بعَقْدِ الإِجارَةِ. وإن تَلِف المالُ في الطَّرِيقِ بعدَ قَبْضِ الأجيرِ له، فهو مِن مالِه، ويَلْزَمُه إتْمامُ الحَجِّ. وإن قال: حُجُّوا عنِّي. ولم يَقُل: حَجَّة واحِدَةً. لم يحَجَّ عنه إلَّا حَجَّةٌ؛ لأنَّه أقَلُّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ. فإن عَيَّنَ مع هذا، فقال: يَحُجُّ عنى فلان. دُفِع إليه بقَدْرِ نفَقَتِه مِن بَلَدِه إذا خَرَج مِن الثُّلُثِ. فإن أبَى الحَجَّ إلَّا بزِيادَةٍ تُصْرَفُ إليه، فيَنْبَغِي أن يُصْرَفَ إليه أقَلُّ قَدْرٍ يُمْكِنُ أن يَحُجَّ به غيرُه. فإن أبَى الحَجَّ وكان واجِبًا، اسْتُنِيبَ غيرُه بأقَلِّ ما يمكنُ اسْتِنابَتُه. واللهُ أعلمُ. فصل: وإن وَصّى أن يَحُجَّ عنه زيدٌ بمائةٍ، ولعمرٍو بتَمامِ الثُّلُثِ، ولسعدٍ بثُلُثِ مالِه، فأجاز الورثةُ، أُمْضِيَتْ على ما قال المُوصِي. فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَفْضُلْ عن المائةِ شيءٌ، فلا شيءَ لعمرٍو؛ لأنَّه إنّما وَصَّى له بالفَضْلِ، ولا فَضْلَ. وإن رَدَّ الوَرَثةُ، قُسِم الثُّلُثُ بينَهم نِصْفَين؛ لسعدٍ السُّدْسُ، ولزيدٍ مائةٌ، وما فَضَل مِن الثُّلْثِ فلعمرٍو. فإن لم يَفْضُلْ منه شيءٌ، فلا شيءَ لعمرٍو؛ لأنَّه إنَّما وَصَّى له بالزِّيادَةِ، ولا زِيادَةَ. ولا تَمْتَنِعُ المُزاحَمَةُ به، ولا يُعْطَى شيئًا، كوَلَدِ الأبِ مع وَلَدِ الأبَوَين، في مُزاحَمَةِ الجَدِّ. ويَحْتملُ أنَّه متى كان في الثُّلُثِ فَضْلٌ عن المائةِ، أن يُرَدَّ كل واحِدٍ إلى نِصْفِ وَصِيَّتِه؛ لأنَّ زيدًا إنَّما اسْتَحَقَّ المائةَ بالإجازَةِ، فمع الرَّدِّ يدْخُلُ عليه مِن النَّقْصِ بقَدْرِ وَصِيّتِه، كسائِرِ الوَصايا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَصَّى لزيدٍ بعبدٍ بعينِه، ولعمرٍو ببَقِيةِ الثُّلُثِ، قُوِّمَ العبْدُ يومَ مَوْتِ المُوصِي -لأنَّه حالُ نُفُوذِ الوصيَّةِ- ودُفِع إلى زيدٍ، ودُفِعَ بَقِيَّةُ الثُّلُثِ إلى عمرٍو. فإن لم يَبْقَ مِن الثُّلُثِ شيءٌ، بَطَلَتْ وصيةُ عمرٍو. وإن مات العَبْدُ بعدَ مَوْتِ المُوصِي، [أو رَدّ زيدٌ وصيتَه، بَطَلَتْ، ولم تَبْطُلْ وصيةُ عمرٍو. وهكذا إن مات زيدٌ قبلَ موتِ المُوصِي (¬1). وإن مات العبدُ قبلَ موتِ المُوصِي] (¬2)، قَوَّمْنا التَّرِكَةَ حال موتِ المُوصِي بدُونِ العبدِ، ثم نُقَوِّمُ العبدَ لو كان حَيًّا، فإن بَقِيَ مِن الثُّلُثِ بعدَ قِيمَتِه شيءٌ، فهو لعمرٍو، وإلَّا بَطَلَتْ وصيَّتُه. ولو قال لأحَدِ عَبْدَيه: أنت مُدَبَّرٌ. ثم قال لآخَرَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ في زِيادَةِ الثُّلُثِ عن قِيمَةِ الأوَّلِ. ثم بَطَل تَدْبِيرُ الأوَّلِ بمَوْتِه، فهي كالتي قبلَها، على ما ذَكَرْنا، أو رُجُوعِه فيه، أو خُرُوجِه مُسْتَحَقًّا، أو غيرِ ذلك. ¬

(¬1) بعده في المغني 8/ 548: «أو بعده». (¬2) سقط من: م.

2700 - مسألة: (وإن وصى لأهل سكته، فهو لأهل دربه)

وَإِنْ وَصَّى لأهْلِ سِكَّتِهِ، فَهُوَ لأهْلِ دَرْبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2700 - مسألة: (وإن وَصَّى لأهلِ سِكَّتِه، فهو لأهلِ دَرْبِه) لأنَّ السِّكَّةَ الطَّرِيقُ، والدَّرْبُ مُضافٌ إليه.

2701 - مسألة: (وإن وصى لجيرانه، تناول أربعين دارا من كل جانب)

وَإِنْ وَصَّى لِجيرَانِهِ، تَنَاوَلَ أرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: مُسْتَدَارُ أرْبَعِينَ دَارًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2701 - مسألة: (وإن وَصَّى لجيرانِه، تَناوَلَ أرْبَعِين دارًا مِن كلِّ جانِبٍ) نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الأَوْزاعِيُّ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: الجارُ المُلاصِقُ؛ لأنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجارُ أحَقُّ بِصَقَبِهِ» (¬1). يَعْنِي الشُّفْعَةَ، وإنَّما تَثْبُتُ للمُلاصِقِ. ولأنَّ الجارَ مُشْتَقٌّ مِن المُجاوَرَةِ، وقال قَتادَةُ: الجارُ الدّارُ والدّارانِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، - عليه السلام -، في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ المَسْجِدِ إلَّا في المَسْجِدِ» (¬2). قال: مَن سَمِع النِّداءَ. وقال سعيدُ بنُ عمرو بنِ جَعْدَةَ: مَن سَمِع الإقامَةَ. وقال أبو يُوسُفَ: الجِيرَانُ أهلُ المَحَلَّةِ إن جَمَعَهم مسجدٌ، فإن تَفَرقَ أهلُ المَحَلَّةِ في مَسْجِدَين صَغِيرَين مُتَقارِبَين، فالجميعُ جِيرانٌ، وإن كانا عَظِيمَين، فكلُّ أهلِ مَسجدٍ جِيرانٌ، وأمّا الأمْصارُ التي فيها القَبائِلُ، فالجِوارُ على الأفْخاذِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 15/ 371. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 272.

2702 - مسألة: (وإن وصى لأقرب قرابته)

وَإِنْ وَصَّى لِأَقْرَبِ قَرَابَتِه، وَلَهُ أَبٌ وَابْنٌ، فَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجارُ أرْبَعُونَ دارًا، هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا» (¬1). وهذا نَصٌّ لا يَجُوزُ العُدُولُ عنه إن صَحَّ، وإن لم يَثْبُتِ الخَبَرُ، فالجارُ هو المُقارِبُ، ويُرْجَعُ في ذلك إلى العُرْفِ (وقال أبو بكرٍ: مُسْتَدارُ أرْبَعِينَ دارًا) مِن كلِّ جانِبٍ، والحديثُ يَحْتَمِلُه. 2702 - مسألة: (وإن وَصَّى لأقْرَبِ قَرابَتِه) أو لأقْرَبِ النّاسِ إليه، أو أقْرَبِهم به رَحِمًا، لم يُدْفعْ إلى الأبعَدِ مع وُجُودِ الأقرَبِ (فإن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في: المراسيل 189 عن الزهري، وطرقه ضعيفة، انظر: تلخيص الحبير 3/ 93، وإرواء الغليل 6/ 100، 101.

سَوَاءٌ، وَالْجَدُّ والأخُ سَوَاءٌ. وَيَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ الابنِ عَلَى الْأَبِ، وَالْأَخِ عَلَى الْجَدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان له أبٌ وابنٌ، فهما سَواءٌ) لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يُدْلِي بنفْسِه (¬1) من غيرِ واسِطَةٍ. (والأخُ والجَدُّ سواءٌ) لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما يُدْلِي بالأبِ مِن غيرِ واسِطَةٍ. (ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ الابنِ على الأبِ) لأنَّه يُسْقِطُ تَعْصِيبَه. والأولَى أوْلَى؛ لأنَّ إسقاطَ تَعْصِيبِه لا يَمْنَعُ مُساواتَه في القُرْبِ، ولا كَونَه أقْرَبَ منه، بدَليِلِ أنَّ ابنَ الابنِ يُسْقِطُ تَعْصِيبَه مع بُعْدِه، (و) يحْتَمِلُ تَقْدِيمُ (الأخِ على الجَدِّ) لأنَّ الأخَ يُدْلِي بِبُنُوَّةِ الأبِ، والجَدَّ يُدْلِي بالأبُوَّةِ، فهما كالأبِ والابنِ. والأوَّلُ أوْلَى، ولا يَصِحُّ قِياسُ الأخِ على الابنِ؛ لأنَّه لا يُسْقِطُ تَعْصِيبَ الجَدِّ، بخِلافِ الابنِ. ويُقَدَّمُ الابنُ على الجَدِّ، والأبُ على ابنِ الابنِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يُقَدَّمُ ابنُ الابنِ على الأبِ في وَجْهٍ؛ لأنَّه يُسْقِطُ تَعْصِيبَه. ولَنا، أنَّ الأبَ يُدْلِي بنَفْسِه، ويَلِي ابنَه مِن غيرِ حاجِزٍ، ولا يَسْقُطُ مِيراثُه بحالٍ، بخِلافِ ابنِ الابنِ. والأبُ والأمُّ سَواءٌ، وكذلك الابنُ والبِنْتُ، والجَدُّ أبو الأبِ وأبو الأمِّ، وأُمُّ الأبِ وأُمُّ الأمِّ، كلُّهم سَواءٌ. هكذا ذَكَرَه شيخُنا (¬2). ¬

(¬1) في م: «بالأب». (¬2) انظر المغني 8/ 531، 532.

2703 - مسألة: (والأخ من الأب والأخ من الأم سواء، والأخ من الأبوين أحق منهما)

وَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ والْأَخُ مِنَ الأُمِّ سَوَاءٌ، وَالْأَخُ مِنَ الْأَبَوَين أحَقُّ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ أبِي الأبِ على أبِي الأُمِّ؛ لأنَّه يُسْقِطُه. ثم بعدَ الأوْلادِ أوْلادُ البَنِينَ وإن سَفَلُوا، الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، الذُّكُورُ والإناثُ، وفي أوْلادِ البَناتِ وَجْهانِ، بِناءً على دُخُولِهم في الوَقْفِ، ثم مِن بَعْدِ الوَلَدِ الأجْدادُ، الأقْرَبُ منهم فالأقْرَبُ؛ لأنَّهم العَمُودُ الثاني، ثم الإخْوَةُ والأخَواتُ، ثم وَلَدُهم وإن سَفَلُوا, ولا شيءَ لوَلَدِ الأخَواتِ، إذا قُلْنا: لا يدخلُ وَلَدُ البَناتِ. 2703 - مسألة: (والأخُ مِن الأبِ والأخُ مِن الأمِّ سَواءٌ، والأخُ مِن الأبَوَين أحَقُّ منهما) الأخُ مِن الأبِ والأخُ مِن الأمِّ سَواءٌ؛ لأنَّهما على دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، وكذلك وَلَداهما، والأخُ مِن الأَبوَين أحَقُّ منهما؛ لأنَّ له قَرَابَتَين، فهو أقْرَبُ ممَّن له قَرَابَةٌ واحِدَةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأخ للأبِ أوْلَى مِن ابن الأخِ مِن الأبوين، كما في المِيراثِ، ثم بعدَهم الأعْمامُ، ثم بَنُوهم وإن سَفَلوا. ويَسْتَوي العَمُّ مِن الأبِ والعَمُّ مِن الأمِّ، وعلى الاحْتمالِ الذي ذَكَرْناه في تَقْدِيمِ أبي الأبِ على أبي الأمِّ تَقْدِيمُ العَمِّ مِن الأبِ على العَمِّ مِن الأمِّ، وكذلك أبْناؤُهما، وعلى هذا التَّرْتِيبِ. ذَكَرَه القاضي. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّه يَرَى دُخُولَ وَلَدِ البَناتِ والأخَواتِ والأخْوالِ والخالاتِ، وهذا القولُ يُخَرَّجُ على مَذْهَبِ أحمدَ على الرِّوايَةِ التي تَجْعَلُ القَرابَةَ فيها كلَّ مَن يَقَعُ عليه اسْمُ القَرابَةِ. فأمّا على الروايةِ التي تقولُ: إن اسمَ القرابةِ يَخْتَصُّ كان مِن أوْلادِ الآباءِ. وهي التي اخْتارَها الخِرَقِيُّ، فلا تَدْخُلُ فيه الأمُّ ولا أقارِبُها؛ لأنَّ مَن لم يكنْ مِن القرابةِ لم يكنْ مِن أقْرَبِ القرابةِ. فعلى هذا تَتَناوَلُ الوصيةُ مَن كان أقْرَبَ مِن أوْلادِ المُوصِي، وأولادِ آبائِه إلى أربعةِ آباءٍ، ولا تَعْدُوهم. فإن وَصَّى لجماعةٍ مِن أقْرَبِ الناسِ إليه، أُعْطِيَ ثلاثةٌ مِن أقْرَبِ الناسِ إليه. فإن وجِد أكْثَرُ مِن ثلاثةٍ في دَرَجَةٍ واحدةٍ، كإخْوَةٍ، فالوصيةُ

فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ، وَلَا بَيتِ نَارٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لجَمِيعِهم؛ لأنَّ بعضَهم ليس بأوْلَى مِن بعضٍ، والاسمُ يَشْمَلُهم. وإن لم يُوجَدْ ثلاثةٌ في درجةٍ واحدةٍ، كُمِّلَتْ مِن الثانيةِ. فإن كان (¬1) في الدَّرَجَةِ الثانيةِ جَماعَةٌ، سُوِّيَ بينَهم؛ لِما ذَكَرْنا في الدَّرَجَةِ الأولَى، وإن لم تُكَمَّلْ مِن الثانيةِ، فمِن الثالثةِ، فإذا وُجِد ابنٌ وأخٌ وعَمٌّ، فالوصيةُ بينَهم أثلاثًا، وكذلك إن كان ابنٌ وأخَوان، وإن كان ابنٌ وثلاثةُ إخْوَةٍ، دخل جميعُهم في الوصيةِ، ويَنْبَغِي أن يكونَ للابنِ ثُلُثُ الوصيةِ ولهم ثُلُثاها. فإن كان الابنُ وارثًا، سَقَط حَقُّه مِن الوصيةِ إن لم يُجَزْ له، والباقِي للإخْوَةِ. وإن وَصَّى لعَصَبَتِه، فهو لمَن يَرِثُه بالتَّعْصِيبِ في الجملةِ، سواءٌ كان مَن يَرِثُ في الحالِ أو لم يكنْ. ويُسَوَّى بينَ قَرِيبِهم وبَعِيدِهم؛ لشُمُولِ اللفظِ لهم. ولا خِلافَ في أنَّهم لا يكونون مِن جِهَةِ الأمِّ بحالٍ. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عَنه: (ولا تَصِحُّ الوصيةُ لكَنِيسَةٍ، ولا بَيتِ نارٍ) ولا لعِمارتِهما والإنفاقِ عليهما. وبهذا قال ¬

(¬1) سقط من: م.

2704 - مسألة: وإن وصى (لكتب التوارة والإنجيل)

وَلَا لِكَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وسواءٌ كان المُوصِي مسلمًا أو ذِمِّيًّا. وقال أصحابُ الرَّأي: تَصِحُّ. وأجازَ أبو حنيفةَ الوصيةَ بأرضِه تُبْنَى كنيسةً. وخالفَه صاحِباه. وأجازَ أصحابُ الرأْي أن يُوصِيَ بشراءِ خَمْرٍ أو خنازِيرَ ويُتَصَدَّقَ بها على أهلِ الذِّمَّةِ. ولَنا أنَّ هذه أفعالٌ مُحَرَّمَة، وفِعْلُها مَعْصِيَةٌ، فلم تَصِحَّ الوصيةُ بها، كما لو وَصَّى بعبدِه أو أمتِه للفُجُورِ، ولأنَّها لا تَجوزُ في الحياةِ، فلا تجوزُ في المماتِ. 2704 - مسألة: وإن وَصَّى (لكَتْبِ التوارةِ والإنجيلِ) لم تَصِحَّ؛ لأنَّها كُتُب مَنْسُوخَةٌ وفيها تَبْدِيلٌ، والاشْتِغالُ بها غيرُ جائزٍ، وقد غَضِب

2705 - مسألة: (ولا)

وَلَا لِمَلَكٍ، وَلَا لِمَيِّتٍ، وَلَا لِبَهِيمَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ رَأى مع عُمَرَ شيئًا مَكْتُوبًا مِن التوارةِ (¬1). وذَكَر القاضي أنَّه لو أوْصَى لحُصُرِ البِيَعِ وقَنادِيلها، وما شاكَلَ ذلك، ولم يَقْصِدْ إعْظامَها بذلك، صَحَّتِ الوصيةُ؛ لأنَّ الوصيةَ لأهلِ الذِّمَّةِ، فإنَّ النَّفْعَ يَعُودُ إليهم، والوصيةُ لهم صحيحةٌ. والصحيحُ أنَّ الوصيةَ لا تَصِحُّ بهذا؛ لأنَّ ذلك إنَّما هو إعانةٌ لهم على مَعْصِيَتِهم، وتَعْظِيمٌ لكَنائِسِهم. ونُقِل عن أحمدَ ما يَدُلُّ على صحةِ الوصيةِ مِن الذِّمِّيِّ بخِدْمَةِ الكَنِيسَةِ. والأوَّلُ أوْلَى وأصَحُّ. وإن وَصَّى ببِناءِ بَيتٍ ليَسْكُنَه المُجْتازُون مِن أهلِ الذِّمَّةِ وأهلِ الحَرْبِ، صَحَّ؛ لأنَّ بِناءَ مَساكِنِهم ليس بمَعْصِيَةٍ. فصل: ولا تَصِحُّ الوصيةُ لكافِرٍ بمُصْحَفٍ ولا عبدٍ مسلمٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ هِبَتُهما له ولا بَيعُهما منه. وإن وَصَّى له بعبدٍ كافِرٍ، فأسْلَمَ قبلَ مَوْتِ المُوصِي، بَطَلَتِ الوصيةُ، وإن أسْلَمَ بعدَ الموتِ وقبلَ القَبُولِ، وقُلْنا: إنَّ المِلْكَ إنَّما ثَبَت حينَ القَبُولِ. بَطَلَتْ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَبْتَدِئَ المِلْكَ على مسلمٍ. وإن قلنا: يَثْبُتُ المِلْكُ بالموتِ قبلَ القَبُولِ. فالوصيةُ صحيحةٌ؛ لأنَّا نَتَبَيَّنُ أنَّهْ أسْلَمَ بعدَ أن مَلَكَه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ أَيضًا، لأنَّه يَأْتِي بسَبَبٍ لَوْلاه لم يَثْبُتِ المِلْكُ، فمنَعَ منه، كابْتِداءِ المِلْكِ. 2705 - مسألة: (ولا) تَصِحُّ (لمَلَكٍ، ولا لبَهِيمَةٍ) ولا لجِنِّيٍّ؛ لأنَّه تَمْلِيكٌ، فلم يَصِحَّ لهم، كالهِبَةِ (ولا) تَصِحُّ (لمَيِّتٍ) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 383.

2706 - مسألة: (وإن وصى لحي وميت يعلم موته، فالكل للحي. ويحتمل أن لا يكون له إلا النصف. وإن لم يعلم، فللحي نصف الموصى به)

وَإِنْ وَصَّى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ يَعْلَمُ مَوْتَهُ، فَالْكُلُّ لِلْحَيِّ. وَيَحْتَمِلُ ألا يَكُونَ لَهُ إلَّا النِّصْفُ. فَإنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلِلْحَيِّ نِصْفُ الْمُوصَى بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: إن عَلِم أنَّه مَيِّتٌ، صَحَّتِ الوصيةُ، وهي لوَرَثَتِه بعدَ قضاءِ دُيُونِه وتَنْفِيذِ وصاياهُ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفْعُه بها، فأشْبَهَ ما لو كان حَيًّا. ولَنا، أنَّه أوْصَى لمَن لا تَصِحُّ الوصية له لو لم يَعْلَمْ حاله، فلا تَصِحُّ إذا عَلِم حاله، كالبَهِيمَةِ، وفارَقَ الحَيَّ؛ فإنَّ الوصيةَ تَصِحُّ له في الحالين، ولأنَّه عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلى القَبُولِ، فلم يَصِحَّ للمَيِّتِ، كالهِبَةِ. 2706 - مسألة: (وإن وَصَّى لحيٍّ ومَيِّتٍ يَعْلَمُ موتَه، فالكلُّ للحيِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يكونَ له إلَّا النِّصْفُ. وإن لم يَعْلَمْ، فللحيِّ نِصْفُ المُوصَى به) إذا وَصَّى بثُلُثِه أو بمائةٍ لحيٍّ ومَيِّتٍ، فللحيِّ نِصْفُ الوصيةِ، سَواءٌ عَلِم موتَه أو لم يَعْلَمْ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وإسحاقَ، والبَصْرِيِّين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: إذا قال: هذه المائةُ لفلانٍ وفلانٍ الميِّتِ. فهي للحيِّ منهما. وإن قال: بينَ فلانٍ وفلانٍ. فوافَقَنا الثوْرِيُّ على أنَّ نِصْفَها للحيِّ. وعن الشافعيِّ كالمَذْهَبَين. وقال أبو الخَطّابِ: عندِي إذا عَلِمَه مَيِّتًا، فالكلُّ للحيِّ، وإن لم يَعْلَمْه مَيِّتًا، فللحيِّ النِّصْفُ. وقد نُقِلَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على هذا القولِ، فإنَّه قال، في روايةِ ابنِ القاسِمِ: إذا وَصَّى لفلانٍ وفلانٍ بمائةٍ، فبان أحَدُهما مَيِّتًا، فللحيِّ خَمْسُون. فقِيلَ له: أليس إذا قال: ثُلُثِي لفلانٍ وللحائِطِ. أليس كله لفلانٍ؟ قال: وأيُّ شيءٍ يُشْبِهُ هذا؟ الحائطُ له مِلْكٌ! فعلى هذا، متى شَرَّكَ بينَ مَن تَصِحُّ الوصيةُ له وبينَ مَن لا تَصِحُّ، مثلَ أن يُوصِيَ لفلانٍ وللمَلَكِ أو الحائطِ، أو لفلانٍ وللمَيِّتِ، فالمُوصَى به كله لمَن تَصِحُّ له،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان عالمًا بالحالِ؛ لأنَّه إذا شَرَّكَ بينَهما في هذه الحالِ، عُلِم أنَّه قَصد بالوصيةِ كلِّها مَن تَصِحُّ الوصيةُ له. وإن لم يَعْلَمْ بالحالِ، فلِمَن تَصِحُّ الوصيةُ له نصفُها, لأنَّه قَصَد إيصال نصفِها إليه وإلى الآخَرِ النِّصْفِ، ظنًّا منه أنَّ الوصيةَ له صحيحةٌ، فإذا بَطَلَتِ الوصيةُ في حقِّ أحَدِهما، صَحَّتْ في حَقِّ الآخَرِ بقِسْطِه، كتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ووَجْهُ القَوْلِ الأوّلِ، أنَّه جَعَل الوصيةَ لاثْنَين، فلم يَسْتَحِقَّ أحدُهما جَميعَها، كما لو كانا ممَّن تَصِح الوصيةُ لهما فمات أحدُهما، أو كما لو لم يَعْلَمِ الحال. فأمّا إن وصَّى لاثنَين حَيَّين

2707 - مسألة: (فإن وصى لوارثه وأجنبي)

وَإِنْ وَصَّى لِوَارِثِهِ وَأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَرَدَّ الْوَرَثَةُ، فَلِلأَجنَبِيِّ السُّدْسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فمات أحدُهما، فللآخَرِ نصفُ الوصيةِ. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ومِثْلُه لو بَطَلَتِ الوصيةُ في حَق أحَدِهما؛ لرَدِّه لها، أو لخُرُوجِه عن أن يكونَ مِن أهلِها. ولو قال: أوْصَيتُ لكلِّ واحِدٍ مِن فلانٍ وفلانٍ بنِصْفِ الثُّلُثِ -أو- بنصفِ المائةِ -أو- بخَمْسِين. لم يَسْتَحِقَّ أحَدُهما أكْثَرَ مِن نِصْفِ الوصيةِ، سواءٌ كان شَرِيكُه حَيًّا أو مَيِّتًا؛ لأنَّه عَيَّنَ وصيتَه في النصفِ، فلم يَكُنْ له حَقٌّ فيما سِواه. 2707 - مسألة: (فإن وَصّى لوارِثِه وأجْنَبِيٍّ) بثُلُثِه، فأجاز سائِرُ

2708 - مسألة: (وإن وصى لهما بثلثي ماله)

وَإنْ وَصَّى لَهُمَا بِثُلُثَي مَالِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرَثَةِ وصيةَ الوارِثِ، فالثُّلُثُ بينَهما نِصْفَين. وإن وَصَّى لكلِّ واحدٍ منهما بمُعَيَّنٍ قِيمَتُهما الثُّلُثُ، فأجاز سائِرُ الورثةِ وصيةَ الوارِثِ، جازَتِ الوَصِيّتان لهما. وإن ردُّوا، بَطَلَتْ وصيةُ الوارِثِ في المسْأَلتَين، وللأجْنَبِيِّ السُّدْسُ في الأُولَى، والمُعَيَّنُ المُوصَى له به في الثانيةِ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي، وغيرِهم. 2708 - مسألة: (وإن وَصَّى لهما بثُلُثَي مالِه) وأجاز الورثةُ لهما، جازت. وإِن عَيَّنُوا نَصِيبَ الوارثِ بالرَّدِّ وَحْدَه، فللأجْنَبِيِّ الثُّلُثُ كامِلًا؛ لأنَّهم خَصُّوا الوارِثَ بالإِبطالِ، فالثُّلُثُ كله للأجْنَبِيِّ، وسَقَطَتْ وصيةُ الوارِثِ، فصار كأنَّه لم يُوصِ له. وإن أبْطَلوا الزّائِدَ عن الثُّلُثِ مِن غيرِ تَعْيينِ نصيبِ. أحَدِهما، فالثُّلُثُ الباقِي بينَ الوَصِيَّين، لكلِّ واحِدٍ منهما

فَكَذِلَكَ عِنْدَ الْقَاضِي. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ، لَهُ الثُّلُثُ كُلُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسُ. وهذا الذي ذَكَرَه القاضِي. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأن الوارِثَ يُزاحِمُ الأجْنَبِيَّ إذا أجاز الورثةُ الوَصِيَّتين، فيكونُ لكلِّ واحدٍ منهما الثُّلُثُ، فإذا أبْطَلُوا نِصْفَهما بالرَّدِّ، كان البُطْلانُ راجِعًا إليهما، وما بَقِيَ منهما بينَهما، كما لو تَلِف ذلك بغيرِ الرَّدِّ. واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّ الثُّلُثَ جَميعَه للأجْنَبِيِّ. وحُكِيَ نحوُه عن أبي حنيفةَ؛ لأنَّهم لا يَقْدِرُونَ على إبْطالِ الثُّلُثِ فما دُونَ إذا كان لأجْنَبِيٍّ، ولو جَعَلْنا الوصيةَ بينَهما لمَلَكُوا إبْطال ما زاد على السُّدْسِ، فإن صَرَّحَ الورثةُ بذلك، فقالوا: أجَزْنا الثُّلُثَ لكما، ورَدَدْنا ما زاد عليه مِن وَصِيَّتِكما. أو قالوا: رَدَدْنا مِن وصيةِ كلِّ واحِدٍ منكما نِصْفَها، وبَقَّينا له نِصْفَها. كان ذلك آكَدَ في جَعْلِ السُّدْسِ لكلِّ واحدٍ منهما؛ لتَصْرِيحِهم به. وإن قالوا: أجَزْنا وصيةَ الوارثِ كُلَّها، ورَدَدْنا وصيَّةَ الأجْنَبِيِّ. فهو على ما قالُوا؛ لأنَّ لهم أن يُجِيزُوا لهما وأن يَرُدُّوا عليهما، فكان لهم أن يُجيزُوا لأحَدِهما ويرُدُّوا على الآخرِ. وإن أجازُوا للأجْنَبِيِّ جَمِيعَ وصيتِه ورَدُّوا على الوارِثِ نِصْفَ وصيتِه، جاز،

2709 - مسألة: (ولو وصى بماله لابنيه وأجنبي)

وَإنْ وَصَّى بِمَالِهِ لِابْنَيهِ وَأَجْنَبِيٍّ، فَرَدَّا وَصِيَّتَهُ، فَلَهُ التُّسْعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قُلْنا. وإن أرادُوا أن يَنْقُصُوا الأجْنَبِيَّ عن نِصْفِ وصيتِه، لم يَمْلِكُوا ذلك، سواءٌ أجازُوا للوارِثِ أو رَدُّوا عليه. فإن رَدُّوا جَمِيعَ وصيةِ الوارِثِ ونِصْفَ وصيةِ الأجْنَبِيِّ، فعلى قولِ القاضِي، لهم ذلك؛ لأنَّ لهم أن يُجِيزُوا الثُّلُثَ لهما، فيَشْتَرِكان فيه، ويكونُ لكلِّ واحِدٍ منهما نِصْفُه، ثم إذا رَجَعُوا فيما للوارِثِ، لم يَزِدِ الأجْنَبِيُّ على ما كان له في حالِة الإجازَةِ للوارِثِ. وعلى قولِ أبي الخَطّابِ، يَتَوَفَّرُ الثُّلُثُ كلُّه للأجْنَبِيِّ؛ لأنَّه إنَّما يُنْتَقَصُ (¬1) منه بمُزاحَمَةِ الوارِثِ، فإذا زالتِ المُزاحَمَةُ، وَجَب توْفِيرُ الثُّلُثِ عليه؛ لأنَّه قد أوْصَى له به. 2709 - مسألة: (ولو وَصَّى بمالِه لابنَيه وأجْنَبِيٍّ) فرَدُّوا وَصِيَّةَ الوارِثِ، فهو على ما قال، وإن أجازُوا للوارِثِ، فالثُّلُثُ بينَهما؛ لأَن الوصيةَ تَتَعَلَّقُ بالشَّرْطِ. ولو قال: أوْصَيتُ لفلانٍ بثُلُثِي، فإن مات قبلِي فهو لفلانٍ. صَحَّ. فإن وَصَّى لوارِثِه، فأجاز بعضُ باقِي الورثةِ الوصيةَ دُونَ البعضِ، نَفذَ في نَصِيبِ مَن أجاز وَحْدَه. وإن أجازُوا بعضَ الوصيةِ دُونَ بعضٍ، نَفَذَتْ فيما أجازُوا دُونَ ما لم يُجِيزُوا. وإن أجازَ بعضُهم بعضَ الوصيةِ، وأجاز بعضُهم جَمِيعَها أو رَدُّوها، فهو على ¬

(¬1) في م: «ينقص».

2710 - مسألة: (وإن وصى لزيد والفقراء والمساكين بثلثه، فلزيد التسع)

عِنْدَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ أبي الْخَطَّابِ لَهُ الثُّلُثُ، وَإنْ وَصَّى لِزَيدٍ وَلِلْفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِثُلُثِهِ، فَلِزَيدٍ التُّسْعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما فَعَلُوا مِن ذلك. فلو خَلَّفَ ثلاثةَ بَنِينَ، وعَبْدًا لا يَمْلِكُ غيرَه، فوَصَّى به لأحَدِهم، أو وَهَبَه إيّاه في مَرَضِ مَوْتِه، فأجازَ له أخَواه، فهو له، وإن أجازَ له أحَدُهما وَحْدَه، فله ثُلُثاه، وإن أجازا (¬1) له نِصْفَ العَبْدِ، فله نِصْفُه، ولهما نِصْفه، وإن أجاز أحَدُهما له نِصْفَ نَصِيبِه ورَدَّ الآخَرُ، فله النِّصْفُ، الثُّلُثُ بنَصِيبِه والسُّدْسُ مِن نَصِيبِ المُجيزِ، وإن أجازَ كلُّ واحدٍ منهما له نِصْفَ نَصِيبِه، كَمَل له الثُّلُثان، وإن أجاز لَه أحَدُهما نِصْفَ نَصِيبِه، والآخَر ثُلُثَه، أو باع نَصِيبَه، كَمَل له ثلاثةُ أرْباعِ العَبْدِ. وإن وَصَّى بالعبدِ لاثْنَين منهما، فللثالثِ أن يُجِيزَ لهما أو يَردَّ عليهما، أو يُجيزَ لهما بعضَ وَصِيَّتِهما، إن شاء متَساويًا، وإن شاء مُتَفاضِلًا، أو يَرُدَّ على أَحَدِهما ويُجيزَ للآخرِ وَصِيَّتَه كلَّها أو بعضَها، أو يُجِيزَ لأحَدِهما جَمِيعَ وَصِيّتِه وللآخَرِ بعضَها، فكلُّ ذلك جائِزٌ؛ لأنَّ الحَقَّ له، فكَيفَما شاء فَعَل فيه. 2710 - مسألة: (وإن وَصَّى لزيدٍ والفقَراءِ والمَساكِينِ بثُلُثِه، فلزَيدٍ التُّسْعُ) وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ. وعن محمدٍ، لزيدٍ الخمْسُ، ¬

(¬1) في م: «أجاز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللفُقَراءِ الخُمْسانِ، وللمَساكِينِ الخُمْسان؛ لأنَّ أقَلَّ الجَمْعِ اثْنانِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، كقَوْلِنا. والثانِي، له السُّبْعُ؛ لأنَّ أقَلَّ الجمعِ ثلاثةٌ، فإذا انْضَمَّ إليهم صاروا سَبْعَةً. ولَنا، أنَّه وَصَّى لثَلاثِ جِهَاتٍ، فوَجَبَ أن يُقْسَمَ بينَهم بالسَّويَّةِ، كما لو وَصَّى لزيدٍ وعَمْرٍو وخالِدٍ. وإن كان زَيدٌ مِسْكِينًا، لم يُدْفَعْ إليه مِن سَهْمِ المَساكِينِ شيءٌ. وبه قال الحسنُ، وإسحاقُ؛ لأنَّ عَطْفَهم عليه يَدُلُّ على المُغايَرَةِ بينَهم، إذ الظّاهِرُ بينَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عليه المُغايَرَةُ (¬1)، ولأنَّ تَجْويزَ ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفْضِي إلى تَجْويزِ دَفْعِ نَصِيبِ المَساكِينِ كلِّه إليه، ولَفْظُه يَقْتَضِي خِلافَ ذلك. فأمّا إن كانتِ الوصيةُ لقوم يُمْكِنُ اسْتِيعابُهم وحَضرُهم، مثلَ أن يقولَ: هذا لزيدٍ وإخْوَتِه. فهي كالتي قبلَها. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ كأحَدِهم؛ لأنَّه شَرَّكَ بينَه وبينَهم على وَجْهٍ لا يجوزُ الإخْلالُ ببعضِهم، فتَساوَوْا فيه، كما لو قال: هذا لكم.

باب الموصى به

بَابُ الْمُوصَى بِهِ تَصِحُّ الْوَصِيّةُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ كَالْآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَالطَّيرِ: فِي الْهَوَاء، وَالْحَمْلِ في الْبَطْنِ، وَاللَّبَنِ في الضَّرْعِ، وَبِالْمَعْدُومِ؛ كَالَّذِي تَحْمِلُ أمَتُهُ أوْ شَجَرَتُهُ أبَدًا، أوْ في مُدَّةٍ مُعَينةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُوصَى به (تَصِحُّ الوَصِيةُ بما لا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه؛ كالآبِقِ، والشّاردِ، والطَّيرِ في الهَواءِ، والحَمْلِ في البَطْنِ، واللَّبَن في الضَّرْعِ) لأنَّ الوصيةَ إذا صَحَّتْ بالمَعْدُومِ، فبغيرِه أوْلَى، ولأَنَّها أُجْرِيَتْ مُجْرَى المِيراثِ، وهذا يُورَثُ، فيُوصَى به. فإن قَدَر عليه، أخَذَه وَسَلَّمَه إذا خَرَج مِن الثُّلُثِ، وللوَصِيِّ السَّعْيُ في تَحْصِيلِه، فإن قَدَر عليه، أخَذَه إذا خَرَج مِن الثُّلُثِ. فصل: وتَصِحُّ بالحَمْلِ إذا كان مَمْلُوكًا، بأن يكونَ رَقِيقًا، أو حَمْلَ بَهِيمَةٍ مَمْلُوكَةٍ؛ لأنَّ الغَرَرَ والخَطَرَ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ الوصيةِ، فجَرَى مَجرَى إعْتاقِ الحَمْلِ. فإنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا، بَطَلَتِ الوصيةُ، وإن خَرَج حَيًّا وعَلِمْنا وُجُودَه حال الوصيةِ، أو حَكَمْنا بوُجُودِه، صَحَّتِ الوصيةُ، وإن لم يكنْ كذلك لم يَصِحَّ؛ لجَوازِ حُدُوثِه. 2711 - مسألة: (و) تَصِحُّ (بالمَعْدُومِ) فلو قال: أوْصَيتُ

فَإنْ حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ، وَإِلَّا بَطَلَتِ الْوَصيَّةُ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ بمِائَةٍ لا يَمْلِكُهَا، صَحَّ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَيهَا عِنْدَ الْمَوْتِ أوْ عَلَى شَيءٍ مِنْهَا، وَإلَّا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لك بما تَحْمِلُ جارِيتِي هذه -أو- ناقَتِي هذه -أو- نَخْلَتِي هذه. صَحَّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن صِحَّتِها مع الغرَرِ، سواءٌ وَصَّى بما تَحْمِلُه أبدًا أو مُدَّةً بعَينِها؛ لأنَّ المَعْدُومَ يجوزُ أن يُمْلَكَ بالسَّلَمِ والمُساقاةِ، فجاز أن يُمْلَكَ بالوصيةِ (فإن حَصَل منه شيءٌ، وإلَّا بَطَلَت وصيَّتُه) لأنَّ المُوصَى به عُدِم، فبَطَلَتِ الوصيةُ به، كالمَوْهُوبِ إذا عُدِم؛ لأنَّ الوصيةَ كالهِبَةِ (وإن وَصَّى له بمائةٍ لا يَمْلِكُها، صَحَّ. فإن قَدَرَ عليها عندَ المَوْتِ أو على شيءٍ منها، وإلَّا بَطَلَتْ) لِما ذَكَرْنا في المسألةِ قبلَها.

2712 - مسألة: (وتصح بما فيه نفع مباح من غير المال؛ كالكلب، والزيت النجس)

وَتَصِحُّ بِمَا فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيرِ الْمَالِ؛ كَالْكَلْبِ، وَالْزَّيتِ النَّجِسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2712 - مسألة: (وتَصِحُّ بما فيه نَفْعٌ مُباحٌ مِن غيرِ المالِ؛ كالكَلْبِ، والزَّيتِ النَّجِسِ) تَصِحُّ الوصيةُ بالكَلْبِ المُباحِ اقْتِناؤُه؛ ككَلْبِ الصَّيدِ والماشِيةِ والحَرْبِ؛ لأنَّ فيه نَفْعًا مُباحًا، وتُقَرُّ اليَدُ عليه، والوصيةُ تَبَرُّعٌ، فصَحَّت في المالِ وفي غيرِ المالِ، كالهِبَةِ. وإن كان ممّا لا يُباحُ اقْتناؤُه، لم تَصِحَّ الوصيةُ به، سواءٌ قال: كَلْبًا مِن كلابي -أو- مِن مالي. لأنَّه لا يَصِحُّ شِراءُ الكَلْبِ؛ لأنَّه لا قِيمَةَ له، بخِلافِ ما إذا أوْصَى له بشاةٍ ولا شاةَ له، فإنَّه يُمْكِنُ تَحْصِيلُها بالشِّراءِ. فإن كان له كَلْبٌ ولا مال له سِواه، فله ثُلُثُه. وإن كان له مالٌ سِواه، فقد قِيلَ: للمُوصَى له جَمِيعُا لكَلْبِ وإن قَلَّ المالُ؛ لأنَّ قَلِيلَ المالِ خيرٌ مِن الكَلْبِ؛ لكونِه لا قِيمَةَ له. وقيل: للمُوصَى له به ثُلُثُه وإن كَثُرَ المالُ؛ لأنَّ مَوْضُوعَ الوصيةِ على أن يُسَلَّمَ ثُلُثَا التَّرِكَةِ للوَرَثةِ، وليس في التَّرِكَةِ شيءٌ مِن جِنْسِ المُوصَى به.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي مَالٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ وَإنْ قَلَّ الْمَالُ، في أحَدِ الْوَجْهَينِ، وَفِي الآخَرِ، لَهُ ثُلُثُهُ. وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلْبٌ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَصَّى لرجلٍ بكِلابِه ولآخَرَ بثُلُثِ مالِه، فللمُوصَى له بالثُّلُثِ الثُّلُثُ، وللمُوصَى له بالكِلابِ ثُلُثُها، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ ما حَصَل للورثةِ (¬1) مِن ثُلُثَيِ المال قد جازَتِ الوصيةُ فيما يُقابِلُه مِن حَقِّ المُوصَى له، وهو الثُّلُثُ، فلا يُحسَبُ عليهم في حَقِّ الكِلابِ. ولو وَصّى بثُلُثِ مالِه، ولم يُوصِ بالكِلابِ، دُفِع إليه ثُلُثُ المالِ، ولم يُحْتَسَبْ بالكِلاب على الورثةِ؛ لأنَّها ليست بمالٍ. وإذا قُسِمَتِ الكِلابُ بينَ الوارِثِ ¬

(¬1) في م: «الورثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُوصَى له، أو بينَ اثْنَين مُوصًى لهما بها، قُسِمَتْ على عَدَدِها؛ لأنَّها لا قِيمَةَ لها، فإن تَشاحُّوا في بعضها، فيَنْبَغِي أن يُقْرَعَ بينَهم. وإن وَصَّى له بكلبٍ (¬1)، وله كِلابٌ يُباحُ اتِّخاذُها، ككِلابِ الصَّيدِ والماشِيَةِ والحَرْثِ، فله واحِدٌ منها بالقُرْعَةِ، أو ما أحَبَّ الورثةُ، على الروايةِ الأُخْرَى. وإن كان له كَلْبٌ يُباح اتِّخاذُه، وكَلْبُ هِراشٍ (¬2)، فله الكَلْبُ المُباحُ. ومَذْهَبُ الشَّافعيِّ في هذا الفَصلِ كلِّه (¬3) على ما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّه يَجْعَلُ للمُوصَى له بكَلْبٍ ما أحَبَّ الورثةُ دَفْعَه إليه. ولا تَصِحُّ الوصيةُ بالجَرْو الصغيرِ، في أحَدِ الوَجْهَين، وتَصِحُّ في الآخَرِ، بِناءً على جَوازِ اقْتِنائِه وتَرْبِيتِه للصَّيدِ، وقد سَبَق ذلك في كِتابِ البَيعِ (¬4). ¬

(¬1) في النسخ: «كلاب». وانظر المغني 8/ 569. (¬2) في م: «هراس». والهراش: التحريش بين الكلاب. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر ما تقدم في 11/ 47.

وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيتَةِ وَنَحْوهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الزَّيتُ النَّجِسُ، فإن قُلْنا بجَوازِ الاسْتِصباحِ به، فهو كالكَلْبِ الذي يُباحُ اتِّخاذُه. وإن قُلْنا: لا يجوزُ. لم تَصِحَّ الوصيّةُ؛ لأنَّه ليس فيه نَفْعٌ مُبَاحٌ، أشْبَهَ الخِنْزِيرَ. فصل: ولا تَصِحُّ الوصيةُ بالخِنْزِيرِ، ولا بشيءٍ مِن السِّباعِ التي لا تَصْلُحُ للصَّيدِ؛ كالأسَدِ، والذِّئْبِ؛ لأنَّها لا مَنْفَعَةَ فيها. ولا تَصِحُّ بشيءٍ ليس فيه مَنْفَعَةٌ مُباحَةٌ مِن غيرِها (كالخَمْرِ والمَيتَةِ ونحوهما) لأنَّ الوصيةَ تمليكٌ، فلا تَصِحُّ بذلك، كالهِبَةِ، ولأنَّ ذلك مُحَرَّمٌ، فلا تَصِحُّ. الوصيةُ به، كالخِنْزِيرِ.

2713 - مسألة: (وتصح الوصية بالمجهول؛ كعبد، وشاة)

وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَجْهُولِ؛ كَعَبْدٍ، وَشَاةٍ، وَيُعْطَى مَا يَقَعُ عَلَيهِ الاسْمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2713 - مسألة: (وتَصِحُّ الوصيةُ بالمَجْهُولِ؛ كعَبْدٍ، وشاةٍ) لأنَّ الوصيةَ تَصِحُّ بالمَعْدُومِ، فالمَجْهُولُ بطَرِيقِ الأوْلَى، ولأنَّ المَجْهُولَ يَنْتَقِلُ إلى الوارِثِ، فصَحَّتِ الوصيةُ به، كالمَعْلُومِ. ويُعْطِيه الورثةُ ما شاءُوا ممّا يَقَعُ عليه الاسْمُ؛ لأنَّه اليَقِينُ، كما لو أقَرَّ له بعَبْدٍ، فإن لم يَكُنْ له عَبِيدٌ اشْتُرِيَ له ما يُسَمَّى عبدًا، وإن كان له عَبِيدٌ أعْطاه الورثةُ ما شاءُوا؛ لِما ذَكَرْنا. وقال القاضي: يُعْطِيه الورثةُ ما شاءُوا مِن ذَكَرٍ أو أُنْثَى. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ عِنْدِي أنَّه لا يَسْتَحِقُّ إلَّا ذَكَرًا؛ فإنّ الله تعالى فَرَّقَ بينَ العَبِيدِ والإِماءِ بقَوْلِه سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2). والمَعْطُوفُ يُغايِرُ ¬

(¬1) في: المغني 8/ 566، 567. (¬2) سورة النور 32.

2714 - مسألة: (فإن اختلف الاسم بالحقيقة والعرف، كالشاة في العرف)

فَإنِ اخْتَلَفَ الاسْمُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ؛ كَالشَّاةِ في الْعُرْفِ لِلأنْثَى، وَالْبَعِيرُ وَالثَّوْرُ هُوَ في الْعُرْفِ لِلذَّكَرِ وَحْدَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى، غُلِّبَ الْعُرْفُ. وَقَال أصْحَابُنَا: تُغَلَّبُ الْحَقِيقَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعْطُوفَ عليه ظاهِرًا، ولأنَّه في العُرْفِ كذلك، فإنَّه لا يُفْهَمُ مِن إطْلاقِ اسمَ العَبْدِ إلَّا الذَّكَرُ. و (¬1) لو وَكَّلَه في شِراءِ عبدٍ لم يكنْ له شِراءُ أمَةٍ، وإن وَصَّى له بأمَةٍ لم يكنْ له أن يُعْطِيَه إلَّا أُنْثَى. وليس له أن يُعْطِيَه خُنْثَى مُشْكِلًا؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ كَوْنُه ذَكَرًا ولا أُنْثَى. وإن وَصَّى له بواحِدٍ مِن رَقِيقِه، أو بِرَأْسٍ ممّا مَلَكَتْ يَمينُه، دَخَل في وصيتِه الذَّكَرُ والأُنْثَى والخُنْثَى. 2714 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفَ الاسمُ بالحَقِيقَةِ والعُرْفِ، كالشّاةِ في العُرْفِ) اسمٌ (للأُنْثَى، والبَعِيرُ والثَّوْرُ اسْمٌ للذَّكَرِ، غُلِّبَ العُرْفُ) في اخْتِيارِ شيخِنا؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ المُتَكَلِّمَ إنَّما يَتَكَّلمُ بعُرْفِه، ولا يُرِيدُ إلَّا ما يَفْهَمُه أهْلُ بَلَدِه (وقال أصحابُنا: تُغَلَّبُ الحقيقةُ) ولهذا يُحْمَلُ عليه كلامُ الله تعالى وكلامُ رسولِه. فعلى هذا، إذا وَصَّى له بشاةٍ، يَتناوَلُ الضَّأْنَ ¬

(¬1) في م: «فإنَّه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَعْزَ. قال أصحابُنا: ويتناولُ الصَّغيرَةَ والكَبِيرَةَ، [والذَّكَر] (¬1) والأنْثَى؛ لأنَّ اسْمَ الشّاةِ يتناولُ جَميعَ ذلك؛ بدَلِيلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «في أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (¬2). يُريدُ الذُّكُورَ والإِناثَ، والصِّغَارَ والكِبارَ. وقال شيخُنا (¬3): لا يَتناوَلُ إلَّا أُنثَى كَبِيرةً، إلَّا أن يكونَ في عُرْفِهم في بَلَدٍ يَتَناوَلُ ذلك، فأمّا مَن لا يَتَناوَلُ عُرْفُهم إلَّا الإِناثَ، فإن وَصِيَّتَه لا تَتَناوَلُ إلَّا ما يُسَمَّى في عُرْفِهم؛ لِما ذكَرْنا. والكَبْشُ الذَّكَرُ الكَبِيرُ مِن الضَّأْنِ. والتَّيسُ لا يَقَعُ إلَّا على الذَّكَر الكَبِيرِ مِن المَعْزِ. فإن وَصَّى بعَشْرَةٍ مِن الغَنَمِ، تَناوَلَ عَشْرَةً مِن الذُّكُورِ والإِناثِ، والصِّغارِ والكِبارِ. فصل: وإن وَصَّى بجَمَلٍ، فهو الذَّكَرُ، وإن وَصَّى بنَاقةٍ، فهي الأنْثَى. وإن قال: عَشرَةٌ مِن إبِلي. وَقَع على الذَّكَرِ والأنثَى جَمِيعًا. ويَحْتَمِلَانَه إن قال: عَشَرَةُ. بالهاءِ، فهي للذُّكُورِ. وإن قال: عَشْرٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 316. (¬3) في: المغني 8/ 567.

2715 - مسألة: (والدابة اسم للذكر والأنثى من الخيل والبغال والحمير)

وَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى مِنَ الْخَيلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو للإِناثِ. وكذلك الغَنَمُ؛ لأنَّ العَدَدَ في العَشَرَةِ مِن الثلاثةِ إلى العَشَرَةِ للذُّكُورِ بالْهاءِ، وللمُؤَنَّثِ بغيرِها، قال اللهُ تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (¬1). وإن وَصَّى ببَعِيرٍ، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، هو للذَّكَرِ وَحْدَه؛ لأنَّه في العُرْفِ اسْمٌ له. والثانِي، هو للذَّكَرِ والأنْثَى؛ لأنَّه يَتَناوَلُهما جَمِيعًا في لسانِ العَرَبِ، فيقولُ: حَلَبْتُ البَعِيرَ. يُرِيدُ النّاقَةَ، والجَمَلُ في لِسانِهم كالرجلِ مِن بني آدَمَ، والنّاقَةُ كالمَرأةِ، والبَكْرَةُ كالفتاةِ. وكذلك القَلُوصُ والبَعِيرُ كالإِنْسانِ. وإن وَصَّى له بثَوْرٍ، فهو ذَكَرٌ، وإن وَصَّى ببقرةٍ، فهي أُنْثَى. 2715 - مسألة: (والدّابّةُ اسْمٌ للذَّكَرِ والأُنْثَى مِن الخَيلِ والبغالِ والحَمِيرِ) لأنَّ الاسْمَ في العُرْفِ يَقَعُ على جَمِيعِ ذلك. فإن قَرَن به ما يَصْرِفُه إلى أحَدِها، كقَوْلِه: دابَّةٌ يُقاتِلُ عليها. انصَرَفَ إلى الخَيلِ. وإن قال: دابَّةٌ يَنْتَفِعُ بظَهْرِها ونَسْلِها. خَرَج منه البِغالُ وخَرَج منه الذَّكَرُ. وإن وَصَّى له بحمارٍ، فهو ذَكَرٌ، والأتَانُ أُنْثَى. وإن وَصَّى بحِصانٍ فهو ذَكَرٌ، والفَرَسُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ والأُنثَى. ¬

(¬1) سورة الحاقة 7.

2716 - مسألة: (وإن وصى له بغير معين؛ كعبد من عبيده، صح، ويعطيه الورثة ما شاءوا)

وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِغَيرِ مُعَيَّنٍ؛ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، صَحَّ، وَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْهُمْ في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يُعْطى وَاحِدًا بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2716 - مسألة: (وإن وصَّى له بغيرِ مُعَيَّنٍ؛ كعَبْدٍ مِن عَبِيدِه، صَحَّ، ويُعْطِيه الوَرَثَةُ ما شاءُوا) الوصيةُ بغيرِ مُعَيَّنٍ؛ كعَبْدٍ مِن عَبيدِه، وشاةٍ مِن غَنَمِه، صَحيحَةٌ. وقد ذَكَرنا صحةَ الوصيةِ بالمَجْهولِ فيما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَضَى. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. واخْتَلَفَتِ الروايةُ فيما يَسْتَحِقُّه المُوصَى له، فرُوِيَ أنَّه يَسْتَحِق أحَدَهم بالقُرْعَةِ. اخْتارَها الخِرَقِيُّ. ونَقَل ابنُ مَنْصُورٍ، أنَّه يُعْطَى أخَسَّهم. يَعْنِي يُعْطِيه الورثة ما أحَبُّوا. وهو قولُ الشَّافعيِّ. وقال مالكٌ قولًا يَقْتَضِي أنَّه إذا وَصَّى بعَبْدٍ وله ثلاثةُ أعْبُدٍ فله ثُلُثُهم، وإن كانوا أربعةً فله رُبْعُهم، فإنَّه قال: إذا وَصَّى بعَشْرٍ مِن إبلِه، وهي مائةٌ، يُعْطَى عُشْرَها، والنَّخْلُ والرَّقِيقُ والدَّوابُّ على ذلك. والصحيحُ، إن شاء الله تعالى، أنَّه يُعْطَى عَشَرَةً بالعَدَدِ؛ لأنَّه الذي تَناوَلَه لَفْظُه، ولَفْظُه هو المُقْتَضى، فلا يُعْدَلُ عنه، لكنْ يُعْطَى واحِدًا بالقُرْعَةِ؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّ واحِدًا غيرَ مُعَيَّن، وليس واحِدٌ بأوْلَى مِن واحِدٍ، فوَجَبَ المَصِيرُ إلى القُرْعَةِ، كما لو أعْتَقَ واحِدًا منهم. وعلى ما نَقَلَه ابنُ مَنْصُورٍ، يُعْطِيه الوَرَثَةُ ما شاءُوا، مِن صحيحٍ أو مَعِيبٍ، جَيِّدٍ أو رَدِيءٍ؛ لأنَّه يَتناوَلُه اسْمُ العَبْدِ، فأجْزَأ، كما لو وَصَّى له بعَبْدٍ ولم يُضِفْه إلى عَبِيدِه.

2717 - مسألة: (وإن لم يكن له عبيد، لم تصح الوصية، في أحد الوجهين)

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَبِيدٌ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ وَتَصِحُّ في الآخَرِ، وَيُشْتَرَى لَهُ مَا يُسَمَّى عَبْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2717 - مسألة: (وإن لم يكنْ له عَبِيدٌ، لم تَصِحَّ الوصيةُ، في أحَدِ الوَجْهَين) لأنَّه أوْصَى له بلا شيءٍ، فهو كما لو قال: أوْصَيتُ لك بما في كِيسي. ولا شيءَ فيه. أو: بدَارِي. ولا دارَ له. وهذا أحَدُ الوَجْهَين. فإنِ اشْتَرَى قبلَ مَوْتِه عَبِيدًا، احْتَمَلَ أن لا تَصِحَّ الوصيةُ؛ لأنَّها وَقَعَتْ باطِلَةً، فهو كما لو قال: أوْصَيت لك بما في كِيسي. ولا شيءَ فيه ثم جَعَل في كِيسِه شيئًا, ولأنَّ الوصيةَ تَقْتَضِي عَبْدًا مِن المَوْجُودِين حال الوصيةِ. وقد روَى ابنُ مَنْصُورٍ، عن أحمدَ، في مَن قال في مَرَضِه: أعْطُوا فلانًا مِن كِيسِي مائةَ دِرْهَمٍ. فلم يُوجَدْ في كِيسِه شيءٌ: يُعْطَى مائةَ دِرْهَمٍ. فلم يُبْطِلِ الوصيةَ؛ لأنَّه قَصَد إعْطاءَه مائةَ درهمٍ،

2718 - مسألة: (فإن كان له عبيد فماتوا إلا واحدا، تعينت الوصية فيه)

وَإنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ فَمَاتُوا إلَّا وَاحِدًا، تَعينَّتَ الْوَصِيَّةُ فِيهِ. وَإنْ قُتِلُوا كُلُّهُمْ، فَلَهُ قِيمَةُ أحَدِهِمْ عَلَى قَاتِلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وظَنَّها في الكِيسِ، فإذا لم تكنْ له في الكِيسِ، أُعْطِيَ مِن غيرِه. فكذلك يُخَرَّجُ في الوصيةِ بعَبْدٍ مِن عَبِيدِه إذا لم يكن له عَبِيدٌ، يُشْتَرَى له عَبْدٌ ويُعْطاهُ. وهذا الوَجْهُ الثانِي. ووَجْهُه أنَّه لَمّا تَعَذَّرَتِ الصِّفَةُ، بَقِيَ أصْلُ الوصيةِ، فأشْبَهَ ما لو وَصَّى له بألْفٍ لا يَمْلِكُه ثم مَلَكَه. 2718 - مسألة: (فإن كان له عَبِيدٌ فماتوا إلَّا واحِدًا، تَعَيَّنَتَ الوصيةُ فيه) وكذلك إن لم يكنْ له إلَّا عَبْدٌ واحِدٌ؛ لتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الباقِي. وإن تَلِف رَقِيقُه جَمِيعُهم قبلَ مَوْتِ المُوصِي، بَطَلَتِ الوصيةُ؛ لأنَّها إنَّما تَلْزَمُ بالمَوْتِ، ولا عَبِيدَ له حِينَئِذٍ. وإن تَلِفُوا بعدَ مَوْتِه بغيرِ تَفْرِيطٍ مِن الورثةِ، بَطَلَتْ أَيضًا؛ لأنَّ التَّرِكَةِ عندَ الورثةِ غيرُ مَضْمُونَةٍ؛ لأنَّها

2719 - مسألة: (وإن وصى له بقوس، وله أقواس للرمي والبندق والندف

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِقَوْسٍ، وَلَهُ أَقْوَاسٌ لِلرَّمْي وَالْبُنْدُقِ وَالنَّدْفِ، فَلَهُ قَوْسُ النُّشَّابِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُهَا، إلَّا أنْ تَقْتَرِنَ بِهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ حَصَلَت في أَيدِيهم بغيرِ فِعْلِهم. وإن قَتَلَهم قاتِلٌ، فللمُوصَى له قِيمَةُ أحَدِهم، مَبْنِيًّا على الرِّوايَتَين في مَن يَسْتَحِقُّه منهم في الحَياةِ، إمّا قِيمَة أحَدِهِم بالقرْعَةِ، أو قِيمَةُ مَن يَخْتارُه الورثةُ؛ لأنَّه بَدَلٌ عَمّا وَجَب له. 2719 - مسألة: (وإن وَصَّى له بقَوْسٍ، وله أقْواسٌ للرَّمْي والبُنْدُقِ والنَّدْفِ (¬1)، فله قَوْسُ النُّشَّابِ، لأنَّه أظْهَرها، إلَّا أن تَقْتَرِنَ به ¬

(¬1) الندف: طرق القطن بالمِندف ليرق.

غَيرِهِ. وَعِنْدِ أَبِي الْخَطَّابِ، لَهُ واحِدٌ مِنْهَا، كَالْوَصِيَّةِ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَرِينَةٌ تَصْرِفُه إلى غيرِه وعندَ أبي الخَطّابِ، له أحَدُهم) بالقُرْعَةِ (كالوصيةِ بعَبْدٍ مِن عَبِيدِه) إذا وَصَّى له بقَوْسٍ، صَحَّتِ الوصيةُ؛ لأنَّ فيه مَنْفَعَةً مُباحَةً، سواءٌ كان قَوْسَ نُشّابٍ، وهو الفارِسِيُّ، أو نَبْلٍ، وهو العَرَبِيُّ، أو قَوْسًا بمَجْرَى (¬1)، أو قَوْسَ جُوخٍ (¬2)، أو نَدْفٍ، أو بُنْدُقٍ. فإن لم يكنْ له إلَّا قَوْسٌ واحِدٌ مِن هذه القِسِيِّ، تَعَيَّنتِ الوصيةُ فيه. وإن كانت له جَمِيعُها، وكان في لَفْظِه أو حالِه قَرِينَةٌ تَصْرِفُه إلى أحَدِها، انْصَرَفَ إليه، مثلَ أن يقولَ: قَوسٌ يَنْدِفُ به. أو: يَتَعَيَّشُ به. أو نحوَ ذلك، فهذا يَصْرِفُه إلى قَوْسِ النَّدْفِ. وإن قال: قَوْسٌ يَغْزُو به. خَرَجَ منه قَوْسُ النَّدْفِ والبُنْدُقِ. وإن كان المُوصَى له نَدّافًا لا عَادَةَ له بالرَّمْي، أو بُنْدُقَانِيًّا ¬

(¬1) بمجرى: أن يوضع في مجراه السهم، فيخرج من المجرى. (¬2) في م: «جرح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا عادَةَ له بالرَّمْي بشيءٍ سِواه، أو يَرْمِي بقَوْسٍ غيره ولا يرَمِي بسِواه، انْصَرَفَتِ الوصيةُ إلى القَوْسِ الذي يَسْتَعْمِلُه عادةً؛ لأنَّ ظاهِرَ حالِ المُوصِي أنَّه قَصَد نَفْعَه بما جَرَتْ عادَتُه بالانْتِفاعِ به. فإنِ انْتَفَتِ القَرائِنُ، فاخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّه يَأْخُذُ أحَدَها بالقُرْعَةِ، كالوصيةِ بعبدٍ مِن عَبِيدِه، أو يُعْطِيه الورثةُ ما يَخْتارُونَه؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَتَناوَلُ جَمِيعَها. قال شيخُنا (¬1): والصحيحُ أنَّ وصيتَه لا تَتناوَلُ قَوْسَ النَّدْفِ، ولا البُنْدُقِ، ولا العَرَبيَّة في بَلَدٍ لا عادَةَ لهم بالرَّمي بها. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّه لم يَذْكُرِ العربيَّةَ. ويَكونُ له واحدٌ ممّا عدا هذه؛ لأنَّ هذه لا يُطْلَقُ عليها اسمُ القَوْسِ في العادَةِ مِن غيرِ أهْلِها حتَّى يُضِيفَها فيقولَ: قَوْسُ القُطْنِ، ¬

(¬1) في: المغني 8/ 570، 571.

2720 - مسألة: وإن وصى له بطبل حرب، صحت الوصية به؛ لأن فيه منفعة مباحة

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِكَلْبٍ أَوْ طَبْلٍ، وَلَهُ مِنْهَا مُبَاحٌ وَمُحَرَّمٌ، انْصَرَفَ إِلَى الْمُبَاحِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلا مُحَرَّمٌ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو النَّدْفِ، أو البُنْدُقِ. وأما العربيةُ فلا يَتعارَفُها غيرُ طائِفَةٍ مِن العَرَب، فلا يَخْطُرُ ببالِ المُوصِي غالِبًا، ويُعْطَى القَوْسَ مَعْمُولَةً؛ لأنَّها لا تُسَمَّى قَوْسًا إلَّا كذلك. ولا يَسْتَحِقُّ وتَرَها؛ لأنَّ الاسمَ يَقَعُ عليها دُونَه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُعْطاها بوَتَرِها؛ لأنَّها لا يُنْتَفَعُ بها إلَّا به، فكان كجُزْءٍ مِن أجْزائِها. 2720 - مسألة: وإن وَصَّى له بطبْلِ حَرْبٍ، صَحَّتِ الوصيةُ به؛ لأنَّ فيه مَنْفَعَةً مُباحَةً. وإن كان بطَبْلِ لَهْوٍ لا يَصْلُحُ إلَّا للَّهْو، لم تَصِحَّ؛ لعَدَمِ المَنْفَعَةِ المُباحَةِ. فإن كان إذا فُصِل صَلَح للحَرْبِ، لم تَصِحَّ الوصيةُ به أَيضًا؛ لأن مَنْفَعَتَه في الحال مَعْدُومَةٌ. فإن كان يَصْلُحُ لهما، صَحَّتِ الوصيةُ به؛ لأنَّ المَنْفَعَةَ قائِمةَ به. وإن وَصَّى له بطبْلٍ، وأطْلَقَ، وله طَبْلانِ تَصِحُّ الوصيةُ بأحَدِهما دُونَ الآخَرِ، انْصَرَفَتِ الوصيةُ إلى الطَّبْلِ

2721 - مسألة: (وتنفذ الوصية فيما علم من ماله أو لم يعلم)

وَتنْفُذُ الْوَصِيّةُ فِيمَا عَلِمَ مِنْ مَالِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُباحِ. فإن كان له طُبُولٌ تَصِحُّ الوصيةُ بجَمِيعِها، فله أحَدُها بالقُرْعَةِ، أو ما شاء الوَرَثةُ، على اخْتِلافِ الروايَتَين. وإن وَصَّى بدُفٍّ، صَحَّتِ الوصيةُ به؛ لأنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيه بالدُّفِّ» (¬1). ولا تَصِحُّ الوصيةُ بمِزْمارٍ، ولا طُنْبُورٍ، ولا عُودِ لَهْوٍ؛ لأنَّها مُحَرَّمةٌ، وسَواءٌ كانت فيها الأوْتَارُ أو لم تَكُنْ؛ لأنَّها مُهَيَّأةٌ لفِعْلِ المَعْصِيَةِ، فأشْبَهَ ما لو كانت فيه الأوْتارُ. 2721 - مسألة: (وتَنْفُذُ الوصيةُ فيما عَلِم مِن مالِه أو لم يَعْلَم) وقال مالكٌ: لا تَنْفُذُ إلَّا فيما عَلِم. وحُكِيَ ذلك عن أبانَ بنِ عُثْمان، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ إلَّا في المُدَبَّرِ، فإنَّه يدخلُ في كلِّ شيءٍ. ولَنا، أنَّه مِن مالِه فدَخَلَ في وصيتِه، كالمَعْلُومِ، ولأنَّ الوصيةَ بجُزْءٍ مِن مالِه لَفْظٌ عامٌّ، فيَدْخُلُ فيه ما لم يَعْلَمْ به مِن مالِه، كما لو نَذَر الصدقةَ بثُلُثِه. ¬

(¬1) أخرجه التِّرْمِذِيّ، في: باب ما جاء في إعلان النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 4/ 308. وابن ماجه، في: باب إعلان النكاح، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 611. عن عائشة، وقال في الزوائد: في إسناده خالد بن إلياس أبو الهيثم العدوي، اتفقوا على ضعفه، بل نسبه ابن حبان والحاكم وأبو سعيد النقاش إلى الوضع. وأخرج الجزء الأول الإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 5 من حديث عبد الله بن الزُّبير مرفوعًا بسند حسن. انظر تلخيص الحبير 4/ 201، 202، وإرواء الغليل 7/ 50.

2722 - مسألة: (وإن وصى بثلثه فاستحدث مالا، دخل ثلثه في الوصية)

وَإِذَا أوْصَى بِثُلُثِهِ فَاسْتَحْدَثَ مَالًا، دَخَلَ ثُلثهُ في الْوَصِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2722 - مسألة: (وإن وَصَّى بثُلُثِه فاسْتَحْدَثَ مالًا، دَخَل ثُلُثُه في الوصيةِ) في قولِ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ. ولا فَرْقَ عندَهم بينَ التِّلادِ (¬1) والمُسْتَفادِ، في أنَّه يُعْتَبرُ ثُلُثُ الجَمِيعِ. ومِمَّن قال ذلك؛ النَّخَعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّه مِن مالِه يَرِثُه وَرَثتُه، تُقْضَى منه دُيُونُه، أشْبَهَ ما مَلَكَه قبلَ الوصيةِ، ولِما ذَكَرْنا في التي قبلَها. ¬

(¬1) التلاد: المال الأصلي القديم.

2723 - مسألة: (وإن قتل وأخذت ديته، فهل تدخل الدية في الوصية؟ على روايتين)

وَإِنْ قُتِلَ وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ، فَهَلْ تَدْخُلُ الدِّيَةُ فِي الْوَصِيَّةِ؟ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2723 - مسألة: (وإن قُتِلَ وأُخِذَتْ دِيَتُه، فهل تَدْخُلُ الدِّيَةُ في الوصيةِ؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، تَدْخُلُ. قال مُهَنَّا: رُوِيَ عن أحمدَ، في مَن أوْصَى بثُلُثِ مالِه أو جُزْءٍ مُشاعٍ، فقُتِلَ المُوصِي وأُخِذَتْ دِيَتُه، فقال: يَسْتَحِقُّ منها. ورُوِيَ عن عَلِيٍّ، رَضِيَ الله عنه، في دِيَةِ الخَطَأ مثلُ ذلك. وهو قولُ الحسنِ، ومالكٍ. والثانيةُ، لا تَدْخُلُ في وَصِيَّتِه. نَقَلَها ابنُ مَنْصُورٍ. ورُوِيَ ذلك عن مَكْحُولٍ، وشَرِيكٍ، وأبي ثَوْرٍ، وداودَ. وهو قولُ إسحاقَ. وقاله مالكٌ في دِيَةِ العَمْدِ؛ لأنَّ الدِّيَةَ إنَّما تَجِبُ للورثةِ بعدَ مَوْتِ المُوصِي؛ لأنَّ سَبَبَها المَوْتُ، فلا يجوزُ وُجُوبُها قبلَه؛ لأنَّ الحُكْمَ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه، ولا يجوزُ أن تَجبَ للمَيِّتِ بعدَ مَوْتِه؛ لأنَّه بالمَوْتِ تَزُولُ أمْلاكُه الثّابِتَةُ له، فكيف يَتَجَدَّدُ له مِلْكٌ! فلا تَدْخُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوصيةِ؛ لأنَّ المَيِّتَ إنَّما يُوصِي بجُزْءٍ مِن مالِه لا بمالِ ورثتِه. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنَّ الدِّيَةَ تَجبُ للمَيِّتِ؛ لأنَّها بَدَلُ نَفْسِه، ونَفْسُه له، فكذلك بَدَلُها, ولأنَّ بَدَلَ أَطْرافِه في حَياتِه له، فكذلك بَدَلُ نَفْسِه بعدَ مَوْتِه، ولذلك تُقْضَى منها دُيُونُه، ويُجَهَّزُ منها إن كان قبلَ تَجْهِيزِه، وإنَّما يَحُوزُ وَرَثَتُه مِن أمْلاكِه ما اسْتَغْنَى عنه، فأمّا ما تَعَلَّقَتْ به حاجَتُه فلا. ولأَنه يجوزُ أن يَتَجَدَّدَ له مِلْكٌ بعدَ المَوْتِ، كمَن نَصَب شَبَكةً فسَقَطَ فيها شيءٌ بعدَ مَوْتِه، فإَّنه يَمْلِكُه بحيثُ تُقْضَى منه دُيُونُه، ويُجَهَّزُ، فكذلك دِيَتُه؛ لأنَّ تَنْفِيذَ وصيَّتِه مِن حاجَتِه، فأشبَهَت قَضاءَ دَينِه.

2724 - مسألة: (فإن وصى بمعين بقدر نصف الدية، فهل الدية على الورثة من الثلثين؟ على وجهين)

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُ غَيرَهُ، قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْوَرَثَةِ مِنَ الثُّلُثَينِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. فَصْل: وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ الْمُفْرَدَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2724 - مسألة: (فإن وَصَّى بمُعَيَّنٍ بقَدْرِ نِصْفِ الدَيةِ، فهل الدِّيةُ على الورثةِ مِن الثُّلُثَين؟ على وَجْهَين) بِناءً على الرِّوايَتَين؛ فعلى الرِّوايةِ الأولَى، تُحْسَبُ الدَيةُ مِن مالِه، فإن كانت وصيته بقَدْرِ نِصْفِ الدِّيةِ أو أقَلَّ منه، نَفَذَتِ الوصيةُ، وإلَّا أُخرجَ منه قَدْرُ ثُلثِها. وعلى الروايةِ الثانيةِ، لا تُحْسَبُ الدِّيَةُ، وتُخْرَجُ الوصيةُ مِن تِلادِ مالِه دُون دِيته، بِناءً على أنَّ الدِّيَةَ ليست مِن مالِه. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وتَصِحُّ الوصيةُ بالمَنْفَعةِ المفْرَدَةِ) وتَصِحُّ بخِدْمةِ عَبْدٍ، ومَنْفعةِ أمَةٍ، وغَلَّةِ دارٍ، وبثَمَرةِ بُسْتانٍ أو شَجَرَةٍ، سواءٌ وَصَّى بذلك مُدَّةً مَعْلُومَةً، أو بجَمِيعِ الثَّمرةِ والمَنْفَعَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الزَّمانِ كلِّه. وهذا قولُ الجُمْهُورِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعي، وأصحابُ الرأي. وقال ابن أبي لَيلَى: لا تَصِحُّ الوصيةُ بالمَنْفَعَةِ المُفْرَدَةِ؛ لأَنَّها مَعْدُومَة. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ تَمْلِيكُها بعَقدِ المُعاوَضَةِ، فتَصِحُّ الوصيةُ بها، كالأعْيانِ. ويُعْتَبَرُ خُرُوجُ ذلك مِن ثُلُثِ المالِ. نَصَّ عليه أحمدُ في سُكْنَى الدّارِ. وهو قولُ مَن قال بصِحَّةِ الوصيةِ بها. وإن لم تَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، أُجِيزَ منها بقَدْرِ الثُّلُثِ. وقال مالكٌ: إذا وَصَّى بخِدْمَةِ عَبْدِه سَنَةً، فلم تَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، فالورثةُ بالخِيَارِ بينَ تَسْلِيمِ خِدْمَتِه سَنَةً وبينَ المالِ. وقال أصحابُ الرأي، وأبو ثَوْرٍ: إذا وَصّى بخِدْمَةِ عَبْدِه سَنَةً، فإن العَبْدَ يَخْدِمُ المُوصَى له يَوْمًا والورثةَ يَوْمَين، حتى يَسْتَكْمِلَ المُوصَى له سَنَةً، فإن أراد الورثةُ بَيعَ العَبْدِ، بِيعَ على هذا. ولَنا، أنَّها وصية صحيحة، فوَجَبَ تَنْفِيذُها على صِفَتِها إذا خَرَجَتْ مِن الثُّلُثِ، أو بقَدْر ما خَرَج مِن الثُّلُثِ منها، كسائِرِ الوصايا أو كالأعيانِ. إذا ثَبَت هذا، وَأُرِيدَ تَقْويمُها، وكانتِ الوصيةُ مُقَيَّدَةً بمُدَّةٍ، قُوِّمَ المُوصَى بمَنْفَعَتِه مَسْلُوبَ المَنْفَعَةِ تلك المُدَّةَ، ثم تُقَومُ المَنْفَعَةُ في تلك المُدَّةِ، فيُنْظَرُ كم قِيمَتُها. فصل: فإن أراد المُوصَى له بمَنْفَعَةِ العَبْدِ أو الدّارِ إجارَةَ العَبْدِ أو الدّارِ في المُدَّةِ التي أُوصِيَ له بنَفْعِها، فله ذلك. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَجُوزُ إجارَةُ المَنْفَعَةِ المُسْتَحَقَّةِ بالوصيةِ؛ لأنَّه أوْصَى له

2725 - مسألة: (إذا أوصى)

فَلَوْ وَصَّى لِرَجُل بِمَنَافِعِ أمَتِهِ أبَدًا أوْ مُدَّةً مُعَيَّنةً، صَحَّ. فإذا أَوْصَى بِهَا أبَدًا، فَلِلْوَرَثَةِ عِتْقُهَا وَبَيعُهَا. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ بَيعُهَا إلا لِمَالِكِ نَفْعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ باسْتِيفائِه. ولَنا، أنَّها مَنْفَعَةٌ يَمْلِكُها مِلْكًا تامًّا، فمَلَكَ أخْذَ العِوَضِ عنها بالأعْيانِ، كما لو مَلَكَها بالإجارَةِ. وإن أراد المُوصَى له إخْراجَ العَبْدِ عن البَلَدِ، فله ذلك. وبه قال أبو ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرأي: لا يُخْرِجُه إلَّا أن يكونَ أهلُه في غيرِ البَلَدِ، فيُخْرِجَه إلى أهْلِه. ولَنا، أنَّه مالِكٌ لنَفْعِه، فمَلَكَ إخْراجَه، كالمُسْتَأجِرِ. 2725 - مسألة: (إذا أوصَى) بمَنافِعِ عَبْدِه أو (أمَتِه أَبدًا أو مُدَّةً) بعَينها (فللورثَةِ عِتْقُها) لأنَّها مَمْلُوكَةٌ لهم، ومَنْفَعَتَها باقِيَةٌ للمُوصَى له، ولا يَرْجِعُ على المُعْتِقِ بشيءٍ. وإن أعْتَقَه صاحِبُ المَنْفَعَةِ، لم يَعْتِقْ؛ لأنَّ العِتْقَ للرَّقَبَةِ، وهو لا يَمْلِكُها. فإن وَهَب صاحِبُ المَنْفَعَةِ مَنافِعَه للعَبْدِ، أو أسْقَطَها عنه، فللورثةِ الانْتِفاعُ به؛ لأنَّ ما يُوهَبُ للعَبْدِ يكونُ لسَيِّدِه.

2726 - مسألة: (ولهم ولاية تزويجها)

وَلَهُمْ ولايةُ تزويجِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولهم بَيعُها. وتُباعُ مَسْلُوبَةَ المَنْفَعَةِ، ويَقُومُ المُشْتَرِي مَقامَ البائِعِ فيما له وعليه. وقيل: لا يجوزُ بَيعُها؛ لأنَّ ما لا نَفْعَ فيه لا يَصِحُّ بَيعُه، كالحَشَراتِ والمَيتاتِ. وقيل: يجوزُ بَيعُها لمالِكِ مَنْفَعَتِها دُونَ غيرِه؛ لأنَّ مالِكَ مَنْفَعَتِها يَجْتَمِعُ له الرَّقَبَةُ والمَنْفَعَةُ، فيَنْتَفِعُ بذلك، بخِلافِ غيرِه، ولذلك جاز بَيعُ الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صَلَاحِها لصاحِبِ الشَّجَرَةِ دُونَ غيرِه، وكذلك بَيعُ الزَّرْعِ لصاحِبِ الأرْضِ. ووجْهُ الأوَّلِ، أنَّها أمَة مَمْلُوكَة تَصِحُّ الوصيةُ بها، فصَحَّ بَيعُها لغيرِه، ولأَنه يُمْكِنُه إعْتاقُها وتَحْصِيلُ وَلائِها وثَوابِ عِتْقِها، بخِلافِ الحَشَراتِ. 2726 - مسألة: (ولهم ولايةُ تَزْويجِها) لأنَّهم يَمْلِكُونَ رَقَبَتَها، وليس لهم ذلك إلَّا بإذْنِ صاحِبِ المَنْفَعَةِ. وليس لواحِدٍ منهما تَزْويجُها مُنْفَرِدًا؛ لأنَّ مالِكَ المَنْفَعَةِ لا يَمْلِكُ رَقَبَتَها، وصاحِبَ المَنْفَعَةِ يَتَضَرَّرُ

2727 - مسألة: ومهرها هاهنا وفي كل موضع وجب للورثة، في اختيار شيخنا (لأن منافع البضع لا تصح الوصية بها)

وَأَخذُ مَهْرِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ؛ لأنَّ مَنَافِعَ الْبُضْع لا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا. وَقَال أَصحَابُنَا: مَهْرُهَا لِلْوَصِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به. فإنِ اتَّفَقا على ذلك، جاز؛ لأن الحَقَّ لهما، وكذلك لو طَلَبَتِ التَّزْويجَ، وَجَبَ تَزْويجُها عندَ طَلَبِها؛ لأنه لحَقِّها، وحَقُّها في ذلك مُقَدَّمٌ عليهما؛ لأَنَّها لو طَلَبَتْه مِن سَيِّدِها الذي يَمْلِكُ رَقَبَتَها ومَنْفَعَتَها، لَزِمه ذلك، وقُدِّمَ حَقُّها على حَقِّه، ووَلِيُّها في المَوْضِعَين مالِكُ الرَّقَبَةِ؛ لأنَّه مالِكُها. 2727 - مسألة: ومَهْرُها هاهُنا وفي كلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ للورثةِ، في اخْتِيارِ شيخِنا (لأنَّ مَنافِعَ البُضْعِ لا تَصحُّ الوصيةُ بها) مُفْرَدَةً، ولا مع غيرِها، ولا يجوزُ نَقْلُها مُفْرَدَةً عن الرَّقَبَةِ بغيرِ (¬1) التَّزْويجِ، وإنَّما هي تابِعَةٌ للرَّقَبَةِ، فتكونُ لصاحِبِها. وعندَ أصحابِنا، المَهْرُ للمُوصَى له بالمَنْفَعَة؛ لأنه مِن مَنافِعِها. ¬

(¬1) في م: «بعد».

2728 - مسألة: (وإن وطئت بشبهة، فالولد حر)

وَإنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ. وَلِلْوَرَثَةِ قِيمَةُ وَلَدِهَا عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الْوَاطِئَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2728 - مسألة: (وإن وُطِئَت بشُبْهَةٍ، فالوَلَدُ حُرٌّ) لأنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ يكونُ الوَلَدُ فيه حُرًّا؛ لاعْتِقادِ الواطِئ أنَّه يَطَاُ في مِلْكٍ، فهو كوَطْءِ المَغْرُورِ بأمَةٍ. وتَجِبُ قِيمَتُه يومَ وَضْعِه لصاحِبِ الرقبةِ، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخرِ، يُشْتَرَى بها ما يَقُومُ مَقامَها. ويَجِبُ على الواطِئ؛ لأنّه الذي فَوَّتَ رِقَّه. وإنَّما اعْتُبِرَتْ قِيمَتُه يومَ الوَضْعِ؛ لأنَّ مُقْتَضَى الدّلِيلِ أن تَجِبَ قِيمَتُه حينَ العُلُوقِ؛ لأنَّه وَقْتُ تَفْويتِ الحُرِّيَّةِ، فلَمَّا لم يُمْكِنْ ذلك، قَوَّمْناه في أوَّلِ حالِ الإمْكانِ، وذلك حالةُ وَضْعِه. وهي للورثةِ، ولا شيءَ للوَصِيِّ فيها؛ لأنَّه إنَّما وَصَّى له بنَفْعِ الأمِّ، وليس الوَلَدُ مِن المَنافِعِ، ولا وَصَّى له بمَنْفَعَتِه، فلا يَسْتَحِقُّه.

2729 - مسألة: (وإن قتلت، فللورثة قيمتها، في أحد الوجهين)

وَإنْ قُتِلَتْ، فَلَهُمْ قِيمَتُهَا، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يُشْتَرَى بِهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2729 - مسألة: (وإن قُتِلَتْ، فللورثةِ قِيمَتُها، في أحَدِ الوَجْهَين) لأنهم مالِكُوها؛ لأنَّ القِيمَةَ بَدَلُ الرقبةِ، فتكونُ لصاحِبِها، وتَبْطُلُ الوصيةُ بالمَنْفَعَةِ كما تَبْطُلُ الإجارَةُ. (وفي) الوَجْهِ (الآخَرِ يُشتَرَى بها ما يَقُومُ مَقامَها) لأنَّ كلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بالعَينِ تَعَلَّقَ ببَدَلِها، إذا لم يَبْطُلِ اسْتِحْقاقُها. ويُفارِقُ الزَّوْجَةَ والعَينَ المُسْتَأجَرَةَ؛ لأنَّ سَبَبَ (¬1) الاسْتِحْقاقِ يَبْطُلُ بتَلَفِهما. ¬

(¬1) سقط من: م.

2730 - مسألة: (وللوصي استخدامها وإجارتها وإعارتها)

وَلِلْوَصِيِّ اسْتِخْدَامُهَا وإجَارَتُهَا وإعَارَتُهَا، وَلَيسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْؤُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2730 - مسألة: (وللوصِيِّ اسْتِخْدامُها وإجارَتها وإعارَتها) لأنَّ الوصيةَ له بنَفْعِها، وهذا منه. 2731 - مسألة: (وليس لواحِدٍ منهما وَطْؤُها) لأنَّ صاحِبَ المَنْفَعَةِ لا يَمْلِكُ رَقَبَتَها، ولا هو زَوْجُها، ولا يُباحُ وَطْءٌ بغيرِهما؛ لقولِ اللهِ تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬1). وصاحِب الرقبةِ لا يَمْلِكها مِلْكًا تامًّا، ولا يَأمَنُ أن تَحْمِلَ منه، فرُبَّما أفْضَىَ إلى هَلاكِها. وأيُّهما وَطِئَها فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه وَطْءٌ بشُبْهَةٍ، لوُجودِ المِلْكِ ¬

(¬1) سورة المؤمنون 6، المعارج 30.

2732 - مسألة: (وإن ولدت من زوج أو زنى، فحكمه حكمها)

وَإنْ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجٍ أوْ زِنًى، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لكلِّ واحِدٍ منهما فيها (¬1)، ووَلَدُه حُرٌّ؛ لأنَّه مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ. فإن كان الواطِئ صاحِبَ المَنْفَعَةِ، لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ له؛ لأنه لا يَمْلِكُها، وعليه قِيمَةُ وَلَدِها يومَ وَضْعِه، وحُكْمُها على ما ذَكَرْنا فيما إذا وَطِئَها أجْنَبِيٌّ بشُبْهَةٍ. وإن كان الواطِئُ مالِكَ الرقبةِ، صارَتْ أمَّ وَلَدٍ له؛ لأنها عَلِقَت منه بحُرٍّ في مِلْكِه. وفي وُجُوبِ قِيمَتِه عليه الوَجْهان. وأمّا المَهْرُ، فإن كان الواطِئُ مالكَ (¬2) الرقبةِ، فلا مَهْرَ عَليه، في اخْتِيارِ شيخِنا، وله المَهْرُ على صاحِبِ المَنْفَعَةِ إن كان هو الواطِئ. وعندَ أصْحابِنا، وأصحاب الشافعيِّ، يَنْعَكِسُ الحالُ. وقد تَقَدم تَعْلِيلُ ذلك. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ الحَدُّ على صاحِبِ المَنْفَعَةِ إذا وَطِئ؛ لأنه لا يَمْلِكُ إلَّا المَنْفَعَةَ، فوَجَبَ عليه الحَدُّ، كالمُسْتَأجِرِ، وعلى هذا يكونُ وَلَدُه مَمْلُوكًا. 2732 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ مِن زَوْجٍ أو زنًى، فحُكْمُه حُكْمُها) لأنَّ الوَلَدَ يَتْبَعُ الأمَّ في حُكْمِها، كوَلَدِ المُكاتَبةِ والمُدَبَّرَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لمالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لأن ذلك ليس من النّفْعِ المُوصَى به، ولا هو مِن الرقبةِ المُوصَى بنَفْعِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ملك».

2733 - مسألة: (وفي نفقتها ثلاثة أوجه؛ أحدها)

وَفِي نَفَقَتِهَا ثَلَاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُهَا، أنهُ فِي كَسْبِهَا. وَالثانِي، عَلَى مَالِكِهَا. وَالثَّالِثُ، عَلَى الْوَصِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2733 - مسألة: (وفي نَفَقَتِها ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها) تَجِبُ على مالِكِ الرقبةِ. وهو الذي ذَكَره الشَّرِيفُ أبو جَعْفَر مَذْهبًا لأحمدَ. وبه قال أبو ثَوْرٍ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّ النَّفَقَةَ على الرقبةِ، فكانت على صاحِبِها، كنفقةِ العَبْدِ المُسْتَأجَرِ، وكما لو لم يكنْ له مَنْفَعَة. قال الشَّرِيفُ: ولأنَّ الفِطرَةَ تَلْزَمُه، والفِطْرَةُ تَتْبَعُ النَّفَقَةَ، ووجُوبُ التابعِ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْسانٍ دَلِيلٌ على وُجُوبِ المَتْبُوعِ عليه. والثانِي، تَجِبُ على صاحِبِ المَنْفَعَةِ. وهو قولُ الإصطَخْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأي. وهو أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى؛ لأَنَّه يَمْلِكُ نَفْعَها على التّأبِيدِ، فكانتِ النَّفَقَةُ عليه، كالزّوْجِ، ولأنَّ نَفْعَه له، فكان عليه ضَرَرُه، كالمالِكِ لهما جَمِيعًا، يُحَقِّقُه أنَّ إيجابَ النَّفَقَةِ على مَن لا نَفْعَ له ضَرَرٌ مُجَرَّدٌ، فيَصِيرُ مَعْنَى الوَصِيّةِ: أوْصَيتُ لك بنَفْعِ أمَتِي، وأْلقَيتُ على وَرَثَتِي ضَرَرَها. والشَّرْعُ يَنفِي هذا بقولِه: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» (¬1). ولذلك جَعَل الخَرَاجَ بالضَّمانِ؛ ليكونَ ضَرَرُه على مَن له نَفْعُه. وفارَقَ المُسْتَأجَرَ؛ فإنَّ نَفْعَه في الحَقِيقَةِ للمُؤْجِرِ؛ لأَنه يَأخُذُ الأجْرَ عِوَضًا عن المَنافِعِ. والثالثُ، أنَّها تَجِبُ في كَسْبِه. وهذا راجِعٌ إلى إيجابِها على صاحِبِ المَنْفَعَةِ؛ لأنَّ كَسْبَه مِن مَنافِعِه، فإذا صُرِفَتْ في نَفَقَتِه، فقد صُرِفَتِ المَنْفَعَةُ المُوصَى بها إلى النفَقَةِ، فصاركما لو صَرَف إليه شيئًا مِن مالِه سِواه. فإن لم يكن لها كَسْب، فقِيلَ: تَجِبُ نَفَقَتُها في بَيتِ المالِ؛ لأنَّ مالِكَ الرَّقبةِ لا يَنتفِعُ بها، وصاحِبُ المَنْفَعَةِ لا يَمْلِكُ الرقبةَ، فلا يَلْزَمُه إحْياؤُها، وكذلك سائِرُ الحَيواناتِ المُوصَى بمَنْفَعتِها، قِياسًا على الأمَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368.

2734 - مسألة: (وفي اعتبارها من الثلث وجهان؛ أحدهما، يعتبر جميعها من الثلث)

وَفِي اعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ وَجْهَانِ؛ أحَدُهُمَا، يُعْتَبَرُ جَمِيعُهَا مِنَ الثُّلُثِ. وَالثانِي، تُقَوَّمُ بِمَنْفَعَتِهَا، ثُمَّ تُقَوَّمُ مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ فَيُعْتَبَرُ مَا بَينَهُما. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2734 - مسألة: (وفي اعْتِبارِها مِن الثُّلُثِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُعْتَبَرُ جَمِيعُها مِن الثلُثِ) يَعْنِي تُقَوَّمُ بمَنْفَعَتِها، ويُعْتَبَرُ خُرُوجُ ثَمَنِها مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّ أمَةً لا منفعةَ فيها لا قِيمَةَ لها غالِبًا (والثاني، تُقَوَّمُ بمَنْفَعتِها، ثم تُقَوَّمُ مَسْلُوبَةَ المنفعةِ، فيُعْتَبَرُ ما بينَهما) فإذا كانت قِيمتُها بمنفعتِها مائةً، وقِيمَتُها مَسْلُوبَةَ المَنْفَعَةِ عَشَرَةً، عَلِمْنا أن قِيمةَ المَنْفعةِ تِسْعُون.

2735 - مسألة: (وإن وصى لرجل برقبتها ولآخر بمنفعتها، صح. وصاحب الرقبة كالوارث فيما ذكرنا)

وإنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِرَقَبَتِهَا وَلِآخَرَ بِمنْفَعَتِهَا، صَحَّ. وَصَاحِبُ الرَّقَبَةِ كَالْوَارِثِ فِيمَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2735 - مسألة: (وإن وَصَّى لرجلٍ برَقَبتِها ولآخَرَ بمَنْفَعَتِها، صحَّ. وصاحِبُ الرقبةِ كالوارِثِ فيما ذَكَرْنا). فصل: وإذا وَصَّى بثَمَرَةِ شَجَرَةٍ مُدَّةً، أو بما (¬1) تُثْمِرُ أُبدًا، صَحَّ، ¬

(¬1) في م: «بماء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَمْلِكُ واحِدٌ مِن المُوصَى له والوارِثِ إجْبارَ الآخَرِ على سَقْيِها؛ لأنَّه لا يُجْبَرُ على سَقيِ مِلْكِه، ولا سَقْي مِلْكِ غيرِه. فإن أراد أحَدُهما سَقْيَها بحيثُ لا يَضُرُّ بصاحِبِه، لم يَمْلِكِ الآخَرُ مَنْعَه. فإن يَبِسَتِ الشَّجَرَةُ، فحَطبُها للوارِثِ. وإن وَصَّى له بثَمَرتِها مُدَّةً بعَينها، فلم تَحْمِلْ في تلك المُدَّةِ، فلا شيءَ للمُوصَى له. وإن قال: لك ثَمَرَتُها أوَّلَ عامٍ تُثْمِرُ. صَحَّ، وله ثَمَرَتُها في ذلك العامِ. وكذلك إذا وَصَّى له بما تَحْمِلُ أمَتُه أو شاتُه. وإن وَصَّى لرجلٍ بشَجَرَةٍ، ولآخَرَ بثَمَرَتِها، صَحّ، وقام صاحِبُ الرقبةِ مَقامَ الوارِثِ فيما له. وإن وَصَّى له بلَبَنِ شاتِه وصُوفِها، صَحَّ، كما تَصِحُّ الوصيةُ بثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ. وإن وَصَّى بلَبَنِها، أو صُوفِها، صَحّ، ويُقَوَّمُ المُوصَى به دُونَ العَينِ. فصل: وإذا وَصَّى لرجلٍ بحَبِّ زَرْعِه، ولآخَرَ بتِبْنِه، صَحَّ، والنّفَقَةُ بينَهما؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما تَعَلّقَ حَقُّه بالزَّرْعِ. فإنِ امْتَنَعَ أحَدُهما مِن الإنْفاقِ، فهما بمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَين في (¬1) أصْلِ الزَّرْعِ إذا امْتَنَعَ أحَدُهما مِن سَقْيِه والإنْفاقِ عليه، فيُخَرَّجُ في ذلك وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يُجْبَرُ على الإنْفاقِ عليه. هذا قولُ أبي بكر؛ لأنَّ في تَرْكِ الإنْفاقِ ضَرَرًا عليهما وإضاعَةً للمالِ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» (¬2). ونَهَى عن إضَاعةِ المالِ. والثانِي، لا يُجْبَرُ على الإنفاقِ على مالِ نَصِيبِه ولا على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 368.

2736 - مسألة: تصح الوصية بالمكاتب، إذا قلنا: يصح بيعه

وإنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمُكَاتَبِهِ، صَحَّ، وَيَكُونُ كَمَا لَو اشْتَرَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِ غيرِه إذا كان كلُّ واحدٍ منهما مُنْفَرِدًا، فكذلك إذا اجْتَمَعا. وأصْلُ الوَجْهَين إذا اسْتَهْدَمَ الحائِطُ المُشْتَرَكُ، فدَعا أحَدُ الشَّرِيكَين الآخَرَ إلى مُباناتِه، فامْتَنَعَ. ويَنْبَغِي أن تكونَ النفَقَةُ عليهما على قَدْرِ قِيمَةِ كلِّ واحِدٍ منهما، كما لو كانا مُشْتَرِكَين في أصْلِ الزرْعِ. فصل: وإن أوْصَى لرجلٍ بخَاتَم، ولآخَرَ بفَصِّه، صَحَّ، وليس لواحِدٍ منهما الانْتِفاعُ به إلَّا بإذنِ الآخَرِ، وأيُّهما طَلَب قَلْعَ الفَصِّ مِن الخاتَم أُجِيبَ إليه، وأُجْبرَ الآخَرُ عليه، وإنِ اتَّفَقا على بَيعِه، أو (¬1) اصْطَلَحا على لُبْسِه، جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. فصل: فإن وَصَّى لرجلٍ بدِينارٍ مِن غَلَّةِ دارِه، وغَلَّتُها دِينارانِ، صَحَّ. فإن أراد الوَرَثَةُ بَيعَ نِصْفِها وتَرْكَ النِّصْفِ الذي أجْرُه دِينارٌ، فله مَنْعُهم منه؛ لأنَّه يجوزُ أن يَنْقُصَ أجْرُه عن الدِّينارِ. وإن كانتِ الدّارُ لا تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، فلهم بَيع ما زاد عليه خاصَّةً وتَرْكُ الباقي. فإن كان غَلَّتُه (¬2) دِينارًا أو أقَلَّ، فهو للمُوصَى له، وإن زادَتْ، فله دِينارٌ، والباقِي للورثةِ. 2736 - مسألة: تَصِحُّ الوصيةُ بالمُكاتَبِ، إذا قُلْنا: يَصِحُّ بَيعُه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مَمْلُوكٌ يَصِحُّ بَيعُه، فصحَّتِ الوصيةُ به، كالقِنِّ. ويَقُومُ مَن انْتَقَلَ إليه مَقامَ السَّيِّدِ في الأدَاءِ إليه، وإن عَجَز عاد رَقِيقًا له، وإن عَتَقَ فالوَلاءُ له، كالمُشْتَرِي. فإن عَجَز في حَياةِ المُوصِي لم تَبْطُلِ الوصيةُ؛ لأنَّ رِقَّه لا يُنافِيها، وإن أدَّى بَطَلَتْ. فإن قال: إن عَجَز ورَقَّ فهو لك بعد مَوْتِي. فعَجَزَ في حياةِ المُوصِي، صَحَّتِ الوصيةُ، وإن عَجَز بعدَ مَوْتِه، بَطَلَتْ، كما لو قال لعَبْدِه: إن دَخَلْتَ الدّارَ فأنت حُرٌّ بعدَ مَوْتِي. فلم يَدْخُلْها حتى ماتَ سَيّدُه. وإن قال: إن عَجَز بعدَ مَوْتِي فهو لك. ففيه وَجْهان نَذْكُرُهما في العِتْقِ، فيما إذا قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ بعدَ مَوْتِي فأنت حُرٌّ.

2737 - مسألة: (وإن وصى له بمال الكتابة، أو بنجم منها، صح)

وإنْ وَصَّى لَهُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ، أوْ بِنَجْمٍ مِنْهَا، صَحَّ. وإنْ وَصَّى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ، وَبِمَا عَلَيهِ لِآخرَ، صَحَّ. فَإِنْ أدَّى ـــــــــــــــــــــــــــــ 2737 - مسألة: (وإن وَصَّى له بمالِ الكِتابةِ، أو بنَجْمٍ منها، صَحَّ) لأنَّها تَصِحُّ بما ليس بمُسْتَقِرٍّ، كما تَصِح بما لا يَمْلِكُه في الحالِ، كحَمْلِ الجارِيَةِ. وللمُوصَى له أن يَسْتَوْفِيَ المال عندَ حُلُولِه، وله أن يُبْرِئَ منه، ويَعْتِقَ بأحَدِهما، والوَلاءُ لسَيِّدِه؛ لأنَّه المُنْعِمُ عليه. فإن عَجَزَ، وأراد الوارِثُ تَعْجِيزَه، وأراد الوَصِيُّ إنْظارَه، فالقولُ قولُ الوارِثِ؛ لأنَّ حقَّ الوصِيِّ في المالِ إذا كان العقدُ قائمًا، وحقُّ الوارِثِ مُتَعَلِّق به، إذا عَجَز يَرُدُّه في الرقِّ، وليس للوصيِّ إبْطالُ حقِّ الوارِثِ من تعجيزِه. وكذلك إن أراد الوارثُ إنظارَه وأراد الوصيُّ تعجيزَه، فالحُكْمُ للوارِثِ، ولا حَق للوَصِيِّ في ذلك، ولا نَفْعَ له؛ لأنَّ حَقه يَسْقُطُ به. ومتى عَجَزَ عاد عَبْدًا للوارِثِ. وإن وَصَّى بما يُعَجِّلُه المُكاتَبُ، صَحَّ، فإن عَجَّلَ شيئًا فهو للوَصِيِّ، وإن لم يُعَجِّلْ شيئًا حتى حَلّتْ نُجُومُه، بَطَلَتِ الوصيةُ. 2738 - مسألة: (وإن وَصَّى لرجلٍ برَقَبَتِه ولآخَرَ بما عليه، صَحَّ. فإن أدَّى) إلى صاحِبِ المالِ أو أبرَأه منه (عَتَقَ وبَطَلَتْ وَصِيَّةُ

عَتَقَ، وإنْ عَجَزَ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ المَالِ فِيمَا بَقِيَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِ الرقبةِ) قالهُ أصحابُنا. ويَحْتَمِلُ أن لا تَبْطُلَ، ويكونَ الوَلاءُ له؛ لأنه أقَامَه مُقامَ نَفْسِه، ولو لم يُوصِ بها، كان الوَلاءُ له، فإذا أوْصَى بها كان الوَلاءُ للمُوصَى له، وكما لو وَصَّى له بالمُكاتَبِ مُطْلَقًا؛ لأنَّ الوَلاءَ يُسْتَفادُ مِن الوصيةِ بالرقبةِ دُونَ الوصيةِ بالمالِ. وإن عَجَز، فَسَخ صاحِبُ الرقبةِ كِتابَتَه، وكان رَقِيقًا له. وبَطَلَتْ وصية صاحِبِ المالِ. وإن كان صاحِبُ المالِ قَبَض مِن مالِ الكِتابَةِ شيئًا، فهو له. فإنِ اخْتَلَفا في فَسْخِ الكِتابَةِ بعدَ العَجْزِ، قُدِّمَ قولُ صاحِبِ الرقبةِ؛ لأنه يَقُومُ مَقامَ الورثةِ، على ما ذَكَرنا. فصل: فإن كانتِ الكِتابَةُ فاسِدَةً، فوَصَّى لرجلٍ بما في ذِمَّةِ المُكاتَبِ، لم يَصِحَّ؛ لأنه لا شيءَ في ذِمَّتِه. فإن قال: أوْصَيتُ لك بما أقْبِضُه مِن مالِ الكِتابَةِ. صَحَّ؛ لأنَّ الكِتابَةَ الفاسِدَةَ يُؤَدَّى منها المالُ كما يُؤَدَّى في الصحيحةِ. وإن وَصَّى برقبةِ المُكاتَبِ فيها، صَحَّ؛ لأنها تَصِحُّ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُكاتَبةِ الصحيحةِ، ففي الفاسِدَةِ أوْلَى. والله أعْلَمُ. فصل: وإذا قال: اشْتَرُوا بثُلُثيِ رِقابًا فأعْتِقُوهُم. لم يَجُزْ صَرْفُه إلى المُكاتَبين؛ لأنَّه أوْصَى بالشِّراء، لا بالدَّفْعِ إليهم. فإنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لثلاثةٍ (¬1)، لم يَجُزْ أن يُشْتَرَى أقَلُّ منها؛ لأنَّها أقَلُّ الجَمْعِ. فإن قُدِر أن يُشْتَرَى أكثرُ مِن ثلاثةٍ بثَمنِ ثلاثةٍ غالِيَةٍ، كان أوْلَى وأفْضَلَ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا، أعْتَقَ الله بكُلِّ عُضْو منه عُضْوًا منه مِنَ النَّارِ» (¬2). ولأنَّه يُفَرِّجُ عن نَفْس زائِدَةٍ، فكان أفْضَلَ مِن عَدَمِ ذلك. وإن أمْكَنَ شِراءُ ثلاثةٍ رَخِيصَةٍ وحِصّةٍ مِن الرابعةِ، بثَمَنِ ثلاثةٍ غاليةٍ، فالثلاثةُ أفْضَلُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سُئِلَ عن أفْضَلِ الرِّقابِ، قال: «أغْلَاهَا ثَمَنًا، وأنْفَسُها عِنْدَ أهْلِها» (¬3). والقَصْدُ مِن العِتْقِ تَكْمِيلُ الأحْكامِ؛ مِن الولايةِ، والجُمُعَةِ، والحَجِّ، والجِهادِ، وسائِرِ الأحْكَامِ التي تَخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُريَّةِ، ولا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بإعْتاقِ جَمِيعِه. وهذا التَّفْضِيلُ، والله أَعْلَمُ، مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما يكونُ مع التَّساوي في المَصْلَحَةِ، فأمّا إن تَرَجَّحَ بعضُهم بدِينٍ وعِفّةٍ وصَلاحٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)} , من كتاب العتق، وفي: باب قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وأي الرقاب أزكى، من كتاب الكفارات. صحيح البخاري 3/ 188، 8/ 181. ومسلم، في: باب فضل العتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1147، 1148. والترمذي، في: باب ما جاء في ثواب من أعتق رقبة، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 24، 25. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 420، 422، 429، 431، 447، 525. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 133.

فصل: وَمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِشَيءٍ بِعَينهِ، فَتَلِفَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أوْ بَعدَهُ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَصْلَحَةٍ له في العِتْقِ، بأن يكونَ مَضْرُورًا بالرِّقِّ وله صَلاحٌ في العِتْقِ، وغيره له مَصلَحَةٌ في الرِّقِّ ولا مَصْلَحَةَ له في العِتْقِ، بل رُبما تَضَررَ به، مِن فَوَاتِ نَفَقَتِه، وكِفايته، ومَصالِحِه، وعَجْزِه بعدَ العِتْقِ عن الكَسْبِ وخُروجِه عن الصِّيانَةِ والحِفْظِ، فإنَّ إعْتاقَ مَن كَثُرَتِ المَصْلَحَةُ في إعْتاقِه أفْضَلُ وأوْلَى وإن قَلَّتْ قِيمَته. ولا يَسُوغُ إعْتاقُ مَن في إعْتاقِه مَفْسَدَةٌ؛ لأنَّ مَقْصودَ المُوصِي تَحْصِيلُ الثَّوابِ والأجْرِ، ولا أجْرَ في إعْتاقِ هذا. ولا يجوزُ أن يُعْتِقَ إلَّا رَقبةً مُسْلِمَة؛ فإنَّ اللهَ تعالى لَمّا قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬1). لم يَتَنَاوَلْ إلا المسلمةَ، ومُطْلَقُ كَلامِ الآدَمِيِّ مَحْمُولٌ على مطْلَقِ كلامِ اللهِ تَعالى. ولا يجوزُ إعْتاقُ مَعِيبَةٍ عَيبًا يَمْنَعُ مِن الإجْزاءِ في الكَفّارَةِ؛ [لِما ذَكَرْنا] (¬2)، والله أعلمُ. فصل: قال الشيخ، رَضِيَ اللهُ عنه: (ومَن أُوصِيَ له بشيءٍ بعَينه، فتَلِفَ قبلَ مَوْتِ الموصِى أو بعدَه، بَطَلَتِ الوصيةُ) كذلك حَكاه ابن المُنْذِرِ، فقال: أجْمَعَ كلُّ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلمِ، على أنَّ الرجلَ إذا أُوصِيَ له بشيءٍ، فهَلَكَ الشيءُ، أن لا شيءَ له في سائِرِ مالِ المَيِّتِ؛ وذلك لأنَّ المُوصَى له إنَّما يَسْتَحِقُّ بالوصيةِ لا غير، وقد تَعَلَّقَتْ بمُعَيَّنٍ، ¬

(¬1) سورة المجادلة 3. (¬2) سقط من: م.

2739 - مسألة: (وإن تلف المال كله غيره بعد موت الموصي، فهو للموصى له)

وَإنْ تَلِفَ الْمَالُ كُلُّهُ غَيرَهُ بَعْدَ مَوْتِ المُوصِي، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإنْ لَمْ يَأخُذْهُ زَمَانًا، قُوِّمَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقتَ الْأخْذِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا ذَهَب، ذَهَب حَقُّه، كما لو تَلِف في يَدِه، والتَّرِكَةُ في يَدِ الورثةِ غيرُ مَضْمُونَةٍ عليهم؛ لأنها حَصَلَتْ في أيدِيهم بغيرِ فِعْلِهم، ولا تَفْرِيطِهم، فلم يَضْمَنُوا شيئًا. 2739 - مسألة: (وإن تَلِف المالُ كلُّه غيرَه بعدَ موتِ المُوصِي، فهو للمُوصَى له) لأنَّ حقُوقَ الورثةِ لم تَتَعَلَّقْ به؛ لتَعَيُّنه للموصَى له، ولذلك يَمْلِكُ أخْذَه بغيرِ رِضاهم وإذْنِهم، فكان حَقُّه فيه دُونَ سائِرِ المالِ، فحقُوقُهم في سائِرِ المالِ دُونَه، فأيُّهما تَلِف حَقُّه لم يُشارِكِ الآخَرَ في حَقِّه، كما لو كان التَّلَفُ بعدَ أن أخَذَه المُوصَى له، وكالورثةِ إذا اقْتَسَمُوا ثم تَلِف نَصِيبُ أحَدِهم. قال أحمدُ، في مَن خَلَّفَ مائَتَيْ دِينارٍ وعَبْدًا قِيمَته مائةٌ، ووَصَّى لرجلٍ بالعَبْدِ، فسُرِقَتِ الدَّنانِيرُ بعدَ المَوْتِ: فالعَبْدُ للمُوصَى له به. 2740 - مسألة: (وإن لم يَأخذْه زَمانًا، قُوِّمَ وَقْتَ المَوْتِ لا وَقْتَ الأخْذِ) وذلك لأنَّ الاعْتِبارَ في قِيمَةِ الوصيةِ وخُروجِها مِن الثُّلُثِ أو (¬1) ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَدَمِ خُرُوجِها، بحالةِ المَوْتِ؛ لأنها حالُ لُزُومِ الوصيةِ، فتُعْتَبرُ قِيمَةُ المالِ فيها. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرأي. ولا نَعْلَم فيه خِلافًا. فيُنْظَرُ كم كان المُوصَى به وَقْتَ المَوْتِ، فإن كان ثُلُثَ التَّرِكَةِ أو دُونَه، نَفَذَتِ الوصيةُ، واسْتَحَقَّه المُوصَى له كلَّه. فإن زادت قِيمَتُه حتى صار مُعادِلًا لسائِرِ المالِ (¬1) أو أكثَرَ منه، أو هَلَك المالُ كلُّه سِواه، فهو للمُوصَى له، ولا شيءَ للورثةِ فيه. فإن كان حينَ المَوْتِ زائِدًا عن الثُّلُثِ، فللمُوصَى له منه قَدْرُ ثُلُثِ المالِ. فإن كان نِصْفَ المالِ، فللمُوصىَ له ثُلُثاه. وإن كان ثُلُثَيه، فللمُوصَى له نِصْفُه. وإن كان نِصْفَ المالِ وثُلُثَه، فللمُوصَى له خُمْساه. فإن نَقَص بعدَ ذلك أو زاد، أو نَقَص سائِرُ المالِ أو زاد، فليس للمُوصَى له سِوَى ما كان له (¬2) حينَ المَوْتِ. فلو وَصَّى بعَبْدٍ قِيمَتُه مائةٌ وله مائتان، فزَادَتْ قِيمَتُه بعدَ المَوْتِ حتى صار يُساوى ¬

(¬1) في م: «الأموال». (¬2) سقط من: م.

2741 - مسألة: (فإن لم يكن له سوى المعين إلا مال غائب، أو دين في ذمة موسر أو معسر، فللموصى له ثلث الموصى به. وكلما اقتضي من الدين شيء، أو حضر من الغائب، ملك من الموصى به قدر ثلثه، حتى يملكه كله)

وَإنْ لَمْ يَكُن لَهُ سِوَى الْمُعَيَّنِ إلَّا مَالٌ غَائِبٌ، أوْ دَين فِي ذِمَّةِ مُوسِرٍ أوْ مُعْسِرٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمُوصَى بِهِ. وَكُلَّمَا اقْتُضِيَ مِنَ الدَّينِ شيءٌ، أوْ حَضَرَ مِنَ الْغائِبِ شَيْءٌ مَلَكَ مِنَ الْمُوصَى بِهِ قَدْرَ ثُلُثِهِ حتَّى يَمْلِكَهُ كُلَّهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مائَتَين، فهو للمُوصَى له كلُّه. وإن كانت قِيمَتُه حينَ المَوْتِ مائَتَين، فللمُوصَى له ثُلُثاه؛ لأنهما ثُلُثُ المالِ. فإن نَقَصَتْ قِيمَتُه بعدَ المَوْتِ حتى صار يُساوي مائةً، لم يَزِدْ حَقُّ المُوصَى له عن ثُلُثَيه شيئًا إلَّا أن يُجِيزَ الورثة. وإن كانت قِيمَتُه أرْبَعَمائةٍ، فللمُوصَى له نِصْفُه، لا يَزْدادُ حَقُّه عن ذلك، سَواءٌ نَقَص العَبْدُ أو زاد. 2741 - مسألة: (فإن لم يكنْ له سِوَى المُعَيَّنِ إلَّا مالٌ غائبٌ، أو دَين في ذِمَّةِ مُوسِر أو مُعْسِر، فللمُوصَى له ثُلُثُ المُوصَى به. وكلَّما اقْتُضِيَ مِن الدَّينِ شيءٌ، أو حَضَر مِن الغائِبِ، مَلَك مِن المُوصَى به قَدْرَ ثُلُثِه، حتى يَمْلِكَه كلَّه) وجملةُ ذلك، أن مَن وَصَّى بمُعيَّن حاضَرٍ، وسائِرُ مالِه دَينٌ أو غائِبٌ، فليس للوَصِيِّ أخْذُ المُعَيَّنِ قبلَ قُدُومِ الغائِبِ وقَبْض الدَّينِ؛ لأَنه رُبَّما تَلِف، فلا تَنْفُذُ الوصيةُ في المُعَيَّنِ كُلِّه، ويَأخُذُ الوَصِيُّ مِن المُعَيَّنِ ثُلُثَه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، ذَكَرَه في المُدَبَّرِ. وقِيلَ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُدْفَعُ إليه شيءٌ؛ لأنَّ الورثةَ شُرَكاؤه في الترِكَةِ، فلا يَحْصُلُ له شيءٌ ما لم يَحْصُلْ للورثةِ (¬1) مِثْلاه، ولم يَحْصُل لهم شيءٌ. وهذا وَجْهٌ لأصْحابِ الشافعيِّ. والصحيحُ الأولُ؛ لأن حَقه في الثلُثِ مُسْتَقِر، فوَجَبَ تَسْلِيمُه إليه؛ لعَدَمِ الفائِدَةِ في وَقْفِه، كما لو لم يُخَلِّفْ غيرَ المُعيَّنِ، ولأنه لو تَلِف سائِرُ المالِ لوَجَبَ تَسْلِيمُ ثُلُثِ المُعَيَّنِ إلى الوَصِيِّ، وليس تَلَفُ المالِ سَبَبًا لاسْتِحْقاقِ الوصيةِ وتَسْلِيمِها، ولا يَمْتَنِع نُفُوذُ الوصيةِ في الثلُثِ المُسْتَقِرِّ وإن لم يَنْتفِعِ الورثةُ بشيءٍ، كما لو أْبرَأ مُعْسِرًا مِن دَين عليه. وقال مالكٌ: يُخَيَّرُ الورثةُ بينَ دَفْعِ العَينِ المُوصَى بها، وبينَ جَعْلِ وَصِيته ثُلُثَ المالِ؛ لأنَّ المُوصِيَ كان له أن يُوصِيَ بثُلُثِ مالِه، فعَدَلَ إلى المُعَيَّنِ، وليس له ذلك؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى أن يَأخُذَ المُوصَى له المُعَيَّنَ، فيَنْفَرِدَ بالتَّرِكَةِ على تَقْدِير تَلَفِ الباقِي قبلَ وُصُولِه إلى الورثةِ، فيُقالُ للورثةِ: إن رَضِيتُم بذلك، وإلَّا فَعُودُوا إلى ما كان له أن يُوصِيَ به، وهو الثُّلُثُ. ولَنا، أنَّه أوْصَى بما لا يَزِيدُ على الثلُثِ لأجْنَبِيٍّ، فوَقعَ لازِمًا، كما لو وَصَّى له بمُشَاعٍ. وما قاله لا يَصِحُّ؛ لأنّ جَعْلَ حَقِّه في قَدْرِ الثلُثِ إشاعَةٌ وإبْطالٌ لِما عَيَنّهَ، فلا يجوزُ إسْقاطُ ما عَيَّنَه المُوصِي للمُوصَى له ونَقْلُ حَقِّه إلى ما لم يُوصِ به، كما لو وَصَّى له بمُشَاعٍ، لم يَجُزْ نَقْلُه إلى مُعَيَّن، وكما لو كان المالُ كله حاضِرًا أو غائِبًا. إذا ثَبَت هذا، فإنّ للمُوصَى له ثُلُثَ العَينِ الحاضِرَةِ، وكُلَّما اقْتُضِيَ مِن دَينه شيءٌ أو حَضَر ¬

(¬1) في م: «الورثة».

2742 - مسألة: (وكذلك الحكم في المدبر)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الغائِبِ شيءٌ، فللمُوصَى له بقَدْرِ ثُلُثِه مِن المُوصَى به كذلك، حتى يَكْمُلَ للمُوصَى به الثُّلُثُ، أو يَأخُذَ المُعَيَّنَ كلَّه. فلو خَلَّفَ تِسْعَةً عَينًا، وعِشْرِين دينا (¬1)، وابنًا، ووَصَّى بالتسْعَةِ لرجل، فللوصى ثُلثها ثلاثة، وكلَّما اقْتُضِيَ مِن الدَّينِ شيءٌ، فللوصى ثُلُثُه، فإذا اقْتُضِيَ ثُلُثُه فله مِن التسعةِ واحِدٌ، حتى يُقْتَضَى ثَمانِيَةَ عَشَرَ، فتَكْمُلُ له التسْعَةُ. فإن جَحَد الغَرِيمُ، أو مات، أو يَئس مِن اسْتِيفاء الدَّينِ، أخَذَ الورثةُ السِّتَّةَ الباقِيَة مِن العَينِ. ولو كان الدَّينُ تِسْعَةً، فإن الابنَ يَأخُذُ ثُلُثَ العَينِ، ويَأخُذُ الوَصِيُّ ثُلُثَها، ويَبْقَى ثُلُثُها مَوْقُوفًا، كلَّما اسْتُوفِيَ مِن الدَّينِ شيء، فللوَصِيِّ مِن العَينِ قدْرُ ثُلُثِه، فإذا اسْتُوفِيَ الدَّينُ كلُّه، كُمِّل للمُوصَى له سِتَّة، وهي ثُلُثُ الجَمِيعِ. وإن كانتِ الوصيةُ بنِصْفِ العَينِ، أخَذَ الوَصِيُّ ثُلُثَها، وأخَذَ الابنُ نِصْفَها، وبَقِيَ سُدْسُها مَوْقُوفًا، فمتى اقْتَضَى مِن الدَّينِ مِثْلَيه، كُمِّلَتْ وَصِيته. 2742 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ في المُدَبَّرِ) في أنَّه يَعْتِقُ في ¬

(¬1) في م: «دينارا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالِ ثُلُثُه، وكلَّما اقْتُضِيَ مِن الدَّينِ شيءٌ أو حَضَر مِن الغائِبِ شيءٌ، عَتَقَ منه بقَدْرِ ثُلُثِه، حتى يَعْتِقَ جَمِيعُه إن خَرَج مِن الثُّلُثِ. فصل: فإن كان الدَّين مِثْلَ العَينِ، فوَصَّى لرجل بثُلُثِه، فلا شيءَ له قبلَ اسْتِيفائِه، فكلَّما اقْتُضِيَ منه شيءٌ، فله ثُلُثُه، وللابنِ ثُلُثاه. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: هو أحَقُّ بما يَخْرُجُ مِن الدَّينِ، حتى يَسْتَوْفِيَ وَصِيته. وهذا قولُ أهْلِ العِراق؛ لأن ذلك يَخْرُجُ مِن ثُلُثِ المالِ الحاضِرِ. ولَنا، أنَّ الورثةَ شُرَكاؤه في الدَّينِ، وليس له معهم شَرِكَة في العَينِ، فلا يَخْتَصُّ بما يَخْرُجُ منه دُونَهم، كما لو كان شَرِيكُه في الدَّينِ وَصِيا آخَرَ، وكما لو وَصَّى لرجلٍ بالعَينِ ولآخَرَ بالدّينِ، [فإنَّ المُنْفَرِدَ] (¬1) بوصيةِ الدّينِ لا يَخْتَصُّ بما خَرَج منه دُونَ صاحِبِه، كذا هاهُنا. فصل: ولو وَصَّى لرجل بثُلُثِ مالِه، وله مائتانِ دَينًا، وعَبْدٌ يُساوي مائةً، ووَصَّى لآخَرَ بثُلُثِ العَبْدِ، اقْتَسَما ثُلُثَ العَبْدِ نِصْفَين، وكلما اقْتُضِيَ مِن الدَّينِ شيء، فللمُوصَى له بثُلُثِ المالِ رُبْعُه، وله وللآخرِ مِن العَبْدِ بقَدر رُبْعِ ما اسْتُوفِيَ بينَهما نِصْفَين. فإذا اسْتُوفِيَ الدَّينُ كله، كُمِّلَ ¬

(¬1) في م: «فالمنفرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للوصيَّين نِصفُ العَبْدِ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ رُبْعُ المائَتَين، وذلك هو ثُلُثُ المالِ. وإنِ اسْتُوفِيَ الدَّينُ قبل القِسْمَةِ، قُسِما بينَهما كذلك، للمُوصَى له بثُلُثِ (¬1) العَبْدِ رُبْعُه؛ لأن للوصيَّين (¬2) أرْبَعَةَ أتْساعِ المالِ، والجائِزُ منهما (¬3) ثُلُثُ المالِ، وهو ثلاثةُ أتْساع، وذلك ثلاثةُ أرْباعِ وَصِيَّتهما، فرَدَدْنا كلَّ واحِدٍ منهما إلى ثلاثةِ أرْباعِ وَصيته، وهي رُبْع المالِ كُلِّه لصاحِبِ ثُلُثِه، وَرُبْعُ العَبْدِ لصاحِبِ ثُلُثِه. وفي المسألةِ أقوالٌ سِوَى ما قُلْناه، تَرَكْناها لطُولِها، وهذا أسَدُّهَا، إن شاء الله؛ لأننا أدْخَلْنا النَّقْصَ على كلِّ واحِدٍ منهما بقَدْرِ ما لَه في الوصيةِ، وكَمَّلْنا لهما الثُّلُث، فإن أُجِيزَ لهما أخْذُ كلِّ واحِدٍ منهما ما بَقِيَ مِن وصيته، وهو رُبْعُها، فيُكَمَّلُ ثُلُثُ المالِ لصاحِبِه.، وثُلُثُ العَبْدِ للآخرِ. فصل: وإن خَلَّفَ ابْنَين، وتَرَك عَشَرةً عَينًا، وعَشَرَةً دَينًا على أحَدِ ابْنَيه، وهو مُعْسِر، ووَصَّى لأجْنَبِيّ بثُلُثِ مالِه، فإن الوَصِيَّ والابنَ الذي ¬

(¬1) في م: «ثلث». (¬2) في المغني 8/ 576: «الوصيتين». (¬3) في الأصل: «منها».

2743 - مسألة: (وإن وصى له بثلث عبد، فاستحق ثلثاه، فله الثلث الباقي. وإن وصى له بثلث ثلاثة أعبد، فاستحق اثنان منهم أو ماتا،

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ عَبْدٍ، فَاسْتُحِقَّ ثُلُثَاهُ، فَلَهُ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَإنْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثةِ أعْبُدٍ، فَاسْتَحَقَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ أوْ مَاتَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا دَيْنَ عليه يَقْتَسِمان العَشَرَةَ العَينَ نِصْفَين، ويَسْقُطُ عن المَدِينِ ثُلُثا دَينِه، ويَبْقَى لهما عليه ثُلثه. فإن كانت الوصيةُ بالرُّبْعِ، قُسِمَتِ العَشَرَةُ العَينُ بينَهما أخْماسًا، للوَصِيِّ خُمْساها أرْبَعَةٌ، وللابْنِ سِتَّة، وسَقَطَ عن المَدِينِ ثلاثةُ أرْباعِ دَينه، وبَقِيَ عليه رُبْعُه، فإذا اسْتُوفِيَ قُسِمَ بينَهما أخْماسًا، كما قُسِمَتِ العَين؛ لأن الوَصِيَّةَ بالرُّبْعِ، وهو ثُمْنانِ، ويبقَى سِتَّةُ أثْمانٍ، لكلِّ ابْنٍ ثلاثةُ أثْمانٍ، فصار نَصِيبُ الوَصِيِّ والابنِ الذي لا دَينَ عليه خَمْسَةَ أثْمانٍ، للابنِ ثلاثةٌ، وللوَصِيِّ سَهْمان، فلذلك قَسَمْنا العَينَ وما حَصَل لهما مِن الدَّينِ بينهما (¬1) أخْماسًا، وسَقَط عن المَدِينِ ثلاثةُ أرْباعِ ما عليه، لأنَّ له ثلاثةَ أثْمانٍ، وهي ثلاثةُ أرْباعِ النِّصْفِ الذي عليه. فصل: ونَماءُ العَينِ المُوصَى بها إن كان مُتَّصِلًا تَبِعَها، وهو للمُوصَى له. وإن كان مُنْفَصِلًا في حَياةِ المُوصِي، فهو له، يكونُ مِيراثًا. وإن حَدَث بعدَ المَوْتِ قبلَ القَبُولِ، فهو للورثةِ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وقيل: للوَصِيِّ. وقد ذَكَرْناه. 2743 - مسألة: (وإن وَصَّى له بثُلُثِ عَبْدٍ، فاسْتُحِقَّ ثُلُثاه، فله الثُّلُثُ الباقِي. وإن وَصَّى له بثُلُثِ ثلاثةِ أعْبُدٍ، فاسْتُحِقَّ اثْنان منهم أو ماتا، ¬

(¬1) سقط من: م.

فَلَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فله ثُلُثُ الباقِي) إذا وَصَّى له بمُعَيَّن، فاسْتُحِق بعضُه، فله ما بَقِيَ منه إن حَمَلَه الثلُثُ، فإذا وَصَّى له بثُلُثِ عَبْدٍ أو دارٍ، فاسْتُحِقَّ الثُّلُثانِ منه، فالثُّلُثُ الباقِي للمُوصَى له. وهو قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّ الباقِيَ كلَّه مُوصًى به، وقد خرَج مِن الثُّلُثِ، فاسْتَحَقَّه المُوصَى له، كما لو كان شيئًا مُعَيَّنًا. وإن وَصَّى له بثُلُثِ ثلاثةِ أعْبُدٍ، فهَلَكَ عَبْدان أو اسْتُحِقّا، فليس له إلَّا ثُلُثُ الباقِي. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرأي؛ لأنه لم يُوصِ له مِن الباقِي بأكْثرَ مِن ثُلُثِه، وقد شَرَّك بينَه وبينَ وَرَثَتِه في اسْتِحْقاقِه.

2744 - مسألة: (وإن وصى له بعبد لا يملك غيره، قيمته مائة، ولآخر بثلث ماله، وملكه غير العبد مائتان، فأجاز الورثة، فللموصى له بالثلث ثلث المائتين وربع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه. وإن ردوا، فقال الخرقي: للموصى له بالثلث سدس المائتين وسدس العبد، وللموصى له بالعبد نصفه)

وَإنْ وَصَّى بِمعَيَّن بِقَدْرِ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَهَلْ تُحْسَبُ الدِّيَةُ عَلَى مَالِهِ، وَمِلْكُهُ غَيرَ الْعَبْدِ مِائَتَانِ، فَأجَازَ الْوَرَثَةُ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بالثُّلُثِ ثُلُثُ الْمِائَتَينِ وَرُبْعُ الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ثَلَاثةُ أَرْبَاعِهِ. فَإِنْ رَدُّوا، فَقَال الْخِرَقِي: لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُدْسُ الْمِائَتَينِ وَسُدْسُ الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نِصْفُهُ. وَعِنْدِي أنهُ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَينَهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا لَهُمَا فِي حَالِ الإجَازَةِ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ خُمْسُ الْمِائَتَينِ وَعُشْرُ الْعَبْدِ وَنِصْف عُشْرِهِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ رُبْعُهُ وَخُمْسُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2744 - مسألة: (وإن وَصَّى له بعَبْدٍ لا يَمْلِكُ غيرَه، قِيمَتُه مائة، ولآخَرَ بثُلُثِ مالِه، ومِلْكُه غيرَ العَبْدِ مائتانِ، فأجازَ الورثةُ، فللمُوصَى له بالثُّلُثِ ثُلُثُ المائَتَين ورُبْعُ العَبْدِ، وللمُوصَى له بالعَبْدِ ثلاثةُ أرْباعِه. وإن رَدُّوا، فقال الخِرَقِي: للمُوصَى له بالثُّلُثِ سُدْسُ المائَتَين وسُدْسُ العَبدِ، وللمُوصَى له بالعَبْدِ نِصفُه) قال شيخُنا: (وعندِي أنَّه يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على حَسَبِ ما لهما في حالِ الإجازَةِ، لصاحِبِ الثُّلُثِ خُمْسُ المائَتَين وعُشْرُ العَبْدِ ونِصْفُ عُشْرِه، ولصاحِبِ العَبْدِ رُبْعُه وخُمْسُه) وجملةُ ذلك، أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا وصَّى لرجلٍ بمُعَيَّن مِن مالِه، ولآخَرَ بجُزْءٍ مُشاعٍ منه كثُلُثِه، فأُجِيزَ لهما، انْفَرَدَ صاحِبُ المُشاعِ بوَصِيَّته مِن غيرِ المُعَيَّنِ، ثم شارَكَ صاحِبَ المُعَيَّنِ فيه، فيُقْسَمُ بينَهما على قَدْرِ حَقيهما (¬1) فيه، ويَدْخُلُ النَّقْصُ على كلِّ واحِدٍ منهما بقَدْرِ ما لَه في الوصيةِ، كمسائِلِ العَوْلِ، وكما لو وَصَّى لرجلٍ بمالِه ولآخَرَ بجُزْءٍ منه. فأمّا في حالِ الرَّدِّ، فإن كانت وَصِيَّتهما لا تُجاوزُ الثُّلُثَ، مِثْلَ أن يُوصِيَ لرجلٍ بسُدْسِ مالِه، ولآخَرَ بمُعَيَّنٍ قِيمَتُه سُدْسُ المال، فهي كحالةِ الإجازَةِ سَواءٌ، إذ لا أثَرَ للرَّدِّ. وإن جاوَزَتِ الثُلُثَ , رَدَدْنا وَصِيَّتهما إلى الثلُثِ، وقَسّمْناه بينَهما على قَدْرِ وَصِيتَّيهما، إلَّا أنَّ صاحِبَ المُعَيَّنِ يَأخُذُ نَصِيبَه مِن المُعَيَّنِ، والآخَرَ يَأخُذُ حَقَّه مِن جَمِيعِ المالِ. هذا قولُ الخِرَقِيِّ، وسائِرِ الأصْحابِ. ويَقْوَى عِندِي أنَّهما في حالِ الرَّدِّ يَقْتَسِمانِ الثُّلُثَ، على حَسَبِ ما لَهما في حالِ الإجَازَة. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، في الرَّدِّ: يَأخُذُ صاحِبُ المُعَيَّنِ نَصِيبَه منه، ويَضُمُّ الآخَرُ سِهَامَه إلى سِهامِ الورثةِ، ويَقْتَسِمُون الباقِيَ على خَمْسَةٍ، في مِثْلِ مسألةِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ له السُّدْسَ، وللورثةِ أرْبَعَةُ أسْداسٍ. وهو مِثْلُ قولِ ¬

(¬1) في الأصل: «حقهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيِّ، إلَّا أنَّ الخِرَقِيَّ يُعْطِه السُّدْسَ مِن جَمِيعِ المالِ، وعندَهما أنَّه يَأخُذُ خُمْسَ المائتين وعُشْرَ العَبْدِ. واتَّفَقُوا على أنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الوَصِيَّين يَرْجِعُ إلى نِصْفِ وصيته؛ لأن كلَّ واحِدٍ منهما قد أوْصَى له بثُلُثِ المال، وقد رَجَعَتِ الوَصِيَّتانِ إلى الثُّلُثِ، وهو نِصْفُ الوَصِيَتّين، فيَرْجِعُ كلُّ واحِدٍ إلى نِصْفِ وصيته، ويَدْخُلُ النَّقْصُ على كلِّ واحِدٍ منهما بقَدْرِ ما لَه في الوصيةِ. وفي قولِ الخِرَقِيِّ يَأخُذُ سُدْسَ الجَمِيعِ؛ لأنَّه وَصَّى له بثُلُثِ الجَمِيعِ. وأمّا في قولِ شيخِنا، فإنَّ وصيةَ صاحِبِ العَبْدِ دُونَ وصيةِ صاحِبِ الثُّلُثِ؛ لأنه وَصَّى له بشيءٍ شَرَّكَ معه غيرَه فيه، وصاحِبُ الثُّلُثِ (¬1) أفرَدَه (¬2) بشيءٍ لم يُشَارِكْه فيه غيرُه، فوَجَبَ أن يُقْسَمَ بينَهما الثُّلُثُ حالةَ الرَّدِّ على حَسَبِ ما لَهما في حالِ الإجازَةِ، كما في سائرِ الوصايا. ففي هذه المسألةِ، لصاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ المائَتَين سِتَّةٌ وسِتُّون وثُلُثان، لا يُزَاحِمُه الآخَرُ فيها، ويَشْتَرِكان في العَبْدِ، لهذا ثُلُثُه، وللآخَرِ جَميعُه، فابْسُطْه مِن جِنْسِ الكَسْرِ، وهو الثُّلُثُ، يَصِرِ العَبْدُ ثلاثةً، واضْمُمْ إليها الثُّلُثَ الذي للآخرِ، يَصِرْ أرْبعةً، ثم اقْسِمِ العَبْدَ على أربعةِ أسْهُمٍ، يَصِرِ ¬

(¬1) في م: «السدس». (¬2) في م: «أفرد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثلُثُ رُبْعًا، كما في مسائلِ العَوْلِ. وفي حالِ الردِّ تُرَدُّ وَصِيَّتهما إلى ثُلُثِ المالِ، وهو نِصْفُ وَصِيتيهما، فيَرْجِعُ كلُّ واحِدٍ إلى نِصْفِ وصيته، فيَرْجِعُ صاحِبُ الثُّلُثِ إلى سُدْسِ الجَميعِ، ويَرْجِعُ صاحِبُ العَبْدِ إلى نِصْفِه. وفي قولِ شيخِنا: تَضْرِبُ مَخْرَجَ الثلُثِ في مَخْرَجِ الرُّبْعِ، يَكُن اثْنَيْ عَشَرَ، ثم في ثلاثةٍ، تكنْ سِتَّةً وثَلاثينَ، فلصاحِبِ الثلُثِ ثُلُثُ المائَتَين، وهو ثمانِيةٌ (¬1)، ورُبْعُ العَبْدِ، وهو ثلاثةُ أسْهُم، صار له أحَدَ عَشَرَ، ولصاحِبِ العَبْدِ ثلاثةُ أرْباعِه، وذلك تِسعَةٌ، فبضَمِّها إلى صاحِبِ الثلُثِ تَصِيرُ عِشْرِين سَهْمًا، ففي حالِ الرَّدِّ يُجْعَلُ الثُّلُثُ عِشرِين سَهْمًا، والمالُ كلُّه سِتُّون، فلصاحِبِ العَبْدِ تِسْعَةٌ مِن العَبْدِ، وهو رُبْعُه وخُمْسُه، ولصاحِبِ الثُّلُث، ثمانيةٌ مِن الأرْبَعِين (¬2)، وهي خُمْسُها، وثُلُثُه مِن العَبْدِ وذلك عُشْرُه ونِصفُ عُشرِه (¬3). ¬

(¬1) بعده في المغني 8/ 527: «من أربعين». (¬2) في النسختين: «المائتين». وانظر المغني 8/ 527. (¬3) في م: «عشرة».

2745 - مسألة: (وإن كانت الوصية بالنصف مكان الثلث فله)

وَإنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ مَكَانَ الثُّلُثِ، فَأجَازُوا، فَلَهُ مِائَةٌ وَثُلُثُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ. وإنْ رَدُّوا، فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُ الْمِائَتَينِ وَسُدْسُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ. وَقَال أبو الْخَطّابِ: لِصَاحِبِ النِّصْفِ خُمْسُ الْمِائَتَين وَخُمْسُ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خُمْسَاهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْخرَقِيِّ. وَالطَّرِيقُ فِيهَا، أنْ تَنْظُرَ مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي حَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2745 - مسألة: (وإن كانتِ الوصيةُ بالنِّصْفِ مَكانَ الثُّلُثِ فله) في حالِ الإجازَةِ (مائةٌ وثُلُثُ العَبْدِ، ولصاحِبِ العَبْدِ ثُلُثاه) وفي الرَّدِّ، لصاحِبِ النِّصْفِ خُمْسُ المائَتَين وخُمْسُ العَبْدِ، ولصاحِبِ العَبْدِ خُمْساه. هذا قولُ أبي الخَطابِ (وهو قِياسُ قولِ الخِرَقِيِّ) وعلى اخْتِيارِ شيخِنا، لصاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُ المائَتَين وسُدْسُ العَبْدِ، ولصاحِبِ العَبْدِ ثُلثه. والطَّرِيقُ فيها، أن يُنْسَبَ الثُّلُثُ إلى ما حَصَل لهما في حالِ الإجازَةِ،

الإجَازَةِ فَتَنْسِبَ إلَيهِ ثُلُثَ الْمَالِ، وَتُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا كَانَ لَهُ فِي الإجَازَةِ مِثْلَ نِسْبَةِ الثُلُثِ اليهِ. وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، تَنْسِبُ الثُّلُثَ إلَى وَصِيَّتهِمَا جَمِيعًا، وتُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا لَهُ فِي الْإجَازَةِ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يُعْطَى كلُّ واحِدٍ ممّا حَصَل له في الإجازَةِ، مِثْلَ نِسْبَةِ الثُّلُثِ إليه (وعلى قولِ الخِرَقِيّ، يُنْسَبُ الثلُثُ إلى وَصِيَّتيهما جميعًا، ثم يُعْطَى كلُّ واحِدٍ) في الرَّدِّ مِثْلَ الخارجِ بالنِّسْبةِ. وبَيانُه في هذه المسألةِ أن نِسْبَةَ الثُّلُثِ إلى وَصِيَّتيهما بالخُمْسَين؛ لأن النِّصْفَ والثلُثَ خَمْسَةٌ مِن سِتَّةٍ، فالثُّلُث خُمْساها، فلصاحِبِ العَبْدِ خُمْسا العَبْدِ؛ لأنه وَصِيَّته، ولصاحِبِ النِّصْفِ الخُمْسُ؛ لأنَّه خُمْسا وَصِيَّته. وعلى اخْتِيارِ شيخِنا، قد حَصَل لهما في الإجازَةِ الثُّلُثانِ، ونِسْبَة الثُّلثِ إليهما بالنِّصْفِ، فلكلِّ واحِدٍ منهما ممّا حَصَل في الإجازَةِ نِصْفُه، وقد كان لصاحِبِ النِّصْف مِن المائَتَين نِصْفُها، فله رُبْعُها، وكان له مِن العَبْدِ ثُلثه، فصار له سُدْسُه، وكان لصاحِبِ العَبْدِ ثُلُثاه، فصار له ثُلُثه. فصل: فإن كانتِ المسألةُ بحالِها، ومِلْكُه غيرَ العَبْدِ ثَلاثُمائةٍ، ففي الإجازَةِ لصاحِبِ النِّصْفِ مائةٌ وخَمْسُون وثُلُثُ العَبْدِ، ولصاحِبِ العَبْدِ ثُلُثاه. وفي الرَّدِّ، لصاحِبِ النِّصْفِ تُسْعا المالِ كلِّه، ولصاحِبِ العَبْدِ أربعةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أتْساعِه على الوَجْهِ الأوَّلِ. وعلى اخْتِيارِ شيخِنا، لصاحِبِ العَبْدِ ثُلُثه وخُمْسُ تُسْعِه، وللآخَرِ تُسْعُه وثُلُثُ خُمْسِه، ومِن المالِ ثَمانُونَ، وهو رُبْعُها وسُدْسُ عُشْرِها. وإن وَصَّى لرجلٍ بجَمِيعِ مالِه، ولآخَرَ بالعَبْدِ، ففي الإجازَةِ، لصاحِبِ العَبْدِ نِصْفُه، والباقِي كلُّه للآخَرِ. وفي الردِّ، يُقْسمُ الثُّلثُ بينَهما على خَمْسَةٍ، لصاحِبِ العَبْدِ خُمْسُه، وهو رُبْعُ العَبْدِ وسُدْسُ عُشْرِه، وللآخَرِ أربعةُ أخْماسِه، فله مِن العَبْدِ مِثْلُ ما حَصَل لصاحِبِه، ومِن كلِّ مائةٍ مثلُ ذلك (¬1)، وهو ثَمانون. فصل: فلو خَلَّفَ عَبْدًا قِيمَتُه مائة، ومائَتَين، ووَصَّى لرجلٍ بمائةٍ وبالعَبْدِ كلِّه، ووَصَّى بالعَبْدِ لآخرَ، ففي حالِ الإجازَةِ يُقْسمُ العَبْدُ بينَهما نِصْفَين، ويَنْفَرِدُ صاحِبُ المائةِ بنِصْفِ الباقِي. وفي الرَّدِّ، للمُوصَى له بالعَبْدِ ثُلُثُه، وللآخَرِ ثُلُثٌ وثُلُثُ المائةِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، لصاحِبِ العَبْدِ رُبْعُه، وللآخَرِ رُبْعُه ونِصْفُ المائةِ، يرْجِعُ كلُّ واحِدٍ منهما إلى نِصْفِ نَصِيبِه. فإن لم تَزِدِ الوَصِيَّتان على الثُّلُثِ، كرجلٍ خَلَّف خَمْسَمائةٍ وعَبْدًا قِيمَتُه مائة، ووَصَّى بسُدْسِ مالِه لرجلٍ، ولآخَرَ بالعَبْدِ، فلا أثَرَ للرَّدِّ هاهُنا، ويَأخُذُ صاحِبُ المُشاعِ سُدْسَ المالِ وسُبْعَ العَبْدِ، وللآخَرِ سِتةُ أسْباعِه. فإن وَصَّى لصاحِبِ المُشاعِ بخُمْسِ المالِ، فله مائةٌ وسُدْسُ العَبْدِ، ولصاحِبِ العَبْدِ خَمْسَةُ أسْداسِه. ولا أثَرَ للرَّدِّ أيضًا؛ لأن الوَصِيَّتين لا تَزِيدُ على ثُلُثِ المالِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2746 - مسألة: (وإن وصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمائة، ولثالث بتمام الثلث على المائة، فلم يزد الثلث على المائة)

وإنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ، وَلِثَالِثٍ بِتَمَامِ الثُّلُثِ عَلَى الْمِائَةِ، فَلَمْ يَزِدِ الثُّلُثُ عَلَى الْمِائَةِ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ التَّمَامِ، وَقَسَمْتَ الثُّلُثَ بَينَ الْآخَرَين عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتهِمَا. وإنْ زَادَ عَلَى الْمِائَةِ، فَأجَازَ الْوَرَثَة، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا قَال الْمُوصِي. وَإنْ رَدُّوا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ وصِيَّتهِ عِنْدِي. وَقَال الْقَاضِي: لَيسَ لِصَاحِبِ التَّمَامِ شَيْءٌ حَتَّى تَكْمُلَ الْمِائَةُ لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ يَكُون ـــــــــــــــــــــــــــــ 2746 - مسألة: (وإن وَصَّى لرجلٍ بثُلُثِ مالِه، ولآخَرَ بمائةٍ، ولثالِثٍ بتَمامِ الثُّلُثِ على المائةِ، فلم يَزِدِ الثُّلُث على المائةِ) وذلك إذا كان المالُ ثَلاثمائةٍ (بَطَلَتْ وصيةُ صاحِبِ التَّمامِ) لأنه لم يُوصِ له بشيءٍ، أشْبهَ ما لو أوْصَى له بدارِه وليس له دار، ويُقْسَمُ الثُّلُثُ في حالِ الرَّدِّ بينَ الوَصِيَّيْن (على قَدْرِ وصَيَّتهما. وإن زاد) الثُّلُثُ (على المائةِ) بأن يكونَ المالُ ستَّمائةٍ، فأجازُوا (نَفَذَتِ الوصيةُ على ما قال المُوصِي) فيَأخُذُ صاحِبُ الثُّلُثِ مائَتَين، وكل واحدٍ مِن الوَصِيَّين مائةً (وإن رَدُّوا) ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يُرَدُّ كلُّ واحِدٍ منهم إلى نِصْفِ وصيته، لأنَّ الوصايا رَجَعَتْ إلى نِصْفِها، فيَدْخُلُ النَّقْصُ على كلِّ واحدٍ بقَدْرِ ما لَه في الوصيةِ،

لَهُ مَا فَضَلَ عَنْهَا. وَيَجُوزُ أن يُزَاحِمَ بِهِ وَلَا يُعْطِيَهُ، كَوَلَدِ الْأبِ مَعَ وَلَدِ الْأبَوَينِ فِي مُزاحَمَةِ الْجَدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ الوصايا. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا. والثانِي، لا شيءَ لصاحِبِ التَّمامِ حتى تَكْمُلَ المائةُ لصاحِبِها، ثم يكونُ الثُّلُثُ بينَ الوَصِيَّين الآخَرَين نِصْفَين، فلا يَحْصُلُ لصاحِبِ التَّمامِ إذا كان المالُ ستَّمائةٍ شيءٌ. اخْتارَه القاضِي؛ لأنه إنما يَسْتَحِقُّ بعدَ تَمامِ المائةِ لصاحِبِها، ولم يَفْضُلْ هاهُنا له شيءٌ. قال: (ويجوزُ أن يُزاحِمَ به) ولا يُعْطَى شيئًا (كوَلَدِ الأبِ مع وَلَدِ الأبوَين في مُزاحَمَةِ الجَدِّ) يُزاحِمُ الجَدَّ بالأخ مِن الأبِ ولا يُعْطِيه شيئًا. فإن كان المالُ تِسْعَمائةٍ ورَدَّ الورثةُ، فعلى الوَجْهِ الأولِ، لصاحِبِ الثُّلُثِ مائة وخَمْسُون، ولصاحِبِ المائةِ خَمْسُون، ولصاحِبِ التمامِ مائة؛ لأن الوصيةَ كانت بالثُّلُثَين، فرَجَعَتْ إلى الثُّلُثِ، فرَدَدْنا كلَّ واحِدٍ منهم إلى نِصْفِ وصيته. وعلى الوَجْهِ الثانِي، لصاحِب المائةِ مائةٌ، لا يَنْقُصُ منها شيءٌ، ولصاحِبِ التَّمامِ خَمْسُونَ. وهذا اختِيارُ القاضي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن تَرَك سِتَّمائة، ووصَّى لأجْنَبِي بمائةٍ، ولآخَرَ بتَمامِ الثُّلُثِ، فلكُلِّ واحدٍ منهما مائة، وإن رَدَّ الأولُ وصيتَه، فللآخَرِ مائة. وإن وَصَّى للأوَّلِ بثَمانِين، وللآخَرِ بباقي الثُّلُثِ، فلا شيءَ للثاني، سواءٌ رَدَّ الأوَّلُ وصيتَه أو أجازَها. وهذا قِياسُ قولِ الشافعيِّ وأهلِ البَصْرَةِ. وقال أهلُ العِراقِ: إن رَدَّ الأوَّلُ، فللثاني مائتان في المَسْألتَين. ولَنا، أنَّ المائَتَين (¬1) لَيسَتْ باقِيَ الثلُثِ، ولا تَتِمتَه، فلا يكونُ مُوصًى بها للثاني، كما لو قَبِل (¬2) الأوَّلُ. ولو وَصَّى لوارِثٍ بثُلُثِه، ولآخَرَ بتَمامِ الثلُثِ، فلا شيءَ للثانِي. وعلى قولِ أهلِ العِراقِ، له الثلُثُ كامِلًا. ¬

(¬1) في م: «المائة». (¬2) في م: «قتل».

باب الوصية بالأنصباء والأجزاء

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْأنْصِبَاءِ وَالْأجْزَاءِ إذَا وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِهِ مَضْمُومًا إِلَى الْمَسْألةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الوصيةِ بالأنصباءِ والأجْزاءِ (إذا وَصَّى) لرجلٍ (بمِثْلِ نَصِيبِ وارِثٍ مُعَيَّنٍ، فله مِثْلُ نَصِيبِه مَضْمُومًا إلى المسألةِ) ومُزادًا عليها. هذا قولُ الجُمْهُورِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعي. وقال مالكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، وزُفَرُ، وداودُ: يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِ المُعَيَّنِ، أو مِثْلَ نَصِيبِ أحَدِهم -إن كانوا يَتَساوَوْنَ- مِن أصْلِ المالِ، غيرَ مَزِيدٍ، ويُقْسَمُ الباقي بينَ الورثةِ؛ لأن نَصِيبَ الوارِثِ قبلَ الوصيةِ مِن أصْلِ المالِ. فلو أوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِه، وله ابنٌ واحدٌ، فالوصيةُ بجَميعِ المالِ، وإن كان له ابْنان، فالوصيةُ بالنِّصْفِ. وإن كانوا ثلاثةً، فله الثُّلُثُ. وقال مالكٌ: إن كانوا يَتَفاضَلُون، نُظِرَ إلى عَدَدِ

2747 - مسألة: (فإذا وصى)

فَإِذَا وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَهُ ابْنَانِ، فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَهُ الرُّبْعُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُم بنتٌ فَلَهُ التُّسْعَانِ. وَإنْ وَصَّى بِنَصِيبِ ابْنِهِ، فَكَذَلِكَ فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُءُوسِهم، فأُعْطِيَ سَهْمًا مِن عَدَدِهم؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ أنْصِبائِهم، لتَفاضُلِهم، فاعْتُبِرَ عَدَدُ رُءوسِهم. ولَنا، أنَّه جَعَل وارِثَه أصْلًا وقاعِدَةً، حُمِل عليه نَصِيبُ المُوصَى له، وجُعِلَ مِثْلًا له، وهذا يُفْضِي إلى أن لا يُزادَ أحَدُهما على صاحِبِه، ومتى أُعْطِيَ مِن أصلِ المالِ، فما أُعْطِيَ مثلَ نَصِيبِه، ولا حَصَلَتِ التَّسْويَةُ به، والعِبارَةُ تَقْتَضِي التّسْويَةَ. 2747 - مسألة: (فإذا وَصَّى) له (بمِثْلِ نَصِيبِ ابنه، وله ابْنانِ، فله الثُّلُثُ، وإن كانوا ثلاثةً فله الرُّبْعُ، وإن كان معهم بِنْتٌ فله التُّسْعان) لأنَّ المسألةَ مِن سَبْعَةٍ، لكلِّ ابنٍ سَهمان، ويُزادُ عليها مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ، سَهْمان، فتَصِيرُ تِسْعَةً، فالاثْنان منها تُسْعاها. 2748 - مسألة: (وإن وَصَّى بنَصِيبِ ابنه، فكذلك في أحَدِ الوَجْهَين) تَصِحُّ الوصيةُ، وتكونُ كما لو وَصَّى بمِثْلِ نَصِيبِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابْنٍ. وهذا قولُ مالكُ، وأهلِ المَدِينَةِ، واللُّؤْلُؤِيِّ (¬1) , وأهلِ البَصْرَةِ، وابنِ أبي لَيلَى، وزُفَرَ، وداودَ. والوَجْهُ الثانِي (لا تَصِحُّ الوصيَّة). وهو الذي ذَكَرَه القاضِي. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وصاحِبَيه؛ لأنَّه أوصَى بما هو حَقٌّ للابْنِ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بدارِ ابني. و: بما يَأخُذُه ابني. ووَجْهُ الأوّلِ، أنَّه أمْكَنَ تصْحِيحُ وصيته بحَمْلِ لَفْظِه على مَجازِه، فصَحَّ، كما لو طَلَّقَ بلَفْظِ الكِنايَةِ أو أعْتَقَ. وبَيانُ إمْكانِ التصْحِيحِ، أنه أمْكَنَ حَذْفُ المُضَافِ وإقامَةُ المُضافِ إليه مُقامَه، أي بمِثْلِ نَصِيبِ ابْني. ولأنَّه لو أوْصَى بجَمِيعِ مالِه، صَحَّ، وإن تَضَمَّنَ ذلك الوصيةَ بنَصِيبِ وَرَثته كلهم. ¬

(¬1) أبو علي الحسن بن زياد الأنصاري مولاهم، الكوفي اللؤلؤي، صاحب أبي حنيفة، نزل بغداد، وصنف، وتصدر للفقه، ولي القضاء بعد حفص بن غياث ثم عزل نفسه. توفي سنة أربع ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 543 - 545. الطبقات السنية في تراجم الحنفية 3/ 59 - 61.

2749 - مسألة: (وإن وصى بضعف نصيب ابنه أو ضعفيه، فله مثله مرتين. وإن وصى بثلاثة أضعافه، فله ثلاثة أمثاله)

وإنْ وَصَّى بِضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِهِ أوْ بِضِعْفَيهِ، فَلَهُ مِثْلُهُ مَرَّتَينِ. وَإنْ وَصَّى بِثَلَاثةِ أضْعَافِهِ، فَلَهُ ثَلَاثةُ أمْثَالِهِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَقَال أصْحَابُنَا: ضِعْفَاهُ ثَلَاثَةُ أمْثَالِهِ، وَثَلَاثةُ أضْعَافِهِ أرْبَعَة أمْثَالِهِ، كُلَّمَا زَادَ ضِعْفًا زَادَ مَرَّةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2749 - مسألة: (وإن وَصَّى بضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِه أو ضِعْفَيه، فله مِثْلُه مَرَّتَين. وإن وَصَّى بثلاثةِ أضْعافِه، فله ثلاثةُ أمْثالِه) قال شيخُنا: (هذا الصَّحِيحُ عندِي. وقال أصحابُنا: ضِعْفاه ثلاثةُ أمْثالِه، وثَلاثةُ أضْعافِه أرْبَعَهُ أمْثالِه، كلَّما زادَ ضِعْفًا زاد مَرةً واحِدَةً) إذا وَصَّى بضِعْفِ نَصِيب ابنه، فله مِثْلا نَصِيبِه. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو عُبيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّام: الضِّعْفُ المِثْلُ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَينِ} (¬1). أي مِثْلَين. وقولِه: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ} (¬2). أي مِثْلَين. وإذا كان الضِّعْفانِ مثْلَين، فالضِّعْفُ مِثْلٌ. ولَنا على أنَّ الضِّعْفَ مِثْلان، قولُه تعالى: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ ¬

(¬1) سورة الأحزاب 30. (¬2) سورة البقرة 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمَمَاتِ} (¬1). وقال: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} (¬2). وقال: {وَمَا آتَيتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (¬3). ويُرْوَى عن عُمَرَ، أنَّه أضْعَفَ الزكاةَ على نَصارَى بَنِي تَغْلِبَ، فكان يَأخُذُ مِن المائَتَين (¬4) عَشَرَةً. وقال لحُذَيفَةَ وعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ (¬5): لعَلكُما حَمَّلْتُما الأرْضَ ما لا تُطِيقُ. فقال عُثْمانُ: لو أضْعَفْتُ عليها لاحْتَمَلَتْ (¬6). قال الأزْهَرِيُّ (¬7): الضِّعْفُ المِثْلُ فما فوقَه. فأمّا قولُه: إنَّ الضِّعْفَين المِثْلان. فقد روَى ابنُ الأنْبارِيِّ، عن هِشَامِ بنِ مُعاويَةَ النَّحْويِّ (¬8)، قال: العَرَبُ تَتَكَلمُ بالضِّعْفِ مُثَنًّى، فتَقُولُ: إن أعْطيتَنِي دِرْهَمًا فلك ضِعْفاه. أي مِثْلاه. وإفْرادُه لا بَأس به، إلَّا أنَّ التثنِيَةَ أحْسَنُ. يَعْنِي أنَّ المُفْرَدَ والمُثَنَّى في هذا بمَعْنًى واحِدٍ، وكِلاهما يُرادُ به المِثْلان، وإذا اسْتَعْمَلُوه على هذا الوَجْهِ وَجَب اتِّباعُهم وإن خَالفْنا القِياسَ. ¬

(¬1) سورة الإسراء 75. (¬2) سورة سبأ 37. (¬3) سورة الروم 39. (¬4) في م: «الثمانين». (¬5) في م: «حنيفة». (¬6) أخرجه أبو عبيد في الأموال 40، 41. (¬7) في: تهذيب اللغة 1/ 480. (¬8) هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي أبو عبد الله، صاحب الكسائي، أخذ عنه، وله مقالة في النحو تعزى إليه، توفي سنة تسع ومائتين. إنباه الرواة 364، 365.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَصَّى له بضِعْفَيه، فله مِثْلُه مَرتَين، وإن قال: ثلاثةُ أضْعافِه. فله ثلاثةُ أمْثالِه. هذا الصحيحُ عندِي. وهو قولُ أبي عُبَيدٍ. وقال أصحابُنا: ضِعْفاه ثلاثةُ أمْثالِه، وثلاثةُ أضْعافِه أرْبَعَةُ أمْثالِه. وعلى هذا، كلَّما زاد ضِعْفًا زاد مَرَّةً واحِدَةً. وهو قولُ الشافعيِّ. واحْتَجُّوا بقولِ أبو عُبَيدَةَ مَعْمَرِ (¬1) بنِ المُثَنَّى: ضِعْفُ الشيءِ هو ومِثْلُه، وضِعْفاه هو ومِثْلاه، وثلاثةُ أضْعافِه أرْبَعةُ أمْثالِه. وقال أبو ثَوْرٍ: ضِعْفاه أرْبَعَةُ أمْثالِه، وثلاثةُ أضْعافِه سِتَّةُ أمْثالِه؛ لأنَّه قد ثَبَت أن ضِعْفَ الشيءِ مِثْلاه، فتَثْنِيَتُه مِثْلَا مُفْرَدِه، [كسائِرِ الأسماءِ] (¬2). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ}. قال عِكْرمَةُ: تَحْمِلُ في كلِّ عام مَرَّتَين. وقال عطاءٌ: أثْمَرتْ في سَنَةٍ مِثْلَ ثَمَرَةِ غيرِها سَنَتَين. ولا خِلافَ بينَ المُفَسِّرِين فيما عَلِمْنا في تَفْسِيرِ قولِه تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَينِ}. أنَّ المُرادَ به مَرَّتَين. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ} (¬3). ومُحالٌ أن يَجْعَلَ أجْرَها على العَمَلِ الصالح مَرَّتَينِ وعَذابَها على الفاحِشَةِ ثلاثَ مَرّاتٍ، فإنَّ الله تعالى إنَّما يُرِيدُ تضْعِيف الحَسَناتِ على السَّيِّئاتِ، هذا المَعْهُودُ مِن كَرَمِه وفَضْلِه. وأمَّا قولُ أبي عُبَيدَةَ فقد خالفَه فيه غيرُه وأنْكَرَ قولَه، قال ابنُ عَرَفَة (¬4): لا أحِبُّ قولَ ¬

(¬1) في م: «مسعر». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة الأحزاب 31. (¬4) الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، أبو علي المحدث الثقة المؤدب، مسند وقته. ولد سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة سبع وخمسين ومائتين. سير أعلام النبلاء 11/ 547 - 551.

2750 - مسألة: (وإذا وصى)

وَإنْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أحدِ وَرَثَتِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ مَا لأقَلِّهِمْ نَصِيبًا، فَلَوْ كَانُوا ابْنًا وَأربَعَ زَوْجَاتٍ، صَحَّتْ مِنَ اثْنَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي عُبَيدَةَ في: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَينِ}؛ لأنّ اللهَ تعالى قال في آيَةٍ أخْرَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ}. فأعْلَمَ أن لها مِن هذا حَظَّين ومن هذا حَظَّين. وقد نَقَل هِشام بن مُعاويَةَ النَّحْويُّ عن العَرَبِ، أنَّهم يَنْطِقونَ بالضِّعْفِ مُثَنًّى ومُفْرَدًا بمَعْنًى واحِدٍ، ومُوافَقَة العَرَبِ على لِسانِهم، مع ما دَلَّ عليه كلام الله تعالى العَزِيز وأقوالُ المُفَسِّرِين مِن التّابِعِين وغيرِهم، أوْلَى مِن قولِ أبي عُبَيدَةَ المخالِفِ لذلك كلِّه، مع مُخالفَةِ القِياسِ، ونِسْبةُ الخَطَأ إليه أوْلَى مِن تَخْطِئَةِ ما ذَكَرْناه. وأمّا قول أبي ثَوْرٍ، فظاهِرُ الفَسادِ؛ لِما فيه مِن مُخالفَةِ الكِتابِ والعَرَب وأقوالِ المُفَسِّرِين مِن التّابِعِين وغيرِهم وأهلِ العَرَبِيَّةِ، فلا يجوز التَّمسُّك بمُجَردِ القِياسِ المخالِفِ للنَّقْلِ، فقد شَذَّ مِن العربيَّةِ كَلِماتٌ تؤْخَذُ نَقْلًا بغيرِ قِياس. فصل: ولو وَصَّى بمِثلِ نَصِيبِ مَن لا نَصِيبَ له، كمَن يُوصِي بمِثْلِ نَصِيبِ ابنِه، وهو لا يَرِث؛ لرِقِّه أو كونِه مُخالِفًا لدِينه، أو بنَصِيبِ أخيه، وهو مَحْجُوبٌ عن مِيراثِه، فلا شيءَ للوَصِيِّ؛ لأنَّه لا نَصِيبَ له، فمِثْلُه لا شيءَ (¬1). 2750 - مسألة: (وإذا وَصَّى) له (بمِثْلِ نَصِيبِ أحَدِ وَرَثَتِه، ولم يُسَمِّه، كان له مِثْل ما لأقَلِّهم نَصِيبًا، فلو كانوا ابنًا وأرْبَعَ زَوْجاتٍ، ¬

(¬1) أي لا شيء له.

وَثَلَاثِينَ، لِكُلِّ زَوْجَةٍ سَهْمٌ، وَلِلْوَصِيِّ سَهْمٌ يُزَادُ عَلَيهَا، فَتَصِيرُ مِنْ ثَلَاثةٍ وَثَلَاثينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتْ مِن اثْنَين وثَلاثين) سَهْمًا (لكلِّ امرأةٍ سَهْمٌ، وللمُوصَى له سَهْمٌ، يُزادُ عليها) فتَصِحُّ (مِن ثَلاثةٍ وثَلاثين) سَهْمًا، للوَصِيِّ (¬1) سَهْمٌ، ولكلِّ امرأةٍ سَهْمٌ، والباقِي للابنِ. وجملةُ ذلك، أنَّه إذا وَصَّى بمِثْلِ نَصِيبِ أحَدِهم غيرَ مُسَمًّى، فإن كان الورثةُ يَتَساوَوْن في المِيراثِ؛ كالبَنِينَ، فله مِثْلُ نَصِيبِ أحَدِهم، مُزادًا على الفريضةِ، ويُجْعَلُ كواحِدٍ منهم زاد فيهم. وإن كانوا يَتَفاضَلُون، كهذه المسألةِ، فله مِثْلُ نصِيبِ (¬2) أقَلِّهم مِيرَاثًا، يُزادُ على فَرِيضَتِهم. هذا قولُ الجُمْهُورِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: إن كانوا يَتَفاضَلُون، نُظِر إلى عَدَدِ رُءوسِهم، فأُعْطِيَ سَهْمًا مِن عَدَدِهم؛ لأنه لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ أنْصِبائِهم؛ لِتفاضُلِهم، فاعْتُبِرَ عَدَدُ رُءوسهم. ولَنا، أنَّ اليَقِينَ أن يُعْطَى الوَصِي مِثْلَ أقَلِّهم نَصِيبًا، وما زاد مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَثْبُتُ مع الشكِّ. وقولُه: يُعْطَى سَهْمًا مِن عَدَدهم. مُخالِفٌ لِما يَقْتَضِيه لَفْظُ المُوصِي؛ لأنَّه ليس بنصِيبِ أحَدِ وَرَثَتِه، ولَفْظُه إنَّما اقْتَضَى نَصِيبَ أحَدِهم، وتَفَاضُلُهم لا يَمْنَعُ كونَ نَصِيبِ الأقَلِّ نَصِيبَ أحَدِهم، فيَصْرِفُه إلى الوَصِيِّ، عَمَلًا بمُقْتَضَى وصيته، وذلك أوْلَى مِن اخْتِراعِ شيءٍ لا يَقْتَضِيه قولُ المُوصِي أصْلًا. وقولُه: تَعَذَّرَ العَمَلُ بقولِ المُوصِي. مَمْنُوعٌ، فقد أمْكَنَ العَمَلُ به بما ¬

(¬1) في م: «للموصى». (¬2) سقط من: م.

2751 - مسألة: (ولو وصى)

وَإنْ وصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ لَوْ كَانَ، فَلَهُ مِثْلُ مَا لَهُ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَهُوَ مَوْجُودٌ. فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أرْبَعَةَ بَنِينَ فَلِلْوَصِيِّ السُّدْسُ، وَإنْ كَانُوا ثَلَاثةً فَلَهُ الْخُمْسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْناه، ثم لو تَعَذَّر العَمَلُ به، لم يَجُزْ أن يَجِبَ في مالِه حَقٌّ لم يَأذَنْ فيه ولم يَأمُرْ به. ولو قال: أوْصَيتُ بمِثْلِ نَصِيبِ أقَلِّهم ميِراثًا. كان كما لو أطْلَقَ، وكان ذلك تَأكيدًا. وإن قال: أوْصَيتُ بمِثْلِ نَصِيبِ أكثَرهم مِيراثًا. فله ذلك مُضافًا إلى المسألةِ، فيكونُ له في هذه المسألةِ ثَمانِيَة وعِشْرُون، تُضَمُّ إلى المسألةِ فتكونُ سِتِّين سَهْمًا. 2751 - مسألة: (ولو وَصَّى) له (بمِثْلِ نَصِيبِ وارِثٍ لوكان، فله مِثْلُ ما لَه لو كانتِ الوصيةُ وهو مَوْجُودٌ) فقَدِّرِ الوارِثَ مَوْجُودًا، وانْظُرْ ما للمُوصَى له مع وُجُودِه، فهو له مع عَدَمِه. فإن خَلَّفَ ابنين، ووَصَّى بمِثْلِ نَصِيبِ ثالِثٍ لو كان، فللْمُوصَى له الربْعُ. وإن خلَّف ثلاثةَ بنين، فله الخُمْسُ، وإن وَصَّى بمِثْلِ نَصِيبِ خامِس لو كان، فللمُوصَى له السُّدْسُ. وعلى هذا أبدًا. فلو خَلَّفَتِ امرأةٌ زَوْجًا وأخْتًا، وأوْصَتْ بمِثْلِ نَصِيبِ أُمٍّ لو كانت، فللمُوصَى له الخُمْسُ؛ لأنَّ للأُمِّ الرُّبْعَ لو كانت،

2752 - مسألة: فإن خلف أربعة بنين (فأوصى بمثل نصيب خامس لو كان إلا مثل نصيب سادس لو كان، فقد أوصى له بالخمس إلا السدس بعد الوصية، فله سهم يزاد على ثلاثين، وتصح من اثنين وستين، له سهمان، ولكل ابن خمسة عشر)

ولَوْ كَانُوا أرْبَعَةً فَأوْصَى بِمثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ إلَّا مِثْلَ نصِيبِ سَادِس لَوْ كَانَ، فَقَدْ أوْصَى بِالْخُمْسِ إلا السُّدْسَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَيَكُونُ لَهُ سَهْمٌ يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا، وَتَصِحُّ مِنَ اثْنَين وَسِتِّينَ، لَهُ مِنْهَا سهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةَ عَشَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُجْعَلُ له سَهْمٌ مُضافٌ إلى أربعةٍ، يكنْ خُمْسًا، فَقِسْ على ذلك. 2752 - مسألة: فإن خَلَّفَ أرْبعةَ بَنِينَ (فأوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِ خامِسٍ لو كان إلَّا مِثْلَ نَصِيبِ سادِسٍ لو كان، فقد أوْصَى له بالخُمْسِ إلَّا السُّدسَ بعدَ الوصيةِ، فله سَهْمٌ يُزادُ على ثَلاثينَ، وتَصِحُّ مِن اثْنَين وسِتِّين، له سَهْمان، ولكلِّ ابنٍ خَمْسَةَ عَشَرَ) لأنَّه اسْتَثْنَى السُّدْسَ مِن الخُمْسِ فطَرِيقُها أن تَضْرِبَ مَخْرَجَ أحَدِهما في مَخْرَجِ الآخَرِ، تكنْ ثَلاثين، خُمْسُها سِتَّة، وسُدْسها خمْسَة، فإذا اسْتَثْنَيتَ الخَمْسَةَ مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّتَّةِ، بَقِيَ سَهْمٌ للمُوصَى له، فزِدْه على الثَّلاثينَ [تَصِرْ واحِدًا] (¬1) وثلاثين، فأعْطِ المُوصَى له سَهْمًا، يبقَى ثَلاثُون على أرْبعةٍ، لا تَنْقَسِمُ، وتُوافِقُ بالنِّصْفِ، فَرُدَّها (¬2) إلى خَمْسَةَ عَشرَ، واضْرِبْها في أربعةٍ، تكنْ سِتِّين، زِدْ عليها سَهْمَين للمُوصَى له، ولكلِّ ابْن خَمْسَةَ عَشَرَ. وطَرِيقُها بالجَبْرِ أن تَجْعَلَ المال أربعةً وشَيئًا، تَدْفَعُ الشئَ إلى المُوصَى له، يبقَى أربعةٌ تَقْسِمُها على خَمْسَةٍ، يَخْرُجُ أربعةُ أخْماس، وتَقْسِمُها على سِتَّةٍ، يَخْرُجُ ثُلُثانِ، فتُسْقِطُ الثُّلُثَين مِن أربعةِ الأخْماسِ، يبقَى سَهْمان مِن خَمْسَةَ عَشَرَ، ثم تَضْرِبُ الأربعةَ الأسْهُمَ في الخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لأنها مَخْرَجُ الثُّلُثِ [والخُمْسِ] (¬3)، تكنْ سِتِّين، تَزِيدُ عليها السَّهْمَين، فهي للمُوصَى ¬

(¬1) في الأصل: «فتصر أحد». (¬2) في م: «فزدها». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له، ولكلِّ ابن خَمْسَةَ عَشَرَ، فقد حَصَل له خمسُ السِّتين إلا سُدْسَها، الخمسُ اثْنا عَشرَ، والسُّدْس عَشَرَةٌ. فصل: إذا خَلَّفِ بِنْتًا وَحْدَها، ووَصَّى بمِثْلِ نَصِيبِها، فهو كما لو وَصَّى بنَصِيبِ ابْنٍ عندَ مَن يَرَى الرَّدَّ؛ لأنَّه يَأخُذ المال كلَّه بالفَرْضِ والرَّدِّ، ومَن لا يَرَى الردَّ يَقْتَضِي قَوْله أن يكونَ له الثلث ولها نِصْف الباقِي، وما بَقِيَ لبَيتِ المالِ. وعلى قولِ مالكٍ ومَن وافَقَه، للموصَى له النصْف في حالِ الإجازَةِ، ولها نِصْف الباقِي، وما بَقِيَ لبيتِ المالِ. فإن خَلَّفَ ابنتَين، ووَصَّى بمِثْل نَصِيب إحْداهما، فهي مِن ثلاثةٍ عِندَنا. ويَقْتَضِي قولُ مَن لا يَرَى الرَّدَّ أنَّها مِن أَربعةٍ، لبَيتِ المالِ الرُّبْعُ، ولكلِّ واحِدٍ منهم الربْعُ. وعلى قولِ مالكٍ، الثُّلث للموصَى له، وللبِنْتَين ثُلثا ما بَقِيَ، والباقِي لبَيتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالِ، وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. فإن خَلَّفَ جَدَّةً وحدَها، وأوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِها، فقِياسُ قَوْلِنا أن المال بينَهما نِصْفَين. وعلى قولِ مَن لا يَرَى الرَّدَّ، هي مِن سَبْعَةٍ , لكلِّ واحِدٍ منهما السُّبْعُ، والباقِي لبَيتِ المالِ. وقِياسُ قولِ مالكٍ أنَّ للمُوصَى له السُّدْسَ، وللجَدَّةِ سُدْسَ ما بَقِيَ، والباقِي لبيتِ المالِ. فصل: إذا خَلَّفَ ثلاثةَ بَنِين، وَوَصَّى لثلاثةٍ بمِثْلِ أنْصِبائِهم، فالمالُ بينَهم على سِتَّةٍ إن أجازُوا، وإن رَدُّوا فمِن تِسْعَةٍ، للمُوصَى لهم الثُّلُثُ ثلاثةٌ. والباقِي بينَ البَنِينَ على ثلاثةٍ. فإن أجازُوا لواحِدٍ ورَدُّوا على اثْنَين، فللمَرْدُودِ عليهما التُّسْعانِ اللَّذانِ كانا لهما في حالِ الرَّدِّ عليهم. وفي المُجازِ له وَجْهان؛ أحَدُهما، له السُّدْسُ الذي كان له في حالِ الإجازَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للجَمِيعِ. وهذا قول أبي يوسُفَ، وابنِ سُرَيجٍ (¬1). فيَأخُذُ السُّدْسَ والتُّسْعَين مِن مَخْرَجهما، وهو ثَمانِيَةَ عَشَرَ، [يَبقَى أحَدَ عَشَرَ] (¬2) بينَ البَنِينَ على ثلاثةٍ، لا تَصِحُّ، فتَضْرِبُ عَدَدَهم في ثَمانِيَةَ عَشَرَ، تكنْ أربعةً وخَمْسِين، للمُجازِ له السُّدْسُ تِسْعَةٌ، ولكلِّ واحِدٍ مِن صاحِبَيه سِتَّةٌ، ولكلِّ ابن أحَدَ عَشَرَ. والوَجْهُ الثانِي، أن تَضُمَّ المُجازَ له إلى البَنِينَ، وتَقْسِمَ الباقِيَ بعدَ التسْعَين عليهم، وهم أربعةٌ، لا تَنْقَسِمُ، فتضْرِبُ في تِسْعَةٍ، تكُنْ سِتةً وثَلاثين، فإن أجاز الورثةُ بعدَ ذلك للآخَرِينَ، أتَمُّوا لكلِّ واحِدٍ منهم تَمامَ سُدْسِ المالِ، فيَصِيرُ المالُ بينَهم أسْداسًا على الوَجْهِ الأولِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يَضُمُّونَ ما حَصَل لهم، وهو أحَدٌ وعِشْرُون مِن سِتة وثَلاثين، إلى ما حَصَل لهما وهو ثَمانِيَة، ثم يَقْتَسِمُونَه بينَهم على خَمْسَةٍ، لا تَصِحُّ، فتَضْرِبُ خمسةً في سِتةٍ وثَلاثين، تكنْ مائةً وثَمانِين، ومنها تَصِحُّ. فإن أجاز أحَدُ البَنِينَ لهم، ورَدَّ الآخَرَان عليهم، فللمُجِيزِ السُّدْسُ، وهو ثلاثةٌ مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ، وللَّذَين لم يُجِيزَا أربَعةُ أتْساعِه ثَمانِيَةٌ، يَبقَى سَبْعَةٌ بينَ المُوصَى لهم على ثلائةٍ، نضْرِبُها في ثَمانِيَةَ عَشَرَ، ¬

(¬1) في م: «شريح». (¬2) سقط من النسختين، وانظر المغني 8/ 432.

فصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْأجْزَاءِ: إِذَا أوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ أوْ حَطٍّ أوْ نَصِيبٍ أوْ شَيْءٍ، فَلِلْوَرَثَةِ أن يُعْطُوهُ مَا شَاءُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تكنْ أربعةً وخَمْسِين، فإن أجاز واحِدٌ لواحِدٍ، دَفَع إليه ثُلُثَ ما في يَدِه مِن الفَضْلِ، وهو ثُلُثُ سَهْم مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ، فاضْرِبْها في ثلاثةٍ، تكنْ أربعة وخَمْسِينَ. واللهُ أعلمُ. فصل في الوصية بالأجْزاءِ: (إذا وَصَّى له بجُزْءٍ أو حَظٍّ أو نَصِيبٍ أو شيءٍ، فللورثةِ أن يُعْطُوه ما شاءُوا) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وابنِ المُنْذِرِ، وغيرِهم، لأنَّ كلَّ ما يُعْطُونَه جُزْءٌ وشيءٌ وحَظٌّ ونَصِيبٌ. وكذلك إن قال: أعْطُوا فلانًا مِن مالِي. أو: ارْزُقوه. لأنَّ ذلك لا حدَّ له في اللُّغَةِ ولا في الشَّرْعِ، فكان على إطْلاقِه.

2753 - مسألة: (وإن وصى له بسهم من ماله، ففيه ثلاث روايات؛ إحداهن، له السدس بمنزلة سدس المفروض إن لم تكمل فروض المسألة، أو كانوا عصبة أعطي سدسا كاملا، وإن كملت فروضها، أعيلت به، وإن عالت أعيل معها. والثانية، له سهم مما تصح منه المسألة ما لم يزد على السدس. والثالثة، له مثل نصيب أقل الورثة ما لم يزد على السدس)

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إِحْدَاهُنَّ، لَهُ سُدْسٌ بِمَنْزِلَةِ سُدْسٍ مَفْرُوضٍ إِنْ لَمْ تَكْمُلْ فُرُوضُ الْمَسْألةِ، أوْ كَانُوا عَصَبَةً أُعْطِيَ سُدْسًا كَامِلًا، وَإنْ كَمَلَتْ فُرُوضُهَا أُعِيلَتْ بِهِ، وإنْ عَالتْ أُعِيلَ مَعَهَا. وَالثَّانِيَةُ، لَهُ سَهْمٌ مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْألةُ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدْسِ. وَالثَّالِثَةُ، لَهُ مِثْلُ نصِيبِ أقَلِّ الْوَرَثَةِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدْسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2753 - مسألة: (وإن وَصَّى له بسَهْم مِن مَالِه، ففيه ثلاث رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، له السُّدْسُ بمَنْزِلَةِ سُدْسِ المَفْرُوضِ إن لم تَكْمُلْ فُرُوضُ المسألةِ، أو كانوا عَصبَةً أُعْطِيَ سُدْسًا كامِلًا، وإن كَمَلَتْ فُرُوضُها، أُعِيلَتْ به، وإن عالتْ أُعِيلَ معها. والثانيةُ، له سَهْمٌ ممَّا تَصِحُّ منه المسألةُ ما لم يَزِدْ على السُّدْسِ. والثالثةُ، له مِثْلُ نَصِيبِ أقَلِّ الورثةِ ما لم يَزِدْ على السُّدْسِ) اخْتَلَفَتِ الروايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في مَن أوْصَى بسَهْمٍ مِن مالِه، فرُوىَ عنه، أنَّ للمُوصَى له السُّدْسَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِيَ ذلك عن (¬1) عليٍّ، وابنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ الله عنهما. وبه قال الحسنُ، وإياسُ بنُ مُعاويَةَ، والثّوْرِيُّ. والروايةُ الثانيةُ، أنَّه يُعْطىَ سَهْمًا ممّا تَصِحُّ منه الفَرِيضَةُ، فيُنْظرُ كم سهْمًا صَحَّتْ منه الفريضةُ، فيُزادُ عليها مِثْلُ سَهْمٍ مِن سِهامِها للمُوصَى له. وهذا قولُ شُرَيحٍ، قال: تُرْفَعُ السِّهامُ، فيكونُ للمُوصَى له سَهْمٌ (¬2). قال القاضِي: هذا ما لم يَزِدْ على السُّدْسِ، فإن زاد السَّهْمُ على السُّدْسِ، فله السُّدْسُ؛ لأنَّه مُتَحَقِّقٌ. وَوَجْهُ ذلك أنَّ قَوْلَه: سَهْمًا. يَنْصَرِفُ إلى سِهامِ فَرِيضَتِه؛ لأنَّ وصيَّتَه منها، فيَنْصَرِفُ السَّهْمُ إليها، فكان واحِدًا مِن سِهَامِها، كما لو قال: فَرِيضَتِي كذا وكذا سَهْمًا، لك منها سَهْمٌ. والثالثةُ، له سَهْمٌ مِن سِهامِ أقَلِّ الورثةِ. اخْتارَها الخَلَّالُ وصاحِبُه. قال أحمدُ، في رِوايةِ أبي طالِبٍ والأثْرَمِ: إذا أوْصَى له بسَهْمٍ مِن مالِه، يُعْطَى سهْمًا مِن الفريضةِ. قِيلَ: أنَصِيبُ رجلٍ أو نَصِيبُ امرأةٍ؟ فقال: أقَلُّ ما يكونُ مِن السِّهامِ. قال القاضي: ما لم يَزِدْ على السُّدْسِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وقال صاحِباه: إلَّا أن يَزِيدَ على الثُّلُثِ، فيُعْطىَ الثُّلُثَ. ووَجهُ هذا القولِ أنَّ سِهامَ الورثةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 11/ 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْصِباؤهم، فيكونُ له أقَلُّها؛ لأنَّه اليَقِينُ، فإذا زاد على السُّدْسِ، دُفِع إليه السُّدْسُ، لأنَّه أقَلُّ سَهْمٍ يَرِثُه ذو قَرابَةٍ. وقال أبو ثَوْرٍ: يُعْطَى سَهْمًا مِن أرْبعةٍ وعِشْرِين؛ لأنَّها أكثَرُ أصُولِ الفَرائِضِ، فالسَّهْمُ منها أقَلُّ السِّهامِ. وقال الشافعيّ، وابنُ المُنْذِرِ: يُعْطِيه الورثةُ ما شاءُوا؛ لأنَّ ذلك يَقَعُ عليه اسْمُ السَّهْمِ، فأشْبَهَ ما لو وَصَّى له بجُزْءٍ أو حَظٍّ. وقال عَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ: لا شيءَ له. ولَنا، ما رَوى ابنُ مسعودٍ، أنَّ رجلًا أوْصَى لرجلٍ بسَهْم مِن المالِ، فأعْطاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّدْسَ (¬1). ولأنَّ السَّهْمَ في كلامِ العَرَبِ السُّدْسُ. قاله إياسُ بنُ مُعاويَةَ، فتَنْصَرِفُ الوصيةُ إليه، كما لو لَفَظ به، ولأنَّه قولُ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، ولا مُخالِفَ لهما في الصحابةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ السُّدْسَ الذي يَسْتَحِقُّه المُوصَى له يكونُ بمَنْزِلَةِ سُدْسٍ مَفْرُوضٍ، فإن كانتِ المسألةُ كامِلةَ الفُرُوضِ، أُعِيلَتْ به، وإن كانت عائِلَةً، زاد عَوْلُها به. وإن كان فيها رَدٌّ أو كانوا عَصَبَةً، أُعْطِيَ سُدْسًا كامِلًا. قال أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ، وحَرْبٍ: إذا أوْصَى لرجلٍ بسَهْمٍ مِن مالِه، يُعْطَى السُّدْسَ، إلَّا أن تعُولَ الفريضةُ، فيُعْطَى سَهْمًا مع العَوْلِ. فكأنَّ مَعْنَى الوصيةِ: أوْصَيتُ لك بسَهْمِ مَن يَرِثُ ¬

(¬1) أورده الهيثمي بلفظين قريبين وعزا الأول إلى البزار، والثاني إلى الطبراني في الأوسط، وقال: فيهما محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 213 وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا على ابن مسعود، في: المصنف 11/ 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسَ. فإن وَصَّى له بسَهْمٍ في (¬1) مسألةٍ فيها زَوْجٌ وأخْتٌ، كان له السُّبْعُ، كما لو كان معهما (¬2) جَدَّةٌ، على الرواياتِ الثلاثِ. وكذلك لو كان في المسألةِ أُمٌّ وثلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ (¬3)، فإن كان معهم زوجٌ، فالمسألةُ مِن تِسْعَةٍ، وللمُوصَى له العُشْرُ. وإن كان الورثةُ ثلاثَ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، فللمُوصَى له السُّدْسُ، على الرِّواياتِ الثلاثِ. وإن كانوا زوجًا وأبوَين وابنتَين، فالمسألةُ مِن خَمْسَةَ عَشَرَ، وتَعُولُ بسُدْسٍ آخَرَ إلى سَبْعَةَ عَشَرَ، وكذلك على قولِ الخَلَّالِ؛ لأنَّ أقَلَّ سِهامِ الورثةِ سُدْسٌ. وعلى الرِّوايةِ الأخْرَى، يكونُ للوصِيِّ سَهْمٌ واحِدٌ، يُزادُ على المسألةِ، فتَصيرُ سِتَّةَ عَشَرَ. وإن كانوا زوجةً وأبوَين وابْنًا، فالفريضةُ مِن أربعةٍ وعِشْرِين، وتَعُولُ بالسُّدْسِ المُوصَى به إلى ثمانيةٍ وعِشْرِين. وعلى الرِّوايةِ الثانيةِ، يُزادُ عليها سَهْم واحِدٌ للمُوصَى له، فتكونُ مِن خَمْسَةٍ وعِشْرِين. وعلى الرِّوايةِ الثالثةِ التي اخْتارَها الخَلَّالُ، يُزادُ عليها مِثْلُ سَهْمِ الزوجةِ (¬4) ¬

(¬1) في الأصل: «من». (¬2) في م: «معها». (¬3) في م: «متفرقات». (¬4) في الأصل: «للزوجة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةٌ، فتكونُ مِن سَبْعَةٍ وعِشرِين. وإن كانوا خَمْسَةَ (¬1) بَنِينَ، [فللمُوصَى له] (¬2) السُّدْسُ كامِلًا، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ على الرِّواياتِ الثلاثِ. فإن كان معهم زَوجةٌ، صَحَّتِ الفريضةُ مِن أرْبَعِين، فتزِيدُ عليها سَهْمًا للوَصِيِّ، على إحْدَى الرِّواياتِ، فتصيرُ أحَدًا (¬3) وأرْبَعِين. وعلى قولِ الخَلَّالِ، تَزِيدُ مِثْلَ نَصِيبِ الزوجةِ، فتصِيرُ خَمْسَةً وأرْبَعِين. وعلى الروايةِ الأولَى، تَزِيدُ عليها مثلَ سُدْسِها، ولا سُدْسَ لها صحيحًا، فتَضْرِبُها في سِتَّةٍ ثم تَزِيدُ عليها سُدْسَها، تكونُ مائَتَين وثَمانِين؛ للوصِيِّ أرْبَعُونَ، وللزوجةِ ثَلاثُون، ولكلِّ ابنٍ اثْنان وأرْبَعُون، وتَرْجِعُ بالاخْتِصارِ إلى مائةٍ وأرْبَعِين. والذي يَقْتَضِيه القِياسُ فيما إذا وَصَّى بسَهْمٍ مِن مالِه، أنَّه إن صَحَّ أنَّ السَّهْمَ في لسانِ العَرَبِ السُّدْسُ، أو صَحَّ الحديثُ المَذْكُورُ، فهو كما لو وَصَّى له بسُدْسِ مالِه، وإلَّا فهو كما لو وَصَّى له بجُزْءٍ مِن مالِه على ما اخْتارَه الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، أنَّ الورثةَ يُعْطُونَه ما شاءُوا. والأوْلَى أنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فللوصى». (¬3) في الأصل: «إحدى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن ثَبَت أنَّ السَّهمَ في كلامِ العرب يُرادُ به السُّدْسُ، فالحُكْمُ في ذلك كما لو وَصَّى بالسُّدْسِ سواءً، وإن لم يَثْبُتْ ذلك، أُعْطِيَ مثلَ سَهْمِ أقَلِّ الورثةِ. وهو اختِيار الخَلَّالِ [وصاحِبه] (¬1). وإحْدَى الرِّوايات عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

2754 - مسألة: (وإن وصى بجزء معلوم، كثلث أو ربع، أخذته من مخرجه فدفعته إليه، وقسمت الباقي على مسألة الورثة، إلا أن يزيد على الثلث ولا يجيزوا له، فتفرض له الثلث، وتقسم الثلثين عليها)

وَإنْ وَصَّى لَهُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، كَثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ، أَخَذتَهُ مِنْ مَخْرَجِهِ فَدَفَعْتَهُ إلَيهِ، وَقَسَمْتَ الْبَاقِي عَلَى مَسْألَةِ الْوَرَثَةِ، إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا يُجِيزُوا لَهُ، فَتَفْرِضَ لَهُ الثُّلُثَ، وَتَقْسِمَ الثُّلُثَينِ عَلَيهَا. وَإنْ وَصَّى بِجُزْأَينِ أَوْ أَكثَرَ، أَخَذْتَهَا مِنْ مَخْرَجِهَا، وَقَسَمْتَ الْبَاقِي عَلَى الْمَسْألةِ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ وَرَدَّ الْوَرَثَةُ، جَعَلْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فلو خَلَّفَ أبَوَين وابْنَتَين، ووَصَّى لرجل بسُدْسِ مالِه، ولآخَرَ بسَهْم منه، جَعَلْتَ ذا السَّهْمِ كأحَدِ الأبَوَين، وأعْطَيتَ صاحِبَ السُّدْسِ سُدْسًا كامِلًا، وقَسمْتَ الباقِيَ بينَ الورثةِ والوَصِيِّ على سَبْعَةٍ، فتَصِحُّ مِن اثْنَين وأرْبَعِين، لصاحِبِ السُّدْسِ سَبْعَة، ولصاحِبِ السَّهْمِ خمْسَة، على الرِّواياتِ الثلاثِ. ويَحْتَمِلُ أن يُعْطَى المُوصَى له بالسَّهْمِ السُّبْعَ كامِلًا، كما لو أوْصَى له به مِن غيرِ وصيةٍ أُخْرَى، فيكونُ له سِتَّةٌ، ويَبْقَى تِسْعَةٌ وعِشْرُون على سِتَّةٍ لا تَنْقَسِمُ، فتَضْرِبُها في اثْنَين وأرْبَعِين، تكنْ مائَتَين واثْنَين وخَمْسِين. 2754 - مسألة: (وإن وَصَّى بجُزْءٍ مَعْلُوم، كثُلُثٍ أو رُبْعٍ، أخَذْتَه مِن مَخْرَجِه فدَفَعْتَه إليه، وقَسمْتَ الباقِيَ على مسألةِ الورثةِ، إلَّا أن يَزِيدَ على الثُّلُثِ ولا يُجِيزُوا له، فتفرضَ له الثُّلُثَ، وتَقْسِمَ الثُّلُثَين عليها) فإن لم تَنْقَسِمْ، ضَرَبْتَ المسألةَ أو وَفْقَها في مَخْرَجِ الوصيةِ، فما بَلَغ فمنه تَصِحُّ. 2755 - مسألة: (وإن وَصَّى بجُزأين أو أكْثَرَ، أخَذْتَها مِن مَخْرَجِها، وقَسَمْتَ الباقِيَ على المسألةِ، فإن زادَتْ على الثُّلُثِ ورَدُّوا،

2756 - مسألة: «فإذا أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربعه، وخلف ابنين، أخذت الثلث والربع من مخرجهما سبعة من اثني عشر، يبقى للابنين خمسة إن أجازا، وإن ردا جعلت السبعة ثلث المال، فتكون المسألة من أحد وعشرين) للوصيين الثلث سبعة، ولصاحب الثلث أربعة، ولصاحب الربع ثلاثة، ولكل واحد من الابنين سبعة (فإن أجازا لأحدهما دون الآخر، أو أجاز أحدهما لهما دون الآخر، أو أجاز كل واحد)

السِّهَامَ الْحَاصِلَةَ لِلْأَوْصِيَاءِ ثُلُثَ الْمَالِ، وَدَفَعْتَ الثُّلُثَينِ إِلَى الْوَرَثَةِ. فَلَوْ وَصَّى لِرَجُل بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِهِ، وَخَلَّفَ ابْنَينِ، أَخذْتَ الثُّلُثَ وَالرُّبْع مِنْ مَخْرَجِهِمَا سَبْعَةً مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَبْقَى خَمْسَةٌ لِلِابْنَينِ أَنْ اجَازَا، وَإنْ رَدَّا جَعَلْتَ السَّبْعَةَ ثُلُثَ الْمَالِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلةُ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَإِنْ أَجَازَا لِأَحَدِ هِمَا دُونَ الْآخَرِ، أو أَجَازَ أَحدُهُمَا لَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ لِوَاحِدٍ، فَاضرِبْ وَفْقَ مَسأَلَةِ الإجَازَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَة في مَسْألَةِ الرَّدِّ، تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ، لِلَّذِي أُجِيزَ لَهُ سَهْمُهُ مِنْ مَسْأَلةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ جَعَلْتَ السِّهامَ الحاصِلَةَ للأوْصِياءِ ثُلُثَ المالِ، وقَسمْتَ الثُّلُثَين على الورثةِ). 2756 - مسألة: «فإذا أوْصَى لرجل بثُلُثِ مالِه، ولآخَرَ برُبْعِه، وخَلَّفَ ابْنَين، أخَذْتَ الثُّلُثَ والرُّبْعَ مِن مَخْرَجِهما سَبْعَةً مِن اثْنَيْ عَشَرَ، يَبْقَى للابْنَين خَمْسَة إن أجازا، وإن رَدّا جَعَلْتَ السبْعَةَ ثُلُثَ المالِ، فتكونُ المسألةُ مِن أحَدٍ وعِشْرِين) للوَصِيَّين الثُّلُثُ سَبْعَةٌ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ أربعةٌ، ولصاحِبِ الرُّبْعِ ثلاثةٌ، ولكلِّ واحِدٍ مِن الابنَينِ سَبْعَةٌ (فإن أجازا لأحَدِهما دُونَ الآخَرِ، أو أجاز أحَدُهما لهما دُونَ الآخَرِ، أو أجازَ كلُّ واحِدٍ) مِن الابْنَين (لواحِدٍ، فاضْرِبْ وَفْقَ مسألةِ الإجازَةِ، وهي ثمانيةٌ في مسألةِ الرَّدِّ، تَكنْ مائةً وثمانيةً وسِتِّين، للذي أُجِيزَ له سَهْمُه مِن مسألةِ

الإجَازَةِ مَضْرُوب في وَفْقِ مَسْأَلةِ الرَّدِّ، وَلِلَّذِي رُدَّ عَلَيهِ سَهْمُهُ مِنْ مَسْأَلةِ الرَّدِّ في وَفْقِ مَسْأَلةِ الإجَازَةِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَلِلَّذِي أجَازَ لَهُمَا نَصِيبُهُ مِنْ مَسْأَلةِ الإجَازَةِ في وَفْقِ مَسْأَلَةِ الرَّدِّ، وَلِلْآخَرِ سَهْمُهُ مِنْ مَسْأَلةِ الرَّدِّ في وَفْقِ مَسْأَلةِ الإجَازَةِ، وَالْبَاقِي بَينَ الْوَصِيَّينَ عَلَى سَبْعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإجازَةِ مَضْرُوبٌ في وَفْقِ مسألةِ الرَّدِّ، وللمَرْدُودِ عليه سَهْمُه مِن مسألةِ الرَّدِّ مَضْرُوبٌ في وَفْقِ مسألةِ الإجازَةِ، والباقِي للورثةِ، وللذكر أجاز لهما سَهْمُه مِن مسألةِ الإجازَةِ في وَفق مسألةِ الرَّدِّ، وللآخَرِ سَهْمُه مِن مسألةِ الرَّدِّ في وَفْقِ مسألةِ الإجازَةِ، والباقِي بينَ الوَصِيَّين على سَبْعَةٍ) وبَيانُ ذلك أنَّ مسألةَ الإِجازَةِ مِن اثْنَى عَشَرَ؛ لأَنَّها مَخْرَجُ الثلُثِ والرُّبْعِ، لصاحبِ الثلُثِ أربعةٌ، ولصاحِبِ الرُّبْعِ ثلاثةٌ، يَبْقَى خَمْسَة للابْنَين، لا تَصِحُّ عليهما، تَضْرِبُ اثْنَين في أصْلِه، تكنْ أربعةً وعِشْرِين، للمُوصَى لهما سَبْعَةٌ في اثْنَين أربعةَ عَشَرَ، لصاحبِ الثُّلُثِ ثمانية، ولصابٍ الرُّبْعِ سِتَّة، يَبْقَى عَشَرَة للابْنَين، لكلِّ واحدٍ خَمْسَة. ومسألةُ الرَّدِّ مِن أحَدٍ وعِشْرين؛ لأنَّ ثُلُثَها سَبْعَة للمُوصَى لهما، ويَبقَى أربعةَ عَشَرَ للابْنَين بينَهما نِصْفين. فإن أجاز (¬1) لأحَدِهما دُونَ الآخَرِ، أو أجاز أحَدُ الابْنَين لهما دُونَ الآخَرِ، أو أجاز كلُّ واحِدٍ لواحِدٍ، فوافِقْ بينَ مسألةِ الإجارةِ ومسألةِ الرَّدِّ، وهما مُتَّفِقانِ بالأثْلاثِ، فاضْربْ ثُلُثَ إحْداهما في جَمِيعِ ¬

(¬1) في الأصل: «أجازوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُخْرَى، تكنْ مائةً وثمانيةً وسِتين كما ذُكِر. فإن كانتِ الإجازَةُ لصاحِبِ الثُّلُثِ وَحْدَه، فسَهْمُه مِن مسألةِ الإِجازَةِ ثمانية مَضْرُوبٌ في وَفْقِ مسألةِ الرَّدِّ -وهي سَبْعَةٌ- سِتَّةٌ وخَمْسُون، لصاحبِ الرُّبْعِ نَصِيبُه مِن مسألةِ الرَّدِّ ثلاثة في وَفْقِ مسألةِ الإِجازَةِ -ثمانية- تكنْ أربعةً وعِشْرين، صار المَجْمُوعُ للوَصِيَّين ثمانين سَهْمًا، والباقِي بينَ الابنَين -وهو ثَمانِيةٌ وثَمانُون- لكلِّ ابن أربعة وأرْبَعُون سَهْمًا. وإن أجازا لصاحِبِ الرُّبْع وَحْدَه، أخَذْتَ سَهْمَه مِن مسأله الإِجازَةِ، سِتَّةً مِن أربعةٍ وعِشْرِينَ، فتَضْرِبُهْا في وَفْقِ مسألةِ الرَّدِّ، وهو سَبْعَةٌ، تكنِ اثْنَين وأرْبَعِين، تَدْفَعُها إليه، ولصاحِبِ الثُّلُثِ سَهمُه مِن مسألةِ الرَّدِّ أربعةٌ، تَضْرِبُها في وَفْقِ مسألةِ الإجازَةِ، وهو ثمانيةٌ، تكنِ اثنَين وثَلاثين، فصار المَجْمُوعُ أربعةً وسَبْعِين، يَبْقَى أربعةٌ وتِسْعُون للابْنَين. فإن أجازَ أحَدُ الابنَين لهما , ورَدَّ الآخَرُ، فللذي أجاز سَهْمُه مِن مسألةِ الإِجازَةِ خَمْسَةٌ، مَضْرُوبٌ في وَفقِ مسألةِ الرَّدِّ -سَبْعَةٌ- تكنْ خَمْسَةً وثَلاثِينَ، وللذى رَدَّ سَهْمُه مِن مسألةِ الرَّدِّ -سَبْعَةٌ- مَضْرُوبٌ في وَفْقِ مسألةِ الإجازَةِ -وهو ثمانيةٌ- سِتَّةٌ وخمْسُون، تَضُمُّها إلى خَمْسَةٍ وثَلاثين، تكنْ إحْدَى وتِسْعِين، يَبْقَى للوَصِيَّين سَبْعَةٌ وسَبْعُون بينَهما على سَبْعَةٍ، لصاحِبِ الثُّلُثِ أربعةٌ وأرْبَعُون، ولصاحِبِ الرُّبْعِ ثلاثةٌ وثلاثُون. فإن أجازَ كلُّ واحِدٍ منهما لواحِدٍ، فإنَّ صاحِبَ الثُّلُثِ إذا أجاز له الابنان، كان له ستةٌ وخمسمون، وإذا رَدَّا عليه، كان له اثنان وثلاثون، فقد نَقَصَه رَدُّهما أربعةً وعِشْرِين،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَنْقُصُه رَدُّ أحَدِهما نِصْفَ ذلك اثْنَيْ عَشَرَ، يَبقَى له أربعةٌ وأرْبَعُون. وصاحِبُ الرُّبْعِ إذا أجازا له كان له اثْنانِ وأرْبَعُون، وإن رَدَّا عليه كان له أربعةٌ وعِشْرُون، فقد نَقَصَه رَدُّهما ثَمانيةَ عَشَرَ، فيَنْقُصُه رَدُّ أحَدِهما نِصْفَها، يَبْقَى له ثلاثةٌ وثَلاثُونَ. وأما الابنان (¬1)، فالذي أجاز لصاحِبِ الثُّلُثِ إذا أجاز لهما، كان له خَمْسَةٌ وثَلاثُون، وإذا رَدَّ عليهما، كان له سِتَّةٌ وخَمْسُون، فتَنْقُصُه الإجازَةُ لهما أحَدًا وعِشْرِين، لصاحِبِ الثُّلُثِ منها اثْنا عَشَرَ، يَبْقَى له أربعة وأرْبَعُون، والذي أجاز لصاحِبِ الرُّبْعِ، إذا أجاز لهما كان له خَمْسَة وثَلاثُون، وإذا رَدَّ عليهما كان له سِتَّةٌ وخمْسُون، فقد نَقَصَتْه الإِجازَةُ أحَدًا وعِشْرِين، منها تِسْعَةٌ لصاحِبِ الرُّبْعِ، بَقِيَ له سَبْعَة وأرْبَعُون، وللوَصِيَّين سَبْعَةٌ وسَبْعُون، لصاحِبِ الثُّلُثِ أربعة وأرْبَعون، ولصاحِبِ الرُّبْعِ ثَلاثَةٌ وثلاثُونَ، فصار المَجْمُوعُ لهما وللابْنَين مائةٌ وثَمانيةٌ وسِتُّون. فصل: إذا أوْصَى لرجلٍ بنِصْف مالِه ولآخَرَ برُبْعِه، فأجاز الورثةُ، فلصاحِب النِّصْفِ نِصْفُ المالِ، والرُّبْعُ للآخرِ. وإن رَدُّوا، قَسَمْتَ الثُّلُثَ بينَ الوصِيَّين على قَدْرِ سِهامِهما، لصاحِبِ النِّصْف ثُلُثاه، وللآخَرِ ثُلُثُه، وقَسَمْتَ الثُّلُثَين على الورثةِ. هذا قولُ الجُمْهُورِ؛ منهم الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، ¬

(¬1) في م: «الاثنان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو يُوسُف، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَضْرِبُ المُوصَى له بزِيادَةٍ على الثُّلُثِ في حالِ الرَّدِّ بأكْثَرَ مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّ ما زاد على الثُّلُثِ باطِل، فكيف يَضْرِبُ به؟ ولَنا، أنَّه فاضَلَ بينَهما في الوصيةِ، فوَجَبَتِ المُفاضَلَةُ بينَهما في حالِ الرَّدِّ، كما لو وَصَّى بالثُّلُثِ والرُّبْعِ، أو بمائةٍ ومائَتَين ومالُه أرْبَعُمائةٍ، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه، ولأنَّها وصيةٌ صحيحةٌ ضاق عنها الثُّلُثُ، فقُسِمَ بينَهم على قَدْرِ الوصايا، كالثُّلُثِ والرُّبْعِ، ودَعْوَى بُطْلانِ الوصيةِ فيما زاد على الثُّلُثِ مَمْنُوعٌ، وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على صحَّتِها فيما مَضَى. فعلى قولِنا في هذه المسألةِ، فللمُوصَى لهما ثلاثةُ أرْباع إن أجاز الورثةُ، ويَبْقَى للورثةِ الرُّبْعُ. وإن رَدُّوا، فالثُّلُثُ بينَ الوَصِيَّين على ثلاثةٍ، والمسألةُ كلُّها مِن تِسْعَةٍ. وإن أجازوا لأحَدِهما دُونَ صاحِبِه، ضَرَبْتَ مسألةَ الرَّدِّ في مسألةِ الإِجازَةِ، وأعْطيتَ المُجازَ له سَهْمَه مِن مسألةِ الإجازَةِ في مسألةِ الرَّدِّ، والمَرْدُودَ عليه سَهْمَه مِن مسألةِ الرَّدِّ مَضْرُوبًا في مسألةِ الإجازَةِ. فإن أجاز بعضُ الورثةِ لهما، ورَدَّ الباقون عليهما، أعْطَيتَ للمُجيزِ سَهْمَه مِن مسألةِ الإِجازَةِ في مسألةِ الرَّدِّ، ومَن لم يُجزْ سَهْمَه مِن مسألَةِ الرَّدِّ في مسألةِ الإِجازَةِ، وقَسَمْتَ الباقِيَ بينَ الوَصِيَّين على ثلاثةٍ. فإنِ اتَّفَقَتِ المَسْألَتان، ضَرَبْتَ وَفْقَ إحْداهما في الأخْرَى، ومَن له سَهْم مِن إحْدَى المَسْألَتَين مَضْرُوبٌ في وَفْقِ الأخْرَى. وإن دَخَلَتْ إحْدَى المَسْألَتَين في الأخْرَى اجْتَزَأتَ بأكْثَرِهما،

فَصْلٌ: وَإنْ زَادَتِ الْوَصَايَا عَلَى الْمَالِ عَمِلْتَ فِيهَا مَسَائِلَكَ في مَسَائِلَ الْعَوْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتقولُ في هذه المسألةِ: إذا كان (¬1) أمًّا وثَلاثَ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ (¬2)، فأجازوا، فالمسألةُ مِن أربعةٍ، للوَصِيَّين ثلاثةٌ، ويَبْقَى سَهْمٌ على سِتَّةٍ، تَضْرِبُها في أربعةٍ، تكُن أرْبَعَةً وعِشْرِين. وإن رَدُّوا فللوَصِيَّيَّن الثُّلُثُ ثلاثةٌ مِن تِسْعَةٍ، يَبْقَى سِتَّةٌ على المسألةِ وهي سِتَّةٌ، فتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وإن أجازُوا لصاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَه، ضَرَبْتَ وَفْقَ التِّسْعَةِ في أربعةٍ وعِشْرِين، تكنِ اثْنَينِ وسَبْعِين، لصاحِبِ النِّصْفِ اثْنا عَشَرَ في ثلاثةٍ، سِتَّةٌ وثَلاثُون، وللآخرِ سَهْمٌ في ثَمانيةٍ، يَبْقَى ثمانية وعِشْرُون للوَرَثةِ. وإن أجازَتِ الأمُّ لهما ورَدَّ الباقُونَ عليهما أعْطَيتَ الأمَّ سَهْمًا في ثلاثةٍ، وللباقِين خَمْسَةَ أسْهُم في ثمانيةٍ، فالجَميعُ ثلاثةٌ وأرْبَعُون، يَبْقَى تِسْعَة وعِشْرُون بينَ الوَصِيَّين على ثلاثةٍ. وإن أجازَتِ الأخْتُ مِن الأبوَين وَحْدَها فلها تِسْعَةٌ، ولباقي الورثةِ أربعة وعِشْرُون، يَبْقَى تِسْعَةٌ وثَلاُثون لهما، على ثلاثةٍ، لصاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ وعِشْرُون، ولصاحِبِ الرُّبْعَ ثلاثة عَشَرَ. فصل: قال الشيخُ، -رَضِيَ اللهُ عنه-: (فإن زادَتِ الوصايا على المالِ عَمِلْتَ فيها عَمَلَك في مسائِلِ العَوْلِ) فتَجْعَلُ وصاياهُم كالفُرُوضِ التي فَرَضَها (¬3) الله تعالى للورثةِ إذا زادَتْ على المالِ. وإن رَدُّوا قَسَمْتَ الثُّلُثَ ¬

(¬1) أي الورثة. (¬2) في م: «متفرقات». (¬3) في م: «فرض».

فَإِذَا وَصَّى بِنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَرُبْعٍ وَسُدْسٍ، أَخَذْتَهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَعَالتْ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَقْسِمُ الْمَال كَذَلِكَ إنْ أُجِيزَ لَهُمْ، أو الثُّلُثَ إِنْ رُدَّ عَلَيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهم على تلك السِّهامِ (فإذا وَصَّى بنِصْفٍ وثُلُثٍ ورُبْعٍ وسُدْسٍ، أخَذْتَها مِن) مَخْرَجِها (اثْنَيْ عَشَرَ، وعالتْ إلى خَمْسَةَ عَشرَ، وقَسَمْتَ المال بينَهم كذلك إن أُجِيزَ لهم، والثُّلُثَ إن رُدَّ عليهم) فتَصِحُّ في حالِ الإجازَةِ مِن خَمْسَةَ عَشَرَ، وفي الرَّدِّ مِن خَمْسَةٍ وأرْبَعِين. هذا قولُ النَّخَعِيِّ، ومالكٍ، والشافعيِّ. قال سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ (¬1): ثنا أبو مُعاويَةَ، ثنا أبو عاصِم الثَّقَفِيُّ، قال: قال لي إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: ما تقولُ في رجلٍ أوصَى بنِصْفِ مالِه وثُلُثِ مالِه ورُبْعِ مالِه؟ قُلْتُ: لا يجوزُ. قال: فإنَّهم قد أجازوا. قلتُ: لا أدْرِي. قال: امْسِكِ اثْنَيْ عَشَرَ، فأخْرِجْ نِصْفَها سِتَّةً، وثُلُثَها أرْبَعَةً، ورُبْعَها ثلاثةً، فاقْسِمِ المال على ثلاثةَ عَشَرَ، لصاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ أربعةٌ، ولصاحِبِ الرُّبْع ثلاثةٌ. وكان أبو حنيفةَ يقولُ: يَأْخُذُ أكْثَرُهم وصيةً ما يَفْضُلُ به على مَن دُونَه، ثم يَقْسِمُون الباقِيَ إن أجازُوا, وفي الرَّدِّ لا يُضْرَبُ لأحَدٍ بأكْثَرَ (¬2) [مِن الثُّلُثِ]، وإن نَقَص بعضُهم عن الثُّلُثِ أخذَ أكْثَرُهم (¬3) ما يَفْضُلُ به ¬

(¬1) في: باب الرجل يوصى للرجل فيموت الموصى له. السنن 1/ 116. كما أخرجه البيهقي، في: باب العول في الوصايا. . . .، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 272, 273. (¬2) في م: «بالشك». (¬3) في م: «أكثر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على مَن دُونَه. ومثالُ ذلك، رجلٌ أوْصَى بثُلُثَيْ مالِه ونِصْفِه وثُلُثِه، فالمالُ بينَهم على تِسْعَةٍ في الإجازَةِ، والثُّلُثُ بينَهم كذلك في الردِّ، كمسألةٍ فيها زَوجٌ وأُخْتان لأبٍ وأُخْتان لأُمٍّ. وقال أبو حنيفةَ: صاحِبُ الثُّلُثَين يَفْضُلُهما بسُدْس فيَأخُذُه، وهو وصاحِبُ النِّصْفِ يَفْضُلانِ صاحِبَ الثُّلُثِ بسُدْس، فيَأخُذانِه بينَهما نِصْفَين، ويَقْتَسِمُون الباقِيَ بينَهم أثْلاثًا. وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ وثَلاثين، لصاحِبِ الثُّلُثَين سَبْعَةَ عَشَرَ، ولصاحِبِ النِّصْفِ أحَدَ عَشَرَ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ ثمانيةٌ. وإن رَدُّوا قُسِم بينَهم على ثَلاثةٍ. ولو أوْصَى لرجل بجَمِيعِ مالِه ولآخَرَ بثُلُثِه، فالمالُ بينَهما على أربعةٍ إن أجازوا، والثُّلُثُ بينهما كذلك في حالِ الرَّدِّ. وعندَ أبي حنيفةَ، إن أجازوا فلصاحِب المالِ الثُّلُثان، يَنْفَرِدُ بهما، ويُقاسِمُ صاحِبَ الثُّلُثِ، فيَحْصُلُ له خَمْسَةُ أَسْداس، ولصاحِبِ الثُّلُثِ السُّدْسُ، وإن رَدُّوا، اقْتَسَما الثُّلُثَ نِصْفَين، فلا يَحْصُلُ لصاحِبِ الثُّلُثِ إلَّا السُّدْسُ في حالِ الإجازَةِ والرَّدِّ جميعًا. ولو جَعَل مَكانَ الثُّلُثِ سُدْسًا لكان لصاحِبِ المالِ خَمْسَةُ أسْداسِه في الإجازَةِ، ويُقاسِمُ صاحِبَ السُّدْس فيَأْخُذُ نِصْفَه، ويَبْقَى لصاجِبِ السُّدْسِ سَهْم مِن اثْنَى عَشَرَ. وفي الرَّدِّ، يَقْتَسِمان الثُّلُثَ بينَهما أثْلاثًا، فيَحْصُلُ لصاحِبِ السُّدْسِ التُّسْعُ، سَهْمٌ مِن تِسْعَةٍ، وذلك أكْثَرُ ممّا حَصَل له في حالِ الإِجازَةِ، وهذا دَلِيلٌ على فَسادِ هذا القولِ؛ لزِيادَةِ سَهْمِ المُوصَى له في الرَّدِّ على حالِ الإِجازَةِ. ومتى كان للوَصِيِّ حَقٌّ في حالِ الرَّدِّ، لا يَنْبَغِي أن يَتَمَكَّنَ الوارِثُ مِن تَغْيِيرِه ولا تَنْقِيصِه ولا أخْذِه منه ولا صَرْفِه إلى غيرِه، مع أنَّ ما ذَهَب إليه الجُمْهُورُ، نَظيرُه مسائِلُ العَوْلِ في

2757 - مسألة: (وإن وصى لرجل بجميع ماله ولآخر بنصفه، وخلف ابنين، فالمال بينهما على ثلاثة إن أجيز لهما، والثلث على ثلاثة إن رد عليهما)

وَإنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ، وَخَلَّفَ ابْنَينِ، فَالْمَالُ بَينَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ إِنْ أُجِيزَ لَهُمَا، وَالثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَعَ الرَّدِّ، فَإِنْ أُجِيزَ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَحْدَهُ، فَلِصَاحِبِ النِّصْف ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرائِضِ والدُّيونِ، وما ذَكَرَه لا نَظِيرَ له، مع أنَّ فَرْضَ الله تعالى للوارِثِ آكَدُ مِن فَرْضِ المُوصِي ووصيته، ثم إنَّ صاحِبَ الفَضْلِ المَفْرُوضِ لا يَنْفَرِدُ بفَضْلِه، فكذا في الوصايا. 2757 - مسألة: (وإن وَصَّى لرجل بجَمِيعِ مالِه ولآخَرَ بنِصْفِه، وخَلَّفَ ابْنَين، فالمالُ بينَهما على ثلاثةٍ إن أُجِيزَ لهما، والثُّلُثُ على ثلاثةٍ إن رُدَّ عليهما) إنَّما كان كذلك؛ لأنَّك إذا بَسَطْتَ المال مِن جِنْسِ الكَسْرِ، كان نِصْفَين، فإذا ضمَمْتَ إنهما (¬1) النِّصْفَ الآخَرَ صارت ثلاثةً، فيُقْسَمُ المالُ على ثلاثةٍ، ويَصِيرُ النِّصْفُ ثُلُثًا، كمسألةٍ فيها زَوجٌ وأُمٌّ وثلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ (¬2)، وإن رَدُّوا، فالثُّلُثُ بينَهما على ثلاثة. ¬

(¬1) في الأصل: «إليها». (¬2) في م: «متفرقات».

2758 - مسألة: (فإن أجازوا لصاحب النصف وحده)

التُّسعُ، وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الْمَالِ، في أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الآخرِ، لَيسَ لَهُ إلا ثُلُثَا الْمَالِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ في حَالِ الإجَازَةِ لَهُمَا، يَبْقَى التُّسْعَانِ لِلْوَرَثَةِ. وَإنْ أجَازُوا لِصَاحِبِ النِّصْف وَحْدَهُ، فَلَهُ النِّصْفُ في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْآخَرِ لَهُ الثُّلُثُ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ التُّسْعَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2758 - مسألة: (فإن أجازُوا لصاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَه)، فلصاحِبِ المالِ التُّسْعان، ولصاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ، في أحَدِ الوَجْهَين لأنَّه مُوصًى له به، وإنَّما مَنَعَه أخْذَه في حالِ الإجازَةِ لهما مُزاحَمَةُ صاحِبِه، فإذا زالت مُزاحَمَتُه أخَذَ جَمِيعَ وصيته. والثانِي، ليس له إلَّا الثُّلُثُ الذي كان له في حالِ الإجازَةِ لهما؛ لأنَّ ما زاد على ذلك إنَّما كان حَقًّا لصاحِبِ المالِ أخَذَه الورثةُ منه بالرَّدَّ، فيَأْخُذُه الابنان. وإن أجازا لصاحِبِ الكُلِّ وحدَه، فله ثمانيةُ أتْساع، على الوَجْهِ الأوَّلِ، والتُّسْعُ للآخَرِ. وعلى الوَجْهِ الثانِي، ليس له إلَّا الثُّلُثان اللَّذان كانا له في حالِ الإِجازَةِ لهما، ويَبْقَى التُّسْعان للورثةِ.

2759 - مسألة: (فإن أجاز أحد الابنين لهما)

وَإنْ أَجَازَ أَحدُ الابْنَينِ لَهُمَا، فَسَهْمُهُ بَينَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَإنْ أَجَازَ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَحْدَهُ، دَفَعَ إلَيهِ كُلَّ مَا في يَدِهِ أَوْ ثُلُثَيهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَينِ، وَإنْ أَجَازَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، دَفَعَ إِلَيهِ نِصْف مَا في يَدِهِ وَنِصْفَ سُدْسِهِ أَوْ ثُلُثِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2759 - مسألة: (فإن أجازَ أحَدُ الابنَين لهما) دُونَ الآخَرِ (فسَهْمُه بينَهما على ثلاثةٍ) ولا شيءَ للمُجِيزِ، وللابنِ الآخَرِ الثُّلُثُ، والثُّلُثان بينَ الوَصِيَّين على ثلاثةٍ. فإن أجاز أحَدُهما (لصاحِبِ المالِ وحدَه) فللآخَرِ التُّسْعُ، وللابنِ الآخَرِ الثُّلُثُ، والباقِي لصاحِبِ المالِ، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، له أرْبَعةُ أتْساعٍ، والتُّسْعُ الباقِي للمُجِيزِ (وإن أجاز لصاحِبِ النِّصْفِ) وحدَه، دَفَع إليه نِصْفَ ما يَتِمُّ به النِّصْفُ، وهو تُسْعٌ ونِصْفُ سُدْسٍ في أحَدِ الوَجْهَين، وهو ثُلُثُ ما في يَدِه ورُبْعُه. وفي الآخرِ، يَدْفَعُ التُّسْعَ، وهو ثُلُثُ ما في يَدِه فيَصِيرُ له تُسْعان، ولصاحِبِ المالِ تُسْعان، وللمُجِيزِ تُسْعان، والثُّلُثُ للذي لم يُجِزْ. وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وعلى الوجهِ الأولِ، تَصِحُّ مِن ستَّةٍ وثَلاثين؛ للذي لم يُجِزِ اثْنا عَشَر، وللمُجِيزِ خَمْسَةٌ، ولصاحِبِ النِّصْفِ أحَدَ عَشَرَ، ولصاحِبِ المالِ ثمانية؛ وذلك لأنَّ مسألةَ الرَّدِّ مِن تِسْعَةٍ، لصاحِبِ النِّصْفِ منها سَهْمٌ، فلو أجاز له الابنان، كان له تَمامُ النِّصْفِ ثَلاثةٌ ونِصْفٌ، فإذا أجاز له أحَدُهما لَزِمَه نِصْفُ ذلك، وهو سَهْمٌ ونِصْفٌ ورُبْعٌ، فتَضْرِبُ مَخْرَجَ الرُّبْع في تِسْعَةٍ، تكنْ سِتَّةً وثَلاثينَ.

فَصْلٌ في الْجَمْعِ بَينَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَجْزَاءِ وَالأنْصِبَاءِ: إِذَا خَلَّفَ ابْنَينِ، وَوَصَّى لِرَجُل بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ، فَفِيهَا وَجْهَانِ، أحَدُهُمَا، لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الْمَالِ عِنْدَ الإجَازَةِ، وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَينَ الْوَصِيَّينِ نِصْفَينِ. وَالثَّانِي، لِصَاحِبِ النَّصِيبِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِابْنٍ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ التُّسْعَانِ عِنْدَ الإجَازَةِ، وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَينَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في الجَمْعِ بينَ الوصيةِ بالأنْصِباءِ والأجْزاءِ: (إذا خَلَّفَ ابْنين، ووَصَّى لرجل بثُلُثِ مالِه، ولآخَرَ بمِثْلِ نصِيبِ ابن، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، لصاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ المالِ في حالِ الإجازَةِ) كما لو لم يكنْ معه وَصِى آخَرُ. وهذا قولُ يَحْيَى بنِ آدَمَ (وعندَ الرَّدِّ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَ الوَصِيَّين نِصْفَين) لأنَّه وَصَّى لهما بثُلُثَيْ مالِه، وقد رَجَعَتْ وَصِيَّتُهما بالرَّدِّ إلى نِصْفِها، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ. والوجهُ الثانِي، يَحْصُلُ (لصاحِبِ النَّصِيبِ مِثْلُ ما يَحْصُلُ للابْنِ، وهو ثُلُثُ الباقِي، وذلك التُّسْعانِ عندَ الإجازَةِ) لأنَّ للمُوصَى له بالثُّلُثِ ثُلُثَ المالِ، ويَبْقَى سَهْمان بينَ المُوصَى

2760 - مسألة: (وإن كان الجزء الموصى به النصف، خرج فيها وجه ثالث، وهو أن يكون لصاحب النصيب في حال الإجازة ثلث الثلثين، وفي الرد يقسم الثلث بينهما على ثلاثة عشر سهما؛ لصاحب النصف تسعة، ولصاحب النصيب أربعة)

وَإنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُوصَى بِهِ النِّصْفَ، خُرِّجَ فِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ في حَالِ الإجَازَةِ ثُلُثُ الثُّلُثَينِ، وَفِي الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَينَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سهْمًا؛ لِصَاحِبِ النِّصْفِ تِسْعَةٌ، وَلِصَاحِبِ النَّصِيبِ أَرْبَعَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له بالنَّصِيبِ وبينَ الابنَين على ثلاثةٍ، لا تَصِحُّ، تَضْرِبُها في ثلاثةٍ، تكنْ تِسْعَةً؛ لصاحِبِ الثُّلُثِ ثَلاثةٌ ويَبْقى ستةٌ، لكلِّ ابن سهْمان، وللمُوصَى له بالنَّصِيبِ سهمان وهي التُّسْعان (وفي الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على خَمْسَةٍ) التي كانت لهما في حالِ الإجازَةِ، لصاحِبِ الثُّلُثِ ثلاثةٌ، ولصاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمان. 2760 - مسألة: (وإن كان الجُزْءُ المُوصَى به النِّصْفَ، خُرِّجَ فيها وَجْهٌ ثالِث، وهو أن يكونَ لصاحِبِ النَّصِيبِ في حالِ الإِجازَةِ ثُلُثُ الثُّلُثَين، وفي الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على ثلاثةَ عَشَرَ سهْمًا؛ لصاحِبِ النِّصْفِ تِسْعَة، ولصاحِبِ النَّصِيبِ أربعةٌ) وإنَّما كان كذلك؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الورثةَ لا يَلْزَمُهم إجازَةُ أكْثَرَ مِن ثُلُثِ المالِ، فإذا أجازُوا أكْثَرَ مِن ذلك حُسِب مِن نَصِيبِهم؛ لأَنهم تَبَرَّعُوا به، ويَبقَى نَصِيبُ المُوصَى له بالنَّصِيبِ على حالِه، كأنَّه لم يَخْرُجْ مِن المالِ إلَّا الثُّلُثُ، فيَبْقَى الثُّلُثان بينَه وبينَ الابنَين على ثلاثةٍ؛ لأنَّ له مِثْلَ نَصِيبِ ابن، فتُجْعَلُ المسألةُ مِن ثمانيةَ عَشَرَ -لأنَّها أقَلُّ عَدَدٍ له نِصْفٌ ولثُلُثِه ثُلُثٌ- لصاحِبِ النِّصْفِ تِسْعَة؛ لأَنه مُجازٌ له، ويُعْطَي المُوصى له بالنَّصِيبِ ثُلُثَ الثُّلُثَين أربعةً، صار الجَمِيعُ ثلاثةَ عَشَرَ، يَبْقَى خمْسَة للابْنَين، لا تَصِحُّ عليهما، فتَضْرِبُ عَدَدَهما (¬1) في ثمانيةَ عَشَرَ تَكُنْ ستةً وثَلاثين، للمُوصَى لهما ستَّةٌ وعشرون، لصاحِبِ النِّصفِ ثَمَانِيةَ عَشَرَ وللآخَرِ ثَمانيةٌ، يَبْقَى عَشَرَة للابْنَين بينَهما نِصْفَين. وإن رَدُّوا، قُسِم الثُّلُثُ بينَهما على ثلاثةَ عَشَرَ، فتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ وثَلاثين، ثلاثةَ عَشَرَ للوَصِيَّين وللابْنَين سِتَّةٌ وعِشْرُون. فصل: فإن كان الجُزْءُ المُوصَى به الثُّلُثَين، فعلى الوَجْهِ الأولِ، للمُوصَى له بالنَّصِيبِ الثُّلُثُ في حالِ الإجازَةِ وتَصِحُّ مِن ثلاثةٍ، وفي الرَّدِّ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على ثلاثةٍ وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وعلى الوجْهِ الثاني، ¬

(¬1) في م: «عددها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُوصَى له بالنَّصيبِ التَّسْعُ، وللآخَرِ الثُّلُثان في حالِ الإجازةِ، وتَصِحُّ مِن تِسعةٍ أيضًا، وفي الرَّدِّ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على سَبْعَةٍ، وتَصِحُّ مِن أحَدٍ وعِشْرِين. وفي الوَجْهِ الثالِثِ، لصاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الثُّلُثَين، وللآخَرِ الثُّلُثان، وأصْلُها مِن تِسْعَةٍ، وتَصِحُّ مِن ثمانيةَ عَشَرَ في الإجازَةِ؛ لصاحِبِ الثُّلُثَين اثْنا عَشَرَ، وللآخَرِ أربعةٌ، يَبْقَى سَهْمان للابنين، وفي الرَّدِّ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على سِتَّةَ عَشَرَ، وتَصِحُّ مِن ثمانيةٍ وأرْبَعِين. فصل: فإن كان المُوصَى به جَمِيعَ المالِ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يُقْسَمُ المالُ بينَهما على أربعةٍ في حالِ الإِجازَةِ؛ لصاحِبِ المالِ ثلاثةٌ، ولصاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمٌ، كما لو وَصَّى بمالِه كلِّه وبثُلُثِه، وفي الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهما على أربعةٍ. وعلى الوَجْهِ الثاني، لا يَحْصُلُ لصاحِبِ النَّصِيبِ شيءٌ؛ لأنَّه إنَّما يَحْصُلُ له مِثْلُ ابْن، والابنُ لا يَحْصُلُ له شيءٌ، وهذا ممّا يُوهِنُ هذا الوَجْهَ؛ لأنَّه لا يَطَّرِدُ. ويكونُ الكلُّ لصاحِبِ المالِ في حالِ الإجازَةِ، وفي الرَّدِّ يَأْخُذُ صاحِبُ المالِ الثُّلُثَ، ويَبْقَى الثُّلُثان بينَ صاحِبِ النَّصِيبِ وبينَ الابنَين على ثلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وعلى الوَجْهِ الثالثِ، لصاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الثُّلُثَين اثْنان مِن تِسْعَةٍ، ولصاحِبِ المالِ تسعةٌ، فتَصِبحُّ مِن أحَدَ عَشَرَ في حالِ الإجازَة، وفي الرَّدِّ مِن ثلاثةٍ وثَلاثين؛ لصاحِبِ المالِ تِسعةٌ، ولصاحِبِ النَّصِيبَ اثْنان، ولكلِّ ابْن أحَدَ عَشَرَ.

2761 - مسألة: (إذا وصى لرجل بمثل نصيب أحد ابنيه، ولآخر بثلث باقي المال، فعلى الوجه الأول، لصاحب النصيب ثلث المال، وللآخر ثلث باقي المال تسعان، والباقي)

وَإنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ بَاقِي الْمَالِ، فَعَلَى الوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الْمَالِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الْبَاقِي تُسْعَانِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَدْخُلُهَا الدَّوْرُ. وَلِعَمَلِهَا طُرُقٌ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَجْعَلَ الْمَال ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنَصِيبًا، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِنَصِيبِ ابْنٍ، وَلِلْآخرِ ثُلُثُ الْبَاقِي سَهمٌ، يَبْقَى سهْمَانِ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ، وَذَلِكَ هُوَ النَّصِيبُ، فصَحَّتْ مِنْ أربَعَةٍ. وَبِالْجَبْرِ، تَأْخُذ مَالًا تُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا وَثُلُثَ الْبَاقِي، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ إلا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ يَعْدِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2761 - مسألة: (إذا وَصَّى لرجل بمِثْلِ نَصِيبِ أحَدِ ابْنَيه، ولآخَرَ بثُلُثِ باقِي المالِ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، لصاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ المالِ، وللآخَرِ ثُلُثُ باقِي المالِ تُسْعان، والباقِي) للابْنَين، وتَصِحُّ مِن تسعةٍ (وعلى الوجهِ الثانِي يَدْخُلُها الدَّوْرُ) لكَونِه إنَّما يَحْصُلُ لصاحِبِ النَّصِيبِ مِثْلُ ما يَحْصُلُ للابنِ، وهو لا يَعْلَمُ ثُلُثَ الباقِي حتى يَعْلَمَ نَصِيبَ الابنِ، ولا يَعْلَمُ نَصِيبَ الابنِ حتى يَعْلَمَ ثُلُثَ الباقِي، فيُخْرِجُه ويَقْسِمُ الباقِيَ على الابنَين وصاحِبِ النَّصِيبِ. والتَّفْرِيعُ على هذا الوَجْهِ. (ولعَمَلِها طُرُقٌ؛ أحَدُها، أن تَجْعَلَ المال ثلاثةَ أسْهُم ونَصِيبًا) وإنَّما جَعَلْتَه ثلاثةَ أسْهُم؛ ليكونَ للباقِي بعدَ النَّصِيبِ ثُلُث (فتَدْفَعُ النَّصِيبَ إلى المُوصَى له به، وإلى الآخرِ ثُلُثَ الباقِي سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمان، لكلِّ ابْن سَهْمٌ، وذلك هو النَّصِيبُ، فصَحَّتْ مِن أربعةٍ. والطَّرِيقُ الثانِي طَرِيقُ الجَبْرِ (فتَأخُذُ مالًا وتُلْقِي منه نَصِيبًا) ويَبْقَى مالٌ إلَّا نَصِيبًا، تَدْفَعُ إلى الوَصِيِّ الآخَرِ ثُلُثَه،

2762 - مسألة: (وإن كانت وصية الثاني بثلث ما يبقى من النصف)

نَصِيبَينِ، اجْبُرْهَا بُثُلثَيْ نَصِيبٍ وَزِدْ مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى النَّصِيبَينِ، يَبْقَى ثُلُثَا مَالٍ يَعْدِلُ نَصِيبَينِ وَثُلُثَين، ابْسُطِ الْكُلَّ أثلاثًا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ يَصِرْ مَالينِ تَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَنْصِبَاءَ، اقْلِبْ فَاجْعَلِ الْمَال ثَمَانِيةً، وَالنَّصِيبَ اثْنَينِ. وَإنْ شِئْتَ قُلْتَ: لِلِابْنَينِ سَهْمَانِ، ثُمَّ تَقُولُ: هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ ثُلُثُهُ، فَزِدْ عَلَيهِ مِثْلَ نِصْفِهِ، يَصِرْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ زِدْ مِثْلَ نَصِيبِ ابْن، يَصِرْ أرْبَعَةً. وَإنْ كَانَتْ وَصِيَّةَ الثَّانِي بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ النِّصْفِ، فَبِالطَّرِيقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو ثُلُثُ مالٍ إلَّا ثُلُثَ نَصِيبٍ (يَبقَى ثُلُثا مالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ يَعْدِل نَصِيبَين، اجْبُرْ ثلُثَي المالِ بثُلُثَيْ نَصِيبٍ وزِدْ على النَّصِيبَين مِثْلَ ذلك، يَبْقَى ثُلُثا مالٍ يَعْدِلُ نَصِيبَين وثُلُثَين، ابْسُطِ الكلَّ أثْلاثًا مِن جِنْسِ الكَسْرِ) واقْلِبْ وحَوِّلْ، فاجْعَلِ النَّصِيبَ اثْنَين والمال ثمانيةً، وتَرْجِع بالاخْتِصارِ إلى أربعةٍ. والطريق الثالث الطريق المَنْكوسُ، وهي أن تقولَ: (للابنين سَهْمان) وهو (مالٌ ذَهَب ثلُثُه، فَزِدْ عليه مِثْلَ نِصْفِه) سَهْمًا (يَصِرْ ثلاثةً، ثم زِدْ) عليه (مِثْلَ نَصِيبِ ابْن، يَصِرْ أربعةً) وإنْ شِئتَ ضَرَبْتَ ثلاثةً مَخْرَجَ الثُّلْثِ في ثلاثةٍ -وهي عَدَدُ البَنِينَ مع الوَصِيِّ- تكن تِسعةً، انْقصْ منها واحِدًا يَبقَى ثمانيةٌ، ومنها تَصِحُّ، وتسَمَّى طريقَ البابِ، وتَعْمَل بها ما يَرِدُ عليك مِن هذه المسائلِ. 2762 - مسألة: (وإن كانت وصيةُ الثاني بثُلُثِ ما يَبقَى مِن النِّصْفِ) فعلى الوجهِ الأوَّلِ، تصِحُّ مِن ثمانيةَ عَشَرَ، لصاحِبِ النَّصِيبِ

الأولَى تَجْعَلُ الْمَال سِتَّةً وَنَصِيبَينِ، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بهِ، وَإلَى الْآخَرِ ثُلُثَ بَقِيَّةِ النِّصْفِ سَهْمًا، وَإِلَى أحَدِ الابْنَين نَصِيبًا، بَقِيَ خَمْسَةٌ لِلِابْنِ الْآخَرِ، فَالنَّصِيبُ خَمْسَةٌ، وَالْمَالُ سِتَّةَ عَشَرَ. وَبِالْجَبْرِ، تَأْخُذُ مَالًا وَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا وَثُلُثَ بَاقِي النِّصْفِ، تَبْقَى خَمْسَةُ أسْدَاسِ مَالي إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ تَعْدِلُ نَصِيبَينِ، اجْبُرْهُمَا، تَكُنْ خَمْسَةَ أسْدَاسِ مَالٍ، تَعْدِلُ نَصِيبَين وَثُلُثَينِ، ابْسُطِ الْكُلَّ أسْدَاسًا وَاقْلِبْ وَحَوِّلْ، يَصِرِ الْمَالُ سِتَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الثُّلُثُ سِتَّة، وللآخَرِ ثُلُثُ ما يَبْقَى مِن النِّصْفِ سَهْم، يَبْقَى أحَدَ عَشَرَ للابْنَين، وتَصِحُّ. من سِتَّةٍ وثلاثين، لصاحِبِ النَّصِيبِ اثْنا عَشَرَ، وللآخَرِ سَهْمان، ولكل ابنٍ أحدَ عَشَرَ سَهْمًا في حالِ الإجازةِ وفي الرَّدِّ، وتَصِح من أحَدٍ وعِشْرِين، للأوَّلِ سِتَّةُ أسْهُم، وللآخَرِ سَهْمُ، ولكلِّ ابن سبعةٌ وعلى الوجهِ الثاني (تَجْعَلُ المال سِتَّةَ) أسْهُم (ونَصِيبَين، تدْفَعُ النَّصِيبَ إلى المُوصَى له به، وإلى الآخَرِ ثُلُثَ باقي النِّصْفِ سَهْمًا، وإلى أحَدِ الابنَين نَصِيبًا، يَبْقَى خَمْسَة للابنِ الآخَرِ، فالنَّصِيبُ خَمْسَة، والمالُ سِتَّةَ عَشَرَ) للمُوصَى له بثُلُثِ باقي النِّصْفِ سَهْمٌ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، للمُوصَى له بالنَّصِيبِ خَمْسَة، ولكلِّ ابن خَمْسَةٌ. (وبالجَبْرِ، تَأْخُذُ مالًا وتُلْقِي منه نَصيبًا، يَبْقَى مالٌ إلَّا نَصِيبًا، تُلْقِي منه ثُلُثَ باقي النِّصْفِ (يَبْقَى خَمْسَةُ أسْداسِ مالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ تعْدِلُ نَصِيبَين) اجْبُرْها بثُلُثَي نصِيبٍ، وزِدْ على النَّصِيبَين مِثْلَها , يَبْقَى خَمْسَةُ أسْداسِ مالٍ يَعْدِلُ نصِيبَين وثُلُثَين (ابْسُطِ الكلَّ أسْداسًا واقْلِبْ وحَوِّلْ) واجْعَلْ

عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ خَمْسَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجزاءَ المالِ النَّصِيبَ، وأجْزاءَ النَّصِيبِ المال (يَصِرِ النَّصِيبُ خَمْسَةً والمالُ سِتَّةَ عَشَرَ). وإن شِئْتَ أخَذْتَ نِصْفَ مالي ألْقَيتَ منه نَصِيبًا، يبقَى نِصْف مالٍ إلَّا نَصِيبًا، ألقِ ثُلُثَه، يَبْقَى ثُلُثُ مالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ، ضُمَّه إلى نِصْفِ المالِ، يَصِرْ خَمْسَةَ أسْداس إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ، يعْدِلُ نَصِيبَينِ، اجْبُرْ وقابِلْ، يَصِرْ خَمْسَةَ أسْدَاسِ مالٍ، يعْدِلُ نَصِيبَين وثُلُثَين، ابْسُطِ الكلَّ أسْداسًا مِن جِنْسِ الكَسْرِ، واقْلِبْ، يكنِ المالُ سِتَّةَ عَشَرَ، والنَّصِيبُ خَمْسَةً، كما سَبَق. فصل: إذا خَلَّفَ ثلاثةَ بَنِينَ، ووَصَّى لرجل بمثْلِ نَصِيبِ أحَدِهم، ولآخَرَ بنِصْفِ باقي المالِ، ففيها ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أن يُعْطى صاحِبُ النَّصِيبِ مثلَ نَصِيبِ الوارِثِ إذا لم يكنْ ثَمَّ وَصِيَّةٌ أخْرَى. والثانِي، أن يُعْطَى نَصِيبَه مِن ثُلُثِ المالِ. والثالثُ، أن يُعْطَى مثلَ نَصِيبِ ابن بعدَ أخْذِ صاحِبِ النِّصْفِ وصيتَه، وعلى هذا الوَجْهِ يَدْخُلُها الدَّوْرُ، والتَّفْرِيع عليه، ولعَمَلِها طُرُقٌ؛ أحَدُها، أن تَأخُذَ مَخْرَجَ النِّصْفِ فتُسْقِطَ منه سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمٌ، فهو النَّصِيبُ، ثم تَزِيدَ على عَدَدِ البَنِينَ واحِدًا يَصِرْ أربعةً، فتَضْرِبَها في المَخْرَجِ تكنْ ثمانية، تَنْقُصُها سَهْمًا يبقَى سبعةٌ، فهي المالُ، للمُوصَى له بالنَّصِيبِ سَهْمٌ، وللآخَرِ نِصْفُ الباقي، وهو ثلاثةٌ، ولكلِّ ابن سَهْمٌ. طريق آخَرُ، أن تَزِيدَ سِهامَ البَنِينَ نِصْفَ سَهْم وتَضْرِبَها في المَخْرَجِ تكنْ سبعةً. طريقٌ ثالثٌ يُسَمَّى المَنْكُوسَ، أن تَأْخُذَ سِهامَ البَنِينَ، وهي ثلاثةٌ، فتقولَ: هذا بَقِيَّةُ مالٍ ذَهَب نِصْفُه، فإذا أرَدْتَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكْمِيلَه زِدْتَ عليه مثلَه، ثم زِدْ عليه مثلَ نَصِيبِ ابن، تكنْ سبعةً. طريقٌ رابعٌ، وهو أن تَجْعَلَ المال سَهْمَين ونَصِيبًا، وتَدْفَعَ النَّصِيبَ إلى صاحِبِه، وإلى الآخَرِ سَهْمًا، يَبْقَى سَهْمٌ للبَنِينَ يَعْدِلُ ثلاثةَ أنْصِباءَ، فالمالُ كلُّه سبعةٌ. وبالجَبْرِ تَأْخُذُ مالًا وتُلْقِي منه نَصِيبًا، يَبقَى مالٌ إلَّا نَصِيبًا، وتَدْفَعُ نِصْفَ الباقِي إن الوَصِيِّ الآخَرِ، يَبْقَى نِصْفُ مالٍ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ، يَعْدِلُ ثلاثةَ أنْصِباءَ، فاجْبُرْه بنِصْف نَصِيبٍ، وزِدْه على الثلاثةِ، يَبْقَى نِصْفًا كاملًا، يَعْدِلُ ثلاثةً ونِصْفًا، فالمالُ كلُّه سبعةٌ. فصل: فإن كانتِ الوصيةُ الثانيةُ بنِصْفِ ما يَبْقَى مِن الثُّلُثِ، أخَذْتَ مَخْرَجَ النِّصْفِ والثُّلُث من (¬1) ستة، نَقَصْتَ منها واحِدًا، يَبْقَى خمسةٌ، فهي النَّصِيبُ، ثم تَزِيدُ واحِدًا على سِهامِ البَنِينَ وتَضْرِبُها في المَخْرَجِ، تكنْ أربعةً وعِشْرِين، تَنْقُصُها ثلاثة يَبْقَى أحَدْ وعِشْرُون، فهو المالُ، تدْفعُ إلى صاحِبِ النَّصِيبِ خمسةً، يَبْقَى مِن الثُّلُثِ يسهْمان، تَدْفَعُ منها سَهْمًا إلى الوَصِيِّ الآخَرِ، يَبْقَى خمسةَ عَشَرَ، لكلِّ ابن خمسةٌ. وبالطريقِ الثانِي، تَزيدُ على سِهامِ البَنِينَ نِصْفًا وتَضْرِبُها في المَخْرَجِ، يكنْ أحَدًا وعِشْرِين. وبالثالثِ، تَعْمَلُ كما عَمِلْتَ في الأولَى، فإذا بَلَغْتَ سبعةً ضَرَبْتَها في ثلاثةٍ؛ مِن أجلِ الوصيةِ الثانيةِ بنِصْفِ الثُّلُثِ. وبالرابعِ، تَجْعَلُ الثُّلُثَ سَهْمَين ونَصِيبًا، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلى المُوصَى له به، وإلى الآخَرِ سَهْمًا، يَبْقَى مِن المالِ خمسةُ أسْهُمٍ ونَصِيبان، تَدْفَعُ النَّصِيبَين إلى ¬

(¬1) كذا بالنسختين، وفي المغني 8/ 436: «وهو». ولعله الصواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اثْنَين، يَبْقَى خمسةٌ للثالث، فهي النَّصِيبُ، فإذا بَسَطْتَها كانت إحْدَى وعِشْرِين. وبالجَبْرِ، تَأخُذُ مالًا تُلْقِي منه (¬1) مِن ثُلُثِه نَصِيبًا، وتَدْفَعُ إلى الأخِ نِصْفَ باقِي الثُّلُثِ، يَبْقَى مِن المالِ خمسةُ أسْداسِه إلا نِصْفَ نصِيبٍ، اجْبُرْه بنِصْفي نَصِيبٍ، وزِدْه على سِهامِ البَنِينَ، تَصِرْ ثلاثةً ونِصْفًا تَعْدِلُ خمسةَ أسْداس، اقْلِبْ وحَوِّلْ، يكنِ النَّصِيب خمسةً وكل سَهْم ستةً والمالُ أحَدًا وعِشْرِين. فصل: فإن أوْصَى لثالثٍ برُبْعِ المالِ، فخُذِ المَخارِجَ وهي اثْنان وثلاثةٌ وأربعةٌ، واضْرِبْ بعضَها في بعضٍ، تكنْ أربعةً وعِشرين، وزِدْ على عَدَدِ البَنِينَ، واحدًا، واضْرِبْها في أربعةٍ وعِشْرِين، تكنْ ستةً وتِسْعِينَ، انْقُصْ منها ضَرْبَ نِصْفِ سَهْمٍ في أربعةٍ وعِشْرِين وذلك اثْنا عَشَرَ، يَبْقَى أربعة وثَمانُون، وهي المالُ، ثم انْظُرِ الأربعةَ والعِشْرِين، فانْقصْ منها سُدْسَها لأجْلِ الوصيةِ الثانيةِ، ورُبْعَها لأجْلِ الوصيةِ الثالثةِ، يَبْقَى أربعةَ عَشَرَ، وهي النَّصِيبُ، فادْفَعْها إلى المُوصى له بالنَّصِيبِ، ثم ادْفَعْ إلى الثانِي نِصْفَ ما يَبْقَى مِن الثُّلُثِ، وهو سبعةٌ، وإلى الثالثِ رُبْعَ المالِ أحدًا وعِشْرِين، يَبْقَى اثْنان وأرْبَعُون، لكلِّ ابْن أربعةَ عَشَرَ. وبالطريقِ الثانِي، تَزِيدُ على عَدَدِ البَنِينَ نِصْفَ سَهْم، وتَضْرِبُ ثلاثةً ونِصْفًا في أربعةٍ وعِشْرِين، تكنْ أربعةً وثَمانِين. وبالطريقِ الثالثِ، تَعْمَلُ في هذه كما عَمِلْتَ في التي قبلَها، فإذا بَلَغْتَ أحدًا وعِشْرِين ضَرَبْتها في أربعةٍ مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْلِ الرُّبْعِ، تكنْ أربعةً وثمانِينَ. وبطريقِ النَّصِيبِ، تَفْرِضُ المال ستةَ أسْهُم وثلاثةَ أنْصِباءَ، تَدْفعُ نَصِيبًا إلى صاحِبِ النَّصِيبِ، وإلى الآخَرِ سَهْمًا، وإلى صاحِبِ الرُّبْعِ سَهْمًا ونِصْفًا وثلاثةَ أرباعِ نَصِيبٍ، يَبْقَى مِن المالِ نَصِيبٌ ورُبْعٌ وثَلاثةُ أسْهُم ونِصْف للورثةِ، تَعْدِلُ ثلاثةَ أنْصِباءَ، فأسْقِطْ نَصِيبًا ورُبْعًا بمِثْلِها، يَبْقَى ثلاثةُ أسْهُم ونِصْفٌ، تَعْدِلُ نَصِيبًا وثلاثةَ أرباع، فالنَّصِيبُ إذًا سَهْمان، فابْسُطِ الثلاثةَ الأنْصِباءَ، تكنْ سِتةً، فصار المالُ اثْنَيْ عَشَرَ، ومنها تَصِحُّ، لصاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمان، وللآخَرِ نِصْفُ باقِي الثُّلثِ سَهْمٌ، ولصاحِبِ الرُّبْعِ ثلاثة، يَبْقَى ستةٌ للبَنِينَ، لكلِّ ابن سَهْمان. وهذا أخْصَرُ وأحْسَنُ. وبالجَبْرِ، تَأخُذُ مالًا تَدْفَعُ منه نَصِيبًا، يَبْقَى مالٌ إلَّا نَصِيبًا، تَدْفَعُ نِصْفَ باقي ثُلُثِه، وهو سُدْسٌ إلَّا نِصفَ نصيبٍ، يبقى مِن المالِ خَمْسَةُ أسْداس إلَّا نِصفَ نَصيبٍ، تَدْفَعُ منها رُبْعَ المالِ، يَبْقَى ثُلُثُ المالِ ورُبْعُه إلَّا نِصفَ نَصيبٍ، تَعْدِلُ ثلاثةَ أنْصِباءَ، اجْبُرْ وقابِلْ واقْلِبْ وحَوِّلْ، يكنِ النَّصِيبُ سبعةً، والمالُ اثْنَين وأرْبَعِين، فتَضْرِبُها في اثْنَين ليَزُولَ الكَسْرُ، تَصِرْ أربعةً وثمانِين. فصل: فإن كانتِ الوصيةُ الثالثةُ برُبْعِ ما بَقِيَ مِن المالِ بعدَ الوَصِيَّتَين الأولَيَين، فاعْمَلْها بطريقِ النَّصِيبِ، كما ذَكَرْنا، يَبْقَى معك ثلاثةُ أسْهُم وثلاثةُ أرباعِ سَهْم، تَعْدِلُ نَصِيبًا ونِصْفًا، ابْسُطْها أرباعًا، تكنِ السِّهامُ خمسةَ عَشَرَ والأنْصِباءُ ستةً، تُوافِقُهما وترُدُّهما إلى وَفْقِهما، تَصِرْ خمسةَ أسْهُم، تَعْدِلُ نَصِيبَين، اقْلِبْ واجْعَلِ النَّصِيبَ خمسةً والسَّهْمَ اثْنَين،

2763 - مسألة: (وإن خلف أما وبنتا وأختا، وأوصى بمثل نصيب الأم وسبع ما بقي، ولآخر بمثل نصيب الأخت وربع ما بقي، ولآخر بمثل نصيب البنت وثلث ما بقي)

وَإنْ خَلَّفَ أمًّا وَبِنْتًا وَأُخْتًا، وَأوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الأُمِّ وَسُبْعِ مَا بَقِيَ، وَلِآخرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الأُخْتِ وَرُبْعِ مَا بَقِيَ، وَلِآخرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ، فَقُلْ: مَسْألةُ الْوَرَثَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وابْسُطْ ما معك، يَصِرْ سبعةً وعِشْرِين، فادْفَعْ خمسةً إلى صاحِبِ النَّصِيبِ، وإلى الآخَرِ نِصْفَ باقِي الثُّلُثِ سَهْمَين، وإلى الثالثِ رُبْعَ الباقِي خمسةً، يَبْقَى خمسةَ عَشَرَ، لكلِّ ابن خمسةٌ. وهذه الطريقُ أخْصَرُ. وإن عَمِلْتَ بالطريقِ الثانِي، أخَذْتَ أربعةً وعِشْرِين، فنَقَصْتَ سُدْسَها ورُبْعَ الباقي، يَبْقَى خَمسةَ عَشَرَ، فهي النَّصِيبُ، ثم زِدْتَ على عَدَدِ البنينَ سَهْمًا، ونقصْتَ نِصْفَ ورُبْعَ ما بَقِيَ منه، يَبْقى ثلاثةُ أثْمانٍ، زِدْها على سِهامِ البَنِينَ، تكنْ ثلاثةً وثلاثةَ أثْمانٍ، تَضْرِبُها في أربعةٍ وعِشْرِين، تكنْ أحدًا وثَمانِينَ، ومنها تَصِحُّ، وبالجَبْرِ يُفْضِي إلى ذلك أيضًا. 2763 - مسألة: (وإن خَلَّفَ أُمًّا وبِنْتا وأُخْتًا، وأوْصَى بمِثْلِ نَصِيبِ الأمِّ وسُبْعِ ما بَقِيَ، ولآخَرَ بمثلِ نَصِيبِ الأختِ ورُبْع ما بَقِيَ، ولآخَرَ بمِثْلِ نَصِيبِ البِنْتِ وثُلُثِ ما بَقِيَ) فاعْمَلها

مِنْ سِتَّةٍ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ ثُلُثُهُ فَزِدْ عَلَيهِ مِثْلَ نِصْفِهِ ثَلَاثةً، ثُمَّ زِدْ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، فهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ رُبْعُهُ، فَزِدْ عَلَيهِ ثُلُثَهُ وَمِثْلَ نَصِيبِ الأُخْتِ، صَارَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ سُبْعُهُ، فَزِدْ عَلَيهِ سُدْسَهُ وَمِثْلَ نَصِيبِ الأُمِّ، تَكُنِ اثْنَينِ وَعِشْرِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَنْكُوسِ (فقُلْ: مسألةُ الورثةِ مِن ستةٍ، وهي بَقِيَّةُ مالٍ ذَهَب ثُلُثُه، فزِدْ عليه نِصْفه ثلاثةً) يكنْ تسعةً و (مثلَ نَصِيبِ البِنْتِ) ثلاثةً (يكن اثْنَيْ عَشَرَ، وهي بقيةُ مالٍ ذَهَب رُبْعُه، فزِدْ عليه ثُلُثَه) أربعةً، صار ستةَ عَشَرَ (ومثلَ نَصِيبِ الأخْتِ) اثْنَين (يكنْ ثمانيةَ عَشَرَ، وهي بقيةُ مالٍ ذَهَب سُبْعُه، فزِدْ عليه سُدْسَه) ثلاثةً، يكنْ أحَدًا وعِشرِين (ومثلَ نَصِيبِ الأمِّ) سَهْمًا (يكنِ اثْنَين وعِشْرِين). ومنها تَصِحُّ، تَدْفَعُ إلى المُوصَى له بمثْلِ نَصِيبِ الأم سَهْمًا وسُبْعَ الباقِي ثلاثةً، يَبقَى ثمانيةَ عَشرَ، تَدْفَعُ إلى المُوصَى له (¬1) بمثْلِ نَصِيبِ (1) الأُخْتِ سَهْمَين ورُبْعَ الباقِي، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْصُلُ له ستة، ويَبْقَى اثْنا عَشَرَ، تَدْفَعُ إلى المُوصَى له بمثْلِ نَصِيبِ البِنْتِ ثلاثةً، يَبْقَى تِسعةٌ، تَدْفَع إليه ثُلُثَها ثلاثة، يَصِرْ له ستةٌ، ويَبْقَى ستةٌ للورثةِ، هذا في حالِ الإِجازَةِ. وفي الرَّدِّ، تَجْعَلُ الثُّلُثَ ستةَ عَشَرَ، فتَصِحُّ مِن ثمانيةٍ وأرْبَعِينَ، للمُوصَى له بمثْلِ نَصِيبِ الأمِّ أربعةٌ، ولكلِّ واحدٍ مِن الوَصِيَّين الآخَرَين ستةٌ، وللورثةِ اثْنان وثلاُثون، لا تَنْقَسِمُ على مسألتِهم، وتُوافِقُها بالأنْصافِ فتَضْرِبُ وَفْقَ أحَدِهما في الأخْرَى تكنْ مائةً وأربعةً وأرْبَعِين.

2764 - مسألة: (إذا خلف ثلاثة بنين، ووصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع المال، فخذ مخرج الكسر أربعة)

وَإنْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أحَدِهِمْ إلا رُبْعَ الْمَالِ، فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرِ أرْبَعَةً، وَزِدْ عَلَيهِ رُبْعَهُ يَكُنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن خَلَّفَتِ امرأةٌ زَوْجًا وأُمًّا واخْتًا لأبٍ، وأوْصَتْ بمثلِ نَصِيبِ الأمِّ وثُلُثِ ما بَقِيَ، ولآخرَ بمثلِ نَصِيبِ الزوجِ ونِصْفِ ما بَقِيَ، فمسألةُ الورثةِ مِن ثمانيةٍ، وهي مالٌ ذَهَب نِصْفُه، فزدْ عليه مثْلَه، يكنْ ستةَ عَشَرَ، ومثْلَ نَصِيبِ الزوجِ ثلاثةً، يَصِرْ تسعةَ عَشَرَ، وهو بقيةُ مالٍ ذَهَب ثُلُثُه، فزِدْ عليه نِصْفَه، صار ثمانيةً وعِشْرِين ونِصْفًا، فزِدْ (¬1) عليه مثلَ نَصِيبِ الأخْتِ سَهْمَين، يكنْ ثَلاثين ونِصْفًا، ابْسُطْها مِن جِنْس الكَسْرِ تكنْ أحَدًا وسِتِّين، للمُوصَى له بمثْلِ نَصِيبِ الأمِّ أربعة، بَقِيَ سبعةَ وخَمْسُون، ادْفَعْ إليه ثُلُثَها تِسعَةَ عَشَرَ، بَقِي ثمانية وثلاثون، ادْفعْ إلى الموصَى له بمثْلِ نصِيبِ الزَّوجِ ستةً، يبقى اثْنان وثلاثون، ادْفعْ إليه نِصْفَها ستةَ عَشَرَ، يَبْقَى ستةَ عَشَرَ للورثةِ؛ للزوجِ ستةٌ، وللأمِّ أربعة، وللأخْتِ ستةٌ، هذا في حالِ الإِجازَةِ. وفي الرَّدِّ، تَجْعَلُ السِّهامَ الحاصِلَةَ للأوْصِياءِ -وهي خمسةٌ وأرْبَعُون- ثُلُثَ المالِ، فتكونُ المسألةُ جَمِيعُها مِن (¬2) [مائةٍ و] خمسةٍ وثَلاثين. 2764 - مسألة: (إذا خَلَّفَ ثلاثةَ بَنِينَ، ووَصَّى بمثلِ نَصِيبِ أحَدِهم إلَّا رُبْعَ المالِ، فخُذْ مَخْرَجَ الكَسْرِ أربعةً) وزِدْ عليها ¬

(¬1) في م: «فرد». (¬2) سقط من: م.

2765 - مسألة: (فإن قال: إلا ربع الباقي بعد الوصية. جعلت المخرج ثلاثة وزدت عليه واحدا صار أربعة، فهو النصيب، وتزيد

خَمْسَةً، فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْن، وَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، وَاضْرِبْهُ في مَخْرَجِ الْكَسْرِ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، أَعطِ الْمُوصَى لَهُ نَصِيبًا، وَهُوَ خَمْسَةٌ، واسْتَثْنِ مِنْهُ رُبْعَ الْمَالِ أرْبَعَةً، يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَة. وَإنْ قَال: إلَّا رُبْعَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ. فَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَرُبْعًا، وَاضْربهُ في الْمَخْرَجِ يَكُنْ سَبْعَةَ عَشَرَ، لَهُ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ. وَإنْ قَال: إلا رُبْعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. جَعَلْتَ الْمَخْرَجَ ثَلَاثَةً وَزِدْتَ عَلَيهِ وَاحِدًا، يَكُنْ أربَعَةً، فَهُوَ النَّصِيبُ، وَزِدْت عَلَى سِهَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْمًا (تكنْ خمسةً) فهو النَّصِيبُ (وزِدْ على عَدَدِ البَنِينَ واحِدًا، واضْرِبْه في مَخْرَجِ الكَسْرِ تكنْ ستةَ عَشَرٍ) تَدْفَعُ إلى المُوصَى له بالنَّصِيبِ خمسةً، (وتَسْتَثْنِي منه رُبْعَ المال أربعة، يَبْقَى له سَهْم، ولكلِّ ابْنٍ خمسةٌ) وإن شِئْتَ خَصصْت كلَّ ابن برُبْع، وقَسَمْتَ الرُّبْعَ الباقيَ بينَهم وبَينَه على أربعةٍ. (فإن قال: إلَّا رُبْعَ الباقِي بعدَ النَّصِيبِ. فزِدْ على سِهامِ البَنِينَ سَهْمًا ورُبْعًا) واضْرِبْه في أربعةٍ، تكنْ سبعةَ عَشَرَ، للوَصِيِّ سَهْمان، ولكلِّ ابنٍ خمسةٌ. وبالجَبْرِ، تَأْخُذُ مالًا وتَدْفَعُ منه نَصِيبًا إلى الوَصِيِّ، وتسْتَثْنِي منه رُبْعَ الباقِي، وهو رُبْعُ مالٍ إلَّا رُبْعَ نصِيبٍ، صار معك مالٌ ورُبْع إلَّا نَصِيبًا ورُبْعًا، يَعْدِلُ أنْصِباءَ البَنِينَ، وهو ثلاثة، اجْبُرْ وقابِلْ، يَخْرُجِ النَّصِيبُ خمسةً، والمالُ سبعةَ عَشَرَ. 2765 - مسألة: (فإن قال: إلَّا رُبْعَ الباقِي بعدَ الوصيةِ. جَعَلْتَ المَخْرَجَ ثلاثةً وزِدْتَ عليه واحِدًا صار أربعةً، فهو النَّصِيبُ، وتَزِيدُ

الْبَنِينِ سَهْمًا وَثُلُثًا وَضَرَبْتَهُ في ثَلَاثةٍ يَكُنْ ثَلَاثةَ عَشَرَ سَهْمًا، لَهُ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْن أَربَعَةٌ. وَلَا يلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ التَّطْويلُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على عَدَدِ البَنينَ سَهْمًا وثُلُثًا، وتَضْرِبُه في ثلاثةٍ، تكنْ ثلاثةَ عَشَرَ]، فهو المالُ. وإن شِئْتَ قُلْتَ: المالُ كلُّه ثلاثةُ أنْصِباءَ ووصيةٌ، الوصيةُ هي نَصِيبٌ إلَّا رُبْعَ الباقِي بعدَها، وذلك ثلاثةُ أرباعِ نَصِيب، فبَقِيَ رُبْعُ نصِيبٍ، فهو الوصيةُ. وبَيِّنٌ أنَّ المال كلَّه ثلاثة ورُبْعٌ، ابْسُطْها تكنْ ثلاثةَ عَشَرَ. ولهذه المسائلِ طُرُقٌ سِوَى ما ذَكَرْنا. فصل: فإن قال: أوْصَيتُ لك بمثلِ نَصيبِ أحَدِ بَنِيَّ إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى مِن الثُّلُثِ. فخُذْ مَخْرَجَ ثُلُثِ الثُّلُثِ، وهو تسعة، زِدْ عليها سَهْمًا تكنْ عَشَرَةً، فهي النَّصِيبُ، وزِدْ على أنْصِباءِ البَنِينَ سَهْمًا وثُلُثًا، واضْرِبْ ذلك في تسعةٍ، تَكُنْ تسعةً وثَلاثِين، ادْفَعْ عَشَرَةً إلى الوَصِيِّ، واسْتَثْنِ منه ثُلُثَ بقيةِ الثُّلُثِ سَهْمًا، يَبْقَى له تسعة، ولكل ابن عَشَرَةٌ. وإن قال: إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى مِن الثُّلُثِ بعدَ الوصيةِ. جَعَلْتَ المال ستةً، وزِدْتَ عليه سَهْمًا، صار سبعةً، فإذا هو النَّصِيبُ، وزِدْتَ على أنْصِباءِ البَنِينَ سَهْمًا ونِصْفًا، وضَرَبْتَه في ستةٍ، يَصِرْ سبعةً وعِشْرِين، ودَفَعْتَ إلى الوَصِي سبعة، وأخَذْتَ منه نِصْفَ بقيةِ الثُّلُثِ سَهْمًا، بَقِيَ معه ستة، وبَقِيَ أحَدٌ وعِشْرُون، لكلِّ ابن سبعةٌ، وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّ الثُّلُثَ بعدَ الوصيةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو النِّصْفُ بعدَ النَّصِيبِ. ومتى أطْلَقَ الاسْتِثْناءَ فلم يَقُلْ (¬1): بعدَ النَّصِيبِ، ولا الوصيةِ. فعندَ الجُمْهُورِ يُحْمَلُ على ما بعدَ النَّصِيبِ، وعندَ محمدِ بنِ الحَسنِ والبَصْرِيِّينَ يكون بعدَ الوصيةِ. فصل: فإن قال: إلَّا خُمْسَ ما يَبْقَى مِن المالِ بعدَ النَّصِيبِ، ولآخَرَ بثُلُثِ ما يَبْقَى مِن المالِ بعدَ وصيةِ الأوَّلِ. فخُذِ المَخْرَجَ خمسةً، وزِدْ عليها خُمْسَها، تكنْ ستةً، انْقُصْ ثُلُثَها مِن أجْلِ الوصيةِ بالثُّلُثِ، يَبْقَى أربعةٌ، فهي النَّصِيبُ، ثم خُذْ سَهْمًا وزِدْ عليه خُمْسَه (¬2)، وانْقُصْ مِن ذلك ثُلُثَه، يَبْقَى أربعةُ أخْماسٍ، زِدْها على أنْصِباءِ البَنِينَ، واضْرِبْها في خمسةٍ، تَصِرْ تسعةَ عَشَرَ، فهي المال، ادْفَعْ إلى الأوَّلِ أربعةً، واسْتَثْنِ منه خُمْسَ الباقِي ثلاثةً، يَبْقَى معه سَهْمٌ، وادْفَعْ إلى الآخرِ ثُلُثَ الباقِي ستةً، يَبْقَى اثْنا عَشَرَ، لكلِّ ابن أربعة. وبالجَبْرِ، خُذْ مالًا وألْقِ منه نَصِيبًا، واسْتَرْجِعْ منه خُمْسَ الباقِي، يَصِرْ مالًا وخُمْسًا إلَّا نَصِيبًا وخُمْسًا، ألْقِ ثُلُثَ ذلك، بَقِيَ أربعةُ أخْماسِ مالٍ إلَّا أربعةَ أخْماسِ نصِيبٍ، تَعْدِلُ ثلاثةَ أنْصباءَ، اجْبُرْ وقابِلْ وابْسُطْ، يكن المالُ تسعةَ عَشَرَ، والنَّصِيبُ أربعةً. وإن شِئْتَ قُلْتَ: أنْصِباءُ البَنِينَ ثلاثة، وهي بقيةُ مالٍ ذَهَب ثُلُثُه، فزِدْ عليه نِصْفَه، يَصِرْ أربعةَ أنْصباءَ ونِصْفًا ووصِيةً، والوصيةُ هي نَصِيبٌ؛ إلَّا خُمْسَ الباقِي، وهو نِصْفُ نَصِيبٍ وخُمْسُ نصيبٍ ¬

(¬1) في م: «يقبل». (¬2) في م: «خمسها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخُمْسُ وصيةٍ، يَبْقَى خُمْسُ نَصِيبٍ وعُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُصْوصيةٍ، اجبرْ وقابِلْ وابْسُطْ، تَصِرْ ثلاثةً مِن النَّصِيبِ، تَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِن الوصيةِ، وهي (¬1) تَتَّفِقُ بالأثْلاثِ، فرُدَّها إلى وَفْقِها تَصِرْ سَهْمًا، تَعْدِلُ أربعةً، والوصيةُ سَهْمٌ، والنَّصِيبُ أربعةٌ، فابْسُطْها تكنْ تسعةَ عَشَر. فإن كان الاسْتِثْناءُ بعدَ الوصيةِ، قُلْتَ: المالُ أربعةُ أسْهُمٍ ونِصْفٌ ووصيةٌ، وهى نَصِيبٌ إلَّا خُمْسَ الباقِي، وهي تسعةُ أعْشارِ نصِيبٍ، يَبْقَى عُشْرُ نصِيب فهو الوصيةُ. فابْسُطِ الكلَّ أعْشارًا، تكُنِ الأنْصباءُ خمسةً وأرْبَعِين، والوصيةُ سَهْم. وإن كان اسْتَثْنَى خُمْسَ المالِ كلِّه، فالوصيةُ عُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُمْسَ وصيةٍ، اجْبُرْ، يَصِرِ العُشْرُ يَعْدِلُ وصيةً وخُمْسًا، ابْسُطْ، يَصِرِ النَّصيبُ سِتِّين، والوصيةُ خمسةً، والمالُ كلُّه مائتان وخمسةٌ وسَبْعُون، ألْقِ منها سِتِّينَ، واسْتَرْجِعْ منه خُمْسَ المالِ، وهو خمسةٌ وخَمْسُون، يَبْقَى له خمسةٌ (¬2)، وللآخرِ ثُلُثُ الباقِي تِسْعُون، ويَبْقَى مائةٌ وثَمانُون، لكلِّ ابن سِتُّون، وتَرْجِعُ بالاخْتِصارِ إلى خُمْسِها، وذلك خمسةٌ وخَمْسُون، للوَصِيِّ الأوَّلِ سَهْمٌ، وللثانِي ثمانيةَ عَشَرَ، ولكلِّ ابن اثْنا عَشَرَ. وبالجَبْرِ، تَأْخُذُ مالًا تُلْقِي منه نَصِيبًا، وتَزِيدُ على المالِ خمسةً، يَصِرْ مالًا وخُمْسًا إلَّا نَصِيبًا، ألْقِ ثُلُثَ ذلك، يَبْقَى أربعةُ أخْماسِ مالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ، تَعْدِلُ ثلاثةً، اجْبُرْ وقابِلْ وابْسُطْ، يكن ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) في م: «خمسه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالُ ثمانيةَ عَشَرَ وثُلُثًا، اضْرِبْها في ثلاثةٍ ليَزُولَ الكَسْرُ، تَصِرْ خمسةً وخَمْسِين. وإن كان اسْتَثْنَى الخُمْسَ كلَّه وأوْصَى بالثُّلُثِ كلِّه، فخُذْ مَخْرَجَ الكَسْرَين خمسةَ عَشَرَ، وزِدْ عليها خُمْسَها، ثم انْقُصْ ثُلُثَ المالِ كلِّه، يَبْقَى ثلاثةَ عَشَرَ، فهي النَّصِيبُ، وزِدْ على أنْصِباءِ البَنِينَ سَهْمًا، واضْرِبْه في المالِ، يكنْ سِتِّين، وهي المالُ. وإن كان اسْتَثْنَى خُمْسَ الباقِي وأوْصَى بثُلُثِ المالِ كلِّه، فالعَمَلُ كذلك، إلَّا أنَّك تَزِيدُ على سِهامِ البَنِينَ سَهْمًا وخُمْسًا وتَضْرِبُها، تكنْ ثلاثةً وسِتِّين. فإن كان اسْتَثْنَى خُمْسَ ما بَقِي مِن الثُّلُثِ، زِدْتَ على الخَمسةَ عَشَرَ سهْمًا واحِدًا، فصار سِتَّةَ عَشَرَ، ثم نقَصْتَ ثُلُثَ المالِ كلِّه، بَقِيَ أحَدَ عَشَرَ، فهي النَّصِيبُ، ثم زِدْتَ على سِهامِ البَنِينَ سَهْمًا وخُمْسًا، وضَرَبْتَها في خمسةَ عَشَرَ، تكنْ ثَلاثَةً وسِتِّين، تَدْفَعُ إلى الوَصِيِّ الأوَّلِ أحَدَ عَشَرَ، وتَسْتَثْنِي منه خُمْسَ بقيةِ الثُّلُثِ سَهْمَينِ، يَبْقَى معه تسعةٌ، وتَدْفَعُ إلى صاحِبِ الثُّلُثِ أحَدًا وعِشْرِين، يَبْقَى ثلاثةٌ وثَلاثُون، لكلِّ ابْن أحَدَ عَشَرَ. فإن كانتِ الوصيةُ الثانيةُ بثُلُثِ باقِي المالِ، زِدْتَ على الخمسةَ عَشَرَ واحِدًا، ثم (¬1) نَقَصْتَ ثُلُثَ السَّتِّةَ عَشَرَ، ولا ثُلُثَ لها، فاضْرِبْها في ثلاثةٍ، تكنْ ثمانيةً وأرْبَعِين، انْقُصْ منها ثُلُثَها، يَبْقَى اثْنان وثَلاثُون، فهي النَّصِيبُ، وخُذْ سَهْمًا وَزِدْ عليه خُمْسَه، ثم انْقُصْ ثُلُثَ ذلك مِن أجْلِ الوصيةِ بثُلُثِ الباقِي، يَبْقَى أربعةُ أخْماس، زِدْها على سِهامِ الووثةِ، واضْرِبْها في خمسةٍ وأرْبَعِين، تكنْ مائةً وأحَدًا وسبعِين، ومنها تَصِحُّ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا وَصَّى لرجلٍ بمثلِ نَصِيبِ أحَدِ بَنِيه، وهم ثلاثةٌ، ولآخَرَ بثُلُثِ ما يَبْقَى مِن الثُّلُثِ، ولآخرَ بدِرْهَم، فاجْعَلِ المال تسعةَ دراهمَ وثلاثةَ أنْصِباءَ، فادْفَعْ إلى الوَصِيِّ الأوَّلِ نَصِيبًا، وإلى الثاني والثالثِ دِرْهَمَين، بَقِيَ سبعةٌ ونَصِيبان، ادْفَعْ نَصِيبَين في ابْنَين، يَبْقَى سبعة للابنِ الثالثِ، فالنَّصِيبُ سبعة، والمالُ ثَلاثُون، فإن كانتِ الوصيةُ الثالثةُ بدِرْهَمَين، فالنَّصِيبُ ستةٌ، والمالُ سبعة وعِشْرُون. فصل: إذا وَصَّى لعَمِّه بثُلُثِ مالِه، ولخالِه بعُشْرِه، فَرُدَّتْ وَصِيَّتُهُما، فتَحاصَّا في (¬1) الثُّلُثِ، وأصاب الخالُ ستةً، فاضْرِبْها في وصيته، وذلك عَشَرَةٌ، تكنْ سِتِّين، واقْسِمْه على الفاضِلِ بينَهما، يَخْرُجْ بالقَسْمِ خمسةَ عَشَرَ، فهي الثُّلُثُ. وإن شِئْتَ قلتَ: قد أصاب الخالُ ثلاثةَ أخْماسِ وصيتِه، يَجِبُ أن يُصِيبَ العَمُّ كذلك، فيَبْقَى مِن الثُّلُثِ خُمْسَاه، وهي تَعْدِلُ ما أصاب الخالُ، فزِدْ على ما أصاب الخالُ مثلَ نِصْفِه، وهو ثلاثةٌ، يَصِرْ تِسعةً، وهو الذي أصاب العَمُّ. وإن قال: أصاب العَمُّ الرُّبْعَ. فقد أصابَه ثلاثةُ أرْباعِ وصيته، وبَقِي مِن الثُّلُثِ نِصْفُ سُدْسٍ، يَعْدِلُ ثلاثةَ أرْباعِ وصيةِ الخالِ، وذلك سبعةٌ ونِصْفٌ، وللعَمِّ ثلاثةُ أمْثالِها اثْنان وعِشْرُون ونِصْفٌ، والمالُ كلُّه تِسْعُون. وإن قال: أصاب الخالُ خَمْسَ المالِ. فقد بَقِيَ مِن الثُّلُثِ خُمْساه لِلْعَمِّ، فيكونُ الحاصِلُ للخالِ خُمْسا وصيته أيضًا، وذلك أربعةُ دَنانِيرَ ووصيةٌ، وللعَمِّ مثلُ ثُلُثَيها دِينارانِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وثُلُثان، والثُّلُثُ كلُّه ستةٌ وثُلُثان، والمالُ عِشْرُون. فإن كان معهما وصيةٌ بسُدْسِ المالِ، فأصاب الخالُ ستةً، فهي ثلاثةُ أخْماسِ وصيتِه، ولكلِّ واحِدٍ من الآخَرَين ثلاثةُ أخْماسِ وصيَّتِه، وذلك تسعةُ أعْشارِ الثُّلُثِ، يَبْقَى منه عُشْر، يَعْدِلُ ما حَصَل للعَمِّ، وهو ستة، فالثُّلُثُ سِتُّون. وإن أصاب صاحِبُ السُّدْسَ عُشْرَ المالِ، فقد أصاب صاحِبُ الثُّلُثِ خُمْسَه، يَبْقَى مِن الثُّلُثِ أيضًا عُشْرُه، فهو نَصِيبُ الخالِ، وذلك ثلاثةُ أخْماسِ وصيتِه سِتّةٌ، فيكونُ الثُّلُثُ سِتِّين كما ذَكَرْنا. فصل: إذا خَلَّفَ ثلاثةَ بَنِينَ، ووَصَّى لعَمِّه بمثلِ نَصِيبِ أحَدِهم إلَّا ثُلُثَ وصيةِ خالِه، ولخالِه بمثلِ نَصِيبِ أحَدِهم إلَّا رُبْعَ وصيةِ عَمِّه، فاضْرِبْ مَخْرَجَ الثُّلُثِ في مَخْرَجِ الرُّبْعِ تكنِ اثْنَيْ عَشَرَ، انْقُصْها سَهْمًا، يَبْقَى أحَدَ عَشَرَ، فهي نَصِيبُ ابن، انْقُصْها سهْمَين، يَبْقَى تسعةٌ، فهي وصيةُ الخالِ، وإن نَقَصْتَها ثلاثةً، فهي ثمانِية، فهي وصيةُ العَمِّ. وبالجَبْرِ، تَجْعَلُ مع العَمِّ أربعةَ دراهِمَ، ومع الخالِ ثلاثةَ دَنانِيرَ، ثم تَزِيدُ على الدَّراهِمِ دِينارًا، وعلى الدَّنانيرِ دِرْهمًا، يَبْلُغُ كلّ واحِدٍ منهما نَصِيبًا، اجْبُرْ وقابِلْ وأسْقِطِ المُشْتَرَكَ، يَبْقَى معك ديناران، تَعْدِلُ ثلاثةَ دراهمَ، فاقْلِبْ وحَوِّلْ، تَصِرِ الدراهمُ ثمانيةً والدَّنانِيرُ تسعةً كما قُلْنا. وإن وَصَّى لعمِّه بعشَرَةٍ إلَّا رُبْعَ وصيةِ خالِه، ولخالِه بعَشَرَةٍ إلَّا خُمْسَ وصيةِ عَمِّه، فاضْرِبْ مَخْرَجَ الرُّبْعِ في مَخْرَجِ الخُمْسِ، تكنْ عِشْرِين، انْقُصْها سَهْمًا، تكنْ تسعةَ عَشرَ، فهي المَقْسُومُ عليه، ثم اجْعَلْ مع الخالِ أرْبعةً وانْقُصْها سَهْمًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْقَى ثلاثةٌ، اضْرِبْها في العَشَرَةِ ثم فيما مع العَمِّ، وهو خمسةٌ، تكُنْ مائةً وخَمْسِينَ، اقْسِمْها على تسعةَ عَشَرَ، تَخْرُجْ سبعةٌ وسبعةَ عَشَرَ جُزْءًا مِن تسعةَ عَشرَ، فهي وصيةُ عَمِّه، واجْعَلْ مع العَمِّ خمسةً وانْقُصْها سَهْمًا واضْرِبْها في عَشَرَةٍ ثم في أربعةٍ، تكنْ مائةً وسِتِّين، واقْسِمْها تكنْ ثمانيةً وثمانيةَ أجْزاء، فهي وصيةُ خالِه. طَرِيقٌ آخَرُ، تَنْقُصُ مِن العَشَرَةِ رُبْعَها، وتَضْرِبُ الباقِيَ في العِشْرِين، ثم تَقْسِمُها على تسعةَ عَشَرَ وتَنْقُصُ منها خُمْسَها، وتَضْرِبُ الباقِيَ في عِشْرِين وتَقْسِمُها. وبالجَبْرِ، تَجْعَلُ وصيةَ الخالِ شَيئًا ووصيةَ العَمِّ عَشَرَةً إلَّا رُبْعَ شيءٍ، فخُذْ خُمْسَها فزِدْه على الشيءِ، وهي سَهْمان إلَّا نِصْفَ عُشْرِ شيءٍ، تَعْدِلُ عَشَرَةً، فأسْقِطِ المُشْتَرَكَ مِن الجانِبَين، تَصِرْ ثمانيةً وثمانيةَ أجْزاءٍ مِن تسعةَ عَشَرَ، إذا أسْقَطْتَ رُبْعَها مِن العَشَرَةِ، بَقِيَتْ سبعة وسَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا. وإن وَصَّى لعَمِّه بعَشَرَةٍ إلَّا نِصْفَ وَصيةِ خالِه، ولخالِه بعَشَرَةٍ إلَّا ثُلُثَ وصيةِ جَدِّه، ولجَدِّه بعَشَرَةٍ إلَّا رُبْعَ وصيةِ عَمِّه، فوصيةُ عَمِّه ستةٌ وخُمْسان، ووصيةُ خالِه سبعةٌ وخُمْسٌ، ووصيةُ جَدِّه ثمانيةٌ وخُمْسان. وبابُها أن تَضْرِبَ الخارِجَ بعضَها في بعض، فتَضْرِبَ اثْنَين في ثلاثةٍ في أربعةٍ، تكنْ أربعةً وعِشْرِين، تَزِيدُها واحِدًا، تكن خمسةً وعِشْرِين، فإذا هو المَقْسُومُ عليه، ثم تَنْقُصُ مِن الاثْنَين واحِدًا، وتَضْرِبُ واحِدًا في ثلاثةٍ، ثم تَزِيدُها واحِدًا، وتَضْرِبُها في أربعةٍ تكنْ ستةَ عَشَرَ، ثم اضْرِبْها في عَشَرَةٍ تكن مائةً وسِتِّين، واقْسِمْها على خمسةٍ وعِشْرِين يَخْرُجْ بالقَسْمِ ستة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وخُمْسان، فهي وصيةُ العَمِّ، وانْقُصِ الثلاثةَ واحِدًا يَبْقَ اثْنان، اضْرِبْها في الأربعةِ تكنْ ثمانيةً، زِدْها واحِدًا واضْرِبْها في اثْنَين في عَشَرَةٍ تكنْ مائةً وثَمانِينَ، اقْسِمْها على خمسةٍ وعِشْرِين، تَخْرُجْ بالقَسْمِ سبعةٌ وخُمْسٌ، وهي وصيةُ الخالِ، ثم انْقُصْ مِن الأربعةِ واحِدًا، واضْرِبْ ثلاثةً في اثْنَينٍ ثم زِدْها واحِدًا تكنْ سبعةً، اضْرِبْها في ثلاثةٍ ثم في عَشَرَةٍ تكنْ مائَتَين وعَشَرَة مَقْسُومَة على خمسةٍ وعِشْرِين، تَخْرُجُ بالقَسْمِ ثمانيةٌ وخُمْسانٍ، وهي وصيةُ الجَدِّ. طريق آخَرُ، تَجْعَلُ مع العَمِّ أربعةَ أشياءَ، ومع الخالِ دِينارَين، ومع الجَدِّ ثلاثةَ دراهِمَ، ثم تَضُمُّ إلى ما مع العَمِّ دِينارًا، وإلى ما مع الخالِ دِرْهمًا، وتُقابِلُ ما مع أحَدِهما بما مع الآخَرِ، وتُسْقِطُ المُشْتَرَكَ فيَصِيرُ أربعةَ أشياءَ تَعْدِلُ دِينارًا ودِرْهمًا، فأسْقِطْ لَفْظَةَ الأشْياءِ واجْعَلْ مكانَها دِينارًا ودِرْهَمًا، ثم قابِلْ ما مع الخالِ بما مع الجَدِّ بعدَ الزِّيادَةِ، وهو دينارانِ ودرهمٌ مع الخالِ، لثلاثةِ دراهمَ ورُبْعَ درهمٍ ورُبعَ دينارٍ مع الجَدِّ، فإذا أسْقَطتَ المُشْتَرَكَ بَقِيَ دِرْهمان ورُبْعٌ مُعادِلَةٌ لدينارٍ وثلاثةِ أرْباع، فابْسُطِ الكلَّ أرباعًا يَصِرْ سبعةَ أرْباعٍ مِن الدِّينارِ تَعْدِلُ تسعةً مِن الدَّراهِمِ، فاقْلِبْ واجْعَلِ الدِّرْهَمَ سبعةً والدِّينارَ تسعةً، ثم ارْجِعْ إلى ما فَرَضْتَ، فتَجِدُ مع العَمِّ درهمًا ودِينارًا ستةَ عَشَرَ، ومع الخالِ ثمانيةَ عَشَرَ، ومع الجَدِّ أحَدٌ وعِشْرُون، والعَشَرَةُ الكامِلَةُ خَمْسٌ وعِشْرُون، والستةَ عَشَرَ منها ستةٌ وخُمْسان، والثمانيةَ عَشَرَ سبعةٌ وخُمْسٌ، والأحَدُ وعِشْرُون ثمانيةٌ وخُمْسان. فإن كان معهم أخٌ، ووصيةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَدِّ عَشَرَةٌ إلَّا رُبْعَ ما مع الأخِ، ووصيةُ الأخِ عَشَرَةٌ إلَّا خُمْسَ ما مع العَمِّ، فهذه الطَّرِيقُ تَجْعَلُ مع العَم خمسةَ أشياءَ، ومع الخالِ دِينارَين، ومع الجَدِّ ثلاثةَ دراهمَ، ومع الآخَرِ أربعةَ أفْلُسٍ، ثم تُقابِلُ ما مع العَمِّ بما مع الخالِ كما ذَكَرْنا، وتَجْعَلُ الأشْياءَ دينارًا ودرهمًا، ثم تُقابِلُ ما مع الخالِ بما مع الجَدِّ، فتَجْعَلُ الدِّينارَينٍ دِرْهَمَين وفَلْسًا، ثم تُقابِلُ ما مع الجَدِّ بما مع الأخِ، فتُخْرِجُ الفَلْسَ ستة وعِشْرِين، والدرهمَ أحَدًا وثَلاثين، والدِّينارَ أربعةً وأرْبَعِين، فتَبَيَّنَ أنَّ مع العَمِّ خمسةً وسَبْعِين، ومع الخالِ ثمانيةً وثَمانِين، ومع الجد ثلاثةً وتِسْعِين، ومع الأخِ مائةً وأرْبعة، إذا زِدْتَ على ما مع كلِّ واحدٍ ما اسْتَثنَيتَه منه صارٍ معه مائة وتسعةَ عَشَرَ، وهي العَشَرَةُ الكامِلَةُ، فصارت وصيةُ العَمِّ ستةً وستةً وثَلاثينٍ جُزْءًا، ووصيةُ الخالِ سبعةً وسبعةً وأربعين جُزْءًا، ووصيةُ الجَدِّ سَبعةً وسبعةً وتِسْعِينَ جُزْءًا، ووصيةُ الأخِ ثمانيةً وثمانين جُزْءًا. وبطريقِ البابِ تَضْرِبُ المَخارِجَ بعضَها في بعض تكنْ مائةً وعِشْرِين، تَنْقُصُها واحِدًا، يَبْقَى مائةٌ وتسعةَ عَشَرَ، فهو المَقْسُومُ عليه، وتَنْقُصُ الاثْنَين واحِدًا، وتَضْرِبُه في ثلاثةٍ، ثم (¬1) تَزِيدُها واحِدًا، وتَضْرِبُها في أربعةٍ، تكنْ ستةَ عَشَرَ، تَنْقُصُها واحِدًا وتَضْرِبُها في خمسةٍ، تكنْ خمسةً وسَبْعِين، فهذه وصيةُ العَمِّ، تَضْرِبُها في عَشَرَةٍ ثم تَقْسِمُها على تسعةَ عَشَرَ، تكنْ ستةً وستةً وثَلاثين جُزْءًا، ثم تَنْقُصُ الثلاثةَ واحِدًا وتَضْرِبُها في أرْبعةٍ وتَزِيدُها واحِدًا وتَضْرِبُها ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في خمسةٍ، تكنْ خمسةً وأرْبَعِين، تنْقُصُها واحِدًا وتَضْرِبُها في اثْنَين، تكُنْ ثمانيةً وثَمانِين، فهذه وصيةُ الخالِ، ثم تَنْقُصُ الأربعةَ واحِدًا وتَضْرِبُها في خمسةٍ، تكنْ خمسةَ عَشَرَ، تَزِيدُها واحدًا وتَضْرِبُها في اثْنَين، تكنِ اثْنَين وثَلاثين، تَنْقُصُها واحِدًا وتَضْرِبُها في ثلاثةٍ، تكنْ ثلاثةً وتِسْعِين، فهذه وصيةُ الجَدِّ، ثم تَنْقُصُ الخمسةَ واحِدًا وتَضْربُها في اثْنَين، تكنْ ثمانيةً، تَزِيدُها واحِدًا وتَضْرِبُها في ثلاثةٍ، تكنْ سبعة وعِشْرِين، تَنْقُصُها واحِدًا وتَضْرِبُها في أربعةٍ، تكنْ مائةً وأربعةً، وهي وصيةُ الأخِ. وفي كلِّ ذلك تَضْرِبُ العَدَدَ الذي مع كلِّ واحِدٍ منهم في عَشَرَةٍ، وتَقْسِمُه على [مائةٍ وتسعةَ عَشَرَ] (¬1)، فالخارِجُ بالقَسْمِ هو وصيتُه. فصل: فإن وَصَّى لعمِّه بعَشَرَةٍ ونِصْفِ وصيةِ خالِه، ولخالِه بعَشَرَةٍ وثُلُثِ وصيةِ عَمِّه، كانت وصيةُ العَم ثمانيةَ عَشَرَ، ووصيةُ الخالِ ستةَ عَشَرَ، وبابُها أن تَضْرِبَ أحَدَ المَخْرَجَين في الآخَرِ وتَنْقصَه واحِدًا، فهو المَقْسُومُ عليه، وتَزِيدَ مَخْرَجَ النصْفِ واحِدًا وتَضْرِبَه في مَخْرَجِ الثُّلُثِ، وتَضْرِبَه في عَشَرَةٍ، يكنْ تسعين مَقْسُومةً على خمسةٍ، تكنْ ثمانيةَ عَشَرَ، ثم تَزِيدَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ واحدًا وتَضْرِبَه في عَشَرَةٍ، يكن تِسْعِين مَقْسومةً على خَمْسةٍ، تكن ثَمَانيةَ عَشَرَ، ثم تزيدَ مخرجَ الثُلُثِ واحدًا وتضربَه في مَخْرَجِ النِّصْفِ ثم في عَشَرَةٍ، تكنْ ثَمانِين مَقْسُومَةً على خمسةٍ. فإن كان معهما آخَرُ، ووَصَّى للخالِ بعَشَرَةٍ وثُلُثِ وصيته، ووَصَّى له بعَشَرَةٍ ورُبْعِ وصيةِ ¬

(¬1) في م: «تسعة عشرًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمِّ، ضَرَبْتَ المخارِجَ ونَقَصْتَها واحِدًا، تكنْ ثلاثةً وعشرين، فهي المَقْسُومُ عليه، ثم تَزِيدُ الاثْنَين واحدًا وتضْربُها في ثلاثةٍ، تكنْ تسعة، فزِدْها واحدًا واضْرِبْها في أرْبعةٍ، تكنْ أرْبَعِين، ثم في عَشَرَةٍ، ثم اقْسِمها تَخْرُجْ سبعةَ عَشَرَ وتِسْعةُ أجْزاءٍ، فهي وصيةُ العَمِّ، ثم تَصْنَعُ في الباقين كما ذَكَرْنا، فتكونُ وصيةُ الخالِ أربعةَ عَشَرَ وثمانيةَ عَشَرَ جُزْءًا، ووصيةُ الثالثِ أربعةَ عَشَرَ وثمانيةَ أجْزاءٍ. وإن شِئْتَ بعدَ ما عَمِلْتَ وصيةَ العَم، فاضْرِبِ الزّائِدَ مِن وصيِته في اثْنَين، فهي وصيةُ الخالِ، واضْرِبِ الزائدَ عن العَشَرَةِ مِن وصيةِ الخالِ في ثلاثةٍ، فهِي وصيةُ العَمِّ. ومتى عَرَفتَ ما مع الواجِدِ منهم أمْكَنَك مَعْرِفَةُ ما مع الآخرَين. والله أعلمُ. وهذا القَدْرُ مِن هذا الفَنِّ يَكْفِي، فإنَّ الحاجَةَ إليه قَلِيلَةٌ، وفُرُوعُه كَثِيرةٌ طَويلَةٌ، وغيرُها أهَمُّ منها. والله تعالى المَسْئُولُ أن يُوَفِّقَنا لِما يُرْضِيه، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكِيلُ.

باب الموصى إليه

بَابُ الْمُوصَى إِلَيهِ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُسْلِم إِلى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ عَدْلٍ، وإنْ كَانَ عَبْدًا أو مُرَاهِقًا أو امْرأَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُوصَى إليه (تَصِحُّ وصيةُ المسلمِ إلى كلِّ مسلم عاقِل عَدْلٍ، وإن كان عَبْدًا أو مُراهِقًا أو امرأةً أو أُمَّ وَلَدٍ) تَصِحُّ الوصيةُ إلى الرجلِ العاقِلِ المسلمِ الحُرِّ العَدْلِ إجْماعًا. فأمّا العَبْدُ فتَصِحُّ الوصيةُ إليه، قال ابنُ حامدٍ: سَواءٌ كان عبدَ نَفْسِه أو عَبْدَ غيرِه. وبه قال مالكٌ. وقال النَّخَعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ: تَصِحُّ الوصيةُ إلى عبدِه، ولا تَصِحُّ إلى عَبْدِ غيرِه. وقال أبو حنيفةَ: تَصِحُّ الوصيةُ إلى عبدِ نَفْسِه إذا لم يكنْ في ورثَتِه رَشِيدٌ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، والشافعي: لا تَصِحُّ الوصيةُ إلى عبدٍ بحالٍ؛ لأنَّه لا يكونُ وَلِيًّا على ابنِه بالنَّسَبِ، فلا يجوزُ أن يَلِيَ الوصيةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَجْنُونِ. ولَنا، أنَّه تَصِحُّ اسْتِنابَتُه في الحياةِ، فصَحَّ أن يُوصَى إليه، كالحُرِّ. وقِياسهم يَبْطُلُ بالمرأةِ. والخِلافُ في المُكاتَبِ والمُدَبَّرِ والمُعْتَقِ بعضُه، كالخِلافِ في العبدِ القِنِّ. وأمّا الصَّبيُّ المُمَيِّزُ، فقال القاضي: قِياسُ المَذْهَبِ صحةُ الوصيةِ؛ لأنَّ أحمدَ قد نَصَّ على صحةِ وَكالتِه. وعلى هذا يُعْتَبَرُ أن يكونَ قد جاوَزَ العَشْرَ. وقال شيخُنا (¬1): لا أعلمُ فيه نَصًّا عن أحمدَ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لا تَصِحُّ الوصيةُ إليه؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ الشَّهادَةِ والإقْرارِ ولا يَصِحُّ تَصَرُّفُه إلَّا بإذْنٍ، وهو مُولَّى عليه، فلم يكنْ مِن أهلِ الولايةِ، كالطِّفْلِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعي. وهو الصحيحُ إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) في: المغني 8/ 553.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَصِحُّ الوصيةُ إلى المرأةِ في قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. رُوِيَ ذلك عن شُرَيحٍ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والحَسَنُ بنُ صالح، وإسحاقُ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ولم يُجِزْه عَطاءٌ؛ لأنَّها لا تكونُ قاضِيَةً، فلا تكونُ وصيةً، كالمَجْنُونِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أوْصَى إلى حَفْصَةَ (¬1). ولأنَّها مِن أهلِ الشَّهادَةِ، أشْبَهَتِ الرجلَ. وتُخالِفُ القَضاءَ؛ فإنَّه يُعْتَبَرُ له الكَمالُ في الخِلْقَةِ والاجْتِهادُ، بخِلافِ الوصيةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَصِحُّ الوصيةُ إلى أُمِّ الوَلَدِ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ، ونَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّها تكونُ حُرَّة مِن أصْلِ المالِ عندَ نُفُوذِ الوصيةِ.

2766 - مسألة: (ولا تصح إلى غيرهم)

وَلَا تَصِحُّ إِلَى غَيرِهِمْ. وَعَنْهُ، تَصِحُّ إِلَى الْفَاسِقِ وَيَضُمُّ الْحَاكِمُ إِلَيهِ أمينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2766 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلى غيرِهم) كالطفْلِ والمَجْنُونِ، ولا وَصِيَّةُ المسلمِ إلى كافر، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ المَجْنُونَ والطِّفْلَ لَيسا أهلًا للتَّصَرُّفِ في أمْوالِهما، فلا يَلِيان على غيرِهما، والكافِرَ ليس مِن أهلِ الولايةِ على المسلمِ، ولأنَّه ليس مِن أهلِ الشَّهادَةِ والعَدَالةِ، أشْبَهَ المَجْنُونَ. وأمّا الفاسِقُ، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ الوصيةَ إليه لا تَصِحُّ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على صحةِ الوصيةِ إليه، فإنَّه قال في روايةِ ابنِ مَنْصُور: إذا كان مُتَّهَمًا لم تَخرُجْ عن يَدِه. وقال الخِرَقِيُّ: إذا كان خائِنًا ضُمَّ إليه أمِينٌ. وهذا يَدُلُّ على صحةِ الوصيةِ إليه (ويَضُمُّ الحاكِمُ إليه أمِينًا). وقال أبو حنيفةَ: تَصِحُّ الوصيةُ إليه، ويَنْفُذُ تَصَرُّفُه، وعلى الحاكِمَ عَزْلُه؛ لأنَّه بالِغٌ عاقِلٌ، فصَحَّتِ

2767 - مسألة: (فإن كانوا على غير هذه الصفات، ثم وجدت عند الموت، فهل تصح؟ على وجهين)

فَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ وُجِدَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَهَلْ تَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصيةُ إليه، كالعَدْلِ. ولَنا، أنَّه لا يجوزُ إفْرادُه بالوصيةِ، فلم تَجُزِ الوصيةُ إليه، كالمَجْنُونِ. وعلى أبي حنيفةَ، أنَّه لا يجوزُ إقْرارُه على الوصيةِ، فأشْبَهَ ما ذَكَرنا. 2767 - مسألة: (فإن كانوا على غيرِ هذه الصِّفاتِ، ثم وُجِدَتْ عندَ المَوْتِ، فهل تَصِحُّ؟ على وَجْهَين) يُعْتَبَرُ وُجُودُ هذه الشُّرُوطِ في الوَصِيِّ حال العَقْدِ والمَوْتِ، في أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، تُعْتَبَرُ حالةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْتِ حَسْبُ، كالوصيةِ له، ولأنَّ شُرُوطَ الشَّهادَةِ تُعْتَبرُ عندَ أدائِها لا عندَ تَحَمُّلِها، كذلك ههُنا. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّها شُرُوطُ العَقْدِ، فتُعْتَبرُ حال وُجُودِه، كسائِرِ العُقُودِ. فأمّا الوصيةُ له، فهي صحيحةٌ وإن كان وارِثًا، وإنَّما يُعْتَبرُ عَدَمُ الإِرث وخُرُوجُها مِن الثُّلُثِ للنُّفُوذِ واللُّزُومِ، فاعْتُبِرَتْ حالةَ اللُّزُومِ، بخِلافِ مسألتِنا، فإنَّها شُرُوط لصحةِ العَقْدِ، فاعْتُبِرَتْ حالةَ العَقْدِ، ولا يَنْفَعُ وُجُودُها بعدَه.

2768 - مسألة: (وإذا أوصى إلى رجل وبعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد أخرجت الأول)

وَإذَا أوْصَى إِلَى وَاحِدٍ وَبَعْدَهُ إِلَى آخَرَ، فَهُمَا وَصِيَّانِ، إلا أن يَقُولَ: قَدْ أخْرَجْتُ الْأوَّلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَصِحُّ الوصيةُ إلى الأعْمَى. وقال أصحابُ الشافعيِّ: فيه وَجْهٌ، أنَّ الوصيةَ لا تَصِحُّ إليه. بِناءً منهم على أنَّه لا يَصِحُّ بَيعُه ولا شِراؤُه، فلا يُوجَدُ فيه مَعْنَى الولايةِ. وهذا لا يُسَلَّمُ لهم (¬1)، مع أنَّه يُمْكِنُه التَّوْكِيلُ في ذلك، وهو مِن أهلِ الشهادَةِ والولايةِ في النِّكاحِ والولايةِ على أولادِه الصِّغارِ، فصَحَّتِ الوصيةُ إليه، كالبَصِيرِ. 2768 - مسألة: (وإذا أوْصَى إلى رجل وبعدَه إلى آخَرَ، فهما وَصِيّان، إلَّا أن يقولَ: قد أخْرَجْتُ الأوَّلَ) ونَظِيرُ ذلك ما إذا وَصَّى لرجلٍ بمُعَيَّن مِن مالِه، ثم وَصَّى به لآخَرَ، أو وَصَّى بجَميعِ مالِه لرجل، ثم وَصَّى به لآخَرَ، فإنَّه يكونُ بينَهما، وقد ذَكَرْنا ذلك (¬2). فكذلك إذا وَصَّى إلى رجلٍ، ثم وَصَّى إلى آخَرَ، فإنَّهما يَصِيران وَصِيَّين، كما لو وَصَّى إليهما جميعًا في حالٍ واحدةٍ. وإن قال: قد أخْرَجْتُ الأوَّلَ. بَطَلَتْ وصيتُه؛ لأنَّه صَرَّحَ بعَزْلِه فانعزَلَ، كما لو وَكَّلَه ثم عَزَلَه. ¬

(¬1) في م: «له». (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 259, 260.

2769 - مسألة: (وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف إلا أن يجعل ذلك إليه)

وَلَيسَ لأحَدِهِمَا الانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا أن يَجْعَلَ ذَلِكَ إلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2769 - مسألة: (وليس لأحَدِهما الانْفِرادُ بالتَّصَرُّفِ إلَّا أن يَجْعَلَ ذلك إليه) وجملةُ ذلك، أنَّه يجوزُ أن يُوصِيَ إلى رَجُلَين معًا في شيءٍ واحدٍ، ويَجْعَلَ لكلِّ واحدٍ منهما التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا، فيقولَ: أوْصَيتُ إلى كلِّ واحدٍ منكما وجَعَلْتُ له أن يَنْفَرِدَ بالتَّصَرُّفِ. فإنَّ هذا يَقْتَضي تَصَرُّفَ كلِّ واحدٍ منهما على الانْفِرادِ. وله أن يُوصِيَ إليهما ليَتَصَرَّفا مُجْتَمِعَين، فلا يجوزُ لأحَدِهما الانْفِرادُ بالتَّصَرُّفِ؛ لأنَّه لم يَجْعَلْ ذلك إليه، ولم يَرْضَ بنَظَرِه وحدَه. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في هاتَين الصُّورَتَين. فإن أطْلَقَ، فقال: أوْصَيتُ إليكما في كذا. فليس لأحَدِهما الانْفِرادُ بالتَّصَرُّفِ. وبه قال مالكٍ، والشافعيُّ. وقال أبو يُوسُفَ: له ذلك؛ لأنَّ الوصيةَ والولايةَ لا تَتَبَعَّضُ، فمَلَكَ كلُّ واحِدٍ منهما الانْفِرادَ بها، كالأخَوَين في تَزْويج

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْتِهما. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: يُسْتَحْسَنُ على خِلافِ القِياسِ. فيُبِيحُ أن يَنْفَرِدَ كلُّ واحِدٍ منهما بسبعةِ أشْياءَ؛ كَفْنِ المَيِّتِ، وقَضاءِ دَينِه، وإنْفاذِ وصيته، ورَدِّ الوَدِيعَةِ بعينها، وشِراءِ ما لا بُدَّ للصغيرِ منه مِن الكُسْوَةِ والطعامِ، وقَبُولِ الهِبَةِ له، والخُصُومَةِ عن المَيِّتِ فيما يُدَّعَى له وعليه؛ لأنَّ هذه يَشُقُّ الاجْتِماعُ، عليها، يَضُرُّ تَأْخِيرُها، فجاز الانْفِرادُ بها. ولَنا، أنَّه شَرَّكَ بينَهما في النَّظَرِ، فلم يكنْ لأحَدِهما الانْفِرادُ، كالوَكِيلَين. وما قاله أبو يُوسُفَ نَقُولُ به، فإنَّه جَعَل الولايةَ إليهما باجْتماعِهما، فليست مُتَبَعِّضَةً، كما لو وَكَّلَ وَكِيلَين أو صَرَّح للوَصيين بأن لا يتَصَرَّفا إلَّا مُجْتَمِعَين. ويَبْطُلُ ما قاله بهاتَين الصُّورَتَين، وبهما يَبْطُلُ ما قاله أبو حنيفةَ أيضًا. ومتى تَعَذَّرَ اجْتِماعُهما أقام الحاكِمُ أمِينًا مُقامَ الغائِبِ. فصل: إذا قال: أوْصَيتُ إلي زيدٍ، فإن مات فقد أوْصَيتُ إلى عَمْرو. صَحَّ ذلك، روايةً واحِدَةً، ويكونُ كلُّ واحدٍ منهما وَصِيًّا إلَّا (¬1) أنَّ عَمْرًا وَصِيٌّ بعدَ زيدٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في جَيشِ مُؤْتَةَ: «أمِيرُكُم زَيدٌ، فإن قُتِلَ فأميرُكُم جَعْفَرٌ، فإن قُتِلَ فأمِيرُكُم عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ» (¬2). والوصيةُ في مَعْنَى التَّأْمِيرِ. وكذلك إن قال: أوْصَيتُ إليكَ، فإذا كَبِر ابني كان وَصِيِّي. صَحَّ؛ لذلك، وإذا كَبِر ابنُه صار وَصِيَّه. ومِثلُه لو قال: أوْصَيتُ إليكَ، فإذا تاب ابني عن فِسْقِه. أو: قَدِم مِن غَيبَتِه. أو: ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 439.

2770 - مسألة: (وإن مات أحدهما أقام الحاكم مقامه أمينا)

فَإِنْ مَاتَ أحَدُهُمَا أقَامَ الْحَاكِمُ مُقَامَهُ أمينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ مِن مَرَضِه. أو: اشْتَغَلَ بالعِلْمِ. أو: صالحَ أُمَّه. أو: رَشَدَ. فهو وَصِيِّي. صَحَّتِ الوصيةُ إليه، ويَصِيرُ وَصِيًّا عندَ وُجُودِ هذه الشُّرُوطِ. 2770 - مسألة: (وإن مات أحَدُهما أقام الحاكِمُ مُقامَه أمِينًا) قد ذَكَرْنا أنَّ الوصيةَ تجوزُ إلى اثْنَين، وأنَّه متى أوْصَى إليهما مُطْلَقًا فليس لأحَدِهما الانْفِرَادُ بالتَّصَرُّفِ. فإن مات أحَدُهما، أو جُنَّ، أو وُجِد منه ما يُوجِبُ عَزْلَه، أقام الحاكِمُ مُقامَه أمِينًا؛ لأنَّ المُوصِيَ لم يَرْضَ بنَظَرِ هذا الباقي وحدَه. وإن أراد الحاكِمُ أن يَكْتَفِيَ بالباقي منهما لم يَجُزْ له ذلك. وذَكَرَ أصحابُ الشافعيِّ وَجْهًا في جَوازِه؛ لأنَّ النَّظَرَ لو كان للحاكمِ بمَوْتِ المُوصِي مِن غيرِ وصيةٍ، كان له رَدُّه إلى واحِدٍ، كذلك ههُنا، فيكونُ ناظِرًا بالوصيةِ مِن المُوصِي، والأمانةِ مِن جِهَةِ الحاكِمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ الموصِي لم يَرْضَ بتَصَرفِ هذا وحدَه، فوَجَبَ ضَمُّ غيرِه إليه، لأنَّ الوصيةَ مقَدَّمَة على نَظَرِ الحاكمِ واجْتِهادِه. فإن تَغَيَّرَتْ حالُهما جميعًا بمَوْتٍ أو غيرِه، فللحاكمِ أن يُنَصِّبَ مكانَهما. وهل له نَصْبُ واحدٍ؟ فيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، له ذلك؛ لأنَّه لَمّا عُدِم الوَصِيّان، صار الأمْر إلى الحاكم بمَنْزِلَةِ مَن لم يُوصِ، ولو لم يُوصِ لاكْتُفِيَ بواحدٍ، كذا هاهُنا. ويُفارِق ما إذا كان أحَدُهما حَيًّا؛ لأنَّ المُوصِيَ بَيَّنَ أنَّه لا يَرْضَى بهذا وحدَه، بخِلافِ ما إذا ماتا معًا. والثاني، لا يجوز؛ لأنَّ المُوصِيَ لم يَرْضَ بواحدٍ، فلم يُكْتَفَ به، كما لو كان أحَدُهما حَيًّا. فأمّا إن جَعَل لكلِّ واحِدٍ منهما التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا فمات أحَدُهما أو خَرَج مِن الوصيةِ، لم يكنْ للحاكِمِ أن يُقِيمَ مُقامَه أمِينًا؛ لأنَّ الباقِيَ منهما له النَّظَرُ بالوصيةِ، فلا حاجةَ إلى غيرِه. وإن ماتا معًا أو خَرَجا عن الوصيةِ، فللحاكمِ أن يُقِيمَ واحِدًا. فإن تَغَيَّرَتْ حالُ أحَدِ الوَصِيَّين تَغَيُّرًا لا يُزِيلُه عن الوصيةِ، كالعَجْزِ عنها

2771 - مسألة: (وكذلك إن فسق. وعنه، يضم إليه أمين)

وَكَذَلِكَ أَنْ فَسَقَ. وَعَنْهُ، يُضَمُّ إلَيهِ أَمِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لضَعْفٍ أو عِلَّةٍ أو نحو ذلك، أو كانا ممَّن لكلِّ واحِدٍ منهما (¬1) التَّصَرُّفُ مُنْفَرِدًا، فليس للحاكمِ أن يَضُمَّ إليهما أمينًا؛ لأنَّ الباقِيَ منهما يَكفِي، إلَّا أن يكونَ الباقي منهما يَعْجِزُ عن التَّصَرُّفِ وحدَه؛ لكَثْرَةِ العَمَلِ ونحوه، فله أن يُقِيمَ أمِينًا. وإن كانا ممَّن ليس لأحَدِهما التَّصَرُّفُ مُنْفَرِدًا، فعلى الحاكِمِ أن يُقِيمَ مُقامَ مَن ضَعُفَ منهما أمِينًا يَتَصَوَّفُ معه على كل حالٍ، فيَصِيرُون ثلاثةً؛ الوَصِيّان والأمِينُ. 2771 - مسألة: (وكذلك إن فَسَقَ. وعنه، يُضَمُّ إليه أمِينٌ) قد ذَكَرْنا الاخْتِلافَ في صحةِ الوصيةِ إلى الفاسِقِ، وأنَّ كَلامَ الخِرَقِيِّ يَدُلُّ على صحةِ الوصيةِ إليه، ويُضَمُّ إليه أمِينٌ، وكذلك إن كان عَدْلًا ففسَقَ. ونَقَل ابنُ مَنْصُورٍ عن أحمدَ نحوَ ذلك، فقال: إذا كان الوَصِيُّ مُتَّهَمًا لم يَخْرُجْ عن يَدِه. ونَقَل المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ في مَن وَصَّى إلى رَجُلَين ليس أحَدُهما بمَوْضِعِ الوصيةِ، فقال للآخَرِ: أعْطنِي. لا يُعْطِيه شيئًا، ليس هذا بمَوْضِعٍ للوصيةِ. فقيل له: أليس المَرِيضُ قد رَضِيَ به؟ فقال: وإن رَضِيَ به. فظاهِرُ هذا إبْطالُ الوصيةِ إليه. وحَمَل القاضِي كلامَ ¬

(¬1) في م: «منها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيِّ وكلامَ أحمدَ على إبْقائِه في الوصيةِ على أنَّ خيانتَه (1) طَرَأتْ بعدَ المَوْتِ. فأمّا إن كانت خيانتُه (¬1) مَوْجُودَةً حال الوصيةِ إليه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه لا يجوزُ تَوْلِيَةُ الخائِنِ على يَتيمٍ في حَياتِه، فكذلك بعدَ مَوْتِه، ولأن الوصيةَ ولاية وأمانة، والفاسِقُ ليس مِن أهْلِهما. فعلى هذا، إذا كان الوَصِيُّ فاسِقًا فحُكْمُه حُكْمُ مَن لا وَصِيَّ له، ويَنْظُرُ في مالِه الحاكمُ. وإن طَرَأ فِسْقُه بعدَ الوصيةِ زالت ولايتُه، وأقام الحاكمُ مُقامَه أمِينًا. هذا اخْتِيارُ القاضي. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. وعلى قولِ الخِرَقِيِّ، لا تَزُولُ ولايتُه، ويُضَمُّ إليه أمِين يَنْظُرُ معه. رُوِيَ ذلك عن الحسنِ , وابنِ سِيرِين؛ لأنَّه أمْكَنَ حِفْظُ المالِ بالأمِينِ، وتَحْصِيلُ نَظَرِ المُوصِي بإبْقائِه في الوصيةِ، فيكونُ جمعًا بينَ الحَقَّين. فأمّا إن لم يُمْكِنْ حِفْظُ المالِ بالأمِينِ، تَعَيَّنَ إزالةُ يَدِ الفاسِقِ الخائنِ وقَطْعُ تَصَرُّفِه؛ لأنَّ حِفْظَ المالِ على اليَتيمِ أوْلَى مِن رِعايَةِ قولِ المُوصِي الفاسِدِ. وأمّا التَّفْرِيقُ بينَ الفِسْقِ الطارِئ والمُقارِنِ فبَعِيدٌ؛ فإن الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ في ¬

(¬1) في النسخ: «جنايته» والمثبت كما في المغني 8/ 555.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّوامِ كاعْتِبارِها في الابتِداءِ، سِيَّما إذا كانت لمَعْنًى يُحْتاجُ إليه في الدَّوامِ، وإذا لم يكنْ بُدٌّ مِن التَّفْرِيقِ، فاعْتِبارُ العدالةِ في الدَّوامِ أوْلَى، مِن قِبَلِ أنَّ الفِسْقَ إذا كان مَوْجُودًا حال الوصيةِ، فقد رَضِيَ به المُوصِي مع عِلْمِه بحالِه، وأوْصَى إليه راضِيًا بتَصَرُّفِه مع فِسْقِه، فيُشْعِرُ ذلك بأنَّه عَلِم أنَّ عندَه مِن الشَّفَقَةِ على اليَتِيمِ ما يَمْنَعُه مِن التَّفْرِيطِ فيه وخِيانَتِه في مالِه، بخِلافِ ما إذا طَرَأ الفِسْقُ، فإنَّه لم يَرْضَ به على تلك الحالِ، والاعْتِبارُ برِضائِه، ألا تَرَى أنه إذا وَصَّى إلى واحدٍ، جاز له التَّصَرُّفُ وحدَه، ولو وَصَّى إلى اثْنَين، لم يَجُزْ للواحدِ التَّصَرُّفُ. فصل: إذا تَغَيَّرت حالُ المُوصَى إليه بمَوْتٍ أو فِسْقٍ أو جُنُونٍ أو سَفَهٍ، فقد ذَكَرْنا حُكْمَه. فإن تَغَيَّرَت حالُه قبلَ المَوْتِ وبعدَ الوصيةِ، ثم عاد فكان عندَ المَوْتِ جامِعًا لشُرُوطِ الوصيةِ، صَحَّتِ الوصيَّةُ إليه؛ لأنَّ الشّرُوطَ مَوْجُودَةٌ حال العَقْدِ والمَوْتِ، فصَحَّتِ الوصيةُ، كما لو لم تَتَغَيَّرْ حالُه. ويَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ؛ لأنَّ كلَّ حالةٍ منها حالةٌ للقَبُولِ والرَّدِّ، فاعْتُبِرَتِ الشُّرُوطُ فيها. فأمّا إن زالت بعدَ المَوْتِ فانْعَزَلَ، ثم عاد فكَمَّلَ الشّرُوطَ، لم تَعُدْ وَصِيَّتُه؛ لأنَّها زالتْ فلا تَعُودُ إلَّا بعَقدٍ جَدِيدٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا العَدْلُ الذي يَعْجزُ عن النَّظَرِ لعِلَّةٍ أو ضَعْفٍ، فإن الوصيةَ تَصِحُّ إليه، ويَضُمُّ الحاكِمُ إليه أَمِينًا، ولا يُزِيلُ يَدَه عن المالِ ولا نَظَرَه؛ لأنَّ الضَّعِيفَ أهلٌ للولايةِ والأمانةِ، فصَحَّتِ الوصيةُ إليه. وهكذا إن كان قَويًّا فحَدَثَ فيه ضَعْفٌ أو عِلَّةٌ، ضَمَّ الحاكِمُ إليه يَدًا أُخْرَى، ويكونُ الأوَّلُ الوَصِيَّ دُونَ الثانِي، وهذا مُعاونٌ؛ لأنَّ ولايةَ الحاكمِ إنَّما تكونُ عندَ عَدَمِ المُوصَى إليه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ. وما نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا.

2772 - مسألة: (ويصح قبوله للوصية)

وَيَصِحُّ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَةِ في حَيَاةِ الْمُوصِي وَبَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ. وَعَنْهُ، لَيسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2772 - مسألة: (ويَصِحُّ قَبُولُه للوصيةِ) ورَدُّه (في حَياةِ المُوصِي) لأنَّه إذْنٌ في التَّصَرفِ، فصَحَّ قَبُولُه بعدَ العَقْدِ، كالتَّوْكِيلِ، بخِلافِ الوصيةِ له، فإنَّها تَمليكٌ في وقتٍ، فلم يصِحَّ القَبُولُ قبلَ الوقتِ. ويجوزُ تَأْخيرُ القَبُولِ إلى ما بعدَ المَوْتِ؛ لأنَّها نوْعُ وصيةٍ، فصَحَّ قَبُولُها بعدَ المَوْتِ، كالوصيةِ له، ومتى قَبِلَ (¬1) صار وصيًّا. 2773 - مسألة: (وله عَزْلُ نَفْسِه متى شاء) مع القُدْرَةِ والعَجْزِ، في حياةِ المُوصِي وبعدَ موتِه، في حُضُورِه وغَيبَتِه. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ له ذلك بعدَ الموت، ولا يجوزُ في حَياتِه إلَّا ¬

(¬1) في م: «قتل».

2774 - مسألة: (وللموصي عزله متى شاء)

وَلِلْمُوصِى عَزْلُهُ مَتَى شَاءَ. وَلَيسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إلا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَيهِ. وَعَنْهُ، لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحَضْرَتِه؛ لأنَّه غَرَّه بالتِزامِ وصييه، ومَنَعَه بذلك الإِيصاءَ إلى غيرِه. وعن أحمدَ، أنَّه لا يجوزُ له عزلُ نَفْسِه بعدَ الموتِ. ذَكَرَه ابنُ أبي موسى في «الإرْشادِ»؛ لِما ذَكَرْنا. ولَنا، أنَّه مُتَصَرِّفٌ بالإذنِ، فكان له عزلُ نفسِه، كالوَكِيلِ. 2774 - مسألة: (وللمُوصِي عزلُه متى شاء) لأنَّه مُتَصَرِّفٌ بإذْنِه، فكان له عزلُه، كالمُوَكِّلِ له عزلُ وَكِيله متى شاء. 2775 - مسألة: (وليس للوصيِّ أن يُوصِيَ إلَّا أن يَجْعَلَ ذلك إليه. وعنه، له ذلك) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا وَصَّى إلى رجلٍ، وأذِنَ له

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الإِيصاءِ لمَن شاء، نحوَ أن يقولَ: أذِنْتُ لك (¬1) أن تُوصِيَ إلى مَن شِئْتَ. أو: كلُّ مَن أوْصَيتَ إليه فقد أوْصَيتُ إليه. أو: فهو وَصِيِّي. صَحَّ. وبه قال أكْثَرُ أهلِ العلمِ. وحُكِيَ عن الشافعيِّ في أحَدِ قَوْلَيه أنَّه قال: ليس له أن يُوصِيَ؛ لأنَّه يلِي بتَوَليه، فلا يَصِحُّ أن يُوصِيَ، كالوَكِيلِ. ولَنا، أنَّه مَأذُون له في الإِذْنِ في التَّصَرُّفِ، فجاز له أن يَأْذَنَ لغيرِه، كالوَكِيلِ إذا أُمِر بالتَّوْكِيلِ، فالوكيلُ حُجَّةٌ عليه مِن الوَجْهِ الذي ذَكَرْناه. فإن وَصَّى إليه وأطْلَقَ، فلم يَأْذَن له ولم يَنْهَه عنه، ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، له أن يُوصِيَ إلى غيرِه. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي يُوسُفَ؛ لأنَّ الأبَ أقامه مُقامَ نَفْسِه، فكان له الوصيةُ كالأبِ. والثاني، ليس له ذلك. اخْتارَه أبو بكر. وهو مَذْهَبُ الشافعي، وإسحاقَ. وهو الظاهِرُ مِن قولِ الخِرَقِيِّ؛ لقولِه ذلك في الوكِيلِ (¬2)؛ لأنَّه تَصَرَّفَ بتَوْلِيةٍ، فلم يكنْ له ذلك التَّفْويضُ كالوَكِيلِ. ويُخالِفُ الأبَ؛ لأنَّه يَلِي بغيرِ تَوْليةٍ. ¬

(¬1) بعده في م: «إلى». (¬2) في م: «التوكيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجوزُ أن يَجْعَلَ للوَصِيِّ جُعْلًا؛ لأنَّها بمنزلةِ الوَكالةِ، والوَكالةُ تجوزُ بجُعْلٍ، فكذلك الوصيةُ. ونَقَل إسحاقُ بنُ إبراهيمَ في الرجلِ يُوصِي إلى الرجلِ ويَجْعَلُ له دَراهِمَ مُسَمَّاةً، فلا بَأسَ. ومُقاسَمَة الوَصِيِّ المُوصَى له جائِزَةْ على الورثةِ؛ لأنَّه نائِبٌ عنهم، ومُقاسَمَتُه للورثةِ على المُوصَى له لا تجوزُ؛ لأنَّه ليس نائِبًا عنه.

2776 - مسألة: (ولا تصح الوصية إلا في معلوم يملك الموصي فعله؛ كقضاء الدين، وتفريق الوصية، والنظر في أمر الأطفال)

وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلا فِي مَعْلُومٍ يَمْلِكُ الْمُوصِي فِعْلَهُ؛ كَقَضَاءِ الدَّينِ، وَتَفْرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّظَرِ فِي أمْرِ الْأطْفَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اخْتَلَفَ الوَصِيّان: عندَ مَن يُجْعَلُ المالُ منهما؟ لم يُجْعَلْ عندَ واحدٍ منهما، ولم يُقْسَمْ بينَهما، وجُعِل في مكانٍ تحتَ أيدِيهما جميعًا؛ لأنَّ المُوصِيَ لم يَأْمَنْ أحَدَهما على حِفْظِه ولا التَّصَرُّفِ فيه. وقال مالكٌ: يُجْعَلُ عندَ أعْدَلِهما. وقال أصحابُ الرَّأْي: يُقْسَمُ بينَهما. وهو المَنْصُوصُ عن الشافعيِّ، إلَّا أنَّ أصحابَه اخْتَلَفُوا في مُرادِه بكَلامِه، فقال بعضُهم: إنَّما أراد إذا كان كلُّ واحدٍ مُوصًى إليه مُنْفَرِدًا. وقال بعضُهم: بل هو عامٌّ فيهما. ولَنا، أنَّ حِفْظَ المال مِن جملةِ المُوصَى به، فلم يَجُزْ لأحَدِهما الانْفِرادُ به، كالتَّصَرُّفِ، ولأنَّه لو جاز لكلِّ واحدٍ منهما أن يَنْفَرِدَ بحِفْظِ بعضِه، لجاز له أن يَنْفَرِدَ بالتَّصَرُّفِ في بعضِه. 2776 - مسألة: (ولا تَصِحُّ الوصيةُ إلَّا في مَعْلُومٍ يَمْلِكُ المُوصِي فِعْلَه؛ كقَضاءِ الدَّينِ، وتفرِيقِ الوصيةِ، والنَّظَرِ في أمرِ الأطْفالِ) لأنَّ الوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بالإِذْنِ، فلم يَجُزْ إلَّا في مَعْلُومٍ يَمْلِكُ المُوصِي فِعْلَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالوَكالةِ، فيَجُوزُ أن يُوصِيَ إليه بقَضاءِ دُيُونِه واقْتِضائِها، ورَدِّ الوَدائِعِ واسْتِرْدادِها؛ لأنَّه يَمْلِكُ ذلك، فمَلَكَه وَصِيُّه. فأمّا النَّظَرُ لورثتِه في أمْوالِهِم، فإن كان ذا ولايةٍ عليهم، كأولادِه الصِّغارِ والمَجانِينِ، ومَن لم يُؤْنَسْ رُشْدُه، فله أن يُوصِيَ إلى مَن يَنْظُرُ لهم في أمْوالِهم بحِفْظِها، ويَتَصَرَّفُ لهم فيها بما لهمُ الحَظُّ فيه. فأمّا مَن لا ولايةَ له عليهم، كالعُقلاءِ الراشِدِين، وغيرِ أولادِه مِن الإِخوةِ والأعْمامِ وسائِرِ مَن عَدَا الأولادِ، فلا تصحُّ الوصيةُ عليهم؛ لأنَّه لا ولايَةَ للمُوصِي عليهم في الحياةِ، فلا يكونُ ذلك لنائِبهِ بعدَ المماتِ. ولا نَعْلَمُ في هذا كُلِّه خِلافًا. وبه يقولُ أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، ومالكٌ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ والشافعيَّ قالا: للجَدِّ ولايةٌ على ابنِ ابْنِه وإن سَفَل؛ لأنَّ له ولادَةً وتَعْصِيبًا، فأشْبَهَ الأبَ. ولأصحابِ الشافعيِّ في الأُمِّ عندَ عَدَمِ الأبِ والجَدِّ وَجْهان؛ أحَدُهما، لها ولايةٌ؛ لأنَّها أحَدُ الأبَوَين، فأشْبَهَتِ الأَبَ. ولَنا، أنَّ الجَدَّ يُدْلِي بواسطَةٍ، أشْبَهَ الأخَ والعَمَّ، بخلافِ الأبِ، فإنَّه يُدْلِي بنَفْسِه، ويَحْجُبُ الجَدَّ، ويُخالِفُه في مَنْزِلَتِه وحَجْبِه، فلا يَصِحُّ إلْحاقُه به ولا قِياسُه عليه. وأمّا المرأةُ فلا تَلِي؛ لأنَّها قاصِرَةٌ لا تَلي النِّكاحَ بحالٍ، ولا تَلِي مال غيرِها، كالعبدِ.

2777 - مسألة: (وإذا أوصى إليه في شيء لم يصر وصيا في غيره)

وَإِذَا أَوْصَى إِلَيهِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصِرْ وَصِيًّا فِي غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2777 - مسألة: (وإذا أوْصَى إليه في شيءٍ لم يَصِرْ وَصيًّا في غيرِه) يجوزُ أن يوُصِيَ إلى رجلٍ بشيءٍ دُونَ شيءٍ، مثلَ أن يُوصِيَ إليه بتفريقِ ثُلُثِه دُونَ غيرِه، أو بقَضاءِ دُيُونِه، أو بالنَّظَرِ في أمرِ أطْفالِه حَسْبُ، فلا يكونُ له غيرُ ما جَعَل إليه. ويجوزُ أن يُوصِيَ إلى إنْسانٍ بتفرِيقِ وصيتِه، وإلى آخَرَ بقَضاءِ دُيُونِه، وإلى آخَرَ بالنَّظَرِ في أمرِ أطفالِه، فيكونُ لكلِّ واحدٍ ما جَعَل إليه دُونَ غيرِه. ومتى أوْصَى إليه بشيءٍ، لم يَصِرْ وصيًّا في غيرِه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يكونُ وصيًّا في كلِّ ما يَمْلِكُه المُوصِي؛ لأنَّ هذه ولايَةٌ تَنْتَقِلُ مِن الأبِ بمَوْتِه، فلا تَتَبَعَّضُ، كولايةِ الجَدِّ. ولَنا، أنَّه استفادَ التَّصَرُّفَ بالإذْنِ مِن جِهَةِ الآدَمِيِّ، فكان مَقْصُورًا على ما أذِنَ فيه، كالوَكِيلَ، وولايةُ الجَدِّ ممنوعةٌ، ثم تلك ولايةٌ استفادَها بقَرابَتِه، وهي لا تَتَبَعَّضُ، والإذْنُ يَتَبَعَّضُ، فافْتَرَقا. فصل: ولا بَأْس بالدُّخُولِ في الوصيةِ، فإنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، كان بعضُهم يُوصِي إلى بعضٍ فيَقْبَلُون الوصيةَ، فرُوىَ عن أبي عُبَيدَةَ أنَّه لَمّا عَبَر الفُراتَ أوْصَى إلى عُمَرَ. وأوْصَى إلى الزُّبَيرِ سِتَّةٌ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ عُثْمانُ، وابنُ مسعودٍ، والمِقْدادُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُطِيعُ بنُ الأسْوَدِ، وآخَرُ (¬1). ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان وَصِيًّا لرجلٍ. وفي وصيةِ ابنِ مسعودٍ: إن حَدَث بي حادِثُ الموتِ مِن مَرَضِي هذا، أنَّ مَرْجِعَ وَصِيَّتِي إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثم إلى الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ وابنِه عبدِ الله (¬2). ولأنها (¬3) وكالةٌ وأمانَةٌ، فأشْبَهَتِ الوَدِيعَةَ والوَكالةَ في الحياةِ. وقِياسُ مَذْهَبِ أحمدَ أنَّ تَرْكَ الدُّخُولِ فيها أوْلَى؛ لِما فيها مِن الخَطَرِ، وهو لا يَعْدِلُ بالسَّلامَةِ شيئًا، ولذلك يَرَى تَرْكَ الالْتِقاطِ وتَرْكَ الإِحْرام قبلَ المِيقاتِ أفْضَلَ؛ طلبًا للسلامةِ واجْتِنابًا للخَطَرِ، وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذَرٍّ: «إنِّي أرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، فَلَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَينِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَال يَتِيمٍ». أخرَجَه مسلمٌ (¬4). فصل: فإن مات رجلٌ لا وَصِيَّ له، ولا حاكمَ في بَلَدِه، فظاهرُ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّه يجوزُ لرجلٍ مِن المسلمين أن يَتَولَّى أمْرَه، ويَبِيعَ ما دَعَتِ الحاجةُ إلى بَيعِه، فإنَّ صالِحًا نَقَل عنه، في رجلٍ بأرْضَ غُرْبَةٍ لا قاضِيَ بها، مات وخَلَّفَ جَوارِيَ ومالًا، أتَرَى لرجلٍ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الأوصياء، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 282. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 208. (¬3) في الأصل: «لأنه». (¬4) في: باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، من كتاب الإمارة: صحيح مسلم 3/ 1458. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الدخول في الوصايا، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود 2/ 102. والنسائي، في: باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، من كتاب الوصايا. المجتبى 6/ 214. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 180.

2778 - مسألة: (وإذا أوصى إليه بتفرقة ثلثه فأبى الورثة إخراج ثلث ما في أيديهم)

وَإِذَا أَوْصَى إِلَيهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ فَأَبَى الْوَرَثَةُ إِخْرَاجَ ثُلُثِ مَا فِي أَيدِيهِمْ، أَخْرَجَهُ كَلَّهُ مِمَّا فِي يَدِهِ. وَعَنْهُ؛ يُخْرِجُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ وَيَحْبِسُ بَاقِيَهُ حَتَّى يُخْرِجُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن المسلمين بَيعَ ذلك؟ فقال: أمّا المَنافِعُ والحَيَوانُ، فإنِ اضْطُرُّوا إلى بَيعِه ولم يكُنْ قاضٍ، فلا بَأْسَ، وأمّا الجَوارِي فأُحِبُّ أن يَتَوَلَّى بَيعَهُنَّ حاكمٌ مِن الحُكَّامِ. وإنَّما تَوَقَّفَ عن بَيعِ الإِماءِ على طَريقِ الاخْتِيارِ احْتِياطًا؛ لأنَّ بَيعَهُنَّ يَتَضَمَّنُ إباحَةَ فَرْجٍ، وأجاز بَيعَ ذلك؛ لأنَّه مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. 2778 - مسألة: (وإذا أوْصَى إليه بتَفْرِقَةِ ثُلُثِه فأبَى الورثةُ إخْراجَ ثُلُثِ ما في أيدِيهم) ففيه روايَتان؛ إحْداهما (يُخرِجُ الثُّلُثَ كلَّه ممّا في يَدِه) نَقَلَها أبو طالِبٍ؛ لأنَّ حَقَّ المُوصَى له مُتَعَلِّقٌ بأجْزاءِ التَّرِكَةِ، فجاز أن يَدْفَعَ إليه ممّا في يَدِه، كما يَدْفَعُ إلى بعضِ الورثةِ. والأُخْرَى، يَدْفَعُ إليه ثُلُثَ ما في يَدِه، ولا يُعْطِيهم شيئًا ممّا في يَدِه حتى يُخْرِجُوا ثُلُثَ ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أيدِيهم. نَقَلَها أبو الحارِثِ؛ لأنَّ صاحِبَ الدَّينِ إذا كان في يَدِه مالٌ، لم يَمْلِكِ اسْتِيفاءَه ممّا في يَدِه، كذا ههُنا. ويُمْكِنُ حَمْلُ الرِّوايتَين على اخْتِلافِ حالينِ، فالرِّوايةُ الأُولَى مَحْمُولَةٌ على ما إِذا كان المالُ جِنْسًا واحِدًا، فللوَصِيِّ أن يُخرِجَ الثُّلُثَ كلَّه ممّا في يَدِه؛ لأنَّه لا فائِدَةَ في انْتِظارِ إخْراجِهم ممّا في أيدِيهم مع اتِّحادِ الجِنْسِ، والروايةُ الثانيةُ محمولةٌ على ما إذا كان المالُ أجْناسًا، فإنَّ الوصيةَ تَتَعلَّقُ بثُلُثِ كل جنْسٍ، فليس له أن يُخْرِجَ عِوَضًا عن ثُلُثِ ما في أيدِيهم ممّا في يَدِه؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ لا تجوزُ إلَّا برِضاهم. واللهُ أعلمُ.

2779 - مسألة: (وإن أوصاه بقضاء دين معين فأبى الورثة ذلك، قضاه بغير علمهم)

وَإنْ أَوْصَاهُ بِقَضَاءِ دَينٍ مُعَيَّنٍ فَأَبَى ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، قَضَاهُ بِغَيرِ عِلْمِهِمْ. وَعَنْهُ، فِي مَنْ عَلَيهِ دَينٌ لِمَيِّتٍ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَينٌ، أَنَّهُ يَقْضِي دَينَ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يَخَفْ تَبِعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2779 - مسألة: (وإن أوْصاه بقَضاءِ دَينٍ مُعَيَّنٍ فأبَى الورثةُ ذلك، قَضاه بغيرِ عِلْمِهم) لأنه واجِبٌ سواءٌ رَضُوا به أو أبَوْه، فإذا أبَوْه قَضاهُ، كما لو وَصَّى لرجلٍ بمُعَيَّنٍ يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ فلم يَقْبَلُوا الوصيةَ، فإنَّه يَدْفَعُ إليه وصيتَه بغيرِ رِضاهم، ولا يُعْتَبرُ عِلْمُهم، كذا ههُنا. وعن أحمدَ (في مَن عليه دَينٌ لمَيِّتٍ وعلى المَيِّتِ دَينٌ، أنَّه يَقْضِي دَينَ المَيِّتِ إن لم يَخَفْ تَبِعَةً) يَعْنِي إذا خاف أن يَطْلُبَه الورثةُ بما عليه ويُنْكِرُوا الدَّينَ الذي على مَوْرُوثِهم، فلا يَقْضِيه؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ رُجُوعَهم عليه. وإن لم يَخَفْ ذلك قَضَى دَينَ المَيِّتِ الذي عليه بدَينِ المَيِّتِ الذي له، لِما فيه مِن تَبْرِئَةِ ذِمَّتِه وذِمَّةِ المَيِّتِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا عَلِم المُوصَى إليه أنَّ على المَيِّتِ دَينًا، إمّا بوصيةِ المَيِّتِ أو غيرِها، فقال أحمدُ: لا يَقْضِيه إلَّا بِبَيِّنَةٍ. قيل له: فإن كان ابنُ المَيِّتِ يُصَدِّقُه. قال: يكونُ ذلك في حِصَّةِ مَن أقَرَّ بقَدْرِ حِصَّتِه. وقال في مَن اسْتَوْدَعَ رجلًا ألْفَ دِرهمٍ، فقال: إن أنا مِتُّ، فادْفَعْها إلى ابْنِي الكَبِيرِ. وله ابْنان، أو قال: ادْفَعْها إلى أجْنَبِيٍّ. فقال: إن دَفَعَها إلى أحَدِ الابْنَين ضَمِن للآخَرِ قَدْرَ حِصَّتِه، وإن دَفَعَها إلى الآخَرِ ضَمِن. وَلَعَلَّ هذا مِن أحمدَ فيما إذا لم يُصَدِّقِ الورثةُ الوَصِيَّ ولم يُقِرُّوا، فلا يُقْبَلُ قولُه عليهم، وليس له الدَّفْعُ بغيرِ إذْنِهم؛ لأنَّ قولَه: أقَرَّ عندِي، وأذِنَ لي. إثْباتُ ولايَةٍ (¬1)، فلا يُقْبَلُ قولُه فيه، ولا شَهادَتُه؛ لأنَّه يَشْهَدُ لنفسِه ¬

(¬1) في م: «ولائه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالولايةِ. وقد نَقَل أبو داودَ، في رجلٍ أوْصَى أنَّ لفُلانٍ عَلَيَّ كذا: يَنْبَغِي للوَصِيِّ أن يُنْفِذَه، ولا يَحِلُّ له إن لم يُنْفِذْه. فهذه المسألةُ محمولةٌ على أنَّ الورثةَ يُصَدِّقُون الوَصِيَّ أو المُدَّعِيَ، أو له بَيِّنةٌ بذلك، جمعًا بينَ الرِّوايَتَين، ومُوافَقَةَ الدَّلِيلِ. قيل لأحمدَ: فإن عَلِم المُوصَى إليه لرجلٍ حَقًّا على المَيِّتِ، فجاء الغرِيمُ يُطالِبُ الوَصِيَّ، وقَدَّمَهْ إلى القاضي ليَسْتَحْلِفَه أنَّ مالي في يَدَيكَ حَقٌّ. فقال: لا يَحْلِفُ، ويُعْلِمُ القاضِيَ بالقَضِيَّةِ، فإن أعْطاه القاضي فهو أعْلَمُ. فإنِ ادَّعَى رجلٌ دَينًا على المَيِّتِ وأقامَ بَيِّنَةً، فهل يجوزُ للوَصِيِّ قَبُولُها وقَضاءُ الدَّينِ بها مِن غيرِ حُضُورِ حاكمٍ؟ فكلامُ أحمدَ يَدُلُّ على رِوايَتَين؛ إحْداهما، لا يجوزُ الدَّفْعُ إليه بدَعْواه، إلَّا أن تَقُومَ بَيِّنَةٌ. فظاهِرُ هذا أنَّه جَوَّزَ الدَّفْعَ بالبينةِ مِن غيرِ حُكمِ حاكمٍ؛ لأنَّ البيِّنَةَ حُجَّةٌ له. وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ: إلَّا أن تَثْبُتَ بَيِّنةٌ عندَ الحاكمِ بذلك. فأمّا إن صَدَّقَهم الورثةُ، قُبِل؛ لأنَّه إقْرارٌ منهم على أنْفسِهم.

2780 - مسألة: (وتصح وصية الكافر إلى المسلم)

وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْمُسْلِمِ، وَإلَى مَنْ كَانَ عَدْلًا فِي دِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2780 - مسألة: (وتَصِحُّ وصيةُ الكافِرِ إلى المُسْلِمِ) إذا لمْ تكُنْ تَرِكَتُه خَمْرًا أو خِنْزِيرًا؛ لأنَّ المُسلمَ مَقْبُولُ الشَّهادَةِ عليه وعلى غيرِه. فأمّا وصيةُ الكافِرِ إلى الكافرِ العَدْلِ في دِينِه، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، تصحُّ الوصيةُ إليه. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، لأنَّه يَلِي بالنَّسِبِ فيَلِي بالوصيةِ، كالمسلمِ. والثاني، لا يصحُّ -وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنه فاسِقٌ، فلم تصحَّ الوصيةُ إليه، كفاسِقِ المسلمين. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهانِ كهَذَين. فإن لم يكنِ الكافِرُ عَدْلًا في دِينِه، لم تصحَّ الوصيةُ إليه؛ لأنَّ عَدَمَ العَدالةِ في المسلمِ تَمْنَعُ صحةَ الوصيةِ إليه، فالكافِرُ أوْلَى.

2781 - مسألة: (إذا قال: ضع ثلثي حيث شئت. أو: أعطه من شئت. لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى ولده)

وَإِذَا قَال: ضَعْ ثُلُثِي حَيثُ شِئْتَ. أَوْ: أعْطِهِ مَنْ شِئْتَ. لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَا دَفْعُهُ إِلَى وَلَدِهِ. وَيَحْتَمِل جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2781 - مسألة: (إذا قال: ضَعْ ثُلُثِي حيثُ شِئْتَ. أو: أعْطِه مَن شِئْتَ. لم يَجُزْ له أخْذُه ولا دَفْعُه إلى وَلَدِه) ولا والِدِه. قال أحمدُ: إذا كان في يَدِه مالٌ للمَساكِينِ وأبْوابِ البِرِّ، وهو مُحْتاجٌ إليه، فلا يَأْكُلْ منه شيئًا، إنَّما أُمِرَ بتَنْفِيذِه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي: إذا قال المُوصِي: جَعَلْتُ لك أن تَضَعَ ثُلُثِي حيثُ شِئْتَ. أو: حيث رأيتَ. فله أخْذُه لنَفْسِه ووَلَدِه. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ ذلك عندَنا أيضًا؛ لأنَّ لَفْظَ المُوصِي يَتناوَلُه. ويَحْتَمِلُ أن يُنْظَرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى قَرائِنِ الأحْوالِ، فإن دَلَّتْ على أنَّه أراد أخْذَه منه، مثلَ أن يكونَ من جُمْلَةِ المُسْتَحِقِّينَ الذين يُصْرَفُ إليهم ذلك، أو عادَتُه الأخْذُ مِن مِثْلِه، فله الأخْذُ منه، وإلَّا فلا. ويَحْتَمِلُ أنَّ له إعْطاءَ وَلَدِه وسائِرِ أقارِبِه إذا كانوا مُسْتَحِقِّين دُونَ نَفْسِه؛ لأنَّه مَأْمُورٌ بالتَّفْرِيقِ، وقد فَرَّقَ في مَن يَسْتَحِقُّ، فأشْبَهَ الدَّفْعَ إلى الأجْنَبِيِّ. ولَنا، أنَّه تَمْلِيكٌ مَلَكَه بالإِذْنِ، فلا يجوزُ أن يكونَ قابِلًا، كما لو وَكَّلَه في بَيعِ سِلْعةٍ، لم يَجُزْ بَيعُها مِن نَفْسِه.

2782 - مسألة: (وإن دعت الحاجة إلى بيع بعض العقار لقضاء دين الميت، أو حاجة الصغار، وفي بيع بعضه نقص، فله البيع على الكبار والصغار)

وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيعِ بَعْضِ الْعَقَارِ لِقَضَاءِ دَينِ الْمَيِّتِ، أَوْ حَاجَةِ الصِّغَارِ، وَفِي بَيعِ بَعْضِهِ نَقْصٌ، فَلَهُ الْبَيعُ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيسَ لَهُ الْبَيعُ عَلَى الْكِبَارِ، وَهُوَ أَقْيَسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2782 - مسألة: (وإن دَعَتِ الحاجَةُ إلى بَيعِ بعضِ العَقَارِ لقَضاءِ دَينِ المَيِّتِ، أو حاجةِ الصِّغارِ، وفي بَيعِ بعضِه نَقْصٌ، فله البَيعُ على الكِبارِ والصِّغارِ) وقال أبو حنيفةَ، وابنُ أبي لَيلَى: يجوزُ البَيعُ على الصِّغارِ والكِبارِ فيما لا بُدَّ منه، وكذلك إن كان جَمِيعُهم كِبارًا وهناك دَينٌ أو وصيةٌ. وقيل: لا يَمْلِكُ أن يَبِيعَ إلَّا ما يَخْتَصُّ (¬1) الصِّغارَ، وبقَدْرِ الدَّينِ والوصيةِ. ولَنا، أنَّه وَصِيٌّ يملِكُ بيعَ بعضِ التَّرِكَةِ، فمَلَكَ بيعَ جَمِيعِها، كما لو كان جميعُ الورثةِ (¬2) صِغارًا وكان الدَّينُ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، ولأنَّ ¬

(¬1) في م: «يحظى». (¬2) في الأصل: «التركة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَصِيَّ قائِمٌ مَقامَ الأبِ، وللأبِ أن يَبِيعَ الجميعَ، ولأنَّه لَمّا جاز بَيعُها في الدَّينِ المُسْتَغْرِقِ، جاز بَيعُها فيما لا يَسْتَغْرِقُ، كالعَينِ المَرْهُونَةِ، ولأنَّ في بَيعِ البعضِ نَقْصًا على الصِّغارِ، فيَتَعَيَّنُ بَيعُ الجميعِ؛ دَفْعًا للضَّرَرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهم. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ البَيعُ على الكِبارِ. وبه قال الشافعيُّ (وهو أقْيَسُ) إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه لا يَجِبُ على الإنْسانِ بيعُ مِلْكِه ليَزْدادَ ثَمَنُ مِلكِ غيرِه، كما لو كان شَرِيكُهم غيرَ وارِثٍ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا. وهو الصحيحُ. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الفرائض

بِسْمِ الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الْفَرَائِضِ وَهِيَ قِسْمَةُ الْمَوَارِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الفَرائِض (وهي قِسْمةُ المَوارِيثِ) روَى أبو داودَ بإسْنادِه في عبدِ الله بِنِ عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا سِوى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وسُنَّةٌ قائِمَةٌ، وفَريضَةٌ عادِلَةٌ» (¬1). وعن أبي هُرَيرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَلَّمُوا الْفَرائِضَ وعَلِّمُوهُ، فَإنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِن أُمَّتِي». أخْرَجَهُ ابنُ ماجه (¬2). ويُرْوَى عن عبدِ اللهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في تعليم الفرائض، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 107. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب اجتناب الرأي والقياس، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 21. (¬2) في: باب الحث على تعليم الفرائض، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 908. والحديثان إسنادهما ضعيف. إرواء الغليل 6/ 106. ضعيف أبي داود 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وإنَّ العِلْمَ سَيُقْبَضُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي الفَرِيضَةِ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَينَهُمَا» (¬1). ورَوَى سعيدٌ (¬2) عن جَرِيرِ بنِ عبدِ الحميدِ عن الأعْمَشِ عن إبراهيمَ، قال: قال عمرُ: تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ فَإنَّها مِن دِينِكُم. وعن جَرِيرٍ عن عاصِمٍ الأحْوَلِ عن مُوَرِّقٍ العِجْلِيِّ، قال: قال عمرُ بنُ الخطّابِ، رَضِيَ الله عَنه: تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ، واللَّحْنَ، والسُّنَّةَ، كما تَعَلَّمُونَ القُرْآنَ (¬3). وقال (¬4): ثَنَا أبو الْأحْوَصِ، ثَنَا أبو إسحاقَ، عن أبي الْأَحْوَصِ، عن عبدِ اللهِ قال: مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ فلْيتَعَلَّمِ الفَرائِضَ. وروَى جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: جاءَتِ امرأةُ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بابْنَتَيها مِن سَعْدٍ، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، هاتان ابْنَتا سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، قُتِل أبُوهُما معك في أُحُدٍ شَهِيدًا، وإنَّ عمَّهُما أخَذَ مالهما، ولا يُنْكَحان إلَّا ولَهُما مالٌ. فنزلَتْ آيةُ المِيراثِ، فأرْسلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عمِّهِما، فقال: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَينِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمْنَ، ومَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ». رَوَاه الإِمامُ أحمدُ، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في تعليم الفرائض، من أبواب الفرائض. وقال: هذا حديث فيه اضطراب. عارضة الأحوذي 8/ 241. والدارمي، في: باب الاقتداء بالعلماء، من المقدمة. سنن الدارمي 1/ 72، 73. (¬2) في: باب الحث على تعليم الفرائض. سنن سعيد بن منصور 1/ 28. كما أخرجه الدارمي، في: باب في تعليم الفرائض، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 341. (¬3) سنن سعيد 1/ 25. (¬4) سنن سعيد 1/ 28. كما أخرجه الدارمي، في: باب في تعليم الفرائض، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 342.

2783 - مسألة: (وأسباب التوارث ثلاثة؛ رحم، ونكاح، وولاء، لا غير)

وَأَسْبَابُ التَّوَارُثِ ثَلَاثَةٌ؛ رَحِمٌ، وَنِكَاحٌ، وَوَلَاءٌ، لَا غَيرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في «مُسْنَدِه»، وروَاه التِّرْمِذِيُّ، وأبو داودَ (¬1). 2783 - مسألة: (وأسْبابُ التَّوارُثِ ثَلاثَةٌ؛ رَحِمٌ، ونِكاحٌ، ووَلاءٌ، لا غيرُ) لأنَّ الشَّرْعَ وَرَد بالتَّوارُثِ بها بقَوْلِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬2). وقَوْلِه سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬3). وقَوْلِه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} - {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}. الآية (¬4). وقَوْلِ النبيِّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في ميراث الصلب، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 109. والترمذي، في: باب ما جاء في ميراث البنات، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 243. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 352. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب فرائض الصلب، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 908، 909. وإسناده حسن. انظر الإرواء 6/ 122. (¬2) سورة الأنفال 75، سورة الأحزاب 6. (¬3) سورة النساء 11. (¬4) سورة النساء 12.

وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْمُوَالاةِ، وَالْمُعَاقَدَةِ، وإسْلَامِهِ عَلَى يَدَيهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ. وَلَا عَمَلَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الْوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ» (¬1). (وعنه، أنَّها تَثْبُتُ بالمُوالاةِ، والمُعاقَدَةِ) لقَوْلِ اللهَ تعالى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ (¬2) أَيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬3). والمُوالاةُ كالمُعاقَدَةِ (وبإسْلامِه على يَدَيهِ) رُوِيَ ذلك عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِما روَى راشِدُ بنُ سعدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيهِ رَجُلٌ فَهُوَ مَوْلَاهُ، وَيَرِثُهُ ويَدِي عَنْه». رَواه سعيدٌ. ورَوى أبو أُمامَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ أَسْلَمَ على يَدَيهِ رَجُلٌ فَهُوَ مَوْلَاهُ، يَرِثُهُ ويَدِي عَنْه». وعن تَمِيمٍ الدّارِيِّ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، ما السُّنَّةُ في الرجلِ يُسْلِمُ على يَدَيِ الرجلِ مِن المُسْلِمِين؟ فقال: «هُوَ أوْلَى النَّاسِ بمَحْيَاهُ ومَماتِه». رَواهُنَّ سعيدٌ في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) في م: «عقدت». من غير ألف، والمثبت من الأصل، وهو قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، وما في «م» قراءة عاصم وحمزة والكسائي. انظر: كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد 233، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي بن أبي طالب 388، 389. (¬3) سورة النساء 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «سننِه» (¬1). ورَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: لا أظُنُّه مُتّصِلًا. ولَنا، قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّما الْوَلَاءُ لمَن أعْتَقَ». فأمّا أحادِيثُهم؛ فحديثُ راشدٍ مُرْسَلٌ، وحديثُ أبي أُمامَةَ فيه معاويةُ الصّدَفِيُّ، وهو ضَعِيفٌ، وحديثُ تَمِيمٍ ليس بصَرِيحٍ في المِيراثِ. وقِيل: يَثْبُتُ (بكونِهما مِن أهْلِ الدِّيوانِ. ولا عملَ عليه) وهذا كان في بَدْءِ الإِسْلامِ ثم نُسِخ بقَوْلِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. فصل: إذا مات الإِنْسانُ بُدِئَ بتَكْفِينِه وتَجْهِيزِه مُقَدَّمًا على ما سِواه، كما يُقَدَّمُ المُفْلِسُ بنَفَقَتِه على ما سِواه، ثم تُقْضَى دُيُونُه؛ لقَوْلِه سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬3). قال عليٌّ رَضِيَ الله عنه: إنَّ ¬

(¬1) في: باب من أسلم على الميراث قبل أن يقسم. السنن 1/ 78. (¬2) في: باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي الرجل، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 265. وأبو داود، في: باب في الرجل يسلم على يدي الرجل، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 115. وابن ماجه، في: باب الرجل يسلم على يدي الرجل، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 919. والدارمي، في: باب في الرجل يوالي الرجل، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 377. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 102، 103. (¬3) سورة النساء 11.

2784 - مسألة: (والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة؛ الابن، وابنه وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، والأخ من كل جهة، وابن الأخ إلا من الأم، والعم، وابنه كذلك، والزوج، ومولى النعمة. ومن النساء سبع؛ البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والأخت، والمرأة، ومولاة النعمة)

وَالْمُجْمَعُ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ مِنَ الذُّكُورِ عَشَرَةٌ؛ الابْنُ، وَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، وَالْأَبُ، وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَابْنُ الْأَخِ إلا مِنَ الْأُمِّ، وَالْعَمُّ، وَابْنُهُ كَذَلِكَ، وَالزَّوْجُ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ. وَمِنَ الْإِنَاثِ سَبْعٌ؛ الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ، وَالْأُخْتُ، وَالْمَرْأَةُ، وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أنَّ الدَّينَ قبلَ الوَصِيَّةِ (¬1). ولأنَّ الدَّينَ تَسْتَغْرِقُه حاجَتُه فقُدِّمَ، كمُؤْنَةِ تَجْهِيزِه، ثم تُنَفَّذُ وَصِيَّتُه، للآيَةِ، ثم ما بَقِيَ قُسِمَ على الوَرَثَةِ؛ للآياتِ الثّلاثِ المَذْكُورَةِ في سُورةِ النِّساءِ. 2784 - مسألة: (والمُجْمَعُ على تَوْرِيثِهم مِن الذُّكُورِ عَشَرَةٌ؛ الابنُ، وابْنُه وإن نَزَل، والأبُ، وأبُوه وإن عَلا، والأخُ مِن كلِّ جِهَةٍ، وابْنُ الأخِ إلَّا مِن الأُمِّ، والعَمُّ، وابنُه كذلك، والزَّوْجُ، ومَوْلَى النِّعْمَةِ. ومِنَ النِّساءِ سَبْعٌ؛ البِنْتُ، وبنْتُ الابْنِ، والأُمُّ، والْجَدَّةُ، والأُخْتُ، والمرأةُ، ومَوْلاةُ النِّعْمَةِ) أكَثَرُ هؤلاءِ ثَبَت تَوْرِيثُهم بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فالابنُ والبِنتُ ثَبَت مِيراثُهما بقَوْلِه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (2). ويَدْخُلُ في ذلك ولدُ الابنِ. والأبَوان بقَوْلِه تعالى: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬2). والْجَدُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 146. (¬2) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتَمِلُ أنْ يَتَناوَلَه هذا النَّصُّ، كما دَخَل ولدُ الابنِ في عُمومِ: {أَوْلَادِكُمْ}. والأخُ والأُخْتُ مِن الأبَوين أو الأبِ ثَبَت إرْثُهما بقَوْلِه سبحانه: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (¬1). والأخُ والأُخْتُ مِن الأُمِّ ثَبَت إرْثُهما بقَوْلِه تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬2). وأمّا ابْنُ الأخِ للأبَوَين أو للأبِ، والعَمُّ وابْنُه، وعَمُّ الأبِ وابنُه، فثَبَتَ مِيراثُهم بقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أبْقَتِ الفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (¬3). ولم يَدْخُلْ فيهم ولدُ الأُمِّ، ولا العمُّ للأُمِّ، ولا ابنُه، ولا الخالُ، ولا أبو الأُمِّ؛ لأنَّهم لَيسُوا مِن العَصَباتِ. وأمّا المَوْلَى المُعْتِقُ والمَوْلاةُ، فثَبَت إرْثُهما بقَوْلِه عليه الصلاةُ والسّلامُ: «إنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». والجَدَّةُ أطْعَمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السُّدْس (¬4). والزَّوْجُ ثَبَت إرْثُه بقَوْلِه تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ ¬

(¬1) سورة النساء 176. (¬2) سورة النساء 12. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب ميراث الولد من أبيه وأمه، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة، وباب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 8/ 187، 188، 189، 190. ومسلم، في: باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر، من كتاب الفرائض. صحيح مسلم 3/ 1233، 1234. والترمذي، في: باب في ميراث العصبة، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 249. والدارمي، في: باب العصبة، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 368. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 292، 313، 325. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب ميراث الجدة، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 910. والدارمي، في: باب في الجدات، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 358. وإسناده ضعيف. انظر ضعيف سنن ابن ماجه 219.

2785 - مسألة: (والوراث ثلاثة؛ ذوو فرض، وعصبات، وذوو رحم)

وَالْوُرَّاثُ ثَلَاثَةٌ؛ ذُو فَرْضٍ، وَعَصَبَاتٌ، وَذُو رَحِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَزْوَاجُكُمْ} (¬1). والزَّوْجَةُ (¬2) بقَوْلِه تعالي: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية. وجَميعُهم ذو فَرْضٍ، وعَصَبَةٌ. فالذُّكُورُ كلُّهم عَصَباتٌ إلّا الزَّوْجَ، والأخَ مِن الأُمِّ، والأبَ، والجَدَّ مع الابْنِ. والإِناثُ كلُّهُنَّ إذا انْفَرَدْن عن إخْوَتِهِنَّ ذَواتُ فُرُوضٍ، إلَّا المُعْتِقَةَ، وإلَّا الأخَواتِ مع البَناتِ. ومَن لا يَسْقُطُ بحالٍ خَمْسَةٌ؛ الزَّوْجان، والأبَوان، ووَلَدُ الصُّلْبِ؛ لأنَّهم يَمُتُّون بأنْفُسِهم مِن غيرِ واسِطَةٍ بينَهم وبينَ المَيِّتِ يَحْجُبُهم، ومَن سِواهم مِن الوُرَّاثِ (¬3) إنَّما يَمُتُّ بواسِطَةٍ سِواهُ، فيَسْقُطُ بمَن هو أوْلَى بالمَيِّتِ منه. 2785 - مسألة: (والوُرَّاثُ ثلاثَةٌ؛ ذَوُو فَرْضٍ، وعَصَباتٌ، وذَوُو رَحِمٍ). ¬

(¬1) سورة النساء 12. (¬2) في م: «الزوج». (¬3) في م: «الوارث».

باب ميراث ذوي الفروض

بَابُ مِيرَاثِ ذَوي الْفُرُوضِ وَهُمْ عَشَرَةٌ؛ الزَّوْجَانِ، وَالْأَبَوَانِ، وَالْجَدُّ، وَالْجَدَّةُ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ، وَالْأُخْتُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالْأَخُ مِنَ الْأُمِّ. فَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ، وَالنِّصْفُ مَعَ عَدَمِهِمَا. وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ، والرُّبْعُ مَعَ عَدَمِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ مِيراثِ ذَوي الفُرُوضِ (وهم عَشَرَةٌ، الزَّوْجانِ، والأبَوان، والجَدُّ، والجَدّةُ، والبِنْتُ، وبِنْتُ الابنِ، والأُخْتُ مِن كلِّ جِهَةٍ، والأخُ مِن الأُمِّ) فللزَّوْجِ النِّصْفُ إذا لم يكنْ للمَيِّتَةِ وَلَدٌ ولا وَلَدُ ابنٍ، والرُّبْعُ إذا كان معه أحَدُهما. وللزَّوْجَةِ الرُّبْعُ مع عَدَمِ الوَلَدِ ووَلَدِ الابْنِ، والثُّمْنُ مع أحَدِهما. وهذا إجماعٌ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَينٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَلَدُ الابْنِ وَلَدٌ؛ بدليلِ قَوْلِه تعالى: {يَابَنِي آدَمَ} و: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}. وإنَّما جَعَل لجماعةِ الزَّوْجاتِ مثلَ الواحِدَةِ؛ لأنَّه لو جَعَل لكلِّ واحِدَةٍ الرُّبْعَ، وهُنَّ أرْبَعٌ، لأخَذْنَ جميعَ المالِ وزاد فَرْضُهُنَّ على فرْضِ الزَّوْجِ. ومثلُ هذا في الجَدَّاتِ، للجَماعةِ مثلُ ما للواحِدةِ؛ لأنَّه لو أخَذَتْ كلُّ واحدةٍ السُّدْسَ، لأخَذْنَ النِّصْفَ إذا كُنَّ ثلاثةً وزِدْنَ على مِيراثِ الجَدِّ. فأمّا سائِرُ أصْحابِ الفُرُوضِ؛ كالبَناتِ، وبَناتِ الابْنِ، والأخَواتِ المُفْتَرِقاتِ (¬1) كلِّهِنَّ، فإنَّ لكلِّ جماعةٍ مِنهُنَّ مثلَ ما للابْنَتَين (¬2)، على ما يُذْكَرُ في مَوْضِعِه، وزِدْنَ على فَرْضِ الواحدَةِ؛ لأنَّ الذَّكَرَ الذي يَرِثُ في دَرَجَتِهِنَّ لا فَرْضَ له إلَّا وَلَدَ الأُمِّ، فإنَّ ذَكَرَهم وأُنْثاهم سَواءٌ؛ لأنَّهم يَرِثُون بالرَّحِمِ وقَرابَةِ الأُمِّ المُجَرَّدَةِ. ¬

(¬1) في م: «المتفرقات». (¬2) كذا في المطبوعة والمبدع 6/ 118. وفي المغني 9/ 21: «للاثنتين». وغير منقوطة في المخطوطة.

فَصْلٌ: وَلِلْأَبِ ثَلَاثةُ أَحْوَالٍ؛ حَالٌ يَرِثُ فِيهَا السُّدْسَ بِالْفَرْضَ، وَهِيَ مَعَ ذُكُورِ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الابْنِ. وَحَالٌ يَرِث فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ، وَهِيَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ أوْ وَلَدِ الابْنِ. وَحَالٌ يَجْتَمِعُ لَهُ الْفَرْضُ وَالتَّعْصِيبُ، وَهِيَ مَعَ إِنَاثِ الْوَلَدِ أوْ وَلَدِ الابْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (وللأبِ ثلاثةُ أحْوالٍ؛ حالٌ يَرِثُ فيها بالفَرْضِ) المُجَرَّدِ (وهي مع ذُكورِ الوَلَدِ أو وَلَدِ الابْنِ، يَرِثُ السُّدْسَ) والباقِي للابْنِ ومَن معه. لا نعلمُ في هذا خلافًا؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. (وحالٌ يَرِثُ فيها بالتَّعصِيبِ) المُجَرَّدِ (وهي مع عَدَمِ الوَلَدِ ووَلَدِ الابْنِ) فيأْخُذُ المال إنِ انْفَردَ، وإنْ كان معه ذُو فَرْضٍ غَيرُ الوَلَدِ؛ كزَوْجٍ، أو أُمٍّ، أو جَدَّةٍ، فلذي الفَرْضِ فَرْضُه، وباقِي المالِ له؛ لقَوْلِ الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. أضاف المِيراثَ إليهما ثم جَعَل للأُمِّ الثُّلُثَ، فكان الباقِي للأبِ، ثم قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}. فجَعَلَ لِلأُمِّ مع الإِخْوَةِ السُّدْسَ، ولم يَقْطَعْ إضافةَ المِيراثِ إلى الأبَوينِ، ولا ذَكَرَ للإِخوَةِ مِيراثًا، فكان الباقِي كلُّه للْأَبِ. الحالُ الثالِثُ، (يَجْتمِعُ له الفَرْضُ والتَّعْصِيبُ، وهي

فَصْلٌ: وَلِلْجَدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ، وَحَالٌ رَابعٌ، وَهِيَ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبَوَينِ أَو الْأَبِ، فَإِنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ كَأَخٍ، إلا أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ خَيرًا لَهُ فَيَأْخُذَهُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ مع إناثِ الوَلَدِ أو وَلَدِ الابْنِ) فيَأْخُذُ السُّدْسَ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. ولهذا كانَ للأبِ (¬1) السُّدْسُ مع البِنْتِ إِجْماعًا، ثم يأْخُذُ ما بَقِيَ بالتَّعْصِيب؛ لما رَوَى ابنُ عبَّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). والأبُ أوْلَى رجلٍ بعدَ الابْنِ وابْنِه. وهذا كلُّه مُجْمَعٌ عليه، ليسَ فيه خِلافٌ نعلَمُه. فصل: قال: وللجَدِّ ثلاثةُ أحْوالِ الأب الثَّلاثةِ، إلَّا أنَّه يَسْقُطُ بالأبِ؛ لأنَّه (¬3) يُدْلِي به، ويَنْقُصُ (¬4) عن رُتْبَةِ الأبَ في زَوْجٍ وأبَوَين، وامرأةٍ وأَبَوَينِ، فيُفْرَضُ للأُمِّ فيهما ثُلُثُ جميعِ المالِ. (و) له (حالٌ رابعٌ مع الإِخْوَةِ والأخَواتِ مِن الأبَوينِ والأبِ، فإنَّه يُقاسِمُهم كأخٍ، إلَّا أن يَكونَ الثُّلُثُ خيرًا له فيَأْخُذَه، والباقِي لهم. فإن كان معهم ذُو فرْضٍ أخَذَ ¬

(¬1) في النسختين «للأم». والمثبت كما في المغني 9/ 20. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 11. (¬3) في م: «لا». (¬4) في م: «يسقط».

ذُو فَرْضٍ أخَذَ فَرْضَهُ، ثُمَّ لِلْجَدِّ الْأَحَظُّ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ كَأَخٍ أَوْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ سُدْسِ جَمِيعِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرْضَه، ثم للجَدِّ الأحَظُّ؛ مِن المُقاسَمَةِ كأخٍ أو ثُلُثِ الباقِي أو سُدْسِ جَميعِ المالِ) وسوف نَذْكُرُ الاخْتِلافَ فيه إن شاءَ الله تعالى. فرَوَى أبو داوُدَ (¬1) بإسْنادِه عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ، أَنَّ رجلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ ابْنَ ابنِيَ مات، فما لِى مِن مِيراثِه؟ قال: «لكَ السُّدْسُ». فلمَّا أدْبَرَ دَعاه فقال: «إنَّ لَكَ سُدْسًا آخَرَ». فلمَّا أدْبَرَ دَعاه فقال: «إنَّ لَكَ السُّدْسَ الآخَرَ طُعْمَةً». قال قَتادَةُ: فلا نَدْرِي مع أيِّ شيءٍ وَرَّثَه. قال قَتادَةُ: أقَلُّ شيءٍ وَرِثَ الْجَدُّ السُّدْسُ. ورَوَى (¬2) عن عُمَرَ، رَضِيَ الله عنهُ، أنَّه قال: أيُّكم يَعْلَمُ ما وَرَّثَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجَدَّ؟ فقال مَعْقِلُ بْنُ يَسارٍ: أنا، وَرَّثَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السُّدْسَ. قال: مع مَن؟ قال: لا أدْرِي. قال: لا دَرَيتَ، فما تُغْنِي إذًا! رَواهُ سَعِيدٌ في «سُنَنِهِ» (¬3). قال أبو بكرٍ بنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ الجَدَّ أبا الأبِ لا يَحْجُبُه عن المِيراثِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ميراث الجد، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 110. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ميراث الجد، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 250، 251. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 436. (¬2) بعده في حاشية الأصل: «عن الحسن أيضًا». (¬3) أخرجه أبو داود في الموضع السابق. وسعيد بن منصور في سننه 1/ 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ الأبِ، وأنْزَلُوا الجَدَّ في الحَجْبِ والمِيراثِ مَنْزِلَةَ الأبِ في جميعِ المَواضِعِ، إلَّا في ثلاثةِ أشياءَ؛ أحدُها، زَوْجٌ وأبَوانِ، والثانيةُ، زوْجَةٌ وأبَوَانِ، للأُمِّ ثُلُثُ الباقِي فيهما مع الأبِ، وثُلُثُ جميعِ المالِ مع الجَدِّ. والثالثةُ، اخْتَلَفُوا في الْجَدِّ مع الإِخْوَةِ والأخَواتِ للأبَوَينِ أو للأبِ. ولا خِلافَ بينَهم في إسْقاطِه بَنِي الإِخْوَةِ وولدَ الأُمِّ ذَكَرَهم وأُنْثاهم. فذَهَب الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللهُ عنه، إلى أنَّ الجَدَّ يُسْقِطُ جميعَ الإِخوةِ والأخَوَاتِ مِن جميعِ الجهاتِ، كما يُسْقِطُهم الأبُ. وبه قال ابنُ عَبَّاسٍ، وابنُ الزُّبَيرِ. ورُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وعائشةَ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وأبي الدَّرْداءِ، ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ، وأبي موسى، وأبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وحُكِيَ أيضًا عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، وجَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، وأبي الطُّفَيلِ (¬1)، وعُبادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، وجَابرِ بنِ زَيدٍ. وبه قال قَتَادةُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، ونُعَيمُ بنُ حَمّادٍ، وأبو حنيفةَ، والْمُزَنِيُّ، وابنُ سُرَيجٍ (¬2)، وابنُ اللَّبَّانِ (¬3)، وداودُ، وابنُ ¬

(¬1) عامر بن واثلة بن عبد الله الكناني الحجازي أبو الطفيل، خاتم من رأى رسول - صلى الله عليه وسلم -، كان ثقة صادقا عالما شاعرا فارسا، كان من شيعة علي وشهد معه حروبه، توفي سنة عشر ومائة. سير أعلام النبلاء 3/ 467 - 470. (¬2) في م: «شريح» وغير منقوطة في الأصل. (¬3) محمد بن عبد الله بن الحسن، ابن اللبان الفرضي، الفقيه الشافعي، إمام عصره في الفرائض وقسمة التركات، توفي سنة اثنتين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 154، 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ. وكان عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وزَيدُ بْنُ ثابِتٍ، يُوَرِّثُونَهم معه ولا يَحْجُبُونَهم به. وبه قال مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، لأنَّ الأخَ ذَكَرٌ يُعَصِّبُ أُخْتَه فلم يُسْقِطْهُ الْجَدُّ، كالابْنِ، ولأنَّ مِيراثَهم ثَبَت بالكِتابِ فلا يُحْجَبُون إلَّا بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ (¬1)، وما وُجِدَ شَيْءٌ مِن ذلك فلا يُحْجَبُون، ولأنَّهم تَساوَوْا في سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ فيَتَساوَوْن فيه، فإنَّ الأخَ والجَدَّ يُدْلِيانِ بالأبِ، الجَدُّ أبُوه، والأخُ ابْنُه، وقَرابَةُ البُنُوَّةِ لا تَنْقُصُ عن قَرابَةِ الأُبُوةِ، بل رُبَّما كانتْ أقْوَى منها؛ فإنَّ الابْنَ يُسْقِطُ تَعْصِيبَ الأبِ، ولذلك مَثَّلَه عليٌّ، رَضِيَ الله عنه، بشَجَرَةٍ أنْبَتَتْ غُصْنًا، فانْفَرَقَ منه غُصْنانِ، كلٌّ منهما أقْرَبُ إليه (¬2) منه إلى أصْلِ الشَّجَرةِ. ومَثَّلَه زَيدٌ بوادٍ خَرَج مِنه نَهْرٌ، وانْفَرَقَ منه جَدْوَلان، كُلُّ واحِدٍ منهما إلى الآخَرِ أقْرَبُ منه إلى الوادِي. واحْتَجَّ مَن ذَهَب مَذْهَبَ أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، بقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». مُتَّفَقٌ عليه. والجَدُّ أوْلَى مِن الأخِ بِدَلِيلِ المَعْنَى والحُكْم؛ أمَّا المَعْنَى، فإنَّ له قَرابَةَ ¬

(¬1) بعده في م: «أو قياس»، وهو موافق لما في المغني 9/ 66. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إيلادٍ وبَعْضِيَّةٍ كالْأَبِ، وأمَّا الحُكْمُ، فإنَّ الفُرُوضَ إذا ازْدَحَمَتْ سَقَط الأخُ دُونَه، ولا يُسْقِطُه أحَدٌ إلَّا الأبُ، والأخُ والأخَواتُ يَسْقُطُون بثلاثةٍ، ويُجْمَعُ له بينَ الفَرْضِ والتَّعْصِيبِ كالأبِ، وهم يَنْفَرِدُون بواحدٍ منهما، ويُسْقِطُ ولدَ الأُمِّ، ووَلَدُ الأبِ يَسْقُطُون بهم بالإِجْماعِ إذا اسْتَغْرَقَتِ الفُرُوضُ المال وكانوا عَصَبَةً، وكذلك ولدُ الأبوينِ في المُشَرَّكَةِ عندَ الأكْثَرِين، ولأنَّه لا يُقْتَلُ بقَتْلِ ابْنِ ابْنِه ولا يُحَدُّ بقَذْفِه. ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِه، ويَجِبُ عليه نفَقَتُه ويُمْنَعُ مِن دَفعِ زَكاتِه إليه، كالأبِ سَواءً، فدلَّ ذلك على قُرْبِه. فإن قيلَ: فالحديثُ حُجَّةٌ في تَقْديمِ الأخَواتِ؛ لأن فُرُوضَهُنَّ في كتابِ اللهِ تَعالى، فيَجِبُ أن تُلْحَق بهِنَّ فُروضُهُنَّ، ويكونَ للجَدِّ ما بَقِيَ. فالجوابُ، أنَّ هذا الخَبَرَ حُجَّةٌ في الذُّكُورِ المُنْفَرِدين، وفي الذُّكُورِ مع الإِناثِ. أو نقولُ: هو حُجَّةٌ في الجميعِ، ولا فَرْضَ لوَلَدِ الأبِ مع الجَدِّ؛ لأنَّهم كَلالةٌ، والكَلالةُ اسمٌ للوارِثِ مع عَدَمِ الوَلَدِ والوالِدِ، فلا يكونُ لهم معه إذًا فرضٌ. حُجَّةٌ أُخْرَى، قالوا: الجَدُّ أبٌ، فيَحْجُبُ وَلَدَ الأبِ، كالأبِ الحقيقيِّ. ودليلُ كونِه أبًا قولُه تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬1). وقولُ يوسُفَ: ¬

(¬1) سورة الحج 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} (¬1). وقَوْلُه: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} (¬2). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ارْمُوا بَنِي إسْماعِيلَ فَإنَّ أباكُمْ كان رَامِيًا» (¬3). وقال: «سَامٌ أبُو العَرَبِ، وحَامٌ أبو الحَبَشِ» (¬4). [وقال: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُوا أُمَّنَا، ولا نَنْتَفِي مِنْ أبِينَا] (¬5). وقال الشاعرُ (¬6): إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأبٍ … عنه ولا هو بالأبْناءِ يَشْرِينا فوجَب أن يَحْجُبَ الإِخوةَ، كالأبِ الحَقِيقيِّ. يُحقِّقُ هذا أنَّ ابنَ الابنِ وإن سَفَل يَقومُ مَقامَ أبِيه (¬7) في الحَجْبِ، كذلك أبو الأبِ يقومُ مَقامَ ابنهِ؛ ولذلك قال ابنُ عباسٍ: ألا يَتَّقِي اللهَ زيدٌ؟ يَجْعَلُ ابنَ الابنِ ابنًا، ولا يَجْعَلُ أبا الأبِ أبًا. ولأنَّ بينَهما إيلادًا وبَعْضِيَّةً وجُزْئِيَّةً، وهو يُساوي الأبَ في أكثرِ أحكامِه، فيُساويه في هذا الحَجْبِ. يُحقِّقُه أنَّ أبا الأبِ وإن عَلا يُسْقِطُ بَنِي الإِخْوَةِ، ولو كانت قَرابةُ الأخِ والجَدِّ واحدةً لوَجَب أن يكونَ أبو الجَدِّ مُساويًا لبَنِي الأخِ؛ لتَساوي دَرَجَةِ مَن أدْلَيا به. ولا ¬

(¬1) سورة يوسف 38. (¬2) سورة يوسف 6. (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 465. (¬4) أخرجه الترمذي في: باب ومن سورة الصافات، من أبواب تفسير القرآن. عارضة الأحوذي 12/ 109. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 9، 10، 11. (¬5) سقط من الأصل. وتقدم تخريجه في 16/ 465. (¬6) الحماسة 1/ 77. وفيها أنه لبعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنه لبشامة بن حزن النهشلي. وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 100، وفيه أنه لبشامة بن جزء النهشلي. (¬7) في النسختين: «ابنه». وانظر المغني 9/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَفْرِيعَ على هذا القولِ لوُضُوحِه. فصل: واخْتَلَفَ القائِلونَ بتَوْريثهم معه (¬1) في كَيفِيَّةِ تَوْرِيِثِهم، فكان عليٌّ، رَضِي الله عنه، يَفْرِضُ للأخَواتِ فُرُوضَهُنَّ، والباقِيَ للجَدِّ، إلَّا أن يَنْقُصَه ذلك مِن السُّدْسِ، فيَفْرِضَه له. فإن كانت أُخْتٌ لأبَوَين، وإخْوةٌ لأبٍ، فَرَض للأُختِ النِّصفَ، وقاسَم الجدُّ الإِخوةَ فيما بَقِيَ، إلَّا أن تَنْقُصَه المُقاسَمةُ مِن السُّدْسِ فنَفْرِضَه له. فإن كان الإِخْوَةُ كلُّهم عَصَبةً، قاسَمَهم الجَدُّ إلى (¬2) السُّدْسِ. فإنِ اجْتَمَعَ وَلَدُ الأبِ ووَلَدُ الأبَوَينِ مع الجَدِّ، سَقَط ولدُ الأبِ ولم يَدْخُلُوا في المُقاسَمَةِ ولا يُعْتَدُّ بهم. وإنِ انْفَرَدَ وَلَدُ الأبِ قاموا مَقامَ وَلدِ الأبَوين مع الجَدِّ. وصَنَع ابنُ مسعودٍ في الجَدِّ مع الأخَواتِ كصُنْعِ عليٍّ، وقاسَمَ به الإِخْوَةَ إلى الثُّلُثِ، فإن كان معهم (3) أصحابُ فَرائِضَ، أعْطَى أصحابَ الفَرائِضِ فَرائِضَهم، ثمَّ صَنَعَ صَنِيعَ زيدٍ في إعْطاءِ الجَدِّ (¬3) الأحَظَّ؛ مِن المُقاسَمَةِ أو ثُلُثِ الباقِي أو سُدْسِ جميعِ المالِ، وعليٌّ يُقاسِمُ به بعدَ أصحابِ الفرائِضِ، إلَّا أن يكونَ أصحابُ الفَرائِضِ بنتًا أو بناتٍ، فلا يزيدُ الجَدُّ على الثُّلُثِ، ولا يُقاسِمُ به. وقال بقولِ عليٌّ؛ الشَّعْبِيُّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «إلَّا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِيُّ، والمُغِيرَةُ بنُ مِقْسَمٍ (¬1)، وابنُ أبي لَيلَى، والحَسَنُ بنُ صَالِحٍ. وذَهَب إلى قولِ ابنِ مسعودٍ؛ مَسْرُوقٌ، وعَلْقَمَةُ، وشُرَيحٌ. فأمَّا مَذْهَبُ زيدٍ، فهو الذي ذَكَرَه شَيخُنا في الكتابِ المَشْروحِ، وذَكَرَه الخِرَقِيُّ، وسنَشْرَحُه إن شاء اللهُ تعالى. وإليه ذَهَب أحمدُ. وبه قال أهلُ المدينةِ والشّامِ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحَجّاجُ بنُ أرْطاةَ (¬2)، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، وأبو عُبَيدٍ، وأكثرُ أهلِ العلمِ. فمذْهَبُ زيدٍ في الجَدِّ معِ الإِخْوةِ والأخَواتِ للأبَوَين أو للأبِ، أنَّه يُقاسِمُهُم كأخٍ، إلَّا أن يَكون ثُلُثُ المالِ أحَظَّ له، فإن نَقَصَتْه المُقاسَمَةُ عن الثُّلُثِ فله الثُّلُثُ، والباقِي لهم. فعلى هذا، إذا كان معه أخَوان، أو أرْبَعُ أخَواتٍ، أو أخٌ وأُخْتان، فالثُّلُثُ والمُقاسَمةُ سواءٌ، فإن نَقَصُوا عن ذلك فالمُقاسَمةُ أحظُّ له فقاسِمْ به لا غَيرُ. وإن زادُوا فأعْطِه الثُّلُثَ، فإن كان معهم ذُو فرضٍ أخَذ فَرْضَه، وكان للجَدِّ الأحَظُّ مِن المُقاسَمَةِ كأخٍ أو ثُلُثِ الباقي أو سُدْسِ جميعِ المالِ. أمّا كونُه لا يَنْقُصُ عن سُدْسِ جميعِ المالِ؛ فلأنَّه لا يَنْقُصُ عن ذلك مع الوَلَدِ الذي هو أقْوَى، فمع غيرِهم أَولى. وأمّا إعطاؤُه ثُلُثَ البَاقي إذا ¬

(¬1) المغيرة بن مقسم الضبي، مولاهم، من فقهاء التابعين بالكوفة، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة. طبقات الفقهاء، للشيرازي 83، تهذيب التهذيب 10/ 269. (¬2) الحجاج بن أرطاة الكوفي القاضي الفقيه المفتي، روى عن الشعبي وعطاء. تهذيب التهذيب 2/ 196.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أحَظَّ، فلأنَّ له الثُّلُثَ مع عَدَمِ الفُرُوضِ، فما أُخِذَ بالفَرْضِ (¬1) كأنَّه معدومٌ قد ذَهَب مِن المالِ، فصار ثُلُثُ الباقِي بمنزلَةِ ثُلُثِ جَميعِ المَالِ. وأمّا المُقاسمةُ فهي له مع عَدَمِ الفُرُوضِ فكذلك مع وجودِها. فعلى هذا، متى زاد الإخوةُ عن اثنَين أو مَن يَعْدِلُهم مِن الإناثِ فلا حَظَّ له في المُقاسَمةِ، وإن نَقَصُوا عن ذلك فلا حَظَّ له في ثُلُثِ الباقي، ومتى زادتِ الفُرُوضُ عن النِّصْفِ فلا حظَّ له في ثُلُثِ الباقي، وإن نَقَصت عن النصفِ فلا حَظَّ له في السُّدْسِ، وإن كان الفرضُ النصفَ. فقط، استوى السُّدْسُ وثُلُثُ الباقي، وإن كان الإِخوةُ اثنين والفرضُ النصفَ، استوى المقاسمةُ وثُلُثُ الباقِي وسُدْسُ جميعِ المالِ. فصل: ولا يَنْقُصُ الْجَدُّ عن سُدْسِ المالِ، أو تَسْمِيَتِه إذا زادَتِ السِّهَامُ. هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ، إلَّا أنَّه رُوِيَ عن الشَّعْبِي أنَّه قال: إنَّ ابنَ عباسٍ كَتَب إلى عليٍّ في سِتَّةِ إخوةٍ وجَدٍّ، فكتب إليه: اجْعَلِ الجَدَّ سابِعَهم وامْحُ كتابِي هذا (¬2). ورُوِيَ عنه في سَبْعَةِ إخوةٍ وجَدٍّ، أنَّ الجدَّ ثامِنُهم. وحُكِيَ عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ، والشَّعْبيِّ، المقاسمةُ إلى نِصفِ سُدْسِ المَالِ. ولَنا، أنَّ الجَدَّ لا يَنْقُصُ عن السُّدْسِ مع البَنِينَ، وهم أقْوَى مِيِراثًا من الإِخْوةِ، فإنَّهم يَسْقُطُونَ بهم، فلِئلَّا يَنْقُصَ عنه مع الإِخوةِ أوْلَى، ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطْعَمَ الجدَّ السُّدْسَ (¬3)، فلا ينبغي ¬

(¬1) في م: «بالفروض». (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 11/ 293. والبيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 249. وسنده صحيح. وانظر فتح الباري 12/ 21. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 17.

2786 - مسألة: (فإن لم يفضل عن الفرض إلا السدس فهو له، ويسقط من معه)

فَإنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنِ الْفَرْضِ إلا السُّدْسُ فَهُوَ لَهُ، وَسَقَطَ مَنْ مَعَهُ مِنْهُمْ، إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ، وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدْسُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، ثمَّ يُقْسَمُ نِصْفُ الْأُخْتِ وَسُدْسُ الْجَدِّ بَينَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَتَضْرِبُهَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَنْقُصَ منه. وقولُنا: أو تَسْمِيَتِه إذا زادَتِ السِّهامُ. هو إذا عالتِ المَسْألةُ، فإنَّه يُسَمَّى له السُّدْسُ، وهو ناقِصٌ عن السُّدْسٍ، فإذا كان زَوْجٌ وأُمٌّ وابْنَتان وجَدٌّ، له السُّدْسُ، ونُعْطِيه سَهْمَين مِن خمْسَةَ عَشَرَ وهما ثُلُثَا الخُمْسِ. 2786 - مسألة: (فإِن لم يَفْضُلْ عن الفَرْضِ إلَّا السُّدْسُ فَهو له، وَيَسْقُطُ مَنْ مَعَهُ) مِن الإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ؛ كَأُمٍّ وابْنَتَينِ وَجَدٍّ وَأُخْتٍ أَو أخٍ، فإنَّ للأُمِّ السُّدْسَ، وللابْنَتَين الثُّلُثان، يَبْقَى السُّدْسُ للجَدِّ، ويَسقُطُ الإِخْوةُ (إلَّا في الأكْدَرِيَّةِ؛ وهي زوجٌ وأُمٌّ وأُختٌ وجَدٌّ) فإنَّ (للزَّوْجِ النِّصفَ، وللأُمِّ الثُّلُثَ، وللأُخْتِ النِّصْفَ، وللجَدِّ السُّدْسَ، ثم يُقسَمُ سُدْسُ الجَدِّ ونِصْفُ الأُختِ بينهما على ثَلاثَةٍ) وتَصِحُّ مِن سَبعَةٍ وعِشرِينَ

لِلزَّوْجِ تِسْعَة، وَلِلأمِّ سِتّة، وَلِلْجَد ثَمَانِيَة، وَلِلأخْتِ أرْبَعَة، وَلَا يَعُولُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَد غَيرُهَا، وَلَا يُفْرَضُ لأخْتٍ مَعَ جَدٍّ إلَّا فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (للزّوجِ تِسعة، وللأمِّ سِتة، وللجَدِّ ثمانِية، وللأخْتِ أربَعة، ولا يَعُولُ مِن مَسائلِ الجَدِّ غَيرُها، ولا يُفْرَضُ لأخْتٍ مع جَدٍّ إلَّا فيها) هذه المَسألَةُ تُسَمَّى الأكْدَرِيّةَ، سُمِّيَتْ بذلك لِتَكْدِيرِها أصُولَ زيدٍ في الجَدِّ؛ فإنَّه أعالها ولا عَوْلَ عندَه في مسائِلِ الجَدِّ، وفَرَض لأخْتِ معه ولا يَفْرِضُ لأختٍ مع جَدٍّ، وجَمَع سِهامَه وسهامَها فقَسَمَها بينَهما ولا نَظِيرَ لذلك. وقيل: سُمِّيَت أكْدَرِيَّةً؛ لأنَّ عبدَ الملِك بنَ مَرْوَانَ سَأل عنها رجلًا اسمُه الأكْدَرُ، فأفْتَى فيها على مذهبِ زيدٍ وأخْطَأ فيها، فنُسِبَت إليه (¬1). واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ فيها؛ فمذهبُ أبي بكر الصِّدِّيقِ ومُوافِقِيه إسْقاطُ الأخْتِ، ويَجْعَلُ للزّوْجِ النِّصْفَ، وللأمِّ الثُّلُثَ، والباقِيَ للجَدِّ. وقال عمرُ، وابنُ مَسْعُودٍ: للزوْجِ النِّصْفُ، وللأخْتِ النِّصفُ، وللجدِّ السُّدْسُ، وللأمِّ السُّدْسُ. وعالتْ إلى ثَمانيةٍ. وجعلوا للأمِّ السُّدْسَ، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف 11/ 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكيلا يُفَضِّلُوها على الجَدِّ. وقال عليٌّ، وزيدٌ: للزَّوْجِ النِّصفُ، وللأخْتِ النصفُ، وللأمِّ الثُّلُثُ، وللجَدِّ السُّدْسُ. وأعالَاها إلى تِسْعَةٍ، ولم يَحْجُبا الأمَّ عن الثُّلُثِ، لأنَّ الله تعالى إنَّما حَجَبَها بالوَلَدِ والإِخوةِ، وليس ههُنا وَلَدٌ ولا إخوة. ثم إنَّ عمرَ، وعليًّا، وابنَ مسعودٍ، أبْقَوُا النِّصف للأختِ والسُّدْسَ للجَدِّ، وزيدٌ ضَمَّ نصفَها إلى سُدْسِ الجَدِّ فقَسَمَه بينَهما؛ لأنَّها لا تَسْتَحِقُّ معه إلَّا بِحُكْم المقاسَمةِ. وإنما حَمَل زيدًا على إعالةِ المسألةِ ههُنا أنَّه لو لم يَفْرِضْ للأخْتِ لسَقَطَت، وليس في الفَريضةِ مَن يُسْقِطُها. وقد رُوِيَ عن قَبِيصَةَ بنِ ذُؤيبٍ أنَّه قال: ما قال ذلك زيدٌ، وإنَّما قاس أصحابُه على أصولِه، ولم يُبَيِّنْ هو شيئًا. فإن قيل: فالأختُ مع الجدِّ عَصَبَة، والعَصَبَةُ تَسْقُطُ باستكمالِ الفُروضِ. قُلْنا: إنَّما يُعَصِّبُها الجَدُّ، وليس بِعَصَبَةٍ جمع هؤلاءِ، بل يُفْرَضُ له، ولو كان مكانَ الأختِ أخ لسَقَط؛ لأنَّه عَصَبَة في نَفْسِه. ولو كان مع الأختِ أخت أخْرَى أو أخٌ أو أكثرُ مِن ذلك، لانْحَجَبَتِ الأمُّ إلى السُّدْسِ وبَقِي لهما السُّدْسُ فأخَذُوه ولم تَعُلِ المسألةُ. وأصلُ المسألةِ في الأكدَريَّةِ سِتَّةٌ عالت إلى تِسْعَةٍ، وسِهامُ الأختِ والجدِّ أرْبَعَةٌ بينَهما، على ثلاثةٍ لا تصِحُّ، فَتَضْرِبُ ثلاثةً في تسعةٍ، تكنْ سبعةً وعِشرينَ، ثمَّ كلُّ مَن له شيءٌ مِن أصْلِ المَسألةِ مَضْرُوبٌ في الثلاثةِ التي ضَرَبْتَها في المسألةِ، لِلزَّوْجِ ثلاثةٌ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةٍ: تِسْعَةٌ، وللأُمِّ اثنان في ثلاثةٍ: سِتَّةٌ، يَبْقَى اثنا عَشَرَ بينَ الجَدِّ والأُختِ على ثلاثةٍ؛ للجدِّ ثمانيةٌ، وللأختِ أربعةٌ، ويُعَايَى بها، فيُقالُ: أربعةٌ وَرِثُوا مالًا، فأخَذ أحدُهم ثُلُثَه، والثّاني ثُلُثَ ما بَقِي، والثّالثُ ثُلُثَ ما بَقِي، والرّابعُ ما بَقِي. ويقالُ: امرأةٌ جاءَت قومًا، فقالت: إنِّي حاملٌ، فإن وَلَدْتُ ذَكَرًا فلا شيءَ له، وإن ولدتُ أُنْثَى فَلَها تُسْعُ المالِ وثُلُثُ تُسْعِه، وإن ولدتُ ولدَين فلهما السُّدْسُ. ويقالُ أيضًا: إن ولدتُ ذكرًا فَلِي ثُلُثُ المالِ، وإن ولدتُ أُنثى فَلِي تُسْعَاه، وإن ولدتُ ولدين فلي سُدْسُه. وأَنْشَد شيخُنا في ذلك لِنَفْسِه: ماذا تَقُولونَ في مِيراثِ أربَعَةٍ … أصاب أكْبَرُهُم جُزْءًا مِن المالِ ونصفُ ذلكَ للِثّاني ونصفُهما … لثالثٍ تَرِبٍ للخَيرِ فَعّالِ ونصفُ ذلك مَجْمُوعًا لرابِعِهم … فَخَبِّرُونِي فَهذي جُمْلَةُ الحَالِ أكبرُهم الجَدُّ له ثَمانيةٌ، ونصفُها للأختِ أرْبَعةٌ، ونصفُهُما سِتَّةٌ للأُمِّ، صارَت ثَمانِيةَ عَشَرَ، ونِصْفُ الجَميعِ للزَّوْجِ، وذلك تِسْعَةٌ. فصل: زوجةٌ وأُمٌّ وأُختٌ وجَدٌّ، للزَّوْجَةِ الرُّبعُ، وللأُمِّ الثُّلُثُ، والباقي بينَ الأُختِ والجدِّ على ثلاثةٍ، أصْلُها مِن اثْنَيْ عَشرَ؛ للزَّوجَةِ ثَلاثَةٌ، وللأمِّ أرْبَعةٌ، يَبْقَى خَمْسةٌ بينَ الجَدِّ والأُختِ على ثَلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ وثلاثينَ. فإن كان مكانَ الأختِ أخٌ، فالباقِي بينَهما نِصْفَين، وتَصِحُّ مِن أربعةٍ وعشرينَ. وإن كانَا أُخْتَين قاسَمَهما، وتَصِحُّ من ثمانيةٍ وأربعينَ. فإن كان أخٌ وأُختٌ، أو ثلاثُ أخَواتٍ، حَجَبُوا الأُمَّ إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسِ وقَسَمُوا الباقِيَ بينَهم على خَمْسةٍ، وصَحَّت من سِتِّينَ. فإن زادُوا على ذلك اسْتَوَى ثُلُثُ الباقِي والمُقاسَمةُ، فافْرِضْ له ثُلُثَ الباقِي واضْرِبِ المسألةَ في ثلاثةٍ تَكنْ سِتَّةً وثلاثينَ، ويَبْقَى له ولهم أحَدٌ وعِشْرُونَ، يَأْخُذُ ثُلُثَها سَبْعَةً، والباقِي لهم، فإن لم تَصِحَّ عليهم، ضَرَبْتَهم أو (¬1) وَفْقَهم في سِتَّةٍ وثلاثينَ، فما بَلَغَ فمنه تَصِحُّ. فإن كانوا مِن جِهَتَينِ اخْتَصَّ بالباقِي ولَدُ الأبَوَين. فصل: زوجةٌ وأختٌ وجدٌّ وجدَّةٌ، فهي كالتي قبلَها في فُروعِها، إلَّا في أنَّ للجدَّةِ السُدْسَ معَ الأختِ الواحدةِ والأخِ الواحدِ. فإن كانوا أكثرَ مِن واحدٍ فحكمُ الجَدَّةِ والأُمِّ واحدٌ. وإن لم يكنْ معهم جدَّةٌ فهي مِن أربعةٍ، للزَّوْجةِ الرُّبْعُ، ويَبْقَى ثلاثةٌ؛ للجَدِّ سَهْمَان، وللأُختِ سَهْمٌ. فإن كان معها أُختٌ أُخْرَى، فالباقي بينَهم على أربعةٍ، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ عَشَرَ. وإن كان مكانَهما (¬2) أخٌ صَحَّت مِن ثمانيةٍ، فإن كان أخٌ وأُختٌ أو ثَلاثُ أخَواتٍ فالباقِي بينَهم على خَمْسَةٍ، وتَصِحُّ مِن عِشرينَ. وإن زادوا على هذا فأعْطِه ثُلُثَ الباقِي سَهْمًا، واقْسِمِ الباقِيَ (¬3) على الباقِين، فإن كانوا مِن الجِهَتَين فلا شيءَ لولدِ الأبِ؛ لأنَّ الباقيَ بعدَ نصيبِ الجَدِّ لا يزيدُ على النِّصْفِ، وهو أقلُّ فَرْضٍ لولدِ الأبَوَين. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «مكانها». (¬3) في م: «الثاني».

2787 - مسألة: (فإن لم يكن)

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ، فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَمَا بَقِيَ بَينَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ، وَتُسَمَّى الْخَرْقَاءَ، لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2787 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ) فِي الأكْدَرِيَّةِ (زَوْجٌ) فَهِيَ أُمٌّ وأُخْتٌ وجَدٌّ؛ للأُمِّ الثُّلُثُ، والباقِي بين الجَدِّ والأُخْتِ على ثلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن تِسعةٍ، للأُمِّ ثلاثةٌ، وللجَدِّ أربَعةٌ، وللأُخْتِ سَهمان. وإنَّما سُمِّيَتِ الخَرْقاءَ؛ (لكثرةِ اختلافِ الصحابةِ فيها) فكأنَّ الأقوال خَرَقَتْها. قيل: فيها سَبْعَةُ أقوالٍ؛ قولُ الصِّدِّيقِ ومُوافِقِيه: للأُمِّ الثُّلُثُ، وللجَدِّ الباقي. وقولُ زَيدٍ وموافِقِيه: للأُمِّ الثُّلُثُ، والباقي بين الجَدِّ والأختِ على ثلاثةٍ. وقولُ عليٍّ: للأختِ النِّصفُ، وللأُمِّ الثُّلُثُ، وللجَدِّ السُّدْسُ. [وعن عبدِ الله] (¬1): للأُخْتِ النِّصْفُ، وللأُمِّ ثُلُثُ ما بَقِيَ، وللجَدِّ الباقي. وعن ابنِ مسعودٍ للأُمِّ السُّدْسُ، والباقِي للجَدِّ، وهو مثلُ القَوْلِ الأوَّلِ في المَعْنَى. وعن ابنِ مسعودٍ أيضًا، للأختِ النِّصْفُ، والباقِي بينَ الأمِّ والجدِّ نِصْفان، فتكونُ مِن أربعةٍ، وهي إحْدَى مُرَبَّعاتِ ابنِ مسعودٍ. ¬

(¬1) في المغني 9/ 77: «وعن عمر وعبد الله».

2788 - مسألة: (وولد الأب كولد الأبوين في مقاسمة الجد إذا انفردوا)

وَوَلَدُ الْأبِ كَوَلَدِ الْأبَوَينِ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ إِذَا انْفَرَدُوا، فَإِنِ اجْتَمَعُوا، عَادَّ وَلَدُ الْأَبَوَينِ الْجَدَّ بِوَلَدِ الْأَبِ، ثُمَّ أَخَذُوا مِنْهُمْ مَا ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال عثمانُ: المالُ بينَهم أثلاثًا، لكلِّ واحدٍ منهم ثُلُثٌ. وهي مُثَلَّثَةُ عثمانَ، وتُسَمَّى المُسَبَّعَةَ؛ لأنَّ فيها سَبْعَةَ أقوالٍ. والمُسَدَّسَةَ؛ لأنَّ معنى الأقوالِ يَرْجِعُ إلى سِتَّةٍ. وسأل الحجّاجُ الشَّعْبِيَّ عنها، فقال: قد اختَلَفَ خمسةٌ مِن أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكَر له عثمانَ، وعليًّا، وابنَ مسعودٍ، وزيدًا، وابنَ عبّاسٍ، رضي الله عَنهم (¬1). 2788 - مسألة: (وَوَلَدُ الأبِ كَوَلَدِ الأَبَوينِ في مُقَاسَمَةِ الجَدِّ إذا انفَرَدُوا) لأنَّهم شارَكوهم في بُنُوَّةِ الأبِ التي ساوَوْا بها الجَدَّ (فإذا اجْتَمَعُوا عادَّ (¬2) وَلَدُ الأبَوَين الجَدَّ بوَلَدِ الأبِ، ثمَّ أخَذُوا مَا حَصَل لهم) ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 11/ 303. (¬2) عادَّ، بتشديد الدال، أي زاحَمَ به.

حَصَلَ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا مذهبُ زيدٍ. وأمّا عليٌّ، وابنُ مسعودٍ، فإنَّهما يُقاسِمان به وَلَدَ الأَبَوَين، ويُسْقِطان وَلَدَ الأبِ ولا يَعْتَدّان به؛ لأنَّه مَحْجُوبٌ فلَا يُعْتَدُّ به، كوَلَدِ الأُمِّ. فإذا كان جَدٌّ، وأخٌ مِن أبٍ وأُمٍّ، وأخٌ لأبٍ، قَسَما المال في هذِه المسألَةِ بينهما نِصْفَينِ. وزَيدٌ يَجْعَلُها من ثَلاثَةٍ؛ للجَدِّ سَهْمٌ، ولكُلِّ أخٍ سهْمٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ الأخُ مِن الأبِ والأُمِّ عَلى ما في يَدِ أَخِيه لأبِيهِ فيَأْخُذُه. وإن شئتَ فرَضْتَ للجَدِّ ثُلُثَ المالِ، والباقِيَ للأخِ مِن الأبَوَين. ومتى زاد الإِخوةُ على اثنَين فَرَضْتَ للجَدِّ الثُّلُثَ، والباقيَ لوَلَدِ الأبَوين. ووَجهُ مذهَبِ زيدٍ، أنَّ الجَدَّ وَالدٌ، فإذا حَجَبَه أَخوان وَارِثان جاز أن يَحْجُبَه أخٌ وارِثٌ وأخٌ غيرُ وارثٍ، كالأُمِّ، ولأنَّ وَلَدَ الأبِ يَحْجُبُونه إذا انْفَرَدُوا، فيَحْجُبونَه مع غيرِهم، كالأُمِّ، ويُفارقُ وَلَدَ الأُمِّ؛ فإنَّ الجَدَّ يَحْجُبُهم، فَلا يَنْبَغِي أن يَحْجُبُوه، بخِلافِ وَلَدِ الأبِ، فإنَّ الجَدَّ لا يَحْجُبُهم، فجاز أن يَحْجُبُوه إذا حَجَبَهم غَيرُه، كما يَحْجُبُون الأمَّ، إن كانوا مَحْجُوبِين بالأبِ. وأمّا الأخُ مِن الأبوَين، فإنَّه أقْوَى تَعْصِيبًا مِن الأخِ من الأبِ، فَلا يَرِثُ معه شيئًا، كما لو انْفَرَد عن الجَدِّ، فيأْخُذُ ميراثَه، كما لو اجْتَمَع ابنٌ وابنُ ابنٍ، فإنَّه يَحْجُبُه ويَأْخُذُ ميراثَه. فإن قيل: فالجَدُّ يَحْجُبُ وَلَدَ الأُمِّ، ولا يأْخُذُ ميراثَهم، والإِخوةُ يَحْجُبُون الأمَّ وإن لم يَأْخُذُوا مِيرَاثَها. قُلْنا: الجدُّ وَوَلَدُ الأُمِّ يَخْتَلِفُ سَبَبُ استِحقاقِهم للميراثِ، وكذلك سائرُ مَن يَحْجُبُ ولا يَأْخُذُ ميراثَ المَحْجُوبِ،

2789 - مسألة: (إلا أن يكون ولد الأبوين أختا واحدة، فتأخذ تمام النصف، وما فضل)

إلا أنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأبَوَينِ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَتَأْخُذَ تَمَامَ النِّصْفِ، وَمَا فَضَلَ لَهُمْ. وَلَا يَتَّفِقُ هَذَا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا فَرْضٌ غَيرُ السُّدْسِ. فَإِذَا كَانَ جَدٌّ وَأُخْتٌ مِنْ أَبَوَينِ وَأُخْتٌ مِنْ أَبٍ، فَالْمَالُ بَينَهُمْ عَلَى أرْبَعَةٍ؛ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، ثُمَّ رَجَعَتِ الْأُخْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وههُنا سببُ اسْتِحْقاقِ الإِخْوةِ للميراثِ الأُخُوَّةُ والعُصُوبةُ، فأيُّهما قَوِي حَجَب الآخرَ وأخَذ مِيراثَه. وقد مُثِّلَت هذه المَسْأَلةُ بمسألةٍ في الوَصايا، وهي إذا وَصّى لرجلٍ بثُلُثِ مالِه، ولآخَرَ بمائةٍ، ولثالثٍ بتَمامِ الثُّلُثِ على المائَةِ، وكان ثُلُثُ المالِ مِائَتَين، فإنَّ المُوصَى له بالمائةِ يُزاحِمُ صاحِبَ الثُّلُثِ بصاحِبِ التَّمامَ في حالِ الرَّدِّ، فيُقاسِمُه الثُّلُثَ نِصْفَين، ثم يَخْتَصُّ صاحبُ المائَةِ بها، ولا يَحْصُلُ لصاحِبِ التَّمامِ شيءٌ. 2789 - مسألة: (إلَّا أن يكونَ ولدُ الأبَوَين أُخْتًا واحدَةً، فتأْخُذُ تَمامَ النِّصْفِ، وما فَضَلَ) فهو (لهم. ولَا يَتَّفِقُ هذا في مَسألَةٍ فيها فَرْضٌ غيرُ السُّدْسِ) لأنَّ أدْنَى ما يَأْخُذُ الجَدُّ الثُّلُثُ مِن الباقِي، والأُختُ النصفُ، فالباقِي بعدَهما هو السُّدْسُ. (فإذَا كان جَدٌّ وأُختٌ من أبَوين وأُختٌ مِن أبٍ، فالمالُ بينَهم على أرْبَعَةٍ؛ للجَدِّ سَهْمان، ولكلِّ أُختٍ سَهْمٌ، ثم رَجَعَتِ الأُخْتُ مِن الأبوَين) على أُختِها لأبِيها، فَأخَذَت

2790 - مسألة: (فإن كان معهم أم فلها السدس، وللجد ثلث الباقي)

مِنَ الْأَبَوَينِ، فَأَخذَتْ مَا فِي يَدِ أُخْتِهَا كُلَّهُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَخٌ مِنْ أَبٍ، فَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ، يَبْقَى لِلْأَخِ وَأُخْتِهِ السُّدْسُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُمٌّ فَلَهَا السُّدْسُ، وَلِلْجَدِّ ثُلُث الْبَاقِي، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ، وَتَصِحُّ مِنْ أَربَعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَتُسَمَّى مُختَصَرَةَ زَيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما في يدِها جَمِيعَه؛ لتَسْتَكْمِلَ النِّصفَ؛ لأنَّ الْمُقاسمةَ ههُنا أحَظُّ للجَدِّ مِن ثُلُثِ المالِ (فإن كان معهم أخٌ مِن أَبٍ، فللجَدِّ الثُّلُثُ، وللأُختِ النِّصْفُ، يَبْقَى للأخِ وأُختِه السُّدْسُ) بينَهما (على ثلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن ثمانيةَ عَشَرَ) وتَستوي ههُنا المُقاسَمَةُ وثُلُثُ المالِ. 2790 - مسألة: (فإن كان معهم أُمٌّ فلها السُّدْسُ، وللجَدِّ ثُلُثُ الباقي) ولا ثُلُثَ له، فتَضرِبُها في ثلاثَةٍ تكنْ ثمانِيةَ عَشَرَ، للأُمِّ ثُلُثُه، وللجَدِّ ثُلُثُ الباقِي خَمْسَةٌ، وللأُختِ للأبَوَين تِسْعَةٌ، يَبْقَى للأخِ وأُختِه سَهْمٌ (وتَصِحُّ مِن أربعةٍ وخمسين، وتُسَمَّى مُخْتَصَرَةَ زيدٍ) لأنَّ ثُلُثَ الباقِي والمقاسَمَةَ في هذه المسألةِ سَواءٌ، فإن أَعطَيتَ الجَدَّ ثُلُثَ الباقِي صَحَّت

فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَخٌ آخَرُ صَحَّتْ مِنْ تِسْعِينَ، وَتُسَمَّى تِسْعِينِيَّةَ زَيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أربعةٍ وخَمْسينَ على ما ذَكَرنا، وإن قاسَم الإِخوَةَ أعطَيتَ الأُمَّ السُّدْسَ سَهْمًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ مَقْسُومَةٌ على الجَدِّ والأخِ وأُختين على سِتَّةٍ، فتَضْرِبُها في أَصلِ المَسألةِ تَكُنْ سِتَّةً وثلاثينَ؛ للأُمِّ سِتةٌ، وللجَدِّ عَشَرَةٌ، وللأُخْتِ للأبوَين ثمانِيةَ عَشَرٍ، يَبْقَى سَهْمان على الأخِ مِن الأبِ وأُختِه، لا يَصِحُّ، فإذا ضَرَبْتَ ثلاثَةً في ستةٍ وثلاثِينَ تكنْ مِائةً وثمانِيَةً، وتَرْجِعُ بالاخْتِصارِ إلى نِصْفِها أرْبعةٍ وخمسين؛ لأنَّها تَتَّفِقُ بالنِّصْفِ، فلهذا سُمِّيَت مُخْتَصَرَة زَيدٍ (ولو كانَ معهم أخٌ آخرُ) مِن أبٍ (صَحَّت من تِسعينَ، وتُسَمَّى تِسْعِينِيَّةَ زَيدٍ) لأنَّا نَدْفَعُ إلى الأُمِّ ثلاثَةً، وإلى الجَدِّ ثُلُثَ الباقِي خَمْسةً، وإلى الأُخْتِ للأَبوَين تِسعَةً، يَبْقَى سهمٌ لأولادِ الأبِ على خَمْسَةٍ، لا تَصِحُّ عليهم، إذا ضَرَبْتَها في ثمانِيةَ عَشَرَ تكُنْ تِسعينَ. وهذا التَّفْرِيعُ كُلُّه على مَذْهبِ زيدٍ؛ لكونِه يُوَرِّثُ الإِخوةَ مع الجَدِّ. فصل: أُمٌّ أو جَدَّةٌ وأُختان وجَدٌّ، المُقاسَمَةُ خيرٌ للجَدِّ، ويَبْقَى خَمْسَةٌ على أَرْبَعةٍ، وتَصِحُّ من أربعةٍ وعِشْرين. أُمٌّ وأخٌ وأُختٌ وَجَدٌّ، تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، للجَدِّ سَهْمان. أُمٌّ وأخَوانِ، أو أخٌ وأُختان، أو أربعُ أخواتٍ، وجَدٌّ، المُقاسَمَةُ وثُلُثُ الباقِي سواءٌ، فإن زَادُوا على ذلكَ فُرِض للجَدِّ ثُلُثُ الباقِي، وصَحَّت من ثَمانيةَ عَشرَ؛ للأُمِّ ثلاثةٌ، وللجَدِّ خَمْسَةٌ، يبقَى عَشَرَةٌ للإِخْوةِ والأخَواتِ، فتَصِحُّ عليهم. بِنْتٌ وأُخْتٌ وجَدٌّ، للبِنْتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصْفُ، وما بَقِي بينَ الأُخْتِ والجَدِّ على ثَلاثَةِ أسْهُمٍ؛ للجَدِّ سَهْمان، وللأُخْتِ سَهْمٌ؛ لأنَّ المُقاسَمَةَ ههُنا أحَظُّ له. وفي [قولِ عليٍّ] (¬1)، رَضِي اللهُ عنه: للبِنْتِ النِّصْفُ، وللجَدِّ السُّدْسُ، والباقِي للأُخْتِ. وعندَ ابنِ مسعودٍ، الباقي بينَ الجَدِّ والأُخْتِ نِصْفَين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما إذا انفرَد أخَذ المال بالتَّعْصِيبِ، فإذا اجْتَمَعا اقْتَسَما، كما لو كان مَكانَها أخٌ. وأمّا عليٌّ فبَنَى عَلَى أصْلِه في أنَّ الأخَواتِ لا يُقاسِمْنَ الجَدَّ، وإنَّما يُفْرَضُ لَهُنَّ، فلم يَفْرِضْ لها ههُنا؛ لأنَّ الأُخْتَ مع البنتِ عَصَبَةٌ، وأعْطَى الجَدَّ السُّدْسَ، كما لو انْفَرَدَ معها، وجَعَل الباقيَ لها. ولنَا، أنَّ الجَدَّ يُقاسِمُ الأُخْتَ فيأْخُذُ مِثْلَيها إذا كان معها أخٌ، فكذلكَ إذا انْفَرَدَت. وهذه إحدى مُرَبَّعاتِ ابنِ مسعودٍ. فصل: بِنْتٌ وأخٌ وجَدٌّ، للبِنْتِ النِّصْفُ، والباقِي بينَ الأخِ والجَدِّ نِصْفَين. وإنْ كان معه أُخْتُه فالباقي بينَهم على خَمْسَةٍ. وإن كان أخَوان، أو أخٌ وأُخْتان، أو أرْبَعُ أخَواتٍ، اسْتَوَى ثُلُثُ الباقي والسُّدْسُ والمُقاسَمَةُ، فإن زادُوا فلا حَظَّ له في المُقَاسَمَةِ ويأْخُذُ السُّدْسَ، والباقي لهم. فإن كانوا مِن الجِهَتَين فليس لوَلَدِ الأبِ شيءٌ، والباقي لولدِ الأبوَين. بِنْتٌ وأُخْتان وجَدٌّ، الباقي بينَ الجَدِّ والأُخْتَين على أربَعَةٍ، وتَصِحُّ مِن ثمانِيَةٍ. فَإن كُنَّ ثلاثَ أخَوَاتٍ فالباقي بينَهم على خَمْسَةٍ. فإن كُنَّ أكثَرَ مِن أَرْبَعٍ فله الثُّلُثُ ¬

(¬1) في م: «قوله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو سُدْسُ الباقي، والباقي لَهُنَّ. فصل: بِنْتَان أو أكْثَرُ، أو بِنْتٌ وبِنْتُ ابنٍ وأُخْتٌ وجَدٌّ، للبِنتَين الثُّلُثان، والباقي بينَ الجَدِّ والأُخْتِ على ثلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ، وإن كان مَكَانَها أَخٌ، فالباقي بينَهما نِصْفَين، وتَصِحُّ من سِتَّةٍ. وإن كان مَكَانَه أُخْتان صَحَّت مِن اثْنَيْ عَشَرَ. ويَسْتَوي في هاتَين المَسْألَتَين السُّدْسُ والمُقاسَمَةُ. فإن زادوا عن أخٍ أو عن أُخْتَين فَرَضْتَ للجَدِّ السُّدْسَ وكان الباقِي لهم، فإن كان معَهم أُمٌّ أو جَدَّةٌ فللجَدِّ السُّدْسُ، ولا شيءَ للإِخْوَةِ والأخَوَاتِ. فصل: زَوْجٌ وأُخْتٌ وجَدٌّ، للزَّوْجِ النِّصْفُ، والباقي بينَهما على ثلاثةٍ. وعندَ عليٍّ وابنِ مسعودٍ: للأُخْتِ النِّصفُ، وللجَدِّ السُّدْسُ، وعَالت إلى سَبْعَةٍ. وإن كان مع الأُخْتِ أخْرَى، فالباقي بينَهم على أَرْبَعَةٍ. وعندَهما، لهما الثُّلُثان، وتَعُولُ إلى ثَمانِيَةٍ. وإن كان مَكانَهما أخٌ، فالباقي بينَهما نِصْفين. وإن كان أخٌ وأُخْتٌ، أو ثَلاثُ أَخَواتٍ، قاسَمَهُمُ (¬1) الجَدُّ. وإن كان أَخَوانِ أو مَنْ يَعْدِلُهما، اسْتَوى السُّدْسُ والمُقاسَمَةُ. فإنْ زادُوا فَرَضْتَ له السُّدْسَ، والباقي لهم. فإن كان زَوْجٌ وبِنْتٌ وأُخْتٌ وجَدٌّ، فللزَّوْجِ الرُّبْعُ، وللبِنْتِ النِّصفُ، والباقي بينَهما على ثلاثَةٍ. ويَسْتَوي السُّدْسُ ههُنا والمُقاسَمَةُ. فإن زادوا على أُخْتٍ فَرَضْتَ للجَدِّ السُّدْسَ، والباقي لهم. وإن كان مع الزَّوْجِ بِنْتان، أو بنتٌ وبنتُ ابنٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «قاسمهما».

فَصْلٌ: وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةُ أحْوَالٍ؛ حَالٌ لَهَا السُّدْسُ، وَهِيَ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الابْنِ أَو اثْنَينِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَحَالٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ أو بنتٌ وأُمٌّ أو جَدّةٌ، سقَط الإِخوةُ والأخواتُ، وفرضْتَ للجَدِّ السُّدْسَ، وعالت إلى ثلاثةَ عَشَرَ. فصل: زوجةٌ وبنتٌ وأُختٌ وجَدٌّ، الباقِي بينَ الجَدِّ والأختِ على ثلاثةٍ، وتَصِحُّ مِن ثمانيةٍ. فإن كان مكانَ الأُختِ أخٌ أو أُخْتان، فالباقي بينَهم نِصفَين، وتَصِحُّ مع الأخِ مِن سِتَّةَ عَشَرَ، ومع الأُخْتَين مِن اثْنَين وثَلاثِينَ. وإن زادُوا فُرِضَ للجَدِّ السُّدْسُ، وانتَقَلَتِ المَسأَلةُ إلى أربَعَةٍ وعشرين، ثم تُصَحِّحُ (¬1) على المُنْكَسِر علَيهم. وإن كان معِ الزَّوْجَةِ ابْنَتَانِ أو أكْثَرُ، أو بِنْتٌ وبِنْتُ ابْنٍ، أو بِنْتٌ وأُمٌّ وجَدَّةٌ، فَرَضْت للجَدِّ السُّدْسَ، ويَبْقَى للإِخْوَةِ والأَخَواتِ سَهْمٌ مِن أربَعةٍ وعِشرينَ. فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وللأُمِّ أربَعةُ أحوالٍ؛ حالٌ لها السُّدْسُ، وهي مع وُجُودِ الوَلَدِ ووَلَدِ الابنِ أو اثنَين مِن الإِخْوَةِ ¬

(¬1) في م: «تصح».

لَهَا الثُّلُثُ، وَهِيَ مَعَ عَدَمِ هَؤُلَاءِ. وَحَالٌ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهِيَ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَينِ، وَامْرأَةٍ وَأَبَوَينِ، لَهَا ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَينِ. وَحَالٌ رَابعٌ، وَهِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا أَبٌ، لِكَوْنِهِ وَلَدَ زِنًى أَوْ مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ تَعْصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ نَفَاهُ، فَلَا يَرِثُهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِهِ، وَتَرِثُ أُمُّهُ وَذَوُو الْفَرْضِ مِنْهُ فُرُوضَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأخَواتِ. وحالٌ لها الثُّلُثُ، وهي مع عَدَمِ هؤلاء. وحالٌ لها ثُلُثُ ما بَقِيَ، وهي في زَوْجٍ وأبَوَين، وامرأةٍ وأبوين، لها ثُلُثُ الباقي بعدَ فَرْضِ الزَّوْجَين. وحالٌ رابعٌ، وهي إذا لم يكنْ لوَلَدِها أَبٌ؛ لِكونِه وَلَدَ زِنًى أو مَنْفِيًّا بلِعانٍ، فإنَّه يَنْقَطِعُ تعصِيبُه مِن جِهَةِ مَن نَفاه، فلا يَرِثُه هو ولا أحَدٌ مِن عَصَباتِه) وجملتُه، أنَّ الأُمَّ لها الأربعةُ الأحوالُ المَذْكُورَةُ، أمّا اسْتِحْقاقُها الثُّلُثَ مع عَدَمِ الوَلَدِ ووَلَدِ الابنِ، والاثْنَين مِن الإِخوةِ والأخواتِ مِن أيِّ الجِهاتِ كانوا، فلا نَعلَمُ في ذلك خِلافًا بينَ أَهلِ العلم. وقد دَلّ عليه قوْلُه تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. وأمّا اسْتِحْقاقُها السُّدْسَ إذا كان للمَيِّتِ وَلَدٌ أو وَلَدُ ابنٍ أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اثْنان (¬1) مِن الأخَواتِ، فهو قولُ الجُمْهُورِ. وقال ابنُ عباسٍ: لا يَحْجُبُ الأُمَّ عن الثُّلُثِ إلى السُّدْسِ مِن الإِخْوَةِ والأخَواتِ إلا ثلاثةٌ. وحُكِي ذلك عن معاذٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}. وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ. ورُوِيَ أنَّ ابنَ عباسٍ قال لعُثمانَ، رَضِيَ الله عنهما: ليس الأخَوانِ إِخْوَةً في لِسانِ قومِكَ، فَلِمَ تَحْجُبُ بهما الأُمَّ؟ فقال: لا أستطيعُ أنْ أرُدَّ شيئًا كانَ قَبْلِي ومَضَى في البُلدانِ وتوارَثَ النّاسُ به (¬2). ولَنا، قولُ عثمانَ هذا، فإنَّه يَدُلُّ على الإِجْماعِ، ثم (¬3) هو قبلَ مُخالفَةِ ابنِ عبَّاسٍ. ولأنَّ كلَّ حَجْبٍ تَعَلَّقَ بعَدَدٍ كان أوَّلُه اثنينِ، كحَجْبِ البناتِ بناتِ الابْنِ، والأَخواتِ مِن الأبوَينَ الأخواتِ مِن الأَبِ، والإِخوةُ تُسْتعْمَلُ في الاثْنينِ، قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (¬4). وهذا الحُكمُ ثابتٌ في أخٍ وأُخْتٍ. ومِن أهلِ اللُّغةِ مَن يَجْعلُ الاثنين جَمْعًا حَقِيقةً، ومنهم مَن يَسْتَعْمِلُه مَجازًا فيَصْرِفُ إليه بالدَّلِيلِ. ولا فَرْقَ في حَجْبِها بينَ الذَّكرِ والأُنثى؛ لقولِه تعالى: {إِخْوَةٌ}. وهذا يَقعُ على الجَميعِ؛ لقولِه تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً ¬

(¬1) في م: «ابنين». (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب فرض الأم، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 227. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 122. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة النساء 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِجَالًا وَنِسَاءً}. ففَسَّرَهم بالرِّجالِ والنِّساءِ. وأمَّا اسْتِحْقَاقُها ثُلُثَ الباقِي في زوجٍ وأبَوين، وامْرَأةٍ وأبَوَينٍ، فهاتان المَسألَتان تُسَمَّى العُمَرِيَّتَينِ (¬1)؛ لأنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، قَضَى بذلك فاتَّبَعَه عُثمانُ، وزَيدُ بنُ ثابِتٍ، وابنُ مسعودٍ. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ. وبه قال الحَسَنُ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وجَعَل ابنُ عبَّاسٍ ثُلُثَ المالِ كُلَّه للأُمِّ في المَسألَتَينِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى فَرَض لها الثُّلُثَ عند عَدَمِ الوَلَدِ والإِخْوَةِ، وليسَ ههُنا وَلَدٌ ولا إِخْوَةٌ. ويُرْوَى ذلك عن عليٍّ. ويُروَى عن شرَيحٍ ذلك في زَوْجٍ وأَبَوَينِ. وقال ابنُ سِيرِينَ كقَوْلِ الجَماعَةِ في زَوْجٍ وأَبَوينِ، وكقَولِ ابنِ عبَّاسٍ في امْرَأَةٍ وأَبَوينِ. وبه قال أبو ثَوْرٍ؛ لأنَّنا لو فَرَضْنا للأُمِّ ثُلُثَ المالِ في زَوْجٍ وأبَوينِ، لفَضَّلْناهَا على الأبِ، ولا يَجوزُ ذلك، وفي مَسألةِ الزَّوجَةِ لا يُؤَدِّي إلى ذلك. واحتجَّ ابنُ عبَّاسٍ بعُمومِ قولِه تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. وقولِه عليه السَّلامُ: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فما بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (¬2). والأَبُ ههُنا عَصَبَةٌ، فيَكونُ له ما فَضَلَ عن ذَوي الفُروضِ، كما لو كان مَكانَه جَدٌّ. ¬

(¬1) في الأصل: «العمرية». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شَيخُنا (¬1): والحُجَّةُ معه لَوْلا انْعِقادُ الإِجْماعِ مِن الصَّحابةِ على مُخالفَتِه. ولأنَّ الفَرِيضَةَ إذا جَمَعَت أبَوَين وذا فَرْضٍ، كان للأُمِّ ثُلُثُ الباقِي، كما لو كان معهم بِنْتٌ. ويُخالِفُ الأبُ الجَدَّ؛ لأنَّ الأبَ في دَرَجتِها، والجَدَّ أَعْلى منها. وما ذَهَب إليه ابنُ سِيرِينَ تَفْرِيقٌ في مَوْضِعٍ أجْمَع الصَّحابَةُ على التَّسْويَةِ فيه، ثم إنَّه مع الزَّوْجِ يَأْخُذُ مثلَ ما أَخَذَتِ الأُمُّ، كذلك مع المَرْأَةِ، قِياسًا عليه. فَأمّا الحالُ الرابعُ، وهي إذا كان وَلَدُها مَنفيًّا بلِعانٍ، فإنَّ الرجلَ إذا لاعَن امرأتَه وانْتَفَى مِن (¬2) ولدِها وفَرَّقَ الحاكِمُ بينَهما، انتَفَى ولدُها عنه وانْقَطعَ تعْصِيبُه مِن جِهَةِ المُلاعِنِ، فلم يَرِثْه هو ولا أحَدٌ مِن عَصَباتِه، وتَرِثُ أُمُّه وذَوُو الفُرُوضِ منه فُرُوضَهم، ويَنْقَطِعُ التَّوارُثُ بينَ الزَّوْجَين. لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العِلمِ في هذه المسألَةِ خِلافًا. فأمّا إن ماتَ أحدُهم قبلَ تَمامِ اللِّعانِ بينَ الزَّوْجَين وَرِثَه الآخَرُ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 23. (¬2) في م: «منه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قولِ الجمهورِ. وقال الشَّافِعِيُّ: إذا أكْمَلَ الزَّوْجُ لِعانَهُ لم يَتَوارثا. وقال مالكٌ: إن مات الزوجُ بعدَ لِعانِه، فإن لاعَنَتِ المرأةُ لمْ تَرِثْ ولم تُحَدَّ، وإن لم تُلاعِنْ وَرِثَتْ وحُدَّتْ. وإن ماتَت هي بعدَ لِعانِ الزَّوْجِ وَرِثَها في قولِ جميعِهم، إلَّا الشافعيَّ. فإن تَمَّ اللِّعانُ بينَهما فمات أحَدُهما قبلَ تَفْرِيقِ الحاكِمِ بَينَهما لم يَتَوارَثا، في إحدَى الرِّوايَتَين. وهو قَوْلُ مالكٍ، وزُفَرَ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن الزُّهْرِيِّ، ورَبِيعَةَ، والأوْزاعِيِّ، وداودَ؛ لأنَّ اللِّعانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ المُؤبَّدَ، فلم يُعْتَبَرْ في حُصولِ الفُرْقَةِ به التفريقُ بينَهما، كالرَّضاعِ. والثانيةُ، يَتَوارَثان ما لم يُفَرِّقِ الحاكمُ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ وصاحبَيه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّق بينَ المُتَلاعِنَين، ولو حَصَل التَّفْرِيقُ باللِّعانِ لم يُحْتَجْ إلى تَفرِيقِه. وإن فَرَّق الحاكِمُ بينَهما قبلَ تَمامِ اللِّعانِ لم تَقَعِ الفُرْقَةُ ولم يَنْقَطِعِ التَّوارُثُ في قولِ الجمهورِ. وقال أبو حنيفَةَ وصاحِباهُ: إن فَرَّق بينَهما بعدَ أن تَلاعَنا ثلاثًا وَقَعَتِ الفُرْقَةُ وانْقَطَع التَّوارُثُ؛ لأنَّه وُجِدَ منهما مُعْظَمُ اللِّعانِ، وإن فَرَّقَ بينَهما قبلَ ذلك لم يَنْقَطِعِ التَّوارُثُ ولم تَقَعِ الفُرْقَةُ. ولَنا، أنَّه تَفْرِيقٌ قبلَ تَمامِ اللِّعانِ، أَشْبَهَ التَّفْرِيقَ قبلَ الثَّلاثِ. وهذا الخِلافُ في تَوارُثِ الزَّوجَين. فأمّا الولدُ، فالصَّحيحُ أنَّه يَنْتَفِي عن المُلاعِنَ (¬1) إذا تمَّ اللِّعانُ ¬

(¬1) في الأصل: «التلاعن».

2791 - مسألة: (وعصبته عصبة أمه. وعنه، أنها هي عصبته)

وَعَصَبَتُهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا هِيَ عَصَبَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما مِن غيرِ اعْتبارِ تفريقِ الحاكِمِ؛ لأنَّ انتفاءَه بنَفْيِه لا بِقولِ الحاكِمِ: فرَّقْتُ بَينَكما. فإن لم يَذْكُرْه في اللِّعانِ لم يَنْتَفِ عن المُلاعِنِ ولم يَنْقَطِعِ التَّوارُثُ بَينَهُما. وقال أبو بكرٍ: يَنْتَفِي بزَوالِ الفِراشِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَى الوَلَدَ عن المُلاعِنِ وألْحَقه بأمِّه (¬1)، ولم يَذْكُرْه الرجلُ في لِعانِه. ويُحَقِّقُ ذلك أنَّ الولدَ كان حَمْلًا في البَطْنِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرُوهَا، فَإن جاءَت بِه أُحَيمِرَ كَأنَّه وَحَرَةٌ حَمْشَ السَّاقَين، فَلَا أَرَاهُ إلا قَدْ كَذَبَ عَلَيهَا، وَإنْ جَاءَتْ بِهِ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَينِ سَابِغَ الألْيَتَينِ، فهو لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» (¬2). فأتَتْ به على النَّعْتِ المَكْرُوهِ. 2791 - مسألة: (وعَصَبَتُه عَصَبَةُ أُمِّه. وعنه، أَنَّهَا هي عَصَبَتُه) اخْتَلَفَ أهلُ العِلْمِ في مِيراثِ الوَلَدِ المَنْفِيِّ باللِّعانِ، فرُوىَ عن أحمدَ فيه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب يلحق الولد بالملاعنة، من كتاب اللعان. صحيح البخاري 2/ 525. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1133. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 2/ 525. والترمذي، في: باب ما جاء في اللعان، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 189. والنسائي، في: باب نفي الولد باللعان. . . .، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 146. وابن ماجه، في: باب اللعان، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 669. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 38. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 338.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَصَبَتُهَا عَصَبَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ روايتان؛ إحداهما، أنَّ عَصَبَتَه عَصَبَةُ أُمِّه. نَقَلَها الأثْرَمُ وحنبلٌ. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ. وبه قال الحسنُ، وابنُ سيرينَ، وجابِرُ بنُ زَيدٍ، وعطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ بنُ صالحٍ، إلَّا أنَّ عليًّا يَجْعَلُ ذا السهم مِن ذَوي الأرحامِ أحَقَّ ممَّن لا سهمَ له، وقَدَّمَ الرَّدَّ على غيرِه. والرِّوايةُ الثانيةُ، أنَّ الأمَّ عَصَبَتُه، (فإن لم تَكُنْ، فعَصَبَتُها عَصَبَتُه). نَقَلَها أبو الحارِثِ ومُهَنَّا. وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ. ورُوِيَ نحوُه (¬1) عن عليٍّ، ومكحولٍ، والشَّعْبِيِّ؛ لما روَى عمرُو بنُ شُعَيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّه، أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل ميراثَ ابنِ المُلاعِنَةِ لأُمِّه ولوَرَثَتِها مِن بعدِها (¬2). ورواه أيضًا مكحولٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (¬3). وروَى واثِلَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ميراث ابن الملاعنة، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 112، 113. (¬3) أخرجه الدارمي، في: باب ميراث ابن الملاعنة، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 364.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ الأسقَعِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَحُوزُ المَرْأةُ ثَلَاثةَ مَوَارِيثَ؛ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لاعَنَتْ عَلَيهِ» (¬1). وعن عبدِ اللهِ بنِ عُبَيدِ بنِ عُمَير، قال: كَتَبْتُ إلى صديق لي مِن أهلِ المدينةِ مِن بني زُرَيقٍ أسألُه عن ولدِ المُلاعِنَةِ، لمَن قَضَى به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فكَتَب إليَّ: إنِّي سَأَلْتُ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى به لأمِّه، هي بمنزِلَةِ أَبيه وأُمِّه (¬2). رواهُنَّ أبو داودَ. ولأنَّها قامَتْ مَقامَ أُمِّه وأبيه في انتِسابِه إليها، فقامَت مَقامَهما في حِيازَةِ مِيراثِه، ولأنَّ عَصَباتِ الأُمِّ أدْلَوْا بها، فلم يَرِثُوا معها، كأقارِبِ الأبِ معه. وكان زيدُ بنُ ثابتٍ يُوَرِّثُ مِن ابنِ المُلاعِنَةِ، كما يُوَرِّثُ مِن غيرِ ابنِ المُلاعِنَةِ، ولا يَجْعَلُها عَصَبَةَ ابْنِها (¬3)، ولا عَصَبَتَها عَصَبَتَه، فإن كانَتْ أُمُّه مَوْلَاةً لقومٍ جَعَل الباقِيَ مِن مِيراثِها لمَوْلاها، فإن لم تَكُنْ مَوْلاةً جُعِلَ (¬4) لبيتِ المالِ. وعن ابنِ عباس نَحْوُه. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ، وسليمانُ بنُ يَسارٍ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزُّهْرِيُّ، ورَبِيعَةُ، وأبو الزِّنادِ، ومالكٌ، وأهلُ المدينةِ، والشافعيُّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 310. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 24. (¬2) أخرجه أبو داود في المراسيل 191. والبيهقي، في: باب ميراث ولد الملاعنة، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 259. (¬3) في الأصل: «ابنه». (¬4) في الأصل: «جعلت».

2792 - مسألة: (فإذا خلف أما وخالا، فلأمه الثلث)

فَإذَا خَلَّفَ أُمًّا وَخَالًا، فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ وَبَاقِيهِ لِلْخَالِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأخْرَى، الْكُلُّ لِلأُمِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو حنيفةَ، وصاحِباه، وأهلُ البصرةِ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ وأهلَ البصرةِ جَعَلُوا الرَّدَّ وذَوي الأرْحامِ أحقَّ مِن بيتِ المالِ؛ لأنَّ الميراثَ إنَّما يَثْبُت بالنَّصِّ، ولا نَصَّ في تَوْرِيثِ الأمِّ أكثرَ مِن الثُّلُثِ، ولا في تَوْرِيثِ أخٍ مِن أُمٍّ أكثرَ مِن السُّدْسِ، ولا في تَوْرِيثِ أبي الأُمِّ وأشْباهِه مِن عَصَباتِ الأُمِّ، ولا قِياسَ أيضًا، فلا وَجْهَ لإثْباتِه. ووجهُ الرِّوايةِ الأُولَى قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (¬1). وأَوْلَى الرجالِ بهِ أقاربُ أُمِّهِ. وعن عمرَ، رضي اللهُ عنه، أنَّه ألْحَق وَلَدَ المُلاعِنَةِ بعَصَبَةِ أمِّه. وعن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عَنه، أنَّه لمَّا رَجَم المرأةَ دعا أولياءَها، فقال: هذا ابنُكم، ترِثُونه ولا يَرِثُكِم، وإن جَنَى جِنايَةً فعليكم (¬2). حَكاه الامامُ أحمدُ عنه. ولأنَّ الأُمَّ لو كانتْ عَصَبَةً كأبيه لحَجَبَت إخوتَه. ولأنَّ مَوْلاها مَوْلَى أوْلادِها، فيَجِبُ أن يكونَ عَصَبَتُها عَصَبَتَه، كالأبِ. 2792 - مسألة: (فإذا خَلَّفَ أُمًّا وخالًا، فلأُمِّه الثُّلُثُ) بلا خِلافٍ (والباقِي للخالِ) لأنَّه عَصَبَةُ أُمِّه (وعلى الرِّوايَةِ الأُخْرَى، الكلُّ للأمِّ) وهذا قولُ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وأبي حنيفةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 11. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 11/ 348.

فَإنْ كَانَ مَعَهُمْ أخٌ لأُمٍّ فَلَهُ السُّدْسُ وَالْبَاقِي لَهُ، أوْ لِلْأُمِّ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُوافِقِيه، إلَّا أنَّ ابنَ مسعودٍ يُعْطِيها إيَّاهُ؛ لكَوْنِها عَصَبَتَه، والباقونَ بالرَّدِّ، وعن زيدٍ، الباقي لبيتِ المالِ (فإن كان معهما أخٌ لأمٍّ فله السُّدْسُ، والباقِي له) إن قُلْنا: إنَّه العَصَبَةُ. على الرِّوايةِ الأُولَى. وعلى الأُخْرَى، الكلُّ للأمِّ. ولا شيءَ للخالِ على الرِّوايَتَين. فإن كانَ معهما مَوْلَى أُمٍّ فلا شيءَ له عندَنا. وقال زيدٌ ومَن وافَقَه، وأبو حنيفةَ: الباقي له. وإن لم يَكُنْ لأمِّه عَصَبَةٌ إلَّا مَوْلاها، فالباقي له إذا قُلْنا: عَصَبَتُها عَصَبَتُه. وعلى الرِّوايةِ الأخرَى، هو للأُمِّ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ؛ لأنَّها عَصَبَةُ ابنِها. فصل: فإن لم يُخلِّفْ إلَّا أُمَّه، فلها الثُّلُثُ فَرْضًا والباقي بالرَّدِّ. وهو قولُ عليٍّ وسائرِ مَن يرَى الرَّدَّ. وفي الرِّوايةِ الأُخْرَى، لها الباقي بالتَّعْصِيبِ. فإن كان مع الأُمِّ عَصَبَة لها، فهل يكونُ الباقي لها أولَه؟ على رِوايَتَين ذَكَرناهما. فإن كان لها عَصَباتٌ، فهو لأقْربِهم منها على الرِّوايةِ الأُولَى. فإذا كان معها أبوها وأخُوها فهو لأبيها، فإن كان مكانَ الأبِ جَدٌّ فهو بينَ أخيها وجَدِّها نِصْفين، فإن كان معهم ابْنُها -وهو أخوه لأُمِّه- فلا شيءَ لأخيها، ويكونُ لأمِّه الثُّلُثُ ولأخيه السُّدْسُ ولأخيه الباقي، أو (¬1) ابنِ أخيهِ. وإن خَلَّفَ أُمَّه وأخاه وأختَه، فلكلِّ واحدٍ منهمُ السُّدْسُ، والباقي لأخيه دونَ أُخْتِه. وإن خَلَّفَ ابنَ أخيِه وبِنْتَ أَخِيه، أو خاله وخالته، ¬

(¬1) في الأصل: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالبَاقِي للذَّكَرِ. وإن خَلَّف أُخْتَه وابنَ أُخْتِه، فلأُخْتِه السُّدْسُ والباقي لابنِ أخْتِه. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، الكلُّ للأمِّ في [هذه المَواضِعِ] (¬1). فصل: ابنُ مُلاعِنَةٍ مات وتَرَك بِنْتًا وبِنْتَ ابْن ومَوْلَى أُمِّه، البَاقِي لمَوْلَى الأُمِّ في قولِ الجمهورِ. وقال ابنُ مَسْعودٍ: الرَّدُّ أوْلى مِن المَوْلَى. فإن كان معهم أُمٌّ فلها السُّدْسُ، وفي الباقي رِوايتان؛ إحْداهما، للمَوْلَى. وهو قولُ الأكْثَرينَ. والثانيةُ، للأُمِّ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ. فإن لم يكنْ معهم مَوْلًى فالباقي مَرْدُودٌ عليهم في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأُخْرى، هو للأمِّ. فإن كان معهم أخٌ فلا شيءَ له بالفَرْضِ، وله الباقي في روايةٍ. والأُخْرى، هو للأُمِّ. بنتٌ وأخٌ، أو ابنُ أخٍ أو خالٌ، أو أبو أُمٍّ، أو غيرُهم مِن العَصبَاتِ؛ للبنتِ النِّصْفُ، والباقي للعَصَبَةِ، في قولِ العبادِلَةِ. وإن كان معها أخٌ و (¬2) أخْتٌ، أو ابنُ أخٍ وأخْتُه، أو خالٌ وخالةٌ، فالباقي للذَّكَرِ وَحْدَه في قولِهم. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: المالُ للبنْتِ بالفَرْضِ والرَّدِّ. ورَوَوْا ذك عن عليٍّ، - عليه السلام -، أنَّه جَعَل ذا السَّهْمِ أحَقَّ ممَّن لا سَهْمَ له، وأنَّه وَرَّث ابنَ مُلاعِنَةٍ ذَوي أرْحامِه كما يَرِثُون من غَيرِه. قال ابنُ اللَّبَّانِ: وليس هذا مَحْفُوظًا عن عليٍّ، إنَّما المشْهورُ عنه قولُه لأولياءِ المرْجومَةِ عنٍ ابْنِها: هذا ابْنُكم، تَرِثُونه ولا يَرِثُكم، فإن جَنَى جِنايةً ¬

(¬1) في م: «هذا الموضع». (¬2) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعليكم. وفسَّر القاضي قولَ أحمدَ: إن، يكنْ أمٌّ فَعَصَبَتُها عَصَبَتُه. بتقديمِ الردِّ على عَصَبَةِ الأُمِّ، كقولِه في أُخْتٍ وابنِ أخٍ: المالُ كلُّه للأُخْتِ. قال شيخُنا (¬1): وهذا تفسيرٌ للكلامِ بضِدِّ ما يَقْتَضِيه، وحَمْلٌ للَّفْظِ على خلافِ ظاهرِه، وإنَّما هذه الرِّوايةُ كمذهبِ ابنِ مسعودٍ وروايةِ الشَّعْبيِّ عن عليٍّ وعبدِ اللهِ، أنَّهما قالا: عصبةُ ابنِ المُلاعِنَةِ أمُّه، تَرِثُ ماله أجْمَعَ، فإن لم يكْن أمٌّ فعصبتُها عصبتُه. امرأةٌ وجَدَّةٌ وأُخْتان وابنُ أخٍ؛ للمرأَةِ الرُّبْعُ، وللجَدَّةِ السُّدْسُ، وللأُخْتَين الثُّلُثُ، والباقي لابنِ الأخِ، في الروايتَين جميعًا. وقال أبو حنيفةَ: الباقي يُرَدُّ على الأُخْتَين والجَدَّةِ. وهو قولُ القاضي في الروايةِ الثَّانيةِ. أبو أمٍّ وبنتٌ وابنُ أخٍ وبنتُ أخٍ، الباقي لابنِ الأخِ وَحْدَه. ويَحْتَمِلُ أن يكون لأبي الأُمِّ سُدْسُ باقِي المالِ، وخَمْسَةُ أسْداسِه لابنِ الأخِ. وقال أبو حنيفةَ: المالُ بينَ أبي الأُمِّ والبِنْتِ، على أرْبَعَةٍ، بالفَرْضِ والرَّدِّ. فصل: فإن لم يَتْرُكِ ابنُ المُلاعِنَةِ ذا سَهْمٍ فالمالُ لعَصَبَةِ أُمِّه في قولِ الجماعةِ. وقد رُوِيَ ذلك عن عليٍّ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: هو بينَ ذَوي الأرْحامِ كمِيراثِ غيرِه. ورَوَوْه عن عليٍّ. وذلك مِثلُ خالٍ وخالةٍ، وابنِ أخٍ وأُختِه، المالُ للذَّكَرِ. وفي قولِ أبي حنيفةَ، هو بينَهما في المسْألَتَين نِصْفَين. ¬

(¬1) في: المغني 9/ 119.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خالةٌ لأبٍ وأُمٍّ وخالٌ لأبٍ، المالُ للخالِ. وقال أبو حنيفةَ: هو للخالةِ. خالةٌ وبنتُ بنتٍ، المالُ بينَهما على أربعةٍ. وإذا لم يُخَلِّفِ ابنُ المُلاعِنَةِ إلَّا ذا رحِمٍ، فحكمُهم في ميراثِه كحكمِهم في ميراثِ غيرِه، على ما نذكرُه. فصل: وإذا قُسِم ميراثُ ابنِ المُلاعِنَةِ ثُمَّ أكْذَبَ المُلاعِنُ نَفْسَه، لحِقَه الولدُ ونُقِضَتِ القِسْمَةُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْحَقُه النَّسَبُ بعدَ موتِه إلَّا أن يكُونا تَوْأمَين مات أحدُهما وأكذَب نَفْسَه والأخُ باقٍ، فيَلْحَقُه نَسَبُ الباقي والميِّتِ معًا. وقد مضَى الكلامُ معه في غيرِ هذا المَوْضِعِ. فصل: ولو كان المَنْفِيُّ باللِّعانِ تَوْأمَينْ، ولهما أخٌ آخَرُ من الزَّوجِ لم يَنْفِه، فماتَ أحدُ التَّوْأمَين، فميراثُ تَوْأمِه منه كمِيراثِ الآخَرِ في قولِ الجمهورِ. وقال مالكٌ: يرثُه تَوْأمُه كمِيراثِ أخٍ لأبَوَين؛ لأنَّه أخُوهُ لأبَوَيه، بدليلِ أنَّ الزُّوْجَ لو أقَرَّ بأحَدِهما لَحِقَه الآخرُ. وهذا أَحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشَّافعيِّ. ولَنا، أنَّهما تَوْأمان لم يثْبُتْ لهما أبٌ يَنْتَسِبان إليه، فَأشْبَها (¬1) تَوْأَمَي الزَّانيةِ، ولا خلافَ في تَوْأَمَي الزَّانيةِ. وفارَق هذا ما إذا اسْتَلْحَق أحدَهما؛ لأنَّه ثَبَت باستِلْحاقِه أنَّه أبُوهما. فصل: قولُهم: إنَّ الأُمَّ عَصَبَةُ ولدِها. أو: إنَّ عَصَبَتَها عَصَبتُه. إنَّما ¬

(¬1) بعده في الأصل: «توأما».

2793 - مسألة: (وإذا مات ابن ابن الملاعنة وخلف أمه

وَإِذَا مَاتَ ابْنُ ابْنِ مُلَاعِنَةٍ وَخَلَّفَ أُمَّهُ وَجَدَّتَهُ، فَلأُمِّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ هو في الميراثِ خاصَّةً، كقولِنا في الأخَواتِ مع البناتِ. فعلى هذا، لا يَعْقِلُون عنه، ولا تَثْبُتُ لهم ولايةُ التَّزْويجِ ولا غيرِه. هذا قولُ الأكْثرينَ. وقد رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِي الله عنه، أنَّه قال لأولياءِ المرجومةِ في ولدِها: هذا ابْنُكم، تَرِثُونَه ولا يَرِثُكُم، وإنْ جَنى فعليكم (¬1). ورُوي هذا عن عبدِ اللهِ، وإبراهيمَ. ولَنا، أنَّهم إنَّما ينْتَسِبون إليه بقَرابةِ الأُمِّ فلم يَعْقِلوا عنه، ولم تثْبُتْ لهم ولايةُ التَّزويجِ، كما لو عَلِم أبُوه، ولا يلزمُ مِن التَّعْصيبِ في الميراثِ التَّعْصيبُ في العَقْلِ والتَّزْويجِ، بدليلٍ الأخَواتِ مع البناتِ. فأمّا إِن أَعْتَقَ ابنُ المُلاعِنَةِ عَبْدًا ثم مات، ثم مات المَوْلَى وخَلَّف أُمَّ مَوْلاه وأخا مَوْلاه، احْتَملَ أن يَثْبُتَ لهما الإِرْثُ بالولاءِ؛ لأنَّ التَّعْصيبَ ثابتٌ. وحُكِي ذلك عن أبي يوسفَ. وهل يكونُ للأُمِّ أو للأخ؟ على الرّوايتينِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ لهما ميراثٌ؛ لأنَّ النِّساءَ لا يَرِثْنَ من الوَلاءِ إلَّا ما أعْتَقْنَ أو أعْتَق مَن أعتقْنَ، فكذلك مَن يُدْلِي بهنّ. وما ذكرْناه للاحْتمالِ الأوَّلِ يَبْطُلُ بالأخواتِ مع البناتِ، ومَن عَصَّبَهُنَّ أخوهُنَّ من الإِناثِ. 2793 - مسألة: (وإذا مات ابنُ ابنِ المُلاعِنَةِ وخَلَّفَ أُمَّهُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 47.

الثُّلُثُ وَبَاقِيهِ لِلْجَدَّةِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَين. وَهَذِهِ جَدَّةٌ وَرِثَتْ مَعَ أُمٍّ أكْثَرَ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَدَّتَه، فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ والبَاقِي للجَدَّةِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَين. وهَذِه جَدَّة وَرثَتْ مع أُمٍّ أكْثَرَ مِنها) إذا مات ابنُ ابنِ المُلاعِنَةِ وخَلَّف أُمَّه وأمَّ أبيه، فلأُمِّه الثُّلُثُ والبَاقي لها بالرَّدِّ. وهذا قولُ عليٍّ وعلى الرِّوايةِ الأُخْرى الباقي لأُمِّ أبيه؛ لأنَّها عَصَبَةُ أبيه. وهذا قولُ ابنِ مَسْعودٍ. ويُعايَىَ بها فيُقالُ: جدّةٌ ورِثَتْ مع أُمٍّ أكْثَرَ منها. وإن خَلَّف جَدَّتَيه، فالمالُ بينهما بالفرضِ والرَّدِّ على قولِ عليٍّ وفي قولِ ابنِ مَسْعودٍ، لهما السُّدْسُ فَرضًا بينهما وباقي المالِ لأمِّ أبيه. أمُّ أمٍّ وخالُ أبٍ لأمٍّ؛ الأمُّ السُّدْسُ. وفي الباقي قولان (¬1)؛ أحدُهما، أنَّه لها بالرَّدِّ. والثّاني، لخالِ الأبِ. وفي قول عليٍّ، الكلُّ للجَدَّةِ. خالٌ وعَمٌّ وخالُ أبٍ وأبو أمِّ أبٍ، المالُ للعمِّ؛ لأنَّه ابنُ المُلاعِنَةِ، فإن لم يكنْ عمٌّ فلأبي أمِّ الأبِ؛ لأنَّه أُبُوها، فإن لم يكنْ [فلخالِ الأبِ، فإن لم يكنْ] (¬2) فللْخالِ؛ لأنَّه ذو رَحِمِه. بِنْتٌ وعَمٌّ، للبِنْتِ النِّصْفُ والباقي للعَمِّ. وفي قولِ عليٍّ الكلُّ للبِنْتِ؛ لأنَّه يُقَدِّمُ الرَّدَّ على تَوْريثِ عَصَبَةِ أُمِّه. ¬

(¬1) في الأصل: «القولان». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِنْتٌ وأُمٌّ وخالٌ، المالُ بينَ البِنْتِ والأُمِّ على أربعةٍ، بالفَرْضِ والرَّدِّ، ولا شيءَ للخالِ؛ لأنَّه ليس بعَصَبَةِ المُلَاعِنَةِ، ولو كان بَدَلَ الخالِ خَالُ أبٍ كان الباقي له؛ لأنَّه عَصَبَةُ المُلاعِنَةِ. فأمّا ابنُ ابنِ ابنِ الملاعِنَةِ، فإذا خَلَّف عَمَّه وعَمَّ أبيه، فالمالُ لعَمِّهِ؛ لأنَّه عَصَبَتُه، وهذا يَنْبَغِي أن يكونَ إجْماعًا. وقد قال بعضُ النّاسِ: يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ عَمُّ الأبِ أوْلى؛ لأنَّه ابنُ المُلاعِنَةِ. وهذا غلطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ العصباتِ إنَّما يُعْتَبَرُ أقْرَبُهم من المَيِّتِ، لا مِن آبائِه. وإن خَلَّف ثلاثَ جَدَّاتٍ مُتَحاذِياتٍ، فالسُّدْسُ بينَهنَّ والباقي يُرَدُّ عليهنَّ في إحْدى الرِّوايَتَين. وهو قولُ عليٍّ. وفي الثّانيةِ لأُمِّ أبي أبيه. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ. وإن خَلَّف أمَّه وجَدَّتَه وجدَّةَ أبيه، فلأمِّه الثُّلُثُ ولا شيءَ لجدَّتِه. وفي الباقي روايتان؛ إحداهما، يُرَدُّ على الأُمِّ. والثانيةُ، لجدَّةِ أبيه. وإن خَلَّف خاله وخال أبيه وخال جَدِّه، فالمالُ لخالِ جَدِّه، فإن لم يكنْ فلخالِه، ولا شيءَ لخالِ أبيه. فأمّا ولَدُ بِنْتِ المُلاعِنَةِ، فليستِ المُلاعِنَةُ عَصَبَة لهم في قولِ الجميعِ؛ لأنَّ لهم نَسَبًا معروفًا مِن جهةِ أبيهم، وهو زوجُ بِنْتِ المُلاعِنَةِ. ولو أعْتَقَتْ بِنْتُ المُلاعِنَةِ عبدًا ثم ماتَت ثم مات المَوْلَى وخلَّفَت أمَّ مَوْلاتِه، وَرِثَت مال الموْلَى؛ لأنَّها عَصَبَةٌ لبنتِها، والبِنْتُ عَصَبَةٌ لمولاها، في أحدِ الوجهين، وقَدْ ذَكَرْناهما في ابنِ المُلاعِنَةِ. فصل: والحكمُ في ميراثِ ولدِ الزنى في جميعِ ما ذكرْنا كالحكمِ في ولدِ المُلاعِنَةِ، على ما ذكرنا مِنَ الأقوالِ والاختلافِ، إلَّا أنَّ الحسنَ بنَ

فصل: وَلِلْجَدَّاتِ السُّدْسُ -وَاحِدَةً كَانَتْ أوْ أكْثَرَ- إِذَا تَحَاذَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صالحٍ قال: عَصَبَةُ ولدِ الزنى سائرُ المسلمين؛ لأنَّ أُمَّه ليستْ فِراشًا بخلافِ ولدِ المُلاعِنَةِ. والجمهورُ على التّسْويَةِ بينهما؛ لانْقِطاعِ نَسَب كلِّ واحدٍ منهما مِن أبيه، إلَّا أنَّ ولدَ المُلاعِنَةِ يَلْحَقُ المُلاعِنَ إذا اسْتَلْحَقَه، وولدُ الزِّنى لا يَلْحَقُ الزَّانِيَ في قولِ الجمهورِ. وقال الحسنُ، وابنُ سيرينَ: يَلْحَقُ الواطِئَ إذا أُقيم عليه الحدُّ ويَرِثُه. وقال إبراهيمُ: يَلْحقُه إذا جُلِد الْحَدَّ أو مَلَك المَوْطوءَةَ. وقال إسحاقُ: يَلْحَقُه. وذُكِر عن عُرْوَةَ وسليمانَ بنِ يَسارٍ نحوُه. وروَى عليُّ بنُ عاصِم عن أبي حنيفةَ، أنّه قال: لا أرَى بأسًا إذا زَنى الرّجلُ بالمرأةِ فحَمَلت منه، أن يتزوّجَها مع حَمْلها ويستُرَ عليها، والولدُ ولدٌ له. وأجْمَعُوا على أنَّه إذا وُلِد على فِراشِ رَجُل فادَّعاه آخرُ (¬1)، أنَّه لا يَلْحَقُه، وإنَّما الخِلافُ فيما إذا وُلِد على غيرِ فراش. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» (¬2). ولأنَّه لا يَلْحَقُ به إذا لم يَسْتَلْحِقْه، فلم يَلْحَقْ به بحالٍ، كما لو كانتْ أمُّه فِرَاشًا، أو كما لو لم يُجْلَدِ الحَدَّ (¬3) عندَ مَن اعْتَبَره. والله أعلمُ. فصل: قال، رحِمَه اللهُ: (وللجَدَّاتِ السُّدْسُ -وَاحِدَةً كانت أوْ ¬

(¬1) زيادة من المغني 9/ 123. (¬2) تقدم تخريجه في: 16/ 338. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْثَرَ- إذا تَحَاذَينَ) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع أهلُ العلمِ على أنَّ للجَدَّةِ السُّدْسَ إذا لم تكنْ أمٌّ للمَيِّتِ. وحَكى غيرُه روايةً شاذَّةً [عن ابن عباسٍ] (¬1)، أنَّها بمنزلَةِ الأمِّ؛ لأنَّها تُدْلِي بها، فقامَت مَقامَها عند عَدَمِها، كالجَدِّ يَقُومُ مَقامَ الأبِ. ولَنا، ما روَى قَبِيصَةُ بنُ ذُؤَيبٍ، قال: جاءَتِ الجَدَّةُ إلى أبي بكرٍ تَطْلُبُ مِيرَاثَها، فقال: مَا لَكِ في كِتابِ اللهِ شيءٌ، وَما أعْلمُ لكِ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ولكنِ ارْجِعي حتى أسْألَ الناسَ. فقال المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهَا السُّدْسَ. فقال: هل معكَ غَيرُك؟ فشَهِد له محمدُ بنُ مَسْلَمَةَ، فأمْضاه لها أبو بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، فلَمّا كان عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه، جاءَتِ الْجَدَّةُ الأُخرَى، فقال: ما لكِ في كتابِ اللهِ شيءٌ، وما كان القَضَاءُ الذي قُضِيَ به إلَّا في غَيرِكِ، وما أنا بزائِدٍ في الفرائضِ شيئًا، ولكنْ هو ذاك السُّدْسُ، فإنِ اجْتَمَعْتُما فهو لكما، وأيُّكُما خَلَت به فهو لها (¬2). رَواه مالكٌ في «المُوَطَّأَ»، [وأبو داودَ] (¬3)، والتِّرْمِذِيُّ، وقال: حديثٌ حسن صحيحٌ. وأمّا الجَدُّ فلا يَقُومُ مَقامَ الأبِ في جميعِ أحْوالِه على ما ذكرْناه. وأَجمَع أهلُ العلمِ على أنَّ الأمَّ تَحْجُبُ الجَدَّاتِ مِن جميعِ الجهاتِ. وعن بُرَيدَةَ، أنَّ النبيَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الجدة، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 109، 110. والترمذي، في: باب ما جاء في ميراث الجدة، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 251، 252. والإمام مالك، في: باب ميراث الجدة، من كتاب الفرائض. الموطأ 2/ 513. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ميراث الجدة، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 909، 910. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 124. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - جَعَل للجَدَّةِ السُّدْسَ إذا لم يكنْ دُونَها أُمٌّ. رَواه أبو داودَ (¬1). وهذا يدُلُّ على أنَّها لا تَرثُ معها شيئًا. ولأنَّ الجَدَّةَ تُدْلِي بالأُمِّ فسَقَطَت بها كسُقوطِ الجَدِّ بالأَبِ وابنِ الابنِ به. فأمّا أمُّ الأبِ، فإنَّها إنَّما تَرِثُ مِيرَاثَ أُمٍّ؛ لأنَّها أمٌّ، ولذلك تَرِثُ وابنُها حيٌّ، ولو كان مِيراثُها مِن جِهَتِه ما وَرِثَت مع وُجُودِه. فصل: ولا يَزيدُ مِيراثُهُنَّ على السُّدْسِ فرضًا وإن كَثُرُنَ. أجْمَع على هذا أهلُ العلمِ؛ لما رَوَينا مِن الخبرِ، فإنَّ عمرَ شَرَّك بينَهما. ورُوي ذلك عن أبي بكرٍ، رَضِي اللهُ عنه، فروَىَ سعيدٌ، بإسنادِه (¬2) عن القاسمِ بن محمدٍ، قال: جاءَتِ الجَدَّتان إلى أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنه، فأعْطىَ أمَّ الأُمِّ الْمِيراثَ دُونَ أمِّ الأبِ، فقال له عبدُ الرحمنِ بنُ سَهْلِ بنِ حارِثَةَ، وكان شَهِد بَدرًا: يا خليفةَ رسول اللهِ، أعْطَيتَ التي إن ماتَت لم يَرِثْها، ومَنَعْتَ التي لو ماتَتْ وَرِثَها! فجعل أبو بكرٍ السُّدْسَ بينهما. ولأنَّهنَّ ذَواتُ عَددٍ لا يُشارِكُهنَّ ذكَرٌ، فاسْتَوى كثيرُهنَّ ووَاحِدَتهنَّ، كالزَّوجاتِ. وإنَّما يَشْتَرِكْنَ في السُّدْسِ إذا تَحاذَينَ؛ لِتَساويهِنَّ في الدَّرَجَةِ. فصل: ولا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في تَوريثِ جَدَّتين؛ أمِّ الأُمِّ، وأُمِّ ¬

(¬1) في: باب في الجدة، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 110. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 121. (¬2) في: باب الجدات، السنن 1/ 55. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب ميراث الجدة، من كتاب الفرائض. الموطأ 2/ 513، 514. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأبِ. وكذلك إن عَلَتا وكانتا في القُرْبِ سَواءً، كأُمِّ أُمِّ أُمٍّ وأُمِّ أُمِّ أبٍ. وحُكِيَ عن داودَ، أنَّه لا يُوَرِّثُ أمَّ أُمِّ الأبِ شيئًا؛ لأنَّه لا يَرِثها فَلا تَرِثُه، ولأنَّها غيرُ مَذْكورةٍ في الخَبَرِ. ولَنا، ما روَى سعيدٌ (¬1) عن ابنِ عُيَينَةَ عن منصورٍ عن إبراهيمَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّث ثلاثَ جَدّاتٍ؛ ثِنْتَين مِن قِبَل الأبِ، وواحِدَةً مِن قِبَلِ الأمِّ. وأخرَجَه أبو عُبَيدٍ، والدَّارَقُطنيُّ (¬2). ومِن ضَرُورتِه أن تكونَ مِنهنَّ أُمُّ أمِّ الأبِ، أو مَن هي أعلَى منها. وما ذَكَرَه داودُ فهو قِياسٌ، وهو لا يقولُ بالْقِياس، ثم هو باطلٌ بأمِّ الأُمِّ، فإنَّها تَرثُه ولا يَرِثُها. وقولُه: ليستْ مذكورةً في الخبرِ. قُلْنا: وكذلك أُمُّ أُمِّ الأُمِّ. واخْتَلَفُوا في تَوْريثِ ما زادَ على الجَدَّتَين؛ فذهَب أبو عبدِ الله إلى تَوْريثِ ثلاثِ جَدَّاتٍ مِن غيرِ زيادةٍ عليهنَّ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وزيدِ بن ثابتٍ، وابنِ مسعودٍ، رَضِي اللهُ عنهم. ورُوي نحوُه عن مَسْروقٍ، والحسنِ، وقتادةَ. وبه قال الأوْزَاعِيُّ، وإسحاقُ. وَرُوى عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يُوَرَّث أكثرُ مِن جَدَّتين. وحُكِي أيضًا عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشَام، وسليمانَ بنِ يَسارٍ، وطَلْحةَ بنِ ¬

(¬1) في: باب الجدات. السنن 1/ 54. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الفرائض. سنن الدارقطني 4/ 90. كما أخرجه الدارمي، في: باب في الجدات، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 358. والبيهقي، في: باب من لم يورث أكثر من جدتين، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 235. والحديثان ضعيفان. انظر الإرواء 6/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدِ الله (¬1) بنِ عَوْفٍ، وربيعةَ، وابنِ هُرْمُزٍ، ومالكٍ، وابنِ أبي ذئبٍ، وأبي ثَوْرٍ، وداودَ. وقاله الشافعيُّ في القدِيمِ. وحُكِي عن الزُّهْرِيِّ أنَّه قال: لا نَعْلمُ وَرِثَ في الإسلامِ إلَّا جَدَّتَين. وحُكِي عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ، أنه أوْتَر بركعةٍ، فعَابَه ابنُ مسعودٍ، فقال سعدٌ: أَتَعِيبُنِي وأنْتَ تُوَرِّثُ ثَلاثَ جَدَّاتٍ؟ ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاس أنَّه وَرَّثَ الجَدَّاتِ وإن كَثُرْنَ إذا كُنَّ في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، إلَّا مَن أدْلَت بأبٍ غيرِ وارثٍ، كأُمِّ أبي الأُمِّ. قال ابنُ سُرَاقةَ (¬2): وبهذا قَال عامَّةُ الصَّحابةِ إلا شاذًّا. وإليه ذَهَب الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه. وهو رِوايةُ الْمُزَنِيِّ عَن الشافعيِّ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الْخِرَقِيِّ، فإنَّه سَمَّى ثَلاثَ جَدَّاتٍ مُتَحاذِياتٍ، ثم قال: وإنْ كَثُرنَ فعلى ذلك. ويَحْتَمِلُ قولُ الخِرَقِيِّ: وإن كَثُرْنَ. لا يَرِثُ إلَّا ثَلاثُ جَدَّاتٍ، وهُنَّ المُتَحاذِياتُ المَذكُوراتُ بعدُ، كما رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه الله. واحْتَجُّوا بأنَّ الزائِدَةَ جَدَّةٌ أدْلَت بوارثٍ فوَجب أن تَرِثَ، كإحْدَى الثلاثِ. ولَنا، حديثُ سعيدٍ الذي ذَكَرْناه. وروَى سعيدٌ أيضًا، [عن منصورٍ] (¬3) عن إبراهِيمَ، ¬

(¬1) في النسختين «طلحة بن عبيد الله». وهو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان شريفا جوادا حجة إماما، يقال له طلحة الندى. تولى قضاء المدينة زمن يزيد. توفي سنة تسع وتسعين. سير أعلام النبلاء 4/ 174، 175. (¬2) لعله محيي الدين محمد بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الشاطبي، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان معاصرا للمؤلف، وتُوفي بعده سنة اثنتين وستين وستمائة. العبر 5/ 270. (¬3) سقط من: م.

2794 - مسألة: (فإن كان بعضهن أقرب من بعض فالميراث لأقربهن. وعنه، أن القربى من جهة الأب لا تحجب البعدى من جهة الأم)

فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُنَّ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ فَالْمِيرَاثُ لأَقْرَبِهِنَّ. وَعَنْهُ، أنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأبِ لَا تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأُمِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهم كانوا يُوَرِّثُون مِن الجَدَّاتِ ثلاثةً، ثِنْتَين مِن قِبَلِ الأبِ وواحِدَةً مِن قِبَلِ الأُمِّ. وهذا يَدلُّ على التَّحْديدِ بثَلاثٍ، وأنَّه لا يَرِثَ أكْثَرُ مِنهنَّ. 2794 - مسألة: (فإن كانَ بَعْضُهُنَّ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ فالمِيرَاثُ لِأقْرَبِهِنَّ. وعَنْهُ، أنَّ القُرْبَى مِن جِهَةِ الأَب لَا تَحْجُبُ البُعْدَى مِن جِهَةِ الأُمِّ) أمَّا إذا كانت إحْدَى الجدَّتَين أمَّ الأُخْرَى، فلا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ الميراثَ للقُرْبَى وتَسْقُطُ البُعْدَى بها، وإن كانتا مِن جِهَتَين والقربَى مِن جِهَةِ الأمِّ فالميراثُ لها وتَحْجُبُ البُعْدَى في قولِ عامَّتِهم، إلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، ويَحيى بنِ آدمَ، وَشَرِيكٍ، أنَّ الميراثَ بينَهما. وعن ابنِ مسعودٍ، إن كانتا مِن جِهَتَين فهما سَواء، وإن كانَتا من جِهَةٍ واحدةٍ فهو للقُرْبَى. يُرِيدُ أنَّ الجَدَّتَين إذا كانتا مِن جِهَةِ الأبِ إحْداهما أمُّ الأبِ والأُخْرَى أُمُّ الجَدِّ، سَقَطَت أُمُّ الجدِّ بأُمِّ الأبِ. وسائرُ أهلِ العلمِ على أنَّ القُرْبَى مِن جِهَةِ الأمِّ تَحْجُبُ البُعْدَى مِن جِهَةِ الأبِ. فأمّا القُرْبَى مِن جِهَةِ الأبِ فهلْ تَحْجُبُ البُعْدَى مِن جِهَةِ الأُمِّ؟ فيه روايتان؛ إحْداهما، أنَّها تَحْجُبُها، ويكونُ الميراثُ للقُرْبَى. وهذا قولُ عليٍّ، - عليه السلام -،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإحْدَى الرِّوَايَتَين عن زيدٍ. وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه. وهو قولُ أهلِ العراقِ، [وقولٌ للشافعيِّ] (¬1). والروايةُ الثانيةُ، هو بينَهما. وهي الرِّوايةُ الثابتةُ عن زيدٍ. وبه قال مالكٌ، والأوْزاعيّ. وهو أحدُ قولَي الشافعيِّ؛ لأنَّ الأبَ الذي تُدْلِي به الجَدَّةُ لا يَحْجُبُ الجَدَّةَ مِن قِبَلِ الأُمِّ، فالتي تُدْلِي به أوْلَى أن لا يَحْجُبَها، وبهذا فارَقَتْها القُرْبَى مِن قِبَلِ الأُمِّ، فإنَّها تُدْلِي بالأمِّ وهي تَحْجُبُ جَمِيعَ الجَدَّاتِ. ولَنا، أنَّها جَدَّةٌ قُرْبَى، فتَحْجُبُ البُعْدَى، كالتي مِنْ قِبَلِ الأمِّ، ولأنَّ الجَدَّاتِ أُمَّهات يَرِثْنَ مِيراثًا واحدًا مِن جِهَةٍ واحِدةٍ، فإذا اجْتَمَعْنَ فالمِيراثُ لأقْرَبِهِنَّ، كالآباءِ والأبناءِ والإِخْوَةِ. وكُلُّ قَبِيل إذا اجْتَمَعُوا فالمِيراثُ للأقْرَبِ. وقولُهم: إنَّ الأبَ لا يُسْقِطُها. قُلْنَا: لأنَّهنَّ لا يَرِثْنَ مِيراثَه، وإنَّما يَرِثْنَ مِيراثَ الأمَّهاتِ لكونِهِنَّ أُمَّهاتٍ، ولذلك أسْقَطَتْهُنَّ الأمُّ. والله أعلمُ. مسائل: مِن ذلكَ أمُّ أمٍّ وَأمُّ أمِّ أبٍ، فالمالُ للأُولَى إلَّا في قولِ ابنِ مسعودٍ ¬

(¬1) في م: «وهو قول الشافعي».

2795 - مسألة: (ولا يرث أكثر من ثلاث جدات، أم الأم، وأم الأب، وأم الجد، ومن كان من أمهاتهن وإن علت درجتهن)

وَلَا يَرِثُ أكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ؛ أُمُّ الأُمِّ، وَأُمُّ الْأَبِ، وَأُمُّ الْجَدِّ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أُمَّهَاتِهِنَّ وَإنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو بينَهما. أمُّ أبٍ وأمُّ أمِّ أمٍّ، المالُ للأُولى (¬1) في إحدَى الرِّوايتَين. وهو قولُ الخِرَقِيِّ. وفي الأخرَى، هو بينَهما. أمُّ أبٍ وأمُّ أمٍّ وأمُّ جَدٍّ، المالُ للأُولَيَين في قولِ الجميعِ، إلَّا شَريكًا ومَن وافَقَه، هو بينَهُنَّ. أُمُّ أبٍ وأُمُّ أُمِّ وأُمُّ أُمِّ أُم وأُمُّ أبي أبٍ، هو للاُولَيَين في قولِ الجميعِ. 2795 - مسألة: (وَلَا يَرِثُ أكْثَرُ مِنْ ثَلاثِ جَدَّاتٍ، أُمُّ الأُمِّ، وَأُمُّ الأبِ، وأُمُّ الجَدِّ، ومَن كان مِن أُمَّهاتِهِنَّ وَإنْ عَلَتْ دَرَجتُهُنَّ) فلَهُنَّ السُّدْسُ إذا تَحاذَينَ في الدَّرَجَةِ؛ لِما روَى سعيدٌ بإسْنادِه عن إبراهيمَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّث ثلاثَ جدَّاتٍ؛ ثِنْتَين مِن قِبَلِ الأبِ، ووَاحِدَةً مِن ¬

(¬1) في م: «للأخرى».

فَأمَّا أُمُّ أَبي الأُمِّ، وَأُمُّ أَبِي الْجَدِّ، فَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قِبَلِ الأمِّ. وقال إبراهيمُ: كَانُوا يُوَرِّثونَ ثَلاثَ جَدَّاتٍ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا يَرِثُ أكْثَرُ مِن ثَلاثٍ، وفي ذلكَ اختِلافٌ ذَكَرْناه. (فأمّا أُمُّ أبي الأُمِّ) فلا تَرِثُ، لأنَّها تُدْلِي بغيرِ وارثٍ، وكذلكَ كلُّ جَدَّةٍ تُدلِي بغيرِ وارِثٍ. وهذا إجْماعٌ مِن أهلِ العلمِ، إلَّا ما حُكِيَ عن ابنِ عباس، وجابِرِ بنِ زيدٍ، ومُجاهِدٍ، وابنِ سِيرِينَ، أنَّهم قالوا: تَرِثُ. وهو قولٌ شاذٌّ، لا نَعْلَمُ اليومَ به قائلًا؛ لأنَّها تُدْلِي بغيرِ وارِثٍ، فلم ترِث، كالأجانبِ. [وأمَّا أُمُّ أَبِي الجَدِّ ومَن أدْلَت بأكْثَرَ مِن ثَلاثةِ آباءٍ] (¬1). وهؤلاءِ الجَدّاتُ المُخْتَلَفُ فيهِنَّ. وقد ذَكَرْنا ذلك. أمثلةُ ذلك: أمُّ أمّس وأمُّ أبٍ، السُّدْسُ بينَهما إجْماعًا. أمُّ أُمِّ أمٍّ وأمُّ أمِّ أبٍ وأمُّ أبي أبٍ وأمُّ أبي أمٍّ، السُّدْسُ للثَّلاثِ الأوَلِ إلَّا عندَ مالكٍ ومُوافِقيه فإنَّه للأُولَيَين، وعندَ داودَ هو للأُولَى وحدَها. ولا تَرِثُ الرّابِعَةُ إلَّا في القولِ الشّاذِّ عن ابنِ عبّاس ومُوافِقيه. أمُّ أمِّ أمِّ أمٍّ وأُمُّ أمِّ أُمِّ أبٍ وأمُّ أُمِّ أبي أبٍ وأم أبي أبي أبٍ وأمُّ أُمِّ أبي أُمٍّ وأمُّ أبي أمِّ أمٍّ وأمُّ أبي أبي أمٍّ وأمُّ أبي أمِّ أبٍ، ¬

(¬1) كذا في النسختين، ويظهر أن هناك سقطا من السياق. وقد جاء السياق في المغني 9/ 57 هكذا: «ولا ترث أم أب الجد ولا كل جدة أدلت بأكثر من ثلاثة آباء».

2796 - مسألة: (والجدات المتحاذيات أم أم أم وأم أم أب وأم أبي أب)

وَالْجَدَّاتُ الْمُتَحَاذِيَاتُ، أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أبِي أَبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسُ للأُولَى عندَ داودَ. وللأولَيَين عندَ مالكٍ ومُوافِقيه. وللثَّلاثِ الأُوَلِ عندَ أحمدَ ومُوافِقيه. وللأرْبَعِ الأُوَل عندَ أَبِي حنيفةَ ومُوافِقِيه. وتَسْقُطُ الأرْبَعُ الباقياتُ إلَّا في الروايةِ الشّاذَّةِ. وفي الجملةِ، لا يَرِثُ مِن قِبَلِ الأمِّ إلا واحدةٌ، ولا مِن قِبَلِ الأبِ إلَّا اثْنَتَان، وهما اللَّتان جاء ذِكْرُهما في الخبرِ، إلَّا عندَ أبي حنيفةَ ومُوافِقيه، فإنَّه (¬1) كُلَّما عَلَوْنَ درجةً ازْدادَ في عددهِنَّ مِن قِبَلِ الأبِ واحدةٌ. 2796 - مسألة: (والْجَدَّاتُ الْمُتَحاذِياتُ أُمُّ أُمِّ أُمٍّ وأُمُّ أُمِّ أبٍ وأُمُّ أبِي أبٍ) وإنْ كَثُرْنَ فعلى ذلك. يَعْنِي بالْمُتَحاذِياتِ الْمُتَساوياتِ في الدَّرَجَةِ، بحيث لا تكونُ واحِدَةٌ أعْلَى مِن الأُخْرَى ولا أنْزَلَ منها؛ لأنَّ الجَدّاتِ إنَّما يَرِثْنَ كُلُّهُنَّ إذا كُنَّ في درجةٍ واحدةٍ، ومتى كان بعضُهُنَّ أقْرَبَ مِن بعضٍ فالمِيراثُ لأقْرَبِهِنَّ، وفيه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه. فإذا قِيلَ: نَزِّلْ جَدَّتَين وارِثَتَين على أقْرَبِ المَنازِلِ. فهما أمُّ أمٍّ وأمُّ أبٍ. وإن قِيلَ: ¬

(¬1) في م: «فإنهما».

2797 - مسألة: (وترث الجدة وابنها حي. وعنه، لا ترث)

وَتَرِثُ الْجَدَّةُ وَابْنُهَا حَيٌّ. وَعَنْهُ، لَا تَرِثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَزِّلْ ثلاثًا. فهُنَّ أمُّ أمِّ أمٍّ وأمُّ أمِّ أبٍ وأمُّ أبي أَبٍ، واحدةٌ مِن قِبَلِ الأُمِّ، واثْنَتان مِن قِبَلِ الأبِ، وفي دَرَجَتِهما أُخْرَى مِن قِبَلِ الأُمِّ غيرُ وارِثَةٍ وهي أمُّ أبي أمٍّ، [ولا يَرِثُ أبَدًا مِن قِبَلِ الأُمِّ إلَّا واحِدَةٌ، وهي التي كُلُّ نَسَبِها أمَّهاتٌ لا أبَ فيهِنَّ. فاحْفَظْ ذلك] (¬1). فإن قِيلَ: نَزِّلْ أرْبَعًا. فهُنَّ لأُمُّ أمِّ أمِّ أمٍّ، وأمُّ أمِّ أمِّ أبٍ، وأمُّ أمِّ أبي أبٍ، [وأمُّ أبي أبي أبٍ] (¬2)، وفي دَرَجَتِهِنَّ أرْبَعٌ غَيرُ وارِثاتٍ، وقد ذَكَرْناهُنَّ فيما قبلُ، إلَّا أنَّ أحمدَ لا يُوَرثُ أكْثَرَ مِن ثَلاثِ جدَّاتٍ، وهُنَّ الثَّلاثُ الأُوَلُ. ومَن قال بتَوْرِيثِ زِيادةٍ على الثّلاثِ وَرَّث في الدَّرَجَةِ الرابعةِ أرْبعًا، وفي الخامسةِ خمسًا، وفي السّادسةِ سِتًّا. وهو قولُ أبي حنيفةَ ومُوافِقِيه. فإذا أرَدْتَ تَنْزِيلَ الجدَّاتِ الوارِثَاتِ وغيرِهنَّ، فاعلمْ أنَّ للمَيِّتِ في الدَّرجةِ الأُولَى جَدَّتَين؛ أمَّ أمِّه وأمَّ أبيه، وفي الثَّانيةِ أرْبَعٌ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ مِن أبَوَيه جَدَّتَين، فهما أرْبَعٌ بالنِّسْبَةِ إليه، وفي الثّالِثَةِ ثَمانٍ؛ لأنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن أبَوَيه أرْبَعًا على هذا الوَجْهِ، يكونُ لوَلَدِهما ثَمانٍ. وعلى هذا، كُلَّما عَلَوْنَ تَضاعَف عَدَدُهُنَّ، ولا يَرِثُ مِنْهُنَّ عندَ أحمدَ إلَّا ثَلاثٌ. 2797 - مسألة: (وَتَرِثُ الجَدَّةُ وابنُها حَيٌّ. وعنه، لا تَرِثُ) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملتُه، أنَّ الجدَّةَ مِن قِبَلِ الأبِ إذا كان ابنُها حَيًّا وارِثًا، فإنَّ عمرَ، وابنَ مسعودٍ، وأبا موسى، وعِمْرانَ بنَ حُصَين، وأبا الطُّفَيلِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، وَرَّثُوها مع ابنِها. وبه قال شُرَيحٌ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والعَنْبَرِيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ مذهبِ أحمدَ. وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: لا تَرِثُ (¬1). ورُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وعليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيّ، والأوْزاعِيُّ، وسعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وهو رِوايةٌ عن أحمدَ، رواه عنه جماعةٌ مِن أصْحابِه. ولا خلافَ في تَوْريثِها مع ابنِها إذا كان عَمًّا أوْ عَمَّ أبٍ؛ لأنَّها لا تُدْلِي به. واحْتَجَّ مَن أسْقَطَها بابنِها بأنَّها تُدْلِي به، ولا تَرِثُ معه، كالجَدِّ مع الأبِ، وأُمِّ الأُمِّ مع الأُمِّ. ولَنا، ما روَى ابنُ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أوَّلُ جدَّةٍ أطْعَمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السُّدْسَ أمُّ أبٍ مع ابْنِها وابنُها حَيٌّ. أخْرَجَه التِّرْمِذِيُّ (¬2). ورَواه سعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ (¬3)، إلَّا أنَّ لَفْظَهُ: أُطْعِمَتِ السُّدْسَ أُمُّ أبٍ مع ابنِها. وقال ابنُ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف 11/ 233. (¬2) في: باب ما جاء في ميراث الجدة مع ابنها، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 253، 254. (¬3) في: باب الجدات. السنن 1/ 57. والحديثان ضعيفان. انظر الإرواء 6/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ: أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السُّدْسَ أمُّ أَبٍ مع ابْنِها (¬1). ولأنَّ الجَدّاتِ أمَّهاتٌ يَرِثْنَ مِيراثَ الأُمِّ لا مِيراثَ الأبِ، فلا يُحْجَبْنَ به كَأمَّهاتِ الأُمِّ. مسائل ذلك (¬2): أُمُّ أبٍ وأبٌ، السُّدْسُ لها والباقِي للأبِ. وعلى القولِ الآخَرِ، الكلُّ له دُونَها. أمُّ أمٍّ وأمُّ أبٍ، السُّدْسُ بينَهما على القولِ الأوَّلِ. وعلى الثّانِي، السُّدْسُ لأمِّ الأمِّ، والباقِي للأبِ. وقِيلَ: لأمِّ الأمِّ نِصْفُ السُّدْسِ والباقِي للأبِ؛ لأنَّ الأبَ لو عُدِمَ لم يكنْ لأمِّ الأمِّ إلَّا نِصْفُ السُّدْسِ، فلا يكونُ لها مع وُجُودِه إلَّا ما يكونُ لها مع عَدَمِه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الإِخْوَةَ مع الأبَوَين يَحْجُبُونَ الأمَّ عن نِصفِ مِيراثِها، ولا يَأْخُذون ما حَجَبُوها عنه، بل يَتوفَّرُ ذلكَ على الأبِ، كذا ههُنا. ثَلاثُ جَدَّاتٍ مُتَحاذياتٍ وأبٌ، السُّدْسُ بينَهنَّ على القولِ الأوَّلِ، ولأمِّ الأمِّ على القولِ الثّانِي، وعلى الثّالِثِ، لأُمِّ الأمِّ ثُلُثُ السُّدْسِ والباقِي للأبِ. فإن كان مع المُتَحاذِياتِ جَدٌّ (¬3) لم يَحْجُبْ إلَّا أُمَّه (¬4). ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب الجدات. السنن 1/ 57. وأخرجه الدارمي، عن ابن مسعود، موقوفًا عليه، في: باب في الجدات، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 358. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «جد أب». (¬4) في م: «مع».

2798 - مسألة: (فإن اجتمعت جدة ذات قرابتين مع أخرى)

وَإنِ اجْتَمَعَتْ جَدَّةٌ ذَاتُ قَرَابَتَينِ مَعَ أُخْرَى، فَلَهَا ثُلُثَا السُّدْسِ فِي قِيَاسَ قَوْلِهِ، وَلِلأُخْرَى ثُلُثُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبٌ وأُمُّ أبٍ وأمُّ أمِّ أمٍّ، السُّدْسُ لأمِّ الأبِ. ومَن حَجَب الجدَّةَ بابْنِها أسْقَطَ أمَّ الأبِ. ثم اختَلَفَ القائِلُون بذلكَ، فقِيلَ: السُّدْسُ كُلُّهُ لأُمِّ أمِّ الأُمِّ؛ لأنَّ التي تَحْجُبُها أو تُزَاحِمُها قد سَقَط حُكْمُها فصارَت كالمَعْدُومَةِ. وقيل: بل لها نِصْفُ السُّدْسِ على قولِ زَيدٍ؛ لأنَّه يُوَرِّثُ البُعْدَى مِن جِهَةِ الأُمِّ مع القُرْبَى مِن جِهَةِ الأبِ، فكان لها نِصْفُ السُّدْس. وقيل: لا شيءَ لها؛ لأنَّها انْحَجَبَتْ بأمِّ الأبِ، ثم انْحَجَبَتْ أُمُّ الأبَ بِالْأَب، فصار المالُ كلُّه للأبِ. 2798 - مسألة: (فإنِ اجْتَمَعَت جدَّةٌ ذاتُ قَرابَتَين مع أُخْرَى) فقِياسُ قولِ أحمدَ أنَّ السُّدْسَ بينَهما أثْلاثًا؛ لذاتِ القَرابَتَين ثُلُثاه (وللأُخْرَى ثُلُثُه) كذلك قال أبو الحسَنِ التَّمِيمِيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الوَنِّيُّ (¬1). ولعلهما أخَذا ذلك مِن قولِه في تَوْريثِ المَجُوسِ بجَميعِ قَرابَاتِهم. وهذا قولُ يحيى بنِ آدَمَ، والحسنِ بنِ صَالِحٍ، ومحمدِ بنِ الحسنِ، والحسنِ بنِ زِيادٍ، وزُفَرَ، وشَرِيكٍ. وقال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو يوسفَ: ¬

(¬1) الحسين بن محمد الوني الفرضي الشافعي، كان متقدمًا في علم الفرائض، له فيه تصانيف جيدة. قتل ببغداد في فتنة البساسيري، سنة خمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسُ بينَهما نِصْفان. وهو قِياسُ قول مالكٍ، لأنَّ القَرابَتَين إذا كانا مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ لم تَرِثْ بهما جَمِيعًا، كالأَخِ مِنِ الأبِ والأمِّ. ولنا، أنَّها شَخْصٌ ذُو قَرابَتَين تَرِث بكلِّ واحِدَةٍ منهما مُنْفرِدَةً، لا تَرْجُحُ بهما على غيرِها، فوَجَب أن تَرِثَ بكلِّ واحِدٍ منهما، كابنِ العَمِّ إذا كان أخًا لأُمٍّ أو زَوْجًا، وفارَقَ الأخَ مِن الأبَوين، فإنَّه يُرَجَّحُ بِقَرابَتَيه على الأخِ مِن الأبِ، ولا يُجْمَعُ [بينَ التَّرْجِيحِ بالقَرابَةِ] (¬1) الزّائِدَةِ والتَّوْرِيثِ بهما، فإذا وُجِدَ أحَدُهما انْتَفَى الآخَرُ، ولا ينْبَغِي أن يُخِلَّ بهما جميعا، بل إذا انْتَفَى أحدُهما وُجِدَ الآخرُ، وههُنا قد انْتَفَى التَّرْجِيحُ فيَثْبُتُ التَّوْرِيثُ. وصُورَة ذلك أن يَتَزَوَّجَ ابنُ ابنِ المرأَةِ بنتَ بِنْتِها، فيُولَدَ لهما ولدٌ، فتكونَ المَرْأةُ أمَّ أمِّ أمِّه، وهي أمُّ أبِي أبيه. وإن تَزَوَّجَ ابنُ بِنتِها بنتَ بِنتِها، فهي أمُّ أُمِّ أمِّه و (¬2) أمُّ أمِّ أبِيه. فإن أَدْلَتِ الجَدَّةُ بثَلاثِ جِهاتٍ تَرِثُ بها، لم يُمْكِنْ أن تَجْمَعَ معها جَدَّةً أُخْرَى وارِثَةً عندَ مَن لا يُورِّثُ أكثَرَ مِن ثلاثٍ. ¬

(¬1) في م: «بالترجيح بين القرابة». (¬2) في م: «و».

2799 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (وللبنت الواحدة النصف)

فصْلٌ: وَلِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَينِ فَصَاعِدًا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2799 - مسألة؛ قال، رَحِمَه الله: (ولِلْبِنْتِ الوَاحِدَةَ النِّصْفُ) لا خِلافَ في ذلك بين علماءِ المسلِمين؛ لقولِ الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (¬1). ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في بِنْتٍ وبنتِ ابنٍ وأختٍ، أنَّ للبِنْتِ النِّصفَ، ولبنتِ الابنِ السُّدْسَ، وما بَقِيَ فللأُخْتِ (¬2). (وإن كانتا اثْنَتَين فصاعدًا فلهما الثُّلُثان) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ فرضَ البِنْتَين الثُّلُثان، إلَّا روايةً شَذَّت عنِ ابنِ عبّاسٍ أنَّ فَرْضَهما النِّصْفُ، لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. فمَفْهومُه أنَّ ما دُونَ الثّلاثِ (¬3) ليسَ لهما الثُّلُثان. والصَّحيحُ ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، وباب ميراث الأخوات مع البنات عصبة، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 8/ 188، 181، 190. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في ميراث الصلب، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 108. والترمذي، في: باب ما جاء في ميراث ابنة الابن. . . .، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 244، 245. وابن ماجه، في: باب فرائض الصلب، من كتاب الفرائض 2/ 901. والدارمي، في: باب في بنت وابنة ابن. . . .، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 348، 341. (¬3) في م: «الثلث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الجماعةِ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأخي سعدِ بنِ الرَّبيعِ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَينِ» (¬1). وقال اللهُ تعالى في الأخَواتِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَينِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬2). وهذا تَنْبيهٌ على أنَّ للبِنْتَين الثُّلُثَين؛ لأنَّهما أقْرَبُ. ولأنَّ كلَّ مَن يَرِثُ منهم الواحدُ النِّصفَ فللاثْنَين منهم الثُّلُثان، كالأخْتَين مِنَ الأبَوَين أو مِن الأبِ، وكلّ عددٍ يَخْتَلِفُ فرضُ أحَدِهم وجَماعتِهم فللاثْنَين مِنهم مِثلُ فرضِ الجماعةِ، كولدِ الأُمِّ. فأمّا الثَّلاث مِنَ البَناتِ فما زاد، فلا خلافَ في أنَّ فرضَهنَّ الثُّلُثان، وأنَّه ثابتٌ بقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. واخْتُلِفَ فيما ثَبَت به فرضُ الاثْنَتَين، فقِيلَ: بهذه الآية. والتَّقديرُ: فإن كنَّ نِساءً (¬3) اثْنَتَين، وفوقَ صِلَةٌ، كقولِه تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} (¬4). أي اضْرِبُوا الأعْناقَ. وقيل: معناه، فإن كنَّ نِساءً اثْنَتَين فما فوقَ، وقد دل عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ نَزَلَت هذه الآيةُ لأخِي (¬5) سعدِ بنِ الرَّبيعِ: «أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَينِ». وهذا مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تفسيرٌ للآية، وبَيانٌ لمَعْناها، واللَّفظُ إذا فُسِّرَ كان الحُكمُ ثابتًا بالمُفَسَّرِ لا بالتَّفسيرِ. ويدلُّ على ذلك أيضًا أنَّ سببَ نُزولِ الآيةِ قصة ابْنَتَيْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 7. (¬2) سورة النساء 176. (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة الأنفال 12. (¬5) في م: «لأجل».

2800 - مسألة: (وبنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات)

وَبَنَاتُ الابنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَنَاتٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ سعدِ بنِ الربيعِ، وسُؤالُ أمِّهما عن شأْنِهما في مِيراثِ أبِيهما. وقِيلَ: ثَبَت بهذه السنةِ الثّابتةِ. وقِيلَ: بل ثَبَت بالتَّنبيهِ الَّذي ذَكَرْناه. وقِيلَ: بل ثبت بالإِجْماعِ. وقيل: بالقِياسِ. وفي الجملةِ فهذا حُكْمٌ قد أُجْمِعَ عليه وتَواتَرَت عليه الأدلَّةُ التي ذَكَرْناها، فلا يضرُّنا أيُّها أثْبَتَه. 2800 - مسألة: (وَبَنَاتُ الْابْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ إِذا لم يكنْ بَنَاتٌ) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ بناتِ الابنِ بمَنْزِلَةِ البَناتِ عندَ عَدَمِهِنَّ في إرْثِهِنَّ، وحَجْبِهنَّ لمَن يَحْجُبُه البناتُ، وفي جَعْلِ الأخَواتِ مَعَهُنَّ عَصَباتٍ، إلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاس، أنَّه كانِ لا يُوَرِّثُ الأخَواتِ مع البَناتِ (¬1). وفي أنَّهُنَّ إذا اسْتكملْنَ الثُّلُثَين سَقَط مَن أسْفَلَ منهنَّ مِن بناتِ ابنِ الابنِ، وغيرِ ذلك. والأصلُ في ذلك قولُ اللهِ تَعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}. وولدُ البَنِينَ أولادٌ؛ لقولِهِ تَعالى: {يَابَنِي آدَمَ}. يُخاطِبُ بذلكَ أُمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وقال: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}. يُخاطبُ بذلك مَن في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منهم. وقال الشاعرُ (¬2): بَنُونَا بَنُو أَبنائِنا وبَنَاتُنَا … بَنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأَجانِبِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في: باب الأخوات مع البنات عصبة، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 233. (¬2) تقدم البيت في 16/ 465.

2801 - مسألة: (فإن كانت بنت وبنات ابن، فللبنت النصف، ولبنات الابن -واحدة كانت أو أكثر من ذلك- السدس تكملة الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين)

فَإِنْ كَانَتْ بِنْتٌ وَبَنَاتُ ابْنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبَنَاتِ الابْنِ -وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ- السُّدْسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَينِ، إلَّا أنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيُعَصِّبَهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2801 - مسألة: (فَإِنْ كَانَت بِنتٌ وَبَناتُ ابنٍ، فللبِنتِ النِّصْفُ، وَلِبَناتِ الابنِ -واحِدَةً كانت أو أكْثَرَ مِن ذلك- السُّدْسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَين، إلَّا أن يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيُعَصِّبَهُنَّ فِيمَا بَقِيَ، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَين) أمّا اسْتِحْقاقُ البِنْتِ الواحِدَةِ النصْفَ فلا خِلافَ فيه، وقد ذَكَرناه. فإن كان معها بنتُ ابنٍ أو أكثرُ فلها النِّصْفُ، ولبناتِ الابنِ السُّدْسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَينِ. وهذا مُجْمَعٌ عليه أيضًا، وقَدْ دَلَّ عليه قولُه تَعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}. ففَرَض للبناتِ كلِّهن الثُّلُثَين. وبناتُ الصُّلبِ وبناتُ الابنِ كلُّهن نساءٌ مِن الأولادِ، فكان لهُنَّ الثُّلُثانِ بفَرْضِ الكِتابِ لا يَزِدْنَ عليه. واخْتَصَّتْ بنتُ الصُّلْبِ بالنِّصْفِ؛ لأنَّه مَفْروضٌ لها، والاسمُ يَتَناوَلُها حَقيقةً، فبَقِيَ السُّدْسُ لبناتِ الابنِ، وهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمامُ الثُّلُثَين. ولهذا قال الفُقهاءُ: لهُنَّ السُّدْسُ تَكْمِلةُ الثُّلُثين. وقد روَى هُزَيلُ بنُ شُرَحْبِيلَ الأوْدِيُّ قال: سُئِلَ أبو موسى عن ابنةٍ وابنةِ ابن وأُختٍ، فقال: للِابْنَةِ النِّصْفُ وما بَقِيَ فللأُختِ. فأتَى ابنَ مسعودٍ فأخبَرَه بقولِ أبي موسى، فقال: لقد ضَلَلْتُ إِذًا وما أنا مِن المُهْتَدِينَ، ولكنْ أقْضِي فيها بقَضاءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ للابنةِ النِّصْفُ ولابنةِ الابنَ السُّدْسُ تَكْمِلةُ الثُّلُثين، وما بَقِيَ فللأُختِ. فأتَينا أبا موسَى فأخبَرْناه بقولِ ابنِ مسعودٍ، فقال: لا تَسْألُونِي عن شيءٍ ما دام هذا الحَبْرُ فيكم. مُتَّفَقٌ عليه بنَحو هذا المعنى (¬1). فصل: فإذا كان مع بَناتِ الابنِ ذَكَرٌ في دَرَجَتِهِنَّ فإنَّه يُعَصِّبُهُنَّ فيما بَقِيَ، للذَّكَرِ مِثلُ حظِّ الأُنْثَيَين، في قولِ جُمهورِ الفُقَهاءِ مِن الصحابةِ ومَن بعدَهم، إلَّا ابنَ مسعودٍ ومَن تابعَه، فإنَّه خالفَ الصحابةَ فيها. وهذه المسألَةُ انْفَرَدَ بها عن الصحابةِ، فقال: لبَناتِ الابنِ الأضَرُّ بهِنَّ؛ مِن المُقاسَمَةِ أو السُّدْسِ. فإن كان السُّدْسُ أقلَّ ممّا يَحْصُلُ لهنَّ بالمُقاسَمَةِ فَرضَه لَهُنَّ، وأعْطَى الباقيَ للذَّكرِ، وإن كان الحاصلُ لَهُنَّ بالمُقاسَمَةِ أقَلَّ قاسَمَ بِهِنَّ. وبَنى ذلك على أصلِه في أنَّ بنتَ الابنِ لا يُعَصِّبُها أخوها إذا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 70. وأورده في تحفة الأشراف 7/ 153، 154، ولم يعزه إلى مسلم.

2802 - مسألة: (وإن استكمل البنات الثلثين سقط بنات الابن، إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكر فيعصبهن فيما بقي)

وَإنِ اسْتَكمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَينِ سَقَطَ بَنَاتُ الابْن، إلا أن يَكُونَ مَعَهُنَّ أوْ أُنْزَلَ مِنهُنَ ذَكَرٌ فَيُعَصِّبَهُنَّ فِيمَا بَقِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَكْمَلَ البَنَاتُ الثُّلُثَين، إلا أنَّه ناقَضَ (¬1) في المُقاسَمَةِ إذا كانت أَضرَّ بهنَّ، وكان يَنْبَغِي أن يُعْطِيَهُنَّ السُّدْسَ على كلِّ حالٍ. ولنا، قولُ اللهِ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. ولأنَّهُ يقاسِمُهما لو لم يَكُنْ غيرُهما، فقاسَمَهما مع بنتِ الصُّلْبِ، كما لو كانتِ المُقاسَمَةُ أضرَّ بهنَّ. ولا يَصِحُّ أصلُه الذي بَنى عليه، كما قدَّمنا. 2802 - مسألة: (وإنِ اسْتَكْمَلَ البَنَاتُ الثُّلُثَين سَقَط بَناتُ الابنِ، إلَّا أن يَكُونَ مَعَهُنَّ أو أنْزَلَ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ فَيُعَصِّبَهُنَّ فِيمَا بَقِيَ) أجمَعَ أهلُ العلمِ على ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَفْرِضْ للأولادِ إذا كانوا نِساءً إلَّا الثُّلُثَين، قَلِيلاتٍ كُنَّ أو كَثيراتٍ، وهؤلاء لم يَخْرُجْنَ عن كَوْنِهِنَّ نساءً مِن الأولادِ، وقد ذَهَب الثُّلُثان لولَدِ الصُّلبِ، فلم يَبْقَ لهُنَّ شَيْءٌ، ولا يُمكِنُ أن يُشارِكْنَ بناتِ الصُّلْبِ؛ لأنَّهنَّ دُونَ دَرَجَتِهِنَّ. فإن كان مع بناتِ الابنَ ابنٌ في دَرَجتِهنَّ؛ كأخيهِنَّ أو ابنَ عَمِّهِنَّ، أو أنْزَلَ منهنَّ؛ كابنَ أخِيهنَّ أو ابنِ ابنِ عَمِّهنَّ أو ابنِ ابنِ ابنِ عمِّهِنَّ، عَصَّبَهُنَّ في الباقي فجُعِلَ بينَهم، للذَّكرِ مِثلُ حظِّ الأُنثَيَين. وهذا قولُ عامَّةِ العُلماءِ. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وزيدٍ، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال مالكٌ، ¬

(¬1) في م: «ناقص» وغير منقوطة في المخطوطة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّورِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. وبه قال سائرُ الفُقهاءِ إلَّا ابنَ مسعودٍ ومَن تَبِعَه، فإنَّه خالفَ الصحابةَ في ستِّ مَسائلَ مِن الفَرائضِ، هذه إحْداهُنَّ، فجعلَ الباقِيَ للذَّكرِ دونَ أخَواتِه. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، لأنَّ النساءَ مِن الأولادِ لا يَرِثْنَ أكثَرَ مِن الثُّلُثَين، بدَليلِ ما لو انْفَرَدْنَ، وتَوريثُهنَّ ههُنا يُفْضِي إلى تَوريثِهنَّ أكثرَ مِن ذلك. ولَنا، قولُ الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} وهؤلاء يَدْخُلونَ في عُمومِ هذا اللفظِ، بدَليلِ تَناوُلِه لهم لو لم يَكُنْ بنات، وعدمُ البناتِ لا يُوجِبُ لهم هذا الاسْمَ. ولأنَّ كلَّ ذكرٍ وأُنثى يَقْتَسمُون المال إذا لم يكُنْ معهم ذو فَرْض، يجِبُ أن يَقْتَسِما الفاضِلَ عنه؛ كأولادِ الصُّلبِ، والإخْوةِ مع الأخواتِ. وما ذَكروه فهو في الاسْتِحْقاقِ للفَرْضِ، فأمّا في مَسْألتِنا فإنَّما يَسْتحِقون بالتَّعْصِيبِ، فكانَ مُعْتَبَرًا بأولادِ الصُّلبِ والإخوةِ والأخواتِ، ثُمَّ يَبْطُلُ ما ذَكرُوه بما إذا خلَّفَ ابنًا وسِتَّ بَناتٍ، فإنهُنَّ يَأْخُذْنَ ثَلاثةَ أرباعِ المالِ. وإن كُنَّ ثمانيًا أخذْنَ أَربعةَ أخماسِه. وإن كُنَّ عَشْرًا أخَذْنَ خَمسةَ أسْداسِه. وكُلَّما زِدْنَ في العَدَدِ زاد اسْتِحْقاقُهُنَّ. فصل: وحُكمُ بَناتِ ابنِ الابنِ مع بَناتِ الابنِ حُكْمُ بَناتِ الابنِ مع بَناتِ الصُّلْبِ، في جَميعِ ما ذَكَرْنا في هاتين المَسْألَتَينِ، وفي أَنَّه متى اسْتَكْمَلَ مَن فوقَ السُّفلى الثُّلُثَينِ سَقَطَتْ إذا لم يكُنْ لها مَن يُعَصِّبُها، سواءٌ كَمَلَ الثُّلثان لِمن في درجةٍ واحدةٍ أو للعُلْيا والتي تَلِيها.

فصلٌ: وَفَرْضُ الْأخَوَاتِ مِنَ الْأبَوَينِ مِثْلُ فَرْضِ الْبَنَاتِ سَوَاءٌ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ مَعَهُنَّ كَبَنَاتِ الابْنِ مَعَ الْبَنَاتِ سَوَاءٌ، إلا أَنَّهُنَّ لَا يُعَصِّبُهُنَّ إلا أخُوهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك كلُّ مَن نزلَتْ دَرجتُه مع مَن هو أعْلَى منه. فصل: (وفَرْضُ الأخَواتِ مِن الأبَوَين كفَرْضِ البَناتِ سواءٌ، إلَّا أنَّه لا يُعَصِّبُهُنَّ إلَّا أخُوهُنَّ) يَعْنِي أنَّ للواحِدَةِ مِن الأخَواتِ للأبَوَين النِّصفَ، وللأخْتَين فما زاد الثُّلُثان. فإن كانت أُخْتٌ لأبَوَين وأختٌ أو أخواتٌ لأب، فلهُنَّ باقي الثُّلُثَين، وذلك السُّدْسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَين (كبَناتِ الابنِ مع البَناتِ) فيما ذَكَرْنا. وإن لم يَكُنْ للمَيِّتِ أخَواتٌ لأبَوَين وكان له أخَواتٌ لأبٍ، فلهُنَّ حُكْمُهُنَّ، للواحِدَةِ النصفُ وللأخْتَين فما زاد الثُّلُثان، وهذا لا خلافَ فيه بينَ أهلِ العلمِ. فإنِ اسْتَكْمَلَ الأخَواتُ للأبوَين الثُّلُثَين سَقَط الأخواتُ للأبِ، إلَّا أن يَكُونَ مَعَهُنَّ أخوهُنَّ فَيُعَصِّبَهُنَّ فيما بَقِيَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينِ. وخالفَ ابنُ مَسْعودٍ في ذلك ومَن تَبِعَه (¬1) سائرَ الصحابةِ والفُقهاءِ، فقال: إذا اسْتَكْملَ الأخَواتُ للأبَوين الثُّلُثَين، فالباقِي للذُّكورِ مِن ولدِ الأبِ دُونَ الإِناثِ. فإن كانت أُخت لأبَوَين وإخْوةٌ وأخواتٌ لأبٍ، جَعَل للإِناثِ مِن وَلدِ الأبِ الأضَرَّ بِهِنَّ؛ مِن المُقاسَمَةِ أو السُّدْسِ، وجَعَل الباقيَ للذُّكورِ، كما فَعلَ في ولدِ الابنَ مع البناتِ، وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) بعده في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا فَرْضُ الثُّلُثَين لِلأُخْتَينِ فصاعدًا، والنِّصْفِ للواحِدةِ المُفْرَدةِ، فثابتٌ بقولِ الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَينِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬1). والمرادُ بهذِه الآيةِ ولدُ الأبوَين وولَدُ الأب بإجْماعِ أهلِ العلمِ. وعن جابرٍ، قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، كيفَ أَصْنَعُ في مالِي ولي أخَواتٌ؟ قال: فنزلَتْ آيةُ الميراثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} الآية. رَواه أبو داودَ (¬2). ورَوَى أنَّ جابرًا اشْتَكَى وعندَه سَبْعُ أخَواتٍ، فقال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ أنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجلَّ فِي أخَواتِكَ» (¬3). فبيَّنَ لهُنَّ الثُّلُثَين. وما زاد على الاثنَتَين في حكمِهما، لأنَّه إذا كان للأُخْتين الثُّلُثان، فالثَّلاثُ أُخْتان فَصاعدًا. وأمّا سُقوطُ الأخَواتِ مِن الأبِ باسْتِكْمالِ ولدِ الابوين الثُّلُثَين، فلأنَّ اللهَ تعالى ¬

(¬1) سورة النساء 176. (¬2) في: باب في الكلالة، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 107. كما أخرجه البخاري، في: باب صب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءه على المغمى عليه، من كتاب الرضوء، وفي: باب دعاء العائد للمريض، من كتاب المرضى، وفي: باب قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ. . . .}، من كتاب الفرائض، وفي: باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل مما لم ينزل عليه الوحي. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 1/ 60، 7/ 157، 8/ 185، 9/ 124. ومسلم، في: باب ميراث الكلالة، من كتاب الفرائض. صحيح مسلم 3/ 1234، 1235. والترمذي، في: باب ميراث الأخوات، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 249. وابن ماجه، في: باب الكلالة، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 911. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 298. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من كان ليس له ولد وله أخت، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 108. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 372.

2803 - مسألة: (والأخوات مع البنات عصبة، يرثن ما فضل كالإخوة، وليست لهن معهن فريضة مسماة)

وَالأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ، يَرِثْنَ مَا فَضَلَ كَالإخْوَةِ، وَلَيسَتْ لَهُنَّ مَعَهُن فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما فَرَض للأخَواتِ الثُّلُثين، فإذا أخَذَه ولدُ الأبَوَين لم يَبْقَ مما فَرَضَه اللهُ للأخَواتِ شيءٌ يَسْتَحِقُّه ولدُ الأبِ، فإن كانت واحدةٌ مِن أبوَين، فلها النِّصْفُ بنَصِّ الكتابِ، و (¬1) بَقِيَ من الثُّلُثَين المَفْروضَةِ، للأخَواتِ سُدْسٌ، يُكَمَّلُ به الثُّلُثَان، فيكونُ للأخَواتِ للأبِ. ولذلك قال الفُقَهاءُ: لَهُنَّ السُّدْسُ تَكْمِلةُ الثُّلثينِ. فإن كان ولدُ الأبِ ذُكورًا وإناثًا فالباقِي بينَهم؛ لقولِ الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. ولا يُفارِقُ ولدُ الأبِ مع وَلدِ الأبَوين ولدَ الابنِ مع ولدِ الصُّلْب، إلَّا في أنَّ بنتَ الابنِ يُعَصِّبُها ابنُ أخيها، [وهو أنزلُ منها، وابنُ عَمِّها] (¬2)، والأُختُ مِن الأبِ لا يُعَصِّبُها إلَّا أخُوها، فلو اسْتكْمَلَ الأخَواتُ مِن الأبوين الثُّلُثَين وثَمَّ أخَوات لأبٍ وابنُ أخٍ لهُنَّ، لم يَكُنْ للأخواتِ للأبِ شيءٌ، وكان الباقِي لابنِ الأخِ؛ لأنَّ ابنَ الابنِ وإن نَزَلَ ابنٌ، وابنَ الأَخَ ليس بأخٍ. 2803 - مسألة: (والأخَواتُ مع البنات عَصَبَةٌ، يَرِثْنَ ما فَضَل كالإِخْوةِ، وليستْ لهُنَّ معهُنَّ فريضةٌ مُسَمّاةٌ) المُرادُ بالأخَواتِ ها هنا الأخَواتُ مِن الأبوَين أو مِن الأبِ؛ لأنَّ ولدَ الأمِّ يَسْقُطْنَ بالوَلَدِ ووَلَدِ ¬

(¬1) في م: «وما». (¬2) في المغني 9/ 17: «ومن هو أنزل منها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الابنِ. وسنَذْكُرُ ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ، يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وزيدٍ، وابن مسعودٍ، ومعاذٍ، وعائشةَ، رضي اللهُ عنهم. وإليه ذَهَب عامَّةُ الفقهاءِ إلَّا ابنَ عباسٍ ومن تابعه، فإنَّه رُوِيَ عنه أنه لا يَجْعَلُ الأخَواتِ مع البناتِ عَصَبَةً، وقال ليس بنتٍ وأُخْتٍ: للبنتِ النِّصفُ، ولا شيءَ للأُخْتِ. فقيل له: إن عمرَ قَضَى بخلافِ ذلك، جَعَل للأُخْتِ النِّصفَ. فقال ابنُ عباسٍ: أنتم أعْلَمُ أمِ اللهُ (¬1)؟. يريدُ قولَه سبحانه وتعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}. فإنَّما جَعَل لها المِيراثَ بشَرْطِ عدمِ الوَلدِ. والحقُّ فيما ذَهَب إليه الجمهورُ، فإنَّ ابنَ مسعودٍ قال في بنتٍ وبنتِ ابنٍ وأختٍ: لأقْضِيَنَّ فيها بقَضاءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ للبنتِ النِّصفُ، ولبنْتِ الابنِ السُّدْسُ، وما بَقِيَ فللأُخْتِ. رواه البخاريُّ، وغيرُه (¬2). واحْتِجاجُ ابنِ عباس لا يَدُلُّ على ما ذَهَب إليه، بل يَدُلُّ على أنَّ الأخْتَ لا يُفْرَضُ لها النِّصفُ مع الولدِ، ونحن نَقُولُ به، فإنَّ ما يَأْخُذُه مع البِنْتِ ليس بفرْضٍ وإنَّما هو بالتَّعْصِيبِ، كميراثِ الأخِ. وقد وَافَقَ ابنُ عباسٍ على ثُبُوتِ مِيراثِ الأخِ مع الوَلدِ مع قولِه تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}. وعلى قِياسِ قولِه يَنْبَغِي أن يَسْقُطَ الأخُ؛ لاشْتِراطِه في تَوْريثِه منها عَدَمَ الوَلدِ، وهو خِلافُ الإجماعِ، ثم إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو المُبَيِّنُ لكلامِ اللهِ تعالى، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 72. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 70.

فصلٌ: وَلِلْوَاحِدِ مِنْ وَلَدِ الأمِّ السُّدْسُ، ذَكَرًا كَانَ أوْ أُنْثَى، فَإن كَانَا اثْنَينِ فَصَاعِدًا فَلَهُمُ الثُّلُثُ بَينَهُمْ بِالسَّويَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد جَعَل للأُخْتِ مع البِنْتِ وبِنْتِ الابنِ الباقيَ عن فَرْضِهما، وهو الثُّلُثُ. ولو كانتِ ابْنَتان وبِنْتُ ابن، سَقَطَت بِنْتُ الابنِ، وكان للأُخْتِ الباقي، وهو الثُّلُثُ. فإن كان معهم أمٌّ فلها السُّدْسُ، ويَبْقَى للأخْتِ السُّدْسُ. فإن كان بَدَلَ الأمِّ زَوْجٌ، فالمسألةُ مِن اثْنَيْ عَشرَ؛ للزَّوْجِ الرُّبْعُ، وللبِنْتَين الثُّلُثان، وبَقِيَ للأُخْتِ نِصْفُ السُّدْسِ. فإن كان معهم أمٌّ عالت إلى ثلاثةَ عَشَرَ وسَقَطَتِ الأُخْتُ. فصل: (وللواحِدِ مِن وَلدِ الأم السُّدْسُ ذكرًا كان أو أنْثَى، فإن كانا اثْنَين فصاعِدًا فلهمُ الثُّلُثُ بينَهم بالسَّويَّةِ) أمّا اسْتِحْقاقُ الواحِدِ مِن وَلدِ الأمِّ السُّدْسَ فلا خلافَ فيه، ذكرًا كان أو أُنْثَى؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬1). يعني وَلدَ الأمِّ بإجماعِ أهلِ العلمِ، وفي قِراءَةِ سعدٍ وعبدِ اللهِ: (وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ مِن أُمٍّ) (¬2). وأمّا التَّسويَةُ بينَ وَلدِ الأمِّ فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا رِوايةً شَذَّت عن ابنِ عباسٍ، أنَّه فَضَّلَ الذَّكَرَ على الأُنثَى؛ لقولِ اللهِ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ ¬

(¬1) سورة النساء 12. (¬2) أخرجه الدارمي في سننه 2/ 366. والبيهقي في سننه 6/ 231. وابن جرير في تفسيره 4/ 287. كلهم عن سعد.

فصلٌ فِي الْحَجْبِ: يَسْقُطُ الْجَدُّ بِالْأَبِ، وَكُلُّ جَدٍّ بِمَن هُوَ أقْرَبُ مِنْهُ، وَالْجَدَّاتُ بِالْأُمِّ، وَوَلَدُ الابنِ بِالابنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فِي الثُّلُثِ}. وقال في آيةٍ أُخرى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. ولنا، قولُ الله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}. فسَوَّى بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى. وقولُه: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. مِن غيرِ تَفْضِيلٍ، يَقْتَضِي التَّسويَةَ بينَهم، كما لو وَصَّى لهم بشيءٍ أو أقَرَّ لهم به. وأمّا الآيةُ الأخْرَى، فالمُرادُ بها وَلدُ الأبَوَين ووَلدُ الأبِ، بدليلِ أنَّه جَعَل للواحِدَةِ النِّصفَ، وللأثنَتَين الثُّلُثَين، وجَعَل الأخَ يَرِثُ أُخْتَه (¬1) الكَلَّ، وهذا مُجْمعٌ عليه، فلا عِبْرَةَ بقولٍ شاذٍّ. فصل في الحَجْبِ: قال، رَحِمَه الله: (يَسْقُطُ الجدُّ بالأبِ، وكُلُّ جدٍّ بمَن هو أقْرَبُ مِنه) قال ابنُ المنذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ مِن أَصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ الجدَّ أبا الأبِ لا يَحْجُبُه عن الميراثِ غيرُ الأبِ. وكذلك كلُّ جدٍّ يَسْقُطُ بمن هو أقْرَبُ منه؛ لأنَّه يُدْلِي به، فهو كإسْقاطِ الجدِّ بالأب. (و) تَسْقُطُ (الجدّاتُ بالأمِّ) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أَنَّ للجَدَّةِ السُّدْسَ إذا لم يكنْ للمَيِّتِ أُمٌّ. ولأنَّهُنَّ أُمّهاتٌ فسَقَطْنِ بالأُمِّ، كما يُسْقِطُ الأبُ الجدَّ. (و) يَسْقُطُ (وَلدُ الابنِ بالابنِ) لأنَّه ¬

(¬1) في م: «أخاه».

2804 - مسألة: (و)

وَوَلَدُ الأبَوَينَ بِثَلَاثَةٍ؛ بِالابْنِ، وَابْنِه، وَالْأَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان أباه فهو يُدْلِي به (¬1)، فسَقَطَ به؛ يَسْقُطُ الجدُّ بالأبِ، وإن كان عمَّه فهو أَقْرَبُ منه، [فسَقَطَ به] (¬2)؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (¬3). 2804 - مسألة: (و) يَسْقُطُ (وَلَدُ الْأَبوَينِ بِثَلَاثَةٍ؛ بالْابْنِ، وَابْنِهِ، وَالأَبِ) أجْمَعَ أهلُ العلْمِ على ذلك بحَمْدِ اللهِ، ذَكَرَه ابنُ المُنْذِرِ وغيرُه. والأصْلُ في هذا قولُه تَعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}. الآية. والمُرادُ بذلك الاخْوَةُ والأخَواث مِن الأبَوَين أو مِن الأبِ بغيرِ خِلافٍ بينَ أهلِ العلمِ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تَعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}. وهذا حُكْمُ العَصَبَةِ، فاقْتَضَتِ الآيَةُ أنَّهم لا يَرِثُونَ معَ الوَلَدِ والْوَالِدِ؛ لأنَّ الْكَلَالةَ مَن لَا وَلَدَ له ولا وَالِدَ، خَرَج مِن ذلك البَناتُ والأُمُّ؛ لِقِيامِ الدَّلِيلِ على مِيراثِهم معهما (¬4)، بَقِيَ فيما عَداهُما عَلى ظاهِره، فيَسْقُطُ وَلَدُ الأبَوَين ذَكَرُهَم ¬

(¬1) بعده في النسختين: «وإن كان عمه فهو أقرب منه». ولعله خطأ ناسخ. والسياق كما أثبتناه في المبدع 6/ 143. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 11. (¬4) في الأصل: «معها».

2805 - مسألة: (ويسقط ولد الأم بأربعة؛ بالولد ذكرا كان أو أنثى وولد الابن، والأب، والجد)

وَيَسْقُطُ وَلَدُ الأبِ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَبالأْخِ مِنَ الْأَبَوَينِ. وَيَسْقُطُ وَلَدُ الأُمِّ بِأرْبَعَةٍ؛ بِالْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَو أُنْثَى، وَوَلَدِ الابنِ، وَالْأبِ، وَالْجَدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأُنْثَاهم بالثَّلاثَةِ المَذْكورِين -وإنْ نَزَلَ وَلَدُ الابنٍ- وهم الأبُ، لأنَّهم يُدْلُون به، والابنُ، لأنَّهم يَأْخُذونَ الفاضِلَ عِن فرضِ البَناتِ، والابنُ لا يَفضُلُ عنه شيءٌ، وكذلك ابنُ الابنِ وإن نزَلَ، لأنَّه ابن (ويَسقُطُ وَلَدُ الأبِ بهؤلاء الثّلاثةِ، وبالأخِ مِن الأبوين) لِما روَى عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالدَّينِ قبلَ الوَصِيَّةِ، وأنَّ أعيانَ بَنِي الأُمِّ يَتَوارَثُون دُونَ بَنِي العَلَّاتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبيه وأُمِّهِ دُونَ أخِيه لِأَبِيه. أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). 2805 - مسألة: (وَيَسْقُطُ وَلَدُ الأُمِّ بأرْبَعَةٍ؛ بالْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَوَلَدِ الابْنِ، والأبِ، والْجَدِّ) أجْمَعَ على هذا أهلُ العلمِ، فلا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَ فيه، إلَّا روايةً واحِدةً شَذَّتْ عن ابنِ عباسٍ، في أَبَوَين وأخَوَين لأمٍّ، للأمِّ الثُّلُثُ وللأَخَوَينِ الثُّلُثُ. وقِيلَ عنه: لهما ثُلُثُ الباقِي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 146. وإسناده حسن. انظر الإرواء 6/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا بَعِيدٌ جِدًّا، فإنَّه يُسْقِطُ الإِخْوَةَ كُلَّهم بالجَدِّ، فكيف يُوَرِّثُهم مع الأبِ! ولا خِلافَ بينَ سائرِ أهلِ العلمِ في أنَّ وَلَدَ الأمِّ يَسْقُطُونَ بالجَدِّ، فكيف يَرِثُونَ مع الأبِ! والأصْلُ في هذه الجُمْلَةِ قولُ الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. والمُرادُ بهذه الآيةِ الأخُ والأخْتُ مِن الأُمِّ بإجْماعِ أهلِ العلمِ. وَفى قِراءَةِ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ). والْكَلَالةُ فِي قَولِ الجُمْهُورِ مَن ليس له وَلَدٌ ولا والِدٌ، فشَرَط في تَوْرِيثِهم عَدمَ الوَلدِ والوالدِ، والوَلَدُ يَشْتَمِلُ على الذَّكَرِ والأُنْثَى، والوالدُ يَشْمَلُ الأبَ والجَدَّ، ووَلَدُ الابنَ وَلَدٌ. فصل: واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ الكَلالةِ، فقِيلَ: الكَلالةُ اسْمٌ للوَرَثَةِ مَا عَدَا الْوَالِدِينَ والمَوْلُودِينَ. نصَّ عليه أحمدُ. وَرُوىَ عن أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّهُ قال: الكَلالةُ مَن عَدَا الوَالِدَ والولَدَ (¬1). واحْتَجَّ مَن ذَهَب إلى هذا بقولِ الفَرَزْدَقِ في بني أُميَّةَ (¬2): وَرِثْتُم قَناةَ المجْدِ لا عن كَلالةٍ … عن ابْنَيْ مَنافٍ عبدِ شمسٍ وهاشِمِ ¬

(¬1) أخرجه الدارمي، في: باب الكلالة، من كتاب الفروض. سنن الدارمي 2/ 365، 366. والبيهقي، في: باب حجب الأخوة والأخوات. . . .، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 224. وعبد الرزاق، في: باب الكلالة، من كتاب الفرائض. المصنف 10/ 304. وإسناده ضعيف. انظر سنن سعيد بن منصور. تحقيق د / سعد بن عبد الله آل حميد 3/ 1185، 1186. (¬2) ديوان الفرزدق 852.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واشْتِقَاقُه مِن الإِكْلِيلِ الَّذِي يُحِيطُ بالرَّأْسِ ولا يَعْلُو عليه، فكأن الوَرَثةَ ما عَدا الوَلدَ والوالدَ قد أحاطُوا بالميِّتِ مِن حَوْلِه لا مِنْ طَرَفَيه أعلاه وَأسْفَلِه، كإحاطَةِ الإِكْلِيلِ بالرَّأْسِ. فأمَّا الوَلدُ والوالدُ فهما طَرَفا الرَّجُلِ، فإذا ذَهَبا كان بَقيَّةُ النَّسبِ كَلَالةً. قال الشاعرُ (¬1): فكيفَ بأطْرافِي إذا ما شَتَمْتَنِي … وما بعدَ شَتْمِ الوالِدَينِ صُلُوحُ وقالت طائِفةٌ: الكَلالةُ الميِّتُ نَفْسُه الذي لا وَلَدَ له ولا وَالِدَ. يُرْوَى ذالك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ. وقِيلَ: الْكَلَالةُ قَرابةُ الأمِّ. واحْتَجُّوا ببيتِ الفَرَزْدَقِ الذي أنشدْناه، عَنَى أنَّكم وَرِثْتُم المُلْكَ عن آبائِكم لا عن أُمَّهاتِكم. ويُرْوَى عن الزُّهْرِيِّ أنَّه قال: المَيِّتُ الذي لا وَلَدَ له ولا والدَ كَلالةٌ، ويُسمَّى وارِثُه كَلالةً. والآيتان في سورةِ النِّساءِ المُرادُ بالكَلالةِ فيهما المَيِّتُ. ولا خِلافَ في أنَّ اسمَ الكَلَالةِ يَقعُ على الإخْوةِ من الجِهاتِ كلِّها. وقد دلَّ علي صحةِ ذلك قولُ جابِرٍ: يا رسولَ اللهِ، كيف المِيراثُ؟ إنَّما يَرثُني كَلَالةٌ (¬2). فجعلَ الوارثَ هو الكَلالةَ، ولم يكُنْ لجابرٍ يومَئذٍ وَلدٌ ولا وَالِدٌ. وممَّن ذَهبَ إلى أنَّه يُشْتَرَطُ في الكَلَالةِ عدمُ الوَلدِ والوالدِ زيدٌ، وابنُ عَبَّاس، وجابرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ، وقَتادةُ، والنَّخَعِيُّ، وأهلُ المدينةِ والبَصرةِ والكُوفةِ. ويُروَى عن ابنِ ¬

(¬1) البيت لعون بن عبد الله بن عتبة، وهو في اللسان والتاج (ص ل ح) و (ط ر ف)، والجمهرة 2/ 164، ومعجم مقاييس اللغة 3/ 303، 448. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبَّاسٍ أنَّه قال: الكَلالةُ مَن لا وَلدَ له. ويُروَى ذلك عن عمرَ (¬1). والصحيحُ عنهما كقولِ (¬2) الجَماعةِ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 303. والبيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 224. وإسناده صحيح. وانظر: تفسير سعيد بن منصور 3/ 1182. (¬2) في م: «قول».

باب العصبات

بَابُ الْعَصَباتِ وَهُمْ عَشَرَةٌ؛ الابْنُ، وَابْنُهُ، وَالأَبُ، وَأَبُوهُ، وَالْأَخ، وَابْنُهُ إلا مِنَ الأُمِّ، وَالْعَمُّ وَابْنُهُ كَذَلِكَ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ، وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ. وَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَنْ بَعُدَ. وَأَقرَبُهُمْ الاِبْنُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ العَصَباتِ العَصَبَةُ الوَارثُ بغَيرِ تَقديرٍ، وإذا كان معه ذو فَرْضٍ أخَذ ما فَضَل عنه قلَّ أو كَثُرُ، وإنِ الفَرَدَ أخذَ المال كلَّه، وإنِ اسْتَغْرَقَتِ الفُروضُ المال سَقَط. وهم كلُّ ذَكَرٍ مِن الأقارِبِ ليس بينَه وبينَ الميِّتِ أُنْثَى (وهم عشَرةٌ؛ الابنُ، وابنُه، والأبُ، وأَبُوه، والأخُ، وابنُه إلَّا مِن الأُمِّ، والعمُّ، وابنُه كذلك، ومولَى النِّعمَةِ، ومَولاةُ النِّعمَةِ. وَأحَقُّهُم بالميراثِ أقْرَبُهُم. ويَسقُطُ به مَن بَعُدَ) لقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بأَهلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَولَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». مُتَّفَقٌ عليه. وأخرَجَه التِّرمذيُّ. وفي رِوايَةٍ: «مَا أبْقَتِ الفُرُوضُ فَلِأولَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». (وأقْربُهم الابنُ، ثم ابنُه وإن نَزَل) لأنَّ اللهَ سبحانه قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}. والعربُ تبدأُ بالأهمِّ فالأهمِّ، (ثم الأبُ) لأنَّ سائرَ

ثُمَّ ابْنُهُ وَإنْ نَزَلَ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ وَإنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَينَ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ ابْنُ الْأخِ مِنَ الْأبَوَينَ، ثُمَّ مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ أبْنَاؤُهُمْ وَإنْ نَزَلُوا، ثُمَّ الْأَعْمَامُ، ثُمَّ أبْنَاؤُهُمْ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ، ثُمَّ أبْنَاؤُهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ، ثُمَّ أبْنَاؤُهُمْ كَذَلِكَ أبَدًا، لَا يَرِثُ بَنُو أبٍ أعْلَى مَعَ بَنِي أبٍ أقْرَبَ مِنْهُ وَإنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ. وَأوْلَى وَلَدِ كُلِّ أبٍ أَقْرَبُهُمْ إِلَيهِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فَأَولَاهُمْ مَنْ كَانَ لِأبَوَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَصَباتِ يُدْلُون به (ثم الجَدُّ) أبو الأبِ (وإن علا) لأنَّه أبٌ، ما لم يكنْ إخوةٌ لأبٍ أو لأبَوَينِ، فإنِ اجْتَمَعُوا فلهم فصلٌ مُفْرَدٌ قد ذكرناه وذَكَرْنا اخْتِلافَ أهلِ العلمِ في ذلك وفي كيفيةِ تَوْريثِهم معه. ثم بَنُو الأبِ، وهم الإِخوةُ، ثم بَنُوهم وإن نَزَلُوا، ثم بَنُو الجَدِّ وهم الأعمامُ، [ثم بَنُوهم] (¬1) وإن نزلوا (ثم أعمامُ الأبِ، ثم أبناؤُهم، ثم أعمامُ الجَدِّ، ثم أبناؤُهم كذلك أبدًا، لا يَرِثُ بنو أبٍ أعْلَى مع بَني أبٍ أقْرَبَ منهم وإن نزَلَت دَرَجَتُهم) لِما ذكرنا مِن الحديث (وأَولَى وَلَدِ كلِّ أبٍ أقْرَبُهم إليه، فإنِ اسْتَوَوْا فأوْلاهم مَن كان لأبوَين) لِما ذكرنا مِن حديثِ عليٍّ، رَضِيَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ عنه، وهذا كلُّه مُجْمَعٌ عليه.

2806 - مسألة: (فإذا انقرض العصبة من النسب، ورث المولى المعتق، ثم عصباته)

وَإِذَا انْقَرَضَ الْعَصَبَةُ مِنَ النَّسَبِ، وَرِثَ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَأرْبَعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ يُعَصِّبُونَ أَخَوَاتِهِمْ، فَيَمْنَعُونَهُنَّ الْفَرْضَ، وَيَقْتَسِمُونَ مَا وَرِثُوا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينِ، وَهُمْ الابْنُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2806 - مسألة: (فإذا انْقَرَضَ العَصَبَةُ مِن النَّسَبِ، وَرِث المولَى المُعْتِقُ، ثم عَصَباتُه) الأقْرَبُ فالأقْرَبُ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «إنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» (¬1). وسنَذْكُرُه في بابِه، إن شاء اللهُ تعالى. 2807 - مسألة: (وَأرْبعةٌ مِن الذُّكُورِ يُعَصبُون أخَواتِهم فيَمْنَعُونهُنَّ الفَرْضَ، ويَقْتَسِمُون ما وَرِثُوا للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين، وهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235.

2808 - مسألة: (وابن ابن الابن يعصب من بإزائه من أخواته وبنات عمه وبنات عم أبيه)

وَابْنُهُ، وَالأخُ مِنَ الأبَوَينِ، وَالأخُ مِنَ الأبِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ يَنْفرِدُ الذُّكُورُ بِالْمِيرَاثِ دُونَ الإنَاثِ، وَهُمْ بَنُو الْأخِ، وَالأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ. وَابْنُ ابْنِ الابْنِ يُعَصِّبُ مَنْ بِإِزَائِهِ مِنْ أَخَوَاتِهِ وَبَنَاتِ عَمِّهِ، وَيُعَصِّبُ مَنْ أَعْلَى مِنْهُ مِنْ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ عَمِّ أبِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ فَرْضٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الابنُ، وَابْنُه، والأخُ مِن الأبَوَين، والأخ مِن الأبِ. ومَن عَدَاهم مِن العَصَباتِ يَنْفَرِدُ الذُّكورُ بالمِيراثِ دُونَ الإِناثِ، وهم بنو الإِخْوةِ، والأعمامِ، وبَنُوهم) وذلك لقولِ اللهِ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. فهذه الآيةُ تناولَتِ الأولادَ وأولادَ الابنِ. وقال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ}. فتَناولَت ولدَ الأبَوين وولدَ الأبِ. وإنَّما اشْتَرَكُوا لأنَّ الرِّجال والنساءَ كلَّهم وَارِثٌ، فلو فُرِضَ للنِّساءِ فَرْضٌ أفْضَى إلى تَفْضِيلِ الأنْثَى على الذَّكَرِ أو مُساواتِها إيَّاه أو إسْقاطِه بالكُلِّيةِ، فكانتِ المُقاسَمةُ أوْلَى وأعدَلَ. وسائرُ العَصَباتِ ليس أخَواتُهم مِن أهلِ المِيراثِ، فإنَّهُنَّ لَسْنَ بذَواتِ فَرْضٍ ولا يَرِثْنَ مُنْفَرِداتٍ، فلا يَرِثْنَ مع إخْوَتِهِنَّ شيئًا. وهذا لا خِلافَ فيه بحمدِ اللهِ ومَنِّهِ. 2808 - مسألة: (وابنُ ابنِ الابنِ يُعَصِّبُ مَن بإزائِهِ مِن أخَواتِه وبَناتِ عَمِّهِ وبَناتِ عَمِّ أبِيه) على كلِّ حالٍ (إذا لم يكنْ لَهُنَّ فَرْضٌ) وَيُسْقِطُ

وَلَا يُعَصِّبُ مَنْ أَنْزَلُ مِنْهُ، وَكُلَّمَا نَزَاتْ دَرَجَتُهُ زَادَ فِي مَنْ يُعَصِّبُهُ قَبِيل آخَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن هُو أنْزَلُ مِنه؛ كبَناتِه وبَناتِ أخِيه وبَناتِ ابنِ عَمِّه (وَكلَّما نَزِلَت دَرَجَتُه زاد في مَن يُعَصِّبُه قَبِيلٌ آخَرُ) فلو خلَّفَ الميِّتُ خمْسَ بناتِ ابن، بعضُهُنَّ أنْزَلُ مِن بعضٍ -لا ذَكَرَ مَعهُنَّ- وعَصَبةً، كان للعُلْيَا النِّصفُ، وللثانيةِ السُّدْسُ، وسَقَط سائرُهُنَّ، والباقي للعَصَبَةِ. وإن كان مع العُليا أخوها أو ابنُ عمِّها، فالمالُ بينَهما على ثلاثةٍ، وسَقَط سائرُهُنَّ. وإن كان مع الثانيةِ عَصَبَةٌ (¬1) كان للعُلْيا النِّصفُ والباقي بينَه وبينَ الثانيةِ على ثلاثةٍ. وإن كان مع الثالثةِ فلِلْعُليا النِّصفُ ولِلثَّانيةِ السُّدْسُ، والباقي بينَه وبينَ الثالثةِ [على ثلاثةٍ] (¬2). وإن كان مع الرابعةِ فللعُلْيا النِّصفُ وللثانيةِ السُّدْسُ، والباقي بينَه وبينَ الثالثةِ والرابعةِ على أربعةٍ. وإن كان مع الخامسةِ فالباقي بعدَ فرضِ الأُولَى والثانيةِ بينَه وبينَ الثالثةِ والرابعةِ والخامسةِ على خمسةٍ، وتَصِحُّ مِن ثلاثين. وإن كان أنْزَلَ مِن الخامسةِ فكذلك. قال شيخُنا (¬3): ولا أعلمُ في هذا خلافًا بينَ القائِلِين بتَوْرِيثِ بناتِ الابنِ مع بَنِي الابنِ بعدَ اسْتِكمالِ الثُّلُثَين. ¬

(¬1) في الأصل: «عصبها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 9/ 14.

2809 - مسألة: (ومتى كان بعض بني الأعمام زوجا أو أخا لأم، أخذ فرضه وشارك الباقين في تعصيبهم)

وَمَتَى كَانَ بَعْضُ بَنِي الأعْمَامِ زَوْجًا أَوْ أخًا لأُمٍّ، أَخَذَ فَرْضَهُ وَشَارَكَ الْبَاقِينَ فِي تَعْصِيبِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2809 - مسألة: (ومتى كان بَعْضُ بَنِي الأعْمامِ زَوْجًا أو أخًا لأُمٍّ، أخَذ فَرْضَه وَشارَكَ الباقِين فِي تَعْصِيبِهم) وجُمْلَةُ ذلِك، أنَّه إذا كان ابنَا عَمٍّ أحدُهما أخٌ لأمِّ، فللأخِ للأُمِّ السُّدْسُ والباقِي بينَهما نِصْفَين. هذا قَوْلُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ. يُرْوَى عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، ما يَدُلُّ على ذلك، ويُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وزيدٍ، وابنِ عباسٍ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ، ومَن تَبِعَهم. وقال ابنُ مسعودٍ: المالُ للذي هو أخٌ مِن أمٍّ. وبه قال شُرَيحٌ، والحسنُ، وابنُ سيرينَ، وعطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ؛ لأنَّهما اسْتَوَيا في قَرابَةِ الأبِ وفَضَلَه هذا بأُمٍّ، فصارا كأخَوَين أو عَمَّين، أحَدُهما لأبَوين والآخَرُ لأَبٍ، ولأنَّ ابنَ العَمِّ لأبَوَين يُسْقِطُ ابنَ العَمِّ للأبِ، كذلك هذا، فإذا كان قُرْبُه بكوْنِه مِن وَلدِ الجَدَّةِ قَدَّمَه، فكَوْنُه مِنْ وَلدِ الأُمِّ أوْلَى. ولَنا، أنَّ الأُخُوَّةَ مِن الأمِّ يُفْرَضُ له بها إذا لم يَرِثْ بالتَّعْصِيبِ، وهو إذا كان معه أخٌ من أبَوَين أو مِن أبٍ أو عمٌّ، وما يُفْرَضُ له به لا يُرَجَّحُ به، كما لو كان أحدُهما زِوجًا، ويُفارِقُ الأخَ مِن الأبوَين والعَمَّ وابنَ العَمِّ إذا كانا مِن أبَوَين، فإنه لا يُفْرَضُ له بقَرابةِ أُمِّه شيءٌ، فرَجَحَ به، ولا يَجْتَمِعُ في إحْدَى القَرابَتَين تَرْجِيحٌ وفَرْضٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان معَهما أخٌ لأبٍ، فللأخِ مِن الأمِّ السُّدْسُ والباقي للأخِ مِن الأب. وكذلك إن كان معهما أخٌ لأبَوَين، فإن كان ابنُ عَمٍّ لأبَوَين وابنُ عَمٍّ هو أخٌ لأمٍّ، فعلى قولِ الجمهورِ للأخِ السُّدْسُ والباقِي للآخرِ. وعلى قولِ ابنِ مسعودٍ المالُ كلُّه لابنِ العمِّ الذي هو أخٌ لأمٍّ. فصل: فإن كان ابنا عَمٍّ أحدُهما أخٌ لأمٍّ، وبِنْتٌ أو بِنْتُ ابن، فللبِنْتِ أو بِنْتِ الابنِ النِّصفُ، والباقِي بينَهما نِصْفَين، وسَقَطَتِ الأُخُوَّةُ مِنَ الأمِّ بالبنْتِ. ولو كان الذي ليس بأخٍ ابنَ عمِّ مِن أبوَين أخَذ الباقيَ كلَّه لذلك. وعلى قولِ ابنِ مَسْعودٍ الباقي للأخِ في المَسألَتَين، بدليلٍ أنَّ الأخَ مِن الأبَوَين يتقدَّمُ على الأخِ مِن الأبِ بقَرابَةِ الأمِّ، وإن كان في الفَرِيضةِ بنتٌ تَحْجُبُ قَرابَةَ الأُمِّ. وحُكِيَ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَير أنَّ الباقيَ لابْنِ العَمِّ الذي ليس بأَخٍ وإن كان مِنْ أبٍ (¬1)؛ لأنَّه يَرِثُ بالقَرابَتَين مِيراثًا واحِدًا، فإذا كان في الفَرِيضَةِ مَن يَحْجُبُ إحداهما سَقَط مِيراثُه، كما لو اسْتَغْرَقَتِ الفُروضُ المال سَقَط الأخُ من الأبَوَين ولم يَرِثْ بقرابَةِ الأُمِّ، بدَلِيلِ المَسألَةِ المُشَرَّكةِ. ولَنا على ابنِ مسعودٍ، أنَّ البِنْتَ (¬2) تُسْقِطُ المِيراثَ بقَرابَةِ الأُمِّ، فيَبْقَى التَّعْصِيبُ مُنْفَرِدًا، فَيَرِثُ به. وفارَق ولدَ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 11/ 253. (¬2) في م: «الثلث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأبَوَين؛ فإنَّ قَرابةَ الأُمِّ لم (¬1) يُرَجَّحْ بها ولا يُفْرَضُ لها، فلا يُوثِّرُ فيها [ما يَحْجُبُها] (¬2). وفي مسألتِنا يُفرَضُ له بها، فإذا كان في الفَرِيضَةِ مَن يَحْجُبُها سَقَطَت، ولأنَّه لو كان مع ابنِ العَمِّ الذي هو أخٌ أخٌ مِن أبٍ وبِنْتٌ لحَجَبَتِ البِنْتُ قَرابَةَ الأمِّ ولمْ يَرِثْ (¬3) بها شيئًا، وكان للبِنْتِ النِّصْفُ والباقِي للأخِ مِن الأبِ، ولولا البِنْتُ لوَرِثَ بكَوْنِه أخًا مِن أمٍّ السُّدْسَ، وإذا حَجَبَتْه البِنْتُ مع الأخِ مِن الأبِ وَجَب أن تَحْجُبَه في كلِّ حالٍ؛ لأنَّ الحَجْبَ بها لا بالأخِ مِن الأبِ. وما ذَكَره سعيدُ بنُ جُبَير يَنْتَقِضُ بالأخِ مِن الأبوَين مع البنتِ، وبابنِ العَمِّ إذا كان زَوْجًا ومعه مَن يَحْجُبُ بَنِي العَمِّ. ولا نُسَلِّمُ أنَّه يَرِثُ مِيراثًا واحدًا، بل يَرِثُ بقَرابَتَيه مِيراثَين، كشَخْصَين، فصارَ كابن العَمِّ الذي هو زوجٌ، وفارَقَ الأخَ مِن الأبَوَين، فإنَّه لا يَرِثُ إلَّا مِيراثًا وَاحِدًا، فإنَّ قَرابةَ الأمِّ لا يَرِثُ بها مُنْفَرِدَةً. فصل: فحَصَل خِلافُ ابنِ مسعودٍ في مسائلَ ستٍّ؛ هذه الواحِدَةُ. والثانيةُ، في بَناتٍ (¬4) وبَناتِ ابنٍ وابنِ ابنٍ، الباقي عندَه لابنِ الابنِ ¬

(¬1) في م: «ثم». (¬2) في م: «بحجبها». (¬3) في م: «ترث». (¬4) في المغني 9/ 32: «بنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ أخَواتِه. الثالثةُ، في أخواتٍ لأبوَين وأخٍ وأخَواتٍ لأبٍ، الباقي عندَه للأخِ دُونَ أخَواتِه. الرابعة، بنْتٌ وابنُ ابنٍ وبَناتُ ابنٍ، عندَه (¬1) لبناتِ الابنِ الأضَرُّ بِهِنَّ مِن السُّدْسِ أَو المُقاسَمةِ. الخامسةُ، أختٌ لأبوَين وأخٌ وأخَواتٌ لأبٍ، للأخْواتِ عندَه الأضَرُّ بهِنَّ مِن ذلكَ. السادسةُ، كان يَحْجُبُ الزَّوْجَين والأمَّ بالكُفَّارِ والعَبِيدِ والقاتِلِينَ، ولا يُوَرِّثُهم. فصل: ابنُ ابنِ عَمٍّ هو أخٌ لأمٍّ، وابنُ ابنِ عَمٍّ آخَرَ، للأخِ السُّدْسُ، والباقي بينَهما. وعندَ ابنِ مسعودٍ الكلُّ للأخِ، وسَقَط الآخَرُ. فإن كان أحدُهما ابنَ أخٍ لأمٍّ فلا شيءَ له بقَرابَةِ الأُخُوَّةِ؛ لأنَّ ابنَ الأخِ لِلأُمِّ من ذَوي الأرْحام، وإن كان عَمَّان أحدُهما خالٌ لأُمٍّ، لم يُرَجَّحْ بخُئُولَتِه. وقِيلَ على قياسِ قولِ ابنِ مسعودٍ: وَجْهان؛ أحدُهما، لَا يُرَجَّحُ بِها. والثاني، يُرَجَّحُ بها على العَمِّ الذي هو مِن أَبٍ، فيأخذُ المال؛ لأنَّه ابنُ الجَدِّ والجَدَّةِ، والآخَرُ ابنُ الجَدِّ لا غيرُ. وإن كان العَمُّ الآخَرُ مِن أبَوَين فالمالُ بينَهما؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُدْلِي بجَدَّةٍ، وهما ابْنا (¬2) الجَدِّ. وهكذا القولُ في ابْنَيْ عَمٍّ أحدُهما خالٌ، أو ابْنَي ابْنَيْ عَمِّ أحدُهما خالٌ. فأمّا على قولِ عامَّةِ الصَّحابةِ، فلا أثَر لهذا عندَهم. فصل: ابْنا عَمٍّ أحدُهما زوجٌ، للزَّوْجِ النصْفُ، والباقي بينَهما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ابن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفَينِ عندَ الجميعِ. فإن كان الآخَرُ أخًا لأُمٍّ، فللزَّوْجِ النِّصْفُ وللأخِ السُّدْسُ والباقي بينَهما، أصْلُها مِن سِتَّةٍ؛ للزَّوْجِ أرْبَعَةٌ، وللأخِ اثنانِ، وتَرْجِعُ بالاخْتصارِ إلى ثلاثةٍ. وعندَ ابنِ مسعودٍ الباقي للأخِ، فتكونُ مِن اثْنَين، لكلِّ واحدٍ منهما سَهْمٌ. ثَلاثةُ بَنِي عَمٍّ أحدُهم زوجٌ والآخرُ أخٌ لأُمٍّ، للزَّوْجِ النَّصْفُ وللأخِ السُّدْسُ والباقِي بينَهما على ثلاثةٍ، أصْلُها مِن سِتَّةٍ، تَضْرِبُ فيها الثَّلاثَةَ تَكُنْ ثَمانيةَ عَشَرَ؛ للزوجِ تِسْعَةٌ وللأخِ ثَلاثةٌ، يَبْقَى سِتَّةٌ بينَهم على ثَلاثَةٍ، فيَحْصُلُ للزَّوْجِ أحدَ عشرَ، وهي النِّصْفُ والتُّسْعُ، وللأخِ خمسةٌ، وهي السُّدْسُ والتُّسْعُ، وللثالثِ التُّسْعُ سَهْمان. فإن كان الزَّوْجُ ابنَ عَمٍّ مِن أَبَوَين، فالباقي له، وإن كان هو والثالثُ مِن أبَوَين، فالثُّلُثُ الباقي بينَهما، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ، للزَّوْجِ الثُّلُثان، ولكلِّ واحِدٍ مِن الآخَرَين سُدْسٌ. وعندَ ابنِ مسعودٍ أنَّ الباقيَ بعدَ فَرْضِ الزَّوْجِ للذي هو أخٌ مِن أُمٍّ. فصل: أخَوان مِن أُمٍّ أحدُهما ابنُ عَمٍّ، فالثُّلُثُ بينَهما والباقي لابنِ العَمِّ. وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ، لابنِ العمِّ خمسةٌ وللآخَرِ سَهْمٌ. ولا خلافَ في هذه المسألةِ. فإن كانوا ثلاثةَ إخْوَةٍ أحدُهم ابنُ عَمٍّ، فالثُّلُثُ بينَهم على ثلاثةٍ والباقي لابنِ العَمِّ، وتَصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. وإن كان اثْنان منهم ابْنَيْ عَمٍّ، فالباقي بعدَ الثُّلُثِ بينَهما، وَتَصِحُّ مِن تسعَةٍ. فصل: ثَلاثةُ إِخْوَةٍ لأُمٍّ أحدُهُم ابْنُ عَمٍّ، وثَلَاثَةُ بَنِي عَمٍّ أحَدُهم أخٌ لأُمٍّ، فاضْمُمْ واحِدًا مِن كُلِّ عددٍ إلى العَدَدِ الآخرِ، يَصِرْ مَعك أربعةُ بَنِي

2810 - مسألة: (وإذا اجتمع ذو فرض وعصبة، بدئ بذي الفرض فأخذ فرضه، وما بقي للعصبة)

وَإذَا اجْتَمَعَ ذُو فَرْضٍ وَعَصَبَةٌ، بُدِئَ بِذِي الْفَرْضِ فَأَخذَ فَرْضَهُ، وَمَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ. فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْفُرُوضُ الْمَال فَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ، كَزَوْجٍ، وَأُمٍّ، وَإخْوَةٍ لأُمٍّ، وَإخْوَةٍ لِأبَوَينِ أوْ لأَبٍ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُمِّ السُّدْسُ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الأُمِّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ سَائِرُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمٍّ وأربعةُ إخوةٍ، فهم سِتَّةٌ في العَدَدِ وفي الأحْوالِ ثمانِيةٌ، ثم اجْعَلِ الثُّلُثَ للإِخْوةِ على أربعةٍ والثُّلُثَين لبَنِي العَمِّ على أربعةٍ، فتَصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ، لكلِّ أخٍ مُفْرَدٍ سَهْمٌ ولكلِّ ابنِ عَمٍّ مُفْرَدٍ سَهْمان، ولكلِّ ابنِ عَمٍّ هو أخٌ ثلاثةٌ، فيَحْصُلُ لهما النِّصْفُ، وللأربعَةِ الباقِين النِّصْفُ. وعلى قولِ عبدِ اللهِ، للإِخْوةِ الثُّلُثُ، والباقِي لابْنَي العَمِّ اللَّذَين هما أخَوان. 2810 - مسألة: (وإذا اجْتَمَعَ ذُو فَرْضٍ وَعَصَبَةٌ، بُدِئَ بذِي الفَرْضِ فأخَذ فَرْضَه، وما بَقِيَ للعَصَبَةِ) لقولِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهلِهَا، فَما أبْقَتِ الفُرُوضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (¬1). 2811 - مسألة: (وإنِ اسْتَغْرَقَتِ الفُرُوضُ المال فلا شيءَ للعَصَبَةِ، كزَوْج وأُمٍّ وإخْوَةٍ لأُمٍّ وإخْوَةٍ لأبوين أو لأبٍ، فللزَّوْجِ النِّصْفُ، وللأمِّ السُّدْسُ، وللإِخوَةِ للأُمِّ الثُّلُثُ، وسَقَط سائرُهم) وإلى هذا ذهَب أحمدُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَحِمَه اللهُ، فأسْقَطَ الإِخْوَةَ مِن الأبَوين؛ لأنَّهم عَصَبَةٌ وقد تَمَّ المالُ بالفُرُوضِ. ويُرْوَى هذا القولُ عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وابنِ عَباسٍ، وأبي موسى، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال الشَّعْبِيُّ، والعَنْبَرِيُّ، وشرِيكٌ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه، ويحيى بنُ آدمَ، ونُعَيمُ بنُ حَمَّادٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ويُرْوَى عن عمرَ، وعثمانَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم، أنَّهُم شرَّكُوا بينَ ولدِ الأبَوَين ووَلَدِ الأمِّ في الثُّلُثِ، فَقَسَمُوه بينهم بالسَّويَّةِ للذَّكَرِ مِثْلُ [حَظِّ الأُنْثيَينِ] (¬1). وبِه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ؛ لأنَّهم ساوَوْا وَلَدَ الأُمِّ في القَرابَةِ التي يَرِثُونَ بها، فيَجِبُ أن يُساوُوهم في المِيراثِ؛ فإنَّهم جميعًا مِن وَلَدِ الأُمِّ، وقَرابَتُهم مِن جِهَةِ الأبِ إن لم تَزِدْهم قُرْبًا واسْتِحْقاقًا [فلا يَنْبَغِي أن] (¬2) تُسْقِطَهم؛ ولهذا قال بعضُ وَلَدِ الأبوين أو بعضُ الصَّحابَةِ لِعُمرَ وقد أسْقَطَهم: هَبْ أنَّ أباهم كان حِمارًا، فما زادَهم ذلك إلَّا قُرْبًا. فشَرَّكَ بينَهم. وحَرَّرَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ فيها قِياسًا، فقال: فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الأبِ والأُمَّ وَوَلَدَ الأُمِّ، وهم مِن أهلِ المِيراثِ، فإذا وَرِثَ وَلَدُ الأُمِّ وَجَب أن يَرِثَ وَلَدُ الأبِ والأُمُّ، كما لو لم يكُنْ فيها زَوْجٌ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ¬

(¬1) في المخطوطة: «الأنثى». والمثبت من المطبوعة موافق لما في المغني 9/ 24، 25. (¬2) في م: «فلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬1). ولا خِلافَ في أنَّ المُرادَ بهذه الآيةِ وَلَدُ الأُمِّ على الخصوصِ، فمَن شَرَّكَ بينَهم فلم يُعْطِ كلَّ واحِدٍ منهما السُّدْسَ وهو مُخالفَةٌ لظاهِرِ القُرْآنِ، ويَلْزَمُ منه مُخالفةُ ظاهرِ الآيةِ الأُخْرَى، وهي قولُه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (¬2). يُرادُ بهذه الآيةِ سائرُ الإِخْوَةِ والْأَخواتِ، وهم يُسَوُّون بينَ ذَكَرِهم وأُنْثاهم. وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أَلْحِقُوا الفَرائِضَ بِأهلِهَا، فما بَقِيَ فَلأَولَى رَجُل ذَكَرٍ». ومَن شَرَّكَ فلم يُلحِقِ الْفَرائِضَ بأهْلِها. ومِن جِهَةِ المَعْنَى أنَّ وَلَدَ الأبَوين عَصَبَةٌ لا فَرْضَ لهم، وقدْ تَمَّ المالُ بالفُروضِ فوَجَب أن يَسْقُطُوا، كما لو كان مكانَ وَلَدِ الأُمِّ ابْنَتان. وقد انْعَقَدَ الإِجْماعُ على أنَّه لو كان في هذه المَسألَةِ واحدٌ مِن ولدِ الأُمِّ ومِائةٌ مِن ولَدِ الأبوَين، لاختصَّ الواحِدُ مِن وَلَدِ الأُمِّ بالسُّدْسِ (¬3)، وللمائةِ السُّدْسُ الباقي، لكلِّ واحدٍ منهم عُشْرُ عُشْرِه، فإذا جاز أن يَنْقُصَ وَلَدُ أُبوين عن وَلَدِ الأُمِّ هذا النَّقْصَ كلَّه، فلِمَ لا يجوزُ إسْقاطُهم بالاثْنَين؟ وقولُهم: تَساوَوْا في قَرابَةِ الأُمِّ. قُلْنا: فلِمَ لَمْ يُساوُوهم في الميراثِ في هذه المسألةِ؟ وعلى أنَّا نقولُ: إن ساوَوْهُم في قَرابَةِ الأمِّ فقد فارَقُوهُم بكَوْنِهم ¬

(¬1) سورة النساء 12. (¬2) سورة النساء 176. (¬3) في م: «بالثلث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَصَبَةً مِن غيرِ ذَوي الفُروضِ. وهذا الذي افْتَرَقُوا فيه هو المُقْتَضِي لتَقْدِيم وَلَدِ الأُمِّ وتَأخيرِ وَلَدِ الأبَوين؛ فإنَّ الشَّرْعَ وَرَد بتَقْديمِ ذِي الفَرْضِ وتَأْخِيرِ العَصَبَةِ، ولذلك يُقَدَّمُ ولدُ الأُمِّ على ولدِ الأبوَينَ في المسألةِ المَذْكورةِ وشِبْهِها، وهَلَّا إذْ تَساوَوْا في قَرابَةِ الأُمِّ شارَكُوا الأخَ مِن الأُمِّ في سُدْسِه فاقْتَسَمُوه بينَهم، ولأنَّه لو كانت قَرابَةُ الأُمِّ مُسْتَقِلَّةً بالمِيراثِ مع قَرابَةِ الأبِ لوَجَب أن يَجْتَمِعَ لهمُ الفَرْضُ والتَّعْصيبُ، كقولِنا في أخٍ مِن أُمٍّ هو ابنُ عَمٍّ، ولوَجَب أن يُشارِكوا وَلَدَ الأُمِّ في الثُّلُثِ في كلِّ مَوضِعٍ، ويَنْفَرِدوا بالتَّعْصِيبِ فيما بَقِيَ. ولا خِلافَ في أنَّهم لا يُشارِكُونهم في غيرِ هذا المَوضِعِ، ويَلْزَمُهم أن يقولُوا في زَوْجٍ وأُخْتٍ لأبَوَين وأُخْتٍ لأبٍ معها أخُوها: إنَّه يَسْقُطُ الأخُ، وتَرِثُ أُخْتُه السُّدْسَ؛ لأنَّ قَرابَتَها مع وُجُودِه كقَرابَتِها مع عَدَمِه، وهو لا يَحجُبُها، فهلَّا عَدُّوه حِمارًا ووَرَّثُوا أُخْتَه ما كانت تَرِثُ عندَ عَدَمِه؟ وما ذَكَرُوه مِن القياسِ طَرْدِيٌّ لا مَعْنى تحتَه. قال العَنْبَرِيُّ: القِياسُ ما قال عليٌّ، والاسْتِحْسانُ ما قال عمرُ. قال الخَبْرِيُّ: وهذه وَساطَة مَلِيحَةٌ وعِبارَةٌ صَحيحَةٌ، وهو كما قال: إلَّا أنَّ الاسْتِحْسانَ المُجَرَّدَ ليس بحُجَّةٍ، فإنَّه وَضْعٌ للشَّرْعِ بالرَّأْي والتَّحَكُّمِ مِن غَيرِ دَلِيلٍ، ولا يجوزُ الحُكْمُ به مع عَدَمِ المُعارِضِ، فكيف وهو في مَسْألَتِنا يُخَالِفُ ظاهرَ القرآنِ والسُّنَّةِ والْقِياسَ! قال شيخُنا (¬1): ¬

(¬1) في: المغني 9/ 26.

وَتُسَمَّى الْمُشَرَّكَةَ وَالْحِمَارِيَّةَ إِذَا كَانَ فِيهَا إِخْوَة لأبَوَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومِن العَجَبِ ذَهابُ الشافعيِّ إليه ها هنا مِع تَخْطِئَةِ الذّاهِبينَ إليه في غيرِ هذا الوضعِ، وَقَوْلِه: مَن اسْتَحْسَنَ فقد شرَعَ. ولا أظُنُّه اعتَمَدَ في هذا إلَّا مُوافَقَةَ زَيدِ بنِ ثابتٍ، فإنَّه اتَّبَعَه في جَميعِ الفَرائضِ. ومُوافَقَةُ كِتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسولِه أَوْلَى. فصل: ولو كان مَكَانَ وَلَدِ الأَبَوَينِ في هذهِ المَسْألَةِ عَصَبَةٌ مِن وَلَدِ الأبِ سَقَطُوا، ولم يُوَرِّثْهُم أحَدٌ مِن أهلِ العلمِ فيما عَلِمْنا، لأنَّهم لم يُشارِكُوا ولدَ الأمِّ في قَرابَةِ الأمِّ. فصل: (وتُسَمَّى) هذه المسألةُ (المُشَرَّكَةَ والحِمارِيَّةَ إذا كان فيها إخوَةٌ لأبوَين) وكذلك كُلُّ مَسألَةٍ اجْتَمَعَ فيها زَوْجٌ وأمٌّ أو جَدَّةٌ واثْنان (¬1) فصاعِدًا مِن ولَدِ الأُمِّ وعَصَبَةٌ مِن وَلَدِ الأبوين. وإنَّما سُمِّيَتِ المُشَرَّكَةَ، لأنَّ بعضَ أهْلِ العلمِ شَرَّكَ فيها بينَ ولَدِ الأبوين ووَلَدِ الأُمِّ في فَرْضِ ولَدِ الأُمِّ، فقَسَمَه بينهم بالسَّويَّةِ. وتُسَمَّى الحِماريَّةَ، لأنَّه يُروَى أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أسْقَطَ ولَدَ الأبَوين، فقال بعضُهم: يا أميرَ المؤمِنينَ، هَبْ أنَّ أبانا كان حِمارًا، أليستْ أُمُّنا واحِدَةً؟ فشرَّكَ بينَهم. وقِيلَ: قال ذلك بعضُ الصحابَةِ، فسُمِّيَتِ الحِمارِيَّةَ لذلك. والله أعْلَمُ. فصل: إذا قِيلَ: امْرَأةٌ خلَّفَتْ أُمًّا وابْنَيْ عمٍّ أحَدُهما زَوْجٌ والآخَرُ أخٌ ¬

(¬1) في م: «ابنان».

2812 - مسألة: (ولو كان مكانهم أخوات لأبوين أو لأب عالت إلى عشرة، وسميت ذات الفروخ)

وَلَوْ كَانَ مَكَانَهُمْ أخَوَاتٌ لِأبَوَينِ أوْ لِأبٍ عَالتْ إِلَى عَشرَةٍ، وَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْفُرُوخِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأُمٍّ وثَلاثَةَ إخوَةٍ مُفْتَرِقين. قِيلَ: هذه المُشَرَّكَةُ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وللأُمِّ السُّدْسُ، وللأخَوَين مِن الأُمِّ الثُّلُثُ،، وسَقَط الأخَوان مِن الأبَوين أو الأبِ. ومَن شَرَّك جَعَل للأخِ مِن الأبَوَين التُّسْعَ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِن الْأَخَوَين للأمِّ تُسْعًا. ومِن مَسائلِ ذلك: زَوْجٌ وأمٌّ وأخْتان لأمٍّ وأخٌ لأبَوَين، تَصِحُّ مِن ستَّةٍ، ومَن شَرَّكَ فهي مِن ثَمانيةَ عَشَرَ. زَوْجٌ وجدةٌ وأخٌ وأُخْتٌ لأمٍّ وأخٌ وأُخْتٌ لأبَوَين، كالتي قبلَها، ومَن شَرَّكَ فمِن اثْنَى عَشرَ. زوجٌ وأمٌّ، وأخَوان وأُخْتان لأمٍّ، وأخَوان وثَلاثُ أخَواتٍ لأبٍ وأمٍّ، مِن اثْنَى عَشَرَ، ومَن شَرَّكَ فمِن أرْبَعَةٍ وخَمْسِين. 2812 - مسألة: (ولو كان مَكانَهم أخَواتٌ لأبوين أو لأبٍ عالتْ إلى عشرةٍ، وسُمِّيَت ذاتَ الفُرُوخِ) يعني إذا كان معَ الزَّوْجِ والأمِّ والإخْوَةِ مِن الأمِّ أخَواتٌ أو أُخْتان لأبَوَين أو لأبٍ، عالت إلى عَشرَةٍ؛ لأنَّ أصْلَها مِن سِتَّةٍ؛ للزَّوجِ النِّصْف ثلاثَةٌ، وللأمِّ السُّدْسُ سهمٌ، وللإِخْوَةِ للأمِّ الثُّلُثُ سَهْمان، وللأخَواتِ الثُّلُثَان أرْبَعَةٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتصيرُ عَشرَةً. وسُمِّيَت ذاتَ الفُرُوخِ؛ لأنَّها عالتْ بثُلُثَيها، وهي أكثرُ ما تَعُولُ إليه الفَرائِضُ، شُبِّهَتِ الأربعةُ الزائدةُ بالفُرُوخِ والستَّةُ بالأم. وتُسمَّى الشُّرَيحِيَّةَ؛ لأنَّ رجلًا أتى شُرَيحًا وهو قاضٍ بالبصرةِ، فقال له: ما نَصِيبُ الزَّوْجِ مِن زَوْجَتِه؟ فقال: النِّصف معَ غيرِ الولدِ، والرُّبْعُ مع الولدِ. فقال: إنَّ امْرَأتي ماتَت وخَلَّفَتْنِي وأُمَّها وأُخْتَيها لأمِّها وأُخْتَيها لأبيها وأمِّها. فقال: لك إذًا ثَلاثةٌ مِن عَشَرَةٍ. فخَرَج الرجُلُ مِن عندِه وهو يقولُ: لم أرَ كقاضيكم، قُلْتُ له: ما نَصيبُ الزَّوْجِ؟ قال: النِّصفُ أو الرُّبْعُ. فلمّا شَرَحْتُ له قَضِيَّتي لم يُعْطِني ذلك ولا هذا. فكان شُريحٌ يقولُ إذا لَقِيَه: إنَّكَ تَراني حاكِمًا ظالمًا، وأراكَ فاسِقًا فاجِرًا؛ لأنَّك تَكْتُمُ القِصَّةَ وتُشِيعُ الفاحِشَةَ. فصل: ومَعنى العَوْلِ ازْدحامُ الفَرائِضِ بحيثُ لا يَتَّسِعُ لها المالُ، كهذه المَسْألَةِ، فيَدْخُلُ النَّقْصُ عليهم كُلِّهم، ويُقْسَمُ المال بينَهم على قَدْرِ فُروضِهم، يُقْسَمُ مالُ المُفْلِسِ بينَ غرَمائِه بالحِصَصِ؛ لِضيقِ مالِه عن وَفائهِم، ومالُ المَيِّتِ بينَ أرْبابِ الدُّيُونِ إذا لم يَفِ بها، والثُّلُثُ بينَ أرْبابِ الوَصايَا إذا عَجَزَ. وهذا قَولُ عامَّةِ الصَّحابَةِ ومَن معَهم مِن العُلَماءِ، يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وعل، والعَباسِ، وابنِ مسعودٍ، وزيدٍ. وبه قال مَالِكٌ في أهلِ المدينَةِ، والثَّوْرِيُّ في أهلِ العِراقِ، والشافعيُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُه، [وإسحاقُ] (¬1)، ونُعَيمُ بنُ حَمّادٍ، وأبو ثَوْرٍ، وسائِرُ أهلِ العلمِ، إلَّا (¬2) ابنَ عباس وطائِفَةَ شَذَّتْ يَقِلُّ عَدَدُها. فنُقِلَ ذلك عن محمدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ، ومحمدِ بنِ عليِّ بنِ الحُسَينِ، وعَطاءٍ، وداوُدَ، فَإنَّهُم قالُوا: لا تَعُولُ المَسائِلُ. فرُوىَ عن ابنِ عَبَّاس أنَّه قال في زَوْجٍ وأُخْتٍ وأمٍّ: مَن شاءَ باهَلْتُه أنَّ المَسائِلَ لا تَعُولُ، إنَّ الذي أحصَى رَمْلَ عالِجٍ عَدَدًا أعْدَلُ مِن أن يَجعَلَ في مالٍ نِصفًا ونِصفًا وثُلُثًا، هذانِ نِصفانِ ذَهَبا بالمالِ، فأين مَوْضِعُ الثُّلُثِ! فسُمِّيتْ هذه مَسائِلَ المُباهَلَةِ لذلك، وهي أولُ مَسْألَةٍ عائِلَةٍ حَدَثَتْ في زَمَنِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، فجَمَعَ الصَّحابَةَ للمَشُورَةِ فيها، فقال العَبَّاسُ، رَضِيَ اللهُ عنه: أَرى أنْ تَقْسِمَ المال بَينَهم على قَدْرِ سِهامِهِم. فأخَذَ به عمرُ، واتَّبَعَه النَّاسُ على ذلك حتَّى خالفَهم ابنُ عباس، فرَوَى الزُّهْرِيّ عن عُبَيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، قال: لَقِيتُ زُفَرَ بنَ أوْسٍ الْبَصْرِيَّ، فقال: نَمْضِي إلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاس فنَتَحَدَّثُ عنده. فأتَيناه فتَحَدَّثْنَا عنده، فكان مِن حَدِيثه أنْ قال: سُبْحَان الذي أحْصَى رَمْلَ عالِج عَدَدًا ثُم يَجْعَلُ في مالٍ نِصفًا ونِصفًا وثُلُثًا، ذَهَب النِّصْفان بالمالِ فأينَ مَوضِعُ الثُّلُثِ! [وأيمُ الله] (¬3)، لو قَدَّمُوا مَن قَدَّمَه اللهُ وأخَّرُوا مَن أخَّرَه اللهُ ما عالتْ فَريضَة أَبدًا. فقال زُفَرُ: فمَنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «أن». (¬3) في م: «وثم والله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي قَدَّمَه اللهُ ومَن الذي أخَّرَه الله؟ فقال: الذي أهْبَطَه مِن فَرْض إلى فَرْض، فذلك الذي قَدَّمَه، والذي أهْبَطَه مِن فَرْض إلى ما بَقِيَ فذلك الذي أخَّرَه اللهُ. فقال زُفَرُ: فمَن أوَّلُ مَن أعال الفرائضَ؟ قال: عمرُ بنُ الخطّابِ. فقُلْتُ: ألا أشَرْتَ عليه؟ فقال: هِبْتُه وكان امرءًا مَهيبًا (¬1). قولُه: مَن أهْبَطَه الله مِن فريضةٍ إلى فريضةٍ، فذلك الذي قدّمَه اللهُ. يُريدُ أنَّ الزَّوْجَين والأمَّ لكلِّ واحدٍ منهم فرضٌ، ثمَّ يُحْجَبُ إلى فرضٍ آخرَ لا يَنقُصُ منه. وأمّا مَن أهْبَطَه مِن فرض إلى ما بَقِيَ، يُرِيدُ البناتِ والأخَواتِ، فإنَّهُنَّ يُفْرَضُ لهنَّ، فإذا كان معهنَّ إخْوَتُهُنَّ وَرِثُوا بالتَّعْصيبِ، فكان لهم ما بَقِيَ قَلَّ أوْ كَثُرَ، فكان مَذْهَبُه أنَّ الفُروضَ إذا ازْدَحَمَتْ رُدَّ النَّقْصُ على البَناتِ والأخَواتِ. ولَنا، أنَّ كلَّ واحِدٍ من هؤلاء لو انْفَرَدَ أخَذ فرضَه، فإذا ازْدَحَموا وَجَب أن يَقْتَسِمُوا على قَدْرِ الحُقوقِ، كأصحابِ الدُّيونِ والوَصايا، ولِأنَّ اللهَ تعالى فَرَض للأخْتِ النِّصْفَ، فَرَض للزَّوْجِ النِّصْفَ، وفَرَض للأخْتَين الثُّلُثَين، كما فَرَض للأخْتَين للأُم الثُّلُثَ، فلا يجوزُ إِستقاطُ فَرْضِ بَعضِهم مع نَصِّ اللهِ تعالى عليه بِالرأي والتَّحَكُّمِ، ولم يُمْكِنِ الوَفاءُ بها، فوَجَب أن يَتَساوَوْا في النَّقْص على قَدْرِ الحُقوقِ، كالوَصايا والدُّيونِ، ويَلْزَمُ ابنَ عباسٍ على قَوْلِه مَسْألةٌ فيها زَوْجٌ وأُمِّ وأخَوان مِن أُمٍّ، فإن حَجَب الأُمَّ إلى السُّدْسِ خالف مَذْهَبَه في حَجْبِ الأُمِّ بأقَلَّ مِن ثَلاثةٍ مِن الإخْوَةِ، وإنْ نَقَص الأخَوَين مِن الأُمِّ ردَّ النَّقْصَ على مَنْ لم ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور مختصرًا، في: السنن 1/ 44. وأخرجه بتمامه البيهقي، في السنن الكبرى 6/ 253. وإسناده حسن. انظر الإرواء 6/ 145، 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُهْبِطْهُ اللهُ مِن فَرْض إلى ما بَقِيَ، وإن أعال المَسْألَةَ رجَع إلى قولِ الجَماعَةِ وتَرَك مَذْهَبَه، ولا نَعْلَمُ اليومَ قائلًا بمَذْهَبِ ابنِ عباس، ولا نَعْلَمُ خِلافًا بين فُقَهاءِ العصرِ في القولِ بالعَوْلِ، بحَمْدِ اللهِ ومَنِّهِ. فصل: حَصَل خِلافُ ابنِ عباس للصحابَةِ في خَمْسِ مَسائِلَ اشْتَهَرَ قَوْلُه فيها؛ أحَدُها زَوْجٌ وأبوان. والثانيةُ، امْرَأةٌ وأبوان، للأمِّ ثُلُثُ الباقِي عندَهم، وجَعَل هو لها ثُلُثَ المالِ منها. الثالثةُ، لا يَحْجُبُ الأمَّ إلَّا بثَلاثةِ إخْوَةٍ. الرابعةُ، لم يَجْعَلِ الأخَواتِ مع البَناتِ عَصَبَةً. الخامسةُ، لم يُعِل المَسائِلَ. فهذه الخَمْسُ صَحَّتِ الرِّوايَةُ عنه فيها واشْتَهَرَ القَولُ عنه بها، وشَذَّتْ عنه رِواياتٌ سِوَى هذه ذَكَرْنا بَعْضَها فيما مَضَى.

باب أصول المسائل

بَابُ أُصُولِ الْمَسَائِل الْفُرُوضُ سِتَّةٌ، وَهِيَ نَوْعَانِ؛ نِصْفٌ، وَرُبْعٌ، وَثُمْنٌ، وَثُلُثَانِ، وَثُلُثٌ، وَسُدْسٌ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ سَبْعَةِ أُصُولٍ؛ أرْبَعَةٍ لَا تَعُولُ، وَثَلَاثَةٍ تَعُولُ، فَالَّتِي لَا تَعُولُ، هِيَ مَا كَانَ فِيهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ أوْ فَرْضَانِ مِنْ نَوْع وَاحِدٍ، فَالنِّصْفُ وَحْدَهُ مِنِ اثْنَينِ، وَالثُّلُثُ وَحْدَة أو مَعَ الثُّلُثَينِ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ وَالرُّبْعُ وَحْدَهُ أَو مَعَ النِّصْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب أُصُول السائل مَعْنَى أُصُولِ المَسَائلِ .. المَخارِجُ التي تَخْرُجُ منها فُرُوضُها. 2813 - مسألة: (الفُرُوضُ سِتَّةٌ) ذَكَرَها الله تعالى في كتابِه (وهي نَوْعَانِ؛ النِّصْفُ، والرُّبْعُ، والثُّمْنُ، وَالثُّلُثَان، وَالثُّلُثُ، والسُّدْسُ) ومَخارِجُ هذه الفروضِ مُفْرَدَةً خَمْسَةٌ؛ لأنَّ الثُّلُثَ والثُّلُثَين مَخْرَجُهما واحدٌ (وهي تَخْرُجُ مِن سَبْعَةِ أُصُولٍ؛ أرْبَعَةٌ لا تَعُولُ، وثَلاثَةٌ تَعُولُ) لأنَّ كلَّ مَسْألَةٍ فيها فرْضٌ مُفْرَدٌ فأصْلُها مِن مَخْرَجِه، وإنِ اجْتَمَع معه فَرْضٌ مِن نَوْعِه فأصْلُها مِن مَخْرَجِ أقَلِّهما؛ لأنَّ مَخْرَجَ الكَثيرِ داخِلٌ في مَخْرَجِ الصَّغيرِ (فالنِّصْفُ وَحدَه مِن اثْنَين، والثُّلُثُ وَحدَه أو مع الثُّلُثَين مِن ثَلاثةٍ، والرُّبْعُ وَحدَه أو مع النِّصْفِ مِن أرْبَعَةٍ، والثُّمْنُ وَحدَهُ أو مع

مِنْ أَربَعَةٍ، وَالثُّمْنُ وَحْدَهُ أو مَعَ النِّصْفِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. فَهَذِهِ الَّتِي لَا تَعُولُ. وَأَما الَّتِي تَعُولُ، فَهِيَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا فُرُوضٌ أو فَرْضَانِ مِنْ نَوْعَينِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ النِّصْفِ سُدْسٌ أو ثُلُثٌ، أَوْ ثُلُثَانِ فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ، وَلَا تَعُولُ إِلَى أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصْفِ من ثَمانِيَةٍ. فهذه التي لا تَعُولُ) لأنَّ العولَ فَرْعُ ازْدِحَامِ الفُرُوضِ، ولا يُوجَدُ ذلك ههُنا. (وأمّا التي تَعُولُ، فهي التي يَجْتَمِعُ فيها فُرُوضٌ أو فرْضان من نَوْعَينِ، فإذا اجْتَمَعَ مع النِّصْفِ السُّدْسُ أو الثُّلُثُ أو الثُّلُثان فأَصْلُها مِن سِتَّةٍ) لأنَّ مَخْرَجَ النِّصْفِ مِن اثْنَين، ومَخْرَجَ الثُّلُثِ مِن ثَلاثَةٍ، إذا ضَرَبْتَ أحَدَهما في الآخَرِ كانت سِتَّةً، وذلك أصْلُ المَسألَةِ، وهي مَخْرَجُ السُّدْسِ، ويَدْخُلُ العَوْلُ في هذا الأصْلِ، (فتَعُولُ) إلى سَبْعَةٍ وإلى ثَمانِيَةٍ وإلى تِسْعَةٍ و (إلى عَشَرَةٍ) وهو أكثَرُها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَوْلًا. والْعَوْلُ زِيادةٌ في السِّهامِ ونُقْصانٌ في أنْصِباءِ الوَرَثَةِ. وأمْثِلَةُ ذلك؛ زَوْجٌ وأُمٌّ وأُخْتٌ لأمٍّ، أَصلُها مِن ستَّةٍ، ومنها تَصِحُّ. زوجٌ وأُمٌّ وأخوانِ من أُمٍّ، بِنْتٌ وأُمٌّ وعمٌّ، ثَلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ وعَصَبَةٌ، أبوانِ وابْنَتانِ، العَوْلُ زَوْجٌ وأُخْتَانِ لأبوَينِ أو لأبٍ أو إحْداهُما من أبَوينِ والأُخْرَى من أبٍ أو أمٍّ، أو أختٌ من أبِ وأختٌ مِن أُمٍّ، أصْلُها مِنْ سِتَّةٍ وتَعُولُ إلى سَبْعَةٍ. زوجٌ وأخت، وجَدًّةٌ أو أخٌ لأمٍّ، سِتُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ وأمٌّ. عَوْلُ ثمانيةٍ: زَوْجٌ وأُخْتٌ وأُمٌّ، للزَّوْجِ النِّصْفُ، وللأُخْتِ النِّصفُ، وللأمِّ الثُّلُثُ، تعولُ إلى ثمانيةٍ، وهي مَسْألةُ المُباهَلَةِ. فإن كان معهم أختٌ أُخْرَى من أيِّ جِهَةٍ كانت، أو أخٌ مِن أمٍّ، فهي من ثمانيةٍ أيضًا. عَولُ تِسْعةٍ: زوجٌ وسِتُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، تَعُولُ إلى تِسْعةٍ، وتُسَمَّى الغَرَّاءَ. وكذلِكَ زَوْجٌ وأُمٌّ وثَلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ. عَوْلُ عشَرَةٍ: زوجٌ وأمٌّ وستُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ؛ للزَّوْجِ النِّصْفُ، وللأُمِّ السُّدْسُ، وللأخْتَين للأمِّ الثُّلُثُ، وللأُخْتَين للأبَوَينِ الثُّلُثان، وَسَقَطَتِ الأُخْتان للأب. ومتى عالتِ المسألةُ إلى تسعةٍ أو عَشَرةٍ لم يكُنِ الميِّتُ إلَّا امرأةً؛ لأنَّها لَابدَّ فيها مِن زوجٍ، ولا يُمكِنُ أن تَعُولَ المسْألةُ إلى أكثرَ مِن هذا. وطريقُ العَمَلِ في العَوْلِ، أن تَأْخُذَ الفُرُوضَ مِن أصْلِ المسْألَةِ وتَضُمَّ بَعْضَها إلى بعضٍ، فما بَلَغَتِ السِّهامُ فإليه تَنْتَهِي.

2814 - مسألة؛ قال

وَإنِ اجْتَمَعَ مَعَ الرُّبْعِ أحَدُ الثَّلَاثَةِ فَهِيَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ عَلَى الإفْرَادِ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَلَا تَعُولُ إِلَى أكْثرَ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2814 - مسألة؛ قال (¬1): (وإنِ اجْتَمَعَ مع الرُّبْعِ أحَدُ الثلاثةِ فهي مِن اثْنَيْ عَشَرَ، وتَعُولُ عَلَى الإِفْرادِ إلى سَبْعَةَ عَشَرَ، ولا تَعُولُ إلى أكثَرَ مِن ذلك) إنَّما كانَ أصلُ هذه المسْألةِ مِن اثْنَيْ عَشَرَ؛ لأنَّ مَخْرَجَ الرُّبْعِ أربعةٌ ومَخْرَجَ الثُّلُثِ ثلاثةٌ، وَلَا مُوافَقَةَ بينَ المَخْرَجَين، فإذا ضَرَبْتَ أحدَهما في الآخرِ كان اثْنَيْ عَشَرَ، فإن كان مع الرُّبْعِ سُدْسٌ فبينَ السِّتَّةِ والأرْبَعَةِ مُوافَقَة بالأنْصافِ، فإذا ضَرَبْتَ وَفْقَ أحدِهما في الآخَرِ كان اثْنَيْ عَشَرَ، ولا بدَّ في هذا الأصلِ مِن أحدِ الزَّوْجَين؛ لأنَّه لا بُدَّ فيها مِن رُبْعٍ، ولا يكونُ فَرْضًا لغيرِهما. وأَمثِلَةُ ذلك؛ زَوْجٌ وأبوان وخمسةُ بَنِينَ، للزَّوْجِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ، وللأبَوَين السُّدْسان أرْبَعَةٌ، يَبْقَى خَمْسَةٌ لكلِّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2815 - مسألة: (وإن اجتمع مع الثمن سدس أو ثلثان، فأصلها

وَإنِ اجْتَمَعَ مَعَ الثُّمْنِ سُدْسٌ أوْ ثُلُثَانِ، فَأصْلُهَا مِنْ أرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنٍ سَهْمٌ. زَوْجٌ وابْنَتان وأُخْتٌ أو عَصَبَةٌ. امرَأَةٌ وأُخْتان لأَبوَين أو لأبٍ أو أُخْتان لأُمٍّ وعَصَبَةٌ. امرأةٌ وأخَوان لأمٍّ وسَبْعَةُ إخْوةٍ لأبٍ. العَوْلُ زَوْجٌ وابْنَتان وأمٌّ، تَعُولُ إلى ثلاثةَ عَشَرَ. امْرَأَةٌ وثلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقَاتٍ. زَوْجٌ وأبوان وابْنَتان. تعولُ إلى خمسة عَشرَ. امرأةٌ وأُختان مِن أبٍ وأختان مِن أمٍّ. امرَأَةٌ وأُمٌّ وأُخْتان لأبوين أو لأبٍ وأُخْتان لأُمٍّ. تَعُولُ إلى سَبْعَةَ عَشَرَ. ثَلاثُ نِسوَةٍ وجَدَّتان وأرْبَعُ أخواتٍ لأُمٍّ وثمانٍ لأبٍ أو لأبوين. تَعُولُ إلى سَبْعَةَ عَشَرَ، ويَحصُلُ لكلِّ واحدةٍ مِنهنَّ سَهْمٌ، وتُسَمَّى أمَّ الأرَامِلِ، ويُعَايىَ بها، فيقالُ: سبعَ عَشْرَةَ امرأة مِن جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ اقْتَسَمْنَ مال مَيِّتٍ بالسَّويَّةِ لكلِّ امْرَاة مِنهنَّ سَهْمٌ. وهي هذه، ولا يَعُولُ هذا الأصلُ إلَى أكثَرَ مِن هذا، ولا يُمْكِنُ أن يُكَمَّلَ هذا الأصْلُ بفُرُوض مِن غيرِ عَصَبَةٍ ولا عَوْلٍ، ولا يُمْكِنُ أن تَعُولَ إلَّا على الأفْرادِ؛ لأنَّ فيها فرْضًا يُباينُ سائرَ فُروضِها، وهو الرُّبْعُ، فإنَّه ثَلاثَةٌ وهو فردٌ، وسائِرُ فُرُوضِها أزْواجٌ، فالنِّصفْ سِتَّةٌ، والثُّلثُ أرْبَعَةٌ، والثُّلُثان ثَمانِيَةٌ، والسُّدْسُ اثْنان، ومتى عالت إلى سَبْعةَ عَشَرَ لم يَكُنِ الميِّتُ فيها إلَّا رَجُلًا. 2815 - مسألة: (وإنِ اجْتَمَعَ مع الثُّمْنِ سُدْسٌ أو ثُلُثان، فأصْلُها

وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَا تَعُولُ إِلَى أَكثَرَ مِنْهَا. وَتُسَمَّى، الْبَخِيلَةَ لِقِلَّةِ عَوْلِهَا، وَالْمِنْبَرِيَّةَ؛ لأنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سُئِلَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَال: صَارَ ثُمْنُهَا تُسْعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أرْبعةٍ وعِشْرِينَ، وَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وعِشْرِينَ، ولا تَعُولُ إلى أكْثَرَ منها) إنَّما كان أصْلُها مِن أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ؛ لأنَّكَ تَضْرِبُ مَخْرَجَ الثُّمْنِ في مَخْرَجِ الثُّلُثَين، أو في وَفْقِ مَخْرَجِ السُّدْسِ، فتكونُ أربعةً وعِشْرِينَ. ولَم يَذْكُرِ الثَّلُثَ مع الثُّمْنِ؛ لأنَّه لا يَجْتَمِعُ معه؛ لأنَّ الثُّمْنَ لا يكونُ إلَّا للزَّوْجَةِ مع الوَلَدِ، ولا يَكُونُ الثُّلُثُ في مَسْألَةٍ فيها وَلَدٌ؛ لأنَّه لا يَكُونُ إلَّا لولَدِ الّأُمِّ، والولَدُ يُسْقطُهم، أو للأُمِّ بشَرْطِ عَدَم الوَلَدِ. مَسائِلُ ذلك: امْرأةٌ وأبَوانِ (¬1) وبِنْتٌ. أو بَنُونَ وبَنَاتٌ. امْرَأَةٌ وابْنَتان وأمٌّ وعَصَبَةٌ. ثلاثُ نِسْوَةٍ وأرْبَعُ جدّاتٍ وسِتَّ عَشْرَةَ بِنْتًا وأُخْتٌ. امْرَأةٌ وبِنْتٌ وبِنْتُ ابْنٍ وجَدَّةٌ وعَمٌّ. العَوْلُ امْرأَةٌ وأبَوان وابْنَتان. تَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وعِشْرِينَ. (وَتُسَمَّى الْبَخِيلَةَ) لأنَّها أقَلُّ الأُصُولِ عَوْلًا، لمْ تَعُلْ إلَّا بِثُمْنِها (و) تُسَمَّى (المِنْبَرِيَّةَ؛ لأنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، سُئِلَ عنها على الْمِنْبَرِ، فقال: صار ثُمْنُها تُسْعًا) ومَضَى في خُطْبَتِه. يَعْنِي أنَّ المَرْأةَ كان لها الثُّمْنُ، ¬

(¬1) بعده في المغني 9/ 38: «وابن أو ابنان».

فَصْلٌ: وَإذَا لَمْ تَسْتَوْعِبِ الْفُرُوضُ الْمَال، وَلَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ، رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى ذَوي الْفُروضِ بِقَدْرِ فُرُوضِهِمْ، إلا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثَةٌ مِن أربعةٍ وعِشْرِينَ، صار لها بالعَوْلِ ثلاثةٌ مِن سَبْعَةٍ وعِشرِينَ، وهي التُّسْعُ. ولا يكُونُ الْمَيِّتُ في هذا الأصْلِ إلا رجلًا. فصل: ولا يُمْكِن أن يَعُولَ هذا الأصْلُ إلى أكْثَرَ مِن هذا، إلَّا على قولِ ابنِ مسعودٍ، فإنَّه يَحْجُبُ الزَّوْجَين بالوَلَدِ الكافِرِ والقاتِلِ والرَّقيقِ ولا يُوَرِّثُه. فعلى قَوْلِه، إذا كانتِ امْرَأةٌ وأُمٌّ وسِتُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ ووَلَدٌ كافِرٌ، فللأخَواتِ الثُّلُثُ والثُّلُثان، وللأُمِّ والمرأَة السُّدْسُ والثُّمْنُ سَبْعَةٌ، فتَعُولُ إلى أحَدٍ وثَلاثينَ. والمسائلُ على ثلاثةِ أَضْرُبٍ؛ عادِلَةٌ، وعائِلَةٌ، ورَدٌّ. ذَكَرْنا العادِلَةَ، وهي التي يَسْتَوِي مالُها وفُروضُها. والعائلَةُ هي التي تَزيدُ فُروضُها عن مالِها. والرَّدُّ هي التي يَفْضُلُ مالُها عن فروضِها ولا عَصَبةَ فيها. وهي التي نَذْكُرُها في هذا الفصلِ. فصلٌ في الرَّدِّ: (إذا لم تَسْتَوْعِبِ الفُرُوضُ المال ولم يَكُنْ عَصَبَةٌ، رُدَّ الفاضِلُ على ذَوي الفُرُوضِ بقَدْرِ فُرُوضِهم، إلَّا الزَّوْجَ والزَّوْجَةَ) وجملةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّ الميِّتَ إذا لم يُخَلِّفْ وارِثًا إلَّا ذَوي فرُوضٍ؛ كالبَناتِ، والأخَواتِ، والجَدّاتِ، فإنَّ الفاضِلَ عن ذَوي الفُرُوضِ يُرَدُّ عليهم على قَدْرِ فُرُوضِهم، إلَّا الزَّوْجَ والزَّوْجةَ. يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رضيَ اللهُ عنهم. وحُكِيَ ذلك عن الحسنِ، وابنِ سيرينَ، وشُرَيحٍ، وعطاءٍ، ومجاهدٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابِه. قال ابنُ سُراقَةَ: وعليه العملُ اليومَ في الأمصارِ، إلَّا أنَّه يُرْوَى عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كان لا يَرُدُّ على بِنْتِ ابنٍ مع بِنْتٍ، ولا على أُخْتٍ مِن أبٍ مع أُخْتٍ مِن أبَوين، ولا على جدَّةٍ مع ذي سَهْمٍ (¬1). وروى ابنُ منصورٍ عن أحمدَ، أنَّه كان لا يردُّ على ولدِ الأُمِّ مع الأُمِّ، ولا على الجَدَّةِ مع ذي سَهْمٍ. والقولُ الأولُ أظْهَرُ في المذهبِ وأصحُّ، وبه قال عامَّةُ أهلِ الرَّدِّ؛ لأنَّهم تساوَوْا في السِّهامِ فيَجِبُ أن يَتَساوَوْا فيما يَتَفَرَّعُ عليها، ولأنَّ الفَرِيضةَ لو عالت لدَخَل النَّقصُ على الجميعِ، فالرَّدُّ يَنْبَغِي أن يَنالهم أيضًا، وأمّا الزَّوْجانِ، فلا يُرَدُّ عليهما باتِّفاقٍ مِن أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّه يُروَى عن عثمانَ، رَضِي الله عنه، أنَّه رَدَّ على زَوْجٍ. ولعله كان عَصَبَةً أو ذا رَحِمٍ فأعْطاه لذلك، أو (¬2) أعْطاه مِن بيتِ المالِ لا على سبيلِ الرَّدِّ، وسَبَبُ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في: باب في الرد واختلافهم فيه، من كتاب الفرائض. المصنف 11/ 277، 278. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، إن شاء الله تعالى، أنَّ أهلَ الرَّدِّ كلَّهم مِن ذَوي الأرْحامِ، فيَدْخُلُون في قولِه تَعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). والزَّوْجان خارِجان مِن ذلك. وذَهَب زيدُ بنُ ثابتٍ إلى أنَّ الفاضِلَ عن ذَوي الفُرُوضِ لبيتِ المالِ، ولا يُرَدُّ على أحدٍ فوقَ فَرْضِه. وبه قال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى قال في الأخْتِ: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}. ومَن رَدَّ عليها جَعَل لها الكُلَّ، ولأنَّها ذاتُ فَرْضٍ مُسَمَّى، فلا تزادُ عليه (¬2) كالزَّوْجِ. ولَنا، قولُ اللهِ تَعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. وقد تَرَجَّحُوا بالقُربِ إلى الميِّتِ، فيَكُونُون أوْلى مِن بيتِ المالِ؛ لأنَّه لسائرِ المسْلِمين، وذَوُو الرَّحِمِ أحَقُّ مِن الأجانبِ عملًا بالنصِّ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِه، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإلَيَّ». وفي لفظٍ: «مَنْ تَرَكَ دَينًا فَإلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وهذا عامٌّ في جميعِ المالِ. ورَوَى واثلةُ بنُ الأسْقَعِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَحُوزُ ¬

(¬1) سورة الأنفال 75، سورة الأحزاب 6. (¬2) في الأصل: «عليها». (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 188.

2816 - مسألة: (فإن كان المردود عليه واحدا أخذ المال كله)

فَإن كَانَ الْمَرْدُودُ علَيهِ وَاحِدًا أخَذَ الْمَال كُلَّهُ، وَإنْ كَانَ فَرِيقًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ كَبَنَاتٍ أوْ أخَوَاتٍ، اقْتَسَمُوهُ كَالْعَصَبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَرْأةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ؛ لَقِيطَهَا، وعَتِيقَهَا، وَوَلَدَها الذي [لاعنَتْ عليه] (¬1)». رَواه ابنُ ماجه. فجَعَلَ لها ميِراثَ وَلدِها المنفيِّ باللِّعانِ، خَرَج مِن ذلك مِيراثُ غيرِها مِن ذَوي الفُرُوضِ بالإِجماعِ، بَقِيَ الباقي على مُقْتَضى العمومِ، ولأنَّها مِن وُرَّاثِه بالرَّحمِ، فكانَت أحَقَّ بالمالِ مِن بيتِ المالِ، كعَصَبَاتِه. فأمّا قولُه تعالى: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}. فلا يَنْفِي أن يكونَ لها زيادةٌ عليه بسَبَبٍ آخرَ، كقولِه تَعالى: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (¬2). لا يَنْفِي أن يَكُونَ للأبِ السُّدْسُ، وما فَضَل عن البنتِ بجهةِ التَّعْصِيب، وقولُه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬3). لم يَنْفِ أن يَكُونَ للزَّوْجِ ما فَضَل إذا كان ابنَ عمٍّ أو مولًى، وكذلك الأخٌ مِن الأمِّ إذا كان ابنَ عمٍّ، والبنتُ وغيرُها مِن ذَوي الفُرُوضِ إذا كانَت مُعْتِقَةً، كذا ههُنا تَسْتَحِقُّ النِّصفَ بالفرضَ، والباقيَ بالرَّدِّ، وأمّا الزَّوْجان فليسا مِن ذَوي الأرْحامَ. 2816 - مسألة: (فإن كان المَرْدودُ عليه واحدًا أخَذ المال كلَّه) بالفَرْضِ والرَّدِّ؛ كأمٍّ، أو جدَّةٍ، أو بِنْتٍ، أو أُخْتٍ (وإن كانُوا جماعةً مِن جنسٍ واحدٍ؛ كبناتٍ أو أخَواتٍ) أو جداتٍ (اقتسموه كالعَصَبَةِ) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. والحديث تقدم تخريجه 16/ 310. (¬2) سورة النساء 11. (¬3) سورة النساء 12.

2817 - مسألة: (وإن اختلفت أجناسهم، فخذ عدد سهامهم من أصل ستة، فاجعله أصل مسألتهم)

وَإنِ اخْتَلَفَتْ أجْنَاسُهُمْ، فَخُذْ عَدَدَ سِهَامِهِمْ مِنْ أصْلِ سِتَّةٍ، وَاجْعَلْهُ أصْلَ مَسْأَلتِهِمْ. فَإِنْ كَانَا سُدْسَينِ، كَجَدَّةٍ، وَأخٍ مِنْ أُمٍّ، فَهِيَ مِنِ اثْنَينِ، وَإنْ كَانَ مَكَانَ الْجَدَّةِ أُمٌّ، فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإنْ كَانَ مَكَانَهَا أُخْتٌ لِأبَوَينِ فَهِيَ مِنْ أرْبَعَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا أُخْتٌ لِأَبٍ فَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَلَا تَزِيدُ عَلى هَذا ابَدًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ زَادَتْ سُدْسًا آخَرَ لَكَمَلَ الْمَالُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن البَنِينَ والإِخْوةِ وسائرِ العَصَبَاتِ، فإنِ انْكَسَرَ عليهم، ضَرَبْتَ عَدَدَهم في مسألةِ الرَّدِّ. 2817 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَتْ أجْناسُهم، فخُذْ عَدَدَ سِهامِهم مِن أصْلِ ستةٍ، فاجْعَلْه أصلَ مسألَتِهم) إنَّما كان كذلك؛ لأنَّ الفُرُوضَ كلَّها تَخْرُجُ مِن أصْلِ الستَّةِ إلا الرُّبْعَ والثُّمْنَ، وليسا لغيرِ الزَّوْجَين، وليسا مِن أهلِ الرَّدِّ، ويَنْحَصِرُ ذلك في أربعةِ أصولٍ؛ أحدُها، أصلُ اثْنَين؛ كجدَّةٍ وأخٍ مِن أمٍّ، للجدَّةِ السُّدْسُ، وللأخِ السُّدْسُ، أصلُها اثْنان، ثم يُقْسَمُ المالُ عليهما، فيَصِيرُ لكلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ المالِ. أصلُ ثلاثةٍ: أُمٌّ وأخٌ مِن أُمٍّ، أُمٌّ وأخَوانِ لأمٍّ، للأمِّ السُّدْسُ، وللأخَوَين الثُّلُثُ بينَهما. أصلُ أربعةٍ: أُخْتٌ لأبَوَين وأُخْتٌ لأبٍ أو لأمٍّ، أو أخٌ لأمٍّ، أو جدَّةٌ. بنتٌ، وأمٌّ أو جدَّةٌ. بِنْتٌ وبِنْتُ ابنٍ. أصلُ خمسةٍ: ثَلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، للأُخْتِ للأبَوَين النِّصفُ، ولكلِّ واحدةٍ مِن الأُخْرَيَين السُّدْسُ. أمٌّ وأُخْتٌ لأبوَين أو لأبٍ. أمٌّ وأُخْتٌ لأبَوَين وأُخْتٌ لأبٍ

2818 - مسألة: (فإن انكسر على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم؛ لأنه أصل مسألتهم)

فَإِنِ انكَسَرَ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ ضَرَبْتَهُ في عَدَدِ سِهَامِهِمْ. لِأَنَّهُ أَصْلُ مَسْأَلتِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لأمٍّ. بِنْتَان وجدَّةٌ (لا تَزِيدُ على هذا أبدًا، لأنَّها لو زادَت سُدْسًا آخَرَ لكَمَلَ المالُ) ولم يَبْقَ مِنه شيءٌ يُرَدٌّ. 2818 - مسألة: (فإنِ انْكَسَرَ على فريقٍ مِنهم ضَرَبْتَه في عَدَدِ سِهامِهم؛ لأنَّه أصلُ مسألتِهم) وإنَّما كان عَدَدُ سِهامِهم أصلَ مَسْألتِهم، كما صارَتِ السِّهامُ في العَوْلِ هي المسألةُ التي يُضْرَبُ فيها العَدَدُ، بيانُ ذلك في أصلِ اثنَين: أربعُ جَدّاتٍ وأخٌ مِن أمٍّ، للجَدّاتِ سَهْمٌ، لا يَنْقَسِمُ عليهنَّ، فَتَضْرِبُ عَدَدَهُنَّ في أصلِ المسألةِ تَكُنْ ثمانيةً، للأخِ مِن الأمّ أربعة، ولكلِّ واحدةٍ مِن الجَدّاتِ سَهْمٌ. أصلُ ثلاثةٍ: أُمٌّ وثَلاثةُ إخوةٍ مِن أمٍّ، للإخْوَةِ سَهْمان، لا تصحُّ عليهما، اضْرِبْ عَدَدَهم في أصلِ المسألةِ تَصِرْ تِسْعَةً، ومنها تصحُّ. أصلُ أربعةٍ: أُخْتٌ لأبَوَين وأربعُ أخَواتٍ لأبٍ، تَضْرِبُ عَدَدَهُنَّ في أصلِ المسألةِ، وهو أربعةٌ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، ومنها تصحُّ. أصلُ خمسةٍ: أُمٌّ وأُخْتٌ لأبَوَين وأربعُ أخَواتٍ لأبٍ، لهُنَّ سَهْمٌ، لا يصحُّ عليهِنَّ، تَضْرِبُ عَدَدَهُنَّ في خمسةٍ تَكُنْ عشرين، ومنها تصحُّ. [وسنذكرُ ذلك] (¬1) في بابِ تَصْحيحِ المَسائِلِ مُفَصَّلًا. ¬

(¬1) في م: «وسنذكره».

2819 - مسألة: (فإن كان معهم أحد الزوجين أعطيته فرضه من أصل مسألته، وقسمت الباقي على مسألة الرد)

فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَحَدُ الزَّوْجَينِ فَأَعطِهِ فَرْضَهُ مِنْ أَصْلٍ مَسْأَلتِهِ، وَاقْسِمِ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الرَّدِّ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِذَا كَانتْ زَوْجَةٌ وَمَسْأَلةُ الرَّدِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ وَالْبَاقِي لَهُمْ، وَتَصِيرُ المَسْأَلة مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَفِي غيرِ هَذا تضْرِبُ مَسْأَلة الرّدِّ في مَسْأَلةِ الزَّوْجِ، فَمَا بَلَغَ فَإِلَيهِ تَنْتَقِلُ الْمَسْأَلةُ، فَإِذَا كَانَ زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَأخٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2819 - مسألة: (فإن كان معهم أحدُ الزَّوْجَين أعْطَيته فَرْضَه مِن أصلِ مَسْألَتِه، وَقَسَمْتَ الباقيَ على مَسْألَةِ الرَّدِّ) وهي فَرِيضَةُ أهلِ الرَّدِّ (وهو يَنقَسِمُ إذا كانَت زَوْجَةٌ ومَسْألَةُ الرَّدِّ مِن ثَلاثَةٍ) كامرأةٍ وأمٍّ وأخٍ لأمٍّ، أو أُمٍّ وأخَوَين لأُمٍّ، فللمرأةِ الرُّبْعُ سَهْمٌ مِن أربعةٍ، يَبْقَى ثَلاثَةٌ على فرِيضَةِ أهْلِ الرَّدِّ، وهي ثَلاثةٌ، وتَصِحُّ المَسْألَتانِ مِن أرْبَعَةٍ، فإنِ انْكَسَر على عَدَدٍ منْهم، كأرْبَعِ زَوجاتٍ وأمٍّ وأخٍ لأمٍّ، ضَرَبْتَ أربعةً في مَسْألَةِ الزَّوْجَةِ تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، ومنها تَصِحُّ، فإن لمْ تَنْقَسِمْ، فأصْلُ مَسْألَةِ الزَّوْجِ على مَسْألَةِ الرَّدِّ لم يُمْكِنْ أن يُوافِقَها؛ لأنَّه إن كانت مَسْألَةُ الزَّوْجِ مِن اثْنَين فالباقِي بعدَ نَصِيبِه سَهْمٌ لا يُوافِقُ شيئًا، وإنْ كانت مِن أربعةٍ فالباقِي بعدَ ميراثِه ثَلاثَةٌ، ومِن ضَرورَةِ كَوْنِ للزَّوْجِ الرُّبعُ أن يَكونَ للمَيِّتةِ وَلَدٌ، ولا يُمْكِنُ أن تَكونَ مَسألَةُ الرَّدِّ مع الوَلَدِ مِن ثَلاثةٍ، وإن كان الزَّوْجُ امْرَأةً فالباقِي بعدَ الثُّمْنِ سَبْعَة، ولا تُوافِقُ السَّبْعَةُ عَدَدًا أقلَّ منها. ولا يُمْكِنُ أنْ تَكونَ مَسألَةُ الرَّدِّ سَبْعَةً أبدًا؛ لأنَّ مَسألَةَ الرَّدِّ لَا تَزيدُ على خَمْسَةٍ أبدًا. إذا ثَبَت هذا، فاضْرِبْ فَريضَةَ أهْلِ الرَّدِّ

مِنْ أُمٍّ، فَمَسْأَلةُ الزَّوْجِ مِنِ اثْنَينِ، وَمَسْالةُ الرَّدِّ مِنِ اثْنَينِ، تَضْرِبُ إحْدَاهُمَا في الأخْرَى تَكُنْ أرْبَعَةً، وَإنْ كَانَ مَكَانَ الزَّوْجِ زَوْجَةٌ ضَرَبْتَ مَسْأَلةَ الرَّدِّ في أرْبَعَةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةً، وَإنْ كَانَ مَكَانَ الْجَدَّةِ أُخْتٌ لأبَوَينِ انْتَقَلَتْ إلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجَةِ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ انْتَقَلَتْ إلَى اثْنَينِ وَثَلَاثِينَ، وإِنْ كَانَ مَعَهُمْ جَدَّةٌ صَارَتْ مِنْ أَربَعِينَ، ثُمَّ تُصَحِّحُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في فَريضَةِ أَحَدِ الزَّوْجَينِ، فما بَلَغ فإليه تَنْتَقِلُ المَسألَةُ، فإذا أرَدْتَ القِسْمَةَ، فلأحدِ الزَّوْجَين فَريضَةُ الرَّدِّ، ولكلِّ واحدٍ مِن أهلِ الرَّدِّ سِهامُه مِن مَسْألَتِه مَضْروبٌ في الفاضِلٍ عن فَريضَةِ الزَّوْجِ، فما بَلَغ فهو له إن كان واحدًا، وإن كانوا جَماعَةً قَسَمْتَه علَيهم، فإن لم يَنْقَسِمْ ضَرَبْتَه أو وَفْقَه (¬1) فيما انْتَقَلَتْ إليه المَسْألةُ، وتُصَحِّحُ على ما نَذْكُرُه في بابِ التَّصْحِيحِ. ويَنْحَصِرُ ذلك في خَمْسَةِ أُصولٍ، أحدُها، زَوْجٌ وجدَّةٌ وأخٌ لأُمٍّ، للزَّوْجِ النِّصْفُ، أصلُها مِن اثْنَين، له سَهْمٌ، يَبقَى سَهْمٌ على مَسأَلَةِ الرَّدِّ، وهي اثْنان أيضًا، فاضْرِبِ اثْنَين في اثْنَين تَكُنْ أربعةً، ولا يَقَعُ الكَسْر في هذا الأصلِ إلَّا على حَيِّزٍ واحِدٍ، وهو الجَدَّاتُ. الأصلُ الثانِي، زَوْجَةٌ وجدةٌ وأخ لأم، مَسألَةُ الزَّوْجَةِ مِن أربعةٍ، ثم تَنْتَقِلُ إلى ثمانيةٍ، ولا يَكُونُ ¬

(¬1) في م: «وفقته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَسْرُ إلَّا على الجداتِ أيضًا. الأصلُ الثالثُ، زَوْجٌ وبِنْتٌ وبِنْتُ ابْنٍ، مَسألَةُ الزَّوْجِ مِن أربعةٍ، ثم تَنْتَقِلُ إلى سِتَّةَ عَشَرَ، وكذلك زَوْجَةٌ وأُخْتٌ لأبوين وأخْت لأب، أو أُخْتٌ لأمٍّ، أو جَدَّةٌ، أو جَداتٌ، ومِثْلُهَا زَوْجَةٌ وأخْتٌ لأبٍ وأُخْت لأُمٍّ أو جَدةٌ. الأصْلُ الرَّابعُ، زَوْجَةٌ وبِنْتٌ وبِنْتُ ابْنٍ، أو أُمٌّ، أو جَدَّةٌ، مَسْألَةُ الزَّوْجَةِ مِن ثمانيةٍ، ثم تَنْتَقِلُ إلى اثْنَين وثَلاثين. الأصلُ الخامِسُ، زَوْجَةٌ وبِنْتٌ وبِنْتُ ابْنٍ وجَدَّةٌ، أو ابنتانِ وأُمٌّ، أصلُها مِن ثمانيةٍ، ثم تَنْتَقِلُ إلى أرْبَعِين. وفي جميعِ ذلك إذا انْكَسَرَتْ سِهامُ فَريقٍ منهم عليهم ضَرَبْتَه فيما انْتَقَلَتْ إليه المَسْألةُ. ومِثالُ ذلك، أرْبعُ زَوْجاتٍ وإحْدَى وعِشرُونَ بِنْتًا وأرْبَعَ عَشْرَةَ جَدَّةً، مَسْألَةُ الزَّوْجاتِ مِن ثمانيةٍ، فَتَضْرِبُ فيها فَريضَةَ الرَّدِّ وهي خَمْسَةٌ تَكُنْ أرْبَعِين، للزَّوْجاتِ فَريضَةُ أهل الرَّدِّ خَمْسَةٌ، لا تَصِحُّ عليهنَّ ولا تُوافِقُ، يَبْقَى خَمْسَة وثَلاُثون، للجداتِ خُمْسُها سَبْعَةٌ، على أربعَ عَشْرَةَ، تُوافِقُ بالأسْبَاعِ، فرَجَعْنَ إلى اثْنَين، ويَبْقَى للبَناتِ ثَمانِيَة وعِشْرونَ، تُوافِقُ بالأسْباعِ أيضًا، فَيَرْجعْنَ إلى ثلاثٍ، والابنَتان يَدْخُلْنَ في عَدَدِ الزَّوْجاتِ، فتَضْرِبُ ثَلاثةً في أرْبَعَةٍ تَكُن اثْنَيْ عَشَرَ، ثم في أرْبَعِين تَكُنْ أرْبَعَمَائةٍ وثَمانِين. فصل: ومتى كان مع أحدِ الزَّوْجَين واحدٌ مُنْفَرِدٌ مِمَّن يُرَدُّ عليه، فإنَّه يأخُذُ الفاضلَ عن الزَّوْجِ، [كأنه عَصَبَةٌ] (¬1)، ولا تَنْتَقِلُ المَسْألَةُ؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كزَوْجَةٍ وبِنْتٍ، للزَّوْجَةِ الثُّمْنُ والباقِي للبنْتِ بالفَرْضِ والرَّدِّ. [وإن كان معه فَرِيقٌ واحِدٌ مِن أهلِ الرَّدِّ، كالْبَنَاتِ أَو الأخَواتِ، قَسَمْتَ الفاضلَ عليهم، كالعَصَبَةِ، فإنِ انْكَسَرَ عليهم ضَرَبْتَ عَدَدَهم في مَسْألَةِ الزَّوْجِ] (1). واللهُ أعلمُ.

باب تصحيح المسائل

بَابُ تَصْحِيحِ الْمسَائِلِ إِذَا لَمْ يَنْقَسِمْ سَهْمُ فَرِيقٍ عَلَيهِمْ قِسْمَةً صَحِيحَةً، فَاضْرِبْ عَدَدَهُمْ في أصْلِ الْمَسْأَلةِ وَعَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، ثُمَّ يَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقِ مِثْلُ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِمْ، إلا أنْ يُوَافِقَ عَدَدُهُمْ سِهَامَهُمْ بِنِصْفٍ أوْ ثُلُثٍ أوْ غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الْأجْزَاءِ، فَيُجْزِئُكَ ضَرْبُ وَفْقِ عَدَدِهِمْ، ثُمَّ يَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَفْقُ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ تصحِيحِ المسائل (إذا لم يَنْقَسِمْ سَهْمُ فريقٍ مِن الوَرَثَةِ عَلَيهم قِسْمَةً صَحيحَةً، فاضْرِبْ عَدَدَهم في أصلِ المَسْألَةِ وعَوْلِها إن كانَت عائلَةً، ثم يَصيرُ لكلِّ واحدٍ مِن الفَريقِ مثلُ ما كان لجَماعَتِهم، إلَّا أن يُوافِقَ عَدَدُهم سِهامَهم بنِصْفٍ أو ثُلُثٍ أو غيرِ ذلك مِن الأجْزاءِ، فيُجْزِئُك ضَرْبُ وَفْقِ عَدَدِهم) في أصلِ المسْألَةِ وعَوْلِها إن كانت عائِلَةً، فما بَلَغ فمِنه تَصِحُّ (ثم يَصِيرُ لكلِّ واحدٍ) مِن الفَريقِ (وَفْقُ ما كان لجَماعَتِهم. فإذا أرَدْتَ القِسْمَةَ فكلُّ مَن له شيءٌ مِن أَصلِ المَسْألَةِ مَضْروبٌ في العَدَدِ الذي ضَرَبْتَهُ في المسألَةِ) وهو الذي يُسَمَّى جُزْءَ السَّهْمِ (فما بَلَغ فهو له إن كان واحدًا، وإن كانوا جماعةً قَسَمْتَه عليهم) مِثالُه، زَوْجٌ وأُمٌّ وثلاثةُ إخوَةٍ، أصْلُها مِن سِتَّةٍ؛ للزَّوْجِ

2820 - مسألة: (وإن انكسر على فريقين أو أكثر)

وَإنِ انْكَسَرَ عَلَى فَرِيقَينِ أو أَكثَرَ وَكَانَتْ مُتَمَاثِلَةً كَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ اجْتَزَأْتَ بِأَحَدِهَا، وَإنْ كَانتْ مُتَنَاسِبَةً -وَهُوَ أَنْ تَنْسِبَ الأَقلَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصْفُ ثَلاثَةٌ، وللأمِّ السُّدْسُ سَهْمٌ، يَبْقَى للإخْوَةِ سَهْمان، لا تَنْقَسِمُ عليهم ولا تُوافِقُهم، فاضْرِبْ عَدَدَهم وهو ثَلاثةٌ، في أصْلِ المَسْألَةِ وهو سِتَّةٌ، تَكُنْ ثَمانيةَ عَشَرَ سَهْمًا، للزَّوْجِ ثَلاثَةٌ في ثَلاثَةٍ تِسعَةٌ، وللأُمِّ سَهْمٌ في ثلاثةٍ ثلاثةٌ، وللإِخْوَةِ سَهْمان في ثلاثةٍ ستَّةٌ لكلِّ واحدٍ سَهْمان، وهو ما كانَ لجَماعَتِهم. فإن كان الإِخْوَةُ أربعةً فإنَّ سِهامَهم تُوافِقُهم بالنِّصْفِ، فتَضْرِبُ نِصْفَهم وهو اثْنان في المَسْألَةِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، فإذا أرَدْتَ القِسْمَةَ ضَرَبْتَ سِهامَ كُلِّ وارِثٍ في وَفْقِ عَدَدِهم، وهو اثْنانِ. 2820 - مسألة: (وإنِ انْكَسَرَ على فريقَين أو أكْثَرَ) لم يَخْلُ مِنْ أربعةِ أقْسام؛ أحَدُها، أن يَكونا مُتَماثِلَين، كثَلاثَةٍ وثَلاثَةٍ، فيُجْزِئُك ضَرْبُ أحدِهما في المسْألَةِ، وطَرِيقُ قِسْمَتِها مثلُ طَريقِ القِسْمَةِ فيما إذا كان الكسْرُ على فَرِيقٍ واحدٍ سَواءً. مِثالُه، ثَلاثَةُ إخْوةٍ لأُمٍّ وثَلاثَةٌ لأبٍ لولَدِ الأُمِّ الثُّلُثُ والباقي لولَدِ الأبِ، أصلُها مِن ثلاثةٍ، لولَدِ الأمِّ سَهْمٌ على ثلاثةٍ لا يَنْقَسِمُ، ولوَلَدِ الأبِ اثْنان على ثَلاثةٍ لا يَنْقَسِمُ ولا يُوافِقُ، فتَضْرِبُ أحدَ العَدَدَين وهو ثَلاثةٌ في أصْلِ المَسْألةِ تَكُنْ تِسْعَةً، لولَدِ الأمِّ سَهْمٌ في ثَلاثةٍ بثَلاثَةٍ لكلِّ واحِدٍ سَهْمٌ، ولولَدِ الأبِ اثنان في ثَلاثةٍ سِتَّةٌ لكل واحدٍ سَهْمان، مثلُ ما كان لجَماعَتِهم. ولو كان وَلَدُ الأبِ سِتَّةً وافَقْتَ سِهامَهم بالنِّصْفِ، فرَجَع عَدَدُهم إلى ثَلاثةٍ، وكان

إِلَى الْأكثَرِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، كَنِصْفِهِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ رُبْعِهِ- اجْتَزَأْتَ بأكثَرِهَا، وَضَرَبْتَهُ في الْمَسْأَلةِ وَعَوْلِهَا. وَإنْ كَانَت مُتَبَايِنَةً ضَرَبْتَ بَعْضَهَا في بَعضٍ، فَمَا بَلَغَ ضَرَبْتَهُ في الْمَسْأَلةِ وَعَوْلِهَا، وَإنْ كَانَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمَلُ فيها كما ذَكَرْنا سَواءً. القِسْمُ الثانِي، أن يكونَ العَدَدان مُتَناسِبَين، وهو أنْ يَنْتَسِبَ إلى الآخَرِ بجُزْءٍ مِن أجْزائِه كنِصْفِه أو ثُلُثِه أو نحو ذلك، فيُجْزِئُك ضَرْبُ الأكْثَرِ منها في المسْألَةِ وعَوْلِها. مثالُه جَدَّتان وأرْبَعَةُ إخْوَةٍ لأبٍ، للجَدَّتين السُّدْسُ، وللإِخْوَةِ ما بَقِيَ، أصلُها مِن سِتَّةٍ، وعَدَدُهم لا يُوافِقُ لِسهامَهم، وعَدَدُ الجَدَّاتِ نِصْفُ عَدَدِ الإِخْوَةِ، فاجتَزِئ بالأكْثَرِ وهو أرْبَعَةٌ واضْرِبْه في أصلِ المَسْألَةِ تَكُنْ أرْبَعَةً وعِشرينَ، للجَداتِ سَهْمٌ في أرْبعةٍ، وللإِخْوَةِ خَمْسَةٌ في أرْبَعَةٍ عِشرونَ (¬1)، لكلِّ واحدٍ خَمْسَةٌ. ولو كان عَدَدُ الإِخْوَةِ عِشرِينَ لوافَقَتْهم سِهامُهم بالأخماسِ، فيَرْجِعُ عَدَدُهم إلى أرْبَعَةٍ، والعَمَلُ على ما ذَكَرنا. القِسْمُ الثالِثُ، أن يكونَ العَدَدانِ مُتَبايِنَين لا يُماثِلُ أحدُهما صاحِبَه ولا يُناسِبُه ولا يُوافِقُه، فتَضْرِبُ أحدَهما في جميعِ الآخَرِ، فما بَلَغ فهو جُزْءُ ¬

(¬1) في م: «وعشرين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّهْمِ، فاضْرِبْه في المَسْألَةِ فما بَلَغ فمِنه تَصِحُّ، ثم كلُّ مَن له شيءٌ مِن أصلِ المَسْألَةِ مَضْرُوبٌ في جُزْءِ السَّهْمِ. مِثالُه، أُمٌّ وثلاثَةُ إخْوَةٍ لأُمٍّ وأرْبَعَةٌ لأبٍ، أصلُها مِن سِتَّةٍ، لولَدِ الأمِّ سَهْمان لا يُوافِقُهم، ولولَدِ الأبِ ثَلاثَةٌ لا تُوافِقُهم، والعَدَدان مُتَبايِنان، فاضْرِبْ أحدَهما في الآخرِ تَكُن اثْنَيْ عَشرَ، ثم في أصلِ المَسْألةِ تَكُنِ اثْنَين وسَبْعين، ومنها تَصِحُّ، للأمِّ سَهْمٌ في اثْنَيْ عَشَرَ، ولولَدِ الأمِّ سَهْمان في اثْنَيْ عَشَرَ أرْبَعَة وعِشرونَ، لكُلِّ واحدٍ ثمانيَةٌ، ولوَلد الأبِ ثلاثةٌ في اثْنَيْ عَشَرَ سِتَّةٌ وثَلاثونَ، لكلِّ واحدٍ تِسعَةٌ. [إِن وَافَقَ أحَدُ العَدَدين سِهامَه دونَ الآخَرِ أخَذْتَ وَفقَ المُوافِقِ وضَرَبْتَه فيما لم يُوافِقْ، وعَمِلْت على ما ذكَرْنا. وإن وافَقا جميعًا سِهامَهما رَدَدْتَهما إلى وَفْقِهما، وعَمِلْت في الوَفْقَين عَمَلَكَ بالعَدَدَين الأصْلِيَّيْن] (¬1). فصل: فإن أرَدْتَ أن تَعرِفَ ما لأحدِهم قبلَ التَّصْحِيحِ، فاضْرِبْ ¬

(¬1) زيادة من: م.

مُتَوَافِقَةً كَأربَعَةٍ وَسِتَّةٍ وَعَشَرَةٍ، [اضربتَ وَفْقَ أَحدِهِمَا في الْآخَرِ، ثُمَّ وافَقْتَ بَينَ مَا بَلَغَ وَبَينَ الثَّالِثِ، وَ] (¬1) ضَرَبْتَ وَفْقَ أحَدِهِمَا في الْآخَرِ، ثُمَّ اضْرِبْ مَا مَعَكَ في أصْلِ الْمَسْأَلةِ وَعَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ، فَإِذَا أرَدْتَ الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ سِهامَ فَرِيقِه في الفَريق الآخَرِ، فما خَرَج فهو له. فإذا أرَدْتَ أن تَعْلَمَ ما لكلِّ واحِدٍ مِن وَلَدِ الأُمِّ، فلفَريقِه مِن أصلِ المَسْألَةِ سهْمان، اضْرِبْهما في عَدَدِ الفَريقِ الآخَرِ وهو أرْبَعَة تَكُنْ ثمانيةً، فهي لكلِّ واحدٍ مِن ولَدِ الأمِّ، ولفَريقِ ولَدِ الأبِ ثَلاثةٌ، اضْرِبْها في عَدَدِ ولَدِ الأمِّ تَكُنْ تِسْعَةً، فهي لِكُلِّ واحِدٍ منهم. القِسْمُ الرَّابعُ، أن يكونَ العَدَدانِ مُتَّفِقَين بنِصْفٍ أو ثُلُثٍ أو رُبْعٍ أو غيرِ ذلك مِن الأجْزاءِ، فإنَّك تَرُدُّ أحدَ العَدَدين إلى وَفقِه ثم تَضْرِبُه في جميعِ الأجْزاءِ، فما بَلَغ ضَرَبْتَه في المَسْألَةِ. ومثالُ ذلك، زَوْجٌ وسِتُّ جَدَّاتٍ وتِسْعَةُ إخْوَةٍ، فيَتَّفِقان بالثُّلُثِ، فتَرُدُّ الجَداتِ إلى ثُلُثِهنَّ اثْنَين وتَضْرِبُها في عَدَدِ الإِخْوَةِ تَكُنْ ثمانِيةَ عَشَرَ، ثم تَضْرِبُ ذلك في أصلِ المَسْألَةِ تَكُنْ مِائَةً وثمانيةً، ومنها تَصِحُّ. ¬

(¬1) كذا في متن المبدع، وعليه شرح صاحب المبدع 6/ 168، وفي مخطوطة المقنع ومطبوعته: «وافقت بين عددين منها ثم».

لَهُ شَيءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلةِ مَضْرُوبٌ في الْعَدَدِ الَّذِي ضَرَبْتَهُ في الْمَسْأَلةِ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ لَهُ، إِنْ كَانَ وَاحِدًا، وإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً قَسَمْتَهُ عَلَيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الكَسْرُ على ثَلاثَةِ أحْيازٍ نَظرتَ، فإن كانَت مُتَماثِلَةً، كثلاثِ جَداتٍ وثلاثِ بَناتٍ وثَلاثَةِ أَعمامٍ، ضَرَبْتَ أحدَها في المَسْألَةِ فما بَلَغ فمِنه تَصِحُّ المَسْألَةُ، ولكلِّ واحدٍ منهم بعدَ التَّصْحيحِ مثلُ ما كان لجَماعَتِهم. وإن كانَت مُتَناسِبَةً، كجَدَّتَين، وخَمْسِ بَناتٍ وعَشَرَةِ أعْمام، اجْتَزَأْتَ بأكْثَرِها وهي العَشَرَةُ فضَرَبْتَها في المَسْألَةِ تكُنْ سِتِّينَ، ومنها تصِحُّ. وإن كانَت مُتَبايِنَة، مثلَ أن يكونَ الأعمامُ في هذه المَسْألَةِ ثلاثةً، ضَرَبْتَ بَعْضَها في بَعْض تَكُنْ ثلاثِينَ ثم ضَرَبْتَها في المَسْألَةِ تَكُنْ مِائَةً وثَمانِينَ. وإن كانَت مُتَوافِقَةً، كَسِتِّ جَداتٍ وتِسْعِ بَناتٍ وخَمْسَةَ عَشَرَ عَمًّا، ضَرَبْتَ وَفْقَ عَدَدٍ منها في جميعِ الأجْزاءِ، فما بَلَغ وافَقْتَ بينَه وبينَ الثالثِ وضَرَبْتَ وَفْقَه في جميعِ الثالِثِ، فما بَلَغ ضَرَبْتَه في أصلِ المسألةِ، ومنها تَصِحُّ. وإن تَماثَلَ اثْنان منها وبايَنَهما الثالثُ أو وَافَقَهما، ضَرَبْتَ أحدَ المُتَماثِلَين في الثالثِ أو في وَفْقِه إن وَافَقَ، فما بَلَغ ضَرَبْتَه في المَسْألَةِ. وإن تَنَاسبَ اثْنان وبايَنَهُما الثالثُ، ضَرَبْتَ أكثرهما في جميعِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثِ أو في وَفْقِه إن كان مُوافِقًا، ثم في المسألةِ. وإن تَوافَقَ اثْنان وبايَنَهما الثالثُ، ضَرَبْتَ وَفْقَ أحدِهما في جميعِ الآخَرِ ثم في الثالثِ. وإن تَبايَنَ اثْنان ووافَقَهما الثالِثُ، كأرْبَعَةِ أعْمام وسِت جَداتٍ وتِسْعِ بَناتٍ، أجْزَأكَ ضَرْبُ أحدِ المُتَبايِنَين في الآخرِ ثم تَضْرِبُه في المَسْألَةِ، ويُسَمى هذا المَوْقوفَ المُقَيَّدَ؛ لأنَّك إذا أرَدْتَ (¬1) وَقْفَ أحَدِهما لمْ تَقِفْ إلَّا السِّتَّةُ، ولو وَقَفْتَ غيرَها -مثلَ أن تَقِفَ التِّسْعَةَ وتَرُدَّ السِّتَّةَ إلى اثْنَين- لدَخَلا في الأربعةِ، وأجْزَأك ضَرْبُ الأربعةِ في التسْعَةِ، ولو وَقَفْتَ الأربعةَ، رَدَدْتَ السِّتَّةَ إلى ثَلاثَةٍ، ودَخَلْتَ في التِّسْعَةِ، واجزَأك ضَرْبُ الأربعةِ في التِّسْعَةِ. فأمّا إن كانتِ الأعْدادُ الثَّلاثَةُ مُتَوافِقَةً، فإنَّه يُسَمَّى المَوْقوفَ المُطْلَقَ، وفي عَمَلِها طَريقَان، أحدُهما، ما ذَكَرْنا مِن قبلُ، وهو طَريقُ الكُوفِيِّين. والثانِي، طَريقُ البَصْرِيِّين، وهو أن تَقِفَ أحدَ الثَّلَاثَةِ وتُوافِقَ بينَه وبينَ الآخَرَين وتَرُدَّهما إلى وَفْقِهما، ثم تَنْظُرَ في الوَفْقَين (¬2)، فإن كانا مُتَماثِلَين ضَرَبْتَ أحدَهما في المَوْقوفِ، وإن كانا مُتَناسِبَين ضَرَبْتَ أكْثَرَهما، وإن كانا مُتَبايِنَينِ ضَرَبْتَ أحدَهما في الآخَرِ ثم في المَوقوفِ، وإن كانا مُتَوافِقَين ضَرَبْتَ وَفْقَ أحدِهما في جميعِ الآخرِ ثم في المَوْقوفِ، فما ¬

(¬1) في م: «رددت». (¬2) في م: «الوقفين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَلَغ ضَرَبْته في المسألةِ. ومِثالُ ذلك، عَشْرُ جداتٍ واثْنا عَشَرَ عَمًّا وخَمْسَ عَشْرَةَ بِنْتًا، فقِفِ العَشْرَةَ، تُوافِقُها الاثْنا عَشَرَ بالنِّصْفِ فتَرْجِعُ إلى سِتَّةٍ، وافَقَها الخَمْسَ عَشْرَةَ بالأخْماسِ فتَرْجِعُ إلى ثَلاَثةٍ، وهي داخِلَةٌ في السِّتَّةِ، فتَضْرِبُ السِّتَّةَ في العَشْرَةِ تَكُن سِتِّين، ثم في المَسْألَةِ تَكُنْ ثَلاثَمائةٍ وسِتِّينَ. وإن وَقَفْتَ الاثْنَى عَشَرَ رَجَعَتِ العَشْرَةُ إلى نِصْفِها خَمْسَةٌ، والخَمْسَ عَشرَةَ إلى ثُلُثِها خَمْسَةٌ وهما مُتَماثِلان، فتَضْرِبُ الخَمْسةَ في الاثْنَيْ عَشَرَ تكنْ (¬1) سِتِّينَ، وإن وَقَفْتَ الخَمْسَ عَشْرَةَ رَجَعَتِ العَشَرَةُ إلى اثْنَيْن والاثْنا عَشرَ إلى أرْبَعَةٍ ودَخَل الاثْنان في الأرْبَعةِ، فتَضْرِبُها في الخَمْسَ عَشْرَةَ [تَكُنْ سِتِّينَ] (¬2)، ثم في المَسْألةِ. فصل: في مَعْرفَةِ المُوافَقَةِ والمُناسَبَةِ والمُبايَنَةِ؛ الطريقُ في ذلك أن تُلْقِيَ أقَلَّ العَدَدَيْن مِن أكثَرِهما مَرَّةً بعدَ أُخْرَى، فإن فَنِيَ به (¬3) فالْعَدَدان مُتَناسِبان، وإن لم يَفْنَ ولكنْ بَقِيَت منه بَقِيَّةٌ ألْقَيْتَها مِن العَدَدِ الأقَلِّ، فإن بَقِيَت مِنه بَقِيَّةٌ ألْقَيْتَها مِن البَقِيَّةِ الأولَى، ولا تزالُ كذلكَ تُلْقِي كلَّ بَقِيَّةٍ مِن التي قبلَها حتَّى تَصِلَ إلى عَدَدٍ يَفْنَى المُلْقَى منه غَيْرَ الواحدِ، فأيُّ بَقِيَّةٍ فَنِيَ بها غيرُ الواحدِ فالمُوافَقَةُ بينَ العَدَدَيْن بجُزْءٍ، تلك البَقِيَّةُ إن كانتِ اثْنَيْن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبالأنْصافِ، وإن كانت ثَلاثةً فبالأثلاثِ، وإن كانَتْ أرْبَعَةً فبالأرْباعِ، وإن كانَت أحدَ عَشَرَ أو اثْنَيْ عَشَرَ أو ثلاثةَ عَشَرَ فيُجَزَّأُ (¬1) ذلك، وإن بَقِيَ واحِدٌ فالعَدَدان مُتَباينان. وممّا يَدُلُّك على تَنايسبِ العَدَدَين أنَّك إذا زِدْتَ على الأقَلِّ مثلَه أبَدًا ساوَى الأكْثَرَ، ومتى قَسَمْتَ الأكْثَرَ على الأقَلِّ انْقَسَمَ قِسْمَةً صَحيحَةً، ومتى نَسَبْتَ الأقَلَّ إلى الأكْثَرِ انْتَسَبَ إليه بِجُزْءٍ واحِدٍ، ولا يكونُ ذلك إلَّا في النِّصفِ (¬2) فما دُونَه. ¬

(¬1) في م: «فنحو». (¬2) في م: «المنتصف».

باب المناسخات

بَابُ الْمُنَاسخَاتِ وَمَعْنَاهَا أَنْ يَمُوتَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ قَسْمِ تَرِكَتِهِ. وَلَهُ ثَلَاثَةُ أحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا، أنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي يَرِثُونَهُ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ منَ الأوَّلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً لَهُمَا، فَاقْسِمِ الْمَال بَينَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى الْمَيِّتِ الأوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُناسَخاتِ (ومَعناها أن يَموتَ بعضُ وَرَثَةِ المَيِّتِ قبلَ قَسْمِ تَرِكَتِه. ولها ثَلاثةُ أَحْوالٍ؛ أحدُها، أنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثانِي يَرِثونَه على حَسَبِ مِيراثِهم مِن الأولِ، مثلَ أن يَكُونوا عَصَبَةً لهما، فاقْسِمِ المال بينَ مَن بَقِيَ مِنهم، ولا تَنْظُرْ إلى المَيِّتِ الأولِ) مِثالُ ذلك، أربعُ بَنِينَ وثَلاثُ بَناتٍ، ماتَت بِنْتٌ، ثم ابنٌ، ثم بنتٌ أخْرَى، ثم ابْنٌ آخَرُ، وبَقِيَ ابنان وبِنْتٌ، فَاقْسِمِ المسألةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على خمسةٍ، ولا يَحْتاجُ إلى عملِ مسائلَ. وكذلك نَقولُ في أبَوَين وزَوجَةٍ وابْنَين وبِنْتَين، ماتَت بِنْتٌ، ثم ماتَتِ الزَّوْجَةُ، ثم مات ابنٌ، ثم مات الأبُ، ثم الأمُّ، فقد صارَتِ المَوارِيثُ كلُّها بينَ الابنِ والبنتِ الباقِيَين أثْلاثًا، واسْتَغْنَيتَ عن عملِ المسائلِ. ورُبَّما (¬1) اختُصِرَتِ المسائلُ بعدَ التَّصْحِيحِ بالمُوافَقَةِ بينَ السِّهامِ، فإذا صَحَّحْتَ المسألةَ نَظَرْتَ فيها، فإن كان لجميعِها كَسْرٌ يَتَّفِقٌ فيه جميعُ السِّهامِ رَدَدْتَ المسألةَ إلى ذلك الكَسْرِ ورَدَدْتَ سِهامَ كلِّ وارِثٍ إليه؛ ليكونَ أسْهَلَ في العَمَلِ. ¬

(¬1) في م: «بها».

الثَّانِي، أنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْمَيِّتِ الْأوَّلِ مِنَ الْمَوْتَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَإِخْوَةٍ خَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَنِيهِ، فَاجْعَلْ مَسَائِلَهُمْ كَعَدَدٍ انْكَسَرَتْ عَلَيهِمْ سِهَامُهُمْ، وَصَحِّحْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا في بَابِ التَّصْحِيحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثالُه، زَوْجَةٌ وابْن وبِنْتٌ، ماتَتِ البِنْتُ، تَصِحُّ المسألتان مِن اثْنَينِ وسَبْعِين، للزَّوْجَةِ بحَقِّها سِتَّةَ عَشَرَ، وللابنِ سِتَّةٌ وخَمْسُون، تَتَّفِقُ سِهامُهما بالأثْمانِ، فتَرُدُّها إلى ثُمْنِها تِسْعَةٌ، للزَّوجَةِ سَهمان، وللابنِ سَبْعَةٌ. الحالُ (الثانِي، أن يَكُونَ ما بعدَ المَيِّتِ الأولِ مِن المَوتَى لا يَرِثُ بعضُهم بعضًا، كإخْوَةٍ خَلَّفَ كلُّ واحدٍ مِنهم بَنِيهِ، فاجْعَلْ مسائِلَهم كعَدَدٍ انْكَسَرَت عليهم سِهامُهم، وصَحِّحْ على ما ذَكَرْنا في بابِ التَّصْحيحِ). مثالُ ذلك، رجلٌ تُوُفِّيَ وتَرَك أربعةَ بَنِينَ، فمات أحدُهم عن اثنَين، والثانِي عن ثَلاثَةٍ، والثالثُ عن أربعةٍ، والرابعُ عن سِتَّةٍ، فالمسألةُ الأُولى مِن أربعةٍ، ومسألةُ الابنِ الأوَّلِ مِن اثْنَين، ومسألةُ الثاني مِن ثَلاثةٍ، ومسألةُ الثالثِ مِن أربعةٍ، ومسألةُ الرابعِ مِن ستَّةٍ، فاجْعَلْها

الثَّالِثُ، مَا عَدَا ذَلِكَ، فَصَحِّحْ مَسْألةَ الْأَوَّلِ وَانْظُرْ مَا صَارَ لِلثَّانِي مِنْهَا فَاقْسِمْهُ عَلَى مَسْألَتِهِ، فَإنِ انْقَسَمَ صَحَّتِ، الْمَسْألَتَانِ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الأُولَى، كَرَجُلٍ خَلَّفَ امْرَأَةً وَبِنْتًا وَأَخًا، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَعَمَّهَا، فَإِنَّ لَهَا أَرْبَعَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ كأعْدادٍ أربعةٍ، فالاثنان تَدْخُلُ في الأربعةِ، والثَّلاثةُ في الستَّةِ، والأربعةُ توافِقُ الستَّةَ بالأنصافِ، فتَضْرِبُ نِصفَ إحْداهما في الأُخْرَى تكنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثم تَضْرِبُها في المسألةِ الأُولى تَكُنْ ثمانيةً وأربعِين، لوَرَثَةِ كلِّ ابنٍ اثْنا عشَرَ، فلكلِّ واحدٍ سِت ابْنَي (¬1) الأوَّلِ ستَّةٌ، ولكلِّ واحدٍ مِن بَنِي الثانِي أربعةٌ، ولكلِّ واحدٍ مِن بَنِي الثالثِ ثَلاثَةٌ، ولكلِّ واحدٍ مِن بَنِي الرابعَ سَهْمان. الحالُ (الثالثُ، ما عدا ذلك) وهي ثلاثةُ أقسام؛ أحدُها، أن تَنْقَسِمَ سِهامُ الميِّتِ الثانِي على مَسْألَةِ الثانِي. الثانِي، أن لا يَنْقَسِمَ عليها بل يُوافِقُها. الثالثُ، لا يَنْقَسِمُ عليها ولا يُوافِقُها. فالطريقُ في ذلك أن، تُصَحِّحَ مَسْألةَ الأولِ، ثم انْظُرْ ما صار للثانِي منها، فاقْسِمْه على مَسْألتِه بعدَ أن تُصَحِّحَها (فإنِ انْقَسَمَ صَحَّتِ المَسْألَتان ممّا صَحَّت منه الأُولى، كرجلٍ خَلَّفَ امرأةً وبنتًا وأخًا، ثم ماتَتِ البنتُ وخَلَّفَتْ زوجًا وبنتًا وعمًّا، فإنَّ لها) مِن المسألةِ الأُولى (أربعةً، ومسألَتُها مِن أربعةٍ، فصَحَّتِ ¬

(¬1) في م: «بنى».

وَمَسْأَلتُهَا مِنْ أرْبَعَةٍ، فَصَحَّتِ الْمَسْأَلتَانِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَصَارَ لِلأخِ أَرْبَعَةٌ. وَإنْ لَمْ تَنْقَسِمْ وَافَقْتَ بَينَ سِهَامِهِ وَمَسْأَلتِهِ، ثمَّ ضَرَبْت وَفْقَ مَسْأَلتِهِ في الْمَسْألةِ الأولَى، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَه شَيْءٌ مِنَ الأُولَى مَضْروبٌ في وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْروبٌ في ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْألَتان مِن ثمانيةٍ، وصار للأخِ أربعةٌ) مِن أخِيه ثَلاثَةٌ، ومِن بِنتِ أخِيه سَهْمٌ. ومِن ذلك، أُمٌّ وعَمٌّ، مات العمُّ وخَلَّفَ بنْتَه وعَصَبَةً. المسألةُ الأولى مِن ثَلاثَةٍ، والثانيةُ مِن اثْنَين، فصَحَّتِ المَسْألَتان مِن ثَلاثةٍ. ثَلاثُ أخواتٍ مُفْترِقاتٍ، ماتَتِ الأُخْتُ مِن الأبوَين وخَلَّفَتِ ابْنَتَين ومَن خَلَّفَتْ، تَصِحُّ المَسْألَتان مِن خمسةٍ. بنت وبنتُ ابنٍ وأخٌ، ماتَتِ البنتُ وتَرَكَتِ ابْنَتَين وعمَّها، صَحَّتِ المَسْألَتان مِن ستَّةٍ، وصار للأخِ ثلاثةٌ. زوجٌ وجدةٌ وابْنَتا ابن، مِن ثلاثَةَ عَشَرَ، ماتَت إحداهما عن أربعةٍ، وتَرَكَتْ زوجًا وبنتًا وأُخْتَها، صَحَّتِ المَسْألَتان مِن ثلاثَةَ عَشَرَ، وصار للأخْتِ (¬1) خمسةٌ. زوجةٌ وأمٌ وابنٌ، ماتَتِ الأمُّ وتَرَكَتْ زوجًا وبنتًا وابنَ ابنٍ، مِن أربعةٍ وعِشْرِينَ. زوجةٌ وأمٌّ وعمٌّ، مات العمُّ وتَرَك ثَلاثَةَ بَنين وبنتًا، مِن اثْنَيْ عَشَرَ، تصحُّ المسألتان. القسمُ الثانِي، أن تُوافِقَ سِهامُ الميِّتِ الثاني مَسْألتَه، فالطريقُ فيها أن تَضْرِبَ وَفْقَ مَسْألَتِه في الأُولى (ثم كلُّ مَن له شيءٌ مِن المسألةِ الأُولى مَضْروبٌ في وَفْقِ الثانيةِ، ومَن له شيءٌ مِن المسألةِ الثانيةِ مضروبٌ في وَفقِ ¬

(¬1) في م: «للأخ».

وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي، مِثْلَ أنْ تَكونَ الزَّوْجَة أُمًّا لِلْبِنْتِ في مَسْألَتِنَا، فَإِنَّ مَسْأَلتَهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، تُوَافِقُ سِهَامُهَا بِالرُّبْعِ، فَتَرْجِعُ إِلَى رُبْعِهَا ثَلَاثةٍ، اضْرِبْهَا في الأُولَى تَكنْ أرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. وَإنْ لَمْ توَافِقْ سِهَامُة مَسْأَلتَة، ضَرَبْتَ الثَّانِيَةَ في الأُولَى، فَكُلُّ مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ سِهامِ الميِّتِ الثانِي) كرجل خَلَّفَ امرأةً وبنتًا وأخًا، ثم ماتَتِ البنتُ وخَلَّفَتْ زوجًا وبنتًا وأمَّها وهي الزوجةُ وعمًّا، فإنَّ المسألةَ مِن ثمانيةٍ، للبنتِ النِّصفُ أربعة، ومسألتُها مِن اثْنَيْ عَشَرَ، تُوافِقُ سِهامَها بالربعِ، فتَضْرِبُ ثَلاثَةً في ثمانيةٍ أربعة وعشرون، فَكلُّ مَن له شيءٌ مِن ثمانيةٍ مَضْروبٌ في ثلاثةٍ، وهو وَفْقُ المسألةِ الثانيةِ، ومَن له شيءٌ مِن الثانيةِ مَضْرُوبٌ في وَفْقِ سِهامِ الميِّتِ الثانِي، وهو سهمٌ. ومِن ذلك أمٌّ وابْنان وبنتٌ، مات أحدُ الابَنين وخَلَّفَ مَنْ خَلَّفَ، الأولَى مِن ستَّةٍ، للابنِ منها سَهْمان، وقد خَلَّفَ جدَّتَه وأخاه وأُخْتَه، فمَسْألتُه مِن ثمانيةَ عَشَرَ، تُوافِقُ سَهْمَيه بالنِّصفِ، فاضْرِبْ نِصفَ مسألتِه تسعةً في الأُولى وهي ستَّةٌ تَكُنْ أربعةً وخمسين، للأمِّ مِن الأولى سَهْمٌ في تِسْعةٍ وفقِ الثانيةِ، ولها مِن الثانيةِ ثلاثةٌ في سَهْمٍ، صار لها اثْنا عَشَرَ، وللابِن الباقِي سَهْمان في تِسْعَةٍ ثمانيةَ عَشَرَ، ومِن الثانيةِ عَشَرة في سَهْم، صار له ثمانيةٌ وعِشرون ولأخِيه أرْبعةَ عَشَرَ. القسمُ الثالثُ، أن لا يَنْقَسِمَ سِهامُ الثانِي على مَسْألتِه ولا يُوافِقَها، فالطريقُ فيها أن تَضْرِبَ المَسْألةَ الثانيةَ في الأُولى ثم (كلُّ مَن له شيءٌ مِن

لَهُ شَيْءٌ مِنَ الأولَى مَضْرُوب في الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ في سِهَامِ الثَّانِي. مِثْلَ أنْ تُخَلِّفَ الْبِنْتُ بِنْتَينِ، فَإنَّ مَسْأَلتَهَا تَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، تَضْرِبُهَا في الأُولَى تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً، وَتَعْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْألَةِ الأولى مَضْروبٌ في الثانيةِ، ومَن له شيءٌ مِن الثانيةِ مضروبٌ في سهامِ الميِّتِ الثاني) مثالُه، رجلٌ خَلَّفَ امرأةً وبنتًا وأخًا، فهي مِن ثمانيةٍ، للبنتِ أربعةٌ، ثم ماتَتِ البنتُ وتَرَكَتْ زوجًا وأمًّا وابْنَتَين (فإنَّ مسألتَها تَعُولُ إلى ثَلاثَةَ عَشَرَ) لا تَنْقَسِمُ عليها سِهامُها ولا تُوافِقُها، فإذا ضَرَبْتَ المَسْألةَ الأولى وهي ثمانيةٌ، في الثانيةِ وهي ثلاثةَ عَشَرَ، كانَت مائةً وأربعةً، فكلُّ مَن له شيء مِن الأولى مَضْروبٌ في ثلاتةَ عَشَرَ، ومَن له شيءٌ مِن ثَلاثَةَ عَشَرَ مَضْرُوب في أربعةٍ. ومثل ذلك، زوجٌ وأُم وستُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، ماتت إحدى الأخْتَين مِن الأمِّ وخَلَّفَتْ مَن خَلَّفَتْ، فالأُولى مِن عَشَرَةٍ، والثانيةُ مِن ستَّةٍ؛ لأنَّها خَلَّفَتْ امًّا وأختًا لأبوَين وأُخْتَين مِن أمٍّ، تَضْرِبُها في الأولى تكنْ ستين، ومنها تصِحُّ. فصل: ورُبَّما اخْتَلَفَ الحُكْمُ بكَوْن الميِّتِ الأولِ رجلًا أو امرأةً، فيَحْتاجُ إلى السؤالِ عن ذلك. مثالُ ذلك، إذا قيل: أبَوان وابْنَتان. لم تَنْقَسِمِ التَّرِكَةُ حتَّى ماتت إحْدى البِنْتَين، إن كان الميِّتُ الأولُ رجلًا، فالأبُ جَدٌّ وارثٌ في الثانيةِ؛ لأنَّه أبو أبٍ، وتَصِحُّ المَسْألتان مِن أربعةٍ

2821 - مسألة: (فإن مات ثالث جمعت سهامه مما صحت منه الأوليان، وعملت فيها عملك في مسألة الثاني مع الأول. وكذلك تصنع في الرابع ومن بعده)

فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ جَمَعْتَ سِهَامَهُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الأُولَيَانِ، وَعَمِلْتَ فِيهَا عَمَلَكَ في مَسْأَلةِ الثَّانِي مَعَ الأُولَى. وَكَذَلِكَ تَصْنَعُ في الرَّابعِ وَمَنْ بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وخَمْسِين. وإن كان الميِّتُ الأولُ امرأةً، فالأبُ أبو أمٍّ (¬1) في الثانيةِ لا يَرِثُ؛ لأنَّه مِن ذَوي الأرْحامِ، وتَصِحُّ المَسْأَلتان مِن اثْنَيْ عَشَرَ، وتسمَّى المَأمُونِيَّةَ، لأنَّ المأمُونَ سأل عنها يحيى بنَ أكْثَمَ حينَ أرادَ تَوْلِيتَه القَضاءَ؛ ليَخْتَبِرَ فَهْمَه، فقال: يا أميرَ المُومِنِين، مَنِ المَيِّتُ الأولُ. فعَلِمَ أنَّه فَهِمَها. 2821 - مسألة: (فإن مات ثالثٌ جَمَعْتَ سِهامَه ممَّا صَحَّتْ منه الأُولَيانِ، وعَمِلْتَ فيها عَمَلَك في مسألةِ الثاني مع الأولِ. وكذلك تَصْنَعُ في الرابعِ ومَن بعدَه) ومثالُ ذلك، زوجةٌ وأُمٌّ وثلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ. المسألةُ الأُولى مِن خَمْسةَ عَشَرَ، ماتَتِ الأُختُ مِن الأبَوَين وخَلَّفَتْ زوجًا ومَن خَلَّفَتْ، فمسألتُها مِن ثَمانيةٍ، وسهامُها ستةٌ، يَتَّفِقان بالنِّصفِ، فتَضْرِبُ نصفَ مسألتِها في الأولى تَكُنْ ستِّينَ، ثم ماتَتِ الأمُّ وخَلَّفَتْ زوجًا وأختًا وبنتَها وهي الأختُ مِن الأمِّ، فمسألتُها مِن أربعةٍ ولها مِن المسألتين أحدَ عَشَرَ سَهْمًا لا تُوافِقُ مسألتَها، تَضْرِبُ مسألتَها في الأولَيَين تَكُنْ مِائَتَين وأرْبَعِين، ومنها تصِحُّ الثَّلاثُ. ومثالُ الأربعةِ، زوجةٌ وأبَوان وابْنَتان، لم يقتسِموا حتَّى مات الأبُ وخَلَّفَ أخًا لأبٍ وأمٍّ ومَن خلَّف، ثم ماتَتِ ¬

(¬1) في م: «الأم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمُّ وخَلَّفَتْ أمًّا وعمًّا ومَن خَلَّفَتْ، ثم ماتَت إحْدى البِنْتَين وخَلَّفَتْ زوجًا ومَن خَلَّفَتْ، تَصِحُّ الأُولى مِن سبعةٍ وعشرين، والثانيةُ مِن أربعةٍ وعشرين، تُوافِقُ تركةَ الأبِ بالأرباعِ، ثم ماتَتِ الأمُّ عن سَبْعةٍ وعشرين وخَلَّفَتْ أمًّا وبِنْتَي ابنٍ وعمًّا، فمسألتُها مِن ستةٍ وتَرِكَتُها تُوافِقُها بالأثلاثِ، ثم ماتَت إحْدى البِنْتَين عن مائةٍ وثَلاثِين، وتَرَكَت زوجًا وأمًّا وأختًا، فمسألتُها مِن ثمانيةٍ، وتَرِكَتُها تُوافِقُها بالأنْصافِ، فَتَصِحُّ المسائلُ الأربعُ مِن ألفٍ ومِائتَين وستَّةٍ وتِسْعِين، للزوجةِ مِن الأولى والرابعةِ مِائتان وأربعة وسَبْعُون، وللبنتِ الباقِيَةِ مِن المسائلِ الأربعِ سَبْعُمِائةٍ وخمسةَ عَشَرَ، ولأخي الميِّتِ الباقِي أربَعُون، ولأمِّ الثالثةِ ستةٌ وثَلاثون، ولعمِّها كذلك، ولزوجِ الرابعةِ مِائَةٌ وخمسةٌ وتِسْعُون. زوجٌ وأمٌّ وستُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، ماتَتِ الأمُّ وتَرَكَت أبويها ومَن خَلَّفَتْ، ثم ماتَت أُخْتٌ مِن أدبٍ وأمٍّ وتَرَكَت زوجًا وجَدةً ومَن خَلَّفَتْ، ثم ماتَت أُختٌ مِن أمٍّ وخَلَّفَتْ زوجًا وجَدةً ومَن خَلَّفَتْ، الأولى عَشرَةٌ، والثانيةُ مِن ستَّةٍ، فتَصِير الاثْنَتان مِن سِتِّين، والثالثةُ مِن عِشرِين، وماتَت عن ثلاثةَ عَشَرَ لا تُوافقُ، فتَضْرِبُ عِشرِين في سِتِّين تكن ألفًا ومِائَتَين، والرابعةُ مِن ثمانيةٍ، وماتَت عن مائةٍ وستةٍ وستِّين تُوافِقُها بالأنْصافِ، فتَضْرِبُ أربعةً في ألفٍ ومِائَتين تكنْ أربعةَ آلافٍ وثمانِ مِائَةٍ.

باب قسم التركات

بَابُ قَسْمَ التَّرِكَاتِ إِذَا خَلَّفَ تَرِكَةً مَعْلُومَةً فَأَمْكَنَكَ نِسْبَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْمَسْأَلةِ فَأعْطِهِ مِثْلَ تِلْكَ النِّسْبَةِ مِنَ التَّرِكَةِ. وَإنْ شِئتَ قَسَمْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ قَسْمَ التَّرِكَاتِ (إذا خَلَّفَ تَرِكَةً مَعْلُومَةً فأمْكَنَك نِسبَةُ نَصيبِ كلِّ وارِثٍ مِن المسألةِ، فأعْطِه مِثْلَ تلك النِّسْبَةِ مِن التَّرِكَةِ) مثالُ ذلك، زوجٌ وأبوان وابْنَتان، المَسْألَةُ مِن خَمْسةَ عَشَرَ، والتَّرِكَةُ أرْبعُون دِينارًا، فللزَّوجِ ثلاثةٌ وهي خُمْسُ المسألةِ، فله خُمْسُ التَّرِكَةِ ثمانيةُ دَنانيرَ، ولكلِّ واحدٍ من الأبوين ثُلُثا خُمْسِ المسألةِ فله ثُلُثا الثمانيةِ وذلك خَمْسَةُ دَنانِيرَ وثُلُثُ دِينارٍ، ولكلِّ واحدةٍ من البِنْتَين مِثْلُ ما للأبوَين كِلَيهما وذلك عَشَرَةٌ وثُلُثان. (وإن شِئْتَ

التَّرِكَةَ عَلَى الْمَسْألةِ وَضَرَبْتَ الْخَارِجَ بِالْقَسْمِ في نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ، فَمَا اجْتَمَعَ فَهُوَ نَصِيبُهُ. وَإنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ سهَامَهُ في التَّرِكَةِ، وَقَسَمْتَهَا عَلَى الْمَسْأَلةِ، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ نَصِيبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَسَمْتَ التَّرِكَةَ على المسألَةِ وضَرَبْتَ الخارجَ بالقَسْمِ في نَصيبِ كلِّ وارِثٍ) فما بَلَغ فهو نَصِيبُه. فإذا قَسَمْتَ التَّرِكَةَ على المسألةِ ههُنا، كان الخارِجُ بالقَسْمِ دِينارَين وثُلُثَين، إذا ضَرَبْتَها في نَصيبِ الزَّوجِ وهو ثلاثةٌ، كان ثمانِيةَ دنانيرَ، وإذا ضَرَبْتَها في نَصيبِ كلِّ واحدٍ مِن الأبَوين كانت خَمْسةً وثُلُثًا، وإذا ضَرَبْتَها في نَصيبِ كلِّ واحدةٍ مِن البِنْتَين كانت عَشَرَةَ دَنانيرَ وثُلُثَين. وإن شِئْتَ ضَرَبْتَ نَصيبَ كُلِّ وارِثٍ في التَّرِكَةِ، وقَسَمْتَه على المسألةِ (فما خرَج فهو نَصيبُه) ففي هذه المسألةِ، إذا ضَرَبْتَ نصيبَ الزوجٍ وهو ثَلاثَة في التَّرِكَةِ، كان مائةً وعشرينَ، إذا قَسَمْتَها على المَسْألَةِ وهي خمْسةَ عَشَرَ خَرَجَ بالقَسْمِ ثَمانِيةٌ، وإذا ضَرَبْتَ نَصيبَ أحدِ الأبوين في التَّرِكَةِ كان ثمانِينَ، فإذا قَسَمْتَها على المَسْألَةِ خَرَجَ خمسةٌ وثُلُثٌ، وإذا ضَرَبْتَ نصيبَ كلِّ واحِدَةٍ مِن البِنْتَين في التَّركَةِ كانت مِائةً وسِتِّينَ، إذا قَسَمْتَها على المسألَةِ خرَج بالقَسْمِ عَشَرَةٌ وثُلُثان، كما ذَكَرْنا.

2822 - مسألة: (وإن شئت في مسائل المناسخات قسمت التركة على المسألة الأولى، ثم أخذت نصيب الثاني فقسمته على مسألته، وكذلك الثالث، فإن كان بين التركة والمسألة موافقة)

وَإنْ شِئْتَ في مَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ قَسَمْتَ التَّرِكَةَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الأُولَى، ثُمَّ أَخَذْتَ نَصِيبَ الثَّانِي فَقَسَمْتَهُ عَلَى مَسْأَلتِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ. وَإنْ كَانَ بَينَ الْمَسْأَلةِ وَالتَّرِكَةِ مُوَافَقَةٌ، فَوَافِقْ بَينَهُمَا، وَاقْسِمْ وَفْقَ التَّرِكَةِ عَلَى وَفْقِ الْمَسْألَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ كانتِ المسألةُ مِنْ الأعدادِ الصُّمِّ لم يُمْكِنِ العملُ بالطَّريقِ الأولِ، لأنَّه لا نِسْبَةَ فيهِا، فاعْمَلْ بالطَّرِيقَين الآخرَين. مثالُ ذلك، زوجٌ وأمٌّ وابْنَتان، والتَّرِكَةُ خمْسُون دينارًا، المسألةُ مِن ثَلاثةَ عَشَرَ، إذا قَسَمْتَ عليها التَّرِكَةَ خرَج بالقَسْمِ لكلِّ سَهْم ثلاثةُ دَنانِيرَ وأحدَ عَشَرَ جزءًا من ثَلاثَةَ عَشَرَ جزءًا مِن دينارٍ، تَضْرِبُ في ذلك سِهامَ الزوجِ وهي ثَلاثةٌ، يَجْتَمِعُ له أحدَ عَشَرَ دِيَنارًا وسبعةُ أجْزاءٍ، وتَضْرِبُ نَصيبَ الأمِّ تَكُن سبعةً وتسعةَ أجْزاءٍ، ولكلِّ بنتٍ ضِعْفُ ذلك، وإن ضَرَبْت سهامَ كلِّ وارثٍ في الخَمْسِين وقسمتَها على المسألةِ خرج ما قلنا. 2822 - مسألة: (وإن شِئْتَ في مَسائِلِ المُناسَخاتِ قَسَمْتَ التَّرِكَةَ على المسألةِ الأولى، ثم أخَذْتَ نَصِيبَ الثانِي فقَسَمْتَه على مسألَتِه، وكذلك الثالثُ، فإن كان بينَ التَّرِكَةِ والمسألَةِ مُوَافَقَةٌ) رَدَدْتَهما إِلَى وَفْقِهما وقَسَمْتَ (وَفْقَ التَّرِكَةِ على وَفْقِ المسأَلةِ) وَاعْمَلْ على ما ذَكَرْنا. مثالٌ: زوجةٌ وأمّ وثَلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، المسألةُ مِن خَمْسةَ عَشَرَ، والتَّرِكَةُ عِشْرُون دِينارًا، ماتَتِ الأمُّ وخَلَّفَتْ أبوَين ومَن خَلَّفَتْ، المسألةُ

2823 - مسألة: (وإن أردت القسمة على قراريط الدينار فاجعل

وَإنْ أَرَدْتَ الْقِسْمَةَ عَلَى قَرَارِيطِ الدِّينَارِ فَاجْعَلْ عَدَدَ الْقَرَارِيطِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأولى مِن خَمْسةَ عَشَرَ، والثانيةُ مِن ستَّةٍ، للأمِّ مِن الأولى سَهْمان، لا تَنْقَسِمُ على الثانيةِ وتُوافِقُها بالنِّصفِ، فتَضْرِبُ نصفَ الستَّةِ في المسألةِ الأولى تَكُنْ خَمْسةً وأرْبَعِين، فإنْ شِئْتَ نَسَبْتَ نَصَيبَ كلِّ وارِثٍ مِن المسألةِ وأعْطيْتَه مِن التَّرِكَةِ مِثْلَ تلك النِّسبةِ، فللمرأةِ تسعةٌ وهي خُمْسُ المسألةِ، فلها خُمْسُ التَّرِكَةِ أربعةُ دَنانيرَ، وللأخْتِ مِن الأمِّ ثمانيةٌ وهي ثمانيةُ أتْساعِ الخُمْسِ، فلها مِن التَّرِكَةِ ثمانيةُ أتْساعِ خُمسِها وهو ثلاثة دَنانيرَ وخَمْسةُ أتْساعِ دِينارٍ، وللأخْتِ مِن الأبَوَين عِشْرون وهي أربعةُ أتْساعِ المسألةِ، فلها أربعةُ أتْساعِ التَّرِكَةِ وهي ثمانيةُ دَنانيرَ وثمانيةُ أتْساعِ دينارٍ، وللأخْتِ مِن الأبِ ستَّةٌ وهي تُسعُ المسألةِ وخُمْسُ تُسْعِها، فلها مِن التَّرِكَةِ دِيناران وثُلُثان. وإن شِئْت قَسَمْت العِشْرِين على خمسةٍ وأرْبَعِين، وضَرَبْتَ الخارجَ بالقَسْمِ في نَصيبِ كلِّ وارِثٍ، فيَخْرُجُ ما ذَكَرناه. وإن شِئْتَ ضَرَبْتَ سِهامَ كلِّ وارِثٍ في التَّرِكَةِ، وقَسَمْتَ ما بَلَغ على المسألةِ، فما خَرَج فهو نَصيبُه، إن شِئْتَ وافَقْتَ بينَ التَّرِكَةِ والمسألة، وهي تُوافِقُها بالأخْماسِ، فَتَرُدُّ المسألةَ إلى تِسْعَةٍ والتَّرِكَةَ إلى أربعةٍ، وتَضْرِبُ سِهامَ كلِّ وارثٍ في أربعةٍ وتَقْسِمُه على تِسْعَةٍ يَخْرُجُ ما ذَكَرناه. 2823 - مسألة: (وإن أرَدْتَ القِسْمَةَ على قَرارِيطِ الدِّينَارِ فاجْعَلْ

كَالتَّرِكَةِ الْمَعْلُومَةِ، وَاعْمَلْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَدَدَ القَرارِيطِ كالتَّرِكَةِ المعلومةِ، واعْمَلْ على ما قُلْنا) وقَرارِيطُ الدِّينارِ في عُرْفِ بَلدِنا أربعةٌ وعِشْرون قِيراطًا (¬1)، فإن كانتِ السِّهامُ كثيرةً وأرَدْتَ أن تَعْلَمَ سَهْمَ القِيراطِ، فانْظُرْ ما يَتَركَّبُ منه العَدَدُ، فإنَه لا بدَّ أن يَتَرَكَّبَ مِن ضَرْبِ عَدَدٍ في عَددٍ، فانْسِبْ أحدَ العَدَدَين إلى أربعةٍ وعِشْرِين، فإن كان أقَلَّ منها فخُذْ مِن العَددِ الآخَرِ مِثْلَ تلك النِّسبَةِ، فما كان فهو لكلِّ قِيراطٍ. وإن كان أكثَرَ مِن أربعةٍ وعِشْرين قَسَمْتَه عليها، فما خَرَج بالقَسْمِ فاضْرِبْه في العددِ الآخَرِ، فما بَلَغ فهو نَصيبُ القِيراطِ. ومِثالُ ذلك، سِتُّمائةٍ أرَدْتَ قِسمَتَها على القَرارِيطِ، فهي مُتَرَكِّبَةٌ مِن ضَرْبِ عِشْرِين في ثَلاثِين، فانْسِبِ العِشْرِينِ إلى أربعةٍ وعِشْرِين تَكُنْ نِصْفَها وثُلُثَها، فخُذْ نِصْفَ الثَّلاثِين وثُلُثَها، خمْسةٌ وعِشرُون، فهي سَهْمُ القِيراطِ. وإنْ قسَمْتَ الثَّلاثين على أربعةٍ وعِشرينَ خَرَج بالقَسْمِ سَهْمٌ ورُبْعٌ، فاضْرِبْها في العِشْرِين تَكُنْ خمْسةً وعِشْرِين، وهي سَهْمُ القِيراطِ. فإذا عَرَفْتَ سَهْمَ القِيراطِ فانْظُرْ كلَّ مَن له سِهام فأعْطِه بكلِّ سَهْمٍ من سِهامِ القيراطِ قيراطًا، فإن بَقِيَ له مِن السِّهامِ ما لا يَبْلُغُ قيراطًا فانْسِبْه إلى سِهامِ القِيراطِ وأعْطِه منه مِثْلَ تلك النِّسْبَةِ، فإن كان في سِهامِ القِيراطِ كَسْرٌ بَسَطْتَها مِن جِنْسِ الكَسْرِ، ثم كلُّ مَن له سِهامٌ بعَددِ مَبْلَغِ السِّهامِ فلَه بعَدَدِ مخْرَجِ الكَسْرِ قَرارِيطُ، وتَضْرِبُ بَقِيَّةَ سِهامِه في مَخرجِ الكَسْرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2824 - مسألة: (وإن كانت التركة سهاما من عقار؛ كثلث

فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَة سِهَامًا مِنْ عَقَارٍ، كَثُلُثٍ وَرُبْعٍ وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنْ شِئْتَ أنْ تَجْمَعَهَا مِنْ قَرَارِيطِ الدِّينَارِ وَتَقْسِمَهَا عَلَى مَا قُلْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَنْسِبُها منها. مثالُ ذلك، زوجٌ وأُبوان وابْنَتان، ماتَتِ الأمُّ وخَلَّفَتْ أمًّا وزوجًا وأُخْتًا من أبَوين وأختَين من أبٍ وأختَين مِن أمٍّ، فالأولى مِن خَمسةَ عَشَرَ، والثانيةُ مِن عِشْرِين، فتَضْرِبُ وَفْقَ إحْداهما في الأخْرَى، تكُنْ مِائةً وخَمْسِينَ، وسهْمُ القِيراطِ [سِتَّةٌ و] (¬1) ربْعٌ، ابْسُطْها أرْباعًا تَكُنْ خَمسةً وعِشْرِين، فهذه سِهامُ القِيراطِ، فللْبِنتِ مِن الأولى أربعةٌ في عَشَرَةٍ، أرْبَعُون، فلها بخَمسةٍ وعِشْرِين أربَعةُ قَرارِيطَ، يَبْقَى خَمسةَ عَشَرَ، اضْرِبْها في مَخْرَجِ الكَسْرِ تَكُنْ سِتِّين، واقْسِمْها على خَمسَةٍ وعِشْرِين تَكُنِ اثنَين وخُمْسَين، فصارَ لها سِتَّةٌ وخُمْسان، وللأبِ مِن الأُولى والثانيةِ ستَّةٌ وعِشْرُون، فلَه بخَمسةٍ وعِشْرِين أربَعَةٌ، وابْسُطِ السَّهْمَ الباقِيَ أرْباعًا يَكُنْ أرْبَعةَ أخماسِ خُمسٍ، ولزوجِ الأُولى ثَلاثُون، فله بخَمسَةٍ وعِشرينَ سَهْمًا أرْبَعَةُ قرارِيطَ، وابسُطِ الخَمسةَ الباقِيةَ تكُنْ عِشرينَ، وهي أربعةُ أخماسِ قِيراطٍ، ولأمِّ الثانيةِ سَهْمان، ابْسُطْها أرباعًا تكُنْ خُمْسَ قيراطٍ وثَلاثَةَ أخماسِ قِيراطٍ، وكذلك لكلِّ أُخْتٍ من أُمٍّ، وللأخْتَين للأبِ مِثْلُ ذلك، وللأخْتِ للأبوَين ستَّةٌ، ابْسُطْها أرْباعًا تَكُنْ أربعةَ أخْماسِ قيراط. 2824 - مسألة: (وإن كانَتِ التَّرِكَةُ سِهامًا مِن عَقارٍ؛ كثُلُثٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإنْ شِئْتَ وَافَقْتَ بَينَهَا وَبَينَ الْمَسْألةِ وَضَرَبْتَ الْمَسْأَلَةَ أوْ وَفْقَهَا في مَخْرَجِ سِهَامِ الْعَقَارِ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلةِ مَضْرُوبٌ في السِّهَامِ الْمَوْرُوثَةِ مِنَ الْعَقَارِ أَوْ في وَفْقِهَا، فَمَا كَانَ فَانْسِبْهُ مِنَ الْمَبْلَغِ، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُبْعٍ ونحو ذلك، فإن شِئْتَ أن تَجْمَعَها مِن قَراريطِ الدِّينارِ وتَقْسِمَها على ما قلنا. وإن شِئْتَ وافَقْتَ بينَها وبينَ المسألةِ وضَرَبْتَ المسألةَ أو وَفْقَها في مَخْرَجِ سِهامِ العَقارِ) أو في وَفْقِها (فما كان فانْسِبْه مِن المَبْلَغِ، فما خَرَج فهو نَصيبُه) إذا كانَتِ التَّرِكَةُ رُبْعِ دارٍ وثُلُثَها، جَمَعْتَها مِن مَخْرَجِها قَراريطَ، فكانَت أربعةَ عَشَرَ قِيراطًا، وجَعَلْتها كأنَّها دَنانيرُ، وعَمِلْتَ على ما سبق. وإن شِئْتَ أخَذْتها مِن مَخْرَجِها وقَسَمْتَها على المسألةِ، فإنِ انْقَسَمَت بغيرِ ضَرْبٍ، مثالُ ذلك، زوجٌ وأمٌّ وثلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، والتَّرِكَةُ رُبْعُ دارٍ وخُمْسُها، المسألةُ مِن تسعةٍ، ومَخرَجُ سِهامِ العَقارِ عِشْرُون، المَوْروثُ منها تسعةٌ منقسمةٌ على المسألةِ، للزوجِ منها ثلاثةٌ، وهي عُشْرُ الدّارِ ونِصفُ عُشْرِها، وللأخْتِ مِن الأبوين مِثْل ذلك، ولكلِّ واحدةٍ مِن الباقِياتِ نِصفُ عُشْرٍ، فإن لم تَنْقَسِمْ لكِنْ وَافَقَتِ السِّهامُ المَوْرُوثةُ المسألةَ، رَدَدْتَ المسألةَ إلى وَفْقِها، ثم ضَرَبْتَه في مَخْرَجِ سِهامِ العَقَارِ، (ثم كلُّ مَن له شيءٌ مِن المسألةِ مضروبٌ في وَفْقِ السِّهامِ المَوْرُوثةِ مِن العَقارِ) مثالُه، زْوجٌ وأبوان وابْنَتان، والتَّرِكَةُ رُبْعُ دارٍ وخُمْسُها، المسألَةُ مِن خمسةَ عَشَرَ، تُوافِقُ السِّهامَ المَوْرُوثةَ مِن العَقارِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالثُّلُثِ؛ لأنَّها تسعةٌ، فتَرُدُّ المسألةَ إلى ثُلُثِها، خَمْسةٌ، ثم تَضْرِبُها في مَخْرَجِ سِهامِ العقارِ، وهي عشرون، تَكُنْ مِائَةً، فللزوجِ مِن المسألةِ ثلاثةٌ في وَفْقِ سِهامِ العَقارِ، ثلاثةٌ، تسعةٌ من مائةٍ، وهي نِصفُ عُشْرِ الدارِ وخُمسِ خُمْسِها، ولكلِّ واحدٍ مِن الأبَوَين سَهْمان في ثلاثَةٍ، ستةٌ، وهي ثلاثةُ أخْماسِ عُشْرِ الدارِ، ولكلِّ بِنْتٍ ضِعْفُ ذلك، وهو عُشْرٌ وخُمْسُ عُشر. وإن لم تُوافِقِ السِّهامُ المَوْروثةُ المسألةَ ضَرَبْت المسألةَ جميعَها في مَخْرَجِ سِهامِ العَقارِ، ثم كلّ مَن له شيءٌ مِن المسألةِ مَضْروبٌ في السِّهامِ المَوْروثةِ مِن العَقارِ، فما بَلَغ فانسِبْه مِن مَبْلَغِ سِهامِ العَقارِ. وإن شِئْتَ نَسَبْتَ سِهامَ كلِّ وارثٍ مِن المسألةِ، فما بَلَغ أعْطَيتَه منها بقَدْرِ نِسْبَةِ السِّهام المَوْروثةِ إلى سِهامِ العَقارِ، فتَقُولُ في هذه المسألةِ: للزوجِ مِن المسأَلةِ الخُمْسُ، فله خُمْسُ التَّرِكَةِ. وكذلك تَفْعَلُ في بقيَّةِ الوَرَثَةِ. على ما سبق. فصل في المجهولات: زوجٌ وأمٌّ وأُخْتان لأبٍ وأمٍّ، أخَذ الزوجُ بمِيراثِه خمسةً وأربعين دينارًا، كم جميعُ التَّرِكَةِ؟ فالطريقُ في ذلك أن تَقْسِمَ الدَّنانيرَ التي أخذها على سِهامِه، تَخْرُجُ خَمْسةَ عَشَرَ، فاضْرِبْها في سِهامِ المسألةِ وهي ثمانيةٌ، تَكُنْ مِائةً وعِشْرِين، وهي التركةُ. وإن شِئتَ ضَرَبْتَ ما أَخَذ في سِهامِ المسألةِ، تَكُنْ ثلاثَمِائةٍ وستين، وقَسَمْتَ ذلك على [سِهامِ الزوجِ، يَخْرُجُ ما ذَكَرْناه. وإن شِئْتَ ضَرَبْتَ ما أخَذ في سِهامِ] (¬1) ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [باقِي الوَرَثَةِ، وقَسَمتَ ذلك على] (¬1) سِهامِه، فما خَرَج فهو باقي (¬2) التركةِ. وإن شِئْتَ قُلْتَ: سِهامُ مَن بَقِيَ مِثْلُ سِهامِه مرةً وثَلاثِين، فيَجِبُ أن يَكُونَ الباقِي خمسةً وَسَبْعِين. زوج وأمٌّ وستُّ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، والتَّرِكَةُ سِتَّةٌ وخَمْسُون دِينارًا وثَوْبٌ، أخَذ الزوجُ بميراثِه الثوْبَ، كم قِيمَتُه؟ فالطريقُ أن تَقْسِمَ العينَ على سِهام مَن بَقِيَ مِن الوَرَثَةِ، تَخْرُجُ ثمانيةٌ، تَضْرِبُها في سِهامِ الزوجِ، تَكُنْ أربعة وعِشْرِين. وإن شِئْتَ قُلْتَ: سِهامُ الزوجِ مِن سِهامِ الباقِين (¬3) ثَلاثَةُ أسْباعِها. فخُذْ ثَلاثَةَ أسْباعِ العَينِ تكُنْ ما ذَكَرْنا، وبالجَبْرِ تَجْعَلُ قيمةَ الثَّوْبِ شيئًا، فإذا أخَذه الزوجُ بثَلاثَةِ أسْهُم، وَجَبَ أن يَأخُذَ باقي الوَرَثَةِ سبعةَ أسْهُمٍ، شيئَين وثُلُثًا، وذلك يَعْدِلُ العَينَ، فالشَّيْءُ ثَلاثَةُ أسباعِها، فخُذْ (¬4) ثلاثةَ أسْباعِ العَينِ تكنْ أربعةً وعشرين، وإن بَسَطْتَ الشَّيئَينِ والثُّلُثَ أثْلاثًا كانت سَبْعَةً، وقَسَمْتَ عليها العَينَ، يَخْرُجُ الشَّيْءُ أرْبَعَةَ وعشرين. زَوجٌ وأمٌّ وستُّ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، والتركةُ خمسةٌ وثلاثون دينارًا وثَوْبٌ، أخَذَتْ إحْدَى الأُخْتين للأبِ والأمِّ الثَّوْبَ وثلاثةَ دنانيرَ، فألْق ما أخَذَتْ مِن العَينِ، فاقْسِمْ الباقِيَ على سِهامِ باقِي الورثةِ، وهي ثمانية، يَخْرُجْ بالقَسْمِ أرْبَعَةُ دنانيرَ وهي نَصِيبُ السهمِ، فللأُخْتِ (¬5) بسَهْمَين ثمانيةُ دنانيرَ، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «الباقي». (¬4) في م: «في». (¬5) في م: «فللأختين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَلقَيتَ منها ثلاثةَ دنانيرَ، بَقِيَ خمسةٌ وهي قيمةُ الثَّوْبِ، والتركةُ جميعُها أربعون دينارًا. و (¬1) بالجَبْرِ تَجْعَلُ قيمةَ الثَّوْبِ شيئًا، فتَقُولُ: إذا أخَذَتِ الأخْتُ بسَهْمَين ثوبًا وثلاثةَ دنانيرَ، وجب أن يَأخُذَ بَقِيةُ الورثةِ أربعةَ أشياءَ واثْنَيْ عَشَرَ دينارًا، وذلك يَعْدِلُ ما حَصَل لهم، وهو اثْنانِ وثلاثون دينارًا. فألْقِ اثْنَيْ عَشَرَ بمثلِها يَبْقَى أرْبَعَةُ أشْياءَ تَعْدِلُ عشرين دينارًا، فقيمةُ الثَّوْبِ خمسةُ دنانيرَ كما قلنا. فإن كانتِ المسألةُ بحالِها، والتركةُ ثلاثون دينارًا وعَبْدان مُتَساويا القيمةِ، أخَذَتْ إحْدَى الأخْتَين للأبوين أحَدَ العبدين، فأسْقِطْ سَهْمَها مِن المسألةِ، وأسْقِطْ بمِثلِها (¬2) العبدَ الآخَرَ، يَبْقَى ستةٌ؛ تَقْسِمُ العَينَ عليها، يَخْرُجُ للسهمِ خمسةٌ، فقيمةُ العَبْدِ عَشَرَةٌ. وبالجَبْرِ تَجْعَلُ قيمةَ كلِّ عَبْدٍ شيئًا، فإذا أخَذَتْ بسَهْمَين شيئًا، وجب أن يكونَ لباقي الورثةِ أربعةُ أشياءَ، وذلك يَعْدِلُ ما معهم، وهو شيءٌ وثلاثون دينارًا، فألْقِ المُشْتَرَكَ يَعْدِلِ الشيءُ عَشَرَةً، كما قلنا. ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في الأصل: «بمثلهما».

باب ذوي الأرحام

بَابُ ذَوي الْأَرْحَامِ وَهُمْ كُلُّ قَرَابَةٍ لَيسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ. وهُمْ أَحدَ عَشَرَ صِنْفًا، وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ الْأخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الإخوَةِ، وَبَناتُ الْأَعْمَامِ، وَبَنُو الإخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْعَمُّ مِنَ الْأُمِّ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْأخْوَالُ وَالْخَالات، وَأَبُو الْأُمِّ، وَكُلُّ جَدَّةٍ أدْلَتْ بِأَبٍ بَينَ أُمَّينِ أو بِأَبٍ أَعلَى مِنَ الْجَدِّ. وَمَنْ أَدلَى بِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ذَوي الأرْحامِ (وهم كلُّ قَرابَةٍ ليس بذِي فَرْضٍ ولا عَصَبَةٍ. وهم أحَدَ عَشَرَ صِنْفًا؛ وَلَدُ البَناتِ، ووَلَدُ الأخَواتِ، وبَناتُ الإِخْوَةِ، وبَناتُ الأعْمامِ، وبَنُو الإِخْوةِ مِن الأُمِّ، والعَمُّ مِن الأُمِّ، والعَمَّاتُ، والأخْوالُ والخالاتُ، وأَبو الأُمِّ، وكلّ جَدَّةٍ أدْلَتْ بأبٍ بينَ أُمَّينِ أو بأبٍ أعلَى مِن الجَدِّ. ومَن أدْلَى بهم) فهؤلاء (¬1) يُسَمَّوْنَ ذَوي الأَرْحامِ. وكان أبو عبدِ اللهِ يُوَرِّثُهم إذا لم ¬

(¬1) في م: «فهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكُنْ ذُو فَرْض ولا عَصَبَةٌ إلَّا الزَّوْجَ والزَّوْجَةَ. رُوِيَ هذا القوْلُ عن عمرَ، وعليٍّ، وعبدِ اللهِ، وأبي عُبَيدَةَ بنِ الجَرّاحِ، ومُعاذِ بنِ جَبَل، وأبي الدَّرْداءِ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال شُرَيحٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، وعَلْقَمَةُ، ومَسْرُوقٌ، وأهْلُ الكُوفَةِ. وكان زَيدٌ لا يُوَرِّثُهم ويَجْعَلُ الباقيَ لبَيتِ المالِ. وبه قال مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ، وابنُ جَرِيرٍ؛ لأنَّ عطاءَ بنَ يسارٍ روَى أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكب إلي قُباءَ يَستَخِيرُ اللهَ في العَمَّةِ والخالةِ، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن لا مِيراثَ لهما. رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬1). ولأنَّ العَمَّةَ وبِنْتَ الأخِ لا تَرِثانِ مع إخْوَتِهما، فلا تَرِثان مُنْفَرِدَتَين، كالأجْنَبِيّاتِ. وذلك لأنَّ انْضِمامَ الأخِ إليهما يُؤكِّدُهما ويُقَوِّيهما، بدَليلِ أنَّ بناتِ الابنِ والأخَواتِ مِنَ الأبِ يُعَصِّبُهُنَّ أخوهُنَّ فيما بَقِيَ بعدَ مِيراثِ البَناتِ والأخَواتِ مِن الأبوينَ، ولا تَرِثْنَ مُنْفَرِداتٍ، فإذا لم تَرِث هاتانِ مع أخِيهِما فمع عَدَمِه أوْلَى. ولأنَّ المَوارِيثَ إنَّما ثَبَتَتْ نصًّا، ولا نَصَّ في ¬

(¬1) في: باب العمة والخالة. السنن 1/ 70. وهو في مراسيل أبي داود 191. كما أخرجه البيهقي، في: باب من لا يرث من ذوي الأرحام، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 212، 213. والدارقطني، في: كتاب الفرائض. سنن الدارقطني 4/ 98. والحاكم، في: باب ميراث العمة والخالة، من كتاب الفرائض. المستدرك 4/ 343.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هؤلاءِ. ولَنا، قول اللهِ تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). أي أحَقُّ بالتَّوارُثِ في حُكْمِ اللهِ. قال أهل العلمِ: كان التَّوارُثُ في ابتداءِ الإسلامِ بالحِلْفِ، فكان الرجلُ يَقول للرجلِ: دَمِي دَمُكَ، ومالِي مالُكَ، تَنْصُرُني وأنْصُركَ، وتَرِثُنِي وأرِثُكَ. فيَتَعاقَدانِ الحِلْفَ بينَهما على ذلك، فيَتَوارَثان به دُونَ القَرابَةِ، وذلك قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ (¬2) أَيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬3). ثم نُسِخَ ذلك، وصارَ التَّوارُثُ بالإِسلام والهِجْرَةِ، فإذا كان له ولَدٌ ولم يُهاجِرْ ورِثَه المُهاجرون دونَه، وذلك قولُه عزَّ وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬4). ثم نُسِخَ ذلك بقَولِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. وروَى الإمامُ أحمدُ (¬5) بإسنادِهِ عن سهْلِ ¬

(¬1) سورة الأنفال 75، سورة الأحزاب 6. (¬2) في م: «عقدت». وانظر ما تقدم في صفحة 8. (¬3) سورة النساء 33. وانظر ما أخرجه ابن جرير في تفسيره 5/ 52، 53. (¬4) سورة الأنفال 72. (¬5) في: المسند 1/ 28، 46. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في ميراث الخال، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 254، 255. وابن ماجه، في: باب ذوي الأرحام، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 914. وإسناده صحيح. انظر الإرواء 6/ 137.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ حُنَيفٍ، أنَّ رجلًا رمَى رجلًا بسَهْم فقتلَه ولم يَتْرُكْ إلَّا خالًا، فكتَبَ فيه أبو عُبَيدَةَ إلى عمرَ، فكتبَ إليه عمرُ: إنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «الخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ». قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسَنٌ صَحيحٌ. وروَى المِقْدامُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الخالُ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ ويَرِثُهُ». أخرجه أبو داودَ (¬1). وفي لَفظٍ: «مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، يَعْقِلُ عنه، ويَفُكُّ عَانِيَهُ» (¬2). فإن قيلَ: المرادُ به أنَّ مَن ليس له إلَّا خالٌ فلا وَارِثَ له، يُقالُ: الجوعُ زادُ مَن لا زادَ لَهُ، والماءُ طِيبُ مَن لا طِيبَ له، والصبرُ حِيلةُ مَن لا حِيلَةَ لَه. أو أنَّه أرادَ بالخالِ السُّلطانَ. قُلْنا: هذا فاسِدٌ؛ لوجوهٍ ثلاثةٍ؛ أحدُها، أنَّه قال: «يَرِثُ مالهُ». وفي لفظٍ: «يَرِثُهُ». والثاني، أنَّ الصحابَةَ فَهِموا ذلك، فكتَبَ عمرُ هذا جوابًا لأبي عُبَيدَةَ حين سألَه عن مِيراثِ الخالِ، وهم أحَقُّ بالفَهْمِ والصوابِ مِن غيرِهم. والثالثُ، أنَّه سَمَّاهُ وارِثًا، والأصْلُ الحقيقَةُ. وقولُهم: إنَّ هذا يُسْتَعْملُ للنَّفْي. قُلْنا: والإِثْباتِ، كقَولِهم: يا عِمادَ مَن لا عمادَ له. يا سَنَدَ مَن لا سَنَدَ له. يا ذُخْرَ مَن لا ذُخرَ له. ¬

(¬1) في: باب في ميراث ذوي الأرحام، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 111. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الدية على العاقلة فإن لم يكن عاقلة ففي بيت المال، من كتاب الديات، وفي: باب ذوي الأرحام، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 879، 914. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 131، 133. وإسناده قوي. انظر الإحسان 13/ 397. (¬2) أخرجه أبو داود في الموضع السابق. والبيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 214. وإسناده حسن. انظر الإحسان 13/ 400.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى سعيدٌ (¬1) بإسْنادِه عن واسِعِ بنِ حِبّان، قال: تُوُفِّيَ ثابتُ بنُ الدَّحْداحَةِ ولم يَدَعْ وارِثًا ولا عَصَبَة، فرُفِعَ شأنُه إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فدفَعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ماله إلى ابنِ اختِهِ أبي لُبابَةَ بنِ عبدِ المُنْذِرِ. ورَواه أبو عُبَيدٍ في «الأمْوالِ» (¬2)، إلَّا أنَّه قال: لم يُخلِّفْ إلَّا ابنةَ أخٍ له، فقضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بميرِاثِهِ لابنةِ أخيهِ. ولأنَّه ذو قَرابَةٍ، فَيرِثُ كذَوي الفُروضِ؛ وذلك لأنَّه ساوَى الناسَ في الإسلامِ وزاد عليهم بالقَرابَةِ، فكان أوْلَى بمالِه (¬3) منهم، ولهذا كان أحَقَّ في الحياةِ بصَدَقَتِه وصِلتِه، وبعدَ الموتِ بوصِيَّتِه، فأشْبَهَ ذَوي الفُروضِ والعَصَباتِ المحْجُوبِينَ، إذا لم يكُنْ مَن يَحْجُبُهم وحديثُهم مُرْسَلٌ. ثم يَحْتَمِلُ أنَّه لا مِيراثَ لهما مع ذَوي الفُروضِ والعَصَباتِ؛ ولذلك سَمَّى الخال: «وَارِث مَن لا وارِث له». أي لا يرِثُ إلَّا عندَ عَدَمِ الوارِثِ. وقولُهم: لا يرِثانِ مع إخوتِهما. قُلْنا: لأنَّهما أقْوَى منهما. وقولُهم: إنَّ المِيراثَ إنَّما ثَبَت نصًّا. قُلْنا: قد ذكَرْنا نُصوصًا. ثم التَّعْلِيلُ واجبٌ مهما أمْكَنَ، وقَدْ أمْكَنَ ههُنا، فىلا يُصارُ إلى التَّعَبُّدِ المحْضِ. ¬

(¬1) في: باب العمة والخالة. السنن 1/ 70، 71. كما أخرجه الدارمي، في: باب ميراث ذوي الأرحام، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 381. وعبد الرزاق، في: باب الخالة والعمة وميراث القرابة، من كتاب الفرائض. المصنف 10/ 284، 285. وإسناده ضعيف. انظر الإرواء 6/ 141. (¬2) لم نجده فيما بين أيدينا منه. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والرَّدُّ يُقَدَّمُ علَى ميراثِ ذَوي الأرحامِ، فمتَى خَلَّفَ الميِّتُ عَصَبَةً أو ذا فَرْض مِن أقارِبِه، أخَذَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ. هذا قولُ عامَّةِ مَن ورَّثَ ذَوي الأرْحام. قَال الخَبْرِيُّ: لم يختَلِفوا أنَّ الرَّدَّ أوْلَى منهم، إلَّا ما رُوِيَ عن سعيدِ بنَ المُسَيَّبِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنَّهما وَرَّثا الخال مع البِنْتِ. فيَحْتَمِلُ أنَّهما وَرَّثاهُ لكونِهِ عَصَبَةً أو مَوْلًى، لِئَلَّا يُخالِفَ الإِجماعَ وقولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الخَالُ وَارِثُ مَنْ لا وارِثَ له». ومِن مسائل ذلك: أبُو أُم وجَدَّةٌ، المالُ للجَدَّةِ. بنتُ ابن وبنتُ بنتِ ابنِ ابنِ أخٍ. وابنُ أختِ عَمٍّ وعمةٌ. ثلاثُ (¬1) بني إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ. لا شَيْءَ لذوي الرَّحِمِ في جَميعِ ذلك. فصل: وكذلك المَوْلَى المُعْتِقُ وعَصَباتُه يُقَدَّمُون على ذوي الأرْحامِ. وهو قولُ عامَّةِ مَن ورَّثهم مِن الصَّحابَةِ وغيرِهم، وقولُ مَن لا يُورِّثُهم أيضًا. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ تقديمُهُم على المَوْلَى. وبهِ قال ابنُه أبو عُبَيدَةَ (¬2)، وعبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، وعَلْقَمَةُ، والأسودُ، وعَبِيدَةُ، ومسروقٌ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والقاسِمُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومَيمُونُ بنُ مِهْرانَ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الخالُ وارِث مَنْ لا وَارِثَ له». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، ويقال: اسمه كنيته، تابعي، ثقة، فقد ليلة دجيل، وكانت سنة إحدى وثمانين. وقيل: سنة اثنتين وثمانين. تهذيب التهذيب 5/ 75، 76.

2825 - مسألة: (ويورثون بالتنزيل، فيجعل كل وارث بمنزلة من أدلى به، فيجعل ولد البنات والأخوات كأمهاتهم، وبنات الإخوة والأعمام وولد الإخوة من الأم كآبائهم، والأخوال والخالات وأبو الأم كالأم، والعمات والعم من الأم كالأب. وعنه، كالعم. ثم تجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به)

وَيُوَرَّثُونَ بِالتَّنزِيلِ، وَهُوَ أنْ تَجْعَلَ كُلَّ شَخْصٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَدْلَى بِهِ، فَتَجْعَلَ وَلَدَ الْبَنَاتِ وَالأَخوَاتِ كَأُمَّهَاتِهِمْ، وَبَنَاتِ الإخْوَةِ وَالأعْمَام وَوَلَدَ الإخْوَةِ مِنَ الأمِّ كَآبَائِهِمْ، وَالأخْوَال وَالْخَالاتِ وَأَبَا الأمِّ كَالأُمِّ، وَالْعَمَّاتِ وَالْعَمَّ مِنَ الأُمِّ كَالأبِ. وَعَنْهُ، كَالْعَمِّ. ثُمَّ تَجْعَلُ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ لِمَنْ أَدلَى بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَوْلَى وارِثٌ. ولأنَّ الموْلَى يَعْقِلُ ويَنْصُرُ، أشْبَهَ العَصَبةَ مِن النَّسَبِ. 2825 - مسألة: (ويُوَرَّثُون بالتَّنزِيلِ، فيُجْعَلُ كلُّ وارِثٍ بمنزِلَةِ مَن أدْلَى به، فيُجْعَلُ ولدُ البناتِ والأخواتِ كأُمَّهاتِهم، وبناتُ الإِخوةِ والأعمام وولدُ الإِخوةِ مِن الأمِّ كآبائهم، والأخوالُ والخالاتُ وأبو الأمِّ كالأمِّ، وَالعماتُ والعمُّ مِن الأمِّ كالأبِ. وعنه، كالعمِّ. ثم تَجْعَلُ نَصِيبَ كلِّ وارِثٍ لمن أدلى به) مَذهبُ ألى عبدِ اللهِ، رحمه اللهِ، في توريثِ ذَوي الأرْحامِ مَذْهَبُ أهلِ التَّنزِيل، وهو أن يُنَزَّلَ كلُّ واحدٍ منهم مَنْزلَةَ مَن يَمُتُّ به مِن الوَرَثَةِ فتَجْعَلَ له نصِيبَهُ. فإن بَعُدُوا نُزِّلُوا درجةً درجة حتى يصِلُوا إلى مَن يَمُتُّون به، فيأخُذُون مِيراثَه. فإن كان واحِدًا أخَذَ المال كلَّه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانوا جماعَةً قَسَمْتَ المال بينَ مَن يَمُتُّونَ به، فما حصَلَ لكُلِّ واحدٍ جُعِلَ لمَن أَمَتَّ به، فإن بَقِيَ مِن سِهامِ المسأْلَةِ شَيْءٌ رُدَّ عليهم على قَدْرِ سِهامِهم. هذا قولُ عَلْقَمةَ، ومسروقٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وحمَّادٍ، ونُعَيم، وشَرِيكٍ، وابنِ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيِّ، وسائرِ مَن وَرَّثَهم غيرَ أهلِ القَرابةِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، وعبدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما نزَّلا بنتَ البنتِ منزِلَةَ البنتِ، وبنتَ الأخِ منزِلَةَ الأخ، وبنتَ الأخْتِ منزِلَةَ الأخْتِ، والعمَّةَ منزِلَةَ الأبِ، والخالةَ منزِلَةَ الأمِّ. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، في العَمَّةِ والخالةِ. وعن عليٍّ، أنَّه نزَّلَ العمَّةَ بمنزِلَةِ العَمِّ. ورُوِيَ ذلك عن عَلْقَمَةَ، ومَسْرُوقٍ. وهي الرِّوايَةُ الثانيةُ عن أحمدَ. وعن الثَّوْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، أنَّهما نزَّلاها مَنْزِلَةَ الجَدِّ مع ولَدِ الإِخوةِ والأخَواتِ، ونزَّلها آخرونَ منزِلَةَ الجَدَّةِ. وإنَّما صار هذا الاختلافُ في العَمَّةِ لإِدْلائِها بأربَعِ جِهاتٍ وارِثَاتٍ؛ فالأبُ والعَمُّ أخَواها، والجَدُّ والجَدَّةُ أبَواها. ونزَّلَ قومٌ الخالةَ جَدَّةً؛ لأنَّ الجَدَّةَ أُمُّها. والصَّحيحُ مِن ذلك تنزيلُ العَمَّةِ أَبًا، والخالةِ أمًّا؛ لوُجُوهٍ ثلاثةٍ؛ أحدُها، ما روَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «العَمَّةُ بمَنْزِلَةِ الأبِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذَا لَمْ يَكُنْ بَينَهُمَا أَبٌ، والخَالةُ بِمَنْزِلَةِ الأمْ إذَا لَمْ يَكُنْ بَينَهُمَا أُمُّ». روَاه الإِمامُ أحمدُ (¬1). والثاني، أنَّه قولُ عمرَ، وعليٍّ، وعبدِ اللهِ، في الصَّحيحِ عنهم، [ولا مُخَالِفَ لهم في الصَّحابَةِ] (¬2). الثالثُ، أنَّ الأبَ أقْوَى جِهاتِ العَمَّةِ، والأُمَّ اقوَى جِهاتِ الخالَةِ، فتَعَيَّنَ تَنْزِيلُهما بهما دُونَ غيرِهما، كبنتِ الأخِ وبنتِ العَمِّ، فإنَّهما يُنَزَّلان بمنزلَةِ أُبويهما دون أخَوَيهما. ولأنَّه إذا اجتمَعَ لهما قَراباتٌ ولم يُمكِنْ توريثُهما بجميعِها، وَرَّثْناهما بأقْواها، كالمجوسِ عندَ مَن لا يُوَرِّثُهم بجميعِ قَراباتِهم، وكالأخِ مِن الأبوَين، فإنَّا نُوَرِّثُه بالتَّعْصيبِ وهي جِهَةُ أبيهِ، دون قَرابَةِ أُمِّهِ. وأما أبو حنيفَةَ وأصحابُه، فإنَّهم ورَّثوهم على ترتيبِ العَصَباتِ، فجَعَلوا أوْلَاهم مَن كان مِن ولَدِ الميِّتِ وإن سَفَلُوا، ثم ولدِ (¬3) أبَوَيهِ أو أحَدِهما وإن سَفَلُوا، ثم وَلَدِ أبَوَيْ أُبوَيه وإن سَفَلوا، كذلك أبَدًا، لا يرِثُ بنو أبٍ أعْلَى وهناك بنو أَبٍ أقْرَبُ منه، وإن نَزَلَتْ درَجتُهم. وعن أبي حنيفَةَ، أنَّه جَعَل أبا الأُمِّ وإن عَلَا أوْلَى مِن ولَدِ البناتِ. ويُسَمَّى مذهبُهم ¬

(¬1) لم نجده في مسنده. وعزاه الألباني لابن وهب في جامعه 14، وقال: ضعيف. انظر إرواء الغليل 6/ 143، 144. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من النسختين. وانظر المغني 9/ 86.

2826 - مسألة: (فإن أدلى جماعة منهم بواحد، واستوت منازلهم منه، فنصيبه بينهم بالسوية، ذكرهم وأنثاهم سواء. وعنه، للذكر مثل

فَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِوَاحِدٍ، وَاسْتَوَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنْهُ، فَنَصِيبُهُ بَينَهُمْ بِالسَّويَّةِ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ. وَعَنْهُ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ مَذْهَبَ أهلِ القَرابَةِ. ولَنا، أنَّهم فَرْغٌ في الميراثِ على غيرِهم، فوجَب إلحاقُهم بمَن هم فرعٌ له، وقد ثَبت أنَّ ولَدَ الميِّتِ مِن الإِناثِ لا يُسقِطُ ولَدَ أبيه، فأَوْلَى أن لأ يُسْقِطَهم ولدُه. مسائل ذلك: بنتُ بنتٍ وبنتُ بنتِ ابن، المالُ بينَهما على أربعةٍ. فإن كان معهما بنتُ أخٍ فالباقي لها، وتصِحُّ من سِتَّةٍ. فإِن كان معهما خالة، فلبنتِ البنتِ النِّصْفُ، ولبِنْتِ بنتِ الابنِ السُّدْسُ تكْمِلةُ الثُّلُثَين، وللخالةِ السُّدْسُ، والباقِي لبنتِ الأخِ. فإن كان مكانَ الخالةِ عمَّة، حجَبَتْ بنتَ الأخِ وأخَذَتِ الباقيَ؛ لأنَّ العمَّةَ كالأبِ، فتُسْقِطُ مَن هو بمنزِلَةِ الأخِ، ومَن نزَّلها عمًّا جعل الباقيَ لبنتِ الأخِ وأسقطَ بها العَمَّةَ، ومَن نزَّلَها جَدًّا قاسَم بها ابنةَ الأخِ الثُلُثَ الباقيَ بينهما نِصْفينِ، ومَن نَزَّلَها جَدَةً جعلَ لها السُّدْسَ، ولبنتِ الأخِ الباقيَ. وفي قولِ أهلِ القرابةِ، لا تَرِثُ بنتُ الأخِ مع بنتِ البنتِ، ولا مع بنتِ بنتِ الابنِ شَيئًا. 2826 - مسألة: (فَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِوَاحِدٍ، وَاسْتَوَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنْهُ، فَنَصِيبُهُ بَينَهُمْ بِالسَّويَّةِ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ. وَعَنْهُ، لِلذَّكَرِ مِثْل

الأنْثَيَينِ، إلا وَلَدَ الأُمِّ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يُسَوَّى بَينَهُمْ إلا الْخَال وَالْخَالةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَظِّ الأنْثَيَين، إلا وَلَدَ الأُمِّ. وقال الخِرَقِيُّ: يُسَوَّى بينَهم إلا الخال والخالةَ) اختَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في تَوْريثِ الذُّكُورِ والإِناثِ مِن ذَوي الأرْحامِ إذا كانُوا مِن أبٍ واحِدٍ وأُمٍّ واحِدَةٍ؛ فنَقَل الأثْرَمُ، وحَنْبَلٌ، وإبراهيمُ بنُ الحارثِ، في الخالِ والْخَالةَ: يُعْطَوْنَ بالسَّويَّةِ في جَميعِ ذَوي الأرْحامِ. اختارَه أبو بكرٍ. وهو مذهبُ أبِي عُبَيدٍ، وإسحاقَ، ونعَيمِ بنِ حمَّادٍ؛ لأنَّهم (¬1) يَرِثُون بالرَّحِمِ المجَرَّدِ، فاستوَى ذَكَرُهُم وأُنْثاهُم، كوَلَدِ الأُمِّ. ونقَلَ يعقُوبُ ابنُ بَختان: إذا تَرَك وَلَدَ خالِه (¬2) وخالتِه، اجْعَلْه بمَنْزِلَةِ الأخِ والأُخْتِ، للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَين، وكذلك وَلَدُ العَمِّ والعَمَّةِ. ونقَل عنه المَرُّوذِيُّ، في مَن تَرَكَ خاله وخالتَه؛ للخالِ الثُّلُثان وللخالةِ الثُّلُثُ. فظاهِرُ هذا التفضيلُ. وهو قولُ أهلِ العِراقِ، وعامَّةِ المُنَزِّلِينَ؛ لأنَّ ميراثَهم مُعْتَبَر بغيرِهم، فلا يجوزُ حملُهم على ذَوي الفُروضِ؛ لأنَّهم يأْخُذونَ المال كُلَّه، ولا عَلَى العَصَبَةِ البعيدِ؛ لأنَّ ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) في م: «خالة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَهم ينْفَرِدُ بالميراثِ دون الإِناثِ، فوجَبَ اعتبارُهم بالقَريبِ مِن العَصَباتِ والإخْوةِ والأخَوات. ويُجَابُ عن هذا بأنَّهم مُعْتَبَرونَ بوَلَدِ الأُمِّ، وإنَّما يأْخُذونَ كلَّ المالِ بالفَرْضِ والرَّدِّ، واتفَقَ الجَميعُ على التسويَةِ بينَ وَلَدِ الأُمِّ، لأنَّ [آبَاءَهم يستوى] (¬1) ذَكَرُهم وأُنْثاهُم، إلَّا في قولِ مَن أماتَ السَّبَبَ، فإنَّ عندَه للذَّكَرِ مثْل حَظِّ الأُنْثَيَينِ. فأمّا الَّذي نَقَل عنه الخِرَقِيُّ، أنَّه يُسَوَّى بينَ الجميعِ، إلا الخال والخالةَ، قال شَيخُنا (¬2): فلا أعلمُ له موافِقًا على هذا القَوْلِ، ولا عَلِمْتُ وَجْهَه، والخِلافُ إنَّما هو في ذَكَر وأُنْثَى أَبُوهما وأمُّهما واحِدٌ، فأمَّا إذا اختَلَفَ آباؤُهم وأُمَّهاتُهم، كالأخْوالِ والخالاتِ الْمُفْترِقين، والعمَّاتِ المفترِقَاتِ، أو إذا أدْلَى كلُّ واحِدٍ منهم بغَيرِ مَن أدْلَى به الآخَرُ، كابنِ بنتٍ وبنتِ بنتٍ أخرى، فلذلك مَوْضِعٌ يُذْكَرُ فيه، إن شاء الله تعالى. مسائلُ ذلك: ابنُ أُخْتٍ مَعَهُ أُخْتُه، أو (¬3) ابنُ بِنْتٍ مَعهُ أُخْتُه، المالُ ¬

(¬1) في م: «أباهم يسوى». (¬2) في: المغني 9/ 94. (¬3) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما نِصْفَين عندَ مَن سَوَّى. وعِنْدَ أهلِ القَرابةِ وسائِرِ المُنَزِّلِينَ، المالُ بَينَهما على ثَلاثَةٍ. ابنَا (¬1) وابْنَتا أُخْتٍ لأبوَين وثلاثُ بَنِي وثلاث بَناتِ أُخْتٍ لِأبٍ وَأَربَعُ بني وأربعُ بَناتِ أُخْتٍ لأُمٍّ، أصْلُ المسألةِ مِن خَمْسَةٍ؛ لأُخْتِ مِن الأَبَوَين ثلاثةٌ بينَ وَلَدِها على أربعةٍ، ولأُخْتِ مِن الأبِ سهمٌ بينَ وَلَدِها على ستَّةٍ، وللأُخْتِ مِن الأُمِّ سَهْم بينَ وَلَدِها على ثمانيةٍ، والأَرْبَعةُ داخِلَةٌ فِيها، والسِّتَّةُ تُوافِقُها بالنِّصْفِ، فتَضْرِبُ نِصفَها في ثَمانيةٍ تكنْ أرْبَعَةً وعِشْرين، ثم في خَمْسَةٍ تَكُنِ مائةً وعِشْرِينَ، ومَن فَضَّلَ أْبقَى وَلَدَ الأُمِّ بحالِهم وجَعَل وَلدَ الأُخْتِ مِن الأبوَين سِتَّةً، تُوافِقُهم سِهامُهم بالثُّلُثِ، فيَرْجِعُونَ إلى اثْنَين فيَدْخُلانِ في الثَّمانيةِ، ووَلَدَ الأُخْتِ مِن الأبِ تِسْعَةً، تَضْرِبُها في ثَمانيةٍ تَكْنِ اثْنَين وسَبْعِين، ثم في خمسةٍ تكن ثلَاثمائةٍ وسِتِّين. وإن كانوا أولادَ عَمَّاتٍ أو خالاتٍ مُفتَرِقاتٍ فكذلك. وإن كانوا أولادَ بناتٍ أو أولادَ أخَواتٍ مِن أَبَوَين أو مِن أبٍ، فهِيَ مِن اثْنَينِ وسَبْعينَ عندَ مَن سَوَّى، ومِن مائةٍ وثمانيةٍ عندَ مَن فَضَّلَ. وقَوْلُ أهلِ العِراقِ، هِيَ مِن سبعةٍ وعشرين كأولادِ البَنِينَ. فصل: إذا كان معك أولادُ بَناتٍ أو أخَوَاتٍ، قَسَمْتَ المال بَينَ أُمَّهاتِهِنَّ على عَدَدِهِنَّ، فما أصابَ كلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ فهو لوَلَدِها بالسَّويَّةِ عندَ مَن سَوَّى، وعندَ مَن فَضَّلَ جَعَلَه بينَهم على حَسَبِ مِيراثِهم. واختلف ¬

(¬1) في م: «ابنان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُ أبي حنيفَةَ، فذَهَبَ أبو يُوسُفَ إلى قَسْمِ المالِ بَينَهم (¬1) على عَدَدِهم دُونَ مُراعاةِ أُمَّهاتِهم، إذا اسْتَوَوْا ممَّن يُدْلُون بهِ مِن الآباءِ والأُمَّهَاتِ إلى بَنَاتِ المَيِّتِ، لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنْثَيَينِ، كأوْلادِ البنين. وجَعَل محمدُ بنُ الحسنِ مَن أدْلَى بابنٍ ابنًا وإن كان أُنْثى، ومَن أدْلَى ببنْتٍ بنتًا وإن كان ذَكَرًا، وجعل المُدْلَى بِهِم بعَدَدِ المُدْلِين، ثم قَسَمَ بينَهم على عَدَدِهم، فما أصابَ وَلَدَ الابنِ قَسَمَه بينَهم للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنْثَيَينِ، وما أصابَ وَلَدَ الأُنْثَى قَسَمَه بينَهم كذلك. مسائل مِن ذلك: بِنْتُ ابنِ بنتٍ وابنُ بنْتِ بِنْتٍ، قولُ مَن سَوَّى، المالُ بَينَهما نِصْفَينِ، وقولُ مَن فَضَّلَ، إن كانا من ولدِ بنتين (¬2) فكذلك، وإن كانا مِن ولَدِ بنتٍ واحِدَةٍ فالمالُ بينَ ابنِها وبِنْتِها، للابن ثُلُثاه ولبِنْتِها ثُلُثُه، فما أصابَ ابنَها فهو لبِنْتِه، وما أصابَ بِنْتَها فهو لابنِها، فيصيرُ للبنتِ سَهْمان، وللابنِ سَهْمٌ، وكذلك قولُ محمدٍ. وقَولُ أبِي يوسفَ، للابنِ سَهْمَان، وللبِنْتِ سَهْمٌ، كابنِ الميِّتِ وبِنْتِه. ابنَا (¬3) بنتِ بنتٍ وابنُ ابنِ بنتٍ، قَولُ مَن سَوَّى، لابنِ ابنِ البنتِ النِّصْفُ، والبَاقِي بينَ الباقِينَ على ثلاثةٍ، سَواءٌ كَانُوا مِن ولدِ بنتٍ، أو مِن ولدِ بِنْتَينِ، وقولُ المفَضِّلِين، إن كَانوا مِن ولَدِ بِنْتَينِ فلابنِ ابْنِ البِنْتِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسختين: «بنين». وانظر المغني 9/ 95. (¬3) في الأصل: «ابنا و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصْفُ، والنِّصْفُ الآخَرُ بينَ الباقين على خمسةٍ. وإن كانوا مِن ولدِ بنتٍ، فلابنِ ابنِ البنتِ الثُّلُثان، والثُّلُثُ البَاقِي للباقينَ على خمسةٍ؛ لأنَّ المال كان للبنتِ الأُولَى، فقُسِمَ بينَ ابنِها وبِنْتِها أثْلًاثا؛ للابنِ يسهْمانِ، فهما لابنهِ؛ وللبِنتِ سَهْمٌ، فهو لوَلَدِها. قولُ محمدٍ، يُقْسَّمُ بينَهم على خَمْسَةٍ؛ لابنِ الابنِ يسهْمان؛ لأنَّه يُدْلِي بابن، وللباقينَ ثَلاثَةٌ؛ لأنَّهم يُدْلونَ بأُنْثَى. وقولُ أبي يوسفَ: يُقْسَّمُ بينَهم على سبعةٍ؛ لِكُلِّ ابنٍ يسهْمان وللبنت سِهْمٌ. ابنا بنتِ بِنتٍ وبِنتا ابنِ بنتٍ، قولُ مَن سَوَّى، المالُ بينَهم على أرْبَعَةٍ بِكُلِّ حالٍ. قولُ المفَضِّلين، إن كانوا مِن وَلَدِ بِنْتَين فكذلك، وإن كانوا مِن وَلَدِ واحِدَةٍ، فلابنِها الثُّلُثان بينَ ابْنَتَيه، ولابنَتِها (¬1) الثُّلُثُ بينَ ابْنَيها. قولُ أبي يوسفَ، المالُ بينَهم على ستةٍ؛ لكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمانِ ولِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ. قَوْلُ محمدٍ، لِكُلِّ ذَكَر سَهْمٌ، ولِكُلِّ أُنْثَى سَهْمانِ. ابنا وابنتا ابنِ أُخْتٍ، وثَلاثةُ بني وثلاثُ بناتِ بنتِ أُخْتٍ، قَوْلُ مَن سَوَّى، النِّصْفُ بينَ الأوَّلَينِ على أَرْبَعَةٍ، والنِّصْفُ الثاني بينَ الآخِرَين على سِتَّةٍ، وتَصِحُّ مِن أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ. قولُ مَن فَضَّلَ، إن كانوا مِن وَلَدِ واحِدَةٍ فللأوَّلَين الثُّلُثانِ بينَهم (2) على ستةٍ، وللآخِرَينَ الثُّلُثُ بينَهم (¬2) على تِسْعَةٍ، وَتَصِحُّ مِن أرْبَعَةٍ وخَمْسِين. وإن كانوا مِن ولدِ اثنتين (¬3) صَحَّتْ مِنِ سِتَّةٍ وثلاثين. قولُ أَبي يُوسُفَ، للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَين، وتَصِحُّ مِن خمْسَةَ ¬

(¬1) في الأصل: «لابنتهما». (¬2) في م: «سهم» وغير منقوطة في الأصل. (¬3) في م: «ابنتين» وغير منقوطة في الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَشَرَ. وقولُ محمدٍ، وَلَدُ ابنِ الأُخْتِ بمنزلةِ أَرْبعةِ ذكورٍ، وولدُ بنتِ الأُخْتِ كسِتِّ إناثٍ، فيُقْسَمُ المالُ بينَهم على أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ فلولدِ ابنِ الأُخْتِ منها ثَمانيةُ أسْهُمٍ بينَهم على سِتَّةٍ، وللآخِرَين سِتَّةٌ بينَهم على تسعةٍ (¬1)، وَتَصِحُّ مِن اثنينِ وأَرْبعينَ، وترجِعُ بالاخْتِصارِ إِلى أحَدٍ وعِشرين. ابنتا أخٍ وابنُ وابنةُ أُخْتٍ، لابنَتَي الأَخِ الثُّلُثان في قولِ المُنَزِّلين جَميعِهم وقولِ محمدٍ. والثُّلُثُ لولَدَي الأُخْتِ بينَهما بالسَّويَّةِ عندَ مَن سَوَّى، ومَن فضَّل جعَله بينَهما أثلاثًا. وهو قولُ محمدٍ. وقال أبو يوسُف: لابنِ الأُخْتِ سَهْمان، ولكلِّ واحدٍ مِن الباقِين سَهْمٌ، وتَصِحُّ مِن خمسةٍ. فصل: بِنتُ بنتٍ وبِنتُ بنتِ ابنٍ، هي مِن أَرْبَعةٍ عندَ المنَزِّلين جميعِهم، وعندَ أهْلِ القَرابةِ (¬2) هو لبنتِ البنتِ؛ لأنَّها أقْرَبُ. فإن كان معهما بنتا بنتِ ابن أُخْرَى، فكأَنَّهم بنتَا ابنٍ وبنتٌ، فمسألتُهم مِن ثمانيةٍ، وتَصِحُّ مِن (¬3) ستَّةَ عَشَرَ. ابنُ بنتِ ابن وبنتُ ابنِ بنتٍ، المالُ للابنِ؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الوارثِ. وهذا قولُ عامَّةِ مَن وَرَّثَهم، إلَّا ما حُكِيَ عن ابنِ سالمٍ (¬4)، أنَّه يُنَزَّلُ ¬

(¬1) في المغني 9/ 96: «سبعة». (¬2) بعده في م: «أيضًا». (¬3) سقط من: م. (¬4) محمد بن سالم الهمداني الكوفي، أبو سهل، روى عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح، وعنه الثوري ويزيد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البعيدُ حتَّى يُلْحَقَ بوارِثِه، فيكونُ المالُ بينَهما على أَربعةٍ؛ للبنتِ ثلاثةٌ، وللابنِ سَهْمٌ، كبنتٍ وبنتِ ابنِ بنتِ بنتِ ابنٍ وبنتِ بنتِ ابنِ ابنٍ، وبِنْتا بنتِ ابنِ ابنٍ آخَرَ، للأُولَى ثلاثةُ أرباعِ المالِ، والرُّبْعُ الباقِي بينَ الباقياتِ على أربعةٍ، فتَضْرِبُها في أصلِ المسألَةِ تكنْ مِن سِتَّةَ عشَرَ. ابنُ وبنتُ بنتٍ، وثلاثُ بناتِ بنتٍ، وابنا بنتِ ابنٍ، لا شَيْءَ لهَذينِ في قولِ الجميعِ؛ لأَنَّ أمَّهما تَسْقُطُ باستكمالِ البناتِ الثُّلثَين، ويكون النِّصفُ بينَ الابنِ وأُخْتِهِ علَى اثنَين، والنِّصفُ الآخَرُ على ثلاثٍ، وتَصِحُّ مِن اثنَيْ عشَرَ عندَ مَن سَوَّى، ومَن فَضَّل جعلَها بينَهم على سِتَّةٍ. وهو قولُ أهلِ القَرابةِ أيضًا. بنتُ بنتِ بنتٍ، وبنتُ ابنِ بنتٍ أُخرَى، وبنتُ بنتِ ابنِ ابنٍ، المالُ لهذِه، إلَّا في قَوْلِ أهلِ القَرابة، فإنَّه للأُولَيَين. وقولُ مَن أماتَ السبَبَ، وورَّث (¬1) البعيدَ مع القريبِ، المالُ بينَ بنتِ ابنِ بنتٍ، وبنتِ بنتِ ابنِ ابنٍ، علَى أربعَةٍ، وتَسقُطُ الأُخرَى؛ لأنَّ هذه وارِثَةُ الابنِ في أوَّلِ درَجَةٍ. بنتُ بنتٍ، وبنتُ بنتِ بنتٍ أُخرَى، وبنتُ بنتِ ابن، المالُ بينَ الأُولَى والأخِيرَةِ، على أربعةٍ عندَ المُنَزِّلِين. وقال أهلُ القَرابةِ: هو للأُولَى. ¬

= ابن هارون، ضعفوه جدًّا في الحديث، له كتاب في الفرائض ينسب إليه من تصنيفه. تهذيب الكمال 25/ 238 - 242. (¬1) في النسختين: «ورث» والمثبت كما في المغني 9/ 97.

2827 - مسألة: (وإذا كان ابن وبنت أخت وبنت أخت أخرى، فلبنت الأخت وحدها النصف، وللأخرى وأخيها النصف بينهما)

وَإذَا كَانَ ابْنُ وَبِنْتُ أُخْتٍ وَبِنْتُ أُخْتٍ أُخرَى، فَلِبِنْتِ الأُخْتِ وَحْدَهَا النِّصْفُ، وَلِلأُخْرَى وَأخِيهَا النِّصْفُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ ابنِ سالمٍ، هو للأُولَيَين، وتَسقُطُ الثالثةُ. 2827 - مسألة: (وَإذَا كَانَ ابْنُ وَبِنْتُ أُخْتٍ وَبِنْتُ أُخْتٍ أُخرَى، فَلِبِنْتِ الأُخْتِ وَحْدَهَا النِّصْفُ، وَلِلأُخْرَى وَأخِيهَا النِّصْفُ بَينَهُمَا) لا خِلافَ بين المُنَزّلِين في أنَّ لوَلَدِ كلِّ أختٍ ميراثَها، وهو النِّصفُ. فمَن سوَّى جعلَ النِّصفَ بينَ ابنِ (¬1) الأُختِ وأُختِه نِصْفَين، والنِّصفَ الآخَرَ لبِنتِ الأُخْرَى، فتَصِحُّ مِن أربعةٍ، ومَنِ فَضَّلَ جعلَ النِّصفَ بَينَهما علَى ثلاثَةٍ، وتَصِحُّ مِن ستَّةٍ. وقال أبو يُوسُف: للابنِ النِّصفُ، ولكُلِّ بنتٍ الرُّبْعُ، وتصِحُّ مِن أربعةٍ. وقال محمدٌ: لِوَلَدِ الأُختِ الأُولَى الثُّلُثان بينَهما على ثلاثةٍ، وللأُخْرَى الثُّلُثُ، وتَصِحُّ مِن تسعَةٍ. وإذا انفرَدَ ولدُ كلِّ أخٍ أو أُخْتٍ، فالعملُ فيه على ما ذكَرْنا في أولادِ البناتِ. ومتَى كان الأخَوات والإِخْوَةُ مِن ولَدِ الأُمِّ، فاتفقَ الجميعُ على التَّسْويَةِ بين ذَكَرِهِم وأُنْثاهم، إلَّا الثَّوْرِيَّ ومَن أماتَ السَّبَبَ. ثلاثُ بناتِ أخٍ وثلاثةُ بَنِي أُخْتٍ، إن كانا مِن أُمٍّ، فالمالُ بينَهم على عدَدِهم، وإن كانا مِن أبٍ أو مِن أبَوَين، فلبَناتِ الأخِ الثُّلُثان ولبني الُأختِ الثُّلُثُ، وتصِحُّ مِن تسعةٍ عندَ المُنَزِّلِينَ ومحمدٍ. وفي قولِ أبي يوسفَ، يَجْعَلُ لبني الأختِ الثُّلُثَين، ولبناتِ الأخِ الثُّلُثَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ وبنتُ أختٍ لأبوَين وابنُ أختٍ لأُمٍّ هي مِن أربعةٍ عندَ مَن فَضَّلَ، وعند مَن سوَّى تصِحُّ مِن ثمانِيَةٍ. قولُ محمدٍ، كأنَّهما أُخْتان مِن أبَوَين وأُخْتٌ مِن أُمٍّ، وتَصِحُّ مِن خمسَةَ عشَرَ. فإن كان ولَدُ الأُمِّ أيضًا ابنًا وابنةً، صحَّتْ عندَ جميعِهم مِن ثمانِيَةٍ، إلَّا الثَّوْرِيَّ، فإنَّه يَجْعَلُ للذَّكَرِ مِن وَلَدِ الأُمِّ مِثلَ حَظِّ الأُنْثَيَينِ، فتَصِحُّ عندَه مِن اثنَيْ عشَرَ. وعندَ محمدٍ، هي مِن ثمانيَةَ عشَرَ. ابنا أختٍ لأبَوين، وابنُ وابنةُ أختٍ لأبٍ، وابنَا [وابنتا] (¬1) أختٍ أُخرَى لأبٍ، مِن ثمانيَةٍ في قولِ عامَّتِهم، وتصِحُّ مِن اثنَينِ وثلاثينَ عندَ مَن سوَّى. وعندَ مَن فضَّلَ مِن ثمانيةٍ وأربعينَ. وقولُ محمدٍ، يَسْقُطُ ولدُ الأبِ. ويتَّفِقُ قولُه وقولُ أبي يوسف في أنَّ المال لابني (¬2) الأُخْتِ مِن الأَبَوَينَ. ابنُ أُخْتٍ لأبَوين وابنُ وابنةُ أُخْتٍ لأُمٍّ وابنَا وابنتَا أُخْتٍ أُخرَى لأُمٍّ، قولُ المُنَزِّلِين مِن عِشرينَ، الثَّوْرِيُّ مِن ثلاثين، محمدٌ مِن سِتِّين. فصل: ثلاثُ بناتِ ثلاثِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ. مذهبُ أحمدَ وسائرِ المُنَزِّلِينَ أنَّ المال يُقَسَّمُ بينَ الأخواتِ على قَدْرِ سِهامِهنَّ، فما أصابَ كلَّ أختٍ فهو لوَلَدِها. والمالُ في هذه المسألةِ بينَ الأخواتِ على خَمْسَةٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لابن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَيكونُ بينَ أولادِهنَّ كذلك، والحُكْمُ في ثلاثِ (¬1) عَمّاتٍ مُفْتَرِقاتٍ كذلك؛ لأنَّهُنَّ أخواتُ الأبِ، فميراثُه بينَهنَّ على خمسةٍ. وكذلك ثلاثُ خالاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ؛ لأنَّهُنَّ أخَواتُ الأُمِّ. وقَدَّم أهلُ القرابَةِ مَن كان لأبٍ وأُمٍّ مِن جَميعِهم، ثم مَن كان لأبٍ، ثم مَن كان لأُمٍّ، إلَّا محمدَ بنَ الحسنِ، فإنَّه قَسَّمَ ميراثَ أولادِ الأخواتِ علَى أعدادِهم، وأقامَهم مَقَامَ أُمَّهاتِهم، كأنَّهم أخَواتٌ. مسائل: مِن ذلك؛ سِتُّ بناتِ ثلاثِ أَخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، المالُ بينَ الأخَواتِ على خمسةٍ، فما أصابَ كلَّ واحدَةٍ فهو لبِنْتَيها (¬2)، وتصِحُّ مِن عشَرَةٍ. وعندَ أبي يوسفَ، المالُ كلُّه لوَلَدِ الأَبوَين. وعندَ محمدٍ، لهما الثُّلُثانِ ولولدِ الأُمِّ الثُّلُثُ، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ. ستُّ بناتِ ستِّ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، لبنتي الأُخْتَين مِن الأبوين الثُّلُثان ولوَلَدِ الأُمِّ الثُّلُثُ، وتَصِحُّ مِن سِتَّةٍ. هذا قولُ محمدٍ. ابنُ أُختٍ لأَبوَين وابنُ وابنةُ أختٍ لأبٍ وابنَا وابنتَا أُختٍ أُخرَى لأبٍ وثلاثةُ بنى وثلاثُ بناتِ أُختٍ لأُمٍّ، هي مِن مائةٍ وعشرينَ عندَ مَن سوَّى، ومِن سِتِّينَ عندَ مَن فضَّلَ، ومِن أربَعةٍ وخمسينَ عندَ محمدٍ. فإن كان معَهم أربعةُ بني وأربعُ بناتِ أُختٍ أُخرَى لأُمٍّ، صحَّتْ مِن مائةٍ وأربَعَةٍ وأربَعينَ عندَ المُنَزِّلِينَ كُلِّهم. قولُ محمدٍ، كأَنَّهم أُختٍ لأَبوَينِ وسِتُّ أخواتٍ ¬

(¬1) بعده في م: «بنات». (¬2) في النسختين: «لبنيها». وانظر: المغني 9/ 99.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأبٍ وأربعَ عشْرَةَ أختًا لأُمٍّ، سَهْمُ ولَدِ الأبِ بينَهم على تسعةٍ، فتصِحُّ مِن ثلاثِمائةٍ وثمانِيَةٍ وسبعينَ. فإن كان ولَدُ الأختِ مِن الأَبَوَينِ ابنًا وبنتًا صحَّتْ كذلك عندَ المُنَزِّلِينَ. وعندَ محمدٍ، كأنَّهما اختانِ لأبوَينِ، فيَسْقُطُ ولَدُ الأبِ، وتصِحُّ مِن مائةٍ وستةٍ وعشرينَ. والقولُ في العمّاتِ المُفْتَرِقاتِ والخالاتِ المُفْتَرِقات وأولادِهِنَّ، كالقولِ في وَلَدِ الأخَواتِ المُفْتَرِقاتِ. فصل: فإن كُنَّ ثلاثَ بناتِ ثلاثِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِين، فلبنتِ الأَخِ مِن الأُمِّ السُّدْسُ، والباقِي لبِنتِ الأَخِ مِنَ الأبوَين. هذا قولُ جَميعِ المُنَزِّلِينَ؛ لأنَّ الإِخوةَ المُفْتَرِقِين يَسْقُطُ ولدُ الأبِ منهم بوَلَدِ الأَبوَين، وللأخِ للأُمِّ السُّدْسُ، والباقي كُلُّه للأخِ للأبَوَين، ثم ما صارَ لكلِّ أخٍ فهو لوَلَدِهِ. وكذلكَ الحُكْمُ في الأخْوالِ المُفْتَرِقِينَ؛ لأنَّهم إخوةُ الأُمِّ. مسائل: مِن ذلك؛ ستُّ بناتِ ستَّةِ إخوةٍ مُفْتَرِقين، لوَلَدِ الأُمِّ الثُّلُثُ والباقي لوَلَدِ الأَبَوَين. ستُّ بناتِ ثلاثةِ إخوةٍ مُفْتَرِقين، لوَلَدِ الأُمِّ السُّدْسُ والباقي لولدِ الأبوين. قولُ محمدٍ، لولدِ الأُمِّ الثلثُ. بنتُ أخٍ لأبوَينِ وابنُ أخٍ لأمٍّ وبنتُ أخٍ آخَرَ لأُمٍّ. ابنُ وبنتُ بنتِ أخ لأبٍ وابنا وابنتا ابنِ أخٍ لأُمٍّ وثلاثُ بني وثلاثُ بناتِ بنتِ أخٍ لأُمٍّ، تصِحُّ مِن اثنَين وسبعين عندَ المُنَزِّلين. فإن كان مكانَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخِ مِن أبٍ أختٌ كانت مِن ستِّينَ. فإن كان معهم ابنُ بنتِ أُختٍ مِن أَبَوَين عادت إلى اثنَين وسبعين. فصل: بنتُ أخٍ لأُمٍّ وبنتُ ابنِ أخٍ لأبٍ، للأُولَى السُّدْسُ، والباقِي للثانِيَةِ عندَ المُنَزِّلِينَ. وفي القَرابَةِ، هي للأُولَى؛ لأنَّها أقربُ إلى الميِّتِ. بنتُ بنتِ أخٍ لأبَوَين وبنتُ ابنِ أخٍ لأبوَين، المالُ لهذه في قولِ الجميعَ. بنتُ ابنِ أخ لأُمٍّ وبنتُ بنتِ أخ لأبَوَين وابنُ بنتِ أخ لأبٍ، للأُولى السُّدْسُ والباقي للثانيةِ. وقال أبو يُوسُفَ: الكلُّ للثانيةِ. بنتُ أخٍ لأمٍّ وبنتُ بنتِ أخٍ لأبٍ، المالُ للأُولى، إلَّا في قولِ الثَّوْرِيِّ، وابنِ سالمٍ، وضِرَارٍ (¬1)، للأُولَى السُّدْسُ والباقي للثانيةِ؛ لأنَّهم يُوَرثونَ البعيدَ مع القَرِيبِ وإن كانا مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ. ابنُ وبنتُ أختٍ لأَبوَين وبنتا أخٍ لأبٍ وثلاثَةُ بنى أُختٍ لأبٍ وخمسُ بني أُختٍ لأمٍّ وعشْرُ بناتِ أخٍ لأمٍّ، أصلُها مِن ثمانيةَ عشَرَ، وتَصِحُّ مِن خمسِمائَةٍ وأربعين، في قولِ المُنَزِّلين النِّصفُ مِن ذلك بين وَلَدَي الأُخْتِ للأبَوَين بالسويةِ عندَ مَن سوَّى، وأثلاثًا عندَ مَن فضَّل، ولولَدِ الأُمِّ الثُّلُثُ، وهو مائةٌ وثمانون؛ لولَدِ الأخِ تسعون، ولولَدِ الأُخْتِ تسعون، ولولَدِ ¬

(¬1) ضرار بن صرد، كوفي ينسب إلى التشيع، وكان فقيها عالما بالفرائض، روى عن ابن عيينة وغيره، وعنه البخاري. تهذيب التهذيب 4/ 456، 457.

2828 - مسألة: (وإن اختلفت منازلهم من المدلى به جعلته كالميت، وقسمت نصيبه بينهم على ذلك، كثلاث خالات مفترقات وثلاث عمات مفترقات، فالثلث بين الخالات على خمسة أسهم، والثلثان بين العمات كذلك، فاجتزئ بإحداهما، واضربها في ثلاثة تكن خمسة عشر؛ للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة أسهم)

وَإنِ اخْتَلَفَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمُدْلَى بِهِ جَعَلْتَهُ كَالْمَيِّتِ، وَقَسَمْتَ نَصِيبَهُ بَينَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَثَلاثِ خَالاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلاثِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَالثُّلُثُ بَينَ الْخَالاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالْثُّلُثَانِ بَينَ الْعَمَّاتِ كَذَلِكَ، فَاجْتَزِئْ بِإِحْدَاهُمَا، وَاضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِلْخَالةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأَبِ وَالأمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُم، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأبِ سَهْمٌ، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الأُمِّ سَهْمٌ، وَلِلْعَمَّةِ الَّتِي مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ الأبِ تسعون، ولولَدِ الأخِ ستُّونَ، ولولَدِ الأُخْتِ ثلاثونَ. ثلاثُ بناتِ إخوةٍ مُفْتَرِقين وثلاثُ بناتِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، لولَدَي الأُمِّ الثُّلُثُ بَينَهُما بالسويَّةِ والباقي لولَدَي الأَبَوَين؛ لبنتِ الأخِ ثُلُثاه، ولبنتِ الأُختِ ثُلُثُه. وإن كان معهم ثلاثُ بني أَحْوالٍ مُفْتَرِقين فلَهم السُّدْسُ؛ لابنِ الخالِ مِن الأُمِّ سُدْسُه، وباقيه لابنِ الخال مِن الأَبَوَين، ويبقَى النَّصفُ؛ لبنتِ الأخِ مِن الأَبَوَين ثُلُثاه، ولبنتِ الأُختِ ثُلُثُه، وتصِحُّ مِن ستةٍ وثلاثين. 2828 - مسألة: (وَإنِ اخْتَلَفَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمُدْلَى بِهِ جَعَلْتَهُ كَالْمَيِّتِ، وَقَسَمْتَ نَصِيبَهُ بَينَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَثَلاثِ خَالاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلاثِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ، فَالثُّلُثُ بَينَ الْخَالاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالْثُّلُثَانِ بَينَ الْعَمَّاتِ كَذَلِكَ، فَاجْتَزِئْ بِإِحْدَاهُمَا، وَاضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِلْخَالةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأَبِ وَالأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وللخالةِ (التي مِن قِبَل

قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ سِتَّةُ أَسهُمٍ، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ سَهْمَانِ، وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلَ الْأُمِّ سَهْمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأب سَهْمٌ، وللتي مِن قِبَلِ الأُمِّ سَهْم، وللعمَّةِ التي مِن قِبَلِ الأبِ والأُمِّ ستّةُ أَسهُمٍ، وللتي مِن قِبَلِ الأبِ سَهْمان، وللتي مِن قِبَلِ الأُمِّ سَهْمان) إنَّما كان كذلك؛ لأنَّ الخالاتِ بمنزِلَةِ الأُمِّ والعمّاتِ بمنزِلَةِ الأبِ، فكأنَّ الميِّتَ خلَّف أباه وأُمَّه، فللأمِّه الثُّلُثُ والباقي للأبِ، فما صارَ لأُمِّ بينَ أخَواتِها على خَمسةٍ؛ لأنَّهنَّ أخوات لها مُفْتَرِقاتٌ، فيُقَسَّممُ نَصيبُها بينَهنَّ بالفَرْضِ والرَّدِّ علَى خمسةٍ، كما يُقَسَّمُ مالُ الميِّتِ بينَ أخواتِهِ المُفْتَرِقاتِ. وما صارَ للأبِ قُسِّمَ بينَ أخواتِه على خمسةِ، فصارَ الكَسْرُ في الموضِعَين على خمسةٍ، وإحْداهما تُجْزئُ عن الأُخرَى؛ [لأنَّهما عددان مُتَماثِلان] (¬1)، فتَضرِبُ إحداهما في أصلِ المسألةِ وهي ثلاثة، تكنْ خمسةَ عشَرَ، فللخالاتِ سهمٌ في خمسةٍ مَقْسومةٍ بينَهنَّ، كما ذُكِرَ، وللعَمَّاتِ سهمانِ في خمسةٍ مقسومةٍ بينَهن على خمسةٍ؛ ذُكِرَ. وهذا قولُ عامَّةِ المُنَزِّلِين. وعندَ أهلِ القَرابةِ للعَمَّةِ مِن الأَبوَين الثُّلُثان، وللخالةِ مِن الأبوَين الثُّلُثُ، وسقَطَ سائِرُهنَّ. وقال نُعَيمٌ، وإسحاقُ: الخالاتُ كلُّهنَّ سواءٌ، فيكونُ نصيبُهنَّ بينَهنَّ على ثلاثةٍ، وكذلِك نصيبُ العماتِ بَينَهنَّ على ثلاثةٍ يتساوَين فيه، فتكونُ هذه المسألةُ مِن تسعةٍ. فإن كان مع الخالاتِ خالٌ مِن أُمِّ، ومع العماتِ عَمٌّ مِن أُمِّ، فسهمُ كُلِّ واحدٍ مِن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2829 - مسألة: (فإن خلف ثلاثة أخوال مفترقين، فللخال من الأم السدس، والباقي للخال من الأبوين)

فَإِنْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ، فَلِلْخَالِ مِنَ الْأُمِّ السُّدْسُ، وَالْبَاقِي لِلْخَالِ مِنَ الْأَبَوَينِ. وَإنْ كَانَ مَعَهُمْ أَبُو أُمٍّ أَسْقَطَهُمْ، كَمَا يُسْقِطُ الْأَبُ الْإِخْوَةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفريقَين بينَهم على ستةٍ، وتصحُّ مِن ثمانيةَ عشَرَ عندَ المُنَزِّلينَ. 2829 - مسألة: (فَإِنْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ، فَلِلْخَالِ مِنَ الْأُمِّ السُّدْسُ، وَالْبَاقِي لِلْخَالِ مِنَ الْأَبَوَينِ) كما لو خَلَّفَ ثلاثةَ إِخْوةٍ مفْترِقِين، ويسقُطُ الخالُ مِن الأبِ؛ يسقُطُ الأخُ مِن الأبِ في الإِخوةِ المُفْترقِين بالأخِ مِن الْأَبَوَينِ، وكذلِك ثَلاثةُ أخْوالٍ مُفْتَرِقين مع ثلاثِ خالاتٍ مُفْتَرِقاتٍ، كثلاثِ بناتِ إخوةٍ مُفْتَرِقين مع ثَلاثِ بناتِ أَخْواتٍ مفْتَرِقَاتٍ، كما ذُكِرَ. 2830 - مسألة: (وَإنْ كَانَ مَعَهُمْ أَبُو أُمٍّ أَسْقَطَهُمْ، كَمَا يُسْقِطُ الْأَبُ الْإِخْوَةَ،) وأوْلادَهم. فصل: ثلاثةُ أخوالٍ مُفْتَرقِينَ معهم أخواتُهم وعَمٌّ وعمَّة مِن أُمٍّ، الثلثُ بينَ الأَخْوالِ والخالاتِ على ستةٍ، للخالِ والخالةِ مِن الأُمِّ الثُّلُثُ بَينَهما بالسويَّةِ، وثُلُثاه للخالِ والخالةِ مِن الْأَبَوَينِ بَينَهما على ثلاثةٍ عندَ مَن فضَّلَ. وهو قولُ أكثرِ المُنَزِّلِينَ وإحدى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، وذكرَها الخِرَقِيُّ في الخالِ والخالةِ خاصَّةً. والرِّوايةُ الأخرَى، هو بَينَهما على السويَّةِ والثُّلُثانْ بينَ العَمِّ والعَمَّةِ بالسويَّةِ. ثلاثُ عَمّاتٍ وثلاثُ بناتِ عمٍّ وثلاثُ خالاتٍ وثلاثةُ بني خالٍ، الميراثُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للعَمّاتِ والخالاتِ، ويَسْقُطُ الباقون، ويكونُ للخالاتِ الثُّلُثُ والباقِي للعَمّاتِ. فإن كانَ معهم ثلاثُ بناتِ إخوةٍ، فللخالاتِ السُّدْسُ والباقي للعَمّاتِ؛ لأنَّهُن بمنزِلَة الأبِ، فيَسْقُطُ بهِنَّ (¬1) بناتُ الإِخوةِ؛ لأنَّهنَّ بمنزِلَةِ الإِخوةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُجْعَلَ أولادُ الإِخوةِ والأخواتِ مِن جِهَةِ الأُبُوَّةِ، فيُقَدَّمُ ولدُ الأبَوين وولدُ الأبِ على العَمّاتِ؛ لأنَّهن أولادُ بنيه، والعَمّاتُ أَخَوَاتُه. ووَجْهُ هذا الاحتمال أنَّنا إذا جعَلْنَا الأُخُوَّةَ جِهَةً والأُبُوَّةَ جهَةً أُخْرَى، مع ما تَقَرَّرَ مِن أصلِنا أَنَّ البعيدَ والقريبَ إذا كانا مِن جِهَتَينِ نُزِّلَ البعيدُ حتَّى يلحَقَ بوارِثِه، سواءٌ سقطَ به القريبُ أو لا، لزِمَ منه سُقوطُ بناتِ الإِخوةِ ببناتِ العمِّ مِن الأُمِّ؛ لأنَّهنَّ مِن جِهَةِ الأَب، ويلزَمُ مِن هذا أن يسقُطْنَ ببناتِ العَمّاتِ وبناتِ الأعمامِ كلِّهم. فأمَّا إن كان مكانَ العَمّاتِ والخالاتِ بناتُهنَّ، فللخالاتِ السُّدْسُ بينَ بناتِهنَّ على خمسةٍ، والباقي لبناتِ الإِخوةِ، لبنتِ الأخِ مِن الأُمِّ السُّدْسُ، والباقي لبنتِ الأخِ مِن الْأَبَوَينِ، وتصِحُّ المسألةُ مِن ثلاثين، فإن لم يكنْ بناتُ إخوةٍ مِن أَبَوينِ ولا مِن أبٍ، فالباقي لبنتِ العَمِّ مِن الْأَبَوَينِ. فصل: خالةٌ وابنُ عَمَّةٍ، للخالةِ الثُّلُثُ، والباقي لابنِ العَمَّةِ. وهذا قولُ الثّوْرِيِّ ومَن وَرَّثَ البعيدَ مع القريبِ. وفي قولِ أكثرِ المُنَزِّلين وأهلِ القرابةِ، المالُ للخالةِ؛ لأَنَّها أقربُ. وكذلك إن كان مكانَ الخالةِ خالٌ. عَمَّةٌ وابنُ خالٍ معه أختُهُ، الثُّلُثُ بينَ ابنِ الخالِ وأُختِهِ بالسَّويَّةِ إن ¬

(¬1) في م: «منهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أبوهما خالًا مِن أُمٍّ، وإن كان مِن أبٍ أو مِن أَبَوين ففيهِ روايتان؛ إحداهما، هو بَينَهما بِالسَّويَّةِ أيضًا. والثانيةُ، على ثلاثةٍ، والباقي للعَمَّةِ. وعندَ أكثرِ الفَرَضِيِّين المالُ للعَمَّةِ. بنتُ عمٍّ وابنُ عَمَّةٍ وبنت خالٍ وابن خالةٍ، الثُّلُثُ بينَ بنتِ الخالِ وابنِ الخالةِ بالسَّويَّةِ إن كانا مِن أُمٍّ، وإن كانا مِن أَبَوينِ أو مِن أبٍ، فهل هو بالسَّويَّةِ أو على ثلاثةٍ؛ فيه روايتان. وإن كان ابنُ الخالةِ مِن أُمٍّ، والخالُ مِن أبٍ، فلابنِ الخالةِ سُدْسُ الثُّلُثِ، والباقي ولبنتِ الخالِ، وإن كانت بنتُ الخالِ مِن أُمٍّ وابنُ الخالةِ مِن أبٍ فالثلثُ بَينَهما على أربعةٍ والباقي لابنِ العمةِ. وعندَ أكثرِ المُنَزِّلِين المالُ كُلُّه لبنتِ العمِّ؛ لأنَّها (¬1) أسبقُ إلى الوارثِ. خالةٌ وبنتُ عمٍّ، ثلثٌ وثلثانِ. وعندَ أهلِ القَرابةِ هو للخالةِ. عَمَّةٌ وبنتُ عمٍّ، مَن نَزَّلَ العَمَّةَ أَبًا جعَلَ المال لها، ومَن نَزَّلَها عَمًّا جعلَه بَينَهما نِصْفَين، وكذلك مَن أماتَ السَّببَ. بنتُ ابنِ عمٍّ لأبٍ وبنتُ عَمَّةٍ لأَبَوينَ، المالُ لبنتِ ابنَ العَمِّ. ابنُ خالٍ مِن أُمٍّ وبنتُ خالةٍ مِن أبٍ وبنتُ عَمٍّ مِن أُمٍّ وابنُ عمةٍ مِن أبٍ، الثُّلُثُ مِن أربعةٍ، والثُّلُثان مِن أربعةٍ أيضًا، وتصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ، وفي القرابةِ، الثُّلُثُ لبنتِ الخالةِ والثُّلُثانِ لابنِ العَمَّةِ، وتصِحُّ مِن ثلاثةٍ. ¬

(¬1) في النسختين: «لأنه» والمثبت كما في المغني 9/ 104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: خالة وخالٌ وأبو أُمٍّ، المالُ لأبي الأُمِّ. فإن كان معهم ابنةُ عَمٍّ أو عَمَّةٍ فالثُّلُثُ لأبي الأُمِّ والباقي لابنةِ العمِّ أو العَمَّةِ. فإن كان مكانَ أبي الأُمِّ أُمُّه فلا شيءَ لها؛ لأنَّ الخالةَ أسبقُ إلى الوارثِ، والجِهَةُ واحِدَةٌ. خالة وأبو أمِّ أمٍّ، المالُ للخالةِ؛ لأنَّها بمنزلةِ الأُمِّ، وهي تُسْقِطُ أُمَّ الأُمِّ. ابنُ خالٍ وابنُ أخٍ مِن أمٍّ، المالُ بَينَهما على ثلاثَةٍ كأنَّهما أُمٍّ وأخٌ مِن أمٍّ. وعندَ المُنَزِّلين هو لابنِ الأخِ. فإن كانَ معهما ابنُ أختٍ مِن أبٍ فالمالُ بَينَهم على خمسةٍ؛ لابنِ الأُختِ ثلاثةُ أخماسِهِ، ولكلِّ واحدٍ منهما الخُمْسُ. فإن كان معهم بنتُ أخٍ مِن أبَوينِ فلها النِّصفُ ولكلِّ واحِدٍ مِن الباقين السُّدْسُ. وعندَ المُنَزِّلينَ، لا شيءَ لابنِ الخالِ، والمالُ بينَ الباقينَ على خمسةٍ. خالٌ وابنُ ابنِ أُختٍ لأُمٍّ، المالُ بَينَهما علَى ثلاثةٍ. وعندَ المُنَزِّلِين، هو للخالِ. بنتُ بنتِ أختٍ لأبوينِ وابنُ ابنِ أخٍ لأمِّ وبنت ابنِ أخٍ لأبٍ وبنتُ خالةٍ، لهذه السُّدْسُ والباقي لبنتِ ابنِ الأخِ. وعندَ المُنَزِّلين المالُ كُلُّه لها. فصلِ: عَمَّةٌ وابنةُ أخٍ، المالُ للعمَّةِ عندَ مَن نَزَّلَها أبًا، ولابنةِ الأخِ عندَ مَن نزَّلَها عَمًّا، وبَينَهما عندَ مَن نَزَّلَها جَدًّا. بنتُ عمِّ وبنتُ عَمَّةٍ وبنتُ أخٍ مِن أُمٍّ وبنتُ أخٍ مِن أبٍ، لبنتِ الأخِ مِن الأمِّ السُّدْسُ، والباقي لبنتِ الأخِ مِن الأبِ. فإن لم لم يكنْ بنتُ أخٍ

2831 - مسألة: (وإن خلف ثلاث بنات عمومة مفترقين، فالمال لبنت العم من الأبوين وحدها)

وَإنْ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَالْمَالُ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنَ الْأَبَوَينَ وَحْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أبٍ فالباقي لبنتِ العَمِّ. ويجئُ علَى قولِ مَن نَزَّلَ البعيدَ حتَّى يُلْحَقَ بوارِثِه وجَعَلَ الأُبُوَّةَ جِهَةً والأُخُوَّةَ جِهَةً، أن يَسْقُطَ أولادُ الإِخوةِ. فإن جعلَ الأُبُوَّةَ جِهَةً والعُمومةَ جِهَةً أُخْرَى، أسقطَ بنتَ العمِّ ببنتِ العَمَّةِ. وقيل: إن هذا قولُ ابنِ سالمٍ. وهو بعيدٌ. بنتُ عمٍّ وبنتُ خالي وبنتُ أخٍ مِن أبٍ، لبنتِ الخالِ الثُّلُثُ، والباقي لبنتِ الأخِ. وعندَ أكثرِ المُنَزِّلين الكلُّ لبنتِ الأخِ. ثلاثُ بناتِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ وثلاثُ بناتِ عَمّاتٍ مُفْتَرِقاتٍ، السُّدْسُ الباقي بينَ بناتِ العَمّاتِ على خمسةٍ، وتَصِحُّ مِن ثلاثينَ. فإن كانَ معهم خالٌ أو خالة أو واحِدٌ مِن أولادِهما فلَه السُّدْسُ، ولا شيءَ لولدِ العَمّاتِ، إلا على قولِ ابنِ سالم وأصحابِهِ، فإنَّه يُوَرِّثُهم ويُسْقِطُ ولدَ الأخواتِ. ويقتضيهِ قولُ أبي الخطّابِ. خالةٌ وعَمَّةٌ وسِتُّ بناتِ ثلاثِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، للخالةِ السُّدْسُ والباقي للعَمَّةِ، ومَن نَزَّلَها عمًّا فلبنتَي الأُخْتِ مِن الأَبَوينِ النِّصفُ ولبنتَي الأُختِ مِن الأبِ السُّدْسُ ولبنتَيِ الأُختِ مِن الأُمِّ السُّدْسُ، فإن كُنَّ بناتِ سِتِّ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ عالتْ علَى هذا إلى سبعةٍ. 2831 - مسألة: (وَإنْ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَالْمَالُ لِبِنْتِ الْعَمِّ مِنَ الْأَبَوَينَ وَحْدَهَا) أكثرُ أهلِ التَّنْزِيلِ على هذا. وهو قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ القَرابَةِ. وقال الثَّوْرِيُّ: المالُ بينَ بنتِ العَمِّ مِن الأبوينِ وبنتِ العَمِّ مِن الأُمِّ على أربعةٍ. وقال أبو عُبَيدٍ: لبنتِ العَمِّ مِن الأُمِّ السُّدْسُ والباقي لبنتِ العَمِّ مِن الأبوين، كبناتِ الإِخوةِ. قال شَيخُنا (¬1): ولا يَصِحُّ شيءٌ مِن هذا؛ لأنَّهُنَّ بمنْزِلَةِ آبائِهِنَّ، ولو كانَ آباوهنَّ أحياءً لكانَ المالُ للعَمِّ مِن الأَبَوينِ. وفارَقَ بناتِ الإِخوةِ؛ لأنَّ آباءَهنَّ يكونُ المالُ بينَهم على ستَّةٍ، ويَرِثُ الأخُ مِن الأُمِّ مع الأخَ مِن الأَبَوين، بخلافِ العمُومَةِ. وقيل، علَى قياسِ قولِ محمدِ بنِ سالم: المالُ لبنتِ العَمِّ مِن الأُمِّ؛ لأنَّها بعدَ درجتَين بمنزِلَةِ الأبِ، فيَسْقُطُ به العَمُّ. قال الخَبْرِيُّ: وليس بشيءٍ. وقد ذكَرَ أبو الخطّاب قولًا مِن رأيه يُفْضِي إلى هذا، فإنَّه ذَكَرَ أن الأُبُوَّةَ جِهَةٌ والعمومَةَ جِهَةٌ أُخرَى، وأنَّ البعيدَ والقريبَ مِن ذَوي الأرحامِ إذا كانا مِن جِهتَينِ نُزِّلَ البعيدُ حتَّى يلحَقَ بوارِثِهِ، سواءٌ سَقَطَ به القريبُ أو لا. فيَلْزَمُ على هذا أنْ تُنَزَّلَ بنتُ العَمِّ مِن الأُمِّ حتَّى تلحَقَ بالأبِ، فيَسقُطَ بها بنتا العَمَّين الآخرَين، وأظنُّ أبا الخطّابِ لو علِمَ إفْضاءَ هذا القولِ إلى هذا لم يذْهَبْ إليه، لما فيه مِن مُخَالفَةِ الإِجماعِ ومُقْتَضَى الدَّليلِ وإسقاطِ القويِّ بالضعيفِ والقريبِ بالبعيدِ. قال شَيخُنا (¬2): ولا يختلفُ المذْهَبُ أنَّ الحُكْمَ في هذه المسألةِ على ما ذَكَرْنا أولًا. ومن مسائلِ ذلكَ: بنتُ عَمٍّ لأبَوين وبنتُ عَمٍّ لأبٍ، المالُ للأُولَى. ¬

(¬1) في: المغني 9/ 101. (¬2) في: المغني 9/ 102.

2832 - مسألة: (فإن أدلى جماعة منهم بجماعة، قسمت المال بين المدلى بهم كأنهم أحياء، فما صار لكل وارث فهو لمن أدلى به)

فَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِجَمَاعَةٍ، قَسَمْتَ الْمَال بَينَ الْمُدْلَى بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَمَا صَارَ لِكلِّ وَارِثٍ فَهُوَ لِمَنْ أَدْلَى بِهِ وَإنْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمِلْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بنتُ عَمٍّ لأبٍ وبنتُ عَمٍّ لأُمٍّ، كذلك. بنتُ عَمٍّ لأبٍ وبنتُ ابنِ عَمٍّ لأَبَوين، كذلك. بنتُ ابنِ عَمٍّ لأب وبنتُ عَمٍّ لأُمٍّ، المالُ للأُولَى عندَ المُنَزِّلين، وللثانيةِ عندَ أهلِ القَرابَةِ، لأنَّها أقربُ بنتُ عَمٍّ لأمٍّ وبنتُ بِنتِ عَمٍّ لأبوين، المالُ للأُولَى في قولِهم جميعًا. بنتُ عم وابنُ عمةٍ، المالُ لبنتِ العم عندَ الجمهور. وحُكِيَ عن الثَّوْرِيِّ، أنَّ لبنتِ العمِّ سهمين ولابنِ العمةِ سَهْمٌ. بنتُ بنتِ عَمٍّ وبنتُ ابنِ عَمٍّ، المالُ لهذه عندَ الجمهورِ. وقولُ ابنِ سالمٍ، هو للأُولَى. بنتُ عَمَّةٍ مِن أَبَوينِ وبنتُ عَمٍّ مِن أمٍّ، لبنتِ العَمِّ السُّدْسُ ولبنتِ العَمَّةِ النِّصفُ، ويُرَدُّ عليهما الباقي فيكونُ بينَهما علَى أربعةٍ. ثلاثُ بناتِ عَمّاتٍ مُفْتَرِقاتٍ وبنتُ عَمِّ مِن أُمِّ، المالُ بَينَهُنَّ على ستَّةٍ. فإن كانَ معهنَّ بنتُ عَمٍّ مِن أبَوين أو أبٍ ورِثتِ المال دونهنَّ. 2832 - مسألة: (فَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِجَمَاعَةٍ، قَسَمْتَ الْمَال بَينَ الْمُدْلَى بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَمَا صَارَ لِكلِّ وَارِثٍ فَهُوَ لِمَنْ أَدْلَى بِهِ) إذا لم يَسْبِقْ بَعْضُهم بعضًا، فإن سَبَق بعْضُهم بَعْضًا، فالسّابِقُ إلى الوارِثِ أوْلى، كبنتِ بنتِ بنتٍ وبنتِ أخٍ لأُمٍّ، المالُ لبنتِ بنتِ البنتِ، لأنَّ جَدَّتَها

مِنْ بَعْض، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى الْوَارِثِ وُرِّثَ وَأسْقَطَ غَيرَهُ، إلا أنْ يَكُونَا مِنْ جِهَتَينِ فَيُنَزَّلُ الْبَعِيدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِوَارِثِهِ، سَوَاءٌ سَقَطَ بِهِ الْقَرِيبُ أَوْ لَا. كَبِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتِ أَخٍ لأُمٍّ، الْمَالُ لبِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُسْقِطُ الأَخَ مِن الأُمِّ، ومَن ورَّثَ الأقْرَبَ جَعَلَه لبنتِ الأخِ. والقولُ الأولُ أَوْلَى. وإن كانوا (مِن جهتَين نُزِّلَ البَعيدُ حتَّى يلْحقَ بوارِثِه) فيأخُذَ نَصِيبَه (سواءٌ سَقَط القَريبُ أو لم يسقُطْ) إذا كانوا مِن جِهةٍ واحدةٍ، كخالةٍ وأُمِّ أبي أُمٍّ، الميراثُ للخالةِ؛ لأنَّها تَلْقَى الأُمَّ بأُولَى درجةٍ (وإن أسْقَطَ بَعْضُهم بَعْضًا) كأبي الأُمِّ والأخوالِ، فأسْقِطِ الأخوال؛ لأنَّ الأبَ يُسْقِطُ الإِخوةَ والأخَواتِ. ونَقَل عن أحمدَ جماعةٌ مِن أصحابِه، في خالةٍ وبنتِ خالةٍ وبنتِ ابنِ عمٍّ، للخالةِ الثُّلُثُ ولابنةِ ابنِ العمِّ الثُّلُثان، ولا تُعْطَى بنتُ الخالةِ شيئًا. ونَقَل حَنْبَلٌ عنه، أنَّه قال: قال سفيانُ قولًا حسنًا: إذا كانت خالة وبنتُ ابنِ عم، تُعْطَى الخالةُ الثُّلُثَ وبنتُ ابنِ العمِّ الثُّلُثين. وظاهِرُ هذا يدلُّ على ما قُلْناه. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، ومحمدِ بنِ سالمٍ، والحسنِ بنِ صالحٍ. وقال ضِرارُ بنُ صُرَد: إن كان البعيدُ إذا نُزِّلَ أسقَطَ القريبَ فالقريبُ أوْلَى، وإن لم يكنْ يُسْقِطُه نُزِّلَ البعيدُ حتَّى نُلحِقَه بالوارثِ. وقال سائِرُ المُنَزِّلين: الأسْبَقُ إلى الوارثِ أوْلَى بكُلِّ حالٍ. ولم يخْتَلِفُوا فيما علِمْتُ في تَقْديمِ الأسْبقِ إذا كانا مِن جِهَةٍ واحدةٍ، إلا نُعَيمًا، ومحمدَ بنَ سالمٍ، فإنهما قالا في عمةٍ وبنتِ عمةٍ: المالُ بينَهما نِصْفَين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ انْفَردَ واحدٌ مِن ذَوي الأرحامِ أخَذَ المال كُلَّه في قولِ جميعِ مَن وَرَّثَهم. فإن كانوا جماعَةً فأدْلَوْا بشَخْصٍ واحِدٍ، كخالةٍ وأُمِّ أبِي أُمٍّ وابنِ خالٍ، فالمالُ للخالةِ؛ لأنَّها تَلْقَى الأُمَّ بأوَّلِ دَرَجَةٍ. وهذا قولُ عامةِ المُنَزلينَ، إلَّا أنَّه حُكِيَ عن النَّخَعِيِّ، وشَرِيكٍ، ويَحْيَى بنَ آدَمَ، في قَرابَةِ الأُمِّ خاصَّةً، أنَّهم أماتُوا الأُمَّ وجعلوا نَصِيبَها لوَرَثَتِها. ويُسَمَّى قولُهم قولَ مَن أماتَ السَّبَبَ. واستعمَلَه بعضُ المَرَضِيِّينَ في جميعِ ذَوي الأَرْحام. فعلى قولِهم يكونُ للخايَةِ نِصْفُ ميراثِ الأُمِّ؛ لأنَّها أخْتٌ، ولأُمٍّ أبي الأُمِّ السُّدْسُ؛ لأَنَّها جَدَّةٌ، والباقي لابنِ الخالِ؛ لأنَّه ابنُ أخٍ. ولَنا، أنَّ الميراثَ مِن الميِّتِ لا مِن سَبَبه؛ ولذللك ورَّثْنا أُمَّ أُمِّ الأُمِّ دونَ ابنِ عمِّ الأُمِّ، بغيرِ خلافٍ أيضًا في أبي أُمٍّ أُمٍّ وابنِ عَمِّ أبي أُمٍّ، أنَّ المال للجَدِّ؛ لأنَّه أقْرَبُ. ولو كانتِ الأُمُّ الميِّتةَ، كان وارِثُها ابنَ عمِّ أبِيها دونَ أبي أُمِّها. خالةٌ وأُمُّ أبي أُمٍّ وعمُّ امٍّ، المالُ للخالةِ. وعندَهم للخالةِ النِّصفُ وللجَدَّةِ السُّدْسُ والباقِي للعَمِّ. فإن لم يَكنْ فيها عَمُّ أُمٍّ، فالمالُ بينَ الْخَالةَ وأُمِّ أبي الأُمِّ على أربَعةٍ. فإن لم يكنْ فيها جَدَّةٌ، فالمالُ بين الْخَالةَ وعَمِّها نِصفين.

2833 - مسألة: (والجهات أربع؛ الأبوة، والأمومة، والبنوة، والأخوة)

وَالْجِهَاتُ أَربَعٌ؛ الْأُبُوَّةُ، وَالْأُمُومَةُ، وَالْبُنُوَّةُ، وَالْأُخُوَّةُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ الْعُمُومَةَ جِهَةً خَامِسَةً. وَهُوَ مُفْصٍ إِلَى إِسْقَاطِ بِنْتِ الْعمِّ مِنَ الأَبَوَينِ بِبِنْتِ الْعَمِّ مِنَ الأُمِّ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ، وَمَا نَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ خالةٍ وابنُ عَمِّ أُمٍّ، المالُ لابنِ الخالةِ. وعندَهم لابنِ عَمِّ الأُمِّ. 2833 - مسألة: (والجِهاتُ أربعٌ؛ الأبُوةُ، والأمومَةُ، والبُنُوَّةُ، والأخُوَّةُ) قال شيخُنا (¬1): لم أعلمْ أحدًا مِن أصحابِنا ولا مِن غيرِهم عدَّ الجهاتِ وبَيَّنهَا إلا أبا الخطابِ، فإنَّه عدَّها خَمْسَ جهاتٍ؛ الأبوَّةُ، والأمُومَةُ، والبُنُوَّةُ، والأُخُوَّةُ, والعُمُومَةُ، وهذا يُفْضِي إلى أنَّ بنتَ العمِّ مِن الأُمِّ وبنتَ العمةِ تُسقِطُ بنتَ العَمِّ مِنَ الْأَبَوَينِ. قال شيخُنا (2): ولم أعلمْ أحدًا قال به. وقد ذكَرَ شيخُنا في «المُغْنِي» (¬2)، ¬

(¬1) في المغني 9/ 88. (¬2) في المغني 9/ 102.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قياسُ قولِ محمدِ بنِ سالمٍ؛ لأنَّها بعدَ درجتَين بمنزلةِ الأب، والأبُ يُسقِطُ العَمَّ، وكذلِك بنتُ العَمِّ مِن جهةِ الأبِ، وبنتُ العَمِّ مِن جهةِ العَمِّ. والصوابُ إذًا أن تكونَ الجهاتُ أربعًا؛ الأُبُوَّةُ، والأُمومَة، والبُنُوَّةُ، والأُخُوَّةُ، إلَّا أنَّا إذا جَعَلْنا الأُخُوَّةَ جِهَةً أفْضَى إلى إسقاطِ بنتِ الأخِ وبناتِ الأخواتِ وبَنِيهِنّ ببناتِ الأعمام والعمَّاتِ، وهو بعيدٌ أيضًا؛ لأنَّ الأخَ يُسْقِطُ العَمَّ. فعلى هذا ينْبغي أن تكَونَ الجهاتُ ثلاثةً؛ الأُبُوَّةُ، والأُمومَةُ، والبُنُوَّةُ. وهو الَّذي اختارَه شيخُنا أخيرًا. ذكره في كتابِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «العُمْدَةِ» (¬1). فعلى هذا، يَرِثُ أسبقُهم إلى الوارثِ. وهو أوْلَى، إن شاء اللهُ تعالى. مسائل مِن هذا؛ بنتُ بنتِ بنتٍ وبنتُ بنتِ بنتِ بنتٍ وبنتُ أخٍ، المالُ بينَ الأُولَى والثالثةِ، وسَقَطَتِ الثانيةُ، إلَّا عندَ محمدِ بنِ سالمٍ، ونُعَيمٍ (¬2)، فإنَّها تُشارِكُهما. ومَن ورَّثَ الأقربَ جعَلَه لبنتِ الأخِ من؛ لأنَّها أسبَقُ. وعندَ أهلِ القَرابةِ، هو للأُولَى وحدَها؛ لأنَّها مِن ولَدِ الميِّتِ، ¬

(¬1) انظر العمدة 324. (¬2) نعيم بن حماد بن معاوية الخزاعي، أبو عبد الله، الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف، الفرضي. توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 595 - 612.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي أقْرَبُ مِن الثانيَةِ. ابنُ خالٍ وبنتُ عَمٍّ، ثُلُث وثُلُثانِ. ومن ورَّث الأسْبَقَ جعلَه لبنتِ العَمِّ. فإن كان معهما بنتُ عَمَّةٍ فلا شيءَ لها؛ لأنَّ بنتَ العَمِّ أسْبَقُ إلى الوارِثِ منهما، وهما مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ. وإن كان معهم عَمَّةٌ سَقَطَتْ بنتُ العَمِّ؛ لأنَّ العَمَّةَ بمنزِلَةِ الأبِ وبنتَ العَمِّ بمنزِلَةِ العَمِّ. بنتُ بنتِ بنتٍ وبنتُ بنتِ ابن، المالُ للثانيةِ عندَ الجميعِ، إلا ابنَ سالمٍ، ونُعَيمًا. بنتُ بنتِ بنتٍ وابنُ أخ لأُمٍّ، المالُ للأولَي. ومَنْ ورَّثَ الأقربَ جَعَلَه لابنِ الأخِ. وهو قولُ ضِرارٍ؛ لأنَّ البعيدَ إذا نُزِّلَ أسْقَطَ القريبَ. بنتُ بنتٍ وبنتُ بنتِ ابنٍ، المالُ بَينَهما علَى أربعةٍ عندَ جميعِ المُنَزِّلِين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعندَ أهلِ القرابَةِ هو لبنتِ البنتِ؛ لأنَّها أقْرَبُ. ابنُ بنتِ بنتٍ وبنتُ أخٍ، هو بَينَهما. ومَن ورَّثَ الأقَرْبَ جَعَلَه لبنْتِ الأخِ. وعندَ أهلِ القرابَةِ، هو لابنِ بنتِ البنتِ. ابنُ بنتٍ وابنُ ابنِ (¬1) أُختٍ لأَبَوين، المالُ بَينَهما. وعندَ مَن ورَّثَ الأقربَ، وأهلَ القَرَابَةِ، هو للأوَّلِ. بنتُ أخٍ وبنتُ عَمٍّ، أو بنتُ (1) عَمَّةٍ، المالُ لبنتِ الأخِ. وقياسُ قولِ أحمدَ في تَوْرِيثِ القريبِ مع البعيدِ إنْ كانا مِن جِهَتَين، أن يكُونَ لبنتِ العَمِّ والعَمَّةِ؛ لأنَّها مِن جِهَةِ الأبِ. وذلك قولُ ضرارٍ أيضًا. ابنُ أختٍ وابنُ عَمٍّ لأمٍّ، الميراثُ بَينَهما. ومَن ورَّثَ الأقربَ جَعَلَه لابنِ الأُختِ. وهو قولُ أهلِ القرابةِ، لأنَّها مِن وَلَدِ أبويِ المَيِّتِ، ولأنَّ العَمَّ للأمِّ مِن وَلَدِ أبَوَيْ أبَوَيهِ. بنتُ عَمٍّ وبنتُ عَمِّ أبٍ، هو للأُولَى عندَ الجميعِ، إلا ابنَ سالمٍ، ونُعَيمًا. بنتُ بنتِ بنتٍ وأُمُّ أبِي أُمٍّ، المالُ بَينَهما علَى أربعةٍ. بنتُ بنتِ بنتٍ وأبو أُمِّ أبٍ، مثلُها عندَنا. وعندَ مَن ورَّثَ الأقرَبَ جعلَه للثَّانِي. بنتُ بنتِ بنتِ ابن وعَمَّة أو خَالةٌ، للأُولَى النِّصفُ في الأُولَى، ومع الْخَالةَ لَها ثلاثةُ أرباعِ المالِ. وعندَ مَن ورَّثَ الأقْرَبَ، الكُلُّ للعَمَّةِ أو ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للخالةِ. فصل في عَمّاتِ الأبَوَين وأخوالِهما وخالاتهما: مذهبُنا تَقْديمُ الأسْبَقِ إلى الوارثِ إن (¬1) كانا مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ، وتَنْزِيلُ البعيدِ حتَّى يَلْحَقَ بوارثِهِ إن كانا مِن جِهَتَين، ثم يُجْعَلُ لمَن أدْلَى به ما كان له. وأكثرُ المُنَزِّلين يُعْطُون الميراثَ للأسْبَقِ بكلِّ حالٍ. والمشهورُ عندَ أهلِ العراقِ أنَّ نصيبَ الأُمِّ بينَ خالِها وخالتِها وعَمِّها وعمَّتِها، على ثلاثةٍ، ونصيبَ الأبِ بينَ عَمّاتِهِ وخالاتِه كذلك. ومِن مسائلِ ذلك: ثلاثُ خالاتِ أُمٍّ مُفْتَرِقاتٍ، وثلاثةُ أعمامِ أُمٍّ مُفْتَرِقينَ، وثلاثُ خالاتِ أبٍ مُفْتَرِقاتٍ، فخالاتُ الأُمِّ بمنزِلَةِ أُمِّ الأمِّ، وخالاتُ الأبِ بمنزِلَةِ أُمِّ الأبِ، فيكونُ المالُ بينَ هاتين الجَدَّتينِ نصفَينِ، ونَصِيبُ كلِّ واحدةٍ منهما بينَ أخواتِها على خمسةٍ، ويسقُطُ أعمامُ الأُمِّ؛ لأنَّهم بمنزلةِ أبي الأُمِّ، وهو غيرُ وارثٍ. فإن كانَ معهم عَمّاتُ أبٍ، فلخالاتِ الأبِ والأمِّ السُّدْسُ بَينَهما، والباقي لعَمّاتِ الأبِ؛ لأنَّهن بمنزِلَةِ الجَدِّ. عَمَّةُ أبٍ وعَمَّةُ أُمِّ، لعَمَّةِ الأُمِّ الثُّلُثُ، والباقِي لعَمَّةِ الأبِ. هذا قياسُ المذهبِ. وهو قولُ أهلِ العراقِ. وقال القاضي: المالُ لعَمَّةِ الأبِ؛ لأنَّها أسْبَقُ؛ لكونِها أختَ الجَدِّ، وهو وارِثٌ. وهذا قولُ أكثرِ المُنَزِّلينَ؛ لأنَّهم يُوَرِّثون الأسْبَقَ بكلِّ حالٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «وإن».

2834 - مسألة: (ومن أمت بقرابتين ورث بهما)

وَمَنْ أَمَتَّ بِقَرَابَتَينِ وَرِثَ بِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ خالةُ أمٍّ وعَمَّةُ أبٍ، للخالةِ السُّدْسُ والباقي للعَمَّةِ؛ لأنَّها كجَدٍّ وجَدَّةٍ، وكذلك القولُ في خالةِ أبٍ وعمَّتِه. خالةُ أمٍّ وخالةُ أمِّ أبٍ، المالُ لخالةِ الأُمِّ؛ لأنَّهما بمنزِلَةِ أمِّ أم وأمِّ أُمِّ أبٍ. خالُ أَب وعمُّ أُمٍّ، المالُ للخالِ؛ لأنَّه بمنزِلَةِ جَدَّةٍ، والجَدّاتُ بمنزلةِ الأُمَّهَاتِ. بنتُ خالِ أُمٍّ وبنتُ عَمِّ أبٍ، لبنتِ الخالِ السُّدْسُ ولبنتِ العَمِّ ما بَقِيَ. ومَن ورَّثَ الأسْبَقَ جَعَل الكلَّ لبنتِ العَمِّ. أبو أبي أُمٍّ وأبو أمِّ ابٍ، المالُ لأبي أمِّ الأبِ. فإن كانَ معهما أبو أُمٍّ أُمٍّ، فهو بَينَهما نِصْفَين؛ لأنَّهما بمنزِلَةِ جَدَّتَين مُتَحاذِيَتَين. أبو أُمِّ أبي أُمٍّ وأبو أبي أُمِّ أُمٍّ، المالُ للثاني؛ لأنَّه أسْبَقُ. فإن كانَ معهما أبو أُمِّ أبي أب، فالمالُ له؛ لأنَّه بأوَّلِ درجةٍ يَلْقَى الوارثَ. [أبو أبي أُمٍّ] (¬1)، [وأُمُّ أبي أُمٍّ] (¬2)، لأمِّ أبي الأُمِّ الثُّلُثُ، والباقي للأبِ. فإن كان معهما أبو أُمِّ أُمٍّ، فالمالُ له، لأنَّه يُدْلِي بوارثٍ. فإن كانَ معهم أبو أمِّ أبٍ، فالمالُ بينَ هذا والذي قبلَه نصفين. 2834 - مسألة: (ومَن أمَتَّ بِقَرابَتَين ورِثَ بهما) بإجماعٍ مِن ¬

(¬1) في م: «أب». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المورثين، إلَّا شيئًا يُحْكَى عن أبي يوسفَ، أنَّهم لا يرِثُون إلا بقَرابةٍ واحدةٍ. ولا يَصِحُّ عنه، ولا هو صحِيح في نفسِه؛ لأنَّه شخصٌ جِهَتانِ لا يُرَجَّحُ بهما، فورِثَ بهما، كالزَّوْجِ إذا كان ابنَ عَمٍّ، [وابنِ العَمِّ إذا كانَ أخًا لأُمٍّ] (¬1). وحسابُ ذلك أن تجعَل ذا القَرابَتَين كشَخْصَين، فتقولَ في ابنِ بنتِ بنتٍ: هو ابنُ ابنِ بنتٍ أُخرَى وبنتُ بنتِ بنتٍ أُخرَى؛ للابنِ الثُّلُثان، وللبنتِ الثُّلُثُ. فإن كانت أُمُّهما واحدةً فله ثلاثَةُ أرباعِ المالِ عندَ مَن سَوَّى، ولأُختِه الرُّبْعُ. ومَن فَضَّلَ، جَعَل له النِّصْفَ والثُّلُثَ ولأُختِه السُّدْسَ. وهذا قولُ أكثرِ المُنَزِّلين وقولُ أبي حنيفةَ ومحمدٍ. وقياسُ قولِ أبي يوسُف، له أربعةُ أخماسٍ ولأُختِه الخُمْسُ. بنتا أختٍ مِن أُمٍّ، إحداهما بنتُ أخ مِن أبٍ، وبنتُ أختٍ مِن أَبوين، هي مِن اثْنَيْ عشَرَ؛ ستةٌ لبنتِ الأُختِ مِن الأبَوَينِ، وأربعةٌ لذاتِ القَرابتَين مِن جِهَةِ أَبيها ولها سهمٌ مِن من جِهَةِ أُمِّها، وللأخرى سهمٌ. عَمَّتان مِن أبٍ، إحداهما خالةٌ مِن أُمٍّ، وخالةٌ مِن أبَوين، هي مِن اثنَيْ عشَرَ أيضًا؛ لذاتِ القَرابتَين خمسةٌ وللعَمَّةِ الأخْرَى أربعةٌ، وللخالةِ مِن الأبوينِ ثلاثَةٌ. فإن كان معهه! عَمٌّ مِن أُمٍّ وهو خالٌ مِن أبٍ صحَّتْ مِن تسعينَ. ابنُ وبنتُ ابنِ عَمَّةٍ مِن أُمٍّ، البنتُ هي بنتُ عَمٍّ مِن أُمٍّ، والعَمُّ هو خالٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2835 - مسألة: (فإن اتفق معهم أحد الزوجين أعطته فرضه غير محجوب ولا معاول)

وَإنِ اتَّفَقَ مَعَهُمْ أَحَدُ الزَّوْجَينِ أعْطتَهُ فَرْضَهُ غَيرَ مَحْجُوبٍ وَلَا مُعَاوَلٍ، وَقَسَمْتَ الْبَاقِي بَينَهُمْ كَمَا لَو انْفَرَدُوا. وَيَحْتَمِلُ أن يُقْسَمُ الْفَاضِلُ عَنِ الزَّوْجِ بَينَهُمْ، كَمَا يُقْسَمَ بَينَ مَنْ أَدْلَوْا بِهِ. فَإذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أبٍ. ابنُ وبنتُ ابنِ خالٍ مِن أب، الابنُ هو ابنُ بنتِ خالٍ آخرَ مِن أبٍ، والخالانِ عمّانِ مِن أُمٍّ، هي مِن ثمانيةَ عشَرَ. 2835 - مسألة: (فَإنِ اتَّفَقَ مَعَهُمْ أَحَدُ الزَّوْجَينِ أعْطتَهُ فَرْضَهُ غَيرَ مَحْجُوبٍ وَلَا مُعَاوَلٍ) قال شَيخُنا (¬1): لا أعلمُ خِلافًا عمَّن ورَّثَهم أنَّهم يَرِثونَ مع أحَدِ الزَّوْجَين ما فَضَل عن (¬2) ميرَاثِه، مِنِ غيرِ حَجْبٍ ولا مُعاوَلَةٍ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه فَرَض للزَّوْجِ والزَّوجَةِ ونصَّ عليهما، فلا يُحْجَبان بذَوي الأرْحامِ وهم غيرُ منصوص عليهم (وقَسَمْتَ) المال (بَينَهم كما لو انْفَرَدوا) ورُوِيَ ذلك عن إمامِنا. وبِهِ قال أبو عُبَيدٍ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، واللُّولُؤيُّ، وعامَّةُ مَن وَرَّثَهم (ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ) الباقي عن فرْضِ (الزَّوجِ، كما يُقْسَمُ بينَ مَنْ أَدْلَوْا به) مع أحَدِ الزَّوجَين، على الحَجْبِ والعَوْلِ، فيُفْرَضُ للزَّوجِ سهْمُه كامِلًا مِن غيرِ حَجْبٍ ولا عَوْلٍ، ¬

(¬1) في: المغني 9/ 91. (¬2) سقط من: م.

خَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتَ بِنْتٍ وَبِنْتَ أُخْتٍ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَينَهُمَا نِصْفَينَ، عَلَى الْوَجْهِ الْأوَّلِ، وَعَلَى الْآخَرِ، يُقْسَمُ بَينَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِبثتِ الْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الأُخْتِ سَهْمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم يُقْسَمُ الباقي بَينَهم على قَدْرِ سِهامِهم. وهذا قولُ يحيى بنِ آدمَ، وضِرارٍ. وإنَّما يقَع الخلافث في مسألةٍ فيها مَن يُدْلِي بذِي فَرْضٍ ومَن يُدْلِي بعَصَبةٍ، فأمّا إن أدْلَى جَمِيعُهم بذِي فَرْضٍ أو عَصَبَةٍ فلا خِلافَ فيه. فنقولُ في (زوج وبنتِ بنتٍ وبنتِ أُختٍ) لأبَوينِ أو لأبٍ (للزَّوْجِ النِّصفُ، والباقي بَينَهما نصفين) وتَصِحُّ مِن أربعةٍ على القولِ الأولِ، وعلى الثانِي، مِن ستَّةٍ، للزوجِ ثلاثةٌ، و (لبنتِ البنتِ سهمانِ، ولبنتِ الأُختِ سهمٌ). زوجة وابنتا ابنتَين وابنتا أختَين؛ للزوجةِ الرُّبْعُ، ولبِنتَي البنتَين ثُلُثَا الباقي وهو النصفُ، ولبنتَي الأُخْتَين الباقي وهو الرُّبْعُ، وتَصِحُّ مِن ثمانيةٍ. وعلى قولِ يحيى، وضِرارٍ، تَفْرِضُ المسألةَ مِن ثمانيةٍ؛ للزوجةِ الثُّمْنُ، وللبنتَين الثُّلُثان، وليسَ لها ثُلُثان، فتضرِبُها في ثلاثةٍ تكن أربعةً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعشرينَ؛ للزوجةِ الثُّمْنُ، ولبنتَي البِنْتَين الثُّلُثان ستَّةَ عشَرَ، والباقي لبنتَيِ الأُختَين وهو خمْسَةٌ، ثم تُعْطِي الزوجةَ الرُّبْعَ، وتَقْسمُ الباقيَ على أحَدٍ وعشرين؛ للبنتَين ستَّةَ عشَرَ، ولبنتَيِ الأختَين خمسةٌ، والأحَدُ وعشرون ثلاثَةُ أرباع، فكَمِّلْها بأن تَزِيدَ عليها ثُلُثَها تكنْ ثمانيةً وعشرين؛ للزوجةِ سبعةٌ، وللبنتَين ستَّةَ عشَرَ، يَبْقَى خمسةٌ، لا تنقَسِمُ على بنتَيِ الأختَين، فتضْرِبُها في اثنَين تكنْ ستَّةً وخمسين، ومنها تصِحُّ. زَوْجٌ وبنتُ بنتٍ وخالةٌ وبنتُ عمٍّ؛ للزوجِ النِّصفُ، والباقي بينَ ذَوي الأرْحامِ علَى سِتَّةٍ؛ لبنتِ البِنْتِ ثلَاثة، وللخالةِ سَهْمٌ، ويَبْقَى لبنتِ العَمِّ سَهْمان، وتَصِحُّ مِن اثْنَيْ عشَرَ. وفي قولِ يحيى، وضِرارٍ، تُفْرَضُ المسألةُ مِن اثْنَيْ عشَرَ؛ للزَّوْجِ ثلاثة، وللبِنتِ سِتَّة، وللأُمِّ سهمانِ، يَبْقَى للعَمِّ سَهْمٌ، ثم يُعْطى الزَّوْجُ النصفَ، وتُجْمَعُ سِهامُ الباقين وهي تسعة، لهم النِّصفُ، فتصِحُّ مِن ثمانيةَ عشَرَ. فإن كان مكانَ الزوجِ امرَأةٌ، فعلَى القولِ الأولِ للمْرأةِ الرُّبْعُ والباقي بَينَ ذوي الأرْحامِ على سِتَّةٍ، وهي تُوافِقُ باقِيَ مسألَةِ الزوجةِ بأثْلاثٍ، فترُدُّها إلى اثْنَين، وتضْرِبُها في أربَعَةٍ تَكنْ ثَمانِيَةً؛ للمرأةِ سهمانِ، ولبنتِ البنْتِ نِصْفُ الباقي ثلاثة، وللخالةِ، سَهْمٌ، ولبنتِ العَمِّ سَهْمان. وعلى قولِ يحيى تَفْرِضُها مِن أربعةٍ وعشرينَ؛ لذَوي الأرحامِ منها أحَدٌ وعشرون، ثم تفرِضُ للمرأةِ الرُّبْعَ مِن أربعةٍ، لها سَهْمٌ، ولهم ثلاثةٌ، توافقُ سِهامُهم بالثُّلُثِ، فتَضْربُ ثُلُثَها في أربعةٍ تكنْ ثمانِيَةً وعِشْرِين، ومنها تصِحُّ. امرأةٌ وثلاثُ بناتِ ثَلاثِ إخوةٍ

2836 - مسألة: (ولا يعول من مسائل ذوي الأرحام إلا مسألة واحدة وشبهها)

وَلَا يَعُولُ مِنْ مَسَائِلِ ذَوي الْأَرْحَام إلا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَشِبْهُهَا، وَهِيَ خَالةٌ وَسِتُّ بَنَاتٍ لِسِتِّ أَخوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُفْتَرِقِين. امرأةٌ وبنتٍ وثلاثُ خالاتٍ مُفْتَرِقاتٍ وثلاثُ عَمّاتٍ مُفْتَرِقاتٍ. 2836 - مسألة: (وَلَا يَعُولُ مِنْ مَسَائِلِ ذَوي الْأَرْحَام إلا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَشِبْهُهَا) وَهِيَ خَالةٌ [أو غيرُها ممَّن يقومُ مَقامَ الأُمِّ أوَ الجَدَّةِ] (¬1) (وسِتُّ بناتِ سِتِّ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ) أو مَن يقومُ مَقامَهُنَّ ممَّن يأْخُذُ المال بالفرْضِ، فإنَّها مِن ستَّةٍ، للخالةِ السُّدْسُ، ولبنْتَيِ الأختَينِ مِن الأُمِّ الثُّلُثُ، ولبنْتَيِ الأختَينِ مِن الأبوين الثُّلُثان أربعةٌ (تَعُولُ إلى سبعةٍ) لأنَّ العَوْلَ الزائدَ على هذا لا يكون إلا لأحدِ الزوجين، وليس ذلك في ذَوي الأرحامِ. ¬

(¬1) سقط من الأصل.

باب ميراث الحمل

بَابُ مِيرَاثِ الْحَمْلِ إذَا مَاتَ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ وَطَالبَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَقَفْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ مِيرَاثِ الْحَمْلِ إذَا مَاتَ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ وَطَالبَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَقَفْتَ له

لَهُ نَصِيبَ ذَكَرَينِ، إِنْ كَانَ نَصِيبُهُمَا أكْثَرَ، وَإلَّا وَقَفْتَ نَصِيبَ أُنْثَيَينِ، وَدَفَعْتَ إِلَى مَنْ لَا يَحْجُبُهُ الْحَمْلُ أقَلَّ مِيرَاثِهِ، وَلَا تَدْفَعُ إلَى مَنْ يُسْقِطُهُ شَيئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصِيبَ ذَكَرَينِ، إِنْ كَانَ نَصِيبُهُمَا أكْثَرَ، وَإلَّا وَقَفْتَ) له (نَصِيبَ أُنْثَيَينِ،) (¬1) وجملةُ ذلك، أنَّ الإنسانَ إذا مات عن حَمْلٍ يَرِثُه وُقِفَ الأمْرُ حتَّى يَتَبَيَّنَ، فإن طالبَ الوَرَثَةُ بالقِسْمَةِ (¬2) لم يُعْطَوْا كُلَّ المالِ بِغيرِ خِلافٍ بينَ العلماءِ، إلَّا ما حُكِيَ عن داودَ. والصَّحيحُ عنه مثْلُ قَولِ الجماعةِ، ولكن يُدْفَعُ إلى مَن لا يَنْقُصُه كَمال ميراثِه، وإلى مَن يَنْقُصُه أقَلَّ مِيراثِه (ولا يُدْفَعُ إلى مَن يُسْقِطُه شيئًا) فأما مَن يُشارِكُه، فأكثَرُ أهلِ العلم قالوا: يُوقَفُ للحَمْلِ شيءٌ ويُدْفَعُ إلى شُرَكائِه الباقي. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وأصحابُه، واللَّيثُ، وشَرِيكٌ، ويحيى بنُ آدمَ. وهو روايةُ الرَّبيعِ عن الشافعيِّ. والمشْهورُ عنه أنَّه لا يُدْفَعُ إلى شُرَكائِه شيءٌ؛ لأنَّ الحَمْلَ لا حَدَّ له، ولا نَعْلَمُ كم يُتْرَكُ له. وقدْ حَكَى الماوَرْدِيُّ، قال: أخْبَرني رجُلٌ مِن أهلِ اليمنِ وَرَد طالِبًا للعلمِ، وكان مِن أهلِ الدِّينِ والفَضْلِ، أنَّ امرأةً ولَدَتْ باليمن شَيئًا كالكَرِشِ، فَظُنَّ أن لا ولدَ فيه فأُلْقِيَ على قارِعَةِ الطَّريقِ، فلَمّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وحَمِيَ بها تحرَّكَ، فأُخِذَ وشُقَّ، فخرَجَ منه سبعةُ أوْلادٍ ذُكورٍ ¬

(¬1) في م: «ابنتين». (¬2) في الأصل: «بالقسم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعاشوا جَميعًا، وكانوا خَلْقًا سَويًّا إلَّا أنَّه كان في أعْضادِهم قِصَرٌ. قال: وصارَعَنِي أحَدُهم فصَرَعَنِي، فكنتُ أُعَيَّرُ به، فيُقال: صَرَعَك سُبْعُ رَجُلٍ. قال شَيخُنا (¬1): وقد أخْبَرَنِي مَن أثِقُ به سَنةَ ثَمانٍ وسِتِّمائةٍ أو سَنَةَ تِسْعٍ، عنٍ ضَرِيرٍ بدِمَشْقَ أنَّه قال: ولدتِ امرأتي في هذه الأيامِ سبعة في بَطْنٍ واحِدٍ، ذُكُورًا وإناثًا. قال: وكان بدِمَشْقَ أمُّ وَلَدٍ لبعْض كُبَرائِها، فتزوجت بعدَه مَن كان يَقْرأُ عليه (¬2)، وكانت تَلِدُ ثلَاثةً في كُلِّ بَطْنٍ. وقال غيرُ الشَّافِعِيِّ: هذا نادرٌ لا يُعَوَّلُ عليه فلا يجوزُ مَنْعُ الميراثِ مِن أجْلِهِ، كما لو لم يَظْهَرْ بالمرأةِ حَمْلٌ. فصل: واخْتَلَفَ القائلون بالوَقْفِ فيما يُوقَفُ، فعن أحمدَ، أنَّه يُوقَفُ نَصِيبُ ذَكَرَين، إن كان ميراثُهما أكثرَ، أو نَصِيبُ أُنْثيَين إن كان أكثرَ. وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ، واللّولُؤِيِّ. وقال شَرِيكٌ: يُوقَفُ نَصِيبُ أربعةٍ، فإنِّي رَأْيتُ بني إسماعيلَ أرْبعةً وُلِدُوا في بَطْنٍ واحِدٍ؛ محمدٌ، وعمرُ، وعليّ. قال يحيى: وأظُنُّ الرّابِعَ إسماعيلَ. ورَوى ابنُ المُباركِ (¬3) هذا القولَ عن أبي حنيفةَ، ورَواه الرَّبيعُ عن الشّافِعِيِّ. وقال اللَّيثُ، وأبُو ¬

(¬1) في: المغني 9/ 177. (¬2) في م: «عليها». (¬3) في م: «المنذر».

2837 - مسألة: (فإذا وضع الحمل دفعت إليه نصيبه ورددت الباقي إلى مستحفه)

فَإِذَا وُضِعَ الْحَمْلُ دَفَعْتَ إلَيهِ نَصِيبَهُ وَرَدَدْتَ الْبَاقِي إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوسُفَ: يُوقَفُ نصيبُ غُلامٍ، ويُوخَذُ ضَمِينٌ مِن الوَرَثَةِ. ولَنا، أنَّ ولادَةَ التَّوْأمَين كَثِيرٌ مُعْتادٌ فلم يجُزْ قَسْمُ نَصيبِهما، كالواحدِ، وما زادَ عليهما (¬1) نادِرٌ فلم يُوقَفْ له شيءٌ، كالخامسِ والسادسِ. 2837 - مسألة: (فإذا وُضِعَ الحَمْلُ دَفَعْتَ إليه نَصِيبَه ورَدَدْتَ الباقيَ إلى مُسْتَحِفِّه) وإن كان يَرِثُ الموْقوفَ كُلَّه أخَذَه، وإن أعْوَزَ شيئًا، رَجَع على مَن هو في يدِهِ. مسائلُ مِن ذلك: امْرأةٌ حامِلٌ وبنتٌ، للمرأةِ الثُّمْنُ، وللبنتِ خُمْسُ الباقي. وفي قولِ شَرِيكٍ تُسْعُه. وفي قولِ أبي يوسفَ ثُلُثُه بضمِين. ولا يُدْفَعُ إليها شَيْءٌ في الشْهورِ عن الشافعيِّ. فإن كان مكانَ البِنْتِ ابنٌ، دُفِعَ إليه ثُلُثُ الباقي أو خُمْسُه أو نِصْفُه، على اخْتِلافِ الأقوالِ. ومتى زادَتِ الفُروضُ على ثُلُثِ المالِ فميراثُ الإِناثِ أكثرُ، فإذا خَلَّفَ أبوين وامْرأَةً حامِلًا، فللْمَرْأةِ ثلاثةٌ مِن سبعةٍ وعِشْرين، وللأبوينِ ثمانِيةٌ منها، ويُوقَفُ سِتَّةَ عَشَرَ، ويَسْتَوي ههُنا قولُ مَن وَقَفَ نَصيبَ اثنين وقولُ مَن وَقَفَ نَصِيبَ (¬2) أربعةٍ. وقولُ أبي يوسفَ، تعْطَى المرأةُ ثُمْنًا كامِلًا، والأَبَوَانِ ثُلُثًا كاملًا، ويُوخَذُ منهم ضَمِينٌ. فإنْ كان معهم بنتٌ دُفِعَ إليها ثَلاثَةَ عَشَرَ مِن مائةٍ وعِشْرين. وفي قولِ شَرِيكٍ، ثَلاثَةَ عَشَرَ مِن مائتين وسِتَّةَ عَشَرَ. ¬

(¬1) في م: «عليها». (¬2) في م: «بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي قولِ أبي يوسفَ، ثلاثةَ عَشَرَ مِن اثنينِ وسبعين، ويُؤخَذُ مِن الكُلِّ ضَمِينٌ: مِن البنْتِ؛ لاحْتِمالِ أن يُولَدَ أكثر مِن واحِدٍ، ومِن الباقين؛ لاحتمالِ أن تعولَ المسألةُ. وعلى قولِنا، يُوافَقُ بينَ سبعةٍ وعِشْرِينَ وبينَ مائةٍ وعشرينَ بأثْلاثٍ، ويُضْرَبُ ثُلُثُ إحداهما في الأُخْرى تَكنْ ألفًا وثمانين، للبنْتِ ثلاثةَ عَشَرَ في تِسْعَةٍ، مائَةً وسَبْعَةَ عَشَرَ، وللأبوين والمرأةِ أحَدَ عَشَرَ في أربعين، وما بَقِيَ فهو مَوْقوفٌ. زَوْجٌ وأُمٌّ حامِلٌ مِن الأبِ، المسألةُ مِن ثمانِيَةٍ، للزوَجِ ثلاثَةٌ، وللأمِّ سَهْمٌ، ونَقِفُ أرْبَعَةً. وقال أبو يوسفَ: نَدْفَعُ إلى الأُمِّ سَهْمَين ونقِف ثَلاثَة، ونأْخُذُ منها ضَمِينًا. هكذا حَكَى عنه الخَبْرِيُّ. وإن كان في المسألةِ مَن يسْقُطُ بوَلَدِ الأبوينِ، كعَصَبَةٍ أو أحَدٍ مِن وَلَدِ الأبِ، لم يُعْطَ شَيئًا. ولو كان في هذه المسْألَةِ جَدٌّ، فللزوجِ الثُّلُثُ، وللأمِّ السُّدْسُ، وللجَدِّ السُّدْسُ، والباقي مَوْقوفٌ. وقال أبو حنيفةَ: للزوجِ النِّصْفُ، وللأمِّ السُّدْسُ، وللجَدِّ السُّدْسُ، ويَقِفُ السُّدْسُ بينَ الجَدِّ والأمِّ، ولا شيءَ لِلحَمْلِ؛ لأنَّ الجَدَّ يُسْقِطُه. وأبو يوسفَ يَجْعَلُها مِن سَبْعَةٍ وعِشرين، ويَقِفُ أرْبعةَ أسْهُمٍ. وحُكِيَ عن شَرِيكٍ أنَّه كان يقولُ: [تَعُولُ عَلى الجَدِّ] (¬1). فَيَقِفُ ههُنا نَصِيبَ الإِناثِ، فَتَكونُ عندَه مِن تِسْعَةٍ، تَقِف منها أرْبَعَةٌ. ولو لم يكنْ فيها زوجٌ كان للأُمِّ السُّدْسُ [وللجَدِّ ثُلُثُ الباقي، ويَقِفُ عَشَرَةٌ مِن ثمانِيةَ عَشَرَ. وعندَ أبي حنيفةَ، للجَدِّ الثُّلُثان، وللأُمِّ] (¬2) ¬

(¬1) في المغني 9/ 179: «بقول على في الجد». (¬2) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَإذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ صَارِخًا وَرِثَ وَوُرِثَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعُطَاسُ، وَالتَّنَفُّسُ، وَالارْتِضَاعُ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ. فَأمَّا الْحَرَكَةُ وَالاخْتِلَاجُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسُ (¬1)، ويُوقَفُ السُّدْسُ بَينَهما. قولُ أبي يوسفَ، يَقِفُ الثُّلُثُ، ويُعْطَى كُلُّ واحِدٍ منهما ثُلُثًا، ويُؤخَذُ منهما ضَمينٌ. ومتى خَلَّفَ وَرَثَةً وأُمًّا تحتَ الزوجِ، فيَنْبَغِي للزوجِ الإمْساكُ عن وَطْئِها، ليَعْلَمَ أحامِلٌ هي أم لا. كذا يُرْوَى عن عليٍّ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، في آخَرِينَ. فإن وَطِئَها قبلَ اسْتِبْرائِها فأتَتْ بِوَلدٍ لأَقلَّ مِن سِتَّةِ أشهُرٍ وَرِثَ؛ لأنَّا نَعْلَمُ أنَّها كانت حامِلًا به، وإن وَلَدَتْه لِأكثَرَ مِن ذلك لم يرِثْ، إلَّا أن يُقِرَّ الوَرَثَةُ أنَّها كانت حامِلًا يومَ موتِ وَلَدِها. فصل: قال الشَّيخُ، رحِمَه الله: (وَإذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ صَارِخًا وَرِثَ وَوُرِثَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعُطَاسُ، وَالتَّنَفِّسُ، وَالارْتِضَاعُ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ. فَأمَّا الْحَرَكَةُ وَالاخْتِلَاجُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحمْلَ لا يَرِثُ إلَّا بشَرْطَين؛ أحدُهما، [أن يُعْلَمَ] (¬1) أنَّه كان مَوْجودًا حال الموتِ، ويُعْلَمُ ذلك بأن تَأَتِيَ به لِأقلَّ مِن سِتَّةِ أشْهرٍ، فإن أتت به لأكثرَ مِن ذلك وكان لها زوجٌ أو سيدٌ يَطَؤُها لم يَرِثْ إلّا أن يُقِرَّ الورَثَةُ أنَّه كان موجُودًا حال الموتِ، وإن كانت لا تُوطَأ لعدَمِ الزَّوْجِ أو السَّيِّدِ أو لِغَيبتِهما أو اجْتِنابِهما الوطءَ عَجْزًا أو قَصْدًا أو غَيرَه، وَرِثَ ما لم يُجاوزْ أكثرَ مُدَّةِ الحمْلِ، وهي أرْبَعُ سِنينَ في إحدى الرِّوايتَين، وفي الأُخْرَى سَنَتان. الشرطُ الثَّاني، أن تضَعَه حَيًّا، فإن وَضَعَتْه مَيِّتًا لم يَرِثْ في قولِ الجميعِ. واخْتُلِفَ فيما يَثْبُ به الميراثُ مِن الحياةِ، فاتَّفقُوا على أنَّه إذا اسْتَهَلَّ صارخًا وَرِثَ ووُرِثَ؛ لما روَى أبو داودَ (¬2) بإسنادِه عن أبِي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب في المولود يستهل ثم يموت، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 115. وهو حديث صحيح، إرواء الغليل 6/ 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا اسْتَهَلَّ المَوْلُودُ وَرِثَ». وروَى ابنُ ماجَه (¬1) عن جابِرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَه. واخْتَلَفوا فيما سِوَى الاسْتِهْلالِ، [فقالت طائِفَةٌ: لا يَرِثُ حتَّى يَسْتَهِلَّ، ولا يقومُ غيرُه مَقَامَه. ثم اخْتَلفوا في الاسْتِهْلالِ] (2) ما هو؟ فقالتْ طائِفَةٌ: لا يَرِث. حتَّى يَسْتَهِلَّ صارِخًا. والمشهورُ عن أحمدَ، أنَّه لا يَرِثُ حتَّى يَسْتَهِلَّ. رُوِيَ ذلك عن ابْنِ عَبَّاسٍ، [والحسنِ بنِ عليٍّ، وأبي هُرَيرَةَ، وجابِرٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، وشرَيحٍ] (¬2)، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ، ورَبِيعةَ، ويحيى بنِ سَعيدٍ، وأبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمنِ، ومالِكٍ، وأبي عُبَيدٍ، وإسْحاقَ؛ لأنَّ مَفْهومَ قَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ». أنَّه لا يَرِث بغيرِ الاسْتِهلالِ. وفي لَفْظٍ ذَكَرَه ابنُ سُراقَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال في الصَّبِيِّ المَنْفُوسِ: «إذَا وَقَعَ صَارِخًا فَاسْتَهَلَّ وَرِثَ وتَمَّتْ دِيَتُهُ، وَسُمِّيَ وصُلِّيَ عليهِ وإنْ وَقَعَ حَيًّا ولم يَسْتَهِلَّ صَارِخًا لم تَتِمَّ ديَتُهُ، وفِيهِ غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أو أَمَةٌ، عَلى العاقِلَةِ» (¬3). وإنَّما سُمِّيَ الصُّرَاخُ مِنَ الصَّبِيِّ اسْتِهْلالًا تَجَوُّزًا، والأصْلُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الصلاة على الطفل، من كتاب الجنائز، وفي: باب إذا استهل المولود ورث، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجة 1/ 483، 2/ 919. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه السلفي في الطيوريات بدون آخره عن أبي هريرة مرفوعًا، وله طرق يقوي بعضها بعضا. إرواء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه أنّ النَّاسَ إذا رَأوُا الهِلال صاحُوا عندَ رُؤْيَتِه واجْتَمعُوا فأراه بَعْضُهم بَعْضًا، فَسُمِّيَ الصَّوْتُ عندَ اسْتِهْلالِ الهلالِ اسْتِهْلالًا، ثم سُمِّيَ الصَّوْت مِن الصَّبِيِّ الموْلودِ اسْتِهْلالًا؛ لأنَّه صَوْتٌ عندَ وُجودِ شيءٍ يُجْتَمَعُ له ويُفرَحُ به. وروى يُوسُفُ بنُ موسى عن أحمدَ أنَّه قال: يَرِثُ السَّقْطُ ويُورَثُ إذا اسْتَهَلَّ. فقيل له: ما الاسْتِهْلالُ؟ قال: إذا صاحَ أو عَطَس أو بَكَى. فعلى هذا، كُلُّ صَوْتٍ يوجَدُ منه تُعْلَمُ به حياتُه فهو اسْتِهْلالٌ. وهذا قوْلُ الزُّهْرِيِّ، والقاسِمِ بنِ محمدٍ؛ لأنَّه صَوْتٌ عُلِمَتْ به حياتُه فأشْبَهَ الصُّراخَ. وعن أحمدَ روايةٌ ثالثةٌ، إذا عُلِمَتْ حياتُه بصَوْتٍ أو حَرَكَةٍ أو رَضاعٍ أو غَيرِه وَرِثَ وثَبَت له أحْكامُ الحياةِ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِي، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه، [وداودُ] (¬1). ¬

= الغليل 6/ 147، 148. (¬1) سقط من: م.

2838 - مسألة: (وإن خرج بعضه فاستهل ثم انفصل ميتا لم يرث)

وَإنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ انْفَصَلَ مَيتًا لَمْ يَرِثْ. وَعَنْهُ، يَرِثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا الحرَكَةُ والاخْتِلاجُ فلا تَدُلُّ على الحياةِ، فإنَّ اللحْمَ يختَلِجُ إذا خَرَج مِن مكانٍ ضَيِّقٍ فتَضامَّتْ أجْزاؤُه، ثم خَرَج إلى مكانٍ فَسيحٍ فإنه يَتَحَرَّكُ وإن لم تَكنْ فيه حياةٌ، ثم إن كانت فيه حياةٌ، فلا يُعْلَمُ كونُها مُسْتَقِرَّةً؛ لِاحْتِمالِ أن تكونَ كحرَكَةِ المذْبوحِ، فإنَّ الحيواناتِ تتَحَرَّكُ بعدَ الذَّبْح حَرَكَةً شديدةً، وهي في حُكْمِ المَيِّتِ. 2838 - مسألة: (وإن خَرَج بعْضُه فاسْتَهَلَّ ثم انْفَصَلَ ميِّتًا لم يَرِثْ) وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ، وأصحابُه: إن خرج أكثَرُه فاسْتَهَلَّ ثم مات، وَرِثَ؛ لقَوْلِه عليه الصلاة والسَّلامُ: «إذَا اسْتَهَلَّ

2839 - مسألة: (وإن ولدت توأمين فاستهل أحدهما وأشكل، أقرع بينهما)

وَإنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَينِ فَاسْتَهَلَّ أحَدُهُمَا وَأشْكَلَ، أُقْرِعَ بَينَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرعَتُهُ فَهُوَ الْمُسْتَهِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْلُودُ وَرِثَ». ولنا، أنَّه لم يخْرُجْ جميعُه، فأشْبَهَ ما لو مات قبلَ خُروجِ أكْثَرِه (وعنه، يَرِثُ) للحديثِ المذكورِ، ولأنَّه قد عُلِمَتْ حياتُه. والأُولَى ظاهِرُ المذْهَبِ؛ لأنَّه لم تَثْبُتْ له أحكامُ الدنيا وهو حيٌّ، أشبهَ ما لو مات في بَطْنِ أمِّه. 2839 - مسألة: (وإن ولدت تَوْأمَين فاسْتَهَلَّ أحَدُهما وأَشْكَلَ، أُقْرِعَ بَينَهما) فمَن خَرَج سهْمُه فهو المُستَهِلُّ. إذا أَشْكَلَ أحَدُ التَّوْأمَين أَيُّهُما المُسْتَهِلُّ، فإن كانا ذَكَرْين أو أُنْثَيَين، أو ذَكَرًا وأُنْثَى لا يَخْتَلِفُ ميراثُهما، فلا فَرْقَ بَينَهما. وإن كانا ذَكَرًا وأُنْثَى يَخْتَلِفُ ميراثُهما، فقال القاضِي: مِن أصحابِنا مَن قال: يُقْرَعُ بَينَهما، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو المُسْتَهِلُّ، كما لو طَلَّقَ إحْدَى نِسائِه فلم تُعْلَمْ بعَينِها ثم مات، وكذلك النِّسْوةُ إذا أرادَ السَّفَرَ بإحْداهن أو البدايةَ بالقَسْمِ لها، فإنَّه يُقْرَعُ بَينَهُنَّ. وقال الخَبْرِيُّ: ليس في هذا عن السَّلَفِ نَصٌّ. وقال الفَرَضِيُّون: تُعْمَلُ المسْألَةُ على الحالتَين، ويُعْطَى كُلُّ وارِثٍ اليَقينَ، ويُوقَفُ الباقي حتَّى يصْطَلِحوا عليه. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ بينَهم على حَسَبِ الاحْتِمالِ. ومِن مَسائِلَ ذلك: رجلٌ خَلَّفَ أُمَّه وأخاه وأُمَّ وَلَدٍ حامِلًا منه، فوَلَدَتْ تَوْأمَينِ ذَكَرًا وأُنْثَى، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما ولم يُعْلَمْ بعَينِه، فقُلْ: إن كان الابنُ المُسْتَهِلَّ فللأُمِّ السُّدْسُ، والباقي له، تَرثُ أُمُّهُ ثُلُثَه، والباقي لعَمِّه، فاضْرِبْ ثَلاثَةً في سِتَّةٍ تكنْ ثمانيةَ عَشَرَ، لأمِّ الميِّتِ ثَلاثَةٌ، ولأمِّ الوَلَدِ خَمْسَةٌ، وللعَمِّ عَشَرَةٌ، وإن كانتِ البنتُ المُسْتَهِلَّ فالمسألةُ مِن سِتَّةٍ، وتَمُوتُ البنتُ عَن ثَلاثَةٍ، لأُمِّها سهْمٌ، ولعَمِّها سَهْمَان، والستَّةُ تَدْخُلُ في ثمانِيَةَ عَشَرَ، فمَن له شيءٌ مِن ثمانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ في واحِدٍ، ومَن له شيءٌ مِن سِتَّةٍ مضْروبٌ في ثَلاثَةٍ، فسُدْسُ الأُمِّ لا يَتَغَيَّرُ، وللعَمِّ مِن الستَّةِ أَرْبَعَةٌ في ثَلاثَةٍ، اثنا عَشَرَ، وله مِن الثَّمانِيَةَ عَشَرَ عَشَرَةٌ في واحدٍ، فهذا اليقينُ فيأخُذُه، ولأمِّ الوَلَدِ خَمْسَةٌ في سَهْمٍ، وسَهْمٌ في ثَلاثَةٍ، فيأْخُذُها، وتَقِفُ سَهْمَينِ بينَ الأخِ وأُمِّ الوَلَدِ حتَّى يَصْطَلِحَا عليهما. ويَحْتَمِلُ أن يُقْسَمَ بَينَهما. امرأةٌ حامِلٌ وعَمٌّ، وَلَدَتِ المرأةُ ابنًا وبنتًا، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما ولم يُعْلَمْ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمَسْألَتان مِن أرْبَعَةٍ وعِشْرين، إذا أعْطَيتَ كلَّ واحدٍ أقَلَّ نَصِيبِه بَقِيَتْ ثَلاثَةٌ مَوْقوفَةٌ، فإن كان معهما بِنْتٌ، فكلُّ واحدَةٍ مِن المسألتينِ مِن اثْنَين وسبْعِين، والموْقوفُ اثنا عَشَرَ. امرأةٌ وعَمٌّ وأُمٌّ حامِلٌ مِن الأَب، وَلَدَتِ المرأةُ ابنًا وبنتًا، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما ولم يُعْلَمْ، فإن كان المُسْتَهِلُّ الأَخَ، فهي مِن سِتَّةٍ وثَلاثين، فإن كانتِ الأُخْتَ، فهي مِن ثَلاثَةَ عَشرَ (1)، والمسألتان متباينَتان، فاضْرِبْ إحْدَاهما في الأُخْرَى تكنْ أربعَمائةٍ وثمانيةً وسِتِّين، وكُلَّ مَن له شيءٌ مِن إحْدى (¬1) المسألتين مَضْروبٌ في الأُخْرى، فتَدْفَعُ إلى كُلُّ واحِدٍ أقَلَّ النَّصِيبَين، يَبْقَى أرْبَعَةَ عَشَرَ، منها تِسْعَةٌ بينَ المرأةِ والعَمِّ، وخَمْسَةٌ بينَ الأُمِّ والعَمِّ. فإن كانتِ المرأة والأمُّ حامِلَينِ، فوَضَعَتا مَعًا، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما، فكُلُّ واحدةٍ منهما تَرْجِعُ إلى سِتَّةٍ وثَلاثِينَ، فيُعْطى كُلُّ وارثٍ أقَلَّ النَّصِيبَين، ويَبْقَى أحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، أربَعَةٌ موْقوفةٌ بينَ الزوجَةِ والأُمِّ، وسبْعَةٌ بينَ الأُمِّ والعَمِّ. فصل: إذا وَلَدَتِ الحامِل تَوْأمَين، فسُمِعَ الاسْتِهلالُ مِن أحَدِهما ثم سُمِعَ مَرَّةً أُخرى، فلم يُدْرَ أهو مِن الأوَّلِ أو مِن الثّانِي، فيَحْتَمِل أن يَثْبُتَ الميراث لمَن عُلِمَ اسْتِهْلاله دونَ مَن شَكَكْنا فيه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمْ اسْتِهْلالِه. فعلى هذا الاحْتِمالِ، إن عُلِمَ المُسْتَهِلُّ بعَينِه فهو الوارِثُ وَحْدَه، وإن جُهِلَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان كما لو اسْتَهَلَّ واحِدٌ منهما لا بعَينِه. وقال الفَرَضِيُّونَ: تُعْمَلُ على الأحْوالِ، فيُعْطَى كلُّ وارثٍ اليقِينَ، ويُوقَفُ الباقي. مِن مسائلِ ذلك: أُمٌّ حامِلٌ وأُخْتٌ لأبٍ وعَمٌّ، وَلَدَتِ الأُمُّ بِنْتَين، فاسْتَهلَّتْ إحداهما ثم سُمِعَ الاسْتِهلالُ مَرَّةً أُخرى، فلم يُدْرَ هل اسْتَهلَّتِ الأُخْرَى، أو تَكَرَّرَ مِن واحِدَةٍ؟ فقلْ: إن كان منهما جميعًا فقد ماتتا عن أرْبَعَةٍ مِن سِتَّةٍ، ولا يُعْلَمُ أوَّلُهما مَوْتًا، فَحُكْمُهما حُكْمُ الغَرْقَى، فمَن ذَهَب إلى أنَّه لا تَرِثُ إحداهما مِن الأخْرَى قال: قد خَلَّفا أُمًّا وأُخْتًا وعمًّا، فتَصِحُّ مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ. وإن كان الاسْتِهلالُ مِن واحِدَةٍ فقد ماتَتْ عن ثَلاثَةٍ مِن سِتَّةٍ، فتَصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ، وبَينَهما مُوافَقَة بالسُّدْسِ، فتَصيرُ مِن سِتَّةٍ وثَلاثِين؛ للأُمِّ اثنا عَشَرَ، وللأخْتِ كذَلك، وللعَمِّ تِسْعَةٌ، ونَقِفُ ثَلَاثةً، تَدَّعِي الأُمُّ منها سَهْمَين والعَمُّ سَهْمًا وتَدَّعِيها الأُخْتُ كُلَّها، فيكونُ سَهْمان بَينَها (¬1) وبينَ الأُمِّ، وسَهْمٌ بَينَها وبينَ العَمِّ. زوْجٌ وجَدٌّ وأُمٌّ حامِلٌ، ولَدَتِ ابنًا وبنتًا، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما ثم سُمِعَ الاسْتِهلالُ مَرَّةً أُخْرَى فلم يُدْرَ ممَّن هو، فإن كان الاسْتِهلالُ تَكَرَّرَ مِن البنْتِ فهي الأَكْدَرِيَّةُ وماتَتْ عن أرْبَعَةٍ بينَ أُمِّها وجَدِّها، فتَصِحُّ مِن أحَدٍ وثمانينَ، وإن تَكَرَّرَ مِن الأخِ لم يَرِثْ شيئًا، والمسْأْلَةُ مِن سِتَّةٍ؛ للجَدِّ منها سَهْمٌ، وإن كان منهما، فللأُمِّ السُّدْسُ، وللزَّوْجِ النِّصفُ، وللجَدِّ السُّدْسُ، ولهما السُّدْسُ على ثَلاثَةٍ، فَتَصِحُّ مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ، والثَّلاثَةُ التي ¬

(¬1) في م: «بينهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما بين الجَدِّ والأُمِّ على ثلَاثةٍ، فصارَ للأُمِّ أربَعَةٌ، وللجَدِّ خَمْسَةٌ، والثمانِيَةَ عَشَرَ توافِقُ أحَدًا وثمانِينَ بالأتْسَاعِ، فتَصيرُ مِائَةً واثْنَين وسِتِّينَ، للزَّوْجِ حقُّه مِن الأَكْدَرِيَّةِ أربَعَةٌ وخَمْسونَ، وللأُمِّ تُسْعَا المالِ مِن مَسْأَلةِ اسْتِهْلَالِهما مَعًا سِتَّةٌ وثلاثون، وللجَدِّ السُّدْسُ مِن مسألَةِ اسْتِهْلالِ الأخِ وحْدَه سَبْعَةٌ وعِشْرون، يَبْقَى خَمْسَةٌ وأرْبعون، يَدَّعِي منها الزوجُ سبْعَةً وعِشْرِين والأُمُّ ثَمانِيَةَ عَشَرَ، ويَدَّعى منها الجَدُّ سبْعَةً وثلاثين، وتعولُ (¬1) الثَّمانِيَةُ الفاضِلَةُ للأُمِّ، فيَحْتَمِلُ أن تُدْفَعَ إليها؛ لأنَّ الزَّوْجَ والجَدَّ يُقِرَّان لها بها. فصل: وربَّما كان الحملُ لا يَرِثُ إلا أن يكونَ ذكرًا، مثلَ أن يكونَ مِن جَدِّ الميِّتِ، أو عَمِّه، أو أخيه. مثالُ ذلك، بنْتُ عَمٍّ وعَمٌّ وامرأةُ أخٍ حاملٌ، للبنتِ النِّصفُ، والباقي موقوفٌ، في قولِهم جميعًا. أُمٍّ وعَمٌّ وامرأةُ جَدٍّ حاملٌ، للأمِّ الثُّلُثُ، وللعَمِّ تُسْعانِ. أُمٌّ وبنْتٌ وامرأةُ أخٍ وامرأةُ عَمٍّ حاملانِ، لأُمِّ السُّدْسُ، وللبنتِ النِّصْفُ، ويُوقَفُ ثُلُثٌ، فإنْ وَلدَتَ امرأَةُ العَمِّ ابنًا لم يُعْطَ شيئًا، لجوازِ أن تَلِدَ الأخْرى ابنًا، وإن ولدَتِ امرأةُ الأخَ أَوَّلًا ابنًا أخَذَ الموقوفَ. فصل: وربَّما كان الحملُ لا يَرِثُ إلَّا أن يكونَ أُنْثَى، مثالُه، زَوْجٌ وأُخْتٌ لأبوين وامرأةُ أبٍ حاملٌ، يُوقَفُ سهْمٌ مِن سبعةٍ، فإن ولدَتْ أُنْثَى أو إنَاثًا أخَذَتْه، وإن ولدَتْ ذَكرًا أو ذكرَين أو ذكرًا وأنْثَى اقْتَسَمَه الزوجُ ¬

(¬1) في م: «تقول.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُختُ. وكذلِك إن تَركَتْ أُختًا لأبٍ، لم يُدْفَعْ إليها شيءٌ؛ لجوازِ أن تَلِدَ ذكرًا فيُسْقِطُهما. زوج وأبوانِ وبنْت وامرأةُ ابنٍ حاملٌ، تَقِفُ سهمَينِ مِن خمسَةَ عَشَرَ، فإن ولدَتْ أُنْثَى أو إناثًا، أخذَتْهُما (¬1)، وإلَّا رَجَعا (¬2) على الورَثةِ، فقَسَمْتَه بَينَهم على ثلاثَةَ عَشَرَ، ورجَعَتِ المسألةُ إلى ذلك. وكذلِك إن كان معهم بنتُ ابنَ جَدٍّ وأُمٌّ حاملٌ مِن الأبِ، مِن ثمانيةَ عَشَرَ، تَأْخُذُ الأُمُّ ثلاثةً، والجَدُّ خمسةً، ويوقَفُ عَشَرةٌ، فإن ولدَت ذَكَرَينِ فالعشَرَةُ لهما، وإن ولدَت أُنْثَيَين فلهما مِن العشَرةِ سبعةٌ ونِصفٌ، وللجَدِّ اثنان ونصفٌ. وإن ولدَتْ ذكرًا وأُنْثَى، أخذ الجَدُّ مِن العَشَرةِ سهمًا، وللذَّكرِ ستَّة، وللأُنْثَى ثلاثةٌ، وإن ولدَتْ أُنْثَى، أخَذَ الجَدُّ مِن العَشَرةِ ثلاثةً، والأُنْثَى أربعةً، وللأُمِّ ثلاثةٌ، وإنَّ ولدَتْ ذكرًا، أخذَتِ الأُمُّ ثلاثةً، وأخذ الجَدُّ سهمًا، والأخُ ما بَقِيَ، وإن لم تَلِدْ شيئًا، أخذتِ الأُمُّ ثلاثةً، والجَدُّ ما بَقِيَ. وإن كان مَعهم زَوْجٌ، فهي مِن ستَّةٍ، للزوجِ ثلاثةٌ، وللأُمِّ سهمٌ، وللجَدِّ سهِمٌ، ويُوقَفُ سهمٌ. وإن ولدَتْ ذكرَين، فالسَّهمُ لهما، وتصِحُّ مِن اثْنَى عَشرَ، وكذا إن ولدَت ابْنَتَين. وإن وَلدَت ذكرًا، فالسَّهمُ للأُمِّ، وتصِحُّ مِن ستةٍ، وإن ولدَتْ أُنْثَى، فهي الأكدَرِيَّةُ، وإن وَلدَتْ ذكرًا وأنْثَى، فالسَّهمُ الباقي بَينَهما على ثلاثةٍ، وتصِحُّ مِن ثمانيةَ عَشَرَ، وإن لم تَلِدْ شيئًا، أخذَتِ الأُمُّ السهمَ. ¬

(¬1) في الأصل: «أخذتها». (¬2) في م: «رجعت».

باب ميراث المفقود

بَابُ مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ وَإذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيبَةٍ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوهَا، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ تِسْعِينَ سَنَةً مِن يَوْمِ وُلِدَ. وَعَنْهُ، يُنْتَظرُ أَبَدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ المفْقُودِ وهو نَوْعان؛ أحدُهما، مَن (انْقَطَعَ خَبَرُه لغَيبَةٍ ظاهِرُها السَّلامَةُ، كالتاجرِ) والسائحِ، وطالبِ العلمِ، ولم يُعْلَمْ خَبَرُه، ففيه روايتان؛ إحداهما (يُنْتَظرُ به تَمامُ تِسْعين سَنَةً) مع سنةِ يوم فُقِدَ. وهذا قَولُ عبدِ المَلكِ بنِ الماجِشُون؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّه لا يَعيشُ أَكْثَرَ مِن هذا. والروايةُ الثانيةُ، لا يُقْسَمُ مالُه ولا تَتَزَوَّجُ امرَأتُه حتَّى يُعْلَمَ موْتُه أو تَمْضِيَ عليه مدةٌ لا يعيشُ في مثْلِها، وذلك مرْدودٌ إلى اجتهادِ الحاكمِ. وهذا قولُ الشافعيٍّ، ومحمدِ بن الحسنِ. وهو المشهورُ عن مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي يوسف؛ لأنَّ الأصْلَ حياتُه، والتقْدِيرُ لا يُصارُ (¬1) إليه إلا بالتَّوقِيفِ (¬2)، ولا تَوْقِيفَ (¬3) ههُنا، فوجَبَ التُّوقُّفُ عنه. وقال عبدُ اللهِ بنُ عبدِ (¬4) الحكمِ: يُنْتَظَرُ ¬

(¬1) في م: «يضاف». (¬2) في م: «بالتوفيق». (¬3) في م: «توفيق». (¬4) سقط من النسختين. وهو عبد الله بن عبد الحكم بن أعين أبو محمد المالكي، الإمام الفقيه مفتي الديار المصرية، صاحب مالك، توفي سنة أربع عشرة ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 220 - 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به تمامُ سبْعِينَ سنَةً مع سنةِ يومِ فُقِدَ. ولَعَلَّه يَحْتَجُّ بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أعْمَارُ أُمَّتِي ما بَينَ السِّتِّينَ والسَّبْعينَ» (¬1). أو كما قال. ولأنَّ الغالِبَ أنَّه (¬2) لا يعيشُ أكْثَرَ مِن هذا، فأشْبَهَ التِّسْعين. وقال الحسن بنُ زيادٍ: يُنْتَظَرُ به تمامُ مائَةٍ وعِشْرين سنَةً. وهو قولُ ابنِ عَقِيلٍ. فلو فُقِدَ وهو ابنُ سِتِّينَ سَنَةً وله مالٌ، لم يُقْسَمْ حتى تَمْضِيَ عليه سِتُّونَ سَنَةً أُخرى، فيُقْسَمُ مالُه حينئذٍ بينَ وَرَثَتِه إن كانوا أحياءً، وإن مات بعضُ وَرَثَتِه قبلَ مُضِيِّ مائةٍ وعِشْرين وخَلَّفَ وَرَثَةً، لم يكنْ له شيءٌ مِن مالِ المفْقودِ، وكان مالُه للأحْياءِ مِن وَرَثَتِه، ويُوقَفُ للمَفْقُودِ حِصَّةٌ مِن مالِ مَوْروثِه الذي مات في مُدَّةِ الانْتِظارِ، فإن مَضَتِ المُدَّةُ ولم يُعْلَمْ خَبَرُ المَفْقودِ رُدَّ المَوْقوفُ إلى وَرَثَةِ مَوْروثِ المَفْقودِ، ولم يَكُنْ لوَرَثَةِ الْمَفْقودِ. قال اللُّولُؤِيُّ: وهذا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي،: باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة. . . .، من أبواب الزهد، وفي: باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذي 9/ 203، 13/ 65. وابن ماجه، في: باب الأمل والأجل، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1415. (¬2) في م: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ أبي يوسفَ. وحَكَى الخَبْرِيُّ عن اللُّؤْلُؤِيِّ، أنَّه قال: [إنَّ الموقوفَ للمَفْقُودِ، وإن لم يُعْلَمْ خَبَرُه يكونُ لورثتِه. قال] (¬1): وهو الصَّحيحُ عِنْدي. والذي ذَكَرْناه هو الذي حكاه ابنُ اللَّبَّانِ عن اللُّؤْلُؤِيِّ، فقال: لو ماتَتِ امرأةُ المَفْقودِ قبلَ تَمامِ مائَةٍ وعِشْرِين سنةً بيومٍ، أو بعدَ فَقْدِه بيَومٍ، أو تَمَّتْ مائَةٌ وعِشْرون سَنَةً، لم تُوَرَّثْ منه شيئًا ولم يُوَرَّثْ منها؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ أيَّهما مات أوَّلًا. وهذا قياسُ قولِ مَن قال في الغَرْقَى: إنَّه لا يَرِثُ أحَدُهم مِن صاحِبِه، ويَرِثُ كُلُ واحِدٍ مَن الأحياءِ مِن وَرَثَتِه. قال القاضِي: هذا قِياسُ قولِ أحمدَ. واتَّفَقَ الفُقهاءُ على أنَّه لا يَرِث المفْقُودَ إلا الأحياءُ مِن ورَثَتَه يومَ قَسْمِ مالِه، لا مَن مات قبلَ ذلك ولو بِيومٍ. واخْتَلَفوا في مَن ماتَ وفي وَرَثَتِه مَفْقودٌ، فمذْهَبُ أحمدَ ¬

(¬1) زيادة من المغني 9/ 188.

وَإنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكَ، كَالَّذِي يُفْقَدُ مِنْ بَينِ أهْلِهِ، أوْ فِي مَفَازَةٍ مُهْلِكَةٍ، كَالْحِجَازِ، أوْ بَينَ الصَّفَّينِ حَال الْحَرْبِ، أوْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ إِذَا غَرِقَتْ سَفِينَتُهُ، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ أرْبَعِ سِنِينَ، ثُمَّ يُقْسَمُ مَالُهُ. وَعَنْهُ، التَّوَقُّفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكْثَرِ الفُقَهاءِ، أنَّه يُعْطَى كُلُّ وارِثٍ مِن وَرَثَتِه الْيَقِينَ، ويُوقَفُ الباقي حتى يَتَبَيَّنَ أمْرُه أو تَمْضِيَ مُدَّةُ الانْتِظار، فتَعْمَلُ المسألةَ على أنَّه حَيٌّ، ثم على أنَّه مَيِّت، وتَضْرِبُ إحْداهما في الأُخْرى إن تَباينتا، أو في وَفْقِها إنِ اتَّفَقَتا، وتَجْتَزِئُ بإحْداهُما إن تَماثَلَتا، وبأكْثَرِهما إن تَناسَبَتا، وتُعْطِي كُلَّ واحِدٍ أقَلَّ النَّصِيبَين، ومَن لا يَرِثُ إلَّا مِن إحْدَاهما لا تُعْطِيه شَيئًا، وتُوقِفُ الباقيَ. النوعُ الثاني، أن يكونَ الغالِبُ مِن حالِه الهلاكَ (كالذي يُفْقَدُ مِن بَينِ أهْلِه) كمَن يَخرُجُ إلى الصلاةِ، أو في حاجةٍ قريبةٍ فلا يعودُ (أو في مفازةٍ مُهلِكةٍ، كالحجازِ، أو بَينَ الصَّفَّين حال الحربِ، أو في البحرِ إذا غَرِقَتْ سَفِينَتُه) ولا يُعْلَمُ له خَبَرٌ، فهذا (يُنْتَظَرُ به أرْبَعُ سِنِين) لأنَّها أكْثَرُ مُدَّةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحملِ، فإن (¬1) لم يَظْهَرْ له خَبَرٌ، قُسِمَ مالُه، واعْتَدَّتِ امرأتُه عِدَّةَ الوَفاةِ وحَلَّتْ للأزْواجِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا اخْتيارُ أبي بكرٍ. وذَكَرَ القَاضي أنَّه لا يُقْسَمُ مالُه حتى تَمْضِيَ عِدَّةُ الوَفاةِ بعدَ الأرْبَعِ سنين؛ لأنَّه الوَقْت الذي يُباحُ لامرأتِه التزويجُ فيه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ العِدَّةَ إنَّما تكون بعدَ الوَفاةِ، فإذا حُكِمَ بوفاتِه فلا وَجْهَ للوُقوفِ عَن قَسْمِ مالِه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، التَّوَقُّفُ عن أمرِه، وقال: قد هِبْتُ الجوابَ فيها وكأنِّي أُحِبُّ السَّلامَةَ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ. ولم يُفَرِّقْ سائِرُ أهْلِ العِلْمِ بينَ هذه الصُّورَةِ وبينَ سائِرِ صُورِ الفِقْدانِ فيما عَلِمنا، إلَّا أنَّ مالِكًا والشافعيَّ في القَديمِ، وافقا في الزوجةِ أنَّها تَتَزَوَّجُ خَاصَّةً. والأظْهَرُ مِن مذْهَبِه مِثْلُ قَولِ الباقينَ. فأمّا مالُه فاتَّفَقُوا على أنَّه لا يُقْسَمُ حتى تَمْضِيَ مُدَّةٌ لا يَعِيشُ في مثلِها، وقد ذَكَرْنا الاخْتِلافَ في ذلك في النوعِ الأوَّلِ؛ ¬

(¬1) في م: «فإنه».

2840 - مسألة: وإن مات للمفقود من يرثه قبل الحكم بوفاته

فَإِن مَاتَ مَوْرُوثُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ دُفِعَ إِلَى كُلِّ وَارِثٍ الْيَقِينُ وَوُقِفَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مَفْقُودٌ لا يتَحَقَّقُ مَوْتُه، أشْبَهَ التَّاجِرَ والسَّائِحَ. ولَنا، اتّفاقُ الصَّحابَةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، على تَزْويجِ امرأتِه على ما نَذْكُرُه في العِدَدِ، إن شاءَ اللهُ تعالى، وإذا ثَبَت ذلك في النِّكاحِ مع الاحْتِياطِ للأبْضاع، ففي المالِ أوْلَى. ولأنَّ الظّاهِرَ هَلاكُه، فأشْبَهَ ما لو مَضَتْ مُدَّة لا يَعيشُ في مِثْلِها. 2840 - مسألة: وإن مات للمفقودِ مَن يَرِثُه قبلَ الحُكْمِ بِوَفاتِه،

الْبَاقِي، فَإِنْ قَدِمَ أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَإنْ لَمْ يَأْتِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وُقِفَ للمفقودِ نَصيبُه مِن مِيراثِه، و (دُفِعَ إلى كُلِّ وارثٍ اليَقِينُ) (¬1)، فإن بانَ (¬2) حيًّا أخَذَ ميراثَه، ورُدَّ الفَضْلُ إلى أهلِه، وإن عُلِمَ أنَّه مات بعدَ موتِ مَوْروثِه، دُفِعَ نصيبُه مع مالِه إلى ورَثَتِه، وإن عُلِمَ أنَّه كان ميَتًّا حينَ موتِ مَوْروثِه، رُدَّ الوقوف إلى ورَثةِ الأوَّلِ، وإن مضَتِ المدةُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وقسم الباقي». (¬2) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُعْلَمْ خَبَرُه، رُدَّ أيضًا إلى ورَثةِ الأوَّلِ؛ لأنَّه مشكوكٌ في حياتِه حينَ موتِ مَوْروثِه، فلا نُوَرِّثُه مع الشَّكِّ، كالْجَنينِ الذي سقَطَ ميِّتًا. هذا الذي ذكَرَه شيخُنا في «المُغْنِي» (¬1). وذكَرَ في هذا الكتابِ المشروحِ، وفي «الكافي» (¬2)، أنَّه يُقْسَمُ على ورَثةِ المفقودِ؛ لأنَّه محكُومٌ بحَياتِه. ¬

(¬1) 9/ 189. (¬2) 2/ 566.

2841 - مسألة: (ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن نصيبه فيقسموه)

وَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ أنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا زَادَ عَنْ نَصِيبِهِ فَيَقْسِمُوهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، يكونُ في المسألَةِ روايتان. وإن عَلِمْنا أنَّ المفقودَ مات ولم نَدْرِ متى مات، رُدَّ الموقوفُ له إلى ورَثةِ الأوَلِ؛ لأنَّه مشكوكٌ في حياتِه، فلا نُوَرِّثه مع الشَّكِّ. واتَّفَقَ الفقهاءُ على أنَّه لا يَرِثُ المفقودَ إلا الأحياءُ مِن ورَثَتِه، وقد مَضَى ذكْرُه. 2841 - مسألة: (ولباقي الورثةِ أن يَصْطَلِحُوا على ما زاد عن نصيبِه فيَقْسِمُوه) اخْتارَه ابنُ اللَّبَّانِ؛ لأنَّه لا يَخْرُجُ عنهم. وأنْكَرَ ذلك الوَنِّيُّ، وقال: لا فائِدَةَ في أن يَنْقُصَ بَعْضُ الوَرَثَةِ عَمّا يَسْتَحِقُّه في مَسْألَةِ الحياةِ وهي مُتَيَقَّنَةٌ، ثمَّ يُقَالُ له: لك أنْ تُصالِحَ على بَعْضِه. بل إن جاز ذلك، فالأوْلَى أن تُقْسَمَ المسألةُ على تَقْديرِ الحياةِ، ويَقِفَ نَصيبُ المَفْقودِ لا غيرُ. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أصَح إن شاءَ الله تعالى؛ فإنَّ الزّائِدَ عن نَصِيبِ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 189.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَفْقودِ مِن الموْقوفِ مَشْكوكٌ في مُسْتَحِقِّه، ويَقِينُ الحَياةِ مُتعارَضٌ بظُهورِ الموتِ، فيَنْبَغِي أن يُوَرَّثَ (¬1)، كالزّائِدِ عن اليَقينِ في مَسائِلِ الحَملِ والاسْتِهْلالِ. فعلى هذا، يجوزُ للوَرَثَةِ الموجودين الصُّلْحُ عليه؛ لأنَّه حَقُّهُم لا يَخْرُجُ عنهم، وإباحَةُ الصُّلْحِ عليه لا تَمْنَعُ وُجوبَ وَقْفِه، كما تَقَدَّمَ في نَظائِرِه، ووُجوبُ وَقْفِه لا يَمْنَعُ الصُّلْحَ عليه لذلك (¬2)، ولأنَّ تَجْويزَ أخْذِ الإِنْسانِ حَقَّ غَيرِه بِرِضاه وَصُلْحِه لا يَلْزَمُ منه جَوازُ أخْذِه بغيرِ إذْنِه. وظاهِرُ قَوْلِ الوَنِّيِّ هذا أنَّه يَقْسِمُ المسألَةَ علَى أنَّه حَيٌّ ويَقِفُ نَصيبَ المفقودِ لا غيرُ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: يُقْسَمُ المالُ على الموجودين؛ لأنَّهم مُتَحَقَّقون، والمفقودُ مَشْكوكٌ فيه، فلا يُوَرَّثُ مع الشَّكِّ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: القولُ قَولُ مَن المالُ في يَدِه، فلو مات رجلٌ وخَلَّفَ ابْنَتَيه، وابنَ ابنٍ أبوه مَفْقُودٌ، والمالُ في أيدِي البِنْتَين، فاخْتَصَمُوا إلى القاضِي، فإنَّه لا يَنْبَغِي للقاضِي أن يُحَوِّلَ المال عن مَوْضِعِه ولا يَقِفَ منه شَيئًا، سواءٌ اعْتَرَفَ البنتانِ بفَقْده أو ادَّعيا موتَه، وإن كان المالُ في يَدِ ابنِ (¬3) المَفقودِ لم نُعْطِ الابنتين إلَّا النِّصْفَ، أقلُّ ما يكونُ لهما، فإن كان المالُ في يَدِ أجْنَبِيٍّ فأقَرَّ بأنَّ الابنَ مفْقُودٌ، وُقِفَ له النِّصْفُ على يَدَيهِ، وإن قال: قد مات المَفْقودُ. لَزِمَه دَفْعُ الثُّلُثَينِ إلى البِنْتَين، ويُوقَفُ الثُّلُثُ، إلَّا أن ¬

(¬1) في النسختين: «يوقف» وانظر المغني 9/ 189. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقِرَّ ابنُ الابنِ بموتِ أبيه، فيُدْفَعُ إليه الباقي. والجُمْهورُ على القولِ الأوَّلِ. مسائلُ ذلك: زَوْجٌ وأُمٌّ وأُخْتٌ وجَدٌّ وأَخٌ مَفْقودٌ، مسألةُ الموتِ مِن سَبْعَةٍ وعِشْرِين؛ لأنَّها الأكْدَرِيَّةُ، ومَسْألَةُ الحَياةِ مِن ثَمانِيَةَ عَشَرَ، وهما يَتَّفِقان بالأتساعِ، فتَضْرِبُ تُسْعَ إحداهما في الأخْرى تَكُنْ أرْبَعَةً وخَمْسِين، للزَّوْجِ النِّصفُ مِن مسألةِ الحَياةِ والثُّلُثُ مِن مسألةِ الموتِ، فيُعْطَى الثُّلُثَ، وللأُمِّ التُّسْعَانِ مِن مَسْألةِ الموتِ والسُّدْسُ مِن مسألةِ الحياةِ، فتُعْطَى السُّدْسَ، وللجَدِّ سِتَّةَ عَشَرَ سهْمًا مِن مسألةِ الموتِ وتِسْعَةٌ مِن مسألةِ الحياةِ، فيأْخُذُ التِّسْعَةَ، وللأُخْتِ ثَمانِيَةٌ مِن مسألةِ الموتِ وثَلاثَةٌ مِن مسألةِ الحياةِ، [فتَأْخُذُ ثَلاثَةً] (¬1)، ويَبْقَى خَمْسةَ عَشَرَ مَوْقوفَةً، [إن بانَ الأخُ حيًّا أخَذَ سِتَّةً وأخَذَ الزَّوْج تِسْعَةً، وإن بانَ ميِّتًا أو مَضَتِ المُدَّةُ قَبْلَ قُدومِه] (1) أخَذَتِ الأُمُّ ثَلاثَةً والأُخْتُ خَمْسَةً والجَدُّ سَبْعَةً. هذا على الرِّوايةِ التي تَقُولُ: إنَّ المَوْقوفَ للمَفْقودِ يُرَدُّ إلى وَرَثَةِ الأوَّلِ. واختار الخَبْرِيُّ أنَّ المُدَّةَ إذا مَضَتْ ولم يَتَبَيَّنْ أمْرُه، أنَّه يُقسَمُ نَصِيبُه مِن المَوْقوفِ على وَرَثَتِه وهو سِتَّةٌ، يَبْقَى تِسْعَةٌ. وهي الروايةُ الثانيةُ؛ لأنَّه كانَ محكومًا بحياتِه، لأنَّها اليَقينُ، وإنَّما حَكَمْنا بموتِه بمُضِيِّ المُدَّةِ. ووجه الأُولَى، أنَّه مالٌ مَوْقُوفٌ لِمَن يُنْتَظرُ مِمَّن لا نَعْلَمُ حاله، فإذا لم تَتَبَيَّنْ حياته، لم ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكنْ لورثتِه، كالموقوفِ للحَمْلِ. وللورثةِ أن يصْطَلِحُوا على التِّسعةِ قبلَ مُضِيِّ المُدَّةِ. زوجٌ وأبَوان وابْنَتان مَفْقودَتان، مسألةُ حياتِهما مِن خمسةَ عَشَرَ، وفي حياة إحْداهما مِن ثلاثةَ عَشَرَ، وفي مَوْتِهما مِن سِتَّةٍ، فتَضْرِبُ ثُلُثَ السِّتَّةِ، وهي اثنان، في خمسةَ عشرَ ثم في ثلاثةَ عشرَ، تَكُنْ ثَلاثَمائةٍ وتِسعين، ثم تُعْطِي الزَّوْجَ والأبوَين حُقوقَهم مِن مسألةِ الحياةِ مضروبًا في اثْنَين ثم في ثلاثةَ عشرَ، وتَقِفُ الباقِيَ. وإن كان في المسألةِ ثلاثةٌ مَفْقُودون عَمِلْتَ (¬1) لهم أربعَ مَسائلَ. فإن كانوا أربعةً عَمِلْتَ لهم خَمْسَ مسائلَ. وعلى هذا، فإن كان المفقودُ يَحْجُبُ ولا يَرِثُ، كزوجٍ وأُخْتٍ لأبَوَين وأختٍ لأبٍ وأخٍ لها مَفْقُودٍ، وَقَفْتَ السُّبْعَ بينَهما وبينَ الزوجِ والأخْتِ مِن الأبوَينِ. وقيل: لا يُوقَفُ ههُنا شيءٌ، وتُعْطىَ الأُختُ مِن الأبِ السُّبْعَ؛ لأنَّها لا تُحْجَبُ بالشَّكِّ، كما لا تُوَرثُ بالشَّكِّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ دَفْعَ السُّبْعِ إليها توْرِيثٌ بالشَّكِّ، وليس في الوَقْفِ حَجْبٌ يقينًا، إنَّما هو تَوَقُّفٌ عن صَرْفِ المالِ إلى إحْدَى الجِهَتين المَشْكُوكِ فيهما. ويُعارِضُ قولَ هذا القائِلِ قولُ مَن قال: إن اليقينَ حياتُه، فيُعْمَلُ على أنه حَيٌّ، ويُدْفَعُ المالُ إلى الزوجِ والأُخْتِ مِن (¬2) الأبَوَين. والتَّوَسُّطُ بما ذَكَرْناه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسختين: «و». وانظر المغني 9/ 191.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. فصل: والأسيرُ كالمفقودِ إذا انْقَطع خبرُه، وإن عُلِمَتْ حياتُه وَرِثَ في قَولِ الجمُهورِ. وحُكِيَ عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، أنَّه لا يَرِث؛ لأنَّه عَبْدٌ. والصحيحُ الأولُ؛ لأنَّ الكفارَ لا يَمْلِكُون الأحْرارَ. واللهُ سبحانَه وتعالى أعلمُ.

باب ميراث الخنثى

بَابُ مِيرَاثِ الْخُنْثَى وَهُوَ الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجُ امْرأَةٍ. فَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ، فَإِنْ بَال أَوْ سَبَقَ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ الخُنْثَى (وهو الذي له ذَكَرٌ وفَرْجُ امرأةٍ) أو ثُقْبٌ في مكانِ الفَرْجِ يَخْرُجُ منه البَوْلُ. وينْقَسِمُ إلى مُشْكِلٍ وغيرِ مُشْكِلٍ، فمَن تَثْبُتُ فيه علاماتُ الرجالِ أو النساءِ، فيُعْلَم أنَّه رجلٌ أو امرأةٌ فليس بمُشْكِلٍ، وإنَّما هو رجلٌ فيه خِلْقَة زائدةٌ، أو امرأةٌ فيها خِلْقَةٌ زائدة، وحكمُهُ في إرْثِه وسائرِ أحكامِهِ حُكْمُ ما ظهرَتْ علاماتُه فيهِ. والذي لا علامةَ فيه مُشْكِلٌ. 2842 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ بمَبالِه) في قولِ مَن بَلَغَنا قولُه مِن أهلِ العلمِ. قال ابنُ المنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَن نحفظُ عنهُ مِن أهلِ العلمِ على أنَّ الخُنْثَى يُوَرَّثُ مِن حيثُ يبولُ؛ إن بال مِن حيثُ يبولُ الرجلُ فهو رجلٌ، وإن بال مِن حيثُ تبولُ المرأةُ فهو امرأةٌ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، ومعاويةَ، وسعيدِ بنِ المُسيَّبِ، وجابرِ بنِ زيدٍ، وأهلِ الكوفةِ، وسائِرِ أهلِ العلمِ. وقال ابنُ اللَّبَّانِ: روَى الكَلْبِيُّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن مولودٍ له قُبُلٌ وذَكَرٌ، مِن أينَ يُوَرَّثُ؟

سَبَقَ مِنْ فَرْجِهِ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ خَرَجَا مَعًا اعْتُبِرَ أَكثَرُهُمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ مُشْكِلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «مِنْ حَيثُ يَبُولُ» (¬1). ورُوِيَ أنَّه، عليه الصلاةُ والسلامُ أُتِيَ بخُنْثَى مِن الأنصارِ، فقال: «وَرِّثُوه مِنْ أوَّلِ ما يَبُولُ منه» (¬2). ولأنَّ خُروجَ البَوْلِ أعمُّ العلاماتِ؛ لوجودِ ها مِن الصغيرِ والكبيرِ، وسائِرُ العلاماتِ إنَّما توجَدُ بعدَ الكِبَرِ، مثلُ نباتِ اللِّحْيةِ، وخروجِ المَنِيِّ، والحَيضِ، [وتَفَلُّكِ الثَّدْيِ، والحَبَلِ] (¬3). فصل: فإن بال منهما جميعًا اعتُبِرَ بأسبَقِهما. نصَّ عليه أحمدُ. ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسيَّبِ. وبه قِال الجمهورُ (فإن خرجا معًا اعتُبِرَ أكثَرُهما) قال أحمدُ، في روايةِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ: يُوَرَّث مِن المكانِ الذي يَبُولُ منه أكثرَ. وحُكِيَ هذا عن الأوْزاعِيِّ، وصاحِبَيْ أبي حنيفَةَ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ميراث الخنثى، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 261. وقال: محمد بن السائب الكلبي لا يحتج به، والصحيح أنه عن عليٍّ. (¬2) قال الشيخ الألباني: لم أقف على إسناده. انظر الإرواء 6/ 152. (¬3) سقط من: الأصل. وتفلك الثدي: استدارته.

2843 - مسألة: (فإن)

فَإِنْ كَانَ يُرْجَى انْكِشَافُ حَالِهِ، وَهُوَ الصَّغِيرُ، أُعْطِيَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ فَيَظْهَرَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ؛ مِنْ نَبَاتِ لِحْيَتِهِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ، أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ووقَفَ في ذلك أبو حنيفَةَ، ولم يَعْتَبِرْهُ أصحابُ الشافعيِّ، في أحَدِ الوجهَين. وقال قومٌ: إذا خرجا معًا، اعْتُبِرَ بآخِرِهما انْقِطاعًا، فإنِ انْقَطَعا معًا اعْتُبِرَ أكثَرُهما. وقيل: الاعْتِبارُ بالكَثْرةِ. ولَنا، أنَّها مَزِيَّةٌ لإِحدَى العَلامتَين، فيُعْتَبَرُ بها، كالسَّبْقِ، فإنِ اسْتويا فهو حينَئِذٍ مُشْكِلٌ. 2843 - مسألة: (فإن) مات له مَن يرِثُه و (كان يُرْجَى انكِشافُ حالِه، وهو الصغيرُ) فإنِ احْتِيجَ إلى قَسْمِ الميراثِ (أُعْطِيَ هو ومَن معه اليقينَ، ووُقِفَ الباقي) في قولِ الجمهورِ (حتى يَبْلُغَ فيَظْهَرَ فيهِ علاماتُ الرِّجالِ؛ مِن نباتِ لحيتِهِ، وخروجِ المنيِّ مِن ذَكَرِه) وكونِه مَنِيَّ رجلٍ

مِنَ الْحَيضِ وَنَحْوهِ. وَإنْ يُئِسَ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْعَلَامَاتِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أُعْطِيَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أو علاماتُ النساءِ؛ مِن الحيضِ) والحملِ، [وتَفَلُّكِ الثديَين] (1). نصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ المَيمُونِيِّ. وحُكِيَ عن عَلِيٍّ، والحسنِ، أنَّهما قالا: تُعَدُّ أضلاعُه، فإنَّ أضْلاعَ المرأةِ أكثرُ مِن أضلاعِ الرجلِ بضِلَعٍ. قال ابنُ اللَّبَّانِ: ولو صحَّ هذا لما أَشْكَلَ حالُه ولا احْتِيجَ إلى مراعاةِ البولِ. وقال جابِرُ بنُ زيدٍ: يُوقَفُ إلى جانبِ الحائطِ، فإن بال عليه فهو رجلٌ، وإن شلْشَلَ بينَ فَخِذَيهِ فهو امرأةٌ. وليس على هذا تَعويلٌ، والصَّحيحُ ما ذكَرْنَاهُ، إن شاء اللهُ تعالى، أنَّه يُوقَفُ أمرُه ما دام صغيرًا، [فإنِ احْتِيجَ إلى قَسْمِ الميراثِ أُعْطِيَ هو ومَن معه اليَقينَ، ووُقِفَ الباقي إلى حينِ بلوغِه، فتُعْمَلُ المسألةُ على أنَّه ذَكَرٌ، ثم على أنَّه أُنْثَى، وتَدْفَعُ إلى كلِّ وارثٍ أقلَّ النَّصِيبَين، ويَقِفُ الباقي حتى يَبْلُغَ] (¬1)، فإن مات قبلَ بُلوغِه أو بلَغَ مُشْكِلًا ورِثَ (نصفَ ميراثِ ذكرٍ ونصفَ ميراثِ أُنْثَى) نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ ابنِ عباس، [والشَّعْبِيِّ، وابنِ أبي لَيلَى، وأهلِ المدينةِ ومكَّةَ، والثَّوْرِيِّ، واللُّولُؤِيِّ، وشَرِيكٍ، والحسنِ بنِ صالحٍ] (1)، وأبي يوسفَ، ويحيى بنِ آدمَ، وضرارِ بنِ صُرَد، ونُعَيمِ بنِ حمَّادٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَرَّثَهُ أبو حنيفَةَ بأسْوَأَ حالاتِه، والباقي لسائِرِ الورَثَةِ. وأعْطاه الشافعيُّ ومَن معه اليَقينَ، ووقَفَ الباقيَ حتى يَتَبَيَّنَ أمرُه أو يصْطَلِحوا. وبه قال أبو ثَورٍ، وداودُ، وابنُ جريرٍ. وورَّثَه بعضُ أهلِ البَصْرَةِ على الدَّعْوَى فيما بَقِيَ بعدَ اليَقينِ، وبعضُهم بالدَّعْوَى مِن أصلِ المالِ. وفيهِ أقوالٌ شاذَّةٌ سِوَى هذه. ولَنا، قولُ ابنِ عباسٍ، ولم يُعْرَفُ له في الصحابةِ منْكِرٌ، ولأنَّ حالتَيه تساوتا فوجبَتِ التَّسويَةُ بين حُكْمِهما، كما لو تداعا نَفْسانِ دارًا بأيديهما ولا بَيِّنَةَ لهما. وليس توريثُه بأسْوَأَ أحوالِه بأَولَى مِن توريثِ مَن معه بذلك، فتخصيصُه بهذا الحُكْمِ لا دليلَ عليهِ، ولا سبيلَ إلى الوَقْفِ؛ لأنَّهُ لا غايةَ له تُنْتَظَرُ، وفيه تضييعٌ للمالِ مع يَقِينِ استحقاقِهم

2844 - مسألة: (فإذا كان ابن، وبنت)

فَإِذَا كَانَ مَعَ الْخُنْثَى بِنْتٌ وَابْنٌ، جَعَلْتَ لِلْبِنْتِ أَقَلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ وَهُوَ سَهْمَانِ، وَلِلذَّكَرِ أَرْبَعَةً، وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةً. وَقَال أصْحَابُنَا: تَعْمَلُ المَسْأَلَةَ عَلى أَنَّهُ ذَكَرٌ، ثُمَّ عَلى أَنَّهُ أُنْثَى، ثُمَّ تَضْرِبُ إِحْدَاهُمَا أوْ وَفْقَهَا فِي الأُخْرَى إِنِ اتَّفَقَتَا، وَتَجْتَزِئُ بِإِحْدَاهُمَا إِنْ تَمَاثَلَتَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ له. 2844 - مسألة: (فإذا كان ابنٌ، وبنتٌ) وولدٌ خُنْثَى (جَعَلْتَ للبِنْتِ أقلَّ عددٍ له نصفٌ وهو سهْمان، وللذَّكرِ أربعةً، وللخُنثى ثلاثةً) فيكونُ معه نصفُ ميراثِ ذكرٍ ونصفُ ميراثِ أنْثَى. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، واللُّؤْلُؤِيِّ، في هذه المسألَةِ، وفي كلِّ مسألَةٍ فيها ولدٌ إذا كان فيهم خُنْثَى. قال شيخُنا (¬1): وهذا قولٌ لا بأسَ به. وذهَبَ أكثرُ مَن ورَّثَه نصفَ ميراثِ ذكرٍ ونصفَ ميراثِ أنْثَى (¬2) فتُعْمَلُ المسألةُ على أنَّه ذكرٌ، ثم على أنَّه أُنْثَى، وتضْرِبُ إحْداهما في الأخرَى إن تباينتا، أو في وَفْقِها إنِ اتفَقَتا (وتَجْتَزِئُ بإحداهما إن تماثَلَتا، وبأكثَرِهما إن تناسَبَتا، وتَضْرِبُها في اثنَين) ثم تجمَعُ ما لِكُلِّ واحدٍ منهما إن تماثَلَتا، وتَضْرِبُ ما لِكُلِّ واحِدٍ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 111. (¬2) بعده في المغني: 9/ 111: «إلى أن يجعلوا مرة ذكورًا ومرة إناثًا».

أوْ بِأكْثَرِهِمَا إِنْ تَنَاسَبَتَا وَتَضْرِبُهَا فِي اثْنَينِ، ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَينِ مَضْرُوبٌ فِي الأُخْرَى، أوْ فِي وَفْقِهِمَا، أَوْ تَجْمَعُ مَا لَهُ مِنْهُمَا إِنْ تَمَاثَلَتَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن إحداهما في الأُخْرَى إن تبايَنَتا، أو في وَفقِها إنِ اتفَقَتا. وهذا اختيارُ أصحابِنا، ويُسَمَّى مذهبَ المُنَزِّلِينَ. وقولُ الثَّوْرِيِّ يُوافِقُ قولَ أصحابِنا في بعضِ المواضعِ ويُخالفُه في بعضِها. وبيانُ اخْتَلافِهِما، أنَّنَا نَجْعَلُ المسألةَ المذكورةَ، على قولِ الثَّوْرِيِّ، مِن تِسْعَةٍ، للخُنْثَى الثُّلُثُ وهو ثَلاثَةٌ، وعلى قولِ أصحابِنا، مسألَةُ الذُّكُورِيَّةِ مِن خمسةٍ، والأنُوثِيَّةِ مِن أربعةٍ، ولا موافَقَةَ بَينَهما، تَضْرِبُ إحداهما في الأخرَى تكنْ عشرين، ثم في اثنين تكنْ أربعينَ، للبنتِ سهمٌ في خمسةٍ، وسَهْمٌ في أربعةٍ، تسعَةٌ، وللذَّكرِ ثمانيةَ عشَرَ، وللخُنْثَى سهمٌ في خمسةٍ، وسهمان في أربعةٍ، ثَلاثَةَ عَشَرَ، وهي دونَ ثُلُثِ الأربعينَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولُ مَن ورَّثَهُ بالدَّعْوَى فيما بَقِيَ بعدَ اليَقينِ يُوافِقُ قولَ المُنَزِّلينَ في أكثرِ المواضِعِ، فإنَّه يقولُ في هذه المسألَةِ: للذكرِ الخُمْسانِ بيَقِينٍ، وذلك ستةَ عضرَ مِن أربعينَ، وهو يدَّعِي النِّصفَ عشرينَ، وللبنتِ الخُمْسُ بيقينٍ، ثمانيةٌ، وهي تَدَّعِي الرُّبْعَ، وللخُنْثَى الرُّبْعُ بيَقينٍ، وهو يدَّعِي الخُمْسَين، ستَّةَ عشرَ، والمختلَفُ فيه ستةُ أسْهُمٍ يدَّعِيها الخُنْثَى كلَّها، فتُعْطِيه نصفَها ثلاثةً، مع العَشَرَةِ التي معه، صارَ له ثلاثةَ عشَرَ، والابنُ يَدَّعِي أربعةً، فتُعْطِيه نصفَها اثنين، صار له ثمانِيةَ عشَرَ، والبنتُ تَدَّعِي سهمَينِ، فتَدْفَعُ إليها سهمًا، صارَ لها تسعة. ومَن وَرَّثَه بالدَّعْوَى مِن أصلِ المالِ، فعلى قولِهم، يكونُ الميراثُ في هذه المسألةِ مِن ثلاثةٍ وعشرينَ؛ لأنَّ المُدَّعَى ههُنا نصفٌ، ورُبْعٌ، وخُمْسان، ومَخْرَجُها عشرونَ، يُعْطِي الابنَ عشَرَةً، وللبنتِ خمسةً، والخُنْثَى ثمانِيةً، فتكُونُ ثَلاثةً وعشرينَ. فإن لم يكُنْ في المسألةِ بِنتٌ، ففي قولِ الثَّوْرِيِّ، هي مِن سبعَةٍ. وكذلك قولُ مَن ورَّثَهُما بالدَّعْوَى مِن أصلِ المالِ. وفي التنزيلِ مِن اثْنَيْ عشَرَ، للابنِ سبعَةٌ، وللخُنْثَى خمسةٌ. وهو قولُ مَن ورَّثَهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالدَّعْوَى فيما عَدا اليَقينَ. [وإن كانت بنتٌ [وولدٌ خُنْثَى] (¬1)، ولا عَصَبَةَ معهما، فهي مِن خمسةٍ في قولِ الثَّوْرِيِّ، ومِن اثْنَيْ عشَرَ في التنزيلِ. وإن كانَ معهما عَصَبَةٌ فهي مِن سِتَّةٍ؛ للخُنْثَى ثَلاثَةٌ، وللبنتِ سهْمانِ، وللعَصَبَةِ سهْمٌ في الأقوالِ الثلاثةِ] (¬2). فإن كان معهما أُمٌّ وعَصَبَةٌ، فهي مِن سِتَّةٍ وثلاثِينَ؛ للأمِّ سِتَّةٌ، وللخُنْثَى سِتَّةَ عشَرَ، وللبنتِ أحَدَ عشَرَ، وللعَصَبَةِ ثلاثَةٌ. وقياسُ قولِ الثَّوْرِيِّ، أن يكونَ للخُنْثَى والبنتِ ثلاثَةُ أرباعِ المالِ بَينَهما على خمسةٍ، وللأُمِّ السُّدْسُ، ويَبْقَى نصفُ السُّدْسِ للعَصَبَةِ، وتصِحُّ مِن سِتِّينَ؛ للأمِّ عشَرةٌ، وللعَصَبَةِ خمْسةٌ، وللبنتِ ثمانِيةَ عَشَرَ، وللخُنْثَى سبعةٌ وعِشْرون. فإن كانَ ولدٌ خُنْثَى وعَصَبَةٌ؛ فللخُنْثَى ثلاتةُ أرباعِ المالِ، والباقي للعَصَبَةِ، إلَّا في قولِ مَن ورَّثَهُما بالدَّعْوَى مِن أصلِ المالِ، فإنَّه يَجْعَلُ المال بَينَهم أثْلاثًا؛ لأنَّ الخُنْثَى يَدَّعِي المال كُلَّه، والعَصَبَةُ تَدَّعِي نِصفَه، فتُضِيفُ النِّصف إلى الكُلِّ، فيكونُ ثَلاثَةَ أنْصافٍ، لكُلِّ نِصفٍ ثُلُثٌ. بنتٌ وولدُ ابن خُنْثَى وعَمٌّ، هي في التَّنْزِيلِ مِن اثْنَيْ عشَرَ، وتَرْجِعُ بالاخْتصارِ إلى سِتَّةٍ؛ للبنتِ النِّصفُ، وللخُنْثَى الثُّلُثُ، وللعَمِّ السُّدْسُ. ¬

(¬1) في م: «ولد خنثى». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانَ الخُنْثَى يرِثُ في حالٍ دونَ حالٍ، كزَوجٍ وأختٍ لأبَوينِ وولدِ أبٍ خُنْثَى، فمُقتَضَى قَولِ الثَّوْرِيِّ، أن يُجْعَلَ للخُنْثَى نصفُ ما يرِثُه في حالِ إرْثِه، وهو نصفُ سهْمٍ، فضُمَّه إلى سهامِ الباقين، وهي سِتَّةٌ، تبسُطُها أنصافًا ليزولَ الكسْرُ، فتصيرُ ثلاثةَ عشَرَ؛ لهُ منها سهْمٌ، والباقي بينَ الزوجِ والأختِ نصفَينِ. وقد عمِلَ أبو الخطابِ هذه المسألةَ على هذا في كتابِ «الهِدايَةِ». وأمَّا في (¬1) التنزيلِ، فتَصِحُّ مِن ثمانِيَةٍ وعشرينَ؛ للخُنْثَى كَسهْمانِ، وهي نصفُ سُبْع، ولكلِّ واحِدٍ مِن الآخَرَينِ ثلاثةَ عشَرَ. وإن كان زوجٌ وأُمٌّ وأخَوانِ مِن أُمٍّ وولدُ أبٍ خُنْثَى، فلَهُ في حالِ الأُنوثِيَّةِ ثلاثةٌ مِن تسعةٍ، فاجعَلْ له نصفَها مَضْمُومًا إلى سهامِ باقي المسألةِ، ثم ابْسُطْها تكنْ خمسةَ عشَرَ، له منها ثلاثَةٌ، وهي الخُمْسُ. وفي التنزيلِ، له ستةٌ مِن ستةٍ وثلاثينَ، وهى السُّدْسُ. وإن كانت بنتٌ وبنتُ ابنٍ وولدُ أخٍ خُنْثَى وعَمٌّ، فهي مِن ستةٍ؛ للبنتِ النِّصفُ، ولبنتِ الابنِ السُّدْسُ، وللخُنْثَى السُّدْسُ، وللعَمِّ ما بَقِيَ على القولَين جميعًا. فصل: قال الخَبْرِيُّ: اعلمْ أن الذين يكونون خَناثَى مِن الورَثَةِ ستَّةٌ؛ الولدُ، وولدُ الابنِ، والأخُ، وولدُه، والعَمُّ، وولدُه، فأمّا الزوجان والأبوانِ والجَدّانِ فلا يُتَصَوَّرُ ذلك فيهم. فالخلافُ يقَعُ في ثلاثَةٍ لا غيرُ؛ الولدُ، وولدُ الابنِ، والأخُ، فأمّا الثلاثةُ الأُخَرُ فليسَ للإِناثِ منهم ¬

(¬1) سقط من: م.

2845 - مسألة: (فإن كانا خنثيين أو أكثر نزلتهم بعدد أحوالهم)

وَإِنْ كَانَا خُنْثَيَينِ أوْ أكْثَرَ نَزَّلْتَهُمْ بِعَدَدِ أحْوَالِهِمْ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: تُنَزِّلُهُمْ حَالينَ، مَرَّةً ذُكُورًا وَمَرَّةً إِنَاثًا. وَالْأوَّلُ أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ميراثٌ، فيكونُ للخُنْثَى منهم نصفُ ميراثِ ذكرٍ بلا خلافٍ. 2845 - مسألة: (فإن كانا خُنْثَيَين أو أكثرَ نزَّلتَهم بعددِ أحوالِهمٍ) في أحدِ الوَجْهَين، فتَجْعلُ للاثنَينِ أربعةَ أحوالٍ، وللثلاثةِ ثمانية، وللأربعةِ ستَّةَ عشَرَ، وللخمسةِ اثْنَين وثلاثينَ حالًا، ثم تجمَعُ ما لَهم في الأحوالِ كلِّها فتقْسِمُه على عددِ أحوالِهم، فما خرَجَ بالقَسْمِ فهو لهم إن كانوا مِن جِهَةٍ واحدةٍ، وإن كانوا مِن جهاتٍ جَمَعْتَ ما لكُلِّ واحدٍ منهم في الأحْوالِ وقسَمتَه على عددِ الأحْوالِ كلِّها، فالخارجُ بالقَسْمِ هو نصيبُه. هذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى، وضِرَارٍ، ويحيى بنِ آدمَ. وقولُ محمدِ بنِ الحسنِ على قياسِ قولِ الشَّعْبِيِّ. والوجهُ الآخرُ، أنَّهم يُنَزَّلون حالين؛ مَرَّةً ذكورًا، ومَرَّةً إناثًا، كما تَصنَعُ في الواحدِ. وهو قولُ أبي يوسفَ، واخْتارَه أبو الخطابِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه يُعْطِي كلَّ واحدٍ بحَسَبِ ما فيه مِن الاحتمالِ فيَعْدِلُ بَينَهم. وفي الوجهِ الآخَرِ، يُعْطِي بعضَ الاحْتمالاتِ دونَ بعضٍ، وهذا تَحَكُّمٌ لا دليلَ عليه. وبيانُ ذلك في ولدٍ خُنْثَى وولدِ أخٍ خُنْثَى وعَمٍّ؛ إن كانا ذكرَينِ فالمالُ للولدِ، وإن كانا أُنْثَيَين فللبنتِ النِّصْفُ والباقي للعَمِّ، فهي مِن أربعةٍ عندَ مَن نَزَّلَهم حالين؛ للولدِ ثلاثَةُ أرباعِ المالِ، وللعَمِّ رُبْعُه، ومَن نَزَّلَهم أحوالًا، زاد حالين آخَرَينِ، وهو أن يكونَ الولدُ وحدَه ذكَرًا، وولدُ الأخِ وحدَه ذكرًا، فتكونُ المسألَةُ مِن ثمانيةٍ؛ للولدِ المالُ في حالينَ، والنِّصفُ في حالينَ، فله رُبْعُ ذلك، وهو ثلاثةُ أرباعَ المالِ، ولولدِ الأخِ نصفُ المالِ في حالٍ، فله رُبْعُه، وهو الثُّمْنُ، وللعَمِّ مثلُ ذلك، وهذا أعدَلُ. ومَن قال بالدَّعْوَى فيما زاد على اليَقينِ، قال: للولدِ النِّصفُ يَقِينًا، والنِّصفُ الآخَرُ يتداعَوْنَه، فيكونُ بينَهم أثلاثًا، وتصِحُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ستةٍ. وكذلك الحُكْمُ في أخٍ خُنْثَى وولَدِ أخٍ، وفي كلِّ عَصَبَتَين يَحْجُبُ أحدُهما الآخَرَ ولا يرِثُ المحجوبُ شيئًا إذا كان أُنْثَى. ولو خلَّفَ بنتًا وولدًا (¬1) خُنْثَى وولدَ ابن خنْثَى وعَصَبَةً، فمَن نزَّلَهما حالين جعلَها مِن سِتَّةٍ، للولدِ الخُنْثَى ثلاثةٌ، وللبنتِ سهمان، والباقي للعَمِّ. ومَنِ نَزَّلَهما أربعةَ أحوالٍ، جَعَلَها مِن اثنَيْ عشَرَ، وجعَلَ لولدِ الابنِ نصفَ السُّدْسِ، وللعَمِّ مِثْلَيهِ. وهذا أعدَلُ الطريقَينِ؛ لِما في الطريقِ الآخَرِ مِن (¬2) إسقاطِ ولدِ الابنِ مع أنَّ احتمال تَوْرِيثِه كاحْتِمالِ تورِيثِ العَمِّ. وهكذا تصنَعُ في الثلاثةِ وما زاد. ويكفِي هذا القَدْرُ مِن هذا البابِ، فإنَّه نادِرٌ قلَّ ما يُحْتاجُ إليه، واجْتماعُ خُنْثَيَينِ وأكثرَ نادرُ النَّادرِ ولم يُسْمَعْ بوجُودِه، فلا حاجةَ إلى التَّطْويلَ فيه. ¬

(¬1) في م: «ولد أم». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال شيخُنا (¬1): وقد وجَدْنا في عصرِنا شيئًا شبيهًا لم (¬2) يذْكُرْه الفَرَضيُّونَ ولم يسْمَعوا به، فإنَّا وجَدْنا شخصَين ليس لهما في قُبُلِهما (¬3) مَخْرَجٌ، لا ذَكَرٌ ولا فرْجٌ؛ أمّا أحَدُهما فذكرُوا أنَّه ليس له في قُبُلِه إلا لَحْمةٌ ناتِئةٌ كالرَّبْوَةِ، ويَرْشَحُ البَوْلُ منها رشْحًا على الدَّوامِ، وأرسلَ إلينا يسألُنا عن الصلاةِ والتحرُّزِ مِن النجاسَةِ في سنةِ عَشْرٍ وستِّمائَةٍ، والثاني، ليس له إلَّا مَخْرجٌ واحدٌ فيما بينَ المخرجَين، منه يتغَوَّطُ ومنه يَبُولُ، وسألتُ مَن أخبَرَني عنه عن زِيِّه، فأخبرَني أنَّه يَلْبَسُ لِباسَ النِّساءِ ويُخالِطُهن ويغْزِلُ معهنَّ، ويَعُدُّ نفسَهُ امرأةً. قال: وحُدِّثْتُ أنَّ في بعضِ (¬4) بلادِ العجَمِ شخْصًا ليسَ له مَخْرَجٌ أصلًا، لا قُبُلٌ ولا دُبُرٌ، وإنَّما يَتَقايَأُ ما يأكُلُه ويشْرَبُه. فهذا وما أشْبَهه في معنى الخُنْثَى، لكنَّه لا يُمْكِنُ اعتبارُه بِمَبالِه، فإن لم يكنْ له علامَةٌ أخرَى فهو مُشْكِلٌ ينْبَغِي أن يَثبُتَ له حُكْمُه في مِيراثِه وأحْكامِه كُلِّها. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في: المغني 9/ 114. (¬2) في م: «لما». (¬3) في م: «قبلها». (¬4) سقط من. م.

باب ميراث الغرقى ومن عمي موتهم

بَابُ مِيرَاثِ الْغرْقَى وَمَنْ عُمِّيَ مَوْتُهُمْ إِذَا مَاتَ مُتَوَارِثَانِ، وَجُهِلَ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، كَالْغَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَاخْتَلَفَ وُرَّاثُهُمَا فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ وَابْنِهَا مَاتَا، فَقَال زَوْجُهَا: مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنِي فَوَرِثْتُهُ. وَقَال أَخُوهَا: مَاتَ ابْنُهَا فَوَرِثَتْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا. أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ مِيرَاثُ الابْن لِأَبِيهِ، وَمِيرَاثُ الْمَرْأَةِ لِأَخِيهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَينِ. ذَكَرَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ الغرْقَى ومَن عُمِّيَ موتُهم (إذا مات مُتوارِثانِ كالغَرْقَى والهدْمَى، وجُهِل أوّلُهما موتًا، واخْتَلَفَتْ وُرّاثُهما في السّابِقِ منهما، فقد نُقِل عن أحمدَ) رَحِمَه اللهُ (في امْرَأةٍ وابنِها ماتَا، فقال زوجُها: ماتَتْ فوَرِثْناها، ثم ماتَ ابنِي فوَرِثْتُه. وقال أخوها: مات ابنُها فوَرِثَتْه، ثم ماتَتْ فورِثْناها. أنَّه يَحْلِفُ كُلُّ واحدٍ منهما على إبْطالِ دَعْوى صاحِبِه، ويكونُ ميراثُ الابنِ لأبِيه، وميراثُ

الْخِرَقِيُّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ يَقْسِمُ مِيرَاثَ كُلِّ مَيِّتٍ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ مَاتَ مَعَهُ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأةِ لأخيها وزَوْجِها نِصْفَين. ذكَرَها الخِرَقِيُّ. وهذا يدلُّ على أنَّ ميراثَ كُلِّ ميِّتٍ يُقْسَمُ على الأحياءِ مِن وَرَثَتِه دُونَ مَن ماتَ معهُ) رُوِيَ ذلك عن أبي بكر الصديقِ، وزيدٍ، وابنِ عباسٍ، والحسنِ بنِ عليٍّ، رضي اللهُ عنهم. وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبو الزِّنادِ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفَةَ وأصحابُه. وَرُوِيَ ذلك عن عمرَ، والحسنِ البصرِيِّ، وراشدِ بنِ سعدٍ (¬1)، وحكيمِ بن عُمَيرٍ (¬2)، وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ. فيَحْتَمِلُ أن يكونَ ما رُوِيَ عن أحمدَ في المسألَةِ التي ذكرَهَا الخِرَقِيُّ، أن يُجْعَلَ هذا رِوايَةً عنه في جميعِ مسائلِ البابِ، ويحْتَمِلُ أن يكونَ هذا قولَه فيما إذا ادَّعَى وارِثُ كُلِّ ميِّتٍ أنَّ ¬

(¬1) راشد بن سعد المقرائي، بضم الميم وسكون القاف، ثقة لا بأس به، توفي سنة ثمان ومائة. تهذيب التهذيب 2/ 225، 226. (¬2) حكيم بن عمير بن الأحوص العنسي، تابعي، لا بأس به. تهذيب التهذيب 2/ 450.

يَرِثُ صَاحِبهُ مِنْ تِلَادِ مَالِهِ دُونَ مَا وَرِثَهُ مِنَ الْمَيِّتِ مَعَهُ، فَيُقَدَّرُ أَحَدُهُمَا مَاتَ أوَّلًا وَيُوَرَّثُ الْآخَرُ مِنْهُ،. ثُمَّ يُقْسَمُ مَا وَرِثَهُ مِنْهُ عَلَى الأحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِالثَّانِي كَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْرُوثَه كان آخِرَهما مَوْتًا، فأمّا مع الجهلَ فيُوَرَّثُ كُلُّ واحدٍ مِنهما مِن الآخرِ؛ لأنَّ مع التَّداعِي يَتَوجَّهُ اليمينُ على المُدَّعَى عليه، فيَحلِفُ على إبْطالِ دَعْوَى صاحبِه، ويتَوفَّرُ الميراثُ له، كما في سائرِ الحقُوقِ، بخِلافِ ما إذا اتَّفقُوا على الجهلِ، فلا يَتَوَجَّهُ اليَمِينُ، لأن اليمينَ لا يُشرَعُ في مَوْضِعٍ اتَّفَقوا على الجَهْلِ به (وظاهِرُ المذهبِ أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يَرِث صاحِبَه مِن تِلادِ ماله دونَ ما وَرِثَه مِن الميِّتِ معه، فيُقَدَّرُ أحدُهما ممات أولًا ويُوَرَّثُ الآخَرُ منه، ثم يُقْسَمُ ما وَرِثَهُ على الأحْياءِ مِن وَرَثَتِه، ثم يُصْنَعُ بالثاني كذلِك) قال أحمدُ: أذهَبُ إلى قولِ عمرَ وعليٍّ وشرَيحٍ وإبراهيمَ والشَّعْبِيِّ. هذا قولُ مَن ذكرَه الإِمامُ أحمدُ. وهو قولُ إياسِ بنِ عبدٍ (¬1) المُزَنِيِّ، وعطاءٍ، والحسنِ، وحُمَيدٍ الأعرجِ، وعبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، وابنِ أبي لَيلَى، والحسنَ بنَ صالحٍ، وشَرِيكٍ، ويحيى بنَ آدمَ، وإسحاقَ. ¬

(¬1) في م: «عبد الله». وانظر الكلام عليه في 16/ 100.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِيَ ذلك عن ابنِ مسْعُودٍ. قال الشَّعْبِيُّ: وَقَع الطّاعُونُ بالشّامِ عامَ عَمَواسَ، فجعل أهلُ البَيتِ يموتون عن آخِرِهم، فكُتِبَ في ذلك إلى عمرَ، رضي اللهُ عنه، فكتبَ عمرُ: أن وَرِّثوا بعضَهم مِن بعضٍ (¬1). ووَجْهُ الروايةِ الأُولَى ما روَى سعيدٌ (¬2)، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ (¬3)، عن يحيى بنِ سعيدٍ، أنَّ قَتْلَى اليَمامَةِ وقَتْلَى صِفِّينَ والحَرَّةِ لَمْ يُوَرَّثْ (¬4) بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ، وَرَّثُوا (¬5) عَصَبَتَهُم الأحْياءَ. وقال (¬6): ثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ، عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، أنَّ أمَّ كُلْثُومٍ بنتَ عليٍّ تُوُفِّيَتْ هي وابنُها زيدُ بنُ عمرَ، فالتَقَتِ الصَّيحَتان في الطَّريقِ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 222. وأعله بالانقطاع. وعمواس: ضيعة على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس، وكان فيها ابتداء الطاعون سنة ثمان عشرة. معجم البلدان 3/ 729. (¬2) في باب الغرقى والحرقى. سنن سعيد 1/ 86. كما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 222. (¬3) في الأصل: «عويس». (¬4) في الأصل: «يورثوا». (¬5) في الأصل: «وورثوا». (¬6) في: الباب السابق. السنن 1/ 86. كما أخرجه الدارقطني، في سننه 4/ 74. والبيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 222. وإسناده صحيح. انظر الإرواء 6/ 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُدْرَ أيُّهُما مات قبلَ صاحِبه، فلم تَرِثْه ولم يَرِثْها، وأنَّ أهلَ صِفِّينَ وأهلَ الْحَرَّةِ لم يَتَوارَثُوا. ولأنَّ شَرْطَ التَّوَارُثِ حياةُ الوارثِ بعدَ موتِ الموْرُوثِ، وليسَ بمعلومٍ، فلا يَثْبُتُ التَّوريثُ مع الشَّكِّ في شَرْطِه، ولأنَّه مَشْكوكٌ في حياتِه حينَ موتِ مَوْرُوثِه، فلم يَرِثْه، كالحملِ إذا وضَعَتْهُ مَيِّتًا، ولأنَّ تَوْرِيثَ كُلِّ واحدٍ منهما خطأٌ قطعًا؛ لأنَّه لا يَخْلُو مِن أن يكونَ مَوْتُهما معًا أو يسبقَ أحَدُهما به، وتَوْريثُ السّابقِ بالموتِ والميِّتِ معه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خطأ يقينًا مُخالفٌ للإِجْماعِ، فكيفَ يُعْمَلُ به! فإن قيل: ففي قَطْعِ التَّورِيثِ قَطْعُ تَوْريثِ المَسْبوقِ بالموتِ، وهو خَطَأٌ أيضًا. قُلْنا: هذا غَيرُ مُتَيقَّنٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ مَوْتُهُما معًا، فلا يكونُ منهما مَسْبوقٌ. وقد احتجَّ أصحابُنا لتلك الرِّوايةِ بما روَى إياسُ بنُ عبدٍ (¬1) المُزَنِيُّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن قوم وَقَع عليهم بيتٌ. فقال: يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قال شيخُنا (¬2): والصَّحيحُ أنَّ هذا إنَّما هو عن إياسٍ نَفْسِه، وأنَّه هو المسئولُ، وليس بروايةٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. هكذا رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه». وحَكاهُ الإِمامُ أحمدُ عنه (¬3). وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ سُرَيجٍ (¬4)، وطائِفةٌ مِن ¬

(¬1) في النسختين: «عبد الله». (¬2) في: المغني 9/ 172. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «شريح».

2846 - مسألة قال: (فلو غرق أخوان، أحدهما مولى زيد والآخر مولى عمرو)

فَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِقَ أَخَوَانِ، أَحَدُهُمَا مَوْلَى زَيدٍ وَالْآخَرُ مَوْلَى عَمْرٍو، صَارَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى الْآخَرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الأوَّلِ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَاهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَصْرِيِّينَ: يُعْطَى كُلُّ وارثٍ اليقينَ، ويُوقَفُ المشْكوكُ فيه حتى يَتَبَيَّنَ الأمرُ أو يَصْطَلِحوا. وقال الخَبْرِيُّ: هذا هو الحُكْمُ فيما إذا عُلِمَ موتُ (¬1) أحدِهما قبلَ الآخَرِ. ولم يَذكُرْ فيه خلافًا. 2846 - مسألة قال: (فلو غَرِقَ أخَوانِ، أحدُهما موْلَى زيدٍ والآخَرُ موْلَى عمرٍو) فمَن لم يُوَرِّثْ أحدَهما مِن صاحِبِه جعل ميراثَ كُلِّ ¬

(¬1) في م: «صوت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدٍ لِمَولاه، (هو أحْسَنُ) ومَن وَرَّثَ أحدَهُما مِن الآخَرِ جعل [مال كلِّ] (¬1) واحِدٍ منهما لموْلَى الآخَرِ، ومَن قال بالوَقْفِ وَقَفَ مالهما. وإنِ ادَّعَى كُلُّ واحدٍ منهما أنَّ موْلاه آخِرُهما موتًا حَلَف كُلُّ واحِدٍ منهما على إبْطالِ دَعْوَى الآخَرِ وأخذ مال موْلاهُ، على ما ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وإن كان لهما أختٌ، فمَن وَرَّثَ كُلَّ واحِدٍ منهما مِن صَاحِبِه جعل لها (¬2) الثُّلُثَين مِن مالِ كُلِّ واحِدٍ منهما، والنِّصفَ على القولِ الثاني. وإن خَلَّفَ كُلُّ واحِدٍ منهما بنتًا وزَوجَةً، فمَن لم يُورِّثْ بعضَهم مِن بعضٍ صَحَّحها مِن ثمانيةٍ؛ لامرأتِه الثُّمْنُ، ولابنَتِهِ النِّصفُ، والباقي لموْلَاه، ومَن وَرَّثَهُم جعل الباقيَ لأخيهِ، ثم قَسَمَه بينَ ورَثَةِ أَخِيه على ثمانيةٍ، ثم ضَرَبَها في الثمانيةِ الأُولَى، فصَحَّت مِن أربعةٍ وسِتِّين؛ لامرأتِه ثمانيةٌ، ولابْنَتِه اثْنان وثلاثون، ولامرأةِ أخيه ثُمْنُ الباقي ثلاثةٌ، ولابنتِه اثنا عشَرَ، ولموْلاه الباقي تِسْعَةٌ. أخٌ وأُخْتٌ غَرِقا ولهما أمٌّ وعَمٌّ وزَوْجانِ، فمَن وَرَّثَ كُلَّ واحدٍ منهما مِن صاحبِه جعل ميراثَ الأخِ بينَ امرأتِه وأُمِّه وأُخْتِه على ثَلاثَةَ عشَرَ، فما أصابَ الأُخْتَ منها فهو بينَ زَوْجِها وأُمِّها وعَمِّها على سِتَّةٍ، فصحَّتِ المَسألتان مِن ثَلاثَةَ عَشَرَ؛ لامرأةِ الأخِ ثَلاثَةٌ، ولزوجِ الأخْتِ ثلاتْةٌ، وللأُمِّ أربعةٌ بميراثِها مِن الأخِ، واثْنان بميراثِها مِن الأختِ، وللعَمِّ سهْمٌ، ¬

(¬1) في م: «ما لكل». (¬2) في م: «لهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وميراثُ الأختِ بينَ زوجِها وأُمِّها وأخيها على سِتَّةٍ، لأخِيها سَهْمٌ بينَ امرأتِه وأُمِّه وعَمِّه على اثنَيْ عَشَرَ، تَضْرِبُها في الأُولَى تكنِ اثنين وسبعين، والضَّرَرُ في هذا القولِ على مَن يَرِثُ مِن أحَدِ الميِّتَينِ دونَ الآخَرِ، والنَّفْعُ لمَنْ يَرِثُ مِنهما. ثلاثَةُ إخْوَةٍ لأبوَين غَرِقُوا ولهم أُمٌّ وعَصَبَةٌ، فقَدِّرْ موتَ أحَدِهم أوَّلًا، فلأُمِّه السُّدْسُ، والباقي لأخوَيهِ، فتصِحُّ مِن اثْنَيْ عَشَرَ، لكُلِّ واحِدٍ مِن إخْوَتِه خَمْسَةٌ، بينَ أُمِّه وعَصَبَتِه على ثلاثةٍ، فتَضْرِبُها في الأُولَى تكن سِتَّةً وثلاثين، للأُمِّ مِن ميراثِ الأوَّلِ سِتَّةٌ، وممّا وَرِثَه كُلُّ واحدٍ مِن الأخوَين خمسةٌ، فصار لها سِتَّةَ عَشَرَ، والباقي للعَصَبَةِ، ولها مِن مِيراثِ كُلِّ واحِدٍ مِن الأخَوَين مثلُ ذلك. ذكرَ هذه المسْألَةَ أبو بكرٍ. ثلاثَةُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقين غَرِقُوا وخَلَّفَ كُلُّ واحِدٍ منهم أُخْتَه لِأَبَوَيه، فَقَدِّرْ مَوْتَ الأَخَ مِن الأبوَينَ أوَّلًا عن أُخْتِه مِن أبَوَيه، وإخوتِه مِن أبِيه، وإخوتِه مِن أُمِّه، فصَحَّتْ مسألتُه مِن ثمانِيةَ عَشَرَ، لأخِيهِ مِن أُمِّه مِنها ثَلاثةٌ، بينَ أُخْتِه مِن أبَوَيه وأُخْتِه مِن أُمِّه، على أرْبَعَةٍ، وأصاب الأخَ [مِن الأبِ] (¬1) منها اثْنان، بينَ أخِيه مِن أربوَيهِ وأُخْتِه مِن أبِيه، على أرْبَعَةٍ، فتَجْتَزِئُ بإحْداهما، وتَضْرِبُها في الأُخْرى تكنِ اثْنَين وسَبْعين، ثم قَدِّرْ مَوْتَ الأخِ مِن الأمِّ عن أُخْتٍ لأبَوَين وأخٍ وأخْتٍ مِن أُمٍّ، فمسألتُه مِن خَمْسَةٍ، مات أخُوه لأُمِّه عن ثلاثِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، وهي مِن خمْسةٍ أيضًا، تَضْرِبُها في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى تكنْ خَمْسَةً وعِشْرِين، ثم قَدِّرْ موتَ الأخِ مِن الأبِ عن أُختِه لأبويه وأخٍ وأُخْتٍ لأبِيه، فهي مِن سِتَّةٍ، ثم مات أُخُوه لأبِيه عن ثلاثِ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، فهي مِن خَمْسَةٍ، تَضْرِبُها في الأُولى تكنْ ثلاثين. فإن خَلَّفَ بنتًا وأَخَوَين، فلم يَقْتَسِموا التَّرِكَةَ حتى غَرِقَ الأخوان وخَلَّفَ أحَدُهما زَوْجَةً وبنتًا وعَمًّا، وخَلَّفَ الآخَرُ ابنين وابنتين؛ الأُولَى مِن أرْبَعَةٍ، مات أحَدُهما عن سَهْمٍ، ومسْألَتُه مِن ثمانيةٍ، لأخيه منها ثَلاثَةٌ بينَ أوْلَادِه على سِتَّةٍ، رَجَعُوا إلى اثْنَين، تَضْرِبُها في ثمانيةٍ تكنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وفَرِيضَةُ الآخرِ مِن سِتَّةٍ، يَتَّفِقان بالنصْفِ، فاضْرِبْ نِصْفَ إحْداهما في الأُخْرى تكنْ ثمانِيةً وأرْبَعين، ثم في أرْبَعَةٍ تكنْ مِائةً واثْنَين وتِسْعِينَ؛ للبنتِ نِصْفُها، ولِأوْلادِ الأخِ عن أبيهِم رُبْعُها، وعن عَمِّهم ثَمانِيَةَ عَشَرَ، اجْتَمَعَ لهم سِتَّةٌ وسِتُّون، ولامرأةِ الأخِ سِتةٌ، ولبِنْتِه أرْبَعَةٌ وعِشْرون. فصل: وإن عُلِمَ أنَّهما ماتا معًا في حالٍ واحِدَةٍ، لم يَرِثْ أحدُهما صاحبَه ووَرِثَ كُلَّ واحدٍ الأحْياءُ مِن وَرَثَتِه؛ لأنَّ تَوْرِيثَه مَشْروطٌ بحياتِه بعدَه، وقد عُلِمَ انْتِفاءُ ذلك. وإن عُلِمَ أنَّ أحدَهما مات قبلَ صاحبِه بعينِه ثم أَشْكَلَ، أُعْطِيَ كُلُّ وارِثٍ اليقينَ، ووُقِفَ الباقي حتى يَتَبَيَّنَ الأمْرُ أو يصْطَلِحوا عليه (¬1). قال القاضي: وقياسُ المذهبِ أن يُقْسَمَ على سبيلِ ميراثِ الغَرْقَى الذين جُهِلَ حالُهم. واللهُ أعلم. ¬

(¬1) سقط من: م.

باب ميراث أهل الملل

بَابُ مِيرَاثِ أَهْلِ الْمِلَل لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ أهلِ المللِ (لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ) أجْمَع أهلُ العلمِ على أنَّ الكافِرَ لا يَرِثُ المسلمَ. وقال جمهورُ الصحابةِ والفقهاءِ: لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ. رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وأسامةَ بنِ زيدٍ، وجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال عمرُو بنُ عثمانَ (¬1)، وعُرْوَةُ، والزُّهْرِيُّ، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، والحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعمرُو بنُ دينارٍ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفَةَ وأصحابُه، ومالكٌ، والشافعيُّ، وعامةُ الفقهاءِ، وعليه العَمَلُ. ورُوِيَ عن عمرَ، ومُعاذٍ، ومعاويةَ، رَضِيَ الله عنهم، أنَّهم ورَّثُوا المسلمَ مِن الكافِرِ ولم يُوَرِّثُوا الكافِرَ مِن المسلمِ. حُكِيَ ذلك عن محمدِ بنِ الحنفيةِ، وعليِّ بنِ الحسينِ، ¬

(¬1) عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، من كبار التابعين، ثقة. تهذيب التهذيب 8/ 78، 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ومسروقٍ، وعبدِ اللهِ بنِ مَعْقلٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، ويحيى بنِ يَعْمُرَ (¬1)، وإسحاقَ. وليس بموثوقٍ به عنهم، فإنَّ أحمدَ قال: ليس بينَ الناسِ اختلافٌ في أنَّ المسلمَ لا يرثُ الكافِرَ. ورُوِيَ أنَّ يحيى بنَ يَعْمُرَ احتجَّ لقولِه، فقال: حدَّثَني أبو الأسْودِ، أنَّ مُعاذًا حدَّثه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإِسْلَامُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ» (¬2). ولأنَّا نَنْكِحُ نِساءَهم ولا يَنْكِحون نِساءَنا، فكذلك نرِثُهم ولا يَرِثونا. ولَنا، ما رَوى أسامةُ بنُ زيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، ولَا المسلمُ الكافِرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأنَّ الولايةَ مُنْقَطِعةٌ بينَ المسلمِ ¬

(¬1) يحيى بن يعمر أبو سيمان العدواني البصري، الفقيه العلامة المقرئ، قاضي مرو، قرأ القرآن على أبي الأسود الدؤلي، توفي قبل التسعين. سير أعلام النبلاء 4/ 441 - 443. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب هل يرث المسلم الكافر، من كتاب الفرائص. سنن أبي داود 2/ 113. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 230، 236. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، من كتاب المغازي، وفي: باب لا يرث المسلم الكافر. . . .، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 5/ 187، 8/ 194. ومسلم، في: كتاب الفرائض، صحيح مسلم 3/ 1233. كما أخرجه أبو داود، في: باب هل يرث المسلم الكافر، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 113. والترمذي، في: باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 257. وابن ماجه، في: باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 912. والدارمي، في: باب في ميراث أهل الشرك وأهل الاسلام، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 370، 371. والإمام مالك، في: باب ميراث أهل الملل، من كتاب الفرائض. الموطأ 2/ 519. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 201، 202، 209.

2847 - مسألة: (إلا أن يسلم قبل قسم الميراث فيرثه. وعنه، لا يرث)

إلا أنْ يُسْلِمَ قَبْلَ قَسْمِ مِيرَاثِهِ فَيَرِثَهُ. وَعَنْهُ، لَا يَرِثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والكافرِ فلم يَرِثْه، كما لا يَرِثُ الكافِرُ المسلمَ. فأمّا حَديثُهم فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ الإِسلامَ يَزِيدُ بمَن يُسْلِمُ وبما يُفْتَحُ مِن البلادِ لأهلِ الإِسلامِ، ولا يَنْقُصُ بمَن يَرْتَدُّ؛ لقلةِ مَن يَرْتَدُّ وكثْرةِ مَن يُسْلِمُ، وعلى أنَّ حديثَهم مُجْمَلٌ وحديثَنا مُفَسَّرٌ، وحديثُنا أصَحُّ فيَتَعَيَّنُ تَقديمُه. والصَّحيحُ (¬1) أنَّه قال: لا نَرِثُ أهلَ المِلَلِ ولا يَرِثُونَنَا. وقال في عَمَّةِ الأشْعَثِ: يَرِثُها أهلُ دينِها (¬2). 2847 - مسألة: (إلَّا أن يُسْلِمَ قبلَ قَسْمِ الميراثِ فيرِثُه. وعنه، لا يَرِثُ) اختلفتِ الرِّوايةُ في مَن أسْلَمَ قبلَ قَسْمِ ميراثِ مَوْرُوثِه المسلِمِ؛ فنقل الأثْرَمُ، ومحمدُ بنُ الحَكَمِ، أنَّه يَرِثُ. ورُوِيَ نحوُ هذا عن عمرَ، ¬

(¬1) أي عن عمر. انظر مصادر التخريج الآتية، والمغني 9/ 155. (¬2) أخرجهما الدارمي، في: باب ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 369. وسعيد بن منصور، في: باب لا يتوارث أهل ملتين. السنن 1/ 66. كما أخرج الثاني الإمام مالك، في: باب ميراث أهل الملل، من كتاب الفرائض. الموطأ 2/ 519.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعثمانَ، والحسنِ بنِ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال جابرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ، ومكحولٌ، وقَتَادةُ، وحُمَيدٌ، وإياسُ بنُ معاويةَ، وإسحاقُ، فعلى هذا، إن أسْلَمَ قَبْلَ قَسْمِ بَعْض المألِ وَرِثَ ممّا بَقِيَ. وبه قال الحسنُ. ونَقَل أبو طالبٍ، في مَن أسْلَمَ بعدَ الموتِ: لا يَرِثُ، قدْ وَجَبَتِ المواريثُ لأهْلِها. وهو المشهورُ عن عليٍّ، رضي اللهُ عنه. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعطاءٌ، وطاوسٌ، والزُّهْرِيُّ، وسليمانُ بنُ يسارٍ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، وأبو الزِّنادِ، وأبو حنيفَةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأكثرُ أهلِ العلمِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَرِثُ الكافِرُ المسلِمَ». ولأنَّ المِلْكَ قد انْتَقَلَ بالموتِ إلى المسلمين، فلم يُشارِكْهم مَن أسلمَ، كما لو اقْتَسَموا. ولأنَّ المانِعَ مِن الإِرْثِ مُتحَقِّقٌ حال وُجودِ الموتِ، فلم يَرِثْ، كما لوكان رَقِيقًا فأُعْتِقَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ بَهُ». رَواه سعيدٌ (¬1) مِن طَرِيقَين عن عُرْوَةَ، ¬

(¬1) في: باب من أسلم على الميراث قبل أن يقسم السنن 1/ 76. وتقدم تخريجه عند البيهقي في 10/ 206.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنِ أبي مُلَيكَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وروَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ قَسْم قُسِمَ في الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلى مَا قُسِمَ، وكُلُّ قَسْم أدْرَكَهُ الإِسْلَامُ فإنَّهُ علَى قَسْمِ الإسْلَامِ». وروَى ابنُ عبدِ البرِ في «التَّمْهِيدِ» بإسنادِه، عن زَيدِ بنِ قتادةَ العَنْبَرِيِّ، أنَّ إنْسانًا مِن أهْلِه مات على غَيرِ دينِ (¬2) الإِسلامِ، فورِثَتْه أُخْتِي دُونِي، وكانت على دينِه، ثم إنَّ جَدِّي أسْلَمَ وشَهِدَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حُنَينًا فَتُوفِّيَ، فلَبِثْتُ سنةً، وكان تَرَك ميراثًا، ثم إنَّ أُخْتى أسْلَمَتْ، فخاصَمَتْني في الميراثِ إلى عثْمانَ، فحدَّثَه [عبدُ اللهِ] (¬3) بنُ أرقمَ، أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، قَضى أنَّه مَنْ أسْلَمَ على مِيراثٍ قبلَ أنْ يُقْسَمَ فله نَصِيبُه، فقَضَى به عُثمانُ، فذَهَبَت بذاك الأوَّلِ، وشارَكَتْني في هذا (¬4). وهذه قصةٌ اشْتَهَرتْ فلم تُنْكَرْ، ¬

(¬1) في: باب في من أسلم على ميراث، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 114. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب قسمة الماء، من كتاب الرهون، وفي: باب قسسة المواريث، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 831، 918. وإسناده صحيح. انظر الإرواء 6/ 157. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الميراث لا يقسم حتى يسلم، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 10/ 346. وسعيد بن منصور، في: باب من أسلم على الميراث. . . .، السنن 1/ 75 مختصرًا.

2848 - مسألة: (وإن عتق عبد بعد موت موروثه وقبل القسم لم يرث، وجها واحدا)

وَإنْ عَتَقَ عَبْدٌ بَعْدَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ وَقَبْلَ الْقَسْمِ لَمْ يَرِثْ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكانت إجماعًا. ولأنَّه لو تَجَدَّدَ له صَيدٌ بعدَ موتِه وَقَعَ في شَبَكَتِه التي نَصَبَها في حياتِه ثَبَتَ له المِلْكُ فيه، ولو وَقَع إنسان في بِئْرٍ حَفَرَها لتَعلَّقَ ضَمانُه بتَرِكَتِه بعدَ موتِه، فجازَ أن يتجدَّدَ حَقُّ مَن أسْلَمَ مِن وَرَثَتِه؛ ترغيبًا في الإِسلامِ، وحثًّا عليه. فأمّا إذا قُسِمَتِ التَّرِكَةُ وتعيَّنَ حَقُّ كُلِّ وارثٍ ثم أسْلَمَ فلا شيءَ له، فإنْ كان الوارِثُ واحدًا، فمتى تَصَرَّفَ في التَّرِكَةِ واحْتازَها كان كقَسْمِها. 2848 - مسألة: (وإن عَتَقَ عبدٌ بعدَ موتِ مَوْروثِه وقبلَ القسمِ لم يَرِثْ، وَجْهًا واحِدًا) نصَّ عليه أحمدُ في روايةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ، وَفرَّقَ بينَ الإسلامِ والعِتْقِ. وعلى هذا جمهورُ الفقهاءِ مِن الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهم. ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعودٍ، أنَّه سُئِلَ عن رجلٍ مات وتَرَك أباه عَبْدًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأُعْتِقَ قبلَ أن يُقْسَمَ ميراثُه، فقال: له مِيراثُه. وحُكِيَ عن مَكْحولٍ، وقَتادةَ، أنَّهما وَرَّثا مَن أُعْتِقَ قبلَ القِسْمَةِ، لأنَّ المانِعَ مِن الميراثِ زال قبلَ القِسْمَةِ، أشْبَهَ ما لو أسْلَمَ. وقال أبو الحسنِ التَّمِيمِيُّ: يُخَرَّجُ على قولِ مَن ورَّثَ المسلمَ أن يُوَرَّثَ العبدُ إذا أُعْتِقَ. وليسَ بصحيحٍ، فإنَّ الإِسلامَ قُرْبَةٌ، وهو أعْظَمُ الطَّاعاتِ، والقُرَبُ وَرَد الشَّرْعُ بالتأليفِ عليها، فوَرَد الشَّرْعُ بتَوْريثِه؛ تَرْغِيبًا له في الإِسلامِ وحثًّا عليه، والعِتْقُ لا صُنْعَ له فيه، ولا يُحْمَدُ عليه، فلم يَصِحَّ قِياسُه عليه، ولولا ما وَرَد مِن الأثَرِ في تَوْريثِ مَن أَسْلَمَ لَكان النَّظَرُ يَقْتَضِي أن لا يَرِثَ مَن لم يكنْ مِن أهلِ الميراثِ حينَ الموتِ؛ لأنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ به إلى الوَرَثَةِ، فيَسْتَحِقُّونَه، فلا يَبْقَى لمن حَدَث شيءٌ، وإنَّما خالفْناه في الإِسلامِ للأَثَرِ، وليس في العِتْقِ أثَر يَجِبُ التَّسْلِيمُ له، ولا هو في معنَى ما فيه الأثرُ، [فيَبْقَى على مُوجِبِ القياسِ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

2849 - مسألة: (ويرث أهل الذمة بعضهم بعضا إن اتفقت أديانهم)

وَيَرِثُ أهْلُ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنِ اتَّفَقَتْ أدْيَانُهُمْ. وَهُمْ ثَلَاثُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو مَلَك ابنَ عَمِّه فدَبَّرَه، فعَتَق بموتِه، لم يَرِثْ؛ لأنَّه رقِيقٌ حينَ الموتِ. فإن قال: أنتَ حُرٌّ في آخِر حياتي. عَتَق ووَرِثَ؛ لأنَّه حُرٌّ حينَ الموتِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرِثَ؛ لأنَّ عِتْقَه وصِيَّةٌ له، فيُفْضِي إلى الوصِيَّةِ للوارثِ. 2849 - مسألة: (ويَرِثُ أهْلُ الذِّمَّةِ بعضُهم بعضًا إنِ اتَّفَقَتْ أَدْيانُهم) وجملةُ ذلك، أنَّ الكُفارَ يَتَوارَثون إذَا كان دِينُهم واحدًا، لا نَعْلَمُ بينَ أهْلِ العِلْمِ فيه خِلافًا. ولا فَرْقَ في ذلك بينَ أهْلِ الذِّمَّةِ وغيرهم مِن الكُفارِ؛ لأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرِثُ المسْلِمُ الكَافِرَ، ولا الكَافِرُ المسْلِمَ» (¬1). دليلٌ على أنَّ بعضَهم يَرِثَ بعضًا. [وكذلك قولُه: «لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَين شَتَّى» (¬2). دليل على أنَّ أهْلَ المِلَّةِ الواحدةِ يَرِثُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 266. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب هل يرث المسلم الكافر؟ من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 113. وابن ماجه، في: باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 912. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 178، 195.

2850 - مسألة: (وهم ثلاث ملل؛ اليهودية، والنصرانية، ودين سائرهم)

مِلَل؛ الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَدِينُ سَائِرِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضُهم بعضًا] (¬1). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وهل تَرَك لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دارٍ» (¬2). دليلٌ عَلى أنَّ عَقِيلًا وَرِثَ أبا طالبٍ دُونَ جَعْفَرٍ وعَلِيٍّ؛ لأنَّهما كانا مُسلِمَين، وكان عَقِيل على دينِ أبيه مُقيمًا بمكةَ، فكذلك لمّا قيل للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أينَ تَنْزِلُ غدًا؟ قال: «وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ». وقال عمرُ في عَمَّةِ الأشْعَثِ بنِ قَيسٍ: يَرِثُها أهْلُ دينِها. 2850 - مسألة: (وهم ثلاثُ مِلَلٍ؛ اليهوديَّةُ، والنَّصرانيَّةُ، ودينُ سائِرِهم) اخْتَلَفَتِ الروايةُ عن أحمدَ، رحمهُ الله، في ذلك، فرَوَى عنه حَرْبٌ أَنَّ الكُفْرَ كُلَّه ملةٌ واحِدَةٌ. اخْتارَها الخَلَّالُ. وبه قال حَمادٌ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو حنيفَةَ، والشافعيُّ، وداودُ؛ لأنَّ توْريثَ الآباءِ مِن الأبناءِ والأبناءِ مِن الآباءِ، مذكورٌ في كتابِ الله تعالى ذِكْرًا عامًّا، فلا يُتْرَكُ إلَّا فيما اسْتَثْناه الشَّرْعُ، وما لم يسْتَثْنِه يَبْقَى على العُموم. ولأنَّ قولَ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬3). عامٌّ في جميعِهم. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّ الكُفْرَ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو قولُ كثيرٍ مِن أهْلِ العلمِ؛ لأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَينِ شَتَّى». ينْفي تَوارُثَهما ويَخُصُّ عمومَ الكتابِ، ولم نَسْمَعْ عن أحمدَ تصريحًا بذكرِ أقْسامِ المِلَلِ. وقال القاضي: الكفرُ ثَلاثُ مِلَلٍ؛ اليهوديَّةُ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 74. (¬3) سورة الأنفال 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّصرانيَّةُ، ودينُ مَن عَدَاهم؛ لأنَّ مَن عَداهم يجْمَعُهم أنَّه لا كتابَ لهم. وهذا قولُ شُرَيحٍ، وعطاءٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والضَّحَّاكِ، والحَكَمِ، والثَّوْرِيِّ، واللَّيثِ، وشَرِيكٍ، ومُغِيرَةَ الضَّبيِّ، وابنِ أبي لَيلَى، والحسنِ بنِ صالحٍ، ووَكيعٍ. ورُوِيَ ذلك عن مَالِكٍ. وعن النَّخَعِيِّ والثَّوْرِيِّ، القَوْلانِ معًا. وما رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال: الكُفْرُ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ. يَحْتَمِلُ أن يكونَ مِلَلًا كثِيرَةً تَزيدُ على ثَلاثٍ، فتكونُ المجوسِيَّةُ مِلَّةً، وعبدةُ الأوْثانِ ملةً، وعُبَّادُ الشمسِ ملَّةً، فلا يَرِثُ بعضُهم بعضًا. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ. وبه قال الزُّهْرِيُّ، ورَبيعَةُ، وطائِفَةٌ مِن أهْلِ المدينةِ، وأهْل البَصْرةِ، وإسحاقُ. وهو أصَحُّ الأقوالِ، إن شاء الله. اخْتارَه شيخُنا (¬1)؛ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَين شَتَّى». رَواه أبو داودَ. ولأنَّ كلَّ فريقَين منهم لا مُوَالاةَ بينَهم ولا اتِّفاقَ في دينٍ، فلم يَرِثْ ¬

(¬1) انظر: المغني 9/ 157.

2851 - مسألة: (وإن اختلفت أديانهم لم يتوارثوا)

وَإنِ اخْتَلَفَتْ لَمْ يَتَوَارَثُوا. وَعَنْهُ، يَتَوَارَثُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضُهم بعضًا، كالمسلمين والكُفَّارِ. والعُموماتُ في التَّوريثِ مخْصُوصَةٌ، فيُخَصُّ منها مَحَلُّ النِّزاعِ بالخبرِ والقياسِ. ولأنَّ مُخالفينا قَطَعوا التَّوْريثَ بينَ أهْلِ الحرْب وأهلِ دارِ الإِسلامِ، فمع اخْتِلافِهم في الملَّةِ أوْلَى. وقولُ مَن خَصَّ المِلَّةَ بعَدَمِ الكتابِ، لا يصِحُّ؛ لأنَّه وصفٌ عَدَمِيٌّ لا يَقْتَضِي حُكْمًا ولا جَمْعًا، ثم لا بُدَّ لهذا الضّابِطِ مِن دليل يَدُلُّ على اعْتبارِه، وقد افْتَرَقَ حُكْمُهم، فإنَّ المَجُوسَ يُقَرُّونَ بالجِزْيَةِ، وغيرُهم لا يُقَرُّون بها، وهم مُخْتَلِفُون في مَعْبوداتِهم ومُعْتَقداتِهم وآرائِهم، يَسْتَحِلُّ بعْضُهم دماءَ بعضٍ، ويُكَفِّرُ بعْضُهم بعضًا، فكانوا مِلَلًا كاليهودِ والنَّصارَى. ولأنَّه قد روَى الشَّعْبِيُّ عن عَليٍّ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه جعلَ الكُفْرَ مِلَلًا مختَلِفةً. ولم نعْرِفْ له مخالفًا في الصَّحابةِ، فيكونُ إجماعًا. 2851 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَتْ أدْيانُهم لم يَتَوارَثُوا) لما روَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَين شَتَّى». رَواه أبو داودَ. (وعنه، يَتَوارَثُون) لأنَّ مفْهومَ قولِه عليه

2852 - مسألة: (ولا يرث حربي ذميا، ولا ذمي حربيا. ذكره القاضي)

وَلَا يَرِثُ ذِمِّيٌّ حَرْبِيًّا، وَلَا حَرْبِيٌّ ذِمِّيًّا. ذَكَرهُ الْقَاضِي. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَتَوَارَثَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ السلامُ: «لا يَرِثُ الكَافِرُ المسْلِمَ». يدلُّ على أنَّهم يَتَوارَثون. وهذا يَجِئُ عَلى قوْلِنا: إِنَّ الكُفْرَ ملَّةٌ واحدةٌ. عَلى ما تَقَدَّم. وهو قول أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. 2852 - مسألة: (ولا يَرِثُ حَرْبِيٌّ ذميًّا، ولا ذِمِّيٌّ حَرْبِيًّا. ذكَرَه القاضي) لأنَّ المُوالاةَ مُنْقَطِعَةٌ بينَهم (ويَحْتَمِلُ أن يَتَوارَثَا) لأنَّهم مِن أهْلٍ ملَّةٍ واحدةٍ. قال شيخُنا (¬1): قياسُ المِذْهبِ عِنْدي أنَّ المِلَّةَ الواحِدَةَ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَوَارَثون وإنِ اخْتَلَفَتْ ديارُهم؛ لأنَّ العُموماتِ مِن النُّصوصِ تَقْتَضِي توريثَهم، ولم يَرِدْ بتخْصِيصِهم نَصٌّ ولا إجْماعٌ، ولا يصِحُّ فيهم قياسٌ، فيجبُ العملُ بعُمومِها. ومفهومُ قولِه - عليه السلام -: «لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَينِ شَتَّى». أنَّ أهْلَ المِلَّةِ الواحدةِ يَتَوارَثُون. وضبطُه التوريثَ بالملَّةِ والكُفْرِ والإِسلامِ دليلٌ على أنَّ الاعتبارَ به دُونَ غيرِه، ولأنَّ مُقْتَضِي التَّوْريثِ موجودٌ، فيَجِبُ العَمَلُ به ما لم يَقُمْ دليلٌ على تَحَقُّقِ المانِع. وقد نَصَّ أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، في مَن دَخَل إلينا بأمانٍ فقُتلَ، أنَّه يُبْعَث بدِيَتِه إلى مَلِكِهم حتَّى يَدْفَعَها إلى وَرَثَتِه. ورُوِيَ أنَّ عمرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ كان مع أهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، فسَلِمَ ورَجَع إلى المدينةِ، فوجَدَ رَجُلَين في طَرِيقِه مِن الحَيِّ الذين قَتَلُوهم، وكانا أتَيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في أمانِه، ولم يَعْلَمْ عمرٌو، فقتَلَهما، فوَدَاهُما النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولا شَكَّ أنَّه بعثَ بدِيَتِهما إلى أهْلِهما. فصل: فأمَّا المُسْتَأْمَنُ فَيَرِثُه أهلُ الحرْبِ وأهْلُ دارِ الإِسْلامِ. وبهذا ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية 3/ 186.

2853 - مسألة: (والمرتد لا يرث أحدا، إلا أن يسلم قبل قسم الميراث)

وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أحَدًا، إلا أن يُسْلِمَ قَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعيُّ. قال القاضي: ويَرِث أهْل الحربِ بعضُهم بعضًا، سواءٌ اتَّفَقَتْ ديارُهم أو اخْتَلَفَتْ. وقال أبو حنيفَةَ: إذا اختلفتْ ديارُهم بحيثُ كان لكلِّ طائفةٍ مَلِكٌ ويرَى بعضُهم قَتْلَ بعضٍ، لم يَتَوارَثا؛ لأنَّه لا مُوالاةَ بينَهم. فجعلوا اتِّفاقَ الدَّارِ واخْتِلافَها ضابطًا للتَّوْريثِ وعدمِه. ولا يُعْلَمُ في هذا حُجَّةٌ مِن كتابٍ ولا سُنَّةٍ، مع مُخالفتِه لعمومِ النُّصوصِ المُقْتَضِي للتَّورْيثِ، ولم يَعْتَبروا الدِّينَ في اتِّفاقِه ولا اخْتِلافِه مع وُرودِ الخبرِ فيه وصِحَّةِ العِبْرَةِ بها، فإنَّ المسلمين يَرِثُ بعضُهم بعضًا وإنِ اخْتَلَفَتِ الدَّارُ بهم، فكذلك الكُفَّارُ. 2853 - مسألة: (والمُرْتَدُّ لا يَرِث أحَدًا، إلَّا أن يُسْلِمَ قبلَ قَسْم الميراثِ) لا نعلمُ خلافًا بينَ أهلِ العلمِ أنَّ المُرْتدَّ لا يَرِثُ

2854 - مسألة: (وإن مات على ردته فماله فيء. وعنه، أنه لورثته من المسلمين. وعنه، أنه لورثته من أهل الدين الذي اختاره)

وَإنْ مَاتَ فِي رِدَّتِهِ فَمَالُهُ فَيْءٌ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ أهْلِ الدِّينِ الَّذِي اخْتَارَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدًا. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ وذلك أنَّه لا يَرِثُ المسلمَ، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرِثُ الكافِرُ المسْلِمَ (¬1)». ولا يَرِثُ الكافِرَ؛ لأنَّه يُخالِفُه في حُكْمِ الدينِ، لأنَّه لا يُقَرُّ عَلى كُفْرِه، فلم يَثْبُتْ له حُكْمُ الدِّينِ الذي انْتَقَلَ إليه، ولهذا لا تَحِلُّ ذَبيحَتُه، ولا نِكَاحُ نسائِهم وإنِ انْتَقلوا إلى دينِ أهلِ الكِتابِ. ولأنَّ المُرْتَدَّ تزولُ أمْلاكُه الثَّابِتَةُ له أو اسْتِقْرارُها، فلأَن لا يثْبُت له مِلْكٌ أوْلَى. ولو ارتَدَّ مُتَوارِثان فمات أحدُهما لم يَرِثْه الآخرُ؛ لأنَّ المُرْتَدَّ لا يَرِثُ ولا يُورَثُ. فإن أسْلَمَ قبلَ قَسْمِ الميراثِ وَرِثَ؛ لما ذكرْنا مِن الحديثِ، وقد ذكرناه والخلافَ فيه. فصل: والزِّنْدِيقُ كالمُرْتَدِّ فيما ذكرنا. والزِّنْدِيقُ الذي يُظْهِرُ الإسلامَ ويَسْتَسِرُّ الكُفْرَ، وهوْ الذي كان يُسَمَّى منافِقًا في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويُسَمَّى اليومَ زِنْديقًا. قال أحمدُ: مالُ الزِّنْديقِ في بَيتِ المالِ. 2854 - مسألة: (وإن مات على رِدَّتِه فمالُه فَيْءٌ. وعنه، أنَّه لِوَرَثَتِه مِن المسلمين. وعنه، أنَّه لوَرَثَتِه مِن أهْلِ الدينِ الذي اخْتَارَه) ¬

(¬1) بعده في م: «ولا المسلم الكافر». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 266.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رحمه اللهُ، في مالِ المُرْتَدِّ إذا مات أو قُتِلَ على رِدَّتِه، فرُوىَ عنه أنَّه يكونُ فَيئًا في بيتِ مالِ المسْلِمين. قال القَاضي: وهو الصحيحُ في المذْهَبِ. وبه قال ابنُ عباسٍ، ورَبيعَةُ، ومالِكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المنذرِ. وعن أحمدَ ما يدُلُّ على أنَّه لوَرَثَتِه مِن المُسْلمين. يُرْوَى ذلك عن أبي بكرٍ الصِّديقِ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ المسيَّب، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأهْلُ العراقِ، وإسْحاقُ. إلَّا أنَّ الثَّوْرِيَّ، وأبا حنيفَةَ، واللُّؤْلُؤِيَّ، وإسْحاقَ، قالوا: ما اكْتَسَبه في رِدَّتِه يكونُ فَيئًا. ولم يُفَرِّقْ أصْحابُنا بين تِلادِ مالِه وطَارِفِه. ووجْهُ ذلك، أنَّه قَوْلُ الخليفَتَين الراشدَين، فإنَّه يُرْوَى عن زيدِ بنِ ثابتٍ قال: بَعَثَنِي أبو بكرٍ عِنْدَ رجوعِهِ إلى أهْلِ الرِّدَّةِ أن أقْسِمَ مالهم بينَ وَرَثَتِهم المُسْلِمين. ولأنَّ رِدَّتَه يَنْتَقِلُ بها مالُه، فوجَبَ أنْ يَنْتَقِلَ إلى وَرَثَتِه مِن المُسْلمين، كما لو انْتَقَلَ بالموتِ. ورُوِيَ عنه رِوايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه يكونُ لأهْلِ الدِّينِ الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتارَه إن كان منهم مَن يَرِثُه وإلَّا فهو فَيْءٌ. وبه قال داودُ. ورُوِيَ ذلك عن عَلْقَمَةَ، وسعيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ (¬1)؛ لأنَّه كافِر، فَوَرِثَه. أهْلُ دينِه، كالحَرْبِيِّ وسائِرِ الكفَّارِ. والمشهورُ الأوَّلُ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المسْلِمَ». وقولِه: «لا يَتَوَارَثُ أهْلُ مِلَّتَينِ شَتَّى». ولأنَّه كافِرٌ، فلا يَرِثُه المسْلِمُ، كالكافِرِ الأصْلِيِّ، ولأنَّ ماله مالُ مُرْتَدٍّ، فأشْبَهَ الذي كَسَبَه في رِدَّتِه، ولا يُمْكِنُ جَعْلُه لأهْلِ دينِه؛ لأنَّه لا يَرِثُهم، فلا يَرِثُونَه، كغيرِهم مِن أهْلِ الأدْيانِ، [ولأنَّه يُخالِفُهم في حُكْمِهم، فإنَّه لا يُقَرُّ على ما انْتَقَلَ إليه، ولا تُؤْكَلُ ذبِيحتُه، ولا يَحِل نِكاحُه إن كان امْرَأةً، فأشْبَهَ الحرْبِيَّ مع الذِّمِّيِّ] (¬2). فإن قيل: إذا جَعَلْتُموه فَيئًا فقد ورَّثْتُموه للمسلمين. قلنا: لا يأْخُذُونه ميراثًا، بل يأْخُذُونَه فَيئًا، كما يُؤْخَذُ (¬3) مالُ الذِّمِّيِّ الذي لم يُخَلِّفْ وارِثًا، وكالعُشورِ. فصل: قد ذكرنا أنَّ الزِّنْدِيقَ كالمُرْتَدِّ، لا يَرِثُ ولا يُورَثُ. وقال ¬

(¬1) سعيد بن أبي عروبة (مهران) العدوي، مولاهم، الإمام الحافظ، عالم أهل البصرة، ثقة، توفي سنة ست وخمسين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 413 - 418. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «يأخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ في الزِّنْدِيقِ الذي يُتَّهَمُ بزَيِّ (¬1) وَرَثَتِه عندَ موتِه: مالُه لوَرَثَتِه مِن المُسْلمين، مثل مَن يَرْتَدُّ إذا حضَرَه الموتُ. قال: وتَرِثُه زوجَتُه سواءٌ انْقَضَتْ عِدَّتُها أو لم تَنْقَضِ، كالذي يُطَلِّقُها زوجُها في مَرَضِ موتِه ليَحْرِمَها الميراثَ؛ لأنَّه فارٌّ مِن ميراثِ مَن (¬2) انْعَقَدَ سَبَبُ (¬3) ميراثِه، فوَرِثَه، كالمُطَلَّقَةِ (¬4) في مرضَ الموتِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الكافِرَ». قال شيخُنا (¬5): وقياسُ المذهبِ أنَّ أحدَ الزوجَين إذا ارْتَدَّ في مَرَضِ موتِه ورِثَه الآخَرُ؛ لأنَّه فعَل ما يَفْسَخُ النِّكاحَ في مَرَضِ موتِه، أشْبَه الطَّلاقَ، وفِعْلُ المرْأةِ ما يفْسَخُ نِكاحَها لا يُسْقِطُ مِيراثَ زَوْجِها. ويُخَرَّجُ في ميراثِ سائِرِ الورثَةِ مثلُ ما في الزَّوْجَين، فيكونُ مثلَ مذهبِ مالكٍ. وقال أبو يوسفَ: إذا ارتَدَّتِ المَريضةُ فماتت في عِدَّتِها أو لحِقَتْ بدارِ الحربِ، ورِثَها زوجُها. وروَى اللَّؤْلُؤيُّ عن أبي حنيفَةَ: ¬

(¬1) في م: «بذمي». وبزي: أي بحرمان. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بسبب». (¬4) في م: «كالمطلق». (¬5) في: المغني 9/ 163.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ارْتَدَّ الرجلُ فقُتِلَ على رِدَّتِه أو لَحِقَ بدارِ الحربِ بانَتْ منه امْرَأتُه، فإن كانت مدْخولًا بها ورِثَتْه في عِدَّتِها، وإن كانت غيرَ مدْخولٍ بها بانَت ولم تَرِثْه. وإنِ ارتَدَّتِ المرْأةُ في غيرِ مَرَضٍ فماتَتْ لم يَرِثْها زوجُها؛ لأنَّها عندَهم لا تُقْتَلُ، فلم تكنْ فارَّةً مِن ميراثِه، بخلافِ الرَّجُلِ. فصل: وارْتِدادُ الزوجَين معًا كارْتِدادِ أحَدِهما، في فَسْخِ نكاحِهما، وعَدَمِ مِيراثِ أحَدِهما مِن الآخَرِ، سواءٌ لَحِقا بدارِ الحربِ أو أقَاما بدارِ الإِسْلامِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا ارتدَّا معًا لم يَنْفَسِخِ النِّكاحُ، ولم يتَوارَثا؛ [لأنَّ المُرْتَدَّ لا يَرِثُ المُرْتَدَّ ما داما في دارِ الإِسلامِ، فإن لَحِقا بدارِ الحربِ توارثا] (¬1). ولَنا، أنَّهما مُرْتَدَّان، فلم يَتَوارَثا، كما لو كانا في دارِ الإِسْلامِ. ولو ارْتدَّا جميعًا ولهما أولادٌ صغارٌ، لم يَتْبَعوهم في رِدَّتِهم، ولم يَرِثُوا منهم شيئًا، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، سواء ألحَقُوهم بدارِ الحربِ أو لا. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: مَن ألْحَقُوه بدارِ الحرْبِ منهم يصيرُ مُرْتَدًّا يجوزُ سَبْيُه، ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَإنْ أَسْلَمَ الْمَجُوسُ أوْ تَحَاكَمُوا إِلَينَا وُرِّثُوا بِجَميِعِ قَرَابَاتِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَن لم يُلْحِقُوه بدارِ الحرْبِ فهو في حُكْمِ الإِسْلامِ. فأمَّا مَن وُلِدَ بعدَ الرِّدَّةِ بستةِ أشْهُرٍ، فذكرَ الخِرَقِيُّ ما يدلُّ على أنَّه يجوزُ اسْتِرْقاقُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والقولُ الثَّانِي، لا يُسْبَوْنَ. وهو منصوصُ الشافعيِّ. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه؛ (وإن أسْلَمَ المجُوسُ أو تَحاكَمُوا إلينا وُرِّثُوا بجميعِ قَراباتِهم) إن أمْكَنَ ذلك. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وزيدٍ في الصَّحيحِ عنه. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وقَتَادَةُ، وابنُ أبي لَيلَى، وأبو حنيفَةَ وأصحابُه، ويحيى بنُ آدمَ، وإسحاقُ، وداودُ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه. واختارَه ابنُ اللَّبَّانِ. وعن زيدٍ، أنَّه وَرَّثَه بأقْوَى القرابَتَينِ، وهي التي لا تَسْقُطُ بحالٍ. وبه قال الحسَنُ، والزُّهْرِيّ، والأوْزَاعِيُّ، ومالِكٌ، واللَّيثُ، وحَمّادٌ. وهو الصَّحِيحُ عن الشافعيِّ. وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، ومَكْحولٍ، والشَّعْبِيِّ، القولان جميعًا، واحْتَجُّوا بأنَّهما قَرابتان لا يُورَثُ بهما في الإِسلامِ، فلا يُورَثُ بهما في غيرِه، كما لو أسْقَطَتْ إحْداهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُخْرَى. ولَنا، أنَّ الله تعالى فَرَض للأُمِّ الثُّلُثَ وللأُخْتِ النِّصْفَ، فإذا كانتِ الأُمُّ أُخْتًا وَجَب إعْطاؤُها ما فَرَض اللهُ تعالى لها في الآيَتَين (¬1)، كالشَّخصين، ولأنَّهما قَرابتان تَرِثُ بِكُلِّ واحدةٍ منهما مُنْفَرِدةً، لا تَحْجُبُ إحداهما الأُخْرَى ولا تُرَجَّحُ بها، فتَرِثُ بهما مُجْتمِعتَين، كَزَوْجٍ هو ابنُ عَمٍّ، أو ابنِ عَمٍّ هو أخٌ لأُمٍّ، وكذَوي (¬2) الأرْحامِ المُدْلِين بقرابَتَين. وقياسُهم فاسدٌ؛ لأنَّ القرابتَينِ في الأصْلِ تُسْقِطُ إحْداهما الأُخْرى إذا كانا في شخصين، فكذلِك إذا كانا في شخصٍ واحدٍ. وقولُهم: لا يُورَثُ بهما في الإِسْلامِ. ممنوعٌ، فإنَّه إذا وُجِدَ ذلك مِن وَطْءِ شبْهةٍ في الإِسلامِ وَرِثَ بهما، ثم إن امْتِناعَ الإِرْثِ بهما في الإسلامِ لعَدَمِ وجودِهما، فلو تُصُوِّرَ وجودُهما وَرِثَ بهما، بدليلِ أنَّه قد وَرِثَ بنَظِيرِهما في ابنِ عَمٍّ هو زَوجٌ أو أخٌ مِن أُمٍّ. قال ابنُ اللَّبَّانِ: واعتبارُهم عندي فاسِدٌ مِن قِبَلِ أنَّ الجَدَّةَ تكونُ أُخْتًا لأبٍ، فإن وَرَّثُوها بكونِها جَدَّةً لكونِ الابنِ يُسْقِطُ الأُخْتَ دونَها، لَزِمَهم تَوْرِيثُها بكَوْنِها أُخْتًا، لكَوْنِ الأُمِّ تُسْقِطُ الجدَّةَ دونَها، وخالفوا نَصَّ الكتابِ في فَرْضِ الأُختِ، وورَّثُوا الجَدّةَ التي لا نَصَّ للكتابِ في فرْضِها، وهو مُخْتَلَفٌ فيه (¬3)، فمنهم مَن قال: هو طُعْمَةٌ ¬

(¬1) في م: «الاثنين». (¬2) في م: «لذوي». (¬3) في م: «فيهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس بفَرْضٍ مُسَمًّى ويَلْزَمُهَم أنَّ الميِّتَ إذا خَلَّف أُمَّه وأمَّ أُمٍّ هي أُخْتٌ أن لا يُؤْتوها شيئًا؛ لأن الجُدودَةَ محْجوبَةٌ، وهي أقْوَى القرابتين. [وإن قالوا: نُوَرِّثُها مع الأم بكونِها أختًا. نقضوا اعتبارَهم بكونِها أقوى القرابتين] (¬1)، وجعلوا الأُخوَّةَ تارةً أقْوى وتارةً أضْعَفَ. وإن قالوا: أقْوَى القرابتين الأخُوَّةُ؛ لأنَّ ميراثَها أوْفَرُ. لَزِمَهم في أُمٍّ هي أخْتٌ جَعْلُ الأُخوَّةِ أقْوَى مِن جِهَةِ الأُمومَةِ، ويَلْزَمُهم في إسْقاطِ ميراثِها (¬2) مع الابنِ والأخِ مِن الأبَوين ما لَزِمَ القائلين بتَقْديمِ الجُدودَةِ مَع الأُمِّ. فإن قالوا: تَوْرِيثُها بالقَرابتَينِ يُفْضِي إلى حَجْبِ الأمِّ بنَفْسِها إذا كانت أُخْتًا وللميِّتِ أُختٌ أُخْرَى. قلنا: وما المانِعُ مِن هذا؟ فإنَّ اللهَ تعالى حَجَب الأُمَّ بالأُختين بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬3). مِن غيرِ تَقْيِيدٍ بغيرِها، ثم هم قد (¬4) حَجَبُوها عن ميراثِ الأُختِ بنَفْسِها، فقد دَخَلوا فيما أنْكَرُوه، بل هو أعْظَمُ؛ لأنَّهم فَرُّوا مِن حَجْبِ التَّنْقِيصِ إلى حَجْبِ الإِسْقاطِ، فأسْقَطوا الفَرْضَ الذي هو أوْكَدُ بالكُلِّيَّةِ مُحافَظةً على بعضِ الفَرْضِ (¬5) الأدْنَى، وخالفوا مَدْلُولَ أرْبَعَةِ نُصوصٍ مِن كتابِ اللهِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة النساء 11. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «الغرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى؛ لأنَّهم أعْطَوُا الأُمَّ الثُّلُثَ، وإنَّما فَرَض اللهُ تعالى لها مع الأُختين السُّدْسَ. والثَّاني، أنَّ اللهَ تعالى إنَّما فَرَض لِكُلِّ واحِدَةٍ مِن الأُختين ثُلُثًا، فأعْطَوْا إحداهما النِّصْفَ كامِلًا. والثَّالثُ، أنَّ اللهَ تعالى فَرَض للأُختين الثُّلُثَين، وهاتان أُخْتان، فلم يَجْعلوا لهما الثُّلُثَينِ. الرَّابع، أنَّ مُقْتَضى الآيَةِ أن يكونَ لِكُل واحِدَةٍ مِن الأُختينِ الثُّلُثُ، وهذه أُخْتٌ، فلم يُعْطُوها بكونِها أُخْتًا شَيئًا. هذا كُلُّه معنى كلامِ ابنِ اللَّبَّانِ. فصل: والمسائِلُ التي يَجْتَمِعُ فيها قَرابَتان ويَصِحُّ الإِرْثُ بهما سِتٌّ؛ إحْداهُنَّ في الذُّكورِ، وهو عَمٌّ هو أخٌ لأُمٍّ، وخَمْسٌ في الإناثِ، وهي بنتٌ هي أخْتٌ، أو بنتُ ابنٍ، وأُمٌّ هي أُخْتٌ، وأمُّ أُمٍّ هي أَخْتٌ لِأبٍ، وأُمُّ أبٍ هي أُخْت لأُمٍّ، فمَن وَرَّثَهم بأقْوَى القَرابتين، وَرَّثَهم بالبُنُوَّةِ والأُمُومَةِ دُونَ الأُخوةِ وبُنُوَّةِ الابنِ. واخْتَلفوا في الجَدَّةِ إذا كانت أُخْتًا؛ فمنهم مَن قال: الجُدودةُ أقْوَى؛ لأنَّها جِهَةُ ولادَةٍ لا تَسْقُطُ بالوَلَدِ. ومنهم مَن قال: الأُخُوَّةُ أقْوَى؛ لأنَّها أكْثَرُ مِيراثًا. وقال ابنُ سُرَيجٍ (¬1) وغيرُه: هو الصّحيحُ. ومَن وَرَّثَ بأقْوى القرابَتَينِ لَم يَحْجُبِ الأُمَّ بأُخُوَّةِ نفسِها، إلَّا ما حَكاه سَحْنُونُ عن مالكٍ، أنَّه حَجَبها بذلك. والصَّحِيحُ عنه الأوَّلُ. ومَن وَرَّثَ بالقرابتينِ حَجَبَها بِذلك. ومتى كانتِ البنتُ أُخْتًا، والميِّتُ ¬

(¬1) في م: «شريح».

2855 - مسألة: (إذا خلف أمه، وهي أخته من أبيه، وعما)

فَإِذَا خَلَّفَ أُمَّهُ، وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ أَبِيهِ، وَعَمًّا، وَرِثَتِ الثُّلُثَ بِكَوْنِهَا أُمًّا، وَالنِّصْفَ بِكَوْنِهَا أُخْتًا، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أُخْتٌ أُخْرَى لَمْ تَرِثْ بِكَوْنِهَا أُمًّا إلا السُّدْسَ؛ لِأنَّهَا انْحَجَبَتْ بِنَفْسِهَا وَبِالأُخْرَى. وَلَا يَرِثونَ بِنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَلَا بِنِكَاحٍ لَا يُقَرُّونَ عَلَيهِ لَوْ أسْلَمُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجُلٌ، فهي أخْتٌ لأُمٌ، ومتى (¬1) كان امرأَةً فهي أخْتٌ لأبٍ. فإن قيل: أُمٌّ هي أخْت لأُمٍّ، أو أُمُّ أُمٍّ هي اخْت لأُمٍّ، أو أُمُّ أَبٍ هي أخْتٌ لأبٍ. فهو محالٌ. 2855 - مسألة: (إذا خَلَّف أُمَّه، وهي أخْتُه مِن أبيهِ، وعَمًّا) فمَن وَرَّثَها بقرابتينِ، جعل لها (الثُّلُثَ بكونِها أُمًّا، والنِّصْفَ بكونِها أخْتًا لأبٍ، والباقيَ للعَمِّ. فإن كان معهما أخْتٌ أخْرى لم تَرِثْ بكَونِها أُمًّا إلَّا السُّدْسَ؛ لأنَّها انْحَجَبَتْ بنَفْسِها) وبالأُخْتِ (الأُخْرى) ومَن ورَّثها بأقْوَى القَرابتين، وَرَّثَها الثُّلُثَ بكونِها أُمًّا، ولم يَحْجُبْها بنَفْسِها. 2856 - مسألة: (ولا يَرِثون بنِكاحِ ذَواتِ المَحارِمِ، ولا بنِكاحٍ لا يُقَرُّونَ عليه لو أسْلَمُوا) المجوسُ ومَن جَرَى مَجْرَاهُم ممَّن يَنْكِحُ ¬

(¬1) في الأصل: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَواتَ المَحارمِ، إذا أسْلَموا وتَحاكَمُوا إلَينا، قال شيخُنا (¬1): لا نَعْلَمُ خلافًا في أنَّهم لا يَرِثون بنكاحِ ذَواتِ المحارمِ، فأمَّا غيرُه مَن الأنْكِحَةِ، فكُلُّ نِكاحٍ اعتقدُوا صِحتَه وأُقِرُّوا عليه بعدَ إِسْلامِهم تَوارَثُوا به، سواءٌ وُجِدَ بِشُروطِه المُعْتَبرةِ في نكاحِ المسلمين أو لا، وما لا يُقَرُّون عليه بعدَ إسْلامِهم لا يَتَوارَثُون به، والمجوسُ وغيرُهم في هذا سواءٌ. فلو طلَّقَ الكافرُ امْرَأتَه ثم نكَحَها، ثم أسْلَما، لم يُقَرَّا عليه وإن مات أحَدُهما لم يَرِثْه الآخَرُ، وكذلك إن ماتَ أحَدُهما قبلَ إسْلامِهما لم يتَوارَثَا، في قولِ الجميعِ. وأصلُ الاختِلافِ في الميراثِ الاختلافُ فيما يُقَرَّان عليه إن أسْلَما أو تَحاكَما إلينا، ونذكرُ ذلك في نكاحِ الكُفَّارِ، إن شاءَ الله تعالى. فصل: وإذا مات ذمِّيٌّ لا وارِثَ له كانَ مالُه فَيئًا، وكذلك ما فَضَل مِن مالِه عن وارِثِه، كمَنَ ليس له وارِثٌ إلَّا أحَدَ الزَّوجينِ؛ لأنَّه مالٌ ليس له مُسْتَحِقٌّ معيَّنٌ، فكان فَيئًا، كمالِ الميتِ المسلمِ الذي هو كذلك. مسائلُ مِن هذا الباب: مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ ابْنتَه فأوْلَدها بنتًا، ثم مات عنهما، فلهما الثُّلُثان؛ لأنَّهما ابْنَتان، ولا ترِثُ الكُبْرَى بالزَّوْجِيَّةِ في قولِ الجميعِ. فإن ماتَتِ الكُبْرَى بعدَه، فقد تَرَكَتْ بِنْتًا هي أخْتٌ لأبٍ، فلها النِّصْفُ بالبُنُوَّةِ، والباقي بالأُخُوَّةِ. وإن ماتَتِ الصُّغْرى أولًا، فقد تَرَكَتْ أُمًّا هي أُخْتٌ لأبٍ، فلها النِّصْفُ والثُّلُثُ بالقَرابتينِ. ومَن وَرَّثَ بأَقْوَى ¬

(¬1) في: المغني 9/ 165.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرابتين لم يُوَرِّثْها بالأخوَّةِ شيئًا في المسألتين. وقال ابنُ سُرَيجٍ (¬1): يَحْتَمِلُ قولُ الشافعيِّ تَوْرِيثَها بالقَرابتين في المسألَةِ الأولَى؛ لأنَّه لم يمْنَعْ تَوْرِيثَ الشخصِ بفرْض وتَعْصِيبٍ، لتوْرِيثِه ابنَ العَمِّ إذا كان زَوْجًا أو أَخًا لأُمٍّ، وإنَّما مَنَعَ الإِرْث بفَرْضَين. فإن كان المجُوسِيُّ أوْلَدَها بِنْتَين ثم مات وماتتِ الكُبْرَى بعدَه، فقد تَرَكَتْ بِنْتَينِ، هما أُخْتان لأبٍ، وإن لم تَمُتِ الكُبْرى بل ماتتْ إحْدَى الصَّغيرَتَين، فقد تَرَكَتْ أُخْتًا لأبَوَينِ وأُمًّا هي أُخْتٌ لِأبٍ؛ فلأُمِّها السُّدْسُ بكوْنِها أُمًّا والسُّدْسُ بكونِها أُخْتًا لأبٍ، وانْحَجَبَتْ بنَفْسِها وأُخْتِها عن السُّدْسِ، وللأخْتِ النِّصْفُ. وعلى القولِ الآخر، لها الثُّلُثُ بالأُمومَةِ، ولا شيءَ لها بالأُخُوَّةِ، ولا تَنْحَجِبُ بها، وللأُخْتِ النِّصْفُ، فقد اسْتَوى الحُكْمُ في القولين وإنِ اخْتَلَفَ طريقُهما. وعلى ما حكاه سَحْنُونُ، لها السُّدْسُ وتَنْحَجِبُ بنَفْسِها وأُخْتِها. وإن أوْلَدَها المجوسِيُّ ابنًا وبِنْتًا ثم ماتَ، وماتَتِ الصُّغْرَى بعدَه، فقد خلَّفَتْ أُمًّا هي أختٌ لأبٍ، وأخًا لأبٍ وأُمٍّ؛ فلأُمِّها السُّدْسُ، والباقي للْأَخِ، ولا شيءَ للأُمِّ بالأُخُوَّةِ، لأنَّ الأخِ للأَبوَين يَحْجُبُها. وعلى القولِ الآخرِ؛ للأمِّ الثُّلُثُ كامِلًا. إذا تَزَوَّجَ. المجوسِيُّ أُمَّه فأوْلَدَها بِنْتًا ثم مات، فلأُمِّه السُّدْسُ، ولابْنَتِه النِّصْفُ، ولا تَرِثُ أُمُّه بالزَّوْجِيَّةِ، ولا ابنتُه بكونِها أُخْتًا لأُمٍّ شيئًا. وإن ماتَتِ الكُبْرَى بعدَه، فقد خَلَّفَت بِنْتًا هي بِنْتُ ابنٍ، فلها الثُّلُثان بالقرابتين. وعلى القولِ الآخرِ، لها النِّصْفُ. وإن ماتتِ الصُّغْرَى بعدَه، فقد تَرَكَتْ أُمًّا هي ¬

(¬1) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمُّ أبٍ، فلها الثُّلُثُ بالأُمومَةِ لا غيرُ، على القولين جميعًا. وإن تَزَوَّجَ ابْنَتَه فأوْلَدَها بِنْتًا، ثم تزوَّج الصُّغْرَى، فأوْلَدَها بِنْتًا، ثم مات، وماتَتِ الكُبْرى بعدَه، فقد تَرَكَتْ أُخْتَيها لأبيها، إحْداهما بِنْتُها، والأُخْرَى بِنْت بِنْتِها، فلبِنتِها النِّصْفُ، والباقي بينَهما. وعلى القولِ الآخرِ، لبِنْتِها النِّصْفُ، والباقي للصُّغْرى. وإن ماتَتِ الوُسْطى بعدَه، فقد تَرَكَتْ أُخْتَيها، إحْداهُما أُمُّها، والأُخْرَى بِنْتُها، فلأُمِّها السُّدْسُ، ولبِنْتِها النّصْفُ، والباقي بينَهما. وعلى القَوْلِ الآخَرِ، الباقي للعَصَبَةِ. وإن ماتتِ الصُّغْرى بعدَه، فقد خَلَّفَتْ أُخْتَيها، إحداهما أُمُّها، والأُخْرى جَدَّتُها، فلأُمِّها السُّدْسُ، والثُّلُثان بينَهما، وقد انْحَجَبَتِ الأُمُّ بنَفْسِها وبأُمِّها عن السُّدْسِ. وعلى القولِ الآخَرِ، مَن جعل الأُخُوّةَ أقْوَى، فللكُبْرَى النِّصْفُ، وللوُسْطى الثُّلُثُ، والباقي للعَصَبَةِ. ومَن جعل الجُدودَةَ أَقْوَى، لم يُوَرِّثِ الكُبْرَى شَيئًا، لأنَّها لا تَرثُ بالأُخُوَّةِ، لكونِها ضَعيفةً، ولا بالجُدودَةِ، لكونِها مَحْجُوبَةً بالأُمومَةِ. وإن ماتتِ الصُّغْرى بعدَ الوُسْطى، فقد خَلَّفَتْ جَدَّةً هي أُخْتٌ لأبٍ، فلها الثُّلُثان بالقَرَابتين، ومَن وَرَّثَ بإحْداهما، فلها السُّدْسُ عندَ قَوْمٍ. وعندَ ابنِ سُرَيجٍ (¬1) ومَن وافَقَه لها النِّصْفُ. وهي اخْتِيارُ الخَبْرِيِّ. مجوسِيٌّ تَزَوَّجَ أُمَّه فأوْلَدَها بِنْتًا، ثم تَزَوَّجَ بِنْتَه فأوْلَدَها ابْنًا، ثم تَزَوَّجَ الابنُ جَدَّتَه فأَولَدَها ¬

(¬1) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِنْتًا، ثم مات الْمَجُوسِيُّ، ثم ماتَتْ أُمُّه (¬1)، فقد خَلّفَتْ بِنْتًا هي بِنتُ ابنٍ، وبِنْتًا أُخْرَى هي بنتُ ابنِ ابنٍ، وخَلَّفَتِ ابنَ ابنٍ هو زَوْجُها، فلابنَتيها الثُّلُثان، والباقي بينَ الكُبْرى وابَنِها على ثَلاثةٍ، وتصِحُّ مِن تِسْعَةٍ؛ للكُبْرى أرْبَعَةٌ، وللصُّغْرى ثلاثةٌ، وللذَّكرِ سَهْمان. وعلى القولِ الآخَرِ، الباقي للذَّكَرِ وَحْدَه. فإن ماتت بعدَه بِنْتُه، فإنَّ الكُبْرى جَدَّتُها أُمُّ أبيها، وهي أُخْتُها مِن أُمِّها، فلها السُّدْسان بالقرابتين، وفي الثَّاني، لها سُدْسٌ بإحْداهما. فصل: وإن وَطِئ مُسْلِمٌ بعْضَ مَحارِمِه بشُبْهةٍ، أو اشْتراها وهو لا يعْرِفُها، فوَطِئها، وولَدتْ له، واتّفَقَ مِثلُ هذه الأنْسابِ (¬2)، فالحكمُ فيها مِثلُ هذا سواءً. فصل في التَّزْوجِ في المرضِ والصِّحةِ: حُكْمُ النِّكاحِ في الصِّحَّةِ والمرضِ سواءٌ في صِحَّةِ العَقْدِ وتَوْريثِ كُلِّ واحدٍ منهما مِن صاحبِه، في قولِ الجمهورِ؛ وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: أيُّ الزَّوْجَينِ كان مريضًا مَرَضًا مَخُوفًا حال عقدِ النِّكاحِ فالنِّكاحُ فاسدٌ، لا يَتوارَثان به، إلَّا أن يُصِيبَها، فيكونُ لها المُسَمَّى في ثُلُثِه (¬3)، مُقَدَّمًا على الوَصِيَّةِ. وعن الزُّهْرِيِّ، ويحيى بنِ سعيدٍ، مثلُه. واخْتَلَفَ أصحابُ ¬

(¬1) في م: «أم». (¬2) في م: «لإنسان». (¬3) في م: «ثلاثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ في نِكاحٍ مَن لا يَرِثُ، كالأمَةِ والذِّمِّيَّةِ، فقال بعضُهم: يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يُتَّهَمُ بقصْدِ تَوْرِيثها. ومنهم مَن أبْطَله؛ لجوازِ أن تكونَ وارثةً. وقال رَبِيعةُ، وابنُ أبي لَيلَى: الصَّداقُ والميراثُ مِن الثُّلُثِ. وقال الأوْزَاعِيُّ: النِّكاحُ صحيحٌ، ولا ميراثَ بينَهما. وعن القاسِمِ بنِ محمدٍ، والحسنِ، إن قَصَد الإضرارَ بورثثِه فالنِّكاحُ باطلٌ وإلَّا فهو صحيحٌ. ولَنا، أنَّه عَقْدُ مُعاوَضةٍ يَصِحُّ في الصِّحَّةِ، فصَحَّ في المرضِ، كالبَيعِ، ولأنَّه نِكاحٌ صَدَرَ مِن أهْلِه في مَحَلِّه بشَرْطِه، فصَحَّ، كحالِ الصِّحَّةِ. وقد روينا أنَّ عبدَ الرحمن ابنَ أُمِّ الحَكَمِ تَزَوَّجَ في مَرَضِه ثلاثَ نِسْوةٍ، أصْدَقَ كلَّ واحدةٍ ألفًا؛ ليُضَيِّقَ بهنَّ على امْرَأتِه ويَشْرَكْنَها في مِيراثِها، فأُجِيزَ ذلك (¬1). وإذا ثَبَت صِحَّةُ النِّكاحِ ثَبَت الميراثُ بعُمُومِ الآيةِ. فصل: ولا فَرْقَ في ميراثِ الزَّوْجَين بينَ ما قبلَ الدُّخولِ وبعدَه؛ لعمُومِ الآية، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في بَرْوَعَ بنتِ وَاشقٍ، أنَّ لها الميراثَ، وكان زوجُها مات عنها قبلَ الدُّخولِ بها، ولم يكنْ فَرَض لها صَداقًا (¬2). ولأنَّ النِّكاحَ صحيحٌ ثابتٌ، فيُوَرَّثُ به، كما بعدَ الدُّخولِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يتزوج وهو مريض أيجوز، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 362. والبيهقي، في: باب نكاح المريض، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 276. وسعيد بن منصور، في: باب تزويج الجارية الصغيرة. السنن 1/ 176. وفيه أنه تزوج امرأتين. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في من تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 487، 488. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 84، 85. والنسائي، في: باب عدة المتوفى عنها زوجها. . .، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا النِّكاحُ الفاسِدُ فلا يَثْبُتُ به التَّوارثُ بينَ الزوجين؛ لأنَّه ليس بنكاحٍ شرعيٍّ. ومتى اشْتَبَه مَن نِكاحُها فاسدٌ بمَن نكاحُها صحيحٌ، فالمنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّه قال في مَن تَزَوَّجَ أُخْتين لا يَدْرِي أيَّتَهما تَزَوَّجَ أوَّلَ، أنَّه يُفَرَّق بينَهما، وتَوَقَّفَ عن أن يقولَ في الصَّداقِ شيئًا. قال أبو بكرٍ: يَتَوَجَّهُ على قولِه أن يُقْرَعَ بينَهما. فعلى هذا الوجهِ، يُقْرَعُ بينَهما في الميراثِ إذا مات عنهما. وعن النَّخعِيِّ، والشَّعْبِيِّ، ما يَدُلُّ على أنَّ الميراثَ يُقسَمُ بينَهنَّ على حَسَبِ الدَّعاوَى والتَّنْزيلِ، كميراثِ الخَنَاثَى. وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه. وقال الشافعيُّ: يُوقَفُ المشْكوكُ فيه مِن ذلك حتى يَصْطَلِحْنَ عليه أو يَتَبَيَّنَ الأمرُ. فلو تَزَوّجَ امرأةً في عَقْدٍ، وأربعًا في عقدٍ، ثم مات وخَلَّفَ أَخًا، ولم يُعلمْ أيُّ العَقْدينِ سَبَقَ، ففي قولِ أبي حنيفةَ، كلُّ واحدةٍ تَدَّعِي مَهْرًا كاملًا يُنْكِرُه الأخُ، فَتُعْطَى (¬1) كلُّ واحدةٍ نِصْفَ مَهْرٍ، ويُؤْخَذُ رُبْعُ الباقي تَدَّعِيه الواحدةُ والأرْبَعُ، فيُقْسَمُ نِصْفه للواحدةِ، ونِصْفُه للأرْبَعِ. وعندَ الشافعيِّ، أكثرُ ما يَجِبُ عليه أرْبَعَةُ مُهُورٍ، فيُؤْخَذُ (¬2) ذلك، يُوقَفُ منها مَهْرٌ بينَ النساءِ الخَمْسِ، ويَبْقَى ثلاثةٌ، ¬

= الطلاق. المجتبى 6/ 164. وابن ماجه، في: باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 609. والدارمي، في: باب الرجل يتزوج المرأة فيموت. . .، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 155. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 447، 4/ 280. وإسناده صحيح. وانظر الإرواء 6/ 357، 358. (¬1) في م: «فيعطى». (¬2) في م: «فيأخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدَّعِي الواحدةُ رُبْعَها ميراثًا، ويَدَّعِي الأخُ ثلاثةَ أرْباعِها، فيُوقَفُ منها ثلاثةُ أرْباعِ مَهْرٍ بينَ النِّساءِ الخَمْسِ، وباقِيها وهو مُهْران ورُبْعٌ بينَ الأرْبعِ والأخِ، ثم يُؤْخَذُ رُبْعُ ما بَقِيَ فيُوقَفُ بينَ النِّساءِ الخَمْسِ، والباقِي للأخِ. فصل: فإن تَزَوّجَ امرأةً في عَقْدٍ، واثْنَتَين في عَقْدٍ، وثلاثًا في عَقْدٍ، ولم يُعْلَمِ السَّابقُ، فالواحدةُ نِكاحُها صحيحٌ، فلها مَهْرُها، ويَبْقَى الشَّكُّ في الخَمْسِ، فعلى قولِ أهلِ العراقِ، لهنَّ مَهْران بيَقِينٍ، والثالثُ لهنَّ في حالٍ دون حالٍ، فيكونُ لَهُنَّ نِصْفُه، ثم يُقْسَمُ ذلك بينهنَّ، لكلِّ واحدةٍ نِصْفُ مَهْر، ثم يُؤْخَذُ رُبْعُ الباقِي لَهُنَّ ميراثًا، فللواحدةِ رُبْعُه يَقِينًا، وتَدَّعِي نِصْفَ سُدْسِه، فتُعْطى نِصْفَه، فيصيرُ لها مِن الرُّبْعِ سُدْسُه وثُمْنُه، وذلك سَبْعَةٌ مِن أرْبَعةٍ وعِشْرينَ، والاثْنَتانِ تَدَّعِيان ثُلُثَيهِ، وهو سِتَّةَ عَشَرَ سهمًا، فيُعْطَين نِصْفَه، وهو ثمانيةُ أسْهُم، والثلاثُ يَدَّعِين ثلاثةَ أرباعِه، وهو ثمانيةَ عَشَرَ سهمًا، فيُعْطَين تِسْعَةً (¬1). وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. وعلى قول أبي حنيفةَ، وأبي يوسفَ، تُقْسَمُ السَّبْعَةَ عَشَرَ (¬2) بين الثَّلاثِ والاثْنَتَين نِصْفَينِ، فيَصِيرُ الرُّبْعُ مِن ثمانيةٍ وأربعين، ثم تَضْرِبُ الاثْنَين في الثلاثِ، ثم في ثمانيةٍ وأرْبعين، تكُنْ مائَتَين وثمانيةً وثمانين، فهذا رُبْعُ المالِ. وعندَ الشافعيِّ، تُعْطَى الواحدةُ مَهْرَها، ويُوقَفُ ثلاثةُ مُهُورٍ، مَهْران منها بينَ الخَمْسِ، ومَهْرٌ تَدَّعِي الواحدةُ والاثْنَتانِ رُبْعَه ¬

(¬1) في م: «تسعه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِيراثًا، وتَدَّعِيه الثّلاثُ مَهْرًا، وثلاثةُ أرباعِه يَدَّعِيه الأخ ميراثًا وتَدَّعِيه الثلاثُ مهرًا، ويُؤْخَذُ رُبْعُ ما بَقِيَ فيُدْفَعُ رُبْعُه إلى الواحدةِ، ونِصْفُ سُدْسِه بينَ الواحدةِ والثلاثِ موقوفٌ، وثُلُثاه بينَ الثَّلاثِ والاثْنَتَين موقوفٌ، فإن طَلَبَتْ واحدةٌ مِن الخَمْسِ. شيئًا مِن الميراثِ الموقوفِ لم يُدْفَعْ إليها شيءٌ، وكذلك إن طَلَبَه أحدُ الفريقينِ لم يُدْفَعْ إليه شيءٌ، وإن طَلَبَ واحدةٌ مِن الثلاثِ وواحدةٌ مِن الاثْنَتَين دُفِعَ إليهما رُبْعُ المِيراثِ. وإن طَلَبَه واحدةٌ مِن الاثْنَتَين واثْنتانِ مِن الثَّلاثِ أو الثلاثُ كلُّهنَّ دُفِعَ إليهنَّ ثُلُثُه. وإن عَيَّنَ الزَّوْجُ المَنْكوحاتِ أوَّلًا، قُبِلَ تعْيِينُه وثَبَت. وإن وَطِئَ واحدةً منهنَّ، لم يكُنْ ذلك تَعْيِينًا لها. وهذا قولُ الشافعيِّ. وللمَوْطوءةِ الأقَلُّ؛ مِن المُسَمَّى أو مَهْرِ المِثْلِ، ويكونُ الفضلُ بينَهما مَوْقُوفًا. وعلى قول أهلِ العراقِ، يكونُ تَعْيِينًا. فإذا كانتِ الموْطُوءَةُ مِن الاثْنَتَين، صَحَّ نكاحُها، وبَطَل نِكاحُ الثلاثِ، وإن كانت مِن الثَّلاثِ، بَطَل نِكاحُ الاثنَتَينِ، وإن وَطِئَ واحدةً مِن الاثْنَتَين وواحدةً مِن الثَّلاثِ، صَحَّ نِكاحُ الفَرِيقِ المَبْدُوء بوَطْءِ واحدةٍ منه، وللمَوْطُوءةِ التي لم يَصِحَّ نِكاحُها مَهْرُ مِثْلِها، فإن أَشْكَلَ أيضًا، أُخِذَ منه اليقينُ وهو مَهْرَان مُسَمَّيان ومَهْرُ مِثلٍ، ويَبْقَى مَهْرٌ مُسَمًّى تَدَّعِيه النِّسْوةُ ويُنْكِرُه الأخُ فيُقْسَمُ بينهما، فيَحْصُلُ للنِّسْوةِ مَهْرُ مِثْلٍ ومُسَمَّيان ونِصْفٌ، منها مَهْرٌ مُسَمًّى، ومَهْرُ مِثْل يُقْسَمُ بينَ المَوْطُوءتَين نصْفَين، ويَبْقَى مُسَمًّى ونصفٌ بينَ الثّلاثِ الباقياتِ، لكلِّ واحدةٍ نِصْف مُسَمى، والميراثُ على ما تقدَّم. وعندَ الشافعيِّ، لا حُكْمَ للوَطْءِ في التَّعْيِين. وهل يَقُومُ تَعْيِينُ الوارثِ مَقامَ تَعْيينِ الزوجِ، فيه قولان. فعلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولِه، يُؤْخَذُ مُسَمًّى ومَهْرُ مِثْلٍ للمَوْطوءَتَين، تُعْطَى كلُّ واحدةٍ (¬1) الأقَلَّ؛ مِن المُسمَّى أو مَهْرِ المِثْلِ، ويَقِفُ الفضلُ بينَهما، ويَبْقَى مُسَمَّيان ونصفٌ، يَقِفُ أحَدُهما بينَ الثلاثِ اللاتِي لم يُوطَأْنَ، وآخرُ بينَ الثلاثِ والاثْنَتَين، والميراثُ على ما تقدَّم. وحُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، في مَن له أرْبَعُ نِسْوةٍ أبَتَّ طلاقَ إحْداهُنَّ، ثم نَكَح خامسةً، ومات ولم يُدْرَ أيَّتُهنَّ طَلَّقَ، فللخامسةِ رُبْعُ الميراثِ، وللأرْبَعِ ثلاثةُ أرباعِه بينَهُنَّ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، إذا كانت نكاحُ الخامسةِ بعدَ انْقضاءِ عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ. ولو أنَّه قال بعدَ نكاحِ الخامسةِ: إحدى نسائِي طالِقٌ. ثم نَكَح سادسةً، ثم مات قبلَ أن يُبَيِّنَ، فللسَّادسةِ رُبْعُ الميراثِ، وللخامسةِ رُبْعُ ثلاثةِ الأرْباعِ الباقِيةِ، وما بَقِيَ بينَ الأرْبَعِ الأُوَلِ أرْباعًا. وفي قولِ الشافِعيِّ، ما أشْكَلَ مِن ذلك موقوفٌ على ما تقدَّم. ¬

(¬1) سقط من: م.

باب ميراث المطلقة

بَابُ مِيرَاثِ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا طَلَّقَهَا في صِحَّتِهِ، أَوْ في مَرَضٍ غَيرِ مَخُوفٍ أو غَيرِ مَرَض الْمَوْتِ طَلَاقًا بَائِنًا قُطِعَ التَّوَارُثُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ المُطَلَّقَةِ (إذا طَلَّقَها في صِحَّتِه أو مَرَضٍ غيرِ مَخُوفٍ طلاقًا بائِنًا قُطِعِ التَّوارُثُ بَينَهما) وجملة ذلك، أنَّ الرجلَ إذا طلَّقَ امرأتَه في صِحَّتِه طلاقًا بائِنًا، أو رجْعِيًّا فبانتْ بانْقِضاءِ عدَّتِها، لم يَتوارَثا إجْماعًا؛ لزوالِ الزَّوْجِيةِ التي هي سَبَبُ الميراثِ، وكذلك إن طَلَّقها في مرضٍ غيرِ مَخُوفٍ، لأنَّ حُكْمَ الطَّلاقِ فيه حُكْمُ الطلاقِ في الصِّحَّةِ. فإت طَلَّقَها في المرضِ المَخُوفِ فصحَّ مِن مَرَضِه ذلك ومات بعدَه، لم تَرِثْهُ في قولِ الجمهورِ. ورُوِيَ عن النَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وزُفَرَ، أنَّها تَرِثُه؛ لأنَّه طلاقٌ في مرضٍ مَخُوفٍ قُصِدَ به الفرارُ مِن الميراثِ، فلم يَمْنَعْه، كما لو لم يَصِحَّ. ولَنا، أنَّ هذه بائنٌ بطَلاقٍ في غيرِ مَرَضِ الموتِ، فلم تَرِثْه، كالمُطَلَّقةِ في الصِّحَّةِ، ولأنَّ حُكْمَ هذا المرضِ حُكْمُ الصِّحَّةِ في العَطَايا والعَتاق والإِقْرارِ، فكذلك في الطلاقِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا قَصَدَ الفِرارَ في الصِّحَّةِ.

2857 - مسألة: (وإن كان)

وَإنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَقْطَعْهُ مَا دَامَتْ في الْعِدَّةِ. وَإن طَلَّقَهَا في مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ طَلَاقًا لَا يُتَّهَمُ فِيهِ؛ بِأَنْ سَأَلتْهُ الطَّلَاقَ، أوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى فِعْل لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَتْهُ، أوْ عَلَّقَهُ في الصِّحَّةِ عَلَى شَرْطٍ فَوُجِدَ في الْمَرَضِ، أوْ طَلَّقَ مَنْ لَا تَرِثُ كَالأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ فَعَتَقَتْ وَأسْلَمَتْ فَهُوَ كَطَلَاقِ الصَّحِيحِ في أصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2857 - مسألة: (وإن كان) الطلاقُ (رجْعِيًّا لم يَقْطَعْه ما دامَتْ في العدَّةِ) سواء كان في المرضِ أو الصِّحَّةِ، بغيرِ خلافٍ نعلَمُه. رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وذلك لأنَّ الرَّجْعِيةَ زَوْجةٌ يَلْحَقُها طلاقُه وظِهارُه وإيلاؤُه، ويَمْلِكُ إمْساكَها بالرَّجعةِ بغيرِ رِضاها ولا وَلِيٍّ ولا شُهُودٍ ولا صَداقٍ جَدِيدٍ. 2858 - مسألة: (وإن طلَّقَها في مَرَضِ الموتِ المخُوفِ طلاقًا لا يُتَّهَمُ فيه؛ بأن سألَتْه الطلاقَ، أو علَّقَ طلاقَها على فِعْل لها منه بُدٌّ ففَعَلَتْه، أو علَّقَه على شَرْطٍ في الصِّحَّةِ فوُجِدَ في المرضِ، أو طلَّقَ مَن لا تَرِثُ كالأمَةِ والذِّمِّيَّةِ فعَتَقَتْ وأسْلَمَت، فهو كطَلاقِ الصحيحِ في أصَحِّ الروايتَين) إذا سألَتْه الطلاقَ في مَرَضِه فأجابَها، فقال القاضِي: فيه روايتان؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهما، لا تَرِثُه؛ لأنَّه ليس بفارٍّ. والثانيةُ، تَرِثُه؛ لأنَّه طَلَّقها في مَرَضِه. وهو قولُ مالكٍ. وكذلك الحكمُ إذا خالعها، أو عَلَّقَ الطلاقَ على مَشِيئتِها فشاءت، أو على فِعْلٍ مِن جِهَتِها لها منه بُدٌّ ففَعَلَتْه، أو خَيَّرَها فاخْتارتْ نَفْسَها. والصحيحُ في هذا كلِّه أنَّها لا تَرثُه؛ لأنَّه لا فِرَارَ منه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. فإن لم تَعْلَمْ بتَعْليقِ طلاقِها، ففَعَلَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما عُلِّقَ عليه، وَرِثَتْه؛ لأنَّها مَعْذُورةٌ فيه. ولو سأَلتْه طَلْقةً فطَلَّقها ثلاثًا وَرِثَتْه؛ لأنَّه أبانَها بما لم تَطْلُبْه منه. فإن عَلَّقَ طَلاقَها على شَرْطٍ في الصِّحَّةِ فوُجِدَ في المرَضِ، كقُدُومِ زَيدٍ، ومجِئِ زيدٍ (¬1)، وصلاتِها الفَرْضَ، بانتْ ولم تَرِثْه. وذكر القاضِي روايةً أُخْرَى، أنَّها تَرِثُ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ الطَّلاق وقعَ في المرضِ. والأوَّلُ أصَحُّ. ¬

(¬1) في: المغني 9/ 200: «غد».

2859 - مسألة: فإن طلق الزوج المسلم امرأته الذمية أو الأمة في المرض طلاقا بائنا، ثم أسلمت الذمية وعتقت الأمة، ثم مات في عدتهما، لم ترثاه؛ لأنه لم يكن عند الطلاق فارا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2859 - مسألة: فإن طلَّقَ الزَّوجُ المسلمُ امرأتَه الذِّمِّيَّةَ أو الأمَةَ في المرضِ طلاقًا بائنًا، ثم أسْلَمتِ الذِّمِّيَّةُ وعَتَقَتِ الأمَةُ، ثم مات في عِدَّتِهما، لم تَرِثاهُ؛ لأنَّه لم يكنْ عندَ الطَّلاقِ فارًّا. وفيه رِوايَةً أُخْرى، أنَّها تَرِثُ؛ لأنَّه طَلَاقٌ في مَرَضِ الموتِ، فوَرِثَتْه كغَيرِها. هكذا ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المشروحِ، ولم يَذْكُرْ في «المُغْنِي» و «الكافي» هذه الرِّوايَةَ الأخيرَةَ. فصل: فإن قال لهما: أنتُما طالِقتان غدًا. فعَتَقَتِ الأَمةُ وأسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ، لم تَرِثاه؛ لأنَّه غيرُ فارٍّ. 2860 - مسألة: وإن قال سَيِّدُ الأمةِ: أنتِ حُرَّةٌ غدًا. فطَلَّقها اليومَ وهو يَعْلَمُ بقولِ السَّيِّدِ، وَرِثَتْه؛ لأنَّه فارٌّ، وإن لم يَعْلَمْ لم تَرِثْه؛ لعدمِ الفرارِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ولم أعلمْ فيه مخالِفًا. فصل: إذا قال لامرأتِه في صحتِه: إذا مَرِضْتُ فأنتِ طالقٌ. فحُكْمُه حكمُ طلاقِ المريضِ سَواءً. وإن أقَرَّ في مَرَضِه أنَّه كان طَلَّقها في صِحَّتِه ثلاثًا لم يُقْبَلْ إقْرارُه عليها، وكان حُكْمُه حُكْمَ طلاقِه في مَرَضِه. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. ويُقْبَلُ عندَ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّه أقرَّ بما يَبْطُلُ به حَقُّ غيرِه، فلم يُقْبَلْ، كما لو أقرَّ بما لها.

2861 - مسألة: (وإن كان متهما بقصد حرمانها الميراث؛ مثل أن طلقها ابتداء، أو علقه على فعل لا بد لها منه كالصلاة ونحوها ففعلته، أو قال للأمة أو الذمية: إذا أسلمت أو عتقت فأنت طالق. أو علم أن سيد الأمة قال لها: أنت حرة غدا. فطلقها اليوم، ورثته، ما دامت في العدة، ولم يرثها)

وَإنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ؛ مِثْلَ أن طَلَّقَهَا ابْتِدَاءً، أوْ عَلَّقَهُ عَلَى فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوهَا فَفَعَلَتْهُ، أوْ قَال لِلذِّمِّيَّةِ أو الْأمَةِ: إِذَا أسْلَمْتِ أوْ عَتَقْتِ فَأنْتِ طَالِقٌ. أوْ عَلِمَ أنَّ سَيِّدَ الْأمَةِ قَال لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ غَدًا. فَطَلَّقَهَا الْيَوْمَ، وَرِثَتْهُ مَا دَامَتْ في الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَرِثْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2861 - مسألة: (وإن كان مُتَّهَمًا بقَصْدِ حِرْمانِها الميراثَ؛ مثلَ أن طَلَّقها ابْتِداءً، أو عَلَّقَه على فِعْلٍ لا بُدّ لها منه كالصَّلاةِ ونحوها ففَعَلَتْه، أو قال للأمَةِ أو الذِّمِّيَّةِ: إذا أسْلَمْتِ أو عَتَقْتِ فأنْتِ طالِقٌ. أو عَلِمَ أنَّ سيِّدَ الأمَةِ قال لها: أنتِ حرةٌ غدًا. فطَلَّقها اليومَ، وَرِثَتْه، ما دامت في العِدَّةِ، ولم يَرِثْها) وجملتُه، أنَّه إذا طلَّقَها في المرَضِ المَخُوفِ طلاقًا بائِنًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم مات مِن مَرَضِه ذلك في عِدَّتِها، وَرِثَتْه ولم يَرِثْها إن ماتت. يُرْوَى هذا عن عليٍّ، وعمرَ، وعثمانَ. وبه قال شُرَيح، وعُرْوَةُ، والحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ في أهلِ العراقِ، ومالِكٌ في أهلِ المدينةِ، وابنُ أبي لَيلَى. وهو قولُ الشافعيِّ القديمُ. ورُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، لا تَرِثُ مَبْتُوتةٌ. ويُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ. وهو قولُ الشافِعيِّ الجديدُ، لأنَّها بائِنٌ، فلا تَرِثُ، كالبائن في الصِّحَّةِ، أو كما لو كان الطَّلاقُ باخْتِيارِها، ولأنَّ أسبابَ المِيراثِ مَحْصُورةٌ في رَحِم ونكاح ووَلاءٍ، وليس لها شيءٌ مِن هذه الأسْبابِ. ولَنا، أنَّ عثمان، رَضِيَ اللهُ عَنه، وَرَّثَ تُماضِرَ بنتَ الأصْبَغِ الكَلْبِيَّةَ مِن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، وكان طَلَّقها في مرضِه فبَتَّها (¬1). واشتَهر ذلك في الصحابةِ فلم يُنْكَرْ، فكان إحماعًا. ولم يَثْبُتْ عن علِيٍّ وعبدِ الرحمنِ خلافُ هذا، بل قد روَى عُرْوةُ أنَّ عمرَ قال لعبدِ الرحمنِ: إن مِتَّ فلأُوَرِّثنَها منك. قال: قد عَلِمتُ ذلك. وما رُوِيَ عن ابنِ الزُّبَيرِ إن صَحَّ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في توريث المبتوتة في مرضى الموت، من كتاب الخلع والطلاق. السنن الكبرى 7/ 362، 363. والشافعي، انظر: كتاب الفرائض. من ترتيب المسند 2/ 193. وإسناده صحيح. انظر الإرواء 6/ 159.

2862 - مسألة: وإن علق طلاقها على فعل لا بد لها منه

وَهَلْ تَرِثُهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ، أو تَرِثُهُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو مَسْبوقٌ بالإِجْماعِ. ولأنَّه قَصَد قَصْدًا فاسِدًا في الميراثِ، فعُورِضَ بنَقِيضِ قَصْدِه، كالقاتِلِ القاصِدِ اسْتِعجال الميراثِ يُعاقَبُ بحِرْمانِه. 2862 - مسألة: وإن علَّقَ طلَاقَها على فِعْلٍ لا بُدَّ لها منه؛ كالصلاةِ المكتوبَةِ، والصيامِ الواجِب، ففَعَلَتْه، فحُكْمُه حُكْمُ طلَاقِه ابْتِداءً، في قولِ الجميعِ، وكذلك لو علَّقَه على كلامِها لأبَوَيها ولأحَدِهما. 2863 - مسألة: (وهل تَرِثُه بعدَ العِدَّةِ، أو تَرِثُه المطَلَّقةُ قبلَ الدُّخولِ؟ على روايتَين) المشهورُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّها تَرِثُه في العِدَّةَ وبعدَها ما لم تَتَزَوَّج. قال أبو بكرٍ: لا يَخْتلِفُ (¬1) قولُ أبي عبدِ اللهِ في المدْخُولِ بها، أنَّها ترِثُه في العِدَّةِ وبَعدَها ما لم تَتَزَوَّجْ. رُوِيَ ذلك عن الحسنِ. وهو قولُ البَتِّيِّ، وحُمَيدٍ، وابنِ أبي لَيلَى، وبعضِ البَصْرِيِّين، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «المذهب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحاب الحسنِ، ومالكٍ في أهلِ المدينةِ. وذُكِرَ عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ؛ لِما روَى أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمن، أنَّ أباه طَلَّقَ أُمَّه وهو مرِيضٌ، فمات، فوَرِثَتْه بعدَ انقضاءِ العِدَّةِ. ولأنَّ سبَبَ تَورِيثِها فِرارُه مِن ميراثِها، وهذا المعنَى لا يَزُولُ بانقضاءِ العِدَّةِ. وفيه روايةٌ أخْرى، أنَّها لا تَرِثُ بعدَ العِدَّةِ. وهذا قولُ عُرْوَةَ، وأبي حنيفةَ، وأصحابِه، وقولُ الشافِعيِّ القديمُ؛ لأنَّها تُباحُ لزوْجٍ آخرَ، فلم تَرِثْه، كما لو كان في الصِّحَّةِ، ولأنَّ تَورِيثَها بعد العِدَّةِ يُفْضِي إلى تَورِيثِ أكثرَ مِن أرْبَعِ نِسْوةٍ، فلم يَجُزْ، كما لو تَزَوَّجَتْ. والمطَلَّقةُ قبلَ الدُّخول في مرضِه المخُوفِ فيها روايتان، كالتي انْقَضَتْ عِدَّتُها، إذا كانت كُلُّ واحِدةٍ منهما لا عِدَّةَ لها.

2864 - مسألة: (وإن تزوجت)

فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2864 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَتْ) في عِدَّتِها (لم تَرِثْه) سواءٌ كانت في الزَّوْجِيَّةِ أو بانت مِن الزوجِ الثاني. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال مالكٌ في أهلِ المدينةِ: تَرِثُه. لما ذَكَرْنا للرِّوايةِ الأُولَى في المسألَةِ قبلَها. ولأنَّها شخصٌ يَرِثُ مع انْتِفاءِ الزوجِيَّةِ، فوَرِثَ معها، كسائِرِ الوارِثِين. ولَنا، أنَّ هذه وارِثَةٌ مِن زَوْجٍ، فلا تَرِثُ زوجًا سواه، كسائرِ الزوجاتِ، ولأنَّ التَّوْرِيثَ في حُكْمِ النِّكاحِ، فلا يَجُوزُ اجْتِماعُه مع نِكاحٍ آخرَ، كالعِدَّةِ، ولأنَّها فَعَلَتْ باخْتِيارِها ما يُنافِي نِكاحَ الأوَّلِ، فأشْبَهَ ما لو كان فَسْخُ النِّكاحِ مِن قِبَلِها. وهكذا لو ارْتَدَّت في عِدَّتِها ولم تُسْلِمْ، أو فَعَلَت ما يُنافي نِكاحَ الأوَّلِ. فصل: إذا طَلَّقَ امرأتَه ثلاثًا قبلَ الدُّخولِ في المرَضِ، فقال أبو بكرٍ: فيها أرْبَعُ رواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، لها الصَّداقُ كاملًا والميراثُ وعليها العِدَّةُ. اخْتارَها أبو بكر. وهو قولُ الحسنِ، وعطاءٍ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّ الميراثَ ثَبَت للمَدْخُولِ بها لفرارِه منه، وهذا فَارٌّ، وإذا ثَبَت الميراثُ، ثَبَت وُجوبُ تكْمِيلِ الصَّداقِ. قال شيخُنا (¬1): وينْبَغِي أن تكونَ العِدَّةُ عِدَّةَ الوفاةِ؛ لأنَّا جَعَلْناها في حُكْمِ مَن تُوُفِّيَ عنها وهي زَوْجَةٌ، ولأنَّ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 197.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّلاقَ لا يُوجِبُ عِدَّةً على غيرِ المدْخولِ بها. الثانيةُ، لها الميراثُ والصَّداقُ ولا عِدَّةَ عليها. وهو قولُ عطاء، لأنَّ العِدَّةَ حَقٌّ عليها، فلا تَجِبُ بفرارِه. والثالثةُ، لها الميراثُ ونصفُ الصَّداقِ وعليها العِدَّةُ. وهذا قولُ مالكٍ في روايةِ أبي عُبَيدٍ عنه، لأنَّ مَن تَرِثُ يجبُ أن تَعْتَدَّ، ولا يَكْمُلُ الصَّداقُ؛ لقولِ الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬1). فلا يَجُوزُ مُخالفَةُ ذلك. والرابعة، لا تَرِثُ ولا عِدَّةَ عليها ولها نصفُ الصَّداقِ. وهو قولُ جابرِ بنِ زيدٍ، والنَّخَعِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافِعيِّ، وأَكثرِ أهلِ العلمِ. قال أحمدُ: قال جابرُ بنُ زيدٍ: لا ميراثَ لها، ولا عِدَّةَ عليها. وقال الحسنُ: تَرِثُ. قال أحمدُ: أذْهَبُ إلى قول جابرٍ، لأنَّ اللهَ سبحانه نصَّ على تَنْصِيفِ الصَّداقِ ونَفْي العِدَّةِ عن المُطَلَّقةِ قبلَ الدُّخولِ بقولِه سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ}. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). ولا يجوزُ مخالفةُ نصِّ الكتاب بالرَّأْي والتَّحَكُّمِ. وأمَّا الميراثُ، فإنَّها ليست بزَوْجتِه ولا مُعْتَدَّةٍ مِن نِكاحٍ، أشْبَهَتِ المطَلَّقةَ في الصحَّةِ. فإن خَلا بِها، وقال: ¬

(¬1) سورة البقرة 237. (¬2) سورة الأحزاب 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم أطَأْها. وصَدَّقَتْه، فَلَها الميراثُ، وعليها العِدَّةُ للوَفاةِ، ويُكَمَّلُ لها الصَّداقُ؛ لأنَّ الخَلْوَةَ تَكْفِي في ثُبُوتِ هذه الأحْكامِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. فصل: ولو طَلَّقَ المدخولَ بها طلاقًا رَجْعِيًّا ثم مَرِضَ في عِدَّتِها، ومات بعدَ انقضائِها، لم تَرِثْه؛ لأنَّه طلاقُ صِحَّةٍ. فإن طَلَّقها واحدةً في صحَّتِه، وأبانَها في مَرَضِه، ثم مات بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، فحُكْمُها حُكْمُ ما لو ابْتَدَأ طلاقَها في مَرَضِه؛ لأنَّه فَرَّ مِن مِيراثِهِا. وإن طلَّقها واحدةً في صِحَّتِه، وأُخْرَى في مَرَضِه، ولم يُبِنْها حتى بانتْ بانْقضاءِ عِدَّتِها، لم تَرِثْ؛ لأنَّ طَلاقَ المرضِ لم يَقْطَعْ مِيراثَها ولم يُؤثِّرْ في بَينُونَتِها. فصل: وإذا طَلَّقها ثلاثًا في مَرَضِه، فارْتَدَّتْ ثم أسْلَمتْ، ثم مات في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِدَّتِها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَرِثُه. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّها مُطلَّقَةٌ في المرضِ، أشْبَهَ ما لو لم تَرْتَدَّ. والثاني، لا تَرثُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافِعيِّ؛ لأنَّها فَعَلَتْ ما يُنافِي النِّكاحَ، أشْبَهَ ما لو تَزَوَّجَت. ولو كان هو المُرْتَدَّ ثم أسْلَمَ ومات، وَرِثَتْه. وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه. وقال الشافعيُّ: لا تَرِثُه. ولَنا، أنَّها مُطلَّقةٌ في المَرضِ، لم تَفْعَلْ ما يُنافِي نِكاحَها، مات زوجُها في عِدَّتِها، أشْبَه ما لو لم تَرْتَدَّ. ولو ارْتَدَّ أحدُ الزوجين بعدَ الدُّخولِ، ثم عاد إلى الإِسْلامِ قبلَ انْقضاءِ العِدَّةِ، وَرِثَه الآخرُ؛ لأنَّ النِّكاحَ باقٍ. وإنِ انْقَضَتِ العِدَّةُ قبلَ رُجُوعِه، انْفَسخَ النِّكاحُ ولم يَرِثْ أحدُهما الآخرَ. وإن قُلْنا: إنَّ الفُرْقةَ تُتَعَجَّلُ عنْدَ اخْتلافِ الدِّينِ. لم يَرِثْ أحدُهما الآخرَ. ويتَخَرَّجُ أن يَرِثَه الآخَرُ إذا كان ذلك في مرضِ موتِه؛ لأنَّه تَحْصُلُ به البَينُونةُ، أشْبَهَ الطَّلاقَ. وهو قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: إذا ارْتَدَّتِ المرأَةُ ثم ماتتْ في عِدَّتها وَرِثَها الزوجُ. فصل: فإن عَلَّقَ طلاقَها على فِعْلِ نَفْسِه، وفَعَلَه في المرَضِ، وَرِثَتْه؛ لأنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ بها في المرضِ، أشْبَهَ ما لو كان التَّعْليقُ في المرضِ. وإن

2865 - مسألة: (وإن أكره الابن امرأة أبيه في مرض أبيه على ما يفسخ نكاحها، لم يقطع ميراثها، إلا أن يكون له امرأة سواها)

وَإنْ أكْرَهَ الابْنُ امْرَأةَ أبِيهِ في مَرَضِ أبِيهِ عَلَى مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا، لَمْ يُقْطَعْ مِيرَاثُهَا، إلا أنْ تَكُونَ لَهُ امْرَأةٌ سِوَاهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال في الصِّحَّةِ: أنتِ طالِقٌ إن لم أضْرِبْ غُلامِي. فلمْ يَضْرِبْه حتى مات، وَرِثَتْه، ولا يَرِثُها إن ماتَتْ، وإن مات الغُلامُ والزوجُ مَريضٌ طَلُقَتْ، وكان كتَعْليقِه على مجئِ زيدٍ على ما ذَكَرْنا. وكذلك إن قال: إن لم أُوَفِّكِ مَهْرَكِ فأنتِ طالقٌ. فإنِ ادَّعَى أنَّه وَفَّاها مَهْرَها فأنْكَرَتْه، صُدِّقَ الزَّوْجُ في تَوْرِيثِه منها، لأنَّ الأصْلَ بقاءُ النكاحِ، ولم يُصَدَّقْ في بَراءتِه منه؛ لأنَّ الأصلَ بقاؤه في ذِمَّتِه. ولو قال لها في الصِّحَّةِ: أنتِ طالقٌ إن لم أتَزَوَّجْ عليك. فكذلك. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الحسنِ. ولو قَذَف المريضُ امرأتَه ثم لَاعَنَها في مرضِه فبانَتْ منه ثم مات في مرضِه وَرِثَتْه. وإن ماتت لِم يَرِثْها. وإن قَذَفَها في صِحَّتِه ثم لَاعَنَها في مرضِه ثم مات فيه لم تَرثْه. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافِعيِّ، واللُّؤْلُؤِيِّ. وذَكَر القَاضي روايةً أُخْرَى، أنَّها تَرِثُ. وهو قولُ أبي يوسفَ. وإن آلى منها ثم صَحَّ، ثم نُكِسَ في مرضِه فبانَتْ منه بالإِيلاءِ لم تَرِثه. 2865 - مسألة: (وإن أكْرَهَ الابنُ امرأةَ أبيه في مرضَ أبيه على ما يَفْسَخُ نِكاحَها، لم يُقْطَعْ مِيراثُها، إلَّا أن يكونَ له امرأةٌ سِواها) إذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَكْرَهَ الابنُ امرأةَ أبيه على ما يَفْسَخُ نِكاحَها، مِن وَطْءٍ أو غيرِه، في مرضِ أبيه، فماتَ أبُوه مِن مرضِه ذلك، وَرِثَتْه، ولم يَرِثْها إن ماتَتْ. وهو قولُ أبي حنيفَةَ وأصحابِه. فإن طاوَعَتْه على ذلك لم تَرِثْ؛ لأنَّها مشارِكةٌ له فيما يَفْسَخُ نِكاحَها، أشْبَهَ ما لو خَالعَتْه. وسواءٌ كان للمَيِّتِ بَنُونَ سِوَى هذا الابنِ أو لم يكنْ. فإنِ انْتَفَتِ التُّهْمةُ عنه، بأن لا يكونَ وارثًا، كالكافِرِ والقاتلِ والرَّقيقِ، أو كان ابنًا مِن الرَّضاعةِ، أو ابنِ ابنٍ مَحْجُوبٍ بابنِ الميتِ، أو بأبَوَينِ وابْنَتَين، أو كان للميتِ امرأةٌ أُخْرَى تَحُوزُ ميراثَ الزوجاتِ، لم تَرِثْ؛ لانتفاءِ التُّهْمةِ. ولو صار ابنُ الابنِ وارثًا بعدَ ذلك لم تَرِثْ، لانْتفاءِ التُّهْمةِ حال الوَطْءِ. ولو كان وارثًا حينَ الوَطْءِ فعاد مَحْجوبًا عن الميراثِ، وَرِثَتْ؛ لوُجودِ التُّهْمةِ حينَ الوَطْءِ. ولو كان للمريضِ امْرأتانِ، فاسْتَكْرَهَ ابنُه إحْداهُما، لم تَرِثْ؛ لانتفاءِ التُّهْمةِ، لكَوْنِ ميراثِها لا يَرْجِعُ إليه. وإنِ استَكْرَهَ الثانيةَ بعدَها، وَرِثَتِ الثانيةُ؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ في حَقِّها، ولو استَكْرَهَهُما معًا دَفْعَةً واحدةً، وَرِثَتا معًا وهذا كله قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه. وأمَّا الشافِعيُّ، فلا يَرَى فَسْخَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ بالوَطْءِ الحرامِ. وكذا الحكمُ فيما إذا وَطِئَ المريضُ مَن يَنْفَسِخُ نكاحُه بوَطْئِها، كأُمِّ امْرأتِه، فإنَّ امرأتَه تَبينُ منه، وتَرِثُه إذا مات في مرضِه. وسواءٌ طاوَعَتْه المَوْطوءةُ أو لا؛ لأَنَّ مُطاوَعَتَها ليس للمرأةِ فيه فِعْلٌ يَسْقُطُ به مِيراثُها. فإن كان زائلَ العقلِ حينَ الوَطْءِ لم تَرِثِ امرأتُه منه شيئًا؛ لأنَّه ليس له قَصْدٌ صحيحٌ، فلا يكونُ فارًّا مِن مِيراثِها. وكذلك لو وَطِئَ بنتَ امرأتِه، كَرْهًا لها، وهو زائِلُ العقلِ. فإن كان صبِيًّا عاقلًا وَرِثَتْ؛ لأنَّ له قَصْدًا صحيحًا. وقال أبو حنيفةَ: هو كالمَجنُونِ؛ لأنَّ قولَه لا عِبْرَةَ به. وللشافِعيِّ فيما إذا وَطِئَ الصَّبِيُّ بنتَ امْرأتِه وأمَّها قولان؛ أحدُهما، لا يَنْفَسِخُ به نكاحُ امْرأتِه؛ لأنَّه لا يُحَرِّمُ. والثَّاني، تَبِينُ امرأتُه، فلا تَرِثُه ولا يَرِثُها. وفي القُبْلَةِ والمُباشَرةِ دُونَ الفَرْجِ روايتان؛ إحداهما، تَنْشُرُ الحُرْمَةَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه؛ لأنَّها مُباشَرة تَحْرُمُ في غيرِ النِّكاحِ والمِلْكِ، أشْبَهتِ الوَطْءَ. والثَّانيةُ، لا تَنْشرُه؛ لأنَّه ليس بسببٍ للبَعْضِيَّةِ، فلا يَنْشرُ الحُرْمَةَ، كالنَّظْرةِ والخَلْوةِ. وخَرَّجَ أصحابُنا في النَّظرِ إلى الفَرْجِ والخَلْوةِ لشَهْوةٍ وَجْهًا أنَّه يَنْشُرُ الحُرْمَةَ. والصَّحيحُ أنَّها لا تَنْشُرُ.

2866 - مسألة: (وإن فعلت)

وَإِنْ فَعَلَتْ في مَرَضِ مَوْتِهَا مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُ زَوْجِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2866 - مسألة: (وإن فَعَلَتِ) المرأةُ (في مرضِ موتِها ما يَفْسَخُ نِكاحَها لم يَسْقُطْ مِيراثُ زوجِها) وذلك بأن تُرْضِعَ امرأةَ زوجِها الصَّغِيرَةَ، أو زوجَها الصَّغِيرَ، أو ارْتَدَّتْ، فإنَّ زوجَها يَرِثُها، ولا تَرِثُه. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَرِثُها ولَنا، أنَّها أحَدُ الزوجين فَرَّ مِن ميراثِ الآخرِ، فأَشْبَهَ الرَّجُلَ. فصل: وإن أُعْتِقَتْ فاختارت نَفسَها، أو كان الزوجُ عِنِّينًا فأُجِّلَ سَنَةً فلم يُصِبْها حتى مَرِضَتْ في آخرِ الحَوْلِ فاخْتارتْ فُرْقَتَه وفُرِّقَ بينَهما، لم يَتَوارَثا في قولِهم أجْمَعِين. ذَكَرَه ابنُ اللَّبَّانِ في كتابِه. وذَكَر القاضِي في المُعْتَقةِ إذا اخْتارتْ نفسَها في مَرَضِها، لم يَرِثْها، لأنَّ فَسْخَ النِّكاحِ في هذين الموضِعَين لِدَفْعِ الضَّررِ، لا للفِرارِ مِن الميراثِ. وإن قَبَّلَتِ ابنَ زوْجِها لشَهْوَةٍ، خُرِّجَ فيه وَجْهان، أحدُهما، يَنْفَسِخُ نِكاحُها ويَرِثُها إذا كانت مريضةً وماتت في عِدَّتِها. وهذا قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه. والثاني، لا يَنْفَسِخُ النِّكاحُ به. وهو قولُ الشافعيِّ. ولو أنَّ رجلًا زَوَّجَ ابنةَ أخِيه

2867 - مسألة: (وإن خلف زوجات نكاح بعضهن فاسد أقرع بينهن، فمن أصابتها القرعة فلا ميراث لها)

وَإنْ خَلَّفَ زَوْجَاتٍ نِكَاحُ بَعْضِهِنَّ فَاسِدٌ أُقْرِعَ بَينَهُنَّ، فَمَنْ أصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صغيرةً ثم بلغَتْ، فَفَسَخَتِ النِّكاحَ في مَرَضِها، لم يَرِثْها الزوجُ، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّ النِّكاحَ مِن أصْلِه فاسدٌ في صحيحِ المذهبِ. وهو قولُ الشافعيِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على صِحَّتِه، ولها الخيارُ. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ وأصحابِه؛ لأنَّ الفَسْخَ لإِزالةِ الضَّررِ لا مِن أجلِ الفرارِ، [فلم يَرِثْها] (¬1)؛ لو فَسَختِ المُعْتَقَة نِكاحَها. 2867 - مسألة: (وإن خلَّف زوجاتٍ نِكاحُ بعضِهِنَّ فاسد أُقْرِعَ بينَهُنَّ، فمَن أصابَتْها القرعةُ فلا ميراثَ لها) قد ذكرنا أنَّ النِّكاحَ الفاسدَ لا يثْبُتُ به التوارثُ بينَ الزوجينِ؛ لأنَّه ليس بنكاحٍ شرعيٍّ. فإذا اشْتَبَهَ مَن نِكاحُها فاسدٌ بمَن نِكاحُها صَحيحٌ، فقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يدُلُّ على أنَّه يُقْرَعُ بينَهما في الميراثِ إذَا ماتَ عنهما. ذَكرَه أبو بكرٍ. فمَن خرجَتْ في القُرْعَةُ فلا ميراثَ لها. وكذلك لو طَلَّقَ واحدةً مِن نسائِه وأُنْسِيَها؛ لأنَّه اشْتَبَهَ المُسْتَحِقُّ بغيرِه، فوجَبَ المصيرُ إلى القُرعةِ، كما لو أعْتَقَ في مرَضِه عبيدًا فلم يخْرُجْ مِن الثُّلُثِ إلَّا أحدُهم. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وقد ذَكَرنا ذلك فيما قبلَ هذا البابِ، والاخْتِلافَ فيه والتَّفْريعَ عليه. ¬

(¬1) سقط من: م.

2868 - مسألة: (إذا طلق أربع نسوة في مرضه فانقضت عدتهن، ثم تزوج أربعا سواهن، فالميراث للزوجات. وعنه، أنه بين الثمان)

وَإذَا طَلَّقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ في مَرَضِهِ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، وَتَزَوَّجَ أرْبَعًا سِوَاهُنَّ، فَالْمِيرَاثُ لِلزَّوْجَاتِ. وَعَنْهُ، أنَّهُ بَينَ الثَّمَانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2868 - مسألة: (إذا طَلَّقَ أرْبَعَ نِسوةٍ في مرَضِه فانقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، ثم تَزَوَّجَ أربعًا سواهُنَّ، فالميراثُ للزوجاتِ. وعنه، أنَّه بينَ الثَّمانِ) وجملةُ ذلك، أنَّ المريضَ إذا طَلَّقَ امرأتَه، ثم نَكَحَ أُخْرى، ثم مات، لم يخْلُ مِن حالينِ؛ أحدُهما، أن يموتَ في عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ، فتَرِثاه جميعًا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وأهلِ العراقِ، وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والقولُ الآخرُ، لا تَرِثُ المبتوتَةُ، فيكونُ الميراثُ كُلُّه للثانيةِ. وقال مالكٌ: الميراثُ كُلُّه للمطَلَّقَةِ. لأنَّ نِكاحَ المريضِ عندَه غيرُ صحيحٍ. وذكره بعضُ أصحابِنا وجهًا في المذهبِ؛ لأنَّها تَرِثُ منه ما كانت تَرِثُ قبلَ طَلاقِها، وهو جميعُ الميراثِ، فكذلك بعدَه. وليس هذا صحيحًا؛ فإنَّها إنَّما تَرِثُ ما كانت تَرِثُ لو لم يُطَلقْها، ولو تَزَوَّجَ عليها ولم يُطَلِّقْها لم تَرِثْ إلَّا نِصفَ ميراثِ الزوجاتِ، فكذلك إذا طلَّقَها. فعلى هذا، لو تَزَوَّجَ ثلاثًا في مرَضِه، فليس للمُطَلَّقَةِ إلَّا رُبْعُ ميراثِ الزوجاتِ، ولكُلِّ واحدةٍ مِن الزوجاتِ رُبْعُه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالُ الثاني، أن يموتَ بعدَ انْقِضاءِ عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ، فيكونَ الميراثُ كُلُّه للزوجاتِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابِه. وفي الرِّوايَةِ الأُخْرى، الميراثُ للأرْبَعِ، كما لو مات في عِدَّةِ المُطَلَّقةِ. وعندَ مالكٍ، الميراثُ كُلُّه للمُطَلَّقةِ. فإن كان له أرْبَعُ نِسوةٍ فطَلَّقَ إحْداهُنَّ ثلاثًا في مرَضِه، ثم نَكَحَ أُخْرى في عِدَّةِ المُطَلَّقةِ، أو طَلَّق امرأةً واحدةً ونَكَح أخْتَها في عِدَّتِها ومات في عِدَّتِها فالنِّكاحُ باطِلٌ، والميراثُ بينَ المُطَلَّقةِ وباقي الزَّوجاتِ الأوائِلِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. وقال الشافعيُّ: النِّكاحُ صَحيحٌ، والميراثُ للجديدَةِ مع باقِي المنْكوحاتِ دُونَ المُطَلَّقةِ. ويَجِئُ على قولِه القديمِ وجْهان؛ أحدُهما، أن يكونَ الميراثُ بينَ المُطَلَّقةِ وباقي الزوجاتِ كقولِ الجُمْهورِ، ولا شيءَ للمنكوحَةِ. والثاني، أن يكونَ بينَهُنَّ علَى خَمْسةٍ، لكُلِّ واحِدةٍ خُمْسُه (¬1). فإن مات بعدَ انقضاءِ عِدَّةِ المُطَلَّقةِ، ففي مِيراثِها رِوايَتان؛ إحداهما، لا مِيراثَ لها، فيكونُ الميراثُ لباقي الزوجاتِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأهلِ العراقِ. والثانيةُ، تَرِثُ معَهُنَّ، ولا شيءَ للمنكوحةِ. وعندَ الشافعيِّ، الميراثُ للمنكوحاتِ، ولا شيءَ للمُطَلَّقةِ. فإن تَزَوَّجَ ¬

(¬1) في م: «خمسة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامسةَ بعدَ انقضاءِ عِدَّةِ المُطَلَّقةِ صَحَّ نِكاحُها. وهل تَرِثُ المطلقةُ؟ على روايتين؛ إحداهما، لا تَرِثُ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّه قال: يلزمُ مَن قال: يصِحُّ النِكاحُ في العِدَّةِ. أن يَرِثَ ثَمانِ نسْوةٍ، وأن تَرِثَه أُخْتان، فيكونُ مسلمٌ يَرِثُه ثمانٍ وأُخْتان. وتَوْرِيثُ المُطلَّقاتِ بعدَ العِدَّةِ يَلْزَمُ منه (¬1) هذا، أو حِرْمانُ الزوجاتِ، المَنْصُوصِ على مِيراثِهِنَّ، فيكونُ مُنْكِرًا له غيرَ قائلٍ به. فعسى هذا، يكونُ الميراثُ للزوجاتِ دُونَ المُطَلَّقةِ. والروايَةُ الثانيةُ، تَرِثُ المُطَلَّقةُ. فيُخرَّجُ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يكونُ الميراثُ بينَ الخَمْسِ. والثَّاني، يكونُ للمُطَلَّقةِ والمَنْكُوحاتِ الأوائل دُونَ الجَديدةِ؛ لأنَّ المريضَ ممنوعٌ مِن أن يَحْرِمَهُنَّ ميراثَهُنَّ بالطَّلاقِ، فكذلك يُمْنَعُ مِن تَنْقيصِهنَّ منه. قال شيخُنا (¬2): وكِلَا الوجْهَين بعيدٌ؛ أمَّا أحدُهما فيَرُدُّه نصُّ الكتاب على تَوْرِيثِ الزوجاتِ، فلا تجوزُ مخالفَتُه بغيرِ نَصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ على صورةٍ مخصوصةٍ مِن النَّصِّ في مَعْناه، وأمَّا ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في: المغني 9/ 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرُ، فلأَنَّ اللهَ لم يُبِحْ نِكاحَ أكثَرَ مِن أرْبَعٍ، ولا الجَمْعَ بينَ الأُخْتَين، فلا يجوزُ أن يجْتَمِعْنَ في مِيراثِه بالزوجِيَّةِ. وعلى هذا، لو طَلَّقَ أربعًا في مَرضِه وانْقَضت عِدَّتُهنَّ، ونَكَحِ أربعًا سِواهُنَّ، ثم مات مِن مَرَضِه، فعلى القَولِ الأوَّلِ، وهو المخْتارُ، ترِثُه المنكوحات خاصةً. وعلى الثاني، يكونُ فيه وَجْهانِ، أحدُهما، أنَّه بينَ الثمانِ. والثَّاني، أنَّ الميراثَ كُلَّه للمُطَلَّقاتِ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ نِكاحَ المُتَجَدِّداتِ غيرُ صحيحٍ عندَه. وإن صَحَّ مِن مرَضِه، ثم تَزَوَّجَ أربعًا في صِحَّتِه ثم مات، فالميراثُ لهُنَّ في قولِ الجمهورِ، ولا شيءَ للمُطَلَّقاتِ، إلا في قولِ مالكٍ ومَن وافَقَه. وكذلك إن تَزوَّجَتِ المُطَلَّقاتُ، لم يَرِثْنَ إلَّا في قول مالكٍ ومَن وافَقَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو طَلَّقَ أرْبعًا بعدَ دُخُولِه بهِنَّ في مرَضِه، وقال: قد أخْبَرْنَنِي بانْقِضاءِ عِدَّتِهِنَّ. وكَذَّبْنَه، فله أنا يَنْكِحَ أرْبعًا سِواهُنَّ إذا كان ذلك في مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضاءُ العِدَّةِ فيها، ولا يُقْبَلُ قولُه عليهِنَّ في حِرْمانِ الميراثِ. وهذا قولُ أبِي حنيفةَ، وأبي يوسفَ، واللُّؤْلُؤِيِّ، إذا كان بعدَ أرْبَعةِ أشْهُرٍ. وقال زُفَرُ: لا يجوزُ له التَّزْويجُ أيضًا. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ هذا حُكْمٌ فيما بَينَه وبينَ اللهِ تعالى لا حَقَّ لهُنَّ فيه، فقُبِلَ قولُه فيه. فعلى هذا، إن تَزَوَّجَ أرْبعًا في عَقْدٍ واحدٍ ثم مات، وَرِثَه المُطَلَّقاتُ دُونَ المَنْكوحاتِ، إلَّا أن يَمُتْنَ قبلَه، فيكونَ الميراثُ للمنكوحاتِ. وإن أقْرَرْنَ بانْقِضاءِ عِدَّتِهِنَّ، وقلنا: لا ميراثَ لهُنَّ بعد انْقِضاءِ العِدَّةِ. فالميراثُ للمَنْكوحاتِ أيضًا. وإن مات منهُنَّ ثلاثٌ، فالميراثُ للباقِيَةِ. وإن ماتت منهُنَّ واحدةٌ ومِن المنكوحاتِ واحدةٌ أو اثنتان، أو مات مِن المُطَلَّقاتِ اثنتان ومِن المنكوحاتِ واحدةٌ، فالميراثُ لباقي المُطَلَّقاتِ. وإن مات مِن المُطَلَّقاتِ واحدةٌ ومِن المنكوحاتِ ثلاثةٌ، أو من المُطَلَّقاتِ اثنتان ومِن المنكوحاتِ اثنتانْ، أو مِن المطلقاتِ ثلاثٌ ومِن المنكوحاتِ واحدةٌ، فالميراثُ بينَ البواقي مِن المطلقاتِ والمنكوحاتِ معًا؛ لأنَّه لو اسْتَأْنَفَ العَقْدَ على الباقياتِ مِن الجميعِ جاز وكان صحيحًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تَزَوَّجَ المَنْكوحاتِ في أَربَعِة عُقودٍ، فمات مِن المُطَلَّقاتِ واحدةٌ، وَرِثَ مكانَها الأُولَى مِن المنكوحاتِ. وإن مات اثنتان وَرِثَتِ الأُولَى والثَّانِيةُ. وإن مات ثلاثٌ وَرِثَتِ الأُولَى والثانيةُ والثالثةُ مِن المنكوحاتِ، مع مَن بَقِيَ مِن المطلقاتِ. وهذا على قياسِ قولِ أبي حنيفةَ، وأبي يوسفَ، واللُّؤْلُؤِيِّ فأما زُفَرُ، فلا يَرَى صِحَّةَ نِكاحِ المنكوحاتِ حتى يُصَدِّقَه المُطَلَّقاتُ. وأما الشافعيُّ، فيُباحُ عندَه التَّزْويجُ في عِدَّةِ المطلقاتِ. فعلَى قولِه، إذا طَلَّقَ أرْبعًا، ونَكَحَ أرْبعًا في عَقْدٍ أو عُقودٍ، ثم مات مِن مَرَضِه، فالميراثُ للمَنْكوحاتِ. وعلى قولِه القديمِ يُخَرَّجُ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، أنَّ الميراثَ بينَ الثَّمانِ. وعلى الثاني، هو للمطلقاتِ خاصةً. وإن مات بعضُ المطلقات أو انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، فللمَنْكوحاتِ ميراثُ الميِّتاتِ. وإن ماتت وَاحدةٌ فللزَّوجاتِ رُبْعُ ميراثِ النِّساءِ. وإن مات اثنتان فللزوجاتِ نِصْفُ الميراثِ. وإن مات ثَلاثٌ فلهُنَّ ثلاثةُ أرباعِه إن كان نِكاحُهُنَّ في عَقْدٍ واحدٍ وإن كان في عُقُودٍ مُتَفَرِّقةٍ، فإذا ماتت مِن المُطَلَّقاتِ واحدةٌ فميراثُها للأولَى مِن المنكوحاتِ، وميراثُ الثانيةِ للثانيةِ، وميراثُ الثالثةِ للثالثةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال الرجلُ لنِسائِه: إحداكُنَّ طالِقٌ. يعني واحدةً بعَينِها، طَلُقَتْ وحدَها، ويُرْجَعُ إلى تَعيِينِه، ويُؤْخَذُ بنَفَقَتِهِنَّ كُلِّهِنَّ إلى أن يُعَيِّنَ. وإن كان الطلاقُ بائنًا مُنِع منهنَّ إلى أن يُعَيِّنَ. فإن قال: أرَدْتُ هذه. طَلُقَتْ وحدَها. وإن قال: لم أُرِدْ هؤلاءِ الثلاثَ. طَلُقَتِ الرابعةُ. فإن عاد فقال: أخطأتُ، إنَّما أرَدْتُ هذه. طَلُقتِ الأُخْرَى. وإن مِتْنَ أو إحْداهنَّ قَبْلَ أن يُبَيِّنَ رُجِعَ إلى قولِه، فمَن أقَرَّ بطَلاقِها حَرَمْناه مِيراثَها وأحْلَفْناه لوَرَثةِ مَن لم يُعَيِّنْها. وهذا قولُ الشافِعيِّ. وإن لم يُعَيِّنْ بذلك واحدةً بعَينِها أو مات قبلَ التَّعْيِينِ، أُخْرِجَتْ بالقُرْعَةِ. وكذلك إن طَلَّقَ واحدةً مِن نسائِه بعَينِها وأُنْسِيَها فماتَتْ، أُخْرِجَتْ بالقُرعَةِ، فمَن تَقَعُ علَيها القرعَةُ فلا مِيراثَ لها. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. وهو قولُ أبي ثورٍ. وروَى عطاءٌ عن ابنِ عباس، أنَّ رجلًا سألَه فقال: إنَّ لي ثَلاثَ نِسْوةٍ، وإنِّي طَلَّقْتُ إحْداهُنَّ فبتَتُّ طَلاقَها. فقال ابنُ عباسٍ: إن كنتَ نَويتَ واحدةً بعَينِها ثم أُنْسِيتَها فقد اشْتَرَكْنَ في الطلاقِ، وإن لم تكُنْ واحدةً بعَينِها طَلِّقْ أَيَتهنَّ شِئْتَ. وقال الشافعيُّ. وأهلُ العراقِ: يُرْجَعُ إلى تَعْيينِه في المسائِل كُلِّها. فإن وَطِئَ إحْداهُنَّ كان تَعْيِينًا لها بالنِّكاحِ، في قولِ أهلِ العراقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال الشافِعيُّ: لا يكونُ تَعْيينًا. فإن مات قبلَ أن تَتَبَيَّنَ، فالميراثُ بينَهُنَّ كُلِّهنَّ في قولِ أهلِ العراقِ. وقال مالكٌ: يَطْلُقْنَ كُلُّهُنَّ، ولا ميراثَ لهُنَّ. وقال الشافعيُّ: يُوقَفُ مِيراثُهنَّ، وإن كان الطَّلاقُ قبلَ الدُّخولِ دُفِعَ إلى كلِّ واحدةٍ نِصْفُ مهرٍ، وَوُقِفَ الباقي مِن مُهورِهنَّ. وقال داودُ: يَبْطُلُ حُكْمُ طلَاقِهِنَّ؛ لموْضِعِ الجَهالةِ، ولكُلِّ واحدةٍ مهرٌ كاملٌ، والميراثُ بَينَهُنَّ. وإن مِتْنَ قبلَه طَلُقَتِ الأخيرَةُ، في قولِ أهلِ العراقِ. وقال الشافعيُّ: يُرْجَعُ إلى تعْيينِه. على ما ذكرنا. ولَنا، قولُ عليٍّ (¬1)، رضي اللهُ عنه، ولا يُعارِضُه قولُ ابنِ عباسٍ؛ لأنَّ ابنَ عباس يَعْتَرِفُ لعليٍّ بتَقْديمِ قولِه؛ فإنَّه قال: إذا ثَبَت لنا عن عليٍّ قولٌ لم نَعْدُه إلى غيرِه. وقال: ما عِلْمِي إلى عِلْمِ عليٍّ إلَّا كالقَرارةِ إلى الْمُثْعَنْجَرِ (¬2). ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ عن الآدَمِيِّ، فتُسْتَعْمَلُ فيه القُرْعَةُ عندَ الاشْتِباهِ، كالعِتْقِ، وقد ثَبَت هذا في العِتْقِ بخَبَرِ عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ (¬3). ولأنَّ الحُقوقَ تَساوتْ على وجهٍ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ المسْتَحِقِّ فيه مِن غير قُرْعةٍ، فيَنْبَغِي أن تُسْتَعْملَ فيه القُرْعةُ، كالسَّفَرِ والقِسْمةِ بينَ ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) القرارة: الغدير الصغير، والمثعنجر: أكثر موضع في البحر ماء. النهاية في غريب الحديث والأثر. 1/ 212. (¬3) تقدم تخريجه في 17/ 124.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّساءِ. فأمَّا قَسْمُ الميراثِ بينَ الجميعِ، ففيه دَفْعٌ إلى إحْداهُنَّ ما لا تَسْتَحِقُّه، وتَنْقِيصُ بعضِهنَّ حَقًّا يَقينًا، والوَقْفُ إلى غيرِ غايةٍ تَضْييعٌ لحُقُوقِهِنَّ، وحِرْمانُ الجميعِ مَنْعُ الحَقِّ عن صاحِبه يقينًا. فصل: ولو كان له امْرأتان، فطَلَّقَ إحْداهُما، [ثم ماتت إحداهما، ثم مات] (¬1)، أُقْرِعَ بَينَهما، فمن وقَعَتْ عليها قُرْعَةُ الطَّلاقِ لم يَرِثْها إن كانتِ الميِّتةَ، ولم تَرِثْه إن كانتِ الأُخْرَى. وفي قولِ أهلِ العراقِ، يَرِثُ الأُولَى ولا تَرِثُه الأُخْرى. وللشافعيِّ قولان، أحدُهما، يُرْجَعُ إلى تَعْيين الوارثِ، فإن قال: طَلَّقَ الميِّتَةَ. لم يَرِثْها ووَرِثَتْه الحيَّةُ، وإن قال: طَلَّقَ الحيَّةَ. حَلَف علَى ذلك وأخَذَ مِيراثَ الميِّتَةِ ولم تُوَرَّثِ الحيَّةُ. والقولُ الثاني، يُوقَفُ مِن مالِ الميِّتَةِ ميراثُ الزوجِ ومِن مالِ الزوجِ ميراثُ الحيَّةِ. وإن كان له امرأتان قد دَخَل بإحْداهُما دُونَ الأُخْرَى، فطَلَّقَ إحْداهُما لا بعَينِها، فمَن خَرَجَتْ لَها القُرْعَةُ فلها حُكْمُ الطَّلاقِ وللأُخْرَى حُكمُ الزوجيَّةِ. وقال أهلُ العراقِ: للمَدْخُولِ بها ثَلاثةُ أرباعَ الميراثِ إن مات في عِدَّتِها، وللأُخْرَى رُبْعُه؛ لأنَّ للمَدْخولِ بها نِصْفَه بيَقِينٍ، والنِّصفُ الآخَرُ يَتَداعَيانِه، فيكونُ بَينَهما. وفي قولِ الشافِعيِّ، النِّصفُ للمَدْخولِ بها والباقي مَوقوفٌ. وإن كانتا مَدْخولًا بهما، فقال في مَرضِه: أرَدْتُ هذه. ثم مات في عِدَّتِها، لم يُقْبَلْ قولُه، لأنَّ الإِقْرارَ بالطَّلاقِ في المرضِ كالطَّلاقِ فيه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وأبي يوسفَ. وقال زُفَرُ: يُقْبَلُ ¬

(¬1) في الأصل: «ثم مات ثم ماتت إحداهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُه، والميراثُ للأُخْرَى. وهو قياسُ قولِ الشافِعيِّ. ولو كان للمَريض امرأةٌ أُخْرى سِوَى هاتَين فلها نِصْفُ الميراثِ وللاثْنَتَين نِصفُه. وعندَ الشافعيِّ، يُوقفُ نِصْفُه. فصل: ولو كان له أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فطَلَّقَ إحْداهُنَّ غيرَ مُعَيَّنَةٍ، ثم نَكَحَ خامسةً بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها، ثم مات ولم يُبَيِّنْ، فللخامسةِ رُبْعُ المِيراثِ والمَهْرُ، ويُقْرَعُ بينَ الأرْبَعِ. وقال أهلُ العراقِ: لهُنَّ ثلاثةُ أرْباعِ الميراثِ بَينهنَّ، وإن كُنَّ غيرَ مدخولٍ بهِنَّ فلهُنَّ ثلاثةُ مهورٍ ونِصْفٌ. وفي قولِ الشافعيِّ، يُوقَفُ ثلاتةُ أرباعِ الميراثِ ومهرٌ ونِصفٌ بينَ الأرْبَعِ، فإن جاءت واحدة تَطْلُبُ مِيراثَها لم تُعْطَ شيئًا. وإن طَلَبَه اثْنتانِ دُفِعَ إليهما رُبْعُ الميراثِ، وإن طلبَه ثلاث دُفِعَ إليهنَّ نِصْفُه، وإن طلبَه الأرْبَعُ دُفِعَ إليهنَّ. ولو قال بعد نِكاحِ الخامسةِ: إحْداكُنَّ طَالِقٌ. فعلَى قولِهم، للخامسةِ رُبْعُ المِيراثِ؛ لأنَّها شَرِيكةُ ثلاثٍ، وباقِيه بينَ الأرْبَعِ كالأُولَى، وللخامسةِ سَبْعةُ أثمانِ مَهْرٍ؛ لأنَّ الطَّلاقَ نَقَصَها وثَلاثًا (¬1) معها نِصْفَ مَهْرٍ، ويَبْقَى للأربعِ ثلاثةُ مُهورٍ وثُمْنٌ بَينَهنَّ، في قولِ أهلِ العراقِ. فإن تَزَوَّجَ بعدَ ذلك سادِسةً فلها رُبْعُ الميراثِ ومَهْرٌ كامِلٌ، وللخامِسَةِ رُبْعُ ما بَقِيَ وسَبْعَةُ أثْمانِ مَهْرٍ، وللأرْبَعِ رُبْعُ ما بَقِيَ وثلاثةُ مُهُورٍ وثُمْنٌ، ويكونُ الرُّبْعُ مَقْسومًا على أرْبَعَةٍ وسِتِّينَ. فإن قال بعدَ ذلك: إحداكُنَّ طَالِقٌ. لم يَخْتَلِفِ الميراثُ، ولكنْ تَخْتَلِفُ المهُورُ، فللسَّادسةِ سَبْعةُ أثْمانِ ¬

(¬1) في م: «ثلثًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْرٍ، وللخامسةِ خَمْسةٌ وعشرون جزءًا مِن اثنين وثلاثينَ جزءًا مِن مَهْرٍ، ويَبْقَى للأربعِ مَهْران وسبعةٌ وعشرون جزءًا مِن مَهْرٍ. وعندَ الشافعيِّ يُوقَفُ رُبْعُ الميراثِ بينَ السِّتِّ وربْعٌ آخرُ بينَ الخمسِ وباقِيه بينَ الأرْبعِ، ويُوقَفُ نِصفُ مَهْرٍ بينَ السِّتِّ ونصفٌ بيتَ الخَمْسِ ونصفٌ بينَ الأرْبعِ، ويُدْفَعُ إلى كلِّ واحدةٍ نِصفٌ (¬1). فصل في الاشْتِراكِ في الطُّهْرِ: إذا وَطِئَ رجلان امرأةً في طُهْرٍ واحدٍ وَطْأً يَلْحَق النَّسَبُ مِن مثْلِه، فأتتْ بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكُونَ منهما، كأن يَطأَ الشريكان جارِيَتَهُما المشْتَرَكَةَ، أو يَطَأَ الإِنسانُ جارِيتَه ثم يَبِيعَها قبلَ أن يَسْتَبْرِئَها فيَطَأَها المُشْتَرِي قبلَ اسْتِبْرائِها، أو يَطأها رجلان بشُبْهَةٍ، أو يُطَلِّقَ رجلٌ امرأتَه فيَتَزَوَّجَها رجلٌ في عِدَّتِها ويَطأها، أو يَطَأَ إنسانٌ جارِيَةَ آخَرَ أو امَرأتَه بشُبْهةٍ في الطُّهْرِ الذي وَطِئَها سيِّدُها أو زوجُها فيه ثم تَأْتِي بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ مِنْهُما، فإنَّه يُرَى القافةَ معهما. وهذا قولُ عطاءٍ، ومالكٍ، واللَّيثِ، والأوْزَاعِيِّ، والشافعيِّ، ([وأبي ثورٍ] (¬2). فإن ألْحَقَتْه بأحدِهما لَحِقَ به، وإن نَفَتْه عن أحدِهما لَحِقَ الآخرَ. وسواءٌ ادَّعَياه أو لم يَدَّعِياه، أو ادَّعاه أحدُهما وأنْكَره الآخَرُ. وإن ألحقَتْه القافةُ بهما، لَحِقَ بهما وَكان ابْنَهُما. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبي ثَوْرٍ. ورَواه بعضُ أصحابِ مالكٍ عنه، وعن مالكٍ: ¬

(¬1) في م: «نصيب». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُرَى ولدُ الحُرَّةِ للقافةِ، بل يكونُ لصاحبِ الفِراشِ الصَّحِيحِ دُونَ الوَاطِئِ بشُبْهةٍ. وقال الشافِعيُّ: لا يُلْحَقُ بأكثرَ مِن واحدٍ، وَإن ألحقَتْه القافةُ بأكَثرَ مِن واحدٍ كان بمَنْزِلَةِ ما لم يُوجَدْ قافةٌ. ومتى لم يُوجَدْ قافةٌ أو أُشْكِلَ عليها أو اخْتَلَفَ القائفان في نَسَبِه، فقال أبو بكرٍ: يَضِيعُ نَسَبُه، ولا حُكْمَ لاخْتيارِه، ويَبْقَى على الجَهالةِ أبدًا. وهو قولُ مالكٍ. وقال ابنُ حامدٍ: يُتْركُ حتى يَبْلُغَ فيَنْتَسِبَ إلى أحدِهما. وهو قولُ الشافِعيِّ (¬1) الجديدُ. وقال في القديم: يُتْرَكُ حتى يُمَيِّزَ -وذلك لسَبْعٍ أو ثَمانٍ- فيَنْتَسِبَ إلى أحدِهما، ونفَقَتُه عليهما إلى أن يَنْتَسِبَ إلى أحدِهما، فيَرْجِعُ الآخرُ عليه بما أنْفَقَ. وإذا ادَّعَى اللَّقيطَ اثنانِ أُرِيَ القافةَ معهما. وإن مات الولدُ المُدَّعَى في هذه المواضِعِ قبلَ أن يُرَى القافةَ، وله ولدٌ، أُرِيَ ولدُه القافةَ مع المُدَّعِينَ. ولو مات الرجلانِ أُرِيَ القافةَ مع عَصَبَتِهما. فإنِ ادَّعاه أكثرُ مِن اثْنَين فألحقَتْه القافةُ بهم، لَحِقَ. ونصَّ أحمدُ على أنَّه يُلْحَقُ بثلاثةٍ، ومُقْتَضَى هذا أنَّه يُلْحَقُ بهم وإن كَثُرُوا. وقال القاضي: لا يُلْحَقُ بأكثرَ مِن ثلاثةٍ. وهو قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. ورُوِيَ عن (¬2) أبي يوسفَ. وقال ابنُ حامدٍ: لا يُلْحَقُ بأكْثَرَ مِن اثْنَين. ورُوِيَ أيضًا عن أبي يوسفَ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه، وشَرِيكٌ، ويحيى بنُ آدمَ: لا حُكْمَ للقافةِ، ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) بعده في م: «أبي ثورو».

2869 - مسألة: إذا ألحق باثنين، فمات وترك أما حرة، فلها الثلث، والباقي لهما. وإن كان لكل واحد منهما ابن سواه، أو لأحدهما ابنان، فلأمه السدس. وإن مات أحد الأبوين، وله ابن آخر، فماله بينهما نصفين، فإن مات الغلام بعد ذلك، فلأمه السدس والباقي للباقي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بل إذا سَبَق أحدُهما بالدَّعْوَى فهو ابنُه، فإنِ ادَّعَياه معًا فهو ابْنُهما. وكذلك إن كَثُرَ الواطِئُونَ وادَّعَوْه معًا فإنَّه يكونُ لهم حميعًا. ورُوِيَ أيضًا (¬1) عن عليٍّ، رضي اللهُ عنه، أنَّه قَضَى في ذلك بالقُرْعَةِ مع اليَمينِ. وبه قال ابنُ أبي لَيلَى، وإسحاقُ. وعن أحمدَ نحوُه إذا عُدِمَت القافةُ. وقد ذَكَرْنا أكثرَ هذه المسائلِ مَشْرُوحَةً مَدْلُولًا عليها في بابِ اللَّقِيطِ، والغَرَضُ ههُنا ذِكْرُ مِيراثِ المُدَّعَى والتَّوْرِيثِ منه، وبيانُ مسائلِه. 2869 - مسألة: إذا أُلْحِقَ باثْنَين، فمات وتَرَك أُمًّا حرةً، فلها الثُّلُثُ، والباقي لهما. وإن كان لِكُلِّ واحدٍ منهما ابنٌ سواه، أو لأحدِهما ابنان، فلأمِّه السُّدْسُ. وإن مات أحدُ الأبوين، وله ابنٌ آخَرُ، فمالُه بينَهما نِصْفَين، فإن مات الغُلامُ بعدَ ذلك، فلأُمِّهِ السُّدْسُ والباقي للباقي (¬2) مِن أبويه، ولا شيءَ لإِخوتِه؛ لأنَّهما مَحْجوبان بالأبِ الباقي. فإن مات الغُلامُ وتَرَك ابنًا، فللباقي مِن الأبوين السُّدْسُ، والباقي لابنِه. وإن مات قبلَ أبَويهِ وتَرَك ابنًا، فلهما جميعًا السُّدْسُ، والباقي لابنِه. فإن كان لكُلِّ واحدٍ منهما أبوان، ثم ماتا، ثم ماتَ الغُلامُ، وله جَدَّةٌ أمُّ أُمٍّ وابنٌ، فلأُمِّ أُمِّه نِصفُ السُّدْسِ، ولأُمِّي المُدَّعِيَين نِصفُه، كأنَّهما جَدَّةٌ واحدةٌ، وللجَدَّين السُّدْسُ، والباقي للابنِ، فإن لم يكنِ ابنٌ، فللجَدَّين الثُّلُثُ؛ لأنَّهما بمنزِلةِ جَدٍّ واحدٍ، والباقي للأخَوَين. وعندَ أبي حنيفةَ، الباقي كُلُّه للجَدَّين؛ لأنَّ الجَدَّ يُسْقِطُ الإِخْوَةَ. وإن كان المُدَّعِيان أخَوَين، ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في الأصل: «لأبيه للباقي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُدَّعَى جارِيَةً، فماتا وخَلَّفا أباهما، فلها مِن مالِ كلِّ واحدٍ نِصْفُه، والباقي للأَب. فإن مات الأبُ بعدَ ذلك فلها النِّصْفُ؛ لأنَّها بنتُ ابنٍ. وحَكَى الخَبْرِيُّ عن أحمدَ، وزُفَرَ، وابنِ أبي زائدةَ (¬1)، أنَّ لها الثُّلُثَين؛ لأنَّها بنتُ ابْنَيه (¬2)، فلها ميراثُ بنْتَي ابنٍ. وإن كان المُدَّعِي ابنًا، فمات أَبَواهُ، ولأحدِهما بنتٌ، ثم مات أبوهُما، فمِيراثُه بينَ الغلامِ والبنتِ على ثلاثةٍ. وعلى القولِ الآخَرِ، على خمسةٍ؛ لأنَّ الغلامَ يضْرِبُ بنَصيبِ ابْنَي ابْنٍ. فإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بنتٌ، فللغُلامِ مِنِ مالِ كلِّ واحدٍ منهما ثُلُثاه، وله مِن مالِ جَدِّه نِصْفُه. وعلى القولِ الآخرِ، له ثُلُثاه، ولهما سُدْساه. وإن كان المُدَّعِيان رَجُلًا وعَمَّه (¬3)، والمُدَّعَى جارِيةً، فماتا وخَلَّفَا أبَوَيهما، ثم مات أبو الأصْغَرِ، فلها النِّصْفُ والباقي لأبي العَمِّ؛ لأنَّه أبوه. وإذا مات أبو العَمِّ، فلها النِّصْفُ مِن مالِه أيضًا. وعلى القولِ الآخَرِ، لها الثُّلُثان؛ لأنَّها بنْتُ ابنٍ وبنتُ ابنِ ابنٍ. وإن كان المُدَّعِي رجلًا وابنَه، فمات الابنُ، فلها نِصْفُ مالِه. وإذا مات الأبُ فلها النِّصفُ أيضًا. وعلى القولِ الآخرِ، لها الثُّلُثان. وقال أبو حنيفةَ: إذا تَداعَى الأبُ وابنُه، قُدِّمَ الأبُ، ولم يكنْ للابنِ شيءٌ. وإن مات الأبُ أولًا، فمالُه بَينَ ابنِه (¬4) ¬

(¬1) يحيى بن زكريا بن خالد (أبي زائدة) الهمداني الوادعي مولاهم الحنفي، أفقه أهل الكوفة في زمانه، توفي سنة اثنتين، وقيل: ثلاث ومائتين. الجواهر المضية 3/ 585، 586. (¬2) في م: «ابنته». (¬3) في م: «عمة». (¬4) في النسختين: «أبيه». وانظر المغني 9/ 210.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَينَها (¬1) على ثلاثةٍ، وتَأْخُذُ نِصْفَ مالِ الأصْغَرِ؛ لكونِها بنتَه، وباقيَه (¬2) لكونِها أخْتَه. وفي كُلِّ ذلك إذا لم يَثْبُتْ نَسَبُ المُدَّعَى وُقِفً نَصِيبُه، ودُفِعَ إلى كُلِّ وارثٍ اليَقِينُ، ووُقِفَ الباقي حتى يَثْبُتَ نَسَبُه أو يصْطَلِحُوا. فصل: وإذا كان المُدَّعُون ثلاثةً، فمات أحَدُهم وتَرَك ابنًا وألْفًا، ثم مات الثاني وتَرَك ابنًا وألْفَين، ثم مات الثالثُ وتَرَك ابنًا وعشرين ألْفًا، ثم مات الغُلامُ وترك أرْبَعةَ آلافٍ وأُمَّا حرةً، وقد ألْحَقَتْه القافةُ بهم، فقد تَرَك خمسةَ عَشَرَ ألْفًا وخَمْسَمائةٍ، فالأُمِّه سُدْسُها، والباقي بينَ إخْوتِه الثَّلاثةِ أثْلاثًا. وإن كان مَوْتُهم قبلَ ثُبُوتِ نَسَبِه، دُفِعَ إلى الأُمِّ ثُلُثُ تَرِكَتِه، وهو ألْفٌ وخَمْسُمائةٍ؛ لأنَّ أدْنَى الأحْوالِ أن يكونَ ابنَ صاحبِ الألْفِ، فيَرِثُ منه خَمْسَمائةٍ، وقد كان وُقِفَ له مِن مالِ كُلِّ واحدٍ مِن المُدَّعِين (¬3) نِصْفُ مالِه، فيُرَدُّ إلى ابنِ صاحبِ الألْفِ وابنِ صاحبِ الألْفَين ما وُقِفَ مِن مالِ أبَوَيهما؛ لأنَّه إن لم يكنْ أخًا لهما فذلك لهما مِن مالِ أبوَيهِما، وإن كان أخًا أحدِهما، فهو يَسْتَحِقُّ ذلك وأكثرَ منه بإرْثِه منه، ويُرَدُّ على ابنَ الثالثِ تِسْعَةُ آلافٍ وثُلُثُ ألفٍ، ويَبْقَى ثُلُثا ألفٍ مَوْقُوفَةً بينَه وبينَ الأُمِّ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ أخاه (¬4)، فيكونُ قد مات عن أربعةَ ¬

(¬1) في م: «بينهما». (¬2) في م: «الباقي». (¬3) في م: «المدعيين». (¬4) في م: «أخا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عشَرَ ألفًا؛ لأُمِّه ثُلُثُها، ويَبْقَى مِن مالِ الابن ألفان وخَمْسُمائةٍ مَوْقوفةٌ يَدَّعِيها ابنُ صاحبِ الألْفِ كلَّها، ويَدَّعِي منها ابنُ صاحبِ الألْفَين ألْفَين وثُلُثًا، فيكونُ ذلك موقوفًا بينَهما وبينَ الأُمِّ، وسُدْسُ الألْفِ بينَ الأُمِّ وابنِ صاحبِ الألْفِ. فإنِ ادَّعَى أخَوان ابنًا ولهما أبٌ، فمات أحَدُهما وخَلَّفَ بنتًا، ثم مات الآخَرُ قبلَ ثُبوتِ نَسَبِ المُدَّعَى، وُقِفَ مِن مالِ الأوَّلِ خَمْسةُ أتْساعِه، منها تُسْعان بينَ الغلامِ والبنتِ، وثلاثةُ أتْساعٍ بينَه وبينَ الأب، ويُوقَفُ مِن مالِ الثاني خمسةُ أسْداس بينَه وبينَ الأبِ، فإن مات الأَبُ بعدَهما وخَلَّفَ بنتًا، فلها نصفُ مالِه ونصف ما وَرِثَه عن ابنَتِه، والباقي بينَ الغلامِ وبنتِ الابنِ؛ لأنَّه ابنُ ابنِه بيَقينٍ، ويُدْفَعُ إلى كُلِّ واحدٍ منهم مِن الموْقوفِ اليقينُ، فتُقَدِّرُه مَرَّةً ابنَ صاحبِ البنتِ، ومرةً ابنَ الآخرِ، وتَنْظُرُ ما لَه مِن كلِّ واحدٍ منهم في الحالين فتُعْطِيه أقَلَّهما، فللغُلامِ في حالٍ كُلُّ المَوْقوفِ مِن مالِ الثاني وخُمْسُ المَوْقُوفِ مِن مالِ الأوَّلِ، وفي حالٍ كُلُّ الموقوفِ مِن مالِ الأوَّلِ وثُلُثُ المَوْقوفِ مِن مالِ (¬1) الثاني، فله أُقلُّهما، ولبنتِ الميِّتِ الأوَّلِ في حالٍ النِّصْفُ مِن مالِ أبيها، وفي حالٍ السُّدْسُ مِن مالِ عمِّها، ولبنتِ الأبِ في حالٍ نِصْفُ المَوْقوفِ مِن مالِ الثاني، وفي حالٍ ثلاثةُ أعْشارٍ مِن مالِ الأولِ، فتَدْفَعُ إليها أقَلَّهما، ويَبْقَى باقي التَّرِكةِ مَوْقوفًا بَينَهم حتى يصْطَلِحُوا عليه. ومِنَ الناسِ مِن يَقْسِمُه بينَهم على حَسَبِ الدَّعاوَى. فإنِ اخْتَلَفَتْ أجْناسُ التَّركةِ، ولم يَصِرْ بعضُها ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِصاصًا عن بعض، قُوِّمَتْ وعُمِلَ في قِيمَتِها ما بَيَّنَّا في الدراهمِ إن تَراضَوْا بذلك، أو يَبِيعُ الحاكِمُ عليهم ليَصِيرَ الحقُّ كُلُّه مِن جنْس واحدٍ؛ لما فيه مِن الصَّلاحِ لهم، ويُوقَفُ الفَضْلُ المشكوَكُ فيه على الصُّلْحِ. فصل: ولو ادَّعَى اثنان غلامًا، فألْحقَتْه القافةُ بهما، ثم مات أحدُهما وتَرَك ألفًا وعمًّا وبنتًا، ثم مات الآخَرُ وتَرَك ألْفَين وابنَ ابنٍ، ثم مات الغلامُ وتَرَك ثلاثةَ آلافٍ وأمًّا، كان للبنتِ مِن تَرِكةِ أبيها ثُلُثُها، وللغلامِ ثُلُثاها، وتَرِكةُ الثانِي كلُّها له، لأنَّه ابنُه، فهو أحَقُّ مِن ابنِ الابنِ، ثم مات الغلامُ عن خمسةِ آلافٍ وثُلُثَيْ ألفٍ، فلأُمِّه ثلثُ ذلك، ولأُخْتِه نِصْفُه، وباقِيه لابنِ الابنِ؛ لأنَّه ابنُ أخِيه، ولا شيءَ للعَمِّ. وإن لم يَثْبُتْ نَسَبُه، فلابنِه الأوَّلِ ثُلُثُ الألفِ، ويُوقَفُ ثُلُثاها وجَمِيعُ تَرِكةِ الثاني. فإذا مات الغلامُ، فلأُمِّه مِن تَرِكَتِه ألفٌ وتُسْعَا ألفٍ؛ لأنَّ أقلَّ أحوالِه أن يكونَ ابنَ الأوَّلِ، فيكونَ قد مات عن ثلاثةِ آلافٍ وثُلُثَيْ ألفٍ، ويُرَدُّ المَوْقُوفُ مِن مالِ أبي البِنْتِ على البنتِ والعَمِّ، فيَصْطَلِحانِ عليه؛ لأنه لهما إمَّا عن صاحبِهما أو الغُلامِ، ويُرَدُّ المَوْقُوفُ مِن مالِ الثاني إلى ابنِ ابنِه؛ لأنَّه له إمَّا عن جَدِّه وإمَّا عن عَمِّه، وتُعْطىَ الأُمُّ مِن تَرِكةِ الغلامِ ألفًا وتُسْعَىْ ألفٍ؛ لأنَّها أقلُّ ما لَها، ويَبْقَى ألْفٌ وسَبْعَةُ أتْسَاعِ ألْفٍ، تَدَّعِي منها الأُمُّ أرْبعةَ أتْساعِ ألفٍ، تَمامَ ثُلُثِ خَمْسةِ آلافٍ، ويَدَّعِي منها ابنُ الابْنِ ألفًا وثُلُثًا، تمامَ ثُلُثَيْ خَمْسةِ آلافٍ، وتَدَّعِي البنتُ والعَمُّ جميعَ الباقي، فيكونُ ذلك موقوفًا بَينَهم حتى يَصْطَلِحُوا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان المولودُ في يَدَيِ امْرأتَين وادَّعَتاه معًا، أُرِيَ القافةَ معهما، فإن ألْحَقَتْه بإحداهُما لَحِقَ بها ووَرِثَها، ووَرِثَتْه في إحدى الرِّواياتِ. وإن ألحقتْه بهما، أو نَفَتْه عنهما، لم يُلْحَقْ بواحدةٍ منهما. وإن قامت لكلِّ واحدةٍ منهما بَيِّنَةٌ، تَعارَضَتا، ولم تُسْمَع بَيِّنتُهما. وبه قال أبو يوسفَ، واللُّؤْلُؤِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَثْبُتُ نسَبُه منهما، ويَرِثاه ميراثَ أُمٍّ واحدةٍ، كما يُلْحَقُ برَجُلَين. ولَنا، أنَّ إحدى البَيِّنتَين كاذبةٌ يَقِينًا، فلم تُسْمَعْ، كما لو عُلِمَتْ، ومِن ضَرُرورةِ رَدِّها رَدُّهما؛ لعَدَمِ العلم بعَينِهْا، ولأنَّ هذا مُحالٌ، فلم يثْبُتْ ببَيِّنَةٍ ولا غيرِها، كما لو كان الولدُ أكبرَ منهما. ولو أنَّ امرأةً معها صَبِيٌّ ادَّعاه رَجُلانِ، كلُّ واحدٍ يَزْعُمُ أنَّه ابنُه منها وهي زوجتُه، فكَذَّبَتْهُما، لم يَلْحَقْهُما، وإن صَدَّقَتْ أحَدَهُما، لَحِقَه، كما لو كان بالغًا فادَّعَياه فصَدَّقَ أحَدَهُما. ولو أنَّ صَبِيًّا مع امرأةٍ، فقال زَوْجُها: هو ابنِي مِن غيرِكِ. فقالت: بل هو ابنِي منكَ. لَحِقَهُما جميعا. وقد ذكرنا لَحاقَ النَّسَبِ في هذه المسائلِ والاخْتِلافَ فيه، وإنَّما ذكرناه ههُنا لأجْلِ الميراثِ؛ لأنَّه مبْنِيٌّ عليه. واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ.

باب الإقرار بمشارك في الميراث

بَابُ الإقْرَارِ بِمُشَارِكٍ في الْمِيرَاثِ إِذَا أَقَرَّ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ بِوَارِثٍ لِلْمَيِّتِ فَصَدَّقَهُمْ، أوْ كَانَ صَغِيرًا، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإرْثُهُ، سَواءٌ كَانُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الإِقْرارِ بمُشارِكٍ في الميراثِ (إذا أقَرَّ الورثةُ كُلُّهمْ بوارِثٍ فصَدَّقَهم، أو كان صغيرًا) أو مجنونًا (ثَبَت نَسَبُه وإرْثُه، سواءٌ كان الوَرَثَةُ جماعةً أو واحدًا) ذكرًا أو أُنْثَى. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يوسفَ، وحَكاهُ عن أبي حنيفةَ، لأنَّ الوارثَ يقومُ مَقامَ الميِّتِ في مِيراثِه ودُيونِه، والدُّيونِ التي عليه، وبَيِّناتِه، ودَعاويه، والأيمانِ التي له وعليه، كذلك في النَّسبِ. وقد رَوَتْ عائشةُ، أنَّ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ اخْتَصَمَ هو وعبدُ بنُ زَمْعَةَ في ابنِ أمَةِ زمْعَةَ، فقال سعدٌ: أوْصانِي أخي عُتْبَةُ إذا قَدِمْتُ مكةَ أن أنْظُرَ إلى ابنِ أَمَةِ (¬1) زمعةَ وأقْبِضَه، فإنَّه ابنُه. فقال عبدُ بنُ زَمْعَةَ: أخِي وابنُ وليدةِ أبي، وُلِدَ على فراشِه. ¬

(¬1) سقط من النسختين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هوَ لكَ يا عبدُ بنَ زَمْعَةَ، الولَدُ للفِراشِ، وللعاهِرِ الحَجَرُ». فقضى به لعبدِ بنِ زَمْعَةَ، وقال: «احْتَجِبي مِنْه يا سَوْدَةُ» (¬1). والمشهورُ عن أبي حنيفةَ، أنَّه لا يَثْبُتُ إلَّا بإقرارِ رجلينِ، أو رجل وامرأتين. وقال مالكٌ: لا يَثْبُتُ إلَّا بإقرارِ اثنين؛ لأنَّه يَحْمِلُ النَّسَبَ على غيرِه، فاعْتُبرَ فيه العددُ، كالشَّهادَةِ. والمشهورُ عن أبي يوسفَ، أنَّه لا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا باثنين، ذكرين كانا أو أُنْثَيَين، عَدْلَين أو غَيرِ عَدْلَين. ولَنا، أنَّه حقٌّ يَثْبُتُ بالإِقْرارِ، فلم يُعْتَبَرْ فيه العددُ، كالدَّينِ. ولأنَّه قولٌ لا تُعْتَبَرُ فيه العَدالةُ، فلا يُعْتَبَرُ فيه العددُ، كإقرارِ الموْرُوثِ، واعتبارُه بالشهادةِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يُعْتَبَرُ فيه اللفظُ ولا العدالةُ، ويَبْطُلُ بالإِقرارِ بالدَّينَ. فصل في شروطِ الإِقْرارِ بالنَّسَبِ: لا يَخْلو إمَّا أن يُقِرَّ على نفسِه خاصَّةً، أو عليه وعلى غيرِه، فإن أقَرَّ على نفسِه، مثلَ أن يُقِرَّ بولدٍ، اعْتُبِرَ في ثُبوتِ نسبِهِ أربعةُ شروطٍ؛ أحدُها، أن يكونَ المُقَرُّ به مجهولَ النَّسبِ، فإن كان معروفَ النَّسبِ لم يصِحَّ؛ لأنَّه يَقْطَعُ نَسَبَه الثابتَ مِن غيرِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد لَعَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَن انْتَسبَ إلَى غيرِ أبيه (¬1). والثاني، أن لا يُنازِعَه فيه منازِعٌ؛ لأنَّه إذا نازَعَه فيه غيرُه تَعارَضا، فلم يكنْ إلحاقُه بأحدِهما أوْلَى مِن الآخرِ. الثالثُ، أن يُمْكِنَ صِدْقُه، بأن يكونَ المُقَرُّ به يَحْتَمِلُ أن يُولَدَ لمِثْلِه. الرابعُ، أن يكونَ مِمَّن لا قولَ له، كالصغيرِ والمجنونِ، أو يُصَدِّقَ المُقِرَّ إن كان ذا قولٍ، وهو المُكَلَّفُ، فإن كان غيرَ مُكَلَّفٍ لم يُعْتَبَرْ تصْدِيقُه. فإن كَبِرَ وعَقَل فأنْكَرَ، لم يُسْمَعْ إنكارُه؛ لأنَّ نَسَبَه ثَبَت، وجَرَى مَجْرَى مَن ادَّعَى مِلْكَ عبدٍ صَغيرٍ في يدِه وثَبَت بذلك مِلْكُه فلما كبِر جَحَد ذلك. ولو طَلَب إحْلافَه على ذلك لم يُسْتَحْلَفْ؛ لأنَّ الأبَ لو عاد فجَحَدَ النَّسبَ لم يُقْبَلْ منه. وإنِ اعْتَرَفَ إنسانٌ بأنَّ هذا أبوهُ، فهو كاعتِرافِه بأنَّه ابنُه. فأمَّا إن كان إقرارًا عليه وعلى غيرِه، كإقرارِه بأخٍ، اعْتُبِرَ معَ الشروطِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 351. ويضاف إليه: وأخرجه مسلم، في: باب تحريم تولي العتيق إلى غير مواليه، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1147. وأبو داود، في: باب في الرجل ينتمى إلى غير مواليه، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 624. والترمذي، في: باب ما جاء لا وصية لوارث، من أبواب الوصايا، وفي: باب ما جاء في من تولي غير مواليه. . .، من أبواب الولاء. عارضة الأحوذي 8/ 275، 276، 278، 286، 287. وابن ماجه، في: باب لا وصية لوارث، من كتاب الوصايا. سنن ابن ماجه 2/ 905. والدارمي، في: باب في الذي ينتمى إلى غير مواليه، من كتاب السير، وفي: باب من ادعى إلى غير أبيه، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 244، 344. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 328، 4/ 187، 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرْبَعَةِ شرْطٌ خامسٌ، وهو كونُ المُقِرِّ جميعَ الورَثَةِ، فإن كان المُقِرُّ زوجًا أو زوجةً ولا وارِثَ معهما، لم يَثْبُتِ النَّسبُ بإقرارِهما، لأنَّ المُقِرَّ لا يَرِثُ المال كُلَّه، فإنِ اعْتَرفَ به الإِمامُ معه، ثَبَت النَّسبُ، لأنَّه قائِمٌ مَقامَ المسلمين في مُشارَكَةِ الوارِثِ (¬1). وإن كان الوارِثُ أمًّا أو بنتًا أو أختًا أو ذا فرضٍ يَرِثُ جميعَ المالِ بالفرض والرَّدِّ، ثَبَت النَّسبُ بقولِه، كالابنِ؛ لأنَّه يَرِثُ المال كُلَّه. وعندَ الشافعيِّ، لا يَثْبُتُ بقولِه نَسَبٌ؛ لأنَّه لا يَرَى الردَّ، ويَجْعَلُ الباقيَ لبَيتِ المالِ. ولهم فيما إذا وافَقَ الإمامُ في الإِقْرارِ وجهان. وهذا مِن فُرُوعِ الردِّ، وقد ذكرناه. فإن كانت بنتٌ وأُخْتٌ، أو أخْتٌ وزوجٌ، ثَبَتَ النَّسبُ بقَوْلِهما، لأنَّهما يأْخُذان المال كُلَّه. وإذا أقَرَّ بابنِ ابنِه وابنُهُ ميِّتٌ، اعْتُبِرَتْ فيه الشروطُ التي تعْتَبَرُ في الإِقرارِ بالأخِ. وكذلك إنْ أقَرَّ بعَمٍّ وهو ابنُ جَدِّه، فعلى ما ذكرناه. فصل: وإن كان أحدُ الوَلَدَين غيرَ وارِثٍ، لكونِه رَقيقًا أو مخالفًا لدين مَوْرُوثِه أو قاتِلًا، فلا عِبْرَةَ به، ويَثْبُتُ النَّسبُ بقولِ الآخَرِ وَحْدَه، لأنَّه يَحوزُ جَميعَ الميراثِ. ثم إن كان المُقَرُّ به يَرِثُ شاركَ المُقِرَّ في الميراثِ، وإن لم يكنْ وارِثًا لوجودِ مانعٍ فيه ثَبَت نَسَبُه ولم يَرِثْ، وسواءٌ كان المُقِرُّ مسلمًا أو كافرًا. ¬

(¬1) بعده في المغني 7/ 318: «وأخذِ الباقي».

2870 - مسألة: (وسواء كان المقر به يحجب المقر أو لا يحجبه، كأخ يقر بابن للميت)

وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ أَوْ لَا يَحْجُبُهُ، كَأَخٍ يُقِرُّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2870 - مسألة: (وسواءٌ كان المُقَرُّ به يَحْجُبُ المُقِرَّ أو لا يَحْجُبُه، كأخٍ يُقِرُّ بابن للميِّتِ) أو ابنِ ابنٍ يُقِرُّ بابنٍ للمَيِّتِ، أو أخٍ مِن أبٍ يُقِرُّ بأخٍ مِن أبوين، فإنَّه يَثْبُتُ نَسَبُه بذلك ويَرِثُ، ويَسْقُطُ المُقِرُّ. هذا اختيارُ ابنِ حامدٍ، والقاضي، وابنِ سُرَيجٍ (¬1). وقال أكثرُ أصحابِ الشافعيِّ: يَثْبُتُ نَسَبُ المُقَرِّ به ولا يَرِثُ، لأنَّ تورِيثَه يُفْضِي إلى إسْقاطِ توريثِه، فسَقَطَ، لأنَّه لو وَرِثَ لخَرَجَ المُقِرُّ عن كونِه وارِثًا، فيَبْطُلُ إقْرارُه ويَسْقُطُ نَسَبُ المُقَرِّ به وتورِيثُه، فيُؤَدِّي توريثُه إلى إسْقاطِ تورِيثِه، فأثْبَتْنا النَّسَبَ دُونَ الميراثِ. ولَنا، أنَّه ابنٌ ثابتُ النَّسبِ، لم يوجَدْ في حقِّه مانِعٌ مِن الإِرْثِ، فيدْخُلُ في عموم قولِه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} (¬2). أو فيَرِثُ كما لو ثَبَت نَسَبُه ببَيِّنَةٍ، ولأنَّ ثُبوتَ النسبِ سبَبٌ للميراثِ، فلا يجوزُ قَطْعُ حُكْمِه عنه، ولا تَورِيثُ محجوبٍ به مع وجودِه وسلامتِه مِن الموانِعِ. وما ¬

(¬1) في م: «شريح». (¬2) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احتَجُّوا به لا يصِحُّ؛ لأنَّا إنَّما نعتَبِرُ كونَ المُقِرِّ وارثًا على تقديرِ عدمِ المُقَرِّ به، وخُروجُه عن الميراثِ بالإِقرارِ لا يمنعُ صِحَّتَه، بدليلِ أنَّ الابنَ إذا أقَرَّ بأخٍ، فإنَّه يَرِثُ مع كونِه يَخْرُجُ بإقْرارِه عن أن يكونَ جَميعَ الوَرثةِ. فإن قِيلَ: إنَّما يُقْبَل إقْرارُه إذا صَدَّقَه المُقَرُّ به، فصار إقرارًا مِن جَميعِ الورَثِة، وإن كان المُقَرُّ به طفلًا أو مجنونًا لم يُعْتَبَرْ قولُه، فقد أقَرَّ كُلُّ مَن يُعْتَبَرُ قولُه. قُلْنا: ومِثْلُه ههُنا، فإنَّه إن كان المُقَرُّ به كبيرًا فلا بُدَّ مِن تَصْدِيقِه، فقد أقَرَّ به كُلُّ مَن يُعْتَبَرُ إقرارُه، وإن كان صغيرًا غيرَ مُعْتَبَرِ القولِ لم يثْبُتِ النَّسبُ بقولِ الآخَرِ، كما لو كانا (¬1) اثْنَين أحدُهما صغيرٌ فأقَرَّ البالِغُ بأخٍ آخَرَ، لم يُقْبَلْ، ولم يقولوا: [به، و] (¬2) لا تُعْتَبَرُ موافَقَتُه. كذا ها هنا. ولأنَّه لو كان في يدِ إنسانٍ عبدٌ محْكومٌ له بمِلْكِه، فأقَرَّ به لغيرِه، ثَبَت للمُقَرِّ له وإن كان المُقِرُّ يخرُجُ بالإِقرارِ عن كونِه مالِكًا، كذا ها هنا. ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) في المغني 7/ 320: «إنه».

2871 - مسألة: (وإن أقر بعضهم لم يثبت نسبه، إلا أن يشهد منهم عدلان أنه ولد على فراشه، أو أن الميت أقر به)

وَإنْ أقَرَّ بَعْضُهُمْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، إلا أَنْ يَشْهَدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ أنَّهُ وُلِدَ عَلىَ فِرَاشِهِ، أوْ أنَّ الْمَيِّتَ أقَرَّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2871 - مسألة: (وإن أقَرَّ بعضُهُم لم يَثْبُتْ نسبُه، إلَّا أن يشهدَ منهم عَدْلان أنَّه وُلِدَ على فراشِه، أو أنَّ الميِّتَ أقَرَّ به) وجملتُه، أنَّه إذا أقَرَّ أحدُ الوارِثين بوارثٍ مشاركٍ لهم في الميراثِ، لم يَثْبُتِ النَّسبُ بالإِجماعِ؛ لأنَّ النَّسبَ لا يَتَبَعَّضُ، فلا يُمْكِنُ إثْباتُه في حقِّ المُقِرِّ دُونَ المنكِرِ، ولا إثباتُه في حقِّهما؛ لأنَّ أحدَهما مُنْكِرٌ، فلا يُقْبل إقرارُ غيره عليه، ولم تُوجَدْ شَهادَةٌ يثبُتُ بها النَّسبُ ولو كان المُقِرُّ عَدْلَينِ؛ لأنَّه إقرارٌ مِن بعضِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الورثةِ. وقال أبو حنيفةَ: يثْبْتُ إذا كانا عَدْلَين؛ لأنَّهما بَيَنةٌ، فهو كما لو شَهِدا به. ولَنا، أنَّه إقْرارٌ مِن بَعضِ الوَرَثَةِ، فلم يثْبُتْ به النَّسبُ، كالواحِدِ. وفارَقَ الشَّهادَةَ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ فيها العدالةُ والذكوريةُ، والإِقرارُ بخلافِه. فأمَّا إن شَهِدَ به عَدْلان، أو شَهِدا أنَّه وُلِدَ على فراشِه، أو أنَّ الميِّتَ أقَرَّ به، ثَبَت النَّسبُ وشارَكَهم في الإِرثِ؛ لأنَّهما لو شَهِدا على غيرِ مورُوثِهما قُبِلَ، فكذلك إذا شَهِدا عليه.

2872 - مسألة: (وعلى المقر أن يدفع إليه فضل ما في يده عن ميراثه)

وَعَلَى الْمُقِرِّ أنْ يَدْفَعَ إِلَيهِ فَضْلَ مَا في يَدِهِ عَنْ مِيرَاثِهِ. فَإِذَا أقَرَّ أَحَدُ الابْنَينِ بِأَخٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا في يَدِهِ، وَإنْ أقَرَّ بِأُخْتٍ فَلَهَا خُمْسُ مَا في يَدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2872 - مسألة: (وعلى المُقِرِّ أن يدفَعَ إليه فَضْلَ ما في يدِه عن مِيراثِه) إذا أقَرَّ بعضُ الورثَةِ ولم يَثْبُتْ نَسَبُه، لَزِمَ المُقِرَّ أن يدْفَعَ إليه فَضْلَ ما في يدِه، كمَن خَلَّفَ وَلَدَينِ فأقَرَّ أحدُهما بأخٍ، فله ثُلُثُ ما في يدِه، وإن أقَرَّ بأُخْتٍ، دَفَع إليها خُمْسَ ما في يدِه عن ميراثِه. هذا قولُ مالكٍ، والأوْزَاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وابنِ أبي لَيلَى، والحسنِ بنِ صالحٍ، وشَرِيكٍ، ويحيى بنِ آدمَ، ووَكيع، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأهلِ البصرةِ. وقال النَّخَعِيُّ، وحمادٌ، وأبو حنيفةَ وأصحابُه: يُقاسِمُه ما في يدِه؛ لأنَّه يقُولُ: أنا وأنت سواءٌ في ميراثِ أبِينا. وكأنَّ ما أخَذَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْكِرُ تَلِف أو غُصِبَ، فيَسْتَوى فيما بَقِي. وقال الشافعيُّ، وداودُ: لا يلزَمُه في الظاهِرِ دفْعُ شيءٍ إليه، وهل يلزَمُه فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى؟ على قولَين؛ أصَحُّهما، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه لا يَرِثُ مَن لا يثْبُتُ نَسَبُه. وإذا قلنا: يلزَمُه. ففي قدْرِه وَجْهان (¬1). ولَنا على الشافعيِّ، أنَّه أقَرَّ بحقٍّ لمُدَّعِيه يمكِنُ صِدْقُه فيه، ويدُ المُقِرِّ عليه وهو متمَكِّنٌ مِن دَفْعِه إليه، فلزِمَه ذلك، كما لو أقَرَّ له بمُعَيَّنٍ، ولأنَّه إذا عَلِمَ أنَّ هذا أخوه وله ثُلُثُ الترِكَةِ، وتَيَقَّنَ اسْتِحْقاقَه لها، وفي يدِه بعضُه وصاحبُه يَطْلُبُه، لَزِمَه دفعُه إليه وحَرُمَ عليه منْعُه منه، كما في سائِرِ المواضِعِ، وعَدَمُ ثُبُوتِ نَسَبِه في الظَّاهِرِ لا يمنْعُ وجوبَ دفْعِه إليه، كما لو غَصَبَه شيئًا ولم تَقُمْ بَيِّنةٌ بغصْبه. ولَنا على أبي حنيفةَ، أنَّه أقَرَّ له بالفاضِلِ عن ميراثِه، فلم يلزَمْه أكثرُ ممَّا أقَرَّ به، كما لو أقَرَّ له بشيءٍ مُعَيَّنٍ، ولأنَّه حقٌّ تعلَّقَ بمحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بإقْرارِ أحدِ الشَّرِيكَين، فلم يَلْزَمْه أكثرُ مِن قِسْطِه، كما لو أقَرَّ أحدُ الشَّريكَين بجنايَةٍ على العبْدِ. ولأنَّ التركَةَ بَينَهم أثْلاثًا، فلا يستَحِقُّ ممَّا في يدِه إلَّا الثُّلُثَ، كما لو ثَبَت نَسَبُه ببَيِّنةٍ. ولأنَّه إقرارٌ يتعَلَّقُ بحصَّتِه وحصَّةِ أخيه، فلا يلزَمُه أكثرُ مما يخصُّه، كالإِقْرارِ بالوَصِيَّةِ، وكإقْرارِ أحدِ الشَّريكَين على مالِ الشَّرِكَةِ بدَينٍ. ولأنَّه لو شَهِدَ معه أجْنَبِيٌّ بالنَّسبِ ثَبَت، ولو لَزِمَه أكثرُ مِن حصَّتِه لم تُقْبَلْ شهادتُه؛ لأنَّه يَجُرُّ بها نفْعًا إلى نَفْسِه، لكونِه يُسْقِطُ بعضَ ما يُسْتَحَقُّ عليه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «كالمذهبين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، إذا خَلَّف اثْنَين فأقَرَّ أحدُهما بأخٍ، فللمُقَرِّ له ثُلُثُ ما في يدِ المُقِرِّ، وهو سُدْسُ المالِ؛ لأنَّه يقُولُ: نحنُ ثلاثةٌ، لكُلِّ واحدٍ منَّا الثُّلُثُ، وفي يَدِي النِّصْفُ، ففضَل في يَدِي لك السُّدْسُ. فيدْفَعُه إليه، وهو ثُلُثُ ما في يَدِه. وفي قولِ أبي حنيفةَ، يدْفَعُ إليه نِصْفَ ما في يَدِه، وهو الرُّبْعُ. وإن أقَرَّ بأختٍ، دفَعَ إليها خُمْسَ ما في يدِه؛ لأنَّه يقولُ: نحن أخَوان وأختٌ، فلكِ الخُمْسُ مِن جميعِ المالِ، وهو خُمْسُ ما في يدِي وخُمْسُ ما في يدِ أخي. فيدْفَعُ إليها خُمْسَ ما في يدِه. وفي قولِهم، يدْفَعُ إليها ثُلُثَ ما في يدِه. وفارق ما إذا غُصِبَ بعضُ التَّرِكَةِ وهما اثنان؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ مِن كلِّ جُزْءٍ مِن التَّرِكَةِ، وههنا يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، فافترقا. فصل: إذا خَلَّفَ ابنًا واحدًا فأقَرَّ بأخٍ مِن أبيه، دَفَع إليه نِصْفَ ما في يدِه. في قولِ الجميعِ. فإن أقَرَّ بعدَه بآخَرَ، فاتَّفقا عليه، دَفَعا إليه ثُلُثَ ما في أيدِيهما. في قولِهم جميعًا. فإن أنْكَرَ المُقَرُّ به ثانيًا المُقَرَّ به أولًا، لم يثْبُتْ نَسَبُه. قال القاضي: هذا مَثَلٌ للعامَّةِ، تقولُ (¬1): أدْخِلْنِي أُخْرِجْكَ. وليس له أن يأخُذَ أكثَرَ مِن ثُلُثِ ما في أيدِيهما (¬2)؛ لأنَّه لم يُقِرَّ بأكثرَ منه. وقال الشافعيُّ: يلْزَمُ المُقِرَّ أن يَغْرَمَ له نصف التَّرِكَةِ؛ لأنَّه أتْلَفه عليه بإقْرارِه الأوَّلِ. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن لا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في حاشية الأصل: «لعله يريد أنه لا يأخذ أكثر من ثلث ما في يد الذي أقر به أولًا». (¬3) في: المغني 9/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْطُلَ نسَبُ الأوَّلِ؛ لأنَّه ثَبَت بقولِ مَن هو كلُّ الورَثَةِ حال الإِقْرارِ. وإن لم يُصدِّقِ المُقَرُّ به الأوَّلُ بالثاني، لم يثْبُتْ نَسَبُه، ويَدْفَعُ إليه المُقِرُّ ثُلُثَ ما بَقِيَ في يدِه؛ لأنَّه الفضلُ الذي في يدِه. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه (¬1) ثُلُثُ جميعِ المالِ؛ لأنَّه فَوَّته عليه بدَفعِ النِّصْفِ إلى الأوَّلِ، وهو يُقِرُّ أنَّه لا يستَحِقُّ إلَّا الثُّلُثَ. وسواءٌ دفَعه إليه بحُكْمِ حاكم أو بغيرِ حُكْمِه؛ لأنَّ إقرارَه عِلَّةُ حُكمِ الحاكمِ. وسواءٌ عَلِم بالحالِ عندَ إقرارِه بالأوَّلِ أو لم يَعْلَمْ؛ لأنَّ العَمْدَ والخطَأ واحدٌ في ضَمانِ ما يَتْلَفُ. وحُكِيَ نحوُ هذا عن شَرِيكٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إن عَلِمَ بالثانِي حينَ إقْرارِه (¬2) بالأوَّلِ، وعلم أنَّه إذا أقَرَّ به بعدَ الأوَّلِ لا يُقْبَلُ، ضَمِنَ؛ لأنَّه فَوَّتَ حقَّ غيرِه بتَفْرِيطِه، وإن لم يَعْلَمْ لم يَضْمَنْ؛ لأنَّه يَجِبُ (¬3) عليه الإِقْرارُ بالأوَّلِ إذا عَلِمَه، ولا يُحْوجُه إلى حاكم، ومَن فَعَل الواجِبَ فقد أحْسَنَ وليس بخائن، فلا يَضْمَنُ. وقِيلَ: هذا قياسُ قولِ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الدفْعُ بحُكْمِ حاكم دَفَعَ إلى الثاني نِصْفَ ما بَقِيَ في يدِه؛ لأنَّ حُكْمَ الحاكِم كالأخْذِ منه كَرْهًا، وإن دفعَه بغيرِ حاكم دَفَع إلى الثاني ثُلُثَ جميعِ المالِ؛ لأنَّه دفَعَ إلى الأوَّلِ ما ليس له تبرُّعًا. ولَنا على الأوَّلِ، أنَّه أقَرَّ بما يَجِبُ عليه الإِقرارُ به فلم يَضْمَنْ ما تَلِف به، كما لو قَطَع الإمامُ يدَ السَّارِقِ فسرَى إلى ¬

(¬1) في الأصل: «لا يلزمه». (¬2) في م: «أقر». (¬3) في م: «لا يجب».

2873 - مسألة: (فإن لم يكن في يد المقر فضل، فلا شيء للمقر به)

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ بِهِ. فَإِذَا خَلَّفَ أخًا مِنْ أبٍ وَأَخًا مِنْ أمٍّ، فَأقرَّا بِأخٍ مِنْ أبوَينِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَأخَذَ مَا فِي يَدِ الْأَخِ مِنَ الأبِ. وإنْ أقرَّ بِهِ الْأَخُ مِنَ الْأَبِ وَحْدَهُ، أَخَذَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ. وَإنْ أقرَّ بِهِ الأخُ مِنَ الأمِّ وَحْدَهُ أوْ أَقَرَّ بِأخٍ سِوَاهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسِه. وإن أقَرَّ بعدَهما بثالثٍ فصَدَّقاه ثَبت نسبُه، وأخَذَ رُبْعَ ما في يدِ كلِّ واحدٍ منهم، إذا كان مع كلِّ واحدٍ ثُلُثُ المالِ، وإن كذَّباه لم يثْبُت نَسبُه، وأخَذَ رُبْعَ ما في يدِ المُقِرِّ به. وفي ضمانِه له ما زاد التفصيلُ في التي قبلَها. وعلى مِثْلِ قولِنا قال ابنُ أبي لَيلَى، وأهلُ المدينةِ، وبعضُ أهلِ البَصْرةِ. 2873 - مسألة: (فإن لم يكنْ في يدِ المُقِرِّ فَضْلٌ، فلا شيءَ للمُقَرِّ به) لأنَّه لم يُقِرَّ له بشيءٍ (فإذا خَلَّف أخًا مِن أبٍ وأخًا مِن أُمٍّ، فأقَرّا بأخٍ مِن أبوَين، ثَبَت نَسَبُه) لأن كلَّ الورثَةِ أقَرُّوا به (ويأخذُ) جَميعَ (ما في يدِ الأخِ مِن الأبِ) لأنَّه يُسْقِطه في الميراثِ (وإن أقَرَّ به الأخُ مِن الأبِ وحدَه، أخذَ ما في يدِه) لِما ذكرنا (ولم يثْبُت نسَبُه) لأنَّ الذي أقَرَّ به لا يَرِثُ المال كلَّه (وإن أقَرَّ به الأخ مِن الأمِّ وحدَه، فلا شيءَ له) لأنَّه

2874 - مسألة: (وطريق العمل)

وَطَرِيقُ الْعَمَلِ أنْ تَضْرِبَ مَسْألةَ الإقْرَارِ فِي مَسْألةِ الإنْكَارِ، وَتَدْفَعَ إِلَى الْمُقِرِّ سَهْمَهُ مِنْ مَسْألةِ الإقْرَارِ فِي مَسْألةِ الإنْكَارِ، وَإلَى المُنْكِرِ سَهْمَهُ مِنْ مَسْألةِ الإِنكَارِ فِي مَسْألةِ الإِقرَارِ، وَمَا فضَل ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس في يدِه فَضْلٌ يُقِرُّ له به. وكذا إن أقَرَّ بأخٍ آخرَ مِن أُمِّه، لذلك. فأمَّا إن أقَرَّ بأخَوَين مِن ألمٍّ، فإنه يَدْفَعُ إليهِما ثُلُثَ ما في يدِه؛ لأن في يدِه السُّدْسَ، فبإقْرارِه اعْتَرَفَ أنَّه لا يستَحِقُّ مِن الميراثِ إلَّا التُّسْعَ، فيَبْقَى في يدِه نِصْفُ التُّسْعِ، وهو ثُلُثُ ما في يدِه. وقال أبو حنيفة في ثَلاثَةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقين: إذا أقَرَّ الأخُ مِن الأمِّ بأخٍ من أُمٍّ، فله نِصْفُ ما في يدِه، وإن أقَرَّ بأخٍ من أبوَين، فللمُقَرِّ به خمسةُ أسْباعِ ما في يدِه. وعلى قولِنا، لا يأخُذُ منه شيئًا؛ لأنَّه لا فَضْلَ في يدِه. 2874 - مسألة: (وطَرِيقُ العَمَلِ) فيها (أن تَضْرِبَ مسألةَ الإقْرارِ في مسألةِ الإنكارِ، وتَدْفَعَ إلى المُقِرِّ سهمَه مِن مسألةِ الإقرارِ) مضْروبٌ (في مسألةِ الإنْكارِ، وللمُنْكِرِ سهمَه مِن مسألةِ الانْكارِ) مضروبٌ (في مسألةِ الإقرارِ، وما فَضَل فهو للمُقَرِّ به. فلو خَلَّف ابْنَين،

فَهُوَ لِلْمُقَرِّ بِهِ. فَلَوْ خَلَّفَ ابْنَينِ، فَأقَرَّ أحدُهُمَا بِأخَوَين , فَصَدَّقَهُ أخُوهُ فِي أحَدِهِمَا، ثَبَتَ نَسَبُ الْمُتَّفَقِ عَلَيهِ، فَصَارُوا ثَلَاثَةً، ثُمَّ تَضْرِبُ مَسْألةَ الإقْرَارِ فِي مَسْألةِ الإنْكَارِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِلْمُنْكِرِ سهْمٌ مِنَ الإنْكَارِ فِي الإقْرَارِ، أرْبَعَةٌ، وَلِلْمُقِرِّ سهْمٌ مِنَ الإقْرَارِ فِي مَسْألةِ الإنْكَارِ، ثَلَاثةٌ، وَلِلْمُتَّفَقِ عَلَيه إِنْ صَدَّقَ المُقِرَّ مِثْلُ سهْمِهِ، وَإنْ أنْكَرَهُ مِثْلُ سهْمِ الْمُنْكِرِ، وَمَا فَضَلَ لِلْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهُوَ سَهْمَانِ فِي حَالِ التَّصْدِيقِ وَسَهْمٌ فِي حَالِ الإنْكَارِ. وَقَال أبو الْخَطَّابِ: لَا يَأخُذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيهِ مِنَ المُنْكِرِ فِي حَالِ التَّصْدِيقِ إلَّا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ. وَصَحِّحْهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ، لِلْمُنْكِرِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُخْتَلَفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فأقَرَّ أحدُهما بأخَوَين، فصدَّقَه أخوه في أحدِهما، ثَبَت نَسَبُ المُتَّفَقِ عليه، فصاروا ثلاثةً، ثم تَضْرِبُ مسألةَ الإِقرارِ في مسألةِ الإنْكارِ تكنِ اثْنَيْ عَشَرَ، للمُنْكِرِ سَهْمٌ مِن الإنكارِ في الإِقرارِ، أربعةٌ، وللمُقِرِّ سَهْمٌ مِن الإِقرارِ في الإِنكارِ، ثلاثةٌ، وللمُتَّفَقِ عليه إن صدَّقَ المُقِرَّ مِثْلُ سهْمِه، وإن أنْكَرَ مِثْلُ سهْمِ المُنْكِرِ، وما فَضَل للمُخْتَلَفِ فيه، وهو سَهْمان في حالِ التصديقِ وسَهْمٌ في حالِ الإِنْكارِ. وقال أبو الخَطّابِ: لا يأخُذُ المُتَّفَقُ عليه مِن المُنْكِرِ في حالِ التصديقِ إلا رُبْعَ ما في يدِه. وصَحَّحَها

فِيهِ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأخَوَينِ سَهْمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ثمانيةٍ؛ للمُنْكِرِ ثلاثةٌ، وللمُخْتَلَفِ فيه سَهْمٌ، ولكُلِّ واحدٍ مِن الأخَوَين سهمان) إذا خَلَّفَ ابْنَين، فأقَرَّ الأكْبَرُ بأخوين، فصدَّقَه الأصغَر في أحدِهما، ثَبَتَ نَسَبُ المتَّفَقِ عليه، فصاروا ثَلاثة، فمسألةُ الإنْكارِ إذًا مِن ثلاثةٍ، ومسألةُ الإِقرارِ مِن أربعةٍ، فتضْرِبُ إحْداهُما في الأخْرَى تكن اثْنَيْ عَشَرَ؛ للأصغَرِ سَهْمٌ مِن مسألةِ الإنْكارِ في مسألةِ الإِقرارِ، أرْبَعَةٌ، وللأكْبَرِ سَهْمٌ مِن مسألةِ الإِقرارِ في مسألةِ الإِنْكارِ، ثلاثَةٌ، وللمُتَّفَقِ عليه إن أقَرَّ بصاحِبه مِثل سَهْمِ الأكْبَرِ، وإن أنْكَرَ مِثلُ سهمِ الأصْغَرِ. وذكَرَ أبو الخطَّابِ أَنَّ المُتَّفَقَ عليه إن صدَّقَ بِصاحبه لم يَأخُذْ مِن المُنْكِرِ إلَّا رُبْعَ ما في يدِه؛ لأنَّه لا يدَّعِي أكثرَ منه، ويأخذُ هو والمُختلَفُ فيه مِن الأكْبَرِ نِصْفَ ما في يدِه، فتصِحُّ مِن ثمانيةٍ، للمُنْكِرِ ثلاثةُ أثمان، وللمُقِرِّ سهمانِ، وللمُتَّفَقِ عليه سهمانِ، وللآخَرِ سهْمٌ. وذكر ابنُ اللَّبانِ أنَّ هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قياسُ قولِ مالكٍ، والشافعيِّ. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأنَّ المنْكِرَ يُقِرُّ أنَّه لا يَسْتَحِقُّ إلَّا الثُّلُثَ، وقد حضرَ مَن يدَّعِي الزَّيادةَ، فوجَبَ دفْعُها إليه. ونظيرُ هذا ما لو ادَّعَى إنسانٌ دارًا في يدِ رجلٍ، فأقَرَّ بها لغيرِه، فقال المُقَرُّ له: إنَّما هي لهذا المدَّعِي. فإنَّها تُدْفَعُ إليه. وقد رَدَّ الخَبْرِيُّ على ابنِ اللَّبَّانِ هذا القولَ، وقال: على هذا يَبْقَى مع المُنْكِرِ ثلاثةُ أثْمانٍ، وهو لا يدَّعِي إلَّا الثُّلُثَ، وقد حَضَرَ مَن يدَّعِي هذه الزِّيادةَ، ولا مُنازِعَ له فيها، فيجبُ دفْعُها إليه. قال: والصَّحِيحُ أن يَضُمَّ المُتَّفَقُ عليه السُّدْسَ الذي يأخذُه مِن المُقَرِّ به، فيَضُمَّه إلى النِّصْفِ الذي هو بيدِ المُقَرِّ بهما، فيَقْتَسِمانِه أثْلاثًا، فتصِحُّ مِن تِسْعةٍ؛ للمُنْكِرِ ثلاثةٌ، ولكُلِّ واحدٍ مِن الأخَوَين سهمان. وهذا قولُ أبي يوسفَ إذا تَصادَقَا. قال شيخُنا (¬1): ولا يَسْتَقيمُ هذا على قولِ مَن لا يُلزِمُ المُقِرَّ أكثرَ مِن الفَضْلِ عن ميراثِه؛ لأنَّ المُقَرَّ بهما والمُتَّفَقَ عليه لا ينقُصُ ميراثُه عن الرُّبْعِ، ولم يحصُلْ له على هذا القولِ إلَّا التُّسْعان. وقيل: يَدْفَعُ الأكْبَرُ إليهما نِصْفَ ما في يدِه، ويأخذُ المُتَّفَقُ عليه مِن الأصْغرِ ثُلُثَ ما في يدِه، فيحْصُلُ للأصْغرِ الثُّلُثُ، وللأكْبَرِ الرُّبْعُ، وللمُتَّفَقِ عليه السُّدْسُ والثُّمْنُ، وللمُخْتَلَفِ فيه الثُّمْنُ، ¬

(¬1) في: المغني 9/ 142.

2875 - مسألة: (وإن خلف ابنا فأقر بأخوين بكلام متصل)

وَإنْ خَلَّفَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخَوَينِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا، سَوَاءٌ اتَّفَقَا أو اخْتلفَا. وَيَحْتَمِلُ ألَا يَثْبُتَ نَسَبُهُمَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَصِحُّ مِن أربعةٍ وعشرين؛ للأصْغرِ ثمانية، وللمُتَّفَقِ عليه سبعةٌ، وللأكْبَرِ ستة، وللمُخْتَلَفِ فيه ثلاثةٌ. وفيها أقوالٌ كثيرةٌ سوى هذه، والأوَّلُ أصَحُّ إن شاء اللهُ تعالى. 2875 - مسألة: (وإن خَلَّفَ ابنًا فأقرَّ بأخَوَين بكلام متَّصِل) فتَصادَقا (ثَبت نَسَبُهما) فإن تجاحَدا فكذلك في أقْوَى الوَجهين؛ لأن نسبَهما ثَبَت بإقرارِ مَن هو كلُّ الورَثةِ قَبْلَهما. وفي الآخرِ، لا يثْبُتُ؛ لأنَّ الإِقْرارَ بكلِّ واحدٍ منهما لم يصْدُرْ مِن كلِّ الورثةِ، ويَدْفَعُ إلى كلِّ واحدٍ منهما ثُلُثَ ما في يدِه. فإن صَدَّقَ أحدُهما بصاحبِه وجَحَدَه الآخَرُ، ثَبتَ نَسبُ المُتَّفَقِ عليه، وفي الآخرِ وجهان، ويَدْفَعُ إلى كلِّ واحدٍ منهما ثُلُثَ ما في يدِه. وإن كانا توأمَين ثَبَت نَسبُهما، ولم يُلْتَفَتْ إلى إنْكارِ المُنْكِرِ منهما، سواءٌ تجاحَدا معًا، أو جَحَد أحدُهما صاحبَه؛ لأنَّا نَعْلَمُ كَذِبَهما،

2876 - مسألة: (فإن أقر بأحدهما بعد الآخر، أعطى الأول نصف ما في يده)

وإنْ أقَرَّ بأحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ، أعْطَى الْأوَّلَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَالثَّانِيَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْأوَّلِ، وَيَقِفُ ثُبُوتُ نَسَبِ الثَّانِي عَلَى تَصْدِيقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّهما لا يفْتَرقان. ومتى أقَرَّ الوارثُ بأحدِهما ثَبَت نسبُ الآخَرِ. وإن أقر بنَسبِ صغيرَين دَفْعةً واحدةً، ثَبَت نَسبُهما على الوجهِ الذي يَثْبُت به نَسبُ الكَبيرَين المتجاحِدَين. وهل يثْبُتُ على الوجهِ الآخرِ؟ فيه احتمالان؛ أحدُهما، يثْبُتُ؛ لأنَّه أقَرَّ به كلُّ الورثةِ حينَ الإِقْرارِ، ولم يجْحَدْه أحدٌ، فهو كالمنفَرِدِ. والثاني، لا يثْبُتُ؛ لأنَّ أحدَهما وارثٌ، ولم يُقِرَّ بالآخَرِ، فلم يَتَّفِقْ كل الورثَةِ على الإقْرارِ به، فلم تُعْتَبَرْ موافَقَةُ الآخرِ، كما لو كانا صغيرَين. 2876 - مسألة: (فإن أقَرَّ بأحدِهما بعدَ الآخَرِ، أعْطَى الأوّلَ نِصفَ ما في يدِه) بغيرِ خلافٍ (وثَبتَ نَسبُه) لأنه أقَرّ به كلُّ الورثَةِ (ويَقِف ثُبوتُ نسبِ الباقي على تصْدِيقِه) لأنَّه صار مِن الوَرَثَةِ (و) يُعْطِي (الثاني ثُلُثَ ما بَقِي في يدِه) لأنه الفَضْلُ، فإنَّه يقولُ: نحنُ ثلاثةٌ.

2877 - مسألة: (وإن أقر بعض الورثة بامرأة للميت لزمه من إرثها بقدر حصته)

وَإنْ أقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِامْرَأةٍ لِلْمَيِّتِ لَزِمَهُ مِنْ إرْثِهَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2877 - مسألة: (وإن أقَرَّ بعضُ الورَثَةِ بامرأةٍ للمَيِّتِ لَزِمَه مِن إرْثِها بقَدْرِ حِصَّتِه) يعني يَلْزَمُه ما يفْضُلُ في يَدِه لها عن حقه، كما ذكرنا في الإِقرارِ. مسائلُ مِن هذا البابِ: إذا خَلَّفَ ثلاثةَ بنين، فأقرَّ أحدُهم بأخٍ وأختٍ، فصدَّقَه أحدُ أخَوَيه في الأخِ، والآخَرُ في الأختِ، لم يَثْبُت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نسَبهما، ويَدْفَعُ المُقِرُّ بالأخِ إليه رُبْعَ ما في يدِه، ويدْفَعُ المُقِرُّ بهما إليهما ثُلُثَ ما في يدِه، ويدْفَعُ المُقِرُّ بالأخْتِ إليها سُبْعَ ما في يدِه، فأصْلُ المسألةِ ثلاثةُ أسْهُمٍ؛ سَهْمُ المُقِرِّ يُقْسَمُ بينَهما وبينَه على تِسْعَةٍ، له سِتَّةٌ ولهما ثلاتةٌ، وسهمُ المُقِرِّ بالأخِ بينَهما على أربعةٍ، له ثلاثة ولأخيه سهمٌ، وسَهْمُ المُقِرِّ بالأخْتِ بينَه وبينَها على سَبْعَةٍ، له سِتَّةٌ ولها سهمٌ، وكُلُّها متباينةٌ، فاضْربْ أربعةً في سبعةٍ في تِسْعَةٍ ثم في أصلِ المسألةِ، تكنْ سبْعَمائةٍ وسِتَّة وخمسين؛ للمُقِرِّ بهما ستةٌ في أربعةٍ في سبعةٍ، مائةٌ وثمانية وستون، وللمُقِرِّ بالأختِ سِتَّة في أربعةٍ في تسعةٍ، مائتان وسِتَّةَ عَشَرَ، وللمُقِرِّ بالأخِ ثلاثةٌ في سَبْعةٍ في تسعةٍ، مائةٌ وتسْعةٌ وثمانون، وللأخِ المُقَرِّ به سهمانِ في أربعةٍ في سَبْعةٍ، سِتَّةٌ وخمسون، وسهمٌ في سبعةٍ في تِسْعةٍ، ثلاثةٌ وستون، فيَجْتَمِعُ له مائة وتسعةَ عَشَرَ، وللأخْتِ سهمٌ في أربعةٍ في سبعةٍ، ثمانية وعشرون، وسهم في أربعةٍ في تسعةٍ، سِتَّةٌ وثلاثون، يَجْتَمِعُ لها أربعةٌ وستُّون. ولا فَرْقَ بينَ تصادُقِهما وتَجاحُدِهما، لأنَّه لا فَضْل في يدِ أحدِهما عن ميراثِه. ولو كان في هذه المسألةِ ابنٌ رابعٌ لم يُصدِّقْهُ في واحدٍ منهما، كان أصْلُ المسألةِ مِن أرْبَعَةِ أسهم؛ سهمٌ على أحدَ عَشَرَ، وسهْمٌ على تسعةٍ، وسهمٌ على خَمْسةٍ، وسَهْمٌ ينْفَرِدُ به الجاحِدُ، فتصِحُّ المسألة مِن ألفٍ وتِسْعِمائةٍ وثمانين سهمًا، وطريقُ العَمَلِ فيها كالتي قَبْلَها. فصل: إذا خَلَّف بنتًا وأختًا، فأقرتا بصغيرةٍ، فقالتِ البِنتُ: هي أُخْتٌ. وقالتِ الأخْتُ: هي بنتٌ. فلها ثُلُثُ ما في يد الأخْتِ لا غيرُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ ابن أبي لَيلَى. ولمحمدِ بنِ الحسنِ، واللُّولُؤِيِّ، ويحيى بنِ آدمَ، تَخْبِيطٌ كثيرٌ يَطُولُ ذِكْرُه. وإن خَلَّفَ امرأةً وبنتًا وأُخْتًا، فأقرَرْنَ بصغيرةٍ، فقالتِ المرأةُ: هي امرأةٌ. وقالتِ البِنْتُ: هي بنت. وقالت الأخت: هي أخْت. فقال الخَبْرِيُّ: تُعْطَى ثُلُثَ المالِ؛ لأنَّه أكثرُ ما يُمْكِنُ أن يكونَ لها، ويُؤخَذُ مِن المُقِرَّاتِ على حَسَبِ إقْرارِهنَّ، وقد أقرَّتْ لها البنْتُ بأربعةِ أسهمٍ مِن أرْبعةٍ وعشرين، وأقرَّتْ لها الأختُ بأرْبعةٍ ونِصْفٍ، وأقرَّت لها (¬1) المرأةُ بسهم ونصفٍ، وذلك عَشرَةُ أسْهُمٍ، لها منها ثمانية، وهي أربعةُ أخماسِها، فخُذْ لها مِن كلِّ واحدةٍ أربعةَ أخماسِ ما أقَرت لها به واضْرِبِ المسألةَ في خَمْسةٍ تكنْ مائة وعشرين، ومنها تصِحُّ، فإذا بَلَغتِ الصَّغِيرةُ فصَدَّقت إحْداهُنَّ، أخَذَتْ منها تمامَ ما أقَرتْ لها به، ورَدَّتْ على الباقِيَتَين ما أخَذَتْه ممَّا لا تَسْتَحِقُّه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ وقال ابنُ أبي (¬2) لَيلَى: يُؤخَذُ لها مِن كلِّ واحدةٍ ما أقرَّتْ لها به، فإذا بَلَغتْ فصدَّقتْ إحْداهُنَّ أمْسَكَتْ ما أُخِذَ لها منها وردَّت على الباقِيَتَين الفَضْلَ الذي لا تَسْتَحِقُّه عليها. وهذا القولُ أصْوَبُ، إن شاء الله؛ لأنَّ فيه احْتياطًا على حَقِّها. ثلاثةُ إخْوةٍ لأب، ادَّعَتِ امرأةٌ أنَّها أخْتُ الميِّتِ لأبيه وأمِّه، فصدَّقها الأكْبَرُ، وقال الأوْسَطُ: هي أختٌ لأُمٍّ. وقال الأصْغَرُ: هي أخْت لأبٍ. فإنَّ الأكبَرَ يَدْفَعُ إليها (¬3) نِصْفَ ما في يَدِه، ويَدْفَعُ إليها ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «إليهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوْسَطُ سُدْسَ ما في يدِه، ويَدْفَعُ إليها الأصْغَرُ سُبعَ ما في يدِه، وتصِحُّ مِن مائةٍ وسِتَّةٍ وعِشْرين؛ لأنَّ أصْلَ مسألَتِهم ثلاثةٌ، فمسألةُ الأكْبرِ مِن اثْنَين، ومسألةُ الثَّاني مِن سِتَّةٍ، والثالثِ مِن سبْعةٍ، والاثْنان تَدْخُلُ في السِّتّةِ، فتَضْرِبُ سِتّةً في سَبْعَةٍ، تكنِ اثْنَين وأربعين، فهذا ما في يدِ كل واحدٍ منهم، فتَأخُذُ مِن الأكْبرِ نِصْفَه أحَدًا وعِشْرين، ومِن الأوْسطِ سُدْسَه سبعة، ومِن الأصْغَرِ سُبْعَهُ سِتَّةً، صار لها أربعة وثلاثون. وهذا قياسُ قولِ ابن أبي لَيلَى. وفي قولِ أبي حنيفةَ، تأخُذُ سُبْعَ ما في يدِ الأصْغرِ، فَتَضُمّ [نِصْفه إلى] (¬1) ما بيدِ أحدِهما، ونِصْفَه (¬2) إلى ما بيدِ الآخرِ، وتُقاسِمُ الأوْسَطَ على ثَلاثةَ عَشَرَ، له عَشَرةٌ ولها ثلاثة، فتَضُمُّ الثّلاثةَ إلى ما بيدِ الأكْبرِ، وتقاسِمُه على ما بيده على أربعةٍ، لها ثلاثة وله سهمٌ، فاجْعَل (¬3) في يدِ الأصْغرِ أربعةَ عَشَرَ؛ ليكونَ لسُبْعِه نِصْفٌ صحيح، واضْرِبْها في ثلاثَةَ عَشَرَ تكنْ مائةً واثنين وثمانين، فهذا ما بيدِ كلِّ واحدٍ منهم، تأخُذُ مِن الأصْغرِ سُبْعَه وهو ستةٌ وعشرون، تَضُمُّ إلى ما بيدِ كلِّ واحدٍ مِن إخْوَتِه ثلاثةَ عَشَرَ، فيصيرُ معه مائة وخمسة وتسعون، وتأخُذُ مِن الأوسَطِ منها ثلاثةً مِن ثلاثةَ عَشَرَ، وهي خمسة [وأربعون] (¬4)، تَضُمُّها إلى ما بيدِ (¬5) ¬

(¬1) في م: «إلى نصف». (¬2) في م: «تضيفه» (¬3) بعده في م: «ما». (¬4) سقط من النسختين. وانظر المغني 9/ 145. (¬5) في م: «بيده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأكْبرِ، يَصِرْ معه مائتان وأربعون، فتأخُذُ ثلاثةَ أرْباعِها، وهي مائةٌ وثمانون، ويَبْقَى له سِتُّون، ويَبْقَى للأوْسَطِ مائة وخمسون، وللأصْغرِ مائةٌ وستَّةٌ وخمسون، وتَرْجِعُ بالاخْتِصارِ إلى سُدْسِها، وهو أحدٌ وتسعون. فصل: إذا خَلَّفَ ابنًا، فأقَرَّ بأخٍ ثم جَحَدَه، لم يُقْبَلْ جَحْدُه، ولَزِمَه أن يَدْفَعَ إليه نِصْفَ ما بيدِه. فإن أقَرَّ بعدَ جَحْدِه بآخَرَ، احْتَمَلَ أنْ لا يَلْزَمَه له شيءٌ؛ لأنَّه لا فَضْلَ في يدِه عن ميِراثِه. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى. وإن كان لم يدْفَعْ إلى الأوَّلِ شيئًا لَزِمَه أن يدْفَعَ إليه نِصْفَ ما بيدِه، ولا يَلْزَمُه للآخرِ شيءٌ؛ لِما ذكرنا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه دفْعُ النِّصْفِ الباقي كلِّه إلى الثاني؛ لأنَّه فوَّتَه عليه. وهو قولُ زُفَرَ، وبعضِ البَصْرِيين. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه ثُلُثُ ما في يدِه للثاني؛ لأنَّه الفضْلُ الذي في يدِه على تَقْديرِ كَوْنِهم ثلاثةً، فيصيرُ كما لو أقَرَّ بالثاني مِن غيرِ جَحْدِ الأوَّلِ. وهذا أحدُ الوُجوهِ لأصْحابِ الشافعيِّ. وقال أهلُ العِراقِ: إن كان دَفَعَ إلى الأوَّلِ بقَضاءٍ دَفَعَ إلى الثاني نِصْفَ ما بَقِيَ في يدِه، وإن كان دَفَعَه بغيرِ قضاءٍ دَفَعَ إلى الثاني ثُلُثَ جميعِ المالِ. وإن خَلَّفَ ابْنَين فأقَرَّ أحدُهما بأخٍ، ثم جَحَدَه، ثم أقَرَّ بآخَرَ، لم يَلزَمْه للثاني شيءٌ؛ لأنَّه لا فَضْلَ في يدِه. وعلى الاحْتِمالِ الثاني، يَدْفَعُ إليه نِصْفَ ما بَقِيَ في يدِه. وعلى الاحْتِمالِ الثالثِ، يَلْزَمُه دَفْعُ (¬1) ما بَقِيَ في يدِه. ولا يثْبُتُ نَسبُ واحدٍ منهما في هذِه الصورةِ، ويثبتُ نسبُ المُقَرِّ به الأوَّلِ في المسألةِ الأولَى دُونَ الثاني. ¬

(¬1) كذا في النسختين، وفي المغني 9/ 145: «ربع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا مات رجلٌ وخَلَّفَ ابْنَين، فمات أحدُهما وترك بنْتًا، فأقَرَّ الباقي بأخٍ له مِن أبيه، ففي يدِه ثَلاثةُ أرْباعِ المالِ، وهو يَزْعُمُ أنَّ له رُبْعًا وسُدْسًا، فيفْضُل في يدِه ثُلُثٌ يَرُدُّه على المُقَرِّ به. فإنْ أقرَّت به البِنْتُ وَحْدَها، ففي يدِها الرُّبْعُ، وهي تَزْعُمُ أنَّ لها السُّدْسَ، يفْضُلُ في يدِها نِصْفُ السُّدْس. تَدْفَعُه إلى المُقَرِّ له. وهذا قولُ ابنِ أبي لَيلَى. وقال أبو حنيفةَ: إن أقَرَّ الأخُ دَفَعَ إليه نِصْفَ ما في يدِه، وإن أقَرَّتِ البنْتُ دفَعَت إليه خمسةَ أسْبَاعِ ما في يدِها؛ لأنَّها تَزْعُمُ أنَّ له رُبْعًا وسُدْسًا، وذلك خمسة مِن اثْنَيْ عَشَرَ، ولها السُّدْسُ وهو سهْمان، فيصيرُ الجميعُ سَبْعَةً، لها منها سَهْمان، وله خَمْسةٌ. بنتان وعَمٌّ، ماتت إحْداهما وخَلَّفَتِ ابنًا وبنْتًا، فأقَرَّتِ البنْتُ بخالةٍ، ففريضَةُ الإِنْكارِ مِن تِسْعَةٍ، وفريضَةُ الإِقْرارِ مِن سبعةٍ وعشرين، لها منها سهمان، وفي يدِها ثلاثة، فتَدْفَعُ إليها سهْمًا، وإن أقَرَّ بها الابنُ، دَفَعَ إليها سَهْمين، وإن أقَرَّتْ بها البنتُ الباقيةُ، دَفَعَتْ إِليها التُّسْعَ، وإن أقَرَّ بها العَمُّ، لم يَدْفَعْ إليها شيئًا. وإن أقَرَّ الابنُ بخالٍ له، فمسألةُ الإقرارِ مِن اثْنَيْ عَشَرَ، له منها سَهْمان وهما السُّدْسُ، يفْضُلُ في يدِه نِصْفُ تُسْعٍ، وإن أقَرَّتْ به أخْتُه، دَفَعَتْ إليه رُبْعَ تُسع، وإن أقَرَّتْ به البنْتُ الباقيةُ، فلها الرُّبْعُ، وفي يدِها الثُّلُثُ، فتَدْفَعُ إليه نِصْفَ السُّدْسِ، وإن أقَرَّ به العَمُّ، دفَعَ إليه جَميعَ ما في يدِه. ابنان مات أحدُهما عن بنتٍ، ثم أقَرَّ الباقي منهما بأُمٍّ لأبيه، ففريضةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنكارِ مِن أربعةٍ، للمُقِرِّ منها ثَلاثةُ أرباعِها، وفريضةُ الإِقرارِ مِن اثْنَين وسَبْعين، للمُقِرِّ منها (¬1) أربعون، يفْضُلُ في يدِه أرْبعةَ عَشَرَ سهمًا، يَدْفَعُها إلى المرأةِ التي أقَرَّ بها، وتَرْجِعُ بالاخْتصار إلى ستةٍ وثلاثين؛ للمُقِرِّ منها عشرون، وللبنْتِ تِسعة، وللمُقَرِّ لها سبعة. وإن أقَرَّتْ بها البنْتُ، فلها مِنِ فريضةِ الإقرارِ خمسةَ عَشَر سهمًا، وفي يدِها الرُّبْعُ وهو ثمانيةَ عَشرَ، يفْضُلُ في يدِها ثلاثة تَدْفَعُها إلى المُقَرِّ لها. وإن أقَرَّ الابنُ بزوجةٍ لأبيه، وهي أمُّ الميِّتِ الثاني، فمسألة الإِقرارِ مِن سِتَّةٍ وتسعين؛ لها منها ستة وخمسون، وفي يدِه ثلاثةُ أرْباعٍ، ففَضَلَ معه سِتَّةَ عَشَرَ سهمًا، يَدْفَعُها إلى المُقَرِّ لها، ويكونُ له سِتَّة وخمسون، ولها سِتَّةَ عَشَر، وللبنْتِ أرْبَعة وعشرون، وتَرْجِعُ بالاختصارِ إلى اثْنَيْ عَشَرَ؛ لأنَّ سِهامَهم كُلَّها تَتّفِقُ بالأثْمانِ، فيكونُ للمُقِرِّ سبعة، وللمُقَرِّ لها سَهْمان، وللبنْتِ ثلاثة. وما جاء مِن هذا البابِ فهذا طَرِيقُه. أبوان وابْنتان اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ، ثم أقَرُّوا ببنْتٍ للمَيِّتِ، فقالت: قد اسْتَوْفَيتُ نصِيبِي مِن تَركَةِ أبي. فالفَريضةُ في الإقرارِ مِن ثمانيةَ عَشَرَ؛ للأبَوَين سِتَّة، ولكُلِّ بنْتٍ أرْبعة، فأسْقِطْ منها نَصيبَ البنْتِ المُقَرِّ بها، يَبْقَى أربعةَ عَشَرَ؛ للأبَوَين منها سِتَّة، وإنَّما أخذا ثُلُثَ الأرْبَعةَ عَشَرَ، وذلك أرْبعةُ أسْهمٍ وثُلُثا سهم، فيَبْقَى لهما في يدِ البنْتَين سهم وثُلُث، يَأخُذانها منهما، فاضْرِبْ ثلاثةً في أرْبعةَ عَشَرَ تكنِ اثْنَين وأربعين، فقد أخَذَ الأبوانِ ¬

(¬1) في م: «منهما».

2878 - مسألة: (إذا قال: مات أبي وأنت أخي. فقال: هو أبي ولست بأخي. لم يقبل إنكاره)

وَإذَا قَال رَجُلٌ: مَاتَ أبي وَأنْتَ أخِي. فَقَال: هُوَ أبِي وَلَسْتَ بِأخِي. لَمْ يُقْبَلْ إِنْكَارُه. وإنْ قَال: مَاتَ أبوكَ وَأنا أخُوكَ. قَال: لَسْتَ أخِي. فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُقَرِّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْبَعةَ عَشَرَ، وهما يَسْتَحِقَّان ثمانيةَ عَشَرَ، يَبْقَى لهما أربعة، يأخُذانِها منهما، ويَبْقَى للابنتَين أربعة وعشرون. وإن قالت: قد اسْتوْفَيتُ نِصْفَ نصيبي. فأسْقِطْ سهْمَين مِن ثمانيةَ عَشَرَ، يَبْقَى ستةَ عَشَرَ، قد أخَذَا ثُلُثَها خَمْسَةً وثُلثا، وبَقِيَ لهما ثُلُثا سهم، فإذا ضرَبْتَها في ثلاثةٍ كانت ثمانيةً وأربعين، قد أخذا منها ستَّةَ عَشَرَ، يَبْقَى لهما سهمان. 2878 - مسألة: (إذا قال: مات أبي وأنت أخِي. فقال: هو أبي ولست بأخي. لم يُقْبَلْ إنْكارُه) لأنَّه نَسَب المَيِّتَ إليه بأنه أبوه، وأقَرَّ بمشاركةِ المُقَرِّ له في مِيراثِه بطرِيقِ الأخُوَّةِ، فلمَّا أنْكَرَ أُخُوَّتَه لم يثْبُتْ إقْرارُه به وبَقِيَتْ دَعْواهُ أنَّه أبوه دُونَه غيرُ مقْبُولةٍ، كما لو ادَّعَى ذلك قبلَ الإقرارِ. فأمَّا (إن قال: مات أبوك وأنا أخوك. فقال: لستَ بأخي. فالمالُ للمُقَرِّ له) وذلك لأنَّه بدأ بالإقرارِ بأن هذا الميِّتَ أبوه، فثَبَتَ ذلك له، ثم ادَّعَى مُشاركَتَه بعدَ ثُبُوتِ الأبُوَّةِ للأوَّلِ، فإذا أنْكَرَ الأوَّلُ أُخُوَّتَه، لم تُقْبَلْ دَعْوَى هذا المُقِرِّ.

2879 - مسألة: (فإن قال: ماتت زوجتي وأنت أخوها. فقال: لست بزوجها. فهل يقبل إنكاره؟ على وجهين)

وَإنْ قَال: مَاتَتْ زَوْجَتِي وَأَنْتَ أخُوهَا. قَال: لَسْتَ بِزَوْجِهَا. فَهَلْ يُقْبَلُ إنْكَارُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2879 - مسألة: (فإن قال: ماتت زَوْجَتِي وأنت أخُوها. فقال: لستَ بزَوْجِها. فهل يُقْبَلُ إنْكارُه؟ على وجْهَين) وهذه المسألةُ تُشْبِهُ الأولَى مِن حيثُ إنَّه نَسَب الميِّتةَ إليه بالزَّوْجِيَّةِ في ابْتِداءِ إقرارِه، كما نَسَبَ الأبُوَّةَ إليه في قولِه: مات أبي. وتُفارِقُها في أنَّ الزَّوجِيَّةَ مِن شرْطِها الإِشْهادُ، ويُستحَبُّ الإِعلانُ بها وإشهارُها، فلا تَكادُ تَخْفى ويُمْكِنُ إقامَةُ البَيِّنةِ عليها، بخلافِ النَّسَبِ، فإنَّه إنَّما يُشْهَدُ عليه

فَصْلٌ: وَإذا أقَرَّ مَنْ أُعِيلَتْ لَهُ الْمَسْألةُ بِمَنْ يُزِيلُ الْعَوْلَ، كَزَوجٍ وَأُخْتَينِ أقَرَّتْ إِحْدَاهُمَا بِأخٍ، فَاضْرِبْ مَسْألةَ الإقْرَارِ فِي مَسْألةِ الإنْكَارِ، تَكُنْ سِتَّةً وَخَمْسِينَ، وَاعْمَلْ عَلَى مَا ذَكَرْنا، يَكُنْ لِلزَّوْجِ أرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْمُنْكِرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْمُقِرَّةِ سَبْعَةٌ، يَبْقَى تِسْعَةٌ لِلأخِ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فَهُوَ يَدَّعِي أربَعَةً، وَالأخُ يَدَّعِي أربَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ مِنَ السِّهَامِ تِسْعَة، فَاقْسِمْهَا عَلَى سِهَامِهِمْ، لِكُلِّ سَهْمَينِ سَهْمًا، فَيَحْصُلُ لِلزَّوْجِ سهْمَانِ، وَلِلْأَخِ سَبْعَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاستِفاضَةِ غالبًا. فصل: (إذا أقَرَّ مَن أُعِيلَتْ له المسألةُ بمَن يُزِيلُ العَوْلَ، كزَوْجٍ وأخْتَين أقَرَّتْ إحْداهما بأخٍ) لها (فاضْرِبْ مسألةَ الإِقرارِ) وهي ثمانية (في مسألةِ الإِنكارِ) وهي سبعة (تكنْ سِتَّةً وخمسين) للمُنْكِرَةِ مِن مسألةِ الإنكارِ سهْمانِ في مسألةِ الإِقْرار، سِتَّةَ عَشَرَ، وللمُقِرَّةِ سهمٌ مِن مسألةِ الإِقْرارِ في مسألةِ الإِنكارِ، سبْعة، يَبْقَى في يدِها تِسْعة، فإن أنْكَرَ الزَّوْجُ دَفَعَتْها إلى أخِيها المُقَرِّ به، وتُعْطِي الزوجَ ثلاثةً مِن مسألةِ الإِنكارِ في مسألةِ الإِقرارِ، أرْبعة وعشرون، فإن أقَرَّ الزوجُ به، فهو يدَّعِي تمامَ النِّصفِ، أرْبَعةٌ، والأخُ يدَّعِي أرْبعةَ عَشَرَ، تكنْ ثمانيةَ عَشَرَ، والسِّهامُ المُقَرُّ بها تِسعة، فإذا قَسمْتَها على الثمانيةَ عَشَرَ؛ فللزَّوجِ منها سَهْمان،

2880 - مسألة: (فإن كان معهم أختان من أم)

فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُخْتَانِ لأمٍّ، فَإِذَا ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْألةِ الإقْرَارِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ وللأخِ سبعة، فإن أقَرَّتِ الأخْتان به وأنْكَر الزوجُ، دَفَعَ إلى كلِّ أختٍ سبعة، وإلى الأخِ أربعةَ عَشَرَ، يَبْقَى أربعة يُقِرَّان بها للزوجِ وهو يُنْكِرُها، ففي ذلك ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أن تُقَرَّ في يدِ مَن هي في يدِه؛ لأنَّ إقرارَه بَطَل لعدمِ تصديقِ المُقَرِّ له. والثاني، يصْطَلِحُ عليها الزوجُ والأختان، له نِصفُها ولهما نِصفُها؛ لأنَّها لا تَخْرُجُ عنهم، ولا شيءَ فيها للأخِ؛ لأنَّه لا يَحْتَمِلُ أن يكونَ له فيها شيءٌ بحالٍ. الثالثُ، يُؤخَذُ إلى بَيتِ المالِ؛ لأنَّه مال لم يثْبُتْ له مالِكٌ. ومذهبُ أبي حنيفةَ في الصورةِ الأولَى، إن أنْكَرَ الزوجُ أخَذَتِ المُقِرَّةُ سهْمَيها مِن سبعةٍ، فقَسَمْتَها [بينَها و] (¬1) بينَ أخيها (¬2) على ثلاثةٍ، فتَضْرِبُ ثلاثةً في سبعةٍ، تكنْ أحَدًا وعشرين؛ لهما منها ستةٌ، لها سهمان ولأخيها أربعة، وإن أقَرَّ الزوجُ، ضُمَّ سِهامَه إلى سَهْمِها تكنْ خمسةً، واقتَسَماها بينَهم على سَبْعةٍ؛ للزوجِ أربعة، وللأخِ سَهْمان، وللأخْتِ سهمٌ، واضْرِبْ سَبْعَةً في سبعةٍ تكنْ تسعة وأرْبعينَ، ومنها تصِحُّ؛ للمُنْكِرَةِ سَهْمان في سبعةٍ، أرْبَعَةَ عَشرَ، وللزوجِ أربعة في خمسةٍ، وللأخِ سهمان في خمسةٍ، وللمُقِرَّةِ سهْم في خمسةٍ. 2880 - مسألة: (فإن كان معهم أُخْتان مِن أُمٍّ) فمسألةُ الإنكارِ مِن تسعةٍ، ومسألةُ الإِقْرارِ مِن أرْبعةٍ وعشرين، وهما يَتَّفِقان بالأثْلاثِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «بنتها».

مَسْألةِ الإِنكَارِ، كانتِ اثنَينِ وَسَبْعِين، لِلزَّوْجِ ثلاثةٌ مِن مَسْألةِ الإنْكَارِ فِي وَفْقِ مَسْألةِ الْإقْرَارِ، أرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلأختَينِ مِنَ الأمِّ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلأخْتِ الْمُنْكِرَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْمُقِرَّةِ ثَلَاثَة، يَبْقَى فِي يَدِهَا ثَلَاثةَ عَشَرَ، لِلْأخِ مِنْهَا سِتَّة، يَبْقَى سَبْعَةٌ، لَا يَدَّعِيهَا أحَدٌ، فَفِيهَا ثَلَاثةُ أوْجُهٍ، أحَدُهَا، تُقَرُّ فِي يَدِ الْمُقِرَّةِ، وَالثانِي، تُؤخَذُ إِلَى بَيتِ الْمَالِ، وَالثَّالِثُ، تُقْسَمُ بَينَ الْمُقِرَّةِ وَالزَّوْجِ ـــــــــــــــــــــــــــــ (إذا ضَرَبْتَ وَفْقَ) إحْداهما في الأخْرَى (تكُنِ اثْنَين وسبْعين؛ للزوجِ مِن مسألةِ الإنْكارِ ثلاثةٌ في وَفْقِ مسألةِ الإقْرارِ، أربعةٌ وعشرون، وللأخْتَين مِن الأمِّ) سهمان في ثمانيةٍ (سِتَّةَ عَشَرَ، وللمُنْكِرَةِ كذلك، وللمُقِرَّةِ) سهْمٌ مِن مسألةِ الإقْرارِ في وَفْقِ مسألةِ الإنكارِ (ثلاثةٌ، يَبْقَى في يدِها ثلاثةَ عَشَرَ؛ للأخِ منها سِتَّةٌ) ضِعْفَ سَهمِها (يَبْقَى سبعةُ) أسْهُم (لا يَدَّعِيها أحَدٌ، ففيها الأوْجهُ الثلاثةُ التي ذَكَرْناها؛ أحدُها، تُقَرُّ في يدِ المُقِرَّةِ. والثاني، تُؤخَذُ إلى بيتِ المالِ. والثالثُ، تُقْسَمُ بينَ

وَالأخْتَينِ مِنَ الأمِّ، عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُ أنَّهُ لَهُمْ. فَإِن صَدَّقَ الزَّوْجُ الْمُقِرَّةَ فَهُوَ يَدَّعِي اثْنَيْ عَشَرَ وَالْأخُ يَدَّعِي سِتَّةً، يَكُونَانِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلَا تَنْقَسِمُ عَلَيهَا الثَّلَاثَةَ عَشرَ وَلَا تُوَافِقُهَا فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي أصلِ المسْألةِ، ثُمَّ كُلُّ مَن لَهُ شَيْء مِنَ اثنَينِ وَسَبْعِينَ مَضْرُوبٌ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ الزوجِ والمُقِرَّةِ والأخْتَين مِن الأمِّ، على حسَبِ ما يَحْتَمِلُ أنَّه لهم) لأنَّ هذا المال لا يَخْرُجُ عنهم، فإن المُقِرَّةَ إن كانت صادِقَةً فهو للزوجِ والأخْتَين مِن الأمِّ، وإن كَذَبَتْ فهو لها، وإن كان لهم لا يَخرُجُ عنهم قُسِمَ بينَهم على قدْرِ الاحْتِمالِ، كما قَسَمْنا الميراثَ بينَ الخُنْثَى ومَن معه على ذلك. فعلى هذا، يكونُ للمُقِرَّةِ النِّصْفُ، وللزوجِ والأخْتَين النِّصفُ بينَهم على خمسةٍ؛ لأنَّ هذا في حالٍ للمُقِرَّةِ وفي حالٍ لهما، فقُسِمَ بينَهم نِصْفين، ثم جُعِلَ نِصْفُ الزوجِ والأخْتَين بينَهم على خمسةٍ؛ لأنَّ له النِّصفَ ولهما الثُّلُثَ، وذلك خمسة مِن ستَّةٍ، فتُقْسَمُ السَّبْعةُ الأسهمُ بينَهم على عَشَرةٍ؛ للمُقِرَّةِ خمسة، وللزوجِ ثلاثة، وللأخْتَين سهمان، فإذا أرَدْتَ تصْحيحَ المسألةِ فاضْرِبِ المسألةَ وهي اثنان وسبعون في عَشَرَةٍ، ثم كل مَن له شيءٌ مِن اثْنَين وسَبْعين مضْروبٌ في عَشَرةٍ، ومَن له شيءٌ مِن عَشَرةٍ مضْروبٌ في سبعةٍ (وإن صَدَّقَها الزوجُ، فهو يدَّعِي اثْنَيْ عَشَرَ) تَمامَ النِّصْفِ (والأخُ يدَّعِي سِتَّةً، تكُنْ ثَمانيةَ عَشَر، والثلاثةَ عَشَرَ لا تَنْقَسِمُ عليها ولا

ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَعَلَى هَذَا تَعْمَلُ مَا وَرَدَ عَلَيكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُوافِقُها، فاضْرِبِ المسألةَ في ثمانيةَ عَشَرَ) تكنْ ألفًا ومائتين وسِتَّةً وتسعين (ثم كلُّ مَن له شيء مِن اثنينِ وسبعين مضْروب في ثمانيةَ عَشَرَ، ومَن له شيءٌ مِن ثمانيةَ عَشَرَ مَضْروبٌ في ثلاثةَ عَشَر) فللزَّوْجِ أربعة وعشرون في ثمانيةَ عَشَرَ، أرْبَعُمائةٍ واثْنانِ وثلاثون، وللأخْتَين مِن الأمِّ مائتان وثمانية وثمانون، وللمُنْكِرَةِ (¬1) كذلك، وللمُقرَّةِ ثلاثةٌ في ثمانيةَ عَشَرَ، أربعة وخمسون، وللأخِ سِتَّةٌ في ثلاثة عَشَرَ، ثمانيةٌ وسَبْعون، وللزوجِ اثْنَا عَشَرَ في ثَلاثةَ عَشَرَ، مائةٌ وسِتَّةٌ وخمسون، وتَرْجِعُ بالاخْتصارِ إلى مائَتَين وسِتَّةَ عَشَرَ؛ لأنَّ السهامَ كُلَّها تَتَّفِقُ بالأسْداسِ (وعلى هذا تَعْمَلُ ما وَرَد عليك) مِن هذه المسائلِ إذا فَهِمْتَها، إن شاء الله تعالى. فصل: امرأةٌ وعَمٌّ ووَصِيٌّ لرجل بثُلُثِ مالِه، فأقَرَّتِ المرأةُ والعَمُّ أنَّه أخو الميِّتِ فصدَّقَهما، ثَبَت نَسَبُه وأخَذَ مِيراثَه، وإن أقَرَّتِ المرأةُ وحْدَها فلم يُصَدِّقْها المُقَرُّ به، لم يُؤثِّرْ إقرارُها شيئًا، وإنْ صدَّقَها الأخُ وحْدَه، فللمرأةِ الرُّبْعُ بكمالِه، إلَّا أن تُجِيزَ الوصيَّةَ، وللعَمِّ النِّصْفُ، ويَبْقَى الرُّبْعُ يُدْفَعُ إلى الوَصِيِّ، وإن صدَّقَها العَمُّ ولم يُصَدِّقْها الوَصِيُّ، فله الثُّلُثُ، ¬

(¬1) في النسختين «للمنكر». وانظر المبدع 6/ 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمرأةِ الرُّبْعُ، والباقي يُقِرُّ به العَمُّ لمَن لا يَدَّعِيه، فَفِيه الأوْجُهُ الثلاثةُ التي ذكرناها. وإن أقَرَّ به العَمُّ وحْدَه فصدَّقَه المُوصَى له، أخَذَ مِيراثَه، وهو ثَلاثةُ أرْباع، وللمرأةِ السُّدْسُ ويَبْقَى نِصْفُ السُّدْسِ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ لها؛ لأنَّ الموصَى له يعْتَرِفُ ببُطْلانِ الوصِيَّةِ أو وُقوفِها على إجازَةِ المرأةِ، ولم تُجِزْها. ويَحْتَمِلُ الأوْجُهُ الثلاثةُ. وإن لم يُصدِّقه أخَذَ الثُّلُثَ بالوصِيَّةِ، وأخذَتِ المرأةُ السُّدْسَ بالميراثِ، ويَبْقَى النصفُ في الأوْجُهِ الثلاثةِ. واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ.

باب ميراث القاتل

بَابُ مِيرَاثِ الْقَاتِل كُلُّ قَتْلٍ مَضْمُونٍ بِقِصَاص أوْ دِيَةٍ أوْ كَفَّارَةٍ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ، سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أوْ خَطَأً، بِمُبَاشَرَةٍ أوْ سَبَبٍ، صَغِيرًا كَانَ الْقَاتِلُ أوْ كَبِيرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ مِيراثِ القَاتِل (كلُّ قَتْلٍ مَضْموُنٍ بقِصَاص أو دِيَةٍ أو كَفارَةٍ يَمْنَعُ القاتِلَ مِيرَاثَ المَقْتُولِ، سواءٌ كان) القَتْلُ (عمدًا أو خَطأً، بِمباشَرَةٍ أو سبَبٍ، صغيرًا كان القاتِلُ أو كبيرًا) أو مَجْنونًا. لا يَرِثُ قاتِلُ العَمْدِ. وقد أجْمَعَ عليه أهلُ العلمِ، إلَّا ما حُكِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وابنِ جُبَيرٍ، أنَّهما وَرَّثاه. وهو رأيُ الخوارجِ؛ لأنَّ آيةَ الميراثِ تَتَناوَلُه بعُمومِها، فيجِبُ العمَلُ بها. ولا تَعْويلَ على هذا القَولِ؛ لشُذوذِه وقيامِ الدليلِ على خِلافِه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ عمرَ، رضِي اللهُ عنه، أعْطَى دِيَةَ ابنِ قَتادَة المُدْلِجِيِّ (¬1) لأخِيه دُونَ أبيه، وكان حذَفَه بسَيفٍ فقَتَلَه، واشْتَهَرَتْ هذه القِصَّةُ بينَ الصحابةِ فلم تُنكَرْ، فكانت إجْماعًا، وقال عمرُ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «ليسَ لقاتِلٍ شيءٌ». رَواه مالكٌ في «مُوَطأه»، والإِمامُ أحمدُ بسَنَدِه (¬2). وروَى عمرُو بنُ شعيبٍ عن أبِيه عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهُ (¬3). رَواه ابنُ اللَّبَّانِ بإسنادِه، ورَواهُما ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِه. وروَى ابنُ عباسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فإنَّه لا يَرِثُه، وإنْ لم يَكُنْ له وارِثٌ غيرُه، وإنْ كانَ وَالِدَه أو وَلدَه، فليسَ لقَاتِلٍ مِيراثٌ». رَواه الإِمامُ أحمدُ بإسنادِه (¬4). ولأنَّ تَوْرِيثَ القاتِلِ يُفْضِي إلى ¬

(¬1) في النسختين: «المذحجي». والتصويب من مصادر التخريج. (¬2) سقط من: الأصل. والحديث أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في ميراث العقل: والتغليظ فيه، من كتاب. الموطأ 2/ 867. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 49.كما أخرجه ابن ماجه، في باب القاتل لا يرث، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 884. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 496. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب لا يرث القاتل من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 220. وليس في مسند الإمام أحمد. وانظر: إرواء الغليل 6/ 118، 119.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكْثِيرِ القَتْلِ؛ لأنَّ الوارِثَ ربَّما اسْتَعْجَلَ موتَ مَوْروثِه ليأخُذَ ماله، كما فَعَل الإِسْرائِيليُّ الذي قَتَل عَمَّه، فأنْزلَ الله تعالى فيه قِصَّةَ البَقَرَةِ، ويقالُ: ما وُرِّثَ قاتِلٌ بعدَ عاميلَ. وهو اسمُ القَتِيلِ. فأمَّا القَتْلُ خَطأً، فذَهَبَ كَثير مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ القاتِلَ لا يَرِثُ أيضًا. نصَّ عليه أحمدُ. يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وعلي، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباس. وَرُوىَ نحوُه عن أبي بكرِ، رَضِي الله عنهم. وبه قال شُرَيحٌ، وعُرْوَةُ، وطاوُسٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشَّعْبِيُّ، وشَرِيكٌ، والحسنُ بنُ صالحٍ، ووكِيعٌ، ويَحْيَى بنُ آدمَ، والشَّافِعيُّ، وأصحابُ الرَّأي. وذهب قومٌ إلى أنَّه يَرِثُ مِن المالِ دُونَ الدِّيَةِ. رُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، وعمرِو بنِ شعيبٍ، وعطاءٍ، والحسنِ، ومجاهدٍ، والزُّهْرِيِّ، ومكحولٍ،

2881 - مسألة: (فأما ما لا يضمن بشيء من هذا؛ كالقتل قصاصا أو حدا أو دفعا عن نفسه، وقتل العادل الباغي، والباغي العادل، فلا يمنع. وعنه، لا يرث العادل الباغي، ولا الباغي العادل. فيخرج

وَمَا لَا يُضْمَنُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذا؛ كَالْقَتْلِ قِصَاصًا أوْ حَدًّا أوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَقَتْلِ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ، وَالْبَاغِي الْعَادِلَ، فَلَا يَمْنَعُ. وَعَنْهُ، لَا يَرِثُ الْبَاغِي الْعَادِلَ، وَلَا الْعَادِلُ الْبَاغِيَ. فَيُخَرَّجُ مِنْهُ أنَّ كُلَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزاعِيِّ، وابنِ أبي ذئْبٍ، وأبي ثورٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وداودَ. ورُوِيَ نحوُه عن عليٍّ؛ لأنَّ ميِرَاثَه ثابت بالكتابِ والسُّنَّةِ، تَخَصَّصَ قَاتِلُ العَمْدِ بالإِجْماعِ، فوجَبَ البقاءُ على الظَّاهِرِ فيما سِواه. ولَنا، الأحادِيث المذكورَةُ، ولأنَّ مَن لا يَرِثُ مِن الدِّيَةِ لا يَرِثُ مِن غيرِها، كقاتِلِ العَمْدِ، والمُخالِفِ في الدِّينِ. والعموماتُ مخصَّصَة بما ذكرناه. فعلى هذا، القَتْلُ المانِعُ مِن المِيراثِ هو القَتْلُ بغيرِ حقٍّ، كالعَمْدِ وشِبْهِ العَمْدِ والخطأ، وما أُجْرِيَ مُجْراه؛ كالقتلِ بالسببِ، وقتلِ الصَّبِيِّ، والمجنونِ، والنائمِ، وكلِّ قتلٍ مَضْمونٍ بقِصاصٍ أو دِيَةٍ أو كفَّارةٍ. 2881 - مسألة: (فأمَّا ما لا يُضْمَنُ بشَيءٍ مِن هذا؛ كالقتلِ قِصاصًا أو حدًّا أو دَفْعًا عن نفسِه، وقتلِ العادلِ الباغِيَ، والباغِي العادلَ، فلا يَمْنَعُ. وعنه، لا يَرِثُ العادلُ الباغِيَ، ولا الباغِي العادلَ. فيُخَرَّجُ

قَاتِلٍ لَا يَرِثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه أنَّ كُلَّ قاتِلٍ لا يَرِثُ) وجُملةُ ذلك، أنَّ القتلَ المانِعَ مِن الإرْثِ ما كان مَضْمونًا على ما ذكرنا، فأمَّا ما ليس بمَضْمونٍ، فلا يَمْنَعُ المِيراثَ، كالقتلِ قِصاصًا وحَدًّا ودفْعًا عن نفسه، وقتلِ العادلِ الباغِيَ، أو مَن قَصَد مَصْلَحَةَ مُوَلِّيه بما له فِعْلُه؛ مِن سَقْيِ دواءٍ، أو بَطِّ خُرَاجٍ، فمات، أو مَن أمَرَه إنسانٌ عاقلٌ كبيرٌ ببَطِّ خُرَاجِه، أو قَطْعِ سَلْعَةٍ منه، فمات بذلك، وَرِثَه في ظاهِرِ المذْهَبِ. قال أحمدُ: إذا قَتل العادلُ الباغيَ في الحربِ يَرِثُه. وعن أحمدَ، أنَّ العادِلَ إذَا قَتَلَه الباغِي في الحربِ لا يَرِثه. ونَقَل محمدُ بنُ الحَكَمِ عن أحمدَ في أرْبَعَةِ شُهودٍ شَهِدُوا على أُخْتِهم بالزِّنَى، فرُجِمَتْ، فرَجَمُوا مع الناسِ: يَرِثونَها، هم غيرُ قَتَلَةٍ. وعن أحمدَ روايةٌ أُخْرَى تَدُلُّ على أنَّ القتلَ يَمْنَعُ الميراثَ بكلِّ حالٍ، فإنَّه قال في روايةِ ابْنَيه صالحٍ وعبدِ اللهِ: لا يَرِثُ الباغِي العادلَ، ولا العادِلُ الباغِيَ. وهذا يدُلُّ على أنَّ القَتْلَ يَمْنَعُ الميراثَ بكلِّ حالٍ. وهو ظاهرُ مذْهَبِ الشافعيِّ أخذًا بظاهرِ الحديثِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنّه قاتِلٌ، فأشْبَهَ الصَّبِيَّ والمجنونَ. وقال أبو حنيفةَ وصاحباه: كلُّ قَتْلٍ لا يَأثَمُ فيه لا يَمْنَعُ الميراثَ، كقتلِ الصبيِّ، والمجنونِ، والنائمِ، والسَّاقِطِ على إنسانٍ مِن غيرِ اخْتيارٍ منه، وسائِقِ الدَّابَّةِ وقائِدِها وراكِبِها إذا قَتَلَتْ بيَدِها أو فِيها، فإنَّه يَرِثه؛ لأنَّه قتلٌ غيرُ متَّهَم فيه ولا إثْمَ فيه، أشْبَهَ القتلَ في الحدِّ. ولَنا على أبي حنيفةَ وأصحابِه، عمومُ الأخْبارِ، خَصَصْنا منِها القتلَ الذي لا يُضْمَنُ، ففي ما عداه تَبْقَى على مُقْتضاها، ولأنه قَتْلٌ مضمونٌ فيَمنعُ الميراثَ كالخطأ. ولَنا على الشافعيِّ، أنَّه فِعْلٌ مَأذونٌ فيه، فلم يَمْنَعِ الميراثَ، كما لو أطْعَمَه أو سَقاه باختيارِه فأفْضَى إلى تَلَفِه، ولأنَّه حُرِمَ الميراثَ في مَحَلِّ الوفاقِ، كَيلا يُفْضِيَ إلى إيجادِ (¬1) القتلِ المحرَّمِ، وزَجْرًا عن إعْدامِ النَّفْسِ المعْصومةِ، وفي مَسْألتِنا حِرْمان الميراثِ يَمْنَعُ إقامةَ الحدودِ الواجبةِ واستيفاءَ الحُقوقِ المشْروعَةِ، ولا يُفضي إلى إيجادِ قتلٍ مُحرَّمٍ، فهو ضِدُّ ما ثبت في الأصْلِ، ولا يصِحُّ القياسُ ¬

(¬1) في م: «اتحاد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على قتلِ الصبيِّ والمجنونِ؛ لأنَّه قتلٌ مُحَرَّمٌ، وتفويتُ نَفْسٍ مَعْصومةٍ، والتوريثُ يُفْضِي إليه، بخلافِ مَسْألَتِنا. إذا ثَبَت هذا، فالمشارِكُ في القتلِ في الميراثِ كالمُنْفَرِدِ؛ لأنَّه يَلْزَمُه مِن الضَّمانِ بحَسَبِه، فلو شَهِدَ على مَوْروثِه مع جماعةٍ ظُلْمًا فقُتِلَ لم يَرِثْه، وإن شَهِدَ بحقٍّ وَرِثَه؛ لأنَّه غيرُ مَضْمونٍ. فصل: أربعةُ إخْوةٍ قَتَل أكبَرُهم الثاني، ثم قَتَل الثالثُ الأصْغَرَ، سَقَط القِصاصُ عن الأكْبَرِ؛ لأنَّ مِيراثَ الثاني صار للثالثِ والأصْغَرِ نِصْفَين، فلمَّا قَتَل الثالثُ الأصْغَرَ لم يَرِثْه، ووَرِثَه الأكْبَرُ، فرَجَعَ إليه نِصْفُ دَمِ نَفْسِه وميراثُ الأصْغَرِ جميعُه، فسقَطَ عنه القِصاصُ لميراثِه بعضَ دمِ نَفْسِه، وله القِصاصُ على الثالثِ، ويَرِثُه في ظاهِرِ المذْهَبِ؛ فإنِ اقْتُصَّ منه وَرِثَه. ووَرِثَ إخْوتَه الثلاثةَ. ولو أنَّ ابْنَينِ (¬1) قَتَل أحدُهما أحدَ أبوَيهِما، وهما زَوْجَان، ثم قتلَ الآخرُ أباه (¬2) الآخَرَ، سَقَط القِصاصُ عن الأوَّلِ، ¬

(¬1) في م: «اثنين». (¬2) في م: «أبا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجَبَ على القاتلِ الثانِي، لأنَّ الأوَّلَ لمَّا قَتَل أباه وَرِثَ ماله ودَمَه أخوه وأُمُّه، فلمَّا قَتَل الثاني أمَّه، وَرِثَها قَاتِلُ الأبِ، فصار له مِن دَمِ نَفْسِه ثُمْنُه، فسَقَطَ القِصاصُ عنه لذلك، وله القِصاصُ على الآخَر، فإن قَتَلَه، وَرِثَه في ظاهِرِ المذْهبِ. وإن جَرَح أحدُهما أباه، والآخَرُ أُمَّه، وماتا في حالٍ واحدةٍ ولا وارِثَ لهما سِواهُما، فلكُلِّ واحدٍ منهما مالُ الذي لم يَقْتُلْه، ولكُلِّ واحِدٍ منهما القِصاصُ على صاحِبه. ولذلك لو قَتَل كلُّ واحدٍ منهما أحَدَ الأبوَين ولم يكونا زَوْجَين، فلكُلِّ واحدٍ منهما القِصاصُ على أخيه، إلَّا أنَّه لا يُمْكِنُ أحدَهما الاسْتِيفاءُ إلَّا بإبطالِ حقِّ الآخَرِ، فيسْقُطان. وإن عَفَا أحدُهما عن الآخَرِ، فللآخَرِ قتْلُ العافي، ويَرِثُه في الظاهِرِ. وإن بادَرَ أحدُهما فقَتَل أخاه، سَقَط القِصاصُ عنه، ووَرِثَه في الظاهِرِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرِثَه، ويَجِبُ القِصاصُ عليه، لأنَّ القِصاصَين لمَّا تَساوَيا وتَعَذَّرَ الجمعُ بينَ استيفائِهما، سَقَطَا، فلم يَبْقَ لهما حُكْمٌ، فيكونُ المستوفِي مِنهما مُتَعَدِّيًا باسْتيفائِه، فلا يَرِثُ أخاه، ويجبُ القِصاصُ عليه بقتلِه. وإن أشْكَلَ كَيفِيَّةُ موتِ الأبوَين وادَّعَى كُلُّ واحدٍ منهما أنَّ قَتيلَه أوَّلُهما موتًا، خُرِّجَ في تَوْرِيثهما ما ذكرنا في الغَرْقَى، مِن تورِيثِ كُلِّ واحدٍ مِن الميِّتين مِن الآخَرِ، ثم يَرِثُ كُلُّ واحدٍ منهما بعضَ دَمِ نَفْسِه، فيسْقُطُ القِصاصُ عنهما، ومَن لا يرَى ذلك، فالجوابُ فيها كالتي قبلَها. ويَحْتَمِلُ أن يَسْقُطَ القِصاصُ بِكُلِّ حالٍ للشُّبْهَةِ، والله أعلمُ، ويكونُ لكُلِّ واحدٍ منهما دِيَةُ الآخَرِ ومالُه.

باب ميراث المعتق بعضه

بَابُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ الْعَبْدُ وَلَا يُورَثُ، سَوَاءٌ كَانَ قِنًّا، أوْ مُدَبَّرًا، أوْ مُكَاتَبًا، أوْ أُمَّ وَلَدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ميراثِ المُعْتَقِ بعضُه (لا يَرِثُ العبدُ ولا يُورَثُ، سواءٌ كان قِنًّا، أو مُدَبَّرًا، أو مُكاتَبا، أو أُمَّ ولدٍ) قال شيخُنا (¬1): لا أعلمُ خِلافًا في أنَّ العبْدَ لا يَرِثُ، إلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ في رجُلٍ مات وترك أبًا مملوكًا، يُشْتَرَى مِن مالِه ويُعْتَقُ ثم (¬2) يَرِثُ. وقاله الحسنُ. وحُكِيَ عن طاوسٍ أنَّ العبدَ يَرِثُ، ويكونُ ما وَرِثَه لسيِّدِهِ، كَكَسْبه، وكما لو وَصَّى له، ولأنَّه تصِحُّ الوصيةُ له فيَرِثُ، كالحَمْلِ. ولَنا، أنَّ فيه نقصًا مَنَع كونَه مَوْروثًا، فمنَعَ كونَه وارثًا، كالمُرْتدِّ، ويفارِقُ الوصيَّةَ فإنَّها تصِحُّ لمَوْلاه ولا ميراثَ له، وقياسُهم يَنْتَقِضُ بِمُخْتَلِفَي الدِّينِ. وقولُ ابنِ مسعودٍ لا يصِحُّ؛ لأنَّ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 123. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأبَ رقيقٌ حينَ موتِ ابنِه، فلم يَرِثْه، كسائِرِ الأقاربِ؛ وذلك لأنَّ الميراثَ صار لأهْلِه بالموتِ، فلم يَنْتَقِلْ عنهم إلى غيرِهم. وأجْمَعوا على أن المملوكَ لا يُورَثُ؛ لأنَّه لا مال له، فإنه لا يملِكُ، ومن قال: إنَّه يملِكُ بالتمليكِ. فمِلْكُه ناقِصٌ غيرُ مستقِرٍّ، يَزولُ إلى سيِّدِه بزوالِ مِلْكِه عن رقَبَتِه، بدليلِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ باعَ عبدًا وله مالٌ، فمالُه للبائِعِ إلَّا أن يَشْتَرِطَه المُبْتاعُ» (¬1). ولأنَّ السيدَ أحَقُّ بمنافِعِه وأكسابِه في حياتِه، فكذلك بعدَ مماتِه. وممَّنْ رُوِيَ عنه أنَّ العبدَ لا يَرِثُ ولا يُورَثُ ولا يَحْجُبُ؛ عليٌّ، وزيدٌ، والثَّوْرِيّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرأي. والأسيرُ الذي عندَ الكفارِ يَرِثُ إذا عُلِمَتْ حياتُه في قولِ عامةِ الفقهاء، إلَّا سعيدَ بنَ المسيَّبِ، فإنَّه قال: لا يَرِثُ؛ لأنَّه عبدٌ. ولا يصِحُّ؛ لَأنَّ الكفارَ لا يمْلِكُون الأحْرارَ بالقَهْرِ، وهو باقٍ على حرِّيته، فيَرثُ، كالمُطْلَقِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُدَبَّرُ وأُمُّ الولدِ كالقِنِّ؛ لأنَّه رَقيقٌ، بدليلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باعَ مُدَبَّرًا (¬1). وأمُّ الولدِ مملوكةٌ، يجوزُ لسيِّدِها وطؤها بحُكْمِ المِلْكِ، وإجارَتُها، وحُكْمُها حُكْمُ الأمَةِ في جَمِيعِ أحْكامِها، إلَّا فيما ينْقُلُ المِلْكَ فيها أو يرادُ له، كالرَّهْنِ. فأمَّا المُكاتَبُ، فإن لم يَمْلِكْ قَدْرَ ما عليه فهو عبدٌ لا يَرِثُ ولا يُورَثُ، وإن مَلَك قَدْرَ ما يُؤدِّي ففِيه روايتان؛ إحْداهما، أنَّه عبدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ لا يَرِثُ ولا يُورَثُ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وابنِ عمرَ، وعائشةَ، وأُمِّ سلمةَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والشافعيِّ، وأبي ثورٍ. وعن ابنِ المسيَّبِ، وشُرَيحٍ، والزُّهْرِيِّ نحوُه؛ لما روَى أبو داودَ (¬2) بإسناده عن عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ». وفي لفظٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما عَبْدٍ كاتَبَ على مِائَةِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بيع المزايدة، وباب بيع المدبر، من كتاب البيوع، وفي: باب من باع مال المفلس. . . .، من كتاب الاستقراض، وفي: باب بيع المدبر، من كتاب العتق، وفي: باب عتق المدبر. . . .، من كتاب الكفارات، وفي: باب إذا أُكره حتى وهب. . . .، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 3/ 91، 109، 156، 192، 8/ 181، 182، 9/ 27. ومسلم، في: باب الابتداء في النفقة بالنفس. . . .، من كتاب الزكاة، وفي: باب جواز بيع المدبر، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 2/ 692، 693، 3/ 1289. وأبو داود، في: باب في بيع المدبر، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 352. والترمذي، في: باب ما جاء في بيع المدبر، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 225. والنسائي، في: باب بيع المدبر، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 267. والدارمي، في: باب بيع المدبر، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 257. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 301، 305، 308، 369، 370، 390. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُوقِيَّةٍ، فأدَّاهَا [إلَّا عَشْرَ أواقٍ، فهو عَبْدٌ، وأيُّما عَبْدٍ كَاتَبَ على مِائَةِ دِينارٍ فأدَّاها] (¬1)، إلَّا عشَرَةَ دَنانِيرَ، فهو عَبْدٌ». وعن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، و [عُمَرَ بنِ عبدِ اللهِ مَوْلَى عُفْرَةَ] (¬2)، وعبدِ اللهِ بنِ عُبَيدَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعَتَّابِ بنِ أُسِيدٍ: «مَنْ كاتَبَ مُكاتَبًا فهو أحَقُّ به حتى يَقْضِيَ كِتَابَتَه». وقال القاضي، وأبو لخطابِ: إذا أدَّى المكاتَبُ ثلاثةَ أرباعِ كتابَتِه وعجز عن الرُّبْعِ، عَتَقَ؛ لأنَّ ذلك يَجِبُ إيتاؤه للمكاتَبِ، فلا يجوزُ إبْقاؤه على الرقِّ لعَجْزِه عمَّا يَجِبُ ردُّه (¬3) إليه. والروايةُ الثانيةُ، أنه إذا مَلَك ما يؤدي صار حرًّا يَرِث ويُورَث، فإذا مات له مَن يَرِثه وَرِثَ، وإن مات فلسيِّدِه بقِيَّة كتابَتِه، والباقي لوَرَثَتِه؛ لما روَى أبو داودَ (¬4) بإسنادِه، عن أُمِّ سلمةَ قالت: قال لنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان لإِحْداكُنَّ مُكَاتَبٌ، وكانَ عِنْدَه ما يؤدِّي، فلتَحْتَجِبْ منه». وروَى الحَكَمُ، عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وشُريحٍ: يُعْطَى سيدُه مِن تركَتِه ما بَقِيَ مِن كتابَتِه، فإن فَضَل شيءٌ كان لورَثَةِ المكاتَبِ. ورُوِيَ نحوُه عن الزُهريِّ. وبه قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسختين: «عبد الله مولى عفرة». وانظر تهذيب التهذيب 7/ 471، 472. (¬3) في م: «ورده». (¬4) في: باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 346. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 265، 266. وابن ماجه، في: باب المكاتب، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 842. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 289، 308، 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والحسنُ، ومنصورٌ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ، إلَّا أنَّ مالكًا جَعَل مَن كان معه في كتابَتِه أحقَّ ممَّن لم يكنْ معه، فإنَّه قال في مكاتَبٍ هَلَك وله أخ معه في الكتابَةِ، وله ابنٌ، قال: ما فَضَل مِن كتابَتِه لأخيه دون ابنِه. وجعلَه أبو حنيفةَ عبدًا ما دام حيًّا، وإن مات أُدِّيَ مِن تَرِكَتِه باقي كتابَتِه، والباقي لوَرَثَتِه. ورُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال على المِنْبَرِ: إنَّكُم مكاتِبون مكاتَبِين، فأيُّهم أدّى النِّصفَ فلا رِقَّ عليه. وعن عليٍّ: إذا أدَّى النِّصفَ فهو حُرٌّ. وعن عروةَ نحوُه. وعن الحسنِ: إذا أدَّى الشَّطْرَ فهو غَريمٌ. وعن ابنِ مسعودٍ وشُريحٍ مثلُه. وعن ابنِ مسعودٍ: إذا أدَّى ثُلُثًا أو رُبْعًا فهو غَريمٌ. وعن ابنِ عباس: إذا كَتَب الصحيفَةَ فهو غَريمٌ. وعن عليٍّ قال: تَجْرِي العَتاقَة في المكاتَبِ في أولِ نَجْمٍ. يَعْنِي يَعْتِقُ منه بقَدْرِ ما أدَّى. وعنه أنَّه قال: يَرِثُ، ويَحْجُبُ، ويَعْتِقُ منه بقَدْرِ ما أدَّى. وروَى حمَّادُ بنُ سلمةَ عن أيوبَ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أصَابَ المُكَاتَبُ حدًّا أو مِيراثًا وَرِثَ بحسابِ ما عتَقَ منه، وأُقِيمَ عليه الحدُّ بحسابِ ما عَتَقَ منه» (¬1). وفي روايةٍ: «يُودَى (¬2) المكاتَبُ بقَدْرِ ما عَتَقَ منه دِيَةَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في دية المكاتب، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 500. والترمذي، في: باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدى، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 264. والنسائي، في: باب دية المكاتب، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 40، 41.والإمام أحمد، في: المسند 1/ 260، 292، 369. (¬2) في م: «يؤدى».

2882 - مسألة: (فأما المعتق بعضه، فما كسبه بجزئه الحر، فهو لورثته، ويرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية)

فَأمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ، فَمَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ فَلِوَرَثَتِهِ، وَيَرِثُ وَيَحْجُبُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُرِّ، وقَدْرِ ما رَقَّ منه دِيَةَ العبدِ». قال يحيى بنُ أبي كثيرٍ: وكان عليٌّ، رَضِيَ الله عنه، ومروانُ بنُ الحكمِ يقولان ذلك. وقد رُوِيَ حديثُ ابنِ عباسٍ عن عكرمةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا. والحديثُ الذي رَوَيناه (¬1) لقولِنَا أصَحُّ، ولا نعلمُ أحدًا مِن الفقهاءِ قال بهذا، وما ذكرناه أولى، إن شاء اللهُ. 2882 - مسألة: (فأمَّا المُعْتَقُ بعضُه، فما كَسَبَه بجزئِه الحرِّ، فهو لوَرَثَتِه، ويَرِثُ ويَحْجُبُ بقَدْرِ ما فيه مِن الحُريَّةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُعْتَقَ بعضُه إذا اكْتَسَبَ مالًا ثم ماتَ وخَلَّفَه؛ فإن كان قد كَسَبَه بجُزْئِه الحر، مثلَ أن يكونَ قد هايأ سيدَه على مَنْفَعَتِه، فاكْتَسَبَ في أيامِه أو وَرِثَ شيئًا، فإنَّ الميراثَ إنَّما يستَحِقه بجُزئِه الحرِّ، أو كان قد قاسَمَ سيدَه في حياتِه، فتَرِكَتُه كُلُّها لورَثَتِه، لا حقَّ لمالكِ باقيهِ فيها. وقال قومٌ: جميعُ ما خَلَّفَه ¬

(¬1) في م: «روياه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَه وبينَ سيدِه. قال ابنُ اللبَّانِ: هذا غلطٌ؛ لأنَّ الشَّريكَ إذا أخَذَ حقَّه مِن كسْبِه لم يَبْقَ له حَقٌّ في الباقي، ولا سبيلَ له على ما كَسَبَه بنصفِه الحرِّ، كما لو كان بينَ الشريكَين فاقْتَسَما كَسْبَه، لم يكنْ لأحَدِهما حَقٌّ في حِصَّةِ الآخَرِ، والعبدُ يخْلُفُ أحدَ الشريكَين فيما عَتَقَ منه. فأمَّا إن لم يكنْ كَسَبَه بجُزْئِه الحرِّ خاصَّةً، ولا اقْتَسَما كسْبَه، فللمالكِ باقِيه مِن تَرِكَتِه بقَدْرِ مِلْكِه فيه، والباقي لوَرَثَتِه، فإن مات له مَن يَرِثُه، فإنَّه يَرِثُ ويُورَثُ ويَحْجُبُ، على قَدْرِ ما فيه مِن الحُريَّةِ. هذا قولُ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رضي اللهُ عنهما. وبه قال. عثمانُ البَتِّيُّ (¬1)، وحمزَةُ الزَّيَّاتُ، وابنُ المبارَكِ، والمُزَنِيّ، وأهلُ الظاهرِ. وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: لا يَرِثُ ولا يُورَثُ، وأحكامُه أحكامُ العبدِ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ في القَدِيم، وجعلا ما لَه لمالكِ باقِيهِ. قال ابنُ اللَّبَّانِ: هذا غلطٌ؛ لأنه ليس لمالكِ باقِيهِ على ما عَتَقَ منه مِلْكٌ، ولا وَلاءٌ، [ولا] (¬2) هو ذو رَحِم. قال ابنُ سُرَيجٍ (¬3): يَحْتَمِلُ على قولِ الشافعيِّ القديمِ أن ¬

(¬1) في م: «التيمي». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْعَلَ في بيتِ المالِ؛ لأنَّه لا حَقَّ له فيما كسَبَه بجُزْئِه الحرِّ. وقال الشافعيُّ في الجديدِ: ما كسَبَه بجُزْئِه الحرِّ لورَثَتِه، ولا يَرِثُ هو ممَّن مات شيئًا. وبه قال طاوسٌ، وعمرُو بنُ دينارٍ، وأبو ثورٍ. وقال ابنُ عباسٍ: هو كالحُرِّ في جميعِ أحكامِه؛ في تَوْرِيثه والإِرْثِ منه، وغيرِهما. وبه قال الحسنُ، وجابرُ بنُ زيدٍ، والشَّعْبِيّ، والنَّخَعِيُّ، والحكَمُ، وحمادٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيّ، وأبو يوسف، ومحمدٌ، واللُّولُؤِيّ، ويحيى بنُ آدمَ، وداودُ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الذي لم يُعْتِقِ استَسْعى العبدَ، فله مِن تَركَتِه سِعايتُه (¬1)، وله نصفُ ولايةٍ، وإن كان أغْرَمَ (¬2) الشَّريكَ، فولاؤه كلّه للذي أعْتَقَ بَعْضَه. ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، ثنا الرَّمْلِيُّ، عن يزيدَ بنِ هارونَ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال في العبدِ (¬3) يَعْتِقُ بعضُه: «يَرِثُ ويُورَث على قَدْرِ ما عَتَقَ منه» (¬4). ولأنَّه يَجِبُ أنْ يَثْبُتَ لكُلِّ بعضٍ حُكْمُه، كما لو كان الآخَرُ مثلَه، وقياسًا لأحَدِهما على الآخَرِ. إذا ثَبَت هذا، فالتَّفْرِيعُ على قولِنا؛ لأنَّ العملَ على غيرِه واضحٌ. وكَيفِيةُ تَوْرِيثِه أن يُعْطَى مَن له فرْضٌ بقَدْرِ ما فيه مِن الحريَّةِ مِن فَرْضِه، وإن كان عَصَبَةً، نُظِرَ ما لَه مع الحُريَّةِ الكامِلَةِ، فأُعْطِيَ بقدرِ ¬

(¬1) في م: «سعاية». (¬2) في م: «غرم». (¬3) في م: «العتيق». (¬4) انظر تخريج حديث: «إذا أصاب المكاتب حدًّا. . . .» المتقدم. وانظر إرواء الغليل 6/ 161، 162.

فَإِذَا كَانَتْ بِنْتٌ وَأمٌّ نِصْفُهُما حُرٌّ، وَأَبٌ حُرٌّ، فَلِلْبِنْتِ بنِصْفِ حُرِّيَّتِهَا نِصْفُ مِيرَاثِهَا وَهُوَ الرُّبْعُ، وَلِلأمِّ مَعَ حُرِّيَّتِهَا وَرِقِّ الْبِنْتِ الثُّلُثُ، وَالسُّدْسُ مَعَ حُرِّيَّةِ الْبِنْتِ، فَقَدْ حَجَبَتْهَا حُرِّيّتهَا عَنِ السُّدْسِ، فَبِنِصْفِ حُرِّيَّتِهَا تَحْجُبُهَا عَنْ نِصْفِهِ، يَبْقَى لَهَا الرُّبْعُ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً، فَلَهَا بِنِصْفِ حُرِّيَّتِهَا نِصْفُهُ وهُوَ الثُّمْنُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. وَإنْ شِئْتَ نَزَّلْتَهُمْ أَحْوَالًا، كَتَنْزِيلِ الْخَنَاثَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما فيه منها. فإذا خَلَّفَ (أُمًّا وبنتًا نصفُهما حرٌّ، وأبًا حرًّا؛ فللبنتِ بنصفِ حُرِّيَّتِهَا نصفُ مِيراثِها وهو الرُّبْعُ، وللأمِّ مع حُرِّيَّتِهَا وْرِقِّ البنتِ الثُّلُثُ، والسُّدْسُ مع حُرِّيَّةِ البنتِ، فقد حَجَبَتْها حُرِّيَّتِهَا عن السُّدْسِ، فبنِصْفِ حُرِّيَّتِهَا تَحْجُبُها عن نِصْفِه، يَبْقَى لها الرُّبْعُ لو كانت حرَّةَ، فلها بنصفِ حُرِّيَّتِهَا نِصْفُه وهو الثُّمْنُ، والباقي للأبِ، وإن شِئْتَ نزَّلْتَهم أحوالًا، كتنْزِيلِ الخنَاثَى) فتَقُولُ: إن كانتا حرَّتَين فالمسألةُ مِن سِتَّةٍ؛ للبنتِ ثلاثةٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللأُمِّ السُّدْسُ سَهْمٌ، والباقي للأبِ، وإن كانا رقيقَين فالمالُ للأبِ، وإن كانتِ البنتُ وحدَها حرَّةً فلها النِّصفُ، والمسألةُ مِن اثْنَين، وإن كانتِ الأمُّ وحدَها حرةً فلها الثُّلُثُ وهي مِن ثلاثةٍ، وكُلُّها تَدْخُلُ في السِّتَّةِ، فتَضْرِبُها في الأرْبَعةِ الأحوالِ تكنْ أربعةً وعشرين؛ للبنتِ سِتَّةٌ وهي الرُّبْعُ؛ لأنَّ لها النِّصْفَ في حالين، وللأُمِّ الثُّمْنُ وهو ثلاثةٌ؛ لأنَّ لها السُّدْسَ في حالٍ والثُّلُثَ في حالٍ، والباقي للأبِ، وتَرْجِعُ بالاختصارِ إلى ثمانيةٍ.

2883 - مسألة: (وإن كان عصبتان، نصف كل واحد منهما حر، كالأخوين، فهل تكمل الحرية فيهما؟ يحتمل وجهين. وإن كان أحدهما يحجب الآخر؛ كابن وابن ابن، فالصحيح أنها لا تكمل)

وَإذَا كَانَ عَصَبَتَانِ، نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرٌّ، كَالْأَخَوَينِ، فَهَلْ تُكَمَّلُ الْحُرِّيَّةُ فِيهمَا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. وَإنْ كَانَ أحدُهُمَا يَحْجُبُ الْآخَرَ؛ كَابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ، فَالصَّحِيحُ أنهَا لَا تُكَمَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2883 - مسألة: (وإن كان عَصَبَتان، نصفُ كُلِّ واحدٍ منهما حرٌّ، كالأخوين، فهل تُكَمَّلُ الحريةُ فيهما؟ يَحْتَمِلُ وجْهَين. وإن كان أحَدُهما يحْجُبُ الآخَرَ؛ كابنٍ وابن ابنٍ، فالصَّحيحُ أنَّها لا تُكَمَّلُ) إذا كان عَصَبتان لا يحْجُبُ أحدُهما الآخرَ، كابْنين نصفُهما حُرٌّ، ففيه وجهان، أحدُهما، تُكَمَّلُ الحرِّيةُ فيهما، بأن تُضَمَّ الحُرِّيةُ مِن أحدِهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ما في الآخَرِ منهما، فإن كَمَل منهما واحدٌ، ورِثا جميعًا ميراثَ ابنٍ حُرٍّ؛ لأنَّ نِصْفَيْ شيءٍ شيءٌ كاملٌ، ثم يُقْسَمُ ما وَرِثاه بينَهما على قَدْرِ ما في كُلِّ واحدٍ منهما، فإذا كان ثُلُثا أحدِهما وثُلُثُ الآخَرِ، كان ما وَرِثاه بينَهما أثلاثًا، فإن نَقَص ما فيهما مِن الحُرِّيةِ عن حُرٍّ كامِلٍ، وَرِثا بقَدْرِ ما فيهما، وإن زاد على حُرٍّ واحدٍ وكان الجُزءان فيهما سواءً، قُسِمَ ما يَرِثانِه بينَهما بالسَّويَّةِ، وإنِ اخْتَلَفَا أُعْطِي كُلُّ واحدٍ منهما بقَدْرِ ما فيه. قال الخَبْرِيُّ: قال الأكثرونَ: هذا قياسُ قولِ عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. والوجهُ الثاني، لا تَكْمُلُ الحُرِّيةُ فيهما؛ لأنَّها لو كَمَلَتْ لم يَظْهَرْ للرِّقِّ أثرٌ وكانا في ميراثِهما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحُرَّينِ. وإن كان أحدُهما يَحْجُبُ الآخَرَ، فقيلَ: فيهما وجْهان. والصَّحيح أنَّ الحُريَّةَ لا تَكْمُلُ هاهُنا؛ لأنَّ الشيءَ لا يَكْمُلُ بما يُسْقِطُه، ولا يُجْمَعُ بينَه وبينَ ما يُنافيه. ووَرَّثَهم بعضُهم بالخِطابَ وتَنْزيلِ الأحْوالِ، وحَجَب بعضَهم ببعضٍ على مثال تَنْزِيلِ الخَناثَى. وهو قولُ أبي يوسفَ، وقد ذكرناه. مسائل ذلك: ابنٌ نِصْفُهُ حُرٌّ، له نِصْفُ المالِ، فإن كان معه ابنٌ آخَر نِصْفُه حُرٌّ، فلهما المال، في أحَدِ الوَجْهَين، وفي الآخَرِ، لهما نِصْفُه والباقي للعَصَبَةِ أو لبيتِ المالِ إن لم يكنْ عَصَبَةٌ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لكُلِّ منهما ثلاثَةُ أثْمانِ المالِ؛ لأنَّهما لو كانا حُرَّين لكان لكلِّ واحدٍ منهما النِّصْفُ، ولو كانا رَقِيقَين لم يكنْ لهما شيءٌ، ولو كان الأكْبَرُ وحْدَه حرًّا كان له المالُ ولا شيءَ للأصْغَرِ، ولو كان الأصْغَرُ وحدَه حُرًّا فكذلك، فلِكُلِّ واحدٍ منهما في الأحوالِ الأربعةِ مالٌ ونِصفٌ، فله رُبْعُ ذلك وهو ثلاثَةُ أثْمانٍ. فإن كان معهما ابنٌ آخَرُ ثُلُثُه حُرٌّ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يُقْسَمُ المالُ بينَهم على ثمانيةٍ، كما تُقْسَمُ مسألةُ المُباهَلَةِ. وعلى الثاني، يُقْسَمُ النِّصْفُ بينَهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ثمانيةٍ. وفيه وَجْهٌ آخرُ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بينَهم أثلاثًا، ثم يُقْسَمُ السُّدْسُ بينَ صاحِبَي النِّصْفَين نِصْفَين. وعلى تَنْزِيلِ الأحوالِ، يَحْتَملُ أن يكونَ لكُلِّ واحدٍ ممَّن نِصْفُه حُرٌّ سُدْسُ المالِ وثُمْنُه، ولمَن ثُلُثُه حُرٌّ ثُلُثا ذلك، وهو تُسْعُ المالِ ونِصْفُ سُدْسِه؛ لأنَّ لكُلِّ واحدٍ المال في حالٍ ونِصْفَه في حالين وثُلُثَه في حالٍ، فيكونُ له مالان وثُلُثٌ في ثمانيةِ أحوالٍ، فنُعْطِيه ثُمْنَ ذلك وهو سُدْسٌ وثُمْنٌ، ويُعْطَى مَن [ثُلُثُه حُرٌّ] (¬1) ثُلُثَيه، وهو تُسْعُ المالِ ونِصْفُ سُدْسِه. ابنٌ حُرٌّ وابنٌ نِصفُه حُرٌّ، المالُ بينَهما على ثلاثةٍ على الوَجْهِ الأوَّلِ. وعلى الثاني، النِّصفُ بينَهما نصفان والباقي للحُرِّ، فيكون للحُرِّ ثلاثةُ أرباعٍ وللآخَرِ الرُّبْعُ. ولو نَزَّلْتَهما بالأحوالِ أفْضَى إلى هذا؛ لأنَّ للحُرِّ المال في حالٍ والنِّصْفَ في حالٍ، فله (¬2) نِصْفُهما، وهو ثلاتةُ أرباعٍ، وللآخَرِ نِصْفُه في حالٍ، فله نِصْفُ ذلك وهو الرُّبْعُ. ولو خَاطَبْتَهما لقلتَ للحُرِّ: لكَ المالُ لو كان أخوك رقيقًا، ونِصْفُه لو كان حرًّا، فقد حَجَبَك بحُرِّيتِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فلهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النِّصفِ، فبِنِصْفِها يحْجُبُك عن الرُّبْعِ، يَبْقَى لك ثلاثةُ أرباعٍ. ويقالُ للآخَرِ: لك النِّصفُ لو كنتَ حرًّا، فإذا كان نِصْفُك حُرًّا فلك نِصْفُه، وهو الرُّبْعُ. ابنٌ ثُلُثاه حُرٌّ وابنٌ ثُلُثُه حُرٌّ، على الأوَّلِ، المالُ بينَهما أثلاثًا. وعلى الثاني، الثُّلُثُ بينَهما، وللآخَرِ ثُلُثٌ فيكونُ له النِّصفُ، وللآخَرِ السُّدْسُ. وقيل: الثُّلُثان بينَهما أثلاثًا. فإنَّا بالخِطابِ نقولُ لمَن ثُلُثاه حُرٌّ: لو كنتَ وحدَك حرًّا كان لك المالُ، ولو كنتما حُرَّين كان لك النِّصفُ، فقد حَجَبَك بحرِّيتِه عن النِّصفِ، فبثُلُثِها يحجُبُك عن السُّدْسِ، يَبْقَى لك خَمْسةُ أسْداسٍ لو كنت حُرًّا، فلك بثُلُثَيْ حريةٍ خَمْسَةُ أتْسَاعٍ. ويقالُ للآخَرِ: يحجُبُك أخوك بثُلُثَيْ حريةٍ عن ثُلُثَيِ النِّصفِ وهو الثُّلُثُ، يَبْقَى لك الثُلُثان، فله بثُلُثِ حُرِّيتِه ثُلُثُ ذلك، وهو التُّسْعان، ويَبْقَى التُّسْعان لعَصَبَتِه -إن كان- أو ذِي رَحِمٍ، وإلَّا لبيتِ المالِ. ابنٌ حُرٌّ وبنتٌ نِصفُها حُرٌّ؛ للابنِ خَمْسةُ أسداسِ المالِ، وللبنتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُدْسُه، في الخِطابِ والتنزِيلِ جميعًا، ومَن جَمَع الحُرِّيَّةَ أفْضَى قولُه إلى أنَّ له أرْبَعَةَ أخْماسِ المالِ، ولها الخُمْس. فإن كانتِ البنتُ حُرَّةً والابنُ نِصْفُه حُر وعَصَبَهٌّ، فللابنِ الثُلُثُ، ولها رُبْعٌ وسُدْس، ومَن جَمَعَ الحُرِّيةَ فيهما جعل المال بينَهما نصْفَين. ابنٌ وبنتٌ نصفُهما حُرٌّ وعَصَبَةٌ، فمن جَمعَ الحُرِّيةَ فثلاثةُ أرباعِ المالِ بينَهما على ثلاثةٍ. وقال بعضُ البَصْرِيين: النِّصْفُ بينَهما على ثلاثةٍ. ومَن ورَّثَ بالتَّنزِيلَ والأحْوالِ قال: للابنِ المالُ في حالٍ وثُلُثَاه في حالٍ، فله رُبْعُ ذلك، رُبْعٌ وسُدْسٌ، وللبِنْتِ نِصْفُ ذلك، ثُمْنٌ ونِصْفُ سُدْسٍ، والباقي للعَصَبَةِ. وإن شئتَ قُلتَ: إن قدَّرْناهما حُرَّين فهي مِن ثلاثةٍ، وإن قدَّرنا البنتَ وحدَها حُرَّةً فهي مِن اثْنَين، وإن قدَّرْنا الابنَ وحدَه حُرًّا فالمالُ له، وإن قدَّرناهما رَقِيقَين فالمالُ للعَصَبَةِ، فتَضْرِبُ الاثنَين في ثلاثةٍ تكنْ سِتَّةً، ثم في أربعةِ أحوالٍ تكنْ أربعةً وعشرين؛ فللابنِ المالُ في حالٍ سِتَّة، وثُلُثاه في حالٍ أرْبعةٌ، صار له عشَرةٌ، وللبنتِ النِّصْفُ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حالٍ [والثُّلُثُ في حالٍ] (¬1) خَمْسَةٌ، وللعَصَبَةِ المالُ في حالٍ، ونِصْفُه في حالٍ تِسْعَةٌ، فإن لم تكنْ عَصَبَةٌ، جَعَلْتَ للبنتِ في حالِ حُرِّيَّتِهَا المال كُلَّه بالفَرْضِ والرَّدِّ، فيكونُ لها مالٌ وثُلُثٌ، فيُجْعَلُ لها رُبْعُ ذلك، وهو الثُّلُثُ. وإن كان معهما امرأةٌ وأُمٌّ حُرّتان كمَلَتِ الحُرِّية فيهما، فحجَبَا الأمَّ إلى السُّدْسِ، والمرأةَ إلى الثُّمْنِ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما لو انْفَرَدَ لحجَبَ نِصْفَ الحَجْبِ، فإذا اجْتَمعا اجتمعَ الحَجبُ. ومَن وَرَّثَ بالأحوالِ والتنزِيلَ، قال: للأمِّ السُّدْسُ في ثلاثةِ أحوالٍ، والثُّلُثُ (¬2) في حالٍ، فلها رُبْعُ ذلك، وهو سُدْسٌ وثُلُثُ ثمْن، وللمرأةِ الثُّمْن في ثلاثَةِ أحوالٍ، والرّبْع في حالٍ، فلها رُبْعُ ذلك، وهو الثُّمْنُ ورُبْعُ الثُّمنِ، وللابنِ الباقي في حالٍ، وثُلُثاه في حالٍ، فله رُبْعُه، وللبِنْتِ ثُلُثُ الباقي في حالٍ، والنِّصفُ في حالٍ، فلها رُبْعُه وإن لم يكنْ في المسألةِ عَصَبَةٌ، فللبِنْتِ بالفَرْضِ والرَّدِّ أحَدٌ وعشرون مِن اثنين وثلاثين، مكانَ النِّصْفِ، وللأمِّ سَبْعَةٌ مكانَ سُدْس، وتصِحُّ المسألةُ إذا لم يكن فيها رَدٌّ بالبَسْطِ مِن مائتين وثمانيةٍ وثمانين سهمًا؛ للأمِّ منها سِتُّون، وللمرأةِ خَمْسَةٌ وأربعون، وللابنِ خَمْسَةٌ وثمانون (¬3)، وللبنتِ ثلاثةٌ وخمسون، والباقي للعَصبَةِ. وقياسُ ¬

(¬1) سقط من النسختين، وانظر المغني 9/ 130. (¬2) في م: «الربع». (¬3) في النسختين: «ثلاثون». وانظر المغني 9/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولِ مَن جَمَع الحُرِّيةَ في الحجْبِ، أن يَجْمَعَ الحُرِّيةَ في التَّوْرِيثِ، فيكونَ لهما ثلاثةُ أرباعِ الباقي. وقال ابنُ اللبَّانِ: لهما سَبْعَةَ عَشَرَ مِن ثمانيةٍ وأربعين؛ لأنهما لو كانا حُرَّين لكان لهما سَبعَةَ عَشَرَ مِن أربعةٍ وعشرين، فيكونُ لهما بنصفِ حُرِّيتهما نِصْفُ ذلك. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه جَعَل حَجْبَ كُلِّ واحدٍ منهما لصاحبِه بنصفِ حُريته كحَجْبِه إيَّاه بجَميعِها، ولو ساغ (¬1) ذلك لكان لهما حال انْفرادِهما النِّصْفُ بينَهما مِن غيرِ زيادةٍ. ابنٌ وأبوان، نِصْف كُلِّ واحدٍ منهما حُرٌّ، إن قدَّرْناهم أحْرارًا فللابنِ الثُّلُثان، وإن قدَّرْناه حُرًّا وحدَه فله المالُ، وإن قدَّرْنا معه أحدَ الأبوَين حرًّا فله خمسةُ أسْداس، فتَجْمَعُ ذلك تَجِدُه ثلاثةَ أموالٍ وثُلُثًا، فله ثُمْنُها، وهو رُبْع وسُدْس، وللأبِ المالُ في حالٍ وثُلُثاه في حالٍ وسُدْساه في حالين، فله ثُمْنُ ذلك رُبْعٌ، وللأمِّ الثُّلُثُ في حالين، والسُّدْسُ في حالين، فلها الثُّمْنُ، والباقي للعَصَبَةِ. وإن عَمِلْتَها بالبَسْطِ قلتَ: إن قَدَّرْناهم أحْرارًا فهي مِن سِتَّةٍ، وإن قدَّرْنا الابنَ وحْدَه حرًّا فهي مِن سَهْمٍ، وكذلك الأبُ، وإن قدَّرنا الأمَّ وحدَها حُرَّةً، أو (¬2) قدَّرْناها مع حُرِّيَّةِ الأبِ، فهي مِن ثلاثةٍ، وإن قدَّرْنا الابنَ مع الأبِ أو مع الأُمِّ، فهي مِن سِتَّةٍ، وإن قدَّرْناهم رقيقًا، فالمالُ للعَصَبَةِ، وجميعُ المسائلِ تَدخُلُ في سِتَّةٍ، فتَضْرِبُها في الأحوالِ، وهي ثمانية؛ تكنْ ثمانيةً وأربعين؛ للابنِ ¬

(¬1) في م: «ضاع». (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالُ في حالٍ سِتَّةٌ، وثُلُثاه في حالٍ أرْبعةٌ، [وخَمْسةُ أسْداسِه في حالين عَشرَةٌ، فذلك عشرون سهمًا مِن ثمانيةٍ وأربعين، وللأبِ المالُ في حالٍ سِتَّة، وثُلُثاه في حالٍ أرْبعةٌ] (¬1)، وسُدْساه في حالين، وذلك اثنا عشَرَ، وللأُمِّ الثُّلُثُ في حالين، والسُّدْسُ في حالين، وذلك سِتَّةٌ وهي الثُّمْنُ. وإن كان ثُلُثُ كُلِّ واحدٍ منهم (¬2) حُرًّا، زِدْتَ على السِّتِّ نِصفَها، تَصِرْ تِسْعَةً، وتَضْرِبُها في الثمانيةِ تكنِ اثْنَين وسبعين، فللابنِ عشرون مِن اثنين وسبعين، وهي السُّدْسُ والتُّسْعُ، وللأبِ اثنا عشَرَ، وهي السُّدْسُ، وللأمِّ سِتَّةٌ، وهي نِصفُ السُّدْسِ، ولم تَتَغَيَّر سِهامُهم، وإنَّما صارت مَنْسُوبةً إلى اثْنين وسبعين. وإن كان رُبْعُ كُلِّ واحدٍ منهم حرًّا، زِدْتَ على السِّتَّةِ مثلَها. وقيلَ فيما إذا كان نِصْفُ كلِّ واحدٍ منهم حرًّا: للأُمِّ الثُّمْنُ، وللأبِ الرُّبْعُ، وللابنِ النِّصْفُ. ابنٌ نِصْفُه حُرٌّ وأُمٌّ حُرَّةٌ، للأمِّ الرُّبْعُ، وللابنِ النِّصْفُ. وقيل: له ثلاثةُ أثْمانٍ، وهو نِصْف ما يَبْقَى. فإن كان بدلُ الأُمِّ أختًا حُرَّةً، فلها النِّصْفُ. وقيل: لها نِصْفُ الباقي، لأنَّ الابنَ يحْجُبُها بنِصْفِه عن نِصْفِ فَرْضِها. فإن كان نِصْفُها حرًّا. فلها الثُّمْنُ على هذا القولِ، وعلى الأوَّلِ، لها الرُّبْعُ، فإن كان مع الابنِ أخْتٌ مِن أُمٍّ أو أخٌ مِن أُمٍّ، فلكُلِّ واحدٍ منهما نِصف السُّدْسِ، وإن كان معه عَصَبَةٌ حُرٌّ، فله الباقي كُلُّه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «منهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ابنٌ نِصْفُه حُرٌّ وابنُ ابن حُر، المالُ بينَهما نِصْفَين في قولِ الجميعِ، إلَّا الثَّوْرِيَّ قال: لابنِ الابنِ الرُّبْعُ؛ لأنَّه محْجوبٌ بنِصْف الابنِ عن الرُّبْعِ. فإن كان نصفُ الثاني حرًّا فله الرُّبْعُ، وإن كان معهما ابنُ ابنِ ابنٍ نِصْفُه حُرٌّ، فله الثُّمْنُ. وقيل: للأعْلى النِّصْف، وللثاني النِّصْفُ؛ لأنَّ فيهما حُرِّيةَ ابن. وهذا قولُ أبي بكرٍ. وقال سفيانُ: لا شيءَ للثاني والثالثِ؛ لأنَّ ما فيهما مِن الحُريةِ مَحْجُوب بحُريةِ الابنِ. فإن كان معهم أخ حُر أو غيرُه مِن العَصَباتِ فله الباقي، وإن كان نِصْفُه حرًّا فله نِصْفُ ما بقى، إلَّا على الوَجْهَين الآخَرَين. ابنٌ نِصْفُه حُر، وابنُ ابنٍ ثُلُثُه حُر، وأخٌ ثَلاثَةُ أرباعِه حُرٌّ؛ للابنِ النِّصْفُ، وللثاني ثُلُثُ الباقي، وهو السُّدْسُ، وللأخ ثلاثةُ أرباعِ الباقي، وهو الرُّبْعُ. وعلى القولِ الآخَرِ، للابنِ النِّصف، ولابنِ الابنِ الثُّلُثُ، والباقي للأخِ. ثلاثةُ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِين، نِصْفُ كُلِّ واحدٍ حُرّ؛ للأخِ مِن الأم نِصْفُ السُّدْسِ، وللأخِ مِن الأبوَين نِصْفُ الباقي، وللأخِ مِن الأبِ نِصْفُ الباقي، وتصِحُّ مِن ثمانيةٍ وأربعين؛ للأخِ مِن الأم أرْبعةٌ، وللأخِ مِن الأبوَين اثنان وعشرون، وللأخِ مِن الأبِ أحَدَ عَشَرَ. وعلى القولِ الآخَرِ، للأخِ مِن الأم نِصْفُ سُدْس، وللأخِ مِن الأبوَين النصْفُ، وللاخِ مِن الأبِ ما بَقِيَ. فإن كان معهم بنتٌ حُرَّة فلها النِّصْفُ، ولا شيءَ للأخَ مِن الأمِّ، وللأخَ مِن الأخَوَين الرُّبْعُ، وللأخ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الأبِ الثُّمْنُ، والباقي للعَصَبَةِ. وعلى القولِ الآخَرِ، الباقي للأخِ مِن الأبوَين وحدَه. فإن كان نِصْفُ البنتِ حرًّا فلها الرُّبْعُ، وللأخِ مِن الأمِّ رُبْعُ السُّدْسِ، وللأخِ مِن الأبوَين نِصْفُ الباقي، وللأخِ مِن الأبِ الباقي. فصل: بنتٌ نِصْفُها حُرٌّ، لها الرُّبْعُ، والباقي للعَصَبَةِ، فإن لم يكنْ عَصَبةٌ فلها النصْفُ بالفَرْضِ والرَّدِّ، والباقي لذِي الرَّحِمِ، فإن لم يكنْ، فلبيتِ المالِ. فإن كان معها أمٌّ حُرَّةٌ، فلها الرُّبْعُ، لأنَّ البنتَ الحُرَّةَ تحْجُبُها عن السُّدْسِ، فنِصْفُها يحْجُبُها عن نِصْفِه. وإن كان معها امرأة، فلها الثُّمْنُ ونِصْفُ الثُّمْنِ. وإن كان معها أخٌ مِن أمٍّ، فله نِصْفُ السُّدْسِ. فإن كان معها بنتُ ابنٍ، فلها الثُّلُثُ، لأنَّها لو كانت كُلُّها رَقِيقَةً لكان لبنتِ الابنِ النِّصْفُ، ولو كانت حُرَّةً لكان لها السُّدْسُ، فقد حجَبَتْها حُرِّيتُها عن الثُّلُثِ، فنِصْفُها يحْجُبُها عن السُّدْسِ. وكلُّ مَن ذكرنا إذا كان نصفه حرًّا، فله نِصْفُ ما له في الحُرِّيةِ، فإن كان ثُلُثُه حُرًّا، فله ثُلُثُه. فإن كان معها بنتٌ أخْرَى حُرَّةٌ، فلهما رُبْعُ المالِ وثُلُثُه بينَهما على ثلاثةٍ عندَ مَن جمَعَ الحُرّيةَ فيهما؛ لأنَّ لهما بحُرِّيةٍ نصفًا وبنصفِ حُرِّيةٍ نصف كمالِ الثُّلُثَين. وفي الخِطابِ والتنزِيلِ، للحُرَّةِ رُبْعٌ وسُدْسٌ، وللأخْرَى سُدْسٌ، لأنَّ نصفَ إحْداهما يَحْجُبُ الأخْرَى الحُرَّةَ عن نصفِ السُّدْسِ، فيَبْقَى لها رُبْعٌ وسُدْسٌ، والحُرَّةُ تحْجُبُها عن سُدْس كامل، فيَبْقَى لها سُدْسٌ. فإن كان نِصْفُهما رَقِيقًا ومعهما عَصَبَةٌ، فلهما رُبْعُ المالِ وسُدْسُه بينَهما؛ لأنَّهما لو كانتا حرَّتَين لكان لهما الثُّلُثان، ولو كانتِ الكُبْرَى وحْدَها حُرَّةً كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها النِّصْفُ، وكذلك الصُّغْرَى، ولو كانتا أمَتَين كان المالُ للعَصَبَةِ، فقد كان لهما مالٌ وثُلُثان، فلهما رُبْعُ ذلك، وهو رُبْعٌ وسُدْسٌ. وطَرِيقُهما (¬1) بالبَسْطِ أن تقولَ: لو كانَتا حُرَّتَين فالمسألةُ مِن ثلاثةٍ، وإن كانتِ الكُبْرَى وحدَها حُرَّةً فهي مِن اثْنَين، وكذلك إذا كانتِ الصُّغْرَى وحدَها حُرَّةً، وإن كانَتا أمَتَين فهي مِن سَهْمٍ، فتَضْرِبُ اثْنَين في ثلاثةٍ تكنْ (¬2) سِتَّة، ثم في الأحْوالِ الأرْبعةِ، تكنْ أرْبعةً وعشرين؛ للكُبْرَى نِصْفُ المالِ في حالٍ ثلاثةٌ، وثُلُثُه في حالٍ سَهْمَانِ، صار لها خمسةٌ مِن أربعةٍ وعشرين، وللأخْرَى مثلُ ذلك، وللعَصَبَةِ المالُ في حالٍ، والنِّصْفُ في حالين، والثُّلُثُ في حالٍ، وذلك أربعةَ عشَرَ سَهْمًا مِن أربعةٍ وعشرين سَهْمًا. ومَن جَمَعَ الحُرِّيةَ فيهما جعل لهما النِّصْفَ والباقيَ للعَصَبَةِ. فإذا لم تكنْ عَصَبَة، نزَّلْتَهما على تَقْديرِ الرَّدِّ، فيكونُ حُكْمُهما حُكْمَ اثْنَين نِصْفُ كلِّ واحدٍ منهما حُر، على ما بَيَّناه. ثلاثُ بناتِ ابن مُتنَازلاتٍ، نِصْفُ كلِّ واحدةٍ حُر وعَصَبَة، للأولَى الرُّبْعُ، وللثانيةِ السُّدْسُ، لأنَّها لو كانت حُرَّةً كان لها الثُّلُثُ، وللثالثةِ نِصْفُ السُّدْسِ في قولِ البَصْرِيِّين؛ لأنَّك تقولُ للسُّفْلَى: لو كانتا أمَتَين كان لكِ النِّصْفُ، ولو كانت إحْداهما حُرَّةً كان لكِ السُّدْسُ، فنِصْفُهما ثُلُث، فتَحْجُبُكِ العَلْياءُ عن رُبْع والثانيةُ عن نِصفِ سُدْس، فيَبْقَى لكِ ¬

(¬1) في م: «طريقها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُدْسٌ لو كنتِ حُرَّةً، فإذا كان نِصْفُك حُرًّا، كان لكِ نِصْفُه. وفي التنزِيلِ، للثالثةِ نِصْفُ الثُّمْنِ وثُلُثُه؛ وذلك لأنَّنا لو نَزَّلْنا كلَّ واحدةٍ حُرَّةٍ وحْدَها، كان لها النِّصْفُ. فهذه ثلاثةُ أحْوالٍ مِن اثْنَين اثْنَين. ولو كُنَّ إماءً كان المالُ للعَصَبَةِ. ولو كُنَّ أحْرارًا كان للأولى النِّصْف، وللثانيةِ السدْسُ، والثُّلُثُ للعَصَبَةِ. ولو كانت الأولَى والثانية حُرَّتَين، فكذلك. ولو كانتِ الثانيةُ والثالثةُ حُرَّتَين، فللثَّانيةِ النِّصْفُ، وللثالثَةِ السُّدْسُ، والثُّلُثُ للعَصَبَة. فهذه أربعةُ أحوالٍ مِنٍ ستةٍ سِتَّة. والمسائلُ كُلُّها تَدْخُلُ فيها، فتَضْرِبُها في ثمانيةِ أحوْالِ تكنْ ثمانية وأربعين، للعُلْيا النِّصْفُ في أربعةِ أحوالٍ، اثنا عَشَرَ، وهي الرُّبْعُ، وللثَّانيةِ النّصفُ في حالين، والسُّدْسُ في حالين، وهي ثمانيةٌ، وذلك هو السُّدْسُ، وللثّالثةِ النِّصْفُ في حالٍ، والسُّدْسُ في حالين، وهي خَمْسةٌ، وهي نِصْفُ الثُّمْنِ وثُلُثُه. وقال قوم: تُجْمَعُ الحُرِّيةُ فيهنَّ، فيكونُ منهنَّ حُرية ونِصف، لهنَّ بها ثُلُث ورُبْعٌ، للأولى والثانيةِ رُبْعان، وللثّالِثَة نصْف سُدْس، فإن كان معهنَّ رابعةٌ كان لها نِصْفُ سُدْس آخرُ. ثلاثُ أخَواتٍ مُفْتَرِقاتٍ نِصْفُ كل واحدةٍ حُرٌّ، وامٌّ حُرّةٌ وعَمٌّ؛ للتي مِن قِبَلِ الأبوين الرُّبْعُ، وللتي مِن قِبَل الأبِ السُّدْسُ (¬1)، وللتي مِن قِبَلِ الأم نصفُ السُّدْسِ، وللأمِّ الثُّلُثُ؛ لأنَّها لا تَنْحَجِبُ إلَّا باثْنَين مِن الإِخْوَةِ ¬

(¬1) بحاشية الأصل: «لعله نصف سدس؛ لأنها لو كانت حرة لم تزد على السدس، فتستحق بنصف حريتها نصفه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأخَوَاتِ، ولم تَكْمُلِ الحُرِّيةُ [في (¬1)] اثْنَتَين، وللعَمِّ ما بَقِيَ. وهكذا لو كانت أختٌ حُرَّةٌ وأخرى نِصْفُها حُرٌّ وأمٌ حرةٌ، فللأمِّ الثُّلُثُ؛ لما ذكرناه. وقال الخَبْرِيُّ: للأمِّ الرُّبْعُ. وحَجَبَها بالحُرِّ، كما تُحْجَبُ بنصفِ البنتِ، والفرقُ بينَهما أنَّ الحَجْبَ بالولَدِ غَيرُ مُقدَّرٍ، بل هو مُطْلَقٌ في الولدِ والجُزءِ مِنه، وفي الإِخْوةِ مقدَّرٌ باثنينِ، فلا يثبتُ بأقلَّ منهما، ولذلك لم تُحْجَبْ بالواحدِ عن شيءٍ أصْلًا. وهذا قولُ ابنِ اللبَّانِ. وحَكَى القولَ الأوَّلَ عن الشَّعْبِيِّ وقال، هذا غَلَطٌ. وفي البابِ اختلاف كثيرٌ وفروعٌ قلَّما تَتَّفِقُ، وقَلَّ مسألة تجئُ إلَّا ويُمْكِنُ عملُها بقياسِ ما ذكَرْنا. ¬

(¬1) تكملة لازمة.

باب الولاء

بَابُ الوَلَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الولاءِ الأصْلُ فيه قولُه تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1). يعني الأدْعِياءَ. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الولَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». مُتَّفقٌ عليه (¬2). وعن ابنِ عمرَ قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيع الوَلَاءِ وهِبَتِه (¬3). وقال - عليه السلام -: «لَعَنَ الله مَنْ تَوَلَّى غيرَ مَوَاليهِ» (¬4). ¬

(¬1) سورة الأحزاب 5. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب بيع الولاء وهبته، من كتاب العتق، وفي: باب إثم من تبرأ من مواليه، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 3/ 192، 8/ 192. ومسلم، في: باب النهي عن بيع الولاء وهبته، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1145. كما أخرجه أبو داود، في: باب في بيع الولاء، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 115. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية بيع الولاء وهبته، من أبواب البيوع، وفي: باب ما جاء في النهي عن بيع الولاء وهبته، من أبواب الولاء. عارضة الأحوذي 5/ 245، 8/ 284، 285. والنسائي، في: باب بيع الولاء، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 269. وابن ماجه، في: باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته، من كتاب الفرائض 2/ 918. والدارمي، في: باب في النهي عن بيع الولاء، من كتاب البيوع، وفي: باب بيع الولاء، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 256، 398. والموطأ، في: باب مصير الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. الموطأ 2/ 782. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 9، 79. (¬4) انظر ما تقدم في صفحة 337.كما أخرج هذا الجزء البخاري، في: باب حرم المدينة، من كتاب فضائل المدينة، وفي: باب ذمة المسلمين وجوارهم. . . .، من كتاب الجزية. صحيح البخاري 3/ 26، 4/ 122.

2884 - مسألة: (كل من أعتق عبدا، أو عتق عليه برحم، أو كتابة، أو تدبير، أو استيلاد، أو وصية بعتقه، فله عليه الولاء، وعلى أولاده من زوجة معتقة أو من أمته، وعلى معتقيه ومعتقي أولاده وأولادهم

كُلُّ مَنْ أعتَقَ عَبْدًا، أَوْ عَتَقَ عَلَيهِ بِرَحِمٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ تَدْبِيرٍ، أو اسْتِيلَادٍ، أو وَصِيَّةٍ بِعِتْقِهِ، فَلَهُ عَلَيهِ الْوَلَاءُ، وَعَلَى أولَادِهِ مِنْ زَوْجَةٍ مُعْتَقَةٍ، أوْ مِنْ أَمَتِهِ، وَعَلَى مُعْتِقِيهِ وَمُعْتِقِي أَوْلَادِهِ وَأوْلَادِهِمْ وَمُعْتِقِهمْ، أبَدًا مَا تَنَاسَلُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديث حسن صحيح. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُم» (¬1). [حديث صحيح] (¬2). وروَى الخَلَّالُ بإسْنادِه عن [عبد الله] (¬3) ابنِ أبي أوْفَى، قال: قال لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الولَاءُ لُحْمَة كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لا يُبَاعُ ولا يُوهَبُ» (¬4). 2884 - مسألة: (كل مَن أعْتَقَ عبدًا، أو عَتَق عليه برَحِمٍ، أو كِتابَةٍ، أو تَدْبيرٍ، أو اسْتِيلادٍ، أو وصيةٍ بعتقِه، فله عليه الولاءُ، وعلى أولادِه مِن زوجةٍ مُعْتَقَةٍ أو مِن أمتِه، وعلى مُعْتَقِيه ومُعْتَقِي أولادِه وأولادِهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 291. ويضاف إليه للفظ الحديث هنا: وأخرجه البخاري في: باب مولى القوم من أنفسهم. . . .، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 8/ 193. والدارمي، في: باب في مولى القوم. . . .، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 244. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 448، 4/ 340. (¬2) في الأصل: «حديثان صحيحان». (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه 7/ 292 من حديث ابن عمر، وأخرجه الدارمي، في: باب بيع الولاء، كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 398. عن ابن مسعود. وعزاه صاحب الكنز للطبراني في الكبير عن عبد الله بن أبي أوفى. كنز العمال 10/ 324.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُعْتَقِهم، أبدًا ما تناسَلُوا) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَن أعْتَقَ عبدًا أو عَتَقَ عليه، ولم يُعْتِقْه سائِبَةً (¬1)، ولا مِن زكاتِه أو نذْرِه أو كفَّارَتِه، أنَّ له عليه الولاءَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الولَاءُ لمَنْ أعْتَقَ». متفق عليه. فصل: وإن أعْتَقَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا فله عليه الولاءُ؛ لأنَّ الولاءَ مُشبَّهٌ بالنَّسَبِ، والنَّسبُ ثابت بينَ أهلِ الحَرْبِ، فكذلك الولاءُ. وهذا قولُ عامةِ أهلِ العلمِ، إلَّا أهلَ العراقِ، فإنَّهم قالوا: العِتْقُ في دارِ الحربِ والكِتابَةُ والتَّدْبيرُ لا يَصِحُّ. ولَنا، أن مِلْكَهُم ثابتٌ، بدليلِ قولِ الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ} (¬2). فنَسَبَها إليهم، فصَحَّ عِتْقُهُم، كأهلِ الإِسلامِ، وإذا صَحَّ عِتْقُهُم ثبتَ الولاءُ لَهُم؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الولَاءُ لمَنْ أعْتَقَ». فإن جاءَنا المُعْتَقُ مُسْلِمًا، فالوَلَاءُ بحالِه. وإن سُبِيَ مَوْلَى النِّعْمَةِ، لم يَرِثْ ما دام عبدًا، فإن أُعْتِقَ، فعليه الوَلَاءُ لمُعْتِقِه، وله الوَلَاءُ على عَتِيقِه. وهل يَثْبُتُ لمُعْتِقِ السيِّدِ وَلَاءٌ على مُعْتَقِه؟ ¬

(¬1) أعتقه سائبة: أي أعتقه لله. ويأتي في صفحة 418. (¬2) سورة الأحزاب 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتَمِلُ أن يثْبُتَ، لأنَّه مَوْلَى مَوْلاهُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يثْبُتَ؛ لأنَّه ما حَصَل مِنه إنْعامٌ عليه ولا سَبَبٌ لذلك. فإن كان الذي اشْتَراه مَوْلاه فأعْتَقَه، فكلُّ واحدٍ مِنهما مَوْلَى صاحبِه , يَرِثُه بالولاءِ. وإن أسَرَه مَوْلاه فأعْتَقَه، فكذلك. فإن أسَرَه مَوْلَاه وأجْنَبِيٌّ فأعْتَقَاه، فولاؤه بَينَهما نِصْفَين. فإذا مات بعدَه المُعْتِقُ الأوَّلُ، فلشَرِيكِه نِصْفُ مالِه، لأنَّه مَوْلَى نِصْفِ مَولَاه، على أحدِ الاحْتِمالين. والآخَر، لا شيءَ له؛ لأنَّه لم يُنْعِمْ عليه. وإن سُبِيَ المُعْتَقُ فاشْتَراه رجلٌ فأعْتَقَه، بَطَل ولاءُ الأوَّلِ، وصارَ الوَلَاءُ للثاني. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وقيلَ: الوَلَاءُ بَينَهُما. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه ليس أحَدُهما أولَى مِن الآخَرِ. وقِيلَ: الوَلَاءُ للأوَّلِ؛ لأنَّه أسْبَقُ. ولَنا، أنَّ السَّبْيَ يُبْطِلُ مِلْكَ الحرْبِيِّ الأوَّلِ، فالولاءُ التابع له أوْلَى. ولأنَّ الوَلاءَ بَطَل باسْتِرْقاقِه، فلم يَعُدْ بإعْتاقِه. وإن أعْتَقَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا كافِرًا، فهَرَب إلى دارِ الحَرْبِ فاسْتُرِقَّ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا أعْتَقَه الحرْبِيُّ سَواءً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أعْتَقَ مُسْلِمٌ كافِرًا، فَهَرَبَ إلى دارِ الحرْبِ ثم سَبَاهُ المسلمون، فذَكَرَ أبو بكرٍ، والقاضِي، أنَّه لا يجوزُ اسْتِرْقاقُه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ في اسْتِرْقاقِه إبْطال ولاءِ المسلمِ المَعْصُومِ. قال ابنُ اللبَّانِ: ولأنَّ له أمانًا بعِتْقِ المسلمِ إيَّاه. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ، إن شاءَ الله، جَوازُ اسْتِرْقاقِه؛ لأنَّه كافر أصْلِيٌّ كِتابِيٌّ، فجازَ اسْتِرْقاقُه، كمُعْتَقِ الحَرْبِيِّ وكغيرِ المُعْتَقِ. وقولُهم: في اسْتِرْقاقِه إبْطَالُ وَلَاءِ المُسْلِم. قُلْنا: لا نُسَلِّمُ، بل متى أُعْتِقَ عاد الولاءُ للأوَّلِ، وإنَّما امْتَنَعَ عَمَلُه في حالِ رِقِّهِ لمانِعٍ، وإن سَلَّمْنا أنَّ فيه إبْطَال ولائِه، ولكنَّ ذلك غيرُ مُمْتَنِع، كما لو قُتِلَ بكُفْرِه فإنَّه يَبْطُلُ وَلَاؤه به، فكذلك بالاسْتِرْقاقِ، ولأنَّ القرابَةَ يَبْطُلُ عَمَلُها بالاسْتِرْقاقِ، فكذلك الولاءُ (¬2). وقولُ ابنِ اللَّبَّانِ: له أمانٌ. لا يصِحُّ؛ فإنَّه لو كان له أمانٌ لم يَجُزْ قَتْله ولا سَبْيُه. فعلى هذا، إنِ اسْتُرِقَّ، احْتَمَلَ أن يكونَ الوَلَاءُ للثاني؛ لأنَّ الحُكْمَين إذا تنافَيَا كان الثابِتُ هو الآخِرَ منهما، كالنَّاسِخِ والمَنْسُوخِ. واحْتَمَلَ أن يكونَ للأوَّلِ؛ لأنَّ ولاءَه ثَبَتَ وهو معصومٌ، فلا يزُولُ بالاسْتِيلاءِ، كحقيقةِ المِلْكِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه بينَهما، وأيهما مات كان للثَّاني. ¬

(¬1) في: المغني 9/ 219. (¬2) سقط من: م.

2885 - مسألة: (أو عتق عليه برحم)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أعتَقَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، أو أعتَقَه ذِمِّيٌّ، فازتَدَّ ولَحِقَ بدارِ الحربِ، فسُبِيَ، لم يَجُزِ اسْتِرقاقُه. وإنِ اشْتُرِيَ فالشِّراءُ باطِل، ولا يُقْبَلُ منه إلَّا التَّوْبةُ أو القَتْلُ. 2885 - مسألة: (أو عَتَق عليه بِرَحِم) يعني إذا مَلَكَه فعَتَقَ عليه بالمِلْكِ، كان له وَلَاوه؛ لأنَّه يَعتِقُ مِن مالِه بسببِ فِعْلِه، فكان ولاوه له، كما لو باشَرَ عِتْقَه. وسواءٌ مَلَكَه بشراءٍ أو هِبَةٍ أو إرثٍ أو غَنِيمَةٍ أو غيرِه، لا نعلَمُ بينَ أهلِ العلمِ فيه اخْتِلافًا (أو كتابةٍ، أو تدبير) يعني إذا كاتَبَه فأدَّى إلى مُكاتِبِه وعتَقَ، أو عَتَقَ بالتدبيرِ، فولاؤه لسيِّدِه، في قولِ عامةِ الفقهاءِ. وبه يقولُ الشافعيُّ وأهلُ العراقِ. وحَكَى ابنُ سُراقَةَ، عن عمرِو بن دِينار، وأبي ثَوْرٍ، أنَّه لا وَلاءَ على المُكاتَبِ؛ لأنَّه اشْتَرَى نَفسَه مِن سَيِّدِه، فلم يكنْ له عليه وَلاء، كما لو اشْتَراه أجْنَبِيٌّ فأعتَقَه. وكان قَتادَةُ يقولُ: مَن لم يَشْتَرِطْ ولاءَ المُكاتَبِ فللمُكاتَبِ أن يُوالِيَ مَن يشاءُ. وقال مكحولٌ: أمَّا المُكاتَبُ إذا اشْتَرَط ولاءَه مع رَقَبَتِه، فجائِزٌ. ولَنا، أنّ السيدَ هو المُعتِقُ للمُكاتَبِ؛ لأنَّه يَبِيعُه بمالِه، ومالُه وكَسْبُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لسيدِه، فجَعَلَ ذلك له، ثم باعَه به حتى عَتَقَ، قكان هو المُعتِقَ، وهو المُعتِقُ للمُدَبَّر أيضًا بلا إشْكالٍ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الوَلَاءُ لمَنْ أعتَقَ». ويدُلُّ على ذلك أنَّ المُكاتَبِينَ يدعَوْنَ مَوَالِيَ مُكاتِبيهِم، فيُقالُ: أبو سعيدٍ مَوْلَى أبي اسَيدٍ، وسِيرِينُ مَوْلَى أنس، وسليمانُ بنُ يَسارٍ مَوْلَى مَيمونَةَ. وكانوا مُكاتَبِينَ. ويدُلُّ على ذلك حَدِيثُ بَرِيرَةَ، أنَّها جاءَتْ إلى عائِشَةَ فقالت: يا أمَّ المؤمنينَ، إنِّي كاتبتُ أهْلِي على تِسْعِ أواقٍ فأعِينيني. فقالت عائشةُ: إن شاءوا عَددتُ لهم عَدَّةً واحِدَةً ويكونُ ولأوكِ لي، فَعَلْتُ. فأبَوْا أن يَبِيعُوها إلَّا أن يكونَ الوَلَاءُ لهم، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لَهُم الوَلَاءَ» (¬1). وهذا يدُلُّ على أنَّ الوَلاءَ كان لهم لو لم تَشْتَرِها مِنهم عائشة. فصل: وإنِ اشْتَرَى العبْدُ نَفْسَه مِن سيدِه بعِوَض حال، عَتَقَ، والوَلَاءُ لسيدِه؛ لأنّه يَبِيعُ ماله بمالِه، فهو مِثلُ المكاتَبِ سَواءً، والسيدُ هو المُعتِقُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235.

2886 - مسألة: (أو استيلاد، أو وصية بعتقه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما، فكان الوَلَاءُ له عليهما. 2886 - مسألة: (أو استيلادٍ، أو وصيةٍ بعتقِه) يعني إذا عَتَقَتْ أمُّ الولَدِ بموتِ سيدِ بها، فوَلَاؤها له يَرِثُها أقْرَبُ عَصَبَتِه. وهذا قولُ عمرَ، وعثمانَ، رضِيَ الله عنهما. وبه قال عامَّةُ الفُقَهاءِ. وقال ابنُ مسعودٍ: تعتِقُ مِن نَصيبِ ابنِها، فيكونُ ولاؤها له. ونحوُه عن ابنِ عباس. وعن علي: لا تَعتِقُ ما لم يُعتِقْها، وله بَيعُها. وبه قال جابرُ بنُ زيدٍ، وأهلُ الظاهِرِ. وعن ابنِ عباس نحوُه. ولذكْرِ الدَّلِيلِ على ذلك موضِع يُذْكَرُ إن شاءَ اللهُ تعالى في بابِه. ولا خلافَ بينَ القائلينَ بعِتْقِها أنَّ ولاءَها لمَن عَتَقَتْ عليه. ومذْهبُ الجُمهورِ أنَّها تعتِقُ بموتِ سيدِها مِن رأسِ المالِ، فيكونُ وَلاؤها له؛ لأنَّها عَتَقَتْ بِفِعلِه مِن مالِه، فَكان ولاؤها له، كما لو عَتَقَتْ بقولِه. ويَخْتَصُّ وَلَاؤها للذكورِ (¬1) مِن عَصَبَةِ السيدِ، كالمُدَبَّرِ والمُكاتَبِ. فصل: ومن أوْصَى أن يُعْتَقَ عنه بعدَ مَوتِه، فأعتِقَ، فالوَلَاءُ له. وكذلك إن أوْصَى به ولم يَقُلْ: عنى. فأعتِقَ، كان الولاءُ له؛ لأنَّ الإِعتَاقَ عنه مِن مالِه. فإن أُعتِقَ عنه ما يَجِبُ عِتْقُه، ككَفَّارةٍ ونحوها، فَفِيه اخْتِلافٌ نَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: ويَثْبُتُ الوَلاءُ للمُعتِقِ على المُعتَقِ؛ لما ذَكرنا. وعلى أولادَه مِن زوجةٍ مُعتَقَةٍ أو مِن أمَتِه؛ لأنَّه وليُّ نِعمَتِهم، وعِتْقُهم بسَبَبِه. ولأنَّهم ¬

(¬1) في م: «الذكور».

2887 - مسألة: (ويرث به عند عدم العصبة من النسب)

وَيَرِثُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ مِنَ النَّسَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرعٌ، والفرعُ يتْبَعُ أصلَه، بشَرطِ أن يكونُوا مِن زوجَةٍ مُعتَقَةٍ أو مِن أمَتِه. فإن كانت أمُّهم حرةَ الأصلِ، فلا وَلاءَ على وَلَدِها؛ لأنَّهم يَتْبَعونها في الحريةِ والرِّقِّ، فيَتْبَعونها في عدَمِ الولاءِ، إذ ليسَ عليها ولاءٌ. وكذلك إن كان أبوهم حُرَّ الأصلِ، إذا لم يَمسَسْهُم رِقّ. فإن كان قد ثَبَت عليهم (¬1) مِلْكٌ فأعتِقُوا، فوَلَاوهم لمُعتِقِهم؛ للحديثِ وهو قولُه عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «الولاءُ لمَنْ أعتَقَ». ويثْبُتُ الوَلَاءُ للمُعتِقِ على مُعتَقِي معتَقِيه (¬2)، ومُعتَقِي أولادِه، ومُعتَقِهِم أبدًا ما تناسَلُوا؛ لأنَّه وَلِي نعمَتِهم، وبسبَبِه عَتَقُوا، فأشْبَه ما لو باشَرَهم بالعِتْقِ. 2887 - مسألة: (ويَرِثُ به عندَ عدَمِ العَصَبةِ مِن النَّسبِ) فمتى كان للمُعتَقِ عَصَبَةٌ أو [ذو فَرض] (¬3)، وتَسْتَغْرِقُ (¬4) فُرُوضُهم المال، فلا شيءَ للمَوْلَى، لا نَعلَمُ في هذا خِلافًا. فإن لم يكنْ له عَصَبَة ولا ذُو فَرض يَرِثُ المال كلَّه، فهو للمَوْلَى. وإن كان ذو الفَرضِ لا يَرِثُ جميعَ المالِ، فالباقي للمَوْلَى؛ لِما روَى الحسن، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المِيراثُ للعَصَبَةِ، فإنْ لم يَكُنْ عَصَبَة فللمَوْلَى» (¬5). وعنه، أنَّ رجُلًا أعتَقَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «معتقته». (¬3) في م: «ذوي فروض». (¬4) في م: «تستحق». (¬5) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب النهي عن بيع الولاء وهبته. سنن سعيد 1/ 95. وهو حديث ضعيف. انظر الإرواء 6/ 163.

2888 - مسألة: (ثم يرث به عصباته الأقرب فالأقرب)

ثُمَّ يَرِثُ بِهِ عَصَبَاتُهُ مِنْ بعدِهِ، الأقْرَبُ فَالأقْرَبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدًا، فقال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى في مالِه؟ قال: «إنْ ماتَ ولم يَدَع وارثًا فهو لكَ» (¬1). ولأنَّ النَّسبَ أقْوَى مِن الوَلَاءِ، بدَلِيلِ أنَّه يَتَعَلَّقُ به التَّحرِيمُ، والنَّفَقَةُ، وسُقُوطُ القِصاصِ، ورَدُّ الشَّهادةِ، ولا يَتَعَلَّقُ ذلك بالوَلاءِ. 2888 - مسألة: (ثم يَرِثُ به عَصَباتُه الأقْرَبُ فالأقْرَبُ) وجملةُ ذلك، أنَّ العَتِيقَ إذا لم يُخَلِّفْ مِن نَسَبِه مَن يَرِثُه، كان مالُه لمَوْلَاه. فإن كان مَولَاه مَيِّتًا فهو لأقرَبِ عَصَبَتِه، سواء كان ولدًا، أو أخًا، أو عمًّا، أو أبا، أو غيرَه مِن العَصَباتِ، وسواء كان المُعتِقُ ذكرًا أو أنثى. فإن لم يكنْ له عَصَبة مِن أقاربِهِ كان الميراثُ لمَوْلاه، ثم لعَصَباتِه الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، ثم لمَوْلاه، وكذلك أبدًا. رُوِيَ هذا عن عمرَ، رضِيَ الله عنه. وبه قال الشَّعبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقتادةُ، ومالك، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيّ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ وصاحباه. ورُوِيَ عن علي، رضِيَ الله عنه، ما يدُلُّ على أنَّ مذهبَه في امرأةٍ ماتت وخَلَّفَتِ ابْنَها وأخاها، أو ابنَ أخيها، أنَّ ميراثَ مَواليها لأخِيها وابنِ أخيها، دُونَ ابْنِها. ورُوِيَ عنه الرُّجوعُ إلى مثلِ قولِ الجماعةِ، فرُوِيَ عن إبراهيمَ، أنَّه قال: اخْتَصَمَ عليٌّ والزُّبَيرُ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ميراث الولاء، من كتاب الفرائض. السنن الكبرى 6/ 240. وأعله بالإرسال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَوالِي صَفِيَّةَ بنتِ عبدِ المُطَّلب، فقال على: أنا أحَقُّ بهم، أنا أرِثُهم وأعقِلُ عنهم. وقال الزُّبَيرُ: هم مَوالِي أمِّي، وأنا أرِثُهم. فقَضى عمرُ للزُّبَيرِ بالمِيراثِ، والعَقْلِ على عليٍّ. رَواه سعيدٌ (¬1)، [قال: نا] (¬2) أبو معاويةَ، نا (¬3) عُبَيدَةُ الضَّبِّيُّ، عن إبراهيمَ. وقال: ثنا هُشَيم، ثنا الشَّيبانيُّ، عن الشَّعبِيِّ، قال: قَضَى بوَلاءِ مَوالِي صَفِيَّةَ للزُّبَيرِ دُونَ العباسِ، وقَضَى في أمِّ هانِيء، بنتِ أبي طالبٍ لابنِها جَعدَةَ بنِ هُبَيرَةَ دُونَ علي. وروَى الإمَامُ (¬4) بإسنادِه عن زيادِ بنِ أبي مريمَ، أنَّ امرأةً أعتَقَتْ عبدًا لها، ثم توُفِّيَتْ وتَرَكَتِ ابنًا لها وأخاها، ثم توُفيَ مَوْلاها مِن بعدِها، فأتى أخو المرأةِ وابنُها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مِيراثِه، فقال - عليه السلام -: «ميراثُه لابنِ المرأةِ». فقال أخوها: يا رسولَ اللهِ: لو جَرَّ جَرِيرَةً كانت عليَّ، ويكونُ مِيراثُه لهذا! قال: «نعم». وروَى (¬5) بإسنادِه عن سعيدِ ¬

(¬1) أخرجهما سعيد، في: باب الرجل يعتق فيموت. . . . السنن 1/ 94. (¬2) في م: «ورواه». (¬3) في النسختين: «بن». وانظر سنن سعيد 1/ 94. (¬4) أي أحمد. والحديث أخرجه الدارمي، في: باب الولاء، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 372. وليس في المسند، انظر: إرواء الغليل 6/ 136. (¬5) لم نجده في المسند: وأخرجه الدارمي، في: باب الولاء، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 372. والبيهقي، في: باب الولاء للكبر من عصبة المعتق. . . .، من كتاب الولاء. السنن الكبرى 10/ 304. وسعيد بن منصور، في: باب الرجل يعتق فيموت. . . .، السنن 1/ 94. كلهم عن الزهري مرسلًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ المسيَّبِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المَوْلَى أخٌ في الدِّينِ، ومَوْلَى نِعمَةٍ، يَرِثُه أوْلَى النَّاسِ بالمُعتِقِ». إذا ثَبَت هذا، فإنَّ المُعتِقَةَ [إذا ماتت و] (¬1) خَلَّفَتِ ابنَها وأخاها، أو ابنَ أخيها، ثم مات مَوْلَاها، فمِيراثُه لابنِها، وإن مات ابنُها بعدَها وقبلَ مَوْلَاها، وتَرَكَ عَصَبَةً كأعمامِه وبَنِي أعمامِه، ثم مات العبدُ وتَرَكَ أخا مَوْلاتِه وعَصَبةَ ابنِها، فميراثُه لأخِي مَوْلاتِه، لأنَّه أقْربُ عَصَبةِ المُعتِقِ، فإنَّ المرأةَ لو كانت هي المَيتةَ لوَرِثَها أخوها وعَصَبَتُها. فإنِ انْقَرَضَ عَصَبَتُها، كان بيتُ المالِ أحَقَّ به مِن عَصَبةِ ابنِها. يُروَى هذا عن علي. وبه قال أبانُ بنُ عثمانَ، وقَبِيصَةُ بنُ ذُؤيبٍ (¬2)، وعطاء، وطاوس، والزُّهْرِيُّ، وقَتادةُ، ومالك، والشافعيُّ، وأهلُ العراقِ. ورُوِيَ عن علي رواية أخْرَى، أنَّه لعَصَبةِ الابنِ. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ، وابنِ عباس، وسعيدِ بنِ المسيَّبِ. وبه قال شُرَيح. وهذا مبْنِيٌّ على أنَّ الوَلاءَ يُورَثُ؛ يُورَثُ المالُ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ نحوُ هذا. واحتَجُّوا بأنَّ عمرَو بنَ شُعَيبٍ روَى عن أبِيه عن جَدِّه، أنَّ رِئَابَ (¬3) بنَ حُذَيفَةَ تَزَوَّجَ امرأةً، فولَدَتْ له ثلاثةَ غِلْمةٍ، فماتَتْ أمُّهم، فوَرِثُوا عنها ولاءَ مَوالِيها، وكان عمروُ بنُ العاصِ عَصَبةَ بنيها، فأخْرَجَهُم إلى الشامِ، فماتوا، فقَدِمَ عَمْرُو بنُ العاصِ، ومات مَوْلاها ¬

(¬1) في م: «لو». (¬2) في النسختين: «عثمان». وانظر المغني 9/ 245. (¬3) كذا في النسختين، وضبطه الحافظ المنذري: «رياب». انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 3/ 87. وفي سنن ابن ماجه: «رباب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَرَك مالًا، فخاصَمه إخْوَتُها إلى عمرَ، فقال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحرَزَ الوَالِدُ والوَلَدُ فَهُوَ لعَصَبَتِه مَنْ كَانَ». قال: وكَتَب له كتابًا فيه شَهادَةُ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ ورجُل آخَرَ، فنحنُ فيه إلى الساعةِ. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬1). والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ فإن الولاءَ لا يُورَثُ، على ما نَذْكُرُه، إن شاء اللهُ تعالى، وإنما يُورَثُ به، وهو باقٍ للمعتِقِ، يَرِثُه به أقْرَبُ عَصَباتِه، ومَن لم يكنْ مِن عَصَبةِ أمِّهِ لم يَرِث شيئًا، وعَصَبةُ الابنِ غيرُ عَصَبَةِ أمِّه، فلا يَرِثُ الأجانِبُ منها بولائها دُونَ عَصَباتِها. وحديثُ عَمرِو بنِ شُعَيبٍ غَلَطٌ. قال أحمدُ (¬2): الناسُ يُغَلِّطُونَ عَمرَو بنَ شُعَيبٍ في هذا الحديثِ. فعلى هذا، لا يَرِثُ المَوْلَى العَتِيقَ مِن أقاربِ مُعتِقِه إلَّا عَصَباتُه، الأقْرَبُ منهم فالأقْربُ، على ما ذكرنا في ترتيبِ العَصَباتِ. ولا يَرِثُ ذو فرضٍ بفَرضِه، ولا ذو رَحِم، إلَّا أن يكونَ الأبُ والجَدُّ مع البَنِينَ، والجَدُّ مع الإِخْوَةِ على ما نذكرُه. فإنِ اجْتَمَعَ لرجل مِنهم فَرضٌ وتعصيبٌ، كالأبِ والجَدِّ، والزوجِ والأخ مِن الأمِّ إذا كانا ابنَيْ عَمٍّ، وَرِثَ بما فيه مِن التَّعصيبِ دُونَ الفَرضِ. فإن كان (¬3) عَصَباتٌ في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، كالبَنِينَ وبَنِيهم، والإِخوةِ وبَنِيهم، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الولاء، من كتاب الفرائض. سنن أبي داود 2/ 114. وابن ماجه، في: باب ميراث الولاء، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 912. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 27. (¬2) في المغني 9/ 246: «حميد». (¬3) في م: «كانا».

2889 - مسألة: (وعنه في المكاتب إذا أدى إلى الورثة، أن ولاءه لهم)

وَعَنْهُ فِي الْمُكَاتَبِ إِذَا أدَّى إِلَى الْوَرَثَةِ، أنَّ وَلَاءَهُ لَهُم، وَإنْ أَدَّى إِلَيهِمَا فَوَلَاؤهُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعمامِ وبَنِيهم، اقْتَسَمُوا المراثَ بالسَّويَّةِ. وهذا كُلُّه لا خلافَ فيه سوى ما ذكرنا مِن الأقوالِ الشَّاذَّةِ. فصل: ويُقَدَّمُ المَوْلَى في الميراثِ على الرَّدِّ وذَوي الأزحام، في قول جُمهورِ العُلماءِ مِن الصحابةِ والتابعينَ ومَن بعدَهم. فإذا مَات رجل فخَلَّفَ بِنتَه ومَوْلاه، فلبِنْتِه النصفُ، والباقي لمَوْلاه. كان خَلَّفَ ذا رَحِم ومَوْلَاه، فالمالُ لمَوْلاه خاصَّةً. وعن عمرَ، وعل، يُقَدَّمُ الرَّدُّ على المَوْلَى. ولعَلَّهُم يحتَجُّون بقولِ اللهِ تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ} (¬1). ولَنا، حَدِيثُ عبدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ (¬2)، وحديثُ الحسنِ (¬3). ولأنَّه عَصَبَة يَعقِلُ عن مَوْلاه، فيُقَدَّمُ. على الرَّدِّ وذي (¬4) الرَّحِمَ، كابْنَ العَمِّ. 2889 - مسألة: (وعنه في المُكاتَبِ إذا أدَّى إلى الورَثَةِ، أنَّ وَلاءَه لهم) لأنَّه انْتَقَلَ إليهم، أشْبَه ما لو اشْتَرَوْه (وإن أدَّى إليهما فولاؤه بَينَهما) لأنَّهما اشْتَرَكا في أدَائِه إليهما، فاشْتَرَكا في اسْتِحقَاقِ ولائِه، كالشَّرِيكين. ¬

(¬1) سورة الأنفال 75، سورة الأحزاب 6. (¬2) حديث عبد الله بن شداد يأتي في صفحة 434. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 409، 410. (¬4) في م: «ذوي».

2890 - مسألة: (ومن كان أحد أبويه)

وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أبوَيهِ حُرَّ الأصلِ وَلَم يَمَسَّهُ رِقٌّ فَلَا وَلَاءَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرِّوايةُ الأخْرَى، ولاوه للمكاتِبِ؛ لأنَّ عِتْقَه بكتابَتِه، وهي مِن سيدِه. 2890 - مسألة: (ومَن كان أحدُ أبويه) الحرَّين (حُرَّ الأصلِ، فلا وَلاءَ عليه) وجملتُه، أنَّه إذا كان أحدُ الزوجين حُرَّ الأصلِ، فلا وَلاءَ على ولدِهما، سواء كان الآَخَرُ عَرَبِيًّا أوْ مَوْلًى؛ لأنَّ الأمَّ إن كانت حُرَّةَ الأصلِ، فالولدُ يَتْبَعُها فيما إذا كان الأبُ رقيقًا في انْتِفاءِ الرِّق والوَلاءِ، فلأن يَتْبَعَها في نَفْي الوَلاءِ وحدَه أوْلَى. وإن كان الأبُ (¬1) حُرَّ الأصلِ، فالولدُ يَتْبَعُه فيما إذا كان عليه وَلاءٌ، بحيث يَصِيرُ الوَلاءُ عليه لمَوْلَى أبِيه، فلأن يَتْبَعَه في سقوطِ الوَلاءِ عنه أوْلَى. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الأبُ أعجَمِيًّا والأمُّ مَوْلاةً، ثَبَتَ الولاءُ على ولَدِه. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّه حُرُّ الأصلِ، فلم يَثْبُتِ الوَلاءُ على ولدِه، كما لو كان عربيًّا. وسَواء كان مسلمًا أو ذمِّيًّا أو حَربِيًّا، مجهولَ النَّسَبِ أو مَعلومَه. وهذا قولُ أبي يوسفَ، ومالكَ، وابنِ سُرَيجٍ (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضِي: إن كان مَجْهولَ النّسبِ، ثَبَت الوَلاءُ على ولدِه لمَوْلَى الأمِّ، إن كانت مولاةً. قال ابنُ اللَبِّانِ: هذا ظاهرُ مَذْهبِ الشافعي. وقال الخَبْرِيُّ: هذا قولُ أبي حنيفةَ، ومحمدٍ، وأحمدَ؛ لأنَّ مُقْتَضى ثُبُوتِه لمَوْلَى الأمِّ مَوْجودٌ، وإنَّما امتَنَعَ في مَحَل الوفاقِ لحُرِّيةِ الأبِ، فإذا لم تكنْ معلومَةً، فقَدْ وَقَع الشَّكُّ في المانِعِ، فيَبْقَى على الأصلِ، ولا يَزُولُ اليَقينُ بالشكِّ، ولا يُتْرَكُ العمَلُ بالمُقْتَضِي مع الشكِّ في المانِعِ. ولَنا، أنَّ الأبَ حُر محكُومٌ بحرِّيته، أشْبَه مَعروفَ النَّسبِ، ولأنَّ الأصلَ في الآدمِيِّين الحرِّيةُ وعَدَمُ الوَلَاءِ، فلا يُتْرَكُ هذا الأصلُ بالوهْمِ في حَقِّ الولدِ، كما لم يُتْرَكْ في حقِ الأبِ. وقولُهم: مُقْتَضى ثُبُوتِه لمَوْلَى الأمِّ مَوْجودٌ. ممنوع؛ فإنَّه إنَّما يثْبُتُ لمَوْلَى الأمِّ بشَرطِ رِقِّ الأبِ، وهذا الشَّرطُ مُنْتَفٍ حُكْمًا وظاهرًا. وإن سَلَّمنا وُجودَ المُقْتَضِي، فقد ثَبَت المانِعُ حُكْمًا، فإنَّ حُريةَ الأبِ ثابِتَةٌ حُكْمًا، فلا تَعويلَ على ما قَالُوه. فأمَّا إن كان الأبُ مَوْلًى والأمُّ مجْهُولةَ النَّسبِ، فلا وَلاءَ عليه في قوْلِنا. وقياسُ قولِ القاضِي، والشافعيِّ، ثُبُوتُ الوَلاءِ عليه لمَوْلَى أبِيه؛ لأنَّا شَكَكْنا في المانِعِ مِن ثُبُوتِه.

2891 - مسألة: (ومن أعتق سائبة، أو في زكاته، أو نذره،

وَمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً، أَوْ فِي زَكَاتِهِ، أَوْ نَذْرِهِ، أَوْ كَفَّارَتِهِ، فَفِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما ذَكَرْناه في التي قبلَها، ولأنَّ الأم لا تَخْلُو مِن أن تكونَ حُرَّةَ الأصلِ، فلا وَلاءَ على ولدِها، أو أمةً، فيكونُ ولدُها عبدًا، أو مَوْلاةً، فيكونُ على ولدِها الوَلاءُ لمَوْلَى أبيه. والاحتمالُ الأوَّلُ راجِحٌ لوجْهين؛ أحَدُهما، أنَّه محكُومٌ به في الأم، فيجبُ الحُكْمُ به في وَلَدِها. الثاني، أنَّه مُعتَضِدٌ بالأصلِ، فإنَّ الأصلَ الحُرِّيةُ، ثم لو لم يَتَرَجَّح هذا الاحتمالُ، لكان الاحتمالُ الذي صاروا إليه مُعارَضًا باحتمالين، كلُّ واحِدٍ منهما مساوٍ له، فتَرجِيحُه عليهما تَحَكُّم لا يَجوزُ المَصيرُ إليه بغيرِ دليل، وهذا وارد عليهم المسألةِ الأولَى أيضًا. 2891 - مسألة: (ومَن أعتَقَ سَائِبةً، أو في زكاتِه، أو نذرِه،

رِوَايَتَانِ؛ إِحدَاهُمَا، لَهُ عَلَيهِ الْوَلَاءُ. وَالثَّانِيَةُ، لَا وَلَاءَ عَلَيهِ، وَمَا رَجَع مِنْ مِيرَاثِهِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ، يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ يعتِقُهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كفَّارَتِه، فَفِيه روايتان؛ إحداهما، له عليه الوَلَاءُ. والثانية، لا وَلاءَ) له (عليه، وما رَجَع مِن مِيراثِه رُدَّ في مِثْلِه، يَشْتَرِي به رِقابًا يُعتِقهم) قال أحمدُ، في روايةِ عبدِ اللهِ: الرجلُ يُعتِقُ عبدَه سَائِبة، هو الرجلُ يقولُ لعبدِه: قد أعتَقْتُكَ سَائِبة. كأنه يَجْعَلُه لله، لا يكونُ وَلاؤه له، قد جَعَلَه لله وسَلَّمَ». وعن أبي عمرو الشَّيبانِيِّ، عن ابنِ مسعودٍ: والسَّائِبة يضَعُ ماله حيثُ شاء. وقال أحمدُ قال عمرُ (¬1): الصَّدَقَةُ والسَّائِبة ليَوْمِهما. ومتى قال الرجلُ لعَبْدِه: أعتَقْتُكَ سَائِبة. أو: أعتَقْتُكَ ولا ولاءَ لِي عليك. لم يكُنْ له عليه وَلَاء. فإن ماتَ وخَلَّفَ مالًا، ولم يَدَع وَرَثَةً، اشُتْرِيَ بمالِه رِقَابٌ فأعتِقُوا، في المَنْصُوصِ عن أحمدَ. وأعتَقَ ابنُ عمرَ عبدًا سَائِبةً، فمات، فاشْتَرَى ابنُ عمرَ بمالِه رِقابًا فأعتَقَهُم. والرِّوايةُ الثانية، الوَلاءُ للمُعتِقِ. وهو قولُ الشعبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وابنِ سيرينَ، ¬

(¬1) بعده في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وراشدِ بنِ سعدٍ، وضَمرَةَ بنِ حبيب (¬1)، والشافعيِّ، وأهلِ العراقِ، لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الوَلاءُ لمَنْ أعتَقَ» (¬2). وقولِه: «الوَلَاءُ لحمَةٌ كَلُحمَةِ النَّسَبِ» (¬3). ولَعَلَّ أحمدَ ذهب إلى شِراءِ الرِّقاب اسْتِحبابًا، لفعلِ ابنِ عمرَ. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزُّهْرِيُّ، وأَبو العاليةِ، ومكحولٌ، ومالكٌ: يُجْعَلُ وَلَاؤه لجماعةِ المسلمين. وعن عطاءٍ قال: إذا قال: أنتَ حُرٌّ سَائِبةً. يُوالِي مَن شاءَ. والقولُ بثُبُوتِ الوَلَاءِ للمُعتِقِ ¬

(¬1) ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي التابعيّ، مؤذن المسجد الجامع بدمشق، ثقة، توفي سنة ثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 4/ 459، 460. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 291، وانظر صفحة 402.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أظْهرُ؛ للأحادِيثِ، ولأنَّ الوَلاءَ لُحمَةٌ كلُحمَةِ النَّسَبِ، وكما لا يزولُ نَسبُ إنْسانٍ ولا ولد عن فراشٍ بشَرطٍ، لا يزولُ وَلاءٌ عن مُعتَقٍ، ولذلك لمَّا أرادَ أهلُ برِيرَةَ اشْتِراطَ وَلائِها على عائِشَةَ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَرِيها، واشْتَرِطِي لَهُم الوَلَاءَ، فإنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أعتَقَ». يريدُ أنَّ اشْتِراطَ تَحْويل الولاءِ عنِ المُعتِقِ لا يُفِيدُ شيئًا، ولا يُزِيلُ الوَلاءَ. وروَى مسلمٌ (¬1) بإسنادِه عن هُزَيلِ بنِ شُرَحبيلِ، قال: جاء رجلٌ إلى عبدِ اللهِ، فقال: إنِّي أعتَقْتُ عبدًا لي وجَعَلْتُه سَائِبةً، فمات وتَرَكَ مالًا ولم يَدَع وارِثًا. فقال عبدُ اللهِ: إنَّ أهلَ الإِسلام لا يُسَيِّبُون، وإنَّ أهْلَ الجاهِليَّةِ كانوا يُسَيِّبُون، وأنتَ وَلِيُّ نعمَتِه، فإن تَأثَّمتَ وتَحَرَّجْتَ عن شيءٍ فنحنُ نَقْبَلُه ونَجْعَلُه ¬

(¬1) لم نجده عند مسلم، وأخرجه البخاري، في: باب ميراث السائبة، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 8/ 192. مختصرا. والبيهقي، في: باب من أعتق عبدا له سائبة، من كتاب الولاء. السنن الكبرى 10/ 300. وأشار إلى أن البخاري رواه مختصرا في صحيحه. وعبد الرزاق، في: باب ميراث السائبة، من كتاب الولاء. المصنف 9/ 25، 26. وانظر تحفة الأشراف 7/ 154. فقد عزاه إلى البخاري فحسب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في بيتِ المالِ. وقال سعيد (¬1): ثنا هشيمٌ، عن بِشْر، عن عطاءٍ، أنَّ طارِقَ بنَ المُرَقِّعِ أعتَقَ سَوائِبَ فماتُوا، فكَتَبَ إلى عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، فكَتَب عمرُ: أنِ ادفع مال الرجلِ إلى مَوْلاه، فإن قَبِلَه، [وإلَّا] (¬2) فاشْتَرِ به رِقابًا فأعتِقْهم عنه. وقال (¬3): ثنا هشيم، عن منصورٍ، أنَّ عمرَ وابنَ مسعودٍ قال في مِيراثِ السَّائِبةِ: هو للذي أعتَقَه. قال شيخُنا (¬4): وهذا القولُ أصَحُّ في الأثَرِ والنَّظرَ؛ لما ذَكَرنا، وفي المواضِعِ التي جَعَل الصَّحابَةُ مِيراثَه لبيتِ المالِ أو في مِثْلِه، كان لتَبَرُّعِ المُعتِقِ وتَوَرُّعِه عن مِيراثِه، كفعلِ ابنِ عمرَ في مِيراثِ عَتِيقِه، وفِعْلِ عمرَ (¬5) وابنِ مسعودٍ في المِيراثِ الذي تَوَرَّعَ سيدُه عن أخْذِ مالِه. وقد رُوِيَ أنَّ سالِمًا مَوْلَى أبي حُذَيفَةَ أعتَقَتْه لُبنى (¬6) بنتُ يَعار سَائِبةً، فقُتِلَ وتَرَك ابنةً، فأعطاها عمرُ نصف مالِه، ¬

(¬1) في: باب ميراث السائبة، سنن سعيد بن منصور 1/ 83. كما أخرجه البيهقي، في: باب من أعتق عبدًا له سائبة، من كتاب الولاء. السنن الكبرى 10/ 300، 301. (¬2) في م: «ولاء». (¬3) سقط من: م. والحديث أخرجه سعيد، في الموضع السابق. (¬4) في: المغني 9/ 222. (¬5) في م: «ابن عمر». (¬6) كذا في النسختين والمغني 9/ 222. وهي ثُبَيْتَة بنت يعار بن زيد بن عبيد الأنصارية، وفي اسمها خلاف. انظر ترجمتها في الاستيعاب 4/ 1799، وأسد الغابة 7/ 46، والإصابة 7/ 547، 548. وانظر لهذا الأثر ما أخرجه ابن سعد في طبقاته 3/ 86. وفيه أنه جعل المال لبيت المال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَعَلَ النِّصفَ في بيتِ المالِ. وعلى القولِ المَنْصُوصِ عن أحمدَ الذي ذكرَه الخِرَقِيُّ، إذا خَلَّفَ السَّائِبةُ مالًا، اشْتُرِيَ به رِقابٌ فَأعتِقُوا، فإن رَجَع مِن مِيراثِه شيءٌ، اشْتُرِيَ به أيضًا رِقابٌ فأُعتِقُوا. وإن خَلَّفَ السائبةُ ذا فَرضٍ لا يَسْتَغْرِقُ ماله، أخَذَ فرضَه، واشْتُرِيَ بباقِيه رِقابٌ فأعتِقُوا، ولا يُرَدُّ على أهلَ الفَرضِ. فصل: فإن أعتَقَ مِن زَكَاتِه وعن كَفَّارَتِه أو نَذْرِه، فقال أحمدُ في الذي يُعتِقُ مِن زَكَاتِه: إن وَرِثَ منه شَيئًا جَعَلَه في مِثْلِه. وقال: هذا قولُ الحسنِ. وبه قال إسحاقُ. وعلى قياسِ ذلك العِتْقُ مِن الكَفَّارةِ والنذْرِ؛ لأنَّه واجب عليه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال في الذي يَعتِقُ في الزَّكاةِ: وَلاؤه للذي جَرَى عِتْقُه على يدَيه. وقال العَنْبَرِيُّ، ومالكٌ: وَلَاؤه لسائِرِ المسلمينَ، يُجْعَلُ في بيتِ المالِ. وقال أبو عُبَيدٍ: وَلاؤه لصاحب الصَّدَقَةِ. وهو قولُ الجمهورِ في العِتْقِ في النَّذْرِ والكَفَّارةِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أعتَقَ». ولأنَّ عائشةَ، رَضِي اللهُ عنها، اشْتَرَت بَرِيرَةَ بشرطِ العِتْقِ، فأعتَقَتْها، فكان ولاؤها لها، وشرطُ العِتْقِ يُوجِبُه، ولأنَّه مُعتِقٌ

2892 - مسألة: (ومن أعتق عبده عن حي بلا أمره أو عن ميت، فالولاء للمعتق)

وَمَنْ أعتَقَ عَبْدَهُ عَنْ مَيِّتٍ أوْ حَيٍّ بِلَا أمرِهِ، فَوَلَاؤهُ لِلْمُعتِقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن نَفْسِه، فكان الولاءُ [له، كما لو] (¬1) شَرَط عليه العِتْقَ فأعتِقَ. ولَنا، أنَّ الذي أعتَقَ مِن الزكاةِ أعتَقَ مِن غيرِ مالِه، فلم يكنْ له الولاءُ، كما لو دَفَعَها إلى السَّاعِي فاشْتَرَى بها وأعتَقَ، وكما لو دَفَع إلى المُكاتَبِ مالًا فأدَّاه في كِتابَتِه، وفارَقَ الذي اشْتَرَطَ عليه العِتْقَ، فإنَّه إنَّما أعتَقَ ماله، والعِتْقُ في الكَفَّارةِ والنَّذْرِ واجِبٌ عليه، فأشْبَة العِتْقَ مِن الزَّكاةِ. 2892 - مسألة: (ومَن أعتَقَ عبدَه عن حَي بلا أمرِه أو عن مَيِّتٍ، فالوَلاءُ للمُعتِقِ) هذا قولُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأبي يوسفَ، وداودَ. ورُوي عن ابنِ عباسٍ أنَّ وَلاءَه ¬

(¬1) في م: «لمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُعتَقِ عنه. وبه قال الحسنُ، ومالكٌ، وأبو عُبَيدٍ، لأنَّه أعتَقَه عن غيرِه، فكان الولاءُ للمُعتَقِ عنه، كما لو أذِنَ لي. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الوَلَاء لمَنْ أعتَقَ». ولأنَّه أعتَقَ عبدَه مِن غيرِ إذْنِ غيرِه له، فكان الوَلَاءُ له، كما لو لم يَقْصد شيئًا.

2893 - مسألة: (وإن، أعتقه عنه بأمره، فالولاء للمعتق عنه)

وَإنْ أعتَقَهُ عَنْهُ بأمرِهِ، فَالْوَلَاءُ لِلْمعتَقِ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2893 - مسألة: (وإن، أعتَقَه عنه بأمرِه، فالوَلاءُ للمُعتَقِ عنه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ جَميعِ من حَكَينَا قولَه في المسألةِ الأولَى، إلَّا أبا حنيفةَ. ووَافَقَه محمدُ بنُ الجسنِ، وداودُ، فقالوا: الوَلاءُ للمُعتِقِ، إلَّا أن يُعتِقَه عنه بعِوَضٍ، فيكونُ له الوَلاءُ، ويَلْزَمُه العِوَضُ، ويَصيرُ كأنَّه اشْتَراه ثم وَكَّلَه في إعتاقِه، أمَّا إذا كان عن غيرِ عِوَض، فلا يَصِحُّ تَقْدِيرُ البَيعِ، فيكونُ الوَلاءُ للمُعْتِقِ، لِما ذَكَرنا مِن الحديثِ. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. ولَنا، أنَّه وكِيلٌ في الإِعتاقِ، فكان الولاءُ للمُعتَقِ عنه، كما لو أخَذَ عِوَضًا، فإنَّه كما يجوزُ تَقْديرُ البَيعِ فيما إذا أخَذَ عِوَضًا، يجوزُ تَقْديرُ الهِبَةِ إذا لم يأخُذْ عِوَضًا، فإنَّ الهِبَةَ تجوزُ في العبدِ، كما يجوزُ البَيعُ، والخَبَرُ مَخْصُوصٌ بما

2894 - مسألة: (وإذا قال: أعتق عبدك عني، وعلي ثمنه. ففعل، فالثمن عليه، والولاء للمعتق عنه)

وَإذَا قَال: أعتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ. فَفَعَلَ، فَالثَّمَنُ عَلَيهِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمعتَقِ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أخَذَ عِوَضًا، وبسائرِ (¬1) الوُكَلاءِ، فنَقِيسُ عليه مَحَلَّ النِّزاعِ. 2894 - مسألة: (وإذا قال: أعتِقْ عبدَك عنِّي، وعليَّ ثَمَنُه. ففَعَلَ، فالثَّمَنُ عليه، والولاءُ للمُعتَقِ عنه) قال شيخُنا (¬2): لا نعلمُ خلافًا ¬

(¬1) في م: «سائر». (¬2) في: المغني 9/ 227.

2895 - مسألة: (ولو قال: أعتقه والثمن علي. ففعل، فالثمن عليه، والولاء للمعتق)

وَإنْ قَال: أعتِقْهُ وَالثَّمَنُ عَلَيَّ. فَفَعَلَ، فَالثَّمَنُ عَلَيهِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمعتِقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذه المسألةِ، وأنَّ الوَلاءَ للمُعتَقِ عنه؛ لكونِه أعتَقَه عنه بعِوَض. ويَلْزَمُه الثَّمَنُ؛ لأنَّه أعتَقَه عنه بشَرطِ العِوَضِ، فنُقدِّرُ ابْتياعَه منه، ثم توْكِيلَه في عِتْقِه، ليَصِحَّ عِتْقُه عنه، فيكونُ الثَّمَنُ عليه والولاءُ له، كما لو ابْتاعَه منه ثم وكَّلَه في عِتْقِه. 2895 - مسألة: (ولو قال: أعتِقْه والثَّمَنُ علَيَّ. ففَعَلَ، فالثَّمَنُ عليه، والولاءُ للمُعتِقِ) إنَّما كان الثَّمَنُ عليه؛ لأنَّه جَعَل له جُعلًا على إعتاقِ عبدِه، فلَزِمَه ذلك بالعَمَلِ، كما لو قال: مَن بَنَى لي هذا الحائِطَ فله دينَارٌ. فبناه إنسانٌ، اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ. وإنَّما كان الوَلاءُ للمُعتِقِ؛ لأنَّه لم يَأمره بإعتاقِه عنه، ولا قَصَد به المُعتِقُ ذلك، فلم يُوجَد ما يَقتَضِي صَرفَه إليه،

2896 - مسألة: (وإن قال الكافر لرجل: أعتق عبدك المسلم عني، وعلي ثمنه. ففعل، فهل يصح؟ على وجهين)

وإنْ قَال الْكَافِرُ لِرَجُلٍ مُسْلِم: أعتِقْ عَبْدَكَ الْمُسْلِمَ عَنِّي، وَعَليَّ ثَمَنُهُ. فَفَعَلَ، فَهلْ يَصِحُّ العِتْقُ؟ عَلَى وَجْهينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَبْقَى للمعتِقِ، عَمَلًا بقولِه عليه السَّلامُ: «إنَّما الوَلاءُ لمَنْ أعتَقَ». 2896 - مسألة: (وإن قال الكافِرُ لرجلٍ: أعتِقْ عبدَك المُسْلمَ عنِّي، وعليَّ ثَمَنُه. ففَعَلَ، فهل يَصِحُّ؟ على وَجْهين) أحَدُهما، لا يصِحُّ؛ لأَنه يَلْزمُ منه أن يتَمَلَّكَ الكافِرُ، ولذلك لا يَجوزُ؛ لأنَّه إضْرَارٌ بالمسلمِ. والثاني، يصِحُّ ويَعتِقُ؛ لأنَّه إنَّما يَتَمَلَّكُه زَمَنًا يَسِيرًا، ولا يَتَسَلَّمُه، فيُتَحَمَّلُ هذا الضَّرَرُ اليَسيرُ لأجْلِ تحصيلِ الحرِّيةِ للأبَدِ.

2897 - مسألة: (وإن أعتق عبدا يباينه في دينه فله ولاؤه. وهل يرث به؟ على روايتين؛ إحداهما، لا يرث، لكن إن كان له عصبة على دين المعتق ورث. فإن أسلم الكافر منهما ورث المعتق، رواية واحدة)

وَمَنْ أعتَقَ عَبْدًا يُبَايِنُهُ فِي دِينهِ فَلَهُ وَلَاؤهُ. وَهلْ يَرِثُ بِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ، إِحدَاهُمَا، لَا يَرِثُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ عَلَى دِين الْمُعتَقِ وَرِثَهُ. وَإنْ أسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا وَرِثَ الْمُعتِقُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2897 - مسألة: (وإن أعتَقَ عبدًا يُبايِنُه في دِينه فلَه وَلاؤه. وهل يَرِثُ به؟ على رِوايَتَين؛ إحداهما، لا يَرِثُ، لكنْ إن كان له عَصَبَة على دينِ المعتَقِ وَرِثَ. فإن أسْلَمَ الكافِرُ منهما وَرِثَ المُعتِقُ، روايةً واحدةً) إذا اخْتَلَفَ دينُ السيدِ وعَتِيقِه فالوَلاءُ ثابتٌ. لا نَعلَمُ فيه خلافًا؛ لعُمومِ قولِه عليه السَّلامُ: «الوَلَاءُ لمَنْ أعتَقَ». وقولِه: «الوَلَاءُ لحمَةٌ كلُحمَةِ النَّسبِ». والنَّسبُ يثْبُتُ مع اخْتِلافِ الدِّينِ، فكذلك الوَلاءُ، ولأنَّ الوَلَاءَ إنَّما ثَبَتْ له عليه لإِنْعامِه بإعتاقِه، وذلك ثابِتٌ مع اخْتلافِ دينهما. ويثْبُتُ الوَلاءُ للأنْثَى على الذَّكَرِ، وللذَّكَرِ على الأنْثَى، وكل مُعتَقٍ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعُمومِ الخَبَرِ والمعنَى، ولحديثِ عبدِ اللهِ بنِ شدادٍ في بِنتِ حَمزةَ، وقد ذَكَرناه (¬1). وهل يَرِثُ السيدُ مَولاه مع اخْتلافِ الدِّينِ؟ على روايتَين؛ إحداهما، يَرِثُه. يروَى ذلك عن علي، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وبه قال أهلُ الظَّاهِر. واحتَجَّ أحمدُ بقولِ عليٍّ: الوَلاءُ شعبَة مِن الرِّقِّ. وقال مالكٌ: يَرِثُ المسْلمُ مَوْلاه النّصرانِيَّ؛ لأنَّه يصلُحُ له مِلْكُه، ولا يَرِثُ النَّصرانِيُّ مَوْلاه المسْلِمَ؛ لأنَّه لا يصلُحُ له تَمَلُّكُه. وجمهورُ الفُقَهاءِ على أنَّه لا يَرِثه مع اخْتلافِ دِينِهما؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرِثُ المسْلمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المسْلِمَ» (¬2). ولأنَّه مِيراثٌ، فمَنَعه اخْتلاف الدِّين، ¬

(¬1) كذا قال. وسيأتي الحديث في صفحة 434. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 266.

2898 - مسألة: فإن كان للسيد عصبة على دين المعتق، ورثه دون سيده

فَصْلٌ: وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الْوَلَاءِ، إلا مَا أعتَقْنَ أوْ أَعتَقَ مَنْ أعتَقْنَ، أوْ كَاتَبْنَ أوْ كَاتَبَ منْ كَاتَبْنَ. وَعَنْهُ، فِي بِنْتِ الْمُعتِقِ خَاصَّةً تَرِثُ. وَالْأوَّلُ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كمِيراثِ النَّسبِ، ولأنَّ اخْتلافَ الدِّينِ مانِعٌ مِن الميراثِ بالنَّسبِ، فمنَعَ الميراثَ بالوَلاءِ، كالقَتْلِ والرِّقِّ، يُحَقِّقُه أنَّ الميراثَ بالنَّسبِ أقْوَى، فإذا مُنِعَ الأقْوى فالأضْعَفُ أوْلَى، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ألْحَقَ الوَلاءَ بالنَّسبِ بقولِه: «الوَلاءُ لُحمَة كلُحمَةِ النَّسبِ». فكما يَمنَعُ اختلاف الدِّينِ التَّوارُثَ مع صِحَّةِ النَّسبِ وثُبوتِه، فكذلك يَمْنَعُ مع صِحَّةِ الوَلاءِ وثبوتِه. 2898 - مسألة: فإن كان للسيدِ عَصَبَةٌ على دِينِ المُعتَقِ، وَرِثَه دُونَ سيدِه. وقال داودُ: لا تَرِثُ عَصَبَتُه في حياتِه. ولَنا، أنَّه بمَنْزِلَةِ ما لو كان الأقْرَبُ مِن العَصَبَةِ مخالفًا لدِينِ الميتِ والأبعَدُ على دِينه، وَرِثَ البعيدُ دُونَ القريبِ، فإنِ اجْتَمَعَا على الإِسلامِ توارَثا كالمُتنَاسِبَين؛ لزوالِ المانِعِ. فصل: قال الشيخُ رحمه الله: (ولا يَرِثُ النساءُ مِن الوَلاءِ، إلَّا ما أعتَقْن، أو أعتَقَ مَنٍ أعتَقْنَ، أو كاتَبْنَ أو كاتبَ مَن كاتَبْنَ. وعنه، في بِنتِ المُعتِقِ تَرِثُ خَاصَّةً. والأوَّلُ أصَحُّ) معنى قولِه: مِن الوَلاءِ. أي بالوَلاءِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الوَلاءَ لا يُورَثُ على ما نَذْكُرُه. ظاهِرُ المذهبِ، أنَّ النِّساءَ لا يَرِثْنَ بالوَلاءِ، إلَّا ما أعتَقْنَ أو أعتَقَ مَن أعتَقْنَ أو جَرَّ الولاءَ إليهنَّ مَن أعتَقْنَ، والكِتابةُ كذلك، فإنَّها إعتَاقٌ. قال القاضِي: هذا ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. والرِّوايَةُ التي ذَكَرَها الخِرَقِي في بنتِ المُعتِقِ ما وجَدتُها مَنْصوصةً عن أحمدَ. وقد قال في روايةِ ابنِ القاسمِ، وقد سألَه: هل كان لحَمزَةَ أو لابنَتِه؟ فقال: لابنَتِه. فقد نصَّ على أنَّ ابنةَ حمزةَ وَرِثَتْ بوَلاءِ نَفْسِها؛ لأنَّها هي المُعتِقةُ. وهذا قولُ الجمهورِ. وإليه ذهب مالكٌ، والشافعيُّ، وأهلُ العراقِ، وداودُ. والصَّحيحُ الأوَّلُ، لإِجْماعِ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم عليه، ولأنَّ الوَلاءَ لُحمةٌ كلُحمَةِ النَّسَبِ، والمَوْلَى كالنّسيبِ من الأخِ والعَمِّ ونحوهما، فوَلَدُه مِن العَتِيقِ بمنزلةِ وَلَدِ أخِيه وعَمِّه، ولا يَرِثُ منهم إلَّا الذكورُ خاصَّةً. فأمَّا الرِّوايةُ المذكورةُ في مِيراثِ بنتِ المُعتِقِ التي ذكرها الخِرَقِيّ، فوَجْهُها ما روَى إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، أنَّ مَوْلًى لحمزةَ مات وخَلَّفَ بنتًا، فَوَرَّثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِنْتَه النِّصفَ، وجَعَل لبنتِ حمزةَ النِّصف (¬1). والصَّحيحُ أنَّ المَوْلَى كان لبِنْتِ حمزَةَ. قال عبدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ: كان لبنتِ ¬

(¬1) ذكره البيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 241. وقال: هذا غلط، وقد قال شريك: تقحم إبراهيم هذا القول تقحمًا، إلا أن يكون سمع شيئًا فرواه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حمزةَ مَوْلًى أعتَقَتْه، فمات، وتَرَكَ ابْنَتَه ومَوْلَاتَه بنتَ حمزةَ، فرُفِعَ ذلك إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطَى ابنتَه (¬1) النِّصفَ، وأعطَى مَوْلاتَه بِنْتَ حمزَةَ النِّصْفَ. قال عبدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ: أنا أعلَمُ بها؛ لأنَّها أخْتِي مِن أمِّي، أُمُّنا سَلْمَى (¬2). رواه ابنُ اللَّبَّانِ بإسْنادِه، وقال: هذا أصَح ممَّا (¬3) روَى إبراهيمُ. ولأنَّ البنْتَ مِن النِّساءِ، فلا تَرِثُ بالوَلاءِ، كسائرِ النساءِ. فأمَا تَوْرِيثُ المرأةِ مِن مُعتَقِها [ومُعتَقِ مُعتَقِها] (¬4)، فليس فيه اخْتلافٌ بينَ أهلِ العلمِ، وقد دلَّ عليه حديثُ عائِشةَ حينَ أرادت شِراءَ بَرِيرَةَ لتَعتِقَها ويكونَ ولاؤها لها، فأراد أهلُها [اشْتِراطَ وَلائها] (¬5)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فإنَّما الوَلاءُ لمَنْ أعتَقَ». متفق ¬

(¬1) في م: «ابنه». (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب ميراث الولاء، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 913. والدارمي، في: باب الولاء، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 373. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 405. وسعيد بن منصور، في: باب ميراث المولى مع الورثة. السنن 1/ 72، 73. (¬3) في م: «ما». (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «تَحُوزُ المَرأةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ؛ عَتِيقَها، ولقيطَها، ووَلَدَها الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيهِ» (¬2). قال التِّرمِذِيُّ: هذا حديث حسن. ولأنَّ المعتِقَةَ مُنْعِمَةٌ بالإِعتاقِ كالرجلِ، فوَجَبَ أن تُساوِيَه في الميراثِ. وفي حديثِ بنتِ حَمزَةَ الذي ذكرناه تَنْصِيصٌ على توريثِ المُعتِقَةِ. وأمَّا مُعتَقُ أبِيها، فهو بمَنْزِلَةِ عَمِّها أو عَمِّ أبِيها، فلا تَرِثُه، ويَرِثُه أخُوها، كالنَّسبِ. ومِن مسائل ذلك: رجلٌ مات وخَلَّفَ ابنَ مُعتِقِه [وبنتَ مُعْتِقِه] (¬3)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 310. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الميراثُ لابنِ مُعْتِقِه خاصَّةً. وعلي الرِّوايةِ الأُخْرَى، يكونُ المالُ (¬1) بينَهما أثْلاثًا. فإن لم يُخَلِّفْ إلَّا بنتَ مُعْتِقِه فلا شيءَ لها، ومالُه لبيتِ المالِ. وعلى الرِّوايةِ الأخْرَى، يكونُ المالُ (¬2) لها. وإن خَلَّفَ أُخْتَ مُعْتِقِه فلا شيءَ لها، روايةً واحدةً. وكذلك إن خَلَّفَ أُمَّ مُعْتِقِه، أو جَدَّةَ مُعْتِقِه، أو غَيرَهما. وإن خَلَّفَ أَخَا مُعْتِقِه وأخْتَ مُعْتِقِه، فالميراثُ للأخِ. ولو خَلَّفَ بِنْتَ مُعْتِقِه وابنَ عَمِّ مُعْتِقِه أو مُعْتِقِ مُعْتِقِه، أو ابنَ مُعْتِقِ (¬3) مُعْتِقِه، فالميراثُ له دونَ البنْتِ، إلَّا على الرِّوايةِ الأخْرَى، فإنَّ لها النِّصْفَ، والباقي للعَصَبَةِ. وإن خَلَّف بِنْتَه ومُعْتِقَه، فلبِنْتِه النِّصْفُ، والباقي لمُعْتِقِه، كما في قَضِيَّةِ مَوْلَى بِنْتِ حمزةَ، حين مات وخَلَّفَ بِنْتَه وبِنْتَ حمزةَ التي أعْتَقَتْه، فأعْطَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَنْتَه النِّصْفَ، والباقيَ لبِنْتِ حمزةَ. فإن خَلَّفَ ذا فَرْضٍ سِوَى البِنْتِ؛ كالأَمِّ، أو (¬4) الجَدَّةِ، أو الأُخْتِ، أو الأخِ مِن الأمِّ، أو الزوجِ، أو الزوجةِ، أو مَن لا يسْتَغْرِقُ فَرْضُه المال، أو مَوْلاه، أو مَوْلاته، فلذي الفَرْضِ فَرْضُه، والباقي لمَوْلاه أو مَوْلَاتِه، في قولِ جهورِ ¬

(¬1) في م: «الملك». (¬2) في م: «الملك». (¬3) في م: «المعتق». (¬4) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العلماءِ. رجُلٌ وابنتُه أعْتَقا عبدًا، ثم مات الأبُ وخَلَّفَ ابنَه (¬1) وبِنْتَه، فمالُه بَينَهما أثْلاثًا، ثم مات العَتِيقُ، فللبِنْتِ النِّصْفُ؛ لأنَّها مَوْلاةُ نِصْفِه، والباقي لابنِ المُعْتِقِ خاصَّةً، إلَّا علَى الرِّوايةِ الضَّعِيفَةِ، فإنَّ الباقيَ يكونُ بَينَهما أثْلاثًا، فيَصِيرُ للبِنْتِ الثُّلُثان، ولأخِيها الثُّلُثُ. كان ماتتِ البِنْتُ قبلَ العَتِيقِ وخَلَّفَتِ ابنًا، ثم مات العَتِيقُ، فلابنِها النِّصْفُ والباقي لأخِيها، ولو لم تُخَلِّفِ البِنْتُ إلَّا بنتًا، كان الوَلاءُ كلُّه لأخِيها دُونَ بِنْتِها، إلَّا علَى الرِّوايةِ الأُخْرَى، فإنَّ لبِنْتِها النِّصفَ، والباقي لأخِيها. كان مات الابنُ قبلَ العَتِيقِ وخَلَّفَ بنتًا، ثم مات العَتِيقُ وخَلَّفَ مُعتِقَةَ نِصْفِه وبنْتَ أخِيها، فللمُعتِقَةِ نصفُ مالِه، وباقِيه لبيتِ المال. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، لها النِّصْفُ بإعتاقِها، ونِصفُ الباقي بأنَّها بِنْتُ مُعتِقِ النِّضفِ، والباقي لعَصَبَةِ أبِيها. ولو كانتِ البِنْتُ ماتت أيضًا قَبْلَ العَتِيقِ وخَلَّفَتِ ابنَها، ثم ماتَ العَتِيقُ، فلابنِها النِّصْفُ، ولا شيءَ لبِنْتِ أخِيها. امرأةٌ أعتقَتْ أباها، ثم أعتَقَ أبُوها عبدًا، ثم مات الأبُ، ثم العبدُ، فمالُهما لها. فإن كانَ أبُوها خَلَّفَ بِنْتًا أُخْرَى معها، فلَهما ثُلُثا مالِ الأبِ بالنَّسبِ، والباقي للمُعتِقَةِ بالوَلاءِ، ومالُ العبدِ جَميعُه للمُعتِقَةِ دُونَ أخْتِها. ويَتَخَرَّجُ على الرِّوايةِ الأُخْرَى أن يكونَ لهما ثُلُثا مالِ العبدِ أيضًا، وباقِيه للمُعتِقَةِ. ولو كان الأبُ خَلَّفَ مع المُعتِقَةِ ابنًا، فمالُ الأَبِ بَينَهما (¬2) أثْلاثًا بالبُنُوَّةِ، ومالُ العبدِ ¬

(¬1) في م: «ابنيه». (¬2) في م: «بينها».

2899 - مسألة: (ولا يرث)

وَلَا يَرِثُ مِنْهُ ذُو فَرْضٍ إلا الْأَبُ وَالْجَدُّ، يَرِثَانِ السُّدْسَ مَعَ الابْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كلُّه للابنِ دُونَ أُخْتِه المُعْتِقَةِ؛ لأنَّه يَرِثُ بالنَّسبِ، والنَّسبُ مُقَدَّمٌ على الوَلَاءِ. ولو خَلَّفَ الأبُ أخًا أو عمًّا أو ابنَ عَمٍّ مع البِنْتِ، فللبِنْتِ نِصْفُ مِيراثِ أبِيها، وبَاقِيه لعَصَبَتِه، ومالُ العَبْدِ لعَصَبَتِه، ولا شيءَ لبِنْتِه فيه؛ لأنَّ العَصَبَةَ مِن النَّسَبِ مُقَدَّمٌ على المُعْتِقِ في الميراثِ، إلَّا على رِوايَةِ الخِرَقِيِّ، فإنَّ للبِنْتِ نِصْفَ مِيراثِ العبدِ؛ لكونِها بنْتَ المُعْتِقِ، وباقِيه لعَصَبَتِهِ. 2899 - مسألة: (ولا يَرِثُ) مِن الوَلاءِ (ذُو فَرْضٍ، إلَّا الأبَ والجَدَّ، يَرِثان السُّدْسَ مع الابنِ) نصَّ أحمدُ على هذا، في روايةِ جماعةٍ مِن أصحابِه، وكذلك قال في جَدِّ المُعْتِقِ وابنِه. وقال: ليس الجَدُّ والأخُ والابنُ مِن الكِبَرِ في شيء يَجْزِيهم على الميراثِ. وهذا قولُ شُرَيحٍ، والنَّخَعِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والعَنْبَرِيِّ، وإسحاقَ، وأبي يوسفَ. ورُوِيَ عن زيدٍ، أنَّ المال للابنِ. وبه قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ، وعطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والحسنُ، والحَكَمُ، وقَتادَةُ، وحَمَّادٌ، والزُّهْريُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيٌّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ، والشافعيُّ، وأكثرُ الفقهاءِ؛ لأنَّ الابنَ أقْربُ العَصَبَةِ، والأبُ؛ والجَدُّ يَرِثان معه بالفَرْضِ، ولا يَرِثُ بالوَلاءِ ذو فَرْضٍ بحالٍ. ولَنا، أنَّه عَصَبَةٌ وارثٌ، فاسْتَحقَّ مِن الوَلاءِ، كالأخَوَينِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ الابنَ أقْرَبُ مِن الأبِ، بل هما في القُرْبِ سَوَاءٌ، وكلاهُما عَصَبةٌ

2900 - مسألة: (والجد يرث الثلث مع الإخوة إن كان أحظ له)

وَالْجَدُّ يَرِثُ الثُّلُثَ مَعَ الإخْوَةِ إِذَا كَانَ أَحظَّ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُسْقِطُ أحدُهما صاحِبَه، وإنَّما يَتَفَاضَلان في الميراثِ، فكذلك في الإرْثِ بالوَلاءِ، ولذلك يُقَدَّمُ الأبُ علَى الابنِ في الولايةِ والصلاةِ على المَيِّتِ وغيرِهما. وحُكْمُ الأبِ مع ابنِ الابنِ وإن سَفَلَ وحُكْمُ الجَدِّ وإن عَلا مع الابنَ وابنِه سَواءٌ. 2900 - مسألة: (والجَدُّ يَرِثُ الثُّلُثَ مع الإِخْوَةِ إن كان أحظَّ له) إذا خَلَّفَ المُعْتِقُ أخاه وجَدَّه، فالوَلاءُ بَينَهما نِصْفَين. وبه قال عطاءٌ، واللَّيثُ، ويحيى الأنصارِيُّ. وهو قولٌ للشّافِعِيِّ، وقولُ الثَّورِيِّ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ. والذين جَعَلُوا الجَدَّ أبًا، جَعَلُوه أوْلَى مِن الأخِ، ووَرَّثُوه وحْدَه (¬1). ورُوِيَ عن زيدٍ، أنَّ المال للأخِ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّ الأخَ ابنُ الأبِ والجَدَّ أبُوه، والابنُ أحَقُّ مِن الأبِ. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «جده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهما عَصَبتان يَرِثان المال نِصْفَين، فكان الوَلاءُ بَينَهما نِصْفَين، كالأخَوَين (¬1). وإن تَرَك جَدَّ مَولاه وابنَ أخِي مَوْلاه، فالمالُ للجَدِّ في قولِ الجميعِ، إلَّا مالكًا جَعَل الميراثَ لابنِ الأخِ وإن سَفَلَ. وقاله الشافعيُّ أيضًا؛ لأنَّ ابنَ الابنِ يُقَدَّمُ على الأبِ وإن سَفَل. وليس هذا صَوابًا؛ فإنَّ الجَدَّ يُقَدَّمُ على ابنِ الأخِ في الميراثِ، فكَيفَ يُقَدَّمُ عليه ههُنا؟ ولأنَّ الجَدَّ أوْلَى بالمُعْتِقِ من ابنِ الأخِ، فَيَرِثُ مَوْلاه، لقولِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المَوْلَى أخٌ في الدِّينِ، ووَليُّ نِعْمَةٍ، يَرِثُهُ أوْلَى النَّاسِ بالمُعْتِقِ» (¬2). والدليلُ علَى أنَّ الجَدَّ أوْلَى، أنَّه يَرِثُ ابنَ ابنِه دُونَ ابنِ الأخِ، فيكونُ أوْلَى؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأَهْلِها، فما أبْقَتِ الفُرُوضُ فلأَوْلَى رَجُل ذَكَرٍ» (¬3). وفي لفظٍ: «فلأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ». ولأنَّ الجَدَّ أبٌ، فيُقَدَّمُ على ابنِ الأخِ، كالأبِ الحقيقيِّ. فإنِ اجْتَمَع إخْوَةٌ وجَدٌّ، فميراثُ المَوْلَى بَينَهم كمالِ سيِّدِه، إن زادُوا ¬

(¬1) في م: «كالآخرين». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على اثْنَين، فللجَدِّ ثُلُثُ مالِه؛ لأنَّه أحَظُّ له. وإنِ اجْتَمَعَ إخْوَةٌ مِن أبَوين وإخْوَةٌ مِن أبٍ، عادَّ الإِخْوَةُ مِن الأبَوين الجَدَّ بالإِخْوةِ مِن الأبِ، ثم يأْخُذُ وَلَدُ الأبوَين ما حَصَل لولدِ الأبِ، كالميراثِ. وقال ابن سُرَيجٍ (¬1): يَحْتَمِلُ أنَّه بَينَهم على عَدَدِهم، ولا يُعادُّ ولدُ الأبَوين الجَدَّ بولدِ الأبِ. ولَنا، أنَّه ميراثٌ بَينَ الجَدِّ والإِخْوةِ، أشْبَه المِيراثَ بالنَّسبِ. فإن كان مع الإِخْوةِ أخَواتٌ، لم يُعْتَدَّ بِهنَّ؛ لأنَّهنَّ لا يَرِثْنَ مُنْفَرِداتٍ، فلا يُعْتَدُّ بِهنَّ كالإخْوةِ مِن الأُمِّ. وإنِ انْفَرَدَ ولدُ الأبِ مع الْجَدِّ، فهم كولدِ الأبوَين. فصل: فإن تَرَكَ جَدَّ مَوْلاه وعَمَّ مَوْلاه، فهو للجَدِّ. وكذلك إن تَرَك جَدَّ أبي مَوْلاه [وعمَّ مولاه] (¬2)، أو جَدَّ جَدِّ مَوْلاه وعَمَّ مَوْلاه، فهو للجَدِّ. وبه يقولُ الثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأهلُ العراقِ. وقال الشافعيُّ: هو للعَمِّ وبَنِيه وإن سَفَلوا دُون جَدِّ (¬3) الأبِ. وهو قياسُ قولِ مالكٍ. قال ¬

(¬1) في م: «شريح». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

2901 - مسألة: (والولاء لا يورث، وإنما يورث به)

وَالْوَلَاءُ لَا يُورَثُ، وَإنَّمَا يُورَثُ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيُّ: ومَن جَعَل الجدَّ والأخَ سواءً، فجَدُّ الأب والعَمُّ سَواءٌ، وهو أوْلَى مِن ابنَ العَمِّ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَرِثُه أَوْلَى النَّاسِ بالمُعْتِقِ» (¬1). فالجَدُّ أوْلَى بالْمُعْتِقِ، بدليلِ أنَّه أوْلَى النَّاسِ بمالِه وولايته، ويُقَدَّمُ في تَزْويجِه والصلاةِ عليه وغيرِ ذلك. والعَجَبُ أنَّ الشافعيَّ، رحمه اللهُ تعالى، نَزَّلَ (¬2) الجَدَّ أبًا في ولايةِ المالِ والإِجْبارِ على النِّكاحِ، ووافَق غيرَه في وُجوبِ الإنْفاقِ عليه وله، وعِتْقِه على ابنِ ابنِه، وعِتْقِ ابنِ ابنِه عليه، وانْتِفاءِ القِصاصِ عنه بقَتْلِ ابنِ ابنِه، والحَدِّ بقَذْفِه، وغيرِ ذلك مِن أحْكامِ الأبِ، ثم جَعَل أبعدَ العَصَباتِ أوْلَى منه بالوَلاءِ! 2901 - مسألة: (والوَلاءُ لا يُورَثُ، وإنَّما يُورَثُ بِه) وهذا قولُ الجمهورِ. رُوِيَ نحوُ ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وأسامةَ بنِ زيدٍ، وأبي مسعودٍ البدْرِيِّ، وأُبيِّ بنِ كعبٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬2) في م: «ترك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال عطاءٌ، وطاوسٌ، وسالمٌ، والزُّهْرِيُّ، والحسنُ، وابنُ سيرينَ، وقَتادَةُ، والشَّعْبِيُّ، وإبراهيمُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأهلُ العراقِ، وداودُ. وشَذَّ شُرَيحٌ فجعَلَه مَوْروثًا، كالمالِ؛ لأنَّه رُوِيَ عن عمرَ، رضِي اللهُ عنه، أنَّه قال: ما أحْرَزَه الولَدُ أو (¬1) الوالدُ، فهو لعَصَبَتِه مَن كان (¬2). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ». وقولُه: «الوَلَاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسبِ». والنَّسبُ يُورَثُ به ولا يُورَثُ، فكذلك الوَلَاءُ. ولأنَّ الوَلاء إنَّما يَحْصُلُ بإنْعامِ السيدِ على عبدِه بالعِتْقِ، وهذا المَعْنَى لا يَنْتَقِلُ عن المُعْتِقِ، فكذلك الوَلَاءُ. ورَواهُ حنبلٌ، ومحمدُ بنُ الحَكَمِ، عن أحمدَ. وغَلَّطَهُما أبو بكرٍ، وهو كما قال؛ فإنَّ الجماعةَ رَوَوْا عن أحمدَ مِثْلَ ما ذكرنا مِن قول الجمهورِ. وقد روَى سعيدٌ (¬3) بإسْنادِه، عن الزُّهْرِيِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «المَوْلَى أخٌ في الدِّينِ ومَوْلَى نِعْمَةٍ، وأوْلَى النَّاسِ بمِيرَاثِه أقْرَبُهم مِن المُعْتِقِ». ولأنَّه قولُ مَن سمَّينا مِن الصحابةِ، ولم يَظْهرْ عنهم خِلافُه. ولا يَصِحُّ قِياسُه على المالِ؛ لأنَّ الوَلاءَ لا يُورَثُ، بدليلِ أنَّه لا يَرِثُ منه ذوو الفُرُوضِ، بخِلافِ المالِ. فعلى هذا، يُنْظَرُ أقْرَبُ العَصَباتِ إلى المُعْتِقِ يومَ موتِ العَتِيقِ، فيكونُ هو الوارثَ للمَوْلَى دُونَ غَيرِه، كما أنَّ السيدَ لو مات في تلكَ الحالِ، وَرِثَه وَحْدَه. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 423. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 411.

2902 - مسألة: (ولا يباع ولا يوهب)

وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 2902 - مسألة: (ولا يُباعُ ولا يُوهَبُ) لا يصِحُّ بيعُ الوَلاءِ ولا هِبَتُه، ولا أن يَأْذَنَ لمَوْلاه فيُوالِيَ مَن شاء. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابن عباسٍ، وابنِ عمرَ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّب، وطاوُسٌ، وإياسُ بنُ معاويةَ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وَأبو حنيفةَ وأصحابُه. وكَرِهَ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ بيعَ الوَلاءِ. وروَى سعيدٌ (¬1) بإسنادِه، عن عبدِ (¬2) اللهِ، أنَّه قال: إنَّما الوَلاءُ كالنَّسبِ، أفيَبِيعُ الرَّجُلُ نَسَبَه! وقد روَى سعيدٌ (1) بإسْنادِه، عن سفيانَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، أنَّ مَيمُونَةَ وهبَتْ وَلاءَ سليمانَ بنِ يَسارٍ لابنِ عباس، وكان مكاتَبًا. ورُوِيَ أنَّ مَيمونَةَ وهَبَتْ ولاءَ (¬3) مَوالِيها للعباسِ، وولاؤُهم اليومَ لهم. وأنَّ عُرْوَةَ ابْتاعَ وَلاءَ طَهْمانَ لوَرَثَةِ مُصْعَبِ بنِ الزُّبَيرِ. وقال ابنُ جُرَيجٍ: قلْتُ لعطاءٍ: أذِنْتُ لمَوْلايَ أن يُوالِيَ مَن شاءَ، فيَجُوزُ؟ قال: نعم. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن بيعِ الوَلاءِ وعن هِبَتِه (¬4). وقال: «الوَلَاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسبِ» (¬5). وقال: «لَعَنَ الله مَنْ تَوَلَّى غيرَ مَوَالِيه» (¬6). ولأنَّه مَعْنًى يُورَثُ به، فلا يَنْتَقِلُ، كالقَرابَةِ. وفِعْلُ هؤلاءِ ¬

(¬1) في: باب النهي عن بيع الولاء. سنن سعيد بن منصور 1/ 95. (¬2) في م: «عبيد». (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 401. (¬5) تقدم تخريجه في 7/ 292، وصفحة 402. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 337، 401.

2903 - مسألة: (وهو للكبر، فإذا مات المعتق وخلف عتيقه وابنين، فمات أحد الابنين عن ابن، ثم مات)

وَهُوَ لِلْكِبَرِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعْتِقُ وَخَلَّفَ عَتِيقَهُ وَابْنَينِ، فَمَاتَ أَحَدُ الابْنَينِ بَعْدَهُ عَنِ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ، فَالْمِيرَاثُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ. فَإِنْ مَاتَ الابْنَانِ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمَوْلَى، وَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا ابْنًا وَالْآخَرُ تِسْعَةً، فَوَلَاؤُهُ بَينَهُم عَلَى عَدَدِهِمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شاذٌّ يُخالِفُ قولَ الجمهورِ وتَرُدُّه السُّنَّةُ، فلا يُعَوَّلُ عليه. فعلى هذا، لا يَنْتَقِلُ الوَلَاءُ عن المُعْتِقِ لموتِه، ولا يَرِثُه وَرَثَتُه، إنَّما يَرِثُون المال به، مع بقائِه للمُعْتِقِ. وهذا قولُ الجمهورِ على ما ذَكرْنا. 2903 - مسألة: (وهو للكِبَرِ، فإذا مات المُعْتِقُ وخَلَّفَ عَتِيقَه وابْنَين، فمات أحَدُ الابنَين عن ابنٍ، ثم مات) المَوْلَى (فالميراثُ لابنِ مُعْتِقِه) لأنَّ الوَلاءَ للكِبَرِ (ولو مات الابْنانِ بعدَه وقبلَ) العَتِيقِ (وخلَّفَ أحدُهما ابنًا، والآخَرُ تِسْعةً، كان الوَلاءُ بِينَهم على عَدَدِهم، لكُلِّ واحدٍ عُشْرُه) وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. قال الإِمامُ أحمدُ: رُوِيَ هذا عن عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ. وروَى سعيدٌ (¬1): ثنا ¬

(¬1) في: باب الرجل يعتق فيموت ويترك ورثة ثم يموت المعتق سنن سعيد بن منصور 1/ 93. كما أخرجه الدارمي، في: باب الولاء للكبر، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 375. والبيهقي، في: باب الولاء للكبر من عصبة المعتق. . . .، من كتاب الولاء. السنن الكبرى 10/ 303.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُشَيمٌ، ثنا أشْعَثُ بنُ سَوَّارٍ، عن الشَّعْبِيِّ، أنَّ عمرَ، وعليًّا، وابنَ مسعودِ، وزيدًا، كانوا يَجْعَلُونَ الوَلاءَ للكِبَرِ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ، وأبي مسعودٍ البدْرِيِّ، وأسامةَ بنِ زيدٍ. وبه قال عطاءٌ، وطاوسٌ، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ، والحسنُ، وابنُ سيرينَ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادةُ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاق، وأبو ثورٍ، وأصحابُ الرأي، وداودُ، كُلُّهم قالوا: الوَلاءُ للكِبَرِ. وتفْسيرُه أنَّه يَرِثُ المُعْتَقَ مِن عَصَباتِ سيِّدِه أقْرَبُهم إليه، وأوْلَاهُم بمِيراثِه يومَ موتِ العبدِ. قال ابنُ سيرينَ: إذا ماتَ المُعْتَقُ نُظِرَ إلى أقْربِ النَّاسِ إلى الذي أعْتَقَه، فيُجْعَلُ مِيراثُه له. وإذا مات السيدُ قبلَ مَوْلاه لم يَنْتَقِلِ الوَلاءُ إلى عَصَبَتِه؛ لأنَّ الوَلاءَ كالنَّسبِ، لا يَنْتَقِلُ ولا يُورَثُ، وإنَّما يُورَثُ به، فهو باقٍ للمُعْتِقِ أبدًا لا يَزُولُ عنه؛ بدليلِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الوَلَاءُ لمَنْ أعْتَقَ». وقوله: «الوَلَاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسبِ» (¬1). وَإنَّما يَرِثُ عَصَبَةُ السيدِ مال مَوْلاه بوَلاءِ مُعْتِقِه، لا نَفْس الوَلاءِ. ويتَّضِحُ ذلك بالمسألتَين اللتَين ذَكَرْناهما ههُنا، وهما: إذا مات رجلٌ عن ابْنَين ومَوْلًى، فمات أحدُ الابْنَين بعدَه عن ابنٍ، ثم مات ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 292 وصفحة 402.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْلَى، وَرِثَه ابنُ مُعْتِقِه دُونَ ابنِ ابنِ مُعْتِقِه؛ لأنَّ ابنَ المُعْتِقِ أقْرَبُ عَصَبَةِ سَيِّدِه. فلو مات السيِّدُ وخَلَّفَ ابنَه وابنَ ابنِه، وَرِثَه ابنُه دُونَ ابنِ ابنِه، فكذلك إذا مات المَوْلَى. والمسألةُ الأخْرَى، إذا مات الابنان بعدَ السيدِ وقبلَ مَوْلاه، وخَلَّفَ أحَدُهما ابْنًا والآخَرُ تِسْعَةً، ثم مات المَوْلَى، كان مِيراثُه بَينَهم على عَدَدِهم؛ لأنَّ السيدَ لو مات كان مِيراثُه بينَهم كذلك. ولو كان الوَلاءُ مَوْروثًا لاخْتَلَفَ الحُكْمُ في المسألتين، وكان الميراثُ في المسألةِ الأولَى بينَ الابنِ وابنِ الابنِ نِصْفَين؛ لأنَّ الابنَين وَرِثا الولاءَ عن أبِيهما، ثم ما صار إلى الابنِ الذي مات انْتَقَل إلى ابنِه. وفي المسألةِ الثَّانيةِ، يَصِيرُ لابنِ الابنِ المنْفَرِدِ نِصْفُ الوَلَاءِ بمِيرَاثِه ذلك عن أبِيه، ولبنِي الابنِ الآخَرِ النِّصْفُ بَينَهم على عدَدَهِم. وذهبَ شُرَيحٌ إلى أنَّ الوَلَاءَ مَوْرُوثٌ، كالمالِ يُورَثُ عن المُعْتِقِ، فمن مَلَك شيئًا في حياتِه فهو لوَرَثَتِه. وحُكِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عباس، وابنِ المُسَيَّبِ. وَرُويَ عن أحمدَ نحوُه. والمشهورُ عنه مثلُ قولِ الجمهورِ. قال أبو الحارثِ: سألتُ أبا عبدِ اللهِ عن الولاءِ للكِبَرِ، قال: كذا رُوِيَ عن عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ. وقد ذَكَرْنا ذلك عن شُرَيح، وأجَبْنا عنه. ولم يصِحَّ عن أحَدٍ مِن الصحابةِ خِلافُ هذا القولِ. وإن لم يُخَلِّفْ عَصَبَةً مِن نَسَبِ مَوْلاه، فمالُه لموْلَى مَوْلاه، ثم لأقْربِ عَصَباتِه، ثم لمَوْلَى مَوْلَى مَوْلاه. فإذا انْقَرضَ العَصَباتُ والمَوالِي وعَصَباتُهم، فمالُه لبَيتِ المالِ.

2904 - مسألة: (وإذا اشترى رجل وأخته أباهما أو أخاهما، عتق عليهما)

وَإذَا اشْتَرَى رَجُلٌ وَأُخْتُهُ أَبَاهُمَا، أَو أَخَاهُمَا، فَعَتَقَ عَلَيهِمَا، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ، ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ، وَرِثَهُ الرَّجُلُ دُونَ أُخْتِهِ. وَإذَا مَاتَتِ الْمَرأةُ وَخَلَّفَتِ ابْنَهَا وَعَصَبَتَهَا وَمَوْلَاهَا، فَوَلَاؤُهُ لِابْنِهَا، وَعَقْلُهُ عَلَى عَصَبَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2904 - مسألة: (وإذا اشْتَرَى رجلٌ وأخْتُه أباهما أو أخاهما، عَتَق علَيهما) بالمِلْكِ (ثم اشْتَرَى عبدًا فأعْتَقَه، ثم مات العَتِيقُ، ثم مات مَوْلاه، وَرِثَه الرجلُ دُونَ أخْتِه) إذا اشْتَرَى رجلٌ وأخْتُه أباهما أو (¬1) أخاهما، عَتَق (¬2) عليهما بالمِلْكِ، ثم اشْتَرَى عبدًا فأعْتَقَه، ثم مات الأبُ أو الأخ (¬3)، فميراثُه بينَهما أثْلاثًا بالنَّسبِ. فإذا مات العبدُ وَرِثَه الرجلُ دُونَ أُخْتِه؛ لأنَّه ابنُ المُعْتِقِ أو أخُوه، فوَرِثَه بالنَّسبِ، وهي مَوْلاةُ المُعْتِقِ، وعَصَبةُ المُعْتِقِ مُقَدَّمٌ على مَوْلاه. وعلى الرِّوايةِ التي تقولُ: إنَّ بِنْتَ المُعْتِقِ تَرِثُ إذا اشْتَرَيا أباهما. يكونُ مِيراثُ العبدِ بَينَهما أثْلاثًا. فإنِ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «عتقا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَريا أخاهُما، فعَتَق عليهما (¬1)، ثم اشْتَرَى عبدًا فأعْتَقَه، ومات الأخُ المُعْتِقُ قبلَ موتِ العبدِ وخَلَّفَ ابنَه، ثم مات العبدُ، فمِيراثُه لابنِ أخِيها دونَها؛ لأنَّه ابنُ أخِي المُعْتِق. فإن لم يُخَلِّفِ الأخُ إلَّا بِنتَه، فنِصفُ مالِ العبدِ للأُخْتِ؛ لأنَّها مُعْتِقَةٌ نِصفَ مُعْتِقِه، ولا شيءَ لبِنْتِ الأخِ، روايةً واحدةً، والباقي لبيتِ المالِ. فصل: إذا خَلَّفَ الميِّتُ بِنْتَ موْلاه ومَوْلَى أبِيه، فمالُه لبيتِ المالِ؛ لأنَّه ثَبَت عليه الولاءُ مِن أجْلِ مُباشَرَتِه بالعِتْقِ، ولم يَثْبُتْ عليه بإعتاقِ أبيه، وإذا لم يكنْ لمَوْلاه إلَّا بنْتٌ لم تَرِثْ؛ لأنَّها ليست عَصَبَةً، وإنَّما يَرِثُ عَصَباتُ المَوْلَى، فإذا لم يكنْ له عَصَبَةٌ لم يَرْجعْ إلى مُعْتِقِ أبيه. وكذلك إن كان له مُعْتِقُ أبٍ ومُعْتِقُ جَدٍّ، ولم يكُنْ هو مُعْتِقًا، ¬

(¬1) في م: «عليها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فميراثُه لمُعْتِقِ أبِيه إن كان ابنَ مُعْتِقِه، ثم لعَصَبةِ مُعْتِقِ أبِيه، ثم لمُعْتِقِ مُعْتِقِ أبيه. فإن لم يكُنْ له أحدٌ منهم، فلِبَيتِ المالِ، ولا يَرْجِعُ إلى مُعْتِقِ جَدِّه. وإن كانت أُمُّه حُرَّةَ الأصْلِ فلا وَلاءَ عليه، وليس لمُعْتِقِ أبِيه شيءٌ. فصل: امرأةٌ حُرَّةٌ لا وَلاءَ عليها، وأبواها رَقِيقان، أَعْتَقَ إنسانٌ أباها، ويُتَصَوَّرُ هذا في مَوْضِعينِ؛ أحدُهما، أن يكونوا كُفَّارًا، فتُسْلِمُ هي، ويُسْبَى أبواها، فيُسْتَرَقّانِ. الثاني، أن يكونَ أبُوها عبدًا تَزَوَّجَ أمةً على أنَّها حُرَّةٌ فوَلَدَتْها، ثم ماتت وخَلَّفَتْ مُعْتِقَ أبِيها، لم يَرِثْها؛ لأنَّه إنَّما يَرِثُ بالوَلاءِ، وهذه لا وَلاءَ عليها. وهكذا الحُكْمُ فيما إذا تَزَوَّجَ عبدٌ حُرّةَ الأصْلِ فأوْلَدَها ولدًا، ثم أُعْتِقَ العبدُ، ومات، تم مات الولدُ، فلا مِيراثَ لمُعْتِقِ أبِيه؛ لأنَّه لا وَلاءَ عليه. ولو كان ابْنَتان على هذه الصِّفَةِ، اشْتَرتْ إحداهُما أباها فعَتَقَ عليها، فلها ولاؤُه، وليس لها وَلاءٌ على أُخْتِها، فإذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مات أبُوها (¬1)، فلهما الثُّلُثان بالنَّسَبِ، ولها الباقي بالوَلاءِ، فإذا ماتت أُخْتُها، فلها نِصْفُ مِيراثِها بالنَّسبِ، وباقِيه لعَصَبَتِها، فإن لم يكنْ لها عَصَبَةٌ، فالباقي لأخْتِها بالرَّدِّ، ولا ميِراثَ لها منها بالوَلاءِ؛ لأنَّها لا وَلاءَ عليها. ¬

(¬1) في المغني 9/ 243: «أبوهما».

فَصْلٌ فِي جَرِّ الْولَاءِ: كُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْعِتْقَ أَوْ عَتَقَ عَلَيهِ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ بِحَالٍ. فَأَمَّا إِنْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ مُعْتَقَةً فأَوْلَدَهَا، فَوَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوَالِي أُمِّهِ. فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ سَيِّدُهُ انْجَرَّ وَلَاءُ وَلَدِهِ إِلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في جَرِّ الوَلاءِ: قال الشَّيخُ، رَضِيَ الله عنه: (كلُّ مَن باشَرَ العِتْقَ أو عَتَقَ عليه لا يَنْتَقِلُ عنه) الوَلاءُ (بحالٍ) لقولِه عليه الصلاةُ والسلَامُ: «إنَّما الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ». (فأمَّا إن تَزَوَّجَ العبدُ مُعْتَقَةً فأولَدها) فوَلَدُها منه أحْرارٌ، وعليهم الولاءُ لمَوْلَى أمِّهِم، يَعْقِلُ عنهم، ويَرِثُهم إذا ماتوا؛ لكونِه سببَ الإِنْعامِ عليهم بِعِتْقِ أمِّهِم، فصاروا لذلك أحْرارًا (فإن أعْتَقَ العبدَ سيدُه) ثَبَت له عليه الوَلاءُ، وجَرَّ إليه وَلاءَ أوْلادِه عن مَوْلَى أمِّهم؛ لأنَّ الأبَ لو كان مَمْلوكًا لم يكنْ يَصْلُحُ وارثًا ولا وَلِيًّا في نِكاحٍ، فكان ابنُه كوَلَدِ المُلَاعِنَةِ، يَنْقَطِعُ نَسَبُه عن أبِيه، فيَثْبُتُ الولاءُ لمَولَى أمِّه وانْتَسبَ إليها، فإذا أُعْتِقَ العبدُ صَلَحَ للانتِسَابِ إليه، وعادَ وارِثًا عاقلًا وليًّا، فعادتِ النِّسْبَةُ إليه وإلى موالِيه، بمنزلةِ ما لو اسْتَلْحَقَ (¬1) المُلاعِنُ ولدَه. هذا قولُ جُمْهورِ الصَّحابةِ والعلماءِ. يُرْوَى هذا عن عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، والزبيرِ، وعبدِ اللهِ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، ومروانَ، وسعيدِ بنِ المسيَّبِ، والحسنِ، وابنِ سيرينَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والنَّخَعِيِّ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والليثُ، وأبو حنيفةَ وأصحابُه، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ. ويُرْوَى عن ¬

(¬1) في م: «استحق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رافعِ بنِ خَدِيج أنَّ الوَلاءَ لا يَنْجَرُّ عن (¬1) مَوالِي الأُمِّ. وبه قال مالكُ بنُ أوسِ بنِ الحَدَثان (¬2)، والزُّهْرِيُّ، ومَيمُونُ بنُ مِهْرانَ، وحُمَيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وداودُ؛ لأنَّ الوَلاءَ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسبِ، والنَّسبُ لا يَزُولُ عمَّن ثَبَت له، فكذلك الوَلاءُ. وقد رُوِيَ عن عثمانَ وزيدٍ نحوُ هذا. وأنْكَرَهُما ابنُ اللَّبَّانِ، وقال: مشهورٌ عن عُثمانَ أنَّه قَضَى بجَرِّ الوَلاءِ للزُّبَيرِ على (¬3) رافِعِ بنِ خَدِيجٍ. ولَنا، أنَّ الانْتِسابَ إلى الأبِ، فكذلك الوَلاءُ، ولذلك لو كانا حُرَّين كان وَلاءُ وَلَدِهما لمَوْلَى أبِيه، فلَمّا كان مَمْلُوكًا، كان الولاءُ لمَوْلَى الأُمِّ ضرورةً، فإذا أُعْتِقَ الأبُ زالتِ الضرورةُ، فعادَتِ النِّسْبةُ إليه والولاءُ إلى مَوالِيه. وروَى عبدُ الرحمنِ عن الزُّبَيرِ، أنَّه لمَّا قَدِمَ خَيبَرَ رأى فِتْيَةً لُعْسًا، فأعجبه ظَرْفُهم وجَمالُهم، فسأل عنهم، فقيل: مَوالِي رافِعِ بنِ خَدِيجٍ، وأبوهم مملوكٌ لآلِ الحُرَقَةِ (¬4)، فاشْتَرَى الزُّبَيرُ أباهم فأعْتَقَه، وقال لِأولادِه: انْتَسِبُوا إليَّ، فإنَّ وَلاءَكم لِي. فقال رافعُ بنُ خَدِيج: الوَلاءُ لي، فإنَّهم عَتَقُوا بعِتْقِي أُمَّهم. فاحْتَكَمُوا إلى عثمانَ، فقَضَى بالولاءِ للزُّبَيرِ، فاجْتَمَعَتِ الصَّحابةُ عليه. اللَّعَسُ سَوادٌ في الشَّفَتَين تَسْتَحْسِنُه العربُ، ومِثلُه اللَّمَى، قال ذُو ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) مالك بن أوس بن الحدثان النَّصْري، من تابعي المدينة، توفي سنة اثنتين وتسعين. اللباب 3/ 226، العبر 1/ 106، تهذيب التهذيب 10/ 10. (¬3) في النسختين: «عن» والمثبت كما في المغني 9/ 229. (¬4) الحرقة: بطن من جهينة. انظر المشتبه 227.

وَلَا يَعُودُ إِلَى مَوَالِي الْأُمِّ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّمَّةِ (¬1): لَمْياءُ في شَفَتَيها حُوَّةٌ لَعَسٌ … وفي اللِّثاتِ وفي أنْيابِها شَنَبُ (¬2) فصل: وحُكْمُ المُكاتَبِ يَتَزَوَّجُ في كِتابَتِه [فيُولَدُ له] (¬3)، ثم يَعْتِقُ، حُكْمُ العبدِ القِنِّ في جَرِّ الولاءِ، وكذلك المُدَبَّرُ والمُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفةٍ؛ لأنَّهم عَبِيدٌ، فإنَّ المُكاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ. فصل: وإذا انْجَرَّ الوَلاءُ إلى مَوالي الأبِ ثم انْقَرَضُوا، عاد الوَلاءُ إلى بيتِ المالِ (ولم يَعُدْ إلى مَوالي الأمِّ بحالٍ) في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِيَ عن ابنِ عباس، أنَّه يَعُودُ إلى مَوالي الأُمِّ. والأولُ أصَحُّ؛ لأنَّ الوَلاءَ جَرَى مَجْرَى الانْتِسابِ، ولو انْقَرَضَ الأبُ وآباؤُه لم تَعُدِ النِّسْبَةُ إلى الأمِّ، كذلك الولاءُ. إذا ثَبَت هذا، فوَلَدَتْ بعدَ عِتْقِ الأب، كان وَلاءُ وَلَدِها لمَوَالِي أبيه، بلا خلافٍ، فإن نَفاهُ باللِّعانِ، عاد ولاؤُه إلى مَوالِي الأمِّ؛ لأننا تَبَيَّنَّا أنَّه لم يكنْ له أبٌ يَنْتَسِبُ إليه. فإن عاد فاسْتَلْحَقَه، عادَ الوَلاءُ إلى مَوالِي الأبِ. فصل: ولا يَنْجَرُّ الوَلاءُ إلَّا بشُروطٍ ثلاثةٍ؛ أحدُها، أن يكونَ الأبُ عبدًا حينَ الولادَةِ، فإن كان حُرًّا وزوجَتُه مَوْلاةً، لم يَخْلُ، إمَّا أن يكونَ ¬

(¬1) في ديوانه 1/ 33. (¬2) الحوة: مثل اللمى. والشنب: برد وعذوبة في الأسنان، أو تحديد الأنياب ودقتها. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُرَّ الأصْلِ، فلا وَلاءَ على وَلَدِه بحالٍ، وإن كان مَوْلًى، ثَبَت الوَلاءُ على وَلَدِه لمَوَالِيه ابْتِداءً (¬1)، ولا جَرَّ فيه. الثاني، أن تكونَ الأمُّ مَوْلاةً، فإن لم تكنْ كذلك، لم يَخْلُ، إمَّا أن تكونَ حُرَّةَ (¬2) الأصْلِ، فلا وَلاءَ على وَلَدِها بحالٍ، وهم أحْرارٌ بحُرِّيَّتِها، أو تكونَ أَمَةً، فوَلَدُها رقِيقٌ لسَيِّدِها، فإن أعْتَقَهم، فوَلاؤُهم له لا يَنْجَرُّ عنه بحالٍ، سَواءٌ أعْتَقَهم بعدَ ولادَتِهم، أو أعْتَقَ أُمَّهُم حامِلًا بهم فعَتَقُوا بعِتْقِها؛ لأنَّ الوَلاءَ ثَبَت بالعِتْقِ مباشَرةً، فلا يَنْجَرُّ عن المُعْتِقِ؛ لقوله عليه الصلاةُ والسلامُ: «إنَّما الوَلَاءُ لمَنْ أعْتَقَ». وإن أعْتَقَها المَوْلَى فأتَتْ بوَلَدٍ لدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فقد مَسَّه الرِّقُّ وعَتَقَ بالمُباشَرَةِ، فلا يَنْجَرُّ وَلاؤُه، وإن أتَتْ به لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُر مع بَقاءِ الزَّوْجِيَّةِ، لم يُحْكَمْ بمَسِّ الرِّقِّ له، وانْجَرَّ ولاؤُه؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ حادثًا بعدَ العِتْقِ، فلم يَمَسَّه الرِّقُّ، ولم يُحْكَمْ برِقِّه بالشَّكِّ. وإن كانتِ المرأةُ بائِنًا، وأتَتْ بوَلَدٍ لأَرْبَعِ سِنِينَ مِن حينِ الفُرْقَةِ، لم يَلْحَقْ بالأبِ، [وكان ولاؤه لمَوْلَى أمِّهِ، وإنْ أتتْ به لأقلَّ من ذلك لَحِقَه الولدُ، وانْجَرَّ ولاؤُه لأمِّه. وولدُ الأمَةِ مملوكٌ سواءٌ] (¬3) كان مِن نكاحٍ أو من (¬4) سِفاحٍ، عربيًّا كان الزوجُ أو أعجميًّا. وهذا قولُ عامةِ الفقهاءِ. وعن عمرَ، إن كان زوجُها ¬

(¬1) في النسختين: «أبدًا». وانظر المغني 9/ 230. (¬2) في النسختين: «حر». (¬3) زيادة من المغني 9/ 231. (¬4) سقط من: م.

2905 - مسألة: (وإن أعتق الجد لم يجر ولاءهم، في أصح الروايتين. وعنه، يجره)

وَإنْ أُعْتِقَ الْجَدُّ لَمْ يَجُرَّ وَلَاءَهُمْ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. وعنه، يَجُرُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عربِيًّا فوَلَدُه حُرٌّ، وعليه قيمَتُه، ولا وَلاءَ عليه. وعن أحمدَ مثلُه. وبه قال ابنُ المسيَّبِ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبو ثورٍ، والشافعيُّ في القديمِ، ثم رَجَعَ عنه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ أُمَّهم أمَةٌ، فكانُوا عَبيدًا، كما لو كان أبوهم أعْجَمِيًّا. الثالثُ، أن يُعْتِقَ العبدَ سَيِّدُه، فإن مات على الرِّقِّ، لم يَنْجَرَّ الوَلاءُ بحالٍ. وهذا لا خِلافَ فيه. فإنِ اخْتَلَفَ سيدُ العبدِ ومَوْلَى الأمِّ في العبدِ بعدَ موتِه، فقال سيدُه: مات حُرًّا بعدَ جَرِّ الوَلاء. وأنكر ذلك مَوْلَى الأُمِّ، فالقولُ قولُ مَوْلَى الأُمِّ. ذَكَرَه أبو بكرٍ؛ لأَنَّ الأصْلَ بَقاءُ الرِّقِّ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. 2905 - مسألة: (وإن أُعْتِقَ الجَدُّ لم يَجُرَّ وَلاءَهم، في أصَحِّ الرِّوايتَين. وعنه، يَجُرُّه) قال أحمدُ، رَحِمَه الله: الجَدُّ لا يَجُرُّ الوَلاءَ، ليس هو كالأَبِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ وصاحباه. وعن أحمدَ، أنَّه يَجُرُّه. وبه قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وأهلُ المدينةِ، وابنُ أبي لَيلَى، والحسنُ بنُ صالحٍ، وابنُ المباركِ، وأبو ثَوْرٍ، وضِرارُ بنُ صُرَد، والشافعيُّ في أحَدِ قولَيه. فإن أُعْتِقَ الأبُ بعدَ ذلك، جَرَّه عن مَوالِي الجَدِّ إليه؛ لأنَّ الجَدّ يقومُ مَقامَ الأبِ في التَّعْصيب وأحْكامِ النَّسبِ، كذلك في جَرِّ الوَلاءِ. وقال زُفَرُ: إن كان الأبُ حَيًّا لم يَجُرَّ الجَدُّ الوَلاءَ، وإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مَيِّتًا جَرَّه. وهو القولُ الثاني للشافعيِّ. ولَنا، أنَّ الأصْلَ بَقاءُ الوَلاءِ لمُسْتَحِقِّه، وإنما خُولِفَ هذا الأصلُ للاتِّفاقِ على أنَّه يَنْجَرُّ بعِتْقِ الأبِ، والجَدُّ لا يُساويه، بدليلِ أنَّه لو عَتَقَ الأبُ بعدَ الجَدِّ، جَرَّه عن مَولَى الجدِّ إليه، ولأنَّه لو أسْلَمَ الجَدُّ، لم يَتْبَعْه وَلَدُ وَلَدِه، ولأنَّ الجَدَّ يُدْلِي بغيرِه، ولا يَسْتَقِرُّ الوَلاءُ عليه، فلم يَجُرَّ الوَلاءَ، كالأخِ، وكونُه يقومُ مَقامَ الأبِ، لا يَلْزَمُ أن يَنْجَرَّ إليه الوَلاءُ، كالأخِ. وإن قُلنا: إنَّه يَنْجَرُّ. فلا فَرْقَ بينَ القَرِيبِ والبَعيدِ؛ لأنَّ البَعيدَ يقومُ مَقامَ القَريبِ، ويقْتَضِي هذا أنَّه متى عَتَقَ البَعِيدُ فجرَّ الولاءَ، ثم عَتَقَ مَن هو أَقْربُ منه، جَرَّ الوَلاءَ إليه، ثم إن عَتَقَ الأبُ جَرَّ الوَلاءَ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ يَحْجُبُ مَن فَوْقَه، ويُسْقِطُ تَعْصِيبَه وإرْثَه وولايتَه. ولو لم يَعْتِقِ الجَدُّ، لكن كان حُرًّا ووَلَدُه مملوكٌ، فتزوَّجَ مَوْلاةَ قَوْمٍ فأَولَدَها أوْلادًا، فوَلاؤُهم لمَوْلَى أُمِّهِم. وعندَ مَن يقولُ: يَجُرُّ الجَدُّ الوَلاءَ. يكونُ لمَوْلَى الجَدِّ. فإن لم يكن الجَدُّ مَوْلًى بل كان حُرَّ الأصْلِ، فلا وَلاءَ على ولدِ ابنِه، فإن أُعْتِقَ أبوه بعدَ ذلك، لم يَعُدْ على ولدِه وَلاءٌ؛ لأنَّ الحُرِّيةَ ثَبَتَتْ له مِن غيرِ وَلاءٍ،

2906 - مسألة: (وإن اشترى الابن أباه، عتق عليه، وله ولاؤه

وَإنِ اشْتَرَى الابْنُ أَبَاهُ، عَتَقَ عَلَيهِ، وَلَهُ وَلاؤُهُ وَوَلَاءُ إِخْوَتِهِ، وَيبْقَى وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ؛ لأَنَّهُ لَا يَجُرُّ وَلَاءَ نَفْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يتَجَدَّدْ عليه وَلاءٌ، كالحُرِّ الأصْلِيِّ. فصل: إذا تَزَوَّجَ مُعْتَقٌ بمُعْتَقَةٍ فأوْلَدَها وَلَدَينِ، فوَلاؤُهما لمَوْلَى أبيهما. فإن نفاهُما باللِّعانِ، عاد وَلاؤُهما إلى مولَى أمِّهِما. فإن مات أحَدُهما، فمِيراثُه لأُمِّه ومَوالِيها. فإن أكْذَبَ أبُوهُما نَفْسَه، لَحِقَه نَسَبُهما، واسْتَرْجَعَ الميراثَ مِن مَوْلَى الأُمِّ. ولو كان أبُوهما عبدًا، أو لم يَنْفِهما، ووَرِثَ مَوالِي الأُمِّ المَيِّتَ منهما، ثم أُعْتِقَ الأبُ، انْجَرَّ (¬1) الوَلاءُ إلى مَوالِي الأبِ، ولم يكنْ لهم ولا للأبِ اسْتِرْجَاعُ الميراثِ؛ لأنَّ الوَلاءَ إنَّما ثَبَت لهم عندَ إعْتاقِ الأبِ، ويُفارِقُ الأبَ إذا أكذبَ نَفْسَه؛ لأنَّ النَّسبَ يَثْبُتُ مِن حينِ خَلْقِ (¬2) الوَلدِ. 2906 - مسألة: (وإنِ اشْتَرى الابْنُ أباه، عَتَقَ عليه، وله وَلاؤُه ¬

(¬1) في النسختين: «لم يجر». وانظر المغني 9/ 234. (¬2) في م: «خلف».

2907 - مسألة: (وإن اشترى)

وَإنِ اشْتَرَى الْوَلَدُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى العَتِيقُ أَبَا مُعْتِقِهِ فَأَعْتَقَهُ، ثَبَتَ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَجَرَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى الْآخَرِ. وَمِثْلُهُ لَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدًا ثُمَّ سَبَى الْعَبْدُ مُعْتِقَهُ فَأَعْتَقَهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَاءُ صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَوَلاءُ إخْوَتِه، ويَبْقَى وَلاؤُه لمَوَالي أُمِّه؛ لأنَّه لا يَجُرُّ وَلاءَ نَفْسِه) وهذا قولُ جمهورِ الفقهاءِ؛ مالكٍ في أهلِ المدينةِ، وأبو حنيفةَ في أهلِ العراقِ، والشافعيُّ. وشَذَّ عمرُو بنُ دينارٍ المَدَنِيُّ، فقال: يَجُرُّ وَلاءَ نَفْسِه، فيَصِيرُ حُرًّا لا وَلاءَ عليه. قال ابنُ سُرَيجٍ (¬1): ويَحْتَمِلُه قولُ الشافعيِّ. ولا تَعْويلَ على هذا القولِ لشذُوذِه، ولأنَّه يُؤَدِّي إلى أن يكونَ الوَلاءُ ثابتًا على أبوَيه دونَه، مع كونِه مَوْلودًا لهما في حال رِقِّهِما أو في حالِ ثبوتِ الوَلاءِ عليهما. وليس لَنا مثلُ هذا في الأصُولِ، ولا يُمْكِنُ أن يكونَ مَوْلَى نَفْسِه، يَعْقِلُ عنها، ويَرِثُها، ويُزَوِّجُها. 2907 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى) هذا (الولدُ عبدًا فأعْتَقَه، ثم اشْتَرَى العبدُ أبا مُعْتِقِه فأعْتَقَه) فإنَّه يَجُرُّ وَلاءَ سيدِه، فيكونُ لهذا الولدِ على مُعْتَقِه الوَلاءُ بإعْتاقِه إياه، والعَتِيقِ وَلاءُ مُعْتِقِه بوَلائِه على أبيه (فصارَ كلُّ واحدٍ منهما مَوْلَى الآخَرِ) متْلُ ذلك (لو أعْتَقَ الحرْبِيُّ عبدًا) فأسْلَمَ، ثمَّ أَسَرَ سَيِّدَه فأَعْتَقَه، صار كلُّ واحدٍ مِنْهُما مَوْلَى ¬

(¬1) في م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ مِن فَوْقَ ومِن أسْفَلَ، ويَرِثُ كلُّ واحدٍ منهما الآخَرَ بالوَلاءِ، فإنَّه كما جازَ أن يَشْتَرِكا في النَّسبِ فيرثُ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، كذلك الوَلَاءُ. فصل: وإن تزوَّجَ وَلَدُ المُعْتَقةِ مُعْتَقةً، وأوْلَدَها ولدًا، فاشْتَرَى جَدَّه، عَتَقَ عليه، وله ولاؤُه، ويَجُرُّ إليه ولاءَ أبيه وسائرِ أوْلادِ جَدِّه، وهم عُمُومَتُه وعَمَّاتُه، ووَلاءَ جَميعِ مُعْتَقِهم، ويَبْقَى وَلاءُ المُشْتَرِي لمَوْلَى أُمِّ أبِيه. وعلى قولِ عمرِو بنِ دينارٍ، يَبْقَى حُرًّا لا وَلاءَ عليه. فصل: وإن تَزَوَّجَ عبدٌ بمُعْتَقَةٍ فأوْلَدَها ولدًا، فتزَوَّجَ الولدُ بمُعْتَقَةِ رجل، فأوْلَدَها ولدًا، فولاءُ هذا الولدِ الآخِرِ لمَوْلَى أُمِّ أبيه، في أحدِ الوَجْهَين، لأنَّ له الوَلاءَ على أبيه، فكان له عليه، كما لو كان مَوْلَى جَدِّه، ولأنَّ الوَلاءَ الثَّابِتَ على الأبِ يَمْنَعُ ثُبوتَ الوَلاءِ لمَوْلَى الأُمِّ. والوَجْهُ الثاني، وَلاؤه لمَوْلَى أُمِّه؛ لأنَّ الوَلاءَ الثَّابِتَ على أبيه مِن جِهةِ أُمِّه، ومثلُ ذلك ثابِتٌ في حَقِّ نفسِه، وما ثَبَت في حَقِّه أوْلَى ممَّا ثَبَتَ في حَقِّ أبِيه، ألا تَرَى أنَّه لو كان له مَوْلًى ولأبيه مَوْلًى، كان مَوْلاه أحقَّ به مِن مَوالِي أبيه. فإن

2908 - مسألة: وإذا ماتت امرأة وخلفت ابنها وعصبتها ومولاها، فولاؤه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان له مَوْلَى أُمٍّ ومَوْلَى أُمِّ أبٍ ومَوْلَى أُمِّ جَدٍّ، وجَدُّ أبِيه مملوكٌ، فعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يكون لِمَوْلَى أُمِّ الجَدِّ. وعلى الثاني، يكونُ لِمَوْلَى الأُمِّ. فصل: ولو تزوَّجَ مُعْتَقٌ بمُعْتَقَةٍ فأوْلَدَها بنتًا، وتَزَوَّجَ عبدٌ بمُعْتَقَةٍ فأوْلَدَها ابنًا، فتزوَّجَ هذا الابنُ بنتَ المُعْتَقَينِ فأوْلدَها ولدًا، فوَلاءُ هذا الولدِ لمَوْلَى أُمِّ أبِيه؛ لأنَّ له الوَلاءَ على أبيه. وإن تَزَوَّجَتْ بِنْتُ المُعْتَقَينِ بمَمْلُوكٍ، فوَلاءُ ولدِها لمَوْلَى أبيها؛ لأنَّ وَلاءَهَا له. فإن كان أبُوها ابنَ مَمْلُوكٍ ومُعْتَقَةٍ، فالوَلاءُ لمَوْلَى أُمِّ أَبِي الأُمِّ، على الوَجْهِ الأوَّلِ؛ لأنَّ مَوْلَى أُمِّ أبِي الأمِّ يَثْبُتُ له الوَلاءُ على أبِي الأمِّ، فكان مُقَدَّمًا على أمِّها، وثَبَت له الوَلاءُ عليها. 2908 - مسألة: وإذا ماتَتِ امرأةٌ وخَلَّفَتِ ابْنَها وعَصَبَتَها ومَوْلاها، فوَلاؤُه (¬1) لابنِها، وعَقْلُه على عَصَبَتِها؛ لِما روَى إبراهيمُ قال: اخْتَصَمَ عليٌّ والزُّبَيرُ في مَوْلَى صَفِيَّةَ، فقال عليٌّ: مولى عَمَّتِي، وأنا أعْقِلُ عنه. وقال الزبيرُ: مَوْلَى أُمِّي، وأنا أرِثُه. فقضى عُمَرُ للزُّبَيرِ ¬

(¬1) في م: «فولاؤها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالميراثِ، وقضَى على عليٍّ بالعَقْلِ. ذكره الإِمامُ أحمدُ، ورَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬1). وهي قِصَّةٌ مَشْهورةٌ. وعن الشَّعْبِيِّ قال: قَضَى بوَلاءِ صَفِيَّةَ للزُّبَيرِ دُونَ العباسِ، وقَضَى بِولاءِ أُمِّ هانِئٍ لجَعْدَةَ بنِ هُبَيرَةَ دون عليٍّ (1). ولا يمتنعُ كونُ العَقْلِ على العَصَبَةِ والميراثِ لغيرِهم، كما قَضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ميراثِ التي قُتِلَتْ هي وجَنِينُها لبَنِيها (¬2)، وعَقْلِها على العَصَبَةِ (¬3). وقد روَى زيادُ بنُ أبي مَرْيَمَ، أنَّ امرأةً أعْتَقَتْ عبدًا لها (¬4)، ثم تُوُفِّيَتْ وتركتِ ابْنًا لها وأخاها، ثم تُوُفِّيَ مَوْلاها مِن بعدِها، فأتَى أخو المرأةِ وابنُها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مِيراثِه، فقال - عليه السلام -: «مِيرَاثُه لابنِ المَرْأَةِ». فقال أخوها: لو جَرَّ جَرِيرةً كانت عليَّ ويكونُ ميراثُه لهذا؟ قال: «نعم» (¬5). وإنَّما ذكرنا هذا الحُكْمَ فيما إذا كانَتِ المُعْتِقَةُ امرأةً؛ لأنَّ المرأةَ لا تَعْقِلُ، وابْنها ليس مِن عَشِيرَتِها، فلا يَعْقِلُ عن مُعْتَقِها، ويَعْقِلُ عنها عَصَباتُها مِن عَشِيرَتِها. ولأنَّ الأخْبارَ التي رَوَيناها ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 411. (¬2) في م: «لابنها». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد. . . .، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 14، 15. ومسلم، في: باب دية الجنين. . . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1309، 1310. وأبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 498، 499. والترمذي، في: ما جاء أن الأموال للورثة. . . .، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 260 - 262. والنسائي، باب دية جنين المرأة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 42، 43. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 539. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 411.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما وَرَدَتْ في المرأةِ. أما الرجلُ المُعْتِقُ، فإنَّه يَعْقِلُ عن (¬1) مُعْتَقِه؛ لأنَّه عَصَبَةٌ مِن أهلِ العقلِ، ويَعْقِلُ ابنُه وأبُوه؛ لأنَّهما مِن عَصَباتِه [وعشيرتِه] (¬2) فلا يُلْحَقُ ابنُه في نَفْي العَقْلِ عنه بابنِ المرأةِ. فصل: فإن كان المولى حيًّا، وهو رجُلٌ عاقلٌ مُوسِرٌ، فعليه مِن العَقْلِ وله مِن (¬3) الميراثِ؛ لأنَّه عَصَبَةُ مُعْتِقِه، وإن كان صَبِيًّا أو معتوهًا، فالعَقْلُ على عَصَباتِه والميراثُ له؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ العَقْلِ، فأشْبَه ما لو جَنَوْا جِنايةً خَطأً كان العَقْلُ على عَصَباتِهم، ولو جُنِيَ عليهم كان الأَرْشُ لهم. فصل: ولا يَرِثُ المَوْلَى من أسْفَل معْتِقَه، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلِم. وحُكِيَ عن شُرَيح، وطاوسٍ، أنَّهما وَرَّثَاه؛ لِما روى سعيدٌ، عن سفيانَ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن عَوْسَجَةَ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ رَجُلًا تُوفِّيَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس له وارثٌ إلَّا غُلامٌ له هو أعْتَقَه، فأعْطاهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ميراثَه. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬4). وقال: حديثٌ حسنٌ. ورُوِيَ عن عمرَ مثلُ هذا. ووَجْهُ الأوَّلِ، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الوَلاءُ لمن أعْتَقَ». ولأنَّه لم يُنْعِمْ عليه، فلم يَرِثْه، كالأجْنَبِيِّ. وإعطاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له ميراثَه قَضِيَّةٌ في عَينٍ، تَحْتَمِلُ أنَّه كان وارثًا بغيرِ جِهةِ الإِعْتاقِ، ويكونُ فَائِدَةُ الحديثِ أنَّ إعْتاقَه إيَّاه لم يَمْنَعْه ميراثَه. ويَحْتَمِلُ ¬

(¬1) في م: «عنه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب في ميراث المولى الأسفل، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذي 8/ 256.

فَصْلٌ فِي دَوْرِ الْوَلَاءِ: إِذَا اشْتَرَى ابْنٌ وَبِنْتٌ مُعْتَقَة أَبَاهُمَا، فَعَتَقَ عَلَيهِمَا، صَارَ وَلَاؤُهُ لَهُمَا نِصْفَينِ، وَجَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ وَلَاءِ صَاحِبِهِ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ لِمَوْلَى أُمِّهِ، وَإنْ مَاتَ الْأبُ وَرِثَاهُ أَثْلَاثًا. فَإِنْ مَاتَتِ الْبِنْتُ بَعْدَهُ وَرِثَهَا أَخُوهَا بِالنَّسَبِ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ أَخوهَا، فَمَالُهُ لِمَوَالِيهِ، وَهُمْ أُخْتُهُ وَمَوَالِي أُمِّهِ، فَلِمَوَالِي أُمِّهِ النِّصْفُ، وَالنّصْفُ الآخَرُ لِمَوَالِي الأُخْتِ، وَهُمْ أَخُوهَا وَمَوَالِي أُمِّهَا، فَلِمَوَالِي أُمِّهَا نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ الرُّبْعُ، يَبْقَى الرُّبْعُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنّه أعْطاهُ صِلَةً وتَفَضُّلًا. وإذا ثَبَتَ أنَّه لا يرثُه فلا يعْقِلُ عنه. وقال الشافعيُّ في القديمِ: يعْقِلُ عنه؛ لأنَّ سيدَه أنْعَمَ عليه، فجاز أن يَغْرَمَ عنه. ولَنا، أنَّ العَقْلَ على العَصَباتِ، وليس هو منهم. وما ذَكَرَه (¬1) لا أصلَ له، ويَنْعَكِسُ بسائِر العاقِلةِ، فإنَّه لم يُنْعِمْ عليهم ويَعقِلُون عنه، ويَنْتَقِضُ بما إذا قَضَى إنسانٌ دَينَ آخرَ، فقد غَرِمَ عنه وأنعم عليه، ولا يَعْقِلُ عنه. فصل في دَوْرِ الوَلاءِ: قال الشيخُ، رضي الله عنه: (إذا اشْتَرى ابنٌ وبنْتٌ مُعْتَقَةٌ أباهُما، عَتَقَ عليهما، وصارَ وَلاؤُه بَينَهما نِصْفَين، وجَرَّ كُل واحِدٍ نِصْفَ وَلاءِ صاحِبِه، ويَبْقَى نِصْفُه لمَوْلَى أُمِّه. فإن مات الأبُ وَرِثاه أثلاثًا. فإن ماتَتِ البِنْتُ بعدَه وَرِثَها أخُوها بالنَّسب، ثم إذا مات أخُوها فمِيراثُه لِمَوالِيه، وهم أُخْتُه ومَوالِي أُمِّه، فلِمَوالِي أَمِّه ¬

(¬1) في النسختين: «ذكروه». وانظر المغني 9/ 253.

وَهُوَ الْجُزْءُ الدَّائِرُ؛ لِأنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْأَخِ وَعَادَ إِلَيهِ، فَفِيهِ وَجْهانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ لِبَيتِ المَالِ؛ لأَنَّه لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصفُ، والنّصف الآخَرُ لمَوالِي الأخْتِ، وهم أخُوها ومَوالِي أُمِّها، فلمَوالِي الأمِّ نِصْفُ ذلك وهو الرُّبْعُ، يَبْقَى الرُّبْعُ، وهو الجزءُ الدائِرُ؛ لأنَّه خَرَج مِن الأخِ وعادَ إليه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّه لمَوالِي الأمِّ) لأنَّ مُقْتَضَى كونِه دائِرًا أن يَدُورَ أبدًا، وفي كلِّ دَوْرَةٍ يَصِيرُ لمَوْلَى الأُمِّ نِصفُه، ولا يَزَالُ كذلك حتى يَنْفَدَ. وهو قولُ الجمهورِ. (والثاني) يُجْعَلُ في (بيتِ المالِ) قاله (¬1) القاضِي؛ (لأنَّه) مالٌ (لا مُسْتَحِقَّ له) نَعلَمُه. وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ، وقياسُ قولِ مالكٍ، والشافعيِّ. والأوَّلُ أوْلَى إن شاء الله تَعالى. فصل: فإن كانت المسألةُ بحالِها، إلَّا أنَّ مَكانَ (¬2) الابنِ بِنْتٌ، فاشْتَرَتْ أباها، عَتَقَ عليها، وجَرَّ إليها وَلاءَ أُخْتِها، فإذا مات الأبُ فلا بنَتَيه الثُّلُثان بالنَّسبِ، والباقي لمُعتِقِه بالوَلاءِ. فإن ماتتِ التي لم تَشْتَرِهِ بعدَ ذلك، فمالُها لأُخْتِها؛ نِصْفُه بالنَّسبِ، ونِصْفُه بأَنَّها مَوْلاةُ أبِيها. ولو ماتتِ التي ¬

(¬1) في م: «قال». (¬2) في النسختين: «مكاتب». وانظر: المبدع 6/ 290.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرَته، فلأُخْتِها النِّصفُ، والباقي لمَوالِي أُمِّها. فإنِ اشْتَرَتِ البِنتانِ أباهما نِصْفَين، عَتَقَ عليهما، وجَرَّ إلى كلِّ واحدةٍ نِصْفَ وَلاءِ أُخْتِها. فإذا مات الأبُ فماله بينَ بِنْتَيه بالنَّسبِ والوَلاءِ. فإن ماتت إحدَاهما بعدَ ذلك، فلأُخْتِها النِّصْفُ بالنَّسبِ ونِصْفُ الباقي بما جَرَّ الأبُ إليها مِن وَلاءِ نِصْفِها، فصارَ لها ثَلاثَةُ أرباعِ مالِها، والرُّبْع الباقي لمَوْلَى أُمِّها. فإن كانت إحداهما ماتت قبلَ أبِيها، فمالُها له، ثم إذا مات الأبُ فللباقِيَةِ نِصْفُ مِيراثِ أبيها لكونِها بِنْتَه، ونِصْفُ الباقي وهو الرُّبْعُ لكونِها مَوْلاةَ نِصْفِه، يَبْقَى الرُّبْعُ لِمَوالِي البِنْتِ التي ماتت قبلَه، فنِصْفُه لهذه البِنْتِ؛ لأنَّها مَوْلاةُ نِصْفِ أُخْتِها، صارَ لها سَبْعَةُ أثْمانِ مِيراثِه، ولمَوْلَى الأمِّ المَيتةِ الثُّمْنُ. فإن ماتتِ البِنْتُ الباقِيَةُ بعدَهما، فمالُها لِمَوالِيها؛ نِصْفُه لِمَوالِي أُمِّها، ونِصْفُه لمَوالِي أُخْتِها المَيتةِ، وهم أُخْتُها ومَوْلَى أُمِّها، فنِصْفُه لمَوْلَى أُمِّها وهو الرُّبْعُ، والرُّبْعُ الباقي يَرْجِعُ إلى هذه المَيتةِ. فهذا الجزءُ دائِرٌ؛ لأنَّه خَرَجَ مِن هذه الميِّتةِ ثم دار إليها، ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما. وهاتان المسألتان أصْلٌ في دَوْرِ الولاءِ. وفيها أقوالٌ شَاذَّة سِوَاهما. وهذا أصَحُّ ما قِيلَ فيها، إن شاء اللهُ تعالى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِ اشْتَرَتْ الابنَتانِ أباهُما، ثم اشْتَرَى أبُوهما هو والكُبْرَى جَدَّهما، ثم مات الأبُ، فمالُه بينَهم أثلاثًا، ثم إذا مات الجَدُّ، وخَلَّفَ ابْنَتَي ابْنِه فلهما الثُّلُثانِ، وللكُبْرَى نِصْفُ الباقِي؛ لكونِها مَوْلاةَ نِصْفِه، يَبْقَى السُّدْسُ لمَوالِي الأبِ؛ لأنَّه مَوْلَى نصْفِ الجَدِّ، وهما ابْنتاه، فيَحْصُلُ للكُبْرَى ثُلُثُ المالِ ورُبْعُه، وللصُّغْرَى رُبْعُه وسُدْسُه، فإن كانت بحالِها، فاشْتَرَتِ الكُبْرَى وأبُوها أخاهما لأبِيهما، فالجوابُ فيها كالتي قبلَها. فصل: فإنِ اشْتَرَى ثلاثُ بناتٍ أمُّهاتُهنَّ مُعْتَقاتٌ أباهن أثْلاثًا، عَتَقَ عليهنَّ، وجَرَّ إلى كلِّ واحِدَةٍ ثُلُثَ وَلاءِ أُخْتِها. فإن مات الأبُ كان مالُه بَينَهُنَّ أثلاثًا بالنَّسبِ والوَلاءِ. فإن ماتت إحدَاهُنَّ بعدَه، كان لأخْتَيها الثُّلُثان بالنَّسبِ وثُلُثَا ما بَقِيَ بالولاءِ، والباقي لمَوَالِي أُمِّها، وتصِحُّ مِن تِسْعَةٍ. ولو ماتَت إحداهُنَّ ثم مات الأبُ، قُسِمَ مالُه على سَبْعَةٍ وعشْرِينَ، لهما الثُّلُثانِ بالنَّسبِ وثُلُثَا ما بَقِيَ بالوَلَاءِ، ويَبْقَى التُّسْع، وهو حِصَّةُ المَيِّتةِ، فلهما ثُلُثاه؛ لأنَّ لهما ثُلُثَيْ ولائِها، ولِمَوالِي أُمِّها السُّدْسُ، والسُّدْسُ الباقي للمَيِّتةِ قبلَها؛ لأنَّ لها ثُلُثَ وَلائِها أيضًا، فيكونُ هذا السُّدْسُ بينَ مَوْلَى أُمِّ المَيِّتةِ الأولَى والأُخْتَين على ثَلاثةٍ، فاضْرِبْ سِتَّةً في ثَلاثةٍ تكنْ ثمانِيَةَ عَشَرَ؛ لمَوالِي أُمِّ الممتةِ الأولَى ثَلاثَةٌ؛ سَهْمٌ للحَيَّةِ، وسهْمٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لمَوالِي أُمِّها، وسَهْمٌ يَعودُ إلى المَيِّتةِ الثَّانيةِ؛ لأنَّ لها ثُلُثَ وَلائِها. فهذا هو السَّهْمُ الدائِرُ؛ لأنَّه خرَج مِن الثَّانيةِ إلى الأولَى ثم رَجَع إليها.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب العتق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ العِتْقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب العتق (¬1) العِتْقُ في اللُّغةِ: الخُلوصُ. ومنه عِتاقُ الخيلِ، وعِتاقُ الطَّيرِ، أي خالِصَتُها، وسُمِّيَ البَيتُ الحَرامُ عَتِيقًا؛ لخُلوصِه مِن أيدِي الجبابرَةِ. وهو في الشَّرْعِ: تحْرِيرُ الرَّقَبةِ وتخلِيصُها مِن الرِّقِّ. يُقالُ: عَتَق العَبْدُ، وأعْتَقْته أنا، وهو عَتِيقٌ، ومُعْتَقٌ. والأصْلُ فيه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقولُ اللهِ تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬2). وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (¬3). وأمّا السُّنَّةُ، فما روَى أبو هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ الله بكُلِّ إرْبٍ مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، حَتَّى إنَّه ليعْتِقُ الْيَدَ بالْيَدِ، والرِّجْلَ بِالرِّجْلِ، والْفَرْجَ بالْفَرْجِ» مُتَّفَقٌ عليه (¬4). في أخبارٍ كثيرةٍ سِوَى هذا. وأجْمَعَتِ الأمَّة على صِحَّةِ العِتْقِ وحُصُولِ القُرْبَةِ به. ¬

(¬1) بداية الجزء السادس من نسخة أحمد الثالث التي هي الأصل، وأرقام صفحاتها في مواضعها من التحقيق. (¬2) سورة المجادلة 3. (¬3) سورة البلد 13. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 560. وهذا لفظ أحمد.

2909 - مسألة: (وهو من أفضل القرب)

وَهُوَ مِنْ أفْضَلِ الْقُرَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2909 - مسألة: (وهو مِن أفْضَلِ القرَبِ) لأنَّ اللهَ تعالى جعلَه، كفّارَةً للقَتْلِ، والوَطْء في رمضانَ، والأيمانِ، وجعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِكَاكًا لمُعْتِقِه مِن النَّارِ، ولأنًّ فيه تخليصَ الآدَمِيِّ المَعْصُومِ مِن ضَرَرِ الرِّقِّ، ومِلْكَ نَفْسِه ومنافِعِه، وتَكْمِيلَ أحْكامِه، وتَمْكِينَه مِن التصرُّفِ في نَفْسِه ومنافِعِه على حَسَبِ إرادَتِه واخْتِيارِه.

2910 - مسألة: (والمستحب عتق من له كسب)

وَالْمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ كَسْبٌ. فَأمَّا مَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا كَسْبَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ عِتْقُهُ وَلَا كِتَابَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإعْتاقُ الرَّجُلِ أفضلُ مِن إعْتاقِ المرأةِ؛ لِما روَى كَعْبُ بنُ مُرَّةَ البَهْزِيُّ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «أَيُّمَا رَجُل أعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزَى بِكُلِّ عَظْم مِنْ عِظامِه عَظْمًا مِنْ عِظامِهِ، وأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأتَين مُسْلِمَتَينِ كانتا فِكاكَهُ مِن النَّارِ، يُجْزَى بكُلِّ عَظْمَينِ (¬1) مِنْ عِظَامِهما عَظْمًا مِنْ عِظامِه، وأيُّمَا امْرَأةٍ مُسْلِمَةٍ (¬2) أَعتَقَتِ امْرَأةً مُسْلِمَةً كانتْ فِكاكَهَا مِن النَّارِ، تُجْزَى بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِها عَظْمًا مِنْ عِظَامِهَا» (¬3). وقِيلَ: عِتْقُ المرأةِ للمرأةِ أفْضَلُ. 2910 - مسألة: (والمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَن له كَسْبٌ) ودِينٌ يَنْتَفِعُ بالعِتْقِ، (فأمّا مَن لا قُوَّةَ له ولا كسْبَ، فلا يُسْتَحَبُّ عِتْقُه ولا كِتابَتُه) ¬

(¬1) في م: «عظم». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في الأصل: «رواه مسلم». والحديث ليس عنده. انظر: تحفة الأشراف 8/ 325. وأخرجه أبو داود، في: باب أي الرقاب أفضل، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 354، 355. وابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [قد ذَكَرْنا أنَّ العِتْقَ إنَّما يُسْتَحَبُّ لمَن له كسْبٌ يَنْتَفِعُ بالعِتْقِ، فأمّا مَن يَتَضَرَّرُ به، كمَن لا كسْبَ لي] (¬1) لسُقُوطِ نَفَقَتِه عن سَيِّدِه بإعْتاقِه، ¬

= ماجه، في: باب العتق، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 843. والإمام أحمد في: المسند 4/ 235، 321. واللفظ له. (¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَضِيعُ، أو يصيرُ كَلًّا على النَّاسِ ويَحْتاجُ إلى المَسْألَةِ، فلا يُسْتَحَبُّ عِتْقُه ولا كِتابَتُه. فإن كان ممَّن يُخافُ عليه الرُّجُوعُ إلى دارِ الحَرْبِ وتَرْكُ إسْلامِه، أو يُخافُ عليه الفَسادُ، كمَن يُخافُ أنَّه إذا عَتَقَ فاحْتاجَ سَرَق أو فَسَق أو قَطَع الطَّرِيقَ، أو جارِيةٍ يُخافُ عليها الزِّنَى والفسادُ، كُرِهَ إعْتاقُه، فإن غَلَب على الظَّنِّ إفْضاوهُ إلى هذا كان مُحَرَّمًا، لأنَّ التَّوَسُّلَ إلى الحَرامِ حرامٌ. فإن أعْتَقَه صَحَّ؛ لأنَّه إعْتاقٌ صَدَر مِن أهْلِه في مَحَلِّه، فصَحَّ، كعِتْقِ غيرِه.

2911 - مسألة: (ويحصل العتق بالقول والملك)

وَيَحْصُلُ الْعِتْقُ بِالْقَوْلِ وَالْمِلْكِ؛ فَأمَّا الْقَوْلُ فَصَرِيحُهُ لَفْظُ الْعِتْقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2911 - مسألة: (ويحْصُلُ العِتْقُ بالقَوْلِ والمِلْكِ) ولا يَحْصُلُ بالنِّيَّةِ المُجَرَّدَةِ؛ لأنَّه إزالةُ مِلْكٍ، فلا يَحْصُلُ بالنِّيَّةِ المُجَرَّدَةِ،

وَالْحُرِّيَّةِ، كَيفَ صُرِّفَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالطَّلاقِ. وألْفاظُهُ تَنْقَسِمُ إلى صريحٍ وكِنايَةٍ؛ فالصَّريحُ (لفْظُ العِتْقِ والحُرِّيَّةِ، كيف صُرِّفا) نحوَ: أنْت حُرٌّ -أو- مُحَرَّرٌ -أو- عَتِيقٌ -أو- مُعْتَقٌ -أو- أعْتَقْتُكَ. لأنَّ هذين اللَّفْظَين ورَدَا في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وهما يُسْتَعْمَلانِ في العِتْقِ عُرْفًا، فمتى أتَى بشيءٍ مِن هذه الألْفاظِ حَصَل به العِتْقُ، سواءٌ نَوَاه أو لم يَنْوه. قال أحمدُ، في رجلٍ لَقِيَ امْرأةً في الطَّرِيقِ، فقال: تَنَحَّيْ يا حُرَّةُ. فإذا هي جارِيَتُه، قال: قد عَتَقَتْ عليه. وقال، في رجلٍ قال لخَدَمٍ قِيام في وَلِيمَةٍ: مُرُّوا، أنتم أحرارٌ. و (¬1) كانت ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معَهم أمُّ ولَدِه لم يَعْلَمْ بها، قال: هذا عندِي تَعْتِقُ أُمُّ ولَدِهِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا تَعْتِقَ في هذين المَوْضِعَين؛ لأنَّه قَصَد باللَّفْظَةِ الأولَى غيرَ العِتْقِ، فلم تَعْتِقْ به، كما لو قال: عَبْدِي حُرٌّ. يُرِيدُ أنَّه عَفِيفٌ كريمُ الأخلاقِ، وباللَّفْظَةِ الثَّانيةِ أراد غيرَ أُمِّ وَلَدِه، فأشْبَهَ ما لو نادَى امرأةً مِن نِسائِه، فأجابَتْه غيرُها، فقال: أنتِ طالِقٌ. يَظُنُّها المُنادَاةَ، فإنَّها لا تَطْلُقُ، في رِوَايةٍ، فكذا ههُنا. وأمّا إن قَصَد غيرَ العِتْقِ، كالرَّجُلِ يقولُ: عَبْدِي هذا حُرٌّ. يُرِيدُ عِفَّتَه وكَرَمَ أخلاقِه. أو يقولُ لعَبْدِه: ما أنتَ إلَّا حُرٌّ. أي: إنَّكَ لا تُطِيعُني، ولا تَرَى لي عليك (¬1) حقًّا ولا طاعَةً. فلا يَعْتِقُ في ظاهِرِ المَذْهَبِ. قال حَنْبَلٌ: سُئِلَ أبو عبدِ اللهِ، عن رجلٍ قال لغُلامِه: أنت حُرٌّ. وهو يُعاتِبُهُ، قال: إذا كان لا يُرِيدُ بهِ العِتْقَ، يقولُ: كأنَّك حُرٌّ. ولا يُرِيدُ أنَّ يكونَ حُرًّا، أو كلامًا شِبْهَ هذا، رَجَوْتُ أنَّ لا يَعْتِقَ، وأنا أهابُ المَسْألَةَ؛ لأنَّه نَوَى بكَلامِه ما يَحْتَمِلُه فانْصَرَفَ إليه، كما لو نوَى بكِنايَةِ (¬2) العِتْقِ العِتْقَ. قال: وإن طُلِبَ اسْتِحْلافُه، حَلَفَ. وبيانُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بكنايته».

وَكِنَايَتُهُ: خَلَّيتُكَ، وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ، وَاذْهَبْ حَيثُ شِئْتَ، وَنَحْوُهَا. وَفِي قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيكَ، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيكَ، وَلَا مِلْكَ لِي ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتمالِ اللَّفْظِ لِما أرادَه، أنَّ المرأةَ الحُرَّةَ (¬1) تُمْدَحُ بهذا، يُقالُ: امْرأةٌ حُرَّةٌ. يَعْنُون عفِيفَةً. وتُمْدَحُ المَمْلُوكَةُ به أيضًا، ويُقالُ: للحَييِّ الكَرِيمِ الأخْلاقِ: حُرٌّ. قالت سُبَيعَةُ (¬2) تَرْثِي عبدَ المُطَّلِبِ: وَلَا تَسْأْمَا أنْ تَبْكِيا كُلَّ لَيلَةٍ … ويَوْمٍ على حُرٍّ كَرِيمِ الشّمائِلِ وأمّا الكِنايَةُ فنحوُ قوْلِه: (خلَّيتُكَ، والحَقْ بأهْلِكَ، واذهَبْ حيثُ شِئْتَ. ونحوُها). وكذلك قَوْلُه: حَبْلُكَ على غارِبِكَ. فهذا إن نَوَى به العِتْقَ عَتَق، وإن لم يَنْوه لم يَعْتِقْ، لأنَّه يَحْتَمِلُ غيرَه، ولم يَرِدْ به كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا عُرْفُ اسْتِعمالٍ. (وفي قَوْلِه: لا سبيلَ لي عليكَ، [ولا سُلْطانَ لي عليكَ] (¬3)، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) لعلها سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف. انظر ترجمتها في: أعلام النساء لكحالة 2/ 148. وبعض خبرها في الأغاني 22/ 68، 69، 73. (¬3) سقط من: م.

عَلَيكَ، ولَا رِقَّ لِي عَلَيكَ، وَفَكَكْتُ رَقَبَتَكَ، وَأنْتَ مَوْلَايَ، وَأَنْتَ لِلَّهِ، وَأنْتَ سَائِبَةٌ. رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَالأُخْرَى، كِنَايَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا مِلْكَ لي علَيكَ، ولا رِقَّ لي عليكَ، وفكَكْتُ رقَبَتَكَ، وأنتَ مَوْلَاي، وأنتَ للهِ، وأنتَ سائِبةٌ. رِوَايتان؛ إحْداهُما، أنَّه صريحٌ. والأخْرَى، كنايَةٌ). ذَكَر القاضي، وأبو الخَطَّابِ، في قَوْلِه: لا سبيلَ لي عليكَ، ولا سُلْطانَ لي عليكَ. روايَتين؛ إحْداهُما، أنَّه صريحٌ. والأخْرَى، كنايَةٌ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحيحُ أنَّه كِنايَةٌ؛ لِما ذَكَرْناه. فأمّا قَوْلُه: لا مِلْكَ لي عليكَ، ولا رِقَّ لي عليكَ، وأنتَ للهِ. فقال القاضي: هو صريحٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ فيه رِوايَتَين؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ غيرَ العِتْقِ. ولا خِلافَ في المَذْهَب أنَّه يَعْتِقُ به إذا نوَى، ومِمَّن قال: يَعْتِقُ بقَوْلِه: أنتَ للهِ. إذا نَوَى؛ الشَّعْبِيُّ، والمُسَيَّبُ ¬

(¬1) في: المغني 14/ 346.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ رافِعٍ، وحَمَّادٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَعْتِقُ به؛ لأنَّ مُقْتَضاه: أنتَ عَبْدٌ للهِ، أو مخلوقٌ للهِ. وهذا لا يَقْتَضِي العِتْقَ. ولَنا، أنَّه يَحْتَمِلُ: أنتَ حُرٌّ للهِ، أو عَتِيقٌ للهِ، أو عبدٌ للهِ وَحْدَه. لستَ بعَبْدٍ لي ولا لأحَدٍ سِوَى اللهِ. فإذا نَوَىْ الحُرِّيَّةَ به (¬1)، وَقَعَتْ، كسائِرِ الكِناياتِ. وما ذَكَرُوهُ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ احْتِماله لِما ذَكَرُوه لا يَمْنَعُ احْتِمالهُ لِما ذَكَرْناه، بدَلِيلِ سائِرِ الكِناياتِ، فإنَّها تَحْتَمِلُ العِتْقَ وغيرَه، ولو لم تَحْتَمِلْ إلَّا العِتْقَ لكانت صَرِيحةً فيه، وما احْتَمَلَ أمْرَين انْصَرَفَ إلى أحَدِهما بالنِّيَّةِ، وهذا شأْنُ الكِناياتِ. وما ذَكَرُوه مِن الاحْتِمالِ يَدُلّ على أنَّ هذا ليس بصَرِيح، وإنَّما هو كِنايَةٌ. وقَوْلُه: لا مِلْكَ لي عليكَ، ولا رِقَّ لي عليكَ. خبرٌ عن انْتِفاءِ مِلْكِه ورِقِّه (¬2)، لم يَرِدْ به شَرْعٌ، ولا عُرْفُ اسْتِعمالٍ في العِتْقِ، فلم يَكُنْ صَرِيحًا فيه، كقَوْلِه: ما أنتَ عَبْدِي ولا مَمْلُوكِي. وقَوْلِه لامرأتِه: ما أنتِ امرأتِي ولا زَوْجَتِي. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

2912 - مسألة: (وفي قوله لأمته: أنت طالق، وأنت حرام. روايتان؛ إحداهما، هي كناية. والأخرى، لا تعتق به [وإن نوى)

وَفِي قَوْلِهِ لِأمَتِهِ: أنْتِ طَالِقٌ. أوْ: أنْتِ حَرَامٌ. رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا، أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَالْأُخْرَى، لَا تَعْتِقُ بِهِ وَإنْ نَوَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي قولِه: فكَكْتُ رَقَبَتَكَ، وأنتَ سائِبة، وأنت مَوْلايَ، [ومَلَكْتَ رَقَبَتَكَ] (¬1). رِوايَتان؛ إحْداهُما، هو صريحٌ في العِتْقِ؛ لأنَّها تَتَضَمَّنُه، وقدْ جاءَ في كتابِ اللهِ تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ). يعني العِتْقَ، فكانتْ صريحةً، كقَوْلِه: أعْتَقْتُك. والثانية، هي كِنايَةٌ؛ لأنَّها تَحْتَمِلُ غيرَ العِتْقِ. 2912 - مسألة: (وفي قَوْلِه لأمَتِه: أنْتِ طالِق، وأنْتِ حَرامٌ. رِوايَتان؛ إحْداهُما، هي كِناية. والأخْرَى، لا تَعْتِقُ به [وإن نوى) إذا قال لأمَتِه: أنتِ طالِقٌ. ينوى به العِتْقَ، ففيه رِرايتان؛ إحْداهُما، لا تَعْتِقُ به] (¬2). وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الطَّلاقَ لَفْظٌ وُضِع لإِزالةِ المِلْكِ عن المَنْفَعَةِ (¬3)، فلم يَزُلْ به المِلْكُ عن الرَّقَبَةِ، كفَسْخِ الإِجارَةِ، ولأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) في الأصل: «المعتقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لا يُسْتَدْرَكُ بالرَّجْعَةِ، فلا يَنْحَلُّ بالطَّلاقِ (1)، كسائِرِ الأمْلاكِ. والثانيةُ، هو كِنايةٌ تَعْتِقُ به إذا نَوَاه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّ الرِّقَّ أحَدُ المِلْكَين على الآدَمِيِّ، فيَزُولُ بلفظِ الطَّلاقِ، كالآخَرِ، أو فيكونُ اللَّفْظُ الموضوعُ لإِزالةِ أحَدِهما كنايةً في إزالةِ الآخَرِ، كالحُرِّيَّةِ في إزالةِ النِّكاحِ، ولأنَّ فيه مَعْنَى الإِطْلاقِ، فإذا نَوَى به إطْلاقَها مِن مِلْكِه، فقد نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُهُ، فتَحْصُلُ به الحُرِّيَّة، كسائِرِ كِناياتِ العِتْقِ. فصل: وإن قال لأمَتِه: أنتِ حَرامٌ عليَّ (¬1). يَنْوي به العِتْقَ، عَتَقَتْ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ أنَّ فيها رِوايَةً أخْرَى، لا تَعْتقُ، كقَوْلِه لها: أنتِ طالِقٌ. والصَّحيحُ أنَّها تَعْتِقُ به؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّكِ حرامٌ عليَّ؛ لكَوْنِكِ حُرَّةً. فتَعْتِقُ به، كقَوْلِه: لا سبيلَ لي عليكِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2913 - مسألة: (وإن قال لعبده، وهو أكبر منه: أنت ابني. لم يعتق. ذكره القاضي. ويحتمل أن يعتق)

وَإنْ قَال لِعَبْدِهِ، وَهُوَ أكْبَرُ مِنْهُ: أنْتَ ابْنِي. لَمْ يَعْتِقْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2913 - مسألة: (وإن قال لعَبْدِه، وهو أكبَرُ منه: أنت ابْنِي. لم يَعْتِقْ. ذَكَره القاضي. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَعْتِقَ) إذا قال لأكْبَرَ منه أو لِمَن لا يُولَدُ لمِثْلِه: هذا ابْنِي. مثلَ أنَّ يقولَ مَن له عِشرون سَنَةً لِمَن له خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً: هذا ابْنِي. لم يَعْتِقْ، ولم يَثْبُتْ نَسَبُه. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ. وخرَّجَه أبو الخَطَّاب وَجْهًا لَنا؛ لأنَّهْ اعْتَرَفَ بما تَثْبُت به حُرِّيَته، فأشْبَهَ مَا لو أقَرَّ بها. ولَنا، أنَّه قولٌ يتَحَقَّقُ كَذِبُه فيه، فلم تَثْبُتِ الحُرِّيَّةُ، كما لو قال لطِفْلٍ: هذا أبي. أو لطفْلَةٍ: هذه أُمِّي. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا مِن قول النُّعْمانِ شاذٌّ لم يَسْبِقْه (¬1) أحدٌ إليه ولا تَبعَه أحدٌ عليه، وهو مُحالٌ مِن الكَلامِ وكَذِبٌ يَقِينًا، ولو جاز هذا لجازَ أَن يقولَ الرجلُ لطِفلٍ: هذا أبي. ولأنَّه لو قال لزَوْجَتِه، وهي أسَنُّ منه: هذه ابْنَتِي. أو قال لها، [وهو أسَنُّ منها] (¬2): هذه أُمِّي. لم تَطْلُقْ. كذا هذا. ¬

(¬1) في الأصل: «يستقر». (¬2) في م: «وهي أسنُّ منه».

2914 - مسألة: (وإن أعتق حاملا عتق جنينها، إلا أن يستثنيه)

وَإذَا أعتَقَ حَامِلًا عَتَقَ جَنِينُهَا، إلا أن يَسْتَثْنِيَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2914 - مسألة: (وإن أعْتَقَ حاملًا عَتَق جَنِينُها، إلَّا أنَّ يَسْتَثْنِيَه) لأنَّه يَتْبَعُها في البَيعِ والهِبَةِ، ففي العِتْقِ أوْلَى. فإنِ اسْتَثْناه لِم يَعْتِقْ. [رُوِيَ ذلك] (¬1) عن ابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيرَةَ، والنَّخَعِيِّ، وإسْحاق، وابنِ المُنْذِرِ. وقال ابنُ سِيرينَ: له ما اسْتَثْنَى. وقال عَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ: إذا اسْتَثْنَى ما في بَطْنِها فله ثُنْيَاه. وقال مالكٌ، والشافعيُّ: لا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الجَنينِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الثُّنْيَا إلَّا أنَّ تُعْلَمَ (¬2). وقِياسًا على اسْتِثْنائِه في البَيعِ، أشْبَهَ بعْضَ أعْضائِها. ولَنا، أنَّه قولُ ابنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيرَةَ. قال أحمدُ: أذْهَبُ إلى حديثِ ابنِ عُمَرَ في العِتْقِ، ولا أذْهَبُ إليهِ في البَيعِ. ولقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ على شُرُوطِهِمْ» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «لما روى». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 115. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 149 بلفظ: «المؤمنون» والذي في مصادر التخريج: «المسلمون». أما لفظ: «المؤمنون». فهو عند ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 568. مرسلًا. وذكره ابن عبد البر في التمهيد 7/ 117.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه يَصِحُّ إفْرادُه بالعِتْقِ، فصَحَّ اسْتِثْناؤه، كالمُنْفَصِلِ. وخَبَرُهم نقولُ به، والحَمْلُ مَعْلُومٌ، فصَحَّ اسْتِثْناؤُه؛ للحديثِ. ويُفارِقُ البَيعَ؛ لأنَّه عقدُ مُعاوَضَةٍ، يُعْتَبَرُ فيه العِلْمُ بصِفاتِ العِوَضِ، ليُعْلَمَ هل قائِمٌ مَقامَ العِوَضِ أم لا؟ والعِتْقُ تَبَرُّعٌ لا تتَوَقَّفُ صِحَّتُه على مَعْرِفَةِ صِفاتِ المُعْتَقِ، ولا تُنافِيه الجَهالةُ به (¬1)، ويَكْفِي العِلْمُ بوُجُودِه، وقد وُجِد، ولذلك صَحَّ إفْرادُ الحَمْلِ بالعِتْقِ، ولم يَصِحَّ بالبَيعِ، ولأنَّ اسْتِثْناءَه في البَيعِ إذا بَطَل بَطَل البَيعُ كلُّه، وههُنا إذا بَطَل اسْتِثْناؤُه لم يَبْطُلِ العِتْقُ في الأمَةِ ويَسْرِي الإِعْتاقُ إليه، [فكيفَ يَصِحُّ إلْحاقُه به مع تَضادِّ الحُكْمِ فيهما (¬2)! ولا يَصِحُّ قِياسُه على بعضِ أعْضائِها؛ لأنَّه يَصِح انْفِرادُه] (¬3) بالحُرِّيَّةِ عن أُمِّه فيما إذا أعْتَقَه دُونَها، وفي وَلَدِ المَغْرُورِ بحُرِّيَّةِ أُمِّه، وفيما إذا وَطِئَ بشُبْهَةٍ، وفي وَلَدِ أُمِّ الوَلَدِ، وغيرِ ذلك. ولا يَصِحّ ذلك في بعضِ أعْضائِها، ولأنَّ الوَلَدَ يَرِثُ ويُورَثُ ويُوصَى به، فكيفَ يَصِحُّ قِياسُه على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيها». (¬3) سقط من: الأصل.

2915 - مسألة: (وإن أعتق ما في بطنها دونها، عتق وحده)

وَإنْ أعتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا دُونَها، عَتَقَ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضِ الأعْضاءِ؟ وروَى الأَثْرَمُ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه أعْتَقَ أمَةً واسْتَثْنَى ما في بَطْنِها (¬1). ولأنَّها ذاتُ حَمْل، فصَحَّ اسْتِثْناءُ حَمْلِها، كما لو باع نَخْلَةً لم تُؤَبَّرْ واشْتَرَط. ثَمَرَتَها. وقال القاضِي: يُخَرَّجُ على الرِّوايَتَين فيما إذا اسْتَثْنَى ذلك في البَيعِ. والمَنْصُوصُ عنه ما ذَكَرْناه مِن أنَّه يَصِحُّ اسْتِثْناؤُه في العِتْقِ، ولا يَصِحُّ في البَيعِ؛ لِما ذَكَرْنا [مِن الفَرْقِ] (¬2) بينَهما. 2915 - مسألة: (وإن أعْتَقَ ما في بَطْنِها دُونَها، عَتَقَ وَحْدَه) لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وهو قولُ سفيانَ، وأحمدَ، وإسْحاقَ؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُ الإِنْسانِ المُنْفَرِدِ، ولهذا يُورَثُ الجنينُ إذا ضُرِب بَطْنُ امْرأةٍ فأسْقَطَتْ جَنِينًا، وَجَب فيه غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عنه، كأنَّه سَقَط حَيًّا، وتَصِحُّ الوَصِيَّةُ به وله، ويَرِثُ إذا مات مَوْرُوثُه قبلَ أنَّ يُولَدَ ثم وُلِد بَعْدَه، فصَحَّ عِتْقُه، كالمُنْفَصِلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 127. (¬2) في الأصل: «في الفروق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ العِتْقُ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ، فلا يَصِحُّ عِتْقُ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وذلك لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتى يَسْتَيقِظَ» (¬1). ولأنَّه تَبَرُّعٌ بالمالِ، فلم يَصِحَّ منهما (¬2) كالهِبَةِ. ولا يَصِحُّ عِتْقُ المَحْجُورِ عليه للسَّفَهِ. وهو قولُ القاسِمِ بنِ محمدٍ. وعنه، يَصِحُّ، قِياسًا على طَلاقِه وتَدْبِيرِه. ولَنا، أنَّه مَحْجور عليه في مالِه لحَظِّ نَفْسِه، فلم يَصِحَّ عِتْقُه، كالصَّبِيِّ، ولأنَّه تَصَرُّفٌ في المالِ في حياتِه، أشْبَهَ هِبَتَه وبَيعَه. ويُفارِقُ الطَّلاقَ؛ لأنَّ الحَجْرَ عليه في مالِه، والطَّلاقُ ليس بتَصَرُّفٍ فيه. ويُفارِقُ التَّدْبيرَ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ فيه بعدَ مَوْتِه وغِناه عنه بالمَوْتِ، ولهذا صَحَّتْ وَصِيَّتُه ولم تَصِحَّ هِبَتُه المُنْجَزَةُ. وعِتْقُ السَّكْرانِ مَبْنِيٌّ على طلاقِه، وفيه مِن الخِلافِ ما فيه. ولا يَصِحُّ عِتْقُ المُكْرَهِ، كما لا يَصِحُّ بَيعُه ولا تَصَرُّفاتُه، ولا يَصِحُّ عِتْقُ المَوْقُوفِ؛ لأنَّ فيه إبْطالًا لحقِّ البَطْنِ الثانِي منه، وليس له ذلك. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ العِتْقُ مِن غيرِ المالِكِ بغَيرِ إذْنِه، فلو أعْتَقَ عَبْدَ ولَدِه الصَّغِيرِ، أو يَتِيمِه الذي في حِجْرِه، لم يَصِحَّ. وبهذا قال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: يَصِح عِتْقُ عبدِ وَلَدِه الصَّغِيرِ؛ لقَوْلِه، عليه الصلاة والسلامُ: «أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ» (¬1). ولأنَّ له عليه ولايةً، وله فيه حَقٌّ، فصَحَّ إعْتاقُهُ، كمالِه. ولَنا، أنَّه عِتْقٌ مِن غيرِ مالِكٍ، فلم يَصِحَّ، كإعْتاقِ عَبْدِ وَلَدِه الكَبِيرِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لمَّا وَرَّثَ الله الأبَ مِن مالِ ابْنِه السُّدْسَ مع وَلَدِه، دَلَّ على أنَّه لا حَقَّ له في سائِره. وقَوْلُه، عليه السلامُ: «أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ». لم يُزِدْ به حقيقةَ المِلْكِ، وإنَّما أرادَ المُبالغَةَ في وُجُوبِ حَقِّه عليكَ، وإمْكانِ الأخْذِ مِن مالِكَ، وامتِناعِ مُطالبتِك إياه بما أخَذَ منه، ولهذا لم يَنْفُذْ إعْتاقُه لعَبْدِ وَلَدِه الكَبِيرِ الذي وَرَد الخبرُ فيه، وثُبُوتُ الولايةِ له على مالِ وَلَدِه أبْلَغُ في امْتِناعِ إعْتاقِ عبدِه؛ لأنَّه إنَّما أثبَتَ الولايةَ عليه لحَظِّ الصَّبِيِّ؛ ليَحْفَظَ ماله عليه، ويُنَمِّيَه له، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 94، وانظر 17/ 106.

2916 - مسألة: (وأما الملك، فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه. وعنه، لا يعتق إلا عمودا النسب)

وَأمَّا الْمِلْكُ، فَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيهِ. وَعَنْهُ، لَا يَعْتِقُ إلا عَمُودَا النَّسَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقومَ بمصالحِه التي يَعْجِزُ الصَّبِيُّ عن القيامِ بها، وإذا كان مَقْصُودُ الولايَةِ الحِفظَ اقْتَضَتْ مَنْعَ التَّضْيِيعِ والتَّفْرِيطِ بإعْتاقِ رَقِيقِه والتَّبَرُّعِ بمالِه. ولو قال رجلٍ لعَبْدٍ: أنت حُرٌّ مِن مالي. فليس بشيءٍ، فإنِ اشتراه بعدَ ذلكَ فهو مَمْلُوكُه، ولا شيءَ عليه. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وعامَّةُ الفُقهاءِ. ولو بَلَغ رجلًا أنَّ رجلًا قال لعَبْدِه: أنت حُرٌّ مِن مالي. فقال: قد رضِيتُ. فليس بشيء. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وإسحاق. 2916 - مسألة: (وأمّا المِلْكُ، فمَن مَلَك ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَق عليه. وعنه، لا يَعْتِقُ إلَّا عَمُودا النَّسَبِ) ذو الرَّحِمِ المَحْرَمُ: القَرِيبُ الذي يَحْرُمُ نِكاحُه عليه، لو كان أحَدُهما رجلًا والآخَرُ امرأةً، وهم الوالِدان وإن عَلَوْا مِن قِبَل الأبِ والأُمِّ جَميعًا، والوَلَدُ وإن سَفَل مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَدِ البَنينَ والبَناتِ، والإِخْوَةُ والأخَواتُ، وأوْلادُهم وإن سَفَلُوا (¬1)، والأعْمامُ والعمَّاتُ، والأخْوالُ والخالاتُ وإن عَلَوْا، دُونَ أوْلادِهم، فمتى مَلَك أحدًا مِنْهم عَتَق عليه. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال الحسنُ، وجابرُ بنُ زيدٍ، وعطاءٌ، والحَكَمُ، وابن أبي لَيلَى والثَّوْرِيُّ، واللَّيثُ، وأبو حنيفةَ، والحسنُ بن صالح، وشَرِيكٌ، ويَحْيَى بنُ آدمَ. وأعْتَقَ مالِكٌ الوالِدِين والمَوْلودِين وإن بَعُدُوا، والإخْوةَ والأخَواتِ دُونَ أولادِهم. ولم يُعْتِقِ الشافعيُّ إلَّا عَمُودَي النَّسَبِ. وعن أحمدَ كذلك. ولم يُعْتِقْ داودُ وأهلُ الظّاهِرِ أحدًا حتى يُعْتِقَه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ والِدَهُ، إلَّا أنْ يَجِدَه مَمْلُوكًا فيَشْتَرِيَة فيُعْتِقَهُ». رَواه مسلمٌ (¬2). ولَنا، ما روَى الحسن عن سَمُرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ». رَواه ¬

(¬1) بعده في الأصل: «من ولد البنين والبنات». (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حديثٌ حسنٌ. [وروَى ضَمْرَةُ، عن سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ» (¬2). وسئِل أحمدُ عن ضَمْرَةَ، فقال: ثِقَةٌ إلَّا أنَّه روَى حديثَين [لا أصل لهما] (¬3)، أحَدُهما، هذا الحديثُ] (¬4). ولأنَّه ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فعَتَقَ عليه بالمِلْكِ، كعَمُودَي النَّسَبِ، وكالإِخوَةِ والأخواتِ عندَ مالكٍ. فأمّا قَوْلُه: «حَتَّى يَشْتَرِيَه فيُعْتِقَه». فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ فيَشْتَرِيَه فيُعْتِقَه بِشِرائه، كما يقالُ: ضَرَبَه فقَتَلَه. والضرْبُ هو القَتْلُ؛ وذلك لأنَّ الشِّراءَ لمّا كان يَحْصُلُ به العِتْقُ تارةً دُونَ اخْرَى، جاز عَطْفُ صِفَتِه عليه، كما يقالُ: ضَرَبَه فأطار رأسَه. وسواءٌ مَلَكَه بشِراءٍ، أو هِبَةٍ، أو غَنِيمَةٍ، أو إرْثٍ، أو غيرِه، لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ فيه خِلافًا. فصل: ولا خِلافَ في أنَّ المحارِمَ مِن غيرِ ذَوي الأرْحام لا يَعْتِقُونَ على سيِّدِهم، كالأُمِّ مِن الرَّضاعَةِ، والأخِ مِنْها (¬5)، والرَّبِيبَةِ، وأُمِّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في من ملك ذا رحم محرم، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 351. والترمذي، في: باب ما جاء في من ملك ذا رحم محرم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 123. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 843. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 15، 18. وهو حديث صحيح. انظر إرواء الغليل 6/ 169 - 171. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 844. (¬3) في الأصل: «الأصل لها». (¬4) سقط من: ر 2، م. (¬5) في الأصل: «منهما».

2917 - مسألة: (وإن ملك ولده من الزنى لم يعتق)

وَإنْ مَلَكَ وَلَدَهُ مِنَ الزِّنَى لَمْ يَعْتِقْ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَعْتِقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجَةِ، وابْنَتِها، إلَّا أنَّه حُكِيَ عن الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، وشَرِيكٍ، أنَّه لا يجوزُ بَيعُ الأخِ مِن الرَّضاعةِ. ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه كَرِهَهُ. والأوَّلُ أصَحُّ. قال الزُّهْرِيُّ: جَرَتِ السُّنَّةُ بأن يُباعَ الأخُ والأخْتُ مِن الرَّضاعةِ. ولأنَّهم لا نَصَّ في عِتْقِهم، ولا هم في مَعْنَى المَنْصوصِ عليه، فيَبْقُون على الأصْلِ، ولأنَّهما لا رَحِمَ بينَهما ولا تَوارُثَ، ولا تَلْزَمُه نَفَقَتُه، فأشْبَهَ الرَّبِيبَةَ وأمَّ الزَّوْجَةِ. 2917 - مسألة: (وإن مَلَك وَلَدَهُ مِنَ الزِّنى لم يَعْتِقْ) عليه (في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ) لأنَّ أحكامَ الوَلَدِ غيرُ ثابتةٍ فيه -وهي الميراثُ، والحجْبُ، والمَحْرَمِيَّةُ، ووُجُوبُ الإنْفاقِ، وثُبُوتُ الولايَةِ عليه- (ويَحْتَمِلُ أنَّ يَعْتِقَ) لأنَّه جُزْوه حَقِيقَةً، وقد ثَبَت فيه حُكْمُ تَحْرِيم التّزويجِ، ولهذا لو مَلَك وَلَدَه المُخالِفَ له في الدِّينِ عَتَق عليه مع انْتِفاءِ هذه الأحْكامِ.

2918 - مسألة: (وإن ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله، وعليه قيمة نصيب شريكه. وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا ما ملك. وإن ملكه بالميراث لم يعتق منه إلا ما ملك، موسرا كان أو معسرا. وعنه، أنه يعتق عليه نصيب الشريك إن كان موسرا)

وَإنْ مَلَكَ سَهْمًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيهِ بِغَيرِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ مُوسِرٌ عَتَقَ عَلَيهِ كُلُّهُ، وَعَليهِ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَإنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيهِ إلا مَا مَلَكَ. وَإنْ مَلَكَهُ بِالْمِيرَاثِ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ إلا مَا مَلَكَ، مُوسِرًا كَانَ أوْ مُعْسِرًا. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2918 - مسألة: (وإن مَلَك سَهْمًا مِمَّن يَعْتِقُ عليه بغيرِ المِيراثِ وهو مُوسِرٌ عَتَق عليه كلُّه، وعليه قِيمَةُ نصيبِ شَريكِه. وإن كان مُعْسِرًا لم يَعْتِقْ عليه إلَّا ما مَلَك. وإن مَلَكَه بالمِيراثِ لم يَعْتِقْ منه إلَّا ما مَلَك، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا. وعنه، أنَّه يَعْتِقُ عليه نَصِيبُ الشَّرِيكِ إن كان مُوسِرًا) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن مَلَك سَهمًا مِمَّن يَعْتِقُ عليه، فإَّنه يَعْتِقُ عليه ما مَلَك منه، سواءٌ مَلَكَه بعِوَض، أو بغيرِ عِوَض،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [كالهِبَةِ، والاغْتِنامِ] (¬1) والوَصِيَّةِ، وسواءٌ مَلَكَه باخْتِيارِه، كالذي ذَكَرْنا، أو بغيرِ اخْتِيارِه، كالمِيراثِ؛ لأنَّ كلَّ ما يَعْتِقُ به الكُلُّ، يَعْتِقُ به البَعْضُ، كالإِعْتاقِ بالقولِ، ثم يُنْظَرُ؛ فإن كان مُعْسِرًا لم يَسْرِ العِتْقُ، واسْتَقَرَّ في ذلك الجُزْءِ ورَقَّ الباقِي؛ لأنَّه لو أعْتَقَه بقَوْلِه لم يَسْرِ إعْتاقُه بتَصْرِيحِه بالعِتْقِ وقَصْدِه إيّاهُ، فههُنا أوْلَى. وإن كان موسِرًا وكان المِلْكُ (¬2) باخْتِيارِه، كالمِلْكِ بغيرِ المِيراثِ، سَرَى إلى باقِيه، فعَتَقَ جَمِيعُ العَبْدِ، ولَزِمَه لشَرِيكِه قِيمَةُ باقِيه، لأنَّه فَوَّتَه عليه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُف. وقال قَوْمٌ: لا يَعْتِقُ عليه إلَّا ما مَلَك، سواءٌ مَلَكَه بشراءٍ أو غَيره، لأنَّ هذا لم يَعْتِقْه، وإنَّما عَتَق عليه بحُكْمِ الشَّرْعِ، عن غيرِ اخْتِيارٍ منهُ، فلم يَسْرِ، كما لو مَلَكَه بالمِيراثِ، وفارَق ما أعْتَقَه، لأنَّه فَعَلَه باخْتِيارِه قاصِدًا إليه. ولَنا، أنَّه فَعَل سبَبَ العِتْقِ اخْتِيارًا منه، وقَصَد إليه، فسَرَى ولَزِمَه الضَّمانُ، كما لو وَكَّلَ مَن أعْتَقَ نَصِيبَه. وفارَقَ ¬

(¬1) في ر 2، م: «كالاغتنام». (¬2) في ر 2، م: «الميراث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِيراثَ، فإنَّه حَصَل بغيرِ فِعْلِه، ولا قَصْدِه، ولأنَّ مَن باشَرَ (¬1) سبَبَ السِّرايَةِ اخْتِيارًا لَزِمَه الضمانُ (¬2)، كمَن جَرَح إنْسانًا فسَرَى جُرْحه، ولأنَّ مُباشَرَةَ ما يَسْرِي وتَسَبُّبَه (¬3) إليه في لُزُومِ حكْمِ السِّرايَةِ واحِدٌ، بدَلِيلِ اسْتِواءِ الحافِرِ والدافِعِ في ضَمانِ الواقِعِ، فأمّا إن مَلَكَه بالمِيراثِ، لم يَسْرِ العِتْقُ فيه، واسْتَقَرَّ فيما مَلَكَه، ورَقَّ الباقي، موسرًا كان أو مُعْسِرًا؛ لأنَّه لم يتَسَبَّبْ إلى إعْتاقِه، وإنَّما حَصَل بغيرِ اخْتِيارِه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ. وعن أحمدَ، ما يدُلُّ على أنَّه يَسْرِي إلى نَصِيبِ الشَّرِيكِ إذا كان موسِرًا، لأنَّه عَتَق عليه بَعْضه وهو موسِرٌ، فسَرَى إلى باقِيه، كما لو وَصَّى له به فقَبِلَه. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لأنَّه لم يعْتِقْه ولا تَسَبَّبَ إليه، فلم يَضْمَنْ، ولم يَسْرِ، كالأجْنَبيِّ، وفارَقَ ما تَسَبَّبَ إليه. ¬

(¬1) في الأصل: «باشره». (¬2) في الأصل، ر 2: «ضمانا». (¬3) في م: «ونسبته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَرِث الصَّبِيُّ والمَجْنُونُ جُزْءًا ممَّن يَعْتِقُ عليهما، عَتَق ولم يَسْرِ إلى باقِيه، لأنَّه إذا لم يَسْرِ في حَق المُكَلَّفِ، ففي حَقِّهما أوْلَى. وإن وُهِب لهما، أو وُصِّيَ لهما به وهما مُعْسِران، فعلى وَلِيِّهما قَبُولُه، لأنَّه نَفْعٌ لهما، بإعْتاقِ قَرِيبِهما مِن غيرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ قَريبَهما. وإن كانا مُوسِرَين، ففيه وَجْهان، مَبْنِيَّان على أنَّه هل يُقَوَّمُ عليهما باقِيه إذا مَلَكا بَعْضَه؟ وفيه وجْهان، أحَدُهما، لا يُقَوَّمُ ولا يَسْرِي العِتْقُ إليه، لأنَّه يَدْخُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في (¬1) مِلْكِه بغيرِ اخْتِيارِه، أشْبَهَ ما لو وَرِثَه. والثاني، يُقَوَّمُ عليه؛ لأنَّ قَبُولَ وَلِيِّه يقومُ مَقامَ قَبُولِه، فأشْبَهَ الوَكيلَ. قعلى هذا الوَجْهِ، ليس لوَلِيِّه قَبُولُه؛ لِما فيه مِن الضَّرَرِ. وعلى الأوَّلِ، يَلْزَمُه قَبُولُه؛ لأنَّه نَفْغ بغيرِ ضَرَرٍ، إذا كان مِمَّن لا تَلْزَمُه نَفَقَتُه، وإذا قُلْنا: ليس له إن يَقْبَلَه. فقَبلَه، احْتَمَلَ أنَّ لا يَصِحَّ القَبُولُ (¬2)؛ لأنَّه فَعَل ما لم يَأْذَنْ له الشَّرعُ فيه، فأشبَهَ ما لو باع ماله (¬3) بغَبْنٍ. واحْتَمَلَ أنَّ يَصِحَّ وتكونَ الغرامةُ عليه؛ لأنَّه ألْزَمَه هذه الغرامةَ، فكانت عليه كنَفَقَةِ الحَجِّ إذا أحَجَّه. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في الأصل: «للقبول». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن باعَ عَبْدًا لذي رَحِمِه وأجْنَبِيٍّ صَفْقَةً واحِدَةً، عَتَق كلُّه إذا كان ذو رَحِمِه مُوسِرًا، وضَمِن لشَريكِه قِيمَةَ حَقِّه منه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَضْمَنُ لشَرِيكِه شيئًا؛ لأنَّ مِلْكَه لم يَتِمَّ إلَّا بقَبُولِ شَرِيكِه، فصار كأنَّه أذِنَ له في إعْتاقِ نَصِيبِه [ولَنا، أنَّه عَتَق عليه نَصِيبُه] (¬1) بمِلْكِه باخْتِياره، فوَجَبَ أنَّ يُقَوَّمَ عليه باقِيه مع يَسارِه، كما لو انْفَرَدَ بشِرائِه، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَصِحُّ قَبُولُه إلَّا بقَبُولِ شَرِيكِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كانت أمَةً (¬1) مُزَوَّجَةً، ولها ابنٌ مُوسِرٌ، فاشْتَراها هو وزَوْجُها وهي حامِلٌ منه، صَفْقَةً واحِدَةً، عَتَق نَصِيبُ الابْنِ مِن أُمِّه، وسَرَى إلى نصيبِ الزَّوْجِ، ويُقَوَّمُ عليه، وعَتَق الحَمْلُ عليهما معًا؛ لأنَّه ابنُ الزَّوْج وأخو الابْنِ، ولا يَجِبُ لأحَدِهما على الآخرِ منه شيءٌ؛ لأنَّه عَتَق عليهما في حالٍ واحِدَةٍ. ولو كانتِ المسْألةُ بحالِها، فوُهِبَت لهما، أو وُصِّيَ لهما بها، فقَبِلاها في حالٍ واحِدَةٍ، فكذلك، وإن قَبِلَها أحَدُهما قبلَ الآخَرِ، نَظَرْنا؛ فإن قَبِل الابْنُ أوَّلًا، عَتَقَت عليه (1) الأُمُّ وحَمْلُها، وعليه قِيمَةُ باقِيهما للزَّوْجِ. وإن قَبِل الزَّوْجُ أوَّلًا عَتَق عليه الحَمْلُ كلُّه. ثم إذا قَبِل الابْنُ عَتَقَتْ عليه الأُمُّ كلُّها، ويَتقاصّان (¬2)، ويَرُدُّ كلُّ واحِدٍ منهما الفَضْلَ على صاحِبِه. ومَن قال في الوَصِيَّةِ: إنَّ المِلْكَ لا يَثْبُت فيها بالموتِ. فالحُكْمُ فيهكما لو قَبِلاها دُفْعَةً واحِدَةً. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يتقاضيان».

2919 - مسألة: (وإن مثل بعبده فجدع أنفه أو أذنه ونحو ذلك، عتق. نص عليه)

وَإنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ فَجَدَعَ أنْفَهُ أَوْ أُذُنَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، عَتَقَ عَلَيهِ. نَصَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2919 - مسألة: (وإن مَثَّلَ بعَبْدِه فجَدَعَ أنْفَه أو أُذُنَه ونحوَ ذلك، عَتَق. نَصَّ عليه) لِما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ عن أبِيه عن جَدِّه، أنَّ زِنْباعًا أبا رَوْحٍ وَجَد غُلامًا له مع جارِيَتِه، فقَطَعَ ذَكَرَه وجَدَعَ أنْفَه، فأتَى العَبْدُ

عَلَيهِ. قَال الْقَاضِي: وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذَكَرَ ذلك له، فقال له (¬1) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟» قال: فَعَل كذا وكذا. قال: «اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» (¬2). (قال القاضي: والقِياسُ أنَّ لا يَعْتِقَ) لأنَّ سَيِّدَه لم يَعْتِقْه بلفْظٍ صريحٍ ولا كِنايةٍ. وإذا ثَبَت الحديثُ وجَب العملُ به وتُرِكَ القِياسُ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من قتل عبده أو مثَّل به. . . .، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 484. وابن ماجه، في: باب من مثَّل بعبده فهر حر، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 894. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 225.

2920 - مسألة: (وإذا أعتق عبدا فماله لسيده)

وَإذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَمَالُهُ لِلسَّيِّدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2920 - مسألة: (وإذا أعْتَقَ عَبْدًا فمالُه لسَيِّدِه) رُوِيَ هذا عن

وَعَنْهُ، أَنَّهُ لِلعَبْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ مسعودٍ، وأبي أيُّوبَ، وأنسِ بنِ مالكٍ. وبه قال قَتادةُ، والحَكَمُ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ذلك عن حمّادٍ، والبَتِّيِّ، وداودَ بنِ أبي هِنْدٍ، وحُمَيدٍ. (وعنه) رِواية أُخْرَى (أنَّه للعَبْدِ) وبه قال الحسنُ، وعطاء، [والشَّعْبِيُّ] (¬1)، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، وأهلُ المدينةِ: يَتْبَعُهُ؛ لِما روَى نافِعٌ، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ أعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ». رَواه الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه (¬2)، وغيرُه (¬3). وروَى حمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن أيُّوبَ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ، [أنَّه كان إذا أعْتَقَ عبدًا لم يَعْرِضْ لمالِه (¬4) ولَنا، ما روَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن ابنِ مسعودٍ] (¬5)، أنَّه قال لغُلامِه عُمَيرٍ: يا عُمَيرُ، إنِّي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في من أعتق عبدا وله مال، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 353. وابن ماجه، في: باب من أعتق عبدا وله مال، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 845. وليس في المسند. وانظر: إرواء الغليل 6/ 172. (¬4) انظر تخريج الحديث السابق. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُريدُ أنَّ أُعْتِقَكَ عِتْقًا هَنِيئًا (¬1)، فأخْبِرْني بمالِك، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «أَيُّما رَجُل أعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بمَالِه فمَالُه لِسَيِّدِه» (¬2). ولأنَّ العبدَ وماله كانا للسَّيِّدِ، فأزال مِلْكَه عن أحدِهما، فبَقِيَ مِلْكُه في الآخَرِ، كما لو باعَه، وقد دَلَّ عليه حديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا ولَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ» (¬3). فأمّا حديثُ ابنِ عُمَرَ، فقال أحمدُ: يَرْويه عبدُ الله بِنُ أبي جَعْفَرٍ مِن أهلِ مِصْرَ، وهو ضَعِيفٌ في الحديثِ، كان صاحِبَ فِقْهٍ، فأمّا في إلحديثِ فليس هو فيه بالقَويِّ. وقال أبو الوليدِ (¬4): هذا الحديثُ خَطَأٌ، فأمّا فِعْلُ ابنِ عُمَرَ، فهو تَفَضُّلٌ منه على مُعْتَقِه. قِيلَ لأحمدَ: كان هذا عندَك على التَّفَضُّلِ؛ فقال: إي لَعَمْرِي على التَّفَضُّلِ. قِيلَ له: فكأنَّه عندَك للسَّيِّدِ (¬5)؟ فقال: نعم، للسَّيِّدِ، مثلُ (¬6) البَيعِ سَواءً. ¬

(¬1) في الأصل: «هينا». (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب من أعتق عبدا وله مال، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 845. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 303. (¬4) أي الطيالسي هشام بن عبد الملك، أمير المحدثين، متقن، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. الأنساب 8/ 283. (¬5) في الأصل: «السيد». (¬6) في م: «مع».

فَصْلٌ: وَإذَا أعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا أوْ مُشَاعًا عَتَقَ كُلُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وإذَا أعْتَقَ جُزْءًا مِن عَبْدِه مُعَيَّنًا أو كلُ مُشَاعًا عَتَق كُلُّه) أمّا إذا أعْتَقَ عَبْدَه وهو صحيحٌ جائزُ التَّصَرُّفِ، فإنَّه يَصِحُّ عِتقُه بإجْماعِ أهلِ العلمِ، فإنْ أعْتَقَ بَعْضَه عَتَق كُلُّه في قولِ جمهورِ العلماءِ. رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ، وابْنِه، رَضِيَ الله عنهما (¬1). وبه قال الحسنُ، والحَكَمُ، والأوْزَاعِي، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): عامَّةُ العلماءِ بالحجازِ والعراقِ قالوا: يَعْتِقُ كُلُّه إذا أعتَقَ نِصْفَه. وقال طاوُسٌ: يَعْتِقُ في عِتْقِه، ويَرِقّ في رِقِّه. وقال حمادٌ، وأبو حنيفةَ: يَعْتِقُ منه ما أُعْتِقَ، ويَسْعَى في باقِيهِ. وخالفَ أبا حنيفةَ أصحابُه، فلم يَرَوْا عليه سِعايَةً. ورُوِيَ عن مالكٍ في رجلٍ أعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ، ثم غَفَل عنه حتَّى مات، فقال: أرى نِصْفَه حُرًّا ونِصْفَه رقيقًا؛ لأنَّه تَصَرَّفَ في بَعْضِه، فلم يَسْرِ إلى باقِيه، كالبَيعِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَه في عَبْدٍ فَكَانَ مَعَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَه (¬3)، قُومَ عَلَيهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، وَعَتَقَ عَلَيهِ ¬

(¬1) أخرجه عنهما البيهقي، في: باب من أعتق من مملوكه شقصا، من كتاب العتق. السنن الكبرى 10/ 274. وابن أبي شيبة، في: باب الرجل يعتق بعض مملوكه، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 183. وأخرجه عن ابن عمر، عبد الرزاق، في: باب من أعتق بعض عبده، من كتاب المدبر. المصنف 9/ 148. (¬2) في الاستذكار 23/ 126. (¬3) في الأصل: «قيمة العبد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعُ الْعَبْدِ» (¬1). وإذا أُعْتِقَ عليه (¬2) نَصِيبُ شَرِيكِه، كان تَنْبِيهًا على عِتْقِ جَميعِه إذا كان كُلُّه مِلْكًا له. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ» (¬3). ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ عن بَعْضِ مَمْلُوكِه الآدَمِيِّ، فزال عنه جَميعُه، كالطَّلاقِ. ويفارِقُ البَيعَ؛ فإنَّه لا يحتاجُ إلى السِّعايَةِ، ولا يُبْنَى على التَّغْليبِ والسِّرايةِ. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْق بينَ أنَّ يُعْتِقَ جُزءًا كَبيرًا، كنِصْفِه، أو ثُلُثِه، أو صغيرًا، كعُشْرِه، أو (¬4) عُشْرِ عُشْرِه. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ القَائِلين بسِرايَةِ العِتْقِ إذا كان مُشاعًا. فصل: فإن أعْتَقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا (¬5)؛ كرَأْسِه، أو يَدِه، أو إصْبَعِه، عَتَق كُلُّه أيضًا. وبهذا قال قتادةُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. وقال أصحابُ الرَّأْي: إن أعْتَقَ رَأْسَه، أو ظَهْرَه، أو بَدَنَه، أو بَطْنَه، أو جَسَدَه، أو نَفْسَه، أو فَرْجَه، عَتَق كُلُّه؛ لأنَّ حَياتَه لا تَبْقَى بدُونِ ذلك، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 15/ 259. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، من كتاب الشركة، وفي: باب إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال. . . . من كتاب العتق. صحيح البخاري 3/ 182، 190. ومسلم، في: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1287. وأبو داود، في: باب من ذكر السعاية في هذا الحديث، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 349. والترمذي، في: باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 94. وابن ماجه، في: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 844. (¬4) في الأصل: «و». (¬5) في الأصل: «مشاعا».

2921 - مسألة: (وإن أعتق شركا له في عبد، وهو موسر بقيمة باقيه، عتق كله، وعليه قيمة باقيه يوم العتق لشريكه)

وَإِنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَهُوَ مُوسِرٌ بِقِيمَةِ بَاقِيهِ، عَتَقَ كُلُّهُ، وَعَليهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ يَوْمَ الْعِتْقِ لِشَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أعْتَقَ يَدَه، أو عُضوًا تَبْقَى حياتُه بدُونِها لم يَعْتِق؛ لأنَّه يُمْكِنُ إزالةُ ذلك مع بَقائِه، فلم يَعْتِقْ، كإعْتاقِه شَعَرَه [وسِنَّه] (¬1). ولَنا، أنَّه أعْتَقَ عُضوًا مِن أعْضائِه، فعَتَقَ جَميعُه، كرأْسِه. فأمّا إذا أعْتَقَ شَعَرَه، أو سِنَّه، أو ظُفْرَه، لم يَعْتِقْ. وقال قتادةُ، واللَّيثُ، في الرَّجُلِ يُعْتِقُ ظُفْرَ عَبْدِه: يَعْتِقُ كُلُّه؛ لأنَّه مِن أجْزائِه، أشْبَهَ إصْبَعَه. ولَنا، أنَّ هذه الأشْياءَ تَزُولُ، ويَخْرُجُ غيرُها، فأشْبَهَتِ الشَّعَرَ، والرِّيقَ. وسَنذْكُرُ ذلك في الطَّلاقِ، والعِتْقُ مِثْلُه. 2921 - مسألة: (وإن أعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ، وهو مُوسِرٌ بقِيمَةِ باقِيه، عَتَق كُلُّه، وعليه قِيمَةُ باقِيهِ يَوْمَ العِتْقِ لشريكِه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الشَّرِيكَ إذا أعْتَقَ نَصِيبَه مِن العَبْدِ عَتَقَ عليه. لا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لِما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا مِن الأثَرِ، وإذا عَتَق نَصِيبُه سَرَى العِتْقُ إلى جَمِيعِه، فصار جَميعُه حُرًّا، وعلى المُعْتِقِ قِيمَةُ أنْصِباءِ شُرَكائِه، والولاءُ له. هذا قولُ مالكٍ، وابنِ أبي لَيلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأبي يُوسُفَ، ومحمدٍ، وإسحاقَ. وقال البَتِّيُّ: لا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّةُ المُعْتِقِ، ونَصِيبُ الباقِينَ باقٍ على الرِّقِّ، ولا شيءَ على المُعْتِقِ؛ لِما روَى ابنُ (¬1) التَّلِبِّ، عن أبيهِ، أنَّ رجلًا أعْتَقَ شِقْصًا له في مَمْلُوكٍ، فلم يُضَمنْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). ولأَنه لو باع نَصِيبَه لاخْتَصَّ البَيعُ به، فكذلِك العِتْقُ، إلَّا أنَّ تكونَ جَارِيةً نَفِيسَةً يُغالَى فيها، فيكون ذلك بمَنْزِلَةِ الجِنايَةِ مِن المُعْتِقِ؛ للضَّرَرِ الذي أدْخَلَه على شَريكِه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّةُ المُعْتِقِ، ولشَرِيكِه الخِيارُ في ثَلاثةِ أشْياءَ؛ إن شاء أعْتَقَ، وإن شاء اسْتَسْعَى العَبْدَ، وإن شاء ضَمَّنَ شرِيكَه، فيَعْتِقُ حِينَئِذٍ. ولَنا، الحديثُ الذي رَوَيناه، وهو صحيحٌ، مُتَّفَقٌ عليه (¬3)، ورَواه مالكٌ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود من طريق الإمام أحمد، في: باب من روى أنه لا يستسعى، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 350. ولم نجده في المسند. (¬3) تقدم تخريجه في 15/ 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوَطَّئِه (¬1)، عن نافِع، عن ابنِ عُمَرَ. فأثْبَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العِتْقَ في جَميعِه، وأوْجَبَ قِيمَةَ نَصيبِ شَريكِ (¬2) المُعْتِقِ عليه، ولم يَجْعَلْ له خِيَرَةً ولا لغيرِه. وروَى قتادةُ، عن أبي المَليحِ، عن أبيه، أنَّ رجلًا مِن قَوْمِه، أعْتَقَ شِقْصًا له في مَمْلُوكٍ، فرُبعَ ذلك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجَعَلَ خَلَاصَه عليها في مالِه، وقال: «لَيسَ للهِ شَرِيكٌ» (¬3). قال أبو عبدِ اللهِ: الصَّحيحُ أنَّه عن أبي المَلِيحِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلٌ، وليس فيه عن أبيه. هذا مَعْنَى كلامِه. وقولُ البَتِّيِّ شاذٌّ يُخَالِفُ الأخْبارَ كُلَّها، فلا يُعَوَّلُ عليه. وحديثُ التَّلِبِّ يتَعَيَّنُ حَمْلُه على المُعْسِرِ، جمعًا بينَ الأحاديثِ. وقياسُ العتق على البيعِ لا يصِحُّ؛ فإنَّ البيِعَ لا يَسري فيما إذا كان العبدُ كُلُّه له، والعِتْقُ يَسْرِي، فإنَّه لو باع نِصْفَ عَبْدِه لم يَسْرِ، ولو أعْتَقَه عَتَق كُلُّه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ ولاءَه يكونُ له؛ لأنَّه عَتَق بإعْتاقِه مِن مالِه، ولا خِلافَ في هذا عندَ مَن يَرَى عِتْقَه عليه. ¬

(¬1) في: باب من أعتق شركا له في مملوك، من كتاب العتق والولاء. الموطأ 2/ 772. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من أعتق نصيبا له من مملوك، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 348. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 74، 75.

2922 - مسألة: (فإن أعتقه الشريك بعد ذلك)

وَإنْ أَعْتَقَهُ شَرِيكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهِ عِتْقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ في هذا بينَ أنَّ يكونَ الشركاءُ مسلمين أو كافرين، أو بعضُهم مسلمًا وبعضُهم كافرًا، ذَكَرَه القاضي. وهو قولُ الشافعيِّ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ في الكافِرِ وَجْهًا أنَّه إذا أعْتَقَ نَصِيبَه مِن مُسْلِم، أنَّه لا يَسْرِي إلى باقِيه، ولا يُقَوَّمُ عليه؛ لأنَّه لا يَصِحُّ شِراءُ الكافِرِ عبدًا مسلمًا. ولَنا، عُمُومُ الخَبَرِ، ولأنَّ ذلك ثَبَت لإِزالةِ الضَّرَرِ، فاسْتَوَى فيه المسلمُ والكافرُ، كالرَّدّ بالعَيبِ، والغَرَضُ ههُنا تَكْمِيلُ العِتْقِ ودَفْعُ الضَّرَرِ عن الشَّرِيكِ دُون التمْلِيكِ، بخِلافِ الشِّراءِ، ولو قُدِّرَ أنَّ ههُنا تمْلِيكًا، لكان تَقْديرًا في أدْنَى زمانٍ، حَصَل ضَرُورَةَ تحْصيلِ العِتْقِ، لا ضَرَرَ فيه، فإن قُدِّرَ فيه ضَرَرٌ، فهو مَغْمُورٌ بالنّسْبَةِ إلى ما يَحْصُلُ مِن العِتْقِ، فوُجُودُه كالعَدَمِ. وقياسُ هذا على الشِّراءِ غيرُ صحيح؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ. 2922 - مسألة: (فإن أعْتَقَه الشَّرِيكُ بَعْدَ ذلك) وقبلِ أخْذِ القِيمَةِ (لم يَثْبُتْ له فيه عِتْقٌ) لأنَّه قد صار حُرًّا بعِتْقِ الأوَّلِ له، لأنَّ عِتْقَه حَصَل باللَّفْظِ، لا بدَفْعِ القِيمَةِ، وصار جميعُه حُرًّا، واسْتَقرَّتِ القِيمَةُ على المُعْتِقِ الأوَّلِ، فلا يَعْتِقُ بعدَ ذلك بعِتْقٍ غيرِه. وبهذا قال ابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيُّ، وأبو يُوسُف، ومحمدٌ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، والشافعيُّ في قولٍ له، اخْتارَه المُزَنيُّ. وقال الزُّهْرِيُّ، وعمرُو بنُ دينارٍ، ومالكٌ، والشافعيُّ في قولٍ: لا يَعْتِقُ إلَّا بدَفْعِ القِيمَةُ، ويكون قَبْلَ ذلك مِلْكًا لصاحِبِه، يَنْفُذُ عِتْقُه فيه، ولا يَنْفُذُ تَصَرُّفه فيه بغيرِ العِتْقِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتجُّوا بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «قُوِّمَ عَلَيهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، [فأُعْطِيَ شُرَكَاؤه حِصَصَهم وعَتَق جَمِيعُ العَبْدِ» (¬1). وفي لفظٍ لأبي داودَ: «فإن كان مُوسِرًا يُقَوَّمُ عليه قِيمَةَ عَدْلٍ] (¬2)، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، ثمَّ يَعْتِقُ». فجَعَلَه عتيقًا بعدَ دَفْعِ القِيمَةِ. ولأنَّ العِتْقَ إذا ثَبَت بعِوَض وَرَد الشَّرْعُ به مُطْلَقًا، لم يَعْتِقْ إلَّا بالأداءِ، كالمُكاتَبِ. وللشافعيِّ قَوْلٌ ثالِثٌ، أنَّ العِتْقَ مُراعًى، فإن دَفَع القِيمَةَ تَبَينا أنَّ العِتْقَ كان حَصَل مِن حِينَ أعْتَقَ نصيبَه، وإن لم يَدْفَعِ القِيمَةَ تَبَيَّنّا أنَّه لم يَكُنْ عَتَق، لأنَّ فيه احْتِياطًا لهما جميعًا. ولَنا، حديثُ ابنِ عُمَرَ، فإنَّه رُوِيَ بألفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَجْتَمِعُ في الدَّلالةِ على الحُرِّيَّةِ باللَّفْظِ، فرَوَى أيُّوبُ (¬3)، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ، فَكَانَ له مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهَ بقِيمَةِ العَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ». رواه أبو دَوُادَ، والنَّسائيُّ. وفي لَفظٍ رَواه ابنُ أبي مُلَيكَةَ، عن نافِع، عن ابنِ عُمَرَ: «فَكَانَ لَهُ مَالٌ، فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ». وفي رِوايَةِ ابنِ أبي ذِئْبٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ: «وكَانَ لِلَّذِي يُعْتِقُ ما يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بقِيمَةِ العَدْلِ، فَهُوَ (¬4) يَعْتِقُ كُلّه». وروَى أبو داودَ (¬5) بإسنادِه عن أبي هرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِقْصًا في ¬

(¬1) هو الحديث المتقدم. وقد تقدم تخريج هذه الألفاظ عند أبي داود. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أبو أيوب». (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 42، وهذا لفظ مسلم وليس لفظ أبي داود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَمْلُوكٍ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِه». وهذه نُصوصٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ، فإنَّه جَعَلَه حُرًّا وعَتِيقًا بإعْتاقِه، مَشْرُوطًا بكَوْنِه مُوسِرًا. ولأنَّه عِتْق (¬1) بالسِّرايَةِ، فكانت حاصِلَةً مِن لَفْظِه عَقِيبَه، كما لو أعْتَقَ جُزْءًا مِن عَبْدِه، ولأنَّ القِيمَةَ مُعْتَبَرَة وَقْتَ الإعْتاقِ. ولا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الشَّرِيكِ فيه بغيرِ الإِعْتاقِ. وعندَ الشافعيِّ، لا يَنْفُذُ بالإِعْتاقِ أيضًا، فدَلَّ على أنَّ العِتْقَ حَصَل فيه بالإِعْتاقِ الأوَّلِ. فأمّا حديثُهم، فلا حُجَّةَ لهم فيه، فإنَّ «الواو» لا تَقتَضِي تَرْتِيبًا، وأمّا العَطْفُ بـ «ثُم» في اللَّفْظِ الآخَرِ، فلم يُرِدْ بها التَّرْتِيبَ، فإنَّها قد تَرِدُ لغَيرِ التَّرْتيبِ، كقوْلِه تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} (¬2). فأمّا العِوَضُ، فإنَّما وَجَب عَنِ المُتْلَفِ بالإِعْتاقِ، بدَلِيلِ اعْتِبارِه بقِيمَتِه حينَ الإِعْتاقِ وعَدَمِ اعْتِبارِ التَّراضِي فيه، ووُجُوب القِيمَةِ مِن غَيرِ وَكْسٍ ولا شَطَطٍ، بخِلافِ الكِتابَةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الشَّرِيكَ إذا أعْتَقَه بعدَ عِتْقِ الأوَّلِ وقَبْلَ أخْذِ القِيمَةِ لم يَثْبُتْ له فيه عِتْقٌ، ولا له عليه وَلاءٌ، ووَلَاؤُه كُلُّه للمُعْتِقِ الأوَّلِ، وعليه القِيمَةُ؛ لأنَّه قد صار حُرًّا بإعْتاقِه. وعندَ مالكٍ، يكونُ وَلاؤُه بَينَهما على قَدْرِ مِلْكَيهما فيه، ولا شيءَ على المُعْتِقِ الأوَّلِ مِن القِيمَةِ، ولو أنَّ المُعْتِقَ الأوَّلَ لم يُودِّ القِيمَةَ حتى أفْلَسَ، عَتَق الْعَبدُ، وكانتِ القِيمَةُ في ذِمَّتِه دَينًا، يُزاحِمُ بها الشَّرِيكُ عندَنا. وعندَ مالكٍ، لا يَعْتِقُ منه إلَّا ما عَتَق. ولو كان المُعْتَقُ جارِيَةً حامِلًا، فلم يُؤَدِّ ¬

(¬1) في م: «عتيق». (¬2) سورة يونس 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِيمَةَ حتى وَضَعَتْ حَمْلَها، فليس على المُعْتِقِ إلَّا قِيمَتُها حينَ أعْتَقَها؛ لأنَّه حينَئِذٍ حَرَّرَها. وعندَ مالكٍ، يُقَوَّمُ وَلَدُها أيضًا، ولو تَلِف (¬1) العَبْدُ قبلَ أداءِ القِيمَةِ، تَلِف حُرًّا، والقِيمَةُ على المُعْتِقِ؛ لأنَّه فَوَّتَ رِقَّه. وعندَ مالكٍ، لا شيءَ على المُعْتِقِ، وما لم يُقَوَّمْ ويُحْكَمْ بقِيمَتِه، فهو في جَمِيعِ أحْكامِه عَبْدٌ. فصل: والقِيمَةُ مُعْتَبَرَةٌ حينَ اللَّفْظِ بالعِتْقِ؛ لأنَّه حينُ الإِتْلافَ. وهو قولُ الشافعيِّ على أقوالِه كُلِّها. فإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِها (¬2)، رُجِع إلى قولِ المُقَوِّمِين. فإن كان العَبْدُ قد مات أو غاب، أو تأخَّرَ تَقْويمُه زَمَنًا تختَلِفُ فيه القِيمُ، ولم تكُنْ بَيِّنَةٌ، فالقَوْلُ قولُ المعْتِقِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، والأصْلُ بَرَاءَة ذِمَّتِه منها. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. فإنِ اخْتَلَفا في صِناعَةٍ في العَبْدِ توجِبُ زيادَةَ (¬3) القِيمَةِ، فالقَوْلُ قولُ المُعْتِقِ؛ لذلك، إلَّا أنَّ يكونَ العَبْدُ يُحْسِنُ الصِّناعَةَ في الحالِ، ولم يَمْضِ زَمَنٌ يُمْكِنُ تَعَلمُها فيه، فيكونَ القَوْلُ قَوْلَ الشَّرِيكِ؛ لعِلْمِنا بصدْقِه، وإن مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ حُدُوثُها فيه، ففيه وجهان؛ أحَدُهما، القَوْلُ قولُ المُعْتِقِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه. والثاني، القَوْلُ قولُ الشَّرِيكِ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ ما كان وعَدَمُ الحُدُوثِ. وإنِ اخْتَلَفَا في عَيبٍ يَنْقُصُ قِيمَتَه؛ كسَرِقَةٍ، أوْ إباق، فالقَوْلُ ¬

(¬1) في م: «أتلف». (¬2) في م: «قدره». (¬3) بعده في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشَّرِيكِ؛ لأنَّ الأصْلَ السَّلامَةُ، فبالجِهَةِ التي رَجَّحْنَا قولَ المُعْتِقِ في نَفْي الصِّناعَةِ، يُرَجَّحُ قولُ الشَّرِيكِ في نَفْي العَيبِ. وإن كان العَيبُ فيه حال الاخْتِلافِ، واخْتَلَفا في حُدُوثِه، فالقَوْلُ قولُ المُعْتِقِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه وبَقاءُ ما كان على ما كان وعَدَمُ حُدُوثِ العَيبِ فيه. ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ القَوْلُ قَولَ الشَّرِيكِ؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَتُه مِن العَيبِ حينَ الإعْتاقِ. فصل: والمُعْتَبَرُ في اليسارِ في هذا أنَّ يكونَ له فَضْلٌ عن قُوتِ يومِه ولَيلَتِه، وما يَحْتاجُ إليه مِن حَوائِجِه الأصْلِيَّةِ؛ مِن الكِسْوَةِ، [والمسكنِ] (¬1)، وسائِرِ ما لا بُدَّ منه، ما يَدْفَعُه إلى شَرِيكِه. ذَكَرَه أبو بكرٍ، في «التَّنْبِيهِ». وإن وُجِد بعضُ ما يَدْفَعُه بالقِيمَةِ، قُوِّمَ عليه قَدْرُ ما يَمْلِكُه (¬2) منه. ذَكَره أحمدُ، في روايَةِ ابنِ منصورٍ. وهو قولُ مالكٍ. وقال أحمدُ: لا تُبَاعُ فيه دَارٌ ولا رِباعٌ. ومُقْتَضَى هذا أنَّ لا يُباعَ له أصْلُ مالٍ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ: يُباعُ عليه سِوارُ بَيته، وما له بالٌ مِن كِسْوَتِه، ويُقْضَى عليه في ذلك كما يُقْضَى عليه في سائِرِ الدَّعاوَى. والمُعْتَبَرُ في ذلك حالُ تَلَفُّظِه بالعِتْقِ؛ لأنَّه حالُ الوجُوبِ، فإن أيسَرَ المُعْسِرُ بعدَ ذلك لم يَسْرِ إعْتاقُه، وإن أعْسَرَ المُوسِرُ لم يَسْقُطْ ما وَجَب عليه؛ لأنَّه وَجَب عليه، فلم [يسْقُطْ بإعْسارِه] (¬3)، كدَينِ الإِتْلافِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يمكنه». (¬3) في الأصل: «يسقطه اعتباره».

2923 - مسألة: (وإن كان معسرا لم يعتق إلا نصيبه، وبقي حق شريكه فيه. وعنه، يعتق كله، ويستسعى العبد في قيمة باقيه غير مشقوق عليه)

وَإنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ إلا نَصِيبُهُ، وَيَبْقَى حَقُّ شَرِيكِهِ فِيهِ. وَعَنْهُ، يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ غَيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2923 - مسألة: (وإن كان مُعْسِرًا لم يَعْتِقْ إلَّا نصِيبُه، وبَقِيَ حَقُّ شَريكِه فيه. وعنه، يَعْتِقُ كُلُّه، ويُسْتَسْعَى العَبْدُ في قِيمَةِ باقِيه غيرَ مَشْقوقٍ عليه) ظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّ المُعْسِرَ إذا أعْتَقَ نَصِيبَه مِن العَبْدِ، اسْتَقَرَّ فيه العِتْقُ، ولم يَسْرِ إلى نَصِيبِ شَريكِه، بل يَبْقَى على الرِّقِّ، فإذا أعْتَقَ شَريكُه، عَتَق عليه نَصيبُه. وهذا قولُ إسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وداودَ، وابنِ جريرٍ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، على ما بَيَّنّاه فيما مَضَى. ورُوِيَ عن عُرْوَةَ، أنَّه اشْتَرَى عَبْدًا أُعْتِقَ نِصفه، فكان عُرْوَةُ يُشاهِرُه؛ شهْرَ عَبْدٍ وشَهْرَ حُرٍّ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ المُعْتِقَ إذا أعْتَقَ نَصِيبَه اسْتُسْعِيَ العَبْدُ في قِيمَةِ باقِيه حتى يُؤَدِّيَها، فيَعْتِقَ. وهو قولُ ابنِ شُبْرُمَةَ، وابنِ أبي لَيلَى، والأوْزاعِيِّ، وأبي يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَعَلَيهِ أنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وإلَّا اسْتُسْعِيَ العَبْدُ غَيرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ». مُتَّفَقٌ عليه، ورَواه أبو داودَ (¬1). قال ابنُ أبي لَيلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ: فإذا اسْتُسْعِيَ في نِصْفِ قِيمَتِه، ثم أيسَرَ مُعْتِقُه، رَجَع عليه بنِصْفِ القِيمَةِ؛ لأنَّه هو ألْجأه إلى هذا وكَلَّفَه إيّاه. وعن أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ، أنَّهما قالا: يَعْتِقُ جَمِيعُه، وتكونُ قِيمَةُ نَصيبِ الشَّرِيكِ في ذِمَّتِه؛ لأنَّ العِتْقَ لا يَتَبَعَّضُ، فإذا وُجِد في البَعْضِ سَرَى إلى جَمِيعِه، كالطَّلاقِ، وتَلْزَمُ المُعْتِقَ القِيمَةُ؛ لأنَّه المُتْلِفُ لنَصِيبِ صاحِبِه بإعْتاقِه، فوجَبَت قِيمَتُه في ذِمَّتِه، كما لو أتْلَفَه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَسْرِي فيه العِتْقُ، وإنَّما يُسْتَحَقُّ به إعْتاقُ النَّصيبِ الباقِي، فيُخَيَّرُ شَرِيكُه بينَ إعْتاقِ نَصيبِه، ويكونُ الوَلاءُ بَينَهما، وبينَ أنَّ يُسْتَسْعَى العَبْدُ في قِيمَةِ نَصيبِه فإذا أدّاه إليه عَتَق، والوَلاءُ بَينَهما. ولَنا، حَدِيثُ ابنِ عُمَرَ (¬2)، وهو حديث (¬3) صحيحٌ ثابِتٌ عندَ جَميعِ العُلَماءِ بالحَدِيثِ، ولأنَّ الاسْتِسْعاءَ إعْتاقٌ بعِوَضٍ، فلم يُجْبَرْ عليه، كالكِتابَةِ، ولأنَّ في الاسْتِسْعاءِ إضرارًا بالشَّرِيكِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء. . . .، وباب الشركة في الرقيق، من كتاب الشركة، وفي: باب إذا أعتق نصيبا في عبد. . . .، من كتاب العتق. صحيح البخاري 3/ 182، 185، 190. ومسلم، في: باب ذكر سعاية العبد، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1141. وأبو داود، في: باب من ذكر السعاية في هذا الحديث، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 349. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 844. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 255، 426، 472. (¬2) تقدم تخريجه في 15/ 259. وتقدم في صفحات 44، 45. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَبْدِ؛ أمّا الشَّرِيكُ فإنّا نُحيلُه على سِعايَةٍ قد لا يَحْصُلُ منها (¬1) شيءٌ أصْلًا، وإن حَصَل، فالظّاهِرُ أنَّه يكون مُتَفَرِّقًا، ويَفُوتُ عليه مِلْكُه. وأمّا العَبْدُ، فإنَّه يُجْبِرُه على سِعايَةٍ لم يُرِدْها وكَسْبٍ لم يَختَرْه، وهذا ضَرَر في حَقِّهما، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ (¬2)». وقال سليمانُ بنُ حَرْبٍ: أليس الزِمَ (¬3) المُعْتِقُ ثَمَنَ ما بَقِيَ مِن العَبْدِ، لئَلَّا يَدْخُلَ على شَريكِه ضَرَرٌ، فإذا أمَروه بالسَّعْي، وإعْطائِه كُلَّ شهرٍ دِرْهَمَين، ولم يَقْدِرْ على تَمَلُّكِه، فأيُّ ضَرَرٍ أعْظَمُ مِن ذلك!. فأمّا حديثُ الاسْتِسْعاءِ، فقال الأثْرَمُ: ذَكَرَه سليمانُ بنُ حَرْبٍ، فطَعَنَ فيه وضَعَّفَه. وقال أبو عبدِ اللهِ: ليس في الاسْتِسْعاءِ ثَبَت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَديثُ أبي هريرةَ يَرْويه ابنُ أبي عَرُوبَةَ، وأمّا شُعْبَةُ (¬4)، وهشامٌ الدَّسْتُوائِي فلم يَذْكُراه (¬5). وحدَّث به مَعْمَر، ولم يَذْكُرْ فيه السِّعايَةَ. قال أبو داودَ: وهَمّامٌ أيضًا لا يقُولُه. قال المرُّوذِيُّ: وضَعَّفَ أبو عبدِ اللهِ حديثَ سعيدٍ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَصِحُّ حديثُ الاسْتِسْعاءِ. وذَكَر هَمّامٌ أنَّ ذِكْرَ الاسْتِسْعاءِ مِن فُتْيا قَتادَةَ، وفرَّقَ بينَ الكلامِ الذي هو مِن قولِ رسولِ اللهِ ¬

(¬1) في الأصل: «منهما». (¬2) في م: «ضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬3) في الأصل: «له إلزام». (¬4) في الأصل: «سعيد». (¬5) في النسخ: «يذكره». وانظر المغني 14/ 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - وقولِ قَتادَةَ. قال بعدَ ذلك: فكان قَتادَةُ يقولُ:. إن لم يَكُنْ له مَالٌ اسْتُسْعِيَ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): حديثُ أبي هُرَيرَةَ يَدورُ على قَتادَةَ، وقد اتَّفَقَ شُعْبَةُ وهِشامٌ وهَمّامٌ على تَرْكِ ذِكْرِه، وهم الحُجَّةُ في قَتادَةَ، والقولُ قَوْلُهم فيه عندَ جميعِ أهلِ العلمِ بالحديثِ (¬2) إذا خالفَهم غيرُهم. فأمّا قولُ أبي حنيفةَ، وقولُ صاحِبَيه الأخير، فلا شيءَ معهم يَحْتَجُّون به مِن حديثٍ قَويٍّ ولا ضَعيفٍ، بل هو مُجَرَّدُ رَأْي وتَحَكُّم يُخالِفُ الحَدِيثَين جَميعًا. قال ابن عبدِ البَرِّ (¬3): لم يَقُلْ أبو حنيفةَ وزُفَرُ بحديثِ ابنِ عُمَرَ، ولا بحديثِ أبي هُرَيرَةَ على وَجْهِه. وكلُّ قولٍ خالفَ السُّنَّةَ، فمَرْدُودٌ على قائِلِه. واللهُ المُسْتَعانُ (¬4). فصل: وإذا قُلْنا بالسِّعايَةِ، احْتَمَلَ أنَّ يَعْتِقَ كُلُّه وتكونَ القِيمَةُ في ذِمَّةِ العَبْدِ دَينًا يَسْعَى في أدائِها، وتكونَ أحْكامُه أحكامَ الأحْرارِ، فإن مات وفي يَدِه مالٌ، كان لسَيِّدِه بَقِيَّةُ السِّعايَةِ، وباقِي مالِه مَوْرُوثٌ، ولا يَرْجِعُ العَبْدُ على أحَدٍ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَعْتِقَ حتى يُؤَدِّيَ السِّعايَةَ، فيكونَ حُكْمُه قبلَ أدائِها حُكْمَ مَن بَعْضُه رَقِيقٌ، إن مات فللشَّرِيكِ الذي لم يَعْتِقْ مِن مالِه مِثْلُ مأ يكونُ له، على قولِ مَن لم يَقُلْ بالسِّعايَةِ؛ لأنَّه إعْتاقٌ بأداءِ مالٍ، فلم يَعْتِقْ قبلَ أدائِه، كالمُكاتَبِ. وقال ¬

(¬1) في: التمهيد 14/ 276، والاستذكار 23/ 120. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: الاستذكار 23/ 124. (¬4) أورد ابن حجر أحاديث الاستسعاء وطرقها وكلام العلماء عليها بتفصيل. فتح الباري 5/ 156 - 160.

2924 - مسألة: (وإذا كان العبد لثلاثة؛ لأحدهم نصفه، وللآخر ثلثه، ولثالث سدسه، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معا وهما موسران، عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين، وصار ولاؤه بينهما أثلاثا. ويحتمل أن يضمناه على قدر ملكهما فيه)

وَإذَا كَانَ الْعَبْدُ لِثَلَاثةٍ؛ لِأحَدِهِمْ نِصْفُهُ، ولآخَرَ ثُلُثُهُ، وَلِثَالِثٍ سُدْسُهُ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ السُّدْسِ مَعًا وَهُمَا مُوسِرَانِ، عَتَقَ عَلَيهِمَا وَضَمِنَا حَقَّ شَرِيكِهِمَا فِيهِ نِصْفَينِ، وَصَارَ وَلَاؤهُ بَينَهُمَا أَثلَاثًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَاهُ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيهِمَا فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ أبي لَيلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ: يَرْجِعُ العَبْدُ على المُعْتِقِ إذا أيسَرَ؛ لأنَّه كَلَّفَه السِّعايَةَ بإعْتاقِه. ولَنا، أنَّه حَق لَزِم العَبْدَ في مُقابَلَةِ حُرِّيَّتِه، فلم يَرْجِعْ به على أحَدٍ، كمالِ الكِتابَةِ، ولأنَّه لو رَجَع به على السَّيِّدِ، لكانَ هو السَّاعِيَ في العِوَضِ، كسائِرِ الحُقوقِ الواجِبَةِ عليه. 2924 - مسألة: (وإذا كان العَبْدُ لثَلاثَةٍ؛ لأحَدِهم نِصْفُه، وللآخَرِ ثُلُثُه، ولثالثٍ سُدْسُه، فأعْتَقَ صَاحِبُ النِّصْفِ وصاحِبُ السُّدْسِ معًا وهما مُوسِران، عَتَق عليهما وضَمِنا حَقَّ شَرِيكِهما فيه نِصْفَين، وصار وَلاؤُه بَينَهما أثْلاثًا. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَضْمَناه على قَدْرِ مِلْكِهما فيه) إذا كان العَبْدُ مُشْتَرَكًا بينَ جَماعَةٍ، فأعْتَقَ اثْنان منهم [أو أكثَرُ] (¬1)، وهم مُوسِرُون ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معًا، سَرَى عِتْقُهم إلى باقِي العَبْدِ، ويكونُ الضَّمانُ بينَهم على عَدَدِ رُءوسِهم، يَتَساوون في ضَمانِه ووَلائِه. وبهذا قال الشافعيُّ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُقْسَمَ بينَهم على قَدْرِ أمْلاكِهم. وهو قولُ مالكٍ في إحْدَى الرِّوايَتَين عنه؛ لأنَّ السِّرايَةَ حَصَلَتْ (¬1) بإعْتاقِ مِلْكَيهما، وما وَجَب بسَبَبِ المِلْكِ كان على قَدْره، كالنَّفَقَةِ، واسْتِحْقاقِ الشّفْعَةِ. ولَنا، أنَّ عِتْقَ النَّصِيبِ إتْلاف لرِقِّ الباقِي، وقد اشْتَركا فيه، فيَتَساوَيان في الضمانِ، كما لو جَرَح أحَدُهما جُرْحًا، والآخَرُ جُرحَين، فمات بهما، أو ألْقَى أحَدُهما جُزْءًا مِن النَّجاسَةِ في ماءٍ (¬2) وألقى الآخرُ جُزْاين. ويُفارِقُ الشُّفْعَةَ، فإنَّها تَثْبُتُ لإزالةِ الضَّرَرِ عن نصيب الشَّريكِ الذي لم يَبعْ، فكان اسْتِحْقاقُه على قَدْرِ نَصيبِه، ولأنَّ الضَّمانَ هَهُنا لدَفْعِ الضَّرَرِ منهما، وفي الشُّفْعَةِ لدَفْعِ الضَّرَرِ عنهما، والضَّرَرُ منهما يَسْتَويان في إدْخالِه على الشَّريكِ، وفي ¬

(¬1) في م: «جعلت». (¬2) في م: «مائة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشُّفْعَةِ، ضَرَرُ صاحِبِ النِّصْفِ أعْظَمُ مِن ضَرَرِ صاحِبِ السُّدْسِ، فاخْتَلَفا. إذا ثَبَت هذا، كان وَلاؤُه بينَهما أثْلاثًا، لأنَّنا إذا حَكَمْنا بأنَّ الثُّلُثَ مُعْتَق عليهما نِصْفَين، فنِصْفُه سُدْسٌ، إذا ضَمَمْناه إلي النِّصْفِ الذي لأحَدِهما، صارا (1) ثُلُثَين، وإذا ضَمَمْنا السُّدْسَ الآخَرَ إلى سُدْسِ المُعْتِقِ صارا (¬1) ثُلُثًا. وعلى الوَجْهِ الآخرِ، يَصِيرُ الوَلاءُ بينَهما أرْباعًا؛ لصاحِبِ السُّدْسِ رُبْعُه، ولصاحِبِ النِّصْفِ ثَلاثَةُ أرْباعِه، والضَّمانُ كذلك. ويُشْتَرَطُ عِتْقُهما معًا، بأن يُوَكِّلا مَن يُعْتِقُه عنهما، أو يوَكِّلَ أحَدُهما الآخَرَ في عِتْقِ نَصِيبِه، أو (¬2) يتلَفَّظا به معًا، لأنَّه لو سَبَقَ أحدُهما صاحِبَه عَتَق عليه جميعُه، على ما ذَكَرْنا. ويُشْتَرَطُ اليَسارُ أيضًا فيهما، فإن كان أحدُهما مُوسِرًا وَحْدَه، قُوِّمَ عليه نَصيبُ مَن لم يُعْتِقْ، لأنَّ المُعْسِرَ لا يَسْرِي عِتْقُه، فيكونُ الضَّمانُ على المُعْسِرِ خاصَّةً، فإن كان أحَدُهما مُوسرًا ببَعْضِ ما يَخُصُّه، قُوِّمَ عليه ذلك القَدْرُ، وباقِيه على الآخَرِ، مثلَ أنَّ يَجِدَ صاحِبُ السُّدْسِ قِيمَةَ نِصْفِ السُّدْسِ، فيُقَوَّمُ عليه، ويُقَوَّمُ الرُّبْعُ على صاحِبِ النِّصْفِ، ويَصِيرُ وَلاؤُه بينَهم أرْباعًا؛ لصاحِبِ السُّدْسِ رُبْعُه، وباقِيه ¬

(¬1) في م: «صار». (¬2) في م: «و».

2925 - مسألة: (وإذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم وهو موسر، سرى إلى باقيه، في أحد الوجهين)

وَإِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ نَصِيبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَهُوَ مُوسِرٌ، سَرَى إِلى بَاقِيهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لمُعْتِقِ النِّصْفِ؛ لأنَّه لو كان أحَدُهما مُعْسِرًا قُوِّمَ الجميعُ على الآخَرِ، فإذا كان مُوسِرًا ببَعْضِه قُوِّمَ الباقِي على صاحِبِ النِّصْفِ؛ لأنَّه مُوسِرٌ، وفيه اخْتلافٌ ذَكَرْناه مِن قَبْلُ. 2925 - مسألة: (وإذا أعْتَقَ الكافِرُ نَصيبَه مِن مسلمٍ وهو موسِرٌ، سَرَى إلى باقِيه، في أحَدِ الوَجْهَين) ذَكَرَه القاضي. وهو قولُ الشافعيِّ، لأنَّه تَقْويمُ مُتْلَفٍ، فاسْتَوَى فيه المُسْلِمُ والكافِرُ، كتَقْويمِ المُتْلَفاتِ. والوَجْهُ الثاني، لا يَسْرِي. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ فيه تَقْدِيرَ المِلْكِ، والكافِرُ لا يَجُوزُ أن يَتَمَلَّكَ المُسْلِمَ. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى.

2926 - مسألة: (وإن ادعى كل واحد من الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران، فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما لحريته

وَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَينِ أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ، وَهُمَا مُوسِرَانِ، فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا لِاعْتِرَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُرِّيَّتِهِ، وَصَارَ مُدَّعِيًا عَلَى شَرِيكِهِ قِيمَةَ حَقِّهِ مِنْهُ. وَلَا وَلَاءَ عَلَيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2926 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى كلُّ واحِدٍ مِن الشَّريكَين أنَّ شَريكَه أعْتَقَ نَصيبَه وهما موسِران، فقد صار العَبْدُ حرًّا باعْتِرافِ كلِّ واحِدٍ منهما لحرِّيَّتِه (¬1)، وصار مُدَّعيًا على شَرِيكِه قِيمَةَ حَقِّه منه. ولا وَلاءَ عليه لواحِدٍ منهما) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الشَّرِيكَين المُوسِرَين إذا ادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّ شَريكَه أعْتَقَ نَصيبَه، فكلُّ واحِدٍ منهما مُعْتَرِفٌ بحرِّيَّةِ نَصيبِه، شاهِدٌ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

2927 - مسألة: (وإن كانا معسرين لم يعتق على واحد منهما)

وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَينِ لَمْ يَعْتِقْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على شَريكِه بحُرِّيَّةِ نِصْفِه الآخَرِ؛ لأنَّه يقولُ لشَريكِه: أعْتَقْتَ نَصِيبَك، فسَرَى العِتْقُ إلى نصِيبي، فعَتَقَ كُلُّه عليك، ولَزِمَك لي قِيمَةُ نَصِيبي. فصارَ العَبْدُ حُرًّا؛ لاعْتِرافِهما بحُرِّيَّتِه، وبَقِيَ كلُّ واحِدٍ منهما يَدَّعِي قِيمَةَ حِصَّتِه على شَريكِه، فإن كانت لأحَدِهما بَيِّنَةٌ حُكِمَ له بها، وإن لم تَكُنْ بَيَنةٌ حَلَف كلُّ واحِدٍ منهما لصاحِبِه وبَرئا. فإن نَكَل أحَدُهما قُضِيَ عليه، وإن نَكَلا جَميعًا تَساقَطَ حَقّاهما؛ لتَماثُلِهما. ولا وَلاءَ عليه لواحِدٍ منهما؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه. ولا فَرْقَ في هذه الحالِ بينَ العَدْلَين والفاسِقَين، والمُسْلِمَين والكافِرَين؛ لتَساوي العَدْلِ والفاسِقِ، والمُسْلِمِ والكافِرِ، في الاعْتِرافِ والدَّعْوَى. فإنِ اعْتَرَفَ أحَدُهما به بعدَ ذلك ثبَت له؛ لأنَّه لا مُسْتَحِقَّ له سِواه، وإنَّما لم يَثْبُتْ له لإِنْكارِه له، فإذا اعْتَرَف به زال الإِنْكارُ، فثَبَتَ له، ولَزِمَتْه قِيمَةُ نَصيبِ صاحِبِه (¬1) لاعْتِرافِه بها. 2927 - مسألة: (وإن كانا مُعْسِرَين لم يَعْتِقْ على واحِدٍ منهما) لأنَّه ليس في دَعْوَى أحَدِهما على صاحِبِه أنَّه أعْتَقَ نَصيبَه اعْتِرَافٌ بحُرِّيَّةِ ¬

(¬1) في م: «شريكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصيبِه، ولا ادِّعاءُ اسْتِحْقاقِ قِيمَتِها على المُعْتِقِ، لكَوْنِ (¬1) عِتْقِ المُعْسِرِ لا يَسْرِي إلى غيرِه، فلم يَكُنْ في دَعْواه أكْثَرُ مِن أنَّه شاهِدٌ على صاحِبِه بإعْتاقِ نَصيبه، فإن كانا فاسِقَين فلا أثَرَ لكَلامِهما في الحالِ، ولا عِبْرَةَ بقَوْلِهما؛ لأَنَّ غيرَ العَدْلِ لا تُقْبَلُ شهادَتُه، وإن كانا عَدْلَين فشَهادَتُهما مَقْبولَةٌ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما لا يَجُرُّ إلى نفسِه بشهادَتِه نَفْعًا، ولا يَدْفَعُ عنها ضَرَرًا، وقد حَصَل للعَبْدِ بحُرِّيَّةِ كلِّ نِصْفٍ منه شاهِدُ عَدْلٍ. فإن حَلَف معهما عَتَق كُلُّه، وإن حَلَف مع أحَدِهما عَتَق نِصْفُه، على الرِّوايَةِ التي تقولُ: إنَّ العِتْقَ يَثْبُتُ بشاهِدٍ ويَمينٍ. وإن لم يَحْلِفْ لم يَعْتِقْ منه شيءٌ؛ لأنَّ العِتْقَ لا يَحْصُلُ بشاهِدٍ مِن غيرِ يَمِينٍ. وإن كان أحَدُهما عَدْلًا دُونَ الآخَرِ، فله أن يَحْلِفَ مع شهادَةِ العَدْلِ، ويَصيرُ نِصْفُه حُرًّا، ويَبْقَى (¬2) الآخَرُ رَقِيقًا. فصل: ومَن قال بالاسْتِسْعاءِ فقد اعْتَرَفَ بأنَّ نصيبَه خَرَج عن يدِه، فيَخْرُجُ العبدُ كلُّه، ويُسْتَسْعَى في قيمتِه؛ لاعترافِ كلِّ واحدٍ منهما بذلك في نصيبِه. ¬

(¬1) في م: «لكن». (¬2) سقط من: م.

2928 - مسألة: (وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق)

وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، عَتَقَ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَسْرِ إِلَى نَصِيبِهِ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يَعْتِقُ جَمِيعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2928 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى أحَدُهما نَصِيبَ صاحِبِه عَتَق) عليه (ولم يَسْرِ إلي) النِّصْفِ الذي كان له؛ لأنَّ عِتْقَه حَصَل باعْتِرافِه بحُرِّتَّيِه بإعْتاقِ شَرِيكِه، ولا يَثْبُتُ له عليه وَلاءٌ، لأنَّه لا يَدَّعِي إعْتاقَهُ، بل يَعْتَرِفُ بأنَّ المُعْتِقَ غيرُه، وإنَّما هو مُخَلِّصٌ له مِمَّن يَسْتَرِقُّه ظُلْمًا، فهو كمُخَلِّصِ الأسِيرِ مِن أيدِي الكُفّارِ (وقال أبو الخَطَّاب) يَسْرِي؛ لأنَّه شِراءٌ حَصَل به الإِعْتاقُ، فأشْبَهَ شِراءَ بعضِ وَلَدِه. فإن أكْذَبَ نَفْسَه في شَهادَتِه على شَرِيكِه ليَسْتَرِقَّ ما اشْتَراه منه، لم يُقْبَلْ قَوْلُه (¬1)؛ لأنَّه رُجُوعٌ عن الإِقْرارِ بالحُرِّيَّةِ، فلم يُقْبَلْ، كما لو أقَرَّ بحُرِّيَّةِ عَبْدِه ثم أكْذَب نَفْسَه. وهل يَثْبُتُ له الوَلاءُ عليه إن أعْتَقَهُ؟ فيه احْتِمالان؛ أحَدُهما، لا يَثْبُتُ؛ لِما ذَكَرْناه. والثانِي، يَثْبُتُ؛ لأنّا نَعْلَمُ أنَّ على العَبْدِ وَلاءً، ولا يَدَّعِيه أحَدٌ سِواه، ولا يُنازِعُه فيه، فوجَبَ أن يُقْبَلَ قَوْلُه فيه. وإنِ اشْتَرَى كلُّ واحِدٍ منهما نَصِيبَ صاحِبِه صار العَبْدُ كُلُّه حُرًّا، ولا وَلاءَ عليه لواحِدٍ منهما. فإن أعْتَقَ كلُّ واحِدٍ منهما ما اشْتَرَاه، ثم أكْذَبَ نَفْسَه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في شَهادَتِه، فهل يَثْبُتُ له وَلاءُ ما أعْتَقَه؟ على وَجْهَين. وإن أقَرَّ كلُّ واحِدٍ منهما بأنَّه كان أعْتَقَ نَصِيبَه، وصَدَّقَ الآخَرَ في شَهادَتِه، بَطَل البَيعان، وثَبَت لكُلِّ واحِدٍ منهما الوَلاءُ على نِصْفِه؛ لأنَّ أحدًا لا يُنازِعُه فيه، وكلُّ واحِدٍ منهما يُصَدِّقُ الآخَرَ في اسْتِحْقاقِ الوَلاءِ. [ويَحْتَمِلُ أن يَثْبُتَ الولاءُ لهما] (¬1) وإن لم يُكَذِّبْ واحِدٌ منهما نَفْسَه؛ لأنّا نَعْلَمُ أنَّ الوَلاءَ عليه ثابتٌ لهما ولا يَخْرُجُ عنهما، وأنَّه بينَهما، إمّا بالعِتْقِ الأوَّلِ، وإمّا بالثانِي؛ لأَنَّهما إن كانا صادِقَين في شَهادَتِهما، فقد ثَبَت الوَلاءُ لكُلِّ واحِدٍ منهما على النِّصْفِ الذي أعْتَقَهُ أوَّلًا، وإن كانا كاذِبَين، فقد أعْتَقَ كلُّ واحِدٍ منهما نِصْفَه بعدَ أنِ اشْتراه، وإن كان أحَدُهما صادِقًا والآخَرُ كاذِبًا، فلا وَلاءَ للصّادِقِ منهما؛ لأنَّه لم يُعْتِقِ النِّصْفَ الذي كان له أولًا (¬2)، ولا صَحَّ عِتْقُه في الذي اشْتَراه؛ لأنَّه كان حُرًّا قبلَ شِرائِه، والوَلاءُ كُلُّه للكاذِبِ؛ لأنَّه أعْتَقَ النِّصْفَ الذي كان له ثم اشْتَرَى النِّصْفَ الذي لشَرِيكِه، وكلُّ واحِدٍ منهما يُساوي صاحِبَه في الاحْتِمالِ، فيُقْسَمُ بينَهما. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ مَن شَهِد على سَيِّدِ عَبْدٍ بعِتْقِ عَبْدِه ثم اشْتراه، عَتَق عليه. وإن شَهِد اثْنان عليه بذلك فرُدَّتْ شَهادَتُهما، ثم اشْتَرَياه أو أحَدُهما، عَتَق. وبهذا قال مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرٍ. وهو قياسُ قولِ أبي حنيفةَ. ولا يَثْبُتُ للمُشْتَرِي وَلاءٌ على العَبْدِ؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه، ولا للبائِعِ؛ لأنَّه يُنْكِرُ عِتْقَه. ولو كان العَبْدُ بينَ شَريكَين، فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّ شَرِيكَه أعْتَقَ حَقَّه منه، وكانا موسِرَين، فعَتَقَ عليهما، أو كانا مُعْسِرَين عَدْلَين، فحَلَفَ العَبْدُ مع كلِّ واحِدٍ منهما، [وعَتَق، أو شَهِد مع كلِّ واحدٍ منهما عَدْلٌ آخَرُ] (¬1) وعَتَق العَبْدُ، أو ادَّعَى عَبْدٌ أنَّ سَيِّدَه أعْتَقَه؛ فأنْكَرَ وقامَتِ البَيِّنَةُ بعِتْقِه، عَتَق. ولا وَلاءَ على العَبْدِ في هذه المواضِعِ كُلِّها؛ لأنَّ أحَدًا لا يَدَّعِيه، ولا يَثْبُتُ لأحَدٍ حقٌّ (¬2) يُنْكِرُه، فإن عاد مَن [يُثْبتُ له عَتاقَه] (¬3) فاعْتَرَفَ به، ثَبَت له الوَلاءُ؛ لأنَّه لا مُسْتَحِقَّ له سِواه، وإنَّما لم (¬4) يَثْبُتْ له لإِنْكارِه له، فإذا اعْتَرَفَ زال الإنْكارُ وثَبَت له. وأمّا الموسِران إذا عَتَق عليهما، فإن صَدَّقَ أحَدُهما صاحِبَه. في أنَّه أعْتَقَ نَصيبَه وَحْدَه، أو أنَّه سَبَق بالعِتْقِ، فالوَلاء له، وعليه غَرامَةُ نَصِيبِ الآخَرِ. وإنِ اتَّفَقا على أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما أعْتَقَ نَصِيبَه دَفْعَةً واحِدَةً ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في الأصل: «حتى». (¬3) في م: «ثبت إعتاقه». (¬4) سقط من: الأصل.

2929 - مسألة: (وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا، عتق نصيب المعسر وحده)

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْسِرِ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالوَلاءُ بينَهما. وإنِ ادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه المُعْتِقُ وَحْدَه، أو أنَّه السّابِقُ، فأنْكَرَ الآخَرُ، تَحَالفا، والوَلاءُ بينَهما نِصْفَين. 2929 - مسألة: (وإن كان أحَدُهما مُوسِرًا والآخَرُ مُعْسِرًا، عَتَق نَصِيبُ المُعْسِرِ وَحْدَه) لاعْتِرافِه بأنَّ نَصِيبَه قد صار حُرًّا بإعْتاقِ شَريكِه المُوسِرِ الذي يَسْرِي عِتْقُه، ولم يَعْتِقْ نَصِيبُ المُوسِرِ؛ لأنَّه يَدّعِي أنَّ المُعْسِرَ الذي لا يَسْرِي عِتْقُه أعْتَقَ نَصِيبَه، فعَتَقَ وَحْدَه. ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ المُعْسِرِ عليه؛ لأنَّه يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا، لكَوْنِه يوجِبُ (¬1) عليه بِشَهادَتِه قِيمَةَ حصَّتِه. فعلى هذا، إن لم تَكُنْ للعَبْدِ بَيِّنَةٌ سِواه، حَلَف المُوسِرُ وبَرِئَ مِن القِيمَةِ والعِتْقِ جَميعًا، ولا وَلاءَ للمُعْسِرِ في نَصيبِه؛ لأنَّه لا يدَّعِيه، ولا للمُوسِرِ أيضًا؛ لذلك. فإن عاد المُعْسِرُ فأعْتَقَه وادَّعاه، ثَبَت له. وإن أقَرَّ المُوسِرُ بإعْتاقِ نَصِيبِه، وصَدَّقَ المُعْسِرُ، عَتَق نَصيبُه أيضًا، وعليه غرَامَةُ نَصِيبِ المُعْسِرِ، ويَثْبُتُ له الوَلاءُ. وإن كان للعَبْدِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بإعْتاقِ المُوسِرِ، وكانت عَدْلَين، ثَبَت العِتْقُ، ووَجَبَتِ القِيمَةُ للمُعْسِرِ عليه. وإن كانت عَدْلًا واحِدًا، وحَلَف العَبْدُ معه، ثَبَت العِتْقُ في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأُخْرَى، لا يَثْبُتُ العِتْقُ، وللمُعْسِرِ أن يَحْلِفَ معه، ويَسْتَحِقُّ قِيمَةَ نَصِيبِه، سَواءٌ حَلَف العَبْدُ أو لم يَحْلِفْ؛ لأنَّ الذي يَدَّعِيه ¬

(¬1) في م: «يجب».

2930 - مسألة: (وإذا قال أحد الشريكين: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر. فأعتق الأول وهو موسر، عتق كله عليه)

وَإِذَا قَال أَحَدُ الشَّرِيكَينِ: إِذَا أعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ. فَأَعْتَقَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مُوسِرٌ، عَتَقَ كُلُّهُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالٌ يُقْبَلُ فيه شاهِدٌ ويَمِينٌ. فصل: فإنِ ادَّعَى أحَدُ الشَّرِيكَين أنَّ شَرِيكَه أعْتَقَ نَصيبَه، وأنْكَرَ الآخَرُ، وكان المُدَّعَى عليه مُوسِرًا، عَتَق نَصيبُ المُدَّعِي وَحْدَه؛ لاعْترافِه بحُرِّيَّتِه بسِرايَةِ عِتْقِ شَرِيكِه، وصار مُدَّعِيًا نِصْفَ القِيمَةِ على شريكِه، ولا يَسْرِي؛ لأنَّه لا يَعْتَرِفُ أنَّه المُعْتِقُ له، إنَّما عَتَق باعْتِرافِه بحُرِّيَّتِه، لا بإعْتاقِه له، ولا وَلاءَ عليه؛ لإِنْكارِه له. قال القاضي: ووَلاؤُه مَوْقُوفٌ. وإن كان المُدَّعِي عَدْلًا لم تُقْبَلْ شَهادَتُه؛ لأنَّه يدَّعِي نِصفَ قِيمَتِه على شَرِيكِه، فيَجُرُّ بشَهادَتِه إليه نَفْعًا، ومَن شَهِد بشَهادَةٍ يَجُرُّ بها إليه نَفْعًا، بَطَلَتْ كُلُّها. وأمّا إن كان المُدَّعَى عليه مُعْسِرًا، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه، ولا يَعْتِقُ منه شيءٌ. فإن كان المُدَّعِي عَدْلًا، حَلَف العَبْدُ مع شَهادَتِه، وصار نِصْفُه حُرًّا. وقال حَمّادٌ: إن كان المَشْهُودُ عليه مُوسِرًا سَعَى له، وإن كان مُعْسِرًا سَعَى لهما. وقال أبو حنيفةَ: إن كان مُعْسِرًا اسْتُسْعِيَ العَبْدُ، ووَلاؤُه بَينَهما، وإن كان مُوسِرًا فوَلاءُ نِصْفِه مَوْقوفٌ، فإنِ اعْتَرَفَ أنَّه أعْتَقَ اسْتَحَقَّ الوَلاءَ، وإلَّا كان الوَلاءُ لبَيتِ المالِ. 2930 - مسألة: (وإذا قال أحَدُ الشَّرِيكَين: إذا أعْتَقْتَ نَصيبَك فنَصِيبِي حُرٌّ. فأعْتَقَ الأوَّلُ وهو مُوسِرٌ، عَتَق كلُّه عليه) هذا اخْتِيارُ

2931 - مسألة: (وإن كان معسرا)

وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصحابِ، أنَّه يَعْتِقُ على الأوَّلِ، ويُقَوَّمُ عليه نَصيبُ الشَّرِيكِ إن كان مُوسِرًا، ولا يَقَعُ إعْتاقُ شَريكِه؛ لأنَّ السِّرايَةَ سَبَقَتْ، فمَنَعَتْ عِتْقَ الشَّرِيكِ. قال شيخُنا (¬1): ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ عليهما جَميعًا؛ لأنَّ عِتْقَ نَصيبِه سَبَبٌ للسِّرايَةِ وشَرْطٌ لعِتْقِ نَصيبِ الشَّرِيكِ، فلم يَسْبِقْ أحَدُهما الآخَرَ لوُجُودِهما في حالٍ واحِدَةٍ. وقد يُرَجَّحُ وُقُوعُ عِتْقِ الشَّرِيكِ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ منه في مِلْكِه، والسِّرايَةُ تَقَعُ في غَيرِ مِلْكٍ على خِلافِ الأصْلِ، فكان نُفُوذُ عِتْقِ الشَّرِيكِ أوْلَى. ولأنَّ سِرايَةَ العِتقِ على خِلافِ الأصْلِ؛ لكَوْنِها إتْلافًا لمِلْكِ المَعْصُومِ بغيرِ رِضاه، وإلْزامًا للمُعْتِقِ غَرامَةً لم يَلْتَزِمْها بغيرِ اختيارِه، وإنَّما ثَبَت لمَصْلَحَةِ تَكْمِيلِ العِتْقِ، فإذا حَصَلَتْ هذه المَصْلَحَةُ بإعْتاقِ المالِكِ (¬2)، كان أوْلَى. 2931 - مسألة: (وإن كان مُعْسِرًا) لم يَعتِقْ عليه إلَّا نَصِيبُه؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ عِتْقَ المُعْسِرِ لا يَسْرِي إلى نصِيبِ شَرِيكِه، ويَعْتِقُ نَصيبُ شَريكِه بالشَّرْطِ. ¬

(¬1) في: المغني 14/ 357. (¬2) في م: «الملك».

2932 - مسألة: (وإن قال: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك. فأعتق نصيبه، عتق عليهما، موسرا كان أو معسرا)

وَإِنْ قَال: إِذَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ مَعَ نَصِيبِكَ. فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ، عَتَقَ عَلَيهِمَا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2932 - مسألة: (وإن قال: إذا أعْتَقْتَ نَصيبَكَ فنَصِيبي حُرٌّ مع نَصيبِكَ. فأعْتَقَ نَصيبَه، عَتَق عليهما، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا) ولم يَلْزَمِ المُعْتِقَ شيءٌ؛ لأنَّ العِتْقَ وُجِد منهما معًا، فهو كما لو وكَّلا رجلًا في إعْتاقِه عنهما [فأعْتَقَه بلفظٍ واحدٍ] (¬1). وقِيلَ: يَعْتِقُ كلُّه على المُعْتِقِ؛ لأنَّ إعْتاقَ نَصيبِه شَرْطُ عِتْقِ نَصيبِ شَرِيكِه، فيَلْزَمُ أن يكونَ سابِقًا عليه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه أمْكَنَ العَمَلُ بمُقْتَضَى شَرْطِه، فوَجَبَ العَمَلُ به؛ لِما ذَكَرْناه. فصل: فإن قال: إذا أعْتَقْتَ نَصيبَك فنَصِيبي حُرٌّ قبلَ إعْتاقِك. وَقَعا معًا إذا أعْتَقَ نَصِيبَه. هذا مُقْتَضَى قولِ أبي بكرٍ، والقاضي. ومُقْتَضَى قَوْلِ ابنِ عَقِيلٍ، أن يَعْتِقَ كلّه على المُعْتِقِ، ولا يَقَعَ إعْتاقُ شَرِيكِه؛ لأنَّه إعْتاقٌ في زَمَنٍ ماضٍ. ومُقْتَضَى قولِ ابنِ سُرَيجٍ (¬2) ومَن وَافَقَه، مِمَّن قال بسِرايَةِ العِتْقِ، أن لا يَصِحَّ إعْتاقُه؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن عِتْقِه (¬3) نصِيبَه تَقَدُّمُ ¬

(¬1) في م: «فأعتقهما». (¬2) في الأصل، م: «شريح». (¬3) في م: «عتق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِتْقِ الشَّرِيكِ وسِرَايَتُه، فيَمْتَنِعُ إعْتاقُ نَصِيبِ هذا، ويَمْتَنِعُ عِتْق نَصِيبِ الشَّرِيكِ، ويُفْضِي إلى الدَّوْرِ، فيَمْتَنِعُ الجَمِيعُ. وسَنَذْكُرُ ذلك في الطَّلاقِ، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: إذا كان لرجلٍ نِصْفُ عَبْدَين مُتَساويَين في القِيمَةِ، لا يَمْلِكُ غيرَهما، فأعْتَقَ أحَدَهما في صِحَّتِه، عَتَق، وسَرَى إلى نَصيبِ شَرِيكِه؛ لأنَّه مُوسِرٌ بالنِّصْفِ الذي له مِن العَبْدِ الآخَرِ، فإن أعْتَقَ النِّصفَ الآخَرَ، عَتَقَ؛ لأنَّ وُجُوبَ القِيمَةِ في ذِمَّتِه لا يَمْنَعُ صِحَّةَ عِتْقِه، ولم يَسْرِ؛ لأنَّه مُعْسِرٌ. وإن أعْتَقَ الأوَّلَ في مَرَضِ مَوْتِه، لم يَسْرِ؛ لأنَّه إنَّما يَنْفُذُ عِتْقُه في ثُلُثِ مالِه، وثُلُثُ مالِه هو الثُّلُثُ مِن العَبْدِ الذي أعْتَقَ نِصْفَه، وإذا أعْتَقَ الثانِيَ وَقَف على إجازَةِ الوَرَثَةِ. فإن أعْتَقَ الأوَّلَ في صِحَّتِه وأعْتَقَ الثانِيَ في مَرَضِه، لم يَنْفُذْ عِتْقُ الثاني؛ لأنَّ عليه دَينًا يَسْتَغْرِق قِيمَتَه، فيَمْنَعُ صِحَّةَ عِتْقِه، إلَّا أن يُجِيزَ الوَرَثَة. فصل: إذا شَهِد شاهِدان على رجلٍ أنَّه أعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ فسَرَى إلى نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وغَرِم له قِيمَةَ نَصِيبِه، ثم رَجَعا عن الشَّهادَةِ، غَرِ ما قِيمَةَ العَبْدِ جَمِيعِه. وقال بعضُ أصْحاب الشافعيِّ: تَلْزَمُهما غَرامَةُ نَصِيبِه، دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِه؛ لأنَّهما لم يَشْهَدا إلَّا بعِتْقِ نَصِيبِه، فلم تَلْزَمْهما غَرَامَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما سِواه. ولَنا، أنَّهما فَوَّتا عليه نَصِيبَه وقِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِه، فلَزِمَهما ضَمانُه، كما لو فَوَّتَاه بفِعْلِهما، وكما لو شَهِدا عليه بجُرْحٍ ثم سَرَى الجُرْحُ وماتَ المَجْرُوحُ فضَمِنَ الدِّيَةَ ثم رَجَعا عن شَهادَتِهما. فصل: وإن شَهِد شاهِدان على مَيِّتٍ بعِتْقِ عَبْدٍ (¬1) في مَرَضِ مَوْتِه، وهو ثُلُثُ مالِه، فحكَمَ الحاكِمُ بشَهادَتِهما، وعَتَق العَبْدُ، ثم شَهِد آخَران بعِتْقِ آخَرَ، وهو ثُلُثُ مالِه، ثم رَجَع الأوَّلان عن الشَّهادَةِ، نَظَرْنا في تاريخِ شَهادَتِهما؛ فإن كانت سابِقَةً ولم يُكَذِّبِ الوَرَثَة رُجُوعَهما، عَتَق الأوَّلُ، ولم يُقْبَلْ رُجُوعُهما، ولم يَغْرَما شيئًا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَهما شِراءُ الثاني وإعْتاقُه؛ لأنَّهما مَنَعا عِتْقَه بشَهادَتِهما المَرْجُوعِ عنها. وإن صَدَّقوهما في رُجُوعِهما وكَذَّبُوهما في شَهادَتِهما، عَتَق الثاني، ورَجَعُوا عليهما بقِيمَةِ الأوَّلِ؛ لأنَّهما فَوَّتا رِقَّه عليهمْ بشَهادَتِهما المَرْجُوعِ عنها، وإن كان تاريخُها (¬2) مُتَأخِّرًا عن الشَّهادَةِ الأُخْرَى بَطَل (¬3) عِتْقُ المَحْكُومِ بعِتْقِه؛ ¬

(¬1) في الأصل: «عتق». (¬2) في الأصل: «تاريخهما». (¬3) بعده في م: «حكم».

فَصْلٌ: وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ؛ كَدُخُولِ الدَّارِ، وَمَجِئِ الْأَمْطَارِ. وَلَا يَمْلِكُ إِبْطَالهَا بِالْقَوْلِ. وَلَهُ بَيعُهْ وَهِبَتُهُ وَوَقْفُهُ، وَغَيرُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ إِلَيهِ عَادَتِ الصِّفَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّنا تَبَيَّنّا أنَّ المَيِّتَ قد أعْتَقَ ثُلُثَ مالِه قبْلَ إعْتاقِه، ولم يَغْرَمِ الشّاهِدان شيئًا؛ لأنَّهما ما فَوَّتا شَيئًا، وإن كانَتا مُطْلَقَتَين أو إحْداهما، أو أتَّفَقَ تَارِيخُهما، أُقْرِعَ بَينَهما، فإن خَرَجَتْ على الثاني عَتَق، وبَطَل عِتْقُ الأوَّلِ، ولا شيءَ على الشّاهِدَين؛ لأنَّ الأوَّلَ باقٍ على الرِّقِّ، وإن خَرَجَتْ قُرْعَةُ الأوَّلِ عَتَق، ونَظَرْنا في الوَرَثَةِ، فإذا كَذَّبُوا الشّاهِدَين الأوَّلَين في شَهادَتِهما عَتَق الثاني، ورَجَعُوا على الشّاهِدَين بقِيمَةِ الأوَّلِ؛ لأنَّهما فَوَّتا رِقَّه بغيرِ حَقٍّ. وإن كَذَّبُوهما في رُجُوعِهما لم يَرْجِعُوا عليهما بشيءٍ؛ لأنَّهم يُقِرُّون بعِتْقِ المَحْكُومِ بعِتْقِه. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (ويَصِحُّ تَعْلِيقُ العِتْقِ بالصِّفاتِ؛ كدُخُولِ الدّارِ، ومَجِئِ الأمْطارِ) لأنَّه عِتْق بصِفةٍ، فصَحَّ، كالتَّدْبِيرِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا عَلَّقَ عِتْقَه على مَجئِ وَقْتٍ، كقَوْلِه: أنت حُرٌّ في رأْسِ الحَوْلِ. لم يَعْتِقْ حتى يأْتِيَ (1) رَأْسُ الحَوْلِ (وله بَيعُه، وهِبَتُه) وإجارَتُه، وَوَطءُ الأمَةِ، كالتَّدْبِيرِ. وبه قال الأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. قال أحمدُ: إذا قال لغُلامِه: أنت حُرٌّ إلى أن يَقْدَمَ فُلانٌ، ومَجئِ (¬1) فُلانٍ. واحِدٌ (¬2)، و: إلى رَأْسِ السَّنَةِ، وإلى رَأْسِ الشَّهْرِ. إنَّما يُرِيدُ إذا جاء رَأْسُ السَّنَةِ، أو جاء رأْسُ الهِلالِ. وإذا قال: أنتِ طالِقٌ إذا جاء الهِلالُ. إنَّما تَطْلُقُ (¬3) إذا جاء رأْسُ الهِلالِ. وقال إسحاقُ كما قال أحمدُ. وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه قال: إذا قال لعَبْدِه: أنت حُرٌّ في رَأْسِ الحَوْلِ. عَتَق في الحالِ. والذي حكاه ابنُ المُنْذِرِ عنه، أنَّها إذا كانت جَارِيَةً لم يَطَأْها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُها مِلْكًا تَامًّا، ولا يَهَبُها، ولا يَبِيعُها، وإن مات السَّيِّدُ قبلَ الوَقْتِ كانت حُرَّةً عندَ الوَقْتِ مِن رَأْسِ المالِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه لا يَطَؤُها؛ لأنَّ مِلْكَه غيرُ تامٍّ عليها. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ، أنَّه قال لعَبْدِه: أنت عَتِيقٌ إلى رَأْسِ الحَوْلِ (¬4). فلَوْلَا أنَّ العِتْقَ يَتَعَلَّقُ ¬

(¬1) في م: «يجئ». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يريد». (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من قال: لا يطلق حتى يحل الأجل، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحَوْلِ لم يُعَلِّقْه عليه، ولأنَّه عَلَّقَ العِتْقَ بصِفَةٍ، فوَجَبَ أن يَتَعَلَّقَ بها، كما لو قال: إذا أدَّيتَ إليَّ ألفًا فأنْتَ حُرٌّ. واسْتِحْقاقُه للعِتْقِ لا يَمْنَعُ إباحَةَ الوَطْءِ، كالاسْتِيلادِ. فأمّا المُكاتَبَةُ، فإنَّما لم يُبَحْ وَطْؤُها؛ لأنَّها اشْتَرَتْ نَفْسَها مِن سَيِّدِها بعِوَضٍ، وزال مِلْكُه عن اكْتسابِها، بخِلافِ مَسْألتِنا. ومتى جاء الوَقْتُ وهو في مِلْكِه عَتَق بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. فإن خَرَج عن مِلْكِه بِبَيعٍ أو مِيراثٍ، لم يَعْتِقْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال النَّخَعِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى: إذا قال لعَبْدِه: إن فَعَلْتَ كذا فأنْتَ حُرٌّ. فباعَه بَيعًا صحِيحًا، ثم فَعَل ذلك، عَتَق وانْتَقَضَ البَيعُ. قال ابنُ أبي لَيلَى: إذا حَلَف بالطَّلاقِ لا كَلَّمْتُ فُلانًا، ثم طَلَّقَها طَلاقًا بائنًا، ثم كَلَّمَه، حَنِث. وعامَّةُ أهلِ العلمِ على خِلافِ [هذا القولِ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال] (¬1): «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ وَلَا بَيعَ فِيما لَا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ» (¬2). ولأنَّه لا مِلْكَ له، فلم يَقَعْ طَلاقُه وعَتاقُه، كما لو لم يكُنْ له مالٌ مُتَقَدِّمٌ. ¬

(¬1) في م: «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 323.

2933 - مسألة: وإذا علق عتق عبده بشرط، كقوله: إن أديت إلي ألفا فأنت حر. أو: إن دخلت الدار فأنت حر. فهي صفة لازمة، ألزمها نفسه (ولا يملك إبطالها بالقول)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قال لعَبْدِه: إن لم أضْرِبْك عَشَرَةَ أسْواطٍ فأنت حُرٌّ. ولم يَنْو وَقْتًا بعَينِه، لم يَعْتِقْ حتى يموت، وإن باعَه قبلَ ذلك صَحَّ بَيعُه، ولم يُفْسَخْ، في قولِ أكْثرِ أهلِ العِلْمِ. وقال مالكٌ: ليس له بَيعُهُ، فإن باعَهُ فُسِخ البَيعُ. ولَنا، أنَّه باعَه قبلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فلم يُفسَخْ، كما لو قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ فأنت حُرٌّ. وباعَه قبلَ دُخولِها. 2933 - مسألة: وإذا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِه بشَرْطٍ، كقَوْلِه: إن أدَّيتَ إليَّ ألْفًا فأنت حرٌّ. أو: إن دَخَلْتَ الدّارَ فأنت حُرٌّ. فهي صِفَةٌ لازِمَةٌ، ألْزَمَها نَفْسَه (ولا يَمْلِكُ إبْطالها بالقَوْلِ) قِياسًا على النَّذْرِ، ولذلك إنِ اتَّفَقَ السَّيِّدُ والعَبْدُ على إبْطالِها لم تَبْطُلُ؛ لذلك. ولو أبْرَأَهُ السَّيِّدُ مِن الألْفِ لم يَعْتِقْ بذلك، ولم يَبْطُلَ التَّعْلِيقُ؛ لأنَّه لا حَقَّ له في ذِمَّتِه يُبْرِئه منه. فصل: ولا يَعْتِقُ قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ بكَمالِها، [كالجُعْلِ في الجَعالةِ] (¬1)، فلو قال لعَبْدِه: إذا أدَّيتَ إليَّ ألْفًا فأنت حُرٌّ. لم يَعْتِقْ حتى يُؤَدِّيَ الألْفَ جَميعَها. وذَكَرَ القاضي أنَّ مِن أصْلِنا أنَّ العِتْقَ المُعَلَّقَ بصِفَةٍ يوجَدُ بوُجُودِ بَعْضِها، كما لو قال: أنت حُرٌّ إن أكَلْتَ رَغيفًا. فأكَلَ نِصْفَه. ولا يَصِحُّ ذلك لوُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ أداءَ الألفِ شَرْطُ العِتْقِ، وشُرُوطُ الأحْكامِ يُعْتَبَرُ وُجُودُها بكمالِها لثُبُوتِ الأحْكامِ، وتَنْتَفِي بانْتِفائِها، كسائِرِ شرُوطِ الأحْكامِ. الثاني، أنَّه إذا عَلَّقَه عَلى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَصْفٍ ذِي عَدَدٍ، فالعَدَدُ وَصْفٌ في الشَّرْطِ، ومَن عَلَّقَ الحُكْمَ علِى شرطٍ ذي وَصْفٍ، لم يَثْبُتْ ما لم تُوجَدِ الصِّفَةُ، كقَوْلِه لعَبْدِه: إن خرَجْتَ عارِيًا فأنت حُرٌّ. فخَرَجَ لابِسًا، لم يَعْتِقْ، فكذلك العَدَدُ. الثّالِثُ، أنَّه متى كان في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ على الكُلّ، لم يَحْنَثْ بفِعْلِ البَعْضِ، كما لو حَلَف: لا صَلَّيتُ صلاةً. أو: لا صُمْتُ صِيامًا. لم يَحْنَثْ حتىِ يَفرَغَ ممّا يُسَمَّى صلاةً ويَصُومَ يومًا. ولو قال لامْرَأتِه: إن حِضْتِ حَيضَةً فأنتِ طالِقٌ. لم تَطْلُقْ حتى تَطْهُرَ مِن الحَيضَةِ. وذِكْرُ الألْفِ ههُنا يَدُلُّ على أنَّه أرادَ ألْفًا كامِلَةً. الرّابعُ، أنَّ الأصْلَ الذي ذَكَرَه، فيما إذا قال: إذا أكَلْتَ رَغِيفًا فأنت حُرٌّ. أنَّه يَعْتِقُ بأكْلِ بَعْضِه، مَمْنُوعٌ. وإنَّما إذا حَلَف لا يَفْعَلُ شَيئًا، فَفَعَلَ بَعْضَه، يَحْنَثُ، في رِوايَةٍ، في مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ إرادَةَ البَعْضِ ويَتناوَلُه اللَّفْظُ، كَمن حَلَف لا يصَلِّي، فشَرَعَ في الصَّلاةِ، أو لا يَصُومُ، فشَرَعَ في الصَّومِ، أو لا يَشْرَبُ مَاءَ هذا الإِناءِ، فشَرِبَ بَعْضَه. ونحوَ هذا؛ لأنَّ الشّارِعَ في الصلاةِ والصيامِ قد صَلَّى وصامَ ذلك الجُزْءَ الذي شَرَع فيه، والقَدْرَ الذي شَرِبَه مِن الإِناءِ هو ماءُ الإِناءِ، وقَرِينَةُ حالِه تَقْتَضِي المَنْعَ مِن الكُلِّ، فتَقْتَضِي الامْتِناعَ مِن الكُلِّ، ومتى فَعَل البَعْضَ فما امْتَنَعَ مِن الكُلِّ، فحنِثَ؛ لذلك. ولو حَلَف على فِعْلِ شيءٍ لم يَبَرَّ إلَّا بفِعْلِ الجَمِيعِ. وفي مَسْألَتِنا، تَعْلِيقُ الحُرِّيَّةِ على أداءِ الألْفِ يَقْتَضِي وُجُودَ أدائِها، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ المُعَلَّقُ عليها دُونَ أدائِها، كمَن حَلَف ليُؤَدِّيَنَّ ألْفًا، لا يَبَرُّ حتى يؤُدِّيَها. الخامِسُ، أنَّ موضوعَ الشَّرْطِ في الكِتابِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسُّنَّةِ وأحْكامِ الشريعَةِ، على أنَّه لا يَثْبُتُ المَشْرُوطُ بدُونِ شَرْطِه، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَال: لَا إِلَهَ إلا اللهُ. دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). فَلَو قال بعضَها لم يَسْتَحِقَّ إلَّا العُقُوبَةَ. وقَوْلِه: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ» (¬2). لا تكونُ له بشُرُوعِه في الإِحْياءِ. ولو قال في المُسابَقَةِ: مَن سَبَق إلى خَمْسِ إصاباتٍ فهو سابِقٌ. لم يَكُنْ سابقًا إذا سَبَق إلى أرْبَعٍ. ولو قال: مَن رَدَّ ضالَّتِي فله دِينَارٌ. لم يَسْتَحِقَّه بالشُّرُوعِ في رَدِّها. فكيف يخالِفُ موضوعاتِ الشَّرْعِ واللُّغَةِ بغيرِ دَلِيلٍ؟ وإنَّما الرِّوايَةُ التي جاءت عن أحمدَ في الأيمانِ، في مَن حَلَف أن لا يَفْعَلَ شيئًا، ففَعَلَ بَعْضَه، يَحْنَثُ؛ لأنَّ اليَمِينَ على التَّرْكِ يُقْصَدُ بها المَنْعُ، فنُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ النَّهْي، والنَّهْيُ عن فِعْلِ شَيءٍ يَقْتَضِي المَنْعَ مِن بَعْضِه، بخِلافِ تَعْلِيقِ المَشْرُوط (¬3) على الشَّرْطِ. فصل: وما يَكْتَسِبُه العَبْدُ قبلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فهو لسَيِّدِه، لأنَّه لم يُوجَدْ عَقْدٌ يَمْنَعُ كَوْنَ كَسْبِه لسَيِّدِه، إلَّا أنَّه إذا عَلَّقَ عِتْقَه على أداءِ مالٍ معلومٍ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز، وفي: باب الثياب البيض، من كتاب اللباس، وفي: باب من أجاب بلبيك وسعديك، من كتاب الاستئذان، وفي: باب المكثرون هم المقلون، وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحب أن في مثل أحد ذهبا»، من كتاب الرقاق، وفي: باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 2/ 89، 90، 7/ 193، 192، 8/ 75، 117، 118، 9/ 174. ومسلم، في: باب من مات لا يشرك. . . .، من كتاب الإيمان، وفي: باب الترغيب في الصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 1/ 94، 95، 2/ 688، 689. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 152، 159، 161، 166. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 75. (¬3) في الأصل: «الشروط».

2934 - مسألة: (إلا أن تكون)

إلا أَنْ تَكُونَ قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ، فَهَلْ تَعُودُ بِعَوْدِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فما أخَذَه السَّيِّدُ حَسَبَه مِن المالِ، فإذا كَمَل أداءُ المالِ، عَتَق، وما فَضَل في يَدِه لسَيِّدِه؛ لأنَّه كَسْبُ عَبْدِه. وإن كان المُعَلَّق عِتْقُه أمَةً، فوَلَدَتْ، لم يَتْبَعْها وَلَدُها، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّها أمَةٌ قِنٌّ، فأشْبَهَ ما لو قال: إن دَخَلْتِ الدّارَ فأنتِ حُرَّةٌ. ولا تَجِبُ عليها قِيمَةُ نَفْسِها؛ لأنَّه عِتْقٌ مِن السَّيِّدِ، فأشْبَهَ ما لو باشَرَ العِتْقَ. فصل: إذا عَلَّقَ عِتْقَه بصِفَةٍ، ثم باعَه، ثم اشْتَراه، ووُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَق. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: فيها قوْلان؛ أحَدُهما، لا يَعْتِقُ؛ لأنَّ مِلْكَه فيه مُتَأخِّرٌ عن عَقْدِ الصِّفَةِ، فلم يَقَعِ العِتْقُ فيه، كما لو عَقَد الصِّفَةَ في حالِ زوالِ مِلْكِه عنه. ولَنا، أنَّه عَلَّقَ الصِّفَةَ في مِلْكِه، وتَحَقَّقَ الشَّرْطُ في مِلْكِه، فوَجَبَ أن يَعْتِقَ، كما لو لم يَزُلْ مِلْكُه عنه. وفارَقَ ما إذا عَلَّقَها في حالِ زوالِ مِلْكِه؛ لأنَّه لو نَجَز العِتْقَ لم يَقَعْ، فإذا عَلَّقَه كان أوْلَى بعدَمِ الوُقُوعِ، بخِلافِ مسألَتِنا. 2934 - مسألة: (إلَّا أن تَكُونَ) الصِّفَةُ (وُجِدَتْ منه في حالِ زَوال مِلْكِه، فهل تَعُودُ بعَوْدِه؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، لا تَعُودُ؛ لأنَّها انْحَلَّتْ بوُجُودِها، فلم تَعُدْ، كما لو انْحَلَّتْ بوجُودِها في مِلْكِه. والثانِيَةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعُودُ؛ لأنَّه لم تُوجَدِ الصِّفَةُ التي يَعْتِقُ بها، فأشْبَهَ ما لو عاد إلى مِلْكِه قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، ولأنَّ المِلْكَ مُقَدَّرٌ في الصِّفَةِ، فكأنَّه قال: إذا دَخَلْتَ الدّارَ وأنتَ في مِلْكِي فأنت حُرٌّ. ولم يُوجَدْ ذلك. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، في الطَّلاقِ، أنَّه يَقَعُ؛ لأنَّ التَّعْلِيقَ والشَّرْطَ وُجِدَا في مِلْكِه، فأشبَهَ ما لو لم يَتَخَلَّلْهما دُخُولٌ. ومَن نَصَر الرِّوايَةَ الأُولَى قال: إنَّ العِتْقَ مُعَلَّقٌ بشَرْطٍ لا يَقْتَضِي التَّكْرارَ، فإذا وُجِد مَرَّةً انْحَلَّتِ اليَمِينُ، وقد وُجِد الدُّخُولُ في مِلْكِ غيرِه فانْحَلَّتِ اليَمِينُ، فلم يَقَعِ العِتْقُ به بعدَ ذلك، ويفارِقُ العِتْقُ الطَّلاقَ مِن حيثُ إنَّ النِّكاحَ الثانِيَ يَنْبَنِي على النِّكاحِ الأوَّلِ، بدَلِيلِ أنَّ طَلاقَه في النِّكاحِ الأوَّلِ يُحْسَبُ عليه في النِّكاحِ الثانِي، ويَنْقُصُ به عَدَدُ طلاقِه، والمِلْكُ باليَمينِ بخِلافِه.

2935 - مسألة: (وتبطل الصفة بالموت)

وَتَبْطُلُ الصِّفَةُ بِمَوْتِه. فَإِنْ قَال: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ: أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ. فَهَلْ يَصِحُّ ويَعْتِقُ بِذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2935 - مسألة: (وتَبْطُلُ الصِّفَةُ بالمَوْتِ) لأنَّ مِلْكَه يَزُوْلُ بمَوْتِه، فتَبْطُلُ تَصَرُّفاتُه بزَوالِه، كالبَيعِ. 2936 - مسألة: (فإن قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ [فأنت حُرٌّ بعدَ مَوْتِي] (¬1). أو: أنت حُرٌّ بعَد مَوْتِي بشَهْرٍ. فهل يَصِحُّ ويَعْتِقُ بذلك؟ على روايتين) إذا قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ بعَد مَوْتِي فأنت حُرٌّ. لم تَنْعَقِدْ هذه الصِّفَةُ (¬2)؛ لأنَّه عَلَّقَ عِتْقَه على صِفَةٍ تُوجَدُ بعدَ زَوالِ مِلْكِه، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ بعدَ بَيعِي إيّاك فأنت حُرٌّ. ولأنَّه إعْتاقٌ له بعدَ قَرارِ مِلْكِ غيرِه عليه، فلم يَعْتِقْ به، كالمُنْجَزِ. والثانِيَةُ، يَعْتِقُ. ذَكَرَه القاضي. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه صَرَّحَ بذلك، فحُمِلَ عليه، كما ¬

(¬1) كذا في النسخ الثلاث. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو وَصَّى بإعْتاقِه، وكما لو وَصَّى ببيعِ سِلْعةٍ ويُتصَدَّقُ (¬1) بثَمَنِها، ويُفارِقُ التَّصرُّفَ بعدَ البَيعِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى جَعَل للإِنْسانِ التَّصرُّفَ بعدَ مَوْتِه في ثُلُثِه، بخِلاف ما بعدَ البَيعِ. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى. ويُفارِقُ الوَصِيَّةَ بالعِتْقِ وبَيعَ السِّلْعَةِ؛ لأنَّ المِلْكَ لا يَسْتَقِرُّ للوَرَثَةِ فيه، ولا يَمْلِكُونَ التَّصرُّفَ فيه، بخِلافِ مَسْألتِنا. وسَنَذْكُرُ ذلك بأبْسَطَ مِن هذا في التَّدْبِيرِ، إن شاء اللهُ تعالى. وعنه، يَصِحُّ؛ لأنَّه إعْتاقٌ بعدَ الموتِ، فصَحَّ، كما لو قال: أنتَ حُرٌّ بعدَ مَوْتِي. فإن قال: أنت حُرٌّ بعدَ مَوْتِي بشَهْرٍ. فقد رُوِيَ عن أحمدَ في رِوايَةِ مُهَنّا، أنَّه لا يَعْتِقُ، ولا تَصِحُّ هذه الصِّفَةُ. وقال أيضًا: سألتُ أحمدَ عن رجلٍ قال: أنتَ حُرٌّ بعدَ مَوْتِي ¬

(¬1) في الأصل: «تصدق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بشهرٍ، بألْفِ دِرْهَم. فقال لي (¬1): هذا كُلُّه لا يكونُ شَيئًا بعدَ مَوْتِه. وهذا اخْتِيارُ أبي بكرٍ. وذَكَر القاضي، وابنُ أبي مُوسَى رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه يَعْتِقُ إذا وُجِدَتِ الصِّفتان (¬2)؛ الموتُ، ومُضِيُّ المُدَّةِ المذْكورةِ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، وأبي يُوسُفَ، وإسحاقَ. ووَجْهُهما ما تقَدَّمَ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا يَعْتِقُ حتى يُعْتِقَه الوارِثُ. وعلى قولِ مَن قال: يَعْتِقُ. يكونُ قبلَ العِتْقِ مِلْكًا للوارِثِ، وكَسْبُه له، كأُمِّ الوَلَدِ، والمُدَبَّرِ في حياةِ السَّيِّدِ، [وإن كان أمَةً، فوَلَدتْ قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ] (¬3)، فوَلَدُها يَتْبَعُها في التَّدْبِيرِ، ويَعْتِقُ بوُجُودِ الصِّفَةِ، كَما تَعْتِقُ هي. واللهُ سبحانه أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «بعد». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال لعَبْدٍ له مُقَيَّدٍ: هو حُرٌّ إن حَلَّ قَيدَهُ. ثم قال: هو حُرٌّ إن لم يَكُنْ في قَيدِه عَشَرةُ أرْطالٍ. فشَهِدَ شاهدان عندَ الحاكِمِ أنَّ وَزْنَ قَيْدِه خَمْسَةُ أرْطالٍ، فحَكَمَ بعِتْقِه، وأمَرَ بحَلِّ قَيدِه، فوُزِنَ فوُجِدَ وَزْنُهُ عَشَرَةَ أرْطالٍ، عَتق العبدُ بحَلِّ قَيدِه، وتَبَيَّنّا أنَّه ما عَتَق بالشَّرْطِ الذي حَكَم الحاكمُ بعِتْقِه به. وهل يَلْزَمُ الشاهِدَين ضَمانُ قِيمَتِه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُهما؛ لأنَّ شهادَتَهما الكاذِبَةَ سَبَبُ عِتْقِه وإتْلافِه، فضَمِناه، كالشَّهادَةِ المَرْجُوعِ عنها، ولأنَّ عِتْقَه حُكِم بحُكْمِ الحاكِمِ المَبْنِيِّ على الشَّهادَةِ الكاذِبَةِ، فأشْبَهَ الحُكْمَ بالشَّهادَةِ التي يَرْجعان عنها. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. والثاني، لا ضَمانَ عليهما. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لأنَّ عِتْقَه لم يَحْصُلْ بالحُكْمِ المَبْنِيِّ على شهادَتِهما، وإنَّما حَصَل بحَلِّ قَيدِه، ولم يَشْهَدا به، فوَجَبَ أن لا يضْمَنا، كما لو لم يَحْكُمِ الحاكِمُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال لعَبْدِه: أنت حُرٌّ متى شِئْتَ. لم يَعْتِقْ حتى يشاءَ بالقَوْلِ، فمتى شاء عَتَق، سواءٌ كان على الفورِ (¬1) أو التّراخِي. وإن قال: أنت حُرٌّ إن شِئْتَ. فكذلك. ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ على المَجْلِسِ؛ لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ التَّخْيِيرِ، ولو قال لامْرَأتِه: اخْتارِى نَفْسَكِ. لم يَكُنْ لها الاخْتِيارُ إلَّا على الفورِ (¬2)، فإن تراخَى ذلك بَطل خِيارُها، كذا تَعْلِيقُه بالمَشِيئَةِ. وإن قال: أنتَ حُرٌّ كيفَ شِئْتَ. احْتَمَلَ أن يَعْتِقَ في الحالِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ «كيف» لا (¬3) تَقْتَضِي شَرْطًا ولا وَقْتًا ولا مَكانًا، فلا تَقْتَضِي تَوْقِيفَ العِتْقِ، وإنَّما هي صِفَةٌ للحالِ، فتَقْتَضِي (¬4) ¬

(¬1) في الأصل: «القول». (¬2) في الأصل: «الفوت». (¬3) في م: «إلا». (¬4) في الأصل: «فتفضي».

2937 - مسألة: (وإن قال: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي. فدخل في حياة السيد، صار مدبرا)

وَإِنْ قَال: إِنْ دَخَلْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَدَخَلَهَا فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وُقُوعَ الحُريَّةِ على أيِّ حالٍ كان. ويَحْتَمِلُ أن لا يَعْتِقَ حتى يشاءَ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لأنَّ المَشِيئَةَ تَقْتَضِي الخِيارَ، فتَقْتَضِي أن لا (¬1) يَعْتِقَ قبلَ اخْتِيارِه، كما لو قال: أنت حُرٌّ متى شِئْتَ. لأنَّ «كيف» تُعْطِي ما تُعْطِي «متى» (¬2)، و «أيَّ»، فحُكْمُهما حُكْمُها. وقد ذَكَر أبو الخَطّابِ في الطَّلاقِ، أنَّه إذا قال لزَوْجَتِه: أنتِ طالقٌ متى شِئْتِ، وكيفَ شِئْتِ، وحيثُ شِئْتِ. لم تَطلُقْ حتى تشاءَ، فيَجِئُ ههُنا مِثْلُه. 2937 - مسألة: (وإن قال: إن دَخَلْتَ الدّارَ فأنت حُرٌّ بعدَ مَوْتِي. فدَخَلَ في حَياةِ السَّيِّدِ، صار مُدَبَّرًا) لأنَّه وُجِد شَرْطُ التَّدْبِيرِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حتى».

2938 - مسألة: (وإذا قال: إن ملكت فلانا فهو حر. أو: كل مملوك أملكه فهو حر. فهل يصح؟ على روايتين)

وَإِنْ قَال: إِنْ مَلَكْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ. أَوْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو دُخُولُ الدّارِ. وإن لم يَدْخُلْ حتى مات بَطَلَتِ الصِّفَةُ؛ لأنَّه يَزُولُ به المِلْكُ، ولم يُوجَدِ التَّدبِيرُ؛ لعدَمِ شَرْطِه. وسَنَذكُرُ ذلك في التَّدْبِيرِ. [بأبْسَطَ مِن هذا] (¬1)، إن شاء اللهُ تعالى. 2938 - مسألة: (وإذا قال: إن مَلَكْتُ فُلانًا فهو حُرٌّ. أو: كلُّ مملُوكٍ أمْلِكُه فهو حُرٌّ. فهل يَصِحُّ؟ على روايتين) إحْداهما، لا يَصِحُّ، ولا يَعْتِقُ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وعطاءٌ، وعُرْوَةُ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. ورَواه التِّرْمِذِيُّ، عن عليٍّ، وجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، وعليِّ بنِ الحسينِ، وشُرَيحٍ، وغيرِ واحدٍ مِن التّابِعِين، قال: وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لِما روَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، ولا طَلَاقَ لابنِ آدَمَ فِيما لا يَمْلِكُ» (¬2). قال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 323.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِيُّ: وهو حديثٌ حسنٌ، وهو أحسنُ ما رُوِيَ في هذا الباب. وعن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طَلَاقَ فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وإنْ عَيَّنَها». رواه الدّارَقُطْنِي (¬1). وعن عليِّ [بنِ أبي طالبٍ] (¬2)، رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ» (¬3). قال أحمدُ: هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعِدَّةٍ مِن الصَّحابَةِ. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مخالفًا، فكان إجْماعًا. وهذا ظاهِرُ المَذْهب. ولأنَّه لا يَمْلِكُ تنجيزَ (¬4) العِتْقِ، فلمْ يَمْلِكْ تَعْلِيقَه، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ». رَواه أبو داودَ الطيالِسِيُّ (¬5). والثانِيَةُ، يَعْتِقُ إذا مَلَكَه؛ لأنَّه أضافَ العِتْقَ إلى حالٍ يَمْلِكُ عِتْقَه فيه، فأشْبَهَ ما لو كان التَّعْلِيقُ في ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني عن معاذ وليس عن عائشة، في كتاب الطلاق. سنن الدارقطني 4/ 17. وأخرجه عن عائشة وليس فيه: «وإن عينها». سنن الدارقطني 4/ 15، 16. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب لا طلاق قبل النكاح، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 660. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف جويبر بن سعيد. (¬4) في م: «بتخيير». (¬5) في: باب حكم من علَّق الطلاق قبل النكاح. . . .، من كتاب الطلاق. ترتيب مسند أبي داود الطيالسي 1/ 314.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكِه. وروَى أبو طالبٍ، عن أحمدَ، أنَّه قال: [إذا قال] (¬1): إنِ اشتريتُ هذا الغُلامَ فهو حُرٌّ. فاشتراهُ، عَتَق. قال أبو بكرٍ في كتابِ «الشَّافي»: لا يَخْتَلِفُ قولُ أبي عبدِ اللهِ أنَّ العَتاقَ يَقَعُ، إلَّا ما روَى محمدُ بنُ الحسنِ بنِ هارونَ في العِتْقِ، أنَّه لا يَقَعُ، وما أرَاه إلَّا غَلَطًا، فإن كان قد حَفِظ فهو قَوْلٌ آخَرُ. ولأنَّه لو قال لأمَتِه: أوَّلُ وَلدٍ تَلِدِينَه فهو حُرٌّ. فإنَّه يَصِحُّ، كذلك هذا. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ على الأخْطارِ، فصَحَّ تَعْلِيقُه علِى حُدُوثِ المِلْكِ، كالوَصِيَّةِ، والنَّذْرِ، واليَمِينِ. وقال مالكٌ: إن خصَّ جِنْسًا مِن الأجْناسِ أو عَبْدًا بعَينِه، عَتَق إذا مَلَكَه، وإن قال: كُلُّ عَبْدٍ أمْلِكُه. لم يَصِحَّ. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى؛ لأنَّه تَعْلِيقُ العِتْقِ قبلَ المِلْكِ، فأشْبَهَ ما لو قال لأمَةِ غيرِه: إن دَخَلْتِ الدّارَ فأنتِ حُرَّةٌ. ثم مَلَكَها ودَخَلَتِ الدّارَ، ولِما ذَكَرْنا مِن الأحادِيثِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

2939 - مسألة: فإن قال العبد ذلك ثم عتق وملك

وَإِنْ قَالهُ الْعَبْدُ لَمْ يَصِحَّ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2939 - مسألة: فإن قال العَبْدُ ذلك ثم عَتَق ومَلَك، عَتَق في أحَدِ الوَجْهَين، قِياسًا على الحُرِّ. والثاني، لا يَعْتِقُ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ العَبْدَ لا يَصِحُّ العِتْقُ منه حينَ التَّعْلِيقِ، لكَوْنِه لا يَمْلِكُ، وإنْ مَلَك فهو مِلْكٌ ضَعِيفٌ غيرُ مُسْتَقِرٌّ، لا يَتَمَكَّنُ مِن التَّصَرُّفِ فيه، وللسَّيِّدِ انْتِزاعُه منه، بخِلافِ الحُرِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال الحُرُّ: أوَّلُ غُلام أمْلِكُه فهو حُرٌّ. انْبَنَى ذلك على العِتْقِ قبلَ المِلْك، وفيه رِوَايتان ذَكرْناهما، فإن قُلْنا: يَصِحُّ عِتْقُ أوَّلِ مَن يَمْلِكُه لوُجُودِ الشَّرْطِ. فإن مَلَك اثنَين معًا، عَتَق أحَدُهما بالقُرْعَةِ، في قِياسِ قولِ أحمدَ، فإنَّه قال، في روايةِ مُهَنّا: إذا قال: أوَّلُ مَنْ يَطْلُعُ مِن عبِيدِي فهو حرٌّ. فطَلَعَ اثْنان (¬1)، أو جَميعُهم، فإنَّه يُقْرَعُ بينَهم. ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَا جميعًا؛ لأنَّ الأوَّلِيّةَ وُجِدَتْ فيهما جَمِيعًا، فثَبَتَتِ الحُرِّيَّةُ فيهما، كما لو قال في المُسابَقَةِ: مَن سَبَق فله عَشرةٌ. فسَبَقَ اثنان، اشْتَرَكا في العشرةِ. وقال النَّخَعِيُّ: يُعْتِقُ أيَّهما شاء. وقال أبو حنيفةَ: لا يَعْتِقُ واحدٌ منهما؛ لأنَّه لا أوَّلَ فيهما؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما مُساوٍ للآخَرِ، ومِنْ شَرْطِ الأوَّلِيَّةِ سَبْقُ الأوَّلِ. ولَنا، أنَّ هذَين لم يَسْبِقْهُما غَيرُهما، فكانا أوَّلَ، كالواحدِ، وليس مِن شَرْطِ الأوَّلِ أن يَأْتِيَ بعدَه ثانٍ، بدليلِ ما لو مَلَك واحِدًا ولم يَمْلِكْ بعدَه شيئًا، وإذا وُجِدَتِ الصِّفَةُ فيهما، فإمّا أن يَعْتِقا جميعًا، أو يَعْتِقَ أحَدُهما، وتُعَيِّنُه القُرْعةُ، على ما نَذكُرُه بعدُ (¬2). وكذلك الحكمُ فيما إذا قال: أوَّلُ ولَدٍ تَلدِينَه فهو حُرٌّ. فولَدَتِ اثْنَين خَرَجا معًا. ¬

(¬1) بعده في م: «منهم». (¬2) سقط من: م.

2940 - مسألة: (فإن قال: آخر مملوك أشتريه فهو حر. فملك عبيدا)

وَإِنْ قَال: آخِرُ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ. وَقُلْنَا بِصِحَّةِ الصِّفَةِ، فَمَلَكَ عَبِيدًا، ثُمّ مَاتَ، فَآخِرُهُمْ حُرٌّ مِنْ حِينِ الشِّرَاءِ، وَكَسْبُهُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2940 - مسألة: (فإن قال: آخِرُ مملوكٍ أشْتَرِيه فهو حُرٌّ. فمَلَك عَبِيدًا) لم [يُحْكَمْ بعِتْقِ] (¬1) واحدٍ منهم حتى يَمُوتَ؛ لأنَّه ما دام حَيًّا فهو (¬2) يَحْتَمِلُ أن يَشْتَرِيَ عبدًا يكونُ هو الآخِرَ، فإذا مات عَتَق آخِرُهُم، وتَبَيَّنا أنَّه كان حُرًّا حينَ مَلَكَه، فيكونُ اكْتِسابُه له. وإن كان أمَةً، كان أولادُها أحرارًا مِن حينَ وَلَدتْهُم؛ لأنَّهم أولادُ حُرَّةٍ، وإن كان وَطِئَها فعليه مَهْرُها؛ لأنَّه وَطِئَ حُرَّةً أجْنَبِيَّةً، ولا يَحِلُّ له أن يَطَأَها إذا اشْتَراها حتى يَشْتَرِيَ بعدَها غيرَها؛ لأنَّه ما لم يَشتَرِ بعدَها غيرَها، فهي آخِرٌ في الحالِ، وإنَّما يَزُولُ ذلك بشِراءِ غيرِها، فوَجَبَ أن يَحْرُمَ الوَطْءُ. وإنِ اشْتَرَى اثْنَين دَفْعةً واحدةً، ثم مات، فالحُكْمُ في عِتْقِهِما كالحُكْمِ فيما إذا مَلَك اثْنَين في الفصلِ الذي قَبْلَه. ¬

(¬1) في م: «يعتق». (¬2) في م: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال: أوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَه فهو حُرٌّ. فوَلَدَتِ اثْنَين، وأشْكَلَ أوَّلُهُما خُرُوجًا، أُخْرِجَ بالقُرْعَةِ، كالتي قبلَها. فإن عُلِم أوَّلُهما خُرُوجًا عَتَق وَحْدَه. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبي هاشمٍ (¬1)، والشافعيِّ، وابْنِ المُنْذِرِ. وقال الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ: إذا وَلِدَتْ وَلَدَين في بَطْنٍ فهما حُرّانِ. ولَنا، أنَّه إنَّما أعْتَقَ الأوَّلَ، والذي خرَج سابِقًا هو الأوَّلُ مِن الموْلُودَين، فاخْتَصَّ العِتْقُ به (¬2)، كما لو وَلَدَتْهُما في بَطنَين. فإن وَلَدَتِ الأوَّلَ ميِّتًا والثانِيَ حَيًّا، فذَكَرَ الشريفُ، أنَّه يَعْتِقُ الحيُّ منهما. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ، والشافعيُّ: لا يَعْتِقُ واحدٌ منهما. وهو الصَّحيحُ. قاله شَيخُنا (¬3)؛ لأنَّ شَرْطَ العِتْقِ إنَّما ¬

(¬1) أبو هاشم الرماني الواسطي، يحيى بن دينار، واختلف في اسم أبيه، فقيه، صدوق، ثقة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب 12/ 261. (¬2) بعده في م: «فهو». (¬3) في: المغني 14/ 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجِد في المَيِّتِ، وليس بمَحَلٍّ للعِتْقِ، فانْحَلَّتِ اليَمِينُ به. وإنَّما قُلْنا: إنَّ شَرْطَ العِتْقِ وُجِدَ فيه؛ لأنَّه أوَّلُ وَلَدٍ، بدَلِيلِ أنَّه إذا قال لأمَتِه: إذا وَلَدْتِ فأنتِ حُرَّةٌ. فوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا، عَتَقَتْ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ العِتْقَ يَسْتَحِيلُ في المَيِّتِ، فتَعَلَّقَتِ اليَمِينُ بالحَيِّ، كما لو قال: إن ضَرَبْتَ فُلانًا فعَبْدِي حُرٌّ. فضَرَبَه حَيًّا، عَتَق، وإن ضَرَبَه مَيِّتًا لم يَعْتِقْ. ولأنَّه معلومٌ مِن طَريقِ العادةِ أنَّه قَصَد عَقْدَ يَمِينِه على وَلَدٍ يَصِحُّ العِتْقُ فيه، وهو أن يكونَ حَيًّا، فتصيرُ الحياةُ مَشْرُوطَةً فيه، فكأنَّه قال: أوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَه حَيًّا. فصل: فإن قال لأمَتِه: كلُّ ولَدٍ تَلِدِينَه فهو حُرٌّ. عَتَق كل وَلدٍ وَلَدَتْه، في قولِ جُمْهورِ العلماءِ؛ منهم مالكٌ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيثُ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أحْفَظُ (¬1) عن غيرِهِم خِلافَهم. فإن باع الأمَةَ، ثم وَلَدَتْ، لم يَعْتِقْ وَلَدُها؛ لأنَّها وَلَدَتْهُم بعدَ زوالِ مِلْكِه. ¬

(¬1) في الأصل: «يحفظ».

2941 - مسألة: (فإن قال لأمته: آخر ولد تلدينه فهو حر. فولدت حيا ثم ميتا، لم يعتق الأول)

وَإِنْ قَال لِأَمَتِهِ: آخِرُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَوَلَدَتْ حَيًّا ثُمَّ مَيِّتًا، لَمْ يَعْتِقِ الْأَوَّلُ. وَإِنْ وَلَدَتْ مَيِّتًا ثُمَّ حَيًّا عَتَقَ الثَّانِي. وَإِنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَينِ، فَأَشْكَلَ الْآخِرُ مِنْهُمَا، أُقْرِعَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2941 - مسألة: (فإن قال لأمَتِه: آخِرُ وَلَدٍ تَلدِينَه فهو حرٌّ. فوَلَدَتْ حَيًّا ثم مَيِّتًا، لم يَعْتِقِ الأوَّلُ) لأنَّه لم يُوجَدْ شَرْطُ عِتْقِه، وعلى قِياسِ قولِ الشريفِ، وأبي حنيفةَ، فيما إذا قال: أوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَه، فهو حُرٌّ. فوَلَدَتْ مَيِّتًا ثُمَّ حَيًّا، يَعْتِق الحيُّ (وإن وَلَدَتْ مَيِّتًا ثم حَيًّا، عَتَق الثانِي) لوُجُودِ شَرْطِه (وإن وَلَدَتْ تَوْأَمَين، فأشْكَلَ الآخِرُ منهما، [أُقْرِعَ بينَهما) لأنَّ] (¬1) أحَدَهما اسْتَحَقَّ العِتْقَ، ولم يُعْلَمْ (¬2) بعَينِه، فوَجَبَ إخْراجُه بالقُرْعَةِ، وسيأْتِي ذلك، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في م: «فإن». (¬2) في م: «يعتق».

2942 - مسألة: (ولا يتبع ولد المعتقة بالصفة أمه في العتق، في أصح الوجهين، إلا أن تكون حاملا به حال عتقها، أو حال تعليق عتقها)

وَلَا يَتْبَعُ وَلَدُ الْمُعْتَقَةِ بِالصِّفَةِ أُمَّهُ فِي الْعِتْقِ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَينِ، إلا أنْ تَكُونَ حَامِلًا بِهِ حَال عِتْقِهَا، أَوْ حَال تَعْلِيقِ عِتْقِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2942 - مسألة: (ولا يَتْبَعُ وَلَدُ المُعْتَقَةِ بالصِّفَةِ أُمَّه في العِتْقِ، في أصَحِّ الوَجْهَين، إلَّا أن تكونَ حامِلًا به حال عِتْقِها، أو حال تَعْلِيقِ عِتْقِها) إذا عَلَّقَ عِتْقَ أَمَتِه (¬1) بصِفَةٍ وهي حامِلٌ، تَبِعَها ولَدُها في ذلك؛ لأنَّه كعُضْوٍ مِن أعضائِها، فإن وضَعَتْه قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، ثم وُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَق؛ لأنَّه تابعٌ في الصِّفَةِ، فأشْبَهَ ما لو كان في البَطْنِ. وإن كانتْ حائِلًا حينَ التَّعْلِيقِ، ثم وُجِدَتِ الصِّفَةُ وهي حاملٌ، عَتَقَتْ هي وحَمْلُها؛ لأنَّ العِتْقَ وُجِدَ فيها وهي حامِلٌ، فتَبِعَها ولَدُها، كالمُنْجَزِ. فإن حَمَلَتْ بعدَ التَّعْلِيقِ، ووَضَعَتْ (¬2) قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، ثم وُجِدَت بعدَ ذلك، لم يَعْتِقِ ¬

(¬1) في م: «أمة». (¬2) سقط من: م.

2943 - مسألة: (وإذا قال لعبده: أنت حر وعليك ألف. أو: على ألف. عتق، ولا شيء عليه. وعنه، إن لم يقبل لم يعتق)

وَإِنْ قَال لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيكَ أَلْفٌ. أَوْ: عَلَى أَلْفٍ. عَتَقَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيهِ، وَعَنْهُ، إِنْ لَمْ يَقْبَلِ العَبْدُ لَمْ يَعْتِقْ. وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ. أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَقْبَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَلَدُ؛ لأنَّ الصِّفَةَ لم تَتَعَلَّقْ به في حالِ التَّعْلِيقِ [ولا في حالِ العِتْقِ] (¬1). وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه يَتْبَعُها في العِتْقِ، [قِياسًا على ولَدِ المدَبَّرَةِ. وإن بَطَلَتِ الصِّفَةُ بِبَيعٍ أو موتٍ لم يَعْتِقِ الوَلَدُ؛ لأنَّه إنَّما تَبِعَها في العِتْقِ] (1) لا في الصِّفَةِ، فإذا لم تُوجَدْ فيها لم يُوجَدْ (¬2) فيه، بخِلافِ وَلَدِ المُدَبَّرةِ؛ فإنَّه تَبِعَها في التَّدْبِيرِ، فإذا بَطَل فيها بَقِيَ فيه. 2943 - مسألة: (وإذا قال لعبدِه: أنت حُرٌّ وعليك ألْفٌ. أو: على ألْفٍ. عَتَق، ولا شيءَ عليه. وعنه، إن لم يَقْبَلْ لم يَعْتِقْ) إذا قال لعبدِه: أنت حُرٌّ وعليك ألْفٌ. عَتَق، ولا شيءَ عليه؛ لأنَّه أعْتَقَه بغيرِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «توجد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطٍ، وجَعَل عليه عِوَضًا لم يَقْبَلْه، فعَتَقَ، ولم يَلْزَمْه الألْفُ. هكذا ذَكَر المتأخِّرُون مِن أصْحابِنا. ونَقل جعفرُ بنُ محمدٍ، قال: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ، قِيلَ له: إذا قال: أنت حُرٌّ وعليك ألفُ دِرْهَمٍ. فقال: جَيِّدٌ (¬1). قِيلَ له: فإن لم يَرْضَ العَبْدُ؟ قال: لا يَعْتِقُ، إنَّما قال له على أن يُؤَدِّيَ إليه ألفًا، فإن لم يَؤُدِّ فلا شيءَ. فإن قال: أنت حُرٌّ على ألْفٍ. فكذلك في إحْدَى الرّوايَتَين؛ لأنَّ «على» ليست مِن أدَواتِ الشَّرْطِ ولا البَدَلِ، فأشْبَهَ قولَه: وعليك ألْفٌ. والثانيةُ، إن قَبِل العَبْدُ (¬2) عَتَق ولَزِمَتْه الألْفُ، وإن لم يَقْبَلْ لم (¬3) يَعْتِقْ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي ¬

(¬1) في الأصل: «حنبل». (¬2) في م: «العتق». (¬3) في الأصل: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ. وهذه الرِّوايَةُ هي الصَّحيحةُ؛ لأنَّه أعْتَقَه بعِوَضٍ، فلم يَعْتِقْ بدُونِ قَبُولِه، كما لو قال: أنت حُرٌّ بألْفٍ. ولأنَّ «على» تُسْتَعْمَلُ للشَّرْطِ والعِوَضِ، قال اللهُ تعالى: {قَال لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (¬1). وقال: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُمْ سَدًّا} (¬2). وقال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَينِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬3). ولو قال في النِّكاحِ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ ابْنَتِي على خَمْسِمائةِ دِرْهَمٍ. فقال الآخَرُ: قَبِلْت. صَحَّ (¬4) النِّكاحُ، ووَجَبَ الصَّداقُ. ¬

(¬1) سورة الكهف 66. (¬2) سورة الكهف 94. (¬3) سورة القصص 27. (¬4) سقط من: الأصل.

2944 - مسألة: (وإن قال: أنت حر على أن تخدمني سنة. فكذلك. وقيل: إن لم يقبل لم يعتق. رواية واحدة)

وَإنْ قَال: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي سَنَةً. فَكَذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَعْتِقْ. رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2944 - مسألة: (وإن قال: أنت حُرٌّ على أن تَخْدِمَني سَنَةً. فكذلك. وقِيلَ: إن لم يَقْبَلْ لم يَعْتِقْ. رِوايَةً واحِدَةً) فعلى هذا، إذا قَبِل العَبْدُ عَتَق في الحالِ، ولَزِمَتْه خِدْمَتُه سنةً. فإن مات السَّيِّدُ قبلَ كمالِ السَّنَةِ رُجِع على العبدِ بقِيمَةِ ما بَقِيَ مِن الخِدْمَةِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تُقَسَّطُ قِيمَةُ العَبدِ على خِدْمَةِ السَّنَةِ، فيُسْقَطُ منها بقَدْرِ ما مَضَى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُرْجَعُ عليه بما بَقِيَ مِن قِيمَتِه. ولَنا، أنَّ العِتْقَ عَقْدٌ لا يَلْحَقُه الفَسْخُ، فإذا تَعَذَّر فيه اسْتِيفاءُ العِوَضِ رُجِع إلى قِيمَتِه، كالخُلْعِ في النِّكاحِ، والصُّلْحِ في دَمِ العمدِ (¬1). فإن قال: أنْتَ حُرٌّ على أن تُعْطِيَنِي ألْفًا. فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَعْتِقُ حتى يَقْبَلَ. فإذا قَبِل عَتق ولَزِمَتْه الألْفُ. فأمّا إن قال: أنتَ حُرٌّ بألْفٍ. لم يَعْتِقْ حتى يَقْبَلَ، وتَلْزَمُه الألْفُ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «العبد».

فصْلٌ: وَإِذَا قَال: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. عَتَقَ عَلَيهِ مُدَبَّرُوهُ، وَمُكَاتَبُوهُ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، وَشِقْصٌ يَمْلِكُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وإذا قال: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِيَ حُرٌّ. عَتَق عَلَيه مُكَاتَبُوهُ، وَمُدَبَّروهُ، وَأُمَّهاتُ أوْلادِه، وشِقْصٌ يَمْلِكُه) لأنَّ لَفْظَه عامٌّ فيهم، فعَتَقوا، كما لو عَيَّنَهُم. وذَكَر ابنُ أبي مُوسَى في «الإِرْشادِ»، أنَّ الشِّقْصَ لا يَعْتِقُ إلَّا أن يَنْويَه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُه كُلَّه. والأوَّلُ المَذْهَبُ.

2945 - مسألة: (وإن قال: أحد عبدي حر. أقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة فهو حر من حين أعتقه)

وَإِنْ قَال: أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ. أُقْرِعَ بَينَهُمَا، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيهِ القُرْعَةُ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ حِينَ أَعْتَقَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2945 - مسألة: (وإن قال: أحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ. أُقْرِعَ بَينَهما، فمَن وَقَعَتْ له القُرْعَةُ فهو حُرٌّ مِن حِينَ أعْتَقَه) إذا قال: أحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ. ولم يَنْو واحدًا بعَينِه، عَتَق أحَدُهم بالْقُرْعَةِ، وليس للسَّيِّدِ التَّعْيِينُ، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للوارِثِ بعدَه. فإن قال: أرَدْتُ هذا بعَينِه. قُبِل منه، وعَتَق؛ لأنَّ ذلك إنَّما يُعْرَفُ مِن جِهَتِه. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: للمُعْتِقِ التَّعْيِينُ، ويُطالبُ بذلك، فيَعْتِقُ مَن عَيَّنَهَ وإن لم يكُنْ نَواه حالةَ القَوْلِ، وإذا عَتَق بتَعْيِينِه فليسَ لسائِرِ العَبيدِ الاعتراضُ عليه؛ لأنَّ له تَعْيِينَ العِتْقِ ابْتِداءً، فإذا أوْقَعَه غَيرَ مُعَيَّنٍ، كان له تَعْيِينُه، كالطَّلاقِ. ولَنا، أنَّ مُسْتَحِقَّ العِتْقِ غير مُعَيَّنٍ، فلم يَمْلِكْ تَعْيِينَه، ووَجَبَ أن يُمَيَّزَ بالقرْعَةِ، كما لو أعْتَقَ الجميعَ في مَرضِه ولم يَخْرجوا مِن الثُّلُثِ، وكما لو أعْتَقَ مُعَيَّنًا ثم نَسِيَه، والطَّلاقُ كمَسألَتِنا. فإن مات المُعْتِقُ ولم يُعَيِّنْ،

2946 - [مسألة: (فإن مات أقرع الورثة) لما ذكرنا. في المعتق]

وَإِنْ مَاتَ أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالحُكْمُ عندَنا لا يَخْتَلِفُ، وليس للوَرَثَةِ التَّعْيِينُ، بل يُخْرَجُ المُعْتَقُ (4) بالقُرْعَةِ. وقد نَصَّ الشافعيُّ على هذا إذا قالوا: لا نَدْرِي أيَّهم أعْتَقَ. وقال أبو حنيفةَ: لهمُ التَّعْيِينُ؛ لأنَّهم يقُومون مَقامَ موْرُوثِهم. وقد سَبَق الكلامُ في المُعْتَقِ (¬1). فصل: ولو أعْتَقَ إحْدَى إمائِه [غيرَ معيَّنةٍ] (¬2)، ثم وَطِئَ إحْداهُنَّ، لم يَتَعيَّنِ الرِّقُ فيها. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يَتَعَيَّنُ الرِّقُ فيها. لأنَّ الحُرِّيَّةَ عندَه تَتَعَيَّنُ بتَعْيينِه، ووَطْؤُه دليلٌ على تَعْيينِه. وقد سَبَق الكلامُ معه. فصل (¬3): وقَوْلُه: مِن حينَ أعتَقَه. يُريدُ أنَّ العَبْدَ إن كان اكْتَسبَ مَالًا بعدَ (¬4) العِتْقِ، فهو له دُونَ سَيِّدِه؛ لأنَّا تَبَيَّنّا (¬5) أنَّه اكْتَسَبَه في حالِ الحُرِّيَّةِ. 2946 - [مسألة: (فإن مات أقْرَعَ الوَرَثَةُ) لِما ذَكَرْنا. في المُعْتَقِ] (¬6). ¬

(¬1) في الأصل: «العتق». (¬2) سقط من الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «يعدل». (¬5) في الأصل: «بينا». (¬6) سقط من: م.

2947 - مسألة: (وإن مات أحد العبدين أقرع بينه وبين الحي)

وَإِنْ مَاتَ أَحدُ الْعَبْدَينِ أُقْرِعَ بَينَهُ وَبَينَ الْحَيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2947 - مسألة: (وإِن مات أحَدُ العَبْدَينِ أُقْرِعَ بَينَه وبينَ الحيِّ) فإن وقَعَتِ القُرْعَةُ على المَيِّتِ حسَبْناه مِن التَّرِكَةِ، وقَوَّمْناه حينَ الاعْتاقِ، سواءٌ مات في حياةِ سَيِّدِه أو بعدَه قَبْلَ القُرْعَةِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: إن ماتَ قبلَ مَوْت سَيِّدِه، فالحيُّ جميعُ التركةِ، لا يَعْتِقُ إلَّا ثُلُثُه، ولا يُعتَبَرُ الميِّتُ؛ لأنَّه ليس بمحْسُوبٍ مِن التَّرِكَةِ، ولهذا لو أعْتَقَ الحيَّ بعدَ مَوْتِه لأعْتَقْنا ثُلُثَه. ولَنا، أنَّ المَيِّتَ أحدُ المُعْتَقَين، فوَجَبَ أن يُقْرَعَ بينَه وبينَ الحيِّ، كما لو مات بعدَ سَيِّدِه، ولأنَّ المَقْصُودَ مِن العِتْقِ تَحْصِيلُ ثَوابِه، وهو يَحْصُلُ في حَقِّ المَيِّتِ، فيَدْخُلُ في القُرْعَةِ، كالذي مات بعدَ سيِّدِه. فعلى هذا، إنْ خَرَجَتِ القُرْعَةُ على المَيِّتِ حَسَبْناه مِن التَّرِكَةِ، وقَوَّمْناه حينَ الإِعْتاقِ؛ لأنَّه حينُ الإِتْلافِ. وإن وقَعَتْ على الحيِّ، نَظَرْتَ في المَيِّتِ؛ فإن كان مَوْتُه قبلَ مَوتِ سَيِّدِه، أو بعدَه قبلَ قَبْضِ الوارِثِ له، لم نَحْسُبْه مِن التَّرِكَةِ؛ لأنَّه لم يَصِلْ إلى الوارِثِ، فتكونُ التَّرِكَةُ الحيَّ وَحْدَه، فيَعْتِقُ ثُلُثُه، وتُعْتَبَرُ قِيمَتُه حينَ الإِعْتاقِ؛ لأنَّه حينُ إتْلافِه، وتُعْتَبَرُ قِيمَةُ التَّرِكَةِ بأقَلِّ الأمْرَينِ مِن حينِ الموتِ إلى حينِ قَبْضِ الوارِثِ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ تَجَدَّدَت على مِلْكِ الوارثِ، فلم تُحْسَبْ عليه مِن التَّرِكَةِ، والنُّقْصانُ قبلَ القَبْضِ، فلم يَحْصُلْ له، فأشْبَهَ الشارِدَ والآبِقَ، وإنَّما يُحْسَبُ عليه ما حَصَل في يَدَيهِ، ولا يُحْسَبُ المَيِّتُ مِن التَّرِكَةِ؛ لأنَّه

2948 - مسألة: (وإن أعتق عبدا وأنسيه، أخرج بالقرعة)

وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ أُنْسِيَهُ، أَخْرَجَ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [ما وَصَل إلى الوَرثَةِ، وإن كان مَوْتُه بعدَ قَبْضِ الوَرَثَةِ له، حُسِب مِن التَّرِكَةِ؛ لأنَّه] (¬1) وَصَلَ إليهم، وجَعَلْناه كالحيِّ في تَقْويمِه معه، والحُكْمِ بإعْتاقِه إن وقَعَتِ القُرْعَةُ عليه، أو مِن الثُّلُثَين إن وقَعَتِ القُرْعَةُ على غِيرِه، وتُحْسَبُ قِيمَتُه أقَلَّ الأمْرَين مِن حينِ مَوْتِ سَيِّدِه إلى حينِ قَبْضِه. فصل: فإن دَبَّرَ ثَلاثةَ أعْبُدٍ، أو وَصَّى بعِتْقِهم، فماتَ أحَدُهم في حَياتِه، بَطَل تَدْبِيرُه والوَصيَّةُ فيه، وأُقْرِعَ بينَ الحَيَّين، وأُعْتِقَ مِن أحَدِهما ثُلُثُهما؛ لأنَّ المَيِّتَ لا يُمْكِنُ الحُكْمُ بوُقوعِ العِتْقِ فيه، لكَوْنِه مات قبلَ الوقتِ الذي يَعْتِقُ فيه، وقبلَ تَحَقُّقِ شَرْطِ العِتْقِ، بخِلافِ التي قبلَها، فإنَّ العِتْقَ حَصَل مِن حينِ الإِعْتاقِ، وإنَّما القُرْعَةُ تُبَيِّنُه وتَكْشِفُه، ولهذا يُحْكَمُ بعِتْقِه مِن حينِ الإِعْتاقِ، ويكونُ كَسْبُه له، وحُكْمُه حُكْمُ الأحْرارِ في سائِرِ أحْوالِه. وإن مات المُدَبَّرُ بعدَ مَوْتِ سَيِّدِه أُقْرِعَ بينَه وبينَ الأحْياءِ؛ لأنَّ العِتْقَ حَصَل مِن حينِ موتِ السَّيِّدِ. 2948 - مسألة: (وإنْ أعْتَقَ عَبْدًا وأُنْسِيَه، أَخْرَجَ بالقُرْعَةِ) هذا قياسُ قولِ أحمدَ. وهو قولُ اللَّيثِ. وقال الشافعيُّ: يَقِفُ الأمْرُ حتى يَذْكُرَ، فإن مات قبلَ أن يُبَيِّنَ أَقْرَعَ الوَرَثَةُ بينَهم. وقال ابنُ وَهْبٍ: يَعْتِقُونَ ¬

(¬1) سقط من: م.

2949 - مسألة: (فإن علم بعد أن المعتق غيره، عتق. وهل يبطل عتق الأول؟ على وجهين)

فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَهَا أَنَّ الْمُعْتَقَ غَيرُهُ، عَتَقَ. وَهَلْ يَبْطُلُ عِتْقُ الْأوَّلِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كُلُّهم. وقال مالكٌ: إنْ أعْتَقَ عَبْدًا له، ومات ولم يُبَيِّنْ، وكانوا ثلاثةً، عَتَق منهم بقَدْرِ ثُلُثِهم، وإنْ كانوا أربعةً، عَتَق منهم بقَدْرِ رُبْعِ قِيمَتِهم. وعلى هذا، فيُقْرَعُ بينَهم، فإن خرَجَتِ القُرْعَةُ على مَن قِيمَتُه أقَلُّ بِن الرُّبْعِ أُعِيدَتِ القُرْعَةُ حتى يَكْمُلَ. وقال أصْحابُ الرَّأْي: إن قال الشُّهودُ: نَشْهَدُ أنَّ فُلانًا أعْتَقَ [أحدَ عَبِيدِه ولم يُسَمِّ. عَتَق ثُلُثُ كلِّ واحدٍ، وسَعَى في باقِيه، أو رُبْعُ كلِّ واحدٍ منهم إن كانوا أرْبَعَةً. وإن قالوا: نَشْهَدُ أنَّ فُلانًا أعْتَقَ] (¬1) بَعْضَ عَبِيدِه ونَسِيناه. فشهادَتُهم باطِلَةٌ. ونحوُ هذا قولُ الشَّعْبِيِّ، والأوْزاعِيِّ، ولم يَذْكُروا ما ذَكَرَه أصْحابُ الرَّأْي في الشَّهادَةِ. ولَنا، أنَّ مُسْتَحِقَّ العِتْقِ غَيرُ مُعَيَّنٍ، فأشْبَهَ ما لو أعْتَقَ جَمِيعَهم في مَرَضِ مَوْتِه. 2949 - مسألة: (فإن عَلِم بعدُ أنَّ المُعْتَقَ غيرُه، عَتَق. وهل يَبْطُلُ عِتْقُ الأوَّل؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، يَبْطُلُ ويُرَدُّ إلى الرِّقِّ، ويَعْتِقُ الذي عَيَّنَه؛ لأنَّه تَبَيَّنَ له المُعْتَقُ، فيَعْتِقُ دُونَ غيرِه، كما لو لم يُقْرَعْ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ، اعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِي، يَعْتِقان معًا. قاله اللَّيثُ، ومُقْتَضَى قولِ ابنِ حامِدٍ؛ لأنَّ الأوَّلَ ثَبَتَتِ الحريةُ فيه بالقُرْعَةِ، فلا تَزُولُ، كسائِرِ الأحْرارِ، ولأنَّ قَوْلَ المُعْتِقِ: ذَكَرْتُ مَن كُنْتُ نَسِيتُه. يَتَضَمَّنُ إقْرارَه بحُرِّيَّةِ مَن ذَكَره وإقرارًا على غيرِه، فقُبِلَ إقرارُه على نَفْسِه دُونَ غيرِه. أمّا إذا لم يُقْرَعْ، فإنَّه يُقْبَلُ قَوْلُه، فيَعْتِقُ مَن عَيَّنَهَ، ويَرِقُّ غيرُه، فإذا قال: أعْتَقْتُ هذا. عَتَق، ورَقَّ الباقُونَ، وإن قال: أعْتَقْتُ هذا، لا بَلْ هذا. عَتَقا جميعًا؛ لأنَّه أقرَّ بعِتْقِ الأوَّلِ، فلَزِمَه، ثم أقرَّ بعِتْقِ الثانِي، فلَزِمَه، ولم يُقْبَلْ رُجُوعُه عن إقرارِه الأوَّلِ. وكذلك الحُكْمُ في إقْرارِ الوارِثِ. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وإنْ أعْتَقَ في مَرَضِ مَوْتِه، ولم يُجِزِ الوَرَثَةُ، اعْتُبِرَ مِن ثُلُثِه) إذا أعْتَقَ في مَرَضِ المَوْتِ المَخُوفِ، اعْتُبِرَ مِن الثُّلُثِ إذا لم يُجِزِ الوَرَثَةُ، وكذلك التَّدْبِيرُ، والوَصِيَّةُ بالعِتْقِ؛

2950 - مسألة: (وإن أعتق جزءا من عبده، أو دبره)

فَإِنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ دَبَّرَهُ، وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَهُ، عَتَقَ جَمِيعُهُ. وَعَنْهُ، لَا يَعْتِقُ إلا مَا أَعْتَقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه تَبَرُّعٌ بمالٍ، أشْبَهَ الهِبَةَ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُجِزْ مِن عِتْقِ الذي أعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِين في مَرَضِه إلَّا ثُلُثَهم (¬1). وما زادَ على الثُّلُثِ، إن أجازُوه جاز (¬2)، فإن رَدُّوه بَطَل؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، فجازَ بإجازَتهم وبَطَل برَدِّهم. 2950 - مسألة: (وإن أعْتَقَ جُزْءًا مِن عبدِه، أو دَبَّرَه) وهو أن يقولَ: إذا مِتُّ فنِصْفُ عَبْدِي حُرٌّ. ثم ماتَ، فإن كان النِّصْفُ المُدَبَّرُ ثُلُثَ مالِه مِن غيرِ زِيادةٍ، عَتَق، ولم يَسْرِ؛ لأنَّه لو دَبَّرَه كلَّه لم يَعْتِقْ منه إلَّا ثُلُثُه، فإذا لم يُدَبِّرْ إلَّا ثُلُثَه كان أوْلَى. وإن كان العَبْدُ كلُّه يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، ففي تَكْمِيلِ الحُرِّيَّةِ رِوايتَان؛ إحْداهما، تُكمَّلُ. وهو قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ منهم أبو حنيفةَ وأصْحابُه؛ لأنَّهم يَرَوْن التَّدْبِيرَ كالعِتْقِ في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 124. ويضاف إليه: وأخرجه ابن ماجه، في: باب القضاء بالقرعة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 785، 786. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّرايَةِ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّه [إعْتاقٌ لبعضِ] (¬1) عبدِه، فعَتَقَ جَمِيعُه، كما لو أعْتَقَه في حياتِه. والثانِيةُ، لا يُكَمَّلُ العِتْقُ فيه؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ جَوازَ البَيعِ، فلم يَسْرِ، كتَعْلِيقِه بالصِّفَةِ في الحياةِ. فأمّا إن أعْتَقَ بعضَ عَبدِه في مَرَضِه، فهو كعِتْقِ جَمِيعِه، إن خرَج مِن الثُّلُثِ عَتَق جَمِيعُه، وإلَّا عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ؛ لأنَّ الإِعْتاقَ في المَرَضِ كالإِعْتاقِ في الصحَّةِ، إلَّا في اعْتِبارِه مِن الثُّلُثِ. وتَصَرُّفُ المريضِ في ثُلُثِه في حَقِّ الأجْنَبِيِّ كتصرُّفِ الصحيحِ في جميعِ مالِه. (وعنه، لا يَعْتِقُ منه إلَّا ما أعْتَقَ) كما لو أعْتَقَ شِرْكًا له في عبدٍ وثُلُثُه يَحْتَمِلُ جَمِيعَه. فصل: وإذا دَبَّرَ أحَدُ الشَّرِيكَين نَصِيبَه صَحَّ، ولم يَلْزَمْه لشَرِيكِه في الحالِ شيءٌ. وهذا قولُ الشافعيِّ. فإذا ماتَ عَتَق الجُزءُ المُدبَّرُ إذا خَرَج مِن ثُلُثِه. وفي سِرايَتِه إلى نَصِيبِ الشَّرِيكِ ما ذَكَرْنا في المسألةِ قبلَها. وقال مالكٌ: إذا دَبَّرَ نَصِيبَه تَقاوَماه، فإن صار للمُدَبِّرِ، صار مُدَبَّرًا كُلُّه، وإن ¬

(¬1) في م: «أعتق البعض».

2951 - مسألة: (وإن أعتق في مرضه شركا له في عبد، أو دبره، وثلثه يحتمل باقيه، أعطي الشريك، وكان جميعه حرا، في إحدى الروايتين. والأخرى، لا يعتق إلا ما ملك منه)

وَإِنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، أَوْ دَبَّرَهُ، وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُ بَاقِيَه، أُعْطِيَ الشَّرِيكُ، وَكَانَ جَمِيعُهُ حُرًّا، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَالْأُخْرَى، لَا يَعْتِقُ إلا مَا مَلَكَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صار للآخَرِ، صارَ رَقِيقًا كلُّه. وقال اللَّيثُ: يَغْرَمُ المُدَبِّرُ لشَرِيكِه قِيمَةَ نَصِيبِه، ويَصِيرُ العبدُ كلُّه مُدَبَّرا، فإن لم يكُنْ له مالٌ، سَعَى العبدُ في قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّريكِ، فإذا أدَّاها، صار مُدَبَّرًا كلُّه. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَضْمَنُ المُدَبِّرُ للشَّرِيكِ قِيمَةَ حَقِّه، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا، ويَصِيرُ المُدَبَّرُ له. وقال أبو حنيفةَ: الشَّرِيكُ بالخِيارِ؛ إن شاء دَبَّرَ، وإن شاء أعْتَقَ، وإن شاء اسْتَسْعَى العَبْدَ، وإن شاء ضَمَّنَ صاحِبَه إن كان مُوسِرًا. ولَنا، أنَّه تَعْلِيقُ العِتْقِ على صِفَةٍ، فصَحَّ في نَصِيبِه، كما لو عَلَّقَه بمَوْتِ شَرِيكِه. 2951 - مسألة: (وإن أعْتَقَ في مَرَضِه شِرْكًا له في عبدٍ، أو دَبَّرَهُ، وثُلُثُه يَحْتَمِلُ باقِيَه، أُعْطِيَ الشَّرِيكُ، وكان جَمِيعُه حُرًّا، في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأُخْرَى، لا يَعْتِقُ إلَّا ما مَلَك منه) وجُمْلَتُه، أنَّه إذا مَلَك شِقْصًا مِن عبدٍ، فأعْتَقَه في مَرَضِ مَوْتِه، أو دَبَّرَه، أو وَصَّى بعِتْقِه، ثم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مات، ولم يَفِ ثُلُثُ مالِه بقِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، لم يَعْتِقْ إلَّا نَصِيبُه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، إلَّا قَوْلًا شاذًّا، أو قولَ مَن يَرَى السِّعايَةَ؛ وذلك لأنَّه ليس له مِن مالِه إلَّا الثُّلُثُ الذي اسْتَغْرَقَتْه قِيمَةُ الشِّقْصِ، فيَبْقَى مُعْسِرًا، بمَنْزِلَةِ مَن أعْتَقَ في صِحَّتِه شِقْصًا وهو مُعْسِرٌ. فإن كان ثُلُثُ مالِه يَفِي بقِيمَةِ حِصَّةِ شَريكِه، سَرَى إلى نَصِيبِ الشَّرِيكِ -في إحْدَى الرِّوايَتَين- فيَعْتِقُ العَبْدُ كُلُّه، ويُعْطَى الشَّرِيكُ قِيمَةَ نَصِيبِه مِن الثُّلُثِ؛ لأنَّ مِلْكَ المُعْتِقِ لثُلُثِ المالِ تامٌّ، له التَّصَرُّفُ فيه بالتَّبَرُّعِ وغيرِه، فهو كمالِ الصَّحيحِ، فأشْبَهَ عِتْقَ الصَّحيحِ المُوسِرِ. والثانِيةُ، لا يَعْتِقُ إلَّا حِصَّتُه؛ لأنَّ مِلْكَه يَزُولُ إلى وَرَثَتِه بمَوْتِه، فلا يَبْقَى شيءٌ يُقْضَى منه الشَّرِيكُ. وبه قال الأوْزاعِيُّ. وقال القاضي: ما أعْتَقَه في مَرَضِ مَوْتِه سَرَى، وما دَبَّرَه أو وَصَّى بعِتْقِه لم يَسْرِ، فالرِّوايَةُ في سِرايَةِ العِتْقِ في حالِ الحياةِ أصَحُّ، والروايةُ في وُقُوفِه في التُّدْبِيرِ أصَحُّ. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ العِتْقَ في الحياةِ يَنْفُذُ في حالِ مِلْكِ المُعْتِقِ وصِحَّةِ تَصَرُّفِه، وتَصَرُّفُه في ثُلُثِه كتَصَرُّفِ الصحيحِ في مالِه كُلِّه، فأمّا التَّدْبِيرُ والوَصيَّةُ، فإنَّما يَحْصُلُ العِتْقُ به في حالِ زَوالِ مِلْكِ المُعْتِقِ وتَصَرُّفاتِه.

2952 - مسألة: (وإن أعتق في مرضه ستة أعبد قيمتهم سواء، وثلثه يحتملهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم، بيعوا في دينه. ويحتمل أن يعتق ثلثهم)

وَلَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، وَثُلُثُهُ يَحْتَمِلُهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيهِ دَينٌ يَسْتَغْرِقُهُمْ، بِيعُوا فِي دَينِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ ثُلُثُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2952 - مسألة: (وإن أعْتَقَ في مَرَضِه سِتَّةَ أعْبُدٍ قِيمَتُهم سواءٌ، وثُلُثُه يَحْتَمِلُهم، ثم ظَهر عليه دَينٌ يَسْتَغْرِقُهم، بِيعُوا في دَينِه. ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ ثُلُثُهم) وجملةُ ذلك، أنَّ المريضَ إذا أعْتَقَ عَبِيدَه في مَرَضِه، أو دَبَّرَهم، أو وَصَّى بعِتْقِهم، وهم يَخْرُجونَ مِن ثُلُثِه في الظّاهِرِ، فأعْتَقْناهم، ثم مات، فظَهَرَ عليه دَينٌ يَسْتَغْرِقُهم، تَبَيَّنًا بُطْلانَ عِتْقِهم وبَقاءَ رِقِّهِم، فيُباعُون في الدَّينِ، ويكونُ عِتْقُهم وَصِيَّةً، والدَّينُ يُقَدَّمُ على الوَصِيَّةِ. قال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالدَّينِ قبلَ الوصِيَّةِ (¬1). ولأنَّ الدَّينَ يُقَدَّمُ على المِيراثِ بالاتِّفاقِ، ولهذا تُباعُ التَّرِكةُ في قَضَاءِ الدَّينِ، وقد قال اللهُ تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (¬2). والمِيراثُ مُقَدَّمٌ على الوَصِيَّةِ في الثُّلُثَين، فما يُقَدَّمُ على المِيراثِ يَجبُ أن يُقَدَّمَ على الوَصِيَّةِ. وبهذا قال الشافعيُّ. ورَدَّ ابنُ أبي لَيلَى عَبْدًا أعْتَقَه سَيِّدُه عندَ المَوْتِ وعليه دَينٌ. قال أحمدُ: أحْسَنَ ابنُ أبي لَيلَى. وذَكَر أبو الخَطَّابِ رِوايةً أُخْرَي، في الذي يُعْتِقُ عَبْدَه في مَرَضِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 146. (¬2) سورة النساء 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعليه دَينٌ، أنَّه يَعْتِقُ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ، ويُرَدُّ الباقِي؛ لأنَّ تَصَرُّفَ المريضِ في ثُلُثِه كتَصَرُّفِ الصحيحِ في جميعِ مالِه، وكما لو لم يكُنْ عليه دَينٌ. وقال قَتادَةُ، وأبو حنيفةَ، وإسحاقُ: يَسْعَى العَبْدُ في قِيمَتِه. ولَنا، أنَّه تَبَرَّعَ في مَرَضِ مَوْتِه بما يُعْتَبَرُ خُرُوجُه مِن الثُّلُثِ، فقُدِّمَ عليه الدَّينُ، كالهِبَةِ، ولأنَّه مُعْتَبَرٌ مِن الثُّلُثِ، فقُدِّمَ عليه الدَّينُ، كالوَصِيَّةِ. وخَفاءُ الدَّينِ لا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِه، ولهذا يَمْلِكُ الغَرِيمُ اسْتِيفاءَه. فتَبَيَّنَ أنَّه أعْتَقَهُم وقد اسْتَحَقَّهُم الغَرِيمُ بدَينِه، فلم يَنْفُذْ عِتْقُه، كما لو أعْتَقَ مِلْكَ غيرِه. فإن قال الوَرَثةُ: نحنُ نَقْضِي الدَّينَ ونُمْضِي العِتْقَ. لم يَنْفُذْ، في أحَدِ الوَجْهَين، حتى يَبْتَدِئُوا العِتْقَ؛ لأنَّ الدَّينَ كان مانِعًا منه، فيكونُ باطلًا، ولا يَصِحُّ بزَوالِ المانِعِ بعدَه. والثانِي، يَنْفُذُ العِتْقُ؛ لأنَّ المانِعَ منه إنَّما هو الدَّينُ، فإذا سَقَط وَجَب نُفُوذُه، كما لو أسْقَطَ الورَثةُ حُقُوقَهم مِن ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ، نَفَذ (¬1) العِتْقُ في الجَميعِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان، كهَذين. وقِيلَ: إنَّ أصْلَ الوَجْهَين، إذا تَصَرَّفَ الوَرَثَةُ في التَّرِكَةِ ببَيعٍ أو غيرِه وعلى المَيِّتِ دَينٌ، وقُضِيَ الدَّينُ، هل يَنْفُذُ؟ فيه وَجْهان. ¬

(¬1) في م: «بعد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أعْتَقَ المريضُ ثَلاثَةَ أعْبُدٍ لا مال له غيرُهم، فأقْرَعَ الوَرَثَةُ، فأعْتَقُوا واحدًا وأرَقُّوا اثْنَين، ثم ظَهَر عليه دَينٌ يَسْتَغْرِقُ نِصْفهم، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَبْطُلُ القُرْعَةُ؛ لأنَّ الدَّينَ شَرِيكٌ في الإِقْراعِ، فإذا حَصَلَتِ القِسْمَةُ مع عَدَمِه كانت باطِلةً، كما لو قَسَم شَرِيكان دُونَ شَرِيكِهما الثّالِثِ. والثانِي، يَصِحُّ الإِقْراعُ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ إمْضاءُ القِسْمَةِ وإفْرادُ حِصَّةِ الدَّينِ مِن كلِّ واحدٍ مِن النَّصِيبَين؛ لأنَّ القُرْعَةَ دَخَلَتْ لأجْلِ العِتْقِ دونَ الدَّينِ، فيُقالُ للوَرَثَةِ: اقْضُوا ثُلُثَيِ الدَّينِ. وهو بقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ العَبْدَين اللَّذَين بَقِيَا؛ إمّا مِن العَبيدِ، وإمّا مِن غيرِهم، ويَجِبُ رَدُّ نِصْفِ العَبْدِ الذي عَتَق، فإن كان الذيَ أعْتَقَ عَبْدَين، أقْرَعْنا بينَهما، فإذا خَرَجَتِ

2953 - مسألة: (وإن أعتقهم، فأعتقنا ثلثهم، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه، عتق من أرق منهم)

وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ، فَأَعْتَقْنَا ثُلُثَهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ يَخْرُجُونَ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ مَنْ أُرِقَّ مِنْهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القُرْعَةُ على أحَدِهما، وكان بقَدْرِ السُّدْسِ مِن التَّرِكَةِ، عَتَق، وبِيعَ الآخَرُ في الدَّينِ، وإن كان أكثرَ منه، عَتَق منه بقَدرِ السُّدْسِ، وإن كان أقلَّ، عَتَق، وعَتَق مِن الآخَرِ تَمامُ السُّدْسِ. 2953 - مسألة: (وإن أعْتَقَهم، فأعْتَقْنا ثُلُثَهم، ثم ظَهر له مالٌ يَخْرُجُون مِن ثُلُثِه، عَتَق مَن أُرِقَّ مِنْهُم) وحملتُه، أنَّه إذا أعْتَقَ عَبِيدَه في مَرَضِه، أو دَبَّرَهم، أو وَصَّى بعِتْقِهم، لم يَعْتِقْ منهم إلَّا الثُّلُثُ، ويَرِقُّ الثُّلُثان، إذ لم يُجِزِ الورَثَةُ عِتْقَهم، فإذا فَعَلْنا ذلك، ثم ظَهَر له مالٌ بقَدْرِ مِثْلَيهم (¬1)، تَبَيَّنا أنَّهم قد عَتَقُوا مِن حينَ أعْتَقَهم، أو مِن حينِ مَوْتِه إن كان دَبَّرَهم أو وَصَّى بعِتْقِهم؛ لأنَّ تَصَرُّفَ المريضِ في ثُلُثِ مالِه نافِذٌ، وقد بان أنَّهم ثُلُثُ مالِه، وخَفاءُ ذلك علينا لا يَمْنَعُ كَوْنَه مَوْجُودًا، فلا يَمْنَعُ كَوْنَ العِتْقِ واقعًا. فعلى هذا، يَكونُ حُكْمُهم حُكْمَ الأحْرارِ مِن حينَ أعْتَقَهم، فيكونُ كَسْمبُهم لهم. وإن كانوا قد تُصُرِّفَ فيهم ببَيعٍ أو هِبَةٍ أو رَهْنٍ أو تَزْويجٍ بغيرِ إذنٍ، كان باطِلًا. وإن كانوا قد تَصَرَّفُوا، فحُكْمُ تَصَرُّفِهم حكمُ تصَرُّفِ الأحرارِ، فلو تَزَوَّجَ عَبْدٌ منهم بغيرِ إذْنِ (¬2) سَيِّدِه، كان نِكاحُه صَحِيحًا، ووَجَبَ عليه المَهْرُ. وإن ظَهَر له مالٌ بقَدْرِ قِيمَتِهم، ¬

(¬1) في ر 2، م: «ثلثيهم». (¬2) إلى هنا ينتهى الجزء الخامس من نسخة جامعة الرياض، والمشار إليها بـ «ر 2».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَتَق ثُلثاهُم؛ لأنَّه ثُلُثُ جميعِ المالِ، فيُقْرَعُ بينَ الذين وُقِفُوا، فيَعْتِقُ مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ إن وَفَّى الثُّلُثان بقِيمَتِه وقِيمَةِ الأوَّلِ، وإلَّا عَتَق منه تَمامُ الثُّلُثَين. وإن ظَهَر له مالٌ بقَدْرِ نِصْفِهم، عَتَق نِصْفُهم، وإن كان بقَدْرِ ثُلُثِهم، عَتَق أرْبعةُ أتْساعِهم، وعلى هذا الحِسابُ. فصل: وإن وَصَّى بعِتْقِ عبدٍ له يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، وَجَب على الوَصِيِّ إعْتاقُه، فإن وَصَّى بذلك ورَثَتَه لَزِمَهم إعْتاقُه، فإنِ امْتَنَعُوا أجْبَرَهم السُّلْطانُ أو مَن يَنوبُ مَنابَه كالحاكِمِ؛ لأنَّ هذا حَقٌّ للهِ تعالى وللعَبْدِ، ومَن وَجَب عليه ذلك ناب السُّلطانُ عنه أو نائِبُه، كالزَّكاةِ والدُّيونِ. فإذا أعْتَقَه الوارِثُ أو السلطانُ عَتَق، وما اكْتَسَبَه في حياةِ المُوصِي فهو للمُوصِي، يكونُ مِن تَرِكَتِه إن بَقِيَ بعدَه؛ لأنَّه كَسْبُ عبدِه القِنِّ، وما كَسَبَه بعدَ موتِه وقبلَ إعْتاقِه فهو للوارِثِ. وقال القاضِي: هو للعَبْدِ؛ لأَنَّه كَسَبَه بعدَ اسْتِقْرارِ سَبَبِ العِتْقِ، فكانْ له، ككَسْبِ المُكاتَبِ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: فيه قَوْلان، مَبْنِيَّان على القَوْلَين في كَسْبِ العَبْدِ المُوصَى به قبلَ قَبولِ الوَصِيَّةِ (¬1). ولَنا، أنَّه عَبدٌ قِنٌّ، فكان كَسْبُه للوَرَثةِ، كغيرِ المُوصَى بعِتْقِه، وكالمُعَلَّقِ عِتْقُه بصِفَةٍ، وفارَقَ المُكاتَبَ؛ فإنَّه يَمْلِكُ كَسْبَه قبلَ عِتْقِه، فكذلك بعدَه، ويَبْطُلُ ما ذَكَرُوه بأُمِّ الوَلَدِ؛ فإنَّ عِتْقَها قد اسْتَقَرَّ سَبَبُه في حياةِ سَيِّدِها، وَكَسْبُها ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 7 وما بعدها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له، والمُوصَى به مَمْنُوعٌ، وإن سَلَّمْناه، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ المُوصَى به قد تَحَقَّقَ فيه سَبَبُ المِلْكِ، وإنَّما وُقِفَ على شَرْطٍ هو القَبولُ، فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ اسْتَنَدَ الحُكْمُ إلى ابْتداءِ السَّبَبِ، وفي الوَصِيَّةِ بالعِتْقِ ما وُجِد السَّبَبُ، وإنَّما أوْصَى بإيجادِه، وهو العِتْقُ، فإذا وُجِد لم يَجُزْ أن يَثْبُتَ حُكْمُه سابقًا عليه، ولهذا يَمْلِكُ المُوصَى له القَبُولَ (¬1) بنَفْسِه. والعبدُ ههُنا لا يَمْلِكُ أن يُعْتِقَ نَفْسَه. فإن مات العبدُ قبلَ مَوْتِ سَيِّدِه، وقبلَ إعْتاقِه، فما كَسَبَه للوَرَثَةِ على قَوْلِنا، ولا نعلمُ قولَ مُخالِفِينا فيه. فصل: فإن عَلَّقَ عِتْقَ عبدِه على شَرْطٍ في صِحَّتِه، فوُجِدَ في مَرَضِه، اعْتُبِرَ خُرُوجُه مِن الثُّلُثِ. قاله أبو بكرٍ، قال (¬2): وقد نَصَّ أحمدُ على مِثْلِ هذا في الطَّلاقِ. وقال أبو الخَطَّاب: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَعْتِقُ مِن رأسِ المالِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأَنَّه لا (2) يُتَّهَمُ فيه، فأشْبَهَ العِتْقَ في صِحَّتِه. ولَنا، أنَّه عَتَق في حالِ تَعَلُّقِ حَقِّ الوَرَثَةِ بثُلُثَيْ مالِه، فاعْتُبِرَ مِن الثُّلُثِ، كالمُنْجَزِ. وقَوْلُهمْ لا يُتَّهَمُ فيه. قُلْنا: وكذلك العِتْقُ المُنْجَزُ لا يُتَّهَمُ فيه؛ فإنَّ الإنْسانَ لا يُتّهَمُ بمُحاباةِ غيرِ الوارثِ وتَقْدِيمِه على وارِثِه، وإنَّما مُنِع منه لِما فيه مِن الضَّرَرِ بالوَرَثَةِ، وهو حاصِلٌ ههُنا. ولو قال: إذا قَدِم زَيدٌ وأنا مَرِيضٌ فأنْتَ حُرٌّ. فقَدِمَ وهو مَرِيضٌ، كان مُعْتَبَرًا مِن الثُّلُثِ، وَجْهًا واحِدًا. ¬

(¬1) في الأصل: «بالقبول». (¬2) سقط من: م.

2954 - مسألة: (وإن لم يظهر له مال جزأناهم ثلاثة أجزاء؛ كل اثنين جزءا، وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن خرج له سهم الحرية عتق، ورق الباقون)

وَإنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ جَزَّأنَاهُمْ ثَلَاثَةَ أجْزاءٍ؛ كُلَّ اثْنَينِ جُزْءًا، وَأَقْرَعْنَا بَينَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وَسَهْمَيْ رِقٍّ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ، وَرَقَّ الْبَاقُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2954 - مسألة: (وإن لم يَظْهَرْ له مالٌ جَزَّأْناهم ثلاثَةَ أجْزاءٍ؛ كلَّ اثْنَين جُزْءًا، وأقْرَعْنا بينَهم بسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وسَهْمَيْ رِقٍّ، فمن خَرَج له سَهْمُ الحرِّيَّةِ عَتَق، ورَقَّ الباقُونَ) وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبانُ بنُ عثمانَ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وداودُ، وابنُ جرِيرٍ. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ مِن كل واحدٍ ثُلُثُه، ويُسْتَسْعَى في باقِيه. ورُوِيَ نحوُ هذا عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وشُرَيحٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وقتادَةَ، وحَمّادٍ؛ لأنَّهم تَساوَوْا في سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ، فيَتَساوَوْن في الاسْتِحْقاقِ، كما لو كان يَمْلِكُ (¬1) ثُلُثَهم وَحْدَه، وهو ثُلُثُ مالِه، أو كما لو وَصَّى بكُلِّ واحدٍ منهم لرجلٍ. وأنْكَرَ أصْحابُ أبي حنيفةَ القُرْعَةَ، وقالوا: هي مِن القِمارِ وحُكْم الجاهِليَّةِ. ولَعَلَّهم يَرُدُّون الخبرَ الوارِدَ في هذه المسْأَلةِ لمُخالفَتِه قياسَ الأُصُولِ. وذُكِرَ الحديثُ لحَمّادٍ، فقال: هذا قولُ الشَّيخِ. يَعْنِي إبْلِيسَ، فقال له محمدُ بنُ ذَكْوانَ: وُضِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ؛ أحَدُهم المجْنونُ حتى يُفِيقَ. يَعْنِي -إنَّك مَجْنونٌ. فقال له حَمّادٌ: ما دَعاك إلى هذا؟ فقال له (¬2) محمدٌ: وأنت ما دَعاك إلى هذا؟ ¬

(¬1) في م: «لا يملك إلَّا». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قَليلٌ في جوابِ حَمَّادٍ، وكان حَرِيًّا أن يُسْتَتابَ عن هذا، فإنْ تابَ وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُه (¬1). ولَنا، ما روَى عِمْرانُ بنُ حُصَينٍ، أنَّ رجلًا مِن الأنْصارِ أعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِين في مَرَضِه لا مال له غيرُهم، فجَزَّأَهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةَ أجْزاءٍ، فأعْتَقَ اثْنَين، وأرَقَّ أرْبَعَةً (¬2). وهذا نَصٌّ في مَحَلِّ النِّزاعِ، وحُجَّة لَنا في الأمْرَين المُخْتَلَفِ فيهما، وهما جَمْعُ الحُرِّيَّةِ واسْتِعْمالُ القُرْعَةِ، وهو حديثٌ صَحيحٌ، رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ، وسائِرُ أصْحابِ السُّنَنِ. ورَواه عن عِمْرانَ: الحسنُ، وابنُ سِيرين، وأبو المُهَلَّبِ، ثلاثَةُ أئِمَّةٍ. ورَواه الإِمامُ أحمدُ (¬3)، عن إسْحاق بنِ عيسَى، عن هُشَيمٍ، عنْ خالدٍ الحَذَّاء، عن أبي قِلابَةَ، عن أبي زَيدٍ الأنْصارِيِّ، رجلٍ مِن أصْحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ورُوِيَ نحوُه عن أبي هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ولأنَّه حَقٌّ في تَفرِيقِه ضَرَرٌ، فوَجَبَ جَمْعُه بالقُرْعَةِ، كقِسْمَةِ الإِجْبارِ إذا طَلَبَها أحدُ الشُّرَكاءِ، ونَظِيرُه مِن القِسْمَةِ ما لو كانتْ دارٌ بينَ اثْنَين؛ لأحَدِهما ثُلُثُها وللآخرِ ثُلُثاها، وفيها ثلاثةُ مَساكِنَ مُتساويَةٌ لا ضَرَرَ في قِسْمَتِها، فطَلَبَ أحَدُهما القِسْمَةَ، فإنَّه يُجْعَلُ كُل بَيتٍ سَهْمًا (¬5)، ¬

(¬1) هذه الحكاية مما يُستبعد وقوعه، وإن ثبتت، فهي من النوادر، فمرجع جميع الأئمة كتاب الله الكريم وما صح عن رسوله الأمين، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويُردّ إلَّا رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 124 وصفحة 110. (¬3) في: المسند 5/ 341. (¬4) أخرجه البيهقي، في السنن الكبرى 10/ 286. (¬5) في الأصل: «بينهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُقْرَعُ بينَهم بثَلاثةِ أسْهُمٍ؛ لصاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ، ولِلآخَرِ سَهْمان. وقَوْلُهم: إنَّ الخبرَ يُخالِفُ قياسَ الأُصُولِ. نَمْنَعُ ذلك، بل هو مُوافِقٌ لِما ذَكَرْناه. وقياسُهم فاسِدٌ؛ لأنَّه إذا كان مِلْكُه (¬1) ثُلُثَهم وَحْدَه، لم [يُمْكِنْ جَمْعُ] (¬2) نَصِيبِه، والوَصِيَّةُ لا ضَرَرَ في تَفْرِيقِها، بخِلافِ مَسْأَلتِنا. وإن سَلَّمْنا مُخالفَتَه قِياسَ الأُصُولِ، فقَوْلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واجِبُ الاتِّباعِ، سَواءٌ وافَقَ القِياسَ أو خالفَه؛ لأنَّه قولُ المَعْصُومِ الذي جَعَل الله تعالى قَوْلَه حُجَّةً على الخلْقِ أجْمعين، وأمَرَ باتِّباعِه وطاعَتِه، وحَذَّرَ العِقابَ في مُخالفَةِ أمْرِه، وجَعَل الفَوْزَ في طاعَتِه والضَّلال في مَعْصِيَته. وتَطرُّقُ الخَطَأَ إلى القائِسِ في قِياسِه أغْلَبُ مِن تَطرُّقِ الخَطَأ إلى أصْحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والأئِمَّةِ بعدَهم في رِوايَتهمْ، على أنَّهم قد خالفوا قِياسَ الأُصُولِ بأحاديثَ ضَعِيفةٍ، فأوْجَبوا الوُضوءَ بالنَّبِيذِ في السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ، ونَقَضُوا الوُضُوءَ بالقَهْقَهَةِ في الصَّلاةِ دُونَ خارِجِها، وقَوْلُهم في مَسْألَتِنا في مُخالفةِ القِياسِ والأصُولِ أشَدُّ وأعْظَمُ، والضَّرَرُ في مَذْهَبِهم أعْظَمُ؛ وذلك لأنَّ الإجْماعَ مُنْعَقِدٌ على أنَّ صاحِبَ الثُّلُثِ في الوَصِيَّةِ وما في مَعْناها، لا يَحْصُلُ له شيءٌ [حتى يَحْصُلَ للوَرَثَةِ مِثْلاه، وفي مَسْألَتِنا يُعْتِقُون الثُّلُثَ، ويَسْتَسْعُون العَبْدَ في الثُّلُثَين، فلا يَحْصُلُ للوَرَثَةِ شيءٌ] (¬3) في ¬

(¬1) في م: «ملكهم». (¬2) في م: «يكن جميع». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالِ، ويُحِيلُونَهم على السِّعايَةِ، فرُبَّما لا يَحْصُلُ منها شيءٌ أصْلًا، ورُبَّما لا يَحْصُلُ منها في الشَّهْرِ إلَّا اليَسِيرُ، كالدِّرْهَمِ والدِّرْهَمَين، فيكونُ هذا كمَن لم يَحْصُلْ (¬1) له شيءٌ، وفيه ضَرَرٌ على العَبِيدِ؛ لأنَّهم يُجْبِرونَهم على الكَسْبِ والسِّعايَةِ مِن غيرِ اخْتيارِهم، وربما كان المُجْبَرُ (¬2) جارِيَةً، فيَحْمِلُها ذلك على البِغاءِ، أو عَبْدًا، فيَسْرِقُ أو يَقْطَعُ الطَّريقَ، وفيه ضَرَرٌ على المَيِّتِ، حيثُ أفْضَوْا بوَصِيَّته إلى الظُّلْمِ والإضْرارِ، وتَحْقيقِ ما يُوجِبُ له العِقابَ مِن رَبِّه والدُّعاءَ عليه مِن عَبيدِه ووَرَثَتِه. وقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الذي ذَكَرْناه في حَقِّ الذي فَعَل هذا، قال: «لَوْ شَهِدْتُه (¬3) لمْ يُدْفَنْ في مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ» (¬4). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): في قَوْلِ الكُوفِيِّين ضُروبٌ مِن الخَطَأ والاضْطِرابِ، مع مُخَالفَةِ السُّنَّةِ الثابِتَةِ. وأشارَ إلى ما ذَكَرْناه. وأمّا إنْكارُهم القُرْعَةَ، فقد جاءتْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ، قال اللهُ تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬6). وقال سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬7). وأمّا السُّنَّةُ، فقال أحمدُ: في القُرْعَةِ خَمْسُ سُنَنٍ؛ ¬

(¬1) في الأصل:. «يجعل». (¬2) في الأصل: «المخبر». (¬3) في الأصل: «شهد به». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب من أعتق عبيدًا له لم يبلغهم الثلث، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 353. (¬5) في: الاستذكار 23/ 144 - 146. (¬6) سورة آل عمران 44. (¬7) سورة الصافات 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقْرَعَ بينَ نِسائِه (¬1). وأقْرَعَ في سِتَّةِ مَمْلُوكِين (¬2). وقال لرَجُلَين: «اسْتَهِمَا» (¬3). وقال: «مَثَلُ الْقَائِمِ بحُدُودِ اللهِ والْمُدَاهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْم اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ» (¬4). وقال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ والصَّفِّ الأُوَّلِ لاسْتَهَمُوا عَلَيهِ» (¬5). وفي حديثِ الزُّبَيرِ، أنَّ صَفِيَّةَ جاءَتْ بثَوْبَينِ ليُكَفَّنَ فيهما حَمْزَةُ، فَوَجَدْنا إلى جَنْبِه قَتِيلًا، فقُلْنا: لحمزَةَ ثَوْبٌ وللأنْصارِيِّ ثَوْبٌ. فَوَجَدْنا أحَدَ الثَّوْبَين أوْسَعَ مِنَ الآخَرِ، فَأَقرَعْنَا عَليهما، ثم كَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ في الثَّوْبِ الذي صارَ (¬6) له (¬7). وتَشاحَّ النَّاسُ يَوْمَ القادِسِيَّةِ في الأذانِ، فأقْرَعَ بينَهم سَعْدٌ (¬8). وأجْمَعَ العُلماءُ على اسْتِعْمالِها في القِسْمَةِ، ولا نَعْلَمُ بينَهم خِلافًا في أنَّ الرجلَ يُقْرِعُ بينَ نِسائِه إذا أرادَ السَّفَرَ بإحْداهُنَّ، وإذا أرادَ البِدَايةَ في القِسْمَةِ بَينهُنَّ، وبَينَ الأوْلِياءِ إذا تَشاحُّوا في مَن يَتولَّى التَّزْويجَ، أو مَن يتولَّى اسْتيفاءَ القِصاصِ، وأشباهِ هذا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 32. (¬2) هو حديث عمران بن حصين، تقدم تخريجه في 17/ 124. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 257. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، من كتاب الشركة، وفي: باب القرعة في المشكلات، من كتاب الشهادات. صحيح البخاري 3/ 182، 237. والترمذي، في: باب منه حدثنا أحمد بن منيع. . . . من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 19. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 268، 270. (¬5) تقدم تخريجه في 3/ 44. (¬6) في م: «طار». (¬7) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 165. (¬8) تقدم تخريجه في 3/ 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في كيفيَّةِ القُرْعَةِ: قال أحمدُ: قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: يُقْرَعُ بينَهم بالخواتِيمِ. أقْرَعَ بينَ اثْنَين في ثَوْبٍ، فأخْرَجَ خاتِمَ هذا [وخاتمَ هذا] (¬1). ثم قال: يَخْرُجُون بالخَواتِيمِ ثم تُدْفَعُ إلى رجلٍ، فيُخْرِجُ منها وَاحدًا. قال أحمدُ: بأيِّ شيءٍ خَرَجَتْ ممَّا يتَّفقان عليه وَقَع الحُكْمُ به، سواءٌ كان رِقاعًا أو خَواتِيمَ. وقال أصحابُنا المُتَأخِّرون: الأوْلَى أن يَقْطَعَ رِقاعًا صِغارًا مُسْتَويةً، ثم تُجْعَلَ في بنادِقِ شَمْعٍ أو غيرِه، متساويةِ القَدْرِ والوَزْنِ ثم تُلْقَى في حِجْرِ رَجُلٍ لم يَحْضُرْ، ويُغَطَّى عليها بثَوْبٍ، ثم يُقالُ له: أدْخِلْ يَدَكَ فأخْرِجْ بُنْدُقَةً. فيَفُضُّها ويَعْلَمُ ما فيها. وهذا قولُ الشافعيِّ. وفي كَيفِيَّةِ القُرْعَةِ والعِتْقِ سِتُّ مَسائِلَ؛ أحَدُها، أن يُعْتِقَ عَددًا من العَبِيدِ لهم ثُلُثٌ صحيحٌ، كثلاثةٍ أو تِسْعَةٍ أو سِتَّةٍ و (¬2) قِيمَتُهم مُتَساويةٌ، ولا مال له غيرُهم، فيُجَزَّءون ثَلاثَةَ أجْزاءٍ؛ جُزْءًا للحُرِّيَّةِ، وجُزْأَين للرِّقِّ، ويُكْتَبُ ثلاثُ رِقاعٍ؛ في واحِدةٍ حُرِّيَّةٌ، وفي اثْنَين رِقٌّ، وتُتْرَكُ في ثلاثِ بَنادِقَ، وتُغَطَّى بثَوْبٍ، ويُقالُ لرَجُلٍ لم يَحْضُرْ: أخْرِجْ على اسْمِ هذا الجُزْءِ. فإن خرَجَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ، عَتَق، ورَقَّ الجُزْءان الآخران، وإن خَرَجَتْ قُرْعةُ (¬3) رِقٍّ، رَقَّ وأُخْرِجَتْ أُخْرَى على جُزْءٍ آخَرَ، فإن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أو». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَرَجَتْ رقعةُ الحريَّةِ، عَتَقَ، ورقَّ الجزْءُ الثَّالِثُ، وإن خَرَجَتْ رُقْعَةُ (¬1) الرِّقِّ، رَقَّ، وعَتَق الجُزْءُ الثَّالِثُ؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ تَعَيَّنَتْ فيهم، وإن شِئتَ كَتَبْتَ اسْمَ كُلِّ جُزْءٍ في رُقْعَةٍ، ثم أخْرَجْتَ رُقْعَةً على الحُرِّيَّةِ، فإذا أخْرَجْتَ رُقْعَةً، عَتَق المُسَمَّوْن فيها، ويَرِقُّ الباقُون، وإنْ أخْرَجْتَ رُقْعَةً على الرِّقِّ، رَقَّ المُسَمَّوْن فيها، [ثم تُخْرِجُ أُخْرَى على الرِّقِّ، فَيَرِقُّ المُسَمَّوْن فيها، ويَعْتِقُ الجُزْءُ الثَّالِثُ، وإنْ أخْرَجْتَ الثَّانِيَةَ على الحُرِّيَّةِ، عَتَق المُسَمَّوْن فيها] (¬2)، ورَقَّ الثّالِثُ. المسألةُ الثَّانِيةُ، أن تُمْكِنَ قِسْمَتُهم أثْلاثًا، وقِيمَتُهم مُخْتَلِفَةٌ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهم بالقِيمَةِ، كسِتَّةٍ؛ قِيمَةُ اثْنَين منهم ثلاثةُ آلافٍ [ثَلاثَةُ آلافٍ] (¬3)، وقيمةُ اثنين ألفان ألفان (¬4) وقيمَةُ اثْنَين ألْفٌ ألفٌ (4)، فتجْعَلُ الاثْنَين الأوْسَطَين جُزْءًا، وتَجْعَلُ اثْنَين قِيمَةُ أحَدِهما ثلاثةُ آلافٍ مع آخَرَ قِيمَتُه ألْفٌ جُزْءًا، والآخَرَين جُزْءًا، فيكونُونَ (¬5) ثلاثةَ أجْزاءٍ مُتَساويَةٍ في العَدَدِ والقِيمَةِ، على ما قَدَّمْناه في المَسأَلةِ الأُولَى. قِيلَ لأحمدَ: لم يسْتَوُوا في القِيمَةِ؟ قال: يُقَوَّمُون بالثَّمَنِ. المسألةُ الثَّالِثةُ، أن يَتَساوَوْا في العَدَدِ ويَخْتَلِفوا في القِيمَةِ، ولا يُمْكِنُ ¬

(¬1) في م: «قرعة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «فتكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمْعُ بينَ تَعْدِيلِهم بالعَدَدِ والقِيمَةِ معًا، ولكن يُمْكِنُ تَعْدِيلُهم بكُلِّ واحدٍ منهما مُنْفَرِدًا، كسِتَّةِ أعْبُدٍ، قِيمَةُ أحَدِهم ألْفٌ، وقِيمَةُ اثْنَين ألفٌ، وقِيمَةُ ثلاثةٍ ألفٌ، فإنَّهم يُعَدَّلُونَ بالقِيمَةِ دُونَ العَدَدِ. نصَّ عليه أحمدُ، فقال: إذا كانت قِيمةُ واحدٍ مثلَ اثْنَين قُوِّمَ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَقَعَ العِتْقُ في أكثرَ مِن الثُّلُثِ ولا أقَلَّ، وفي قِسْمَتِه بالعَدَدِ تَكْرارُ القُرْعةِ، وتَبْعِيضُ العِتْقِ حتى يَكْمُلَ الثُّلُثُ، فكانَ التَّعْدِيلُ بالقِيمَةِ أوْلَى. بَيانُ ذلك، أنَّا لو جَعَلْنا مع الذي قِيمَتُه ألفٌ آخَرَ، فخَرَجَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ لهما، احْتَجْنا أن نُعِيدَ القُرْعَةَ بينَهما، فإذا خَرَجَتْ على القليلِ القِيمَةِ عَتَق، وعَتَق مِن الذي قِيمَتُه ألفٌ تَمامُ الثُّلُثِ. وإن وَقَعَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ على اثْنَين قِيمَتُهما دُونَ الثُّلُثِ عَتَقا، ثم أعِيدَت لتَكْمِيلِ الثُّلُثِ، فإذا وَقَعَتْ على واحدٍ، كَمَلَتِ الحُرِّيَّةُ منه، فحَصَلَ ما ذَكَرْناه مِن التَّبعِيضِ والتَّكْرارِ، ولأنَّ قِسْمَتَهم بينَ المُشْتَرِكِين فيهم، إنَّما يُعَدَّلُون فيها بالقِيمَةِ دُونَ الأجْزاءِ. فعلى هذا، تَجْعَلُ الذي قِيمَتُه ألفٌ جُزْءًا، والاثْنَين اللَّذَين قِيمَتُهما ألفٌ جُزْءًا، والثَّلاثةَ الباقِين جُزْءًا، ثم يُقْرَعُ بينَهم، على ما ذَكَرْنا. [المسألةُ الرابعةُ: أمْكَنَ تَعْدِيلُهم بالقيمةِ دونَ العَدَدِ، كسَبْعَةٍ قِيمَةُ واحِدٍ ألْفٌ، وقيمةُ اثنين ألفٌ، وقيمةٌ أربعةٍ ألفٌ، فَيُعَدَّلُون بالقيمةِ دون العَدَدِ، كما ذكرنا] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسألةُ الخامسةُ، أمْكَنَ تَعْدِيلُهم بالعَددِ دونَ القِيمَةِ، كسِتَّةِ أعْبُدٍ، قِيمَةُ اثْنَين ألفٌ، وقِيمَةُ اثنين سَبْعُمائةٍ، وقِيمَةُ اثْنَين خَمْسُمائةٍ، فههُنا، تُجَزِّئُهم بالعَددِ؛ لتَعَذُّرِ تجْزِئَتِهم بالقِيمَةِ، فتَجْعَلُ كلَّ اثْنَين جُزْءًا، وتَضُمُّ كل واحدٍ مِمَّن قِيمَتُهما قليلةٌ إلى واحدٍ ممَّن قِيمَتُهما كثيرةٌ، وتَجْعَلُ المُتَوَسِّطَين جُزْءًا، وتُقْرِعُ بينَهم، فإن وَقَعَتْ قُرْعَةُ الحُرِّيَّةِ على حرٍّ قِيمَّتُه أكثرُ مِنِ الثُّلُثِ أُعِيدَتِ القُرْعَةُ بينَهما، فيَعْتِقُ مَن تَقَعُ له قُرْعَةُ الحرِّيَّةِ، ويَعْتِقُ مِن الآخرِ تَتِمَّةُ الثُّلُثِ ويَرِقُّ باقِيه والباقُون، وإن وَقَعَتِ الحُرِّيَّةُ على جُزْءٍ أقَلَّ مِن الثُّلُثِ، عَتَقا جميعًا، ثم يَكْمُلُ الثُّلُثُ مِن الباقِين بالقُرْعَةِ. المسألةُ السادسةُ، لم يُمْكِنْ تَعْدِيلُهم بالعَددِ ولا بالقِيمَةِ، كخَمْسةِ أعْبُدٍ، قِيمَةُ أحدِ هم ألفٌ، واثْنان ألفٌ، واثْنان ثلاثةُ آلافً، فيَحْتَمِلُ أن تُجَزِّئَهم ثلاثةَ أجْزاءٍ، فتَجْعَلَ أكْثَرَهم قِيمةً (¬1) جزءًا، وتَضُمَّ إلى الثاني (¬2) أقَلَّ الباقِين قِيمةً، وتجْعَلَهُما جُزْءًا والباقِين جُزْءًا، وتُقْرِعَ بينَهم بسَهْمِ حُرِّيَّةٍ وسهْمَيْ رِقٍّ؛ لأنَّ هذا أقْرَبُ إلى ما فَعَلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ويُعَدَّلَ الثُّلُثُ بالقِيمَةِ على ما تَقدَّم، ويَحْتَمِلُ أن لا يُجَزِّئَهم، بل تُخْرَجُ القُرْعَةُ على واحدٍ واحدٍ، حتى يَسْتَوْفِيَ الثُّلُثَ، فيَكْتُبَ خَمْسَ رِقاعٍ بأسْمائِهم، ثم يُخْرِجُ رُقْعة على الحُرِّيَّةِ، فمَن خَرَج اسْمُه فيها عَتَق، ثم يُخْرِجُ الثانيةَ، فمَن خرَج اسْمُه فيها عَتَق منه تَمامُ الثُّلُثِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الباقي».

2955 - مسألة: (وإن كانوا ثمانية، فإن شاء أقرع بينهم بسهمي حرية، وخمسة رق، وسهم لمن ثلثاه حر. وإن شاء جزأهم أربعة أجزاء، فأقرع بينهم بسهم حرية، وثلاثة رق، ثم أعاد القرعة لإخراج من ثلثاه حر. وإن فعل غير ذلك جاز)

فَإِنْ كَانُوا ثَمَانِيَةً، فَإِنْ شَاءَ أقْرَعَ بَينَهُمْ بِسَهْمَيْ حُرِّيَّةٍ، وَخَمْسَةِ رِقٍّ، وَسَهْمٍ لِمَنْ ثُلُثَاهُ حُرٌّ. وَإنْ شَاءَ جَزَّأهُمْ أرْبَعَةَ أجْزَاءٍ، وَأقْرَعَ بَينَهُمْ بِسَهْمِ حُرِّيَّةٍ، وَثلَاثَةِ رِقٍّ، ثُمَّ أعَادَ الْقُرْعَةَ بَينَهُمْ لإخْرَاجِ مَنْ ثُلُثَاهُ حُرٌّ. وَإن فَعَل غَيرَ ذَلِكَ جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2955 - مسألة: (وإن كانوا ثمانيةً، فإن شاءَ أقْرَعَ بينَهم بسَهْمَيْ حُرِّيَّةٍ، وخمسةِ رِقٍّ، وسهمٍ لمَن ثُلُثاه حُرٌّ. وإن شاء جَزَّأهُم أرْبَعَةَ أجْزاءٍ، فأقْرعَ بينَهم بسَهْمَ حُرِّيَّةٍ، وثَلاثَةِ رقٍّ، ثم أعادَ القُرْعَةَ لإخراجِ مَن ثُلُثاه حُرٌّ. وإن فَعَل غيرَ ذلك جازَ) بأن يَجْعَلَ ثَلاثَةً جُزْءًا، وثَلاثةً جُزْءًا، واثْنَين جُزْءًا، فإن خَرَجَتِ القُرْعةُ (¬1) على الاثْنَين عَتَقَا، وكُمِّلَ الثُّلُثُ بالقُرْعَةِ مِن الباقِين، وإن خَرَجَت لثَلاثَةٍ (¬2) أقْرِعَ بينَهم بسَهْمَيْ حُرِّيَّةٍ، وسَهْمِ رِقٍّ، فإن كان جَمِيعُ مالِه عَبْدَينِ، أقْرَعْنا بينَهم بسَهْم حُرِّيَّةٍ وسَهْمَ (¬3) رِقٍّ على كل حالٍ. فصل: قد ذَكَرْنا أنَّه إذا كان للمُعْتِقِ مالٌ غيرَ العَبيدِ مِثْلَا قِيمَةِ العَبيدِ عَتَقُوا جَمِيعُهم؛ لخُرُوجِهم مِن الثُّلُثِ، وإن كان أقَلَّ مِن مِثْلَيهِم، عَتَق مِن العَبيدِ قَدْرُ ثُلُثِ المالِ كلِّه، فإذا كان العَبِيدُ نِصْفَ المالِ عَتَق ثُلُثاهُم، وإن كانوا ثُلُثَيِ المالِ عَتَق نِصْفُهم، وإن كانوا ثلاثةَ أرْباعِه عَتَق أرْبَعةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الثلاثة». (¬3) في م: «سهمى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أتْساعِهم. وطَرِيقُهُ أن تَضْرِبَ قِيمَةَ العَبيدِ في ثلاثةٍ، ثم تَنْسِبَ إليه مَبْلَغَ التَّرِكَةِ، فما خَرَج بالنِّسْبَةِ عَتَق مِن العَبِيدِ مِثْلُها، فإذا كانت قِيمَةُ العَبيدِ ألفًا، وباقِي التَّرِكَةِ ألْفَين، ضَرَبْتَ قِيمَةَ العَبيدِ في ثلاثةٍ، تكُنْ ثلاثةَ آلافٍ، ثم تَنْسِبُ إليها الألْفَين، تكُنْ ثُلُثَيها، فيَعْتِقُ ثُلُثاهُم، وإن كانت قِيمَةُ العَبيدِ ثلاثةَ آلافٍ، وباقِي التَّرِكَةِ ألفٌ، ضَرَبْنا قِيمَتَهم في ثلاثةٍ، تكُنْ تِسْعَةً، وتَنْسِبُ إليها التَّرِكَةَ كلَّها، تكُنْ أرْبَعَةَ أتْساعِها. وإن كانت قِيمَتُهم أرْبَعةَ آلافٍ، وباقي التَّرِكَةِ ألفٌ، ضَرَبتَ قِيمَتَهم في ثلاثةٍ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ونَسبْتَ إليها خَمسةَ آلافٍ، تَكُنْ رُبْعَها وسُدْسَها، فيَعْتِقُ رُبْعُهم وسُدْسُهم. فصل: فإن كان على المَيِّتِ دَينٌ يُحِيطُ ببَعْضِ التَّرِكَةِ، قُدِّمَ الدَّينُ؛ لأنَّ العِتْقَ وَصِيَّةٌ، وقد قَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدَّينَ قبلَ الوَصِيَّةِ (¬1). ولأنَّ قَضاءَ الدَّينِ واجِبٌ، وهذا تَبَرُّع، وتَقْدِيمُ الواجِبِ مُتَعَيِّنٌ. فإن كان الدَّينُ بقَدْرِ نِصْفِ العَبيدِ، جُعِلُوا جُزْأَين، وكُتِبَتْ رُقْعَتان؛ رُقْعَة للدّينٍ، ورُقْعَةٌ للتَّرِكَةِ. وتُخْرَجُ واحدةٌ (¬2) منهما على أحَدِ الجُزْأَين، فمَن خرَجَتْ عليه رُقْعَةُ الدَّينِ بِيعَ فيه، وكان الباقِي جَمِيعَ التَّرِكَةِ، يَعْتِقُ ثُلُثُهم بالقُرْعَةِ، على ما تَقدَّم. وإن كان الدَّينُ بقَدْرِ ثُلُثِهم، كُتِب ثَلاثُ رِقاعٍ؛ رُقْعَةٌ للدَّينِ، واثْنتان للتَّرِكَةِ. وإن كان بقَدْرِ رُبْعِهم، كُتِبَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 146. (¬2) في م: «واحد».

2956 - مسألة: (وإن أعتق عبدين، قيمة أحدهما مائتان والآخر ثلاثمائة)

وَإنْ أعتَقَ عَبْدَينِ، قِيمَةُ أحدِهِمَا مِائَتَانِ وَالْآخَرِ ثَلَاثُمِائَةٍ، جَمَعْتَ قِيمَتَهُمَا، وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَجَعَلْتَهَا الثُّلُثَ، ثُمَّ أَقرَعْتَ بَينَهُمَا، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَتَانِ، ضَرَبْتَهُ في ثَلَاثَةٍ، تَكُنْ سِتَّمِائَةٍ، ثُمَّ نَسَبْتَ مِنْهُ خُمْسَ الْمِائَةِ، يَكُنِ الْعِتْقُ فِيهِ خَمْسَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْبَعُ رِقاعٍ؛ رُقْعَة للدَّينِ وثَلاث للتَّرِكَةِ، ثم يُقْرَعُ بينَ مَن خَرَجتْ له رِقاعُ التَّرِكَةِ. وإن كُتِبَ رُقْعَة للدَّينٍ، ورُقْعَةٌ للحُرِّيَّةِ، ورقْعَتَان للتَّرِكَةِ، جاز. وقِيلَ: لا يجوزُ؛ لِئَلَّا تخْرُجَ رُقْعَة الحُرِّيَّةِ قبلَ قَضاءِ الدَّينِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه إنَّما يُمْنَعُ مِن قَبْلِ قَضاءِ الدَّينِ إذا لم يَكُنْ له وَفاءٌ، فأمّا إن كان له وَفاء لم يُمْنَعْ منه، بدَليلِ ما لو كان العِتْقُ في أقَلَّ مِن ثُلُثِ الباقِي بعدَ وفَاءِ الدَّينِ، فإنَّه لا يُمْنَعُ مِن العِتْقِ قبلَ (¬1) وفائِه. 2956 - مسألة: (وإن أعْتَقَ عَبْدَين، قِيمَةُ أحَدِهما مائَتان والآخَرِ ثَلاثُمائةٍ) فأجاز الوَرَثَةُ عِتْقَهما، عَتَقا، وإن لم يُجزِ الوَرَثَةُ، عَتَق ثُلُثُهما، وكُمِّلَ الثُّلُثُ في أحَدِهما، فتُجْمَع قِيمَتُهما فتكوَنُ خَمْسَمائَةٍ، ثم يُقرَعُ بينَهما، فمَن خَرَج له سَهْمُ الحُرِّيَّةِ ضَرَبْنا قِيمَتَه في ثَلاثةٍ، ونَسَبْنا قِيمَتَهما إلى المُرْتَفعِ بِالضَّرْبِ، فما خَرَج مِن النِّسبَةِ عَتَق من العَبْدِ بقَدْرِه. فإن وقَعَتْ على الذي قِيمَتُه مائتان، ضَرَبْنا في ثَلاثةٍ، صار سِتَّمائَةٍ، ونَسَبْنا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2957 - مسألة: (وإن أعتق واحدا من ثلاثة أعبد)

أَسْدَاسِهِ، وَإنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ، عَتَقَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَأتِي مِنْ هَذَا، فَسَبِيلُهُ أَنْ يُضْرَبَ في ثَلَاثَةٍ؛ لِيَخْرُجَ بِلَا كَسْرٍ. وَإنْ أعْتَقَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةِ أعْبُدٍ، فَمَاتَ أحَدُهُمْ في حَيَاتِهِ، أَقْرَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَتَهما إلى ذلك، تكُنْ خَمْسَةَ أسْداسِه، فيَعْتِقُ منه كذلك، وإن وقَعَتْ على الآخَرِ، ضَرَبْنا قِيمَتَه في ثَلاثةٍ، تكُنْ تِسعَمائةٍ، ونَسَبْنا قِيمَتَهما، وهي خَمْسُمائةٍ إلى ذلك، نَجِدْها خَمْسَةَ أتْساعِه، فيَعْتِقُ منه ذلك، وهو ثُلُثُ الجَمِيعِ؛ لأنَّنا إذا ضَرَبْنا قِيمَةَ العَبْدَين، وهي خَمسُمائةٍ، في ثَلاثةٍ، كانتْ ألْفًا وخَمْسَمائةٍ، وهي جميعُ المالِ، فالخَمْسُمائةٍ بالنِّسبَةِ إليها ثُلُثٌ، وبالنِّسبَةِ إلى الذي قِيمَتُه مائَتان، خَمْسَةُ أسْداسِه بعدَ الضَّرْبِ، وإلى الآخَرِ خَمْسَةُ أتْساعِه (وكُلُّ شيءٍ أتَى مِن هذا، فسَبِيلُه أن يُضْرَبَ في ثَلاثةٍ؛ ليَخْرُجَ بلا كَسْرٍ) وهذا قولُ مَن يَرَى [جميع العِتْقِ في بعضِ العَبيدِ] (¬1) بالقُرْعَةِ. وعندَ أبي حنيفةَ ومَن وافَقَه، يَعْتِقان فيُسْتَسْعَيان في باقِي قِيمَتِهما. وقد مَضَى الكلامُ مَعهم. والله أعلمُ. 2957 - مسألة: (وإن أعْتَقَ وَاحِدًا مِن ثلاثةِ أعْبُدٍ) غيرَ مُعَيَّنٍ (فمات أحَدُهُم في حياةِ السَّيِّدِ، أَقرَعَ بَينَه وبينَ الحَيَّين، فإن وَقَعَتْ) ¬

(¬1) في المبدع 6/ 323: «جمع العتق في بعض العبد».

بَينَهُ وَبَينَ الْحَيَّينِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَيِّتِ، رَقَّ الْآخَرَانِ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى أَحدِ الْحَيَّينِ، عَتَقَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ. وإنْ أَعْتَقَ الثَّلَاثَةَ في مَرَضِهِ، فَمَاتَ أحَدُهُمْ في حَيَاةِ السَّيِّدِ، فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أَبي بَكْر. وَالْأوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَينَ الْحَيَّينِ، وَيَسْقُطَ حُكْمُ الْمَيِّتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُقْعَةُ العِتْقِ (على المَيِّتِ رَقَّ الآخَران) لأنَّ القُرْعَةَ يُبَيَّنُ بها مَن وَقَع عليه العِتْقُ، فوَجَبَ أن يُقْرَعَ بينَهم، كما لو كانوا أحياءً، فإذا وَقَعَتِ القُرْعَةُ على المَيِّتِ تَبَيَّنَ رِقُّ الآخَرَين؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ إنَّما تَقَعُ على المُعْتَقِ، وهذان لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما. وإن وَقَعَتْ على أحَدِ الحَيَّين عَتَق، إن خَرَج مِن الثُّلُثِ. وقد سَبَق شَرْحُ هذا، فيما إذا قال: أحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ. وذَكَرْنا الخِلافَ فيه (¬1). وإن أعْتَقَ الثَّلاثَةَ في مَرَضِه، فماتَ أحَدُهم في حياةِ السَّيِّدِ، فكذلك، في قولِ أبي بكرٍ؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ إنَّما تَنْفُذُ في الثُّلُثِ، فأشْبَهَ ما لو أعْتَقَ واحدًا منهم. قال شيخُنا: (والأوْلَى أن يُقْرِعَ بينَ الحَيَّين، ويَسْقُطَ حكْمُ الميِّتِ) لأنَّه أعْتَقَ الثَّلاثةَ، والاعْتِبارُ في خُرُوجِه مِن الثُّلُثِ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحالةِ الموتِ، وحالةُ الموتِ إنَّما كان له العَبْدَان الحيَّان، وهما كلُّ مالِه، فيُقْرَعُ بَينَهما، فمَن وَقَعَتْ عليه القُرْعَةُ، عَتَق، إن خَرَج مِن الثُّلُثِ، وإِلَّا عَتَق منه بقَدْرِ الثُّلُت، وإن بَقِيَ مِن الثُّلُثِ شيءٌ بعدَ عِتْقِه، عَتَق مِن الآخَرِ بقَدْرِ ما بَقِيَ مِن الثُّلُثِ، وصارَ بمنزلَةِ ما لو أعْتَقَ العَبْدَين في مَرَضِه ولم يكُنْ له مالٌ غيرُهم. فصل: إذا دَفَع العَبْدُ إلى رَجُلٍ مالًا، فقال: اشْتَرِني مِن سَيِّدِي بهذا المالِ فأعْتِقْني. ففَعَلَ، لم يَخْلُ مِن أن يَشْتَرِيَه بعَينِ المالِ، أو في ذِمَّتِه ثم ينْقُدَ (¬1) المال، فإنِ اشْتَراه في ذِمَّتِه ثم أعْتَقَه، صَحَّ الشِّراءُ ونَفَذ العِتْق؛ لأنَّه مَلَكَه بالشِّراءِ، فنَفذ عِتْقُه له، وعلى المُشْتَرِي أداءُ الثَّمَنِ الذي اشْتَراه ¬

(¬1) في الأصل: «ينفذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به؛ لأنَّه لَزِمَه الثَّمَنُ بالبَيعِ، والذي دَفَعَه إلى السَّيِّدِ كان مِلْكًا له، لا يَحْتَسِبُ له به مِن الثَّمَنِ، فبَقِيَ الثَّمَنُ واجِبًا عليه، يَلْزَمُه أداؤُه، وكان العِتْقُ مِن مالِه، والولاءُ له. وبه قال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. فأمّا إنِ اشْتراه بعَينِ المالِ، فالشِّراءُ باطِلٌ، ولا يَصِحّ العِتْق؛ لأنَّه اشْتَرَى بعَينِ مالِ غيرِه شيئًا بغيرِ إذْنِه، فلم يَصِحَّ الشِّراءُ، ولم يَنْفُذِ العِتْقُ؛ لأنَّه أعْتَقَ مَمْلوكَ غيرِه بغيرِ إذْنِه، ويكونُ السَّيِّدُ قد أخَذَ ماله؛ لأنَّ ما في يَدِ العَبْدِ مَحْكُومٌ به لسَيِّدِه. فأمّا على الرِّوايةِ التي تقولُ: إنَّ النُّقُودَ لا تَتَعَيَّنُ بالتَّعْيِينِ، فإنَّه يكونُ الحُكْمُ فيه كما لو اشْتَراه في ذِمَّتِه. ونحوَ هذا قال النَّخَعِيُّ، وإسْحاقُ، فإنَّهما قالا: الشِّراءُ والعِتْقُ جائِزان، ويرُدُّ المُشْتَرِي مِثْلَ الثَّمَنِ. مِن غيرِ تَفْرِيقٍ. وقال الحسنُ: البَيعُ والعِتْقُ باطِلان (¬1). وقال الشَّعْبِيُّ: لا يجوزُ ذلك، ويُعاقَبُ مَن فَعَلَه. مِن غيرِ تَفْرِيقٍ أيضًا. وقد ذَكَرْنا ما يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، وفيه تَوَسُّطٌ بينَ المَذْهَبَين، فكان أوْلَى، إن شاءَ الله تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «باطل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كان العبدُ بينَ شَرِيكَين، فأعْطَى العَبْدُ لأحَدِهما خَمْسِينَ دينارًا على أن يُعْتِقَ نَصِيبَه منه، فأعْتَقَه، عَتَق، وسَرَى إلى باقِيه إن كان مُوسِرًا، ورَجَع عليه شَرِيكُه بنِصْفِ الخَمْسِين، وبنِصفِ قِيمَةِ العَبْدِ؛ لأنَّ ما في يَدِ العَبْدِ يكونُ بينَ سَيِّدَيه، لا يَنْفَرِدُ به أحَدُهما عنٍ الآخَرِ، إلَّا أنَّ نَصيبَ المُعْتِقِ يَنْفُذُ فيه العِتْقُ، وإن كان العِوَضُ مُسْتَحَقًّا، إذا لم يقعِ العِتْقُ على عَينِها، وإنَّما سَمَّى خَمْسِين ثم دَفَعَها إليه. وإن أوْقَعَ العِتْقَ على عَينِها، يَجِبُ أن يَرْجِعَ على العَيدِ بقِيمَةِ ما أعْتَقَه بالعِوَضِ المُسْتَحَقِّ، ويَسْرِي العِتْقُ إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، ويكونُ وَلاؤُه للمُعْتِقِ. فصل: ولو وَكَّلَ أحَدُ الشَّرِيكَين شَرِيكَه في عِتْقِ نَصِيبِه، فقال الوَكِيلُ: نَصِيبِي حرٌّ. عَتَق، وسَرَى إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، والوَلاءُ له. وإن أعْتَقَ نَصِيبَ المُوَكِّلِ، عَتَق، وسَرَى إلى نَصِيبِه، إن كان مُوسِرًا، والوَلاءُ للمُوَكِّلِ. فإن أعْتَقَ نِصْفَ العَبْدِ ولم يَنْو شيئًا، احْتَمَلَ أن يَنْصَرِفَ إلى نَصِيبِه؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى نِيَّةٍ، ونَصِيبُ شَرِيكِه يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ، ولم يَنْو. ويَحْتَمِلُ أن يَنْصَرِفَ إلى نصِيبِ شَرِيكِه. لأَنه أمَرَه بالإِعْتاقِ، فانْصَرَفَ إلى ما أُمِرَ به. ويَحْتَمِلُ أن يَنْصَرِفَ إليهما؛ لأنَّهما تَساوَيا. وأيُّهما حكَمْنا بالعِتْقِ عليه ضَمِن نصِيبَ شَرِيكِه. ويَحْتَمِل أن لا يَضْمَن؛ لأنَّ الوَكِيلَ إذا أعْتَقَ نَصِيبَه فسَرَى إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مأْذُونٌ له في العِتْقِ، وقد أُعْتِقَ بالسِّرايةِ، فلم يَضْمَنْ، كمَن أُذِنَ له في إتْلافِ شيءٍ، فإنَّه لا يَضْمَنُه وإن أتْلَفَه بالسِّرايَةِ. وإذا أعْتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِه لم يَلْزَمْ شَرِيكَه الضَّمانُ؟ لأنَّه مُباشِرٌ لسَبَبِ الإِتْلافِ، فلم يَجبْ له ضَمانُ ما تَلِف به، كما لو قال له أجْنبيٌّ: أعْتِقْ عَبْدَك. فأعْتَقَه. والله تعالى أعلمُ.

باب التدبير

بَابُ التَّدْبِير وَهُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ التَّدْبِير (وهو تَعْلِيقُ العِتْقِ بالموتِ) وسُمِّيَ تَدْبِيرًا؛ لأنَّ الوفاةَ دُبُرُ الحياةِ. يُقالُ: دابَرَ الرجلُ يُدابرُ مُدابَرَةً. إذا مات، فسُمِّيَ العِتقُ بعدَ المَوتِ تَدْبِيرًا. والأصْلُ فيه السُّنَّةُ والإِجْماعُ.: أمّا السُّنَّةُ، فما روَى جابرٌ، أنَّ رجلًا أعْتَقَ مملوكًا له عن دُبُرٍ، فاحتاجَ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟». فباعَه مِن نُعَيمِ بنِ عبدِ اللهِ بثَمانِمائَةِ دِرْهَمٍ، فدَفَعَها إليه، وقال: «أنْتَ أحْوَجُ مِنْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ مَن دَبَّرَ عَبدَه أو أمَتَه، ولم يَرْجِعْ عن ذلك حتى مات -والمُدَبَّرُ يَخْرُجُ مِن ثُلثِ مالِه، بعدَ قَضاءِ دَينٍ إن كان عليه، وإنفاذ وَصاياه إن كان وَصَّى، وكان السيدُ بالِغًا جائِز الأمرِ- أنَّ الحريةَ تَجبُ له أو لها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 379.

2958 - مسألة: (ويعتبر من الثلث)

وَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2958 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ مِن الثُّلُثِ) إنَّما يَعْتِقُ المُدَبَّرُ إذا خَرَج مِن الثُّلُثِ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. يُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وابنِ عمرَ (¬1). وبه قال شُرَيحٌ، وابنُ سيرينَ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومكْحولٌ، والزُّهْرِيُّ، وقتادَةُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، وأهلُ المدينةِ، والثَّوْرِيُّ، وأهلُ العراقِ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ عن (¬2) ابنِ مسعودٍ (¬3)، ومَسْروق، ومُجاهدٍ، والنَّخَعِيِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، أنَّه يَعْتِقُ مِن رأسِ المالِ، قِياسًا على أمِّ الوَلَدِ، وكما لو أعْتَقَ في الصِّحَّةِ. ولَنا، أنَّه تَبَرُّعٌ بعدَ الموتِ، فكان مِن الثُّلُثِ، كالوَصِيَّةِ. ويُفارِقُ العِتْقَ في الصِّحَّةِ، فإنَّه لم يَتَعَلَّقْ به حَقُّ غيرِ المُعْتِقِ، فنَفَذَ في الجميعِ، كالهِبَةِ المُنْجَزَةِ. والاسْتِيلادُ أقْوَى مِن التَّدْبِيرِ؛ لأنَّه يَنْفُذُ مِن المجْنُونِ، بخِلافِ التَّدْبِيرِ. ونَقَل حَنْبَلٌ عن أحمدَ، أنَّه يَعْتِقُ مِن رأسِ المالِ. ولا عَمَلَ عَليها. قال أبو بكرٍ: هذا قولٌ قديمٌ رَجَع عنه إلى ما رَواه الجماعةُ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب المدبر من الثلث، من كتاب المدبر. السنن الكبرى 10/ 314. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب المدبر، من كتاب الفرائض. السنن 1/ 132.

2959 - مسألة: (ويصح من كل من تصح وصيته)

وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مَنْ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اجْتَمَعَ العِتْقُ في المَرضِ، والتَّدْبِيرُ، قُدِّمَ العِتْقُ، لأنَّه أسْبَقُ. وإنِ اجْتَمَعَ التَّدْبيرُ والوَصِيَّةُ بالعِتقِ، تَساوَيا؛ لأنَّهما جميعًا عتقٌ بعدَ المَوتِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقَدَّمَ التدبِيرُ؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ تَقَعُ فيه عَقِيبَ المَوتِ مِن غيرِ تَأخُّرٍ، والوَصِيَّةُ تَقِف على الإِعْتاقِ بعدَه. 2959 - مسألة: (ويَصِحُّ مِن كلِّ مَن تَصِحُّ وَصِيَّتُه) لأنَّه تَبَرُّعٌ بالمالِ بعدَ الموتِ، أشْبَهَ الوَصِيَّةَ. وقال الخِرَقِيُّ: يَصِحُّ تَدْبيرُه إذا جاوزَ العَشْرَ وكان يَعْرِفُ التدبِيرَ. وكذلك الجارِيَةُ إذا جاوزتِ التِّسْعَ. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: يَصِحُّ تدبيرُ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ. قال بعضُ أصحابِه: هو أصَحُّ قَوْلَيه. وهو إحْدَى الرِّوايتين عن مالكٍ. ورُوِيَ ذلك عن شرَيحٍ، وعبدِ الله بِنِ عُتْبَةَ. وقال الحسنُ، وأبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ تدبيرُه. وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن مالكٍ، والقولُ الثاني للشافعيِّ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ إعْتاقُه، فلم يَصِحَّ تَدبيرُه، كالمَجنونِ. ولَنا، أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أجازَ وَصِيَّةَ غُلامٍ مِن الأنْصارِ لأخْوالِه مِن غَسَّانَ بأرْض يُقالُ لها: بِئْرُ جُشَمَ (¬1)، قُوِّمَتْ بثَلاثينَ ألْفًا. رواهُ سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ (¬2). وكان الغُلامُ ابنَ عَشْرِ سِنِين، ورُوِيَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ. والتدبِيرُ في معنى الوَصِيَّةِ. وقد ذكَرْنا ذلك في كتابِ الوَصايا. ويُخالِفُ التدبيرُ العِتْقَ في الحياةِ؛ لأنَّ فيه تَفْويتًا لمالِه في حياتِه ووقْتِ حاجَتِه. والوَصِيَّة والتدبيرُ، لَا ضَرَرَ عليه فيهما، فإنَّه إن عاش لم يذْهَبْ شيءٌ مِن مالِه. وإن مات فهو غيرُ مُسْتَغْنٍ عن الثوابِ، فيكونُ ذلك زيادَةً في رَفْعِ دَرَجَتِه. وإنَّما خَصَّ الخِرَقِيُّ ابنَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لأنَّه يُؤْمَرُ بالصَّلاةِ، والجارِيَةَ بتِسْعٍ؛ لقولِ عائشَةَ: إذا بَلَغَتِ الجارِيَةُ تِسْعَ سِنين فهي امرأةٌ (¬3). ولأنَّه سِنٌّ يمكِنُ بُلوغُها فيه، ويَتَعَلَّقُ به أحكامٌ غيرُ ذلك. فأمّا المجْنونُ فلا يَصِحُّ شيءٌ مِن تَصَرُّفاتِه، فلذلك لم يَصِحَّ [تدْبيرُه. ويَصِحُّ] (¬4) ¬

(¬1) بئر جشم: موضع معروف بحوائط المدينة. (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 198. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 29. (¬4) سقط من: الأصل.

2960 - مسألة: (وصريحه لفظ العتق والحرية المعلقين بالموت)

وَصَرِيحُهُ لَفْظُ الْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ الْمُعَلَّقَينِ بِالْمَوْتِ، وَلَفْظُ التَّدْبِيرِ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ تدْبيرُ المَحْجور عليه للسَّفَهِ، لِما ذَكَرْنا لي الصَّبيِّ، بل هو أوْلَى بالصِّحة مِن الصَّبِيِّ، لأنَّه مُكَلَّفٌ، وحاجَتُه إلى الثَّوابِ أكثر مِن حاجةِ الصبيِّ. وصحَّةُ تدْبيرِ السَّكْرانِ مَبْنيَّةٌ (¬2) على صِحَّةِ وَصِيَّتِه، وقد ذَكَرْناه. وكلُّ مَن صَحَّ تَدْبيرُه، فهو كالمكَلَّفِ في صِحَّة رُجُوعِه قياسًا عليه. فصل: ويَصِحُّ تَدْبِيرُ الكافِرِ، ذِمِّيًّا كان أو حَرْبِيًّا، في دارِ الإسْلامِ وغيرِها، لأنَّ له مِلْكًا صَحِيحًا، فصَحَّ تَصَرُّفُه فيه، كالمسلمِ. فإن قيلَ: لو كان مِلْكُه صَحِيحًا لم يُمْلَكْ عليه بغيرِ اخْتيارِه. قلنا: هذا لا يُنافِي المِلْكَ، بدليلِ أَنه يَمْلِكُ في النِّكاحِ، وتُمْلَكُ عليه زوجَتُه بغيرِ اخْتيارِه. وحُكْمُ تدبيرِه حُكْمُ تَدبيرِ المسلمِ، على ما نذْكُرُه. 2960 - مسألة: (وصَرِيحُه لفْظُ العِتْقِ والحُرِّيةِ المُعَلَّقَين بالموتِ) كقَولِه: أنتَ حُرٌّ، أو عَتِيقٌ، أوْ مُعْتَقٌ، أو مُحَرَّرٌ ¬

(¬1) في المخطوطة: «منهما»، وفي المطبوعة: «منه»، والمثبت كما في متن المبدع 6/ 326، وهو موافق لنسخ الإنصاف الثلاث. (¬2) في الأصل: «مبنى».

2961 - مسألة: (ويصح مطلقا ومقيدا)

وَيَصِحُّ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أوْ: عَامِي هَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ: مُدَبَّرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ موتي. فيَصِيرُ بذلك مُدَبَّرًا، بلا خِلافٍ نَعْلَمُه. وكذلك إن قال: أنتَ مُدَبَّرٌ، أو قد دَبَّرتُك. فإنَّه يَصِيرُ مُدَبَّرًا بمُجَرَّدِ اللفظِ، وإن لم يَنْوه. هذا منصوصُ الشافعيِّ. وقال أصحابُه: فيه قولٌ آخَرُ؛ أنَّه ليس بصَرِيحٍ، ويَفْتَقِرُ إلى النِّيةِ؛ لأنَّهما لفْظان لم يَكْثُرِ استعمالُهما، فافْتَقَرا إلى النِّيةِ، كالكِناياتِ. ولَنا، أنَّهما لفْظان وُضِعَا لهذا العَقْدِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى النِّيةِ، كالبَيعِ، بخِلافِ الكِناياتِ، فإنَّها غيرُ موضوعةٍ له، ويُشارِكُها فيه غيرُها، فافْتَقَرت إلى النِّيةِ للتَّعْيِينِ وتَرْجِيحِ أحَدِ المُحْتَمَلَين، بخِلافِ الموضوعِ، فإنَّه لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيةِ، كلَفْظِ العِتْقِ. 2961 - مسألة: (ويَصِح مُطْلَقًا ومُقَيّدًا) فالمُطْلَقُ تَعْلِيقُ العِتْقِ بالمَوتِ مِن غيرِ شَرْطٍ آخَرَ. والمُقَيَّدُ ضَرْبانِ؛ أحدُهما، خاصٌّ مثلَ (أن يقولَ: إن مِتُّ مِن مَرَضِي هذا) أو في بلَدي هذا (أو) في (عامِي هذا، فأنْتَ حُرٌّ) فهذا جائِزٌ على ما قال، إن مات على الصِّفَةِ التي شَرَطها عَتَقَ العَبدُ، وإلَّا فلا. وقال مُهَنَّا: سألتُ أحمدَ عمَّن قال لعَبدِه: أنتَ مُدَبَّرٌ. قال: يكونُ مُدَبَّرًا ذلك اليومَ، فإن مات في ذلك اليومِ صار حرًّا. يعني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا مات السيدُ. الثاني، أن يُعَلِّقَ التدبيرَ على صِفَةٍ، مثلَ أن يقولَ: إن دَخَلْتَ الدارَ فأنتَ مُدَبَّرٌ، أو إن قَدِمَ زَيدٌ، أو إن شَفَى اللهُ مريضِي، فأنت حُرٌّ بعدَ مَوتي. فهذا لا يَصِيرُ مُدَبَّرًا في الحالِ؛ لأنَّه عَلَّقَ التدبِيرَ على شَرْطٍ. فإذا وُجِدَ صار مُدبَّرًا وعَتَق بموتِ سَيِّدِه. وإن لم يُوجَدْ في حياةِ السَّيِّدِ ووُجِدَ بعدَ موتِه لم يَعْتِقْ؛ لأنَّ إطْلاقَ الشرطِ يَقْتَضِي وُجُودَه في الحياةِ، بدليلِ ما لو عَلَّقَ عليه عِتْقًا مُنْجَزًا، فقال: إذا دَخَلْتَ الدارَ فأنتَ حُرٌّ. فدَخَلَها بعدَ مَوتِه، لم يَعْتِقْ. ولأنَّ المُدَبَّرَ مَن عُلِّقَ عِتْقُه بالمَوتِ، وهذا قبلَ المَوت لم يكنْ مُدَبَّرًا. وبعدَ المَوتِ لا يُمْكِنُ حُدوثُ التدبيرِ فيه. فصل: فإن قال لعبْدِه: إذا قرأتَ القرآنَ فأنتَ حر بعدَ مَوتِي. فقرأ القرآنَ جَمِيعَه، صار مدَبَّرًا. وإن قرأ بَعْضَه لم يَصِرْ مُدَبَّرًا. وإن قال: إذا قرأتَ قُرْآنًا فأنتَ حُرٌّ بعدَ مَوتِي. فقرأ بَعْضَ القرآنِ، صار مُدَبَّرًا؛ لأنَّه في الأُولَى عَرَّفَه بالألفِ واللامِ المُقْتَضِيَةِ للاسْتغْراقِ، فعاد إلى جَمِيعِه، وههنا نَكَّرَه، فاقْتَضَى بعضَه. فإن قيلَ: فقد قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1). {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَينَكَ وَبَينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (¬2). ولم يُرِدِ القرآنَ جميعَه. قلنا: قَضِيَّةُ اللفظِ تَتَناولُ جميعَه؛ لأن الألفَ واللامَ للاسْتِغْراقِ، وإنَّما حُمِلَ على بعضِه بدَلِيل، فلا يُحْمَلُ ¬

(¬1) سورة النحل 98. (¬2) سورة الإسراء 45.

2962 - مسألة: (وإن قال: متى شئت فأنت مدبر)

وَإنْ قَال: مَتَى شِئْتَ فَأنْتَ مُدَبَّرٌ. فَمَتَى شَاءَ في حَيَاةِ السَّيِّدِ صَارَ مُدَبَّرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على البعضِ في غيرِ ذلك الموضعِ بغيرِ دليل. ولأنَّ قَرِينَةَ الحالِ تَقْتَضِي قِراءةَ جَميعِه؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّه أراد تَرْغِيبَه في قِراءةِ القرآنِ، فتَتَعَلَّقُ الحُرِّيةُ به، أو مُجازاتَه على قِراءَتِه بالحُرِّيةِ. والظاهِرُ أنَّه لا يُجازَى بهذا الأمرِ الكثيرِ ولا يُرَغَّبُ به إلَّا فيما يَشقُّ، أمَّا قِراءةُ آيةٍ أو آيَتَين فلا. 2962 - مسألة: (وإن قال: متى شِئْتَ فأنتَ مدَبَّرٌ) أو: أنت حُرٌّ بعدَ مَوتِي. أو: إذا شِئْتَ. أو: أيَّ وقتٍ شِئتَ، فهو تَدْبيرٌ بصِفَةٍ (فمتى شاء في حياةِ سَيِّدِه صار مُدَبَّرًا) يَعْتِقُ بموتِه؛ لأنَّ المشِيئةَ هُنا على التَّراخِي، فمتى وُجِدَت المَشِيئَةُ وُجِدَ الشرطُ، فهو كما لو قال: إن دخلْتَ الدارَ فأنتَ حُرٌّ بعدَ مَوتِي. فدَخَلَها في حياةِ السَّيِّدِ، وإن مات السيدُ قبلَ مَشِيئَتِه بَطَلَتِ الصِّفَةُ، كما لو مات في المسألةِ الأخْرَى قبلَ دُخُولِ الدارِ. وإن قال: متى شْئتَ بعدَ مَوتِي فأنتَ حُرٌّ، أو أيَّ وَقْتٍ شئتَ بعدَ مَوْتِي. فهو تَعْلِيق للعِتْقِ على صِفَةٍ بعدَ الموتِ. وقد ذَكَرْنا أنَّه لا يَصِحُّ. وقال القاضي: يَصِحُّ. فعلى قولِه، يكونُ ذلك على التَّراخِي، فمتى شاء [بعدَ مَوتِ سَيِّدِه] (¬1) عَتَق. وما كَسَب قبلَ مَشِيئَتِه فهو لوَرَثَةِ سَيدِه؛ لأنَّه عبدٌ ¬

(¬1) في الأصل: «سيده بعد الموت».

2963 - مسألة: (وإن قال: إن شئت فأنت مدبر. فقياس المذهب)

وَإنْ قَال: إِنْ شِئْتَ فَأنْتَ مُدَبَّرٌ. فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَقَال أبُو الْخَطَّابِ: إِنْ شَاءَ في الْمَجْلِسِ صَارَ مُدَبَّرًا، وإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ ذلك، بخِلافِ المُوصَى به، فإنَّ في كَسْبِه قبلَ القَبولِ وَجْهَين؛ أحدُهما، يكون للمُوصَى له؛ لأنَّا تَبَينَّا مِلْكَه حينَ الموتِ، وههنا لا يَثْبُت المِلْكُ قبلَ المَشِيئَةِ وجهًا واحدًا؛ لأنَّه عِتْقٌ مُعَلَّقٌ على شَرْطٍ، فلا يَثْبُتُ العِتْق قبلَ الشَّرْطِ وجهًا واحدًا. 2963 - مسألة: (وإن قال: إن شِئْتَ فأنتَ مُدَبَّرٌ. فقِياسُ المذهبِ) أنَّه على التَّراخِي كقولِه: متى شِئْتَ. (وقال أبو الخَطَّابِ: إن شاء في المجْلِسِ صار مُدَبَّرًا، وإلَّا فلا) وكذلك قال القاضي في قولِه: إذا شِئْتَ، وإن شِئْتَ، فأنتَ حُرٌّ بعدَ مَوْتِي. على أنَّه على الفَوْرِ، إن شاء في المجْلِسِ صار مُدَبَّرًا، وإلَّا بَطَلَتِ الصِّفَة ولم يَصِرْ مُدَبَّرًا بالمشِيئَةِ بعدَه، بِناءً على قولِه: اخْتارِي نَفْسَكِ. فإنَّه يَقِفُ على المجلسِ، وهذا في مَعْناه. وإن قال: إن شِئْتَ بعدَ مَوتِي، أو إذا شِئْتَ بعدَ موتَي، فأنتَ حُرٌّ. كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الفَوْرِ أيضًا. فمتى شاء عَقِيبَ مَوتِ سَيِّدِه، أو في المجلسِ، صار حُرًّا. وإن تَراخَتْ مَشِيئَتُه عن المجلِسِ، لم يَثْبُتْ فيه حُرِّيةٌ. وذَكَر في الطَّلاقِ، أنَّه إذا قال: أنتِ طالِقٌ إن شئتِ وشاء أبُوكِ. فشاءا معًا، وقَعَ الطَّلاقُ، سواءٌ شاءا (¬1) على الفَوْرِ أو التَّراخِي، أو شاء أحَدُهما على الفَوْرِ والآخَرُ على التَّراخِي. وهذا مِثلُه، فيُخَرَّجُ في كل مَسْألةٍ مثلُ ما ذَكَرَه في الأُخْرَى. فصل: وإذا قال لعبدِه: إذا متُّ فأنتَ حُرٌّ. أوْ لا؟ أو قال: أنتَ حرٌّ أو لستَ بحُرٍّ؟ لم يَصِرْ مُدَبَّرًا؛ لأنَّه اسْتفهامٌ، ولم يَقْطَعْ بالعِتْقِ. فهو كما لو قال لزوجتِه: أنتِ طالِق أوْ لا؟ وسَنَذْكُرُ ذلك في الطَّلاقِ. ¬

(¬1) في م: «شاء».

2964 - مسألة: (وإذا قال: قد رجعت في تدبيري. أو: أبطلته. لم يبطل؛ لأنه تعليق للعتق بصفة. وعنه، أنه يبطل، كالوصية)

وَإذَا قَال: قَدْ رَجَعْتُ في تَدْبِيرِي. أو: قَدْ أبطَلْتُهُ. لَمْ يَبْطُلْ؛ لأنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ. وَعَنْهُ، يَبْطُلُ، كَالْوَصِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2964 - مسألة: (وإذا قال: قد رَجَعْتُ في تَدبيرِي. أو: أبْطَلْتُه. لم يَبْطُلْ؛ لأنَّه تَعْلِيقٌ للعِتْقِ بصِفَةٍ. وعنه، أنَّه يَبْطُلُ، كالوَصِيَّةِ) اخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، في بُطْلانِ التدبيرِ بالرُّجُوعِ فيه قولًا. فالصَّحِيحُ أنَّه لا يَبْطُلُ؛ لأنَّه عَلَّقَ العِتْقَ بصِفةٍ فلا يَبْطُلُ، كما لو قال: إن دَخَلْتَ الدارَ فأنتَ حُرٌّ. والثانيةُ، يَبْطُلُ؛ لأنَّه جَعَل له نَفْسَه بعدَ مَوتِه، فكانَ ذلك وَصِيَّةً، فجاز الرُّجُوعُ فيه بالقولِ، كما لو وَصَّى له بعبدٍ آخَرَ. وهو قولُ الشافعيِّ القَدِيمُ. وقولُه الجديدُ كالرِّوايةِ الأُولَى. وهو الصحيحُ، كتَعْلِيقِه بصِفةٍ في الحياةِ. ولا يَصِحُّ القولُ بأنَّه وَصِيَّةٌ به لنَفْسِه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ نَفْسَه، وإنَّما تَحْصُلُ فيه الحُرِّيةُ ويَسْقُطُ عنه الرِّقُّ، ولهذا لا تَقِفُ الحُرِّيةُ على قَبُولِه واخْتِيارِه، وتَنْجَزُ عَقِيبَ الموتِ، كتَنْجِيزِ ها عَقِيبَ سائِرِ الشُّرُوطِ. ولأنَّه غيرُ مُمْتَنِعٍ أن يَجْمَعَ الأمْرَين، فيَثْبُتَ فيه حُكْمُ التَّعْلِيقِ في امْتِناعِ الرُّجُوعِ، ويَجْتَمِعان في حُصُولِ العِتْقِ بالموتِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال السَّيِّدُ لمُدَبَّرِه: إذا أدَّيتَ إلى وَرَثَتِي كذا فأنْتَ حُرٌّ. فهو رُجُوعٌ عن التَّدْبيرِ، ويَنْبَنِي على الرِّوايَتَين؛ إن قُلْنا: إنَّ له الرُجُوعَ بالقولِ. بَطَل التَّدْبيرُ. وإن قُلْنا: ليس له الرُّجوعُ. لم يُؤثِّرْ هذا القولُ شيئًا. وإن دَبَّرَه كلَّه ثم رَجَع في نِصْفِه، صَحَّ إذا قُلْنا بصِحَّةِ الرُّجُوعِ في جميعِه؛ لأنَّه لمَّا صَحَّ أن يُدَبِّرَ نِصْفَه ابْتِداءً، صَحَّ أن يَرْجِعَ في تَدْبيرِ نِصْفِه. وإن غَيَّرَ التَّدْبِيرَ، فكان مُطْلَقًا، فجَعَلَهُ مُقَيَّدًا [صار مُقَيَّدًا] (¬1)، إن قُلْنا: يَصِحُّ الرجوعُ. وإلَّا فلا. فإن كان مُقَيَّدًا فأطْلَقَه، صَحَّ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّه زيادةٌ فلا يُمْنَعُ منها. وإذا دَبَّرَ الأخْرَسُ، وكانت إشارَتُه أو كِتابَتُه مَعْلُومةً، صَحَّ تَدْبِيرُه. ويَصِحُّ رُجُوعُه، إن قُلْنا بصِحَّةِ الرُّجوعِ في التَّدْبِيرِ؛ لأنَّ إشارَتَه وكِتابَتَه تقومُ مَقامَ نُطْقِ النَّاطقِ في أحْكامِه، وإن دَبَّرَ وهو نَاطِقٌ، ثم خَرَس، صَحَّ رُجُوعُه بإشارَتِه المعلومةِ أو كِتابَتِه. وإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه، فلا عِبْرَةَ بها؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ رُجُوعُه. ¬

(¬1) سقط من: م. وبياض في الأصل. وانظر المغني 14/ 423.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا رُهِنَ المُدَبَّرُ لم يَبْطُلْ تَدْبِيرُه؛ لأنَّه تَعْلِيقٌ للعِتْقِ بصِفَةٍ. فإن مات السيدُ وهو رَهْنٌ عَتَق، وأُخِذَ مِن تَرِكَتِه قِيمَتُه، فتكونُ رَهْنًا مَكانَه؛ لأنَّ عِتْقَه بسَبَبٍ مِن جِهَةِ سيدِه، فأشبَهَ ما لو باشَرَه بالعِتْقِ نَاجِزًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن ارْتَدَّ المُدَبَّرُ ولَحِقَ بدارِ الحَرْبِ لم يَبْطُلْ تَدْبِيرُه؛ لأنَّ مِلْكَ سيدِه باقٍ عليه، ويَصِحُّ تَصَرُّفه فيه بالعِتْقِ والهِبَةِ والبَيعِ، إن كان مَقْدُورًا عليه. فإن سَباه المسلمون لم يَمْلِكُوه؛ لأنَّه مَمْلُوكٌ لمَعْصُومٍ، ويُرَدُّ إلى سَيِّدِه إن عُلِمَ به قبلَ قَسْمِه. ويُسْتَتابُ فإن تاب وإلَّا قُتِلَ، وإن لم يُعْلَمْ به حتى قُسِمَ، لم يُرَدَّ إلى سَيِّدِه، في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأُخرَى، إنِ اخْتارَ سَيِّدُه أخْذَه بالثَّمَنِ الذي حُسِبَ به على آخِذِه أخَذَه وإن لم يَختَرْ أخْذَه، بَطَل تَدْبِيرُه. ومتى عاد إلى سَيِّدِه بوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، عادَ تَدْبِيرُه. وإن لم يَعُدْ إلى سَيدِه، بَطَل تَدْبِيرُه، كما لو بِيعَ وكان رقِيقًا لمَن هو في يَدِه. وإن مات سَيِّدُه قبلَ سَبْيِه عَتَقَ. فإن سُبِيَ بعدَ هذا لم يُرَدَّ إلى وَرَثَةِ سَيِّدِه؛ لأنَّ مِلْكَه زال عنه بحُرِّيتِه، فصار كأحْرارِ دارِ الحَرْبِ، ولكن يُسْتَتابُ، فإن تاب وأسْلَمَ صارَ رَقِيقًا، يُقْسَمُ بينَ الغانِمينَ. وإن لم يَتُبْ قُتِلَ، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُه؛ لأنَّه لا يُقَرُّ على كُفْرِه. وقال القاضي: لا يَجُوزُ اسْتِرْقاقُه إذا أسْلَمَ. وهو قولٌ للشافعيِّ؛ لأنَّ في اسْتِرْقاقِه إبطَال ولاءِ المسلمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي (¬1) أعْتَقَه. ولَنا، أنَّ هذا لا يَمْنَعُ قَتْلَه، وإذْهابَ نفسِه وولائه، فلأنْ لا يَمْنَعَ تَمَلُّكَه أوْلَى، ولأنَّ المَمْلُوكَ الذي لم (¬2) يُعْتِقْه سيدُه يَثْبُتُ المِلْكُ فيه للغانِمين إذا لم يُعْرَفْ مالِكُه بعَينِه، ويَثْبُتُ فيه إذا قُسِمَ قبلَ العِلْمِ بمالِكِه، والمِلْكُ آكَدُ مِن الولاءِ، فلأنْ يَثْبُتَ مع الولاءِ وحدَه أوْلَى. فعلى هذا، لو كان المُدَبَّرُ ذِميًّا فلَحِقَ بدارِ الحربِ، ثم مات سَيدُه، أو أعْتَقَه، ثم قَدَر عليه المسلمون فسَبَوْه، ملَكُوه وقَسَمُوه. وعلى قولِ القاضي، وقولِ الشافعيِّ، لا يَمْلِكُونه. فإن كان سَيدُه ذِميًّا، جاز اسْتِرْقاقُه في قولِ القاضي. ولأصحاب الشافعيِّ في اسْتِرْقاقِه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يجوزُ. وهذا حُجَّةٌ عليهم؛ لأنَّ عِصْمَةَ مالِ الذِّميِّ كعِصْمَةِ مالِ المسلمِ، بدليلِ قَطعِ سارِقِه (¬3) سواءٌ كان مسلمًا أو ذِميًّا، ووُجُوبِ ضَمانِه، وتَحْرِيم تَمَلكِ مالِه إذا أخَذَه الكفارُ ثم قَدَر عليه المسلمون فأدْرَكَه صاحِبُه قبلَ ¬

(¬1) في الأصل: «إذا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «سارقيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسْمةِ. قال القاضي: الفَرْقُ بينَهما أنَّ سَيِّدَه ههُنا لو لَحِقَ بدارِ الحربِ جازَ تَمَلُّكُه، فجازَ تَمَلُّكُ عَتيقِه؛ بخِلافِ المسلمِ. قُلْنا: إنَّما جاز اسْتِرْقاقُ سَيِّدِه؛ لزوالِ عِصْمَتِه، وذَهابِ عاصِمِه، وهو ذِمَّتُه وعَهْدُه، وأمَّا إذا ارْتَدَّ مُدَبَّرُه، فإنَّ عِصْمةَ ولائِه ثابتةٌ بعِصْمَةِ مَن له وَلاؤُه، وهو والمسلمُ في ذلك سواءٌ، فإذا جاز إبْطالُ أحَدِهما، جاز في الآخرِ مثلُه. فصل: فإنِ ارْتَدَّ سَيِّدُ المُدَبَّرِ، فذكَرَ القاضي أنَّ المذهبَ أنَّه يكونُ مَوْقوفًا، فإن عاد إلى الإسلامِ فالتَّدْبِيرُ باق بحالِه؛ لأنَّا (¬1) تَبَينا أنَّ مِلْكَه لم يَزُلْ، وإن قُتِلَ أو مات على رِدَّتِه لم يَعْتِقِ المُدَبَّرُ؛ لأنَّا تَبَّينّا أن مِلْكَه زال برِدَّتِه. وقال أبو بكرٍ: قياسُ قولِ أبي عبدِ اللهِ، أنَّ تَدْبِيرَه يَبْطُلُ ¬

(¬1) في م: «وإلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرِّدَّةِ، فإن عاد إلى الإِسْلام استأْنَف التَّدْبيرَ. وقال الشافعيُّ: التَّدْبِيرُ باقٍ، ويَعْتِقُ بمَوتِ سَيِّدِه؛ لَأنَّ تَدْبِيرَه سَبَقَ رِدَّتَه، فهو كبَيعِه وهِبَتِه قبلَ ارْتِدادِه. وهذا يَنْبَني على القولِ في مالِ المُرْتَدِّ، هل هو باق على مِلْكِه، أو قد زال برِدَّتِه؟ وسيُذْكَرُ في بابِ المُرْتَدِّ. فأمّا إن دَبَّرَ في حالِ رِدَّتِه، فتَدْبِيرُه مُراعًى؛ إن عاد إلى إلإِسْلامِ تَبَيَّنّا أنَّ تَدْبِيرَه وَقَعَ صَحِيحًا، وإن قُتِلَ أو مات تَبَيَّنّا أنَّه وَقَعَ بَاطِلًا، ولم يَعْتِقِ المُدَبَّرُ. وقال ابنُ أبي موسى: تَدْبِيرُه باطلٌ. وهو قولُ أبي بكرٍ؛ لأنَّ المال يزولُ بالرِّدَّةِ، وإذا أسْلَمَ رُدَّ إليه تَملُّكًا (¬1) مُسْتَأنَفًا. ¬

(¬1) في الأصل: «تمليكا».

2965 - مسألة: (وله بيع المدبر وهبته. وإن عاد إليه عاد التدبير. وعنه، لا يباع إلا في الدين. وعنه، لا تباع الأمة خاصة)

وَلَهُ بَيعُ الْمُدَبَّرِ وَهِبَتُهُ. وَإنْ عَادَ إِلَيهِ عَادَ التَّدْبِيرُ. وَعَنْهُ، لَا يُبَاعُ إلا في الدَّينِ. وَعَنْهُ، لَا تُبَاعُ الْأمَةُ خَاصَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2965 - مسألة: (وله بَيعُ المُدَبَّرِ وَهِبَتُهُ. وإن عاد إليه عاد التَّدْبِيرُ. وعنه، لا يُباعُ إلَّا في الدَّينِ. وعنه، لا تُباعُ الأمَةُ خاصَّةً) اخْتَلَفْتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في بَيعِ المُدَبَّرِ؛ فنَقَل عنه جَماعَةٌ جوازَ بَيعِه مُطْلَقًا، في الدَّينِ وغيرِه، مع الحاجَةِ وعَدَمِها. قال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ (¬1): سألتُ أحمدَ عن بَيعِ المُدَبَّرِ إذا كان بالرجلِ ¬

(¬1) في م: «سعد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حاجَةٌ إلى ثَمَنِه، فقال: له أن يَبِيعَه، مُحْتاجًا كان أو غيرَ محتاجٍ. قال شيخُنا (¬1): وهذا هو الصَّحِيحُ. ورُوِيَ مثلُ هذا عن عائشةَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وطاوُس، ومُجاهِدٍ. وهو قولُ الشافعيِّ. وكَرِهَ بَيعَه ابنُ عُمَرَ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ سيرينَ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وأصْحابُ الرَّأي، ومالكٌ؛ لأنَّ ابنَ عمرَ روَى، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُباعُ المُدَبَّرُ ولا يُشْتَرَى» (¬2). ولأنَّه اسْتَحَقَّ العِتْقَ بمَوتِ سَيِّدِه، أشْبَهَ أمَّ الوَلَدِ. ولَنا، ما روَى جابِرٌ أنَّ رَجُلًا أعْتَقَ مَمْلُوكًا له عن دُبُرٍ، فاحْتاجَ، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فباعَه مِن نُعَيمِ بنِ عبدِ اللهِ بثَمانِمائةِ دِرْهَمٍ، فدَفَعَها إليه، وقال: «أنتَ أحْوَجُ مِنْهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). قال جابرٌ: عَبْدٌ قِبْطِيٌّ مات عامَ أولَ في إمارةِ ابنِ الزُّبَيرِ. قال أبو إسْحاقَ الجُوزْجانِيُّ: صَحَّت أحادِيثُ بَيعِ المُدَبَّرِ باسْتِقامَةِ الطرُّقِ. والخَبَرُ إذا ثَبَتَ اسْتُغْنِيَ به عن غيرِه مِن رَأيِ الناسِ. ولأنَّه عِتْقٌ بصِفَةٍ ثَبَتَ بقولِ المُعْتِقِ، فلم يَمْنَع البَيعَ، كما لو قال: إن دَخَلْتَ الدارَ فأنْتَ حُرٌّ. ولأنَّه تَبَرُّع بمالٍ بعدَ الموتِ، ¬

(¬1) في: المغني 14/ 420. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب المكاتب. سنن الدارقطني 4/ 138.والبيهقي، في: باب من قال: لا يباع المدبر ولا يشترى، من كتاب المدبر. السنن الكبرى 10/ 314 وضعفاه، وانظر إرواء الغليل 6/ 177. (¬3) تقدم تخريجه في 18/ 379.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَم يَمْنَعِ البَيعَ في الحياةِ، كالوَصِيِّةِ. قال أحمدُ: هم يقولون: مَن قال: غُلامِي حُرٌّ رأسَ الشَّهْرِ. فله بَيعُه قبلَ رأسِ الشهرِ. فإن قال: غدًا. فله أن يبيعَه اليومَ. وإن قال: إذا مِتُّ. قال: لا يَبِيعُه. فالموتُ أكبرُ (¬1) مِن الأجَلِ، ليس هذا قِياسًا، إن جاز أن يَبِيعَه قبلَ رأسِ الشَّهْرِ، فله أن يَبِيعَه قبلَ مَجئِ الموتِ، وهم يقولون في مَن قال: إن مِت مِن مَرَضِي هذا فعَبْدي حرٌّ. ثم لم يَمُت مِن مَرَضِه ذلك، فليس بِشَيءٍ. فإن قال: إن مِتُّ فهو حرٌّ. لا يُباعُ. هذا مُتناقِضٌ، إنَّما أصْلُه الوَصِيِّةُ مِن الثُّلُثِ، فله أن يُغيِّرَ وصِيَّتَه ما دام حَيًّا. فأمَّا خَبَرُهُم، فلم يَصِحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إنَّما هو مِن قولِ ابنِ عمرَ. قال الطَّحاويُّ: هو عِن ابنِ عمرَ، وليس بمُسْنَدٍ عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد بعدَ الموتِ، أو على الاستِحْبابِ. ولا يَصِحُّ قياسُه على أمِّ الوَلَدِ؛ لأنَّ عِتْقَها يثْبُتُ بغيرِ اخْتِيارِ سَيِّدِها، وليس بتَبَرُّع، ويكونُ مِن جميعِ المالِ، ولا يُمْكِنُ إبْطالُه بحالٍ، والتَّدْبِيرُ بخِلافِه. والهِبَةُ كالبَيعِ؛ لأنَّها تَمْلِيكٌ في الحياةِ، فأشْبَهَتِ البَيعَ. ورُوِيَ [عن أحمدَ] (¬2) رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّه لا يُباعُ إلَّا في الدَّينِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وقال مالكٌ: لا يُباعُ إلَّا في دَين يَغْلِبُ رَقَبَةَ العَبْدِ. فإذا ¬

(¬1) في م: «أكثر». (¬2) في م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان العَبدُ يُساوي ألفًا، وكان عليه خَمْسُمائةٍ، لم يُبَعْ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: أنا أرَى بَيعَ المُدَبَّرِ في الدَّينِ، وإذا كان فَقِيرًا لا يَمْلِكُ شيئًا رأيتُ أن أبِيعَه؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المُدَبَّرَ لمَّا عَلِمَ أنَّ صاحِبَه لا يَمْلِكُ شيئًا غيرَه، باعَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لِما علِمَ [مِن حاجَتِه] (¬1). وهذا قولُ إسحاقَ، وأبي أيوبَ، وأبي خَيثَمَةَ (¬2)، وقالا (¬3): إن باعه مِن غيرِ حاجةٍ أجَزْناه. وهذا مِثلُ الرِّوايةِ الأولَى. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ والرِّوايةِ التي قال أحمدُ أنَّه يَرَى بَيعَه في الدَّينِ وإذا كان صاحِبُه فَقِيرًا لا يَمْلِكُ غيرَه، حَدِيثُ (¬4) جابرٍ المَذْكُورُ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باع المُدَبَّرَ عندَ الحاجةِ، فلا يُتَجاوَزُ به مَوْضِعَ الحاجةِ. وعن أحمدَ رِوايةٌ رابعة، أنَّ الأمَةَ لا تُباعُ خاصَّةً. قال شيخُنا (¬5): لا نَعْلَمُ هذا التَّفْرِيقَ بينَ المُدَبَّرِ والمُدَبَّرَةِ عن ¬

(¬1) في الأصل: «صاحبه». (¬2) كذا بالنسحتين وأصل المغني، وفي بعض نسخه: «أبي ثور وأبي حنيفة». (¬3) في م: «قال». (¬4) في الأصل: «لحديث». (¬5) في: المغني 14/ 421.

2966 - مسألة: (وإن عاد إليه عاد التدبير)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ إمامِنا، رحِمَه الله، وإنَّما احْتاطَ في روايَةِ المَنْعِ مِن بَيعِها؛ لأنَّ فيه إباحةَ فَرْجِها، وتَسْلِيطَ مُشْتَرِيها علي وَطْئِها مع الخِلافِ في بَيعِها وحِلِّها، فكرِه الإِقْدَامَ على ذلك مع الاخْتِلافِ فيه، والظاهِرُ أنَّ المَنْعَ منه كان على سَبِيلِ الوَرَعِ لا على التَّحْريمِ؛ فإنَّه إنَّما قال: لا يُعْجِبُنِي بَيعُها. والصَّحِيحُ جَوَازُ بَيعِها، فإنَّ عائِشَةَ باعَتْ مُدَبَّرَةً لها سَحَرَتْها. ولأنَّ المُدَبَّرَةَ في مَعْنَى المُدَبَّرِ، فما ثَبَتَ فيه ثَبَتَ فيها. 2966 - مسألة: (وإن عاد إليه عاد التَّدْبِيرُ) لأنَّه عَلَّقَ عِتْقَه بصِفَةٍ (¬1) فإذَا باعه [ثم عاد إليه] (¬2)، عادت الصِّفَةُ إليه (¬3)، كما لو قال: أنتَ حُرٌّ إن دَخَلْتَ الدارَ. فباعه ثم اشْتَراه. وذَكَرَ القاضي، أن هذا مَبْنِيٌّ على أنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ بصِفَةٍ. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه وَصِيَّةٌ، فيَبْطُلُ بالبَيعِ، ولا يَعُودُ؛ لأنَّه لو وَصَّى بشيءٍ ثم باعه بَطَلَتِ الوَصِيَّةُ، ولم تَعُدْ بشِرائِه. ¬

(¬1) في الأصل: «نصفه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

2967 - مسألة: (وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فهو بمنزلتها، ولا يتبعها ولدها من قبل التدبير)

وَمَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ تَدْبِيرِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا، وَلَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا مِنْ قَبْلِ التَّدْبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مذهبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ عَوْدَ الصِّفَةِ بعدَ الشِّراءِ له فيه قولان. والصَّحِيحُ أنَّ الصِّفَةَ تَعُودُ بِعَوْدِه إلى مِلْكِه؛ لأنَّ التَّدْبِيرَ وُجِدَ فيه التَّعْلِيقُ بصِفَةٍ (¬1)، فلا يَزُولُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ بوُجُودِ مَعْنى الوَصِيِّةِ فيه، بل هو جامِعٌ للأمْرَين (¬2)، وغيرُ مُمْتَنِعٍ وُجُودُ الحُكْمِ بسَبَبَين، فيَثْبُتُ حُكْمُهما فيه. 2967 - مسألة: (ومَا ولدتِ المُدَبَّرَةُ بعدَ تَدْبيرِها فهو بمَنْزِلَتِها، ولا يَتْبَعُها وَلَدُها مِن قبلِ التَّدْبِيرِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الولدَ الحادِثَ مِن المُدَبَّرَةِ بعدَ تَدْبِيرِها لا يَخْلُو مِن حالينِ؛ أحَدُهما، أن يكونَ مَوْجودًا حال تَدْبِيرِها، ويُعْلَمُ ذلك بأن تَأتِيَ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهرٍ مِن حينِ ¬

(¬1) في الأصل: «نصفه». (¬2) في م: «لأمرين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّدْبِيرِ، فهذا يَدْخُلُ معها في التَّدْبيرِ بغَيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه كعُضْوٍ مِن أعْضَائِها، فإن بَطَلَ التَّدْبِيرُ في الأَمِّ لِبَيعٍ أو مَوْتٍ، أو رُجُوعٍ بالقولِ، لم يَبْطُلْ في الوَلَدِ؛ لأنَّه ثَبَتَ أصْلًا. الحالُ الثاني، أن تَحْمِلَ به بعدَ التَّدْبِيرِ، فهذا يَتْبَعُ أمَّهُ في التَّدْبِيرِ، ويكونُ حُكْمُه حُكْمَها في العِتْقِ بمَوتِ سَيِّدِها، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ (¬1)، وابنِ عمرَ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، والقاسمُ، ومجاهدٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والحسنُ بنُ صالحٍ، وأصحابُ الرَّأي. وذكَرَ القاضي أنَّ حَنْبَلًا نَقَلَ عن أحمدَ، أنَّ وَلدَ المُدَبَّرَةِ عبدٌ إذا لم يَشْرُطِ المَوْلَى. قال: فظاهِرُ هذا أنَّه لا يَتْبَعُها، ولا يَعْتِقُ بمَوتِ سَيدِها. وهذا قولُ جابرِ بنِ زيدٍ، وعطاءٍ. وللشافعيِّ قوْلان كالمَذْهَبَين؛ أحَدُهما، لا يَتْبَعُها. وهو اخْتِيارُ المُزَنِيِّ؛ لأنَّ عِتْقَها مُعَلَّقٌ بصِفَةٍ، ثَبَتَ بقولِ المُعْتِقِ وَحْدَه، فأشْبَهَتْ مَن عُلِّقَ عِتْقُها بدُخولِ الدارِ. قال جابرُ بنُ زيدٍ: إنَّما هو بمَنْزِلةِ الحائطِ تَصَدَّقْتَ به إذا مِتَّ، فإنَّ ثَمَرَتَه لك ما عِشْتَ. ولأنَّ التدبيرَ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في ولد المدبرة. . . .، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 165.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَصِيَّةٌ، وولدُ المُوصَى بها قبلَ الموتِ لسيدِها. ولَنا، ما رُوِيَ عن عمرَ، وابنِ عمرَ، وجابرٍ (¬1)، أنَّهم قالوا: ولَدُ المُدَبَّرَةِ بمَنْزِلَتِها. ولم نَعْرِفْ لهم في الصحابةِ مُخَالفًا، فكان إجْماعًا، ولأنَّ الأمَّ اسْتَحَقَّتِ الحُرِّيةَ بموتِ سَيدِها، فيَتْبَعُها ولَدُها، كأُمِّ الولدِ. ويُفارِقُ التَّعْلِيقَ بصِفَةٍ في الحياةِ، والوَصِيَّةَ؛ لأنَّ التَّدْبِيرَ آكَدُ مِن كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّه اجْتَمَعَ فيه الأمرانِ (¬2)، وما وُجِدَ فيه سببان آكَدُ ممَّا وُجِدَ فيه أحَدُهما، ولذلك لا يَبْطُلُ بالمَوْتِ، ولا بالرُّجُوعِ عنه. فعلى هذا، إن بَطَلَ التَّدْبِيرُ في الأُمِّ لمعنًى اخْتَصَّ بها مِن بَيعٍ، أو مَوْتٍ، أو رُجُوعٍ، لم يَبْطُلْ في وَلَدِها، ويَعْتِقُ بمَوتِ سَيدِها، كما لو كانت أمُّه باقِيَةً على التَّدْبِيرِ. فإن لم يَتَّسِع الثُّلُثُ لهما جميعًا أُقْرِعَ بينَهما، فأيُّهما خَرَجَتِ القُرْعَةُ له عَتَق إنِ احْتَمَلَه الثُّلُثُ، وإلَّا عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ. وإن فَضَلَ مِن الثُّلُثِ بعدَ عِتْقِه شيءٌ كُمِّلَ مِن الآخَرِ، كما لو دَبَّرَ عَبْدًا و (¬3) أمَةً معًا. ¬

(¬1) أخرجه عن جابر وابن عمر، البيهقي، في: باب ما جاء في ولد المدبرة. . . .، من كتاب المدبر. السنن الكبرى 10/ 315. وعن ابن عمر، عبد الرزاق، في: باب أولاد المدبرة، من كتاب المدبر. المصنف 9/ 144. (¬2) في م: «الأحرار». (¬3) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا الولدُ الذي وُجِدَ قبلَ التَّدْبِيرِ، فلا يَتْبَعُها؛ لأنَّه لا يَتْبَعُ في العِتْقِ المُنْجَزِ، ولا في حُكْمِ الاسْتِيلادِ، ولا في الكِتابةِ، فلأنْ (¬1) لا يَتْبَعَ في التَّدْبيرِ أوْلى، فإنَّ المَيمُونِيَّ قال: قلتُ لأحمدَ: ما كان مِن ولَدِ المُدَبَّرَةِ قبلَ أَن تُدَبَّرَ. [قال: لا] (¬2) يَتْبَعُها مِن ولَدِها ما كان قبلَ ذلك، إنَّما يَتْبَعُها ¬

(¬1) في م: «فأن». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما كان بعدَ ما دُبِّرَتْ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ رِوايةً أُخْرَى، أنَّه يَتْبَعُها في التَّدْبِيرِ، كالموْلودِ (¬1) بعدَه؛ لأنَّ حَنْبَلًا قال: سَمِعْت عَمِّي يقولُ في الرجلِ يُدَبِّرُ الجارِيَةَ ولها ولَدٌ، قال: ولَدُها معها. قال شيخُنا (¬2): وهذا بَعِيدٌ، والظاهِرُ أنَّ أحمدَ إنَّما أراد وَلَدَها بعدَ التَّدْبِيرِ، على ما صَرَّحَ به في غيرِ هذه الرِّوايةِ، فإنَّ ولدَها لا يَتْبَعُها في شيءٍ مِن (¬3) الأسْبابِ التي تَنْقُلُ المِلْكَ في الرِّقَبَةِ، مِن البَيعِ، والهِبَةِ، والوَقْفِ، ولا يَتْبَعُها في الاسْتِيلادِ الذي هو آكَدُ مِن التَّدْبِيرِ، فلأنْ (¬4) لا يَتْبَعَها في التَّدْبِيرِ أوْلَى. فصل: فأمّا ولَدُ المُدَبَّرِ، فحُكْمُه حُكْمُ أمِّه، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وعطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، واللَّيثِ؛ لأنَّ الولَدَ يَتْبَعُ الأمَّ في الرِّقِّ والحُرِّيةِ. فإن تَسَرَّى المُدَبَّرُ بإذنِ سَيِّدِه فوُلدَ له، ¬

(¬1) في م: «كالموجود». (¬2) في: المغني 14/ 426. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «فأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرُوِي عن أحمدَ، أنَّهم يَتْبَعُونَه في التَّدْبِيرِ. ورُوِيَ ذلك عن مالكٍ. وهو أحدُ الوَجْهَين لأصْحاب الشافعيِّ؛ لأنَّ إباحةَ التَّسَرِّي تَنْبَني على ثُبوتِ المِلْكِ، ووَلَدُ الحُرِّ مِن أَمَتِه يَتْبَعُه في الحُرِّيةِ دُونَ أُمَّه، كذلك ولدُ المُدَبَّرِ مِن (¬1) أمَتِه يَتْبَعُه دُونَها، ولأنَّه وَلَدُ مَن يَسْتَحِقُّ الحُرِّيَّةَ مِن أمَتِه، فيَتْبَعُه في ذلك، كولدِ المُكاتَبِ مِن أمَتِه. فصل: وإذا وَلَدَتِ المُدَبَّرَةُ، فرَجَعَ في تَدْبِيرِها، وقُلْنا بصِحَّةِ الرُّجُوعِ، لم يَتْبَعْها ولدُها؛ لأنَّ الولدَ المُنْفَصِلَ لا يَتْبَعُ في الحُرِّيةِ ولا في التَّدْبِيرِ، ففي الرُّجوعِ أوْلَى. وإن رَجَع في [تدبيرِه وحدَه جاز؛ لأنَّه إذا جاز الرُّجُوعُ في الأمِّ المباشَرةِ بالتَّدْبِيرِ، ففي غيرِها أوْلَى. فإن رجَع في] (¬2) تدبيرِهما، جاز، كما لو دَبَّرَها وابنَها (¬3) المُنْفَصِلَ. وإن دَبَّرَها حامِلًا، ثم رَجَع في تَدْبِيرِها حال حَمْلِها، لم يَتْبَعْها الولَدُ في الرُّجُوعِ؛ لأنَّ التَّدْبِيرَ إعْتاقٌ، والإعْتاقُ مَبْنِيٌّ على التَّغْلِيبِ والسِّرايةِ، والرُّجُوعُ عنه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «ابنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعَكْس ذلك، فلم يَتْبَعْ الولَدُ فيه. وهذا كما لو وُلِدَ له تَوْأمان، فأقَرَّ بأحَدِهما، لحِقاه جميعًا، وإن نَفَى (¬1) أحَدَهُما، لم يَنْتَفِ الآخَرُ، وإن رَجَعَ في أحدِهما دُونَ الآخَرِ، جاز. وإن دَبَّرَ الولَدَ دُونَ أمِّه، أو الأمَّ دُونَ ولدِها، جاز؛ لأنَّه يجوزُ أن يُعْتِقَ كلَّ واحدٍ منهما دُونَ صاحِبِه، فجَوازُ أن يُدَبِّرَ أحَدَهما دُونَ صاحِبِه أوْلَى، ولأنَّه تَعْلِيقٌ للعِتْقِ بصِفَةٍ، فجاز في أحَدِهما دُونَ الآخَرِ، كالتَّعْلِيقِ بدُخُولِ الدارِ. وإن دَبَّرَ أمَتَه ثم قال: إن دَخَلْتِ الدارَ فقد رَجَعْتُ في تَدْبيرِي. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الرجوعَ لا يَصِحُّ تَعْلِيقُه بصِفَةٍ (¬2). وإن قال: كلَّما ولَدْتِ وَلَدًا فقد رَجَعْتُ في تدبِيرِه. لم يَصِحَّ؛ لذلك. فصل: إذا اخْتَلَفتِ المدَبَّرَةُ ووَرَثَةُ سيدِها في ولَدِها، فقالت: ولَدْتُهم بعدَ تَدْبِيرِي، فعَتَقُوا مَعِي. وقال الوَرَثَةُ: بل ولدتِيهم (¬3) قبلَ تَدْبِيرِكِ، فهم مَمْلُوكُون لنا. فالقولُ قولُ الوَرَثَةِ مع أْيمانِهم؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ رِقِّهم ¬

(¬1) في الأصل: «بقى». (¬2) في الأصل: «نصفه». (¬3) في م: «ولدتهم».

2968 - مسألة: (وله إصابة مدبرته، فإن أولدها بطل تدبيرها)

وَلَهُ إِصَابَةُ مُدَبَّرَتِهِ، فَإِنْ أولَدهَا بَطَلَ تَدْبِيرُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وانتفاءُ الحُرِّيةِ عنهم، فإذا لم تكنْ بَيَنة، فالقَوْلُ قولُ من يُوافِقُ قولُه الأصْلَ. فصل: وكَسْبُ المُدَبَّرِ في حَياةِ سَيِّدِه لسيدِه، له أخْذُه منه؛ لأنَّ التَّدْبِيرَ لا يخْرُجُ عن شِبْههِ بالوَصِيَّةِ بالعِتْقِ، أو بالتَّعْلِيقِ له على صِفَةٍ، أو بالاسْتِيلادِ، وكلُّ هؤلاء كَسْبُهم لسيدِهم، فكذلك المدَبَّرُ. فإنِ اختَلَفَ هو ووَرَثَةُ سيدِه فيما (¬1) بيَدِه بعدَ عِتْقِه، فقال: كَسبْتُه بعدَ حرِّيَّتي. وقالوا: بل قبلَها. فالقولُ قولُه؛ لأنَّه في يَدِه، ولم يثْبُتْ مِلكُهمٍ عليه، بخِلافِ الولَدِ، فإنَّه كان رقيقًا لهم. فإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنةً بدَعْواه، قُدِّمتْ بَيِّنَةُ الوَرَثَةِ عندَ مَن يَرَى تَقْدِيمَ بَيِّنةِ الخارِجِ، وبَيِّنَةُ المُدَبَّرِ عندَ مَن يُقَدِّمُ بَيَنةَ الدَّاخِلِ. فإن أقَرَّ المُدَبَّرُ أن ذلك كان في يَدِه في حياةِ سيدِه، ثم تَجَدَّدَ مِلْكُه عليه بعدَ موتِه، فالقولُ قولُ الوارِثِ؛ لأنَّ الأصْلَ معهم (¬2). وإن أقام المُدَبَّرُ بَيِّنةً بدَعْواه، قُبِلَتْ، وتُقَدَّمُ على بَينةِ الوَرَثةِ إن كانت لهم بَينةٌ؛ لأنَّ بَيِّنَتَه تَشْهَدُ بزِيادةٍ، وإن لم يُقِرَّ المُدَبَّرُ بأنَّه كان له في حياةِ سَيِّدِه، فأقام الورثةُ بَيِّنةً به، فهل تُسْمَعُ بَيِّنتُهم؟ على وَجْهَين. 2968 - مسألة: (وله إصابَةُ مُدَبَّرَتِه، فإن أوْلَدَها بَطَلَ تَدْبِيرُها) ¬

(¬1) في م: «فما». (¬2) في الأصل: «منعهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يباحُ وَطْءُ أمَتِه المُدَبَّرَةِ. وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه دَبَّرَ أمَتَين، وكان يَطَؤُهما (¬1). ومِمَّن رأى ذلك ابنُ عباس، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ. قال أحمدُ: لا أعْلَمُ أحدًا كَرِهَ ذلك غيرَ الزُّهْرِيِّ. وحُكِيَ عن الأوْزَاعِيِّ، أنَّه كان يقولُ: إن كان يطؤُها قبلَ تَدْبِيرِها فلا بأْسَ بوَطْئِهَا بعدَه، وإن كان لا يَطَؤُها قَبلَه لم يَطَأْها بعدَ التَّدْبِيرِ. ولَنا، أنَّها مَمْلُوكَتُه، لم تَشْتَرِ نَفْسَها منه، فحلَّ له وَطْؤُها، لقولِ اللهِ تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ} (¬2). وقياسًا على أُمِّ الوَلَدِ. فصل: وابنةُ المُدَبَّرَةِ مِثْلُها في حِلِّ وَطْئِها، إن لم يكنْ وَطِئَ أمَّها. وعنه، ليس له وَطْؤُها؛ لأنَّ حَقَّ الحُرِّيةِ ثَبَت لها تَبَعًا، أشْبَهَ ولَدَ المُكاتَبةِ. ولَنا، أنَّ مِلْكَ سَيِّدِها تام فيها، فحَلَّ له وَطْؤُها؛ للآيةِ، وكأُمِّها. واسْتِحْقاقُها الحُرِّيةَ لا يَزيدُ على استِحْقاقِ أُمِّها، ولم يَمْنَعْ ذلك وَطْأَها. وأمَّا وَلَدُ المُكاتَبةِ، فأُلحِقَتْ بأُمِّها، وأُمُّها يَحْرمُ وَطْؤُها، فكذلك ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب مس الرجل وليدته إذا دبرها، من كتاب المدبر. الموطأ 2/ 814. والبيهقي، في: باب وطء المدبرة، من كتاب المدبر. السنن الكبرى 10/ 315. وعبد الرزاق، في: باب الرجل يطأ مدبرته، من كتاب المدبر. المصنف 9/ 147. (¬2) سورة المؤمنون 6، سورة المعارج 30.

2969 - مسألة: (وإن كاتب المدبر، أو دبر المكاتب، جاز)

وَإنْ كَاتَبَ الْمُدَبَّرَ، أوْ دَبَّرَ الْمُكَاتَبَ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابْنَتُها، وأُمُّ هذه يَحِلُّ وَطْؤُها، فيَجِبُ إلْحاقُها بها. وكلامُ أحمدَ مَحْمولٌ على أنَّه وَطِئَ أمَّها. فصل: فإن أولَدَها بَطَلَ تَدْبِيرُها، لأنَّ مُقْتَضَى التَّدْبِيرِ العِتْقُ مِن الثُّلُثِ بعدَ الموتِ، والاستِيلادُ يَقْتَضِي ذلك، مع تأَكُّدِه وقُوَّتِه، فإنَّها تَعْتِقُ مِن رأسِ المالِ، وإن لم يَمْلِكْ غيرَها. ولا يَمْنَعُ الدَّينُ عِتْقَها، فوَجَبَ أن يَبْطُلَ به التَّدْبِيرُ، كمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذا طرأ على مِلْكِ النِّكاحِ، أبطَلَه. 2969 - مسألة: (وإن كاتَبَ المُدَبَّرَ، أو دَبَّرَ المُكاتَبَ، جاز) أما تَدْبِيرُ المُكاتَبِ، فهو صَحِيحٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لأنَّه تَعْلِيقٌ لعِتْقِه بصِفَةٍ، وهو يَمْلِكُ إعْتاقَه، فيَمْلِكُ التَّعْلِيقَ. وإن كان وَصِيَّةً، فهو وَصِيَّةٌ بما يَمْلِكُ وهو الإِعْتاقُ. وتَصِحُّ كِتابةُ المُدَبَّرِ. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ، وأبي هُرَيرَةَ، والحسنِ. ولَفط حَدِيثِ أبي هُرَيرَةَ، عن مُجاهِدٍ، قال (¬1): دَبَّرَتِ امرَأةٌ مِن قُرَيش خادمًا لها، ثم أرادت أن تكاتِبَه، قال: فكنتُ (¬2) الرَّسولَ إلى أبي هُرَيرَةَ، فقال: كاتِبيه (¬3)، فإن ¬

(¬1) في الأصل: «فإن». (¬2) في الأصل: «فكتب». (¬3) في الأصل: «كاتبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أدَّى كِتابَتَه فذاك، وإن حَدَثَ بكِ حَدَث عَتَقَ. قال: وأُراه قال: ما كان عليه له (¬1). ولأنَّ التَّدْبِيرَ إن كان عِتْقًا بصِفَةٍ، لم يَمْنَعِ الكِتابَةَ، كالذي عَلق عِتْقَه بدُخُولِ الدارِ. وإن كان وَصِيَّةً، لم يَمْنَعْها، كما لو وَصَّى بعِتْقِه ثم كاتَبَه. ولأنَّ التَّدْبِيرَ والكِتابةَ سَبَبان للعِتْقِ، فلم يَمْنَعْ أحَدُهما الآخَرَ، كتَدْبِيرِ المُكاتَبِ. وذكر القاضي أنَّ التَّدْبِيرَ يَبْطُلُ (¬2) بالكِتابةِ، إذا قُلْنا: هو وَصِيَّةٌ. كما لو وَصَّى به لرِجلٍ ثم كاتَبَه. وهذا يُخالِفُ ظاهِرَ كلام أحمدَ، وهو غيرُ صَحِيح في نفْسِه. ويُفارِقُ التَّدْبِيرُ الوَصِيَّةَ به لرجلٍ؛ لأنَّ مَقْصُودَ الكِتابةِ والتَّدْبِيرِ لا يَتَنافَيان، إذ كان المقصودُ منهما جميعًا العِتْقَ، فإذا اجْتَمَعا كانا آكَدَ لحُصُولِه، فإنَّه متى فات عِتْقُه بأحَدِهما حَصَل بالآخرِ، وأدلهما وُجِدَ قبلَ صاحِبِه حَصَل العِتْقُ به، ومَقْصُودُ الوَصِيَّةِ به والكِتابةِ يَتنافيان؛ لأنَّ الكِتابَةَ تُرادُ للعِتْقِ، والوَصِيَّةَ تُرادُ لحُصُولِ المِلْكِ فيه للمُوصَى له، ولا يَجْتَمِعان. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب المدبر يجنى. . . .، من كتاب المدبر. السنن الكبرى 10/ 314. وابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يكاتب مدبره. . . .، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 375. (¬2) في الأصل: «مبطل».

2970 - مسألة: (فإن أدى عتق)

فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ، وَإنْ مَاتَ سَيِّدُهُ قَبْلَ الأدَاءِ عَتَقَ، إِنْ حَمَلَ الثُّلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَإلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَيسقَطَ مِنَ الْكِتَابَةِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ، وَهُوَ عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا بَقِيَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2970 - مسألة: (فإن أدَّى عَتَقَ) بالكِتابةِ، وبَطَلَ التَّدْبِيرُ (وإن مات سيدُه قبلَ الأدَاءِ عَتَقَ، إن حَمَلَ الثُّلُثُ ما بَقِيَ مِن كِتابتِهِ) وبَطَلَت الكِتابةُ، وإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ (عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ، وسَقَط مِن الكِتابةِ بقَدْرِ ما عَتَقَ) منه وكان (على الكِتابةِ فيما بَقِيَ). فصل: ومتى عَتَق بالتَّدْبِيرِ، كان ما في يَدِه لسيدِه؛ لأنَّه كان له قَبْلَ العِتْقِ، فيكُونُ له بعدَ العِتْقِ، كما لو لم يكنْ مُكاتَبًا وبَطَلَتِ الكِتابةُ. ذَكره أصحابُنا. ومذهبُ الشافعيِّ، أنَّ ما في يدِه له إذا لم يكنْ عَجَزَ. قال شيخُنا: وعندي أنَّه يَنْبَغِي أن يَعْتِقَ ويَتْبَعَه وَلَدُه وأكسابُه (¬1)؛ لأنَّ السيدَ لا يَمْلِكُ إبْطال كِتابَتِه؛ لكونِها عقْدًا لازِمًا مِن جِهَتِه، وإنَّما يمْلِكُ إسْقاطَ حَقِّه عليه. فأمَّا ما يَسْتَحِقه المُكاتَبُ مِن أولادِه وأكْسابِه، فلا يَتَمَكَّنُ السيدُ مِن أخْذِه، ويَصِيرُ كما لو أبرأه مِن مال الكِتابةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُريدوا (¬2) بالبُطلانِ زوال العَقْدِ دُونَ سُقُوطِ أحْكامِه. والله أَعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «اكتسابه». (¬2) في م: «يريد».

2971 - مسألة: (وإذا دبر شركا له في عبد لم يسر إلى نصيب شريكه، وإن أعتق شريكه سرى إلى المدبر، وغرم قيمته لسيده.

وَإذَا دَبَّرَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ لَمْ يَسْرِ إِلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإنْ أعْتَقَ شَرِيكُهُ سَرَى إِلَى الْمُدَبَّرِ، وَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِسَيِّدِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَن يَسْرِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 2971 - مسألة: (وإذا دَبَّرَ شِرْكًا له في عبدٍ لم يَسْرِ إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، وإن أعْتَقَ شَرِيكُه سَرَى إلى المُدَبَّرِ، وغَرِمَ قِيمَتَه لسيدِه.

في الْأوَّلِ دُونَ الثَّاني. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يَسْرِيَ في الأوَّلِ دُونَ الثاني) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا دَبَّرَ أحدُ الشَّرِيكَين نَصِيبَه، لم يَسْرِ التَّدْبِيرُ إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ وجْهًا، أنَّه يَسْرِي تَدْبيرُه إذا كان مُوسِرًا، ويُقَوَّمُ عليه نَصِيبُ شَريكِه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ العِتْقَ بمَوْتِ سيدِه، فسرَى ذلك فيه، كالاسْتِيلادِ. وللشافعيِّ قولانِ، كالمَذْهَبَين. ولَنا، أَنه تَعْلِيقٌ للعِتْقِ بصِفَةٍ فلم يَسْرِ، كتَعْلِيقِه بدُخُولِ الدارِ، ويفارِقُ الاسْتِيلادَ، فإنَّه آكَدُ، ولهذا يَعْتِقُ مِن جميعِ المالِ، ولو قَتَلَت سيدَها لم يَبْطُلْ حُكْمُ اسْتِيلادِها، والمُدَبَّرُ بخِلافِ ذلك. فعلى هذا، إن مات المُدَبرُ عَتَقَ نَصِيبُه إن خَرَجَ مِن الثُّلُثِ، وهل يَسْرِي إلى نصِيبِ شَرِيكِه إن كان مُوسِرًا؟ فيه روايتان، ذَكَرْناهما في كتابِ العِتْقِ (¬1). فإنْ أعتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَه قبلَ موتِ السيدِ وهو مُوسِرٌ، عَتَقَ وسَرَى إلى نَصِيبِ المُدَبِّرِ. وذَكَر القاضي، وأبو الخَطَّابِ فيه (¬2) وَجْهَين. وللشافعي فيها قولان؛ أحدُهما، كقولِنا. والثاني، لا يَسْرِي عِتْقُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ في (¬3) المُدَبَّرِ قد انْعَقَدَ له (¬4) سَبَبُ الوَلاءِ علي العَبْدِ، فلم يكُنْ للآخَرِ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 29. (¬2) في الأصل: «فيها». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إبْطالُه. ولَنا، حَدِيثُ ابنِ عمرَ الذي ذَكَرْناه في سِرايَةِ العِتْقِ إلى نَصِيبِ الشَّرِيكِ إذا كان مُوسِرًا (¬1)، ولأنَّه إذا سَرَى إلى إبْطالِ المِلْكِ الذي هو آكَدُ مِن الوَلاءِ، فالوَلاءُ أوْلَى، وما ذكَرُوه لا أصْلَ له، ويَبْطُلُ بما إذا عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِه بصِفَةٍ (¬2). فصل: إذا دَبَّر كلُّ واحدٍ مِن الشَّرِيكَين نَصِيبَه، فمات أحَدُهما، عَتَقَ نَصِيبُه، وبَقِيَ نَصِيبُ الآخَرِ على التَّدْبِيرِ إن لم يَفِ ثُلُثُه بقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِه، وإن كان يَفِي به، فهل يَسْرِي؟ على رِوايَتَين، ذكرناهما. وإن قال كلُّ واحدٍ منهما: إذا مِتْنَا فأنت حُرٌّ. فقال أبو بكرٍ: قال أحمدُ: إذا مات أحَدُهما فنَصِيبُه حُرٌّ. فظاهِرُ هذا أنَّ أحمدَ جَعَلَ هذا اللفظَ تَدْبيرًا مِن كلِّ واحدٍ منهما لنَصِيبِه، ومَعْناه: إذا مارت كلُّ واحدٍ مِنَّا فنَصِيبُه حرٌّ، فإنَّه قابَلَ الجُمْلَةَ بالجملةِ، فيَنْصَرِفُ إلى مُقابَلةِ البعضِ بالبعضِ؛ كقَولِه: رَكِبَ الناسُ دَوابَّهمْ ولَبِسُوا ثِيابَهُم وأخَذُوا رِماحَهم. يُريدُ: لَبِسَ كل إنْسانٍ ثَوْبَه، ورَكِبَ دابَّته، [وأخذ رمحَه] (¬3). وكذلك لو قال: أعْتَقُوا عَبِيدَهم. كان معناه: أعْتَقَ كلُّ واحدٍ عَبْدَه. وقال القاضي: هذا تَعْلِيقٌ للحُرِّيةِ بمَوتِهما جميعًا، وإنَّما قال أحمدُ: يَعْتِقُ نَصِيبُه. بناءً ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 39. (¬2) في الأصل: «بنصفه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّ وُجُودَ بعضِ الصِّفَةِ يقومُ مَقامَ جَميعِها. قال شيخُنا (¬1): ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّه لو كانت هذه العِلَّةَ لعَتَقَ العَبْدُ كلُّه؛ لوُجُودِ بعضِ صِفَةِ كلِّ واحدٍ (¬2) منهما. وسنُبَيِّنُ بُطلانَ (2) هذا القولِ بما نَذْكُرُ مِن بعدُ. ومُقْتَضَى قولِ القاضي أن لا يَعْتِقَ شيءٌ منه قبلَ موتِهما جميعًا. فإن قال كلُّ واحدٍ منهما: أرَدْتُ أنَّ ألعَبْدَ حُرٌّ بعدَ آْخِرِنا مَوتًا. انْبَنَى هذا على تَعْلِيقِ الحُرِّيةِ على صِفَةٍ تُوجَدُ بعدَ المَوتِ. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك. فإن قُلْنا بجَوازِ (¬3) ذلك عَتَقَ بعدَ مَوتِ الآخِرِ منهما عليهما جميعًا. وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ. عَتَقَ نَصِيبُ الآخِرِ منهما بالتَّدْبيرِ. وفي سِرايَتِه إلى باقِيه إن كان ثلُثُه يَحْتَمِلُ ذلك روايتان. وإن قال كلُّ واحدٍ منهما: إذا مِتُّ قبل شَرِيكي فنَصِيبي له، فإذا مات فهو حُر، وإن مِتُّ بعدَه، فنَصِيبي حُرٌّ. فقد وَصَّى كلُّ واحدٍ منهما للآخَرِ، فإذا مات أحَدُهما صار العَبدُ كله للآخَرِ، فإذا مات، عَتَقَ كُلُّه عليه، وصار وَلاؤُه له كلُّه، إن قُلْنا: لا يَصِحُّ تَعْلِيقُ العِتْقِ على صِفَةٍ بعدَ الموتِ. وإن قُلْنا: يَصِحُّ. عَتَقَ عليهما، ووَلاؤه بينَهما. ¬

(¬1) في: المغني 14/ 419. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يجوز».

2972 - مسألة: (وإذا أسلم مدبر الكافر لم يقر في يده، وترك في يد عدل ينفق عليه من كسبه، وما فضل لسيده، وإن أعوز فعليه تمامه، إلا أن يرجع في التدبير، ونقول بصحة رجوعه، فيجبر على بيعه)

وَإذَا أسْلَمَ مُدَبَّرُ الْكَافِرِ لَمْ يُقَرَّ في يَدهِ، وَتُرِكَ في يَدِ عَدْلٍ يُنْفِقُ عَلَيهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَمَا فَضَلَ لِسَيِّدِهِ، وإنْ أعوَزَ فَعَلَيهِ تَمَامُهُ، إلا أنْ يَرْجِعَ في التَّدْبِيرِ، وَنَقُولَ بِصِحَّةِ رُجُوعِهِ، فَيُجْبَرُ عَلَى بَيعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2972 - مسألة: (وإذا أسْلَمَ مُدَبَّرُ الكافرِ لم يُقَرَّ في يَدِه، وتُرِكَ في يَدِ عَدْلٍ يُنفقُ عليه مِن كَسْبِه، وما فَضَلَ لسيدِه، وإن أعْوَزَ فعَلَيه تَمامُه، إلَّا أن يَرْجِعَ في التَّدْبِيرِ، ونقولَ بصِحَّةِ رُجُوعِه، فيُجْبَرُ على بَيعِه) وجملتُه، أنَّه إذا أسْلَمَ مُدَبَّرُ الكافِرِ أُمِرَ بإزالةِ مِلْكِه عنه، لئلَّا يَبقَى الكافِرُ مالِكًا لمسلمٍ، كغيرِ المُدَبَّرِ إذا قُلْنا بجوازِ بَيعِه. ويَحْتَمِلُ أن يُتْرَكَ في يَدِ عَدْلٍ، ويُنْفِقَ عليه مِن كَسْبِه، فإن لم يكُنْ له كَسْب أُجْبِرَ سيدُه على الإنْفاقِ عليه؛ لأنه مِلْكُه. وبهذا (¬1) قال أبو حنيفةَ، والشافعي، في أحدِ قَوْلَيه؛ بناءً على أنَّ المُدَبَّرَ لا يجوزُ بَيعُه. ولأنَّ في بَيعِه إبطال سَبَبِ العِتْقِ، فكان إبْقاؤُه أصْلَحَ، فتَعَيَّنَ (¬2)، كأُمِّ الولَدِ. فإن قُلْنا ببيعِه، فباعَه، بَطَلَ تَدْبِيرُه. وإن قُلْنا: يُتْرَكُ في يَدِ عَدْلٍ. فإنّه يَسْتَنِيبُ مَن يَتَوَلَّى اسْتِعْماله واسْتِكْسابَه (¬3)، ويُنْفِقُ عليه مِن كَسْبِه، وما فَضَلَ فلسيدِه، وإن لم يَفِ ¬

(¬1) في م: «به». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «اكتسابه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسْبُه بنَفَقَتِه فالباقي على سيدِه. وإنِ اتَّفَقَ هو وسيدُه على المُخارَجَةِ جاز، ويُنْفِقُ على نَفسِه ممَّا فَضَل مِن كَسْبِه. فإذا مات سيدُه عَتَق إن خَرَجَ مِن الثُّلُثِ، وإلَّا عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ، وبِيعَ الباقِي على الوَرَثَةِ إن كانوا كُفَّارًا، وإن أسلموا بعدَ المَوتِ، تُرِكَ، فإن رجَع سيدُه في تَدْبِيرِه، وقُلْنا: يَصِحُّ (¬1) رُجُوعُه. بيعَ عليه. وإن كان المُدَبَّرُ مُسْتأْمَنًا، فأرَادَ الرُّجُوعَ به إلى دارِ الحَربِ، ولم يكن أسلمَ، لم نَمْنَعْه منه. وإن كان قد أسلمَ، مُنِعَ؛ لأنَّنا نَحُولُ بينَه وبينَه في دارِ الإِسْلامِ، فأوْلَى أن يُمْنَعَ مِن التَّمَكُّنَ منه في دارِ الحربِ. ¬

(¬1) في م: «بصحة».

2973 - مسألة: (ومن أنكر التدبير، لم يحكم عليه إلا بشاهدين. وهل يحكم بشاهد وامرأتين، أو شاهد ويمين العبد؟ على روايتين)

وَمَنْ أنْكَرَ التَّدْبِيرَ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيهِ إلا بِشَاهِدَينِ. وَهَلْ يُحْكَمُ عَلَيهِ بِشَاهِدٍ وَامْرأتَينِ، أوْ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْعَبْدِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2973 - مسألة: (ومَن أنْكَرَ التَّدْبِيرَ، لم يُحْكَمْ عليه إلَّا بشاهِدَين. وهل يُحْكَمُ بشاهِدٍ وامْرَأتَين، أو شاهِدٍ ويَمِينِ العبدِ؟ على روايتين) إذا ادَّعَى العَبدُ على سَيِّدِه أنَّه دَبَّره، صَحَّتْ دَعْواه؛ لأنَّه يَدَّعِي اسْتِحْقاقَ العِتْقِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَصِحَّ الدَّعْوَى؛ لأنَّ السيِّدَ إذا أنْكَرَ التَّدْبِيرَ، كان بمَنْزِلَةِ إنْكارِ الوَصِيَّةِ، وإنْكارُ الوَصِيَّةِ رُجُوعٌ عنها، في أحَدِ الوَجْهَين، فيكونُ إنْكارُ التَّدْبِيرِ رُجُوعًا عنه، والرُّجُوعُ عنه يُبْطِلُه، في إحْدَى الروايتين. والصَّحِيحُ أنَّ الدَّعْوى صَحِيحَةٌ؛ لأنَّ الرُّجُوعَ عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّدْبِيرِ لا يُبْطِلُه، في الصَّحِيحِ مِن المذْهَبِ. ولو أبْطَلَه، فما ثَبَتَ كَوْنُ الإِنْكار رُجُوعًا، ولو ثَبَتَ ذلك، فلا يَتَعَيَّنُ الإِنْكارُ جَوابًا للدَّعْوَى؛ فإنَّه يجُوزُ أن يُقِرَّ. إذا ثَبَتَ هذا، فإن أقَرَّ السيدُ فلا كَلامَ، وإن أنْكَرَ ولم تكُنْ للعبدِ بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُ السيدِ مع يَميِنه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه. فإن كانت للعَبْدِ بَيِّنَةٌ حُكِمَ بها، ويُقْبَلُ فيها شاهدان عَدْلان، بغيرِ خِلافٍ. فإن لم يكُنْ إلَّا شاهِدٌ واحدٌ، وقال: أنا أحْلِفُ معه. أو شاهدٌ وامْرأتان، لم يُحْكَمْ له به، في إحْدَى الرِّوايَتَين. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الثابتَ به الحُرِّيةُ، وكمالُ الأحْكامِ، وهذا ليس بمالٍ، ولا المَقْصُودُ منه المالُ، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ في غالبِ الأحْوالِ، فأشْبَهَ النِّكاحَ والطَّلاقَ. والثانيةُ، يَثْبُتُ بذلك؛ لأنَّه لَفْظ يَزُولُ به مِلْكُه عن مَمْلُوكِه، فأشْبَهَ البَيعَ. وهذا أجْوَدُ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ إنَّما تُرادُ لإثْباتِ الحُكْمِ على المَشْهُودِ عليه، وهو في حَقِّه إزالةُ مِلْكِه عن مالِه، فيَثْبُتُ بهذا. وإن حَصَلَ به غَرَضٌ آخَرُ للمَشْهُودِ له، فلا يَمْنَعُ ذلك مِن ثُبُوتِه بهذه البَيِّنَةِ. ولأنَّ العِتْقَ ممَّا يُتَشَوّفُ إليه، ويَنْبَنِي على التَّغْلِيبِ والسِّرايةِ، فيَنْبَغِي أن يُسَهَّلَ طريقُ إثْباتِه. وإن كان الاختلافُ بينَ العبدِ ووَرَثَةِ السيدِ بعدَ موتِه، فهو كما لو كان الاختلافُ (¬1) ¬

(¬1) في الأصل: «الخلاف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع السيدِ، إلَّا أنَّ الدَّعْوَى صَحِيحةٌ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّهم لا يَمْلِكُونَ الرُّجُوعَ، وأيمانُهم على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّ الخِلافَ في فِعْلِ مَوْرُوثِهم، وأيمانُهُم على نَفْى فِعْلِه. وتَجِبُ اليَمينُ على كُلِّ واحدٍ مِن الوَرَثَةِ، ومَن نكَل منهم عَتَقَ نَصِيبُه ولم يَسْرِ إلى باقِيه، وكذلك إن أقَرَّ؛ لأنَّ إعْتاقَه بفعْلِ المَوْرُوثِ، لا بفِعْلِ المُقِرِّ ولا النَّاكِلِ. فصل: إذا دَبَّرَ عبدَه ومات، وله مالٌ سِواه يَفِي بثُلُثَيْ مالِه، إلَّا أنَّه غائِبٌ، أو دَينٌ في ذِمَّةِ إنْسانٍ، لم يَعْتِقْ مِن المُدَبَّرِ إلَّا ثُلُثُه؛ لجوازِ أن يَتْلَفَ الغائِبُ، أو يَتَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ الدَّينِ، فيكونُ العبدُ جَميعَ التَّرِكَةِ، وهو شَرِيكُ الوَرَثَةِ فيها، له ثُلُثُها ولهم ثُلُثاها، فلا يجوزُ أن يَحْصُلَ على جَمِيعِها، لكِنَّه يَسْتَحِقُّ عِتْقَ ثُلُثِه ويَبْقَى ثُلُثاه مَوْقُوفًا (¬1)؛ لأنَّ ثُلُثَه حُرٌّ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ أسْوَأَ (¬2) الأحْوالِ أن لا يَحْصُلَ مِن سائرِ المالِ شيءٌ، فيكونُ العبدُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، فيَعْتِقَ ثُلُثُه، وفي ذلك خِلافٌ ذَكَرْناه في بابِ المُوصَى به، فيما إذا وَصَّى له بمُعَيَّنٍ، ولم يكُنْ له سِوَى المعَيَّنِ إلَّا مالٌ غائبٌ، أو دَينٌ، وهذا مثلُه في اعْتِبارِه مِن الثُّلُثِ. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّ العبدَ إذا عَتَقَ كلُّه بقُدُومِ الغَائِبِ، أو اسْتِيفاءِ الدَّينِ، تَبَيَّنًا أنَّه كان حُرًّا حينَ الموتِ، فيكُونُ كَسْبُه له؛ لأنَّه إنَّما عَتَقَ بالتَّدْبِيرِ ووُجُودِ الشَّرْطِ الَّذي عَلَّقَ عليه السيدُ حُرِّيتَه، وهو الموتُ، وإنَّما أوْقَفْناه للشَّكِّ في خُرُوجِه ¬

(¬1) في م: «موقوفين». (¬2) في الأصل: «استواء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الثُّلُثِ، فإذا زال الشَّكُّ تَبَيَّنّا أنَّه كان حاصِلًا قبلَ زوالِ الشَّكِّ. وإن تَلِفَ المالُ تَبَيَّنّا أنَّه كان ثُلُثاه رَقِيقًا، ولم يَعْتِقْ منه سِوَى ثُلُثِه. وإن تَلِفَ بعضُ المالِ رَقَّ مِن المُدَبَّرِ ما زاد على قَدْرِ ثُلُثِ الحاصِلِ مِن المالِ. فصل: فإن دَبَّرَ عبدين، وله دَينٌ يَخْرُجان مِن ثُلُثِ المالِ إذا حَصَل، أقْرَعْنا بَينَهما، فيَعْتِقُ ممَّن تَخْرُجُ له القُرْعَةُ قَدْرُ ثُلُثِهما وكان باقِيه والعبدُ (¬1) الآخَرُ مَوْقُوفًا، فإذا اسْتُوفِيَ مِن الدَّين شيءٌ، كُمِّلَ مِن عِتْقِ مَن وَقَعَتْ له القُرْعَةُ قَدْرُ ثُلُثِه، وما فَضَلَ عَتَقَ مِنَ الآخرِ، كذلك حتَّى يَعْتِقا جميعًا أو مِقْدارُ الثُّلُثِ منهما. فإن تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ الدَّينِ، لم يَزِدِ العِتْقُ على مِقْدارِ ثُلُثِهما. فإن خَرَج الَّذي (¬2) وَقَعَتْ له القُرْعَةُ مُسْتَحَقًّا بَطَلَ العِتْقُ فيه، وعَتَقَ مِن الآخَرِ ثُلُثُه. فصل: إذا دَبَّرَ عبدًا قِيمَتُه مائةٌ، وله مائةٌ دَينًا، عَتَقَ ثُلُثُه ورَقَّ ثُلُثُه، ووَقَفَ ثُلُثُه على اسْتِيفاءِ الثُّلُثِ (¬3) الباقِي. وإن كانت له مائةٌ حاضرةٌ مع ذلك، عَتقَ مِن المُدَبَّرِ ثُلُثاه، ووقَف [عِتْقُ ثُلُثِه] (¬4) على اسْتِيفاءِ الدَّينِ. فصل: وإن دَبَّرَ عبدَه، وقِيمَتُه مائةٌ، وله ابنانِ، وله (3) مائتان دَينًا على أحَدِهما، عَتَقَ مِن المُدَبَّرِ ثُلُثاه؛ لأنَّ حِصَّةَ الَّذي عليه الدَّينُ منه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الدين». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «عتقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [كالمُسْتَوْفَى، ويَسْقُطُ عن الَّذي عليه الدَّينُ منه] (¬1) نِصْفُه؛ لأنَّه قَدْرُ حِصَّتِه مِن المِيراثِ، ويَبْقَى للآخَرِ عليه مائةٌ، كلما اسْتَوفَى منها شيئًا عَتَقَ قَدْرُ ثُلُثِه. فإن كانت المائتان دَينًا على الاثْنَين بالسَّويَّةِ عَتَقَ المُدَبَّرُ كلُّه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما عليه قَدْرُ حَقِّه، وقد حَصَلَ له ذلك بسُقوطِه مِن دَينِه. فصل: إذا دَبَّرَ عبدًا قِيمَتُه مائةٌ، وخَلَّفَ ابنين ومائَتَيْ في دِرْهم دَينًا له على أحَدِهما، ووَصَّى لرجل بثُلثِ مالِه، عَتَقَ مِن المُدَبَّرِ ثُلُثُه، وسَقَطَ عن الغَرِيمِ مائةٌ، وكان للوَصِيِّ سُدْسُ العبدِ، وللابنِ ثُلُثُه، ويَبْقَى سُدْسُ العبدِ مَوْقُوفًا؛ لأنَّ الحاصِلَ مِن المالِ ثُلُثاه، وهو العبدُ والمائةُ الساقِطةُ عن الغَرِيمِ، وثُلُثُ ذلك مَقْسُومٌ بينَ المُدَبَّرِ والوَصِيِّ نِصْفَينِ؛ فحِصَّةُ المُدَبَّرِ منه ثُلُثُه، يَعْتِقُ في الحالِ، ويَبْقَى له [سُدْسٌ مَوْقُوفٌ] (¬2)، فكلَّما اقْتُضِيَ مِن المائةِ الباقِيةِ شيءٌ عَتَقَ مِن المُدَبَّرِ قَدْرُ سُدْسِه، ويكونُ المُسْتَوْفَى بينَ الابنِ والوَصِيِّ أثْلاثًا، فإذا اسْتُوفِيَتْ كلُّها حَصَلَ للابنِ ثُلُثاها وثُلُثُ العبدِ وهو قَدْرُ حَقِّه، وكُمِّلَ للمُدَبَّرِ عِتْقُ نِصْفِه، وحَصَلَ للوَصِيِّ ثُلُثُ المائةِ وسُدْسُ العبدِ، وهو قَدْرُ حَقِّه. وإن كان الدَّينُ على أجْنَبِيٍّ، لم يَعْتِقْ مِن المُدَبَّرِ إلَّا سُدْسُه؛ لأنَّ الحاصِلَ مِن التَّرِكَةِ هو العبدُ، وثُلُثُه بينَه وبينَ الوَصِيِّ الآخَرِ، وللوَصِيِّ سُدْسُه، ولكلِّ ابن سُدْسُه، ويَبْقَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «سدسه موقوفًا».

2974 - مسألة: (وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره)

وَإذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ بَطَلَ تَدْبِيرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثُلُثُه مَوْقُوفًا، فكلَّما اقْتُضِيَ مِن الدَّينِ شيءٌ عَتَقَ مِن المُدَبَّرِ قَدْرُ سُدْسِه، وكان المُسْتَوْفَى بينَ الابنينِ والوَصِيِّ أسْداسًا؛ للوَصِيِّ سُدْسُه، ولهما خمسةُ أسْداسِه، فيَحْصُلُ لكلِّ واحدٍ نِصْفُ المائةِ وثُلُثُها وسُدْسُ العَبْدِ، وهو قَدْرُ حَقِّه، ويَحْصُلُ للوَصِيِّ [سُدْسُ المائتين و] (¬1) سُدْسُ العَبْدِ وهو قَدْرُ حَقِّه، ويَعْتِقُ مِن المُدَبَّرِ نِصْفُه، وهو قَدْرُ حَقِّه. 2974 - مسألة: (وإذا قَتَلَ المُدَبَّرُ سيدَه بَطَلَ تَدْبِيرُه) [إنَّما بَطَلَ تَدْبيرُه] (1) لأمْرَين؛ أحدُهما، أنَّه قَصَدَ اسْتِعْجال العِتْقِ بالقَتْلِ المُحَرَّمِ، فعُوقِبَ بنَقِيضِ قَصْدِه، وهو إبْطالُ التَّدْبِيرِ، كمَنْعِ المِيراثِ بقَتْلِ المَوْرُوثِ. ولأنَّ العِتْقَ فائدةٌ تَحْصُل بالموتِ، فتنتَفِي بالقَتلِ، كالإرْثِ والوَصِيِّةِ. والثاني، أنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، فيَبْطُلُ بالقَتْلِ، كالوَصِيَّةِ بالمالِ. ولا يَلْزَمُ على هذا عِتْقُ أُمِّ الولَدِ؛ لكَوْنِها آكَدَ، فإنَّها صارَت ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاسْتِيلادِ بحالٍ لا يُمْكِنُ نَقْلُ المِلْكِ فيها، ولذلك لم يَجُزْ بَيعُها، ولا هِبَتُها، ولا رَهْنُها، ولا الرُّجُوعُ عن ذلك بالقولِ (¬1)، ولا غيرِه. والإِرْثُ نوعٌ مِن النَّقْلِ، فلو لم تَعْتِقْ [بموتِ سَيدِها، انْتَقَلَ] (¬2) المِلْكُ فيها إلى الوارثِ، ولا سَبِيلَ إليه، بخِلافِ المُدَبَّرِ، ولأنَّ سَبَبَ حُرِّيةِ أُمِّ الوَلَدِ الفِعْلُ والبَعْضِيَّةُ التي (¬3) حَصَلَتْ بينَها وبينَ سيدِها بواسِطَةِ ولَدِها، وهو آكَدُ مِن القولِ، ولهذا نَفَذَ اسْتِيلادُ المَجْنُونِ، ولم يَنْفُذْ إعْتاقُه ولا تَدْبِيرُه، وسَرَى حُكْمُ اسْتِيلادِ المُعْسِرِ إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، بخِلافِ الإعْتاقِ، وعَتَقَت مِن رأسِ المالِ. والتَّدْبِيرُ لا يَنْفُذُ (¬4) إلَّا في الثُّلُثِ، ولا يَمْلِكُ الغُرَماءُ إبْطال عِتْقِها وإن كان سيدُها مُفلِسًا، بخِلافِ المُدَبَّرِ، ولا يَلْزَمُ [مِن] (¬5) الحُكْمِ في مَوْضِع تأَكُّدُ الحُكْمِ فيما دُونَه؛ كما لم (¬6) يَلْزَمْ إلْحاقه به في ¬

(¬1) في م «القول». (¬2) في الأصل: «لانتقل». (¬3) في م: «الَّذي». (¬4) في الأصل: «ينقل». (¬5) زيادة من المغني. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه المَواضِعِ التي افْتَرَقَا فيها. إذا ثَبَتَ هذا، فلا فَرْقَ بينَ [كَونِ القتلِ] (¬1) عمدًا أو خَطَأً؛ كما لا فَرْقَ بينَ (¬2) ذلك في حِرْمانِ الإِرْثِ، وإبْطالِ وَصِيَّةِ القَاتِلِ. فصل: فأمَّا سائِرُ جناياتِه غيرَ قتلِ سَيدِه، فلا تُبْطِلُ تَدْبِيرَه، لكن إن كانت جِنايةً مُوجِبَةً للمالِ أو للقِصاصِ، فَعَفا الوَلِيُّ إلى المالِ، تَعَلَّقَ المالُ بِرَقَبتِه، فمَن جَوَّزَ بَيعَه جَعَلَ سيدَه بالْخِيَارِ بينَ تَسْلِيمِه فيُباعُ في الجِنايَةِ وبينَ فِدائِه؛ فإن سَلَّمه في الجِنايَةِ فبِيعَ فيها بَطَلَ تَدْبِيرُه، وإن عاد إلى سيدِه عاد تَدْبِيرُه. وإنِ اخْتارَ فِداءَه وفَداهُ بما يُفْدَى به العبدُ (¬3)، فهو مُدَبَّرٌ بحالِه، ومَن لم يُجِزْ بَيعَه أوْجَبَ فداءَه على سيدِه، كأُمِّ الولَدِ وإن كانتِ الجِنايَةُ مُوجِبَة للقِصاصِ، فاقْتُصَّ منه في النَّفْسِ، بَطَلَ تَدْبِيرُه. وإنِ اقْتُصَّ منه في الطَّرْفِ فهو مُدَبَّرٌ بحالِه. وإذا مات سيدُه بعَد جِنايَتِه وقبلَ اسْتِيفائِها، عَتَقَ على كلِّ حالٍ، سواءٌ كانت مُوجِبةً للمالِ أو للقِصاصِ، لأنَّ صِفَةَ العِتْقِ وُجِدَتْ فيه، فأشْبَهَ ما لو باشَرَه به. فإن كان (3) الواجِبُ قِصاصًا، اسْتُوفِيَ، سواءٌ كانت جِنايَتُه على عبدٍ أو حُرٍّ، لأنَّ القِصاصَ قد اسْتَقَرَّ وُجُوبُه عليه في حالِ رِّقه، فلا يَسْقُطُ بحُدُوثِ الحُرِّيةِ فيه. وإن كان الواجِبُ عليه مالًا في رَقَبَتِه، فُدِيَ بأقَلِّ الأمْرين مِن قِيمَتِه [أو أرْشِ] (¬4) ¬

(¬1) في م: «كونه». (¬2) في م: «في». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [جِنايَتِه. وإن جُنِيَ على المُدَبَّرِ، فأرْشُ الجِنايةِ لسيدِه. فإن كانت الجنايةُ على نَفْسِه، وَجَبَتَ قِيمَتُه] (¬1) لسيدِه، وبَطَلَ التَّدْبِيرُ بهَلاكِه. فإن قِيلَ: فهلَّا جَعَلْتُمْ قِيمَتَه قامْةً مَقامَه، كالعبدِ المَرْهُونِ والمَوْقُوفِ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما مِن ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن الوَقْفِ والرَّهْنَ لازمٌ، فتَعَلَّقَ الحَقُّ ببَدَلِه، والتَّدْبِيرُ غيرُ لازم؛ لأنَّه يُمْكِنُ إبْطالُه بالبَيعِ وغيرِه، فلم يتَعَلَّقِ الحَقُّ ببَدَلِه. الثاني، أنَّ الحَقَّ في التَّدْبِيرِ للمُدَبَّرِ، فبَطَلَ حَقُّه بفَواتِ مُسْتَحِقِّه، والبَدَلُ لا يَقومُ مَقامَه في الاسْتِحقاقِ، والحَقُّ في الوَقْفِ للمَوْقُوفِ عليه، وفي الرَّهْنِ للمُرْتَهِنِ، وهو باقٍ، فثَبَتَ حَقه في بَدَلِ محَلِّ حَقِّه. الثالثُ، أنَّ المُدَبَّرَ إنَّما ثَبَتَ حَقُّه بوُجُودِ موتِ سيدِه، فإذا هَلَكَ قبلَ سيدِه فقد هَلَكَ قبلَ ثُبُوتِ الحَقِّ له، فلم يَكُنْ له بَدَلٌ، بخِلافِ الرَّهْنِ والوَقْفِ، فإنَّ الحَقَّ ثابِتٌ فيهما، فقامَ بدَلُهُما مَقامَهما، وبينَ الرَّهْنِ والمُدَبَّرِ فَرْقٌ رابعٌ، وهو أنَّ الواجِبَ القِيمةُ، ولا يُمْكِنُ وجودُ التَّدْبيرِ فيها، ولا قِيامُها مَقامَ المُدَبَّرِ فيه. وإن أخَذَ عبدًا مكانَه، فليس هو البَدَلَ، إنَّما هو بَدَلُ القِيمَةِ، بخِلافِ الرَّهْنِ؛ فإنَّ القِيمَةَ يجوزُ أن تكونَ رَهْنًا. فإن قِيلَ: فهذا يَلْزَمُ عليه المَوْقُوفُ، فإَّنه إذا قُتِلَ (¬2) اخِذَتْ قِيمَتُه فاشْترِيَ بها عبدٌ يكونُ وَقْفًا مكانَه. قلْنا: قد حَصَلَ الفَرْقُ بينَ المُدَبَّرِ والرَّهْنِ من الوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وكَوْنُه لا يَحْصُلُ الفَرْقُ بينَه وبينَ الوَقْفِ مِن هذا الوَجْهِ، لا يَمْنَعُ أن يَحْصُلَ الفَرْقُ بينَه وبينَ الرَّهْنِ به. والله أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «قيل».

باب الكتابة

بَابُ الْكِتَابَةِ وَهِيَ بَيعُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِمَالٍ في ذِمَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الكِتابَةِ الكِتابَةُ: إعْتاقُ السيدِ عَبدَه على مالٍ (في ذِمَّتِه) يُؤَدَّى مُؤجَّلًا (¬1) في نُجُومٍ. سُمِّيَتْ كِتابةً؛ لأنَّ السيدَ يَكْتُبُ بينَه وبينَه كِتابًا بما اتَّفقا عليه. وقيل: سُمِّيَتْ كِتابةً مِن الكَتْبِ، وهو الضَّمُّ؛ لأنَّ المُكاتَبَ يَضُمُّ بعضَ النُّجُومِ إلى بعضٍ، ومنه سُمِّيَ الخَرْزُ كِتابًا؛ لأنَّه يُضَمُّ أحَدُ طَرَفَيه إلى الآخَرِ بخَرْزِه. قال الحَرِيريُّ (¬2): وكاتِبينَ وما خَطَّتْ أنامِلُهم … حَرْفًا ولا قَرءُوا ما خُطَّ في الكُتبِ وقال ذو الرُمَّةِ (¬3): وَفْراءَ غَرْفِيَّةٍ أثْأى خَوارِزُها … مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْه بينَها الكُتَبُ (¬4) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) القاسم بن علي بن محمد البصري، صاحب المقامات، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة. وفيات الأعيان 4/ 63 - 68. (¬3) في ديوانه: 1/ 11. (¬4) في م: «وفراء عرفتة أنأى خوارزها مشلشل صنعته بينها الكتب». وفراء: واسعة. غرفية: دبغت بالغرْفِ وهو شجر. أثأى خوارزها: الثأي أن تلتقي الخرزتان فتصيرا واحدة، والخوارز: جمع خارزة وهي التي تخيط المزادة. المشلشل: الَّذي يكاد يتصل قَطْره. الكتب: الخرز.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِفُ قِرْبَةً يَسيلُ الماءُ مِن بينِ خُرَزِها. وسُمِّيتِ الكَتِيبةُ كَتِيبةً؛ لانْضِمامِ بعضِها إلى بعض. والمُكاتَبُ يَضُمُّ [بعض نُجُومِه] (¬1) إلى بَعْضٍ. والنُّجُومُ ههُنا الأوْقاتُ المُخْتَلِفةُ؛ لأنَّ العربَ كانت لا تَعْرِفُ الحِسابَ. وإنَّما تَعْرِفُ الأوْقاتَ بطُلُوعِ النُّجُومِ، كما قال بعضُهم (¬2): إذا سُهَيلٌ أوَّلَ اللَّيلِ طلَعْ … فابنُ اللَّبُونِ الحِقُّ والحِقُّ جَذَعْ (¬3) فسُمِّيَتِ الأوْقاتُ نُجُومًا. والأصْلُ في الكِتابةِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ. أمَّا الكِتابُ، فقولُ اللهِ تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا} (¬4). وأمَّا السُّنَّةُ، فروَى سعيدٌ، عن سُفيانَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن نَبْهانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عن أُمِّ سَلمَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذا كان لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، [وكان عِنْدَه] (¬5) ما يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ». ¬

(¬1) في م: «نجومه بعضها». (¬2) الرجز غير مَعْزُوٍّ في: جمهرة اللغة 1/ 62، تهذيب اللغة 6/ 126، المخصص 9/ 16، اللسان والتاج (ح ق ق). (¬3) في الأصل: «الجذع». الحق من أولاد الإبل: الَّذي بلغ أن يركب ويحمل عليه ويَضْرِب الناقة. والبعير يجذع لاستكماله أربعة أعوام ودخوله في السنة الخامسة، وهو قبل ذلك حق. (¬4) سورة النور 33. (¬5) في الأصل: «فملك».

2975 - مسألة: (وهي مستحبة لمن يعلم فيه خير، وهو الكسب والأمانة. وعنه، أنها واجبة إذا ابتغاها من سيده أجبر عليها)

وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لِمَنْ يُعْلَمُ فِيهِ خَيرٌ، وَهُوَ الْكَسْبُ وَالْأمَانَةُ. وعَنْهُ، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، إِذَا ابْتَغَاهَا مِنْ سَيِّدِهِ أُجْبِرَ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه [أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ ماجة، والتِّرْمِذِيُّ] (¬1)، وقال: حسنٌ صَحيحٌ. وروَى سَهْلُ (¬2) بنُ حُنَيفٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنْ أَعانَ غَارِمًا أَوْ غَازِيًا أَوْ مُكَاتبًا في كِتَابَتِه، أَظلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه» (¬3). في أحادِيثَ كثيرةٍ سواهما. وأجْمَعَتِ الأمَّةُ على مَشْرُوعِيَّةِ الكِتابَةِ. 2975 - مسألة: (وهي مُسْتَحَبَّةٌ لمَن يُعْلَمُ فِيه خَيرٌ، وهو الكَسْبُ والأمَانَةُ. وعنه، أنَّها وَاجِبَةٌ إذا ابْتَغَاها مِن سَيدِه أُجْبِرَ عليها) إذا سألَ العَبْدُ سَيِّدَه مُكاتَبَتَه، اسْتُحِبَّ له إجابَتُه إذا عَلِمَ فيه خَيرًا. ولم يَجِبْ ذلك، في ظاهِرِ المذهبِ. وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن أحمدَ، أنَّها ¬

(¬1) في م: «رواه أبو داود وابن ماجة». والحديث تقدم تخريجه في 18/ 380 ولم يعز هناك إلى النسائي، وأخرجه النسائي، في: باب ذكر المكاتب يكون عنده ما يؤدى، من كتاب العتق، وفي: باب دخول العبد على سيدته ونظره إليها، من كتاب عشرة النساء. السنن الكبرى 3/ 197، 198، 5/ 389. (¬2) في الأصل: «سهيل». (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 389.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَاجِبَةٌ إذا دَعَى العَبْدُ المُكْتَسِبُ الصدوقُ (¬1) سيدَه إليها. وهو قولُ عَطاءٍ، والضَّحاكِ، وعمرِو بنِ دِينارٍ، وداودَ. وقال إسحاقُ: أخْشَى أن يأْثَمَ إن لم يَفْعَلْ، ولا يُجْبَرُ عليها. ووَجْهُ ذلك، قولُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا}. وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ. ورُوِيَ أنَّ (¬2) سِيرِينَ أبا محمدِ بنِ سِيريِنَ كان عبدًا لأنسِ بنِ مالكٍ، فسألَه أن يُكاتِبَه، فأبَى، فأخْبَرَ سيرِينُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ بذلك، فرَفَعَ الدِّرَّةَ على أنس، وقَرأ عليه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا}. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ابن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكاتَبَهَ أنَسٌ (¬1). ولَنا، أنَّه إعْتاقٌ بعِوَضٍ، ولم يَجِبْ عليه، كالاسْتِسْعاءِ. والآيةُ مَحْمُولَةٌ على النَّدْبِ، وقولُ عمرَ يُخالِفُه فِعْلُ أنَسٍ. قال أحمدُ: الخَيرُ: صِدْقٌ وصَلاحٌ ووَفاءٌ بمالِ الكِتابَةِ. ونحوَ هذا قال إبراهيمُ، وعمرُو بنُ دِ ينارٍ، وغيرُهما، وعِباراتُهم (¬2) في ذلك مُخْتَلِفَةٌ. وقِيلَ: قوةٌ على الكَسْبِ والأمانَةُ. قاله (¬3) الشافعيُّ. وقال ابنُ عباسٍ: غِنًى وإعْطاءُ المالِ. وقال مُجاهِدٌ: غِنًى وأدَاءٌ. وقال النَّخَعِيُّ: صِدقٌ ووَفاءٌ. فلا خِلافَ بَينَهم في أنَّ مَن لا خيرَ فيه لا تَجِبُ إجابَتُه. ¬

(¬1) ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، في: باب إثم من قذف مملوكه، من كتاب المكاتب. صحيح البخاري 3/ 198. وأخرجه البيهقي، في: باب من قال: يجب على الرجل مكاتبة. . . .، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 319. وعبد الرزاق، في: باب وجوب الكتاب والمكاتب يسأل الناس، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 371، 372. (¬2) في م: «عبارتهم». (¬3) في م: «قال».

2976 - مسألة: (وهل تكره كتابة من لا كسب له؟ على روايتين)

وَهَلْ تُكْرَهُ كِتَابَةُ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2976 - مسألة: (وهل تُكْرَهُ كِتابَةُ مَن لا كَسْبَ له؟ على رِوايَتَين) قال القاضي: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ كَرَاهَتُه. وكان ابنُ عمرَ يَكْرَهُه (¬1). وهو قولُ مسروقٍ، والأوْزَاعِيِّ. وعن أحمدَ، أنَّه لا يُكْرَه. ولم يَكْرَهْه الشافعيُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وطائفةٌ مِن أهلِ العلمِ؛ لأنَّ جُوَيرِيَةَ بنتَ الحارِثِ، كاتَبَها ثابتُ بنُ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، فأتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَسْتَعِينُه في كِتابَتِها، فأدَّى عنها كِتابَتَها وتَزَوَّجَها (¬2). واحْتَجَّ ابنُ المُنْذِرِ بأنَّ بَرِيرةَ كاتَبَت ولا حِرْفَةَ لها، فلم يُنْكِرْ ذلك رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ووَجْهُ الأوَّلِ ما ذَكَرْنا في عِتْقِه (¬4). قال شيخُنا (¬5): ويَنْبَغِي أن يُنْظرَ في المُكاتَبِ، فإن كان ممَّن يتَضَرَّرُ بالكِتابَةِ ويَضِيعُ؛ لِعَجْزِه عن الإِنْفاقِ على نَفْسِه، ولا يَجِدُ مَن يُنْفِقُ عليه، كُرِهَتْ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ خَيرًا}، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 318. وعبد الرزاق، في: باب وجوب الكتاب والمكاتب يسأل الناس، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 374. وابن أبي شيبة، في: باب من كره أن يكاتب عبده. . . .، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 23. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 347. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 277. (¬3) حديث بريرة تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬4) تقدم الكلام عليه في صفحة 7. (¬5) في: المغني 14/ 443.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابَتُه، وإن كان يَجِدُ مَن يَكْفِيه مُؤْنَتَه لم تُكْرَهْ كِتابَتُه؛ لحُصُولِ النَّفْعِ بالحُرِّيةِ مِن غيرِ ضَرَرٍ. فأمَّا جُوَيريَةُ (¬1) فإنَّها كانت ذاتَ أهلٍ، وكانت ابنةَ سيدِ قَوْمِه، فإذا عَتَقَتْ رَجَعَتْ إلى أهْلِها، فأخْلَفَ اللهُ لها خيرًا مِن أهلِها، فتَزَوَّجَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وصارت إحْدَى أمَّهاتِ المومنينَ، وأعْتَقَ الناسُ ما (¬2) كان بأيدِيهم مِن قَوْمِها حينَ بَلَغَهم أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَها، وقالوا: أصْهارُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُرَ امرأةٌ أعْظَمَ بَرَكَةً على قَوْمِها مِنها. وأمَّا بَرِيرَةُ، فإنَّ كِتابَتَها تَدُلُّ على إباحَةِ ذلك وأنَّه ليس بمُنْكَرٍ، ولا خِلافَ فيه، وإنَّما الخِلافُ في كَرَاهَتِه. قال مَسْرُوقٌ: إذا سأل العبدُ مَوْلاه المُكاتَبَةَ، فإن كان له مَكْسَبَةٌ أو كان له مالٌ فلْيُكاتِبْه، وإن لم يَكنْ له مالٌ ولا مَكْسَبَةٌ، فَلْيُحْسِنْ مَلْكَتَه، ولا يُكَلفْه إلَّا طَاقَتَه. ¬

(¬1) في م: «جويرة». (¬2) في الأصل: «مما».

2977 - مسألة: (ولا تصح إلا من جائز التصرف)

وَلَا تَصِحُّ إِلا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. وَإنْ كَاتَبَ الْمُمَيِّزُ عَبْدَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، صَحَّ. وَيَحْتمِلُ أَلَّا يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2977 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرُّفِ) فأمَّا المجْنونُ والطِّفْلُ، فلا تَصِحُّ مُكاتَبَتُهما لرَقِيقِهما، ولا مُكاتَبةُ سَيدِهما لهما، لأنَّ الكِتابَةَ نَقْلُ المِلْكِ بعِوَضٍ، فلا تَصِحُّ منهما (¬1)، كالبَيعِ. 2978 - مسألة: (وإن كاتَبَ المُمَيِّزُ عبدَه بإذْنِ وَلِيِّه، صَحَّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ) بناءً على قولِنا: إنَّه لا يَصِحُّ بَيعُه بإذْنِ وَلِيِّه. ولأنَّه عَقْدُ إعْتاقٍ، فلم يَصِحَّ منه، كالعِتْقِ بغيرِ مالٍ. ولا يَصِحُّ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّه بحالٍ. ¬

(¬1) في م: «منها».

2979 - مسألة: (وإن كاتب السيد عبده المميز، صح)

وَإنْ كَاتَبَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمُمَيِّزَ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2979 - مسألة: (وإن كاتَبَ السيدُ عبدَه المُمَيَّزَ، صَحَّ) وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَصِحُّ [فيهما جميعًا] (¬1) بحالٍ؛ لأنه ليس بمُكَلَّفٍ، أشْبَهَ المَجْنونَ. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ تَصرُّفُه وبَيعُه بإذْنِ وَلِيِّه، فصَحَّتْ منه الكِتابَةُ بذلك، كالمُكَلَّفِ. ودليلُ صِحَّةِ تصرُّفِه قولُ اللهِ تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (¬2). والابتِلاءُ: الاخْتِبارُ له بتَفْويضِ التصرُّفِ إليه؛ ليُعْلَمَ هل يَقَعُ منه على وَجْهِ المَصْلَحَةِ أو لا، وهل يُغْبَنُ في بَيعِه وشِرائِه أو لا. وإيجابُ السيدِ لعبدِه المُمَيِّزِ المُكاتَبَةَ إذْنٌ له فِي قَبُولِها. إذا ثَبَتَ هذا، فإن كان السيدُ المُكاتِبُ طفلًا أو مجنونًا، فلا حُكْمَ لتصرُّفِه ولا قَوْلِه. ¬

(¬1) في م: «فيها جميعها». (¬2) سورة النساء 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كاتَبَ المُكَلَّفُ عبدَه الطفلَ (¬1) أو المجنونَ، لم يَثْبُتْ لهذا التَّصَرُّفِ حكمُ المُكاتَبَةِ الصَّحِيحَةِ ولا الفاسِدَةِ؛ لأنَّه لاحُكْمَ لقولِهما، لكن إن قال: إن أدَّيتُما إليَّ فأنْتُما حُرَّان. فأدَّيا، عَتَقَا بالصِّفَةِ لا بالكِتابَةِ، وما في أيدِيهما لسيدِهما، وإن لم يَقْلُ ذلك لم يُعْتَقَا. ذَكَرَه أبو بكرٍ. وقال القاضي: يُعْتَقانِ. وهو مذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الكِتابَةَ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الصِّفَةِ، فيَحْصُلُ العِتْقُ ههُنا بالصِّفَةِ المَحْضةِ، كمالو قال: إن أدَّيتَ إليَّ فأنتَ حُرٌّ. ولَنا، أنَّه ليسَ بصِفَةٍ صريحًا ولا مَعْنًى، وإنَّما هو عَقْدٌ باطلٌ، فأشْبَهَ البَيعَ الباطِلَ. فصل: إذا كاتَبَ الذِّمِّيُّ عبدَه ثم أسْلَمَا، صَحَّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ أو عِتْقٌ بِصفَةٍ (¬2)، وكلاهُما يَصِحُّ منه. فإذا تَرافَعا إلى الحاكمِ بعدَ الكِتابَةِ، نَظَرَ في العَقْدِ؛ فإن كان موافقًا للشَّرْعِ أمْضاه، وإن كانت كِتابَتُه فاسدةً، مثلَ أن يكونَ العِوَضُ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا، أو غيرَ ذلك مِن أنْواعِ الفسادِ، ففيه ثلاثُ مَسائِلَ؛ أحدُها، أن يكونَا قد تَقابَضا حال الكُفْرِ، ¬

(¬1) في م: «المكلف». (¬2) في الأصل: «نصفه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتكونَ الكِتابَةُ ماضِيَةً والعِتقُ حاصلًا؛ لأنَّ ما تَمَّ في حالِ الكُفْرِ لا يَنْقُضُه الحاكِمُ، ويَحْكُمُ بالعِتْقِ، سواءٌ تَرافَعا قبَل الإِسْلامِ أو بعدَه الثانيةُ، تَقَابَضا بعدَ الإِسْلامِ، ثم تَرافَعا إلى الحاكمِ، فإنَّه يَعْتِقُ أيضًا (¬1)؛ لأنَّ هذه كِتابَةٌ فاسِدَةٌ، ويكونُ حكمُها حكمَ الكِتابَةِ الفاسِدَةِ المَعقودةِ في الإسْلامِ، على ما سَنَذْكره، إن شاء اللهُ تعالى. الثالثةُ، تَرافَعا قبلَ قَبْضِ العِوَضِ الفاسِدِ، أو قَبْضِ بعضِه، فإنَّ الحاكمَ يَرْفَعُ هذه الكِتابَةَ ويُبْطِلُها؛ لأنَّها كتابةٌ فاسِدةٌ لم يَتَّصِلْ (¬2) بها قَبْضٌ تَنبَرِمُ به. ولا فَرْقَ بينَ إسْلامِهما أو إسْلامِ أحَدِهما فيما ذَكَرْناه مِن التَّغليبِ بحُكْمِ الإسْلام. وقال أبو حنيفةَ: إذا كاتَبَه علي خَمْرٍ ثم أسْلَما لم يَفْسُدِ العَقْدُ، ويُؤَدِّي قِيمَةَ الخمرِ؛ لأنَّ الكِتابَةَ كالنِّكاحِ، ولو مَهَرَها خَمْرًا ثم أسْلَما لم يَفْسُدِ العَقْدُ، ويَبْطُلُ الخَمْرُ. ولَنا، أنَّ هذا عَقْدٌ لو عَقْدٌ المُسْلِمُ كان فاسِدًا، فإذا أسْلَما قبلَ التَّقابُضِ، أو أحَدُهما، حُكِمَ بفَسادِه، كالبَيعِ الفاسِدِ. ويُفارِقُ النِّكَاحَ، فإنَّه لو عَقَدَه المسلمُ بخَمْرٍ كان صَحِيحًا. وإن أسْلَمَ مُكاتَبُ الذِّمِّيِّ لم تَنْفَسِخِ الكِتابةُ؛ لأنَّها وقَعَتْ صحيحةً، ولا يُجْبَرُ على إزالَةِ مِلْكِه؛ لأنَّه خارجٌ بالكِتابةِ عن تصَرُّفِ الكافِرِ فيه، فإن (¬3) عَجَزَ أُجْبِرَ على إزالةِ مِلْكِه عنه حِينَئذٍ. فإنِ اشتَرَى مسلمًا فكاتَبَه، لم تَصِحَّ الكتابةُ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يبطل». (¬3) في الأصل: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الشِّراءَ باطِلٌ لم يَثْبُتْ له به مِلْكٌ. وإن أسْلَمَ عبدُه فكاتَبَه بعدَ إسْلامِه، لم تَصِحَّ كِتابَتُه (¬1)؛ لأنَّ الكِتابَةَ لا تُزِيلُ المِلْكَ. وقال القاضي: له ذلك. وقد ذَكَرْناه [في كِتابِ البَيعِ] (¬2)، فإن عَجَزَ عاد رَقِيقًا قِنًّا، وأُجْبِرَ على إزالةِ مِلْكِه عنه. فصل: وتَصِحُّ كِتابَةُ الحَرْبِيِّ عبدَه في دارِ الحربِ وفي دارِ الإسْلامِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَصِحُّ؛ لأنَّ مِلْكَه ناقِصٌ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أَنَّه لا يَمْلِكُ ذلك، بدليلِ أنَّ [المسلم يَمْلِكُه] (¬3) عليه. ولَنا، قولُه تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وأَمْوَالهُمْ} (¬4). وهذه الإضافةُ إليهم تَقْتَضِي صِحَّةَ أمْلاكِهم، فتَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفاتِهم. إذا ثَبَتَ هذا، فإذا كاتَبَ عبدَه فدَخَلا مُسْتأْمَنَين إلينَا، لم يَتَعَرُّضِ الحاكِمُ لهما. وإن تَرافَعا إليه نَظَرَ بَينَهما؛ فإن كانت كِتابَتُهما صَحِيحةً ألْزَمَهُما حُكْمَها، وإن كانت فاسِدةً بَيّنَ لهما فسادَها. وإن جاءا وقد قَهَرَ أحَدُهما صاحِبَه بَطَلَتِ الكِتابَةُ؛ لأنَّ العبدَ إن قَهَرَ سيدَه مَلَكَه، فبَطَلَتْ كِتابَتُه؛ لخُرُوجِه عن مِلْكِ سيدِه (¬5). وإن قَهَرَه السيدُ على إبْطالِ الكِتابَةِ وَرَدَّه رَقِيقًا، بَطَلَتْ؛ لأنَّ دارَ الكُفْرِ دارُ قَهْرٍ وإباحَةٍ، ولهذا لو قَهَرَ حُرٌّ حُرًّا ¬

(¬1) بعده في المغني 14/ 446: «لأنه يلزمه إزالة ملكه عنه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «للمسلم تملكه». (¬4) سورة الأحزاب 27. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَفسِه مَلَكَه. وإن دَخَلا مِن غَيرِ قَهْرٍ، فقَهَرَ أحَدُهما الآخَرَ في دارِ الإِسْلامِ، لم تَبْطُلِ الكِتابَةُ وكانا على ما كانا عليه قبلَه؛ لأنَّ دارَ الإسْلامِ دارُ حَظْرٍ، لا يُوثِّرُ فيها القَهْرُ إلَّا بالحَقِّ. وإن دَخَلا مُسْتَأْمَنَين ثم أرادَا الرُّجُوعَ إلى دارِ الحربِ (¬1)، لم يُمْنَعا. وإن أرادَ السيدُ الرُّجُوعَ وأخْذَ المُكاتَبَ معه، فأبَى المُكاتَبُ الرُّجُوعَ معه، لم يُجْبَرْ، لأنَّه بالكِتابَةِ زال سُلْطانُه، وإنَّما له في ذِمَّتِه حَقٌّ، ومَن له دَينٌ في ذِمَّةِ غيرِه لا يَمْلِكُ إجْبارَه على السَّفَرِ معه لأجْلِه. ويقالُ للسيدِ: إن أردتَ الإِقَامَةَ في دارِ الإِسْلامِ لتَسْتَوْفيَ (¬2) مال الكِتابَةِ فاعْقِدِ الذِّمَّةَ وأقِمْ، إن كانت مُدَّتُها طويلةً، وإن أردتَ تَوْكِيلَ مَن يَقْبِضُ لك نُجومَ الكِتابَةِ فافْعَلْ. فإذا أدَّى نُجومَ الكتابةِ عَتَقَ، وهو مُخَيَّرٌ، إن أحَبَّ المُقامَ في دارِ الإِسْلامِ عَقَد على نَفْسِه الذِّمَّةَ، وإن أحَبَّ الرُّجُوعَ لم يُمْنَعْ. وإن عَجَزَ وفَسَخَ السيدُ كِتابَتَه عادَ رَقِيقًا، ويُرَدُّ إلى سَيدِه، والأمانُ له (¬3) باقٍ؛ لأنه مِن مالِ سَيِّدِه، وسَيِّدُه عقدَ الأمانَ لنفسِه ومالِه، فإذا انْتَقَضَ الأمانُ في نَفْسِه بعَوْدِه لم يَنْتَقِضْ في مالِه. وإن كاتَبَه في دارِ الحَرْبِ فهَرَبَ ودَخَلَ إلينا، بَطَلَتِ الكتابةُ، لأنَّ مِلْكَه زال بقَهْره على نَفْسِه، فأشْبَهَ ما لو قَهَرَه على غيره مِن مالِه. وسَواءٌ جاءَنا مُسْلِمًا أو غيرَ مُسلمٍ. وإن جاء بإذنِ سيدِه فالكِتابَةُ بحالِها، لأنَّه لم يَقهَرْ ¬

(¬1) في م: «الحراب». (¬2) في الأصل: «ليستوفى». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سيدَه، فإذا دَخَلَ إلينَا بأمانٍ بإذْنِ سيدِه ثم سَبَى المسلمونَ سيدَه وقُتِلَ، انْتَقَلَتِ الكِتابَةُ إلى وَرَثَتِه، كما لو ماتَ حَتْفَ أنْفِه، وإن مَنَّ عليه الإِمامُ أو فاداه أو هَرَبَ، فالكِتابَةُ بحالِها. وإنِ اسْتَرَقَّه الامامُ، فالمُكاتَبُ مَوْقُوفٌ، [إن عَتَقَ السيدُ فالكِتابَةُ بحالِها، وإن مات أو قُتِلَ فالمُكاتَبُ للمسلمين، مُبقًى على ما بَقِيَ مِن كِتابَتِه، يَعْتِقُ] (¬1) بالأداءِ إليهم، ووَلاؤُه لهم، وإن عَجَزَ فهو رَقِيقٌ لهم. فإن أرادَ المُكاتَبُ الأداءَ قبلَ عِتْقِ سيدِه وموتِه، أدَّى إلى الحاكمِ أو إلى أمِينِه، وكان المالُ المَقْبُوضُ مَوْقُوفًا، على ما ذَكَرْناه، ويَعْتِقُ المُكاتَبُ بالأداءِ، وسيدُه رَقِيقٌ، لا يَثْبُت له وَلاءٌ. قال أبو بكرٍ: يكونُ الولاءُ للمسلمين. وقال القاضي: يكونُ مَوْقُوفًا، فإن عَتَقَ سيدُه فهو له، وإن مات رَقيقًا فهو للمسلمينَ، وإن كان اسْتِرْقاقُ سيدِه بعدَ عِتْقِ المُكاتَبِ وثُبُوتِ الوَلاءِ عليه، فقالِ القاضي: يكونُ وَلاؤُه مَوْقُوفًا، فإن عَتَقَ السيدُ كان الوَلاءُ له، وإن قُتِلَ أو مات على رِقِّه بَطَلَ الوَلاءُ؛ لأنَّه رقِيقٌ لا يُورَثُ، فبَطَل الوَلاءُ؛ لعَدَمِ مُسْتَحِقِّه. ويَنْبَغِي أن يكونَ للمسلمينَ؛ لأنَّ مال مَن لا وارِثَ له للمسلمين، فكذلك الوَلاءُ. والله أعلمُ. فصل: وإن كاتَبَ المُرْتَدُّ عبدَه، فعلى قولِ أبي بكرٍ، الكتابةُ باطلةٌ؛ لأنَّ مِلْكَه زال برِدَّتِه. وعلى ظاهِرِ المذهبِ، كتابَتُه مَوْقُوفَةٌ؛ إن أسْلَمَ (¬2) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

2980 - مسألة: (ولا تصح إلا بالقول. وتنعقد بقوله: كاتبتك

وَلَا تَصِحُّ إلا بِالْقَوْلِ. وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبَيَّنّا أنَّها كانت صحيحةً، وإن مات على رِدَّتِه أو قُتِلَ بَطَلَتْ. وإن أدَّى في رِدَّتِه لم يُحْكَمْ بعِتْقِه ويكونُ مَوْقُوفًا، فإن أسْلَم سَيِّدُه تَبَيَّنّا صِحَّةَ الدَّفْعِ إليه وعِتْقِه، وإن مات على رِدّتِه أو قُتِلَ فهو باطِلٌ والعبدُ رقيقٌ. وإنَّ كاتَبَه وهو مسلمٌ ثم (¬1) ارْتَدِّ وحُجِرَ عليه، لم يَكُنْ للعبدِ الدَّفْعُ إليه، ويُؤَدِّي إلى الحاكِمِ، ويَعْتِقُ بالأداءِ. وإن دَفَعَ إلى المُرْتَدِّ، كان مَوْقوفًا، كما ذَكَرْنا. وإن كاتَبَ المسلمُ عبدَه المُرْتَدَّ صَحَّتْ كِتابَتُه؛ لأنَّه يَصِحُّ بَيعُه، فإن أدَّى عَتَقَ، وإن أسْلَمَ فهو على كِتابَتِه. فصل: وكتابةُ المريضِ صَحِيحةٌ، قإن كانَ مَرَضُ الموتِ الْمَخُوفُ اعْتُبِرَ مِن الثُّلثِ؛ لأنَّه بَيعُ مالِه بمالِه، فجَرَى مجْرَى الهِبَةِ. ولذلك ثَبَتَ الوَلاءُ على المُكاتَبِ؛ لكَوْنِه مُعْتَقًا. فإن خَرَجَ مِن الثُّلُثِ كانت الكتابةُ لازِمةً، وإن لم يَخْرُجْ مِن الثُّلثِ، لَزِمَتْ في قَدْرِ الثُّلُثِ، وباقِيه موقوفٌ على إجازَةِ الوارثِ (¬2)، تَصِحُّ بإجازَتِه وتَبْطُلُ برَدِّه. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو الخَطَّابِ، في «رُءُوسِ المسائِلِ»: تجوزُ الكِتابَةُ مِن رَأسِ المال؛ لأنَّه عَقْدُ معاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيعَ. والأوَّلُ أوْلَى. 2980 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلا بالقولِ. وتَنْعَقِدُ بقولِه: كَاتَبْتُكَ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «الورثة».

2981 - مسألة: ولا يفتقر إلى قوله: (وإن أديت إلي فأنت حر)

وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: فَإِذَا أَدَّيتَ إِلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يُشْتَرَطَ قَوْلُهُ أَوْ نِيَّتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على كذا) لأنَّه لَفْظُها الموْضُوعُ لها، فانْعَقَدَتْ بمجرَّدِه، كَلَفْظِ النِّكاحِ فيه. 2981 - مسألة: ولا يَفْتَقِرُ إلى قولِه: (وإن أَدَّيتَ إليَّ فأنْتَ حُرٌّ) بل متى أدَّى عَتَقَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يَعْتِقُ حتَّى يَقُولَ ذلك، أو يَنْويَ بالكِتابةِ الحُرِّيَّةَ. ويَحْتَمِلُ مثلُ ذلك عندَنا، لأنَّ لَفْظَ الكِتابَةِ يَحْتَمِلُ المُخارَجَةَ، ويَحْتَمِلُ العِتْقَ بالأداءِ، فلا بُدَّ مِن تَمْيِيزِ أحَدِهما عن الآخَرِ، ككِتاباتِ العِتْقِ. ولَنا، أنَّ الحُرِّيةَ مُوجَبُ عَقْدِ

2982 - مسألة: (ولا تصح إلا على عوض معلوم منجم، نجمين فصاعدا)

وَلَا تَصِحُّ إلا عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ، مُنَجَّمٍ، نَجْمَينِ فَصَاعِدًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِتابَة، فثَبَتَتْ عندَ تَمامِه، كسائِرِ أحْكامِه. ولأنَّ الكِتابَةَ عَقْدٌ وُضِعَ للعِتْقِ، فلم يَحْتَجْ إلى لَفْظِ العِتْقِ ولا نِيَّتِه، كالتَّدْبِيرِ. وما ذَكَرُوه من اسْتِعمالِ الكتابةِ في المُخارَجةِ، إن ثَبَتَ فليس بمَشْهُورٍ، فلم يَمْنَعْ وُقوعَ الحُرِّية به، كسائِرِ الألْفاظِ الصَّريحةِ، على أنَّ اللَّفْظَ المُحْتَمِلَ يَنْصَرِف بالقرائِنِ إلى أحَدِ مُحْتَمِلَيه، كلَفْظِ التَّدْبِيرِ؛ فإنَّه يَحْتَمِلُ التَّدْبيِرَ في مَعاشِه، وغيرِه، وهو صَرِيحٌ في الحُرِّيةِ، كذلك هذا. 2982 - مسألة: (ولا تَصِحُّ إلَّا على عِوَضٍ مَعْلُوم مُنجَّمٍ، نَجْمَين فصاعدًا) لا تَصِحُّ إلَّا على عِوَضٍ مَعْلُومٍ؛ لأنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَتِ البَيعَ. ولا تَجُوزُ إلَّا مُنَجَّمَةً مُؤَجَّلَةً. هذا ظاهِرُ المذهبِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: تجوزُ حالَّةً؛ لأنَّه عَقْدٌ على عَينٍ، فإذا كان عِوَضُه في الذِّمَّةِ، جازَ أن يكونَ حالَّا، كالبَيعِ. ولَنا، أنَّه قد رُوِيَ عن جماعةٍ مِن الصَّحابةِ أنَّهم عَقَدُوا الكتابةَ، ولم يُنْقَلْ عن واحدٍ منهم عَقْدُها حالَّةً، ولو جازَ ذلك لم يَتَّفقُوا على تَرْكِه. ولأنَّ الكِتابَةَ عَقْدُ معاوضَةٍ يَعْجِزُ عن أداءِ عِوَضِها في الحالِ، فكان مِن شَرْطِها التَّأْجيلُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالسَّلَمِ على أبي حنيفةَ. ولأنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ يَلْحَقُه الفَسْخُ، مِن شَرْطِه ذِكْرُ العِوَضِ، فإذا وَقَعَ على وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ فيه العَجْزُ عن العِوَضِ لم يَصِحَّ، كما لو أسْلَمَ في شيءٍ لا يُوجَدُ عندَ مَحِلِّه. ويُفارِقُ البَيعَ؛ لأنَّه لا يَتحَقَّقُ فيه العَجْزُ عن العِوَضِ؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ يَمْلِكُ المَبيعَ، والعَبْدَ لا يَملِكُ شيئًا، وما في يَدِه لسيدِه. وفي التَنْجِيمِ، إذا كان أكثَرَ مِن نَجْمٍ، حِكْمَتانِ (¬1)؛ إحداهُما تَرْجِعُ إلى المُكاتَبِ، وهو التَّخْفِيفُ عليه؛ لأنَّ الأداءَ مُفَرَّقًا أسْهَلُ، ولهذا تُقَسَّطُ الدُّيُونُ على المُعْسِرينَ عادةً، تخْفيفًا عليهِم. والأخْرَى للسيدِ، وهي أنَّ مُدَّةَ الكِتابةِ تَطُولُ غَالِبًا، فلو كانت على نجْمٍ واحدٍ لم يَظْهَرْ عَجْزُه إلَّا في آخِرِ المُدَّةِ، فإذا عَجَزَ عادَ إلى الرِّقِّ، وفاتَتْ مَنافِعُه في مُدَّةِ الكتابةِ كلِّها على السيدِ (¬2)، مِن غيرِ نَفْعٍ حَصَلَ له. وإذا كانت مُنَجَّمةً نُجُومًا، فعَجَزَ عن النَّجْمِ الأوَّلِ فمُدَّتُه يَسِيرَةٌ، وإن عَجَزَ عمَّا بعدَه فقدَ حَصَلَ للسيدِ نَفْعٌ بما أخَذَ مِن النُّجومِ قبلَ عَجْزِه. إذا ثَبَتَ ذلك، فأقَلُّه نَجْمان فصاعدًا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ونُقِلَ عن أحمدَ، أنَّه قال: مِن النَّاس من يقولُ: نَجْمٌ واحدٌ. ومنهم مَن يقولُ: نجْمانِ. ونَجْمانِ أحَبُّ إليَّ (¬3). وهذا يَحْتَمِلُ أن يكونَ معناه أنِّي أذهَبُ ¬

(¬1) في الأصل: «حكمنا أن». (¬2) في م: «سيده». (¬3) في الأصل: «ولى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى أنَّه لا يجوزُ إلَّا نَجْمانِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المُسْتَحَبُّ نَجْمَين، ويجوزُ نَجْمٌ واحدٌ. قال ابنُ أبي موسى: هذا على طريقِ الاخْتِيارِ، وإن جَعَلَ المال كُلَّه في نَجْمٍ واحدٍ جازَ؛ لأنَّه عَقْدٌ يُشْتَرَطُ فيه التَّأْجيلُ، فجازَ أن يكونَ إلى أجلٍ واحدٍ، كالسَّلَمِ، ولأنَّ اعْتِبارَ التَّأْجِيلِ ليتَمَكَّنَ مِن تَسْلِيم العِوَضِ، وهذا يَحْصُلُ بنَجْمٍ واحدٍ. ووَجْهُ الأولِ، ما رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: الكِتابةُ على نجْمَين، والإِيتَاءُ مِن الثَّانِي (¬1). وهذا يَقْتَضِي أنَّ هذا أقَلُّ ما تجوزُ عليه الكتابةُ؛ لأنَّ أكْثَرَ مِن نجْمَين جائزٌ بالإِجْماعِ. ورُوِيَ عن عثمانَ أنَّه غَضِبَ على عبدٍ له، فقال: لأُعاقِبَنَّكَ، ولأُكاتبَنَّكَ على نجْمَين. ولو جازَ أقَلُّ مِن هذه لعاقَبَه به في الظاهِرِ. وفي حديثِ بَريرَةَ، أنَّها أتَتْ عائشةَ، فقالت: يا أُمَّ المؤمنين، إني كاتَبْتُ أهْلِي على تِسْعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقِيَّةٌ، فأعِينِيني (¬2). ولأنَّ الكِتابةَ مُشْتَقّةٌ مِن الضَّمِّ، وهو ضَمُّ نَجْمٍ إلى نجْمٍ، فدَلَّ ذلك على افْتِقارِها إلى نَجْمَين. والأوَّلُ أقْيَسُ. ¬

(¬1) عزاه ابن حجر في تلخيص الحبير 4/ 217، لابن أبي شيبة، ولم نجده في مصنفه. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235.

2983 - مسألة: ويشترط علم ما يؤدى إليه، في كل نجم، كالثمن في البيع، ولئلا يفضي إلى التنازع

يَعْلَمُ قَدْرَ مَا يُؤَدِّي في كُلِّ نَجْمٍ. وَقِيلَ: تَصِحُّ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ. وَقَال الْقَاضِي: تَصِحُّ عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ، وَلَهُ الْوَسَطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2983 - مسألة: ويُشْتَرَطُ عِلْمُ ما يُؤَدَّى إليه، في كُلِّ نَجْمٍ، كالثَّمَنِ في البَيعِ، ولِئلَّا يُفْضِيَ إلى التَّنازعِ (¬1) والاخْتِلافِ. ولا يُشْتَرَطُ تَساوي النُّجُوم، فإذا قال: كاتبْتُك على ألْفٍ إلى عَشْرِ سِنينَ، تُؤَدِّي عندَ انْقِضاءِ كُلِّ سَنَةٍ مائةً. أو قال: تُؤَدِّي منها مائةً عندَ انْقِضاءِ خَمْسِ سِنِينَ، وباقِيَها عندَ تَفامِ العَشَرَةِ. أو قال: تُؤَدِّي في آخِرِ العامِ الأوَّلِ مائةً، وتِسْعَمائةٍ عندَ انْقِضاءِ السَّنةِ العاشرةِ. فكلًّ ذلك جائِزٌ. فإن قال: تُؤَدِّي في كُلِّ عام مائةً. جازَ، ويكونُ أجَلُ كُلِّ مائةٍ عندَ (¬2) انْقِضاء السَّنةِ (¬3). وظاهِرُ قولِ القاضي، وأصحابِ الشافعيِّ، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لم (¬4) يُبَيِّنْ وقْتَ الأداءِ مِن العامِ. ولَنا، قولُ بَرِيرَةَ: كاتَبْتُ ¬

(¬1) في م: «النزاع». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في الأصل: «العاشرة». (¬4) في م: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهْلِي على تِسْعِ أوَاقٍ، في كلِّ عام أُوقِيَّة. ولأنَّ الأجَلَ إذا عُلِّقَ بمُدَّةٍ، تَعَلَّقَ بأَحَدِ طَرَفَيها. فإن كان بحَرفِ «إلى» تَعَلَّقَ بأوَّلِها، كقولِه: إلى شَهْرِ رَمضانَ. وإن كان بحَرفِ «في»، كان إلى آخرِها؛ لأنَّه جعَل جميعَها وقْتًا لأدائِها، فإذا أدَّى في آخرِها كان مُؤَدِّيًا لها في وَقْتِها، فلم يَتَعَيّنْ عليه الأداءُ قبلَه، كتأْدِيةِ الصلاةِ في آخِرِ وَقْتِها. وإن قال: تُؤَدِّيها في عَشْرِ سِنينِ. أو: إلى عَشْرِ سِنينَ. لم يَجُز؛ لأنَّه نَجْمٌ واحدٌ. ومَن أجازَ الكِتابَةَ على نجْمٍ واحدٍ أجازَة. وإن قال: تؤدِّي بَعْضَها في نِصْفِ المُدَّةِ، وباقِيَهَا في آخِرِها. لم يَجُزْ؛ لأنَّ البَعْضَ يَقَعُ على القَلِيلِ والكَثيرِ، فيكونُ مَجْهُولًا. فصل: وتجوزُ الكِتابةُ على كلِّ (¬1) مالٍ يجوزُ السَّلَمُ فيه؛ لأنَّه مالٌ يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا في مُعاوَضَةٍ، فجاز ذلك فيه، كعَقْدِ السَّلَمِ. فإن كان مِن الأثْمانِ، وكان في البَلَدِ نَقْدٌ واحدٌ، جازَ إطْلاقُه؛ لأنَّه يَنْصَرِفُ إليه، فأشْبَهَ البَيعَ. وإن كان فيه نُقُودٌ بَعْضُها أغْلَبُ في الاسْتِعمالِ، جاز الإِطْلاقُ أيضًا، وانْصَرَفَ إليه عندَ الإِطْلاقِ، كما لو انْفَرَدَ. وإن كانت مُخْتَلفةً ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَساويةً في الاسْتِعمالِ، وَجَبَ بَيانُه بما يَتَمَيَّزُ به مِن (1) غيرِه مِن النُّقودِ. وإن كان مِن غيرِ الأثْمانِ، وَجَبَ وَصْفُه بما يُوصَف به في السَّلَم. فأمَّا ما لا يَصِحُّ السَّلَمُ فيه (¬1)، فلا يجوزُ أن يكونَ عِوَضًا في الكِتابةِ؛ لأَنَّه عَقْدُ مُعَاوضةٍ يَثْبُتُ عِوَضُه في الذِّمَّةِ، فلم يَجُزْ بعِوَض مَجْهُولٍ، كالسَّلَمِ. (وقال القاضي: تَصِحُّ على عبدٍ مُطْلَقٍ، وله الوَسَطُ) إذا كاتَبَه على عبدٍ مُطْلَقٍ، لم يَصِحَّ. ذَكَرَه أبو بكرٍ. وهو قولُ الشافعيِّ، [وقال القاضي] (¬2): يجوزُ في أحَدِ الوَجْهَين. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ؛ لأنَّ العِتْقَ لا يَلْحَقُه الفَسْخُ، فجازَ أن يكونَ الحيَوانُ المُطْلَقُ عِوَضًا فيه، كالعَقْلِ. ولَنا، أنَّ ما لا يجوزُ أن يكونَ عِوَضًا في البَيعِ والإِجارةِ لا يجوزُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

2984 - مسألة: (وتصح على مال وخدمة، سواء تقدمت الخدمة أو تأخرت)

وَتَصِحُّ عَلَى مَالٍ وَخِدْمَةٍ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْخِدْمَةُ أَوْ تَأْخَّرَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ عِوَضًا في الكِتابةِ، كالثَّوْبِ المُطْلَقِ، ويُفَارِقُ العَقْلَ؛ لأنَّه بَدَلُ مُتْلَفٍ مْقَدَّرٌ في الشَّرْعِ، وههُنا عِوَضٌ في عَقْدٍ، أشْبَه البَيعَ. ولأنَّ الحيوانَ الواجبَ في العَقْلِ ليسَ بحيوانٍ مُطْلَقٍ، بل هو مُقَيَّدٌ بجِنْسِه وسِنِّه، فلم يَصِحَّ الإِلْحاقُ به، ولأنَّ الحيوانَ المُطْلَقَ لا تجوزُ الكِتابةُ عليه بغيرِ خِلافٍ عَلمْناه، وإنَّما الخِلاف في العبدِ المُطْلَقِ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ به بَدَلًا في مَوْضِع عَلِمْناه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ مَن صَحَّح (¬1) الكِتابةَ به أوْجَبَ له عَبْدًا وسطًا، وهو السِّنْدِيُّ، ويكونُ وَسَطًا مِن السِّنْديِّين في قِيمَتِه، كقَوْلِنا في الصَّدَاقِ. ولا تصِحُّ الكِتابةُ على حيوانٍ مُطْلَقٍ غيرِ العبدِ، فيما عَلِمْنا، ولا على ثَوْبٍ، ولا دارٍ. ولذلك لا تجوز على ثَوْبٍ مِن ثِيابِه، ولا عِمامةٍ مِن عَمائِمه، ولا غيرِ ذلك مِن المَجْهُولاتِ. وممَّن اخْتارَ الكِتابَةَ على العبدِ، الحسَنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وابن سيرينَ. ورُوِيَ عن أبي بَرْزَةَ، وحَفْصَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. 2984 - مسألة: (وتَصِحُّ على مالٍ وخِدْمةٍ، سواءٌ تَقَدَّمَتِ الخِدْمَةُ أو تَأَخَّرَتْ) تجوز الكِتابةُ على المنافِعِ المُباحَةِ؛ لأنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «صحة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُ العِوَضَين في الإِجَارَةِ، فجاز أن تكونَ عِوَضًا في الكتابةِ، كالأثْمانِ. ويُشْتَرَط العِلْمُ بها كما يُشْتَرَطُ في الإِجَارَةِ؛ فإن كاتَبَه على خِدْمة. شَهْرٍ ودِينارٍ، صَحَّ، ولا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ الشهرِ وكَونِه عَقِيبَ العَقْدِ؛ لأنَّ الإِجارَةَ تَقْتَضِيه. فإن عَيَّنَ الشَّهْرَ بوقتٍ لا يَتَّصِل بالعَقْدِ، مثلَ أن يُكاتِبَه في المُحَرَّمِ على خِدْمَتِه في رَجَبٍ ودِينارٍ، صَحَّ أيضًا، كما يجوزُ أن يُؤْجِرَه دارَه شَهرَ رَجَبٍ في المُحَرَّمِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يجوزُ على شَهْرٍ لا يَتَّصِلُ بالعَقْدِ. ويَشْتَرِطونَ ذِكْرَ ذلك، ولا يُجَوِّزُونَ إطْلاقَه، بناءً على قَوْلِهم في الإِجَارَةِ. وقد سَبَقَ الكلامُ فيه، والخِلافُ في باب الإِجَارَةِ (¬1). ويُشْتَرَطُ كونُ الدِّينارِ المذْكُورِ مُؤَجَّلًا؛ لأنَّ الأجَلَ شَرْطٌ في عَقْدِ الكتابةِ. فإن جعَل مَحِلِّ الدِّينارِ بعدَ الشَّهْرِ بيومٍ أو أَكْثَرَ، صَحَّ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وإن جَعَلَ محِلَّه في الشَّهْرِ أو بعدَ انْقِضائِه، صَحَّ أيضًا. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال القاضي: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يكونُ نَجمًا واحدًا. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الخِدْمَةَ كُلَّها لا تكونُ في وَقْتِ مَحِلِّ الدِّينارِ، وإنَّما يُوجَدُ جُزْءٌ منها يَسِير مُقارِبًا له، وسائِرُها فيما سِواه، ولأنَّ الخِدْمَةَ بمَنْزِلَةِ العِوَضِ الحاصِلِ في ابْتِداءِ مُدَّتِها، ولهذا يَسْتَحِقُّ عِوَضَها ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 14/ 354.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جميعَه، ويكونُ مَحِلُّها غير مَحِلِّ الدِّينارِ، وإنَّما جازَتْ (¬1) حالَّةً؛ لأنَّ المَنْعَ مِن الحُلولِ في غيرِها؛ لأجْلِ العَجْزِ عنه في الحالِ، وهذا غيرُ مَوْجُودٍ في الخِدْمَةِ، فجازَتْ حالَّةً. وإن جَعَلَ مَحلَّ الدِّينارِ قبلَ الخِدْمَةِ، وكانتِ الخِدْمَةُ غيرَ مُتَّصِلةٍ بالعَقْدِ، بحيثُ يكونُ الدِّينارُ مُؤَجَّلًا والخِدْمَةُ بعدَه، جازَ. وإن كانتِ الخِدْمَةُ مُتّصِلةً بالعَقْدِ، لم يُتَصَوَّرْ كونُ الدِّينارِ قبلَه، ولم يَجُزْ في أوَّلِه؛ لأنَّه يكونُ حالًا. ومن شَرْطِه (¬2) التّأجِيلُ. فصل: إذا كاتَبَ السيدُ عبدَه على خِدْمَةٍ مُفْرَدَةٍ في مُدَّةٍ واحدِةٍ، مثلَ أن يُكاتِبَه على خِدْمَةِ شَهْرٍ بعَينِه، أو سَنَةٍ مُعَيَّنَةَ، فحُكْمُه حُكْمُ الكِتابةِ على نَجْمٍ واحدٍ، على ما مَضَى مِن القولِ فيه (¬3). ويَحْتَمِلُ أن يكونَ كالكِتابةِ على أنْجُمٍ؛ لأنَّ الخِدْمَةَ تُسْتَوْفَى في أوقاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ (¬4)، بخِلافِ المالِ. وإن جَعَلَه على شَهْرٍ بعدَ شَهْرٍ، كأن كاتَبَه في أوَّلِ المُحرَّمِ على خِدْمَتِه فيه وفي رَجَبٍ، صَحَّ؛ لأنَّه على نجْمَين. وإن كاتَبَه على مَنْفَعَةٍ في الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٍ، كخِياطَةِ ثَوْبٍ عَيَّنَه، أو بناءِ حائِطٍ وَصَفَه، صَحَّ أيضًا، إذا كانت على نَجْمَينِ. وإن قال: كاتَبْتُكَ على أن تَخْدُمَنِي هذا الشَّهْرَ، وخِيَاطَةِ كذا (¬5) عَقِيبَ الشَّهْرِ. صَحَّ في قولِ الجَميعِ. وإن قال: على ¬

(¬1) بعده في م: «له». (¬2) في الأصل: «شرط». (¬3) تقدم الكلام عليه في صفحة 205. (¬4) في م: «مفرقة». (¬5) بعده في م: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تَخْدِمَنِي شَهْرًا مِن وَقْتِي هذا، وشهرًا عَقِيبَ هذا الشهرِ. صَحَّ أيضًا. وعندَ الشافعيِّ، لا يَصِحُّ. ولَنا. أنَّه كاتَبَه على نَجْمَين، فصَحَّ، كالتي قبلَها. فصل: وإذا كاتَبَ العبدَ وله مالٌ، فمالُه لسَيدِه؛ إلَّا أن يَشْتَرِطَه المُكاتَبُ. [فإن كان] (¬1) له سُرِّيَّةٌ أو وَلَدٌ، فهو لسيدِه. وبهذا قال الثوْرِيُّ، والحسنُ بنُ صالِحٍ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ، والشافعيُّ. وقال الحسنُ، وعطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، وسُليمانُ بنُ موسى، وعمرُو بنُ دينارٍ، ومالكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، في المكاتَبُ: مالُه له. ووافَقَنا (¬2) عَطاءٌ، وسليمانُ بنُ موسى، والنَّخَعِيُّ، وعمرُو بنُ دينارٍ، ومالكٌ، في الوَلَدِ، واحْتُجّ لهم بما روَى ابنُ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَن أعْتَقَ عَبْدًا ولَهُ مالٌ، فالمالُ للِعَبْدِ» (¬3). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وله مالٌ، فَمَالهُ للبَائِعِ، إلَّا أن يَشْتَرِطَه المُبْتَاعُ» مُتَّفَقٌ عليه (¬4)، والكِتابةُ بَيعٌ. ولأنَّه باعة نفْسَه، فلم يَدْخُلْ معه غيرُه، كوَلَدِه و (¬5) أقارِبِه، ولأنَّه هو ومالُه كانا لسيدِه، فإذا وَقعَ العَقْدُ على أحَدِهما بَقِيَ ¬

(¬1) في الأصل: «وإن كاتب». (¬2) في الأصل: «ووافقا». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 39. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 303. (¬5) في الأصل: «أو».

2985 - مسألة: (وإذا أدى ما كوتب عليه، أو أبرئ منه، عتق)

وَإذَا أدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيهِ، أَوْ أُبْرِئ مِنْهُ، عَتَقَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرُ على ما كان عليه، كما لو باعه لأجْنَبِيٍّ. وحديثُهم ضَعِيفٌ، قد ذَكَرنا ضَعْفه. 2985 - مسألة: (وإذا أدَّى ما كُوتِبَ عليه، أو أُبْرِئ منه، عَتَقَ) لأنَّه لم يَبْقَ لسيدِه عليه شيءٌ، ولا يَعْتِقُ قبلَ أداءِ جَمِيعِ الكِتابةِ. هذا ظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ؛ لمَا روَى عمرُو بنُ شُعَيبٍ عن أبِيه عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُكاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ». رَواه أبو داودَ (¬1). دَلَّ بمَنْطُوقِه على أنَّه لا يَعْتِقُ حَتَّى يَؤدِّيَ جَمِيع كِتابتِه، وبمفهُومِه على أنَّه إذا أدَّى كتابَتَه لا يَبْقَى عَبْدًا. قال أحمدُ في عبدٍ بينَ (¬2) رَجُلَينَ كاتَباه على ألفٍ فأدَّى تِسْعَماثةٍ، ثم أعْتَقَ أحَدُهما نَصِيبَه، قال: يَعْتِقُ إلَّا نِصْفَ المائةِ. وقد رُوِيَ عن عمرَ، وابنِه، وزَيدِ بنِ ثابتٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 300. (¬2) سقط ش: م.

2986 - مسألة: (وما فضل في يده فهو له)

وَمَا فَضَلَ في يَدِهِ فَهُوَ لَهُ. وَعَنْهُ، أنَّه إِذَا مَلَكَ مَا يُؤدِّي صَارَ حُرًّا، وَيُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعائشةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيِّ، أنَّهم قالوا: المُكاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ. رَواه عنهم الأثرَمُ (¬1). وبه قال القاسمُ، [وسالم] (¬2)، وسليمانُ بنُ يَسارٍ، وعطاءٌ، وقَتادةُ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْيِ. ورُوِيَ ذلك عن أُمِّ سَلَمَةَ. وروَى سَعيدٌ بإسْنادِه، عن أبي قِلابَةَ، قال: كُنَّ (¬3) أزواجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَحْتَجِبْنَ مِن مُكاتَب ما بَقِيَ عليه دينارٌ (¬4). وبإسْنادِه عن عَطاءٍ، أن ابنَ عمرَ كاتَبَ غُلامًا على ألفِ دينارٍ، فأدى إليه تِسْعَمائةِ دينارٍ، وعَجَزَ عن مائةِ دِينارٍ، فرَدَّهُ ابنُ عمرَ في الرِّقِّ (¬5). 2986 - مسألة: (وما فَضَلَ في يَدِه فهو له) لأنَّه كان له قبلَ العِتْقِ، فَبَقِيَ على ما كان (وعنه، أنَّه إذا مَلَكَ ما يُؤَدِّي صار حرًّا) لما ¬

(¬1) وأخرجه عنهم البيهقي، في: باب المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 324، 325. وأخرجه عن ابن عمر وزيد وعائشة عبدُ الرزاق، في: باب عجز المكاتب وغير ذلك، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 408. وابن أبي شيبة، في: باب في المكاتب عبد ما بقى عليه شيء، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 146، 147. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كذا». (¬4) في م: «درهم». والحديث أخرجه البيهقي، في: باب المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 325. (¬5) وأخرجه البيهقي، في: باب عجز المكاتب، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 341.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَوَتْ أُمُّ سَلمَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إِذا كان لإحْداكُنَّ مُكَاتَبٌ، فكانَ عندَه ما يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1). وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فأمَرَهُنَّ بالحِجابِ بمُجَرَّدِ مِلْكِه لما يُؤَدِّيه. ولأنَّه مالِكٌ لمالِ الكِتابةِ، أشْبَهَ ما لو أدَّاه. فعلى هذا، متى امْتَنَعَ مِن الأداءِ، أجْبَرَه الحاكِمُ عليه، كسائِرِ الدُّيونِ الحالَّةِ على القَادِرِ عليها. فإن هَلَكَ ما في يَدَيه قبلَ الأداءِ صار دَينًا في ذِمَّتِه، وقد صار حُرًّا. والصَّحِيحُ أنَّه لا يَعْتِقُ حتَّى يُؤَدِّيَ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حدِيثِ عمرِو بنِ شُعَيبٍ. ورَوَى سَعيدٌ (¬2) بإسْنادِه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أَيُّما عَبْدٍ كانَتْ عليه مائةُ أوقِيَّةٍ فأدَّاهَا إلَّا عَشْرَةَ أوَاقٍ، فهو عَبْدُ، [وأيُّما عَبْدٍ كاتَبَ على مائةِ دِينارٍ، فأدّاها إلَّا عَشَرَةَ دنانيرَ، فهو عبدٌ] (¬3)». وفي رِوايةٍ «مَن كاتَبَ عَبْدَه على مائةِ أوقِيَّةٍ، فأدَّاها إلَّا عَشْرَ أواقٍ -أو قال- إلَّا عَشَرَةَ دَراهِمَ، ثم عَجَزَ، فهو رَقِيقٌ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬4). وقال: هذا حديثٌ غريبٌ. ولأنَّه عِتْق عُلِّقَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 380. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 300. من حديث «المكاتب عبد. . . .». (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضٍ، فلم يَعْتِقْ قبلَ أدائِه، كما لو قال: إذا أدَّيتَ إليَّ ألفًا فأنتَ حُرٌّ. فعلى هذه الرِّوايةِ، إذا أدَّى عَتَقَ، وإن لم يُؤَدِّ لم يَعْتِقْ. فإنِ امْتَنَعَ مِن الأداءِ، فقال أبو بكرٍ: يُؤَدِّيهِ الإمامُ عنه، ولا يكونُ ذلك عَجْزًا، ولا يَمْلِكُ السيدُ الفَسْخَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا لم يُؤَدِّ عَجَّزَهُ السيدُ إن أحَبَّ، وعاد عَبْدًا غيرَ مُكاتَبٍ. ونحوَه قال الشافعيُّ، فإنَّه قال: إن شاء عَجَّزَ نَفْسَه وامْتَنَعَ مِن الأداءِ. ووَجْهُ ذلك، أنَّ العَبْدَ لا يُجْبَرُ على اكْتِسَابِ ما يُؤَدِّيه في الكِتابَةِ، فلا يُجْبَرُ على الأداءِ، كسائِرِ العُقُودِ الجائِزَةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه قد ثَبَتَ للكبدِ اسْتِحْقاقُ الحُرِّيةِ بمِلْكِ ما يُؤَدِّي، فلم يَمْلِكْ إبْطالها، كما لو أدَّى. فإن تَلِفَ المالُ قبلَ أدائِه جازَ تَعْجِيزُه واسْتِرْقَاقُه، وَجْهًا واحدًا. فصل: إذا أَبْرأهُ السيدُ مِن مالِ الكِتابةِ، بَرِئَ وعَتَقَ؛ لأنَّ ذِمتَّهَ خَلَتْ مِن مالِ الكِتابةِ، فأشْبَهَ ما لو أدَّاه. وإن أبْرأه مِن بعضِه، بَرِئَ منه، وهو على الكِتابةِ فيما بَقِيَ؛ لأنَّ الإِبراءَ كالأداءِ. فإن كاتَبَه على دنانِيرَ فأبْرأه مِن دَراهِمَ، أو بالعَكْسِ، لم تَصِحَّ البراءَةُ؛ لأنَّه أَبْرأهُ ممَّا لا يَجبُ عليه، إلَّا أن يُرِيدَ بقَدْرِ ذلك مما لِيَ عليك. فإنِ اخْتَلَفا، فقال المُكَاتَبُ: إنَّما أرَدْتَ مِن قِيمَةِ ذلك. وقال السيدُ: بل ظَنَنْتُ أنَّ لِي عليك النَّقْدَ الَّذي برأتُكَ منه، فلم تَقَعِ البراءَةُ مَوضِعَها. فالقولُ قولُ السيدِ مع يَمينه؛ لأنَّه أعْرَفُ بِنيَّته. فإن مات السيدُ واخْتَلَفَ المُكاتَبُ والوَرَثَةُ، فالقولُ قولُهم مع أيْمانِهم ويَحْلِفونَ على نَفْي العِلْمِ. وإن مات المُكاتَبُ واخْتَلَفَ وَرَثته وسَيدُه، فالقولُ قولُ السيدِ؛ لِما ذَكَرْنا.

2987 - مسألة: (فلو مات قبل الأداء كان ما في يده لسيده، في الصحيح عنه. وعلى الرواية الأخرى، لسيده بقية كتابته، والباقي لورثته)

فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الأَدَاءِ كَانَ مَا في يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، في الصَّحِيحِ عَنْهُ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُخْرى، لِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2987 - مسألة: (فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الأَدَاءِ كَانَ مَا في يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، في الصَّحِيحِ عَنْهُ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُخْرى، لِسَيِّدِهِ بَقِيَّةُ كِتَابَتِهِ، وَالْبَاقِي لوَرَثتِه) هذه المسألةُ تُشْبِهُ أن تكونَ مَبْنِيَّةٌ على المسألةِ التي قبلَها، إن قُلْنا: إنَّه [لا يَعْتِقُ] (¬1) بمِلْكِ ما يُؤَدِّي. فقد ماتَ رَقِيقًا وانْفَسخَتِ الكِتابةُ (¬2) بمَوتِه، وكان ما في يَدِه لسيدِه. وإن قُلْنا: إنَّه عَتَقَ بملكِ ما يُؤَدِّي. فقد مات حرا، وعليه لسيدِه بَقِيَّةُ كِتابته؛ لأنَّه دَينٌ له عليه، والباقِي لوَرَثَتِه. قال القاضي: الأصَحُّ أنَّ الكِتابةَ تَنْفَسِخ بموتِه، ويموتُ عَبدًا، وما في يَدِه لسيدِه. رَواه الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن عمرَ، وزيدٍ، والزُّهْرِيِّ (¬3). وبه قال: إبراهيمُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وقَتادةُ، والشافعيُّ؛ لِما ذَكَرْناه في التي قَبلَها. ولأنَّه مات قبلَ أداءِ مال الكتابةِ، فوَجَبَ أن تَنْفَسِخَ، كما لو لم يكُنْ له مالٌ، وكما لو عَلَّقَ عِتْقَه بأدَاءِ ألفٍ فماتَ قبلَ أدائِها. وعنه، أنَّه يَعْتِقُ ويمُوتُ حُرًّا، فيكونُ لسيدِه بَقيَّةُ كتابتِه، والباقِي لوَرَثَتِه. رُوِيَ ¬

(¬1) في م: «عتق». (¬2) في م: «كتابته». (¬3) وأخرجه عنهم البيهقي، في: باب موت المكاتب، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 331، 332. وابن أبي شيبة، في: باب في مكاتب مات وترك ولداً أحرارًا، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 416. وأخرجه عن زيد، عبد الرزاق، في: باب ميراث ولد المكاتب وله ولد أحرار، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 392.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، ومعاويةَ (¬1). وبه قال عطاءٌ، والحسنُ، وطاوُسٌ، وشرَيحٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والحسنُ بنُ صالحٍ، وماللث، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: يكون حُرًّا في آخِرِ جُزْءٍ مِن حَياتِه. وهذا قولُ القاضيِ. ووَجْهُ هذهِ الرِّوايةِ، ما تَقَدَّمَ في التي قبلَها. و (¬2) لأنَّها مُعاوَضَةٌ لا تَنْفسِخُ بموتِ أحَدِ المُتَعاقِدَين، فلا تَنْفَسِخُ بمَوتِ الآخَرِ، كالبَيعِ، ولأنَّ العَبْدَ أحدُ مَن تَمَّتْ به الكِتابةُ، فلم تنْفسِخْ بموتِه، كالسيدِ. والأوَّلُ أوْلَى. وتُفَارِق الكِتابةُ البَيعَ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ مِن المُتَعاقِدَين غيرُ مَعْقُودٍ عليه، ولا يَتَعَلَّقُ العَقْدُ بعَينِه، فلم يَنْفَسِخْ بتَلَفِه، والمُكاتَبُ هو المعقودُ عليه، والعَقدُ مُتَعَلِّق بعَينِه، فإذا تَلِفَ قبلَ تَمامِ الأداءِ انْفَسَخَ العَقْدُ، كما لو تَلِفَ المَبِيعُ قبلَ قَبضِه، ولأنَّه مات قبلَ وُجُودِ شَرْطِ حُرِّيتِه، ويَتَعَذَّرُ وُجُودُها بعدَ موتِه. فأمَّا إن مات ولم يُخَلِّف وفاءً، فلا خِلافَ في المذهبِ أنَّ الكتابةَ تَنْفسخُ بمَوتِه، ويَمُوتُ عَبْدًا. وما في يَدِه لسيدِه. وهو قولُ أهلِ الفَتاوى مِن ¬

(¬1) أخرجه عنهم عبد الرزاق، في: باب ميراث ولد الكاتب. . . .، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 391، 393، 394. وأخرجه، عن علي ومعاوية، البيهقي، في: باب موت المكاتب، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 331، 332. وعن ابن مسعود، ابن أبي شيبة، في: باب في مكات مات وترك ولدا أحرارا، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 415 - 417. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أئِمةِ الأمْصارِ، إلَّا أن يَمُوتَ بعدَ أداءِ ثَلاثَةِ أرْباعِ الكِتابةِ عندَ أبي بكرٍ، والقاضي، ومَن وافَقَهُما، فإنَّه يَمُوتُ حُرًّا في مقْتضَى قولِهم، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاء الله تعالى. وقال مالكٌ: إن كان له وَلَدٌ حرٌّ انْفَسَخَتِ الكِتابةُ، وإن كان مَمْلوكًا في كتابَتِه أُجْبِرَ على دَفْعِ المالِ إن كان لَه مالٌ، وإن لم يَكُنْ له أُجْبِرَ على الاكْتِسَابِ والأداءِ. فصل: ولا تَنْفَسِخُ الكِتابةُ بالجُنونِ؛ لأنَّها عَقْدٌ [لازمٌ، فلم] (¬1) تَنْفَسِخْ بالجُنُونِ، كالرَّهْنِ. وفارَقَ الموتَ؛ لأنَّ العَقْدَ على العَينِ، والموتُ يُفَوِّتُ العَينَ، بخِلافِ الجُنُونِ، ولأنَّ القَصْدَ مِن الكِتابةِ العِتْقُ، والموتُ يُنافِيه، ولهذا لا يَصِحُّ عِتْقُ المَيِّتِ والجُنونُ لا يُنافِيه، بدليلِ صِحَّةِ عِتْقِ المجْنُونِ. فعلى هذا، إْن أدَّى إليه المال عَتَقَ؛ لأنَّ السيدَ إذا قَبَضَ منه فقدِ اسْتَوْفَى حَقَّه الَّذي كان عليه، وله أخْذُ المالِ مِن يَدِه، فيَتَضَمَّنُ ذلك بَراءَتَه مِن المالِ، فيَعْتِقُ بحكمِ العَقْدِ، وإن لم يُؤَدِّ إليه، كان للسيدِ أن يُحْضِرَه عندَ الحكمِ. وتَثْبُتُ الكِتابَةُ بالبَيِّنَةِ، فيَبْحَثُ الحاكمُ عن مالِه، فإن وَجَدَ له مالًا سَلَّمَه في الكِتابَةِ وعتَقَ، وإن لم يَجِدْ له مالًا جعَلَ له أن ¬

(¬1) في الأصل: «لم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعَجِّزَه، ويُلْزِمَه الإنْفاقَ عليه؛ لأنَّه عاد قِنًّا، ثم إن وَجَدَ له الحاكمُ بعدَ ذلك مالًا يَفِي بمالِ الكِتابةِ، أَبْطَلَ فَسْخَ السيدِ؛ لأنَّ [الباطنَ بان] (¬1) بخِلافِ ما حَكَمَ به، فبَطَلَ حُكْمُه، كما إذا أخَطأ النَّصَّ وحَكَم بالاجْتِهادِ، إلَّا أنَّه يَرُدُّ على السيدِ ما أنْفَقَه مِن حينِ الفَسْخِ؛ لأنَّه لم يكُنْ مُسْتَحَقًّا عليه في الباطِنِ. وإن أفاقَ، فأقامَ البَيِّنَةَ أنَّه كان (¬2) قد دَفَعَ إليه مال الكِتابةِ، بَطَلَ أيضًا، ولا يَرُدُّ عليه ما أنْفَقَه؛ لأنَّه أنْفَقَ عليه مع عِلْمِه بحُرِّيتِه، فكان مُتَطَوِّعًا بذلك، فلم يَرْجِعْ به: ويَنْبَغِي أن يَسْتَحْلِفَ الحاكمُ السيدَ أنَّه ما اسْتَوْفَى مال الكِتابةِ. وهذا قولُ أصحابِ الشافعيِّ. ولم يذكُرْه أصحابُنا، وهو حسنٌ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه اسْتَوْفاه، والمجْنُونُ لا يُعَبِّرُ عن نَفْسِه فيَدَّعِيه، فيقومُ الحاكِمُ مَقامَه في اسْتِحْلافِه عليه. فصل: وقَتْلُ المُكاتَبِ كمَوْتِه في انْفِساخِ الكِتابةِ، على ما أسْلَفْنا مِن الخِلافِ، سواء كان القَاتِلُ السيدَ، أو الأجْنَبِيَّ؛ ولا قِصاصَ على قاتِلِه الحُرِّ، لأنَّ المُكاتَبَ عبدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ، للحدِيثِ (¬3). فإن كان القَاتِلُ سيدَه، ولم يُخَلِّفْ وَفَاءً، انْفَسَخَتِ الكِتابةُ.، وعادَ ما في يَدِه إلى سَيدِه، ولم يَجِبْ عليه شيءٌ؛ لأَنه لو وَجَبَ لوَجَبَ له. فإن قِيلَ: فالقاتِلُ ¬

(¬1) في م: «الباطل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 300.

2988 - مسألة: (وإذا عجلت الكتابة قبل محلها، لزم السيد

وَإذَا عُجِّلَتِ الْكِتَابَةُ قَبْلَ مَحِلِّهَا، لَزِمَ السَّيِّدَ الْأَخْذُ، وَعَتَقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَسْتَحِقُّ بالقَتلِ شيئًا مِن تَرِكَةِ المقْتُولِ. قُلْنا: ههُنا لا يَرْجِعُ إليه مال المُكاتَبِ مِيراثًا، بل بحُكْمِ مِلْكِه عليه لزوالِ الكِتابةِ، وإنَّما يُمْنَعُ القَاتِلُ الميراثَ خاصَّةً، ألا تَرَى أنَّ مَن له دَينٌ مُؤَجَّل، إذا قَتَلَ مَن عليه الحَقُّ حلَّ الدَّينُ، في رِوايَةٍ، وأُمَّ الوَلَدِ إذا قَتَلَتْ سيدَها عَتَقَتْ. وإن كان المُكاتَبُ قد خَلَّفَ وفاءً، وقُلْنا: إن الكِتابَةَ تَنْفَسِخُ بمَوتِه. فالحُكْمُ كذلك. وإن قُلْنا: لا تَنْفسِخُ. فله القِيمَةُ على سيدِه، تُصْرَفُ إلى وَرَثَتِه، كما لو كانتِ الجِنايَةُ على بَعضِ أطْرافِه في حَياتِه. وإن كان الوَفاءُ يَحْصُلُ بإيِجابِ القِيمَةِ، ولا يَحْصُلُ بدُونِها، وَجَب، كما لو خَلَّفَ وَفاءً؛ لأنَّ دِيَةَ المَقْتُولِ كتَرِكَتِه في قَضاءِ دُيُونِه منها، وانْصِرافِها إلى وُرَّاثِه بَينَهم على فَرائِضِ اللهِ تعالى. ولا فَرْقَ فيما ذكَرْنا بين أن يُخَلِّفَ وارِثًا أو لا يُخَلِّفَ وارِثًا. وذكر القاضي أنَّه إذا لم يُخَلِّف وارِثًا سِوى سيدِه، لم تَجِبِ القِيمَةُ عليه بحالٍ. ولَنا، أنَّه مَن لا وارِثَ له يُصْرَفُ مالُه إلى المسلمين، ولا حَقَّ لسيدِه فيه؛ لأنَّ صَرْفَه إلى سيدِه بطريقِ الإِرْثِ، والقاتِلُ لا مِيرَاثَ له. وإن كان القاتِلُ أجْنَبِيًّا وجَبَتِ القِيمَةُ للسيدِ، إلَّا في الموضِعِ الَّذي لا تَنْفَسخُ الكِتابةُ، تَجِبُ لوَرَثَتِه. 2988 - مسألة: (وَإذَا عُجِّلَتِ الْكِتَابَةُ قَبْلَ مَحِلِّهَا، لَزِمَ السَّيِّدَ

وَيَحْتَمِلُ ألَّا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ في قَبْضِهِ ضَرَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخْذُ وعَتَقَ) هذا المنصوصُ عن أحمدَ (¬1) (ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه ذلك إذا كان في قَبْضِه ضَرَرٌ) وذكر أبو بكرٍ فيه رِوايةً أُخْرَى، أنَّه لا يَلْزَمُه قَبُولُ المالِ إلَّا عندَ نُجُومِه؛ لأنَّ بَقَاءَ المُكاتَبِ في هذه المُدَّةِ في مِلْكِه حَقٌّ له، ولم يَرْضَ بزَوالِه، فلم يَزُلْ، كما لو عَلَّقَ عِتْقَه على شَرْطٍ، لم يَعْتِقْ قبلَه (¬2). والصَّحيحُ في المذهَبِ الأوَّلُ. وهو مذهَبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ القاضيَ قال: أطْلَقَ أحمدُ والخِرَقِي هذا القَوْلَ، وهو مُقَيَّد بما لا ضَرَرَ في قَبْضِه قبلَ مَحِلِّه، كالذي لا يَفْسُدُ ولا يَخْتَلِفُ قَدِيمُه وحَدِيثُه، ولا يَحْتاجُ إلى مُؤْنَةٍ في حِفْظِه، ولا يَدْفَعُه في حالِ خَوْفٍ يَخافُ ذَهابَه، فإنِ اخْتَلَّ أحدُ هذه الأمورِ، لم يَلْزَمْه قَبْضُه، مثلَ أن يكونَ ممَّا يَفْسُدُ (¬3)؛ كالعِنَبِ، والرُّطَبِ، والبِطِّيخِ، أو يَخافُ تَلَفَه، كالحيوانِ، فإنَّه ربَّما تَلِفَ قبلَ المَحِلِّ، ففاتَه مَقْصُودُه. وإن كان ممَّا يكونُ حَدِيثُه خَيرًا مِن قَدِيمِه لم يَلْزَمه أيضًا أخْذُه؛ لأنَّه (¬4) يَنْقضُ إلى حينِ الحُلُولِ. وإن كَان ممَّا يَحْتاجُ إلى مَخْزَنٍ، كالطعامِ والقُطْنِ، لم يَلْزَمْه أيضًا؛ لأنَّه يحتاجُ في إبْقائِه إلى وَقْتِ المَحِلِّ إلى مُؤْنةٍ، فيَتَضَرَّرُ بها. ولو كان غيرَ هذا إلَّا أنَّ البلدَ مَخُوفٌ، لم يَلْزَمْه أخْده؛ لأنَّ في أخْذِه ضَرَرًا لم يَرْضَ بالْتِزَامِه، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ويعتق المكاتب». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «لا يفسد». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك لو سَلَّمَه إليه في طَرِيقٍ مَخُوفٍ، أو في مَوْضِعٍ يَتَضَرَّرُ بقَبْضِه فيه، لم يَلْزَمْه قَبْضُه، ولم يَعْتِقِ المُكاتَبُ. قال القاضي: والمذهبُ عِندِي أنَّ فيه تَفْصِيلًا، على حَسَبِ ما ذَكَرْناه في السَّلَمِ. ولأنَّه لا يَلْزَمُ الإِنْسانَ الْتِزَامُ ضَرَرٍ لم يَقْتَضِه العَقْدُ ولا رَضِيَ بالتِزامِه، وأمَّا ما لا ضَرَرَ في قَبْضِه، فإذا عَجَّلَه لَزِمَ السيدَ أخْذُه. وذَكَرَ أبو بكرٍ، أنَّه يَلْزَمُه قَبولُه مِن غيرِ تَفْصِيل، اعْتِمادًا على إطْلاقِ أحمدَ القولَ في ذلك. وهو ظاهِرُ إطْلاقِ الخِرَقِيِّ، لما روَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن أبي بكرِ ابنِ حَزْم، أنَّ رجلًا أتَى عمَرَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي كاتَبْت على كذا كذا، وإنِّي أيسَرْت بالمالِ وأتَيتُه به، فزَعَمَ أنَّه لا يَأْخُذُها إلَّا نُجُومًا. فقال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: [يا يَرْفَأُ، خُذْ] (¬1) هذا المال فاجْعَلْه في بيتِ المالِ، وأدِّ إليه نُجُومًا في كُلِّ عام، وقد عَتَقَ هذا. فلما رَأى ذلك سيدُه أخَذَ المال (¬2). وعن عثمانَ، رَضِيَ الله عنه، نحوُ هذا (¬3). ورَواه سعيدُ بنُ مَنْصورٍ، في «سُنَنِه» عن عمرَ وعثمانَ جميعًا، [قال: ثَنا] (¬4) هُشَيمٌ، عن ابنِ عَوْنٍ، عن محمدِ بنِ سِيرِينَ، أنّ عثمانَ قَضَى بذلك. ولأنّ الأجَلَ حَق لمَن عليه الدَّينُ، فإذا قَدَّمَه فقد رَضِيَ (¬5) بإسْقاطِ حَقِّه، فسَقَطَ، كسائِرِ ¬

(¬1) في الأصل: «تأثر في أخذ». (¬2) وأخرجه البيهقي، في: باب تعجيل الكتابة، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 335. (¬3) أخرجه البيهقي، في الموضع السابق. (¬4) في م: «وثنا». (¬5) في الأصل: «وصى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُقُوقِ. فإن قيل: إذا عَلَّقَ عِتْقَ عبدِه على فعل في وقتٍ ففَعَلَه في غيرِه، لم يَعْتِقْ. قُلْنا: ظك صِفَة مُجَرَّدَةٌ لا يَعْتِقُ إلَّا بوجودِها. والكتابةُ مُعاوَضَةٌ يَبْرأُ (¬1) فيها بأداءِ العِوَضِ، فافْتَرقا، ولذلك لو أَبْرَأه مِن العِوَضِ في الكِتابةِ عَتَقَ، ولو أبرأه مِن المالِ في الصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ لم يعْتِقْ. قال شيخُنا (¬2): والأوْلَى، إن شاء اللهُ، ما قاله القاضي، في أنَّ ما كان في قبْضِه ضَرَر لم يَلْزَمْه قَبْضُه، ولم يَعْتِقْ ببَذْلِه؛ لِما ذَكَرَه مِن الضَّرَرِ الَّذي لم يَقْتضِه العَقْدُ. وخَبَرُ عمرَ لا دَلالة فيه على وُجُوبِ قَبْضِ ما فيه ضَرَر. ولأنَّ أصحابَنا قالوا: لو لَقِيَه في بلدٍ آخَرَ فدَفَعَ إليه نُجُومَ الكِتابةِ أو بَعضَها، فامْتَنَعَ مِن أخْذِها لضَرَرٍ فيه؛ مِن خَوْفٍ أو مُؤْنَةِ حَمْل، لم يَلْزَمْه قَبُولُه؛ لما عليه مِن الضَّرَرِ فيه، وإن لم يكُنْ فيه ضَرَرٌ لَزِمَه قَبْضُه. كذا ههُنا. وكلامُ أحمدَ مَحْمُولٌ على [ما إذا] (¬3) لم يكنْ في قَبْضِه ضَرَرٌ. وكذلك قولُ الخِرَقِيِّ وأبي بكرٍ. فصل: إذا أحْضَرَ المُكاتَبُ مال الكِتابةِ أو بَعْضَه ليُسَلِّمَه، فقال السيدُ: هذا حَرَامٌ، أو غَصْبٌ، لا أقْبَلُه منك. سُئِلَ العَبدُ عن ذلك، فإن أقَرَّ به لم يَلْزَمِ السيدَ قَبُولُه؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه أخْذُ المُحَرَّمِ، ولا يَجُوزُ ¬

(¬1) في م: «يبدأ». (¬2) في: المغني 14/ 463. (¬3) في م: «ماذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له. وإن أنْكَرَ، وكانت للسيدِ بَيِّنَةٌ بدَعْواه، لم يَلْزَمْه قَبُولُه وتُسْمَعُ بَيِّنَتُه؛ لأنَّ له حَقًّا في أن لا يَقْتَضِيَ دَينَه مِن حرامٍ، ولا يَأْمَنُ أن يَرْجِعَ صاحِبُه عليه به. وإن لم تكُنْ له بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُ العَبْدِ مع يَمِينِه، فإن نَكَلَ عن اليَمِينِ لم يَلْزَمِ السيدَ قَبولُه أيضًا. وإن حَلَفَ، قيل للسيدِ: إمَّا أن تَقْبِضَه، وإما أن تُبْرِئَه ليَعْتِقَ. فإن قَبَضَه وكان تَمامَ كتابتِه عَتَقَ، ثم يُنْظَرُ؛ فإنِ ادَّعَى أنَّه حرامٌ مُطْلَقًا، لم يُمْنَعْ منه؛ لأنَّه لم يُقِرَّ به لأحدٍ، وإنَّما تَحْرِيمُه فيما بَينَه وبينَ اللهِ تعالى. وإنِ ادَّعَى أنَّه غَصبَه مِن فُلانٍ، لَزِمَه دَفْعُه إليه؛ لأنَّ قولَه وإن لم يُقْبَلْ في حَقِّ المُكاتَبِ، فإنَّه يُقْبَلُ في حَقِّ نَفْسِه، كما لو قال رَجُلٌ لعبدٍ في يَدِ غيرِه: هذا حُر. وأنْكَرَ ذلك مَن العبدُ في يَدِه، لم يُقْبَلْ قولُه عليه، فإنِ انْتَقَلَ إليه بسَبَبٍ مِن الأسبابِ، لَزِمَتْه حُرِّيَّتُه. فإن أَبرَأه مِن مالِ الكِتابةِ، لم يَلْزَمْه قَبْضُه؛ لأنَّه لم يَبْقَ له عليه حَقٌّ. وإن لم يُبْرِئْه ولم يَقْبِضْه، كان له دَفْعُ ذلك إلى الحاكِمِ، ويُطالِبُه بقَبْضِه، فينُوبُ الحاكِمُ في قَبْضِه عنه، ويَعْتِقُ العبدُ كما رَوَيناه عن عمرَ، وعثمانَ، رَضِيَ الله عنهما، في قَبْضِهِما مال الكتابةِ، حينَ امْتَنَعَ المُكاتِبُ مِن قَبْضِه.

2989 - مسألة: (ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته)

وَلَا بَأَسَ أن يُعَجِّلَ الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ، وَيَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ كِتَابَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كاتَبَه على جِنْسٍ لم يَلْزَمْه قَبْضُ غيرِه، فلو كاتَبَه على دَنانِيرَ لم يَلْزَمْه قَبْضُ دَراهِمَ ولا عَرْض. وإن كاتَبَ (¬1) على عَرْضٍ مَوْصُوفٍ لم يَلْزَمْه قَبْضُ غيرِه. وإن كاتبه (1) على نَقْدٍ، فأعْطاه مِن جِنْسِه خَيرًا منه، وكان يُنْفَقُ فيما يُنْفَقُ فيه الَّذي كاتَبَه عليه، لَزِمَه أخْذُه؛ لأنَّه زاده خيرًا، وإن كان لا يُنْفَقُ في بَعْضِ البُلْدانِ التي يُنْفَقُ فيها ما كاتَبَه عليه لم يَلْزَمْه قَبُولُه، لأنَّ عليه في ضَرَرًا. 2989 - مسألة: (ولا بَأْسَ أن يُعَجِّلَ المُكاتَبُ لسيدِه، ويَضَعَ عنه بَعْضَ كتابَتِه) مثلَ أن يُكاتِبَه على ألفٍ في نَجْمَين إلى سنةٍ، ثم قال: عَجِّلْ لي خَمْسَمائةٍ حتَّى أضَعَ عنك الباقِي. أو: حتَّى أُبْرِئَك مِن الباقِي. أو قال: صَالِحْنِي منه على خَمْسِمائَةٍ مُعَجَّلَةٍ. جاز ذلك. يقول طاوسٌ، والزُّهْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وأبو حنيفةَ. وكَرِهَهُ الحسنُ، وابنُ ¬

(¬1) في م: «كانت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، والشَّعْبِيُّ. وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ؛ لأنَّ هذا بَيعُ ألفٍ بخَمْسِمائَةٍ، وهو رِبا الجاهليةِ؛ وهو أن يَزِيدَ في الدَّينِ لأجْلِ الأجَلِ، وهذا أيضًا هِبَةٌ. و (¬1) لأنَّ هذا لا يجوزُ بينَ الأجَانِبِ، والرِّبَا يَجْرِي بينَ المُكاتَبِ وسيدِه، فلم يَجُزْ هذا بينَهما، كالأجانِبِ. ولَنا، أنَّ مال الكِتابةِ غيرُ مُسْتَقِرٍ، ولا هو [دَين صَحِيحٌ] (¬2)، بدليلِ أنَّه لا يُجْبَرُ على أدائه، وله أن يَمْتَنِعَ مِن أدَائِه، ولا تَصِحُّ الكَفالةُ به، وما (¬3) يُؤَدِّيه إلى سيدِه كسْبُ عبدِه، وإنَّما جَعَل الشَّرْعُ هذا العَقْدَ وَسِيلَةً إلى العِتْقِ، وأوْجَبَ فيه التَّأْجِيلَ مُبالغةً في تَحْصِيلِ العِتْقِ، وتَخْفِيفًا على المُكاتَبِ. فإذا أمْكَنَه التَّعْجيلُ على وَجْهٍ يُسْقِطُ عنه بعضَ ما عليه، كان أبلَغَ في حُصُولِ العِتْقِ، وأخَفَّ على العَبْدِ، ويَحْصُلُ مِن السيدِ إسْقَاطُ بعضِ مالِه على عبدِه، ومِن اللهِ تعالى إسْقاطُ بعضِ (¬4) ما أوْجَبَه عليه مِن الأجَلِ لمصْلَحَتِه. ويُفارِقُ سائرَ الدُّيُونِ بما ذَكَرنا، ويُفارِقُ الأجَانِبَ، مِن حيث إنَّ هذا عبدُه، فهو أشْبَهُ بعَبدِه القِنِّ. وأمَّا قولُهم: إنَّ الرِّبا يَجْرِي بينَهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «دينًا صحيحًا». (¬3) في الأصل: «لا». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَمْنَعُه (¬1) ما ذَكَرَه ابنُ أبي موسى (¬2)، وإن سَلَّمْنا، فإنَّ هذا مُفارِقٌ لسائِرِ (¬3) الرِّبا بما ذَكَرْناه، وهو يُخالِفُ رِبا الجاهِلِيَّةِ؛ فإنَّه إسْقاطٌ لبعضِ. الدَّينِ، ورِبَا الجاهِليَّةِ زِيادَة في الدَّينِ تُفْضِي إلى نَفادِ مالِ المَدِينِ وتَحَمُّلِه ما يَعْجِزُ عن أدائِه (¬4) مِن الدَّينِ، فيُحْبَسُ مِن أجْلِه، وهذا يُفْضِي إلى تَعْجِيلِ عِتْقِ المُكاتَبِ وخَلاصِه مِن الرِّقِّ والتَّخْفِيفِ عنه، فافْتَرَقا. فصل: فإنِ اتَّفَقا على الزِّيادَةِ في الأجَلِ والدَّينِ، مثلَ أن يُكاتِبَه على ألْفٍ في نَجْمَين إلى سنَةٍ يُؤَدِّي خَمسَمائةٍ في نِصْفِها والباقِيَ في (¬5) آخِرِها، فيَجْعَلانِها إلى سَنَتَين بألْفٍ ومائَتَين، في كلِّ سَنَةٍ سِتُّمائةٍ، أو مثلَ أن يَحِلَّ عليه نَجمٌ، فيقولَ: أخِّرْنِي إلى كذا وأزِيدُك كذا. فلا يجوزُ؛ لأنَّ الدَّينَ (5) المُؤَجَّلَ إلى وَقْتٍ لا يَتَأْخرُ أجَلُه عن وَقْتِه باتفاقِهما عليه، ولا يَتَغَيَّرُ أجَلُه بتَغْييرِه، وإذا لم يَتأخَّرْ عن وَقْتِه لم تَصِحَّ الزِّيادَةُ التي في ¬

(¬1) بعده في الأصل: «على». (¬2) يأتي قوله في ذلك في صفحة 232. (¬3) في الأصل: «كسائر». (¬4) في م: «وفائه». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُقابَلَتِه، ولأنَّ هذا يُشْبِهُ رِبَا الجاهِليَّةِ المُحَرَّمَ، وهو الزِّيادَةُ في الدَّين للزِّيادَةِ في الأجَلِ. ويُفارِقُ المسألَةَ الأُولَى مِن هذين الوَجْهَين. فإن قِيلَ: فكما أنَّ الأجَلَ لا يَتَأخَّرُ، فكذلك لا يَتَعَجَّلُ، ولا يَصِيرُ المُؤَجَّلُ حالًا، فلِمَ جاز في المسألَةِ الأُولَى؟ قُلْنا: إنَّما جاز في المسألةِ الأُولَى بالتَّعْجِيلِ فِعْلًا، فإنَّه إذا دَفَعَ إليه الدَّينَ المُؤَجَّلَ قبلَ مَحِلِّه جازَ، وجاز للسيدِ إسقاطُ باقِي حَقِّه عليه، وفي هذه المسألةِ يأْخُذُ أكْثَرَ ممَّا وَقَعَ عليه العَقْدُ، فهو ضِدُّ المسألةِ الأُولَى. وهو مُمْتَنِعٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ، لأنَّ في ضِمْنِ الكتابةِ إنَّكَ متى أدَّيتَ إلَيَّ كذا فأنتَ حُرٌّ. فإذا أدَّى إليه ذلك فيَنْبَغِي أن يَعْتِقَ. فإن قِيلَ (¬1): فإذا غُيِّرَ الأجَلُ والعِوَضُ، فكأنَّهما فَسَخا الكِتابَةَ الأُولَى وجَعَلا كتابةً ثانِيةً. قُلْنا: لم يَجْرِ (¬2) بينَهما فَسْخٌ؛ وإنَّما قَصَدا تَغْيِيرَ العِوَضِ والأجَلِ على وَجْهٍ لا يَصِحُّ، فبَطَلَ التَّغْيِيرُ وبَقِيَ العَقْدُ بحالِه. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ ذلك، كما في المسألَةِ الأُولَى. فعلى هذا، لو اتَّفَقَا على ذلك ثم رَجَعَ أحَدُهما قبلَ التَّعْجِيلِ، فله الرُّجُوعُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ الدَّينَ المُؤَجَّلَ (¬3) لا يَتَأخَّرُ عن أجَلِه، ولا يَتَقَدَّمُ، وإنَّما له أن يُؤَدِّيَه قبلَ مَحِلِّه. ولمَن له الدَّينُ تَرْكُ قَبْضِه في مَحِلِّه، وذلك إلى اخْتِيارِه. فإذا وَعَد به ثم رَجَع قبلَ الفِعلِ فله ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يجز». (¬3) في م: «المتأخر».

2990 - مسألة: (وإذا أدى وعتق، فوجد السيد بالعوض عيبا، فله أرشه أو قيمته، ولا يرتفع العتق)

وَإذَا أَدَّى وَعَتَقَ، فَوَجَدَ السَّيِّدُ بِالْعِوَضِ عَيبًا، فَلَهُ أَرْشُهُ أَوْ قِيمَتُهُ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن صالحَ المُكاتَبُ سيدَه عمَّا (¬1) في ذِمَّتِه بغيرِ جِنْسِه، مثْلَ أن يُصالِحَ عن النُّقودِ بحِنْطَةٍ أو شَعيرٍ، جاز، إلَّا أنَّه لا يَجُوزُ أن يُصالِحَه على شيءٍ مؤَجَّلٍ، لأنَّه يكونُ بَيعَ دَينٍ بدَينٍ. وإن صالحَه عن الدَّراهِمِ بدنانِيرَ، أو عن الحِنْطَةِ بشَعيرٍ، لم يَجُزِ التَّفَرُّقُ قبلَ القَبْضِ، لأنَّ هذا بَيعٌ في الحقيقَةِ فيُشْتَرَطُ له القبضُ في المجلِسِ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أنْ لا تَصِحَّ هذه المُصالحةُ مُطْلَقًا، لأنَّ هذا دَينٌ (¬2) مِن شَرْطِه التَّأجِيلُ، فلم تَجُزِ المُصالحَةُ عليه بغيرِه، ولأنَّه دَينٌ غيرُ مُسْتَقِرٍّ، فهو كدَينِ السَّلَمِ. وقال ابنُ أبي موسى: لا يجري الرِّبَا بينَ المُكاتَبِ وسيدِه. فعلى قولِه: تجوزُ المُصالحَةُ كيفَما كانت كما تَجُوز بينَ العبدِ القِنِّ وسيدِه. والأَوْلَى ما ذَكَرْناه. ويُفارِقُ دَينُ الكِتابةِ دَينَ السَّلَمِ، فإنَّه يُفارِقُ سائِرَ الدُّيُونِ بما ذَكَرْنا في هذه المسألةِ، فمُفارَقَتُه لدَينِ السَّلَمِ أعْظَمُ. 2990 - مسألة: (وإذا أدَّى وعَتَقَ، فوجَدَ السيدُ بالعِوَضِ عيبًا، فله أَرْشُه أو قِيمَتُه، ولا يَرْتَفِعُ العِتْقُ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُكاتَبَ إذا دَفَعَ ¬

(¬1) في الأصل: «على ما». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِوَضَ في الكتابةِ فبانَ مُسْتَحَقًّا، تَبَيَّنَ أنَّه لم يَعْتِقْ، وكان وُجُودُ هذا الدَّفع كعدَمِه، لأنَّه لم يُؤَدِّ الواجِبَ عليه، وقيلَ له: إن أدَّيتَ الآنَ، وإلَّا فُسِخت كِتابتُك. وإن كان قد مات بعدَ الأداءِ، فقد مات عَبْدًا، فإن بانَ مَعِيبًا، مثلَ أن كاتَبَه على عُرُوضٍ مَوْصُوفَةٍ، فقَبَضَها، فأصابَ بها عَيبًا بعدَ قَبْضِها، نَظَرْتَ؛ فإن رَضِيَ بذلك وأمْسَكَها اسْتَقَرَّ العِتْقُ. فإن قيل: كيف (¬1) يَسْتَقِرُّ العِتْقُ ولم يُعْطِه جَمِيعَ ما وَقَعَ عليه العَقْدُ؛ فإنَّ ما يُقابِلُ العَيبَ لم يَقْبِضْه، فأشْبَهَ ما لو كاتَبَه على عَشرَةٍ، فأعْطاه تِسْعَةً. قُلْنا: إمساكُه العَيبَ راضِيًا به رضًا منه بإسقاطِ حَقِّه، فجرَى مَجرَى إبْرائِه مِن بَقِيَّةِ كِتابَتِه. وإنِ اخْتارَ إمساكَه وأخْذَ أَرْشِ العَيبِ.، أو رَدَّه، فله ذلك. قال أبو بكرٍ: وقياسُ قولِ أحمدَ أنَّه لا يَبْطُلُ العِتْقُ، وليس له الرَّدُّ وله الأرْشُ، لأنَّ العِتْقَ إتْلافٌ واسْتِهلاك، فإذا حُكِمَ بوُقوعِه لم يَبْطُلْ، كعَقْدِ الخُلْعِ، ولأنَّه ليس المَقْصُودُ منه المال، فأشْبَهَ الخُلْعَ. وقال القاضي: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يتَوَجَّهُ أنَّ له الرَّدَّ، ويُحْكَمُ بارتفاعِ العِتْقِ الواقِعِ؛ لأنَّ العِتْقَ إنَّما يَسْتَقِرُّ باسْتِقْرارِ الأَدَاءِ، وقد ارْتَفَعَ الأداءُ، فارْتَفَعَ العِتْقُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الكِتابَةَ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ يلْحَقُه الفَسْخُ بالتَّراضِي، فوَجَبَ أن يُفْسَخَ بوُجودِ العَيبِ، كالبَيعِ. وإنِ اخْتارَ إمساكَه وأخْذَ الأَرشِ فله ذلك، وتَبَيَّنَ أنَّ العِتقَ لم يَقَعْ؛ لأنَّنا تَبَيَّنًا أنَّ ذِمَّتَه لم تَبْرَأْ مِن مالِ الكِتابةِ، ولا يَعْتِقُ [قبلَ ذلك، وظَنُّ] (¬1) وُقُوعِ العِتْقِ لا يُوقِعُه إذا بأن الأمْرُ بخِلافِه؛ كما لو بأن العِوَضُ مُسْتَحَقًّا. وإن تَلِفَتِ العَينُ عندَ السيدِ، أو حَدَثَ بها عندَه عَيبٌ، اسْتَقَرَّ أَرشُ العَيبِ، والحُكْمُ في ارتِفَاعِ العِتْقِ على ما ذَكَرنا فيما مَضَى. ولو قال السيدُ لعبدِه: إن أعْطَيتَنِي عبدًا فأنتَ حُرٌّ. فأعْطاه عبدًا، فبان حرًّا أو مُسْتَحَقًّا، لم يَعْتِقْ بذلك؛ لأنَّ معناه: إن أعْطَيتَنِيه مِلْكًا، ولم يُعْطِه إيَّاه مِلْكًا، ولم يُمَلِّكْه إيَّاه. ¬

(¬1) في م: «قبل ظن».

فَصْلٌ: وَيَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ أَكْسَابَهُ، وَمَنَافِعَهُ، وَالشِّرَاءَ، وَالْبَيعَ، وَالإِجَارَةَ، وَالاسْتِئْجَارَ، وَالسَّفَرَ، وَأَخْذَ الصَّدَقَةِ، وَالإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَرَقِيقِهِ، وَكُلَّ مَا فِيهِ صَلَاحُ المَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا دَفَعَ إليه مال الكتابةِ ظاهِرًا، فقال له السيدُ: أنتَ حُرٌّ. أو قال: هذا حُرٌّ. ثم بان العِوَضُ مُسْتَحَقًّا، لم يَعْتِقْ بذلك، لأنَّ ظاهِرَه الإِخْبارُ عمَّا حَصَلَ له بالأداءِ، فلو ادَّعَى المُكاتَبُ أنَّ السيدَ قَصَدَ بذلك عِتْقَه، وأنْكَرَ السيدُ، فالقولُ قولُ السيِّدِ مع يَمينه؛ لأنَّ الظاهِرَ معه، وهو أَخبَرُ بما نوى. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (وَيَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ أَكْسَابَهُ، وَمَنَافِعَهُ، وَالشِّرَاءَ، وَالْبَيعَ، وَالإِجَارَةَ، وَالاسْتِئْجَارَ، وَالسَّفَرَ، وَأَخْذَ الصَّدَقَةِ، وَالإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَرَقِيقِهِ، وَكُلَّ مَا فِيهِ صَلَاحُ المَالِ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكُ المُكاتَبُ أَكْسابَه ومنافِعَه، والشراءَ والبَيعَ، بإِجْماعِ أهلِ العلمِ؛ لأنَّ عَقْدَ الكِتابةِ لتَحْصِيلِ العِتْقِ، ولا يَحْصُلُ إلَّا بأداءِ عِوَضِه، ولا يُمْكِنُه الأداءُ إلَّا بالاكْتِسابِ، والبَيعُ والشِّراءُ مِن أقْوَى جِهَاتِ الاكتِسابِ، فإنَّه قد جاء في بعضِ الآثارِ أنَّ تِسْعَةَ أعشار الرِّزْقِ في التجارَةِ (¬1)، ويَمْلِكُ الإِجارَةَ والاسْتِئْجارَ قِياسًا على البَيعِ والشِّراءِ، ويَمْلِكُ السَّفَرَ قَرِيبًا كان أو بَعيدًا. وهذا قولُ الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والحسنِ بنِ صالح، وأبي حنيفةَ. وقد أطْلَقَ أصْحابُنا القولَ في ذلك، ولم يُفَرِّقُوا بينَ السَّفَرِ الطويل وغيرِه. وقياسُ المذهبِ، أنَّ له مَنْعَه مِن سَفرٍ تَحِلُّ نُجُومُ كتابتِه قبلَه؛ لأنَّه يَتَعَذَّرُ معه اسْتِيفاءُ النُّجُومِ في وَقْتِها والرُّجُوعُ في رِقِّه عندَ عَجْزِه، فمُنِعَ منه، كالغَرِيمِ الَّذي يَحِلُّ الدَّينُ عليه قبلَ مُدَّةِ سَفرِه. واخْتَلَفَ [قولُ الشافعيِّ] (¬2)، فقال في موضع: له السَّفَرُ. وقال في موضعٍ: ليس ¬

(¬1) عزاه ابن حجر في المطالب العالية 1/ 409 إلى مسدد، عن نعيم بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال البوصيري: رواه مسدد مرسلا بسند صحيح. (¬2) في م: «قوله».

2991 - مسألة: (وإن شرط عليه ألا يسافر، ولا يأخذ الصدقة، فهل يصح الشرط؟ على وجهين)

فَإِنْ شَرَطَ عَلَيهِ أَلَّا يُسَافِرَ، وَلَا يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ، فَهَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له السَّفَرُ، [فيكونُ فيها قولان، قاله بعضُ أصحابِه. وقال بعضُهم: ليست على قولين، إنما هي على اختلافِ حالين؛ فالوضِعُ الَّذي قال: له السفرُ] (¬1). إذا كان قصيرًا؛ لأنَّه في حُكْمِ الحَاضِرِ، والموْضِعُ الَّذي مَنَعَ منه، إذا كان بعيدًا يَتَعَذَّرُ معه اسْتِيفاءُ نُجُومِه والرُّجُوعُ في رِقِّه عندَ عَجْزِه. ولَنا، أنَّ المُكاتَبَ في يَدِ نَفْسِه، وإنَّما للسيدِ عليه دَينٌ، فأشْبَهَ الحُرَّ المَدِينَ، وما ذَكَروه لا أصْلَ له، ويَبْطُلُ بالحُرِّ الغَرِيمِ. وله أخْذُ الصَّدَقَةِ الواجِبَةِ والمُسْتَحَبَّةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَل للمُكاتَبِينَ الأخْذَ مِن الواجِبَةِ. وإذا جاز الأخْذُ مِن الواجِبَةِ فالمُسْتَحَبَّةُ أوْلَى. 2991 - مسألة: (وَإِنْ شَرَطَ عَلَيهِ أَلَّا يُسَافِرَ، وَلَا يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ، فَهَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ؟ عَلَى وَجْهَينَ) إذا شَرَطَ السيدُ على مُكاتَبِه أن لا يسافِرَ، فقال القاضي: الشَّرْطُ باطِلٌ. وهو قولُ الحسنِ، وسعيدِ بن جُبَيرٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضَى العقْدِ، فلم يَصِحَّ شَرْطُه، كشَرْطِ تَرْكِ الاكتسابِ، ولأنَّه غرِيمٌ، فلم يَصِحَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطُ (¬1) تَرْكِ السَّفَرِ عليه، كما لو أقْرَضَ لرجلٍ قَرْضًا بشَرْطِ أن لا يسافِرَ. وقال أبو الخَطَّابِ: يَصِحُّ الشَّرْطُ، وله مَنْعُه مِن السَّفَرِ. وهو قولُ مالكٍ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬2). ولأنَّه شَرْطٌ له فيه فائِدَةٌ، فلَزِمَ، كما لو شَرَطَ نَقْدًا مَعْلومًا. وبيانُ فائِدَتِه، أنَّه لا يأْمَنُ إباقَه وأنَّه لا يَرْجِعُ إلى سيدِه، فيَفُوتُ العَبْدُ والمالُ الذي عليه. ويُفارِقُ القَرْضَ، فإنَّه عَقْدٌ جائِزٌ مِن جانِبِ المُقْرِضِ، متى شاء طالبَ بأخذِه ومَنَعِ الغَرِيمَ السَّفَرَ قبلَ إيفائِه (¬3)، فكان المَنْعُ مِن السَّفَرِ حاصِلًا بدُونِ شرْطِه، بخِلافِ الكِتابَةِ، فإنَّه لا يُمْكِنُ السيدَ مَنْعُه مِن السَّفَرِ إلَّا بشَرْطِه، وفِيه حِفْظُ عبدِه ومالِه، فلا يُمْنَعُ مِن تَحْصِيلِه. وهذا أصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى. فعلى هذا الوَجْهِ، لسيدِه مَنْعُه مِن السَّفَرِ فإن سافر بغيرِ إذْنِه فله رَدُّه إن أمْكَنَه، وإن لم يُمْكِنْه رَدُّه، احْتَمَلَ أنَّ له تَعْجِيزَه ورَدَّه إلى الرِّقِّ؛ لأنَّه لم يَفِ بما شُرِط عليه، أشْبَه ما لو لم يَفِ بأداءِ الكِتابَةِ، واحْتَمَلَ أن لا يَمْلِكَ ذلك، لأنَّه مُكاتَبٌ كِتابةً، صَحِيحةً لم يَظْهَرْ عَجْزُه، فلم يَمْلِكْ تَعْجِيزَه، كما لو لم يَشْرُطْ عليه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 149، وانظر صفحة 20. (¬3) في الأصل: «إبقائه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن شَرَطَ عليه أن لا يسألَ الناسَ، فقال أحمدُ: قال جابرُ بنُ عبدِ اللهِ: هم على شُرُوطِهِم. إن رأيتَه يسألُ تنهاهُ، فإن قال: لا أعُودُ. لم يَرُدَّه عن كِتابتِه في مَرَّةٍ. فظاهِرُ هذا، أنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ لازِم، وأنَّه إن خالفَ مَرَّةً لم يُعَجِّزْه، وإن خالفَ مَرَّتَين أو أكثرِ فله تَعْجِيزُه. قال أبو بكرٍ: إذا رآه يسألُ مَرَّةً في مَرَّةٍ عَجَّزَه، كما إذا حَلَّ نجْمٌ في نَجْمٍ عَجَّزَه. فاعْتَبَرَ المُخالفَةَ في مَرَّتَين كحُلولِ نَجْمَين، وإنَّما صَحَّ الشَّرْطُ، لقولِه،

2992 - مسألة: وله الإنفاق على نفسه وولده ورقيقه، وكل ما فيه صلاح المال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الصلاة والسلامُ: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهم». ولأنَّ له في هذا فَائِدَةً وغَرَضًا صَحِيحًا، وهو أن لا يكونَ كَلًّا على الناسِ، ولا يُطْعِمَه مِن صَدَقَتِهم وأوْساخِهِم. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ، أنَّه لا يَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للمُكاتَبِ سَهْمًا مِن الصَّدَقَةِ، بقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬1). وهم المُكاتَبون، فلا يَصِحُّ اشْتِراطُ تَرْكِ طَلَب ما جَعَلَه اللهُ له. 2992 - مسألة: وله الإِنْفاقُ على نَفْسِه وولَدِه ورَقِيقِه، وكلِّ ما فيه صَلاحُ المالِ؛ لأنَّ له التَّصَرُّفَ في المالِ بما يَعودُ بمصْلَحَتِه ومَصْلَحةِ مالِه، والإِنْفاق على نَفْسِه ووَلَدِه ورَقِيقِه مِن أهمِّ المصالِحِ، فيُنْفِقُ عليهم ما يحتاجون إليه؛ من مأكَلِهم ومَشربِهم وكِسْوَتِهم بالمَعْرُوفِ، ممَّا لا غِنَى لهم عنه، والحيوانِ الذي له. وله تأدِيبُ عَبيدِه وتعزِيرُهم، إذا فَعَلوا ما يَسْتَحِقُّون ذلك؛ لأنَّه مِن مَصْلَحَةِ مِلْكِه، فمَلَكَه، كالنَّفَقَةِ عليهم، ولا يَمْلِكُ إقامَةَ الحدِّ عليهم؛ لأنَّه مَوْضِعُ ولايَةٍ، وما هو مِن أهْلِها. وله أن يَخْتِنَهم؛ لأنَّه مِن مَصْلَحَتِهم. وله المُطَالبَةُ بالشُّفْعَةِ، والأخْذُ بها؛ لأنَّه نَوْعُ شِراءٍ، فإن كان المُشْتَرِي للشِّقْصِ سيدَه فله أخذُه منه؛ لأنَّ له أن يشتريَ منه. وإنِ اشْتَرَى المُكاتَبُ شِقْصًا لسيدِه فيه شَرِكَةٌ، فله أخْذُه مِن المُكاتَبِ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّه مع سيدِه في بابِ البَيعِ والشِّراءِ كالأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) سورة التوبة 60.

2993 - مسألة: (وليس له أن يتزوج، ولا يتسرى، ولا يتبرع، ولا يقرض، ولا يحابي، ولا يقتص عبده الجاني على بعض رقيقه، ولا يعتق ولا يكاتب إلا بإذن سيده، وولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده)

وَلَيسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَا يَتَسَرَّى، وَلَا يَتَبَرَّعَ، وَلَا يُقْرِضَ، وَلَا يُحَابِيَ، وَلَا يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِهِ الْجَانِي عَلَى بَعْضِ رَقِيقِهِ، وَلَا يُعْتِقَ وَلَا يُكَاتِبَ إلا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَوَلَاءُ مَنْ يُعْتِقُهُ وَيُكَاتِبُهُ لِسَيِّدِه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن وَجَبَتْ للسيدِ على مُكاتَبه شُفْعَةٌ، فأدَّعَى المُكاتَبُ أنَّ سيدَه عَفا عنها، سُمِعَتْ دَعْواه. وإن أنْكَرَه السيدُ، كان عليه اليَمِينُ. وإن أذِنَ السيدُ لمُكاتَبِه في البَيعِ بالمحاباةِ، صَحَّ منه، وكان لسيدِه الأخْذُ بالشُّفْعَةِ؛ لأنَّ بَيعَه بالمحاباةِ مع إذنِ (¬1) سيدِه فيه صَحِيحٌ. ويَصِحُّ إقرارُ المُكاتَبِ بالبَيعِ والشِّراءِ والعَيبِ والدَّينِ؛ لأنَّه يَصِحُّ تصَرُّفُه فيه بذلك، ومَن مَلَكَ شيئًا مَلَكَ الإِقْرارَ به. 2993 - مسألة: (وليس له أن يَتَزَوَّجَ، ولا يَتَسَرَّى، ولا يَتَبرعَ، وَلَا يُقْرِضَ، ولا يحابِيَ، ولا يَقْتَصَّ عبدِه الجانِي على بَعْضِ رَقِيقِه، وَلَا يُعْتِقَ ولا يُكاتِبَ إلَّا بإذْنِ سَيدِه، وولاءُ من يُعْتِقُه ويُكاتِبُه لسيدِه) وجملةُ ذلك، أنَّ المُكاتَبَ ليس له أن يَتَزَوَّجَ إلَّا بإذْنِ سيدِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الحسنِ، ومالكٍ، واللَّيثِ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأبي يوسفَ. وقال الحسنُ بنُ صالحٍ: له ذلك؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ البَيعَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بغَيرِ إذْنِ مَوَالِيهِ (¬1) فَهُوَ عَاهِرٌ» (¬2). ولأنَّ على السيدِ فيه (¬3) ضَرَرًا، لأنَّه إن عَجَزَ رَجَعَ إليه ناقِصَ القِيمَةِ، ويَحْتاجُ أن يُؤَدِّيَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ مِن كَسْبِه، فيَعْجِزُ عن أداءِ نُجُومِه، فيُمْنَعُ مِن ذلك، كالتَّبَرُّعِ به. فعلى هذا، إذا تَزَوَّجَ لم يَصِحَّ. وقال الثَّوْرِيُّ: نِكاحُه مَوْقُوفٌ، إن أدَّى تَبَيَّنّا أنَّه كان صَحِيحًا، وإن عَجَزَ فنِكاحُه باطِلٌ. ولَنا، الخبرُ، ولأنَّه تَصَرُّفٌ مُنِعَ منه للضَّرَرِ، فلم يَصِحَّ، كالهِبَةِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يُفَرَّقُ بينَهما، ولا مَهْرَ لها إن كان قبلَ الدُّخُولِ، وإن كان بعدَه فعليه مَهْرُ المِثْلِ، يُؤَدَّى مِن كَسْبِه، كجِنايَتِه. فإن أتَتْ بولدٍ، لَحِقَه نَسبُه؛ لأنَّه مِن وَطْءٍ في نِكاحٍ فاسِدٍ. فإن كانتِ المرأةُ حُرَّةً فهو حُرٌّ. وإن كانت أمةً فهو رَقيقٌ لسيدِها. فإن أذِنَ له سيدُه ¬

(¬1) في الأصل: «مولاه». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في نكاح العبد بغير إذن مواليه، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 480. والترمذي، في: باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 31. والدارمي، في باب في العبد يتزوج بغير إذن من سيده، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 152. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 301، 377 كلهم من حديث جابر. وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر، في: باب تزويج العبد بغير إذن سيده، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 630. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في النِّكاحِ صَحَّ، في قولِ الجميعِ؛ فإنَّ الخَبَرَ يَدُلّ بمَفْهُومِه على أنَّه يَصِحُّ إذا أذِنَ له؛ لأنَّ المَنْعَ مِن نِكاحِه لِحَقِّ السيدِ، فإذا أذِنَ فيه زال المَانِعُ. وقياسًا على ما إذا أذِنَ لعبدِه القِنِّ. فصل: وليس له التَّسَرِّي بغيرِ إذْنِ سيدِه؛ لأنَّ مِلْكَه نَاقِصٌ. وقال الزُّهْرِيُّ: لا يَنْبَغِي لأهلِه أن يَمْنَعُوه مِن التَّسَرِّي. ولَنا، أنَّ على السيدِ فيه ضررًا، فمُنِعَ منه، كالتَّزْويجِ. وبيانُ الضَّرَرِ، أنَّه ربَّما أحْبَلَها، والحَمْلُ عَيبٌ في بَناتِ آدمَ، وربَّما تَلِفَتْ، ورُبَّما وَلَدت فصارَت أُمَّ وَلَدٍ، يَمْتَنِعُ عليه بَيعُها في أداءِ كِتابَتِه، فإن عَجَزَ (¬1) رَجَعَتْ إلى سيدِه (¬2) ناقِصَةً. وإذا مُنِعَ مِن التِّزويجِ لضَرَرِه، فهذا أوْلَى. فإن أذِنَ له سيدُه جاز. وقال الشافعيُّ: لا يَجُوزُ. في أحدِ القَوْلين، لأنَّه أمرٌ يَضُرُّ به، ورُبَّما أفْضَى إلى مَنْعِه مِن العِتْقِ، فلم يَجُزْ بإذْنِ السيدِ. ولَنا، أنَّه [ناقِصُ المِلْكِ، فلم يَجُزْ له التَّسَرِّي، كوَطْءِ الجاريةِ المشترَكَةِ. ولَنا على الشافعيِّ، أنَّه] (¬3) لو أذِنَ لعَبدِه القِنِّ في التَّسَرِّي جاز، فالمُكاتَبُ (¬4) أوْلَى. ولأنَّ المَنْعَ كان ¬

(¬1) في الأصل: «عجزت». (¬2) في الأصل: «السيد». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «فللكاتب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [لضَرَرِ السيدِ] (¬1)، فجاز بإذْنِه كالتَّزْويجِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إن تَسَرَّى بإذنِ سيدِه أو بغيرِ إذْنِه، فلا حَدَّ عليه؛ لشُبْهَةِ المِلْكِ، ولا مَهْرَ عليه؛ لأنَّه لو وَجَبَ لوَجَبَ له، ولا يَجِبُ على الإِنسانِ شيءٌ لنَفْسِه. فإن وَلَدَتْ فالنَّسَبُ لاحِقٌ به؛ لأنَّ الحَدَّ إذا سَقَطَ للشُّبْهَةِ لَحِقَه النَّسَبُ، ويكونُ الوَلَدُ مَمْلُوكًا له؛ لأنَّه ابنُ أمَتِه، ولا يَعْتِقُ عليه، لأنَّ مِلْكَه غيرُ تامٍّ، وليس له بَيعُه؛ لأنَّه وَلَدُه، ويكونُ مَوْقُوفًا على كِتابَتِه. فإن أدَّى عَتَقَ وعَتَقَ الوَلَدُ؛ لأنَّه مِلْكٌ لأبِيه الحُرِّ، وإن عَجَزَ وعاد إلى الرِّقِّ، فولَدُه رَقِيقٌ أيضًا، ويكونان مَمْلُوكَين للسيدِ. فصل: وليس له (¬2) أن يُزَوِّجَ عَبِيدَه وإماءَه بغيرِ إذْنِ سيدِه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وذُكِرَ عنِ مالكٍ، أنَّ له ذلك، إذا كان على وَجْهِ النَّظَرِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على منْفعَةٍ، فمَلَكَه، كالإِجارَةِ. وحُكِيَ عن القاضِي أنَّه قال في «الخِصالِ»: له تَزْويجُ الأمَةِ دُونَ العَبْدِ؛ لأنَّه يأخُذ عِوَضًا عن تَزْويجِها، بخِلافِ العَبْدِ، ولأنه عَقْدٌ على منافِعِها، أشْبَهَ إجارَتَها. ولَنا، أنَّ على السيدِ فيه [ضَرَرًا؛ لأنَّه] (¬3) إِن ¬

(¬1) في م: «لأجل الضرر بالسيد». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ضرر إلا أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوَّجَ العَبْدَ لَزِمَتْه نَفَقَةُ امرَأتِه ومَهْرُها، وشَغَلَه بحقوقِ النِّكاحِ، ونَقَصَ قِيمَتَه، وإن زَوَّجَ الأمَةَ مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَها، ونَقَصَتْ قِيمَتُها؛ وقَلَّتِ الرَّغَباتُ (¬1) فيها. وربَّما امْتَنَعَ بَيعُها بالكُليَّةِ، وليس ذلك مِن جِهاتِ المَكاسِبٍ، فربَّما أعْجَزَه ذلك عن أداءِ نُجُومِه، وإن عَجَزَ عاد رَقيقًا للسيدِ مع ما تَعَلَّقَ بهم مِن الحقوقِ ولَحِقَهم مِن النَّقْصِ. وفارَقَ الإِجارَةَ، فإنَّها مِن جهاتِ المَكاسِبِ عادةً. فعلى هذا، إن وَجَبَ تَزْويجُهم لطَلَبِهم ذلك (¬2) وحاجَتِهم إليه، باعَهُم، فإن العبدَ متى طَلَبَ التَّزْويجَ خُيِّرَ سيدُه بينَ بَيعِه وتَزْويجِه، وإن أذِنَ السيدُ في ذلك جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ له، والمَنْعَ منه. فصل: وليس له اسْتِهْلاك مالِه ولا هِبَتُه. وبهذا (¬3) قال الحسنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه مخالفًا (¬4)، لأنَّ حَقَّ سيدِه لم يَنْقَطِعْ عنه، لأنَّه قد يَعْجِر فيَعُودُ إليه، ولأنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «الرغاب». (¬2) في الأصل: «لذلك». (¬3) في م: «به». (¬4) في م: «خلافًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَصْدَ مِن الكتابَةِ تَحْصيلُ العِتْقِ بالأداءِ، وهِبَةُ مالِه تُفَوِّتُ ذلك، وتَجُوزُ بإذْنِ سيدِه. وقال أبو حنيفةَ: لا تَجُوزُ؛ لأنَّه يَفُوتُ المقصودُ بالكِتابَةِ. وعن الشافعيِّ، كالمذهبين. ولَنا، أنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما، فجاز باتِّفاقِهما، كالراهِنِ والمُرْتَهِنِ. ولا تَصِحُّ الهِبَةُ بالثَّوابِ. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قوْلَيه: تَصِحُّ؛ لأنَّ فيها مُعاوَضَة. ولَنا، أنَّ الاخْتِلافَ في تَقْديرِ الثَّوابِ يُوجِبُ الغَرَرَ، ولأنَّ عِوَضَها يتأخَّرُ، فهو كالبَيعِ نَسِيئةً. وإن أذِنَ [السيدُ فيها] (¬1) جازَت، ولذلك إن وَهَبَ لسيدِه أو لابنِ سيدِه الصَّغيِرِ جاز؛ لأنَّ قَبُولَه للهِبَةِ إذْنٌ فيها. وليس له أن يُحابِىَ في البيعِ، ولا يَزِيدَ في الثَّمنِ الذي اشْتَرَى به؛ لأنَّه إتْلافٌ للمالِ على سيدِه، فأشبَهَ الهِبَةَ. ولا يجوزُ له أن يُعِيرَ دابَّتَه، ولا يُهْدِيَ هَدِيَّةً. وأجاز ذلك أصحابُ الرَّأْي. ويَحْتَمِلُ جوازُ إعارَةِ دابَّتِه وهَدِيَّةِ المأكولِ، ودُعائِه إليه، كالمأذُونِ له؛ لأنَّ المُكاتَبَ لا يَنْحَطُّ عن دَرَجَتِه. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه تَبَرُّعٌ ¬

(¬1) في الأصل: «فيه السيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمالِه، فلم يَجُزْ، كالهِبَةِ. وليس له أن يُوصِيَ بمالِه، ولا يَحُطَّ عن المُشْتَرِي شيئًا، ولا يُقْرِضَ، لأنَّه يُعَرِّضُه للإتلافِ، ولا يَضْمَنَ، ولا يتَكَفَّلَ بأخْذٍ. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ ذلك تَبَرُّعٌ بمالِه، فهو كالهِبَةِ، ولا يَقْتَصُّ (¬1) مِن عبدِه الجاني على بعضِ رَقِيقِه. ذَكَره أبو بَكْرٍ [وأبو الخَطَّاب] (¬2)؛ لأنَّ فيه إتْلافَ المالِ على سيدِه. وقال القاضي: له أن يَقْتَصَّ (1) مِن الجُناةِ عليه وعلى رَقِيقِه، ويأْخُذَ الأرْشَ؛ لأنَّ فيه مَصْلَحَتَه. فصل: ولا يُعْتِقُ رَقِيقَه إلَّا بإذْنِ سيدِه. وبه قال الحسنُ، والأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا على سيدِه بتَفْويتِ مالِه فيما لا يَحْصلُ له به مالٌ، أشْبَهَ الهِبَةَ. فإن أعْتَقَ لم يَصِحَّ إعْتاقُه. ويَتَخَرَّجُ أن يَصِحَّ ويَقِفَ على إذْنِ سيدِه. وقال أبو بكرٍ: هو مَوْقُوفٌ على آخِرِ أمرِ المُكاتَبِ، فإن أدَّى عَتَقَ مُعْتَقُه، وإن لم يُؤَدِّ رَقَّ. ¬

(¬1) في الأصل: «يقبض». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: هذا قياسُ المذهبِ، كقَوْلِنا في ذَوي الأرْحامِ أنَّهم مَوْقُوفُونَ. ولَنا، أنَّه تَبَرُّعٌ بمالِه بغَيرِ إذْنِ سيدِه، فكان باطِلًا، كالهِبَةِ. ولأنَّه تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا مُنِعَ منه لِحَقِّ سيدِه، فكان باطِلًا، كسائِرِ ما مُنِعَ منه. ولا يَصِحُّ قياسُه على ذَوي أرْحامِه؛ لأنَّ عِتْقَهم ليس بتَصَرُّفٍ منه، وإنَّما يُعْتِقُهم الشَّرْعُ على مالِكِهم بمِلْكِهم، والمُكاتَبُ مِلْكُه نَاقِصٌ، فلم يَعْتِقُوا به، فإذا عَتَقَ كَمَلَ مِلْكُه، فعَتَقُوا حِينَئِذٍ. والمُعْتَقُ إنَّما يَعْتِقُ بالإعْتاقِ الذي كان باطِلًا، فلا تَتَبَيَّنُ صِحَّتُه إذا كَمَلَ المِلْكُ، لأنَّ كمال المِلْكِ في الثاني لا يُوجِبُ كونَه كامِلًا حينَ الإعْتاقِ، ولذلك لا يَصِحُّ سائِرُ تَبَرُّعاتِه بأدائِه، فإن أذن فيه سيدُه صَحَّ. وقال الشافعيُّ، في أحدِ قولَيه: لا يصحُّ، لأنَّ تَبَرُّعَه بمالِه يُفَوِّتُ المَقْصُودَ مِن كِتابَتِه، وهو العِتْقُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي هو حَقٌّ لله تعالى أو فيه حَقٌّ له، فلا يجوزُ تَفْويتُه، ولأنَّ العِتْقَ لا يَنْفَكُّ مِن الولاءِ، وليس مِن أهلِه، ولأنَّ مِلْكَ المكاتَبِ نَاقِصٌ، والسيدُ لا يَمْلِكُ إعْتاقَ ما في يَدِه ولا هِبَتَه، فلم يَصِحَّ إذْنُه فيه. ولَنا، أنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما، فإذا اتَّفَقَا على التَّبَرُّعِ به جازَ، كالرَّاهِنِ والمُرْتَهِنِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالنِّكاحِ؛ فإنَّه لا يَمْلِكُه ولا يَمْلِكُه السيدُ عليه، وإذا أذِنَ فيه جازَ. وأما الولاءُ فإنَّه يكونُ مَوْقُوفًا؛ فإن عَتَقَ (¬1) المُكَاتَبُ كان (¬2) له، وإلَّا فهو لسيدِه، كما يَرِقُّ ممالِيكُه مِن ذَوي أرْحامِه. هذا قولُ القاضي. وقال أبو بكرٍ: يكونُ لسيدِه؛ لأنَّ (¬3) إعْتاقَه إنَّما صَحَّ (¬4) بإذْنِ سيدِه، فكان كنائِبهِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أعتق». (¬2) في م: «لأن». (¬3) في م: «كان». (¬4) في الأصل: «يصح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال شيخُنا (¬1): وليس له أن يَحُجَّ إذا احْتاجَ إلى إنْفاقِ مالِه فيه. وذَكَرَ في كِتابِ الاعتِكافِ (¬2)، أنَّ له أن يَحُجَّ بغَيرِ إذْنِ سيدِه؛ لأنَّه كالحُرِّ المَدينِ (¬3). ونَقَل المَيمُونِيُّ عن أحمدَ، أنَّ للمُكاتَبِ أن يَحُجَّ مِن المالِ الذي جَمَعَه إذا لم يَأْتِ نَجْمُه. قال شيخُنا (¬4): وذلك مَحْمُول على أنَّه يَحُجُّ بإذْنِ سيدِه، أمَّا بغيرِ إذْنِه فلا يَجُوزُ؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بما يُنْفِقُ ماله فيه، فلم يَجُزْ، كالعِتْقِ. فأمّا إن أمْكَنَه الحَجُّ مِن غيرِ إنْفاقِ مالِه، كالذي يَتَبَرَّعُ له إنْسانٌ بإحْجاجِه، أو يَخْدُمُ مَن يُنْفِقُ عليه، فيجوزُ إذا لم يأتِ نَجْمُه؛ لأنَّ هذا يَجْرِي مَجْرَى تَرْكِه المكْسَبَ (¬5)، وليس ذلك ممَّا يُمْنَعُ منه. ¬

(¬1) في: المغني 14/ 482. (¬2) في الأصل: «الإعتاق». وانظر ما تقدم في 7/ 573، 574 في كتاب الاعتكاف. (¬3) في الأصل: «المدبر». (¬4) في المغني 14/ 482. (¬5) في الأصل: «المكتسب».

2994 - مسألة: (وولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس للمُكاتَبِ أن يُكاتِبَ إلَّا بإذْنِ سيدِه. وهذا قولُ الحسنِ، والشافعيِّ؛ لأنَّ الكِتابَةَ نَوْعُ إعْتاقٍ، فلم تَجُزْ مِن المُكاتَبِ، كالمُنْجَزِ. ولأنَّه لا يَمْلِكُ الإِعْتاق، فلم يَمْلِكِ الكِتابَةَ، كالمأْذُونِ واخْتار (¬1) القاضي جوازَ الكِتابَةِ. وهو الذي ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، في «رُءُوسِ المسائِلِ». وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ؛ لأنَّه نوْعُ مُعاوَضَةٍ، فأشْبَهَ البَيعَ. وقال أبو بكرٍ: هو مَوْقُوفٌ. كقَوْلِه في العِتْقِ المُنْجَزِ، فإن أذِنَ فيها السيدُ صَحَّت. وقال الشافعيُّ: فيها قولان. وقد ذَكَرْنا ذلك فيما تَقَدَّمَ. 2994 - مسألة: (وولاءُ مَن يُعْتِقُه ويُكاتِبُه لسيدِه) إذا كاتَبَ عبدَه فعَجَزا جَمِيعًا صارا رَقِيقَين للسيدِ. وإن أدَّى المُكاتَبُ الأوَّلُ، ثم ¬

(¬1) في م: «اختيار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أدَّى الثانِي، فوَلاءُ كلِّ واحدٍ منهما لمُكاتِبِه. وإن أدَّى الأولُ وعَجَز الثاني صار رَقِيقًا للأولِ. وإن عجز الأولُ وأدَّى الثاني فولاؤُه للسيِدِ الأولِ. وإن أدَّى الثاني قبلَ عِتْقِ الأوَّلِ عَتَقَ. قال أبو بكر: ووَلاوه للسيدِ. وهو قول أبي حنيفةَ؛ لأنَّ العِتْقَ لا يَنْفَكُّ عن الوَلاءِ. والولاءُ لا يُوقَفُ؛ لأنَّه سَبَبٌ يُورَثُ به، فهو كالنَّسَبِ، ولأنَّ المِيراثَ لا يَقِفُ، كذلك سَبَبُه. وقال القاضي: هو مَوْقُوفٌ؛ إن أدَّى عَتَقَ والولاءُ له، وإلَّا فهو للسيدِ. وهذا أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ» (¬1). ولأنَّ العَبْدَ ليس بمِلْكٍ له، ولا يجوزُ أن يَثْبُتَ له الوَلاءُ على مَن لم يَعْتِقْ في مِلْكِه. وقولُهم: لا يجوزُ أن يَقِفَ كما لم يَقِفِ النَّسَبُ والميراثُ. ليس كذلك؛ فإنَّ النَّسَبَ يَقِفُ على بُلُوغِ الغُلامِ وانْتِسابه إذا لم تُلْحِقْه القَافَةُ بأحدِ الواطِئين، وكذلك المِيراثُ يُوقَفُ، على أَنَّ (¬2) الفَرْقَ بينَ النَّسَبِ والميراثِ وبينَ الولاءِ، أنَّ الوَلاءَ يجوزُ أن يَقَعَ لشَخْصٍ ثم يَنْتَقِلَ، وهو ما يَجُرُّه مَوْلَى الأبِ مِن مَوْلَى الأُمِّ، فجازَ أن يكونَ مَوْقُوفًا. والنَّسَبُ والمِيراثُ بخلافِ ذلك. فإن مات المُعْتَقُ قبل عتْقِ المُكاتَبِ، وقُلْنا: الوَلاءُ للسيدِ. وَرِثَه. وإن قُلْنا: هو موقوفٌ. فمِيراثُه أيضًا مَوْقوفٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس له أن يَبِيعَ نَسِيئَةً وإن باع السِّلْعَةَ بأضْعافِ قِيمَتِها. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ فيه تَغْريرًا بالمالِ، وهو مَمْنوعٌ منه؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ السيدِ به. قال القاضي: ويَتَخرَّجُ الجوازُ، بِناءً على المُضَارِبِ أنَّ له البَيعَ نَسِيئَةً، في إحْدَى الرِّوايَتَين، فيُخرَّجُ ههُنا مثلُه. وسواءٌ أخَذَ ضَمِينًا (¬1) أو رَهْنًا (¬2) أو لم يَأْخُذْ؛ لأنَّ الغَرَرَ باقٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَتْلَفَ الرَّهْنُ ويُفْلِسَ الغَرِيمُ والضَّمِينُ. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ مع الرَّهْنِ والضَّمِينِ؛ لأنَّ الوَثِيقَةَ قد حَصَلَتْ به، والعَوارِضُ نادِرَةٌ على خِلافِ الأصْلِ. فإن باع بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه حالًّا، وجَعَلَ الزِّيادَةَ مُؤَجَّلَةً، جازَ؛ لأنَّ الزِّيادَةَ رِبْحٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «ضمنًا». (¬2) في م: «هينًا».

2995 - مسألة: (ولا يكفر بالمال. وعنه، له ذلك بإذن سيده)

وَلَا يُكَفِّرُ بِالْمَالِ. وَعَنْهُ، لَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنِ اشْتَرَى نَسِيئةً جازَ؛ لأنَّه لا (¬1) غَرَرَ فيه. ولا يجوزُ أن يدْفَعَ به رَهْنًا، لأنَّ الرَّهْنَ أمَانَةٌ، وقد يَتْلَفُ أو يَجْحَدُه الغَرِيمُ. وليس له أن يَدْفَعَ ماله سَلَمًا (¬2)؛ لأنَّه في مَعْنَى البَيعِ نَسِيئَةً. وله أن يَسْتَسْلِفَ في ذِمَّتِه، لأنَّه في مَعْنَى الشِّراءِ نَسِيئَةً. وله أن يَقْتَرِضَ؛ لأنَّه يَنْتَفِعُ بالمالِ. وليس له أن يَدْفَعَ ماله مُضَارَبةً؛ لأنَّه يُسَلمُه إلى غيرِه، فيُغَرِّرُ به. وفي الرَّهْنِ والمُضارَبَةِ وجْهٌ آخَرُ، أنَّه يجوزُ (¬3). وله أن يأخُذَ قِراضًا؛ لأنَّه مِن أنْواعِ الكَسْبِ. ومذهبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ كلِّه على ما ذَكَرْنا. 2995 - مسألة: (ولا يُكَفِّرُ بالمالِ. وعنه، له ذلك بإذْنِ سيدِه) إذا لَزِمَتِ المُكاتَبَ كَفَّارَةُ ظِهارٍ، أو جِماعٍ في رَمضانَ، أو قَتْلٍ، أو كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لم يَكُنْ له التَّكْفِيرُ بالمالِ؛ لأنَّه عَبْدٌ، ولأنَّه في حُكْمِ المُعْسِرِ، بدليلِ أنَّه لا تَلْزَمُه زَكاةٌ، ولا نَفَقَةُ قَرِيبٍ، وله أخْذُ الزَّكاةِ لحاجَتِه. وكَفَّارَةُ العَبْدِ والمُعْسِرِ الصِّيامُ. وإن أذِنَ له سيدُه في التَّكْفِيرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «مسلمًا». (¬3) في م: «لا يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمالِ جازَ؛ لأَنه بمَنْزِلَةِ التَّبرُّعِ، ولأنَّ المَنْعَ لِحَقِّه، وقد أذِن فيه. ولا يَلْزَمُه التَّكْفِيرُ بالمالِ وإن أذِنَ فيه السيدُ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا لمَا يُفْضِي إليه مِن تَفْويتِ حُرِّيتِه، كما أنَّ التبرعَ لا يَلْزَمُه بإذْنِ سيدِه. وقال القاضي: المُكاتَبُ كالعبدِ القِنِّ في التَّكْفِيرِ. ومتى أذِنَ له سيدُه في التَّكْفِيرِ بالمالِ (1) انْبنى على مِلْكِ العبدِ بالتَّمْلِيكِ. فإن قُلْنا: لا يَمْلِكُ. لم يَصِحَّ تَكْفِيرُه بغيرِ الصِّيامِ، سواءٌ أذَنِ فيه أو لم يأْذَنْ؛ لأنَّه يُكَفِّرُ بما ليس بمَمْلوكٍ له (¬1). وإن قُلْنا: يَمْلِكُ بالتُّمْلِيكِ. صَحَّ تَكْفِيرُه بالإطْعامِ، إذا أذِن فيه السيدُ. وإن أذِن له في التَّكْفِيرِ بالعِتْقِ، فهل يَصِحُّ؟ على رِوايَتَين نَذْكُرُهما في تَكْفِيرِ العَبْدِ، إن شاء اللهُ تعالى. قال شيخُنا (¬2): والصَّحيحُ أنَّ هذا التَّفْصِيلَ لا يَتَوَجَّهُ في المُكاتَبِ؛ لأنَّه يَمْلِكُ المال بغيرِ خِلافٍ؛ وإنَّما مِلْكُه ناقِصٌ؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ سيدِه به، فإذا أذِن له سيدُه فيه، صَحَّ، كالتَّبَرُّعِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: المغني 14/ 531.

2996 - مسألة: (وهل له أن يرهن أو يضارب؟ يحتمل وجهين)

وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ أَوْ يُضَارِبَ بِمَالِهِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2996 - مسألة: (وهل له أن يَرْهَنَ أو يُضارِبَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين) أحَدُهما، لا يجوزُ؛ لأنَّ في دَفْعِ مالِه إلى غيرِه تَغْرِيرًا به، وفي الرَّهْنِ خَطَرٌ؛ لأنَّه قد يَتْلَفُ أو يَجْحَدُه الغَرِيمُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. والثاني، يجوزُ؛ لأنَّه قد يَرَى الحَظَّ فيه، بدليلِ أنَّ لِوَلِيِّ اليَتِيمِ أن يَفْعَلَه في مالِ اليَتِيمِ، فجازَ، كإجارَتِه.

2997 - مسألة: (وليس له شراء ذوي رحمه إلا بإذن سيده)

وَلَيسَ لَهُ شِرَاءُ ذَوي رَحِمِهِ إلا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَال الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2997 - مسألة: (وليس له شِراءُ ذَوي رَحِمِه إلَّا بإذْنِ سيدِه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ذَكَره أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه] (¬1) تَصَرُّفٌ يُؤَدِّي إلى إتْلافِ مالِه، لأنَّه يُخْرِجُ مِن مالِه ما يجوزُ التَّصَرُّفُ فيه في مُقابَلَةِ ما لا يجوزُ له التَّصَرُّفُ فيه، أشْبَهَ الهِبَةَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. (وقال القاضي: له ذلك) وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه اشْتَرَى مَمْلُوكًا لا ضَرَرَ على السيدِ في شِرائِه، فصَحَّ، كالأجْنَبِيِّ. وبَيانُه أنَّه يأخُذُ كَسْبَهم، وإن عَجَزَ صاروا رَقِيقًا لسيدِه، ولأنَّه يَصِحُّ أن يَشتَرِيَه غيرُه، فصَحَّ شِراؤُه له، كالأجْنَبِيِّ. ويُفارِقُ الهِبَةَ، لأنَّها تُفَوِّتُ المال بغيرِ عِوَض ولا نَفعٍ يَرْجِعُ إلى المُكاتَبِ [ولا السيدِ] (¬2). ولأنَّ السببَ تَحَقَّقَ، وهو صُدُورُ التَّصَرُّفِ مِن أهْلِه في مَحَلِّه، ولم يَتَحَقَّقِ المانِعُ؛ لأنَّ ما ذَكَرُوه لا نَصَّ فيه، ولا له أصْلٌ يُقاسُ عليه. فإن أذِنَ فيه سيدُه جازَ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّ المَنْعَ لِحَقِّ سيدِه، فجاز بإذْنِه. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: فيه قولان. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في م: «ولاء السيد».

2998 - مسألة: (وله أن يقبلهم إذا وهبوا له، أو وصي له بهم)

وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُمْ إِذَا وُهِبُوا لَهُ، أوْ وُصِّيَ لَهُ بِهِمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ بِمَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2998 - مسألة: (وله أن يَقْبَلَهم إذا وُهِبُوا له، أو وُصِّيَ له بِهم) لأنَّه إذا مَلَكَ شِراءَهم مع ما فيه مِن بَذْلِ (¬1) مالِه، فلَأن يجوزَ بغيرِ عِوَض أوْلَى. وعندَ مَن لا يَرى جَوازَ شِرائِهم بغيرِ إذْنِ السيدِ، لا يجوزُ قَبُولُهم، إلَّا (إذا لم يكُنْ فيه ضَرَر بمالِه) كما قالوا في وَلِيِّ اليَتِيمِ إذا وَصَّى لليَتِيمِ بمَن يَعْتِقُ عليه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

2999 - مسألة: (وإذا ملكهم فليس له بيعهم)

وَمَتَى مَلَكَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيعُهُمْ، وَلَهُ كَسْبُهُمْ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ، فَإِنْ عَتَقَ عَتَقُوا، وَإنْ رَقَّ صَارُوا رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 2999 - مسألة: (وإذا مَلَكَهُم فليس له بَيعُهم) ولا هِبَتُهم، ولا إخْراجُهم عن مِلْكِه. وقال أصحابُ الرَّأْي: له بَيعُ مَن (¬1) عدا الوالِدِين والمَولودِين؛ لأنَّهم ليست قَرَابَتُهم قَرابَةً جُزْئيةً ولا بَعْضِيَّةً، فأشْبَهُوا الأجانِبَ. ولَنا، أنَّه ذو رَحِم يَعْتِقُ عليه إذا عَتَقَ، فلا يجوزُ بَيعُه، كالوالِدِين والمَوْلُودِين. ولأنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَهم إذا كان حرًّا، فلا يَمْلِكُه مُكاتَبًا، كوالِدَيه. فصل: ولا يَعْتِقُونَ بمُجَرَّدِ مِلْكِه لهم؛ لأنَّه لوَ باشَرَهم بالعِتْقِ أو أعْتَقَ غيرَهم، لم يَقَعِ العِتْقُ، فَلَأن لا يَقَعَ بالشراءِ الذي أُقِيمَ مُقامَه أوْلَى. ومتى أدَّى وهُم في مِلْكِه عَتَقُوا؛ لأنَّه كَمُلَ مِلْكُه فيهم، وزال تَعَلُّقُ حَقِّ سيدِه عنهم، فعَتَقُوا حينَئِذٍ، وولاؤُهم له دُونَ سيدِه؛ لأنَّهم عَتَقُوا عليه بعدَ زَوالِ مِلْكِ سيدِه عنه، فصاروا بمَنْزِلَةِ ما لو اشْتَراهم بعدَ عِتْقِه. وإنْ عَجَز ورُدَّ في الرِّقِّ صاروا عَبيدًا للسيدِ؛ لأنَّهم مِن مالِه، فيَصِيرُون للسيدِ بعَجْزِه، كعَبِيدِه الأجانِبِ، (وله كَسْبُهم) لأنَّهم ممالِيكُه، أشْبَهَ ¬

(¬1) في الأصل: «ما».

وَكَذَلِكَ الْحُكمُ فِي وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأجانِبَ، ونَفَقَتُهم عليه بحكمِ المِلْكِ لا بحُكْمِ القرابَةِ (وكذلك الحُكْمُ في وَلَدِه مِن أمَتِه) قِياسًا عليهم. فصل: فإن أعْتَقَهُم السيدُ لم يَعْتِقُوا؛ لأنَّه لا يَمْلِكُهم، فلم (¬1) يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فيهم. وإن أعْتَقَهم المُكاتَبُ بغيرِ إذْنِ سيدِه لم يَعْتِقُوا؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ سيدِه بهم، وإن أعْتَقَهم بإذْنِه عَتَقُوا، كما لو أعْتَقَ غيرَهم مِن عَبِيدِه. ¬

(¬1) في الأصل: «فلا».

3000 - مسألة: (وولد المكاتبة الذي ولدته في الكتابة يتبعها)

وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِي الْكِتَابَةِ يَتْبَعُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أعْتَقَه سيدُه عَتَقَ، وصارُوا رَقِيقًا للسيدِ، كما لو عَجَزَ؛ لأنَّ كِتابَتَه تَبْطُلُ بعِتْقِه، كما تَبْطُلُ بموتِه. وعلى ما اخْتارَه شيخُنا يَعْتِقُون؛ لأنَّه عَتَقَ قبلَ فَسْخِ الكِتابَةِ، فوَجَبَ أن يَعْتِقُوا، كما لو عَتَقَ بالإِبْراءِ مِن مالِ الكِتابَةِ، أو بأدَائِه، يُحَقِّقُ هذا أنَّ الكِتابَةَ عَقْدٌ لازِمٌ، يَسْتَفِيدُ بها المُكاتَبُ مِلْكَ رَقِيقِه وأكسابَه، ويَبْقَى حَقُّ السيدِ في مِلْكِ رَقَبَتِه على وجْهٍ لا يَزُولُ إلَّا بالأداءِ (¬1)، أو ما يقومُ مَقامَه، فلا يَتَسَلَّطُ السيدُ على إبْطالِها فيما يَرْجِعُ إلى إبْطالِ حَقِّ المُكاتَبِ، وإنَّما يَتَسَلَّطُ على إبْطالِ حَقِّه منِ رَقَبَةِ المُكاتَبِ، فيَنْفُذُ في مالِه دُونَ مال المُكاتَبِ. وقد ذَكَرْنا مثْلَ هذا فيما مَضَى. وإن مات المُكاتَبُ ولم يُخَلِّفْ وَفَاءً عادوا رَقِيقًا. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يَسْعَوْنَ في الكِتابَةِ على نُجُومِها، وكذلك [أُمُّ وَلَدِه] (¬2). وقال أبو حنيفةَ، في الوَلدِ خاصَّةً: إن جاء بالكتابةِ حالَّةً قُبِلَتْ منه، وعَتَقَ. ولَنا، أنَّه عَبْدٌ للمُكاتَبِ، فصارَ بموتِه لسيدِه إذا لم يُخَلِّفْ وَفَاءً، كالأخنَبِيِّ. وإن خَلَّفَ وَفَاءً، انْبَنَى على الرِّوايَتَين في فَسْخِ الكِتابَةِ، على ما تَقَدَّمَ. 3000 - مسألة: (ووَلَدُ المُكاتَبَةِ الذي وَلَدَتْه في الكِتابَةِ يَتْبَعُها) تَصِحُّ كِتابَةُ الأمَةِ كما تَصِحُّ كتابةُ العبدِ، بغيرِ خِلافٍ. وقد دَلَّ عليه حَدِيث ¬

(¬1) في الأصل: «بأدائه». (¬2) في م: «أم وولده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَرِيرَةَ (¬1)، وحديثُ جُوَيرِيةَ (¬2) بنتِ الحارِثِ، ولأنَّها داخِلَةٌ في عُمُومِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا} (¬3). فإذا أتَتِ المُكاتَبَةُ بوَلَدٍ مِن غيرِ سيدِها مِن نِكاحٍ أو غيرِه، فهو تَابعٌ لها، فإن عَتَقَتْ بالأداءِ أو بالإِبْراءِ عَتَقَ، وإن فُسِختْ كِتابَتُها وعادَتْ إلى الرِّقِّ، عادَ رَقِيقًا قِنًّا. وهذا قولُ شُرَيحٍ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ، وإسحاقَ. وسواءٌ في هذا ماكان حَمْلًا حال الكِتابَةِ، أو حَدَثَ بَعدَها. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: هو عَبْدٌ قِنٌّ، لا يَتبعُ أُمَّه. وللشافعيِّ قوْلان، كالمَذْهَبَين. واحْتَجُّوا بأنَّ الكِتابَةَ غيرُ لازِمَةٍ مِن جِهَةِ العَبْدِ، فلا تَسْرِي إلى الوَلَدِ، كالتعليقِ بالصفةِ. ولَنا، أنَّ الكِتابَةَ سَبَبٌ ثابِتٌ للعِتْقِ لا يجوزُ إبْطالُه، فسَرَى إلى الولدِ، كالاسْتِيلادِ، ويُفارِقُ التعليقَ بالصِّفَةِ، فإنَّ السيدَ يَمْلِكُ إبْطاله بالبَيعِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) في م: «جويرة». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 194. (¬3) سورة النور 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَتَ هذا، فالكلامُ في الولدِ في فُصُولٍ أرْبَعَةٍ: في قِيمَتِه إذا تَلِفَ، وفي كَسْبه، وفي نَفَقَتِه، وفي عِتْقِه. أما قِيمَتُه إذا تَلِفَ، فقال أبو بكرٍ: هي (¬1) لأُمِّهِ، تَسْتَعِينُ بها على كِتابَتِها؛ لأنَّ السيدَ لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه مع كونِه عبدًا، فلا يَسْتَحِقُّ قِيمَتَه؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ جُزْءٍ منها ولو جُنِيَ على جُزْءٍ منها، كان أرْشُه لها، كذلك وَلَدُها، وإذا لم يَسْتَحِقَّها هو كانت لأمِّه؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما، ولأنَّ وَلَدَها لو مَلَكَتْه بهِبَةٍ وشراءٍ فَقُتِلَ (¬2)، كانت قِيمَتُه لها، فكذلك إذا تَبِعَها. يُحَقِّقُه أنَّه إذا تَبِعَها صار حُكْمُه حُكْمَها، فلا يَثْبُت مِلْكُ السيدِ في مَنافِعِه ولا في أرْشِ الجنايَةِ عليه، كما لا يَثْبُتُ له ذلك فيها. وقال الشافعيُّ، في أحَدِ قولَيه: تكَونُ القِيمَةُ لسيدِها؛ لأنَّها لو قُتِلَتْ كانت قِيمَتُها لسيدِها، فكذلك وَلَدُها. والفَرْقُ بينَهما أنَّ الكِتَابَةَ تَبْطُلُ بقَتْلِها، فيَصِيرُ (¬3) مالُها لسيدِها، بخِلافِ وَلَدِها، فإنَّ العَقْدَ باقٍ بعدَ قَتْلِه، فنَظِيرُ هذا إتْلافُ بعضِ أعْضائِها. ¬

(¬1) في الأصل: «هو». (¬2) في الأصل: «فقبل». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُكْمُ في إتْلافِ بَعْضِ أعْضائِه، كالحُكْمِ في إتْلافِه. وأمَّا كَسْبُه وأَرشُ الجِنايَةِ عليه، فيَنْبَغِي أن يكونَ لأُمِّه أيضًا؛ لأنَّ وَلَدَها جُزْءٌ منها تابعٌ لها، فأشْبَهَ بَقِيَّةَ أجْزائِها، ولأنَّ أداءَها لكِتابتِها سَبَبٌ لعِتْقِه وحُصُولِ الحُرِّيَّةِ له، فيَنْبَغِي أن يُصْرَفَ ذلك فيه؛ [لأنَّ صرفَه فيه] (¬1) بمَنْزِلَةِ صَرْفِه إليه، إذ في عَجْزِها رِقُّه وفَواتُ كَسْبِه عليه. وأمَّا نَفَقَتُه، فعلى أمِّه؛ لأنَّها تابِعَةٌ لكَسْبِه، وكَسْبُه لها، ونَفَقَتُه عليها. وأمَّا عِتْقُه، فإَّنه يَعْتِقُ بأدائِها أو إبْرائِها، ويَرِقُّ بِعَجْزِها؛ لأنَّه تَابعٌ لها. وإن ماتَتِ المُكاتَبَةُ في كِتابَتِها بَطَلَتِ كِتابَتُها، وعاد رَقِيقًا قِنًّا، إلَّا أن تُخلِّفَ وَفَاءً، فيكونَ على الرِّوايَتَين. وإن أعْتَقَها سَيدُها لم يَعْتِقْ وَلَدُها؛ لأنَّه إنَّما تَبِعَها في حُكْمِ الكِتابَةِ، وهو العِتْقُ (¬2) بَالأداءِ، وما حَصَلَ الأداءُ، إنَّما حَصَل عِتْقُها بأمرٍ (¬3) لا يَتْبَعُها فيه، فأشْبَهَ ما لو لم (¬4) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «التعلق». (¬3) في الأصل: «بالأمر». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكُنْ مُكاتَبَةً. ومُقْتَضَى قولِ أصحابِنا الذين قالوا: تَبْطُلُ كِتابَتُها بعِتْقِها. أنْ يَعُودَ وَلَدُها رَقِيقًا. ومُقْتَضَى قولِ شيخِنا، أنَّه (1) يَبْقَى على حُكْمِ الكِتابَةِ، ويَعْتِقُ بالأداءِ؛ لأنَّ العَقْدَ لم يوجَدْ ما يُبْطِلُه، وإنَّما سَقَط الأداءُ عنها؛ لحُصُولِ الحُرِّيَّةِ بدُونِه، فإذا لم يكنْ لها وَلَدٌ يَتْبَعُها في الكِتابَةِ، ولا في يَدِها مالٌ يأخُذُه، لم يَظْهَرْ حُكْمُ بَقاءِ العَقْدِ، ولم يكُنْ في بقائِه فائِدَةٌ (¬1)، فانْتَفَى [لانْتِفاءِ فائِدَتِه، وفي مسألتِنا] (¬2)، في بقائه فائِدَةٌ؛ لإِفْضائِه إلى عِتْقِ وَلَدِها، فيَنْبَغِي أنْ يَبْقَى. ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ بإعْتاقِها؛ لأنَّه جَرَى مَجْرَى إبْرائِها مِن المالِ، والحُكْمُ فيما إذا عَتَقَتْ باسْتِيلادٍ أو تَدْبِيرٍ أو تَعْلِيقٍ بصِفةٍ (¬3) كالحُكْمِ فيما إذا أعْتَقَها؛ لأنَّها عَتَقَتْ بغيرِ الكِتابَةِ. وإن أعْتَقَ السيدُ الوَلَدَ دُونَها صَحَّ عِتْقُه. نَصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ مُهَنَّا؛ لأنَّه مَمْلوكٌ له (1)، فصَحَّ عِتْقُه، كأُمِّه (¬4)، ولأنَّه لو أعْتَقَه مَعَها صَحَّ عِتْقُه، ومَن صَحَّ عِتْقُه مع غيرِه صَحَّ مُفْرَدًا، كسائِرِ ممالِيكِه. قال القاضي: وقد كان يَجِبُ أنْ لا يَنْفُذَ عِتْقُه؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا بأُمِّه؛ لتَفْوِيتِ كَسْبِه عَلَيها، فإنَّها كانت تَسْتَعِينُ به في كِتابَتِها، ولعلَّ أحمدَ نَفَّذَ عِتْقَه تَغْلِيبًا للعِتْقِ، والصَّحِيحُ أنَّه يَعْتِقُ، وما ذَكَرَه القاضي مِن الضَّرَرِ لا يَصِحُّ؛ لِوجُوهٍ: أحدُها، أنَّ الضَّرَرَ إنَّما يَحْصُلُ في حَقِّ مَن له كَسْبٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «نصفه». (¬4) في الأصل: «كالأمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْضُلُ عن نَفَقَتِه، فأمَّا مَن لا كَسْبَ له، فتَخْلِيصُها مِن نفَقَتِه نَفْعٌ مَحْضٌ، ومَن له كَسْبٌ لا يَفْضُلُ عن نَفَقَتِه، فلا ضَرَرَ في إعْتاقِه؛ لأنَّه لا يَفْضُلُ لها مِن كَسْبِه شَيءٌ تَنْتَفِعُ به، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيِّدَ الحُكْمَ الذي ذَكَرَه بهذا القَيدِ. الثاني، أنَّ النَّفْعَ بكَسْبِة ليس بواجِبٍ لها؛ لأنَّها لا تَمْلِكُ إجْبارَه على الكَسْبِ، فلم يكنِ الضَّرَرُ بفَواتِه مُعْتَبَرًا في حَقِّها. الثالثُ، أنَّ مُطْلَقَ الضَّرَرِ لا يَكْفِي في مَنْعِ العِتْقِ الذي تحَقَّق مُقتَضِيه، ما لم يكُنْ له أصْلٌ يَشْهَدُ له بالاعْتِبارِ، ولم يَذْكُرْ له أصْلًا، ثم هو مُلْغًى بعِتْقِ المُفْلِسِ والرَّاهِنِ وسِرايَةِ العِتْقِ إلى مِلْكِ الشَّرِيكِ، فإنَّه يَعْتِقُ مع وُجودِ الضَّرَرِ بتَفْويتِ الحَقِّ اللَّازِمَ، فهذا أوْلَى. فصل: فأمَّا وَلَدُ وَلَدِها، فإنَّ ولَدَ ابنِها حُكْمُه حُكْمُ أُمِّه، لأنَّ وَلَدَ المكاتَبِ لا يَتْبَعُه، وأمَّا وَلَدُ بِنْتِها فهو كبِنْتِها. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَسْرِي الكِتابَةُ إليه؛ لأنَّ السِّرايَةِ إنَّما تكونُ مع الاتِّصالِ، وهذا وَلَدٌ مُنْفَصِلٌ، فلا يَسْرِي إليه، بدَلِيلِ أنَّ ولدَ (¬1) أُمِّ الوَلدِ قبلَ أن يَسْتَوْلِدَها لا يَسْرِي إليه الاسْتِيلادُ، وهذا الولَدُ اتَّصَلَ بأُمِّه دُونَ جَدَّتِه. ولَنا، أنَّ ابْنَتَها ثَبَتَ (¬2) لها حُكْمُها تَبَعًا، فيَجِبُ أن يَثْبُتَ لابْنَتِها حُكْمُها تَبَعًا، كما ثَبَتَ لها حكمُ أمِّها. ولأنَّ البِنْتَ تَبِعَتْ أمَّها، فيَجِبُ أنْ يَتْبَعَها وَلَدُها؛ لأنَّ عِلَّةَ إتْباعِها لأُمِّها مَوْجُودَةٌ في وَلَدِها، ولأنَّ البِنْتَ تَعَلَّقَ بها حَقُّ العِتْقِ، فيجبُ أن يَسْرِيَ إلى وَلَدِها، كالمُكاتَبَةِ. وهذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بنت».

3001 - مسألة: (وإن اشترى زوجته)

وَإنِ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ زَوْجَتَهُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. وَإنِ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ يَمْتَنِعُ عَلَيهِ بَيعُهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِلافُ في وَلَدِ البِنْتِ التَّابِعَةِ لأُمِّها في الكِتابَةِ، فأمَّا المَوْلُودَةُ قبلَ الكِتابَةِ، فلا تَدْخُلُ في الكِتابَةِ فابنُها (¬1) أوْلَى. 3001 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى زَوْجَتَه) صَحَّ، و (انْفَسَخَ نِكاحُها) يجوزُ للمُكاتَبِ شِراءُ امرأتِه، وللمُكاتَبةِ شِراءُ زَوْجِها؛ لأنَّ ذلك يجوزُ لغيرِ المُكاتَبِ، [فجاز للمُكاتَبِ] (¬2)، كشِراءِ الأجانِبِ، ويَنْفَسِخُ النِّكاحُ بذلك. [وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ] (¬3): لا يَنْفسِخُ؛ لأنَّ المُكاتَبَ لا يَمْلِكُ، بدليلِ أنَّه لا يجوزُ له التَّسَرِّي (¬4)، ولا يَعْتِقُ والِدُه وولدُه إذا اشْتَراهُ، فأشْبَهَ العبدَ القِنَّ. ولَنا، أنَّ المُكاتَبَ يَمْلِكُ ما اشْتَراهُ، [بدليلِ أنَّه تَثْبُتُ له الشُّفْعَةُ على سيدِه، ولسيدِه عليه، ويَجْرِي الرِّبا بينَه وبينَه، وإنَّما مُنِعَ التَّسَرِّيَ] (2)؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ سيدِه بما في يَدِه، كما يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِن الوَطْءِ معَ ثُبُوتِ مِلْكِه، ولذلك لم يَعْتِقْ عليه ذَوُو رَحِمِه. وإذا اشْتَرَى أحدُهما الآخرَ فله التَّصَرُّفُ فيه؛ لأنَّه أجْنَبِيٌّ منه. 3002 - مسألة: (وإنِ اسْتَوْلَدَ أمَتَه، فهل تَصِيرُ أمَّ وَلَدٍ يَمْتَنِعُ عليه ¬

(¬1) في م: «فابنتها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «وقال الشافعي». (¬4) في م: «الشراء».

فَصْلٌ: وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ شَيئًا مِنْ كَسْبِهِ، وَلَا يَبِيعُهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيعُها؟ على وَجْهَين) إذا اسْتَوْلَدَ المُكاتَبُ أمَتَه قبلَ عِتْقِه وعَجْزِه، فإنَّها تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ للمُكاتَبِ، وليس له بَيعُها. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ وَلَدَها له حُرْمَةُ الحُرِّيةِ، ولا يجوزُ بَيعُه، ويَعْتِقُ بعِتْقِ أبيه، وكذلك أُمُّه. فعلى هذا، لا يجوزُ بَيعُها، وتكونُ مَوْقُوفَةً مع المُكاتَبِ، إن أُعْتِقَ فهي أُمُّ ولَدِه، وإن رَقَّ رَقَّتْ. وقال القاضي في مَوْضِعٍ: لا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بحالٍ، وله بَيعُها، لأنها حَمَلَتْ بِمَمْلُوكٍ في مِلْكٍ غيرِ تامٍّ. وللشافعيِّ قوْلان، كهذين الوَجْهَين. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ولا يَمْلِكُ السيدُ شيئًا مِن كَسْبِه، ولا يَبِيعُه دِرْهَمًا بدِرْهَمَين) ولا يَمْلِكُ السيدُ (¬1) شيئًا مِن كَسْبِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُكاتَبِ؛ لأنَّه اشْتَرَى نَفْسَه مِن سيدِه ليَمْلِكَ ماله وكَسْبَه ومَنافِعَه، فلا يَبْقَى (¬1) ذلك لبائِعِه، كسائِرِ المَبِيعاتِ. ويَجْرِي الرِّبا بينَه وبينَ سيدِه؛ لأنَّه معه في باب المُعاوَضَةِ كالأجْنَبِيِّ. وقال ابنُ أبي موسى: لا رِبا بينَهما؛ لأنَّه عَبدٌ في الأَظْهَرِ مِن قولِه، ولا رِبا بينَ العبدِ وسيدِه، ولهذا جاز أن يُعَجِّلَ لسيدِه، ويَضَعَ عنه بعضَ كِتابَتِه، وله وَطْءُ مُكاتَبَتِه إذا شَرَط، ولو حَمَلَتْ منه صَارَتْ له بذلك أُمَّ وَلَدٍ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ السيدَ مع مُكاتَبِه في بابِ المُعامَلَةِ كالأجْنَبِيِّ؛ بدليلِ أنَّ لكلِّ وَاحِدٍ منهما الشُّفْعَةَ على صاحِبِه، ولا يَمْلِكُ كلُّ واحدٍ منهما التَّصَرُّفَ فيما بَيدِ صاحِبِه، وإنَّما يَتَعَلَّقُ لسيدِه حَقٌّ فيما بيَدِه؛ لكونِه بعَرَضِيَّةِ (¬2) أن يَعْجِزَ (¬3) فيَعودَ إليه. وهذا لا يَمْنَعُ جَرَيانَ الرِّبَا بينَهما، كالأبِ مع ابنِه. فعلى هذا القولِ، لا يجوزُ التَّفاضُلُ بينَهما فيما يَحْرُمُ التَّفاضُلُ فيه بينَ الأجْنَبِيَّين، ولا النَّسَاءُ فيما يَحْرُمُ فيه النَّساءُ بينَ الأجانِبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «ينفى». (¬2) في الأصل: «تعرضه». (¬3) في م: «يعجزه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان لكُلِّ واحدٍ منهما على صاحِبِه دَينٌ، مثلَ أن كان للسيدِ على مُكاتَبِه دَينٌ مِن الكِتابَةِ أو غيرِها، وللمُكاتَبِ على سيدِه دَينٌ، وكانا نَقْدًا مِن جِنْس واحدٍ، حالَّينِ، أو مُؤَجَّلَين أجَلًا واحدًا، تَقَاصَّا وتَساقَطا؛ لأنَّهما إذا تَساقَطَا بينَ الأجانِبِ، فمعَ (¬1) السيدِ ومُكاتَبِه أوْلَى. وإن كانا نَقْدًا مِن جِنْسَين، كدَراهِمَ ودَنانِيرَ، فقال ابنُ أبي موسى: لو كان له على سيدِه ألفُ دِرْهَمٍ، ولسيدِه عليه مائَة دِينارٍ، فجعلها قِصَاصًا بها، جاز، بخِلافِ الحُرَّينِ. وقال القاضي: لا يجوزُ هذا، لأنَّه بَيعُ دَين بِدَينٍ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ الدَّينِ بالدَّينِ (¬2). ولأنَّه لا يجوزُ بينَ الأجْنَبِيَّين، فلم يَجُزْ بينَ المُكاتَبِ وسيدِه، كسائِرِ المُحَرَّمات. وفارَقَ العبدَ القِنَّ، فإنَّه باقٍ في تَصَرُّفِ سيدِه، وما في يَدِه مِلْكٌ خَالِصٌ لسيدِه، له (¬3) أخْذُه والتَّصَرُّفُ فيه. فعلى هذا لا يجوزُ وإن تَرَاضَيَا به. وعلى قولِ ابنِ أبي موسى، يجوزُ إذا تَراضَيَا بذلك وتَبايَعاه، ولا يَثْبُتُ التَّقَاصُّ قبلَ تَراضِيهما به؛ لأنَّه بَيعٌ (¬4). فإن كانا عَرْضَين أو [عَرْضًا ونَقْدًا] (¬5)، لم تَجُزِ المُقاصَّةُ فيهما بغيرِ تَراضِيهما بحالٍ، سواءٌ كان العَرْضُ ¬

(¬1) في الأصل: «فمنع». (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطني 3/ 71، 72. وعبد الرزاق، في: باب أجل بأجل. المصنف 8/ 90. وانظر: تلخيص الحبير 3/ 26، 27. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «بيعى». (¬5) في الأصل: «عقد ونقد».

3003 - مسألة: (وإن جنى عليه، فعليه أرش جنايته)

وَإنْ جَنَى عَلَيهِ، فَعَلَيهِ أَرشُ جِنَايَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جِنْسِ حَقِّه أو مِن غيرِ جِنْسِه. وإن تَرَاضَيا بذلك لم يَجُزْ أيضًا؛ لأنَّه بَيعُ دَينٍ بِدَينٍ، وإن قَبَضَ أحَدُهما مِن الآخَرِ حَقَّه، ثم دَفَعَه إلى الآخَرِ عِوَضًا عن ما لَه في ذِمَّتِه، جاز، إذا لم يكُنِ الثَّابِتُ في الذمَّةِ عن سَلَمٍ. فإن كان ثَبَتَ عن سَلَمٍ، لم يَجُزْ أخْذُ عِوَضِه قبلَ قَبْضِه. وفي الجُمْلَةِ، إنَّ حُكْمَ المُكاتَبِ مع سيدِه في هذا حُكْمُ الأجانِبِ، إلَّا على قولِ ابنِ أبي موسى الذي ذَكَرْناه. 3003 - مسألة: (وإن جَنَى عليه، فعليه أَرْشُ جِنايَتِه) إذا جَنَى السيدُ على مُكاتَبِه، فلا قِصاصَ عليه؛ لأمْرَين: أحدُهما، أنَّه حُرٌّ والمُكاتَبُ عَبْدٌ. والثاني، أنَّه مِلْكُه، ولا يُقْتَصُّ مِن المالِكِ لممْلُوكِه، ولكَنْ يَجِبُ الأرْشُ، ولا يَجِبُ إلَّا بانْدِمالِ الجُرْحِ؛ لأنَّه قبلَ الانْدِمالِ لا يُؤْمَنُ سِرايَتُه إلى نفْسِه، فيَسْقُطُ أرْشُه، ومتى سَرَى الجُرْحُ إلى نَفْسِه انْفَسخَتِ الكِتابَةُ، وكان كقَتْلِه. فإذا انْدَمَلَ الجُرْحُ وجَبَ له أَرْشُه حِينَئِذٍ. فإن كان مِن جِنْسِ مالِ الكِتابَةِ، وقد حَلَّ عليه نجْمٌ، تَقَاصَّا. وإن كان مِن غيرِ جِنْسِ مالِ الكِتابَةِ، أو كان النَّجْمُ لم يَحِلَّ، لم يَتَقاصَّا. ولكُلِّ واحدٍ منهما مُطالبَةُ صاحِبِه بما يَسْتَحِقُّه. فإن رَضِيَ المُكاتَبُ

3004 - مسألة: (وإن حبسه مدة، فعليه أرفق الأمرين به، من إنظاره مثل تلك المدة، أو أجرة مثله)

وَإنْ حَبَسَهُ مُدَّةً، فَعَلَيهِ أَرْفَقُ الأمْرَين بِهِ، مِنْ إِنْظَارِهِ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، أوْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَعْجِيلِ الواجِبِ له عَمَّا (¬1) لم يَحِلَّ مِن نُجُومِه، جاز إذا كان مِن جِنْسِ مالِ الكِتابَةِ. 3004 - مسألة: (وإن حَبَسَه مُدَّةً، فعليه أرْفَقُ الأمْرَينِ به، مِن إنْظارِه مثلَ تِلك المُدَّةِ، أو أُجْرَةِ مِثْلِه) إذا حَبَسَه سيدُه فقد أساء، ولا يَحْتَسِبُ عليه بمُدَّتِه، في أحَدِ الوُجُوهِ. والثاني، يَحْتَسِبُ عليه بمُدَّتِه؛ لأنَّ مال الكِتابَةِ دَينٌ مُؤَجَّلٌ، فَيَحْتَسِبُ بمُدَّةِ الحَبْسِ مِن الأجَلِ، كسائِرِ الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ. فعلى هذا الوَجْهِ، يَلْزَمُه أجْرُ مِثْلِه في المدَّةِ التي حَبَسَه فيها. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ على سَيِّدِه تَمْكِينَه مِن التَّصَرُّفِ مُدَّةَ كِتابَتِه، ¬

(¬1) في الأصل: «ما».

3005 - مسألة: (وليس له أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط)

وَلَيسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ مُكَاتَبَتَهُ إلا أَنْ يَشْتَرِطَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا حَبَسَه مُدَّةً وَجَبَ عليه تأْخِيرُه (¬1) مثلَ تلك المُدَّةِ؛ ليَسْتَوْفِيَ الواجِبَ له، ولأنَّ حَبْسَه يُفْضِي (¬2) إلى إبْطالِ الكِتابَةِ وتَفْويتِ مَقْصُودِها ورَدِّهِ إلى الرِّقِّ، ولأنَّ (¬3) عَجْزَه عن أداءِ نُجُومِه في مَحِلِّها، بسَبَبٍ مِن سيدِه، فلم يَسْتَحِقَّ به (¬4) فَسْخَ العَقْدِ، كما لو مَنَعَ البائِعُ المُشْتَرِيَ مِن أداءِ الثَّمنِ لم يَسْتَحِقَّ فَسْخَ البَيعِ لذلك، ولو مَنَعَتِ المرأةُ زَوْجَها مِن الإِنْفاقِ عليها، لم تَسْتَحِقَّ فَسْخَ العَقْدِ لذلك. والثالثُ، أن يَلْزَمَ سَيِّدَه أرْفَقُ الأمْرَين به، مِن إنْظارِه مثلَ تلك المُدَّةِ، أو أُجْرَةِ مِثْلِه فيها؛ لأنَّه وُجِدَ سَبَبُهما، فكان للمُكاتَبِ أنْفَعُهما. 3005 - مسألة: (وليس له أن يَطَأَ مُكاتَبَتَه إلَّا أن يَشْتَرِطَ) وَطْءُ المُكاتَبَةِ مِن غيرِ شَرْطٍ حَرامٌ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقيل: له وَطْؤُها في الوَقْتِ الذي لا يَشْغَلُها الوَطْءُ عن السَّعيِ عمَّا هي فيه، لأنَّها مِلْكُ يَمينِه، فتَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه ¬

(¬1) في الأصل: «بأجره». (¬2) في م: «يقضى». (¬3) في الأصل: «ليس». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬1). ولَنا، أنَّ الكِتابَةَ عَقْدٌ (¬2) أزال مِلْكَ اسْتِخْدامِها، ومِلْكَ عِوَضِ مَنْفَعةِ بُضْعِها فيما إذا وُطِئَتْ بشُبْهةٍ، فأزال حِلَّ وَطْئِها، كالبَيعِ، والآيَةُ مَخْصُوصةٌ بالمُزَوَّجَةِ، فنَقِيسُ عليها مَحَلَّ النِّزاعِ، ولأنَّ المِلْكَ ههُنا ضَعِيفٌ؛ لأنَّه قد زال عن مَنافِعِها جُمْلَةً؛ ولهذا لو وُطِئَتْ بشُبْهَةٍ كان المَهْرُ لها، وتُفارِقُ أُمَّ الوَلَدِ، فإنَّ مِلْكَه باقٍ عليها؛ وإنَّما يَزُولُ بموتِه، فأشْبَهَتِ المُدَبَّرَةَ والمُوصَى بها، وإنَّما امْتَنَعَ البَيعُ؛ لأنَّها اسْتَحَقَّتِ العِتْقَ بموتِه، اسْتِحْقاقًا لازِمًا لا يُمْكِنُ زَوالُه. فصل: فإن شَرَطَ وَطْأَها فله ذلك. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ. وقال سائِرُ مَن ذَكَرْنا: ليس له وَطْؤُها؛ لأنَّه لا يمْلِكُه مَع إطْلاقِ العَقْدِ، فلم ¬

(¬1) سورة المؤمنون 6، سورة المعارج 30. (¬2) سقط من: الأصل.

3006 - مسألة: (وإن وطئها ولم يشترط، أو وطئ أمتها،

فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ، أَوْ وَطِئَ أَمَتَهَا، فَلَهَا عَلَيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكْه بالشَّرْطِ،؛ لو زَوجَها أو أعْتَقَهَا. وقال الشافعيُّ: إذا شَرَطَ ذلك في عَقْدِ الكِتابَةِ فَسَدَ؛ لأنَّه شَرْطٌ فاسِدٌ، فأفْسَدَ العَقْدَ، كما لو شَرَط عِوَضًا فاسِدًا. وقال مالكٌ: لا يَفْسُدُ العَقْدُ به، لأنَّه لا يُخِلُّ برُكْنِ العَقْدِ ولا شَرْطِه، فلم يَفْسُدْ، كالصَّحِيحِ. ولَنا، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ» (¬1). ولأنَّها مَمْلُوكَةٌ، له شَرْطُ نَفْعِها، فصَحَّ، كشَرْطِ اسْتِخْدَامِها. يُحَقِّقُ هذا أنَّ مَنْعَه مِن وَطْئِها مع بَقاءِ مِلْكِه عليها ووُجُودِ المُقْتَضِي لحِلِّ وَطْئِها، إنَّما كان لحَقِّها، فإذا اشْتَرَطَه عليها جاز، كالخِدْمَةِ، ولأنَّه اسْتَثْنَى بعْضَ ما كان له، فصَحَّ، كاشْتِراطِ الخِدْمةِ، وفارَقَ البَيعَ، فإنَّه يُزِيلُ مِلْكَه عنها. 3006 - مسألة: (وإن وَطِئَها ولم يَشْتَرِطْ، أو وَطِئَ أمَتَها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149. وانظر صفحة 20.

الْمَهْر، وَيُؤَدَّبُ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ. وَإنْ شَرَطَ وَطْئَهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُدِّبَ، ولم يَبْلُغْ به الحَدَّ) إذا وَطِئَها مِن غيرِ شَرْطٍ لم يَجِبْ عليه الحَدُّ؛ لشُبْهَةِ المِلْكِ، في قولِ عامةِ الفقهاءِ. ورُوِيَ عن الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، أنَّهما قالا: عليه الحَدُّ؛ لأنَّه عَقَدَ عليها عَقْدَ مُعاوَضَةٍ يُحَرِّمُ الوَطْءَ، فأوْجَبَ الحَدَّ بوطْئِها، كالبَيعِ. ولَنا، أنَّها مَمْلوكَتُه، فلم يَجِبْ عليه الحَدُّ بوَطْئِها، كالمرْهُونَةِ والمُسْتَأجَرَةِ، ويُخالِفُ البَيعَ، فإنَّه يُزِيلُ المِلْكَ، والكِتابَةُ لا تُزِيلُه، بدليلِ قولِه - عليه السلام -: «المُكاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ» (¬1). وعليه مَهْرُها إذا وَطِئَها بغيرِ شَرْطٍ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَها المَمْنوعَ مِن اسْتِيفائِها، فأشْبَهَ مَنَافِعَ بَدنِها، فإن كانا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عالِمَين عُزِّرا، وإن كانا جاهِلَين عُذِرَا (¬1)، وإن كان أحَدُهما عالمًا والآخَرُ جاهِلًا، عُزِّرَ العالِمُ وعُذِرَ (¬2) الجاهِلُ. ولا تَخْرُجُ بالوَطْءِ عن الكِتابَةِ. وقال اللَّيثُ: إن طاوَعَتْه فقد فَسَخَتْ كِتابَتَها وعادَتْ قِنًّا. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، فلم يَنْفَسِخْ بالمُطاوَعةِ على الوَطْءِ، كالإِجارَةِ والبَيعِ بعدَ لُزومِه. ويَجِبُ لها المَهْرُ، مُطَاوعَةً له (¬3) كانت أو مُكْرَهَةً. وبه قال الحسنُ، والثَّوْرِيُّ، والحسنُ بنُ صالِحٍ، والشافعيُّ. وقال قَتادةُ: يَجِبُ إذا أكْرَهَها، ولا يَجِبُ إذا طَاوَعَتْه. ونَقَلَه المُزَنِيُّ عن الشافعيِّ، لأنَّ المُطاوعَةَ بَذَلَتْ نَفْسَها بغيرِ عِوَضٍ، فصارَتْ كالزَّانِيَةِ. ومَنْصُوصُ الشافعيِّ، وُجُوبُه في الحالين. وأنْكَرَ أصحابُه ما نقله المُزَنِيُّ، وقالوا: لا يُعْرَفُ. وقال مالكٌ: لا شيءَ عليه؛ لأنَّها مِلْكُه. ولَنا، أنَّه عِوَضُ مَنْفَعَتِها، فوَجَبَ لها، كعِوَضِ بَدَنِها، ولأنَّ المُكاتَبَةَ في يَدِ نَفْسِها، ومَنافِعُها لها؛ ولهذا لو وَطِئَها أجْنَبِيٌّ كان المَهْرُ لها، وإنَّما وَجَبَ في حالِ المُطاوَعَةِ؛ لأنَّ الحَدَّ سَقَطَ عنه للشُّبْهَةِ، فوَجَبَ لها المَهْرُ؛ لو وَطِئَ امرأةً بشُبْهَةِ عَقْدٍ مُطاوعَةً. فإن تَكَرَّرَ وَطْؤُها، وكان قد أدَّى مَهْرَ الوَطْءِ الأوَّلِ، فللثاني مَهْرٌ أيضًا؛ لأنَّ الأداءَ قَطَعَ حُكْمَ الوَطْءِ، وإن لم يكُنْ أدَّى عن الأوَّلِ، لم يَجِبْ إلَّا مَهْر واحدٌ؛ لأنَّ هذا عن وَطءِ الشُّبْهَةِ، فلم يَجِبْ إلَّا مَهْرٌ واحدٌ، كالوَطْءِ في النِّكاحِ الفاسِدِ. ¬

(¬1) في النسختين: «عزرا». (¬2) في م: «عزر». (¬3) زيادة من: الأصل.

3007 - مسألة: فإن أولدها (صارت أم ولد له)

وَمَتَى وَلَدَتْ مِنْهُ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا إن وَطِئَها مع الشَّرْطِ، فلا حَدَّ عليه، ولا مَهْرَ، ولا تَعْزِيرَ؛ لأنَّه وَطْءٌ يَمْلِكُه ويُبَاحُ له، فأشْبَهَ وَطْأَها قبلَ كِتابَتِها. وإذا وَجَبَ لها المَهْرُ بالوَطْءِ؛ فإن كان لم يَحِلَّ عليها نَجْمٌ فلها المُطالبَةُ، وإن كان قد حَلَّ عليها، وكان المَهْرُ مِن غيرِ جِنْسِه، فلها المُطالبَةُ أيضًا به، وإن كان مِن جِنْسِه تَقَاصَّا، وأخذ ذو الفَضْلِ فَضْلَه. 3007 - مسألة: فإن أوْلَدَها (صارت أُمَّ وَلَدٍ له) سَواءٌ وَطِئَها بشَرْطٍ أو بغيرِ شَرْطٍ؛ لأنَّه أحْبَلَهَا بحُرٍّ في مِلْكِه، فكانت أُمَّ وَلَدٍ، كغيرِ المُكاتَبةِ، والوَلَدُ حُرٌّ؛ لأنَّه وَلَدُه مِن مَمْلُوكَتِه، ويَلْحَقُه نَسَبُه؛ لذلك، ولأنَّه مِن وَطْءٍ سَقَطَ فيه الحَدُّ للشُّبْهَةِ، فأشْبَهَ وَلَدَ المَغْرُورِ (¬1)، ولا تَلْزَمُه قِيمَتُه؛ لأنَّها وَضَعَتْه (¬2) في مِلْكِه. ¬

(¬1) في الأصل. «المقرة». (¬2) في الأصل: «وضيعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس له وَطْءُ بنْتِ مَكاتَبَتِه، لأنَّها تابِعَةٌ لها مَوْقُوفَةٌ معها، فلمِ يُبَحْ (¬1) وَطْؤُها، كأُمِّها، ولا يُبَاحُ ذلك بالشَّرْطِ؛ لأنَّ حُكْمَ الكتابَةِ ثَبَتَ فيها تَبَعًا، ولم يكنْ وطؤُها مُباحًا حال العَقْدِ فيَشْتَرِطَه (¬2). فإن وَطِئَها فلا حَدَّ عليه، ويَأْثَمُ ويُعَزَّرُ؛ لأنَّه وَطِئَ وَطْئًا مُحَرَّمًا، ولها المَهْرُ، حُكْمُه حُكْمُ كَسْبِها، يكونُ لأُمِّها تَسْتعينُ به في كِتابَتِها؛ لأنَّ ذلك سَبَبُ حُرِّيَتِها (¬3). فإن أحْبَلَها صارت أُمَّ وَلَدٍ له، والوَلَدُ حُرٌّ؛ لأنَّه أحْبَلَها بِحُرٍّ في مِلْكِه، ويَلْحَقُه نَسَبُه، ولا تجِبُ عليه قِيمَتُها؛ لأنَّ أُمَّها لا تَمْلِكُها، ولا قيمَةُ وَلَدِها؛ لأنَّها وَضَعَتْه (¬4) في مِلْكِه. فصل: وليس له وَطْءُ جاريَةِ مُكاتَبِه ولا مُكاتَبَتِه اتِّفاقًا. فإن فَعَلَ، أثِمَ وعُزِّرَ، ولا حَدَّ عليه؛ لشُبْهَةِ المِلْكِ؛ لأنَّه يَمْلِكُ مالِكَها، وعليه مَهْرُها لسيدِها، ووَلَدُه منها حُرٌّ يَلْحَقُه نَسَبُه؛ لأنَّ الحَدَّ سَقَطَ لشُبْهَةِ المِلْكِ، وتَصِيرُ أُمَّ ولدٍ له، وعليه قِيمَتُها لسيدها؛ لأنَّه أخْرَجَها بِوَطْئِه عن مِلْكِه، ولا تَجبُ عليه قِيمَةُ الوَلَدِ؛ لأنَّها وَضَعَتْه في مِلْكِه. ويَحْتَمِلُ أن تَلْزَمَه قِيمَتُه؛ لأَنَّه أخْرَجَه بوَطْئِه عن أن يكونَ مَمْلُوكًا لسيدِها، فأشْبَهَ ¬

(¬1) في الأصل: «يصح». (¬2) في م: «فيشترط». (¬3) في الأصل: «حريتهما». (¬4) في الأصل: «وضيعة».

3008 - مسألة: (فإن أدت عتقت، وإن مات)

فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ، وَإنْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا عَتَقَتْ، وَسَقَطَ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهَا، وَمَا فِي يَدِهَا لَهَا، إلا أن يَكُونَ بَعْدَ عَجْزِهَا. وَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَدَ المَغْرُورِ (¬1). فصل: ولا يَمْلِكُ السيدُ إجْبارَ مُكاتَبَتِه ولا ابْنَتِها ولا أمَتِها على التَّزْويجِ؛ لأنَّه زال مِلْكُه بعَقْدِ الكِتابَةِ عن نَفْعِها ونَفْعِ بُضعِها (¬2)، وعن عِوَضِه. وليس لواحدةٍ منهنَّ التَّزَوُّجُ (¬3) بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في ذلك، فإنَّه يُثْبتُ حَقًّا للزَّوْجِ فيها، فرُبَّما عَجَزَتْ وعادت إليه على وَجْهٍ لا يَمْلِكُ وَطْأهَا، فإن تَراضَيا بذلك جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لا يَخْرُجُ عنهما، وهو وَلِيُّها (¬4) ووَلِيُّ ابْنَتِها وجارِيَتِها جميعًا؛ لأنَّ المِلْكَ له، فأشبَهَ الجارِيَةَ القِنَّ. والمَهْرُ للمُكاتَبَةِ، على ما ذَكَرْنا في مَهْرِهِنَّ إذا وَطِئَهُنَّ السيدُ. 3008 - مسألة: (فإن أدت عَتَقَتْ، وإن مات) سيدُها (قبلَ أدائِها عَتَقَتْ، وسَقَطَ ما بَقِيَ مِن كِتابَتِها، وما في يَدِها لها، إلَّا أن يكونَ ¬

(¬1) في الأصل: «الغرور». (¬2) في م: «بعضها». (¬3) في م: «التزويج». (¬4) في الأصل: «وليهما».

أَصْحَابُنَا: هُوَ لِوَرَثَةِ سَيِّدِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ عَجْزِها. وقال أصحابُنا: هو لوَرَثَةِ سيدِها. وكذلك الحُكْمُ فيما إذا أعْتَقَ المُكاتَبَ سيدُه) قد ذَكَرْنا أنَّ السيدَ إذا اسْتَوْلَدَ مكاتَبَتَه صارت أُمَّ وَلَدٍ له، والوَلَدُ حُرٌّ، ونَسَبُه لاحِقٌ به، ولا تَبْطُلُ كِتابَتُها بذلك؛ لأنَّها عَقْدٌ لازِمٌ مِن جهةِ سيدِها، وقد اجْتَمَعَ لها شبَبانِ يقْتَضِيان العِتْقَ، أيُّهما سَبَقَ صاحِبَه ثَبَتَ حُكْمُه. هذا قولُ الزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، واللَّيثِ، والثَّوْرِيِّ والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الحَكَمُ (¬1): تَبْطُلُ كِتابَتُها؛ لأنَّها سَبَبٌ للعِتْقِ، فتَبْطُلُ (¬2) بالاسْتِيلادِ، كالتَّدْبِيرِ. ولَنا، أنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلا تَبْطُلُ بالوَطْءِ، كالبَيعِ، ولأنَّها سَبَبٌ للعِتْقِ لا يَمْلِكُ السيدُ الرُّجُوعَ عنه، فلم تَبْطُلْ بذلك، كالتَّعْلِيقِ بصِفَةٍ، وما ذَكَرَه يَبْطُلُ بالتَّعْلِيقِ بالصِّفَةِ. وتُفارِقُ الكِتابَةُ التَّدْبِيرَ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ حُكْمَ التَّدْبِيرِ والاسْتِيلادِ واحدٌ، وهو العِتْقُ عَقِيبَ الموتِ، والاسْتِيلادُ أقْوَى؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ مِن رأسِ المالِ، ولا سَبِيلَ إلى إبْطالِه بحالٍ، فاسْتُغْنِيَ به عن التَّدْبِيرِ، والكِتابَةُ سَبَبٌ يُتَعَجَّلُ به (¬3) العِتْقُ ¬

(¬1) في م: «الحاكم». (¬2) في م: «فبطل». (¬3) في الأصل: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأداءِ، ويكونُ ما فَضَلَ مِن كَسْبِها لها، وتَمْلِكُ بها منَافِعَها وكَسْبَها، وتَخْرُجُ عن تَصَرُّفِ سيدِها. وهذا لا يَحْصُلُ بالاسْتِيلادِ، فيَجِبُ أن تَبْقَى لبَقاءِ فائِدَتِها. الثاني، أنَّ الكتابَةَ أقْوَى مِن التَّدْبِيرِ، للُزومِها، وكَونِها لا تَبْطُلُ بالرُّجُوعِ عنها، ولا بَيعِ المُكاتَبِ ولا هِبَتِه. الثالثُ، أنَّ التَّدْبِيرَ تَبرُّعٌ، والكِتابَةَ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ لازِمٌ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَجْتَمِعُ لها سَبَبان، كلُّ واحدٍ منهما يَقْتَضِي الحُرِّيَّةَ، فأيُّهما تَمَّ قبلَ صاحِبِه، ثَبَتَتِ الحُرِّيَّةُ به، كما لو انْفَرَدَ، لأنَّ انْضِمامَ أحَدِهما إلى الآخَرِ مع كَونِه لا يُنافِيه، لا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِه، فإن أدَّتْ عَتَقَتْ بالكِتابَةِ، وما فَضَلَ مِن كَسْبِها فهو لها، لأنَّ المُعْتَقَ بالكِتابَةِ له ما فَضَلَ مِن نُجُومِه، وإن عَجَزَتْ (¬1) وَرُدَّتْ في الرِّقِّ بَطَلَ حُكْمُ الكِتابَةِ، وبَقِيَ لها (¬2) حُكْمُ الاسْتِيلادِ منفَرِدًا، كما لو لم تكُنْ مُكاتَبَةً، وله وَطْؤُها، وتَزْويجُها، وإجارَتُها، وتَعْتِقُ بمَوْتِه، وما في يدِها لوَرَثَةِ سيدِها. فإن مات سيدُها ¬

(¬1) في الأصل: «عجز». (¬2) سقط من: الأصل.

3009 - مسألة: (وكذلك الحكم فيما إذا أعتق المكاتب سيده)

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ سَيِّدُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبلَ عَجْزِها عَتَقَتْ بأنَّها أُمُّ وَلَدٍ، وتَسْقُطُ (¬1) الكِتابَةُ؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ حَصَلَتْ، فسَقَطَ العِوَضُ المبْذُولُ في تَحْصِيلِها، كما لو باشَرَها سيدُها بالعِتْقِ، وما في يَدِها لوَرَثَةِ سيدِها، في قولِ الخِرَقِيِّ، وأبي الخَطَّابِ؛ لأنَّها عَتَقَتْ بحُكْمِ الاسْتِيلادِ، فبَطَلَ حُكْمُ الكِتابَةِ، فأشْبَهَت غيرَ المُكاتَبَةِ. وقال القاضي، في «المُجَرَّدِ»، وابنُ عَقِيلٍ، في «الفُصُولِ»: ما فَضَلَ في يَدِها لها. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ العِتْقَ إذا وَقَعَ في الكِتابَةِ لا يُبْطِلُ حُكْمَها، كالإبراءِ مِن مالِ الكِتابَةِ، ولأنَّ مِلْكَها كان ثابتًا على ما في يَدِها، ولم يَحْدُثْ إلَّا ما يُزِيلُ حَقَّ سيدِها عنها، فيَقْتَضِي زَوال حَقِّه عمَّا في يَدِها وتَقْرِيرَ مِلْكِها وخُلُوصَه لها، كما اقْتَضَى ذلك في نَفْسِها، وهذا أصَحُّ. 3009 - مسألة: (وكذلك الحُكْمُ فيما إذا أعْتَقَ المُكاتَبَ سيدُه) يكونُ كَسْبُه له. في قولِ القاضي ومَن وافَقَه. وعلى قياسِ قولِ الخِرَقِيِّ ومَن وافَقَه يكونُ لسيدِه، كما لو عَتَقَتِ الأمَةُ المُكاتَبَةُ بالاسْتيلادِ (¬2). ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لسيدِها أيضًا، على قولِ الخِرَقِيِّ ومَن وَافَقَه؛ لأنَّ السيدَ ¬

(¬1) في م: «سقطت». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْتَقَه برِضاه، فيكونُ رِضًا منه بإعْطائِه ماله، بخِلافِ العِتْقِ بالاسْتِيلادِ؛ فإنَّه حَصَلَ بغيرِ رِضَى الوَرَثَةِ واخْتِيارِهم، ولأنَّه لو كان مالُ المُكاتَبِ يَصِيرُ إلى السيدِ بإعْتاقِه، لتَمَكَّنَ السيدُ مِن أخْذِ مالِ المُكاتَبِ متى شاء، فمتى كان له غَرَضٌ في أخْذِ مالِه؛ إمَّا لكَونِه يَفْضُلُ عن نُجُوم كِتابَتِه، وإمَّا لغَرَض له في بعضِ أعيانِ مالِه، أو لكونِه يَتَعَجَّلُه قبلَ أَن [يَحِلَّ نَجْمُ] (¬1) الكِتابةِ، أَعْتَقَه (¬2) وأخَذَ ماله. وهذا ضَرَرٌ على المُكاتَبِ لم يَرِدِ الشَّرْعُ به، ولا يَقْتَضِيه عَقْدُ الكِتابةِ، فوَجَبَ أن لا يُشْرَعَ. فصل: وإن أتَتِ المُكاتَبَةُ بوَلَدٍ مِن غيرِ سَيدِها بعدَ اسْتيلادِها، فله حُكْمُها [في العِتْقِ] (¬3) بكلِّ واحدٍ مِن السَّببَين، أيُّهما سَبَقَ (¬4) عَتَقَ به، كالأُمِّ سَواءً؛ لأنَّه تابعٌ [فله حكمُها] (¬5)، فيَثْبُتُ له ما يَثْبُتُ (¬6) لها. وإن ماتَتِ المُكاتبَةُ بَقِيَ للوَلَدِ سَبَبُ الاسْتِيلادِ وحدَه، فإنِ اخْتَلَفا ¬

(¬1) في م: «تحل نجوم». (¬2) في م: «أعتق». (¬3) في م: «بالعتق». (¬4) في الأصل: «أسبق». (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «ثبت».

وَإنْ كَاتَبَ اثْنَانِ جَارِيَتَهُمَا، ثُمَّ وَطِئَاهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في وَلَدِها، فقالت: وَلَدْتُه بعدَ كِتابَتِي، أو بعدَ ولادَتِي. وقال السيدُ: بل قبلَه. فقال أبو بكرٍ: القَوْلُ قولُ السيدِ مع يَمينِه. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأصْلَ كَونُ الأمَةِ ووَلَدِها رَقِيقًا لسيدِها، له التَّصَرُّفُ فيهما، وهي تَدَّعِي ما يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ (¬1). وإن زَوَّجَ مُكاتَبَه أمَتَه، ثم باعَها منه، واخْتَلَفا في ولَدِها. فقال السيدُ: هو لِي؛ لأنَّها وَلَدَتْه قبلَب بَيْعِها لك. وقال المُكاتَبُ: بل بعدَه. فالقولُ قولُ المُكاتَبِ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في مِلْكِه، ويَدُ المُكاتَبِ (¬2) عليه، فكان القولُ قولَ صاحبِ اليدِ مع يَمينِه، كسائِرِ الأمْوالِ، ويُفارِقُ وَلَدَ المُكاتَبَةِ (¬3)؛ لأنَّها لا تَدَّعى مِلْكَه. فصل: (وإن كاتَبَ اثْنان جارِيَتَهما) ثم وَطِئَها أحَدُهما، أُدِّبَ فوقَ أدَبِ الواطِئِ لمُكاتَبَتِه الخالِصَةِ له؛ لأنَّ الوَطْءَ ههُنا حَرُمَ مِن وَجْهَين؛ ¬

(¬1) بعده في م: «ثم». (¬2) في م: «المكاتبة». (¬3) في م: «المكاتب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرِكَةُ والكِتابَةُ، فهو آكَدُ وإثْمُه أعْظَمُ، وعليه لها مَهْرُ مِثْلِها، على ما أسْلَفناه فيما إذا كان السيدُ واحِدًا، فإن لم يَكُنْ حَلَّ نَجْم قَبَضَتِ المَهْرَ، فإذا حَلَّ نَجْمُها سَلَّمَتْه إليهما، وإن حَلَّ نَجْمُها وهو مِن جِنْسِ مالِ الكِتابَةِ (¬1)، وكان في يَدِها بقَدْرِه، دَفَعَتْه إلى الذي لم يَطَأْها، واحْتُسِبَ على الواطِئِ بالمَهْرِ. وإن لم يكُنْ في يَدِها شيءٌ، وكان بقدْرِ نَجْمِها أو دُونَه، أخَذَتْ مِن الواطئ نِصْفَه، وسَلَّمَتْه إلى الآخرِ، وإن لم يكُنْ مِن جِنْسِ مالِ الكِتابةِ، فاتَّفَقَا على أخْذِه عِوَضًا عن مالِ الكِتابةِ، فالحكمُ فيه كما لو كان مِن جِنْسِها. وإن لم يَتَّفِقا قَبَضَتْ ودَفَعَت ما عليها (¬2) مِن مالِ الكِتابَةِ مِن عِوَضِه أو غيرِه. وإن عَجَزَتْ ففَسَخَا (¬3) الكِتابَةَ، وكان في يَدِها بقَدْرِ المَهْرِ، أخَذَه الذي لم يَطأْ، وسَقَطَ المَهْرُ مِن ذِمَّةِ الواطئِ، وإن لم يَكُنْ في يَدِها شيءٌ، كان للذي لم يَطأْ أن يَرْجِعَ على الواطئِ بنِصْفِه؛ ¬

(¬1) في الأصل: «المكاتبة». (¬2) في الأصل: «عليه». (¬3) في الأصل: «فسخا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه وَطِئَ جارِيةً مُشْتَرَكَةً بينَهما، فإن حَبَلَتْ منه صارت أُمَّ وَلَدٍ له، وعليه نِصْفُ قِيمَتِها لشَرِيكِه مع نِصْفِ المَهْرِ الواجبِ لها، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا، فإن كان مُوسِرًا أدَّاهُ في الحالِ، وإنَّ كان مُعْسِرًا فهو في ذِمَّتِه. هذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. فعلى هذا، تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ للواطئِ، ومُكاتَبَةً له كأنَّه اشْتَرَاها، وتكونُ مُبْقاةً على ما بَقِيَ مِن كِتابَتِها، وتُعْتَبَرُ قِيمَتُها مُكاتَبَةً مُبْقاةً على ما بَقِيَ عليها (¬1) مِن كِتابَتِها. واختار القاضي أنَّه إن كان مُعْسِرًا لم يَسْرِ الاحْبالُ؛ لأنَّه بمَنْزِلةِ الإِعْتاقِ بالقولِ، يُعْتَبرُ اليَسارُ في سِرايَتِه، ونَصِيبُ الواطئِ قد ثَبَتَ له حكمُ الاسْتِيلادِ وحُكْمُ الكِتابةِ، ونَصِيبُ شَريكِه لم يَثْبُتْ له إلَّا حُكْمُ الكِتابةِ، فإن أدَّتْ إليهما عَتَقَتْ وبَطَلَ حكمُ الاسْتيلادِ، [وإن عَجَزَت وفَسَخا الكِتابةَ، ثَبَتَ لنِصْفِها حُكْمُ الاسْتيلادِ] (¬2)، ونِصْفُها قِنٌّ لا يُقَوَّمُ على الوارِثِ وإن كان مُوسِرًا؛ لأنَّه ليس بعِتْقٍ. وإن مات الواطئُ قبلَ عَجْزِها، عَتَقَ نَصِيبُه، وسَقَطَ حُكْمُ الكِتابةِ فيه، وكان الباقي مُكاتَبًا. وإن كان الواطئُ مُوسِرًا، فقد ثَبَتَ لنِصْفِها حُكْمُ الاسْتيلادِ، ونِصْفُها الآخَرُ مَوْقُوفٌ، فإن أدَّتَ إليهما عَتَقَتْ كلُّها، وولاوها لهما، وإن عَجَزَتْ وفُسِخَتِ الكِتابَةُ، قَوَّمْناها حينَئِذٍ على الواطئِ، فيَدْفَعُ إلى شَرِيكِه قِيمةَ نَصِيبِه، ويَصِيرُ جَمِيعُها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّ ولَدٍ له. فإن مات عَتَقَتْ عليه، وكان ولاؤُها له. وهذا مَذهبُ الشافعيِّ، وله قولٌ آخَرُ، أنَّها تُقَوَّمُ على المُوسِرِ، وتَبْطُلُ الكِتابَةُ في نِصْفِ الشَّرِيكِ، ويَصِيرُ جَمِيعُها أمَّ وَلَدٍ، ونِصْفُها مُكاتبًا للواطئَ، فإن أدَّتْ نَصِيبَه إليه عَتَقَتْ وسَرَى إلى الباقِي، لأنَّه مِلْكُه، وعَتَقَ جَمِيعُها، وإن عَجَزَتْ، ففَسَخَ (¬1) الكِتابةَ، كانت أُمَّ وَلَدٍ له خَاصَّةً، فإذا مات عَتَقَتْ كُلُّها. ولَنا، أنَّ بَعْضَها أُمُّ وَلَدٍ، فكان جَمِيعُها كذلك، كما لو كان الشَّرِيكُ مُوسِرًا (¬2)، يُحَقِّقُ هذا أنَّ الولَدَ حاصِلٌ مِن جَمِيعِها، وهو كلُّه مِن الواطئِ، ونَسَبُه لاحِقٌ به، فيَنْبَغِي أن يَثْبُتَ ذلك لجميعِها، ويُفارِقُ الإِعْتاقَ، فإنَّه أضْعَفُ، على ما بَيَّنّا مِن قبلُ. ولَنا على أنَّ الكِتابةَ لا تَبْطُلُ بالتَّقْويمِ، أنَّها [عَقْدٌ لازمٌ] (¬3)، فلا تَبْطُل مع بَقائِها بفِعْل صَدَرَ منه، كما لو اسْتَوْلَدَها وهي في مِلْكِه، أو كما لو لم تَحْبَلْ منه، وأمَّا الولَدُ، فإنَّه حُرٌّ، لأنَّه مِن وَطْءٍ فيه شُبْهةٌ، ونَسَبُه لاحِقٌ به، لذلك، ولا تَلْزَمُه قِيمَتُه، لأنَّها وضَعَتْه (¬4) في مِلْكِه. ورُوِيَ عن أحمدَ في هذا رِوايتان، إحداهما، لا تَجِبُ قِيمَتُه، لأنَّ نَصِيبَ شَرِيكِه انتقلَ إليه مِن حينِ العُلُوقِ، وفي تلك الحالِ لم تكُنْ له قِيمةٌ، فلم يَضْمَنْه. والثانيةُ، عليه نِصْفُ قِيمَتِه، لأنَّه كان مِن سبيلِ هذا النِّصفِ أن يكونَ مملوكًا لشريكِه، فقد أتْلَفَ رِقَّه عليه، ¬

(¬1) في م.: «ففسخت». (¬2) في الأصل: «معسرًا». (¬3) في الأصل: «عنه لازمة». (¬4) في الأصل: «وضيعة».

3010 - مسألة: وإن (وطئاها)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان عليه نصفُ قيمتِه. قال القاضي: هذه الرِّوايَةُ أصَحُّ على (¬1) المذهبِ. وذكَر هاتَين الرِّوايَتَين أبو بكرٍ، واخْتار (¬2) أنَّها إن وَضَعَتْه بعدَ التَّقْويمِ فلا شيءَ على الواطئِ، وإن وَضَعَتْه قبلَ التَّقْويمِ غَرِمَ نِصْفَ قِيمَتِه، فإنِ ادَّعَى الواطئُ (¬3) الاسْتِبْراءَ، فأتَتْ بالوَلَدِ لأكثرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ الاسْتِبْراءِ، لم يَلْحَقْ به، ولم تَصِرْ أُمَّ ولدٍ، وكان حُكْمُ ولدِها حُكْمَها. وإن أتَتْ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِن حينِ الاسْتِبْراءِ، لَحِقَ به، كما لو كان قبلَ الاسْتِبْراءِ؛ لأنَّا تَبَيَّنَا أنَّها كانت حَامِلًا وَقْتَ الاسْتِبْراءِ، فلم يَكُنْ ذلك اسْتِبْراءً. 3010 - مسألة: وإن (وَطِئَاها) جميعًا، فقد وَجَبَ لها (على كلِّ واحدٍ منهما) مَهْرُ مِثْلِها. فإن كانت في الحالين على صِفَةٍ واحدةٍ، فهما سَواءٌ في الواجِبِ عليهما. وإن كانت بِكْرًا حين وَطِئَها الأوَّلُ، فعليه مَهْرُ بكرٍ، وعلى الآخَرِ مَهْرُ ثَيِّبٍ، فإن كان نَجْمُها لم يَحِلَّ، فلها مُطالبَتُهما بالمَهْرَين. وإن كان قد حَلَّ، وهو مِن جِنْسِ المَهْرِ، تَقَاصَّا، على ما ذَكَرْنا في المُقاصَّةِ. فإن أدَّتْ إليهما عَتَقَتْ، وكان لها المُطالبَةُ بالمَهْرَين، وإن عَجَزَتْ نَفْسُها، وفَسَخا الكِتابةَ بعدَ قَبْضِها المَهْرَين، وكانا سواءً، لم يَمْلِكْ أحَدُهما مُطالبةَ الآخَرِ بشيءٍ؛ لأنَّها قَبَضَتْهما وهي مُسْتَحِقَّةٌ ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في م: «ذكر». (¬3) بعده في م: «لها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك. فإن كان في يَدِها اقْتَسَماهما، وإن تَلِفا أو بعضُهما، فلا شيءَ لهما، لأنَّ السيدَ لا يَثْبُتُ له دَينٌ على مَمْلُوكِه. وإن كان الفَسْخُ قبلَ قَبْضِ المَهْرَين، وهما سَواءٌ، سَقَطَ عن كلِّ واحدٍ منهما (¬1) ما عليه، وإن كان أحَدُهما أقلَّ مِن الآخرِ، تقاصَّ (¬2) منهما بقَدْرِ أقَلِّهما، ويَرْجِعُ مَن عليه أقَلُّهما على الآخرِ بنِصْفِ الزِّيادَةِ، وإن قَبَضَتْ مِن أحَدِهما دُون الآخَرِ، رَجَعَ المَقْبوضُ منه على الآخَرِ بنِصْفِ ما عليه، وإن قَبَضَتِ البعضَ مِن أحَدِهما دونَ الآخَرِ، أو قَبَضَتْ مِن أحَدِهما أكثرَ مِن الآخَرِ، رَجَعَ مَن قُبِضَ منه الأكْثرُ على الآخَرِ بنِصْفِ الزِّيادَةِ التي أدَّاها. فإن أفْضاها أحَدُهما بوَطْئِه، فعليه لها ثُلُثُ قِيمَتِها؛ لأنَّ الإِفْضاءَ في الحُرَّةِ يُوجِبُ ثُلثَ دِيَتِها، فيُوجِبُ في الأمَةِ ثُلُثَ قِيمَتِها [مع المَهْرِ، ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه في الإفضاءِ ثُلُثُ نقصِها. وقال القاضي: يَلْزَمُهُ قِيمتها] (¬3). وهو مذهبُ الشافعيِّ. وهذا الخِلافُ مَبْنِيٌّ على الواجِبِ في إفْضاءِ الحُرَّةِ. وسنذْكُره إن شاء اللهُ تعالى. فإن فُسِخَتِ الكِتابَةُ، رَجَعَ مَن لم يُفْضِها على الآخَرِ بنِصْفِ قِيمَةِ الإفْضاءِ، على الخِلافِ المذكورِ. فإنِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما على الآخَرِ أنَّه الذي أفْضاها، أو وَطِئَها، حَلَفَ كل واحدٍ منهما، وبَرِئَ. وإن نَكَلَ أحَدُهما قُضِيَ عليه. وإن كان الخِلافُ [في ذلك] (3) قبلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «تقاصا». (¬3) سقط من: م.

3011 - مسألة: (وإن ولدت من أحدهما، صارت أم ولد له، ويغرم لشريكه نصف قيمتها. وهل يغرم نصف قيمة ولدها؟ على روايتين)

فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ أحدِهِمَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَهَلْ يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ وَلَدِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَجْزِها، فادَّعَتْ على أحَدِهما، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه. وإنِ ادَّعَتْ على أحدِهما غيرَ مُعَيَّنٍ، لم تُسْمَعِ الدَّعْوَى. 3011 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ مِن أحَدِهما، صارت أُمَّ وَلَدٍ له، ويَغْرَمُ لشَرِيكِه نِصْفَ قِيمَتِها. وهل يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ وَلَدِها؟ على رِوايَتَين) وقد ذَكَرْنا ذلك والخِلافَ فيه، فيما إذا وَطِئَها أحَدُهما.

3012 - مسألة: (وإن أتت بولد وألحق بهما، صارت أم ولد لهما، يعتق نصفها بموت أحدهما، وباقيها بموت الآخر)

وَإنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَأُلحِقَ بِهِمَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا، يَعْتِقُ نِصْفُهَا بِمَوْتِ أحَدِهِمَا، وَبَاقِيهَا بِمَوْتِ الْآخَرِ. وَعِنْدَ الْقَاضِي، لَا يَسْرِي اسْتِيلَادُ أَحدِهِمَا إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، إلا أَنْ يَعْجِزَ، فَيُنْظَرَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ، وإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3012 - مسألة: (وإن أتتْ بوَلَدٍ وأُلحِقَ بهما، صارت أمَّ وَلَدٍ لهما، يَعْتِقُ نِصْفُها بموتِ أحَدِهما، وباقِيها بموتِ الآخَرِ) كما لو كان سيدُها واحدًا واسْتَوْلَدَها، فإنَّها تَعْتِقُ بموتِه (وعندَ القاضي، لا يَسْرِي اسْتِيلادُ أحَدِهما إلى نَصِيبِ شَرِيكِه) لأنَّه انْعَقَدَ له سَبَبُ اسْتِحْقاقِه للولاءِ على نَصِيبِه بالكِتابَةِ، فلم يَجُزْ إبْطالُه بالسِّرَايَةِ (إلَّا أن يَعْجِزَ، فيُنْظَرَ حِينَئذٍ، فإن كان مُوسِرًا قُوِّمَ عليه نَصِيبُ شَرِيكِه، وإلَّا فلا) وقد ذَكَرْنا قولَ القاضي، وأجَبْنا عنه فيما سَبَقَ. فصل: فأمَّا إن أوْلَدَها كلُّ واحدٍ منهما، واتَّفَقَا علِى السَّابِقِ منهما، فعلى قولِ الخِرَقِيِّ، تَصِيرُ أمَّ وَلدٍ له، ووَلَدُه حُرٌّ، يَلْحَقُه نسَبُه، والخِلافُ في ذلك كالخِلافِ فيما إذا انْفَرَدَ بإيلادِها سَواءً. وأمَّا الثاني، فقد وَطِئَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّ وَلَدِ غيرِه بشُبْهَةٍ وأوْلَدَها، فلا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له؛ لأنَّها مَمْلوكةُ غيرِه، فأشْبَهَ ما لو باعها ثم أوْلَدَها، وعليه مَهْرُها لها؛ لأنَّ الكِتابةَ لم تَبْطُلْ. والوَلَدُ حُرٌّ؛ لأنَّه مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ، وعليه قِيمَتُه للأوَّلِ؛ لأنَّه فَوَّتَ رِقَّه عليه، وكان مِن سَبِيلِه أن يكونَ رَقِيقًا له، حُكْمُه حُكْمُ أُمِّه، فتَلْزَمُه قِيمَتُه على هذه الصِّفةِ. وقد ذَكَرْنا في وُجُوبِ نِصْفِ قِيمةِ الأوَّلِ خِلافًا. فإن قُلْنا بوُجُوبِها، تقاصَّا بما لواحدٍ منهما على صاحِبِه في القَدْرِ الذي تَساوَيا فيه، ويَرْجِعُ ذو الفَضْلِ بفَضْلِه، وتُعْتَبَرُ القِيمةُ يومَ الولادةِ؛ لأنَّها أوَّلُ حالٍ أمْكَنَ التَّقْويمُ فيها. وذكَرَ القاضي في المسألةِ أرْبعةَ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يكونا مُوسِرَين، فالحُكْمُ على ما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّه جَعَلَ المَهْرَ الواجِبَ على الثاني للأوَّلِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّ الكِتابَةَ لا تَبْطُلُ بالاسْتِيلادِ، ومَهْرُ المُكاتَبَةِ لها دونَ سَيِّدِها، ولأنَّ سيدَها لو وَطِئَها وَجَبَ عليه المهرُ لها (¬1)، فلَأَن لا يَمْلِكَ المَهْرَ الواجِبَ على غيرِه أوْلَى، ولأنَّه عِوَضُ نَفْعِها، فكان لها، كأُجْرَتِها. الثاني، أن يكونَ الأوَّلُ مُوسِرًا والثاني مُعْسِرًا، فيكونُ كالحالِ الأوَّلِ سَواءً. قال القاضي: إلَّا أنَّ وَلَدَه يكونُ مَمْلُوكًا؛ لإِعْسارِه بقِيمَتِه. وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الوَلَدَ لا يَرِقُّ بإعْسارِ وَالدِهِ، بدليلِ ولَدِ المَغْرُورِ مِن أمَةٍ، والوَاطِئِ بشُبْهَةٍ. وكلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنا بحُرِّيَّةِ الوَلَدِ، لا يَخْتَلِفُ بالإعْسارِ واليَسارِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ اليسارُ في سِرايةِ العِتْقِ، وليس عِتْقُ هذا بطريقِ السِّرايَةِ، إنَّما هو ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجْلِ الشُّبْهَةِ في الوَطْءِ، فلا وَجْهَ لاعْتِبارِ اليسارِ (¬1) فيه، والصَّحِيحُ أنَّه حُرٌّ، وتَجِبُ قِيمَتُه في ذِمِّةِ أبِيه. الحالُ الثالثُ، أن يكونَا مُعْسِرَين، فإنَّها تصيرُ أُمَّ ولَدٍ [لهما جميعًا، نِصْفُها أمُّ وَلدٍ] (¬2) للأوَّلِ، ونِصْفُها للثَّاني. قال: وعلى كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ مَهْرِها لصاحِبِه، وفي وَلَدِ كُلِّ واحدٍ منهما وَجْهان؛ أحدُهما، أن يكونَ كلُّه حُرًّا، وفي ذِمَّةِ أبيه نِصْف قِيمَتِه لشَرِيكِه. والثاني، نِصْفُه حُرٌّ، وباقيه عَبْدٌ لشَريكِه، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الوَلَدِ الأوَّلِ عَبْدٌ قِنٌّ؛ لأنَّه تابعٌ للنِّصْفِ الباقِي مِن الأُمِّ، وأمَّا النِّصْفُ الباقي مِن وَلَدِ الثاني، فحُكْمُه حكمُ أُمِّه؛ لأنَّه وُلِدَ منها بعدَ أن ثَبَتَ لنِصْفِها حُكْمُ الاسْتِيلادِ للأوَّلِ، فكان نِصْفُه الرَّقِيقُ تابعًا لها في ذلك. ولعلَّ القاضيَ أراد ما إذا عَجَزَتْ وفُسِخَتِ الكِتابَةُ، فأمَّا إِذا كانتْ باقِيةً على الكِتابةِ، فلها المَهْرُ كامِلًا على كلِّ واحدٍ منهما، وإذا حُكِمَ بِرِقِّ نِصْفِ ولَدِها، وجَبَ أن يكونَ له حُكْمُها في الكِتابَةِ؛ لأنَّ وَلَدَ المُكاتَبةِ يكونُ تابعًا لها. الحالُ الرابعُ، أن يكونَ الأوَّلُ مُعْسِرًا والثاني مُوسِرًا، فحُكْمُه حكمُ الثالثِ سَواءً، إلَّا أنَّ وَلَدَ الثاني حُرٌّ؛ لأنَّ الحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ لنِصْفِه بفِعْلِ أبِيه، وهو مُوسِرٌ، فسَرَى إلى جَمِيعِه، وعليه نِصْفُ قِيمَتِه لشَرِيكِه، ولم تُقَوَّمْ عليه الأمُّ؛ لأنَّ نِصْفَها أُمُّ وَلَدٍ للأوَّلِ. ولو صَحَّ هذا لوَجَبَ أن لا يُقَومَ عليه نِصْفُ الوَلَدِ؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُ أُمِّه في هذا، فإذا مَنَعَ حُكْمُ الاسْتِيلادِ ¬

(¬1) في م: «التساوي». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّرايَةَ في الأُمِّ، مَنَعَه فيما هو تابعٌ لها. ومَذهبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ قَرِيبٌ مما ذَكَرَ القاضِي. فصل: وإنِ اخْتَلَفا في السَّابِقِ منهما، فادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّه السَّابِقُ، فعلى قَوْلِنا، لها المَهْرُ على كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما يُقِرُّ لصاحِبِه بنِصْفِ قِيمَةِ الجارِيةِ؛ لأنَّه يَقُولُ: صارت أُمَّ ولَدٍ لي (¬1) بإحْبالِي إيَّاها، ووَجَبَ لشَرِيكِي عليَّ نِصْفُ قِيمَتِها، ولي عليه قِيمَةُ ولَدِه؛ لأنَّه يقول: أوْلَدْتُها بعدَ أن صارت أمَّ وَلَدٍ لي. وهل يكونُ مُقِرًّا له (¬2) بنِصْفِ قيمةِ ولَدِها؟ على وَجْهَين سَبَقَ ذِكْرُهما. فعلى هذا، إنِ اسْتَوَى ما يَدَّعِيه وما يُقِرُّ به، تَقَاصَّا وتَساقَطا، ولا يَمِينَ على صاحِبِه؛ لأنَّه يقولُ: لي عليكَ مثلُ ما لَكَ عليَّ. والجِنْسُ واحدٌ، فتساقَطَا، وإن زاد ما يُقِرُّ به، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ خَصْمَه يُكَذِّبُه في إقْرارِه. وإن زاد ما يَدَّعِيه، فله اليَمِينُ على صاحِبِه في الزِّيادةِ، ويَثْبُتُ للأَمَةِ حُكْمُ العِتْقِ في نَصِيبِ كلِّ واحدٍ منهما بموتِه؛ لإِقْرارِه بذلك، ولا يُقْبَلُ قولُه على شرِيكِه في إعْتاقِ نَصِيبه. وقال أبو بكرٍ: في الأمَةِ قولان؛ أحدُهما، أن يُقرَعَ بينَهما، فتكونَ أُمَّ وَلَدٍ لمَن تَقَعُ القُرْعةُ له. والثاني، تكونُ أُمَّ ولَدٍ لهما، ولا يَطَؤُها واحدٌ منهما. قال: وبالأوَّلِ أقولُ. وأمَّا القاضي فاخْتارَ أنَّهما إن كانا مُوسِرَين، فكلُّ واحدٍ منهما يَدَّعِي المَهْرَ على صاحِبِه، ويُقِرُّ له ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنِصْفِه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المَهْرَ عندَهم لسيدِها دُونَها، ولا يَعْتِقُ شيءٌ منها بموتِ الأوَّلِ، لاحْتِمالِ أن تكونَ أُمَّ ولدٍ للآخَرِ، فإذا مات الآخَرُ عَتَقَتْ، لأنَّ سيدَها قد مات يَقِينًا. وإن كانا مُعْسِرَين، فكلُّ واحدٍ منهما يُقِرُّ بأنَّ نِصْفَها أُمُّ ولَدِه، ويُصَدِّقُه الآخَرُ؛ لأنَّ الاسْتِيلادَ لا يَسْرِي مع الإِعْسارِ، وكلُّ واحدٍ منهما يُقِرُّ لصاحِبِه بنِصْفِ المَهْرِ، والآخرُ يُصَدِّقُه، فيتَقاصَّان إن تَساوَيا، وإن فَضَلَ أحَدُهما صاحِبَه، نَظَرْتَ؛ فإن كان كلُّ واحدٍ منهما يَدَّعِي الفَضْلَ، تحالفَا (¬1) وسَقَطَ، وإن كان كلُّ واحدٍ منهما يُقِرُّ بالفَضْلِ، سَقَطَ؛ لتَكْذِيبِ المُقَرِّ له به. وفي الولَدِ وَجْهان؛ أحدُهما، يكونُ حُرًّا، فيكونُ كلُّ واحدٍ منهما يَدَّعِي على الآخرِ نِصْفَ قِيمَةِ الوَلَدِ. والوَجْهُ الثاني، نِصْفُه حُرٌّ، فيُقِرُّ بأنَّ نِصْفَ الولدِ مَمْلوكٌ لشَرِيكِه، فيكونُ الوَلَدان (¬2) بينَهما مِن غيرِ يَمينٍ، وعلى الوَجْهِ الأوَّلِ، يَتَقاصَّان إنِ اسْتَوَتْ قِيمَةُ الوَلَدَين. ولا يَمِينَ في المَوْضِعَينِ، وأيُّهما مات، عَتَقَ (¬3) نَصِيبُهُ، ووَلاوه له. وإن كان أحَدُهما مُوسِرًا والآخَرُ مُعْسِرًا، فالمُوسِرُ يُقِرُّ للمُعْسِرِ بنِصْفِ قِيمَةِ الأمَةِ ونِصْفِ مَهْرِ مِثْلِها، ويَدَّعِي عليه جَمِيعَ المَهْرِ وقِيمةَ الوَلَدِ، والمُعْسِرُ يُقِرُّ للمُوسِرِ بنِصْفِ المَهْرِ ونِصْفِ قِيمَةِ الولدِ، فيَسْقُطُ إقْرارُ المُوسِرِ للمُعْسرِ بنِصْفِ قِيمَةِ الجارِيَةِ؛ لكَونِه لا يَدَّعِيه ولا يُصَدِّقُه فيه، ويَتقاصَّان بالمَهْرِ، ¬

(¬1) في الأصل: «تحالف». (¬2) في م: «الولد». (¬3) في الأصل: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لاسْتِوائِهما فيه، ويَدْفَعُ المُعسِرُ إلى المُوسِرِ نِصْفَ قِيمَةِ الوَلَدِ؛ لإِقْرارِه به، ويَحْلِفُ على ما يَدَّعِيه عليه مِن الزِّيادةِ؛ لأنَّه ادَّعَى عليه جميعَ قِيمةِ الوَلَدِ فأقَرَّ له بنِصْفِها، ويَحْلِفُ له المُوسِرُ على نِصْفِ قِيمَةِ الولَدِ الذي ادَّعاه المُعْسِرُ عليه. وأمَّا الجاريةُ، فإنَّ نَصِيبَ المُوسِرِ منها أُمُّ ولَدٍ بغيرِ خِلافٍ بينَهما فيه، وباقِيَه يتَنازَعانِه، فإن مات المُوسِرُ أوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُه، ووَلاؤُه لوَرَثَتِه، فإذا ماتَ المُعْسِرُ عَتَقَ باقِيها، وإن مات المعسرُ أوَّلًا لم يَعْتِقْ منها شيء، فإذا مات المُوسِرُ عَتَقَ جَمِيعُها. ويَجِئُ على قولِ أبي بكر، أن يُقْرَعَ بينَهما على (¬1) النِّصْفِ المُخْتَلَفِ فيه. فصل: فإن وَطِئَاها معًا، فأتَت بولَدٍ، لم يَخْلُ مِن ثلاثةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن لا يُمْكِنَ أنْ يكُونَ مِن واحدٍ منهما، مثلَ أن تَأتِيَ به (¬2) بعدَ اسْتِبْرائِها منهما، أو بعدَ أرْبعِ سنين منذُ وَطِئَهَا كلُّ واحدٍ منهما، [أو قبلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أشْهُر منذُ وَطِئَها كلُّ واحدٍ منهما] (¬3) فيكونُ مَنْفِيًّا عنهما، مَمْلُوكًا لهما (¬4)، حُكْمُه حُكْمُ أمِّه في العِتْقِ بأدائِها. وتُقْبَلُ دَعْوَى الاسْتِبْراءِ مِن كل واحدٍ منهما؛ لأنَّ دَعْوَى الاسْبْراءِ في الأمَةِ كاللِّعانِ في الحُرَّةِ. ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «لها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الثاني، أن يكونَ مِن أحَدِهما بعَينِه دُونَ صاحِبِه، فالحُكْمُ فيه حُكْمُ ما إذا ولَدَتْ مِن أحَدِهما بعَينِه، مِن وُجُوبِ المَهْرِ لها، وقِيمَةِ نِصْفِها لشَرِيكِه، مع الخِلافِ في ذلك. فأمَّا الذي لم تَحْبَلْ مِن وَطْئِه، فإن كان الأوَّلَ، فعليه المَهْرُ لها، وإن كان الثانىَ فقد وَطِيء أمَّ وَلَدِ غيرِه، فإن كانتِ الكِتابةُ باقِيةً، فعليه المَهْرُ لها أيضًا، وإن كانت قد فُسِخَتْ، فالمَهْرُ للذي اسْتَوْلَدَها، وقد وَجَب للثاني على الأوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِها. وفي قِيمَةِ نِصْفِ الوَلَدِ رِوايتان. فإن كان المَهْرُ للأوَّلِ، تَقَاصَّا بقَدْرِ أقَلِّ الحَقَّين، وإن كان المهرُ لها، رَجَعَ بحَقِّه على الذي أحْبَلَها. وأمَّا القاضي، فقال في هذا القسمِ: الحكمُ في الأوَّلِ كالحُكْمِ فيه إذا انْفَرَدَ بالوَطْءِ، على ما مَضَى مِن التَّفْصِيلِ، وأمَّا الثاني، فإن وَطِئَها بعدَ ولادَتِها مِن الأوَّلِ، نَظَرْنا؛ فإن وَطِئَها بعدَ الحُكمِ بكَونِها أُمَّ ولَدٍ للأوَّلِ، فعليه مَهْرُ مِثْلِها، فإن كان فَسَخَ الكِتابَةَ في حَقِّ نفْسِه لعَجْزِها، فالمَهْرُ له؛ لأنَّها أُمُّ ولَدِه، وإن كان لم يَفسَخْ، فالمَهْرُ بَينَه وبينَها نِصْفَين، وإن وَطِئَها بعدَ زوالِ الكِتابَةِ في حَقه، وقبلَ الحُكْمِ بأنَّها أم وَلَدٍ للأوَّلِ، سَقَطَ عنه نِصْفُ مَهْرِها؛ لأنَّ نِصْفَها قِنٌّ له، وعليه النِّصْفُ لها، إن لم يكنِ الأوَّلُ فَسَخَ الكِتابَةَ، أو له إن كان (¬1) فَسَخَ. وإن كان الأوَّلُ مُعْسِرًا، فنَصِيبُه منها أُمُّ ولَدٍ له، ولها عليهما المَهْران، والحُكْمُ فيما إذا عَجَزَتْ أو أدَّتْ قد تَقَدَّمَ. فأمَّا إن كان الوَلَدُ مِن الثاني، فالحُكْمُ في وَطْءِ الأوَّلِ كالحُكْمِ فيه إذا وَطِئ مُنْفَرِدًا ¬

(¬1) سقط من: م.

3013 - مسألة: (ويجوز بيع المكاتب. ومشتريه يقوم مقام المكاتب)

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ بَيعُ الْمُكَاتَبِ. وَمُشْتَرِيهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتِبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُحْبِلْها. وأمَّا الثاني، فإن كان مُوسِرًا قُوِّمَ عليه نَصِيبُ شَرِيكِه عندَ العَجْزِ، فإن فَسَخا الكِتابَةَ قَوَّمْناها عليه، وصارَت أمَّ وَلَدٍ له، وإن رَضِيَ الثاني بالمُقامِ على الكِتابَةِ، قَوَّمْنا عليه نَصِيبَ الأوَّلِ، وصارَتْ كُلُّها أُمَّ وَلَدٍ له، ونِصْفُها مُكاتَبٌ، ويَرْجِعُ الأوَّلُ على الثاني بنِصْفِ المَهْرِ ونِصْفِ قِيمَةِ الولَدِ، على إحدى الرِّوايَتَين. ويرجعُ الثاني على الأوَّلِ بنصْفِ المَهْرِ، فيتَقاصَّان به، إن كان باقِيًا عليهما، وإن كان الثاني مُعْسِرًا، فالحُكْمُ فيهكما لو ولَدَتْ مِن الأوَّلِ وكان مُعْسِرًا، لا فَضْلَ بينَ المسْألَتَين. القِسمُ الثالثُ، أمْكَنَ أن يكونَ الولدُ مِن كلِّ واحدٍ منهما، فيُرَى القافةَ معهما، فيُلْحَقُ بمَن ألْحَقُوه به [منهما، فمَن أُلْحِقَ به] (¬1)، فحكمُه حكمُ ما لو عَرَف أنَّه منه بغير قافةٍ. 3013 - مسألة: (ويَجُوزُ بَيعُ المُكاتَبِ. ومُشْتَرِيه يَقُومُ مَقامَ المُكاتِبِ) ومِمَّن قال بجوازِ بَيعِ المُكاتبِ، عطاءٌ، والنَّخَعِي، واللَّيثُ، وابنُ المُنْذِرِ، وهو قَدِيمُ قَولَي الشافعيِّ. قال: ولا وَجْهَ لقولِ مَن قال: ¬

(¬1) سقط من: الأصل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجوزُ. وحكى أبو الخَطَّابِ رِوَايةً أخْرَى عن أحمدَ، أنَّه لا يجوزُ بَيعُه. وهو قولُ مالكٍ، وأصحابِ الرَّأي، والجَديدُ مِن قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّه عَقْدٌ يَمْنَعُ اسْتِحْقاقَ كَسْبِه، فمَنَعَ بَيعَه، كبَيعِه لأجْنَبِي، وعِتْقِه. وقال الزُّهْرِيُّ، وأبو الزِّناد: يجوزُ بَيعُه برِضاهُ، ولا يجوزُ بغيرِه. وحُكِيَ ذلك عن أبي يوسف؛ لأنَّ بَرِيرَةَ إنَّما بِيعَت برِضاها وطَلَبِها (¬1)، ولأنَّ لسيدِه اسْتيفاءَ مَنافِعِه برِضاه، ولا يجوزُ بغيرِ رِضاه، كذلك بَيعُه. ولَنا، ما روَى عُرْوَةُ عن عائشةَ، أنَّها قالت: جاءت بَرِيرَةُ إليَّ، فقالت: يا عائشة، إنِّي كاتَبْتُ أهْلِي على تِسْعِ أواقٍ، في كُلِّ عام أوقِيَّةٌ، فأعِينيني. ولم تَكُنْ قَضَتْ مِن كتابتِها شَيئًا، فقالت لها عائشةُ، ونَفِسَت (¬2) فيها: ارْجِعِي إلى أهْلِكِ، إن أحَبُّوا أن أعْطِيَهم ذلك جميعًا فَعَلْتُ. فذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلى أهْلِها، فعَرَضَتْ عليهم ذلك، فأبَوْا، وقالُوا: إن شاءت أن تَحْتَسِبَ عليكِ فلتَفْعَلْ، ويكونُ ولاؤكِ لنا. فذَكَرَتْ ذلك عائشةُ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لا يَمْنَعُكِ ذلِكَ مِنْهَا، ابْتاعِي وأعْتِقِي، إنَّما الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». فقام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الناسِ، فحمِدَ الله وأثْنَى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، فما بَالُ نَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليسَتْ في كِتَابِ اللهِ، مَنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) في م: «نقست». ونفست: رغبت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرطَ شَرْطًا لَيسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِل، وإن كان مائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أحَقُّ، وشَرْطُهُ أوْثَقُ، وإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». مُتَّفَق عليه. قال ابنُ المُنْذِرِ: بيعَتْ بَرِيرَةُ بعِلْمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهي مُكاتَبَةٌ، لم يُنْكِرْ ذلك، ففي ذلك أبيَنُ البَيانِ أنَّ بَيعَه جائِز، ولا أعْلَمُ خَبَرًا يُعارِضُه، ولا أعلمُ في شيءٍ مِن الأخْبارِ دليلًا على عَجْزِها. وتأوَّلَه الشافعيُّ على أنَّها كانت قد عَجَزَتْ، وكان بَيعُها فَسْخًا لكتابَتِها. وهذا التَّاويلُ بعيدٌ يَحْتاجُ إلى دليلٍ في غايةِ القُوَّةِ، وليس في الخبرِ ما يدُلُّ عليه (¬1)، بل قَوْلُها: أعِينيني على كِتابَتِي. دليلٌ على بَقائِها على الكتابةِ، ولأنَّها أخْبَرَتْها أنَّ نجومَها في كُلِّ (¬2) عامٍ أُوقِيَّةٌ، فالعَجْزُ إنَّما يكونُ بمُضِيِّ عامَين عندَ مَن لا يَرَى العَجْزَ إلَّا بحُلولِ نَجْمَين، أو بمُضِيِّ عام عندَ الآخَرِين، والظَّاهِرُ أنَّ شِراءَ عائشةَ لها كان في أوَّلِ كِتابَتِها, ولا يَصِحُّ قِياسُه على أمِّ الوَلَدِ؛ لأنَّ سَبَبَ حرِّيَّتِها مُسْتَقِرٌّ (2) على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ فسْخُه بحالٍ، فأشْبَهَ الوَقْفَ، والمُكاتَبُ يَجُوزُ رَدُّه إلى الرِّقِّ وفَسْخُ كِتابَتِه إذا عَجَزَ، فافْتَرَقا. قال ابنُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «استقر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي موسى: هل للسيدِ أن يبيعَ المُكاتَبَ بأكثرَ ممَّا كاتَبَ (¬1) عليه؟ على رِوايَتَين. ولأنَّ المُكاتَبَ عَبْدٌ مملوكٌ لسيدِه لم يتَحَتَّمْ عِتْقُه، فجازَ بَيعُه، كالمُعلَّقِ عِتْقُه بصِفَةٍ، والدليلُ على أنَّه مَمْلوكٌ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: [«المُكاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ» (¬2). ولأنَّ مَوْلاتَه لا يَلْزَمُها أن تحْتجِبَ منه إذا لم يَمْلِك ما يُؤَدِّي؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3): «إِذَا كَانَ لإحْدَاكُنَّ مُكاتَبٌ فمَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» (¬4). يدُلّ بمفهومِه على أنَّها لا تَحْتَجِبُ منه قبل ذلك، وإنَّما سَقَطَ الحِجابُ عنه؛ لكَونِه مَمْلوكَها, ولأنَّه يصِحُّ عِتْقُه، ولا يصِحُّ عِتْقُ مَن ليس بمَمْلوكٍ، ولأنَّه يَرْجِعُ عندَ العَجْزِ إلى كَونِه قِنًّا, ولو صارَ حُرًّا ما عاد إلى الرِّقِّ، ويُفارقُ إعْتاقَه؛ لأنَّه يُزِيلُ الرِّقَّ بالكُليَّةِ، وليس بعَقْدٍ، إنَّما هو إسْقاطٌ للمِلْكِ فيه، وأمَّا بَيعُه، فلا يُمْنَعُ المُشْتَرِي بَيعَه، وأمَّا البائِعُ، فلم يَبْقَ له فيه مِلْكٌ، بخِلافِ مَسألَتِنا. فصل: وتجوزُ هِبَتُه، والوَصِيَّةُ به. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه مَنَعَ هِبَتَه؛ لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما وَرَدَ ببَيعِه. والصَّحِيحُ جَوازُها؛ لأنَّ ما كان في مَعْنَى المَنْصُوصِ عليه ثَبَت الحكمُ فيه. فصل: ومُشْتَرِيه يَقُومُ فيه مَقامَ المُكاتِبِ. وجملةُ (¬5) ذلك، أنَّ ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 300. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في 18/ 380. (¬5) سقط من: الأصل.

3014 - مسألة: (فإن أدى عتق، وولاؤه له، وإن عجز عاد قنا له، وإن لم يعلم أنه مكاتب، فله الرد أو

فَإِنْ أَدَّى إِلَيهِ عَتَقَ، وَوَلَاؤهُ لَهُ، وَإنْ عَجَزَ عَادَ قِنًّا لَهُ، وَإنْ لَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ مُكَاتَبٌ، فَلَهُ الرَّدُّ أو الْأَرْشُ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ بَيعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِتابَةَ لا تنْفَسِخُ فيه (¬1) بالبَيعِ، ولا يجوزُ إبْطالُها. لا نعلمُ في هذا خِلافًا. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ بَيعَ السيدِ مُكاتَبَه على أن يُبْطِلَ (¬2) كتابَتَه ببَيعِه، إذا كان ماضِيًا فيها، مؤَدَيًا ما يجبُ عليه مِن نُجومِه في أوْقاتِها، غيرُ جائِزِ؛ وذلك لأنَّها عَقْدٌ (¬3) لازِمٌ، فلا يبْطُلُ بالبَيعِ، كالإِجارَةِ والنِّكاحِ، ويَبْقَى على كتابَتِه عندَ المُشْتَرِي وعلى نُجومِه، كما كان عندَ البائِعِ، مُبْقًى على ما بَقِيَ مِن كتابَتِه، يُؤَدِّي إلى (¬4) المُشْتَرِي ما كان يُؤَدِّي إلى البائِع. 3014 - مسألة: (فإن أدَّى عَتَقَ، ووَلاؤُه له، وإن عجز عاد قِنًّا له، وإن لم يَعْلَمْ أنَّه مُكاتَبٌ، فله الرَّدُّ أو (¬5) الأرْشُ) إذا أدَّى إلى المُشْتَرِي عَتَقَ؛ لأنَّ حقَّ المُكاتِبِ فيه انْتَقَلَ إلى المُشْتَرِي، فصار المُشْتَرِي (4) هو المُعْتِقَ، وولاؤُه له؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». وقد دَلَّ [على ذلك] (¬6) حديثُ بَرِيرَةَ؛ لأنَّه جَعَلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «تبطل». (¬3) بعده في الأصل: «جائز». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في النسختين: «و». (¬6) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولاءَها لعائشةَ حينَ اشْتَرَتْها وأعْتَقتْها. وإن عَجَزَ عاد قِنًّا له؛ لأنَّه صار سيدَه، فقامَ مَقَامَ المُكاتِبِ، وإن لم يَعْلَمْ أنَّه مُكاتبٌ، ثم عَلِمَ ذلك، فله فَسْخُ البَيعِ، أو أخْذُ الأرْشِ؛ لأنَّ الكتَابَةَ عَيبٌ (¬1)، لكَونِ المُشْتَرِي لا يقْدِرُ على التَّصَرُّفِ فيه، ولا يَسْتَحِقُّ كَسْبَه ولا اسْتِخْدامَه، ولا الوَطْءَ إن كانت أمَةً، فمَلَكَ الفَسْخَ، كشراءِ الأمَةِ المُزَوَّجَةِ، فيُخَيَّرُ حِينَئذٍ بينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ بالثَّمَنِ، وبينَ الإِمْساكِ مع الأرْش، على ما ذَكَرْنا في البَيع. فصل: فأمَّا بَيعُ الدَّينِ الذي على المُكاتَبِ كان نُجُومِه، فلا يَصِحُّ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال عطاءٌ، وعمرُو بنُ دينارٍ، ومالكٌ: يَصِحُّ؛ لأنَّ السيدَ يَمْلِكُها في ذِمَّةِ المُكاتَبِ، فجاز بَيعُها، كسائِرِ أمْوالِه. ولَنا، أنَّه دَين غيرُ مُسْتَقِرٍّ, فلم يَجُزْ بَيعُه، كدَين السَّلَمِ، ودليلُ عَدَمِ الاسْتِقْرارِ، أنَّه مُعَرَّص للسُّقُوطِ بِعَجْزِ المُكاتَبِ، [ولأنَّه] (¬2) لا يَمْلِكُ السيدُ إجْبارَ العبدِ على أدائِه ولا إلْزَامَه بتَحْصِينه، فلم يجُزْ بَيعُه، كالعِدَةِ بالتَّبَرُّعِ، ولأنَّه في، مَقبُوضٍ، وقد نَهَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعِ ما لم يُقْبَضْ (¬3). فإن باعه فالبَيعُ باطِلٌ، وليس للمُشْتَرِي مُطالبَةُ المُكاتَبِ بتَسْلِيمِه إليه، وله الرُّجوعُ بالثَّمَنِ على البائِع ¬

(¬1) في الأصل: «عبث». (¬2) في الأصل: «لأنه». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 506.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان دَفَعَه إليه. وإن سلَّمَ المُكاتَبُ إلى المُشْتَرِي نُجومَه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَعْتِقُ؛ لأنَّ البَيعَ تَضَمَّنَ الإِذْنَ في القَبْضِ، فأشْبَهَ قَبْضَ الوَكِيلِ. والثاني، لا يَعْتِقُ؛ لأنَّه لم يَسْتَنِبْه في القَبْضِ، وإنَّما قَبَضَ لِنَفْسِه بحُكْمِ البَيعِ الفاسِدِ، فكان القَبْضُ فاسِدًا، فلم يَعْتِقْ، بخِلافِ وَكيله، فإنَّه اسْتَنابَه. ولو صَرَّحَ بالإِذْنِ لم يكُنْ مُسْتَنِيبًا له في ألقَبْضِ، وإنَّما إذنه في القَبْضِ بحُكْمِ المُعاوَضَةِ، فلا فَرْقَ بينَ التَّصْرِيحِ وعَدَمِه. فإن قُلْنا: يَعْتِقُ بالأداءِ. بَرِئ المُكاتَبُ مِن مالِ الكِتابَةِ، ويَرْجِعُ السيدُ على المُشْتَرِي بما قَبَضَه؛ لأنَّه كالنَّائِبِ عنه، فإن كان مِن جِنْسِ الثَّمَنِ، وكان قد تَلِفَ، تَقَاصَّا بقَدْرِ أقَلِّهما، ورجَعَ ذو الفَضْلِ بفَضْلِه. وإن قُلْنا: لا يَعْتِقُ بذلك. فمالُ الكِتابَةِ باقٍ في ذِمَّةِ المُكاتَبِ، ويَرْجِعُ المُكاتَبُ على المُشْتَرِي بما دَفَعَه إليه، ويَرْجِعُ المُشْتَرِي على البائِعِ. فإن سَلَّمَه المُشْتَرِي إلى البائِعِ، لم يَصِحَّ تَسْلِيمُه؛ لأنَّه قَبَضَه بغيرِ إذْنِ المُكاتَبِ، فأشْبَهَ ما لو أخَذَه مِن مالِه بغيرِ إذْنِه. وإن كان مِن غَيرِ جِنْسِ مالِ الكتابَةِ، تَرَاجَعا بما لِكُلِّ واحدٍ منهما على الآخَرِ. وإن باعَهُ [ما أخَذَه بما لَه] (¬1) في ذِمَّتِه، وكان ممَّا يجوزُ البَيعُ فيه، جاز إذا كان ما قَبَضَه السيدُ باقِيًا، وإن كان قد تَلِفَ ووَجَبَتْ قِيمَتُه، وكانت (¬2) مِن جِنْسِ مالِ الكتابَةِ، تَقاصَّا، وإن كان المقبوضُ مِن جِنْسِ مالِ الكتابَةِ، فتَحاسَبا به، جاز. ¬

(¬1) في الأصل: «بما أخذه من ماله». (¬2) في م: «كان».

3015 - مسألة: (وإن اشترى كل واحد من المكاتبين الآخر، صح شراء الأول، وبطل شراء الثاني، وسواء كانا لواحد أو لاثنين)

وَإنِ اشْتَرَى كُلّ وَاحِدٍ منَ الْمُكَاتَبَينِ الْآخَرَ، صَحَّ شِرَاءُ الْأَوَّلِ، وَبَطَلَ شِرَاءُ الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَا لِوَاحِدٍ أوْ لِاثْنَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كان للمُكاتَبِ وَلَدٌ يَتْبَعُه في الكِتابَةِ، فباعَهُما، صَحَّ؛ لأنَّهما مِلْكُه، ولا مانِعَ مِن بَيعِهما، ويكونان عندَ المُشْتَرِي كما كانا عندَ البائِعِ سَواءً. وإن باع أحَدَهما دُونَ صاحِبِه، أو باع أحَدَهما لرجُلٍ، وباع الآخرَ لغيرِه، لم يَصِحَّ؛ لوَجْهَين؛ أحدُهما، أنَّه لا يجوزُ التَّفْرِيقُ بينَ الوَالِدِ ووَلَدِه في البَيعِ إلَّا بعدَ البُلُوغِ؛ على إحْدَى الرِّوايَتَين. والثاني، أنَّ الولدَ تابعٌ لوالِدِه، وله كَسْبُه، وعليه نَفَقَتُه، فصارَ في مَعْنى مَمْلوكِه، فلم يَجُزِ التَّفْرِيقُ بَينَهما. وعلى الروايةِ الأخْرَى، يَحْتَمِلُ أن يجوزَ بَيعُه بعدَ البُلُوغِ؛ لأنَّه مَحَلٌّ للبَيعِ، صَدَرَ فيه التَّصَرُّفُ مِن أهْلِه، ويكونُ عندَ مَن هو عندَه على ما كان عليه قبلَ بَيعِه، لوالِدِه كَسْبُه، وعليه نَفَقَتُه وأرْشُ جِنايته، ويَعْتِقُ بعِتْقِه، كما لو بِيعَ مع والدِه. فصل: وتَصِحُّ الوَصيَّةُ لمُكاتَبِه؛ لأنَّه مع سيدِه في المُعامَلَةِ كالأجْنَبِيِّ، ولذلك جازَا دفْعُ زَكاتِه إليه. فإن قال: ضَعُوا عن مُكاتَبِي بعضَ كِتابَتِه، أو: بعضَ ما عليه. وَضَعُوا ما شاءُوا، قليلًا كان أو كثيرًا. وقد ذَكَرْنا نَحْوَه في الوَصايَا (¬1). 3015 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى كلُّ واحدٍ مِن المُكاتَبَين الآخَرَ، صَحَّ شِرَاءُ الأوَّلِ، وبَطَلَ شِرَاءُ الثاني، وسَواءٌ كانا لواحِدٍ أو لاثْنَين) ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 17/ 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا خِلافَ في أنَّ المُكاتَبَ يَصِحُّ شِراؤه للعبِيدِ (¬1)، والمُكاتَبُ يجوزُ بَيعُه على ما ذَكرْنا، في الصَّحِيحِ مِن المذهبِ. فإذا اشْتَرَى أحَدُهما الآخرَ، صَحَّ شِراؤُه، ومَلَكَه؛ لأنَّ التَّصَرُّفَ صَدَرَ مِن أهلِه في مَحَلِّه، وسَواءٌ كانا مُكاتَبَين لسيدٍ واحدٍ أو لاثْنَين. فإن عاد الثاني فاشْتَرَى الذي اشْتَراه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه سيدُه ومالِكُه، وليس للمَمْلُوكِ أن يَمْلِكَ مالِكَه؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَناقُضِ الأحْكامِ، إذْ كلُّ واحِدٍ منهما يقولُ لصاحِبِه: أنا سيدُكَ، ولي عليك مالُ الكتابَةِ تُؤَدِّيه إليَّ، وإن عَجَزْتَ فلي فَسْخُ كتابَتِكَ ورَدُّكَ إلى أن تكونَ رَقِيقًا لي (¬2). وهذا تناقُضٌ، وإذا [تنافى أنَّ تَمْلِكَ] (¬3) المرأةُ زَوْجَها مِلْكَ اليَمِين؛ لثُبُوتِ مِلْكِه عليها في النِّكاحِ، فها هُنا أوْلَى، ولأنَّه لو صَحَّ هذا، [لتَقاصَّ الدَّينان] (¬4) إذا تساوَيا، وعَتَقَا جَمِيعًا. إذا ثَبَتَ هذا، فشراءُ الأوَّلِ صحيحٌ، والمَبِيعُ منهما باقٍ على كتابتِه، فإن أدَّى عَتَقَ، ووَلاؤُه مَوْقُوفٌ، فإن أدَّى سيدُه كتابَتَه، كان الوَلاءُ له؛ لأنَّه عَتَقَ بأدائِه إليه، وإن عَجَزَ، فوَلاؤُه لسيدِه؛ لأنَّ العبدَ لا يثْبُتُ له ولاءٌ (2)، وَلأنَّ السيدَ يأخُذُ ماله، فكذلك حُقُوقُه. هذا مُقْتَضَى قولِ ¬

(¬1) في الأصل: «للعبد». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «تناقض بملك». (¬4) في م: «لتقاصا الدينين».

3016 - مسألة: فإن لم يعلم السابق منهما (فسد البيعان)

وَإنْ جُهِلَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَسَدَ الْبَيعَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضِي. ومُقْتَضَى قَولِ أبي بكر، أنَّ الوَلاءَ لسيدِه؛ لأنَّ المُكاتَبَ عَبْدٌ لا يثْبُتُ له الوَلاءُ، فيثْبُتُ لسيده. ذكَرَا (¬1) ذلك (¬2) فيما إذا أعْتَقَ (¬3) بإذْنِ سيدِه، أو كاتَبَ عَبْدَه فأدَّىَ كتابَتَه، وهذا نَظِيرُه. ويَحْتَمِلُ أن يُفَرَّقَ بينَهما، لكونِ العِتْقِ ثَمَّ (¬4) بإذْذِا السيدِ، فيَحْصُلُ الإِنْعامُ عنه بإذْنِه فيه، وها هنا لا يفْتَقِرُ إلى إذْنِه، فلا نعمَةَ له عليه، فلا يكونُ له عليه وَلاءٌ، ما لم يُعَجِّزْه (¬5) سيدُه. 3016 - مسألة: فإن لم يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنْهُما (فَسَدَ البَيعَان) وهذا قولُ أبي بكر، ويُرَدُّ كلُّ كل واحد منهما إلى كِتايَته؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما مَشْكوكٌ في صِحَّةِ بَيعِه، فيُرَدُّ إلى اليَقينِ. وذَكَرَ القاضي أنَّه يَجْرِي مَجْرَى ¬

(¬1) في م: «ذكر». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «عتق». (¬4) في الأصل: «تم». (¬5) في النسختين: «يعجز». وانظر المغني 14/ 564.

3017 - مسألة: (وإن أسر العدو المكاتب، فاشتراه رجل، فأحب سيده، أخذه بما اشتراه، وإلا فهو عند مشتريه، مبقى على ما بقي من كتابته، يعتق بالأداء، وولاؤه له)

وَإنْ أسَرَ الْعَدُوُّ الْمُكَاتَبَ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ، فَأحَبَّ سيِّدُهُ، أخَذَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ، وَإلَّا فَهُوَ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ، مُبْقًى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، يَعْتِقُ بِالْأدَاءِ، وَوَلَاؤُهُ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما إذا زَوَّجَ الوَلِيَّان فأشْكَلَ الأوَّلُ منهما. فيَقْتَضِي هذا أن يُفْسَخَ البَيعَانِ كما يُفْسَخُ النِّكاحَان. وعلى قولِ أبي بكرٍ، لا يُحْتاجُ إلى الفَسْخِ؛ لأنَّ النِّكاحَ إنَّما احْتِيجَ فيه (¬1) إلى الفَسْخِ مِن أجْل المرِأةِ؛ فإنَّها مَنْكُوحَةٌ نِكاحًا صحيحًا لواحدٍ منهما يَقِينًا، فلا يَزُولُ إلَّا بفسْخٍ، وفي مسألتِنا لم يَثْبُتْ تَعَيُّنُ (¬2) البَيعِ في واحدٍ بعَينِه، فلم يَفْتَقِرْ إلى فَسْخٍ. والله أعلمُ. 3017 - مسألة: (وإن أسَرَ العَدُوُّ المُكاتَبَ، فاشْتَراه رجلٌ، فأحَبَّ سيدُه، أخَذَه بما اشْتَراه، وإلَّا فهو عندَ مُشْتَرِيه، مُبْقًى على ما بَقِيَ مِن كِتابَتِه، يَعْتِقُ بالأداءِ، ووَلاؤُه له) إذا أسَرَ (¬3) الكُفَّارُ مُكاتبًا، ثم اسْتَنْقَذَه المسلمون، فالكتابةُ بحالِها. فإن أُخِذَ في الغَنائِم فعُلِمَ بحالِه، أو أدْرَكَه سيدُه قبلَ قَسْمِه، أخَذَه بغيرِ شيءٍ، وهو على كتابتِه، كمَن لم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يقين». (¬3) في الأصل: «اشترى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤْسَرْ، وإن لم يُدْرِكْه حتى قُسِمَ، وصار في سَهْمِ بعضِ الغانِمين، أو اشْتَراه رجلٌ مِن الغَنِيمَةِ قبلَ قَسْمِه، أو مِن المشركين، وأخْرَجَه إلى سيدِه، فإنَّ السيدَ أحَقُّ به بالثَّمَنِ الذي ابْتاعَه به. وفيما إذا كان غَنِيمَةً رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه إذا قُسِمَ فلا حَقَّ لسيدِه فيه بحالٍ. فيُخَرَّجُ في المُشْتَرَى مثلُ ذلك. وعلى كلِّ تَقْديرٍ، فإنَّ سيدَه إن أخَذَه، فهو مُبْقىً على ما بَقِيَ مِن كتابَتِه، وإن تَرَكَه، فهو في يَدِ مُشْتَرِيه، مُبْقًى على ما بَقِيَ مِن كِتابَتِه، يَعْتِقُ بالأداءِ في المَوْضِعَين، ووَلاؤُه لمَن يُؤَدِّي إليه، كما لو اشْتَراه مِن سيدِه. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يَثْبُتُ عليه مِلْكُ الكُفَّارِ، ويُرَدُّ إلى سيدِه بكلِّ حالٍ. ووافَقَ أبو حنيفةَ الشافعيَّ (¬1)، في المُكاتَبِ والمُدَبَّرِ خاصَّةً؛ لأنَّهما عندَه لا يجوزُ بَيعُهما ولا نَقْلُ (¬2) المِلْكِ فيهما، فأشْبَها أمَّ الوَلَدِ. وقد تَقَدَّمَ الكلامُ في الدَّلالةِ على أنَّ (¬3) ما أدْرَكَه صاحِبُه مَقْسُومًا لا يَسْتَحِقُّ صاحِبُه أخْذَه بغيرِ شيءٍ (¬4)، وكذلك ما اشْتَراهُ مُسْلِمٌ مِن دارِ الحَرْبِ، وفي أنَّ المُكاتَبَ والمُدَبَّرَ يجوزُ بَيعُهما، بما يُغْنِي عن إعادَتِه ها هُنا. ¬

(¬1) في م: «والشافعي». (¬2) في الأصل: «يقبل». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) انظر ما تقدم في 10/ 196 - 200.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل يَحْتَسِبُ عليه بالمدَّةِ التي كان فيها عندَ الكُفَّارِ؟ على وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يَحْتَسِبُ عليه بها؛ لأنَّ الكِتابَةَ اقْتَضَتْ تَمْكِينَه مِن التَّصَرُّفِ والكَسْبِ في هذه المدَّةِ، فإذا لم يَحْصُلْ ذلك لم يَحْتَسِبْ، [كما لو حَبَسَه] (¬1) سيدُه. فعلى هذا، يَبْنِي على ما مَضَى مِن المُدَّةِ قبلَ الأسْرِ، وتُلْغَى مُدَّةُ الأسْرِ، كأنَّها لم تُوجَدْ. والثاني، يَحْتَسِبُ عليه بها؛ لأنَّها مِن مُدَّةِ الكِتابَةِ، مَضَتْ [مِن غيرِ] (¬2) تَفْرِيطٍ مِن سيدِه، فاحْتَسَبَ عليه بها، كمرضِه، ولأنَّه مَدِينٌ مَضَتْ مُدَّةٌ مِن أجَلِ دَينه في حَبْسِه، فاحْتَسَبَ عليه، كسائِرِ الغُرَماءِ، وفارَقَ ما إذا حَبَسه سيدُه بما ذَكَرْناه. فعلى هذا، إذا حلَّ عليه نَجْمٌ عندَ اسْتِنقاذِه جازَتْ مُطالبَتُه به. وإن حَلَّ ما يجوزُ تَعْجيزُه بتَرْكِ أدائِه فلسيدِه تَعْجِيزُه وردُّه إلى الرِّقِّ. وهل له (¬3) ذلك بنَفْسِه أو بحُكْمِ الحاكمِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، له ذلك؛ لأنَّه تَعَذَّرَ عليه الوُصولُ إلى المالِ في وَقْتِه، أشْبَهَ ما لو كان حاضِرًا، [يُحَقِّقُه أنَّه لو كان حاضِرًا] (¬4) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بغير». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمالُ غائِبًا يَتَعَذَّرُ إحْضارُه وأداؤُه في مُدَّةٍ قَريبَةٍ، كان لسيدِه الفَسْخُ، والمالُ ها هنا إمَّا مَعْدومٌ وإمَّا غائِبٌ يَتَعَذَّرُ أداؤُه، وفي كِلا الحالين يجوزُ الفَسْخُ. والثاني، ليس له ذلك إلَّا بحُكْمِ الحاكِمِ؛ لأنَّه مع الغَيبَةِ يحْتاجُ إلى أن يَبْحَثَ، هل له مالٌ أم لا, وليس كذلك إذا كان حاضِرًا، فإنَّه يُطالبُه، فإن أدَّى، وإلَّا فقد عَجَّزَ نَفْسَه، فإن فَسَخَ الكتابَةَ بِنَفْسِه أو بحُكْمِ الحاكِمِ، ثم خَلَص المُكاتَبُ، وادَّعَى أنَّ له مالًا في وَقْتِ الفَسْخِ يَفِي (¬1) بما عليه، وأقامَ بذلك بَيَنةً، بَطَلَ الفَسْخُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يبْطُلَ حتى يَثْبُتَ أنَّه كان (¬2) يمْكنه أداؤُه؛ لأنَّه إذا كان مُتَعَذِّرَ الأداءِ، كان وُجودُه كعَدَمِه. ¬

(¬1) في الأصل: «بقى». (¬2) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَإنْ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ، أوْ أجْنَبيٌّ، فَعَلَيهِ فِدَاءُ نَفْسِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الكِتَابَةِ. وَقَال أبو بَكْرٍ: يَتَحَاصَّانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضيَ الله عنه: (وإن جَنَى على سيدِه، أو أجْنَبِي، فعليه فِداءُ نَفْسِه مُقَدَّمًا على الكِتابَةِ. وقال أبو بكر: يتَحاصَّان) وجملةُ ذلك، أنَّ المُكاتَبَ إذا جَنَى جِنايةً مُوجِبةً للمالِ (¬1)، تَعَلَّقَ أرشُها برَقَبَتِه، ويُؤَدِّي مِن المالِ الذي في يَدِه. وبهذا قال الحسنُ، والحَكَمُ، وحمادٌ، والأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ، والحسنُ بنُ صالح، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال عطاء، والنَّخَعِي، وعمرُو بنُ دِينارٍ: جنايَتُه على سيدِه. وقال عَطاءٌ: ويَرْجِعُ سيدُه بها عليه. وقال الزُّهْرِيُّ: إذا قَتَلَ رَجُلا خَطَأ، كانت كِتابَتُه ووَلاؤُه لوَلِيِّ المَقْتُولِ، إلَّا أن يَفْدِيَه سيدُه. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِه» (¬2). ولأنَّها جِنايةُ عَبْدٍ، فلم تَجِبْ في ذِمَّةِ سيدِه، كالقِنِّ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَبْدا بأداءِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «عن أجنبي». (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام، من أبواب الفتن، وفي: باب تفسير سورة التوبة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 9/ 4، 11/ 228. وابن ماجه، في: باب: لا يجنى أحد على أحد، من كتاب الديات، وفي: باب الخطبة يوم النحر، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 890، 1015. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 449، 4/ 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنايةِ قبلَ الكِتابة، سَواءٌ حَلَّ عليه نَجْمٌ أبي لم يَحِلَّ. نصَّ عليه أحمدُ، وهو المَعْمُولُ به في المذهبِ. وذكر أبو بكر قولًا آخرَ، أنَّ السيدَ يُشارِكُ ولِيَّ الجِنايةِ، فيضْرِبُ بما حَلَّ مِن نُجُوم كِتابتِه؛ لأنَّهما دَينان، فيتَحاصَّان، قياسا على سائِرِ الدُّيُونِ. ولَنا، أنَّ أرشَ الجِنايَةِ مِن العبدِ يُقَدَّمُ على سائِرِ الحُقُوقِ المُتَعَلِّقةِ به، ولذلك قُدِّمَتْ على حَقِّ المالكِ وحَقِّ المُرْتَهِنِ، وغيرهما، فوَجَبَ أن تُقَدَّمَ ها هُنا. يُحَقِّقُه أنَّ [أرْشَ الجِنايةِ] (¬1) مُقَدَّمٌ على مِلْكِ السيدِ في عبدِه، فيَجِبُ تقديمُه على عِوَضِه، وهو مالُ الكِتابَة، بطرِيقِ الأوْلَى؛ لأنَّ المِلْكَ فيه قبلَ الكِتابةِ كان مُسْتَقِرًا، ودَين الكتابةِ غيرُ مُسْتَقِرٍّ، فإذا قُدِّمَ على المُسْتَقِرِّ، فعلى غيرِه أوْلَى. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَفْدِي نَفْسَه بأقَلِّ الأمْرَين؛ مِن قِيمَتِه أو أرْشِ جِنايَته؛ لأنَّه إن كان أرشُ الجنايةِ أقَلَّ، فلا يَلْزَمُه أكْثرُ مِن مُوجَب جِنايَته، وهو أرْشُها، وإن كان أكثرَ، لم يكُنْ عليه أكثرُ مِن قِيمَتِه؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه أكثرُ مِن بَذْلِ (¬2) المَحَلِّ الذي تَعَلَّقَ به الأرْشُ. فإن بدأ بدَفْعِ المالِ إلى وَلِيِّ الجِنايَةِ، فوَفَّى بأرْشِ الجِنايةِ، وإلَّا باع الحاكِمُ منه بما بقِيَ (¬3) مِن ¬

(¬1) في م: «ملك الكتابة». (¬2) في الأصل: «تلك». (¬3) في م: «يفي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْشِها، [وبَطَلَ الكِتابَةُ فيما باع منه] (¬1)، وباقِيه باقٍ على كِتابَتِه. وإنِ اختار السيدُ الفَسْخَ فله ذك، ويَعُودُ عَبْدًا قِنًّا مُشْتَرَكًا بينَ السيدِ والمُشْتَرِي. وإن أبقاه السيدُ على الكِتابَةِ، فأدَّى، عَتَقَ بالكِتابَةِ، وسَرَى العِتْقُ إلى باقِيه إن كان المُكاتَبُ مُوسِرًا، ويُقَوَّمُ عليه، وإن كان مُعْسِرًا، عَتَقَ منه ما عَتَقَ، وباقِيه رَقِيقٌ. فإن لم يكُنْ في يَدِه مالٌ، ولم يفِ بالجِنايةِ إلَّا قِيمَتُه كلُّها، بِيعَ كُلُّه فيها، وبَطَلَتْ كِتابَتُه. فصل: وإن بَدَأ بدَفْعَ المالِ إلى سيدِه، وكان وَلِيُّ الجِنَايةِ سألَ الحاكمَ فحَجَرَ على المُكاتَبِ، ثَبَتَ الحَجْرُ عليه، وكان النَّظرُ فيه إلى الحاكمِ، فلا يَصِحُّ دَفْعُه إلى سيدِه، ويَرْتَجِعُه الحاكمُ، ويُسَلِّمُه إلى وَلِيِّ الجنايةِ، فإن وَفَّى، وإلَّا كان الحُكْمُ فيه على ما ذَكَرْنا مِن قبلي. وإن لم يكُنِ الحاكمٌ حَجَرَ عليه صَحَّ دَفْعُه إلى السيدِ؛ لأنَّه يَقضِي حَقًّا عليه، فجاز، كما لو قَضَى بعضَ غُرَمائِه قبلَ الحَجْرِ عليه. فإن كان ما دَفَعَه إليه جميعَ مالِ الكتابةِ عَتَقَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3018 - مسألة: (وعليه فداء نفسه)

وَإنْ عَتَقَ، فَعَلَيه فِدَاءُ نَفْسِهِ، وَإنْ عَجَزَ، فَلِسَيِّدِهِ تَعْجِيزُهُ، إِنْ كَانت الْجِنَايَةُ علَيهِ. وَإنْ كَانت عَلَى أَجْنَبِي، فَفَدَاهُ سَيِّدُهُ، وَإلَّا فُسِخَتِ الْكِتَابَا, وَبِيعَ في الجِنَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3018 - مسألة: (وعليه فداءُ نَفْسِه) ويكونُ الأرْشُ في ذِمَّتِه، فيَضْمَنُ ما كان عليه قبلَ العِتْقِ، ويَفْدِيه بأقَلِّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه أو أَرْشِ جِنايته؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه أكثرُ مما كان واجبًا عليه بالجنايةِ، فإن أعْتَقَه السيدُ، فعليه فداؤُه بذلك،؛ لأنَّه أتْلَفَ مَحَلَّ الاسْتِحْقاقِ، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه. 3019 - مسألة: (وإن عَجَزَ، فلسيدِه تَعْجِيزُه) ويَفْدِيه أيضًا بما ذَكَرْناه. وقال أبو بكرٍ: فيه رِوايةٌ أخْرَى، أنه يَفْدِيه بأَرْشِ الجِنايةِ، بالغةً ما بَلَغَتْ؛ لأنه لو سَلَّمَه احْتَمَلَ أن يَرْغَبَ فيه راغبٌ بأكثرَ مِن قِيمَتِه، فقد فَوَّتَ تلك الزِّيادَةَ بإعْتاقِه.

وَإنْ أعْتَقَهُ السَّيِّدُ، فَعَلَيه فِدَاؤُهُ، وَالْوَاجِبُ في الْفِدَاءِ أقلُّ الْأمْرَينِ؛ مِنْ قِيمَتِهِ، أوْ أرْشِ جِنَايتهِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِدَاؤُهُ بِأرْشِ الْجِنَايَةِ كَامِلَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ الجِنايةُ على سيدِه فيما دُونَ النَّفْسِ، فالسيدُ خَصْمُه فيها، فإن كانتْ مُوجِبَةً للقِصاصِ، فلسيدِه القِصاصُ، كما يَجبُ على عبدِه القِنِّ؛ لأنَّ القِصاصَ يَجِبُ للزَّجْرِ، فيَحْتاجُ إليه العبدُ في حَقِّ سيدِه، وإن عَفا على مالٍ، أو كانت مُوجِبَة للمالِ، وَجَبَ له؛ لأنَّ المُكاتَبَ مع سيدِه كالأجْنَبِيِّ، يَصِحُّ أنْ يُبايِعَه، ويَثْبُتُ له في ذِمَّتِه المالُ والْحُقُوقُ، كذلك الجِنايةُ، ويَفْدِي نَفْسَه بأقَلِّ الأمْرَين، كالجِنايَةِ على الأجْنَبِيِّ. وعنه، يَفْدِيه بأرْشِ الجِنايةِ كله. فإن وَفَى ما في يَدِه بما عليه فلسيدِه مُطالبَتُه به [وأخْذُه] (¬1)، وإن لم يَفِ به (فلسيدِه تَعْجِيزُه) فإذا عَجَّزَه وفَسَخَ الكِتابةَ سَقَطَ عنه مالُ الكِتابةِ وأرْشُ الجِنايةِ، وعاد عَبدًا قِنًّا, ولا يَثْبُتُ للسيدِ على عبدِه القِنِّ مالٌ. وإن أعْتَقَه سيدُه ولا مال في يَدِه سَقَطَ الأرْشُ؛ لأنَّه مُتَعَلِّق برَقَبَتِه، وقد أتْلَفَها. وإن كان في يَدِه مال لم يسْقُطْ؛ لأنَّ الحَقَّ كان مُتَعَلِّقًا بالذِّمَّةِ وما في يَدِه مِن المالِ، فإذا تَلِفَتِ الرَّقَبَةُ بَقِيَ الحَقُّ مُتَعَلِّقًا بالمالِ، فاسْتُوفِي منه، كما لو عَتَقَ بالأداءِ. وهل يَجِبُ (أقَل الأمْرَين) أو (أرْشُ الجِناية) كلّه؟ على وَجْهَينِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَسْتَحِقُّ السيدُ مُطالبَتَه بأرْشِ الجِنايةِ قبلَ أداءِ مالِ الكِتابةِ؛ لمَا ذَكَرْنا مِن قبلُ في حَقِّ الأجْنَبِيِّ. وإنِ اختار تَأخيرَ الأرْش والبدايةَ بِقَبْضِ مالِ الكتابةِ جازَ. ويَعْتِقُ إذا قَبَضَ مال الكتابةِ [كلَّه. وقال أبو بكرٍ: لا يَعْتِقُ بالأداءِ قبلَ أرْشِ الجِنايةِكما لوُجُوبِ تَقْدِيمِه على مالِ الكِتابة] (¬1). ولَنا، أنَّ الحَقَّين جميعًا للسيدِ، فإذا تَراضَيَا على تَقْدِيمِ أحَدِهما على الآخَرِ جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما لا يَخْرجُ عنهما, ولأنَّه لو بَدَأ بأداءِ مالِ الكِتابةِ في حَقِّ الأجْنَبِيِّ عَتَقَ، ففي حَقِّ السيدِ أوْلَى، ولأنَّ أرْش الجِنايةِ لا يَلْزَمُ أداؤُه قبلَ انْدِمالِ الجُرحِ، فيُمْكِنُ تقْديمُ وُجُوبِ الأداءِ عليه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا أدَّى عَتَقَ، ويَلْزَمُه أرْشُ الجِنايةِ، سَواءٌ كان في يَدِه مالٌ أو لم يَكُنْ، لأنَّ عِتْقَه بسَبَب مِن جِهَتِه، فلم يَسْقُطْ ما عليه، بخِلافِ ما إذا أعْتَقَه سيدُه، فإنَّه أتْلَفَ مَحَلَّ (¬2) حَقِّه، بخِلافِ هذا. وهل يَلْزَمُه. أقَلُّ الأمْرَين، أو جَميعُ الأرْشِ؟ على وَجْهَين. وإن كانت جِنايَتُه على نَفْس سيدِه، فلِوَرَثَتِه القِصاصُ في العَمْدِ، والعَفْوُ على مالٍ. وفي الخطأَ، المالُ. وحُكْمُ الوَرَثَةِ مع المُكاتَبِ حكمُ سيدِه معه؛ لأنَّ الكتابةَ انْتَقَلَتْ إليهم، والعَبْدُ لو عاد قِنًّا كان لهم. وإن جَنَىَ على مَوْرُوثِ سيدِه، فوَرِثَه سيدُه، فالحكمُ فيه كما لو كانتِ الجِنايةُ على سيدِه فيما دُونَ النَّفْسِ، على مَا مَضَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «محمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جَنَى المُكاتَبُ جِناياتٍ تَعَلَّقَتْ برَقَبَتِه (¬1)، واسْتَوَى الأوَّلُ والآخِرُ في الاسْتِيفاءِ، ولم يُقَدَّمِ الأوَّلُ على الثاني إن كانت مُوجِبَةً للمالِ؛ لأنَّها تَعَلَّقَتْ بمَحَلٍّ واحدٍ، وكذا إن كان بعضُها في حالِ كِتابَتِه وبعضُها بعدَ تَعْجِيزِه، فهي سَواءٌ، ويتَعَلَّقُ جَمِيعُها بالرَّقَبَةِ، فإن كان فيها ما يُوجِبُ القِصاصَ، فلِوَلِيِّ الجِنايةِ اسْتِيفَاؤُه، وتَبْطُلُ حقُوقُ الآخَرِين. فإن عَفَا إلى مالٍ، صارَ حُكْمُه حُكْمَ الجِنايةِ المُوجِبَةِ للمال. فإن أبرأه بَعْضُهم اسْتَوْفَى الباقون؛ لأنَّ حَقَّ كلِّ واحدٍ منهم (¬2) يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، يَسْتَوفِيه إذا انْفَرَدَ، فإذا اجْتَمَعُوا تزاحَمُوا (¬3)، فإذا أبرأه بعضُهم سَقَطَ حَقُّه وتَزاحَمَ الباقُونَ، كما لو انْفَرَدُوا، كما في الوَصَايا ودُيُونِ المَيِّتِ. فإن أدَّى وعَتَقَ فالضَّمانُ عليه، وإن أعْتَقَه سيدُه فعليه الضَّمانُ، وأيُّهما ضَمِنَ فالواجِبُ عليه أقَلُّ الأمْرَين، كما ذَكَرْنا في الجِنايةِ الواحدةِ، ولأنَّه لو عَجَّزَه الغُرَماءُ وعاد قِنًّا بِيعَ وتحَاصُّوا في ثَمَنِه، كذلك ها هُنا. فأمَّا إن عَجَّزَه سيدُه وعادَ قِنًّا، خُيِّرَ بينَ فِدَائِه وتَسْلِيمِه، فإن اختارَ فِداءَه فدَاه بأقَلِّ الأمْرَين، كما لو أعْتَقَه أو قَتَلَه. وفيه رِوايةٌ أخْرَى، أنَّه يَلْزَمُه أرشُ ¬

(¬1) في م: «برد رقبته». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «تراجعوا».

3020 - مسألة: (وإن لزمته ديون تعلقت بذمته، يتبع بها بعد العتق)

وَإنْ لَزِمَتْهُ دُيُون تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ، يُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنايةِ كُله؛ لأنَّه لو سَلَّمَه احْتَمَلَ أن يَرْغَبَ فيه راغِبٌ بأكْثَرَ مِن قِيمَتِه، فقد فَوَّتَ تلك الزِّيادَةَ باخْتِيارِه إمْساكَه، فكان عليه جَمِيعُ الأرْشِ. ويُفارِقُ ما إذا أعْتَقَه أو قَتَلَه؛ لأنَّ المَحَلَّ تَلِفَ فتَعَذَّرَ تَسْلِيمُه، فلم يَجِبْ أكثرُ مِن قِيمَتِه، والمَحَلُّ ها هُنا باقٍ يُمْكِنُ تَسْلِيمُه وبَيعُه، وقد ذَكَرْناه. وإن أراد المُكاتَبُ فِداءَ نَفْسِه قبلَ تَعْجِيزِه أو عِتْقِه (¬1)، ففيما تُفْدَى به نَفْسُه وَجْهان، بِناءً على ما إذا عَجَّزَه سيدُه. والله أعلمُ. 3020 - مسألة: (وإن لَزِمَتْه دُيُون تَعَلَّقَتْ بذِمَّتِه، يُتبعُ بها بعدَ العِتْقِ) إذا اجْتَمَعَ على المُكاتَبِ ثَمَنُ مَبِيعٍ، أو عِوَضُ قَرْض، أو غيرُهما مِن الدُّيُونِ مع مالِ الكِتابةِ، وفي يَدِه ما يَفي بها، فله أداؤُها، ويَبْدَأ بأيِّها شاء، كالحُرِّ. وإن لم يَفِ بها ما في يَدِه، وكُلُّها حالَّة، ولم يَحْجُرِ الحاكِمُ ¬

(¬1) في م: «أعتقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فخَصَّ بعضَهم بالقَضاءِ، صَحَّ، كالحُرِّ. وإن كان فيها مُؤَجَّلٌ، فعَجَّلَه بغيرِ إذْنِ سيدِه، لم يَجُزْ؛ لأنَّ تَعْجِيلَه تَبَرُّعٌ، فلم يَجُزْ بغيرِ إذْنِ سيدِه، كالهِبَةِ. وإن كان بإذْنِ سيدِه جاز، كالهِبَةِ. وإن كان التَّعْجِيلُ للسيدِ، فقَبُولُه بمَنْزِلَةِ إذْنِه، وإن كان الحاكمُ قد حَجَرَ عليه بسُؤالِ غُرَمائِه، فالنَّظرُ إلى الحاكِمِ، وإنَّما بحْجُرُ عليه بسُؤَالِهم. فإن حَجَرَ عليه بغيرِ سُؤَالِهم لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، فلا يُسْتَوْفَى بغيرِ إذْنِهم. وإن سأله سيدُه الحَجْرَ عليه لم يُجِبْه إلى ذلك؛ لأنَّ حَقَّه غيرُ مُسْتَقِرٍّ، فلا يَحْجُرُ عليه مِن أجْلِه. وإذا حَجَرَ عليه بسُؤَالِ الغُرَماءِ، فقال القاضي: عِندي أنَّه يَبْدَأ بقَضاءِ ثَمنِ المَبِيعِ وعِوَضِ القَرْضِ، يُسَوِّي بينَهما، ويقَدِّمُهما على أرْش الجِنايةِ ومالِ الكِتابةِ؛ لأنَّ أرشَ الجِنايَةِ مَحَلُّه الرَّقَبَةُ، فإذا لم يَحْصُلْ ممَّا في يَدِه اسْتُوْفِيَ مِن رَقَبَتِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقد ذَكَرْنا أنَّ أصحابَنا والشافعيَّ اتَّفَقُوا على تَقْدِيمِ أَرْشِ الجِنايةِ على مالِ الكِتابةِ، فيما مَضَى. وإذا لم يَحْجُرْ عليه، [ودَفَعَ] (¬1) إلى السيدِ مال الكِتابةِ، عَتَقَ، وبَقِيَّةُ الدُّيُونِ في ذِمَّتِه، يُتْبَعُ بها بعدَ العِتْقِ؛ لأنَّه صار حُرًّا، فهو كالأحْرارِ، ولأنَّ المُدايِنَ رَضِيَ بذِمَّتِه حينَ أدائِه، فكان له ما رَضِيَ به، كالحُرِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «دفع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا جَنَى بَعضُ عَبيدِ المُكاتَبِ جِنايةً تُوجِبُ القِصاصَ، فللمَجْنِيِّ عليه الخِيارُ بينَ القِصاصِ والمالِ، فإنِ اختار المال، و (¬1) كانتِ الجنايةُ خطأً أو شِبْهَ عَمْدٍ أو إتْلافَ مالٍ، تَعَلَّقَ أرْشُها برَقَبَتِه، وللمُكاتَبِ فداؤُه بأقَلِّ الأمْرَين؛ مِن قيمَتِه أو أرْشِ جِنايته؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ شِرائِه، وليس له فِداؤُه بأكثرَ مِن قِيمَتِه، كما لا يجوزُ له أن يشْتَرِيَه بذلك إلَّا أن يأذَنَ فيه سيدُه، فإن كان الأرْشُ أقَلَّ مِن قِيمَتِه لم يكُنْ له تَسْلِيمُه؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ بالزَّائِدِ. وإن زادَ الأرْشُ على قِيمَتِه، فهل يَلْزَمُه تَسْلِيمُه أو يَفْدِيه بأقَلِّ الأمْرَين؟ لها رِوايَتَين. ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مَلَك المُكاتَبُ ابنَه أو بعضَ ذَوي رَحِمِه المَحْرَمِ، أو ولِدَ له ولدٌ مِن أمَتِه، فجَنَى جِنايَةً تَعَلَّقَ أرشُها برَقَبَتِه، [فللمُكاتَبِ فِداؤُه] (¬1) بغيرِ إذْنِ سيدِه، كما يَفْدِي غيرَه مِن عَبِيدِه. وقال القاضي في «المُجَرَّدِ»: ليس له فِداؤُه بغير إذْنِه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه إتْلافٌ [لمالِه، فإنَّ] (¬2) ذَوي رَحِمِه ليسوا بمالٍ له، ولا يتَصَرَّفُ فيهم، فلم يَجُزْ له إخْراج مالِه في مُقابَلَتِهم، ولا شِراؤهم، كالتبرعِ، ويُفارِقُ العَبدُ الأجْنَبِيَّ؛ فإنه يَنْتَفِعُ به، وله صَرْفُه في كِتابَتِه، فكان له فِداؤُه وشِراؤه، كسائِرِ أموالِه، ولكن إن كان لهذا الجاني كَسْبٌ فُدِيَ منه، وإن لم يكُنْ له كَسْب بِيعَ في الجنايةِ إنِ اسْتَغْرَقَتْ قِيمَتَه، وإن لم تَسْتَغْرِقْها بِيعَ بَعْضُه فيها، وما بَقِيَ للمُكاتَبِ. ولَنا، أنَّه عَبدٌ له جَنَى (¬3)، فمَلَكَ فِداءَه، كسائِرِ عَبِيدِه، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَمْلِكُ شِراءَه. وقولُهم: لا يتَصَرَّفُ فيه. ¬

(¬1) في الأصل: «وللمكاتب فداه فداه». (¬2) في الأصل: «المال كان». (¬3) في م: «حي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْنا: إلَّا أنَّ كَسْبَه له، فإن عَجَزَ المُكاتَبُ صار رَقِيقًا معه لسيدِه، وإن أدَّى المُكاتَبُ لم يتَضَرَّرِ السيدُ بعِتْقِهم، وانْتَفَعَ به المُكاتَبُ، وإذا دار أمْرُه بينَ نَفْعٍ وانْتِفاءِ ضَرَرٍ، وجَبَ أن لا يُمْنَعَ منه. وفارَقَ التبرعَ؛ فإنَّه يُفَوِّتُ المال على السيدِ. فإن قيل: فيه ضَرَرٌ، وهو مَنْعُه مِن أداءِ الكِتابةِ، فإنَّه إذا صَرَفَ المال فيه، ولم يَقدِرْ على صَرْفِه في الكِتابةِ، عَجَزَ عنها. قُلْنا: هذا الضَّرَرُ لا يُمْنَعُ المُكاتَبُ منه، بدليلِ ما لو تَرَك الكَسْبَ مع إمْكانِه، أو امْتَنَعَ مِن الأداءِ مع قُدْرَتِه عليه، فإنَّه لا يُمْنَعُ منه ولا يُجْبَرُ على كَسْبٍ ولا أداءٍ، فكذلك لا يُمْنَعُ ممَّا هو في مَعْناه ولا ممَّا يُفْضِي إليه، ولأنَّ غايةَ الضَّرَرِ في هذا المَنْعُ مِن إتْمامِ الكِتابةِ، وليس إتْمامُها واجبًا عليه، فأشْبَهَ تَرْكَ الكَسْبِ، بل هذا أوْلَى، لوَجْهَين: أحدُهما، أنَّ هذا فيه نَفْعٌ للسيدِ، لمَصِيرِهم عَبِيدًا له. والثاني، أنَّ فيه نَفْعًا للمُكاتَبِ بإعْتاقِ ولَدِه وذَوي رَحِمِه، ونَفْعًا لهم بالإِعْتاقِ على تَقْدِيرِ الأداءِ، فإذا لِم يُمْنَعْ ممَّا يُساويه في المَضَرَّةِ مِن غيرِ نَفْعٍ فيه، فلان لا يُمْنَع ممَّا فيه نفْعٌ لازِمٌ لإِحْدَى الجِهَتين أوْلَى. ووَلَدُ المُكاتَبَةِ يدخلُ في كِتابَتِها، والحكمُ في جِنايته كالحُكْمِ في ولَدِ المُكاتَبِ سَواءٌ. فصل: وإن جَنَى بعضُ عَبِيدِ المُكاتَبِ على بعض جِنايةً مُوجَبُها المالُ، لم يَثْبُتْ لها حكمٌ؛ لأنَّه لا يَجِبُ للسيدِ على عبدِه مالٌ. وإن كان مُوجَبُها القِصاصَ، فقال أبو بكر: ليس له القِصاصُ؛ لأنَّه إتْلافٌ لمالِه باخْتِيارِه. وهذا الذي ذَكَرَهُ شَيخُنا في الكِتابِ المشْرُوحِ، وذَكَرَه أبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَطَّابِ في «رُءُوسِ المسائِلِ». وقال القاضي: له القِصاصُ؛ لأنَّه مِن مَصْلَحَة مِلْكِه، فإنَّه لو لم يَقْتَصَّ أفْضَى إلى إقْدامِ بَعْضِهم على بعضٍ. وليس له العَفْوُ على مالٍ؛ لِما ذَكَرْنا. ولا يجوزُ بَيعُه في أرْش الجِنايَةِ؛ لأنَّ الأرْش لا يَثْبُت له في رَقَبَةِ عبدِه. فإن كان الجانِي مِن عَبِيدِه ابته، لم يَجُزْ بَيعُه؛ لذلك. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يجوزُ بَيعُه. في أحدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَه قبلَ جِنايته، فيَسْتَفِيدُ بالجنايةِ مِلْكَ بَيعِه. ولَنا، أنَّه عبدُه، فلم يَجِبْ له عليه أرْشٌ، كالأجْنَبِيِّ، وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالرَّهْنِ إذا جَنَى على رَاهنِه. فصل: فإن جَنى عبدُ المُكاتَبِ عليه جِنايةً مُوجَبُها المالُ، كانت هَدْرًا؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كان مُوجَبُها القِصاصَ (¬1)، فله أنْ يَقتَصَّ فيما دُونَ النَّفْسِ؛ لأنَّ العَبْدَ يُقْتَصُّ منه لسيدِه، وإن عَفا على مالٍ، سَقَط القِصاصُ ولم يَجِبِ المالُ. فإن كان الجاني أباه، لم يُقْتَصَّ منه؛ لأنَّ الوالِدَ لا يُقْتَلُ بوَلَدِه. وإن جَنَى المُكاتَبُ عليه، لم يُقْتَصَّ منه؛ لأنَّ السيدَ لا يُقْتَصُّ منه لعَبْدهِ. وقال القاضي: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُقْتَصُّ منه؛ لأنَّ حكْمَ الأبِ معه حُكْمُ الأحرارِ، بدِليلِ أنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَه والتَّصَرُّفَ فيه، وجُعِلَتْ حُرِّيتُه مَوْقوفةً على حُرِّيته. قال القاضي (¬2): ولا نَعْلَمُ مَوْضِعًا يَقْتَصُّ فيه المَمْلوكُ مِن مالِكِه غيرَ هذا المَوْضِعِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ولم يجب». (¬2) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن جُنِيَ على المُكاتَبِ فيما دُونَ النَّفْس, فأرْشُ الجِنايةِ له دُونَ سيدِه، لثَلاثَةِ مَعانٍ؛ أحَدُها، أنَّ كَسْبَه له، وذلك عِوَضٌ عمَّا يَتَعَطَّلُ بقَطْعِ يَدِه مِن كَسْبِه. والثاني، أنَّ المُكاتَبَةَ تَسْتَحِقُّ المَهْرَ في النِّكاحِ، لتَعَلُّقِه بعُضْوٍ مِن أعضائِها، كذلك بَدَل العُضو. الثالثُ، أنَّ السيدَ أخَذَ مال الكِتابةِ بَدَلًا عن نَفْسِ المُكاتبِ، فلا يجوزُ أن يَسْتَحِقَّ عنه عِوَضًا آخَرَ. ثم لا يَخْلُو مِن ثلاثَةِ أحْوالٍ: أحدُها، أن يكونَ الجانِي سيدَه، فلا قِصاصَ عليه لأمْرَين؛ أحدُهما، أنَّه حُرٌّ والمُكاتَبُ عَبْدٌ. والثاني، أنَّه مالِكُه (¬1)، ولا يُقْتَصُّ مِن المالِكِ لمَمْلُوكِه، ولكن يَجِبُ الأرْشُ إذا انْدَمَلَ الجُرْحُ، على ما يُذْكَرُ في الجِناياتِ. ولأنَّه قبلَ الانْدِمالِ لا تُؤمَنُ سِرايَتُه إلى نفْسِه، فيَسْقُطُ أرْشُه. فإذا ثَبَتَ هذا، فسَرَى الجُرْحُ إلى نَفْسِه، انْفَسخَتِ الكِتابةُ، وكان الحُكْمُ فيه كما لو قَتَلَه، وإنِ انْدَمَلَ الجُرْحُ وجب له أرشُه على سيدِه، ويَتقاصَّان إن كان مِن جِنْسِ مال الكِتابةِ وقد حَلَّ عليه نَجم، وإن كان مِن غيرِ جِنْسِ مالِ الكِتابةِ أو لم يَحِلَّ عليه نَجْمٌ، لم يتَقاصَّا، ويُطالِبُ كلُّ واحدٍ منهما بما يَسْتَحِقُّه، فإنِ اتَّفَقا على أنْ يُجْعَلَ أحَدُهما عِوَضًا عن الآخرِ، وكانا مِن جِنْسَينِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه بَيعُ دَينٍ بدَينٍ، فإن قَبضَ أحَدُهما حَقَّه، ثم دَفَعَه إلى الآخرِ عِوَضًا عن حَقه، جاز. وإن رَضِيَ المُكاتَبُ بتَعْجِيلِ الواجب له عما لم يَحِلَّ مِن نُجُومِه، جاز، ¬

(¬1) في م: «ملكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان مِن جنْسِ مالِ الكِتابةِ. الحالُ الثانيةُ، إذا كان الجانِي أجْنَبِيًّا حُرًّا، فلا قِصاصَ؛ [لأنَّ الحُرَّ] (¬1) لا يُقْتَلُ بالعبدِ، فإن سَرَى الجُرْحُ إلى نَفْسِه انْفَسَخَتْ كِتابَتُه، وعلى الجاني قِيمَتُه لسيدِه، وإنِ انْدَمَلَ الجُرْحُ فعليه أرْشُه له، فإن أدَّى الكِتابَةَ وعَتَقَ، ثم سَرَى الجُرْحُ إلى نَفْسِه، وجَبَتْ دِيَتُه؛ لأنَّ اعْتِبارَ الضَّمانِ بحالةِ الاسْتِقْرارِ، ويكونُ ذلك لوَرَثَتِه. فإن كان الجاني السيدَ أو غيرَه مِن الوَرَثَةِ، لم يَرِثْ منه شيئًا؛ لأنَّ القَاتِلَ لا يَرِثُ، ويكونُ لبيتِ المالِ إن لم يكُنْ له وارِثٌ. ومَن اعْتَبَرَ الجِنايَةَ بحالةِ ابْتِدائِها، أوْجَبَ على الجانِي قِيمَتَه، ويكونُ أيضًا لوَرَثَتِه. الحالُ الثالثُ، إذا كان الجانِي عَبْدًا أو مُكاتبًا، فإن كان مُوجَبُ الجِنايةِ القِصاصَ، وكانت على النَّفْسِ، انْفَسَخَتِ الكِتابَةُ، وسَيدُه بالخِيارِ بينَ القِصاصِ والعَفْو على مالٍ يَتَعَلَّقُ برَقَبَةِ الجانِي. وإن كانت فيما دُون النَّفْسِ، كقَطْعِ يَدِه، فللمُكاتَبِ اسْتيفاءُ القِصاصِ، وليس لسيدِه مَنعُه، كما أنَّ المريضَ يَقْتصُّ (¬2) ولا يَعْتَرِضُ عليه وَرَثَتُه، والمُفْلِسَ يَقْتصُّ (2) ولا يَعْتَرِضُ عليه غُرَماؤُه. وإنْ عَفا على مالٍ، ثَبَتَ له، وإن عَفا مُطْلَقًا [أو إلى غيرِ مالٍ] (1)، انْبَنَى على الرِّوايَتَين في مُوجَبِ العَمْدِ؛ إن قُلْنا: مُوجَبُه القِصاصُ عَينًا. صَحَّ، ولم يثْبُتْ له مالٌ، وليس لسيدِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يقبض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مطالبَته باشتراطِ مالٍ؛ لأنَّ ذلك تكَسُّبٌ، ولا يَمْلِكُ السيدُ (¬1) إجْبارَه على الكَسْب. وإن قُلْنا: الواجِبُ أحد أمْرَين. ثَبَتَ له دِيَة الجُرْحِ؛ لأنه لمَّا سَقَطَ (¬2) القِصاصُ، تَعَيَّنَ (¬3) المالُ، ولا يَصِحُّ عَفْوُه عن المالِ؛ لأنَّه لا يَمْلِك التبرعَ بغيرِ إذْنِ سيدِه. وإن صالحَ على بعضِ الأرْشِ، فحكمه حكم العَفْو إلى غير مالٍ. فصل: وإذا مات المُكاتَبُ وعليه ديون وأروش جِناياتٍ، ولم يكُنْ مَلَكَ ما يُؤَدِّي في كتابَتِه، انْفَسَخَتِ الكِتابة، وسَقَطَ أرْشُ الجناياتِ؛ لأنَّها مُتعلِّقَةٌ برَقَبته وقد تَلِفَت، وتُسْتَوْفَى دُيُونه ممَّا كان في يَدِه، فإن لم يَفِ بها سَقَطَ الباقِي. قال أحمد: ليس على سيدِه قَضاءُ دينه، هذا كان يَسْعَى لِنَفْسِه. وإن كان قد مَلَكَ ما يؤَدِّي في كِتابَتِه، انْبَنَى ذلك على الرِّوايَتَين في عِتْقِ المكاتَبِ بمِلْكِ ما يؤَدِّيه، وقد ذَكَرْنا فيه رِوايَتَين، الظَّاهِرُ منهما أنَّه لا يَعْتِقُ بذلك، فتَنْفَسِخ الكِتابَة أيضًا، ويُبْدَأ بقَضاءِ الدَّينِ، على ما ذَكَرْنا في الحالِ الأوَّلِ. وهذا قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ, وشُرَيح، وعَطَاءٍ، وعَمرِو بنِ دينارٍ، وأبي الزِّنادِ، ويحيى الأنْصارِيِّ، ورَبِيعَةَ، والأوْزَاعِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ. والثانيةُ، أنَّه إذا مَلَكَ ما يُؤَدِّي صار حُرًّا. فعلى هذا، يضْرِبُ السيدُ معَ الغرَماءِ بما حَلَّ مِن نُجُومِه. رُويَ نحوُ هذا عن شُرَيح، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ثبت». (¬3) في الأصل، «بغير».

فَصْلٌ: وَالْكِتَابَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَين، لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَلَا يَمْلِكُ أحَدُهُمَا فَسْخَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَكَمِ، وحَمَّادٍ، وابنِ أبي لَيلَى، والثَّوْرِيِّ، والحسنِ بنِ صالحٍ؛ لأنَّه دَينٌ له (¬1) حَالٌّ، فيَضْرِبُ به، كسائِرِ الدُّيُونِ. ويَجِئُ على قول مَن قال: إنَّ الدَّينَ يَحِلّ بالموتِ. أن يَضْرِبَ بجميعِ مالِ الكتابَةِ؛ لأنَّهَ قد حَلَّ بالموْتِ. والمذهبُ الأوَّلُ، الذي نَقَلَه الجماعَةُ عن أحمدَ. وقد روَى سعيدٌ في «سُنَنِه»: ثنا هُشَيمٌ، ثَنا مَنْصُورٌ وسَعِيدٌ، عن قتادَةَ، قال: ذَكَرْتُ لسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ قولَ شُرَيح في المُكاتَبِ إذا مات وعليه دَينٌ وبَقِيَّةٌ مِن مُكاتَبَتِه، فقلت: إنَّ شُرَيحًا قَضَى أنَّ مَوْلاه يَضْرِبُ مع الغُرماءِ. فقال سعيدٌ: أخْطَأ شُرَيحٌ، قَضَى زيدٌ بالدَّينِ قبلَ المُكاتَبَةِ (¬2). فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (والكتابةُ عَقْدٌ لازِمٌ مِن الطَّرَفَين، لا يَدْخُلُها خِيارٌ، ولا يَمْلِكُ أحدُهما فَسْخَها) وجملة ذلك، أنَّ الكِتابَةَ عَقْدٌ لازِمٌ من الطرَفَين؛ لأنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ عَقْدَ النِّكاحِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 413. وابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 395، 396. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 332، 333.

3021 - مسألة: (ولا تنفسخ بموت السيد)

وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقبَلٍ. وَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَلَا جُنُونِهِ، وَلَا الْحَجْرِ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبَيعِ، ولا يَدْخُلُها خِيارٌ؛ لأنَّ الخِيارَ شُرِعَ لدفْعِ الغَبْنِ عن المالِ، والسيدُ دَخَلَ على بَصِيرَةِ أنَّ (¬1) الحظَّ لعبده، فلا مَعْنَى للخيارِ. ولا يَمْلِكُ أحدُهما فَسْخها، قياسًا على سائِرِ العُقُودِ اللازِمَةِ. وعنه، أنَّ العبدَ يَمْلِكُ ذلك، وسَنَذكُرُه إن شاء اللهُ (ولا يجوزُ تَعلِيقُها على شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ) كسائِرِ عُقُودِ المُعاوَضاتِ. 3021 - مسألة: (ولا تَنْفَسِخُ بمَوتِ السيدِ) لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا (ولا) تَنْفَسِخُ (بجُنُونِه، ولا الحَجْرِ عليه) لأنَّه عَقْدٌ لازِمٌ، أشْبَهَ البَيعَ. ¬

(¬1) في الأصل: «لأن».

3022 - مسألة: (ويعتق بالأداء إلى سيده، [وإلى من يقوم مقامه من الورثة وغيرهم)

وَيَعْتِقُ بِالأدَاءِ إِلَى سَيِّدِهِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ وَغَيرِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3022 - مسألة: (ويَعْتِقُ بالأداءِ إلى سيدِه، [وإلى مَن يَقُومُ مَقامَه مِن الوَرَثَةِ وغيرِهم) ولا خلافَ في أنَّه يَعْتِق بالأداءِ إلى سيدِه] (¬1)، وقد ذَكَرْنا ذلك. وبالأداءِ إلى الوَرَثَةِ؛ لأنَّه انْتَقَلَ إليهم مع بقاءِ الكِتابةِ، فهو كالأداءِ إلى مَوْرُوثِهم، ويكونُ مَقْسُومًا بينَهم على قَدْرِ موارِيثهم، كسائِرِ دُيُونِه، فإذا كان له أولادٌ ذكورٌ وإناثٌ، فللذَّكَرِ مِثْلُ حَظ الأنْثَيَين. ولا يَعْتِق حتى يُؤَدِّيَ إلى كلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّه. فإن أدَّى إلى بعضِهم دُونَ بعضٍ لم يَعْتِقْ، كما لو كان بينَ شُرَكَاءَ، فأدَّى إلى بعضِهم، فإن كان بعضُهم غائِبًا، [وله وَكِيلٌ، دَفعَ نَصِيبَه إلى وكِيله، وإن لم يكُنْ له وكيلٌ، دَفَعَ نَصِيبَه إلى الحاكمِ، وعَتَقَ. وإن كان مُوَلَّيًا عليه] (¬2)، دَفَعَ إلى وَلِيِّه؛ إمَّا أبيه أو وَصِيِّه أو الحاكِمِ أو أمِينه، فإن كان له وَصِيَّان، لم يَبْرَأ إلَّا بالدَّفْعِ إليهما معًا. وإن كان الوارِثُ رَشِيدًا قَبَضَ لنَفْسِه، ولا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ [إلى غيرِه] (1) ليَقْبِضَ له؛ لأنَّ الرَّشِيدَ وَلِيُّ نَفْسِه، وإن كان بعضُهم رَشِيدًا وبعضُهم مُوَلَّيًا عليه، فحكمُ كلِّ واحدٍ منهم حُكْمُه لو انْفَرَدَ. فإن أذِنَ بعضُهم في الأداءِ إلى الآخَرِ، وكان الذي أذِنَ رَشِيدًا، فأدَّى إلى الآخَرِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعَ حَقِّه، عَتَقَ نَصِيبُه، ولا يَسْرِي إلى نَصِيبِ شَرِيكِه إن كان مُعْسِرًا، ويَسْرِي إليه إن كان مُوسِرًا، ويُقَوَّمُ (¬1) عليه نَصِيبُ شَرِيكِه كلُّه، كما لو كان بينَ شَرِيكَين فأعْتَقَ أحَدُهما نَصِيبَه. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال القاضي: لا يَسْرِي عِتْقُه وإن كان مُوسِرًا. وهو القولُ الثاني للشافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَعْتِقُ إلَّا بأداءِ جَمِيعِ مالِ الكِتابةِ؛ لأنَّه أدَّى بعضَ مالِ الكِتابةِ، فأشبَهَ ما لو أدَّاه إلى السيدِ. فإن أبرءوه من مال الكتابة برئَ منه وعَتَقَ، وإن أبرَأه بعضُهم عَتَقَ نَصيبُه، وكذلك إن أعتَقَ نَصِيبَه منه عَتَقَ. والخِلافُ في هذا كلِّه كالخِلافِ فيما إذا أدَّى إلى بعضِهم بإذْنِ الآخَرِ. ولَنا على أنَّه يَعْتِقُ نَصيبُ مَن أبرَأ مِن حَقَه عليه أو اسْتَوْفَى نَصيبَه بإذْن شُرَكائه، أنَّه أبرَأه من جَميع ما لَه عليه، فوَجَبَ أن يَلْحَقَه العِتْقُ، كما لو أبرَأه سيدُه مِن جميعِ مالِ الكتابةِ، وفارَقَ ما إذا أبرَأه سيدُه مِن بعض مالِ الكِتابةِ؛ لأنَّه ما أبرأه مِن جميع حَقه. ولَنا على سِرايةِ عِتْقِه، أنَّه إعْتاقٌ لبعضِ العبدِ الذي يجوزُ إعْتاقُه مِن مُوسِرٍ جائِزِ التَّصَرُّفِ غيرِ مَحْجُورٍ عليه، فوَجَبَ أن يَسْرِيَ عِتْقُه، كما لو كان قِنًّا, ولأنَّه عِتْق حَصَلَ بفِعْلِه واخْتِيارِه، فسَرَى، كمحَل الوفاقِ. فإن قيل: في السِّرايَةِ إضْرَارٌ بالشُّرَكاءِ؛ لأنَّه قد يَعْجِزُ فيُرَدُّ إلى ¬

(¬1) في الأصل: «يقدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّق. قُلْنا: إذا كان العِتْقُ في مَحَلِّ الوفاقِ [يُزِيلُ الرِّقَّ المُتَمَكِّنَ الذي لا كِتابَةَ فيه، فَلأن يُزِيل عَرَضِيَّةَ ذلك بطريقِ الأوْلَى. فصل: وإذا عَتَق بالأداءِ] (¬1) إلى الوَرَثَةِ، فوَلاؤُه لسيدِه في إحدَى الرِّوايَتَين. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. يَختَصُّ به عَصَباتُه دُونَ أصْحابِ الفُروضِ. وهذا قولُ أكثرِ الفُقهاءِ. واختاره أبو بكر. ونقله (¬2) إسحاقُ بنُ مَنْصورٍ عن أحمدَ، وإسحاقَ. وروَى حَنْبَل، وصالحُ بن أحمدَ، عن أبِيه، يأتي: اخْتَلَفَ النَّاسُ في المُكاتَبِ يَمُوتُ سيدُه وعليه بَقِيَّة مِن كِتابتِه؛ قال بعضُ الناسِ: الوَلاءُ للرِّجَالِ والنِّساءِ. وقال بعضُهم: لا وَلاءَ للنِّساءِ؛ لأنَّ هذا إنَّما هو دَينٌ على المُكاتَبِ، ولا يَرِثُ النِّساءُ من الولاء إلَّا ما كاتَبْنَ أو أعْتَقْنَ. والذي يَغْلِبُ عليَّ أنَّهُنَّ يَرِثْنَ؛ [وذلك لأنَّ المُكاتَبَ لو عَجَزَ] (¬3) بعدَ وَفاةِ السيدِ رُدَّ رَقِيقًا. وهذا قولُ طاوس، والزُّهْرِيِّ؛ لأنَّ المُكاتَبَ انْتَقَلَ إلى الوَرَثَةِ بموتِ المكاتِبِ (¬4)، بدليلِ أنَّهم لو أعْتَقُوه نَفَذ (¬5) عِتْقُهم، فكان ولاؤه لهم، كما لو انْتَقَلَ بالشِّراءِ، ولأنَّه يُؤَدِّي إلى الوَرَثَةِ، فكان وَلاؤه لهم، كما لو أدَّى إلى المُشْتَرِي. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ السيدَ هو المُنْعِمُ بالعِتْقِ، فكان الولاءُ له، كما لو أدَّى إليه، ولأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «فقبله». (¬3) في م: «ولو عجز المكاتب». (¬4) في م: «السيد». (¬5) في م: «بعد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرَثَةَ إنَّما يَنْتَقِلُ إليهم ما بَقِيَ للسيدِ، وإنَّما بَقِيَ له دَينٌ في ذِمَّةِ المكاتَبِ، والفَرْقُ بينَ المِيراثِ والشِّراءِ، أنَّ السيدَ نَقَل حَقَّه في البَيعِ باخْتِيارِه، فلم يَبْقَ له فيه حَقٌّ مِن وَجْهٍ، والوارِثُ يَخْلُف المَوْرُوث ويَقُومُ مَقَامَه، [ويَبْنِي على ما فَعَلَه] (¬1) مَوْرُوثُه، [ولا] (¬2) يَنْتَقِلُ إليه شَيءٌ أمْكَنَ بَقاؤه لمَورُوثِه، والولاءُ ممَّا أمْكَنَ بقاؤه للمَوْرُوثِ، فوَجَبَ أن لا يَنْتَقِلَ عنه. وقد ذَكَرْنا ذلك في بابِ الوَلاءِ. فصل: فإن أعْتَقَه الوَرَثةُ صَحَّ عِتْقُهم؛ لأنَّه مِلْكٌ لهم، فصَحَّ عِتْقُهم له، ولأنَّ السيدَ لو أعْتَقَه نَفَذَ عِتْقُه، وهم يقُومونَ مَقامَ مَوْرُوثِهم. ووَلاؤُه لهم، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّما الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ» (¬3). وإن أعْتَقَ بَعْضُهم نَصِيبَه فعَتَقَ عليه كلُّه بالسِّرايَةِ، قُوِّمَ عليه نَصِيبُ شُرَكائِه، و (¬4) كان وَلاؤه له، وإن لم يَسْرِ لكَوْنِه مُعْسِرًا أو لغيرِ ذلك، فله وَلاءُ ما أعْتَقَه؛ للخَبَرِ، ولأنَّه مُنْعِمٌ عليه، فكان الوَلاءُ له، كغيرِ المُكاتَبِ. وقال القاضي: إن أعْتَقُوه كُلّهم قبلَ عَجْزِه، كان الوَلاءُ للسيدِ، وإن أعْتَقَ بعضُهم لم يَسْرِ عِتْقُه، ثم يُنْظرُ، فإن أدَّى إلى الباقِين عَتَقَ كلّه، ¬

(¬1) في م: «ويلي على». (¬2) في الأصل: «لأنه». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬4) في الأصل: «وإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان وَلاؤه للسيدِ، وإن عَجَزَ فرَدُّوه إلى الرِّقِّ، كان وَلاءُ نَصِيبِ المُعْتِقِ له؛ لأنَّه لولا إعْتاقُه لعاد سَهْمُه رَقِيقًا كسِهامِ سائِرِ الوَرَثَةِ، فلمَّا أعْتَقَه كان هو المُنْعِمَ عليه، فكان الوَلاءُ له دُونَهم. فأمَّا إن أبرأه الوَرَثَةُ كلُّهم عَتَقَ، وكان وَلاؤه على الرِّوايَتَين اللَّتَين ذَكَرْناهما فيما إذا أدَّى إليهم؛ لأنَّ الإِبراءَ جَرَى مَجْرَى أداء ما عليه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ الوَلاءُ لهم؛ لأنَّهم أنْعَمُوا عليه بما عَتَقَ به، أشبَهَ ما لو أعْتَقُوه، وإن أبرأه بعضُهم مِن نَصِيبِه، كان في وَلائِه ما ذَكَرْناه مِن الخِلافِ. فصل: إذا باع الوَرَثَةُ المُكاتَبَ أو وَهَبُوه، صَحَّ بَيعُهم وهِبَتُهم؛ لأنَّهم يَقُومُونَ مَقامَ مَوْرُوثِهم، وهو يَمْلِكُ بَيعَه وهِبَتَه، كذلك وَرَثته، ويكونُ عندَ المُشْتَرِي والمَوْهُوبِ له مُبْقًى على ما بَقِيَ مِن كِتابتِه، إن عَجَزَ فعَجَّزَه، عاد رَقِيقًا له، وإن أدَّى [وعَتَقَ، كان] (¬1) وَلاؤه لمَن يُؤَدَّى إليه، على الرِّوايةِ التي تقولُ: إنَّ وَلاءَه للوَرَثَةِ إذا أدَّى إليهم. وأمَّا على الرِّوايَةِ الأخْرَى، فيَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ بَيعُه ولا هِبَتُه؛ لأنَّ ذلك يَقْتَضِي إبْطال سَبَبِ ثُبُوتِ الوَلاءِ للسيدِ الذي كاتَبَه، وليس ذلك [للوَرَثَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ، ويكونَ الوَلاءُ للسيدِ إن أُعْتِقَ بالكِتابَةِ؛ لأنَّ السيدَ عَقَدَها، فعَتَقَ بها، فكان وَلاؤه] (¬2) له، ويُفارِقُ ما باعَه السيدُ؛ لأنَّ السيدَ ببَيعِه أبطَلَ حَقَّ نَفْسِه، وله ذلك، بخِلافِ الوَرَثَةِ، فإنَّهم لا يَمْلِكُونَ إبْطال حَقِّ مَوْرُوثِهم. ¬

(¬1) في م: «عتق وكان». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا وصَّى السيدُ بمالِ الكِتابَةِ صَحَّ. فإن سَلَّمَ مال الكِتابَةِ إلى المُوصَى له، أو وَكِيله، أو وَلِيِّه إن كان مَحْجُورًا عليه، بَرِئ منه، وعَتَقَ، ووَلاؤُه لسيدِه الذي كاتَبَه؛ لأنَّه المُنْعِمُ عليه، وإن أبرأه مِن المالِ، عَتَقَ؛ لأنَّه بَرِئ مِن مالِ الكِتابَةِ، فأشْبَهَ ما لو أدَّى، وإن أعْتَقَه، لم يَعْتِقْ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ رَقَبَتَه، وإنَّما وَصَّى له بالمالِ الذي عليه، وإن عَجَزَ ورُدَّ في الرِّق، صارَ عَبْدًا للوَرَثَةِ، وما قَبَضَه المُوصَى له مِن المالِ فهو له؛ لأنَّه قَبَضَه بحُكْمِ الوَصِيَّةِ الصَّحيحَةِ، والأمْرُ في تَعْجِيزِه إلى الوَرَثَةِ؛ لأنَّ الحَقَّ يَثْبُتُ لهم بتَعْجِيزِه ويَصِيرُ عبدًا لهم، فكانت الخِيَرَةُ في ذلك إليهم، وتَبْطُلُ وَصِيَّة المُوصَى له بتَعْجِيزِه. وإن وَصَّى بمالِ الكِتابةِ للمساكِينِ، ووَصَّى إلى مَن يقْبضُه ويُفَرِّقُه بينَهم، صَحَّ، ومتى سَلَّمَ المال إلى الوصِيِّ بَرِيء وعَتَقَ. وإن أبرَأه منه لم يَبْرأ؛ لأنَّ الحَقَّ لغيرِه. فإن دَفَعَه المُكاتَبُ إلى المساكِينِ لم يَبْرأ منه ولم يَعْتِقْ؛ لأنَّ التَّعْيِينَ إلى الوَصِيِّ دُونَه. وإن وَصَّى بدَفْعِ المالِ إلى غُرَمائِه، تَعَيَّنَ القَضَاءُ منه، كما لو وَصَّى به عَطيَّةً لهم، فإن كان إنَّما وَصَّى بقَضاءِ دُيُونِه مُطْلَقًا، كان على المُكاتَب أن يَجْمَعَ بينَ الوَرَثَةِ والوَصِيِّ بقَضَاءِ الدَّينِ، ويدْفَعَه إليهم بحَضْرَتِه؛ لأَنَّ المال للوَرَثَةِ، ولهم قَضاءُ الدَّينِ منه ومِن غيرِه، وللوَصِيِّ في قَضَاءِ الدَّينِ حَقٌّ؛ لأن له مَنْعَهم مِن التَّصرُّفِ في التَّرِكَةِ قبلَ قَضاءِ الدَّينِ. فصل: إذا مات رجلٌ وخَلَّفَ ابْنَين وعَبْدًا، فادَّعَى العبدُ أنَّ سَيدَه كاتَبَه، فصَدَّقاه، ثَبَتتِ الكِتابَةُ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. وإن أنْكَراه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكانت له بَيَنةٌ، ثَبَتَتِ الكِتابَةُ، وعَتَقَ بالأداءِ إليهما. وإن عَجَزَ، فلهما رَدُّه إلى الرِّقِّ. وإن لم يُعَجِّزاه، وصَبَرا عليه، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ. وإن عَجَّزَه أحَدُهما، وأبى الآخَرُ تَعْجِيزَه، بَقِيَ نِصْفُه على الكِتابةِ، ورَقَّ النِّصْفُ الآخَرُ. فإن لم تكُنْ له بَيَنة، فالقولُ قولُهما مع أيمانِهما؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ الرِّق وعَدَمُ الكِتابَةِ، وتكونُ أيمانُهما على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّها يَمِينٌ على نَفْي فِعْلِ الغيرِ، فإن حَلَفا ثَبَتَ رِقُّه، وإن نَكَلَا قُضِيَ عليهما، أو رُدَّتِ اليَمِينُ عليه عندَ مَنِ يَرَى رَدَّها، فيَحْلِفُ العبدُ وتَثْبُتُ الكِتابَة. وإن حَلَفَ أحَدُهما ونَكَلَ الآخرُ، قُضِيَ برِقِّ نِصْفِه وكِتابةِ نِصْفِه. وإن صَدَّقَه أحَدُهما وكَذَّبَه الآخرُ، ثَبَتَتِ الكِتابَةُ في نِصْفِه، وعليه البَينةُ في نِصْفِه الآخَرِ، فإن لم تكُنْ بَيَنةٌ، وحَلَفَ المُنْكِرُ، صارَ نِصْفُه مُكاتَبًا ونِصْفُه رَقيقًا قِنًّا. فإن شَهِدَ المُقِرُّ على أخِيه، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه لا يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا, ولا يَدْفَعُ عنها ضَرَرًا، فإن كان معه شاهِدٌ آخَرُ، كَمَلَتِ الشَّهادَةُ، وثَبَتَتِ الكِتابَةُ في جَمِيعِه. وإن لم يَشْهَدْ غَيرُه، فهل يَحْلِفُ العبدُ معه؟ على رِوايَتَين. وإن لم يكُنْ عَدْلًا، أو لم يَحْلِفِ العَبْدُ معه، وحَلَف المُنْكِرُ، كان نِصْفُه مُكاتبًا ونِصْفُه رَقِيقًا، ويكونُ كَسْبُه بينَه وبينَ المُنْكِرِ نِصْفَين، ونَفَقَتُه مِن كَسْبِه؛ لأنَّها على نَفْسِه وعلى مالكِ نِصْفِه، فإنْ لم يَكُنْ له كَسْبٌ، كان على المُنْكِرِ نِصْفُ نفقتِه، ثم إنِ اتَّفَقَ هو ومالِكُ نِصْفِه على المُهايأةِ مياوَمَةً (¬1)، أو مُشَاهَرَةً، أو كيفَما كان، جاز، فإن طَلَبَ ¬

(¬1) في الأصل: «موايمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما ذلك وامْتَنَعَ الآخَرُ، أُجْبِرَ عليها، في ظاهِرِ كلام أحمدَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ المَنافِعَ مُشْتَرَكَةٌ بينَهما، فإذا أراد أحَدُهما حِيازَةَ نَصِيبِه مِن غيرِ ضَرَرٍ لَزِمَ الآخَرَ إجَابَتُه، كالأعْيانِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْبَرَ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المُهايأةَ تَأخِيرُ حَقِّهِ الحالِّ، لكونِ المَنافِع في هذا اليومِ مُشْتَرَكَةً بينَهما، فلا تَجِبُ الإِجابةُ إليه، كتَأخِيرِ دَينه الحال. فإنِ اقْتَسَما الكَسْبَ مُناصَفَةً أو مُهايأة، جازَ، فإن لم يَفِ بأداءِ نُجُومِه، فللمُقِرِّ رَدُّه في الرِّقِّ، وما في يَدِه له خاصَّةً؛ لأنَّ المُنْكِرَ قد أخَذَ حَقَّه مِن الكَسْبِ. وإنِ اخْتَلَفَ المُنْكِرُ والمُقِرُّ فيما في يَدِ المُكاتَبِ، فقال المُنكرُ: هذا كان في يَدِه قبلَ دَعْوَى الكِتابَةِ -أو- كَسَبَه في حياةِ أبِينا. وأنْكر ذلك المُقِرُّ، فالقولُ قولُه مع يَمينه؛ لأنَّ المُدَّعِيَ يَدَّعِي كَسْبَه في وَقْتٍ الأصْلُ عَدَمُه فيه، ولأنَّه لو اخْتَلَفَ هو والمُكاتَبُ في ذلك، كان القَوْلُ قول المُكاتَبِ، فكذلك مَنِ يقومُ مَقامَه. وإن أدَّى الكِتابَةَ، عَتَقَ نَصِيبُ المُقِرِّ خاصَّةً، ولم يَسْرِ إلى نصِيبِ شَرِيكِه؛ لأنَّه (¬1) لم يُباشِرِ العِتْقَ، ولم يُنْسَبْ إليه، وإنَّما كان السَّبَبُ (¬2) من أبِيه، وهذا حَاكٍ (¬3) عن أبِيه مُقِرٌّ بفِعْلِه، فهو كالشاهدِ، ولأنَّ المُقِرَّ يَزْعُمُ أنَّ نَصِيبَ أخِيه حُرٌّ أيضًا؛ لأنَّه قَد قَبَضَ مِن العَبْدِ مثلَ ما قَبَضَ، فقد حَصَلَ أداءُ مالِ الكِتابَةِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «له». (¬2) في الأصل: «النسب». (¬3) في الأصل: «خال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليهما جميعًا (¬1)، فعَتَقَ كلُّه بذلك، ووَلاءُ النِّصْفِ للمُقِرِّ؛ لأنَّ أخاه لا يَدَّعِيه، والمُقِرُّ يَدَّعِي أنَّه كلُّه عَتَقَ بالكِتابَةِ وهذا الوَلاءُ الذي على هذا النِّصْفِ نصِيبِي (¬2) مِن الوَلاءِ. وقال أصحابُ الشافعي: في ذلك وَجْهانِ. أحدُهما، كقَوْلِنا. والثاني، أنَّ الوَلاءَ بينَ الابْنَين؛ لأنَّه يَثْبُتُ لمَوْرُوثِهما، فكان لهما بالمِيرَاثِ. قال شيخُنا (¬3): والصَّحيحُ ما قُلْناه؛ لما ذَكَرْنا, ولا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الوَلاءِ للأب واخْتِصاصُ أحَدِ الابنَين به، كما لو ادَّعَى أحَدُهما دَينًا لأبِيه على إنْسانٍ، وأَنْكَرَه الآخَرُ، فإنَّ المُدَّعِيَ يَأخذ نَصِيبَه مِن الدَّينِ ويَخْتَصُّ به دُونَ أخِيه، وإن كان يَرِثُه عن الأبِ، وكذلك (¬4) لو ادَّعَياه مَعًا، وأقاما به شاهِدًا واحدًا، فحلَفَ أحَدُهما مع الشاهِدِ، وأبَى الآخَرُ. فإن أعْتَقَ أحَدُهما حِصَّتَه، عَتَقَ، وسَرَى إلى باقِيه إن كان مُوسِرًا. هذا قولُ الخِرَقِيِّ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيهِ قِيمَةَ العَدْلِ، وأعْطى شُرَكَاءَه حِصَصَهُمْ» (¬5). ولأنَّه مُوسِرٌ عَتَقَ نَصِيبُه مِن عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فسَرَى إلى باقِيه، كغيرِ المُكاتَبِ. وقال أبو بكر، والقاضي: لا يَعْتِقُ إلَّا حِصتُه؛ لأنَّه إنْ كان المُعْتِقُ المُقِرَّ، فهو مُنَفِّذٌ، وإن كان ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «من نصيبي». (¬3) في: المغني 14/ 475. (¬4) في م: «لذلك». (¬5) تقدم تخريجه في 15/ 259.

3023 - مسألة: (وإن حل نجم فلم يؤده، فللسيد الفسخ. وعنه، لا يعجز حتى يحل نجمان. وعنه، لا يعجز حتى يقول: قد عجزت)

فَإِن حَلَّ نَجْمٌ فَلَمْ يُودِّهِ، فَلِلسَّيِّدِ الْفَسْخُ. وَعَنْهُ، لَا يَعْجِزُ حَتَّى يَحِلَّ نَجْمَانِ. وَعَنْهُ، لَا يَعْجِزُ حَتَّى يَقُولَ: قَدْ عَجَزْتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْكِرَ، لم يَسْرِ إلى نَصِيبِ المُقِرِّ؛ لأنَّه مُكاتَبٌ لغيرِه، وفي سِرايةِ العِتْقِ إليه إبْطالُ سَبَبِ الوَلاءِ عليه، فلم يَجُزْ ذلك. 3023 - مسألة: (وإن حَلَّ نَجْمٌ فلم يُؤَدِّه، فللسيدِ الفَسْخُ. وعنه، لا يَعْجِزُ حتى يَحِلَّ نَجْمانِ. وعنه، لا يَعْجِزُ حَتَّى يقولَ: قد عَجَزْتُ) اخْتَلَفتِ الرِّوَايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، فيما يجوزُ للسيدِ به فَسْخُ الكِتابةِ، فرُوِيَ عنه أنَّه يجوزُ له الفَسْخُ إذا عَجَزَ عن نَجْم واحدٍ. وهو قولُ الحارثِ العُكْلِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ السيدَ دَخَلَ على أن يُسَلِّمَ له مال الكِتابةِ على الوَجْهِ الذي كاتَبَه عليه، ويَدْفَعَ إليه المال في نُجُومِه، فإذا لم يُسَلِّمْ له لم يَلْزَمْه عِتْقُه. ولأنَّه عَجَزَ عن أداءِ النَّجْمِ في وَقْتِه (¬1)، فجازَ فسْخُ كِتابَتِه، كالنَّجْمِ الأخِيرِ. ولأنَّه تَعَذَّرَ العِوَضُ في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ، ووَجَدَ عينَ مالِه، فكان له الرُّجُوعُ، كما لو باع سِلْعَةً فأفْلَسَ المُشْتَرِي قبلَ نَقْدِ ثَمَنِها. والروايةُ الثانيةُ، أنَّ السَّيِّدَ لا يَمْلِكُ الفَسْخَ حتَّى يَحِلَّ نَجْمانِ قبلَ أدائِهما. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. قال القاضي: وهو ظاهِرُ كلامِ أصحابِنا. رُوِيَ ذلك عن الحكمِ، وابنِ أبي لَيلَى، ¬

(¬1) بعده في م: «فجاز في وقته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبي يوسفَ، والحسنِ بنِ صالحٍ؛ لما رُوِيَ عن علي، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لا يُرَدُّ المُكاتَبُ في الرِّقِّ حتَّى يَتَوالى عليه نَجْمان (¬1). ولأنَّ ما بينَ النَّجْمَين مَحِلٌّ لأداءِ الأوَّلِ، فلا يتَحَقَّقُ العَجْزُ عنه حتى يَفُوتَ مَحِلُّه بحُلُولِ الثاني. والروايةُ الثالثةُ، أنَّه لا يَعْجِزُ حتى يقولَ: قد عَجَزْتُ. رَواها عنه ابنُ أبي موسى. وروى عنه أنَّه إذا أدَّى أكثرَ مالِ الكِتابةِ، لم يُرَدَّ إلى الرِّقِّ، واتْبعَ بما بَقِيَ. وإذا قُلْنا: للسيدِ الفَسْخُ. لم تَنْفَسِخِ الكِتابةُ بالعَجْزِ، بل له مُطالبَةُ المُكاتَبِ بما حَلَّ مِن نُجُومِه؛ لأنَّه دَينٌ له حَلَّ، فأشْبَهَ دَينَه على الأجْنَبِيِّ، [وله] (¬2) الصَّبْرُ عليه وتأخِيرُه به، سَوَاءٌ كان قادِرًا على الأداءِ أو عاجِزًا؛ لأنَّه حَقٌّ له سَمَحَ بتأخِيرِه، أشْبَهَ الدَّينَ على الأجْنَبِيِّ. فإنِ اختار الصَّبْرَ عليه لم يَمْلِكِ [العَبْدُ الفَسْخَ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ، على أنَّ] (¬3) المُكاتَبَ إذا حَلَّ عليه نَجْمٌ، [أو نَجْمان] (¬4)، أو نُجُومُه كُلُّها، فوَقَفَ (¬5) السَّيِّدُ عن مُطالبَتِه وتَرَكَه بحالِه، أنَّ الكِتابَةَ لا تَنْفَسِخُ، ¬

(¬1) أخرجه ابن حزم، في: كتاب الكتابة. المحلى 10/ 292. (¬2) في الأصل: «فإن اختار». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «ونجم». (¬5) في الأصل: «توقف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما داما ثابتَين على العَقْدِ الأوَّلِ. وإن أجَّلَه به ثم بَدا له الرُّجُوعُ، فله ذلك؛ لأنَّ الحالَّ لا يتَأجَّلُ بالتَّأجِيلِ، كالقَرْضِ. وإنِ اخْتار السيدُ فَسْخَ كِتابتِه ورَدَّه إلى الرِّقِّ، فله ذلك، بغيرِ حُضُورِ حاكمٍ ولا سُلْطانٍ، ولا تَلْزَمُه الاسْتِنابَةُ. فعَل ذلك [ابنُ عُمَرَ] (¬1). وهو قولُ شُرَيحٍ، والنَّخَعِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وقال ابنُ أبي لَيلَى: لا يكونُ عَجْزُه إلَّا عندَ قاضٍ. وحُكِيَ نحوُه عن مالكٍ. وقال الحسنُ: إذا عَجَزَ اسْتُؤْنِي (¬2) بعدَ العَجْزِ سَنَتَين. وقال الأوْزَاعِيُّ: شَهْرَين. ولَنا، ما روَى سعيدٌ بإسنادِه عن ابنِ عمرَ، أنَّه كاتَبَ عبدًا له على ألفِ دِينارٍ، وعَجَزَ عن مائةِ في ينارٍ، فرَدَّه في الرِّقِّ (¬3). وبإسنادِه عن عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ، عن ابنِ عمرَ، أنَّه كاتَبَ عبدَه على عشرينَ ألْفًا، فأدَّى عَشَرةَ آلافٍ، ثم أتاهُ، فقال: إني طُفْتُ العِراقَ والحِجازَ، فرُدَّنِي في الرِّقِّ. فرَدَّه. ورُوِيَ عنه أنَّه كاتَبَ عبدًا له على ثَلاثِينَ ألْفًا، فقال له: أنا عاجِزٌ. فقال له: امْحُ كِتابَتَك. فقال: امْحُ أنتَ (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «استوفى». واستؤنى. أي انتُظِر. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 216. (¬4) وأخرجه البيهقي في: باب عجز المكاتب، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 341. وعبد الرزاق، في: باب عجز المكاتب وغير ذلك، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 407، 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى سعيدٌ، بإسْنادِه عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ، فقال: «أيُّمَا رَجُل كَاتَبَ غُلَامَهُ عَلَى مِائَةِ أوقِيَّةٍ، فَعَجَزَ عَنْ عَشْرِ أراقٍ، فَهُوَ رَقِيقٌ» (¬1). ولأنَّه عَقْد عَجَزَ عن عِوَضِه، فمَلَكَ مُسْتَحِقُّه (¬2) فَسْخَه، كالسَّلَمِ إذا تَعَذَّرَ المُسْلَمُ فيه. فإن قيل: فلِمَ كانتِ الكِتابةُ لازِمَةً مِنِ جِهَةِ السيدِ، غيرَ لازِمَةٍ مِن جِهَةِ العبدِ؟ قُلْنا: بل هي لازِمَةٌ مِن الطرفين، ولا يَمْلِكُ العبدُ فَسْخَها، وإنَّما له أن يُعَجِّزَ نَفْسَه، ويَمْتَنِعَ مِن الكَسْبِ، وإنَّما جاز له ذلك لوَجْهَين: أحدُهما، أنَّ الكِتابةَ تَتَضَمَّنُ إعْتاقًا بصِفَةٍ، ومَن عُلِّقَ عِتْقُه بصِفةٍ لم يَمْلِكْ إبْطالها، ويَلْزَمُ وقوعُ العِتْقِ بالصِّفَةِ، ولا يَلْزَمُ العَبْدَ الإتيانُ بها ولا الإِجْبارُ عليها. الثاني، أنَّ الكِتابَةَ لحظِّ العبدِ دُونَ سيدِه، فكان لازِمًا، كمَن (¬3) ألزَمَ نَفْسَه حَظَّ غيرِه، وصاحِبُ الحَط بالخِيارِ فيه، كمَن ضَمِنَ لغيرِه شيئًا أو كَفَلَ له أو رَهَنَ عندَه رَهْنًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 300. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا حَلَّ النَّجْمُ على المُكاتَبِ ومالُه حاضِرٌ عندَه، طُولِبَ به، ولم يَجُزِ الفَسْخُ قبلَ الطَّلَبِ، كما لا يجوزُ فَسخُ البَيعِ والسَّلَمِ بمُجَرَّدِ وُجُوبِ الدَّفْعِ قبلَ الطَّلَبِ. فإن طُلِبَ منه، فذكَرَ أنَّه غائِبٌ عن المجْلِس في ناحِيةٍ مِن نواحِي البَلَدِ، أو قَرِيبٌ منه على مسافةٍ لا تُقْصَرُ فيها الصَّلاةُ يُمْكِنُ (¬1) إحْضارُه قَرِيبًا، لم يَجُزْ فَسْخُ الكِتابَةِ، وأمْهِلَ بقَدْرِ ما يَأتِي به إذا طَلَبَ الإِمْهال؛ لأنَّ هذا يَسِيرٌ لا ضَرَرَ فيه. وإن كان معه مالٌ مِن غيرِ جِنْسِ مالِ الكِتابَةِ، فطَلَبَ الإِمْهال ليَبِيعَه بجِنْسِ مالِ الكِتابَةِ، أمْهِلَ. وإن كان المالُ غائِبًا أكثرَ مِن مسافَةِ القَصْرِ لم يَلْزَمِ الإِمْهالُ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان له مالٌ حاضِرٌ، أو غائِبٌ يَرْجُو قُدُومَه، [اسْتُؤْنِي يَوْمَين وثَلاثةً] (¬2)، لا أزيدُه على ذلك. لأنَّ الثلاثةَ آخِرُ حَدِّ القِلّةِ والقُرْب؛ لِما بَيَّنَّاه فيما مَضَى، وما زاد عليها في حَدِّ الكَثْرَةِ (¬3). وهذا كله قريبٌ بعضُه مِن بعض. فأمَّا إذا كان قادرًا على الأداءِ واجِدًا لما يُؤَدِّيه، فامْتَنَعَ مِن أدائِه، و (¬4) قال: قد عجَزْتُ. فقال الشَّرِيف أبو جَعْفَرٍ، وجماعةٌ مِن (¬5) أصْحابِنا المتَأخِّرين: يَمْلِكُ ¬

(¬1) في م: «لم يمكن». (¬2) في الأصل: «استوفى يومين أو ثلاثة». (¬3) في الأصل: «أكثره». (¬4) في م: «أو». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السيدُ الفَسْخَ. وهو الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ، وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو بكرِ بنُ جَعْفَرٍ: ليس له ذلك، ويُجْبَرُ على تَسْلِيمِ العِوَضِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والأوْزَاعِيِّ. وقد ذُكِرَ ذلك في كتابِ البَيعِ. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه إذا قَدَرَ على أداءِ المالِ كُلِّه، أنَّه يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ ما يُؤَدِّي. وقد ذَكَرناها. فصل: فإن حَلَّ النَّجْمُ والمُكاتَبُ غائِبٌ بغيرِ إذْنِ سيدِه، فله الفَسْخُ. وإن كان غاب بإذْنِه، لم يكنْ له أن يَفْسَخَ؛ لأنَّه أذِنَ في السَّفَرِ المانِعِ مِن الأداءِ، لكنْ يُرْفَعُ الأمْرُ إلى الحاكِمِ، ليَجْعَلَ للسيدِ فَسْخَ الكِتابةِ. وإن كان قادِرًا على الأداءِ، طالبَه بالخُرُوجِ إلى البَلَدِ الذي فيه السيدُ ليُؤَدِّيَ مال الكِتابَةِ، أو يُوَكِّلَ مَن يَفْعَلُ ذلك، فإن فَعَلَه في أوَّلِ حالِ الإِمكانِ عندَ خُرُوجِ القافلةِ، إن كان لا يُمْكِنُه الخروجُ إلَّا معها, لم يَجُزِ الفَسْخُ، [وإن أخَّرَه مع الإِمكانِ، ومَضَى زَمَنُ المَسِيرِ، ثَبَتَ للسيدِ خيارُ الفسْخِ، وإن كان قد جَعَلَ للوكيلِ الفَسْخَ] (¬1) عندَ امتناعِ المُكاتَبِ مِن الدَّفْعِ إليه، جازَ، وله الفَسْخُ إذا ثَبَتَتْ وَكالتُه ببَينةٍ، بحيث يَأمَنُ المُكاتَبُ إنْكارَ السيدِ، فإن لم يَثْبُتْ ذلك، لم يَلْزَمِ المُكاتَبَ الدَّفْعُ إليه، وكان ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3024 - مسألة: (وليس للعبد فسخها بحال)

وَلَيسَ لِلْعَبْدِ فَسْخُهَا بِحَالِ. وَعَنْهُ، لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له عُذْرٌ يَمْنَعُ جوازَ الفَسْخِ؛ لأنَّه لا يَأمَنُ أن يُسَلِّمَ إليه فيُنْكِرَ السيدُ وكالتَه ويَرْجِعَ على المُكاتَبِ بالمالِ، وسَواءٌ صَدَّقَه في أنَّه وكيل أو كَذَّبَه. فإن كَتَبَ حاكِمُ البَلَدِ الذي فيه السيدُ إلى حاكِمِ البَلدِ الذي فيه المُكاتَبُ ليَقْبِض منه المال، لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّ هذا تَوْكِيلٌ لا يَلزَمُ الحاكمَ الدُّخُولُ فيه، فإنَّ الحاكمَ لا يُكَلَّفُ القَبْضَ للبالغِ الرَّشِيدِ، فإنِ اخْتار القَبْضَ جَرَى مَجْرَى الوَكِيلِ، ومتَى قَبَضَ منه المال عَتَقَ. 3024 - مسألة: (وليس للعبدِ فَسْخُها بحالٍ) لأنَّها عَقْدٌ لازِمٌ، ومَقْصُودُها ثُبُوتُ الحُرِّيَّةِ في العبدِ، وذلك حَقٌّ لله تعالى، فلا يَمْلِد العَبْدُ فَسْخَه وإن كان له فيه حَظٌّ (وعنه، له ذلك) لأنَّ العَقْدَ لحظه، فمَلَكَ فَسْخَه، كالمُرْتَهِنِ له فَسْخُ الرَّهْنِ دونَ الرَّاهِنِ، وإنِ اتَّفَقَ هو والسيدُ على فَسْخِها جاز؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، فجازَ باتِّفاقِهِما، كفَسْخِ البَيعِ والإِجَارَةِ.

3025 - مسألة: (ولو زوج ابنته من مكاتبه، ثم مات، انفسخ النكاح. ويحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز)

وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ، ثُمَّ مَاتَ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَيَحْتَمِلُ إلا يَنْفسِخَ حَتَّى يَعْجِزَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3025 - مسألة: (ولو زَوَّجَ ابْنَتَه مِن مُكاتَبِه، ثم مات، انْفَسخَ النِّكاحُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَنْفَسِخَ حَتى يَعْجِزَ) إذا زَوَّجَ السيدُ ابْنَتَه مِن مُكاتَبِه برِضاها، ثم مات السيدُ وكانت مِن الوَرَثَةِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ. وبهذا قال الشافعيُّ. [وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْفَسِخُ النكاحُ] (¬1)؛ لأنَّها لا تَرِثُه، وإنَّما تَمْلِكُ نَصيبَها مِن الدَّينِ الذي عليه، بدَليلِ أنَّ الوارِثَ لو أبرأ المُكاتَبَ مِن الدَّينِ عَتَقَ، وكان الوَلاءُ للمَيِّتِ لا للوَارِثِ، فإن عَجَزَ وعادَ رَقِيقًا قِنا (¬2) انْفَسَخَ النِّكاحُ حِينَئذٍ؛ لأنَّها مَلَكَتْ نَصِيبَها منه. ولَنا، أنَّ المُكاتَبَ مَملوكٌ لسَيِّدِه، لا يَعْتِقُ بمَوْتِه، فوجَبَ أن يَنْتَقِلَ إلى وَرَثَتِه، كسائِرِ أمْلاكِه، ولأنَّها لا يجوزُ لها ابْتِداءُ نِكاحِه؛ لأجْلِ المِلْكِ، فانْفَسَخَ نِكاحُها بتَجَدُّدِ ذلك فيه، كالعبدِ القِنِّ. وأمَّا كونُ الولاءِ للمَيِّتِ، فلأنَّ السَّبَبَ وُجِدَ منه، فنُسِبَ العِتْقُ إليه، وثَبَتَ الولاءُ له. إذا ثَبَتَ هذا، ¬

(¬1) في م: «ويحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز. وبه قال أبو حنيفة». (¬2) في م: «قلنا».

3026 - مسألة: (ويجب على السيد أن يؤتيه ربع مال الكتابة، إن شاء وضعه عنه، وإن شاء قبضه ثم دفعه إليه)

وَيَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ أنْ يُؤتِيَهُ رُبْعَ مَالِ الْكِتَابَةِ، إِنْ شَاءَ وَضَعَهُ عَنْهُ، وَإنْ شَاءَ قَبَضَهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا فَرْقَ بينَ أن تَرِثَه كلَّه أو تَرِثَ بعضَه؛ لأنَّها إذا مَلَكَتْ منه جُزْءًا انْفَسَخَ النِّكاحُ فيه، فبَطَلَ في باقِيه؛ لأنَّه لا يتَجَزأ (¬1). فإن كانت لا تَرِثُ أباها لمانِع مِن مَوانِعِ الميراثِ، فنِكاحُها باقٍ بحالِه. والحكْمُ في سائِرِ الوَرَثَةِ مِن النِّساءِ كالحكمِ في البنتِ. وكذلك لو تَزَوَّجَ رجلٌ مُكاتَبَةً، فوَرِثَها أو بعضَها، انْفَسَخَ نِكاحُه؛ لذلك. 3026 - مسألة: (ويَجِبُ على السيدِ أن يُؤْتِيَه رُبْعَ مالِ الكِتابَةِ، إن شاء وَضَعَه عنه، وإن شاء قَبَضَه ثم دَفَعَه إليه) الكلامُ في الإِيتاءِ في خمسةِ فُصُولٍ: وُجُوبِه، وقَدْرِه، وجِنْسِه، ووَقْتِ جَوازِه، وَوَقْتِ وُجُوبِه. ¬

(¬1) في م: «ينجز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأوَّلُ: أنَّه يَجِبُ على السيدِ إيتاءُ المُكاتَبِ شيئًا ممَّا كُوتِبَ عليه. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال الشافعيُّ، وإسحاق. وقال بُرَيدَةُ، والحسنُ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ: ليس بواجِبٍ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلا يَجبُ فيه الإِيتاءُ، كسائِرِ عُقُودِ المُعاوَضاتِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬1). وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ. قال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: ضَعُوا عنهمِ (¬2) رُبْعَ مالِ الكِتابَةِ (¬3). وعن ابنِ عباس، قال: ضَعُوا عنهم مِن مُكاتبَتِهم (¬4) شيئًا (¬5). وتُفارِق الكِتابَةُ سائِرَ العُقُودِ، فإنَّ القَصْدَ بها رِفْقُ العبدِ، بخِلافِ غيرِها, ولأنَّ الكِتابَةَ يَسْتَحِقُّ بها الوَلاءَ على العبدِ مع المُعاوَضَةِ، فكذلك يَجِبُ أن يَسْتَحِقَّ العبدُ على السيدِ شيئًا. فإن قِيلَ: المُرادُ بالإِيتاءِ إعْطاؤه سهْمًا مِن الصَّدَقَةِ، والنَّدْبُ إلى التَّصَدُّق عليه، وليس ذلك وَاجِبًا، بدليلِ أنَّ العَقْدَ يُوجِبُ العِوَضَ عليه، فكيف يَقْتَضِي إسْقاطَ شيءٍ منه؛ قُلْنا: أمَّا الأوَّلُ، فإنَّ عَلِيًّا، وابنَ عباس، رَضِيَ الله ¬

(¬1) سورة النور 33. (¬2) في م: «عنه». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 375، 376. والبيهقي، في السنن الكبرى 10/ 325 مرفوعًا وموقوفا. (¬4) في الأصل: «كابتهم». (¬5) أخرج البيهقي، في: باب ما جاء في تفسير قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ. . . .}، من كتاب المكاتب. السنن الكبرى 10/ 330.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنهما، فسَّراه بما ذَكرناه، وهما أعْلَمُ بتأويلِ القُرآنِ، وحَمْلُ الأمْرِ على النَّدْبِ يُخالِفُ مُقْتَضَى الأمْرِ، فلا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ. وقولُهم: إنَّ العَقْدَ يُوجِبُ عليه، فلا يَسْقُطُ عنه. قُلْنا: إنَّما يَجِبُ الرِّفْقُ به عندَ آخِرِ كِتابَتِه، [رفْقًا به] (¬1)، ومُواساةً له، وشكرًا لنِعْمَةِ اللهِ تعالى، كما تَجِبُ الزَّكاةُ مُواساةً مِن النِّعْمَةِ التي أنْعَمَ الله تعالى بها على عَبْدِه. ولأنَّ العَبْدَ وَلِيَ جَمْعَ (¬2) هذا المالِ وتَعِبَ فيه فاقْتَضَى الحالُ مُواساتَه منه، كما أمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإطْعام عَبْدِه مِن الطَّعامِ الذي وَلِيَ حَرَّه ودُخَانَه (¬3). واخْتَصَّ هذا بالوُجُوبِ؛ لأَنَّ فيه مَعُونَةً على العِتْقِ، وإعانَةً لمن يَحِقُّ على اللهِ تعالى عَوْنُه، فإنَّ أبا هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «جميع». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الأكل مع الخادم. من كتاب الأطعمة، صحيح البخاري 7/ 106. ومسلم، في: باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1284. وأبو داود، في: باب في الخادم يأكل مع المولى، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 328، 329. والترمذي، في: باب ما جاء في الأكل مع المملوك والعيال، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 44. وابن ماجه، في: باب إذا أتاه خادمه بطعامه فليناوله منه، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1094. والدارمي، في: باب في إكرام الخادم عند الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمي 2/ 107. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 245، 259، 277، 283، 299، 316، 406، 409، 430، 464، 473.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعَالى عَوْنُهُم؛ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ، والمُكاتَبُ الَّذي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنَّاكِحُ الذِى يُرِيدُ العَفَافَ». قال التِّرْمِذِيُّ (¬1): هذا حَدِيث حَسَنٌ. الفصل الثاني: في قَدْرِه، وهو الرُّبْعُ. ذَكَرَه الخِرَقِي، وأبو بكر، وغيرُهما مِن أصْحابِنا. رُوِيَ ذلك عن علي، رَضِيَ الله عنه. وقال قتادَة: العُشْرُ. وقال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: يُجْزِئ ما يَقَعُ عليه. الاسْمُ. وهو قولُ مالكٍ، إلَّأ أنَّه عِندَه مُسْتَحَب؛ لقولِ الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. و «مِن» للتبعِيضٍ، والقَلِيلُ بعضٌ، فيُكْتَفَى به. وقال ابنُ عباس: ضَعُوا عَنْهم مِن مُكاتبَتِهم شيئًا. ولأنَّه قد ثَبَتَ أنَّ المُكاتَبَ لا يعْتِقُ حتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الكِتابَةِ، بما ذَكَرْنا مِن الأخْبارِ، ولو وَجَبَ إيتاؤه الرُّبْعَ، لوَجَبَ أن يَعْتِقَ إذا أدَّى ثَلاثةَ أرْباعِ الكِتابةِ، ولا يَجِبُ عليه أداءُ مالٍ يجبُ رَدُّه إليه. وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه كاتَبَ عبْدًا له على خَمْسَةٍ وثلاثينَ ألْفًا، فأخَذَ منه ثلاثين، وتَرَكَ له خَمْسةً (¬2). ولَنا، ما روَى أبو بكر بإسْنادِه عن علي، رَضِيَ الله عنه، عن - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في: باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب. . . .، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 157. كما أخرجه النسائي، في: باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 50. وابن ماجه، في: باب المكاتب، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 842. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 251، 437. (¬2) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 330.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. قال: «رُبْعُ المُكاتَبةِ (¬1)» (¬2). ورُوِيَ مَوْقُوفًا على (¬3) علي، رَضِيَ الله عنه. ولأنَّه مالٌ يَجبُ إيتاؤُه مُواساةً بالشرْعِ، فكان مُقَدَّرًا، كالزَّكاةِ، ولأنَّ حِكْمَةَ إيجابِه الرِّفْقُ بالمُكاتَبِ وإعانَتُه على تَحْصِيلِ العِتْقِ، وهذا لا يَحْصُلُ باليَسيرِ الذي هو أقَلُّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ، فلم يَجُزْ أن يكونَ هو الواجبَ، وقولُ الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. إذا وَرَدَ غيرَ مُقَدَّرٍ فيه، فإنَّ السنةَ بَيَّنَتْه وقدَّرَته، كالزَّكاةِ. الفصل الثالث: في جِنْسِه، إن قَبَضَ مال الكِتابةِ، ثم أعْطاه منه، أجْزأ؛ لأنَّ الآيةَ تَقْتَضِيه. وإن وَضَعَ عنه ممَّا وَجَبَ عليه جاز؛ لأنَّ الصَّحابَةَ، رَضِي اللهُ عنهم، فَسَّرُوا الآيَةَ بذلك، ولأنَّه أْبلَغُ في النَّفْعِ، وأعْوَنُ على حُصُولِ العِتْقِ، فيكونُ أفْضَلَ مِن الإِيتاءِ، وتَدُلُّ الآية عليه مِن طَرِيقِ التنبيهِ. وإن أعْطاه من جِنْسِ مالِ الكتابةِ من غيرِه جاز. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزمَ المُكاتَبَ قَبُولُه. وهذا ظاهِرُ كلامِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بالإِيتاء منه. ولَنا، أنَّه لا فَرْقَ في المعنى بينَ الإِيتاءِ منه والإِيتاءِ ¬

(¬1) في الأصل: «الكتابة». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 350. (¬3) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من غيرِه، إذا كان مِن جِنْسِه، فوَجَبَ أن يَتَساوَيا في الإِجْزاءِ، كالزَّكاةِ، وغيرُ المَنْصُوصِ إذا كان في مَعْناه الحِقَ به، ولذلك جاز الحَطُّ عنه، وليس هو بإيتاءٍ، لمَّا كان في مَعْناه. وإن آتاه مِن غيرِ جِنْسِه، مثلَ أن يُكاتِبَه على دَراهِمَ، فيُعْطِيَهُ دَنانِيرَ أو عُرُوضًا، لم يَلْزَمْه قَبُوله؛ لأنَّه لم يُؤتِه منه ولا مِن جِنْسِه. ويَحْتَمِلُ اللُّزُومَ، لحصولِ الرِّفْقِ به، فإنْ رَضِيَ المُكاتَبُ بها جازَ. الفصل الرابع؛ في وَقت جوازِه، وهو مِن حينِ العَقْدِ، [لقولِ اللهِ تعالى] (¬1): {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا وَآتُوهُمْ}. وذلك يَحْتاجُ إليه مِن حينِ العَقْدِ، وكلَّما عَجَّلَه كان أفْضَلَ؛ لأنَّه يكونُ أنْفَعَ، كالزَّكاةِ. الفصل الخامس: في وقتِ وُجُوبه، وهو حينَ العِتْقِ؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بإيتائِه مِن المالِ الذي آتاه، وإذا آتَى المال عَتَقَ، فيَجِبُ إيتاؤه حينَئِذٍ. قال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: الكِتابةُ على نَجْمَين، والإِيتاءُ مِن الثاني (¬2). فإن مات السيدُ قبلَ إيتائِه فهو دَينٌ في تَرِكَتِه؛ لأنَّه حَقٌّ واجِب، فهو كسائِرِ دُيُونِه، فإن ضاقَت التَّركَةُ عنه وعن غيرِه مِن الدُّيُونِ، تحاصُّوا في الترِكَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 207.

3027 - مسألة: (فإن أدى ثلاثة أرباع الكتابة وعجز عن الربع، عتق، ولم تنفسخ، الكتابة في قول القاضي وأصحابه)

فَإِنْ أدَّى ثَلاثَةَ أرْبَاعَ مَال الْكِتَابَةِ وَعَجَزَ عَنَ الرُّبْع، عَتَقَ، وَلَمْ تَنْفَسِخِ الْكتَابَةُ في قَوْلِ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَدْرِ حُقُوقهم، ويُقَدَّمُ على الوَصايَا؛ لأنَّه دَينٌ، وقد قَضَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدَّينَ قبل الوَصِيَّةِ (¬1). 3027 - مسألة: (فإن أدَّى ثلاثةَ أرْباعِ الكتابةِ وعَجَزَ عن الرُّبْعِ، عَتَقَ، ولم تَنْفَسِخ، الكِتابَةُ في قَوْل القاضِي وأصحابِه) وهو قوله أبي بَكْرِ؛ لأنَّه يَجِبُ رَدُّه إليه، فلا يُرَدُّ إلى الرِّقِّ لعَجْزِه عنه؛ لأنَّه عَجَزَ عن أداءِ حَقِّ هو له (¬2) لا حَقَّ للسيدِ فيه، فلا مَعْنَى لتَعْجِيزِه فيما يَجِبُ رَدُّه إليه. وقال عليٌّ، رَضِيَ الله عنه: يَعْتِقُ بقَدْرِ ما أدَّى (¬3). لما روَى ابنُ عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إِذا أصَابَ المُكاتَبُ حَدًّا أو مِيرَاثًا، وَرِثَ بحِسَابِ ما عَتَقَ مِنْهُ، ويُؤَدِّي المُكاتَبُ بحِصَّةِ ما أدَّى دِيَةَ حُرٍّ، ومَا بَقِيَ دِيَةَ عَبْدٍ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬4). وقال: حديثٌ حَسَنٌ. ورُوِيَ عن عمرَ، وعلي، أنَّه إذا أدَّى الشَّطْرَ فلا رِقَّ عليه (¬5). ورُوِيَ ذلك عن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 146. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم: تخريجه في 18/ 381. (¬4) تقدم تخريجه في 18/ 381. (¬5) تقدم تخريجه في 18/ 381.

وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أنهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤدِّيَ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّخَعِيِّ. وقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: إذا أدَّى قَدْرَ قِيمَتِه فهو غَرِيمٌ (وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه لا يَعْتِقُ حتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الكِتابَةِ) وروَى الأثْرَمُ، عن عمرَ وابْنِه، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وعائشةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيِّ، أنَّهم قالوا: المُكاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ. وهو قولُ القاسمِ، وسالم، وسليمانَ بنِ يسارٍ، وعطاءٍ، وقتادَةَ، والثَّوْرِي، وابنِ شُبْرُمَةَ، ومالكٍ، والأوْزَاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأصحابِ الرَّأي. ورُوِيَ ذلك عن أمِّ سَلَمَةَ؛ لِما روَى سعيدٌ بإسْنادِه (¬1): ثنا هُشَيمٌ، عن حَجَّاجٍ، عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما رَجُل كاتَبَ غُلَامَهُ عَلَى مِائَةِ أوقِيَّةٍ، فَعَجَزَ عَنْ عَشْرِ أوَاقٍ، فَهُوَ رَقِيقٌ» (¬2). وعن عمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبِيه عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُكاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّه عِوَضٌ عن المُكاتَبِ، فلا يَعْتِقُ قبلَ أدائِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 300. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقَدْرِ المُتَّفَقِ عليه، ولأنَّه لو عَتَقَ بَعْضُه لسَرَى إلى باقِيه، كما لو باشَرَه بالعِتْقِ. فأمَّا حديثُ ابنِ عباسٍ، فمَحْمُولٌ على مُكاتَبٍ لرَجُلٍ مات وخَلَّفَ ابْنَين، فأقَرَّ أحَدُهما بكتابَتِه وأنْكَرَ الآخَرُ، فأدَّى إلى المُقِرِّ، [وما أشْبَهَها] (¬1) مِن الصُّوَرِ، جَمْعًا بينَ الأخْبارِ، وتَوْفِيقًا بينَها وبينَ القِياسَ، ولأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكاتَبٌ، [وكان عِندَه] (¬2) ما يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ منه» (¬3). دليلٌ على اعْتِبارِ جميعِ ما يُؤَدِّي. وروَى سعيدٌ بإسْنادِه عن أبي قِلابَةَ قال: كُنَّ -أزْوَاجُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَحْتَجبْنَ منِ مُكاتَبٍ (¬4) ما بَقِيَ عليه دِينارٌ (¬5). ويجوزُ أن يَتَوقَّفَ العِتْقُ على أَداءِ الجميعِ وإن وَجَب رَدُّ البَعْضِ إليه، كما لو قال: إذا أديت إليَّ فأنْتَ حُر، وللهِ عليَّ رَدُّ رُبْعِها إليك. فإنَّه لا يَعْتِقُ حتَّى يُؤَديها، وإن وَجَبَ عليه رَدُّ بعضِها. ¬

(¬1) في الأصل: «أو ما أشبههما». (¬2) في الأصل: «فملك». (¬3) تقدم تخريجه في 18/ 380. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 325.

فَصْلٌ: وَإِذَا كَاتَبَ عَبِيدًا لَهُ كِتَابَةً وَاحِدَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ صَحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وإذا كاتَبَ عَبِيدًا له كتابَةً واحدَةً بعِوَضٍ واحِدٍ صَحَّ) [وذلك] (¬1) مثل أن يُكاتِبَ ثَلاثَةَ أعْبُدٍ له بألفٍ، فيَصِحُّ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عطاءٌ، وسليمانُ بنُ موسى، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والحسنُ بنُ صالحٍ، وإسحاقُ. وهو المنْصُوصُ عن الشافعيِّ. وقال بعضُ أصحابِه: فيه قولٌ آخَرُ، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ العَقْدَ مع ثلاثَةٍ كعُقُودٍ ثَلاثةٍ، وعِوَضُ كُلِّ واحِدٍ منهمِ مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ، كما لو باعَ كلَّ واحِدٍ منهم لواحِدٍ صَفْقَةً واحدةَ بعِوَضٍ واحِدٍ. ولَنا، ¬

(¬1) سقط من: م.

3028 - [مسألة: (ويقسط العوض بينهم على قدر قيمتهم، ويكون كل واحد منهم مكاتبا بقدر حصته، يعتق بأدائها, ويعجز بالعجز عنها وحده)]

وَيُقَسَّطُ الْعِوَضُ بَينَهُمْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمْ مُكَاتَبًا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا، وَيَعْجِزُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ جُملةَ العِوَضِ مَعْلُومَةٌ، وإنَّما جَهِلَ تَفْصِيلُه، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ العَقْدِ، كما لو باعَهُم لواحِدٍ. وعلى قولِ مَن قال: إنَّ العِوَضَ يكونُ بينَهم على السَّوَاءِ. فقد عُلِمَ أيضًا تَفْصِيلُ العِوَضِ، وعلى كلِّ واحدٍ منهم ثُلُثٌ، وكذا يقولُ فيما لو باعَهم لِثلاثةٍ. 3028 - [مسألة: (ويُقَسَّطُ العِوَضُ بينَهم على قَدْرِ قِيمَتِهم، ويكونُ كلُّ واحدٍ منهم مُكاتَبًا بقَدْرِ حِصَّتِه، يَعْتِقُ بأدائِها, ويَعْجزُ بالعَجْزِ عنها وحدَه)] (¬1). إذا ثَبَتَ هذا، [فإنَّ كلَّ] (¬2) واحِدٍ منهم (¬3) مُكاتَبٌ بحِصَّتِه مِن الألْفِ، يُقْسَمُ بينَهم على قَدْرِ قِيمَتِهم حينَ العَقْدِ؛ لأنَّه حينُ المُعاوضَةِ وزوالِ سُلْطانِ السيدِ عنهم، فإذا أدَّاة عَتَقَ. وهذا قولُ عَطاءٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فكل». (¬3) سقط من: الأصل.

وَقَال أبُو بَكْرٍ: الْعِوَضُ بَينَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَلَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى تُؤَدَّى جَمِيعُ الْكِتَابَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسليمانَ بنِ موسى، والحسنِ بنِ صالحٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. (وقال أبو بكرٍ) عبد العزيزِ: يَتَوَجَّه لأبي عبدِ الله قِولٌ آخر، أنَّ (العِوَضٍ بينَهم) على عَدَدِ (¬1) رُءوسِهم، فيَتَساوَوْن فيه؛ لأنَّه أُضِيفَ إليهم إضافَةً واحِدَةً، فكان بينَهم بالسَّويَّةِ, كما لو أقَرَّ لهم بشيءٍ. ولَنا، أنَّ هذا عِوَضٌ، فيَتَقَسَّطُ على المُعَوِّضِ, كما لو اشْتَرَى شِقْصًا وسَيفًا، وكما لو اشْتَرَى عَبِيدًا فرَدَّ واحدًا منهم بعَيبٍ، أو تَلِفَ أحدُهم ورَدَّ الآخَرَ. ويُخالِفُ الإِقْرارَ؛ فإنَّه ليس بعِوَضٍ. إذا ثَبَتَ ذلك، فأيُّهم أدَّى حِصَّتَه عَتَقَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال ابن أبي موسى: (لا يَعْتِق واحدٌ منهم حتى تُؤَدَّى جَمِيعُ الكِتابةِ) وحُكِيَ ذلك عن أبي بكرٍ. وهو قولُ مالكٍ. وحُكِيَ عنه، ¬

(¬1) في الأصل: «قدر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه (¬1) إذا امْتَنَعَ أحدُهم عن (¬2) الكَسْب مع القُدْرَةِ عليه أُجْبِرَ عليه الباقُون. واحْتَجُّوا بأنَّ الكِتابَةَ واحِدَةٌ؛ بدليلِ أنَّه لا يَصِحُّ مِن كلِّ واحِدٍ منهم الكتابةُ بقَدْرِ حِصَّتِه دُونَ الباقِين، ولا يَحْصُلُ العِتْقُ إلَّا بأداءِ جميعِ الكِتابةِ, كما لو كان المُكاتَبُ واحِدًا. وقال أبو حنيفةَ: إن لم يقُلْ لهمُ السيدُ: إن أدَّيتُم عَتَقْتم. فأيُّهم أدَّى بحِصَّتِه عَتَقَ، وإن أدَّى (¬3) جَمِيعَها، عَتَقُوا كلُّهم، ولم يَرْجِعْ على صَاحِبِه بشيءٍ. وإن قال لهم: إن أدَّيتُمْ عَتَقْتُم. لم يَعْتِقْ واحِدٌ منهم حتى يُؤَدِّيَ الكِتابَةَ كُلَّها، ويكونُ بعضُهم حَمِيلًا عن بعض، ويأخُذُ أيُّهم شاء بالمالِ، وأيُّهم أدَّاها عَتَقُوا كُلُّهم، ويَرْجِعُ على صَاحِبَيه بحِصَّتِهما. ولَنا، أنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ مع ثلاثةٍ، فيَبْرأُ كلُّ واحِدٍ منهم بأداءِ حِصَّتِه، كما لو اشْتَرَوْا عبدًا (¬4)، وكما لو لم يَقُلْ لهم: إن أدَّيتُم عَتَقْتُم. على أبي حنيفةَ، فإنَّ قولَه ذلك لا يُؤَثِّرُ؛ لأنَّ اسْتِحْقاقَ العِتْقِ بأداءِ العِوَضِ، لا بهذا القولِ، بدَليلِ أنَّه يَعْتِقُ بالأداءِ بدُونِ هذا القولِ، ولم يَثْبُتْ كونُ هذا القولِ مانِعًا مِن العِتْقِ. وقولُه: إنَّ هذا العَقْدَ كِتابةٌ واحِدَةٌ. مَمْنُوعٌ، فإنَّ العَقْدَ مع جماعةٍ عُقُودٌ، بدليلِ البَيعِ. ولا يَصِحُّ القِياسُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «من». (¬3) في م: «أدوا». (¬4) في م: «عبيدًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على كتابةِ الواحِدِ؛ لأنَّ ما قَدَّرَه في مُقابَلَةِ عِتْقِه، وههُنا في مُقابَلَةِ عِتْقِه ما (¬1) يَخُصمه، فافْتَرَقَا. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إن شَرَطَ عليهم في العَقْدِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ منهم ضامِنٌ عن (1) الباقِين، فَسَدَ الشَّرْطُ، والعَقْدُ صَحِيحٌ. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه رِوَايةٌ أُخْرَى، أنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ. وخَرَّجَهُ ابنُ حامِدٍ وَجْهًا، بِناءً على الرِّوايَتَين في ضَمانِ الحُرِّ لمالِ الكتابةِ. وقال الشافعيُّ: العَقْدُ والشَّرْطُ فاسِدان؛ لأنَّ الشَّرْطَ فاسِدٌ، ولا يُمْكِنُ تَصحيحُ العَقْدِ بدُونِه؛ لأنَّ السيدَ إنَّما رَضِي بالعَقْدِ بهذا الشَّرْطِ، فإذا لم يَثْبُتْ لم يكُنْ راضِيًا بالعَقْدِ، وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: العَقْدُ والشَّرْطُ صَحِيحانِ؛ لأنَّه مِن مُقْتَضَى العَقْدِ عِنْدَهما. ولَنا، أنَّ مال الكِتابَةِ ليسِ بلازِمٍ، ولا مآلُه إلى اللُّزُومِ، فلم يَصِحَّ ضَمانه، كما لو جَعَلَ المال صِفَةً مجَرَّدَةً في العِتْقِ، فقال: إن أدَّيتَ إليَّ ألفًا فأنْتَ حرٌّ. ولأنَّ الضَّامِنَ لا يَلْزَمُه أكثرُ [ممَّا يَلْزَمُ] (¬2) المَضْمُونَ عنه، ومالُ الكِتابَةِ لا يَلْزَمُ المُكاتَبَ، فلا يَلْزَمُ الضَّامِنَ، ولأنَّ الضَّمانَ تَبَرُّعٌ، وليس للمُكاتَبِ التَّبَرُّعُ، ولأنَّه لا يَمْلِكُ الضَّمانَ عن حُرٍّ، ولا عمَّن ليس معه في الكتابةِ، فكذلك مَن معه. وأمَّا العَقْدُ فصَحِيحٌ، بدَلِيلِ أنَّ الكِتابَةَ لا تَفْسُدُ بفَسادِ الشَّرْطِ، بدَليلِ خبَرِ بَرِيرَةَ (¬3)، [وسَنَذْكُرُه فيما بعدُ، إن شاء الله] (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «من». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا مات بعضُ المُكاتَبِين سَقَطَ قَدْرُ حِصَّتِه. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وكذلك إن أُعْتِقَ بَعْضُهم. وعن مالكٍ، إن أعْتَقَ السيدُ أحَدَهم، وكان مُكْتَسِبًا، [لم يَنْفُذْا] (¬1) عِتْقُه؛ [لأنَّه يَضُرُّ بالباقين. وإن لم يكنْ مُكْتَسِبًا نَفَذَ (¬2) عِتْقُه] (¬3)، لعَدَمِ الضَّرَرِ فيه. وهذا مَبْنِيٌّ على أنَّه لا يَعْتِقُ واحِدٌ منهم حتى يُؤَدِّيَ جَميعَ مالِ الكتابةِ، وقد مَضَى الكلامُ فيه. فصل: فإن أدَّى أحَدُ المُكاتَبَين عن صاحِبِه، أو عن مُكاتَبٍ آخَرَ، قبلَ أداءِ ما عليه، بغيرِ عِلْمِ سيدِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ هذا تَبَرُّعٌ، وليس له التَّبَرُّعُ بغيرِ إذْنِ سيدِه، وإن كان قد حَلَّ عليه (¬4) نَجْمٌ صُرِفَ ذلك فيه. وإن لم يكُنْ حَلَّ عليه نَجْمٌ فله الرُّجُوعُ فيه. وإن عَلِمَ السيدُ بذلك ورَضِيَ بقَبْضِه عن الآخَرِ، صَحَّ؛ لأنَّ قَبْضَه (¬5) له راضِيًا مع العِلْمِ دليلٌ على الإِذْنِ فيه، فجاز، كما لو أذِنَ فيه صَرِيحًا. وإن كان الأداءُ بعدَ أن عَتَقَ، صَحَّ، سَواءٌ عَلِمَ السيدُ، أو لم يَعْلَمْ. فإن أرادَ الرُّجُوعَ على صاحِبِه بما أدَّى عنه، وكان قد قَصَدَ التَّبَرُّعُ عليه، لم يَرْجِع به. وإن أدَّاه مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ عليه بإذْنِ المُؤَدَّى عنه، رَجَعَ عليه؛ لأنَّه قَرْضٌ. وإن كان بِغَيرِ إذْنِه لم يَرْجِعْ عليه؛ لأنَّه تَبَرُّعٌ عليه بأداء ما لا يَلْزَمُه أداؤُه بغيرِ إذْنِه، فلم يَرْجِعْ عليه، كما لو تَصَدَّقَ عنه صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ. وبهذا فارقَ ¬

(¬1) في م: «نفذ». (¬2) في الأصل: «بعد». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «فيه».

3029 - مسألة: (وإن اختلفوا بعد الأداء في قدر ما أدى كل واحد منهم، فالقول قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه)

وَإِذَا اخْتَلَفُوا بَعْدَ الْأَدَاءِ في قَدْرِ مَا أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي أَدَاءَ قَدْرِ الْوَاجبِ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سائِرَ الدُّيونِ. وإن كان بإذْنِه، وطلبَ اسْتِيفاءَه، قُدِّمَ على أداءِ مالِ الكتابةِ، كسائِرِ الديونِ. وإن عَجَزَ عن أدائِه فحُكْمُه حكمُ سائِرِ الدُّيونِ. وهذا كلُّه مذهبُ الشافعيِّ. 3029 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفُوا بعدَ الأداءِ في قَدْرِ ما أدَّى كلُّ واحِدٍ منهم، فالقولُ قولُ مَن يَدَّعِي أداءَ قَدْرِ الواجِبِ عليه) وهذا إذِا أدَّوْا وعَتَقُوا، فقال مَن كَثُرَتْ قِيمَتُه: أدَّينا على قَدْرِ قِيمَتِنا. وقال الآخرُ (¬1): ¬

(¬1) في الأصل: «الآخران».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بل أدَّينَا على السَّواءِ، فبَقِيَتْ لنا على الأكْثَرِ بَقِيَّةٌ. فمَن جَعَلَ العِوَضَ بينَهم على عَدَدِهم، قال: القولُ قولُ مَن يدَّعِي التَّسْويَةَ. ومَن جَعَلَ على كلِّ واحِدٍ قَدْرَ حِصَّتِه، فعندَه فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، القولُ قولُ مَن يَدَّعِي التَّسْويَةَ؛ لأنَّ أيدِيَهم على المالِ، فيتَساوَوْن فيه. والثاني، قولُ مَن يدَّعِي أداءَ قَدْرِ الوَاجِبِ عليه، لأنَّ الظاهِرَ أنَّ الإِنسانَ لا يُؤَدِّي إلَّا ما عليه. فصل: فإن جَنَى بَعْضُهم، فجِنايَتُه عليه دُونَ صاحِبِه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: يُؤَدُّون كلُّهم أَرْشَه، فإن عَجَزُوا رقُّوا. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} (¬1). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجْني جَانٍ إلَّا على نَفْسِه» (¬2). ولأنَّه لو اشتَرَكَ رجلان وتعاقَدا، لم يَحْمِلْ أحَدُهما جِنايَةَ صاحِبِه، فكذا ههُنا، ولأنَّ ما لا يَصِحُّ، لا يَتَضَمَّنُه عَقْدُ الكِتابةِ، ولا يَجِبُ على أحَدِهما بفِعْلِ الآخَرِ، كالقِصاصِ، وقد بَيَّنَّا أنَّ كلَّ واحِدٍ منهما مُكاتَبٌ بقَدْرِ حِصَّتِه، فهو كالمُنْفَرِدِ بعَقْدِه. فصل: إذا شَرَطَ المُكاتَبُ في كِتابَتِه أن يُوالِيَ مَن شاء، فالشَّرْطُ بَاطِلٌ، والوَلاءُ لِمن أعْتَقَ، لا نَعْلَمُ في بُطْلانِ الشَّرْطِ خِلافًا؛ لمَا رَوَتْ عائشةُ، رَضِيَ اللهُ عَنها، قالت: كانت في بَرِيرَةَ ثَلاثُ قَضِيَّاتٍ، أراد أهْلُها أن يَبِيعُوها ويَشْتَرِطُوا الوَلاءَ، فذكَرْتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لهم الوَلاءَ، فإنَّما الوَلاءُ لمَن أعْتَقَ». فقامَ رسولُ ¬

(¬1) سورة الأنعام 164، والإسراء 15، وفاطر 18، والزمر 7. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 314.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ، فحَمِدَ الله وأثْنَى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ أُناسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيسَتْ في كِتابِ اللهِ! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا ليس في كِتابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وإنْ كانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أحَقُّ، وشَرْطُ اللهِ أوْثَقُ، وإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ الوَلاءَ لا يَصِحُّ نَقْلُه، بدليلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بَيعِ الوَلاءِ وهِبَتِه (¬2). وقال: «إِنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». ولأنَّه لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسَبِ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه لغيرِ صاحِبِه، كالقَرابةِ، ولأنَّه حكمٌ للعِتْقِ، فلم يصِحَّ اشْتِراطُه لغيرِ (¬3) المُعْتِقِ، كما لا يَصِحُّ اشْتِراطُ حُكْمِ النِّكاحِ لغيرِ (3) النَّاكِحِ، ولا حُكْمِ البَيعِ لغيرِ العاقِدِ. وسَواءٌ شَرَطَ أنْ يُوَالِيَ مَن شاءَ، أو شَرَطَه لبائِعِه، أو لرجُلٍ آخَرَ بعَينِه. ولا تفْسُدُ الكتابةُ بهذا الشَّرْطِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعيُّ: تفْسُدُ به، كما لو شَرَطَ عِوَضًا مَجْهولًا. ويتَخَرَّجُ لنا مثلُ ذلك، بِناءً على الشُّروطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. ولَنا، حديثُ بَرِيرَةَ، فإنَّ أهْلَها اشْتَرطُوا لهمُ الوَلاءَ، فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشِرَائِها مع هذا الشَّرْطِ، وقال: «إِنَّما الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». ويُفارِق جَهالةَ العِوَضِ، فإنَّه رُكْنُ العَقْدِ، لا يُمْكِنُ تصْحِيحُ العَقْدِ بدُونِه (¬4)، ورُبَّما أفْضَتْ جَهالتُه إلى التَّنازُعِ والاخْتِلافِ، وهذا شَرْطٌ زائِدٌ، فإذا حَذَفْناه بَقِيَ العَقْدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234, 235. (¬2) تقدم تخريجه في 18/ 401. (¬3) في الأصل: «كغير». (¬4) في م: «إلا به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحًا بحالِه. فإن قيلَ: المُرادُ بقولِه - عليه السلام -: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ». أي عليهم؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يأْمُرُ بالشَّرْطِ الفاسِدِ، واللَّامُ تُسْتَعْمَلُ بمعنى «على»، كقولِه تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬1). قُلْنا: لا يَصِحُّ؛ لثلاثَةِ وُجوهٍ؛ أحدُها، أنَّه يُخالفُ، وَضْعَ اللَّفْظِ والاسْتِعمال. والثاني، أنَّ أهْلَ بَرِيرَةَ أبَوْا هذا الشَّرْطَ، فكيفَ يأْمُرُها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشرطٍ لا يَقْبَلُونَه؟ الثالثُ، أنَّ ثُبُوتَ الوَلاءِ لها لا يَحْتَاجُ إلى شَرْطٍ؛ لأنَّه مُقْتَضَى العِتْقِ وحُكْمُه. ولأنَّ في بَعْضِ الألْفاظِ: «لا يَمْنَعُكِ (¬2) هذا الشَّرْطُ مِنْهَا، ابْتَاعِي وأعْتِقِي». وإنَّما أمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشَّرْطِ تَعْرِيفًا لنا أنَّ وُجودَ هذا الشَّرْطِ كعَدَمِه، وأنَّه لا يَنْقُلُ الوَلاءَ عن المُعْتِقِ. فصل: فإن شَرَطَ السيدُ على المُكاتَبِ أن يَرِثَه دُونَ وَرَثَتِه، أو مُزَاحَمَتَهم في موارِيثِهم، فهو شَرْطٌ فاسِدٌ، في قَوْلِ عامَّةِ العُلَماءِ؛ منهم الحسنُ، وَعطاءٌ، وشُرَيحٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، والنَّخَعِيُّ، وإسحاقُ. وأجازَ إياسُ بنُ مُعاويَةَ أن يَشْرُطَ شَيئًا مِن مِيراثِه. ولا يَصِحُّ، لأنَّه يخالِفُ كتابَ اللهِ، وكُلُّ شَرْطٍ ليس في كتابِ اللهِ تعالى فهو باطِلٌ [بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3). وروَى سعيدٌ: ثنا هُشَيمٌ: ثنا (¬4) منْصُورٌ، عن ابنِ ¬

(¬1) سورة الإسراء 7. (¬2) في م «يمعنك». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ (¬1)، أنَّ رَجُلًا كاتَبَ مَمْلُوكَهُ واشْتَرَطَ مِيرَاثَه، فلمَّا ماتَ المُكاتَبُ خَاصَمَ ورَثَتَه إلى شُرَيحٍ، فقَضَى شُريحٌ بمِيراثِ المُكاتَبِ لوَرَثَتِه، فقال الرجلُ: ما يُغْنِي شَرْطِي منذُ عِشْرِينٍ سَنَةَ؟ فقال شُرَيحٌ: كتابُ اللهِ أنْزَلَه على نبيِّه قبلَ شَرْطِك بخمْسِينَ سَنَة (¬2). ولا تَفْسُدُ الكتابةُ بهذا الشَّرْطِ، كالذي قبلَهُ. فصل: فإن شَرَطَ عليه خِدْمَةً معلومَةً بعدَ العِتْقِ جازَ. وبه قال عَطاءٌ، وابنُ شُبْرُمَةَ. وقال مالكٌ، والزُّهْرِيُّ: لا يَصِحُّ، لأنَّه يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، أشْبَهَ ما لو شَرَطَ مِيرَاثَه. ولَنا، أنَّه رُويَ عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أعْتَقَ كلَّ مَن يُصَلِّي مِن سَبْي العربِ، وشَرَطَ عليهم، [أنَّهم يَخْدِمُونَ] (¬3) الخليفةَ مِن بَعْدِي ثَلاثَ سَنَواتٍ (¬4). ولأنَّه اشْتَرَطَ خِدْمَةً في عَقْدِ الكِتابةِ، أشْبَهَ ما لو شَرَطَها قبلَ العِتْقِ، ولأنَّه شَرَطَ نَفْعًا مَعْلُومًا، أشْبَهَ ما لو شَرَطَ عِوَضًا معلومًا، ولا نُسَلِّمُ أنَّه يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ؛ فإنَّ مُقْتَضَاه العِتْقُ عندَ الأداءِ، وهذا لا يُنافِيه. ¬

(¬1) بعده في م: «بإسناده». (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الشرط على المكاتب، من كتاب المكاتب. المصنف 8/ 378. وذكره وكيع، في: أخبار القضاة 2/ 356. (¬3) في م: «أن تخدموا». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 380، 381.

3030 - مسألة: (وتجوز كتابة بعض عبده، فإذا أدى عتق كله)

وَيَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ بَعْضَ عَبْدِهِ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ كُلُّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كاتَبَه على ألْفَين، في رأْسِ كلِّ شَهْرٍ ألفٌ، وشَرَطَ أنْ يَعْتِقَ عندَ أداءِ الأوَّل، صَحَّ في قِياسِ المذهبِ، ويَعْتِقُ عندَ أدائِه؛ لأنَّ السيدَ لو أعْتَقَه بغيرِ أداءِ شيءٍ صَحَّ، فكذلك إذا أعْتَقَه عندَ أدَاءِ البَعْضِ، ويَبْقَى الآخَرُ دَينًا عليه بعد عِتْقِه، كما لو باعه نَفْسَه به. 3030 - مسألة: (وتجوزُ كِتَابَةُ بعضِ عبدِه، فإذا أدَّى عَتَقَ كلُّه) قاله أبو بكرٍ؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ، فصَحَّتْ في بعضِه، كالبَيعِ، فإذا أدَّى جميعَ كِتابَتِه، عَتَقَ كلُّه؛ لأنَّه إذا سَرَى العِتْقُ فيه إلى مِلْكِ غيرِه، فإلى مِلْكِه أوْلَى. ويَجِبُ أن يُؤَدِّيَ إلى سيدِه مِثْلَيْ كِتابَتِه؛ لأنَّ نِصْفَ كَسْبِه يَسْتَحِقُّه سيدُه بما فيه مِن الرِّقِّ، ونِصْفَه يُؤَدَّى في الكِتابَةِ إلَّا أنْ يَرْضَى سيدُه بتأْدِيَةِ الجميعِ في الكِتابةِ فيَصِحُّ، وإذا اسْتَوْفَى المال كلَّه عَتَقَ نِصْفُه بالكِتابةِ وباقِيه بالسِّرايةِ.

3031 - مسألة: (وتجوز كتابة حصته من العبد المشترك بغير إذن شريكه)

وَتَجُوزُ كِتَابَةُ حِصَّتِهِ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3031 - مسألة: (وتجوزُ كِتابَةُ حِصَّتِه مِن العبدِ المُشْتَرَكِ بغيرِ إذْنِ شَرِيكِه) إذا كان لرجُلٍ نِصْفُ عبدٍ، فكاتَبَه، صَحَّ، سَواءٌ كان باقِيه حُرًّا أو مَمْلوكًا لغيرِه، وسواءٌ أذِنَ الشَّرِيكُ أو لم يَأْذَن. وهذا ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ، وأبي بكرٍ. وهو قولُ الحَكَمِ، وابنِ أبي لَيلَى. وحُكِيَ عن الحسنِ البَصْرِيِّ، والحسنِ بنِ صالحٍ، ومالكٍ، والعَنْبَرِيِّ. وكَرِه الثَّوْرِيّ وحَمَّادٌ كِتابَتَه بغيرِ إذْنِ شَرِيكِه. وقال الثَّوْرِيُّ: إن فَعَلَ رَدَدْتُه، إلَّا أن يكونَ نَقَدَه (¬1)، فيَضْمَنُ لشَرِيكِه نِصْفَ ما في يَدِه. وقال أبو حنيفةَ: يَصِحُّ بإذْنِ الشَّرِيكِ، ولا يَصِحُّ بغيرِ إذْنِه. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: الإِذْنُ في ذلك إذْنٌ في تأْدِيَةِ مالِ الكِتابَةِ مِن جَمِيعِ كَسْبه، ولا يَرْجِعُ الإِذْنُ بشيءٍ منه. وقال أبو يوسفَ ومحمدٌ: يكونُ جَمِيعُه مُكَاتَبًا. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قولَيهِ: إن كان باقِيه حُرًّا، صَحَّتْ كِتابَتُه، وإن كان مِلْكًا لم تَصِحَّ، سَواءٌ أذِنَ فيه الشَّرِيكُ أم لم يأْذَنْ؛ لأنَّ كِتابَتَه تَقْتَضِي إطْلاقَه في الكَسْبِ والسَّفَرِ، ومِلْكُ نِصْفِه يَمْنَعُ ذلك، ويَمْنَعُه أخْذَ نَصِيبِه مِن الصَّدَقاتِ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ كَسْبًا، فيَسْتَحِقَّ سيدُه ¬

(¬1) في م: «بعده»، وغير واضحة في الأصل. والمثبت كما في المغني 14/ 502.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفَه، ولأنَّه إذا أدَّى عَتَقَ جَمِيعُه، فيُفْضِي إلى أن يُؤَدِّيَ نِصْفَ كِتابَتِه ثم يَعْتِقَ جَمِيعُه. ولَنا، أنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ على نَصِيبِه، فصَحَّ، كبَيعِه، ولأنَّه مِلْكٌ له، يَصِحُّ بَيعُه وهِبَتُه، فصَحَّتْ كِتابَتُه، كما لو مَلَكَ جَمِيعَه، ولأنَّه يَنْفُذُ إعْتاقُه، فصَحَّت كِتابَتُه، كالعبدِ الكاملِ، وكما لو كان باقِيه حُرًّا عندَ الشافعيِّ، أو أذِنَ فيه الشَّرِيكُ عندَ الباقِينَ. وقولُهم: إنَّه يَقْتَضِي المُسافَرَةَ والكَسْبَ وأخْذَ الصَّدَقَةِ. قُلْنا: أمَّا المُسافَرَةُ فليست مِن المُقْتَضَياتِ الأصْلِيَّةِ، فوُجُودُ مانعٍ منها لا يَمْنَعُ أصْلَ العَقْدِ. وأمَّا الكَسْبُ وأخْذُ الصَّدَقَةِ، فإنَّه لا يَمْتَنِعُ كَسْبُه وأخْذُه الصَّدَقَةَ بجُزْئِه المُكاتَبِ. ولا يَسْتَحِقُّ الشَّرِيكُ شيئًا منه؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ ذلك بالجُزْءِ المُكاتَبِ، ولا حَقَّ للشَّرِيكِ فيه، فكذلك ما حَصَلَ به، كما لو وَرِثَ شيئًا بجُزْئِه الحُرِّ. وأمَّا الكَسْبُ، فإن هايَأَه مالِكُ نِصْفِه، فكَسَبَ في نَوْبَتِه شيئًا، لم يُشارِكْه فيه أيضًا، وإن لم يُهايِئْه، فكَسَبَ بجُمْلَتِه شيئًا، كان بينَهما، له بقَدْرِ ما فيه مِن الجُزْءِ المُكاتَبِ، ولسيدِه الباقِي؛ لأنَّه كَسَبَه بجُزْئِه المَمْلوكِ فيه، فأشْبَهَ ما لو كَسَبَ قبلَ كِتابَتِه فَقُسِمَ بينَ سيدَيه. وقَوْلُهم: إنَّه يُفْضِي إلى أن يُؤَدِّيَ بعضَ الكِتابةِ فيَعْتِقَ جَمِيعُه. قُلْنا: يَبْطُلُ هذا بما لو عَلَّقَ عِتْقَ نَصِيبِه على أداءِ مالٍ، فإنَّه يُؤَدِّي عِوَضَ البَعْضٍ ويَعْتِقُ الجميعُ، على أنَّا نقولُ: لا يَعْتِقُ حتى يُؤَدِّيَ جميعَ الكِتابَةِ. فإنَّ جَميعَ الكِتابَةِ هو الذي كاتَبَه عليه مالِكُ نِصْفِه، ولم يَبْقَ منها شيءٌ، فلا يَعْتِقُ حتى يُؤَدِّيَ جَمِيعَها، ولأنَّه لا يَعْتِقُ الجميعُ بالأداءِ، وإنَّما يَعْتِقُ الجُزْءُ

3032 - مسألة: (وإذا أدى ما كوتب عليه، ومثله لسيده الآخر، عتق كله، إن كان الذي كاتبه موسرا، وعليه قيمة حصة شريكه)

فَإِذَا أَدَّى مَا كُوتِبَ عَلَيهِ، وَمِثْلَهُ لِسَيِّدِهِ الْآخَرِ، عَتَقَ كُلُّهُ، إِنْ كَانَ الَّذِي كَاتَبَة مُوسِرًا، وَعَلَيهِ قِيمَةُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُكاتَبُ لا غيرُ، وباقِيه إن كان المُكاتِبُ مُعْسِرًا لم يَعْتِقْ، وإن كان مُوسِرًا عَتَقَ بالسِّرايَةِ لا بالكِتابَةِ، ولا يَمْتَنِعُ هذا, كما لو أعْتَقَ بعضَه عَتَقَ جَمِيعُه، وإذا جاز عِتْقُ جَمِيعِه بإعْتاقِ بعضِه بطرِيقِ السِّرايَةِ، جازَ ذلك فيما يَجْرِي مَجْرَى العِتْقِ. 3032 - مسألة: (وإذا أدَّى ما كُوتِبَ عليه، ومثلَه لسيدِه الآخَرِ، عَتَقَ كلُّه، إن كان الذي كاتَبَه مُوسِرًا، وعليه قِيمَةُ حِصَّةِ شَرِيكِه) وجملةُ ذلك، أنَّ أحَدَ الشَّرِيكَين إذا كاتَبَ نَصِيبَه لم تَسْرِ الكِتابةُ، ولم يَتَعَدَّ الجُزْءَ (¬1) الذي كاتَبَه؛ لأنَّ الكِتابَةَ عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلم تَسْرِ، كالبَيعِ. وليس للعبدِ أن يُؤَدِّيَ إلى مُكاتِبِه شيئًا حتى يُؤَدِّيَ إلى شَرِيكِه مثلَه، سَواءٌ أذِنَ الشَّرِيكُ في كِتابَتِه أو لم يأْذَنْ؛ لأنَّه إنَّما أذِنَ في كِتابةِ نَصِيبِ شَرِيكِه، وذلك يَقْتَضِي أن يكونَ نَصِيبُه باقِيًا له، هذا إذا كان الكَسْبُ بجميعِه (¬2)، فإنْ أدَّى الكِتابَةَ مِن جميعِ كَسْبِه لم يَعْتِقْ؛ لأنَّ ¬

(¬1) بعده في م: «الحر». (¬2) في م: «لجميعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِتابَةَ الصَّحِيحَةَ تَقْتَضِي العِتْقَ ببراءَتِه مِن العِوَضِ، وذلك لا يَحْصُلُ بدَفْعِ ما ليس له. وإن أدَّى إليهما جَمِيعًا عَتَقَ كلُّه؛ لأنَّ نصْفَه يَعْتِقُ بالأداءِ، فإذا عَتَقَ سَرَى إلى سائِرِه إن (¬1) كان الذي كاتَبَه مُوسِرًا، وتَلْزَمُه قِيمَةُ نَصِيبِ شَريكِه؛ لأنَّ عِتْقَه بسَبَبٍ مِن جِهَتِه، أشْبَهَ ما لو باشَرَه بالعِتْقِ أو عَلَّقَ (¬2) عِتْقَ نَصِيبِه بصِفَةٍ فعَتَقَ بها. فأمَّا إن مَلَكَ العبدُ (¬3) شيئًا بجُزْئِه المُكاتَبِ، كمَن هايَأَه سيدُه فكَسَبَ شيئًا في نَوْبَتِه، أو أُعْطِيَ مِن الصَّدَقَةِ مِن سهْمِ الرِّقابِ، فلا حَقَّ لسيدِه فيه، وله أداءُ جَميعِه في كِتابَتِه، لأنَّه [إنَّما اسْتَحَقَّ] (¬4) ذلك بما فيه مِن الكِتابَةِ، فأَشْبَهَ النِّصْفَ الباقِيَ بعدَ إعْطاءِ الشَّرِيكِ حَقَّه. ولو كان ثُلُثُه حُرًّا وثُلُثُه مُكاتَبًا وثُلُثُه رَقِيقًا، فوَرِثَ بجُزْئِه الحُرِّ مِيرَاثًا، وأخَذَ بجُزْئِه المُكاتَبِ مِن سَهْمِ الرِّقابِ، فله دَفْعُ ذلك كلِّه في كِتابَتِه؛ لأنَّه ما اسْتَحَقَّ بجُزْئِه الرَّقِيقِ شيئًا منه، فلا يَسْتَحِقُّ مالِكُه منه شيئًا، وإذا أدَّى جَمِيعَ كِتابَتِه عَتَقَ. فإن كان الذي كاتَبَه مُعْسِرًا لم يَسْرِ العِتْقُ، ولم يَتَعَدَّ نَصِيبَه، كما إذا واجَهَه بالعِتْقِ، إلَّا على الرِّوايةِ التي نقولُ فيها بالاسْتِسْعاءِ، فإنَّه يُسْتَسْعَى في نَصِيبِ الذي لم يُكاتِبْ، وإن كانَ مُوسِرًا سَرَى إلى باقِيه. ¬

(¬1) في الأصل: «وإن». (¬2) في الأصل: «على». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «يستحق».

3033 - مسألة: (وإن أعتق الشريك قبل أدائه، عتق عليه كله إن كان موسرا، وعليه قيمة نصيب المكاتب. وقال)

فَإِنْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ قَبْلَ أَدَائِهِ، عَتَقَ عَلَيهِ كُلُّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَعَلَيهِ قِيمَةُ نَصِيبِ الْمُكَاتِبِ. وَقَال الْقَاضِي: لَا يَسْرِي إِلَى النِّصْفِ الْمُكَاتَبِ إلا أَنْ يَعْجِزَ، فَيُقَوَّمُ عَلَيهِ حِينَئِذٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3033 - مسألة: (وإن أعْتَقَ الشَّرِيكُ قبلَ أدائِه، عَتَقَ عليه كلُّه إن كان مُوسِرًا، وعليه قِيمَةُ نَصِيبِ المُكاتِبِ. وقال) أبو بكرٍ و (القاضي: لا يَسْرِي إلى النِّصْفِ المُكاتَبِ) لأنَّه قد انْعَقَدَ للمُكاتِبِ سَبَبُ الولاءِ، فلا يَجُوزُ إبْطالُه (إلَّا أن يَعْجِزَ، فيُقَوَّمُ عليه حِينَئذٍ) وقال ابنُ أبي لَيلَى: عِتْقُ الشَّرِيكِ مَوْقُوفٌ حتى يُنْظَرَ ما يَصْنَعُ في الكِتابَةِ، فإن أدَّاها عَتَقَ، وكان المُكاتِبُ ضامِنًا لقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِه، ووَلاؤُه كلُّه للمُكاتِبِ، وإن عَجَزَ سَرَى عِتْقُ الشَّرِيكِ، وضَمِنَ نِصْفَ القِيمَةِ للمكاتِبِ، وولاؤُه كلُّه له. وأمَّا الشافعيُّ، فلا يُجَوِّزُ كِتابَتَه إلَّا بإذْنِ شَرِيكِه، في أحَدِ قولَيه. فإن كاتَبَه بإذْنِ شَرِيكِه، فأعْتَقَ الذي لم يُكاتِبْ، فهل يَسْرِي في الحالِ، أو يَقِفُ على العَجْزِ؟ فيه قولانِ. ولَنا، أنَّه عِتْقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لجُزْءٍ مِن العبدِ مِن مُوسِرٍ غيرِ محْجُورٍ عليه، فسَرَى إلى باقِيه، كالقِنِّ. وقولُهم: إنَّه يُفْضِي إلى إبْطالِ الوَلاءِ. قُلْنا: إذا كان العِتْقُ يُؤَثِّرُ في إبْطالِ المِلْكِ الثَّابتِ الذي الولاءُ مِن بعضِ آثارِه، فَلأنْ يُؤَثِّرَ في نَقْلِ الوَلاءِ بمفْرَدِه أوْلَى، ولَأنَّه لو أعْتَقَ عَبْدًا له أوْلادٌ مِن مُعْتَقَةِ قَوْمٍ، نَقَلَ وَلاءَهم [إليه، فإذا نَقَلَ ولاءَهم] (¬1) الثَّابتَ بإعْتاقِ غيرِهم، فَلأَنْ يَنْقُلَ ولاءً لم يَثْبُتْ بعدُ بإعْتاقِ مَن عليه الوَلاءُ أوْلَى. ولأنَّه نَقَلَ الولاءَ ثَمَّ (¬2) عمَّن لم يَغْرَمْ له عِوَضًا، فَلأنْ يَنْقُلَه بالعِوَضِ أوْلَى. فانْتِقالُ (¬3) الوَلاءِ في مَوْضِعِ جَرِّ الوَلاءِ يُنَبِّهُ على سِرايَةِ العِتْقِ وانْتِقالِ الوَلاءِ إلى المُعْتِقِ؛ لكونِه أوْلَى منه (2) مِن ثَلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنَّ الوَلاءَ ثَمَّ ثابِتٌ، وهذا بعَرَضِ الثُّبُوتِ. الثَّاني، أنَّ النَّقْلَ حَصَلَ ثَمَّ بإعْتاقِ غيرِه، وههُنا بإعْتاقِه. الثالثُ، أنَّه انْتَقَلَ بغيرِ عِوَضٍ، وههنا بعِوَضٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «بانتقال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان المُعْتِقُ مُعْسِرًا لم يَسْرِ عِتْقُه، وكان نَصِيبُه حُرًّا، وباقِيه على الكِتابَةِ، فإن أدَّى عَتَقَ عليهما، وكان وَلاؤُه بَينَهما، وإن عَجَزَ عاد الجُزْءُ المُكاتَبُ رَقِيقًا قِنًّا، إلَّا على الرِّوايَةِ التي تقولُ: يُسْتَسْعَى العَبْدُ. فإنَّه يُسْتَسْعَى عندَ عَجْزِه في قِيمَةِ باقِيه، ولا يُسْتَسْعَى في حالِ الكِتابَةِ؛ لأنَّ الكتابَةَ سِعايَةٌ فيما اتَّفَقَا عليه، فاسْتُغْنِيَ بها عن السِّعايَةِ فيما يَحْتاجُ إلى التَّقْويمِ، فإذا عَجَزَ وفُسِخَتِ الكِتابَةُ، بَطَلَتْ، ورَجَعَ إلى السِّعايَةِ في القِيمةِ. [وحديثُ ابنِ عمرَ حُجَّةٌ لمَا ذَهَبْنا إليه، وهو] (¬1) ما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ، فَإنْ كانَ معه ما يَبْلُغُ قِيمَةَ العَبْدِ قُوِّمِ عليه قِيمَةَ العَدْلِ، وأَعْطىَ شُرَكَاءَه (¬2) حِصَصهم، وَعَتَقَ جَمِيعُ العَبْدِ، وإلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ورَواه مالكٌ في «المُوَطَّأ» عن نافِعٍ عن ابنِ عمرَ. وهذا الحديثُ حُجَّةٌ على مَن خَالفَه. وهذا قولُ الخِرَقِيِّ. واللهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ولنا». (¬2) في م: «شركاؤه». (¬3) تقدم تخريجه في 15/ 159.

3034 - مسألة: (وإن كاتبا عبدهما جار، سواء كان على التساوي أو التفاضل. ولا يجوز أن يؤدي إليهما إلا على التساوي)

وَإِنْ كَاتَبَا عَبْدَهُمَا جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى التَّسَاوي أَو التَّفَاضُلِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيهِمَا إلا عَلَى التَّسَاوي، فَإِذَا كَمَلَ أَدَاؤُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ عَتَقَ كُلُّهُ عَلَيهِ، وَإنْ أَدَّى إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَعْتِقْ، إلا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْآخَرِ، فَيَعْتِق. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَعْتِقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3034 - مسألة: (وإن كاتَبا عبدَهما جار، سَواءٌ كان على التَّساوي أو التَّفاضُلِ. ولا يجوزُ أن يُؤَدِّيَ إليهما إلَّا على التَّساوي) إذا كان العبدُ لرَجُلَين، فكاتَباه معًا، سَواءٌ تَساوَيَا في العِوَضِ أو اخْتَلَفا فيه، وسَواءٌ اتَّفَقَ نَصِيباهُما [أو اخْتَلَف] (¬1)، وسواءٌ كان في عَقْدٍ واحدٍ أو عَقْدَين، صَحَّ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ أن يتَفَاضَلا في المالِ مع التَّساوي في المِلْكِ، ولا التَّساوي في المالِ معَ التَّفاضُلِ في المِلْكِ؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى أن يَنْتَفِعَ أحَدُهما بمالِ الآخَرِ، لأنَّه إذا دَفَعَ ¬

(¬1) في م: «فيه أو اختلفا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى أحَدِهما [أكْثَرَ مِن قَدْرِ مِلْكِه ثِم عَجَزَ، رَجَعَ عليه الآخَرُ بذلك. ولَنا، أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَعْقِدُ على نصِيبِه عَقْدَ مُعاوَضةٍ، فجاز أنْ يَخْتَلِفا في العِوَضِ، كالبَيعِ. وما ذَكَرَه لا يَلْزَمُ، لأنَّ انْتِفاعَ أحَدِهما] (¬1) بمالِ الآخَرِ إنَّما يكونُ عندَ العَجْزِ، وليس ذلك مِن مُقْتَضَياتِ العَقْدِ، وإنَّما يكونُ عندَ زَوالِه، فلا يَضُرُّ (¬2). ولأنَّه إنَّما يُؤَدِّي إليهما على التَّساوي، فإذا عَجَزَ قُسِمَ ما كَسَبَه بَينَهما على قَدْرِ المِلْكَين، فلم يكُنْ أحَدُهما مُنْتَفِعًا إلَّا بما يُقابِلُ مِلْكَه، وعاد الأمْرُ بعدَ زَوالِ الكِتابَةِ إلى حُكْمِ الرِّقِّ، كأنَّه لم يَزُلْ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يصير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قيل: فالتَّساوي في المِلْكِ يَقْتَضِي التَّساويَ في أدائِه إليهما، ويَلْزَمُ منه وَفاءُ كِتابةِ أحَدِهما قبلَ الآخَرِ، فيَعْتِقُ نَصِيبُه، ويَسْرِي إلى نَصِيبِ صاحِبِه، ويَرْجِعُ الآخَرُ عليه بنِصْفِ قِيمَتِه. قُلْنا: يُمْكِنُ أداءُ كِتابَتِه إليهما دَفْعَةً واحدةً، فيَعْتِقُ عليهما، ويُمْكِنُ أن يُكاتِبَ أحدَهما على مائةٍ في نَجْمَين، في كلِّ نَجْمٍ خَمْسُونَ، ويُكاتِبَ الآخَرَ على مائتينِ في نجْمَين، في الأوَّلِ خَمْسُونَ وفي الثَّاني (¬1) مائةٌ وخَمْسُونَ، فيكونُ وقْتُهُما واحدًا، فيُؤَدِّي إله كلِّ واحدٍ منهما حَقَّه. على أنَّ (¬2) أصْحابَنا قد قالوا: لا يَسْرِي العِتْقُ إلى نَصِيبِ الآخَرِ ما دام مُكاتبًا. فلا يُفْضِي إلى ما ذَكَرُوه، وإن قُدِّرَ إفْضاؤُه إليه، فلا مانِعَ فيه مِن صِحَّةِ الكِتابةِ، فإنَّه لا يُخِلُّ بمَقْصودِ الكِتابةِ، وهو العِتْقُ بها، ويُمْكِنُ سِرايَةُ العِتْقِ مِن غيرِ ضَرَرٍ، بأن يُكاتِبَه على مِثْلَيْ قِيمَتِه، فإذا عَتَقَ عليه غَرِمَ لشَرِيكِه نِصْف قِيمَتِه، وسَلَّمَ إليه باقِيَ المالِ، وحَصَلَ له ولاءُ العبدِ، ولا ضَرَرَ في هذا، ثم لو كان فيه ضَرَرٌ، لكنَّه قد رَضِيَ به حينَ كِتابَتِه على أقَلَّ ممَّا كاتَبَه به شَرِيكُه، والضَّرَرُ المَرْضِيُّ به من جِهَةِ المَضْرُورِ لا عِبْرَةَ به, كما لو باشَرَه بالعِتْقِ أو أبْرَأَه مِن مالِ الكِتابةِ، فإنَّه يَعْتِقُ عليه، ويَسْرِي عِتْقُه، ويَغْرَمُ لشَرِيكِه، وهو جائِزٌ، فهذا أوْلَى بالجَوازِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الباقي». (¬2) بعده في الأصل: «بعض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يجوزُ أن يَخْتَلِفا في التَّنْجِيمِ، ولا في (¬1) أن يكونَ لأحَدِهما في النُّجُومِ قبلَ النَّجْمِ الأخيرِ أكثرُ مِن الآخَرِ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يُؤَدِّيَ إليهما إلَّا على السَّواءِ، ولا يجوزُ تقديمُ أحَدِهما بالأداءِ (¬2) على الآخَرِ، واخْتِلافُهما في ميقاتِ النُّجُومِ وقَدْرِ المُؤَدَّى يُفْضِي إلى ذلك. والثاني، يجوز؛ لأنَّه يُمْكِنُ أن يُعَجِّلَ لمَن تأخَّرَ نَجْمُه قبلَ مَحِلِّه، ويُعْطِيَ مَن قَلَّ نَجْمُه أكثرَ مِن الواجِبِ له، ويُمْكِنُ أن يَأْذَنَ له أحَدُهما في الدَّفْعِ إلى الآخَرِ قبلَه، أو أكثرَ منه، ويُمْكِنُ أن يُنْظِرَه مَن حَلَّ نَجْمُه، أو يَرْضَى مَن له الكثيرُ بأخْذِ دُونِ حَقِّه، وإذا أمْكَنَ إفْضاءُ العَقْدِ إلى مَقْصُودِه، فلا نُبْطِلُه باحْتمالِ عَدَمِ الإِفْضاءِ إليه. فصل: وليس للمُكاتَبِ أنْ يُؤَدِّيَ إلى أحَدِهما أكثرَ مِن الآخَرِ، ولا يُقَدِّمَ أحَدَهُما على الآخَرِ. ذكره القاضي. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. قال شيخُنا (¬3): لا أعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّهما سَواءٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «بالوفاء». (¬3) في: المغني 14/ 506.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فيَسْتَويانِ في كَسْبِه، وحَقُّهما مُتَعَلِّقٌ بما في يَدِه تَعَلُّقًا واحدًا، فلم يَكُنْ له أنْ يَخُصَّ أحَدَهما بشيءٍ منه دُونَ الآخَرِ، ولأنَّه رُبِّما عَجَزَ، فيَعُودُ إلى الرِّقِّ ويَتَساوَيان في كَسْبِه، فيَرْجِعُ أحَدُهما على الآخَرِ بما في يَدِه مِن الفَضْلِ بعدَ انْتِفاعِه به مُدَّةً. فإن قَبَضَ أحَدُهما دُونَ الآخَرِ شيئًا لم يَصِحَّ القَبْضُ، وللآخَرِ أن يأْخُذَ منه حِصَّتَه إذا لم يَكُنْ أذِنَ في القَبْضِ. فإن أذِنَ فيه، ففيه وَجْهانِ، ذَكَرَهُما أبو بكرٍ؛ أحَدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّ المَنْعَ لحَقِّه، فجازَ بإذْنِه، كما لو أذِنَ المُرْتَهِنُ للراهِنِ في التَّصَرُّفِ فيه، أو أذِنَ [البائعُ للمُشْتَرى] (¬1) في قَبْضِ المَبِيعِ قبلَ تَوْفِيَةِ (¬2) ثَمَنِه، أو أذِنَا للمُكاتَبِ في التبرعِ، ولأنَّهما لو أذِنا له في الصَّدَقَةِ بشيءٍ، صَحَّ قَبْضُ ¬

(¬1) في م: «المشتري للبائع». (¬2) في م: «أن يوفيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَصَدَّقِ (¬1) عليه له، كذلك ههُنا. والثاني، لا يَجُوزُ. وهو اخْتِيارُ أبي بكرٍ، ومذهبُ أبي حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلِي الشافعيِّ، واخْتِيارُ المُزَنِيِّ؛ لأنَّ ما في يَدِ المُكاتَبِ مِلْكٌ له، فلا يَنْفُذُ إذْنُ غيرِه فيه، وإنَّما حَقُّ سيدِه في ذِمَّتِه. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاء الله تعالى؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، لا يَخْرُجُ عنهم، فإذا اتَّفَقُوا على شيءٍ فلا وَجْهَ للمَنْعِ. وقولُهم: إنَّه مِلْكٌ للمُكاتَبِ. تَعْلِيقٌ على العِلَّةِ ضِدَّ ما تَقْتَضِيه؛ لأنَّ كونَه مِلْكًا له يَقْتَضِي جَوازَ تَصَرُّفِه (¬2) فيه على حَسبِ اخْتِيارِه، وإنَّما المَنْعُ لتَعَلُّقِ حَقِّ سيدِه به، فإذا أذِنَ زال المانِعُ، فصَحَّ القَبْضُ (¬3)؛ لوُجُودِ مُقْتَضِيه، وخُلُوِّه مِن المانِعِ، ثم يَبْطُلُ بما ذكرنا مِن المسائِلٍ. فعلى هذا الوَجْهِ، إذا دَفَعَ إلى أحَدِهما مال الكِتابَةِ بإذْنِ صَاحِبِه، عَتَقَ نصِيبُه مِن المُكاتَبِ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى ¬

(¬1) في م: «المصدق». (¬2) في الأصل: «تصديقه». (¬3) في م: «التقبيض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقَّه، ويَسْرِي العِتْقُ إلى باقِيه إن كان مُوسِرًا، وعليه قِيمَةُ حِصَّةِ شَرِيكِه؛ لأنَّ عِتْقَه بسَبَبِه. وهذا قولُ الخِرَقِيِّ. ويَضْمَنُه في الحالِ بنِصْفِ قِيمَتِه مُكاتَبًا مُبْقًى على ما بَقِيَ مِن كِتابَتِه، وولاؤُه كلُّه له، وما في يَدِه مِن المالِ للذي (¬1) لم يَقْبِضْ منه بقَدْرِ ما قَبَضَه صاحِبُه، والباقِي بينَ العبدِ وبينَ سيدِه الذي عَتَقَ عليه؛ لأنَّ نِصْفَه عَتَقَ بالكِتابَةِ ونِصْفَه بالسِّرايةِ، فحِصَّة ما عَتَقَ بالكِتابَةِ للعَبْدِ، وحَصَّةُ ما عَتَقَ بالسِّرايةِ للسيدِ. وعلى ما اخْتارَه شيخُنا، يكونُ الباقِي كلُّه للعَبْدِ، لأنَّ الكَسْبَ كان مِلْكًا له، فَلا يَزُولُ مِلْكُه عنه بعِتْقِه، كما لو عَتَقَ بالأداءِ. وقال أبو بكرٍ، والقاضي: لا يَسْرِي العِتْقُ في الحالِ، وإنَّما يَسْرِي عندَ عَجْزِه. فعلى قولِهما، يكونُ باقِيًا على الكِتابَةِ، فإن أدَّى إلى الآخرِ عَتَقَ عليهما، ووَلاؤُه لهما، وما يَبْقَى في يَدِه مِن كَسْبِه فهو له، وإن عَجَزَ وفُسِخَتْ كِتابتُه قُوِّمَ على الذي أدَّى إليه، وكان وَلاؤُه كلُّه له، وتَنْفَسِخُ الكِتابَةُ في نِصْفِه، وإن مات فقد مات ونِصْفُه حُرٌّ ونِصْفُه رَقِيقٌ، ولسيدِه الذي لم يُعْتِقْ نصيبَه أن يأْخُذَ مِمَّا خَلَّفَه مِثْلَ ما أخَذَه شَرِيكُه مِن مالِ الكِتابَةِ، وله نِصْفُ ما بَقِيَ، والباقِي ¬

(¬1) في الأصل: «الذي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لوَرَثَةِ العبدِ. فإن لم يَكُنْ له وَارِثٌ مِن نَسَبِه، فهو للذي أدَّى إليه بالوَلاءِ. وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ القَبْضُ. فما أخَذَه القابِضُ بَينَه وبينَ شَرِيكِه، ولا تَعْتِقُ حِصَّتُه مِن المُكاتبِ؛ لأنَّه لم يَسْتَوْفِ عِوَضَه، ولغيرِ القابِضِ مُطَالبةُ القابِضِ بنَصِيبِه ممَّا قَبَضَه, كما لو قَبَضَ بغيرِ إذْنِه. وإن لم يَرْجِعْ غيرُ القَابِضِ بنَصِيبِه حتى أدَّى المُكاتَبُ إِليه كِتابَتَه، صَحَّ، وعَتَقَ عليهما جميعًا، وإن مات العبدُ قبلَ اسْتِيفَاءِ الآخَرِ حَقَّه فقد مات عبدًا، ويَسْتَوْفِي الذي لم يَقْبِضْ مِن كَسْبِه بقَدْرِ ما أخَذَ صاحِبُه، والباقي بينَهما. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ منصورٍ، في عبدٍ بينَ رَجُلَين كاتَباه، فأدَّى إلى أحَدِهما كِتابَتَه، ثم مات وهو يَسْعَى للآخَرِ، لمَن مِيرَاثُه؟ قال أحمدُ: كلُّ ما كَسَبَ العبدُ في كِتابَتِه، فهو بينَهما، ويَرْجِعُ هذا على الآخَرِ بنَصِيبِه ممَّا أخَذَ، ومِيراثُه بينَهما. قال ابنُ منصورٍ: قال إسحاقُ بنُ راهُويَه كما قال. فصل: فإن عَجَز مُكاتبهما فلهما الفَسْخُ والإِمْضاءُ، فإن فسَخا جَميعًا أو أمْضَيَا الكِتابَةَ جاز ما اتَّفقا عليه، وإن فَسَخَ أحَدُهما وأمْضَى الآخَرُ جاز، وعاد نِصْفُه رَقِيقًا قِنًّا ونِصْفُه مُكاتَبًا. وقال القاضي: تَنْفَسخُ الكتابَةُ في جَمِيعِه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الكِتابَةَ لو بَقِيَتْ في نِصْفِه لعاد مِلْكُ الذي فَسَخَ الكِتابَةَ إليه ناقِصًا. ولَنا، أنَّها كِتابةٌ عن مِلْكِ أحَدِهما، فلم تَنْفَسِخْ بفَسْخِ الآخَرِ, كما لو انْفَرَدَ بكِتابَتِه، ولأنَّهما عَقْدان مُفْرَدانِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَنْفَسِخْ أحَدُهما بفَسْخِ الآخَرِ، كالبَيعِ، وما حَصَلَ مِن النَّقْصِ (¬1) لا يَمْنَعُ؛ لأنَّه إنَّما حَصَلَ ضِمْنًا لتَصَرُّفِ الشَّرِيكِ في نَصِيبِه، [فلم يَمْنَعْ، كإعْتاقِ الشَّريكِ. ولأنَّ مِن أصْلِنا أن تَصِحَّ مُكاتَبَةُ أحدِهما نَصِيبَه] (¬2)، فإذا لم يُمْنَعِ العَقْدُ في ابْتِدائِه، فلأنْ لا يُبْطِلَه في دَوامِه أوْلَى. ولأنَّ ضَرَره حَصَلَ بعَقْدِه وفَسْخِه، فلا يَزولُ (¬3) بفَسْخِ عقدِ غيرِه. ولأنَّ في فَسْخِ الكِتابةِ ضَرَرًا بالمُكاتَبِ وسيدِه، وليس دَفْعُ الضَّرَرِ عن الشَّرِيكِ الذي فَسَخَ بأوْلَى مِن دَفْعِ الضَّرَرِ عن الذي لم يَفسَخْ، [بك دَفْعُ الضَّرَرِ عن الذي لم يَفْسَخْ أوْلَى] (2)، لوُجُوهٍ ثَلاثةٍ؛ أحدُها، أنَّ ضَرَرَ الذي فَسَخَ حَصَلَ ضِمْنًا؛ لبَقاءِ عَقْدِ شَرِيكِه في مِلْكِ نَفْسِه، وضَرَرُ شَرِيكِه يزُولُ بزوالِ عَقْدِه وفَسْخِ تَصَرُّفِه في مِلْكِه. الثَّاني، أنَّ ضَرَرَ الذي فسَخَ لم يَعْتَبرْه الشَّرْعُ في مَوْضِعٍ، ولا أصْلَ لما ذَكَرُوه مِن الحُكْمِ، ولا [يُعْرَفُ له نَظِيرٌ، فيكونَ] (¬4) بمَنْزِلَةِ المَصالِحِ المُرْسَلَةِ التي وَقَعَ الإِجْماعُ على اطِّراحِها، وضَرَرُ شَرِيكِه بفَسْخِ عَقْدِه معْتَبَرٌ في سائِرِ عُقُودِه؛ مِن بَيعِه، وهِبَتِه [ورَهْنِه] (2)، وغيرِ ذلك، فيكونُ أوْلَى. الثالثُ، أنَّ ضَرَرَ ¬

(¬1) في م: «القبض». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يزال». (¬4) في الأصل: «نعرف له نظيرًا فتكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَسْخِ يَتَعَدَّى إلى المُكاتَبِ، فيكونُ ضَرَرًا باثْنَين، وضَرَرُ الفاسِخِ لا يَتَعَدَّاه، ثم لو قُدِّرَ تَساوى الضَّرَرَين، لوَجَبَ إبْقاءُ الحُكْمِ على ما كان عليه، ولا يجوزُ إحْداثُ الفَسْخِ مِن غيرِ دليلٍ راجِحٍ. فصل: وإذا عَجَزَ المُكاتَبُ ورُدَّ في الرِّقِّ، وكان في يَدِه مالٌ، فهو لسيدِه، سَواءٌ كان مِن كَسْبِه أو مِن (¬1) صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ أو وَصِيَّةٍ. وما كان مِن صَدَقَةٍ مَفْروضَةٍ ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، هو لسيدِه. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال عطاءٌ: يَجْعَلُه في السَّبِيلِ أحَبُّ إليَّ، وإن أمْسَكَه فلا بأْسَ. والروايةُ الثانية، يُؤْخَذُ ما بَقِيَ في يَدِه فيُجْعَلُ في المُكاتَبِين. نَقَلَها حنْبَلٌ. وهو قولُ شُرَيحٍ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ. واخْتارَ أبو بكرٍ والقاضي أنَّه يُرَدُّ إلى أرْبابِه. وهو قولُ إسحاقَ, لأنَّه إنَّما دُفِعَ إليه ليُصْرَفَ في العِتْقِ، فإذا لم يُصْرَفْ فيه وَجَبَ رَدُّه، كالغازِي والغارِمِ وابنِ السَّبِيلِ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنَّ ابنَ عمرَ رَدَّ مُكاتَبًا في الرِّقِّ، فأمْسَكَ ما أخَذَه منه (¬2). ولأنَّه يأْخُذُ لحاجتِه، فلم يَرُدَّ ما أخَذَه، كالفقيرِ والمسكينِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 341.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا الغازِي فإنَّه يأْخُذُ لحاجَتِنا (¬1) إليه بقَدْرِ ما يَكْفِيه لغَزْوه. وأمَّا الغارِمُ فإن غَرِمَ لإِصْلاحِ ذاتِ البَينِ، فهو كالغازِي، يأخذُ لحاجتِنا إليه، وإن غَرِمَ لمَصْلَحَةِ نفسِه فهو كمسألتِنا، لا يَرُدُّه. فصل: فأمَّا ما أدَّاه إلى سيدِه قبلَ عَجْزِه، فلا يَجبُ رَدُّه بحالٍ؛ لأنَّ المُكاتَبَ صَرَفَه في الجِهَةِ التي أخَذَه لها، وثبَتَ مِلْكُ سيدِه عليه مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، فلم يَزُلْ مِلْكُه عنه، كما لو عَتَقَ المُكاتَبُ. ويُفارِقُ ما في يَدِ المُكاتَب، فإنَّ مِلْكَ سيدِه لم يَثْبُتْ عليه قبلَ هذا، والخِلافُ في ابْتِداءِ ثُبُوتِه. وَما تَلِفَ في يَدِ المُكاتَبِ لم يَرْجِعْ به (¬2) عليه، سَواءٌ عَجَزَ أو أدَّى؛ لأنَّ ماله تَلِفَ في يَدِه، أشْبَهَ ما لو تَلِفَ [في يَدِ] (¬3) سائِرِ أصْنافِ الصَّدَقَةِ. وإنِ اشْتَرَى به عَرْضًا، وعَجَزَ والعَرْضُ في يَدِه، ففيه مِن الخِلافِ مثلُ ما لو وَجَدَه بعَينِه؛ لأنَّ العَرْضَ عِوَضُه وقائِمٌ مَقامَه، فأشْبَهَ ما لو أُعْطِيَ الغازِي مِن الصَّدَقَةِ ما اشْتَرَى به فَرَسًا وسِلاحًا ثم فَضَلَ عن حاجتِه. فصل: ومَوْتُ المُكاتَبِ قبلَ الأداءِ كعَجْزِه فيما ذَكَرْنا؛ لأنَّ سيدَه يأْخُذُ ما في يَدِه قبلَ حُصولِ مَقْصودِ الكتابةِ. وإن أدَّى وبَقِيَ في يَدِه شيءٌ فحكمُه في رَدِّه وأخْذِه حكمُ سيدِه فيه ذلك عندَ عَجْزِه؛ لأنَّه مالٌ لم يُؤَدِّه ¬

(¬1) في الأصل: «لحاجته». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ما في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في كتابتِه، بَقِيَ بعدَ (¬1) زَوالِها. فإن كان قد اسْتَدانَ ما أدَّاه في الكتابةِ، وبَقِيَ عندَه مِن الصَّدَقَةِ بقَدْرِ (¬2) ما يَقْضِي به دَينَه، لم يَلْزَمْه رَدُّه؛ لأنَّه مُحْتاجٌ إليه بسَبَبِ الكتابةِ، فأشْبَهَ ما يَحْتاجُ إليه في أدائِها. فصل: إذا قال السيدُ لمُكاتَبِه: متى عَجَزْتَ بعدَ مَوْتِي فأنتَ حُرٌّ. فهذا تَعْلِيقٌ للحُرِّيةِ (¬3) على صِفَةٍ تَحْدُثُ بعدَ الموتِ. وفيه اخْتِلافٌ ذَكَرْناه (¬4). فإن قُلْنا: لا يَصِحُّ. فَلا كلامَ. وإن قُلْنا: يَصِحُّ. فمتى عَجَزَ بعدَ الموتِ صار حُرًّا بالصِّفَةِ. فإنِ ادَّعَى العَجْزَ قبلَ حُلُولِ النَّجْمِ لم يَعْتِقْ؛ لأنَّه لم يجِبْ عليه شيءٌ يَعْجِزُ عنه. وإن كان بعدَ حُلُولِه ومعه ما يُؤَدِّيه لم يُقْبَلْ قوْلُه؛ لأنَّه غيرُ عاجِزٍ، وإن لم يَكُنْ معه مالٌ ظاهِرٌ، فصَدَّقَه الوَرَثَةُ، عَتَقَ، وإن كذَّبُوه فالقولُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ المالِ وعَجْزُه، فإذا حَلَفَ عَتَقَ. وإذا عَتَق بهذِه الصِّفَةِ، كان ما في يَدِه له إن لم تَكُنْ كِتابَتُه فُسِخَتْ؛ لأنَّ العَجْزَ لا تَنْفَسِخُ به الكِتابَةُ (¬5)، وإنَّما يَثْبُتُ به اسْتِحْقاقُ الفَسْخِ، والحُرِّيةُ تَحْصُلُ به بأوَّلِ وُجُودِه، فتكونُ الحُرِّيةُ قد حَصَلَتْ له في حالِ كِتابَتِه، فيكونُ ما في يَدِه له، كما لو عَتَقَ بالإِبْراءِ مِن مالِ الكِتابةِ. ومُقْتَضَى قولِ (¬6) أصْحابِنا، أنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «بقدر». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «تعجيز به». (¬4) تقدم الكلام عليه في صفحة 355. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) بعده في م: «بعض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابَتَه تَبْطُلُ، ويكونُ ما في يَدِه لوَرَثَةِ سيدِه. فصل: إذا كاتَبَ عَبْدًا في صِحَّتِه، ثم أعْتَقَه في مرَضِ موتِه، أو أبْرَأه مِن مالِ الكتابةِ، فإن كان يَخْرُجُ مِن ثُلُثِه الأقَلُّ مِن قِيمَتِه أو مالِ كتابَتِه عَتَقَ، مثلَ أن يكونَ له سِوَى المُكاتَبِ مائتان، وقِيمةُ المُكاتَبِ مائةٌ، ومالُ الكتابَةِ مائةٌ وخمسون، فإنَّا نَعْتَبرُ قِيمتَه دُونَ مالِ الكِتابَةِ، وهي تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ. وإن كان بالعكسِ اعْتَبَرْنا مال الكِتابَةِ ونَفَذَ العِتْقُ، ويُعْتَبَرُ الباقي مِن مالِ الكِتابَةِ دُونَ ما أدَّى منها، وإنَّما اعْتَبَرْنا الأقَلَّ (¬1)؛ لأنَّ قِيمَتَه إن كانت أقَلَّ فهي قِيمَةُ ما أتْلَفَ بالإِعْتاقِ, ومالُ الكِتابَةِ ما اسْتَقَرَّ عليه, فإنَّ للعَبْدِ إسْقَاطَه بتَعْجِيزِ نَفْسِه, أو يَمْتَنِعُ مِن أدائِه, فلا يُجْبَرُ عليه، فلم يُحْتَسَبْ له به، وإن كان عِوَضُ الكِتابَةِ أقلَّ اعْتَبَرْناه؛ لأنَّه يَعْتِقُ بأدائِه، ولا يَسْتَحِقُّ السيدُ عليه سِواه، وقد ضَعُف (¬2) مِلْكُه فيه وصار عِوَضَه. وإن كان كلُّ واحدٍ منهما لا يَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، مثلَ أن يكونَ مالُه سِوَى المُكاتَبِ مائةً، فإنَّا نَضُمُّ الأقَلَّ مِن قِيمَتِه أو مالِ الكِتابَةِ، ونَعْمَلُ بحسابِه، فيَعْتِقُ منه ثُلُثاه، ويَبْقَى ثُلُثُه بثُلُثِ مالِ الكِتابةِ، فإنْ أدَّاه عَتَقَ، وإلَّا رَقَّ منه ثُلُثُه. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا كان مالُ الكِتابَهِّ مائَةً وخمسين، فيَبْقَى (¬3) ثُلُثُه بخَمْسِين فأدَّاها، أن نقولَ: قد زاد مالُ المَيِّتِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «الأول». (¬2) في الأصل: «ضعفه». (¬3) في م: «فيفى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُسِبَ على الوَرَثَةِ بمائةٍ، وحَصَلَ لهم بثُلُثِه (¬1) خَمْسونَ، فقد زاد مالُ المَيِّتِ، فيَنْبَغِي أن يَزِيدَ ما يَعْتِقُ منه؛ لأنَّ هذا المال يَحْصُلُ لهم بعَقْدِ السيدِ والإِرْثِ عنه. ويجبُ أن يكونَ المُعْتَبَرُ مِن مالِ الكِتابَةِ ثلاثةَ أرْباعِه؛ لأنَّ رُبْعَه يجِبُ إيتاؤُه للمُكاتَبِ (¬2)، فلا يُحْسَبُ مِن مالِ المَيِّتِ. فإن كان ثلاثةُ أرْباعِ مالِ الكتابةِ مائةً وخمسين، وقِيمةُ العَبْدِ مائةً، وللمَيِّتِ مائةٌ أُخْرَى، عَتَقَ مِن العبدِ ثُلُثاه، وحَصَلَ للوَرَثَةِ مِن كِتابَةِ العبدِ خمْسونَ، عن ثُلُثِ العبدِ المَحْسُوبِ عليهم بثُلُثِ (¬3) المائةِ، فقد زاد لهم ثُلُثُ الخَمْسين، فيَعْتِقُ مِن العبدِ قَدْرُ ثُلُثِها، وهو تُسْعُ الخَمْسين، وذلك نِصْفُ تُسْعِه، فصار العِتْقُ ثابِتًا في ثُلُثَيه ونِصْفِ تُسْعِه، وحصلَ للورَثَةِ المائةُ وثمانِيَةُ أتْساعِ الخَمْسين، وهو مِثْلا ما عَتَقَ منه. فإن قِيل: لِمَ أعْتَقْتُمْ بَعْضَه، وقد بَقِيَ عليه بَعْضُ مالِ الكِتَابةِ، [وقد قُلْتُمْ: إن المُكاتَبَ لا يَعْتِقُ منه شَيءٌ حتى يُؤَدِّيَ جميعَ مالِ الكتابةِ] (¬4)؟ قُلْنا: إنَّما أعْتَقْنا بَعْضَه ههُنا بإعْتاقِ سيدِه، لا بالكتابَةِ، ولمّا كان العِتْقُ في مرَضِ مَوْتِه، نَفَذَ في ثُلُثِ مالِه، وبَقِيَ باقِيه لِحَقِّ الوَرَثَةِ، والمَوْضِعُ الذي لا يَعْتِقُ (¬5) إلَّا بأداءِ جَمِيعِ مالِ (¬6) الكِتابةِ، إذا كان عِتْقُه بها؛ لأنَّه إذا بَقِيَ عليه شيءٌ، ¬

(¬1) في م: «ثلثه». (¬2) في الأصل: «وللمكاتب». (¬3) في م: «ثلث». (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فما حصَلَ الاسْتِيفاءُ يَخُصُّ المُعاوضَةَ، فلم تثْبُتِ الحُرِّيةُ في العِوَضِ. فصل: فإن وَصَّى سيدُه بإعْتاقِه، أو إبْرائِه مِن الكِتابةِ، وكان يَخرُجُ مِن ثُلُثِه أقَلُّ الأمْرَين مِن قِيمَتِه أو مال الكِتابَةِ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا أعْتَقَه في مَرَضِه، أو أبْرأه، إلَّا أنَّه لا يَحْتاجُ ههُنا إلى إيقاعِ العِتْقِ؛ لأنَّه أوْصَى به. وإن لم يَخْرُجِ الأقَلُّ منهما مِن ثُلُثِه, عَتَقَ (¬1) منه بقَدْرِ الثُّلُثِ، ويَسْقُطُ مِن الكِتابةِ بقَدْرِ ما عَتَقَ، ويَبْقَى باقِيه على باقي الكِتابَةِ، فإذا أدَّاه عَتَقَ جَمِيعُه، وإن عَجَزَ عَتَقَ منه بقَدْرِ الثُّلُثِ ورَقَّ الباقي. وقياسُ المذهبِ أن يتَنَجَّزَ عِتْقُ ثُلُثِه في الحالِ وإن لم يَحْصُلْ للوَرَثةِ في الحالِ شيءٌ؛ لأنَّ حَقَّ الوَرَثَةِ مُتَحَقِّقُ الحصولِ، فإنَّه إن أدَّى وإلَّا عاد البَاقِي قِنًّا. وذكَرَ القاضي فيه وجْهًا آخَرَ، أنَّه لا يَتَنَجَّزُ عِتْقُ شيءٍ منه إذا لم يكُنْ للمَيِّتِ مالٌ سِواهُ؛ لئلَّا يَتَنَجَّزَ للوَصِيَّةِ ما عَتَقَ منه (¬2) ويتأخَّرَ حَقُّ الوارِثِ، ولذلك لو كان له مالٌ غائبٌ، أو دَينٌ حاضِرٌ، لم تَتَنَجَّزْ وَصِيَّتُه مِن الحاضِرِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لما ذَكَرْناه. وأمَّا الحاضِرُ والغائِبُ، فإنَّه إن كان مُوصًى له بالحاضِرِ أخَذَ ثُلُثَه في الحالِ، ووَقَفَ الباقِي على قُدومِ الغائِبِ، فقد حَصَلَ للمُوصَى له ثُلُث الحاضِرِ، ولم يَحْصُلْ للوَرَثَةِ شيءٌ في الحالِ، فهي كمسألتِنا، ولم يَكْمُلْ له جميعُ وَصِيَّتِه؛ [لأنَّ الغائِبَ] (¬3) غيرُ مَوْثوقٍ (¬4) بحُصولِه، فإنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «أعتق». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «موقوف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ربَّما تَلِفَ، بخِلافِ ما نحن فيه، فأمّا الزِّيادَةُ الحاصلَةُ بزيادَةِ مالِ الكِتابَةِ، فإنَّها تَقِفُ على أدائِه. فصل: قال الخِرَقِيُّ: وإذا كان العبدُ لثَلاثَةٍ، فجاءَهُم بثلاثِمائَةِ دِرْهَمٍ، فقال: بِيعُوني نفْسِي بها. فأجابُوه، فلمَّا عاد إليهم ليكْتُبوا له كِتابًا، أنْكَرَ أحَدُهم أن يكونَ أخَذَ شيئًا، وشَهِدَ الرَّجُلانِ عليه بالأخْذِ، فقد صار العَبْدُ حُرًّا بشهادَةِ الشَّرِيكَين إذا كانا عَدْلَين، ويُشارِكُهُما فيما أخَذَا مِن المالِ، وليس على العبدِ شيءٌ. اعْتُرِضَ على الخِرَقِيِّ في هذه المسألةِ، حيث أجاز له شِراءَ نَفْسِه بعَينِ ما في يَدِه، مع أنَّه قد ذكَرَ في بابِ العِتْقِ: إذا قال العبدُ لرَجُل: اشْتَرِني مِن سيدِي بهذا المالِ وأعْتَقْنِي. فاشْتَراهُ بعينِ المال، كان الشِّراءُ والعِتْقُ باطِلًا، ويكونُ السيدُ قد أخَذَ ماله. فأجابَ القاضي عن هذا الإِشْكالِ بوُجوهٍ: منها، أن يكونَ مُكاتَبًا، وقولُه: بيعُونِي نَفْسِي بهذه. أي أُعَجِّلُ لكم الثَّلاثَمِائة وتَضْعُونَ عنِّي ما بَقِيَ مِن كِتابَتِي، ولهذا ذَكرها في بابِ المُكاتَبِ. الثَّاني، أن يكُون [المالُ في يَدِ] (¬1) العبدِ لأجْنَبِيٍّ قال له: اشْتَرِ نَفْسَكَ بها. مِن غيرِ أن يُمَلِّكَه إيَّاها. الثالثُ، أن [يكونَ عِتْقًا بِصفةٍ] (¬2)، تقْدِيرُه: إذا قَبَضْنا منك هذه الدَّراهِمَ فأنت حُرٌّ. الرابعُ، أن يكونَ سادَتُه رَضُوا ببَيعِه نَفْسَه بما في يَدِه، وفِعْلُهم ذلك معه (¬3) إعْتاقٌ منهم مشْرُوطٌ بتَأْدِيَةِ ذلك إليهم، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يكونا عتقا نصفه». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتكونُ صُورَتُه صُورةَ البَيعِ، ومعناه العِتْقُ بشَرْطِ الأداءِ، كما لو قال: بِعْتُك نَفْسَك بخِدْمَتِي سَنَةً. فإنَّ مَنافِعَه مَمْلُوكَةٌ لسيدِه، وقد صَحَّ هذا فيها (¬1)، فكذا ههُنا. قال شيخُنا (¬2): وهذا الوَجْهُ أظْهَرُها (¬3)، إن شاء اللهُ تعالى؛ لأنَّه لا يَحْتَاجُ إلى تأْويلٍ، ومتى أمْكَنَ حَمْلُ الكلامِ علِى ظاهِرِه لم يَجُزْ تَأْويلُه بغيرِ دليلٍ. إذا تَقَرَّرَ هذا، فمتى اشْتَرَى العبدُ نفْسَه مِن سادَتِه عَتَقَ؛ لأنَّ البَيعَ يُخْرِجُه مِن (¬4) مِلْكِهم، ولا يَثْبُتُ عليه مِلْكٌ آخَرُ، إلَّا أنَّه ههُنا لا يَعْتِقُ إلَّا بالقَبْضِ؛ لأنَّا جَعَلْناه عِتقًا مشْرُوطًا به. ولهذا قال الخِرَقِيُّ: وقد صار العَبْدُ حُرًّا بشَهادَةِ الشَّرِيكَين اللذين شَهِدا بالقَبْضِ. ولو عَتَقَ بالبَيعِ، لعَتَقَ باعْترافِهم به، لا بالشَّهادَةِ بالقَبْضِ. ومتى أنْكَرَ أحَدُهم أخْذَ نصِيبِه مِن الثَّمَنِ، فشَهِدَ عليه شَرِيكاه، وكانا عَدْلَين، قُبِلَتْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما شَهِدا للعبدِ بأداءِ ما يَعْتِقُ به، فقُبِلَتْ شهادَتُهما، كالأجْنَبِيَّين، ويَرْجِعُ المشهودُ عليه عليهما فيُشارِكُهما فيما أخَذَاه؛ لأنَّهما اعْتَرَفا بأخْذِ مائَتَين مِن ثَمَنِ العبدِ، والعبدُ مُشْتَرَكٌ بينَهم، فثَمَنُه (¬5) يجبُ أنْ يكونَ بينَهم، ولأنَّ ما في يَدِ العبدِ لهم، والذي أخَذاه كان في يَدِه، فيجِبُ أن يَشْتَرِكَ فيه الجميعُ ويكونَ بينَهم بالسَّويَّةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: المغني 14/ 548. (¬3) في م: «أظهر». (¬4) في م: «عن». (¬5) في الأصل: «قيمته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَهادتُهما فيما لهما فيه نَفْعٌ غيرُ مَقْبُولَةٍ، ودَفْعُ مُشارَكَتِه لهما فيه نَفْعٌ لهما، فلم تُقْبَلْ شَهادتُهما فيه، وقُبِلَتْ فيما يَنْتَفِعُ به العبدُ دُونَ ما يَنْتَفِعان به، كما لو أقَرَّ بشيءٍ لغيرِهما [ضَرَرٌ و] (¬1) لهما (¬2) فيه نَفْعٌ، فإنَّ إقْرارَهما يُقْبَلُ فيما عليهما دُونَ ما لهما. وقياسُ المذهبِ أن لا تُقْبَلَ شَهادَتُهما على شَرِيكِهما بالقَبْضِ؛ لأنَّهما يَدْفَعان بها عن أنْفُسِهما [ضَرَرًا و] (¬3) مَغْرَمًا، ومَن شَهِدَ بشهادَةٍ يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا بَطَلَتْ شَهادَتُه في الكُلِّ، وإنَّما يُقْبَلُ ذلك في الإِقْرارِ؛ لأنَّ العدالةَ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ فيه، والتُّهْمَةُ لا تَمْنَعُ مِن صِحَّتِه، بخِلافِ الشهادَةِ. فعلى هذا القياسِ، يَعْتِقُ نَصِيبُ إلشاهِدين بإقْرارِهما، ويَبْقَى نَصيبُ المشهودِ عليه موْقُوفًا على القَبْضِ، وله مطالبَتُه بنَصِيبِه أو مُشارَكَةُ صَاحِبَيه (¬4) بما أخَذَا (¬5)، فإن شَارَكَهُما أخَذَ منهما ثُلُثَيْ مائَةٍ، ورَجَعَ على العبدِ بتَمام المائَةِ، ولا يَرْجِعُ المأخُوذُ منه (¬6) على الآخَرِ بشيءٍ؛ لأنَّه إن أخَذَ مِن العَبدِ، فهو يقولُ: ظَلَمَنِي، وأخَذَ مِني مَرَّتَين. وإن أخَذَ مِن الشَّاهِدَين، فهما يقُولانِ: ظَلَمَنا وأخَذَ منَّا ما لا يَسْتَحِقُّه علَينا. ولا يَرْجِعُ المظْلُومُ على غيرِ ظَالِمه. وإن كانا غيرَ عَدْلَين فكذلك، سواءٌ قُلْنا: إنَّ شَهادَةَ العَدْلَين مَقْبُولَةٌ. أو لا؛ لأنَّ غيرَ العَدْلِ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه، وإنَّما يؤاخَذُ بإقرارِه. وإن أنْكَرَ الثَّالثُ البَيعَ فنَصِيبُه باقٍ على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) زيادة من: م. (¬4) في الأصل: «صاحبه». (¬5) في م: «أخذ». (¬6) بعده في الأصل: «منهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّقِّ إذا حَلَفَ، إلَّا أنْ يَشْهَدا عليه بالبَيعِ، ويَكونانِ عَدْلَين، فتُقْبَلُ شهادَتُهما؛ لأنَّهما لا يَجُرَّان إلى أنْفُسِهما بهذه الشَّهادَةِ نَفْعًا. فصل: وإذا كان العبدُ بينَ شَرِيكَين، فكاتَباه بمائةٍ، فادَّعَى دَفْعَها إليهما، وصَدَّقاه، عَتَقَ، وإن أنْكَراه، ولم تكُنْ بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُهما مع أيمانِهما. وإنْ أقَرَّ أحدُهما وأنْكَرَ الآخرُ، عَتَقَ نَصِيبُ المُقِرِّ، وأمَّا المُنْكِرُ، فعلى قولِ الخِرَقِيِّ، تُقْبَلُ شَهادةُ شَرِيكِه (¬1) عليه إذا كان (¬2) عَدْلًا، فيَحْلِفُ العبدُ مع شَهادَتِه (¬3)، ويصِيرُ حُرًّا، [ويَرْجِعُ] (¬4) المُنْكرُ على الشَّاهِدِ، فيُشارِكُه فيما أخَذَه. وأمَّا القِياسُ فيَقْتَضِي أن لا تُسْمَعَ شهادَةُ شَريكِه عليه؛ لأنَّه يَدْفَعُ بشهادَتِه عن نَفْسِه مَغرَمًا، والقولُ قول السَّيدِ مع يَمِينِه، فإذا حَلَفَ، فله مُطالبَةُ شَرِيكِه بنِصْفِ ما اعْتَرَفَ به، وهو خَمْسَةٌ وعشرون؛ لأنَّ ما قَبَضَه كَسْبُ العَبْدِ، وهو مُشْتَرَكٌ بينَهما. فإن قِيلَ: فالمُنْكِرُ يُنْكِرُ قَبْضَ شَرِيكِه، فكَيفَ يَرْجعُ عليه؟ قُلْنا: إنَّما يُنْكِرُ قَبْضَ نَفْسِه، وشَرِيكُه مُقِرٌّ بالقَبْضِ، ويجوزُ أنَّ يكونَ قَد قَبَضَ فلم يَعْلَمْ به، وإذا أقَرَّ بمُتَصَوَّرٍ لَزِمَه حُكْمُ إقْرارِه، ومِن حُكْمِه جَوازُ رُجوعِ شَرِيكِه عليه. فإن قيلَ. لو كان عليه دَينٌ لاثْنَين فَوَفَّى أحَدَهما، لم يَرْجِعِ ¬

(¬1) في م: «شريكيه». (¬2) في م: «كانا». (¬3) في م: «شهادتهما». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرُ على شَرِيكِه، فلِمَ رَجَعَ ههُنا؟ قُلْنا: إن كان الدَّينُ ثابِتًا بسَبَبٍ واحِدٍ، فما قَبَضَ أحدُهما منه رَجَعَ به الآخَرُ عليه، كمسألتِنا، وعلى أنَّ هذا يُفارِقُ الدَّينَ، لكونِ الدَّينِ لا يَتَعَلَّقُ بما في يَدِ الغَرِيمِ، إنَّما يَتَعَلَّقُ بذِمَّتِه حَسْبُ، والسيدُ يتَعَلَّقُ حَقُّه بما في يَدِ المُكاتَبِ، فلا يَدْفَعُ شيئًا منه إلى أحَدِهما، إلَّا كان حَقُّ الآخَرِ ثابتًا فيه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إن رَجَعَ على العبدِ بخَمْسِين، اسْتَقَرَّ مِلْكُ الشَّرِيكِ على ما أخَذَه، ولم يَرْجِعِ العبدُ عليه بشيءٍ؛ لأنَّه إنَّما قَبَضَ حَقَّه، وإن رَجَعَ على الشَّرِيكِ، رَجَعَ عليه بخَمْسَةٍ وعِشْرِين، وعلى العَبْدِ بخَمْسةٍ وعِشْرِين، ولم يَرْجِعْ أحَدُهما على الآخَرِ بما أخَذَه منه؛ لما (¬1) ذَكَرْنا مِن قبلُ. وإن عَجَزَ العبدُ [عن أداءِ] (¬2) ما يَرْجِعُ به عليه، فله تَعْجِيزُه واسْتِرْقاقه، ويكونُ نِصْفه حُرًّا ونِصْفه رَقِيقًا، ويَرْجِعُ على الشَّرِيكِ بنِصْفِ ما أخَذَه، ولا تَسْرِي الحُرِّيةُ فيه؛ لأنَّ الشَّرِيكَ والعبدَ يَعْتَقِدان أنَّ الحُرِّيةَ ثابِتَةٌ في جميعِه، وأنَّ المُنْكِرَ غاصِبٌ لهذا النِّصْفِ الذي اسْتَرَقَّه ظَالِمٌ باسْتِرْقاقِه، والمُنْكِرُ يَدَّعِي رِقَّ العبدِ جميعِه، ولا يَعْتَرِفُ بحُرِّيةِ شيءٍ منه؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّني (¬3) ما قَبَضْتُ نَصِيبي (¬4) مِن كتابتِه، وشَرِيكي إن قَبَضَ شيئًا [فقد قَبَضَ شيئًا] (¬5) اسْتَحَقَّ نِصْفَه بغيرِ إذْنِي، فلا يَعْتِقُ شيءٌ منه بهذا القَبْضِ. وسِرايةُ العِتْقِ مُمْتَنِعَةٌ ¬

(¬1) في الأصل: «كما». (¬2) في النسختين: «بأداء» والمثبت كما في المغني 14/ 550. (¬3) في م: «أنه». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على كلا القَوْلَين؛ لأنَّ (¬1) السِّرايةَ إنَّما تكونُ فيما إذا أُعْتِقَ بعضُه وبَقِيَ بعضُه رَقِيقًا، وجَمِيعُهم متَّفِقونَ على خِلافِ ذلك. وهذا مَنْصوصُ الشافعيِّ. فصل: فإنِ ادَّعَى العبدُ أنَّه دَفَعَ المائَةَ إلى أحَدِهما؛ ليَدْفَعَ إلى شَرِيكِه حَقَّه ويأْخُذَ الباقِيَ، فأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، حَلَفَ وبَرِئَ. فإن قال: إنَّما دَفَعْتَ إليَّ حَقِّي، وإلى شَرِيكي حَقَّه. ولا بَيِّنَةَ للعبدِ، فالقولُ قولُ المدَّعَى عليه، في أنَّه لم يَقْبِضْ إلَّا قَدْرَ حَقِّه، مع يَمِينِه، ولا نزاعَ بينَ العبدِ وبينَ الآخَرِ؛ لأنَّه لم يَدَّعِ عليه شيئًا، وله مُطالبَةُ العبدِ بجميعِ حَقِّه، وله مُطالبَتُه بنِصْفِه، ومُطالبَةُ القابضِ بنِصْفِ ما قَبَضَه، فإنِ اختار مُطالبَةَ العبدِ، فله القَبْضُ منه بغيرِ يَمِينٍ، وإنِ اخْتارَ الرُّجُوعَ على شَرِيكِه بنِصْفِه، فللشَّرِيكِ عليه اليَمِينُ أنَّه لم يَقْبِضْ مِن المُكاتَبِ شيئًا؛ لأنَّه لو أقَرَّ بذلك لسَقَطَ حَقُّه مِن الرُّجُوعِ، فإذا أنْكَرَه لَزِمَتْه اليَمِينُ. فإن شَهِدَ القابِضُ على شَرِيكِه بالقَبْضِ لم تُقْبَلْ شهادَتُه؛ لمعْنَيَين؛ أحدُهما، أنَّ المُكاتَبَ لم يَدَّعِ عليه شيئًا، وإنَّما تُقْبَلُ البَيِّنَةُ إذا شَهِدَت بصِدْقِ المدَّعِي. الثَّاني، أنَّه يَدْفعُ عن نَفْسِه مَغْرَمًا. فإن عَجَزَ العَبْدُ فلغيرِ القابِضِ أن يَسْتَرِقَّ نِصْفَه، ويُقَوَّمُ عليه نَصِيبُ شَرِيكِه؛ لأنَّ العبدَ مُعْتَرِفٌ برِقِّه، غيرُ مُدَّعٍ لحُرِّيةِ هذا النَّصِيبِ، بخِلافِ التي قَبْلَها. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقَوَّمَ أيضًا؛ لأنَّ القابضَ يَدَّعِي حُرِّيةَ جَمِيعِه، والمُنْكِرُ يَدَّعِي ما يُوجِبُ رِقَّ جَمِيعِه، فإنَّهما ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقُولان: ما قَبَضَه قَبَضَه بغيرِ حَقٍّ، فلا يَعْتِقُ حتى يُسَلِّمَ إليَّ مِثْلَ ما سَلَّمَ إليه. وإذا كان أحَدُهما يَدَّعِي رِقَّ (¬1) جَمِيعِه، والآخرُ يَدَّعِي [حُريةَ جميعِه] (¬2)، فما اتَّفَقا على حُرِّيةِ البعضِ دُونَ البَعْضِ. فصل: وإنِ اعْتَرَفَ المُدَّعَى [عَلَيهِ] (¬3) بقَبْضِ المائةِ، على الوَجْهِ الذي ادَّعاهُ المُكاتَبُ، وقال: قد دَفَعْتُ إلى شَريكي نِصْفَها. فأنْكَرَ الشَّرِيكُ، فالقولُ قولُه مع يَمينِه، وله مُطالبَةُ مَن شاءَ منهما بجَمِيعِ حَقِّه، وللمَرْجُوعِ عليه أن يُحَلِّفَه، فإن رَجَعَ على الشَّرِيكِ فأخَذَ منه خمْسِينَ، كان له ذلك؛ لأنَّه اعْتَرَفَ بقَبْضِ المائةِ كُلِّها، ويَعْتِقُ المُكاتَبُ؛ لأنَّه وَصَل إلى كلِّ واحِدٍ منهما قَدْرَ حَقِّه مِن الكِتابَةِ، ولا يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عليه بشيءٍ؛ لأنَّه يَعْتَرِفُ له بأداءِ ما عليه وبَراءَتِه منه، وإنَّما يَزْعُمُ أنَّ شَرِيكَه ظَلَمَه، فلا يَرْجِعُ على غيرِ ظالِمِه. وإن رَجَعَ على العبدِ، فله أن يأخُذَ منه الخمسين؛ لأنَّه يزْعُمُ أنَّه ما قَبَضَ شيئًا مِن كتابَتِه، وللعبدِ الرُّجُوعُ على القابِضِ بها، سَواءٌ صَدَّقَه في دَفْعِها إلى المُنْكِرِ أو كَذَّبَه؛ لأنَّه وإن دَفَعَها فقد دَفَعَها دَفْعًا غيرَ مُبْرٍ، فكان مُفَرِّطًا، ويَعْتِقُ العبدُ بأدائِها، فإن عَجَزَ عن أدائِها فله أن يأْخُذَها مِن القابِضِ ثم يُسَلِّمَها، فإن تَعَذَّرَ ذلك، فله تَعْجِيزُه واسْتِرْقاقُ نِصْفِه ومُشارَكَةُ القابِضِ في الخمسين التي قَبَضَها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «جزأه». (¬3) زيادة يستقيم بها المعنى.

فَصْلٌ: وَإِنِ اخْتَلَفَا في الْكِتَابَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عِوَضًا عن نَصِيبِه، ويُقَوَّمُ على الشَّرِيكِ القابِضِ إن كان مُوسِرًا، إلَّا أن يكونَ العبدُ يُصدِّقُه في دَفْعِ الخمسين إلى شَرِيكِه، فلا يُقَوَّمُ؛ لأنَّه يَعْتَرِفُ أنَّه حُرٌّ وأنَّ هذا ظَلَمَه باسْتِرْقاقِ نِصْفِه الحُرِّ. وإن أمْكَنَ الرُّجُوعُ على القابِضِ بالخَمْسِين ودَفْعُها إلى المُنْكِرِ، فامْتَنَعَ مِن ذلك، فهل يَمْلِكُ المُنْكِرُ تَعْجِيزَه واسْتِرْقاقَ نِصْفِه؟ على وَجْهَين، بِناءً على القَولِ في تَعْجِيزِ العَبْدِ نَفْسَه مع القُدْرَةِ على الأداءِ، إن قُلْنا: له ذلك. فللمُنْكِرِ اسْتِرْقاقُه. وإن قُلْنا: ليس له ذلك. فليس للمُنْكِرِ اسْتِرْقاقُه؛ لأنَّه قادِرٌ على الأداء. فإن قيل: فلِمَ لا يَرْجِعُ المُنْكِرُ على القابِضِ بنِصْفِ ما قَبَضَه إذا اسْتَرَقَّ نِصْفَ العبدِ؟ قُلْنا: لأنَّه لو رَجَعَ بها لكان قابِضًا جميعَ حَقِّه مِن مالِ الكتابةِ، فيَعْتِقُ المُكاتَبُ بذلك، إلَّا أن يَتَعَذَّرَ قَبْضُها في نُجومِها، فتَنْفَسِخُ الكِتابةُ، ثم يُطالِبُ بها بعدَ ذلك، فيكونُ له الرُّجُوعُ بنِصْفِها، كما لو كانت غائِبَةً في بلدٍ آخَرَ، وتَعَذَّرَ تَسْلِيمُها حتى فُسِخَتِ الكتابةُ. واللهُ أعلمُ. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وإنِ اخْتَلَفا في الكِتابَةِ، فالقولُ قولُ مَن يُنْكِرُها) لأنَّ الأصْلَ مَعَه.

3035 - مسألة: (وإن اختلفا في قدر عوضها، فالقول قول السيد في إحدى الروايتين)

وَإنِ اخْتَلَفَا في قَدْرِ عِوَضِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ في إِحْدَى الرِّوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3035 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ عِوَضِها، فالقولُ قولُ السيدِ في إحْدَى الرِّوايَتَين) إذا اخْتَلَفا في عِوَضِ الكتابةِ، فقال السيدُ: كاتَبْتُكَ على ألْفَين. وقال المُكاتَبُ: على ألْفٍ. فعنه ثلاثُ رِواياتٍ؛ أحدُها، القولُ قولُ السيدِ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. قال القاضي: هذا المذهبُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الكَوْسَجِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وإسحاقَ. وقال أبو بكرٍ: اتَّفَقَ أحمدُ والشافعيُّ على أنَّهما يَتَحالفان ويتَرادَّان. وهو قولُ أبي يوسفَ ومحمدٍ؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في عِوَضِ العَقْدِ القائِمِ بينَهما، فيَتَحالفانِ إذا لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ، كالمُتَبايِعين. وحُكِيَ عن أحمدَ رِوايَةٌ ثالِثَةٌ، أنَّ القولَ قَوْلُ المُكاتَبِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للألْفِ الزَّائِدِ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ؛ لأنَّه مُدَّعًى عليه، فيَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه عليه السَّلامُ: «ولَكِنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه» (¬1). ووَجْهُ الأُولَى، أنَّه اخْتِلافٌ في الكِتابَةِ، فالقولُ قولُ السيدِ فيه، كما لو اخْتَلَفا في أصْلِها، ويُفارِقُ البَيعَ مِن وَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ الأصْلَ في البَيعِ عَدَمُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكِ كلِّ واحِدٍ منهما لما صار إليه، والأصْلُ في المُكاتَبِ وكَسْبِه أنَّه لسيدِه، فالقولُ قولُه فيه. الثاني، أنَّ التَّحالُفَ في البَيعِ مُفِيدٌ، ولا فائِدَةَ في التَّحالُفِ في الكتابةِ، فإنَّ الحاصِلَ منه يَحْصُلُ بيَمِينِ السيدِ وحْدَه، وبَيانُ ذلك أنَّ الحاصِلَ بالتَّحالُفِ فَسْخُ الكِتابَةِ ورَدُّ العَبْدِ إلى الرِّقِّ إذا لم يَرْضَ بما حَلَفَ عليه سيدُه، وهذا يَحْصُلُ عندَ مَن جَعَلَ القولَ قولَ السيدِ مع يَمِينِه، فلا يُشْرَعُ التَّحالُفُ مع عَدَم فائِدَتِه. وإنَّما قَدَّمْنا قولَ المُنْكِرِ في سائِرِ الموَاضِعِ؛ لأنَّ الأصْلَ مَعه، والأَصْلُ ههُنا مع السيدِ؛ لأنَّ الأصْلَ مِلْكُه للعبدِ وكَسْبِه. إذا ثَبَتَ هذا، فمتى حَلَفَ السيدُ ثَبَتتِ الكتابةُ بألْفَين, كما لو اتَّفَقا عليها، وسَواءٌ كان اخْتِلافُهما قبلَ العِتْقِ أو بعدَه، مِثلَ أن يدفَعَ إليه ألْفَين فيَعْتِقَ، ثُم يدَّعِيَ المُكاتَبُ أنَّ أحَدَهما عن الكتابةِ والآخَرَ ودِيعَةٌ، ويقولَ السيدُ: بل هما (¬1) جميعًا مالُ الكتابةِ. ومَن قال بالتَّحالُفِ، قال: إذا تحَالفا فلكُلِّ واحِدٍ منهما فَسْخُ الكتابةِ، إلَّا أن يَرْضَى بقولِ صاحِبِه، وإن كان التَّحالُفُ بعدَ العِتْقِ في مثلِ الصُّورَةِ التي ذَكَرْناها لم ترتَفِعِ الحُرِّيةُ؛ لأنَّها لا يُمْكِنُ رَفْعُها بعدَ حُصُولِها ولا إعادَةُ الرِّق بعدَ رَفْعِه، ولكن يَرْجِعُ السيدُ بقِيمتِه، ويَرُدُّ عليه ما أدَّى إليه، فإن كانا مِن جِنْسٍ واحِدٍ تَقاصَّا بقَدْرِ أقَلِّهِمَا، وأخَذَ ذُو الفَضْلِ فَضْلَه. ¬

(¬1) في م: «هي».

3036 - مسألة: (وإن اختلفا في وفاء مالها)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في وَفَاءِ مَالِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3036 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في وَفاءِ مالِها) (¬1) فقال العبدُ: أدَّيتُ وعَتَقْتُ. وأنْكَرَ السيدُ (فالقولُ قولُ السيدِ) مع يَمِينِه؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. وإنِ اخْتَلَفا في إبْرائِه مِن مالِ الكتابةِ أو شيءٍ منه، فالقَولُ قَولُ السيدِ مع يَمِينِه؛ لذلك. فصل: إذا كاتَبَ عَبْدَين، واسْتَوْفَى مِن أحَدِهما، ولم يَدْرِ أيَّهما اسْتَوْفَى، فقياسُ المذهبِ أن يُقْرَعَ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَة عَتَقَ، ورَقَّ الآخَرُ، كما لو أعْتَقَ عبدًا مِن عَبِيدِه وأُنْسِيَهُ. وإنِ ادَّعَى الآخَرُ عليه أنَّه أدَّى، فعليه اليَمِينُ أنَّه ما أدَّى، فإن نَكلَ عَتَقَ الآخرُ، وإن مات السيدُ قبلَ القُرْعَةِ أقْرَعَ الوَرَثَةُ. فإنِ ادَّعَى الآخَرُ عليهم أنَّه المُؤَدِّي، فعليهم اليَمِينُ ¬

(¬1) سقط من الأصل من هنا إلى قوله: «فلا رجوع على السيد» الآتي في صفحة 408.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهم لا يَعْلَمُون أنَّه أدَّى؛ لأنَّها يَمِينٌ على نَفْي فِعْلِ الغيرِ. فإن أقام أحَدُ العَبْدَين بيِّنَةً أنَّه أدَّى عَتَقَ، سَواءٌ كان قبلَ القُرْعَةِ أو بَعْدَها، في حياةِ سيدِه أو بعدَ مَوْتِه. وإن كان ذلك قبلَ القُرْعَةِ، تَعَيَّنَتَ الحُرِّيةُ فيه ورَقَّ الآخَرُ. فإن كان بعدَها، فكذلك؛ لأنَّ القُرْعَةَ ليست عِتْقًا، وإنَّما هي مُعَيِّنَةٌ للعِتْقِ، والبَيِّنَةُ أقْوَى منها، فيَثْبُتُ بها خَطَأُ القُرْعَةِ، فيَتَبَيَّنُ بَقاءُ الرِّقِّ في الذي ظَنَنَّا حُرِّيَّتِه، كما تَبَيَّنَّا حُرِّيةَ مَن ظَنَنَّا رِقَّه. ولأنَّ مَن لم يُؤَدِّ لا يَصِيرُ مُؤَدِّيًا بوُقوعِ القُرْعَةِ له، فلا يُوجَدُ حُكْمُه الذي هو العِتْقُ. ويتَخَرَّجُ على قولِ أبي بكرٍ وابنِ حامدٍ، أن يَعْتِقا، على ما نذْكُرُ في الطلاقِ. وكذلك الحُكْمُ فيما إذا ذَكَرَ السيدُ المؤدِّيَ منهما، ومتى ادَّعى الآخَرُ أنَّه أدَّى فله اليمينُ على المدَّعَى عليه، مِن السيدِ والورثةِ، إلَّا أنَّ السيدَ يَحْلِفُ على البَتِّ، وأمَّا الوَرَثَةُ فإنِ ادَّعَى أنَّه دَفَعَ إلى مَوْرُوثِهم حَلَفُوا على نَفْي العِلْمِ، وإنِ ادَّعَى أنَّه دَفَعَ إليهم حَلَفُوا على البَتِّ، وعلى كُلِّ واحِدٍ منِ الوَرَثَةِ يَمِينٌ، لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهم مُدَّعًى عليه، فلَزِمَتْه اليَمِينُ، كما لو انْفَرَدَ بالدَّعْوَى. فصل: إذا كان للمُكاتَبِ أولادٌ مِن مُعْتَقَةِ غيرِ سيدِه، فقال سيدُه: قد أدَّى إليَّ وعَتَقَ، فانْجَرَّ ولاءُ وَلدِه إليَّ. فأنْكَرَ ذلك مَوْلَى أُمِّهم وكان المُكاتَبُ حَيًّا، صار حُرًّا بهذا القَولِ؛ لأنَّه إقْرارٌ مِن سيدِه بعِتْقِه، ويَنْجَرُّ وَلاءُ ولدِه إليه، وإن كان مَيِّتًا فالقولُ قَوْلُ مَوْلَى أُمِّهم، لأنَّ الأصْلَ بقاءُ الرِّقِّ وبقاءُ وَلائِهم له، فيَحْلِفُ، ويَبْقَى وَلاؤُهم له.

3037 - مسألة: (وإن أقام العبد شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين، ثبت الأداء وعتق)

فَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ، أوْ شَاهدًا وَامْرَأَتَينِ, ثَبَتَ الأَدَاءُ وَعَتَقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3037 - مسألة: (وإن أقام العبدُ شاهِدًا وحَلَفَ معه، أو شاهِدًا وامرأتَين، ثَبَتَ الأداءُ وعَتَقَ) وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النِّزاعَ بينَهما في أداءِ المالِ، والمالُ يُقْبَلُ فيه الشاهِدُ واليَمِينُ، والرَّجُلُ والمرأتان. فإن قيل: القَصْدُ مِن هذه الشَّهادَةِ العِتْقُ، وهو لا يَثْبُتُ بشاهِدٍ ويَمينٍ. قُلْنا: بل يَثْبُتُ بشاهِدٍ ويَمِينٍ في رِوايَةٍ. وإن سَلَّمْنا أنَّ الشهادَةَ لا تُثْبِتُ، لكنَّ الشهادةَ ههُنا بأداءِ المالِ، والعِتْقُ يَحْصُلُ عندَ أدائِه بالعَقْدِ الأوَّلِ، ولم يَشْهَدِ الشاهِدُ به، ولا بينَهما فيه نِزاعٌ. ولا يَمْتَنِعُ أن يَثْبُتَ بشَهادةِ الواحِدِ ما يَتَرتَّبُ عليه أمْرٌ لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَين، كما أنَّ الولادَةَ تَثْبُتُ بشَهادةِ النِّساءِ، ويَتَرَتَّبُ عليها ثُبوتُ النَّسَبِ الذي لا يَثْبُتُ بشَهادَةِ النِّساءِ، ولا بشاهِدٍ واحِدٍ. فصل: فإن لم يَكُنْ للعبدِ شاهِدٌ، وأنْكَرَ السيدُ، فالقولُ قولُه، فإن

فَصْلٌ: وَالْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ -مِثْلَ أنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى خَمْرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: لي شاهِدٌ غائِبٌ. أُنْظِرَ ثَلاثًا، فإن جاء، وإلَّا حَلَفَ السيدُ. ثم متى جاءَ شاهِدُه وأدَّى الشَّهادَةَ، ثَبَتَتْ حُرِّيتُه. وإن جُرِحَ شاهِدُه، فقال: لي شاهِدٌ آخَرُ. أُنْظِرَ ثَلاثًا، لِما ذَكَرْناه. فصل: وإن أقَرَّ السيدُ بقَبْضِ مالِ الكتابةٍ عَتَقَ العبْدُ، إذا كان ممَّن يَصِحُّ إقْرارُه. وإن أقَرَّ بذلك في مَرَضِ مَوْتِه قُبِلَ؛ لأنَّه إقْرارٌ لغَيرِ وارِثٍ، فيُقْبَلُ. وإن قال: اسْتَوْفَيتُ كِتابَتِي كُلَّها. عَتَقَ العبدُ. وإن قال: اسْتَوْفَيتُها كُلَّها إن شاء الله. أو: إن شاء زيدٌ. عَتَقَ، ولم يُؤَثِّرْ الاسْتِثْناءُ؛ لأنَّ هذا الاسْتِثْناءَ لا مَدْخَلَ له في الإِقْرارِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ أبي طالِبٍ: إذا قال: له ألْفٌ إن شاء الله. كان مُقِرًّا بها. ولأنَّ هذا الاسْتِثْناءَ تَعْلِيقٌ بشَرْطٍ، والذي يَتَعَلَّقُ بالشَّرطِ إنَّما هو المُسْتَقْبَلُ، وأمَّا الماضِي فلا يُمْكِنُ تَعْلِيقُه؛ لأنَّه قد وَقَعَ على صِفَةٍ لا يَتَغَيَّرُ عنها بالشَّرْطِ، وإنَّما يدُلُّ الشَّرْطُ على الشَّكِّ فيه، فكأنَّه قال: اسْتَوْفَيتُ كِتابَتِي، وأنا أشُكُّ فيه. فيَلْغُو الشَّكُّ، ويَثْبُتُ الإِقْرارُ. وإن قال: اسْتَوْفَيتُ آخِرَ كتابَتِي. وقال: إنَّما أرَدْتُ أنَّى اسْتَوْفَيتُ النَّجْمَ الآخِرَ دُونَ ما قبلَه. وادَّعَى العبدُ إقْرارَه باسْتِيفاءِ الكلِّ، فالقولُ قولُ السيدِ؛ لأنَّه أعْرَفُ بمُرادِه. واللهُ أعلمُ. فصل: قال رَضِيَ اللهُ عنه: (والكِتابةُ الفاسِدَةُ -مثلَ أن يُكاتِبَه على

أَوْ خِنْزِيرٍ- يُغَلَّبُ فِيهَا حُكْمُ الصِّفَةِ، في أَنَّه إِذَا أَدَّى عَتَقَ، وَلَا يَعْتِقُ بِالْإِبْرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْرٍ، أو خِنْزِيرٍ - يُغَلَّبُ فيها حُكْمُ الصِّفَةِ، في أنَّه إذا أدَّى عَتَقَ، ولا يَعْتِقُ بالإِبراءِ) إذا كاتَبَه كِتابَةً فاسِدَةً على عِوَضٍ مَجْهُولٍ، أو حلٍّ، أو مُحَرَّمٍ، كالخَمْرِ والخِنْزِيرِ، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، ما يَدُلُّ على أنَّ الكِتابَةَ على العِوَضِ المُحَرَّمِ باطِلَةٌ، لا يَعْتِقُ بالأداءِ فيها. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ فإنَّه روَى عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا كاتَبَه كِتابَةً فاسِدَةً، فأدَّى ما كُوتِبَ عليه، عَتَقَ، ما لم تَكُنِ الكِتابَةُ مُحَرَّمَةً. فحَكَمَ بالعِتْقِ بالأداءِ، إلَّا في المُحَرَّمَةِ. واخْتارَ القاضِي أنَّه يَعْتِقُ بالأداءِ، كسائِرِ الكتاباتِ الفَاسِدَةِ. ويُمْكِنُ حَمْلُ كلامِ القاضِي على ما إذا جَعَل السيدُ الأداءَ شَرْطًا للعِتْقِ، فقال: إذا أدَّيتَ لي فأنْتَ حُرٌّ. فأدَّى، فإنَّه يَعْتِقُ بالصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، لا بالكِتابَةِ، ويَثْبُتُ في هذه الكِتابةِ حكمُ الصِّفَةِ في العِتْقِ بوُجُودِها، لا حُكْمُ الكتابَةِ. فأمَّا إن شَرَطَ في الكتابَةِ شَرْطًا فاسِدًا، فالمنصُوصُ أنَّه لا يُفْسِدُها، لكن يَلْغُو الشَّرْطُ وتَصِحُّ الكتابةُ. ويتَخَرَّجُ أن يُفْسِدَها؛ بِناءً على الشروطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وقد ذَكَرْناهُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا الكِتَابةُ الفاسِدَةُ التي لا [يكونُ عِوَضُها] (¬1) مُحَرَّمًا، فإنَّها تُساوي الصَّحِيحَةَ في أرْبَعَةِ أحْكَامٍ؛ أحدُها, أنَّه يَعْتِقُ بأداءِ (¬2) ما كُوتِبَ عليه، سَواءٌ صَرَّحَ بالصِّفَةِ، بأن يَقُولَ: إذا أدَّيتَ إليَّ فأنْتَ حُرٌّ. أو لم يَقُلْ؛ لأنَّ مَعْنَى الكِتابةِ يَقْتَضِي هذا، فيصيرُ كالمُصَرَّحِ به، فيَعْتِقُ بوُجودِه، كالصَّحِيحَةِ. الثَّاني، إذا أعْتَقَه بالأداءِ لم تَلْزَمْه قِيمةُ نَفْسِه، ولم يَرْجِعْ على سيدِه بما أعطاه. ذَكَرَه أبو بكرٍ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. وقال الشافعيُّ: يتَراجَعان، فيجبُ على العبدِ قِيمَتُه وعلى السيدِ ما أخَذَه، فيتَقاصَّان بقَدْرِ أقَلِّهِما إن كانَا مِن جِنْسٍ واحِدٍ، ويأخُذُ ذو الفَضْلِ فَضْلَه؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ فاسِدٌ، فوجَبَ التَّراجُعُ فيه، كالبَيعِ الفاسِدِ. ولَنا، أنَّه عَقْدُ كِتابَةٍ حَصَلَ العِتْقُ فيه بالأداءِ، فلم يَجِبِ التَّراجُعُ, كما لو كان العَقْدُ ¬

(¬1) في م: «تكون عوضا». وانظر المبدع 6/ 367. (¬2) سقط من النسختين، وانظر المغني 14/ 576.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحًا، ولأنَّ ما يأخُذُه السيدُ فهو مِن كَسْبِ عَبْدِه الذي يَمْلِكُ (¬1) كَسْبَه، فلم يجِبْ رَدُّه، والعبدُ عَتَقَ بالصِّفَةِ، فلم تجِبْ عليه قِيمَتُه، كما لو قال: إن دَخَلْتَ الدَّارَ فأنْتَ حُرٌّ. وأمَّا البَيعُ الفاسِدُ، فإنَّه إن كان بينَ هذا وسيدِه، فلا رُجُوعَ على السيدِ (¬2) بما أخَذَه. وإن كان بينَه وبينَ غيرِه، فإنَّه أخَذَ ما لا يَسْتَحِقُّه ودَفَعَ إلى الآخَرِ ما لا يَسْتَحِقُّه، بعَقْدٍ المَقْصُودُ منه المُعاوَضَةُ، بخِلافِ هذا في مسألَتِنا. الثالثُ، أنَّ المُكاتَبَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في كَسْبِه؛ لأنَّ عَقْدَ الكِتابَةِ تَضَمَّنَ الإِذْنَ في ذلك، وله أخْذُ الصَّدَقاتِ والزَّكواتِ؛ لأنَّه مُكاتَبٌ يَعْتِقُ بالأدَاءِ، أشْبَهَ الكِتابَةَ الصَّحِيحَةَ. الرابعُ، أنَّه إذا كاتَبَ جماعَةً كِتابَةً فاسِدَةً، فأدَّى أحدُهم حِصَّتَه (¬3)، عَتَقَ، على قولِ مَن قال: إنَّه يَعْتِقُ [في الكِتابَةِ] (¬4) الصَّحِيحَةِ بأداء حِصَّتِه؛ لأنَّ مَعْنَى العَقْدِ أنَّ كلَّ واحِدٍ منهم مكاتَبٌ بقَدْرِ حِصَّتِه، متى أَدَّى إليَّ كلُّ واحِدٍ منكم (5) قَدْرَ حِصَّتِه فهو حرٌّ. ومَن قال: لا يَعْتِقُ في الصَّحِيحَةِ (¬5) إلَّا أن يُؤَدِّيَ جَمِيعهم. فههنا أوْلَى. ¬

(¬1) كذا في النسختين. وفي المغني 14/ 577: «لم يملك». (¬2) إلى هنا ينتهي السقط من الأصل. (¬3) في م: «حصتهم». (¬4) في م: «بالكتابة». (¬5) في الأصل: «الصحيح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُفارِقُ الصَّحيحَةَ في ثَلاثَةِ أحْكامٍ؛ أحدُها، أنَّ السيدَ إذَا أبْرَأه مِن المالِ لم تَصِحَّ البَراءَةُ، ولم يَعْتِقْ بذلك؛ لأنَّ المال غيرُ ثابِتٍ في العَقْدِ، بخِلافِ الكتابةِ الصَّحِيحَةِ، وصار هذا كالصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ في قولِه: إذا أدَّيتَ إليَّ ألفًا، فأنتَ حُرٌّ. الثَّاني، أنَّ (لِكُلِّ واحِدٍ مِن) السيدِ والمُكاتَبِ (فَسْخَها) سَواءٌ كان ثَمَّ صِفَةٌ أو لم تَكُنْ. وهذا قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الفاسِدَ لا يَلْزَمُ حُكْمُه، والصِّفَةُ ههُنا مَبْنِيَّةٌ على المُعاوَضَةِ وتابِعَةٌ لها؛ لأنَّ المُعاوَضَةَ هي المَقْصُودُ (¬1)، فلمَّا أبْطَلَ المُعاوَضَةَ التيِ هي الأصْلُ، بَطَلَتِ الصِّفَةُ المَبْنِيَّةُ عليها، بخِلافِ الصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، ولأنَّ السيدَ لم يَرْضَ بهذه الصِّفَةِ إلَّا بأن يُسَلَّمَ له العِوَضُ المُسَمَّى، فإذا لم يُسَلَّمْ كان له إبْطالُها، بخِلافِ الصَّحِيحَةِ، فإنَّ العِوَضَ سُلِّمَ له، فكان العَقْدُ لازِمًا له. الثالثُ، أنَّه لا يَلْزَمُ السيدَ أن يُؤَدِّيَ إليه شيئًا مِن الكِتابَةِ؛ لأنَّ العِمقَ ههُنا بالصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، فأشْبَهَ ما لو قال: إذا أدَّيتَ إليَّ ألْفًا فأنْتَ حُرٌّ. ¬

(¬1) في م: «المقصودة».

3038 - مسألة: (وتنفسخ بموت السيد، وجنونه، والحجر للسفه)

وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَجُنُونِهِ، وَالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ [وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا] (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ 3038 - مسألة: (وتَنْفَسِخُ بمَوْتِ السيدِ، وجُنُونِه، والحَجْرِ للسَّفَهِ) اخْتُلِفَ في انْفِساخِها بمَوْتِ السيدِ، فذهبَ القاضي وأصحابُه إلى بُطْلانِها به. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه عَقْدٌ جائِزٌ مِن الطَّرَفَين، لا يَئُولُ ¬

(¬1) ليس في متن المبدع 6/ 367، وقد أورده صاحب الشرح في أثناء الكلام عما تفارق فيه الكتابة الفاسدة الكتابة الصحيحة من أحكام، في صفحة 409، ولم يورده في المسائل.

وَيَمْلِكُ السَّيِّدُ أَخْذَ مَا في يَدِهِ، وَإِنْ فَضَلَ عَنِ الْأَدَاءِ فَضْلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى اللُّزومِ، فبَطَلَ بالمَوْتِ، كالوَكالةِ، ولأنَّ المُغَلَّبَ فيها حكمُ الصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، والصِّفَةُ تَبْطُلُ بالمَوْتِ، كذلك هذه الكِتابَةُ. وقال أبو بكرٍ: لا تَبْطُلُ بالمَوْتِ، ويَعْتِقُ بالأداءِ إلى الوارِثِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، لأنَّه مُكاتَبٌ يَعْتِقُ بالأداءِ إلى السيدِ، فيَعْتِقُ بالأداءِ إلى الوارِثِ، كالكتابةِ الصَّحِيحَةِ، [ولأنَّ الفاسدةَ كالصحيحةِ] (¬1) في بابِ العِتْقِ بالأداءِ، فكذلك في هذا. واخْتُلِفَ في انْفِساخِها بجُنُونِ السيدِ والحَجْرِ عليه للسفَهِ (¬2)، والخلافُ فيه كالخلافِ في بُطلانِها بمَوْتِه. قال شيخُنا (¬3): والأوْلَى أنَّها لا تَبْطُلُ ههُنا؛ [لأنَّ الصِّفَةَ] (¬4) المُجَرَّدَةَ لا تَبْطُلُ (2) بذلك، والمُغَلُّبُ في هذه الكتابةِ حكمُ الصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، فلا تَبْطُلُ به. فعلى هذأ، لو أدَّى إلى سيدِه بعدَ ذلك عَتَقَ، ولا يَعْتِقُ عندَ مَن أبْطَلَها. فصل: (ويَمْلِكُ السيدُ أخْذَ ما في يَدِه، وإن فَضَلَ عن الأداءِ فَضْلٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 14/ 578. (¬4) في م: «إلَّا بالصفة».

3039 - مسألة: (وهل يتبع المكاتبة ولدها فيها؟ على وجهين)

فَهُوَ لِسَيِّدِهِ. وَهَلْ يَتبَعُ الْمُكَاتَبَةَ وَلَدُهَا فِيهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو لسيدِه) هذا قولُ أبي الخَطَّابِ؛ لأنَّ كَسْبَ العبْدِ لسيدِه بحكمِ الأصْلِ، والعَقْدُ ههُنا فاسدٌ، لم يثْبُتِ الحُكْمُ في وُجوبِ العِوَضِ في ذِمَّتِه، فلم يُنْقَلِ المِلْكُ في المُعَوَّضِ، كسائِرِ العُقُودِ الفاسِدَةِ، ولأنَّ المُغَلَّبَ فيها حُكْمُ الصِّفَةِ المُجَرَّدَةِ، وهي لا تَثْبُتُ له في كَسْبِه، فكذا ههُنا. وفارَقَ الكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ، فإنَّها أثْبَتَتِ المِلْكَ (¬1) في العِوَضِ فأثْبَتَتْه في المُعَوَّضِ. وقال القاضي: ما في يَدِ المُكاتَبِ وما يَكْسِبُه وما يَفْضُلُ في يَدِه بعدَ الأداءِ له. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها كِتابَةٌ يَعْتِقُ بالأداءِ فيها، فيَثْبُتُ هذا الحُكْمُ فيها، كالصَّحِيحَةِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِمَا بينَ الفاسِدَةِ والصَّحِيحَةِ مِن الفُرُوقِ. 3039 - مسألة: (وهل يَتْبَعُ المُكاتَبَةَ وَلَدُها فيها؟ على وَجْهَين) ¬

(¬1) في م: «الكتابة».

3040 - مسألة: (وقال أبو بكر: لا تنفسخ)

أَبُو بَكْرٍ: لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ وَلَا الْجُنُونِ وَلَا الْحَجْرِ، وَيَعْتِقُ بِالأَدَاءِ إِلَى الْوَارِثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، يَتْبَعُها؛ لأنَّها كِتابَةٌ تَعْتِقُ فيها بالأداءِ، فيَعْتِقُ وَلَدُها به، كالكِتابَةِ الصَّحِيحَةِ. والثاني، لا يَتْبَعُها. وهو أقْيَسُ وأصَحُّ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ الرِّقِّ فيه، فلا يَزُولُ إلَّا بنَصٍّ ومَعْنَى نَصٍّ، وما وُجِدَ واحِدٌ منهما، ولا يَصِحُّ القِياسُ على الكتابةِ (¬1) الصَّحِيحَةِ؛ لما ذَكَرْنا مِن الفَرْقِ بَينَهما فيما تَقَدَّم، فيَبْقَى على الأصْلِ. 3040 - مسألة: (وقال أبو بكرٍ: لا تَنْفَسِخُ) بمَوْتِ السيدِ، ولا جُنُونِه، ولا الحَجْرِ عليه للسَّفَهِ. وقد ذَكَرْناه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «المكاتبة».

باب أحكام أمهات الأولاد

بَابُ أحْكَامَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ أحْكامَ أُمَّهاتِ الأوْلادِ أُمُّ الوَلَدِ هي التي وَلَدَتْ مِن سَيِّدِها في مِلْكِه. ولا خِلافَ في إباحَةِ التَّسَرِّي ووَطْءِ الإِماءِ؛ لقولِ الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ} (¬1). وقد كانت مارِيَةُ القِبْطِيَّةُ أُمَّ ولَدٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، [وهي أُمُّ] (¬2) إبراهيمَ [بن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (2) التي قال فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْتَقَها وَلَدُها» (¬3). وكانت هاجَرُ سُرِّيَّةَ إبْراهِيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، أُمُّ إسماعيلَ - عليه السلام -. وكان لعمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه، أُمَّهاتُ أوْلادٍ أوْصَى لكُلِّ واحِدَةٍ منهنَّ بأرْبَعِمائةٍ (¬4)، وكان لعليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أُمَّهاتُ أوْلادٍ (¬5)، ولكثيرٍ مِن الصحابَةِ. وكان عليُّ بنُ الحسينِ، والقاسِمُ بنُ محمدٍ، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ، مِن أُمَّهاتِ أوْلادٍ. ويُرْوَى أنَّ النَّاسَ لم يكونُوا يَرْغَبُونَ في أمَّهاتِ الأوْلادِ ¬

(¬1) سورة المؤمنون 5، 6، سورة المعارج 29، 30. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب أمهات الأولاد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 841. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 346. وضعفه الحافظ في: تلخيص الحبير 4/ 218. (¬4) تقدم تخريجه في 17/ 286. وفيه أنه أوصى لهن بأربعة آلاف أربعة آلاف. (¬5) انظر ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 7/ 288.

3041 - مسألة: (إذا حملت الأمة من سيدها، فوضعت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان، صارت له بذلك أم ولد، فإذا مات عتقت

وَإِذَا عَلِقَتِ الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا، فَوَضَعَتْ مِنْهُ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ بَعْضُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، صَارَتْ لَهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِذَا مَاتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى وُلِدَ هؤلاء الثَّلاثةُ، فرَغِبَ النَّاسُ فِيهِنَّ. ورُوِيَ عن سالِم بنِ عبدِ اللهِ، قال: كان لابنِ رَواحَةَ جارِيَةٌ، وكان يُرِيدُ الخَلْوَةَ بها، وكانتِ امْرَأتُه تَرْصُدُه، فخَلَا البَيتُ فَوَقَعَ عليها، فنَذِرَتْ به (¬1) امْرَأتُه، فقالت: أفَعَلْتَها؟ قال: ما فَعَلْتُ. قالت: فاقْرأْ إذًا. فقال: شَهدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ … وأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكافرِينا (¬2) وأَنَّ العَرْشَ فَوْقَ الماءِ طافٍ … وفَوْقَ العَرْشِ رَبُّ العَالمِينا وتَحْمِلُه مَلائِكةٌ شِدادٌ … مَلائِكَةُ الإِلهِ مُسَوّمِينا (¬3) قالت: أما إذْ قَرأْتَ فاذْهَبْ. فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْبَرَه، قال: فلقد رَأيتُه يَضْحَكُ حتى تَبْدُوَ (¬4) نَواجِذُه، ويقولُ: «هِيهِ، كَيفَ قُلْتَ؟». فأُكرِّرُه عليس، فيَضْحَكُ (¬5). 3041 - مسألة: (إذا حَمَلَتِ الأمَةُ مِن سيدِها، فوضَعَتْ منه ما يَتَبَيَّنُ فيه بعضُ خَلْقِ الإِنْسانِ، صارت له بذلك أُمَّ وَلَدٍ، فإذا ماتَ عَتَقَتْ ¬

(¬1) نذرت به: علمت به. (¬2) في النسختين: «الظالمينا» والتصويب من ديوانه، وكذلك من المغني 14/ 581. (¬3) الأبيات في ديوانه 165. واللسان (ع ر ض). (¬4) في الأصل: «بدت». (¬5) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 9/ 217، والذهبي في سير أعلام النبلاء 1/ 238، والسبكي في: طبقات الشافعية 1/ 264، وانظر الاستيعاب 3/ 901.

عَتَقَتْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيرَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يَمْلِكْ غَيرَها) ذَكَر ههُنا لمَصِيرِ الأمَةِ أُمَّ وَلَدٍ شَرْطَين؛ أحدُهما، أن تَحْمِلَ به في مِلْكِه، سواءٌ كان مِن وَطْءٍ مُباحٍ، أو مُحَرَّمٍ؛ كالوَطْءِ في الحَيضِ، والنِّفاسِ، والإِحْرامِ، والظِّهارِ. فأمَّا إن عَلِقَتْ منه في غيرِ مِلْكِه لم تصِرْ بذلك أُمِّ ولدٍ، سَواءٌ عَلِقَت منه بمَمْلوكٍ، مثلَ أن يَطَأَها في مِلْكِ غيرِه بنِكاحٍ أو زِنًى، أو عَلِقَتْ بحُرٍّ، مثلَ أن يَطَأَها بشُبْهَةٍ، أو غُرَّ مِن أمَةٍ، فتَزَوَّجَها على أنَّها حُرَّةٌ فاسْتَوْلَدَها، أو اشْتَرَى جارِيَةً فاسْتَوْلَدَها ثم ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً، فإنَّ الولدَ حُرٌّ، ولا تَصِيرُ الأمَةُ أُمَّ وَلَدٍ في هذه المواضِعِ بحالٍ. فإن مَلَكَها بعدَ ذلك، ففيه اخْتِلافٌ، يُذْكَرُ إنْ شاء اللهُ تعالى. الشرطُ الثَّاني، أن تَضَعَ ما يَتَبَيَّنُ فيه شيءٌ مِن خَلْقِ الإِنْسانِ، من رَأْسٍ، أو يَدٍ، أو رِجْلٍ، أو تَخْطيطٍ (¬1)، سواءٌ وضَعَتْه حيًّا أو مَيِّتًا، وسواءٌ أسْقَطَتْه أو كان تَامًّا. قال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: إذا وَلَدَتِ الأمَةُ مِن سيدِها فقد عَتَقَتْ، وإن كان سَقْطًا (¬2). وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه ¬

(¬1) في الأصل: «تخليط». (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 2/ 61. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 346.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابنِ عمرَ (¬1)، أنَّه قال: أعْتَقَها وَلَدُها وإن كان سَقْطًا. وقال الأثْرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: أُمُّ الولدِ إذا أسْقَطَتْ لا تَعْتِقُ؟ فقال: إذا تَبَيَّنَ فيه يَدٌ أو رِجْلٌ أو شيءٌ مِن (¬2) خَلْقِه فقد عَتَقَتْ. هذا قولُ الحسنِ، والشافعيِّ. وقال الشَّعْبِيُّ: إذا نَكَس في الخَلْقِ الرابِعِ فكان مُخَلَّقًا، انْقَضَتْ به عِدَّةُ الحُرَّةِ، وأُعْتِقَتْ به الأمَةُ. قال شيخُنا (¬3): ولا أعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ مَن قال بِثُبُوتِ حكمِ الاسْتِيلادِ. فأمَّا إن ألْقَتْ نُطْفَةً أو عَلَقَةً، لم يثْبُتْ به شيءٌ مِن أحْكامِ الولادَةِ؛ لأنَّه ليس بولدٍ. وروَى يُوسُف بنُ موسى، أنَّ أبا عبدِ اللهِ قيل له: ما تقولُ في الأمَةِ إذا ألْقَتْ مُضْغَةً أو عَلَقَةً؟ قال: تَعْتِقُ. وهذا قولُ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ (¬4). وذَكَرَ الخِرَقِيُّ لمصيرِها أُمَّ وَلَدٍ شَرْطًا ثَالِثًا، وهو أن تحْمِلَ بحُرِّ. ويُتَصَوَّرُ ذلك في المِلْكِ في مَوْضِعَين؛ أحدُهما، في العبدِ إذا مَلَّكَه سيِّدُه أمةً (¬5)، وقُلْنا: ¬

(¬1) كذا ورد، وأخرجه البيهقي عن عمر في: السنن الكبرى 10/ 346. (¬2) في النسختين: «أو». وانظر المغني 14/ 596. (¬3) في: المغني 14/ 596. (¬4) في الأصل: «والنخعي». (¬5) سقط من: م.

3042 - مسألة: وتعتق بموت سيدها من رأس المال، وإن لم يملك سواها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّه يَمْلِكُ. فوَطِئَ أمَتَه، فاسْتَوْلَدَها، فوَلَدُه مَمْلوكٌ، ولا تَصِيرُ الأمَةُ به أمَّ وَلَدٍ يثْبُتُ لها حُكمُ الاسْتِيلادِ بذلك، وسَواءٌ أذِنَ له سيدُه في التَّسَرِّي بها أو لم يَأْذَنْ. الثاني، إذا اسْتَوْلَدَ المُكاتَبُ أمَتَه، فإنَّ ولدَه مَمْلوكٌ له، ولا يثْبُتُ للأمَةِ أحْكامُ أُمِّ الوَلَدِ في العِتْقِ بمَوْتِه في الحالِ؛ لأنَّ المُكاتَبَ ليس بحُرٍّ، وكذلك وَلَدُهُ منها، فأوْلَى أن لا تَتَجَرَّرَ هي. ومتى عَجَزَ المُكاتَبُ وعاد إلى الرِّقِّ، أو ماتَ قبلَ أداءِ كِتابَتِه، فهي أمَةٌ قِنٌّ، كالعبدِ القِنِّ. وهل يَمْلِكُ المُكاتَبُ بَيعَها؟ فيه خِلافٌ ذَكَرْناه في بابِ المُكاتَبِ. 3042 - مسألة: وتَعْتِقُ بمَوْتِ سيدِها مِن رَأْسِ المَالِ، وإن لم يَمْلِكْ سواها. وهذا قولُ كلِّ مَن رَأَى عِتْقَهُنَّ، لا نَعْلَمُ بينَهم خِلافًا في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. وسَواءٌ وَلَدَت في الصِّحَّةِ أو المرضِ، لأنَّه حاصِل بالْتِذاذِه وشَهْوَتِه، وما يُتْلِفُه (¬1) في لذَّاتِه، يَسْتَوي فيه حالُ الصِّحَّةِ والمرضِ، كالذي يأكُلُه ويَلْبَسُه. ولأنَّ عِتْقَها بعدَ الموتِ، وما يكونُ بعدَ الموتِ يَسْتَوي فيه المَرَضُ والصِّحَّةُ، كقَضاءِ الدَّينِ، والتَّدْبِيرِ، والوَصِيَّةِ. قال سعيدٌ (¬2): حدثنا سُفْيان (¬3)، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ، عن نافع، قال: أدْرَكَ ابنَ عمرَ رجلانِ، فقالا: إنَّا تَرَكْنا هذا الرجلَ يَبِيعُ أُمَّهاتِ الأوْلادِ. يَعْنِيانِ ابنَ الزُّبَيرِ. فقال ابنُ عمرَ، أتَعْرِفان أبا حَفْصٍ؟ فإنَّه قَضَى في أُمَّهاتِ الأولادِ أن لا يُبَعْنَ، ولا يُوهَبْنَ، يَسْتَمْتِعُ بها صاحِبُها، فإذا مات فهي حُرَّةٌ. وقال (¬4): حدثنا عتابٌ (¬5)، عن خُصَيفٍ، عن عِكْرمَةَ، عن ابن عباس، قال: قال عمرُ: ما مِن رَجُلٍ كان يُقِرُّ بأنَّه كان (¬6) يَطَأُ ¬

(¬1) في الأصل: «ينقله». (¬2) في: باب ما جاء في أمهات الأولاد، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 62. كما أخرجه البيهقي، في: باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له، وباب الخلاف في أمهات الأولاد، من كتاب عتق أمهات الأولاد. السنن الكبرى 10/ 343، 348. وعبد الرزاق، في باب بيع أمهات الأولاد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 392، 393. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الموضع السابق. (¬5) في الأصل: «غياث». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جارِيَتَه، يموتُ، إلَّا أعْتَقَها (¬1) [إذا وَلَدَتْ] (¬2)، وإنْ كان سَقْطًا. وروَى ابنُ ماجه (¬3) عن ابنِ عباس، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّما أمَةٍ وَلَدَتْ مِن سَيِّدِها، فهي حُرَّةٌ عن دُبُرٍ (¬4) منه». فصل: وإذا عَتَقَتْ بمَوْتِ سيدِها، فما كان في يَدِها مِن شيءٍ فهو لوَرَثَةِ سيدِها؛ لأنّ أُمُّ الوَلَدِ أمَةٌ، وكَسْبُها لسيدِها، وسائِرُ ما في يَدِها له، فإذا مات سيدُها فعَتَقَتْ، انْتَقَلَ ما في يَدِها إلى ورَثَتِه، كسائِرِ مالِه، وكما في يَدِ المُدَبَّرَةِ، بخِلافِ المُكاتَبَةِ، فإنَّ كَسْبَها في حياةِ سيدِها لها، فإذا عَتَقَتْ بَقِيَ لها كما كان لها قبلَ العِتْقِ. فصل: ولا فَرْقَ بينَ المُسْلِمَةِ والكافِرَةِ، والعَفِيفَةِ والفاجِرَةِ، ولا بينَ المسلمِ والكافِرِ، والعَفِيفِ والفَاجِرِ، في هذا، في قولِ أهلِ الفَتْوَى مِن أهلِ الأمْصارِ؛ لأنَّ ما يتعلَّقُ به العِتْقُ يَسْتَوي فيه المسلمُ والكافِرُ، كالتَّدْبِيرِ والكتابَةِ، ولأنَّ عِتْقَها بسَبَبِ اخْتلاطِ دَمِها بدَمِه ولحمِها بلَحْمِه، فإذا اسْتَوَيا [في النسبِ، استويا] (¬5) في حُكْمِه. وقد روَى سعيدٌ (¬6)، حدثنا ¬

(¬1) في م: «أعتقتها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب أمهات الأولاد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 841. كما أخرجه الدارمي، في: باب بيع أمهات الأولاد، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 257. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 320. (¬4) في الأصل: «دين». (¬5) سقط من م. (¬6) في سننه 2/ 62.

3043 - مسألة: (وإن وضعت جسما لا تخطيط فيه، فعلى روايتين)

وَإنْ وَضَعَتْ جِسْمًا لَا تَخْطِيطَ فِيهِ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هُشَيمٌ، حدثنا منصور، عن ابن سِيرِين، عن أبي عَطِيَّةَ الهَمْدانِيِّ، عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، قال في أُمِّ الولدِ: إن أسْلَمَتْ وأحْصَنَتْ وعَفَّت (¬1)، أُعْتِقَتْ، وإن كَفَرَتْ وفَجَرَتْ وغَدَرَتْ، رَقَّتْ. وقال (¬2): حدثنا (¬3) هشَيمٌ، حدثنا يحيى بنُ آدمَ، عن أُمِّ وَلَدِ رجلٍ ارْتَدَّتْ عن الإِسلامِ، فكُتِبَ في ذلك إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فكَتَبَ عمرُ أن يبيعُوها [بأرضٍ ليس بها] (¬4) أحَدٌ بِن أهلِ دِينِها. فعلى هذا الحديثِ، يَنْبَغِي أن يَخْتَصَّ العِتْقُ بالمُسْلِمَةِ العَفِيفَةِ، وتَرِقَّ الكافرةُ الفاجرةُ. واللهُ أعلمُ. 3043 - مسألة: (وإن وَضَعَتْ جسْمًا لا تَخْطيطَ فيه، فعلى رِوايَتَين) أمَّا إذا وَضَعَتْ مُضْغَةً لم يظْهَرْ فيها شيءٌ مِن خَلْقِ الآدَمِيِّ، فشَهِدَ ثِقاتٌ مِن القَوابِلِ أنَّ فيها صُورَةً خَفِيَّةً، تَعَلَّقَتْ بها الأحْكامُ؛ لأنَّهُنَّ اطَّلَعْنَ ¬

(¬1) في الأصل: «عتقت». (¬2) في سننه 2/ 63، 62. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «ليسبيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الصُّورَةِ التي خَفِيَتْ على غَيرِهِنَّ. وإن لم يَشْهَدْن بذلك، لكنْ عُلِمَ أنَّه مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيِّ بشَهادَتِهنَّ أو غيرِ ذلك، ففيه رِوايَتان؛ إحداهُما، لا تصِيرُ به الأمةُ أُمَّ وَلَدٍ، ولا تَنْقَضِي به عِدَّةُ الحُرَّةِ، ولا يجبُ على الضَّارِبِ المُتْلِفِ له غُرَّةٌ ولا كفَّارَةٌ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، والشافعيِّ، وظاهِرُ ما نَقَلَه الأثْرَمُ عن أحمدَ، وظاهِرُ قَوْلِ الحسنِ، والشَّعْبِيِّ، وسائِرِ مَن اشْتَرَطَ أنْ يَبِينَ فيه شيءٌ مِن خَلْقِ الآدَمِيِّ. والثانِيَةُ، تَتَعَلَّقُ به الأحْكامُ الأرْبَعةُ؛ لأنَّه مُبْتَدَأ خَلْقِ آدَمِيِّ، أشْبَهَ إذا تَبَيَّنَ. وخرَّجَ أبو عبدِ اللهِ بنُ حامِدٍ رِوايَةً ثالِثَةً، وهي أنَّ الأمَةَ تصيرُ به (¬1) أُمَّ ولدٍ، ولا تَنْقَضِي به عِدَّةُ الحُرَّةِ؛ لأنَّه رُوِيَ عن أحمدَ، إذا وَضَعَتْ شيئًا، فمَسَّتْه القَوابِلُ فعَلِمْنَ أنَّه لحمٌ ولم يَتَبَيَّنْ لحمُه، فيُحْتَاطُ في العِدَّةِ بأُخْرَى، ويُحْتاطُ بعِتْقِ الأمَةِ. فظاهِرُ هذا أنَّه حَكَمَ بعِتْقِ الأمَةِ، ولم يَحْكُمْ بانْقِضاءِ العِدَّةِ؛ لأنَّ عِتْقَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمَةِ تحصِيلٌ للحُرِّيةِ، فاحْتيطَ بتَحْصِيلها، والعِدَّةُ يتَعَلَّقُ بها تَحْرِيمُ التَّزَوُّجِ وحُرْمَةُ الفَرْجِ، فاحْتِيطَ بإبْقائِها. وقال بعضُ الشافعِيَّةِ بالعَكْسِ: لا تجبُ العِدَّةُ، ولا تصيرُ الأمَةُ أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ كلِّ واحِدٍ منهما، فيَبْقَى على أصْلِه. ولا يَصِحُّ، لأنَّ العِدَّةَ كانتْ ثابتَةً، والأصْلُ بقاؤها على ما كانت عليه، والأصْلُ في الآدَمِيِّ الحُرِّيةُ، فيُغَلَّبُ (¬1) ما يُفْضِي إليها. ¬

(¬1) بعده في م: «على».

3044 - مسألة: (وإن أصابها في ملك غيره بنكاح أو غيره، ثم ملكها حاملا، عتق الجنين، ولم تصر أم ولد)

وَإنْ أَصَابَهَا فِي مِلْكِ غَيرِهِ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيرِهِ، ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا، عَتَقَ الْجَنِينُ، وَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ. وَعَنْهُ، تَصِيرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3044 - مسألة: (وإن أصابها في مِلْكِ غيرِه بنِكاحٍ أو غيرِه، ثم مَلَكَها حَامِلًا، عَتَقَ الجَنِينُ، ولم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ) له (وعنه، تَصِيرُ) وسَواءٌ مَلَكَها حامِلًا فوَلَدَت في مِلْكِه، أو مَلَكَها بعدَ ولادَتِها. وبه قال الشافعيُّ؛ لأنَّها عَلِقَت منه بمَمْلوكٍ، فلم يثْبُتْ لها حكمُ الاسْتِيلادِ، كما لو زَنَى بها ثم اشْتَراها؛ لأنَّ الأصْلَ (¬1) الرِّقُّ، وإنَّما خولِفَ هذا الأصْلُ فيما إذا حَمَلَت منه في مِلْكِه، بقولِ الصَّحابَةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، ففيما عَداهُ يَبْقَى على الأصْلِ. ونَقَلَ ابنُ أبي موسى عن أحمدَ، أنَّها تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ في الحالين. وهو قولُ الحسنِ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّها أُمُّ وَلَدِه، وهو مالِكٌ لها، فيثْبُتُ لها حُكْمُ الاسْتِيلادِ، كما لو حَمَلَتْ في مِلْكِه. قال شيخُنا (¬2): ولم أجِدْ هذه الرِّوايةَ عن أحمدَ فيما إذا مَلَكَها بعدَ ولادَتِها، إنَّما نُقِلَ عنه التَّوقُّف عنها، في رِوايةِ مُهَنَّا، فقال: لا أقُولُ فيها شيئًا. ¬

(¬1) بعده في م: «بقاء». (¬2) في: المغني 14/ 589.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصَرَّحَ في رِوايَةِ سِواه بجَوازِ بَيعِها، فقال: لا أرَى بَأْسًا أن يبِيعَها، إنَّما الحسنُ وَحْدَه قال: إنَّها أُمُّ وَلَدٍ. وقال: أكثرُ ما سَمِعْنا فيه مِن التَّابِعين يقولون: إنَّها لا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ حتى تَلِدَ عندَه وهو يَمْلِكُها. كان عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ يقولُ ببَيعِها، وشُرَيحٌ، وإبراهيمُ، والشَّعْبِيُّ (¬1). أمَّا إذا مَلَكَها حامِلًا، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّها تصِيرُ أُمَّ ولدٍ. وهو مذهبُ مالكٍ؛ لأنَّها وَلَدَت منه في مِلْكِه، فأشْبَهَ ما لو أحْبَلَها في مِلْكِه. وقد صَرَّحَ أحمدُ في رِوايَةِ إسْحاقَ بنِ منصورٍ، أنَّها لا تكونُ أُمَّ ولدٍ حتى تُحْدِث عندَه حَمْلًا. وروَى عنه ابنُه صالحٌ، قال: سألتُ أبي عن الرجلِ يَنْكِحُ الأمَةَ فتَلِدُ منه، ثم يَبْتاعُها. قال: لا تكونُ أُمَّ ولدٍ له. قُلْتُ: فإنِ اشْتَراها وهي حامِلٌ منه. قال: إذا كان الوَطْءُ يَزِيدُ في الولدِ، وكان يَطَؤُها بعد ما اشْتَرَاها وهي حامِلٌ، كانتْ أُمَّ ولدٍ له. قال ابنُ حامِدٍ: إنْ وطِئَها في ابْتداءِ حَمْلِها أو بواسِطَةٍ، صارت له بذلك أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّ الماءَ يَزِيدُ في سَمْعِ ¬

(¬1) في الأصل: «وعامر والشعبي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الولدِ وبَصَرِه. وقال القاضي: إن مَلَكَها حامِلًا، فلم يَطَأْها حتى وَضَعَت، لم تَصِرْ أُمَّ ولدٍ، وإن وَطِئَها حال حَمْلِها، نَظَرْنا؛ فإن كان بعدَ أن كَمَلَ الولَدُ، وصارَ له خَمْسَةُ أشْهُرٍ، لم تَصِرْ بذلك أُمَّ ولدٍ، وإن وَطِئَها قبلَ ذلك، صارَت له بذلك أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّ عمرَ قال: أبعدَ ما اخْتَلَطَتْ دِماؤُكم ودماؤُهُنَّ، ولُحومُكُم ولُحومُهنَّ، بِعْتُمُوهُنَّ (¬1)! فعلَّلَ بالمُخالطَةِ، والمُخالطَةُ ههُنا حاصِلَةٌ؛ لأنَّ الماءَ يَزِيدُ في الولدِ، ولأن لحُريَّةِ البَعْضِ أثَرًا في تَحْرِيرِ الجميعِ، بدليلِ ما لو أعْتَقَ أحَدُ الشَّرِيكَين نَصِيبَه مِن العبدِ. وقال أبو الخَطَّابِ: إن وَطِئَها بعدَ الشِّراءِ فهي أُمُّ وَلَدٍ. وكلامُ الخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أن لا تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ، إلَّا أن تَحْبَلَ منه في مِلْكِه. وهو الذي رَواه إسحاقُ بنُ منصورٍ عن أحمدَ. وهو ظاهِرُ المذهبِ؛ لأنَّها لم تَعْلَقْ منه (¬2) بحُرٍّ، فلم يثْبُت له حكمُ الاسْتِيلادِ، كما لو زَنَى بها ثم اشْتَراها، ولأنَّ حَمْلَها منه إذا لم يُفِدِ الحُرِّيةَ لوَلَدِها، فلَأن لا يُفِيدَها الحُرِّيةَ أوْلَى. ويفارِقُ هذا ما إذا حَمَلَت منه في مِلْكِه، فإنَّ الولدَ حُرٌّ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 296، 297. وسعيد بن منصور، في: سننه 2/ 61. (¬2) في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَتتَحَرَّرُ (¬1) بتَحْرِيرِه. وما ذَكَرُوه مِن أنَّ الوَلَدَ يَزِيدُ فيه الوَطْءُ، غيرُ مُسْتَيقَنٍ، فلا يثْبُتُ الحكمُ بالشَّكِّ، ولو ثَبَتَ أنَّه زاد، لم يثْبُتِ الحكمُ بهذه الزِّيادَةِ، بدليلِ ما لو مَلَكَها وهي حامِلٌ منه مِن زِنَى أو مِن غيرِه، فوَطِئَها، لم تَصِرْ أُمَّ وَلدٍ وإن زادَ الولَدُ به. ولأنَّ حُكْمَ الاسْتِيلادِ إنَّما ثَبَتَ بالإِجْماعِ في حَقِّ مَن حَمَلَتْ منه في مِلْكِه، وما عَداه ليس في مَعْناه، وليس فيه نَصٌّ ولا إجْماعٌ، فوجَبَ أن لا يثْبُتَ هذا الحكمُ. ولأنَّ الأصْلَ الرِّقُّ، فتَبْقَى على ما كانت عليه. فصل: قال أحمدُ، في مَن اشْتَرَى جارِيَةً حامِلًا مِن غيرِه، فوَطِئَها قبلَ وَضْعِها: فإنَّ الولدَ لا يَلْحَقُ بالمُشْتَرِي، ولا يَبِيعُه، لكنْ يُعْتِقُه، لأنَّه قد شَرِكَ فيه؛ لأنَّ الماءَ يَزِيدُ في الولدِ. وقد رُوِيَ عن أبي الدَّرْداءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه مَرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ (¬2) على بابِ فُسْطاطٍ، فقال: «لَعَلَّهُ يُرِيدُ أن يُلِمَّ بهَا؟». قالوا: نَعَم. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ ألْعَنَه لَعْنًا يَدْخُل مَعَهُ قَبْرَه، كَيفَ يُوَرِّثُه وهو لا يَحِلُّ له؟ أمْ كَيفَ يَسْتَخْدِمُه وَهُوَ لا يَحِلُّ له؟». رَواه أبو داودَ (¬3). يعني أنَّه إنِ ¬

(¬1) في م: «فتحرر». (¬2) المجح: في الحامل التي عظم بطنها، قريبة الولادة. (¬3) في: باب وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 497.كما أخرجه مسلم، في: باب تحريم وطء الحامل المسبية، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1065، 1066. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَلْحَقَه وشَرِكَه في مِيرَاثِه لم يَحِلَّ لهِ؛ لأنَّه ليس بولدِه، وإنِ اتَّخَذَه مَمْلُوكًا يَسْتَخْدِمُه لم يَحِلَّ له؛ لأنَّه قد شَرِكَ فيه؛ لكَوْنِ الماءِ يَزِيدُ في الولدِ. فصل: إذا وَطِئَ الرَّجُلُ جارِيَةَ وَلَدِه، فإن كان قد تَمَلَّكَها وقَبَضَها، ولم يكُنِ الولدُ وَطِئَها، ولا تَعَلَّقَتْ بها حاجَتُه، فقد ملَكَها الأبُ بذلك وصارَتْ جاريَتَه، والحكمُ فيها كما لو اشْتَرَاها. وإنْ وَطِئَها قبلَ تَمَلُّكِها، فقد فَعَلَ مُحَرَّمًا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). وهذه ليست زَوْجَتَه ولا مِلْكَ يَمِينِه. فإن قيلَ: فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ» (¬2). فأضافَ مال الابنِ إلى أبِيه بلام المِلْكِ والاسْتِحْقاقِ، فيَدُلُّ على أنَّه مِلْكُه. قُلْنا: لم يُرِدِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَقيقَةَ المِلْكِ، بدليلِ أنَّه أضاف إليه الولدَ، وليس بمَمْلُوكٍ، وأضافَ إليه ماله في حالِ إضافَتِه إلى الولدِ، ولا يكونُ الشيءُ مِلْكًا لمالِكَين حَقِيقَةً، بدليلِ أنَّه يَحِلّ له وَطْءُ إمائِه، ¬

(¬1) سورة المؤمنون 5 - 7، والمعارج 29 - 31. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّصَرُّفُ في مالِه، وصِحَّةُ بَيعِه وهِبَتِه وعِتْقِه، ولأنَّ الولَد لو مات لم يَرِثْ أبُوه منه إلَّا ما قُدِّرَ له، ولو كان ماله لاخْتَصَّ به، ولو مات الأبُ لم يَرِثْ ورَثتُه مال ابْنِه (¬1)، ولا يجبُ على الأبِ حَجٌّ ولا زَكاةٌ ولا جِهادٌ بيَسارِ ابنِه، فعُلِمَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أراد التَّجَوُّزَ بتَشبِيهِه بمالِه في بعضِ أحْكامِه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا حَدَّ على الأبِ؛ للشُّبْهَةِ؛ لأنَّه إذا لم يَثْبُتْ له حقيقةُ المِلْكِ، فلا أقَلَّ مِن أن يكونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الحَدَّ، فإنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ولكن يُعَزَّرُ؛ لأنَّه وَطِيء وَطْئًا مُحَرَّمًا، فأشْبَهَ وَطْءَ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يُعَزَّرُ؛ لأنَّ مال ولَدِه كما لِه. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ ماله مُباحٌ له، غيرُ مَلُوم عليه، بخِلافِ وَطْءِ الأبِ، فإنَّه عادٍ فيه مَلُومٌ عليه. فإن عَلِقَتْ منه، فالولدُ حُرٌّ؛ لأنَّه مِن وَطْءٍ دُرِئَ فيه الحَدُّ لِشُبْهَةِ المِلْكِ، فكان حُرًّا، كولدِ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ، ولا تَلْزَمُه قِيمَتُه؛ لأنَّ الجارِيَةَ تَصِيرُ مِلْكًا له بالوَطْءِ، فيَحْصُلُ عُلوقُها بالولدِ وهي مِلْكُه، وتَصِيرُ أُمَّ ولدٍ له، تَعْتِقُ بمَوْتِه وتَنْتَقِلُ إلى مِلْكِه، فيَحِلُّ له وَطْؤُها بعدَ ذلك. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، في أحَدِ قولَيه. وقال في الآخَرِ: لا تَصِيرُ أُمَّ ولَدٍ له، ¬

(¬1) في الأصل: «أبيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَمْلِكُها؛ لأنَّه اسْتَوْلَدَها في غيرِ مِلْكِه، فأشْبَهَ الأجْنَبِيَّ، ولأنَّ ثُبوتَ أحْكامِ الاسْتِيلادِ إنَّما كان بالإِجْماعِ فيما إذا اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَه، وهذه ليستْ [مَمْلوكةً له] (¬1)، ولا في مَعْنَى مَمْلوكَتِه؛ لأنَّها مُحَرَّمَةٌ عليه، فوجَبَ أن لا يثْبُتَ لها هذا الحكمُ؛ لأنَّ الأصْلَ الرِّقُّ، فيَبْقَى على الأصلِ، ولأنَّ الوَطْءَ المُحَرَّمَ لا يَنْبَغِي أن يكونَ سَبَبًا للمِلْكِ الذي هو نِعْمَةٌ وكَرَامَةٌ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَعاطِي المُحَرَّماتِ. ولَنا، أنَّها عَلِقَتْ منه بحُرٍّ لأجْلِ المِلْكِ، فصارَتْ أُمَّ ولدٍ له، كالجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ، وبهذا فارَقَ وَطْءَ الأجْنَبِيِّ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا يَلْزَمُه مَهْرُها ولا قِيمَتُها. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُه مهرُها، وتَلْزَمُه قِيمَتُها؛ لأنَّه أخْرَجَها عنِ مِلْكِ سيدِها بفِعْلٍ مُحَرَّم، أشْبَهَ ما لو قَتَلَها، وإنَّما لم يَلْزَمْه مَهْرُها؛ لأنه إذا ضَمِنَها فقد دَخَلَتْ قِيمةُ البُضْعِ في ضَمانِها، فلم يَضْمَنْه ثانيًا، كما لو قَطَعَ يَدَها فسَرَى القَطْعُ إلى نَفْسِها فإنَّه يضْمَنُ قِيمةَ النَّفْسِ دُونَ قِيمَةِ اليَدِ. وقال الشافعيُّ: يَلْزَمُه مَهْرُها؛ لأنَّه وَطِئَ جارِيَةَ غيرِه وَطْئًا مُحَرَّمًا، فلَزِمَه مَهْرُها، كالأجْنَبِيِّ، وتَلْزَمُه قِيمَتُها، على القولِ بكَونِها أمَّ ولدٍ، كما يَلْزَمُ ¬

(¬1) في م: «مملوكته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدَ الشَّرِيكَين قيمةُ (¬1) نَصِيبِ شَرِيكِه إذا اسْتَوْلَدَ الجاريَةَ المُشْتَرَكَةَ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ». ولأنَّه لا يَلْزَمُه قِيمَةُ ولدِها، فلم يَلْزَمْه مَهْرُها ولا قِيمَتُها، كمَمْلُوكَتِه، ولأنَّه وَطْءٌ صارتْ به المَوْطُوءَةُ أُمَّ ولدٍ لأمْرٍ لا يَخْتَصُّ ببَعْضِها، فأشْبَهَ اسْتِيلادَ مَمْلُوكَتِه. فصل: فإن كان الابنُ قد وَطِئَ جارِيَتَه، ثم وَطِئَها أبوه فأوْلَدَها؛ فقد رُوِيَ عن أحمدَ في مَن وَقَعَ على جارِيَةِ ابنِه: إن كان الأبُ قَابِضًا لها، ولم يكُنْ الابنُ وَطِئها، فهي أُمُّ ولَدِه، فليس للابنِ فيها شيءٌ. قال القاضي: فظاهِرُ هذا، أنَّ الابنَ إن كان قَدْ وَطِئَها، لم تَصِرْ أمَّ ولدٍ للأبِ باسْتِيلادِها؛ لأنَّها تَحْرُمُ عليه تحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بوَطْءِ ابْنِه لها (1)، ولا تَحِلُّ له بحالٍ، فأشْبَهَ وَطْءَ الأجْنَبِيِّ. فعلى هذا القولِ، لا يَمْلِكُها، ولا تَعْتِق ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَوْتِه. فأمَّا ولدُها، فيَعْتِقُ على أخِيه؛ لأنَّه ذو رَحِمِه. [ويَحْتَمِلُ أن يَثْبُتَ لها حُكْمُ الاستيلادِ مِن غيرِ أن تَحِلَّ له] (¬1)، كما لو اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَه التي وَطِئَها ابنُه، فإنَّها تَصِيرُ أُمَّ ولدٍ له مع تحْرِيمِها عليه على التَّأْبِيدِ، فكذلك ههُنا؛ لأنَّه وَطْءٌ يُدْرَأُ فيه الحَدُّ بشُبْهَةِ المِلْكِ، فصارَتْ به أُمَّ ولدٍ، كما لو لم يطَأَها الابنُ. فصل: فإن وَطِئَ الابنُ جارِيَةَ أبِيه فهو زانٍ، عليه الحَدُّ إذا كان عالمًا بالتَّحْرِيمِ، ولا تَصِيرُ أُمَّ ولدٍ له، ويَلْزَمُه مَهْرُها، ويَعْتِقُ ولَدُه على جَدِّه؛ لأنَّه ابنُ ابنِه، إذا قُلْنا: إنَّ ولدَ الزِّنى يَعْتِقُ على أبِيه. وتَحْرُمُ الجارِيَةُ على الأبِ على التَّأْبِيدِ، ولا تَجبُ قِيمَتُها على الابنِ؛ لأنَّه لم يُخرِجْها عن مِلْكِ أبِيه، ولم يَمْنَعْه بَيعَها ولا التَّصَرُّفَ فيها بغيرِ الاسْتِمتاعِ. فإنِ اسْتَوْلَدَها الأبُ بعدَ ذلك فقد فَعَلَ مُحَرَّمًا، ولا حَدَّ عليه؛ لأنَّه وَطْءٌ صادَفَ مِلْكًا، وتَصِيرُ أُمَّ ولَدٍ له؛ لأنَّه اسْتَوْلَدَ مَمْلوكَتَه، فأشْبَهَ ما لو وَطِئَ أمَتَه المَرْهُونَةَ. فصل: فإن وَطِئَ أمَتَه وهي مُزَوَّجَةٌ، فقد فَعَلَ مُحَرَّمًا، ولا حَدَّ عليه؛ لأنَّها مَمْلوكَتُه، ويُعَزَّرُ. قال أحمدُ: يُجْلَدُ، ولا يُرْجَمُ. يعني ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يُعَزَّرُ بالجَلْدِ؛ لأنَّه لو وَجَبَ عليه الحَدُّ، لوَجَبَ الرَّجْمُ إذا كان مُحْصَنًا. فإن أوْلَدَها صارَتْ أُمَّ ولدٍ له؛ لأنَّه اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَتَه، وتَعْتِقُ بمَوْتِه، وولدُه حُرٌّ، وما وَلَدَت بعدَ ذلك مِن الزَّوْجِ فحُكْمُه حكمُ أُمِّه. فصل: ولو مَلَكَ رَجُلٌ أُمَّه مِن الرَّضاعِ، أو أُخْتَه، أو ابْنَتَه، لم يَحِلَّ له وَطْؤُها. فإن وَطِئَها فلا حَدَّ عليه، في أصَحِّ الرِّوايَتَين؛ لأنَّها مَمْلوكَتُه، ويُعَزَّرُ. وإنْ وَلَدَتْ منه فالوَلَدُ حُرٌّ، ونَسَبُه لاحِقٌ به، وهي أُمُّ وَلَدِه. وكذلك (¬1) لو مَلَكَ أمَةً مَجُوسِيَّةً، أو وَثَنِيَّةً، فاسْتَوْلَدَها، أو مَلَكَ الكافِرُ أمةً مُسْلِمَةً فاسْتَوْلَدَها، فلا حَدَّ عليه، ويعَزَّرُ، ويَلْحَقُه نسَبُ وَلَدِه، وتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له (¬2)، تَعْتِقُ بمَوْتِه؛ لِما ذَكَرْنا. وكذلك لو وَطِئَ أمَتَه المَرْهُونَةَ، أو وَطِئَ رَبُّ المالِ أمَةً مِن مالِ المُضارَبَةِ فأوْلَدَها، صارَتْ له بذلك أُمَّ ولدٍ، وخرجت مِن الرَّهْنِ والمُضارَبَةِ، [وتَنْفَسِخُ المُضارَبةُ به فيها] (¬3)، وإن كان فيها رِبْحٌ جُعِلَ الرِّبْحُ في مالِ المُضارَبَةِ، وعليه قِيمَتُها. للمُرْتَهِنِ، تُجْعَلُ مَكانَها رَهْنًا، أو يُوَفيه عن دَينِ الرَّهْنِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «لذلك». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

3045 - مسألة: (وأحكام أم الولد أحكام الأمة، في الإجارة، والاستخدام، والوطء، وسائر أمورها، إلا فيما ينقل الملك في رقبتها؛ كالبيع، والهبة، والوقف، أو ما يراد له؛ كالرهن. وعنه، ما يدل على جواز بيعها مع الكراهة. ولا عمل عليه)

وَأحْكَامُ أُمِّ الْوَلَدِ أحْكَامُ الْأَمَةِ، فِي الإِجَارَةِ، وَالاسْتِخْدَام، وَالْوَطْءِ، وَسَائِرِ أُمُورِهَا، إلا فِيمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فِي رَقَبَتِهَا؛ كَالْبَيعَ، وَالْهِبَةَ، وَالْوَقْفِ، أَوْ مَا يُرَادُ لَهُ؛ كَالرَّهْنَ. وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيعِها مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَا عَمَلَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3045 - مسألة: (وأحكامُ أُمِّ الوَلَدِ أحْكامُ الأمَةِ، في الإِجارَةِ، والاسْتِخْدامِ، والوَطْءِ، وسائِرِ أمُورِهَا، إلَّا فيما يَنْقُلُ المِلْكَ في رَقَبَتِها؛ كالبَيعِ، والهِبَةِ، والوَقْفِ، أو ما يُرادُ له؛ كالرَّهْنِ. وعنه، ما يَدُلُّ على جَوازِ بَيعِها مع الكَراهَةِ. ولا عَمَلَ عليه) وجملةُ ذلك، أنَّ الأمَةَ إذا حَمَلَتْ مِن سيدِها، ووَلَدَتْ منه، ثَبَتَ لها حُكْمُ الاسْتِيلادِ، وحُكْمُها حكمُ الإِماءِ في حِلِّ وَطْئِها لسيدِها، واسْتِخْدامِها، ومِلْكِ كَسْبِها، وتَزْويجِها، وإجارَتِها، وعِتْقِها، وتَكْلِيفِها، وحَدِّها، وعَوْرَتِها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا (¬1) قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه لا يَمْلِكُ إجارَتَها وتَزْويجَها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَها، فلا يَمْلِكُ تَزْويجَها وإجارَتَها، كالحُرَّةِ. ولَنا، أنَّها مَمْلوكَةٌ يُنْتَفَعُ بها، فيَمْلِكُ سيدُها تَزْويجَها وإجارَتَها، كالحُرَّةِ، وإنَّما منِعَ بَيعَها؛ لأنها اسْتَحَقَّتْ أن تَعْتِقَ بمَوْتِه، وبَيعُها يَمْنَعُ ذلك، بخِلافِ التَّزْويجِ والإِجارَةِ. ويبْطُلُ دليلُهم بالمَوْقوفَةِ والمُدَبَّرَةِ عندَ مَن مَنَعَ بَيعَها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّها تُخالِفُ الأمَةَ القِنَّ، في أنَّها تَعْتِقُ بمَوْتِ سيدِها مِن رأسِ المالِ، ولا يجوزُ بَيعُها، ولا التَّصَرُّفُ فيها بما يَنْقُلُ المِلْكَ، مِن الهِبَةِ والوَقْفِ، ولا ما يُرادُ للبَيعِ، وهو الرَّهْنُ، ولا تُورَثُ؛ لأنَّها تَعْتِقُ بمَوْتِ سيدِها ويَزُولُ المِلْكُ عنها. رُوِيَ هذا عن عمرَ، وعثمانَ، وعائشةَ، وعامَّةِ الفُقهاءِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيرِ، إباحَةُ بَيعِهنَّ. وإليه ذَهَبَ داودُ. [قال سعيدٌ] (¬2): حدثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ، في أُمِّ الولدِ، قال: ¬

(¬1) في الأصل: «غير هذا». (¬2) في م: «قال حدثنا سعيد». وهو في: السنن 2/ 63. كما أخرجه الرزاق، في: المصنف 7/ 290.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِعْهَا كما تَبِيعُ ثِيابَك أو بَعِيرَكَ. قال (¬1): وحدثنا أبو عَوَانَةَ، عن مُغِيرَةَ، عن الشَّعْبِيِّ، عن عَبِيدَةَ، قال: خَطَبَ عَليٌّ الناسَ، فقال: شاوَرَنِي عمرُ في أُمَّهاتِ الأولادِ، فرَأَيتُ أنا وعمرُ أن أعْتِقَهُنَّ، فقَضَى به عمرُ حَياتَه، وعثمانُ حياتَه، فلمَّا وَلِيتُ رأيتُ أن أُرِقَّهُنَّ. قال عَبِيدَةُ: فرَأْيُ عمرَ وعليٍّ في الجماعَةِ أحَبُّ إلينا مِن رَأْيِ عَلِيٍّ وحْدَه. وقد روَى صالِحُ بنُ أحمدَ، قال: قُلْتُ لأبي: إلى (¬2) أيِّ شيءٍ تَذْهَبُ في بَيعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ؟ قال: أكْرَهُه، وقد باعَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ. وقال في رِوايةِ إسحاقَ بنِ منصورٍ: لا يُعْجِبُنِي بَيعُهنَّ. قال أبو الخَطَّابِ: وظاهِرُ هذا أنَّه يَصِحُّ بَيعُهُنَّ مع الكَراهَةِ. فجعلَ هذا رِوَايةً ثانيةً (¬3) عن أحمدَ. قال شيخُنا (¬4): والصَّحِيحُ أنَّ هذا ليس برِوايةٍ مخالِفَةٍ لقولِه: إنَّهُنَّ لا يُبَعْنَ. لأنَّ السَّلَفَ، رَحْمَةُ اللهِ عليهم، كانوا يُطْلِقُونَ الكَراهَةَ على التَّحْرِيم كثيرًا، ومتى كان التَّحْرِيمُ والمَنْعُ مُصَرَّحًا به في سائِرِ الرِّواياتِ عنه، وَجَبَ حَمْلُ هذا اللَّفْظِ المُحْتَمِلِ على المُصَرَّحِ به، ولا يُجْعَلُ ذلك اخْتِلافًا. وحُجَّةُ مَن أجاز بَيعَهُنَّ، ما روَى جابرٌ، قال: بِعْنَا أُمَّهاتِ الأوْلادِ على ¬

(¬1) في السنن 2/ 60، 61. وابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 436، 437. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 343. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ثابثة». (¬4) في: المغني 14/ 585.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، [فلمَّا كان عمرُ، نَهانَا، فانْتَهَينا (¬1). وما كان جائِزًا في عَهْدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ] (¬2)، لم يَجُزْ نَسْخُه بقول عمرَ ولا غيرِه، ولأنَّ نَسْخَ الأحكامِ إنَّما يجوزُ في عصرِ (¬3) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ النَّصَّ إنَّما يُنْسَخُ بنَصٍّ. وأمَّا قولُ الصَّحابيِّ، فلا يَنْسَخُ، ولا يُنْسَخُ به، فإنَّ أصْحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا يَتْرُكُونَ أقْوالهم لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَتْرُكُونَها بأقْوالِهم، وإنَّما تُحْمَلُ مُخالفَةُ عمرَ لهذا النَّصِّ على أنَّه لم يَبْلُغْه، ولو بَلَغَه لم يَعْدُه إلى غيرِه. لأنَّها مَمْلوكَة لم يُعْتِقْها سيدُها، ولا شيئًا منها، ولا قرابَةَ بينَه وبينَها، فلم تَعْتِقْ، كما لو ولَدَتْ مِن أبيه (¬4) في نِكاح أو غيرِه. ولأنَّ الأصْلَ الرِّقُّ، ولم يَرِدْ بِزَوالِه نصٍّ ولا إجْماعٌ ولا ما في مَعْنَى ذلك، فوجَبَ البقاءُ عليه. ولأنَّ ولادَتَها لو كانت مُوجِبَةً لعِتْقِها، لَثَبَتَ العِتْقُ بها حينَ وُجودِها، كسائِرِ أسْبابِه. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ رِوَايةٌ أُخْرَى، أنَّها تُجْعَلُ في سَهْمِ وَلَدِها لتَعْتِقَ عليه (¬5). قال سعيدٌ (¬6): حدثنا سُفيانُ، حدثنا الأعْمَشُ، عن زيدِ بنِ وَهْبٍ، قال: مات ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب عتق أمهات الأولاد، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 352. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عهد». (¬4) في م: «ابنه». (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 440. (¬6) في السنن 2/ 63.كما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 289، 290. وابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 438.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلٌ مِنَّا وتَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ، فأراد الوَليدُ بنُ عُقْبَةَ أن يَبِيعَها في دَينِه، فأتَينا (¬1) عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ فَذَكَرْنا (¬2) ذلك له، فقال: إن كان ولابُدَّ، فاجْعَلُوها مِن نَصِيبِ أولادها. ولَنا، ما روَى عِكْرِمَةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّما أَمةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِها، فهي حُرَّةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ». وقال ابنُ عباسٍ: ذُكِرَتْ أُمُّ إبراهيمَ عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أعْتَقَها ولَدُها». روَاهما ابنُ ماجَه (¬3). وذكَر الشَّرِيفُ أبو جعفرٍ في «مسائِلِه»، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه نَهَى عن بَيعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ، ولا يُبَعْنَ، ولا يُرْهَنَّ، ولا يَرِثْنَ، يَسْتَمْتِعُ بها سيدُها ما بدا له، فإن ماتَ فهي حُرَّةٌ (¬4). قال شيخُنا (¬5): وهذا فيما أظُنُّ عن عمرَ، ولا يَصِحُّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّه إجْماعُ الصَّحابَةِ، رَضِيَ الله عنهم، بدَليلِ قولِ عليٍّ: كان رَأْيي ورَأْيُ عمرَ، أن لا تُباعَ أمَّهاتُ الأوْلادِ. وقولِه: فقَضَى به عمرُ حياتَه، وعثمانُ حياتَه. وقولِ عَبيدَةَ: رأْيُ عليٍّ في الجماعَةِ أحَبُّ إلينا مِن رَأْيِه وَحْدَه. ورَوَى عِكْرِمَةُ عن ابنِ عباسٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «فأتيا». (¬2) في الأصل: «فذكرا». (¬3) الأول تقدم تخريجه في صفحة 421، والثاني في صفحة 415. (¬4) وأخرجه الدارقطني، في: كتاب المكاتب. سنن الدارقطني 4/ 134، 135. مرفوعًا وموقوفًا على عمر. وأخرجه الإمام مالك موقوفًا على عمر، في: باب عتق أمهات الأولاد. . . .، من كتاب العتق والولاء. الموطأ 2/ 776. (¬5) في: المغني 14/ 587.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: قال عمرُ: ما مِن رَجُلٍ كان (¬1) يُقِرُّ بأنَّه يَطَأُ جارِيَةً ثم يمُوتُ، إلَّا أعْتَقَها إذا وَلَدَت، وإن كان سَقْطًا (¬2). فإن قيلَ: فكيف تَصِح دَعْوَى الإِجْماعِ مع مُخالفَةِ علي وابنِ عباسٍ وابنِ الزُّبَيرِ. قُلْنا: قد رُوِيَ عنهم الرُّجوعُ عن المُخالفَةِ، فروَى عَبِيدَةُ، قال: بَعَثَ إليَّ عليٌّ وإلى شُرَيحٍ، فقال (¬3): اقْضُوا كما كُنْتُم تَقْضُون، فإنِّي أُبْغِضُ الاخْتلافَ (¬4). وابنُ عباسٍ قال: وَلَدُ أُمِّ الولدِ بمَنْزِلتِها. وهو الرَّاوي لحديثِ عِتْقِهنَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعن عمرَ، فيَدُلُّ على مُوافَقَتِه لهم. ثم قد ثَبَتَ الإِجْماعُ باتِّفاقِهم قبلَ المُخالفَةِ، واتِّفاقُهم مَعْصومٌ عن الخَطَأْ، فإنَّ الأمَّةَ لا تَجْتَمِعُ على ضَلالةٍ، ولا يجوزُ أنْ يَخْلُوَ زَمَنٌ عن قائِمٍ للهِ بحُجَّتِه، ولو جازَ (¬5) ذلك في بعضِ العَصْرِ لجازَ في جَميعِه، ورَأيُ المُوافِقِ في زَمَنِ الاتِّفاقِ خيرٌ مِن (¬6) رَأْيِه في الخلافِ بعدَه، فيكونُ الاتِّفاقُ حُجَّةً على المُخالِفِ له منهم، كما هو حُجَّةٌ على غيرِه. فإن قيلَ: فلو كان الاتِّفاقُ في بعضِ العَصْرِ إجْماعًا حَرُمَتْ مُخالفَتُه، فكيف خالفَه هؤلاء الأئمّةُ الذين لا تجوزُ نِسْبَتُهم إلى ارْتكابِ الحرَامِ؟ قُلْنا: الإِجْماعُ يَنْقَسِمُ إلى مَقْطوعٍ به ومَظْنُونٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 420. (¬3) بعده في م: «لي». (¬4) أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 2/ 399. (¬5) في الأصل: «كان». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مِن المَظْنُونِ، فتُمْكِنُ [المُخالفَةُ منهم] (¬1)، مع كَوْنِه حُجَّةً، كما وَقَعَ منهم مُخالفَةُ النُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ، ولم تَخْرُجْ بمُخالفَتِهم (¬2) عن كَوْنِها حُجَّةً، كذا ههُنا. فأمّا قولُ جابِرٍ: بعْنا أُمَّهاتِ الأوْلادِ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ. فليس فيه تَصْرِيحٌ بأنَّه كان بعِلْمِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عِلْمِ أبي بكرٍ، فيكونُ ذلك وَاقِعًا منهم على انْفِرادِهم، فلا تكونُ فيه حُجَّةٌ، ويَتَعَيَّنُ حَمْلُ الأمْرِ على هذا؛ لأنَّه لو كان هذا واقِعًا بعِلْمِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، وأقَرَّا عليه، لم تَجُزْ مُخالفَتُه، ولم يُجْمِعِ الصَّحابَةُ بعدَهُما على مُخالفَتِهما، ولو فعلُوا ذلك لم يَخْلُ مِن مُنْكِرٍ عليهم، ويَقولُ: كيف تُخالِفُون فِعْلَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفعلَ صاحِبهِ (¬3)؟ وكيف تَتْرُكُونَ سُنتَّهَما، وتُحَرِّمُونَ ما أحَلًّا؟ ولأنَّه لو كان ذلك واقِعًا بعِلْمِهما، لاحْتَجَّ به عليٌّ حينَ رأى بَيعَهُنَّ، واحْتَجَّ به كلُّ مَن وَافَقَه على بَيعِهِنَّ، ولم يَجْرِ شيءٌ مِن هذا، فوجَبَ أنْ يُحْمَلَ الأمْرُ على ما حَمَلْناه عليه، فلا يكونُ فيه إذًا حُجَّةٌ. ويَحْتَمِلُ أنَّهم باعُوا أمَّهاتِ الأوْلادِ في النِّكاحِ لا في المِلْكِ. فصل: ومَن أجازَ بَيعَهُنَّ، فعلى قولِه، إن لم يَبِعْها سَيدُها حتى مات، ولم يكُنْ له وارِث إلَّا ولدَها، عَتَقَتْ عليه، وإن كان له وارِثٌ سِوَى وَلدِها حُسِبَتْ مِن نصِيبِه، فعَتَقَتْ، وكان له ما بَقِيَ مِن مِيراثِه، وإن لم يَبْقَ شيءٌ ¬

(¬1) في الأصل: «وقوع منهم لهم». (¬2) في النسختين: «مخالفتهم» وانظر المغني 14/ 588. (¬3) في م: «صاحبيه».

3046 - مسألة: (وإن ولدت من غير سيدها، فلولدها حكمها في العتق بموت سيدها، سواء عتقت أو ماتت قبله)

ثُمَّ إِنْ وَلَدَتْ مِنْ غَيرِ سَيِّدِهَا، فَلِوَلَدِهَا حُكْمُهَا فِي العِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، سَوَاءٌ عَتَقَتْ أوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا شيءَ له. وإن كانت أكْثَرَ مِن نَصِيبِه عَتَقَ منها قَدْرُ نَصِيبِه، وبَاقِيها رَقِيقٌ لسائِرِ الوَرَثَةِ، إلَّا على قولِ مَن قال: إنَّه إذا وَرِثَ سَهْمًا ممَّن يَعْتِقُ عليه سَرَى العِتْقُ إلى باقِيه. فإنَّه يَعْتِقُ إن كان مُوسِرًا. وإن لم يَكُنْ لها وَلَدٌ مِن سَيدِها ورِثَها وَرَثَتُه، كسائِرِ رَقِيقِه. 3046 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ مِن غيرِ سيدِها، فلوَلَدِها حُكْمُها في العِتْقِ بمَوْتِ سيدِها، سَواءٌ عَتَقَتْ أو ماتَتْ قبلَه) إذا وَلَدَتْ أُمُّ الوَلَدِ بعدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الاسْتِيلادِ لها مِن غيرِ سيدِها، مِن زَوْج أو غيرِه، فحُكْمُه حُكْمُها، في أَنه يَعْتِقُ بمَوْتِ سيدِها، ويجوزُ فيه مِن التَّصَرُّفاتِ ما يجوزُ فيها، ويَمْتَنِعُ فيه (¬1) ما يَمْتَنِعُ فيها. قال أحمدُ: قال [ابنُ عُمَرَ] (¬2)، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما: وَلَدُها بمَنْزِلَتِها. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ القائِلين ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «عمر». وأخرجه عن ابن عمر البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 348، 349.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِثُبُوتِ حُكْمِ الاسْتِيلادِ، إلَّا أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، قال: هم عَبِيدٌ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أراد أنَّهم لا يَثْبُتُ لهم حُكْمُ أُمِّهم؛ لأنَّ الاسْتِيلادَ يَخْتَصُّ بها، فيُخَصُّ بحُكْمِه، كوَلَدِ مَن عُلِّقَ عِتْقُها بِصِفَةٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد أنَّهم عَبِيدٌ، حُكْمُهم حكمُ أُمِّهم، مِثلُ قولِ الجماعةِ؛ لأنَّ الوَلَدَ يَتْبَعُ أمَّه في الرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، فيَتْبَعُها في سَبَبِه إذا كان مُتَأكَّدًا، كولَدِ المُكاتَبَةِ والمُدَبَّرَةِ، بل ولدُ أُمِّ الولدِ أوْلَى؛ لأنَّ سَبَبَ العِتْقِ فيها مُسْتَقِرٌّ لا سَبِيلَ إلى إبْطالِه بحالٍ. وإن ماتَتْ أُمُّ الولدِ قبلَ سيدِها، لم يَبْطُلْ حُكْمُ الاسْتِيلادِ في الوَلَدِ، [ويَعْتِقُ بمَوْتِ سيدِه] (¬1)؛ لأنَّ السَّبَبَ لم يَبْطُلْ، وإنَّما لم تَثْبُتِ الحُريَّةُ فيها؛ لأنَّها لم تَبْقَ محَلًّا. وكذلك وَلَدُ المُدَبَّرَةِ، لا يَبْطُلُ الحُكْمُ فيه بمَوْتِ أمِّه. وأمَّا وَلَدُ المُكاتَبَةِ إذا ماتَتْ، فإنَّه يَعُودُ رَقِيقًا؛ [لأنَّ العَقْدَ بَطَلَ] (¬2) ¬

(¬1) في م: «وتعتق بموت سيدها». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَوْتِها، فلم يَبْقَ حُكْمُه فيه. وفي ذلك اخْتِلاف ذَكَرْناه في بَابِه. فإن أعْتَقَ السَّيِّدُ أُمَّ الوَلدِ أو المُدَبَّرَةَ، لم يَعْتِقْ وَلَدُها؛ لأنَّها عَتَقَتْ بغيرِ السَّبَبِ الذي تَبِعَها فيه، ويَبْقَى عِتْقُه مَوْقُوفًا على مَوْتِ سيدِه. وكذلك إنْ أعْتَقَ وَلَدَهما، لم يَعْتِقا بعِتْقِه. وإن أعْتَقَ المُكاتَبَ، فقد قال أحمدُ، وسفيانُ، وإسحاقُ: المُكَاتَبَةُ إذا أدَّتْ أو أُعْتِقَتْ عَتَقَ وَلَدُها، وأُمُّ الوَلَدِ والمُدَبَّرَةُ، إذا أُعْتِقَتْ لم يَعْتِقْ وَلَدُها حتى يَمُوتَ السَّيِّدُ. فظاهِرُ هذا أنَّ وَلَدَ المكاتَبَةِ إذا أعْتَقَها سَيدُها، أنَّه يَتْبَعُها في العِتْقِ؛ لأنَّه في حُكْمِ مالِها، تَسْتَحِقُّ كَسْبَه، فيَتْبَعُها في العِتْقِ، كمالِها، ولأنَّ إعْتاقَها يَمْنَعُ أداءَها بِسَبَبٍ مِن السَّيِّدِ، فأشْبَهَ ما لو أبْرَأها مِن مالِ الكِتابَةِ. فصل: فأمَّا ولدُ أُمِّ الولَدِ قبلَ اسْتِيلادِها، وولدُ المُدَبَّرَةِ قبلَ تَدْبِيرِها، وولَدُ المُكاتَبَةِ قبلَ كِتابَتِها، فلا يَتْبَعُها؛ لوُجودِه قبلَ انْعِقادِ السَّبَبِ فيها، وزوالِ حُكْمِ التَّبَعَيَّةِ عنه قبلَ تحقُّقِ السَّبَبِ في أمِّه. ولهذا لا يَتْبَعُها في العِتْقِ

3047 - مسألة: (وإن مات سيدها وهي حامل منه، فهل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين)

وَإنْ مَاتَ سَيِّدُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِمُدَّةِ حَمْلِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْجَزِ، ففيِ السَّبب أوْلَى. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ في وَلَدِ المُدَبَّرَةِ قبلَ التَّدْبِيرِ رِوايَتَين، فيُخرجُ هَهُنا مثلُه وهذا بَعِيدٌ؛ لأنَّ الولدَ المُنْفَصِلَ لا يَتْبَعُها في عِتْقٍ، ولا بَيعٍ، ولا هِبَةٍ، ولا في شيءٍ مِن الأحْكامِ، سِوَى الإِسلامِ بشَرْطِ كَوْنِه صغيرًا، فكيفَ يَتْبَعُ في التَّدْبِيرِ! ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا قِياسَ يَقْتَضِيه، فيَبْقَى بحالِه. 3047 - مسألة: (وإن مات سيدُها وهي حامِلٌ منه، فهل تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لمدَّةِ حَمْلِها؟ على رِوايَتَين) هذا يُشْبِهُ ما إذا مات عن امرأةٍ حامِلٍ، هل تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لمدَّةِ حَمْلِها؟ على رِوايَتَين. ومَبْنَى الخِلافِ على الخِلافِ في نفقةِ الحامِلِ، هل هي للحَمْلِ أو للحَامِلِ؟ فإن قُلْنا: هي للحَمْلِ. فلا نَفَقَةَ لها، ولا للأمَةِ الحامِلِ؛ لأنَّ الحَمْلَ له نَصِيبٌ في

3048 - مسألة: (وإذا جنت أم الولد، فداها سيدها بقيمتها أو دونها. وعنه، يفديها بأرش الجناية كله)

وَإِذَا جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ، فَدَاهَا سَيِّدُهَا بِقِيمَتِهَا أَوْ دُونِهَا. وَعَنْهُ، عَلَيهِ فِدَاؤُهَا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المِيرَاثِ، فتجبُ نَفَقَتُه في نَصِيبِه، لا في أنْصباءِ شُرَكائِه. وإن قُلْنا: للحامِلِ. فالنَّفَقَةُ على الزَّوْجِ والسَّيِّدِ، لأنَّهما [شَغَلاها بِحَمْلِها] (¬1)، فكانَ عِوضُ ذلك عليهما، كما لو اسْتأْجَرَا دارًا كانَتْ أُجْرَتُها عليهما. 3048 - مسألة: (وإذا جَنَتْ أُمُّ الوَلَدِ، فَدَاها سيدُها بقِيمَتِها أو دُونِها. وعنه، يَفْدِيها بأَرْشِ الجِنايَةِ كُلِّه) إذا جَنَتْ أُمُّ الوَلَدِ تَعَلَّقَ أَرْشُ جِنايَتِها برقَبَتِها، وعلى السَّيِّدِ أن يَفْدِيَها بأقَلِّ الأمْرين مِن قيمَتِها أو دُونِها. وبهذا قال الشافعيُّ. وحكى أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ قَوْلًا آخَرَ، أنَّه يَفْدِيها بأرْشِ جِنايتِها بالِغةً ما بَلَغتْ؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْها في الجِنايَةِ، فلَزِمَه أرْشُ جِنايتها بالِغَةً ما بَلَغَتْ، كالقِنِّ. وقال أبو ثَوْرٍ، وأهلُ الظاهِرِ: ليس عليه ¬

(¬1) في الأصل: «شغلاهما بحملهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِداؤْها، وجِنَايَتُها في ذِمَّتِها، تُتْبَعُ بها (¬1) إذا عَتَقَتْ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ بَيعَها، فلم يكنْ عليه فِداؤُها، كالحُرَّةِ. ولَنا، أنَّها مَمْلُوكَةٌ له، يَمْلِكُ كَسْبَها، لم يُسَلِّمْها، فلَزِمَه أَرْشُ جِنايَتِها، كالقِنِّ، ولا تَلْزَمُه زِيادَةٌ على قِيمَتِها؛ لأنَّه لم يَمْتَنِعْ مِن تَسْلِيمِها، وإنَّما الشَّرْعُ مَنَعَ مِن (¬2) ذلك؛ لكَوْنِها لم تَبْقَ مَحَلًّا للبَيعِ، ولا لِنَقْلِ المِلْكِ فيها. وأمَّا القِنُّ إذا لم يُسَلِّمْها، قلْنا (¬3): فيه مَنْعٌ. وإن سُلِّمَ، فلأنَّ القِنَّ أمْكَنَ أن يُسَلِّمَها للبَيعِ، فربَّما زاد فيها رَاغِبٌ أكثرَ مِن قِيمَتِها، فإذا امْتَنَعَ مالِكُها مِن تَسْليمِها أوْجَبْنا عليه الأَرْشَ بكَمالِه، بخِلافِ أُمِّ الوَلَدِ، فإنَّ ذلك لا يَحْتَمِلُ فيها؛ لأنَّها (¬4) لا يجوزُ بَيعُها، فلم يَكُنْ عليه أكثَرُ مِن قِيمَتِها. فصل: فإن ماتَتْ قبلَ فِدائِها فلا شيءَ على سيدِها؛ لأنَّه لم يَتَعَلَّقْ بذِمَّتِه شيءٌ، وإنَّما تَعَلَّقَ برَقَبتِها، فإذا ماتَتْ سَقَطَ الحقُّ؛ لتَلَفِ مُتَعَلَّقِه. وإن نَقَصَتْ قِيمَتُها قبلَ فِدائِها وجَبَ فِداؤُها بِقيمَتِها يومَ الفِدَاءِ؛ لأنَّها لو تَلِفَتْ جَمِيعُها لسَقَطَ الفِداءُ، فيَجِبُ أن يَسْقُطَ بعضُه بتَلَفِ بعضِها، وإن زادَتْ ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فلنا». (¬4) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَتُها زاد فِداؤُها، لأنَّ مُتَعَلَّقٍ الحقِّ زاد، فزاد الفِداءُ بزيادَتِه، كالقِنِّ. ويَنْبَغِي أن تَجِبَ قِيمَتُها مَعِيبةً بعَيبِ الاسْتِيلادِ، لأنَّ ذلك يَنْقُصُها، فاعْتُبِرَ، كالمَرضِ وغيرِه مِن العُيوبِ، ولأنَّ الواجِبَ قِيمَتُها في حالِ فِدائِها، وقِيمَتُها ناقِصَةٌ عن قِيمَةِ غيرِ (¬1) أُمِّ الولَدِ، فيَجِبُ أن يَنْقُصَ فِدَاؤُها، وأن يكونَ مُقَدِّرًا بقِيمَتِها في حالِ كَوْنِها أُمَّ ولدٍ. والحُكْمُ في المُدَبَّرَةِ كالحُكْمِ في أُمِّ الوَلَدِ، إنْ قُلْنا: لا يجوزُ بَيعُها. وإن قُلْنا: يجوزُ بَيعُها. فيُمْكِنُ تَسْلِيمُها للبَيعِ إنِ اخْتارَ سيدُها. فإنِ امْتَنَعَ منه، فهل يَفْدِيها بقِيمَتِها أو أَرْشِ الجِنايَةِ [بالِغًا ما بَلَغَ] (¬2)؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَين. فصل: فإن كَسَبَتْ بعدَ جِنايتها شيئًا فهو لسيدِها، لأنَّ المِلْكَ ثابِت له دُونَ المَجْنِيِّ عليه. وكذلك وَلَدُها؛ لأنَّه مُنْفَصِلٌ عنها، فأشْبَهَ الكَسْبَ. وإن فَداها في حالِ حَمْلِها فعليه قِيمَتُها حامِلًا، لأنَّ الولَدَ مُتَّصِل بها، أشْبَهَ سِمَنَها. وإن أتْلَفَها سيدُها فعليه قِيمَتُها، لأَنه أتْلَفَ حَقَّ غيرِه، أشْبَهَ إتْلافَ الرَّهْنِ. وإنْ نَقَصَها فعليه نَقْصُها؛ لأنَّه لمَّا ضَمِنَ العَينَ ضَمِنَ أجْزاءَها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «بالغة ما بلغت».

3049 - مسألة: (فإن عادت فجنت، فداها أيضا. وعنه، يتعلق ذلك بذمتها)

وَإنْ عَادَتْ فَجَنَتْ، فَدَاهَا أَيضًا. وَعَنْهُ، يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِذِمَّتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3049 - مسألة: (فإن عادَتْ فجَنَتْ، فَدَاهَا أيضًا. وعنه، يَتَعَلَّقُ ذلك بذِمتِها) فأمَّا إن جَنَتْ جِناياتٍ، فإن كانتِ الجِناياتُ كُلُّها قبلَ فداءِ شيءٍ منها، تَعَلَّقَ أَرْشُ الجميعِ برَقَبَتِها، ولم يَكُنْ عليه فيها كُلِّها إلَّا قِيمَتُها، أو (¬1) أَرْشُ جَمِيعِها، وعليه الأقَلُّ منهما (¬2)، ويشْتَرِكُ المَجْنِيُّ عليهم في الواجِبِ لهم، فإن لم يَفِ بها تحاصُّوا فيها بقَدْرِ أُرُوشِ جِناياتِهم. وإن كانتِ الجِنايةُ الثانيةُ بعدَ فِدائِه مِن الأولَى، فعليه فِداؤُها مِن التي بَعْدَها، كالأُولَى. وحَكَى أبو الخَطَّابِ رِوايَةً ثانيةً عن أحمدَ، أنَّه إذا فَداها بقِيمَتِها مَرَّةً لم يَلْزَمْه فِدَاؤُها بعدَ ذلك؛ لأنَّها جانِيةٌ، فلم يَلْزَمْه أكثرُ مِن قِيمَتِها، كما لو لم يَكُنْ فَدَاها. وقال الشافعي في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَضْمَنُها ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في الأصل: «منها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثانِيًا، ويشَارِكُ الثانِي الأوَّلَ فيما أخَذَه، كما لو كانتِ الجِناياتُ (¬1) قبلَ فدائِها. ولَنا، أنَّها أُمُّ ولدٍ جَانِيةٌ، فلَزِمَه فِداؤُها، كالأُولَى، ولأنَّ ما أخَذَه الأوَّلُ عِوَضُ جِنايَتِه (¬2)، أخَذَه بحَقٍّ، فلم يَجُزْ أن يُشارِكَه غيرُه فيه، كأرْشِ جِنايَةِ الحُرِّ أو الرَّقِيقِ القِنِّ. وفارَقَ ما قبلَ الفِداء؛ لأنَّ أَرْشَ الجناياتِ تَعَلَّقَ برَقَبتِها في وَقْتٍ واحدٍ، فلم يَلْزَمِ السَّيِّدَ أكْثَرُ مِن قِيمَةِ واحِدَةٍ، كما لو كانتِ الجِناياتُ على واحدٍ. فصل: فإن أبرَأ بعضُهم مِن حَقِّه، تَوَفَّرَ الواجِبُ على الباقِينَ، إذا كانت كُلُّها قبلَ الفِداءِ، وإن كانَتِ [الجنايةُ] (¬3) المَعْفوُّ عنها بعدَ فِدائِه، تَوَفَّرَ أَرشُها على سيدِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «جانية». (¬3) زيادة من المغني 14/ 605.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وللسيدِ تَزْويجُها وإن كَرِهَتْ (¬1). وبهذا قال أبو حنيفةَ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ، واخْتيارُ المُزَنِيِّ. وقال في القديمِ: ليس له تَزْويجُها [إلَّا برِضَاها؛ لأنَّه قد ثَبَتَ لها حكمُ الحُرِّيَّةِ على وَجْهٍ لا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إبْطالها، فلم يَمْلِكْ تَزْويجَها] (¬2) بغيرِ رِضَاها، كالمُكاتَبةِ. وقال في الثَّالِثِ: ليس له تَزْويجُها وإن رَضِيَتْ؛ لأنَّ مِلْكَه فيها قد ضَعُفَ، وهي لم تَكْمُلْ، فلم يَمْلِكْ تَزْويجَها، كاليَتِيمَةِ. وهل يُزَوِّجُها الحاكِمُ على هذا القَوْلِ؟ فيه خِلافٌ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قِيلَ له (¬3): إنَّ مَالِكًا لا يَرَى تَزْويجَها. فقال: وما يَصْنَعُ مالِكٌ! هذا ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ، يقولان: إذا وَلَدَتْ مِن غيرِه كان لوَلَدِها حُكْمُها (¬4) ولَنا، أنَّها أمَةٌ يَمْلِكُ الاسْتِمْتاعَ بها (¬5) واسْتِخْدامَها، فمَلَكَ تَزْويجَها، كالقِنِّ، ¬

(¬1) في الأصل: «أكرهت». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط مِن: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه عن ابن عمر في صفحة 442. (¬5) في م: «منها».

3050 - مسألة: (وإن قتلت سيدها عمدا فعليها القصاص، وإن عفوا على مال، أو كانت الجناية خطأ، فعليها قيمة نفسها، وتعتق في الموضعين)

وَإنْ قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَمْدًا فَعَلَيهَا الْقِصَاصُ، وَإنْ عَفَوْا عَلَى مَالٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً، فَعَلَيهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا، وَتَعْتِقُ فِي الْمَوْضِعَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفارَقَ المُكاتَبَةَ، فإنَّه لا يَمْلِكُ ذلك منها. والقَوْلُ الثالثُ فاسِدٌ؛ لذلك، ولأنَّه يُفْضِي إلى مَنْعِ النِّكاحِ لامْرَأةٍ بالِغَةٍ مُحْتاجَةٍ إليه. وقوْلُهم: يُزَوِّجُها الحاكِمُ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الحاكِمَ لا يزوِّجُ إلَّا عندَ عَدَم الوَلِيِّ أو غَيبَتِه أو عَضْلِه، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إذا زَوَّجَها فالمَهْرُ له؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ كَسْبِها، وكَسْبُها له. 3050 - مسألة: (وإن قَتَلَتْ سيدَها عَمْدًا فعلَيها القِصاصُ، وإن عَفَوْا على مالٍ، أو كانتِ الجِنايَةُ خَطَأً، فعليها قِيمَةُ نَفْسِها، وتَعْتِقُ في المَوْضِعَين) إذا قَتَلَتْ أُمُّ الوَلَدِ سيدَها عَمْدًا، فعليها القِصاصُ لوَرَثَةِ سيدِها، إن لم يَكُنْ له منها وَلَا، كما لو لم تكُنْ أُمَّ وَلَدٍ. وإن كان له منها وَلَدٌ، وهو الوارِثُ وَحْدَه، لم يَجِبْ عليها القِصاصُ؛ لأنَّه لو وَجَبَ لوَجَبَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لوَلَدِها، ولا يَجِبُ للوَلَدِ على أمِّه قِصاصٌ، وقد تَوَقَّفَ أحمدُ عن هذه المسألَةِ في رِوايَةِ مُهَنَّا، وقال: دَعْنا مِن هذه المسائِلِ. وقياسُ مَذهَبِه ما ذَكَرْناه. وإن كان مع ولَدِه منها أوْلادٌ له مِن غيرِها، لم يَجِبِ القِصاصُ أيضًا؛ لأنَّ حَقَّ وَلَدِها مِن القِصاصِ يَسْقُطُ، فيَسْقُطُ كلُّه. ونَقَلَ مُهَنَّا عن أحمدَ، أنّه يَقْتُلُها أولادُه مِن غيرِها. وهذه الرِّوايَةُ تُخالِفُ أصُولَ مَذْهَبِه. والصّحِيح أنَّه لا قِصاصَ عليها. وإذا لم يَجِبِ القِصاصُ، فعليها قِيمَةُ نَفْسِها. وهذا قولُ أبي يوسفَ. وقال الشافعيُّ: عليها الدِّيَةُ؛ لأنَّها تَصِيرُ حُرَّةً، ولذلك لَزِمَها مُوجَبُ جِنايَتِها، والواجِبُ على الحُرِّ بقَتْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُرِّ دِيَتُه. ولَنا، أنَّها جِنايَةٌ مِن أُمِّ وَلَدٍ، فلم يَجِبْ بها أكثرُ مِن قيمتِها، كما لو جنَتْ (¬1) على أجْنَبِيٍّ، ولأنَّ اعْتِبارَ الجِنايَةِ في حَقِّ الجانِي بحالِ الجنايَةِ، بدليلِ ما لو جَنَى عَبْدٌ فأعْتَقَه سيدُه، وهي في حالِ الجِنايَةِ أمَة، فإنَّها إنَّما عَتَقَتْ بالمَوْتِ الحاصِلِ بالجِنايَةِ، فيكونُ عليها فِداءُ نَفْسِها بقِيمَتِها، كما يفْدِيها سيدُها إذا قَتَلَتْ غَيرَه (¬2)، ولأَنَّها ناقِصَةٌ بالرِّقِّ، أشْبَهَتِ القِنَّ، وتُفارِقُ الحُرَّ؛ فإَّنه جَنَى وهو كاملٌ، وإنَّما تَعَلَّقَ مُوجَبُ الجنايَةِ بها؛ لأنَّها فوَّتَتْ رِقَّها بقَتْلِها سيدَها، فأشْبَهَ ما لو فَوَّتَ المُكاتَبُ الجانِي رِقَّه بأدائِه. ¬

(¬1) في م: «وجب». (¬2) في م: «غيرها».

3051 - مسألة: (ولا حد على قاذفها. وعنه، عليه الحد)

وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا. وَعَنْهُ، عَلَيهِ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3051 - مسألة: (ولا حَدَّ على قَاذِفِها. وعنه، عليه الحَدُّ) والأوَّلُ قَوْلُ أكثرِ أهلِ العلمِ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ عليه الحَدَّ؛ لأنَّ ذلك يُرْوَى عن ابنِ عمرَ (¬1). ولأنَّ قَذْفَها قَذْفٌ لوَلَدِها الحُرِّ، وفيها مَعْنَى مَنَعَ بَيعَها، أشْبَهَتِ الحُرَّةَ. والأوَّلُ أصَحُّ، لأنَّها أمَةٌ، حكمُها حكمُ الإِماءِ في أكثرِ أحكامِها، ففي الحَد أوْلَى، [لأنَّ الحُدودَ تُدْرَأُ] (¬2) بالشُّبُهاتِ، ويُحْتاطُ لإِسْقَاطِها، و (¬3) لأنَّها أمَةٌ تَعْتِقُ بالموتِ، أشْبَهَتِ المُدَبَّرَةَ، وتُفارِقُ الحُرَّةَ، فإنَّها كامِلةٌ. فصل: ولا يَجِبُ القِصاصُ على الحُرَّةِ بقَتْلِها، لعَدَمِ المكافأةِ. فإن كان القاتِلُ لها (¬4) رَقِيقًا، وجَبَ القِصاصُ عليه (3)، لأنَّها أكْمَلُ منه. وإن جَنَتْ على عبدٍ أو أمَةٍ جنايَةً فيها القِصاصُ، لَزِمَها القِصاصُ، لأنَّها أمَةٌ، أحْكامُها أحْكامُ الإماءِ، واسْيحْقاقُها العِتْقَ لا يَمْنَعُ القِصاصَ، كالمُدَبَّرَةِ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 439. وابن أبي شيبة، في: المصنف 9/ 507. (¬2) في الأصل: «لأنه يدرأ». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: إِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الْكَافِرِ، أوْ مُدَبَّرَتُهُ، مُنِعَ مِنْ غِشْيانِها، وَحِيلَ بَينَهُ وَبَينَهَا، وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ حَلَّتْ لَهُ، وَإنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ عَتَقَتْ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا تُسْتَسْعَى فِي حَيَاتِهِ، وَتعْتِقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وإذا أسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الكافِرِ، أو مُدَبرَتُه، مُنِعَ مِن غِشْيانِها، وحِيلَ بَينَه وبَينَها، وأُجْبِرَ على نَفَقَتِها إن لم يَكُنْ لها كَسْبٌ. [وإن أسْلَمَ، حَلَّتْ له] (¬1). وإن مات قبلَ ذلك عَتَقَتْ. وعنه، أنَّها تُسْتَسْعَى في حياتِه، وتَعْتِقُ) يَصِحُّ اسْتِيلادُ الكافِرِ لأمَتِه، كما يَصِحُّ منه عِتْقُها. وإذا اسْتَوْلَدَ أمَتَه ثم أسْلَمَتْ، لم تَعْتِقْ في الحالِ. وبه قال الشافيُّ. وقال مالكٌ: تَعْتِقُ؛ إذْ لا سَبِيلَ إلى بَيعِها، ولا إلى ¬

(¬1) سقط من: م. وفي الأصل: «أسلمت». وانظر المغني 14/ 600، والمبدع 6/ 376.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إقْرارِ مِلْكِه عليها؛ لِما فيه من إثْباتِ مِلْكِ كافِرٍ على مُسْلِمَةٍ، فلم يَجُزْ، كالأمَةِ القِنِّ. ونَقَلَ مُهَنَّا عن أحمدَ مثلَ ذلك. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّها تُسْتَسْعَى، فإن أدَّتْ عَتَقَتْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ فيه جَمْعًا بينَ الحَقَّين، حَقِّها في أن لا يَبْقَى مِلْكُ الكافِرِ عليها (¬1)، وحَقِّه في حُصولِ عِوَضِ مِلْكِه، فأشْبَهَ بَيعَها إذا لم تكُنْ أُمَّ ولدٍ. ولَنا، أنَّه إسلامٌ طَرَأ على مِلْكٍ، فلم يُوجِبْ عِتْقًا ولا سِعايةً، كالعيدِ القِنِّ. وما ذَكَرُوه مُجَرَّدُ (¬2) حِكْمَةٍ لم يُعْرَفْ مِن الشارِعِ اعْتبارُها، ويُقابِلُها ضَرَرٌ، فإنَّ في إعْتاقِها مجَّانًا إضْرارًا بالمالِكِ، بإزالةِ مِلْكِه بغيرِ عِوَضٍ، وفي الاسْتسْعاءِ إلْزامُها (¬3) الكَسْبَ بغيرِ رِضاها، وتَضِييعٌ لحقِّ سيدِها، لأنَّ فيه إحالةً على ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «إلزاما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِعايةٍ لا يُدْرَى هلِ يَحْصُلُ منها شيءٌ أو لا، وإن حَصَل، فالظاهِرُ أنَّه يكونُ يَسِيرًا في أوْقاتٍ مُتَفرِّقَةٍ، وُجودُه قريبٌ مِن عَدَمِه. والأوْلَى أن يَبْقَى المِلْكُ على ما كان عليه، ويُمْنَعَ مِن وَطْئِها والتَّلَذُّذِ بها، كى لا يَفْعَلَ ذلك وهو مُشْرِكٌ، ويُحالُ بينَه وبينَها، ويُمْنَعُ الخَلْوَةَ بها؛ لئَلَّا يُفْضِيَ إلى الوَطْءِ المُحَرَّمِ. ويُجْبَرُ على نَفَقَتِها على التَّمامِ؛ لأنَّها مَمْلوكَتُه، ومَنْعُه مِن وَطْئِها بغيرِ مَعْصِيَةٍ منها، فأشْبَهَتِ الحائِضَ والمريضَةَ، وتُسَلَّمُ إلى امْرَأةٍ ثِقَةٍ، تكونُ عندَها، لتَحْفَظَها وتَقُومَ بأمْرِها. وإنِ احْتاجَتْ إلى أجْرٍ أو أجْرِ مَسْكَنٍ فعلى سيدِها. وذَكَرَ القاضي، أنَّ نَفَقَتَها في كَسْبِها، والفاضِلَ منه (¬1) لسيدِها. فإن عَجَزَ كَسْبُها عن نَفَقَتِها، فهل يَلْزَمُ سيدَها تمامُ نَفَقَتِها؟ على رِوايَتَين. ونحوُ هذا مذهبُ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّ نَفَقَتُها على سيدِها، وكَسْبَها له، يَصْنَعُ به ما شاء، وعليه نَفَقَتُها على التَّمامِ، سَواءٌ كان لها كَسْبٌ أو لم يكُنْ؛ لأنَّها مَمْلُوكَتُه، ولم يَجْرِ بَينَهما عَقْدٌ يُسْقِطُ نَفَقَتَها، ولا تمْلِكُ به كَسْبَها، فهي كأمَتِه القِنِّ، أو ما قبلَ إسْلامِها، ولأنَّ المِلْكَ سَبَبٌ لهذَينِ الحُكْمَين، والحادثُ ¬

(¬1) في الأصل: «فيه». (¬2) في: المغني 14/ 601.

3052 - مسألة: (وإذا وطئ أحد الشريكين الجارية وأولدها،

وإذَا وَطِئَ أَحَدُ الشَّرِيكَينِ الْجَارِيَةَ، فَأوْلَدَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما (¬1) لا يصْلُحُ مانِعًا؛ لأنَّ الاسْتِيلادَ لا يَمْنَعُ منها، بدليلِ ما قبلَ إسْلامِها (¬2)، والإِسْلامُ لا يَمْنَعُ، بدليلِ ما لو وُجِدَ قبلَ ولادَتِها، واجتماعُهما لا يَمْنَعُ؛ لأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المنْصُوصِ عليه؛ لأنَّه (¬3) إذا لم تَلْزَمْه نَفَقَتُها، ولم يكُنْ لها كَسْبٌ، أفْضَى إلى هَلاكِها وضَياعِها، ولأنَّه يَمْلِكُ فاضِلَ كَسْبِها، فلَزِمَه فَضْلُ نَفَقَتِها، كسائِرِ مماليكِه. 3052 - مسألة: (وإذا وَطِئَ أحَدُ الشَّرِيكَيْن الجارِيَةَ وأوْلَدَها، ¬

(¬1) في الأصل: «منها». (¬2) في الأصل: «إسلامه». (¬3) في الأصل: «ولا».

لَهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَعِلَيهِ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، كَانَ فِي ذِمَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صارت أُمَّ وَلَدٍ له، ووَلَدُه حُرٌّ، وعليه قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِه، فإن كان مُعْسِرًا، كان في ذِمَّتِه) وَطْءُ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ مُحَرَّمٌ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه بينَ أهلِ العلمِ. ولا حَدَّ فيه، في قول أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال أبو ثَوْرٍ: يَجِبُ عليه الحَدُّ؛ لأنَّه وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، فأَشْبَهَ وَطْءَ الأمَةِ الأجْنَبِيَّةِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ صادَفَ مِلْكَه، فلم يَجِبْ به (¬1) الحَدُّ، كوَطْءِ زَوْجَتِه الحائِضِ، ويُفارِقُ ما لا مِلْكَ له فيها (¬2)، فإنَّه لا شُبْهَةَ له فيها، ولهذا لو سَرَقَ عينًا له فيها شِرْكٌ لم يُقْطَعْ، ولو لم يكنْ له فيها مِلْكٌ قُطِعَ. ويَجِبُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه التَّعْزِيرُ بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لما ذَكَرْنا في حُجَّةِ أبي ثَوْرٍ. فإن وَطِئَها ولم تَحْمِلْ منه، فهي باقِيَة على مِلْكِهما، وعليه نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِها؛ لأنَّه وَطْءٌ سَقَطَ فيه الحَدُّ للشُّبْهَةِ، فأوْجَبَ مَهْرَ المِثْلِ، كما لو وَطِئَها يَظُنُّها امْرَأتَه. وسواءٌ طاوعَتْه أو أكْرَهَها؛ لأنَّ وَطْءَ جاريةِ الغيرِ يُوجِبُ المهرَ وإن طاوَعتْ، لأنَّ المهرَ لسيدِها، لا يَسْقُطُ بمطاوَعَتِها، كما لو أذِنَتْ في قَطْعِ بعضِ أعْضائِها. والوَاجِبُ عليه مِن المَهْرِ بقَدْرِ مِلْكِ الشَّرِيكِ فيها. فأمَّا إن أحْبَلَها، وَوَضَعَتْ ما يَتَبَيَّنُ فيه بعضُ خَلْقِ الإِنْسانِ، فإنَّها تصيرُ بذلك أُمَّ ولَدٍ للواطِئِ، كما لو كانَتْ خَالِصَةً له، وتَخْرُجُ بذلِك عن مِلْكِ الشَّرِيكِ، كما (¬1) تخْرُجُ بالإعْتاقِ، مُوسِرًا كان الواطِئُ أو مُعْسِرًا؛ لأنَّ الإيلادَ أقْوَى مِن الإِعْتاقِ. وهذا قولُ الخِرَقِيِّ. ويَلْزَمُه نِصْفُ قِيمَتِها؛ لأنَّه أخْرَجَ نِصْفَها مِن مِلْكِ الشَّرِيكِ، فلَزِمَتْه قِيمَتُه، كما لو أخْرَجَه بالإِعْتاقِ أو الإِتْلافِ، فإن كان مُوسِرًا أدَّاه، وإن كان مُعْسِرًا فهو في ذمَّتِه، كما لو أتْلَفَها. والوَلَدُ حُرٌّ، يَلْحَقُ نَسَبُه بوالِدِه؛ لأنَّه مِن وَطْءٍ في مَحَلٍّ له فيه ¬

(¬1) في الأصل: «مما».

فَإِنْ وَطِئَهَا الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَولَدَهَا، فَعَلَيهِ مَهْرُهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ، وَإنْ جَهِلَ إيَلادَ شَرِيكِهِ، أَوْ أَنَّهَا صَارَت أُمَّ وَلدٍ لَهُ، فَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَعَلَيهِ فِدَاؤُهُ يَوْمَ الْولَادَةِ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكٌ، فأشْبَهَ ما لو وَطِئَ زَوْجَتَه. فعلى هذا القولِ (إن وَطِئَها الثاني بعدَ ذلك، فأوْلَدَها، فعليه مَهْرُها) لأنَّه وَطْءٌ صادَفَ مِلْكَ [الغيرِ، فأشْبَهَ وَطْءَ] (¬1) الأمَةِ الأجْنَبِيَّةِ (فإن كان عالِمًا، فولَدُه رَقِيقٌ) لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، فهو كوَطْءِ مَمْلُوكَةِ غيرِه (وإن جَهِلَ إيلادَ شَرِيكِه، وأنَّها صارَتْ أُمَّ وَلدٍ له، فولَدُه حُرٌّ) لأنَّه مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ (وعليه فِدَاؤُه) بقِيمَتِه (يومَ الولادَةِ) لأنَّه الوقْتُ الذي يُمْكِنُ فيه التَّقْويمُ (ذَكَرَه الخِرَقِيُّ) ومَال القاضي: الصَّحِيحُ عندِي أنَّ الأوَّلَ لا يَسْرِي اسْتِيلادُه ¬

(¬1) في الأصل: «فهو كوطء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان مُعْسِرًا، ولا يُقَوَّمُ عليه نَصِيبُ شَرِيكِه، بل يَصِيرُ نِصْفُها أُمَّ وَلَدٍ ونِصْفُها قِنٌّ باقٍ على مِلْكِ الشَّرِيكِ؛ لأنَّ الإِحْبال كالعِتْقِ، ويجري مَجْراه في التَّقْويمِ والسِّرايَةِ، فاعْتُبِرَ في سِرايَتِه اليَسارُ، كالعِتْقِ. وهو قولُ أبي الخَطَّابِ، ومذهبُ الشافعيِّ. فعلى هذا، إذا وَلَدَتْ، يَحْتَمِلُ أن يكونَ الولَدُ كلُّه حُرًّا، واحْتَمَلَ أنْ يكونَ نِصْفُه حُرًّا ونِصْفُه رَقِيقًا، كأُمِّه، ووَلَدِ المُعْتَقِ بعْضُها. وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّه لم يسْتَحِلَّ انْعقادَ الوَلَدِ (¬1) مِن حُرٍّ وقِنٍّ. ووَجْهُ القَوْلِ الأوَّلِ، أنَّ الاسْتِيلادَ أقْوَى مِن العِتْقِ، ولهذا ينْفُذُ مِن رَأْسِ المالِ مِن المريضِ ومِن المَجْنُونِ، بخِلافِ الإِعْتاقِ. فصل: وهل يَلْزَمُه نِصْفُ قِيمَةِ الولَدِ؟ على وَجْهَين، ذَكَرَهُما أبو الخَطَّابِ؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأن الولَدَ خُلِقَ حُرًّا، فلم يَلْزَمْه قِيمَةُ وَلَدِه الحُرِّ. والثاني، يَلْزَمُه نِصْفُ قِيمَتِه لشَرِيكِه؛ لأنَّ الوَطْءَ صادَفَ مِلْكَ غيرِه، وإنَّما انْتَقَلَتْ بالوَطْءِ المُوجب للمَهْرِ، ¬

(¬1) في م: «الأول».

3053 - مسألة: (وعند القاضي، وأبي الخطاب، إن كان الأول معسرا لم يسر استيلاده، وتصير أم ولد لهما، يعتق نصفها بموت أحدهما)

وَعِنْدَ الْقَاضِي، وَأَبِي الْخَطَّابِ، إِنْ كَانَ الْأوَّلُ مُعْسِرًا لَمْ يَسْرِ اسْتِيلَادُهُ، وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا، يَعْتِقُ نِصْفُهَا بِمَوْتِ أحَدِهِمَا. وَإنْ أَعْتَق أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَهَلْ يُقَوَّمُ عَلَيهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ الوَطْءُ سَبَبَ المِلْكِ، ولا يَثْبُتُ المِلْكُ (¬1) إلَّا بعد تَمامِ سَبَبِه، فيَلْزَمُ حينئذٍ تَقَدُّمُ الوَطْءِ على مِلْكِه، فيكونُ في مِلْكِ غيرِه، وفِعْلُه ذلك مَنَع (¬2) انْخِلاقَ الوَلَدِ على مِلْكِ الشَّرِيكِ، فيَجِبُ عليه نصْفُ قِيمَتِه، كولَدِ المغْرُورِ. وقال القاضي: إن وَضَعَتِ الوَلَدَ بعدَ التَّقْويمِ، فلا شيءَ على الوَاطئ؛ لأنَّها وضَعَتْه في مِلْكِه، ووَقْتُ الوُجُوبِ حالةُ الوَضْعِ، ولا حَقَّ للشَّرِيكِ فيها ولا في وَلَدِها. وإن وَضَعَتْه قبلَ التَّقْويم، فهل تَلْزَمُه قِيمَةُ نِصْفِه؟ على رِوايَتَين، ذكَرَهُما أبو بكرٍ، واخْتارَ أنَّه لا يَلْزَمُه. 3053 - مسألة: (وعندَ القاضي، وأبي الخَطَّابِ، إن كان الأوَّلُ مُعْسِرًا لم يَسْرِ اسْتِيلادُه، وتَصِيرُ أُمَّ ولَدٍ لهما، يَعْتِقُ نِصْفُها بمَوْتِ أحَدِهما) لأنَّها أَمُّ وَلَدٍ له، وقد ذَكَرْنا ذلك (وإنْ أعْتَقَ أحَدُهما نَصِيبَه بعدَ ذلك وهو مُوسِرٌ، فهل يُقَوَّمُ عليه نَصِيبُ شَرِيكِه؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، ¬

(¬1) في م: «الحكم». (¬2) في م: «صح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَسْرِي عِتْقُه؛ لأنَّه (¬1) يُبْطِلُ حَقَّ صاحِبِه مِن الوَلاءِ الذي قد انْعَقَدَ سَبَبُه بالاسْتِيلادِ. والثاني، يُقَوَّمُ عليه؛ لحديثِ ابنِ عمرَ (¬2). وهو أوْلَى وأصَحُّ، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: ولا فَرْقَ بينَ أن يكونَ له (¬3) في الأمَةِ مِلْكٌ قَلِيلٌ أو كثيرٌ، فالحُكْمُ لي ذلك واحِدٌ؛ لأنَّ مالكَ اليَسِيرِ يَمْلِكُ بَعْضَها، أشْبَهَ الكثيرَ. والله سبحانه وتعالى أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ولا». (¬2) تقدم تخريجه في 15/ 259. (¬3) سقط من: م.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب النكاح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتابُ النِّكاحِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ النِّكاحِ النِّكاحُ في الشَّرْعِ عَقْدُ التَّزْويجِ، فعندَ إطْلاقِ لَفْظِه يَنْصَرفُ إليه، ما لم يَصرِفْه عنه دَلِيلٌ. وقال القاضي: الأشْبَهُ بأصْلِنَا أنَّه حَقِيقَةٌ في العَقْدِ والوَطْءِ جميعًا؛ لقَولِنا (¬1) بتَحْرِيمِ مَوْطُوءَةِ الأبِ مِن غيرِ تَزويج. استِدْلالًا بقولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬2). وقيلَ: بل هو حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ، مَجازٌ في العَقْدِ، تقولُ العربُ: أنْكَحْنا الْفِرَا، فسنَرَى. أي أضْرَبْنا فَحْلَ حُمُرِ الوَحْشِ ¬

(¬1) في الأصل: «كقولنا». (¬2) سورة النساء 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّه (¬1)، فسَنَرَى ما يَتَوَلَّدُ منهما (¬2). يُضْرَبُ مَثَلًا للأمْرِ يَجْتَمِعون عليه، ثم يَتَفَرَّقونَ عنه (¬3). قال الشاعرُ: ومِن أَيِّمٍ قد أنْكَحَتْنا رِمَاحُنا (¬4) … وأُخْرَى على خالٍ وعَمٍّ تَلَهَّفُ قال شيخُنا (¬5): والصَّحيحُ ما قُلنا؛ لأنَّ الأشْهَرَ استِعمالُ لَفْظَةِ النِّكاحِ بإزاءِ العَقْدِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، لسانِ أهلِ العُرْفِ. وقد قِيلَ: ليس في الكتابِ لَفْظُ نِكاحٍ بمَعْنَى الوَطْءِ إلَّا قولُه: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} (¬6). ولأنَّه يَصِحُّ نفْيُه عن الوَطْءِ؛ لأنَّه يُقالُ: هذا سِفَاحٌ وليس ¬

(¬1) في الأصل: «أمته». (¬2) في الأصل: «منها». (¬3) مجمع الأمثال 3/ 376. (¬4) في م: «رماحها». (¬5) في: المغني 9/ 339. (¬6) سورة البقرة 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنِكاحٍ. ويُرْوَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» (¬1). ويُقال عن السُّرِّيَّةِ: ليست بزَوْجَةٍ ولا مَنْكُوحَةٍ. ولأنَّ النِّكاحَ أحَدُ اللَّفْظَين اللَّذَين يَنْعَقِدُ بهما عَقْدُ النِّكاحِ، فكان حقيقَةً فيه، كاللَّفْظِ الآخَرِ. وما ذَكَرَه القاضي يُفْضِي إلى كَونِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا، وهو على خِلافِ الأصْلِ، وما ذَكَرَه الآخَرون يَدُلُّ على الاسْتِعْمالِ في الجُمْلَةِ، والاستعمالُ فيما قُلْنا أكثرُ وأشهَرُ، ثم لو قُدِّرَ كَوْنُه مَجازًا في العَقْدِ، لَكان اسْمًا عُرْفِيًّا يَجِبُ صَرْفُ اللفظِ إليه عندَ الإِطْلاقِ؛ لشُهْرَتِه، كسائِرِ الأسماءِ العُرْفِيَّةِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 190. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد 8/ 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأصلُ في مَشْرُوعِيَّتِه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُه تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1). وقولُه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2). وأمَّا السُّنَّةُ فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأحْصَنُ للفَرْجِ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ¬

(¬1) سورة النساء 3. (¬2) سورة النور 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فعليه بالصَّوْمِ، فإنَّه] (¬1) لَهُ وجَاءٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال عليه السَّلامُ: «إنِّي أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي» (¬3). وقال ¬

(¬1) في الأصل: «فليصم فإن الصوم». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الصوم لمن خاف عل نفسه العزوبة، من كتاب الصوم، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . . .، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 3/ 34، 7/ 34. ومسلم، في: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. . . .، من كتاب النكاح صحيح مسلم 2/ 1018، 1019. كما أخرجه أبو داود، في: باب التحريض عل النكاح، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 472. والنسائي، في: باب ذكر الاختلاف عل محمد بن أبي بعقوب. . . .، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 141. وابن ماجه، في: باب ما جاء في فضل النكاح، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 592. والدارمي، في: كتاب من كان عنده طول فليتزوج، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 132. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 378، 424، 425، 447، 432. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الترغيب في النكاح، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 2. ومسلم، في: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1020. والنسائي، في: باب النهي عن التبتل، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 50. والدارمي، في: باب النهي عن التبتل، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 133. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 158، 3/ 241، 259، 385، 5/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سعدٌ: رَدَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عثمانَ بنِ مَظْعونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أَذِنَ له لاخْتَصَينا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والتَّبَتُّلُ تَرْكُ النِّكاحِ. وأجْمَعَ المسلمونَ على أنَّ النِّكاحَ مَشْرُوعٌ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما يكره من التبتل والخصاء، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 5. ومسلم، في: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1020. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في النهي عن التبتل، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 4/ 305. والنسائي، في: باب النهي عن التبتل، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 48. وابن ماجه، في: باب النهي عن التبتل، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 593. والدارمي، في: باب النهي عن التبتل، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 133. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 176، 183.

3054 - مسألة: و (النكاح سنة)

النِّكَاحُ سُنَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3054 - مسألة: وَ (النِّكَاحُ سُنَّةٌ) لِما ذَكَرْنا مِن أدِلَّةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وأدْناها الاسْتِحْبَابُ.

3055 - مسألة: (والاشتغال به أفضل من التخلي لنوافل

وَالاشْتِغَالُ بِهِ أفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، إلا أنْ يَخَافَ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ 3055 - مسألة: (وَالاشْتِغَالُ به أفْضَلُ مِن التَّخَلِّي لنَوافِل

نَفْسِهِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ بِتَرْكِهِ، فَيَجِبُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العِبادَةِ، إلا أن يَخافَ على نَفْسِه مُواقَعَةَ المَحْظُورِ بِتَرْكِهِ، فَيجِبُ) الناسُ في النِّكاحِ على ثَلاثةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، مَن يَخافُ على نَفْسِه [الوُقُوعَ في] (¬1) المَحْظُورِ إن تَرَك النِّكاحَ، فهذا يَجِبُ عليه في قولِ عامَّةِ الفُقهاءِ؛ لأنَّه يَلْزَمُه إعْفافُ نفسِه، وصَرْفُها عن الحَرامِ، وطَرِيقُه النكاحُ. الثاني، مَن يُسْتَحَبُّ له، وهو مَن له شَهْوَةٌ يَأْمَنُ معها الوُقُوعَ في مَحْظُورٍ، فهذا الاشْتِغالُ له (¬2) به أفضَلُ مِن التَّخَلِّي لنَوافِلِ العِبادةِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي، وظاهِرُ أقوالِ الصَّحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، وفِعْلُهم. قال ابنُ مسعودٍ: لو لم يَبْقَ مِن أَجَلِي إلَّا عشَرةُ أيامٍ، وأعْلَمُ أَنِّي أموتُ في آخِرِها يَوْمًا، لِي فيهِنَّ طَوْلُ النِّكاحِ، لتَزَوَّجْتُ مَخافَةَ الفِتْنَةِ (¬3). وقال ابنُ عباسٍ لسعيدِ بنِ جُبَيرٍ: تَزَوَّجْ، فإنَّ خَيرَ هذه الأمَّةِ أكثَرُها نِساءً (¬4). وقال إبراهيمُ بنُ مَيسَرَةَ: قال لي طاوسٌ: لَتَنْكِحَنَّ، أو لأقُولَنَّ لك ما قال عمرُ لأبي الزَّوائِدِ: ما يَمْنَعُكَ عن النِّكاحِ إلَّا عَجْزٌ أو فُجُورٌ (¬5). قال أحمدُ في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ: ليبستِ العُزْبَةُ مِن أمْرِ الإسلامِ في شيءٍ، ومَن دَعاك (¬6) إلى غيرِ التَّزْويجَ، فقد دَعاك (6) إلى غيرِ ¬

(¬1) في م: «موقعة». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه سعيد، في سننه 1/ 139. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب كثرة النساء، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 4. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 243، 370. (¬5) أخرجه سعيد، في الموضع السابق. (¬6) في م: «دعا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِسلامِ، ولو تَزَوَّجَ بِشْرٌ (¬1) كان قد تَمَّ أمْرُه. وقال الشافعيُّ (¬2): التَّخَلِّى لِعبادَةِ اللهِ أفْضَلُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى مَدَح يَحيى، عليه السّلامُ، بقولِه تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (¬3). والحَصُورُ الذي لا يَأْتِي النِّساءَ، فلو كان النِّكاحُ أفْضَلَ لَما مَدَح بتَرْكِه. وقال اللهُ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (¬4). وهذا في مَعْرِضِ الذَّم. ولأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فكان الاشْتِغالُ بالعِبادَةِ أفْضَلَ منه، كالبَيعِ. ولَنا، ما تَقَدَّمَ مِن أمْرِ اللهِ ورسولِه به، وحَثِّهِما عليه، وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي». وقولُ سعدٍ: لقد رَدَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عثمانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أَذِنَ (¬5) له لَاخْتَصَينَا. مُتَفَقٌ عليهما. وعن أنسٍ قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بالباءَةَ، ويَنهَى عن التَّبتُّل نَهْيًا شَديدًا، ويقولُ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَواه سعيدٌ (¬6). وهذا حَثٌّ على النِّكاحِ شَدِيدٌ، ووَعِيدٌ على تَرْكِه، يُقَربُه إلى الوُجوبِ، ¬

(¬1) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي، أبو نصر. الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني، المشهور بالحافي. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 469 - 477. (¬2) كذا ذكر هنا، ونص الإمام الشافعي في الأم 5/ 128، 129 إنما هو في القسم الثالث الذي لم تخلق فيه شهوة، أو ذهبت بعارض. (¬3) سورة آل عمران 39. (¬4) سورة آل عمران 14. (¬5) في م: «أحله». (¬6) في: باب الترغيب في النكاح. سنن سعيد 1/ 139.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 158، 245.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ و (¬1) التَّخَلِّيَ منه إلى التَّحريمِ، ولو كان التَّخَلِّي أفْضَلَ [لانْعَكَسَ الأمْرُ] (¬2)، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ، وبالغَ في العَدَدِ، وفَعَل ذلك أصحابُه، ولا يَشْتَغِلُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه إلَّا بالأَفْضَلِ، ولا يَجْتَمِعُ الصحابةُ على تَرْكِ الأفْضَلِ والاشْتِغالِ بالأدْنَى. ومِن العَجَبِ أنَّ مَن يُفَضِّلُ التَّخَلِّيَ لم يَفْعَلْه، فكيف أجْمَعوا على النِّكاحِ في فِعْلِه، وخالفوا في فَضْلِه! أفما (¬3) كان فيهم مَنْ يَتْبَعُ الأفْضَلَ عندَه ويَعْمَلُ بالأَوْلَى؟ ولأنَّ مَصالِحَ النِّكاحِ أكثَرُ؛ فإنَّه يَشْتَمِلُ على تَحْصِينِ الدِّينِ وإحْرازِه، وتَحْصِينِ المرأةِ وحِفْظِها والقِيامِ بها، وإيجادِ النَّسْلِ وتَكْثِيرِ الأمَّةِ، وتَحْقِيقِ مُباهاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وغيرِ ذلك مِن المَصالِحِ الرَّاجِحِ أحَدُها على نَفْلِ العِبادَةِ، فمَجْمُوعُها أَوْلَى. وقد رَوَينا في أخْبارِ المُتَقدِّمِينَ أنَّ قَوْمًا ذَكَرُوا لنبيٍّ لهم فَضْلَ عابدٍ لهم، فقال: أمَّا إنَّه لتارِكٌ لشيءٍ مِن السُّنَّةِ. فبَلَغ العابِدَ، فأتى النبيَّ (¬4) فسَألَه عن ذلك، فقال: إنَّك تَركْتَ التَّزْويجَ. فقال: يا نَبيَّ اللهِ، وما هو إلَّا هذا! فلمَّا رَأَى النبيُّ احْتِقارَه لذلك، قال: أرَأَيتَ لو تَرَك الناسُ كُلهم التَّزْويجَ، مَن كان يَقُومُ بالجِهادِ، ويَنْفِي العَدُوَّ، و (¬5) يقومُ بفرائِضِ الله وحُدُودِه؟. وأمَّا ما ذُكِرَ عن يَحيي، فهو شَرْعُه، وشَرْعُنا ¬

(¬1) في الأصل: «ولا». (¬2) في م: «لانعكست الأحكام». (¬3) في م: «فما». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِه، فهو أَوْلَى. والبَيعُ لا يَشْتَمِلُ على مَصالِحِ النِّكاحِ، ولا يُقارِبُها. القسمُ الثالثُ، مَن لا شَهْوَةَ له؛ إمَّا لأنَّه لا شَهْوَةَ له كالعِنِّينِ، أو ذَهَبَتْ شَهْوَتُه لمَرَضٍ أو كِبَرٍ ونحوه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، يُسْتَحَبُّ له النِّكاحُ؛ لما ذَكَرْنا. والثاني، التَّخَلِّى له أفْضَلُ؛ فإنَّه لا يُحَصِّلُ مَصالِحَ النِّكاحِ، ويَمْنَعُ زَوْجَتَه مِن التَّحْصِينِ بغيرِه، ويُضِرُّ بها بحَبْسِها على (¬1) نَفسِه، ويُعَرِّضُ نَفْسَه لواجِباتٍ وحُقُوقٍ لَعَلَّه لا يَقومُ بها، ويَشْتَغِلُ عن العِلْمِ والعِبادَةِ بما لا فائِدَةَ فيه، والأخبارُ تُحْمَلُ على مَن له شَهْوَةٌ؛ لِما فيها مِن القَرائِنِ الدَّالَّةِ عليها. فصل: وظاهِرُ كَلامِ أحمدَ أنَّه لا فَرْقَ بينَ القادِرِ على الإِنْفاقِ والعاجِزِ عنه، فإنَّه قال: يَنْبَغِي للرجلِ أن يَتَزَوَّجَ، فإن كان عندَه ما يُنْفِقُ أنْفَقَ، وإن لم يَكُنْ عندَه صَبَرَ، ولو تَزَوَّجَ بِشْرٌ كانَ قد تَمَّ أمْرُه. واحْتَجَّ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[كانَ يُصْبِحُ وما عندَهم شيءٌ، ويُمْسِي وما عندَهم شيءٌ (¬2). ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) زَوَّجَ رجلًا لم يَقْدِرْ (¬4) على خاتَمِ حَديدٍ، ولا وَجَد إلَّا إزارَه، ولم يَكُنْ له رِداءٌ. أخْرَجَه البخاريُّ (¬5). قال أحمدُ في رجلٍ قَلِيلِ ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، من كتاب البيوع، وفي: باب في الرهن في الحضر. . . .، من كتاب الرهن. صحيح البخاري 3/ 74، 186. والترمذي، في: باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 219، 220. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في م: «إلا». (¬5) تقدم تخريجه في 14/ 380.

3056 - مسألة: (وعن أحمد، أن النكاح واجب على الإطلاق)

وَعَنْهُ، أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الإطْلَاقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَسبِ، يَضْعُفُ قَلْبُه عن العِيالِ: اللهُ يَرْزُقُهُم، التزويجُ أحْصَنُ له، رُبَّما أتَى عليه وَقْتٌ لا يُمْكِنُ قَلْبَه الصَّبْرُ. وهذا في حَقِّ مَن يُمْكِنُه التَّزْويجُ، فأمَّا مَن لا يُمْكِنُه التَّزْويجُ (¬1)، فقد قال اللهُ تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2). 3056 - مسألة: (وعن أحمدَ، أنَّ النِّكاحَ واجبٌ على الإِطْلَاقِ) واخْتارَه أبو بَكْرٍ عبدُ العزيزِ، وحَكاه عن أحمدَ. وحُكِي عن داودَ (¬3) أنَّه يَجِبُ في العُمُرِ مَرَّةً؛ للآيَةِ والخَبَرِ. والمَشْهُورُ في المَذْهَبِ أنَّه ليس ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سورة النور 33. (¬3) في م: «أحمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بواجِبٍ، إلَّا أن يَخافَ على نَفْسِه الوُقُوعَ في مَحْظُورٍ بتَرْكِه، فيَلْزَمُه إعْفافُ نَفْسِه. وهو قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى حينَ أمَرَ به عَلَّقَه على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِطابَةِ بقولِه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والواجِبُ لا يَقِفُ على الاستِطابَةِ. وقال: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. ولا يَجِبُ ذلك بالاتِّفاقِ، فدَلَّ على أنَّ المُرادَ بالأمْرِ النَّدْبُ، وكذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَبَرُ يُحْمَلُ على النَّدْبِ أو على (¬1) مَن يَخْشَى على نَفْسِه الوُقُوعَ في المَحْظُورِ بتَرْكِ النِّكاحِ. قال القاضي: وعلى هذا يُحْمَلُ كلامُ أحمدَ وأبي بكر في إيجابِ النِّكاحِ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) زيادة من: م.

3057 - مسألة: (ويستحب تخير ذات الدين، الولود، البكر، الحسيبة، الأجنبية)

وَيُسْتَحَبُّ تَخَيُّرُ ذَاتِ الدِّينِ، الْوَلُودِ، الْبِكْرِ، الْحَسِيبَةِ، الْأَجْنَبِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3057 - مسألة: (وَيُسْتَحَبُّ تَخَيُّرُ ذَاتِ الدِّينِ، الوَلُودِ، البِكْرِ، الحَسِيبَةِ، الأجْنَبِيَّةِ) لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِمَالِهَا، وَلحَسَبِهَا، وَلِجَمالِها، وَلدِليها، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ ترِبَت يَدَاكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والأوْلَى أن لا يَزِيدَ على امرأةٍ واحِدَةٍ. ذَكَرَه في «المُجَرَّدِ» (¬2)؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. [ولِقَولِه سُبحانه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}] (¬3). وَيَخْتارُ الوَلُودَ؛ لما رَوَى أَنَسٌ، قال: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ». رَواه سعيدٌ (¬4). وروَى مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، قال: جاء رجلٌ إلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 410. (¬2) في م: «المحرر». (¬3) زيادة من: م. والآية 129 من سورة النساء. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي أصَبْتُ امْرَأةً ذاتَ حَسَبٍ ومَنْصِبٍ، إلَّا أنَّها لَا تَلِدُ، أفَأَتزَوَّجُها؟ فنَهاه، ثم أتَاه الثَّانِيةَ، فنَهاه، ثم أَتاهُ الثالِثةَ، فقال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ» (¬1). رَواه النَّسائِيُّ (¬2). وعن عليِّ بنِ الحسينِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا بَنِي هَاشِم، عَلَيكُمْ بِنِسَاءِ الْأعَاجمِ، فَالْتَمِسُوا أوْلَادَهُنَّ، فَإنَّ فِي أرْحَامِهِنَّ الْبَرَكَةَ» (¬3). ويَخْتارُ (¬4) البَكرَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟». قال: قُلْتُ: نَعم. قال: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟». قال: قُلْتُ: بل ثَيِّبًا. قال: «فَهَلَّا بكْرًا تُلاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وعن عَطاءٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ¬

(¬1) بعده في الأصل: «الأمم». وليست عند النسائي. (¬2) في: باب كراهية تزوج العقيم، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 54.كما أخرجه أبو داود، في: باب النهي عن تزوج من لم يلد من النساء، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 473. (¬3) أخرجه أبو زكريا البخاري في فوائده، وذكر إسناده في اللآلئ المصنوعة 2/ 163. (¬4) في م: «قال ويختار». (¬5) تقدم تخريجه في 11/ 216. ويضاف إليه: وأخرجه البخاري، في: باب إذا وكل رجلا أن يعطى شيئًا. . . .، من كتاب الوكالة، وفي: باب الشفاعة في وضع الدين، من كتاب الاستقراض، وفي: باب استئذان الرجل الإمام. . . .، من كتاب الجهاد، وفي: باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. . . .}، من كتاب المغازي، وفي: باب الثيبات، وباب طلب الولد، وباب تستحد المغيبة وتمتشط، من كتاب النكاح، وباب عون المرأة زوجها في ولده، من كتاب النفقات، وفي: باب الدعاء للمتزوج، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 3/ 132، 157، 4/ 63، 5/ 123، 7/ 6، 50، 51، 85، 8/ 102. ومسلم، في: باب استحباب نكاح ذات الدين، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1708. كما أخرجه أبو داود، في: باب تزوج الأبكار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 472. والترمذي، في: باب ما جاء في تزوج الأبكار، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 11. وابن ماجه، في: باب تزوج الأبكار، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 598. والدارمي، في: باب في تزوج الأبكار، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 146. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 294، 302، 308، 314، 362، 374، 376.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «عَلَيكُمْ بِالأبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعذَبُ أَفوَاهًا، وأنْتَقُ (¬1) أرْحَامًا، وَأرْضَى بِالْيَسِيرِ». وفي رِوايَةٍ: «وَأفْتَحُ أرْحَامًا». رَواه الإمامُ أحمدُ (¬2). ويَخْتارُ الحَسِيبَةَ، ليَكونَ وَلَدُها نَجِيبًا، فإنَّه رُبَّما أشْبَهَ أهلَها ونَزَع إليهم. وكانَ يُقالُ: إذَا أرَدْتَ أن تَتَزوَّجَ امرَأَةً، فانْظُرْ إلى أَبِيها وأَخِيها. وعن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ (¬3)، وَانْكِحُوا الأكْفَاءَ، وأَنْكِحُوا إِلَيهِم» (¬4). ويَخْتارُ الأجْنَبِيَّةَ؛ فإنَّ وَلَدَها أنْجَبُ، ولهذا يُقالُ: اغْتَرِبوا (¬5) لا تَضْوُوا. يَعْنِي: انْكِحُوا الغَرائِبَ كي لا تَضْعُفَ أوْلادُكُم. وقِيلَ: الغَرائِبُ أنْجَبُ، وبَناتُ العَمِّ أصْبَرُ. ولأنَّه لا تُؤْمَنُ العَداوَةُ في النِّكَاحِ، وإفْضاؤُه إلى الطَّلاقِ، فإذا كان في قَرابَةٍ أفْضَى إلى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ المَأْمُورِ بصِلَتِها. ويَخْتارُ الجَمِيلَةَ؛ لأنَّه أسْكَنُ لنَفْسِه (3)، وأغَضُّ لبَصَرِه، وأكْمَلُ ¬

(¬1) في م: «أنقى». وأنتق أرحامًا: أكثر أولادًا. (¬2) لم نجده في المسند، وأخرجه ابن ماجه، في: باب تزوج الأبكار، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 598. والبيهقي، في: باب استحباب التزويج بالأبكار، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 81. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب الأكفاء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 633. وضعف إسناده في الزوائد. (¬5) في الأصل: «اعتزلوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لمَوَدَّتِه، ولذلك شُرِعَ النَّظَرُ قبلَ النِّكَاحِ، ورُوِيَ عن محمدِ بنِ أبي بكرِ [ابنِ محمدِ] (¬1) بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إِنَّمَا النِّسَاءُ لُعَبٌ، فَإِذَا اتَّخَذَ أحَدُكُمْ لُعْبَةً (¬2) فَلْيَسْتَحْسِنْهَا» (¬3). وعن أبي هُرَيرَةَ، قال: قيلَ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ النِّساءِ خَيرٌ؟ قال: «الَّتِي تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا في مَالِهِ بمَا يَكْرَهُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، والنَّسائِيُّ (¬4). وعن يَحيى بنِ جَعْدَةَ (¬5)، أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيرُ فَائِدَةٍ أفَادَهَا المَرْءُ المُسْلِمُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أمرَهَا، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيبَتِهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهَا». رَواه سعيدٌ (¬6). ويَخْتارُ ذاتَ العَقْلِ، ويَجْتَنِبُ الحَمْقاءَ؛ لأنَّ النِّكاحَ يُرادُ للعشْرَةِ، ولا تَصْلُحُ العِشْرَةُ مع الحَمْقاءِ، ولا يَطِيبُ العَيشُ معها، ورُبَّما تَعَدَّى ذلك (¬7) إلى وَلَدِها. وقد قِيلَ: اجْتَنِبُوا الحَمْقاءَ؛ فإنَّ وَلَدَها ضَيَاعٌ، وصُحْبَتَها بَلاءٌ. ¬

(¬1) سقط من النسختين، وانظر تهذيب الكمال 24/ 541. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده. بغية الباحث عن زوائد الحارث، للهيثمي ص 159. وذكره ابن حجر في المطالب العالية 2/ 31. وانظر السلسلة الضعيفة 1/ 675. (¬4) أخرجه النسائي، في: باب أي النساء خير، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 56. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 251، 432، 438. (¬5) في الأصل: «جعد». (¬6) في: باب الترغيب في النكاح. سنن سعيد بن منصور 1/ 141. (¬7) بعده في م: «معها».

3058 - مسألة: (ويجوز لمن أراد خطبة امرأة النظر إلى وجهها من غير خلوة بها. وعنه، له النظر إلى ما يظهر غالبا؛ كالرقبة، واليدين، والقدمين)

وَيَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرأَةٍ النَّظرُ إِلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيرِ خَلْوَةٍ بِهَا. وَعَنْهُ، لَهُ النَّظرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا؛ كَالرَّقَبَةِ، وَالْيَدَينِ، وَالْقَدَمَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3058 - مسألة: (وَيَجُوزُ لمَن أرادَ خِطْبَةَ امْرَأةٍ النَّظَرُ إلى وَجْهِها مِن غيرِ خَلْوَةٍ بها. وعنه، له النَّظَرُ إلى ما يَظْهَرُ غالِبًا؛ كالرَّقَبَةِ، واليَدَين، والقَدَمَين) قال شيخُنا (¬1): لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ في إباحَةِ النَّظَرِ إلى المَرأةِ لمَن أرادَ نِكاحَها خِلافًا؛ لِما روَى جابر قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا خَطَبَ أحَدُكُمُ المرأةَ، فَإنِ اسْتَطاعَ أن يَنْظُرَ إلى ما يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ». قال (¬2): فَخَطَبْتُ امرأةً، فكُنْتُ أتَخبَّأُ لها، حتى رَأَيتُ منها ما دَعانِي إلى نِكاحِها، فتَزَوَّجْتُها. رَواه أبو داودَ (¬3). وفيه أحاديثُ كثيرَةٌ سِوَى هذا. ولأنَّ النِّكاحَ عَقْدٌ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، فكانَ للعاقِدِ النَّظَرُ إلى المَعْقُودِ عليه، كالأمَةِ المُسْتامةِ. ولا بَأْسَ بالنَّظَرِ إليها بإذْنِها وغيرِ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 489. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 480. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 334، 360.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذْنِها؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بالنَّظَرِ وأطْلَقَ، وفي حَديثِ جابِرٍ: فكُنْتُ أتَخَبَّأُ لها. وفي حديثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، أنَّه اسْتَأْذَنَ أبَوَيها في النَّظَرِ إليها، فكَرِها، فأذِنَتْ له المرأةُ. رَواه سعيدٌ (¬1). ولا تَجُوزُ الخَلْوَةُ بها؛ لأنَّها مُحَرَّمَةٌ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ بغيرِ النَّظَرِ، فبَقِيَتْ على التَّحْرِيمِ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ مع الخَلْوَةِ مُواقَعَةُ (¬2) المَحْظُورِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيطَانُ» (¬3). ولا يَنْظُرُ إليها نَظَرَ تَلَذُّذٍ وشَهْوَةٍ، ولا لرِيبَةٍ. قال أحمدُ في رِوايَةِ صالحٍ: يَنْظُرُ إلى الوَجْهِ، ولا يكونُ على طَرِيقِ لَذَّةٍ. وله تَكْرارُ النَّظَرِ إليها وتَأَمُّلُ مَحاسِنِها؛ لأنَّ ¬

(¬1) في: باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها. سنن سعيد بن منصور 1/ 146. (¬2) في الأصل: «موافقة». (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، من أبواب الرضاع، وفي: باب ما جاء في لزوم الجماعة، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 5/ 121، 9/ 9. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 18، 26، 3/ 339، 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَقْصُودَ إنَّما يَحْصُلُ بذلك. فصل: ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في إباحَةِ النَّظَرِ إلى وَجْهِها؛ لأنَّه ليس بعَوْرَةٍ، وهو مَجْمَعُ المَحاسِنِ، ومَوْضِعُ النَّظَرِ. ولا يُباحُ له النَّظرُ إلى ما لا (¬1) يَظْهَرُ عادَةً. وحُكِيَ عن الأوْزاعِيِّ، أنَّه يَنْظرٌ إلى مَواضِعِ اللَّحْمِ. وعن داودَ، أنَّه يَنْظرٌ إلى جَمِيعِها؛ لظاهِرِ قولِه عليه السَّلامُ: «انْظُرْ إِلَيهَا» (¬2). ولَنا، قولُه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬3). رُوِيَ عن ابنِ عباس، أنَّه قال: هو الوَجْهُ وباطِنُ الكَفِّ. ولأنَّ النَّظَرَ أُبِيحَ للحاجَةِ، فيَخْتَصُّ بما تَدْعو الحاجَةُ إليه، والحديثُ مُطْلَقٌ، ومَن نَظرَ إلى وَجْهِ إنسانٍ سُمِّيَ ناظِرًا إليه، ومَنْ رَآه وعليه ثِيابُه سُمِّيَ رائِيًا له، قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا رَأَيتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} (¬4). فأمَّا ما يَظْهَرُ غالِبًا سِوَى الوَجْهِ؛ كالكَفَّين (¬5) والقَدَمين ونحو ذلك مِمَّا تُظهِرُه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 4/ 306. والنسائي، في: باب إباحة النظر قبل التزويج، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 57. وابن ماجه، في: باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 599، 600. والدارمي، في: باب الرخصة في النظر للمرأة عند الخطبة، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 134. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 244، 245. (¬3) سورة النور 31. (¬4) سورة المنافقون 4. (¬5) في النسختين: «والكفين». وانظر المغني 9/ 491.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأةُ في منزلِها، ففيه رِوايَتان، إحداهما، لا يُباحُ النَّظرُ إليه، لأنَّه عَوْرَةٌ، فلم يُبَحِ النَّظَرُ إليه، كالذي لا يَظْهَرُ، فإنَّ عبدَ اللهِ روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المَرْأَةُ عَوْرَةٌ» (¬1). حديثٌ حسنٌ. ولأنَّ الحاجَةَ تَنْدَفِعُ بالنَّظَرِ إلى الوَجْهِ، فبَقِيَ ما عَداه على التَّحْرِيمِ. والثانيةُ، له النَّظَرُ إلى ذلك. قال أحمدُ في رِوايَةِ حَنْبلٍ: لا بَأْسَ أن يَنظُرَ إليها [وإلى ما يَدْعُوه إلى نِكاحِها؛ مِن يَدٍ أو جِسْمٍ أو نَحْو ذلك. قال أبو بكرٍ: لا بَأْسَ أن يَنْظُرَ إليها] (¬2) عندَ الخِطْبَةِ حاسِرَةً. وقال الشافعيُّ: يَنْظُرُ إلى الوَجْهِ والكَفَّينِ. ووَجْهُ جَوازِ النَّظَرِ إلى] (¬3) ما يَظْهَرُ غالبًا، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا (¬4) أذِن في النَّظَرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 207. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في الأصل: «جميع». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليها مِن غيرِ عِلْمِها، عُلِمَ أنَّه أذِنَ في النَّظرِ إلى جميعِ ما يَظهَرُ غالِبًا، إذْ لا يُمْكِنُ إفْرادُ الوَجْهِ بِالنَّظرَ مع مشاركةِ غيرِه له في الظُّهورِ، ولأنَّه يَظْهَرُ غالبًا، فأُبِيحَ النَّظرُ إليه كالوجهِ، ولأنَّها امرأةٌ أُبِيحَ له النَّظرُ إليها بأمْرِ (¬1) الشَّارِعِ، فأُبِيحَ النَّظرُ منها إلى ذلك، كذَواتِ المَحارِمِ. وقد روَى سعيدٌ (¬2)، عن سُفيانَ، عن عَمرِو بنِ دِينارٍ، عن أبي جَعفرٍ، قال: ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في: باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها. السنن 1/ 147.كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب نكاح الصغيرين، من كتاب النكاح. المصنف 6/ 163.

3059 - مسألة: (وله النظر إلى ذلك، وإلى الرأس والساقين من الأمة المستامة ومن ذوات محارمه. وعنه، لا ينظر من ذوات محارمه إلا)

وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ، وَإلَى الرَّأْسِ وَالسَّاقَينِ مِنَ الأَمَةِ المُسْتَامَةِ وَمِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَنْظُرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، إلا الْوَجْهَ وَالْكَفَّينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَطَب عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ابْنَةَ عليٍّ، فذَكَرَ منها صِغَرًا، فقالوا له: إنَّما رَدَّكَ. فعاوَدَه، فقال: نُرسِلُ بها إلَيكَ تَنْظُرُ إليها. فرَضِيَها، فكشَفَ عن ساقِها. فقالت: أرْسِلْ، لَولا أنَّكَ أمِيرُ المُؤمِنينَ للَطَمْتُ عَينَكَ. 3059 - مسألة: (وله النَّظَرُ إِلى ذلك، وإلى الرَّأْسِ والسَّاقَين مِن الأمَةِ المُسْتامَةِ ومِن ذَواتِ مَحارِمِه. وعنه، لا يَنْظُرُ مِن ذَواتِ مَحارِمِه إلَّا) إلى (الوَجْهِ وَالكَفَّين) يَجُوزُ له النَّظرُ إلى ذلك مِن الأمَةِ المُسْتامَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يَجُوزُ إلى مَن يُريدُ خِطْبَتَها، قِياسًا عليها، بل الأمَةُ المُسْتامَةُ أَوْلَى، لأنَّها تُرادُ للاسْتِمتاعِ وغيرِه، مِن التِّجارَةِ فيها، وحُسْنُها يَزِيدُ في ثَمَنِها. فأمَّا ذَواتُ المَحارِم، فيَجُوزُ النَّظَرُ مِنْهُنَّ إلى ما يَظْهَرُ غالبًا، كالرَّقَبَةِ، والرَّأْسِ، والكَفَّينِ، والقَدَمينِ، ونحو ذلك، وليس له النَّظرُ إلى ما لا يَظهَرُ غالبًا، كالصَّدْرِ والظَّهْرِ ونحوهما. قال الأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أبا عبدِ اللهِ عن الرَّجلِ يَنْظُرُ إلى شَعَرِ امرأةِ أَبيهِ، [فقال: هذا في القرآنِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}. إلَّا لكذا وكذا. قُلْتُ: فيَنْظُرُ إلى ساقِ امرأةِ أبيه] (¬1) وصَدْرِها؟ قال: لا، ما يُعْجِبُنِي. ثم قال: أنا أكْرَهُ أن يَنْظُرَ مِن أُمِّه وأُختِه إلى مثلِ هذا، وإلى كلِّ شيءٍ لشَهْوَةٍ. وذَكَر القاضِي أنَّ حُكْمَ الرجلِ مع ذَواتِ مَحارِمِه حُكْمُ الرجلِ مع الرجلِ، والمرأةِ مع المرأةِ. وقال أبو بكرٍ: كَراهِيَةُ أحمدَ النَّظَرَ إلى ساقِ أمِّه وصَدْرِها على التَّوَقِّي، لأنَّه يَدْعُو إلى الشَّهْوَةِ. يَعْنِي أنَّه يُكْرَهُ ولا يَحْرُمُ. ومَنَع الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والضَّحَّاكُ، النَّظَرَ إلَى شَعَرِ ذَواتِ المَحارِمِ. وهو إحدَى الرِّوايتَين عن أحمدَ. [ورُوي عن هند] (¬2) بِنتِ المُهَلَّبِ، قالتْ: قلت للحسنِ: يَنْظُرُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. وهي هند بنت المهلب بن أبي صفرة، زوج الحجاج بن يوسف الثقفي، من ربات الرأي والعقل والفصاحة والبلاغة، حدثت عن أبيها والحسن البصري، وحكى عنها حجاج ومحمد ابنا أبي عتبة بن المهلب. أعلام النساء 5/ 254 - 256.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجلُ إلى قُرْطِ أُختِه، أو (¬1) إلى عُنُقِها؟ قال: لا، ولا كَرامَةَ. وقال الضَّحَّاكُ (¬2): لو دَخَلْتُ على أُمِّي، لقُلْتُ: أَيَّتُها العَجُوزُ، غَطِّي شَعَرَك. والصَّحِيحُ إباحَةُ النَّظَرِ إلى ما يَظْهَرُ غالبًا، لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ}. الآية. وقالت سَهْلَةُ بنتُ (¬3) سُهَيلٍ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سالِمًا وَلَدًا، فكان يَأْوي معي ومع أبي حُذيفَةَ في بَيتٍ واحِدٍ، ويَرانِي فُضُلًا، وقد أنزَلَ اللهُ فيهم ما قد عَلِمْتَ، فكيفَ تَرَى فيه؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أرْضِعِيهِ». فأرْضَعَتْه خمسَ رَضَعاتٍ، فكان بمَنزِلَةِ وَلَدِها. رَواه مُسلمٌ بمعناه، وأبو داودَ، [وغيرُه] (¬4). وهذا دَلِيل على أنَّه كان يَنظُرُ منها إلى ما يَظْهَرُ غالِبًا، فإنَّها قالت: يَرانِي فُضُلًا. ومعناه في ثِيابِ البِذْلَةِ التي لا تَسْتُرُ أطْرافَها. قال امْرؤُ القَيسِ (¬5): فجِئْتُ وقد نَضَتْ لِنَومٍ ثِيابَهَا … [لَدَى السِّترِ] (¬6) إلَّا لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بن». (¬4) سقط من: م. وأخرجه مسلم، في: باب رضاعة الكبير، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1076، 1077. وأبو داود، في: باب من حَرَّم به [أي برضاعة الكبير]، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 475، 476. كما أخرجه النسائي، في: باب رضاع الكبير، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 86، 87. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 605. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 174، 201، 228، 249، 269. (¬5) البيت من معلقته في ديوانه 14. (¬6) في الأصل: «ولم يبق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومثلُ هذا يَظْهَرُ منه الأطْرافُ والشَّعَرُ، فكان يَراها كذلك؛ إذ (¬1) اعْتَقَدَتْه وَلدًا، ثم دَلَّهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ما يَسْتَدِيمونَ به ما كانوا يَعْتَقِدُونَه ويَفْعَلُونَه. وروَى الشافعيُّ في «مُسْنَدِه» (¬2)، عن زينبَ بنتِ أبي سَلَمَةَ (¬3)، أنَّها ارْتَضَعَتْ مِن أسماءَ امرأةِ الزُّبَيرِ. قالت: فكنتُ أراه أبًا، وكان يَدْخُلُ عليَّ وأنا أمْشُطُ رَأْسِي، فيَأْخُذُ ببعضِ قُرُونِ رأسِي ويقولُ: أقْبِلي عليَّ. ولأنَّ التَّحَرُّزَ مِن هذا لا يُمْكِنُ، فأُبِيحَ كالوَجْهِ. وما لا يَظْهَرُ غالبًا لا يُباحُ؛ لأنَّ الحاجَةَ لا تَدْعُو إليه، ولا تُؤْمَنُ معه الشَّهْوَةُ ومُواقَعَةُ المَحْظُورِ، فحَرُمَ النَّظرُ إليه كما تَحْتَ السُّرَّةِ. فصل: وذَواتُ مَحارِمِه، كلُّ مَن حَرُمَ نِكاحُها على التَّأْبِيدِ، بنَسَبٍ أو رَضاعٍ، أو تَحْرِيمِ المُصاهَرَةِ بسَبَبٍ (¬4) مُباحٍ، لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ سالمٍ وزينبَ. وعن عائشةَ، أنَّ أفْلَحَ أخا أبي القُعَيسِ (¬5)، ¬

(¬1) في النسختين: «إذا»، وانظر المغني 9/ 493. (¬2) في: باب فيما جاء في الرضاع، من كتاب النكاح. ترتيب المسند 2/ 25. (¬3) في م: «مسلمة». (¬4) في الأصل: «وبسبب». (¬5) في م: «القيس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَأْذَنَ عليها بعدَ ما أُنْزِلَ الحِجابُ، فأبَتْ أن تَأْذَنَ له، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ائْذَنِي له، فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ» (¬1). وقد ذَكُر اللهُ تعالى آبَاءَ بُعُولَتِهِنَّ [وأبناءَ بُعُولَتِهنَّ] (¬2)، كما ذَكَرَ آباءَهُنَّ وأبْناءَهُنَّ في إبْداءِ الزِّينَةِ لهم. وتَوقَّفَ أحمدُ عن النَّظَرِ إلى شَعَرِ أمِّ المرْأةِ وبِنْتِها؛ لأنَّهما غيرُ مَذْكُورَتَين في الآيةِ. قال القاضِي: إنَّما حَكَى قولَ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ ولم يَأْخُذْ به. وقد صَرَّحَ في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ أنَّه مَحْرَمٌ يَجُوزُ له المُسافَرَةُ بها. وقال في رِوايةِ أبِي طالبٍ: ساعةَ يَعْقِدُ عُقْدَةَ النكاحِ تَحْرُمُ عليه أُمُّ امْرأَته، فله أن يَرَى شَعَرَها ومَحاسِنَها، ليست مثلَ التي يَزْنِي (¬3) بها، لا يَحِلُّ له ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيئًا. . . .}، من كتاب التفسير، وفي: باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، من كتاب النكاح، وفي: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: تربت يمينك. . . .، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 6/ 150، 7/ 49، 8/ 45. ومسلم، في: باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1069، 1070. وأبو داود، في: باب في لبن الفحل، من كتاب الرضاع. سنن أبي داود 1/ 474. والترمذي، في: باب ما جاء في لبن الفحل، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 89. وابن ماجه، في: باب لبن الفحل، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 627. والدارمي، في: باب ما يحرم من الرضاع، من كتاب النكاح. سنن أبي الدارمي 2/ 156. والإمام مالك، في: باب رضاعة الصغير، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 601، 602. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 37، 38، 177، 194، 217، 271. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «سرى».

3060 - مسألة: (وللعبد النظر إليهما من مولاته)

وَلِلْعَبْدِ النَّظَرُ إِلَيهِمَا مِنْ مَوْلَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبدًا أن يَنْظُرَ إلى شَعَرِها، ولا إلى شيءٍ مِن جَسَدِها، وهي حَرامٌ عليه. فصل: فأمَّا أمُّ المَزْنِيِّ بها وابْنَتُها، فلا يَحِلُّ له النَّظَر إليهنَّ وإن حَرمَ نِكاحُهُنَّ؛ لأنَّ تَحْرِيمَهنَّ بسَبَبٍ مُحَرم، فلم يُفِدْ إباحَةَ النَّظرَ، كالمحَرَّمَةِ باللِّعانِ. وكذلك بِنتُ المَوْطوءَةِ بشبْهَةٍ وأُمُّها، ليستْ مِن ذَواتِ مَحارِمِه. وكذلك الكافِرُ ليس بمَحْرَمٍ لقَرَابَتِه المُسْلِمَةِ، قال أحمدُ في يَهُودِيٍّ أو نَصْرانِيٍّ أسْلَمَتْ بِنتُه: لا يُسافِر بها، ليس هو مَحْرَمًا لها. [والظاهِرُ أنَّه إنَّما أرادَ أنَّه ليس مَحْرَمًا لها] (¬1) في السَّفَرِ، أمَّا النَّظَر، فلا يَجِبُ عليها الحِجابُ منه؛ لأنَّ أبا سُفْيانَ أتَى المدِينةَ وهو مُشْرِكٌ، فدَخَلَ على ابنتِه أمِّ حَبِيبَةَ، فطَوَتْ فِراشَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلَّا يَجْلِسَ عليه، ولم تَحْتَجِبْ منه، ولا أمَرَها به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 3060 - مسألة: (وللعَبْدِ النَّظرُ إلَيهما مِن مَوْلَاتِهِ) يَعْنِي إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 99، 100. وتاريخ الطبري 3/ 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهِ والكَفَّينِ؛ لقولِ الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُنَّ}. ولما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا كَانَ لإحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» (¬1)، قال التِّرمِذيُّ: هذا حديث حسنٌ صَحيحٌ. وعن أنسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطِمَةَ بعَبْدٍ قد وَهَبَه لها، وعلى فاطِمَةَ ثَوْبٌ إذا قَنَّعَتْ به رَأْسَها لم يَبْلُغْ رِجْلَيها، وإذا غَطَّتْ به رِجلَيها لم يَبْلُغْ رَأْسَها، فلمَّا رَأى (¬2) رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما تَلْقَى، قال: «إِنَّهُ لَيسَ عَلَيكِ بَأْسٌ، إنَّما هُوَ أَبُوكِ وغُلَامُكِ (¬3)». رَواه أبو داودَ (¬4). وأمَّا النَّظَرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 380، 19/ 191. (¬2) في م: «بلغ». (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 373.

3061 - مسألة: (ولغير أولي الإربة من الرجال، كالكبير والعنين ونحوهما، النظر إلى ذلك. وعنه، لا يباح)

وَلِغَيرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ، كَالْكَبِيرِ وَالْعِنِّينِ وَنَحْوهِمَا، النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ. وَعَنْهُ، لَا يُبَاحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى شَعَرِها، فكَرِهَه أبو عبدِ اللهِ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وطاوسٌ، ومجاهِدٌ، والحَسَنُ. وأباحَه ابنُ عباسٍ؛ لما ذَكَرْنا مِن الآيةِ والخَبَرَين، ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} إلى قولِه: {لَيسَ عَلَيكُمْ وَلَا عَلَيهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬1). ولأنَّه يَشُقُّ التَّحَرُّزُ منه، فأُبِيحَ له ذلك كذَوى المحارِمِ. وجَعَلَه بعضُ أصْحابِنا كالأجْنَبِيِّ. والصَّحِيحُ ما قُلْنا إن شاءَ الله تعالى. 3061 - مسألة: (ولغيرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِن الرِّجَالِ، كالكَبِيرِ والعِنِّينِ ونَحْوهما، النَّظَرُ إلى ذلك. وعنه، لا يُباحُ) مَن لا شَهْوَةَ له مِن الرِّجالِ، كالمُخَنَّثِ، ومَن ذَهَبَتْ شَهْوَتُه لكِبَرٍ أو عُنَّةٍ أو مَرَضٍ لا يُرْجَى ¬

(¬1) سورة النور 58.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُرْؤُه، [أو الشَّيخِ الخَصِيِّ] (¬1)، فحُكْمُه حُكْمُ ذِي المَحْرَمِ في النَّظَرِ؛ لقول اللهِ تعالى: {أَو التَّابِعِينَ غَيرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} (¬2). أي غيرِ أُولِي الحاجَةِ إلى النِّساءِ. قاله ابنُ عباس. وعنه، هو المُخَنَّثُ الذي لا يَقُومُ زُبُّه (¬3). وعن مجاهدٍ وقَتادَةَ، الذي لا أرَبَ له في النِّساءِ. فإن كان المُخَنَّثُ ذا شهوةٍ، ويَعْرِفُ أمْرَ النِّساء، فحُكْمُه حُكْمُ غيرِه؛ لأنَّ عائشةَ قالت: دَخَل على أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُخَنَّثٌ، فكانوا يَعُدُّونَهُ مِن غيرِ أُولِي الإِرْبَةِ، فدَخَلَ علينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَنْعَتُ امرأةً، أنَّها إذا أقْبَلَتْ أقبَلَتْ بأرْبَعٍ، وإذا أدْبَرَتْ أدْبَرَتْ بثَمانٍ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألا (¬4) أرَى هَدا يَعْلَمُ ما هَهُنَا؟ لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيكُمْ هَذَا». فحَجَبُوه. رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬5). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ليس المُخَنَّثُ الذي تُعْرَفُ فيه ¬

(¬1) في المغني 9/ 503: «أو الخصي أو الشيخ». (¬2) سورة النور 31. (¬3) في م: «أربه». (¬4) في م: «لا». (¬5) في: باب في قوله: {غَيرِ أُولِي الْإِرْبَةِ}، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 383. كما أخرجه البخاري، في: باب غزوة الطائف في شوال. . . .، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 5/ 198. ومسلم، في: باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1716. وابن ماجه، في: باب والمخنثين، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 613. والإمام مالك، في: باب ما جاء في المؤنث من الرجال. . . .، من كتاب الوصية. الموطأ 2/ 767.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفاحِشَةُ خاصَّةً، وإنّما التَّخْنِيثُ شِدَّةُ التَّأْنِيثِ في الخِلْقَةِ، حتى يُشْبِهَ المَرأةَ في اللِّينِ، والكلامِ، والنَّغَمَةِ، والنَّظرِ، والعَقْلِ، فإذا كان كذلك، لم يَكُنْ له في النِّساءِ إرْبٌ، وكان لا يَفْطِنُ لأمورِ النِّساءِ، فهو مِن غيرِ أُولِي الإِرْبَةِ الذين أُبِيحَ (¬1) لهم الدُّخُولُ على النِّساءِ، ألا تَرَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَمْنَعْ ذلك المُخَنَّثَ مِن الدُّخولِ على نِسائِه (¬2)، فلما سَمِعَه يَصِفُ ابْنَةَ غَيلان، وفَهِم أمْرَ النِّساءِ، أمَرَ بحَجْبِه. وعنه، لا يُباحُ؛ لأنَّه ذَكَرٌ بالِغٌ أَجنبِيٌّ، فلم يُبَحْ له ذلك، كالذي له إِرْبٌ. ¬

(¬1) في م: «لم يبح». (¬2) في م: «النساء».

3062 - مسألة: (وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها)

وَلِلشَّاهِدِ وَالْمُبْتَاعِ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الْمَشْهُودِ عَلَيهَا وَمَنْ تُعَامِلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3062 - مسألة: (وللشَّاهِدِ النَّظَرُ إلى وَجْهِ المَشْهُودِ عليها) لتكونَ الشَّهادَةُ واقِعَةً على عَينِها. قال أحمدُ: لا يَشْهَدُ على امرأةٍ إلَّا أن يكونَ قد عَرَفَها بعَينِها. وكذلك مَن يُعامِلُ (¬1) المرأةَ في بَيعٍ أو إجارَةٍ، فله النَّظرُ إلى وَجْهِها، ليَعْرِفَها بعَينِها، فيَرْجِعَ عليها بالدَّرَكِ (¬2). وقد رُوِيَ عن أحمدَ كَراهَةُ ذلك في حَقِّ الشابَّةِ دونَ العَجُوزِ. ولَعَله كَرِهَه لمَن يَخافُ الفِتْنَةَ، أو يَسْتَغْنِي عن المُعامَلَةِ، فأمَّا مع الحاجَةِ وعَدَمِ الشَّهْوَةِ، فلا بَأْسَ. ¬

(¬1) في م: «يقابل». (¬2) الدرك، بفتحتين ويسكن: التبعة.

3063 - مسألة: (وللطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى نظره)

وَلِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو الْحَاجَة إِلَى نَظَرِهِ. وَلِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيرِ ذِي الشَّهْوَةِ النَّظَرُ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3063 - مسألة: (وللطَّبِيبِ النَّظَرُ إلى ما تَدْعُو الحاجَةُ إلى نَظَرِهِ) إِلَيه مِن بَدَنِهَا، مِن العَوْرَةِ وغيرِها؛ فإنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ، وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا حَكَّمَ سعدًا في بني قُرَيظَةَ، كان يَكْشِفُ عن مُؤْتَزَرِهم (¬1). وعن عثمانَ، أنَّه أُتِيَ بغُلامٍ قد سَرَقَ، فقال: انظُروا إلى مُؤْتَزَرِه. فلم يَجِدُوه أنْبَتَ الشَّعَرَ، فلم يَقْطَعْه (¬2). 3064 - مسألة: (وللصَّبِيِّ المُمَيِّزِ غَيرِ ذي الشَّهْوَةِ النَّظَرُ) مِن (¬3) المرأةِ (إلى ما فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحتَ الرُّكْبَةِ) فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «عوراتهم». والحديث تقدم تخريجه في 10/ 84. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب البلوغ بالإِنبات، من كتاب الحجر. السنن الكبرى 6/ 58. وعبد الرزاق، في: باب لا حد على من لم يبلغ الحلم ووقت الحلم، من كتاب الطلاق، وفي: باب لا قطع على من لم يحتلم، من كتاب اللقطه. المصنف 7/ 338، 10/ 177، 178. وابن أبي شيبة، في: باب في الغلام يسرق أو يأتي الحد، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 485. (¬3) في م: «إلى».

3065 - مسألة: (فإن كان ذا شهوة، فهو كذي المحرم)

فَإِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ، فَهُوَ كَذِي الْمَحْرَمِ. وَعَنْهُ، أنَّهُ كالأجْنَبِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {لَيسَ عَلَيكُمْ وَلَا عَلَيهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬1). وقال: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬2). فدَلَّ على التَّفرِيقِ بينَ البالِغِ وغيرِه. قال أبو عبدِ اللهِ: حَجَم أبو طَيبَةَ أزواجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو غُلامٌ (¬3). والرِّوايَةُ الأُخْرَى، حُكْمُه حُكْمُ ذي المَحْرَم في النَّظَرِ، إذا كان ذا شَهْوَةٍ؛ لقَولِ الله تعالى: {أَو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (¬4). قيل لأَبي عبدِ اللهِ: متى تُغَطِّي المرأةُ رَأسَها مِن الغُلامِ؟ قال: إذا بَلَغ عشرَ سِنِينَ. 3065 - مسألة: (فإن كان ذا شَهْوَةٍ، فهو كذي المَحْرَمِ) لقولِه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}. الآية (وعنه، أَنَّه ¬

(¬1) سورة النور 58. (¬2) سورة النور 59. (¬3) انظر: ما أخرجه مسلم، في: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، من كتاب السلام. صحيح مسلم. 4/ 1730. وأبو داود، في: باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 383. وابن ماجه، في: باب الحجامة، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1151، 1152. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 350. (¬4) سورة النور 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالأجْنَبِيِّ) لأنَّه في مَعْنَى البالِغِ في الشَّهْوَةِ، وهو المَعْنَى المُقْتَضِي للحِجاب وتَحْرِيمِ النَّظرِ، ولقولِه تعالى: {أَو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}. فأمَّا الغلامُ الطِّفْلُ غيرُ المُمَيِّزِ، فلا يَجِبُ الاسْتِتارُ منه في شيءٍ.

3066 - مسألة: (وللمرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل، النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة. وعنه، أن الكافرة مع المسلمة كالأجنبي)

وَلِلْمَرأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا مَا بَينَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْكَافِرَةَ مَعَ الْمُسْلِمَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3066 - مسألة: (وللمرأةِ مع المرأةِ، والرجلِ مع الرجلِ، النَّظَرُ إلى ما عدا ما بينَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ. وعنه، أنَّ الكافِرَةَ مع المُسْلِمَةِ كالأجْنَبِيِّ) يَجوزُ للرجلِ مع الرجلِ النَّظَرُ مِن صاحِبِه إلى ما ليس بعَوْرَةٍ. وفيها رِوايتان؛ إحداهما، ما بينَ السُّرَّةِ والرُّكبَةِ. والأُخْرَى، الفَرْجان. وقد ذَكَرْناهما في بابِ سَتْرِ العَوْرَةِ (¬1). ولا فرْقَ بينَ الأمْرَدِ وذي اللِّحْيَةِ، إلَّا أنَّ الأمْرَدَ إذا كان جميلًا، يُخافُ الفِتْنَةُ بالنَّظرِ إليه، لم يَجُزْ تَعَمُّدُ النَّظَرِ ¬

(¬1) في: 3/ 200.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه. فقد رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ، قال: قَدِمَ وَفْدُ عبدِ القَيسِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفيهم غُلامٌ أمْرَدُ، ظاهِرُ الوَضاءَةِ، فأجْلَسَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وراءَ ظَهْرِه. رَواه أبو حَفْصٍ (¬1). قال المَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أبا بكرٍ الأَعْيَنَ (¬2) يقولُ: قَدِم علينا إنسانٌ مِن خُراسانَ، صَدِيقٌ لأبي عبدِ اللهِ، ومعه غلامٌ ابنُ أخْتٍ ¬

(¬1) قال ابن حجر: إسناده واهٍ، انظر: باب ما جاء في استحباب النكاح، من كتاب النكاح. التلخيص 3/ 148. وإرواء الغليل 6/ 212. (¬2) هو محمد بن أبي عتاب الحسن بن طريف البغدادي، الأعين، أبو بكر. الإمام الحافظ الثبت، قال عنه أحمد: إني لأغبطه، مات وما يعرف إلا الحديث، ولم يكن صاحب كلام. توفي سنة أربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 119، 120.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له، وكان جميلًا، فمَضَى إلى أبي عبدِ اللهِ فحَدَّثَه، فلَمّا قُمْنا [خَلا بالرجلِ] (¬1)، وقال له: مَن هذا الغلامُ منك؟ قال: ابنُ أخْتِي. قال: إذا جِئتَنِي لا يكونُ معك، والذي أرَى لك أن (¬2) لا يَمْشِيَ معك في طريقٍ. فأمَّا الغلامُ قبلَ السَّبْعِ، فلا عَوْرَةَ له يَحْرُمُ النَّظَرُ إليها. وقد رُوِيَ عن ابنِ أبِي لَيلَى، [عن أبيه] (¬3)، قال: كنا جُلُوسًا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فجاءَ الحسنُ، فجَعَلَ يَتَمَرَّغُ عليه، فرَفَعَ مُقَدَّمَ قَمِيصِه، أُراه (¬4) قال: فقَبَّلَ زُبَيبَتَه (¬5). رَواه أبو حَفص (¬6). فصل: وحُكْمُ المرأةِ مع المرأةِ والرجلِ مع الرجلِ سَواءٌ، ولا فَرْقَ بينَ المُسْلِمَتَين (¬7)، وبينَ المُسْلِمَةِ مع (¬8) الكافِرَةِ، كما لا فَرْقَ بينَ الرجلَين المسلمَين، وبينَ المُسْلِمِ والذِّمِّيِّ، في النَّظَرِ. قال أحمدُ: ذَهَب بعضُ ¬

(¬1) في م: «جاء إلى الرجل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من النسختين. وانظر المغني 9/ 505. (¬4) في الأصل: «إزاره». (¬5) في م: «استه». (¬6) تقدم تخريجه في 2/ 32. (¬7) في الأصل: «المسلمين». (¬8) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الناسِ إلى أنَّها لا تَضَعُ خِمارَها عندَ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وأمّا أنا فأذْهَبُ إلى أنَّها لا تَنْظُرُ إلى الفَرْجِ، ولا تَقْبَلُها حينَ تَلِدُ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ المُسْلِمَةَ لا تَكْشِفُ قِناعَها عندَ الذِّمِّيَّةِ، ولا تَدْخُلُ معها الحَمَّامَ. وهو قولُ مَكْحُولٍ، وسُليمانَ بنِ (¬1) مُوسَى؛ لقولِه تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} (¬2). والأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ النِّساءَ الكَوافِرَ (¬3) مِن اليَهُوديَّاتِ وغيرِهِنَّ، قد كُنَّ يَدْخُلْنَ على نِساءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَكُنَّ يُحْجَبْنَ، ولا أُمِرْنَ بحِجابٍ، وقد قالت عائشةُ: جاءت يَهُودِيَّة تَسْألُها، فقالت: أعاذَكِ اللهُ مِن عَذابِ القَبْرِ: فسألتْ عائشةُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وذَكَر الحديثَ (¬4). وقالت أسماءُ: قَدِمَتْ عليَّ أمِّي، وهي راغِبَةٌ -يَعْنِي ¬

(¬1) بعده في م: «أبي». (¬2) سورة النور 31. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب التعوذ من عذاب القبر، وباب صلاة الكسوف في المسجد، من كتاب الصلاة. وفي: باب ما جاء في عذاب القبر، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 2/ 45، 47، 123. ومسلم، في: باب ذكر عذاب القبر في صلاة الكسوف، من كناب الكسوف. صحيح مسلم 621/ 2، 622. والنسائي، في: باب نوع آخر، من كتاب الكسوف. المجتبى 3/ 109، 110. والدارمي، في: باب الصلاة عند الكسوف، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 359. والإمام مالك، في: باب العمل في صلاة الكسوف، من كتاب صلاة الكسوف. الموطأ 1/ 187، 188. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 53، 174، 238.

3067 - مسألة: (ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة. وعنه، لا يباح)

وَيُبَاحُ لِلْمَرأةِ النَّظَرُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى غَيرِ الْعَوْرَةِ. وَعَنْهُ، لَا يُبَاحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الإِسلامِ- فسألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أفأصِلُها؟ قال: «نَعَمْ» (¬1). ولأنَّ الحَجْبَ بينَ الرجالِ والنِّساءِ لمَعْنًى لا يُوجَدُ بينَ المسلمةِ والذِّمِّيَّةِ، فوَجَبَ أن لا يَثْبُتَ الحَجْبُ بينَهما، كالمسْلمِ مع الذِّمِّي، ولأنَّ الحِجابَ إمّا أن يَجبَ بنَصٍّ أو قياسٍ، ولم يُوجَدْ واحِدٌ منهما. فأمّا قولُه: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}. فيَحْتَمِلُ أن يكونَ أرادَ جُمْلَةَ النِّساءِ. 3067 - مسألة: (ويُبَاحُ للمرأةِ النَّظَرُ مِن الرجلِ إلى غَيرِ العَوْرَةِ. وعنه، لا يُبَاحُ) وهذه إحْدَى الرِّوايَتَين. والأُخْرَى، لا يُباحُ لها النَّظَرُ مِن الرجلِ إلَّا إلى مثلِ ما يَنْظُرُ إليه منها. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو أحدُ قولَي الشافعيِّ؛ لما روَى الزُّهْرِيُّ، عن نَبْهانَ، عن أمِّ سَلَمَةَ، قالت: كنتُ قاعِدَةً عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنا وحَفصَةُ، فاسْتَأْذَنَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «احْتَجِبْنَ مِنْهُ». فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّهُ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ. قال: «أَفعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا لَا تُبْصِرَانِه!». رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬2). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 296. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في قوله: {غَيرِ أُولِي الْإِرْبَةِ}، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 384. والترمذي، في: باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 230. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 296.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ النِّساءَ بغَضِّ أبْصارِهِنَّ كما أمَرَ الرجال به، ولأنَّهنَّ أحدُ نوْعَي الآدَمِيِّينَ، فحَرُمَ عليهنَّ النَّظَرُ إلىِ النَّوْعِ الآخرِ قِياسًا على الرِّجالِ، يُحَقِّقُه أنَّ المَعْنَى المُحَرِّمَ على الرجلِ خوْفُ الفِتْنَة، وهذا في المرأةِ أبْلَغُ، فإنَّها أشَدُّ شَهْوَةً، وأقَلُّ عَقْلًا، فتَسارُعُ الفِتْنَةِ إليها أكثرُ. ولَنا، قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ بنتِ قيسٍ: «اعْتَدِّي فِي بَيتِ ابْنِ (¬1) أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُل أَعمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ فَلَا يَرَاكِ». وقالت عائشةُ: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي برِدائِه، وأنا أنظُرُ إلى الحَبَشَةِ يَلْعبونَ في المسجدِ. مُتَّفَقٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهما (¬1). ولمَّا فَرَغ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن خُطبَةِ العيدِ، مَضَى إلى النِّساءِ فذَكَّرهُنَّ، ومعه بلالٌ فأمَرَهُنَّ بالصَّدَقَةِ (¬2). ولأنَّهُنَّ لو مُنِعْنَ النَّظَرَ ¬

(¬1) الحديث الأول ليس عند البخاري. وانظر تحفة الأشراف 12/ 469، 470. وتلخيص الحبير 3/ 151، 165. وتقدم تخريجه في 11/ 181، وهو عند مسلم في: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. صحيح مسلم 2/ 1114 - 1120. كما أخرجه النسائي، في: باب تزوج المولى العربية، وباب خطبة الرجل إذا ترك الخاطب أو أذن له، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 52، 61. والدارمي، في: باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 135، 136. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 373، 411 - 413، 416، 417. والثاني، أخرجه البخاري، في: باب أصحاب الحراب في المسجد، من كتاب الصلاة، وفي: باب الحراب والدروق يوم العيد، وباب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، من كتاب العيدين، وفي: باب قصة الحبش وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني أرفدة، من كتاب المناقب، وفي: باب نظر المرأة إلى الحبش. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 1/ 123، 2/ 20، 29، 4/ 225، 7/ 48، 49. ومسلم، في: باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه. . . .، من كتاب صلاة العيدين. صحيح مسلم 2/ 607 - 610. كما أخرجه النسائي، في: باب الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد، من كتاب العيدين. المجتبى 4/ 160. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 84، 85، 166، 247، 270. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وباب خروج الصبيان إلى المصلى، وباب العلم الذي بالمصلى، وباب موعظة الإمام النساء يوم العيد، من كتاب العيدين، وفي: باب: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 2/ 23، 26، 27، 7/ 51، 52. ومسلم، في: أول كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 602 - 604. وأبو داود، في: باب الخطبة يوم العيد، وباب ترك الأذان في العيد، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 261، 262. والنسائي، في: باب قيام الإمام في الخطبة متوكئا على إنسان، من كتاب العيدين. المجتبى 3/ 152. وابن ماجه، في: باب ما جاء في صلاة العيدين، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 406. والدارمي، في: باب صلاة العيدين بلا أذان ولا إقامة. . . .، وباب الحث على الصدقة يوم العيد، من كتاب الصلاة. سنن الدارمي 1/ 376 - 378. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 331، 3/ 296، 310، 314، 318.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لوَجبَ على الرِّجالِ الحِجابُ كما وَجب على النِّساءِ، لِئلَّا يَنْظُرْن إليهم. فأمّا حديثُ نَبْهانَ، فقال أحمدُ: نَبْهانُ روَى حَدِيثَينِ عَجِيبَين. هذا الحديثُ، والآخرُ: «إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكاتَبٌ، فَلْتَحْتَجِبْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنْهُ» (¬1). كأنَّه أشارَ إلى ضَعْفِ حَدِيثِه، إذ لم يَرْو إلَّا هذَين الحَديثَين المُخالفَين للأُصُولِ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ: نَبْهانُ مَجْهُولٌ، لا يُعْرَفُ إلَّا برِوايَةِ الزُّهْرِيِّ عنه هذا الحَديثَ. وحديثُ فاطمةَ صَحِيحٌ، فالحُجَّةُ به لازِمَةٌ، ثم يَحْتَمِلُ أنَّ حديثَ نَبْهانَ خاصٌّ لأزواجِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. كذلك قال أحمدُ، وأبو داودَ. قال الأثْرمُ: قُلْتُ لأَبي عبدِ اللهِ: كان حديثُ نَبْهانَ لأزواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، وحديثُ فاطمةَ لسائِرِ النَّاسِ؟ قال: نعم. وإن قُدِّرَ التَّعارُضُ فتَقْدِيمُ الأحاديثِ الصَّحِيحَةِ أوْلَى مِن الأخْذِ بحَديثٍ مُفْرَدٍ في إسنادِه مَقالٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 380، 19/ 191.

3068 - مسألة: (ويجوز النظر إلى الغلام لغير شهوة)

المقنع وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْغُلَامِ لِغَيرِ شَهْوَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3068 - مسألة: (ويَجُوزُ النَّظرُ إلى الغُلامِ لغَيرِ شَهْوَةٍ) فأمَّا النَّظرُ إليه لشَهْوَةٍ فلا يُباحُ؛ لأنَّها تَدْعُو إلى الفِتْنَةِ، وقد ذَكَرْنا ذلك.

3069 - مسألة: (ولا يجوز النظر إلى أحد ممن ذكرنا لشهوة)

وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى أَحدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لِشَهْوَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3069 - مسألة: (ولا يَجُوزُ النَّظَرُ إلى أحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنا لشَهْوَةٍ) لِما ذَكَرْنا مِن خَوْفِ الفِتْنَةِ. ومَعْنَى الشَّهْوَةِ، أنَّه يَتَلَذَّذُ بالنَّظَرِ إليه. واللهُ أعلمُ.

3070 - مسألة: (ولكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن الآخر ولمسه، وكذلك السيد مع أمته)

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَينِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْآخَرِ وَلَمْسُهُ، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ مَعَ أمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3070 - مسألة: (ولكلِّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَين النَّظرُ إلى جَمِيعِ بَدَنِ الآخَرِ وَلَمْسُه، وكذلك السَّيِّدُ مع أمَتِه) لما روَى بَهْزُ بنُ حَكيمٍ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، عَوْراتُنا ما نَأْتِي منها وما نَذَرُ (¬1)؟ قال: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديث حسنٌ. ولا فَرْقَ بينَ الفَرْجِ وغيرِه؛ لعُمُومِ الحديثِ، ولأنَّ الفَرْجَ يُباحُ الاسْتِمْتاعُ به، فجازَ النَّظرُ إليه ولَمْسُه، كبَقِيَّةِ البَدَنِ. وقيل: يُكْرَهُ النَّظرُ إلى الفَرْجِ؛ لقولِ عائشةَ: ما رَأيتُ فَرْجَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ. رَواه ابنُ ماجَه (¬3). وفي لفظٍ قالت: ما رَأْيتُه مِن رسولِ اللهِ ¬

(¬1) في م: «ندع». (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 161، 162. من حديث: «فالله أحق أن يستحى منه من الناس». (¬3) في: باب النهي أن يرى عورة أخيه، من كتاب الطهارة، وفي: باب التستر عند الجماع، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 217، 619. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 63، 190. وهو حديث ضعيف. انظر إرواء الغليل 6/ 213 - 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -، ولا رآهُ منِّي. قال أحمدُ في رِوايَةِ جَعْفَرِ بنِ محمدٍ، في المرأةِ تَقْعُدُ بينَ يَدَيْ زَوْجِها وفي بَيتِها مَكْشُوفَةً، في ثِيابٍ رقاقٍ: فلا بَأْسَ به. قلتُ: تَخْرُجُ مِن الدَّارِ إلى بيتٍ مَكْشُوفَةَ الرأسِ، وليس في الدَّارِ إلَّا هي وزوجُها؟ فرَخَّصَ في ذلك. فصل: وحُكْمُ السَّيِّدِ حُكْمُ الزَّوجِ فيها ذَكَرْنا، وسَواءٌ في ذلك سُرِّيَّته وغيرُها؛ لأنَّه يُباحُ له الاسْتِمتاعُ بجَمِيعِ بَدَنِها، فأُبِيحَ له النَّظَرُ إليه، فأمَّا إن زَوَّجَ أمَتَه، حَرُمَ عليه الاسْتِمْتاعُ بها والنَّظرُ منها إلى ما بينَ السُّرَّةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والرُّكبَةِ؛ لما روَى عَمرُو بنُ شُعَيب، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا زَوَّجَ أحَدُكُمْ خَادِمَه (¬1) [عَبْدَهُ أو أَجيرَهُ] (¬2)، فَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ، فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ». رَواه أبو داودَ (¬3). ومَفْهُومُه إباحَةُ النَّظَرِ إلى ما عَداه. وأمَّا تَحْرِيمُ الاسْتِمتاعِ بها، فلا خِلافَ فيه، فإنَّها قد صارَتْ مُباحَةً للزَّوجِ، ولا تَحِلُّ امْرأةٌ لرَجُلَين. فإن وَطِئَها، أثِمَ، وعليه التَّعْزِيرُ؛ لأنَّه فِعْلٌ مُحَرَّمٌ. فإن أوْلَدَها، فقال أحمدُ: لا يَلْحَقُه نسَبُه؛ لأنَّها فِراشٌ لغيرِه، فلم يَلْحَقْه وَلَدُها، كالأَجْنَبِيَّةِ. قلتُ: وقد ذَكَر في بابِ حُكْمِ أمَّهاتِ الأولادِ (¬4)، أنَّه يَلْحَقُه النَّسَبُ؛ لأنَّه وَطْءٌ سَقَط فيه الحَدُّ لشُبْهَةِ المِلْكِ، أشْبَهَ وَطْءَ الجارِيَةِ المرْهُونَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) أي: أمته. وفي رواية: «خادمته». انظر عون المعبود 4/ 109. (¬2) في الأصل: «أو عبده أجيره». (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 201. (¬4) انظر ما تقدم في 6/ 481.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا نَظَرُ الرجُلِ إلى الأجْنَبِيَّةِ مِن غيرِ سَبَبٍ، فيَحْرُمُ عليه النظرُ إلى جَميعِها، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ، فإنَّه قال: لا يَأْكُلُ مع مُطَلَّقَتِه، هو أجنَبِيٌّ لا يَحِلُّ له أن يَنْظُرَ إليها، كيف يَأْكلُ معها يَنْظُرُ إلى كَفِّها! لا يَحِلُّ له ذلك. وقال القاضِي: يَحْرُمُ عليه النَّظرُ إلى ما عَدا الوَجْهَ والكَفَّين؛ لأنَّه عَوْرَةٌ، ويُباحُ له النَّظرُ إليهما مع الكَراهَةِ إذا أمِنَ الفِتْنَةَ ونَظَر بغيرِ شَهْوَةٍ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. قال ابنُ عباسٍ: الوَجْهَ والكَفَّينِ. ورَوَتْ عائشةُ أنَّ أسماءَ بنتَ أبي بكرِ دَخَلَتْ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثيابٍ رِقاقٍ، فأعْرَضَ عنها، وقال: «يا أسْمَاءُ، إنَّ المَرْأةَ إذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وهَذَا». وأشارَ إلى وَجْهِه وكَفَّيه. رَواه أبو بكرٍ، وغيرُه (¬1). ولأنَّه ليس بعَوْرَةٍ، فلم يَحْرُمِ النَّظرُ إليه مِن غيرِ رِيبَةٍ، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب فيما تبدي المرأة من زينتها، من كتاب اللباس. سنن أبي داود 2/ 383. والبيهقي، في: باب تخصيص الوجه والكفين بجواز النظر إليها عند الحاجة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كوجْهِ الرجلِ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬1). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فمَلَكَ مَا يُؤدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» (¬2). وكان الفَضْلُ بنُ عباسٍ رَدِيفَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَتْه الخَثْعَمِيَّةُ تَستَفْتِيهِ، [فجَعَل يَنْظُرُ إليها] (¬3) وتَنْظُرُ إليه، فصَرَفَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجْهَه عنها (¬4). وعن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: سَألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن نَظرَ الفَجْأَة، فأمَرَنِي أن أصْرِفَ بَصَرِي. حديث صحيحٌ. وعن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَكَ الأُولَى، وَلَيسَتْ لك الآخِرَةُ». رَواهما أبو داودَ (¬5). وفي إباحَةِ (¬6) النَّظرَ إلى المَرأةِ إذا أرادَ تَزَوُّجَهَا (¬7) دليلٌ على التَّحريمِ عندَ عَدَمِ ذلك، إذ لو كان مُباحًا على ¬

(¬1) سورة الأحزاب 53. (¬2) تقدم تخريجه في 18/ 380، 19/ 191. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في حديث جابر الطويل في 8/ 363. (¬5) في: باب فيما يؤمر به من غض البصر، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 495، 496. كما أخرجهما الترمذي، في: باب ما جاء في نظر المفاجأة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 238، 239. كما أخرج الأول مسلم، في: باب نظر الفجأة، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1699. والدارمي، في: باب في نظر الفجاءة، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمي 2/ 278. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 358، 361. والثاني أخرجه الدارمي، في: باب في حفظ السمع، من كتاب الرقاق. سنن الدارمي 2/ 298. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 351، 353، 357. (¬6) بعدها في الأصل: «وجه». (¬7) في م: «تزويجها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِطْلاقِ، فما وَجْهُ التَّخْصيصِ لهذا الحالِ؟ وأمَّا حديثُ أسْماءَ -إن صَحَّ- فيَحْتَمِلُ أنَّه كان قبلَ نُزُولِ الحِجابِ، فيُحْمَلُ عليه. فصل: فأمَّا العَجُوزُ التي لا تُشْتَهَى، فلا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلى ما يَظْهَرُ منها غالبًا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (¬1). الآية. قال ابنُ عباسٍ في قولِه تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (¬2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (¬3). فنَسَخَ واستَثْنَى مِن ذلك: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}. الآية. وفي مَعْنَى ذلك الشَّوْهاءُ التي لا تُشْتَهَى. فصل: والأَمَةُ يُباحُ النَّظَرُ مِنها إلى ما يَظْهَرُ غالبًا؛ كالوَجْهِ، والرَّأْسِ، واليَدَين، والسَّاقَين؛ لأنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، رَأى أَمَةً مُتَكَمِّمَةً، فضَرَبَها بالدِّرَّةِ، وقال: يا لَكاعِ تَشَبَّهِينَ بالحَرائِرِ! وروَى أبو حَفْصٍ بإسْنادِه، أنَّ عُمَرَ كان لا يَدَعُ أَمَةً تَقَنَّعُ في خِلافَتِه، وقال: إنَّما القِناعُ للحَرائِرِ (¬4). ولو كان نَظَرُ ذلك منها محَرَّمًا لم يَمْنَعْ مِن سَتْرِه، بل أَمَرَ به. وقد روَى أنَسٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أخَذَ صَفِيَّةَ قال الناسُ: أجَعَلَها أُمَّ ¬

(¬1) سورة النور 60. (¬2) سورة النور 30. (¬3) سورة النور 31. (¬4) أخرج الأثرين ابن أبي شيبة، في: باب في الأمة تصلي بغير خمار، من كتاب الصلوات. المصنف 2/ 230. وعبد الرزاق، في: باب الخمار، من كتاب الصلاة. المصنف 3/ 136.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُؤمِنِينَ أَمْ أُمَّ وَلَدٍ؟ فقالوا: إن حَجَبَها فهي أُمُّ المؤمنينَ، وإن لم يَحْجُبْها فهىِ أُمُّ وَلَدٍ. فلمّا رَكِبَ وَطَّأَ لها خَلْفَه، ومَدَّ الحِجابَ بينَه وبينَ الناسِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). وهذا دليلٌ عَلى أنَّ عَدَمَ حَجْبِ الإِماءِ كان مُسْتَفيضًا بينَهما مَشْهُورًا، وأنَّ الحَجْبَ لغيرِهِنَّ كان مَعْلُومًا. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يُباحُ النَّظَرُ منها إلى ما ليس بعَوْرَةٍ، وهو ما فوقَ السُّرَّةِ وتحتَ الرُّكْبَةِ. وسَوَّى [بعضُ أصحاب الشافعيِّ] (¬2) بينَ الحُرَّةِ والأَمَةِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. الآية. ولأنَّ العِلَّةَ في تَحْرِيمِ النَّظَرِ الخوفُ مِن الفِتْنَةِ، والفِتْنَةُ المَخُوفَةُ يَسْتَوي فيها الحُرَّةُ والأمَةُ، فإنَّ الحُرِّيَّةَ أمْرٌ (¬3) لا يؤَثِّرُ في الأمْرِ الطَّبِيعِيِّ. وقد ذَكَرْنا ما يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ ويُوجِبُ الفَرْقَ بينَهما، وإن إيَفتَرِقا فيما ذَكَرُوه، افْتَرَقا في الحُرْمَةِ ومَشَقَّةِ السَّترِ (¬4)، لكن إن كانتِ الأمَةُ (¬5) جميلةً، يُخافُ الفِتْنَةُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي: باب في اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها، وباب من جعل عتق الأمة صداقها، وباب البناء في السفر، وباب الوليمة ولو بشاة، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 5/ 168، 7/ 7، 8، 28، 31. ومسلم، في: باب فضيلة إعتاق الأمة ثم يتزوجها، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1044 - 1046. وأبو داود، في: باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 474. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يعتق الأمة ثم يتزوجها، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 40. والنسائي، في: باب التزويج على العتق، وباب البناء في السفر، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 94، 109. وابن ماجه، في: باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 629. والدارمي، في: باب في الأمة يجعل عتقها صداقها، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 154. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 99، 165، 170، 181، 203، 239، 242، 246، 264، 280، 291. (¬2) في المغني 9/ 501: «بعض أصحابنا». (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسختين: «السير». والمثبت كما في المغني 9/ 501. (¬5) في م: «المرأة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها، حَرُمَ النَّظَرُ إليها، كما يَحْرُمُ إلى الغُلامِ الذي تُخْشَى (¬1) الفِتْنَةُ بالنَّظَرِ إليه. قال أحمدُ في الأَمَةِ إذا كانت جميلةً: تُنَقَّبُ، ولا يُنْظَرُ إلى المَمْلُوكَةِ، كم مِن نَظْرَةٍ قد ألْقَتْ في قَلْبِ صاحِبِها البَلابِلَ (¬2). فصل: والطِّفْلَةُ التي لا تَصْلُحُ للنِّكاحِ لا بَأْسَ بالنَّظَرِ إليها. قال أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، في الرجلِ يَأْخُذُ الصَّغِيرَةَ فيَضَعُها في حِجْرِه ويُقَبِّلُها: فإن كان يَجِدُ شَهْوَةً، فلا، وإن كان لغيرِ شَهْوَةٍ، فلا بَأْسَ. وقد روَى أبو بكرٍ، بإسنادِه عن عُمَرَ بنِ حفص المَدِينيِّ، أنَّ الزُّبَيرَ بنَ العوَّامِ أرْسَلَ بابْنَةٍ له إلى عمرَ بنِ الخطابِ مع مَوْلاةٍ له، فأخَذَها عمرُ بيَدِه، 7 وقال: ابنةُ أبي عبدِ اللهِ. فتَحَرَّكَتِ الأجْراسُ مِن رِجلِها، فأخَذَها عمرُ فقَطَعَها، وقال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَعَ كُل جَرَسٍ شَيطَانٌ» (¬3). فأمَّا إذا بَلَغَتْ حَدًّا يَصْلُحُ لِلنِّكاحِ، [كابْنَةِ تِسْعٍ] (¬4)، فإنَّ عَوْرَتَها مُخالِفَةٌ لعَوْرَةِ البالِغَةِ، بدليلِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بِخِمَارٍ» (¬5). يدُلُّ على صِحَّةِ صلاةِ مَن لم تَحِضْ مَكشُوفَةَ الرَّأْسِ (¬6)، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ حُكْمُها حكمَ ذَواتِ المَحارِمِ، كقَوْلِنا في الغُلامِ المُراهِقِ مع النِّساءِ. وقد روَى أبو بكرٍ، عن ابنِ ¬

(¬1) في م: «لم تخش». (¬2) في الأصل: «البلاء». والبلابل: شدة الهم والوسواس في الصدور. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الجلاجل، من كتاب الخاتم. سنن أبي داود 2/ 408. وهو ضعيف. ضعيف سنن أبي داود 418. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 2/ 370. (¬6) سقط من: م.

3071 - مسألة؛ قال الشيخ، رضي الله عنه: (ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولا التعريض بخطبة الرجعية)

فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَا التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الرَّجْعِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جُرَيجٍ، قال: قالت عائشةُ: دَخَلَتْ عليَّ ابنةُ أخِي، فدَخَل عليَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأعْرَضَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّها ابنةُ أخِي وجارِيَةٌ. فقال: «إذَا عَرَكَتِ (¬1) المَرْأةُ لَمْ يَجُزْ لَهَا أنْ تُظْهِرَ إلَّا وَجْهَهَا وَمَا دُونَ هَذَا». وقَبَض على ذِراعِ نَفْسِه، فتَرَكَ بينَ قَبْضَتِه وبينَ الكَفِّ مثلَ قَبْضَةٍ أُخْرَى أو نحوَها (¬2). احتجَّ أحمدُ بهذا الحديثِ. وتَخْصِيصُ الحائِضِ بهذا التحديدِ دَلِيل على إباحَةِ أكثرَ مِن ذلك في حَقِّ غيرِها. 3071 - مسألة؛ قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بخِطْبَةِ المُعْتَدَّةِ، ولا التَّعْرِيضُ بخِطْبَةِ الرَّجْعِيَّةِ) أمَّا التَّصْرِيحُ بخِطْبَةِ المُعْتَدَّةِ، فلا يَجُوزُ؛ لأنَّ قولَ اللهِ تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (¬3). دَلِيلٌ على تَحْرِيمِ. التَّصْرِيحِ؛ لأنَّ التَّصْرِيحَ لا يَحْتَمِلُ غيرَ النِّكاحِ، فلا يُؤْمَنُ أن يَحْمِلَها الحِرْصُ عليه على الإِخبارِ بانقِضاءِ عِدَّتِها قبلَ انْقِضائِها، والتَّعْريضُ بخِلافِه. ¬

(¬1) عركت: حاضت. (¬2) أورده ابن جرير، في: تفسيره 18/ 119. (¬3) سورة البقرة 235.

3072 - مسألة: فأما الرجعية، فلا يجوز لأحد التعريض بخطبتها ولا التصريح

وَيَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَالْبَائِنِ. بِطَلَاقٍ ثَلَاثٍ. وَهَلْ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ بِغَيرِ الثَّلَاثِ؟ عَلَى وَجْهَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3072 - مسألة: فَأمَّا الرَّجْعِيَّةُ، فلا يَجُوزُ لأَحَدٍ التَّعْرِيضُ بخِطْبَتِها ولا التَّصْرِيحُ؛ لأنَّهَا في حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، فهي كالتي في صُلْبِ نِكَاحِهِ. 3073 - مسألة: (وَيَجُوزُ في عِدَّةِ الْوَفَاةِ، و) في (البائنِ بطَلاقٍ ثَلَاثٍ) المُعْتَدَّاتُ على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ الرَّجْعِيَّةُ (¬1)، وحُكْمُها حُكْمُ مَن هي في صُلْبِ النِّكاحِ، وقد ذَكَرْناها. الثاني، المُعْتَدَّةُ مِن وَفاةٍ، أو طَلاقٍ ثلاثٍ، أو فسْخٍ لتَحْرِيمِها على زَوْجِها، كالفَسْخِ برَضاعٍ أو لِعانٍ، ونحوه ممَّا لا تَحِلُّ بعدَه لزَوْجِها، فهذه يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بخِطْبَتِها؛ للآيةِ، ولما رَوَتْ فاطِمَةُ بنتُ قَيسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها لمَّا طَلَّقَها زَوْجُها ثَلاثًا: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِيني». وفي لفظٍ: «لَاتَسْبِقِيني بنَفْسِكِ» (¬2). وهذا تَعْرِيضٌ بخِطْبَتِها في عِدَّتِها. 3074 - مسألة: (وهل يَجُوزُ في عِدَّةِ البَائِنِ بغيرِ الثَّلَاثِ؟ على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 181، وفي صفحة 53.

3075 - مسألة: (والتعريض قوله: إني في مثلك لراغب. و

وَالتَّعْرِيضُ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنِّي فِي مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ. وَ: لَا تَفُوتِيني بِنَفْسِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين) هذا الضَّربُ الثالِثُ، كالمُخْتَلِعَةِ (¬1)، والبائِنِ بفَسْخٍ، لعَيبٍ أو إعْسارٍ أو نحوه، فلزَوْجِها التَّصْرِيحُ بخِطْبَتِها والتَّعْرِيضُ؛ لأنَّه مُباحٌ له نِكاحُها في عِدَّتِها، فهي كغيرِ المُعْتَدَّةِ. وهل يجُوزُ لغيرِه التَّعْرِيضُ بخِطْبتِها؟ فيه وَجْهان. وللشافعيِّ فيه قولان؛ أحدُهما، يَجُوزُ؛ لعُمُوم الآيةِ، ولأنَّها بائِنٌ، فأشْبَهَتِ المُطَلَّقَةَ ثلاثًا. والثاني، لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ أن يَسْتَبِيحَها، فهي كالرَّجْعِيَّةِ. والمرأةُ في الجَوابِ كالرجلِ في الخِطْبَةِ فيما (¬2) يَحِلُّ ويَحْرُمُ؛ لأنَّ الخِطْبَةَ للعَقْدِ، فلا يَخْتَلِفان في حِلِّهِ وحُرْمَتِه. 3075 - مسألة: (وَالتَّعْرِيضُ قولُه: إنِّي فِي مِثْلِكِ لَراغِبٌ. و: ¬

(¬1) في م: «كالمختلفة». (¬2) في م: «مما».

3076 - مسألة: (وتجيبه)

وَتُجِيبُهُ: مَا يُرْغَبُ عَنْكَ. وَ: إِنْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ. وَنَحْوُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَفُوتِينِي بنَفْسِكِ) و: ما أحْوَجَنِي إلى مِثْلِكِ. وقال الزُّهْرِيُّ: أنتِ مَرْغوبٌ فيك. و: أنتِ جَمِيلَةٌ. و: إذا حَلَلْتِ فآذِنِينِي. ونحوُ ذلك. قال مجاهِدٌ: مات رجلٌ، وكانتِ امرأتُه تَتْبَعُ (¬1) الجِنازَةَ، فقال لها رجلٌ: لا تَسْبِقينا بنفسِك. فقالتْ: سَبَقَكَ غيرُك. 3076 - مسألة: (وتُجيبُه) المرأةُ: (ما يُرْغَبُ عنك. و: إن قُضِيَ شيءٌ كان) وما أشْبَهَه. فصل: فأمَّا التَّصْرِيحُ فهو اللفظُ الذي لا يَحْتَمِلُ غيرَ النِّكاحِ، نحوَ قولِه: زَوِّجيني نَفْسَكِ. و: إذا انْقَضَتْ عِدّتُكِ تَزَوَّجْتُكِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ هذا مَعْنَى قولِه تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (¬2). فإنَّ النِّكاحَ يُسَمَّى سِرًّا، قال الشاعرُ (¬3): فلَنْ تَطْلُبوا سِرَّها للغِنَى … ولنْ تُسلِمُوها لإِزْهادِها (¬4) وقال الشافعيّ: السِّرُّ: الجِماعُ. وأنشَد لامْرِئِ القَيسِ (¬5): أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ القَوْمِ أنَّنِي … كَبِرْتُ وأن لا يُحْسِنَ السِّرَّ أمْثَالِي ¬

(¬1) في م: «تشيع». (¬2) سورة البقرة 235. (¬3) هو الأعشى، والبيت في ديوانه 75. (¬4) إزهادها: زهدا فيها لفقرها. (¬5) البيت في ديوانه 28. وفيه: «بسباسة اليوم» وبسباسة: امرأة عيرته بالكبر.

3077 - مسألة: (ولا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إن أجيب، وإن رد، حل، وإن لم يعلم الحال فعلى وجهين)

وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَن يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخيهِ إِنْ أُجِيبَ، وَإنْ رُدَّ، حَلَّ، وَإنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَال فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُواعَدَةُ السِّرِّ أن يقولَ: عندِي جِماعٌ يُرْضِيكِ. [ونحوُه قولُه: رُبَّ جِماعٍ يُرْضيكِ] (¬1). فنُهِيَ عنه لِما فيه مِن الهُجْرِ والفُحْشِ والدَّناءَةِ والسُّخْفِ. فصل: فإن صَرَّحَ بالخِطْبَةِ، أو عَرَّضَ في مَوْضِعٍ يَحْرُمُ التَّعْرِيضُ، ثم تَزَوَّجَها بعدَ حِلِّها، صَحَّ نِكاحُه. وقال مالِكٌ: يُطَلِّقُها تَطْلِيقَةً، ثم يَتَزَوَّجُها. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّ هذا المُحَرَّمَ لم يُقارِنِ (¬2) العَقْدَ، فلم يُؤثِّرْ فيه، كما في النِّكاحِ الثانِي، أو كما لو رَآها مُتَجَرِّدَةً ثم تَزَوَّجَها. 3077 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للرجلِ أن يَخْطُبَ على خِطْبَةِ أخِيه إن أُجِيبَ، وإن رُدَّ، حَلَّ، وَإن لم يَعْلَمِ الحَال فعلى وَجْهَين) الخطْبَةُ بالكَسْرِ: خِطْبَةُ الرجلِ المرأةَ ليَتَزَوَّجَها. وبالضَّمَ: حَمْدُ اللهِ والتَّشَهُّدُ. ولا يَخْلُو حالُ المَخْطُوبَةِ مِن ثَلاثةِ أقْسام: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يفارق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، أن تَسْكُنَ إلى الخاطِبِ لها، فتُجِيبَه، أو تَأذَنَ لوَلِيِّها في إجابَتِه، فهذه يَحْرُمُ على غيرِه خِطْبَتُها؛ لما روَى ابنُ عُمرَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَخْطُبُ أحدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أخيهِ». وعن أبي هُريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَخْطُبُ احدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ، حَتَّى يَنْكِحَ أو يَتْرُكَ». مُتَّفَق عليهما (¬1). ولأنَّ في ذلك إفسادًا على الخاطِبِ الأوَّل، وإيقاعَ العَداوَةِ بينَ الناسِ، ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ أهلِ العِلْمِ، إلَّا أنَّ قَومًا حَمَلُوا النَّهْيَ على الكَراهَةِ، والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في 11/ 179، 180. ويعدل في تخريج الحديث الأول عارضة الأحوذي من 1/ 480 إلى 5/ 70. وحديث أبي هريرة بهذا اللفظ إنما أخرجه البخاري، في: باب لا يخطب على خطبة أخيه. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 24. والنسائي، في: باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 60. وليس هذا اللفظ عند مسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الثاني، أن تَرُدَّه أو (¬1) لا تَرْكَنَ إليه، فيجوزُ خِطبَتُها؛ لما رَوَتْ فاطِمَةُ بِنتُ قَيس أنها أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَتْ أنَّ مُعاويَةَ وأبا جَهْم خَطَباها، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا مُعاويَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَال له، وَأمَّا أبو جَهْم فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أسَامَةَ بنَ زَيدٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). فخَطَبَها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَ إخبارِها إيَّاه بخِطْبَةِ مُعاويَةَ وأبي جَهْم لها. ولأنَّ تَحْرِيمَ خِطْبَتِها على هذا الوَجْهِ إضرارٌ بها؛ فإنَّه لا يَشاءُ أحَدٌ أن يَمْنَعَ المراة النِّكاحَ (1) إلَّا مَنَعَها بخِطْبَتِه إيَّاها. وكذلك لو عَرَّضَ لها في عِدَّتِها بالخِطْبَةِ فقال: لا تَفُوتِيني بنَفْسِكِ. وأشْبَاه هذا، لم تَحْرُمْ خِطْبَتُها؛ لأنَّ في قِصَّةِ فاطمةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 181، وفي صفحة 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُنْكرْ (¬1) خِطْبَةَ أبي جَهْم ومُعاويَةَ لها. وذَكَر ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2) أنَّ ابنَ وَهْبٍ روَى بإسنادِه عن الحارِثِ بنِ سعدِ بنِ أبي ذُبابٍ (¬3)، أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ خَطَب امرأةً على جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ، وعلى مَرْوانَ بنِ الحَكَمِ، وعلى عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، فدَخَلَ على المرأةِ وهي جالِسَةٌ في بيتها، فقال عمرُ: إنَّ جَرِيرَ بنَ عبدِ اللهِ خَطَب، وهو سَيِّدُ أهلِ المشرِقِ، ومروانَ يَخطُبُ، وهو سَيِّدُ شَبابِ قُرَيش، وعبد الله بِنَ عُمرَ، وهو مَن قد عَلِمْتم، وعمرَ بنَ الخطابِ. فكَشَفَتِ المراة السِّتْرَ، فقالت: أجادٌّ أميرُ المؤمنينَ؟ فقال: نعم. فقالت: قد أنْكحْتُ أميرَ المؤمنينَ، فأنْكحُوه. فهذا عمرُ قد خَطَب على واحدٍ بعدَ واحدٍ، قبلَ أن يَعْلَمَ ما تقولُ المرأةُ في الأوَّلِ. ¬

(¬1) في م: «يذكر». (¬2) في: الاستذكار 11/ 16، والتمهيد 13/ 21. كما أخرجه ابن عساكر في تاريخه 16/ 344. (¬3) في م: «سعيد عن أبي رئاب». وهو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذباب. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الثالثُ: أن يُوجَدَ مِن المرأةِ ما يَدُلُّ على الرِّضَا والسُّكُونِ، تَعْرِيضًا لا تَصْريحًا، كقولِها: ما أنْتَ إلَّا رِضًا. و: ما عَنْكَ رَغْبَةٌ. فهذا في حُكْمِ الأوَّلِ، لا يَحِلُّ لغيرِه خِطْبَتُها. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، فإنَّه قال: إذا رَكَن بعضُهم إلى بعضٍ، فلا يَحِلّ لأحدٍ أن يَخْطُبَ. والرُّكُونُ يُسْتدلُّ عليه بالتَّعْرِيضِ تارَةً، وبالتَّصريح أخْرَى. وقال القاضي: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ إباحَةُ خِطْبَتِها. وهو مذهبُ الشافعي في الجديدِ؛ لحديثِ فاطمةَ، حيثُ خَطَبَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وزَعَموا أنَّ الظاهِرَ مِن كلامِها رُكُونُها إلى أحَدِهِما. واسْتَدَلَّ القاضي بخِطْبَتِه لها قبلَ سُوالِها هل وُجِد منها ما دلَّ على الرِّضَا أو لا. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «لا يَخْطُبُ أحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أخيهِ». ولأنَّه وُجِد منها (¬1) ما دَلَّ على الرِّضَا، فحَرُمَتْ خِطْبَتُها، كما لو صَرَّحَتْ بذلك. وأمّا حديثُ فاطمةَ، فلا حُجَّةَ لهم فيه، فإنَّ فيه ما يَدُلَّ على أنَّها لم تَرْكَنْ إلى واحِدٍ منهما مِن وَجهَينَ؛ أحَدُهما، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3078 - مسألة: (والتعويل في الرد والإجابة عليها إن لم تكن

وَالتَّعْويلُ فِي الرَّدِّ وَالإجَابَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً عَلَيهَا، وَإنْ كَانَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ قد كان قال لها: «لَا تَسْبِقِيني بِنَفْسِكِ». وفي رِوايَةٍ: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِيني». فلم تَكُنْ لتَفْتَاتَ بالإِجابَةِ قبلَ إذنِه. الثاني، أنَّها ذَكَرَتْ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كالمُسْتَشِيرَةِ له فيهما أو في العُدُولِ عنهما، وليس في الاسْتِشارَةِ دَلِيلٌ على تَرْجِيحِ (¬1) أحدِ الأمرَين، ولا مَيلٍ إلى أحَدِهِما، على أنَّها إنَّما ذَكَرَتْ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لتَرْجِعَ إلى قولِه ورَأيه، وقد أشارَ عليها بتَركِهِما، لما ذَكَر مِن عَيْبهما، فجَرَى ذلك مَجْرَى رَدِّهَا لهما، وتَصْرِيحِها بمَنْعِهِما. ومِن وَجْهٍ آَخَرَ، وهو أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد سَبَقَهُما بخِطْبَتِها تَعْرِيضًا (¬2) بقولِه لها ما ذَكَرْنا، فكانت خِطْبَتُه لها مَبْنِيَّةً على الخِطْبَةِ السَّابقةِ، بخِلافِ ما نحن فيه. فإن لم يَعْلَمِ الحال فعلى وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ، لعُمومِ النَّهْي. والثاني، يَجُوزُ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإجابَةِ المُحَرِّمَةِ. 3078 - مسألة: (والتَّعْويلُ فِي الرَّدِّ والإِجابةِ عليها إن لم تَكُنْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «لها».

مُجْبَرَةً، فَعَلَى الوَلِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُجْبَرَةً، وإن كانت مُجْبَرَةً، فعلى الوَلِيِّ) أمَّا إذا لم تَكُنْ مُجْبَرَةً؛ فلأنَّها أحَقُّ بنَفْسِها مِن وَلِيِّها، فإن أجابَ هو، وَرغِبَتْ عن النِّكاحِ، كان الأمْرُ أمرَها. فإن أجابَ وَلِيُّها فرَضِيَتْ، فهو كإجابَتِها، وإن سَخِطَتْ فلا حُكْمَ لإِجابَتِه؛ لأنَّ الحَقَّ لها. ولو أجابَ الوَلِيُّ في حَقِّ المُجْبَرَةِ، فكَرِهَتِ المُجابَ واخْتارَتْ غيرَه، سَقَط حُكْمُ إجابَةِ وَلِيِّها؛ لكَوْنِ اختِيارِها مُقَدَّمًا على اخْتِيارِه. وإن كَرِهَتْه ولم تَخْتَرْ سِواه، فيَنْبَغِي أن يَسْقُطَ حُكْمُ الإِجابَةِ أيضًا؛ لأنَّه قد أُمِرَ باسْتِثمارِها، فلا يَنْبَغِي له أن يُكْرِهَها على مَن (¬1) لا تَرْضاه. وإن أجابَتْ ثم رَجَعَتْ عن الإِجابَةِ وسَخِطَتْه، زال حُكْمُ الإِجابَةِ؛ لأنَّ لها الرُّجُوعَ. وكذلك إذا رَجَع الوَلِيّ المُجْبِرُ عن الإِجابةِ، زال حُكْمُها؛ لأنَّ له النَّظَرَ في أمْرِ مُوَلِّيَته، ما لم يَقَعِ العَقْدُ. وإن لم تَرْجِعْ هي ولا وَلِيُّها، لكنْ تَرَكَ الخاطِبُ الخِطْبَةَ، أو (¬2) أذِنَ فيها، جازت خِطْبَتُها؛ لما رُوِيَ في حديثِ ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه نَهَى أن يَخْطُبَ الرجلُ على خِطْبَةِ أخِيه، حتى يَأذَنَ أو يَتْرُكَ. رَواه البخاريُّ (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «ما». (¬2) في م: «و». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 791، 180، وصفحة 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وخِطْبَةُ الرجلِ على خِطبةِ أخيه (¬1) في مَوْضِعِ النَّهْي مُحَرَّمَة. قال أحمدُ: لا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يَخْطُبَ في هذه الحالِ. وقال أبو حَفْص العُكْبَرِيُّ: هي مَكْرُوهَةٌ غيرُ مُحَرَّمَةٍ، وهذا نَهْيُ تَأدِيبٍ. ولَنا، ظاهِرُ النَّهْي، فإنَّ مُقْتَضاه التَّحْرِيمُ، ولأنَّه نَهْيٌ عن الإِضْرارِ بالآدَمِيِّ المَعْصُومِ، فكان على التَّحْرِيمِ، كالنَّهْي عنِ أكْلِ مالِه. فإن فَعَل فنِكاحُه صحيحٌ. نصَّ عليه أحمدُ فقال: لا يُفرَّقُ بينَهما. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ورُوِيَ عن مالكٍ، وداودَ، أنَّه لا يَصِحُّ. وهو قياسُ قولِ أبي بكر؛ لأنَّه قال في البَيعِ على بَيعِ أخِيه: هو باطِل. وهذا في مَعْناه؛ لأنَّه نِكاحٌ مَنْهِيٌّ عنه، فكان باطِلًا، كنِكاحِ الشِّغارِ. ولَنا، أنَّ المُحَرَّمَ لم يُقارِنِ العَقْدَ، فلم يُؤثِّرْ، كما لو صَرَّحَ بالخِطْبَةِ في العِدَّةِ. فصل: ولا يُكْرَهُ للوَلِيِّ الرُّجُوعُ عن الإجابَةِ (¬2) إذا رَأَى المَصْلَحَةَ لها في ذلك؛ لأنَّ الحَقَّ لها، وهو نائِب عنها في النَّظرَ لها، فلم يُكْرَهْ له الرُّجُوعُ إذا رَأى المَصْلَحَةَ، كما لو ساوَمَ في بَيعِ دارها، ثم رَأى المَصْلَحَةَ لها (¬3) في تَرْكِها. ولا يُكْرَهُ لها أيضًا الرُّجُوعُ إذا كرِهَتِ الخاطِبَ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «غيره». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدُ عُصر يَدُومُ الضَّرَرُ فيه، فكان لها الاحْتِياطُ لنَفْسِها، والنَّظرُ في خِطْبَتِها. وإن رَجَعا عن ذلك لغيرِ غَرَض، كُرِهَ؛ لما فيه مِن إخْلافِ الوَعْدِ والرُّجُوعِ عن القولِ، ولم يَحْرُمْ؛ لأنَّ الحَقَّ بعدُ لم يَلْزَمْهما (¬1)، كمَن ساوَمَ بسِلْعَتِه، ثم بدا له أن لا يَبِيعَها. فصل: فإن كان الخاطِبُ الأوَّلُ ذِمِّيًّا، لم تَحْرُمِ الخِطْبَةُ على خِطْبَتِه. نصَّ عليه أحمدُ، فقال: «لا يَخْطُبُ على خِطْبَةِ أخِيه، ولا يُساومُ على سَوْمِ أخيه». إنَّما هو للمُسْلِمينَ، ولو خَطَب على خِطْبَةِ يَهُودِي أو نَصْرانِيٍّ، أو سام على سَوْمِهما، لم يَكُنْ داخلًا في ذلك؛ لأنَّهم ليسوا بإخْوَةٍ للمُسْلمِينَ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: لا يَجُوزُ أيضًا؛ لأنَّ هذا خَرَجَ مَخْرَجَ (2) الغالِبِ، لا لتَخْصيص المُسْلِمِ به. ولَنا، أنَّ لَفْظَ النَّهْي خاصٌّ في المسْلمينَ، وإلْحاقُ غيرِه به إنَّما يَصِحُّ إذا كان مثلَه، وليس الذِّمِّي كالمُسْلِم، ولا حُرْمَتُه كحُرْمَتِه، ولذلك لم تَجِبْ إجابَتُهم في دَعْوةِ الوَلِيمَةِ ونحوها. وقولُه: خَرَج مَخْرَجَ (¬2) الغالِبِ. قُلْنا: متى كان في المَخْصُوصِ بالذِّكْرِ (¬3) مَعْنًى يصْلُحُ أن يُعْتَبَرَ في الحُكْمِ، لم يَجُزْ حَذْفُه ولا تَعْدِيَةُ الحُكْمِ بدُونِه، والأخُوَّةُ الإسلامِيَّةُ لها تَأثِيرٌ في وُجُوبِ الاحْتِرامَ، وزِيادَةِ الاحْتِياطِ في رِعايَةِ حُقُوقِه، وحِفْظِ قَلْبِه، واسْتِيفاءِ (¬4) مَوَدَّتِه، فلا يَجُوزُ حَذْفُ ذلك. ¬

(¬1) في النسختين: «يلزمها». وانظر المغني 9/ 571. (¬2) في الأصل: «مجرى». (¬3) سقط من: م. (¬4) كذا في النسختين، وفي المغني 9/ 572: «استبقاء».

3079 - مسألة: (ويستحب عقد النكاح مساء يوم الجمعة)

وَيُسْتَحَبُّ عَقْدُ النِّكَاحِ مَسَاءَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَأنْ يُخْطَبَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3079 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ عَقْدُ النِّكاحِ مساءَ يَوْمِ الجُمُعَةِ) لأنَّ جَماعَةً مِن السَّلَفِ اسْتَحَبُّوا ذلك؛ منهم ضَمْرَةُ بنُ حَبِيبٍ، وراشِدُ بنُ سَعْدٍ (¬1)، وحَبِيبُ بنُ عُتْبَةَ (¬2). ولأنَّه يومٌ شَرِيف ويومُ عيدٍ، وفيه خُلِقَ آدمُ - عليه السلام - (¬3). والمساءُ به (¬4) أوْلَى؛ فإنَّ أبا حَفْص روَى بإسنادِه، عن أبي هُرَيرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَسُّوا بِالإمْلَاكِ، فَإِنَّهُ أعظَمُ لِلْبَرَكَةِ» (¬5). ولأنَّه أقْرَبُ إلى مَقْصُودِه، وأقلُّ لانتظارِه. 3080 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (أنْ يَخطُبَ قَبْلَ العَقْدِ بخُطْبَةِ ابن مسعودٍ) خُطْبَةُ العاقِدِ أو غيرِه قبلَ الإِيجابِ والقَبولِ مُسْتَحَبَّة، ثم يكون ¬

(¬1) في م: «سعيد». (¬2) في م: «عنية». ولم نجد له ترجمة. (¬3) انظر ما تقدم في 5/ 157. (¬4) سقط من: م. (¬5) قال في الإرواء 6/ 221: لم أقف على إسناده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العقدُ بعدَ ذلك، لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أمْر ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ للهِ، فَهُوَ أقطَعُ» (¬1). وقال: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيسَ فِيهَا شَهَادَةٌ، فَهِيَ كالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» (¬2). رَواهما ابنُ المُنْذِرِ. ويُجْزِئُ مِن ذلك أن يَحْمَدَ اللهَ تعالى، ويَتَشَهَّدَ، ويُصَلِّيَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويُسْتَحَبُّ أن يَخْطُبَ بخُطْبَةِ ابنِ مسعودٍ، التي قال: عَلَّمَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ في إلصلاةِ والتَّشَهُّدَ في الحاجَةِ، قال: التَّشَهُّدُ: [في الحاجَةِ. أنِ] (¬3) الحمدُ للهِ نَحْمَدُه، ونَستَعينُه، ونَعُوذُ باللهِ مِن شُرُورِ أنْفُسِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلَا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، ويَقرَأ ثَلاثَ آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}. الآية. رَواه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 220. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الخطبة، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 560. والترمذي، في: باب ما جاء في خطبة النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 22. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 302، 343. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ، والتِّرمِذِيّ (¬1)، وقال: حديث حسن. قال الخَلَّالُ: ثنا أبو سليمانَ (¬2) إمامُ طَرَسُوسَ، قال: كان أحمدُ بنُ حنبل إذا حَضَر عَقْدَ نِكاحٍ فلم يُخْطَبْ فيه (¬3) بخُطْبَةِ ابنِ مَسْعودٍ، قامَ (¬4) وتَركَهم. وهذا كان مِن أبي عبدِ اللهِ على طَريقِ المُبالغَةِ في اسْتِحْبابِهَا، لا على الإِيجابِ لها؛ فإنَّ حَرْبَ بنَ إسماعيلَ قال: قُلْتُ لأحمدَ: فيَجِبُ أن تكونَ خُطْبَةُ النِّكاحِ مثلَ قولِ ابنِ مسعودٍ؛ فوَسَّعَ في ذلك. وقد رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه كان إذا دُعِيَ لتَزْويجٍ، قال: لَا تَفْضُضُوا (¬5) علينا النَّاسَ، الحمدُ للهِ، وصلَّى اللهُ على محمدٍ، إنَّ فُلانًا يَخْطُبُ إليكم، فإن أنْكَحْتُمُوه فالحَمدُ للهِ، وإن رَدَدْتُمُوه فسُبْحانَ الله (¬6). والمُسْتَحَبُّ خُطبة واحِدَة (¬7) يَخْطُبُها ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في خطبة النكاح، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 489. والترمذي، في: باب ما جاء في خطبة النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 19 - 21. كما أخرجه النسائي، في: باب كيفية الخطبة، من كتاب الجمعة. المجتبى 3/ 85، 86. وابن ماجه، في: باب خطبة النكاح. من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 609. والدارمي، في: باب في خطبة الحاجة، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 142. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 312، 393، 432. (¬2) لم نجده. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «قال». (¬5) في الأصل: «تقصبوا». وفي م: «تغصوا». والمثبت من السنن الكبري. أي: لا تفرقوا جمعهم. (¬6) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 181. (¬7) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَلِيُّ أو الزَّوجُ أو غيرُهما. وقال الشافعيُّ: المَسْنُونُ خُطْبَتان. هذه التي ذَكَرْناها في أوَّلِه، وخُطْبَةٌ مِن الزَّوجِ قبلَ قَبُولِه. والمَنقولُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن السَّلَفِ، خُطْبَة واحِدَةٌ، وهو أوْلَى ما اتُّبعَ. فصل: وليستِ الخُطبَةُ واجِبَةً عندَ أحَدٍ مِن أهلِ العِلمِ فيما عَلِمْنَا (¬1) إلَّا داودَ، فإنَّه أوْجَبَها، لما ذَكَرْناه. ولَنا، أنَّ رجلًا قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: زَوِّجْنِيها. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولم يَذْكُرْ خُطْبَةً. وخُطِبَ إلى ابنِ عمرَ مَوْلاةٌ له، فما زادَ على أن قال: قد أنْكَحْتُك على ما أمَرَ اللهُ، على إمْساكٍ بمَعْرُوفٍ، أو تَسْرِيحٍ بإحسانٍ (¬3). وقال جَعْفَرُ بنُ محمدٍ عن أبِيه: إن كان الحُسَينُ ليزَوجُ بعضَ بَناتِ الحَسَنِ وهو (¬4) يَتَعَرَّقُ العَرْقَ (¬5). رَواهُما ابنُ المنذرِ. وروَى أبو داودَ (¬6) بإسْنادِه، عن رجلٍ مِن بني ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 380. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القول عند النكاح، من كتاب النكاح. المصنف 6/ 188، 189. وابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يزوج أيشترط إمساكًا بمعروف، من كاب النكاح. المصنف 4/ 143. وسعيد بن منصور، في: باب الشرط عند عقد النكاح. السنن 1/ 186، 187. والبيهقي، في: باب ما يستحب للولي من الخطبة والكلام، من كاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 147. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أي يأكل ما على العظم من لحم رقيق. والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 188. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 381. (¬6) في: باب في خطبة النكاح، من كاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 489.

3081 - مسألة؛ (و)

وَأنْ يُقَال لِلْمُتَزَوِّجِ: بَارَكَ اللهُ لَكُمَا وَعَلَيكُمَا، وَجَمَعَ بَينَكُمَا فِي خَيرٍ وَعَافِيَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سُلَيمٍ، قال خَطَبْتُ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمامَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلِبِ، فأنْكَحَنِي مِن غيرِ أن يَتَشَهَّدَ. ولأَنَّه عَقْدُ مُعَارضَةٍ، فلم تَجِبْ فيه الخُطْبَةُ كالبَيعِ، وما اسْتَدَلُّوا به يَدُلُّ على عَدَمِ الكَمال بدونِ الخُطْبَةِ، لا على الوُجُوبِ. 3081 - مسألة؛ (و) يُسْتَحَبُّ (أن يُقَال للمُتَزَوِّجِ: بارَكَ اللهُ لكما، وعليكما، وجَمَع بينَكما في خَير وعافِيَةٍ) وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى على عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ أثَرَ (¬1) صُفْرَةٍ، فقال: «مَا هَذَا؟». قال: إنِّي تَزَوَّجْتُ على وَزْنِ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ (¬2) قلل: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، أوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». مُتَّفقٌ عليه (¬3). قال بعضُ أهلِ العلمِ: وَزْنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا. . . .}، من كتاب البيوع، وفي: باب إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، من كتاب مناقب الأنصار، وفي: باب قول الرجل لأخيه: انظر أيّ زوجتي شئت، وباب قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً. . . .}. وباب الصفرة للمتزوج. . . .، وباب كيف يدعى للمتزوج، وباب الولاة حق، وباب الوليمة ولو بشاة، من كتاب النكاح، وفي: باب الإخاء والحلف، من كتاب الأدب، وفي: باب الدعاء للمتزوج، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 3/ 68، 69، 5/ 39، 7/ 4، 25، 27، 30، 31، 8/ 27، 102. ومسلم، في: باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1042، 1043. =

3082 - مسألة: (ويقول إذا زفت إليه: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)

وَإذَا زُفَّتْ إِلَيهِ، قَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيهِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَواةٍ خَمْسَةُ دَراهِمَ، وذلك ثَلاثةُ مَثاقِيلَ ونِصفٌ مِن الذَّهَبِ. وقال المُبَرِّدُ: الصَّوابُ عندَ أهلِ العَرَبِيَّةِ أن يُقال: على (¬1) نَواةٍ. فحَسْبُ؛ فإنَّ النَّواةَ عندَهم اسْمٌ لخَمْسَةِ دَراهِمَ، كما أنَّ الأوقِيَّةَ أرْبَعون دِرْهَمًا، والنَّشَّ عِشْرُونَ. 3082 - مسألة: (ويقُولُ إذا زُفَّتْ إليه: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألكَ خَيرَها وخَيرَ ما جَبَلْتَها عليه، وأعُوذُ بك مِن شَرِّها وشَرِّ ما جَبَلْتَها عليه) لما روَى صالحُ بنُ أحمدَ، في «مَسائلِه»، عن أبيه، ثنا داودُ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سعيدٍ (¬2) مَوْلَى أبي أسَيدٍ، قال: تَزَوَّجَ (¬3)، فحَضَرَه عبدُ الله بنُ مَسعودٍ، وأبو ذَرٍّ، وحُذَيفَةُ، وغيرُهم مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فحَضَرَتِ الصلاةُ، فقَدَّمُوه وهو مَمْلُوكٌ، فصَلَّى بهم، ثم قالوا ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب قلة المهر، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 486. والترمذي، في: باب ما جاء في الوليمة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 2، 3. وابن ماجه، في: باب الوليمة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 615، والدارمي، في: باب في الوليمة، من كتاب الأطعمة، وكتاب النكاح 2/ 104، 143. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الوليمة، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 545. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 165، 190، 205، 271. (¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أسعد». (¬3) أي أبو سعيد مولى أبي أسيد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له: إذا دَخَلْتَ على أهلِكَ فصَلِّ رَكعتَين، ثم خُذْ برَأْسِ أهْلِكَ، فقُلْ: اللَّهم بارِكْ لي في أهْلِي، وبارِكْ لأهْلِي فِيَّ، وارْزُقْهُم مِنِّي، وارْزُقنِي منْهم. ثم شَأنَك وشَنَ أهلِكَ (¬1). وروَى أبو داودَ (¬2) بإسْنادِه عن عَمْرِو بنَ شُعيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إِذَا تَزَوج [أحَدُكُمُ امْرأةً أو] (¬3) اشْتَرَى خَادِمًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألكَ خَيرَهَا، وَخَيرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيهِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيهِ. وإذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأخُذْ بِذُرْوَةِ سَنَامِهِ، وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ». ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 2/ 391، 6/ 191، 192. (¬2) في: باب في جامع النكاح، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 498. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله، من كتاب النكاح،: و: باب شراء الرقيق، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 1/ 617، 618، 2/ 757. (¬3) في م: «امرأة و».

باب أركان النكاح وشروطه

بَابُ أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَشرُوطِهِ فَأرْكَانُهُ الإيجَابُ وَالقَبُولُ. وَلَا يَنْعَقِدُ الْإيجَابُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْويجِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهُمَا، أو بِمَعْنَاهُمَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ أرْكَانِ النِّكَاحِ وَشُرُوطِه (أرْكانُه الإيجابُ والقَبُولُ، فلا يَنْعَقِدُ إلَّا بلَفْظِ النِّكَاحِ والتَّزْويج بالعَرَبيَّةِ لمَن يُحْسِنُهما، أو بمَعناهُما الخاصِّ بكلِّ لسانٍ لمَن لا يُحْسِنُهما) وجُملتُه، أنَّ النِّكاحَ يَنْعَقِدُ بلَفْظِ النكاحِ والتَّزْويجِ، والجَوابِ عنهما إجماعًا، وهما اللَّذانِ وَرَد بهما نصُّ الكتابِ في قولِه سبحانَه: {زَوَّجْنَاكَهَا} (¬1). وقولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬2). وسَواءٌ اتَّفَقا مِن الجانِبَين أو اخْتَلَفا، مثلَ أن يقولَ: ¬

(¬1) سورة الأحزاب 37. (¬2) سورة النساء 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوَّجْتُكَ ابنتِي. فيقولَ: قَبِلْتُ هذا النِّكاحَ -أو- هذا التَّزْويجَ. و (¬1) لا يَنْعَقِدُ بغيرِ هَذَين اللَّفْظَين. وبه قال عطاءٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيّ، ورَبِيعَةُ، والشافعيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ، والحسنُ بنُ صالحٍ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيدٍ: يَنْعَقِدُ بلفظِ الهِبَةِ والصَّدَقَةِ والبَيعِ والتَّمْلِيكِ. وفي لفظِ الإِجارَةِ عن أبي حنيفةَ رِوايَتان. وقال مالكٌ: يَنْعَقِدُ بذلك إذا ذَكَر المَهْرَ. واحْتَجُّوا بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ رجلًا امرأةً فقال: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». رَواه البخاريُّ (¬2). ولأنَّه لَفْظ يَنْعَقِدُ به تَزْويجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فانْعَقَدَ به نِكاحُ ¬

(¬1) في الأصل: «أو». (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 380.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّتِه، كلَفْظِ الإِنْكاحِ والتَّزْويجِ، ولأنَّه أمْكَنَ تَصْحِيحُه بمَجازِه، فوَجَبَ تَصْحيحُه، كإيقاعِ الطَّلاقِ بالكِناياتِ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إلى قولِه: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). فذَكَرَ ذلك خالصًا لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّه لفظٌ يَنْعَقِدُ به غيرُ النِّكاحِ، فلم يَنْعَقِدْ به النِّكاحُ، كلَفْظِ [الإِجارَةِ و] (¬2) ¬

(¬1) سورة الأحزاب 50. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِباحَةِ والإِحلالِ، [ولأنَّه ليس بصَرِيحٍ النِّكاحِ، فلا يَنْعَقِدُ به، كالذي ذَكَرْنا] (¬1). وهذا لأنَّ الشَّهادَةَ شرْطٌ في النِّكاحِ، والكِنايَةُ إنَّما تُعْلَمُ (¬2) بالنيةِ، ولا يُمْكِنُ الشَّهادَةُ على النيةِ؛ لعَدَمِ اطِّلاعِهم طيها، فيَجِبُ أن لا يَنْعَقِدَ، وبهذا فارَقَ بَقِيَّةَ العُقُودِ والطَّلاقَ. وأمَّا الخَبَرُ، فقد رُوِيَ: «زوَّجْتُكَهَا» و «أنْكَحْتُكَهَا» و¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسختين: «تعمل» والمثبت من المغني 9/ 461.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «زَوَّجْنَاكَهَا». مِن طُرُقٍ صحِيحَةٍ، والقِصَّةُ واحِدَةٌ، فالظاهِرُ أنَّ الرَّاويَ روَى بالمعنَى ظَنًّا منه أنَّ مَعْناهما واحِدٌ، فلا يكنُ حُجَّةً، وإن كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ بينَ الألْفاظِ، فلا حُجَّةَ لهم فيه، لأنَّ النِّكاحَ انْعَقَدَ بأحَدِها (¬1)، والباقي فَضْلَةٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «بأحدهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن قَدَرَ على لَفْظِ النِّكاحِ بالعَرَبِيَّةِ، لم يَصِحَّ عَقْدُه بغيرِها. وهذا أحَدُ أقْوالِ الشافعيِّ. وعندَ أبي حنيفةَ يَنْعَقِدُ؛ لأنَّه أتَى بلَفْظِه الخاصِّ، فانْعَقَدَ به، كما يَنْعَقِدُ بالعَرَبِيَّةِ. ولَنا، أنَّه عَدَل عن لَفْظِ الإِنْكاحِ والتَّزْويج مع القُدْرَةِ عليه، فلم يَصِحَّ، كلَفْظِ الإِحْلالِ، ولأنَّ الشَّهادَةَ شَرْط في النِّكاحِ، وهي واقِعَة على اللَّفْظِ، وغيرُ هذا اللَّفْظِ ليس بمَوْضُوع للنِّكاحِ، وإنَّما يُصْرَفُ إليه بالنيةِ، ولا شَهادَةَ عليها، فيَخْلُو النِّكاحُ عن الشَّهادَةِ. وما قاله أبو حنيفةَ أقْيَسُ، قياسًا على سائِرِ العُقُودِ، وما ذَكَرُوه مِن تَعَذُّرِ (¬1) الشَّهادَةِ على غيرِ العَرَبِيَّةِ مُلْغًى بما إذا لم يُحْسِنِ العَرَبِيَّةَ. فصل: فأمَّا مَن لا يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ، فيَصِحُّ منه عَقْدُ النِّكاحِ بلِسانِه؛ لأنَّه عاجِزٌ عمِّا سِوَاه، فسَقَطَ عنه، كالأخْرَسِ، ويَحْتاجُ إلى أن يَأتِيَ بمَعْناهما الخاصِّ، بحيث يَشْتَمِلُ على مَعْنَى اللَّفْظِ العَرَبِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «مقدر».

3083 - مسألة: (فإن قدر على تعلمها بالعربية، لم يلزمه)

فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي أحدِ الْوَجْهَينِ. وَالْقَبُولُ أنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ. أوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُحْسنُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3083 - مسألة: (فإن قَدَر على تَعَلُّمِهَا بالعَرَبِيَّةِ، لم يَلْزَمْه) ذلك. وفيه وَجْهٌ ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، أنَّه يَلْزَمُه؛ لأنَّ ما كانتِ العَرَبِيَّة شَرْطًا فيه، لَزِمَه أن يَتَعَلَّمَها مع القُدْرَةِ، كالتَّكْبيرِ (¬1). ولَنا، أنَّ النِّكاحَ غيرُ واجِبٍ، فلم يَجِبْ تَعَلُّمُ أرْكانِه بالعَرَبِيَّةِ، كالبَيعِ، بخِلافِ التَّكْبيرِ. 3084 - مسألة: (والقَبُولُ أن يَقُولَ: قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ. أو ما يَقُومُ مَقامَه في حَقِّ مَن لا يُحْسِنُ) فإن كان أحَدُ المُتَعاقِدَين يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ ¬

(¬1) في الأصل: «التدبير».

3085 - مسألة: (فإن اقتصر على قوله: قبلت)

فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِ: قَبِلْتُ. أوْ قَال الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ: أَزَوَّجْتَ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ الآخَرِ، أتَى الذي يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ بها، والآخَرُ يَأتِي بلِسانِه. فإن كان أحَدُهما لا يُحْسِنُ لِسانَ الآخَرِ، احْتاجَ أن يَعْلَمَ أنَّ اللَّفْظَةَ التي أتَى بها صاحِبُه لَفْظَةُ الإِنْكاحِ، بأن يُخْبِرَه بذلك ثِقَةٌ يَعْرِفُ اللِّسَانَين جَمِيعًا. فصل: فأمَّا الأخْرَسُ، فإن فُهِمَتْ إشارَتُه، صَحَّ نِكاحُه بها؛ لأنَّه مَعْنًى لا يُسْتَفادُ إلَّا مِن جِهَتِه، فصَحَّ بإشارَتِه، كبَيعِه وطَلاقِه ولِعانِه. وفي كتابةِ (¬1) القادِرِ على النُّطْقِ وَجْهان، ذَكَرَهما في «المُجَرَّدِ»؛ أولَاهما (¬2)، عَدَمُ الصِّحَّةِ للاسْتِغْناءِ عنها. وإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه، لم يَصِحَّ منه، كما لا يَصِحُّ غيرُه مِن التَّصرُّفاتِ القَوْلِيَّةِ، ولأنَّ النِّكاحَ عَقْدٌ بينَ شَخْصَين، فلا بُدَّ مِن فَهْمِ كلِّ واحِدٍ منهما ما يَصْدُرُ عن صاحِبِه. ولو فَهِم ذلك صاحِبُه العاقِدُ معه، لم يَصِحَّ حتى يَفْهَمَ الشُّهُودُ أيضًا، لأنَّ الشَّهادَةَ شَرْطٌ، ولا تَصِحُّ على ما لا يُفْهَمُ. قال أحمدُ: لا يُزَوِّجُه وَلِيُّه. يَعْنِي إذا كان بالِغًا؛ لأنَّ الخَرَسَ لا يُوجِبُ الحَجْرَ، كالصَّمَمِ. 3085 - مسألة: (فإنِ اقْتَصَرَ على قَوْلِه: قَبِلْتُ) بأن يَقُولَ الوَلي: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. فيَقُولَ: قَبِلْتُ. صَحَّ وانْعَقَدَ النِّكاحُ. وقال الشَّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَنْعَقِدُ حتى يقولَ: قَبِلْتُ هذا النِّكاحَ. أو: هذا التَّزْويجَ. لأنَّه كِنايَةٌ في النكاحِ يَفْتَقِرُ إلى النيةِ والإِضْمارِ، فلم يَنْعَقِدْ ¬

(¬1) في م: ««شارة». (¬2) في م: «أولهما».

قَال: نَعَمْ. وَلِلْمُتَزَوِّجِ: أقبِلْتَ؟ قَال: نَعَمْ. صَحَّ. ذَكَرهَ الْخِرَقِيّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به، كلَفْظِ الهِبَةِ والبَيعِ. ولَنا، أنَّ القَبُولَ صَرِيحٌ في الجَوابِ، فانْعَقَدَ به، كما يَنْعَقِدُ به البَيعُ وسائِرُ العُقُودِ. وقولُهم: يَفْتَقِرُ إلى النيةِ. مَمْنُوعٌ، فإنَّه جَوابٌ لا يَنْصَرِفُ إلَّا إلى المَذْكُورِ. وكذلك (إن قال الخاطِبُ للوَلِيِّ: أزَوَّجْتَ؟ قال: نعم. وللمُتَزَوِّجِ: أقَبِلْتَ؟ قال: نَعَمْ. صَحَّ. ذكره الخرقيُّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ) لأنَّ النِّكاحَ إنَّما يَصِحُّ بلَفظ الإِنْكاحِ والتَّزْويجِ، وما نَطَق الوَلِيُّ بواحِدٍ منهما، ولا نَطَق المُتَزَوِّجُ بالقَبُولِ. وقال الشافعيُّ: لا يَنْعَقِدُ حتى يقولَ معه: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. ويقولَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ هذا التَّزْويجَ. لأنَّ هَذَين رُكْنَا العَقْدِ، فلا يَنْعَقِدُ بدُونِهما. ولَنا، أنَّ «نعم» جَوابٌ لقَوْلِه: أزَوَّجْتَ (¬1) -وَقَبِلْتَ؟ والسُّؤالُ يكونُ (¬2) مُضْمَرًا في الجَوابِ، مُعادًا فيه، فيَكونُ مَعْنَى «نَعَمْ» ¬

(¬1) في م: «زوجتك». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الوَلِيِّ: زَوَّجْتُه ابْنَتِي. ومعنى «نَعَمْ» مِن المُتَزَوِّجِ: قَبلْتُ هذا التَّزْويجَ. ولا احْتِمال فيه، فيَجبُ أن يَنْعَقِدَ به؛ ولذلك لمَّا قال اللهُ تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (¬1). كان إقْرارًا منهم بوُجْدانِ ذلك أنَّهم وَجَدُوا ما وَعَدَهم رَبُّهم حَقًّا. ولو قِيَل لرجل (¬2): لي عليكَ ألْفُ دِرْهَمٍ؟ قال: نعم. كان إقْرارًا صَرِيحًا لا يَفْتَقِرُ إلى نِيَّةٍ، ولا يُرْجَعُ في ذلك إلى تَفْسِيرِه، وبمِثْلِه تُقْطَعُ اليَدُ في السَّرِقَةِ، وهو حَدٌّ يُدْرَأ بالشُّبُهاتِ، فوَجَبَ أن يَنْعَقِدَ به التَّزْويجُ، كما لو لَفَظ بذلك. ¬

(¬1) سورة الأعراف 44. (¬2) سقط من: الأصل.

3086 - مسألة: (فإن تقدم القبول الإيجاب، لم يصح)

وَإنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ الإيجَابَ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3086 - مسألة: (فإن تَقَدَّمَ القَبُولُ الإِيجابَ، لم يَصِحَّ) سَواءٌ كان بلَفْظِ الماضِي، مثلَ أن يقولَ: تَزَوَّجْتُ ابْنَاتك (¬1). فيقولَ: زَوَّجْتُكَ. أو بلَفْظِ الطَّلَبِ، كقَوْلِه: زَوِّجْنِي ابْنَاتَكَ. فيَقُولُ: زَوَّجْتُكَها. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ: يَصِحُّ فيهما حميعًا؛ لأنَّه قد وُجِدَ الإِيجابُ والقَبُولُ، فصَحَّ، كما لو تَقَدَّمَ الإِيجابُ. ولَنا، أنَّ القَبُولَ إنَّما يكونُ للإِيجابِ، فمتى وُجِدَ قبلَه (¬2)، لم يَكُنْ قَبُولًا؛ لعَدَمِ مَعْناه، فلم يَصِحَّ، كما لو تَقَدَّمَ بلَفظِ الاسْتِفْهامِ، ولأنَّه لو تَأخَّرَ عن الإِيجابِ بلَفْظِ الطَّلَبِ، لم يَصِحَّ، فإذا تَقَدَّمَ كان أولَى، كصِيغَةِ (¬3) الاسْتِفْهامِ، ولأنَّه لو أتَى بالصِّيغَةِ المَشْرُوعَةِ مُتَقَدِّمَةً فقال: قَبِلْتُ هذا النِّكاحَ. فقال الوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. لم يَصِحَّ، فلأن لا يَصِحَّ إذا أتَى بغيرِها أوْلَى. فإن قالُوا: يَصِحُّ كالبَيعِ والخُلْعِ. قُلْنا: البَيعُ لا يُشْتَرَطُ ¬

(¬1) في م: «البنت». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «لصيغة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه صِيغَةُ الإِيجابِ، بل يَصِحُّ بالمُعاطَاةِ، ولا يَتَعَيَّنُ فيه لَفْظٌ، بل يَصِحُّ بأيِّ لَفْظٍ كان إذا أدَّى المَعْنَى، ولا يَلْزَمُ الخُلْعُ؛ لأنَّه يَصِحُّ تَعْلِيقُه على الشُّرُوطِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ إذا تَقَدَّمَ بلَفْظِ الطَّلبِ؛ لأنَّ في حديثِ المرأةِ التي وَهَبَتْ نَفْسَها للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقامَتْ طويلًا، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، زَوِّجْنِيهَا إن لم يَكُنْ لك بها حاجَةٌ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». وهو حديث صَحِيحٌ، رَواه البخارِي (¬1). ولم يُنْقَلْ أنَّه قال: قَبِلْتُ. ولا ما يُودِّي مَعْناه، والظاهرُ أنَّه لو وُجِدَ منه لَفْظٌ لَنُقِلَ. وعلى قياسِ ذلك إذا تَقدَّمَ بلَفْظِ الماضِى. فصل: إذا عَقَد النِّكاحَ هازِلًا أو تَلْجِئةً، صَحَّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلَاثٌ هَزْلُهُنَّ جِدٌّ وَجِدُّهُنَّ جِدٌّ؛ الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، والرَّجْعَةُ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2). وعن الحسنِ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 14/ 380. (¬2) في: باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 156، 157. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الطلاق على الهزل، من كتاب الطلاق، سنن أبي داود 1/ 507. وابن ماجه، في: باب من طلق أو أنكح أو راجع لاعبا، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 658. وحسنه في الإرواء 6/ 224 - 228.

3087 - مسألة: (وإن تراخى)

وَإنْ تَرَاخَى عَنْهُ، صَحَّ، مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يقطعهُ فَإِنْ تفَرَّقَا قَبْلَهُ، بَطَلَ الإيجَابُ. وَعَنْهُ، لَا يَبْطُلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَكَحَ لَاعِبًا، أوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أوْ أعْتَقَ لَاعِبًا، جَازَ» (¬1). وقال عمرُ: أرْبَعٌ جائِزاتٌ إذا تُكلِّمَ بهِنَّ؛ الطَّلاقُ، والعَتَاقُ، والنِّكاحُ، والنَّذْرُ (¬2). وقال عليٌّ: أرْبَعٌ لا لَعِبَ فِيهِنَّ، الطَّلاقُ، والعَتَاقُ، والنِّكاحُ، والنَّذْرُ. 3087 - مسألة: (وإن تَرَاخَى) القَبُولُ (عن الإِيجابِ، صَحَّ، ما داما في المجْلِس ولم يَتَشاغَلا) عنه بغيرِه؛ لأنَّ حُكْمَ المَجْلِسِ حُكْمُ حانَةِ العَقْدِ، بدَلِيلِ صِحَّةِ القَبْضِ فيما يُشْتَرَطُ القَبْضُ فيه، وثُبُوتِ الخِيارِ في عُقُودِ المعاوَضَاتِ. 3088 - مسألة: (فإن تَفَرَّقَا قبلَه، بَطَل الإِيجابُ) لأنَّه لا يُوجَدُ ¬

(¬1) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 106. والطبري، في: تفسيره 2/ 482. وحسن إسناده إلى الحسن، في: الإرواء 6/ 227. (¬2) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 370، 371. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 341.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْناه، فإنَّ الإِعْراضَ قد وُجِدَ مِن جهَتِه بالتَّفَرُّقِ، فلا يكُونُ قَبُولًا. وكذلك إذا تَشاغَلا عنه (¬1) بما قَطَعَه؛ لأَنَّه مُعْرِضٌ عن العَقْدِ بالاشْتِغالِ عن قبُولِه (وعنه، لا يَبْطُلُ) فإنَّ أبا طالِبٍ نَقَل عن أحمدَ، في رجل مَشَى إليه قَوْمٌ، فقالوا له: زَوِّجْ فُلانًا. قال: قد زَوَّجْتُه على ألْفٍ. فرَجَعُوا إلى الزَّوْجِ فأخْبرُوه، فقال: قد قَبِلْتُ. هل يَكونُ هذا نِكاحًا؟ قال: نعم. قال القاضي: هذا مَحْمُول على أنَّه وَكَّلَ مَن قَبِلَ التَّزْويجَ في المجْلِسِ. وقال أبو بكر: مسْألَةُ أبي طالِبٍ تَتَوَجَّهُ على قَوْلَين. واختارَ أنَّه لا بدَّ مِن القَبُولِ في المَجْلِسِ، وهو الصحيحُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: فإن أوْجَبَ النِّكاحَ ثم زال عَقْلُه بجُنُونٍ أو إغْماءٍ، بَطَل حُكْمُ الإِيجابِ، ولم يَنْعَقِدْ بالقَبُولِ بعدَه؛ لأنَّه ما لم يُضامَّه القَبُولُ لم يَكُنْ عَقْدًا، فبَطَلَ بزَوالِ العَقْلِ، كالعُقُودِ الجائِزَةِ تَبْطُلُ بالمَوْتِ والجُنُونِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وإن نامَ لمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الإِيجابِ؛ لأنَّه لا يُبْطِلُ العُقُودَ الجائزةَ، فكذلك هذا. فصل: ولا يَثْبُتُ الخِيارُ في النِّكاحِ، وسَواءٌ في ذلك خِيارُ المَجْلِسِ وخِيارُ الشَّرْطِ. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خالفَ في هذا؛ لأنَّ الحاجَةَ غيرُ داعِيَةٍ إليه، فإنَّه لا يَقَعُ في الغالِبِ إلَّا بعدَ رَويَّةٍ وفِكْرَةٍ، ومَسْألَةِ كلِّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَين ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصلٌ: وَشُرُوطُهُ خَمْسَةٌ؛ أَحَدُهَا، تَعْيِينُ الزَّوْجَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن صاحِبِه، والمَعْرِفَةِ بحالِه، بخِلافِ البَيعِ الواقِعِ في الأسْواقِ مِن غيرِ فِكْرِ ولا رَويَّةٍ، ولأنَّ النِّكاحَ ليس بمُعاوَضَةٍ مَحْضةٍ، ولهذا لا يُعْتَبَرُ فيه العلمُ بالمَعْقُودِ عليه برُويَةٍ ولا صِفَةٍ، ويَصِحُّ مِن غيرِ تَسْمِيَةِ العِوَضِ ومع فَسادِه، ولأنَّ ثُبُوتَ الخِيارِ فيه يُفْضِي إلى فسْخِه بعدَ ابْتِذالِ المرأةِ، وفي فَسْخِه بعدَ العَقْدِ ضَرَرٌ بالمرأةِ، ولذلك أوْجَبَ الطَّلاقُ قبلَ الدُّخُولِ نِصْفَ الصَّداقِ. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وشُرُوطُه خَمْسَةٌ؛ أحَدُها، تَعْيِينُ الزَّوْجَين) لأنَّ كلَّ عاقِدٍ ومَعْقُودٍ عليه يَجِبُ تَعْيِينُهما، كالمُشْتَرِي والمَبِيعِ، فإن كانتِ المرأةُ حاضِرَةً فقال: زَوَّجْتُكَ هذه. صَحَّ، فإنَّ الإِشارَةَ تَكْفِي في التَّعْيِينِ، فإن زادَ على ذلك فقال (¬1): بِنْتِي هذه. [أو: هذه] (¬2) فلانةَ. كان تأكِيدًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

3089 - مسألة: (فلو قال: زوجتك ابنتي. وله بنات، لم يصح حتى يشير إليها، أو يسميها، أو يصفها بما تتميز به، وإن لم يكن له إلا ابنة واحدة، صح)

فَلَو قَال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. وَلَهُ بَنَاتٌ، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُشِيرَ إِلَيهَا، أَوْ يُسَمِّيَهَا، أو يَصِفَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3089 - مسألة: (فلو قال: زوَّجْتُكَ ابْنَتِي. وله بَناتٌ، لم يَصِحَّ حتى يُشِيرَ إليها، أو يُسَمِّيَها، أو يَصِفَها بما تَتَمَيَّزُ به، وإن لم يَكُنْ له إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، صَحَّ) إذا كانتِ المعْقُودُ عليها غائِبَةً فقال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. وليس له سِوَاها، جازَ، فإن سَمَّاها كان تَأكِيدًا. فإن كان له أكثرُ مِن بِنْتٍ واحِدَةٍ فقال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. لم يَصِحَّ حتى يَضُمَّ إلى ذلك ما تَتَمَيَّزُ به؛ مِن اسْم أو صِفَةٍ، فيقولَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي الكُبْرَى. أو: الوُسْطَى. أو: الصُّغْرَى. فإن سَمَّاها مع ذلك كان تَأكِيدًا. وإن قال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عائشةَ -أو- فاطمةَ. صَحَّ. فإن كانت له ابْنَة واحِدَة اسْمُها فاطمةُ فقال: زَوَّجْتُكَ فاطمةَ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ (¬1) هذا الاسْمَ مُشْتَرَكٌ بينَها وبينَ سائِرِ الفَواطِمِ، حتى يقوكَ مع ذلك: بنْتِي. وقال بعضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ إذا نَوَياهَا جَمِيعًا. ولا يصحُّ هذا؛ لأنَّ النكاحَ تُعْتَبَرُ فيه الشَّهادَةُ على وَجْهٍ ¬

(¬1) في م: «ولأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُ أداؤها [إذا ثَبَت] (¬1) به العَقْدُ، وهذا مُتَعَذِّرٌ في النِّيَّة، ولذلك لو قال: زَوَّجْتُكَ ابنتي. وله بَناتٌ، لم يَصِحَّ حتى يُمَيِّزَها بلَفْظِه. وإن قال: زَوَّجْتُكَ فاطمةَ ابْنَةَ فُلانٍ. احْتاجَ أن يَرْفعَ في نَسَبِها حتى يَبْلُغَ ما تَتَمَيَّزُ به عن النِّساءِ. فصل: فإن كانت له ابْنَتان، كُبْرَى اسْمُها عائشةُ، وصُغْرَى اسْمُها فاطمةُ، فقال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عائشةَ. وقَبِل الزَّوْجُ ذلك، وهما يَنْويان الصُّغْرَى، لم يَصِحَّ. ذَكَرَه أبو حَفْصٍ. وقال القاضي: يَصِحُّ في التي نَوَياهَا. وهذا غيرُ صَحيحٍ؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّهما لم يَتَلَفَّظَا بما يَصِحُّ العَقْدُ بالشَّهادَةِ عليه، فأشْبَهَ ما لو قال: زَوَّجْتُكَ عائشةَ. فقط، أو ما لو قال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. ولم يُسَمِّها، وإذا لم يَصِحَّ فيما إذا لم يُسَمِّها، ففيما إذا سَمَّاها بغيرِ اسْمِها أولَى أن لا يَصِحَّ. الثاني، أنَّه لا يَصِحُّ النِّكاحُ حتى تُذْكَرَ المرأةُ بما تتَمَيَّزُ به، ولم يُوجَدْ ذلك، فإنَّ اسْمَ اخْتِها لا يُمَيِّزُها، بل يَصْرِفُ العَقْدَ عنها. وإن كان الوَلِيُّ يُرِيدُ الكُبْرَى، والزَّوْجُ يَقْصِدُ الصُّغْرَى، لم يَصِحَّ، كما إذا خَطَب امْرأةً وزُوِّجَ غيرَها؛ لأنَّ القَبُولَ ¬

(¬1) في م: «أداء يثبت».

3090 - مسألة: (وإن قال: إن وضعت زوجتي ابنة، فقد زوجتكها. لم يصح)

وَلَوْ قَال: إِنْ وَضَعَتْ زَوْجَتِي ابْنَةً، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا. لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ انْصَرَفَ إلى غيرِ مَن وُجِدَ الإيجابُ فيه. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ إذا لم يَتَقَدَّمْ ذلك ما يَصْرِفُ القَبُولَ إلى الصُّغْرَى، مِن خِطبَةٍ ونَحْوها، فإنَّ العَقْدَ بلَفْظِه مُتَناولٌ للكُبْرَى، ولم يُوجَدْ ما يَصْرِفُه عنها، فصَحَّ، كما لو نَوَياها. ولو نَوَى الوَلِيُّ الصُّغْرَى، والزَّوْجُ الكُبْرى، أو نَوَى الوَلِيُّ الكُبْرَى، ولم يَدْرِ الزَّوْجُ أيَّتهما هي، فعلى الأوَّلِ، لا يَصِحُّ التَّزْويجُ؛ لعَدَمِ النِّيَّةِ منهما في التي تَناوَلَها لفْظُهُما. وعلى الاحْتِمالِ الذي ذَكَرْناه، يَصِحُّ في المُعَيَّنَةَ باللَّفْظِ؛ لما ذَكَرْنا. فصل: فإن كان له ابْنةٌ واحدةٌ، فقال لرجلٍ (¬1): زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي. وسَمَّاها بغيرِ اسْمِها، فقال القاضي: يَصِحُّ. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ قولَه: بِنْتِي. آكَدُ مِن التَّسْمِيَةِ؛ لأنَّها لا مُشارَكَةَ فيها، والاسْمُ مُشتَرَكٌ. ولو قال: زَوَّجْتُكَ هذه. وأشارَ إليها، وسَمَّاها بغيرِ اسْمِها، صَحَّ على هذا التَّعْليلِ. 3090 - مسألة: (وإن قال: إن وَضَعَتْ زَوْجَتِي ابْنَةً، فقد زَوَّجْتُكَهَا. لم يَصِحَّ) لأنَّه تَعْلِيقٌ للنِّكاحِ على شَرْطٍ، والنِّكاحُ لا يَتَعَلَّقُ ¬

(¬1) في م: «الرجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على شَرْطٍ، ولأنَّ هذا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لا يَنْعَقِدُ به عَقْدٌ. وكذلك لو قال: زَوَّجْتُكَ حَمْلَ هذه المرأةِ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّها لم يَثْبُتْ لها حُكْمُ البَناتِ قبلَ الظُّهُورِ في غيرِ الإِرْثِ والوَصِيَّةِ، ولأنَّه لم يَتَحَقَّقْ أنَّ في البَطْنِ بِنْتًا، فأشْبَهَ ما لو قال: زَوَّجْتُكَ مَن في هذه (¬1) الدَّارِ. وهما لا يَعْلمان ما فيها. فصل: فإن خَطَب امْرأةً فزُوِّجَ بغيرِ ها، مثلَ أن يَخْطُبَ الرجلُ امرأةً بعَينها، فيُجابَ إلى ذلك، ثم يُوجَبَ له النكاحُ في غيرِها، وهو يَعْتَقِدُ أنَّها التي خَطَبَها، فيَقْبَلُ، فلا يَنْعَقِدُ النِّكاحُ؛ لأنَّ القَبُولَ انْصَرَفَ إلى غيرِ مَن وُجِدَ الإِيجابُ فيه، فلم يَصِحَّ، كما لو ساومَه بثَوْبٍ وأوْجَبَ العَقْدَ في غيرِه بغيرِ عِلْمِ المُشْتَرِي. فلو عَلِمَ الحال بعدَ ذلك فرَضِيَ، لم يَصِحَّ. قال أحمدُ في (¬2) رجل خَطَب جارِيَةً، فزَوَّجُوه أخْتَها، ثم عَلِم بعدُ: يُفَرَّقُ بينَهما، ويكونُ الصَّداقُ على وَلِيِّها؛ لأنَّه غَرَّه، ويُجَهِّزُ إليه أُخْتَها التي خَطَبَها بالصَّداقِ الأوَّلِ، فإن كانت تلك قد وَلَدَت منه، لَحِق به الوَلَدُ. قال شيخُنا (¬3): وقولُه: يُجَهِّزُ إليه أخْتَها. يعني (1)، واللهُ أعلمُ، بعَقْدٍ جَدِيدٍ، بعدَ انْقِضاءِ عِدَّةِ هذه إن كان أصابَها؛ لأنَّ العَقْدَ الذي عَقَدَه لم يَصِحَّ في واحِدَةٍ منهما، لأنَّ الإِيجابَ صَدَر في إحْدَاهما [والقَبُولَ في الأخْرَى، فلم يَنْعَقِدْ في هذه ولا في تلك. فإنِ اتَّفَقُوا على تَجْدِيدِ عَقْدٍ في إحْدَاهما] (¬4)، أيتهما كان، جازَ. وقال أحمد في رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةً، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 9/ 481. (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: الثَّانِي، رِضَا الزَّوْجَينِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأدْخِلَتْ عليه أخْتُها: لها المَهْرُ بما أصابَ منها، ولأخْتِها المَهْرُ. قيلَ: يَلْزَمُه مَهْران؟ قال: نعم، ويَرْجِعُ على وَلِيِّها، هذه مثلُ التي بها بَرَصٌ أو جُذَامٌ، عليٌّ يقولُ: ليس عليه غُرْمٌ. وهذا يَنْبَغِي أن يكونَ في امْرأةٍ جاهِلَةٍ بالحالِ أو بالتَّحْريمِ، أمَّا إذا عَلِمَتْ أنَّها ليستْ زَوْجَةً، وأنَّها مُحَرَّمَةٌ عليه، وأمْكَنَتْه مِن نَفْسِها، فلا يَنْبَغِي أن يَجبَ لها صَداقٌ؛ لأنَّها زانِيَةٌ مُطاوعَةٌ. فأمَّا إن جُهِلَ الحالُ، فلها المهْرُ، ويَرجِعُ به على مَنِ غَرَّه. ورُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، في رَجُلَين تَزوَّجَا امرأتَين، فزُفت كُلُّ امْرأةٍ إلى زَوْجِ الأخْرَى: لهما الصَّداقُ، ويَعْتَزِلُ كلُّ واحِدٍ منهما امْرأتَه حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها (¬1). وبه قال النَّخَعِيّ، والشافعيّ، وإسحاقُ (¬2)، وأصْحابُ الرّأي. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (الثَّانِي، رِضَا الزَّوْجَين، فإن لم يَرْضَيا أو أحَدُهما، لم يَصِحَّ) رِضَا الزَّوْجَين أو مَن يَقُومُ مَقامَهما شَرْطٌ في صِحَّةِ العَقْدِ؛ لأنَّ العَقْدَ لهما، فاعْتُبِرَ تَرَاضِيهما به، كالبَيعِ، فإن لم يَرْضَيَا أو أحَدُهما، لم يَصِحَّ العَقْدُ؛ لفَواتِ شَرْطِه. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب الاختلاف في مهرها. . . .، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 441. وعبد الرزاق، في: باب نكاحها في عدتها، من كتاب النكاح. المصنف 6/ 209. (¬2) سقط من: م.

3091 - مسألة: (إلا الأب له تزويج أولاده الصغار والمجانين وبناته الأبكار بغير إذنهم)

إلا الْأَبُ لَهُ تَزْويجُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَبَنَاتِهِ الْأَبْكَارِ بِغَيرِ إِذْنِهِمْ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ تَزْويجُ ابْنَةِ تِسْعِ سِنِينَ إلا بِإِذْنِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3091 - مسألة: (إلَّا الأبُ له تَزْويجُ أولادِه الصِّغارِ والمَجانِينِ وبَناتِه الأبكارِ بغيرِ إِذْنِهِمِ) أمَّا الغُلامُ العاقلُ، فلا نَعْلَمُ بين (¬1) أهلِ العلمِ خِلافًا (¬2)، في أنَّ لأبِيه تزْويجَه. كذلك قال ابنُ المُنْذِرِ. وهذا قولُ الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وإسْحاقَ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأي؛ لِما رُوِيَ أنَّ ابنَ عمرَ زَوَّجَ ابْنَه وهو صَغِيرٌ، فاخْتَصَموا إلى زيدٍ، فأجازاه جَمِيعًا. رَواه ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأثْرَمُ (¬1). وأمَّا الغلامُ المَعْتُوهُ، فلأبِيه تَزْويجُه. وقال الشَّافعيُّ: لا يَجُوزُ؛ لأنَّه يُلْزِمُه بالتَّزْويجِ حُقُوقًا مِن المَهْرِ والنَّفَقَةِ، مع عَدَمِ حاجَتِه، فلم يَجُزْ له، كغيرِه مِن الأوْلِيَاءِ. ولَنا، أنَّه غيرُ بالِغٍ، فمَلَكَ الأبُ تَزْويجَه، كالعاقِلِ، ولأنَّه إذا جازَ تَزْويجُ العاقِلِ مع أنَّ له عندَ احْتِيَاجِه إلى التَّزْويجِ رَأيًا ونَظرًا لنَفْسِه، فلَأن يَجُوزَ تَزْويجُ مَن لا يُتَوَقَّعُ فيه ذلك أولَى. ووَصِيُّ الأبِ يَقُومُ مَقامَه في ذلك كَوَكِيلِه، إذا قُلْنا بصِحَّةِ الوَصِيَّةِ في النِّكاحِ، وفيه اخْتِلاف نَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: وليس لغيرِ الأبِ أو وَصِيِّه تَزْويجُ الغُلامِ قبلَ بُلُوغِه. وقال القاضي في «المُجَرَّدِ»: للحاكِمِ تَزْويجُه؛ لأنَّه يَلي ماله. وقال الشافعيُّ: يَمْلِكُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ تَزْويجَه، ليَألَفَ حِفْظَ فَرْجه عندَ بُلُوغِه. وليس بسَدِيدٍ، فإنَّ غيرَ الأبِ لا يَمْلِكُ تَزْويجَ الجارِيَةِ الصَّغِيرَةِ، فالغُلامُ أوْلَى. وفارَقَ الأبَ ووَصِيَّه؛ فإنَّ لهما تَزْويجَ الصَّغِيرَةِ وولايةَ الإِجْبارِ. وسَواءٌ أذِنَ الغُلامُ في تَزْويجِه أو لم يَأذَنْ، لأنَّه لا (¬2) إذْنَ له. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي مختصرًا، في: السنن الكبرى 7/ 143. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وللأبِ تَزْويجُ البالِغِ المَعْتُوهِ، في ظاهِرِ كلام أحمدَ، والخِرَقِيِّ، مع ظُهُورِ أماراتِ الشَّهْوَةِ وعَدَمِها. وقال القاضي: إنَّما يَجُوزُ تَزْويجُه إذا ظَهَرَتْ منه أماراتُ الشَّهْوَةِ باتِّباعِ النِّساءِ ونحوه. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّ في تَزْويجِه مع عَدَم حاجَتِه إضْرارًا به، بإلْزامِه حُقُوقًا لا مَصْلَحَةَ له في إلْزامِها. وقال أبو بكَرِ: ليس للأبِ تَزْويجُه (¬1) بحالٍ؛ لأنَّه رجلٌ، فلم يَجُزْ إجْبارُه على النِّكاحِ، كالعاقِلِ. وقال زُفَرُ: إن طَرَأ عليه الجنُونُ بجدَ البُلُوغِ لم يَجُزْ، وإن كان مُسْتَدامًا جازَ. ولَنا، أنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فجازَ لأبيه تَزْويجُه، كالصغيرِ، فإنَّه إذا جازَ تَزْويجُ الصَّغِيرِ مع عَدَمِ حاجَتِه في الخالِ وتَوَقُّعِ نَظَرِه، فعندَ الحاجَةِ أوْلَى. ولَنا على التَّسْويَةِ بينَ الطَّارئ والمُسْتَدام، أنَّه مَعْنًى يُثْبِتُ الولايةَ، فاسْتَوَى طارِئُه ومُسْتَدامُه، كالرِّقِّ، ولأَنَّه جُنُونٌ يُثْبِتُ الو لايةَ على مالِه، فأثْبَتَها عليه في نِكاحِه، كالمُسْتَدام. فأمَّا اعْتِبارُ الحاجَةِ، فلا بُدَّ منها، فإنَّه لا يَجُوزُ لوَلِيِّه تَزْويجُه إلَّا إذا رَأى المَصْلَحَةَ فيه، غيرَ أنَّ الحاجَةَ لا تَنْحَصِرُ في قَضاءِ الشَّهْوَةِ، بل قد تَكونُ حاجَتُه إلى الإِيواءِ والحِفْظِ، ورُبَّما كان دَواءً له يُتَرَجَّى به شِفاؤه، فجازَ التَّزْويجُ له، كقَضاءِ الشَّهْوَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن يُخْنَقُ (¬1) في الأحْيانِ لا يَجُوزُ تَزْويجُه إلَّا بإذْنِه؛ لأنَّ ذلك مُمْكِنٌ، ومَن أمْكَنَ أن يَتَزَوَّجَ لنَفْسِه، لم تَثْبُتِ الولايةُ عليه، كالعاقِلِ. ولو زَال عَقْلُه ببِرْسَامٍ أو مَرَض مَرْجُوِّ الزَّوالِ، فهو كالعاقِلِ، فإنَّ ذلك لا يثبِتُ الولادةَ على مالِه، فعلى نَفْسِه أولَى. وإن لم يُرْجَ زَوالُه، فهو داخِلٌ فيما ذَكَرْناه. فصل: وليس لغيرِ الأبِ ووَصِيِّه تَزْويجُ المَعْتُوهِ البالِغِ. وبه قال مالكٌ. وقال أبو عبدِ اللهِ بن حامِدٍ: للحاكِمِ تَزْويجُه إذا ظَهَر منه شَهْوَةٌ للنِّساءِ، بأن يَتْبَعَهُنَّ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ ذلك مِن مَصالِحه، وليس له حالٌ يُنْتَظَرُ فيها إذْنُه. وسنَذْكُرُ ذلك في تَزْويج المَجْنُونَةِ (¬2). ويَنْبَغِي أن يَجُوزَ تَزْويجُه إذا قال أهْلُ الطِّبِّ: إنَّ في ذلك ذَهابَ عِلَّتِه. لأنَّه مِن أعْظَمِ مَصالِحِه. ¬

(¬1) في م: «يجن»، والخُناق، بالضم: داء يمتنع معه نفوذ النفَس إلى الرئة والقلب. (¬2) في م: «المجنون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا زَوَّجَ الصغيرَ أو (¬1) المجنونَ، فإنَّه يَقْبَلُ لهما النِّكاحَ، ولا يَأذَنُ لهما في قَبُولِه؛ لأنَّهما ليسَا مِن أهلِ التَّصَرُّفِ. فإن كان الغُلامُ ابنَ عَشْر، وهو مُمَيِّزٌ، فقِياس المذهبِ جَوازُ تَفْويضِ القَبُولِ إليه، حتى يتَوَلَّاهُ بنَفْسِه، كما يُفَوَّضُ أمْرُ البَيعِ (¬2) إليه. وإن تَزَوَّجَ له الوَلِيّ جازَ، كما يَجُوزُ أن يَبْتاعَ له. وهذا على الرِّوايَةِ التي تقولُ بصِحَّةِ بَيعِه ووُقُوعِ طَلاقِه. فإن قُلْنا: لا يَصِحُّ ذلك منه. فهذا أولَى. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «المبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وذَكَر القاضي أنَّه لا يَجُوزُ أن يَتَزَوَّجَ لهما بأكثرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ في حَقِّ الغيرِ، فلم تَجُزِ الزِّيادَةُ فيها على عِوَضِ المِثْلِ، كبَيعِ مالِه. وهذا مذهبُ الشافعي. وإذا قُلْنا: إنَّ للأبِ تَزْويجَ ابْنَتِه (¬1) بدونِ صَداقِ مِثْلِها. فهذا مِثْلُه، فإنَّه قد يَرَى المَصْلَحَةَ في ذلك، فجازَ له بَذْلُ المالِ فيه، كما يَجُوزُ في مُدَاوَاتِه، بل الجوازُ ههُنا أوْلَى؛ فإنَّ الغالِبَ أنَّ المرأةَ لا تَرْضَى بتَزْويجِ المجنونِ إلَّا أن تُرَغَّبَ بزِيادَةٍ على مَهْرِ مِثْنها، فيتَعَذَّرُ الوُصولُ إليه (¬2) بدونِ ذلك، بخِلافِ المرأةِ. وذكَر القاضي في «المُجَرَّدِ»، أنَّ قِياسَ المذهبِ أنَّه لا يُزَوَّجُ (¬3) بأكثرَ مِن امرأةٍ واحِدَةٍ؛ لعَدَمِ حاجَتِه إلى زِيادَةٍ عليها، فيكونُ بَذْلًا لمالِه فيما لا حاجَةَ به إليه. وذَكَر في «الجامِعِ»، أنَّ له تَزْويجَ ابْنِه الصغيرِ بأرْبَع؛ لأنَّه قد يَرَى المَصْلَحَةَ فيه. وليس له تَزْويجُه بمَعِيبَةٍ عَيبًا يُرَد به النِّكاحُ؛ فإنَّ فيه ضَرَرًا به، وتَفْويتَ مالِه فيما لا مَصْلَحَةَ له فيه، فإن فَعَل، خُرِّجَ في صِحَّةِ النِّكاحِ وَجْهان؛ فإن قُلْنا: يَصِحُّ. فهل للوَلِي الفَسْخُ في الحالِ؟ على وَجْهَين، نَذْكُرُ تَوْجِيهَهما في تَزْويجِ الصغيرةِ بمَعِيبٍ. فإن لم يَفْسَخْ حتى بَلَغَ الصَّبِيُّ ¬

(¬1) في م: «أمته». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يتزوج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو عَقَل المجنونُ، فلهما الفَسْخُ. وليس له تَزْويجُه بأمَةٍ؛ لأنَّ إباحَتَها مَشْرُوطَةٌ بخَوْفِ العَنَتِ، وهو مَعْدُومٌ في حَقِّ الصَّبِيِّ، غيرُ مَعْلوم في حَقِّ المجنونِ. فصل: فأمَّا الإِناثُ، فللأبِ تَزْويجُ ابْنَتِه البِكْرِ الصغيرةِ التي لم تَبْلُغ تِسْع سِنِين، بغيرِ خلافٍ، إذا وَضَعَها في كَفاءَةٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُل مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ نِكاحَ الأبِ ابْنَتَه الصغيرةَ جائِزٌ، إذا زَوَّجَها مِن كفْءٍ، يَجُوزُ له ذلك مع كَراهَتِها وامْتِناعِها. وقد دَلَّ على جَوازِ تَزْويجِ الصغيرةِ قولُ اللهِ تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1)، فجعَلَ ¬

(¬1) سورة الطلاق 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِلَّائِي لم يَحِضْنَ عِدَّةَ ثلاثةِ أشْهُرٍ، ولا تكونُ العِدَّةُ ثلاثةَ أشْهُر إلَّا مِن طَلاقٍ في نِكاحٍ [أو فسْخٍ] (¬1)، فدَلَّ ذلك على [أنها تُزَوَّجُ] (¬2) وتُطلَّقُ، ولا إذْنَ لها يُعْتَبَرُ. وقالت عائشةُ: تَزَوَّجَنِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابْنَةُ سِتٍّ، وبَنَى بي وأنا ابنةُ تِسْعٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ومَعْلُومٌ أنَّها لم تَكُنْ في تلك الحالِ مِمَّن يُعْتَبَرُ إذنها. وروَى الأثْرَمُ أنَّ قُدامَةَ بن مظْعُونٍ تزَوَّجَ ابْنةَ الزُّبَيرِ حينَ نَفِسَتْ، فقِيلَ له، فقال: ابنةُ الزُّبَيرِ إن مِتُّ وَرِثَتْني، وإن عِشْتُ كانتِ امْرَأتِي. وزَوَّجَ على ابْنَتَه أمَّ كُلْثُوم وهي صغيرة عمرَ بنَ الخَطَّابِ، رَضِيَ الله عنهما. فصل: وفي البِكْرِ البالغةِ العاقلةِ رِوايتان، إحْدَاهما، إجْبارُها على النكاحِ. وهذا مذهبُ مالكٍ، وابنِ أبي ليلَى، والشَّافعيِّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «تزويج». (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 132. ويضاف إليه: وأخرجه مسلم، في: باب تزويج البكر الصغيرة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1038، 1039.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وإسْحاقَ] (¬1). والثانيةُ، ليس له ذلك. اخْتارَها أبو بكر. وهو مذهبُ الأوْزاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأي، وابنِ المُنْذِرِ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُنْكحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتأمرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأذَنَ». فقالوا: يا رسولَ اللهِ، فكيف إذنها؟ قال: «أَنْ تَسْكُتَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬3)، عن ابنِ عبّاسٍ، أنَّ جاريَةً بِكْرًا أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَتْ أنَّ أباهَا زَوَّجَها وهي كارِهَةٌ، فخَيَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّها جائِزَةُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، من كتاب النكاح، وفي: باب في النكاح، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 7/ 23، 9/ 32. ومسلم، في: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1036، 1037. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الاستئمار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 482. والنسائي، في: باب إذن البكر، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 71. والترمذي، في: باب ما جاء في استئمار البكر والثيب، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 23. وابن ماجه، في: باب استئمار البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 602. والدارمي، في: باب استئمار البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 138. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 250، 279، 425، 434. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمر ها، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 483. وابن ماجه، في: باب من زوج ابنته وهي كارهة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 603.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّصَرُّفِ في مالِها، فلم يَجُزْ إجْبارُها، كالثَّيِّبِ، والرجلِ. ووَجْهُ الأولَى، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْأيمُ أحقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأمَرُ، وَإذنهَا صُمَاتُهَا». رَواه أبو داودَ (¬1). فلمَّا قَسَمَ النِّسَاءَ قِسْمَين، وأثْبَتَ الحقَّ لأحَدِهما، دَلَّ على نَفْيِه عن الآخَرِ، ¬

(¬1) في: باب في الثيب، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 484. كما أخرجه البخاري، في: باب في النكاح، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 9/ 33. وسلم، في: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1037. والترمذي، في: باب ما جاء في استئمار البكر والثيب، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 25. والنسائي، في: باب استئذان البكر في نفسها، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 69. وابن ماجه، في: باب استئمار البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 601. والدارمي، في: باب استئمار البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 138. والإمام مالك، في: باب استئذان البكر والأيم في أنفسهما، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 524، 525. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 219، 242، 261، 274، 345، 355، 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو البِكْرُ، فيَكونُ وَلِيُّها أحَقَّ منها بها، ودَلَّ الحديثُ على أنَّ الاسْتِئْمارَ ههُنا، والاسْتِئْذانَ في حَدِيثهم مُسْتَحَبٌّ غيرُ واجِبٍ، كما روَى ابنُ عمرَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ». رَواه أبو داودَ (¬1). وحديثُ التي خَيَّرَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلٌ، ويَحْتَمِلُ أنَّها التي زَوَّجَها أبوها مِن ابنِ أخِيه ليَرْفَع بها خَسيستَه (¬2)، فتَخْيِيرُها لذلك. ¬

(¬1) في: باب في الاستئمار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 483، كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 34. (¬2) في م: «خسيسه». والحديث أخرجه النسائي، في: باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 71. وابن ماجه، في: باب من زوج ابنته وهي كارهة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 602. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 136.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ولأنَّ ما] (¬1) لا يُشْتَرَطُ في نِكاحِ [الصغيرةِ لا يُشترطُ في نكاحِ] (¬2) الكَبِيرَةِ، كالنُّطْقِ (وعن أحمدَ، لا يَجُوزُ تَزْويجُ ابْنَةِ تِسْعِ سِنِينَ بغيرِ إذْنِها) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الجارِيَةِ إذا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ، ¬

(¬1) في م: «ولأنه مما». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمَشْهُورُ عنه أنَّها كمَن لم تَبْلُغْ تِسْعًا. نصَّ عليه في رِوايَةِ الأثْرَم. وهو قولُ مالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفةَ، وسائِرِ الفُقَهاءِ، قالوا: حُكمُ بِنْتِ تِسْع حُكْمُ بِنْتِ ثَمانٍ؛ لأنَّها غيرُ بالغةٍ، ولأنَّ إذنها لا يُعْتَبَرُ في سائِرِ التَّصَرُّفاتِ، فكذلك في النِّكاحِ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، حُكْمُها حُكْمُ البالغةِ. نَصَّ عليه في رِوايَةِ ابنِ مَنْصورٍ؛ لمَفْهُوم الآيَةِ، ولدَلالةِ الخَبَرَين بعُمُومِهما على أنَّ اليتيمَةَ تُنْكَحُ بإذْنِها، وإنَّ أبتْ فلا جَوازَ عليها، وقد انْتَفَى الإِذْنُ فيما دُرنَها، فيَجِبُ حَمْلُه على مَن بَلَغَتْ تِسْعًا. فعلى هذه الرِّوايَةِ، يَجُوزُ لغيرِ الأبِ تَزْويجُها بإذْنِها، وحُكْمُها حُكْمُ البالغةِ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَوازِ إجْبارِها، للأبِ فيه الرِّوايتان (¬1). وقد روَى الإِمامُ أحمدُ (¬2) بإسْنادِه عن عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالتْ: إذا بَلَغَتِ الجارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فهي امْرأةٌ. ورَواه القاضي بإسْنادِه عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ومَعْناه، واللهُ أعلمُ، في حُكْمِ المرأةِ. ولأنَّها بَلَغَتْ سِنًّا يُمْكِنُ فيه حَيضُها، وتَحْدُثُ لها حاجَةٌ إلى النِّكاحِ، فيُباحُ تَزْويجُها، كالبالغةِ إذا زُوِّجَتْ. وقد خَطَب عمرُ أمَّ كُلْثُومٍ بنتَ أبي بكرٍ بعدَ مَوْتِه إلى عائشةَ، فأجابَتْه، وهي لدُونِ عَشْر؛ لأنَّها إنَّما وُلِدَتْ بعدَ مَوْتَ أبِيها، وإنَّما كانت ولايةُ عمرَ عَشْرًا، فكَرِهَتْه الجارِيَةُ، فتَزَوَّجَها (¬4) طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، ولم يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، فدَلَّ ذلك على اتِّفاقِهِم على صِحَّةِ تَزْويجِها قبلَ بُلُوغِها بولايةِ غيرِ أبِيها. ¬

(¬1) في الأصل: «روايتان». (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 385. ولم نجده في المسند. (¬3) أخرجه أبو نعيم، في: تاريخ أصبهان 2/ 273. والديلمي، انظر: فردوس الأخبار 1/ 385. وضعف إسناده في الإرواء 1/ 199. (¬4) في م: «فزوجها».

3092 - مسألة: (وهل له تزويج الثيب الصغيرة؟ على وجهين)

وَهَلْ لَهُ تَزْويجُ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3092 - مسألة: (وهل له تَزْويجُ الثَّيَّبَ الصَّغِيرَةِ؟ على وَجْهَينِ) أمَّا الثَّيِّبَ (¬1) الكَبِيرَةُ، فلا يَجُوزُ للأب ولا لغيرِه تَزْويجُها إلَّا بإذْنِها، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا الحسنَ فإنَّه قال: له تَزْويجُها وإن كَرِهَتْ. والنَّخَعِيُّ قال: يُزَوِّجُ بِنْتَه إذا كانت في عِيالِه، فإن كانت بائِنَةً في بَيتها مع عِيالِها اسْتَأمَرَها. قال إسماعيلُ بنُ إسْحاقَ (¬2): لا أعْلَمُ أحدًا قال في الثيب (1) بقَوْلِ الحسنِ. وهو قولٌ شاذٌّ، خَالفَ فيه أهلَ العِلْمِ والسُّنَّةَ ¬

(¬1) في الأصل: «البنت». (¬2) إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، أبو إسحاق القاضي، الإمام العلامة، الحافظ، شيخ الإسلام، قاضي بغداد، صاحب التصانيف، له «أحكام القرآن». وغيره، نشر مذهب مالك بالعراق، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. سير أعلام النبلاء 13/ 339 - 341.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّابِتَةَ، فإنَّ الخَنْساءَ ابْنَةَ خِذامٍ (¬1) الأنْصارِيَّةَ، رَوَتْ أنَّ أباهَا زَوَّجَها وهي ثَيِّبٌ (¬2)، فكَرِهَتْ ذلك، فأتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرَدَّ نِكاحَه. رَواه البخاريّ وغيرُه (¬3). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): هذا الحديثُ مُجْتَمَعٌ على صِحَّتِه، والقولِ به، ولا نَعْلَمُ مُخالِفًا له إلَّا الحسنَ، وكانتِ الخَنْساءُ مِن أهلِ قُباءَ تحتَ أُنَيْسِ بنِ قتادَةَ، فقُتِلَ عنها يومَ أحُدٍ، فزَوَّجَها أبوها رجلًا مِن بني عَمْرِو بنِ (¬5) عَوْفٍ، فكَرِهَتْه، وَشَكَتْ ذلك إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ نِكاحَها، ونَكَحَتْ أبا لُبَابَةَ بنَ عبدِ المُنْذِرِ. وروَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «لا تنكح الأيم حتى تستأمر». متفقٌ عليه (¬6). وقال: «الأيمُ أحقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا». وروَى ابنُ عباس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثيبِ أَمْر». روَاهما النَّسائي، وأبو داودَ (¬7). ولأنَّها رَشِيدَةٌ عالِمَةٌ بالمَقْصُودِ مِن النِّكاحِ مُخْتَبرَةٌ، فلم يَجُزْ ¬

(¬1) ويروى «خدام» انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 2/ 197. (¬2) في الأصل: «بنت». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب لا يجوز نكاح المكره. . . .، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 9/ 26. وأبو داود، في: باب في الثيب، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 484. وابن ماجه، في: باب من زوج ابنته وهي كارهة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 602. والدارمي، في: باب الثيب يزوجها أبوها وهي كارهة، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 139. والإمام مالك، في: باب جامع ما لا يجوز من النكاح، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 535. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 328، 329. (¬4) في الاستذكار 16/ 208، والتمهيد 19/ 318. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 121. (¬7) الأول تقدم تخريجه في صفحة 122. والثاني أخرجه أبو داود، في: باب في الثيب، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 484. والنسائي، في: باب استئذان البكر في نفسها، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 70. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 334.

3093 - مسألة: (وللسيد تزويج إمائه الثيب والأبكار، وعبيده

وَالسَّيِّدُ لَهُ تَزْويجُ إمَائِهِ الأبْكَارِ والثيبِ وَعَبِيدِهِ الصِّغَارِ بِغَيرِ إِذْنِهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْبارُها عليه، كالرجلَ. فصل: فأمَّا الثيبُ (¬1) الصَّغِيرَهُّ، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ تَزْويجُها. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ. واخْتِيارُ ابنِ حامدٍ، وابنِ بَطَّةَ، والقاضي، ومَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لعُمُوم الأخْبارِ، ولأنَّ الإجْبارَ يَخْتَلِفُ بالبَكارَةِ والثيوبَةِ، لا بالصِّغَرِ والكِبَرِ، كما اخْتَلَفَ في صِفَةِ الإِذْنِ، ولأنَّ في تَأخِيرِها فائِدَةً، وهي أن تَبْلُغَ فتَخْتارَ لنَفْسِها ويُعْتَبَرَ إذنها، بخِلاف البِكْرِ. الوَجْهُ الثاني، أنَّ لأبِيها تَزْويجَها، ولا يَسْتَأمِرُها. اخْتارَه أبو بكر عبدُ العزيزِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّها صغيرة، فجازَ إجْبارُها، كالبِكْرِ والغُلامِ. يُحَقِّقُ ذلك أنَّها لا تَزِيدُ بالثيوبَةِ على ما حَصَل للغُلامِ بالذُّكُورِيَّةِ، ثم الغُلامُ يُجْبَرُ إذا كان صغيرًا، فكذلك هذه، والأخْبارُ مَحْمُولَة على الكبيرةِ، فإنَّه جَعَلَها أحَقَّ مِن وَلِيِّها، والصَّغِيرَةُ لا حَقَّ لها. ويَتَخَرَّجُ وَجْهٌ ثالثٌ، وهو أنَّ ابْنَةَ تِسْع يُزَوِّجُها وَلِيُّها بإذْنِها، ومَن دُونَ ذلك على ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ؛ لما ذَكَرْنا في البِكْرِ. واللهُ أعلمُ. 3093 - مسألة: (وللسَّيِّدِ تَزْويجُ إمائِه الثيبِ والْأبْكَارِ، وعَبِيدِه ¬

(¬1) في الأصل: «البنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّغَارِ، بغَيرِ إذْنِهِم) لا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّ (¬1) السَّيِّدَ إذا زَوَّجَ أمَتَه [بغيرِ إذْنِها] (¬2) أنَّه يَصِحُّ، ثيِّبًا كانت أو بِكْرًا، صغيرةً أو كبيرةً؛ وذلك لأنَّ مَنافِعَها مَمْلُوكَةٌ له، والنِّكاحُ عَقْد على مَنْفَعَتِها (¬3)، فأشْبَهَ عَقْدَ الإِجارَةِ، ولذلك مَلَك الاسْتِمْتاعَ بها، وبهذا فارَقَتِ العَبْدَ، ولأنَّه يَنْتَفِعُ بذلك لِما يَحْصُلُ له مِن مَهْرِها ووَلَدِها، وتَسْقُطُ عنه نَفَقَتُها وكُسْوَتُها، بخلافِ العَبْدِ. والمُدَبَّرةُ والمُعَلَّقُ عِتْقُها بصِفَةٍ وأمُّ الوَلَدِ كالأمَةِ في إجْبارِها على النِّكاحِ. وقال مالك في آخِرِ أمْرِه: ليس له تَزْويجُ أمِّ وَلَدِه بغيرِ إذْنِها. وكرهَه رَبِيعَةُ. وللشافعيِّ قَوْلان. وقد ذَكَرْنا ذلك فيما مَضَى. ولَنا، أنَّها مَمْلُوكَتُه، يَمْلِك الاستِمْتاعَ بها وإجارَتَها، فمَلَكَ تَزْويجَها، كالقِنِّ. وإذا مَلَك أخْتَه مِن الرَّضاعِ أو مَجُوسِيَّةً، فله تَزْويجُهما (¬4) وإن كانتا مُحَرَّمَتَين عليه، لأنَّ مَنافِعَهما مِلْكُه، وإنَّما حَرُمَتا عليه لعارِض. فأمَّا التي بَعْضُها حُرٌّ، فلا يَمْلِكُ إجْبارَها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ [جَمِيعَها. ولا يَمْلِك] (¬5) إجْبارَ المُكاتَبَةِ؛ لأنَّها بمَنْزِلَةِ الخارِجَةِ عن مِلْكِه، ولذلك لا يملك إجارَتَها (¬6)، ولا تَلْزَمُه نَفَقَتُها، ولا يَصِلُ إليه مَهْرُها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «منفعة». (¬4) في م: «تزويجها». (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «إجبارها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اشْتَرَى عَبْدُه المَأذونُ أمَةً (¬1)، ورَكِبَتْه ديُون، مَلَك سَيِّدُه تَزْويجَها وبَيعَها وإعْتاقَها. نَصَّ عليه أحمدُ، وذَكَرَه أبو بكر، وقال: وللسَّيِّد. وَطْوها. وقال الشافعيُّ: ليس له شيء مِن ذلك؛ لِما فيه مِن الإضْرارِ بالغُرَماءِ. وأصْلُ الخلافِ مَبْنِيٌّ (¬2) على دَينِ (¬3) المَأذُونِ له في التِّجارَة، فعندَنا يَلْزَمُ السَّيِّدَ (¬4)، فلا يَلْحَقُ الغُرَماءَ ضَرَر بتَصَرُّفِ (¬5) السَّيِّدِ في الأمة، فإنَّ الدَّينَ ما تَعَلّقَ بها، وعندَه أنَّ الدَّينَ تَعَلَّقَ بالعَبْدِ وبما في يَدِه، فيَلْحَقُهم الضَّرَرُ. والكَلامُ على هذا مَذْكُورٌ في مَوْضِعِه (¬6). فصل: وليس للسَّيِّدِ إكْراهُ أمَتِه عَلى التّزْويجِ بمَعِيبٍ عَيبًا يُرَدُّ به في النِّكاحِ؛ لأنَّه يُؤثِّرُ في الاسْتِمْتاعِ، وذلك حَق لها، ولذلك مَلَكَتِ الفَسْخَ بالجَبِّ والعُنَّةِ والامْتِناعِ مِن الفَيئَةِ دُونَ السَّيِّدِ. وفارَقَ بَيعَها لمَعِيبٍ؛ ¬

(¬1) في م: «له». (¬2) في م: «ينبني». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «العبيد». (¬5) في م: «ويتصرف». (¬6) انظر ما تقدم في 13/ 417، 418.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يُرادُ للاسْتِمْتاعِ، ولهذا مَلَك شِراءَ الأمَةِ المُحَرَّمَةِ عليه، ولم تَمْلِكِ الأمَةُ (¬1) الفَسْخَ [لعَيبِه و] (¬2) لعُنَّتِه ولا إيلائه. فإن زَوَّجَها مِن مَعِيبٍ فهل يَصِحُّ؟ على وَجْهَين، [فإنْ قُلْنا: يَصِحُّ. فلها الفَسْخُ. فإن كانت صغيرةً، فهل لها الفَسْخُ في الحالِ، أو يَنْتَظِرُ بُلُوغَها؟ على وَجْهَين] (¬3). ومَذْهَبُ الشافعيِّ هكذا في هذا (¬4) الفصلِ كلِّه. فصل: وللسَّيدِ تَزْويجُ عَبْدِه الصغيرِ بغيرِ إذْنِه في قولِ أكثر أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّ بعضَ الشّافِعِيَّةِ قال: فيه قَوْلان. وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ تَزْويجَه. ولَنا، أنَّه إذا مَلَك تَرويجَ ابْنِه الصَّغيرِ، فعَبْدُه مع مِلْكِه إيَّاه وتَمامِ ولايته عليه أوْلَى. وكذلك الحُكْمُ في عَبْدِه الصغيرِ المَجْنونِ (¬5). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «والمجنون».

3094 - مسألة: (ولا يملك إجبار عبده الكبير)

وَلَا يَمْلِكُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ. وَيَحْتَمِلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصِّغَارِ أيضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3094 - مسألة: (ولا يَمْلِكُ إجْبارَ عَبْدِه الكبيرِ) إذا كان عاقِلًا. وبهذا قال الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: له ذلك؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬1). ولأنَّه يَمْلِكُ رَقَبَتَه، فمَلَكَ إجْبارَه على النِّكاحِ، كالأمَةِ، ولأنَّه يَمْلِكُ إجارَتَه، فأشْبَهَ الأمَةَ. ولَنا، أنَّه مُكَلَّف يَمْلِكُ الطَّلاقَ، فلا يُجْبَرُ على النِّكاحِ، كالحُرِّ، ولأنَّ النِّكاحَ خالِصُ حَقِّه، ونَفْعُه له، فأشْبَهَ الحُرَّ، والأمْرُ بإنْكاحِه مُخْتَصٌّ بحالِ طَلَبِه، بدليلِ عَطْفِه على الأيامَى، وإنَّما يُزَوَّجْنَ عندَ الطَّلَبِ، ولأنَّ مُقْتَضَى الأمْرِ الوُجُوبُ، وإنَّما يَجِبُ تَزْويجُه عندَ طَلَبِه، وأمَّا الأمَةُ فإنَّه يَمْلِكُ مَنافِعَ بُضعِها والاسْتِمْتاعَ بها، بخِلافِ العَبْدِ. ويُفارِقُ النِّكاحُ الإِجارَةَ، لأنَّها عَقْدٌ على مَنافِعِ بَدَنِه، وهو يَمْلِكُ اسْتِيفاءَها (ويَحْتَمِلُ مثلُ ذلك في الصغيرِ أيضًا) قِياسًا على الكبيرِ، ويَقْوَى الاحْتِمالُ في حَقِّ المُمَيِّزِ إذا قُلْنا بصِحَّةِ ¬

(¬1) سورة النور 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلاقِه؛ لأنَّه عاقِل مُمَيِّزٌ، يَمْلِكُ الطَّلاقَ، أشْبَهَ البالِغَ. فصل: والمَهْرُ والنَّفَقَةُ على السَّيِّدِ، سَواءٌ ضَمِنَهُما (¬1) أو لا، وسَواءٌ باشَرَ العَقْدَ. بنَفْسِه أو أذِنَ لعَبْدِه فعَقَدَه، مَأْذُونًا له في التِّجارَةِ أو مَحْجُورًا عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّ ذلك يَتَعَلَّقَ بكَسْبِه، فإنَّه قال: نَفَقَتُه مِن ضَرِيبَتِه. وقال (¬2): إن كان بقِيمَةِ ضَرِيبَتِه، أنْفَقَ عليها، ولا يُعْطِي المَوْلَى، وإن لم يَكُنْ عندَه ما يُنْفِقُ، فُرِّقَ بينَهما. وهذا قولُ الشافعيِّ. وفائِدَةُ الخِلافِ أنَّ مَن ألْزَمَ السَّيِّدَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ، أوْجَبَهما عليه وإن لم يَكُنْ للعبدِ كَسْبٌ، وليس للمرأةِ الفَسْخُ؛ لعَدَم كَسْبِ العبدِ، وللسَّيِّدِ استخدامُه ومَنْعُه الاكْتِسابَ، ومَن عَلَّقَه بكَسْبِه فلم يَكُنْ له كَسْبٌ، فللمرأةِ الفَسْخُ، وليس للسَّيِّدِ مَنْعُه مِن التَّكَسُّبِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ تَعَلَّقَ بالعَبْدِ (¬3) برِضَا سَيِّدِه، فتَعَلَّقَ بسَيِّدِه، وجازَ بَيعُه فيه، كما لو رَهَنَه بدَينٍ. فعلى هذا، لو باعَه سَيِّدُه أو أعْتَقَه، لم يَسْقُطِ المَهْرُ عن السَّيِّدِ. نصَّ عليه؛ لأنَّه حَقٌّ تَعَلَّقَ بذِمَّتِه، فلم يَسْقُطْ ببَيعِه وعِتْقِه، كأرْشِ جِنايَتِه، فأمَّا النَّفَقَةُ فإنَّها تَتَجَدَّدُ، فتكونُ في الزَّمَنِ المُسْتَقْبَلِ على المُشْتَرِي أو على العَبْدِ إذا عَتَق. ¬

(¬1) في الأصل: «ضمنها». (¬2) في م: «قيل». (¬3) في م: «بالعقد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ أن يَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ لعَبْدِه بإذْنِه، وأن يَأْذَنَ للعَبْدِ فيَتَزَوَّجَ لنَفْسِه؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ يَصِحُّ طلاقُه، فكان مِن أهلِ مُباشَرَة العَقْدِ كالحُرِّ. ويَجُوز أن يَأْذَن له مُطْلقًا ومُعَينًا، فإن عَيَّنَ له امرأةً، أو نِساءَ بَلَدٍ أو قَبِيلَةٍ، أو حُرَّةً أو أمَةً، فتَزَوَّجَ غيرَها، لم يَصِحَّ؛ لأَنه مُتَصَرِّفٌ بالإِذْنِ، فتَقييَّدَ (¬1) تَصَرُّفُه بما (¬2) أُذِنَ له فيه كالوَكِيلِ. وإن أذِنَ له مُطْلَقًا، فله أن يَتَزَوَّجَ مَن شاءَ، لكنْ إن تَزَوَّجَ امرأةً مِن بَلْدَةٍ أُخْرَى، فلسَيِّدِه مَنْعُه مِن الخُرُوجِ إليها، وإن كانت في البَلَدِ، فعلى سَيِّدِه إرْسالُه لَيلًا للاسْتِمْتَاعِ. وإن أحَبَّ سَيِّدُه أن يُسْكِنَها في مَسْكَنٍ مِن دارِه، فله ذلك إذا كان مَسْكَنَ مِثْلِها، ولا يَلْزَمُه إرْسالُه نَهارًا؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى اسْتِخْدامِه، وليس النَّهارُ مَحِلًّا للاسْتِمْتَاعِ غالبًا. ولسَيِّدِه السَّفَرُ به، فإنَّ حَقَّ امرأةِ العبدِ عليه لا يَزِيدُ على حَقِّ امرأةِ الحُرِّ، والحُرُّ يَمْلِكُ السَّفَرَ وإن كَرِهَتِ امْرأتُه، كذا ههُنا. فصل: وللسَّيِّدِ أن يُعَيِّنَ له المَهْرَ، وله أن يُطْلِقَ، فإن تَزَوَّجَ بما عَيَّنَه أو دُونِه، أو بمَهْرِ المِثْلِ عندَ الإِطْلاقِ أو دونِه، لَزِم المُسَمَّى، وإن تَزَوَّجَ بأكْثَرَ (¬3) مِن ذلك، لم تَلْزَمِ السَّيِّدَ (¬4) الزِّيادَةُ. وهل يَتَعَلَّقُ برَقَبَةِ العَبْدِ أو ذِمَّتِه يُتْبَعُ بها بعدَ العِتْقِ؟ على رِوايَتَين، بِناءً (4) على اسْتِدانَةِ العَبْدِ ¬

(¬1) في م: «فينفذ». (¬2) في م: «فيما». (¬3) في م: «أكثر». (¬4) سقط من: م.

3095 - مسألة: (وليس لسائر الأولياء تزويج كبيرة إلا بإذنها، إلا المجنونة، لهم تزويجها إذا ظهر منها الميل إلى الرجال)

وَلَا يَجُوزُ لِسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَزْويجُ كَبِيرَةٍ إلا بِإِذنِهَا، إلا الْمَجْنُونَةَ، لَهُمْ تَزْويجُهَا إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَيلُ إِلَى الرِّجَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَحْجُورِ عليه، وقد ذَكَرْنا ذلك في كتابِ الحَجْرِ (¬1). فصل: وإذا تَزَوَّجَ أمَةً ثم اشْتَراها بإذْنِ سَيِّدِه لسَيِّدِه، لم يُوثِّرْ ذلك في نِكاحِه، وإنِ اشْتَراها لنَفْسِه وقُلْنا: إنَّه لا يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ. [فكذلك، وإن قُلْنا: يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ] (¬2). انْفَسَخَ نِكاحُه، كما لو اشْتَرَى الحُرُّ امرأتَه (¬3). وله وَطْؤُها بمِلْكِ اليَمِينِ بإذْنِ سَيِّدِه، فإن كان بعضُه حُرًّا فاشْتَراها في ذِمَّتِه أو بما يَخْتَصُّ بمِلْكِه، انْفَسَخَ نِكاحُه؛ لأنَّه مَلَكَها وحَلَّتْ له بمِلْكِ يَمِينِه، وإن مَلَكَ بَعْضَها، انْفَسَخَ نِكاحُه ولم تَحِلَّ له؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ جَمِيعَها، وإنِ اشْتَرَاها بعَينِ مالٍ مُشتَرَكٍ (¬4) بينَه وبينَ سَيِّدِه بغيرِ إذْنِه وقُلْنا: إنَّه لا تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ. لم يَصِحَّ البَيعُ، والنِّكاحُ بحالِه. وإن قُلْنا بتَفْرِيقِها، صَحَّ في قَدْرِ مالِه، وانْفَسَخَ النِّكاحُ بمِلْكِه بَعْضَها. 3095 - مسألة: (وليس لسائرِ الأوْلياءِ تَزْويجُ كبيرةٍ إلَّا بإذْنِها، إلَّا المجنونةَ، لهم تَزْويجُها إذا ظَهَر منها المَيلُ إلى الرِّجالِ) ليس لسائِرِ الأوْلياءِ غيرِ الأبِ تَزْويجُ كبيرةٍ بغيرِ إذْنِها، جَدًّا كان أو غيرَه. وبه قال مالكٌ، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 13/ 417. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «امرأة». (¬4) في م: «مشتركة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو عُبَيدٍ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ أبي ليلَى. وهو قولُ الشافعيِّ إلَّا في الجَدِّ، فإنَّه جَعَلَه كالأبِ؛ لأنَّ ولايَتَه ولايةُ إيلادٍ، فمَلَكَ الإِجْبارَ، كالأبِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». فقالوا: يا رسولَ اللهِ، فكيف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذْنُها؟ قال: «أنْ تسْكُتَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّ الجَدَّ قاصِرٌ عن الأبِ، فلم يَمْلِكِ الإِجْبارَ، كالعَمِّ، ولأنَّه يُدْلِي بغيرِه، فأشْبَهَ سائِرَ العَصَباتِ، وفارَقَ الأبَ؛ فإنَّه يُدْلِي بغيرِ واسِطَةٍ، ويُسْقِطُ الجَدَّ، ويَحْجُبُ الأمَّ عن ثُلُثِ المالِ إلى ثُلُثِ الباقي في زَوْجٍ وأبوَين، [أو امْرأةٍ وأبوَين] (¬2). فأمَّا المجنونةُ (¬3) فلهم تَزْويجُها إذا ظَهَر لهم منها المَيلُ إلى الرِّجالِ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وقال القاضي: لا يُزَوِّجُها إلَّا الحاكِمُ؛ لأنَّه النَّاظِرُ لها في مالِها دُونَهم، فيَجِبُ أن يَخْتَصَّ بالولايَةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 121. (¬2) في الأصل: «وامرأة». (¬3) في الأصل: «المحجوبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ ولايتَهم مُقَدَّمَةٌ على ولايَةِ الحاكِمِ لو كانت عاقلةً، فكذلك إذا كانتْ مجنونةً. وقال الشافعيُّ: لا يَجُوزُ تزْويجُها إلَّا أن يقولَ أهلُ الطِّبِّ: إنَّ عِلَّتَها تَزُولُ بذلك. ولَنا، أنَّها مُحْتاجَةٌ إليه لدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عنها، وصِيانَتِها عن الفُجُورِ، وتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ والمَهْرِ، فجازَ تَزْويجُها تحْصِيلًا لهذه المصالِحِ، كغيرِها. فصل في تَزْويجِ المجنونةِ: إن كانت ممَّن تُجْبَرُ لو (¬1) كانت عاقلةً، جازَ تَزْويجُها لمَن يَمْلِكُ إجْبارَها؛ لأنَّه إذا مَلَك إجْبارَها مع عَقْلِها وامْتِناعِها، فمع عَدَمِه أوْلَى. وإن كانت مِمَّن لا يُجْبَرُ، فهي ثَلاثةُ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أن يكونَ وَلِيُّها الأبَ أو وَصِيَّه، كالثَّيِّبِ (¬2) الكبيرةِ، فهذه يَجُوزُ لوَلِيِّها تَزْويجُها. ذَكَرَه القاضي. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه جَعَل للأبِ تَزْويجَ المَعْتُوهِ، فالمرأَةُ أوْلَى. وهذا قول الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ. ومَنَع منه أبو بكرٍ؛ لأنَّها ولايةُ إجْبارٍ، وليس على الثَّيِّبِ (¬3) ولايَةُ إجْبارٍ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ ولايةَ الإِجْبارِ إنَّما انْتَفَتْ عن العاقلةِ بحُصُولِ المباشَرَةِ منها والخِبْرَةِ، وهذه بخلافِ ذلك. وكذلك الحُكْمُ في ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في م: «كالبنت». (¬3) في النسختين: «البنت». وانظر المغني 9/ 412.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّيِّبِ (¬1) الصغيرةِ إذا قُلْنا بعَدَمِ الإِجْبارِ في حَقِّها، إذا كانت عاقلةً. القسمُ الثاني، أن يكونَ وَلِيُّها الحاكمَ، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس له تَزْويجُها (¬2) بحالٍ؛ لأنَّ هذه ولايةُ إجْبارٍ، فلا تَثْبُتُ لغيرِ الأبِ، [كحالِ عَقْلِها] (¬3). والثاني، له تَزْويجُها إذا ظَهَر منها شَهْوَةُ الرِّجالِ، كبيرةً كانت أو صغيرةً. وهو اخْتِيارُ ابنِ حامِدٍ، وأبي الخَطَّابِ، وقولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ لها حاجَةً إليه لدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عنها، وصِيانَتِها عن الفُجُورِ، وتَحْصِيلِ المَهْرِ والنَّفَقَةِ، والعَفافِ لي صِيانَةِ العِرْضِ، ولا سَبِيلَ إلى إذْنِها، فأُبِيحَ تَزْويجُها، كالثَّيِّبِ (¬4) مع أبِيها، وكذلك يَنْبَغِي أن يَمْلِكَ تَزْويجَها إن قال أهلُ الطِّب: إنَّ (2) عِلَّتَها تَزُولُ بتَزْويجِها؛ لأنَّ ذلك مِن أعْظَمِ مَصالِحِها. وقال الشافعيُّ: لا يَمْلِكُ تَزْويجَ صغيرةٍ بحالٍ، ويَمْلِكُ تَزْويجَ الكبيرةِ إذا قال أهْلُ الطِّبِّ: إنَّ عِلَّتَها تَزُولُ بتَزْويجِها. ولَنا، أنَّ المَعْنَى المُبِيحَ للتَّزْويجِ وُجِد في حَقِّ الصغيرةِ، فأُبِيحَ تَزْويجُها، كالكبيرةِ وإذا [ظَهَرَتْ منها] (¬5) شَهْوَةُ الرِّجالِ (¬6)، ففي تَزْويجِها مَصْلَحَتُها ودَفْعُ حاجَتِها. وتُعْرَفُ شَهْوَتُها مِن كلامِها، ومِن قَرائِنِ أحْوالِها، كَتَتَبُّعِها الرِّجال ومَيلِها إليهم، وأشْباهِ ذلك. القسمُ الثالثُ، مَن وَلِيُّها غيرُ الأبِ والحاكِمِ، فقال القاضي: لا يُزَوِّجُها إلَّا الحاكِمُ. فيكونُ حُكْمُها حُكْمَ ¬

(¬1) في النسختين: «البنت». وانظر المغني 9/ 412. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بحال عضلها». (¬4) في الأصل: «كالبنت». (¬5) في م: «أظهرت». (¬6) في الأصل: «الرجل».

3096 - مسألة: (وليس لهم تزويج صغيرة بحال)

وَلَيسَ لَهُمْ تَزْويجُ صَغِيرَةٍ بِحَالٍ. وَعَنْهُ، لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ. وَعَنْهُ، لَهُمْ تَزْويجُ ابْنَةِ تِسْعِ سِنِينَ بِإِذْنِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسْمِ الثاني على ما بَيَّنَّا. وقال أبو الخَطَّابِ: لهم تَزْويجُها في الحالِ التي يَمْلِكُ الحاكمُ تَزْويجَ مُوَلِّيَته فيها. وهذا قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ وِلايَتَهم مُقَدَّمَةٌ على ولايَةِ الحاكِم، فقُدِّمُوا عليه في التَّزْويجِ، كما لو كانت عاقلةً. ووَجْهُ قولِ القاضي، أنَّ الحاكِمَ هو النَّاظِرُ في مالِها دُونَهم، فكان وَلِيًّا دُونهم، كتَزْويجِ أَمَتِها، ولأنَّ هذا دَفْعُ حاجَةٍ ظاهرةٍ، فكانت إلى الحاكِمِ، كدَفْعِ حاجَةِ الجُوعِ والعُرْيِ. فإن كان وَصِيٌّ (¬1) في مالِها، لم يَمْلِكْ تَزْويجَها؛ لأنَّه لا ولايَةَ له (¬2)، والحكمُ في تَزْويجِها حُكْمُ مَن وَلِيُّها غيرُ الأبِ والحاكِمَ، كما ذكَرنا. 3096 - مسألة: (وليس لهم تَزْويجُ صغيرةٍ بحالٍ) لما رُوِيَ أنَّ قُدامَةَ بنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ ابْنَةَ أخِيه مِن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، فرُفِعَ ذلك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنَّهَا يَتِيمَةٌ وَلَا تُنْكَحُ إلَّا بإذْنِهَا» (¬3). [والصغيرةُ] (¬4) لا إذن لها (وعن أحمدَ) أنَّ (لهم ذلك، ولها الخِيارُ إذا بَلَغَتْ) وهو قولُ الحسنِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، ¬

(¬1) في النسختين: «وصيا». وانظر المغني 9/ 413. (¬2) بعده في المغني 9/ 413: «في نكاحها». (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 130. والدارقطني 3/ 230. والبيهقي 7/ 120. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَتادَةَ، وابنِ شُبْرُمَةَ، والأوْزاعِيِّ، وأبي حنيفةَ. وقال هؤلاء غيرَ (¬1) أبي حنيفةَ: إذا زَوَّجَ الصَّغِيرَين غيرُ الأبِ، فلهما الخِيارُ إذا بَلَغَا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬2). مَفْهُومُه أنَّه إذا لم يَخفْ فله تَزْويجُ اليَتِيمَةِ، واليَتِيمَةُ التي لم تَبْلُغْ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» (¬3). قال عُرْوَةُ: سألتُ عائشةَ عن قولِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}. قالتْ: يا ابنَ أُخْتِي، هذه اليَتِيمَةُ تكونُ في حِجْرِ وَلِيِّها، يُعْجِبُه مالُها وجمالُها، يُرِيدُ أن يَتَزَوَّجَها بغيرِ أن يُقْسِطَ في صَداقِها، فيُعْطِيَهَا مثلَ ما يُعْطِيها غيرُه، فنُهوا عن نِكاحِهِنَّ إلَّا أن يُقْسِطُوا فِيهنَّ، ويَبْلُغوا ¬

(¬1) في النسختين: «عن». وانظر المغني 9/ 402. (¬2) سورة النساء 3. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْلَى (¬1) سُنَّتِهِنَّ في الصَّداقِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورَوَتْ عائشةُ أنَّ جاريةً بِكْرًا زَوَّجَها أبُوها وهي كارِهَةٌ، فَخَيَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). الحدِيثُ مُرْسَلٌ. والثالثةُ، لهم تَزْويجُها إذا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ؛ لقول رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تُسْتَأْمَرُ اليَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُها، وإنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيهَا». رَواه أبو داودَ (¬4). وقد انْتَفَى الإِذْنُ في مَن لم تَبْلُغْ تِسْعَ سِنِينَ، فيَجِبُ حَمْلُه على مَن بلَغَتْ تِسْعًا. ¬

(¬1) في الأصل: «على». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب شركة اليتيم وأهل الميراث، من كتاب الشركة، وفي: باب قول الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. . . .}، من كتاب الوصايا، وفي: باب: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، من كتاب التفسير، وفي: باب الترغيب في النكاح، وباب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية، وباب لا يتزوج أكثر من أربع. . . .، وباب إذا كان الولي هو الخاطب. . . .، وباب تزويج اليتيمة. . . .، من كتاب النكاح، وفي: باب ما ينهى من الاحتيال للولي في اليتيمة. . . .، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 3/ 183، 4/ 11، 6/ 53، 54، 7/ 3، 10، 11، 21، 23، 24، 9/ 31. ومسلم، في: كتاب التفسير. صحيح مسلم 4/ 2313، 2314. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 477. والنسائي، في: باب القسط في الأصدقة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 95. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 121 من حديث ابن عباس. وحديث عائشة تقدم في صفحة 123. (¬4) في: باب في الاستئمار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 483. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج. من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 29. والنسائي، في: باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 71، 72. والدارمي، في: باب في اليتيمة تزوج نفسها، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 138. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 261، 334، 2/ 259، 475، 4/ 394، 408، 411.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ للأبِ اسْتِئْذانُ ابْنَتِه البِكْرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ به، ونَهَى عن الإِنْكاحِ بدُونِه، وأقَلُّ أحْوالِ ذلك الاسْتِحْبابُ، ولأنَّ فيه تَطْييبَ قَلْبِها، وخُرُوجًا مِن الخِلافِ، وقالت عائشةُ: سألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الجارِيَةِ يُنْكِحُها أهْلُها (¬1)، أتُسْتَأْمَرُ أم لا؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ، تُسْتَأْمَرُ» (¬2). وقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبضَاعِهِنَّ». قيل (3): فَإنَّ البِكْرَ تَسْتَحْيي فتَسْكُتُ. قال (¬3): «فَهُوَ إذْنُهَا» (¬4). مُتَّفَقٌ عليهما (¬5). ورُوِيَ عن عطاءٍ قال: كان النبيُّ ¬

(¬1) في الأصل: «أبوها». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1037، وهذا لفظه. وأخرجه البخاري مختصرًا، في: باب لا يُنْكِح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، من كتاب النكاح، وفي: باب في النكاح، من كتاب الحيل. صحيح البخاري 7/ 23، 9/ 33. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 165. (¬3) سقط من النسختين، والمثبت من المجتبى والمسند. (¬4) بهذا اللفظ أخرجه النسائي، في: باب إذن البكر، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 70. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 45، 203. وبنحوه أخرجه البخاري، في: باب لا يجوز نكاح المكره. . . .، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 9/ 26، 27. (¬5) هما حديث واحد، انظر فتح الباري 9/ 192.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَأْمِرُ بَناتِه إذا أنْكَحَهُنِّ. قال: كان يَجْلِسُ عندَ خِدْرِ المَخْطُوبَةِ فيقولُ: «إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانةَ». فإن حَرَّكَتِ الخِدْرَ لم يُزَوِّجْها، وإن سكَتَتْ زَوَّجَها (¬1). ويُسْتَحَبُّ اسْتِئْذانُ المرأةِ في تَزْويجِ ابْنَتِها؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ» (¬2). ولأنَّها تُشارِكُه في النَّظَرِ لبِنْتِها وتَحْصِيلِ المَصْلَحَةِ لها؛ لشَفَقَتِها عليها، وفي اسْتِئْذانِها تَطْيِيبُ قَلْبِها وإرْضاؤُها، فيكونُ أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 141، بلفظه عن المهاجر بن عكرمة، وبنحوه عن عطاء في 144. ووصله البيهقي عن أبي هريرة وابن عباس، في: السنن الكبرى 7/ 123 ورجح إرساله. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 78 من حديث عائشة بنحوه. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 123.

3097 - مسألة: (وإذن الثيب الكلام، وإذن البكر الصمات)

وَإِذْنُ الثَّيِّبِ الْكَلَامُ، وَإذْنُ الْبِكْرِ الصُّمَاتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3097 - مسألة: (وإذْنُ الثَّيِّبِ الكَلامُ، وإذْنُ البِكْرِ الصُّماتُ) أمَّا الثِّيِّبُ (¬1)، فلا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في أنَّ إذْنَها الكلامُ؛ للخَبَرِ، ولأنَّ اللِّسَانَ هو المُعَبِّرُ عمّا في القَلْبِ، وهو المُعْتَبَرُ في كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ فيه الإِذْنُ، غيرَ أشْياءَ يَسِيرَةٍ أُقِيمَ الصَّمْتُ فيها مُقامَه لعَارِضٍ. وأمَّا البِكْرُ فإذْنُهَا صُماتُها في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو حنيفةَ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الوَلِيِّ أبًا أو غيرَه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: في صَمْتِها في حَقِّ غيرِ الأب وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَكونُ إذْنًا؛ لأنَّ الصُّماتَ عَدَمُ الإِذْنِ، فلا يكَونُ إذْنًا، ولأنَّه مُحْتَمِلٌ للرِّضا [والحياءِ وغيرِهما] (¬2)، فلا يكونُ إذْنًا، كما في حَقِّ الثَّيِّبِ، وإنَّما اكْتُفِيَ به في حَقِّ ¬

(¬1) في م: «البنت». (¬2) في م: «وغيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأبِ؛ لأنَّ رِضَاها غيرُ مُعْتَبَرٍ. وهذا شُذُوذٌ عن أهلِ العلمِ، وتَرْكٌ للسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّريحَةِ، يُصانُ الشافعيُّ عن إضافَتِه إليه، وجَعْلِه مذهبًا له، مع كَوْنِه مِن أتْبَعِ النَّاسِ لسُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، [ولا يُعَرِّجُ مُنْصفٌ على هذا القولِ، وقد تقَدَّمَتْ رِوايَتُنا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) أنَّه قال: «لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، ولَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». فقالوا: يا رسولَ اللهِ، فكيف إذْنُها؟ قال: «أنْ تَسْكُتَ» (¬2). وفي روايةٍ عن عائشةَ أنَّها قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ البِكْرَ تَسْتَحْيي. قال: «رِضَاؤُهَا صَمْتُهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفي رِوايَةٍ: «تُسْتَأمَرُ الْيَتيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا» (¬4). وهذا صَرِيحٌ في غيرِ ذاتِ الأبِ. والأخْبارُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 121. من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب لا يُنكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 23 وهذا لفظه. وانظر ما تقدم في صفحة 144. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا كثيرةٌ. ولأنَّ الحَيَاءَ عُقْلَةٌ على (¬1) لِسَانِها، يَمْنَعُها النُّطْقَ بالإِذْنِ، ولا تَسْتَحيي مِن إبائِها وامْتِناعِها، فإذا سَكَتَتْ غَلَب على الظنِّ أنَّه لرِضاها (¬2)، فاكْتُفِيَ به. وما ذَكَرُوه يُفْضِي إلى أن لا يكونَ صمْتُها إذْنًا في حَقِّ الأبِ أيضًا؛ لأنَّهم جَعَلُوا وُجُودَه كعَدَمِه، فيَكونُ إذًا رَدًّا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالكُلِّيَّةِ، واطِّرَاحًا للأخْبارِ الصَّرِيحةِ الجَلِيَّةِ، وخرْقًا لإِجْماعِ الأُمَّةِ. فصل: فإن أذِنَتْ بالنُّطْقِ فهو أبْلَغُ وأتَمُّ، وإن ضَحِكَتْ أو بَكَت فهو بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِها. وقال أبو يوسف، ومحمدٌ: إن بَكَت فليس بإذْنٍ؛ لأنَّه يَدُلُّ على الكَراهَةِ، وليس بصَمْتٍ فيَدْخُلَ في عُمُومِ الحديثِ. ولَنا، ما روَى أبو بكرٍ (¬3) بإسْنادِه عن أبي هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تُسْتَأْمَرُ اليَتِيمَةُ، فَانْ بَكَتْ أو سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وإنْ أبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيهَا». ولأنَّها غيرُ ناطِقَةٍ بالامْتِناعِ مع سَماعِها للاسْتِئْذانِ، فكان إذْنًا منها، كالصُّماتِ أو (¬4) الضَّحِكِ، والبُكاءُ يَدُلُّ على فَرْطِ الحَيَاءِ، لا على الكَراهَةِ، ولو كَرِهَتْ لامْتَنَعَتْ، فإنَّها لا تَسْتَحْيي مِن الامْتِنَاعِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كرضاها». (¬3) وأخرجه أبو داود، في: باب في الاستئمار، من كتاب النكاح، وقال أبو داود: وليس «بكت» بمحفوظ، وهو وهم في الحديث، الوهم من ابن إدريس أو من محمد بن العلاء. سنن أبي داود 1/ 483. وانظر ما تقدم في صفحة 143. (¬4) في م: «و».

3098 - مسألة: (ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم)

وَلَا فَرْقَ بَينَ الثُّيُوبَةِ بِوَطْءٍ مُبَاحٍ أوْ مُحَرَّمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والحديثُ يَدُلُّ بصَرِيحِه على أنَّ الصَّمْتَ إذْنٌ، وبمَعْناه على ما في مَعْناه مِن الضَّحِكِ والبُكاءِ، ولذلك أقَمْنا الضَّحِكَ مُقامَه. 3098 - مسألة: (ولا فَرْقَ بينَ الثُّيُوبَةِ بوَطْءٍ مُباحٍ أو مُحَرَّمٍ) وجُمْلته أنَّ الثِّيِّبَ المُعْتَبَرَ نُطْقُها، هي الموْطُوءَةُ في القُبُلِ، سَواء كان الوَطْءُ مُباحًا أو مُحَرَّمًا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، في المُصابَةِ بالفُجُورِ: حُكْمُها حُكْمُ البِكْرِ في إذْنِها و (¬1) تَزْويجِها؛ لأنَّ عِلَّةَ الاكْتِفاءِ بصُماتِ البِكْرِ الحَيَاءُ، [والحَياءُ] (¬2) مِن الشيءِ لا يَزُولُ إلَّا بمُباشَرَتِه، وهذه لم تُباشِرِ الإِذْنَ في النِّكاحِ، فبَقِيَ حَياؤُها منه بحالِه. ولَنا، قولُه عليه السَّلامُ: «الثَّيِّبُ (¬3) تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا» (¬4). ولأنَّ قولَه عليه السَّلامُ: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وإذْنُهَا أنْ تَسْكُتَ» (¬5). يَدُلُّ على أنَّه لا بدَّ مِن نُطْقِ الثَّيِّبِ؛ لأنَّه قَسَم النِّساءَ قِسْمَين، فجَعَلَ السُّكُوتَ إذْنًا لأحَدِهما، فوَجَب ¬

(¬1) بعده في الأصل: «يجز». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «البكر». (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب استئمار البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 602. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 192. وهو صحيح بشواهده. انظر الإرواء 6/ 234، 235. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 121 من حديث أبي هريرة.

3099 - مسألة: (فأما زوال البكارة بإصبع أو وثبة، فلا يغير صفة الإذن)

فَأمَّا زَوَالُ الْبَكَارَةِ بِإِصْبَعٍ أَوْ وَثْبَةٍ، فَلَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الإِذْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ الآخَرُ بخِلافِه، وهذه ثَيَّبٌ، فإنَّ الثَّيِّبَ المَوْطُوءَةُ في القُبُلِ، وهذه كذلك. ولأنَّه لو وَصَّى لثَّيِّبِ النِّساءِ دَخَلَتْ في الوَصِيَّةِ، ولو وَصَّى للأبْكارِ لم تَدْخُلْ، ولو اشْتَرَطَها في التَّزْويجِ أو الشِّراءِ بِكْرًا (¬1) فوَجَدَها مُصابَةً بالزِّنَى، مَلَك الفَسْخَ، ولأنَّها مَوْطُوءَةٌ في القُبُلِ، أشْبَهَتِ المَوْطُوءَةَ بشُبْهَةٍ، والتَّعْلِيلُ بالحيَاءِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّه أمْرٌ خَفِيٌّ لا يُمْكِنُ اعْتِبارُه بنَفْسِه، وإنَّما يُعْتَبَرُ بمَظِنَّتِه، وهي البَكارَةُ، ثم هذا التَّعْلِيلُ يُفْضِي إلى إبْطالِ مَنْطُوقِ الحديثِ، فيكونُ باطلًا في نَفْسِه. ولا فَرْقَ بينَ المُكْرَهَةِ والمُطاوعَةِ، وعلى هذا ليس لأبِيها إجْبارُها إذا كانت بالِغَةً. وفي تَزْويجِها إذا كانت صغيرةً وَجْهان. قولُهم: إنَّها لم تُباشِرِ الإِذْنَ. قُلْنا: يَبْطُلُ بالمَوْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ، وبمِلْكِ يَمِينٍ، و (¬2) المُزَوَّجَةِ وهي صغيرةٌ. 3099 - مسألة: (فأمَّا زَوالُ الْبَكارَةِ بإِصْبَعٍ أو وَثْبَةٍ، فلا يُغَيِّرُ صِفَةَ الإِذْنِ) إذا ذَهَبَتْ بكارَتُها بغير الوَطْءِ؛ كالوَثْبَةِ، أو شِدَّةِ حَيضَةٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو إصْبَعٍ، أو عُودٍ، فحُكْمُها حكمُ الأبْكارِ. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ؛ لأنَّها لم تَخْبُرِ (¬1) المَقْصُودَ، ولا وُجِد وَطْؤُها في القُبُلِ، فأشْبَهَتْ مَن لم تَزُلْ عُذْرَتُها. وكذلك لو وُطِئَتْ في الدُّبُرِ؛ لأنَّها غيرُ مَوْطُوءَةٍ في القُبُلِ. فصل: إذا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ والمرأةُ في إذْنِها قبلَ الدُّخُولِ، فالقولُ قولُها في قولِ أكثرِ الفُقَهاءِ. وقال زُفَرُ في الثَّيِّبِ كقَوْلِ الجماعةِ، وفي البِكْرِ: القولُ قولُ الزَّوْجِ؛ لأنَّ الأصْلَ السُّكُوتُ، والكلامُ حادِثٌ، والزَّوْجُ يَدَّعِي الأصْلَ، فالقولُ قولُه. ولَنا، أنَّها مُنْكِرَةٌ للإِذْنِ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ، ولأنَّه يَدَّعِي أنَّها اسْتُؤُذِنتْ وسَمِعَتْ فصَمَتَتْ، والأصلُ عدَمُ ¬

(¬1) في م: «يجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، وهذا جَوابٌ عن قولِه (¬1). وإنِ اخْتَلَفا بعدَ الدُّخولِ ققال القاضي: القولُ (¬2) قولُ الزَّوْجِ؛ لأنَّ التَّمْكِينَ مِن الوَطْءِ دليلٌ على الإِذْنِ وصِحَّةِ النِّكاحِ (¬3)، فكان الظَّاهِرُ معه. وهل تُسْتَحْلَفُ المرأةُ إذا قُلْنا: القولُ قولُها؟ قال القاضي: قِياسُ المذهبِ أنَّه لا يَمِينَ عليها، كما لو ادَّعَى زَوْجِيَتَّهَا فأنْكَرَتْه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال (¬4) الشَّافِعِيُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ: تُسْتَحْلَفُ. فإن نَكَلَتْ، فقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: يَثْبُتُ النِّكاحُ. وقال الشافعيُّ: يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ، ويَثْبُتُ النِّكاحُ. ولَنا، أنَّه اخْتِلافٌ في زَوْجِيَّةٍ (¬5)، فلا يَثْبُتُ بالنُّكُولِ، كما لو ادَّعَى الزَّوْجُ أصْلَ التَّزْويجِ فأنْكَرَتْه. فإن كانتِ المرأةُ ادَّعَتْ أنَّها أذِنَتْ وأنْكَرَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ، فالقول قولُها؛ لأنَّه اخْتِلافٌ في أمْرٍ مُختصٍّ بها، صادِرٍ مِن جهتِها، فكان القولُ قولَها فيه، كما لو اخْتَلَفوا في نِيَّتِها فيما تُعْتَبَرُ فيه نِيَّتُها، ولأنَّها تَدَّعِي صِحَّةَ العَقْدِ وهم يَدَّعُونَ فَسادَه، فالظَّاهِرُ معها. ¬

(¬1) بعده في المغني 9/ 411: «إن الأصل معه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «البكارة». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «زوجيته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في المَحْجُورِ عليه للسَّفَهِ: والكلامُ في نِكاحِه في ثلاثةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أنَّ لوَلِيِّه تَزْويجَه إذا عَلِم حاجَتَه إلى النِّكاحِ؛ لأنَّه نُصِبَ لمَصالِحِه، وهذا مِن مَصالِحِه، لأنَّه يَصُونُ به دِينَه وعِرْضَه ونَفْسَه، فإنَّه رُبَّما تَعَرَّضَ بتَرْكِ التَّزْويجِ للإِثْمِ بالزِّنَى المُوجِبِ للحدِّ، وهَتْكِ العِرْضِ، وسَواءٌ عَلِم بحاجَتِه بقولِه أو بغيرِ قولِه، وسَواءٌ كانت حاجَتُه إلى الاسْتِمْتاعِ أو إلى الخِدْمَةِ، فيُزَوجُه امرأةً لتَحِلَّ له؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى الخَلْوَةِ بها. وإن لم يَكُنْ به حاجَةٌ إليه، لم يَجُزْ تَزْويجُه؛ لأنَّه تَلْزَمُه بالنِّكاحِ حُقُوقٌ؛ مِن المَهْرِ، والنفقةِ، والعِشْرَةِ، والمَبِيتِ، والسُّكْنَى، فيكونُ تَضْيِيعًا لمالِه ونَفْسِه في غيرِ فائدةٍ، فلم يَجُزْ، كتَبْذِيرِ مالِه. وإذا أرادَ تَزْويجَه اسْتَأْذَنَه في تَزْويجه، فإن زَوَّجَه بغيرِ إذْنِه فقال أصحابُنا: يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فمَلَكَه الوَلِيُّ في حَقِّ المُوَلَّى عليه، كالبَيعِ، ولأنَّه مَحْجُوزٌ عليه، أشْبَهَ الصغيرَ والمجْنونَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ تَزْويجَه بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّه يَمْلِكُ الطَّلاقَ، فلم يُجْبَرْ على النِّكاحِ، كالرَّشِيدِ والعَبْدِ الكبيرِ، وذلك لأنَّ إجْبارَه على النِّكاحِ مع مِلْكِ الطَّلاقِ مُجَرَّدُ إضْرارٍ، فإنَّه يُطَلِّقُ فيَلْزَمُه الصَّداقُ مع فَواتِ النِّكاحِ، ولأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في امْرَأةٍ، ولا يكونُ له في أُخْرِى، فإذا أُجْبرَ على مَن يَكْرَهُها لم تَحْصُلْ له المصلحةُ منها، وفاتَ عليه غرَضُه مِن الأخَرَى، فيَحْصُلُ مُجَرّدُ ضَرَرٍ مُسْتَغْنًى عنه. وإنَّما جازَ ذلك في حَقِّ المَجْنُونِ والطفْلِ، لعَدَمِ إمْكانِ الوُصُولِ إلى ذلك مِن قولِهما، ولا يَتَعَذَّرُ ذلك ههُنا، فوَجَبَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا يُفَوِّتَ ذلك عليه، كالرَّشِيدِ. الحالُ الثاني، أنَّ للوَلِيِّ أن يَأْذَنَ له في التَّزْويجِ في الحالِ التي للوَلِيِّ تَزْويجُه فيها، وهي حالةُ الحاجَةِ؛ لأنَّه مِن أهلَ النِّكاحِ، فإنَّه عاقِلٌ مُكَلَّفٌ، ولذلك (¬1) يَمْلِكُ الطَّلاقَ والخُلْعَ، فجازَ أن يُفَوِّضَ إليه ذلك، وهو مُخَيَّرٌ بينَ أن يُعَيِّنَ له المرأةَ أو يَأْذَنَ له مُطْلَقًا. وقال بغضُ الشافعيةِ: يَحْتاجُ إلى التَّعْيينِ له؛ لئلَّا يَتَزَوَّجَ شَرِيفَةً يَكْثُرُ مَهْرُها ونَفَقَتُها، فيَتَضَرَّرُ بذلك. ولَنا، أَنَّه أذِنَ في النِّكاحِ، فجازَ مِن غيرِ تَعْيِينٍ، كالإِذْنِ للعَبْدِ، وبهذا يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. ولا يَتَزَوَّجُ إلَّا بمَهْرِ المِثْلِ، فإن زادَ على مَهْرِ المِثْلِ، بَطَلَتِ الزِّيادَةُ، لأنَّها مُحاباةٌ بمالِه، وهو لا يَمْلِكُها. وإن نَقَص عن مَهْرِ المِثْلِ، جازَ؛ لأنَّه رِبْحٌ (¬2) مِن غيرِ خُسْرانٍ. الحالُ الثالثُ، إذا تَزَوَّجَ بغيرِ إذْنٍ، فقال أبو بكرٍ: يَصِحُّ النِّكاحُ، أوْمَأ إليه أحمدُ. قال القاضي: يَعْنِي إذا كان مُحْتاجًا، فإن عُدِمَتِ الحاجَةُ لم يَجُزْ، لأنَّه إتْلافٌ لمالِه في غيرِ فائدةٍ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن أمْكَنَه اسْتِئْذانُ وَلِيِّه لم يَصِحَّ إلَّا بإذْنِه؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه، فلم يَصِحَّ منه التَّصَرُّفُ بغيرِ إذْنِه، كالعَبْدِ، وإن طَلَب منه النِّكاحَ، فأبَى أن يُزَوِّجَه، ففيه وَجْهان. ولَنا، أنَّه إذا احْتاجَ إلى النِّكاحِ فحَقه مُتَعَيِّنٌ فيه، فصَحَّ اسْتِيفاؤُه بنفسِه، كما لو اسْتَوْفَى دَينَه الحالَّ عندَ امْتِناعِ وَلِيِّه مِن اسْتِيفائِه. فأمَّا إن تَزَوَّجَ مِن غيرِ حاجةٍ، لم يَصِحَّ، فإن وَطِئَ، فعليه مَهْرُ المِثْلِ للزوْجَةِ؛ لأنَّه أتْلَفَ بُضْعَها بشُبْهَةٍ، فلَزِمَه عِوَضُ ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) في م: «تزوج».

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، الْوَلِيُّ، فَلَا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ، فَإِنْ زَوَّجَتِ الْمَرأَةُ نَفْسَهَا أَوْ غَيرَهَا، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أتْلَفَ، كإتْلافِ مالِها. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (الثَّالِثُ، الوَلِيُّ، فلا نِكاحَ إلَّا بوَلِيٍّ، فإن زَوَّجَتِ المرأةُ نَفْسَها أو غيرَها، لم يَصِحَّ) ولا تَمْلِكُ تَوْكِيلَ غيرِ وَلِيِّهَا [في تَزْويجِها] (¬1)، فإن فَعَلَتْ، لم يَصِحَّ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عبّاس، وأبي هُرَيرَةَ، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وإليه ذَهَب سعيدُ بنُ المُسَيَّب، والحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ أَبى ليلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ المباركِ، وعُبَيدُ (¬2) اللهِ العَنْبَرِيُّ، [والشافعيُّ] (1)، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ. ورُوِيَ عنِ ابنِ سِيرِينَ، والقاسمِ بنِ محمدٍ، والحسنِ بنِ صالحٍ، وأبي يوسف، لا يَجُوزُ لها ذلك بغيرِ إذْنِ الوَلِيِّ، فإن فَعَلَتْ كان مَوْقُوفًا على إجازَتِه. وقال أبو حنيفةَ: لها أن تُزَوِّجَ نَفْسَها وغيرَها، وتُوَكِّلَ في النِّكاحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬3). أضافَ النِّكاحَ إليهِنَّ، ونَهَى عن مَنْعِهِنَّ منه (¬4)، ولأنَّه خالِصُ حَقِّها، وهي مِن أهلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «عبد». (¬3) سورة البقرة 232. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُباشَرَةِ، فصَحَّ منها، كبَيعِ أمَتِها، ولأنَّها إذا مَلَكَتْ بَيعَ أَمتِها، وهو تَصَرُّفٌ في رَقَبَتِها وسائِرِ مَنافِعِها، ففي النِّكاحِ الذي هو عَقدٌ على بعضِ نَفْعِها أوْلَى. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ». رَوَتْه عائشةُ، وأبو مُوسى، وابنُ عباسٍ (¬1). قال المَرُّوذِيُّ: سَألْتُ أحمدَ ويَحْيَى عن حديثِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ». فقالا: صَحِيحٌ. ورُوِيَ عن عائشةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، فَإنْ أَصابَهَا فَلَهَا (¬2) المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وغيرُهما (¬3). فإن قِيلَ: فإنَّ الزُّهْرِيَّ راويه (¬4)، وقد أنْكَرَه. [قال ابنُ جُرَيجٍ: سَألْتُ الزُّهْرِيَّ عنه فلم يَعْرِفْه. قُلْنا: لم يَنْقُلْ هذا عن ابنِ جُرَيجٍ غيرُ ابنِ عُلَيَّةَ، كذلك] (¬5) قال الإِمامُ أحمدُ ويَحيى، ¬

(¬1) حديث عائشة أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 260. وحديث أبي موسى أخرجه أبو داود، في: باب الولي، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 481. والترمذي، في: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 12. وابن ماجه، في: باب لا نكاح إلا بولي، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 605. والدارمي، في: باب النهي عن النكاح بغير ولي، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 137. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 394، 413، 418. وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه، في الموضع السابق، والإمام أحمد في: المسند 1/ 250. وانظر الكلام مستوفى على طرق الحديث في الإرواء 6/ 235 - 243. (¬2) في م: «فله». (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬4) في م: «رواه». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو ثَبَت (¬1) هذا، لم يَكُنْ فيه حُجَّةٌ، لأنَّه قد نَقَلَه ثِقاتٌ عنه، فلو نَسِيَه الزُّهْرِيُّ لم يُضِرْه، لأنَّ النِّسْيانَ لم يُعْصمْ منه إنْسانٌ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ» (¬2). ولأنَّها مُولًّى عليها في النِّكاحِ، فلا تَلِيهِ، كالصَّغيرةِ. فأمَّا الآيَةُ، فإنَّ عَضْلَها الامْتِناعُ مِن تَزْويجِها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ نِكاحَها إلى الوَلِيِّ، و (¬3) يَدُلُّ عليه (¬4) أنَّها نزَلَتْ في شَأْنِ مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ حينَ امْتَنَعَ مِن تَزْويجِ أختِه (¬5)، فدَعاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فزَوَّجَها (¬6). وأضافَه إليها لأنَّها مَحَلٌّ له. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا يَجُوزُ لها تَزْويجُ أحدٍ (¬7). ¬

(¬1) في م: «لم يثبت». (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب تفسير سورة الأعراف، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 11/ 196 - 199. (¬3) في م: «وهذا». (¬4) في م: «على». (¬5) سقط من: م. وفي الأصل: «ابنته». والمثبت من مصادر التخريج. (¬6) أخرجه البخاري، في: باب: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ. . . .}، من كتاب التفسير، وفي: باب من قال: لا نكاح إلا بولي. من كتاب النكاح. صحيح البخاري 6/ 36، 7/ 21. وأبو داود، في: باب في العضل، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 481. والترمذي، في: باب: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ. . . .}، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 12/ 103. (¬7) سقط من: م.

3100 - مسألة: (وعن أحمد)

وَعَنْهُ، لَهَا تَزْويجُ أَمَتِهَا وَمُعْتَقَتِهَا. فَيُخَرَّجُ مِنْهُ صِحَّةُ تَزْويجِ نَفْسِهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، وَتَزْويجِ غَيرِهَا بِالْوَكَالةِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3100 - مسألة: (وعن أحمدَ) أنَّ (لها تَزْويجَ أمَتِها ومُعْتَقَتِها) وهذا يَدُلُّ على أنَّه تَصِحُّ عِبارَتُها (¬1) في النِّكاحِ (فيُخرَّجُ منه) أنَّ لها (تَزْويجَ نَفْسِها بإذْنِ وَلِيِّها، وغيرِها بالوَكالةِ) وهو مذهبُ (¬2) محمدِ بن الحسنِ. ويَنْبَغِي أن يكونَ قوْلًا لابنِ سِيرينَ ومَن معه؛ لأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ». يَدُلُّ بمَفْهُومِه على صِحَّتِه بإذْنِه. ولأنَّها (¬3) إنَّما مُنِعَت الاسْتِقْلال بالنِّكاحِ لِقُصُورِ عَقْلِها، فلا يُؤْمَنُ انْخِداعُها ووُقُوعُه منها على وَجْهِ المَفْسَدَةِ، وهذا مَأْمُونٌ فيما إذا أذِنَ فيه وَلِيُّها (والمذهبُ الأوَّلُ) لعمومِ قولِه: «لَا نِكَاحَ إلَّا بوَلِيٍّ». وهذا يُقَدَّمُ على دليلِ الخِطابِ، ¬

(¬1) في م: «اعتبارها». (¬2) بعده في الأصل: «الشافعي و». (¬3) في الأصل: «ولأن المراد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّخْصِيصُ ههُنا خَرَج مَخْرَجَ الغالِبِ، فإنَّ الغالِبَ أنَّها لا تُزَوِّجُ نَفْسَها إلَّا بغيرِ إذْنِ وَلِيِّها، والعِلَّةُ في مَنْعِها صِيانَتُها عن مُباشَرَةِ ما يُشْعِرُ بوَقاحَتِها ورُعُونَتِها (¬1) ومَيلِها إلى الرِّجالِ، وذلك يُنافِي حال أهلِ (¬2) الصِّيانَةِ والمُرُوءَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «عورتها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن حَكَمَ بصِحَّةِ هذا العَقْدِ حاكِمٌ، أو كان المُتَوَلِّي لعَقْدِه حاكِمًا، لم يَجُزْ نَقْضُه، وكذلك سائِرُ الأنْكِحَةِ الفاسدةِ. وخَرَّجَ القاضي وَجْهًا في هذا خاصَّةً أنَّه يُنْقَضُ. وهو قولُ الإِصْطَخْرِيِّ مِن أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه خالفَ نَصًّا. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّها مَسألةٌ مُخْتَلَفٌ فيها، ويَسُوغُ فيها الاجْتِهادُ، فلم يَجُزْ نَقْضُ الحُكْمِ به، كما لو حَكَمَ بالشُّفْعَةِ للجارِ، وهذا النَّصُّ مُتَأَوَّلٌ، وفي صِحتِه كلامٌ، وقد عارَضَتْه ظواهِرُ.

3101 - مسألة: (وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها)

وَأحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3101 - مسألة: (وأحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ المرأةِ الحُرَّةِ أبُوها) إنَّما قَيَّدَ المرأةَ بالحريَّةِ (¬1)؛ لأنَّ الأمَةَ لا ولايةَ لأبِيها عليها، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وأوْلَى النَّاسِ بتَزْويجِها أبُوها؛ لأنَّه (¬2) لا ولايَةَ لأحَدٍ معه. وبهذا قال ¬

(¬1) في م: «بالحرة». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيُّ. وهو المَشْهُورُ عن أبي حنيفةَ. وقال مالكٌ، والعَنْبَرِيُّ، وأبو يوسفَ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ: الابنُ أَوْلَى. وهي رِوايَةٌ عن أبي حنيفةَ؛ لأنَّه أوْلَى منه بالمِيرَاثِ، وأقْوَى تَعْصِيبًا؛ لأنَّه يُسْقِطُ تَعْصِيبَ جَدِّه. ولَنا، أنَّ الوَلَدَ مَوْهُوبٌ لأبِيه، قال اللهُ تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} (¬1). وقال زَكَرِيَّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (¬2). وقال إبراهيمُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (¬3). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبيكَ» (¬4). وإثْباتُ ولايَةِ المَوْهُوبِ له (¬5) على الهِبَةِ أوْلَى مِن العَكْسِ، ولأنَّ الأبَ أكْمَلُ نَظرًا، وأشَدُّ شَفَقَةً، فوَجَبَ تَقْدِيمُه في الولايَةِ، كتَقْدِيمِه على الجَدِّ، ولأنَّ الأبَ يَقُومُ على وَلَدِه في صِغَرِه وسَفَهِه وجُنُونِه، فَيَلِيه في سائِرِ ما تَثْبُتُ الولايَةُ عليه فيه، بخِلافِ الابنَ، ولذلك اخْتَصَّ بولايةِ المالِ، وجازَ له أن يَشْتَرِيَ لها مِن مالِه، وله مِن مالِها، إذا كانت صغيرةً، بخِلافِ غيرِه، ولأنَّ الولايَةَ احْتِكامٌ، وإحْكامُ الأصْلِ على فَرْعِه أَوْلَى مِن العَكْسِ، وفارَقَ المِيراثَ، فإنَّه لا يُعْتبَرُ له النَّظرُ، ولهذا يَرِثُ الصَّبِيُّ والمجْنُونُ، وليس فيه احْتِكامٌ ولا ولايةٌ على المَوْرُوثِ، بخِلافِ مما نحنُ فيه. ¬

(¬1) سورة الأنبياء 90. (¬2) سورة آل عمران 38. (¬3) سورة إبراهيم 39. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106. (¬5) سقط من: الأصل.

3102 - مسألة: (ثم أبوه وإن علا)

ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3102 - مسألة: (ثم أبُوه وإن عَلَا) يَعْنِي أنَّ الجَدَّ أبَا الأبِ، وإن عَلَتْ دَرَجَتُه، أحَقُّ بالولايةِ مِن الابنِ وسائِرِ الأوْلِياءِ. وهو قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ الابنَ مُقَدَّمٌ على الجَدِّ. وهو قولُ مالكٍ ومَن وافَقَه؛ لما تَقَدَّمَ. وعن أحمدَ رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّ الأخَ مُقَدَّمٌ على الجَدِّ؛ لأنَّ الجَدَّ يُدْلِي بأُبُوَّةِ الأبِ، والأخَ يُدْلِي بالبُنُوَّةِ، والبُنُوَّة مُقَدَّمَةٌ. وعنه رِوايةٌ رابعةٌ، أنَّ الأخَ والجَدَّ سَواءٌ؛ لاسْتِوائِهما في المِيرَاثِ بالتَّعْصِيبِ، واسْتِواؤُهُما في القَرابَةِ يُوجِبُ اسْتِواءَهما في الولَايةِ، كالأخَوَين، ولأنَّهما عَصَبَتانِ لا يُسْقِطُ أحَدُهما الآخَرَ، فاسْتَوَيا في الولايةِ، كالأخوَين. ولَنا، أنَّ الجَدَّ له إيلادٌ وتَعْصِيبٌ، فيُقَدَّمُ عليهما، كالأبِ، ولأنَّ الابنَ والأخَ يُقادان بها، والأخَ يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِها، بخِلافِ الجَدِّ، والجَدُّ لا يَسْقُطُ في المِيراثِ إلَّا بالأب، والأخُ يَسْقُطُ به وبالابنِ وابْنِه، وإذا ضاقَ المالُ وفي المسألةِ جَدٌّ وأَخٌ، سَقَط الأخُ وحدَه، فوَجَبَ تَقْدِيمُه عليهما، كالأبِ، وكتَقْدِيمِه على العَمِّ وسائِرِ العَصَباتِ. إذا ثَبَت هذا، فالجَدُّ وإن عَلَا أوْلَى مِن جميعِ العَصَباتِ غيرَ الأبِ، وأوْلَى الأجْدادِ أقْرَبُهم، كالجَدِّ مع الأبِ.

3103 - مسألة: (ثم ابنها، ثم ابنه وإن سفل)

ثُمَّ ابْنُهَا، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نزَلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3103 - مسألة: (ثم ابْنُها، ثم ابْنُه وإن سَفَل) متى عُدِمَ الأبُ وآبَاؤُه، فأوْلَى النَّاسِ بتَزْويجِ المرأةِ ابْنُها، ثم ابْنُه بعدَه وإن نَزَلَتْ دَرَجَتُه، الأقْرَبُ فالأقْرَبُ منهم. وبه قال أصحابُ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: لا ولايةَ للابْنِ إلا أن يكونَ ابْنَ عَم أو مَوْلًى أو حاكِمًا، فيَلِي بذلك لا بالبُنُوَّةِ، لأنَّه ليس بمُنَاسبٍ لها، فلا يَلِي نِكاحَها كخالِها (¬1)، ولأنَّ طَبْعَه يَنْفِرُ مِن تَزْويجِها، فلا يَنْظُرُ لها. ولَنا، ما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، أنَّها لمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُها، أرْسَلَ لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُها فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، ليس أحَدٌ مِن أوْلِيَائِي شاهِدًا. قال: «لَيسَ مِنْ أوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذلِكَ». فقالتْ: قُمْ يا عُمَرُ (¬2) فزَوِّجْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. فزَوَّجَه. رَواه النَّسَائِي (¬3). قال الأثْرَمُ: قُلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: فحديثُ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَةَ حين زَوَّجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّه أُمَّ سَلَمَةَ، أليس كان صغيرًا؟ قال: ومَن يقولُ كان صغيرًا، ليس فيه بَيان. [ولأنَّه] (¬4) عَدْلٌ مِن عَصَباتِها، فيَثْبُتُ له ولايَةُ ¬

(¬1) في م: «لحالها». (¬2) عمر؛ ابنها. (¬3) في: باب إنكاح الابن أمه، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 66، 67. (¬4) سقط من: م.

3104 - مسألة: (ثم أخوها لأبويها، ثم لأبيها)

ثُمَّ أَخُوهَا لِأَبَوَيهَا، ثُمَّ لِأَبِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزْويجِها، كأخِيها. وقولُهم: ليس بمُناسبٍ لها. مَمْنُوعٌ، وإن سُلِّمَ فهو يَبْطُلُ بالحاكِمِ (¬1) والمَوْلَى. وقولُهم: إنَّ طَبْعَه يَنْفرُ مِن تزْويجِها. قُلنا: هذا مُعارضٌ في الفَرْعِ ليس له أصْلٌ، ثم يَبْطُلُ بما إذا كان ابْنَ عَمٍّ أو مَوْلًى أو حاكِمًا. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُقَدَّمُ على الأخِ ومَن بعدَه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه عندَ مَن يقولُ بولايَتِه؛ لأنَّه أقْوَى منه تَعْصِيبًا، وقد اسْتَوَيَا في عَدَمِ الإِيلَادِ. 3104 - مسألة: (ثُم أخوها لأبَوَيها، ثم لأبيها) لا خِلافَ فِي تَقْديمِ الأخِ بعدَ عَمُودَي النَّسَبِ؛ لكَوْنِه أقْرَبَ العَصَباتِ بعدَهم، فإنَّه ابْنُ الأبِ، وأقْواهم تَعْصِيبًا، وأحَقُّهم بالمِيرَاثِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في الأخِ [للأبَوَين والأخِ] (¬2) للأبِ إذا اجْتَمَعَا، فعنه، أنَّهما سَواءً. اخْتارَها الخِرَقِيُّ. وبه قال أبو ثَوْرٍ، والشافعيُّ في القديمِ؛ لأنَّهما اسْتَوَيَا في الإِدْلاءِ بالجِهَةِ التي تُسْتَفادُ بها العُصُوبَةُ، وهي جِهَةُ الأبِ، فاسْتَوَيا في الولايةِ، كما لو كانا مِن أبٍ، وإنَّما رُجِّحَ الآخَرُ (¬3) في المِيرَاثِ بجِهَةِ الأمِّ، ولا مَدْخَلَ لها في الولايَةِ، فلم يُرَجَّحْ بها، كالعَمَّين أحدُهما خالٌ، وابْنَيْ عَمٍّ أحَدُهما أخٌ مِن أُمٍّ. والرِّوايةُ الثانيةُ، الأخُ مِن الأبوَين أوْلَى. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «بالحكم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

3105 - مسألة: (وعنه تقديم الابن على الجد، والتسوية بين الجد والإخوة، وبين الأخ للأبوين والأخ للأب)

وَعَنْهُ تَقْدِيمُ الابْنِ عَلَى الْجَدِّ، وَالتَّسْويَةُ بَينَ الْجَدِّ وَالْأخِ، وَبَينَ الْأَخِ لِلْأبَوَينَ وَالْأخِ لِلْأَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ. وهو الصَّحِيحُ، إن شاءَ الله تعالى؛ لأنَّه حَقٌّ يُسْتَفادُ بالتَّعْصِيبِ، فيُقَدَّمُ فيه الأخُ مِن الأبوَين، كالمِيراثِ، وكاسْتِحْقاقِ المِيراثِ بالوَلاءِ، فإنَّه لا مَدْخَلَ للنِّساءِ فيه، وقد قُدَّمَ الأخُ للأبَوَين فيه. وبهذا يَبْطُلُ ما ذُكِرَ للرِّوايةِ (¬1) الأُولَى. وهكذا الخِلافُ في بَنِي الإِخْوَةِ والأعْمامِ وبَنِيهم. وأمَّا إذا كان ابْنَا عَم لأبٍ أحَدُهما أخٌ لأُمٍّ، فهما سَواءٌ؛ لأنَّهما اسْتَوَيا في التَّعْصِيبِ والإِرْثِ به. وقال القاضي: فيهما مِن الخِلافِ مثلُ ما في ابْنِ عَمٍّ مِن أبَوَينِ وابن عَمٍّ مِن أبٍ؛ لأنَّه يُرَجَّحُ بجهةِ (¬2) أُمِّه. وليس كذلك؛ لأنَّ جِهَةَ أُمِّه يَرِثُ بها مُنْفَرِدَةً، وما وَرِث بها مُنْفَرِدًا لم يُرَجَّحْ به، ولذلك (¬3) لم يُرَجَّحْ به في المِيراثِ بالوَلاءِ ولا في غيرِه. فعلى هذا، إذا اجْتَمَعَ ابنُ عمٍّ مِن أبوَين وابْنُ عمٍّ مِن أبٍ هو أخٌ مِن أمٍّ، فالولايَةُ لابنِ العَمِّ مِن الأبوَين عندَ مَن يَرَى تَقْدِيمَ وَلَدِ الأبوَين. 3105 - مسألة: (وعنه تَقْدِيمُ الابْنِ على الجَدِّ، والتَّسْويَةُ بينَ الجَدِّ والإِخْوَةِ، وبينَ الأخِ للأبَوَين والأخِ للأبِ) وقد ذَكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «في الرواية». (¬2) في م: «من جهة». (¬3) في م: «كذلك».

3106 - مسألة: (ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم العم، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، على ترتيب الميراث)

ثُمَّ بَنُو الإخْوَةِ وَإنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْأقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ، عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3106 - مسألة: (ثم بَنُو الإِخْوَةِ وإن سَفَلُوا، ثم العَمُّ، ثم ابْنُه، ثُم الأقْرَبُ فالأقْرَبُ مِن العَصَباتِ، على تَرْتِيبِ المِيرَاثِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الولايةَ بعدَ الإِخْوَةِ تَتَرَتَّبُ على تَرْتِيبِ المِيراثِ بالتَّعْصِيبِ، فأحَقُّهم بالمِيراثِ أحَقُّهم بالولايةِ، فبعدَ الإِخْوَةِ بَنُوهم وإن سَفَلُوا، ثم بَنُو الجَدِّ وهم الأعمامُ (¬1)، ثم بَنُوهم وإن سَفَلُوا، [ثم بنو جَدِّ الأبِ وهم أعمَامُ الأبِ، ثم بَنُوهم وإن سَفَلُوا] (¬2)، [ثم بَنُو جَدِّ الجَدِّ، ثم بَنُوهِم] (¬3)، وعلى هذا، لا يَلي بَنُو أبٍ أَعْلَى مع (¬4) بَنِي أبٍ أقْرَبَ منه وإن نزَلَتْ دَرَجَتُهم، وأَوْلَى وَلَدِ كُلِّ أبٍ أقْرَبُهم إليه؛ لأنَّ مَبْنَى الولايَةِ على النَّظَرِ والشَّفَقَةِ، وذلك مُعْتَبَرٌ بمَظِنَّتِه، وهي القَرابَةُ، فأقْرَبُهم أشْفَقُهم. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. ¬

(¬1) في م: «أعمام الأب». (¬2) تكملة من المغني 9/ 359. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في النسختين: «من» والمثبت من المغني 9/ 351.

3107 - مسألة: (ثم المولى المنعم، ثم عصباته من بعده،

ثُمَّ الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، الأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا ولايةَ لغيرِ العَصَباتِ مِن الأقارِب؛ كالأخِ مِن الأمِّ، والخالِ، وعَمِّ الأمِّ، وأبي الأُمِّ، ونحوهم. نَصَّ عليه الإِمامُ أحمدُ في مَواضِعَ. وهو قولُ الشافعيِّ، وإحْدَى الرِّوايَتَين عن أبي حنيفةَ. والثانيةُ، أنَّ كلَّ مَن يَرِثُ بفَرْضٍ أو تَعْصِيبٍ يَلِي؛ لأنَّه يَرِثُها، فولِيَها كعَصَبَاتِها. ولَنا، ما رُوِيَ عن علي، رَضِيَ الله عنه، أنَّه إذا بَلَغ النِّساءُ نَصَّ الْحَقَائقِ، فالعَصَبَةُ أوْلَى. يَعْنِي إذا أدْرَكْنَ. رَواه أبو عُبَيدٍ في «الغريبِ» (¬1). ولأنَّه ليس مِن عَصَباتِها، أشْبَهَ الأجْنَبِيَّ. 3107 - مسألة: (ثم المَوْلَى المُنْعِمُ، ثم عَصَباتُه مِن بعدِه، ¬

(¬1) غريب الحديث 3/ 456، 457. وأصل النص: منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها. والحقاق، هو المحاقة، أن تحاقّ الأم العصبة فيهن، فتقول: أنا أحق. ويقولون: نحن أحق.

السُّلْطَانُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، ثم السُّلْطانُ) إذا لم يَكُنْ للمرأةِ عَصَبَةٌ مِن نَسَبِها، فوَلِيُّها مَولاها يُزَوِّجُها، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّ العَصَبَةَ المُناسِبَةَ أوْلَى منه، وذلك لأنَّه عَصَبَةُ مَوْلاتِه، يَرِثُها ويَعْقِلُ عنها عندَ عَدَم عَصَباتِها، فكذلك يُزَوِّجُها، وقُدِّمَ عليه المُناسِبُونَ كما قُدِّموا عليه في الإِرْثِ والعَقْلِ. فإن عُدِمَ المَوْلَى أو لم يَكُنْ مِن أهلِ الولايَةِ، كالمرأةِ والطِّفْلِ والكافرِ، فعَصباتُه الأقْرَبُ منهم فالأقْرَبُ، على تَرْتيبِ المِيراثِ، ثم مَوْلَى المَوْلَى، ثم عَصَباتُه مِن بعدِه، كالمِيراثِ سَواءً. فإنِ اجْتَمَعَ ابنُ المُعْتِقِ وأبُوه، فالابنُ أوْلَى، لأنَّه أحَقُّ بالميراثِ وأقْوَى [في التَّعْصِيبِ] (¬1)، وإنَّما قُدِّمَ الأبُ المُناسِبُ على الابنِ المُناسِبِ، لزِيادَةِ شَفَقَتِه وفَضِيلَةِ ولادَتِه، وهذا مَعْدُومٌ في أبي المُعْتِقِ، فرُجِعَ فيه إلى الأصْلِ. (ثم السُّلْطانُ) لا نعلمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ للسُّلْطانِ ولايةَ تَزْويجِ المرأةِ عندَ عَدَمِ ¬

(¬1) في م: «بالتعصيب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلِيائِهَا أو عَضْلِهم. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. والأصْلُ فيه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَليَّ لَهُ» (¬1). وروَى أبو داودَ (¬2) بإسْنادِه عن أمِّ حَبِيبَةَ، أنَّ النَّجاشِيَّ زَوَّجَها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عندَه. ولأنَّ للسُّلْطانِ ولايةً عامَّةً، بدليلِ أنَّه يَلِي المال ويَحْفَظُ الضَّوَالَّ، فكانت له الولايةُ في النِّكاحِ كالأبِ. فصل: والسُّلطانُ ههُنا هو الإِمامُ، أو الحاكِمُ، أو مَن فَوَّضَا (¬3) إليه ذلك. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في والِي البَلَدِ، فقال في مَوْضِع: يُزَوِّجُ وَالِي البلدِ. وقال في الرُّسْتَاقِ (¬4) يكونُ فيه الوالِي وليس فيه قاضٍ، قال: يُزَوِّجُ إذا احْتاطَ لها في المَهْرِ والكُفْءِ، أرجو أن لا يكونَ به بَأْسٌ؛ لأنَّه ذو سلطانٍ، فيَدْخُلُ في عُمومِ الحديثِ. وقال في موضِعٍ آخَرَ، في المرأةِ إذا لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ: فالسلطانُ المُسَلَّطُ على الشيءِ (¬5)؛ القاضِي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 446. (¬3) في الأصل: «فوضنا». (¬4) الرستاق: السواد والقرى. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْضِي في الفُرُوجِ والحُدُودِ والرَّجْمِ، وصاحِبُ الشُّرْطَةِ إنَّما هو مُسَلَّطٌ في الأدَبِ والجِنَايَةِ (¬1). وقال: ما للوالِي وذَا! إنَّما هو إلى القاضي. وتَأَوَّلَ القاضي الرِّوايَةَ الأُولَى على أنَّ الوالِي أذِنَ له في التَّزْويجِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه جَعَل له ذلك إذا لم يَكُنْ في مَوْضِعِ ولايَتِه قاضٍ، فكأنَّه قد فَوَّضَ إليه النَّظَرَ فيما يَحْتاجُ إليه في ولايَتِه، وهذا منها. فصل: إذا اسْتَوْلَى أهلُ البَغْي على بَلَدٍ، جَرَى حُكْمُ سُلْطانِهم وقَاضِيهم في ذلك مَجْرَى الإِمامِ وقاضِيه؛ لأنَّه أُجْرِىَ مُجْراه في قَبْضِ الصَّدَقاتِ و (¬2) الجِزْيَةِ والخَراجِ، فكذلك في هذا. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في المرأةِ تُسْلِمُ على يَدِ رجلٍ، فقال في مَوْضِعٍ: لا يكونُ وَلِيًّا لها، ولا يُزَوجُ حتى يَأْتِيَ السُّلطان؛ لأنَّه ليس مِن عَصَبَتِها، ولا يَعْقِلُ عنها، ولا يَرِثُها، فأشْبَهَ الأجنبيَّ. وقال في روايةِ حَرْبٍ، في امرأةٍ أسْلَمَتْ على يَدِ رَجُلٍ: يُزَوِّجُها هو. وهو قولُ إسْحاقَ. ورُوِيَ عن ابنِ سِيرِينَ أنَّه لا يَفْعَل (¬3) ذلك حتى يَأْتِيَ السُّلطانَ. وعن الحسنِ أنَّه كان لا يَرَى بَأْسًا في أن يُزَوِّجَها نَفْسَه؛ وذلك لِما روَى أبو ¬

(¬1) في: المغني 9/ 361: «الجباية». (¬2) في م: «في». (¬3) في الأصل: «يعقل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1) بإسْنادِه عن تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، ما السُّنَّةُ في الرَّجُلِ يُسْلِمُ على يَدِ الرَّجُلِ مِن المسلمينَ؟ قال: «هو أوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ». إلَّا أنَّ هذا الحديث ضَعَّفَه أحمدُ، وقال: رِوَاية عبدِ العزيزِ (¬2) -يعني ابْنَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ- وليس هو مِن أهْلِ الحِفْظِ والإِتْقانِ. فصل: فإن لم يُوجَدْ للمرأةِ وَلِيٌّ ولا ذو (¬3) سلطانٍ، فعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه يُزَوِّجُها رجلٌ عَدْلٌ بإذْنِها، فإنَّه قال في دُهْقانِ (¬4) قَرْيَةٍ: يُزَوِّجُ مَن لا وَلِيَّ لها إذا احْتاطَ لها في الكُفْءِ والمَهْرِ، إذا لم يَكُنْ في الرُّسْتاقِ قاضٍ. قال ابنُ عَقِيل: أخذ قومٌ مِن أصْحابِنا مِن هذه الرِّوايةِ أنَّ النِّكاحَ لا يَقِفُ على وَلِيٍّ. قال: وقال القاضي: نُصُوصُ أحمدَ تَمْنَعُ مِن ذلك. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 9/ 18. (¬2) في م: «ابن عبد العزيز». (¬3) في الأصل: «دون». (¬4) الدهقان: زعيم فلاحي العجم.

3108 - مسألة: (وولي الأمة سيدها)

فَأَمَّا الْأَمَةُ، فَوَلِيُّهَا سَيِّدُهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِامْرأَةٍ، فَوَلِيُّهَا وَلِيُّ سَيِّدَتِهَا، وَلَا يُزَوِّجُهَا إلا بِإِذْنِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): والصَّحيحُ أنَّ هذا (¬2) القَوْلَ [مُخْتَصٌّ بحالِ] (¬3) عَدَمِ الوَلِيِّ والسلطانِ، لأنَّه شَرَط أنْ لا يكونَ في الرُّسْتاقِ قاضٍ. [ووَجْهُ ذلك] (¬4) أنَّ اشْتِراطَ الوَلِيِّ ههُنا يَمْنَعُ النِّكاحَ بالكُلِّيَّةِ، فلم يَجُزْ، كاشْتِراطِ المُناسِبِ في حَقِّ مَن لا مُناسِبَ لها. ورُوِيَ عنه أنَّه لا يَجُوزُ النِّكاحُ إلَّا بوَلِيٍّ، لعُمُومِ الأخْبارِ فيه. 3108 - مسألة: (ووَلِيُّ الأمَةِ سَيِّدُها) إذا كان مِن أهْلِ ولايَةِ التَّزْويجِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، لأنَّه مالِكُها، وله التَّصَرُّفُ في رَقَبَتِها بالبَيعِ، ففي التَّزْويجِ أوْلَى، [وقد ذَكَرْنا ذلك] (¬5). 3109 - مسألة: (فإن كانت لامرأةٍ، فَوَلِيُّها وَلِيُّ سَيِّدَتِها، ولا ¬

(¬1) في: المغني 9/ 362. (¬2) بعده في م: «من». (¬3) في م: «بحال». (¬4) في م: «ووجهه». (¬5) «ولا يزوجها إلا بإذنها». وانظر ما تقدم في صفحة 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُزَوِّجُهَا إلَّا بإذْنِها) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في مَن يُزَوِّجُ أمَةَ المرأةِ، فرُويَ عنه أنَّه يَلِي نِكاحَها وَلِيُّ سَيِّدَتِها. قال القاضي: هذا هو الصَّحيحُ. اخْتارَه الخِرَقِيُّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ مُقْتَضَى الدَّليلِ كَوْنُ الولايةِ لها، فامْتَنَعَتْ في حَقِّها لقُصُورِها، فتَثْبُتُ لأوْليائِها، كولايةِ نَفْسِها، ولأنَّهم يَلُونَها لو عَتَقَتْ، ففي حالِ رِقِّها أوْلَى. فإن كانت سَيِّدَتُها رَشِيدَةً، لم يَجُزْ تَزْويجُ أمَتِها إلَّا بإذْنِها؛ لأنَّها مالُها، ولا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في مالِ رَشِيدٍ بغيرِ إذْنِه، ويُعْتَبَرُ (¬1) نُطْقُها بذلك وإن [كانت بِكْرًا؛ لأنَّ صُمَاتَها إنَّما اكْتُفِيَ به في تَزْويجِ نَفْسِها لحيائِها، ولا تَسْتَحِي مِن تَزْويجِ غيرِها، وإن] (2) كانت صغيرةً أو مجنونةً أو سَفِيهةً، ولوَلِيِّها ولايةٌ على مالِها، فله تَزْويجُ أمَتِها إن كان الحَظُّ في تَزْويجِها، [وإلَّا لم يَمْلِكْ تَزْويجَها وكذلك الحكمُ في أمَةِ ابْنِه الصَّغِيرِ. وقال بعضُ الشَّافِعِيَّةِ: ليس له تَزْويجُها بحالٍ، لأنَّ] (¬2) [فيه تَغْرِيرًا بمالِ الصغيرِ؛ لأنَّها رُبَّما حَمَلَتْ وتَلِفَتْ. ولَنا، أنَّ له التَّصَرُّفَ بما فيه الحَظُّ، والتَّزْويجُ ههُنا] (¬3) فيه الحَظُّ، لأنَّ (¬4) الكلامَ فيه، فجازَ، كسائرِ التَّصَرُّفاتِ الجائِزَةِ، [واحتِمالُ المحظورِ] (¬5) مَرْجُوحٌ بما فيه مِن تَحْصِيلِ مَهْرِها ووَلَدِها وَكِفايَةِ ¬

(¬1) في م: «بغير». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في الأصل: «له». (¬5) في م: «وإهمال الحظر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُؤْنَتِها، وصيانَتِها عن الزِّنَى المُوجِبِ للحَدِّث حَقِّها، ونَقْصِ قِيمَتِها، والمَرْجُوحُ كالمَعْدُومِ. فإن كان وَلِيُّها في مالِها غيرَ وَلِيِّ تَزْويجِها، فولايَةُ تَزْويجِها للوَلِيِّ في المالِ دُونَ وَلِيِّ التَّزْويجِ؛ لأنَّه المُتَصَرِّف في المالِ، وهي مالٌ. ورُوِيَ عن أحمدَ رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّ للمرأةِ أن تُوَلِّيَ أمْرَ أمَتِها رجلًا يُزَوِّجُها نَقَلَها عن أحمدَ جماعةٌ؛ لأنَّ سَبَبَ الولايةِ المِلْكُ، وقد تحَقَّقَ في المرأةِ، وامْتَنَعَتِ المُباشَرَةُ لنَقْصِ الأنُوثِيَّةِ، فمَلَكَتِ التَّوكِيلَ، كالرجلِ المريضِ (¬1) والغائِب. ونُقِلَ عن أحمدَ كلام يَحْتَمِلُ رِواية ثالثةً، وهو أنَّ [سَيِّدَتها تُزَوِّجُها] (¬2)، فإنَّه قِيلَ له: تُزَوِّجُ أَمَتَها؟ قال: قد قِيلَ ذلك، هي مالُها. وهذا يَحْتَمِلُ أنَّه ذهَب إليه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّها، تَمْلِكُها، وولايتُها تامَّةٌ عليها، فمَلَكَتْ تَزْويجَها، كالسَّيِّدِ، ولأنَّها تَمْلِكُ بَيعَها وإجارَتَها، فمَلَكَتْ تَزْويجَها، كسَيِّدِها، ولأنَّ الولايةَ إنَّما ثَبَتَتْ على المرأةِ لتَحْصِيلِ الكَفاءَةِ، صِيانَةً لحَظِّ الأوْلِياءِ في تَحْصِيلِها، فلا تَثْبُتُ عليها الولايةُ في أمَتِها؛ لعَدَمِ اعْتِبارِ الكَفاءَةِ، وعدمِ الحَقِّ للأوْلياءِ فيها (¬3). ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ قال هذا حِكايةً لمذهبِ (¬4) غيرِه، فإنَّه قال في سِياقِها: أحَبُّ إليَّ أن تَأْمُرَ زَوْجَها؛ لأنَّ النِّساءَ لا يَعْقِدْنَ. وقد روَى أبو هُرَيرَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا تُنْكِحُ المَرأةُ ¬

(¬1) في م: «والمريض». (¬2) في النسختين: «سيدها يزوجها». والمثبت كما في المغني 9/ 379. (¬3) في الأصل: «فيه». (¬4) في الأصل: «كمذهب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَرأةَ» (¬1). وقالتْ عائشةُ: زَوِّجُوا، فإنَّ النِّساءَ لا يُزَوِّجْنَ، واعْقِدُوا، فإنَّ النِّساءَ لا يَعْقِدْنَ (¬2). ولأنَّ المرأةَ لا تَمْلِكُ تَزْويجَ نَفْسِها، فغيرها أوْلَى. فصل: ويُزَوِّجُ عَتِيقَتَها (¬3) مَن يُزَوِّجُ أمَتَها. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وفيها رِوَايتان؛ إحْدَاهما، لمَوْلاتِها أن تُوَكِّلَ رجلًا في تَزْويجها؛ لأنَّها عَصَبَتُها، وتَرِثُها، فأشْبَهَتِ المُعْتِقَ (¬4). والثانيةُ، يُزَوِّجُها وَلِيُّ سَيِّدَتِها. وهي أصَحُّ؛ لأنَّ هذه ولايَةُ لنِكاحِ حُرَّةٍ (¬5)، والمرأةُ ليست مِن أهلِ ذلك، فيكونُ إلى عَصَبَتِها؛ لأنَّهم الذين يَعْقِلُونَ عنها، ويَرِثُونَها بالتَّعْصِيبِ عندَ عَدَمِ سَيِّدَتِها، فكانوا أولياءَها، كما لو تَعَذَّرَ على المُعْتِقِ تَزْويجُ عَتِيقَتِه. وقد ذَكَرْنا أنَّه إذا اتْقَرَضَ العَصَبَةُ مِن النَّسَبِ، وَلِيَ المَوْلَى المُعْتِقُ (4) ثم عَصَباتُه، الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، كذا ههُنا، إلَّا أنَّ الظَّاهِرَ مِن كلامِ الخِرَقِيِّ ههُنا تَقْدِيمُ أبي المُعْتِقَةِ على ابْنِها؛ لأنَّه أوْلَى بتَزْويجِها، وقد قال (5): يُزَوِّجُ مُعْتَقَتَها (¬6) مَن يُزَوِّجُ أمَتَها، ويُزَوِّجُ أمَتَها مَن ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب لا نكاح إلا بولي، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 606. والدارقطني، في: كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 227، 228. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 110. وانظر الإرواء 6/ 248، 249. (¬2) أخرجه بنحوه الشافعي في مسنده. ترتيب مسند الشافعي 2/ 13. (¬3) في الأصل: «عتيقها». (¬4) في الأصل: «العتق». (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «معتقها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُزَوِّجُها. وقد ذَكَرْنا أنَّ ابنَ المُعْتِقَةِ أوْلَى بتَزْويجِ عَتِيقَتِها (¬1) مِن أبِيها. ويُعْتَبَرُ في ولايَتِه (¬2) شَرْطان، أحَدُهما، عَدَمُ العَصَبَةِ مِن النَّسَب؛ لأنَّ المُناسِبَ أقْرَبُ مِن المُعْتِقِ وأوْلَى منه. الثاني، إذْنُ المُزَوَّجَةِ، لأنَّها حُرَّةٌ وليست له ولايةُ إجْبارٍ، فإنَّه أبْعَدُ العَصَباتِ. ولا [يَفْتَقِرُ إلى] (¬3) إذْنِ مَؤلاتِها؛ لأنَّه لا ولايةَ لها ولا مِلْكَ، فأشْبَهَتِ القَرِيبَ الطفْلَ إذا زَوَّجَ البعيدُ. فصل: فإن كان للأمَةِ مَوْلًى، فهو وَلِيُّها، وإن كان لها مَوْليان، اشْتَركَا في الولايةِ، وليس لواحدٍ منهما الاسْتِقْلالُ بها بغيرِ إذْنِ صاحِبِه، لأنَّه لا يَمْلِكُ إلَّا بعضَها، وإنِ اشْتَجَرَا لم يَكُن للسلطانِ ولايةٌ؛ لأنَّ تَزْويجَها تَصَرُّفٌ في المالِ، بخِلافِ الحُرَّةِ، فإن نِكاحَها حَقٌّ لها، ونَفْعَهُ عائِد إليها، ونِكاحُ الأمَةِ حَقٌّ لسَيِّدِها، نَفْعُه عائِدٌ إليه، فلم يَنُبِ السُّلْطانُ عنه فيه. فإن أعْتَقاهَا ولها عَصَبَةٌ مُناسِبٌ، فهو أوْلَى منهما، وإن لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ، فهُما وَلِيَّاهَا، ولا يَسْتَقِلُّ أحَدُهما بالتَّزْويجِ، لأنَّ ولايَتَه على بَعْضِها. فإنِ اشْتَجَرَا، أقامَ الحاكِمُ مُقامَ المُمْتَنِعِ منهما، لأنَّها صارت حُرَّةً، وصار نِكاحُها حَقًّا لها. وإن كان المُعْتِقُ أو المُعْتِقَةُ واحدًا، وله عَصبَتان، كالأبنَين والأخَوَين، فلأحَدِهما الاستِقْلالُ بتَزْويجِها، كما يَمْلِكُ تَزْويجَ سَيِّدَتِها. ¬

(¬1) في الأصل: «عتيقها». (¬2) في م: «ولايتها». (¬3) في م: «يعتبر».

3110 - مسألة: (ويشترط في الولي الحرية، والذكورية، واتفاق الدين، والعقل)

وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ الْحُرِّيَّةُ، وَالذُّكُوريَّةُ، وَاتِّفَاقُ الدِّينِ، وَالْعَقْلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3110 - مسألة: (ويُشْتَرَطُ في الوَلِيِّ الحُرِّيَّةُ، والذُّكُورِيَّةُ، واتِّفَاقُ الدِّينِ، والعَقْلُ) وجُمْلته، أنَّه يُعْتَبَرُ لثُبُوتِ الولايةِ سِتَّةُ شُروطٍ؛ العَقْلُ، والحُرِّيَّةُ، والإسْلامُ إذا كانتِ المرأةُ مُسْلِمَةً، والذُّكُورِيَّةُ، والبُلُوغُ، والعَدالةُ، على اخْتِلافٍ نَذْكُرُه. فأمَّا العَقْلُ، فهو شَرْطٌ بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّ الولايةَ إنَّما ثَبَتَتْ نَظرًا للمُوَلَّى عليه عندَ عَجْزِه عن النَّظرَ لنَفْسِه، ومَن لا عَقْلَ له لا يُمْكِنُه النَّظرُ، ولا يَلي نَفْسَه، فغيرُه أوْلَى، وسَواءٌ في هذا مَن لا عَقْلَ له لصِغَرِه، أو مَن ذَهَب عَقْلُه بجُنونٍ أو كِبَرٍ، كالشَّيخِ إذا أفْنَدَ (¬1). قال القاضي: والشَّيخُ الذي قد كَبِرَ، فلا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الحَظِّ لها، لا ولايةَ له. فأمَّا الإغْماءُ، فلا يُزِيلُ الولايةَ؛ لأنَّه يَزُولُ عن قَرِيبٍ، فهو كالنَّوْمِ، ولذلك (¬2) لا تَثْبُتُ الولايةُ عليه، ¬

(¬1) أفند: ضعف رأيه من الهرم. (¬2) في م: «كذلك».

وَهَلْ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ وَعَدَالتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجُوزُ على الأنْبِيَاءِ عليهم السلامُ. ومَن كان يُجَنُّ في الأحْيَانِ، لم تَزُلْ ولايتُه، لأنَّه لا يَدُومُ زَوالُ عَقْلِه، فهو كالإِغْماءِ. الشرطُ الثاني، الحُرِّيَّة، فلا ولايةَ لعَبْدٍ في قولِ جماعةِ أهلِ العلمِ، فإنَّ العَبْدَ لا ولايةَ له على نَفْسِه، فعلى غيرِه أوْلَى. وقال أصحابُ الرَّأْي: يَجُوزُ أن يُزَوِّجَها العَبْدُ بإذْنِها. بِنَاءً منهم على أنَّ المرأةَ تُزَوِّجُ نَفْسَها. وقد مَضَى الكلامُ في هذه المسْألَةِ. الشَّرْطُ الثالثُ، الإِسْلامُ، فلا يَثْبُتُ للكافِرِ ولايةٌ على مُسْلِمَةٍ. وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عامَّةُ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على هذا. وفيه وَجْهٌ، أنَّ الكافِرَ يُزَوِّجُ أمَّ وَلَدِه المُسْلِمَةَ. وسوف نَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. قال أحمدُ: بَلَغَنا أنَّ عَلِيًّا أجازَ نِكاحَ أخٍ، ورَدَّ نِكاحَ الأبِ وكان نَصْرانِيًّا. الشَّرْطُ الرَّابعُ، الذُّكُورِيَّةُ، وهي شَرْطٌ للولايةِ في قولِ الجميعِ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ فيها الكَمالُ، والمرأةُ ناقِصَةٌ قاصرةٌ، تَثْبُتُ الولايةُ عليها لقُصُورِها عن النَّظَرِ لنَفْسِها، فلأنْ لا يَثْبُتَ لها ولايَةٌ على غيرِها أوْلَى. وعن أحمدَ، أنَّها تَلِي تَزْويجَ (¬1) أمَتِها ومُعْتَقَتِها (¬2). وقد ذكَرْناه. الشَّرْطُ الخامسُ، البُلُوغُ، وهوْ شَرْطٌ في ظاهرِ المذهبِ. قال ¬

(¬1) في م: «نكاح». (¬2) في الأصل: «معتقها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ: لا يُزَوِّجُ الغُلامُ حتى يَحْتَلِمَ، ليس لهْ أمْرٌ. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبي ثَوْرٍ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه إذا بَلَغَ عَشْرًا زَوَّجَ، وتَزَوَّجَ، وطَلَّقَ، وأُجِيزَتْ وَكالتُه في الطَّلاقِ. ويَحْتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ؛ لتَخْصِيصِه المَسْلُوبَ الولايةِ بكَوْنِه طِفْلًا. ووَجْهُ ذلك أنَّه يَصِحُّ بَيعُه وطَلاقُه ووَصِيَّتُه، فثَبَتَتْ له الولايةُ كالبالغِ. والأوَّلُ اخْتِيارُ أبي بكرٍ، وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ الولايةَ يُعْتَبَرُ لها كَمالُ الحالِ؛ لأنَّها تُفِيدُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ غيرِه، اعْتُبِرَتْ نَظرًا له، والصَّبِيُّ مُوَلًّى عليه لقُصُورِه، فلا تَثْبُتُ له الولايةُ، كالمرأةِ، والأصولُ المَقِيسُ عليها مَمْنُوعَةٌ. السَّادِسُ، العَدالةُ. وفي كَوْنِها شَرْطًا رِوَايتان؛ إحْدَاهما، هي شَرْطٌ. قال أحمدُ: إذا كان القاضي مثلَ ابنِ الخَلَنْجى (¬1) وابنِ الجَعْدِ (¬2)، ¬

(¬1) في النسختين: «الحلبى» وابن الخلنجى هو عبد الله بن محمد بن أبي يزيد الخلنجى، ولي القضاء أيام المعتصم والواثق، وكان من المجردين للقول بخلق القرآن المعلنين به، وعزله المتوكل وأمر بكشفه وفضحه. تاريخ بغداد 10/ 73، 74. (¬2) هو الحسن بن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري مولى أم سلمة المخزومية، تولى قضاء بغداد وسأل عنه أحمد فقال: كان معروفا عند الناس بأنه جهمي، ثم بلغني عنه الآن أنه قد رجع عن ذلك. توفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. تاريخ بغداد 7/ 364.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَقْبَلَ النِّكاحَ. فظاهِرُ هذا أنَّه أفْسَدَ النِّكاحَ لانْتِفاء عَدالةِ المُتَوَلِّي له. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لا رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: لا نِكاحَ إلَّا بشَاهِدَيْ عَدْلٍ ووَلِيٍّ مُرْشِدٍ (¬1). قال أحمدُ: أصَحُّ شيءٍ في هذا قولُ ابنِ عباسٍ. [يَعْني وقد روَى ابنُ عباسٍ] (¬2) قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وأيُّمَا امْرَأةٍ أنْكَحَهَا وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيهِ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (¬3). وروَى البَرْقَانِيُّ (¬4) بإسْنادِه عن جابرٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» (¬5). ولأنَّها ولايةٌ نَظَرِيَّةٌ (¬6)، فلا يَسْتَبِدُّ بها الفاسِقُ، كولايةِ المالِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، ليست شَرْطًا. نَقَل مُثَنَّى بنُ جامِعٍ أنَّه سألَ أحمدَ: إذا تَزَوَّجَ بوَلِيٍّ (¬7) وشُهودٍ غيرِ عُدُولٍ (¬8)؟ فلم يَرَ أنَّه يَفْسُدُ مِن ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب لا نكاح إلا بولي مرشد، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 126. (¬2) في المغني 9/ 368: «وقد روى- يعني عن ابن عباس». (¬3) أخرجه الدارقطني، في: سننه 3/ 221، 222. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 124، وصحح وقفه. وانظر الإرواء 6/ 238 - 240. (¬4) أحمد بن محمد بن أحمد أبو بكر الرقاق الشافعي الإمام العلامة الفقيه، الحافظ الثبت، شيخ الفقهاء والمحدثين، صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 464 - 468. (¬5) عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط، وليس فيه: «مرشد». مجمع الزوائد 4/ 286. وانظر الإرواء 6/ 241. (¬6) في م: «نظر». (¬7) بعده في المغني 9/ 369: «فاسق». (¬8) في الأصل: «عدل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ شيءٌ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه ذَكَر الطِّفْلَ والعبدَ والكافِرَ، ولم يَذْكُرِ الفاسِقِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ. وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّه يَلِي نِكاحَ نفْسِه، فثَبَتَتْ له الولايةُ على غيرِه، كالعَدْلِ، [ولأنَّ سَبَبَ] (¬1) الولايةِ القرابةُ، وشَرْطُها النَّظرُ، وهذا قَرِيبٌ ناظِرٌ، فَيلِي كالعَدْلِ. ¬

(¬1) في م: «ولأنه يثبت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُشْتَرَطُ أن يكونَ بَصِيرًا؛ لأنَّ شُعَيبًا زَوَّجَ ابْنَتَه وهو أعْمَى (¬1). ولأنَّ المَقْصُودَ في النِّكاحِ يُعْرَفُ بالسَّماعِ والاسْتِفاصةِ، فلا يَفْتَقِرُ إلى النَّظَرِ. ولا يُشْتَرَطُ النُّطْقُ، بل يَجُوزُ أن يَلِيَ الأخْرَسُ إذا فُهِمَتْ إشارَتُه؛ لأنَّها تَقُومُ مَقامَ نُطْقِه في سائرِ العُقُودِ والأحْكامِ، فكذلك النِّكاحُ. ¬

(¬1) انظر ما أخرجه الحاكم في: المستدرك 2/ 568. وانظر تلخيص الحبير 3/ 162.

3111 - مسألة: (فإن كان الأقرب طفلا أو كافرا أو عبدا، زوج الأبعد)

فَإِنْ كَانَ الْأقْرَبُ طِفْلًا أوْ كَافِرًا أوْعَبْدًا، زَوَّجَ الْأَبْعَدُ. وإنْ عَضَلَ الْأَقْرَبُ، زَوَّجَ الْأبْعَدُ. وَعَنْهُ، يُزَوجُ الْحَاكِمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3111 - مسألة: (فإن كان الأقْرَبُ طِفْلًا أو كافِرًا أو عَبْدًا، زَوَّجَ الأبعَدُ) لأنَّ الولايةَ لا تَثْبُت لطفلٍ ولا عبدٍ ولا كافرٍ على مُسْلِمَةٍ، فعندَ ذلك يكونُ وُجُودُهم كعَدَمِهم، فتَثْبُتُ الولايةُ لمَن هو (¬1) أبعدُ منهم إذا كَمَلَتْ فيه الشُّرُوطُ، كما لو ماتوا. 3112 - مسألة: (وإن عَضَل الأَقْرَبُ، زَوَّجَ الأبعَدُ. وعنه، يُزَوِّجُ الحاكِمُ) العَضْلُ مَنْعُ المرأةِ مِن التَّزْويجِ بكُفْئِها إذا طَلَبَتْ ذلك، ورَغِبَ كُلُّ واحدٍ منهما في صاحِبِه، فمتى وُجِدَ ذلك انْتَقَلَتِ الولايةُ إلى الأبعدِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وعنه رِوايةٌ أُخْرَى، تَنْتَقِلُ إلى السلطانِ. وهو اخْتِيارُ أبي بكرٍ. وذُكِر ذلك عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وشُرَيح. وبه قال ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّافعيُّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنِ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» (¬1). ولأنَّ ذلك حَقٌّ عليه امْتَنَعَ مِن أدائِه، فقامَ الحاكِمُ مَقامَه، كما لو كان عليه دَينٌ فامْتَنَعَ مِن قَضائِه. ولَنا، أنَّه تَعَذَّرَ التَّزْويجُ مِن جِهَةِ الأقْرَبِ، فمَلَكَه الأبعَدُ، كما لو جُنَّ. ولأنَّه يَفْسُقُ بالعَضْلِ، فتَنْتَقِلُ الولايةُ عنه، كما لو شَرِبَ الخَمْرَ. فإن عَضَل الأوْلياءُ كلُّهم زَوَّجَ الحاكمُ. والحديثُ حُجَّةٌ لنا؛ لقولِه: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَن لا وَلِيَّ لَهُ». وهذه لها وَلِيٌّ. ويُمْكِنُ حَمْلُه على ما إذا عَضَل الكُلُّ؛ لأنَّ قوْلَه: «فإنِ اشْتَجَرُوا». ضَمِيرُ جَمْعٍ يَتَناوَلُ الكُلَّ. والولايةُ تُخالِفُ الدَّينَ مِن وُجُوهٍ ثلاثةٍ؛ أحَدُها، أنَّها حَقٌّ للوَلِيِّ، والدَّينُ عليه. الثاني، أنَّ الدَّينَ لا يَنْتَقِلُ عنه، والولايةُ تَنْتَقِلُ عنه لعارِضٍ؛ مِن جُنُونِ الوَلِيِّ وفِسْقِه. الثالثُ، أنَّ الدَّينَ لا تُعْتَبَرُ في بَقائِه العَدَالةُ، والولايةُ يُعْتَبَرُ لها ذلك، وقد زالتِ العَدالةُ بما ذَكَرْناه. فإن قيلَ: لو زالتْ ولايتُه لَما صَحَّ منه التَّزْويجُ إذا أجابَ إليه. قُلْنا: فِسْقُه بامْتِنَاعِه، فإذا أجابَ فقد نَزَع عن المَعْصِيَةِ، وراجَعَ الحَقَّ، فزال فِسْقُه، فلذلك (¬2) صَحَّ تَزْويجُه. وقد رُوِيَ عن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬2) في م: «فكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِن رجلٍ، فطَلَّقَها، حتى إذا انْقَضَتْ عِدَّتُها جاءَ يَخْطُبُها، فقلتُ له: زَوَّجْتُكَ، وأَفْرَشْتُكَ، وأكْرَمْتُكَ، فطَلَّقْتَها، جِئْتَ تَخْطُبُها! لا والله لِا تَعُودُ إليك أبدًا، وكان رَجُلًا لا بَأْسَ به، وكانتِ المرأةُ تُرِيدُ أن تَرْجِعَ إليه، فأنْزَلَ الله، هذه الآيةَ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (¬1). فقلتُ: الآنَ أفْعَلُ يا رسولَ اللهِ. قال: فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ. رَواه البخاريُّ (¬2). فصل: وسَواءٌ طَلَبَتِ التَّزْويجِ بمَهْرِ مِثْلِها أو دُونِه. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لهم (¬3) مَنْعُها مِن التَّزْويجِ بدُونِ مَهْرِ مِثْلِها؛ لأنَّ عليهم في ذلك عارًا، وليه ضَرَرٌ على نِسائِها، لنَقْصِ مَهْرِ مِثلِهِنَّ. ولَنا، أنَّ المَهْرَ خالِصُ حَقِّها، و (¬4) عِوَضٌ يَخْتَصُّ بها، فلم يَكُنْ لهم الاعْتِراضُ عليها فيه، كثَمَنِ عَبْدِها وأَجْرِ دارِها، ولأنَّها لو أسْقَطَتْه بعدَ وُجُوبِه، سَقَط كلُّه، فبعضُه أَوْلَى، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ أرادَ أن يُزَوِّجَه: «الْتَمِسْ وَلوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» (¬5). وقال لامْرَأةٍ زُوِّجَت بنَعْلَيْن: «أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ بنَعْلَين؟» قالتْ: نعم. فأجازَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وقولُهم: فيه عارٌ عليهم. ليس كذلك، فإنَّ عمرَ قال: لو ¬

(¬1) سورة البقرة 232. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 157. (¬3) في م: «له». (¬4) في الأصل: «أو». (¬5) تقدم تخريجه في 14/ 380. (¬6) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في مهور النساء، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 33. وابن ماجه، في: باب صداق النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 608. =

3113 - مسألة: (وإن غاب غيبة منقطعة زوج الأبعد، وهي ما لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، في ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: ما لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب عنه. وقال القاضي: ما لا تقطعه

وَإنْ غَابَ غَيبَةً مُنْقَطِعَةً زَوَّجَ الْأَبْعَدُ، وَهِيَ مَا لَا تُقْطَعُ إلا بكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَال الخرَقِيُّ: مَا لَا يَصِلُ إلَيهِ الْكِتَابُ، أوْ يَصِلُ فَلَا يُجِيبُ عَنْهُ. وَقَال الْقَاضِي: مَا لَا تَقْطَعُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مَكْرُمَةً في الدُّنْيَا، أو تَقْوَى عندَ اللهِ، كان أوْلَاكُم به رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). يَعْنِي غُلُوَّ الصَّداقِ. فإن رَعبَتْ في رجلٍ بعَينِه، وهو كُفْءٌ، فأرادَ تَزْويجَها لغيرِه مِن اكْفَائِها، وامْتَنَعَ مِن تَزْويجِها مِن الذي أرادَتْه، كان عاضِلًا لها. فإن طَلَبَتِ التَّزْويجَ بغيرِ كُفْءٍ، فله مَنْعُها منه، ولا يكونُ عاضِلًا بذلك؛ لأنَّها لو زُوِّجَتْ بغيرِ كُفْئِها كان له فَسْخُ النِّكاحِ، فلأنْ يَمْنَعَ منه ابْتِداءً أوْلَى. 3113 - مسألة: (وإن غاب غَيبَةً مُنْقَطِعَةً زَوَّجَ الأبعَدُ، وهي ما لا تُقْطَعُ إلَّا بكُلْفَةٍ ومَشَقَّةٍ، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ. وقال الخِرَقِيُّ: مَا لَا يَصِلُ إلَيهِ الكِتابُ، أو يَصِلُ فلا يُجِيبُ عنه. وقال القاضي: ما لا تَقْطَعُه ¬

= والإمام أحمد، في: المسند 3/ 445. وضعفه في الإرواء 6/ 346، 347. (¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الصداق، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 485، 486. والترمذي، في: باب ما جاء في مهور النساء، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 36. والنسائي، في: باب القسط في الأصدقة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 96. والدارمي، في: باب كم كانت مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبناته، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 141. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 41، 48.

الْقَافِلَةُ فِي السَّنَةِ إلا مَرَّةً. وَعَنْ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللهُ، إِذَا كَانَ الْأبُ بَعِيدَ السَّفَرِ، زَوَّجَ الْأَبْعَدُ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القافِلَةُ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وقد قال أحمدُ: إذَا كان الأبُ بَعِيدَ السَّفَرِ، زَوَّجَ الأبْعَدُ) قال أبو الخَطَّابِ: (فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ) بالسَّفَرِ البَعِيدِ (ما تُقْصَرُ فيه الصلاةُ) الكلامُ في هذه المسألةِ في (¬1) أمْرَين؛ أحَدُهما، أنَّ الأقْرَبَ إذا غاب غَيبَةً مُنْقَطِعَةً، زَوَّجَ الأبعَدُ دُونَ الحاكمِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يُزَوِّجُها الحاكمُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ الوُصُولُ إلى النِّكاحِ مِن الأقْرَبِ مع بَقاءِ ولايَتِه، فيَقُومُ الحاكمُ مَقَامَه، كما لو عَضَلَها، ولأنَّ الأبعَدَ مَحْجُوبٌ بولايةِ الأقْرَبِ، فلا يَجُوزُ له التَّزْويجُ، كما لو كان حاضِرًا، ودَلِيلُ بَقاءِ ولايَتِه أنَّه لو زَوَّجَ مِن حيثُ هو أو وَكَّلَ، صَحَّ. ولَنا، قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ (¬2)». ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في م: «لها». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 311، 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذه لها وَلِيٌّ، فلا يكونُ السُّلطانُ وَلِيًّا لها، ولأنَّ الأقْرَبَ تَعَذَّرَ حُصُولُ التَّزْويجِ منه، فتَثْبُتُ الولايةُ لمَن يَلِيه مِن العَصَباتِ، كما لو جُنَّ أو مات، ولأنَّها حالةٌ يَجُوزُ فيها التَّزْويجُ لغيرِ الأقْرَبِ، فكان ذلك للأبْعَدِ، كالأصْلِ، وإذا عَضَلَها فهي كمَسْألَتِنا. الفصل الثاني: في الغَيبَةِ المُنْقَطِعَةِ التي يَجُوزُ للأبْعَدِ التَّزْويجُ في مِثْلِها. ففي قولِ الخِرَقِيِّ: هي ما لا يَصلُ إليه الكتابُ، أو يَصلُ فلا يُجِيبُ عنه؛ لأنَّ مثلَ هذا تَتَعَذَّرُ مُراجَعَتُه بالكُلِّيَّةِ، فتكونُ مُنْقَطِعَةً، أي تَنْقَطِعُ عن إمْكانِ تَزْويجِها. وقال القاضي: يَجِبُ أن يكونَ حَدُّ المسَافَةِ أن لا ترَدَّدَ القَوافِلُ فيه في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً؛ لأنَّ الكُفْءَ يَنْتَظِرُ سنةً ولا يَنْتَظِرُ أكثرَ منها، فيَلْحَقُ الضَّرَرُ بتَرْكِ تَزْويجِها. وقد قال أحمدُ في موضِعٍ: إذا كان الأبُ بعيدَ السَّفَرِ، يُزَوِّجُ الأبعَدُ (¬1). فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ ما تُقْصَرُ فيه (¬2) الصَّلاةُ؛ لأنَّ ذلك هو السَّفَرُ البعيدُ الذي عُلِّقَتْ عليه الأحْكامُ. وذَهَب (¬3) أبو بكرٍ [أنَّ حَدَّها] (¬4) ما لا يُقْطَعُ إلَّا بكُلْفَةٍ ومَشَقَّةٍ؛ لأنَّ أحمدَ قال: إذا لم يَكُنْ ¬

(¬1) في م: «الأخ». (¬2) في الأصل: «إليه». (¬3) في م: «ذكر». (¬4) في م: «وجوها أحدها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلِيٌّ حاضِرٌ مِن عَصَبَتِها، كَتَب إليهم حتى يَأْذَنُوا، إلَّا أن تكونَ غَيبَةً مُنْقَطِعَةً لا تُدْرَكُ إلَّأ بكُلْمْةٍ ومَشَقَّةٍ، فالسُّلْطانُ وَلِيُّ مَن لا وَلِيَّ له. قال شيخُنا (¬1): وهذا القولُ، إن شاءَ اللهُ، أقْرَبُها إلى الصَّوابِ، فإن التَّحْدِيداتِ بابُها التَّوْقِيفُ، ولا تَوْقِيفَ في هذه المسألةِ، فتُرَدُّ إلى ما يَتَعارَفُه النَّاسُ بينَهم، ممَّا لم تَجْرِ العادَةُ بالانْتِظارِ فيه، ويَلْحَقُ المرأةَ الضَّرَرُ بمَنْعِها مِن التَّزْويجِ في مثلِه، فإنَّه يَتَعَذَّرُ في ذلك الوُصُولُ إلى المَصْلَحَةِ مِن نَظَرِ الأقْرَبِ، فيكونُ كالمَعْدُومِ، والتَّحْدِيدُ بالعَامِ كثيرٌ؛ فإنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بالانْتِظَارِ في مثلِ ذلك، ويَذْهَبُ الخاطِبُ، ومَن لا يَصِلُ منه كِتاب أبْعَدُ، ¬

(¬1) في: المغني 9/ 386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَن هو على مَسافَةِ القَصْرِ (¬1) لا تَلْحَقُ المَشَقَّةُ بمُكاتَبَتِه، فكان التَّوَسُّطُ أوْلَى. واخْتَلَفَ أصحابُ أبي حنيفةَ في الغَيبَةِ المُنْقَطِعَةِ، فقال بعضُهم كقوْلِ القاضي، وبعضُهم قال: مِن الرَّيِّ إلى بَغْدادَ. وقال بعضُهم: مِن الرَّقَّةِ إلى البَصْرةِ. وهذان القَوْلان يُشْبِهان قولَ أبي بكرٍ. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ في الغَيبَةِ المنقطعةِ (¬2) التي يُزَوِّجُ فيها الحاكمُ، فقال بعضُهم: مسافةُ القَصْرِ. وقال بعضُهم: يُزَوِّجُها الحاكمُ وإن كان الوَلِيُّ قرِيبًا. وهو مَنْصُوصُ الشافعيِّ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه إذا كانتِ الغَيبَةُ غيرَ مُنْقَطِعَةٍ، أنَّه يُنْتَظَرُ ويُراسَلُ حتى يَقْدَمَ أو يُوَكِّلَ. فصل: فإن كان القريبُ أسِيرًا أو مَحْبوسًا في مسافَةٍ قَرِيبَةٍ، لا تُمْكِنُ مُراجَعَتُه، فهو كالبَعِيدِ، فإنَّ [البَعِيدَ لا] (¬3) يُعْتَبَرُ لعَينِه، بل لتَعَذُّرِ الوُصُولِ إلى التَّزْويجِ بنَظَرِه، وهذا مَوْجُودٌ ههُنا، وكذلك إن كان ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) في م: «البعد لم».

3114 - مسألة: (ولا يلي كافر نكاح مسلمة بحال، إلا إذا

وَلَا يَلي كَافِرٌ نِكَاحَ مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ، إلا إِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ، فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ غائِبًا لا يُعْلَمُ أقَرِيبٌ هو أم بَعِيدٌ، أو عُلِمَ أنَّه قَرِيبٌ، ولم يُعْلَمْ مَكانُه، فهو كالبَعِيدِ. 3114 - مسألة: (ولا يَلِي كَافِرٌ نِكاحَ مُسْلِمَةٍ بحَالٍ، إلَّا إذا

وَجْهٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِه، في وَجْهٍ) أمَّا الكافِرُ فليس له ولاية على مُسْلِمَةٍ بحالٍ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ. وذَكَر شيخُنا ههُنا أنَّ فيه وَجْهًا، أنَّ الكافِرَ يَلِي نِكاحَ أمِّ وَلَدِه إذا أسْلَمَتْ. وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّها مَمْلُوكَتُه، فيَلِي نِكاحَها كالمُسْلِمِ، ولأنَّه عَقْدٌ عليها، فيَلِيه كإجارَتِها. والثاني، لا يَليه؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬1). ولأنَّها مُسْلِمَةٌ فلا يَلِي نِكاحَها ¬

(¬1) سورة الأنفال 73.

3115 - مسألة: (ولا يلي مسلم نكاح كافرة، إلا سيد الأمة أو ولي سيدتها أو السلطان)

وَلَا يَلِي مُسْلِمٌ نِكَاحَ كَافِرَةٍ، إلا سَيِّدَ الْأَمَةِ أَوْ وَلِيَّ سَيِّدَتِهَا أَو السُّلْطَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كابْنَتِه. فعلى هذا، يُزَوِّجُها الحاكِمُ. وهذا الوَجْهُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْنا مِن الإجْماعَ. 3115 - مسألة: (وَلَا يَلِي مُسْلِمٌ نِكَاحَ كَافِرَةٍ، إلا سَيِّدَ الْأَمَةِ أَوْ وَلِيَّ سَيِّدَتِهَا أَو السُّلْطَانَ) [وذلك] (¬1) لقولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ ¬

(¬1) سقط من: م.

3116 - مسألة: (ويلي الذمي نكاح موليته الذمية من الذمي. لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (وهل يليه من

وَيَلي الذِّمِّيُّ نِكَاحَ مُوَلِّيَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ. وَهَلْ يَلِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. ولأنَّ مُخْتَلِفِي الدِّينِ لا يَرِثُ أحَدُهما الآخرَ، ولا يَعْقِل عنه، فلم يَلِ عليه، كما لو كان أحَدُهما رَقِيقًا. فأمَّا سَيِّدُ الأمَةِ الكافِرَةِ، فله تَزْويخها الكافِرَ؛ لكَوْنِها لا تَحِلُّ للمسْلِمِينَ، وكذلك وَلِيُّ (¬1) سَيِّدَةِ (¬2) الأمَةِ الكافرد يَلِي تَزْويجَها لكافر (¬3)، لأنَّها ولايةٌ بالمِلْكِ، فلم يَمْنَعْها كَوْنُ سَيِّدِ الأمَةِ الكافرةِ مُسْلِمًا، كسائرِ الولاياتِ، ولأنَّ هذه تَحْتاجُ إلى التَّزْويجِ، ولا وَلِيَّ لها غير سَيِّدِها. فأمَّا السُّلطانُ، فله الولاية على مَن لا وَلِيَّ لها مِن أهلِ الذِّمَّةِ، لأنَّ ولايَتَه عامَّةٌ على أهلِ دارِ الإِسْلامِ، وهذه مِن أهِلِ الدَّارِ، فثَبَتَتْ له الولاية عليها، كالمُسْلِمَةِ. وتَثْبُتُ الولايةُ للكافرِ على أهلِ دِيِنِه، على حَسَبِ ما ذَكَرْناه في المسلمينَ، وتعْتَبَر فيهم الشُّروطُ المُعْتَبَرَةُ في المسلمينَ. [وتُعْتَبَر عَدالتُه في دِيِنِه في أحَدِ الوَجْهَين، بِناءً على الرِّوايَتَين في اعْتِبارِها في المُسْلِمِينَ] (¬4). 3116 - مسألة: (وَيَلي الذِّمِّيُّ نِكَاحَ مُوَلِّيَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ. لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (وَهَلْ يَلِيهِ مِنْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «سيد». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

مُسْلِمٍ؟ عَلَي وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْلِمٍ؟ عَلَي وَجْهَينَ) أحَدُهما، يَلِيه. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه وَلِيُّها، فصَحَّ تَزْويجُه لها، كما لو زَوَّجَها كافِرًا، ولأنَّها امرأةٌ لها وَلِيٌّ مُناسِبٌ، فلم يَجُزْ أن يَلِيَهَا غيرُه، كما لو تَزَوَّجَها ذِمِّيٌّ. والثاني، لا يُزَوِّجُها إلَّا الحاكمُ. قاله القاضي، لأنَّ أحمدَ قال: لا يَعْقِدُ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانِيٌّ عَقْدَ نِكاحٍ لمُسْلِم ولا مُسْلِمَةٍ. ووَجْهُه أنَّه عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلى شَهادَةِ مُسْلِمَين، فلم يَصِحَّ بولايةِ كافرٍ، كنِكاحِ المسلمينَ. والأوَّلُ أصَحُّ، [والشُّهودُ يُرادُون] (¬1) لإِثْباتِ النِّكاحِ عندَ الحاكمِ، بخِلافِ الولايةِ. ¬

(¬1) في م: «والشاهدان يرادان».

3117 - مسألة: (وإذا زوج الأبعد من غير عذر للأقرب، أو زوج أجنبي، لم يصح. وعنه، يصح ويقف على إجازة الولي)

وإذا زَوَّجَ الْأبْعَدُ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ لِلْأَقْرَبِ، أَوْ زَوَّجَ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3117 - مسألة: (وإذا زَوَّجَ الْأبْعَدُ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ لِلْأَقْرَبِ، أَوْ زَوَّجَ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلامُ في هذه المسْألةِ في فصْلَين؛ أحدُهما، أنَّه إذا زَوَّجَها الأبْعَدُ مع حُضُورِ الأقْرَبِ، وأجابَتْه إلى تَزْويجِها مِن غيرِ إذْنِه، لم يَصِحَّ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ: يَصِحّ؛ لأنَّ هذا وَلِيٌّ، فصَحَّ أن يُزَوِّجَها بإذْنِها كالأقْرَبِ. ولَنا، أنَّ هذا مُسْتَحَقٌّ بالتَّعْصِيبِ، فلم يَثْبُتْ للأبْعَدِ مع وُجُودِ الأقْرَبِ، كالمِيراثِ، وبهذا فارَقَ القَرِيبُ البعيدَ. الفصلُ الثاني، أنَّ هذا العَقْدَ يَقَعُ فاسِدًا، لا يَقِفُ على الإجازَةِ، ولا يَصِيرُ بالإِجازَةِ صَحِيحًا، وكذلك الحكمُ إذا زَوَّجَ الأجنَبِيُّ، أَو زُوِّجَتِ المرأةُ المُعْتَبَرُ إذْنُها بغيرِ إذْنِها، أو تَزَوَّجَ العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، فالنِّكاحُ في هذا كلِّه باطِلٌ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين. نصَّ عليه أحمدُ في مَواضِعَ. وهذا قولُ الشَّافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخرَى، أنَّه يَقِفُ على الإِجازَةِ؛ فإن أجازَه، جاز، وإن لم [يُجِزْه، فَسَد. قال أحمدُ في صَغيرٍ زَوَّجَه عَمُّه: فإن رَضِيَ به في وَقْتٍ مِن الأوْقاتِ، جازَ، وإن لم] (¬1) يَرْضَ، فَسَخ. وإذا زُوِّجَتِ اليَتِيمَةُ، فلها الخيارُ إذا بَلَغَتْ. وقال: إذا تَزَوَّجَ (¬2) العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، ثم عَلِم السَّيِّدُ، فإن شاء أن يُطَلِّقَ عليه، فالطَّلاقُ بيَدِ السَّيِّدِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «زوج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أَذِنَ في التَّزْويجِ فالطَّلاقُ بيَدِ العَبْدِ. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْي، في كُلِّ مَسْألَةٍ يُعْتَبَرُ فيها الإِذْنُ. ورُوِيَ ذلك في النِّكاحِ بغيرِ وَلِيٍّ عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، [وعنِ ابنِ سِيرِينَ] (¬1)، والقاسمِ بنِ محمدٍ، والحسنِ بنِ صالحٍ، وإسحاقَ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ؛ لِما رُوِيَ أنَّ جارِيَة بِكْرًا أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَتْ له (¬2) أنَّ أباها زَوَّجَها وهي كارِهَةٌ، فخَيَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجة (¬3). ورُوِيَ أنَّ فَتاةً جاءَتْ إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: إنَّ أبي زَوَّجَنِي من ابنَ أخِيه، ليَرْفَعَ بي خَسِيسَتَه (¬4). قال: فجَعَلَ الأمْرَ إليها. فقالت: قد أجَزْتُ ما صَنَع أبي، ولكنْ أرَدْتُ أن أعْلَمَ أنَّ للنِّساءِ مِن الأمْرِ شيئًا (¬5). ولأنَّه عَقْدٌ يَقِفُ على الفَسْخِ، فوَقَفَ على الإِجازَةِ، كالوَصِيَّةِ. ووَجْهُ الأُولَى قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا باطِلٌ» (¬6). وقال: «إذَا نَكَحَ العَبْدُ بِغَيرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 121. (¬4) في الأصل: «حسبه». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 123. (¬6) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجة (¬1). إلَّا أنَّ أبا داودَ قال: هو مَوْقُوفٌ على ابنِ عمرَ. ولأنَّه عَقْدٌ لا تَثْبُتُ فيه أحْكامُه؛ مِن الطَّلاقِ، والخُلْعِ، واللِّعَانِ، والتَّوارُثِ، فلم يَنْعَقِدْ، كنِكاحِ المُعْتَدَّةِ. فأمَّا حديثُ المرأةِ التي خَيَّرَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو مُرْسَلٌ عن عِكْرِمَةَ، روَاه النَّاسُ كذلك، ولم يذْكُروا ابنَ عباس. قاله أبو داودَ. ثم يَحْتَمِلُ أنَّ هذه المرأةَ هي التي قالت: زَوَّجَنِي أبي مِن ابنِ أخِيه ليَرْفَعَ لي (¬2) خَسِيسَتَه. فخَيَّرَها (¬3) لتَزْويجِها مِن غيرِ كُفْئِها، وهذا يُثْبِتُ الخِيارَ، ولا يُبْطِلُ النِّكاحَ، والوَصِيَّة يَتَراخَى فيها القَبُولُ، وتَجُوزُ بعدَ الموتِ، فهي مَعْدُولٌ بها عن سائرِ التَّصَرُّفاتِ. ولا تَفْرِيعَ على هذه الرِّوايَةِ لوُضُوحِها. فأمَّا على الرِّوايةِ الأخْرَى، فإنَّ الشَّهادَةَ تعْتَبَرُ في العَقْدِ؛ لأنَّها شَرْطٌ له، فيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ معه، كالقَبُولِ، ولا تُعْتَبَرُ في الإِجازَةِ؛ لأنَّها ليست بعَقْدٍ، ولأنَّها إذا وُجِدَت، اسْتَنَد المِلْكُ إلى حايَةِ العَقْدِ، حتَّى لو كان في الصَّداقِ نماءُ مِلْكٍ مِن حينِ العَقْدِ لا مِنِ حينِ الإِجازَةِ. وإن مات أحَدُهما قبلَ الإِجازَةِ، لم يَرِثْه الآخَرُ؛ لأنَّه [مات قبلَ تَمامِ العَقْدِ وصِحَّتِه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه إن كان مِمّا لو رَجَع إلى الحاكِمِ أجازَه، وَرِثَه الآخرُ؛ لأنَّه] (¬4) عَقْدٌ تَلْزَمُه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب نكاح العبد بغير إذن مواليه، من كتاب النِّكَاح. سنن أبي داود 1/ 480. وابن ماجة، في: باب تزويج العبد بغير إذن سيده، من كتاب النِّكَاح. سنن ابن ماجه 1/ 360. كما أخرجه الدارمي، في: باب في العبد يتزوج بغير إذن من سيده، من كتاب النِّكَاح. سنن الدارمي 2/ 152. وانظر ضعيف سنن أبي داود 202. (¬2) في م: «به». (¬3) في م: «فتخييرها». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إجازَتُه، فهو كالصَّحِيحِ، وإن كان ممَّا لا يُجِيزُه، لم يَرِثْه. فصل: ومتى تَزَوَّجَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ وَلِيِّها، أو الأمَةُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، فقد ذَكَرَه أصحابُنا مِن [الصُّوَرِ التي فيها الرِّوايتان] (¬1). قال شَيخُنا (¬2): والصَّحيحُ عندِي أنَّه لا يَدْخُلُ فيها، لتَصْرِيحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيه بالبُطْلانِ. ولأنَّ الإِجازَةَ إنَّما تكونُ لعَقْدٍ صَدَر مِن أهْلِه في مَحَلِّه، فأمَّا ما لم يَصْدُرْ مِن الأهْلِ، كالذي عَقَدَه المَجْنُونُ أو الطِّفْل، فلم يَقِفْ على الإِجازَةِ، وهذا عَقْدٌ لم يَصْدُرْ مِن أهْلِه، فإنَّ المرأةَ ليست أهْلًا له، بدَلِيلِ أنَّه لو أذِنَ لها فيه؛ لم يَصِحَّ [منها، وإذا لم يَصِحَّ] (¬3) مع الإِذْنِ المُقارِنِ، فلَأن لا يَصِحِّ بالإِجازَةِ المُتَأَخِّرَةِ أَوْلَى. ولا تَفْرِيعَ على هذا القولِ. فأمَّا على القَوْلِ الآخرِ، فمتى تَزَوَّجَتِ المرأةُ (¬4) بغيرِ إذْنِ الوَلِيِّ، فرُفِع إلى الحاكمِ، لم يَمْلِكْ إجازَتَه، والأمْرُ فيه إلى الوَلِيِّ، فمتى رَدَّه بَطَل؛ لأنَّ مَن وَقَف الحُكْمُ (¬5) على إجازَتِه، بَطَل برَدِّه، كالمرأةِ إذا زُوِّجَتْ بغيرِ إذْنِها. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه إذا كان الزَّوْجُ كُفْئًا، أمَرَ الحاكِمُ الوَلِيَّ بإجازَتِه، فإن لم ¬

(¬1) في م: «الروايتين». (¬2) في: المغني 9/ 381. (¬3) سقط من: م. وسقطت الواو في: «وإذا» من الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «الحاكم»، وفي م: «بالحكم». وانظر المغني 9/ 381.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْعَلْ، أجازَه الحاكمُ؛ لأنَّه لو (¬1) امْتَنَعَ [مِن الإِجازَةِ] (¬2) صارَ عاضِلًا، فانْتَقَلَتِ الولايةُ عنه إلى الحاكمِ، كما (3) في ابْتِداءِ العَقْدِ. ومتى حَصَلَتِ الإِصابَةُ قبلَ الإِجازَةِ ثم أُجِيزَ، فالمَهْرُ واحدٌ؛ إمَّا المُسَمَّى، وإما مَهْرُ المِثْلِ إن لم يَكُنْ مُسَمًّى؛ فإنَّ الإِجازَةَ مُسْتَنِدَةٌ إلى حالةِ العَقْدِ، فيَثْبُتُ الحِل والمِلْكُ مِن حينِ العَقْدِ، كما فيَ ذَكَرْنا في البَيعِ، ولذلك لم يَجبِ الحَدُّ. ومتى تَزَوَّجَتِ الأمَةُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، ثم خرَجَتْ مِن مِلْكِه قبلَ الإِجازَةِ إلى مَن تَحِلُّ له، انْفَسَخَ النِّكاح؛ لأنَّه قد طَرَأَتِ اسْتِباحَةٌ صَحِيحَةٌ على مَوْقُوفَةٍ فأبْطَلَتْها؛ لأنَّها أقْوَى فأَزالتِ الأضْعَف، كما لو طَرَأ مِلْكُ اليَمِينِ على مِلْكِ النِّكاحِ. وإن خَرَجَتْ إلى مَن لا (¬3) تَحِلُّ له، كالمرأةِ أو اثنَين (¬4)، فكذلك أيضًا؛ لأنَّ العَقْدَ إذا وَقَف على إجازَةِ شَخْص، لم يَجُزْ بإجازَةِ غيرِه، كما لو باعَ أمَةَ غيرِه ثم باعَها المالِكُ، فأجاز (¬5) المُشْتَرِي الثاني بَيعَ (¬6) الأجْنَبِيِّ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَجُوزُ بإجازَةِ المالكِ الثاني؛ لأنَّه يَمْلِكُ ابْتِداءَ العَقْدِ، فمَلَكَ إجازَتَه، كالأوَّلِ. ولا فَرْقَ بينَ أن تَخْرُجَ ببَيع أو هِبَةٍ أو إرْثٍ أو غيرِه. فأمَّا إن أعْتَقَها السَّيِّدُ، احْتَمَلَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «اثنتين». (¬5) في م: «فأجازها». (¬6) في م: «مع».

3118 - مسألة: (ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن

وَوَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقومْ مَقَامَه وَإنْ كَانَ حَاضِرًا، وَوَصِيُّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَجُوزَ النِّكاحُ؛ لأنَّه إنَّما وَقَفَ لحَقِّ الوَلِيِّ (¬1)، فإذا أعتقَ سَقَط حَقّه، فصَحَّ، واحْتَمَلَ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّ إبْطال حَقِّ الوَلِيِّ ليس بإجازَةٍ، ولأنَّ حَقَّ المَوْلَى إن بَطَل مِن المِلْكِ، لم يَبْطُلْ مِن ولايةِ التَّزْويجِ، فإنَّه يَلِيها بالوَلاءِ. فصل: وإذا زُوِّجَتِ (¬2) التي يُعْتَبَرُ إذْنُها بغيرِ إذْنِها، وقُلْنا: يَقِفُ على إجازَتِها. فإجازَتُها بالنُّطْقِ، أو ما يَدُلُّ على الرِّضَا؛ مِن التَّمْكِينِ مِن الوَطْءِ والمُطالبَةِ بالمَهْرِ و (¬3) النَّفَقَةِ. ولا فَرْقَ في ذلك بينَ البِكْرِ والثَّيِّبَ؛ لأنَّ أدِلَّةَ الرِّضَا تَقُومُ مَقامَ النُّطْقِ به، ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ، فَلَا خِيَارَ لَكِ» (¬4). جَعَل تَمْكِينَها دَلِيلًا على إسْقَاطِ حَقها، والمطالبَةُ بالمَهْرِ و (3) النَّفَقَةِ والتَّمْكِين مِن الوَطْءِ دليلٌ على الرِّضَا، لأنَّ ذلك مِن خَصائِصِ العَقْدِ الصَّحِيحِ، فوُجُودُه مِن المرأةِ دليلُ رِضَاها به. 3118 - مسألة: (ووَكِيلُ كَلِّ واحِدٍ مِن هؤلاءِ يَقُومُ مَقامَه وإن ¬

(¬1) في م: «المولى». (¬2) في م: «تزوجت». (¬3) في م: «أو». (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 318 وليس صحيحا، فالحديث أخرجه أبو داود، في: باب حتَّى متى يكون لها الخيار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 518. والدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النِّكَاح. سنن الدارقطني =

في النِّكَاحِ بِمَنْزِلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان حاضِرًا، ووَصِيُّه في النِّكَاحِ بمَنْزِلَتِه) يَجُوزُ التَّوْكِيلُ في النِّكاحِ، سَواءٌ كان الوَلِيُّ حاضِرًا أو غائِبًا، مُجْبَرًا أو غيرَ مُجْبَرٍ؛ لأنَّه رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَّلَ أبا رافِعٍ في تَزْويجِه مَيمُونَةَ، ووَكَّلَ عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ في تَزْويجِه أُمَّ حَبِيبَةَ (¬1). ولأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فجازَ التَّوْكيلُ [فيه كالبَيعِ] (¬2). ولأصحّاب الشافعيِّ في تَوْكِيلِ غيرِ الأبِ والجَدِّ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجُوزُ؛ لأنَّه يَلي بالإذْنِ، فلم يَجُزْ له التَّوْكِيلُ، كالوَكيلِ. ولَنا، أنَّه يَلي شَرْعًا، فكان له التَّوْكِيلُ كالأب، ولا يَصِحُّ قولُهم: إنَّه يَلي بالإِذْنِ. فإنَّ ولايتَه ثابِتَةٌ قبلَ إذْنِها، وإنَّما إذنها (¬3) شَرْط لصِحَّةِ تَصَرُّفِه، فأشْبَهَ ولايةَ الحاكمِ عليها، ولا خِلافَ في أنَّ للحاكمِ أن يَسْتَنِيبَ في التَّزْويجِ مِن غيرِ إذْنِ المرأةِ، ولأنَّ المرأةَ لا ولايةَ لها على نَفْسِها، فكيف تَثْبُت لنائِبِها (¬4) مِن قِبَلِها! ¬

= 3/ 294. والبيهقي في: السنن الكبرى 7/ 225. والتخريج المتقدم يأتي في حديث آخر في صفحة 251. (¬1) تقدم تخريج حديث أبي رافع في 8/ 326، وحديث عمرو بن أمية في 13/ 436. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «إذنه». (¬4) في م: «الإنابة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجُوزُ التوكيلُ مُطْلقًا ومُقَيَّدًا، فالمُقَيَّدُ التوكيلُ في تَزْويج رجل بعَينِه، والمُطْلَقُ التَّوكيلُ في تَزْويجِ مَن يَرْضاه أو مَن شاءَ. قال أحمدُ، في رِوايةِ عبدِ اللهِ، في الرجلِ يُوَلِّي على أُخْتِه أو (¬1) ابْنَتِه، يقولُ: إذا وَجَدْتَ مَن تَرْضَاه (¬2) فَزَوِّجْه. فتَزْويجُه جائِزٌ. ومَنَع بعضُ الشافعيةِ التوكيلَ المُطْلَقَ. ولا يَصِحُّ؛ فإنَّه رُوِيَ أنَّ رجلًا مِن العَرَبِ تَرَك ابْنَتَه عندَ عمرَ وقال: إذا وَجَدْت لها كُفْئًا فزَوِّجْه، ولو بشِراكِ نَعْلِه. فزَوَّجَها عمرُ (¬3) عثمانَ بنَ عَفَّانَ، [فهي أُمُّ عمرَ بنِ عثمانَ (¬4). واشْتَهَرَ ذلك فلم يُنْكَرْ. ولأنَّه إذْن في النِّكاحِ، فجازَ مُطْلَقًا، كإذْنِ المرأةِ، أو عَقْدٌ] (¬5)، ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «أرضاه». (¬3) في الأصل: «من». (¬4) ذكر ابن حجر في ترجمة أم أبان بنت جندب بن عمرو أن الزبير ذكر لها قصة في تزوج عمر إياها عثمان ابن عفان. الإصابة 8/ 174. وذكر ابن سعد أنها أم عمر وبنت جندب بن عمرو. الطبقات الكبرى 5/ 151. وكذا الطبري في تاريخه 4/ 420. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجازَ التَّوْكِيلُ فيه مُطْلَقًا كالبَيْعِ (¬1). فصل: ولا يُعْتَبَرُ في صِحَّةِ (¬2) الوَكالةِ إذْنُ المرأةِ في التَّوْكِيلِ، سَواءٌ كان المُوَكِّلُ أَبا أو غيرَه. ولا يَفْتَقِرُ إلى حُضورِ (¬3) شاهِدَينِ. وقال بعضُ الشافعيةِ: لا يَجُوزُ لغيرِ المُجْبِرِ التَّوْكيلُ إلَّا بإذْنِ المرأةِ. وخرَّجَه القاضي على الرِّوايَتَين في تَوْكِيلِ الوَكيلِ مِن غيرِ إذْنِ المُوَكِّلِ. وحُكِيَ عن الحسنِ بنِ صالحٍ، أنَّه لا يَصِحُّ إلَّا بحَضْرَةِ شاهِدَين، لأنَّه يُرادُ لحِلِّ الوَطْءِ، فافْتَقَرَ إلى الشَّهادَةِ، كالنِّكاحِ. ولَنا، أنَّه إذْنٌ مِن الوَلِيِّ في التَّزْويجِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى إذْنِ المرأةِ ولا إشْهادٍ، كإذْنِ الحاكمِ. وقد بَيَّنَّا أنَّ الوَلِيَّ ليس بوَكِيلَ المرأةِ، ولو كان وَكِيلَها لتَمَكَّنَتْ مِن عَزْلِه، وهذا التَّوْكِيلُ لا يُمْلَكُ به البُضْعُ، فلم يَفْتَقِر إلى إشْهادٍ، بخِلافِ النِّكاحِ. ويَبْطُلُ ما ذَكَره الحسنُ بنُ صالحٍ بالتَّوْكِيلِ في شِراءِ الإِماءِ للتَّسَرِّي. ¬

(¬1) في م: «كالمبيع». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «حصول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَثْبُتُ للوَكيلِ ما يَثْبُتُ للمُوَكِّلِ، فإن كان للوَلِيِّ (¬1) الإِجْبارُ، ثَبَت ذلك لوَكِيلِه، وإن كانت ولايَتُه ولايةَ مُراجَعَةٍ، احْتاجَ الوكيلُ إلى مُراجَعَةِ المرأةِ؛ لأنَّه نائِبٌ فيَثْبُتُ له مثلُ ما يَثْبُت للمَنُوبِ عنه. ¬

(¬1) في م: «للمولى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك الحكمُ في السلطانِ والحاكِمَ يَأْذَنُ لغيرِه في التَّزْويجِ، فيكونُ المأْذُونُ له قائِمًا مَقامَه.

وَعَنْهُ، لَا تُسْتَفَادُ ولَايةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: لَا يَصِحُّ إلا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَصَبَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، هل تُسْتَفادُ ولايةُ النِّكاحِ بالوَصِيَّةِ؟ فرُوِيَ أنَّها تسْتَفادُ بها. اخْتارَه الخِرَقِيُّ. وهذا قولُ الحسنِ، وحَمَّادِ بنِ أبي سليمانَ، ومالكٍ. (و) رُوِيَ (عنه، لا تُسْتَفادُ بالوَصِيَّةِ) وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وابن المُنْذِرِ؛ لأنَّها كولايةٌ تَنْتَقِلُ إلى غيرِه شَرْعًا، فلم يَجُزْ (¬1) أن يُوصِيَ بها، كالحَضانَةِ، ولأنه لا ضَرَرَ على الوَصِيِّ في تَضْييعِها ووَضْعِها عندَ مَن لا يُكافِئُها، فلا تَثْبُتُ له الولايةُ كالأجْنَبِيِّ، ولأنَّها ولايةُ نِكاحٍ، فلم تَجُزِ الوَصِيَّةُ بها، كولايةِ الحاكمِ. وقال أبِو عبدِ اللهِ بن حامِدٍ: إن كان لها عَصَبَةٌ، لم تَجُزِ الوَصِيَّةُ بنِكاحِها؛ لأنه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْقِط حَقَّهم بوَصِيَّتِه، وإن لم يَكنْ عَصَبَةٌ، جازَ لعدَمِ ذلك. ولَنا، أنَّها ولايةٌ ثابِتَة (¬1) للأبِ، فجازَتْ وَصِيَّته بها، كولايَةِ المالِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُل بولايةِ المالِ، ولأنَّه يَجُوزُ أن يَسْتَنِيبَ فيها في حَياتِه، فيكونُ نائِبُه قائِمًا مَقامَه، فجازَ أن يَسْتَنِيبَ فيها بعدَ مَوْتِه، كولايةِ المالِ. فعلى هذا، تَجُوز الوَصِيَّةُ بالنِّكاحِ مِن كلِّ ذِي ولاية، سَواءٌ كان مُجْبِرًا كالأبِ، أو غيرَ مجْبرٍ كالأخِ، ووَصِيُّ كلِّ وَلِيٍّ يَقُومْ مَقَامَه، فإن كان الوَلِيُّ له الإِجْبارُ، فكذلك لوَصِيِّه. وإن كان يَحْتاجُ إلى إذْنِها فوَصِيُّه كذلك؛ لأنَّه قائِمٌ مَقامَه، فهو كالوَكِيلَ. وقال مالكٌ: إن عَيَّنَ الأبُ الزَّوْجَ، مَلَك (¬2) إجْبارَها، صَغيرةً كانت أو كبيرةً، وإن لم يُعَيِّنِ الزَّوْجَ، وكانت بنْتُه كبيرةً، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ، واعْتبِرَ إذنها، وإن كانت صَغِيرَةً، انْتَظَرْنا بُلُوغَها، فإذا أَذْنَتْ، جازَ أن يُزَوِّجَها بإذْنِها. ولَنا، أنَّ مَن مَلَك التَّزْويجَ إذا عُيِّنَ له الزَّوْجُ، مَلَك مع الإِطْلاقِ، كالوكيلِ، ومتى زَوَّجَ وَصِيُّ الأبِ الصغيرةَ فبَلَغَتْ، فلا خِيارَ لها؛ لأنَّ الوَصِيَّ قائِمٌ مَقامَ الموصِي، فلم يَثْبُتْ في تَزْويجِه خِيارٌ، كالوَكيلِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أي الوصي. وانظر المغني 9/ 366.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن لم تَثْبُتْ له الولايةُ، لا يَصِحُّ تَوْكِيلُه؛ لأنَّ وكيلَه قائِمٌ مَقامَه، فإن وَكَّلَه الوَلِيُّ (¬1) في تَزْويجِ مُوَلِّيَتِه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها ولايةٌ، وليس هو مِن أهْلِها، ولأنَّه لمَّا لم يَمْلِكْ تَزْويجَ مُناسِبتِه بولايةِ النَّسَبِ، فلأن لا يَمْلِكَ تَزْويجَ (¬2) مُناسِبَةِ غيرِه بالتَّوْكيلِ أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ تَوْكِيلُ العَبْدِ والفاسِقِ والصَّبِيِّ المُمَيِّزِ في العَقْدِ؛ لأنَّهم مِن أهلِ اللَّفْط به، وعباراتُهم فيه صَحِيحَةٌ، ولذلك صَحَّ (¬3) قَبُولُهم النِّكاحَ لأنْفسِهم، وإنَّما سُلِبُوا الولايةَ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ لها الكَمالُ، ولا حاجَةَ إليه في اللَّفْظِ. وإن وَكَّلَه الزَّوْجُ في قَبُولِ النِّكاحِ، صَحَّ، وكذلك إن وَكَّلَه الأبُ في قَبُول النِّكاحِ لأبنِه الصغيرِ؛ لأنَّه يَصِحُّ قَبُولُهم لأنْفُسِهم، فجازَ أن ¬

(¬1) في الأصل: «المولى». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

3119 - مسألة: (وإذا استوى الأولياء في الدرجة)

وَإذَا اسْتَوَى الأوْلِيَاءُ فِي الدَّرَجَةِ، صَحَّ التَّزْويجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنُوبُوا فيه عن غيرِهم، كالبَيعِ. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه أحَدُ طَرَفَي العَقْدِ، أشْبَهَ الإِيجابَ. والأوَّلُ أوْلَى. 3119 - مسألة: (وإذا اسْتَوَى الأَوْلِياءُ في الدَّرَجَةِ) كالإِخْوَةِ

3120 - مسألة: والأولى تقديم أكبرهم وأفضلهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تقدم إليه (1)

مِنْهُمْ، وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ أَفْضَلِهِم ثُمَّ أَسَنِّهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعْمامِ وَبَنِيهِم (صَحَّ التَّزْويجُ مِن كلِّ واحِدٍ منهم) لأنَّ سَبَبَ الولايَةِ مَوْجُودٌ في كلِّ (¬1) واحِدٍ منهم. 3120 - مسألة: والأوْلَى تَقْدِيمُ أَكْبَرِهِم وأفْضَلِهم؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا تَقَدَّمَ إليه (1) مُحَيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ وعبدُ الرحمنِ بنُ سَهْل، فتَكَلَّمَ عبدُ الرحمنِ بنُ سَهْلٍ، وكان أصْغَرَهُم، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَبِّرْ كَبِّرْ». أي قَدِّمِ الأكبرَ، فتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ (¬2). ولأنَّه أحْوَطُ للعَقْدِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الموادعة والمصالحة مع المشركين. . . .، من كتاب الجزية، وفي: باب إكرام الكبير. . . .، من كتاب الأدب، وفي: باب القسامة، من كتاب الديات، وفي: باب الشهادة على الخط المختوم، وباب كتاب الحاكم إلى عماله. . . .، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 4/ 123، 8/ 41، 9/ 11، 83، 93، 94. ومسلم، في: باب القسامة، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1291، 1295. وأبو داود، في: باب القتل بالقسامة، وباب في ترك القود في القسامة، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 484 - 486. والترمذي، في: باب ما جاء في القسامة، من أبواب الديات. عارضة الأحوذي 6/ 192 - 194. والنسائي، في: باب تبدئة أهل الدم في القسامة، وباب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه، من كتاب القسامة. المجتبى 6/ 8 - 12. وابن ماجة، في: باب القسامة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجة 2/ 892، 893. والإمام مالك، في: باب تبدئة أهل الدم في القسامة، من كتاب القسامة. الموطأ 2/ 877. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 2، 3، 142.

3121 - مسألة: (فإن سبق غير من وقعت له القرعة فزوج، صح)

فَإِنْ تَشَاحُّوا، أُقْرِعَ بَينَهُمْ، فَإِنْ سَبَقَ غَيرُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَزَوَّجَ، صَحَّ في أَقْوَى الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اجْتِماعِ شُرُوطِه، والنَّظَرِ في الحَظِّ (فإن تَشَاحُّوا، أُقْرِعَ بينَهم) لأنَّهم تَساوَوْا في الحَقِّ، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ، فيُقْرَعُ بينَهم، كالمرأتَين، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ سَفَرًا أَقرَعَ بينَ نِسائِه (¬1)؛ لتَساوي حُقُوقِهِنَّ. كذا هذا. 3121 - مسألة: (فَإِنْ سَبَقَ غَيرُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَزَوَّجَ، صَحَّ) تَزْويجه (في أَقْوَى الْوَجْهَينَ) إذا زَوَّجَ كُفْئًا بإذْنِ المرأةِ؛ لأنَّه تَزْويجٌ صَدَر مِن وَلِيٍّ كاملِ الولايةِ بإذنِ مُوَلِّيَتِه، فصَحَّ، كما لو انْفَرَدَ، وإنَّما القُرْعَةُ لإِزالةِ المُشَاحَّةِ (¬2). وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَصِحُّ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ، [لأنَّه بالقُرْعَةِ صار أوْلَى] (¬3)، فلم يَصِحَّ تَزْويجُه، كالأبْعَدِ مع لأقرَبِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 32. (¬2) في م: «المشاحنة». (¬3) سقط من: م.

3122 - مسألة: (وإذا زوج)

وَإنْ زَوَّجَ اثْنَانِ، وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فُسِخَ النِّكَاحَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3122 - مسألة: (وإذا زَوَّجَ) الوَلِيَّان (اثْنَين، ولم يُعْلَمِ السَّابِقُ منهما، فُسِخَ النِّكَاحان) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا كان لها وَلِيَّان، فأذِنَت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكلِّ واحدٍ منهما (¬1) في تَزْويجِها، جازَ، سَواءٌ أذِنَتْ في رجلٍ مُعَيَّنٍ أو مُطْلَقًا، فإذا زَوَّجَها الوَلِيَّان لرَجُلَين، وعُلِمَ السَّابِقُ منهما، فالنِّكاحُ له، سَواءٌ دَخَل بها الثَّانِي أو لم يَدْخُلْ. هذا قولُ الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، وابنِ سِيرِينَ، والأوْزاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وبه قال عطاءٌ، ومالكٌ، ما لم يَدْخُلْ بها الثاني، فإن دَخَل بها الثاني صارَ أوْلَى؛ لقَوْلِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: إذا أنْكَحَ الوَلِيَّان، فالأوَّلُ أحَقُّ ما لم يَدْخُلْ بها الثاني (¬2). ولأنَّ الثانيَ اتَّصَلَ بعَقْدِه القَبْضُ، فكان أحَقَّ. ولَنا، ما روَى سَمُرَةُ، وعُقْبَةُ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أَيُّمَا امْرَاة زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، فَهِيَ لِلأَوَّلِ». أخْرَجَ حديثَ سَمُرَةَ أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ، وأخْرَجَه النَّسَائِيُّ عنه وعن عُقْبَةَ (¬3). ورُوِيَ نحوُ ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «فإن دخل بها الثاني صار أولى». (¬3) حديث سمرة أخرجه أبو داود، في: باب إذا أنكح الوليان، من كتاب النِّكَاح. سنن أبي داود 1/ 482. والترمذي، في: باب ما جاء في الوليين لزوجان، من أبواب النِّكَاح. عارضة الأحوذي 5/ 30. والنسائي، في: باب الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 276. كما أخرجه الدارمي، في: باب المرأة يزوجها الوليان، من كتاب النِّكَاح. سنن الدارمي 2/ 139. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 8، 11، 12، 18. وأخرجه النسائي عن سمرة وعن عقبة، في: باب الرجل يبيع السلعة من رجل ثم يبيعها بعينها، من علي البيوع. السنن الكبرى 4/ 57. كما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 139. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 130، 140. وانظر الإرواء 6/ 254، 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عليٍّ، وشُرَيحٍ (¬1). ولأنَّ الثانِي تَزَوَّجَ امرأةً في عِصْمَةِ زَوْجٍ، فكان باطِلًا، كما لو عَلِم الحال، ولأنَّه نِكاحٌ باطِلٌ لو عَرِىَ عن الدُّخولِ، فكان باطِلًا وإن دَخَل، كنِكَاحِ المُعْتَدَّةِ. وأمَّا حديثُ عمرَ، فلم يُصَحِّحْه أصْحابُ الحديثِ، وقد خالفَه قولُ عليِّ، وجاء على خِلافِ حديثِ (¬2) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وما ذَكَرُوه مِن القَبْضِ لا مَعْنَى له؛ فإنَّ النِّكاحَ يَصِحُّ بغيرِ قَبْضٍ، مع أنَّه لا أصْلَ له فيُقاس عليه، ثم يَبْطُلُ بسائِرِ (¬3) الأنْكِحَةِ الفاسِدَةِ. فصل: فإن دَخَل بها الثانِي وهو لا يَعْلَمُ أنَّها ذاتُ زَوْجٍ، فُرِّقَ بينَهما، وكان لها عليه مَهْرُ مِثْلِها، ولم يُصِبْها زَوْجُها حتَّى تَحِيضَ ثلاثَ حِيَض بعدَ وَطْئِها مِن الثَّانِي. فأمَّا إن عَلِمَ بالحال قبلَ وَطْءِ الثانِي لها، فإنَّها تُدْفَعُ إلى الأوَّلِ، ولا شيءَ على الثاني؛ لأنَّ عَقْدَه عَقْدٌ باطِل لا يُوجِبُ شيئًا. ¬

(¬1) ما روى عن علي أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف 4/ 139. والبيهقي في: السنن الكبرى 7/ 141. وما روى عن شريح أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف 4/ 140. (¬2) في م: «قول». (¬3) في م: «كسائر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن وَطِئَها الثاني وهو لا يَعْلَمُ، فهو وَطْءٌ بشُبْهَةٍ، يَجِبُ لها به المَهْرُ، وتُرَدُّ إلى الأوَّلِ، ولا يَحِلُّ له وَطْؤُها حتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. وهو قولُ قَتادَةَ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. قال أحمدُ: لها صَداقٌ بالمَسِيسِ، وصَداقٌ [مِن هذا] (¬1). ولا يُرَدُّ الصَّداقُ الَّذي يُؤْخَذُ مِن الدَّاخِلِ بها على مَن دُفِعَتْ إليه؛ لأنَّ الصَّداقَ في مُقابَيَةِ الاسْتِمْتاعِ بها (¬2)، فكان لها دُونَ زَوْجِها، كما لو وُطِئَتْ بشُبْهَةٍ أو مُكْرَهَةً. ولا يَحْتاجُ النِّكَاحُ الثاني إلى فَسْخٍ؛ لأنَّه باطِلٌ، ولا يَجِبُ لها المَهْرُ إلَّا بالوَطْءِ دُون مُجَرَّدِ الدُّخُولِ والوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ، لأنَّه نِكاحٌ باطِلٌ لا حُكْمَ له. ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّه يَجِبُ بالإِصابَةِ لا بالتَّسْمِيَةِ. وذَكَر أبو بكرٍ أنَّ الواجِبَ المُسَمَّى. قال القاضي: هو قِياسُ المذهبِ. والأوَّلُ هو الصَّحِيحُ؛ لما قُلْنا. فصل: فإن جُهِلَ الأوَّلُ منهما، فُسِخَ النِّكاحان، ولا فَرْقَ بينَ أن لا يُعْلَمَ كَيفِيَّةُ وُقُوعِهما، أو يُعْلَمَ أنَّ أحَدَهما قبلَ الآخَرِ لا بعَينِه، أو يُعْلَمَه ¬

(¬1) في الأصل: «بهذا». (¬2) سقط من: م.

وَعَنْهُ، يُقْرَعُ بَينَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ، أَمَرَ الآخَرَ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ يُجَدِّدُ الْقَارِعُ نِكَاحَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعَينِه ثم يُشْكِلَ، والحُكْمُ في جميعِها واحِدٌ، وهو أن يَفْسَخَ الحاكمُ النِّكاحَين جميعًا. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ الجماعةِ. ثم تَتَزَوَّجُ مَن شاءَت منهما أو مِن غيرِهما (وعن أحمدَ) رِوايةٌ أُخرَى، أنَّه (يُقرَعُ بينَهما) فمَن وَقَعَتْ له القُرْعَةُ امرَ صاحبَه بالطَّلاقِ (ثم يُجَدِّدُ القارِعُ نِكاحَه) لأنَّه إن كانت زَوْجَتَه لم يُضِرْه تَجْدِيدُ النِّكاحِ، وإن كانت زَوْجَةَ الآخَرِ، بانَتْ بالطَّلاقِ، وصارَتْ زَوْجَةَ هذا بعَقْدِه الثاني؛ لأنَّ القُرْعَةَ تَدْخُلُ لتَمْيِيزِ الحُقُوقِ عندَ التَّساوي، كالسَّفَرِ بإحْدَى نِسائِه، والبَداءَةِ بالمَبِيتِ عندَ إحْدَاهُنَّ، وتَعْيِينِ (¬1) الأنْصِباءِ في القِسْمَةِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ: يُجْبِرُهما السلطانُ على أن يُطَلِّقَ كُلُّ واحدٍ منهما طَلْقَةً، فإن أبيَا فَرَّقَ بينَهما. ¬

(¬1) في م: «تعتبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قريبٌ مِن القولِ الأوَّلِ، لأنَّه تَعَذَّرَ إمْضاءُ العَقْدِ الصَّحِيحِ، فوَجَبَ إزالةُ الضَّرَرِ بالتَّفْرِيقِ. وقال الشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ: النِّكاحُ مَفْسُوخٌ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ إمْضاؤُه. ولا يَصِحُّ هذا؛ فإنَّ العَقْدَ الصَّحِيحَ لا يَبْطُلُ بمُجَرَّدِ إشْكالِه، كما لو اخْتَلَفَ المُتَبايِعان في قَدْرِ الثَّمَنِ، فإنَّ العَقْدَ لا يَزُولُ إلَّا بفَسْخِه، كذا ههُنا. ورُوِيَ عن شُرَيحٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وحَمَّادِ بنِ أبي سليمانَ، أنَّها تُخَيَّرُ، فأيُّهما اخْتارَتْه، فهو زَوْجُها. وهذا فاسِدٌ، فإنَّ أحَدَهما ليس بزَوْج لها، فلم تُخَيَّرْ بينَهما، كما لو لم يَعْقِدْ إلَّا أحَدُهما، أو كما لو أشْكَلَ على الرجلَ امرأتُه في النِّساءِ، أو على المرأةِ زَوْجُها، إلَّا أن يُرِيدوا بقَوْلِهم أنَّها إذا اخْتارَتْ أحَدَهما، فُرِّقَ بَينَها (¬1) وبينَ الآخَرِ، ثم عَقَد المُخْتارُ نِكاحَها، فهذا حَسَنٌ، فإنَّه يُسْتَغْنَي بالتَّفْرِيقِ بَينَها (2) وبين أحَدِهما عن التَّفْرِيقِ بينَها (¬2) وبينهما جميعًا، ويفسْخِ أحَدِ النِّكاحَين عن فَسْخِهما. فإن أردتْ أن تَخْتارَ، لم تُجْبَرْ. وكذلك يَنْبَغِي إذا أُقْرِعَ بينَهما فوَقَعَتِ القُرْعَةُ لأحَدِهما، لم تُجْبَرْ على نِكاحِه، لأنَّه لا يُعْلَمُ [أنَّه زَوْجُها] (¬3)، فيَتَعَيَّنُ إذًا فَسْخُ النِّكاحَين، ولها أن تَتَزَوَّجَ مَن شاءَت منهما أو مِن غيرِهما في الحالِ، إن كان قبلَ الدُّخُولِ، وبعدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ إن كان دَخَل بها أحَدُهما. ¬

(¬1) في النسختين: «بينهما». (¬2) في الأصل: «بينهما». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّه السَّابِقُ بالعَقْدِ، ولا بَيِّنَةَ لهما، لم يُقْبَلْ قَوْلُهما. فإن أقَرَّتِ المرأةُ لأحَدِهما، لم يُقْبَل إقْرارُها. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يُقْبَلُ، كما لو أقَرَّتِ ابْتِداءً. ولَنا، أنَّ الخَصْمَ الزَّوْجُ الآخَرُ (¬1) في ذلك، فلم يُقْبَلْ إقْرارُها (¬2) في إبْطالِ حَقِّه، كما لو أقَرَّتْ عليه بطَلاقٍ. وإنِ ادَّعَى الزَّوْجان على المرأةِ أنَّها تَعْلَمُ السَّابِقَ منهما، فأنْكَرَتْ، لم تُسْتَحْلَفْ لذلك. وقال أصحابُ الشافعيِّ: ¬

(¬1) في الأصل: «للآخر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُسْتَحْلَفُ. بِناءً منهم على أنَّ إقْرارَها مَقْبُولٌ. فإن فُرِّقَ بينَها (¬1) وبينَ أحَدِهما، لِاخْتِيارِها لصاحِبِه، أو لوُقُوعِ القُرْعَةِ له، وأقَرَّتْ له أنَّ عَقدَه سابِقٌ، فيَنْبَغِي أن يُقْبَلَ إقْرارُها (¬2)، لأنَّهما اتَّفَقَا على ذلك مِن غيرِ خَصْمٍ مُنازِعٍ، فأشبَهَ ما لو لم يَكُنْ صاحِبُ عَقْدٍ آخَرُ. ¬

(¬1) في م: «بينهما». (¬2) في م: «إقرارهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن عُلِمَ أنَّ العَقْدَين وَقَعَا معًا (¬1)، لم يَسْبِقْ أحَدُهما الآخَرَ، فهما باطِلَان، لا حاجَةَ إلى فَسْخِهِما؛ لأنَّهما باطِلان مِن أصْلِهما، ولا مَهْرَ لها على واحِدٍ منهما، ولا مِيراثَ لها منهما، ولا يَرِثُها واحِدٌ منهما؛ لذلك. وإن لم يُعْلَمْ ذلك ففُسِخَ (¬2) نِكاحُهُما، فروِيَ عن أحمدَ، أنَّه يَجِبُ لها نِصْفُ المَهْرِ، ويَقْتَرِعانِ عليه؛ لأنَّ عَقْدَ أحَدِهما صَحِيحٌ، وقد ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فسخ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْفَسَخَ نِكاحُه (¬1) قبلَ الدُّخُولِ، فوَجَبَ عليه نِصْفُ مَهْرِها، كما لو خالعَها (¬2). وقال أبو بكر: لا مَهْرَ لها؛ لأنَّهما مُجْبَران على الطَّلاقِ (¬3)، فلم يَلْزَمْهما مَهْرٌ، كما لو فَسَخ الحاكمُ نِكاحَ رجلٍ لعُسْرَتِه أو غَيبَتِه. وإن ماتَتْ قبلَ الفَسْخِ أو الطَّلاقِ، فلأحَدِهما نِصْفُ مِيرِاثِها، فيُوقَفُ الأمْرُ حتَّى يَصْطَلِحَا عليه. وقيلَ: يُقْرَعُ بينَهما، فمَن خرَجَتْ له القُرْعَةُ، حَلَف أنَّه المُسْتَحِقُّ، ووَرِثَ. وإن مات الزَّوْجان، فلها رُبْعُ مِيراثِ أحَدِهما. فإن كانت قد أقَرَّتْ أنَّ أحَدَهما سابِقٌ بالعَقْدِ، فلا مِيراثَ لها مِن الآخَرِ، وهي تَدَّعِي رُبْعَ (¬4) مِيراثِ مَن أقَرَّتْ له. فإن كان (¬5) قد ادَّعَى ذلك أيضًا، دُفِع إليها رُبْعُ مِيراثِه، وإن لم يَكُنِ ادَّعَى ذلك، وأنْكَرَ الوَرَثَة، فالقَوْلُ قولُهم مع أيمانِهِم، فإن نَكَلُوا قُضِيَ عليهم. وإن لم تَكُنِ المرأةُ أقَرَّتْ بسَبْقِ أحَدِهما، احْتَمَلَ أن يَحْلِفَ وَرَثَةُ كُلِّ واحِدٍ منهما ويَبْرَأَ (¬6)، واحْتَمَلَ أن يُقْرَعَ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ قُرْعَتُه (6) فلها رُبْعُ مِيراثِه. وقد ¬

(¬1) في م: «بنكاحه». (¬2) في م ت «خالفها». (¬3) في النسختين: «الصداق». وانظر المغني 9/ 434. (¬4) سقط من: م. (¬5) بعده في م: «أحدهما». (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ، أنَّه سُئِلَ عن رجل له ثلاثُ بناتٍ، زَوَّجَ إحْدَاهُنَّ مِن رجلٍ، ثم ماتَ الأبُ، ولم يُعْلَمْ أيُّتُهُنَّ زَوَّجَ: يُقْرَعُ بينَهُنَّ، فأيُّتُهُنَّ أصابَتْها القُرْعَة، فهي زَوْجَتُه، وإن ماتَ الزَّوْجُ فهي التي تَرِثُه. فصل: وإنِ ادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه السَّابِقُ، فأقَرَّتْ لأحَدِهما، ثم فُرِّقَ بينَهما، وقُلْنا بوُجُوبِ المَهْرِ، وَجَب على المُقَر له دونَ صاحِبِه؛ لإِقْرارِه لها به، وإقْرارِها ببَراءَةِ صاحِبِه. وإن ماتا، وَرِثَتِ المُقَرَّ له دُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبِه؛ لذلك. وإن ماتت هي قبلَهما (¬1)، اختَمَلَ أن يَرِثَها المُقَرُّ له؛ تَرِثُه، واحْتَمَلَ أن لا يُقْبَلَ إتْرارُها له، كما لم يَقْبَلْه في نَفْسِها. وإن لم تُقِرَّ لأحَدِهما إلَّا بعدَ مَوْتِه، فهو كما لو أقَرَّتْ في حَياتِه. وليس لوَرَثَةِ واحدٍ منهما الإِنْكارُ لاسْتِحْقاقِها؛ لأن مَوْرُوثَه قد أقَرَّ لها بدَعْواه (¬2) صِحَّةَ نِكاحِها وسَبْقَه بالعَقْدِ عليها. وإن لم تُقِرَّ لواحدٍ منهما، أُقْرِعَ بينَهما، وكان لها مِيراثُ مَن تَقَعُ القُرْعَةُ عليه. وإن كان أحَدُهما قد أصابَها، وكان هو المُقَرَّ له، أو كانت لم تُقِرَّ لواحدٍ منهما، فلها المُسَمَّى؛ لأنَّه مُقِرٌّ لها به، وهي لا تَدَّعِي سِواه، وإن كانت مُقِرّةً للآخَرِ، فهي تَدَّعِي مَهْرَ المِثْلِ، وهو يُقِرُّ لها (¬3) بالمُسَمَّى. فإنِ اسْتَوَيا أو اصْطَلَحا، فلا كلامَ، ¬

(¬1) في م: «قبلها». (¬2) في م: «بدعوى». (¬3) في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان مَهْرُ المِثْلِ أكْثَرَ، حَلَف على الزَّائدِ، وسَقَط. وإن كان المُسَمَّى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها أكْثَرَ، فهو مُقِرٌّ لها بالزِّيادَةِ، وهي تُنْكِرُها، فلا تَسْتَحِقُّها.

3123 - مسألة: (وإذا زوج السيد عبده الصغير من أمته، جاز أن يتولى طرفي العقد)

وَإذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ مِنْ أَمَتِهِ، جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ وَلِيُّ الْمَرْأَة -مِثْلَ ابْنِ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى وَالْحَاكِمُ- إِذَا أَذِنَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3123 - مسألة: (وَإذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ مِنْ أَمَتِهِ، جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ) لأنَّه مَلَكَ بحُكْمِ المِلْكِ لا بحُكْمِ الإِذْنِ، في قَوْلِهم جَمِيعًا. فإن كان مالِكًا لأحَدِ طَرَفَيِ العَقْدِ فوَكَّلَه مالِكُ الطَّرَفِ الآخَرِ فيه، أو وَكَّلَه المُوَلَّى في الإِيجابِ والزَّوْجُ في القَبُولِ، خُرِّجَ فيه وَجْهان؛ بِناءً على الرِّوايَتَين اللَّتَين نَذْكُرُهما في المسألةِ التي تَلِيها؛ لأنَّه مَلَك ذلك بالإِذْنِ. وإن زَوَّجَ ابْنَتَه الكبيرةَ عبدَه الصغيرَ، لم يَجُزْ ذلك إلَّا برِضَاها؛ لأنَّه لا (¬1) يُكافِئُها. ويُخَرَّجُ فيه أيضًا وَجْهان. وإن زَوَّجَه ابْنَتَه الصغيرةَ، لم يَجُزْ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ له تَزْويجُها مِمَّن لا يُكافِئُها. وعنه، يَجُوزُ. 3124 - مسألة: (وكذلك وَلِيُّ المرأةِ -مِثْلَ ابنِ العَمِّ والمَوْلَى ¬

(¬1) سقط من: م.

لَهُ في نِكَاحِهَا، فَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ حَتَّى يُوَكِّلَ غَيرَهُ في أَحَدِ الطرَّفَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاكِمِ- إذا أَذِنَتْ له في تَزَوُّجِها. وعنه، لا يَجُوزُ حَتَّى يُوَكِّل في أَحَدِ الطَّرَفَين) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ وَلِيَّ المَرأةِ التي يَحِلُّ له نِكاحُها إذا أَذِنَتْ له أن يُزَوِّجَها (¬1)، فله ذلك، وهل له أن يَليَ طَرَفَى العَقْدِ بنَفْسِه؛ فيه رِوايتان؛ إحداهما، له ذلك. وهو قولُ الحسنَ، وابنَ سِيرِينَ، ورَبيعَةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لِما روَى البخاريُّ (¬2)، قال: قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ لأُمِّ حَكِيمٍ ابنةِ (¬3) قارظٍ (¬4): أتَجْعَلِينَ أمْرَكِ إليَّ؟ قالتْ: نعم. قال: قد تَزَوّجْتُكِ. ولأنَّه يَمْلِكُ الإِيجابَ والقَبُولَ، فجازَ أن يَتَولَّاهُما، كما لو زَوَّجَ أمَتَه عبدَه الصغيرَ، ولأنَّه عَقْدٌ وُجِدَ فيه الإِيجابُ مِن وَلِيٍّ ثابتِ الولايةِ، ¬

(¬1) في م: «يتزوجها». (¬2) معلقا بصيغة الجزم، في: باب إذا كان الولي هو الخاطب، من كتاب النِّكَاح. صحيح البخاري 7/ 21. ووصله ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 8/ 472. وصححه في الإرواء 6/ 256. (¬3) في م: «امرأة». (¬4) النسختين: «قارض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقَبُولُ مِن زَوْجٍ هو أهْلٌ للقَبُولِ، فصَحَّ، كما لو وُجِدَا مِن رَجُلَين. وقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْتَقَ صَفِيَّةَ، وجَعَل عِتْقَها صَدَاقَها (¬1). فإن قيلَ: فقد رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ نِكَاحٍ لَا يَحْضُرُهُ أرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ؛ زَوْجٌ، وَوَلِيٌّ، وشَاهِدَانِ» (¬2). قُلْنا: هذا لا نَعْرِف صِحَّتَه، ولو صَحَّ كان مَخْصُوصًا بما إذا زَوَّجَ السَّيِّدُ عبدَه الصغيرَ أمَتَه، فيَتَعَدَّى التَّخْصِيصُ إلى مَحَلِّ النِّزاعِ. وهل (¬3) يَفْتَقِرُ إلى ذِكْرِ الإِيجابِ والقَبُولِ، وهل (¬4) يُكْتَفَى بمُجَرَّدِ الإِيجابِ؟ [فيه وجهان؛ أحدُهما، يَحْتاجُ أن يقولَ: زَوَّجْتُ نَفْسِي فلانةَ، وقَبِلْتُ هذا النِّكاحَ] (¬5). لأنَّ ما ¬

(¬1) انظر حديث أنس المتقدم في صفحة 66. (¬2) أخرجه الدارقطني بنحوه عن عائشة، في: كتاب النِّكَاح. سنن الدارقطني 3/ 2251. وانظر: الإرواء 6/ 261. (¬3) في م: «هو». (¬4) في الأصل: «وبل». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ افْتَقَرَ إلى الإِيجابِ افْتَقَرَ إلى القَبُولِ، كسائِرِ العُقُودِ. والثاني، يَكْفِيه أن يقولَ: زَوَّجْتُ نَفْسِي فُلانَةَ. أو: تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ؛ لحديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ، ولأنَّ إيجابَه يَتَضَمَّنُ القَبُولَ، فأشْبَهَ إذا تَقَدَّمَ الاسْتِدْعاءُ، ولهذا قُلْنا: إذا قال لأمَتِه: أعْتَقْتُكِ، وجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ. انْعَقَدَ النِّكاحُ بمُجَرَّدِ هذا القولِ. والرِّوايةُ الثانيةُ، لا يَجُوزُ أن يَتَوَلَّى طَرَفَيِ العَقْدِ، ولكنْ يُوَكِّلُ رجلًا يُزَوِّجُه إياها بإذْنِها. ذَكَرَها الخِرَقِيُّ. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ: لا يُزَوِّجُ نَفْسَه حتَّى يُوَلِّيَ رجلًا، على حديثِ المُغِيرَةِ بنِ شعْبَةَ. وهو ما روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه عن عبدِ الملكِ بنِ عُمَيرٍ، أنَّ المُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ أمَرَ رجلًا يُزَوِّجُه امْرأةً المُغِيرَةُ أوْلَى بها منه. ولأنَّه عَقْدٌ مَلَكَه بالإِذْنِ، فلم يَجُزْ أن يَتَوَلَّى طَرَفَيه، كالبَيعِ. وبهذا فارَقَ ما إذا زَوَّجَ أمَتَه عبدَه الصغيرَ. وعلى هذه الرِّوايةِ، إن وَكَّلَ مَن يَقْبَلُ له النِّكاحَ، وتوَلَّى هو الإيجابَ، جازَ. وقال الشافعيُّ في ابنِ العَمِّ والمَوْلَى: لا يُزَوِّجُهما إلَّا الحاكِمُ، ولا يَجُوزُ أن ¬

(¬1) الحديث ليس عند أبي داود. انظر فتح الباري 9/ 188. وعلقه البخاري، في: باب إذا كان الولي هو الخاطب، من كتاب النِّكَاح. صحيح البخاري 7/ 21. ووصله عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 201، 202. وسعيد بن منصور في: سننه 1/ 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ العَقْدِ، ولا أن يُوَكِّلِ مَن يُزَوِّجُه؛ لأنَّ وَكِيلَه بمَنْزِلَتِه، وهذا عَقْدٌ مَلَكَه بالإِذْنِ، فلا يَتَوَلَّى طَرَفيه، كالبَيعِ، ولا يَجُوزُ أن يُزَوِّجَه مَن هو أَبْعَدُ منه مِن أوْليائِها؛ لأنَّه لا ولايةَ لهم مع وُجُودِه. ولَنا، ما ذَكَرْناه مِن فِعْلِ الصَّحابةِ، ولم يَظْهَرْ خِلافُه، ولأن وَكِيلَه يَجُوزُ أن يَلِيَ العَقْدَ عليها لغيرِه، فصَحَّ أن يَلِيَه عليها له إذا كانت تَحِلُّ له، كالإِمامِ إذا أرادَ أن يَتَزَوَّجَ مُوَلِّيَتَه، ولأنَّ هذه امرأةٌ لها وَلِيٌّ حاضرٌ غيرُ عاضِل، فلم يَلِه الحاكمُ، كما لو أرادَ أن يُزَوِّجَها غيرُه. ومَفْهُومُ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «السُّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» (¬1). أنَّه لا ولايةَ له على هذه، والبَيعُ مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الوَكِيلَ يَجُوزُ أن يَشْتَرِيَ ما وُكِّلَ في بَيعِه بإذْنِ المُوَكِّلِ. فصلِ: فأمَّا إن أذِنَتْ له في تَزْويجِها، ولم تُعَيِّنِ الزَّوْجَ، لم يَجُزْ أن يُزَوِّجَها نفْسَه؛ لأنَّ إطْلاقَ الإِذْنِ يَقْتَضِي تَزْويجَها غيرَه، ويَجوزُ تزْويجُها لوَلَدِه؛ لأنَّه غيرُه. فإن زَوَّجَها لابنه الكبيرِ، قَبِلَ لنَفْسِه، وإن زَوَّجَها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312.

3125 - مسألة: (وإذا قال السيد لأمته: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك. صح فإن طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمتها)

وَإِذَا قَال السَّيِّدُ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكِ، وَجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ. صَحَّ. وَإنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ عَلَيهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لابنه الصَّغيرِ، ففيه الرِّوايَتان في تَوَلِّي طَرَفَيِ العَقْدِ؛ فإن قُلْنا: لا يَتَوَلَّاه. فوَكَّلَ رجلًا يُزَوِّجُها لوَلَدِه، وقَبِل هو النِّكَاحَ له، افْتَقَرَ إلى إذْنِها للوَكِيلِ، على ما قَدَّمْنا في أنَّ الوَكِيلَ لا يُزَوِّجُها إلَّا بإذْنِها. وإن وَكَّلَ رجلًا يَقْبَلُ النَّكاحَ لوَلَدِه، وأوْجَبَ هو النِّكاحَ، لم يَحْتَجْ إلى إذْنِها؛ لأنَّها قد أذِنَتْ له. 3125 - مسألة: (وَإِذَا قَال السَّيِّدُ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكِ، وَجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ. صَحَّ فإنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ عَلَيهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا) وكذلك إن قال: جَعَلْتُ عِتْقَ أَمَتِي صَدَاقَها. ظاهِرُ المذهبِ أنَّ الرجلَ متى أعْتَقَ أمَتَه، وجَعَل عِتْقَها صَداقَها، فهو نِكاحٌ صَحِيحٌ. نصَّ عليه أيدُ في روايةِ جماعةٍ. ورُوِيَ ذلك عن علي، رَضِيَ الله عنه. وفَعَلَه أنَسُ بنُ مالكٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، والحسنُ، والزُّهْرِيُّ، وإسْحاقُ.

3126 - مسألة: (وعنه، لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك فعليها قيمتها)

وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَسْتَأَنِفَ نِكَاحَهَا بِإِذْنِهَا، فَإِنْ أَبَتْ ذَلِكَ فَعَلَيهَا قِيمَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3126 - مسألة: (وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَسْتَأَنِفَ نِكَاحَهَا بِإِذْنِهَا، فَإِنْ أَبَتْ ذَلِكَ فَعَلَيهَا قِيمَتُهَا) قال الأوْزَاعِيُّ: يَلْزمُها أن تَتَزَوَّجَه. ورَوَى المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ، إذا أعْتَقَ أمَتَه، وجَعَل عِتْقَها صَداقَها، يُوَكِّلُ رجلًا يُزَوِّجُه. فظاهِرُ هذا أنَّه لم يَحْكُمْ بصِحَّةِ النِّكاحِ. قال أبو الخطَّابِ: هي الصحيحةُ. واخْتارَها القاضي، وابنُ عَقِيلٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، ومالكٍ، لأنَّه لم يُوجَدْ إيجابٌ وقَبُولٌ، فلم يَصِحَّ لعَدَمِ أرْكانِه، كما لو قال: أعْتَقْتُكِ. وسَكَت، ولأنَّها بالعِتْقِ تَمْلِكُ نَفسَها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَجِبُ أن يُعْتَبَرَ رِضَاها، كما لو فَصَل بينَهما، ولأنَّ العِتْقَ يزِيلُ مِلْكَه عن الاسْتِمْتاعِ بحُكْمِ المِلْكِ، فلا يَجُوزُ أَن يَسْتَبِيحَ الوَطْءَ بنَفْسِ المُسَمَّى، فإنَّه لو قال: بِعْتُكَ هذه الأمَةَ على أن تُزَوِّجَنِيها بالثَّمَنِ. لم يَصِحَّ. ولَنا، ما روَى أنَسٌ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْتَقَ صَفِيَّةَ، وجَعَل عِتْقَها صَدَاقَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفي لَفْظٍ: أعْتَقَها وتَزَوَّجَها. فقلتُ: يا أبا حَمْزَةَ، ما أصْدَقَها؟ قال: نَفْسَها، عِتْقها. وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن صَفِيَّةَ، قالتْ: أعْتَقَنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وجَعَل عِتْقِي صَدَاقِي (¬2). وبإسنْادِه عن علي، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كان يقولُ: إذا أعْتَقَ الرجلُ أمَّ وَلَدِه، فجعَلَ عِتْقَها صَداقَها، فلا بَأْسَ بذلك. ومتى ثَبَت العِتْقُ صَداقًا، ثَبَت النِّكاحُ؛ لأنَّ (¬3) الصَّداقَ لا يَتَقَدَّمُ النِّكاحَ، ولو تَأَخَّرَ العِتْقُ عن النِّكاحِ لم يَجُزْ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 66. (¬2) أخرجه أبو يعلى، في: مسنده 13/ 35. والطبراني، في: المعجم الكبير 24/ 74. وانظر الإرواء 6/ 257، 258. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فدَلَّ على أنَّه انْعَقَدَ بهذا اللَّفْظِ، ولأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه اسْتَأْنَفَ عَقْدًا، ولو اسْتَأْنَفَه لظَهَرَ، ونُقِلَ كما نُقِلَ غيرُه، ولأنَّ مَن جازَ له تَزْويجُ امرأةٍ لغيرِه مِن غيرِ قَرابَةٍ، جازَ له أن يَتَزَوَّجَها، كالإِمامِ. وقولُهم: لم يُوجَدْ إيجاب ولا قَبُولٌ. عَدِيمُ الأثَرِ، فإنَّه لو وُجِدَ لم يَحْكُموا بصِحَّتِه، وعلى أنَّه إن لم يُوجَدْ فقد وُجِدَ ما يَدُلُّ عليه، وهو جَعْلُ العِتْقِ صَداقًا، فأشْبَهَ ما (¬1) لو تَزَوَّجَ امرأةً هو وَلِيُّها، أو (¬2) قال الخاطِبُ للوَلِي: أزَوَّجْتَ؟ قال: نعم (¬3). عندَ أصْحابِنا، وكما لو أتَى بالكِناياتِ عندَ أبي حنيفةَ ومَن وافَقَه. فصل: ولا فَرْقَ بينَ أن يقولَ: أعْتَقْتُكِ وجَعَلْتُ عِتْقَكِ صَداقَكِ، وتَزَوَّجْتُكِ. أو لا يقولَ: وتَزَوَّجْتُكِ. وكذلك قولُه: جَعَلْتُ عِتْقَكِ صَداقَكِ. أو (¬4): جَعَلْتُ صَداقَكِ عِتْقَكِ. كذلك ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ولو». (¬3) بعده في م: «صح». (¬4) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَصَّ أحمدُ في روايةِ صالحٍ: إذا قال: جَعَلْتُ عِتْقَكِ صَدَاقَكِ. أو: صَداقَكِ عِتْقَكِ. كلُّ (¬1) ذلك جائز. ويُشْتَرَطُ لصِحَّةِ النِّكاحِ أن لا يكونَ بينَهما فَصْلٌ، فلو قال: أعْتَقْتُكِ. وسَكَت سُكوتًا يُمْكِنُه الكلامُ فيه، أو تَكَلَّمَ بكلامٍ أجْنَبِيٍّ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ؛ لأنَّها صارتْ بالعِتْقِ حُرَّةً، فتَحْتاجُ (¬2) أن يَتَزَوَّجَها برِضَاها بعَقْدٍ وصَداقٍ جديدٍ. ولا بُدَّ مِن حُضُورِ شاهِدَين إذا قُلْنا باشْتِراطِ الشَّهادَةِ في النِّكاحِ. نصَّ على ذلك في رِوايةِ الجماعةِ؛ لقولِه: «لا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِي وَشَاهِدَينِ» (¬3). فصل: وإذا قُلْنا بصِحَّةِ النَّكاحِ، فطَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رَجَع عليها ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) بعده في م: «إلى». (¬3) أخرجه الطبراني، في: المعجم الكبير 11/ 155. عن ابن عباس، وعزاه له الهيثمي في الأوسط والكبير عن أبي موسى، وضعف إسنادهما. مجمع الزوائد 4/ 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنِصْفِ قِيمَتِها؛ لأنَّ الطَّلاقَ قبلَ الدُّخولِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ في نِصْفِ ما فَرَض لها، وقد فَرَض لها نَفْسَها، ولا سَبِيلَ إلى الرُّجُوعِ في الرِّقِّ بعدَ زَوالِه، فرَجَعَ بنِصْفِ قِيمَةِ نَفْسِهَا. وبهذا قال الحسنُ، والحَكَمُ (¬1). وقال الأوْزاعِيّ: يَرْجِعُ بقِيمَتِها (¬2). ولَنا، أنَّه طَلان قبلَ الدُّخُولِ، فأوْجَبَ الرُّجُوعَ بالنِّصْفِ، كسائِرِ الطَّلاقِ. وتُعْتَبَرُ القِيمَةُ حالةَ الإِعْتاقِ؛ لأنَّها حالةُ الإِتْلافِ. فإن لم تَكُنْ قادِرَةً على نِصفِ القِيمَةِ، فهل تُسْتَسْعَى فيها، ¬

(¬1) في م: «الحاكم». (¬2) في المغني 9/ 455: «بربع قيمتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تكونُ دَينًا تُنْظرُ به إلى حالةِ القُدْرَةِ؟ على رِوايَتَين. وإن قُلْنا: إنَّ النِّكاحَ لا يَنْعَقِدُ بهذا القولِ. فعليها قِيمَةُ نَفْسِها؛ لأنَّه أزال مِلْكَه بعِوَضٍ لم يُسَلَّمْ له، فرَجَعَ إلى قِيمَةِ المُفَوَّتِ، كالبَيعِ الفاسِدِ. وكذلك إن قُلْنا: إنَّ النِّكاحَ انْعَقَدَ به. فارْتَدَّتْ [قبلَ الدُّخُولِ] (¬1)، أو فَعَلَتْ ما يَنْفَسِخُ به نِكاحُها، مثلَ أن أرْضَعَتْ زَوْجَةً له صغيرةً، ونحو ذلك، انْفَسَخَ نِكاحُها، وعليها قِيمَةُ نَفْسِها. ¬

(¬1) في م: «قبله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال لأمَتِه: أعْتَقْتُكِ على أن تُزَوِّجِينِي نَفْسَكِ، ويَكُونَ عِتْقُكِ صَداقَكِ. أو لم يَقُلْ: ويكونَ عِتْقُكِ صَداقَكِ (¬1). فَقَبِلَتْ، عَتَقَتْ، ولم يَلْزَمْهَا أن تُزَوِّجَه نَفْسَها؛ لأنَّه سَلَفٌ في نِكاحٍ، فلم يَلْزَمْها، كما لو أسْلَفَ حُرَّةً ألْفًا على أن يَتَزَوَّجَها، ولأنَّه أسْقَطَ حُقها (¬2) مِن الخِيارِ قبلَ وُجُودِ سَبَبِه، فلم يَسْقُطْ، كالشَّفِيعِ يُسْقِطُ شُفْعَتَه قبلَ البَيعِ. ويَلْزَمُها قِيمَةُ نَفْسِها. أوْمَأ إليه أحمدُ في رِوايةِ عبدِ اللهِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أزال مِلْكَه منها بشَرْطِ عِوَض لم يُسَلَّمْ له (1)، فاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بقِيمَتِه، كالبَيعِ الفاسدِ إذا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ في يَدِ المُشْتَرِي، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنِّكاحِ الفاسدِ إذا اتَّصَلَ به الدُّخُولُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَها شيءٌ، بِناءً على ما إذا قال لعَبْدِه: أعْتَقْتُكَ على أن تُعْطِيَنِي ألْفًا. وهذا قولُ مالكٍ، وزُفرَ؛ لأنَّ هذا ليس بلَفْظِ شَرْطٍ، فأشْبَهَ ما لو قال: أعْتَقْتُكِ، وزُوِّجِينِي نَفْسَكِ. وتُعْتَبَرُ القِيمَةُ حالةَ العِتْقِ، ويُطالِبُها في الحالِ إن كانت قادِرةَ عليها. وإن كانت مُعْسِرَةً، فهل تُنْظرُ إلى المَيسَرَةِ أو تُجْبَرُ على الكَسْبِ؟ على وَجْهَين، أصْلُهما في المُفْلِسِ هل يُجْبَرُ على الكَسْبِ؟ على رِوايتَين (¬1). فصل: وإنِ اتَّفَقَ السَّيِّدُ والأمَةُ على أن يُعْتِقَها وتُزَوِّجَه نَفْسَها، فتَزَوَّجَها على ذلك، صَحَّ، ولا مَهْرَ لها غيرَ ما شرَط مِن العِتْقِ. وبه قال أبو يُوسُفَ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يكونُ العِتْقُ صَداقًا، لكنْ إن تَزَوَّجَها على القِيمَةِ التي له (¬2) في ذِمَّتِها، وهما يَعْلَمان القِيمَةَ، صَحَّ الصَّداقُ. ولَنا، أنَّ العِتْقَ صَلَح (¬3) صَدَاقًا في حَقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيَجُوزُ في حَقِّ أُمَّتِه، كالدَّراهِمِ، ولأنَّه يَصْلُحُ عِوَضًا في البَيعِ، فإنَّه لو قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ على ألفٍ. جازَ، فلأنْ يكونَ عِوَضًا في النِّكاحِ أوْلَى؛ فإنَّ النِّكاحَ لا يُقْصَدُ فيه العِوَضُ. وعلى هذا، لو تَزَوَّجَها على أن يُعْتِقَ أَبَاها، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ عبدِ اللهِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ العِتْقَ يَصِيرُ صَدَاقًا، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 13/ 339 - 342. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو دَفَع إليها مالًا ثم تَزَوَّجَها عليه. فإن بَذَلَتْ له نَفْسَها ليَتَزَوَّجَها فامْتَنَعَ، لم يُجْبَرْ، وكانت له القِيمَةُ؛ لأنَّها إذا لم تُجْبَرْ على تَزْويجِه نَفْسَها، لم يُجْبَرْ هو على قَبُولِها. وحُكْمُ المُدَبَّرَةِ والمُعَلَّقِ عِتْقُها بصِفَةٍ (¬1) وأُمِّ الوَلَدِ، حُكْمُ الأمَةِ القِنِّ في جَمِيعِ ما ذَكَرْناه. فصل: ولا بَأْسَ أن يُعْتِقَ الرَّجلُ الأمَةَ ثم يَتَزَوَّجَها، سواءٌ أعْتَقَها لوَجْهِ الله تعالى، أو أعْتَقَها ليتَزَوَّجَها. وكَرِهَ أنَسٌ تَزَوُّجَ (¬2) مَن أعْتَقَها لوَجْهِ اللهِ تعالى. قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: روَى شُعْبَة، عن قَتادَةَ، عن أنَسٍ، أنَّه كَرِه أن يُعْتِقَ الأمَةَ ثم يَتَزوَّجَها (¬3)؟ قال: نعم، ذاكَ إذا أعْتَقَها للهِ، كَرِهَ أن يَرْجعَ في شيءٍ منها (¬4). ولَنا، ما روَى أبو موسى، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَت عِنْدَهُ جَارِيَة، فَعَلَّمَهَا، وَأَحسَنَ إلَيهَا، ثُمَّ أعتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، فَذَلِكَ لَهُ أجْرَانِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ولأنَّه إذا ¬

(¬1) في الأصل: «على صفة». (¬2) في م: «تزويج». (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 157. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب تعليم الرجل أمته وأهله، من كتاب العلم، وفي: باب فضل من أدب جاريته وعلمها، من كتاب العتق، وفي: باب فضل من أسلم من أهل الكتابين؛ من كتاب الجهاد، وفي: باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها، من كتاب النِّكَاح. صحيح البخاري 1/ 35، 3/ 195، 4/ 74، 204، 7/ 7. ومسلم، في: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 134، 135. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، من كتاب النِّكَاح. سنن أبي داود 1/ 473. وابن ماجة، في: باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، من كتاب النِّكَاح. سنن ابن ماجة 1/ 629. والدارمي، في: باب فضل من أعتق أمة ثم تزوجها، من كتاب النِّكَاح. سنن الدارمي 2/ 154، 155. والإمام أحمد، في: =

فَصْلٌ: الرَّابِعُ، الشَّهَادَةُ. فَلَا يَنْعَقِدُ إلا بِشَاهِدَينِ عَدْلَين ذَكَرَينِ، بَالِغَينِ، عَاقِلَينِ، وَإنْ كَانَا ضَرِيرَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزَوَّجَها، فقد أحْسَنَ إليه بإعْفافِها (¬1) وصِيانَتِها، فلم يُكْرَهْ، كما لو زَوَّجَها غيرَه، وليس في هذا رُجُوعٌ فيما جُعِلَ للهِ؛ فإنَّه إنَّما يَتَزَوَّجُها بصَداقِها، فهو بمَنْزِلَةِ مَنِ اشْتَرَى منها شيئًا. فصل: وإذا قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ على أن أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي. فأعْتَقَه، لم يَلْزَمْه أن يُزَوِّجَه ابْنَتَه (¬2)؛ لأنَّه سَلَفٌ في نِكاح، وعليه قِيمَةُ العبدِ (¬3). وقال الشافعيُّ في أحَدِ القَوْلَين: لا يَلْزَمُه شيء؛ لأنَّه لا فائدةَ له في العِتْقِ. ولَنا، أنَّه أزَال مِلْكَه عن عَبْدِه بعِوَض شَرَطَه، فلَزِمَه عِوَضُه، كما لو قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وعليَّ ثَمَنُه. وكما لو قال: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ و (¬4) عليَّ ألْفٌ. فطَلَّقَها. أو: ألْقِ مَتاعَكَ في البَحْرِ وعليَّ ثَمَنُه. وبهذه الأُصُولِ يَبْطُلُ قَوْلُهم: إنَّه لَا فائِدَةَ له في العِتْقِ. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (الرَّابِعُ، الشَّهَادَةُ. فَلَا يَنْعَقِدُ إلا بِشَاهِدَينِ عَدْلَين ذَكَرَينِ بَالِغَينِ عَاقِلَينِ، وَإنْ كَانَا ضَرِيرَينِ) المشْهُورُ عن أحمدَ، ¬

= المسند 4/ 395، 398، 402، 414. (¬1) في الأصل: «بإعتاقها». (¬2) في الأصل: «ابنه». (¬3) في م: «عبد». (¬4) سقطت الواو من النسختين، وانظر المغني 9/ 459.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَحِمَه اللهُ، أنَّ الشَّهادَةَ شرْطٌ لصِحَّةِ النِّكاحِ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وجابِرِ بنِ زيدٍ، والحسنُ بنُ عليٍّ، وابنُ الزُّبَيرِ، وسالمٌ وحَمْزَةُ ابْنَا ابنِ عمرَ. وبه قال عبدُ اللهِ بنُ إدْرِيسَ (¬1)، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ، ويزيدُ بنُ هارونَ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وعن أحمدَ، أنَّه يَصِحُّ بغيرِ شُهُودٍ. فَعَلَه ابنُ عمرَ، والعَنْبَرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو قولُ الزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، إذا أعْلَنُوه. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَثْبُتُ في الشَّاهِدَين في النِّكاحِ خبَرٌ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): وقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِي وشَاهِدَينِ عَدْلَينِ». مِن حديثِ ابنِ عباس، وأبي هُرَيرَةَ، وابنِ عمرَ (¬3)، إلَّا أنَّ في نَقَيَةِ ذلك ضَعْفًا، فلم أذْكُرْه. قال ابنُ المُنْذِرِ: وقد أعْتَقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ وتَزَوَّجَها بغيرِ شُهودٍ (¬4). قال أنَسُ بنُ مالِكٍ: اشْتَرَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جارِيَةً بسَبْعَةِ أرْؤُسٍ، قال النَّاسُ: ما نَدْرِي أتَزَوَّجَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أم جَعَلَها أُمَّ وَلَدٍ؟ فلمَّا أرادَ ¬

(¬1) عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن أبو محمد الأودي الكوفي، الإمام الحافظ المقرئ القدوة، شيخ الإسلام، كان عابدًا فاضلًا ثقة، كان يسلك في كثير من فتياه مسلك أهل المدينة، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 42 - 48. (¬2) في: التمهيد 19/ 89. (¬3) حديث ابن عباس وابن عمر أخرجهما الدارقطني، في: سننه 3/ 221، 222، 225. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط وقال: وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. مجمع الزوائد 4/ 286. (¬4) انظر تخريج حديث أنس صفحة 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَرْكَبَ حَجَبَها، فَعلِمُوا أنَّه تَزَوَّجَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال: فاسْتَدَلُّوا على تَزْويجها بالحِجَابِ. وقال يزيذ بنُ هارونَ: أمَرَ الله بالإِشْهادِ في البَيعِ دُونَ النِّكَاحَ، فاشْتَرَطَ أصحابُ الرَّأْي الشَّهادَةَ للنِّكاحِ (¬2)، ولم يَشْتَرِطُوها للبَيعَ (¬3)! ووَجْهُ الأُولَى أنَّه قد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وشَاهِدَي عَدْلٍ». رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬4). وروَى الدَّارَقُطنيُّ (¬5) عن عائشةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَابُدَّ في النِّكَاحِ مِنْ أرْبَعَةٍ؛ الوَلِي، والزَّوْجُ، والشَّاهِدَانِ». ولأنَّه يَتَعَلَّقُ به حَقُّ غيرِ (¬6) المُتَعاقِدَين، وهو الوَلَدُ، فاشْتُرِطَتِ الشَّهادَةُ فيه؛ لئلَّا يَجْحَدَه أَبُوه، فيَضِيعَ نَسَبُه، بخِلافِ البَيعِ. فأمَّا نِكاحُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ وَلِيٍّ ولا شُهودٍ، فمِن خَصائِصِه في النِّكاحِ، فلا يُلْحَقُ به غيرُه. فصل: ويُشْتَرَطُ في الشُّهودِ الذّكُورِيَّةُ، والعَدالةُ، والعَقْلُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 66. (¬2) في م: «في النكاح». (¬3) في م: «في البيع». (¬4) عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس. مجمع الزوائد 4/ 286 وأخرجه عنه البيهقي السنن الكبرى 7/ 124. وصحح وقفه. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 231. (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والبُلُوغُ، والإِسْلامُ، فأمَّا الذّكُورِيَّةُ، فقال أحمدُ: إذا تَزَوَّجَ بشَهادَةِ نِسْوَةٍ، لم يَجُزْ ذلك؛ لما روَى أبو عُبَيدٍ (¬1) في «الأمْوالِ» عن الزُّهْرِيِّ، قال: مَضَتِ السُّنَّةُ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن لا تَجُوزَ شَهادَةُ النِّساءِ في الحُدُودِ، ولا في النِّكاحِ، ولا في الطَّلاقِ. ولأنَّه عَقْدٌ ليس بمالٍ، ولا المَقْصُودُ منه المال، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ في غالِبِ الأحْوالِ، فلم يَثْبُتْ بشَهادَتِهِنَّ كالحُدُودِ. الثاني، العَدالةُ، وفي انْعِقادِ النِّكَاحِ بشهادَةِ الفاسِقَين رِوايتَان؛ إحْدَاهما، لا يَنْعَقِدُ. وهو مذهبُ الشَّافعيِّ؛ للخَبَرِ. ولأنَّ النِّكاحَ لا يَثْبُتُ بشَهادَتِهما، فلم يَنْعَقِدْ بحُضُورِهما، كالمَجْنُونَين. والثانيةُ، يَنْعَقِدُ بشَهادَتِهما. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه تَحَمُّلٌ، فصَحَّتْ مِن الفاسِقِ، كسائرِ التَّحَمُّلاتِ. وعلى كلتا الرِّوَايتَين لا تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ العَدالةِ، بل يَنْعَقِدُ بشَهادَةِ مَسْتُورِي الحالِ؛ لأنَّ النِّكاحَ يكونُ في القُرَى والبَوادِي، وبينَ عامَّةِ النَّاسِ ممَّن (¬2) لا يَعْرِفُ حقيقةَ العَدالةِ، فاعْتِبارُ ذلك يَشُقُّ، فاكْتُفِيَ بظاهرِ الحالِ، وكَوْنِ الشَّاهِدِ مَسْتُورًا لم يَظْهَرْ فِسْقُه، فإن تَبَيَّنَ بعدَ العَقْدِ أنَّه كان فاسِقًا، لم يُؤثِّرْ في العَقْدِ؛ لأنَّ الشَّرْطَ العَدَالةُ ظاهِرًا، وهو أن لا يكونَ ظاهِرَ الفِسْقِ، وقد تَحَقَّقَ ذلك. وقيل: نَتَبَيَّنُ أنَّ النِّكَاحَ كان فاسِدًا؛ لعَدَمِ الشَّرْطِ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو كانتِ العَدالةُ ¬

(¬1) وأخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 10/ 58 مختصرًا. وانظر نصب الراية 4/ 79، وتلخيص الحبير 4/ 207. (¬2) في م: «مما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباطِنَ شَرطًا، لَوَجَبَ الكَشْفُ عنها؛ لأنَّه مع الشّكِّ فيها يكونُ الشَّرْطُ مَشْكُوكًا فيه، فلا يَنعَقِدُ (¬1) النِّكاحُ، ولا تَحِلُّ المرأةُ مع الشَّكِّ في صِحَّةِ نِكَاحِها. وإن حَدَث الفِسْقُ فيهما، لم يُؤثِّرْ في صِحَّةِ النِّكاحِ؛ لأنَّ الشَّرْطَ إنَّما يُعْتَبَرُ حالةَ العَقْدِ. ولو أقَرَّ رجلٌ وامرأة أنَّهما نَكَحَا بوَلِيٍّ وشاهِدَيْ عَدْلٍ، قُبِلَ منهما، وثَبَت النَّكاحُ بإقْرارِهما (¬2). الثالثُ العَقْلُ، فلا يَنْعَقِدُ بشَهادَةِ مَجْنُونَين ولا طِفْلَين؛ لأنَّهما ليسا مِن أهلِ الشَّهادَةِ، ولا لهما قولٌ يُعْتَبَرُ. الرابعُ البُلُوغُ، فلا يَنْعَقِدُ بشهادةِ صَبِيَّين؛ لأنَّهما ليسا مِن أهلِ الشَّهادَةِ، أشْبَها الطِّفْلَ. (و) عنه، أنَّه يَنْعَقِدُ بشَهادَةِ (مُراهِقَين عاقِلَين) بِناءً على أنَّهما مِن أهلِ الشَّهادَةِ. الخامسُ، الإِسْلامُ، فلا يَنْعَقِدُ النَّكاحُ بشهادةِ كافِرَين، سَواءٌ كان الزَّوْجان مُسْلِمَين، أو الزَّوْجُ مُسْلِمًا وحدَه. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافعِيِّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا كانتِ المرأةُ ذِمِّيَّةً، صَحَّ بشَهادَةِ ذِمِّيَّين. ويَتَخرَّجُ لنا مثلُ ذلك، بِناءً على الرِّوايةِ التي تقولُ بقَبُولِ شَهادَةِ بعضِ أهلِ الذِّمَّةِ على بعض. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وشَاهِدَيْ عَدْلٍ». ولأنَّه نِكاحُ مُسْلِم، فلم يَنْعَقِدْ بشهادةِ ذِمِّيَّين، كنِكاحِ المُسْلِمَين. ¬

(¬1) في م: «ينقد». (¬2) في م: «بشهادتهما».

3127 - مسألة: (و)

وَعَنْهُ، يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ فَاسِقَينِ، وَرَجُلٍ وَامْرأتَينِ، وَمُرَاهِقَينِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَنْعَقِدُ بشَهادَةِ ضَرِيرَين. وللشَّافِعِيَّةِ في ذلك وَجْهان. ولَنا، أنَّها شهادة على قولٍ، فقُبِلَتْ مِن الضَّرِيرِ، كالشَّهادةِ بالاسْتِفاضَةِ. ويُعْتَبَرُ أن يَتَيَقَّنَ الصَّوْتَ على وَجْهٍ لا يَشُكُّ فيهما، كما يَعْلَمُ ذلك مَن رآهما. ويَنْعَقِدُ بشهادةِ عَبْدَين. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا يَنْعَقِدُ. والخِلافُ في ذلك مَبْنِيٌّ على الخلافِ في قَبُولِ شَهادَتِهِما في سائِرِ الحُقُوقِ، وسنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِه إن شاءَ الله (وعنه، يَنْعَقِدُ بحُضُورِ فاسِقَين) وقد ذَكَرْنا ذلك (ورجل وامْرأَتين) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ النِّكاحَ لا يَنْعَقِدُ برجل وامْرأَتينِ. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ. وعن أحمدَ أنَّه قال: إذا تَزَوَّجَ بشَهادَةِ نِسْوَةٍ، لم يَجُزْ، فإن كان معهنَّ رجلٌ، فهو أهْوَنُ. فيَحْتَمِلُ أنَّ هذا رِوايةٌ أُخْرى في انْعِقادِه بذلك. وهو قولُ أصحابِ الرَّأي. ويُرْوَى عن الشَّعْبِيِّ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فانْعَقَدَ (¬1) بشَهادَتِهِنَّ [مع الرِّجالِ] (¬2)، كالبَيعِ. ولَنا، الخَبَرُ المَذْكُورُ، ولأنَّه عَقْدٌ ليس المَقْصُودُ منه المال، ويَحْضُرُه الرِّجالُ، فلم يُقْبَلْ فيه شهادةُ النِّساءِ، كالحُدُودِ، [ولهذا فارَقَ البَيع] (¬3). 3127 - مسألة: (و) عنه، [أنَّ النِّكاحَ] (¬4) يَنْعَقِدُ بحُضُورِ ¬

(¬1) في الأصل: «فالعقد». (¬2) في م: «بالرجال». (¬3) في الأصل: «وبهذا قال الشافعي». (¬4) سقط من: م.

عَاقِلَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (مُرَاهِقَين عاقِلَين) وقد ذَكَرْناه.

3128 - مسألة: (ولا ينعقد نكاح مسلم بشهادة ذميين. ويتخرج أن ينعقد إذا كانت المرأة ذمية)

وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ مُسْلِمٍ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّينِ، وَيَتَخَرَّجُ أنْ يَنْعَقِدَ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً. وَلَا يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ أصَمَّينِ وَلَا أَخْرَسَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3128 - مسألة: (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ مُسْلِمٍ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّينِ. وَيَتَخَرَّجُ أنْ يَنْعَقِدَ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً). وقد ذَكَرْنا ذلك. 3129 - مسألة: (ولا يَنْعَقِدُ بحُضُورِ أَصَمَّين ولا أخْرَسَين) لأنَّ الأصَمَّين لا يَسْمَعان، والأَخْرَسَين يَتَعَذَّرُ الأَدَاءُ منهما. وفي انْعِقادِه بشَهادَةِ أهلِ الصَّنائِعِ الزَّريَّةِ (¬1)، كالحَجَّامِ ونحوه، وَجْهان، بِناءً على قَبُولِ شَهادَتِهم. ¬

(¬1) في م: «الرديئة».

3130 - مسألة: وهل ينعقد بحضور عدوين، أو ابني الزوجين أو أحدهما؟ على وجهين) أحدهما، ينغقد. اختاره أبو عبد الله بن بطة؛ لعموم قوله: «وشاهدي عدل». ولأنه ينعقد بهما نكاح غير هذا الزوج، فانعقد بهما نكاحه، كسائرء العدول. والثاني، لا ينعقد؛ لأن العدو لا تقبل شهادته على عدوه، والابن لا تقبل شهادته لوالده (وعنه، أن الشهادة ليست من شروط النكاح)

وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ عَدُوَّينِ، أَو ابْنَيِ الزَّوْجَينِ أَو أَحدِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَعَنْهُ، أنَّ الشَّهَادَةَ لَيسَتْ مِنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3130 - مسألة: وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ عَدُوَّينِ، أَو ابْنَي الزَّوْجَينِ أَو أَحدِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَينِ) أحَدُهما، ينْغقِدُ. اخْتارَه أبو عبدِ اللهِ بنُ بَطَّةَ؛ لعُمُومِ قولِه: «وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ». ولأنَّه يَنْعَقِدُ بهما نِكاحُ غيرِ هذا الزَّوْجِ، فانْعَقَدَ بهما نِكاحُه، كسائِرِء العُدُولِ. والثاني، لا يَنْعَقِدُ؛ لأنَّ العَدُوَّ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه على عَدُوِّه، والابنَ لا تُقْبَلُ شهادَتُه لوالِدِه (وعنه، أنَّ الشَّهادَةَ ليست مِن شُرُوطِ النِّكاحِ) وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك. واللهُ أعلمُ.

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، كَوْنُ الرَّجُلِ كُفْئًا لَهَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ، فَلَوْ رَضِيَتِ الْمَرْأةُ وَالأوْلِيَاءُ بِغَيرِهِ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَهُ اللهُ: (الخامِسُ، كَوْنُ الرجلِ كُفْئًا لها في إحْدَى الرِّوايتَين، فلو رَضِيَتِ المرأةُ والأوْلِياءُ بغيرِه، لم يَصِحَّ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في اشْتِراطِ الكَفاءَةِ لصِحَّةِ النِّكاحِ، فرُوِيَ عنه أنَّها شَرْطٌ؛ فإنَّه قال: إذا تَزَوَّجَ المَوْلَى العَرَبِيَّةَ فُرِّقَ بينَهما. وهذا قولُ سُفْيانَ. وقال أحمدُ في الرجلِ يَشْرَبُ الشَّرابَ: ما هو بكُفْءٍ لها، يُفَرَّقُ بينَهما. وقال: لو كان المُتَزَوِّجُ حائِكًا فَرَّقْتُ بينَهما؛ لقولِ عمرَ، رَضِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ عنه: لأمْنَعَنَّ تَزْويجَ (¬1) ذَواتِ الأحْسابِ إلَّا مِن الأكْفاءِ. رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬2). وعن أبي إسْحاقَ الهَمْدَانِيِّ، قال: خَرَجَ سَلْمانُ وجَرِيرٌ في سَفَرٍ، فأُقِيمَتِ الصلاةُ، فقال جَرِيرٌ لسَلْمانَ: تَقَدّمْ. فقال سَلْمانُ: بل أنتَ تَقَدَّمْ، فإنَّكُم -مَعْشَرَ العَرَبِ- لا نَتَقَدَّمُ في صَلاتِكِم ولا نَنْكِحُ نِساءَكم، إنَّ اللهَ فَضَّلَكمِ علينا بمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وجَعَلَه فيكم (¬3). ولأنَّ التَّزْويجَ مع فَقْدِ الكَفاءَةِ تصَرُّفٌ في حَقِّ مَن يَحْدُثُ مِن (¬4) الأوْلِياءِ بغيرِ إذْنِه، كما لو زَوَّجَها بغيرِ إذْنِها، فلم يَصِحَّ. وقد روَى الدَّارَقُطْنِيُّ (¬5) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا [تُنْكِحُوا النِّسَاءَ] (¬6) إلَّا الأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ». إلَّا أنَّ ابنَ عبدِ البَرِّ قال (¬7): هذا ضعيفٌ لا أصلَ له، ولا يُحْتَجُّ ¬

(¬1) في م: «تزويج». (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 152. وبلفظ: «تزوج» أخرجه الدارقطني، في: سننه 3/ 298. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 133، بلفظ آخر. وضعفه في الإرواء 6/ 265، 266. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 2/ 520، 6/ 154. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 164، وكلاهما عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي. وانظر طرق هذا الأثر والكلام عليه في: الإرواء 6/ 278 - 281. (¬4) في م: «في». (¬5) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 245.كما أخرجه البيهقي، في: باب اعتبار الكفاءة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 133. وأعلَّاه بمبشر بن عبيد بأنه متروك الحديث. وانظر: الإرواء 6/ 264 - 266. (¬6) في م: «تنكحوهن». (¬7) في: التمهيد 19/ 165.

وَالثَّانِيَةُ، لَيسَ بِشَرْطٍ. وَهِيَ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمِثْلِه. فلو رَضِيَتِ المرأةُ والأوْلِياءُ بغيرِ كُفْءٍ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ؛ لفَواتِ شَرْطِه. وهذا اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. وإذا قُلْنا با شْتِراطِها، فإنَّما يُعْتَبَرُ وُجودُها حال العَقْدِ، فإن عُدِمَتْ بعدَه، لم يَبْطُلِ النِّكاحُ، فإن كانت مَعْدُومَةً حال العَقْدِ، فهو فاسِدٌ، حُكْمُه حكمُ العُقُودِ الفاسدةِ، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى (والثانيةُ، ليست شَرْطًا) في النِّكاحِ (وهي أصَحُّ) وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. رُوِيَ نحوُه عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وعُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، وحَمَّادِ بنِ أبي سليمانَ، وابنِ سِيرِينَ، وابنِ عَوْنٍ، ومالكٍ، والشافعيِّ، أصحابِ الرَّأْي؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬1). وقالت عائشةُ: إنَّ أبا حُذَيفَةَ بنَ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ تَبَنَّى سالمًا، وأنْكَحَه ابْنَةَ أخِيه هِنْدَ ابنَةَ الوَليدِ بنِ عُتْبَةَ، وهو مَوْلًى لامْرأةٍ مِن الأنْصارِ. أخْرَجَه البُخَارِيُّ (¬2). وأمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ بنتَ قَيسٍ أن ¬

(¬1) سورة الحجرات 13. (¬2) في: باب الأكفاء في الدين، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 9. كما أخرجه أبو داود، في: باب من حرم به، من كناب النكاح. سنن أبي داود 1/ 475. والنسائي، في: باب تزوج المولى العربية، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 53. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 605.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَنْكِحَ أُسامَةَ بنَ زَيدٍ مَوْلاه، فنَكَحَها بأمْرِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وزَوَّجَ أباه (¬2) زيدَ بنَ حارثَةَ ابْنةَ عَمَّتِه (¬3) زَينَبَ بنتَ جَحْشٍ الأسَدِيَّةَ (¬4). وقال ابنُ مسعودٍ لأُخْتِه (¬5): أنْشُدُكِ اللهَ أن لا (¬6) تَتَزَوَّجِي (¬7) إلَّا مُسْلِمًا، وإن كان أحْمَرَ رُومِيًّا، أو أسْوَدَ حَبَشِيًّا (¬8). ولأنَّ الكَفاءَةَ لا تَخْرُجُ عن كَوْنِها حَقًّا للمرأةِ أو للأوْلِياء، أو لهما، فلم يُشْتَرَطْ وُجودُها، كالسَّلامَةِ مِن العُيُوب. ورُوِيَ أَنَّ أبا هِنْدٍ حَجَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في اليَافُوخِ (¬9)، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يا بَنِي بَيَاضَةَ، أنْكِحُوا أبَا هِنْدٍ، وأنْكِحُوا إلَيهِ». رَواه أبو داودَ (¬10)، إلَّا أن أحمدَ ضَعَّفَه، وأنْكَرَه إنْكارًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 181. وانظر ما تقدم في صفحة 53. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «عمه». (¬4) أخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 301. والبيهقي، في: باب لا يرد نكاح غير الكفو. . . .، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 136. وعبد الرزاق، في: باب الأكفاء، من كتاب النكاح. المصنف 6/ 153. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في المناكحة. السنن 1/ 161. (¬5) في م: «لأخيه». (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في م: «تزوج». (¬8) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 161. (¬9) في الأصل: «النافوخ». واليافوخ: فجوة مغطاة بغشاء، تكون عند تلاقي عظام الجمجمة. (¬10) في: باب الأكفاء، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 484.كما أخرجه الدارقطني، في: سننه 3/ 292، 293.

3131 - مسألة: (لكن إن لم ترض المرأة والأولياء جميعهم، فلمن لم يرض الفسخ)

لَكِنْ إِنْ لَمْ تَرضَ الْمَرأةُ وَالأوْلِيَاءُ جَمِيعُهُمْ، فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ شَدِيدًا. قال شَيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّها غيرُ مُشْتَرَطَةٍ، وما رُوِيَ فيها يَدُلُّ على اعْتِبارِها في الجملةِ، ولا يَلْزَمُ منه اشتِراطُها. 3131 - مسألة: (لَكِنْ إن لم تَرْضَ المرأةُ والأوْلِياءُ جَمِيعُهم، فلمَن لم يَرْضَ الفَسْخُ) لأنَّ للزَّوْجَةِ ولكل واحدٍ مِن الأوْلِياءِ فيها حَقًّا، ومَن لم يَرْضَ منهم فله الفَسْخُ. ولذلك لمَّا زَوَّجَ رجلٌ ابْنَتَه مِن ابنِ أخِيه ليَرْفَعَ بها خَسِيسَتَه، جَعَلَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخِيارَ، فاخْتارَتْ ما صَنَعَ أبُوها (¬2). ولو فُقِدَ الشَّرْطُ لم يَكُنْ لها خِيارٌ. فصل: وإذا قُلْنا: ليست شَرْطًا. فرَضِيَتِ المرأةُ والأوْلِياءُ جَمِيعُهم، صَحَّ النِّكاحُ، وإن لم يَرْضَ بعضُهم، فقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ العَقْدَ يَقَعُ باطِلًا مِن أصْلِه، لأنَّ الكفاءةَ حَقٌّ لجميعِهم، والعاقِدُ مُتَصرِّفٌ فيها بغيرِ رِضاهُم، فلم يَصِحَّ، كتَصَرُّفِ الفُضُولِيِّ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وظاهِرُ (¬3) المذهَبِ أنَّ العَقْدَ يَقَعُ صَحِيحًا، ويَثْبُتُ لمَن لم يَرْضَ الفَسْخ؛ لِما ذَكَرْنا مِنِ حديثِ المرأةِ التي رَفَعَتْ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أبَاها زَوَّجَها بغيرِ كُفْئِها (¬4)، خيَّرها ولم يُبْطِلِ النِّكاحَ مِن أصْلِه. ولأنَّ العَقْدَ وَقَع بالإِذْنِ، ¬

(¬1) في: المغني 9/ 389. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 123. (¬3) في الأصل: «هذا». (¬4) في م: «كفء».

3132 - مسألة: (فلو زوج الأب بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ. نص عليه)

فَلَوْ زَوَّجَ الْأبُ بِغَيرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، فَلِلْإِخْوَةِ الْفَسْخُ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّقصُ الموْجُودُ فيه لا يَمْنَعُ صِحَّتَه، وإنَّما يُثْبِتُ الخِيَارَ، كالعَيبِ مِن العُنَّةِ وغيرِها. فعلى هذه الرِّوايةِ، يَثْبُتُ الفَسْخُ لمَن لم يَرْضَ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا رَضِيَتِ المرأةُ وبعضُ الأوْلِياءِ، لم يَكُنْ لباقِي الأوْلِياءِ فَسْخٌ؛ لأنَّ هذا الحَقَّ لا يَتَجَزأُ، وقد أسْقَطَ بعضُ الشُّرَكاءِ بَعْضَه، فسَقَطَ جَمِيعُه، كالقِصاصِ. ولَنا، أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الأوْلِياءِ يُعْتَبَرُ رِضاه، فلم يَسْقُطْ برِضَا غيرِه، كالمرأةِ مع الوَلِيِّ، فأمَّا القِصاصُ، فلا يَثْبُتُ لكلِّ واحدٍ كامِلًا، فإذا سَقَط بَعْضُه، تَعَذَّرَ اسْتِيفاؤُه، وههنا بخِلافِه، ولأنَّه لو زَوَّجَها بدُونِ مَهْرِ مِثْلِها، مَلَك الباقُونَ عندَهم (¬1) الاعْتِراضَ، مع أنَّه خالِصُ حَقِّها، فههُنا مع أنَّه حَقٌّ لهم أوْلَى. 3132 - مسألة: (فلو زَوَّجَ الأبُ بغَيرِ كُفْءٍ برِضاها، فللإخْوَةِ الفَسْخُ. نَصَّ عليه) وقال مالكٌ، والشافعيُّ: ليس لهم فَسْخٌ إذا زَوَّجَ ¬

(¬1) في م: «عندهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأقْرَبُ؛ لأنَّه لا حَقَّ للأبْعَدِ معه، فرِضَاه (¬1) لا يُعْتَبَرُ، كالأجْنَبِيِّ. ولَنا، أنَّه وَلِيٌّ في حالٍ يَلْحَقُه العارُ بعَدَمِ (¬2) الكفاءَةِ، فمَلَكَ الفَسْخَ، كالمُتَساويَين. ¬

(¬1) في م: «فرضاها». (¬2) في الأصل: «بعقد».

3133 - مسألة: (والكفاءة؛ الدين والمنصب)

وَالْكَفَاءَةُ، الدِّينُ وَالْمَنْصِبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3133 - مسألة: (والكَفاءَةُ؛ الدِّينُ والمَنْصِبُ) يَعْني بالمَنْصِبِ النَّسَبَ. اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في شَرْطِ الكفاءةِ، فعنه، أنَّها شَرْطان؛ الدِّينُ، والمَنْصِبُ، لا غيرُ. وعنه، أنَّها (¬1) خَمْسَةٌ؛ هذان، والحُرِّيَّةُ، والصِّناعَةُ، واليَسارُ. وذَكَر القاضي، في «المُجَرَّدِ» أنَّ فَقْدَ هذه الثَّلاثةِ لا يُبْطِلُ النِّكاحَ، رِوايةً واحدةً، إنَّما الرِّوايتان في الشَّرْطَين الأوَّلَين. قال: ويَتَوَجَّه أنَّ المُبْطِلَ عدَمُ الكفاءةِ في النَّسَبِ، لا غيرُ؛ لأنَّه نَقصٌ لازِم، وما عَدَاه غيرُ لازِمٍ، ولا يَتَعَدَّى نَقْصُه إلى الوَلَدِ. وذَكَر في «الجامِعِ» الرِّوايَتَين في جميعِ الشُّروطِ. وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ أيضًا. وقال مالكٌ: الكفاءةُ في الدِّينِ لا غيرُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): هذا جُمْلَةُ مذهبِ مالكٍ وأصْحابِه. وعن الشافعيِّ كقَوْلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: التمهيد 19/ 163.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ، وقولٌ آخَرُ أنَّها الخَمْسَةُ التي ذكَرْناها، والسَّلامَةُ مِن العُيُوبِ الأرْبَعَةِ، فتكونُ سِتَّةً. وكذلك قولُ أبي حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ، والحسنِ بنِ حَيٍّ (¬1)، إلَّا في الصَّنْعَةِ، والسَّلامَةِ مِن العُيُوبِ. ولم يَعْتَبِرْ محمدُ بنُ الحسنِ الدِّينَ إلَّا أن يكونَ ممَّن يَسْكَرُ ويَخْرُجُ ويَسْخَرُ منه الصِّبْيانُ، فلا يكونُ كُفْئًا؛ لأنَّ الغالِبَ على الجُنْدِ (¬2) الفِسْقُ، ولا يُعَدُّ ذلك نَقْصًا. والدَّلِيلُ على اعْتِبارِ الدِّينِ قولُ اللهِ تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (¬3). ولأنَّ الفاسِقَ مَرْذُولٌ مَرْدُودُ الشَّهادَةِ والرِّوايةِ، ¬

(¬1) في م: «صالح». وهو الحسن بن صالح بن حي، تقدم في 7/ 567. (¬2) في م: «الحنث». (¬3) سورة السجدة 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ مَأْمُونٍ على النَّفْسِ والمالِ، مَسْلُوبُ الولايَاتِ، ناقِصٌ عندَ اللهِ وعندَ خَلْقِه، قليلُ الحَظِّ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فلا يَجُوزُ أن يكونَ كُفْئًا لعَفِيفَةٍ، ولا مُساويًا لها، لكنْ يكونُ كُفْئًا لمِثْلِه. فأمَّا الفاسِقُ مِن الجُنْدِ (¬1)، فهو ناقِصٌ عندَ أهل الدِّينِ والمُرُوءاتِ. والدَّليلُ على اعْتِبارِ النَّسَبِ في الكَفاءَةِ قولُ عمرَ: لأمنَعَنَّ تَزْويجَ (¬2) ذَواتِ الأحْسَابِ إلَّا مِن الأكْفاءِ. قال: قلتُ: وما الأكْفاءُ؟ قال: في الحَسَبِ. رَواه أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ ¬

(¬1) في م: «الحنث». (¬2) في الأصل: «فروج».

3134 - مسألة: (العرب بعضهم لبعض أكفاء، وسائر الناس

فَلَا تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ بِفَاجِرٍ، ولَا عَرَبِيَّةٌ بِعَجَمِيٍّ. وَالْعَرَبُ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ أكْفَاءٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه (¬1). ولأنَّ العَرَبَ يَعُدُّونَ الكَفاءَةَ في النَّسَبِ، ويَأْنَفُونَ مِن نِكاحِ المَوَالِي، ويَرَوْنَ ذلك نَقْصًا وعارًا، فإذا أُطْلقَتِ الكفاءةُ، وَجَب حَمْلُها على المُتَعارَفِ، ولأنَّ في فَقْدِ ذلك نَقْصًا وعارًا، فوَجَبَ أن يُعْتَبَرَ في الكفاءةِ كالدِّينِ. فعلى هذا (لا تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ بفاجِرٍ) لِما ذكَرْنا (ولا عَرَبِيَّةٌ بِعَجَمِيٍّ) فلا يكونُ المَوْلَى ولا العَجَمِيُّ كُفئًا لعَرَبَيَّةٍ بم لِما ذَكَرْنا مِن قولِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه. وقال سَلْمانُ لجرير: إنَّكم (¬2) -مَعْشَرَ العربِ- لا نَتَقَدَّمُ في صلاتكم، ولا نَنْكِحُ نِساءَكُم، إنَّ اللهَ فَضَّلَكم علينا بمُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وجَعَلَه فيكهم (¬3). 3134 - مسألة: (العَرَبُ بعضُهم لبعضٍ أكْفَاءٌ، وسائِرُ النَّاسِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 254. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 254.

لِبَعْضٍ أكْفَاءٌ. وَعَنْهُ، لَا تُزَوَّجُ قُرَشِيَّةٌ لِغَيرِ قُرَشِيٍّ، وَلَا هَاشِمِيَّةٌ لِغَيرِ هَاشِمِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضُهم لبعضٍ أكْفاءٌ. وعنه، لا تُزَوَّجُ قُرَشِيَّةٌ لغيرِ قُرَشِيٍّ، ولا هاشِميةٌ لغَيرِ هاشِمِيٍّ) اخْتلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في ذلك، فرُويَ عنه، أنَّ غيرَ قُرَيشٍ (¬1) لا يُكافِئُها، وغيرَ بني هاشم لا يُكافِئُهم. وهو قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[أنَّه قال] (¬2): «إنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قرَيشٍ بَنِي هَاشِمٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (¬3). ولأنَ العَرَبَ فَضَلَتِ الأُمَمَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقُرَيشٌ أخَصُّ به مِن سائرِ العَرَبِ، وبنو هاشمٍ أخَصُّ به مِن قُرَيشٍ. ولذلك قال عثمانُ، وجُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ: إنَّ إخْوانَنا مِن بني هاشمٍ لا نُنْكِرُ فَضْلَهم علينا، لمَكانِكَ الذي وَضَعَكَ اللهُ به منهم (¬4). وقال أبو حنيفةَ: لا يُكافِئ ¬

(¬1) في الأصل: «قرشي». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه مسلم، في: باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1782. والترمذي، في: باب في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 94، 95. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 107. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَجَمُ العَرَبَ ولا العَرَبُ قُرَيشًا، وقُرَيشٌ كلُّهم أكْفَاءٌ؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ قال: قُرَيشٌ بعضُهم لبعضٍ أكْفاءٌ. والرِّوايةُ الثانيةُ، أنَّ العَرَبَ بعضُهم لبعضٍ أكْفاءٌ، والعَجَمَ بعضُهم لبعضٍ أكْفاءٌ؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ ابْنَتَيه (¬1) عُثمانَ، وزَوَّجَ أبا العاصِ بنَ الرَّبيعِ زَينَبَ، وهما مِن بَني عبدِ شَمْسٍ، وزَوَّجَ عليٌّ عمرَ ابْنَتَه أُمَّ كُلْثُومٍ، وتَزَوَّجَ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ عثمانَ فاطمةَ ابْنَةَ الحُسَينِ بنِ عليٍّ، وتَزَوَّجَ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيرِ أُخْتَها سُكَينَةَ، وتَزَوَّجَها أيضًا عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ بنِ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ، وتَزَوَّجَ المِقْدادُ بنُ الأسْوَدِ ضُبَاعَةَ ابنةَ الزُّبَيرِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، وزَوَّجَ أبو بكرٍ، ¬

(¬1) في م: «ابنته».

3135 - مسألة: (وعنه، أن الحرية والصناعة واليسار من شروط الكفاءة، فلا تزوج حرة بعبد، ولا بنت بزاز بحجام، ولا بنت تانئ

وَعَنْهُ، أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالصِّنَاعَةَ وَالْيَسَارَ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ، فَلَا تُزَوَّجُ حُرَّةٌ بِعَبْدٍ، وَلَا بِنْتُ بَزَّازٍ بِحَجَّام، وَلَا بِنْتُ تَانِئٍ بِحَائِكٍ، وَلَا مُوسِرَةٌ بِمُعْسِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِيَ اللهُ عنه،، أخْتَه أمَّ فَرْوَةَ الأشْعَثَ بنَ قَيسٍ، وهما كِنْدِيَّان، وتزَوَّجَ أُسامَةُ بنُ زَيدٍ فاطِمَةَ بنتَ قَيسٍ الفِهْرِيَّةَ، [وهي قُرَشِيَّةٌ] (¬1)، ولأنَّ العَجَمَ والمَوَالِيَ بعضُهم لبعض أكْفاءٌ، وإن تَفاضَلُوا وشَرُفَ بعضُهم على بعضٍ، فكذلك العَرَبُ. وهذه الرِّوايةُ هي الصَّحِيحَةُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. 3135 - مسألة: (وعنه، أنَّ الحُرِّيَّةَ والصِّناعَةَ واليَسارَ مِن شُرُوطِ الكَفاءَةِ، فلا تُزَوَّجُ حُرَّةٌ بعَبْدٍ، ولا بِنْتُ بزَّازٍ بحَجَّام، ولا بِنْتُ تانِئٍ (¬2) بِحَائِكٍ، ولَا مُوسِرَةٌ بمُعْسِرٍ) أمَّا الحرِّيَّةُ، فالصَّحِيحُ أنَّها مِن شُروطِ ¬

(¬1) في م: «القرشية». (¬2) في النسختين: «بان» والتانئ: صاحب العقار والمال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَفاءةِ، فلا يكونُ العَبْدُ كُفْئًا لحُرَّةٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ بَرِيرَةَ حينَ عَتَقَتْ تحتَ عَبْدٍ (¬1). فإذا ثَبَت الخِيارُ بالحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ فبالحُرِّيَّةِ المُقارِنَةِ أوْلَى. ولأنَّ نَقْصَ الرِّقِّ كبيرٌ، وضَرَرَه بَيِّنٌ؛ فإنَّه مَشْغُولٌ عن امْرأتِه بحُقُوقِ سَيِّدِه، ولا يُنْفِقُ نَفَقَةَ المُوسِرينَ، ولا يُنْفِقُ على وَلَدِه، وهو كالمَعْدُومِ بالنِّسْبَةِ إلى نَفْسِه. ولا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكاحِ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لبَرِيرَةَ: «لَوْ رَاجَعْتِيه». قالت: يا رسولَ اللهِ، أتَأْمُرُنِي؟ قال: ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب إنما الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1143. وأبو داود، في: باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 517. والترمذي، في: باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 101. والنسائي، في: باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 135. وابن ماجه، في: باب خيار الأمة إذا أعتقت، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 671. والدارمي، في: باب في تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 169. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 115، 180، 209.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَّمَا أنَا شَفِيعٌ». قالتْ: فلا حاجةَ لي فيه. رَواه البخاريُّ (¬1). ومُراجَعَتُها إيَّاه ابْتِداءُ نِكاحٍ، فإنَّ نِكاحَها قد انْفَسَخَ باخْتِيارِها، ولا يَشْفَعُ إليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أنْ تَنكِحَ عَبْدًا إلَّا والنِّكاحُ صَحِيحٌ. فأمَّا اليَسارُ، ففيه رِوايتان، إحْداهما، هو شَرْطٌ، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الحَسَبُ المَالُ» (¬2). وقال: «إنَّ أَحْسَابَ النَّاسِ بَينَهُمْ هَذَا المَالُ» (¬3). وقال لفاطمةَ بنتِ قَيسٍ حينَ أخْبَرَتْه أنَّ مُعاويَةَ [خَطَبَها: «أمَّا مُعاويَةُ] (¬4) فَصُعْلُوك لَا مَال لَهُ» (¬5). ولأنَّ على المُوسِرةِ ضَرَرًا في إعْسارِ زَوْجِها؛ ¬

(¬1) في: باب في خيار الأمة تحت العبد، وباب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 61، 62. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 517. والنسائي، في: باب شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم، من كتاب آداب القضاة. المجتبى 8/ 215. وابن ماجه، في: باب خيار الأمة إذا أعتقت، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 671. والدارمي، في: باب في تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 170. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 215، 281، 361. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب تفسر سورة الحجرات، من أبواب التفسر. عارضة الأحوذي 12/ 158. وابن ماجه، في: باب الورع والتقوى، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1410. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 10. وصححه في الإرواء 6/ 271، 272. (¬3) أخرجه النسائي، في: باب الحسب، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 53. والحاكم، في: باب تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء. . . .، من كتاب النكاح. المستدرك 2/ 163. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 353، 361. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 11/ 181، وانظر ما تقدم في صفحة 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِخْلالِه بنَفَقَتِها ومُؤْنَةِ أوْلادِه، ولهذا مَلَكَتِ الفَسْخَ بإخْلالِه بالنَّفَقَةِ، فكذلك إذا كان مُقارِنًا، ولأنَّ ذلك مَعْدُودٌ نَقْصًا في عُرْفِ النَّاسِ، يَتَفاضَلُونَ فيه كتَفاضُلِهم في النَّسَبِ وأْبلَغُ، قال نُبَيهُ بنُ الحَجَّاجِ السَّهْمِيُّ (¬1): سألَتَانِي الطَّلاقَ أنْ رَأَتانِي … قَلَّ مَالِي قد جِئْتُمانِي بِنُكْرِ وَيكَأنْ مَنْ يَكُنْ (¬2) لَهُ نَشَبٌ يُحـ … ـبَبْ ومَن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيشَ ضُرِّ (¬3) فكان مِن شُروطِ الكفاءَةِ، كالنَّسَب. والثانيةُ، ليس بشَرْطٍ؛ لأنَّ الفَقْرَ شَرَفٌ في الدِّينِ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكِينًا، وأمِتْنِي مِسْكِينًا» (¬4). وليس هو لازِمًا، فأشْبَهَ العافِيَةَ مِن المرَضِ. واليَسَارُ المُعْتَبَرُ ما يَقْدِرُ به على الإِنْفاقِ عليها، حَسَبَ ما يَجِبُ لها، ويُمْكِنُه أداءُ مَهْرِها. وأمَّا الصِّناعَةُ، ففِيها أيضًا رِوَايتان؛ إحْداهما، أنَّها شَرْطٌ، فمَن كان مِن أهلِ الصَّنائِعِ الدَّنِيئَةِ؛ كالحائِكِ، والحَجَّامِ، والحارِسِ، ¬

(¬1) نُبيه بن الحجاج السهمي، ذكره ابن خلكان نقلا عن جمهرة النسب لابن الكلبي، فقال: مُنَبِّه ونُبَيه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم القرشي، كانا سيدي بني سهم في الجاهلية، قتلا يوم بدر كافرين، وكانا من المطعمين. وفيات الأعيان 6/ 329. (¬2) سقط من النسختين، والتصويب من المصادر. (¬3) في م: «نسب». وفي الأصل: «نسب نحيب». والأبيات لزيد بن عمرو بن نفيل، في الكتاب لسيبويه 2/ 155، 3/ 555، خزانة الأدب للبغدادي 6/ 404، 410. وقال: ونسبها الزبير بن بكار لنبيه بن الحجاج. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكَسَّاحِ، والدَّبَّاغِ، [وقَيِّمِ الحَمّامِ] (¬1)، والزَّبَّالِ، فليس بكُفْءٍ لبناتِ ذوي المُرُوءاتِ، كأصحابِ الصَّنائِعِ الجَلِيلَةِ، كالتِّجارَةِ والبِنايَةِ؛ لأنَّ ذلك نَقْصٌ في عُرْفِ النَّاسِ، فأشْبَهَ نَقْصَ النَّسَبِ، وقد جاءَ في حديثٍ: «العَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْض أكْفَاءٌ، إلَّا حَائِكًا أو حَجَّامًا» (¬2). قيلَ لأحمدَ: وكيفَ تَأْخُذُ به وأنتَ تُضَعِّفُه؟ قال: العَمَلُ عليه. يعني أنَّه وَرَد مُوافِقًا لأهْلِ العُرْفِ. ورُوِيَ أنَّ ذلك ليس بنَقْصٍ. ويُرْوَى نحوُ ذلك عن أبي حنيفةَ؛ لأنَّ ذلك ليس بنَقْصٍ في الدِّينِ، ولا هو لازِمًا، فأشْبَهَ الضَّعْفَ والمرَضَ، قال بَعْضُهم (¬3): ألَا إنَّما التَّقْوَى هي العِزُّ والكَرَمْ … وحُبُّكَ للدُّنْيَا هو الذُّلُّ والسَّقَمْ ولَيسَ على عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ … إذا حَقَّقَ التَّقْوَى وإن حَاكَ أو حَجَمْ وأما السَّلامةُ مِن العُيوبِ، فليست مِن شُروطِ الكفاءَةِ، فإنَّه لا خِلافَ في (¬4) أنَّه لا يَبْطُل النِّكاحُ بها، ولكنَّها تُثْبِتُ الخِيَارَ للمرأةِ دُونَ الأوْلِياءِ؛ لأنَّ ضَرَرَه يَخْتَصُّ بها. ولوَلِيِّها مَنْعُها مِن نِكاحِ المَجْذُوم والأبرَصِ والمَجْنُونِ، وما عدا هذا فليس بمُعْتَبَرٍ في الكفاءةِ. ¬

(¬1) في النسختين: «والقيم والحمامى». وكذلك المغني، والتصويب من الكافي 3/ 32. (¬2) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 135، 174. وابن عدي، في: الكامل 5/ 1749، 1852، وأبو نعيم، في: أخبار أصبهان 1/ 191. وهو حديث موضوع. الإرواء 6/ 268 - 270. (¬3) هو أبو العتاهية والبيتان في ديوانه 243. وانظر: أبو العتاهية أشعاره وأخباره 348، 349. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن أسْلَمَ أو عَتَقَ مِن العَبِيدِ، فهو كُفْءٌ لمَن له أبَوان في الإِسْلامِ والحُرِّيَّةِ. وقال أبو حنيفةَ: ليصر بكُفْءٍ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّ الصَّحابةَ أكْثَرُهُم أسْلَمُوا، وكانوا أفْضَلَ الأمَّةِ، فلا يَجُوزُ أن يُقال: إنَّهم غيرُ أكْفاءٍ للتَّابِعِينَ. فصل: ووَلَدُ الزِّنَى قد قيل: إنَّه كُفْءٌ لذاتِ نَسَب. وعن أحمدَ أنَّه ذُكِر له أنَّه يَنْكِحُ ويُنْكَحُ إليه، فكأنَّه لم يُحِبَّ ذلك؛ لأنَّ المرأةَ تُعَيَّرُ (¬1) به هي وأوْلِياؤُها، ويَتَعَدَّى ذلك إلى وَلَدِها، وليصر هو كُفْئًا للعَرَبِيَّةِ بغَيرِ إشْكالٍ فيه؛ لأنَّه أدْنَى حالًا مِن المَوْلَى. فصل: والمَوالِي أكْفاءٌ بعضُهم لبعضٍ، وكذلك العَجَمُ، قال أحمدُ، في رجل مِن بَنِي هاشمٍ له مَوْلَاةٌ: يُزَوِّجُها (¬2) الخراسانِيَّ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَوْلَى القَوْمِ مِنْهم» (¬3). هو في الصَّدَقَةِ، فأمَّا في النِّكاحِ، فلا. وذَكَر القاضي رِوايةً عن أحمدَ، أنَّ مَوْلَى ¬

(¬1) في الأصل: «تتعين». (¬2) في م: «يتزوجها». (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَوْمِ يُكَافِئُهم؛ لهَذا الخَبرِ، ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ زَيدًا وأُسَامَةَ عَرَبِيَّتَين (¬1)، ولأنَّ مَوالِيَ بَنِي هاشمٍ ساوَوْهُم في حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ، فساوَوْهُم في الكَفاءَةِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ فإنَّه يُوجِبُ أن يكونَ المَوَالِي أكْفَاءً للعربِ، فإنَّ المَوْلَى إذا كانَ كُفْءَ سَيِّدِه، كان كُفْئًا لِمَن يُكَافِئُه سيدُه، فيَبْطُلُ اعْتِبارُ المَنْصِبِ، ولهذا لا يُساوُونهم في اسْتِحْقاقِ الخُمْسِ، ولا في الإِمامةِ، ولا في الشَّرَفِ، وأمّا زَيدٌ وأسامةُ، فقد اسْتُدِلَّ بِنكاحِهِما عَرَبِيَّتين على أنَّ فَقْدَ الكَفاءَةِ لا يُبْطِلُ النِّكاحَ، واعْتَذَرَ أحمدُ عن تَزْويجهما بأنَّهُما مِن كَلْبٍ، فهما عَرَبيَّان، وإنَّما طَرَأَ عليهِما رِقٌّ. فعلى هذا، يكَونُ حُكْمُ كُلِّ عَرَبِيِّ الأصْلِ كذلك. فصل: فأمَّا أهْلُ البِدَعِ، فإنَّ أحمدَ قال في الرَّجُلِ يُزَوِّجُ الجَهْمِيَّ: يُفَرَّقُ بينَهما. وكذلك إذا زَوَّجَ الوَاقِفِيَّ، إذَا كان يُخاصِمُ ويَدْعُو، وإذا زَوَّجَ أُخْتَه مِن هؤلاءِ اللَّفْظِيَّةِ، وقد كَتَب الحديثَ، فهذا شَرٌّ مِن جَهْمِيٍّ، يُفرَّقُ بينَهما. وقال: لا يُزَوِّجُ بِنْتَه مِن حَرُورِيٍّ مَرَق مِن الدِّينِ، ولا مِن الرَّافِضِيِّ، ولا مِنَ القَدَرِيِّ، فإذا كان لا يَدْعُو، فلا بَأْسَ. وقال: مَن لم يُرْبعْ (¬2) بعليٍّ في الخلافةِ، فَلَا تُناكِحُوه، ولا تُكَلِّمُوه. قال القاضي: المُقَلِّدُ منهم يَصِحُّ تَزْويجُه، ومَن كان دَاعِيَةً منهم، فلا يَصِحُّ تَزْويجُه. ¬

(¬1) حديث زيد تقدم في صفحة 256، وحديث أسامة في 11/ 181، وصفحة 53. (¬2) أي يعده رابع الخلفاء الراشدين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنَّما تُعْتَبَرُ الكَفاءَة في الرجلِ دونَ المرأةِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا مُكَافِئَ له، وقد تَزَوَّجَ مِن أحْياءِ العربِ، وتَزَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ (¬1)، وتَسَرَّى بالإِماءِ، وقال: «مَنْ كانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَة فَعَلَّمَهَا، وَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأحْسَنَ إلَيهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أجْرَانِ». متفقٌ عليه (¬2). ولأنَّ الوَلَدَ يَشْرُفُ بشَرَفِ أَبيه لا بأُمِّه، فلم يُعْتَبَرْ ذلك في الأُمِّ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 66. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 243.

باب المحرمات في النكاح

بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ وَهُنَّ ضَرْبَانِ؛ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى الْأَبَدِ، وَهُنَّ أرْبَعَةُ أقْسَامٍ؛ أحَدُهَا، الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ، وَهُنَّ سَبْعٌ؛ الأمَّهَاتُ، وَهُنَّ الْوَالِدَةُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالأُمِّ، وَإنْ عَلَوْنَ، وَالْبَنَاتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ المُحرَّماتِ في النِّكاحِ (وهُنَّ ضَرْبان؛ مُحَرَّماتٌ على الأبَدِ، وهُنَّ أرْبَعَةُ أقْسامٍ، أحَدُها، المُحَرَّماتُ بالنَّسَبِ، وهُنَّ سَبْعٌ) ذَكَرَهُنَّ الله سبحانَه في قولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (¬1). فأمَّا الأمَّهاتُ، فهُنَّ كُلُّ مَن انْتَسَبْتَ إليها بولادَة، سَواءٌ وَقَعَ عليها اسمُ الأُمِّ حَقِيقَةً، وهي التي وَلَدَتْكَ، أو مَجازًا، وهي التي وَلَدَتْ مَن وَلَدَكَ (¬2) وإن عَلَتْ، ومِن ذلك جَدَّتاك (¬3)؛ أُمُّ أُمِّكَ وأُمُّ أبِيكَ، وجَدَّتَا أُمِّك وجَدَّتَا أبِيكَ، [وجَدَّاتُ جَدَّاتِكَ] (¬4) وجَدَّاتُ أجْدَادِك وإن عَلَوْنَ، وارِثاتٍ كُنَّ أو غيرَ وارِثاتٍ، كُلُّهُنَّ اُّمَّهاتٌ ¬

(¬1) سورة النساء 23. (¬2) في م: «ولدتك». (¬3) في م: «جدتا». (¬4) في الأصل: «وجدتا جدتاك وجدتا».

مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَبَنَاتُ الْأوْلَادِ، وإِنْ سَفَلُوا، وَالْأخَوَاتُ مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَنَاتُ الأَخِ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأَوْلَادُهُمْ، وَإنْ سَفَلُوا، وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالاتُ، وَإنْ عَلَوْنَ، وَلَا تحْرُمُ بَنَاتُهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَرَّماتٌ، ذَكَر أبو هُرَيرَةَ (¬1) هاجَرَ أُمَّ إسماعيلَ، فقال: تِلْكَ أُمُّكُم يا بَنِي ماءِ السَّماءِ (¬2). وفي الدُّعاء المَأْثُورِ: اللَّهُمَّ صَلِّ على أبِينَا آدَمَ وأُمِّنَا حَوَّاءَ. والبناتُ، وهُنَّ كلُّ أُنْثَى انْتَسَبَتْ إليك بولادَتِك، كابْنَةِ الصُّلْبِ، وبَناتِ البَنِين والبناتِ وإن نزَلَتْ دَرَجَتُهُنَّ، وارِثاتٍ أو غيرَ وارِثاتٍ، كُلُّهُنَّ بناتٌ مُحَرَّماتٌ؛ لقولِه تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ}. فإنَّ كُلَّ امرأةٍ بنتُ آدَمَ، كما أنَّ كلَّ رجلٍ ابنُ آدَمَ (¬3)، قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ} (¬4). والأخَواتُ مِن الجِهَاتِ الثَّلاثِ، مِن الأبَوَينِ، أو مِن الأبِ، أو مِن الأُم؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ}. ولا تَفرِيعَ ¬

(¬1) في الأصل: «بكر». (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}. . . .، من كتاب الأنبياء، وفي: باب إلى من ينكح. . . .، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 4/ 171، 7/ 7. ومسلم، في: باب من فضائل الخليل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1841. (¬3) بعده في الأصل: «أو من الأم». (¬4) سورة الأعراف 26، 27، 31، 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهِنَّ. والعَمَّاتُ أخواتُ الأبِ مِن الجهاتِ الثَّلاثِ، وأخواتُ الأجْدَادِ مِن قِبَلِ الأَب ومِن قِبَلِ الأُمِّ، قَرِيبًا كان الجَدُّ أو بعيدًا، وارِثًا أو غيرَ وارثٍ، لقولِ اللهِ تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ}. والخالاتُ أخواتُ الأُمِّ مِن الجهاتِ الثلاثِ، وأخواتُ الجَدَّاتِ وإن عَلَوْنَ، وقد ذَكَرْنا أنَّ كلَّ جَدَّةٍ أُمٌّ، فكذلك كلُّ أختٍ لجَدَّةٍ خالةٌ مُحَرَّمَةٌ، لقولِ اللهِ تعالى: {وَخَالاتُكُمْ}. وبناتُ الأخِ، كُلُّ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إلى أخٍ بولادَةٍ (¬1)، فهي بِنْتُ أخٍ مُحَرَّمَةٌ مِن أيِّ جِهَةٍ كان الأخُ (¬2)، لقولِ اللهِ تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ}. وبناتُ الأخْتِ كذلك أيضًا مُحَرَّماتٌ، لقولِه تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}. فهؤلاء المُحَرَّماتُ بالنَّسَبِ. فصل: ولا فَرْقَ بينَ النَّسَبِ الحاصِلِ بنِكاحٍ، أو مِلْكِ يَمِينٍ، أو وَطْءِ شُبْهَةٍ، أو حَرامٍ، فتَحْرُمُ عليه ابنتُهُ مِن الزِّنى، لدُخُولِها في عُمومِ اللَّفْظِ، وأنَّها مَخْلُوقَةٌ مِن مائِه، فحَرُمَتْ، كتَحْرِيمِ الزَّانِيَةِ على وَلَدِها، وتحْرِيمِ المَنْفِيَّةِ باللِّعانِ، لأنَّها رَبِيبَتُه (¬3)، ولاحْتِمالِ أن تكونَ ابْنَتَه، ¬

(¬1) في م: «بولادته». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «منفية».

الْقِسْمُ الثَّانِي، الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ. وَيَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ سَوَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه اخْتِلافٌ نَذْكُرُه إن شاء اللهُ تعالى. (القسمُ الثاني، المُحَرَّماتُ بالرَّضاعِ، فيَحْرُمُ به ما يَحْرُمُ بالنسَبِ سَواءً) والذي ذَكَرَه اللهُ تعالى اثْنَتان فقال سبحانَه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}. فالأُمَّهاتُ اللَّاتي أرْضَعْنَك وأُمَّهاتُهنَّ وجَدَّاتُهُنَّ وإن عَلَتْ دَرَجتُهُنَّ، على حَسَبِ ما ذَكَرْناه في النَّسَبِ، مُحَرَّماتٌ بالآيَةِ. وأمَّا الأخَوَاتُ، فهي كلُّ امرأةٍ أرْضَعَتْكَ أُمُّها، أو أرْضعَتْها أُمُّكَ، أو أرْضَعَتْكَ وإيَّاها امرأةٌ واحدةٌ، أو ارْتَضعْتَ أنت وهي مِن لَبَنِ رجلٍ واحدٍ، كرَجُلٍ له امْرأتان لهما منه لَبَنٌ، أرْضَعَتْكَ إحدَاهُما وأرْضَعَتْها الأُخْرَى، فهي أُخْتُكَ، مُحرَّمَةٌ عليك بالآيةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك كلُّ امرأةٍ حَرُمَتْ عليك بالنَّسَب (¬1)، حَرُمَ مِثْلُها مِن الرَّضاعِ؛ كالعَمَّةِ، والخالةِ، والبنْتِ، وبِنْتِ الأَخِ، وبِنْتِ الأُخْتِ، على ما ذَكَرْنا، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». متفقٌ عليه (¬2). وفي رِوايةٍ لمسلمٍ: «الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الولَادَةُ». ولأنَ الأمَّهاتِ والأخَوَاتِ مَنْصوصٌ عليهِنَّ، والباقِياتُ يُقَسْنَ عليهِنَّ، ولا نَعْلَمُ في هذا خلافًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض. . . .، من كتاب الشهادات، وفي: باب ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الخمس، وفي: باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وباب لا تنكح المرأة على عمتها، وباب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 3/ 222، 4/ 100، 7/ 12، 15، 49. ومسلم، في: باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، وباب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، وباب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة. صحيح مسلم 2/ 1068، 1070، 1071. كما أخرجه أبو داود، في: باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 474. والنسائي، في: باب ما يحرم من الرضاع، وباب تحريم بنت الأخ من الرضاع، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 82، 83. وابن ماجه، في: باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 623. والدارمي، في: باب ما يحرم من الرضاع، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 156. والإمام مالك، في: باب رضاعة الصغير، وباب جامع ما جاء في الرضاعة، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 601، 607. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 44، 51، 66، 72، 102، 178.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَهُنَّ أرْبَعٌ؛ أُمَّهَاتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ (القسمُ الثالثُ، تَحْرِيمُ المُصَاهَرَةِ، وهُنَّ أرْبَعٌ؛ أُمَّهاتُ النِّساءِ) فمَن تَزَوجَ امرأةً حَرُمَ عليه كلُّ أُمٍّ لها مِن نَسَبٍ أو رَضَاعٍ، قَرِيبَةٍ أو بَعِيدَةٍ، بمُجَرَّدِ العَقْدِ. نَصَّ عليه أحمدُ وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ مسعودٍ، وابنُ عمرَ، وجابرٌ، وعِمْرانُ بنُ حُصَينٍ، وكثيرٌ مِن التابعين. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرأي. وحُكِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّها لا تَحْرُمُ إلَّا بالدُّخُولِ بابْنَتِها، كما لا تَحْرُمُ ابْنَتُها إلَّا بالدُّخُولِ بها. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}. والمَعْقُودُ عليها مِن نِسائِه، فتَدْخُلُ أُمُّها في عُمُومِ الآيةِ. قال ابنُ عباسٍ: أبْهِمُوا ما أبْهَمَ القرآنُ (¬1). يعني عَمِّمُوا حُكْمَها في كلِّ حالٍ، ولا تَفْصِلُوا بينَ المَدْخُولِ بها وبينَ غيرِها. وروَى عمرُو بنُ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، ¬

(¬1) أخرج نحوه سعيد بن منصور في سننه 1/ 234. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 173.

نِسَائِهِ، وَحَلَائل آَبائِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن تَزَوَّجَ امْرَاةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا، لَا بَأْسَ أن يَتَزَوَّجَ رَبِيبَتَه، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها». رَواه أبو حَفْصٍ بإسْنادِه (¬1). وقال زَيدٌ: تَحْرُمُ بالدُّخُولِ أو بالموتِ؛ لأنَّه يَقُومُ مَقامَ الدُّخُولِ. وقد ذَكَرْنا ما يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مُطْلَقًا، سَواءٌ وُجِدَ الدُّخُولُ أو الموتُ أو لم يُوجَدْ، ولأنَّها حَرُمَتْ بالمُصاهَرَةِ بقولٍ مُبْهَمٍ، فحَرُمَت بنَفْسِ العَقْدِ، كحَلِيلةِ الابْنِ والأبِ. الثانيةُ (حَلائِلُ الآباءِ) يَعْنِي أزْوَاجَهم، سُمِّيَتِ امرأةُ الرَّجُلِ حَلِيلَةً؛ لأنَّها مَحَلُّ إزارِ زَوْجِها، وهي مُحَلَّلَةٌ له، فتَحْرُمُ على الرجلِ امرأةُ أبِيه، قَرِيبًا كان أو بَعيدًا، وارِثًا أو غيرَ وارِثٍ، مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬2). وقال البَراءُ بنُ عازِبٍ: لَقِيتُ خَالِي ومعه الرَّايَةُ، قال: أرْسَلَنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةَ أبيه مِن بعدِه، أن أضْرِبَ عُنُقَه أو أَقتُلَه. رَواه النَّسَائيُّ (¬3). وفي رِوَايةٍ: لَقِيتُ عَمِّيَ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في من يتزوج المرأة ثم يطلقها قبل أن يدخل بها. . . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 41. وعبد الرزاق، في: المصنف 6/ 276. وابن عدي، في: الكامل 4/ 1469. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 160. وضعفه في الإرواء 6/ 286، 287. (¬2) سورة النساء 22. (¬3) في: باب نكاح ما نكح الآباء، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 90. كما أخرجه الترمذي، في: باب =

وَأَبْنَائِهِ، فَيَحْرُمْنَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحارِثَ بنَ عمرٍو، [ومعه الرَّايَةُ] (¬1). فذَكَرَ الخَبَرَ. رَواه كذلك سعيدٌ، وغيرُه (¬2). وسَواءٌ في هذا امرأةُ أبيه، أو امرأةُ جَدِّه لأبِيه، وجَدِّه لأُمِّه، قَرُبَ أم بَعُدَ، وليس في هذا بينَ أَهلِ العلمِ اخْتِلافٌ فيما عَلِمْنا. وتَحْرُمُ عليه (¬3) مَن وَطِئَها أبوه بمِلْكِ يَمِين أو شُبْهَةٍ، كما يَحْرُمُ عليه مَن وَطِئَها في عَقْدِ نِكاحٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ: المِلْكُ في هذا والرَّضَاعُ بمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، ومِمَّن حَفِظْنا ذلك عنه؛ عطاءٌ، وطاوسٌ، والحسنُ، وابنُ سيرينَ، ومكحولٌ، وقَتادَةُ، والثوريُّ، والأوزاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي، ولا نَحْفَظُ عن [أحَدٍ خِلافَهم] (¬4) الثالثةُ، حَلائِلُ الأبْناءِ، فتَحْرُمُ على الرجلِ زَوْجَةُ ابْنِه، وابْنِ ابْنَتِه، مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ، قريبًا كان أو بعيدًا، بمُجَرَّدِ العَقْدِ؛ لقولِه تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ}. ولا نَعْلَمُ في هذا خلافًا. ولا تَحْرُمُ بَناتُهنَّ، فيَحِلُّ له نِكاحُ رَبِيبَةِ ابْنِه وأَبيه؛ ¬

= في من تزوج امرأة أبيه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 117. وابن ماجه، في: باب من تزوج امرأة أبيه من بعده، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 869. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 292، 297. (¬1) في الأصل: «معه». (¬2) أخرجه سعيد، في: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة. . . . السنن 1/ 235. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يزني بحريمه، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 467. والدارمي، في: باب الرجل يتزوج امرأة أبيه، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 153. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «أحمد خلافه».

وَالرَّبَائِبُ؛ وَهُنَّ بَنَاتُ نِسَائِهِ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ دُونَ الَّلاتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لقولِه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬1). الرابعةُ، بناتُ النِّسَاءِ اللَّاتِي دَخَل بِهِنَّ، وهُنَّ الرَّبَائِبُ، فلا يَحْرُمْنَ إلَّا بالدُّخُولِ بأُمَّهاتِهِنَّ، وهُنَّ كُل بِنْتٍ للزَّوْجَةِ، مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ، قريبةً أو بعيدةً، وارِثَةً أو غيرَ وارثةٍ، على حَسَبِ ما ذَكَرْنا في البناتِ، فإذا دَخَل بالأُمِّ، حَرُمَتْ عليه، سَواءٌ كانت في حِجْرِه، أو لم تَكُنْ في حِجْرِه، [في قول عامَّةِ الفُقَهاءِ، إلَّا أنَّه رُوِيَ عن عمرَ، وعلي، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما رَخَّصا فيها إذا لم تَكُنْ في حِجْرِه] (¬2). وهو قولُ داودَ؛ لقولِه تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}. قال ابنُ المُنذِرِ: وقد أجْمَعَ علماءُ الأمْصارِ على خِلافِ هذا القَوْلِ. وذَكَرْنا حديثَ عمرِو بنِ شُعَيبٍ في ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) سقط من: م.

3136 - مسألة: (فإن متن قبل الدخول، فهل تحرم بناتهن؟ على روايتين)

فَإِنْ مِتْنَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهَلْ تَحْرُمُ بَنَاتُهُنَّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[لأُمِّ حَبِيبَةَ] (¬1): «لا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ» (¬2). ولأنَّ التَّرْبِيَةَ (¬3) لا تَأْثِيرَ لها في التَّحْرِيمِ، كسائِرِ المُحَرَّماتِ. فأمَّا الآيَةُ، فلم تَخْرُجْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وإنَّما وَصَفَها بذلك تَعْريفًا لها بغالبِ حالِها، وما خَرَجِ مَخْرَجَ الغالبِ، لا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بمَفهُومِه. وإن لم يَدْخُلْ بالمرأةِ، لم تحْرُمْ عليه بناتُها، في قولِ عامَّةِ علماءِ الأمصارِ، إذا بانتْ مِن نِكاحِه. 3136 - مسألة: (فإن مِتْنَ قبلَ الدُّخُولِ، فهل تَحْرُمُ بَناتُهُنَّ؟ على رِوايَتَين) إحْدَاهُما، تَحْرُمُ ابْنَتُها. وبه قال زيدُ بنُ ثابتٍ. وهي اختيارُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الثيبات، وباب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}. . . .، وباب: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ. . . .} وباب: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ. . . .}، من كتاب النكاح، وفي: باب المراضع من المواليات وغيرهن، من كتاب النفقات. صحيح البخاري 7/ 6، 12، 14، 15، 87. وأبو داود، في: باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 474. والنسائي، في: باب تحريم الجمع بين الأم والبنت، وباب تحريم الجمع بين الأختين، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 78، 79. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 291، 309، 428. (¬3) في الأصل: «الربيبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكرٍ؛ لأنَّ المَوْتَ أُقِيمَ مُقامَ الدُّخُولِ في تَكْمِيلِ العِدَّةِ والصَّداقِ، فيَقُومُ مَقامَه في تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ. والثانيةُ، لا تَحْرُمُ. وهو قولُ عليٍّ، وعامَّةِ العلماءِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ عَوامُّ علماءِ الأمصارِ، أنَّ الرجلَ إذا تَزَوَّجَ المرأةَ ثم طَلَّقَها، أو ماتَتْ قَبْلَ أن يَدْخُلَ بها، حَلَّ له أن يَتَزَوَّجَ ابْنَتَها، كذلك قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، ومَن تَبِعَهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ}. وهذا نَصٌ يُتْرَكُ بقياسٍ ضعيفٍ، وقد ذَكَرْنا حديثَ عمرِو بنِ شُعَيبٍ، ولأنَّها فُرْقَةٌ قَبْلَ الدُّخولِ، فلم تُحَرِّمِ الرَّبِيبَةَ،

3137 - مسألة: (ويثبت تحريم المصاهرة بالوطء الحلال

وَيَثْبُتُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كفُرْقَةِ الطَّلاقِ، والموتُ لا يَجْرِي مَجْرَى الدُّخولِ في الإِحْصانِ والإحْلالِ، وقيامُه مَقامَه مِن وَجْهٍ ليس بأَولَى مِن مُفارَقَتِه إيَّاه مِن وَجْهٍ آخَرَ، ولو قام مَقَامَه مِن كلِّ وَجْهٍ فلا يُتْرَكُ صَرِيحُ (¬1) نصِّ اللهِ تعالى و (¬2) نَصِّ رسولِه لقياس ولا غيرِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الدُّخُولَ بها وَطْؤُها، كنى عنه بالدُّخُولِ، فإن خَلَا بها ولم يَطَأْها، لم تَحْرُم ابْنَتُها؛ لأنَّها غيرُ مَدْخولٍ بها. 3137 - مسألة: (ويَثْبُتُ تَحْرِيمُ المُصَاهَرَةِ بالوَطْءِ الحَلالِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَرامِ) فإذا زَنَى بامرأَةٍ حَرُمَتْ على أبِيه وابْنِه، وحَرُمَتْ عليه أُمُّها وابْنَتُها، كما لو وَطِئَها بشُبْهَةٍ أو حَلالًا. ولو وَطِئَ أُمَّ امْرأتِه أو ابْنَتَها، حَرُمَتْ عليه امرأتُه. نَصَّ أحمدُ على هذا في روايةِ جماعةٍ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ. وبه قال الحسنُ، وطاوسٌ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنَّ وَطْءَ الحَرام لا يُحَرِّمُ (¬1). وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ويَحْيىَ بنُ يَعْمُرَ، وعُرْوَة، والزُّهْرِي، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا يُحَرِّمُ الحَرَامُ الحَلَال» (¬2). ولأنَّه وَطْءٌ لا تَصِيرُ به المَوْطُوءَةُ فِرَاشًا، [فلا يُحَرِّمُ] (¬3)، كوَطْءِ الصَّغِيرةِ. ولَنا، قولُه سبحانَه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}. والوَطْءُ يُسَمَّى نِكاحًا، قال الشاعرُ: إذا زَنَيتَ فأجِدْ نِكاحًا ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب الرجل يفجر بالمرأة. . . .، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 393. والبيهقي، في: باب الزنى لا يحرم الحلال، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 168. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب لا يحرم الحرام، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 649. والدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 268. والبيهقي، في: باب الزنى لا يحرم الحلال، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 168، 169. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَدْخُلُ في عُمُومِ الآيَةِ، وفي الآيَةِ قَرِينةٌ تَصْرِفُه إلى الوَطْءِ، وهو قولُه سبحانَه: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}. وهذا التَّغْلِيظُ إنَّما يكونُ في الوَطْءِ. ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا يَنْظُرُ الله إلى رَجُلٍ نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرأةٍ وابْنَتِها» (¬1). وروَى الجُوزْجانِيُّ بإسنادِه عن وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قال: مَلْعُونٌ مَن نَظَر [إلى فَرْجِ] (¬2) امرأةٍ وابْنَتِها (¬3). فذَكَرْتُه لسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، فأعْجَبَه. ولأنَّ ما تَعَلَّقَ مِن التَّحْرِيمِ بالوَطْءِ المُباحِ (¬4)، تَعَلَّقَ بالمَحْظُورِ، كوَطْءِ الحائِضِ، ولأنَّ النِّكاحَ عَقْدٌ يُفْسِدُه الوَطْءُ بالشُّبْهَةِ، فأفْسَدَه الوَطْءُ الحَرامُ، كالإحْرامِ. وحَدِيثُهم لا نَعْرِفُ صِحَّتَه، وإنَّما هو مِن كلام ابنِ أشْوَعَ (¬5) بعضِ قُضاةِ العِراقِ، كذلك قال الإمامُ أحمدُ. وقيلَ: إنَّه مِن قولِ ابنِ عباسٍ. ووَطْءُ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب الرجل يقع على أم امرأته. . . .، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 165. والدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 269. موقوفًا بهذه الرواية. وعند ابن أبي شيبة مرفوعًا برواية أخرى تأتي في صفحة 295. وانظر: السنن الكبرى للبيهقى 7/ 170. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 168 بنحوه. (¬4) سقط من: م. (¬5) هو سعيد بن عمرو بن أشوع، بفتح الهمزة وسكون الشين وفتح الواو وبالعين المهملة، الهمداني الكوفي، قاضي الكوفة، شيخ من ثقات الكوفين، توفي في ولاية خالد بن عبد الله، وأرخه ابن قانع سنة عشرين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 4/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصغيرةِ مَمْنُوعٌ، ثم (¬1) يَبْطُلُ بوَطْءِ الشُّبْهَةِ. فصل: والوَطْءُ على ثلاثةِ أضْرُبٍ، مُباحٌ، وهو الوَطْءُ مِن نِكاحٍ صحيح أو مِلْكِ يمينٍ، فيَتَعَلَّقُ به تَحْرِيمُ المُصاهَرَةِ بالإِجْماعِ، ويصيرُ مَحْرَمًا لمَن حَرُمَتْ عليه؛ لأنَّها حَرُمَتْ عليه على التَّأْبِيدِ بسَبَبٍ مُباحٍ، أشْبَهَ النَّسَبَ. الثاني، الوَطْءُ بالشُّبْهَةِ، وهو الوَطْءُ في نِكاح فاسِدٍ، أو شِراءٍ فاسِدٍ، أو وَطْءُ امرأةٍ ظَنَّها امرأتَه أو أمَتَه، أو وَطْءُ الأمَةِ التي له (¬2) فيها شِرْكٌ، وأشباهُ ذلك، فيَتَعَلَّقُ به التَّحْرِيمُ كتَعَلُّقِه بالوَطْءِ المُباحِ إجماعًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ ¬

(¬1) في م: «لم». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّ الرجلَ إذَا وَطِئ امرأةَ بنِكاح فاسِدٍ أو شِراءٍ فاسِدٍ، أنَّها تَحْرُمُ على أبِيه وابْنِه، وأجْدادِه ووَلَدِ وَلَدِه. وهذا مذهبُ مالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي، لأنَّه وَطْءٌ يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فأثْبَتَ التَّحْرِيمَ، كالوَطْءِ المُباحِ. ولا يَصِيرُ به الرجلُ مَحْرَمًا لمَن حَرُمَتْ عليه، ولا يُباحُ له النَّظَرُ إليها بذلك، لأنَّ (¬1) الوَطْءَ ليس بمُباحٍ، والمَحْرَمِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بكَمالِ حُرْمَةِ الوَطْءِ؛ لأنَّها إباحَةٌ، ولأنَّ المَوْطُوءَةَ لم يَسْتَبِحِ النَّظَرَ إليها، فلأن لا يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلى غيرِها به (¬2) أَولَى. الثالثُ، الحَرَامُ المَحْضُ، وهو الزِّنى، فيَثْبُتُ به التَّحْرِيمُ، على الخِلافِ المذكورِ، ولا تَثْبُتُ به المَحْرَمِيَّةُ، ولا إباحَةُ النَّظرَ؛ لأنَّها إذا لم تَثْبُتْ بوَطء الشُّبْهَةِ، فبالحَرامِ المَحْضِ أوْلى، ولا يَثْبُتُ به النَّسَبُ، ولا يَجِبُ به المَهْرُ للمُطاوعَةِ إذا كانت حُرَّةً. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م.

3138 - مسألة: (فإن كانت الموطوءة ميتة أو صغيرة)

فَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ مَيِّتَةً أوْ صَغِيرَةً، فَعَلَى وَجْهَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَسْتَوي في ذلك الوَطْءُ في القُبُلِ والدُّبُرِ؛ لأنَّه يَتَعَلَّقُ به التَّحْرِيمُ إذا وُجِدَ في الزَّوجَةِ والأَمَةِ، فكذلك في الزِّنَى. 3138 - مسألة: (فإن كانتِ المَوْطُوءَةُ مَيِّتَةً أو صَغِيرَةً) لا يُوطَأُ مِثْلُها (فعلى وَجْهَين) أحَدُهما، أنَّ وَطْءَ المَيِّتَةِ يَنْشُرُ (¬1) الحُرْمَةَ؛ لأنَّه مَعْنًى يَنْشُرُ الحُرْمَةَ المُؤَبَّدَةَ، فلم يَخْتَصَّ بالحَياةِ، كالرَّضاعِ. والثاني، لا يَنْشُرُها. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه ليسَ بسَبَبٍ للبَضْعِيَّةِ، ولأنَّ التَّحْرِيمَ يَتَعَلَّقُ باسْتِيفاءِ مَنْفَعَةِ الوَطْءِ، ¬

(¬1) في الأصل: «يثبت».

3139 - مسألة: (وإن باشر امرأة، أو نظر إلى فرجها، أو خلا بها لشهوة، فعلى روايتين)

وَإنْ بَاشَرَ امْرَأَةً أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا، أَوْ خَلَا بِهَا لِشَهْوَةٍ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والموتُ يُبْطِلُ المَنافِعَ. وأمَّا الرَّضاعُ، فيُحَرِّمُ؛ لِما (¬1) يَحْصُلُ به مِن إنْباتِ اللَّحْمِ وإنْشازِ العَظْمِ، وهذا يَحْصُلُ مِن لَبَنِ المَيِّتَةِ. وفي وَطْءِ الصغيرةِ أيضًا وَجْهان، أحَدُهما، يَنْشُرُ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، لأنَّه وَطْءٌ لآدَمِيَّةٍ حَيَّةٍ في القُبُلِ، أشْبَهَ وَطْءَ الكبيرةِ (¬2). والثاني، لا يَنْشُرُها. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه ليس بسَبَب للبَضْعِيَّةِ (¬3)، أشْبَهَ وَطْءَ المَيِّتَةِ. 3139 - مسألة: (وإن باشَرَ امرأةً، أو نَظَر إلى فَرْجِها، أو خَلَا بها لشَهْوَةٍ، فعلى رِوايَتَين) إذا باشَرَ فيما دونَ الفَرْجِ لغيرِ شَهْوةٍ، لم يَنْشُرِ ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) في م: «الكبير». (¬3) في الأصل: «للبعضية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُرْمَةَ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وإن كان لشهوةٍ، وكان في أجْنَبِيَّةٍ، لم يَنْشُرِ الحُرْمَةَ أيضًا. قال الجُوزْجانِيُّ: سألتُ أحمدَ عن رجلٍ نَظَر إلى أُمِّ امْرَأَتِه مِن شهوةٍ، أو قَبَّلَها، أو باشَرها. فقال: أنا أقُولُ: لا يُحَرِّمُه شيءٌ مِن ذلك إلَّا الجماعُ. وكذلك نَقَل أحمدُ بنُ القاسمِ، وإسحاقُ بنُ منصورٍ. وإن كانتِ المُباشَرَةُ لامرأةٍ مُحَلَّلَةٍ له، كامرأتِه ومَمْلُوكَتِه، لم تَحْرُمْ عليه ابْنَتُها. قال ابنُ عباسٍ: لا يُحَرِّمُ الرَّبِيبَةَ إلَّا الجِماعُ (¬1). وبه قال طاوُسٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ}. وهذا ليس بدُخُولٍ، فلا يُتْرَكُ النَّصُّ الصريحُ مِن أجْلِه. وأمَّا تَحْرِيمُ أُمِّها، وتَحْرِيمُها على أبي الرجلِ المباشِرِ لها، وابنِه، فإنَّها في النِّكاحِ تَحْرُمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ قبلَ المباشَرَةِ، فلا يَظْهَرُ للمُباشَرَةِ أثَرٌ. وأمَّا الأمَةُ، فمتى باشَرَها دُونَ الفَرْجِ لشَهْوَةٍ، فهل يَثْبُتُ تَحْرِيمُ المُصاهَرَةِ؟ فيه رِوايتَان؛ إحدَاهما، يَنْشُرُها. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وابنِ عَمْرٍو، ومَسْرُوقٍ. وبه قال القاسمُ، والحسنُ، ومكحولٌ، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ، وعليُّ بنُ المَدِينِيِّ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّه نوْعُ اسْتِمْتاعٍ، فيَتَعَلَّقُ به ¬

(¬1) أخرج نحوه سعيد بن منصور، في: سننه 1/ 234.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرِيمُ المُصاهَرَةِ، كالوَطْءِ. والثانيةُ، لا يَثْبُتُ بها التَّحْرِيمُ؛ لأنَّها مُلامَسَة لا تُوجِبُ الغُسْلَ، فلم يَثْبُتْ بها التَّحْرِيمُ، كما لو لم تَكُنْ لشَهْوةٍ (¬1)، ولأنَّ ثُبوتَ التَّحريمِ إمَّا أن يكونَ بنَصٍّ أو قِياسٍ على المَنْصُوصِ، ولا نَصَّ في هذا، ولا هو في معنى المنْصوصِ عليه ولا المُجْمَعِ عليه، فإنَّ الوَطْءَ يَتَعَلَّقُ به مِن الأحْكامِ اسْتِقْرارُ المَهْرِ، والإحْصانُ، والاغْتِسالُ، والعِدَّةُ، وإفْسادُ الإحْرامِ والصِّيامِ، بخِلافِ اللَّمْسِ. وذَكَر أصحابُنا الرِّوايَتَين في جيعِ الصُّوَرِ مِن غيرِ تَفْصِيلٍ. قال شيخُنا (¬2): وهذا الذي ذَكَرْنا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: ومَنْ نَظرَ إلى فَرْجِ امرأةٍ لشَهْوةٍ فهو كَلَمْسِها لشهوةٍ، فيه ¬

(¬1) في م: «شهوة». (¬2) في: المغني 9/ 532.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا رِوايَتان؛ إحْدَاهما، يَنْشُرُ الحُرْمَةَ في مَوْضِعِ يَنْشُرُها اللَّمْسُ. رُوِيَ عن عمرَ، وابنِ عمرَ، وعامرِ بنِ رَبِيعَةَ (¬1)، وكان بَدْرِيًّا، وعبدِ اللهِ بِنِ عمرٍو، في مَن يَشْتَرِي الخادِمَ، ثم يُجَرِّدُها أو يُقَبِّلُها، لا يحِلُّ لابنِه (¬2) وَطْؤُها. وهو قولُ القاسمِ، والحسنِ، ومجاهدٍ، ومكحولٍ، وحمادِ بنِ أبي سليمانَ، وأبي حنيفةَ؛ لِما روَى عبدُ الله بنُ مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرَأةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّها وَبِنْتُها» (¬3). وفي رِوَايةٍ: «لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرَأَةٍ وابْنَتِها» (3) والثانيةُ، لا يَتَعَلَّقُ به التَّحْرِيمُ. وهو قول الشافعيِّ، وأكثرِ أهلِ العلمِ؛ لقولِه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. ولأنَّه نَظَرٌ مِن غيرِ مُباشَرَةٍ، فلم يُوجِبِ التَّحْرِيمَ، كالنَّظَرِ إلى الوَجْهِ، والخَبرُ ضعيفٌ. قاله الدَّارَقُطْنِيُّ. وقيل: هو موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ. ثم يَحْتَمِلُ أنَّه كَنَى بذلك عن الوَطْءِ. وأمَّا النَّظرُ إلى سائرِ البَدَنِ، فلا يَنْشُر حُرْمَة. وقال بعضُ أصحابِنا: لا فَرْقَ بينَ النظر إلى الفَرْجِ وسائِرِ البَدَنِ ¬

(¬1) في م: «زمعة». (¬2) في النسختين: «لأبيه». وانظر ما أخرجه ابن أبي شيبة عنهم، في: المصنف 4/ 163، 164. وما أخرجه عبد الرزاق، عن عمر وعامر بن ربيعة، في: المصنف 6/ 280، 281. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لشَهْوةٍ. والصحيحُ خِلافُ هذا، فإنَّ غيرَ الفَرْجِ لا يُقاسُ عليه؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ. ولا خِلافَ نَعْلَمُه في أنَّ النَّظَرَ إلى الوَجْهِ لا يُثْبِتُ الحُرْمَةَ، فكذلك غيرُه، ولا خِلافَ أيضًا في (1) أنَّ النَّظَرَ إذا وَقَع مِن غيرِ شَهْوَةٍ لا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ؛ لأنَّ اللَّمْسَ الذي هو أبْلَغُ منه، لا يُؤثِّرُ إذا لم يَكُنْ لشهوةٍ، فالنَّظَرُ أَوْلَى. ومَوْضِعُ الخِلافِ في اللَّمْسِ والنَّظَرِ في مَن بَلَغَتْ تِسْعَ سنينَ فما زادَ، فأمَّا الطِّفْلَةُ فلا يَثْبُتُ فيها ذلك. وقد رُوِيَ عن أحمدَ في بِنْتِ سَبْعٍ: إذا قَبَّلَها حَرُمتْ عليه (¬1) أُمُّها. قال القاضي: هذا عندي مَحْمولٌ على السِّنِّ الذي تُوجَدُ معه الشَّهْوةُ. فصل: فإن نَظَرَتِ المرأةُ إلى فَرْجِ رجلٍ لشَهْوَةٍ، فحكمُه في التَّحْرِيم حكمُ نَظَره إليها. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه مَعْنًى يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فاسْتَوَى فيه الرجلُ والمرأةُ، كالجِماعِ. وكذلك يَنْبَغِي أن يكونَ حكمُ لَمْسِها له وقُبْلَتِها إيّاه لشَهْوَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: والصَّحيحُ أنَّ الخَلْوَةَ بالمرأةِ لا تَنْشُرُ الحُرْمَةَ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ: إذا خَلَا بالمرأةِ وَجَب الصَّداقُ والعِدَّةُ، ولا يَحِلُّ له أن يَتَزَوَّجِ أُمَّها وابْنَتَها. قال القاضي: هذا مَحْمُولُ على أنَّه حَصَل مع الخَلْوَةِ مُباشرَةٌ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3140 - مسألة: (ومن تلوط بغلام، حرم على كل واحد منهما أم الآخر وابنته)

وَإنْ تَلَوَّطَ بِغُلَامٍ، حَرُمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمُّ الْآخَرِ وَابْنَتُهُ. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ، هُوَ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُخَرَّجُ كلامُه على إحْدَى الرِّوايَتَين اللَّتَين ذَكَرْناهما، فأمَّا مع خُلُوِّهِ مِن ذلك، فلا يُؤثِّرُ في تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ؛ لِما في ذلك مِن مُخالفَةِ قولِه تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ}. وأمَّا الخَلْوَةُ بأجْنَبِيَّةٍ أو أمَتِه، فلا تَنْشُرُ تَحْرِيمًا. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 3140 - مسألة: (ومَن تَلَوَّطَ بغُلامٍ، حَرُمَ على كلِّ واحدٍ منهما أُمُّ الآخَرِ وابْنَتُه) قاله بعضُ أصحابِنا، قال: ونَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الأوْزَاعِيِّ؛ لأنَّه وَطْءٌ في الفَرْجِ، فنَشَرَ الحُرْمَةَ، كوَطْءِ المرأةِ، ولأنَّها بنْتُ مَن وَطِئَه أو أُمُّه، فحَرُمَتا عليه، كما لو كانتِ المَوْطُوءَةُ أُنْثَى. وقال أَبو الخَطَّابِ: يكونُ ذلك (¬1) كالمُباشرَةِ فيما دُونَ الفَرْجِ، فيكون فيه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوايَتان. والصحيحُ أنَّ هذا لا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ (¬1)، فإنَّ هؤلاء غيرُ مَنْصُوصٍ عليهنَّ في التّحْرِيمِ، فيَدْخُلْن في عُمومِ قولِه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. ولأنَّهُنَّ غيرُ مَنْصوصٍ عليهنَّ، ولا هنَّ في معنى المَنْصُوصِ عليه، فوَجَبَ أن لا يَثْبُتَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فيهِنَّ، فإنَّ المَنْصُوصَ عليهنَّ في هذا حلائِلُ الأبناءِ ومَن نَكَحَهُن الآباءُ، وأمهاتُ النساءِ وبناتُهُنَّ، وليس هؤلاءِ منهنَّ، ولا في مَعْناهُنَّ؛ لأنَّ الوَطْءَ في المرأَةِ يكونُ سَبَبًا للبَضْعِيَّةِ، ويُوجِبُ المَهْرَ، ويَلْحَقُ به النَّسَبُ، وتَصِيرُ به المرأةُ فِرَاشًا، ويُثْبِتُ أحكامًا لا يُثْبِتُها اللِّواطُ، فلا يَجُوزُ إلْحاقُه بهنَّ؛ لعَدَمِ العِلَّةِ، وانْقِطاعِ الشَّبَهِ، ولذلك لو أرْضَعَ الرجلُ طِفْلًا، لم يَثْبُتْ به حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فههُنا أوْلَى. وإن قُدِّرَ بينَهما شَبَهٌ مِن وَجْهٍ ضَعِيفٍ، فلا يجوزُ تَخْصِيصُ عُمومِ الكتابِ به، واطِّرَاحُ النَّصِّ بمِثْلِه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «فيهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْرُمُ على الرجلِ نِكاحُ بِنْتِه مِن الزِّنَى، وأُخْتِه، وبِنْتِ ابْنِه، وبنتِ بِنْتِه، وبنتِ أخِيه (¬1) وأُخْتِه مِن الزِّنَى، في قولِ عامَّةِ الفُقَهاءِ. وقال مالكٌ، والشافعيُّ في المشهورِ مِن مَذْهَبِه: يجوزُ ذَلِك (¬2)؛ لأنَّها أجْنَبيَّةٌ منه، لا تُنْسَبُ إليه شَرْعًا، ولا يَجْرِي التَّوارُثُ بينَهما، ولا تَعْتِقُ عليه إذا مَلَكَها، ولا تَلْزَمُه نَفَقَتُها، فلم تَحْرُمْ عليه، كسائِرِ الأجانبِ. ولَنا، قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}. وهذه بِنْتُه، فإنَّها أُنْثَى (¬3) مَخْلُوقَةٌ مِن مائِه، وهذه حقيقةٌ لا تَخْتَلِفُ بالحِلِّ والحُرْمَةِ، و (¬4) يَدُلُّ على ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في امرأةِ هِلَالِ بنِ أُمَيَّة (¬5): «انْظُرُوهُ» يَعْنِي وَلَدَها «فَإنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَي صِفَةِ كذا فَهُوَ لشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ». يعني الزَّانِيَ (¬6). ولأنَّها مخلوقةٌ مِن مائِه، فأشْبَهَتِ المخلوقةَ مِن وَطْءِ الشُّبْهَةِ، ولأنَّها بَضْعَةٌ منه، فلم تَحِلَّ له، كبنْتِه مِن النِّكاحِ، وتَخَلُّفُ بعضِ الأحْكامِ لا يَنْفِي كَوْنَها بِنْتًا، كما لو تَخَلَّفَ لرِقٍّ أو اخْتِلافِ دِينٍ. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ عِلْمِه بكَوْنِها منه، مثلَ أن يَطَأَ امرأةً في طُهْرٍ ¬

(¬1) في الأصل: «أخته». (¬2) في م: «له». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «ومما». (¬5) بعده في الأصل: «الضمرى». (¬6) تقدم تخريجه في 16/ 338.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ، الْمُلَاعِنَةُ تَحْرُمُ عَلَى الْمُلَاعِنِ عَلَى التَّأْبِيدِ، إلا أَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ، فَهَلْ تَحِلُّ له؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُصِبْها فيه غيرُه، ثم يَحْفَظَها حتى تَضَعَ، أو يَشْتَرِكَ جماعةٌ في وَطْءِ امرأةٍ، فتَأْتِيَ بوَلَدٍ لا يُعْلَمُ هل هو منه أو مِن غيرِه؟ فإنَّها تَحْرُمُ على جميعِهِم لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّها بِنْتُ مَوْطُوءَتِهم. والثاني، أنّا نَعْلَمُ أنَّها بِنتُ بَعْضِهم، فتَحْرُمُ على الجميعِ، كما لو زَوَّجَ الوَلِيَّان ولم يُعْلَمِ السَّابِقُ منهما. وتَحْرُمُ على أولادِهِم؛ لأنَّها أختُ (¬1) بعْضِهم غيرَ معلومٍ، فإن ألحَقَتْها القافةُ بأحَدِهم، حَلَّتْ لأولادِ الباقِين. (القسمُ الرابعُ، المُلَاعِنَةُ، تَحْرُمُ على المُلاعِنِ على التَّأْبِيدِ) أمَّا إذا لم يُكْذِبْ نفْسَه، فلا نَعْلَمُ أحدًا قال بخِلافِ ذلك إلَّا قولًا شاذًّا، فإن ¬

(¬1) في م: «ابنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْذَبَ نَفْسَه، فالمَشْهُورُ في المذهبِ أنَّها بَاقِيَةٌ على التَّحْرِيمِ المُؤبَّدِ. وعن أحمدَ رِواية شاذَّة، أنَّها تَحِلُّ له، وتَعُودُ فِراشًا له، إذَا لم يَكنْ وُجِدَ منه ما يُبينُها (¬1)؛ لأنَّه رَجَع عن المَعْنَى المُحَرّمِ، فزَال التَّحْرِيمُ، ولذلك ¬

(¬1) في م: «يثبتها».

فَصْل: الضَّرْبُ الثَّانِي، الْمُحَرَّمَاتُ إِلَى أَمَدٍ، وَهُنَّ نَوْعَانٍ؛ أَحدُهُمَا، المُحَرَّمَاتُ لأجْلِ الْجَمْعِ، فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَينَ الأُخْتَينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحَدُّ ويَلْحَقُه نَسَبُ الوَلَدِ، وهذه الرِّوايَةُ شَذَّ بها حَنْبَلٌ عن أصحابِه، وتفَرَّدَ بها، والعَمَلُ على الرِّوايةِ الأُولَى، وهذا يذْكَرُ في بابِ اللِّعَانِ مَبْسُوطًا، إن شاء اللهُ تعالى. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (الضَّرْبُ الثَّانِي، المُحَرَّماتُ إلى أمَدٍ، وهُنَّ نَوْعان؛ أحدُهما، المُحَرَّماتُ لأجْلِ الجَمْعِ، فيَحْرُمُ الجَمْعُ بينَ الأُخْتَين) سَواء كَانَتَا مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ، حُرَّتَين كانَتَا أو أمَتَين، أو حُرَّةً وأَمةً، مِن أبَوَين كانَتا أو مِن أَبٍ أو أُمٍّ، وسَواءٌ

3141 - مسألة: (و)

وَبَينَ الْمَرأةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالتِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا ما قبلَ الدُّخُولِ أو بعدَه؛ لعُمُومِ قولِه تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ}. 3141 - مسألة: (و) يَحْرُمُ الجَمْعُ (بينَ المرأةِ وعَمَّتِها أو خالتِها) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على القولِ به، وليس فيه بحمدِ اللهِ اخْتِلافٌ، إلَّا أنَّ بعضَ أهلِ البِدَعِ مِمَّن لا تُعَدُّ مُخالفَتُه خِلافًا، وهم الرَّافِضَةُ والخَوَارِجُ، لم يُحَرِّمُوا ذلك، ولم يَقُولُوا بالسُّنَّةِ الثَّابتَةِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وهي ما روَى أبو هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَجْمَعُوا بَينَ المرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَينَ المَرْأَةِ وَخَالتِهَا». متفقٌ عليه (¬1). وفي روايةِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب لا تنكح المرأة على عمتها، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 15. ومسلم، في: باب تحريم الجمع بين المرأة وعمها. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1028 - 1030. كما أخرجه النسائي، في: باب الجمع بين المرأة وعمتها، وباب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 79، 81. وابن ماجه، في: باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 621. والدارمي، في: باب الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 136. والإمام مالك، في: باب ما لا يجمع بينه من النساء، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 532. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 462، 465، 516، 529، 532.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي داودَ (¬1): «لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا العَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخيها (¬2)، ولا المَرْأَة على خَالتِها، ولا الخَالةُ على بِنْتِ أُخْتِها، لا تُنْكَحُ الكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، ولا الصُّغْرَى على الكُبْرَى». ولأنَّ العِلَّةَ في تَحْرِيمِ الجَمْعِ بينَ الأُخْتَين إيقاعُ العَداوَةِ بينَ الأقارِبِ، وإفْضاؤُه إلى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ المَحْرَم. فإنِ احْتَجُّوا بعُمُومِ قولِه سبحانَه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. خَصَصْنَاه بما رَوَيناه. وبَلَغَنا أنَّ رَجُلَين مِن الخَوَارِجِ أَتَيا عمرَ بنَ عبدِ العزيز، فكانَ مِمَّا أنْكَرَا عليه رَجْمُ الزَّانِيَين، والجمعُ بينَ المرأَةِ وعَمَّتِها، وبينَها (¬3) وبينَ خَالتِها، وقَالا: ليس هذا في كتابِ اللهِ تعالى. فقال لهما: كم فَرَضَ الله عليكم مِن الصَّلاةِ (¬4)؟ قالا: ¬

(¬1) في: باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 476. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 56، 57. (¬2) في م: «أختها». (¬3) في م: «بنتها». (¬4) في الأصل: «الصلوات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في اليومِ واللَّيلةِ. وسَأَلهُما عن عَدَدِ رَكَعَاتِها، فأخْبَرَاه بذلك. وسأَلَهُما عن مِقْدَارِ الزَّكَاةِ ونُصُبِها، فأخْبَرَاه. فقال: وأين تجِدَان ذلك في كتابِ اللهِ؟ قالا: لا نَجِدُه في كتابِ اللهِ. قال: فَمِن أين صِرْتُما [إلى ذلك] (¬1)؟ فقالا: فَعَلَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعدَه. قال: فكذلك هذا. ولا فَرْقَ بينَ الخالةِ والعَمَّةِ، حقيقةً أو مَجازًا، كعَمَّاتِ آبائِها وخالاتِهِم، وعَمَّاتِ أُمَّهاتِها وخَالاتِهِنَّ، وإن عَلَتْ دَرَجتُهُنَّ، مِن نَسَبٍ كان ذلك أو رَضاعٍ، فكُلُّ شَخصَين لا يَجُوزُ لأحَدِهما أن يَتَزَوَّجَ الآخَرَ، لو كان أحَدُهما ذَكَرًا والآخَرُ أُنْثَى لأجْلِ القَرابَةِ، لا يَجُوزُ الجَمْعُ بَينَهما؛ لتَأْدِيَةِ ذلك إلى قَطْعِ الرَّحِمِ القَرِيبَةِ، لِما في الطِّباعِ مِن التَّنافُسِ والغَيرَةِ مِن الضَّرائرِ. ولا يجوزُ الجمعُ بينَ المرأةِ وأُمِّها في العَقْدِ؛ لِما ذَكَرْناه، ولأنَّ الأمَّ إلى ابْنَتِها أقْرَبُ مِن الأُختَين، فإذا لم يُجْمَعْ بينَ الأُختَين، فالمرأةُ وبِنْتُها أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م.

3142 - مسألة: (فإن جمع بينهما في عقد)

فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَحْرُمُ الجمعُ بينَ ابْنَتَي العَمِّ، وابْنَتَي الخالِ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ لعَدَمِ النَّصِّ فيهما بالتَّحْرِيمِ، ودُخُولِهما في عُمُوم قولِه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. ولأنَّ إحْدَاهما تَحِلُّ لها الأُخْرَى لو كانت ذَكَرًا. وفي كَراهَةِ ذلك رِوَايتان؛ إحْدَاهما، يُكْرَهُ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ. وبه قال جابرُ بنُ زيدٍ، وعطاءٌ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ. وروَى أبو حفص بإسنادِه عن عيسى بنِ طلحةَ قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن تُزَوَّجَ المرأةُ على ذي قَرابتِها، مَخافَةَ القَطِيعَةِ (¬1). ولأنه مُفْضٍ إلى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ المَأمُورِ بصِلَتِها، فأقَلُّ أحْوالِه الكَراهَةُ. والأُخْرَى، لا يُكْرَهُ. وهو قولُ سليمانَ بنِ يَسارٍ، والشَّعْبِيِّ، وحسنِ بنِ حسنٍ (¬2)، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّه ليست بينَهما قَرابة تُحَرِّمُ الجمعَ، فلا يَقْتَضِي كَراهَةً، كسائرِ الأقارِبِ. 3142 - مسألة: (فإن جَمَع بينَهما في عَقْدٍ) واحدٍ (لم يَصِحَّ) ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 263. وأبو داود، في: المراسيل 142. وانظر تلخيص الحبير 3/ 168. (¬2) هو الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد، الإمام الهاشمي، العلوي، المدني، قليل الرواية والفتيا =

3143 - مسألة: (وإن تزوجهما في عقدين، أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى، سواء كانت بائنا أو رجعية، فنكاح الثانية باطل)

وَإنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَينِ، أَوْ تَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا فِي عِدَّةِ الأُخْرَى، سَوَاءٌ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيَّةً، فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [إذا جَمَعَ] (¬1) بَينَ الأخْتَين في عَقْدٍ واحدٍ (¬2)، أو جَمَعَ بينَ المرأَة وعَمَّتِها أو خَالتِها في عَقْدٍ، فعَقَدَ (¬3) عليهما معًا، لم يَصِحَّ العَقْدُ في واحدةٍ منهما؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ تَصْحيحُه فيهما، ولا مَزِيَّةَ لأحَدِهما على الآخَرِ (¬4)، فيَبْطُلُ فيهما، كما لو زُوِّجَتِ المرأةُ لِرَجُلَين (¬5)، وكذا لو تَزَوَّجَ خَمْسًا في عَقْدٍ واحدٍ، بَطَل في الجميعِ لذلك. 3143 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَهما في عَقْدَين، أو تَزَوَّجَ إحداهما في عِدَّةِ الأُخْرَى، سَواءٌ كانت بائِنًا أو رَجْعِيَّةً، فنِكاحُ الثانيةِ باطِلٌ) أمّا ¬

= مع صدقه وجلالته، توفي سنة تسع وتسعين وقيل: في سنة سبع وتسعين. سير أعلام النبلاء 4/ 483 - 487. (¬1) في الأصل: «يحرم الجمع». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «الأخرى». (¬5) في الأصل: «الرجلين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا تَزَوَّجَهما في عَقْدَين وعَلِمَ الأُولَى منهما (¬1)، فَنِكاحُها (¬2) صَحِيحٌ؛ لأنَّه لا جَمْعَ فيه، ونِكاحُ الثَّانِيةِ باطلٌ؛ لأنَّ الجمعَ يَحْصُلُ به، وبالعَقْدِ على الأُولَى تَحْرُمُ الثانيةُ، فلا يَصِحُّ عَقْدُه عليها حتى تَبِينَ الأولَى وتَنْقَضِيَ عِدَّتُها. فصل: فإنْ لم يَعْلَمْ أُولاهما، فعليه فُرْقَتُهما بعًا. قال أحمدُ، في رَجُلٍ تَزَوَّجَ أُختَين، لا يَدْرِي أيَّتَهما تَزَوَّجَ أولًا: يُفَرَّقُ بينَه وبينَهما؛ لأنَّ إحْدَاهما مُحَرَّمَة عليه، ونِكاحُها باطلٌ، ولا يَعْرِفُ المُحلَّلَةَ له، فقد اشْتَبَها عليه، ونِكاحُ إحْدَاهما صَحِيحٌ، ولا تُتَيَقَّنُ بَينُونَتُها منه إلَّا بطَلاقِهما جميعًا أو فَسْخِ نِكاحِهِما، فوَجَبَ ذلك، كما لو زَوَّجَ الوَلِيَّان ولم يُعْرَفِ الأوَّلُ منهما. وإن أحَبَّ أن يُفارِقَ إحداهما، ثم يُجَدِّدَ عَقْدَ الأُخْرَى ويُمْسِكَها، فلا بَأْسَ، وسَواءٌ فَعَل ذلك بقُرْعَةٍ أو بغيرِها، ولا يَخْلُو مِن ثلاثةِ أقسامٍ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فنكاحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُها، أن لا يكونَ دَخَل بواحدةٍ منهما، فله أن يَعْقِدَ على إحداهما في الخالِ بعدَ فِراقِ الأُخْرَى. الثاني، إذا دَخَل بإحدَاهما، فإن أرادَ نِكاحَها فارَقَ التي لم يُصِبْها بطَلْقَةٍ، ثم تَرَك المُصابَةَ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، ثم نَكَحَها؛ لأنَّنا لا نَأْمَنُ أن تكونَ هي الثانيةَ، فيكونَ قد أصابَها في نِكاحٍ فاسِدٍ، فلهذا اعْتَبَرْنا انْقِضاءَ عِدَّتِها. ويَحْتَمِلُ جَوازُ العَقْدِ عليها في الحالِ؛ لأنَّ النَّسَبَ لاحِقٌ به، فلا يُصانُ ذلك عن مائِه. فإن أحَبَّ نِكاحَ الأُخْرَى، فارَقَ المُصابَةَ بطَلْقَةٍ، ثم انْتَظَرَها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، ثم تَزَوَّجَ أُخْتَها. القسمُ الثالثُ، إذا دَخَل بهما، فليس له نِكاحُ واحدةٍ منهما حتى يُفارِقَ الأخْرَى، وتَنْقَضِيَ عَدَّتُها مِن حِينِ فُرْقَتِها، وتَنْقَضِيَ عِدَّةُ الأُخْرَى مِن حِينَ أصابَها. وإن وَلَدَتْ منه (¬1) إحْدَاهما، أو هما جميعًا، فالنَّسَبُ [لاحِقٌ به] (¬2)، لأنَّه إمَّا مِن نِكاحٍ صحيحٍ أو نِكاحٍ فاسدٍ، وكلاهما يَلْحَقُ النَّسَبُ فيه. وإن لم يُرِدْ نِكاحَ واحدةٍ منهما، فَارَقَهُما بِطَلْقَةٍ طَلْقةٍ. فصل: فأمَّا المَهْرُ، فإن لم يَدْخُلْ بواحدةٍ منهما، فلإحْدَاهما نِصْفُ المَهْرِ، ولا نَعْلَمُ مَن يَسْتَحِقَّه منهما، فيَصْطَلِحان عليه، فإن لم يَفْعَلَا، أُقْرِعَ بينَهما، فكانَ لمَن خَرَجَتْ قُرْعَتها مع يَمِينِها. وقال أبو بكرٍ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لإخوته».

3144 - مسألة: (وإن اشترى أخت امرأته، أو عمتها، أو خالتها، صح)

وَإنِ اشْتَرى أُخْتَ امْرَأَتِهِ، أوْ عَمَّتَهَا، أوْ خَالتَهَا، صَحَّ، وَلَمْ يَحِلَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتِياري أن يَسْقُطَ المَهْرُ إذا كان مُجْبَرًا على الطَّلاقِ قبلَ الدُّخُولِ. وإن دَخَل بواحدةٍ منهما أُقْرِعَ بينَهما، فإن وَقَعَتْ لغيرِ المُصابَةِ، فلها نِصْفُ المَهْرِ، وللمُصابةِ مَهْرُ المِثْلِ بما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِها، وإن وَقَعَتْ على المُصابةِ، فلا شيءَ للأُخرَى، وللمُصابَةِ المُسَمَّى جَمِيعُه. وإن أصابَهُما معًا (¬1)، فلإِحْدَاهما المُسَمَّى، وللأُخْرَى مَهْرُ المِثْلِ، يُقْرَعُ بينَهما فيه إن قُلْنا: الواجِبُ في النِّكاحِ الفاسِدِ مَهْرُ المِثْلِ. وإن قُلْنا بوُجُوبِ المُسَمَّى فيه، وَجَب ههُنا لكلِّ واحدةٍ (¬2) منهما. فصل: قال أحمدُ: إذا تَزَوَّجَ امرأةً، ثم تَزَوَّجَ أُخْتَها، ودَخَل بها (¬3)، اعْتَزَلَ زَوْجَتَه حتى تَنْقَضِيَ عِدَّة الثَّانيةِ. إنَّما كان كذلك؛ لأنَّه لو أرادَ العَقْدَ على أُخْتِها في الحالِ، لم يَجُزْ له حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ المَوْطُوءَةِ، فكذلك (¬4) لا يَجُوزُ له وَطْءُ امرأتِه حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أخْتِها التي أصابَها. 3144 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى أُخْتَ امرأتِه، أو عَمَّتَها، أو خالتَها، صَحَّ) لأنَّ الشِّراءَ يُرادُ للاسْتِمْتاعِ ولغيرِه، ولذلك (¬5) صَحَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «واحد». (¬3) بعده في الأصل: «في الحال». (¬4) في م: «فلذلك». (¬5) في م: «كذلك».

3145 - مسألة: (وإن اشتراهن في عقد واحد، صح)

لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُطَلِّقَ امْرأته وَتَنْقَضِيَ عِدَّتهَا، وَإنِ اشْتَرَاهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، صَحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ شِراءُ مَن لا تَحِلُّ له، كالمَجُوسِيَّةِ وأُخْتِه مِن الرَّضاعِ (ولا يَحِلُّ له وَطْؤُها حتى يُطَلِّقَ امرأتَه وتَنْقَضِيَ عِدَّتُها) لِئَلَّا يكونَ جامعًا بينَهما في الفِراشِ، أو جامعًا ماءَه في رَحِمِ أُخْتَين، وذلك لا يَحِلُّ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُومِنُ بِاللهِ وَاليَوْم الآخَرِ، فَلَا يَجْمَعْ مَاءَهُ في رَحِمِ أُخْتَينَ» (¬1). 3145 - مسألة: (وإنِ اشْتَراهُنَّ في عَقْدٍ واحِدٍ، صَحَّ) لما ذَكَرْنا، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في ذلك. ولو اشْتَرَى جارِيَة ووَطِئَها، حَلَّ له شِراءُ أُخْتِها وعَمَّتِها وخالتِها، وقد ذَكَرْناه. كما يَحِلُّ (¬2) له شِراءُ المُعْتَدَّةِ والمُزَوَّجَةِ، مع أنَّها لا تَحِلُّ له. 3146 - مسألة: وله وَطْءُ إحْدَاهُما؛ لأنَّ الأُخْرَى لم تَصِرْ فِرَاشًا. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال الحكمُ، وحَمّادٌ: لا يَقْرَبُ واحِدَةً منهما. ورُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ. وذَكَرَه أبو الخطابِ مذهبًا لأحمدَ. ولَنا، ¬

(¬1) ذكر الحافظ أن ابن الجوزي ذكره بلفظ: «ملعون من جمع ماء في رحم أختين». قال الحافظ: لا أصل له باللفظين، وقد ذكر ابن الجوزي اللفظ الثاني ولم يعزه إلى كتاب من كتب الحديث. وقال ابن عبد الهادي: لم أجد له سندًا بعد أن فتشت عليه في كتب كثيرة. تلخيص الحبير 3/ 166، 167. (¬2) في م: «لا يحل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لم يَجْمَعْ بينَهما في الفِراشِ، فلم يَحْرُمْ (¬1)، كما لو كان في مِلْكِه إحْدَاهما وحْدَها. فصل: وليس له الجَمْعُ بينَ الأُخْتَين مِن إمائِه في الوَطْءِ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ الجماعةِ. وكَرِهَه عمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وعمارٌ، وابنُ عمرَ، وابنُ مسعودٍ. ومِمَّن قال بتَحْرِيمِه؛ [عبدُ اللهِ بنُ عُتْبَةَ] (¬2)، وجابرُ بنُ زيدٍ، وطاوُسٌ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنَّه قال: أحلَّتْهُما آيَةٌ، وحَرَّمَتْهُما آيةٌ، ولم أكُنْ لأفْعَلَه. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ أيضًا (¬3). يُريدُ بالمُحَرِّمَةِ قولَه تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ}. وبالمُحَلِّلَةِ قولَه تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬4). وروَى ابنُ منصورٍ عن أحمدَ، وسأله عن الجَمْعِ بينَ الأُخْتَين المَمْلُوكَتَين، أحَرامٌ هو؟ قال: لا [أقولُ حَرامٌ، ولكنْ يُنْهَى عنه. وظاهرُ هذا أنَّه مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٍ. وقال داودُ، وأهلُ الظاهرِ: لا] (¬5) يَحْرُمُ. اسْتِدْلالًا بالآيةِ المُحَلِّلةِ؛ لأنَّ حُكْمَ الحَرائرِ في الوَطْءِ مُخالِفٌ لحُكْمِ الإِماءِ، ولهذا تَحْرُمُ الزيادةُ على أرْبَعٍ في الحَرائرِ، وتُباحُ في الإِمَاءِ بغيرِ حَصْرٍ. والمذهبُ تَحْرِيمُه؛ للآيةِ المُحَرِّمَةِ، فإنَّه يُرِيدُ بها الوَطْءَ والعَقْدَ جميعًا، بدليلِ أنَّ سائرَ المَذْكوراتِ ¬

(¬1) في م: «يجز». (¬2) في: المغني 9/ 538: «عبيد الله بن عبد الله بن عتبة». (¬3) أخرجه عنهما البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 164. (¬4) سورة المؤمنون 6، سورة المعارج 30. (¬5) سقط من: الأصل.

3147 - مسألة: (فإن وطيء إحداهما، فليس له وطء الأخرى حتى يحرم الموطوءة على نفسه بإخراج عن ملكه أو تزويج)

فَإِنْ وَطِيء إِحدَاهُمَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الأخْرَى حَتَّى يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ الأولَى بِإِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ تَزْويجٍ، وَيَعلَمَ أنها لَيسَتْ بِحَامِل. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الآيةِ يحرُمُ وَطْؤهُنَّ والعقدُ عليهنَّ، وآيةُ الحِلِّ مَخْصُوصَةٌ بالمُحَرَّماتِ جميعِهِنَّ، وهذه منهُنَّ، ولأنَّها امرأةٌ صارت فِراشًا، فحَرُمَتْ أُخْتُها، كالزَّوْجَةِ. 3147 - مسألة: (فإنْ وَطِيء إحدَاهُما، فليس له وَطْءُ الأخْرَى حتى يُحَرِّمَ المَوْطوءَةَ على نَفْسِه بإخْرَاج عن مِلْكِه أو تَزْويج) هذا قولُ علي، وابنِ عمرَ، والحسنِ، والأوْزاعِيِّ، وإسحاقَ، والشافعي. فإن رَهنَها، لم تَحِلَّ له أخْتُها؛ لأنَّ مَنْعَه مِن وَطْئِها لحقِّ المُرتَهِنِ لا لتَحرِيمِها، ولهذا يَحِلُّ له بإذْنِ المرتَهِنِ فيه، ولأنَّه يَقْدِرُ على فَكِّها متى شاءَ واسْتِرجاعِها إليه. وقال قتادةُ: إنِ اسْتَبْرَأها، حَلَّتْ له أخْتُها؛ لأنَّه قد زال فِراشُه، ولهذا لو أتَتْ بوَلَدٍ، فنَفَاه بدَعوَى الاسْتِبْراءِ انْتَفَى، فأشْبَه ما لو زَوَّجَها. ولَنا، قولُ علي، وابنِ عمرَ، ولأنَّه لم يَزُلْ مِلْكُه عنها، ولا حِلُّها له، فأشْبَه ما لو وُطِئَتْ بشُبْةٍ فاسْتَبْرَأها مِن ذلك الوَطْءِ، ولأنّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك لا يَمنَعُه وَطْأها، فلا يَأمَن (¬1) عَوْدَه إليها، فيكونُ ذلك (¬2) ذَرِيعَةً إلى الجَمعِ بينَهما. كان حَرَّمَ إحدَاهما [على نَفْسِه، لم تُبَحِ الأخْرَى؛ لأنَّ هذا لا يُحَرِّمُها، إنَّما هو يَمِينٌ يُكَفَّرُ، ولو كان يُحَرِّمُها إلَّا أنَّه لعارِض، متى شاء أزاله بالكَفّارَةِ، فهو كالحَيضِ والنِّفاسِ والإِحرامِ والصيامِ. فإن كاتَبَ إحداهما] (¬3)، فظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ أنَّه لا تَحِل له الأخْرَى، وهو مُقْتَصى كلام شيخِنا في الكَتابِ المشرُوحِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: تَحِل له الأخرَى؛ لأنَّها حَرُمَتْ عليه بسَبَبٍ لا يَقْدِرُ على رَفْعِه، فأشْبَه التَّزْويجَ. ولَنا، أنَّه [بسَبِيل مِن اسْتِباحَتِها] (¬4) بما لا يَقِفُ على غيرِهما (¬5). ¬

(¬1) في م: «بأس من». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «نشأ من إباحتها». (¬5) في الأصل: «غيرها». وبعده في: المغني 9/ 539: «فلم تبح له أختها، كالمرهونة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أخْرَجَها مِن مِلْكِه، لم تَحِلَّ له أخْتُها حتى يَسْتَبْرئ المُخْرَجَةَ ويَعلَمَ براءَتَها مِن الحَملِ (¬1). فإن كانت حامِلًا منه، لم تَحِلَّ له أخْتُها حتى تَضَعَ حَملَها، لأنَّه يكونُ جامِعًا ماءَه (¬2) في رَحِمِ أخْتَين، فهو بمَنْزِلَة نِكاحِ الأخت في عِدة أخْتِها. ¬

(¬1) في الأصل: «المحل». (¬2) سقط من: م.

3148 - مسألة: (فإن عادت إلى ملكه، لم يطأ واحدة منهما حتى

فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ، لَمْ يُصِبْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3148 - مسألة: (فإن عادَتْ إلى مِلْكِه، لم يَطَأ واحِدَةً منهما حتى

الأخْرَى. وَعَنْهُ، لَيسَ بِحَرَام، وَلَكِنْ يُنْهى عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحَرِّمَ الأخْرَى) متى زال مِلْكُه عن المَوْطُوءَةِ زَوالًا أحَلَّ له أخْتَها، فوَطِئَها، ثم عادت الأولَى إلى مِلْكِه، فليس له وَطْءُ إحدَاهما حتى يُحَرِّمَ الأخْرَى بإخْراج عن مِلْكِه أو تزويج. نَصَّ عليه أحمدُ (¬1). وقال أصحابُ الشافعيّ: لا تَحرُمُ عليه واحدةٌ منهما؛ لأنَّ الأولَى لم تَبْقَ فِراشًا، فأشْبَه ما لو وَطِئ أمَةً ثم اشْتَرَى أخْتَها. ولَنا، أنَّ هذه صارت فِراشًا، وقد رَجَعَتْ إليه التي كانت فِرَاشًا، فحَرُمَتْ كلُّ واحدةٍ منهما بكَوْنِ أخْتِها فِرَاشًا، كما لو انْفَرَدَتْ به. فأمَّا إذا وطيء أمَةً ثم اشْتَرَى أُخْتَها، فإنَّ المُشْتَرَاةَ لم تَكُنْ فِراشًا له، لكنْ هي مُحَرَّمَة عليه باسْتِفْرَاشِ أخْتِها. ولو أخْرَج المَوْطوءَةَ عن مِلْكِه، ثم عادت إليه قبلَ وَطْء أخْتِها، فهي حَلَالٌ له (¬2)، وأخْتُها مُحَرَّمَة عليه؛ لأنَّ أخْتَها فِراشُه. (و) قد رُوِيَ (عن أحمدَ) أنَّ الجَمعَ بينَ الأخْتَين في الوَطْءِ بمِلْكِ اليَمِينِ، (لا يحرُمُ، بل يُنْهى عنه) فيكونُ مَكْرُوهًا، وقد ذَكرناه. والمذهبُ أنَّ ذلك حَرامٌ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَطِئ أمَتَيه الأخْتَين (¬1) معًا، فوَطْءُ الثَّانيةِ مُحَرَّمٌ، ولا حَدَّ فيه؛ لأنَّها مِلْكُه، ولأنَّ (¬2) في حِلِّها اخْتِلافًا، وله سَبِيلٌ إلى اسْتِباحَتِها، بخِلافِ أخْتِه مِن الرَّضاعِ المَملُوكَةِ له. ولا يحِل له وَطْءُ واحدةٍ منهما (¬3) حتى يُحَرِّمَ الأخرَى ويَسْتَبْرِئَها. وقال القاضي، وأصحابُ الشافعيِّ: الأولَى باقِيَةٌ على الحِلِّ؛ لأنَّ الوَطْءَ الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلال. إلَّا أنَّ القاضيَ قال: لا يَطَؤها حتى يَسْتَبْرِيء الثانيةَ. ولَنا، أنَّ الثانيةَ قد صارتْ فِراشًا له، يَلْحَقُه نسَبُ وَلَدِها، فحَرُمَتْ عليه أخْتُها، كما لو وَطِئَها ابْتِدَاءً. وقولُهم: إنَّ الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحلال. ليس بخبر صحيحٍ، وهو مَتْرُوكٌ بما لو وَطِئ الأولَى في حَيضٍ أو نِفَاسٍ أو إحرامٍ، فإنَّ أختَها تَحرُمُ عليه، وتَحرُمُ عليه أمُّها وابْنَتُها على التأبيدِ، وكذلك لو وَطِئ بشُبْهةٍ في هذه الحالِ. ولو وَطِئ امرأتَه، حَرُمَتْ عَليه ابْنَتُها، سَواء وَطِئَها حَرامًا أو حَلالًا. ¬

(¬1) في م: «الاثنين». (¬2) في الأصل: «لكن». (¬3) سقط من: م.

3149 - مسألة: (وإن وطئ أمته ثم تزوج أختها، لم يصح عند أبي بكر)

وَإنْ وَطِئ أمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ أخْتها، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ. وَظَاهِرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ المُباشَرَةِ مِن الإِمَاءِ فيما دُونَ الفَرجِ، والنَّظرَ إلى الفَرجِ لشَهْوةٍ، فيما يَرجِعُ إلى تَحرِيمِ الأُخْتِ، كحُكْمِه في تَحرِيمِ الرَّبِيبَةِ. والصحيحُ أنَّها لا تُحَرِّمُ، لأنَّ الحِلَّ ثابِت بقولِه تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} (¬1). ومُخالفَةُ ذلك إنَّما تَثْبُتُ بقولِه تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ}. والمُرادُ به الجَمعُ في العَقْدِ أو الوَطْءِ، ولم يُوجَدْ واحدٌ منهما، ولا ما في مَعناهما. 3149 - مسألة: (وإن وَطِئ أمَتَه ثم تَزَوَّجَ أخْتَها، لم يَصِحَّ عندَ أبي بكر) وقد سُئِلَ أحمدُ عن هذا، فقال: لا يَجْمَعُ بينَ الأُخْتَين الأمَتَين. فيَحتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ النِّكاحَ لا يَصِحُّ. وهو إحدَى الرِّواياتِ (¬2) عن مالكٍ. قال القاضي: هو ظاهرُ كلام أحمدَ؛ لأنَّ النِّكاحَ تَصِيرُ به المرأةُ فِراشًا، ¬

(¬1) سورة النساء 23. (¬2) في الأصل: «الروايتين».

كَلامِ أحمَدَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا يَطَؤها حَتَّى يُحَرِّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ أن تَردَ على فِراشِ الأخْتِ، كالوَطْءِ، ولأنَّه فِعل في الأخْتِ (¬1) يُنافِي إباحَةَ أختِها المُفْتَرَشَةِ (2)، فلم يَجُزْ، كالوَطْءِ (وظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه يَصِحُّ) ذَكَرَه أبو الخطابِ (ولا يَطَؤها حتىِ يُحَرِّمَ المَوْطُوءَة) وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه سَبَبٌ يُسْتَباحُ به الوَطْءُ، فجازَ أن يَردَ على وَطْءِ الأخْتِ (¬2)، وَلَا يُبِيح كالشِّرَاءِ. وقال الشافعيُّ: يَصِحُّ النِّكاحُ، وتَحِلُّ له المَنْكُوحَةُ، وتَحرُمُ أخْتُها؛ لأنَّ النِّكاحَ أقْوَى مِن الوَطءِ بمِلْكِ اليَمِينِ، فإذا اجْتَمَعَا وَجَب تقديمُ الأقْوَى. ووَجْهُ الأولَى ما ذَكَرناه، ولأنَّ وَطْءَ مَملُوكَتِه مَعنى يُحَرِّمُ أخْتَها لعِلَّةِ الجمعِ، فمَنَعَ صِحَّةَ ¬

(¬1) بعده في م: «ما». (¬2) سقط من: م.

الْمَوْطُوءَةَ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ، لَمْ يَطأ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الأخرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ، كالزَّوْجِيَّةِ (¬1)، ويُفارِقُ الشِّراءَ، فإنَّه لا يَنْحَصِرُ في الوَطْءِ، ولهذا صَحَّ شِراءُ الأُخْتَين ومَن لا تَحِلّ له. وقولُهم: النِّكاحُ أقْوَى مِن الوَطْءِ. ممنوعٌ. وإن سُلِّمَ، فالوَطْءُ أسْبَقُ، فيُقَدَّمُ ويمنَعُ صِحَّةَ ما يَطْرأ عليه مِمَّا يُنافِيه، كالعِدَّةِ تمنَعُ ابْتِداء نِكاحِ الأُخْتِ، وكذلك وَطْءُ الأمَةِ، يُحَرِّمُ نِكاحَ ابْنَتِها وأمِّها، ولأنَّ هذا بمَنْزِلَةِ نِكاحِ الأُخْتِ في عِدَّةِ أخْتِها، لكَوْنِه لم يَسْتَبْرِيء (¬2) المَوْطُوءَةَ (فإن عادَتْ إلى مِلْكِه، لم يَطأ واحدةً منهما حتى يُحَرِّمَ الأخْرَى) إذا قُلْنا بصِحَّةِ. النِّكاحِ؛ لأنَّ الأولَى عادت إلى الفِراشِ، فاجْتمَعَا فيه، فلم [تُبَح له] (¬3) واحدةٌ منهما قبلَ إخْراجِ الأخْرَى عن الفِراش. ¬

(¬1) في م: «كالزوجة». (¬2) في م: «يشتر». (¬3) في م: «تستبح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن زَوَّجَ الأمةَ المَوْطُوءَةَ أو أخْرَجَها عن مِلْكِه، فله نِكاحُ أُخْتِها، فإن عادتِ الأمَةُ إلى مِلْكِه، فالزَّوْجِيَّةُ بحالِها، وحِلّها باقٍ؛ لأنَّ النِّكاحَ صحيحٌ، وهو أقْوَى، ولا تَحِلّ له (¬1) الأَمَةُ. وعنه، أنَّه يَنْبَغِي أن تَحرُمَ إحداهما؛ لأنَّ أمَتَه التي كانت فراشًا قد عادت إليه، في المنكوحةُ مُسْتَفْرَشَةٌ، فأشْبَه أمَتَيه اللتين (¬2) وطئ إحداهما بعدَ تَزْويجِ الأخرَى، ثم طَلَّقَ (¬3) الزوجُ اُّخْتَها. فإن تَزَوّجَ امرأةً ثم اشْتَرَى أخْتَها، صَحَّ الشِّراءُ، ولم تَحِلَّ له؛ لأنَّ النِّكاحَ كالوَطْءِ، فأشْبَه ما لو وَطِئ أمَتَه ثم اشْتَرَى أخْتَها، فإن وَطِئ أمَتَه (¬4) حَرُمَتَا عليه حتى يَسْتَبْرِئ الأمَةَ، ثم تَحِلّ له زَوْجَتُه دونَ أمَتِه؛ لأنَّ النِّكاحَ أقْوَى وأسْبَقُ، وإنَّما وَجَب الاسْتِبْرَاءُ لِئَلَّا يكونَ جامِعًا ماءَه في رَحِمِ أخْتَين. ويحتَمِلُ أن تَحرُمَا عليه جميعًا حتى يُحَرِّمَ إحداهما، كالأمَتَين. وحُكْمُ عَمَّةِ المرأةِ وخالتِها، كأخْتِها في تَحرِيمِ الجمعِ بينَهما في الوَطْءِ، والتَّفْصيلُ [فيها كالتفصيلِ] (¬5) في الأخْتَيَن، على ما ذُكِرَ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «التي». (¬3) في م: «يطلق». (¬4) في م: «أمتيه». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا بَأسَ أن يَجْمَعَ بينَ مَن كانت زَوْجَةَ رَجُلٍ (¬1) وابْنَتَه مِن غيرها. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، يَرَوْنَ الجَمعَ بينَ المرأةِ ورَبِيبَتِها في النِّكاحِ. فَعَلَه عبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، وعبدُ اللهِ بنُ صَفْوانَ بنِ أمَيَّةَ (¬2). وهو قولُ سائرِ الفقهاءِ، إلا الحسنَ، وعِكْرِمةَ، وابنَ أبي لَيلَى، فإنَّهم كَرِهُوه؛ لأنَّ إحداهما لو كانت ذَكَرًا حَرُمَتْ عليه الأخْرَى، فأشْبَه المرأةَ وعَمَّتَها. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3). ولأنَّهما لا قَرابَةَ بينَهما، فأشْبَها الأجْنَبِيَتين، ولأنَّ الجمعَ حَرُمَ خوْفًا مِن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي المكي أبو صفوان، من أشراف قريش، لا صحبة له، كان سيد أهل مكة في زمانه لحلمه وسخائه وعقله، قتل مع ابن الزبير وهو متعلق بالأستار سنة ثلاث وسبعين. سير أعلام النبلاء 4/ 150، 151. العبر 1/ 82. (¬3) سورة النساء 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ القَرِيبةِ بينَ المُتَناسِبَين، ولَا قَرابَةَ بينَ هاتَين، وبهذا يُفارِقُ ما ذَكَرُوه. فصل: ولو كان لرجل ابنٌ مِن غيرِ زَوْجَتِه، ولها بِنْتٌ مِن غيرِه، أو كان له بِنْتٌ ولها ابنٌ، جاز تزويجُ أحدِهما مِن الآخَرِ في قولِ عامَّةِ الفقهاءِ. وحُكِيَ عن طاوُس كَرَاهِيتُه إذا كان مِمّا وَلَدَتْه المرأةُ بعدَ وَطْءِ الزَّوْجِ لها. وإلأوَّلُ أولَى؛ لعمومِ الآيةِ والمَعنَى الذي ذَكَرناه، فإنَّه ليس بينَهما قَرابَةٌ ولا سَبَبٌ يَقْتَضِي التحريمَ، وكونُه أخًا لأخْتِها، لم يَرِدِ الشّرعُ بأنَّه سَبَبٌ للتّحريمِ، فيَبْقَى على الإِباحَةِ؛ لعمومِ الآيةِ. ومتى وَلَدَتِ المرأةُ مِن ذلك الرجلِ وَلَدًا، صار عَمّا [لوَلَدَ وَلَدَيهما] (¬1) وخالًا. فصل: إذا تَزَوَّجَ امرأةً لم تَحرم أمُّها ولا ابْنَتُها على أبِيه ولا ابْنِه، فمتى تَزَوَّجَ امرأةً وزَوَّجَ ابنَه (¬2) أمَّها، جازَ؛ لعَدَمِ أسبابِ التَّحرِيمِ، فإذا وُلِدَ لكلِّ واحدٍ منهما (¬3) وَلَدٌ، كان وَلَدُ الأبِ عَمَّ وَلَدِ الابنِ (¬4)، ووَلَدُ الابنِ خَال وَلَدِ الأبِ. ويُروَى أنَّ رجلًا أتَى عبدَ الملكِ بن مَروانَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي تَزَوَّجْتُ امرأةً، وزَوَّجْتُ ابْنِي بأمِّها، فأجِزْنا (¬5). ¬

(¬1) في النسختين: «لولديهما»، والمثبت كما في المغني 9/ 543. (¬2) في م: «أباه». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «الأم». (¬5) في م: «فأخبرنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال عبدُ الملكِ: إن أخْبَرتَنِي بقَرابةِ وَلَدِك مِن وَلَدِ ابنِك (¬1) أجَزْتُكَ (¬2). فقال الرجلُ: يا أميرَ المؤمنين، هذَا العُريانُ بنُ الهيثَمِ الذي وَلَّيتَه قائِمَ سَيفِكَ، إن عَلِم ذلك فلا تُجِزْنِي. فقال العُريانُ: أحدُهما عَمُّ الآخَرِ، والآَخرُ خَالُه. فصل: إذا تَزَوَّجَ رجلٌ امرأةً، وزَوَّجَ ابنَه بِنْتَها أو أمَّها، فزُفَّتِ امرأةُ كل واحدٍ منهما إلى صاحِبِه، فوَطِئَها، فإنَّ وَطْءَ الأوَّلِ يُوجِبُ عليه مَهْرَ مِثْلِها؛ لأنَّه وَطْءُ شُبْهةٍ، ويُفْسَخُ به نِكاحُها مِن زَوْجِها؛ لأنَّها صارَتْ بالوَطْءِ حَلِيلَةَ أبِيه أو ابنه، ويَسْقُطُ به مَهْرُ الموْطُوءَةِ عن زَوْجِها؛ لأنَّ الفَسْخَ جاء (¬3) مِن قِبَلِها بتَمكنِها مِن وَطْئِها، ومُطاوَعَتِها عليه، ولا شيءَ لزَوْجِها على الواطئ؛ لأنَّه لم يَلْزَمه شيءٌ يَرجِعُ به، ولأنَّ المرأةَ مُشارِكةٌ (¬4) في إفْسادِ نِكاحِها بالمُطاوَعةِ، فلم يَجِبْ على زَوْجِها شيءٌ، كما لو انْفَرَدَتْ به. ويحتَمِلُ أن يَجِبَ علْيه لزَوْجها نِضفُ مَهْرِ مِثْلِها؛ لأنَّه أفْسَدَ نِكاحَها قبلَ الدخولِ، أشْبَه المرأةَ تُفْسِدُ نِكاحَه بالرَّضاعِ، ويَنْفَسِخُ نِكاحُ الواطِيء أيضًا؛ لأنَّ امرَأتَه صارت أمًّا لمَوطوءتِه أو بِنْتًا لها، ولها نِصف المُسَمَّى. فأما وَطْءُ الثاني، فيُوجِبُ مهرَ المِثْلِ للموطوءةِ خاصَّةً. فإن أشْكَلَ الأوَّلُ، انْفَسَخَ النِّكاحانِ، ولكلِّ واحدةٍ مَهْرُ مِثْلِها على واطِئِها، ولا يَثْبُتُ ¬

(¬1) في م: «أبيك». (¬2) في م: «أخبرتك». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «مشكوكة».

3150 - مسألة: (ولا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع، ولا للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين، فإن طلق إحداهن، لم يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها)

وَلَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ أَنْ يَجْمَعَ بَينَ أكثَرَ مِنْ أَربَعٍ، وَلَا لِلْعَبْدِ أنْ يَتَزَوَّجَ أكثَرَ مِنَ اثْنَتَينِ، وَإنْ طَلَّقَ إحدَاهُنَّ، لَمْ يَجُزْ أن يَتَزَوَّجَ أخْرَى حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُجُوعُ أحدِهما على الآخَرِ، ويَجِبُ لامرأةِ كل واحدٍ منهما على الآخرِ نِصف المُسَمَّى، ولا يَسْقُطُ بالشَّكِّ. 3150 - مسألة: (ولا يَحِلُّ للحُرِّ أن يَجْمَعَ بينَ أكثرَ مِن أربَعٍ، ولا للعَبْدِ أن يَتَزَوَّجَ أكثرَ مِن اثْنَتَين، فإن طَلَّقَ إحدَاهُنَّ، لم يَتَزَوَّجْ أخرَى حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الحُرَّ لا يَحِلُّ له أن يَجْمَعَ بينَ أكثرَ مِن أربَعِ زوجاتٍ. لا نَعلَمُ أحدًا منهم خالفَ في ذلك، إلَّا شيئًا يُحكَى عن القاسمِ بنِ إبراهيمَ (¬1)، أنَّه أباحَ تِسْعًا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَعَ} (¬2). والواوُ للجَمعِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ماتَ عن تِسْع. وهذا خَرقٌ للإِجْماعِ وتركٌ للسُّنَّةِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لغَيلَانَ بنِ سَلَمَةَ، حينَ أسْلَمَ وتَحتَه عَشْرُ نِسْوةٍ: «أمسِكْ أربَعًا وفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». وقال نَوْفَلُ بنُ مُعاويةَ: أسْلَمتُ وتَحتِي ¬

(¬1) القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الحسني العلوي الرسي أبو محمد، فقيه شاعر، من أئمة الزيدية، شقيق ابن طباطبا (محمد بن إبراهيم) أعلن دعوته بعد موت أخيه، له رسائل في الإمامة والعدل والتوحيد وغير ذلك، توفي سنة ست وأربعين ومائتين. الأعلام، للزركلي 6/ 5. (¬2) سورة النساء 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمسُ نِسْوَةٍ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَارِقْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ». رَواهما الشافعيُّ في «مُسْنَدِه» (¬1). وإذا مُنِعَ مِن اسْتِدامَةِ زِيادَةٍ على أربَعٍ، فالابتِداءُ أوْلَى، والآيةُ أرِيدَ بها التَّخْيِيرُ بينَ اثْنَتَين وثلاثٍ وأربَع، كما قال: {أوْلِي أجْنِحَةٍ مثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬2). ولم يُرد أنَّ لكلِّ مَلَكٍ تِسْعَةَ أجْنِحَةٍ، ولو أراد ذلك لقال: تِسْعَة. ولم يَكُنْ للتَّطْويلِ معنًى، ومَن قال غيرَ ذلك فقد جَهِل اللُّغَةَ العربيةَ. وأمَّا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فمَخْصُوص بذلك، ألا تَرَى أنَّه جَمَع بينَ أكثر مِن تِسْع. فصل: وليس للعَبْدِ أن يَزِيدَ على [أكثر مِن] (¬3) اثْنَتَين، ولا خِلافَ في ¬

(¬1) في: كتاب النكاح. ترتيب مسند الشافعي 2/ 16. كما أخرج الأول الترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 60، 61. وابن ماجه، في: باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 628. والإمام مالك، في: باب جامع الطلاق، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 586. والإمام أحمد، في المسند 2/ 44. وصححه في الإرواء 6/ 291 - 295. وكما أخرج الثاني البيهقي، في: باب من مسلم وعنده أكثر من أريع نسوة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 184. وهو ضعيف، انظر الإرواء 6/ 295. (¬2) سورة فاطر 1. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَوازِ الجمعِ بينَ اثْنَتَين له، واخْتَلَفُوا في إباحَةِ الأربَعِ له، فمذهبُ أحمدَ أنَّه لا يُباحُ له إلَّا اثْنَتَان. وهذا قولُ عمرَ بنِ الخطابِ، وعلي، وعبدِ الرحمنِ بن عَوْفٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال عطاء، والحسنُ، والشعبِي، وقَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ، والشافعي، وأصحابُ الرأي. وقال القاسِمُ بنُ محمدٍ، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، ومالك، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ: له نِكاحُ أربَع؛ لعمومِ الآيةِ، ولأنَّ هذا طَرِيقُه اللَّذَّةُ والشَّهْوَةُ، فساوَى العَبْدُ فيه الحُرَّ، كالمَأكُولِ. ولَنا، أنَّه قولُ مَن سَمَّينَا مِن الصَّحابةِ، ولم يُعرَفْ لهم مُخالِف في عَصرِهِم، فكان إجماعًا. وقد روَى لَيثُ بنُ أبي سُلَيم عن الحَكَمِ بنِ عُتَيبَةَ (¬1)، قال: أجْمَعَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، على أنَّ العَبْدَ لا يَنْكِحُ أكثرَ مِن اثْنَتَين (¬2). ويُقَوِّى هذا ما (¬3) روَى (¬4) الإمامُ أحمدُ بإسْنادِه عن محمدِ بنِ سِيرِينَ، أنَّ عمرَ سَألَ ¬

(¬1) في الأصل: «قتيبة». وهو الحكم بن عتيبة الكندي أبو محمد، مولاهم الكوفي، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، كان ثقة ثبتا فقيها، توفي سنة خمس عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 208 - 213. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 145. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 158. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في الأصل: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الناسَ: كم يَتَزَوَّجُ العَبْدُ؟ فقال عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ: ثِنْتَين، وطَلاقُه ثِنْتَين (¬1). فدَلَّ هذا على أن ذلك كان بمَحضر مِن الصَّحابةِ وغيرِهم، فلم يُنْكر، وهذا يَخُصُّ عُمُومَ الآيةِ، على أنَّ فيها ما يَدُلُّ على إرادَةِ الأحرارِ، وهو قولُه تعالى: {أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَنُكم} (¬2). ويُفارِقُ النِّكاحُ المأكُولَ، فإنَّه مَبْنِيٌّ على التَّفْضِيلِ، ولهذا فارَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أمته، ولأنَّ فيه مِلْكًا، والعَبْدُ يَنْقُصُ في المِلْكِ عن الحُرِّ. فصل: إذا تَزَوَّجَ الرجلُ امرأةً، حَرُمَتْ عليه أخْتُها وعمَّتُها وخالتُها وبِنْتُ أخيها [وبنتُ أخْتِها تَحرِيمَ جَمع] (¬3)، وكذلك إذا تَزَوَّجَ الحُرُّ أربعًا، حَرُمَتِ الخامِسَةُ تَحرِيمَ جمع. وإن تَزَوَّجَ العَبْدُ اثْنَتَين، حَرُمَتِ الثالثةُ تحريمَ جَمع. فإذا طَلَّقَ زَوْجَتَه طَلاقًا رَجْعِيًّا، فالتَّحرِيمُ باقٍ بحالِه في قولِهم جميعًا، وإن كان الطَّلاقُ بائِنًا أو فَسْخًا، فكذلك حتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. يروَى ذلك عن علي، وابنِ عباس، وزيدِ بنِ ثابتٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأي. ¬

(¬1) أخرجه الشافعي، في: باب في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب مسند الشافعي 2/ 57. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 158. (¬2) سورة النساء 3. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاسِمُ بنُ محمدٍ، وعروةُ، وابنُ أبي لَيلَى، ومالكٌ، والشافعيّ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ: له نِكاحُ جميعِ مَن سَمَّينَا في تَحرِيم الجمعِ (¬1). ورُوِيَ ذلك عن [زيدِ بنِ] (¬2) ثابتٍ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ الجمعُ بينَهما في النِّكاحِ، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُم أُمَّهاتُكُم}. أي نِكاحُهُنَّ. وقال: {وَأَن تَجْمَعُوا بَينَ الأخْتَينِ}. معطوفًا عليه. والبائِنُ ليست في نِكاحِه، ولأنَّها بائِنٌ، فأشْبَهتِ المُطَلَّقَةَ قبلَ الدُّخولِ (¬3). ولَنا، قولُ علي، وابنِ عباس، ورُوِيَ عن عَبِيدَةَ السَّلْمانيِّ أنَّه قال (1): ما أجْمَعَتِ الصَّحابَةُ على شيءٍ كإجْماعِهم على أربَع قَبْلَ الظُّهْرِ وأن لا تُنْكَحَ المرأةُ في عِدَّةِ أخْتِها. ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْم الآخِرِ، فَلَا يَجْمَع مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَينِ» (¬4). ورُوِيَ عن أبي الزِّنادِ، قال: كان للوليدِ بنِ عبدِ الملكِ أربَعُ نِسْوَةٍ، فطَلَّقَ واحدةً الْبَتَّةَ، وتَزَوَّجَ قبلَ أن تَحِلَّ، فعابَ ذلك كثيرٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «بها». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الفُقَهاءِ، وليس كُلُّهُم عابَه (¬1). قال سعيدُ بنُ منصورٍ: إذا عابَ عليه سعيدُ بنُ المُسَيَّب فَأيُّ شيءٍ بَقِيَ! ولأنَّها مَحبُوسَة عن النِّكاحِ لحقِّه، أشْبَه ما لو كان الطَّلاقُ رَجْعِيًّا (¬2)، وفارَقَ المُطَلَّقَةَ قبلَ الدُّخولِ بهذا (¬3). فصل: ولو أسْلَمَ زَوْجُ المجُوسِيَّةِ أو الوَثَنِيَّةِ، أو انْفَسَخَ النِّكاحُ بينَ الزَّوْجَين بخُلْعٍ أو رَضاع، أو فَسْخ بعَيبٍ أو إغسارٍ أو غيرِه، لم يَكُنْ له أنْ يَتَزَوَّجَ أحدًا مِمَّن يَحرُمُ الجمعُ بينَه وبينَ زَوْجَتِه حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، سَواء قُلْنا بتعجِيلِ الفرقَةِ أو لم نَقُلْ. فإن أسْلَمَتْ زَوْجَتُه فتَزَوَّجَ أُخْتَها في عِدَّتِها، ثم أسْلَمَا، اخْتارَ منهما واحدَةً، كما لو (¬4). تَزَوَّجَهُما معًا، وإن أسْلَمَ بعدَ انْقِضاءِ عِدَّةِ الأولَى، بانتْ، وثَبَت نِكاحُ الثَّانِيةِ. فصل: إذا أعتَقَ أمَّ وَلَدِه، أو أمَةً كان يُصِيبُها، فليس له أن يَتَزَوَّجَ أخْتَها حتى يَنْقَضِيَ اسْتِبْراؤها. نصَّ عليه أحمدُ في أمِّ الوَلَدِ. وقال أبو يوسف، ومحمدُ بنُ الحسنِ: يَجُوزُ؛ لأنَّها ليست بزَوْجَةٍ، ولا في عِدَّةٍ مِن نِكاح. ولَنا، أنَّها مُعتَدَّة منه، فلم يَجُزْ له نِكاحُ أخْتِها، كالمُعْتَدَّةِ ¬

(¬1) أخرجه سعيد، في: باب الحكم في امرأة المفقود، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 400. (¬2) بعده في المغني 9/ 478: «ولأنها معتدة في حقه، أشبهت الرجعية». (¬3) في م: «بها». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن نِكاح أو وَطْءٍ بشُبْهةٍ، ولأنَّه لا يَأمَنُ أنْ يكونَ ماؤه في رَحِمِها، فيكونَ داخلًا في عُمُومِ مَن جَمَع ماءَه في رَحِمِ أخْتَين، ولا يُمنَعُ مِن نِكاحِ أربَعٍ سِواها. ومَنَعَه زُفَرُ. وهو غَلَط؛ لأنَّ ذلك جائِز قبلَ إعتاقِها، فبعدَه أوْلَى. فصل: ولا يمنَعُ مِن نِكاحِ أمةٍ في عِدَّةِ حرَّةٍ بائِنٍ. ومَنَعَه أبو حنيفةَ، كما يَحرُمُ عليه أن يَتَزَوَّجَها في صُلْبِ نِكاحِها. ولَنا، أنَّه عادِمٌ للطَّوْلِ، خائِف للعَنَتِ، فأُبِيحَ له نِكاحُها؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬1) الآية. ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَجُوزُ في صُلْبِ نِكاحِ الحُرَّةِ، بل يَجُوزُ إذا تَحَقَّقَ الشَّرطان. فصل: وإن زَنَى بامرأةٍ، فليس له أن يَتَزَوَّجَ أخْتَها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، وحُكْمُ العِدَّةِ مِن الزنَى والعِدَّةِ مِن وَطْءِ الشُّبْهةِ حُكْمُ العِدَّةِ مِن النِّكاحِ، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ الله تعالى. فإن زَنى بأخْتِ امرأتِه، فقال أحمدُ: يُمسِكُ عن وَطْءِ امرأتِه حتَّى تَحِيضَ ثَلاثَ حِيَض. وعنه، حَيضَةً. ويَحتَمِلُ أن لا تَحرُمَ بذلك أخْتُها ولا أربَعٌ سِواها؛ لأنها ليست مَنْكُوحَةً، ومُجَرَّدُ الوَطْءِ لا يمنَعُ، بدلِيلِ الوَطْءِ في مِلْكِ اليَمِينِ، فإنَّه لا يَمنَعُ أربَعًا سِواها. فصل: إذا ادَّعَى الزوجُ أنَّ امرأتَه أخْبَرَتْه بانْقِضاءِ عِدَّتِها في (¬2) مُدَّةٍ ¬

(¬1) سورة النساء 25. (¬2) سقط من: م.

فصل: النَّوْعُ الثَّانِي، مُحَرَّمَات لِعَارِضٍ يَزُولُ، فَيَحرُمُ عَلَيهِ نِكَاحُ زَوْجَةِ غَيرِهِ، وَالْمُعتَدَّةُ مِنْهُ، وَالْمُسْتَبْرئة مِنه، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُوزُ انْقِضاؤها فيها، وكَذَّبَتْه، أبِيحَ له نِكاحُ أخْتِها وأربَعٍ سِواها في الظَّاهِرِ، فأمّا في الباطِنِ، فيَنْبَنِي (¬1) على صِدقِه في ذلك؛ لأنَّه حَقّ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فيُقْبَلُ قَولُه فيه، ولا يُصَدَّقُ في نَفْي نَفَقَتِها وسُكْناها ونَفْي (¬2) النسَبِ؛ لأنَّه حق لها ولوَلَدِها، فلا يُقْبَلُ قولُه فيه. وبه قال الشافعي، وغيرُه. وقال زُفَرُ: لا يُصَدَّقُ في شيءٍ؛ لأنَّه قول واحدٌ لا يُصَدَّقُ في بعضِ حُكْمِه، فلا يُصَدَّقُ في البعضِ الآخَرِ، قِياسًا للبعضِ على البعضِ؛ وذلك لأنَّه لا يُمكِنُ أن يكونَ القولُ الواحدُ صِدقًا كَذِبًا. ولَنا، أنَّه قولٌ يَتَضَمَّنُ إبْطال حقٍّ لغيرِه، وحقًّا له لا ضَرَرَ على غيرِه فيه، فوَجَبَ أن يُصَدَّقَ في أحَدِهما دونَ الآخَرِ، كما لو اشْتَرَى عبدًا ثم أقَرَّ أنَّ البائِعَ كان أعتَقَه، صُدِّقَ في حُرِّيته ولم يُصَدَّقْ في الرُّجوعِ بثَمَنِه. وكذلك لو أقَرَّ أنَّ امرأتَه أخْتُه مِن الرَّضاعِ قبلَ الدُّخولِ، صُدِّقَ (¬3) في بَينُونَتِها وتَحرِيمِها عليه، ولم يَسْقُطْ مَهْرُها إذا كَذَّبَتْه. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (النوعُ الثاني، مُحَرَّمَاتٌ لعارِض يَزُول، فيَحرُمُ عليه نِكاحُ زَوْجَةِ غيرِه) بغيرِ خِلافٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: ¬

(¬1) في م: «فيبنى». (¬2) في م: «تعين». (¬3) سقط من: الأصل.

3151 - مسألة: (وتحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها)

وَتحرُمُ الزَّانِيَةُ حَتَّى تَتُوبَ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُها، ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} (والمُعتَدَّةُ منه) لقولِه تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (¬1). (و) تَحرُمُ (المُسْتَبْرِئَةُ منه) لذلك، ولأن تَزْويجَها يُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِياهِ واشْتِباهِ الأنْسابِ. وسَواءٌ في ذلك المُعتَدَّةُ مِن وَطْءٍ مُباحٍ أو مُحَرَّم، أو مِن غيرِ وَطْءٍ؛ لأنَّه لا يُؤمَنُ أن تكونَ حامِلًا، فلو أبحنا تَزْويجَها لاخْتَلَطَ نَسَبُ المُتَزَوِّجِ بنَسبِ الوَاطِيء الأوَّلِ. ولا يَجُوزُ نِكاحُ المُرتابَةِ بعدَ العِدَّةِ بالحملِ (¬2)؛ ذلك. 3151 - مسألة: (وتَحرُمُ الزَّانِيَةُ حتى تتوبَ وتَنْقَضيَ عِدَّتُها) إذا زَنَتِ المرأةُ، لم يَحِلَّ نِكاحُها لمَن (¬3) يَعلَمُ ذلك إلَّا بشَرطَين؛ أحَدُهما، انْقِضاءُ عِدَّتِها بوَضْعِ الحملِ [إن حَمَلَتْ] (¬4) مِن الزِّنَى، ولا يَحِل نِكاحُها قبلَ الوَضْعِ. وبهذا قال مالكٌ، وأبو يوسفَ. وهو إحدى الرِّوايَتَين عن أبي حنيفةَ. وقال في الأخْرَى: يَحِلُّ نِكاحُها ويَصِحُّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه وَطْءٌ لا يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فلم يُحَرِّمِ النِّكاحَ، ¬

(¬1) سورة البقرة 235. (¬2) في م: «بالحل». (¬3) بعده في م: «لم». (¬4) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو لم تَحمِلْ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلَا يَسْقِي مَاءَهُ. زَرعَ غَيرِهِ» (¬1). يعني وَطْءَ الحَوامِلِ. وقَول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُوطَأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ» (¬2). حديث صحيحٌ، وهو عام. ورُوِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّب، أنَّ رجلًا تَزَوَّجَ امرأةً، فلمَّا أصابَها وَجَدَها حُبْلَى، فرُفِعَ ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ففَرَّقَ بينَهما، وجَعَل لها الصَّداقَ، وجَلَدَها مائةً. رَواه سعيدٌ (¬3). ورَأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - امرأةً مُجِحًّا (¬4) على بابِ فُسْطَاطٍ، فقال: «لَعَلَّهُ يرِيدُ أنْ يلمَّ بِها (¬5)؟» قالوا: نعم. قال: «لَقَد همَمتُ أنْ ألْعَنَهُ لَعنَةً تَدخُلُ مَعَه قَبْرَهُ، كَيفَ يَسْتَخْدِمُه وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ؟ أم كَيفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟». أخْرَجَه مسلم (¬6). ولأنَّها حامِلٌ مِن غيرِه، فحَرُمَ عليه نِكاحُها، كسائرِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 497. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية. . . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 64. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 108، 109. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 497. والدارمي، في: باب في استبراء الأمة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 28، 62، 87. (¬3) في: باب المرأة تزوج في عدتها. سنن سعيد بن منصور 1/ 188. (¬4) سقط من: م. وامرأة مجح: قريبة الولادة. (¬5) يلم بها: أي يطؤها، وكانت حاملا مسبية، لا يحل جماعها حتى تضع. (¬6) تقدم تخريجه في 19/ 428.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَوامِلِ. وإذا ثَبَت هذا، لَزِمَتْها العِدَّةُ، وحَرُمَ النِّكاحُ فيها؛ لأنَّها في الأصلِ لمعرِفةِ بَراءَةِ الرَّحِمِ، ولأنَّها قبلَ العِدَّةِ يَحتَمِلُ أن تكونَ حامِلًا، فلم يَصِحَّ نِكاحُها، كالمَوْطُوءَةِ بشُبْهةٍ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعي: لا عِدَّةَ عليها؛ لأنَّه وَطْءٌ لا تَصِيرُ به فِراشًا، فأشْبَه وَطْءَ الصَّغِيرِ. ولَنا، ما ذَكَرناه، وإذا لم يَصِحَّ نِكاحُ الحاملِ، فغيرُها أوْلَى؛ لأنَّ وَطْءَ الحاملِ لا يُفْضِي إلى اشْتِباهِ النَّسَبِ، وغيرُها يَحتَمِلُ أن يكُونَ وَلَدُها مِن الأوَّلِ، ويَحتَمِلُ أن يكونَ مِن الثاني، فيُفْضِي إلى اشْتِباه الأنْسابِ، فكان بالتَّحرِيم أوْلَى، ولأنَّه وَطء في القُبُلِ، فأوْجَبَ العِدَّةَ، كوَطْء الشُّبْهةِ، ولا نُسَلِّمُ وَطْءَ الصغيرِ الذي يمكِنُه الوَطْءُ. والشَّرطُ الثاني، أنَّ تتوبَ مِن الزنَى. وبه قال قَتادَةُ، وإسحاق، وأبو عُبَيدٍ. وقال أبو حنيَفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ: لا يُشْتَرَطُ ذلك؛ لِما روِيَ أنَّ عمرَ ضَرَب رجلًا وامرأةً في الزِّنَى، وحَرَص أن يَجْمَعَ بينَهما، فأبَى الرجلُ (¬1). ورُوِيَ أنَّ رجلًا ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 203، 204. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 224. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 248. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سأل ابنَ عباس عن نِكاحِ الزَّانِيَةِ، فقال: يجوزُ، أرَأيتَ لو سَرَقَ مِنْ كَرم، ثم ابْتاعَه، أكان يجوزُ؟ ولَنا، قولُ الله عزَّ وجلَّ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} (¬1). وهي قبلَ التَّوبَةِ في حُكْمِ الزِّنَى، فإذا تابَتْ (¬2) زال ذلك؛ لقولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (¬3). وقولِه: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحُوبَةَ» (¬4). ورُوِيَ أنَّ مَرثَدًا الغَنَويَّ دَخَل مَكَّةَ، فرأى امرأةً فاجرةً يُقال لها: عَنَاق. فَدَعَتْهُ إلى نَفْسِها، فلم يُجِبْها، فلمَّا قَدِم المدينةَ سألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أنْكِحُ عَنَاقًا؟ فلم يُجِبْه، فنزلَ قولُه تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (¬5). فدَعاه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَلا عليه الآيةَ وقال: «لا تَنْكحها» (¬6). ولأنَّها إذا كانَتْ مُقِيمَةً على الزِّنَى لم يَأمَنْ أن تُلْحِقَ ¬

(¬1) سورة النور 3. (¬2) في الأصل: «بانت». (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب ذكر التوبة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1420. (¬4) الحوبة: الإثم. والحديث أخرجه أبو نعيم، في: حلية الأولياء 1/ 270. (¬5) سورة النور 3. (¬6) أخرجه أبو داود، في: باب في قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية} من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 473. والترمذي، في: باب ومن سورة النور، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 12/ 42 - 44. والنسائي، في: باب تزويج الزانية، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 54، 55. وصححه في الإرواء 6/ 296، 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به وَلَدًا مِن غيرِه، وتُفْسِدَ فِراشَه. فأمَّا حديثُ عمرَ، فالظاهِرُ أنَّه اسْتَتَابَهما، وحديثُ ابنِ عباسٍ ليس فيه بَيان، ولا تَعَرُّضَ له بمَحَلِّ النِّزاعِ. إذا ثَبَت هذا، فعِدَّةُ الزَّانِيَةِ كعِدَّةِ المُطلَّقةِ؛ لأنَّه اسْتِبْرَاءٌ لحُرَّةٍ، أشْبَه عِدَّةَ المَوْطُوءَةِ بشُبْهةٍ. وحكى ابنُ أبي موسى عن أحمدَ، أنَّها تُسْتَبْرأ بحَيضَةٍ؛ لأنَّه ليس مِن نِكاح ولا شُبْهةِ نِكاح، فأشْبَه اسْتِبْراءَ أمِّ الوَلَدِ إذا عَتَقَتْ. وأمَّا التَّوْبَةُ، فهي الاسْتِغْفارُ والنَّدَمُ والاقْلاعُ عن الذَّنْبِ، كالتَّوْبَةِ مِن سائرِ الذّنُوبِ. ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه قِيلَ له: كيف تعرَفُ تَوْبَتُها؟ قال: يُرِيدُها على ذلك، فإن طاوَعَتْه فلم تَتُبْ، وإن أبتْ فقد تَابتْ. فصار أحمدُ إلى قولِ ابنِ عمرَ اتباعًا له. قال شيخُنا (¬1): والصحيحُ الأولُ، فإنَّه لا ينبغِي لمُسْلم أن يَدعُوَ امرأةً إلى الزِّنَى، ويَطْلُبَه منها، فإنَّ طَلَبَه منها إنَّما يكونُ في خَلْوَةٍ، [ولا تَحِلُّ الخَلْوَةُ] (¬2) بأجْنَبِيَّةٍ ولو كان في تَعلِيمِها القرآنَ، فكيف تحِلُّ (¬3) في مُراوَدَتِها على الزِّنَى! ثم (¬4) لا يَأمَنُ إن أجابَتْه إلى ذلك أن تَعُودَ إلى المَعصِيَةِ، فلا ¬

(¬1) في: المغني 9/ 564. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لمثلِ هذا، ولأنَّ التَّوْبَةَ مِن سائرِ الذُّنُوبِ، في حَقِّ سائرِ الناسِ، بالنِّسْبةِ إلى سائرِ الأحكامِ، على غيرِ هذا الوَجْهِ، [فكذلك هذا] (¬1). فصل: وإذا وُجِدَ الشّرطان حَلَّ نِكاحُها للزَّانِي وغيرِه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم أبو بكر، وعمرُ، وابْنُه، وابنُ عباس، وجابرٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعطاء، والحسنُ، والزُّهْرِيّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأي. و (¬2) رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ، والبَرَاءِ بنِ عازبٍ، وعائشةَ، أنَّها لا تَحِلُّ للزَّانِي بحالٍ، قالوا: لا يَزَالان زَانِيَين ما اجْتَمَعَا، لعُمُومِ الآيةِ والخَبَرِ (¬3). فيَحتَمِلُ أنَّهم أرادُوا بذلك ما كان قبلَ التَّوْبَةِ، أو قبلَ اسْتِبْرائِها، فيكونُ كقَوْلِنا. فأمَّا تَحرِيمُها على الإِطْلاقِ فلا يَصِحُّ؛ لقولِ الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬4). ولأنَّها مُحَلَّلة لغيرِ الزَّانِي، فحَلَّتْ له، كغيرِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «وقد». (¬3) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 225. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 251.كما أخرجه عن ابن مسعود وعائشة، عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 205، 206. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 156، 157. (¬4) سورة النساء 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن زَنَتِ امرأةُ رجل، أو زَنَى زَوْجُها، لم يَنْفَسِخِ النِّكاحُ، سَواء كان قبلَ الدُّخولِ أو بعدَه، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم عطاءٌ، والنَّخَعِيّ، والثوْرِيّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرأي. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّ المرأةَ إذا زَنَتْ يُفَرَّقُ بينَهما، وليس لها شيءٌ. وكذلك رُوِيَ عن الحسنِ. ورُوِيَ عن علي، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه فرَّقَ بينَ رجلٍ وامرأتِه، زَنَى قبلَ أن يَدخُلَ بها (¬1). واحتُجَّ لهم بأنَه لو قَذَفَها ولاعَنَها بانتْ منه؛ لتَحَقُّقِه الزِّنَى عليها، فدَلَّ على أنَّ الزِّنَى يُبِينها. ولَنا، أنَّ دعواه الزِّنَى عليها لا يُبِينُها، ولو كان النِّكاحُ يَنْفسِخ به لانْفَسَخَ بمُجَرَّدِ دَعواه، كالرَّضاعِ، ولأنَّها معصِيَة لا تُخْرِجُ عن الإِسلام، فأشبَهتِ السَّرِقَةَ، فأمَّا اللِّعانُ فإنَّه يَقْتَضِي الفَسْخَ بدُونِ الزِّنَى، بدَليلِ أَنها إذا لاعَنَتْه ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 156.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقد قابَلَتْه، فلم يَثْبُتْ زِناها، ولذلك أوْجَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحَدَّ على مَن قَذَفَها، والفَسْخُ واقِعٌ، ولكنَّ أحمدَ اسْتَحَبَّ للزَّوْجِ مُفارَقَةَ امرأتِه إذا زَنَتْ، وقال: لا أرَى أن يُمسِكَ مثلَ هذه؛ لأنَّه، لا يُؤمَنُ أن تُفْسِدَ فِراشَه، وتُلْحِقَ به وَلَدًا ليس منه. قال ابنُ المُنْذِرِ: لَعَلَّ مَن كَرِه هذه المرأةَ إنَّما كَرِهها على غيرِ وجْهِ التَّحرِيمِ، فيكون مثلَ قولِ أحمدَ. ولا يَطؤها حتى يَسْتَبْرِئَها بثلاثِ حِيَض؛ لِمَا روَى رُوَيفِعُ بنُ ثابتٍ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ [يومَ حُنَين: «لَا يَحِلُّ لامرِئ يُومِنُ باللهِ وَاليَوْم الآخِرِ] (¬1) يَسْقِي مَاءَهُ زَرعَ غَيرِه». يَعنِى إتْيانَ الحَبالى. ولأَنَّها ربَّما تأتِي بوَلَدٍ مِن الزِّنَى فَيُنْسَبُ إليه. والأوْلَى أنَّه يَكْفِي اسْتِبْراؤها (¬2) بِحَيضَةٍ واحدَةٍ؛ لأنَّها تكْفِي في اسْتِبْراءِ الإماءِ، وفي أمِّ الوَلَدِ إذا عَتَقَتْ بمَوْتِ سَيِّدِها أو بإعتاقِه، فكَفَى ههُنا، ولأَنَّ المَقْصُودَ مُجَرَّدُ الاسْتِبْراءِ، وقد حَصَل بحَيضَةٍ، فاكْتُفِي بها. ¬

(¬1) في م: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 336. (¬2) في م: «أن يستبرئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا عَلِمَ الرجلُ مِن أمَتِه الفُجُورَ، فقال أحمدُ: لا يَطَؤُها؛ لَعَلَّها (¬1) تُلْحِقُ به ولدًا ليس منه. قال ابنُ مسعودٍ: أكْرَهُ أن أطَأَ أَمَتِي وقد بَغَتْ (¬2). وروَى مالكٌ (¬3)، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه كان يَنْهى أن يَطَأَ الرجلُ أمَتَه وفي بَطْنِها ولدٌ جَنِينٌ لغيرِه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): هذا مُجْمَعٌ على تَحْرِيمِه. وكان ابنُ عباسٍ يُرَخِّصُ ¬

(¬1) بعده في م: «أن». (¬2) أخرجه محمد الرزاق، في: باب الرجل يطأ جارية بغيا، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 208. وسعيد بن منصور، في: باب الرجل تكون له الأمة الفاجرة فتحصنه، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 58. (¬3) في: باب ما لا يجمع بينه من النساء، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 532. (¬4) في: التمهيد 18/ 279.

3152 - مسألة: (و)

وَمُطَلَّقَتُهُ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ، وَالْمُحْرِمَةُ حَتَّى تَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في وَطْءِ الأَمةِ الفاجِرَةِ (¬1). ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. ولَعَّلَ مَن كَرِه ذلك كَرِهَه قبلَ الاسْتِبْراءِ، أو (¬2) إذا لم يُحَصِّنْها ويَمْنَعْها مِن الفُجُورِ، وَمَن أباحَهُ، أباحَه بعدَهما، فيكونُ القَولان مُتَّفِقَين. والله أعلمُ. 3152 - مسألة: (و) تَحْرُمُ (مُطَلَّقَتُه ثَلاثًا حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه) لقولِ الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} (¬3). بعد قولِه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬4). وسنَذْكُرُ هذا في بابِ الرَّجْعَةِ، بأبْسَطَ مِنْ هذا، إن شاء الله تعالى. 3153 - مسألة: (و) تَحْرُمُ (المُحْرِمَةُ حتى تَحِلَّ) يَحْرُمُ نِكاحُ المُحْرِمَةِ، ويَحْرُمُ على المُحْرِمِ أن يَعْقِدَ النِّكاحَ في حالِ إحْرامِه، فإن ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يطأ جارية بغيا، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 208. وسعيد بن منصور، في: باب الرجل تكون له الأمة الفاجرة فتحصنه، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 58، 59. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 230. (¬4) سورة البقرة 229.

3154 - مسألة: (ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال)

وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمَةٍ نِكَاحُ كَافِرٍ بِحَالٍ، وَلَا لِمُسْلِمٍ نِكَاحُ كَافِرَةٍ، إلا حَرَائِرَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقَد أحَدٌ نِكاحًا لمُحْرِم أو على مُحْرِمَةٍ، أو عَقَد المُحْرِمُ نِكاحًا لنفسِه أو لغيرِه، لم يَصِحَّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ». رَواه مسلمٌ (¬1). وعنه، أنَّ عَقْدَ المُحْرِمِ النِّكاحَ لغيرِه صحيحٌ؛ لأنَّه حَرُمَ عليه، لكَوْنِه مِن دَواعِي الوَطْءِ، ولا يَحْصُلُ ذلك بكونِه وَليًّا. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لعُمُومِ الخَبَرِ. وقد ذَكَرْنا هذه المسألةَ في الحَجِّ، وذكرنا الاخْتِلافَ فيها. 3154 - مسألة: (ولا يَحِلُّ لمُسْلِمَةٍ نِكاحُ كافِرٍ بحالٍ) لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (¬2). ولقولِه سبحانه: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} (¬3). ولا نَعْلَمُ خِلافًا في ذلك. 3155 - مسألة: (ولا) يَحِلُّ (لمُسْلِمٍ نِكاحُ كافِرَةٍ بحالٍ، إلَّا حَرائِرَ أهْلِ الكِتابِ) ليس بينَ أهلِ العلمِ، بحمدِ اللهِ، اخْتِلافٌ في حِلِّ حَرائِرِ (¬4) أهلِ الكتابِ للمُسْلِمِ، ومِمَّن رُوِيَ عنه ذلك؛ عمرُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 325. (¬2) سورة البقرة 221. (¬3) سورة الممتحنة 10. (¬4) في م: «نساء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعثمانُ، وطلحةُ، وحذيفةُ، وسلمانُ، وجابرٌ، وغيرُهم. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَصِحُّ عن أحدٍ مِن الأوائِلِ أنَّه حَرَّمَ ذلك. وروَى الخَلَّالُ بإسنادِه، أنَّ حُذيفَةَ، وطلحةَ، والجارودَ بنَ المُعَلَّى، وأُذَينَةَ العَبْدِيَّ، تَزَوَّجوا نساءً مِن أهلِ الكتابِ. وبه قال سائِرُ أهلِ العلمِ، ولم يُنْقَلْ تَحْرِيمُه إلَّا عن الإِمَامِيَّةِ، تَمَسُّكًا بقولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}. و: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. ولَنا، قولُ الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. إلى قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1). وإجْماعُ الصحابةِ. فأَمَّا قولُه سبحانَه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}. فرُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّها نُسِخَتْ بالآيةِ التي في سورةِ المائِدَةِ. وكذلك يَنْبَغِي أن يكونَ ذلك في الآيةِ الأُخْرَى؛ لأنَّهُما مُتَقَدِّمتان، والآيَةُ التي في المائِدَةِ مُتأخِّرَةٌ عنهما. وقال آخرون: ليس هذا نَسْخًا، فإنَّ لَفْظَةَ ¬

(¬1) سورة المائدة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْرِكين [بإطلَاقِها، لا تَتَناوَلُ أهلَ الكتابِ، بدلِيلِ قولِه سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ] (¬1) مُنْفَكِّينَ} (¬2). وقال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (¬3). وقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬4). وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} (¬5). وسائِرُ آيِ (¬6) القرآنِ يَفْصِلُ بينَهما (¬7)، فدَلَّ على أنَّ لَفْظَةَ المشركين بإطلاقِها لا تَتَناوَلُ أهلَ الكتابِ خاصَّةً (¬8)، وهذا مَعْنَى قول سعيدِ بنِ جُبَيرِ، وقَتادَةَ، ولأنَّ ما احْتَجُّوا به عامٌّ في كلِّ كافِرَةٍ (¬9)، [وآيَتُنا خاصَّةٌ] (¬10) في حِلِّ (¬11) نساءِ أهلِ الكتابِ، والخاصُّ يَجِبُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البينة 1. (¬3) سورة البينة 6. (¬4) سورة المائدة 82. (¬5) سورة البقرة 105. (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في الأصل: «بينهم». (¬8) سقط من: م. (¬9) في النسختين: «كافر». والمثبت من المغني 9/ 546. (¬10) في م: «وما بينا خاص». (¬11) في الأصل: «كل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقْدِيمُه. إذا ثَبَت هذا، فالأَوْلَى أن لا يَتَزَوَّجَ كِتابِيَّةً؛ لأنَّ عمرَ قال للَّذينَ تَزَوَّجُوا نساءً مِن (¬1) أهلِ. الكتابِ: طَلِّقُوهُنَّ. فَفَعَلُوا إلَّا حُذَيفَةَ، فقال له عمرُ: طَلِّقْها. قال: أتَشْهَدُ أنَّها حرامٌ؟ قال: هي جَمْرَةٌ (2)، طَلِّقْها. قال: تَشْهدُ أنَّها حرامٌ؟ قال: هي جَمْرةٌ (2). قال: قد عَلِمْتُ أنَّها جَمْرةٌ (¬2)، ولكنَّها لي حلالٌ. فلما كان بعدُ طَلَّقَها، فَقِيلَ له: أَلَا طَلَّقْتَها حينَ أمَرَكَ عمرُ؟ قال: كَرِهْتُ أن يَرَى النَّاسُ أنِّي رَكِبْتُ أمْرًا لا يَنْبَغِي لي (¬3). ولأنَّه رُبَّما مال إليها قَلْبُه (¬4) فَفَتَنَتْه، ورُبَّما كان بينَهما وَلَدٌ فيَمِيلُ إليها. فصل: وأهْلُ الكتابِ الذِينَ هذا حُكْمُهم، أهلُ التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ، قال اللهُ تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينِ مِنْ قَبْلِنَا} (¬5). فأهلُ التَّوْراةِ اليَهُودُ والسَّامِرَةُ، وأهلُ الإِنْجِيلِ النَّصارَى ومَن وافَقَهم مِن [الإِفْرنْجِ و] (¬6) الأرْمَنِ، وغيرِهم. وأمّا الصَّابِئونَ فاخْتَلَفَ فيهم السَّلَفُ كثيرًا، فرُوىَ عن أحمدَ أنَّهم جِنْسٌ مِن النَّصارَى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حرة». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 78، 79، 7/ 176، 177. وانظر ما أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 193، 194. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 158. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 172. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سورة الأنعام 156. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَصَّ عليه الشافعيُّ، وعَلَّقَ القولَ فيهم في موضعٍ آخَرَ. وعن أحمدَ قال: بَلَغَنِي أنَّهم يَسْبِتُونَ، فهؤلاءِ إذًا يُشْبِهُون اليَهُودَ. والصحيحُ فيهمِ أنَّهم إن (¬1) كانوا يُوافِقون اليهودَ أو النَّصارَى في أصْلِ دِينِهم، ويُخالِفُونهمَ في فُرُوعِه (¬2)، فهم مِمَّن وَافَقُوه (¬3)، وإن خَالفُوهم في أصلِ الدِّينِ، فليس هم منهم. فأمّا مَن سِوَى هؤلاء مِن الكفارِ، مثلَ المُتَمَسِّكِ بصُحُفِ إبراهيمَ وشِيثٍ، وزَبُورِ دَاودَ، فليسوا بأهلِ كتابٍ، لا تَحِلُّ مُناكَحَتُهم ولا ذَبائِحُهُم. وهذا قولُ الشافعيِّ. وذَكَر القاضي فيه وَجْهًا آخَرَ، أنَّهم مِن أهلِ الكتابِ، تَحِلُّ ذَبائِحُهُم، ونِكاحُ نسائِهم، ويُقَرُّونَ بالجِزْيَةِ؛ لأنَّهم تَمَسَّكُوا بكتابٍ مِن كُتُبِ اللهِ، فأشْبَهوا اليهودَ والنَّصارَى. [ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينِ مِنْ قَبْلِنَا}. ولأنَّ تلك الكُتُبَ كانت مواعِظَ وأمْثَالًا، [لا أحكامَ فيها] (¬4)، فلم يَثْبُتْ لها حكمُ الكُتُبِ المُشْتَمِلَةِ على الأحْكامِ] (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «فروعهم». (¬3) في م: «وافقوهم». (¬4) في م: «فيها أحكام». والمثبت من المغني 9/ 547. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأَمَّا المَجُوسُ، فليس لهم كتابٌ، ولا تَحِلُّ ذَبائِحُهم، ولا نِكاحُ نسائِهم. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عامَّةِ العلماءِ، إلَّا أبا ثَوْرٍ، فإنَّه أباحَ ذلك؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أهْلِ الْكِتَابِ» (¬1). ولأنَّه يُرْوَى أنَّ حُذَيفَةَ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً (¬2). ولأنَّهم يُقَرُّونَ بالجِزْيَةِ، فأشْبَهُوا اليهودَ والنَّصارَى. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (¬3). وقولُه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬4). فخصَّ (¬5) مِن (¬6) ذلك أهلَ الكِتابِ، فمَن عدَاهُم يَبْقَى على العُمُومِ، ولم يَثْبُتْ أنَّ للمَجُوسِ كتابًا. وسُئِلَ أحمدُ: أيَصِحُّ (¬7) أنَّ للمَجُوسِ كِتَابًا؟ فقال: هذا باطلٌ. واسْتَعْظَمَه جدًّا. ولو ثَبَت أنَّ لهم كِتابًا، فقد بَيَّنَّا أنَّ ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب جزية أهل الكتاب والمجوس، من كتاب الزكاة. الموطأ 1/ 278. (¬2) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 173، وقال: فهذا غير ثابت، والمحفوظ عن حذيفة أنه نكح يهودية. (¬3) سورة البقرة 221. (¬4) سورة الممتحنة 10. (¬5) في الأصل: «فرخص». (¬6) سقط من: م. (¬7) بعده في المغني 9/ 548: «عن علي». وانظر ما تقدم في 10/ 396، 397.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمَ أهلِ الكتابِ لا يَثْبُتُ لغَيرِ (¬1) أهلِ الكِتابَين. وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ». دليلٌ على أنَّه لا (¬2) كِتابَ لهم، وإنَّما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَقْنِ دِمائِهم وإقْرَارِهم بالجِزْيَةِ لا غيرُ، وذلك أنَّهم لمّا كانت لهم شُبْهَةُ كتابٍ، غُلِّبَ ذلك في تَحْرِيمِ دِمائِهم، فيجِبُ أن يُغَلَّبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ لنسائِهم وذبائحِهم، فإنَّا إذا غَلَّبْنَا الشُّبْهَةَ في التَّحريمِ، فتَغْلِيبُ الدليلِ الذي عارضتْه الشُّبْهَةُ في التَّحريمِ أوْلَى، ولمِ يَثْبُتْ أنَّ حُذَيفَةَ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً، [وضَعَّفَ أحمدُ روايةَ مَن روَى عن حُذيفَةَ أنَّه تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةَ] (¬3)، وقال: أبو وائِلٍ يقولُ: تَزَوَّجَ بيَهُودِيَّةٍ. وهو أوْثَقُ مِمَّن روَى عنه أنَّه تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً. وقال ابنُ سيرينَ: كانتِ امرأةُ حُذَيفَةَ نَصْرَانِيَّةً. ومع (¬4) تعارُضِ الرِّواياتِ لا يَثْبُتُ حكمُ إحدَاهُنَّ إلَّا بتَرْجيحٍ، ولو ثَبَت عن حُذَيفَةَ، لم يَجُزْ الاحْتِجاجُ به مع مُخالفَةِ الكِتابِ وقولِ سائِرِ العلماءِ. وأمّا إقْرَارُهم بالجِزْيَةِ، فلأنَّنا غَلَّبْنَا حكمَ التَّحْريم [لدِمائِهم، فيَجِبُ أن نُغَلِّبَ حُكْمَ التَّحْريمِ] (¬5) في ذَبائحِهِم ونسائِهم. ¬

(¬1) في م: «بغير». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «وقع». (¬5) سقط من: الأصل.

3156 - مسألة: (فإن كان أحد أبويها غير كتابي، أو كانت من نساء بني تغلب، فهل تحل)

فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيهَا غَيرَ كِتَابِيٍّ، أَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي تَغْلِبَ، فَهَلْ تَحِلُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3156 - مسألة: (فإن كان أحَدُ أُبوَيها غيرَ كِتابِيٍّ، أو كانت مِن نِسَاءِ بَنِي تَغْلِبَ، فهل تَحِلُّ) له؟ (على رِوايَتَين) إذا كان أحدُ أُبوَيِ الكافِرَةِ كِتابيًّا والآخَرُ غيرَ كِتابِيٍّ، لم يَحِلَّ نِكاحُها، في إحْدَى الرِّوايَتَين. اخْتارَها الخِرَقِيُّ، سَواءٌ كان وَثَنِيًّا أو مَجُوسِيًّا أو مُرْتَدًّا. وبهذا قال الشافعيُّ فيما إذا كان الأبُ غيرَ كتابِيٍّ؛ لأنَّ الوَلَدَ يَنْتَسِبُ إلى أبِيه، ويَشْرُفُ بشَرَفِه، ويَنْتَسِبُ إلى قَبِيلَتِه، وإن كانتِ الأمُّ. فله فيه قَوْلان. ولَنا، أنَّها غيرُ مُتَمَحِّضَةٍ مِن أهلِ الكتابِ، أشْبَهَ ما لو كان أبوها وَثَنِيًّا، ولأنَّها مُتَوَلِّدَة بينَ مَن يَحِلُّ وبينَ (¬1) مَن لا يَحِلُّ، [فلم يَحِلَّ] (¬2)، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالسِّمْعِ (¬1) والبَغْلِ. وفيه رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّها تَحِلُّ بكلِّ حالٍ؛ لدخُولِها في عُمُومِ الآيةِ المُبِيحَةِ، ولأنَّها كِتابِيَّةٌ، فأشْبَهَتْ مَن أبَواها كِتابيَّان. وعلى هذا، فالحُكْمُ في مَن أبَواها غيرُ كِتابِيَّين، كالحكمِ في مَن أحَدُ أبوَيها ¬

(¬1) السمع: ولد الذئب من الضبع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ كتابِيٍّ؛ لأنَّها إذا حَرُمَتْ بكونِ أحَدِ أبوَيها وَثَنِيًّا، فلَأن تَحْرُمَ إذا كانا وَثَنِيَّينِ أوْلَى. وعلى الرِّوايةِ التي تقولُ: لا تَحْرُمُ. فهو مُتَحَقِّقٌ وإن كان أبَوَاها وَثَنِيَّين، اعْتِبارًا بحالِ نفسِها دونَ أبَوَيها. فصل: فإن كانت مِن نِسَاءِ بَنِي تَغْلِبَ، ففيها أيضًا روايتان؛ إحْدَاهما، تَحِلُّ. وهي أصَحُّ؛ لدُخُولِها في قولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ

3157 - مسألة: (وليس للمسلم وإن كان عبدا نكاح أمة كتابية. وعنه، يجوز)

وَلَيسَ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَعَنْهُ، يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (¬1). وهم اليهُودُ والنَّصارَى. والثانيةُ، تَحْرُمُ نِساءُ بَنِي تَغْلبَ؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ دُخُولَهم في دِينِهم قبلَ تبْدِيلِ كِتابِهم. فصل: وسائرُ الكفَّارِ غيرُ أهلِ الكتابِ، كمَن عَبَد ما اسْتَحْسَنَ مِن الأصنامِ والأحجارِ والشَّجَرِ والحيوانِ، فلا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في تَحْرِيمِ نِسائِهِم وذبائِحِهم؛ وذلك لِما ذَكَرْنا مِن الآيَتَين، وعَدَمِ المُعارِضِ لهما. والمُرْتَدَّةُ يَحْرُمُ نِكاحُها على أيِّ دِينٍ كانت؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها حكمُ أهلِ الدِّينِ الذي انْتَقَلَتْ إليه بإقْرارِها عليه، ففي حِلِّها أوْلَى. 3157 - مسألة: (وليس للمُسْلِمِ وإن كان عَبْدًا نِكاحُ أمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وعنه، يَجُوزُ) ظاهرُ مذهبِ أحمدَ أنَّ ذلك لا يَجُوزُ، رَواه عنه جماعةٌ. وهو قولُ الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، ومَكْحُولٍ، ومالكٍ، ¬

(¬1) سورة المائدة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيثِ، وإسحاقَ. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، ومجاهدٍ. وقال أبو مَيسَرَةَ، وأبو حنيفةَ: يجوزُ للمُسْلِمِ نِكاحُها؛ لأنَّها تَحِلُّ بمِلْكِ اليَمِينِ، فحَلَّتْ بالنِّكاحِ، كالمُسْلمَةِ. ونُقِلَ ذلك عن أحمدَ، قال: لا بَأْسَ بِتَزْويجِها. إلَّا أنَّ الخَلَّال رَدَّ هذه الرِّوايةَ وقال: إنَّما تَوَقَّفَ أحمدُ فيها، ولم يَنْفذْ له قولٌ، ومَذْهَبُه أنَّها لا تَحِلُّ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬1). فشَرَطَ في إباحَةِ نِكاحِهِنَّ الإِيمانَ، ولم يُوجَدْ، وتُفارِقُ المُسْلِمَةَ؛ لأنَّه لا يُؤَدِّي إلى اسْتِرقاقِ الكافرِ وَلَدَها، لأنَّ الكافِرَ لا يُقَرُّ مِلْكُه على مُسْلِمَةٍ، والكافرةُ تكونُ مِلْكًا لكافرٍ، ويُقَرُّ مِلْكُه عليها، ووَلَدُها مَمْلُوك لسَيِّدِها، ولأنَّه [قد اعْتَوَرَها] (¬2) نَقْصان؛ نَقْصُ الكُفْرِ والمِلْكِ، فإذا اجْتَمَعَا مَنَعَا، كالمَجُوسِيَّةِ لمَّا اجْتَمَعَ فيها نَقْصُ الكُفْرِ (¬3) وعَدَمُ الكِتابِ، لم يُبَحْ نِكاحُها. ولا فَرْقَ بينَ الحُرِّ والعَبْدِ في تَحْرِيمِ نِكاحِها؛ لعُمُومِ ما ذَكَرْنا مِن الدليلِ، ولأنَّ ما حَرُمَ على الحُرِّ تَزْويجُه (¬4) مِن أجْلِ دِينِه، حَرُمَ على العَبْدِ، كالمَجُوسِيَّةِ. ¬

(¬1) سورة النساء 25. (¬2) في م: «عقد اعتوره». (¬3) في الأصل: «الملك». (¬4) في م: «ذبحه».

3158 - مسألة: (ولا يحل لحر نكاح أمة مسلمة، إلا أن يخاف العنت، ولا يجد طولا لنكاح حرة، ولا ثمن أمة)

وَلَا يَحِلُّ لِحُرٍّ مُسْلِم نِكَاحُ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ، إلا أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ، وَلَا يَجِدَ طَوْلَا لِنِكَاحِ حُرَّةٍ، وَلَا ثَمَنَ أَمَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3158 - مسألة: (ولا يَحِلُّ لحُرِّ نِكاحُ أمَةٍ مُسْلِمَةٍ، إلَّا أن يَخافَ العَنَتَ، ولا يَجِدَ طَوْلًا لنِكاحِ حُرَّةٍ، ولا ثَمَنَ أَمَةٍ) الكلامُ في هذه المسألةِ في فَصْلَين؛ أحَدُهما، أنَّه يَحِلُّ له نِكاحُ الأمَةِ المُسْلِمَةِ إذا وُجِدَ فيه الشَّرْطان؛ خَوْفُ العَنَتِ، وعَدَمُ الطَّوْلِ. وهذا قولُ عامَّةِ العلماءِ، لا نَعْلَمُ بينَهم فيه اخْتِلافًا، لقولِ اللهِ سبحانَه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}. الآية. والصَّبْرُ عنها مع ذلك خَيرٌ وأفْضَلُ، لقولِ اللهِ تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيرٌ لَكُمْ}. الفصلُ الثاني، إذا عُدِمَ الشَّرْطان أو أحَدُهما، لم يَحِلَّ نكاحُها لِحُرٍّ. رُوِيَ ذلك (¬1) عن جابِرٍ، وابنِ عباس. وبه قال عطاءٌ، وطاوُسٌ، والزُّهْرِيُّ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، ومَكْحُولٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ، [وإسحاقُ] (¬2). وقال مجاهدٌ: مِمّا وَسَّعَ اللهُ على هذه الأُمَّةِ نِكاحُ الأمَةِ وإن كان مُوسِرًا. وبه قال أبو حنيفةَ، إلَّا أن يكونَ تَحْتَه حُرَّةٌ، لأنَّ القُدْرَةَ على النِّكاحِ لا تَمْنَعُ النِّكاحَ، كما يَمْنَعُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُودُ النِّكاحِ، كنِكاحِ الأُخْتِ والخامِسَةِ. وقال قَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ: إذا خَافَ العَنَتَ، حَلَّ له نِكاحُ الأمَةِ [وإن وَجَد الطَّوْلَ؛ لأنَّ إباحَتَها لضَرُورَةِ خَوْفِ العَنَتِ، وقد وُجِدَتْ، ولا يَنْدَفِعُ إلَّا بنِكاحِ الأمَةِ] (¬1)، فأشْبَهَ عدمَ الطَّوْلِ. ولَنا، قولُ اللهِ سبحانَه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قولِه تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}. فشَرَطَ في نِكاحِها عَدَمَ اسْتِطاعَةِ الطَّوْلِ، فلم يَجُزْ مع الاسْتِطاعَةِ، لفَواتِ شَرْطِه، وكالصَّوْمِ في كَفّارَةِ الظِّهارِ مع استِطاعةِ الإِعْتاقِ. ولأنَّ في تَزْويجِ الأمَةِ إرقاقَ وَلَدِه مع الغِنَى عنه، فلم يَجُزْ، كما لو كان تَحْتَه حُرَّةٌ. وقياسُهم لا يَصِحُّ؛ لأنَّ نِكاحَ الخامسةِ والأُختِ إنَّما حَرُمَ لأجْلِ الجَمْعِ، وبالقُدْرَةِ على الجَمْعِ لا يَصِيرُ جامِعًا، والعِلَّةُ ههُنا هو الغِنَى عن إرْقاقِ وَلَدِه، وذلك يَحْصُلُ بالقُدْرَةِ على نِكاحِ الحُرَّةِ. وأمّا مَن يَجِدُ (¬2) الطَّوْلَ ويَخافُ العَنَتَ، فإن كان ذلك لكَوْنِه لا يَجِدُ إلَّا حُرَّةً صغيرةً أو غائبةً أو مَريضةً لا يُمْكِنُ وَطؤُها، أو وَجَد مالًا ولم يُزَوَّجْ لقُصُورِ نَسَبِه، فله نِكاحُ الأمَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ في الغائبةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «لا يجد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: لا يجوز؛ لوُجْدانِ الطَّوْلِ. ولَنا، أنَّه غيرُ مستطيعٍ للطَّوْلِ إلى حُرَّةٍ تُعِفُّه، فأشْبَهَ مَن لا يَجِدُ شيئًا، ألا تَرَى أنَّ الله سبحانه نَزَّلَ ابنَ السَّبِيلِ الذي له اليَسارُ في بَلَدِه فَقِيرًا؛ لعَدَمِ قُدْرَتِه عليه في الحالِ. وإن كانت له حُرَّةٌ يتَمَكَّنُ مِن وَطْئِها والعِفَّةِ بها، فليس بخائِفٍ للعَنَتِ. فصل: فإن قَدَر على شِراء أمَةٍ تُعِفُّه، فهو كما لو وَجَد طَوْلَ الحُرَّةِ، لا يَحِلُّ له نِكاحُ الأمَةِ؛ لأنَّه أمْكَنَه صِيانَةُ وَلَدِه عن الرِّقِّ، فأشْبَهَ القادِرَ على طَوْلِ الحُرَّةِ، وكذلك إن قَدَر على تَزْويجِ كِتابِيَّةٍ تُعِفُّه. وهذا ظاهرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مذهبِ الشافعيِّ، وذَكَرُوا وَجْهًا آخَرَ أنَّه [يجوزُ له] (¬1)؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}. وهذا غيرُ مستطيعٍ لذلك. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}. وهذا غيرُ خائِفٍ له، ولأنَّه قَدَر على صِيانةِ وَلَدِه مِن الرِّقِّ، فلم يَجُزْ له إرْقاقُه، كما لو قَدَر على نِكاحِ مُؤْمِنَةٍ. فصل: ومَن كانت تحتَه حُرَّةٌ يُمْكِنُ أن يَسْتَعِفَّ بها، لم يَجُزْ له نِكاحُ أمَةٍ، لا نعلمُ في هذا خِلافًا، ولافَرقَ بينَ المُسْلِمَةِ والكِتابِيَّةِ في ذلك؛ لِما ذَكَرْنا مِن قبلُ. ¬

(¬1) في م: «لا يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن يَجِدْ طَوْلًا، لكنْ وَجَد مَن يُقْرِضُه ذلك، لم يَلْزَمْه؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في بَقاءِ الدَّين في ذِمَّتِه، ولصاحِبِه مُطَالبَتُه [به في الحالِ. وكذلك إن رَضِيَتِ الحُرَّةُ بتَأْخِيرِ صَداقِها، أو تَفْويضِ بُضْعِها (¬1)؛ لأنَّ لها مُطالبَتَه] (¬2) بفَرْضِه (¬3). وكذلك إن بَذَل له باذِلٌ (¬4) أن يَزِنَهُ (¬5) عنه، أو يَهَبَه إيَّاه، لم يَلْزَمْه؛ لِما عليه مِن ضَرَرِ المِنَّةِ، [وله في ذلك كلِّه] (¬6) نِكاحُ الأمَةِ. فإن لم يَجِدْ مَن يُزَوِّجُه إلَّا بأكثرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، وكان قادِرًا عليه، ولا يُجْحِفُ به، لم يَكُنْ له نِكاحُ الأمَةِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: له ذلك، كما لو لم يَجدِ الماءَ إلَّا بِزيادَةٍ على ثَمَنِ المِثْلِ، فله التَّيَمُّمُ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}. وهذا مُسْتَطِيعٌ، ولأنَّه ¬

(¬1) في النسختين: «بعضها». وانظر المغني 9/ 557. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بقرضه». (¬4) في الأصل: «بإذن». (¬5) في الأصل: «يرثه». (¬6) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قادِرٌ على نِكاحِ حُرَّةٍ بما لا يَضُرُّه، فلم يَجُزْ له إرْقاقُ وَلَدِه، كما لو كان بمَهْرِ مِثْلِها، وما ذَكَرُوه مَمْنُوعٌ، ثم إنَّ هذا مُفارِقٌ للتَّيَمُّمِ مِن وَجْهين؛ أحَدُهما، أنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ عامَّةٌ، وهذا أُبِيحَ للضَّرُورَةِ، ومع القُدْرَةِ على الحُرَّةِ لا ضَرُورَةَ. الثاني، أنَّ التَّيَمُّمَ يَتَكَرَّرُ، فإيجابُ شِرائِه بزِيادَةٍ على ثَمَنِ المِثْلِ يُفْضِي إلى الإِجْحافِ به، وهذا لا (¬1) يَتَكَرَّرُ، فلا ضَرَرَ فيه. فصل: فإن كان في يَدِه مالٌ فذَكرَ أنَّه مُعْسِرٌ، وأنَّ المال لغيرِه، فالقولُ قولُه؛ لأنَّه حُكْمٌ بينَه وبينَ اللهِ سبحانَه وتعالى، فقُبِلَ قولُه فيه، كما لو ادَّعَى مَخافَةَ العَنَتِ. ومتى تَزَوَّجَ الأمَةَ، ثم ذَكَر أنَّه كان مُوسِرًا حال النِّكاحِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فُرِّقَ بينَهما؛ لأنَّه أقَرَّ بفَسادِ نِكاحِه. وهكذا إن أقَرَّ أنَّه لم يَكُنْ يَخْشَى العَنَتَ، فإن كان قبلَ الدُّخُولِ فصَدَّقَه السَّيِّدُ، فلا مَهْرَ، وإن كَذَّبَه، فله نِصْفً المَهْرِ؛ لأنَّه يَدَّعِي صِحَّةَ النِّكاحِ، والأصْلُ معه. وإن كان بعدَ الدُّخُولِ، فعليه المُسَمَّى جميعُه. فإن كان مَهْرُ المِثْلِ أكثرَ مِن المُسَمَّى، فعلى قولِ مَن أوجَبَ مَهْرَ المِثْلِ في النِّكاحِ الفاسِدِ، يَلْزَمُه مَهْرُ المِثْلِ (¬1)، لإِقْرارِه به. وإن كان المُسَمَّى أكثرَ، وَجَب [للسَّيِّدِ، إلَّا أن] (¬2) يُصَدِّقَه فيما قال، فيكونُ له مِن [مَهْرِ المِثْلِ] (¬3) ما يَجِبُ في النِّكاحِ الفاسِدِ. وهل ذلك المُسَمَّى أو مَهْر المِثْلِ؟ على رِوايَتَين. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وللسيد أن لا». (¬3) في م: «المهر».

3159 - مسألة: (وإن تزوجها وفيه الشرطان، ثم أيسر، أو نكح حرة، فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين)

وَإنْ تَزَوَّجَهَا وَفِيهِ الشَّرْطَانِ، ثُمَّ أَيسَرَ، أَوْ نَكَحَ حُرَّةً، فَهَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3159 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَها وفيه الشَّرْطان، ثم أيسَرَ، أو نَكَح حُرَّةً، فهل يَبْطُلُ نِكاحُ الأمَةِ؟ عَلَى رِوايَتَين) أمَّا إذا أيسَرَ، فظاهرُ المذهبِ أنَّه لا يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأمَةِ. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وفيه رِوايةٌ، أنَّه يَفْسُدُ نِكاحُ الأمَةِ. وهو قولُ المُزَنِيِّ؛ لأنَّه إنَّما أُبِيحَ للحاجَةِ، فإذا زالتِ الحاجَةُ، لم يَجُزِ اسْتِدامَتُه، كمَن أُبِيحَ له أكْلُ المَيتَةِ للضَّرُورَةِ، فإذا وَجَد الحَلَال لم يَسْتَدِمْه. ولَنا، أنَّ فَقْدَ الطَّوْلِ أحدُ شَرْطَيْ إباحَةِ نِكاحِ الأمَةِ، فلم تُعْتَبَرِ اسْتِدَامَتُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كخَوْفِ العَنَتِ، ويُفارِقُ أَكْلَ المَيتَةِ، فإنَّ أكْلَها بعدَ القُدْرَةِ ابْتِدَاءٌ للأكلِ، وهذا لا يَبْتَدِئُ النكاحَ، إنَّما يَسْتَدِيمُه، والاسْتِدَامَةُ للنِّكاحِ تُخالِفُ ابْتِداءَه، بدَلِيلِ أنَّ العِدَّةَ والرّدَّةَ وأمْنَ العَنَتِ يَمْنَعْنَ ابْتِداءَه دُونَ اسْتِدامَتِه. فصل: فإن تَزَوَّجَ على الأمَةِ حُرَّةً، صَحَّ. وفي بُطْلانِ نِكاحِ الأمَةِ رِوايَتان؛ إحداهما، لا يَبْطُلُ. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعطاءٍ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ورُوِيَ مَعْنَى ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. والثانيةُ، يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأمَةِ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، ومَسْرُوقٍ،

3160 - مسألة: (وإن تزوج حرة أو أمة فلم تعفه، ولم يجد طولا

وَإنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَلَمْ تُعِفَّهُ، وَلَمْ يَجِدْ طَوْلًا لِحُرَّةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسحاقَ، والمُزَنِيِّ. ووَجْهُ الرِّوايَتَينِ [ما تقدَّم] (¬1) في المسألةِ قبلَها. وقال النَّخَعِيُّ: إن كان له مِن الأمَةِ وَلَدٌ، لم يُفارِقْها، وإلَّا فارَقَها. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ ماكان مُبْطلاً للنِّكاحِ في غيرِ ذاتِ الوَلَدِ، أبْطَلَه في ذاتِ الوَلَدِ، كسائرِ مُبْطِلاته، ولأنَّ وَلَدَه منها مَمْلُوكٌ لسَيِّدِها، ونَفَقَتُه عليه. وقد اسْتُدِلَّ على بَقاءِ النِّكاحِ بما رُوِيَ عن عليٍّ، كرَّمَ الله وَجْهَه، أنَّه قال: إذا تَزَوَّجَ الحُرَّةَ على الأمَةِ، قَسَمَ للحُرَّةِ لَيلَتَين، وللأمَةِ لَيلَةً (¬2). ولأنَّه لو بَطَل بنِكاحِ الحُرَّةِ لبَطَلَ بالقُدْرَةِ عليه، فإنَّ القُدْرَةَ على المُبْدَلِ كاسْتِعْمالِه، بدليلِ الماءِ مع التُّرَابِ. 3160 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ حُرَّةً أو أمَةً فلم تُعِفَّه، ولم يَجِدْ طَوْلًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 285.

أُخْرَى، فَهلْ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ أُخْرَى؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لحُرَّةٍ أُخْرَى، فهل له نِكاحُ أمَةٍ أُخْرَى؟ على رِوايتَين) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في إباحَةِ أكثرَ مِن أمَةٍ إذا لم تُعِفَّه، فعنه أنَّه قال: إذا خَشِيَ العَنَتَ تَزَوَّجَ أرْبعًا، إذا لم يَصْبِرْ كيف يَصْنَعُ؟ وهذا قولُ الزُّهْرِيِّ، والحارثِ العُكْلِيِّ، ومالكٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وعنه أنَّه قال: لا يُعْجِبُنِي أن يَتَزَوَّجَ إلَّا أمَةً واحدةً. يَذْهبُ إلى حديثِ ابنِ عباسٍ، قال: الحُرُّ لا يَتَزَوَّجُ مِن الإِماءِ إلَّا واحدةً. وقَرَأَ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (¬1). وبه قال قَتادَةُ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، لأنَّ (¬2) مَن له زَوْجَةٌ يُمْكِنُه وَطْؤُها لا يَخاف العَنَتَ. ووَجْهُ الأُولَى قولُه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية. وهذا داخِلٌ في عُمُومِها. ولأنَّه عادِمٌ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في نكاح إماء المسلمين، وباب لا تنكح أمة على أمة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 173، 175. وابن أبي شيبة، في: باب من رخص للحر أن يتزوج الأمة، كم يجمع منهن، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 147. (¬2) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للطَّوْلِ، خائِفٌ للعَنَتِ، فجازَ له نِكاحُ أمَةٍ، كالأُولَى. وقوْلُهم: لا يَخْشَى العَنَتَ. قُلْنا: الكلامُ في مَن يَخْشَاه (¬1). وقولُ ابنِ عباسٍ يُحْمَلُ على مَن لم يَخْشَ العَنَتَ، وكذلك الرِّوَايةُ الأُخْرَى عن أحمدَ. فإن كان تَحْتَه حُرَّةٌ لم تُعِفَّه، ففيها الرِّوَايتانِ أيضًا، مثلَ نِكاحِ الأمَةِ، ذَكَرَهما أبو الخطّابِ، إذا لم تُعِفَّه الأمَةُ، لِما ذَكَرْنا. فإن كانَتِ الحُرَّةُ (¬2) تُعِفُّه، [أو كان تحتَه أمَةٌ تُعِفُّه] (¬3)، فلا خِلافَ في تَحْرِيمِ نِكاحِ الأمَةِ الأُخْرَى. ¬

(¬1) بعده في المغني 9/ 560: «ولا نبيحه إلا له». (¬2) في الأصل: «الأمة». (¬3) سقط من: م.

3161 - مسألة: (قال الخرقي: وله أن يتزوج من الإماء أربعا، إذا كان الشرطان فيه قائمين)

قَال الْخِرَقِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنَ الإمَاءِ أَرْبَعًا إِذَا كَانَ الشَّرْطَانِ فِيهِ قَائِمَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن نَكَح أمَتَين في عَقْدٍ، وهو يَسْتَعِفُّ بواحدةٍ، فنِكاحُهُما باطلٌ؛ لأنَّه يَبْطُل في إحْداهما، وليست بأوْلَى مِن الأُخْرَى، فَبَطَلَ، كما لو جَمَع بينَ أُخْتَين. 3161 - مسألة: (قال الخِرَقِيُّ: وله أن يَتَزَوَّجَ مِن الإِماءِ أرْبَعًا، إذا كان الشَّرْطان فيه قَائِمَين) لِما ذَكَرْنا.

3162 - مسألة: (وللعبد نكاح الأمة)

وَلِلْعَبْدِ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى حُرَّةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3162 - مسألة: (وللعَبْدِ نِكاحُ الأَمَةِ) وإن فُقِدَ فيه الشَّرْطان؛ لأنَّه مُساوٍ لها، فلم يُعْتَبَرْ فيه هذان الشَّرْطان، كالحُرِّ مع الحُرَّةِ، وله نِكاحُ أمَتَين مَعًا، وواحدَةٍ بعدَ واحدَةٍ؛ لأنَّ خَشْيَةَ العَنَتِ غيرُ مَشْرُوطَةٍ فيه. 3163 - مسألة: (وهل له أنْ يَنْكِحَها على حُرَّةٍ؟ على رِوايَتَين)

3164 - مسألة: (وإن جمع بينهما في العقد، جاز)

وَإنْ جَمَعَ بَينَهُمَا فِي الْعَقْدِ، جَازَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما، له ذلك. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّها مساويَةٌ له، فلم يُشْتَرَطْ لصِحَّةِ نِكاحِها عَدَمُ الحُرَّةِ، كالحُرِّ مع الحُرَّةِ، ولأنَّه لو اشْتُرِطَ عَدَمُ الحُرَّةِ، لاشْتُرِطَ عَدَمُ القُدْرَةِ عليها، كما في حَقِّ الحُرِّ. والثانيةُ، لا يجوزُ؛ وهو قولُ أصحاب الرَّأْي؛ لأنَّه يُرْوَى عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّه قال: تُنْكَحُ الحُرَّةُ على الأَمَةِ، ولا تُنْكَحُ الأمَةُ على الحُرَّةِ. ولأنَّه مالِكٌ لبُضْعِ حُرَّةٍ، فلم يَكُنْ له أن يَتَزَوَّجَ أمَةً، كالحُرِّ. 3164 - مسألة: (وإن جَمَع بينَهُمَا في العَقْدِ، جاز) لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما يجوزُ إفْرادُها بالعَقْدِ (¬1)، فجازَ الجَمْعُ بينَهما، كالأَمتَين، ¬

(¬1) في م: «في العقد».

وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا إذا قُلْنا: ليست حُرِّيَّةُ الزَّوْجِ شَرْطًا في نِكاحِ الحُرَّةِ (ويَتَخَرَّجُ أن لا يَجُوزَ) بِناءً على قولِه: لا يجوزُ نِكاحُ الأمَةِ على حُرَّةٍ. ولأنَّه لا يَجُوزُ نِكاحُ الأمَةِ على الحُرَّةِ، فحَرُمَ عليه الجَمْعُ بينَهما، كالأُخْتَين.

3165 - مسألة: (وليس للعبد نكاح سيدته)

وَلَيسَ لَهُ نِكَاحُ سَيِّدَتِهِ، وَلَا لِلْحُرِّ أن يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ، وَلَا أمةَ ابْنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3165 - مسألة: (وليس للعَبْدِ نِكاحُ سَيِّدَتِه) قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ نِكاحَ المرأةِ عَبْدَها باطِلٌ؛ لأنَّ أحكامَ المِلْكِ والنِّكاحِ تَتَناقَضُ، إذ مِلْكُها إيَّاه يَقْتَضِي وُجُوبَ نَفَقَتِه عليها، وسَفَرَه بسَفَرِها، وطاعَتَه إيَّاها، ونِكاحُه إيَّاها يُوجب عَكْسَ ذلك، فيَتَنافَيَان، ولِما روَى الأثْرَمُ بإسنادِه عن أبي الزُّبَيرِ، عن جابرٍ، أنَّه سَألَه عن العَبْدِ يَنْكِحُ سَيِّدَتَه، فقال: جاءَتِ امرَأة إلى عمرَ بنِ الخطابِ ونحنُ بالجابِيَةِ (¬1) وقد نَكَحَتْ عَبْدَها، فانْتَهَرَها عمرُ، وهَمَّ أن يَرْجُمَها، وقال: لا يَحِلُّ لكِ (¬2). 3166 - مسألة: (وليس للحُرِّ أن يَتَزَوَّجَ أمَتَه) لأنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ (¬3) مِلْكَ المَنْفَعَةِ، وإباحَةَ البُضْعِ، فلا يَجْتَمِعُ معه عَقْدٌ أضْعَفُ منه. ولا يجوزُ أن يَتَزَوَّجَ أمَةً له فيها مِلْكٌ. ولا يَتَزَوَّجُ مُكاتَبَتَه؛ لأنَّها مَمْلُوكَتُه. 3167 - مسألة: (ولا) يَجُوزُ للحُرِّ أن يَتَزَوَّجَ (أمَةَ ابْنِه) لأنَّ ¬

(¬1) الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من أعمال الجيدور من ناحية الجولان. معجم البلدان 2/ 3. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب النكاح وملك اليمين لا يجتمعان، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 127. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في المرأة تزوج عبدها. السنن 1/ 192. (¬3) في الأصل: «يقيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له فيها شُبْهَةَ مِلْكٍ. وهذا قولُ أهلِ الحجازِ. وقال أهلُ العراقِ: له ذلك، لأنَّها ليستْ مَمْلُوكَةً له، ولا تَعْتِقُ بإعْتاقِه إيَّاها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ» (¬1). ولأنَّه لو مَلَك جُزْءًا مِن أمَةٍ، لم يَصِحَّ نِكاحُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106.

3168 - مسألة: (ويجوز للعبد نكاح أمة ابنه)

وَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ نِكَاحُ أَمَةِ ابْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لها، فما هي مُضافَةٌ بجُمْلَتِها شَرْعًا أوْلَى بالتَّحرِيمِ. وكذلك لا يَجُوزُ للعبْدِ نِكاحُ أمِّ (¬1) سَيِّدِه أو سَيِّدَتِه، مع ما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. 3168 - مسألة: (ويجوز للعبدِ نِكاحُ أمَةِ ابْنِه) لأنَّ الرِّقَّ قَطَع ولايتَه عن ابْنِه ومالِه، ولهذا (¬2) لا يَلِي ماله ولا نِكاحَه، ولا يَرِثُ أحدُهما ¬

(¬1) في م: «أمة». (¬2) في م: «هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبَه، فهو كالأجْنَبِيِّ منه. فصل: وللابْنِ نِكاحُ أمَةِ أبيه؛ لأنَّه لا مِلْكَ له فيها، ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ , فأشْبَهَ الأجْنَبِيَّ، وكذلك سائرُ القَراباتِ. ويجوزُ للرجلِ أن يُزَوِّجَ ابْنَتَه لمَمْلُوكِه. ومتى ماتَ الأبُ فوَرِثَ أحدُ الزَّوْجَين صاحِبَه أو جُزْءًا منه، انْفَسَخَ النِّكاحُ. وكذلك إن مَلَكَه أو جُزْءًا منه بغيرِ الإِرْثِ، لا نعلمُ فيه خِلافًا، إلَّا أنَّ الحسنَ قال: إذا اشْتَرَى امرأتَه للعِتْقِ، فأعْتَقَها حينَ مَلَكَها، فهما على نِكاحِهما. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّهما مُتَنافِيان، فلا يَجْتَمِعان قليلًا ولا كثيرًا، فبِمُجَرَّدِ المِلْكِ لها انْفَسَخَ نِكاحُها سابقًا على عِتْقِها.

3169 - مسألة: (وإن اشترى الحر زوجته)

وَإنِ اشْتَرَى الْحُرُّ زَوْجَتَهُ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَإنِ اشْتَرَاهَا ابْنُهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3169 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى الحُرُّ زَوْجَتَه) أو جُزْءًا منها، أو (¬1) مَلَكَه بغيرِ الشِّراءِ (انْفَسَخَ نِكاحُها) وكذلك إن مَلَكَتِ المرأةُ زَوْجَها، أو جُزْءًا منه، ولا نَعْلَمُ في ذلك اخْتِلافًا؛ لِما ذكَرْناه (وإنِ اشْتَرَاها ابْنُه، فعلى وَجْهَين) أحَدُهما، يَنْفَسِخُ النِّكاحُ؛ لأنَّ مِلْكَ الابنِ كمِلْكِه في إسْقاطِ الحَدِّ، وحُرْمَةِ الاسْتِيلادِ (¬2)، فكان كمِلْكِه في إبْطالِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الاستيلاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ. والثاني، لا يَبْطُلُ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُها بمِلْكِ الابنِ، فلم يَبْطُلْ نِكاحُه، كالأجْنَبِي. فصل: وإذا مَلَكَتِ المرأةُ زَوْجَها أو بعضَه فانْفَسَخَ نِكاحُها، فليس ذلك طَلَاقًا، فمتى أعْتَقَتْه ثم تَزَوَّجَها، لم تُحْتَسَبْ عليه (¬1) بتَطْلِيقَةٍ. وبهذا قال الحَكَمُ، وحَمّادٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وإسحاقُ. وقال الحسنُ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، والأوْزَاعِيُّ: هي (¬2) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «تحتسب هي».

3170 - مسألة: (ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد، فهل يصح في من تحل؟ على روايتين)

وَمَنْ جَمَعَ بَينَ مُحَرَّمَةٍ وَمُحَلَّلَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ يَصِحُّ فِي مَنْ تَحِلُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطْلِيقَةٌ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّه لم يَلْفِظْ بطَلاقٍ صَريحٍ ولا كِنايَةٍ، وإنَّما فُسِخَ النِّكاحُ بوُجُودِ ما يُنافِيه، فأشْبَهَ انْفِساخَه بإسْلامِ أحَدِهما [أو رِدَّتِه] (¬1). فصل: ولو مَلَك الرجلُ بعضَ زَوْجَتِه، انفسخَ نِكاحُها، وحَرُمَ وَطْؤها، في قولِ عامَّةِ المُفْتِينَ، حتى يَسْتَخْلِصَها، فيَحِلُّ له وَطْؤها بمِلْكِ اليمينِ. ورُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّه قال (¬2): لم يَزِدْه مِلْكُه فيها إلَّا قرْبًا. وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يَبْقَى في بعضِها، ومِلْكَه لم يَتِمَّ عليها، ولا يَثْبُتُ الحِلُّ فيما لا يَمْلِكُه ولا نِكاحَ فيه. 3170 - مسألة: (ومَنْ جَمَع بينَ مُحَلَّلَةٍ ومُحَرَّمَةٍ فِي عَقْدٍ واحِدٍ، فهل يَصِحُّ في مَن تحِلُّ؟ على رِوايَتَين) وإذا عَقَد النِّكاحَ على أُخْتِه وأجْنَبِيَّةٍ مَعًا، بأن يكونَ لرجلٍ أُخْتٌ وابنةُ عَمٍّ، إحدَاهُما رَضِيعَةٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمتزَوِّجِ (¬1)، فيقولَ له: زَوَّجْتُكَهُما. فيَقْبَلُ ذلك، فالمنصوصُ صِحَّةُ نِكاحِ الأجْنَبيَّةِ، فيما ذَكَره الخِرَقِيّ. ونَصَّ في مَن تَزَوَّجَ حُرَّةً وأمَةً، أنَّه يَثْبُتُ نِكاحُ الحُرَّةِ، ويُفارِقُ الأمَةَ. وذَكَر شيخُنا (¬2) فيه رِوَايَتَين؛ إحداهما، يَفْسُدُ فيهما. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ، [واختيارُ أبِي بكرٍ] (¬3)؛ لأنَّه عَقْدٌ واحدٌ جَمَع حَلالًا وحَرامًا، فلم يَصِحَّ، كما لو جَمَع بينَ أُخْتَين. والثانيةُ، يَصِحُّ في الحُرَّةِ. وهي أظهرُ الرِّوايَتَين. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّها مَحَلٌّ قابِلٌ للنِّكاحِ، أُضِيفَ إليها عَقْدٌ صادِرٌ مِن أهْلِه، لم يَجْتَمِعْ معها فيه مِثْلُها، فصَحَّ، كما لو انْفَرَدَتْ به، وفارَقَ العَقْدَ على الأخْتَين؛ لأنَّه لا مَزِيَّةَ [لإِحداهما على الأُخْرَى] (¬4)، وهاهُنا قد تَعَيَنّتِ التي بَطَل النِّكاحُ فيها. فعلى هذا القولِ، ¬

(¬1) في الأصل: «للمتزوجة». (¬2) في: المغني 9/ 536. (¬3) في م: «واختاره أبو بكر». (¬4) في الأصل: «لأحدهما على الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ لها مِن المُسَمَّى بقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِها منه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ لها نِصْفَ المُسَمَّى. وأصْلُ هذين الوَجْهَين، إذا تَزَوَّجَ امرأتين يجوزُ له نِكاحُهُما بمَهْرٍ واحدٍ، هل يكونُ بينَهما على قَدْرِ صَدَاقِهِما، أو نِصْفَين؟ على وَجْهَين، يَأتِي ذِكْرُهما إن شاء الله تَعالى. فصل: ولو تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ومَجُوسِيَّةً، أو مُحَلَّلَةً [ومُحَرَّمةً] (¬1)، في عقدٍ واحدٍ، فَسَدَ في المَجوسِيَّةِ والمُحَرَّمَةِ، وفي الأُخْرَى وَجْهان. وإن نَكَح أرْبَعَ حَرَائِرَ وأمَةً، فَسَد في الأمَةِ، وفي الحَرائِرِ وَجْهان. وإن نَكَح العَبْدُ حُرَّتَين وأمَةً، بَطَل نِكاحُ الجميعِ. وإن تَزَوَّجَ امرأةً وابْنَتَها فَسَد فيهما؛ لأنَّ الجمعَ بينَهما مُحَرَّمٌ، فلم يَصِحَّ فيهما (¬2)، كالأُختَين. ¬

(¬1) في م: «أو محرمة». (¬2) في الأصل: «بينهما».

3171 - مسألة: (و)

وَمَنْ حَرُمَ نِكَاحُهَا، حَرُمَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِين، إلا إِمَاءَ أهْلِ الْكِتَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3171 - مسألة: (و) كلُّ (مَن حَرُم نِكاحُها حَرُم وَطْؤُها بمِلْكِ اليمينِ، إلَّا إماءَ أهْلِ الكتابِ) الكلامُ في هذه المسألةِ في فصلَين؛ أحدُهما، أنَّ إماءَ (¬1) أهلِ الكتاب حَلالٌ. وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا الحسنَ، فإنَّه كَرِهَه؛ لَأنَّ الأمَةَ الكِتابِيَّةَ يَحْرُمُ نِكاحُها، فحَرُمَ التَّسَرِي بِها، كالمَجُوسِيَّةِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَو مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ} (¬2). ولأنَّها مِمَّن يَحِلُّ نِكاحُ حَرائِرِهم، فحَلَّ له التَّسَرِي بِها، كالمُسْلِمَةِ. فأمَّا نِكاحُها، فيَحْرُمُ؛ لأنَّ فيه إرْقاقَ وَلَدِه، وإبْقَاءَه مع كافِرَةٍ، بخِلافِ التَّسَرِي. الفصلُ الثاني، أنَّ مَن حَرُمَ نِكاحُ حَرائِرِهم مِن المَجُوسِيَّاتِ وسائرِ الكَوافِرِ سِوَى أهلِ الكتابِ، لا يُبَاحُ وَطْءُ الإماءِ منهنَّ بمِلْكِ اليمينِ. في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الزُّهْرِيُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3): على هذا جَماعَةُ فُقَهاءِ الأمصارِ، وجمهورُ العلماءِ، وما خالفَه فشُذُوذٌ لا يُعَدُّ خِلافًا، ولم يَبْلُغْنا إباحَةُ ذلك إلَّا عن طاوُسٍ؛ لقولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة المؤمنون 6، وسورة المعارج 30. (¬3) انظر: الاستذكار 16/ 265.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} (¬1). وقولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬2) الآية. وروَى أبو سعيدٍ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَث يَوْمَ حُنَينٍ (¬3) بَعْثًا قِبَلَ أوْطَاسٍ (¬4)، فأصابُوا لهم سَبَايَا، [فكان ناسٌ] (¬5) مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجُوا مِن غِشْيَانِهِنَّ مِن أجْلِ أزواجهنَّ مِن المشْرِكِينَ، فأنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ}. قال: فهُنَّ لهم حلالٌ إذا انْقَضَتْ عِدَّتُهنَّ. وعنه، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في سَبَايَا أوْطاسٍ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا [غَيرُ ذَاتِ حَمْلٍ] (¬6) حتَّى تَحِيضَ حَيضَةً». رَواهما أبو داودَ (¬7). وهذا حديثٌ (¬8) صحيحٌ. وهم ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) سورة المؤمنون 5، 6، سورة المعارج 29، 30. (¬3) في م: «خيبر». (¬4) أوطاس: واد في ديار هوازن، كانت فيه وقعة حنين. معجم البلدان 1/ 405. (¬5) كذا في النسختين، وعند مسلم: «فكأن ناسا». وعند النسائي: «فكان المسلمون». (¬6) في م: «ذات حليل». (¬7) في: باب وطء السبايا، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 497. كما أخرج الأول مسلم، في: باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء. . . .، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1079، 1080. والنسائي، في: باب تأويل قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 91. والثاني تقدم تخريجه في صفحة 336. (¬8) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبَدَةُ أوْثَانٍ وهذا ظاهرٌ في إباحَتِهِنَّ، ولأنَّ الصحابةَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان أكثرُ سَبَايَاهُم مِن كُفَّارِ العَرَبِ، وهم عَبَدَةُ الأوثانِ، فلم يكُونُوا يَرَوْنَ تَحْرِيمَهُنَّ ذلك، ولا نُقِلَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَحْرِيِمُهُنَّ، ولا أمَرَ الصحابةَ باجْتِنَابِهِنَّ، وقد دَفَع أبو بَكْرٍ إلى سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ امرأةً مِن بعضِ السَّبْيِ، نَفَلَه إيَّاها، وأخَذَ عمرُ وابنُه مِن سَبْي هَوازِنَ، وكذلك غيرُهما مِن الصحابةِ، وأُمُّ محمدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ مِن سَبْي بَنِي حنيفةَ، وأخَذَ الصَّحابةُ سَبَايَا فارِسَ، وهم مَجُوسٌ، فلم يَبْلُغْنا أنّهم اجْتَنَبُوهُنَّ، وهذا ظاهِرٌ في إباحَتِهِنَّ، لولا اتِّفَاقُ سائِرِ أهلِ العلمِ على خِلافِه. وقد أجَبْتُ عن حديث أبي سعيدٍ بأجْوبَةٍ، منها، أنَّه يَحْتَمِلُ أنَّهُنَّ أسْلَمْنَ، كذلك رُوِيَ عن أحمدَ، حينَ سَألَه محمدُ بنُ الحَكَمِ، قال: قلْتُ لأبي عبدِ اللهِ: فهَوازِنُ (¬1): أليسَ كانوا عَبَدَةَ أوثانٍ؟ قال: لا أدْرِي، كانوا أسْلَمُوا (¬2) أو لا. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: إباحَةُ وَطْئِهِنَّ مَنْسُوخَةٌ بقولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬3). ¬

(¬1) سقط من: «م». (¬2) في الأصل: «مسلمين». (¬3) سورة البقرة 221.

فَصْلٌ: وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ خُنْثَى مُشْكِلٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أمْرُهُ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال الْخِرَقِيّ: إِذَا قَال: أنَا رَجُلٌ. لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاء، وَلَمْ يَكُنْ لَهْ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيرِ ذَلِكَ بَعْدُ، وَإنْ قَال: أنَا امْرأةٌ. لَمْ يَنْكِحْ إلّا رَجُلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ولا يَحِلُّ نِكاحُ خُنْثَى مُشْكِلٍ حتى يَتَبَيَّنَ أمرُه. نَصَّ عليه) في رِوايةِ المَيمُونِيِّ. وذَكَرَه أبو إسحاقَ مذهبًا للشافعيِّ؛ وذلك لأنَّه لم يَتَحَقَّقْ وُجُودُ ما يُبِيحُ له النِّكاحَ، فلم يُبَحْ له، كما لو اشْتَبَهَتْ عليه أُخْتُه بنِسْوَةٍ، ولأنَّه قد اشْتَبَهَ المُباحُ بالمحظورِ في حَقِّه، فحَرُمَ؛ لِما ذَكَرْنا (وقال الخِرَقِي: إذَا قال: أنا رجلٌ. لم يُمْنَعْ مِن نِكاحِ النِّساءِ، ولم يَكُنْ له أن يَنْكِحَ بغيرِ ذلك بعدُ، وإن قال: أنا امرأةٌ. لم يَنْكِحْ إلَّا رجلًا) وذلك لأنَّه لا يَخْلُو مِن أن يكُونَ رَجلًا أو امرأةً، قال اللهُ تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬1). وقال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (¬2). فليس ثَمَّ خَلْقٌ ثالثٌ. ¬

(¬1) سورة النجم 45. (¬2) سورة النساء 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا كان مُشْكِلًا لم يَظْهَرْ فيه علاماتُ الرجالِ ولا النِّساءِ، فقد اخْتَلَف فيه أصحابُنا، واختارَ الخِرَقِيُّ، أنَّه يُرْجَعُ إلى قولِه، فإن (¬1) ذَكَر أنَّه رجلٌ، وأنَّه يَمِيلُ طَبْعُه إلى نِكاحِ النِّساءِ، فله نِكاحُهُنَّ، وإن ذَكَر أنَّه امرأةٌ، يَمِيلُ طبْعُه إلى الرجالِ، زُوِّجَ رجلًا؛ لأنَّه مَعْنًى لا يُتَوَصَّلُ إليه إلَّا مِن جِهَتِه، وليس فيه إيجابُ حَقٍّ على (¬2) غيرِهِ، فقُبِلَ قولُه فيه، كما يُقْبَلُ قولُ المرأةِ في حَيضِها وعِدّتِها، وقد يَعْرِفُ نفْسَه بِمَيلِ طبعِه إلى أحدِ الصِّنْفَين، وشَهْوَتِه له، فإنَّ اللهَ تعالى أجْرَى العادَةَ في الحيواناتِ بِمَيل الذَّكَرِ إلى الأنْثَى، ومَيلها إليه، وهذا المَيلُ أمرٌ في النَّفْسِ والشَّهْوَةِ، لا يَطَّلِعُ عليه غيرُه، وقد تَعَذَّرَتْ علينا مَعْرِفَةُ عَلاماتِه الظاهرةِ، فيُرْجَعُ فيه إلى الأمورِ الباطِنَةِ فيما يَخْتَصُّ هو بحُكْمِه. وأمّا الميراثُ والدِّيَةُ، فإن أقَرَّ على نَفْسِه بما يُقَلِّلُ (¬3) مِيراثَه أو دِيَتَه، قُبِلَ منه، وإنِ ادَّعَى ما يَزِيدُ ذلك، ¬

(¬1) في م: «قال». (¬2) في م: «إلى». (¬3) في الأصل: «يقبل».

3172 - مسألة: (فإن تزوج امرأة ثم قال: أنا امرأة. انفسخ نكاحه)

فَلَوْ تَزَوَّجَ امْرأةً ثُمَّ قَال: أنَا امْرَأَةٌ. انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُقْبَلْ، لأنَّه مُتَّهَم فيه فلا يُقْبَلُ قولُه على غيرِه. وما كان مِن عِباداتِه وسُتْرَتِه وغيرِ ذلك، فيَنْبَغِي أن يُقْبَلَ قولُه فيه، لأنَّه حُكْمٌ بَينَه وبينَ اللهِ تعالى. قال القاضي: ويُقْبَلُ قولُه في الإِمامَةِ، وولايةِ النِّكاحِ، وما لا يُثْبِتُ حقًّا (¬1) [على غيرِه. وإذا زُوِّجَ امرأةً أو (¬2) رجلًا، ثم عاد فقال خلافَ قولِه الأَوَّلِ، لم يُقْبَلْ قولُه في التَّزْويجِ] (¬3) بغيرِ الجِنْسِ الذي زُوِّجَه أوَّلًا، لأنَّه مُكَذِّبٌ لنَفْسِه، ومدَّعٍ ما يُوجِبُ الجَمْعَ بينَ تَزْويجِ الرجالِ والنساءِ. 3172 - مسألة: (فإن تَزَوَّجَ امرأةً ثم قال: أنا امرأةٌ. انْفَسَخَ نِكاحُه) لإِقْرارِه ببُطلانِه، ولَزِمَه نصْفُ المَهْرِ إن كان قبلَ الدُّخُولِ، وجَميعُه إن كان بعدَه، ولا يَحِلُّ له بعدَ ذلك أن يَنْكِحَ، لأنَّه أقَرَّ بقولِه: أنا رجلٌ. بتَحرِيمِ الرجالِ، وأقرَّ بقوله: أنا امرأةٌ. بتحرِيمِ النِّساءِ. ¬

(¬1) في الأصل: «جمعا». (¬2) في م: «و». وانظر المغني 10/ 95. (¬3) سقط من: الأصل.

3173 - مسألة: (وإن تزوج رجلا ثم قال: أنا رجل. لم يقبل قوله في فسخ نكاحه)

وَلَوْ زُوِّجَ بِرَجُلٍ ثُمَّ قَال: أَنَا رَجُلٌ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3173 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ رجلًا ثم قال: أنا رجلٌ. لم يُقْبَلْ قولُه في فَسْخِ نِكاحِه) لأنَّه حَقٌّ (¬1) عليه. فإذا زَال نِكاحُه فلا مَهْرَ له لأنَّه يُقِرُّ أنَّه لا يَسْتَحِقُّه، وسَواءٌ دُخِلَ به (¬2) أو لم يُدْخَلْ. ويَحْرُمُ عليه (¬3) النِّكاحُ بعدَ ذلك؟ لِما ذَكَرْنا. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «لا حق». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

باب الشروط في النكاح

بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الشُّرُوطِ في النِّكاحِ

3174 - مسألة: (فإن شرط أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، فهو صحيح لازم إن وفى به، وإلا

وَهِيَ قِسْمَانِ، صَحِيحٌ، مِثْلَ اشْتِرَاطِ زِيَادَةٍ فِي الْمَهْرِ أو نَقْدٍ مُعَيَّن، أوْ أَن لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا، أو لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيهَا، أوْ لَا يَتَسَرَّى، فَهَذَا صَحِيحٌ لَازِمٌ، إِنْ وَفَّى بِهِ، وَإلَّا فَلَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ (وهي قِسْمان؛ صحيحٌ) وفاسدٌ، فالصحيحُ نوعان؛ أحدُهما، يَقْتَضِيه العَقْدُ، كتَسْلِيمِ المرأةِ إليه وتَمْكِينه (¬1) مِن الاسْتِمْتاعِ بها، فهذا لا يُؤثِّرُ في العَقْدِ، وُجُودُه كعدَمِه. الثاني، شَرْطُ ما تَنْتَفِعُ به المرأةُ، كزيادَةٍ على مَهْرِها (أو نَقْدٍ مُعَيَّن) فهو صحيحٌ يَجبُ الوَفاءُ به، كالثَّمَنِ في البَيعِ (¬2). 3174 - مسألة: (فإن شَرَط أن لا يُخْرِجَها مِن دارِها أو بَلَدِها، أو لا يَتَزَوَّجَ عليها، أو لا يَتَسَرَّى، فهو صحيحٌ لازِمٌ إن وَفَّى به، وإلَّا ¬

(¬1) في م: «تمليكه». (¬2) في م: «المبيع».

الْفَسْخُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلها الفَسْخُ) يُرْوَى ذلك عن عمرَ بنِ الخطابِ، وسعدِ بنِ أبي وَقّاص، ومعاويةَ، وعمرِو بنِ العاصِ، رَضِيَ الله عنهم. وبه قال شُرَيحٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيز، وجابرُ بنُ زيدٍ، وطاوُسٌ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ. وأبطَلَ هذه الشُّرُوطَ الزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، وهشامُ بنُ عُرْوَةَ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والثَّوْريُّ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأي. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: يَفْسُدُ المَهْرُ، ولها مَهْرُ المِثْلِ. واحْتَجُّوا بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» (¬1). وهذا ليس في كتابِ اللهِ؛ لأن الشَّرْعَ لا يَقْتَضِيه. وبقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أحَلَّ حَرَامًا، أو حَرَّمَ حَلَالًا» (¬2). وهذا يُحَرِّمُ الحَلال، وهو التزويجُ والتَّسَرِّي والسَّفَرُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 149، وانظر ما تقدم في 19/ 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ هذا شَرْطٌ ليس مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ ولا مُقْتَضاه، ولم يُبْنَ على التَّغْلِيبِ والسِّرَايةِ، فكان فاسِدًا، كما لو شَرَطَتْ أن لا تُسَلِّمَ نَفْسَها. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أحَقَّ ما وَفَّيتُمْ بِهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ». رَواه سعيدٌ (¬1). وفي لَفْظٍ: «إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ تُوفُوا بِهَا، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ». ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينَا مِن الصحابةِ، ولا يُعْرَفُ لهمِ مُخالفٌ في عَصْرِهم، فكان إجماعًا. وروَى الأثرَمُ بإسْنادِه، أنَّ رجلًا تزَوَّجَ امرأةً، وشَرَط لها دارَها، ثم أراد نَقْلَها، فخاصَمُوه إلى عمرَ، فقال: لها شَرْطُها. فقال الرجل: إذًا يُطَلِّقْنَنا. فقال عمرُ: مَقَاطِعُ الحُقُوقِ عندَ الشُّرُوطِ (¬3). ولأنَّه شَرْطٌ لها (¬4) فيه مَنْفَعَةٌ ومَقْصُودٌ لا يَمْنَعُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الشرط في النكاح. سنن سعيد بن منصور 1/ 180. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح. . . .، من كتاب الشروط، وفي: باب الشروط في النكاح، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 3/ 249، 7/ 26. ومسلم، في: باب الوفاء بالشرط في النكاح، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1036. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يشترط لها دارها، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 493. والترمذي، في: باب ما جاء في الشرط عند عقدة النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 58. والدارمي، في: باب الشرط في النكاح، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 143. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 144، 150، 152. (¬3) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 185. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 199. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 249. وعلق البخاري قوله: مقاطع الحقوق عند الشروط. في الموضعين السابقين. كما أخرج البيهقي عن عمر خلاف ذلك، في: السنن الكبرى 7/ 249. وانظر الإرواء 6/ 303، 304. (¬4) في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَقْصُودَ مِن النِّكاحِ، فكان لازِمًا، كما لو اشْتَرَطَتْ زِيادَةً في المَهْرِ أو غيرَ نَقْدِ البَلَدِ. وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيسَ فِي كِتَابِ اللهِ فهُوَ بَاطِلٌ». أي ليس في حُكْمِ اللهِ وشَرْعِه، وهذا مَشْرُوعٌ، قد ذَكَرنا ما دَلَّ على مَشْرُوعِيَّته، وعلى مَن نَفَى ذلك الدليلُ. وقولُهم: إنَّ هذا يُحَرِّمُ الحَلال. قُلْنا: لا يُحَرمُ حلالًا، وإنَّما يُثْبِتُ للمَرْأةِ خِيارَ الفَسْخِ إن لم يَفِ لها به. وقولُهم: ليس مِن مَصْلَحَةِ العَقْدِ. مَمْنُوعٌ، فإنَّه مِن مَصْلَحَةِ المَرْأةِ، وما كان مِن مصلحةِ العاقِدِ كان مِن مصلحةِ عَقْدِه، كاشْتِرَاطِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّهْنِ والضَّمِينِ [في البَيعِ] (¬1)، ثم يَبْطُلُ بالزِّيادَةِ على مَهْرِ المِثْلِ. وإذا ثَبَت أنَّه شَرْطٌ لازِمٌ فلم يَفِ به، فلها الفَسْخُ، ولهذا قال عمرُ للذي قَضَى عليه بلُزُومِ الشَّرْطِ -حينَ قال: إذًا يُطَلِّقْنَنا-: مَقاطِعُ الحُقُوقِ عندَ الشُّرُوطِ. ولم يَلْتَفِتْ إلى قولِه. ولأنَّه شَرْطٌ لازِم في عَقْدٍ، فيَثْبُتُ حَقُّ الفَسْخِ بتَرْكِ (¬2) الوَفاءِ به، كالرَّهْنِ في البَيعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «في ترك».

3175 - مسألة: (وإن شرط لها طلاق ضرتها، فقال أبو الخطاب: هو صحيح)

وَإنْ شَرَطَ لَهَا طَلَاقَ ضَرَّتِهَا، فَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: هُوَ صَحِيحٌ. وَيَحْتَمِلُ أنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِيء مَا فِي صَحْفَتِهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا». ـــــــــــــــــــــــــــــ 3175 - مسألة: (وإن شَرَط لَها طَلاقَ ضَرَّتِها، فقال أبو الخطابِ: هو صَحِيحٌ) لأنَّه شَرْطٌ لا يُنافِي العَقْدَ، ولها فيه فائِدَةٌ، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَتْ عليه أن لا يَتَزَوَّجَ عليها. قال شيخُنا (¬1): ولم أرَ هذا لغيرِه (ويَحْتَمِلُ أنَّه باطِلٌ) وهو الصَّحِيح، لِما روَى أبو هريرةَ، قال: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تَشْتَرطَ المرأةُ طَلاقَ أُخْتِها. وفي لَفْظٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: («لَا تَسْأل المَرْأة طَلَاقَ أُخْتِها لِتَكْتَفِيء مَا في صَحْفَتِها (¬2)، وَلْتَنْكِحْ، ¬

(¬1) في: المغني 9/ 486. (¬2) في م: «صفحتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَها»). رَواهما البخاريُّ (¬1). والنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسادَ المَنْهِيِّ عنه. ولأنَّها شَرَطَت عليه فَسْخَ عَقْدِه، وإبْطال حَقِّه وحَقِّ امْرَأتِه، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَتْ عليه (¬2) فسْخَ بَيعِه. وعلى قِياسِ هذا ما لو شَرَطَتْ عليه [بَيعَ أمَتِه] (¬3). ¬

(¬1) في: باب لا يبيع على بيع أخيه، من كتاب البيوع، وفي: باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، وباب الشروط في الطلاق، من كتاب الشروط، وفي: باب الشروط التي لا تحل في النكاح، من كتاب النكاح. وفي: باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}، من كتاب القدر. صحيح البخاري 3/ 91, 250، 251، 7/ 26، 8/ 153.كما أخرجه مسلم، في: باب تحريم الجمع بين المرأة وعمها أو خالها في النكاح، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1029، 1030. وأبو داود، في: باب في المرأة تسأل زوجها طلاق امرأة له، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 503. والترمذي، في: باب ما جاء لا تسأل المرأة طلاق أختها، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 165، 166. والنسائي، في: باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، من كتاب النكاح، وفي: باب بيع المهاجر للأعرابي، وباب النجش، من كتاب البيوع. المجتبى 6/ 59، 7/ 224، 227. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 41، 42، 238، 274، 311، 394، 508، 512، 516. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «ببيع».

3176 - مسألة؛ قال، رحمه الله: (القسم الثاني، فاسد، وهو ثلاثة أنواع؛ أحدها، ما يبطل النكاح، وهو ثلاثة أشياء؛ أحدها، نكاح الشغار، وهو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، فَاسِدٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أحَدُهَا، مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ؛ أحَدُهَا، نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَهُوَ أنْ يُزَوِّجَهَ وَلِيَّتَه عَلَى أنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ وَلِيَّته وَلَا مَهْرَ بَينَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3176 - مسألة؛ قال، رَحِمَه الله: (القِسْمُ الثاني، فاسِدٌ، وهو ثلاثةُ أنواعٍ؛ أحَدُها، ما يُبْطِلُ النِّكاحَ، وهو ثلاثةُ أشياءَ؛ أحدُها، نِكاحُ الشِّغَارِ، وهو أن يُزَوِّجَه وَلِيَّته على أن يُزَوِّجَه الآخَرُ وَلِيَّتَه ولا مَهْرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما) قِيلَ: إنَّما سُمِّيَ هذا النِّكاحُ شِغارًا لقُبْحِه، تَشْبِيهًا برَفْعِ الكَلْبِ رِجْلَه ليَبُولَ، في القُبْحِ (¬1). يُقالُ: شَغَر الكَلْبُ. إذا رَفَع رِجْلَه ليَبُولَ. وحُكِيَ عنِ الأصْمَعِيِّ أنَّه قال: الشغارُ الرَّفْعُ. فكأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما رَفَع رِجْلَه للآخرِ (¬2) عمَّا يُرِيدُ. ولا تَخْتَلِفُ الرِّوايةُ عن أحمدَ في أنَّ نِكَاحَ الشِّغارِ فاسدٌ. رَواه عنه جماعة. قال أحمدُ: ورُوِيَ عن عمرَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّهما فَرَّقَا فيه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. وحُكِيَ عن عطاءٍ، وعمرِو بنِ دينارٍ، ومكحولٍ، والزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، أنَّه يَصِحُّ، وتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ الفَسادَ مِن قِبَلِ المَهْرِ لا يُوجِبُ فَسادَ العَقْدِ، كما لو تَزَوَّجَ على خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ، [وهذا] (¬3) كذلك. ولَنا، ما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشِّغارِ. متَّفَقٌ عليه (¬4). وروَى أبو هريرةَ مثلَه. أخْرَجَه مسلمٌ (¬5). ¬

(¬1) في م: «الفتح». (¬2) في الأصل: «الأخرى». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب الشغار، من كتاب النكاح. صحيح البخاري 7/ 15. ومسلم، في: باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1034. كما أخرجه أبو داود، في: باب الشغار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 479. والنسائي، في: باب الشغار، وباب تفسير الشغار، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 91، 92. وابن ماجه، في: باب النهي عن الشغار، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 606. والدارمي، في: باب في النهي عن الشغار، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 136. والإمام مالك، في: باب جامع ما لا يجوز من النكاح، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 535. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 7، 19، 62. (¬5) في: باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1034. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى الأثْرَمُ بإسنادِه عن عِمْرانَ بنِ حُصَين، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا جَلَبَ (¬1)، ولا جَنَبَ (¬2)، وَلَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ» (¬3). ولأنَّه جَعَل كُلَّ واحدٍ مِن العَقْدَين سَلَفًا في الآخَرِ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْنِي ثَوْبَك على أن أبِيعَكَ ثَوْبِي. قولُهم: إنَّ فَسادَه مِن قِبَلِ التَّسْمِيَة. قُلْنا: بل فَسادُه مِن جِهَةِ أنَّه وَقَفه على شَرْطٍ فاسدٍ. ولأنَّه شَرَط تَمْلِيكَ البُضْعِ لغيرِ الزَّوْجِ، فإنَّه جَعَل تَزْويجَه إيَّإها مَهْرًا للأخْرَى، فكأنَّه مَلَّكَه إيّاه بشَرْطِ انْتِزاعِه منه. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ أن يقولَ: على أنَّ صَداقَ كُلِّ واحدةٍ منهما بُضْعُ الأخْرَى. أو (¬4) لم يَقُلْ ذلك. وقال الشافعيُّ: هو أن يقولَ ذلك ولا يُسَمِّيَ لكلِّ واحدةٍ صَداقُا؛ لِما روَى ابنُ عمرَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشِّغارِ. والشِّغارُ أن يقولَ الرجُلُ للرجلِ: زَوَّجْتكَ ابْنَتِي ¬

= كما أخرجه النسائي، في: باب تفسير الشغار، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 92. وابن ماجه، في: باب النهي عن الشغار، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 606. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 286، 439، 496. (¬1) الجلب يكون في شيئين؛ أحدهما في الزكاة، وهو أن يقدم المصدق على أهل الزكاة، فينزل موضعا، ثم يرمل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهى عن ذلك، وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنها. الثاني في السباق، وهو أن يتبع الرجل فرسه، فيزجره ويجلب عليه ويصيح حثا له على الجرى، فنهى عن ذلك. (¬2) الجنب في السباق: أن يجلب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. وفي الزكاة: أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يؤمر بالأموال أن تجنب إليه، أي تحضر. فنهوا عن ذلك. (¬3) وأخرجه النسائي، في: باب الشغار، من كتاب النكاح، وفي: باب الجلب، وباب الجنب، من كتاب الخيل. المجتبى 6/ 91، 189، 190. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 441، 443. (¬4) في الأصل: «وإن».

فَإِنْ سَمَّوْا مَهْرًا، صَحَّ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال الْخِرَقِيّ: لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على أن تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك. ويكونُ بُضْعُ كُلِّ واحدةٍ منهما [مَهْرَ الأخْرَى] (¬1). ولَنا، ما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشِّغارِ. والشِّغارُ أن يُزَوِّجَ الرجلُ ابْنَتَه على أن يُزَوِّجَه الآخَرُ ابْنَتَه، وليس بينَهما صَداقٌ. هذا لفْظُ الحديثِ الصَّحِيحِ المُتَّفَقِ عليه. وفي حديثِ أبي هريرةَ: [والشِّغارُ] (¬2) أن يقولَ الرجلُ للرجلِ: زَوجْنِي ابْنَتَكَ وأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وزَوجْنِي أُخْتَك وأزَوِّجكَ أُخْتِي. رَواه مسلمٌ. وهذا يَجِبُ تَقْدِيمُه لصِحَّتِه، وعلى أنَّه قد أمْكَنَ الجمعُ بينهما بأن يُعْمَلَ بالجميعِ. ويَفْسُدُ النِّكاحُ بأيِّ ذلك كان. ولأنَّه إذا شَرَط في نِكاحِ إحدَاهما تَزْويِجَ الأخْرَى، فقد جَعَل بُضْعَ كل واحدةٍ منهما صَداقَ الأخْرَى، ففسَدَ، كما لو لَفَظ به (¬3). فصل: فإن سَمَّيَا مع ذلك مَهْرًا، فقال: زَوَّجْتُك ابْنتي على أن ¬

(¬1) في م: «مهرًا في الأخرى». ولم نجد هذا اللفظ في حديث ابن عمر، ولكن أخرج البيهقي عن جابر:. . . . والشغار أن ينكح هذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه صداق هذه. انظر السنن الكبرى 7/ 200. وقال الحافظ عن قول الرافعي: وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى. لم أجد هذه في الحديث، وإنما هو تفسير ابن جريج، كما بين ذلك البيهقي. تلخيص الحبير 3/ 153. وقد بين ذلك البيهقي، في: معرفة السنن والآثار 5/ 339. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُزَوِّجَنِي ابنتَك، ومَهْرُ كلِّ واحدةٍ منهما مِائَةٌ -أو- مَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ، ومَهْرُ ابْنَتِك خَمْسونَ. أو أقلُّ أو أكثرُ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ صِحَّتُه. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لِما تَقَدَّمَ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، ولأنَّه (¬1) قد سَمَّى صَداقًا، فصَحَّ، كما لو لم يَشرُطْ ذلك (وقال الخِرَقِيُّ: لا يَصِحُّ) لحديثِ أبي هُرَيرَةَ، ولما روَى أبو داودَ (¬2) عن الأعْرَجِ، أنَّ العباسَ بنَ عبدِ اللهِ بن العباسِ، أنْكَحَ عبدَ الرحمنِ بنَ الحَكَمِ ابْنَتَه، وأنكَحَه عبدُ الرحمنِ ابْنَتَه، وكانا جَعَلَا صَداقًا، فكَتَبَ مُعاويَةُ إلى مَرْوَانَ، فأمرَه أن يُفَرِّقَ بينَهما، وقال في كِتابِهِ: هذا الشِّغَارُ الذي نَهَى عنه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولأنَّه شَرَط نِكاحَ إحدَاهما لنِكاحِ (¬3) الأخْرَى، فلم يَصِحَّ، كما ¬

(¬1) في م: «كأنه». (¬2) في: باب في الشغار، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 479.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 94. وحسنه في الإرواء 6/ 307. (¬3) في الأصل: «كنكاح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو لم يُسَمِّيا صَداقًا. يُحَقِّقُه أنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ ليس بمُفْسِدٍ للعَقْدِ، بدَليلِ نِكاحِ المُفَوّضَةِ، فدَلَّ على أنَّ المُفْسِدَ هو الشَّرْطُ، وقد وُجِدَ، ولأنَّه سَلَفٌ (¬1) في عَقْدٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْتُكَ ثَوْبِي بعَشَرَةٍ على أن تَبِيعَنِي ثَوْبَكَ بعِشْرِينَ. وهذا [الاخْتِلافُ فيما] (¬2) إذا لم يُصَرِّحْ بالتَّشْرِيكِ، فأما إن قال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي على أن تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك (¬3)، ومَهْرُ كلِّ واحدَةٍ منهما مائَةٌ وبُضْعُ الأخْرَى. فالنِّكاحُ فاسِدٌ؛ لأنَّه صَرَّحَ بالتَّشْرِيكِ، فلم يَصِحَّ العَقْدُ، كما لو (¬4) لم يَذْكُرْ مُسَمًّى. فصل: ومتى قُلْنا بصِحَّةِ العَقْدِ إذا سَمَّيَا صَداقًا، ففيه وجْهان؛ أحدُهما، تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما لم يَرْضَ بالمُسَمَّى إلَّا بِشَرْطِ أن يَتَزَوَّجَ وَلِيَّةَ (¬5) صاحبِه، ¬

(¬1) في م: «متلف». (¬2) في م: «لا اختلاف فيه». (¬3) في م: «ابنك». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «مولية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَنَقَص المَهْرُ لهذا الشَّرْط، وهو باطلٌ، فإذا احْتَجْنا إلى ضَمانِ النَّقْصِ، صار المُسَمَّى مَجْهُولًا، فبَطَلَ. والوَجْهُ الثاني ذَكَرَه القاضي في «الجامعِ»، أنَّه يَجِبُ المُسَمَّى؛ لأنَّه ذَكَر قَدْرًا مَعْلُومًا يَصْلُحُ (¬1) أن يكونَ مَهْرًا، فصَحَّ، كما لو قال: زَوَّجْتُك ابْنَتِي (¬2) على ألفٍ، على أنَّ لي منها مِائَةً. فصل: فإن سَمَّى لإِحْداهما مَهْرًا دونَ الأخْرَى، فقال أبو بكرٍ: يَفْسُدُ النِّكاحُ فيهما؛ لأنَّه فَسَد في إحْدَاهما، ففَسَدَ في الأخْرَى. والأوْلَى أنَّه يَفْسُدُ في التي لم يُسَمِّ لها صَداقًا؛ لأنَّ نِكاحَها خَلَا مِن صَداقٍ سِوَى نِكاحِ الأخْرَى. ويكونُ في التي سَمَّى لها صَدَاقًا رِوايتان؛ لأنَّ فيه تَسْمِيَةً وشَرْطًا، فأشْبَهَ ما لو سَمَّى لكُلِّ واحدةٍ منهما مهرًا. ذَكَرَه القاضي هكذا. فصلِ: فإن قال: زَوَّجْتُك جارِيَتي هذه على أن تُزَوجَنِي ابْنَتَك، [وتكون رَقَبَتُها] (¬3) صَداقًا لابنتِك. لم يَصِحَّ تَزْويجُ الجاريةِ، في قِياسِ المذهبِ؛ لأنَّه لم يَجْعَلْ لها صَداقًا سِوَى تَزْويجِ ابْنَتِه. وإذا زَوَّجَه ابْنَتَه على أن يَجْعَلَ رَقَبَةَ الجاريةِ صَداقًا لها، صَحَّ؛ لأنَّ الجاريةَ تَصْلُحُ أن تكونَ ¬

(¬1) في م: «يصح». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «ويكون عتقها».

وَالثَّانِي، نِكَاحُ الْمُحَلِّل، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أنَّهُ إِذَا أحَلَّهَا طَلَّقَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَدَاقًا. وإن زَوَّجَ عَبْدَه امْرَأةً، وجَعَلَ رَقَبَتَه صَداقًا لها، لم يَصِحَّ الصَّداقُ؛ لأنَّ مِلْكَ المَرأةِ زَوْجَها يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكاحِ، فيَفْسُدُ الصّداقُ، ويَصِحُّ النِّكاحُ، ويَجِبُ مَهرُ المِثْلِ. (الثاني، نِكاحُ المُحَلِّلِ، وهو أن يَتَزَوَّجَها على أنَّه إذا أحَلَّها طَلَّقَها) نِكاحُ المُحَلِّلِ باطلٌ حَرامٌ، في قول عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ المباركِ، والشافعيُّ. وسَواءٌ قال: زَوَّجْتُكَها إلى أن تَطَأها. أو شَرَط أنَّه إذا أحَلَّها فلا نِكاحَ بينَهما، أو إذا أحَلَّها للأوَّلِ طَلَّقَها. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ أنَّه يَصِحُّ النِّكاحُ، ويَبْطُلُ الشَّرْطُ. وقال الشافعيُّ في الصُّورَتُين الأولَيَين: لا يَصِحُّ. وفي الثالثةِ: على قَوْلَين ولَنا، ما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ، والعَمَلُ عليه عند ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في التحليل، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 479. والترمذي، في: باب ما جاء في المحلل والمحلل له، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 43، 44. وابن ماجه، في: باب المحلل والمحلل له، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 622. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ مِن أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ منهم عمرُ بنُ الخَطَّابِ، وعثمانُ، [وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ] (¬1)، وهو قولُ الفُقَهاءِ مِن التابِعِينَ. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ. وقال ابنُ مسعودٍ: المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونون، على لسانِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروَى ابنُ ماجَه (¬3) عن عُقْبَةَ بنَ عامر، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخْبِرُكُمْ بِالتَّيسِ المُسْتَعَار». قالوا: بَلَى يا رسولَ اللهِ. قال: «هو المُحَلِّلُ (4)، لَعَنَ الله المُحلِّلَ (¬4) ¬

= كما أخرجه النسائي، في: باب إحلال المطلقة ثلاثا. . . .، من كتاب الطلاق، وفي: باب الموتشمات. . . .، من كتاب الزينة. المجتبى 6/ 121، 8/ 127. والدارمي، في: باب في النهي عن التحليل، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 158. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 83، 87، 88، 93، 107، 121، 133, 150, 158, 450, 451, 462, 2/ 22. (¬1) كذا في النسختين والمغني، وعند الترمذي: «عبد الله بن عمرو». (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب في المحلل والمحلل له، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 44. والنسائي، في: باب إحلال المطلقة ثلاثا. . . .، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 121. والدارمي، في: باب في النهي عن التحليل، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 158. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 450، 451، 462. (¬3) في: باب المحلل والمحلل له، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 623. كما أخرجه الحاكم، في: باب لعن الله المحلل والمحلل له، من كتاب الطلاق. المستدرك 2/ 198. والبيهقي، في: باب ما جاء في نكاح المحلل، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 208. (¬4) في الأصل: «المحل».

3177 - مسألة: (فإن نوى ذلك من غير شرط، لم يصح أيضا، في ظاهر المذهب. وقيل: يكره ويصح)

فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ مِنْ غَيرِ شَرْطٍ، لَمْ يَصِحَّ أَيضًا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُكْرَهُ وَيَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُحَلَّلَ لَهُ». وروى (¬1) الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن قَبِيصَةَ عن جابرٍ، قال سَمِعْتُ عمرَ [وهو] (¬2) يَخْطُبُ الناسَ وهو يقولُ: واللهِ لا أوتَى بمُحِلٍّ (¬3) ولا مُحَلَّل لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُما (¬4). ولأنَّه نِكاحٌ إلى مُدَّةٍ، أو فيه شَرْطٌ يَمْنَعُ بَقَاءَه، فأشْبَهَ نِكاحَ المُتْعَةِ. 3177 - مسألة: (فإن نَوَى ذلك مِن غيرِ شَرْطٍ، لم يَصِحَّ أيضًا، في ظاهِرِ المذهبِ. وقِيلَ: يُكْرَهُ ويَصِحُّ) إذا تَوَاطَآ عليه قَبْلَ العَقْدِ، ولم يُذْكَر [في العَقْدِ ونَواه] (¬5)، أو نَوَى التَّحَلُّلَ (¬6) مِن غيرِ شَرْطٍ، فالنِّكاحُ باطِل أيضًا. قال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ: سَألْتُ أحمدَ عن الرَّجلِ يَتَزَوَّجُ المرأة، وفي نَفْسِه أن يُحَلِّلَها (¬7) لزَوْجِها الأوَّلِ، ولم تَعْلَمِ المرأَةُ بذلك. قال: هو ¬

(¬1) في م: «رواه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بمحلل». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 265. وسعيد بن منصور، في سننه 2/ 49، 50. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 208. (¬5) في م: «هل نواه». (¬6) في م: «المحلل». (¬7) في م: «يحلها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَلِّلٌ إذا أرادَ بذلك الإِحْلال، [وهو] (¬1) مَلْعُونٌ. وهذا ظاهرُ قولِ الصّحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، فرَوَى نافِعٌ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ رجلًا قال له: امرأةٌ تَزَوَّجْتُها أُحِلُّها لزَوْجِها، لم يَأمُرْنِي، ولم يَعْلَمْ. قال: لا، إلَّا (¬2) نِكاح رَغْبةٍ، إن أعْجَبَتْكَ أمْسِكْها، وإن كَرِهْتَها فارِقْها. قال: وإن كُنَّا نَعُدُّه على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِفَاحًا. وقال: لا يَزَالان زَانِيَين وإن مَكَثَا عِشْرِينَ سنةً، إذا عَلِم أنَّه يُرِيدُ أن يُحِلَّها (¬3). وهذا قولُ عثمانَ بنِ عفانَ، رَضِيَ الله عنه. وجاء رجلٌ إلى ابنِ عباس، فقال: إن عَمِّي طَلَّقَ امْرَأتَه ثَلاثًا، أيُحِلُّها له رجلٌ؟ قال: مَن يُخادِعِ اللهَ يَخْدَعْهُ (¬4). وهذا قولُ الحَسَنِ، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبِي، وقَتادَةَ، وبكر المُزَنيِّ، واللَّيثِ، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، وإسحاقَ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: العَقْدُ صحيحٌ. وذَكَر القاضي في صِحَّتِه وَجْهًا مثلَ قَوْلِهما، لأنَّه خَلَا عن شَرْطٍ يُفْسِدُه، فأشبَهَ ما لو نَوَى طَلاقَها لغيرِ الإِحْلالِ، أو ما لو نَوَتِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «يحللها». والأثر أخرجه الحاكم بنحوه، في: المستدرك 2/ 199. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 208. وصححه في الإرواء 6/ 311، 312. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك، من كتاب الخلع والطلاق. السنن الكبرى 7/ 337.: وسعيد بن منصور، في: باب التعدي في الطلاق، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 262.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأةُ ذلك، ولأنَّ العَقْدَ إنَّما يَبْطُلُ بما شُرِطَ لا بما قُصِدَ، بدليلِ ما لو اشْتَرَى عبدًا بشَرْطِ أن يَبِيعَه، لم يَصِحَّ، ولو نَوَى ذلك لم يَبْطُلْ، ولأنَّه قد رُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ الله عنه، ما يَدُلُّ على إجازَته، فرَوَى أبو حَفْص بإسْنادِه عن محمدِ بنِ سِيرِينَ، قال: قَدِمَ مَكَّةَ رجلٌ ومعه إخْوَة له صِغَارٌ، وعليه إزارٌ، مِن بينِ يَدَيه رُقْعَة، ومِن خَلْفِه رُقْعَة، فسألَ عمرَ، فلم يُعْطِه شيئًا، فبينما هو كذلك إذ نَزَغ الشَّيطانُ بينَ رجل مِن قريش وبينَ امْرَأتِه فطَلَّقَها، فقال لها: هل لكِ أن تُعْطِي ذا الرُّقْعَتَين شيئًا، ويُحِلَّكِ (¬1) لي؟ قالت: نعم، إن شِئْتَ. فأخْبرُوهُ بذلك. قال: نعم. فتَزَوَّجَها ودَخَلَ بها. فلما أصْبَحَتْ أدْخَلَتْ إخْوَتَه (¬2) الدّارَ، فجاء القرَشِيّ يَحُومُ حَوْلَ الدّارِ، ويقولُ: يا وَيلَه، غُلِبَ على امرأتِه (¬3). فأتَى عمرَ، فقال: يا أمِيرَ المؤمنينَ، غُلِبْتُ على امْرَأتي. قال: مَن غَلَبَكَ؟ قال: ذو الرُّقْعَتَين. قال: أرْسِلُوا إليه. فلما جاءَه الرسولُ، قالت له المرأةُ: كيف مَوْضِعُكَ مِن قَوْمِكَ؟ قال: ليس بمَوْضِعِي (¬4) بَأسٌ. قالتْ (¬5): إنَّ أمِيرَ المؤمنينَ يقولُ لك: طَلِّقِ امْرأتَكَ. فقُلْ (¬6): لا، واللهِ ¬

(¬1) في م: «ويحك». (¬2) في الأصل: «أخويه». (¬3) في م: «امرأتي». (¬4) في م: «بموضع». (¬5) في الأصل: «قال». (¬6) بعده في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا أُطَلِّقُها. فإنَّه لا يُكْرِهُكَ. فألْبَسَتْه حُلَّةً، فلمَّا رَآه عمرُ من بعيدٍ، قال: الحمدُ للهِ الذي رَزَق ذا الرُّقْعَتَين. فدَخَلَ عليه، فقال: أتُطَلقُ امْرَأَتَكَ؟ قال: لا، واللهِ لا أُطَلِّقُها. قال عمرُ: لو طَلَّقْتَها لأوْجَعْتُ رَأْسَكَ بالسَّوْطِ. ورَواه سعيدٌ (¬1)، عن هُشَيمٍ، عن يُونسَ بنِ عُبَيدٍ، عن ابنِ سِيرِينَ، نحوًا مِن هذا، وقال: مِن أهلِ المَدِينةِ. وهذا قد تَقَدَّمَ فيه الشَّرْطُ على العَقْدِ، ولم يَرَ به عمرُ بَأسًا. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ». وقولُ مَن سَمَّينا مِن الصحابةِ، ولا مُخالِفَ لهم، فيكونُ إجْماعًا، ولأنَّه قَصَد به التَّحْلِيلَ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَطَه. أمَّا حديثُ ذِي الرُّقْعَتَين، فقال أحمدُ: ليس له إسْنَادٌ. يَعْنِي أنَّ ابنَ سِيرِينَ لم يَذْكُرْ إسْنادَه إلى عمرَ. وقال أبو عُبَيدٍ: هو مُرْسَلٌ. فأين هو مِن الذي سَمِعُوه يَخْطُبُ به على المِنْبَرِ: لا أُوتَى بمُحَلِّلٍ ولا مُحَلَّل له إلَّا رَجَمْتُهُما. ولأنَّه ليس فيه أنَّ ذا الرُّقْعَتَين قَصَد التَّحْلِيلَ، ولا نَواه، وإذا كان كذلك، لم يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ. فصل: فإن شُرِطَ عليه أن يُحِلَّها قبلَ العَقْدِ، فنَوَى بالعَقْدِ غيرَ ما شَرَطُوا عليه، وقَصَد نِكاحَ رَغْبَةٍ، صَحَّ العقدُ؛ لأنَّه خَلَا عن نِيَّةِ التَّحْلِيلِ وشَرْطِه، فصَحَّ، كما لو لم يُذْكَرْ ذلك، وعلى هذا يُحْمَلُ حديث ذي الرُّقْعَتَين. فإن قَصَدَتِ المرأةُ أو وَلِيُّها التَّحْليلَ دُونَ الزَّوْجِ، لم يُؤثِّرْ ذلك ¬

(¬1) في: باب ما جاء في المحلل والمحلل له. سنن سعيد 2/ 50، 51.كما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 267 مختصرًا، 268. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 209. وضعفه في الإرواء 6/ 312.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في العَقْدِ. وقال الحسنُ، وإبراهيمُ: إذا هَمَّ أحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَسَد النِّكاحُ. قال أحمدُ: كان الحسنُ وإبراهيمُ والتابعون، يُشَدِّدُونَ [في ذلك] (¬1). قال أحمدُ: الحَدِيثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتُرِيدِينَ أنْ تَرْجعِي إلَى رِفَاعَةَ؟» (¬2). ونِيَّةُ المرأةِ ليس بشيءٍ، إنَّما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ». ولأنَّ العقدَ إنَّما يَبْطُلُ بنِيَّةِ الزَّوْجِ؛ لأنَّه الذي إليه المُفارَقَةُ والإِمْساكُ، أمَّا المرأةُ فلا تَمْلِكُ رَفْعَ العَقْدِ، فوُجُودُ نِيَّتها وعَدَمُها سَواءٌ، وكذلك الزَّوْجُ الأوَّلُ لا يَمْلِكُ شيئًا مِن العَقْدِ، ولا مِن رَفْعِه، فهو أجْنَبِيٌّ كسائرِ الأجانِبِ. فإن قِيلَ: فكَيفَ لَعَنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: إنَّما لَعَنَه إذا رَجَع إليها بذلك التَّحْلِيلِ؛ لأنَّها لم تَحِلَّ له، فكان زانِيًا، فاسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ لذلك. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب من أجاز طلاق الثلاث، من كتاب الطلاق، وفي: باب الإزار المهدب، من كتاب اللباس، وفي: باب التبسم والضحك، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 7/ 55، 184، 8/ 27. ومسلم، في: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1055، 1056. والترمذي، في: باب ما جاء في من يطلق امرأته. . . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 42. وابن ماجه، في: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا. . . .، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 621، 622. والدارمي، في: باب ما يحل المرأة لزوجها. . . .، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 161، 162. والإمام مالك، في: باب نكاح المحلل وما أشبهه، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 531. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 34، 37، 38، 226، 227.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اشْتَرَى عبدًا فزَوَّجَها إيَّاه، ثم وَهَبَها العَبْدَ أو بَعْضَه ليَنْفسِخَ النِّكاحُ بمِلْكِها، لم يَصِحَّ. قال أحمدُ في روايةِ حَنْبَل: إذا طَلَّقَها ثَلاثًا، وأرادَ أن يُراجِعَها، فاشترَى عبدًا وزَوَّجَها إيَّاه، فهذا الذي نَهَى عنه عمرُ، يُؤدَّبان جَمِيعًا، وهذا فاسدٌ، ليس بكُفْءٍ، وهو شِبْهُ المُحَلِّلِ. وعَلّلَ أحمدُ فَسادَه بشَيئَين؛ أحَدُهما، أنَّه شِبْهُ المُحَلِّلِ؛ لأنَّه إنَّما زَوَّجَها إيَّاه ليُحِلَّها (¬1) له. والثاني، كَوْنُه ليس بكُفْءٍ لها. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ النِّكاحُ إذا لم يَقْصِدِ العَبْدُ التَّحْلِيلَ؛ لأنَّ المُعْتَبَر في الفَسادِ نِيَّةُ الزَّوْجِ لا نِيَّةُ غيرِه، [ولم يَنْو] (¬2). ¬

(¬1) في م: «لتحل». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ونِكاحُ المُحَلِّلِ فاسِدٌ، تَثْبُتُ فيه أحكامُ العُقُودِ الفاسدةِ (¬1)، ولا يَحْصُلُ به الإِحْصانُ، ولا الإِباحَةُ للزَّوْجِ الأوَّل، كما لا يَثْبُتُ في سائِرِ العُقُودِ الفاسدةِ. فإن (¬2) قيلَ: قد سَمَّاه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُحَلَّلًا، [وسَمَّى الزَّوْجَ مُحَلَّلًا له، ولو لم يَحْصُلِ الحِلّ لم يَكُنْ مُحَلَّلًا ولا مُحَلَّلًا له. قُلْنا: سَمَّاه مُحَلَّلًا] (¬3) لأنَّه قَصَد التَّحْلِيلَ في مَوْضِعٍ لا ¬

(¬1) بعده في م: «فإنه قن». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

الثَّالِثُ، نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ أن يَتَزَوَّجَهَا إِلَى مُدَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْصُلُ فيه الحِلُّ، كما قال: «مَا آمَنَ بالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» (¬1). وقال اللهُ تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} (¬2). ولو كان مُحَلَّلًا (¬3) في الحقيقةِ والآخرُ مُحَلَّلًا له، لم يكونا مَلعُونين. (الثالثُ، نِكاحُ المُتْعَةِ، وهو أن يَتَزَوَّجَها إلى مُدَّةٍ) مثلَ أن يقولَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي شَهْرًا -أو- سَنَةً -أو- إلى انْقِضاءِ المَوْسِمِ -أو (¬4) - قُدُومِ الحاجِّ. وشِبْهه، سَواءٌ كانتِ المُدَّةُ مَعْلُومَةً أو مَجْهُولَةً، فهو باطِلٌ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: نِكاحُ المُتْعَةِ حَرامٌ. وقال أبو بكْرٍ: فيها رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّها مَكْرُوهَةٌ غيرُ حرام، لأنَّ ابنَ مَنْصُورٍ سَأل أحمدَ عنها، فقال: يَجْتَنِبُها أحَبُّ إليَّ. قال: فظاهِرُ هذا الكَرَاهةُ دُونَ التَّحْريمِ. وغيرُ أبي بكرٍ مِن أصْحابِنا يَمْنَعُ هذا، ويقولُ: المسألةُ روايةٌ واحدةٌ في تَحْرِيمِها. وهذا قولُ عامَّةِ الصحابةِ والفُقَهاءِ. ومِمَّن رُوِيَ (¬5) عنه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا محمود بن غيلان، من أبراب فضائل القرآن. عارضة الأحوذي 11/ 40. وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. وانظر ضعيف سنن الترمذي 352. (¬2) سورة التوبة 37. (¬3) في الأصل: «محلا». (¬4) في م: «و». (¬5) بعده في الأصل: «ذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرِيمُها؛ عمرُ، وعليٌّ، [وابنُ عمرَ] (¬1)، وابنُ مسعودٍ، وابنُ الزُّبَيرِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): وعلى تَحْرِيمِ المُتْعَةِ مالكٌ، وأهلُ المدينةِ، وأبو حنيفةَ في أهلِ الكوفةِ، والأوْزاعِيُّ في أهلِ الشامٍ، واللَّيثُ في أهلِ مصْرَ، والشافعي، وسائِرُ أصحابِ الآثارِ. وقال زُفرُ: يَصِحُّ النِّكاحُ، ويَبْطُلُ الشَّرْطُ. وحُكِيَ [عن ابنِ عباسٍ، أنَّها جائزةٌ. وعليه أكثَرُ أصْحابِه؛ عطاء، وطاوسٌ. وبه قال ابنُ جُرَيجٍ. وحُكِيَ] (¬3) ذلك عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وجابر. وإليه ذَهَب الشِّيعَةُ؛ لأنَّه قد ثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ فيها. ورُوِيَ أنَّ عمرَ قال: مُتْعَتان كانَتَا على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهَى عنهما، وأُعاقِبُ عليهما؛ مُتْعَةُ النساءِ، ومُتْعَةُ الحَجِّ (¬4). ولأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعَةٍ، فجازَ مُؤقَّتًا، كالإِجارَةِ. ولَنا، ما روَى الرَّبِيعُ بنُ سَبْرَةَ أنَّه قال: أشْهَدُ على أبي، أنَّه حَدَّث أنَّ رسولَ اللهِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: التمهيد 10/ 121، الاستذكار 16/ 300. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب نكاح المتعة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 206.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنه (¬1) في حَجَّةِ الوَداعِ (¬2). وفي لَفْظٍ: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّم مُتْعَةَ النساء. رَواه أبو داودَ (¬3). وفي لفظٍ رَواه ابنُ ماجَه (¬4)، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أيُّها النَّاسُ، إنِّي كُنْتُ قد (¬5) أذِنْتُ لَكُمْ فِي الاسْتِمْتَاعِ، ألا وإنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وروَى سَبْرَةُ: أمَرَنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمُتْعَةِ عامَ الفَتْحِ حينَ دخَلْنا مَكَّةَ، فلَم نَخْرُجْ حتى نَهانا عنها. رَواه مسلم (¬6). ورِوَى عليُّ بنُ أبي طالبٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن مُتْعَةِ النِّساءِ يَوْمَ خيبَرَ، وعن لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. مُتَّفَقٌ عليه، ورَواه مالكٌ في «المُوَطَّأ»، وأخْرَجَه الأئِمَّةُ، النَّسَائِيُّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1026، 1027. وأبو داود، في: باب في نكاح المتعة، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 478، 479. والنسائي، في: باب تحريم المتعة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 103. والدارمي، في: باب النهي عن متعة النساء، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 140. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 404، 405. (¬3) في: باب في نكاح المتعة، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 479. (¬4) في: باب النهي عن نكاح المتعة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 631. كما أخرجه مسلم، في: باب نكاح المتعة. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1025. والدارمي، في: باب النهي عن متعة النساء، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 140. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 406. (¬5) سقط من: م. (¬6) في: باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1025، 1027.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرُه (¬1). واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في الجَمْعِ بينَ هذين الخَبَرَين، فقال قومٌ: في حديثِ عليٍّ تَقْدِيمٌ وتَأخِيرٌ، وتقديرُه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يومَ خيبَرَ، ونهَى عن مُتْعَةِ النِّساءِ، ولم يَذْكُرْ مِيقاتَ النَّهْي عنها، وقد بَيَّنه الرَّبيعُ بنُ سَبْرَةَ في حَدِيثه، أنَّه كان في حَجَّةِ الوَداعِ. حَكاه الإِمامُ أحمدُ عن قومٍ، وذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2). وقال الشافعيُّ: لا أعْلَمُ شيئًا أحَلَّه اللهُ ثم حَرَّمَهُ، ثم أحَلَّه [ثم حَرَّمَه] (¬3)، إلَّا المُتْعَةَ. فحَمَلَ الأمْرَ على ظاهِرِه، وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَها يَوْمَ خيبرَ، ثُم أحَلَّها في حَجَّةِ الوَداعِ ثَلاثَةَ أيامٍ، ثم حَرَّمَها. ولأنَّه لا (¬4) يَتَعَلَّقُ بها أحكامُ النِّكاحِ؛ مِن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي: باب نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخرًا، من كتاب النكاح، وفي: باب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح. صحيح البخاري 5/ 173، 7/ 16، 123. ومسلم، في: باب نكاح المتعة. . . .، من كتاب النكاح، وفي: باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 2/ 1027، 1028، 3/ 1537، 1538.والترمذي، في: باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 48. والنسائي، في: باب تحريم المتعة، من كتاب النكاح، وفي: باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الصيد. المجتبى 6/ 102، 103، 7/ 179. وابن ماجه، في: باب النهي عن نكاح المتعة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 631. والدارمي، في: باب في لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الأضاحي، وفي: باب النهي عن متعة النساء، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 86، 140. والإمام مالك، في: باب نكاح المتعة، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 542. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 79. (¬2) في: التمهيد 10/ 103، الاستذكار 16/ 290. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّلاقِ، والظِّهارِ، واللِّعانِ، والتَّوَارُثِ، فكان باطِلًا، كسائرِ الأنْكِحَةِ الباطلةِ. وأمَّا قولُ ابنِ عباسٍ، فقد حُكِيَ عنه الرُّجُوعُ عنه (¬1)، فرَوَى أبو بكرٍ، بإسنادِه عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ لقد [أكْثَرَ النَّاسُ] (¬2) في المُتْعَةِ، حتى قال فيها الشاعرُ (¬3): أقولُ وقد طال الثَّواءُ بِنَا مَعًا … يا صَاحِ هَلْ لكَ في فُتْيَا ابنِ عباسِ هَل لَكَ في رَخْصَةِ الأطْرَافِ آنِسَةٍ … تكونُ مَثْواكَ حتى مَصْدَرِ الناسِ (¬4) فقام خَطِيبًا، فقال: إنَّ المُتْعَةَ كالمَيتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ (¬5). وعن محمدِ بنِ كعبٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، قال: إنَّماكانتِ المُتْعَةُ في أوَّلِ الإِسْلامِ، كان الرجلُ يَقْدَمُ البَلْدَةَ ليس فيها مَعْرِفَةٌ، فيَتَزَوَّجُ المرأةَ بقَدْرِ ما يَرَى (¬6) أنَّه يُقِيمُ، فتَحْفَظُ له مَتاعَه، وتُصْلِحُ له شَيئَه (¬7)، حتى نَزَلَتْ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «كثرت». (¬3) أورد ابن قتيبة الحديث والبيتين ولم ينسبهما. عيون الأخبار 4/ 95. (¬4) في الأصل: «الأطراق»، «آيسة». (¬5) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 205. وانظر الإرواء 6/ 318، 319. (¬6) في م: «يدرى». (¬7) في م: «شأنه». والمثبت من الأصل، وهو عند الترمذي، في: باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 49، 50. وبلفظ: «شأنه». أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 205، 206. والحديث ضعفه الحافظ في الفتح 9/ 148.

3178 - مسألة: وكذلك إن شرط أن يطلقها في وقت بعينه، فلا يصح النكاح، سواء كان معلوما أو مجهولا

وَنِكَاحٌ شَرَطَ فِيهِ طَلَاقَهَا فِي وَقْتٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الآيَةُ: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬1). قال ابنُ عباسٍ: فكلُّ فرْجٍ سِوَاهُما حَرامٌ. رَواه التِّرْمِذِيُّ. فأمَّا إذْنُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقد ثَبَت نَسْخُه، وأمَّا حديثُ عمرَ -إن صَحَّ عنه- فالظاهرُ أنَّه إنَّما قَصَد الإِخْبارَ عن تَحْرِيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها ونَهْيِه عنها، إذْ لا يَجُوزُ أن يَنْهَى عمَّا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أباحَه وبَقِيَ على إباحَتِه. فصل: فإن تَزَوَّجَها بغيرِ (¬2) شَرْطٍ، إلَّا أنَّ في نِيَّته طَلاقَها بعدَ شَهْرٍ، أو إذا انْقَضَتْ حاجَتُه، فالنِّكاحُ صَحِيحٌ، في قول عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا الأوْزاعِيَّ، قال: هو نِكاحُ مُتْعَةٍ. والصَّحِيحُ أنَّه لا بَأسَ به، ولا تَضُرُّ نيَّته، وليس على الرجل أن يَنْوِيَ حَبْسَ امْرَأَتِه (¬3) إن وَافَقَتْه، وإلَّا طَلَّقَها. 3178 - مسألة: وكذلك إن شَرَط أن يُطَلِّقَها في وَقْتٍ بعَينِه، فلا يَصِحُّ النِّكاحُ، سَواءٌ كان معلومًا أو مجهولًا، مثلَ أن يُشتَرَطَ عليه طَلاقَها ¬

(¬1) سورة المؤمنون 6، سورة المعارج 30. (¬2) في م: «من غير». (¬3) بعده في الأصل: «وحبسه». وفي المغني 10/ 49: «وحسبه».

3179 - مسألة: (وإن علق ابتداءه على شرط، كقوله: زوجتك إذا جاء رأس الشهر. أو: إن رضيت أمها. فهذا كله باطل من أصله)

أَوْ عَلَّقَ ابْتِدَاءَهُ عَلَى شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ إِذَا جَاءَ رَأسُ الشَّهْرِ. أَوْ: إِنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا. فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن قَدِمَ أبوها أو أخُوها. ويَتَخَرَّجُ أن يَصِحَّ النِّكاحُ ويَبْطُلَ الشَّرْطُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأظْهَرُ قَوْلَي الشافعيِّ. قاله في عامَّةِ كُتُبِه، لأنَّ النِّكاحَ وَقَع مُطْلَقًا، وإنَّما شَرَط على نفْسِه شَرْطًا، وذلك لا يُوثِّرُ فيه، كما لو شَرَط أن لا يَتَزَوَّجَ عليها ولا يُسَافِرَ بها. ولَنا، أنَّ هذا شَرْطٌ مانِعٌ مِن بَقاءِ النِّكاحِ، فأشْبَهَ نِكاحَ المُتْعَةِ، ولأنَّه شَرَط انْتِفاءَ النِّكاحِ في وَقْتٍ بعينِه، أشْبَهَ نِكاحَ المُتْعَةِ، ويُفارِقُ ما قاسُوا عليه، فإنَّه لم يَشْتَرِطْ قَطْعَ النِّكاحِ. 3179 - مسألة: (وإن عَلَّقَ ابْتِدَاءَه على شَرْطٍ، كقَوْلِه: زَوَّجْتُكَ إذا جاء رَأسُ الشَّهْرِ. أو: إن رَضِيَتْ أُمُّها. فهذا كلُّه باطِلٌ مِن أصْلِه) لأنَّه عَقْدُ مُعاوضَةٍ، فلم يَصِحَّ تَعْلِيقُه على شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، كالبَيعِ، ولأنَّه وَقَف النِّكاحَ علي شَرْطٍ، ولا يَجُوزُ وَقْفُه على شرطٍ. وهو قولُ الشافعيِّ.

النَّوْعُ الثَّانِي، أنْ يَشْتَرِطَ أنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، أوْ يَقْسِمَ لَهَا أَكْثَرَ مِن امْرأتهِ الأُخْرَى أَوْ أقَلَّ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن مالكٍ نحوُه. وذَكَر أبوالخطاب فيما إذا شَرَط إن رَضِيَتْ أُمُّها، رِوايَةً أنّ النكاحَ صحيحٌ؛ لأنَّه يَصِحُّ مع (¬1) الجَهْلِ بالعِوَضِ، فلم يَبْطُلْ بالشَّرْطِ الفاسِدِ، كالعِتْقِ، ويَبْطُلُ الشرْطُ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما ذَكَرْنا. (النوعُ الثاني، أن يَشْرُطَ أنَّه لا مَهرَ لها ولا نَفَقَةَ، أو يَقْسِمَ لها أكثرَ مِن امرأتِه الأُخْرَى أو أقَلَّ، فالشَّرْطُ باطِلٌ، ويَصِحُّ النِّكاحُ) وكذلك إن شَرَط ¬

(¬1) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه إن أصْدَقَها رَجَعَ عليها، أو تَشْرُطُ عليه أن لا يَطَأها، أو يَعْزِلَ عنها، أو لا يكونَ عندَها في الجُمُعَةِ إلَّا ليلةً، أو شَرَط لها النّهارَ دونَ الليلِ، أو شَرَط على المرأةِ أن تُنْفِقَ عليه، أو تُعْطِيَه شيئًا، فهذه الشُّرُوطُ كلُّها باطِلة في نَفْسِها، لأنَّها تُنافِي مُقْتَضَاه، وتَتَضَمَّنُ إسْقاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بالعَقْدِ قبلِ انْعِقادِه، فلم يَصِحَّ، كما لو أسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَه قبلَ البَيعِ. فأمَّا العقدُ في نفْسِه فهو صَحِيحٌ؛ لأنَّ هذه الشروطَ تَعُودُ إلى مَعْنًى زائدٍ في العَقْدِ، لا يُشتَرَطُ ذِكْرُه، ولا يَضُرُّ الجَهْلُ به، فلم يُبْطِلْه، كما لو شَرَط في العَقْدِ صَدَاقًا مُحَرَّمًا. ولأنَّ النِّكاحَ يَصِحُّ مع الجَهْلِ بالعِوَضِ، فجازَ أن يَنْعَقِدَ مع الشَّرطِ الفاسدِ، كالعَتاقِ. وقد نَصَّ أحمدُ، في مَن تَزَوَّجَ امرأةً وشَرَط عليها أن يَبِيتَ عندَها في كلِّ جُمُعَةٍ ليلةً، ثم رَجَعَتْ وقالتْ: لا أرْضَى إلَّا ليلةً وليلةً. فقال: لها أن تَتْرُكَ (¬1) بطِيبِ نفْسٍ منها، فإنَّ ذلك جائزٌ. ¬

(¬1) في م: «تنزل إلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قالتْ: لا أرْضَى إلَّا بالمُقاسَمَةِ كان ذلك حَقًّا لها، تُطالِبُه به إن شاءتْ. ونَقَل عنه الأثْرَمُ، في الرجلِ يَتَزَوَّجُ المرأةَ ويَشْرُطُ عليها أن يَأتِيَها في الأَيَّامِ: يَجُوزُ الشَّرْطُ، فإن شاءَتْ رَجَعَت. وقال في الرجلِ يَتَزَوَّجُ المرأةَ على أن تُنْفِقَ عليه في كلِّ شهرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، أو عَشَرَةَ دَرَاهِمَ: النِّكاحُ جائزٌ، ولها أن تَرْجِعَ في هذا الشَّرْطِ. ونُقِلَ عن أحمدَ كلامٌ في بعضِ هذه الشُّروطِ يَحْتَمِلُ إبْطال العَقْدِ، فنَقَلَ عنه المَرُّوذِيُّ في النَّهاريَّاتِ واللَّيليَّاتِ: ليس هذا مِن نِكاحِ أهلِ الإِسْلامِ. ومِمَّن كَرِهَ تَزْويجَ النَّهارِيَّات؛ حَمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ، وابنُ شُبْرُمَةَ. وقال الثَّوْرِيُّ: الشَّرْطُ باطِل. وقال أصحابُ الرَّأي: إذا سَأَلتْه أن يَعْدِلَ لها، عَدَل. وكان الحَسَنُ، وعطاءٌ، لا يَرَيان بنِكاحِ النَّهاريّاتِ بَأسًا. وكان الحسنُ لا يَرَى بَأسًا أن يَتَزَوَّجَها ويَجْعَلَ لها مِن الشَّهْرِ أيَّامًا مَعْلُومَةً. قال شيخُنا (¬1): ولَعَلَّ كَراهةَ مَنْ كَرِه ذلك، راجِعٌ إلى إبْطالِ الشَّرْطِ، وإجَازَةَ مَن أجازَه، راجعٌ إلى أصْلِ النِّكاحِ، فتكونُ أقوالُهم مُتَّفِقَةً على صِحَّةِ النِّكاحِ وإبْطالِ الشَّرْطِ، كما قُلْنا، واللهُ أعلمُ. وقال القاضِي: إنَّما كَرِه أحمدُ هذا النِّكاحِ؛ لأنَّه يَقَعُ على وَجْهِ (¬2) السِّرِّ، وهو مَنْهِيٌّ عنه. فإن شُرِطَ عليه ترْكُ ¬

(¬1) في: المغني 9/ 487. (¬2) سقط من: م.

الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ، أَوْ إِنْ جَاءَهَا بِالْمَهْرِ فِي وَقْتٍ، وَإلَّا فَلَا نِكَاحَ بَينَهُمَا , فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَطْءِ، احْتَمَلَ أن يَفْسُدَ العَقْدُ؛ لأنَّه شُرِط ما يُنافِي المقصودَ مِن النِّكاحِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وكذلك إن شُرِطَ عليه أن لا تُسَلَّمَ إليه، فهو بمَنْزِلَةِ مَن اشْتَرَى شيئًا على أن لا يَقْبِضَهُ. وإن شَرَط عليها أن لا يَطَأها (¬1)، لم يَفْسُدْ؛ لأنَّ الوَطْءَ حَقُّه عليها. ويَحْتَمِلُ أن يَفْسُدَ؛ لأنَّ لها فيه حَقًّا، ولذلك تَمْلِكُ مُطالبَته به إذا آلى، والفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ بالجَبِّ والعُنَّةِ. (الثالثُ، أن يَشْرُطَ الخيارَ، أو إن جاءَها بالمَهْرِ في وَقْتٍ، وإلَّا فلا نِكاحَ بينَهما، فالشَّرْطُ باطِلٌ، وفي صِحَّةِ النِّكاحِ رِوايتان) إحدَاهما، النِّكاحُ صحيحٌ، والشَّرْطُ باطلٌ. وبه قال أبو ثَوْرٍ، فيما إذا شَرَط الخيارَ. وحَكاه عن أبي حنيفةَ. وزَعَم أنَّه لا خِلافَ فيه. وقال ابنُ المُنْذِرِ: قال أحمدُ، وإسحاقُ -إذا تَزَوَّجَها على أنَّه إن جاءَها بالمَهْرِ في وَقْتِ كذا، وإلَّا فلا نِكاحَ بينَهما: الشَّرْطُ باطلٌ والعقدُ جائزٌ. وهو قولُ عطاء، ¬

(¬1) في م: «يطأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ، والأوْزَاعِي. ورُوِيَ ذلك عن الزُّهْرِيِّ؛ لأنَّ النِّكاحَ عقدٌ لازمٌ، لا يَدْخُلُه خِيارٌ؛ لما في ذلك مِن المَفْسَدَةِ والضَّرَرِ على الحرائرِ، لكَوْنِها تُرَدُّ بعدَ ابْتِذالِها (¬1) بعقدِ النِّكاحِ، والشَّناعَةِ (¬2) عليها بأنَّها رُدَّتْ رَغْبَةً عنها لدَناءَتِها، والشَّرْطُ الآخَرُ تعليق للنِّكاحِ على شَرْطٍ، فهو في (¬3) معنى الخِيارِ، ويَصِحُّ النِّكاحُ؛ لأنَّ النِّكاحَ يَصِحُّ في المجهُولِ، فلم يَفْسُدْ بالشَّرْطِ الفاسدِ، كالعِتقِ. وروَى ابنُ منصورٍ عن أحمدَ في هذا، أنَّ الشَّرْطَ والعقدَ جائِزان؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِم» (¬4) وذَكَر القاضِي في كتابِه «الرِّوايَتَين والوَجْهَين»: أمّا صِحَّةُ العقدِ، فلأنَّ اللَّفْظَ الذي يَقْتَضِي الدَّوامَ قد وُجِدَ، وإنَّما حَصَل الشَّرْطُ في المَهْرِ، فلم يُؤثِّرْ في العقدِ، وأمّا المَهْرُ، فإنها لَمَّا مَلَكَتْ فَسْخَ النِّكاحِ عندَ تَعَذُّر (¬5) تَسْلِيمِ المَهْرِ، جاز أن يُشتَرَطَ هذا ¬

(¬1) في م: «ابتدائها». (¬2) في الأصل: «البشاعة». (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 149. وانظر ما تقدم في 19/ 20. (¬5) بعده في الأصل: «عدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى في العقدِ، ولا يُؤثِّرَ فيه. والرِّوايةُ الأخْرَى، يَبْطُلُ العقدُ في هذا كُلِّه؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يكونُ إلَّا لازِمًا، وهذا يُوجِبُ جَوازَه، ولأنَّه وَقَفَه على شَرْطٍ، ولا يجوزُ وَقْفُه على شَرْطٍ، كالبَيعِ. وهذا قولُ الشافعيِّ، ونحوُه عن مالِكٍ وأبي عُبَيدٍ. فصل: فإن شَرَط الخِيارَ في الصَّداقِ خاصَّةً، لم يَفْسُدِ النِّكاحُ؛ لأنَّ النِّكاحَ يَنْفرِدُ عن ذِكْرِ الصَّداقِ، لا يَفْسُدُ النِّكاحُ بفَسادِهِ، فبأن لا يَفْسُدَ بشرطِ الخِيارِ فيه أوْلَى، بخِلافِ البَيعِ، فإنَّه إذا فَسَد أحدُ العِوَضَين فَسَد الآخَرُ. إذا ثَبَت هذا، ففي الصَّداقِ ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يَصِحُّ الصَّداقُ ويَبْطُلُ شَرْطُ الخِيارِ، كما يَفْسُدُ الشَّرْطُ في النِّكاحِ ويَصِحُّ النِّكاح. والثاني، يَصِحُّ، ويَثْبُتُ الخِيارُ فيه؛ لأنَّ عَقْدَ الصَّداقِ عَقْدٌ مُنْفَرِدٌ،

3180 - مسألة: (فإن شرطها كتابية فبانت مسلمة، فلا خيار له)

فَصْلٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَبَانَتْ كِتَابِيَّةً، فَلَهُ الْخِيَارُ، وَإنْ شَرَطَهَا كِتَابِيَّةً فَبَانَتْ مُسْلِمَةً، فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَقَال أبو بَكْرٍ: لَهُ الْخِيَارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجْرِي مَجْرَى الأثْمانِ (¬1)، ويَثْبُتُ فيه الخيارُ كالبِيَاعاتِ. والثالثُ، يَبْطُلُ الصَّداقُ؛ لأنَّها لم تَرْضَ به، فلم يَلْزَمْها، كما لو لم تُوافِقْه على شيءٍ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله تَعالى: (فإن تَزَوَّجَهَا على أنَّها مُسْلِمَةٌ فَبَانَتْ كِتابِيَّةً، فله الخِيارُ) لأنَّه نَقْصٌ وضَرَرٌ يَتَعَدَّى إلى الوَلَدِ، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَها حُرَّةً فبانَتْ أمَةً. 3180 - مسألة: (فإن شَرَطَها كِتابِيَّةً فَبَانَتْ مُسْلِمَةً، فلا خِيارَ له) لأنَّها زِيادَةٌ (وقال أبو بكرٍ: له الخِيارُ) لأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في عَدَمِ وُجُوبِ العِباداتِ عليها. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «الأيمان»، وغير منقوطة في الأصل. وانظر المغني 9/ 489.

وَإنْ شَرَطَهَا أَمَةً، فَبَانَتْ حُرَّةً، فَلَا خِيَارَ لَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وإن شَرَطَها أمَةً فبانَتْ حُرَّةً) وكان مِمّن (¬1) له نِكاحُ الإِمَاءِ (فلا خِيارَ له) لأنَّ وَلَدَه يَسْلَمُ مِنِ الرِّقِّ، ويَتَمَكَّنُ مِن الاسْتِمْتاعِ بها ليلًا ونَهارًا، وكذا لو شَرَطَها ذاتَ نسَبٍ فبانت أشْرَفَ منه، أو على صِفَةٍ دَنِيَّةٍ (¬2) فبانت خيرًا مِن شَرْطِه؛ لأنَّها زِيادَةٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «دينه».

3181 - مسألة: (وإن شرطها بكرا)

وَإِنْ شَرَطَهَا بِكْرًا، أوْ جَمِيلَةً، أوْ نَسِيبَةً، أو شَرَطَ نَفْيَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا يَنْفَسِخُ بِهَا النِّكَاحُ، فَبَانَتْ بِخِلَافِهِ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ؟ عَلَى وَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3181 - مسألة: (وإن شَرَطَها بِكْرًا) فبانَتْ ثَيِّبًا، فعن أحمدَ كلامٌ يَحْتَمِلُ أمْرَين؛ أحَدُهما، لا خِيارَ له؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يُرَدُّ فيه بعَيب سِوَى العُيُوبِ الثمانيةِ، ولا يَثْبُتُ فيه الخِيارُ، فلا يُرَدُّ بمُخالفَةِ الشَّرْطِ. والثاني، له الخِيارُ؛ [لأنَّه شَرَط صِفَةً مَقْصُودَةً فبانَ خِلافُها، فيَثْبُتُ له الخِيارُ] (¬1)، كما لو شَرَط الحُرِّيَّةَ. وكذلك لو شَرَطَها حَسْناءَ فبانت شَوْهاءَ، أو ذَاتَ نَسَبٍ فبانتْ دُونَه، أو بيضاءَ فبانَتْ سوداءَ، أو طَويلةً فبانَتْ قَصِيرةً، خُرِّجَ في ذلك كلِّه وَجْهان. ونحوُ هذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. وكذلك لو (شَرَط نَفْيَ العيوبِ التي لا يَنْفَسِخُ بها النِّكاحُ) كالعَمَى، والخَرَسِ، والصَّمَمِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحوه، فبانَ بخِلافِ ذلك ففيه الوَجْهان. ومِمَّن ألزمَ الزَّوْجَ مَن هذه صِفَتُها؛ الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأي. حَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ. وروَى الزُّهْرِيُّ أنَّ رجلًا تَزَوَّجَ امرأةً فلم يَجِدْها عَذْراءَ، وكانتِ الحَيضَةُ خَرَقَتْ عُذْرَتَها، فأرْسَلَتْ إليه عائشةُ: إنَّ الحَيضَةَ تَذْهَبُ بالعُذْرَةِ (¬1). وعن الحسنِ، والشَّعْبِيِّ، وإبراهيمَ، في الرجلِ إذا لم يَجِدِ امرأتَه عَذْراءَ: ليس عليه شيءٌ للعُذْرَةِ، إنَّ الحَيضَةَ تُذْهِبُ العُذْرَةَ، والوَثْبَةُ، والتَّعَنُّسُ (¬2)، والحِمْلُ الثقِيلُ (¬3). فصل: إذا تَزَوَّجَ امرأةً يَظُنُّها مُسلمةً فبانَتْ كَافِرةً، فله الخِيارُ. وهذا ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب الرجل يجد امرأته غير عذراء. السنن 2/ 76. (¬2) في النسختين: «التعبيس». وانظر المغني 9/ 451. (¬3) أخرجه عنهم سعيد، في الموضع السابق 2/ 75.

3182 - مسألة: (وإن تزوج أمة يظنها حرة)

وَإنْ تَزَوَّجَ أمَةً يَظُنُّهَا حُرَّةً، فَأصَابَهَا، وَوَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَيَفْدِيهِمْ بِمِثْلِهِمْ يَوْمَ ولَادَتِهِمْ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، وَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الإمَاءِ، وَإنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، فَلَهُ الْخِيَارُ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْمُقَامِ مَعَهَا، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ رَقِيقٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشَّافعيِّ، كما إذا شَرَطَ ذلك. 3182 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ أمَةً يَظُنُّها حُرَّةً) أو على أنَّها حُرَّة (فأصابَها، وَوَلدت منه، فالوَلَدُ حُرٌّ، ويَفْدِيهم بمِثْلِهِم يَوْمَ ولادَتِهم، ويَرْجِعُ بذلك على مَن غَرَّه، ويُفَرَّقُ بينَهما إن لم يَكُنْ مِمّن يجوزُ له نِكاحُ الإماءِ، وإن كان مِمَّن يجوزُ له) نِكاحُ الإِماءِ (فله الخِيارُ، فإن رَضِيَ بالمُقامِ معها، فما وَلَدَتْ بعدَ ذلك فهو رَقِيقٌ) الكلامُ في هذه المسألةِ في فصولٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، أنَّ النِّكاحَ لا يَفْسُدُ بالغُرُورِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعي في أحدِ قَوْلَيه: يَفْسُدُ، لأنَّه عَقَدَ على حُرَّةٍ، ولم تُوجَدْ، فأشْبَهَ ما لو قال: بِعْتُكَ هذا الفَرَسَ. فإذا هو حمارٌ. ولَنا، أنَّ المَعْقُودَ عليه في النِّكاحِ الشَّخْصُ دُونَ الصِّفاتِ، فلا يُؤَثِّرُ عَدَمُها في صِحَّتِه، كما لو قال: زَوَّجْتُكَ هذه الحسناءَ. فإذا هي شَوْهاءُ (¬1). وكذا نقولُ في الأصلِ الذي ذَكَرُوه: إنَّ العَقْدَ صَحِيحٌ، لأنَّ المَعْقُودَ عليه العَينُ المُشارُ إليها. وإن سَلَّمْنا، فالفَرْقُ بينَهما مِن وَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ ثَمَّ فاتتِ (¬2) الذاتُ، فإنَّ ذاتَ الفَرَسِ غيرُ ذاتِ الحمارِ، وهاهُنا اخْتَلَفَا في الصِّفَاتِ. والثاني، أنَّ البَيعَ يُؤثِّرُ فيه فَواتُ الصِّفاتِ، بدَليلِ أنَّه يُرَدُّ بفَوَاتِ أيِّ شيءٍ كان فيه نَفْعٌ منها، والنِّكاحُ بخِلافِه. ¬

(¬1) في م: «سوداء». (¬2) في م: «الفائت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني: أنَّ أوْلادَه منها أحْرارٌ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه اعْتَقَدَ حُرِّيَّتَها، فكان وَلَدُه أحرارًا؛ لاعْتِقادِه (¬1) ما يَقْتَضِي حُرِّيَّتَهم، كما لو اشْتَرَى جارِيَةً يَظُنُّها مِلْكًا لبائِعِها، فبانتْ مَغْصُوبَةً بعدَ أن أوْلَدَها. ¬

(¬1) في م: «كاعتقاده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث: أنَّ على الزَّوْجِ فِداءَ أوْلادِه. كذلك قَضَى عمرُ، وعليٌّ، وابنُ عباس. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعَيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، ليس عليه فِدَاؤُهُم؛ لأنَّ الوَلَدَ يَنْعَقِدُ حُرَّ الأصْلِ، فلم يَضْمَنْه لسَيِّدِ الأمَةِ (¬1)؛ لأنَّه لم يَمْلِكْه. وعنه أنَّه يُقالُ له: [افْتَدِ أوْلادَكَ] (¬2)، وإلَّا فهم يَتْبَعُونَ الأُمَّ. فظاهِرُ هذا أنَّه خَيَّرَه بينَ فِدَائِهِم وبينَ تَرْكِهِم رَقِيقًا؛ لأنَّهم رَقِيقٌ بحُكْمِ الأصْلِ، فلم يَلْزَمْه فِداؤُهم، كما لو وَطِئَها وهو يَعْلَمُ رِقَّها. قال الخَلَّالُ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «افتداء أولاده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اتُّفِقَ عن أبي عبدِ اللهِ أنَّه يَفْدِي وَلَدَه، وقال إسحاقُ عنه في موضعٍ: إنَّ الوَلَدَ له، وليس عليه أن يَفْدِيَهُم. وأحْسَبُه قولًا أوَّلَ لأبي عبدِ اللهِ. والصَّحيحُ أنَّ عليه فِداءَهم؛ لقَضاءِ الصحابةِ به، ولأنَّه نَماءُ الأمَةِ المَمْلُوكَةِ، فسَبِيلُه أن يكونَ مَمْلوكًا لمالِكِها، وقد فَوَّتَ رِقَّه باعْتِقادِ الحُريَّةِ، فلَزِمَه ضَمانُهم، كما لو فَوَّتَ رِقَّهُم بفِعْلِه. وفي فِدائِهم ثلاثُ مَسائلَ؛ الأُولَى، في وَقْتِه، وذلك حينَ وَضْعِ الوَلَدِ. قَضَى بذلك عمرُ، وعليٌّ، وابنُ عباس. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو بكر، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي: يَضْمَنُهُم بقِيمَتِهم يومَ الخُصُومَةِ؛ لأنَّه إنَّما يَضْمَنُهم بالمَنْعِ، ولم يمْنَعْهُم إلَّا حال الخُصُومَةِ. ولَنا، أنَّه مَحْكُومٌ بحُرِّيَّتِه عندَ الوَضْعِ، فوَجَبَ أن يَضْمَنَه حِينَئِذٍ؛ لأنَّه فات رِقُّه مِن حِينِئذٍ، ولأنَّ القِيمَةَ التي تزِيدُ بعدَ الوَضْعِ لم تَكُنْ مَمْلُوكَةً لمالِكِ الأمَةِ، فلم يَضْمَنْها، كما بعدَ الخُصُومةِ. فإن قِيلَ: فقد كان مَحْكُومًا بحُرِّيَّتِه وهو [حينَ العُلُوقِ] (¬1). قُلْنا: إنَّه لم يُمْكِنْ (¬2) تَضْمِينُه حينَئذٍ؛ لعَدَمِ قِيمَتِه والاطِّلاعِ عليه، فأوْجَبْنا ضَمانَه في أوَّلِ حالٍ أمْكَنَ تَضْمِينُه، وهو حالُ الوَضْعِ. ¬

(¬1) في م: «جنين». (¬2) في النسختين: «يكن». وانظر المغني 9/ 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسألةُ الثانيةُ، في صِفَةِ الفِداءِ، وفيها ثلاثُ رِواياتٍ، إحْداهُنَّ، بقِيمَتِهم. وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ؟ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيهِ نصِيب شَرِيكِهِ» (¬1). ولأنَّ الحَيَوانَ مِن المُتَقَوَّماتِ، لا مِن ذَواتِ الأمْثالِ، فيَجِبُ ضَمانُه بقِيمَتِه، كما لو أتْلَفَه. والثانيةُ، يَضْمَنُهُم بمِثْلِهِم عَبِيدًا، الذَّكَرُ بذَكَرٍ، الأُنْثَى بأْنْثَى؛ لِما روَى سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، قال: أَبقَتْ (¬2) جارِيةٌ لرجل مِن العَرَب، وانْتَمَتْ إلى بعضِ العَرَبِ، فتَزَوَّجَها رجلٌ مِن بَنِي عُذْرَةَ، ثم إنَّ سَيِّدَها دَبَّ، فاسْتاقَها واسْتَاقَ وَلَدَها، فاخْتَصَمُوا إلى عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه، فقَضَى للعُذْرِيِّ بفِداءِ وَلَدِه بغُرَّةٍ (¬3) غُرَّةٍ؛ مَكانَ كلِّ غُلامٍ بغُلامٍ، ومَكانَ كلِّ جارِيةٍ بجارِيةٍ، وكان عمرُ يُقَومُ الغُرَّةَ على أهلِ القُرَى ومَن لم يَجِدْ غُرَّةً سِتِّينَ دِينارًا. ولأنَّ وَلَدَ المَغْرُورِ حُرٌّ، فلا يُضْمَنُ بِقيمَتِه، كسائرِ الأحْرارِ. فعلى هذه الرِّوايةِ، يَنْبَغِي أن يُنْظَرَ إلى مِثْلِهِم في الصِّفاتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 15/ 259. (¬2) في م: «بعت». (¬3) في م: «يعني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تقريبًا؛ لأنَّ الحَيَوانَ ليس مِن ذَواتِ الأمْثالِ. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ مِثْلُهُم في القِيمَةِ. وهو قولُ أبي بكرٍ. والثالثةُ، هو مُخَيَّرٌ بينَ فِدائِهم بمِثْلِهِم أو قِيمَتِهم. قال أحمدُ في روايةِ المَيمُونِيِّ: إمَّا القِيمَةُ أو رَأْسٌ برَأْسٍ؛ لأنَّهما جميعًا يُرْوَيان عن عمرَ، ولكن لا أَدْرِى أيُّ الإِسْنادَين أقْوَى. وهذا اختيارُ أبي بكرٍ. قال في «المُقْنِعِ»: الفِدْيَةُ غُرَّةٌ بقَدْرِ القِيمةِ، أو القِيمةُ، وأيُّهما أعْطَى أجْزَأَ. ووَجْهُ ذلك أنَّه تَرَدَّدَ بينَ الجَنِينِ الذي يُضْمَنُ بغُرَّةٍ، وبينَ إلْحاقِه بغيرِه (¬1) مِن المَضْموناتِ، فاقْتَضَى التَّخْيِيرَ بينَهما. والصحيحُ أنَّه يُضْمَنُ بالقِيمَةِ، كسائرِ المَضْمُوناتِ المُتَقَوَّماتِ. وقولُ عمرَ قد اخْتُلِفَ عنه فيه، قال أحمدُ في روايةِ أبي طالبٍ: وعليه قِيمَتُهُم، مثل قولِ عمرَ. وإذا تعارَضَتِ الرِّواياتُ عنه، وَجَب الرُّجُوعُ إلى القِياسِ. المسألة الثالثة (¬2): في مَن يُضْمَنُ منهم، وهو (¬3) مَن وُلِدَ حَيًّا في وَقْتٍ يعيشُ لمِثْلِه، سَواءٌ عاش أو مات بعدَ ذلك. وقال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، ¬

(¬1) في م: «بغرة». (¬2) في الأصل: «الثانية». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي: لا ضَمانَ على الأبِ لمَن ماتَ منهم قبلَ الخُصُومَةِ. وهذا يَنْبَنِي على وَقْتِ الضَّمانِ (¬1)، وقد ذكَرْناه. فأمَّا السَّقْطُ ومَن وُلِدَ لوَقْتٍ لا يَعِيشُ [في مِثْلِه] (¬2)، وهو دون سِتَّةِ أشْهُرٍ، فلا ضَمانَ له؛ لأنَّه لا قِيمَةَ له. فصل في المَهْرِ: ولا يَخْلُو أن يكونَ مِمَّن يَجُوزُ له نِكاحُ الإِماءِ أو لا؛ فإن كان مِمَّن يَجُوزُ له ذلك، وقد نَكَحَها نِكاحًا صحيحًا، فلها المُسَمَّى، فإن كان لم يدْخُلْ بها واختارَ الفَسْخَ، فلا مَهْرَ لها؛ لأنَّ الفَسْخَ لعُذْرٍ مِن جِهَتِها، فهي كالمَعِيبَةِ يُفْسَخُ نِكَاحُها، وإن كان مِمَّن لا يجوزُ له (¬3) نِكاحُ الإِمَاءِ، فالعَقْدُ فاسِدٌ مِن أصْلِه، ولا مَهْرَ فيه إن كان قبلَ الدُّخولِ، فإن دَخَل بها، فعليه مَهْرُها. وهل يَجبُ المُسَمَّى أو مَهْرُ المِثْلِ؟ على روايتَين، يُذْكَران في الواجِبِ في النِّكَاحِ الفاسدِ، إن شاء اللهُ تعالى. وكذلك إن كان مِمَّن يجوزُ له نِكاحُ الإِمَاءِ، لكن تَزَوَّجَها بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، أو نحو ذلك ممّا يَفْسُدُ به النِّكاحُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لمثله». (¬3) في م: «لهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الرابع: أنَّه يَرْجِعُ بما غَرِمَه على مَن غَرَّه، مِن المَهْرِ وقِيمةِ الأوْلادِ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: كذلك قَضَى عمرُ، وعليٌّ، وابنُ عباسٍ، وبه قال الشافعيُّ في القدِيمِ. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، لا يَرْجِعُ بالمَهْرِ. اخْتارَه أبو بكرٍ، قال (¬1): وهو قولُ عليٍّ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ في الجديدِ؛ لأنَّه وَجَب عليه في مُقابَلةِ نَفْعٍ وَصَل إليه، وهو الوطءُ، فلم يَرْجِعْ به، كما لو اشْتَرَى مَغْصُوبًا فأكَلَه، بخِلافِ قِيمةِ الوَلَدِ، فإنَّه لم يَحْصُلْ في مُقَابَلتِه عِوَضٌ؛ لأنَّها وَجَبَتْ بحُرِّيَّةِ الوَلَدِ، وحُرِّيَّةُ الولدِ له لا لأبيه. وقال القاضي: الأظْهَرُ أنَّه (¬2) يَرْجِعُ بالمَهْرِ؛ لأنَّ أحمدَ قال: كنتُ أذهبُ إلى حديثِ عليٍّ، ثم إنِّي هِبْتُه، وكأنِّي أمِيلُ إلى حديثِ عمرَ. يعني في الرُّجُوعِ. ولأنَّ العاقِدَ ضَمِن له سلامَةَ الوَطْءِ، كما ضَمِن له سلامةَ الوَلَدِ، فكما يَرْجِعُ عليه بقِيمَةِ الوَلَدِ كذلك يَرْجِعُ بالمَهْرِ. قال: وعلى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «لم». والمثبت من الأصل، وهو موافق لما في المغني 9/ 445، والمبدع 7/ 93. وما في المطبوعة موافق لما ذكره في الإنصاف، والمسألة في الإنصاف فها خلاف عما أثبتناه. وانظر لحديث عمر في الرجوع، ما أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الصداق والحباء، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 526. والإمام الشافعي، في: باب في العيب بالمنكوحة، من كتاب النكاح. الأم 5/ 75. وعبد الرزاق، في: المصنف 6/ 244. وسعيد، في: سننه 1/ 212. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 214، 219. وانظر لحديث على في الرجوع أيضًا ما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 219. وانظر معرفة السنن والآثار 5/ 356. وفي عدم الرجوع ما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الأصلِ يَرْجِعُ بأُجْرةِ الخِدْمَةِ إذا غَرِمَها. قال شيخُنا (¬1): ولا أعْرِفُ عن أصحابِنا بينَهما فَرْقًا. إذا ثَبَت هذا، وكان الغُرُورُ مِن السَّيِّدِ، عَتَقَت، وإن كان بلَفْظٍ غيرِ هذا لم تَثْبُتْ به الحُرِّيَّةُ، فلا شيءَ له؛ لأنَّه لا فائدةَ في أن يَجِبَ له ما يَرْجِعُ به عليه. وإن كان الغرورُ مِن وَكِيِله، رَجَع عليه في الحالِ، وكذك إن كان مِن أجنبيٍّ. وإن كان منها، فليس لها في الحالِ مالٌ، فيُخَرَّجُ فيها وَجْهان، بناءً على دَينِ العبدِ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، هل يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، أو بِذِمًّتِه يُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ؟ قال القاضِي: قِياسُ قولِ الخِرَقِيِّ أنَّه يَتَعَلَّقُ بذِمَّتِها؛ لأنَّه قال في الأمَةِ إذا خَالعَتْ زَوْجَها [بغيرِ إذْنِ] (¬2) سَيِّدِها: يَتْبَعُها به إذا عَتَقَتْ. كذا ههُنا، ويَتْبَعُها (¬3) بجَمِيعِه. وظاهرُ كلام أحمدَ أنَّ الغُرُورَ إذا كان مِن الأمَةِ، لم يَرْجِعْ على أحدٍ؛ فإنَّه قال، إذا جَاءتِ الأمَةُ (¬4) فقالت: إنِّي حُرَّةٌ. فولَّتْ أمْرَها رجلًا، فَزَوَّجَها [مِن رجلٍ، ثم ظَهَر عليها مَوْلاها، قال: فِكاكُ وَلَدِه على الأبِ؛ لأنَّه لم يَغُرَّه أحَدٌ. أمّا إذا غَرَّه رجلٌ فزَوَّجَها] (¬5) على أنَّها حُرَّةٌ، فالفِداءُ على مَن غَرَّه. يُرْوَى هذا عن عليٍّ، وإبراهيمَ، وحَمَّادٍ. وكذلك قال الشَّعْبِيُّ. وإن قُلْنا: يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِها (¬6). فالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بينَ فِدائِها ¬

(¬1) في: المغني 9/ 445. (¬2) في م: «بإذن». (¬3) في الأصل: «يبيعها». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقِيمَتِها إن كانت أقَلَّ ممَّا يَرْجِعُ به عليها، أو يُسَلِّمُها (¬1)، فإنِ اخْتارَ فِداءَها بقِيمَتِها، سَقَط قَدْرُ ذلك عن الزَّوْجِ، فإنَّه لا فائدةَ في أن يُوجِبَه عليه ثم يَرُدَّه إليه. وإنِ اختارَ تَسْلِيمَها، سَلَّمَها وأخَذَ ما وَجَب له. وذَكَر القاضي أنَّ الغُرُورَ المُوجِبَ للرُّجُوعِ، أن يكونَ اشْتِراطُ الحُرِّيَّةِ مُقارِنًا للعَقْدِ، فيقولَ: زَوَّجْتُكَها على أنَّها حُرَّةٌ. وإن لم يَكُنْ كذلك، لم يَمْلِكِ الفَسْخَ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. والصحيحُ خِلافُ هذا، فإنَّ الصحابةَ الذين قَضَوْا بالرُّجُوعِ لم يُفَرِّقُوا بينَ أنواعِ الغُرُورِ، ولم يَسْتَفْصِلُوا، والظَّاهرُ أنَّ العَقْدَ لم يَقَعْ هكذا، ولم تَجْرِ به العادةُ في العُقُودِ، ولا يجوزُ حَمْلُ (¬2) قَضَائِهم (¬3) المُطْلَقِ على صُورةٍ نادرةٍ لم تُنْقَلْ، ولأنَّ الغرورَ (¬4) قد يكونُ مِن المرأَة، ولا لَفْظَ لها في العَقْدِ، ولأنَّه متى أخْبَرَه بحُرِّيَّتِها أو أوْهَمَه ذلك بقَرائِنَ تُغَلِّبُ على ظَنِّه حُرِّيِّتِها، فنَكَحَها على ذلك، ورَغِب فيها، وأصْدَقَها صَداقَ الحَرائِرِ، ثم لَزِمَه الغُرْمُ، فقد اسْتَضَرَّ بِناءً على قولِ المُخْبِرِ له والغَارِّ، فتَجِبُ إزالةُ الضَّرَرِ عنه بإثْباتِ الرُّجُوعِ على مَن غَرَّه وأضَرَّ به. فعلى هذا، إن كان الغُرُورُ مِن اثْنَين أو أكْثَرَ، فالرُّجُوعُ على جَميعِهم، وإن كان الغُرُورُ منها ومِن الوَكِيلِ، فعلى كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُه. الفصل الخامس: أنَّه إن كان الزَّوْجُ مِمَّن يَحْرُمُ عليه نِكاحُ الإِمَاءِ، ¬

(¬1) في م: «تسليمها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «قضاياهم بهم». (¬4) في م: «الغرر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يُفَرَّقُ بينَهما؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّ النكاحَ فاسدٌ مِن أصْلِه؛ لعَدَمِ شَرْطِه. وهكذا إن كان تَزْويجُها بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، أو اخْتَلَّ شرطٌ مِن شُرُوطِ النِّكاحِ، فهو فاسدٌ، يُفَرَّقُ بينَهما. والحكمُ في الرُّجُوعِ على ما ذَكَرْنا. وإن كان مِمَّن يجوزُ له نِكاحُ الإِمَاءِ، وكانتِ الشَّرَائِطُ مُجْتَمِعَةً، فالعَقْدُ صحيحٌ، وللزَّوْجِ الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والمُقامِ على النِّكاحِ. وهذا معنى قول الخِرَقِيِّ، وظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا خِيارَ له؛ لأنَّ الكَفاءَةَ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ في جانبِ المرأةِ، ولأنَّه يَمْلِكُ الطَّلاقَ، فَيُسْتَغْنى به عن الفَسْخِ. ولِنا، أنَّه عَقْدٌ غُرَّ فيه أحدُ الزَّوْجَينِ بحُرِّيَّةِ الآخَرِ، فيَثْبُتُ له الخيارُ كالآخَرِ، ولأنَّ الكَفاءةَ وإن لم تُعْتَبَرْ، فإنَّ عليه ضَرَرًا في اسْتِرْقاقِ وَلَدِه ورِقِّ امْرَأَتِه، وذلك أعْظَمُ مِن فَقْدِ الكَفاءةِ. فأمَّا الطَّلاقُ فلا يَنْدَفِعُ به الضَّرَرُ؛ فإنَّه يُسْقِطُ نِصْفَ المُسَمَّى، والفَسْخُ يُسْقِطُ جَمِيعَه. فإذا فَسَخ قبلَ الدُّخُولِ فلا مَهْرَ لها، وإن رَضِيَ بالمُقامِ معها، فله ذلك؛ لأنَّه يَحِلُّ له نِكاحُ الإِمَاءِ، وما. وَلَدَتْ بعدَ ذلك فهو رَقِيقٌ لسَيِّدِها؛ لأنَّ المانِعَ مِن رِقِّهِم في الغُرُورِ اعْتِقادُ الزَّوْجِ حُرِّيَّتَها، وقد زال ذلك بالعِلْمِ. ولو وَطِئَها قبلَ العِلْمِ فعَلِقَتْ منه، ثم عَلِم قبلَ الوَضْعِ، فهو حُرٌّ؛ لأنَّه وَطِئَها مُعْتَقِدًا حُرِّيَّتَها. فصل: والحكمُ في المُدَبَّرَةِ وأُمِّ الوَلَدِ [والمُعْتَقَةِ بصِفَةٍ] (¬1)، كالأمَةِ ¬

(¬1) في م: «والمعتق نصفها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِنِّ؛ لأنَّها ناقِصَةٌ بالرِّقّ، إلَّا أنَّ وَلَدَ أُمِّ الوَلَدِ (¬1) يُقَوَّمُ كأنَّه عَبْدٌ له حُكْمُ أُمِّه، وكذلك مَن أُعْتِقَ بعضُها، إلَّا أنَّه إذا فَدَى الوَلَدَ، لم يَلْزَمْه إلَّا فِداءُ ما فيه مِن الرِّقِّ؛ لأنَّ بَقِيَّتَه حُرٌّ بِحُرِّيَّةِ أُمِّه، لا باعْتِقادِ الوَاطِئ. فإن كانت مُكاتَبَةً، فكذلك، إلَّا أنَّ مَهْرَها لها؛ لأنَّه مِن كَسْبِها، وكَسْبُها لها، وتَجِبُ قِيمَةُ وَلَدِها على الرِّوايةِ المشهورةِ. قال أبو بكرٍ: ويكونُ ذلك تَسْتَعِينُ به في كِتابَتِها. فإن كان الغُرُورُ منها، فلا شيءَ لها، إذ لا فائدةَ في إيجابِ شيءٍ (¬2) لها يَرْجِعُ به عليها، وإن كان الغُرُورُ مِن غيرِها، غَرِمَه لها، ورَجَع به على مَن غرَّه. فصل: ولا يَثْبُتُ أنَّها أمَةٌ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، ويَثْبُتُ بالبَيِّنَةِ. فإن أقَرَّتْ أنَّها أمَةٌ، فقال أحمدُ في رِوايةِ أبي الحارثِ: لا يَسْتَحِقُّها بإقْرارِها؛ لأنَّ إقْرارَها يُزِيلُ النِّكاحَ عنها، ويُثْبِتُ حَقًّا على غيرِها، فلم يُقْبَلْ، كإقْرارِها بمالٍ على غيرِها. وقال في رِوايةِ حَنْبَلٍ: لا شيءَ حتى تَثْبُتَ له، أو تُقِزَّ هي أنَّها أمَتُه. فظاهِرُ هذا أنَّه يُقْبَلُ إقْرارُها؛ لأنَّها مُقِرَّةٌ على نَفْسِها بالرِّقِّ، أشْبَهَ غيرَ الزَّوْجَةِ. والأوَّلُ أوْلَى. ولا نُسَلِّمُ أنَّه يُقْبَلُ مِن غيرِ ذاتِ الزَّوْجِ إقْرارُها بالرِّقِّ بعدَ إقْرارِها بالحُرِّيَّةِ؛ لأنَّها أقَرَّتْ بما يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الله تعالى. فصل: فإن حَمَلَتِ المَغْرُورُ بها، فضَرَبَها ضارِبٌ فألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، ¬

(¬1) بعده في المغني 9/ 447: «والمدبرة». (¬2) سقط من: م.

3183 - مسألة: (وإن كان المغرور عبدا، فولده أحرار، ويفديهم إذا عتق، ويرجع به على من غره)

وَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا، فَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ، وَيَفْدِيهِمْ إِذَا عَتَقَ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنَ غَرَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الضاربِ غُرَّةٌ؛ لأنَّه محكومٌ بحُرِّيَّتِه، ويَرِثُها وَرَثَتُه (¬1). فإن كان الضاربُ أباه، لم يَرِثْه. ولا يَجِبُ بَدَلُ (¬2) هذا الولدِ (¬3) للسَّيِّدِ؛ لأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّ بَدَلَ (2) حَيٍّ، وهذا مَيِّتٌ. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ له عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لأنِّ الواطئَ فَوَّتَ ذلك عليه [باعْتِقادِ الحُرِّيَّةِ، ولَوْلاه لوَجَبَ ذلك له] (¬4). فصل: ويَثْبُت له الخِيارُ إذا ظَنَّها حُرَّةً فبانَتْ أمَةً، كما إذا شَرَط ذلك. وقال الشافعيُّ: لا خِيارَ له. ووَافَقَنا (¬5) فيما إذا ظَنَّ أنَّها مُسْلِمَةٌ فبانَتْ كافِرَةً، أنَّه يَثْبُتُ له الخِيارُ. وقال بَعْضُهم: فيهما (¬6) جميعًا قَوْلان. ولَنا، أنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أعْظَمُ ضَرَرًا، فإنَّه يُؤَثِّرُ في رِقِّ وَلَدِه، ومَنْعِ كمالِ اسْتِمْتاعِه، فكان له الخِيارُ، كما لو كانت كافرةً. 3183 - مسألة: (وإن كان المَغْرُورُ عَبْدًا، فوَلَدُه أحْرارٌ، ويَفْدِيهم إذا عَتَقَ، ويَرْجِعُ به على مَن غَرَّه) وجملةُ ذلك، أنَّ حُكْمَ العبدِ ¬

(¬1) في الأصل: «ترثه». وبعده في المغني 9/ 448: «من كانوا، وعلى الضارب كفارة القتل». (¬2) في م: «بذل». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «ووافقاه». (¬6) في الأصل: «فهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَغْرُورِ حُكْمُ الحُرِّ في حُرِّيَّةِ أولادِه. وقال أبو حنيفةَ: وَلَدُه رَقِيقٌ؛ لأنَّ أبَوَيه رقِيقٌ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّه وَطِئَها مُعْتَقِدًا حُرِّيَّتَها، فأشْبَهَ الحُرَّ، فإنَّ هذا هو العِلَّةُ المُقْتَضِيَةُ للحُرِّيَّةِ في مَحَلِّ الوفاقِ، ولولا ذلك لكان رَقِيقًا، فإنَّ عِلَّةَ رِقِّ الوَلَدِ رِقُّ الأُمِّ خَاصَّةً، ولا عِبْرَةَ بالأبِ، بدلِيلِ وَلَدِ الحُرِّ مِن الأمَةِ، ووَلَدِ الحُرَّةِ مِن العَبْدِ. وعلى العَبْدِ فِداؤُهم؛ لأنَّه فَوَّتَ رِقَّهُم باعْتِقادِه وفِعْلِه، ولا مال له في الحالِ، فيُخرَّجُ في ذلك وَجْهان؛ أحدُهما، يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه كجِنايَته. والثاني، بذِمَّتِه يُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ. وهو قولُ الخِرَقِيِّ، فيكُونُ بمَنْزِلَةِ الخُلْعِ مِن الأمَةِ إذا بَذَلَتْه بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها. ويُفارِقُ الاسْتِدانةَ والجِنايةَ؛ لأنَّه إذا (¬1) اسْتَدانَ أتْلَفَ مال الغَرِيمِ، فكان جِنايةً منه، وههُنا لم يَجْنِ في الأوْلادِ جنايةً، وإنَّما عَتَقُوا مِن طَرِيقِ الحُكْمِ، وما حَصَل له (¬2) منهم عِوَضٌ، فيَكونُ ذلك في ذِمَّتِه يُتْبَعُ به بعدَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِتْقِ، ويَرْجِعُ به حينَ يَغْرَمُه، فإنَّه لا يَنْبَغِي أن يَجِبَ له بَذْلُ ما لم يَفُتْ (¬1) عليه، وأمَّا الحُرِّيَّةُ فتُتَعَجَّلُ في الحالِ. وإن قُلْنا: إنَّ الفِداءَ يَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه. وَجَب في الحال، ويَرْجعُ به سَيِّدُه في الحالِ، ويَثْبُتُ للعبدِ الخِيارُ، كثُبُوتِه للحُرِّ الذي يَحِلُّ له نِكاحُ الإِمَاءِ؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في رِقِّ وَلَدِه، ونقصًا في اسْتِمْتاعِه، فإنَّها لا تكونُ عندَه ليلًا ونهارًا، ولم يَرْضَ به. ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ له خِيارٌ؛ لأنَّه فَقَد (¬2) صِفَةً لا يَنْقُصُ بها عن رُتْبَتِه، فأشْبَهَ ما لو شَرَط نَسَبَ امرأةٍ (¬3) فبانَتْ بخِلافِه؛ لأنَّها مُسَاويةٌ لنَسَبِه، ¬

(¬1) في م: «يثبت». (¬2) في م: «نقص». (¬3) في الأصل: «امرأته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ تَغْرِيرِ الحُرِّ. وقال بعضُ الشافعيةِ: لا خِيارَ له. وقال بعضُهم: فيه قَوْلان. والأَوْلَى ما ذَكَرْناه. وإذا اخْتارَ الإِقامَةَ، فالمَهْرُ واجِبٌ، لا يَرْجِعُ به على أحَدٍ، وإنِ اختارَ الفَسْخَ قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهْرَ، وإن كان بعدَه والنِّكاحُ بإذْنِ سَيِّدِه، فالمَهْرُ واجِبٌ عليه، وفي الرُّجُوعِ اخْتِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. وإن كان بغيرِ إذْنِه، فالنِّكاحُ فاسدٌ. فإن دَخَل بها، ففي قَدْرِ ما يَجِبُ به وَجْهان؛ أحدُهما، مَهْرُ المِثْلِ. والثاني، الخُمْسانِ. وهل يَرْجِعُ به؟ على وَجْهِين.

3184 - مسألة: (وإن تزوجت)

وَإِنْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ، أَوْ تَظُنُّهُ حُرًّا، فَبَانَ عَبْدًا، فَلَهَا الْخِيَارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3184 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَتِ) المرأةُ (عبدًا على أنَّه حُرٌّ، أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَظُنُّه حُرًّا، فبانَ عَبْدًا، فلها الخِيارُ) أمّا النِّكاحُ فهو صحيحٌ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأنَّ اخْتِلافَ الصِّفَةِ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ العَقْدِ، كما لو تَزَوَّجَ أمَةً على أنَّها حُرَّةٌ. وهذا إذا كَمَلَتْ شُرُوطُ النِّكاحِ، وكان بإذْنِ سَيِّدِه (¬1). وإن كانتِ المرأةُ حُرَّةً، وقُلْنا: الحُرِّيَّةُ ليست مِن شُرُوطِ الكَفاءةِ. أو (¬2): إنَّ فَقْدَ الكَفاءَةِ لا يُبْطِلُ النِّكاحَ. فهو صحيحٌ، و (¬3) للمرأةِ الخِيارُ بينَ الفَسْخِ والإِمْضاءِ، فإنِ اخْتارَتْ إمْضاءَه (¬4)، فلأَولِيائِها الاعْتراضُ عليها؛ لعَدَمِ الكَفاءَةِ. وإن كانت أمَةً فيَنْبَغِي أن يكونَ لها الخِيارُ أيضًا؛ لأنَّه لمَّا ثَبَت الخِيارُ للعَبْدِ إذا غُرَّ مِن أمَةٍ، ثَبَت للأَمَةِ إذا غُرَّتْ بعَبْدٍ. وكلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنا بفَسادِ العَقْدِ به ففُرِّقَ بينَهما قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهْرَ لها، وإن كان بعدَه فلها مَهْرُ المِثْلِ أو المُسَمَّى، على ما قَدَّمْنا مِن الاخْتِلافِ. وكلُّ مَوْضِعٍ فُسِخَ النِّكاحُ مع القولِ بصِحَّتِه قبلَ الدُّخُولِ، فلا شيءَ لها، وإن كان بعدَه فلها المُسَمَّى؛ لأنَّه فَسْخٌ طَرَأ على نِكاحٍ (¬5)، فأشْبَهَ الطَّلاقَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «و». (¬3) بعده في م: «لأن». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «نكاحه».

فَصْلٌ: وَإِنْ عَتَقَتِ الْأَمَةُ وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن غَرَّها بنَسَبٍ فبانَ دُونَه، وكان ذلك مُخِلًّا بالكَفاءَةِ، وقُلْنا بصِحَّةِ النِّكاحِ، فلها الخِيارُ، فإنِ اخْتارتِ الإِمْضاءَ، فلأوْلِيائِها الاعْتِراضُ عليها، وإن لم يُخِلَّ بالكفاءةِ، فلا خِيارَ لها؛ لأنَّ ذلك ليس بمُعْتَبَرٍ في النِّكاحِ، فأشبَهَ ما لو شَرَطَتْه فَقِيهًا فبَانَ بخِلافِه. وكذلك إنِ اشْتَرَطَتْ غيرَ النَّسَبِ، فإن كان ممَّا يُعْتَبَرُ في الكَفاءةِ، فهو كما لو تَبَيَّنَ أنَّه غيرُ مُكافِئ، لها في النَّسبِ، وإن لم يُعْتَبَرْ في الكَفاءةِ، كالفِقْهِ والجَمالِ وأشْباهِ ذلك، فلا خِيارَ لها؛ لأنَّ ذلك ممّا لا يُؤثِّرُ في النِّكاحِ، [فلا يُؤثِّرُ اشْتِرَاطُه. [وذُكِرَ فيما] (¬1) إذا بان نَسَبُه دونَ ما ذَكَرَه، وَجْهٌ في ثُبُوتِ الخِيارِ لها] (¬2) وإن لم يُخلَّ بالكَفاءة. والأَوْلَى ما ذَكَرْناه. فصل: قال الشيخُ، رَضِيَ الله عنه: (وإن عَتَقَتِ الأمَةُ وزَوْجُها حُرٌّ، فلا خِيارَ لها في ظاهِرِ المذهبِ) هذا قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وسعيدِ ¬

(¬1) في م: «وذلك أنه». وانظر المغني 9/ 449. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، وعطاءٍ، وسليمانَ بنِ يسارٍ، وأبي قِلابَةَ، وابنِ أبي لَيلَى، ومالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. وقال طاوُسٌ، وابنُ سِيرِينَ، ومجاهدٌ، والنَّخَعِيُّ، وحَمَّادُ بنُ أبي سليمانَ، والثَّوْرِيُّ، وأصْحابُ الرَّأي: لها الخِيارُ؛ لِما روَى الأسْوَدُ عن عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ بَرِيرَة، وكان زَوْجُها حرًّا. رَواه النَّسائِيُّ (¬1). ولأنَّها كَمَلَتْ بالحُرِّيَّةِ، فكان لها الخِيارُ، كما لو كان زَوْجُها عَبْدًا. ورُوِيَ ذلك عن أحمدَ. ولَنا، أنَّها كافَأَت زَوْجَها في الكَمالِ، فلم يَثْبُتْ لها الخِيارُ، ¬

(¬1) في: باب إذا تحولت الصدقة، من كتاب الزكاة، وفي: باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر، من كتاب الطلاق، وفي: باب البيع يكون فيه الشرط الفاسد. . . .، من كتاب البيوع. المجتبى 5/ 81، 6/ 133، 7/ 264. كما أخرجه البخاري، في: باب ميراث السائبة، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 8/ 192، وقال: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: رأيته عبدًا. أصح. ومسلم، في: باب الولاء لمن أعتق، من كتاب العتق. صحيح مسلم 2/ 1144. وأبو داود، في: باب من قال: كان حرًّا. من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 518. والترمذي، في: باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 101. وابن ماجه، في: باب خيار الأمة إذا أعتقت، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 670. والدارمي، في: باب في تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 169. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 42، 170، 172، 175، 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو أسْلَمَتِ الكِتابِيَّةُ تحتَ المُسْلِم. فأمَّا خبرُ الأسودِ عن عائشةَ، فقد روَى عنها القاسمُ بنُ محمدٍ، وعُرْوَةُ، أنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كان عبدًا (¬1). وهما أخَصُّ بها مِن الأسْوَدِ؛ لأنَّهما ابنُ أخِيها وابنُ أُخْتِها. وقد روَى [الأعْمَشُ، عن إبراهيمَ، عن الأسْوَدِ] (¬2)، عن عائشةَ، أنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كان عبدًا. فتعارضَتْ رِوايتَاه. وقال ابنُ عباسٍ: كان زَوْجُ بَرِيرَةَ عبدًا أسودَ لبَنِي المُغِيرَةِ، يُقَالُ له: مُغِيثٌ. رَواه البخارِيُّ، وغيرُه (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 267. (¬2) في النسخنين: «الأسود عن إبراهيم عن عروة». وأخرجه الدارقطني كما أثبتناه في سننه 3/ 289. وانظر المغني 10/ 70. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 268.

3185 - مسألة: (وإن كان عبدا فلها الخيار في فسخ النكاح)

وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقالت صَفِيَّةُ بنتُ أبي عُبَيدٍ: كان زَوْجُ بَرِيرَةَ عبدًا (¬1). قال أحمدُ: هذا ابنُ عباسٍ وعائشةُ قالا في زَوْجِ بَرِيرَةَ: إنه عبْدٌ. رِوَايَةُ علماءِ المدينةِ وعَمَلُهم، وإذا روَى أهْلُ المدينةِ حَدِيثًا وعَمِلُوا بِه، فهو أصَحُّ شيءٍ، وإنَّما يَصِحُّ [أنَّه حُرٌّ] (¬2) عن الأسودِ وَحْدَه، فأمَّا غيرُه فليس بذاك. قال: والعَقْدُ صحيحٌ، فلا يُفْسَخُ بالمُخْتَلَفِ فيه، والحُرُّ فيه اخْتِلافٌ، والعَبْدُ لا اخْتِلافَ فيه. ويُخالِفُ الحُرُّ العَبْدَ؛ لأنَّ العَبْدَ ناقِصٌ، فإذْا كَمَلَتْ تحتَه، تَضَرَّرَتْ ببَقائِها عندَه، بخِلافِ الحُرِّ. 3185 - مسألة: (وإن كان عَبْدًا فلها الخِيارُ في فَسْخِ النِّكاحِ) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على هذا. ذَكَرَه ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البرِّ (¬3)، وغيرُهما. والأصْلُ فيه حديثُ بَرِيرَةَ، قالت عائشةُ: كاتَبَتْ بَرِيرَةُ، فَخَيَّرَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في زَوْجِها، وكان عبدًا، فاخْتارَتْ نفسَها. قال ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 293. والبيهقي، في: باب الأمة تعتق وزوجها عبد، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 222. (¬2) في م: «حرا». (¬3) انظر: الاستذكار 17/ 149.

3186 - مسألة: (ولها الفسخ)

وَلَهَا الْفَسْخُ بِغَيرِ حُكْمِ حَاكِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عروةُ: ولو كان حرًّا ما خَيَّرَها. رَواه مالكٌ، وأبو داودَ، والنَّسائِيُّ (¬1). ولأنَّ عليها ضَرَرًا في كَوْنِها حُرَّةً تحتَ العَبْدِ، فكان لها الخِيارُ، كما لو تَزَوَّجَ حُرَّةً على أنَّه حُرٌّ فبانَ عبدًا. فإنِ اخْتارَتِ الفَسْخَ، فلها فِراقُه، وإن رَضِيَتِ المُقامَ معه لم يَكُنْ لها فِراقُه بعدَ ذلك؛ لأنَّها أسْقَطَتْ حَقَّها، وهذا ممّا لا خِلافَ فيه بحمدِ اللهِ. 3186 - مسألة: (ولها الفَسْخُ) بنَفْسِها (مِن غيرِ حُكْمِ حاكمٍ) لأنَّه فَسْخٌ مُجْمَعٌ عليه، غيرُ مُجْتَهَدٍ فيه، فلا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ حاكِمٍ، كالرَّدِّ بالعَيبِ في المَبِيعِ، بخِلافِ خِيارِ العَيبِ في النِّكاحِ، فإنَّه مُجْتَهَدٌ فيه، فافْتَقَرَ إلى حُكْمِ الحاكِمِ، كالفَسْخِ للإِعْسَارِ. وروَى الحسنُ بنُ (¬2) عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ، قال: سَمِعْتُ رِجالًا يتَحَدَّثُونَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا أُعْتِقَتِ الأمَةُ، فَهِيَ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ، فَإنْ وَطِئَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا». رَواه الإِمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬3). ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 267. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «عن». والمثبت من الأصل موافق لما أخرجه النسائي بلفظ: «أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت، فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها». انظر باب إذا أراد أن يعتق العبد وامرأته بأيهما يبدأ، من كتاب العتق. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اختارَتِ المُعْتَقَةُ (¬1) الفِراقَ، كان فَسْخًا ليس بطَلاقٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوريُّ، والحسنُ بنُ حَيٍّ (¬2)، والشافعيُّ. وذَهَب مالكٌ والأوْزاعِيُّ، واللَّيثُ، إلى أنَّه طَلاقٌ بائِنٌ. قال مالكٌ: إلَّا أن تُطَلِّقَ نَفْسَها ثَلاثًا فتَطْلُقَ ثلاثًا. واحْتَجَّ له بقصةِ زَبْرَاءَ، حينَ طَلَّقَتْ نَفْسَها ثَلاثًا (¬3)، فلم يَبْلُغْنا أنَّ أحدًا مِن الصحابَةِ أَنْكَرَ ذلك، ولأنَّها تَمْلِكُ الفِراقَ، فمَلَكَتِ الطَّلاقَ، كالرجلِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أخَذَ بِالسَّاقِ» (¬4). ولأنَّها فُرْقَةٌ مِن قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فكانت فَسْخًا، كما لو اخْتَلَف دِينُهما، أو أرْضَعَتْ مَن يَنْفَسِخُ نِكاحُه ¬

= السنن الكبرى 3/ 180. وهو موافق أيضًا لما ترجمه الحافظ المزي في: تحفة الأشراف 11/ 138. وكذا ابن حجر في: النكت الظراف. ولم نجد لحسن بن عمرو ترجمة. وذكر الحافظ المزي أنه عند النسائي -لعله في رواية ابن الأحمر- من طريق الشعبي عن عمرو بن أمية الضمري. . . . قال النسائي: هذا عندي حديث منكر. تحفة الأشراف 11/ 139. والحديث في المسند 4/ 65 من رواية الفضل بن عمرو بن أمية عن أبيه. وانظر: التاريخ الكبير للبخاري 1/ 4 / 7/ 115. الجرح والتعديل 2/ 3 / 7/ 64. وفي المسند 4/ 66 من رواية الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية. وانظر: التاريخ الكبير 1/ 4 / 7/ 114، 115. تهذيب التهذيب 8/ 269، 270. وفي المسند 5/ 378. من رواية الفضل بن عمرو بن أمية عن أبيه، ومن رواية الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية. (¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «صالح». (¬3) يأتي بتمامه في صفحة 458. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب طلاق العبد، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 672. وحسنه، في: الإرواء 7/ 108 - 110.

3187 - مسألة: (فإن أعتق قبل فسخها، أو أمكنته من وطئها، بطل خيارها)

فَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ فَسْخِهَا، أَوْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ وَطْئِهَا، بَطَلَ خِيَارُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ برَضاعِه (¬1). وفِعْلُ زَبْرَاءَ ليس بحُجَّةٍ، ولم يَثْبُتِ انْتِشارُه في الصَّحابةِ. فعلى هذا، لو (¬2) قالت: اخْتَرْتُ نفسِي. أو: فَسَخْتُ النِّكاحَ. انْفَسَخٍ. ولو قالتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي. ونَوَتِ المُفَارَقَةَ، كان كِنايةً عن الفَسْخِ؛ لأنَّه يُؤَدِّي مَعْناه، فصَلَحَ كنايةً عنه، كالكِنايةِ بالفَسْخِ عن الطَّلاقِ. 3187 - مسألة: (فإن أُعْتِقَ قبلَ فَسْخِها، أو أمْكَنَتْه مِن وَطْئِها، بَطَل خِيارُها) أمَّا إذا أُعْتِقَ الزَّوْجُ قبلَ خِيارِها، سَقَط؛ لأنَّ الخِيارَ لدَفعِ الضَّرَرِ بالرِّقِّ، وقد زَال بعِتْقِه، فسَقَطَ، كالمَبِيعِ إذا زال عَيبُه. وهذا أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وإن وَطِئَها، بَطَل خِيارُها، عَلِمَتْ بالخِيارِ أو لم تَعْلَمْ. نَصَّ عليه أحمدُ، واخْتارَه الخِرَقِيُّ. ورُوِيَ ذلك عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأُخْتِه حَفْصَةَ، ونافِعٍ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ. وحَكَاه بعضُ أهلِ العلمِ عن [الفقهاءِ السَّبْعَةِ] (¬3). وذَكَر القاضي أنَّ لها الخِيارَ إذا لم تَعْلَمْ، ¬

(¬1) في م: «برضاعها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «فقهاء الشيعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أصابَها بعدَ عِلْمِها، فلا خِيارَ لها. وهذا قولُ عطاءٍ، والحكمِ، وحمادٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ؛ لأنَّها (¬1) إذا أمْكَنَتْ مِن وَطْئِها قبلَ عِلْمِها، لم يُوجَدْ منها ما يَدُلُّ على الرِّضَا، فهو كما لو لم تُصَبْ. ووَجْهُ الأوَّلِ ما تَقَدَّمَ مِن حديثِ عمرِو بنِ أُمَيَّةَ. وروَى مالكٌ (¬2)، عن ابنِ شهابٍ، عن عُرْوَةَ، أنَّ مَوْلاةً لبَنِي عَدِيٍّ، يُقَالُ لها: زَبْرَاءُ. أخْبَرَتْه أنَّها كانت تحتَ عبدٍ، فَعَتَقَتْ، قالتْ: فأرسلتْ إليَّ حَفْصَةُ، فدَعَتْنِي، فقالت: إِنَّ أمْرَكَ بيدِكِ، ما لم يَمَسَّكِ زَوْجُكِ، وإن مَسَّكِ، فليس لكِ مِن الأمرِ شيءٌ. فقلتُ: هو الطَّلاقُ، ثم الطَّلَاقُ، [ثم الطَّلاقُ] (¬3). ففَارَقَتْه ثَلاثًا. وروَى مالكٌ (¬4)، عن نافعٍ، عن ابنِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب ما جاء في الخيار، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 563. (¬3) تكملة من الموطأ. (¬4) في الباب نفسه. الموطأ 2/ 562.

فَإِنِ ادَّعَتِ الْجَهْلَ بِالْعِتْقِ، وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ جَهْلُهُ، أَو الْجَهْلَ بِمِلْكِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، أنَّ لها الخِيارَ ما لم يَمَسَّها. ولأنَّه خِيارُ عَيبٍ، فيَسْقُطُ بالتَّصَرُّفِ فيه مع الجَهالةِ، كخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ. ولا تَفْرِيعَ على هذا القولِ. فأمَّا على القولِ الآخَرِ، فإذا وَطِئَها وادَّعَتِ الجَهالةَ بالعِتْقِ، وهي مِمّن يجوزُ خَفاءُ ذلك عليها، مثلَ أن يُعْتِقَها سَيِّدُها في بلدٍ آخَرَ، فالقولُ قولُها مع

الْفَسْخِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يَبْطُلُ خِيَارُهَا، عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينِها؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك. وإن كانت مِمَّن لا يَخْفَى ذلك عليها؛ لكَوْنِهما (¬1) في بلدٍ واحدٍ، وقد اشْتَهَرَ ذلك، لم يُقْبَلْ قولُها؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ، وإن عَلِمَتِ العِتْقَ وادَّعَتِ الجَهالةَ بثُبُوتِ الخيارِ، فالقولُ قولُها؛ لأنَّ ذلك لا يَعْلَمُه إلَّا خَواصُّ الناسِ، فالظاهِرُ صِدْقُها فيه. وللشافعيِّ في قَبُولِ قولِها قَوْلان. ¬

(¬1) في الأصل: «لكونها».

3188 - مسألة: (وخيار المعتقة على التراخي، ما لم يوجد منها ما يدل على الرضا)

وَخِيَارُ الْمُعْتَقَةِ عَلَى التَّرَاخِي، مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3188 - مسألة: (وخِيارُ المُعْتَقَةِ على التَّراخِي، ما لم يُوجَدْ منها ما يَدُلُّ على الرِّضَا) ولا يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِن وَطْئِها. ومِمَّن قال: إنَّه على التَّراخِي. مالكٌ، والأوْزاعِيُّ. ورُوِيَ ذلك عن عبدِ الله بِنِ عمرَ، وأُخْتِه حَفْصَةَ. وبه قال سليمانُ بنُ يسارٍ، ونافعٌ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادَةُ. وقال أبو حنيفةَ، وسائرُ العِراقِيِّين: لها الخِيارُ في مَجْلِسِ العلمِ. وللشافعيِّ ثلاثَةُ أقوالٍ، أظْهَرُها كقولِنا. والثاني، أنَّه على الفَوْرِ، كخِيارِ الشُّفْعَةِ. والثالثُ، أنَّه إلى ثلاثةِ أيامٍ. ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ بإسنادِه، عن الحسنِ بنِ عمرِو بنِ أُمَيَّةَ (¬1)، قال: يسمِعْتُ رجالًا يَتَحَدَّثون عن ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 455، 456.

3189 - مسألة: (فإن كانت صغيرة أو مجنونة، فلها الخيار إذا بلغت وعقلت)

فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً، فَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ وَعَقَلَتْ، وَلَيسَ لِوَلِيِّهَا الاخْتِيَارُ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، إِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ، وَإنْ وَطِئَهَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا». ورَواه الأثْرَمُ أيضًا. وروَى أبو داودَ (¬1)، أنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ، وهي عندَ مُغِيثٍ، عبْدٍ لآلِ أبي (¬2) أحمدَ، فخَيَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال لها: «إنْ قَرُبَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ». ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابةِ. قال ابنُ عبدِ البرِّ (¬3): لا أعْلَمُ لابنِ عمرَ وحَفْصَةَ مُخالِفًا مِن الصَّحابةِ. ولأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى ذلك، فثَبَت (¬4)، كخِيارِ القِصاصِ، أو خِيارٍ لدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فأشْبَهَ ما قُلْنا. 3189 - مسألة: (فإن كانت صَغِيرَةً أَو مَجْنُونَةً، فلها الخِيارُ إِذا بَلَغَتْ وعَقَلَتْ) ولا خِيارَ لهما في الحالِ؛ لأنَّه لا عَقْلٌ لهما، ولا قولٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 267. (¬2) في م: «بني». (¬3) انظر: الاستذكار 7/ 151. (¬4) بعدها في م: «الخيار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعْتَبَرٌ، ولا يَمْلِكُ وَلِيُّهما الاخْتِيارَ عنهما؛ لأنَّ (¬1) هذا طريقُه الشَّهوةُ، فلا يَدْخُلُ تحتَ الولايةِ، كالاقْتِصاصِ. فإذا بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ وعَقَلَتِ المجنونَةُ، فلهما الخيارُ حينئذٍ؛ لكَوْنِهما صارا على صِفَةٍ لكلٍّ منْهما حُكْمٌ. وهكذا الحُكْمُ لو كان بزَوْجِهما (¬2) عَيبٌ يُوجِبُ الفَسْخَ. فإن كان زَوْجاهُما قد وَطِئاهما، فظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه لا خِيارَ لهما؛ لأنَّ مُدَّةَ الخِيارِ انْقَضَتْ. وعلى قولِ القاضي وأصحابِه، لهما الخِيارُ؛ لأنَّه لا رَأْيَ لهما، فلا يكونُ تَمْكِينُهُما مِن الوَطْءِ دَليلًا على الرِّضَا، بخِلافِ الكَبيرةِ العَاقِلَةِ. ولا يُمْنَعُ زَوْجَاهُما مِن وَطْئِهما. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «ليس له». (¬2) في م: «عند زوجتيهما».

3190 - مسألة: (فإن طلقت قبل اختيارها، وقع الطلاق)

فَإِنْ طُلِّقَت قَبْلَ اخْتِيَارِهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3190 - مسألة: (فإن طُلِّقَتْ قبلَ اخْتِيارِها، وَقَعِ الطَّلاقُ) وبَطَل خِيارُها؛ لأنَّه طلاقٌ مِن زَوْجٍ جائزِ التَّصَرُّفِ في نِكاحٍ صحيحٍ، فنَفَذَ (¬1)، كما لو لم يَعْتِقْ. وقال القاضي: طَلاقُه موقوفٌ، فإنِ اخْتارَتِ (¬2) الفَسْخَ لم يَقَعْ؛ لأنَّه يَتَضَمَّنُ إبْطال حَقِّها مِن الخِيارِ، وإن لم تَخْتَرْ وَقَع. وللشافعيِّ قَوْلان كهَذين الوَجْهَين. وبَنَوْا عَدَمَ الوُقُوعِ على أنَّ الفَسْخَ اسْتَنَدَ إلى حالةِ العِتْقِ، فيكونُ الطَّلاقُ واقِعًا في نِكاحٍ مَفْسُوخٍ، وكذلك إن طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ أو المجنونَةَ بعدَ العِتْقِ. ولنا، أنَّه طلاقٌ مِن زَوْجٍ مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ، في نِكاحٍ صحيحٍ، فوَقَعَ، كما لو طَلَّقَها قبلَ عِتْقِها، أو كما لو لم تَخْتَرْ (¬3)، والفَسْخُ إنَّما يوجِبُ الفُرْقَةَ مِن حِينِه (¬4)؛ لأنَّه سَبَبُها، ولا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الفُرْقَةِ عليه، إذِ الحُكْمُ لا يَتَقَدَّمُ سَبَبَه، ولأنَّ العِدَّةَ تُبْتَدَأُ مِن حينِ الفَسْخِ لا مِن حِينِ العِتْقِ، وما سَبَقَه مِن الوَطْءِ وَطْءٌ في نِكاحٍ صحيحٍ يَثْبُتُ به الإِحْصانُ والإِحْلالُ للزَّوْجِ الأوَّل، ولو كان الفَسْخُ سابِقًا عليه (¬5) لانْعَكَسَتِ الحالُ. وقولُ القاضي: إنَّه يُبْطِلُ ¬

(¬1) في م: «فيقدم». (¬2) في الأصل: «أجازت». (¬3) في م: «يختر». وفي الأصل بالجيم والباء، والتاء غير منقوطة. وانظر المغني 10/ 78. (¬4) في الأصل: «جنبه». (¬5) سقط من: م.

3191 - مسألة: (وإن عتقت)

وَإنْ عَتَقَتِ الْمُعْتَدَّةُ الرَّجْعِيَّةُ، فَلَهَا الْخِيَارُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقَّها مِن الفَسْخِ. غيرُ صحيحٍ؛ فإنَّ الطَّلاقَ يَحْصُلُ به مَقْصُودُ الفَسْخِ، مع وُجُوبِ نِصْفِ المَهْرِ، وتَقْصِيرِ العِدَّةِ عليها، فإنَّ ابْتِدَاءَها مِن حينِ طَلاقِه، لامِن حينِ فَسْخِه، ثم لوكان مُبْطلاً لحقِّها، لم يَقَعْ وإن لم تَخْتَرِ الفَسْخَ، كما لا يَصِحُّ تَصَرُّفُ المُشْتَرِي في المَبِيعِ في مُدَّةِ الخِيارِ، سَواءٌ فَسَخ البائِعُ أو لم يَفْسَخْ. وهذا فيما إذا كان الطَّلاقُ بائِنًا، فإن كان رَجْعِيًّا، لم يَسْقُطْ خِيارُها، على ما نَذْكُرُ فيما بعدُ. فعلى قولِهم، إذا طُلِّقَتْ قبلَ الدُّخُولِ، ثم اخْتَارَتِ الفَسْخَ، سَقَط مَهْرُها؛ لأنَّها بانتْ بالفَسْخِ، وإن لم يَفْسَخْ، فلها نِصْفُ الصَّداقِ؛ لأنَّها بانَت بالطَّلاقِ. 3191 - مسألة: (وإن عَتَقَتِ) الأمَةُ (الرَّجْعِيَّةُ، فلها الخِيارُ) لأنَّ نِكاحَها باقٍ يُمْكِنُ فَسْخُه، ولها في الفَسْخِ فائدةٌ، فإنَّها لا تَأْمَنُ رَجْعَتَه إذا لم تَفْسَخْ. فإن قِيلَ: فَيفْسَخُ حينئذٍ؟ قُلْنا: إذًا تَحْتاج إلى عِدَّةٍ أُخْرَى.

3192 - مسألة: (فإن اختارت المقام، فهل يبطل خيارها؟ على وجهين)

فَإِنْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ، فَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [وإذا فَسَخَتْ في العِدَّةِ، بَنَتْ على ما مَضَى مِن عِدَّتِها، ولم تَحْتَجْ إلى عِدَّةٍ أُخْرَى] (¬1)؛ لأنَّها مُعْتَدَّة مِن الطَّلاقِ، والفَسْخُ لا يُنَافِيها [ولا يَقْطَعُها] (¬2)، فهو كما لو طَلَّقَها طَلْقَةً أُخْرَى، وتَبْنِي على عِدَّةِ حُرَّةٍ؛ لأنَّها عَتَقَتْ في عِدَّتِها وهي رَجْعِيَّةٌ. 3192 - مسألة: (فإنِ اخْتارَتِ المُقَامَ، فَهل يَبْطُلُ خِيارُها؟ على وَجْهَين) أحدُهما، لا يَبْطُلُ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّها جارِيَةٌ إلى بَينُونَةٍ. والثاني، يَبْطُلُ خِيارُها؛ لأنَّها حالةٌ (¬3) يَصِحُّ فيها اخْتِيارُ الفَسْخِ، فصَحَّ اختيارُ المُقامِ، كصُلْب النِّكاحِ. وهو اخْتِيارُ شيخِنا (¬4). وإن لم تَخْتَرْ شيئًا، لم يَسْقُطْ (¬5) خِيارُها؛ لأنَّه على التَّراخِي، ولأنَّ سُكُوتَها لا يَدُلُّ على رِضاها؛ لأنَّه (¬6) يَحْتَمِلُ أنَّه كان لجَرَيانِها إلى (6) بَينُونَةٍ، اكْتِفاءً منها بذلك، فإنِ ارْتَجَعَها، فلها الفَسْخُ حينئذٍ، فإن فَسَخَتْ ثم عاد فتَزَوَّجَها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر: المغني 10/ 77. (¬5) في م: «يبطل». (¬6) سقط من: الأصل.

3193 - مسألة: (ومتى اختارت، المعتقة)

وَمَتَى اخْتَارَتِ الْمُعْتَقَةُ الْفُرْقَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَقِيَتْ معه بطَلْقَةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ طلاقَ العبدِ اثْنَتَانِ. وإن تَزَوَّجَها بعدَ أن عَتَق، رَجَعَتْ معه على طَلْقَتَين؛ لأنَّه صار حرًّا، فمَلَكَ ثَلاثَ طَلقاتٍ، كسائرِ الأحْرارِ. 3193 - مسألة: (وَمَتى اخْتارَتِ، المُعْتَقَةُ) الفَسْخَ (بعدَ الدُّخُولِ، فالمَهْرُ للسَّيِّدِ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُعْتَقَةَ متى اختارتِ المُقامَ مع زَوْجِها قبلَ الدُّخُول أو بعدَه، فالمَهْرُ للسَّيِّد، وكذلك إنِ اخْتارتِ الفَسْخَ بعدَ الدُّخُولِ؛ لأَنَّه وَجَب بالعَقْدِ، فإذا اخْتارَت المُقامَ، لم يُوجَدْ له مُسْقِطٌ، وإن فَسَخَتْ بعدَ الدُّخولِ، فقد اسْتَقَرَّ المَهْرُ بالدُّخولِ، فلم يَسْقُطْ بشيءٍ، وهو للسَّيِّدِ في الحالين؛ لأنَّه وَجَب بالعَقْدِ في مِلْكِه. والواجِبُ المُسَمَّى في الحالين، سَواءٌ كان الدُّخُولُ قبلَ العِتْقِ أو بعدَه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن كان الدُّخُولُ قبلَ العِتْقِ، فكذلك، وإن كان بعدَه فالواجِبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ [لأنَّ الفَسْخَ اسْتَنَدَ إلى حالةِ العِتْقِ، فصار الوَطْءُ في نِكاحٍ فاسِدٍ] (¬1). ولَنا، أنَّه عَقْدٌ صحيحٌ، فيه مُسَمًّى صحيحٌ، ¬

(¬1) سقط من: م.

3194 - مسألة: وإن اختارت الفسخ قبل الدخول، فلا مهر لها. نص عليه أحمد. وهو مذهب الشافعي. وعن أحمد، أن للسيد نصف المهر. اختاره أبو بكر؛ لأنه وجب للسيد، فلا يسقط بفعل غيره. ولنا، أن الفرقة جاءت من قبلها، فيسقط مهرها، كما لو أسلمت أو ارتدت، أو أرضعت من يفسخ نكاحها رضاعه

وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَلَا مَهْرَ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لِسَيِّدِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اتَّصَلَ به الدُّخُولُ قبلَ الفَسْخِ، فأوْجَبَ المُسَمَّى، كما لو لم يُفْسَخْ، ولأنَّه لو وَجَب بالوَطْءِ بعدَ الفَسْخِ، لكان المَهْرُ لها؛ لأنَّها حُرَّةٌ حينئذٍ. قولُهم: إنَّ الوَطْءَ في نِكاحٍ فاسدٍ. غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه كان صحيحًا، ولم يُوجَدْ ما يُفْسِدُه، ويَثْبُتُ فيه أحْكامُ الوَطْءِ في النِّكاحِ الصحيحِ، مِن الإِحلالِ للزَّوْجِ الأوَّلِ، وكَوْنِه حَلالًا. 3194 - مسألة: وإنِ اخْتارَتِ الفَسْخَ قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهْرَ لها. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّ للسَّيِّدِ نِصْفَ المَهْرِ. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه وَجَب للسَّيِّدِ، فلا يَسْقُطُ بفِعْلِ غيرِه. ولَنا، أنَّ الفُرْقَةَ جاءَتْ مِن قِبَلِها، فيَسْقُطُ مَهْرُها، كما لو أسْلَمَتْ أو ارْتَدَّتْ، أو أرْضَعَتْ مَن يَفْسَخُ نِكاحَها رَضاعُه (¬1). وقولُه: وَجَب للسَّيِّدِ. قُلْنا: لكنْ بواسِطَتِها، ولهذا سَقَط نِصْفُه بفَسْخِها، وجَمِيعُهُ بإسْلامِها ورِدَّتِها. فصل: ولو كانت مُفَوّضَةً ففُرِضَ لها (1) مَهْرُ المِثْلِ، فهو للسَّيِّدِ ¬

(¬1) سقط من: م.

3195 - مسألة: (وإن أعتق أحد الشريكين وهو معسر، فلا خيار لها. وقال أبو بكر: لها الخيار)

وَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَينِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فلَا خِيَارَ لَهَا. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لَهَا الْخِيَارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا؛ لأنَّه وَجَب بالعقدِ في مِلْكِه لا بالفَرْضِ، ولذلك لو ماتَ أحدُهما، وَجَب، والموتُ لا يُوجِبُ، فدَلَّ على أنَّه وَجَب بالعقدِ. وإن كان الفَسْخُ قبلَ الدُّخُولِ والفَرْضِ، فلا شيءَ، إلَّا على الرِّوايةِ الأُخْرَى، يَنْبَغِي أن تَجِبَ المُتْعَةُ؛ لأنَّها تَجِبُ بالفُرْقَةِ قبلَ الدُّخُولِ في مَوْضِعٍ لو كان مُسَمًّى وَجَب نِصْفُه. 3195 - مسألة: (وإن أعْتَقَ أحدُ الشَّرِيكَينِ وهو مُعْسِرٌ، فلا خِيارَ لها. وقال أبو بكرٍ: لها الخِيارُ) لأنَّ عِتْقَ المُعْسِرِ لا يَسْرِي، بل يَعْتِقُ منها ما أعْتَقَ، وباقِيها رقِيقٌ، فلا تَكْمُلُ حُرِّيَّتُها، فلا يَثْبُتُ لها الخيارُ حينَئذٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ أنَّ لها الخِيارَ. حَكاها أبو بكرٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واختارَها؛ لأنَّها أكمَلُ منه، فإنَّها تَرِثُ وتُورَثُ، وتَحْجُبُ بقَدْرِ ما فيها مِن الحُرِّيَّةِ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، أنَّه لا نصَّ في المُعْتَقِ بعضُها، ولا هي في معنى الحُرَّةِ الكاملةِ؛ لأنَّ الحُرَّةَ كاملةُ الأحْكامِ، ولأنَّ العقدَ صحيحٌ، فلا يُفْسَخُ بالمُخْتَلَفِ فيه، وهذه مُخْتَلَفٌ فيها، وعَلَّلَ (¬1) أحمدُ، رَضِيَ اللهُ عنه، إذا عَتَقَتْ وروْجُها حرٌّ بهذِه العِلَّةِ. فأمَّا إن كان المُعْتِقُ مُوسِرًا، سَرَى إلى بَاقِيها، فعَتَقَتْ كلُّها، وثَبَت لها الخِيارُ. فصل: ولو زَوَّجَ أمَةً قِيمَتُها عَشَرَةٌ بصَداقٍ عشرينَ، ثم أعْتَقَها في مَرَضِه بعدَ الدُّخولِ بها، ثم ماتَ، ولا يَمْلِكُ غيرَها وغيرَ مَهْرِها بعدَ ¬

(¬1) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِيفائِه، عَتَقَتْ؛ لأنَّها تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، وإن لم [يَكُنْ قَبَضَه] (¬1)، عَتَق في الحالِ ثُلُثُها. وفي الخِيارِ لها وَجْهان. فكلَّما اقْتَضَى مِن مَهْرِها شيئًا، عَتَق منها بقَدْرِ ثُلُثِه، فإذا اسْتُوفِيَ كلُّه، عَتَقَتْ كلُّها، ولها الخِيارُ حينئذٍ عندَ مَن لم يُثْبِتْ لها الخيارَ قبلَ ذلك. فإن كان زَوْجُها وَطِئَها قبلَ اسْتِيفاءِ مَهْرِها، بَطَل خِيارُها عندَ مَن جَعَل لها الخِيارَ حينئذٍ؛ لأنَّها أسْقَطَتْه بتَمْكِينِه مِن وَطْئِها. وعلى قولِ الخِرَقِيِّ، لا يَبْطُلُ؛ لأنَّها مَكَّنَتْه منه قبلَ ثُبوتِ الخيارِ لها، فأشْبَهَ ما لو مَكَّنَتْ منه قبلَ عِتْقِها. فأمَّا إن عَتَقَتْ قبلَ الدُّخولِ بها، فلا خِيارَ لها على قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ فَسْخَها للنِّكاحِ يَسْقُطُ به صَداقُها، فيَعْجِزُ الثُّلُثُ عن كَمالِ قِيمَتِها، فيَرِقُّ ثُلُثَاها، ويَسْقُطُ خِيارُها، فيُفْضِي إثْباتُ الخِيارِ لها إلى إسقاطِه، فيَسْقُطُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وعندَ أبي بكرٍ، لها الخيارُ. فعلى قولِ مَن أوْجَبَ لسَيِّدِها نِصْفَ المَهْرِ، يَعْتِقُ ثُلُثَاها إذا اسْتُوفِيَ، وعلى قولِ مَن أسْقَطَ، يَعْتِقُ ثُلُثُها. ¬

(¬1) في المغني 10/ 75: «تكن قبضته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن عَتَقَ زَوْجُ الأمَةِ، لم يَثْبُتْ لها خِيارٌ؛ لأنَّ عَدَمَ الكَمالِ في الزَّوْجَةِ (¬1) لا يُؤثِّرُ في النِّكاحِ، ولذلك لا تُعْتَبَرُ الكَفاءةُ إلَّا في الرجلِ دونَ المرأةِ، فلو تزَوَّجَ امرأةً مُطْلَقًا فبانَتْ أمَةً، لم يَكُنْ له الخِيارُ، ولو تَزَوَّجَتِ المرأةُ رجلًا مُطْلَقًا فبانَ عبدًا، فلها الخِيارُ، فكذلك في الاسْتِدامَةِ، لكنْ إن عَتَقَ ووَجَدَ [الطولَ لحرَّةٍ] (¬2)، فهل يَبْطُلُ نِكاحُه؟ على وَجْهَين، مَضَى ذِكْرُهما. فصل: إذا عَتَقَتِ الأمَةُ فقالت لزَوْجِها: زِدْني في مَهْرِي. ففَعَلَ، فالزيادةُ لها دونَ سَيِّدِها، سَواءٌ كان زَوْجُها حُرًّا أو عبدًا، وسَواءٌ عَتَقَ معها أو لم يَعْتِقْ. نَصَّ عليه أحمدُ، فيما إذا زَوَّجَ عبدَه مِن (¬3) أمَتِه ثم أُعْتِقا (¬4) جَمِيعًا، فقالتِ الأمَةُ: زِدْني في مَهْرِى. فالزيادةُ للأمَةِ لا للسَّيِّدِ. فقيلَ: أرَأْيتَ إن كان الزَّوْجُ لغيرِ السَّيِّدِ، لمَن تكونُ الزِّيادَةُ؟ قال: للأمَةِ. وعلى قِياسِ هذا، لو زَوَّجَها سَيِّدُها، ثم باعَها، فزادَها زَوْجُها في مَهْرِها، فالزِّيادَةُ للثاني. وقال القاضي: الزيادةُ للسَّيِّدِ (¬5) المُعْتِقِ في المَوْضِعَين، ¬

(¬1) في الأصل: «الزوجية». (¬2) في م: «طول الحرة». (¬3) في م: «أو». (¬4) في الأصل: «أعتقها». (¬5) في م: «السيد».

3196 - مسألة: (وإن عتق الزوجان معا، فلا خيار لها. وعنه ينفسخ نكاحهما)

وَإِنْ عَتَقَ الزَّوْجَانِ مَعًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا. وَعَنْهُ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على قِياسِ المذهبِ؛ لأنَّ مِن أصْلِنا أنَّ الزيادةَ في الصَّداقِ تَلْحَقُ بالعقدِ الأوَّلِ، فتكونُ كالمَذْكُورِ فيه. قال شيخُنا (¬1): والذي قُلْناه أصَحُّ؛ لأنَّ المِلْكَ في الزِّيادَةِ [إنَّما يَثْبُتُ] (¬2) حال وُجودِها بعدَ زَوال مِلْكِ سَيِّدِها عنها، فيكونُ لها، كَكَسْبِها (¬3) والمَوْهُوبِ لها. وقولُنا: إنَّ الزيادةَ تَلْحَقُ بالعقد. معناه أنها تَلْزَمُ ويَثْبُتُ المِلْكُ فيها (¬4)، ويَصِيرُ الجميعُ صَداقًا، وليس معناه أنَّا تَبَيَّنَّا أنَّ المِلْكَ كان ثابِتًا فيها وكان لسَّيِّدِها، فإنَّ هذا مُحالٌ؛ لأنَّ سَبَبَ مِلْكِ هذه الزيادةِ وُجِدَ بعدَ العِتْقِ، فلا يَجُوزُ أن يَتَقَدَّمَ المِلْكُ عليه؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى تَقَدُّمِ الحُكْمِ قبلَ سَبَبِه، ولو كان المِلْكُ ثابتًا للمُعْتِقِ فيه حينَ التَّزْويجِ للَزِمَتْه زَكاتُه، وكان له نَماؤُه. وهذا أظْهَرُ مِن أن نُطِيلَ فيه. 3196 - مسألة: (وإن عَتَقَ الزَّوْجان معًا، فلا خِيارَ لها. وعنه يَنْفَسِخُ نِكاحُهما) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في ذلك، ¬

(¬1) في: المغني 10/ 80. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كسبها». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمشهورُ عنه أنَّه لا خِيارَ لها، والنكاحُ بحالِه، سَواءٌ أَعْتَقَهما واحدٌ أو اثنان. نَصَّ عليه أحمدُ. وعنه، لها الخيارُ؛ لأنَّها كَمَلَتْ بالحُرِّيَّةِ تحتَ مَن لم يَسْبِقْ له حُرِّيَّةٌ، فمَلَكَتِ الفَسْخَ، كما لو عَتَقَتْ قبلَه. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ حُرِّيَّةَ العبدِ لو طَرَأتْ بعدَ عِتقِها [لمَنَعَتِ الفَسْخَ] (¬1)، فإذا قارنتْ (¬2) كان أوْلَى أن تمْنَعَ، كإسلامِ الزَّوْجَين. وجمنه رِوايةٌ ثالثةٌ، إن أُعْتِقا (¬3)، انْفَسَخَ نِكاحُهُما؛ لأنَّ العِتْقَ معنى يُزِيلُ المِلْكَ عنهما لا إلى مالكٍ، فجازَ أن تَقَعَ به الفُرْقَةُ، كالموتِ، ولأنَّهْ لا يَمْتَنِعُ أن لا تَحْصُلَ الفرقةُ بوُجودِه مِن أحدِهما، و (¬4) تَحْصُلَ بوجودِه منهما، كاللِّعانِ والإِقالةِ في البَيعِ. وقال شيخُنا (¬5): معناه -واللهُ أعلمُ- أنَّه إذا وَهَب لعبدِه سُرِّيَّة، وأذِنَ له في التَّسَرِّي بها، ثم أعْتَقَهما جميعًا، صارَا حُرَّين، وخَرَجَتْ عن [مِلْكِ العبدِ] (¬6)، فلم يَكُنْ له إصابَتُها إلَّا بنِكاحٍ جديدٍ، هكذا روَى ¬

(¬1) في م: «منع». (¬2) في الأصل: «قاربت». (¬3) في الأصل: «عتقها». (¬4) في م: «أو». (¬5) في: المغني 10/ 73. (¬6) في م: «ملكه». ومكان كلمة «العبد» بياض في الأصل. وانظر المغني، الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَماعَةٌ مِن أصحابِه، في مَن وَهَبَ عبدَه سُرِّيَّةً، أو اشْتَرَى له سُرِّيَّةً، ثم أعْتَقها، لا يَقْرَبُها إلَّا بِنِكاحٍ جديدٍ. واحْتَجَّ أحمدُ بما روَى (¬1) نافِعٌ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ [عبدًا له] (¬2) كان له سُرِّيَّتان، فأعْتَقَهما وأعْتَقَه، فنَهاهُ أن يَقْرَبَهما إلَّا بنِكاحٍ جديدٍ (¬3). ولأنَّها بإعْتاقِها خَرَجَتْ عن أن تكونَ مَمْلُوكَةً، فلم يُبَحْ له التَّسَرِّي بها، كالحُرَّةِ الأصْلِيَّةِ. وأمَّا إذا كانتِ امرأتَه (¬4)، فعَتَقَا، لم يَنْفَسِخْ نِكاحُه بذلك؛ لأنَّه إذا لم يَنْفَسِخْ [بإعْتاقِها وحدَها، فلَأن لا يَنْفسِخَ بإعْتاقِهِما معًا أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ إنَّما أرادَ بقولِه: انْفَسَخَ] (¬5) نِكاحُهما. أنَّ لها فَسْخَ النِّكاحِ. ويُخَرَّجُ هذا على الرِّوايةِ التي تقولُ بأنَّ (¬6) لها الفَسْخَ إذا كان زَوْجُها حُرًّا فعَتَقَتْ تحتَه (¬7). ¬

(¬1) بعده في م: «عن». (¬2) في م: «عبد الله». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب استسرار العبد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 215. (¬4) في م: «امرأة». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م. (¬7) في م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ لمَن له عبدٌ وأمَةٌ مُتَزَوِّجان، فأرادَ عِتْقَهُما، البدايةُ بالرجلِ؛ لِئلَّا يَثْبُتَ للمرأةِ خِيارٌ عليه، فيُفْسَخَ نِكاحُه. وقد روَى أبو داودَ (¬1)، والأثْرَمُ، بإسنادِهما عن عائشةَ، أَنه كان لها غُلامٌ وجاريةٌ، ¬

(¬1) في: باب في المملوكين يعتقان معا هل تخير امرأته، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 518.كما أخرجه النسائي، في: باب إذا أراد أن يعتق العبد وامرأته بأيهما يبدأ، من كتاب العتق. السنن الكبرى 3/ 180. وابن ماجه، في: باب من أراد عتق رجل وامرأته فليبدأ بالرجل، بن كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 846.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَزَوَّجا (¬1)، فقالت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي أُرِيدُ أن أُعْتِقَهما. فقال لها: «ابْدَئِي بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرأَةِ». وعن صَفِيَّةَ بنتِ أبي عُبْيَدٍ أنَّها فَعَلَتْ ذلك، وقالت للرجلِ: إنِّي بَدَأْتُ بعِتْقِك؛ لِئلَّا يكونَ لها عليك خِيارٌ (¬2). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «فتزوجها». (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 255. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 210، 211.

باب حكم العيوب في النكاح

بَابُ حُكْمِ الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ الْعُيُوبُ الْمُثْبِتَةُ لِلْفَسْخِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ، وَهُوَ شَيئَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا قَدْ قُطِعَ ذَكَرهُ، أَو لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلا مَا لَا يُمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ حُكْمِ العُيُوبِ فِي النِّكاحِ (العُيوبُ المُثْبِتَةُ للفَسْخِ ثلاثةُ أقْسامٍ أحدُها، ما يَخْتَصُّ بالرجالِ، وهو شيئان؛ أحدُهما، أن يكونَ الرجلُ مَجْبُوبًا قد قُطِعَ ذَكَرُه ولم يَبْقَ منه إلَّا ما لا يُمْكِنُ الجِماعُ به) الكلامُ في العيوبِ المُثْبِتَةِ لفَسْخِ النِّكاحِ للمرأةِ والرجلِ، إذا اخْتارَ ذلك، في أربعةِ فصولٍ؛ أحدُها، أنَّ خِيارَ الفَسْخِ يَثْبُت لكلِّ واحدٍ مِن الزَّوْجَين للعَيبِ يَجِدُه في الآخَرِ في الجملةِ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ الخطَّابِ، وابنِه، وابنِ عباس، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال جابرُ بنُ زيدٍ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. ورُوِيَ عن عليٍّ: لا تُرَدُّ الحُرَّةُ بعَيبٍ. وبه قال [النَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن ابن مسعودٍ، لا يُفْسَخُ النِّكاحُ بعَيبٍ. وبه قال] (¬1) أبو حنيفةَ، وأصحابُه، إلَّا أن يكونَ الرجلُ مَجْبُوبًا أو عِنِّينًا، فإنَّ للمرأةِ الخِيارَ، فإنِ اخْتارتِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفِرَاقَ، فَرَّقَ الحاكمُ بينَهما بطَلْقَةٍ، ولا يكونُ فَسْخًا؛ لأنَّ وُجُودَ العَيب لا يَقْتَضِي فَسْخَ النِّكاحِ، كالعَمَى والزَّمانةِ وسائرِ العُيُوبِ. ولَنا، أنَّ المُخْتَلَفَ فيه يَمْنَعُ الوَطْءَ، فأثْبَتَ الخِيارَ، كالجَبِّ والعُنَّةِ، ولأنَّ المرأةَ أحدُ العِوَضَين في النِّكاحِ، فجاز رَدُّها بعَيبٍ، كالصَّداقِ، أو أحدُ العِوَضَين في عَقْدِ النكاحِ، فجاز رَدُّه بالعَيبِ، أو أحَدُ الزَّوْجَين، فيَثْبُتُ له الخِيارُ بالعَيبِ في الآخَرِ، كالمرأةِ. فأمَّا العَمَى والزَّمَانَةُ ونحوُهما، فلا يَمْنَعُ المقصودَ بعقدِ النِّكاحِ، وهو الوَطْءُ، بخِلافِ العُيُوبِ المُخْتَلَفِ فيها. فإن قيلَ: فالجُذامُ والجُنُونُ والبَرَصُ لا يَمْنَعُ الوَطْءَ. قُلْنا: بل يَمْنَعُه؛ فإنَّ ذلك يُوجِبُ نفْرَةً تَمْنَعُ مِن قُرْبانِه بالكُلِّيَّةِ، ويُخافُ منه التَّعَدِّي إلى نَفْسِه ونَسْلِه، والمَجْنُونُ (¬1) يُخافُ منه الجِنايةُ، فصارَ كالمانِعِ الحِسِّيِّ. الثاني، [في عَدَدِ] (¬2) العيوبِ المُجَوِّزَةِ للفَسْخِ، وهي ثمانيةٌ؛ اثْنان يَخْتَصَّان الرجلَ؛ وهما الجَبُّ، والعُنَّةُ. وثَلاثةٌ تَخْتَصُّ المرأةَ؛ وهي الفَتْقُ، والقَرْنُ، والعَفَلُ. وثلاثةٌ يَشْتركُ فيها الزَّوْجان؛ وهي الجُذَامُ والجُنُونُ والبَرَصُ. وهكذا ذَكَرَها الخِرَقِيُّ. وقال القاضي: هي سَبْعةٌ. جَعَل القَرْنَ والعَفَلَ شيئًا واحدًا، وهو الرَّتْقُ أيضًا (3)، وذلك لَحْمٌ يَنْبُتُ في الفَرْجِ، وحَكَى ذلك عن (¬3) أهلِ الأدَبِ. وحُكِيَ نحوُه ¬

(¬1) في الأصل: «الجنون». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي بكرٍ، وذَكَرَه أصحابُ الشافعيِّ. وقال الشافعيُّ: القَرنُ عَظْمٌ في الفَرْجِ يَمْنَعُ الوَطْءَ. وقال (¬1) غيرُه: لا يكونُ في الفَرْجِ عَظْمٌ، إنَّما هو لَحْمٌ يَنْبُتُ فيه. وحُكِيَ عن أبي حفْصٍ؛ أنَّ العَفَلَ كالرّغْوَةِ (¬2) في الفَرْجِ، يَمْنَعُ لَذَّةَ الوَطْءِ. وقال أبو الخَطَّابِ: الرَّتْقُ أن يكونَ الفَرْجُ مَسْدُودًا. يعني مُلْتَصِقًا لا يَدْخُلُ الذَّكَرُ فيه. والقَرِنُ والعَفَلُ لَحْمٌ يَنْبُتُ في الفَرْجِ فيَسُدُّه، فهما في مَعْنَى الرَّتْقِ، إلَّا أنَّهما نوْعٌ آخَرُ. وأمَّا الفَتْقُ فهو انْخِراقُ ما بينَ السَّبِيلَين. وقيل: انخِرَاقُ ما بينَ مَخْرَجِ البَوْلِ والمَنِيِّ. وذَكَرَها أصحابُ الشافعيِّ سَبْعَةً، أسْقَطُوا منها الفَتْقَ، ومنهم مَن جَعَلَها سِتَّةً، وجَعَل القَرْنَ والعَفَلَ شيئًا واحدًا. وإنَّما اخْتصَّ الفَسْخُ بهذه العُيُوبِ؛ لأنَّها تَمْنَعُ الاسْتِمْتاعَ المَقْصُودَ بالنِّكاحِ، فإنَّ الجُذامَ والبَرَصَ يُثِيران نَفْرَةً في النَّفْسِ تَمْنَعُ قُرْبانَه، ويُخْشَى تعَدِّيه إلى النَّفْسِ والنَّسْلِ، فيَمْنَعُ الاسْتِمْتاعَ، والجُنُونُ يُثِيرُ نَفْرَةً ويُخْشَى ضَرَرُه، والجَبُّ والرَّتْقُ يَتَعَذَّرُ معهما (¬3) الوَطْءُ، والفَتْقُ يَمْنَعُ لَذَّةَ الوَطْءِ وفائِدَتَه، وكذلك العَفَلُ، على قولِ مَن فَسَّرَه بالرّغوَةِ. فصل: فإنِ اخْتَلَفَا في وُجُودِ العَيبِ، كمَن بجَسَدِه بَياضٌ يُمْكِنُ أن يكونَ بَهَقًا أو مرارًا (¬4)، واخْتَلَفَا في كونِه بَرَصًا، أو كانت به علاماتُ ¬

(¬1) بعده في م: «عن». (¬2) بتثليث الراء. (¬3) في الأصل: «معه». (¬4) في م: «برصا».

3197 - مسألة: (فإن اختلفا في إمكان الجماع)

فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي إِمْكَانِ الْجِمَاعِ بِالْبَاقِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجُذامِ، مِن ذَهابِ شَعَرِ الحاجِبَين، فاخْتَلَفَا في كونِه جُذامًا، فإن كانت للمُدَّعِي بَيِّنَةٌ مِن أهلِ الخِبْرَةِ والثِّقَةِ، يَشْهَدان بما قال، ثَبَت قولُه، وإلَّا حَلَف المُنْكِرُ، والقولُ قولُه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬1). وإنِ اخْتَلَفَا في عُيُوبِ النِّساءِ، أُرِيَتِ النِّساءَ الثِّقَاتِ، ويُقْبَلُ فيه قولُ امرأةٍ واحدةٍ، فإن شَهِدَتْ بما قال الزَّوْجُ، وإلَّا فالقولُ قولُ المرأةِ. وأمَّا الجُنُونُ، فإنَّه يُثْبِتُ الخِيارَ، سَواءٌ كان مُطْبِقًا (¬2) أو كان يُجَنُّ في الأحْيانِ؛ لأنَّ النَّفْسَ لا تَسْكُنُ إلى مَن هذه حالُه، إلَّا أن يكونَ مريضًا يُغْمَى عليه ثم يَزُولُ، فذلك مَرَضٌ لا يَثْبُت به خِيارٌ. فإن زَال المَرَضُ ودام به الإِغْماءُ، فهو كالجُنُونِ، يَثْبُتُ به الخِيارُ. 3197 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفَا في إمْكانِ الجِماعِ) بما بَقِيَ مِن ذَكَرِه، (فالقَوْلُ قَوْلُ المرأةِ) لأنَّه يَضْعُفُ بالقَطْعِ، والأصْلُ عَدَمُ الوَطْءِ (ويَحْتِملُ أنَّ القولَ قولُه) كما لو ادَّعَى الوَطْءَ في العُنَّةِ، ولأنَّ له ما يُمْكِنُ الجماعُ بمِثْلِه، فأشْبَهَ مَن له ذَكَرٌ قَصِيرٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) في الأصل: «مطلبا».

الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثاني، أن يكونَ عِنِّينًا) العِنِّينُ؛ هو العاجزُ عن إيلاجِ ذَكَرِه. وهو مَأْخُوذٌ مِن: عَنَّ. أي اعْتَرِضَ؛ لأنَّ ذَكَرَه يَعِنُّ إذا أرَادَ إيلاجَه، أي يَعْتَرِضُ. وقيلَ: لأنَّه يَعِنُّ لقُبُلِ المرأةِ، مِن (¬1) عن يَمِينِه وشِمالِه، فلا يَقْصِدُه. فإذا كان الرجلُ كذلك فهو عَيبٌ به، وتَسْتَحِقُّ به المرأةُ فَسْخَ النِّكاحِ، بعدَ أن تُضْرَبَ له مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ فيها، ويُعْلَمُ حالُه بها. وهذا قولُ عمرَ، وعثمانَ، وابنِ مسعودٍ، والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعطاءٌ، وعمرُو بنُ دينارٍ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، وحَمَّادُ بنُ أبي سليمانَ. وعليه فَتْوَى فُقَهاءِ الأمْصارِ؛ منهم مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ. وشَذَّ الحَكَمُ [بنُ عُتَيبَةَ] (¬2)، وداودُ، فقالا: لا يُؤَجَّلُ، وهي امرأتُه. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه؛ لأنَّ امرأةً أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ رِفاعَةَ طَلَّقَنِي، فبَتَّ طَلاقِي، فتَزَوَّجْتُ بعبدِ الرحمنِ بنِ الزَّبِيرِ، وإنَّما له مثلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فقال: «تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعي إلى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيلَتَهُ (¬1)، ويَذُوقَ عُسَيلَتَكِ» (¬2). ولم يَضْرِبْ له مُدَّةً. ولَنا، ما رُوِيَ أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عن، أجَّلَ العِنِّينَ سَنَةً. وروَى ذلك الدَّارَقُطْنِيُّ (¬3)، عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ. ولا مُخالِفَ لهم. ورَواه أبو حَفْصٍ عن عليٍّ (¬4). ولأنَّه عَيبٌ يَمْنَعُ الوَطْءَ، فأثْبَتَ الخِيارَ، كالجَبِّ في الرجلِ، والرَّتْقِ في المرأةِ. فأمَّا الخَبَرُ، فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ فإنَّ المُدَّةَ إنَّما تضْرَبُ (¬5) له مع اعْتِرافِه، وطَلَبِ المرأةِ ذلك، ولم يُوجَدْ واحدٌ منهما. وقد رُوِيَ أنَّ الرجلَ أنْكَرَ ذلك، وقال: إنِّي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 411. (¬3) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 305، 306.كما أخرجه عنهم عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 253، 254. وابن أبي شيبة، في: باب كم يؤجل العنين، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 206 - 208. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 226. وانظر الإرواء 6/ 322 - 326. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 254. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 206. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 227. (¬5) في الأصل: «تصرف».

3198 - مسألة: فإن ادعت ذلك، أجل سنة منذ ترافعه

فَإِنِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، أُجِّلَ سَنَةً مُنْذُ تُرَافِعُهُ، فَإِنْ وَطِئَ فِيهَا، وَإِلَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ لأعْرُكُها عَرْكَ الأدِيمِ (¬1). قال ابنُ عبدِ البرِّ (¬2): وقد صَحَّ أنَّ ذلك كان بعدَ طَلاقِه، فلا مَعْنَى لضَرْبِ المُدَّةِ. [وصَحَّحَ ذلك] (¬3) قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ». ولو كان قبلَ طَلاقِه لَما كان ذلك إليها. وقيلَ: إنَّها ذَكَرَتْ ضَعْفَه، وشَبَّهَتْه بهُدْبَةِ الثَّوْبِ مبالغةً، ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى تَذُوقي عُسَيلَتَه». والعاجِزُ عن الوَطْءِ لا يَحْصُلُ منه ذلك. 3198 - مسألة: فإنِ ادَّعَتْ ذلك، أُجِّلَ سنةً مُنْذُ تُرافِعُه. وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا ادَّعَتْ عَجْزَ زَوْجِها عن وَطْئِها لعُنَّةٍ، سُئِلَ عن ذلك، فإن أنْكَرَ وهي عَذْراءُ، فالقولُ قولُها، وإن كانت ثَيِّبًا، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، في ظاهرِ المذهبِ؛ لأنَّ الأصْلَ السَّلامَةُ، ولأنَّ هذا أمْرٌ لا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِه. وقال القاضي: هل يُسْتَحْلَفُ؟ على وَجْهَين، بِناءً على دَعْوَى الطَّلاقِ. 3199 - مسألة: (فإنِ اعْتَرَفَ بذلك)، أو قامت بَيِّنَةٌ على إقْرارِه به، فأنْكَرَ، فطَلَبَتْ يَمِينَه فنَكَلَ، ثَبَت عَجْزُهُ (ويُؤَجَّلُ سَنَةً) في قولِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري بلفظ: إني لأنفضها نفض الأديم. في: باب ثياب الخضر، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 192. (¬2) انظر: التمهيد 13/ 225، الاستذكار 16/ 153. (¬3) في م: «صح ذلك في».

فَلَهَا الْفَسْخُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عامَّةِ أهلِ العلمِ. [وعن الحارثِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي رَبِيعَةَ] (¬1)، أنَّه أجَّلَ رجلًا عَشَرَةَ أشْهُرٍ. ولَنا، قولُ مَن سَمَّينا مِن الصحابَةِ، ولأنَّ هذا العَجْزَ قد يكونُ لعُنَّةٍ، وقد يكونُ لمَرَضٍ، فضُرِبَ له سَنَةٌ، لتَمُرَّ به الفصولُ الأرْبَعَةُ، فإن كان مِن يُبْسٍ زَال في فصلِ الرُّطُوبَةِ، وإن كان مِن رُطوبَةٍ زَال في فصلِ اليُبْسِ، وإن كان مِن بُرودَةٍ (¬2) زَال في فَصْلِ الحَرارَةِ، وإن كان مِن انْحِرافِ مِزاجٍ زَال في فصلِ الاعْتِدالِ. فإذا مَضَتِ الفُصولُ الأرْبعةُ، واخْتَلَفَتْ عليه (¬3) الأهْويَةُ فلم يَزُلْ، عُلِمَ أنَّه خِلْقَةٌ. وحُكِيَ ¬

(¬1) في النسختين: «الحارث بن ربيعة». وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي المكي، الأمير متولى البصرة لابن الزبير، لقب بالقُبَاع باسم مكيال وضعه لهم، حدث عن عمر وعائشة وأم سلمة ومعاوية. أسد الغابة 1/ 391، 392، سير أعلام النبلاء 4/ 181، 182. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 206، 207. (¬2) في الأصل: «برد». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي عُبَيدٍ أنَّه قال: أهلُ الطِّبِّ يقولون: الدَّاءُ لا يَسْتَجِنُّ في البَدَنِ أكثرَ مِن سَنَةٍ، ثم يَظْهَرُ. وابْتِداءُ السَّنَةِ منذُ تُرافِعُه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): على هذا جماعةُ القائلين بتأْجِيلِه، قال مَعْمَرٌ، في حديثِ عمرَ: يُؤَجَّلُ سَنَةً مِن يومِ تُرافِعُه (¬2). فإذا انْقَضَتِ المُدَّةُ، فلم يَطَأْ، فلها الخِيارُ في فَسْخ النِّكاحِ. ¬

(¬1) في: التمهيد 13/ 226. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 253.

3200 - مسألة: (فإن اعترفت أنه وطئها مرة، بطل كونه عنينا)

فَإِنِ اعْتَرَفَتْ أَنَّهُ وَطِئَهَا مَرَّةً، بَطَلَ كَوْنُهُ عِنِّينًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3200 - مسألة: (فإنِ اعْتَرَفَتْ أنَّه وَطِئَها مَرَّةً، بَطَل كَوْنُه عِنِّينًا) أكثرُ أهلِ العلمِ على هذا، يقولون: متى وَطِئَ امْرَأتَه مرةً، ثم ادَّعَتْ عَجْزَه، لم تُسْمَعْ دَعْوَاها، ولم تُضْرَبْ له مُدَّة. منهم عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والحسنُ، ويَحْيَى الأنْصَارِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وعمرُو بنُ دينارٍ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا عَجَز عن وَطْئِها أُجِّلَ لها (¬1)؛ لأنَّه عَجَزِ عن وَطْئِها، فثَبَتَ حَقُّها، كما لو وَجَب بعدَ الوَطْءِ. ولَنا، أنَّه قد تَحَققَت قُدْرَتُه على الوَطْءِ في هذا النِّكاحِ، وزَوالُ عُنَّتِه، فلم تُضْرَبْ له مُدَّةٌ، كما لو لم يَعْجِزْ (¬2)، ولأنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، مِن اسْتَقْرارِ المَهْرِ والعِدَّةِ، تَثْبُتُ بوَطْءٍ واحدٍ، وقد وُجِدَ. [وأمّا الجَبُّ] (¬3)، فإنَّه يَتَحَقَّقُ به العَجْزُ (¬4)، فافْتَرَقَا. فصل: وإن عَلِمَتْ أنَّ عَجْزَه عن الوَطْءِ لعارِضٍ؛ مِن صِغَرٍ، أو ¬

(¬1) في م: «له». (¬2) في م: «يكن». (¬3) في م: «ما أوجبه». (¬4) في الأصل: «الجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَرَضٍ مَرْجُوِّ الزَّوال، لم تُضْرَبْ له مُدَّةٌ؛ لأنَّ ذلك عارِضٌ يَزُولُ، والعُنَّةُ لا تَزُولُ؛ لأنَّها، جِبِلَّةٌ وخِلْقَةٌ. وإن كان لكِبَرٍ، أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه، ضُرِبَتْ له المُدَّةُ؛ لأنَّه في مَعْنَى مَن خُلِقَ كذلك. وإن كانِ لِجَبٍّ، أو شَلَلٍ، ثَبَت الخِيارُ في الحالِ؛ لأنَّ الوَطْءَ مَأْيُوسٌ منه، فلا مَعْنَى لانتِظَارِه. وإن كان قد بَقِيَ مِن الذَّكَرِ ما لا (¬1) يُمْكِنُ الوَطْءُ به، [فالأَوْلَى ضَرْبُ المُدَّةِ له؛ لأنَّه في مَعْنَى العِنِّينِ خِلْقَةً. وإنِ اخْتُلِفَ في القَدْرِ الباقي هل يُمْكِنُ الوَطْءُ به] (¬2) أو لا؟ رُجِع إلى أهلِ الخِبْرَةِ في ذلك. فصل: والوَطْءُ الذي يَخْرُجُ به مِن العُنَّةِ، هو تغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرْجِ؛ لأنَّ الأحكامَ المُتَعَلِّقَةَ بالوَطْءِ تَتَعَلَّقُ به، فإن كان الذَّكَرُ مَقْطُوعَ الحَشَفَةِ، كَفاهُ تَغْيِيبُ قَدْرِ الحَشَفَةِ مِن الباقِي، في أحدِ الوَجْهَين، ليكون ما يَجْرِي مِن المَقْطوعِ مثلَ ما يَجْرِي مِن الصحيحِ. والثاني، لا يَخْرُجُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

3201 - مسألة: (وإن وطئها في الدبر، أو وطئ غيرها، لم تزل العنة. ويحتمل أن تزول)

وَإِنْ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ، أَوْ وَطِئَ غَيرَهَا، لَمْ تَزُلِ الْعُنَّةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَزُولَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن العُنَّةِ إلَّا بتَغْيِيبِ جميعِ الباقِي؛ لأنَّه (¬1) لا حَدَّ ههُنا يُمْكِنُ اعْتِبارُه، فاعْتُبِرَ تَغْيِيبُ جميعِه؛ لأنَّه المَعْنَى الذي يَتَحَقَّقُ به حصولُ حُكْمِ الوَطْءِ. وللشافعيِّ قَوْلان كهذَين. 3201 - مسألة: (وإن وَطِئَها في الدُّبُرِ، أو وَطِئَ غَيرَها، لم تَزُلِ العُنَّةُ. ويَحْتَمِلُ أن تَزُولَ) لأنَّ الدُّبُرَ ليس مَحَلًّا للوَطْءِ، فأشْبَهَ الوَطْءَ فيما دونَ الفَرْجِ، ولذلك لا يَتَعَلَّقُ به الإِحلالُ للزَّوْجِ الأوَّلِ، ولا الإِحْصانُ. وإن وَطِئَها في القُبُلِ حائضًا، أو نُفَسَاءَ، أو مُحْرِمَةً، أو صَائِمَةً، خَرَج عن العُنَّةِ. وذَكَر القاضي أنَّ قِياسَ المذهبِ، أن لا يَخْرُجَ عن العُنَّةِ؛ لنَصِّ أحمدَ على أنَّه لا يَحْصُلُ به [الإِحْصانُ و] (¬2) الإِباحَةُ للزَّوجِ الأوَّلِ، ولأنَّه وَطْءٌ مُحَرَّمٌ، أشْبَهَ الوَطْءَ في الدُّبُرِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ في مَحَلِّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَطْءِ، [فخَرَجَ به عن العُنَّةِ، كما لو وَطِئَها وهي مريضَةٌ يَضُرُّها الوَطْءُ، ولأنَّ العُنَّةَ العَجْزُ عن الوَطْءِ، فلا يَبْقَى مع وُجودِ الوَطْءِ] (¬1)؛ لأنَّ العَجْزَ ضِدُّ القُدْرَةِ، فلا يَبْقَى مع وجُودِ ضِدِّه. وما ذَكَرَه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ تلك الأحْكَامَ يجوزُ أن تَنْتَفِيَ (¬2) مع وجُودِ سببِها لمانِعٍ، أو فواتِ شَرْطٍ، والعُنَّةُ لنى نَفْسِها أمْرٌ حَقِيقِيٌّ، لأ يُتَصَوَّرُ بقَاؤُه مع انْتِفائِه. وأمّا الوَطْءُ في الدُّبُرِ، فليس بوَطْءٍ في مَحَلِّه، بخِلافِ مسألتِنا. وفيه قولٌ، أنَّ العُنَّةَ تَزُولُ به. اخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّه أصْعَبُ، فمَن قَدَر عليه فهو على غيرِه أقْدَرُ. فصل: فإن وَطِئَ امْرَأَةً، لم يَخْرُجْ به مِن العُنَّةِ في حَقِّ غيرِها. واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ أنَّه يَخْرُجُ عن العُنَّةِ في حَقِّ جميعِ النِّساءِ، فلا تُسْمَعُ دَعْوَاها عليه منها ولا مِن غيرِها. وهذا مُقْتَضَى قولِ أبي بكرٍ، وقولِ بَن قال: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «تبقى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّه يُخْتَبَرُ بتَزْويجِ امرأةٍ أُخْرَى. ويُحْكَى ذلك عن سَمُرَةَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، قالوا: لأنَّ العُنَّةَ خِلْقَةٌ وجِبِلَّةٌ لا تَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ النِّساءِ، فإذا انْتَفَتْ في حَقِّ امرأةٍ، لم تَبْقَ في حَقِّ غيرِها. ولَنا، أنَّ حُكْمَ كلِّ امرأةٍ مُعْتَبَرٌ بنفسِها، ولذلك لو ثَبَتَتْ عُنَّتُه في حَقِّهِنَّ، فرَضِيَ بعْضُهُنَّ، سَقَط حَقُّها وحدَها دونَ الباقياتِ، ولأنَّ الفَسْخَ لدَفْعِ الضَّرَرِ الحاصلِ بالعَجْزِ عن وَطْئِها، وهو ثابتٌ في حقِّها لا يَزُولُ بوَطْءِ غيرِها. وقولُه: كيفَ يَصِحُّ العَجْزُ عن واحدةٍ دونَ أُخْرَى؟ قُلْنا: قد تَنْهَضُ شَهْوَتُه في حقِّ إحدَاهما، لفَرْطِ حُبِّه إيَّاها، ومَيلِه إليها، واخْتِصاصِها بكمالٍ (¬1) ونَحْوه (¬2) دونَ الأخْرَى. فعلى هذا، لو تَزَوَّجَ امْرأةً فأصابَها، ثمَّ أبَانَها، ثمَّ تَزَوَّجَها، فعَنَّ [عنها، فلها] (¬3) المُطَالبَةُ؛ لأنَّه إذا جاز أن يَعِنَّ عن امرأةٍ دونَ أُخْرَى، ففي نِكاحٍ دونَ نِكاحٍ أوْلَى. ومُقْتَضَى قولِ أبي بكرٍ ومَن وافقَه، لا يَصِحُّ هذا، بل متَى وَطِئَ امرأَةً، لم تَثْبُتْ عُنَّتُه أبدًا. ¬

(¬1) في الأصل: «بحال». وفي المغني 10/ 90: «بجمال». (¬2) في م: «لوجه». (¬3) في م: «أحمد لها».

3202 - مسألة: (وإن ادعى أنه وطئها، وقالت: إنها عذراء. فشهدت بذلك امرأة ثقة، فالقول قولها، وإلا فالقول قوله)

وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَقَالتْ: إِنَّهَا عَذْرَاءُ. وَشَهِدَ بِذَلِكَ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ، فَالْقَولُ قَوْلُهَا، وَإِلَّا فَالْقَولُ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3202 - مسألة: (وإنِ ادَّعى أنَّه وَطِئَها، وقالت: إنَّها عَذْراءُ. فشَهِدَتْ بذلك امرأةٌ ثِقَةٌ، فالقولُ قولُها، وإلَّا فالقولُ قولُه) إذا ادَّعتِ المرأةُ عُنَّةَ زَوْجِها، فادَّعَى أنَّه وَطِئَها، وقالت: إنَّها عَذْراءُ. أُرِيَتِ النِّساءَ الثِّقَاتِ، فإن شَهِدْنَ بعُذْرَتِها، فالقولُ قولُها، ويُقْبَلُ في بَقاءِ عُذْرَتِها شَهادَةُ امرأةٍ واحدةٍ، كالرَّضاعِ، ويُؤَجَّلُ (¬1). وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ الوَطْءَ يُزِيلُ العُذْرَةَ، فوُجُودُها يَدُلُّ على عَدَمِ الوَطْءِ. فإنِ ادَّعَى أنَّ عُذْرَتَها عادَتْ بعدَ الوَطْءِ، فالقولُ قولُها؛ لأنَّ هذا بعيدٌ جدًّا، وإن كان مُتَصَوَّرًا. وهل تُسْتَحْلَفُ ¬

(¬1) بعده في م: «الرجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأةُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحدُهما، تُسْتَحْلَفُ؛ لإِزالةِ هذا الاحْتِمالِ، كما يُسْتَحْلَفُ سائرُ مَن قُلْنا: القولُ قولُه. والآخَرُ، لا تُسْتَحْلَفُ؛ لأنَّ ما يَبْعُدُ جدًّا لا الْتِفاتَ إليه، كاحْتِمالِ كَذِبِ البَيِّنَةِ العادِلَةِ، وكَذِبِ المُقِرِّ في إقْرارِه. وهل يُقْبَلُ قولُ امرأةٍ واحِدَةٍ؟ على رِوايَتَين؛ إحدَاهما، تُقْبَلُ فيه شَهادَةُ واحدةٍ، كالرَّضاعِ. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ فيه إلَّا اثنتانِ؛ لأنَّ ما يُقْبَلُ فيه شهادَةُ الرِّجالِ لا يُقْبَلُ فيه إلَّا اثنان، فالنِّساءُ أوْلَى. فصل: وإن لم يَشْهَدْ لها أحدٌ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ السَّلامَةُ في الرِّجالِ وعَدَمُ العُيُوبِ، ودَعْوَاه تَتَضَمَّنُ سلامةَ العَقْدِ وصِحَّتَه، ويَسْقُطُ حُكْمُ قولِها، لتَبَيُّنِ كَذِبها. فإنِ ادَّعتْ أنَّ عُذْرَتَها زَالتْ بسبَبٍ آخَرَ (¬1)، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الأسْبابِ. ¬

(¬1) في م: «أحد».

3203 - مسألة: (وإن كانت ثيبا، فالقول قوله)

فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَعَنْهُ، الْقَوْلُ قَوْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3203 - مسألة: (وإن كانت ثَيِّبًا، فالقولُ قولُه) لِما ذَكَرْنا. ولأنَّ هذا تَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه، فقُبِلَ قولُه فيه مع يَمِينِه. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ هذا ممَّا تَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ [عليه، وجَنْبَتُه] (¬1) أقْوَى، فإنَّ دَعْوَاه سلامةُ العَقْدِ، وسلامَةُ نَفْسِه مِن العُيُوبِ، والأصلُ السَّلامَةُ، فكان القولُ قولَه، كالمُنْكِرِ في سائرِ الدَّعاوَى، وعليه اليَمِينُ على صِحَّةِ ما قال. وهذا قولُ مَن سَمَّينا ههُنا؛ لأنَّ قولَه مُحْتَمِلٌ للكَذِبِ، فقَوَّينَا قولَه بيَمِينِه، كما في سائرِ الدَّعَاوَى التي يُسْتَحْلَفُ فيها. فإن نَكَل، قُضِيَ عليه بنُكولِه، ويَدُلُّ على وُجُوبِ اليَمِينِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬2). قال القاضي: ويَتَخَرَّجُ أن لا يُسْتَخلَفَ، بِناءً (¬3) على إنْكارِه دَعْوَى الطَّلاقِ، فإنَّ فيها رِوايَتَين، كذا ههُنا. والصَّحيحُ أنَّه يُسْتَحْلَفُ؛ لدَلالةِ الخَبَرِ والمعْنَى عليه (و) رُوِيَ (عن أحمدَ) أنَّ (القولَ قولُها) مع ¬

(¬1) في م: «ويميته». (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬3) سقط من: م.

وَقَال الْخِرَقِيُّ: يُخْلَى مَعَهَا فِي بَيتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ مَاءَكَ عَلَى شَيءٍ. فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهُ لَيسَ بِمَنِيٍّ، جُعِلَ عَلَى النَّارِ، فَإِنْ ذَابَ، فَهُوَ مَنِيٌّ، وَبَطَلَ قَوْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينِها. حَكاها القاضي في «المُجَرَّدِ»؛ لأنَّ الأصْلَ عدَمُ الإِصَابَةِ، فكانَ القولُ قولَها؛ لأنَّه مُوافِقٌ للأصْلِ، واليَقِينُ معها (وقال الخِرَقِيُّ: يُخْلَى معها في بَيتٍ، ويقالُ له: أخْرِجْ ماءَك على شيءٍ. فإنِ ادَّعَتْ أنَّه ليس بمَنِيٍّ، جُعِلَ على النَّارِ، فإن ذَابَ، فهُو مَنِيٌّ، وبَطَل قولُهَا) هكذا حَكاه الخِرَقِيُّ عن أحمدَ. فعلى هذا، إن أخْرَجَ ماءَه، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ العِنِّينَ يَضْعُفُ عن الإِنْزالِ، فإذا أنْزَلَ تَبَيَّنَّا صِدْقَه، فَنَحْكُمُ به. وهو مذهبُ عَطاءٍ. فإنِ ادَّعَتْ أنَّه ليس بمَنِيٍّ، جُعِلَ على النارِ، فإن ذابَ فهو مَنِيٌّ؛ لأنَّه يُشْبِهُ بَياضَ البَيضِ، وذلك إذا وُضِعَ على النارِ تَجَمَّعَ ويَبِسَ، وهذا يَذُوبُ، فيَتَمَيَّزُ بذلك أحَدُهما مِن الآخَرِ، فيُخْتَبَرُ به. وعلى هذا، متى عَجَز عن إخْراجِ مائِه، فالقولُ قولُ المرأةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ معها. وفي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّ مَوْضِعٍ حَكَمْنا بوَطْئِه بَطَل [حُكْمُ عُنَّتِه] (¬1)، فإن كان في ابْتِداءِ الأمْرِ، لم تُضْرَبْ له مُدَّةٌ، وإن كان بعدَ ضَرْبِ المُدَّةِ، انْقَطَعَتْ، وإن كان بعدَ انْقِضائِها، لم يَثْبُتْ له خِيارٌ. وكلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنا بعَدَمِ الوَطْءِ منه، حَكَمْنا بعُنَّتِه، كما لو أقَرَّ بها. واخْتارَ أبو بكرٍ أنَّه يُزَوَّجُ امرأةً لها حَظٌّ مِن الجَمالِ، وتُعْطَى صَداقَها مِن بيتِ المالِ، ويُخْلَى معها (¬2)، وتُسْأَلُ عنه، ويُؤْخَذُ بما تَقُولُ، فإن أخْبَرَتْ بأنَّه يَطَأُ، كُذِّبَتِ الأُولَى، والثَّانِيَةُ بالخيارِ بينَ الإِقامَةِ والفَسْخِ، وإن كَذَّبَتْه، فُرِّقَ بينَه وبينَهما (¬3)، وصَداقُ الثانيةِ مِن مالِه ههُنا، لِما رُوِيَ أنَّ امرأةً جاءت إلى سَمُرَةَ، فشَكَتْ إليه أنَّه لا يَصِلُ إليها زَوْجُها، فكَتَبَ إلى معاويةَ، فكَتَبَ إليه أن زَوِّجْه امرأةً ذاتَ جمالٍ، يُذْكَرُ عنها الصَّلاحُ، وسُقْ إليها مِن بيتِ المالِ عنه، فإن أصابَها فقد كَذَبَتْ، وإن لم يُصِبْها فقد صَدَقَتْ. فَفَعَلَ (¬4) ¬

(¬1) في الأصل: «حكمه وعنته». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «وبينها». (¬4) في الأصل: «فعلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك سَمُرَةُ، فجاءتِ المرأةُ فقالت: ليس عندَه شيءٌ. ففَرَّقَ بينَهما. وقال الأوْزاعِيُّ: تَشْهَدُه امْرَأتان، ويُتْرَكُ بينَهما ثَوْبٌ، ويُجامِعُ امْرَأتَه، فإذا قام عنها نَظَرَتا إلى فَرْجِها، فإن كان فيه رُطُوبَةُ الماءِ فقد صَدَق، وإلَّا فلا. وحُكِيَ عن مالكٍ مثلُ ذلك، إلَّا أنَّه اكْتَفَى بواحِدَةٍ. والصحيحُ أنَّ القولَ قولُه؛ لِما ذَكَرْنا، وكما لو ادَّعَى الوَطْءَ في الإِيلاءِ. واعتبارُ خُرُوجِ الماءِ ضَعِيفٌ؛ لأنَّه قد يَطأُ ولا يُنْزِلُ، وقد يُنْزِلُ مِن غيرِ وَطْءٍ، فإنَّ ضَعْفَ الذَّكَرِ لا يَمْنَعُ سَلامةَ الظَّهْرِ ونُزُولَ الماءِ، وقد يَعْجِزُ السليمُ القادِرُ عن الوَطْءِ في بعضِ الأحوالِ، وليس كُلُّ مَن عَجَز عن الوَطْءِ في حالٍ مِن الأحْوالِ، أو وَقْتٍ مِن الأوْقاتِ، يكونُ عِنِّينًا، ولذلك جَعَلْنا مُدَّتَه سنةً، وتَزْويجُه بامرأةٍ ثانيةٍ، لا يَصِحُّ لذلك أيضًا، ولأنَّه قد يَعِنُّ عن امرأَةٍ دونَ أُخْرَى، ولأنَّ نِكاحَ الثانيةِ إن كان مُؤَقَّتًا أو غيرَ لازمٍ، فهو نِكاحٌ باطِلٌ، والوَطْءُ فيه حَرامٌ، وإن كان صَحِيحًا لازِمًا، ففيه إضْرارٌ بالثانيةِ، ولا يَنْبَغِي أن يُقْبَلَ قولُها؛ لأنَّها تُرِيدُ بذلك تخْلِيصَ نَفْسِها، فهي مُتَّهَمَةٌ فيه،

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ شَيئَانِ؛ الرَّتْقُ، وَهُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ مَسْدُودًا لَا مَسْلَكَ لِلذَّكَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْقَرْنُ وَالْعَفَلُ، وَهُوَ لَحْمٌ يَحْدُثُ فِيهِ يَسُدُّهُ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ عَظْمٌ، وَالْعَفَلُ رغْوَةٌ تَمْنَعُ لَذَّةَ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي، الْفَتَقُ، وَهُوَ انْخِرَاقُ مَا بَينَ السَّبِيلَينِ. وَقِيلَ: انْخِرَاقُ مَا بَينَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وليستْ بأحَقَّ أن يُقْبَلَ قولُها مِن الأُولَى، ولأنَّ الرجلَ لو أقَرَّ بالعَجْزِ عن الوَطْءِ في يومٍ أو شهرٍ، لم تَثْبُتْ عُنَّتُه بذلك، وأكثرُ ما في الذي ذَكَروه، أن يَثْبُتَ عَجْزُه عن الوَطْءِ في اليومِ الذي اخْتَبَرُوه فيه، وإذا لم يَثْبُتْ حُكْمُ عُنَّتِه بإقْرارِه بعَجْزِه، فلأن لا يَثْبُتَ بدَعْوَى غيرِه ذلك عليه أَوْلَى. فصل: (القِسمُ الثَّاني، يَخْتَصُّ النساءَ، وهو شَيئان؛ الرَّتْقُ، وهو كونُ الفَرْجِ مَسْدُودًا لا مَسْلَكَ للذَّكَرِ فيه، وكذلك القَرَنُ والعَفَلُ، وهو لَحْمٌ يَحْدُثُ فيه يَسُدُّه. وقيلَ: القَرْنُ عَظْمٌ، والعَفَلُ رغْوَةٌ) (¬1) فيه (تمنَعُ لَذَّةَ الوَطْءِ. الثاني، الفَتَقُ، وهو انْخِراقُ ما بينَ السَّبِيلَين. وقِيلَ: انْخِرَاقُ ما بينَ مَخْرَجِ البَوْلِ والمَنِيِّ). ¬

(¬1) في م: «تحدث فيه».

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مُشْتَرَكٌ بَينَهُمَا، وَهُوَ الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجُنُونُ، سَوَاءٌ كَانَ مُطْبِقًا أَوْ يَخْنُقُ فِي الْأَحْيَانِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ يَثْبُتُ بِهَا خِيَارُ الْفَسْخِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (القسمُ الثالثُ، مُشْتَرَكٌ بَينَهما، وهو الجُذامُ والبَرَصُ والجُنونُ، سَواءٌ كان مُطْبِقًا، أو يَخْنُقُ في الأحيانِ. فهذِه الأقسامُ يَثْبُتُ بها خِيارُ الفَسْخِ، رِوايةً واحدةً) لِما

فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَخَرِ، وَهُوَ نَتَنُ الْفَمِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: نَتَنٌ فِي الْفَرْجِ يَثُورُ عِنْدَ الْوَطْءِ. وَاسْتِطْلَاقِ الْبَوْلِ وَالنَّجْو، وَالقُرُوحِ السَّيَّالةِ فِي الْفَرْجِ، وَالْبَاسُورِ، وَالنَّاسُورِ، وَالْخِصَاءِ، وَهُوَ قَطْعُ الْخُصْيَتَينِ، وَالسَّلِّ، وَهُوَ سَلُّ الْبَيضَتَينِ، وَالْوجَاءِ، وَهُوَ رَضُّهُمَا، وَفِي كَوْنِهِ خُنْثَى، وَفِيمَا إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ عَيبًا بِهِ مِثْلُهُ، أَوْ حَدَثَ بِهِ الْعَيبُ بَعْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَق، وقد ذَكَرْنا دَلِيلَ ذلك والخِلافَ فيه. فصل: (واخْتَلَفَ أصحابُنا في البَخَرِ، وهو نَتَنُ الفَمِ. وقال ابنُ حامدٍ: نَتَنٌ في الفرجِ يَثُورُ عندَ الوَطْءِ. واسْتِطْلاقِ البَوْلِ والنَّجْو (¬1)، والقُرُوحِ السَّيَّالةِ في الفَرْجِ، والخِصاءِ، وهو قَطْعُ الخُصْيَتَين، والسَّلِّ، وهو سَلُّ البَيضَتَين. والوجاءِ، وهو رَضُّهُما. وفيما إذا وَجَد أحَدُهما بصاحِبِه عيبًا به مثلُه، أو حَدَث به العَيبُ بعدَ العقدِ، وفي كَوْنِه خُنْثَى، ¬

(¬1) النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.

الْعَقْدِ، هَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هل يَثْبُتُ الخِيارُ؟ على وَجْهَينِ) أحَدُهما، لا يَثْبُتُ الخِيارُ، وهو المَفْهُومُ مِن كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه (¬1) ذَكَر العُيوبَ التي تُثْبِتُ الخِيارَ في فَسْخِ النِّكاحِ، ولم يَذْكُرْ شيئًا مِن هذه؛ لأنَّ ذلك لا يَمْنَعُ مِن الاسْتِمْتاعِ، ولا يُخْشَى تَعَدِّيه، فلم يَثْبُتْ به الخِيارُ، كالعَمَى والعَرَجِ، ولأنَّ ذلك إنَّما يَثْبُتُ بنَصٍّ أو إجْماعٍ أو قِياسٍ، ولا نَصَّ فيها ولا إجْماعَ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على العُيوبِ المُثْبِتَةِ للخيارِ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ، فإنَّ الوَطْءَ مع هذه العيوبِ مُمْكِنٌ، بل قد قِيلَ: إنَّ الخَصِيَّ أقْدَرُ على الجِماعِ؛ ¬

(¬1) في م: «ثمَّ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يَفْتُرُ (¬1) بإنْزَالِ الماءِ. والخُنْثَى فيه خِلْقَةٌ زائِدةٌ لا تَمْنَعُه الجِماعَ، أشْبَهَ اليَدَ الزائدةَ، وإذا وَجَد أحدُهما بصاحِبِه عَيبًا به مثلُه، فلا خِيارَ؛ لأنَّهما مُتساويان، فلا مَزِيَّةَ لأحدِهما على صاحبِه. والوجْهُ الثاني، له الخيارُ. وقال أبو بكرٍ، وأبو حفصٍ: إذا كان أحَدُهما لا يَسْتَمْسِكُ بَوْلُه ولا خَلاه، فللآخَرِ الخِيارُ. ويَتَخَرَّجُ على ذلك مَن به الباسُورُ، [والنَّاصُورُ] (¬2)، والقُرُوحُ السَّيَّالةُ في الفَرْجِ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّها تُثِيرُ نَفْرَةً (¬3)، وتَتَعَدَّى نَجاسَتُها، وتُسَمَّى مَن لا تَحْبِسُ نَجْوَها الشَّرِيمَ (¬4)، ومَن لا تَحْبِسُ بَوْلَها الماشُولةَ (¬5)، ومثلُها مِن الرِّجالِ الأمْثَنُ (¬6). وقال أبو حَفْصٍ: والخِصَاءُ عَيبٌ يُرَدُّ به. وهو أحَدُ قَوْلي ¬

(¬1) في م: «يعتبر». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «نقرة». (¬4) في الأصل: «السديم»، غير منقوطة، والمثبت كما في المطبوعة والمغني، ولم نهتد إليها. (¬5) في الأصل: «المأسوكة». وفي المغني 10/ 59: «المشولة». (¬6) في م: «الأفين». وانظر المخصص 2/ 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ؛ لأنَّ فيه نَقْصًا وعارًا، ويَمْنَعُ الوَطْءَ أو يُضْعِفُه. وقد روَى أبو عُبَيدٍ بإسنادِه عن سليمانَ بنِ يَسارٍ، أنَّ [ابنَ سَنْدَرٍ] (¬1) تَزَوَّجَ امرأةً وهو خَصِيٌّ، فقال له عمرُ: أعْلَمْتَها؟ قال: لا. قال: أعْلِمْها، ثمَّ خَيِّرْها (¬2). وفي البَخَرِ وكَوْنِ أحَدِ الزَّوْجَين خُنْثَى غَيرَ مُشْكِلٍ وَجْهان؛ أحدُهما، يَثْبُتُ الخِيارُ؛ لأنَّ فيه نَفْرَةً ونَقْصًا وعارًا. والبَخَرُ: نَتَنُ الفَمِ (¬3). وقال ابنُ حامدٍ: نَتَنٌ في الفَرْجِ يَثُورُ عندَ الوَطْءِ. وهذا إن أرادَ به أنَّه يُسَمَّى بَخَرًا و (¬4) يُثْبِتُ الخِيارَ، وإلَّا فلا مَعْنَى له، فإنَّ نَتَنَ الفَمِ يُسَمَّى بَخَرًا، ويَمْنَعُ مُقارَبَةَ (¬5) صاحِبِه إلَّا على كُرْهٍ. وما عَدَا هذه مِن العيوبِ لا يُثْبِتُ الخِيارَ، وَجْهًا واحدًا؛ كالقَرَعِ، والعَمَى، ¬

(¬1) في م: «ابن سند». (¬2) وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 406. ولم يذكر اسمه. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «أو». (¬5) في م: «مقارنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَرَجِ، وقَطْعِ اليَدَين والرِّجْلَين؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ الاسْتِمْتاعَ، ولا يُخْشَى تَعَدِّيه. ولا نَعْلَمُ في هذا بينَ أهْلِ العلمِ خلافًا، إلَّا أنَّ الحسنَ قال: إذا وَجَدَ أحَدُهما (¬1) الآخَرَ عَقِيمًا يُخَيَّرُ. وأحَبَّ أحمدُ أن يُبَيِّنَ أمْرَه، وقال: عَسَى امرأتُه تُرِيدُ الوَلَدَ. وهذا في ابْتِدَاءِ النِّكاحِ، فأمَّا الفَسْخُ فلا يَثْبُتُ به، ولو ثَبَت لذلك لثَبَتَ في الآيِسَةِ، ولأنَّ ذلك (¬2) لا يُعْلَمُ، فإنَّ رجالًا لا (¬3) يُولَدُ لأحَدِهم وهو شابٌّ، ثمَّ يُولَدُ له وهو شَيخٌ، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «ضده». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما. وأمَّا سائِرُ العُيُوبِ فلا يَثْبُتُ بها فَسْخٌ عندَهم. واللهُ أعلمُ. وأمَّا إذا وَجَد أحَدُهما بصاحِبِه عَيبًا به مثلُه، ففيه وَجْهٌ أنَّه يَثْبُتُ الخِيارُ، لوُجودِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَبِه، كما لو غُرَّ عَبْدٌ بأمَةٍ، ولأنَّ الإِنْسانَ قد يَأْنَفُ مِن عَيبِ غيرِه، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأْنَفُ مِن عَيبِ نَفْسِه. فصل: وأمَّا إذا وَجَد أحَدُهما بصاحِبِه عيبًا، [وبه] (¬1) عَيبٌ مِن غَيرِ جِنْسِه، كالأبْرَصِ يَجِدُ المرأةَ مَجْنُونَةً أو مَجْذُومَةً، فلكلِّ وَاحِدٍ منهما الخِيارُ؛ لوُجُودِ سَبَبِه، إلَّا أن يَجِدَ المَجْبُوبُ (¬2) المرأَةَ رَتْقاءَ، فلا يَنْبَغِي أن يَثْبُتَ لهما (¬3) خِيارٌ؛ لأنَّ عَيبَه ليس هو المانعَ لصاحِبِه مِن الاسْتِمْتاعِ، وإنَّما امْتَنَعَ لعيبِ نَفْسِه. ¬

(¬1) سقطت الواو من النسختين. (¬2) في الأصل: «المجنون». (¬3) في م: «لها».

3204 - مسألة: (وإن علم بالعيب وقت العقد، أو قال: قد رضيت به معيبا)

وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيبِ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ قَال: قَدْ رَضِيتُ بِهِ مَعِيبًا. أَوْ وُجِدَ مِنْهُ دَلَالةٌ تَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؛ مِنْ وَطْءٍ أَوْ تَمْكِينٍ مَعَ الْعِلْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَدَثَ (¬1) العَيبُ بعدَ العَقْدِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَثْبُتُ الخِيارُ. وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه قال: فإن جُبَّ قبلَ الدُّخُولِ، فلها الخِيارُ في وَقْتِها. لأنَّه عَيبٌ في النِّكاحِ يُثْبِتُ الخِيارَ مُقارِنًا، فأثْبَتَه طارِئًا (¬2)، كالإِعْسارِ والرِّقِّ، فإنَّه يُثْبِتُ الخِيارَ إذا قارَنَ، مثلَ أن تُغَرَّ الأمَةُ مِن عَبْدٍ، ويُثْبِتُه إذا طَرَأَتِ الحُرِّيَّةُ، إذا عَتَقَتِ الأمَةُ تحتَ العَبْدِ، ولأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعَةٍ، فحُدُوثُ العَيبِ بها يُثْبِتُ الخِيارَ، كالإِجَارَةِ. والثاني، لا يُثْبِتُ الخِيارَ. وهو قولُ أبي بكرٍ، وابنِ حامدٍ، ومذهبُ مالكٍ؛ لأنَّه عَيبٌ حَدَث بالمَعْقُودِ عليه بعدَ لُزُومِ العَقْدِ، أشْبَهَ الحادثَ بالمَبِيعِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ. وهذا يَنْتَقِضُ بالعَيبِ الحادِثِ في الإِجارَةِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن حَدَث بالزَّوْجِ أثْبتَ الخِيارَ، وإن حَدَث بالمرأةِ، فكذلك في أحَدِ الوَجْهَين، ولا يُثْبِتُه في الآخَرِ؛ لأنَّ الرجلَ يُمْكِنُه طَلاقُها، بخِلافِ المرأةِ. ولَنا، أنَّهما تَسَاوَيا فيما إذا كان العَيبُ سابقًا، فتَسَاوَيا فيه لاحِقًا، كالمُتَبايِعَين. 3204 - مسألة: (وإن عَلِم بالعَيبِ وَقْتَ العَقْدِ، أو قال: قد رَضِيتُ به مَعِيبًا) بعدَ العَقْدِ (أو وُجِدَ منه دَلَالةٌ على الرِّضَا؛ ¬

(¬1) في الأصل: «وجد». (¬2) سقط من: م.

بِالْعَيبِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن وَطْءٍ أو تَمْكِينٍ مع العِلْمِ بالعَيبِ، فلا خِيارَ له) لا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لأنَّه رَضِيَ به، فأشْبَهَ مُشْتَرِىَ المَعِيبِ. وإن ظَنَّ العَيبَ يَسِيرًا فبانَ كثيرًا، كمَن ظَنَّ البَرَصَ في قليلٍ مِن جَسَدِها فبانَ في كثيرٍ منه، فلا خِيارَ له أيضًا؛ لأنَّه مِن جِنْسٍ ما رَضِيَ به. وإن رَضِيَ بعيبٍ فبان به (¬1) غَيرُه، فله الخِيارُ؛ لأنَّه وَجَد به (¬2) عيبًا لم يَرْضَ به ولا بجنْسِه، فيَثْبُتُ له الخِيارُ، كالمَبِيعِ إذا رَضِيَ بِعَيبٍ فيه فوَجَدَ به غيرَه. وإن رَضِيَ بعيبٍ فزادَ بعدَ العَقْدِ، كأنْ كان قليلٌ مِن البَرَصِ فانْبَسَطَ في جِلْدِها (¬3)، فلا خِيارَ له؛ لأنَّ رِضاه به رِضًا بما يَحْدُثُ منه. فصل: وخِيارُ العَيبِ ثابِتٌ على التَّراخِي، لا يَسْقُطُ، ما لم يُوجَدْ منه ما يَدُلُّ على الرِّضَا به، مِن القولِ، أو الاسْتِمْتاعِ به مِن الزَّوْجِ، أو التَّمْكِينِ مِن المرأةِ. هذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لقولِه: فإن عَلِمَتْ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «بها». (¬3) في الأصل: «جلده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِنِّينٌ، فسَكَتَتْ عن المُطالبَةِ، ثمَّ طالبَتْ بعدُ، فلها ذلك. وذَكَر القاضي أنَّه على الفَوْرِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. فمتى أخَّرَ الفَسْخَ مع العِلْمِ والإِمكانِ، بَطَل خِيارُه؛ لأنَّه خِيارُ الردِّ بالعيبِ، فكان على الفورِ، كرَدِّ المَبِيعِ المَعِيبِ. ولنا، أنَّه خِيارٌ لدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقِّقٍ، فكان على التَّراخِي، كخِيارِ القِصاصِ، وخِيارُ العَيبِ في المَبِيعِ مَمْنُوعٌ، ثمَّ الفرقُ بينَهما أنَّ ضَرَرَه في المَبِيعِ غيرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لأنَّه قد يكونُ المقصودُ مالِيَّتَه أو خِدْمَتَه، ويَحْصُلُ ذلك مع عَيبِه، وههُنا المقصودُ الاسْتِمْتاعُ، وذلك يَفُوتُ بعَيبِه (¬1). وأمَّا خِيارُ الشُّفْعَةِ والمَجْلِسِ، فهو لدَفْعِ ضَرَرٍ غيرِ مُتَحَقِّقٍ. ¬

(¬1) في م: «بعنته».

3205 - مسألة: (ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم)

وَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ إلا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3205 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الفَسْخُ إلَّا بحُكْمِ حاكِمٍ) لأنَّه مُجْتَهَدٌ فيه، فهو كفَسْخِ العُنَّةِ، والفَسْخِ للإعْسارِ (¬1) بالنَّفَقَةِ. ويُخالِفُ خِيارَ المُعْتَقَةِ؛ لأنَّه مُتَّفَقٌ عليه. ¬

(¬1) في الأصل: «للاعتبار».

3206 - مسألة: (فإن فسخ قبل الدخول، فلا مهر، وإن فسخ بعده، فعليه المهر المسمى. وقيل)

فَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُول، فَلا مَهْرَ، وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَهُ، فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى. وَقِيلَ عَنْهُ: مَهْرُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3206 - مسألة: (فإن فُسِخَ قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهْرَ، وإن فُسِخَ بعدَه، فعليه المهرُ المُسَمَّى. وقِيلَ): عليه (مَهْرُ المِثْلِ) أمَّا إذا فُسِخَ قبلَ الدُّخُولِ، فلا مَهْرَ عليه، سَواءٌ كان مِن الزَّوْجِ أو مِن المرأةِ. وهذا قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الفَسْخَ إن كان منها (¬1)، فالفُرْقَةُ مِن جِهَتِها، فيَسقطُ مَهْرُها، كما لو فَسَخَتْه برَضاعِ زَوْجَةٍ له أخْرَى، وإن كان منه، فإنَّما فَسَخ لعَيبٍ بها دَلَّسَتْه بالإِخْفاءِ، فصار الفَسْخُ كأنَّه منها. فإن قيل: فهَلَّا جَعَلْتُمْ فَسْخَها لعُنَّتِه كأنَّه منه؛ لحُصُولِه بتَدْلِيسِه؟ قُلْنا: العِوَضُ مِن الزَّوْجِ في مُقابَلَةِ مَنافِعِها، فإذا اخْتارَتْ فَسْخَ العَقْدِ مع سَلامةِ ما عُقِدَ عليه، رَجَعَ العِوَضُ إلى العاقِدِ معها، وليس مِن جِهَتِها عِوَضٌ في مُقابَلَةِ مَنافِعِ الزَّوْجِ، وإنَّما يَثْبُتُ لها الخِيارُ (¬2) لأجْلِ ضَرَرٍ يَلْحَقُها، لا لتَعَذُّرِ ما اسْتَحَقَّتْ عليه في مُقابَلَتِه عِوَضًا، فافْتَرَقَا. ¬

(¬1) في الأصل: «منهما». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان الفَسْخُ بعدَ الدُّخُولِ، فلها المَهْرُ؛ لأنَّه يَجِبُ بالعَقْدِ، ويَسْتَقِرُّ بالدُّخولِ، فلم يَسْقُطْ بحادِثٍ بعدَه، ولذلك لا يَسْقُطُ برِدَّتِها ولا بفَسْخٍ مِن جِهَتِها. ويَجِبُ المَهْرُ المُسَمَّى. وذَكَر القاضي في «المُجَرَّدِ» فيه رِوايَتَين؛ إحداهما، يَجِبُ المُسَمَّى. والأُخْرَى، مَهْرُ المِثْلِ، بِناءً على الرِّوايَتَين في العَقْدِ الفاسدِ. وقال الشافعيُّ: الواجِبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ الفَسْخَ اسْتَنَدَ إلى العَقْدِ، [فصار كالعَقْدِ] (¬1) الفَاسِدِ. ولَنا، أنَّها فُرْقَةٌ بعدَ الدُّخولِ في نِكاحٍ صحيحٍ فيه [مُسَمًّى صحيحٌ] (¬2)، فوَجَبَ المُسَمَّى، كغيرِ المَعِيبَةِ، وكالمُعْتَقَةِ تحتَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

3207 - مسألة: (ويرجع به على من غره، من المرأة والولي. وعنه، لا يرجع)

وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ. وَعَنْهُ، لَا يَرْجِعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدٍ. والدليلُ على أنَّ النِّكاحَ صحيحٌ، أنَّه وُجِدَ بشُرُوطِه وأركانِه، فكان صحيحًا، كما لو لم يَفْسَخْه، ولأنَّه لو لم يَفْسَخْه لكان صحيحًا، فكذلك إذا فَسَخَه، كنِكاحِ الأمَةِ إذا عَتَقَتْ تحتَ عَبْدٍ، ولأنَّه تَتَرَتَّبُ عليه أحكامُ الصِّحَّةِ مِن ثُبُوتِ الإِحْصانِ والإِباحَةِ للزَّوْجِ الأوَّلِ، وسائرُ أحْكامِ الصَّحيحِ، ولأنَّه لو كان فاسدًا لمَا جاز إِبْقاؤُه وتَعَيَّنَ فَسْخُه. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الفَسْخَ يَثْبُتُ حُكْمُه مِن حِينِه، غيرَ سابقٍ عليه، وما وَقَع على صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ أن يكونَ واقِعًا على غيرِها. وكذلك لو فُسِخَ البَيعُ بعَيبٍ، لم يَصِرِ العَقْدُ فاسدًا، ولا يكونُ النَّماءُ لغيرِ المُشْتَرِي، ولو كان المَبِيعُ أمَةً فَوَطِئَها، لم يَجِبْ به مَهْرُها، فكذلك النِّكاحُ. 3207 - مسألة: (ويَرْجِعُ به على مَن غَرَّه، مِن المرأةِ والوَلِيِّ. وعنه، لا يَرْجِعُ) المذهبُ أنَّه يَرْجِعُ، وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وقال أبو بكرٍ: فيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه لا يَرْجِعُ. قال شيخُنا (¬1): والصحيحُ أنَّ المذهبَ رِوايةٌ واحدةٌ، أنَّه يَرْجِعُ؛ فإنَّ أحمدَ قال: كنتُ أذْهَبُ إلى قولِ ¬

(¬1) في: المغني 10/ 64.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليٍّ فَهِبْتُه، فمِلْتُ إلى قولِ عمرَ: إذا تَزَوَّجَها، فرأى جُذَامًا أو بَرَصًا، فإنَّ لها صَدَاقَها (¬1) بمَسِيسِه إيَّاها، ووَلِيُّها ضامِنٌ للصَّداقِ (¬2). وهذا يَدُلُّ على أنَّه رَجَع إلى هذا القولِ. وبه قال الزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ في القديمِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، أنَّه لا يَرْجِعُ (¬3). وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في الجديدِ؛ لأنَّه ضَمِنَ ما اسْتَوْفَى بَدَلَه، وهو الوَطْءُ، فلا يَرْجِعُ به على غيرِه، كما لو كان المَبِيعُ مَعِيبًا (¬4) فأكَلَه. ولَنا، ما روَى مالكٌ، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: أيُّما رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةً بها جُنُونٌ أو جُذَامٌ أوَ بَرَصٌ، فمَسَّها، فلها صَداقُها، وذلك لزَوْجِها غُرْمٌ على وَلِيِّها (¬5). ولأنَّه غَرَّه في النِّكاحِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 439. (¬3) انظر ما تقدم في صفحة 439. (¬4) في م: «معينا». (¬5) تقدم في صفحة 439.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما يُثْبِتُ الخِيارَ، فكان المَهْرُ عليه، كما لو غَرَّه بحُرِّيةِ أمَةٍ. إذا ثَبَت هذا، فإن كان الوَلِيُّ عَلِم، غَرِم، وإن لم يكنْ عَلِم، فالتَّغْرِيرُ مِن المرأةِ، فيَرْجِعُ عليها بجميعِ الصَّدَاقِ، وإنِ اخْتَلَفُوا في عِلْمِ الوَلِيِّ، فشَهِدَتْ عليه بَيِّنَةٌ بالإِقْرَارِ بالعلمِ، وإلَّا فالقولُ قولُه مع يَمِينِه. وقال الزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ: إن عَلِم الوَلِيُّ غَرِمَ، وإلَّا اسْتُحْلِفَ باللهِ، أنَّه ما عَلِمَ، ثمَّ هو على الزَّوْجِ. وقال القاضي: إن كان أبًا أو جَدًّا، أو ممَّن يَجُوزُ له أن يَراها، فالتَّغْرِيرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جِهَتِه، عَلِم أو لم يَعْلَمْ، وإن كان ممَّن لا يَجُوزُ له أن يَرَاها، كابنِ العمِّ، والمَوْلَى، وعَلِمَ، غَرِمَ، وإن أنْكَرَ ولم تَقُمْ بَيِّنَةٌ بإقرارِه، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، ويَرْجِعُ على المرأةِ بجميعِ الصَّدَاقِ. وهذا قولُ مالكٍ، إلَّا أنَّه قال: إذا رَدَّتِ المرأةُ ما أخَذَتْ، تَرَك لها قَدْرَ ما تُسْتَحَلُّ به، لئلَّا تَصِيرَ كالمَوْهُوبةِ. وللشافعيِّ قَوْلان، كقولِ مالكٍ والقاضي. ولَنا، على أنَّ الوَلِيَّ إذا لم يَعْلَمْ لا يَغْرَمُ، أنَّ التَّغْرِيرَ مِن غيرِه، فلم يَغْرَمْ، كما لو كان ابنَ عَمٍّ. وعلى أنَّه يَرْجِعُ بكلِّ الصَّداقِ، أنَّه مَغْرُورٌ منها، فرجَع بكلِّ الصَّدَاقِ، كما لو غَرَّه الوَلِيُّ. وقولُهم: لا يَخْفَى على مَن يَرَاها. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ عُيُوبَ الفَرْجِ لا اطِّلَاعَ له عليها، ولا يَحِلُّ له رُؤْيَتُها، وكذلك العُيوبُ تحتَ الثِّيابِ، فصار في هذا كمَن لا يَراها، إلَّا في الجُنُونِ، فإنَّه لا يَكادُ يَخْفَى على مَن يَراها، إلَّا أن يكونَ غائِبًا. وأمَّا الرُّجوعُ بالمَهْرِ، فإنَّه بسَبَبٍ آخَرَ، فيكونُ بمَنْزِلَةِ ما لو وَهَبَتْه إيَّاه، بخلافِ المَوْهُوبَةِ. فصل: فإنْ طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، ثمَّ عَلِمَ أنَّه كان بها عَيبٌ، فعليه نِصْفُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّداقِ، ولا يَرْجِعُ به؛ لأنَّه رَضِيَ بالْتِزَامِه، فلم يَرْجِعْ على أحدٍ، وإن ماتتْ أو ماتَ قبلَ العِلْمِ بالعَيبِ، فلها الصَّداقُ كامِلًا، ولا يَرْجِعُ به على أحدٍ؛ لأنَّ سَبَبَ الرُّجوعِ الفَسْخُ، ولم يُوجَدْ، وههُنا اسْتَقَرَّ الصَّداقُ بالمَوْتِ، فَلا يَرْجِعُ به. فصل: ولا سُكْنَى لها ولا نَقَقَةَ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يَجِبُ لمَن لزَوْجِها عليها الرَّجْعَةُ، وهذه تَبِينُ بالفَسْخِ، كما تَبِينُ بالثَّلاثِ، وليس لزَوْجِها عليها وَجْعَةٌ، فلم تَجِبْ لها نَفَقَةٌ ولا سُكْنَى؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ بنتِ قَيسٍ: «إنَّما (¬1) النَّفَقَةُ والسُّكْنَى للمْرَأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِها عليها الرَّجْعَةُ». رَواه النَّسائِيُّ (¬2). وهذا إذا كانت حائِلًا، فإن كانت حامِلًا، فلها النَّفَقَةُ؛ لأنَّها بائِنٌ مِن نِكاحٍ صحيحٍ وهي حامِلٌ، فكانت لها النَّفقةُ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب الرخصة في ذلك، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 117. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 373، 417.

3208 - مسألة: (وليس له تزويج كبيرة بمعيب بغير رضاها)

فَصْلٌ: وَلَيسَ لِوَلِيِّ صَغِيرَةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، وَلَا سَيِّدِ أَمَةٍ، تَزْويجُهَا مَعِيبًا، وَلَا لِوَلِيِّ كَبِيرَةٍ تَزْويجُهَا بِهِ بِغَيرِ رِضَاهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُطَلَّقةِ ثلاثًا والمُخْتَلعةِ. وفي السُّكْنَى رِوايتان. وقال القاضي: لا نَفَقَةَ لها وإن كانت حامِلًا، في أحدِ الوَجْهَين؛ لأنَّها بائِنٌ مِنِ نِكاحٍ فاسدٍ. وكذلك قال أصحابُ الشافعيِّ في أحدِ الوَجْهَين، وفي الآخَرِ: لها النَّفَقَةُ؛ لأنَّ النَّفقةَ للحَمْلِ، والحَمْلُ لاحِقٌ به. وبَنَوْه على [أنَّ النِّكاحَ فَاسِدٌ] (¬1)، وقد بَيَّنّا صِحَّته فيما مَضَى. فصل: قال الشيخُ، - رَضِيَ اللهُ عنه -: (وليس لوَلِيِّ صَغِيرةٍ، ولا مَجْنُونَةٍ، ولا سيدِ أمةٍ، تَزْويجُها مَعيبًا) لأنَّه ناظِرٌ لهم بما فيه الحَظُّ، ولا حَظَّ لهم في هذا العقدِ. فإن زَوَّجَهُنَّ مع العِلْمِ بالعَيبِ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ، وكذلك الحُكْمُ في الصغيرِ؛ لأنَّه عَقَدَ لهم عَقْدًا لا يَجُوزُ عَقْدُه، فلم يَصِحَّ، كما لو باع عَقَارَه لغيرِ غِبْطَةٍ ولا حاجةٍ. وإن لم يَعْلَمْ بالعَيبِ، صَحَّ، كما لو اشْتَرَى لهم مَعِيبًا لا يَعْلَمُ عَيبَه، ويَجِبُ عليه الفَسْخُ إذا عَلِمَ؛ لأنَّ عليه النَّظَرَ لهم فيما فيه الحظُّ، [والحَظُّ] (¬2) في الفَسْخِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ النِّكاحُ؛ لأنَّه زَوَّجَهُم ممَّن لا يَمْلِكُ تزْويجَهُم إيَّاه، فلم يَصِحَّ؛ كما لو زَوَّجَهُم مِمَّن يَحْرُمُ عليهم. 3208 - مسألة: (وليس له تَزْويجُ كَبِيرَةٍ بمَعِيبٍ بغيرِ رِضَاها) ¬

(¬1) في م: «النكاح الفاسد». (¬2) سقط من: م.

3209 - مسألة: (فإن اختارت الكبيرة تزويج مجبوب أو عنين، لم يملك منعها)

فَإِنِ اخْتَارَتِ الْكَبِيرَةُ نِكَاحَ مَجْبُوبٍ أَوْ عِنِّينٍ، لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّها تَمْلِكُ الفَسْخَ إذا عَلِمتْ به بعدَ العَقْدِ، فالامْتِناعُ أوْلَى. 3209 - مسألة: (فإنِ اخْتارَتِ الكَبِيرَةُ تَزْويجَ مَجْبُوبٍ أو عِنِّينٍ، لم يَمْلِكْ مَنْعَها) لأنَّ الحقَّ لها، في أحَدِ الوَجْهَين. والوجهُ الثاني (له

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْعُها) قال أحمدُ: ما يُعْجِبُنِي أن يُزَوِّجَها بعِنِّينٍ، وإن رَضِيَتِ الساعةَ تكْرَهُ إذا أُدْخِلَت عليه؛ لأنَّ مِن شَأْنِهِنَّ النِّكاحَ، ويُعْجِبُهُنَّ مِن ذك ما يُعْجِبُنا. وذلك لأنَّ الضَّرَرَ في هذا دائمٌ، والرِّضَا غيرُ مَوثْوقٍ (¬1) بدَوامِه، ولا تَتَمَكَّنُ مِن التَّخَلُّصِ إذا كانت عالِمَةً في ابْتِداءِ العَقْدِ، وربَّما أفْضَى إلى الشِّقاقِ والعَداوةِ، فيَتَضَرَّرُ وَلِيُّها وأهْلُها، فمَلَكَ الوَلِيُّ مَنْعَها، كما لو أرادت نِكاحَ مَن ليس بكُفْءٍ. وقال القاضِي: له مَنْعُها مِن نِكاحِ المجْنونِ، وليس له مَنْعُها مِن نِكاحِ المَجْبُوبِ والعِنِّينِ؛ لأنَّ ضَرَرَهُما عليها خاصَّةً. وفي الأبْرَصِ والمَجْذُومِ (¬2) وَجْهان؛ أحدُهما، لا يملكُ مَنْعَها؛ لأنَّ الحقَّ لها، والضَّرَرَ عليها، فأشْبَهَا (¬3) المجْبُوبَ والعِنِّينَ. والثاني، له مَنْعُها؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا فيه، فإنَّه يُعَيَّرُ (¬4) به، ويُخْشَى تَعَدِّيه إلى الوَلَدِ، فأشْبَهَ التَّزْويجَ بغيرِ كُفْءٍ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. والأَوْلَى أنَّ له مَنْعَها؛ لأنَّ عليها فيه ضَرَرًا دائِمًا، وعارًا عليها وعلى أهْلِها، فمَلَكَ مَنْعَها منه، كالتَّزْويجِ بغيرِ الكُفْءِ، فأمَّا إنِ اتَّفَقَا على ذلك، ورَضِيَا به، جازَ، وصَحَّ النِّكاحُ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما. ويُكْرَهُ لهما ذك؛ لِما ذَكَره أبو عبدِ اللهِ، مِن أنَّها وإن رَضِيَتِ الآنَ، تَكْرَهُ فيما بعدُ. ¬

(¬1) في الأصل: «موقوف». (¬2) في م: «المجنون». (¬3) في م: «أشبه». (¬4) في النسختين: «يتغير». وانظر: المغني 10/ 67.

3210 - مسألة: (فأما إن علمت العيب بعد العقد، أو حدث

وَإِنِ اخْتَارَتْ نِكَاحَ مَجْنُونٍ، أَوْ مَجْذُومٍ، أَوْ أَبْرَصَ، فَلَهُ مَنْعُهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَينِ، وَإِنْ عَلِمَتِ الْعَيبَ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ حَدَثَ بِهِ، لَمْ يَمْلِكْ إِجْبَارَهَا عَلَى الْفَسْخِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ سائرُ الأوْلياءِ الاعْتِرَاضَ عليها ومَنْعَها مِن هذا التَّزْويجِ؛ لأنَّ العارَ يَلْحَقُ بهم، ويَنَالُهم الضَّرَرُ، فأشْبَهَ ما لو زَوَّجَها بغيرِ كُفْءٍ. 3210 - مسألة: (فأمَّا إن عَلِمَتِ العَيبَ بعدَ العَقْدِ، أو حَدَثَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به، لم يَمْلِكْ إجْبارَها على الفَسْخِ) إذا رَضِيَتْ؛ لأنَّ حقَّ الوَلِيِّ في ابْتِداءِ العَقْدِ لا في دَوَامِه، ولهذا لو دَعَتْ وَلِيَّها إلى تَزْويجِها بِعَبْدٍ لم تَلْزَمْه إجابَتُها، ولو [عَتَقَتْ تحتَ عَبْدٍ] (¬1) لم يَمْلِكْ إجْبارَها على الفَسْخِ. ¬

(¬1) في م: «أعتقت عبدًا».

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب نكاح الكفار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ نِكَاحِ الْكُفَّارِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَجِبُ بِهِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ نِكَاحِ الكُفَّارِ (وحُكمُه حُكْمُ نِكاحِ المسلمين فيما يَجِبُ به وتَحريمِ المحرماتِ) وجملةُ ذلك، أنَّ أنْكِحَتَهم يتَعَلَّقُ بها أحكامُ النِّكاحِ الصَّحِيحِ، مِن وُقُوعِ الطَّلاقِ، والظِّهارِ، والإِيلاءِ، ووُجُوبِ المَهْرِ، والقَسْمِ، والإِباحَةِ للزَّوْجِ الأوَّلِ، والإِحْصانِ، وغيرِ ذلك. وممَّن أجازَ طَلاقَ (¬1) الكُفَّارِ؛ عطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولم يُجَوِّزْهُ الحسنُ، وقَتادَةُ، ¬

(¬1) في الأصل: «نكاح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَبِيعةُ، ومالكٌ. ولَنا، أنَّه طَلَاقٌ مِن بالِغٍ عاقلٍ في نكاحٍ صحيحٍ، فَوَقَعَ، كطَلَاقِ المسلمِ، فإن قِيلَ: لا نُسَلِّمُ صِحَّةَ أنْكِحَتِهم. قُلْنا: دليلُ ذلك أنَّ اللهَ تَعالى أضافَ النِّساءَ إليهم، فقال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالةَ الْحَطَبِ} (¬1). وقال: {امْرَأَت فِرْعَوْنَ} (¬2). وحَقِيقةُ الإِضافةِ تَقْتَضِي زَوْجِيَّةً صحيحةً. [وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3): «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» (¬4). وإذا ثَبَت صِحَّتُها، ثَبَتَتْ أحكامُها، كأَنْكِحةِ المسلمينَ. فعلى هذا، إذا طَلَّقَ الكافرُ ثلاثًا، ثمَّ تَزَوَّجَها قبلَ زَوْجٍ وإصَابَةٍ، ثمَّ أسْلَما، لم يُقَرَّا عليه. وإن طَلَّقَ امْرأتَه أقَلَّ مِن ثَلاثٍ، ثمَّ أسْلَما، فهي عندَه على ما بَقِيَ مِن طَلاقِها، وإن نَكَحَها كِتَابِيٌّ وأصابَها، حَلَّتْ لمُطَلِّقِها ثَلاثًا، سواءٌ كان المُطَلِّقُ مُسْلِمًا أو كافِرًا، وإن ظاهَرَ الذِّمِّيُّ مِن امْرأَتِه، ثمَّ أسْلَما، فعليه كَفَّارةُ الظِّهارِ؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬5) الآية. فإن آلَى، ثَبَتَ حُكْمُ الإِيلاءِ، لِقَوْلِه تَعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬6). ويَحْرُمُ عليهم في النِّكاحِ ما يَحْرُمُ على المسلمين، على ما ذَكَرْنا في بابِ المُحَرَّمَاتِ في النِّكاحِ. ¬

(¬1) سورة المسد 4. (¬2) سورة القصص 9، وسورة التحريم 11. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 20. (¬5) سورة المجادلة 3. (¬6) سورة البقرة 226.

3211 - مسألة: (ويقرون على الأنكحة المحرمة، ما اعتقدوا حلها، ولم يرتفعوا إلينا)

وَيُقَرُّونَ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ، مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إِلَينَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3211 - مسألة: (وَيُقَرُّونَ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ، ما اعْتَقَدوا حِلَّها، ولم يَرْتَفِعُوا إلينا) إنَّما يُقَرُّونَ بهذَين الشَّرطَين؛ أحدُهما، أن لا يَتَرافَعُوا إلينا. الثاني، أن يَعْتَقِدُوا إباحَةَ ذلك في دينِهم؛ لأنَّ ما لا يعْتَقِدُون حِلَّه ليسَ مِن دِينِهم، فلا يُقَرُّونَ عليه، كالزِّنى، والسَّرِقَةِ، قال اللهُ تَعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَينَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيئًا} (¬1). فيَدُلُّ هذا على أنَّهم يُخَلَّوْنَ وأحْكامَهم إذا لم يَجِيئُوا إلينا. ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ الجِزْيَةَ مِن مَجُوسِ هَجَرَ (¬2)، ولم يَعْتَرِضْ عليهم في أنْكِحَتِهم، مع عِلْمِه أنَّهم يَسْتَبِيحُون نِكاحَ محارِمِهِم. ولأنَّه أسْلَمَ خَلْقٌ كثيرٌ في زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأقَرَّهم على أنْكِحَتِهم، ولم يكْشِفْ عن كَيفِيَّتِها. فإذا لم يَرْتَفِعُوا، لم نَتَعَرَّضْ لهم؛ لأنَّا صَالحْناهم على الإِقْرَارِ ¬

(¬1) سورة المائدة 42. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 397.

وَعَنْهُ، فِي مَجُوسِيٍّ تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً، أَو اشْتَرَى نَصْرَانِيَّةً، يَحُولُ بَينَهُمَا الْإِمَامُ. فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا، أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى نِكَاحٍ مُحَرَّمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على دِينِهم. (وعن أحمدَ في مَجُوسِيٍّ تَزَوَّجَ كتابِيَّةً، أو اشْتَرَى نَصْرَانِيَّةً) قال: يُحَالُ بَينَه وبَينَها. قيل: مَن يَحولُ بَينَهُما؟ قال: الإِمامُ. قال أبو بكرٍ: لأنَّ علينا ضَرَرًا في ذلك بتَحْريمِ أولادِ النَّصرانِيَّةِ علينا. ويجئُ على قولِه في تَزْويجِ النَّصْرانِيِّ المَجُوسِيَّةَ (فيُخَرَّجُ مِن هذا أَنَّهم لا يُقَرُّونَ

3212 - مسألة: (وإن أسلموا، أو ترافعوا إلينا في ابتداء العقد، لم نمضه إلا على الوجه الصحيح)

فإِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَرَافَعُوا إِلَينَا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، لَمْ نُمْضِهِ إلا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ، لَمْ نَتَعَرَّضْ لِكَيفِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ على نِكاحٍ محرَّمٍ) [وأنْ يُحال بينَهم وبينَ نِكاحِ مَحارِمِهم؛ فإنَّ عمرَ كتَب أن فَرِّقوا بينَ كلِّ ذِي مَحْرَمٍ] (¬1) (¬2) مِن المجُوسِ. وقال أحمدُ في مجُوسِيٍّ مَلَكَ أمَةً نَصْرانِيَّةً: يُحالُ بينَه وبينَها، ويُجْبَرُ على بَيعِها؛ [لأنَّ النَّصارى لهم دِينٌ] (¬3). فإن مَلَكَ نَصْرَانِيٌّ مجُوسِيَّةً، فلا بأسَ أن يَطأَها. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: لا يُبَاحُ له وَطْؤُها أيضًا. لِما ذكرْناه مِن الضَّرَرِ. 3212 - مسألة: (وإِن أَسْلَمُوا، أو تَرافَعُوا إلينا في ابْتِداءِ العَقْدِ، لم نُمْضِه إلَّا على الوَجْهِ الصَّحِيحِ) مِثْلَ أنْكِحَةِ المسلمين؛ بِالولِيِّ والشُّهُودِ والإِيجابِ والقَبُولِ؛ لأنَّه لا حاجَةَ إلى عَقْدٍ يُخالِفُ ذلك، قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَينَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬4) (وإن كان في أثْنائِه (¬5)، لم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. وهذا اللفظ جزء من الحديث المتقدم، أخرجه البخاري، في: باب الجزية. . .، من كتاب الجزية. صحيح البخاري 4/ 117. وأبو داود، في: باب أخذ الجزية من المجوس، من كتاب الخراج. سنن أبي داود 2/ 150. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 190، 191. (¬2) في م: «رحم». والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) في م: «لها دين وله دين». وفي الأصل: «لأنَّ النصراني لهم دين». وانظر: المغني 10/ 38. (¬4) سورة المائدة 42. (¬5) في النسختين: «إثباته».

3213 - مسألة: لكن إن كانت المرأة في هذه الحال ممن [يجوز ابتداء نكاحها في الحال، أقرا عليه (وإن كانت ممن]

عَقْدِهِمْ، بَلْ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، كَذَاتِ مَحْرَمِهِ، وَمَنْ هِيَ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي نِكَاحِهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ مُدَّةً هُمَا فِيهَا، أَوْ مُطَلَّقَتِهِ ثَلَاثًا، فُرِّقَ بَينَهُمَا، وَإِلَّا أُقِرَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ نَتَعرَّضْ لكَيفِيَّةِ عَقْدِهِم) ولا تُعْتَبَرُ له شُرُوطُ أنْكِحَةِ المسلمين؛ من الوَلِيِّ والشُّهودِ، وصِيغةِ الإِيجابِ والقَبُولِ، وأشْباهِ ذلك، بلا خِلافٍ بينَ المسلمين. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): أجْمَعَ العلماءُ على أنَّ الزَّوْجَينِ إذا أسْلَما معًا في حالٍ واحدةٍ، أنَّ لهما المُقامَ على نِكاحِهما، ما لم يَكُنْ بينَهما نَسَبٌ أو رَضَاعٌ. وقد أسْلَم خَلْقٌ كثيرٌ (¬2) في عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأسْلَمَ نِسَاؤُهم، فأُقِرُّوا على أنْكِحَتِهم، ولم يَسْأَلْهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شُرُوطِ النِّكاحِ ولا كَيفِيَّتِه، وهذا أَمْرٌ عُلِمَ بالتَّواتُرِ والضَّرُورةِ، فكان يَقِينًا. 3213 - مسألة: لكنْ إن كانَتِ المرْأةُ في هذه الحالِ ممَّن [يَجُوزُ ابْتِداءُ نكاحِها في الحالِ، أُقِرَّا عليه (وإن كانت ممن] (¬3) لا يجوزُ ابْتِداءُ نِكاحِها) كأَحَدِ المُحَرَّماتِ بالنَّسَبِ أو السَّبَبِ، أو المُعْتَدَّةِ، أو المُرْتَدَّةِ و (¬4) الوَثَنِيَّةِ والمَجُوسِيَّةِ، والمُطَلَّقَةِ ثلاثًا، لم يُقَرَّا؛ لحديثِ عمرَ. وإن ¬

(¬1) في: التمهيد 12/ 23. (¬2) زيادة من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أو».

عَلَى النِّكَاحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزَوَّجَها في العِدَّةِ وأسْلَما بعدَ انْقِضائِها، أُقِرَّا؛ لأنَّها ممَّن يَجُوزُ ابْتِداءُ نِكاحِها. وإن تَرافَعا إلينا في العِدَّةِ، فُسِخَ نِكاحُهما؛ لأنَّه لا يجوزُ ابْتِداءُ نِكاحِهما. وإن كان بَينَهما نِكاحُ مُتْعَةٍ، لم يُقَرَّا عليه؛ لأنَّه إن كان بعدَ المُدَّةِ، لم يَبْقَ بينَهما نِكاحٌ، وإن كان في المُدَّةِ، فهما لا يَعْتَقِدان تَأْبِيدَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنِّكاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، إلَّا أن يَعْتَقِدا (¬1) فسادَ الشَّرطِ [وصِحَّةَ النِّكاحِ وبَقاءَه مُؤبَّدًا، فيُقَرّانِ عليه. فإن كان بينَهما نِكاحٌ شُرِطَ فيه الخِيارُ متَى شَاءَا أو شاءَ أحدُهما، لم يُقَرّا عليه؛ لأنَّهما لا يَعْتَقِدان لُزُومَه، إلَّا أن يَعْتَقِدا فَسادَ الشَّرطِ] (¬2) وحدَه، وإن كان خيار مدَّةٍ فأسْلَما فيها، لم يُقَرَّا؛ لذلك، وإن كان بعدَها أُقِرَّا؛ لأنَّهما يَعْتَقِدانِ لُزُومَه، وكُلُّ ما اعْتَقَدُوه نِكاحًا، فهو نِكاحٌ يُقَرُّونَ عليه، وما لا فلا. ¬

(¬1) في م: «يعتقد». (¬2) سقط من: م.

3214 - مسألة: (وإن قهر حربي حربية، فوطئها، أو طاوعته، واعتقداه نكاحا)

وَإِنْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً، فَوَطِئَهَا، أَوْ طَاوَعَتْهُ، وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا، أُقِرَّا، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمّىً صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا قَبَضَتْهُ، اسْتَقَرَّ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَقْبِضْهُ، فُرِضَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3214 - مسألة: (وإن قَهَرَ حرْبِيٌّ حرْبِيَّةً، فوَطِئَها، أو طَاوَعَتْهُ، واعْتَقَدَاه نِكاحًا) ثمَّ أسْلَما (أُقِرَّا) عليه؛ لأنَّه نِكاحٌ لهم في مَن يجوزُ ابْتِداءُ نِكاحِها، فأُقِرَّا عليه، كالنِّكاحِ بلا وَلِيٍّ، وإن لم يَعْتَقِداه نِكاحًا، لم يُقَرَّا عليه؛ لأنَّه ليس مِن أنْكِحَتِهم. 3215 - مسألة: (وإن كان المَهْرُ مُسَمًّى صحيحًا، أو فاسدًا قَبَضَتْه، اسْتَقَرَّ، وإن كان فاسدًا لم تَقْبِضْه، فُرِضَ لها مَهْرُ المِثْلِ) إذا أسْلَمَ الكُفَّارُ، [أو تَحاكَمُوا] (¬1) إلينا بعدَ العَقْدِ والقَبْضِ، لم نتَعرَّضْ لِما فَعَلوه، ¬

(¬1) في م: «وترافعوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما قَبَضَتْ مِن المَهْرِ، فقد نَفَذ، وليسَ لها غيرُه، حَلالًا كان أو حَرامًا، بدلِيلِ قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬1). فأمَرَ بتَركِ ما بَقِيَ دُونَ (¬2) ما قُبِضَ. وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬3). ولأنَّ التَّعرُّضَ للمَقْبوضِ بإبْطالِه يَشُقُّ، لتَطاوُلِ الزَّمانِ، وكَثْرَةِ تصرُّفاتِهم في الحَرامِ، ففيه تَنْفِيرُهم عن الإِسلامِ، فعُفِىَ عنه، كما عُفِيَ عمّا ترَكُوه مِن الفَرائِضِ والواجباتِ، ولأنَّهما تَقابَضا بحكمِ الشِّرْكِ، فبَرِئَتْ ذِمَّةُ مَن هو عليه منه، كما لو تَبايَعا بيعًا فاسدًا وتَقابَضا. وإن لم يَتقابَضا وكان المُسَمَّى حَلالًا، وَجَبَ ما سَمَّياه؛ لأنَّه مُسَمًّى صحيحٌ [في نِكاحٍ صحيحٍ] (¬4)، فوَجَبَ، كتَسْمِيَةِ المسلمِ. وإن كان حرامًا، كالخَمْرِ والخِنْزِيرِ، بطَلَ، ولمِ يُحْكَمْ بِه؛ لأنَّ ما سَمَّياهُ لا يجوزُ إيجابُه في الحُكْمِ، ولا يجوزُ أن يكونَ صَداقًا لمسلمةٍ، ولا في نِكاحِ مسلمٍ. ¬

(¬1) سورة البقرة 278. (¬2) في م: «من دون». (¬3) سورة البقرة 275. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ إن كان قَبْلَ الدُّخولِ، ونِصْفُه إن وقَعتِ الفُرْقَةُ قبلَ الدُّخولِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان أصْدَقَها خمرًا أو خِنْزِيرًا مُعَيَّنَينِ، فليس لها إلَّا ذلك، وإن كانا غيرَ مُعَيَّنَينِ، فلها في الخمرِ القِيمَةُ، وفي الخِنْزِيرِ مَهْرُ المِثْلِ، اسْتِحْسانًا. ولَنا، أنَّ الخَمْرَ لا قِيمَةَ له في الإِسلامِ، فكان الواجِبُ مَهْرَ المِثْلِ، كما لو أصْدَقَها خِنْزِيرًا، ولأنَّه مُحَرَّمٌ، أشْبَهَ الخنزيرَ. فصل: وإن قَبَضَتْ بعضَ الحرامِ دُونَ بعضٍ، سقَط مِن المَهْرِ بقَدْرِ ما قُبِضَ، ووَجَبَ بحِصَّةِ ما بَقِيَ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فإن كان الصَّداقُ عَشَرةَ زِقَاقِ خَمْرٍ مُتَساويةً، فَقَبَضَتْ منها خَمْسَةً، سقَط نِصْفُ المَهْرِ، ووَجَب لها نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ، وإن كانت مختلِفةً، اعْتُبِرَ ذلك بالكَيلِ، في أحدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّه إذا وجَب اعْتِبارُه، اعْتُبِرَ ذلك بالكَيلِ فيما له مِثْلٌ يتأتَّى الكيلُ فيه. والثاني، يُقْسَمُ على عَدَدِها؛ لأنَّه لا قِيمةَ لها، فاسْتَوَى كبيرُها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصغيرُها. وإن أَصْدَقَها عشَرةَ خَنازيرَ، ففيه الوَجْهَان؛ أحدُهما، يُقْسَمُ على عددِها؛ لِما ذكَرْنا. والثاني، تُعْتَبَرُ قِيمَتُها كأنَّها ممَّا يجوزُ بَيعُه (¬1)، كما تُقَوَّمُ شِجَاجُ الحُرِّ كأنَّه عَبْدٌ. وإن أصْدَقها كَلْبًا وخِنْزِيرَينِ وثلاثَةَ زِقاقِ خَمْرٍ، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يُقْسَمُ على قَدْرِ قِيمَتِها عندَهم. والثاني، يُقْسَمُ على عَدَدِ الأجْناسِ، فيُجْعَلُ لكلِّ جِنْسٍ ثُلُثُ المَهْرِ. والثالثُ، يُقْسَمُ على العَدَدِ كلِّه (1)، فلِكُلِّ واحدٍ سُدْسُ المَهْرِ، ولِلكَلْبِ سُدْسُه، ولكلِّ واحدٍ مِن الخِنْزِيرَينِ والزِّقاقِ سُدْسُه. ومذهبُ الشافعيِّ فيه (1) على نحو هذا. فصل: فإن نَكَحَها نِكاحًا فاسدًا، وهو ما لا يُقَرُّونَ عليه إذا أسْلَمُوا، كَنِكاحِ ذَواتِ الرَّحِمِ (¬2)، فأسْلَما قَبْلَ الدُّخولِ، أو تَرافَعُوا إلينا، فُرِّقَ بينَهما، ولا مَهْرَ لها. قال أحمدُ، في المَجُوسِيَّةِ تكونُ تحتَ أخيها أو أبيها، فَيُطَلِّقُها أو يَموتُ عنها، فتَرْتَفِعُ إلى المسلمين: لا مَهْرَ لها. وذلك لأنَّه نِكاحٌ باطلٌ مِن أصْلِه، لا يُقَرُّ عليه في الإِسلامِ، وُجِدَت فيه الفُرْقةُ قبلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أي المحرم.

فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ، فَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الدُّخولِ. فأمَّا إن دَخَلَ بها، فهل يجبُ مَهْرُ المِثْلِ؟ يُخَرَّجُ على رِوَايَتَين في المسلمِ إذا وَطِئَ امرأةً مِن مَحارِمِه. بشُبْهَةٍ. فصل: إذا تزوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً، على أن لا صَداقَ لها، أو سَكَتَ عن (¬1) ذكرِه، فلها المطالبةُ بفَرْضِه إن كان قبلَ الدُّخولِ، وإن كان بعدَه فلها مَهْرُ المِثْلِ، كما في نِكاحِ المسلمينَ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن تَزَوَّجَها على أن لا مَهْرَ لها، فلا شيءَ لها. وإن سَكَتَ عن ذِكْرِه، فعنه (¬2) رِوَايتان؛ إحداهما، لا مَهْرَ لها. والأُخْرَى، مَهْرُ المِثْلِ. واحْتَجَّ بأنَّ المَهْرَ يجبُ لحَقِّ اللهِ تعالى وحَقِّها، [وقد أسْقَطَتْ حَقَّها] (¬3)، [والذِّمِّيُّ لا يُطالبُ بحَقِّ] (¬4) اللهِ تَعالى. ولَنا، أنَّ هذا نِكاحٌ خَلا عن تَسْمِيَةٍ، فيجبُ للمرْأةِ فيه مَهْرُ المِثْلِ، كالمُسْلمةِ، وإنَّما وَجَبَ المهْرُ في حَقِّ المُسْلمةِ لئلَّا تَصِيرَ كالمَوْهُوبةِ والمُباحةِ، وهذا يُوجَدُ في حَقِّ الذِّمِّيِّ. فصل: قال الشيخُ، - رَضِيَ اللهُ عنه -: (وإذا أسْلَمَ الزَّوْجانِ معًا، أو ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ففيه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «والذي يطالب به حق».

عَلَى نِكَاحِهِمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْلَمَ زَوْجُ الكتابِيَّةِ، فهما على نِكاحِهما) سواءٌ كان قبلَ الدُّخولِ أو بعدَه، وليس بينَ أهلِ العلمِ في هذا اختلافٌ بحَمْدِ اللهِ، وذَكَر [ابنُ عبْدِ البَرِّ] (¬1) أنَّه إجْماعٌ مِن أهلِ العلمِ؛ وذلك لأنَّه لم يُوجَدْ منهم اختلافُ دِينٍ (¬2). وقد رَوَى أبو داودَ (¬3)، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ رَجُلًا جاء مُسْلِمًا على عهدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ جاءتِ امْرأتُه مسْلِمةً (¬4) بعدَه، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّها كانت أسْلَمَتْ معي. فرَدَّها عليه. ويُعْتَبَرُ تَلَفُّظُهما بالإِسْلامِ دَفْعةً واحدةً؛ لئَلَّا يَسْبِقَ أحَدُهُما صاحِبَه، فيَفْسُدَ النِّكاحُ. ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ على المَجْلِسِ، كالقَبْضِ ونحوه، فإنَّ حُكْمَ المَجْلِسِ كلِّه حُكْمُ حالةِ العَقْدِ، ولأنَّه يَبْعُدُ (¬5) اتِّفاقُهما على النُّطْقِ بكَلِمَةِ الإِسلامِ دَفْعةً ¬

(¬1) في م: «ابن المنذر». وانظر التمهيد 12/ 23. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب إذا أسلم أحد الزوجين، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 518. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 83. وابن ماجه، في: باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 647. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 232، 323. وضعفه في الإرواء 6/ 336، 337. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «يتعذر».

3216 - مسألة: (فإن أسلمت الكتابية)

وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ أَوْ أَحَدُ الزَّوْجَينِ غَيرُ الْكِتَابِيَّينِ قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةَ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةً، فلو اعْتُبِرَ ذلك، لوَقَعَتِ الفُرْقةُ بينَ كلِّ مُسْلِمَين قبلَ الدُّخولِ إلَّا في النَّادِرِ، فيَبْطُلُ الإِجْماعُ. وإذا أسْلَمَ زَوْجُ الكِتابِيَّةِ قبلَ الدُّخولِ أو بعدَه، أو أسْلَما معًا، فالنِّكاحُ باقٍ بحالِه، سواءٌ كان زَوْجُها كِتابِيًّا أو غيرَ كِتابِيٍّ؛ لأنَّ للمُسْلِمِ ابْتِدَاءَ نِكاحِ الكِتابِيَّةِ، فاسْتِدَامَتُه أوْلَى، ولا خِلافَ في هذا بينَ القائلين بجوازِ نِكاحِ الكتابِيَّةِ للمسلمِ. 3216 - مسألة: (فإن أسْلَمَتِ الكتابِيَّةُ) قبلَه و (قبلَ الدُّخولِ) تُعُجِّلَتِ الفُرْقَةُ، سواءٌ كان زَوْجُها كتابِيًّا أو غيرَ كتابِيٍّ، إِذ لا يجوزُ لكافرٍ نِكاحُ المسلِمةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العلمِ. 3217 - مسألة: (فإنْ كانَتْ هي المُسْلِمَةَ، فلا مَهْرَ لها،

وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. وَعَنْهُ، لَا مَهْرَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان هو المُسْلِمَ قَبْلَها، فلها نِصْفُ المَهْرِ. وعنه، لا مَهْرَ لها) وجملةُ ذلك، أنَّ الفُرْقَةَ إذا حصَلَت (¬1) قبلَ الدُّخُولِ بإسلامِ المرأَةِ، فلا شيءَ لها؛ لأنَّ الفُرْقَةَ من جِهَتِها. وبهذا قال الحسنُ، ومالكٌ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والشافعيُّ. وعن أحمدَ رِوَايةٌ أُخْرَى، أَنَّ لها نِصْفَ المَهْرِ، إذا كانَتْ هي المسلمِةَ. اخْتارَها أبو بكرٍ. وبه قال قَتَادَةُ، والثَّوْرِيُّ. ويَقْتَضِيه قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الفُرْقَةَ حصَلَتْ مِن قِبَلِه بامْتِنَاعِه مِن الإِسلامِ، وهي فَعَلَتْ ما فَرَضَ اللهُ عليها، فكان لها نِصْفُ ما فَرَضَ اللهُ لها، كما لو عَلَّقَ طلاقَها على الصلاةِ فصَلَّتْ. ونُقِلَ عن أحمدَ في مجُوسِيٍّ أسْلَمَ قبلَ أن يدْخُلَ بامرأَتِه، فلا شيءَ لها مِن الصَّدَاقِ؛ لِما ذَكَرْنا. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّ الفُرْقَةَ حصَلَتْ باخْتِلافِ الدِّينِ، وقد حصَل بإسلامِها، ¬

(¬1) في الأصل: «جعلت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكانَتِ الفُرْقَةُ حاصِلَةً بفِعْلِها، فلمْ يَجِبْ لها شيءٌ، كما لو ارْتَدَّتْ، ويُفَارِقُ تعليقَ الطَّلاقِ، فإنَّه مِن جِهَةِ الزَّوْجِ، ولهذا لو عَلَّقَه على دُخُولِ الدَّارِ فدَخَلَتْ، وقَعَتِ الفُرْقَةُ، ولها نِصْفُ المَهْرِ. فأمَّا إن حصَلتِ الفُرْقَةُ بإسلامِ الزَّوْجِ، فللمرأةِ نِصْفُ المُسَمَّى، إن كانَتِ التَّسْمِيَةُ صحيحةً، أو نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ، إن كانت فاسدةً، مِثلَ أن يُصْدِقَها خَمْرًا أو خِنْزِيرًا؛ لأنَّ الفُرْقَةَ حصَلَتْ بفعلِه. وعنه، لا مَهْرَ لها؛ لأنَّ الفُرْقَةَ جاءتْ مِن قِبَلِها؛ لكَوْنِها امْتَنعَتْ مِن الدُّخولِ في الإِسْلامِ. فصل: إذا انْفَسَخَ النِّكاحُ [بإسْلامِ أَحَدِ] (¬1) الزَّوْجَين قبلَ الدُّخولِ، مثلَ أن يُسْلِمَ أحدُ الزَّوْجَين الوَثَنِيَّينِ أو المَجوسِيَّين، تُعُجِّلَتِ (¬2) الفُرْقَةُ، على ما ذَكَرْنا، ويكونُ ذلك فسْخًا لا طَلاقًا. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ، بل إن كان في دارِ الإِسلامِ، عُرِضَ الإِسلامُ (¬3) على الآخَرِ، فإن أبَى، وقَعَتِ الفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وإن كان في دارِ الحربِ، وقَفَ ذلك على انْقِضاءِ عِدَّتِها، فإن لم يُسْلِمِ الآخَرُ، وقَعَتِ ¬

(¬1) في م: «بأحد». (¬2) في الأصل: «فعجلت». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفُرْقَةُ، فإن كان الإِبَاءُ مِن الزَّوْجِ كان طلاقًا؛ لأنَّ الفُرْقَةَ حصَلَتْ مِن قِبَلِه، فكان طلاقًا، كما لو لَفَظَ به، وإن كان مِن المرأةِ كان فسخًا؛ لأنَّ المرأةَ لا تَمْلِكُ الطَّلاقَ. وقال مالكٌ: إن كانت هي المسلِمةَ، عُرِضَ عليه الإِسلامُ، فإن أسْلَمَ، وإلَّا وَقَعَتِ الفُرْقَةُ، وإن كان هو المُسْلِمَ، تُعُجِّلَتِ الفُرْقَةُ؛ لقولِه سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬1). ولَنا، أنَّه اخْتِلافُ دِينٍ يمنعُ الإِقْرارَ على النِّكاحِ، فإذا وُجِدَ قبلَ الدُّخولِ، تُعُجِّلَتِ الفُرْقَةُ، كالرِّدَّةِ. وعلى مالكٍ، كإسلامِ الزَّوْجِ، أو كما لو أبَى (¬2) الآخَرُ [الإِسلامَ، ولأنَّه] (¬3) إن كان هو المُسْلِمَ، فليس له إمْساكُ كافِرةٍ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وإن كانت هي المسلمةَ، فلا يجوزُ إبْقاؤُها في نِكاحِ مشركٍ. ولَنا، على أنَّها فُرْقَةُ فسخٍ، أنَّها فُرْقَةٌ باختلافِ الدِّينِ، فكانت فَسْخًا، كما لو أسْلَمَ الزَّوْجُ وأبَتِ المرأةُ، ولأنَّها فُرْقَةٌ بغيرِ لَفْظٍ، فكانت فسخًا، كفُرْقَةِ الرَّضَاعِ. ¬

(¬1) سورة الممتحنة 10. (¬2) في م: «أتى». (¬3) في م: «للإِسلام لأنه».

3218 - مسألة: (وإن قالت: أسلمت قبلي. وأنكرها، فالقول قولها)

وَإِنْ قَالتْ: أَسْلَمْتَ قَبْلِي. وَأَنْكَرَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3218 - مسألة: (وإنْ قَالتْ: أسْلَمْتَ قَبْلِي. وأنْكَرَهَا، فالقولُ قَوْلُها) لأنَّ المَهْرَ وَجَبَ بالعَقْدِ، والزَّوْجُ يدَّعِي ما يُسْقِطُه، والأصْلُ بَقاؤُه، ولم يعارِضْه ظَاهِرٌ، فبَقِيَ. وإنِ اتَّفَقا على أنَّ أحدَهما أسلَم (¬1) قَبْلَ الآخَرِ، ولا يَعْلَمانِ عينَه، فلها نِصْفُ الصَّدَاقِ. ذَكَرَه أبو الخطابِ؛ لِما ذَكَرْنا. وقال القاضي: إن لم تكنْ قَبَضَتْ، فلا شيءَ لها؛ لأنَّها تَشُكُّ في اسْتِحْقاقِها، فلا تَسْتَحِقُّ بالشَّكِّ، وإن كان بعدَ القَبْضِ، لم يَرْجِعْ عليها؛ لأنَّه يَشُكُّ (¬2) في اسْتِحْقَاقِ الرُّجوعِ، فلا يَرْجِعُ مع الشَّكِّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ اليَقِينَ لا يُزالُ بالشَّكِّ، ولذلك (¬3) إذا تَيَقَّنَ الطَّهارَةَ وشَكَّ في الحدثِ، أو تَيَقَّنَ الحدثَ وشَكَّ في الطهارَةِ، بنى على اليَقِينِ، وهذه كان صَداقُها واجِبًا، وشَكَّا في سُقُوطِه، فيَبْقَى على الوُجُوبِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لا يشك». (¬3) في م: «كذلك».

3219 - مسألة: (وإن قال)

وَإِنْ قَال: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ. فَأَنْكَرَتْهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3219 - مسألة: (وإن قال) الزَّوْجُ: (أسْلَمْنا معًا، فنحنُ على النِّكاحِ. فأنْكَرَتْه، فعلى وَجْهَين) وقال القاضي: القولُ قولُها (¬1)؛ لأنَّ الظاهرَ معها، إذْ يَبْعُدُ اتِّفاقُ الإِسْلامِ منهما دَفْعةً واحدةً، والقولُ قولُ مَن الظَّاهِرُ معه، ولذلك (¬2) كان القولُ قولَ صاحبِ اليَدِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، ذَكَرَه أبو الخطابِ، أنَّ القولَ قولُ الزَّوْجِ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ النِّكاحِ، والفَسْخُ طارِئٌ عليه، فكان القولُ قولَ مَن يُوَافِقُ قولُه الأصْلَ، كالمُنْكِرِ. وللشافعيِّ قَوْلان كهذَينِ الوَجْهَينِ. فصل: فإنِ اخْتَلَفا بعدَ الدُّخولِ، فقال الزَّوْجُ: أسْلَمْنا معًا. أو: أَسْلَمَ الثَّاني مِنَّا في العِدَّةِ، فنحن على النِّكاحِ. وتقولُ هي: بَلْ أسْلَمَ الثَّاني ¬

(¬1) في م: «قول المرأة». (¬2) في م: «كذلك».

3220 - مسألة: (وإن أسلم أحدهما بعد الدخول، وقف الأمر على انقضاء العدة، فإن أسلم الثاني قبل انقضائها، فهما على نكاحهما، وإلا تبينا أن الفرقة وقعت)

وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الثَّانِي قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ حِينَ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ العِدَّةِ، فانْفَسَخَ النِّكاحُ. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، القولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ النِّكاحِ. والثَّاني، القولُ قولُها؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ إسْلامِ الثَّاني. 3220 - مسألة: (وإن أسْلَمَ أحَدُهما بعدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الأمْرُ على انْقِضاءِ العِدَّةِ، فإن أسْلَمَ الثَّاني قَبْلَ انْقِضَائِها، فهما على نِكاحِهما، وإلَّا تَبَيَّنّا أَنَّ الفُرْقَةَ وقَعتْ) مِن (حينَ أسْلَمَ الأوَّلُ) رُوِيَ عن أحمدَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَحِمَه اللهُ، في هذه المسألةِ روايتان؛ إحداهما، أنَّ الأمْرَ يَقِفُ على انقضاءِ العِدَّةِ، على ما ذَكَرْنا. وهذه الرِّوايةُ هِي (¬1) التي ذَكَرَها الخِرَقِيُّ. فعلى هذا، إذا لم يُسْلِمِ الثَّانِي في العِدَّةِ، لا يحتاجُ إلى اسْتِئْنافِ العِدَّةِ. وهذا قولُ الزُّهْرِيِّ، واللَّيثِ، والحسنِ بنِ صالحٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ. ونحوُه عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، ومُجاهدٍ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. والثانيةُ، تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ، كما قَبْلَ الدُّخولِ. وهو اخْتِيارُ الخلَّالِ وصاحِبِه، وقولُ الحسنِ، وطاوُسٍ، وعِكْرِمةَ، وقَتَادةَ، والحكَمِ. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ونَصَرَه ابنُ المُنْذِرِ. وقولُ أبي حنيفةَ ههُنا كقولِه فيما قبلَ الدُّخُولِ، إلَّا أنَّ المرْأةَ إذا كانت في دارِ الحربِ، فانْقَضتْ عِدَّتُها ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَصَلَتِ الفُرْقَةُ، لَزِمَها اسْتِئْنافُ العِدَّةِ. وقال مالكٌ: إن أسلَم الرَّجلُ قبلَ امرأتِه، عرَض عليها الإِسلامَ، فإن أسْلَمَتْ، وإلَّا وَقَعَتِ الفُرْقَةُ، وإن كانتْ غائبةً تُعُجِّلَتِ الفُرْقَةُ، وإن أسلمتِ المرأةُ قبلَه، وقَفَ الأَمْرُ (¬1) على انْقِضاءِ العِدَّةِ. واحْتَجَّ [مَن قال] (¬2) بِتَعْجِيلِ الفُرْقَةِ بقَوْلِه سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. ولأنَّ ما يُوجِبُ فَسْخَ النِّكاحِ لا يَخْتَلِفُ بما قبلَ الدُّخولِ وبعدَه، كالرَّضاعِ. ولَنا، ما رَوَى مالكٌ في «مُوَطَّئِه» (¬3)، عن ابنِ شِهابٍ قال (¬4): كان بينَ إسْلامِ صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ وامرأتِه بنتِ الوليدِ بنِ المُغِيرةِ نحوٌ مِن شَهْرٍ، أسْلَمَتْ يومَ الفَتْحِ، وبَقِيَ صَفْوانُ حتى شَهِدَ حُنَينًا والطائِفَ وهو كافرٌ، ثم أسْلَمَ، فلمْ يُفرِّقِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما، واسْتَقَرَّتْ عندَه امرأتُه بذلك النِّكاحِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): وشُهْرَةُ هذا الحديثِ أقْوَى مِن إسْنادِه. وقال ابنُ شِهابٍ: أسْلَمَتْ أُمُّ حكيمٍ يومَ الفَتْحِ، وهَرَبَ زَوْجُها عِكْرِمةُ حتى أَتَى اليَمَنَ، ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجه قبله، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 543، 544. كما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 186، 187. وضعف إسناده في الإرواء 6/ 337، 338. (¬4) سقط من: م. (¬5) في: التمهيد 12/ 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فارْتَحَلَتْ حتى قَدِمَتْ عليه اليمنَ، فدَعَتْه إلى الإِسلامِ، فأسْلَمَ، وقَدِمَ فبايعَ [النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1)، فثَبَتَا على نِكاحِهما (¬2). وقال ابنُ شُبْرُمةَ: كان الناسُ على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسْلِمُ الرجلُ قبلَ المرأةِ، والمرأةُ قبلَ الرجلِ، فأيُّهُما أسْلَمَ قبلَ انْقِضاءِ عِدَّةِ المرأةِ، فهي امرأتُه، فإن أسلمَ بعدَ العِدَّةِ، فلا نِكاحَ بينَهما (¬3). ولأنَّ أبا سُفْيانَ خرَج فأسْلَمَ يومَ (¬4) الفَتْحِ قبلَ دُخولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، ولم تُسْلِمْ هِنْدُ امرأتُه حتى فَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، فثَبَتا على النِّكاحِ (¬5). وأسْلَمَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ قبلَ امْرَأتِه. وخرَج أبو سفيانَ بنُ الحارثِ، وعبدُ الله بنُ أبي أُمَيَّةَ عامَ الفَتْحِ، فلَقِيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالأبْوَاءِ (¬6)، فأسْلَما قبلَ نِسائِهما. ولم يُعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بينَ أحدٍ ممَّن أسلمَ وبينَ امرأتِه، ويَبْعُدُ أن يَتَّفِقَ إسلامُهما معًا، ويفارِقُ ما قبلَ الدُّخولِ، فإنَّه لا عِدَّةَ لها فتُتَعَجَّل البَينُونةُ، كالمُطَلَّقةِ واحدةً، وههُنا لها عِدَّةٌ، فإذا انقضتْ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الفُرْقَةِ مِن حينَ أسْلَمَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: الباب السابق. الموطأ 2/ 545. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 187. (¬3) انظر الكلام عليه في: الإرواء 6/ 339. (¬4) في م: «عام». (¬5) ذكره الإمام الشافعي، في: باب فسخ نكاح الزوجين يسلم أحدهما، من كتاب النكاح. الأم 5/ 39. (¬6) الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة. معجم البلدان 1/ 100. وانظر لإسلام حكيم وأبي سفيان، ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 172.

فَعَلَى هَذَا، لَوْ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يُسْلِمِ الثَّانِي، فَعَلَيهِ الْمَهْرُ، فَإِنْ أَسْلَمَ، فَلَا شَيْءَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَوَّلُ، فلا يُحْتاجُ إلى عِدَّةٍ ثانيةٍ؛ لأنَّ اخْتلافَ الدِّينِ سَبَبُ الفُرْقَةِ، فَتُحْتسَبُ الفُرْقَةُ منه كالطَّلاقِ. (فعلى هذه) الرِّوايةِ (لو وَطِئَها) الزَّوجُ (في عِدَّتِها ولم يُسْلِمِ الثَّاني) فيها، فلها (عليه المَهْرُ) ويُؤدَّبُ، لأنّا تَبَيَّنَّا أنَّه وَطِئَها بعد البَينُونَةِ وانْفِساخِ النِّكاحِ، فيكونُ وَاطِئًا في غيرِ مِلْكٍ (¬1) (وإن أسْلَمَ، فلا شيءَ لها) لأنَّا تَبَيَّنَّا أنَّ النِّكاحَ لم يَنْفسِخْ، وأنَّه وَطِئَها في نِكاحِه، فلم يكنْ عليه شيءٌ. فصل: فإن أسْلَمَ أحدُ الزَّوْجَين وتَخَلَّفَ الآخَرُ حتى انْقَضَتْ عِدَّةُ المرأةِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ، في قولِ عامَّةِ العلماءِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): لم يَخْتَلِفِ العُلَماءُ في هذا، إلَّا شيءٌ رُوِيَ عن النَّخَعِيِّ، شَذَّ فيه عن جماعةِ العلماءِ، فلم يَتْبَعْهُ عليه أحدٌ، زعَم أنَّها تُرَدُّ إلى زَوْجِها وإن طالتِ المدةُ؛ لِما رَوَى ابنُ عباس أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ زَينَبَ على زَوْجِها أبي العاصِ بنِكاحِها الأوَّلِ. رَواه أبو داودَ (¬3). واحْتَجَّ به أحمدُ. قيل له: أليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: التمهيد 12/ 23. (¬3) في: باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها، من كتاب الطلاق - سنن أبي داود 1/ 519. كما أخرجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرْوَى أنَّه (¬1) رَدَّها بنِكاحٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ قال: ليس لذلك أصْلٌ. قيل: كان بينَ إسْلامِها ورَدِّها إليه ثمانِ سِنِينَ. ولَنا، قولُه تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). وقولُه سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. والإِجْماعُ المُنْعَقِدُ على تحريمِ فُرُوجِ المسلماتِ على الكُفَّارِ. وأَمَّا قِصَّةُ أبي العاصِ مع امرأَتِه، فقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3): لا يَخْلُو إمَّا أن تكونَ قبلَ نُزُولِ تَحْريمِ المسلماتِ على الكفارِ، فَتكونَ مَنْسُوخةً بما جاءَ بعدَها، أو تكونَ حامِلًا اسْتَمَرَّ حَمْلُها حتى أسْلَمَ زَوْجُها، أو مَريضةً لم تحِضْ ثلاثَ حَيضاتٍ حتَّى أسْلَمَ، أو تكونَ رُدَّتْ إليه بنِكاحٍ جديدٍ. فقد روَى ابنُ أبي شَيبَةَ (¬4)، في «سُنَنِه» عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّها على أبي العاصَ بنِكاحٍ جديدٍ. رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬5)، وقال: سمِعتُ عَبْدَ بنَ حُمَيدٍ يَقولُ: سمِعتُ يَزيدَ بنَ هارُونَ يَقولُ: حديثُ ابنِ عباسٍ أجْوَدُ إسْنادًا، والعملُ على ¬

= الترمذي، في: باب ما جاء في الزوجين المشركين. . . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 82. وابن ماجه، في: باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 647. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 217، 261. وصححه في الإرواء 6/ 339 - 341. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة الممتحنة 10. (¬3) انظر التمهيد 12/ 23، 24، والاستذكار 16/ 326. (¬4) في م: «قتيبة». (¬5) في: باب ما جاء في الزوجين المشركين. . . .، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 81، 82. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 647. =

3221 - مسألة: (فإن أسلمت قبله، فلها نفقة العدة)

وَإِذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثِ عمرِو بنِ شُعَيب. 3221 - مسألة: (فإن أسْلَمَتْ قَبْلَه، فَلَها نَفَقَةُ العِدَّةِ) لأنَّه يَتَمَكَّنُ مِن الاسْتِمْتاعِ وإبْقاءِ نِكاحِها بإسْلامِه معها، فكانت لها النَّفقةُ كالرَّجْعِيَّةِ، وسواءٌ أسْلَمَ في عِدَّتِها أو لم يُسْلِمْ. فإن قيل: إذا لم يُسْلِمْ تَبَيَّنَّا أنَّها بَائِنٌ باخْتِلافِ الدِّينِ، فكيف تَجِبُ النفقةُ للبائنِ؟ قُلْنا: لأنَّه كان يُمْكِنُ الزَّوْجَ تَلافِيَ نِكاحِها (¬1)، بلِ يجِبُ عليه، فكانت في مَعْنَى الرَّجْعِيَّةِ. [وإن كان هو المُسْلِمَ، فلا نفَقَةَ لها) لأنَّه لا سَبِيلَ إلى تَلافِي نِكاحِها واسْتِبْقائِها، فأَشْبَهَتِ البائِنَ، وسواءٌ أسلمَتْ معهُ أم لا] (¬2). ¬

= والإمام أحمد، في: المسند 2/ 208. وضعفه الإمام أحمد، وقال في الإرواء: منكر. الإرواء 6/ 341، 342. وسنن ابن أبي شيبة ليست بين أيدينا. (¬1) بعده في المغني 10/ 11: «إذا أسلمت قبله». (¬2) سقط من: الأصل.

3222 - مسألة: (فإن اختلفا في السابق منهما)

وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا، فَالْقَوْل قَوْلُهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3222 - مسألة: (فإنِ اخْتَلَفَا في السَّابِقِ مِنْهما) فقال الزَّوْجُ: أسْلَمْتُ قَبْلَكِ، فلا نَفَقَةَ لكِ. وقالتِ المرأةُ: بل أنا المسلمةُ أوَّلًا، فلي النَّفَقَةُ (فالقولُ قولُها في أحدِ الوَجْهَين) لأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ، وهو يَدَّعِي سُقُوطَها. والثاني، أنَّ القولَ قولُه؛ لأنَّ النَّفَقَةَ إنَّما تَجِبُ بالتَّمْكِينِ مِن الاسْتِمْتاعِ، والأصْلُ عَدَمُه. فإن قال: أسْلَمْتِ بعدَ شَهْرينِ مِن إسْلامِي، فلا نَفَقَةَ لكِ فيها. وقالت: بعدَ شَهْرٍ. فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ عدمُ إسْلامِها في الشَّهْرِ الثَّانِي. فأمَّا إنِ ادَّعَى هو ما (¬1) يَفْسَخُ النِّكاحَ وأنْكَرَتْه، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نَفسِه بزَوالِ نِكاحِه وسُقُوطِ حَقِّه، فأشْبَهَ ما لو ادَّعَى أنَّها أُخْتُه مِن الرَّضاعِ فكَذَّبَتْه. ¬

(¬1) سقط من: م.

3223 - مسألة: (وعنه، أن الفرقة تتعجل بإسلام أحدهما، كما قبل الدخول)

وَعَنْهُ، أنَّ الْفُرْقَةَ تُتَعَجَّلُ بِإِسْلَامِ أحَدِهِمَا، كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأمَّا الصَّدَاقُ فَوَاجِبٌ بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3223 - مسألة: (وعنه، أنَّ الفُرْقَةَ تُتَعَجَّلُ بإسْلامِ أحدِهما، كما قبلَ الدُّخولِ) وقد ذَكَرْناه. 3224 - مسألة: (فأمَّا الصَّدَاقُ، فواجبٌ بِكُلِّ حالٍ) يعني إذا وَقَعتِ الفُرْقَةُ بإسْلامِ أحَدِهما بعدَ الدُّخولِ، فإنَّه يَجِبُ لها المَهْرُ كاملًا؛ لأنَّه اسْتَقَرَّ بالدُّخُولِ، فلم يَسْقُطْ بشيءٍ، فإن كان مُسَمًّى صَحِيحًا، فهو لها؛ لأنَّ أَنْكِحَةَ الكُفَّارِ صحيحةٌ، تَثْبُتُ لها أحكامُ الصِّحَّةِ، وإن كان مُحَرَّمًا قَبَضَتْهُ، فليس لها غيرُه؛ لأنَّا لا نَتَعَرَّضُ إلى ما مَضَى مِن أحكامِهِم، وإنْ لم تكُنْ قَبَضَتْه، فلها مَهْرُ مِثْلِها (¬1)؛ لأنَّ الخمرَ والخِنْزِيرَ لا يكونُ صَدَاقًا لِمُسْلمةٍ، ولا في نكاحِ مسلمٍ، وقد صارتْ أحكامُهم أحْكامَ المسلمين. فصل: وسواءٌ فيما (¬2) ذَكَرْنا اتَّفَقَتِ (¬3) الدارانِ أو اخْتَلَفَتا. وبه قال ¬

(¬1) في م: «المثل». (¬2) في م: «مما». (¬3) في م: «اتفق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ، واللَّيثُ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن أسْلَم أحَدُهما وهما في دارِ الحربِ، ودخَل (¬1) دَارَ الإِسلامِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ، ولو تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً، ثم دَخَل (¬2) دارَ الإِسلام، وعَقَدَ الذِّمَّةَ (¬3)، انفَسَخَ نِكاحُهُ؛ لاخْتِلافِ الدَّارَين. ويَقْتَضِي مَذْهَبُه أنَّ أحدَ الزَّوْجَين الذِّمِّيَّينِ إذا دَخَلَ دارَ الحربِ ناقِضًا للعَهْدِ، انْفَسَخَ نِكاحُه؛ لأنَّ الدارَ اخْتَلَفَتْ (¬4) بهما فِعْلًا وحُكْمًا، فوجَب أن تقَعَ الفُرْقةُ بَينَهما، كما لو أسْلَمتْ في دارِ الإِسْلامِ قبلَ الدُّخولِ. ولَنا، أنَّ أبا سُفْيانَ أسْلَمَ بمَرِّ الظَّهْرانِ وامرأتُه بمكَّةَ لم تُسْلِمْ، وهي دارُ حَرْبٍ، وأُمُّ حَكِيمٍ أَسْلَمتْ بمكةَ، وهرَب زَوْجُها عِكْرِمَةُ إلى اليَمنِ (¬5)، وامرأةُ صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ أسْلَمتْ يومَ الفَتْحِ، وهرَب زَوْجُها، ثم أسْلَمُوا، وأُقِرُّوا على أنْكِحَتِهم مع اختلافِ الدِّينِ والدارِ بهم، ولأنَّه عَقْدُ معاوَضةٍ، فلم ينْفَسِخْ باخْتِلافِ الدارِ، كالبَيعِ، ويُفارِقُ ما قبلَ الدُّخولِ، فإنَّ القاطِعَ للنِّكاحِ اخْتلافُ الدِّينِ، المانعُ مِن الإِقرارِ على النِّكاحِ، دُونَ ما ذكَرُوه. فعلى هذا، لو تَزوَّجَ مُسْلِمٌ مُقِيمٌ بدارِ الإِسْلامِ حَرْبِيَّةً مِن أهلِ الكتابِ، ¬

(¬1) في النسختين: «دخلا». والمثبت كما في المغني 10/ 13. (¬2) في م: «دخلا». (¬3) في م: «العهد». (¬4) في م: «انعقدت». (¬5) أخرجه الإمام مالك، في: باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 545. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 187.

فَصْلٌ: وَإنِ ارْتَدَّ أحَدُ الزَّوْجَينِ قَبْلَ الِدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةَ، وَإنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ نكاحُه، وعندَهم لا يَصِحُّ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬1). ولأنَّها امرأةٌ يُباحُ نِكاحُها إذا كانت في دارِ الإِسلامِ، فأُبِيحَ نِكاحُها في دارِ الحَرْبِ، كالمسْلِمَةِ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإنِ ارْتَدَّ أحدُ الزَّوْجَين قبلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ، ولا مَهْرَ لها إن كانتِ المُرتَدَّةَ، وإن كان هو المُرتَدَّ، فلها نِصْفُ المَهْرِ) إذا ارْتَدَّ أحدُ الزَّوْجَينِ قبلَ الدُّخولِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّه حُكِيَ عن داودَ، أنَّه لا ينْفَسِخُ بالرِّدَّةِ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ النِّكاحِ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وقولُه تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). ولأنَّه اخْتِلافُ دِينٍ يَمنعُ الإِصابةَ، ¬

(¬1) سورة المائدة 5. (¬2) سورة الممتحنة 10.

3225 - مسألة: (وإن كانت الردة بعد الدخول، فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين)

وَإِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَهَلْ تُتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ أَوْ تَقِفُ عَلى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَبَ فَسْخُ النِّكاحِ، كما لو أسْلَمَتْ تحتَ كافرٍ. ثم يُنْظرُ؛ فإن كانت المرأةُ هي المُرْتَدَّةَ، فَلا مَهْرَ لها؛ لأنَّ الفَسْخَ مِن قِبَلِها، وإن كان الرجلُ هو المُرْتَدَّ، فعليه نِصفُ المَهْرِ؛ لأنَّ الفَسْخَ مِن جِهَتِه، فأشْبَهَ ما لو طَلَّقَ، وإن كانتِ التَّسْمِيةُ فاسدةً، فعليه نِصْف مَهْرِ المِثْلِ. 3225 - مسألة: (وإن كانتِ الرِّدَّةُ بعدَ الدُّخُولِ، فهل تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ أو تَقِفُ على انْقِضاءِ العدَّةِ؟ على رِوايَتَين) اخْتَلفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، فيما إذا ارْتَدَّ أحدُ الزَّوْجين بعدَ الدُّخولِ، حَسَبَ اخْتِلافِهما فيما إذا أسْلَمَ أحدُ الزَّوْجَين الكافِرَينِ، ففي إحْداهما تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. ورُوِيَ ذلك عن الحسنِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، وزُفَرَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ ما أوْجَبَ فَسْخَ النِّكاحِ اسْتَوَى فيه ما قبلَ الدُّخُولِ وبعدَه، كالرَّضاعِ. والثانيةُ، يَقِفُ على انْقِضاءِ العِدَّةِ، فإن أسْلَمَ المرْتَدُّ قبلَ انْقِضائِها، فهما على النِّكاحِ، وإن لم يُسْلِمْ حتى انْقَضَتْ، بانَتْ منذُ اخْتِلافِ الدِّينَينِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ [لأنَّه لَفْظٌ] (¬1) تَقَعُ به الفُرْقَةُ، فإذا وُجِدَ بعدَ (¬2) الدُّخولِ، جاز أن يَقِفَ على انْقِضاءِ العِدَّةِ، كالطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ، أو نقولُ: اخْتِلافُ دِينٍ بعدَ الإِصابةِ، فلا يُوجِبُ فَسْخَه في الحالِ، كإسْلامِ الحَرْبِيَّةِ تحتَ الحَرْبِيِّ، وقياسُه على إسْلام أحدِ الزَّوْجَين أقربُ مِن قياسِه على الرَّضاعِ، ولأنَّ الرَّضاعَ تَحْرُمُ به المرأةُ على التَّأْبِيدِ، فلا فائِدَةَ في تَأْخِيرِ الفَسْخِ إلى بعدِ انْقِضاءِ العِدَّةِ. ¬

(¬1) في م: «لأن لفظه». (¬2) سقط من: م.

3226 - مسألة: (فإن كان هو المرتد، فعليه نفقة العدة)

وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ، فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3226 - مسألة: (فإن كان هو المرْتَدَّ، فعليه نَفَقَةُ العِدَّةِ) لأنَّه بسَبِيلٍ مِن (¬1) الاسْتِمْتاعِ بها بأن يُسْلِمَ، ويُمْكِنُه تلافِي نِكاحِها، فكانتِ النَّفَقةُ [واجِبَةً عليه] (¬2)، كزَوْجِ الرَّجْعِيَّةِ (وإن كانت هي المرْتَدَّةَ، فلا نَفَقَةَ لها) لأنَّه لا سَبِيلَ للزَّوْجِ إلى رَجْعَتِها وتَلافِي نِكاحِها، فلم يكنْ لها نَفَقَةٌ، كما بعدَ العِدَّةِ. فصل: فإنِ ارْتَدَّ الزَّوْجانِ معًا، فحُكْمُهما حكمُ ما لو ارْتَدَّ أحدُهما؛ إن كان قبلَ الدُّخُولِ، تُعُجِّلَتِ الفُرْقَةُ، وإن كان بعدَه، فهل تُتَعَجَّلُ أو تَقِفُ على انْقِضاءِ العِدَّةِ؟ على رِوايتَين. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. قال أحمدُ في رِوَايةِ ابنِ منصورٍ: إذا ارْتَدَّا معًا، أو أحَدُهما، ثم تابا، أو تابَ المرْتَدُّ منهما، فهو أحَقُّ بها، ما لم تَنْقَضِ العِدَّةُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْفَسِخُ النِّكاحُ اسْتِحْسانًا؛ لأنَّه لم يَخْتَلِفْ بهما الدِّينُ، فأشْبَهَ ما لو أسْلَما. ولَنا، أنَّها رِدَّةٌ طارئةٌ على النِّكاحِ، فوجَب أن يتَعَلَّقَ بها فَسْخُه، كما لو ارْتَدَّ أحَدُهما، ولأنَّ كلَّ ما زال عنه مِلْكُ المُرْتَدِّ إذا ارْتَدَّ ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحدَه، زال إذا ارْتَدَّ غيرُه معه، كمالِه، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا انْتَقَلَ المسلمُ واليهوديَّةُ إلى دِينِ النَّصْرانيَّةِ، فإنَّ نِكاحَهُما ينْفسِخُ، وقد انْتَقَلا إلى دِينٍ واحدٍ، وأمَّا إذا أسْلَما، فقد انْتَقَلا إلى دِينِ الحَقِّ، ويُقَرَّانِ عليه، بخِلافِ الرِّدَّةِ. فصل: وإذا ارْتَدَّ أحدُ الزَّوْجَين، أو ارْتَدَّا معًا، مُنِعَ وَطْأها (¬1) في عِدَّتِها، فإن وَطِئَها في عِدَّتِها، وقُلْنا: إنَّ الفُرْقَةَ تُعُجِّلَت. [فلها عليه مَهْرُ مِثْلِها لِهذا الوَطْءِ، مع الذي ثَبَتَ عليه بالنِّكاحِ؛ لأنَّه وطئَ أَجْنَبِيَّةً] (¬2)، فيكونُ عليه مَهْرُ مِثْلِها. وإن قُلْنا: إنَّ الفُرْقَةَ تقِفُ على انْقِضاءِ العِدَّةِ. فأسْلَمَ المُرْتَدُّ منهما، أو أسْلَما جميعًا في عِدَّتِها وكانتِ الرِّدَّةُ منهما (¬3)، فلا مَهْرَ لها عليه بهذا الوَطْءِ؛ لأنَّا تَبَيَّنَّا أنَّ النِّكاحَ لم يَزُلْ، وأنَّه وَطِئَها وهي زَوْجَتُه. وإن ثَبَتا، أو ثَبَتَ [المُرْتَدُّ منهما] (¬4) على الرِّدَّةِ حتى انْقَضَتِ العِدَّةُ، فلها عليه مَهْرُ المِثْلِ لهذا الوَطْءِ؛ لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ نِكاحٍ بشُبْهةِ النِّكاحِ؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وَقَعَتْ منذُ اخْتلفَ الدِّينان (¬5). وقد ¬

(¬1) في م: «من وطئها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «منها». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «الدين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا مثلَ ذلك، فيما إذا أسْلَمَ أحدُ الزَّوْجَينِ بعدَ (¬1) الدُّخُولِ، فوَطِئَها في العِدَّةِ؛ لأنَّه مِثْلُه. فصل: إذا أسْلَمَ أحدُ الزَّوْجَينِ ثم ارتدَّ، نَظرتَ، فإن [لَمْ يُسْلِمِ] (¬2) الآخَرُ، تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِن حِينَ اخْتَلَفَ الدِّينانِ، وعِدَّتُها مِن حينَ أسْلَمَ المسلمُ منهما. وإن أسْلَمَ الآخَرُ منهما في العِدَّةِ قَبْلَ ارْتِدَادِ الأوَّلِ، اعْتُبِرَ ابْتداءُ العِدَّةِ مِن حينَ ارْتَدَّ؛ لأنَّ حُكْمَ اخْتِلافِ الدِّينِ بإسلامِ (¬3) الأَوَّلِ زال بإسْلامِ الثاني في العِدَّةِ. ولو أسْلَمَ وتَحتَه أكثرُ مِن أرْبَعِ نِسْوةٍ، فأسْلَمْنَ معه، ثم ارْتَدَّ، لم يكنْ له أن يختارَ منهنَّ، لأنَّه لا يجوزُ أن يَبْتَدِئَ العَقْدَ عليهنَّ في هذه الحالِ. وكذلك لو ارْتَدَدْنَ دُونَه أو معه، لم يكُنْ له أن يختارَ مِنهنَّ؛ لذلك (¬4). فصل: إذا تزوَّجَ الكافِرُ بمَن لا يُقَرُّ على نِكاحِها في الإِسْلامِ، مثلَ أن جَمَعَ بينَ الأخْتَين، أو بينَ عَشْرِ نِسْوةٍ، أو نَكَحَ مُعْتَدَّةً أو مُرْتَدَّةً، ثم طَلَّقها ثلاثًا، ثم أسْلَما، لم يكنْ له أن يَنْكِحَها؛ لأنَّنا أجْرَينا أحْكامَهم على الصِّحَّةِ فيما يَعْتَقِدُونه في النِّكاحِ، فكذلك في الطَّلاقِ، ولهذا جاز له إمْسَاكُ الثَّانيةِ مِن الأُخْتَينِ، والخامسةِ المَعْقُودِ عليها آخِرًا. ¬

(¬1) في م: «قبل». (¬2) في م: «أسلم». (¬3) في النسختين: «بالإسلام». وانظر المغني 10/ 41. (¬4) في م: «كذلك».

3227 - مسألة: (وإن انتقل أحد الكتابيين إلى دين لا يقر عليه، فهو كردته)

وَإنِ انْتَقَلَ أَحَدُ الْكِتَابِيَّينِ إِلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ عَلَيهِ، فَهُوَ كَرِدَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3227 - مسألة: (وإنِ انْتَقَلَ أحدُ الكتابِيَّيْنِ إلى دِينٍ لَا يُقَرُّ عليه، فهو كَرِدَّتِهِ) إذا انْتَقَلَ الكتابِيُّ إلى غيرِ دينِ أهلِ الكِتابِ (¬1) مِنَ الكُفْرِ، لم يُقَرَّ عليه. لا نَعْلَمُ في هذا خلافًا؛ لأنَّه إنِ (¬2) انْتقلَ إلى دِينٍ لا يُقَرُّ أهلُه بالجِزْيَةِ، كعبادةِ الأوْثانِ وغيرِها مما يسْتَحْسِنُه، فالأصْلِيُّ (¬3) مِنْهم لا يُقَرُّ على دينِه، فالْمُنْتَقِلُ إليه أوْلَى، وإنِ انْتقَلَ إلى المَجوسِيَّةِ، لم يُقَرَّ أيضًا؛ لأنَّه انْتقَل إلى دينٍ أنْقَصَ مِن دينِه، فلمْ يُقَرَّ عليه، كالمسْلمِ إذا ارْتَدَّ. فأمَّا إنِ انْتَقَلَ إلى دينٍ آخرَ مِن دينِ أهلِ الكتابِ، كاليهودِيِّ يَتَنَصَّرُ، ففيه رِوايتان؛ إحدَاهما، لا يُقَرُّ أيضًا؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى دينٍ باطلٍ، قد أَقَرَّ بِبُطْلَانِه، فلم يُقَرَّ عليه، كالمُرْتَدِّ. والثانيةُ، يُقَرُّ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو ظاهرُ كلام الخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ (¬4) الخلالِ وصاحبِه، وقولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه لا يَخرُجُ عن دينِ أهلِ الكتابِ، فأشْبَهَ غيرَ المُنْتَقِلِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «فالأصل». (¬4) في م: «واختاره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشافعيِّ قَوْلان كالرِّوايتَين. فأمَّا المَجوسِيُّ إذا انْتَقَل إلى دينٍ لا يُقَرُّ أهْلُه عليه، لم يُقَرَّ، كأهْلِ ذلك الدِّينِ، وإنِ انْتَقَلَ إلى دينِ أهلِ الكتابِ، خُرِّج فيه الرِّوايتان. وسواءٌ فيما ذكَرْنا الرجلُ والمرأةُ؛ لعُمومِ قولِه عليه الصلاة والسلامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬1). ولعُمُومِ المعْنَى الذي ذكَرْناه فيهما جميعًا. فصل: وإنِ انْتَقَلَ إلى غيرِ دينِ أهلِ الكتابِ، لم يُقْبَلْ منه إلَّا الإِسلامُ، في إحدى الرِّواياتِ عن أحمدَ. اخْتارَه الحلالُ [وصاحِبُه] (¬2). وهو أحدُ أقوالِ الشافعيِّ؛ لأنَّ غيرَ الإِسلامِ أدْيانٌ (¬3) باطلةٌ، قد أَقَرَّ ببُطْلانِها، فلم يُقَرَّ عليها، كالمُرْتَدِّ. وعنه رِوَايةٌ ثانيةٌ، لا يُقْبَلُ منه إلَّا الإِسلامُ أو الدِّينُ (3) الذي كان عليه؛ لأنَّ دِينَه الأوَّلَ قد أقْرَرْناه عليه مرَّةً، ولم يَنْتَقِلْ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب لا يعذب بعذاب الله، من كتاب الجهاد، وعلقه في: باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ}. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 4/ 75، 9/ 138. وأبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 440. والترمذي، في: باب ما جاء في المرتد، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 243. والنسائي، في: باب الحكم في المرتد، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 96. وابن ماجه، في: باب المرتد عن دينه، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 848. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 282، 283، 323، 5/ 231. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى خَيرٍ منه، فنُقِرُّه عليه إن رجَع إليه (¬1)، ولأنَّه مُنْتَقِلٌ مِن دينٍ يُقَرُّ أهلُه عليه، [فيُقْبَلُ منه الرُّجوعُ إليه، كالمرْتَدِّ إذا رَجَعَ إلى الإِسلامِ. وعن أحمدَ روايةٌ ثالثةٌ، أنَّه يُقْبَلُ منه أحدُ ثلاثةِ أشياءَ، الإِسلامُ، أو الرجوعُ إلى دينِه الأوَّلِ، أو إلى دينٍ يُقَرُّ أهلُه عليه؛ لعُمومِ] (¬2) قولِه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3). وظاهرُ هذه الرِّوايةِ، أنَّ الكتابِيَّ إذا انْتَقَلَ إلى المَجُوسِيَّةِ، أُقِرَّ، وقد ذُكرَ في أعْلَى هذه الصَّفْحةِ أنَّه لا يُقَرُّ، ولعلَّه أرادَ بقولِه: إلى دينٍ يُقَرُّ عليه. إذا كان دينَ أهلِ الكتابِ؛ ليكونَ مُوافِقًا لِما ذَكَرَه (¬4) أوَّلًا. وإنِ انْتَقَلَ إلى دينِ أهلِ الكتابِ، وقُلْنا: لا يُقَرُّ. ففيه رِوايتانِ؛ إحداهما، لا يُقْبَلُ منه (5) إلَّا الإِسلامُ. والأُخْرى، لا يُقْبَلُ منه (5) إلَّا الإِسلامُ أو الدِّينُ (¬5) الذي كان عليه. فصل: وإن قُلْنا: لا يُقَرُّ. ففي صِفَةِ إجْبارِه رِوايتَان؛ إحْداهما، أنَّه يُقْتَلُ إن لم يَرْجِعْ، رَجُلًا كان أو امرأةً؛ لعُمُومِ الحديثِ، ولأنَّه ذِمِّيٌّ ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة التوبة 29. (¬4) في م: «ذكرناه». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نقَض العَهْدَ، فأشْبَهَ ما لو نَقَضَه بتَرْكِ أداءِ الجزْيَةِ، ويُسْتَتابُ في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّه يُسْتَرْجَعُ عن دينٍ باطلٍ، أَشْبَهَ المرْتَدَّ. والثاني، لا يُسْتَتابُ؛ لأنَّه كافرٌ أصليٌّ أُبِيحَ قَتْلُه، فأشْبَهَ الحربِيَّ. فعلى هذا، إن بادَر فأسْلَمَ، أو رجَع إلى ما يُقَرُّ عليه، عُصِم دَمُه، وإلَّا قُتِلَ. والرِّوايةُ الثانيةُ، قال أحمدُ: إذا دَخَلَ اليهودِيُّ في النَّصْرانِيَّةِ، ردَدْتُه إلى اليَهودِيَّةِ، ولم أدَعْه فيما انْتَقَلَ إليه. فقِيلَ له: أَتقْتُلُه؟ قال: لا، ولكنْ يُضْرَبُ ويُحْبَسُ، قال: وإذا كان نصرانيًّا أو يهوديًّا؟ قال: وإن كان يهودِيًّا أو نصرانِيًّا فدَخَل في المجوسِيَّةِ، كان أغْلَظَ؛ لأنَّه (¬1) لا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُه، ولا تُنْكَحُ له امرأةٌ، ولا يُتْركُ (¬2) حتى يُرَدَّ إليها. فقِيلَ له: تَقْتُلُه إذا لم يَرْجِعْ؟ قال: إنَّه لأهْلُ ذلكَ. وهذا نَصٌّ في أنَّ الكتابِيَّ المُنْتَقِلَ إلى دينٍ آخَرَ مِن دينِ أهلِ الكتابِ لا يُقْتَلُ، بل يُكْرَهُ بالضَّرْبِ والحَبْسِ. فصل: فإن تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِميَّةً، فانْتَقَلَتْ إلى غيرِ دينِ أهلِ الكتابِ، فهي كالمُرْتَدَّةِ؛ لأنَّ غيرَ أهلِ الكتابِ لا يَحِلُّ نِكاحُ نِسائِهم، فإن كان قَبْلَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ نِكاحُها [في الحالِ] (¬3)، ولا مَهْرَ لها، وإن كان ¬

(¬1) في الأصل: «لأن». (¬2) في م: «نتركه». (¬3) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَإنْ أَسْلَمَ كَافِرٌ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارَقَ سَائِرَهُنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعْدَه، فهل يَقِفُ على انْقِضاءِ العِدَّةِ أو يَنْفَسِخُ في الحالِ؟ على رِوايتَين. وكذلك إذا انْتَقَلَتْ إلى دينٍ [لا تُقَرُّ عليه، لأنَّها انْتَقَلَتْ إلى دينٍ] (¬1) باطلٍ، و (¬2) إلى دينٍ كانتْ تُقِرُّ بِبُطْلَانِه، فأشْبَهَتِ المُسْلِمَةَ إذا تَهَوَّدَتْ أو تَنَصَّرَتْ. واللهُ أعلمُ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وإنْ أَسْلَمَ كافِرٌ وتحتَه أَكْثَرُ مِن أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، اخْتارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وفارَقَ سَائِرَهُنَّ) وجملةُ ذلك، أنَّ الكافرَ إذا أسْلَمَ ومعه أكثرُ مِن أَرْبَعِ نِسْوةٍ، فأَسْلَمْنَ في عِدَّتِهِنَّ، أو كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، لم يكنْ له إمْساكُهُنَّ كُلِّهِنَّ، بغيرِ خلافٍ نَعْلَمُه، ولا يَمْلِكُ إمْساكَ أكثرَ مِن أربعٍ، فإذا أحَبَّ ذلك، اخْتارَ أرْبَعًا مِنهنَّ، وفارَقَ سائِرَهُنَّ، سواءٌ تَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدٍ واحدٍ أو عُقُودٍ، وسواءٌ اخْتَارَ الأوائِلَ أو الأواخِرَ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الحسنُ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والأوْزَاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: إنْ كان تَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدٍ، انْفَسَخَ نِكاحُ جمِيعِهِنَّ، وإن كان في عُقُودٍ، فنِكاحُ الأوائِلِ صحيحٌ، ونِكاحُ ما زادَ على أرْبَعٍ باطلٌ؛ لأنَّ العَقْدَ إذا تناوَلَ أكثرَ مِن أرْبَعٍ، فتَحْرِيمُه مِن طَريقِ الجَمْعِ، فلا يكونُ مُخَيَّرًا فيه بعدَ الإِسلامِ، كما لو تَزَوَّجَتِ المرأةُ زَوْجَينِ في حالِ الكُفْرِ، ثم أَسْلَمُوا. ولَنا، ما رَوَى قَيسُ بنُ الحارثِ، قال: أسْلَمْتُ وتَحْتِي ثَمانِ نِسْوةٍ، فأتَيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتُ له ذلك، فقال: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أرْبَعًا». روَاه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬1). ورَوَى محمدُ بنُ سُوَيدٍ (¬2) الثَّقَفِيُّ، أنَّ غَيلانَ بنَ سَلَمَةَ أسْلَمَ وتحتَه عَشْرُ نِسْوةٍ، فأسْلَمْنَ معه، فأمَرَه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتَخَيَّرَ منهنَّ أرْبَعًا (¬3). روَاه التِّرْمِذِيُّ. وروَاه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 519. وابن ماجه، في: باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 628. والحديث لم نجده في المسند، ولم يعزه إليه في: تلخيص الحبير 3/ 169، وحسنه في الإرواء 6/ 295، 296، ولم يعزه إلى الإمام أحمد. (¬2) في م: «يزيد». (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 328.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ في «مُوَطَّئِه»، عن الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وروَاه الشافعيُّ في «مُسْنَدِه»، عن ابنِ عُلَيَّةَ، عن مَعْمرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سالم، عن أبيه، إلَّا أنَّه غيرُ مَحْفُوظٍ، غَلِطَ فيه مَعْمَرٌ، وخالف فيه أصحابَ الزُّهْرِيِّ، كذلك قال الإِمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وغيرُهما. ولأنَّ كُلَّ عددٍ جازَ له ابْتِداءُ العَقْدِ عليه، جاز له إمْساكُه بنِكاحٍ مُطْلَقٍ في حالِ الشِّرْكِ، كما لو تَزَوَّجَهُنَّ بغيرِ شُهُودٍ. وأمَّا إذا تَزَوَّجَتْ زَوْجَين، فنِكاحُ الثاني باطِلٌ؛ لأنَّها ملَّكَتْهُ مِلْكَ غيرِها. وإن جَمَعَتْ بينَهما، لم يَصِحَّ؛ لأنَّها لم تُمَلِّكْه جميعَ بُضعِها، ولأنَّ ذلك ليس بشائِعٍ عندَ أحدٍ مِن أهلِ الأدْيانِ، ولأنَّ المرأةَ ليس لها اخْتِيارُ النِّكاحِ وفَسْخُه، بخِلافِ الرَّجُلِ.

فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ، أُجْبِرَ عَلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجِبُ عليه أن يختارَ أربعًا ويُفارِقَ سائِرَهُنَّ، أو يُفارِقَ الجميعَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ قَيسًا وغَيلانَ بالاختيارِ، وأمْرُه يقْتَضِي الوُجُوبَ، ولأنَّ المُسْلِمَ لا يجُوزُ إقْرارُه على أكثرَ مِن أرْبعٍ، فإن أبَى، أُجْبِرَ (¬1) بالحَبْسِ والتَّعْزِيرِ إلى أن يَخْتارَ؛ لأنَّ هذا حَقٌّ عليه، يُمْكِنُه إيفاؤُه، وهو مُمْتَنِعٌ منه، فأُجْبِرَ عليه، كإيفاءِ الدَّينِ. وليس للحاكمِ أن يخْتارَ عنه، كما يُطَلِّقُ على المُولِي (¬2) إذا امْتَنَعَ مِن الطَّلاقِ؛ لأنَّ الحقَّ ههُنا لغيرِ مُعَيَّنٍ، وإنَّما تَتَعَيَّنُ الزَّوْجاتُ (¬3) باخْتِيارِه وشَهْوَتِه، وذلك لا ¬

(¬1) في الأصل: «جبر». (¬2) في الأصل: «الولى». (¬3) في الأصل: «للزوجات».

3228 - مسألة: (وعليه نفقتهن إلى أن يختار)

وَعَلَيهِ نَفَقَتُهُنَّ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْرِفُه الحاكمُ فيَنُوب عنه، [بخلافِ المُولِي، فإنَّ الحَقَّ المُعَيَّنَ يُمْكِنُ الحاكمَ إيفاؤُه، والنِّيابةُ فيه عن المُسْتَحِقِّ] (¬1) فيه. فإن جُنَّ خُلِّيَ حتى يعودَ عَقْلُه، ثم يُجْبَرُ على الاخْتِيارِ. 3228 - مسألة: (وعليه نَفَقَتُهُنَّ إلى أن يَخْتارَ) لأنَّهُنَّ مَحْبُوساتٌ عليه، ولأنَّهُنَّ في حُكْمِ الزَّوْجاتِ، أيَّتُهُنَّ اختارَ جازَ. فصل: ولو زَوَّجَ الكافرُ ابْنَه الصَّغيرَ أكثرَ مِن أرْبعٍ، ثم أسْلَمُوا جميعًا، لم يَكُنْ له الاخْتِيارُ قَبْلَ بُلُوغِه، فإنَّه لا حُكْمَ لقَوْلِه، وليس لأبِيه الاخْتِيارُ؛ لأنَّ ذلك حَقٌّ يتَعَلَّقُ بالشَّهْوَةِ، فلا يَقُومُ غيرُه مَقَامَه فيه، فإذا بَلَغَ الصَّبِيُّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان له أن يَخْتارَ حِينَئِذٍ، وعليه النَّفَقَةُ إلى أن يَخْتارَ، فإن ماتَ الزَّوْجُ، لم يَقُمْ وارِثُه مَقَامَه؛ لِما ذكرْنا في الحاكِمِ. فصل: وصِفَةُ الاخْتِيارِ أن يقولَ: اخْتَرْتُ [نِكاحَ هؤلاءِ. أو: اخْتَرْتُ] (¬1) هؤلاءِ، أو: أمْسَكْتُهُنَّ. أو: اخْترتُ حَبْسَهُنَّ -أو- إمْساكَهُنَّ -أو- نِكاحَهُنَّ -أو: أمْسَكْتُ (¬2) نِكاحَهُنَّ. أو: أثْبَتُّ نِكاحَهُنَّ. وإن قال لِمَا زاد على الأرْبَعِ: فَسَخْتُ نِكاحَهُنَّ. كان اخْتِيارًا للأرْبَعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أمسكن».

3229 - مسألة: (وإن طلق إحداهن، كان اختيارا لها)

فَإِنْ طَلَّقَ إِحْدَاهُنَّ، أَوْ وَطِئَهَا، كَانَ اخْتِيَارًا لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3229 - مسألة: (وإن طَلَّقَ إحْداهُنَّ، كان اختيارًا لها) لأنَّ الطَّلاقَ لا يكونُ إلَّا في زَوْجَةٍ. وإن قال: فارَقْتُ هؤلاءِ. أو: اخْتَرْتُ فِرَاقَ هؤلاءِ. فإن لم يَنْو به الطَّلاقَ كان اختيارًا لغيرِهِنَّ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لغَيلانَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». وهذا يقْتَضِي أن يكونَ لَفْظُ الفِراقِ صَرِيحًا فيه (¬1)، وكذا في حديثِ فَيرُوزَ الدَّيلَمِيِّ (¬2) قال: فعَمَدْتُ إلى أقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً فَفَارَقْتُها. وهذا الموضعُ أخَصُّ بهذه اللفْظَةِ، فيجبُ أن يتخصَّصَ فيه بالفَسْخِ. فإن نوَى به الطَّلاقَ، كان اختيارًا لهُنَّ دُونَ غيرِهِنَّ. وذكَر القاضي فيه عِنْدَ الإِطْلَاقِ (¬3) وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، أن يكونَ اخْتِيارًا للمفارَقاتِ؛ لأنَّ لَفْظَ الفِرَاقِ صريحٌ في الطَّلاقِ. والأوَّلُ أوْلَى. 3230 - مسألة (وَإن وَطِئَ) إحْداهُنَّ، كان اخْتِيارًا لها فِي قِياسِ المَذْهَبِ؛ لأنَّه لا يجوزُ إلَّا في مِلْكٍ، فيدُلُّ على الاخْتِيارِ، كوَطْءِ الجاريةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب من أسلم وعنده أكثر من أربع أو أختان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 519. والترمذي، في: باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذي 5/ 63. وابن ماجه، في: باب الرجل يسلم وعنده أختان، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 627. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 232. والبيهقي، في: باب من يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 184، 185. (¬3) في م: «الطلاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعةِ بشَرْطِ الخِيارِ.

3231 - مسألة: (وإن طلق الجميع، أقرع بينهن، فأخرج أربع منهن بالقرعة)

وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ ثَلَاثًا، أُقْرِعَ بَينَهُنَّ، فَأُخْرِجَ بِالْقُرْعَةِ أرْبَعٌ مِنْهُنَّ، وَلَهُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3231 - مسألة: (وإن طَلَّقَ الجميعَ، أُقْرِعَ بينَهنَّ، فأُخْرِجَ أرْبَعٌ مِنْهُنَّ بالقُرْعَةِ) فكُنَّ المُخْتاراتِ، ووَقَعَ طلاقُه بِهِنَّ، وانْفَسَخ نِكاحُ البَوَاقِي (وله نِكاحُ البَواقي) فإن كان الطَّلاقُ ثَلاثًا، فمتى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، فله أن يَنْكِحَ مِن الباقياتِ؛ لأنَّهُنَّ لم يَطْلُقْنَ منه، ولا تَحِلُّ له المُطَلَّقَاتُ إلَّا بعدَ زَوْجٍ وإصابةٍ. ولو أسْلَمَ ثم طَلّقَ الجميعَ قبلَ إسْلامِهِنَّ، ثم أسْلَمْنَ في العِدّةِ، أُمِرَ أن يَخْتارَ أرْبَعًا مِنْهُنَّ، فإذا اخْتارَهُنَّ، تَبَيَّنَّا أنّ طَلاقَه وَقَع بِهِنَّ؛ لأنَّهُنَّ زَوْجاتٌ، ويعْتَدِدْنَ مِن حِينِ طَلاقِه، وبانَ

3232 - مسألة: (وإن ظاهر أو آلى من إحداهن، فهل يكون اختيارا لها؟ على وجهين)

وَإِنْ ظَاهَرَ أَوْ آلى مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارًا لَهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَواقِي باخْتِيارِه لغيرِهِنَّ، ولا يَقَعُ بِهِنَّ طَلاقُه، وله نِكاحُ أرْبَعٍ مِنْهُنَّ إذا انْقَضَتْ عِدَّةُ المُطَلَّقاتِ؛ لأنَّ هؤلاءِ غيرُ مُطَلَّقاتٍ، والفَرْق بينَها (¬1) وبينَ التي قَبْلَها، أنَّ طَلاقَهُنَّ قبلَ إسْلامِهِنَّ في زَمنٍ ليس له الاختيارُ فيه، فإذا أسْلَمْنَ تَجَدَّدَ له الاختيارُ حِينَئِذٍ، وفي التي قَبْلَها طَلَّقَهُنَّ وله الاخْتِيارُ، والطَّلاقُ يَصْلُحُ اختيارًا، وقد أوْقَعَهُ في الجميعِ، وليس بَعْضُهُنَّ أوْلَى مِن بعضٍ، فصِرْنَا (¬2) إلى القُرْعَةِ؛ لتَساوي الحُقُوقِ. 3232 - مسألة: (وإن ظاهَر أو آلى مِن إحداهُنَّ، فهل يكونُ اختيارًا لها؟ على وَجْهَين) أحدُهما، لا يكونُ اختيارًا؛ لأنَّه يَصِحُّ في غيرِ زَوْجَةٍ. والثاني، يكونُ اختيارًا؛ لأنَّ حُكْمَه لا يَثبُتُ في غيرِ زَوْجَةٍ. وإن قَذَفَها لم يكنِ اخْتِيارًا لها؛ لأنَّه يَقَعُ في غيرِ زَوْجَةٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «بينهما». (¬2) في م: «فصرن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اخْتارَ مِنهُنَّ أرْبَعًا وفارَقَ البَواقِيَ، فعِدَّتُهُنَّ مِن حِينَ اخْتارَ؛ لأنَّهُنَّ بِنَّ (¬1) منه بالاخْتِيارِ. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ عِدَّتُهُنَّ مِن حينَ أسْلَمَ؛ لأنَّهُنَّ يَبِنَّ بإسْلامِه، وإنَّما يَبِينُ ذلك باخْتِيارِه، فيَثْبُتُ حُكْمُه مِن حينِ الإِسلامِ، كما إذا أسْلَمَ أحدُ الزَّوجَين فلم يُسْلِمِ الآخَرُ حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها (¬2). وفُرْقَتُهُنَّ فَسْخٌ؛ لأنَّها تَثْبُتُ بإسْلامِه مِن غيرِ لَفْظٍ فِيهِنَّ، وعِدَّتُهُنَّ كعِدَّةِ المُطلَّقاتِ؛ لأنَّ (¬3) عِدَّةَ مَنِ انْفَسَخَ نِكاحُها كذلك (¬4). وإن ماتَتْ إحْدَى المُخْتاراتِ، أو (¬5) بانتْ منه وانْقَضَتْ عِدَّتُها، فله أن يَنْكِحَ واحدةً مِن المُفارَقاتِ، وتكونُ عِنْدَه على طَلاقِ ثَلاثٍ؛ لأنَّه لم يُطَلِّقْها قَبْلَ ذلك. وإنِ اخْتارَ أقَلَّ مِن أرْبَعٍ، أو اختارَ تَرْكَ الجميعَ، أُمِرَ بِطَلاقِ أرْبَعٍ أو تَمامَ أرْبَعٍ (¬6)؛ لأنَّ الأرْبَعَ زَوْجاتٍ، لا يَبِنَّ منه إلَّا بِطَلاقٍ، أو ما يقومُ مَقامَه، فإذا طَلَّقَ أرْبَعًا مِنْهُنَّ، ¬

(¬1) في الأصل: «بين». (¬2) في م: «عدتهن». (¬3) في م: «لأنها». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «و». (¬6) في م: «الأربع».

3233 - مسألة: (وإن مات فعلى الجميع عدة الوفاة)

وَإِنْ مَاتَ فَعَلَى الْجَمِيعِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَهُنَّ أَطْوَلُ الْأَمْرَينَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَع طَلاقُه بهِنَّ (¬1)، وانْفَسَخَ نِكاحُ الباقياتِ؛ لاخْتِيارِه لَهُنَّ، وتكونُ عِدَّةُ المُطَلَّقاتِ مِن حينَ طَلَّق، وعِدَّةُ الباقِياتِ على الوَجْهَين. 3233 - مسألة: (وإن ماتَ فَعَلَى الجميعِ عِدَّةُ الوَفاةِ) هكذا ذكَرَه في الكتابِ المشْروحِ. والأوْلَى أنَّ، مَن كانت مِنهُنَّ حامِلًا، فعِدَّتُها بوَضْعِه؛ لأنَّ ذلك تنْقَضِي به العِدَّةُ في كُلِّ حالٍ، ومَن كانت آيِسَةً أو صَغِيرَةً، فعِدَّتُها عِدَّةُ الوَفاةِ؛ لأنَّها أطْوَلُ العِدَّتَين في حَقِّها، ومَن كانت مِن ذَواتِ القُرُوءِ، اعْتَدَّتْ أطْوَلَ الأجَلَين؛ مِن ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ أو (¬2) أرْبَعَةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْهُرٍ وعَشْرٍ، لتَقْضِيَ (¬1) العِدَّةَ بِيَقِينٍ؛ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ منهُنَّ يَحْتَمِلُ أن تكون مُخْتارَةً أو مُفارَقَةً، وعِدَّةُ المختارَةِ عِدَّةُ الوَفاةِ، وعِدَّةُ المُفارَقَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فأوْجَبْنا (¬2) أطْوَلَهُما (¬3)، لتَقْضِيَ (¬4) العِدَّةَ بيَقينٍ، كما قُلْنا في مَن ¬

(¬1) في م: «تنقضي». (¬2) في م: «فأحببنا». (¬3) في الأصل: «أطولها». (¬4) في م: «لتنقضي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَسِيَ صَلَاةً لا يَعْلَمُ عَينَها: عليه خَمْسُ صَلَواتٍ. هذا الذي ذَكَرَه شيخُنا في كتابِ «المُغْنِي» و «الكافِي» (¬1). وهو مذهبُ الشافعيِّ. وهو الصَّحيحُ. والقولُ الأوَّلُ لا يَصِحُّ. ¬

(¬1) انظر المغني 10/ 16. الكافي 3/ 76.

3234 - مسألة: (والميراث لأربع منهن بالقرعة)

وَالْمِيرَاثُ لِأَرْبَعٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3234 - مسألة: (والمِيراثُ لأرْبَعٍ منهُنَّ بالقُرْعَةِ) في قِياسِ المَذْهَبِ. وعندَ الشافعيِّ يُوقَفُ حتَّى يصْطلِحْنَ. وسنذكُرُ هذا في غيرِ هذا الموضِعِ، إن شاء اللهُ تعالى. وإنِ اخْتَرْنَ الصُّلْحَ، جازَ كَيفَما اصْطَلَحْنَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهُنَّ. فصل: وإذا أسْلَمَ قَبْلَهُنَّ، وقُلْنا: تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ باخْتِلافِ الدِّينِ. فلا كَلامَ. وإن قُلْنا: تقِفُ على انْقِضَاءِ العِدَّةِ. فلم يُسْلِمْنَ حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، تَبَيَّنَّا أنَّهُنَّ بِنَّ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينانِ. فإن كان قد طَلَّقَهنَّ قَبْلَ انْقِضاءِ عِدَّتِهِنَّ، تَبَيَّنَّا أنَّ طَلاقَه لم يَقَعْ بِهِنَّ، وله نِكاحُ أرْبَعٍ منهُنَّ إذا أسْلَمْنَ. وإن كان وَطِئَهُنَّ، تَبَيَّنَّا أنَّه وَطِئَ غيرَ نِسائِه، وإن آلى مِنهُنَّ، أو ظاهَرَ، أو قَذَفَ، تَبَيَّنَّا أنَّ ذلك كان (¬1) في غيرِ زَوْجَةٍ، وحُكْمُه حُكْمُ ما لو خاطَبَ بذلك أجْنَبِيَّةً، فإن أسْلَمَ بعْضُهُنَّ في العِدَّةِ. تَبَيَّنَّا أنَّها زَوْجَةٌ، فوَقَع طَلاقُه بها، وكان وَطْؤُه لها وَطْئًا لِمطَلَّقَتِه. وإن كانتِ المُطَلَّقَةُ غيرَها، فَوَطْؤُه لها وَطْءٌ لامرأتِه. وكذلك إن كان وَطْؤُه لها (1) قبلَ طَلاقِها. وإن طَلَّق الجميعَ، فأسْلَم أرْبَعٌ مِنْهُنَّ أو أَقَلُّ في عِدَّتِهِنَّ، ولم يُسْلِمِ البَوَاقِي، تَعَيَّنَتَ الزَّوْجِيَّةُ في المُسْلِماتِ، وَوَقَع الطَّلاقُ بِهِنَّ، فإذا أسْلَمَ البَوَاقِي، فله أن يَتَزَوَّجَ مِنهُنَّ؛ لأنَّه لم يَقَعْ طَلاقُه بِهِنَّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو أسْلَمَ وتَحْتَه ثَمانِ نِسوةٍ، فأسْلَمَا أرْبَعٌ مِنهُنَّ، فله اخْتِيارُهُنَّ، وله الوُقوفُ إلى أن يُسْلِمَ البَوَاقِي. فإن مات اللَّاتي أسْلَمْنَ، ثم أسْلَمَ الباقِياتُ، فله اخْتِيارُ المَيِّتاتِ، وله اخْتِيارُ الباقِياتِ، وله اخْتِيارُ بعضِ هؤلاءِ وبعضِ هؤلاءِ؛ لأنَّ الاخْتِيارَ ليس بعَقْدٍ، وإنَّما هو تَصْحيحٌ للعَقْدِ الأوَّلِ فيهِنَّ. والاعْتِبارُ في الاخْتيارِ بحالِ ثُبُوتِه، وحال ثُبُوتِه كُنَّ أحْياءً. وإن أسْلَمَتْ واحدَة مِنهنَّ، وقَال: اخْتَرْتُها (¬1). جاز، فإذا اخْتار أرْبَعًا على هذا الوَجْهِ، انْفَسَخَ نِكاحُ البَواقِي. وإن قال للْمُسْلِمَةِ: اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكاحِها. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الْفَسْخَ إنَّما يكونُ فيما زادَ على الأرْبَعِ، والاخْتِيارُ للأرْبَعِ، وهذه مِن جُمْلَةِ الأرْبَعِ، إلَّا أن يُرِيدَ بالفَسْخِ الطلاقَ، فيَقَعُ؛ لأنه كِنايَةٌ، ويكونُ طَلَاقُه لها اخْتيارًا لها. وإن قال: اخْتَرتُ فُلَانةَ. قبْلَ أن تُسْلِمَ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ليسِ بوَقْتٍ للاخْتِيارِ؛ لأنَّها جارِيةٌ إلى بَينُونَةٍ، فلا يَصِحُّ إمْساكُها. وإن فسَخ نِكاحَها، لم يَنْفَسِخْ؛ لأنَّه لمَّا لم يَجُزْ الاخْتِيارُ لم يَجُز الفَسْخُ. وإن نَوَى بالفَسْخِ الطَّلاقَ، أو قال: أنْتِ طالقٌ. فهو مَوْقُوفٌ، فإن أسْلَمَتْ ولم يُسْلِمْ زِيادَةٌ على أرْبَعٍ، أو أَسْلَمَ زِيادَةٌ فاختارَها، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلاقِ بها، وإلَّا فلا. فصل: وإن قال: كُلَّما أسْلَمَتْ واحدةٌ اخْتَرْتُها. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الاخْتِيارَ لا يَصِحُّ تَعْلِيقُه على شَرْطٍ، ولا يَصِحُّ في غيرِ مُعَيَّنٍ. وإن قال: كُلَّما أسْلَمَتْ واحدةٌ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكاحِها. لم يَصِحَّ أيضًا؛ لأنَّ الفَسْخَ ¬

(¬1) في الأصل: «اخترها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَتَعَلَّقُ بالشَّرْطِ، ولا يَمْلِكُه في واحدةٍ حتى يَزيدَ عددُ المُسْلِماتِ على الأرْبَعِ، فإن أرادَ به الطّلاقَ، فهو كما لو قال: كُلَّما أسْلَمَتْ واحدةٌ فهي طالقٌ. وفي ذلك وَجْهان؛ أحدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّ الطَّلاقَ يَصِحُّ تَعْلِيقُه بالشَّرْطِ، ويَتَضَمَّنُ الاخْتِيارَ لها، [وكلَّما أسْلَمَتْ واحدةٌ كان اختِيارًا لها] (¬1)، وتَطْلُقُ بِطَلاقِه. والثاني، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطلاقَ يَتَضَمَّنُ الاخْتِيارَ، والاختيارُ لا يصحُّ تعْليقُه بالشَّرْطِ. فصل: إذا أسْلَمَ، ثم أحْرَمَ بحجٍّ أو عُمْرةٍ، ثم أسْلَمْنَ، فله الاختيارُ؛ لأنَّ الاخْتيارَ اسْتِدامةٌ للنِّكاحِ، وتَعْيِينٌ للمَنْكوحةِ، وليس بابْتِداءٍ له. وقال القاضي: ليس له الاخْتيارُ. وهو ظاهرُ مذهبِ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّه اسْتِدامةُ نِكاحٍ، لا يُشْتَرَطُ له رِضَا المرأةِ، ولا وَلِيٌّ، ولا شُهُودٌ، ولا يَتَجَدَّدُ به مَهْرٌ، فجازَ له في الإِحْرامِ، كالرَّجْعةِ. فصل: فإن أسْلَمْنَ معه، ثم مِتْنَ قبلَ اخْتِيارِه، فله أن يَخْتارَ منهنَّ أرْبَعًا، فيكونُ له مِيراثُهُنَّ، ولا يَرِثُ الباقياتِ؛ لأنَّهُنَّ لَسْنَ بِزَوْجاتٍ له. وإن مات بعضُهُنَّ، فله الاختيارُ مِن [الأحْياءِ، وله الاخْتِيارُ مِنَ المَيِّتاتِ. وكذلك لو أسْلَم بعضُهُنَّ فمِتْنَ، ثم أسْلَم البَواقِي، فله الاخْتِيارُ مِنَ] (¬2) الجميعِ، فإنِ اختار الميِّتاتِ، فله مِيراثُهُنَّ؛ لأنَّهنَّ مِتْنَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

3235 - مسألة: (وإن أسلم وتحته أختان، اختار منهما واحدة)

وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، اخْتَارَ مِنْهُمَا وَاحِدَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهُنَّ نِساؤُه، وإنِ اختارَ غيرَهُنَّ، فلا مِيراثَ له منهنَّ؛ لأنَّهنَّ أجْنَبِيَّاتٌ. وإن لم يُسْلِمِ البَواقِي، لَزِمَ النِّكاحُ في الْمَيِّتاتِ، وله مِيراثُهُنَّ. فإن وَطِئَ الجميعَ قبلَ إسْلامِهِنَّ، ثم أسْلَمْنَ، فاخْتارَ أرْبَعًا مِنهنَّ، فليس لهُنَّ إلَّا المُسَمَّى؛ لأنَّهُنَّ زَوْجاتٌ، ولسائِرِهِنَّ المُسَمَّى بالعَقْدِ الأوَّلِ، ومَهْرُ المِثْلِ للوَطْء الثاني؛ لأنَّهُنَّ أجْنبيَّاتٌ. وإن وَطِئَهُنَّ بعدَ إسْلامِهِنَّ، فالمَوْطوءاتُ أَولًا المُخْتاراتُ، والبَواقِي أجْنَبيَّاتٌ، والحُكمُ في المَهْرِ على ما ذكَرْنا. 3235 - مسألة: (وإن أسْلَمَ وتَحْتَه أُخْتانِ، اختار منهما واحدةً) هذا قولُ الحسنِ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ. وقال أبو حنيفةَ في هذه كقولِه في عَشْرِ نِسْوةٍ. ولَنا، ما روَى الضَّحَّاكُ بنُ فَيرُوزَ، عن أبِيه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أسْلَمْتُ وتَحْتِي أُخْتان. قال: «طَلِّقْ أيَّتَهُما شِئْتَ». روَاه أبو داودَ، وابنُ ماجَه، وغيرُهما (¬1)، ولأنَّ أنْكِحةَ الكُفَّارِ صحيحةٌ، وإنَّما حَرُمَ الجَمْعُ في الإِسلامِ، وقد أزاله، فصَحَّ، كما لو طَلَّق إحداهما قبلَ إسْلامِه، ثم أسْلَمَ والأُخْرَى في حِبالِه. وكذلك الحُكْمُ في المرأةِ وعَمَّتِها أو خالتِها؛ لأنَّ المعنى في الجميعِ واحدٌ. فصل: ولو تزوَّجَ وَثَنِيَّةً، فأسْلَمَتْ قبلَه، ثم تزوَّجَ في شِرْكِه أُخْتَها، ثم أسْلَما في عِدَّةِ الأُولَى، فله أن يخْتارَ منهما؛ لأنَّه أسْلَمَ وتَحْتَه أُخْتان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 51 وليس هذا اللفظ عند الترمذي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْلِمتان (¬1). وإن أسْلَمَ هو قبلَها، لم يَكُنْ له أن يتزوَّجَ أُخْتَها في عِدَّتِها، ولا أَرْبَعًا سِواها. فإن فعل، لم يَصِحَّ النِّكاحُ الثاني. وإذا أسْلَمَتِ الأُولَى في عِدَّتِها، فنِكاحُها لازِمٌ؛ لأنَّها انْفَرَدَتْ به. فصل: وإذا تزوَّجَ أُخْتَين، فدَخَل بهما، ثم أسْلَمَ وأسْلَمَتا معه، فاخْتارَ إحْداهُما، لم يَطَأْها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِها (¬2)؛ لئلَّا يكونَ وَاطِئًا لإِحْدَى الأُخْتَين في عِدَّةِ الأُخْرَى. وكذلك إذا أسْلَمَ وتَحْتَه أكثرُ مِن أربَعٍ، قد دَخَل بِهِنَّ، فأسْلَمْنَ معه، وكُنَّ ثَمانِيًا، فاختارَ أرْبَعًا منهنَّ، وفارَقَ أرْبَعًا، لم يَطَأْ واحدَةً مِن المُخْتاراتِ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ المُفارَقاتِ؛ لئلَّا يكونَ وَاطِئًا لأكثرَ مِن أرْبعٍ. فإن كُنَّ خمْسًا ففارَقَ إحداهُنَّ، فله وَطْءُ ثَلاثٍ مِنَ المُخْتاراتِ، ولا يَطَأُ الرابعةَ حتى تَنْقَضِيَ عدةُ المفارَقَةِ. وإن كُنَّ سِتًّا، ففارَقَ اثْنَتَين، فله وَطْءُ اثْنَتَينِ مِن المختاراتِ. وإن كُنَّ سَبْعًا ففارَقَ ثَلاثًا، فله وَطْءُ واحدَةٍ مِن المختاراتِ، ولا يَطَأُ الباقياتِ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ المُفارَقاتِ، فَكُلَّما انْقَضتْ عِدَّةُ واحدةٍ مِن المُفارَقاتِ، فله وَطْءُ واحدةٍ مِن المختاراتِ. هذا قياسُ المذهبِ. فصل: وإن تزوَّجَ أُخْتَين في حالِ كُفْرِه، فأسْلَمَ وأسْلَمَتا معًا قبلَ الدُّخُولِ، فاختارَ إحداهُما، فلا مَهْرَ للأُخْرَى؛ لأنَّا تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وقَعَتْ بإسْلامِهِم جميعًا، فلا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا، كما لو فَسَخ النِّكاحَ لعَيبٍ في إحداهما، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الأخرى».

3236 - مسألة: (وإن كانتا أما وبنتا)

فَإِنْ كَانَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، فَسَدَ نِكَاحُ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ، فَسَدَ نِكَاحُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه نِكاحٌ لا يُقَرُّ عليه في الإِسْلامِ، فلا يجبُ به مَهْرٌ إذا لم يَدْخُلْ بها، كما لو تزوَّجَ المَجُوسِيُّ أُخْتَه ثم أسْلَما قبلَ الدُّخُولِ. وهكذا (¬1) الحكْمُ فيما زاد على الأرْبَعِ، إذا أسْلَمُوا جميعًا قبلَ الدُّخولِ، فاختارَ أربعًا، وانْفَسَخَ نِكاحُ الْبَواقِي، فلا مَهْرَ لهنَّ؛ لِما (¬2) ذَكَرْنا. والله أعلمُ. 3236 - مسألة: (وإن كَانَتا أُّمًّا وبِنْتًا) ولم يَدْخُلْ بِالْأُمِّ (انْفَسَخَ نِكَاحُها، وإن كان دَخَل بِالأُمِّ، فَسَد نِكاحُهُمَا) أمَّا إذا كان إسْلامُهُم جميعًا قبلَ الدُّخُولِ، فإنَّه يَفْسُدُ نِكاحُ الأمِّ، ويَثْبُتُ نِكاحُ البِنْتِ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ، واخْتيارُ المُزَنِيِّ. وقال في الآخَرِ: يَخْتارُ أيَّتَهُما شاءَ؛ لأنَّ عَقْدَ الشِّرْكِ إنَّما يَثْبُتُ له حكمُ الصِّحَّةِ إذا انْضَمَّ إليه الاخْتِيارُ، فإذا اخْتارَ الأُمَّ فكأنَّه لم يَعْقِدْ على البِنْتِ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (¬3). وهذه أُمُّ زَوْجَتِه، فتَدْخُلُ في عُمُومِ الآيةِ، ولأنَّها أُمُّ زَوْجَتِه، فتَحْرُمُ عليه، كما لو طَلَّقَ ابْنَتَها في حالِ شِرْكِه، ولأنَّه لو تَزَوَّجَ البنتَ وَحْدَها، ثم طَلَّقَها، حَرُمَتْ عليه أُمُّها إذا أسْلَمَ، فإذا لم يُطَلِّقْها ¬

(¬1) في م: «وهذا». (¬2) في م: «فيما». (¬3) سورة النساء 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَمَسَّكَ بنِكاحِها أوْلَى. وقولُهم: إنَّما يَصِحَّ العَقْدُ بانْضِمامِ الاخْتيارِ إليه. غيرُ صحيحٍ؛ فإنَّ أنْكِحَةَ الكُفَّارِ صحيحةٌ، يَثْبُتُ لها أحكامُ الصِّحَّةِ. وكذلك لو انْفَرَدَتْ، كان نِكاحُها صحيحًا لازِمًا مِن غيرِ اخْتيارٍ، ولهذا فُوِّضَ إليه الاخْتيارُ ههُنا. ولا يَصِحُّ أن يختارَ مَن ليسَ نِكاحُها صَحِيحًا، وإنَّما اخْتصَّتِ الأُمُّ بفَسادِ نِكاحِها؛ لأنَّها تَحْرُمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ على ابْنَتِها على التَّأْبِيدِ، فلم يُمْكِنِ اختِيارُها، والبِنْتُ لا تَحْرُمُ قبلَ الدُّخُولِ بِأُمِّها، فَتَعَيَّنَ النِّكاحُ فيها (¬1)، بخِلافِ الأُخْتَينِ. فصل: فإن كان قد (¬2) دخَلَ بالأُمِّ أو بهما، حَرُمَ نِكاحُهما على التَّأْبِيدِ؛ الأمُّ لأنَّها أُمُّ زَوْجَتِه، والبِنْتُ لأنَّها رَبِيبتُه، مدْخُولٌ بأُمِّها. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع على هذا كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ. وهو قولُ الحسنِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وقَتَادَةَ، ومالكٍ، وأهلِ الحجازِ، والثَّوْرِيِّ، وأهلِ العراقِ، والشافعيِّ، ومَن تَبِعَهم. فإن دَخَل بالبِنْتِ وَحْدَها، ثَبَتَ نِكاحُها، وفَسَد نِكاحُ أمها، كما لو لم يَدْخُلْ بهما، فإن لم يُسْلِمْ معه إلا إحْدَاهما، كان الحُكْمُ كما لو أسْلَمَتا معه معًا؛ فإن كانتِ المُسْلِمَةُ هي الأمَّ، فهي مُحَرَّمَةٌ عليه على كلِّ حالٍ، وإن كانتِ البِنْتَ ولم يَكُنْ دَخَلَ بأُمِّها، ثَبَتَ نِكاحُها، وإن كان دَخَل بها، فهي مُحَرَّمَةٌ ¬

(¬1) في م: «في أمها». (¬2) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على التَّأْبِيدِ. [ولو أسْلَم وله جاريتان، إحداهما أُمُّ الأخْرَى، وقد وَطِئَهما جميعًا، حَرُمَتا عليه على التَّأْبِيدِ] (¬1)، وإن كان قد وَطِئَ إحدَاهما، حَرُمَتِ الأُخْرَى على التَّأْبِيدِ، ولم تَحْرُمِ الموْطُوءَةُ، وإن لم يَكُنْ وَطِئَ (¬2) واحدِةً منهما، فله وَطْءُ أَيَّتِهُما شاءَ، فإذا وَطِئَها، حَرُمَتِ الأخْرَى على التَّأبِيدِ. واللهُ أعلمُ. فصل: إذا أسْلَمَ عَبْدٌ، وَتَحْتَه زَوْجَتان قد دَخَلَ بِهما، فأسْلَمَتا في العِدَّةِ، فهما زَوْجَتاهُ. وإن كُنَّ أكثرَ، اختارَ منهُنَّ اثْنَتَين؛ لأنَّ حُكْمَ العَبْدِ فيما زادَ على [الاثْنَتَينِ حُكْمُ الحُرِّ فيما زاد على] (¬3) الأرْبَعِ، فإذا أسْلَمَ وتحتَه زَوْجتان، فأسْلَمَتا معه، أو في عِدَّتِهِما، لَزِمَ نِكاحُه، حُرَّتَين كانَتا أو أمَتَين، أو حُرَّةً وأمَةً؛ لأنَّ له الجمعَ بَينَهما في ابْتِداءِ نِكاحِه، فكذلك في اخْتِيارِه. وإن كُنَّ أكثرَ، اخْتارَ منهنَّ اثْنَتَينِ، بنَاءً على ما مَضَى في الحُرِّ، فلو كان تَحْتَه حُرَّتانِ وأَمَتانِ، فله أن يخْتارَ الحُرَّتَين أو الأمَتَين، أو حُرَّةً و (¬4) أَمةً، وليس للحُرَّةِ إذا أسْلَمَتْ معه الخيارُ في فِراقِه؛ لأنَّها رَضِيَتْ بِنكاحِه وهو عَبْدٌ، ولم يتجَدَّدْ رِقُّه بالإِسْلامِ، ولا تَجَدَّدَتْ حُرِّيَّتُها بذلك، فلم يكُنْ [لها خيارٌ] (¬5)، كما لو تَزَوَّجَتْ مَعِيبًا تَعْلَمُ عَيبَه ثم أسْلَما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أو». (¬5) في م: «له اختيار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكر القاضي وجهًا (¬1)، أنَّ لها الخيارَ؛ لأنَّ الرِّقَّ عَيبٌ تجدَّدَتْ أحكامُه بالإِسلامِ، فكأنَّه عَيبٌ حادِثٌ. والأوَّلُ أَصَحُّ؛ فإنَّ الرِّقَّ لم يَزَلْ عيبًا ونَقْصًا عندَ العُقلاءِ، ولم يَتَجَدَّدْ نَقْصُه بالإِسْلامِ، فهو كسائرِ العُيُوبِ. فصل: ولو أسْلَمَ وتَحْتَه أرْبَعُ حَرَائِرَ، فأُعْتِقَ، ثم أسْلَمْنَ في عِدَّتِهِنَّ، أو أسْلَمْنَ قبلَه، ثم أُعْتِقَ، ثم أَسْلَمَ، ثَبَتَ نِكاحُ الأرْبَعِ؛ لأنَّه ممَّن يجُوزُ له الأرْبَعُ في وَقْتِ اجتمَاعِ إسْلامِهِم؛ لأنَّه حرٌّ. فأمَّا إن أسْلَمُوا كُلُّهم، ثم أُعْتِقَ قبلَ أن يختارَ، لم يَكُنْ له أن يخْتارَ إلَّا اثْنَتَينِ؛ لأنَّه كان عَبْدًا حينَ ثَبَتَ له الاخْتيارُ، وهو حالُ اجتماعِهِم، على الإِسْلامِ، فتَغَيُّرُ حالِه بعدَ ذلك لا يُغَيِّرُ الحُكْمَ، كمن أسْلَمَ وتَحْتَه إماءٌ، فأسْلَمْنَ معه، ثم أيسَرَ. ولو أسْلَمَ معه اثْنَتان، ثم أُعْتِقَ، ثم أسْلَمَ الباقِياتُ (¬2)، لم يَخْتَرْ إلَّا اثْنَتَين؛ لأنَّه ثَبَتَ له الاختيارُ بإسْلامِ الأُولَيَين. فصل: فإن تزَوَّجَ أرْبَعًا مِن الإِماءِ، فأسْلَمْنَ، وأُعْتِقْنَ قبلَ إسْلامِه، فلَهُنَّ فَسْخُ النِّكاحِ؛ لأنَّهُنَّ عَتَقْنَ تَحْتَ عَبْدٍ، وإنَّما مَلَكْنَ الفَسْخَ وإن كُنَّ جارِياتٍ إلى بَينُونَةٍ؛ لأنَّه قد يُسْلمُ [فيَقْطَعُ جَرَيانَهُنَّ إلى البَينُونَةِ، فإذا فَسَخْنَ ولم يُسْلِمِ الزَّوْجُ، بِنَّ باخْتِلافِ الدِّينِ مِن حينَ أسْلَمْنَ] (¬3)، وتَبَيَّنَ أنَّ الفَسْخَ لم يَصِحَّ. وإن أسْلَمَ في العِدَّةِ، بِنَّ بفَسْخِ النِّكاحِ، ¬

(¬1) في الأصل: «وجهان». (¬2) في م: «الباقيتان». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعليهِنَّ عِدَّةُ الحرائِرِ في المَوْضِعَينِ؛ لأنَّهُنَّ ههُنا وَجَبَتْ عليهنَّ العِدَّةُ وهُنَّ حرائرُ، وفي التي قبلَها عَتَقْنَ في أثْناءِ العِدَّةِ التي يُمْكِنُ الزَّوْجَ تلافِي النِّكاحِ فيها، فأشْبَهْنَ الرَّجْعِيَّةَ. فإن أَخَّرْنَ الفَسْخَ حتى أسْلَمَ الزَّوْجُ، فهُنَّ كالرَّجْعِيَّةِ إذا أُعْتِقَتْ وأخَّرَتِ الفَسْخَ، لأنَّ تَرْكَهُنَّ الفَسْخَ اعتمادٌ على جَرَيانِهِنَّ إلى البَينُونَةِ، فلم يتَضَمَّنِ الرِّضَا بالنِّكاحِ. ولو أسْلَمَ قَبْلَهنَّ، ثم أُعْتِقْنَ فاخْتَرْنَ الفَسْخَ، صَحَّ، لأنَّهُنَّ إماءٌ عَتَقْنَ تحْتَ عَبْدٍ. وهذا ظاهرُ مذهبِ الشافعيِّ وقال بعضُهم: لا خِيارَ لهُنَّ؛ لأنَّه لا حاجَةَ بهنَّ إلى الفَسْخِ، لكَوْنِه يَحْصُلُ بإقامَتِهنَّ على الشِّرْكِ، بخِلافِ التي قَبْلَها. وليس بصحيحٍ، فإنَّ السَّبَبَ مُتَحَقِّقٌ، وقد يَبْدُو لهنَّ الإِسْلامُ، وهو واجِبٌ عليهنَّ. فإن قِيلَ: فإذا أسْلَمْنَ اخْتَرْنَ الفَسْخَ. قُلْنا: يَتَضَرَّرْنَ بطولِ العِدَّةِ، فإنَّ ابْتِداءَها مِن حينِ الفَسْخِ، ولذلك ملَكْنَ الفَسْخَ فيما إذا أسْلَمْنَ وعَتَقْنَ قبلَه. فأمَّا إنِ اخْتَرْنَ المُقَامَ، وقُلْنَ: قَدْ رَضِينَا بالزَّوْجِ. فذَكَر القاضي أنَّه يَسْقُطُ خيارُهُنَّ؛ لأنَّها حالةٌ يَصِحُّ فيها اخْتِيارُ الفَسْخِ، فَصَحَّ فيها اخْتِيارُ الإِقامَةِ، كحالِ اجْتِماعِهم على الإِسْلامِ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا يَسْقُطُ خِيارُهُنَّ (¬1)، لأنَّ اختيارَهُنَّ للإقامَةِ ضِدُّ الحالةِ التي هُنَّ عليها، وهي جَرَيَانُهُنَّ إلى البَينُونَةِ، فأشْبَهَ ما لو ارْتَدَّتِ الرَّجْعِيَّةُ، فراجَعَها الزَّوجُ حال رِدَّتِها. وهذا يَبْطُلُ بما إذا قال: إذا جاء رَأْسُ الشَّهْرِ فأنْتِ طَالِقٌ. ثم عَتَقَتْ، فاختارَتْ زَوْجَها. ¬

(¬1) في م: «اختيارهن».

فَصْلٌ: وَإِنْ أسْلَمَ وَتَحْتَهُ إِمَاءٌ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَكَانَ فِي حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ الإِمَاءُ، فَلَهُ الاخْتِيَارُ مِنْهُنَّ، وَإلَّا فَسَدَ نِكَاحُهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رحمه الله: (فإن أسْلَمَ وتحْتَه إماءٌ فأسْلَمْنَ معه، وكان في حالِ اجْتِماعِهِم على الإسْلامِ ممَّن يَحِلُّ له الإماءُ، فله الاخْتِيارُ منهنَّ، وإلَّا فَسَدَ نِكاحُهُنَّ) إذا كان في حالِ اجْتِماعِهِم على الإِسْلامِ عادِمًا للطَّوْلِ خائِفًا للعَنَتِ، فله أن يَخْتارَ منهنَّ واحدةً. فإن كانت لا تُعِفُّه، فله أن يَخْتارَ منهنَّ مَن تُعِفُّه، في إحدَى الرِّوايَتَين. والأُخْرَى، لا يَخْتارُ إلَّا واحدةً. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وتَوْجيهُهُما قد مَضَى ذِكْرُه. وإن عُدِمَ فيه الشَّرْطانِ، انْفَسَخَ النكاحُ في الكُلِّ، ولم يكُنْ له خِيارٌ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو ثورٍ: له أن يَخْتارَ منهنَّ؛ لأنَّه اسْتِدامَةٌ للعَقْدِ لا ابْتِداءٌ له، بدَلِيلِ أنَّه لا يُشْتَرَطُ له (¬1) شُرُوطُ العَقْدِ، أشْبَهَ الرَّجْعَةَ. ولَنا، ¬

(¬1) سقط من: م.

3237 - مسألة: (فإن أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر، فله الاختيار منهن)

وَإِنْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَلَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى أَعْسَرَ، فَلَهُ الاخْتِيَارُ مِنْهُنّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ هذه امرأةٌ لا يَجُوزُ ابْتِداءُ العَقْدِ عليها حال الإِسْلام، فلم يَمْلِكِ اخْتِيارَها، كالمُعْتَدَّةِ مِن غيرِه، وذَواتِ محارمِه. وأمَّا الرَّجعَةُ فهي قَطْعُ جَرَيانِ النِّكاحِ إلى البَينُونَةِ، وهذا إثْباتُ النِّكاحِ في امرأةٍ. فإن كان دَخَل بهنَّ ثم أسْلَمَ، ثم أسْلَمْنَ في عِدَّتِهِنَّ، فالحُكْمُ كذلك. وقال أبو بكرٍ: لا يَجُوزُ له ها هنا اخْتِيارٌ، بل يَبِنَّ بمُجَرَّدِ إسْلامِه؛ لئَلَّا يُفْضِيَ إلى اسْتِدامَةِ نِكاحِ مُسْلِمٍ في أمَةٍ كافِرَةٍ. ولَنا، أنَّ إسْلامَهُنَّ في العِدَّةِ كإسْلامِهِنَّ معه (¬1). وإن لم يُسْلِمْنَ إلَّا بعدَ العِدَّةِ، انْفَسَخَ نِكاحُهُنَّ [وإن] (¬2) كُنَّ كِتابِيَّاتٍ؛ لأنَّه لا يجُوزُ اسْتِدامَةُ النِّكاحِ في أَمَةٍ كتابِيَّةٍ. 3237 - مسألة: (فإن أسْلَمَ وهو مُوسِرٌ، فلم يُسْلِمْنَ حتَّى أَعْسَر، فله الاخْتِيارُ منهُنَّ) لأنَّ شَرائِطَ النِّكاحِ تُعْتَبَرُ في وَقْتِ الاخْتِيارِ. وإن أسْلَم وهو مُعْسِرٌ، فلم يُسْلِمْنَ حتى أيسَرَ، فليس له الاخْتيارُ؛ لذلك. وإن أسْلَمَتْ إحْداهُنَّ وهو مُوسِرٌ، ثم أسْلَم البَواقِي بعدَ إعْسَارِه، لم يَكُنْ له أن يخْتارَ منهُنَّ شيئًا؛ لأنَّ وقْتَ الاخْتِيارِ دَخَل بإسْلامِ ¬

(¬1) بعده في المغني 10/ 28: «ولهذا لو كُنَّ حرائر مجوسيات أو وثنيات، فأسلمن في عدتهنَّ، كان ذلك كإسلامهن معه». (¬2) في م: «إن».

3238 - مسألة: (وإن أسلمت إحداهن بعده، ثم عتقت، ثم أسلم البواقي، فله الاختيار منهن)

وَإِنْ أَسْلَمَتْ إِحْدَاهُنَّ بَعْدَهُ، ثُمَّ عَتَقَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْبَوَاقِي، فَلَهُ الاخْتِيَارُ مِنْهُنَّ، وَإِنْ عَتَقَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الاخْتِيَارُ مِنَ الْبَوَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى، ألَا تَرَى أنَّه لو كان مُعْسِرًا كان له اخْتِيارُها، فإذا كان مُوسِرًا بَطل اختيارُه. وإن أسْلَمتِ الأُولَى وهو مُعْسِرٌ، فلم يُسْلِمِ البَواقِي حتى أيسَرَ، لَزِمَ نكاحُ الأُولَى، ولم يَكُنْ له الاخْتيارُ مِنَ البواقِي؛ لأنَّ الأُولَى اجْتَمَعَتْ معه في حالٍ يجوزُ له (¬1) ابتداءُ نِكاحِها، بخِلافِ البواقِي. ولو أسْلَم وأسْلَمْنَ معه وهو مُعْسِرٌ، فلم يَخْتَرْ حتى أيسَرَ، كان له أن يختارَ؛ لأنَّ حال ثُبُوتِ الاخْتِيارِ كان له ذلك، فتَغَيُّرُ حالِهِ لا يُسْقِطُ ما ثَبَتَ، كما لو تزوَّجَ أو اختارَ ثم أيسَرَ، لم يَحْرُمْ (¬2) عليه اسْتِدامةُ النِّكاحِ. 3238 - مسألة: (وإن أسْلَمَتْ إحْداهُنَّ بعدَه، ثم عَتَقَتْ، ثم أسْلَمَ البَواقِي، فله الاخْتِيارُ منهنَّ) لأنَّ العِبْرَةَ بحالةِ الاخْتِيارِ، وهي حالةُ اجْتِماعِهِم على الإِسْلامِ، وحالةَ اجْتِماعِهما على الإِسْلام كانت أمَةً (وإن عَتَقَتْ) إحْداهُنَّ (ثم أسْلَمَتْ، ثم أسْلَمَ البَوَاقِي، لم يَكُنْ له أن يَخْتارَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الإِماءِ) لأنَّه مالِكٌ (¬1) لعِصْمَةِ حُرَّةٍ حينَ اجْتِماعِهما على الإِسْلامِ. فصل: فإن أسْلَم وأسْلَمَتْ معه واحدةٌ منهنَّ، وهو ممَّن يجوزُ له نِكاحُ الإِماءِ، فله أن يَخْتارَ مَن أسْلَمَتْ معه؛ لأنَّ له أن يختارَها لو أسْلَمْنَ كُلُّهُنِّ، فكذلك إذا أسْلَمَتْ وحْدَها. وإن أحَبَّ انْتِظارَ البَواقِي، جازَ؛ لأنَّ له غرضًا صحيحًا، وهو أن يَكُونَ عندَه مَن هي آثرُ (¬2) عندَه مِن هذه. فإنِ انْتَظَرَهُنَّ فلم يُسْلِمْنَ حتى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، تَبَيَّنَ أنَّ نِكاحَ هذه كان لازِمًا، وبان البَواقِي منذُ اخْتَلَف الدِّينانِ. وإن أسْلَمْنَ في العدَّةِ، اختار منهنَّ واحدَةً، وانْفَسَخ نِكاحُ الباقِياتِ حينَ (¬3) الاخْتِيارِ، وعِدَدُهُنَّ مِن حينِ الاختيارِ. وإن أسْلَم بعْضُهُنَّ دون بعضٍ، بان (¬4) اللَّاتي لم يُسْلِمْنَ منذُ اخْتَلَف الدِّينان، والبَواقِي مِن حينِ اخْتِيارِه. وإنِ اختار التي أسْلَمَتْ معه حينَ أسْلَمَت، انْقَطَعتْ عِصْمَةُ البَواقِي، وثَبَتَ نِكاحُها. فإن أسْلَمَ البَواقِي في العِدَّةِ، تَبَيَّنَ أنَّهُنَّ بِنَّ منه باخْتِيارِه، وعِدَّتُهُنَّ مِن حِينِئِذٍ. وإن ¬

(¬1) في م: «ملك». (¬2) في م: «أبر». (¬3) في م: «من حين». (¬4) في م: «بن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُسْلِمْنَ، بِنَّ (¬1) باختِلافِ الدِّينِ، وعِدَّتُهُنَّ منه. وإن طَلَّقَ التي أسْلَمَتْ معه، طَلُقَتْ، وكان اخْتِيارًا لها. وحُكْمُ ذلك حُكْمُ ما لو اختارَها صريحًا؛ لأنَّ إيقاعَ طَلاقِه عليها يتَضَمَّنُ اخْتِيارَها. فأمَّا إنِ اختارَ فَسْخَ نِكاحِها، لم يَكُنْ له؛ لأنَّ الباقِياتِ لم يُسْلِمْنَ معه، فما زَادَ العَدَدُ على ما لَه إمْساكُه في هذه الحالِ، ولا يَنْفَسِخُ نِكاحُها، ثم ننظُرُ؛ فإن لم يُسْلِم البَواقِي، لَزِمَه نِكَاحُها، وإن أسْلَمْنَ فاخْتارَ منهُنَّ واحدةً، انْفَسَخَ نِكاحُ [البَواقِي، و] (¬2) الأُولَى مَعهنَّ. وإنِ اختارَ الأُولَى التي فَسَخَ نِكاحَها، صَحَّ اختيارُه لها؛ لأنَّ فَسْخَه لنِكاحِها ما صَحَّ. وفيه وَجْهٌ آخرُ ذكَرَه القاضي، أنَّه لا يَصِحُّ اخْتيارُه لها؛ لأنَّ فَسْخَه إنَّما لم يَصِحَّ مع إقامَةِ البَواقِي على الكُفْرِ حتى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ؛ لأنَّا نَتَبَيَّنُ (¬3) أنَّ نِكاحَها كان لازمًا، فإذا أسْلَمْنَ لَحِقَ إسْلامُهُنَّ بتلك الحالِ، فصار كأنَّهُنَّ أسْلَمْنَ في ذلك الوَقْتِ، فإذا فَسَخَ نِكاحَ إحْدَاهن، صَحَّ الفَسْخُ، ولم يَكُنْ له أن يَخْتارَها. وهذا يَبْطُلُ بما لو فسَخَ نِكاحَ إحْداهنَّ قبلَ إسْلامِها، فإنَّه لا يَصِحُّ، ولا يُجْعَلُ إسْلامُهُنَّ الموْجُودُ في الثاني (¬4) كالموجودِ سابقًا، كذلك ها هنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «تبينا». (¬4) في الأصل: «الباقي».

3239 - مسألة: (وإن أسلم وتحته حرة وإماء، فأسلمت الحرة في عدتها قبلهن أو بعدهن، انفسخ نكاحهن)

وَإِنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ وَإِمَاءٌ، فَأَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ فِي عِدَّتِهَا قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3239 - مسألة: (وإن أسْلَم وتحتَه حُرَّةٌ وإماءٌ، فأسْلَمتِ الحُرَّةُ في عِدَّتِها قبلَهُنَّ أو بعدَهُنَّ، انْفَسَخَ نِكاحُهنَّ) إذا أسْلَمَ وتَحْتَه حُرَّةٌ وإماءٌ، ففيه ثَلاثُ مسائِلَ؛ إحداهُنَّ، أسْلَم وأسْلَمْنَ معه كُلُّهُنَّ، فإنَّه يَلْزَمُ نِكاحُ الحُرَّةِ، ويَنْفَسِخُ نِكاحُ الإِماءِ؛ لأنَّه قادرٌ وعلى الحُرَّةِ، فلا يَختارُ أمَةً. وقال أبو ثورٍ: له أن يختارَ. وقد مَضَى الكلامُ معه. الثانيةُ، أسلَمَتِ الحُرَّةُ معه دونَ الإِماءِ، فثَبَت نِكاحُها، وانْقَطعتْ عِصْمَةُ الإِماءِ، فإن لم يُسْلِمْنَ حتى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ (¬1)، بِنَّ باخْتِلافِ الدِّينِ، وابْتِداءُ عِدَدِهِنَّ مِن حينَ أسْلَم. وإن أسْلَمْنَ في عِدَدِهِنَّ، بِنَّ مِن حينِ إسْلامِ الحُرَّةِ، وعِدَدُهُنَّ من حينِ إسْلامِها. فإن ماتَتِ الحُرَّةُ بعدَ إسْلامِها، لم يَتَغَيَّرِ الحُكْمُ بمَوْتِها؛ لأنَّ مَوْتَها بعدَ ثُبُوتِ نِكاحِها وانْفِساخِ نِكاحِ الإِماءِ لا يُؤَثِّرُ في إباحَتِهِنَّ. الثالثةُ، أسْلَمَ الإِماءُ دونَ الحُرَّةِ وهو مُعْسِرٌ، فلا يخْلُو؛ إمَّا أن تَنْقَضِيَ عِدَّتُها قبلَ إسلامِها، فتَبِينُ باخْتِلافِ الدِّينِ، وله أن يخْتارَ مِنَ الإِماءِ؛ لأنَّه لم يَقْدِرْ على الحُرَّةِ، أو تُسْلِمَ في عِدَّتِها، فيَثْبُتُ نِكاحُها، ويَبْطُلُ نِكاحُ الإِماءِ، كما لو أسْلَمْنَ دَفْعةً واحدةً. و (¬2) ليس له أن يخْتارَ ¬

(¬1) في م: «عددهن». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنَ الإِماءِ قبلَ إسْلامِها وانقِضاءِ عِدَّتِها؛ لأنَّنا لا نعلمُ أنَّها لا تُسْلِمُ، فإن طَلَّق الحُرَّةَ ثلاثًا قبلَ إسلامِها، ثم لم تُسْلِمْ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّا تَبَيَّنَّا أنَّ النِّكاحَ انْفَسَخ باخْتِلافِ الدِّينِ، وله الاختيارُ مِن الإِماءِ، وإن أسْلَمَتْ في عِدَّتِها، بانَ أَنَّ نِكاحَها كان ثابِتًا، ووَقَعَ فيه الطلاقُ، وبِنَّ الإِماءُ بثُبُوتِ نِكاحِها قبلَ الطَّلاقِ. فصل: فإن أسْلَمَ وتحتَه إماءٌ وحُرَّةٌ، فأسْلَمْنَ، ثم عَتَقْنَ قبلَ إسْلامِها، لم يكُنْ له أن يخْتارَ منهنَّ، لأنَّ نِكاحَ الأمةِ لا يجوزُ لقادِرٍ على حُرَّةٍ، وإنَّما يُعْتَبَرُ حالُهنَّ حال ثُبُوتِ الاخْتِيارِ، وهو حالةُ اجتماعِ إسْلامِه وإسْلامِهِنَّ، ثم نَنْظُرُ؛ فإن لم تُسْلِمِ الحُرَّةُ، فله الاخْتيارُ منهنَّ، ولا يخْتارُ إلَّا واحدةً، اعتبارًا بحالةِ اجْتماعِ إسْلامِه وإسْلامِهِنَّ. وإن أسْلَمَتْ في عِدَّتِها، ثَبَتَ نِكاحُها (¬1)، وانْقَطعَتْ عِصْمَتُهنَّ، فإن كان قد اختارَ واحدةً مِن المُعْتَقاتِ في عِدَّةِ الحُرَّةِ، ثم لم تُسْلِمْ، فلا عِبْرَةَ باخْتيارِه؛ لأنَّ الاخْتِيارَ لا يكونُ موقوفًا، فأمَّا إن عَتَقْنَ قبلَ أن يُسْلِمْنَ، ثم أسْلَمْنَ و (¬2) اجْتَمَعْنَ معه على الإِسْلامِ وهُنَّ حرائِرُ، فإن كانْ جميعُ الزَّوْجاتِ أرْبَعًا فما دُونَ، ثَبَت نِكاحُهُنَّ، وإن كُنَّ زائداتٍ على أرْبَعٍ، فله أن يختارَ منهنَّ أرْبَعًا، وتَبْطُلُ عِصْمةُ الخامسةِ؛ لأنَّهُنَّ صِرْنَ حرائرَ في حالةِ الاخْتيارِ، وهي حالةُ اجْتماعِ إسْلامِه وإسْلامِهِنَّ، فصارَ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ ¬

(¬1) في م: «نكاحهن». (¬2) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحرائرِ الأصْلِيَّاتِ، وكما لو أُعْتِقْنَ قبلَ إسْلامِه وإسْلامِهِنَّ. وإن أسْلَمْنَ قبلَه، ثم أُعْتِقْنَ، ثم أسْلَمَ، فكذلك، ويكونُ الحكمُ في هذا كما لو أسْلَم وتحتَه خَمْسُ حَرائِرَ أو أكثرُ، على ما مَرَّ تَفْصِيلُه. فصل: ولو أسْلَمَ وتحتَه خَمْسُ حرائرَ، فأسْلَمَ معه منهنَّ اثْنَتان، احْتَمَل أن يُجْبَرَ على اخْتيارِ إحْداهما؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يَلْزَمَه نِكاحُ واحدةٍ منهما، فلا معنَى لِانْتِظارِ (¬1) البَواقِي. فإذا اختارَ واحدةً ولم يُسْلِمِ البَواقِي، لَزِمَه نِكاحُ الثانيةِ. وكذلك إن لم يُسْلِمْ مِنَ البَواقِي إلَّا اثْنَتَانِ، لَزِمَه نِكاحُ الأرْبَعِ. وإن أسْلَم الجميعُ في العِدَّةِ، كُلِّفَ أن يخْتارَ ثَلَاثًا مع التي اخْتارَها أوَّلًا، ويَنْفسِخُ نِكاحُ الباقيةِ. وعلى هذا، لو أسلمَ معه ثلاثٌ، كُلِّفَ اخْتيارَ اثْنَتَين. وإن أسْلَمَ معه أرْبَعٌ، كُلِّفَ اخْتيارَ ثلاثٍ منهنَّ، إذ لا معنَى لانْتِظارِ الخامسةِ. ونِكاحُ ثلاثةٍ منهنَّ لازِمٌ له (2) على كلِّ حالٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْبَرَ على الاختيارِ؛ لأنَّه إنَّما يكونُ عندَ زيادةِ العَدَدِ على أرْبَعٍ، وما وُجِدَ ذلك، ولذلك لو أسْلَمَتْ معه واحِدَةٌ (¬2) مِن الإماءِ، لم يُجْبَرْ على اخْتيارِها، كذا ههُنا. قال شيخُنا (¬3): والصحيحُ ههُنا أنَّه يُجْبَرُ على اختيارِها؛ لِما ذكرْنا مِن المعنى، وأمَّا الأمَةُ، فقد يكونُ له غَرَضٌ في اخْتيارِ غيرِها، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ¬

(¬1) في م: «لاعتبار». (¬2) سقط من: م. (¬3) المغني 10/ 32.

3240 - مسألة: (وإن أسلم عبد وتحته إماء، فأسلمن معه، ثم أعتق، فله أن يختار منهن)

وَإِنْ أَسْلَمَ عَبْدٌ وَتَحْتَهُ إِمَاءٌ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ، وَإِنْ أَسْلَمَ وَأُعْتِقَ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطَينِ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3240 - مسألة: (وإنْ أسْلَمَ عَبْدٌ وتحتَه إماءٌ، فأسْلَمْنَ معه، ثم أُعْتِقَ، فله أن يَخْتارَ منهُنَّ) لأنَّه حالةَ اجْتِماعِهم على الإسْلامِ كان عبدًا، يجُوزُ له الاخْتيارُ مِنَ الإِماءِ. 3241 - مسألة: (وإن أسْلَمَ وأُعْتِقَ، ثم أسْلَمْنَ، فحكمُه حُكْمُ الحُرِّ، لا يجوزُ أن يختارَ منهُنَّ إلَّا بوجودِ الشَّرْطَينِ فيه) لأنَّه حالةَ اجْتماعِهم في الإِسْلامِ كان حرًّا، فيُشْتَرَطُ في حَقِّه ما يُشْتَرَطُ في حَقِّ الحُرِّ. واللهُ تعالى أعلمُ.

كتاب الصداق

كِتَابُ الصَّدَاقِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي النِّكَاحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الصَّداقِ (وهو مَشْرُوعٌ) والأصْلُ في مَشْرُوعِيَّتِه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ فقولُ الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ} (¬1). وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬2). قال أبو عُبَيدٍ: يَعْنِي عن طِيبِ نفْسٍ بالفَريضةِ التي فَرضَ الله تَعَالى. وقِيلَ: النِّحْلَةُ الهِبَةُ، والصَّداقُ في معناها؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن الزَّوْجَينِ يَسْتَمْتِعُ بصاحِبِه، وجَعَل الصَّداقَ للمرأةِ، فكأنَّه ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) سورة النساء 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطِيَّةٌ بغيرِ عِوَضٍ. وقيل: نِحْلَةٌ مِن اللهِ تعالى للنِّساءِ. وقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1). وأمَّا السُّنَّةُ؛ فرَوَى أنَسٌ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى على عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ رَدْعَ زَعْفَرانٍ (¬2)، فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْيَمْ؟ (¬3)» فقال: يا رسولَ اللهِ، تَزَوَّجْتُ امرأةً قال: «ما أصدَقْتَها؟». قال: وَزْنَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ. فقال: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ ولَوْ بِشَاةٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وأجْمَعَ المسلمونَ على مَشْرُوعِيَّةِ الصَّداقِ في النِّكاحِ. وللصَّداقِ تِسْعةُ أسماءٍ؛ الصَّداقُ، والصَّدُقَةُ، والمَهْرُ، والنِّحْلَةُ، والفَرِيضَةُ، والأجْرُ، والعَلائِقُ، والعُقْرُ، والحِبَاءُ. رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أدُّوا العَلائِقَ». قيل: يا رسولَ الله، وما العلائِقُ؟ قال: «مَا تَرَاضَى بهِ الأهْلُونَ» (¬5). وقال عمرُ: لها عُقْرُ نِسَائِها (¬6). ويقالُ: أصْدَقْتُ المرْأَةَ وَمَهَرْتُها. ولا يقالُ: أمْهَرْتُها. ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) ردع زعفران: لطخ منه أو شيء يسير في مواضع شتى من ثوبه. (¬3) مهيم: ما شأنك وما حالك، أو ما وراءك. (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 85، 86. (¬5) أخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 244. والبيهقي، في: باب ما يجوز أن يكون مهرا، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 239. وأخرجه مرسلًا سعيد، في: سننه 1/ 170. وقال الحافظ في هذا الحديث: وإسناده ضعيف جدا. تلخيص الحبير 3/ 190. وانظر: نصب الراية 3/ 200. (¬6) انظر: تلخيص الحبير 3/ 192.

3242 - مسألة: (ويستحب تخفيفه)

وَيُسْتَحَبُ تَخْفِيفُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3242 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُه) لِما رَوَتْ عائشةُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «أعظَمُ النِّساءِ بَركةً أيسَرُهُنَّ مُؤْنَةً». رَوَاه أبو حَفصٍ بإسنادِه (¬1). وعن أبي العَجْفَاءِ، قال: قال عمرُ: ألَا لا تُغْلُو صَداقَ النِّساءِ، فإنَّه لو كانت مَكْرُمَةً في الدُّنْيا، أو تَقْوَى عندَ اللهِ، كان أوْلاكُم بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، [ما أصْدَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا أُصْدِقَتِ امرأةٌ مِن نِسائِه] (¬2)، أكْثَرَ مِن اثْنَتَيْ عَشْرةَ أُوقِيَّةً، وإنَّ الرَّجُلَ ليُغْلِي بصَدُقَةِ (¬3) امْرأتِه حتى يكونَ لها عَداوةٌ في قَلْبِه، وحتى يقولَ: كُلِّفْتُ لكم عِلْقَ القِرْبةِ (¬4). أخْرَجه النَّسائِيُّ، وأبو داودَ مُخْتَصَرًا (¬5). وعن أبي سَلَمةَ قال: سَأَلْتُ عائشةَ عن صَداقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ثِنْتَا (¬6) عَشْرةَ أُوقِيَّةً ونَشٌّ. فقلتُ: وما النَّشُّ؟ قالت: نِصْفُ أوقِيَّةٍ. أخْرَجاه أيضًا (¬7). والأُوقِيَّةُ أرْبَعُونَ دِرْهَمًا. ¬

(¬1) وأخرجه النسائي، في: باب بركة المرأة، من كتاب عشرة النساء. السنن الكبرى 5/ 402. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 145. وانظر الكلام عل الحديث في الإرواء 6/ 348 - 350. (¬2) كذا جاء في النسختين، وفي المصادر: «. . . . امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته». وفي المسند 1/ 48: «ما أنكح شيئًا من بناته ولا نسائه». (¬3) في م: «بصداق». (¬4) في الأصل: «الرقبة»، وعلق القربة: حجلها الذي تشد به. أي تحملت لأجلك كل شيءٍ حتى علق القربة. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 187. (¬6) في م: «اثنتا». (¬7) أخرجه أبو داود، في: باب الصداق، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 485. والنسائي، في: باب القسط في الأصدقة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 96. =

3243 - مسألة: (و)

وَأَنْ لَا يَعْرَى النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3243 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (أن لا يَعْرَى النِّكاحُ عن تَسْمِيَتِه) لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُزَوِّجُ (¬1) بناتِه وغيرَهُنَّ ويتزَوَّجُ، فلم يكُنْ يُخْلِي ذلك مِن صَداقٍ، وقال للذي زَوَّجَه المَوْهُوبةَ: «هل مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُها؟». قال: لا أجِدُ شيئًا. قال: «الْتَمِسْ ولَوْ خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ». فلم يَجِدْ شيئًا، فزَوَّجَه إيَّاها بما مَعَه مِن القُرْآنِ. متَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه أقْطَعُ للنِّزاعِ فيه والخِلافِ. وليس ذِكْرُه شَرْطًا؛ بدليلِ قولِه تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬3). ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زوَّجَ رَجُلًا امرأةً ولم يُسَمِّ ¬

= كما أخرجه مسلم، في: باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن. . . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1042. وابن ماجه، في: باب صداق النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 607. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 94. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 380. ويضاف إليه: والإمام مالكٌ، في: باب ما جاء في الصداق والحباء، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 526. (¬3) سورة البقرة 236.

3244 - مسألة: (و)

وَأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى صَدَاقِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَنَاتِهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لها مَهْرًا (¬1). 3244 - مسألة: (و) يُسْتَحَبُّ (أن لَا يَزِيدَ على صَداقِ أزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبناتِه، وهو خَمْسُمائةِ دِرْهمٍ) لِما ذكَرْنا مِن حديثِ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، اقْتِداءً برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في من تزوج ولم يسم صداقا. . . .، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 488. وصححه في الإرواء 6/ 344، 345.

3245 - مسألة: (ولا يتقدر أقله ولا أكثره، بل كل ما جاز أن

وَلَا يَتَقَدَّرُ أَقَلَّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ، بَلْ كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، جَازَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3245 - مسألة: (ولا يَتَقَدَّرُ أقَلُّه ولا أكثَرُه، بل كلُّ ما جاز أن

أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونَ ثَمَنًا، جازَ أن يكونَ صَداقًا) وبهذا قال الحسنُ، وعمرُو بنُ دينارٍ، وابنُ أبي لَيلَى، والأوْزَاعِيُّ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو [ثَوْرٍ، و] (¬1) داودُ. وزَوَّجَ سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ ابْنَتَه بدِرْهَمَينِ. وقال: لو أَصْدَقَها سَوْطًا، لحَلَّتْ (¬2). وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والنَّخَعِيِّ، وابنِ شُبْرُمَةَ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، أنَّه مُقَدَّرُ الأقَلِّ. ثم اخْتلَفُوا (¬3) فيه، فقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: أقَلُّه ما يُقْطَعُ به السَّارِقُ. وقال ابنُ شُبْرُمةَ: خَمْسَةُ دَراهِمَ. وعن النخعيِّ، أرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وعنه، عِشْرُونَ. وعنه، رَطْلٌ مِن الذَّهَبِ. وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، خَمْسونَ دِرْهَمًا. واحْتَجَّ أبو حنيفةَ بما رُوِيَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لا مَهْرَ أقَلَّ مِن عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» (¬4). ولأنَّه يُسْتَباحُ له عُضْوٌ، فكان مُقَدَّرًا، كالذي يُقْطَعُ به السَّارقُ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي زَوَّجَه: «هل عندَك مِن شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟». قال: لا أجِدُ. قال: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ». مُتَّفَقٌ عليه. وعن عامرِ بنِ رَبِيعةَ، أنَّ امرأةً مِن بني فَزارةَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه سعيد في سننه 1/ 175. وعبد الرزاق 6/ 179. وابن أبي شيبة 4/ 342. (¬3) في م: «اختلفت». (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 254، من حديث: «لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء. . . .».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزَوَّجَتْ على نَعْلَين، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرَضيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بِنَعْلَينِ؟». قالت: نعم. فأجازَه. أخرجه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن جابرٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أنَّ رَجُلًا أَعْطىَ امرأةً صَداقًا مِلْءَ يَدِهِ طَعامًا، كانت حَلالًا لَهُ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، في «المُسْنَدِ» (¬2). وفي لَفْظٍ عن جابِرٍ، قال: كُنَّا نَنْكِحُ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على القَبْضَةِ مِن الطَّعام. روَاه الأثْرَمُ (¬3). ولأنَّ قولَ اللهِ تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬4). يدخُلُ فيه القَلِيلُ والكَثِيرُ. ولأنَّه بَدَلُ مَنْفَعَتِها، فجاز ما تَراضَيا عليه [مِن المالِ] (¬5)، كالعَشَرةِ وكالأُجْرةِ. وحَدِيثُهم غيرُ صحيحٍ، رَواه مُبَشِّرُ (¬6) بنُ عُبَيدٍ، وهو ضَعِيفٌ، عن الحَجَّاجِ بنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 186، 187. (¬2) المسند 3/ 355. كما أخرجه أبو داود، في: باب قلة المهر، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 486. وقال الحافظ: في إسناده مسلم بن رومان وهو ضعيف وروى موقوفًا وهو أقوى. تلخيص الحبير 3/ 190. (¬3) وأخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 243. وفي إسناده يعقوب بن عطاء بن أبي رباح المكي، وهو ضعيف. تهذيب التهذيب 11/ 392، 393. (¬4) سورة النساء 24. (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «ميسر»، وفي م: «ميسرة». وانظر سنن الدارقطني والبيهقي، وتهذيب التهذيب 10/ 32، 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْطاةَ، وهو مُدَلِّسٌ، ورَوَوْه (¬1) عن جابرٍ، وقد رَوَينا عنه خِلافَه. أو نَحْمِلُه على مَهْرِ امْرأةٍ بعَينِها، أو على الاسْتِحْبابِ. وقِياسُهم لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النِّكاحَ اسْتِباحةُ الانْتِفاعِ بالجُمْلةِ، والقَطْعُ إتْلافُ عُضْوٍ دُونَ اسْتِباحَتِه، وهو عُقُوبَةٌ وحَدٌ، وهذا عِوَضٌ، فَقِياسُه على الأعْواضِ أوْلَى. فأمَّا أكثَرُه، فلا تَوْقِيتَ فيه بإجْماعِ أهلِ العلمِ. قاله ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2). وقد قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئًا} (¬3). ورَوَى أبو حفص (¬4) بإسنادِه، أنَّ عمرَ أصْدَقَ أُمَّ كُلْثُوم بِنْتَ عليٍّ أرْبَعِينَ ألْفًا. وعن عمرَ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: خَرَجْتُ وأنا أُرِيدُ أن أَنْهَى عن كَثْرةِ الصَّداقِ، فذَكَرْتُ هذه الآيةَ: {وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬5). قال أبو صالح: القِنْطارُ مِائَةُ رَطْلٍ. وقال أبو سعيدٍ: مِلءُ (¬6) مَسْكِ ثَوْرٍ (¬7) ذَهبًا. وعبن مجاهدٍ: سبعُونَ ألْفَ مِثْقالٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «رواه». (¬2) انظر: التمهيد 2/ 186، 21/ 117، الاستذكار 16/ 65، 77. (¬3) سورة النساء 20. (¬4) وأخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 190. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 233. (¬5) أخرجه سعيد، في سننه 1/ 167. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 233. وقال: هذا مرسل جيد. (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) مَسك ثور: جلده. وأخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 233.

3246 - مسألة: كل ما جاز أن يكون ثمنا، جاز أن يكون صداقا (من قليل وكثير، وعين ودين، ومعجل ومؤجل، ومنفعة معلومة، كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوب، ورد عبدها الآبق من موضع معين)

مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَعَينٍ وَدَينٍ، وَمُعَجَّلٍ وَمُؤَجَّلٍ، وَمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ، كَرِعَايَةِ غَنَمِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وَرَدِّ عَبْدِهَا الْآبِقِ مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3246 - مسألة: كُلُّ ما جاز أن يكونَ ثَمَنًا، جاز أن يكونَ صَداقًا (مِن قليلٍ وكثيرٍ، وعَينٍ ودَينٍ، ومُعَجَّلٍ ومُؤَجَّلٍ، ومَنْفَعَةٍ معلومةٍ، كرِعايةِ غَنَمِها مُدَّةً معلومةً، وخِياطَةِ ثَوْبٍ، ورَدِّ عَبْدِها الآبِقِ مِن مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ) ومنافِعُ الحُرِّ والعَبْدِ سواءٌ، فقد رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بإسنادِه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أنْكِحُوا الأيامَى، وأدُّوا العَلائِقَ». قِيلَ: ما العَلَائِقُ (¬1) يَا رسولَ اللهِ؟ قال: «ما تَراضَى عليه الأهْلُونَ، ولو قَضِيبًا (¬2) مِن أَراكٍ» (¬3). ورواه الجُوزْجانِيُّ. وبهذا قال [مالكٌ، و] (¬4) الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: منافعُ الحُرِّ لا يجُوزُ أن تكونَ صَدَاقًا؛ لأنَّها ليست مالًا، وإنَّما قَال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}. ولَنا، قولَ اللهِ تعالى: {قَال إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَينِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬5). والحديثُ الذي ذكَرْناه. ولأنَّها مَنفَعَةٌ يجوزُ العِوَضُ عنها [في الإِجارَةِ، فجازَتْ صَداقًا] (4)، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «منهم». وفي مصادر التخريج: «بينهم». (¬2) في الأصل: «قضيب». وهو رواية الدارقطني، والمثبت موافق لما عند البيهقي. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 80. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سورة القصص 27.

3247 - مسألة: (وإن كانت)

فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً، كَرَدِّ عَبْدِها أَينَ كَانَ، وَخِدْمَتِهَا فِيمَا شَاءَتْ، لم يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [كمَنْفَعَةِ العَبْدِ. وقولُهم: ليستْ مالًا. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّها تجوزُ المُعاوَضةُ عنها] (¬1) وبها. ثم إن لم تكُنْ مالًا، فقد أُجْرِيَتْ مُجْرَى المالِ في هذا، فكذلك في النِّكاحِ. 3247 - مسألة: (وإن كانتِ) المنْفَعَةُ (مجهولَةً، كرَدِّ عَبْدِها أَينَ كان، وخِدْمَتِها فيما شاءَتْ، لم يَصِحَّ) لأَنَّه (¬2) عِوَضٌ في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فلم يَصِحَّ مجهولًا، كالثَّمنِ في المبيعِ، والأُجْرَةِ في الإِجارَةِ. فصل: وكُلُّ ما لا (¬3) يجوزُ أن يكونَ ثمَنًا في البَيعِ؛ كالمُحَرَّمِ، والمَعْدُومِ، والمَجْهُولِ، وما لَا مَنْفَعَةَ فيه، وما لَا يَتِمُّ مِلْكُه عليه، كالمَبِيعِ مِن المَكِيلِ والمَوْزُونِ قبلَ قَبْضه، وما لَا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِه، كالطَّيرِ في الهواءِ، والسَّمَكِ في الماءِ، وما لَا يُتَمَوَّلُ عادةً، كقِشْرَةِ جَوْزَةٍ، وحَبَّةِ حِنْطَةٍ، لا يجوزُ أن يكونَ صَدَاقًا؛ لأنَّه نَقْلٌ للمِلْكِ فيه بعِوَضٍ، فلم يَجُزْ فيه ما ذكَرْناه، كالبَيعٍ (¬4). ويَجِبُ أن يكونَ له نِصْفٌ يُتَمَوَّلُ عادَةً، ويُبْذَلُ العِوَضُ في مِثلِه عُرفًا؛ لأنَّ الطَّلاقَ يَعْرِضُ فيه قبلَ الدُّخُولِ، ¬

(¬1) سقط عن: الأصل. (¬2) في الأصل: «لا». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَبْقَى للمرأةِ إلَّا نِصْفُه (¬1)، فيَجِبُ أنْ يَبْقَى لها مالٌ تَنْتَفِعُ به. ويُعْتَبَرُ نِصْفُ القيمةِ لا نِصْفُ عينِ الصَّداقِ، فإنَّه (¬2) لو أصْدَقَها عبدًا، جازَ وإن لم تُمْكِنْ قِسْمَتُه. فصل: ولو نَكَحَها على أن يَحُجَّ بها، لم تَصِحَّ التَّسْمِيةُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال النَّخعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، وأبو عُبَيدٍ: يَصِحُّ. ولَنا، أنَّ الحُمْلانَ مَجْهُولٌ، لا يُوقَفُ له على حَدٍّ، فلا يَصِحُّ، كما لو أصْدَقَها شيئًا. فصل: وإن أصْدَقَها خِياطةَ ثَوْبٍ بعَينِه، فهَلَك الثوبُ، لم تَفْسُدِ التَّسْمِيةُ، ولم يَجِبْ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ تَعَذُّرَ تسْلِيمِ (¬3) ما أصْدَقَها بعَينِه لا يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ، كما لو أصْدَقَها قَفِيزَ حِنْطةٍ فهلَك قبلَ تسْليمِه، ويَجِبُ عليه أجْرُ (¬4) مِثْلِ خِيَاطَتِه؛ لأنَّ المَعْقُودَ على (¬5) العَمَلِ فيه تَلِفَ، فوجَبَ الرُّجُوعُ إلى عِوَضِ العَمَلِ، كما لو أصْدَقَها تَعْليمَ عَبْدِها صِناعةً، فماتَ قبلَ التَّعْليمِ. وإن عجَز عن خِياطَتِه مع بقاءِ الثَّوبِ، لمرضٍ أو نحوه، فعليه أن يُقِيمَ مُقَامَهُ مَن يَخِيطُه. وإن طَلَّقَها قبلَ خِياطَتِه وقبلَ الدُّخولِ، فعليه خِياطَةُ نِصْفِه إن أمكنَ معرِفَةُ نِصْفِه، وإن لم يُمْكِنْ، فعليه نِصْفُ ¬

(¬1) في الأصل: «بصفة». (¬2) في الأصل: «فإنَّها». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أجرة». (¬5) في م: «عليه».

3248 - مسألة: (وإن تزوجها على منافعه مدة معلومة، فعلى روايتين)

وَإنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنَافِعِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَجْرِ خِياطتِه، إلَّا أن يَبْذُلَ خِياطةَ (¬1) أكثرَ مِن نِصْفِه، بحيثُ يُعلَمُ أنَّه قدْ خاطَ النِّصْفَ يقينًا. وإن كان الطَّلاقُ بعدَ خِياطَتِه، رجَعِ عليها بنِصْفِ أَجْرِه. وإن أصْدَقَها تعليمَ صناعةٍ، أو تعليمَ عَبْدِها صناعةً، صَحَّ؛ لأنَّه منْفَعَةٌ معلومةٌ، يجوزُ بَذْلُ العِوَضِ عنها، فجاز جَعْلُها صَداقًا، كخِياطَةِ ثَوْبِها. 3248 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَها على مَنافِعِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فعلى رِوايَتَين) إحداهما، لا يَصِحُّ. وقد نَقَل مُهَنَّا عن أحمدَ: إذا تَزَوَّجَها على أن يَخْدِمَها سنةً أو أكثرَ، كيفَ يكونُ هذا؟ قِيلَ له: امرأةٌ لها ضِيَاعٌ وأرَضُونَ، لا تَقْدِرُ على أن تَعْمُرَها؟ قال: لا يَصْلُحُ هذا. ووَجْهُ هذه الرِّوايةِ، أنَّها ليست مالًا، فلا يَصِحُّ أن تكونَ مهرًا، كرقَبَتِه ومنْفَعَةِ ¬

(¬1) في الأصل: «خياطته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البُضْعِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. ولأنَّ المرأةَ تَسْتَحِقُّ على الزَّوْجِ خِدْمَتَه، بدلِيلِ أنَّه إذَا لم يُقِمْ لها مَن يَخْدِمُها, لَزِمَه أن يتَوَلَّى خِدْمَتَها، فإذا كانَت خِدْمَتُه مُسْتَحَقَّةَ لها, لم يَجُزْ أن يَأْخُذَ عليها عِوَضًا. والثانيةُ، يَصِحُّ. وهي أَصَحُّ، بدليلِ قِصَّةِ موسى، - عليه السلام -، وقياسًا على مَنْفَعَةِ العَبْدِ. وتَأوَّل أبو بكرٍ رِوايَةَ مُهَنَّا على ما إذا كانتِ الخِدْمَةُ مَجْهولةً، فإنْ كانت معلومةً، جاز. وكذلك نقلَ أبو طالبٍ عن أحمدَ: التَّزْويجُ على بِناءِ الدَّارِ،

3249 - مسألة: (وكل موضع لا تصح التسمية، يجب مهر المثل)

وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وخِياطَةِ الثَّوْبِ، جائِزٌ. لأنَّه معلومٌ، يجوزُ أخْذُ العِوَضِ عنه، أشْبَهَ الأعيانَ. وإن تَزَوَّجَها على أن يَأْتِيَها بِعَبْدِها الآبِقِ مِن مكانٍ معلومٍ، صَحَّ؛ لذلك، وإن أصْدَقَها الإِتْيانَ به أين كان، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه مَجْهُولٌ. 3249 - مسألة: (وكُلُّ مَوْضِعٍ لا تَصحُّ التَّسْمِيةُ، يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ) فإن أصْدَقَها ما لا يجوزُ أن يكون صَداقا؛ كالخَمْرِ، والخِنْزِيرِ، وتَعْلِيمِ التَّوْراةِ والإِنجِيلِ، والمعْدُومِ، والآبِقِ، والطَّيرِ في الهواءِ،

3250 - مسألة: (وإن أصدقها تعليم أبواب من الفقه أو الحديث، أو قصيدة من الشعر المباح، صح)

وَإنْ أصْدَقَهَا تَعْلِيمَ أبْوَابٍ مِنَ الْفِقْهِ أو الْحَدِيثِ، أوْ قَصِيدَةٍ مِنَ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ، صَحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَجْهُولِ، كعَبْدٍ، وثَوْبٍ، ودارٍ، لا يَفْسُدُ به النِّكاحُ. في الصحيحِ مِن المذهبِ. وعنه، يَفْسُدُ. اختارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فأشْبَهَ البيعَ. ولَنا، أنَّ فسادَ المُسَمَّى ليسَ أكثرَ مِن عَدَمِه، وعَدَمُه لا يُفْسِدُ العَقْدَ، كذلك هذا. إذا ثبت هذا، فإنَّه يَجِبُ لها مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّها لم تَرْضَ إلَّا (¬1) ببَدَلٍ (¬2)، ولم يُسَلِّمِ البَدَلَ، وتَعَذَّرَ [رَدُّ المُعَوَّضِ] (¬3)، فوجبَ رَدُّ بَدَلِه، كما لو باعه سِلْعَةً بِخَمْرٍ، فَتَلِفَتْ عندَ المُشْتَرِي. 3250 - مسألة: (وإن أَصْدَقَها تَعْلِيمَ أَبوَابٍ مِن الفِقْهِ أو الحَدِيثِ، أو قَصِيدَةٍ من الشِّعْرِ المُباحِ، صَحَّ) وكُلُّ ما يجوزُ أخْذُ الأجْرَةِ على تَعْليمِه، جازَ، وصَحَّتِ التَّسْمِيةُ؛ لأنَّه يجوزُ أخْذُ الأجْرَةِ عليه، فجازَ صَداقًا، كمنافِعِ الدَّارِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ببذل». (¬3) في م: «به العوض».

3251 - مسألة: (وإن كان لا يحفظها, لم يصح. ويحتمل أن يصح، ويتعلمها ثم يعلمها)

وَإنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهَا، لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَصِحَّ، وَيَتَعَلَّمُهَا، ثُمَّ يُعَلِّمُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3251 - مسألة: (وإن كان لا يَحْفَظُها, لم يَصِحَّ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ، ويَتَعَلَّمُها ثُمَّ يُعَلِّمُها) وجُمْلةُ ذلك، أنَّه يُنْظَرُ في قولِه، فإن قال: أُحَصِّلُ لكِ تعليمَ هذه السُّورة. صَحَّ؛ لأنَّ هذه مَنْفَعةٌ في ذِمَّتِه لا يَخْتَصُّ بها، فجازَ أن يَسْتَأْجِرَ عليها مَن لا يُحْسِنُها، كالخِياطةِ إذا اسْتَأْجَر مَن يُحَصِّلُها. وإن قال: عليَّ أن أُعَلِّمَكِ. فذكَرَ القاضي في «الجامعِ»، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه تَعيَّنَ بفِعْلِه، وهو لا يَقْدِرُ عليه، فأشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ مَن لا يُحْسِنُ الخِياطةَ ليَخِيطَ له. وذكر في «المُجَرَّدِ» أنَّه يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ؛ لأنَّ هذا يكونُ في ذِمَّتِه، فأشْبَهَ ما لو أصْدَقَها مالًا في ذِمَّتِه لا يَقْدِرُ عليه في الحالِ. فعَلَى هذا يَتَعَلَّمُها ثم يُعَلِّمُها، أو يُقِيمُ لها مَن يُعَلِّمُها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جاءَتْه بغَيرِها، فقالت: عَلِّمْه السُّورةَ التي تُريدُ تَعْلِيمِي (¬1) إيَّاها. لم يَلْزَمْه؛ لأنَّ المُسْتَحَقَّ عليه العَمَلُ في عَينٍ لم يَلْزَمْه إيقاعُه في غيرِها، كما لو اسْتَأْجَرَتْه لخِياطةِ ثَوْبٍ، فأتَتْه بغيرِه فقالت: خِطْ هذا. ولأنَّ المُتَعَلِّمِينَ يخْتَلِفُونَ في التَّعْلِيمِ اخْتلافًا كثيرًا، وقد يكونُ له غرضٌ في تَعْلِيمِها، فلا يُجْبَرُ على تَعْلِيمِ غيرِها. فإن أتاها بغيرِه يُعَلِّمُها، لم يَلْزَمْها قَبُولُ ذلك؛ لأنَّ المُعَلِّمِين يخْتلفُون في التَّعْلِيمِ، وقد يكون لها غَرَضٌ في التَّعْلِيمِ منه؛ لكَوْنِه زَوْجَها، تَحِلُّ له ويَحِلُّ لها, ولأنَّه لمّا لم يَلْزَمْه تَعْلِيمُ غيرِها, لم يَلْزَمْها التَّعَلُّمُ مِن غَيرِه، قياسًا لأحَدِهما على الآخَرِ. ¬

(¬1) في الأصل: «تعلمني».

3252 - مسألة: (فإن تعلمتها من غيره، فعليه أجرة تعليمها)

وَإنْ تَعَلَّمَتْهَا مِنْ غَيرِهِ، لَزِمَتْهُ أُجْرَةُ تَعْلِيمِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3252 - مسألة: (فإن تَعَلَّمَتْها مِن غيرِه، فعليه أُجْرةُ تَعْلِيمِها) وكذلك إن تَعَذَّرَ عليه تَعْلِيمُها، كما لو أصْدَقَها خِياطَةَ ثَوْبٍ فتَعَذَّرَ. فإنِ ادَّعَى أنَّه عَلَّمَها، فأنْكَرتْ (¬1)، فالقولُ قولُها؛ لأنَّ الأصْلَ عدَمُه. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّهما إنِ اخْتلَفا بعدَ أن تَعَلَّمَتْها، فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الظاهِرَ معه. وإن عَلَّمَها السُّورَةَ ثم أُنْسِيَتْها، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّه قد وَفَى لها بما شَرَطَ، وإنَّما تَلِفَ الصَّداقُ بعدَ القَبْضِ. وإن لَقَّنَها الجَمِيعَ، وكُلَّما لَقَّنَها شيئًا أُنْسِيَتْه (¬2)، لم يعْتَدَّ بذلك تَعْلِيمًا؛ لأنَّ ذلك لا يُعَدُّ تَعْلِيمًا في العُرْفِ، ولو جازَ ذلك لأفْضى إلى أنَّه متى أقْرَأها (¬3) بيتًا مِن الشِّعْرِ، أو مسألةً مِن الفقهِ، أو آيةً فَقَرأتْها بلِسانِها مِن غيرِ حِفطٍ، كان تَلْقِينًا. ¬

(¬1) في م: «فأنكرته». (¬2) في م: «نسيته». (¬3) في الأصل: «قرأها».

3253 - مسألة: (فإن طلقها قبل الدخول وقبل تعليمها)

فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ تَعْلِيمِهَا، فَعَلَيهِ نِصْفُ الأُجْرَةِ، يَحْتَمِلُ أنْ يُعَلِّمَهَا نِصْفَهَا، وَإنْ كَانَ بَعْدَ تَعْلِيمِهَا، رَجَعَ عَلَيهَا بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يكونَ ذلك تَلْقِينًا؛ لأنَّه قد لَقَّنَها وحَفَّظَها، فأمَّا ما دونَ الآيةِ، فليس تَلْقِينًا، وَجْهًا واحِدًا. 3253 - مسألة: (فإن طَلَّقها قبلَ الدُّخول وقبلَ تَعْلِيمِها) ففيه وجهان؛ أحَدُهما (عليه نِصْفُ أُجْرَةِ) تَعْلِيمِها؛ لأنَّها قد صارتْ أجْنَبِيَّةً، فلا تُؤْمَنُ في تَعْلِيمِها الفِتْنَةُ. والثاني، يُباحُ له تَعْلِيمُها مِن وَراءِ حِجابٍ مِن غيرِ خَلْوَةٍ بها، كما يجوزُ له سماعُ كَلامِها في المُعاملاتِ. وإن كان الطَّلاقُ بعدَ الدُّخُولِ، ففي تَعْلِيمِها الجميعَ الوَجْهانِ (¬1). (وإن) طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ (بعدَ تَعْلِيمِها، رجع عليها بنِصْفِ أجْرِ) التَّعْلِيمِ؛ لأنَّ الطَّلاقَ ¬

(¬1) في م: «وجهان».

3254 - مسألة: (وإن أصدقها تعليم شيء من القرآن معين، لم يصح. وعنه، يصح)

وَإنْ أصْدَقَهَا تَعْلِيمَ شَيءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الدُّخولِ [يُوجِبُ الرُّجوعَ بنِصْفِ الصَّداقِ. فأمّا إن أصْدَقَها رَدَّ عَبْدِها مِن مَكانٍ مُعَيَّنٍ، فطَلَّقها قبلَ الدُّخولِ] (¬1) وقبلَ الرَّدِّ، فعليه نِصْفُ أجْرِ الرَّدِّ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه نِصْفُ الرَّدِّ، فإن طلَّقَها بعدَ الرَّدِّ، رجَع عليها بنِصْفِ الأجْرَةِ. 3254 - مسألة: (وإن أصْدَقَها تَعْلِيمَ شيءٍ مِن القُرآنِ مُعَيَّنٍ، لم يَصِحَّ. وعنه، يَصِحُّ) اخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في جَعْلِ تَعْلِيمِ شيءٍ مِن القرآنِ صَداقًا، فقال في مَوْضِع: أَكرَهُه. وقال في موضعٍ آخرَ (¬2): لا بَأْسَ أن يتزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرأةَ على أن يُعَلمَها سورةً مِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآنِ، أو على نَعْلَينِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو بَكرٍ: في المسألةِ قولان. يعني رِوايتَين. قال: واخْتِيارِي أنَّه لا يجوزُ. وهو مذهبُ مالكٍ، واللَّيثِ، وأبي حنيفةَ، ومَكْحُولٍ، وإسْحاقَ. واحْتَجَّ مَن أجازَه بما رَوَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جاءَتْه امرأةٌ فقالت: إنِّي وَهَبْتُ نفْسِي لكَ. فقامت طَويلًا، فقال رَجُلٌ: يَا رسولَ اللهِ، زَوِّجْنِيها إن لم يكُنْ لك بها حاجةٌ. فقال: «هل عِنْدَكَ مِن شَيءٍ تُصْدِقُها؟» فقال: ما عندي إلَّا إزارِي. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إزَارُكَ، إنْ أعْطَيتَها (¬1) جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَكَ، فالْتَمِسْ شَيئًا». قال: لا أجِدُ. قال: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ». فالتَمَسَ فلم يَجِدْ شَيئًا. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «زَوَّجْتُكَهَا بما معَك مِنَ القُرْآنِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّها مَنْفعَةٌ مُعَيَنّةٌ مُبَاحَةٌ (¬3)، فجازَ جَعْلُها صَداقًا، كَتَعْلِيمِ قَصِيدَةٍ مِن الشِّعْرِ المُباحِ. ولَنا، أنَّ الفُرُوجَ لا تُسْتَباحُ إلَّا بالأمْوالِ؛ لقولِه تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬4). وقولِه سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬5). والطَّوْلُ: ¬

(¬1) بعده في م: «إياه». (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 380، وفي صفحة 82. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة النساء 24. (¬5) سورة النساء 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالُ. وقد رُوِيَ أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ رجُلًا على سُورَةٍ مِن القرآنِ، ثم قال: «لا يَكُونُ لأحَدٍ بَعْدَكَ مَهرًا». رَوَاه النَّجَّادُ (¬1) بإسنادِه. ولأنَّ تَعْلِيمَ القُرْآنِ لا يجوزُ أن يَقَعَ إلَّا قُرْبَةً لِفاعِلِه، فلم يَصِحَّ أن يكونَ صَداقًا، كالصَّوْمِ، والصَّلاةِ، وتَعْلِيمِ الإِيمانِ. فأمَّا حديثُ المَوْهُوبَةِ، فقد قِيلَ: مَعْنَاه «أنْكَحْتُكَها بما معك مِن القُرْآنِ» أي زَوَّجْتُكَها لأنَّكَ مِن أهلِ القُرْآنِ، كما زَوَّج أَبا طَلْحَةَ على إسْلامِه، فرَوَى ابنُ عبدِ البرِّ (¬2) بإسناده، أنَّ أَبا طَلْحَةَ أَتَى أُمَّ سُلَيمٍ يَخْطُبُها قبلَ أن يُسْلِمَ، فقالت: أتَزَوَّجُ بِكَ وأنتَ تَعْبُدُ خَشَبَةً نَحَتَها عَبْدُ بَنِي فلانٍ؟ إن أسْلَمْتَ تَزَوَّجْتُ بك. قال: فأسْلَم أبو طَلْحَةَ، فَتَزَوَّجَها على إسْلامِه. وليس في الحديثِ الصحيحِ ذكرُ التَّعْلِيمِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ خَاصًّا لذلك الرَّجُلِ، كما رَوَى النَّجَّادُ (¬3). ولا تَفْرِيعَ على هذه الرِّوايةِ. فأمَّا على قَوْلِنا بالصِّحَّةِ، فلا بُدَّ مِن تَعْيِينِ ¬

(¬1) في م: «البُخَارِي». وأخرجه سعيد بن منصور، في: باب تزويج الجارية الصغيرة. السنن 1/ 176. وقال في: الإرواء 6/ 350: منكر. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 2/ 413. (¬2) في: التمهيد 21/ 119. وبنحوه أخرجه عبد الرَّزّاق، في: المصنف 6/ 179. (¬3) في م: «البُخَارِي».

3255 - مسألة: (ولا يحتاج إلى ذكر قراءة من. وقال أبو الخطاب: يحتاج إلى ذلك)

وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ قِرَاءَةِ مَنْ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يُعَلِّمُها إيَّاه، إمَّا سورةً، أو سُوَرًا، [أو آياتٍ] (¬1) بعَينِها؛ لأنَّ السُّورَ تخْتلِفُ، وكذلك الآياتُ. 3255 - مسألة: (ولَا يَحْتاجُ إلى ذكْرِ قِراءَة مَنْ. وقال أبو الخطَّابِ: يَحْتاجُ إلى ذلك) لأنَّ الأغْراضَ تختلفُ، [والقِراءاتُ تَخْتلفُ] (¬2)، فمنها صَعْبٌ، كقِراءةِ حمزةَ، وسَهْلٌ، فأشْبَهَ تَعْيِينَ الآياتِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ هذا اخْتِلافٌ يَسيرٌ، وكُلُّ حرْفٍ ينُوبُ مَنابَ صاحِبِه، ويقومُ مَقامَه، ولذلك لم يُعَيِّنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمرأةِ قراءةً، وقد كانوا يَخْتَلِفونَ في القِراءةِ أشَدَّ مِن اخْتلافِ القُرَّاءِ اليومَ، فأشْبَهَ ما لو أصْدَقَها قَفِيزًا مِن صُبْرَةٍ. وللشافعيِّ في هذا وَجْهان كهَذَينِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو أصْدَق الكِتابِيَّةَ تعليمَ سُورةٍ مِن القُرْآنِ، لم يَجُزْ، ولها مَهْرُ المِثْلِ. وقال الشافعيُّ: يَصِحُّ؛ لقولِه تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1). ولَنا، أنَّ الجُنُبَ يُمْنَعُ قِرَاءةَ القُرْآنِ مع إيمانِه واعْتِقادِه أنَّه حَقٌّ، فالكافِرُ أوْلَى، وقد قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُسافِرُوا بالْقُرْآنِ إلَى أرْضِ العَدُوِّ، مَخافةَ (¬2) أن تَنالهُ أيدِيهِمْ» (¬3). فالتَّحَفُّظُ أوْلَى أن يُمْنَعَ منه. فأمَّا الآيةُ التي احْتَجُّوا بها، فلا حُجَّةَ لهم فيها، فإنَّ السَّماعَ غير الحِفْظِ. فإن أصْدَقَها، أو أصْدَق مُسْلِمةً تعليمَ شيءٍ مِن التَّوْراةِ، لم يصِحَّ في المَذْهَبَين؛ لأنَّه مُبَدَّلٌ مُغَيَّرٌ. ولو أصْدَق الكِتَابِيُّ الكتابِيَّةَ شيئًا مِن ذلك، كان كما لو أصْدَقَها مُحَرَّمًا. ¬

(¬1) سورة التوبة 6. (¬2) في الأصل: «فإنَّه». (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 78.

3256 - مسألة: (وإن تزوج نساء بمهر واحد، أو خالعهن بعوض واحد، صح، ويقسم بينهن على قدر مهورهن، في أحد الوجهين. وفي الآخر، يقسم بينهن بالسوية)

وَإنْ تَزَوَّجَ نِسَاءً بِمَهْرٍ وَاحِدٍ، أوْ خَالعَهُنَّ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ، صَحَّ، وَيُقْسَمُ بَينَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ في أَحدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخرِ يُقسَمُ بَينَهُنَّ بِالسَّويَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3256 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ نِساءً بِمَهْرٍ وَاحِدٍ، أوَ خالعَهُنَّ بِعِوَضٍ واحدٍ، صَحِّ، ويُقْسَمُ بينَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ، في أحدِ الوجْهَينِ. وفي الآخرِ، يُقْسَمُ بيَنَهُنَّ بالسَّويَّةِ) وجُملةُ ذلك، أنَّه إذا تزوَّجَ أرْبَعَ نِسْوةٍ في عَقْدٍ واحدٍ بمَهْرٍ واحدٍ، مثلَ أن يكونَ لهن (¬1) وَلِيٌّ واحدٌ، كبَناتِ الأعْمامِ، أو مُوَلِّيَات لولِيٍّ واحدٍ، ومَن ليس لهنَّ وَلِيٌّ، فزوَّجَهُنَّ الحاكمُ، فالنِّكاحُ صحيحٌ، والمهرُ صحيحٌ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وهو أشْهرُ قَوْلَي الشافعيِّ. والقولُ الثاني، أنَّ المَهْرَ فاسِدٌ، ¬

(¬1) في م: «لهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَجِبُ مَهْرُ المثْلِ؛ لأنَّ ما يجبُ لكُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ مِن المَهْرِ غيرُ معلومٍ. ولَنَا، أنَّ الفَرضَ (¬1) في الجملةِ معلومٌ، فلا يَفْسُدُ بِجَهالتِه في التَّفْصِيلِ، كما لو اشْتَرَى أرْبعةَ أعْبُدٍ مِن رَجُلٍ بثمن واحدٍ، وكذلك الصُّبْرَةُ بثمنٍ واحدٍ, وهو لا يَعْلَمُ قَدْرَ [قُفْزانِها] (¬2). إذا ثبتَ هذا، فإنَّ المَهْرَ يُقْسَمُ بينهُنَّ على قَدْرِ مُهُورِهِنَّ، في قولِ القاضي، وابنِ حامدٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ وصاحبيه (¬3)، والشافعيِّ. وقال أبو بكرٍ: يُقْسَمُ بينَهُنَّ بالسَّويَّةِ؛ لأنَّه أضافَهُ إليهِنَّ إضافَةً واحدةً، فكان بينَهُنَّ بالسَّوَاءِ (¬4)، كما لو وَهَبَه لَهنَّ، أو أقَرَّ به، وكما لو اشْتَرى جماعةٌ ثوبًا بأثْمانٍ مُخْتَلِفةٍ، ثم باعُوهُ مُرابَحةً أو مُساوَمَةً، كان الثَّمنُ بينَهم بالسَّواءِ (4) وإنِ اخْتَلَفَتْ رءُوسُ أمْوالِهم، ولأنَّ القولَ بالتَّقْسيطِ يُفْضِي إلى جَهالةِ العِوَضِ لكُلِّ واحدٍ منهُنَّ، وذلك ¬

(¬1) في م: «الغرض». (¬2) في م: كل قفيز منها». (¬3) في الأصل: «صاحبه». (¬4) في م: «بالسوية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفْسِدُه. ولَنا، أنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَملتْ على شَيئَين مخُتَلفَي القِيمَةِ، فوجَب تَقْسِيطُ العِوَضِ عليهِما بالقِيمَةِ، كما لو بَاعَ شِقْصًا وسَيفًا، أو لو (¬1) اشْتَرى عَبْدَين فوجَدَ أحَدَهما حرًّا [أو مغصوبًا. وقد نصَّ أحمدُ فيما إذا ابتاعَ عَبْدَين فوجد أحدَهما حرًّا، أنَّه] (¬2) يَرْجِعُ بقِيمَتِه من الثمنِ. وكذلك نَصَّ في مَن تزوَّجَ على جارِيَتَين، فإذا إحداهُما حُرَّةٌ، أنَّه يَرْجِعُ بقِيمَةِ الحُرَّةِ. وما ذكَرَه مِن المسألةِ ممنوعٌ. وإن سُلِّم، فالقِيمةُ ثَمَّ واحدةٌ، بخلافِ مَسْألَتِنا. وأَمَّا الهِبَةُ والإِقْرارُ، فليس فيهما قيمةٌ يُرْجَعُ إليها، وتُقْسَمُ الهِبَةُ عليها, بخِلافِ مَسْألَتِنا، وإفْضَاؤُه إلى جَهَالةٍ لا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذا كان معلومَ الجُملةِ. ومثلُ هذه المسألةِ، إذا خَالعَ نِسَاءَه بِعِوَضٍ واحدٍ، فإنَّه يَصِحُّ مع الخِلافِ فيه، ويُقْسَمُ العِوَضُ في الخُلْعِ على قَدْرِ مُهُورِهنَّ، وعندَ أبي بكرٍ، يُقْسَمُ بالسَّويَّةِ. فصل: فإن تزوَّجَ امرأَتين بصَداقٍ واحدٍ، إحداهما ممّن لا يَصِحُّ العَقْدُ عليها؛ لكَوْنِها مُحرَّمَةً عليه، أو غير ذلك، وقلنا بصِحَّةِ النِّكاحِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُخْرَى، فلها بِحِصَّتِها مِن المُسَمَّى. وبه قال الشافعيُّ على [قولٍ، وأبو يُوسُف] (¬1). وقال أبو حنيفةَ: المُسَمَّى كلُّه للَّتِي يَصِحُّ نِكاحُها؛ لأنَّ العَقْدَ الفاسِدَ لا يَتَعَلَّقُ به حُكْمٌ بحالٍ، فصارَ كأنَّه تزَوَّجَها والحائِطَ بالمُسَمَّى. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ على عَينَين إحدَاهما لا يجوزُ العَقْدُ عليها، فلَزِمَه في الأخْرى بحِصَّتِها، كما لو باع عَبدَه وأمَّ وَلَدِه، وما ذكَرَه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ المرأةَ في مُقَابلةِ نِكاحِها مَهْرٌ، بخِلافِ الحائِطِ. فصل: فإن جمع بينَ نِكاحٍ وبيعٍ، فقال: زوَّجْتُك ابْنَتِي وبِعْتُك داري هذه بألفٍ. صَحَّ، ويُقَسَّطُ الألفُ عليهما على قَدْرِ صَداقِها وقيمَةِ الدّارِ. وإن قال: زوَّجْتُكَ ابْنَتِي واشْتَريتُ منك عبدَكَ هذا بألفٍ. فقال: بِعتُكَه وقبِلتُ النِّكاحَ. صَحَّ، ويُقَسَّطُ الألفُ على العبدِ ومَهْرِ مِثْلِها. وقال الشافعيُّ، في أحدِ قولَيه: لا يَصِحُّ البَيعُ والمَهْرُ؛ لإِفْضائِه إلى الجهالةِ (¬2). ولَنا، أنَّهما عَقدانِ يَصِحُّ كُلُّ واحدٍ منهما منفردًا، فَصَحَّ جمْعُهما, كما لو باعَه ثَوْبَين. فإن قال: زوَّجْتُك ولكَ هذا (¬3) الألف بألفَين. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه كمُدِّ عجْوَةٍ. ¬

(¬1) في النسختين: «على قول أبي يوسف». والمثبت كما في المغني 10/ 175. (¬2) في م: «الجعالة». (¬3) في م: «هذه».

فَصلٌ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَالثَّمَنِ، وَإنْ أَصْدَقَهَا دَارًا غَيرَ مُعَيَّنةٍ أَوْ دَابَّةً، لَمْ يَصِحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ويُشْتَرَطُ أن يَكُونَ مَعْلُومًا، كالثَّمَنِ، فإن أَصدَقَها دَارًا غيرَ مُعَيَنةٍ أوْ دَابَّةً، لم يَصِحَّ) وهذا اختيارُ أبي بكرٍ، ومذهبُ الشافعيِّ. وقال القاضي: يَصِحُّ مَجْهُولًا، ما لم تَزِدْ جَهالتُه على مَهْرِ المِثْلِ؛ لأن جعفرَ بنَ محمدٍ نقلَ عن أحمدَ، في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرأةً على ألْفِ دِرْهَمٍ وخادِمٍ، فطَلَّقها قبلَ أن يَدْخُلَ: يُقَوَّمُ الخادِمُ وَسَطًا على قَدْرِ ما يُخْدَمُ مِثْلُها. ونحوُ هذا قولُ أبي حنيفةَ. فعلى هذا، لو تَزَوَّجَها على عَبْدٍ، أو أمَةٍ، أو فرَسٍ، أو بَغْلٍ، أو حَيَوانٍ مِن جِنْسٍ معْلُومٍ، أو ثَوْبٍ هَرَويٍّ

وَإنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا مُطْلَقًا، لَمْ يَصحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو مَرْويٍّ، أو ما أشْبَهَه ممَّا يَذْكُرُ جِنْسَه، فإنَّه يَصحُّ، ولها الوسَطُ (¬1). وكذلك قَفِيزُ حِنْطةٍ، وعَشَرةُ أرْطالِ زَيتٍ. فإن كانتِ الْجَهالةُ تَزِيدُ على جَهالةِ قهْرِ المِثْلِ، كثَوْبٍ أو دابَّةٍ أو حيوانٍ، أو على حُكْمِها [أو حُكْمِه أو حُكْمِ أجْنَبِيٍّ، أو على حِنْطةٍ أو شعيرٍ أو زبيبٍ، أو على ما اكْتَسَبَه مِن (¬2) العامِ، لم يَصِحَّ] (¬3)؛ لأنَّه لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفةِ الوَسَطِ، فيتَعَذَّرُ تَسْلِيمُه. وفي الأوَّلِ يَصحُّ؛ لقولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4): «العَلائِقُ ما تَراضَى عَلَيهِ الأهْلُونَ» (¬5). وهذا قد تَراضَوْا عليه. ولأَنَّه مَوْضِعٌ يَثْبُتُ فيه الحيوانُ في الذِّمَّةِ بَدلًا عمَّا ليس المَقْصُودُ فيه المال، فيَثْبُتُ مُطْلَقًا كالدِّيَةِ، ولأنَّ جهالةَ التَّسْمِيةِ ههُنا أقَلُّ مِن جَهالةِ مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ بنِسائِها ممن (¬6) تُساويها في صِفاتِها وبَلَدِها وزَمانِها ونَسَبِها, ولأنَّه لو تَزَوَّجَها على مَهْرِ المِثْلِ، صَحَّ، فههُنا مع قِلَّةِ الجَهْلِ أوْلَى، ويفارِقُ البيعَ، فإنَّه لا يَحْتَمِلُ فيه الجهالةَ بحالٍ. وقال مالكٌ: يَصحُّ مجهولًا؛ [لأنَّ ذلك] (¬7) ليس بأكْثَرَ من تَرْكِ ذِكْرِه (وإن أصَدَقَها عبْدًا مُطْلَقًا، لم ¬

(¬1) في م: «الفسط». (¬2) في المغني 10/ 113: «في». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في م: «أدوا». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 80. (¬6) في م: «من». (¬7) في م: «لأنه».

وَقَال الْقَاضِي: يَصِحُّ، وَلَهَا الْوَسَطُ، وَهُوَ السِّنْدِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحَّ) وهو قولُ أبي بكرٍ (وقال القاضي: يَصِحُّ، ولها الوسَطُ، وهو السِّنْدِيُّ) كما إذا أصْدَقَها عبدًا أو ثَوْبًا وذكَرَ جنْسَه؛ لأنَّ له وَسَطًا تُعْطاهُ المرأةُ.

3257 - مسألة: (وإن أصدقها عبدا من عبيده، لم يصح. ذكره أبو بكر)

وَإنْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، لَم يَصِحَّ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَرُويَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَهَا أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ إِذَا أَصْدَقَهَا دَابَّةً مِنْ دَوَابِّهِ، أَوْ قَمِيصًا مِنْ قُمْصَانِهِ، وَنَحْوَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3257 - مسألة: (وإن أصْدَقها عبدًا مِن عبيدِه، لم يَصِحَّ. ذَكَره أبو بكرٍ) وقال أبو الخطَّابِ: يَصِحُّ. (و) قد (رُوِيَ صِحَّتُه عن أحمدَ، ولها أحَدُهم بالقُرعةِ. وكذلك يُخرَّجُ إذا أصْدَقَها دَابَّةً مِن دَوابِّه، أو قميصًا مِن قُمْصانِه، أو نحوَه) فإنَّه قد رُوِيَ عن أحمدَ في رِوايةِ مُهَنَّا، في مَن تَزَوَّجَ على عَبْدٍ مِن عبيدِه: جائزٌ، فإن كانوا عَشَرَةَ عبيدٍ، تُعْطىَ مِن أَوْسَطِهم، فإن تَشاحَّا، أُقْرِعَ بينَهم. قلتُ: وتَسْتَقِيمُ القرعهُّ في هذا؟ قال: نعم. ووَجْهُ ذلك أنَّ الجَهَالةَ في هذا يَسِيرَةٌ، ويمكنُ التَّعْيِينُ بالقُرعةِ، بخِلافِ ما إذا أصْدَقَها عبدًا مطْلَقًا، فإنَّ الجَهالةَ تَكْثُرُ، فلا يَصِحُّ. ولَنا، أنَّ الصَّداقَ عِوَضٌ في عَقْدِ معاوضةٍ فلم يَصِحَّ مجهولًا، كعِوَضِ البَيعِ والإِجارةِ، ولأنَّ المجهولَ لا يَصْلُحُ عِوَضًا في البَيعِ، فلم تَصِحَّ تَسْمِيتُه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُحَرَّمِ، وكما لو زادَتْ جَهالتُه على مَهرِ المِثْلِ. وأمَّا الخَبَرُ، فالمرادُ به ما تَراضَوْا عليه مما يَصْلُحُ عوضًا، بدلِيلِ سائرِ ما لا يَصْلُحُ. وأمَّا الدِّيَة، فإنَّها تَثْبُتُ بالشَّرْعِ لا بالعَقْدِ، وهي خَارِجَةٌ عن القِياسِ في تَقْدِيرِها ومَن وَجَبَتْ عليه، فلا يَنْبَغِي أن تُجْعَلَ أصلًا، ثم إنَّ الحيَوانَ الثَّابتَ فيها موْصوفٌ بسِنِّه، مُقدَّرٌ بقِيمَتِه (¬1)، فكَيفَ يُقَاسُ عليه العَبْدُ المطلقُ في الأمْرَين! ثم ليسَتْ عقدًا، وإنَّما الواجبُ فيها بَدَلُ مُتْلَفٍ، لا يُعْتَبَرُ فيه التَّراضِي، فهو كقِيمَةِ المُتْلَفاتِ، فكيفَ يُقاسُ عليها عِوَضٌ في عَقْدٍ يُعْتَبَرُ تَراضِيهما به! ثم إنَّ قِياسَ العِوَضِ في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ على عِوَض في مُعاوضةٍ أُخرى، أَصَحُّ وأوْلَى مِن قِياسِه على بَدَلِ مُتْلَفٍ. وأمَّا مَهْرُ المِثْلِ، فإنَّما يجِبُ عندَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ الصحيحةِ، كما تجبُ قِيَمُ المُتْلَفاتِ وإن كانت تحتاجُ إلى نَظرٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «قيمته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا تَرى أنَّا نَصِيرُ إلى مَهْرِ المِثْلِ عندَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، ولا نَصِيرُ إلى عَبْدٍ مُطْلَقٍ، ولو باع ثَوْبًا بعبدٍ مُطْلقٍ فأتْلَفَه المشترِي، فإنَّا نَصِيرُ إلى تَقْويمِه، ولا نُوجبُ العَبْدَ المُطْلقَ، ثم لا نُسَلِّمُ أنَّ جَهالةَ المُطْلَقِ مِن الجِنْسِ الواحدِ دُونَ جَهالةِ مهرِ المِثْلِ، فإنَّ العادةَ في القبائلِ والقُرَى أن يكونَ لنِسائِهمِ مَهْرٌ، لا يكادُ يختلِفُ إلَّا بالبَكارةِ والثُّيُوبةِ فقط، فيكونُ إذًا مَعْلُومًا، والوَسَطُ مِن الجِنْسِ يَبْعُدُ الوقوفُ عليه؛ لكثرةِ أنواعِ الجِنْسِ واخْتلافِها، واخْتلافِ الأعيانِ في النَّوْعِ الواحدِ. وأمَّا تَخْصيصُ التصْحيحِ بعَبْدٍ مِن عبِيدِه، فلا نظيرَ له يُقاسُ عليه، ولا نعلمُ فيه نصًّا يُصارُ إليه، فكيف يَثبُتُ الحُكْمُ فيه بالتَّحَكُّمِ! وأمَّا نُصوصُ أحمدَ على الصِّحَّةِ، فتَأوَّلَها أبو بكرٍ على أنَّه تَزَوَّجَها على عبدٍ مُعَيَّن، ثم أشْكَلَ عليه.

وَإنْ أَصْدَقَها عَبْدًا مَوْصُوفًا، صَحَّ، وَإنْ جَاءَهَا بِقِيمَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ لها مَهْرَ المِثْل. في كلِّ موضعٍ حَكَمْنا بفسادِ التَّسميةِ، ومَن قال بصحَّتِها أوجب الوَسَطَ مِن المُسَمَّى، والوَسَطُ مِن العَبيدِ السِّنْدِيّ؛ لأنَّ الأَعْلَى التُّرْكِيُّ والرُّومِيُّ، والأسْفَلَ الزِّنْجِيُّ والحَبَشِيُّ، والوَسَطَ السِّنْدِيُّ والمَنْصُورِيُّ. فصل: (وإن تَزَوَّجَها على عبدٍ موصوفٍ) في الذِّمَّةِ (صَحَّ) لأنَّه يَجُوزُ أن يكونَ عِوضًا في البَيعِ (فإن جاءها بقِيمتِه، لم يَلْزَمْها قَبُولُها)

3258 - مسألة: (و)

أوْ أصْدَقَهَا عَبْدًا وَسَطًا وَجَاءَهَا بِقِيمَتِهِ، أوْ خَالعَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَتْهُ بِقِيمَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهَا. وَقَال الْقَاضِي: يَلْزَمُهَا ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الشافعيُّ. وهو اخْتِيارُ أبي الخطابِ (وقال القاضي: يَلْزَمُها ذلك) قياسًا على الإِبلِ في الدِّيَةِ. ولَنا، أنَّها اسْتَحَقَّتْ عليه عَبْدًا بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فلم يَلْزَمْها أخْذُ قِيمَتِه، كالمُسْلَمِ فيه، ولأنَّه عبدٌ وجب صدَاقًا، فأشْبَهَ ما لو كان مَعِيبًا، وأمَّا الدِّيَةُ فلا يَلْزَمُه أخْذُ قِيمَةِ الإِبلِ، وإنَّما الأَثْمَانُ أصْلٌ في الدِّيَةِ، [كما أنَّ الإِبلَ أصلٌ] (¬1)، فيتَخَيَّرُ بينَ دفعِ (¬2) أيِّ الأُصولِ شاءَ، فيَلْزَمُ الوَلِيَّ قَبُولُهْ، لا (2) على طريقِ القِيمَةِ، بخِلافِ مَسْألتِنا, ولأنَّ الدِّيَةَ خارِجةٌ عن القياسِ، فلا يُناقَضُ بها, ولا يُقاسُ عليها، ثم قياسُ العِوَضِ على سائرِ الأعْواضِ أوْلَى مِن قِياسِه على غيرِ (¬3) عُقودِ المُعاوَضاتِ، ثم يَنْتَقِضُ بالعَبْدِ المُعَيَّنِ. 3258 - مسألة: (و) كذلك إن (أصْدَقَها عبدًا) مُطْلقًا (فجاءَها بقِيمتِه، أو خَالعَتْهُ على ذلك فجاءَتْهُ بقِيمَتِه، لم يَلْزَمْها قَبُولُها) وقال القاضي: يَلْزَمُهما ذلك، إلحاقًا بالدِّيَةِ. وقد ذَكَرْنا الفَرْقَ بينَهما، وأنَّ الصَّحيحَ خِلاف قَوْلِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن تَزَوَّجَها على أن يُعْتِقَ أبَاها، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ. فإن [طُلِبَ به] (¬1) أَكثَرُ مِن قِيمتِه، أو تَعَذَّرَ عليه، فلها قيمتُه. وهذا قولُ الشَّعْبِيِّ؛ لِما نذْكُرُه في الفصلِ الذي يليه. فإن جاءَها بقِيمتِه مع إمكانِ شِرَائِه، لم يَلْزَمْها قَبُولُه؛ لِما ذَكَرْناه، ولأنَّه يُفَوِّت عليها الغَرَضَ (¬2) في عِتقِ أبِيها. فصل: فإن تَزَوَّجها على أن يشتَرِيَ لها عبدًا بعَينِه، فلِم يَبِعْه سَيِّدُه، أو طُلِبَ به أكْثَرُ مِن قِيمتِه، أو تَعَذَّرَ عليه، فلها قِيمَتُه. نصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ الأثرَمِ. وقال الشافعيُّ: لا تَصِحُّ التَّسْمِيةُ، ولها مهرُ المِثْلِ؛ لأنَّه جَعَلَ مِلْكَ غيرِه عِوَضًا، فلم يَصِحَّ، كالبَيعِ. ولَنا، أنَّه أصْدَقَها تَحْصِيلَ عَبْدٍ مُعَيَّن، فَصَحَّ، كما لو تَزَوَّجها على رَدِّ عَبْدِها الآبِقِ مِن مكانٍ معلومٍ، ولا نُسَلِّمُ أَنه جَعل مِلْكَ غيرِه عِوَضًا، وإنَّما العِوَضُ تَحْصِيلُه وتَمْلِيكُها إيَّاه. إذا ثبت هذا، فإنَّه إن (¬3) قَدَر عليه (¬4) بِثَمَنِ ¬

(¬1) في م: «طلبت». (¬2) في الأصل: «العوض». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «على دفع صداقها».

3259 - مسألة: (وإن أصدقها طلاق امرأة له أخرى، لم يصح. وعنه، يصح. فإن فات طلاقها بموتها، فلها مهرها في قياس المذهب)

وَإنْ أَصْدَقَهَا طَلَاقَ امْرَأَةٍ لَهُ أخْرَى، لَمْ يَصِحَّ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ. فَإِنْ فَاتَ طَلَاقُهَا بِمَوْتِهَا، فَلَهَا مَهْرُهَا في قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِه، لَزِمَه تَحْصِيلُه وَدفْعُه إليها، وإن جاءَها بقِيمَتِه، لم يَلْزَمْها قَبُولُها؛ لأنَّه قَدَر على دَفْعِ صَداقِها إليها، فلَزِمَه، كما لو أصْدَقَها عَبْدًا يَمْلِكُه. فإن تَعَذَّرَ عليه الوُصولُ إليه، لتلَفِه (¬1) أو غيرِ ذلك، أو طُلِبَ به أكْثَرُ مِن قِيمَتِه، فلها قِيمَتُه؛ لأنَّه تعَذَّرَ الوُصولُ إلى قَبْضِ المُسَمَّى المُتَقَوَّمِ (¬2)، فوَجَب قِيمَتُه، كما لو تَلِفَ، فإن كان الذي جعَلَ لها مِثْلِيًّا، فلها مِثلُه عندَ التَّعَذُّرِ؛ لأنَّ المِثْلَ أقْرَبُ إليه. 3259 - مسألة: (وإن أصْدَقَها طَلاقَ امْرأةٍ له أُخْرَى، لم يَصحَّ. وعنه، يصِحُّ. فإن فاتَ طَلاقُها بمَوْتِها، فلها مَهْرُها في قِياسِ المذْهَبِ) ظاهِرُ المذْهَبِ أنَّ المُسَمَّى ههُنا لا يَصحُّ، ولها مهرُ مِثْلِها. وهذا اخْتِيارُ ¬

(¬1) في م: «لتكلفه». (¬2) في م: «المتقدم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكرٍ، وقولُ أكثر (¬1) الفقهاءِ؛ لأنَّ هذا ليس بمالٍ، وقد قال اللهُ تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬2). ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَسْأَلُ المرأةُ طَلاقَ أُخْتِها, لتَكْتَفِئَ (¬3) ما في صَحْفَتِها (¬4)، ولتَنْكِحْ، فإنَّما (¬5) لها ما قُدِّرَ لها». صحيحٌ (¬6). ورَوى عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو (¬7)، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا يَحِلُّ لرَجُلٍ أنْ يَنْكِحَ امرأةً بِطَلاقِ أُخْرَى» (¬8). ولأنَّ هذا لا يَصْلُحُ ثَمَنًا في بَيعٍ، ولا أجرًا في إجارَةٍ، فلم يَصِحَّ صداقًا، كالمَنافِع المحرَّمَةِ. فعلى هذا، يكونُ حُكْمُه حُكْمَ ما لو أصْدَقَها خَمرًا أو نَحوَه، يكونُ لها مهرُ المِثْلِ، أو نِصْفُه إن طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، أو المُتْعَةُ عندَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 24. (¬3) في م: «لتكفى». (¬4) في م: «صحيفتها». (¬5) في م: «فإن». (¬6) تقدم تخريجه في 20/ 396. (¬7) في م: «عمر». (¬8) أخرجه الإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن يُوجِبُها في التَّسْمِيَةِ الفاسِدَةِ. وعنِ أحمدَ رِوايةٌ أخْرَى، أنَّ التَّسْمِيَةَ صحِيحةٌ؛ لأنَّه شَرَطَ فِعلَا لها فيه (¬1) نفْعٌ وفائدةٌ، لِما يَحْصُلُ لها مِن الرَّاحَةِ بطَلاقِها مِن مُقاسمتِها وضَرَرِهَا والغَيرَةِ مِنها، فَصَحَّ هذا كعِتْقِ أبِيها، وخِياطَةِ قَمِيصِها, ولهذا صَحَّ بَدَلُ العِوَضِ في طَلاقِها بالخُلْعِ. فعلى هذا، إن لم يُطَلِّقْ ضَرَّتَها، فلها مِثْلُ صَداقِ الضَّرَّةِ؛ لأنَّه سَمَّى لها صداقًا لم تَصِلْ إليه، فكان لها قِيمَتُه، كما لو أصْدَقَها عبدًا فخرَجَ حرًّا. ويَحْتَمِلُ أنَّ لها مَهْرَ مِثْلِها؛ لأنَّ الطَّلاقَ لا قِيمَةَ له. فإن جعَل صَداقَها أنَّ طَلاقَ ضَرَّتِها إليها إلى سنَةٍ، [فلم تُطَلِّقْها، فقال أحمدُ: إذا تزوَّج امرأة، وجعَل طلاقَ الأولى مَهْرَ الأُخرى إلى سَنةٍ] (¬2) أو إلى وَقْتٍ، فجاءَ الوَقْتُ ولم تَقْضِ شيئًا، رجَع الأمْرُ إليه. فقد [أسقَطَ أحمدُ حقَّها] (¬3)؛ لأنَّه جعلَه لها إلى وَقْتٍ، فإذا مضَى الوَقْتُ ولم تَقْضِ فيه شيئًا، بطَل تصرُّفُها، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أسقطه أَحْمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالوكيلِ. وهل يَسْقُطُ حَقُّها مِن المَهْرِ؟ فيه وجهان، ذكَرهما أبو بكرٍ؛ أحدُهما، يَسْقُطُ؛ لأنَّها ترَكتْ ما شرَط لها باخْتِيارِها، فسَقَط حَقُّها، كما لو تَزَوَّجَها على عبدٍ فأعْتقَتْه. والثاني، لا يَسْقُطُ؛ لأنَّها أخَّرَتِ استِيفاءَ حقِّها، فلم يَسْقُطْ، كما لو أخَّرَتْ قَبْضَ دَراهِمِها. وهل يَرْجِعُ إلى مَهْرِ مِثْلِها، [أو إلى] (¬1) مَهْرِ الأُخْرَى؟ يَحْتَمِلُ وجهَين. فصل: الزِّيادَةُ في الصَّداقِ بعدَ العَقْدِ تَلْحَقُ به. نَصَّ عليه أحمدُ، قال في الرَّجُلِ يتَزَوَّجُ المرأةَ على مَهْرٍ، فلمَّا رآها زادَها في مَهْرِها: فهو جائِزٌ، فإن طلَّقها قبلَ الدُّخولِ بها، فلها نِصْفُ الصَّداقِ الأوَّلِ، ونِصْفُ الزِّيادَةِ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا تَلْحَقُ الزِّيادَةُ بالعَقْدِ، فإن زادَها، فهي هِبَةٌ تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ، وإن طلَّقها بعدَ هِبَتِها, لم يَرْجِعْ ¬

(¬1) في الأصل: «أولى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بشيءٍ مِن الزِّيادَةِ. قال القاضي: وعن أحمدَ مثْلُ ذلك، فإنَّه قال: إذا زوَّج رَجلٌ أمَتَه عَبْدَه، ثم أَعْتَقَهما جميعًا، فقالتِ الأمَةُ: زِدْنِي في مَهْرِي حَتَّى أخْتارَكَ. فالزِّيادَةُ للأَمَةِ، ولو لحِقَتْ بالعَقْدِ، كانتِ الزِّيادَةُ للسَّيِّدِ. قال شيخُنا (¬1): وليس هذا دليلًا على أنَّ الزيادةَ لا تَلْحَقُ بالعَقْدِ، فإنَّ معْنى لُحُوقِ الزيادَةِ بالعَقْدِ، أَنَّها تَلْزَمُ ويَثْبُتُ فيها أحكامُ الصَّداقِ، مِن التَّنْصِيفِ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، وغيرِه، وليس (¬2) معناه أنَّ المِلْكَ يَثْبُت فيها قبلَ وُجُودِها، وأنَّها تكونُ للسَّيِّدِ. وحُجَّةُ الشافعيِّ أنَّ الزَّوْجَ مَلَك البُضْعَ بالمُسَمَّى في العَقْدِ، فلم يَحْصُلْ بالزِّيادَةِ شيءٌ مِنَ المعْقُودِ عليه، فلا يكونُ عِوضًا في النِّكاحِ، كما لو وهَبَها شيئًا, ولأنَّها زيادةٌ في عِوَضِ العَقْدِ بعدَ لُزُومِه، فلم تَلْحَقْ به، كما في البَيعِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا تَرَاضَيتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (¬3). ولأنَّ ما بعدَ العَقْدِ زمنٌ لِفرضِ المَهْرِ، فكان حالةً للزِّيادَةِ (¬4) كحالةِ العَقْدِ. وبهذا فارق البَيعَ والإِجارةَ. وقولُهم: إنَّه لم (¬5) يَمْلِكْ شيئًا مِن المعْقُودِ عليه. قُلْنا: هذا يَبْطُلُ بجميعِ الصَّداقِ؛ فإنَّ المِلْكَ ما حصل به، ولهذا صَحَّ خُلوُّه عنه، وهذا أَلْزَمُ عندَهم، فإنَّهم قالوا: مَهْرُ المُفَوّضَةِ إنَّما ¬

(¬1) في المغني 10/ 179. (¬2) في م: «ولأن». (¬3) سورة النساء 24. (¬4) في م: «الزيادة». (¬5) في م: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجب بِفَرْضِه لا بالعَقْدِ، وقَدْ مَلَكَ البُضْعَ بدُونِه. ثم إنَّه يجُوزُ أن يَسْتَنِدَ ثُبُوتُ هذه الزيادةِ إلى حالةِ العَقْدِ، فيكون كأنَّه ثبَت بِهما جميعًا، كما قالوا في مَهْرِ المُفَوّضَةِ إذا فرَضه، وكما قُلْنا جميعًا فيما إذا فرَض لها أكثرَ مِن مَهْرِ مِثْلِها. إذَا ثبَت هذا، فإنَّ معنَى لُحُوقِ الزيادَةِ بالعَقْدِ، أنَّه يَثْبُتُ لها حُكْمُ المُسَمَّى في العَقْدِ، في أنَّها تُنَصَّفُ (¬1) بالطَّلَاقِ قبلَ الدُّخولِ، ولا تَفْتَقِرُ إلى شُرُوطِ الهِبَةِ، وليس معناه أنَّ المِلْكَ يَثْبُتُ فيها مِن حينِ العَقْدِ، ولا أنَّها تَثْبُتُ لمَن كان الصَّداقُ له؛ لأنَّ المِلْكَ لا يجوزُ تَقَدُّمُه على سَبَبِه، ولا وُجودُه في حالِ عَدَمِه، وإنَّما يَثْبُتُ المِلْكُ بعدَ سَبَبِه مِن حِينئذٍ. وقال القاضي: في الزِّيادَةِ وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تَسْقُطُ بالطَّلاقِ. قال شيخُنا (¬2): ولا أعْرِفُ [وَجْهَ] (¬3) ذلك، فإنَّ مَن جعَلَها صداقًا، جعلَها تَسْتَقِرُّ بالدُّخولِ، وتَتَنَصَّفُ بالطَّلاقِ قَبْلَه، وتَسْقُطُ كُلُّها إذا جاء الفَسْخُ مِن قِبَل المرأةِ، ومَن جعلَها هِبَةً (¬4)، لا تَتَنَصَّفُ بطَلاقِها، إلَّا أن تكونَ غيرَ مَقْبوضَةٍ، فإنَّها عندَه (¬5) غيرُ لازِمَةٍ، فإن كان القاضي أَرادَ ذلك، فهذا وَجْهٌ، وإلَّا فلا. ¬

(¬1) في الأصل: «تنتصف». (¬2) في المغني 10/ 179. (¬3) زيادة من: المغني. (¬4) بعده في المغني: «جعلها جميعها للمرأة». (¬5) في م: «عدة». وانظر ما تقدم في 17/ 17، 18.

3260 - مسألة: (وإن تزوجها على ألف إن كان أبوها حيا، وألفين إن كان ميتا، لم تصح)

وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا، وَأَلْفَينَ إِنْ كَانَ مَيِّتًا، لَمْ يَصِحَّ. نَصَّ عَلَيهِ. وَإنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ، وَأَلْفَينِ إنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ، لَمْ يَصِحَّ في قِيَاسِ الَّتِي قبْلهَا. وَالمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3260 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَها على أَلْفٍ إن كانَ أَبُوها حيًّا، وألفَينِ إن كان ميِّتًا، لم تَصِحَّ) التَّسْمِيَةُ، ولها صَداقُ نِسائِها (نَصَّ عليه) أحمدُ في رِوايةِ مُهَنَّا؛ لأنَّ حال الأبِ غيرُ معلومَةٍ، فيكونُ مَجْهولًا. 3261 - مسألة: (وإن تزوَّجها على ألْفٍ إن لم يكنْ له زوجةٌ، وألْفَينِ إن كان له زوجةٌ، لم تَصِحَّ) التَّسْمِيَةُ (في قِياسِ التي قَبْلَها)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن تَزَوَّجَها على ألْفٍ إن لم يُخْرِجْها مِن دارِها، [وعلى ألْفَين إن أخرَجَها مِن دارِها] (¬1). ونَصَّ أحمدُ على صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ في هاتَين المَسْألَتَين. قال أبو بكرٍ، [والقاضي] (¬2): في الجميعِ رِوايَتانِ؛ إحدَاهما، لا يَصِحُّ. [واختارَه أبو بكرٍ] (¬3)؛ لأنَّ سبيلَه سبيلُ الشَّرْطَين، فلم يَجُزْ، كالبَيعِ. والثانيةُ، يَصِحُّ؛ لأنَّ [ألفًا معلومةٌ] (¬4)، وإنَّما جُهِلَ الثاني، وهو معلَّقٌ (¬5) على شَرْطٍ، فإن وُجِدَ الشَّرْطُ، كان زيادَةً في الصداقِ، وهي جائزةٌ. والأُولَى أَوْلَى. والقولُ بأنَّ هذا تَعلِيقٌ على شَرْطٍ لا يَصِحُّ؛ لوجهين؛ أحدُهما، أنَّ الزيادَةَ لا يَصِحُّ تعلِيقُها على شرطٍ، فلو قال: إن مات أبوكِ، فقَدْ زِدْتُكِ في (¬6) صَداقِكِ ألفًا. لم يَصِحَّ، ولم تَلْزَمِ الزيادَةُ عندَ مَوْتِ الأبِ. والثاني، أنَّ الشَّرْطَ ههُنا لم يتَجَدَّدْ في قولِه: إن كان لي زَوْجَةٌ -أو (¬7) - إن كان أبُوك ميِّتًا. ولا الذي جَعَل الألْفَ فيه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «وهو اختيار أبي بكر». (¬4) في م: «الألف معلوم». (¬5) في م: «معلوم». (¬6) في م: «إلى». (¬7) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معلومَ (¬1) الوُجودِ؛ ليكونَ الألْفُ الثاني زيادَةً عليه. ويمكِنُ الفَرْقُ بينَ المسْألَةِ التي نَصَّ أحمدُ على إبْطالِ التَّسْمِيَةِ فيها وبينَ التي نَصَّ على الصِّحَّةِ فيها، بأنَّ الصِّفَةَ التي جعَل الزيادةَ فيها ليس للمرأةِ فيها غَرَضٌ يَصِحُّ بَذْلُ العِوَضِ فيه، وهو كونُ أبِيها ميِّتًا، بخِلافِ المسْألتَينِ اللَّتَينِ صَحَّحَ التَّسْمِيَةَ فيهما، فإنَّ خُلُوَّ المرأةِ مِن ضَرَّةٍ تُعَيِّرُها (¬2)، وتُقَاسِمُها، وتُضيِّقُ عليها، مِن أكبرِ أغراضِها، وكذلك قَرارُها (¬3) في دارِها (¬4) بينَ أهلِها وفي وَطَنِها، فلذلك خفَّفتْ صَداقَها لتَحْصيلِ غَرَضِها، وثقَّلَتْه عندَ فَواتِه. فعلى هذا، يَمْتَنِعُ قياسُ إحدى الصورَتَين على الأُخرى، ولا يكونُ في كلِّ مَسْأَلةٍ إلَّا رِوايَةٌ واحدةٌ، وهي الصِّحَّةُ في المَسْأَلتَينِ الآخِرَتَين، والبُطْلانُ في المسألةِ الأولَى، وما جاء مِن المسائِلِ أُلْحِقَ بأشْبهِهما (¬5) به. ¬

(¬1) في ا: «معلومة». (¬2) كذا في النسختين، وفي المغني 10/ 177: «تغيرها». (¬3) في م: «إقرارها». (¬4) في م: «دار لها». (¬5) في م: «ما أشبهها».

3262 - مسألة: (وإذا قال العبد لسيدته: أعتقيني على أن أتزوجك. فأعتقته على ذلك، عتق، ولم يلزمه شيء)

وَإذَا قَال الْعَبْدُ لِسَيِّدَتِهِ: أَعْتِقِينِي عَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَكِ. فَأَعْتَقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، عَتَقَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَإذَا فَرَضَ الصَّدَاقَ مُؤجَّلًا وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3262 - مسألة: (وإذا قال العَبْدُ لسَيِّدَتِه: أَعْتِقِينِي على أن أتَزَوَّجَكِ. فأعتَقَتْه على ذلك، عَتَقَ، ولم يَلْزَمْه شيءٌ) وكذلك إن قالتْ لعَبْدِها: أعْتَقْتُك على أن تَتَزَوَّجَ بي. لم يَلْزَمْه ذلك، ويَعْتِقُ، ولا يَلْزَمُه قيمَةُ نَفْسِه؛ لأنَّها اشْتَرَطَتْ عليه شَرْطًا هو حَقٌّ له، فلم يَلْزَمْه، كما لو شَرَطَت عليه أن تَهَبَه دَنانيرَ فيَقْبَلَها, ولأنَّ النكاحَ مِن الرَّجلِ لا عِوضَ له، بخلافِ نكاحِ المرأةِ، وكذلك لو شرَط السيدُ على أمتِه أن تُزوِّجَه نفْسَها, لم يَلْزَمْه ذلك. 3263 - مسألة: (وإذا فرَض الصَّداقَ مُؤجَّلًا ولم

يَذْكُرْ مَحِلَّ الأجَلِ، صَحَّ في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَمَحِلُّهُ الْفُرْقَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَذْكُرْ محِلَّ الأجَلِ، صَحَّ. ومحِلُّه الفُرقَةُ عندَ أصحابِنا، وعندَ أبي الخطابِ لا يَصِحُّ) يجوزُ أن يكونَ الصَّداقُ مُؤَجَّلًا ومُعَجَّلًا، وبَعْضُه مُعَجَّلًا وْبَعْضُه مُؤَجَّلًا؛ لأنَّه عَقْدٌ في مُعاوَضَةٍ، فجازَ ذلك فيه، كالثَّمَنِ. ومتى أَطْلَقَ اقْتَضَى الحُلُولَ، كما لو أَطْلَقَ ذِكْرَ الثَّمَنِ. وإن شَرَطَه مُؤجَّلًا إلى وَقْتٍ، فهو إلى أجَلِه. وإن شَرَطَه مُؤجَّلًا ولم يَذْكُرْ أجَلَه، فقال القاضي: يَصِحُّ، ومَحِلّه الفُرْقَةُ (¬1). قال أحمدُ: إذا تزَوَّج (¬2) على العاجلِ والآجل، لا يَحِلُّ إلَّا بموتٍ أو فُرْقةٍ. وهذا قولُ النَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ. وقال الحسنُ، وحمّادُ بنُ أبي سليمانَ، وأبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ: يَبْطُلُ الأجَلُ، ويكونُ حالًا. وقال إياسُ بنُ مُعَاويةَ: لا يَحِلُّ حتَّى يُطَلِّقَ، أو يَخْرُجَ مِن مِصْرِها، أو يَتَزَوَّجَ عليها (¬3). وعن مَكْحولٍ، ¬

(¬1) بعده في م: «عند أصحابنا». (¬2) في م: «زوج». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوْزَاعِيِّ: يَحِلُّ إلى سنةٍ بعدَ الدُّخُولِ بها. واختارَ أبو الخطَّابِ فسادَ المُسَمَّى، ولها مَهْرُ المِثْلِ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه عِوَضٌ مَجْهُولُ المَحِلِّ، فَفَسَدَ، كثمنِ المَبِيعِ. وَوَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ المُطْلَقَ يُحْمَلُ على العُرْفِ (¬1)، والعادةُ في الصَّداقِ الآجلِ تَرْكُ المطالبةِ به إلى حينِ الفُرْقَةِ، فحُمِلَ عليه، فيَصِيرُ حينئذٍ معلومًا بذلك. فأمَّا إن جَعَل الأجَلَ مُدَّةً مجْهُولةً (¬2)، كقُدُومِ زَيدٍ ونحوه، لم يَصِحَّ؛ للجهالةِ، وإنَّما صَحَّ المُطْلَقُ لأنَّ أجَلَه الفُرْقَةُ بحُكْمِ العادَةِ، وقد صَرَفَه ههُنا عن العادَةِ بذكْرِ الأجَلِ، ولم يُبَيِّنْه، فبَقِيَ مجهولًا، فَيَحْتَمِلُ أن تَبْطُلَ التَّسْمِيَةُ، ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ التَّأْجِيلُ ويَحِلَّ. ¬

(¬1) في م: «الفرقة». (¬2) في م: «معلومة».

فَصْلٌ: وَإنْ أصْدَقَهَا خَمْرًا أوْ خِنْزِيرًا أوْ مَالًا مَغْصُوبًا، صَحَّ النِّكَاحُ، وَوَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يُعْجِبُهُ اسْتِقبَال النِّكَاحِ. اخْتَارَهُ أبُو بَكْرٍ. وَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وإن أصْدَقَها خَمْرًا أو خِنْزِيرًا أو مَالًا مَغْصُوبًا، صَحَّ النِّكاحُ، وَوَجَب مَهْرُ المِثْلِ) نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال عامَّةُ الفقهاءِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وحُكِيَ عن أبي عُبَيدٍ أنَّ النِّكاحَ فاسِدٌ. اخْتارَه أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ. ورُوِيَ عن أحمدَ نحوُ ذلك، فإنَّه قال في رِوايةِ المَرُّوذِيِّ: إذا تَزَوَّجَ على مالٍ (¬1) غيرِ طَيِّبٍ، فكَرِهَه. فقلتُ: تَرَى اسْتِقْبال النِّكاحِ؟ فأعْجَبَه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه يَثْبُتُ إذا دَخَل بها، وإن كان قَبْلَه فُسِخَ. قالوا: لأنَّه نِكاحٌ جُعِلَ الصَّدَاقُ فيه مُحَرَّمًا، فأشْبَه نِكاحَ الشِّغَارِ. ولَنا، أنَّه نِكاحٌ لو كان عِوَضُه صحيحًا، كان صحيحًا، فوَجَب أن يَصِحَّ وإن كان عِوضُه (¬1) فاسدًا، كما لو كان مجْهُولًا. ولأنَّه عَقْدٌ لا يَبْطُلُ بجهالةِ العِوَضِ، فلا يَفْسُدُ بتَحْريمِه، كالخُلْعِ، ولأنَّ فسادَ العِوَضِ لا يَزِيدُ على عَدَمِه، ولو عُدِمَ كان العَقْدُ صحيحًا، فكذلك إذا فَسَدَ. وكلامُ أحمدَ في رِوايةِ المَرُّوذِيِّ محمولٌ على الاسْتِحْبابِ، فإنَّ مسْألةَ المرُّوذِيِّ في المالِ الذي ليس بطَيِّبٍ، وذلك لا يَفْسُدُ العَقْدُ بتَسْمِيَتِه فيه. وما حُكِيَ عن مالكٍ لا يَصِحُّ، وما كان فاسِدًا قبلَ الدُّخولِ فهو بعدَه فاسدٌ، كنِكاحِ ذواتِ المحارِمِ. فأمّا إذا فَسَدَ الصَّداقُ (¬2) لجهالتِه، أو عَدَمِه، أو العَجْزِ عن تَسْلِيمِه، فالنِّكاحُ ثابِتٌ. لا نَعْلَمُ فيه خلافًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الطلاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، (¬1) وأصْحابُ الرَّأْي. وذلك لأنَّ فَسادَ العِوَضِ يَقْتَضِي رَدَّ العِوَضِ، وقد تَعَذَّرَ رَدُّه لِصِحَّةِ النكاحِ، فيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِه، وهو مهرُ المِثْلِ، كمَن اشْتَرى شيئًا بثمنٍ فاسِدٍ، فقَبَضَ المَبِيعَ، وتَلِفَ في يَدِه، فإنَّه يَجِبُ عليه رَدُّ قيمتِه. فإن دَخَل بها، اسْتَقَرَّ مهرُ المِثْلِ في قولِهم جميعًا. وإن مات أحَدُهما، فكذلك؛ لأنَّ الموتَ يَقومُ مَقامَ الدُّخولِ في تَكْمِيلِ الصَّداقِ وتَقْرِيرِه. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه روايةٌ أخْرَى، أنَّه لا يَسْتقِرُّ بالموتِ، إلَّا أن يكونَ قد فَرَضَه لها. ¬

(¬1) من هنا سقط من: م إلى قوله: «فلم لا يقولون». في فصل: «وإن تزوجها على عبدين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ مهرُ المثْلِ بالغًا ما بَلَغ. وبه قال الشافعيُّ، وزُفَرُ. وقال أبو حنيفةَ وصاحباه: يَجِبُ الأقَلُّ مِن المُسمَّى أو مهرِ المثلِ؛ لأنَّ البُضْعَ لا يُقَوَّمُ إلَّا بالعَقْدِ، فإذا رَضِيَتْ بأقلَّ من مهرِ مِثْلِها, لم يُقَوَّمْ بأكْثرَ ممَّا رَضِيَتْ به؛ لأنَّها رَضِيَتْ بإسْقاطِ الزِّيادةِ. ولَنا، أنَّ ما يُضْمَنُ بالعَقْدِ الفاسدِ، اعتُبِرَتْ قيمتُه بالغًا ما بَلَغَ، كالمبيعِ، وما ذكرُوه مَمْنوعٌ، لا يَصِحُّ عندَهم؛ فإنَّه لو وطِئَها وَجَب مهرُ المثْلِ، ولم يَكنْ له قيمةٌ، فَلِمَ يَجبُ؟ فإن قيل: إنَّما وَجَب لحقِّ الله تعالى. قيل: لو كان كذلك لوَجَبَ أقلُّ المهرِ ولم يَجِبْ مهرُ المثْلِ. فصل: فأمّا إن طَلَّقها قبلَ الدُّخولِ فلها نصفُ مهرِ المِثْلِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرأْي: لها المتْعَةُ، كما لو لم يُسَمِّ لها صداقًا؛ لأنَّ هذه التَّسْميةَ كعَدَمِها. وذكَر القاضي في «الجامعِ»، أنَّه لا فَرْقَ بينَ مَن لم يُسَمِّ لها صداقًا وبينَ مَن سَمَّى لها مُحرَّمًا كالخَمْرِ، أو مَجْهولًا كالثَّوْبِ، في الجميعِ روايتان؛ إحْداهما، لها المتعةُ إذا طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ؛ لأنَّ ارْتِفاعَ العَقْدِ يُوجبُ رَفْعَ ما أوْجَبَه مِن العِوَضِ، كالبَيعِ، لكنْ تَركْناه في نِصْفِ المُسمَّى لتَراضِيهما عليه، فكان ما تَراضَيا عليه أَوْلَى، ففي مهرِ

3264 - مسألة: (وإن تزوجها على عبد فخرج حرا أو مغصوبا، أو عصير فبان خمرا، فلها قيمته)

وَإنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَخَرَجَ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا، أو عَصِيرِ فَبَانَ خَمْرًا، فَلَهَا قِيمَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المثْلِ يَبْقَى على الأصْلِ في أنَّه يَرْتَفِعُ وتَجِبُ المُتْعةُ. والثانية، أنَّ لها نِصْف مهرِ المِثْلِ؛ لأنَّ ما أَوْجَبَه عَقْدُ النكاحِ يَنْتَصِفُ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، ومهرُ المثْلِ قد أَوْجَبَه العَقْدُ، فيَنتَصِف به، كالمُسَمَّى. 3264 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَها على عبدٍ فخَرَجَ حرًّا أو مَغْصُوبًا، أو عصيرٍ فبان خَمْرًا، فلها قِيمَتُه) إذا تَزَوَّجَها على عبدٍ بعَينِه، تَظُنُّه عبدًا مملوكًا للزَّوْجِ، فخَرَجَ حُرًّا أو مَغْصوبًا، فلها قِيمَتُه. وبهذا قال أبو يُوسُفَ، والشافعيُّ في قَدِيمِ قولِه. وقال في الجَدِيدِ: لها مَهْرُ المثْلِ. وقال أبو حنيفةَ ومحمدٌ في المَغْصوبِ كقَوْلِنا، وفي الحُرِّ كقَوْلِه؛ لأنَّ العَقْدَ تعَلَّقَ بعينِ الحُرِّ بإشارَتِه إليه، فأشْبَهَ ما لو عَلِمَاه حُرًّا. ولنا، أنَّ العَقْدَ وقَع على التَّسْمِيَةِ، فكانت لها قِيمَتُه، كالمغْصُوبِ، ولأنَّها رَضِيَتْ بقِيمَتِه إذ ظَنَّتْهُ مَمْلوكًا، فكانت لها قِيمَتُه، كما لو وَجَدَتْه مَعِيبًا فرَدَّتْه، بخِلافِ ما إذا قال: أصْدَقْتُكِ هذا الحُرَّ -أو- هذا المَغْصوبَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّها رَضِيَتْ بغيرِ شيءٍ، لرِضَاها بما تَعْلَمُ أنَّه ليس بمالٍ، أو بما لا يقْدِرُ على تمْلِيكِها إيَّاه، فصارَ وُجودُ التَّسْمِيةِ كعَدَمِها، فكان لها مهرُ المثْلِ. وسواءٌ سلَّمه إليها أو لم يُسَلِّمْه؛ لأنَّه سَلّم ما لا يجوزُ تَسْلِيمُه، فكان وجودُه كعَدَمِه. فصل: فإن أصْدَقَها جَرَّةَ خَلٍّ فخَرَتَجْا خَمْرًا أو مَغْصوبةً، فلها مثْلُه خلًّا؛ لأنَّه مِن ذواتِ الأمْثالِ، والمِثْلُ أقْربُ إليه مِن القِيمةِ، ولهذا يُضْمَنُ به في الإِتْلافِ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، وبعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال القاضي: لها قِيمَتُه؛ لأنَّ الخَمْرَ ليس بمالٍ، ولا مِن ذواتِ الأمْثالِ. والصحيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّه سمَّاه خلًّا فرَضِيَتْ به على ذلك، فكان لها بَدَلُ المُسَمَّى، وما ذكَرَه يَبْطُلُ بما إذا أصْدَقَها عبدًا فبان حُرًّا, ولأنَّه إن أوْجَبَ قِيمَةَ الخَمْرِ، فلا قِيمَةَ له، وإن أَوْجَبَ قِيمَةَ الخَلِّ، فقدِ اعْتَبَرَ التَّسْمِيَةَ (¬1) في إيجابِ قِيمَتِه، ففي إيجابِ مثْلِه أوْلَى. ¬

(¬1) في الأصل: «للتسمية». وانظر المغني 10/ 110.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أصْدَقْتُكِ هذا الخَمْرَ. وأشار إلى الخلِّ. أو: عبدَ فُلانٍ هذا. وأشار إلى عبدِه، صَحَّتِ التَّسْميَةُ، ولها المُشارُ إليه؛ لأنَّ المَعْقُودَ عليه يَصِحُّ العَقْدُ عليه، فلا يَخْتَلِفُ حُكْمُه باختِلافِ صِفَتِه، كما لو قال: بِعْتُكِ هذا الأسْودَ. وأشار إلى أبْيَضَ. أو: هذا الطويلَ. وأشار إلى قصِيرٍ. فصل: وإن تَزوَّجَها على عَبْدَينِ فخَرَج أحدُهما حُرًّا أو مَغْصوبًا، صَحَّ الصَّداقُ في مِلْكِه، ولها قيمةُ الآخَرِ. نصَّ عليه أحمدُ. وإن كان عبدًا واحدًا فخَرج نصفُه حُرًّا أو مَغْصوبًا، فلها الخِيارُ بينَ رَدِّه وأخْذِ قِيمَتِه، وبينَ إمْساكِ نِصْفِه وأخْذِ قيمةِ باقِيه. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأن الشَّرِكةَ عَيبٌ، فكان لها الفَسْخُ، كما لو وَجَدَتْه مَعِيبًا. فإن قيل: فلِمَ لا تَقُولُونَ (¬1) ببطْلانِ التَّسْمِيَةِ [في الجميعِ] (¬2)، وتَرْجِعُ بالقِيمَةِ كلِّها (¬3) في المَسألتَين، ¬

(¬1) إلى هنا ينتهي السقط. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

3265 - مسألة: (وإن وجدت به عيبا، فلها الخيار بين أخذ أرشه

وَإنْ وَجَدَتْ بِهِ عَيبًا، فَلَهَا الْخِيَارُ بَينَ أَخْذِ أَرْشِهِ أَوْ رَدِّهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما في تفريقِ الصَّفْقَةِ؟ قُلْنا: لأنَّ القِيمةَ بَدَلٌ إنَّما يُصارُ إليها عندَ العَجْزِ عنِ الأصْلِ، وههُنا العَبْدُ المَمْلوكُ مقدورٌ عليه، ولا عَيبَ فيه، وهو مُسْتَحَقٌّ في العَقْدِ، فلا يجوزُ الرُّجوعُ إلى بدَلِه، أمَّا تفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، فإنَّه إذا بَطَلَ العَقْدُ في الجميعِ، صِرْنَا إلى الثَّمَنِ، وليس هو بدلًا عنِ المَبيعِ، وإنَّما انْفَسَخَ العَقْدُ، فرَجعَ في رأْسِ مالِه (¬1)، وههُنا لا يَنْفَسِخُ العَقْدُ، وإنَّما يَرْجِعُ إلى (¬2) قِيمَةِ الحُرِّ منهما لتَعَذُّرِ تسْلِيمِه، فلا وَجْهَ لإِيجابِ قيمَتِه، أمَّا إذا كان نِصْفُه حرًّا، ففيه عَيبٌ، فجازَ رَدُّه بِعَيبِه. وقال أبو حنيفةَ: إذا أصْدَقَها عبْدَين، فإذا أحَدُهما حُرٌّ، فلها العَبْدُ وحدَه صَداقًا، ولا شيءَ لَها سِوَاهُ. ولَنا، أنَّه أصْدَقَها حُرًّا، فلم تَسْقُطْ تَسْمِيَتُه إلى غيرِ شيءٍ، كما لو كان مُنْفَرِدًا. 3265 - مسألة: (وإن وَجَدَت به عَيبًا، فلها الخِيارُ بين أخْذِ أرْشِه ¬

(¬1) في م: «العقد». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو رَدِّه وأخْذِ قِيمَتِه) وجملةُ ذلك, أنَّ الصَّداقَ إذا كان مُعَيَّنًا، فوَجَدَتْ به عَيبًا، فلها رَدُّه، كالمَبِيعِ المَعِيبِ، ولا نعلمُ في هذا خلافًا إذا كان العَيبُ كَثيرًا. وإن كان يَسِيرًا، فحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّه لا يُرَدُّ به. ولَنا، أنَّه عَيبٌ يُرَدُّ به المَبِيعُ، فرُدَّ به الصَّداقُ، كالكَثيرِ. وإذا رُدَّ به، فلَها قِيمَتُه؛ [لأنَّ العَقْدَ] (¬1) لا يَنْفَسِخُ برَدِّه، فيَبْقَى سَبَبُ اسْتِحقاقِه، فتَجِبُ عليه قِيمَتُه، كما لو غَصَبَها إيَّاه فأتْلَفَه (¬2). فإن كان الصَّداقُ مِثْلِيًّا، كالمكِيلِ والمَوْزُونِ، فرَدَّتْه، فلها عليه مِثْلُه؛ لأنَّه أقْرَبُ إليه. فإنِ اخْتارتْ إمْساكَ المَعِيبِ وأخْذَ أرْشِه، فلها ذلك، في قِياسِ المذْهبِ. وإن حدَثَ به عَيبٌ عِنْدَها، ثم وَجَدَتْ به عَيبًا، خُيِّرَتْ بينَ أَخْذِ أرْشِه ورَدِّه ورَدِّ أرْشِ العَيبِ؛ لأنَّه عِوَضٌ في عَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فيَثْبُتُ فيه ذلك، كالبَيعِ. وسائرُ فُرُوعِ الرَّدِّ بالعَيبِ تَثْبُتُ ها هنا، مثلَ ما تَثْبُت في البَيعِ، والخِلافُ فيه كالبَيعِ؛ لِما ذكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فأتلفته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَرَطَتْ في الصَّداقِ صِفَةً مَقْصُودَةً، كالكِتابَةِ والصِّناعَةِ، فبانَ بخِلافِها، فلها الرَّدُّ، كما تُرَدُّ في البَيعِ، وهكذا إن دَلَّسَه تَدْلِيسًا يُرَدُّ به المَبِيعُ، كتَحْمِيرِ وَجْهِ الجاريةِ، وتَسْويدِ شَعَرِها، وتَضْمِيرِ الماءِ على الرَّحَى، وأشْبَاهِ ذلك، فلها الرَّدُّ به. وإن وَجَدَتِ الشَّاةَ مُصَرَّاةً، فلها رَدُّها، وتَرُدُّ صاعًا من تَمْرٍ، قياسًا على البَيعِ. ونَقَل مُهَنَّا عن أحمدَ، في مَن تَزَوَّجَ امرَأةً على دارٍ (¬1) ألفِ ذرَاعٍ، فإذا هي تِسْعُمائةٍ: هي بالخِيارِ، إن شاءَتْ أخَذَتِ الدَّارَ، وإنَّ شاءتْ أخَذَتْ قِيمَةَ ألْفِ ذِرَاعٍ، والنكاحُ جائزٌ. وهذا فيما إذا أصْدَقَها دارًا بعَينِها على أنَّها ألْفُ ذِرَاعٍ، فخَرَجَتْ تِسْعَمائةٍ، فهذا كالعَيبِ في ثُبُوتِ الرَّدِّ؛ لأنَّه شَرَطَ شَرْطًا مَقْصُودًا، فبَان بخِلافِه، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَ العَبْدَ كاتِبًا (¬2)، فبانَ بخِلافِه. وجَوَّزَ أحمدُ الإِمْساكَ لأنَّ المرأةَ رَضِيَتْ بها ناقِصةً، ولم يَجْعَلْ لها مع الإِمْساكِ أرْشًا؛ لأنَّ ذلك ليس بعَيبٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لها الرُّجوعَ بقِيمَةِ نَقْصِها (¬3)، أو رَدَّها وأخْذَ قِيمَتِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «كتابيًّا». (¬3) في م: «بعضها».

فَصْلٌ: وَإنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا، صَحَّ، وَكَانَا جَمِيعًا مَهْرَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وإن تَزَوَّجَها على أَلْفٍ لَهَا وأَلْفٍ لِأبِيها، صَحَّ) وجُملةُ ذلك، أنَّه (¬1) يجوزُ لأبي المرأةِ أن يَشْتَرِطَ شيئًا مِن صَداقِها لنَفْسِه. وبهذا قال إسحاقُ. وقد روىَ عن مسْرُوقٍ، أنَّه لمَّا زَوَّجَ ابْنَتَه، اشْتَرَطَ لنفسِه عَشَرَةَ آلافٍ، فجَعَلَها في الحجِّ والمساكينِ، ثم قال للزَّوْجِ: جَهِّزِ امْرَأَتَك. ورُوِيَ ذلك عن (¬2) عليِّ بنِ الحسينِ. وقال عطاءٌ، وطاوُسٌ، وعِكْرِمَةُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ: يكونُ ذلك كُلُّه للمرأةِ. وقال الشافعيُّ: إذا فعل ذلك، فلها مَهْرُ المِثْلِ، وتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ؛ لأنَّه نَقَصَ مِن صَداقِها لأجْلِ هذا الشَّرْطِ الفاسِدِ؛ لأنَّ المَهْرَ لا يَجبُ إلَّا للزَّوْجَةِ، لكَوْنِه عِوَضَ بُضْعِها، فيَبْقَى مَجْهُولًا؛ لأنَّنا نحتاجُ أن نَضُمَّ إلى المَهْرِ ما نَقَصَ منه لأجْلِ هذا الشّرْطِ، وذلك مَجْهُولٌ فيَفْسُدُ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى، في قِصَّةِ شُعَيبٍ، عليه السلامُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَينِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬3). فجَعلَ الصَّداقَ الإجارةَ على رِعايةِ غَنَمِه، وهو شَرْطٌ لِنَفْسِه، ولأنَّ للوالدِ الأخذَ من مالِ وَلَدِه، بدَلِيلِ قَولِه عليه ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لا». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة القصص 27.

3266 - مسألة: (فإن طلقها قبل الدخول، رجع عليها بالألف)

فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ قَبْضِهِمَا، رَجَعَ عَلَيهَا بِأَلْفٍ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِمَّا أخَذَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ والسلامُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ» (¬1). وقولِه: «إنَّ أَولَادَكُم مِن أطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فكُلُوا مِن أمْوَالِهِمْ». أخْرَجَهُ أبو داودَ، وأخْرَجَ نحوَه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ. فإذا شرَط لنَفْسِه. شيئًا من الصَّداقِ، يكونُ ذلك أخْذًا من مالِ ابْنَتِه، وله ذلك. قولُهم: هو شَرْطٌ فاسدٌ. ممنوعٌ. قال القاضي: ولو شَرَط جميعَ الصَّداقِ لنَفْسِه, صَحَّ، بدليلِ قِصَّةِ شُعَيبٍ، - عليه السلام -، فإنَّه شَرَط الجميعَ لنَفْسِه. 3266 - مسألة: (فإن طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رجَع عليها بَالألْفِ) الذي قَبَضَتْه، ولم يَرْجِعْ على (¬3) الأبِ بشيءٍ ممّا أخَذَ؛ لأنَّ الطلاقَ قبلَ الدُّخولِ يُوجِبُ تَنْصِيف الصَّداقِ، والألْفانِ جميعُ صَداقِها، فرَجَعَ عليها بنِصْفِها، وهو ألْفٌ (ولم يكُنْ على الأبِ شيءٌ) لأنَّه أخَذَ من مالِ ابنتِه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 94. وانظر ما تقدم في 17/ 106. (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 87. (¬3) في م: «إلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألْفًا، فلا يجوزُ الرُّجوعُ عليه به. وهذا فيما إذا كان قَبَّضَها الألفَينِ. فإن طَلَّقَها قبلَ قَبْضِهما (¬1)، سَقَط عن الزَّوْجِ ألْفٌ، وبَقِيَ عليه ألْفٌ للزَّوْجَةِ، يأْخُذُ الأبُ منها ما شاء. وقال القاضي: يكونُ بينهما نِصْفَينِ. وقال: نَقَلَه مُهَنَّا عن أحمدَ؛ لأنَّه شَرَط لنَفْسِه النِّصفَ، ولم يَحْصُلْ من الصَّداقِ إلَّا النِّصْفُ. وليس هذا القولُ على سبيلِ الإِيجابِ، فإنَّ للأبِ أن يأْخُذَ ما شاءَ، ويَتْرُكَ ما شاء، وإذا مَلَك الأخْذَ من غيرِ شَرْطٍ، فكذلك إذا شَرَط. فصل: فإن شَرَط لنَفْسِه جَمِيعَ الصَّداقِ، ثم طَلَّقَ قبلَ الدُّخولِ بعدَ تسْليمِ الصَّداقِ إليه، رَجَع في نِصْفِ ما أعْطَى الأبَ؛ لأنَّه الذي فَرَضَه لها، فيَرجعُ في نِصْفِه؛ لقولِه تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2). ويَحْتَمِلُ أَن يَرْجِعَ عليها بنِصْفِه، ويكونَ ما أخَذَه الأبُ له؛ لأنَّنا قَدَّرْنا أنَّ الجميعَ صارَ لها، ثم أخَذَه الأبُ منها، فتَصِيرُ كأنَّها قَبَضَتْه ثم أخَذَه منها. ¬

(¬1) في م: «قبضها». (¬2) سورة البقرة 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا لو أصْدَقَها ألفًا لها وألْفًا لأبِيها، ثم ارْتَدَّتْ قبلَ الدُّخولِ، فهل يَرْجِعُ في الألفِ الذي قَبَضَه الأبُ عليه أو عليها؟ على وَجْهَين.

3267 - مسألة: (وإن فعل ذلك غير الأب، فالكل لها دونه)

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيرُ الأَبِ، فَالْكُلُّ لَهَا دُونَهُ. وَلِلأَب تَزْويجُ ابْنَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3267 - مسألة: (وإن فَعَل ذلِك غَيرُ الأبِ، فالكُلُّ لَها دُونَه) إذا شَرَط ذلك غيرُ الأبِ من الأوْلِياءِ، كالجَدِّ والأخِ، فالشَّرْطُ باطِلٌ. نصَّ عليه أحمدُ. وجَمِيعُ المُسَمَّى لها. ذكَره أبو حَفْصٍ، وهو قولُ بَن سَمَّينا في أوَّلِ المسألةِ. وقال الشَّافعيُّ: يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. وهكذا ذَكَر القاضي في «المُجَرَّدِ»؛ لأنَّ الشَّرطَ إذا بَطَلَ احْتَجْنا أن نَرُدَّ إلى الصَّداقِ ما نَقَصَتِ الزَّوْجةُ لأجْلِه، ولا نعْرِفُ قَدْرَه، فيَصِيرُ الكُلّ مَجْهُولًا فيَفْسُدُ، وإن أصْدَقَها ألْفَينِ، على أن تُعْطِيَ أخاها ألْفًا، فالصَّداقُ صحيحٌ؛ لأنَّه شَرْطٌ لا يُزَادُ في المَهْرِ من أجلِه، ولا يُنْقَصُ منه، فلا يُؤثِّرُ في المَهْرِ، بخِلافِ التي قبْلَها. ولَنا، أنَّ ما اشْتَرَطَه عِوَضٌ في تَزْويجِها، فيكونُ صَداقًا لها، كما لو جَعَلَه لها، وإذا كان صَداقًا انْتَفَتِ الجَهالةُ. وهكذا لو كان الأبُ هو المُشْتَرِطَ، لكان الجميعُ صَداقًا، وإنَّما هو أخَذَ مِن مالِ ابْنَتِه لأنَّ له ذلك. ويُشْتَرَطُ أن لا يكون مُجْحِفًا بمالِ ابْنَتِه، فإن كان مُجْحِفًا بمالِها, لم يَصِحَّ الشَّرْطُ، وكان الجميعُ لها، كما لو اشتَرَطَه سائرُ الأوْلِياءِ. ذكره القاضي في «المُجَرَّدِ». 3268 - مسألة: (وللأبِ تَزْويجُ ابْنَتِه البِكْرِ والثَّيِّبَ بِدُونِ صَدَاقِ

الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَإنْ كَرِهَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِها، وإنْ كَرِهَتْ) وجملةُ ذلك، أنَّ للأَبِ تَزْويجَ ابْنَتِه (¬1) بِدونِ صَداقِ مِثْلِها، بكرًا كانت أو ثَيِّبًا، صغيرةً أو كَبِيرةً. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وقال الشافعيُّ: ليس له ذلك، فإن فَعَل، فلَها مَهْرُ مِثْلِها؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فلم يَجُزْ أن يَنْقُصَ فيه عن قِيمَةِ المعَوَّضِ، كالبَيعِ، ولأنَّه تَفْرِيطٌ في مالِها, وليس له ذلك. ولَنا، أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، خَطَبَ النَّاسَ فقال: ألَا لا تُغالُوا في صُدُقِ (¬2) النِّساءِ، فما أصْدَقَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا من نِسائِه، ولا أحدًا من بَناتِه، أكثرَ من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أوقِيَّةً (¬3). وكان ذلك بمحْضَرٍ من الصَّحابةِ، ولم يُنْكِرُوه، فكان اتِّفاقًا منهم على أنَّ له أن يُزَوِّجَ بذلك وإن كان دونَ صَداقِ المِثْلِ. وزوَّجَ سعيدُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «البكر». (¬2) في م: «صداق». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 81.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ المُسَيَّبِ ابْنَتَه بدِرْهَمَين، وهو مِن أشْرافِ (¬1) قُرَيشٍ، شَرَفًا وعِلْمًا ودِينًا، ومِن المعْلومِ أنَّه لم يَكُنْ مَهْرَ مِثْلِها, ولأنّه ليس المقصودُ مِن النِّكاحِ العِوَضَ، وإنَّما المقصودُ السَّكَنُ والازْدواجُ (¬2)، ووَضْعُ المرأةِ في مَنْصبٍ عندَ مَن يَكْفُلُها، ويصونُها، ويُحْسِنُ عِشْرَتَها، والظاهِرُ من الأبِ مع تَمامِ شَفَقَتِه وبُلوغِ نظرِه، أنَّه لا يَنْقُصُها من صَداقِها إلَّا لتَحْصيلِ المعانِي المقصودَةِ بالنِّكاحِ، فلا يَنْبَغِي أن يُمْنَعَ من تَحْصِيلِ المقصودِ بتفْويتِ غيرِه، ويفارِقُ سائرَ عقودِ المُعاوضاتِ، فإنَّ المقْصودَ فيها العِوَضُ، فلم يَجُزْ تَفْويتُه. ¬

(¬1) في م: «أشرف». (¬2) في م: «الإزواج».

3269 - مسألة: (وإن فعل ذلك غيره بإذنها، صح، ولم يكن لغيره الاعتراض)

وَإنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيرُهُ بِإِذْنِهَا، صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ لغَيرِهِ الاعْتِرَاضُ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيرِ إِذْنِهَا، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3269 - مسألة: (وإن فَعَل ذلك غيرُه بإذْنِها، صَحَّ، ولم يَكُنْ لغيرِه الاعْتِراضُ) إذا كانت رَشِيدَةً؛ لأنَّ الحقَّ لها، وقد أسْقَطَتْه، فأشْبَهَ ما لو أذِنت في بَيعِ سِلْعةٍ لها بدُونِ ثمنِ مِثْلِها (وإن فَعَلَه بغيرِ إذْنِها، وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ) لأنَّه قيمةُ بُضْعِها, وليس للوَلِيِّ نَقْصُها منه، فوَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، والنِّكاحُ صحيحٌ؛ لأنَّ فسادَ التَّسْمِيَةِ وعدَمَها لا يُؤثِّرُ في النِّكاحِ. فصل: وتمامُ المَهْرِ على الزَّوْجِ؛ لأنَّ التَّسْمِيَةَ فاسدةٌ ههُنا، لكَوْنِها غيرَ مأْذونٍ فيها شَرْعًا، فوَجَبَ على الزَّوْجِ مَهْرُ المِثْلِ، كما لو زَوَّجَها بمُحَرَّمٍ (¬1). وعلى الوَلِيِّ ضمانُه؛ لأنَّه المُفَرِّطُ، فكان عليه الضَّمانُ، كما ¬

(¬1) في م: «المحرم».

3270 - مسألة: (وإن زوج ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل، صح، ولزم ذمة الابن)

وَيَحْتَمِلُ أن لَا يَلْزَمَ الزَّوْجَ إلا الْمُسَمَّى، وَالْبَاقِي عَلَى الْوَلِيِّ، كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيعِ. وَإنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، صَحَّ، وَلَزِمَ ذِمَّةَ الابْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لو باعَ مالها بدونِ ثَمَنِ مثلِه. قال أحمدُ: أخافُ أنَّ يكونَ ضامنًا، وليس الأبُ مثلَ الوَلِيِّ (ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَلْزَمَ الزَّوْجَ إلَّا المُسَمَّى، والباقِي على الوَلِيِّ، كالوَكيلَ في البَيعِ). 3270 - مسألة: (وإن زَوَّجَ ابْنَه الصَّغِيرَ بأكثَرَ مِن مهرِ المِثْلِ، صَحَّ، ولَزِمَ ذِمَّةَ الابْنِ) وفيه اخْتِلافٌ ذكَرْناه فيما مَضَى، لأنَّ العِوَضَ

3271 - مسألة: (فإن كان معسرا، فهل يضمنه الأب؟ يحتمل وجهين)

فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَهَلْ يَضْمَنُهُ الْأَبُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له، فكان المُعَوَّضُ (¬1) عليه، كالكبيرِ، وكثَمَنِ المَبِيعِ. 3271 - مسألة: (فإن كان مُعْسِرًا، فهل يَضْمَنُه الأبُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين) ذكر شيخُنا في كتابِ «المُغْنِي» (¬2) فيه رِوايَتَين مطلقًا؛ إحداهما، يَضْمَنُه. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: تَزْويجُ الأبِ لأبنِه الطِّفْلِ ¬

(¬1) في الأصل: «العوض». (¬2) 9/ 418.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جائزٌ، ويضْمَنُ الأبُ المَهْرَ؛ لأنَّه الْتَزَمَ العِوَضَ عنه، فضَمِنَه، كما لو نَطَق بالضَّمانِ. والأُخْرَى، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه عَقدُ مُعاوَضَةٍ، نابَ فيه عن غيرِه، فلم يضْمَنْ عِوَضَه (¬1)، كثَمَنِ مَبِيعِه وكالوكيلِ. قال القاضي: وهذا أصَحُّ. قال القاضي: إنَّما الرِّوايتانِ فيما إذا كان الابْنُ مُعْسِرًا، أما المُوسِرُ، فلا يَضْمَنُه الأبُ، روايةً واحدةً. فإن طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخولِ، سَقَط نِصْفُ الصَّداقِ، فإن كان ذلك بعدَ دفعِ الأبِ الصَّداقَ عنه، رجَعِ نِصْفُه إلى الابْنِ، وليس للأبِ الرُّجُوعُ فيه، بمَعْنَى الرُّجوعِ في الهبةِ؛ لأنَّ الابْنَ مَلَكَه بالطَّلاقِ عن غيرِ أبِيه، فأشْبَه ما لو وهبَهُ الأبُ أجْنَبِيًّا، ثم وَهَبَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3272 - مسألة: (وللأب قبض صداق ابنته الصغيرة بغير إذنها)

وَلِلْأَب قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِغَيرِ إِذْنِهَا، وَلَا يَقْبِضُ صَدَاقَ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ إلا بِإِذْنِهَا. وَفِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأجْنَبِي للابْنَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَرْجِعَ فيه؛ لأنَّه تَبَرُّع عن ابنِه (¬1)، فلم يَسْتقرَّ المِلْكُ حتى اسْتَرْجَعَه الابْنُ. وكذلك الحُكْمُ [فيما لو قَضَى الصَّداقَ عن ابْنِه الكَبيرِ، ثم طَلَّقَ قبلَ الدُّخولِ، فالحُكْمُ] (¬2) في الرُّجوعِ في جَمِيعِه، كالحُكْمِ في الرُّجوعِ في نِصْفِه بالطَّلاقِ. 3272 - مسألة: (وللأبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِه الصَّغِيرَةِ بغيرِ إذْنِها) لأنَّه يَلِي مالها، [فكان له قَبْضُه] (¬3)، كَثَمنِ مَبِيعِها (ولا يَقبِضُ صَداقَ الثَّيِّبِ الكبيرةِ إلَّا بإذْنِها) إذا كانتْ رَشِيدَةً؛ لأنَّها المُتَصَرِّفَةُ في مالِها، فاعْتُبِرَ إذنها في قَبْضِه، كثَمَنِ مَبِيعِها (وفي البِكْرِ البالِغَةِ) العاقِلَةِ، (رِوايَتانِ) أصحُّهما، أنَّه لا يَقْبِضُه إلَّا بإذْنِها، إذا كانت رشيدةً، ¬

(¬1) في النسختين: «أبيه». وانظر المغني 10/ 419. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فاعتبر إذنها في قبضه».

فَصْلٌ: وَإنْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى صَدَاقٍ مُسَمًّى، صَحَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالثَّيِّب. والثانيةُ، له قَبْضُه بغيرِ إذْنِها؛ لأنَّه العادَةُ، ولأنَّه يَمْلِكُ إجْبارَها على النِّكَاحِ، أشْبَهَتِ (¬1) الصَّغِيرَةَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمه اللهُ: (وإن تَزَوَّجَ العبدُ بإذْنِ سَيِّدِه على صَداقٍ مُسَمًّى، صَحَّ) بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، والمَهْرُ على سَيِّدِه، وكذلك النَّفَقَةُ، سواءٌ (¬2) ضَمِنَها أو لم يَضْمَنْها، وسواءٌ كان مَأْذُونًا له في التِّجارَةِ أو مَحْجورًا عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ بكَسْبِه، فإنَّه قال: نَفقَتُه من ضَرِيبَتِه. وقال: إن كانت نَفَقَتُه بقدرِ ¬

(¬1) في الأصل: «أشبه». (¬2) سقط من: «م».

وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أوْ ذِمَّةِ سَيِّدِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَريبَتِه، أنْفَقَ عليها، ولا يُعْطِي الوَلِيَّ، وإن لم يكنْ عنده ما يُنْفِقُ، يُفَرَّقُ بَينَهما. وهذا قولٌ للشافعيِّ (¬1)؛ لأُنه لا يخلو؛ إمَّا أنَّ يتَعَلَّقَ برَقَبةِ العَبْدِ، أو ذِمَّتِه، أو كَسْبه، أو ذمَّةِ السَّيِّدِ، لا جائزٌ أنَّ يَتَعَلَّقَ بذِمَّةِ العَبْدِ فيُتْبَعَ به بعدَ العِتْقِ؛ لأَنَه يَسْتَحِقُّ العِوَضَ في الحالِ مُعَجَّلًا، فلا يجوزُ تأخِيرُ العِوَضِ، ولا جائز أنَّ يتعَلَّقَ برقَبَتِه؛ لأنَّه وَجَبَ برِضاء سَيِّدِه، أشْبَهَ ما لو اقْتَرَضَ برِضائِه، ولا جائزٌ أنَّ يتعَلَّقَ بذِمَّةِ السَّيِّدِ؛ لأنَّه إنَّما يتعَلَّقُ بذِمَّتِه ما ضَمِنَه عن عَبْدِه، ولم يَضْمَنْ عنه المَهْرَ والنَّفَقَةَ، فَثَبَتَ تَعَلُّقُه ¬

(¬1) في م: «الشافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكَسْبِه ضَرورَةً. وفائِدَةُ الخِلافِ، أنَّ مَن ألْزَمَ السَّيِّدَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ، أوْجَبَهُما عليه وإن لم يكنْ للعَبْدِ كَسْبٌ، وليس للمرأةِ (¬1) الفَسْخُ لعدَمِ (¬2) كسْب العَبْدِ، وللسَّيِّدِ اسْتِخْدامُه ومَنْعُه الاكْتِسابَ، ومَن عَلَّقَه بكَسْبِه، فللمرأةِ الفَسْخُ إذا لم يكنْ له كسْبٌ، وليس لسَيِّدِه مَنْعُه مِن التَّكَسُّبِ. ولَنا، أنَّه حقٌّ تعلَّقَ بالعَقْدِ برِضا سيِّدِه، فتعَلَّقَ بسَيِّدِه، وجازَ بَيعُه فيه، كما لو رَهَنَه (¬3) بدَين. فعلى هذا، لو باعَه سَيِّدُه أو أَعتَقَه، لم يَسْقُطِ المَهْرُ ¬

(¬1) في م: «للسيد». (¬2) في الأصل: «كعدم». (¬3) في م: «أرهنه».

3273 - مسألة: (وإن تزوج بغير إذن سيده، لم يصح النكاح)

وَإنْ تَزَوَّجَ بِغَيرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن السَّيِّدِ. نَصَّ عليه، لأنَّه حقٌّ تعَلَّقَ بذِمَّتِه، فلم يَسْقُطْ بِبَيعِه وعِتْقِه، كأَرْشِ جِنايَتِه. فأمَّا النَّفَقَةُ، فإنَّها تَتَجَدَّدُ، فتكونُ في الزَّمَنِ المُسْتَقْبَلِ على المشْتَرِي، وعلى العَبْدِ إذا عَتَقَ. 3273 - مسألة: (وَإن تَزَوَّجَ بغيرِ إذنِ سَيِّدِه، لم يَصِحَّ النِّكاحُ) أجْمعَ العلماءُ على أنَّ العَبْدَ ليس له أنَّ يَنْكِحَ بغيرِ إذنِ السَّيِّدِ، فإن فعلَ لم يَنْفُذْ نِكاحُه في قولِ الجميعِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعوا على أنَّ نِكاحَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باطلٌ. قال شيخُنا (¬1): والصَّوابُ ما قُلْنا، إن شاء الله تعالى، فإنَّهم اخْتَلفوا في صِحَّتِه، فعن أحمدَ في ذلك رِوايتانِ؛ أظهرُهما، أنَّه باطِلٌ. وهو قولُ عثمانَ، وابنِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال شرَيحٌ. وهو قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ، أنَّه مَوْقوفٌ على إجازَةِ السَّيِّدِ، فإن أجَازَه وإلَّا بَطَلَ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه عَقْدٌ يَقِفُ على الفَسْخِ، فوَقَفَ على الإجازَةِ، كالوَصِيَّةِ. ولَنا، ما رَوَى جابرٌ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ (¬2) بِغَيرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ». رَواه الأثْرَمُ، [والتِّرْمِذِيُّ، وقال: حسنٌ] (¬3). وأبو داودَ، وابنُ ماجه (¬4). ورَوَى الخلَّالُ بإسنادِه، عن مُوسَى بنِ عُقْبَةَ، عن نافِع، عن ابنِ عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بغَيرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ زَانٍ» (¬5). ¬

(¬1) في: المغني 9/ 436. (¬2) في الأصل: «زوج». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في 19/ 242. (¬5) أخرجه ابن ماجه، في: باب تزويج العبد بغير إذن سيده، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 630. قال في الزوائد: في إسناده مَنْدَل وهو ضعيف. والدارمي، في: باب في العبد يتزوج بغير إذن من سيده، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 152.

3274 - مسألة: فإن فارقها قبل الدخول، فلا شيء عليه؛ لأنه عقد باطل؛ فلا يوجب بمجرده شيئا، كالبيع الباطل، وهكذا سائر الأنكحة الفاسدة، لا توجب بمجردها شيئا. فإن أصابها، وجب لها المهر، في الصحيح من المذهب، رواه عن أحمد جماعة وروى عنه حنبل أنه لا مهر لها إذا تزوج العبد بغير إذن سيده. وهذا يمكن حمله على ما قبل الدخول، فيكون موافقا لرواية الجماعة، ويمكن حمله على عمومه في عدم الصداق. وهو قول ابن عمر. ورواه الأثرم، عن نافع، قال: كان إذا تزوج مملوك [لابن عمر]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال حَنْبَلٌ (¬1): ذَكَرْتُ هذا الحديثَ لأبي عبدِ اللهِ، لقال: هذا حديثٌ مُنْكَرٌ. رواهُ أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬2)، عن ابْنِ عُمَرَ، مَوْقُوفًا من قولِه. ولأنَّه عَقْدٌ فَقَدَ شَرْطَه، فلم يَصِحَّ، كما لو تَزَوَّجَها بغَيرِ شُهُودٍ. 3274 - مسألة: فإنْ فارَقَها قبلَ الدُّخُولِ، فلا شيءَ عليه؛ لأنَّه عَقْدٌ باطلٌ؛ فلا يُوجِبُ بمجرَّدِه شيئًا، كالبَيعِ الباطلِ، وهكذا سائرُ الأنْكِحَةِ الفاسدةِ، لا تُوجِبُ بمجَرَّدِها شيئًا. فإن أصابَها، وجَبَ لها المَهْرُ، في الصَّحِيحِ من المَذهبِ، رواه عن أحمدَ جماعةٌ وروَى عنه حَنْبَلٌ أنَّه لا مَهْرَ لها إذا تَزَوَّجَ العَبْدُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه. وهذا يمكنُ حَمْلُه على ما قبلَ الدُّخولِ، فيكونُ مُوافِقًا لرِوايةِ الجماعةِ، ويمكنُ حَمْلُه على عُمُومِه في عَدمِ الصَّداقِ. وهو قولُ ابنِ عُمَرَ. ورَواه الأثرَمُ، عن نَافِعٍ، قال: كان إذا تَزَوَّجَ مَمْلُوكٌ [لابنِ عُمَرَ] (¬3) [بغيرِ إذْنِه] (¬4)، جَلَدَه ¬

(¬1) في م: «أحمد». (¬2) قال أبو داود، في: سننه 1/ 480: هذا الحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر، رضي الله عنهما. ولفظه: «إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل». وهو عند ابن ماجه في الموضع السابق مرفوعًا لا موقوفًا. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدَّ، وقال للمرأةِ: إنَّكِ أربحْتِ فَرْجَكِ. وأبْطَلَ صَدَاقَها (¬1). ووَجْهُه أنَّه وَطِئَ امرأةً مُطاوعَةً في غيرِ نِكاحٍ صحيحٍ، فلم يَجِبْ به مَهْرٌ، كالمُطاوعَةِ على الزِّنى. قال القاضي: هذا إذا كانا عالِمَين بالتَّحْرِيمِ، فأمَّا إن جَهِلَتِ المرأةُ ذلك، فلها المَهْرُ، لأنَّه لا يَنْقُصُ عن وَطْءِ الشُّبْهَةِ. ويمكنُ حملُ هذه الروايةِ على أنَّه لا مَهْرَ لها في الحال، بل يَجِبُ في ذِمَّةِ العَبْدِ، يَتَعَلَّقُ به بعدَ (¬2) العِتْقِ. وهو قولُ الشافعيِّ الجديدُ؛ لأنَّ هذا حقٌّ لَزِمَ برِضَا مَن له حَقٌّ، فكان مَحِلُّه الذِّمَّةَ، كالدَّينِ. والصَّحيحُ أنَّ المهْرَ واجِبٌ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «أيُّما امرأةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها بِغَيرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكاحُها باطلٌ، فإن أصَابَها، فلها المَهْرُ بما اسْتَحَلَّ منِ فَرْجِها» (¬3). [وهذا قد اسْتَحَلَّ فَرْجَها] (¬4)، فيكونُ مَهْرُها عليه. ولأنَّه اسْتَوْفَى مَنافِعَ البُضْعِ باسمِ النِّكاحِ، فكان المَهْرُ واجِبًا، كسائرِ الأنْكِحَةِ الفاسِدةِ. فصل: ويتعَلَّقُ المَهْرُ برَقَبَتِه يُباعُ فيه (¬5) إلَّا أنَّ يَفْدِيَه السَّيِّدُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يتعَلَّقَ بذِمَّةِ العَبْدِ، وقد ذكَرْناه. وهذا أظْهَرُ؛ لأنَّ الوَطءَ أُجْرِيَ مُجْرَى الجِنايَةِ المُوجِبَةِ للضَّمانِ بغيرِ [إذنِ الموْلَى، ولذلك] (¬6) ¬

(¬1) بنحوه أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 243. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 207. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «به». (¬6) سقط من: الأصل.

3275 - مسألة: (والواجب مهر المثل)

وَإنْ دَخَلَ بِهَا، وَجَبَ فِي رَقَبَتِهِ مَهْرُ المِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [وجبَ المَهْرُ ههُنا وفي سائرِ الأنْكِحَةِ الفاسدةِ، ولو لم تَجْرِ مَجْراها ما] (¬1) وَجَبَ شيءٌ؛ لأنَّه برِضَا المُسْتَحِقِّ. 3275 - مسألة: (والواجِبُ مَهْرُ المِثْلِ) وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ؛ لأنَّه وَطْءٌ يُوجِبُ المَهْرَ، فأوْجَبَ مَهْرَ المِثْلِ بكَمالِه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ، يَجِبُ خُمْسَا الْمُسَمَّى. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالنكاحِ بلا وَلِيٍّ، وفي (¬1) سائرِ الأنْكِحَةِ الفاسدِة (وعنه، يَجِبُ خُمْسا المُسَمَّى. اخْتارَها الخِرَقِيُّ) وعنه رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّها إن عَلِمَتْ أنَّه عَبْدٌ، فلها خُمْسا المَهْرِ، وإن لم تَعْلَمْ، فلها المَهْرُ في رَقَبَةِ العَبْدِ. وَوَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، ما روَى الإِمامُ أحمدُ بإسنادِه، عن خِلَاسِ، أنَّ غلامًا لأبي موسى تَزَوَّجَ بمولَاةِ تيجانَ التَّيمِيِّ (¬2)، بغيرِ إذنِ مَوْلاهُ، فكتَبَ أبو موسى في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «اليتمي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك إلى عثمانَ بنِ عفانَ، فكتَبَ إليه أنَّ فَرِّقْ بينهما، وخُذْ لها الخُمْسَينِ من صَداقِها. وكان صَداقُها خَمْسَةَ أبْعِرَةٍ (¬1). ولأنَّ المَهْرَ أحدُ موجَبَي الوَطْءِ، فجاز أنَّ يَنْقُصَ العَبْدُ فيه (¬2) عن الحُرِّ، كالحدِّ. والواجِبُ خُمْسا المُسَمَّى؛ لأنَّه صارَ فيه إلى قصةِ عثمانَ، وظاهِرُها (¬3) أنَّه أوْجَبَ خُمْسَيِ المُسَمَّى، ولهذا قال: كان صَداقُها خمسةَ أبْعِرَةٍ. ولأنَّه لو اعْتَبَرَ مَهْرَ المِثْلِ، أوْجَبَ جَمِيعَه، كسائرِ قِيَمِ المُتْلَفاتِ، ولأوْجَبَ (¬4) القيمَةَ وهي الأثْمانُ دونَ الأبْعِرَةِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَجِبَ خُمْسا مَهْرِ المثل؛ لأنَّه عِوَضٌ عن جِنايَةٍ، فكان المَرْجِعُ فيه إلى قيمةِ المحَلِّ، كسائرِ أُرُوشِ الجِناياتِ، وقيمَةُ المحَلِّ مَهْرُ المِثْلِ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب نكاح العبد بغير إذن سيده، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 243، 244. وابن أبي شيبة، في: باب في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فيعطى الصداق فيعلم به، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 259، 260. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ظاهر هذا». (¬4) في م: «وإلا وجبت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الواجِبُ زائدًا على قيمةِ العبدِ، لم تَلْزَمِ السَّيِّدَ الزيادةُ، لأنَّ الواجِبَ عليه ما يُقابِلُ قيمةَ العبدِ، بدَلِيلِ أنَّه لو سلَّم العَبْدَ لم يَلْزَمْه شيءٌ، فإذا أعْطَى القيمةَ، فقدْ أعْطى ما يُقابِلُ الرقبةَ، فلم تَلْزَمْه زيادَةٌ عليه، وإن كان الواجبُ أقلَّ من قيمةِ العَبْدِ، لم يَلْزَمْه أكثرُ مِن ذلك، لأنَّه أرْشُ الجِنايةِ، فلا يَجِبُ عليه أكثرُ منها. والخِيَرَةُ في تَسْلِيم العبدِ وفدائِه إلى السَّيِّدِ، وقد ذكرنا (¬1) ذلك في غيرِ هذا الموضعِ. فصل: وإن أذِنَ السَّيِّدُ لعبدِهِ في التَّزْويجِ بمعينَةٍ، أو من بلدٍ مُعَيَّنٍ، أو مِن جِنْسٍ مُعَيَّنٍ، فنَكَحَ غيرَ ذلك، فنِكاحُه فاسدٌ، والحُكْمُ فيه كما ذكَرْنا. وإن أذِنَ له في تَزْويجٍ صحيحٍ، فنَكَحَ نِكاحًا فاسدًا، فكذلك، لأنَّه غيرُ مأْذُونٍ له فيه. وإن أذِنَ له في النِّكاحِ وأطْلَقَ، فَنَكَحَ نِكاحًا فاسدًا، احْتَمَلَ أنَّ يكونَ كذلك، لأنَّ الإِذْنَ في النكاحِ لا يتَناولُ الفاسدَ، واحْتَمَلَ أنَّ يتناوَلَه إذنه، لأنَّ اللفْظَ بإطْلاقِه يتَناوَلُه. وإن أذِنَ له في نِكاحٍ فاسدٍ وحَصَلَتِ الإِصابَةُ، فالمَهْرُ على سَيِّدِه؛ لأنَّه بإذْنِه. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ذكر».

3276 - مسألة: (وإن زوج السيد عبده أمته، لم يجب مهر. ذكره أبو بكر)

وَإنْ زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيلَ: يَجِبُ وَيَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3276 - مسألة: (وإن زَوَّجَ السَّيِّدُ عبدَه أمتَه، لم يَجِبْ مَهْرٌ. ذكَره أبو بكرٍ) والقاضي؛ لأنَّه (¬1) لا يجِبُ للسَّيِّدِ على عَبْدِه مالٌ (وقِيل: يجبُ) الصَّداقُ على السَّيِّدِ، ثم (يَسْقُطُ) قاله أبو الخطابِ، قال: يَجِبُ المُسَمَّى، أو مهرُ المِثْلِ إن لم يَكُنْ مُسَمًّى، كي لا يَخْلُوَ النكاحُ عن مهر، [ثم يَسْقُطُ] (¬2) لتَعَذُّرِ إثباتِه. وقال أبو عبدِ اللهِ: إذا زَوَّجَ عبدَه مِن أمَتِه، فأُحِبُّ أنَّ يكونَ بمَهْرِ وشُهودٍ. قيل: فإن طَلَّقَها؟ قال: يكونُ الصداقُ عليه إذا أُعْتِقَ. قيل: فإن زَوَّجَها منه بغيرِ مهر؟ قال: قد اختلَفُوا فيه، فذَهَبَ جابرٌ إلى أنَّه جائزٌ. لأنَّ النِّكاحَ لا يَخْلُو من مَهْرٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فيسقط».

3277 - مسألة: (وإن زوج عبده حرة، ثم باعها)

وَإنْ زَوَّجَ عَبْدَهُ حُرَّةً، ثُمَّ بَاعَهَا الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، تَحَوَّلَ صَدَاقُهَا، أَوْ نِصْفُهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَى ثَمَنِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَثْبُتُ للسَّيِّدِ على عَبْدِه مالٌ، فسَقَطَ. 3277 - مسألة: (وإن زَوَّجَ عبدَه حُرَّةً، ثم باعَها) إيَّاه (بثَمَنٍ في الذِّمَّةِ، تَحَوَّلَ صداقُها، أو نِصْفه إن كان قبلَ الدُّخولِ إلى ثَمَنِه) إذا اشترتِ الحُرَّةُ زَوْجَها أو مَلَكَتْه، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّ مِلْكَ النكاحِ (¬1) واليمينِ يتَنافَيانِ؛ لاسْتِحالةِ كوْنِ الشَّخْصِ مالِكًا لمَالِكِه، ولأنَّ المرأةَ تقولُ: أنْفِقْ عليَّ؛ لأنِّي امرأتُكَ، وأنَا أسافِرُ بِكَ؛ لأنَّك عبْدِي. ويقولُ هو: أنْفِقِ عليَّ؛ لأنِّي عَبْدُكِ، وأنا أسافِرُ بِكِ؛ لأنَّكِ امرَأتِي. فيَتَنافَى ذلك، فثَبَت أقْواهُما (¬2)، وهو مِلْكُ اليَمينِ، ويَنْفَسِخُ النكاحُ؛ لأنَّه أضْعَفُهما. ولها على سَيِّدِه المَهْرُ إن كان بعدَ الدُّخولِ، وعليها الثَّمنُ، فإن كانا دَينَينِ من جِنْسٍ، تَقاصَّا، وتَساقَطا إن كانا مُتَساويَينِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «قولهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن تَفاضَلا سَقَط الأقَلُّ (¬1) منهما بمثلِه، وبَقِيَ الفاضِلُ، وإنِ اخْتَلَف جِنْسُهما، لم يَتَساقَطا، وعلى كُلِّ واحدٍ منهما تَسْلِيمُ ما عليه إلى صاحِبِه. وقال الشافعيُّ في أحدِ قَوْلَيه: يَسْقُطُ مَهْرُها، لأنَّه دَينٌ في ذمَّةِ العبدِ، فإذا مَلَكَتْه لم يَجُزْ أن يَثْبُتَ لها دَينٌ في ذِمَّةِ عبدِها، كما لو أتْلَفَ لها مالًا. وهذا بِناء منهم على أنَّ المَهْرَ يتعَلَّقُ بذِمَّةِ العبدِ، وقد بَيّنَا أنَّه يتعَلَّقُ بذِمَّةِ سَيِّدِه، فلا يُؤثِّرُ مِلْكُ العبْدِ في إسْقاطِه. وذكر القاضي فيه (¬2) وَجْهًا أنَّه يَسْقُطُ، لأنَّ ثبوتَ الدَّينِ في ذِمَّةِ السَّيِّدِ تَبَعٌ لثُبُوتِه في ذِمَّةِ العَبْدِ، فإذَا سَقَط من ذِمَّةِ العَبْدِ، سَقَط من ذِمَّةِ السَّيِّدِ تَبَعًا، كالدَّين ¬

(¬1) في الأصل: «الأول». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي على الضَّامنِ إذا سَقَط من ذِمَّةِ المضمُونِ عنه. ولا يُعْرَفُ هذا في المذهبِ، [ولا أنَّه] (¬1) ثَبَتَ في الذِّمَّتَين جميعًا، إحداهما تَبَعٌ للأخرَى، بل المذْهَبُ أنَّه لا يَسْقُطُ بعد الدُّخولِ بحالٍ. فأمَّا إن كانْ الشِّراءُ قبلَ الدُّخولِ، سَقَط نِصْفُه، كما لو طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ بها، في سُقُوطِ باقِيهِ وَجْهان؛ أحدُهما، لا يسقُطُ؛ لأنَّ زَوال المِلْكِ إنَّما هو بفعلِ البائِعِ، فالفَسْخُ إذًا من جِهَتِه، فلم يَسْقُطْ جميعُ المَهْرِ كالخُلْعِ (2). والثاني، يَسْقُطُ، لأنَّ الفَسْخَ إنَّما تَمَ بشراءِ المرأةِ، فأشْبَهَ الفَسْخَ بالعَيبِ في أحَدِهما، وفَسْخَها لإِعْسارِه، وشراءَ الرَّجُلِ امرأتَه. فإن قُلْنا: لا يَسْقُطُ جمِيعُه. فالحُكْمُ في النِّصْفِ الباقِي لها (¬2)، كالحُكْمِ في جَمِيعِه إذا فُسِخَ النكاحُ ¬

(¬1) في م: «ولأنه». (¬2) سقط من: م.

3278 - مسألة: (فإن باعها إياه بالصداق، صح)

وَإنْ بَاعَهَا إِيَّاهُ بِالصَّدَاقِ، صَحَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَصِحَّ قَبْلَ الدُّخُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد الدُّخولِ، على ما ذكَرْنا. 3278 - مسألة: (فإن باعَها إيَّاه بالصَّداقِ، صَحَّ) نصَّ عليه. وذكَرَه أبو بكرٍ، والقاضي. ويَرْجِعُ عليها بنصفِه إن قُلْنا: يسقطُ نصفُه. أو بجميعِه إن قُلْنا: يسقطُ جميعُه (ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَصِحَّ قبلَ الدُّخولِ) لكونِ انْفِساخِ النكاحِ جاءَ من قِبَلِها، فيَبْقَى الشراءُ بغيرِ عِوَض، فلا يَصِحُّ. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ ثُبُوتَ البَيعِ يقْتَضِي [نَفْيَه، فإنَّ صحةَ البيعِ تَقْتَضِي] (¬1) فَسْخَ النكاحِ، وسقوطَ المَهْرِ يقْتَضِي بُطْلانَ البَيعِ؛ لأنَّه عِوَضٌ، ولا يَصِحُّ بغيرِ عِوَض. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه يجوزُ أنَّ يكونَ ثمنًا لغيرِ هذا العَبْدِ، فجازَ أنَّ يكونَ ثمنًا له، كغيرِه مِنَ الدُّيونِ. وما سَقَط منه رَجَع عليها بِه. ¬

(¬1) زيادة من: م.

فَصْلٌ: وَتَمْلِكُ الْمَرأةُ الصَّدَاقَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وَتَمْلِكُ المرأَةُ الصَّداقَ المُسَمَّى بالعَقْدِ) هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّها لا تَمْلِكُ

3279 - مسألة: (فإن كان معينا، كالعبد والدار، فلها التصرف فيه، ونماؤه لها، وزكاته ونقصه وضمانه عليها)

فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، كَالْعَبْدِ وَالدَّارِ، فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَنَمَاؤُهُ لَهَا، وَزَكَاتُهُ وَنَقْصُهُ وَضَمَانُهُ عَلَيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا نِصْفَه. وعن أحمدَ ما يدلُّ على ذلك. وقال ابنُ عبدِ البر (¬1): هذا موضِعٌ اخْتَلفَ فيه السَّلفُ والآثارُ، وأما الفقهاءُ اليومَ فعلى أنَّها تَمْلِكُه. وقولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ أعْطَيتَهَا إزَارَكَ، جَلَسْتَ ولا إزارَ لك» (¬2). دليل على أنَّ الصَّداقَ كلَّهُ للمرأةِ، لا يَبْقَى للرَّجُلِ منه شيءٌ. لأنَّه عَقْدٌ يُمْلَكُ به العِوَضُ بالعَقْدِ، فمُلِكَ فيه العِوَضُ كاملًا، كالبَيعِ، وسُقُوطُ نِصْفِه بالطَّلاقِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَ جميعِه بالعقْدِ، ألَا تَرى أنَّها لو ارتَدَّت (¬3) سَقَط جميعُه وإن كانت قد مَلَكَتْ نِصْفَه. 3279 - مسألة: (فإن كان مُعَيَّنًا، كالعبدِ والدَّارِ، فلها التَّصَرُّفُ فيه، ونماؤُه لها، وزكاتُه ونقْصُه وضمانُه عليها) سواءٌ قَبَضَتْه أو لم تَقْبِضْه، متَّصِلًا كان النَّماءُ أو مُنفَصِلًا، وعليها زكاتُه إذا حال عليه الحَوْلُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن تَلِفَ، فهو من ضَمانِها، ولو زكَّتْه ثم طُلَقَت قبلَ ¬

(¬1) في: التمهيد 21/ 117. (¬2) تقدم تخريجه في 14/ 380، وفي صفحة 82. (¬3) في الأصل: «أردت».

إلا أن يَمْنَعَهَا قَبْضَهُ، فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيهِ. وَعَنْهُ، فِي مَنْ تُزَوَّجُ عَلَى عَبْدٍ فَفُقِئَتْ عَينُهُ، إِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتهُ، فَهوَ لَهَا، وَإلَّا فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهَا إلا بِقَبْضِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدُّخولِ، كان ضَمانُ الزكاةِ كُلِّها عليها؛ لأنَّها قد مَلَكَتْه، أشْبَهَ ما لو مَلَكَتْه بِالبيعِ (إلَّا أنَّ يمنَعَها قَبْضه، فيكونُ ضمانُه عليه) لأنَّه بمنزلةِ الغاصِبِ، فإن زادَ، فالزيادةُ لها، وإن نَقَص، فالنَّقصُ عليه، ويكونُ بالخِيارِ (¬1) بينَ أخْذِ نِصْفِه ناقصًا، وبينَ أخذِ نِصْفِ قِيمَتِه أكثرَ ما كانت مِن يَومِ العقْدِ إلى حينِ القَبْضِ؛ لأنَّه إذا زادَ بعدَ العقْدِ فالزيادَةُ لها، وإن نَقَص فالنَّقْصُ عليه، إلَّا أنَّ تكونَ الزيادةُ لتَغيُّرِ السِّعْرِ، فقد ذكَرْناه في الغَصْبِ (وعن أحمدَ، في مَن تُزَوَّجُ على عبدٍ فَفُقِئتْ عَينُه، إن كانت قد قَبَضَتْه، فهو لها، وإن [لم) تَكُنْ قَبَضَتْه] (¬2) (فهو على الزَّوْجِ) هكذا نقَلَه مُهَنَّا. فظاهرُ هذا أنَّه جَعَلَه قبلَ قَبْضِه مِن ضَمانِ الزَّوْجِ بكُلِّ حالٍ، سواءٌ كان مُعَيَّنًا أو لم يَكُنْ، كغيرِ المعيَّنِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في م: «الخيار». (¬2) في م: «لم نقبضه».

3280 - مسألة: (فإن كان غير معين، كقفيز من صبرة، لم يدخل في ضمانها، ولم تملك التصرف فيه، إلا بقبضه كالبيع)

وَإنْ كَانَ غَيرَ مُعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهَا، وَلَمْ تَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ، إلا بِقَبْضِهِ كَالْمَبِيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3280 - مسألة: (فإن كان غيرَ مُعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، لم يدْخُلْ في ضَمانِها، ولم تَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فيه، إلَّا بقَبْضِه كالبَيعِ) وجملةُ ذلك، أنَّ حُكْمَ الصَّداقِ حُكْمُ البَيعِ، في أنَّ ما كان مَكِيلًا أو مَوْزونًا، لا يجوزُ لها التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه، وما عَداه لا يحتاجُ إلى قَبْض، ولها التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه. وقال القاضي، وأصحابُه: ما كان مُعَيَّنًا (¬1). فلها التَّصَرُّفُ فيه، وما لم يكُنْ مُعَينًا، كقَفِيزٍ من صُبْرَةٍ، ورَطْل مِن زَيتٍ [مِن دَنٍّ] (¬2)، لا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه حتى تَقبِضَه، كالمَبيعِ (¬3). وقد ذكَرْنا في المَبِيعِ روايةً أُخْرَى، أنَّها لا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في شيءٍ منه قبلَ قَبْضِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وهذا أصلٌ ذُكِرَ في البَيعِ. وذكَر القاضي ¬

(¬1) في الأصل: «ممتنعًا». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كالبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في موضعٍ آخرَ، أنَّ ما لم يَنْتَقِضِ العَقْدُ بهَلاكِه، كالمَهْرِ وعِوَضِ الخُلْعِ، يجوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه؛ [لأنَّه بَدَلٌ لا يَنْفَسِخُ السَّببُ الذي مُلِكَ به بهلاكِه، فجاز التَّصرُّفُ فيه قبلَ قَبْضِه] (¬1)، كالوَصِيَّةِ والمِيراثِ. وقد نَصَّ أحمدُ على هِبَةِ المرأةِ زَوْجَها صَداقَها قبلَ قَبْضِها، وهو نوعُ تَصَرُّفٍ. وقياسُ المذهَبِ أنَّ ما جاز لها التَّصَرُّفُ فيه، فهو مِن ضَمانِها إن تَلِفَ أو نَقَص، ومَا لا تَصَرُّفَ لها فيه، فهو مِن ضَمانِ الزَّوْجِ، إلَّا أن يَمْنَعَها (¬2) قَبْضَه، فيَكُونُ مِن ضَمان الزَّوْجِ بكُلِّ حالٍ، كالغاصبِ. وقد ذَكَرْنا ما رَواه مُهَنَّا، عن أحمدَ، في العبدِ إذا فُقِئَتْ عَينُه، أنَّ ضَمانَه على الزوْجِ ما لم [تكُنْ قَبَضَتْه] (¬3). وهذا كمذهبِ الشافعيِّ. فصل: وكلُّ موضعٍ قُلْنا: هو مِن ضَمانِ الزَّوْجِ قبلَ القَبْضِ. إذا تَلِفَ قبلَ قَبْضِه، لم يَبْطُلِ الصَّداقُ بتَلَفِه، ويَضْمَنُه بمثْلِه إن كان مِثْلِيًّا، وبقِيمَتِه إن لم يكُنْ مِثْلِيًّا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ في القدِيم. وقال في الجديدِ: يَرْجِعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ، لأنَّ تَلَفَ العِوَضِ يُوجِبُ الرُّجوعَ في (¬4) المُعَوَّضِ، فإذا تَعَذَّرَ رَدُّه رَجعَ إلى قِيمَتِه، كالمَبيعِ، ومَهْرُ المِثْلِ هو القِيمةُ، فوَجَبَ الرُّجوعُ إليه. ولَنا، أنَّ كُلَّ عين وَجَب تَسْلِيمُها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «من». (¬3) في الأصل: «يكن قبضه». (¬4) في م: «إلى».

3281 - مسألة: (فإن قبضت صداقها ثم طلقها قبل الدخول، رجع)

وَإنْ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا كَالْمِيرَاثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مع وُجودِها، إذا تَلِفَتْ مع بَقاءِ سَبَبِ اسْتِحْقاقِها، فالواجبُ بَدَلُها، كالمَغْصوبِ والقَرْضِ والعارِيَّةِ، وفارَقَ المَبِيعَ إذا تَلِفَ، فإنَّ البَيع (¬1) انفسخَ وزال سَبَبُ الاستحقاقِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ التالِفَ في يدِ الزَّوْجِ لا يَخْلُو من أربعةِ أحوالٍ، أحدها (¬2)، أنَّ يَتْلَفَ بفِعْلِها، فيكونُ ذلك قَبْضًا منها، ويَسْقُطُ عن الزَّوْجِ ضَمانُه. الثاني، تَلِفَ بفعلِ الزَّوْجِ، فهو من ضمانِه على كلِّ حالٍ، ويَضْمَنُه لَها بما ذكَرْناه. الثالثُ، أتْلَفَه أجنبيٌّ، فلها الخِيارُ بين الرُّجوعِ على الأجْنَبِيِّ بضَمانِه، وبينَ الرُّجوعَ على الزَّوْجِ، ويَرْجِعُ الزوجُ على الأجْنَبِيِّ. الرابعُ، تَلِفَ بفِعْلِ اللهِ تعالى، فهو على ما ذكَرْنا مِن التَّفْصِيلِ في صَدْرِ المسألةِ. 3281 - مسألة: (فإن قَبَضَتْ صَداقَها ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رَجَع) عليها (بنِصْفِه إن كان باقِيًا) لقولِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬3). وليس في هذا اخْتِلافٌ بحمدِ الله تعالى (ويَدْخُلُ في مِلْكِه حُكْمًا كالمِيراثِ) ¬

(¬1) في م: «المبيع». (¬2) مضروب عليها في: الأصل. (¬3) سورة البقرة 237.

وَيَحْتَمِلُ أن لَا يَدْخُلَ حَتَّى يُطَالِبَ بِهِ وَيَخْتَارَ، فَمَا يَنْمِي قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا قياسُ المذهبِ. ولا يَفْتَقِرُ إلى اختيارِه وإرادَتِه، فما يَحْدُثُ مِن النَّماءِ يكونُ بينَهما. وهو قولُ زُفَرَ. وذكَر القاضي احتِمالًا، أنَّه لا يَدْخُلُ في مِلْكِه حتى يختارَه، كالشَّفِيعِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وللشافعيِّ قولان، كالوَجْهَينِ. فعلى هذا (ما يَنْمِي قبلَ ذلك فهو لها) وعلى القَولِ الآخَرِ يكونُ بينَهما نِصْفينِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. أي لكمْ أو لهنَّ. فاقْتَضَى ذلك أنَّ النِّصْفَ لها والنِّصْفَ له بمُجَرَّدِ الطَّلاقِ، ولأنَّ الطَّلاقَ سبَبٌ يملكُ به بغيرِ عِوَض، فلم يَقِفِ المِلْكُ على إرادَتِه واخْتِيارِه، كالإِرْثِ، ولأنَّه سبَب لنَقْلِ المِلْكِ فيه، فنَقَلَ المِلْكَ (¬1) بمجرَّدِه، كالبَيعِ وسائرِ الأسْبابِ. ولا تَلْزَمُ الشُّفْعَةُ، فإنَّ سبَبَ المِلْكِ فيها الأخْذُ بها (¬2)، ومتى أَخَذ بها، ثَبَت المِلْكُ مِن غَيرِ إرادةٍ واخْتيارٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقبلَ الأخْذِ ما وُجِدَ السَّبَبُ، وإنَّما اسْتَحَقَّ مُباشَرَةَ (¬1) سبَبِ المِلْكِ، ومُباشَرةُ الأسبابِ موْقُوفَةٌ على اخْتيارِه، كما أنَّ الطَّلاقَ مُفَوَّضٌ إلى اخْتِيارِه، فالأخْذُ بالشُّفْعَةِ نَظِيرُ الطَّلاقِ، وثُبُوتُ المِلْكِ للآخِذِ بالشُّفْعَةِ نَظِيرُ ثُبُوتِ المِلْكِ للمُطَلِّقِ، فإنَّ ثُبُوتَ المِلْكِ حَقٌّ (¬2) لهما، وثُبُوتُ أحكام الأسبابِ بعدَ مُباشَرَتِها لا يَقِفُ على اخْتيارِ أحدٍ ولا إرادَتِه. ¬

(¬1) في م: «بمباشرة». (¬2) في م: «حكم».

3282 - مسألة: (فإن زاد زيادة منفصلة، رجع في نصف الأصل، والزيادة لها، وإن كانت متصلة، فهي مخيرة بين دفع نصفه زائدا، وبين دفع نصف قيمته يوم العقد)

وَإنْ كَانَ الصَّدَاقُ زَائِدًا زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً، رَجَعَ فِي نِصْفِ الأصْلِ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا، وَإنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً، فَهِيَ مُخيَّرَةٌ بَينَ دَفْعِ نِصْفِهِ زَائِدًا، وَبَينَ دَفْعِ نِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3282 - مسألة: (فإن زادَ زيادَةً منفصلَةً، رَجَع في نِصْفِ الأصْلِ، والزِّيادَةُ لها، وإن كانت مُتَّصِلةً، فهي مُخيَّرَة بينَ دَفْعِ نِصْفِه زائدًا، وبينَ دفعِ نِصْفِ قِيمَتِه يومَ العقْدِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الصداقَ إذا زاد بعدَ العقدِ، لم يَخْلُ مِن أنَّ تكونَ الزيادَةُ غيرَ مُتَمَيِّزَةٍ؛ [كسِمَنِ العَبْدِ، وكِبَرِه، وتَعَلُّمِه صناعةً، أو مُتَمَيِّزَةً؛ كالوَلَدِ، والكَسْبِ، والثَّمَرَةِ، فإن كانت زيادةً مُتَمَيِّزَةً] (¬1)، أخَذَتِ الزِّيادةَ، وَرَجَع ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنِصْفِ الأصْلِ، وإن كانت غيرَ (¬1) مُتَمَيِّزَةٍ، فالخِيَرةُ إليها، إن شاءتْ دَفَعَتْ إليه نِصْفَ (¬2) قِيمَتِه يومَ العَقْدِ؛ لأنَّ الزيادةَ لها، لا يَلْزَمُها بَذْلُها (¬3)، ولا يُمْكِنُها دَفْعُ الأصْلِ بدُونِها، فصِرْنا إلى نِصْفِ القِيمَةِ، وإن شاءتْ دَفَعَتْ إليه نِصْفه زائدًا، فيَلْزَمُه قَبُولُه؛ لأنَّها دَفَعَتْ إليه حَقَّه وزيادَةً (¬4) لا تَضُرُّ ولا تَتَمَيَّزُ، فإن كانتْ مَحْجُورًا عليها، لم يَكُنْ (¬5) له ¬

(¬1) مضروب عليها في: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «بدلها». (¬4) في م: «زيادته». (¬5) في م: «يمكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجوعُ إلَّا في نِصْفِ القِيمةِ؛ لأَنَّ الزِّيادةَ، ولا يجوزُ لها ولا لِوَلِيِّها التَّبَرُّعُ بشئٍ لا يجبُ عليها.

3283 - مسألة: (وإن كان ناقصا، خير الزوج بين أخذ نصفه ناقصا، وبين)

وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، خُيِّرَ الزَّوْجُ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا، وَبَيْنَ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3283 - مسألة: (وإن كان ناقِصًا، خُيِّرَ الزَّوْجُ بين أخْذِ نِصْفِه ناقِصًا، وبين) أخْذِ (نِصْفِ القِيمَةِ يومَ العَقْدِ) إذا نَقَص الصَّداقُ بعدَ العَقْدِ، فهو مِن ضَمانِها، وقد ذكَرْناه مفصَّلًا، ولا يَخْلُو مِن أن يكونَ النقصُ مُتَمَيِّزًا أو غيرَ متَمَيِّزٍ، فإن كان مُتَمَيِّزًا، كعبدَيْنِ تَلِفَ أحدُهما، فإنَّه يَرْجِعُ بنِصْفِ الباقِى ونصفِ قيمةِ التَّالِفِ، أو مثلِ نصفِ التالِف إن كان مِن ذَواتِ الأمثالِ، وإن لم يكُنْ مُتَمَيِّزًا، كعبدٍ كان شابًّا فصارَ شيخًا، فنَقَصتْ قِيمَتُه، أو نَسِىَ [صناعَتَهُ أو كتابَتَهُ] (¬1)، أو هُزِلَ، ¬

(¬1) في م: «صناعة أو كتابة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالخِيارُ إلى الزَّوْجِ، إن شاء رَجَع بنِصْفِ قِيمَتِه وقتَ ما أصْدَقها؛ لأَنَّ ضمانَ النَّقْصِ عليها، فلا يَلْزَمُه أخْذُ نِصْفِه؛ لأنَّه دون حَقِّه، وإن شاء رَجع بنِصْفِه نَاقِصًا، فتُجْبَرُ المرأةُ على ذاك؛ لأنَّه رَضِىَ أن يأخُذَ نِصْفَ حقه ناقصًا. فإنِ اخْتارَ أن يَأْخُذَ أرْشَ النَّقْصِ مع هذا، لم يكُنْ له ذلك، في ظاهرِ كلامِ الخِرَقِىِّ، وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ. وقال القاضى: القِياسُ أنَّ له ذلك، كالمَبِيعِ يُمْسِكُه ويُطالِبُ بالأرْشِ. وبما ذَكَرْناه كُلّه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال محمدُ بنُ الحسَنِ: الزِّيادةُ غيرُ المُتَمَيِّزَةِ تَابِعةٌ للعَيْنِ، فللزَّوْجِ الرُّجوع فيها؛ لأنَّها تَتْبَعُ في الفُسُوخِ، فأشْبَهَت زيادةَ السُّوقِ. ولَنا، أنَّها زيادة حَدَثَتْ في مِلْكِها، فلم تَتَنَصَّفْ (¬1) بالطلاقِ، ¬

(¬1) في الأصل: «تنتصف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُمَيَّزَةِ، فأمَّا زيادةُ السُّوقِ، فليست مِلْكَها، وفارَق نماءَ المَبِيعِ؛ لأَنَّ سبَبَ الفسخِ العَيْبُ، وهو سابقٌ على الزيادةِ، وسبَبُ تَنْصِيفِ المَهْرِ الطَّلاقُ، وهو حادِثٌ بعدَها، ولأَنَّ الزَّوْجَ يَثْبُتُ حقُّه في نِصْفِ المَفْرُوضِ دونَ العَيْنِ، ولهذا لو وَجَدَها ناقِصَةً كان له الرُّجوعُ إلى نِصْفِ بَدَلِها، بخِلافِ المَبِيعِ المَعِيبِ، والمفْروضُ لم يكنْ سَمِينًا، فلم يكُنْ له أخْذُه، والمَبِيعُ تَعَلَّقَ حَقُّه بعيْنِه، فتَبِعَه سِمَنُه. فأمَّا إن نَقَص الصَّداقُ مِن وَجْهٍ وزادَ مِن وَجْهٍ، مثلَ أنَّ يَتَعَلَّمَ صناعةً ويَنْسَى أُخْرَى، أو هُزِلَ وتَعَلَّمَ، ثَبَت الخِيارُ لِكُلِّ واحدٍ منهما، وكان له الامْتِناعُ [مِن العينِ] (¬1) والرُّجوعُ إلى القِيمَةِ، فإنِ اتَّفَقا على نِصْفِ العَيْنِ، جازَ، وإنِ امْتَنَعَتِ المرأةُ من بَذْلِها (¬2)، فلها ذلك لأجْلِ الزِّيادةِ، وإنِ امْتَنَعَ هو من الرُّجوعِ في نِصْفِها فله ذلك لأجْلِ النَّقْصِ، وإذا امْتَنَعَ أحَدُهما، رَجَع في نِصْفِ قِيمَتِها. فصل (¬3): فإن أصْدَقَها شِقْصًا، وقُلْنا: للشَّفِيعِ أخذُه. فأخَذَه، ثم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بدلها». (¬3) سقط هذا الفصل من: الأصل.

3284 - مسألة: (وإن كان تالفا، أو مستحقا بدين أو شفعة، فله نصف القيمة يوم العقد، إلا أن يكون مثليا، فيرجع بنصف مثله. وقال القاضى: له القيمة أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض)

وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، أَوْ مُسْتَحَقًّا بِدَيْنٍ أَوْ شُفْعَةٍ، فَلَهُ نصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلِيًّا، فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مِثْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَهُ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ إِلَى يَوْمِ الْقَبْضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلَّقَ الزَّوْجُ، رَجَع في نِصْفِ قِيمَتِه؛ لزَوالِ مِلْكِها عنه، فإن طَلَّقهِا قبِلَ الأَخْذِ بالشُّفْعَةِ، فطالبَ الشَّفِيعُ، قُدِّم حقُّه في أحدِ الوجْهَيْنِ، لأَنَّ حَقه أسْبَقُ، فإنَّه يَثْبُتُ بالنكاحِ، وحَقُّ الزَّوْجِ ثابتٌ بالطَّلاقِ، ولأَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ إلى بَدَلٍ، وهو نِصْفُ القِيمَةِ، وحَقُّ الشَّفِيعِ إذا بَطَلَ فإلى غيرِ بَدَلٍ. والثانى، يُقَدَّمُ الزَّوْجُ؛ لأَنَّ حَقَّه ثَبَت بنَصِّ القُرْآنِ والإِجْماعِ، فكان آكَدَ، وحَقُّ الشَّفِيعِ مُخْتَلَفٌ فيه. فعلى هذا، يكونُ للشَّفِيعِ أخْذُ النِّصْفِ الباقِى بنِصْفِ ما كان يأخُذُ به الجَمِيعَ. 3284 - مسألة: (وإن كان تالِفًا، أو مُسْتَحَقًّا بدَيْنٍ أو شُفْعَةٍ، فله نِصْفُ القِيمَةِ يومَ العَقْدِ، إلَّا أن يكونَ مِثليًّا، فيرجِعُ بنِصْفِ مِثْلِه. وقال القاضى: له القِيمَةُ أقلَّ ما كانتْ مِن يومِ العَقْدِ إلى يومِ القَبْضِ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا: هذا مَبْنِىٌّ على أنَّ الصَّداقَ لا يدخُلُ في ضَمانِ المرأةِ إلَّا بِقَبْضِه وإن كان مُعيَّنًا، كالمَبِيعِ في رِوايَةٍ. فعلى هذا، إن كانتِ القِيمَةُ وقتَ العَقْدِ أقَلَّ، لم يَلْزَمْها إلَّا نِصْفُها؛ لأَنَّ الزيادةَ بعدَ العَقْدِ لها، لأنَّها نَماءُ مِلْكِها، فأشْبَهَتِ الزيادةَ بعدَ القَبْضِ، وإِن كانتِ القِيمَةُ وقتَ القَبْضِ أقَلَّ، لم يَلْزَمْها أكثرُ مِن نِصفِها، لأنَّ ما نقَص مِن القِيمَةِ مِن ضَمَانِه، تَلْزَمُه غرامَتُه لها، فكيف يَجِبُ له عليها؟ فصل: فإن أصْدَقَها نَخْلًا حائِلًا، فأطْلَعَت، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فله نِصْفُ قِيمَتِها يومَ العَقْدِ، وليس له الرُّجوعُ في نِصْفِها؛ لأنَّها زادَتْ زيادةً مُتَّصِلةً، فهى كسِمَنِ الجارِيةِ، وسواءٌ كان الطَّلْعُ مُؤَبَّرًا أو غيرَ مُؤبَّرٍ؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ بالأَصْلِ لا يَجِبُ فَصْلُه عنه في هذه الحالِ، فأشْبَهَ السِّمَنَ وتَعَلُّمَ الصناعةِ. فإن بَذَلَتْ له المرأةُ الرُّجوعَ فيها مع طَلْعِها، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّها زِيادَةٌ مُتَّصِلَةٌ لا يَجِبُ فَصْلُها. وإن قال: اقْطَعِى ثَمَرتَكِ حتى أرْجِعَ في نِصْفِ الأَصْلِ. لم يَلْزَمْها؛ لأَنَّ العُرْفَ في هذه الثَّمَرةِ أنَّها لا تُؤْخَذُ إلَّا بالجِدادِ، بدَلِيلِ البَيْعِ، ولأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ انْتَقَلَ إلى القِيمةِ، فلم يَعُدْ إلى العَيْنِ إلَّا برِضاهما. فإن قالتِ المرأةُ: اتْرُكِ الرُّجوعَ حتى أجُدَّ (¬1) ثَمَرَتِى، وتَرْجِعَ في نِصْفِ الأَصْلِ. أو (¬2): ارْجِعْ في نصفِ الأصلِ وأمْهِلْنِى حتى أقْطَعَ الثَّمَرَةَ. أو قال الزَّوجُ: أنا أصْبِرُ حتى إذا أخَذْتِ ثَمَرَتَكِ رَجَعْتُ في الأَصْلِ. أو قال: أنا أرْجِعُ في الأَصْلِ وأصْبِرُ حتى تَجُدِّى ثَمَرَتَكِ. لم يَلْزَمْ [واحدًا منهما] (¬3) قَبُولُ قولِ الآخَرِ؛ لأَنَّ الحَقَّ انْتَقَلَ إلى القِيمَةِ، فلم يَعُدْ إلى العَيْنِ إلَّا بتَراضِيهما. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَها قَبُولُ ما عَرَضَ عليها؛ لأَنَّ الضَّرَرَ عليه، فأَشْبَهَ ما لو بَذَلَتْ له نِصْفَها مع طَلْعِها، وكما لو وجَد العَيْنَ ناقِصةً فرَضِىَ بها. وإن تَراضَيا على شئٍ مِن ذلك، جازَ. والحُكْمُ في سائرِ الشَّجَرِ، كالحُكْمِ في النَّخْلِ. وإخْرَاجُ النَّوْرِ في الشَّجَرِ بمنزلةِ الطَّلْعَ الذى لم يُؤَبَّرْ. ¬

(¬1) في م: «آخذ». (¬2) في م: «و». (¬3) في م: «أحدهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كانت أرضًا فحَرَثَتْها (¬1)، فتلك زيادةٌ مَحْضَةٌ، إن بَذَلَتْها له بزيادَةٍ، لَزِمَه قَبُولُها، كالزياداتِ المُتَّصِلَةِ كلِّها، وإن لم تَبْذُلْها، دَفَعَتْ نِصْفَ قِيمَتِها. وإن زَرَعَتْها، فحُكْمُها حكمُ النَّخْلِ (¬2) إذا أطْلَعَتْ (¬3)، إلَّا في موْضِعٍ واحدٍ، وهو أنَّها إذا بَذَلَتْ نِصْفَ الأرضِ مع نصفِ الزَّرْعِ، لم يَلْزَمْه قَبُولُه، بخِلافِ الطَّلْعِ مع النَّخْلِ، والفرقُ بينهما مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ الثَّمَرَةَ لا تَنْقصُ بها الشجرة، والأرْضُ تَنْقُصُ بالزَّرْعِ وتَضْعُفُ. الثانى، أنَّ الثَّمَرَةَ مُتَولِّدةٌ مِن الشَّجَرِ، فهى تَابِعَةٌ له، والزَّرْعُ مِلْكُها أوْدَعَتْه في الأرضِ، فلا يُجْبَرُ على قَبُولِه. وقال القاضى: يُجْبَرُ على قبولِه، كالطَّلْعِ سواءً. وقد ذكرْنا ما يَقْتَضِى الفَرْقَ. ومسائِلُ الغِراسِ كمسائِلِ الزَّرْعِ، فإن طَلَّقَها بعدَ الحَصَادِ ولم تَكُنِ الأرْضُ زادتْ ولا نَقَصَتْ، رَجَع في نِصْفِها، وإن نَقَصَتْ بالزَّرْعِ أو زادتْ به، رَجَع (¬4) في نِصْفِ قِيمَتِها، إلَّا أنَّ يَرْضَى بأخْذِها ناقصةَ، أو تَرْضَى هى بِبَذْلِها زائدةً. فصل: فإن أصْدَقَها خَشَبًا فشَقَّتْه (¬5) أَبْوابًا فزادتْ قِيمَتُه، لم يكُنْ له الرُّجوعُ في نِصْفِه؛ لزِيادَتِه، ولا يَلْزَمُه قَبُولُ نِصْفِه؛ لأنَّه نَقَص مِن وَجْهٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «فحرثها». (¬2) في الأصل: «النخيل». (¬3) في م: «أطلع». (¬4) بعده في الأصل: «به». (¬5) في الأصل: «فشققته».

3285 - مسألة: (وإن نقص الصداق فى يدها بعد الطلاق، فهل

وَإِنْ نَقَصَ الصَّدَاقُ فِى يَدِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَهَلْ تَضْمَنُ نَقْصَهُ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه لم يَبْقَ مُسْتَعِدًّا لِمَا كان يَصْلُحُ له من التَّسْقِيفِ (¬1) وغيرِه. وإن أصْدَقَها ذَهَبًا أو فِضَّةً، فصاغَتْه حُلِيًّا فزادتْ قِيمَتُه، فلها مَنْعُه من نِصْفِه. وإن بَذَلَتْ له النِّصفَ، لَزِمَه القَبُولُ؛ لأَنَّ الذَّهبَ لا يَنْقُصُ بالصِّياغَةِ، ولا يخرجُ عن كونِه مُسْتعِدًّا لِما كان يَصْلُحُ له قبلَ صِياغَتِه. وإن أصْدَقَها دَنانيرَ أو دَراهِمَ أو حُلِيًّا، فكَسَرَتْهُ، ثم صاغَتْه على غيرِ ما كان عليه، لم يَلْزَمْه قَبُول نِصْفِه؛ لأنَّه نَقَص في يَدِها، ولا يَلْزَمُها بَذْلُ نِصْفِه؛ لزيادةِ الصِّناعةِ التى أحْدَثَتْها فيه. وإن أعادتِ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ إلى ما كانت عليه، فله الرُّجوعُ في نِصْفِها، وليس له طَلَبُ قِيمَتِها؛ لأنَّها عادَتْ إلى (¬2) ما كانت عليه مِن غير نَقْص ولا زيادَةٍ، فأشْبَهَ ما لو أصْدَقَها عَبْدًا فمَرِضَ ثم (¬3) بَرَأَ. وإن صاغتِ الحُلِىَّ على ما كان عليه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، له الرُّجوعُ، كالدَّراهِم إذا أُعِيدَتْ. والثانى، ليس له الرُّجوعُ في نِصْفِه؛ لأنَّها جَدَّدَتْ فيه صناعة، فأشْبَهَ ما لو صاغَتْه على صِفَةٍ أُخْرَى. ولو أصْدَقَها جاريةً فهُزِلَتْ، ثم سَمِنَتْ فعادتْ إلى حالِتها الأُولَى، فهل يَرْجِعُ في نِصْفِها؟ على وَجْهَيْن. 3285 - مسألة: (وإن نَقَص الصَّداقُ في يَدِها بعدَ الطَّلاقِ، فهل ¬

(¬1) في الأصل: «التشقيق». (¬2) في الأصل: «إذا». (¬3) في م: «أو».

يَحْتَمِلُ وَجْهيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَضْمَنُ نَقْصَه؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن) أمَّا إن كانَتْ مَنَعَتْه منه بعدَ طَلَبِه، فعليها الضَّمانُ؛ لأنَّها غَاصِبَةٌ. وإن تَلِفَ قبلَ مُطالَبَتِه، فقياسُ المذهبِ أنَّه لا ضَمانَ عليها؛ لأنَّه حَصَل في يَدِها بغيرِ فِعْلِها، ولا عُدْوانٍ من جِهتِها، فلم تَضْمَنْه، كالوديعَةِ. وإنِ اخْتَلَفا في مطالبَتِه لها، فالقولُ قولُها، لأنَّها مُنْكِرَةٌ. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّ عليها الضَّمانَ؛ لأنَّه حَصَل في يَدِها من غيرِ إذْنِ الزَّوْجِ لها في إمْساكِه، أشْبَهَتِ الغاصِبَ. وهذا ظاهِرُ قولِ أصحابِ الشافعىِّ، قالوا: لأنَّه حَصَل في يَدِها بحكمِ قَطْعِ العَقْدِ، فأشْبَهَ المَبِيعَ (¬1) إذا ارْتَفَعَ العَقْدُ بالفَسْخِ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذكَرْناه. وأمّا المَبِيعُ (1) فيَحْتَمِلُ أن يُمْنَعَ، وإن سلَّمْنا، فإنَّ الفَسْخَ إن كان منهما أو مِن المُشْتَرِى، فقد حَصَل منه التَّسَبُّبُ إلى جَعْلِ مِلْكِ غيرِه ¬

(¬1) في م: «البيع».

3286 - مسألة: (وإن قال الزوج: نقص قبل الطلاق)

وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: نَقَصَ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَقَالَتْ: بَعْدَهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ في يَدِه، وفى مسألتِنا، ليممن المرأةِ فِعْلٌ، وإنَّما خَصَل ذلك بفِعْلِ الزَّوْجِ وحْدَه، فأشْبَهَ ما لو ألْقَى ثَوْبَه في دارِها بغيرِ أمْرِها (¬1). 3286 - مسألة: (وإن قال الزَّوْجُ: نَقَص قبلَ الطَّلاقِ) فعليكِ ضَمانُه (وقالت: بعدَه. فالقولُ قولُها مع يَمِينِها) لأنَّه ادَّعى ما يوجِبُ الضَّمانَ عليها، وهى تُنْكِرُه (¬2)، والقولُ قولُ المُنْكِرِ. فصل: إذا خالَعَ امرأتَه بعدَ الدُّخولِ، ثم تَزَوَّجَها [في عِدَّتِها] (¬3)، وطَلَّقَها قبلَ دُخُولِه بها، فلها في النِّكاحِ الثانى نِصْفُ الصَّداقِ المُسَمَّى فيه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لها جَمِيعُه؛ لأَنَّ حُكْمَ الوَطْءِ موجودٌ فيه، بدلِيلِ أنَّها لو أتَتْ بوَلَدٍ لَزِمَه. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬4). ولأنَّه طلاقٌ من نِكاحٍ صحيحٍ، لم يَمَسَّها فيه، فوَجَبَ أن يَتَنَصَّفَ المَهْرُ، كما لو تزوَّجَها بعدَ العِدَّةِ، وما ذكَرَه غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ لُحُوقَ النَّسبِ لا يَقِفُ على الوَطْءِ عندَه، فلا يقومُ مَقامَه. فأمَّا إن ¬

(¬1) في م: «إذنها». (¬2) في م: «منكرة». (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة البقرة 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان لم يَدْخُلْ بها في النِّكاحِ الأَوَّلِ، فعليه نِصْفُ الصَّداقِ للنِّكاحِ الأَوَّلِ، ونصْفُ الصَّداقِ للنِّكاحِ الثانى، بغيرِ خِلافٍ. فصل: إذا طَلَّق المرأةَ قبلَ الدُّخولِ، وقد تصرَّفَتْ في الصَّداقِ بعَقْدٍ من العُقودِ، لم يَخْلُ من ثلاثةِ أقسام، أحدُها، ما يُزِيلُ المِلْكَ عن الرَّقَبةِ، كالبيعِ والهِبَةِ والعِتْقِ، فهذا يَمنَعُ الرُّجوعَ (¬1)، وله نِصْفُ القيمةِ؛ لِزَوالِ مِلْكِها وانقطاعِ تَصَرُّفِها، فإن عادتِ العَيْنُ إليهِا قبلَ طَلاقِها، ثم طَلَّقها وهى في يدِها بحالِها، فله الرُّجوعُ في نِصْفِها، لأنَّه وَجَدَها بعَيْنِها، فأشْبَهَ ما لو لم تُخْرِجْها. ولا يَلْزَمُ الوالدُ إذا وَهَبَ ولدَه شيئًا، فخرَجَ عن مِلْكِه ثم عاد إليه، حيث لا يَمْلِكُ الرُّجوعَ؛ لأنَّا نَمْنَعُ ذلك، وإن سَلَّمْنا، فإنَّ حَقَّ الوَالدِ سَقَط بخُرُوجه عن يَدِ الولدِ بِكلِّ حالٍ، بدليلِ أنَّه لا يُطالِبُه ببَدَلِه، والزَّوْجُ لم يَسْقُطْ حَقُّه بالكُلِّيَّةِ، بل يَرْجِعُ بنِصْفِ قِيمَتِه عند عَدَمِه، فإذا وُجِدَ كان الرُّجوعُ في عَيْنِه (¬2) أوْلَى. وفى معنى هذه التَّصَرُّفاتِ الرَّهْنُ، فإنَّه إن (¬3) لم يُزِلِ المِلْكَ عن الرَّقَبةِ، لكنَّه يُرادُ للبَيْعِ المُزِيلِ للمِلْكِ، ولذلك لا يجوزُ رَهْنُ ما لا يَجُوزُ بَيْعُه، ففى الرُّجوعِ في العَيْنِ إبطالُ حَقِّ المُرْتَهِنِ من الوَثِيقةِ، فلم يَجُزْ. وكذلك الكِتابَةُ، فإنَّها تُرادُ للعِتْقِ المُزِيلِ للمِلْكِ، وهى عَقْدٌ لازِم، فجرَتْ مَجْرَى الرَّهْنِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا تَمْنَعَ الرُّجوعَ إذا قُلْنا: يَجُوزُ بَيْعُ المكاتَبِ، كالتَّدْبِيرِ. فإن ¬

(¬1) بعده في م: «به». (¬2) في م: «نفسه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلَّق الزَّوْجُ قبلَ إقْباضِ الهِبَةِ أو الرَّهْنِ، أو في مدَّةِ الخِيارِ في البَيْعِ، ففِيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا تُجْبَرُ على رَدِّ نِصفِه إليه؛ لأنَّه عَقْدٌ عَقَدَتْه في مِلْكِها، فلم يَمْلِكْ إبْطَالَه، كاللَّازِمِ، ولأَنَّ مِلْكَها قد زَال، فلم يَمْلِكِ الرُّجوعَ فيما ليس بِمَمْلوكٍ لها. والثانى، تُجْبَرُ على تسْلِيمِ نِصْفِه، فإنَّها قادِرَةٌ على ذلك، ولا زيادةَ فيها. وللشافعىِّ قَوْلان كهذَيْن الوَجْهَيْن. فأمَّا إن طلَّقها بعد تقبِيضِ الهِبةِ والرَّهْنِ ولُزُوم البَيْعِ، فلم يَأْخُذْ قِيمةَ النِّصْفِ حتى فُسِخَ البَيْعُ والرهنُ والهبةُ، لم يكن له الرُّجوعُ في نِصْفِها؛ لأَنَّ حقَّه ثَبَت في القيمةِ. الثانى، تَصَرُّفٌ غيرُ لازمٍ لا يَنْقُل الملْكَ؛ كالوصيةِ، والشركةِ، والمضاربةِ، فهذا لا يُبْطِل حقَّ (¬1) الرُّجوعِ في نِصفِه، ويكونُ [وجودُ هذا] (¬2) التَّصَرُّفِ كعدمِه؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ لم ينْقُلِ الملْكَ، ولم يَمْنَعِ المالكَ مِن التَّصَرُّفِ، فلا يَمْنَعُ مَن له الرُّجوعُ على المالكِ من الرُّجوعِ، كالإِيداعِ والعارِيَّةِ. فأمَّا إن دَبَّرَته، فظاهرُ المذهبِ أنَّه لا يَمْنَعُ الرُّجوعَ، لأنَّه لا يَمْنَعُ البَيْعَ، فلم يَمْنَعِ الرُّجوعَ، كالوَصِيَّةِ، ولا يُجْبَرُ على الرُّ جوعِ في نِصْفِه، بل يُخَيَّرُ بينَ ذلك وبينَ أخْذِ نِصْفىِ قِيمتِه؛ لأَنَّ شركةَ مَن نِصفُه مُدَبَّرٌ نَقْصٌ، ولا يُؤْمَنُ أنَّ يُرْفَعَ إلى [حاكم حَنَفِىٍّ] (¬3) فيَحْكُمَ بعِتْقِه. وإن كانتْ أَمَةً فدَبَّرَتْها، فإن قُلْنا: تُباعُ في الدَّيْنِ. فهى كالعَبْدِ. وإن قُلْنا: لا تُباعُ. لم يَجُزِ الرُّجوعُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وجوده بهذا». (¬3) في الأصل: «الحاكم الحنفى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في نِصْفِها. الثالثُ، تَصَرُّفٌ لازمٌ لا يُرادُ لإِزالةِ الملكِ، كالإِجارةَ والتزْوِيجِ، فهو نَقْصٌ، فيَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ بينَ أن يَرْجِعَ في نِصْفِه ناقصًا، وبينَ الرجوعِ في نِصْفِ قيمَتِه، فإن رَجَع في نصْفِ المُسْتَأْجَرِ، صَبَر حتى تَنْفَسِخَ الإِجارةُ. فإن قيل: فلِمَ قُلْتُم -في الطَّلْعِ الحادِثِ في النَّخِيلِ، إذا قال: أنا أصْبِرُ حتى تَنْتَهىَ الثَّمَرَةُ-: لم يكنْ له ذلك؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينهما أنَّ في تلكَ المسألةِ تكونُ المِنَّةُ له، فلا يَلْزَمُها قَبُولُ مِنَّتِه، بخِلافِ مسألتِنا، ولأَنَّ ذلك يُؤَدِّى إلى التنازُعِ في سَقْىِ الثَّمَرَةِ، وجِدادِها، وقَطْعِها لخوفِ العطشِ أو غيرِه، بخِلافِ مسألتِنا. فصل: قد ذكرنا أَنَّ المَهْرَ إذا كان معينًا يدخُلُ في مِلْكِ المرأةِ بمُجَرَّدِ العقدِ، فإذا زادَ فالزيادةُ لها، وإن نَقَص فعليها، فإذا كانَتْ غَنَمًا فولَدَت، فالأوْلادُ زيادةٌ مُنْفَصِلَةٌ، تنفرِدُ المرأةُ بها؛ لأنَّه (¬1) نَماءُ مِلْكِها، وتَرْجِعُ في نِصْفِ الأُمَّهاتِ، إن لم تكُنْ نَقَصَتْ ولا زادَتْ زيادةً متصلةً؛ لأنَّه نِصْف ما فَرَضَ لها، وقد قال اللَّهُ تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. وإن كانَتْ نَقَصَتْ بالولادَةِ أو بغَيْرِ ما، فله الخيارُ بينَ أخْذِ نِصْفِها ناقصًا؛ لأنَّه رَضِىَ بدونِ حَقِّه، وبين أخْذِ نِصْفِ قيمتِها وقتَ ما أَصْدَقَها؛ لأَنَّ ضمانَ النَّقْصِ عليها. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَرْجِعُ في نِصْفِ الأَصْلِ، [وإنَّما يَرْجِعُ في نِصْفِ القيمةِ؛ لأنَّه لا يجوزُ فَسْخُ] (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [العقدِ في الأصلِ دون النَّماء؛ لأنَّه مُوجَبٌ للعقدِ، فلم يَجُزْ رُجوعُه في الأصلِ] (¬1) بِدُونِه. ولَنا، أنَّ هذا نماءٌ منفصلٌ عن الصَّداقِ، فلم يَمْنَعْ رجوعَ الزَّوجِ، كما لو انْفَصَلَ قبلَ القَبْضِ، وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الطلاق ليس برَفْعِ العقدِ، ولا النَّماءُ من [مُوجَباتِ العَقْدِ] (¬2)، إنَّما هو من مُوجَباتِ الملكِ. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بين كونِ الوِلادةِ قبلَ تَسليمِه إليها أو بعدَه، إلَّا أنَّ يكونَ قد مَنَعَها قبْضَه، فيكونُ النَّقْصُ من ضمانِه، والزيادَةُ لها، فتنفرِدُ (¬3) بالأوْلادِ، وإن نَقَصَتِ الأمَّهاتُ، خُيِّرَتْ بينَ أخْذِ نِصْفِها ناقصةً، وبينَ أخْذِ نِصْفِ قيمتِها أكثرَ ما كانت من يومِ أصْدَقَها إلى يومِ طلَّقَها. وإن أراد الزَّوْجُ أخْذَ نِصْفِ قيمةِ الأمَّهاتِ من المرأةِ، لم يكنْ له ذلك (¬4). وقال أبو حنيفةَ: إذا وَلَدَتْ في يَدِ الزَّوْجَ، ثم طلَّقَها قبلَ (¬5) الدُّخولِ، رَجَع في نِصْفِ الأوْلادِ أيضًا؛ لأَنَّ الولدَ دَخَل في التَّسْلِيمِ المُسْتَحَقِّ بالعقدِ؛ لأَنَّ حقَّ التسليمِ تَعَلَّقَ بالأمِّ، فسَرَى إلى الولَدِ، كحقِّ الاستِيلادِ، وما دَخَل في التسْليمِ المُسْتَحَقِّ يُنَصَّفُ بالطَّلاقِ، كالذى (¬6) دَخَل في العقدِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَنِصْفُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «موجباته». (¬3) في م: «فينفرد». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «بعد». (¬6) في الأصل: «كالذمى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَا فَرَضْتُمْ}. وما فُرِضَ ههُنا إلَّا الأمَّهاتُ، فلا يَتَنَصَّفُ سِواها، ولأَنَّ الولَدَ حَدَث في مِلْكِها، أشْبَهَ ما حَدَث في يَدِها، ولا يُشْبِهُ حَقُّ التسْليمِ حقَّ الاستِيلادِ، فإنَّ حقَّ الاسْتيلادِ يسْرِى وحقَّ التسْليمِ لا سِرايَةَ له. فإن تَلِفَ في يَدِ الزَّوْجِ وكانتِ المرأةُ قد طالبَتْ به، فَمَنَعَها، ضَمِنَه كالغاصِبِ، وإلَّا لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه تَبَعٌ لأمِّهِ. فصل: والحُكْمُ في الصَّداقِ إذا كان جارِيةً، كالحكمِ في الغَنَمِ، إذا وَلَدَتْ كان الوَلَدُ لها، كوَلَدِ الغَنَمِ، إلَّا أنَّه ليس له الرُّجوعُ في نِصْفِ الأَصْلِ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى التَّفْرِيقِ بينَ الأُمِّ ووَلَدِها في بعْضِ الزَّمانِ، وكما لا يجوزُ التَّفْرِيقُ بينَها وبينَ وَلَدِها في جميعِ الزَّمانِ، لا يجوزُ في بعْضِه، فيَرْجِعُ أيضًا (¬1) في نِصْفِ قِيمَتِها وَقْتَ ما أصْدَقَها لا غيرُ. فصل: فإن كان الصَّداقُ بَهِيمةً حائِلًا، فحَمَلَتْ، فالحملُ فيها زِيادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، إن بَذَلَتْها له بزِيادَتِها، لَزِمَه قَبُولُها؛ لأَنَّ الحملَ في البَهِيمَةِ لا يُعَدُّ نَقْصًا، ولذلك لا يُرَدُّ به المَبِيعُ، وإن كان (¬2) أمَةً فحَمَلَتْ، فقد زِادَتْ من وَجْهٍ لأجلِ وَلَدِها، ونَقَصَتْ من وَجْهٍ، لأَنَّ الحَمْلَ في النِّساءِ نقْصٌ، لخَوْفِ التَّلَفِ عليها حينَ الوِلادَةِ، ولهذا يُرَدُّ بها المَبِيعُ، فحِينَئِذٍ لا يَلْزَمُها (¬3) بَذْلُها لأجْلِ الزِّيادةِ، ولا يَلْزَمُه قَبُولُها لأجْلِ النَّقْصِ، وله ¬

(¬1) في م: «عليها». (¬2) في م: «كانت». (¬3) بعده في الأصل: «إلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُ قيمَتِها. وإنِ اتَّفَقا على تَنْصِيفِها، جازَ. وإن أصْدَقَها. حامِلًا فوَلَدَتْ، فقد أصْدَقَها عَيْنَيْنِ، جارِيَةً ووَلَدَها، وزادَ الوَلَدُ في مِلْكِها، فإن طَلَّقَها فرَضِيَتْ بِبَذْلِ النصْفِ في الوَلَدِ والأُمِّ جميعًا، أُجْبِرَ (¬1) على قَبُولِهما (¬2)؛ لأنَّها زيادةٌ غيرُ مُمَيَّزَةٍ، وإن لم تَبْذُلْه، لم يَجُزْ له الرُّجوعُ في نِصْفِ الوَلَدِ؛ لزِيادَتِه، ولا في نِصْفِ الأمِّ؛ لما فيه مِن التَّفْرِقَةِ بينَها وبينَ وَلَدِها، ويَرْجِعُ بنِصْفِ قِيمَةِ الأمِّ. وفى نِصْفِ الوَلَد وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَسْتَحِقُّ نِصْفَ قِيمَتِه؛ لأنَّه حالةَ العَقْدِ لا قِيمَةَ له، وحالةَ الانْفِصالِ قد زاد (¬3) في مِلْكِها، فلا يُقَوِّمُه الزَّوْجُ بزِيادَتِه. ويُفارِق ولَدَ المَغْرُورِ بأنَّ (¬4) وَقْتَ الانْفِصالِ وَقْتُ الحَيْلُولَةِ، ولهذا قُوِّمَ، بخِلافِ مَسْأَلتِنا. والثانى، له نِصْفِ قِيمَتِه؛ لأنَّه أصْدَقَها عَيْنَيْنِ، فلا يَرْجِعُ في إحْداهما دُونَ الأُخْرَى، ويُقَوَّمُ حالةَ الانْفِصال؛ لأنَّها أوَّلُ حالةِ إمْكانِ تَقْوِيمِه. وفى المسألَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ الحَمْلَ لا حُكْمَ له، فيكونُ كأنَّه حادِثٌ. فصل: وإن أصْدَقَهَا أرْضًا فبَنَتْها دَارًا، أو ثَوْبًا فصَبَغَتْه، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رَجَع بنِصْفِ قِيمَتِه وَقْتَ ما أصْدَقَها، إلَّا أنَّ يَشاءَ أنَّ يُعْطِيَها ¬

(¬1) في الأصل: «لأجبر». (¬2) في م: «قبولها». (¬3) في م: «زال». (¬4) في م: «فإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَةَ البِناءِ والصِّبْغِ، فيَكونُ له النِّصْفُ، أو تَشاءَ هى أنَّ (¬1) تُعْطِيَه زَائِدًا، فلا يَكونُ له (¬2) غيرُه. ذَكَرَه (¬3) الخِرَقِىُّ. إنَّما كان له نِصْفُ القِيمَةِ؛ لأنَّه قد صارَ في الأرْضِ والثَّوْبِ زِيادَةٌ للمرأةِ، وهى البِناءُ والصِّبغُ، فإن دَفَعَتْ إليه نِصْفَ الجميعِ زَائِدًا، فعليه قَبُولُه؛ لأنَّه حَقه وزِيادَة. وإن بَذَل لها نِصْفَ قِيمَةِ البِناءِ والغِراسِ لِيَكونَ له النِّصْفُ، فقال الخِرَقِىُّ: له ذلك. قال القاضى: هذا مَحْمُولٌ على أنَّهما تراضَيا بذلك؛ لأنَّها لا تُجْبَر على المُعاوَضَةِ، [وهذه مُعاوَضَةٌ] (¬4). قال شَيْخُنا (¬5): والصَّحِيح أنَّها تُجْبَرُ؛ لأَنَّ الأرْضَ حصَلَتْ له وفيها بِناء لغيرِه، فإذا بَذَل القِيمَةَ، لَزِمَ الآخَرَ قَبُولُه، كالشَّفِيعِ إذا أخَذ الأرْضَ بعدَ بِنَاءِ المُشْتَرِى فيها، فبَذَل الشَّفِيعُ قِيمَتَه، لَزِمَ المُشْتَرِىَ قَبُولُها، وكذلك إذا رَجَع المُعِيرُ في أرْضِه وفيها بِناءٌ (¬6) أو غِراسٌ للمُسْتَعِيرِ، فبَذَل المُعِيرُ قِيمَةَ ذلك، لَزِمَ المُسْتَعِيرَ قَبُولُها. فصل: فإن أصْدَقَها نَخْلًا حائِلًا، فأَثْمَرَتْ في يَدِه، فالثَّمَرَةُ لها؛ لأنَّها نَماءٌ مِلْكِها، فإن جَدَّها بعد تَناهِيها، وجَعَلَها في ظروفٍ، وألْقَى عليها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسختين: «لها». والمثبت كما في متن الخرقى بالمغنى 10/ 183. (¬3) في م: «وذكر». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في: المغنى 10/ 183. (¬6) بعده في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَقْرًا (¬1) مِن صَقْرِها (¬2)، وهو سَيَلانُ الرُّطَبِ بغيرِ طبْخٍ (¬3)، وهذا يَفْعَلُه أهلُ الحِجازِ حِفْظًا لرُطُوبَتِها، لم تَخْلُ منْ ثَلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أنَّ لا تَنْقُصَ قِيمَةُ الثَّمرَةِ والصَّقْرِ (¬4)، بل كانا بِحالِهما، أو زَادَا، فإنَّه يَرُدُّهما عليها، ولا شئَ عليه. الثانى، أن تَنْقُصَ قِيمَتُهما، وذلك على ضَرْبَيْنِ؛ أحدُهما، أن يكونَ نَقْصُهما (¬5) مُتَناهِيًا، فإنَّه يَدْفَعُهما إليها وأرْشَ نَقْصِهما (¬6)؛ لأنَّه تَعَدَّى بما فَعَلَه من ذلك. الضَّرْبُ الثانى، أنَّ لا يَتناهَى، بل يَتَزايَدُ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، أنَّها تَأْخُذُ قِيمَتَها؛ لأنَّها كالمُسْتَهْلَكَةِ. الثانى، هى مُخَيَّرَةٌ بينَ ذلك وبينَ تَرْكِها حتى يَسْتَقِرَّ نَقْصُها (¬7)، وتَأْخُذُها (¬8) وأَرْشَها، كالمَغْصُوبِ منه. الحالُ الثالثُ، أن لا تَنْقُصَ قِيمَتُها، لكنْ إن أخْرَجَها من ظُرُوفِها نَقَصَتْ قِيمَتُها، فللزّوْجِ إخْراجُها وأخْذُ ظُرُوفِها، إن كانتِ الظروفُ مِلْكَه، وإذا نَقَصَتْ، فالحُكْمُ على ما ذكَرْنا. وإذا قال الزَّوْجُ: أنا أُعْطِيكِها مع ظُرُوفِها. فقال القاضى: يَلْزَمُها قَبُولُها؛ لأنَّ ظُرُوفَها كالمُتَّصِلَةِ بها التَّابِعَةِ ¬

(¬1) في م: «صفرا». (¬2) في م: «صفرها». (¬3) في م: «خلع». (¬4) في م: «الصفر». (¬5) في م: «بعضهما». (¬6) بعده في م: «له». (¬7) في النسختين: «بعضها». وانظر المغنى 10/ 184. (¬8) في الأصل: «يأخذها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَها قَبُولُها؛ لأَنَّ الظُّرُوفَ عَيْنُ مالِه، فلا يَلْزَمُها (¬1) قَبُولُها، كالمُنْفَصِلَةِ عنها. فإن كانت بحالِها، إلَّا أنَّ الصَّقْرَ (¬2) المَتْرُوكَ على الثَّمَرةِ مِلْكُ الزَّوْجِ، فإنَّه يَنْزِعُ (¬3) الصَّقْرَ (2)، ويَرُدُّ الثَّمَرَةَ، والحكمُ فيها إن نَقَصَتْ أو لم تَنْقُصْ كالتى قبلَها. وإن قال: أنا أُسَلِّمُها مع الصَّقْرِ (2) والظُّرُوفِ. فعلى الوَجْهَيْن اللَّذيْنِ ذكَرْناهما. وفى الموضعِ الذى حَكَمْنا أنَّ له رَدَّه (¬4)، إذا قالت: أنا أرُدُّ الثَّمَرةَ، وآخُذُ الأَصْلَ. فلها ذلك في أحَدِ الوَجْهَيْنِ. والآخَرِ، ليس لها ذلك. مَبْنِيَّانِ على تَفْرِيقِ الصَّفْقةِ في البَيْعِ، وقد ذكَرْنا ذلك في مَوْضِعِه. فصل: إذا كان الصَّداقُ جارِيةً، فوَطِئَها الزَّوْجُ عالِمًا بزَوالِ مِلْكِه، وتَحْرِيمِ الوَطْءِ عليه، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ، وعليه المَهْرُ لسَيِّدَتِها، أكْرَهَها أو طاوَعَتْه؛ لأَنَّ المَهْرَ لمَوْلاتِها، فلا يَسْقُطُ بِبَذْلِها ومُطاوَعَتِها، كما لو بَذَلَتْ يَدَها للقَطْعِ، وإن وَلَدَتْ، فالوَلَدُ رَقِيقٌ للمرأةِ. وإنِ اعْتَقَدَ أنَّ مِلْكَه لم يَزُلْ عن جَمِيعِها، أو كان (¬5) غيرَ (¬6) عالمٍ بتَحْرِيمِها عليه، فلا حَدَّ عليه للشُّبْهَةِ، وعليه المَهْرُ، والوَلَدُ حُرٌّ لاحِقٌ ¬

(¬1) في النسختين: «يلزمه»: وانظر المغنى الموضع السابق. (¬2) في م: «الصفر». (¬3) في الأصل: «تبرع». (¬4) في م: «زيادة». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به، وعليه قِيمَتُه يومَ وِلادَتِه، ولا تَصِيرُ أمَّ وَلَدٍ له وإن مَلَكَها بعدَ (¬1) ذلك؛ لأنَّه لا مِلْكَ له فيها، وتُخَيَّرُ (¬2) المرأةُ بين أخْذِها في حالِ حَمْلِها، وبينَ أخْذِ قِيمَتِها؛ لأنَّه نَقَصَها بإحْبالِها. وهل لها الأرْشُ بعدَ ذلك؟ يَحْتَمِلُ أنَّ لها الأرْشَ؛ لأنَّها نَقَصَتْ بعُدْوانِه (¬3)، أشْبَهَ ما لو نَقَصَها الغاصِبُ بذلك. وقال بعضُ أصْحابِ الشَّافعىِّ: في الأَرْشِ ههُنا قَوْلان. وقال بعضُهم: يَنْبَغِى أن يكونَ لها المُطالَبَةُ بالأرْشِ، قولًا واحدًا؛ لأَنَّ النَّقْصَ حَصَل بفِعْلِه الذى تَعَدَّى به، فهو كالغاصِبِ، وكما لو طالبَتْه فمَنَعَ تَسْلِيمَها. وهذا أصَحُّ. فصل: وإن أصْدَقُ ذِمِّىٌّ ذِمِّيَّةً خَمْرًا، فتَخَلَّلَتْ في يَدِها، ثم طَلَّقَها قبلَ دُخُولِه بها، احْتَمَلَ أن لا يَرْجِعَ عليها بشئٍ؛ لأنَّها قد زادَتْ في يَدِها بالتَّخَلُّلِ، والزِّيادةُ لها، وإن أرادَ الرُّجوعَ بنِصْفِ قِيمَتِها قبلَ التَّخَلُّلِ، فلا قِيمَةَ لها، وإنَّما يَرْجِعُ إذا زادَتْ في نِصْفِ قِيمَتِها أقلَّ ما كانت من حينِ العَقْدِ إلى حينِ القَبْضِ، وحِينَئِذٍ لا قِيمَةَ لها. وإن تَخَلَّلَتْ في يَدِ الزَّوْجِ، ثم طَلَّقَها، فلها نِصْفُها؛ لأَنَّ الزِّيادةَ لها. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ الخَلُّ له، وعليه نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِها، إذا تَرافَعا إلينا قبلَ القَبْضِ، أو أسْلَما، أو أحدُهما. ¬

(¬1) في الأصل: «بغير». (¬2) في م: «تجبر». (¬3) في الأصل: «بعد ولاية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذاْ تَزَوَّجَ امْرأةً، فضَمِنَ أبُوه نفَقَتَها عَشْرَ سِنِينَ، صَحَّ. ذكَرَه أبو بكرٍ؛ لأَنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه ضَمَانُ مَجْهولٍ، أو ضَمانُ ما لم يَجِبْ، وكلاهما صَحيحٌ. ولا فَرْقَ بين كَوْنِ الزَّوْجِ مُوسِرًا أو مُعْسِرًا. واخْتَلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ؛ فمنهم مَن قال كقَوْلِنا، ومنهم مَن قال: لا يَصِحُّ إلَّا (¬1) ضَمانُ نَفَقَةِ المُعْسِرِ؛ لأَنَّ غيرَ المُعْسِرِ يتَغَيَّرُ (¬2) حالُه، فيكونُ عليه نفَقَةُ المُوسِرِ أو المُتَوَسِّطِ، فيكونُ ضَمانَ مَجْهولٍ، والمُعْسِرُ مَعْلُومٌ ما عليه. ومنهم مَن قال: لا يَصِحُّ أصْلًا؛ لأنَّه ضَمانُ ما لم يَجِبْ. ولَنا، أنَّ الجَهْلَ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ الضَّمانِ، بدليل صِحَّةِ ضَمانِ نَفَقَةِ المُعْسِرِ، مع احْتِمالِ أن يموتَ أحدُهما فتَسْقُطَ النَّفقَة، ومع ذلك صَحَّ الضَّمان، فكذلك هذا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يتعين».

3287 - مسألة: (والزوج هو الذى، بيده عقدة النكاح، فإذا طلقها قبل الدخول، فأيهما عفا لصاحبه عهتا وجب له من المهر، وهو جائز الأمر فى ماله، برئ منه صاحبه. وعنه، أنه الأب. فله أن يعفو عن نصف صداق ابنته الصغيرة إذا طلقت قبل الدخول)

وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَيُّهُمَا عَفَا لِصَاحِبِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ جَائِزُ الأَمْرِ فِى مَالِهِ، بَرِئَ مِنْهُ صَاحِبُهُ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ الْأَبُ. فَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ مَهْرِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3287 - مسألة: (والزَّوْجُ هو الَّذِى، بيدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، فإذا طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، فَأَيُّهُمَا عَفَا لصاحِبِه عَهتا وَجَب لَهُ مِن المهرِ، وهو جائِزُ الأَمْرِ فِى مَاله، بَرِئَ منه صاحِبُه. وعنه، أنَّهُ الأبُ. فله أَنْ يَعْفوَ عن نِصْفِ صَدَاق ابْنَتِه الصَّغِيرَةِ إذا طُلِّقَتْ قَبلَ الدُّخُولِ) اخْتلَفَ أهلُ العلمِ في الذى بيَدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ، فظاهرُ مذْهبِ أحمدَ، أنَّه الزَّوْجُ. رُوى ذلك عن علىٍّ، وابنِ عبَّاسٍ، وجُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، رضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ونافِعٌ مَوْلَى ابنِ عمرَ، ومُجاهِدٌ، وإياسُ بنُ مُعاوِيةَ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، وابنُ سِيرِينَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّعْبِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرأْىِ، والشافعىُّ في الجديدِ. وعن أحمدَ، أنَّه الوَلِىُّ إذا كان أبا الصَّغيرةِ. وهو قولُ الشافعىِّ في (¬1) القديمِ، إذا كان أبًا أو جَدًّا. وحُكِىَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وعَلْقَمَةَ، والحسنِ، وطاوُسٍ، والزُّهْرِىِّ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، أنَّه الوَلِىُّ؛ لأَنَّ الوَلِىَّ بعدَ الطَّلاقِ هو الذى بيَدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ، لكَوْنِها قد خَرَجَتْ عن يَدِ الزَّوْجِ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَرَ عَفْوَ النِّساءِ عن نَصِيبِهِنَّ، فينْبَغِى أنَّ يكونَ عَفْوُ الذى بيَدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ عنه، ليكونَ المَعْفُوُّ عنه في المَوْضِعَينِ واحدًا، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى بَدَأ بخِطابِ الأَزْواجِ على المُواجَهَةِ بقولِه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}. ثم قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬2). وهذا خِطَابُ غيرِ حاضرٍ. ولَنا، ما روَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3)، بإسْنادِه، عن عمرو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 237. (¬3) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطنى 3/ 279. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 251، 252. وقال: وهذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به. وانظر الكلام عليه في الإرواء 6/ 354، 355.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «وَلِىُّ العُقْدَةِ الزَّوْجُ». ولأَنَّ الذى بيَدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ بعدَ العَقْدِ هو الزَّوْجُ، فإنَّه يَتَمَكَّنُ من قَطْعِه وفَسْخِه وإمْساكِه، وليس [إلى الوَلىِّ] (¬1) منه شئٌ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. [والعَفْوُ الذى أقْرَبُ للتَّقْوَى، هو عَفْوُ الزَّوْجِ عن حَقِّه، أمّا عَفْوُ الوَلىِّ عن مالِ المرأةِ، فليس هو أقْرَبَ إلى التَّقْوَى] (¬2)، ولأَنَّ المَهْرَ مالٌ للزَّوْجَةِ، فلا يَمْلِكُ الوَلِىُّ هِبَتَه وإسْقاطَه، كغيرِه من أمْوالِها وحُقُوقِها، وكسائرِ الأوْلياءِ، ولا يَمْتَنِعُ العُدُولُ عن خِطابِ الحاضرِ إلى (¬3) الغائبِ، كقولِه تعالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (¬4). فعلى هذا، متى طَلَّقَ لزَّوْجُ قبلَ الدُّخولِ، ¬

(¬1) في م: «للولى». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة يونس 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَنَصَّف المَهْرُ بينَهما، فإن عفا الزَّوْجُ لها عن النِّصْفِ الذى له، كَمَل لها الصَّداقُ جَمِيعُه، وإن عفَتِ المرأةُ عن النِّصْفِ الذى لها منه، وتَرَكَتْ له جميعَ الصَّداقِ، جازَ، إذا كان العَافِى منهما رَشِيدًا جائِزَ الأمْرِ في مالِه، فإن كان صغِيرًا أو سَفِيهًا، لم يَصِحَّ عَفْوُه؛ لأنَّه ليس له التَّصَرُّفُ في مالِه بهِبَةٍ ولا إسْقَاطٍ. ولا يَصِحُّ عَفْوُ الوَلِىِّ عن صَداقِ (¬1) الزَّوْجَةِ، أبًا كان أو غيرَه، صغيرةً كانت أو كبيرةً. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ الجماعةِ. وروَى عنه ابنُ مَنْصورٍ: إذا طَلَّقَ امرَأةً (1) وهى بِكْرٌ، قبلَ أنَّ يَدْخُلَ بها، فعَفا أبُوها أو زَوْجُها، ما أرَى عَفْوَ الأبِ إلَّا جائِزًا. قال أبو حَفْصٍ: ما أرَى ما (1) نقَلَه ابنُ مَنْصورٍ إلَّا قَوْلًا لأبى عبدِ اللَّهِ قدِيمًا. فظاهِرُ قولِ أبى حَفْص أنَّ المسْأَلَةَ رِوايَةٌ واحدةٌ، وأنَّ أبا عبدِ اللَّهِ رَجَع عن قَوْلِه بجَوازِ عَفْوِ الأبِ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأَنَّ مَذْهَبَه أن لا يَجوزَ للأبِ إسْقاطُ دُيُونِ وَلَدِه الصَّغيرِ، ولا إعْتاقُ عَبِيدِه، ولا تَصَرُّفُه لهم إلَّا بما فيه مَصْلَحَتُهم، ولا حَظَّ لها في هذا الإِسْقاطِ، فلا يَصِحُّ. وإن قُلْنا برِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ، لم يَصِحَّ إلَّا بخَمْسِ شَرائِطَ؛ أحدُها، أنَّ يكونَ أبًا؛ لأنَّه الذى يلِى مالَها، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُتَّهَمُ عليها. الثانى، أنَّ تكونَ صغيرةً؛ ليكونَ وَلِيًّا على مالِها، فإنَّ الكبيرةَ تَلِى مالَ نَفْسِها. الثالثُ، أنَّ تكونَ بِكرًا؛ لتَكونَ (¬1) غيرَ مُتَبَذِّلَةٍ، ولأنَّه لا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الثَّيِّبِ (¬2) وإن كانت صغيرةً، إلَّا على بعضِ الوُجُوِه، فلا تكونُ ولايتُه عليها تامَّةً. الرابعُ، أنَّ تكونَ مُطَلَّقَةً، لأنَّها قبلَ الطَّلاقِ مُعَرَّضَةٌ لإِتْلافِ البُضْعِ. والخامسُ، أنَّ يكونَ قبلَ الدُّخولِ؛ لأَنَّ ما بعدَه قد أُتْلِفَ البُضْعُ، فلا يَعْفُو عن بَدَلِ مُتْلَفٍ. ومذْهَبُ الشافعىِّ على نحوِ هذا، إلَّا أنَّه يَجْعَلُ الجَدَّ كالأبِ. فصل: ولو بانَتِ (¬3) امْرأةُ الصَّغِيرِ أو السَّفِيهِ أو المجْنُونِ، على وَجْهٍ يُسْقِطُ صَداقَها عنهم، مثلَ أنَّ تَفْعَلَ امْرأتُه (¬4) ما يَفْسَخُ نِكاحَها؛ [مِن رَضَاعِ] (¬5) مَن يَنْفَسِخُ نِكاحُها برَضاعِه، أو رِدَّةٍ، أو بصفةٍ (¬6)، لطَلاقٍ (¬7) مِن السَّفِيهِ، أو رَضاعٍ مِن أجْنَبِيّةٍ لم (¬8) يَنْفَسِخْ نِكاحُها برَضاعِه، أو نحو ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «البنت». (¬3) في م: «ماتت». (¬4) في الأصل: «امرأة». (¬5) في م: «برضاع». (¬6) كذا في النسختين، وفى نسخ المغنى «نصفه» انظر حاشية المغنى 10/ 163. (¬7) في م: «كطلاق». (¬8) في المغنى 10/ 163: «لمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، لم يكُنْ لوَلِيِّهم (¬1) العَفْوُ عن شئٍ مِن الصَّداقِ، رِوايةً واحدةً. وهذا قولُ الشافعىِّ. والفَرْقُ بينَهم وبين الصَّغيرةِ أنَّ وَلِيَّها أكْسَبَها المَهْرَ بتَزْوِيجِها، وههُنا لم يُكْسِبْه شيئًا، إنَّما رَجَعَ المَهْرُ إليه بالفُرْقَةِ. فصل: إذا عَفَتِ المرأةُ عن صَداقِها الذى لها على زَوْجِها، أو عن بعْضِه، أو وهَبَتْه إيَّاه بعدَ قَبْضِه، وهى جائِزَةُ الأمْرِ في مالِها، جازَ ذلك، وصَحَّ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}. يعنى الزَّوْجاتِ. وقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2). قال أحمدُ، في رِوايةِ المَرُّوذِىِّ: ليس شَئٌ - ¬

(¬1) في م: «لوليهن». (¬2) سورة النساء 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال اللَّهُ تعالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [سمَّاهُ- غيرَ] (¬1) المَهْرِ تَهَبُه المرأةُ للزَّوْجِ. وقال عَلْقَمَةُ لامْرَأتِه: هبِى لى من الهَنِئِ المَرِئ. يعنى من صَداقِها. وهل لها أن ترجِعَ فيما وَهبَتْ زَوْجَها؟ فيه رِوايات (¬2) عن أحمدَ، واخْتِلافٌ من أهلِ العلمِ، ذكَرناه فيما مَضَى. فصل: إذا طُلِّقَتْ قبلَ الدُّخُولِ، وتَنَصَّفَ المَهْرُ بينَهما، لم يَخْلُ في أن يكونَ دَيْنًا أو عَيْنًا، فإن كان دَيْنًا لم يَخْلُ إمَّا أن يكونَ دَيْنًا (¬3) في ذِمَّةِ ¬

(¬1) في م: «عنى». (¬2) في م: «روايتان». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجِ لم يُسَلِّمْه إليها، أو في ذِمَّتِها، بأن تكونَ قد قَبَضَتْه وتَصَرَّفَتْ فيه، أو تَلِفَ في يَدِها، وأيهما كان فإنَّ للذى له الدَّيْنُ أن يَعفُوَ عن حَقِّه منه، بأن يقولَ: عَفَوْتُ عن حَقِّى من الصَّداقِ. أو: أسْقَطْتُه. أو: أبْرَأْتُك منه. أَوْ مَلَّكْتُك إيَّاهُ. أو: وَهبْتُكه (¬1). أو: أخلَلْتك منه. أو: أنت منه في حِلٍّ. أو: تَرَكته لك. أىُّ ذلك قال (¬2) سَقَطَ به المَهْرُ، وبَرِئَ منه الآخَرُ كان لم يَقْبَلْه؛ لأنَّه إسْقاطُ حَقٍّ، فلم يَفْتَقِز إلى قَبُولٍ، كإسْقاطِ القِصاصِ والشُّفْعَةِ والعِتْقِ والطَّلاقِ، ولذلك صَحَّ إبْراءُ المَيِّتِ مع عدَمِ القَبُولِ منه، ولو رَدَّ ذلك لم يَرْتَدَّ، وبَرِئَ منه، لِما ذكَرناه، وإن أحَبَّ العَفْوَ مَنِ الصَّداقُ في ذِمَّتِه، لم يَصِحَّ العَفْوُ، لأنَّه إن كان في ذِمَّةِ الزَّوْجِ، ¬

(¬1) في الأصل: «وهبته». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقد سَقَط عنه بالطَّلاقِ، وإن كان في ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، فلا يَثْبُتُ في ذِمَّتِها إلَّا النِّصْفُ الذى يَسْتَحِقُّه الزَّوْجُ، وأمَّا النِّصْفُ الذى لها، فهو حَقُّها تَصَرَّفَتْ فيه، وإنَّما يتَجَدَّدُ مِلْكُ الزَّوْجِ للنِّصْفِ بطَلاقِه، فلا يَثْبُت في ذِمَّتِها غيرُ ذَلكَ (¬1). وأيهما أرادَ تَكْمِيلَ الصَّداقِ لصاحِبِه، فإنَّه يُجَدِّدُ (¬2) له هِبَةً مُبْتَدَأةً. وأمَّا إن كان الصداقُ عَيْنًا في يَدِ أحدِهما، فعَفا الذى هو في يَدِه للآخَرِ، فهو هِبَة له، تَصِحُّ بلَفْظِ العَفْوِ والهِبَةِ والتَّمْلِيكِ، ولا تَصِحُّ بلَفْظِ الإِبراءِ والإِسْقاطِ، ويَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ فيما يُشْتَرَطُ القَبْضُ فيه. وإن عَفا غيرُ الذى هو في يَدِه، صَحَّ بهذه الأَلْفاظِ، وافْتَقرَ إلى مُضِىِّ ¬

(¬1) في م: «غيره». (¬2) في م: «يتجدد».

فصل

فَصْلٌ: إِذَا أَبْرَأَتِ الْمَرأَةُ زَوْجَها مِنْ صَدَاقِهَا، أَوْ وَهبَتْهُ لَهُ، ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخولِ، رَجَعَ عَلَيْها بِنِصْفِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَرجِعُ بِشىْءٍ. وَإِنِ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَهلْ يَرجِعُ عَلَيْها بِجَمِيعِه؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زَمانٍ يتَأَتَّى (¬1) القَبْضُ فيه، إن كان المَوْهُوبُ ممَّا يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ. وفيه اخْتِلافٌ ذكَرناه في الهِبَةَ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: و (إِذا أبْرأَتِ المرأةُ زَوْجَها مِن صَداقِها، أو وَهبَتْه له، ثم طَلَّقَها قبل الدُّخولِ، رَجَع عليها بنصْفِه. وعنه، لا يرجِعُ بشئٍ. وإنِ ارتَدَّتْ قبلَ الدُّخولِ، فهل يَرْجِعُ عليها بجَمِيعِه؟ على روايتَيْنِ) إذا أَصْدَقَ امرأتَه عَيْنًا، فوَهبَتْها له، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ (¬2) بها، فعن أحمدَ فيه رِوايتانِ؛ إحداهما، يَرجِعُ عليها بنِصْفِ قِيمَتِها. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّها عادَتْ إلى الزَّوْجِ بعَقْدٍ مُسْتَأنَف، فلا يَمنَعُ اسْتِحقاقَها بالطَّلاقِ، كما لو عادتْ إليه بالبَيْعِ، أو وَهَبَتْها (¬3) لأَجْنَبِىٍّ ثم وَهَبَها له. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا يَرْجِعُ ¬

(¬1) في الأصل: «ينافى». (¬2) في م: «أن يدخل». (¬3) في م: «وهبها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها. وهو قولُ مالكٍ، والمُزَنِىِّ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ، وقولُ أبى حنيفةَ، إلَّا أن تَزِيدَ (¬1) العَيْنُ أو تَنْقُصَ، ثم تَهبَها له؛ لأَنَّ الصَّداقَ عادَ إليه، فلو لم تَهَبْه لم يَرْجِعْ بشئٍ، وعَقْدُ الهِبَةِ لا يَقْتَضِى ضَمانًا، ولأَنَّ نِصْفَ الصَّداقِ تُعُجِّلَ إليه بالهِبَةِ. فإن كان الصَّداقُ دَيْنًا، فأَبْرَأَتْه منه، فإن قُلْنا: لا يَرجِعُ ثَمَّ. فههُنا أوْلَى. وإن قُلْنا: يَرْجِعُ ثَمَّ. خُرِّجَ ههُنا وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَرجِعُ، لأَنَّ الإِبْراءَ إسْقاطُ حَقٍّ، وليس بتَملِيكٍ كتَملِيكِ الأعيانِ، ولهذا لا يَفْتَقِرُ إلى قَبُولٍ، ولو شَهِدَ شاهِدانِ على رَجُل بدَيْنٍ، فأبْرَأه مُسْتَحِقُّه، ثم رَجَع الشَّاهِدانِ، لم يَغْرَمَا شيئًا، ولو كان قَبَضَه منه، ثم وَهبَه له، ثم رَجَع الشَّاهدان، غَرِمَا. والثانى، ¬

(¬1) في الأصل: «تزيل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يرْجِعُ؛ لأنَّه عادَ إليه بغيرِ الطَّلاقِ، فهو كالعَيْنِ، والإِبْراءُ بمَنْزِلَةِ الهِبَةِ (¬1)، ولهذا يَصِحُّ بِلَفْظِها. فإن قَبَضَتِ الدَّيْنَ منه، ثم وَهَبَتْه له، ثم طَلَّقَها، فهو كهِبَةِ العَيْنِ؛ لأنَّه تَعَيَّنَ بقَبْضِه. وقال أبو حنيفةَ: يَرْجِعُ ههُنا، لأَنَّ الصَّداقَ قد اسْتَوْفَتْه كلَّه، ثم تَصَرَّفَتْ فيه، فوَجَبَ الرُّجوعُ عليها، كما لو وهبَتْه أجْنَبِيًّا. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرْجِعَ؛ لأنَّه عادَ إليه ما أَصْدَقَها، فأشْبَهَ ما لو كان عَيْنًا فقَبَضَتْها، ثم وَهبَتْها. وإن وهبَتْه العَيْنَ، أو (¬2) أبْرَأَتْه مِن الدَّيْنِ، ثم فَسَخَتِ النِّكاحَ بفِعل مِن جِهَتِها، كإسْلامِها، أو رِدَّتِها، أو إرْضاعِها لمن يَفْسَخُ نِكاحَها إرْضاعُه، ففى الرُّجوعِ عليها بجميعِ الصَّداقِ رِوايَتان، كما في الرُّجوعِ في النِّصفِ سواءً. فصل: فإن أصْدَقَها عَبْدًا، فوَهبَتْه نِصْفَه (¬3)، ثم طَلَّقَها قبلَ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لا يقبضه». (¬2) في م: «و». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدُّخولِ، انْبَنَى ذلك على الرِّوايتَيْنِ؛ فإن قُلْنا: إذا وَهَبَتْه الكُلَّ لم يَرْجِعْ بشئٍ. رَجَع ههُنا في رُبْعِه. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرِى، يَرْجِعُ في النِّصْفِ الباقِى كلِّه؛ لأنَّه وجَدَه بعَيْنه. وبهذا قال أبو يوسف، ومحمدٌ، والمُزَنِىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَرْجِعُ بشئٍ؛ لأَنَّ النِّصْف حَصَل في يَدِه، فقد اسْتَعْجَلَ حَقَّه. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ أقْوالِه كقَوْلِنا. والثانى، له نِصْفُ النِّصْفِ الباقى، ونِصْفُ قِيمَةِ الموْهُوبِ. والثالث، يَتَخيَّرُ بينَ هذا وبينَ الرُّجُوعِ بقِيمَةِ النِّصْفِ. ولَنا، أنَّه وَجَد نِصْفَ ما أصْدَقَها بعَيْنِه، فأشْبَهَ ما لو لم تَهبْهُ شيئًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن خالَعَ امْرأتَه بنِصْفِ صَداقِها قبلَ الدُّخولِ بها، صَحَّ، وصارَ الصَّداقُ كلُّه له؛ نِصْفُه بالطَّلاقِ، ونِصْفُه بالخُلْعِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِيرَ له ثلاثةُ أرْباعِه؛ لأنَّه إذا خالَعها بنِصْفِه مع عِلْمِه أنَّ النِّصْفَ يَسْقُطُ عنه، صارَ مُخالِعًا (¬1) بنِصْفِ النِّصْفِ الذى يَبْقَى لها، فيَصِيرُ له النِّصْفُ بالطَّلاقِ، والرُّبْعُ بالخُلْعِ. كان خالَعها [بمثلِ نصفِ] (¬2) الصَّداقِ في ذِمَّتِها، صحَّ، وسَقَط (¬3) جميعُ الصَّداقِ (¬4)، نِصْفُه بالطَّلاقِ، ونِصْفُه بالمُقاصَّةِ بما في ذِمَّتِها له مِن (5) عِوَضِ الخُلْعِ. ولو قالتْ له (¬5): اخْلَعْنِى ¬

(¬1) في م: «مخالفا». (¬2) في م: «بنصف مثل». (¬3) في م: «صار». (¬4) بعده في م: «له». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما تُسَلِّمُ لى مِن صَدَاقِى. ففَعَلَ (¬1)، صَحَّ، وبَرِئَ مِن جميعِ الصَّداقِ. وكذلك لو قالت: اخْلَعْنِى على أن لا تَبِعَةَ عليكَ في المَهْرِ. صَحَّ، ويَسْقُطُ جَمِيعُه عنه. وإن خالَعَتْه بمثلِ جيعِ الصَّداقِ في ذِمَّتِها، صَحَّ، ويَرْجِعُ عليها بنِصْفِه؛ [لأنَّه يَسْقُطُ نصفُه] (¬2) بالمُقاصَّةِ بالنِّصْفِ الذى لها عليه، ويَسْقُطُ عنه النّصفُ بالطَّلاقِ (¬3)، يَبْقَى [له عليها] (¬4) النِّصْفُ. وإن خالَعَتْه بصَداقِها كلِّه، فكذلك في أحَدِ الوَجْهيْن. وفى الآخَرِ، لا يَرْجِعُ عليها بشئٍ؛ لأنَّه لمَّا خالَعَها به مع العِلْمِ بسُقوطِ نِصْفِه بالطَّلاقِ، كان مُخالِعًا لها بنِصْفِه، ويَسْقُطُ عنه بالطَّلاقِ نِصْفُه، ولا يَبْقَى لها شئٌ. فصل: وإذا أبْرَأتِ المُفَوّضَةُ مِنِ المَهْرِ، صَحَّ قبلَ الدُّخولِ وبعدَه، وسواءٌ في ذلك مُفَوّضةُ البُضْعِ ومُفَوّضةُ المَهْرِ. وكذلك مَن سُمِّىَ لها ¬

(¬1) في م: «فقد». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «لها عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْرٌ فاسِدٌ، [كالخَمْرِ والمجْهُولِ] (¬1)؛ لأَنَّ المَهْرَ واجِبٌ في هذه المواضِعِ، وإنَّما جُهِلَ قَدْرُه، والبراءةُ مِن المجْهولِ صحيحةٌ؛ لأنَّها إسْقاطٌ، فصَحَّتْ في المجْهُولِ، كالطَّلاقِ (¬2). وقال الشافعىُّ: لا تَصِحُّ البراءةُ في شئٍ مِن هذا؛ لأَنَّ المُفَوَّضةَ لم يجبْ لها مهر، فلا يَصِحُّ الإِبْراءُ ممَّا لم يَجِبْ، وغيرُها مَهْرُها مَجْهُولٌ، والبراءةُ مِن المجهولِ لا تَصِحُّ، إلَّا أن تَقولَ: أبْرَأْتُك من دِرْهَمٍ إلى ألْفٍ. فيَبْرَأُ مِن مَهْرِها إذا كان دُونَ الألْفِ. وسوف نَذْكُرُ الدَّلَيلَ على وُجُوبِه فيما يَأْتِى، فيَصِحُّ الإِبْراءُ منه، كما لو قال: أبْرَأْتُك مِن درْهَمٍ إلى ألْفٍ. فإذا أبْرأَتِ المُفَوّضةُ، ثم طُلِّقَتْ قبلَ الدُّخولِ، فإن قُلْنا: لا يَرْجِعُ إلى المُسَمَّى لها. لم يرجع ههُنا. وإن قُلْنا: يرْجِعُ ثَمَّ. احتَمَلَ أن لا يرجِعَ ههُنا؛ لأَنَّ المَهْرَ كلَّه سَقَط بالطَّلاقِ، ووَجَبتِ المُتعَةُ بالطَّلاقِ ابْتِداءً. ويَحتَمِلُ أن (¬3) يرْجِعَ؛ لأنَّه عادَ إليه مَهْرُها بسَبَبٍ غيرِ الطَّلاقِ. وفيما يَرْجِعُ به احْتِمالانِ؛ أحَدُهما، يَرْجِعُ بنِصْفِ مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه الذى وَجَب بالعَقْدِ، فهو كنِصْفِ (¬4) ¬

(¬1) في م: «كالمهر المجهول». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في الأصل: «لا». (¬4) في م: «نصف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَفْروضِ. والثانى، يَرْجِعُ بنِصْفِ المُتْعَةِ؛ لأنَّها التى تَجِبُ بالطَّلاقِ، فأَشْبَهَتِ المُسَمَّى. فصل: فإن أبْرَأَتْه المُفَوّضةُ مِن نِصْفِ صَداقِها، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، فلا مُتْعَةَ لها؛ لأن المُتْعَةَ قائمةٌ مَقامَ نِصْفِ الصَّداقِ، وقد أبْرأتْ منه، فصارَ كما لو قَبَضَتْه. ويَحتَمِلُ أن يَجبَ لها نِصْفُ المُتْعَةِ، إذا قُلْنا: [إنَّ الزَّوْجَ] (¬1) لا يَرْجِعُ عليها بشئٍ إذا أْبْرَأَتْ مِن جميعِ صَداقِها. فصل: إذا باعَ رجلٌ عبْدًا بمائةٍ، ثم أبرَأهُ البائِعُ مِن الثَّمَنِ، أو قَبَضَه ثم وَهبَه إيَّاه، ثم وَجَد المُشْتَرِى بالعبدِ عَيْبًا، فهل له رَدُّ المَبِيعِ والمطالبةُ بالثَّمَنِ، أو أخْذُ أرْش العَيْبِ مع إمْساكِه؟ على وَجْهيْنِ، بِنَاءً على الرِّوايتَيْنِ في الصَّداقِ إذا وَهبَتْه المرأةُ لزَوْجِها ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ. وإن كانت بحَالِها، فوَهَب المُشْتَرِى العبدَ للبائعِ، ثم أفْلَسَ المُشْتَرِى، والثَّمَنُ في ذِمَّتِه، فللبائعِ أن يَضْرِبَ بالثَّمَنِ مع الغُرَماءِ، وَجْهًا واحدًا؛ لأَنَّ الثَّمَنَ ما عادَ [إلى البائِعِ منه شئٌ] (¬2)، ولذلك (¬3) كان يَجِبُ أداؤُه إليه ¬

(¬1) في م: «إنه». (¬2) في م: «منه الى البائع». (¬3) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الفَلَسِ، بخلافِ التى قبلَها ولو كاتَبَ عبْدًا، ثم أسْقَطَ عنه مالَ الكتابَةِ، بَرِئَ، وعَتَق، ولم يَرْجِعْ على سَيِّدِه بالقَدْرِ الذى كان يَجِبُ على السَّيِّدِ أن يُؤْتِيَه إيَّاه. وكذلك لو أسْقَطَ عنه القَدْرَ الذى يَلْزَمُه إِيتاؤُه إيَّاه، واسْتَوْفَى الباقِىَ، لم يَلْزَمه أن يُؤْتِيَه شيئًا؛ لأَنَّ إسْقاطَه عنه يقومُ مَقامَ الإِيتاءِ. وخرَّجَه بعضُ أصْحابِنا على وَجْهَيْنِ، بِناءً على الرِّوايَتَيْن في الصَّداقِ. ولا يَصِحُّ؛ لأَنَّ المرأةَ أسْقَطَتِ الصَّداقَ الواجِبَ لها قبلَ وُجودِ سَبَبِ اسْتِحْقاقِ الزَّوْجِ عليها نِصْفَه، وههُنا أسْقَطَ السَّيِّدُ عن المُكاتَبِ ما وُجِدَ سَبَبُ (¬1) إيتائِه إيَّاه، فكان (¬2) إسْقاطُه مَقَامَ إيتائِه، ولهذا لو قَبَضَه السَّيِّدُ منه، ثم آتاه إيَّاه (¬3)، لم يرجِع عليه بشئٍ، ولو قبَضَتِ المرأةُ صَداقَها و (¬4) وَهبَتْه لزَوْجِها، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رَجَع عليها، فافْتَرَقا. فصل: ولا يَبْرأُ الزَّوْجُ مِن الصَّداقِ إلَّا بتَسْلِيمِه إلى مَن يتَسَلَّمُ مالَها، فإن كانت رَشِيدَةً، لم يَبْرَأ إلَّا بالتَّسْلِيمِ إليها، أو إلى وَكِيلها، ولا يَبْرأُ بالتَّسْلِيمِ إلى أبِيها ولا إلى غيرِه، بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا. قال أحمدُ: إذا أخَذ مَهْرَ ابْنَتِه، وأنْكَرَتْ، فذاك لها، تَرجِعُ على زَوْجِها بالمَهْرِ، ويَرْجِعُ الزَّوْجُ ¬

(¬1) في م: «بسبب». (¬2) في م: «فقام». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «أو».

3288 - مسألة: (وكل فرقة جاءت من)

وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنَ الزَّوْجِ؛ كَطَلَاقِهِ، وَخُلْعِهِ، وَإسْلَامِهِ، وَرِدَّتِهِ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِىٍّ، كَالرَّضَاعِ، وَنَحْوِهِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، يَتَنَصَّفُ بِها الْمَهرُ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على أبِيها. فقيلَ له؛ أليس قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَنْتَ ومَالُكَ لأَبِيكَ» (¬1)؟ قال: نعم (¬2)، ولكنَّ هذا لم يأْخُذْ منها، إنَّما أَخَذَ مِن زَوْجِها. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: له قَبْضُ صَداقِ البِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ؛ لأَنَّ ذاك العادَةُ، ولأَنَّ البِكْرَ تَسْتَحِى، فقامَ أبُوها مَقامَها، كما قامَ مَقامَها في تَزْوِيجِها. ولَنا، أنَّها رَشِيدَةٌ، فلم يَكُنْ لغيرِها قَبْضُ صَداقِها، كالثَّيِّبِ، أو عِوَضٌ مَلَكَتْه وهى رَشِيدَةٌ، فلم يكُنْ لغيرِها قَبْضُه بغيرِ إذْنِها، كثَمَنِ مَبِيعِها. وإن كانت غيرَ رَشِيدَةٍ، سَلَّمه إلى وَلِيِّها في مالِها، مِن أبِيها أو وَصِيِّه، أو (¬3) الحاكمِ؛ لأنَّه مِن جُملةِ أمْوالِها، فهو كأَجْرِ دَارِها. 3288 - مسألة: (وكلُّ فُرْقَةٍ جَاءت مِن) قِبَلِ (الزَّوْجِ قبلَ الدُّخولِ؛ كطَلاقِه، وخُلْعِه، وإسْلامِه، وَرِدَّتِه، أو مِن أجْنَبِىٍّ، كالرَّضاعِ ونحوِه، يَتَنَصَّف بها المَهْرُ بينَهما) لقولِ اللَّهِ تعالَى: {وَإن ¬

(¬1) تقدم تخريحه في 7/ 94، وانظر ما تقدم في 17/ 106. (¬2) كذا. والصواب: «بلى». (¬3) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. ثبتَ في الطَّلاقِ، وقِسْنا عليه سائرَ ما اسْتقَلَّ به الزَّوجُ. وأمَّا فُرقَةُ الأجْنَبِىِّ، كالرَّضاعِ ونحوِه، تُسْقِطُ نِصْفَ المَهْرِ، ويجبُ نِصْفُه، أو المُتْعَةُ لغيرِ (¬1) مَن سُمِّى لها، ثم يَرْجِعُ الزَّوجُ على مَن فَسَخ النِّكاحَ، إذا جاءَ الفَسْخُ مِن قِبَلِ أجْنَبِىٍّ، لأنَّه قَرَّرَه عليه. كان قُتِلَتِ المرأةُ، اسْتقَرَّ المَهْرُ جميعُه، لأنَّها فرقةٌ حصَلَتْ بالموتِ وانْتِهاءِ (¬2) النِّكاحِ، أشْبَهَ ما لو ماتتْ حَتْفَ أنْفِها، سواءٌ قَتلَها زوْجُها، أو أجْنَبِىٌّ، أو قتَلَتْ نفْسَها، أو قتل الأمَةَ سيِّدُها. وإن طَلَّقَ الحاكمُ على الزَّوْجِ في الإِيلاءِ، فهو كطَلاقِه؛ لأنَّه قامَ مَقَامَه في إيفاءِ الحقِّ عندَ امْتِناعِه منه. ¬

(¬1) في الأصل: «كغير». (¬2) في م: «وأثبتها».

3289 - مسألة: (وكل فرقة جاءت من المرأة)

وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، كإِسْلَامِها وَرِدَّتِهَا، وَرَضَاعِهَا مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3289 - مسألة: (وكلُّ فُرْقَةٍ جاءت مِن الْمَرْأَةِ) قبلَ الدُّخولِ

يَنْفَسِخُ بِهِ نِكَاحُهَا، وَفَسْخِهَا لِعَيْبِهِ أوْ إِعْسَارِهِ، وَفَسْخِهِ لِعَيْبِهَا، يَسْقُطُ بِهِ مَهْرُها وَمُتْعَتُها. ـــــــــــــــــــــــــــــ (كإسْلامِها ورِدَّتها، أَوْ رَضاعِها مَن يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِرَضاعِه) أو ارتضاعِها وهِىَ صَغِيرَةٌ (أو فَسْخِها لعَيْبِه (¬1) وإعسارِهِ، أو فَسْخِه لعَيْبِها) أو فَسْخِها لعِتْقِها تحتَ عبدٍ، فإنَّه (يَسْقُطُ به مَهْرُها) ولا تجبُ المُتْعَةُ؛ لأنَّها أتْلَفَتِ العِوَضَ قبلَ تَسْلِيمِه، فسَقَط البَدَلُ كلُّه، كالبائِعِ يُتْلِف المَبِيعَ قبلَ تَسْلِيمِه. ¬

(¬1) في الأصل: «لغيبه»، وفى م: «لعنته».

3290 - مسألة: (وفرقة اللعان تخرج على روايتين)

وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ تُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3290 - مسألة: (وَفُرْقَةُ اللِّعانِ تُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، هى كطلاقِه؛ لأَنَّ سَبَب اللِّعانِ قَذْفُه (¬1) الصَّادِرُ منه، فأشْبَهَ الخُلْعَ. والثَّانيةُ، يسْقُطُ به مَهْرُها، لأَنَّ الفَسْخَ عَقِيبَ لِعانِها، فهو كفَسْخِها لعَيْبِه. ¬

(¬1) في الأصل: «فرقة».

3291 - مسألة: (وفى فرقة بيع الزوجة من الزوج وشرائها له وجهان)

وَفِى فُرْقَةِ بَيْعِ الزَّوْجَةِ مِنَ الزَّوْجِ وَشِرَائِهَا لَهُ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3291 - مسألة: (وفى فُرْقَةِ بَيْعِ الزَّوْجَةِ مِن الزَّوْجِ وَشِرائِها له وَجهان) إذا اشْتَرتِ المرأةُ زوْجَها، ففيه وَجهان؛ أحدُهما، يتَنَصَّفُ به مهرُها؛ لأَنَّ البيعَ المُوجِبَ للفَسْخِ تَمَّ (¬1) بالسَّيِّدِ وبالمرأةِ، فأَشْبَهَ الخُلْعَ. والثَّانِى، يَسْقُطُ به المَهْرُ؛ لأَنَّ الفَسْخَ وُجِدَ عَقِيبَ قَبُولِها، فأَشْبَهَ فَسْخَها لعَيْبِه. وكذلك شِراءُ الزَّوْجِ امرأتَه. وإن جعلَ لها الخِيارَ فاخْتارَتْ نفْسَها، أو وَكَّلَها في الطَّلاقِ فطَلَّقَتْ نفْسَها، فهو كطَلاقِه، لا يسقطُ ¬

(¬1) في الأصل: «ثم».

3292 - مسألة: (وفرقة الموت يستقر بها المهر كله كالدخول)

وَفُرْقَةُ الْمَوْتِ يَسْتَقِرُّ بِها الْمَهْرُ كُلُّهُ كَالدُّخُولِ. وَلَوْ قَتَلَتْ نَفْسَها لَاسْتَقَرَّ مَهْرُها كَامِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْرُها؛ لأَنَّ المرأةَ وإن باشَرَتِ الطَّلاقَ، فهى نائِبَةٌ عنه، ووَكِيلَةٌ عنه، وفِعلُ الوَكِيلِ كفِعْلِ المُوَكِّلِ، فكَأنَّه صَدَر عن مُباشَرَتِه. وإن عَلَّقَ طَلاقَها على فعلٍ من قِبَلِها، لم يسْقُطْ مَهْرُها؛ لأَنَّ السَّبَبَ منه وُجِدَ، وإنَّما هى حَقَّقَتْ شَرْطَه، والحُكْمُ يُنْسَبُ إلى صاحبِ السَّبَبِ. 3292 - مسألة: (وفُرْقَةُ الْموْتِ يَسْتَقِرُّ بها المَهْرُ كلُّه كالدُّخُولِ) إذا كان المهرُ مُسَمًّى. وفى المُفَوّضةِ اخْتِلافٌ نذْكُرُه في مَوضِعِه، إن شاءَ اللَّهُ تعالى (ولو قتَلَتْ نفْسَها) أو قَتلَها غيرُها، فهو كالموتِ حَتْفَ أنْفِها؛ لأنَّها فُرقَةٌ حصَلَتْ بانْقِضاءِ الأجَلِ، وانْتِهاء (¬1) النِّكاحِ، فهو كمَوْتِها حَتْفَ أنْفِها. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «أثبتها».

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِى قَدْرِ الصَّدَاقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ. وَعَنْهُ، الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِى مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإذا اخْتَلَفَ الزَّوْجان في قَدْرِ الصَّداقِ، فالقولُ قولُ الزَّوْجِ مع يَمِينِه. وعنه، القولُ قولُ مَن يَدَّعِى مَهْرَ المِثلِ منهما) إذا اخْتَلَفَ الزَّوْجان في قَدْرِ الصَّداقِ، ولا بَيِّنَةَ لهما، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في ذلك؛ فرُوِىَ عنه أنَّ القولَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الزَّوْجِ بكُلِّ حالٍ. وهذا قول الشَّعبِىِّ، وابنِ أبى ليْلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ، وأبى ثَوْرٍ. وبه قال أبو يوسفَ، إلَّا أن يَدَّعِىَ مُسْتَنْكَرًا، وهو أن يَدَّعِىَ مَهْرًا لا يُتَزَوَّجُ بمِثْلِه في العادةِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، ومُدَّعًى عليه، فيَدْخُلُ في عُمُومِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ على المُدَّعَى عَلَيْه» (¬1). ورُوِىَ عنه أنَّ القولَ قولُ مَن يَدَّعِى مهرَ المِثْلِ منهما (¬2). وإنِ ادَّعَتِ المرأةُ مهرَ المِثْلِ، أو أقلَّ منه، فالقولُ قولُها، وإنِ ادَّعى الزَّوْجُ مهرَ المِثْلِ أو أكثرَ، فالقولُ قولُه. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وهو الذى ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وعن الحسَنِ، والنَّخَعِىِّ، وحَمَّادِ بنِ أبى سليمانَ، وأبى عُبَيْدٍ، نحوُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: 12/ 478. (¬2) سقط من: م.

3293 - مسألة: (فإن ادعى أقل منه، وادعت أكثر منه، رد إليه بلا يمين، عند القاضى فى الأحوال كلها)

فَإِنِ ادَّعَى أَقَلَّ مِنْهُ، وَادَّعَتْ أَكْثَرَ مِنْهُ، رُدَّ إِلَيْهِ بِلَا يَمِينٍ، عِنْدَ الْقَاضِى فِى الأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ، تَجِبُ الْيَمِينُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3293 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى أقَلَّ منه، وادَّعَتْ أكثرَ منه، رُدَّ إليه بلا يَمِينٍ، عندَ القاضى في الأَحْوالِ كلِّها) لأَنَّ الظَّاهِرَ قولُ مَن يَدَّعِى مَهْرَ المِثْلِ، فكان القولُ قولَه، قياسًا على المُنْكِرِ في سائرِ الدَّعاوَى، وعلى المُودَعِ إذا ادَّعَى التَّلَفَ أو الرَّدَّ. وقال أبو الخَطَّابِ: (تجِبُ اليَمِينُ) لأنَّه اخْتِلافٌ فيما يجوزُ بَذْلُه، فتُشْرَعُ فيه اليَمِينُ، كسائرِ الدَّعاوَى في الأَمْوالِ. وقال القاضى: لا تُشْرَعُ اليَمِينُ في الأَحْوالِ كلِّها؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها دَعوى في النِّكاحِ. والأَوْلَى أن يتَحالَفا، فإنَّ ما يقوله كلُّ واحدٍ منهما يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ، فلا يُعْدَلُ عنه إلَّا بيَمِينِ صاحِبِه (¬1)، كسائرِ الدَّعاوَى، ولأنَّهما تَساوَيا في عدَمِ الظُّهُورِ، فيُشْرَعُ التَّحالُفُ، كما لو اخْتلَفَ المُتَبايِعان. وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يتَحالَفانِ، فإن حَلَف أحَدُهما ونَكَل الآخَرُ، ثَبَت [ما قالَه] (¬2)، وإن حَلَفا، وَجَب ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ما له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْرُ المِثْلِ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، قياسًا على المُتَبايِعَينِ إذا اخْتَلَفا في الثَّمَنِ. وقال مالكٌ: إن كان الاخْتِلاف قبلَ الدُّخولِ، تَحالفا وفُسِخَ النِّكاحُ وإن كان بعدَه، فالقولُ قولُ الزَّوْجِ. وبَناه على أصلِه في البَيْعِ (¬1)؛ فإنَّه يُفرِّقُ (¬2) في التَّحالُفِ بينَ (¬3) قبل القَبْضِ وبعدَه؛ لأنَّها إذا سلَّمَتْ نَفْسَها بغيرِ إشْهادٍ، فقد رَضِيَتْ بأمانَتِه. ووَجْهُ قولِ مَن لا يَرَى التَّحالُفَ، أنَّه ¬

(¬1) في م: «المبيع». (¬2) في م: «يفرض». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدٌ لا يَنْفَسِخُ بالتَّحالُفِ، فلا يُشْرَعُ فيه، كالعَفْوِ عن دَمِ العَمْدِ، ولأَنَّ القولَ بالتَّحالُفِ يُفْضِى (¬1) إلى إيجابِ أكثرَ ممَّا يَدَّعِيه، أو أَقَلَّ ممَّا يُقِرُّ لها به، فإنَّها إذا كان مَهْرُ مِثْلِها مائةً، فادَّعَتْ ثمانينَ، وقال (¬2): بل هو خَمْسونَ. أوْجَبَ لها عِشْرينَ، يتَّفِقانِ على أنَّها غيرُ واجبةٍ. ولو ادَّعَتْ مائتين، وقال: بل هو مائةٌ وخَمْسونَ. ومَهْرُ مِثْلِها مائةٌ، فقد أسْقَطَ خَمْسِينَ يتَّفِقان على وُجُوبِها. ولأَنَّ مَهْرَ المِثْلِ إن لم يُوافِقْ دَعْوَى أحَدِهما، لم يَجُزْ إيجابُه؛ لاتِّفاقِهِما على أنَّه غيرُ ما أوْجَبَه العَقْدُ، وإن وافَقَ قولَ أحَدِهما، فلا حاجَةَ في إيجابِه إلى يَمِينِ مَن يَنْفِيه؛ لأنَّها لا تُؤَثِّرُ في إيجابِه. وفارَقَ البَيْعَ؛ فإنَّه ينْفَسِخُ بالتَّحالُفِ، ويَرْجِعُ كلُّ واحدٍ منهما في ما لَه. وما ادَّعاه مالِكٌ بِن أنَّها اسْتَأُمَنَتْه، لا يَصِحُّ؛ فإنَّها لم تَجْعَلْه أمِينَها، ولو كان أمِينًا لها لوَجَبَ أن تكونَ أمِينَةً له (¬3)، حينَ لم يُشْهِدْ عليها، على أنَّه لا يَلْزَمُ مِن الاخْتِلافِ عدَمُ الإِشْهادِ؛ لأنَّه قد يكونُ بينَهما بَيِّنَةٌ، فتَمُوتُ أو تَغِيبُ أو تَنْسَى الشَّهادةَ. إذا ثَبَتَ هذا، فكلُّ مَن قُلْنا: القولُ قولُه. فهو مع يَمِينِه؛ لأنَّه اخْتِلافٌ فيما (¬4) يجوزُ بَذْلُه (¬5)، فتُشْرَعُ ¬

(¬1) في الأصل: «يقتضى». (¬2) بعده في م: «هو». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «بدله».

3294 - مسألة: (وإن قال: تزوجتك على هذا العبد. قالت: بل على هذه الأمة. خرج على الروايتين)

وَإِنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هذَا الْعَبْدِ. قَالَتْ: بَلْ عَلَى هَذِهِ الْأَمَةِ. خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه اليَمِينُ، كسائرِ الدَّعاوَى، ولِما ذكَرْنا مِن الحديثِ. 3294 - مسألة: (وإن قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ على هذا العَبْدِ. قالت: بل على هذه الأَمَةِ. خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن) فإن كانت قِيمَةُ العبدِ مهرَ المِثْلِ أو أكثرَ، وقيمةُ الأمَةِ فوقَ ذلك، حَلَف الزَّوْجُ ووَجَب لها قِيمَةُ العبدِ؛ لأَنَّ قولَه يُوافِقُ الظَّاهِرَ، ولا تَجِبُ عَيْنُ العَبْدِ، لئلَّا يُدْخِلَ في مِلْكِها ما يُنْكِرُه (¬1)، وإن كانت قِيمَةُ الأمَةِ مهرَ المِثْلِ أو أقَلَّ، وقيمةُ العبدِ أقلَّ مِن ذلك، فالقولُ قولُ الزَّوْجةِ مع يَمِينِها. وهل تَجِبُ الأمَةُ أو قِيمَتُها؟ فيه وجَهْان؛ أحدُهما، تجبُ [عينُ الأمةِ] (¬2)؛ لأنَّنا قَبِلْنا قوْلَها في القَدْرِ، فكذلك في العَيْنِ، فأوْجَبْناه، وليس في ذلك إدْخالُ ما تُنْكِرُه (¬3) في مِلْكِها. والثانى، تَجِبُ لها قِيمَتُها؛ لأَنَّ قَوْلَها إنَّما وافقَ ¬

(¬1) في م: «ننكره». (¬2) في م: «عينها». (¬3) في المغنى 10/ 134: «ينكره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظَّاهِرَ في القَدْرِ لا في العَيْنِ، فأوْجَبْنا لها ما وافَقَ الظاهِرَ فيه. وإن كان كلُّ واحدٍ منهما قَدْرَ مَهْرِ المِثْلِ، أو كان العبدُ أقَلَّ مِن مَهْرِ المِثْلِ، والأمَةُ أكثرَ منه، وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ بالتَّحالُفِ. وظاهِرُ قولِ القاضى ومَن وافَقَه، أنَّ اليَمِينَ لا تُشْرَعُ في هذا كلِّه. واللَّه أعلمُ. فصل: إذا أنْكَرَ الزَّوْجُ صَداقَ امْرأتِه، وادَّعَتْ ذلك عليه، فالقولُ قولُها فيما يوافِقُ مَهْرَ مِثْلِها، سواءٌ ادَّعَى أنَّه وَفَّاها أو أبْرَأَتْه منه، أو قال: لا تَسْتَحِقُّ علىَّ شيئًا. وسواءٌ في ذلك ما قبلَ الدُّخولِ وبعدَه. وبه قال سعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ، والشَّعْبِىُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ أبَى ليْلَى، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وحُكِىَ عن الفُقَهاءِ السَّبْعَةِ أنَّهم قالوا: إن كان بعدَ الزَّفَافِ (¬1) فالقولُ قولُ الزَّوْجِ، والدُّخولُ بالمرأةِ يَقْطَعُ الصَّداقَ. وبه قال مالِكٌ. قال أصْحابُه: إنَّما قال ذلك إذا كانتِ العادةُ تَعْجِيلَ الصَّداقِ، كما كان بالمَدينَةِ، أو كان الخِلافُ فيما تُعُجِّلَ منه في العادةِ؛ لأنَّها لا تُسَلِّمُ نَفْسَها في العادةِ إلَّا بقَبْضِه، فكان الظَّاهِرُ معه. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اليَمِين على الْمُدَّعَى عليهِ» (¬2). ولأنَّه ادَّعَى تَسْلِيمَ الحَقِّ الذى عليه، فلم يُقْبَلْ بغيرِ بَيِّنَةٍ، كما لو ادَّعَى تَسْلِيمَ الثَّمَنِ، أو كما قبلَ الدُّخولِ. ¬

(¬1) في م: «الوفاة». (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن دَفَع إليها ألْفًا، ثم اخْتلَفا، فقال: دَفَعْتُها إليكِ صَداقًا. وقالتْ: بل هِبَةً. فإنِ اخْتلَفا [في نِيَّتِه] (¬1)، فقالت: قَصَدْتَ الهِبَةَ. فقال: بل قَصَدْتُ دَفْعَ الصَّداقِ. فالقولُ قولُ الزَّوْجِ بغيرِ يَمِينٍ؛ لأنَّه أعْلَمُ بِنِيَّتِه (¬2)، ولا تَطَّلِعُ المرأةُ عليها. وإنِ اخْتلَفا في لَفظِه، فقالت: قد قُلْتَ: [خُذِى هذا] (¬3) هِبَةً -أو- هَدِيَّةً. فأنْكَرَها، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأنَّها تَدَّعِى عليه عَقْدًا على مِلْكِه، وهو يُنْكِرُه، فأشْبَهَ ما لو (¬4) ادَّعَتْ عليه بَيْعَ مِلْكِه لها، لكنْ إن كان المدْفوعُ مِن غيرِ جِنْسِ الواجِبِ عليه، كأن أصْدَقَها دَراهِمَ، فدَفَع إليها عَرْضًا، ثم اخْتلَفا، وحَلَف أنَّه دَفَع إليها ذلك مِن صَداقِها، فللمَرْأةِ رَدُّ العِوَضِ (¬5)، ومَطالَبَتُه بصَداقِها. قال أحمدُ، في روايةِ الفَضْلَ بنَ زِيادٍ، في رَجُلٍ تَزوَّجَ امرأةً على صَداقِ ألْفٍ، فَبَعث إليها بقِيمَتِه مَتاعًا وثِيابًا، ولم يُخبِرْهُم أنَّه مِن الصَّداقِ، فلمَّا دَخَل سألَتْه الصَّداقَ، فقال لها: قد بعَثْتُ إليك بهذا المَتاعِ، واحْتَسَبْتُه مِن الصَّداقِ. فقالتِ المرأةُ: صَداقِى دَراهِمُ. تَرُدُّ ¬

(¬1) في الأصل: «في بينة»، وفى م: «ببينة». وانظر المغنى 10/ 135. (¬2) في م: «ببينته». (¬3) في م: «هذى». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في المغنى 10/ 135: «العرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثِّيابَ والمَتاعَ، وتَرْجِعُ عليه (¬1) بصداقِها. فهذه الرِّوايةُ إذا لم يُخْبِرْهُم أنَّه صَداقٌ، فأمَّا إذا ادَّعَى أنَّها احْتَسَبَتْ به مِن الصَّداقِ، وادَّعَتِ المرأةُ أنَّه قال: هى هِبَةٌ. فيَنْبَغِى أن يَحْلِفَ. كلُّ واحدٍ منهما، ويتَراجَعانِ بما لكُلِّ واحدٍ منهما. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّه إن كان ممَّا جَرَتِ العادةُ بهَديَّتِه، كالثَّوْب والخاتَمِ، فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ معها، وإلَّا فالقولُ قولُه. ولَنا، أنَّهما اخْتلَفا في صِفَةِ انْتِقالِ مِلْكِه، فكان القولُ قولَ المالِكِ، كما لو قال: أوْدَعْتُكِ هذه العَيْنَ. قالت (¬2): بل وَهَبْتَنِيها. فصل: فإن مات الزَّوْجانِ، فاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُما، قامَ ورَثَةُ كلِّ واحدٍ منهما مَقامَه، إلَّا أنَّ مَن يَحْلِفُ منهم على الإِثْباتِ يَحْلِفُ على البَتِّ، ومَن يَحْلِفُ على النَّفْى يَحْلِفُ على نَفْىِ العِلْمِ؛ لأنَّه يَحْلِفُ على نَفْىِ فِعْلِ الغيرِ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن مات أحدُ الزَّوْجَيْن فكذلك، وإن مات الزَّوْجانِ، فادَّعَى ورَثَةُ المرأةِ التَّسْمِيَةَ (¬3)، وأنْكَرَها ¬

(¬1) في م: «إليه». (¬2) في الأصل: «قال». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَثَةُ الزَّوْجِ جُمْلَةً، لم يُحْكَمْ عليهم بشئٍ. قال أصْحابُه: إنَّما قال ذلك إذا تقادَمَ العَهْدُ؛ لأنَّه تعَذَّرَ الرُّجوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ، لأنَّه (¬1) تُعْتَبَرُ فيه الصِّفاتُ والأوْقاتُ. وقال محمدُ بن الحَسنِ: يُقْضَى بمَهْرِ المِثْلِ. وقال زُفَرُ: بعَشَرَةِ دَراهِمَ؛ لأنَّه أقَلُّ الصَّداقِ. ولَنا، أنَّ ما اخْتلفَ فيه المُتَعاقِدانِ، قامَ وَرَثَتُهما مَقامَهما، كالمُتَبايِعَين. وما ذكَرُوه ليس بصَحِيحٍ؛ لأَنَّ الحَقَّ لا يَسْقُطُ لتَقادُمِ العَهْدِ، ولا يتَعَذَّرُ الرُّجوعُ في ذلك، كقِيَمِ سائرِ المُتْلَفاتِ. فصل: فإنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وأبو الصَّغيرةِ والمَجْنُونةِ، قامَ الأبُ مَقامَ الزَّوْجَةِ في اليَمِينِ، لأنَّه يَحْلِفُ على فِعْلِ نَفْسِه، ولأَنَّ قولَه مقبولٌ فيما اعْتَرفَ به مِن الصَّداقِ، فسُمِعَتْ يَمِينُه، كالزَّوْجَةِ. فإن لم يَحْلِفْ حتى بَلَغَتْ وعَقَلَتْ، فاليَمِينُ عليها دُونَه؛ لأَنَّ الحقَّ لها، وإنَّما يَحْلِفُ هو لتَعَذُّرِ اليمِينِ مِن جهَتِها، فإذا أمْكَنَ في (¬2) حَقها، صارتِ اليَمِينُ عليها، كالوَصِىِّ إذا بَلَغ الأطْفالُ قبلَ يَمِينِه فيما يَحْلِف فيه. فأمَّا أبو (¬3) البِكْرِ البالِغَةِ العاقِلَةِ؛ فلا تُسْمَعُ مُخالَفَةُ الأبِ، لأَنَّ قولَها مَقْبولٌ في الصَّداقِ، ¬

(¬1) في الأصل: «لكونه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَقُّ لها دُونَه. وأمَّا سائِرُ الأوْلِياءِ، فليس لهم تَزْوِيجُ صغيرةٍ، إلَّا على رِوايةٍ في بِنْتِ تِسْعٍ، وليس لهم أن يُزَوِّجوا بدُونِ مَهْرِ المِثْلِ، ولو زَوَّجوها بدُونِ مَهْرِ المِثْلِ، ثَبَت مَهْرُ المِثْلِ مِن غيرِ يَمِينٍ. فإنِ ادَّعَى أنَّه زَوَّجَها بأكثرَ مِن مَهْرِ مِثْلِها، فاليَمِينُ على الزَّوْجِ؛ لأَنَّ القولَ قولُه في قَدْرِ مَهْرِ المِثْلِ. فصل: إذا أنْكَرَ الزَّوْجُ تَسْمِيَةَ الصَّداقِ، وادَّعَى أنَّه تَزَوَّجَها بغيرِ صَداقٍ، فإن كان بعدَ الدُّخول، نَظَرْنا، فإنِ ادَّعَتِ المرأةُ مَهْرَ المِثْلِ أو دُونَه، وَجَب مِن غيرِ يَمِينٍ؛ لأَنَّها لو صَدَّقَتْه في ذلك لَوَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، فلا فائدةَ في الاخْتِلافِ، وإنِ ادَّعَتْ أقَلَّ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فهى مُقِرَّةٌ بنَقْصِها عمَّا يَجبُ لها بدَعْوَى الزَّوْجِ، فيَجِبُ أن يُقْبَلَ قوْلُها بغيرِ يَمِينٍ، وإنِ ادَّعَتْ أكثرَ من مَهْرِ المِثْلِ، لَزِمَتْه اليَمِينُ على نَفْى ذلك، ويَجِبُ لها مَهْرُ المِثْلِ. وإن كان اخْتِلافُهما قبلَ الدُّخولِ، انْبَنَى على الرِّوايتَيْن فيما إذا اخْتلَفا في قَدْرِ الصَّداقِ، فإن قُلْنا: القولُ قولُ الزَّوْجِ. فلها المُتْعَةُ. وإن قُلْنا: القولُ قولُ مَن يَدَّعِى مَهْرَ المِثْلِ. قُبِلَ قولُها ما ادَّعَتْ مَهْرَ المِثْلِ. هذا إذا طَلَّقَها، وإن لم يُطَلِّقْها، فُرِضَ لها مَهْرُ المِثْلِ على الرِّوايتَين. وكُلُّ مَن قُلْنا: القولُ قولُه. فعليه اليَمِينُ.

3295 - مسألة: (وإن اختلفا فى قبض الصداق، فالقول قولها)

وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى قَبْضِ الْمَهْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمَهْرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ، أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ بِالسِّرِّ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِىُّ. وَقَالَ الْقَاضِى: إِنْ تَصَادَقَا عَلَى السِّرِّ لَمْ يَكُنْ لَها غَيْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3295 - مسألة: (وَإِنِ اخْتَلَفا في قَبْضِ الصَّداقِ، فالقولُ قولُها) مع يَمِينِها إذا لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ؛ لأَنَّ الأصلَ عدَمُه (وإنِ اخْتَلفا فيما يَسْتَقِرُّ به، فالقَوْلُ قولُه) لأنَّه مُنْكِرٌ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ، ولأَنَّ الأَصْلَ عدَمُه. 3296 - مسألة: (وَإن تَزَوَّجَها على صَداقينِ سِرٍّ وَعَلانِيَةٍ، أُخِذ بالعلانِيَةِ وَإن كان قد انْعَقَدَ بالسِّرِّ) في ظاهرِ كلامِ الْخِرَقِىِّ (وقال القاضى: إن تَصادقا على السِّرِّ لَمْ يَكُنْ لها غَيْرُهُ) ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤْخَذُ بالعلانِيَةِ، على ما روَاه الأَثْرَمُ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، وابنِ أبى ليْلَى، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وقال القاضى: الواجِبُ المَهْرُ الذى انْعقَدَ به النِّكاحُ، سِرًّا كان أو عَلانِيَةً. وحَمَل كلامَ أحمدَ والخِرَقِىِّ على أنَّ المرأةَ لم تُقِرَّ بنِكاحِ السِّرِّ، فثَبَتَ مَهْرُ العَلانِيَةِ؛ لأنَّه الذى انْعَقَدَ به النِّكاحُ. وهذا قولُ سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، وأبى حنيفةَ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ. ونحوُه عن شُرَيْحٍ، والحسنِ، والزُّهْرِىِّ، والحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ (¬1)، ومالكٍ، وإسْحاق؛ لأَنَّ العَلانِيَةَ ليس بعَقْدٍ، ولا يتَعَلَّقُ به وُجوبُ شئٍ. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّه [إذا عَقَد في الظَّاهرِ عَقْدًا بعدَ عقْدِ السرِّ، فقدْ وُجِدَ منه بذْلُ الزائدِ على مهرِ المِثْلِ، فيَجِبُ ذلك عليه، كما لو زادَها على صداقِها. ومُقْتَضَى ما ذكرناه مِن التَّعْليلِ لكلامِ الخِرَقِىِّ، أنَّه] (¬2) إن كان مَهْرُ السرِّ أكثرَ مِن العَلانِيَةِ؛ وَجَب مَهْرُ السِّرِّ؛ لأنَّه وَجَب عليه بعَقْدِه، ولم تُسْقِطْه العَلانِيَةُ، فبَقِىَ (¬3) وُجُوبُه. فأمَّا إنِ اتَّفَقا على أنَّ المهْرَ ¬

(¬1) في الأصل: «عيينة». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فنفى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألفٌ، وأنَّهما يعْقِدان العَقْدَ بألْفَيْنِ تَجَمُّلًا، ففَعَلا ذلك، فالمَهْرُ ألْفانِ؛ لأنَّها تَسْمِيَةٌ صَحِيحةٌ في عَقْدٍ صحيح، فَوجَب، كما لو لم يتَقَدَّمْها اتِّفاقٌ على خِلافِها. وهذا أيضًا قولُ القاضى، ومذهبُ الشافعىِّ. ولا فَرْقَ فيما ذكَرْناه بينَ أن يكونَ السِّرُّ مِن جِنْسِ العَلانِيَةِ، نحوَ أن يكونَ السِّرُّ ألْفًا والعَلانِيَةُ ألْفَيْنِ، أو يكُونَا مِن جِنْسَيْنِ، مثلَ أن يكونَ السِّرُّ مائةَ دِرْهمٍ والعَلانِيَةُ مائةَ دِينارٍ. وإذا قُلْنا: إنَّ الواجِبَ مَهْرُ العَلانِيَةِ. فيُسْتَحَبُّ للمرأةِ أن تَفِىَ للزَّوْجِ بما وَعَدَتْ به وشَرَطَتْه، مِن أنَّها لا تَأْخُذُ إلّا مَهْرَ السِّرِّ. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ منْصورٍ: إذا زَوَّجَ امرأةً في السِّرِّ بمَهْرٍ، وأعْلَنُوا بمَهْرٍ، يَنْبَغِى لهم أن يَفُوا، ويُؤْخَذُ بالعَلانِيَةِ. فاسْتَحَبَّ الوَفاءَ بالشَّرْطِ؛ لئلَّا يحْصُلَ منهم غُرُورٌ، ولأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «المُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» (¬1). وعلى قولِ القاضى، إذا ادَّعَى الزَّوْجُ عَقْدًا في السِّرِّ انْعقَدَ به النِّكاحُ، فيه مَهْرٌ قليلٌ، فصَدَّقَتْه المرأةُ، فليس لها سِواه، وإن أكْذَبَتْه، فالقولُ قولُها؛ لأنَّها مُنْكِرَةٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 149. وانظر ما تقدم في 19/ 20.

3297 - مسألة: (وإن قال: هو عقد واحد، أسررته ثم أظهرته. وقالت: بل هو عقدان. فالقول قولها مع يمينها)

وَإِنْ قَالَ: هُوَ عَقْدٌ وَاحِدٌ، أَسْرَرْتُهُ ثُمَّ أَظْهَرْتُهُ. وَقَالَتْ: بَلْ هُوَ عَقْدَانِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3297 - مسألة: (وإن قال: هو عَقْدٌ واحِدٌ، أسْرَرْتُهُ ثم أظْهَرْتُه. وقالت: بل هو عَقْدان. فالقولُ قوْلُها مع يَمِينِها) لأَنَّ الظَّاهِرَ أنَّ الثَّانىَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقْدٌ صَحِيحٌ يُفِيدُ حُكْمًا كَالأَوَّلِ، ولها (¬1) المَهْرُ فِى العَقْدِ الثَّانِى إن كان دخَل بها، ونِصْفُ المَهْرِ فِى العَقْدِ الأَوَّلِ إنِ ادَّعَى سُقُوطَ نِصْفِهِ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، وإن أصَرَّ على الإِنْكارِ، سُئِلَتِ المرأةُ، فإنِ ادَّعَتْ أَنَّه دَخَل بها في النِّكاحِ الأَوَّلِ، ثم طَلَّقَها طلاقًا بائِنًا، ثم نِكَحَها نِكاحًا ثانِيًا، حَلَفَتْ على ذلك، واسْتَحَقَّتْ، وإن أقَرَّت بما يُسْقِطُ نِصْفَ المَهْرِ أو جميعَه، لَزِمَها ما أقَرَّتْ به. فصل: إذا خَلا الرجلُ بامْرأتِه بعدَ العَقْدِ الصَّحِيحِ، اسْتَقَرَّ عليه مَهْرُها، ووَجَبَتْ عليها العِدَّةُ، وإن لم يَطَأ. رُوِى ذلك عن الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، وزيدٍ، وابنِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال علىُّ بنُ الحسينِ، وعُرْوَةُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وهو قولُ (¬2) الشافعىِّ القديمُ. وقال شُرَيْحٌ، والشَّعْبِىُّ، وطاوُسٌ، وابنُ سِيرِينَ، والشافعىُّ في الجديدِ: لا يَسْتَقِرُّ إلَّا بالوَطْءِ. وحُكِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عَبَّاسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. ورُوِى ذلك عن أحمدَ، فرَوى عنه يَعْقُوبُ ابنُ بختانَ، أنَّه قال: إذا صَدَّقَتْه المرأةُ أنَّه لم يَطَأْها، لم يُكْمِلْ لها الصَّداقَ، وعليها العِدَّةُ. وذلك لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬3). وهذه قد طَلَّقَها قبلَ أن يَمَسَّها. وقال اللَّهُ ¬

(¬1) في م: «لأن». (¬2) بعده في م: «أصحاب». (¬3) سورة البقرة 237.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (¬1). والإِفْضاءُ الجِماعُ. ولأنَّها مُطَلَّقَةٌ لم تُمَسَّ، أشْبَهَتْ مَن (¬2) لم يُخْلَ بها. ولَنا، إجْماعُ الصَّحابةِ، فرَوى الإِمامُ أحمدُ، والأثْرَمُ، بإسْنادِهما، عن زُرَارَةَ بنِ أوْفَىِ، قال: قَضَى الخُلفاءُ الرَّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ، أنَّ مَن أغْلَقَ بابًا، أو أرْخَى سِتْرًا، فقد وَجَب المَهْرُ، وَوجَبَتِ العِدَّةُ (¬3). ورَواه أيضًا عن الأحْنَفِ، عن عمرَ، وعلىٍّ، وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وعن زيدِ (¬4) بنِ ثابتٍ: عليها العِدَّةُ، ولها الصَّداقُ كامِلًا (¬5). وهذه قَضايا اشْتَهَرتْ، ولم يُخالِفْهُم أحَدٌ في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا. وما رَوَوْه (¬6) عن ابنِ عبَّاسٍ، لا يَصِحُّ. قال أحمدُ: يَروِيه ليْثٌ، وليس بالقَوِىِّ، وقد رواه حَنْظَلَةُ خِلافَ ما رواه لَيْثٌ، وحَنْظَلَةُ أقْوَى من لَيْثٍ. وحديثُ ابنِ مسعودٍ مُنْقَطِعٌ (¬7). قالَه ابنُ المُنْذِرِ. ولأَنَّ التَّسْلِيمَ المُسْتَحَقَّ وُجِدَ من جِهَتِها، فيَسْتَقِرُّ به البَدَلُ، كما لو وَطِئَها، أو كما لو أَجَرَتْ دارَها، ¬

(¬1) سورة النساء 21. (¬2) في م: «ما». (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسائله عن عمر وعلى من طريق الأحنف بن قيس، وعن عمر من طريق سعيد ابن المسيب، وعن زيد بن ثابت من طريق سليمان بن يسار. مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد اللَّه 3/ 1027 - 1030. وأخرجه عن زرارة عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 288. وسعيد، في: سننه 1/ 202. وابن أبى شيبة، في: المصنف 4/ 235. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 255، 256. وانظر الكلام على هذه الآثار في الإرواء 6/ 356، 357. (¬4) في النسختين: «سعيد». وانظر المغنى 10/ 154. (¬5) انظر ما أخرجه الإمام مالك عن عمر وزيد، في: الموطأ 2/ 528. (¬6) في م: «رواه». (¬7) أخرجه عن ابن عباس وابن مسعود ابن أبى شيبة في: المصنف 4/ 236. وانظر مسائل الإمام أحمد لابن هانئ 1/ 215.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أو سَلَّمَتْها أو باعَتْها] (¬1). وأمَّا قولُه تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}. فيَحْتَمِلُ أنَّه كَنَى [بالمُسَبَّبِ عن السَّبَبِ] (¬2) الذى هو الخَلْوَةُ، بدلِيلِ ما ذكَرْناه. وأمَّا قولُه: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. فقد حُكِىَ عن الفَرَّاءِ (¬3) أنَّه قال: الإِفْضاءُ الخَلْوةُ، دَخَل بها أو لم يَدْخُلْ. لأَنَّ الإِفْضاءَ مَأْخُوذٌ مِن الفَضاءِ، وهو الخالِى، فكأنَّه قال: وقد خَلَا بعْضُكم إلى بعْضٍ. فصل: وحكمُ الخَلْوةِ حُكْمُ الوَطْءِ، في تَكْمِيلِ المَهْرِ، وَوُجوبِ العِدَّةِ، وتَحْرِيمِ أُخْتِها وأرْبَعٍ سِواها إذا طَلَّقَها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها، وثُبُوتِ الرَّجْعَةِ له عليها في عِدَّتِها. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا رَجْعَةَ له عليها إذا أقَرَّ أنَّه لم يُصِبْها. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬4). ولأنَّها مُعْتَدَّةٌ مِن نِكاحٍ صَحيحٍ، لم يَنْفَسِخْ نِكاحُها، ولا كَمَل عَدَدُ طَلاقِها، ولا طَلَّقَها بعِوَضٍ، فكان له عليها الرَّجْعَةُ، كما لو أصابَها. ولها عليه نَفَقةُ العِدَّةِ والسُّكْنَى؛ لأَنَّ ذلك لمَن لزَوْجِها عليها الرَّجْعةُ. وتُفارِقُ الخَلْوَةُ الوَطْءَ في أنَّها لا تَثْبُتُ بها الإِباحةُ للزَّوْجِ المُطَلِّقِ ثلاثًا؛ لقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لامْرأةِ رِفاعَةَ القُرَظِىِّ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إلى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» (¬5). ¬

(¬1) في: المغنى 10/ 154: «أو باعتها وسلمتها». (¬2) في الأصل: «بالمسبب»، وفى م: «بالسبب عن المسبب». وانظر المغنى 10/ 154. (¬3) انظر معانى القرآن للفراء 1/ 259. (¬4) سورة البقرة 228. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 411.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَثْبُتُ بها الإِحْصانُ؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ لإِيجابِ الحَدِّ، والحُدودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ولا يجبُ الغُسْلُ؛ لأنَّها ليستْ مِن مُوجِباتِ الغُسْلِ إجْماعًا، ولا يَخْرُجُ بها مِن العُنَّةِ؛ لأَنَّ العُنَّةَ العَجْزُ عن الوَطْءِ، فلا تَزُولُ إلَّا بحَقِيقَتِه، ولا تحْصُلُ بها الفَيْئَةُ؛ لأنَّها الرُّجوعُ عمَّا حَلَف عليه وإنَّما حَلَف على تَرْكِ الوَطْءِ، ولأَنَّ حَقَّ المرأةِ لا يحْصُلُ إلَّا بيَقِينِ الوَطْءِ، ولا تَفْسُدُ بها العِباداتُ، ولا تَجِبُ بها الكفارَةُ. وأمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ، فعن أحمدَ، أنَّه (¬1) يَحْصُلُ بالخَلْوَةِ. وقال القاضى، وابنُ عَقِيلٍ: لا تُحَرِّمُ. وحَمَل القاضى كلامَ أحمدَ على أنَّه حَصَل مع الخَلْوَةِ نَظَرٌ أو مُباشَرَةٌ، فيُخَرَّجُ كلامُه على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ، أنَّ ذلك يُحَرِّمُ. والصَّحِيحُ أنَّها لا تُحَرِّمُ؛ لقول اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (¬2). والدُّخَولُ كِنايَة عن الوَطْءِ، والنَّصُّ صريحٌ في إباحَتِها بدُونِه، فلا يَجوزُ خِلافُه. فصل: وسَواءٌ في ذلك الخَلْوَةُ بها وهما مُحْرِمانِ، أو صَائِمانِ، أو حائِضٌ، أو سَالِمانِ مِن [هذه الأشْياءِ. هكذا ذَكَره الخِرَقِىُّ. واختلفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ فيما إذا كان بهما أو بأحدِهما مانعٌ مِن] (¬3) الوَطْءِ شَرْعِىٌّ، كالإِحْرامِ والصِّيامِ والحَيْضِ والنِّفاسِ، أو حَقِيقىٌّ، كالجَبِّ ¬

(¬1) في الأصل: «أنها». (¬2) سورة النساء 23. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعُنَّةِ، والرَّتَقِ في المرأةِ، فعنه أنَّ الصَّداقَ يَسْتَقِرُّ بكلِّ حالٍ. وبه قال عَطاءٌ، وابنُ أبى ليْلَى، والثَّوْرِىُّ؛ لعُمُومِ ما ذكَرْناه مِن الإِجْماعِ. وقال عمرُ، في العِنِّينِ: يُؤَجَّلُ سَنَةً، فإن وَطِئَها، وإلَّا أَخذَتِ الصَّداقَ كامِلًا، وفُرِّقَ بينَهما، وعليها العِدَّةُ (¬1). ولأَنَّ التَّسْلِيمَ المُسْتَحَقّ عليها قد وُجِدَ، وإنَّما الحَيْضُ والإِحْرامُ والرَّتَقُ مِن غيرِ جِهَتِها، فلا يُؤَثِّرُ في المَهْرِ، كما لا يُؤثِّرُ في إسْقاطِ النَّفَقَةِ. ورُوِى أنَّه لا يَكْمُلُ الصَّداقُ. وهو قولُ شرَيْحٍ، وأبى ثَوْرٍ؛ لأنَّه لم يتَمَكَّنْ مِن تَسَلُّمِها، فلم يَجبْ عليه مَهْرُها، كما لو مَنعَتْ [تَسْلِيمَ نَفْسِها إليه] (¬2)، يُحَقِّقُه أنَّ المنعَ مِنَ التًّسْلِيمِ لا فَرْقَ بينَ كَوْنِه مِن أجْنَبِىٍّ أو مِنَ العاقِدِ، كالإِجارَةِ. وعنه رِوايةٌ ثالثةٌ: إن كانا صائِمَين صَوْمَ رَمضانَ، لم يَكْمُلِ الصَّداقُ، وإن كان غيرَه، كَمَل (¬3). قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ، وسُئِلَ عن رَجُلٍ دَخَل على أهْلِه، وهما صائمانِ في غيرِ شهرِ رمضانَ، فأغْلَقَ البابَ، وأرْخَى السِّتْرَ؟ قال: وَجَب الصَّداقُ. قيل لأحمدَ: فشَهْرُ رَمضانَ؟ قال: شَهْرُ رمضانَ خِلافٌ لهذا. قيل له: فكان مُسافِرًا في رَمضانَ؟ قال: هذا مُفْطِرٌ. يعنى وَجَب الصَّداقُ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه متى كان المانِعُ مُتأكِّدًا، كالإِحْرامِ وصَوْمِ رَمضانَ، لم يَكْمُلِ الصَّداقُ. وقال القاضى: إن كان المانِعُ لا يَمْنَعُ دَواعِىَ الوَطْءِ؛ كالجَبِّ، والعُنَّةِ، والرَّتَقِ، والمرَضِ، والحَيْضِ، والنِّفاسِ، وَجَب الصَّداقُ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 221. وانظر ما تقدم في 20/ 484. (¬2) في م: «نفسها منه». (¬3) في الأصل: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان يَمْنَعُ دَوَاعِيَه؛ كالإِحْرامِ، وصِيامِ الفرْضِ، فعلى رِوايَتَيْن. وقال أبو حنيفةَ: إن كان المانِعُ مِن جِهَتِها، لم يَسْتَقِرَّ الصَّداقُ، وإن كان مِن جهَتِه، كصِيامِ فرْضٍ من أو إحرامٍ، لم يَسْتَقِرَّ الصَّداقُ (¬1) أيضًا، وإن كان [جَبًّا أو عُنَّةً] (¬2)، كَمَل الصَّداقُ؛ لأَنَّ المَنْعَ (¬3) مِن جِهَتِه، وذلك لا يَمْنَعُ وُجُودَ التَّسْلِيمِ المُسْتَحَقِّ منها (¬4)، فكَمَلَ حَقّها، كما تَلْزَمُ الصَّغِيرَ نَفَقَةُ امْرأتِه إذا سُلِّمَتْ إليه. فصل: فإن خَلا بها وهى صغيرةٌ لا يُمْكِنُ وَطْؤُها، أو كانت كبيرةً فمَنَعَتْه نَفْسَها، أو كان أعْمَى فلم يَعْلمْ بدُخُولِها عليه، لم يَكْمُلْ صَداقُها. نَصَّ عليه أحمدُ في المَكْفُوفِ يتَزَوَّجُ المرأةَ، فأُدْخِلَتْ عليه، فأُرْخِىَ السِّتْرُ، وأُغْلِقَ البابُ: فإن كان لا يَعْلَمُ بدُخولِها عليه، فلها نِصْفُ الصَّداقِ. وأوْمأَ إلى أنَّها إذا نَشَزَتْ عليه، ومَنَعَتْه نَفْسَها، لا يَكْمُلُ صَداقُها. وذكَرَه ابنُ حامِدٍ. وذلك لأنَّه لم يُوجَدِ التَّمْكِينُ مِن جِهَتِها، فأَشْبَهَ ما لو لم يَخْلُ بها. وكذلك لو خَلا بها وهو طِفْلٌ لا يتمَكَّنُ مِن الوَطْءِ، لم يَكْمُلِ الصَّداقُ؛ لأنَّه في مَعْنَى الصَّغيرةِ في عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِن الوَطْءِ. فصل: فإنِ اسْتَمْتَعَ، بامْرأتِه بمُباشَرَةٍ فيما دُونَ الفَرْجِ، من غيرِ خَلْوَةٍ، كالقُبْلَةِ ونحوِها، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّه يَكْمُلُ به الصَّداقُ؛ ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «حقًّا ادعته». (¬3) في م: «المانع». (¬4) في الأصل: «منهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه قال (¬1): إذا أخَذَها فَمَسَّها (¬2)، وقَبَض عليها مِن غيرِ أن يَخْلُوَ بها، لها الصَّداقُ كامِلًا إذا نال منها شيئًا لا يَحِلُّ لغيرِه. وقال في روايةِ مُهَنَّا: إذا تزَوَّجَ امرأةً، ونَظَر إليها وهى عُرْيانَةٌ تَغْتَسِلُ، أُوجِبُ عليه المَهْرَ. ورَواه عن إبراهيمَ: إذا اطَّلَعَ منها على ما يَحْرُمُ على غيرِه، فعليه المَهْرُ؛ لأنَّه نوْعُ اسْتِمْتاعٍ، فهو كالقُبْلَةِ. قال القاضى: يَحْتَمِلُ أنَّ هذا يَنْبَنِى على ثُبوتِ تَحْرِيمِ المُصاهَرَةِ بذلك، وفيه رِوايتانِ، فيكونُ في تَكْمِيلِ الصَّداقِ به وَجْهان؛ أحدُهما، يَكْمُلُ به الصَّداقُ؛ لما رَوى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3)، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ (¬4) ثَوْبانَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ، وَنَظَرَ إلَيْهَا، وَجَبَ الصَّدَاقُ، دَخَلَ بِها أَوْ لَمْ يَدْخُلْ». ولأنَّه مَسِيسٌ، فيدْخُلُ في قولِه: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}. ولأنَّه اسْتِمْتَاعٌ بامْرأتِه، فَكَمَلَ به الصَّداقُ، كالوَطْءِ. والوَجْهُ الآخَرُ، لا يَكْمُلُ به الصَّداقُ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لأَنَّ قولَ اللَّهِ تعالى: {تَمَسُّوهُنَّ}. إنَّما أُرِيدَ به في الظَّاهِرِ الجِماعُ، ومُقتَضَى قولِه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}. أن لا يَكْمُلَ الصَّداقُ لغيرِ مَن وَطِئَها، ولا تَجِبَ عليها العِدَّةُ، تُرِكَ عُمُومُه في مَنْ خَلَا (¬5) بها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فشمها». (¬3) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطنى 3/ 307. وهو ضعيف. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 3/ 86 - 88 (¬4) في م: «عن». (¬5) في م: «دخل».

فصل فى المفوضة

فَصْلٌ فِى الْمُفَوّضَةِ: وَالتَّفْوِيضُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ، أَو تأْذَنَ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا فِى تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ. وَتَفْوِيضُ الْمَهْرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى مَا شَاءَتْ أَوْ شَاءَ أَجْنَبِىٌّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالعَقْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للإِجْماعِ الواردِ عن الصَّحابَةِ، فيَبْقَى فيما عَداه على مُقْتَضى العُمُومِ. فصلٌ في المُفَوّضَةِ: قال الشَّيخُ، رَحِمه اللَّهُ: (والتَّفْوِيضُ على ضَرْبَيْنِ؛ تَفْويضُ البُضْعِ، وهو أن يُزَوِّجَ الأبُ ابْنَتَه البِكْرَ، أو تَأْذَنَ المرأةُ لِوَلِيِّها في تَزْوِيجِها بغيرِ مَهْرٍ. و) الثانى (تفْوِيضُ المَهْرِ، وهو أن يتَزَوَّجَها على ما شاءَتْ) أو شاءَ (أو شاءَ أجْنَبِىٌّ، فالنِّكاحُ صَحِيحٌ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ) يَصِحُّ النِّكاحُ مِن غيرِ تَسْمِيَةِ صَداقٍ، في قولِ عامَّةِ أهلٍ العلمِ، بدليلِ قولِه تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1). ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه سُئِلَ عن امرأةٍ تزَوَّجَها رَجُلٌ، ولم يَفْرِضْ لها صَداقًا، ولم يَدْخُلْ بها حتى مات؟ فقال ابنُ مسعودٍ: لها صَداقُ نِسائِها، لا وَكْسٌ ولا شَطَطٌ، وعليها العِدَّةُ، ولها المِيراثُ. فقام مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الأشْجَعِىُّ، فقال: قَضى رسولُ اللَّه ¬

(¬1) سورة البقرة 236.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- في بَرْوَعَ بنتِ وَاشِقٍ، امرأةٍ مِنَّا، مثلَ ما قَضَيْتَ. روَاه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. ولأَنَّ القَصْدَ مِن النِّكاحِ الوُصْلَةُ والاسْتِمْتاعُ دُونَ الصَّداقِ، فصَحَّ مِن غيرِ ذِكْرِه، كالنَّفقَةِ. وسواءٌ تَرَكا ذِكْرَ المَهْرِ، أو شَرَطا نَفْيَه، مثلَ أن يقولَ: زَوَّجْتُكَ بغيرِ مَهْرٍ. فيقْبَله كذلك. ولو قال: زَوَّجْتُكَ بغيرِ مَهْرٍ في الحالِ، ولا في الثانى. صَحَّ أيضًا. وقال بعضُ الشافعيَّةِ: لا يَصِحُّ في هذه الصُّورَةِ؛ لأنَّها تكونُ كالمَوْهُوبَةِ (¬2). وليس بصَحِيحٍ، [فإنَّه يَصِحُّ] (¬3) فيما إذا قال: زَوَّجْتُكَ بغيرِ مَهْرٍ. فيَصِحُّ ههُنا؛ لأَنَّ مَعْناهما واحدٌ، فما صَحَّ في إحْدَى الصُّورَتَيْن المُتَساوِيتَيْن، صَحَّ في الأُخْرَى. وليست كالمَوْهُوبَةِ (¬4)، لأَنَّ الشَّرْطَ يَفْسُدُ، ويَجِبُ المَهْرُ. وقد ذكَرْنا أنَّ المُزَوَّجَةَ بغيرِ مَهْرٍ تسَمَّى مُفَوّضَةً، بكَسْرِ الواوِ وفَتْحِها، فمَنْ كَسَر أضافَ الفِعْلَ إليها (¬5) على أنَّها فاعِلةٌ، ومَن فَتَح أضافَه إلى وَلِيِّها. ومعنى التَّفْوِيضِ الإهْمالُ، كأنَّها أهْمَلَتْ أمْرَ المَهْرِ، حيث لم تُسَمِّه. قال الشَّاعِرُ (¬6): لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَراةَ لهم … ولا سَراةَ إذَا جُهَّالُهم سَادُوا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 293. (¬2) في الأصل: «كالمرهونة». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «كالمرهونة». (¬5) سقط من: م. (¬6) هو الأفوه الأودى. والبيت في العقد الفريد 1/ 6، 6/ 137. وانظر: الطرائف الأدبية 10.

3298 - مسألة: (ولها المطالبة بفرضه)

وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِفَرْضِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يعنى مُهْمَلِين. والذى، ذكَرَه الخِرَقِىُّ تَفْوِيضُ البُضْعِ، وهو الذى يَنْصَرِفُ إليه إطْلاقُ (¬1) التَّفْويضِ. والضَّرْبُ الثانى، تَفْوِيضُ المَهْرِ، وهو أن يَجْعَلا الصَّداقَ إلى رأْىِ أحَدِهما، أو رَأْىِ أجْنَبِىٍّ، فيقول: زَوَّجْتُكَ على ما شِئْتَ -أو- على حُكْمِكَ -[أو- حُكْمِى] (¬2) -أو- حُكمِها -أو- حُكْمِ أجْنَبِىٍّ. ونحوه. فهذه لها مَهْرُ المِثْلِ، في ظاهرِ كلامِ الخِرَقِىِّ (¬3)؛ لأنَّها لم تُزَوِّجْ نَفْسَها إلَّا بصَداقٍ، لكنَّه مَجْهولٌ، فسَقَطَ لجَهَالَتِه، ووَجَب مَهْرُ المِثْلِ. والتَّفْوِيضُ الصَّحِيحُ أن تَأْذَنَ المرأةُ الجائِزَةُ الأمْرِ لوَلِيِّها في تَزْوِيجِها بغيرِ مَهْرٍ، أو بتَفْوِيضِ قَدْرِه، أو يُزَوِّجَها أبُوها كذلك. فأمَّا إن زوَّجَها غيرُ أبِيها ولم يَذْكُرْ مَهْرًا، بغيرِ إذْنِها في ذلك، فإنَّه يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. قال الشَّافعىُّ: لا يكونُ التَّفْويضُ إلَّا الصُّورَةَ الأُولَى. وقد مَضَى الكلامُ معه في أنَّ (¬4) للأبِ أن يُزَوِّجَ ابْنَتَه بدُونِ صَداقِ مِثْلِها، فكذلك (¬5) يَجوزُ تَفْوِيضُه. 3298 - مسألة: (ولها المُطالَبَةُ بِفَرْضِهِ) [قبلَ الدُّخولِ، فإنِ] (2) ¬

(¬1) في الأصل: «الطلاق». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أحمد». (¬4) بعده في الأصل: «ذلك». (¬5) في م: «فلذلك».

فَإِنْ فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمِقْدَارِهِ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى فَرْضِهِ، جازَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ [امْتَنَعَ أُجْبِرَ عليه] (¬1)؛ لأَنَّ النِّكاحَ لَا يَخْلُو مِن المَهْرِ، فَوَجَب لَها الْمُطالَبَةُ بِبَيانِ قَدْرِهِ. وبهذا قال الشافعىُّ. ولا نعلمُ فيه (¬2) مُخالِفًا. فإنِ اتَّفَق الزَّوْجان على فَرْضِه، جازَ ما فَرَضاه، قَلِيلًا كان أو كثيرًا، [سَواءٌ كانا] (¬3) عالِمَيْنِ بمَهْرِ المِثْلِ أو لا. وقال الشافعىُّ في [قَولِ له] (¬4): لا يَصِحُّ الفَرْضُ لغيرِ (¬5) مَهْرِ المِثْلِ إلَّا مع عِلْمِها بمَهْرِ المِثْلِ؛ لأَنَّ ما يَفْرِضُه بَدَلٌ عن مَهْرِ المِثْلِ، فيَحْتاجُ أن يكونَ المُبْدَلُ مَعْلُومًا. ولَنا، أنَّه إذا فَرَض لها كثيرًا، فقد بَذَل لها مِن مالِه فوقَ ما يَلْزَمُه، وإن رَضِيَتْ باليَسِيرِ، فقد رَضِيَتْ بدُونِ ما يَجِبُ لها، فلا يُمْنَعُ مِن ذلك. قولُهم: إنَّه بَدَلٌ. لا يَصِحُّ، فإنَّ البَدَلَ غيرُ المُبْدَلِ، والمَفْروضُ إن كان ناقِصًا فهو بعْضُه، وإن كان أكثرَ (¬6) فهو الواجِبُ وزِيادَةٌ، ولا يَصِحُّ جَعْلُه بَدَلًا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «قوله». (¬5) في المغنى 10/ 145: «بغير». (¬6) في الأصل: «كثيرًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان بَدَلًا لَما جازَ مع العِلْمِ؛ لأنَّه يُبْدِلُ ما فيه الرِّبا (¬1) بجِنْسِه مُتَفاضِلًا، وقد رَوى عُقْبَةُ بنُ عامرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-[لرَجُلٍ: «أتَرْضَى أَنَّى أزَوِّجُكَ فُلَانةَ؟» قال: نعم. وقال للمرأةِ: «أَتَرْضَيْنَ أن أَزَوِّجَكِ فُلَانًا؟»] (¬2) قالت: نعم. فزَوَّجَ أحَدَهما بصاحبِه، فدَخَلَ عليها، ولم يَفْرِضْ لها صَداقًا، فلمَّا حَضَرَتْه الوَفاةُ قال: إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زَوَّجَنِى فُلانَةَ، ولم يَفْرِضْ لها صَداقًا، ولم أُعْطِها شيئًا، وإنى قد أعْطَيْتُها عن صَداقِها سَهْمِى الذى بخَيْبَرَ. فأخَذَت سَهْمَه، فباعَتْه بمائةِ ألْفٍ (¬3). فأمَّا إن تَشاحَّا فيه، ففَرَضَ لها مَهْرَ مِثْلِها أو أكثرَ منه، فليس لها المُطالَبَةُ بسِواه. فإن لم تَرْضَ به، لم يَسْتَقِرَّ لها حتى تَرْضاه. فإن طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، فليس لها إلَّا المُتْعَةُ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ لها بفَرْضِه ما لم تَرْضَ به، كحالةِ الابْتِداءِ. وِإن فَرَض لها أقَلَّ مِن مَهْرِ المِثْلِ، فلها المُطالَبَةُ بتَمامِه، ولم يَثْبُتْ لها بفَرْضِه (¬4) ما لم تَرْضَ به. فإنِ ارْتَفَعا إلى الحاكمِ، فليس له أن يَفْرِضَ لها إلَّا مَهْرَ المِثْلِ؛ لأَنَّ الزِّيادةَ مَيْلٌ عليه، ¬

(¬1) في الأصل: «الزنا». (¬2) في الأصل: «أنى أزوجك فلانة». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 83. (¬4) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنُّقْصانَ مَيْلٌ عليها، ولا يَحِلُّ المَيْلُ، ولأنَّه إنَّما يَفْرِضُ (¬1) بَدَلَ البُضْعِ، فيُقَدَّرُ بقَدْرِه، كالسِّلْعَةِ إذا تَلِفَتْ، يُرْجَعُ إلى تَقوِيمِها [بما يَقولُه] (¬2) أهلُ الخِبْرَةِ. ويُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ مَهْرِ المِثْلِ ليُتَوَصَّلَ إلى إمْكانِ فَرْضِه. ومتى صَحَّ الفَرْضُ صارَ كالمُسَمَّى في العَقْدِ، في أنَّه يتَنَصَّفُ بالطَّلاقِ، ولا تجبُ المُتْعَةُ معه. ويَلْزَمُها ما فرَضَه الحاكمُ، سواءٌ رَضِيَتْ به أو لم تَرْضَ، كما يَلْزَمُ ما حَكَم به. فصل: وإن فَرَض لها أجْنَبِىٌّ مَهْرَ مِثْلِها فرَضِيَتْه، لم يَصِحَّ فَرْضُه (3)، وِكان وُجُودُه كعَدَمِه؛ لأنَّه ليس بزَوْجٍ ولا حاكمٍ. فإن سَلَّمَ إليها ما فرَض لها فرَضِيَتْه، احْتَمَلَ أن لا (¬3) يَصِحَّ؛ لما ذكَرْنا، ويكونُ حُكْمُها حُكْمَ مَن لم يُفْرَضْ (¬4) لها، ويَسْتَرْجِعُ ما (¬5) أعْطاهَا؛ لأَنَّ تَصَرُّفَه ما صَحَّ، ولا بَرِئَتْ به ذِمَّةُ الزَّوْجِ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه يَقومُ [مَقامَ الزَّوجِ] (¬6) في قَضاءِ المُسَمَّى، فيقومُ مَقامَه في قَضاءِ ما يُوجِبُه العَقْدُ غير المُسَمَّى. فعلى هذا، إذا طُلِّقَتْ قبلَ الدُّخولِ، رَجَع نِصْفُه إلى الزَّوْجِ؛ لأنَّه مَلَّكَه ¬

(¬1) بعده في م: «له». (¬2) في م: «بقول». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «يفوض». (¬5) في الأصل: «فيما». (¬6) في م: «مقامه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إيَّاه حينَ قَضَى به دَيْنًا عليه، فيَعُودُ إليه، كما لو دَفَعَه هو. ولأصْحابِ الشافعىِّ مثلُ هذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، ولهم وَجْهٌ ثالثٌ، أنَّه يَرْجِعُ نِصْفُه (¬1) إلى الأجْنَبِىِّ. وذكَرَه القاضى لنا وَجْهًا ثالثًا. قال شيْخُنا (¬2): وقد ذكَرْنا ما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قُلْناه. ولو أنَّ رَجُلًا قَضَى المُسَمَّىِ عنِ الزَّوْجِ، صَحَّ، ثم إن طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، رَجَع نِصْفُه إليه، وإن فسَختْ نِكاحَ نَفْسِها بفِعْلٍ مِن جِهَتِها، رَجَع جميعُه إليه. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يَرْجِعُ إلى مَن قَضَاه. فصل: ويَجِبُ المَهْرُ للمُفَوّضةِ بالعَقْدِ، وإنَّما يَسْقُطُ إلى المُتْعَةِ بالطَّلاقِ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. واخْتَلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ؛ فمنهم مَن قال: الصَّحِيحُ أنَّه يجبُ بالعَقْدِ. وقال بعضُهم: لا يجبُ بالعَقْدِ، قولًا واحدًا، ولا يَجِئُ على أصلِ الشافعىِّ غيرُ هذا؛ لأنَّه لو وَجَب بالعَقْدِ لَتَنَصَّفَ بالطَّلاقِ، كالمُسَمَّى في العَقْدِ. ولَنا، أنَّها تَمْلِكُ المُطالَبَةَ به، فكان واجِبًا، كالمُسَمَّى، ولأنَّه لو لم يَجِبْ بالعَقْدِ، لَما اسْتَقَرَّ بالموتِ، كما في العَقْدِ الفاسدِ، ولأَنَّ النِّكاحَ لا يجوزُ أن يَخْلُوَ عن المَهْرِ، والقَوْلُ بعَدَمِ وُجوبِه يُفْضِى إلى خُلُوِّه عنه، وإلى أنَّ النِّكاحَ انْعَقَدَ صَحِيحًا ومَلَكَ الزَّوْجُ الوَطْءَ ولا مَهْرَ فيه، وإنَّمَا لم يَتَنَصَّفْ لأَنَّ اللَّه تعالى نَقَل غيرَ المُسَمَّى لها بالطَّلاقِ إلى المُتْعَةِ، كما نَقَل مَن (¬3) سُمِّى لها إلى ¬

(¬1) في م: «بنصفه». (¬2) في: المغنى 10/ 146. (¬3) في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفِ المُسَمَّى لها (¬1). فعلى هذا، لو فَوَّض الرجلُ مَهْرَ أمَتِه، ثم أعْتَقَها أو باعَها، ثم فُرِضَ لها المَهْرُ، كان لمُعْتِقِها أو بائِعِها، لأَنَّ المَهْرَ وَجَب بالعَقْدِ في مِلْكِه. ولو فَوَّضَتِ المرأةُ نَفْسَها، ثم طالَبَتْ بفرْضِ مَهْرِها بعدَ تَغيُّرِ (¬2) مَهْرِ مِثْلِها، أو دَخَل بها، لَوَجَب مَهْرُ مِثْلِها حالةَ العَقْدِ؛ لِما ذكَرْناه. ووَافَقَ أصْحابُ الشافعىِّ على ذلك؛ لأَنَّ الوُجوبَ يَسْتَنِدُ إلى حالةِ العَقْدِ، إلَّا في الأمَةِ التى أعْتَقَها أو باعَها، في أحدِ الوَجْهَيْنِ. فصل: يجوزُ الدُّخولُ بالمرأةِ قبلَ إعْطائِها شيئًا، سواءٌ كانت مفَوّضةً أو مُسَمًّى لها. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ. ورُوِى عن ابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عمرَ، والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، ومالكٍ: لا يَدخُلُ بها حتى يُعْطِيَها شيئًا (¬3). قال الزُّهْرِىُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أن لا يَدْخُلَ بها حتى يُعْطِيَها شيئًا. قال ابنُ عبَّاسٍ: يَخْلَعُ إحدَى نَعْلَيْه، ويُلْقِيها إليها (¬4). ورَوى أبو داودَ (¬5)، بإسْنادِه، عن رَجُلٍ مِن أصْحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّ عَلِيًّا لمَّا تَزَوَّجَ فاطمةَ، أرادَ أن يدْخُلَ بها، فمَنَعَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يُعْطِيَها شيئًا، فقال: يا رسولَ اللَّه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بغير». (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 4/ 198، 199. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 1/ 199. وابن أبى شيبة، في: المصنف 4/ 198. (¬5) في: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 490، 491. وضعفه الألبانى، ضعيف سنن أبى داود 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس لى شئٌ. فقال: «أعْطِها دِرْعَكَ». فأعْطاهَا دِرْعَه، ثم دَخَل بها. ورَواه ابنُ عبَّاسٍ أيضًا، قال: لَمَّا تَزَوَّجَ علىٌّ فاطمةَ، قال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أعْطِها شَيْئًا». قال: ما عندِى. قال: «أعْطِها دِرْعَكَ الحُطَمِيَّةَ (¬1)». رواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬2). ولَنا، حديثُ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ، في الذى زوَّجَه النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودَخَل بها، ولم يُعْطِها شيئًا (¬3). ورَوَتْ عائشةُ، قالتْ: أمَرَنِى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أُدْخِلَ امرأةً على زَوْجِها قبلَ أن يُعْطِيَها شيئًا. روَاه ابنُ ماجَه (¬4). ولأنَّه عِوَضٌ في عَقدِ مُعاوَضةٍ، فلم يَقِفْ جَوازُ تَسْلِيمِ المُعَوَّضِ على قَبْضِ شئٍ منه، كالثَّمَنِ في البَيْعِ، والأُجْرَةِ في الإِجارَةِ. وأمَّا الأخْبارُ فمَحْمُولَةٌ على الاسْتِحْباب، فإنَّه يُسْتَحَبُّ أن يُعْطِيَها قبلَ الدُّخولِ شيئًا، مُوافَقةً للأَخْبارِ، ولعادةِ النَّاسِ فيما بينَهم، ولِتَخْرُجَ المُفَوّضةُ عن شِبْهِ المَوْهُوبَةِ، وليكونَ ذلك أقْطَعَ للخُصُومَةِ. ويُمْكِنُ حَمْلُ قولِ ابنِ عبَّاسٍ ومَن وافَقَه على الاسْتِحْبابِ، فلا يكونُ بينَ القَوْلَيْنِ فَرْقٌ. واللَّه أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «الخطمية». وسميت الحطمية، لأنها تحطم السيوف. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 490. والنسائى، في: باب تحلة الخلوة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 105. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 80. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 83. (¬4) في: باب في الرجل يدخل بأهله قبل أن يعطيها شيئا، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 641. كما أخرجه أبو داود، في: الباب السابق. سنن أبى داود 1/ 491. وقال: خيثمة لم يسمع من عائشة. انظر: ضعيف سنن أبى داود 208، ضعيف سنن ابن ماجه 152.

3299 - مسألة: (وإن مات أحدهما قبل الإصابة، ورثة صاحبه، ولها مهر نسائها)

وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الإِصَابَةِ، وَرِثَهُ صَاحِبُهُ، وَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِالْمَوْتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَضَهُ لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3299 - مسألة: (وَإن مات أحدُهما قبلَ الإِصابَةِ، وَرِثَةُ صاحِبُه، ولها مَهْرُ نِسائِها) إذا مات أحدُهما قبلَ الإِصابَةِ، وقبلَ الفَرْضِ، فلِلْآخَرِ المِيراثُ، بغيرِ خلافٍ فيه؛ فإنَّ اللَّه تعالى فَرَض لكلِّ واحدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ فَرْضًا، وعَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ (¬1) ههُنا صَحِيحٌ ثابتٌ، فيُورَثُ به؛ لدُخولِه في عُمُوم النَّصِّ. فصل: (ولها مَهْرُ نِسائِها. وعنه، أنَّه يتَنَصَّفُ بالموتِ، إلَّا أن يكونَ قد فَرَضَه لها) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ لها مَهْرَ نِسائِها. وهو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. وإليه ذهب ابنُ مسعودٍ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ أبى ليْلَى، ¬

(¬1) في الأصل: «الزوجة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىّ، وإسْحاقُ. ورُوِىَ عن علىٍّ، وابنِ عباسٍ (¬1)، وابنِ عمرَ، والزُّهْرِىِّ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، والأوزاعِىِّ: لا مَهْرَ لها، لأنَّها فُرْقَةٌ وَرَدَتْ على تَفْوِيضٍ صَحِيحٍ قبلَ فَرْض ومسِيسٍ، فلم يَجِبْ بها مَهْرٌ، كفُرْقَةِ الطَّلاقِ. وقال أبو حنيفةَ كقَوْلِنا في المُسْلِمةِ، وكقَوْلِهم في الذِّمِّيَّةِ. وعن أحمدَ روايةٌ أُخْرَى، لا يَكْمُلُ، ويَتَنَصَّفُ إذا لم يكُنْ فَرَضَه لها، لأَنَّ المَفْرُوضَ لها تُخالِفُ التى لم يُفرَضْ لها في الطَّلاقِ، فجازَ أن تُخالِفَها بعدَ الموتِ. وللشافعىِّ قَوْلانِ، كالرِّوايتيْنِ. ولَنا، ما رُوِى [أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه] (¬2)، قَضَى لامرأةٍ لم يَفْرِضْ لها زَوْجُها صَداقًا، ولم يَدْخُلْ بها حتى ماتَ، فقال: لها صَداقُ نِسائِها، لا وَكْسٌ ولا شَطَطٌ، ¬

(¬1) في م: «مسعود». (¬2) في م: «عبد اللَّه بن مسعود، رضى اللَّه عنه، أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعليها العِدَّةُ، ولها المِيراثُ. فقام مَعْقِلُ بن سِنَانٍ الأشْجَعِىُّ، فقال: قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَرْوَعَ بنتِ وَاشِقٍ مثلَ ما قَضَيْتَ (¬1). قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهو نَصٌّ في مَحَلِّ النِّزاعِ. ولأَنَّ الموْتَ مَعْنًى يَكْمُلُ به المُسَمَّى، فكَمَلَ به مَهْرُ المِثْلِ للمُفَوّضةِ، كالدُّخولِ. وقياسُ الموتِ على الطَّلاقِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الموتَ يتمُّ به النِّكاحُ، فيَكْمُلُ به الصَّداقُ، والطلاقُ يَقْطَعُه ويُزِيلُه قبلَ إتْمامِه، ولذلك (¬2) وَجَبتِ العِدَّةُ بالموتِ قبلَ الدُّخولِ، ولم تجبْ بالطَّلاقِ، وكَمَل المُسَمَّى بالموتِ، ولم يَكْمُلْ بالطَّلاقِ. [وأمَّا الذِّمِّيَّةُ] (¬3) فإنَّها زَوْجَةٌ مُفارقَةٌ بالموتِ، فكَمَلَ لها الصَّداقُ، كالمُسْلِمَةِ، أو كما لو سُمِّىَ لها، ولأَنَّ المُسْلِمةَ والذِّمِّيَّةَ [لا يَخْتلفانِ في الصَّداقِ في موضعٍ، فوَجَبَ أن] (¬4) لا يَخْتَلِفا ههُنا. وإن كان قد فَرَضَه لها، لم يَتَنَصَّفْ بالموتِ، على الرِّوايتَيْنِ جميعًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 293. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

3300 - مسألة: (فإن طلقها قبل الدخول، لم يكن لها عليه إلا المتعة)

وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ إِلَّا الْمُتْعَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3300 - مسألة: (فَإن طَلَّقَها قبلَ الدُّخُولِ، لم يَكُنْ لها عليه إلَّا المُتْعَةُ) إذا طُلِّقَتِ المُفَوّضةُ البُضْعِ قبلَ الدُّخولِ، فليصر لها إلَّا المُتْعَةُ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ جماعةٍ. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وابن عبَّاسٍ، والحسنِ، وعَطاءٍ، وجابرِ بنِ زيدٍ، والشَّعْبِى، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وأصْحابِ الرَّأْى. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ (¬1) لها نِصْف مَهْرِ مِثْلِها؛ لأنَّه نِكاحٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ مَهْرَ المثلِ بعدَ الدُّخولِ، فيُوجِبُ نِصْفَه بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، كما لو سَمَّى لها مُحَرَّمًا. وقال مالِكٌ، واللَّيْثُ، وابنُ أبى ليلَى: المُتْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ غيرُ واجبةٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالَى قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (¬2). فخَصَّهم بها، فيَدُلُّ على أنَّها على سَبِيلِ الإِحْسانِ والتَّفَضُّلِ (¬3)، والإِحْسانُ ليس بوَاجِبٍ، ولأنَّها لو كانت وَاجِبَةً لم تَخْتَصَّ (¬4) المُحْسِنينَ دُونَ غيرِهم. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}. والأمْرُ. يَقْتَضِى الوُجُوبَ. وقالَ تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬5). وقالَ تعالى: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 236. (¬3) في م: «التفضيل». (¬4) في م: «يخص». (¬5) سورة البقرة 241.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} (¬1). ولأنَّه طَلاقٌ في نِكاحٍ يقْتَضِى عِوَضًا، فلم يَعْرُ (¬2) عن العِوَضِ (¬3)، كما لو سَمَّى مَهْرًا، وأداءُ الواجِبِ مِن ¬

(¬1) سورة الأحزاب 49. (¬2) في الأصل: «يضن». (¬3) في الأصل: «المعوض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإحْسانِ، فلا تَعارُضَ بينَهما. فصلِ: فإن فَرَض لها بعدَ العَقْدِ، ثم طَلَّقَها [قبلَ الدُّخولِ] (¬1)، فلها نِصْف ما فرَض لها، ولا مُتْعَةَ. وهذا قولُ ابنِ عمرَ، وعَطاءٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وعن أحمدَ أنَّ لها المُتْعَةَ، ويَسْقُطُ المَهْرُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه نِكاحٌ عَرِىَ عن تَسْمِيَةٍ، فوَجَبَتِ المُتْعَةُ، كما لو لم يَفْرِض لها. ولَنا، قولُه تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. ولأنَّه مَفْروضٌ يَسْتَقِرُّ بالدُّخولِ، فتَنَصَّف بالطَّلاقِ قبلَه، كالمُسَمَّى في العَقْدِ. ¬

(¬1) في م: «قبله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُتْعَةُ تجبُ على كلِّ زَوْجٍ لكلِّ زَوْجَة مُفَوّضةٍ طُلِّقَتْ قبلَ الدُّخولِ، وسواءٌ في ذلك الحُرُّ والعَبْدُ، والحُرَّةُ والأمَةُ، والمُسْلِمُ والذِّمِّىُّ، والمُسْلِمَةُ والذِّمِّيَّةُ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، لا مُتْعَةَ للذِّمِّيَّةِ. وقال الأوْزَاعِىُّ: إن كان الزَّوْجانِ أو أحَدُهما رَقِيقًا، فلا مُتْعَةَ. ولَنا، عُمُومُ النَّصِّ، ولأنَّها قائِمَةٌ مَقامَ نِصْفِ المَهْرِ في حَقِّ مَن سَمَّى، فتجِبُ لكلِّ زَوْجَةٍ على كلِّ زَوْجٍ، كنِصْفِ المُسَمَّى، ولأَنَّ ما يجبُ مِن الفَرْضِ يَسْتَوِى فيه المُسْلِمُ والكافِرُ، والحُرُّ والعَبْدُ، كالمَهْرِ. فصل: فأمَّا المُفَوّضةُ المَهْرِ، وهى التى تَزَوَّجَها على ما شاءَ أحَدُهما، أو التى زَوَّجَها غيرُ أبِيها بغيرِ إذْنِها بغيرِ صَداقٍ، أو التى مَهْرُها فاسِدٌ، فإنَّه يجبُ لها مَهْرُ المِثْلِ، ويَتَنَصَّفُ بالطَّلاقِ قبْلَ الدُّخولِ، ولا مُتْعَةَ لها. هذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وعن أحمدَ، أنَّ لها المُتْعَةَ دونَ نِصْفِ المَهْرِ. وهو الذى ذكَرَه شيْخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ (¬1)، كالمُفَوّضةِ البُضْعِ. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه خَلا عَقْدُها عن تَسْمِيَةٍ صَحِيحَةٍ، فأشْبَهَتِ التى لم يُسَمَّ لها شئٌ. ولنا، أنَّ هذه لها مَهْرٌ واجبٌ قبلَ الطَّلاقِ (¬2)، فَوجَبَ أن يَتَنَصَّفَ، كما لو سَمَّاه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الدخول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو نقولُ: لم تَرْضَ بغيرِ صَداقٍ، فلم تجبِ المُتْعَةُ، كالمُسَمَّى لها. وتُفارِقُ التى رَضِيَتْ بغيرِ عِوَض؛ فإنَّها رَضِيَتْ بغيرِ صَداقٍ، وعادَ بُضْعُها (¬1) سَلِيمًا، فعُوِّضَتِ (¬2) المُتْعَةَ (¬3)، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فصل: وكلُّ فُرْقَةٍ يَتَنَصَّفُ بها المُسَمَّى، تُوجِبُ المُتْعةَ، إذا كانت مُفَوّضةً. وما سَقَط به المُسَمَّى مِن الفُرَقِ، كاخْتِلافِ الدينِ والفَسْخِ بالرَّضاعِ ونحوِه، إذا جاءَ مِن قِبَلِها، لا تَجِبُ به مُتْعَةٌ؛ لأنَّها أقِيمَتْ مُقامَ نِصفِ (3) المُسَمَّى، فسَقَطَتْ في كلِّ موضع يَسْقُطُ، كما تَسْقُطُ الأبْدالُ إذا سَقَط مُبْدَلُها. فصلِ: قال أبو داودَ: سَمِعْتُ أحمدَ سُئِلَ عن رَجُلٍ تَزَوَّج امرأةً، ولم يكُنْ فرَض لها مَهْرًا، ثم وَهَبَ لها غُلامًا، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ؟ قال: لها المُتْعَةُ. وذلك لأَنَّ الهِبَةَ لا تَنْقَضى (¬4) بها المُتْعَةُ، كما لا يَنْقَضِى (¬5) بها نِصْفُ المُسَمَّى، ولأَنَّ (¬6) المُتْعَةَ إنَّما تجبُ بالطَّلاقِ، فلا يَصِحُّ قَضاؤُها ¬

(¬1) في م: «نصفها». (¬2) في الأصل: «تعرضت». وفى م: «ففرضت». انظر المغنى 10/ 143. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «تنقص». (¬5) في م: «ينقص». (¬6) في م: «كأن».

3301 - مسألة: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، فأعلاها خادم، وأدناها كسوة)

عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فأعْلَاهَا خَادِمٌ، وَأَدْنَاهَا كُسْوَةٌ تجْزِئُهَا فِى صَلَاتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَه، ولأنَّها واجِبَةٌ (¬1)، فلا تَنْقَضِى (¬2) بالهِبَةِ، كالمُسَمَّى. 3301 - مسألة: (على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه، فَأَعْلاها خَادِمٌ، وَأَدْناها كُسْوَةٌ) يَجوزُ لها أن تُصَلِّىَ فيها. وجملةُ ذلك، أنَّ المُتْعَةَ مُعْتَبَرَةٌ بحالِ الزَّوْجِ، في يَسارِه وإعْسارِه. نصَّ عليه أحمدُ. وهو وَجْهٌ لأصْحابِ الشافعىِّ. والوَجْهُ الآخَرُ، هو مُعْتَبَرٌ بحالِ الزَّوْجَةِ، لأن المهرَ مُعْتَبَرٌ بها، كذلك المُتْعَةُ القائمةُ مَقامَه. ومنهم مَن قال: يُجْزِئُ في المُتْعَةِ ما يقَعُ عليه الاسْمُ، كما يُجْزِئُ في الصَّداقِ ذلك. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. وهذا نَصٌّ في أنَّها مُعْتَبَرَةٌ بحالِ الزَّوْجِ. ولأنَّها تَخْتلِفُ، ولو أجْزَأَ ما يقَعُ عليه الاسْمُ سَقَط الاخْتِلافُ، ولو اعْتُبِرَ بحالِ المرأةِ، لَما كان على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه. إذا ثَبَت هذا، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ فيها، فرُوِىَ عنه: أعْلاها خادِمٌ إذا كان مُوسِرًا، وإن كان فَقِيرًا مَتَّعَها كُسْوَتَها ¬

(¬1) في الأصل: «واجب». (¬2) في م: «تنقص».

3302 - مسألة: (وعن أحمد، يرجع فى تقديرها إلى الحاكم)

وَعَنْهُ، يُرْجَعُ فِى تَقْدِيرِهَا إِلَى الْحَاكِمِ. وَعَنْهُ، يَجِبُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دِرْعًا وخِمارًا وثَوْبًا تصَلِّى فيه. ونحوَ ذلك قال ابن عَبَّاسٍ، والزُّهْرِىُّ، والحسنُ. قال ابنُ عبَّاسٍ: أعْلَى المتْعةِ الخادِمُ، ثم دونَ ذلك النَّفقَةُ، ثم دونَ ذلك الكُسْوَة (¬1). ونحوَ ما ذكَرْنا في أدْناهَا قال الثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، وعَطاءٌ، ومالكٌ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصْحابُ الرَّأْى، قالوا: درْعٌ وخِمارٌ ومِلْحَفَةٌ. 3302 - مسألة: (وعن أحمد، يُرْجَعُ في تَقْدِيرِها إلى الحاكِمِ) وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّه أمْرٌ لم يَرِدِ الشَّرْعُ بتَقْدِيرِه، وهو ممَّا يَحْتاجُ إلى الاجْتِهادِ، فيَجِبُ الرُّجوعُ فيه إلى الحاكِمِ، كسائرِ المُجتَهَداتِ. وعنه، يَجِبُ لها نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ. ذكَرَها القاضى، في «المُجَرَّدِ» فقال: هى [مُقَدَّرَة بما يُصادِفُ نِصْفَ مهرِ المِثْلِ؛ لأنَّها بدلٌ عنه، فيَجِبُ أن تَتَقَدَّرَ به. قال شيخُنا (¬2): وهذه الروايةُ تَضْعُف لِوَجهين] (¬3) ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير في تفسيره 2/ 530 عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 156، 157، عن إسماعيل ابن علية عن ابن عباس: «أرفع المتعة الخادم ثم دون ذلك الكسوة ثم دون ذلك النفقة». (¬2) في: المغنى 10/ 144. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، أنَّ نَصَّ الكتابِ يَقْتَضِى تَقْديرَها بحالِ الزَّوْجِ، وتَقْدرُها بنِصْفِ المَهْرِ يُوجِبُ اعْتِبارَها بحالِ المرأةِ، لأَنَّ مَهْرَها مُعْتَبَرٌ بها لا بزَوْجِها. الثانى، أنَّا لو قَدَّرْناها بنِصْفِ مَهْرِ المثلِ لَكانت نِصْفَ المَهرِ (¬1)، إذ ليس المَهْرُ مُعَيَّنًا في شئٍ (¬2). ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى قولُ ابنِ عبَّاسٍ: أعْلَى المُتْعةِ الخادِمُ، ثم دونَ ذلك إلى (¬3) الكُسْوَةِ. روَاه أبو حَفْصٍ بإسنادِه. وقَدَّرَها بكُسْوَةٍ يَجوزُ لها الصَّلاةُ فيها، لأَنَّ الكُسْوةَ الواجِبَةَ بمُطلقِ الشَّرْعِ تتَقَدَّرُ بذلك، كالكُسْوَةِ في الكفَّارَةِ، والسُّتْرَةِ في الصَّلاةِ. ورَوَى كَثِيفٌ (¬4) السُّلَمِىُّ، أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امرأته (¬5) تُماضِرَ الكَلْبِيَّةَ، فحَمَّمَها (¬6) بجارِيَةٍ سَوْداءَ (¬7). يعنى مَتَّعَها. قال إبراهيمُ ¬

(¬1) في م: «مهر المثل». (¬2) بعده في المغنى: «ولا المتعة». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «كنيف». وكذا في المغنى 10/ 144. وهو كثيف السلمى مدينى، وذكر الأثر عنه البخارى التاريخ الكبير 7/ 243. وابن أبى حاتم، في: الجرح والتعديل 7/ 174. وابن ماكولا، في: الإكمال 7/ 178. (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «فحمها». (¬7) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 72، 73. وسعيد بن منصور، في: سننه 2/ 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّخَعِىُّ (¬1): العَرَبُ تُسَمِّى المُتْعةَ التَّحْمِيمَ (¬2). وهذا فيما إذا تَشاحَّا في قَدْرِها، فإن سَمَح لها بزِيادَة على الخادِم، أو رَضِيَتْ بأقَلَّ من الكُسْوَةِ، جازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لهما، وهو ممَّا يَجوَزُ بَذْلُه، فجازَ ما اتَّفَقا عليه، كالصَّداقِ. وقد رُوِى عن الحسَنِ بنِ علىٍّ، أنَّه مَتَّعَ امرأتَه (¬3) بعَشَرَةِ آلافِ درْهمٍ، فقالت: * مَتَاع قَلِيلٌ (¬4) من حَبِيبٍ مُفارِقِ (¬5) * ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. وأخرجه عنه سعيد، في: سننه 2/ 4. (¬2) في الأصل: «التحتم». (¬3) في م: «المرأة». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أخرجه سعيد، في: سننه 2/ 3. والطبرانى، في: المعجم الكبير 3/ 94. والدارقطنى، في: سننه 4/ 31، 32. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 336.

3303 - مسألة: (فإن دخل بها، استقر مهر المثل)

وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، اسْتَقَرَّ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ تَجِبُ الْمُتْعَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ أَصَحُّهُمَا، لَا تَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3303 - مسألة: (فإن دخَل بها، اسْتَقَرَّ مَهْرُ المِثْلِ) لأَنَّ الوَطْءَ في نكاحٍ [خالٍ مِن] (¬1) مَهْرٍ خَالِصٌ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (فَإن طَلَّقَها بعدَ ذلكَ، فَهل تَجِبُ الْمُتْعَةُ؟ على روايَتَيْن؛ أَصَحُّهُما، لَا تَجِبُ) كلُّ مَن وَجَب لها نِصْفُ المَهْرِ، لم تَجِبْ لها مُتْعَة، سواء كانت ممَّن سُمِّىَ لها صَداقٌ، أو لم يُسَمَّ لها لكنْ فُرِضَ لها بعدَ العَقْدِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، في مَن سُمِّىَ لها. وهو قديمُ قوْلى الشافعىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ: لكلِّ مُطَلَّقةٍ مَتاعٌ. ورُوِى ذلك عن علىِّ بنِ أبى طالِبٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، والحسنِ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وأبى قِلابَةَ، والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، والضَّحَّاكِ، وأبى ثَوْرٍ؛ لظاهرِ قولِه تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى ¬

(¬1) في م: «من غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْمُتَّقِينَ}. ولقولِه سبحانه لنَبيِّه عليه السَّلامُ: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قولِه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} (¬1). فعلى هذه الرِّوايةِ، لكلِّ مُطَلَّقةٍ مَتاعٌ، سواءٌ كانت مُفوّضةً أو مُسَمًّى لها، مدْخُولًا بها أو غيرَها؛ لما ذكَرْنا. وظاهرُ المذهبِ أنَّ المُتْعةَ لا تجبُ إلَّا [للمُفَوّضةِ التى] (¬2) لم يُدْخَلْ بها إذا طُلِّقَتْ. قال أبو بكرٍ: كلُّ مَن رَوى عن أبى عبدِ اللَّهِ، فيما أعلمُ، رَوى عنه أنَّه لا يَحْكُمُ بالمُتْعَةِ إلَّا لمَنْ [لم يُسَمَّ] (¬3) لها مَهْرٌ، إلَّا حَنْبَلًا، رَوَى عن أحمدَ أنَّ لكلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتاعًا. قال أبو بكرٍ: والعملُ عليه عندِى، لولا تَواتُرُ الرِّواياتِ عنه بخِلافِها. ولَنا، قولُه تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}. [ثم قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}] (¬4). فخَصَّ الأُولَى بالمُتْعَةِ، والثَّانِيَةَ بنِصْفِ المَفْرُوضِ، مع تقسيمه للنِّساءِ قِسْمَيْنِ، وإثْباتِه لكلِّ ¬

(¬1) سورة الأحزاب 28. (¬2) في الأصل: «للتى». (¬3) في م: «يسمى». (¬4) في م: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. الآية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِسْم حُكْمًا، فيَدُلُّ ذلك على اخْتِصاصِ كلِّ قِسْم بحُكْمِه، وهذا يَخُصُّ ما ذَكَرُوه. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ الأمْرُ بالمَتاعِ في غيرٍ المُفَوّضةِ على الاسْتِحْبابِ؛ لدَلالةِ (¬1) الآيتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكَرْناهما على نفْىِ وُجُوبِها، جَمْعًا بينَ دَلالاتِ الآياتِ والمعنى، فإنَّه عِوَضٌ واجِبٌ في عَقْدٍ، فإذا سُمِّىَ فيه عِوَضٌ صحيحٌ لم يَجِبْ غيرُه، كسائرِ عُقُودِ المُعاوَضَةِ، ولأنَّها لا تَجِبُ لها المُتْعَةُ قبلَ الفُرْقَةِ، ولا ما يقومُ مَقامَها، فلم تَجِبْ لها عندَ الفُرْقَةِ، كالمُتَوَفَّى عنها زَوْجُها. فصل: قد ذكَرْنا أنَّ الزَّوْجَ إذا طَلَّق المُسَمَّى لها، أو المُفَوّضةَ المَفْروضَ لها بعدَ الدُّخولِ، فلا مُتْعةَ لواحدةٍ منهما، على رِوايةِ حَنْبَلٍ. وذكَرْنا قولَ مَن ذهبَ إليه. وظاهِرُ المذهبِ أنَّه لا مُتْعَةَ لواحدةٍ منهما. وهو قولُ أبى حنيفة. وللشافعىِّ قَوْلان، كالرِّوايتَيْنِ، وقد ذكَرْنا ذلك. ¬

(¬1) في م: «كدلالة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسْتَحَبُّ أن يُمَتِّعَها. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: أنا أُوجِبُها على مَن لم يُسَمِّ لها صَداقًا، فإن كان قد سَمَّى لها صَداقًا، فلا أوجِبُها عليه، وأسْتَحِبُّ أن يُمَتِّعَ وإن سَمَّى لها صَداقًا. وإنَّما اسْتَحَبَّ ذلك لعُمُومِ النَّصِّ الواردِ فيها، ودَلالتِه على إيجابِها، وقولِ علىٍّ ومَن سَمَّيْنا من الأئِمَّةِ بها، فلمَّا امْتَنَعَ الوُجوبُ لدلالةِ الآيَتَيْنِ المَذْكورَتَيْن على نَفْىِ الوُجوبِ، ودَلالةِ المَعْنَى المَذْكُورِ عليه، تَعَيَّنَ حَمْلُ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عليها على الاسْتِحْبابِ، أو على أنَّه أرِيدَ به الخُصوصُ. وأمَّا المُتَوَفَّى عنها، فلا مُتْعَةَ لها بالإِجْماعِ؛ لأَنَّ النَّصَّ العامَّ لم يَتَناوَلْها، وإنَّما تَناوَلَ المُطَلَّقاتِ، ولأنَّها أخَذَتِ العِوَضَ المُسَمَّى لها في عَقْدِ المُعاوَضَةِ (¬1)، فلم يَجِبْ لها به سِواه، كما في سائرِ العُقُودِ. ¬

(¬1) في الأصل: «المفاوضة».

فصل

فَصْلٌ: وَمَهْرُ الْمِثْلِ مُعْتَبَرٌ بِمَنْ يُسَاوِيهَا من نِسَاءِ عَصَبَاتِهَا؛ كَأُخْتِهَا، وَعَمَّتِهَا، وَبِنْتِ أَخِيهَا وَعَمِّهَا. وَعَنْهُ، يُعْتَبَرُ جَمِيعُ أَقَارِبِهَا؛ كَأُمِّهَا وَخَالَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ومَهْرُ المِثْلِ مُعْتَبَرٌ بمن يُساوِيها من نِساءِ عَصَباتِها؛ كأُخْتِها، وعَمَّتِها، وبنتِ أخِيها وعَمِّها. وعنه، يُعْتَبَرُ جميعُ أقارِبِها؛ كأمِّها وخالَتِها) وقال مالكٌ: يُعْتَبَرُ بمَن هى في مِثْلِ جَمالِها ومالِها وشَرَفِها، ولا يَخْتَصُّ بأقْرِبائِها؛ لأَنَّ الأعْواضَ (¬1) إنَّما تَخْتَلِفُ بذلك دُونَ الأقاربِ. ولَنا، قولُه في حديثِ ابنِ مسعودٍ: لها مَهْرُ نِسائِها (¬2). ونِساؤُها أقارِبُها. وما ذكَرَه فنحنُ نَشْتَرِطُه، ونَشْتَرِطُ معه أن تكونَ من نِساءِ أقارِبِها؛ لأنَّها أقْرَبُ إلَيْهِنَّ. وقولُه: إنَّما يَخْتَلِفُ بهذه الأوْصافِ دونَ الأقارِبِ. لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ المرأةَ تُطْلَبُ لحَسَبِها، كما جاءَ في الأَثَرِ (¬3)، وحَسَبُها يَخْتَصُّ به أقَارِبُها، ويَزْدادُ المَهْرُ لذلك (¬4) ¬

(¬1) غير واضحة بالأصل، وفى م: «الأعراض». وانظر المغنى 10/ 150. (¬2) تقدم تخريجه في 18/ 293. (¬3) تقدم تخريجه في 13/ 410. (¬4) في م: «بذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَقِلُّ، وقد يكونُ الحَىُّ وأهلُ القَرْيَةِ لهم عادةٌ في الصَّداقِ، ورَسْمٌ مُقَرَّرٌ لا يُشارِكُهم فيه غيرُهم، ولا يُغَيِّرُونَه بتَغَيُّرِ الصِّفاتِ، فيُعْتَبَرُ ذلك دُونَ سائرِ الصِّفاتِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في مَن يُعْتَبَرُ مِن أقارِبِها، فقال في رِوايةِ حَنْبَلٍ: لها مَهْرُ مِثْلِها من نِسائِها من قِبَلِ أبِيها. فاعْتَبَرَ بنِساءِ العَصَباتِ خاصَّة. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال في رِوايةِ إسْحاقَ بنِ هانئٍ: لها مَهْرُ نِسائِها، مثل أمِّها أو أخْتِها أو عَمَّتِها أو بنتِ عَمِّها. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ، وابنِ أبى ليْلَى؛ لأنَّهُنَّ من نِسائِها. والأُولَى أوْلَى؛ فإنَّه قد رُوِى في قِصَّةِ بَرْوَعَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى في بَرْوَعَ (¬1) بنتِ واشِقٍ بمثلِ مَهْرِ نِساءِ قَوْمِها. ولأَنَّ شَرَف المرأةِ مُعْتَبَرٌ في مَهْرِها، وشَرَفُها بنَسَبِها، وأمُّها وخالَتُها لا تُساوِيَانِها في (¬2) شَرَفِها، وقد تكونُ أمها مَوْلاةً وهى شَرِيفةٌ، وقد تكونُ أمها قُرَشِيَّةً وهى غيرُ قُرَشِيَّةٍ. ويَنْبَغِى أن يُعْتَبَرَ (¬3) الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، فأقْرَبُ نِساءِ عَصَباتِها ¬

(¬1) في م: «تزويج». (¬2) بعده في المغنى 10/ 151: «نسبها، فلا تساويانها». (¬3) في م: «يكون».

3304 - مسألة: (وتعتبر المساواة فى المال، والجمال، والعقل، والأدب، والسن، والبكارة، والثيوبة، والبلد)

وَتُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِى الْمَالِ، وَالْجَمَالِ، وَالْعَقْلِ، والأَدَبِ، وَالسِّنِّ، وَالْبَكَارَةِ، وَالثُّيُوبَةِ، وَالْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى نِسَائِهَا إِلَّا دُونَهَا، زِيدَتْ بِقَدْرِ فَضِيلَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا فَوْقَهَا، نَقَصَتْ بِقَدْرِ نَقْصِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أخَواتُها لأبِيها، ثم عَمَّاتُها، ثم بَناتُ عَمِّها، الأقْرَبُ فالأقْرَبُ. 3304 - مسألة: (وَتُعْتَبَرُ المُساواةُ فِى المَالِ، والجَمَالِ، والعَقْلِ، والأَدَبِ، والسِّنِّ، والبَكارَةِ، والثُّيُوبَةِ، والبَلَدِ) وصَراحَةِ نَسَبِها، وكلِّ ما يَخْتَلِفُ لأجْلِه الصَّداقُ، وإنَّما اعْتُبِرَتْ هذه الصِّفاتُ [كلُّها؛ لأَنَّ مَهْرَ المِثْلِ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فاعْتُبِرَتِ الصِّفاتُ] (¬1) المَقْصُودَةُ فيه. فإن لم يكُنْ في عَصَباتِها مَن هو في مِثْلِ حَالِها، فمِن نِساءِ أرْحامِها، كأمِّها وجَدَّاتِها وخَالاتِها وبَناتِهِنَّ. 3305 - مسألة: (فَإن لم يُوجَدْ إلَّا دُونَهَا، زِيدَتْ بقَدْرِ فَضِيلَتِها) لأَنَّ زِيادةَ فَضِيلَتِها تَقْتَضِى زِيادةً في المَهْرِ، فتَقَدَّرَتِ الزِّيادةُ بقَدْرِ الفَضِيلَةِ (وإن لم يُوجَدْ إلَّا فَوْقَها، نَقَصتْ بقَدْرِ نَقْصِها) كأَرْشِ العَيْبِ يُقَدَّرُ (¬2) بقَدْرِ نَقصِ المَبِيعِ. فصل: ويجبُ مَهْرُ المِثْلِ حالًا؛ لأنَّه بَدَلُ مُتْلَفٍ، فأَشْبَهَ قِيَمَ المُتْلَفاتِ. ولا يكونُ إلَّا من نَقْدِ البَلَدِ؛ لما ذكَرْنا. ولا تَلْزَمُ الدِّيَةُ؛ لأنَّها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

3306 - مسألة: (فإن كانت)

وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمُ التَخْفِيفَ عَلَى عَشِيرَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، اعْتُبِرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمُ التَّأْجِيلَ، فُرِضَ مُؤَجَّلًا فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْتلِفُ باخْتِلافِ صِفاتِ المُتْلَفِ، بل هى مُقَدَّرَةٌ بالشَّرْعِ، فكانت بحُكْمِ ما جَعلَه من الحُلُولِ والتَّأْجِيلِ، فلا يُعْتَبَرُ بها غيرُها، ولأنَّها عُدِلَ بها عن سائرِ الأبْدَالِ في مَن وَجَب عليه، فكذلك في تَأْجِيلِها تَخْفِيفًا عنه، بخلافِ غيرِها. 3306 - مسألة: (فَإن كانت) عادةُ نِسائِها تَأْجِيلَ المَهْرِ (فُرِضَ مُؤَجَّلًا في أحَدِ الوَجْهَيْنِ) لأنَّه مَهْرُ مِثْلِها. والثانى، يُفْرَضُ حالًا؛ لما ذكَرْنا (وإن كان عادَتُهُم التَّخْفِيفَ عن عَشِيرَتِهم دُونَ غيرِهم، اعْتُبِرَ ذلك) وهذا مذهبُ الشافعىِّ. فإن قيلَ: فإذا كان مَهْرُ المِثْلِ بَدَلَ مُتْلَفٍ، يَجِبُ أن لا يَخْتَلِفَ باختلافِ المُتْلَفِ، كسائرِ المُتْلَفاتِ. قُلْنا: النِّكاحٍ يُخالِفُ سائرَ المُتْلَفاتِ، [فإنَّ سائِرَ المُتْلَفاتِ] (¬1) المقْصُودُ بها المالِيَّةُ خاصَّةً، فلم تَخْتَلِفْ باخْتِلَافِ المُتْلِفينَ، والنِّكاحُ يُقْصَدُ به أعْيانُ الزَّوْجَيْنِ، فاخْتَلَف باخْتِلافِهم، ولأَنَّ سائرَ المُتْلَفاتِ لا تَخْتَلِفُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فصل

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَقَارِبُ، اعْتُبِرَ بِنِسَاءِ بَلَدِهَا، ثُمَّ بِأَقْرَبِ النِّسَاءِ شِبْهًا بِهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِطَلاقٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ باخْتِلافِ العَوائدِ، والمَهْرُ يَخْتَلِفُ بالعاداتِ، فإنَّ المرأةَ إذا كانت من قَوْمٍ عادتُهم تَخْفِيفُ مُهورِ نِسائِهم، وَجَب مهرُ المرأةِ منهم خَفِيفًا، وإن كانت أفْضَلَ وأشْرَفَ من نِساءِ مَن (¬1) عادَتهم تَثْقِيلُ المَهرِ. وعلى هذا، متى كانت عادَتُهُم التَّخْفِيفَ لمَعْنًى، مثل الشَّرَفِ واليَسَارِ ونحو ذلك، اعْتُبِرَ جَرْيًا على عادَتِهِم. 3307 - مسألة: (فإن لم يَكُنْ لها أقَارِبُ، اعْتُبِرَ) شِبْهُها من أَهْلِ بَلَدِها فإن عُدِمَ ذلك، اعْتُبرَ (بأَقْرَبِ النِّساءِ شِبْهًا بها) من أقْرَبِ البلادِ إليها؛ [لأنَّه لمَّا تعذَّرَ الأَقارِبُ، اعْتُبِرَ اقرَبُ النَّاسِ شِبْهًا بها] (¬2) مِن غيرِهم، كما اعْتَبَرْنا قَرابَتَها البَعِيدَ إذا لم يُوجَدِ القَرِيبُ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (فأمَّا النِّكاحُ الفاسدُ، فمتى افْتَرَقَا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

3308 - مسألة: (فإن دخل بها، استقر المسمى. [وعنه، يجب مهر المثل. وهى أصح)

أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا مَهْرَ فِيهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى. وَعَنْهُ، يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَهِىَ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الدُّخول بِطلاقٍ أو غيرِه، فلا مَهْرَ) لأَنَّ المَهْرَ يجبُ بالعَقْدِ، والعَقْدُ فاسِد، فإنَّ وُجودَه كالعَدَمِ، ولأنَّه عَقْدٌ فاسِدٌ، فيَخْلُو عن (¬1) العِوَضِ، كالبَيْعِ الفاسدِ. 3308 - مسألة: (فإن دَخَل بها، اسْتَقَرَّ الْمُسَمَّى. [وعنه، يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. وهى أصَحُّ) المنصوصُ عن أحمدَ أنَّ لها المُسَمَّى] (¬2)؛ لأَنَّ في بعضِ ألفاظِ حديثِ عائشةَ: «ولها الَّذِى أَعْطاها بما أَصَابَ مِنْها» (¬3). قال القاضى (¬4): حدَّثناه أبو بكر البَرْقانِىُّ، وأبو محمدٍ ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬4) في الأصل: «أبو بكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَلَّالُ (¬1)، بإسْنادَيْهما. وقال أبو حنيفةَ: الواجبُ الأقَلُّ من المُسَمَّى أو مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّها إن رَضِيَتْ بدُونِ مَهْرِ مِثْلِها فليس لها أكْثَرُ منه، كالعَقْدِ الصَّحيحِ، وإن كان المُسَمَّى أكْثَرَ، لم يَجِبِ الزّائِدُ (¬2) بعَقْدٍ غيرِ صَحِيحٍ. والصَّحِيحُ وُجوبُ مَهْرِ المِثْلِ. أوْمَأَ إليه أحمدُ. وهو ظاهرُ كلام الخِرَقِىِّ؛ لقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَإن أصابَها، فلها المهرُ بِما اسْتَحَلَّ مِن فرْجِها». فجعلَ لها المَهْرَ بالإِصابةِ، والإِصابةُ إنَّما تُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ، ولأَنَّ العَقْدَ ليس بمُوجِبٍ، بدَلِيلِ الخَبَرِ، وأنَّه لو طَلَّقَها قبلَ مَسِّها لم يكُنْ لها شئٌ، وإذا لم يكُنْ مُوجِبًا، كان وُجودُه ¬

(¬1) الحسن بن محمد بن الحسن بن على أبو محمد البغدادى الخلال، الإمام الحافظ المجود، محدث العراق، خرج «المسند» على «الصحيحين» جمع أبوابا وتراجم كثيرة، توفى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. سير أعلاء النبلاء 17/ 593 - 595. (¬2) في م: «الزيادة».

3309 - مسألة: (ولا يستقر بالخلوة)

وَلَا يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَسْتَقِرُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كعَدَمِه، وبَقِىَ الوَطْءُ مُوجِبًا بمُفْرَدِه، فأوْجَبَ مَهْرَ المِثْلِ، كوَطْءِ الشُّبْهَةِ، ولأَنَّ التَّسْميةَ (¬1) لو فَسَدَت لَوَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، فإذا فَسَدَ، العَقْدُ مِن أصْلِه كان أوْلَى. وقولُ أبى حنيفةَ: إنَّها رَضِيَتْ بدُونِ صَداقِها. إنَّما يَصِحُّ إذا كان العَقْدُ هو المُوجِبَ، وقد بَيَّنَّا أنَّه إنَّما يَجِبُ بالإِصابةِ، فيُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ كاملًا، كوَطْءِ الشُّبْهَةِ. 3309 - مسألة: (ولا يَسْتَقِرُّ بِالخَلْوَةِ) وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. (وقال أصْحابُنا: يَسْتَقِرُّ) قياسًا على العَقْدِ الصَّحيحِ، ونَصَّ عليه أحمدُ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ الصَّداقَ لم يَجِبْ بالعَقْدِ، وإنَّما أوْجَبَه الوَطْءُ، ولم يُوجَدْ، ولذلك لا يَتَنَصَّفُ بالطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ، فأَشْبَهَ الخَلْوَةَ بالأَجْنَبِيَّةِ، ولأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما جَعَل لها المَهْرَ بما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِها، ولم يُوجَدْ ذلك في الخَلْوَةِ بغيرِ إصابةٍ، وقد ذكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «القسمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَزَوَّجَتِ المرأةُ تَزْوِيجًا فاسِدًا، لم يَحِلَّ تَزْوِيجُها لغيرِ مَن تَزَوَّجَها حتى يُطَلِّقَها أو يَفْسَخَ نِكاحَها. فإنِ امْتَنَعَ مِن طَلاقِها، فَسَخ الحاكمُ نِكاحَه. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعىُّ: لا حاجةَ إلى فَسْخٍ ولا طَلاقٍ؛ لأنَّه نِكاخ غيرُ مُنْعَقِدٍ، أشْبَهَ النِّكاحَ في العِدَّةِ. ولَنا، أنَّه نِكاحٌ يَسوغُ فيه الاجْتِهادُ، فاحْتِيجَ في (¬1) التَّفْرِيقِ إلى إيقاعِ فُرْقَةٍ، كالصَّحيحِ المُخْتَلَفِ فيه، ولأَنَّ تَزْوِيجَها مِن غيرِ فُرْقَةٍ يُفْضِى إلى تَسْلِيطِ زَوْجَيْنِ عليها، كلُّ واحدٍ منهما يَعْتَقِدُ صِحَّةَ نِكاحِه، وفَسادَ نِكاحِ الآخَرِ، ويفارِقُ النِّكاحَ الباطِلَ مِن هذَيْنِ الوَجْهَيْنِ. فعلى هذا، متى تَزَوَّجَتْ بآخَرَ قبلَ التَّفْرِيقِ، لم يَصِحَّ الثَّانى، ولم يَجُزْ تَزْوِيجُها لثالثٍ (¬2) حتى يُطَلِّقَ الأوَّلانِ أو يُفْسَخَ نِكاحُهما. ومتى كان التَّفْرِيقُ قبلَ الدُّخولِ، فلا ¬

(¬1) في الأصل: «إلى». (¬2) سقط من: م.

3310 - مسألة: (ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة، والمكرهة على الزنى، ولا يجب معه أرش البكارة. ويحتمل أن يجب للمكرهة)

وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثلِ لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَالْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى، وَلَا يَجِبُ مَعَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ لِلْمُكْرَهَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْرَ؛ لأنَّه عَقْدٌ فاسدٌ لم يَتَّصِلْ به قَبْضٌ، فلم يَجِبْ به عِوَضٌ، كالبَيْعِ الفاسدِ، وإن كان بعدَ الدُّخولِ، فلها المَهْرُ؛ لما ذكَرْنا. وإن تَكَرَّرَ الوَطْءُ، لم يَجِبْ به أكثرُ مِن مَهْرٍ واحدٍ، بدليلِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «فلَها الْمَهْرُ بما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِها». ولأنَّه إصابَةٌ في عَقْدٍ، أشْبَهَ الإِصابةَ في العَقْدِ الصَّحِيحِ. 3310 - مسألة: (وَيَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ لِلْمَوْطوءَةِ بشُبْهَةٍ، والمُكْرَهَةِ على الزِّنى، ولا يَجِبُ معه أَرْشُ الْبَكارَةِ. ويَحْتَمِلُ أَن يَجِبَ لِلْمُكْرَهَةِ) أمَّا المَوْطوءَة بشُبْهَةٍ، فيَجِبُ لها مَهْرُ المِثْلِ. بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. ويجبُ للمُكْرَهَة على الزِّنَى، في ظاهرِ المذهبِ. وعن أحمدَ: لا يَجِبُ لها مَهْرٌ إن كانت ثَيِّبًا. اخْتارَه أبو بكرٍ. ولا يَجِبُ معه أَرْشُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَكارَةِ. وذكرَ القاضى، أنَّ أحمدَ [قدْ قال] (¬1)، في رِوايةِ أبى طالبٍ، في حَقِّ الأَجْنَبِيَّةِ إذا أكْرَهَها على الزّنى، [وهى بِكْرٌ] (¬2): فعليه المَهْرُ، وأرشُ البَكارةِ. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا مَهْرَ للمُكرَهةِ على الزِّنى. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فلها المَهْرُ بما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجها». وهو حُجَّةٌ على أبى حنيفةَ؛ فإنَّ المُكْرَهَةَ مُسْتَحَلٌّ لفَرْجِها، فإنَّ الاستِحْلالَ الفِعْلُ في غيرِ مَوْضِعِ الحِلِّ؛ لقولِه (¬3) عليه السَّلامُ: «مَا آمَنَ بالقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحارِمَهُ» (¬4). وهو حُجَّةٌ أيضًا على مَن أوْجَبَ الأَرْشَ؛ لِكَوْنِه أَوْجَبَ المَهْرَ وَحْدَه مِن غيرِ أَرْشٍ، ولأنَّه اسْتَوْفَى ما يَجِبُ بَدَلُه بالشُّبْهَةِ، وفى العَقْدِ الفاسدِ (¬5)، فَوَجَبَ بالتَّعَدِّى، كإتْلافِ المالِ، ¬

(¬1) في م: «ذكر». (¬2) سقط من: م. (¬3) في المغنى 10/ 186: «كقوله». (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 414. (¬5) بعده في المغنى: «كرها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأَكْلِ طَعامِ الغَيْرِ. ولَنا [على] (¬1) أنَّه لا يَجِبُ الأَرْشُ، أنَّه (¬2) وَطْء ضُمِنَ بالمَهْرِ، فلم يَجِبْ معه أرْش، كسائرِ الوَطْءِ، يُحَقِّقُه أنَّ المَهْرَ بَدَلُ المَنْفَعَةِ المُسْتَوْفاةِ بالوَطْءِ، وبَدَلُ المُتْلَفِ لا يَخْتَلِفُ بكَوْنِه في عَقدٍ فاسدٍ وكَوْنِه تمَحَّضَ عُدْوَانًا. و (¬3) لأَنَّ الأرْشَ يَدْخُلُ في المَهْرِ؛ لكَوْنِ الواجبِ لها مَهْرَ المِثْلِ، ومَهْرُ البكْرِ يَزِيدُ على مَهْرِ الثَّيِّبِ ببَكارَتِها، فكانتِ الزِّيادةُ في المهرِ مُقابِلَة لِما أُتْلِفَ مِن البَكارةِ، فلا يَجِبُ عِوَضُها مَرَّةً ثانيةً. يُحَقِّقُه أنَّه إذا أُخِذَ أَرْشُ البَكارَةِ مَرَّة، لم يَجُزْ أخْذُه مَرَّةً أُخْرَى، فتَصِيرُ كأنَّها مَعْدُومَةٌ، فلا يَجِبُ لها إلَّا مَهْرُ ثَيِّبٍ (¬4)، ومَهْرُ الثَّيِّبِ مع أَرْشِ البَكارةِ هو مَهْر البِكْرِ. فلا تجوزُ الزِّيادةُ عليه. فصل: ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المَوْطُوءةِ أجْنَبِيَّةً أو مِن ذَواتِ مَحارِمِه. وهو اخْتيارُ أبى بكرٍ. ومذهَبُ النَّخَعِىِّ، ومَكْحُولٍ، وأبى حنيفةَ، ¬

(¬1) تكملة من المغنى. (¬2) في م: «لأنه». (¬3) في الأصل: «أو». (¬4) في الأصل: «بنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىِّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ النِّساءَ مِن ذَواتِ مَحارِمِه لا مَهْرَ لَهُنَّ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، لأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ أصْلٍ، فلا يَجِبُ به مَهْرٌ، كاللِّواطِ، وفارَقَ مَن حَرُمَت تَحْرِيمَ المُصاهَرَةِ، فإنَّ تَحْريمَها طارِئٌ (¬1). وكذلك يَنْبَغِى أن يكونَ الحكمُ في مَن حَرُمَتْ بالرَّضاعِ؛ لأنَّه طارِئ (¬2) أيضًا. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَ مَن تَحْرُمُ ابْنَتُها لا مَهْرَ لها، كالأمِّ والبِنْتِ والأُخْتِ، ومَن تَحِلُّ ابْنَتُها، كالعَمَّةِ والخالَةِ، فلها المَهْرُ، لأَنَّ تَحْرِيمَها أَخَفُّ. ولَنا، أنَّ ما ضُمِنَ للأجْنَبِىِّ، ضُمِنَ للمُناسِبِ، كالمالِ ومَهْرِ الأمَةِ، ولأنَّه أتْلَفَ مَنْفَعَةَ بُضْعِها بالوَطْءِ، فلَزِمَه مَهْرُها، كالأَجْنَبِيَّةِ، ولأنَّه مَحَلٌّ مَضْمونٌ على غيرِه، فوَجَبَ عليه ضَمانُه، كالمالِ، وبهذا فارَقَ اللِّواطَ، فإنَّه غيرُ مَضْمُونٍ على أحَدٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «طار». وفى م: «طال». وانظر نص الإنصاف. (¬2) في الأصل: «طار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ المهرُ بالوَطْءِ في الدُّبُرِ، ولا اللِّواطِ؛ لأَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ ببَدَلِه، ولا هو إتْلافٌ لشئ، فأَشْبَهَ القُبْلَةَ والوَطْءَ دُونَ الفَرْجِ. وقال في «المحرَّرِ» (¬1): يجبُ بوَطْءِ المرأةِ في الدُّبُرِ، كالوَطْءِ في القُبُلَ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه ليس بسَبَبٍ للبَضْعِيَّةِ (¬2)، أشْبَهَ اللِّواطَ. ولا يَجِبُ للمُطاوِعَةِ على الزِّنى؛ لأنَّها باذِلَةٌ لِما يَجِبُ بَذْلُه لها، فلم يَجِبْ لها (¬3) شئٌ، كما لو أَذِنَت له في قَطْعِ يَدِها فقَطَعَها (¬4)، إلَّا أن تكونَ أمَةً، فيكونُ المهرُ لسَيِّدِها، ولا يَسْقُطُ بِبَذْلِها؛ لأَنَّ الحَقَّ لغيرِها، فأَشْبَهَ ما لو بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِها. ¬

(¬1) في الأصل: «المجرد». (¬2) في الأصل: «للتعصبة». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن طَلَّقَ امرأتَه قبلَ الدُّخولِ طَلْقَةً، وظَنَّ أنَّها لا تَبِينُ بها، فوَطِئَها، لَزِمَه مَهْرُ المِثْلِ ونِصْفُ المُسَمَّى. وقال: مالكٌ: لا يَلْزَمُه إلَّا مَهْرٌ واحدٌ. ولَنا، أنَّ المفْرُوضَ تَنَصَّف بطَلاقِه، لقولِه (¬1) سبحانه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2). ووَطْؤه بعدَ ذلك عَرِىَ عن العَقْدِ (¬3)، فَوَجَبَ به مَهْرُ المِثْلِ، كما لو عَلِمَ، أو كغيرِها، أو كما لو وَطِئَها غيرُه. فأمَّا مَن نِكاحُها باطِلٌ بالإِجْماع، كالمُزَوَّجَةِ والمُعْتَدَّةِ، إذا نَكَحَها رَجُلٌ، فوَطِئَها عالِمًا (¬4) بالحالِ وتَحْرِيمِ الوَطْء، وهى مُطاوِعَةٌ عالِمَةٌ، فلا مَهْرَ؛ لأنَّه زِنًى يُوجِبُ الحَدَّ، وهى مُطاوِعَةٌ عليه. وإن جَهِلَتْ تَحْرِيمَ ذلك، أو كَوْنَها في العِدَّةِ، فالمَهْرُ لها؛ لأنَّه وَطْءُ شُبْهَةٍ. وقد رَوَى أبو داودَ (¬5)، بإسْنادِه، أنَّ رَجُلًا يُقالُ له: بَصْرَةُ (¬6) بنُ أكْثَمَ، نَكَح امرأةً، ¬

(¬1) في م: «بقوله». (¬2) سورة البقرة 237. (¬3) في م: «الفعل». (¬4) في الأصل: «رجل عالم». (¬5) في: باب في الرجل يتزوج المرأة فيجدها حبلى، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 491، 492. وقال أبو داود: أرسلوه كلهم. وانظر ضعيف سنن أبى داود 209. (¬6) في الأصل: «نضر»، وفى م «نصر». والمثبت من سنن أبى داود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَلَدَتْ لأرْبَعةِ أشْهُر، فَجَعل النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لها الصَّداقَ (¬1). [وفى لفظٍ قال: «[لها] (¬2) الصَّداقُ] (¬3) بما اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، فإذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوها». ورَوى سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬4) عن عِمْرانَ بنِ كَثِيرٍ، أنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ الحُرِّ تَزَوَّجَ جاريةً (¬5) مِن قَوْمِه، يُقالُ لها الدَّرْداءُ (¬6)، فانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ فلَحِقَ بمُعاوِيةَ، وماتَ أبو الجارِيَةِ، فزَوَّجَها أهْلُها رَجُلًا يُقالُ له عِكْرِمَةُ، فبَلَغَ ذلك عُبَيْدَ اللَّهِ، فَقَدِمَ فخَاصَمَهُم إلى علىٍّ، فقَصُّوا عليه قِصَّتَهُم، فرَدَّ عليه المرأةَ، وكانت حامِلًا مِن عِكْرِمَةَ، فوُضِعَتْ على يَدَىْ عَدْلٍ، فقالتِ المرأةُ لعلىٍّ: أنا أحَقُّ بمالِى أو عُبَيْدُ اللَّهِ؟ قال: بل أنتِ أحَقُّ بمَالِك. قالت: فاشْهَدُوا أنَّ ما كان لى عندَ عِكْرِمَةَ مِن صَداقٍ فهو له. ¬

(¬1) بعده في م: «بما استحل من فرجها». (¬2) تكملة من سنن أبى داود. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في: باب من قال: لا نكاح إلا بولى. السنن 1/ 152، 153. (¬5) في م: «امرأة». (¬6) في الأصل: «الدوداء».

3311 - مسألة: (وإذا دفع أجنبية فأذهب عذرتها، فعليه أرش بكارتها. وقال القاضى: يجب مهر المثل)

وَإذَا دَفَعَ أَجْنَبِيَّةً فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا. وَقَالَ الْقَاضِى: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلمَّا وَضَعَتْ ما في بَطْنِها، رَدَّها على عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ الحُرِّ، وألْحَقَ الوَلَدَ بأبِيه. 3311 - مسألة: (وإذا دَفَع أَجْنَبِيَّةً فَأذْهبَ عُذْرَتَهَا، فعليهِ أَرْشُ بَكارَتِها. وقال القاضى: يجبُ مَهْرُ المِثْلِ) إذا دَفَع أجْنَبِيَّةً فأذْهَبَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُذْرَتَها، أو فَعَلَ ذلك بإصْبَعِه أو غيرِها، فعليه أرْشُ بَكارَتِها. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه إتْلافُ جُزْءٍ (¬1) لم يَرِدِ الشَّرْعُ بتَقديرِ عِوَضِه، فرُجِعَ في دِيَتِه إلى الحكُومةِ، كسائرِ ما لم يُقَدَّرْ، ولأنَّه إذا لم يَكْمُلْ به الصَّداقُ في حَقِّ الزَّوْجِ، ففى حَقِّ الأجْنَبِىِّ أوْلَى. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّ لها صَداقَ نِسائِها. اخْتارَه القاضى. وقال أحمدُ: إن تَزَوَّجَ امرأةً، فدَفَعَها هو وأخُوه فأذْهَبا عُذْرَتَها، ثم طَلَّقَها قبلَ الدُّخولِ، فعلى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّداقِ (¬2)، وعلى الأخِ [نصفُ العُقْرِ] (¬3). رُوِى ذلك (¬4) عن علىٍّ، وابنِه الحسنِ، وعبدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِل، وعبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ. فرَوَى سعيدٌ (¬5)، ثنا هُشَيْمٌ، ثنا مُغِيرَةُ، عن إبراهيمَ، أنَّ رَجُلًا كانت عندَه يَتِيمَةٌ (¬6)، فَخافَتِ امرأتُه أن يَتَزَوَّجَها، فاسْتَعانتْ نِسْوَةً، فاضْطَبَنَّها (¬7) لها، فأفْسَدَتْ عُذْرَتَها، وقالت لزَوْجِها: إنَّها فَجَرَتْ. فأُخْبِرَ علىٌّ، ¬

(¬1) في م: «حر». (¬2) في م: «المهر». (¬3) في م: «نصفه». (¬4) سقط من: م. (¬5) في: باب جامع الطلاق، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 85. أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 411، 412. (¬6) في م: «أجنبية». (¬7) في النسختين: «فضبطنها». والمثبت من سنن سعيد. واضطبن الشئ. جعله في ضِبنه، وهو ما بين الكشح والإبط.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه، بذلك، فأَرْسَلَ إلى امْرأتِه والنِّسْوةِ، فلمَّا أتَيْنَه، لم يَلْبَثْنَ أنِ اعْتَرَفْنَ [بما صَنَعْن] (¬1)، فقال للحسنِ بنِ علىٍّ: اقْضِ فيها يا حسنُ. فقال: الحَدُّ على مَن قَذَفَها، والعُقْرُ (¬2) عليها وعلى المُمْسِكاتِ. فقال علىٌّ: لو كُلِّفَتِ الإِبل طَحْنًا لَطَحَنَتْ. وما يَطْحَنُ يومئذٍ بعيرٌ. قال (¬3): ثنا هُشَيْمٌ، أنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، أخبرنا الشَّعْبِىُّ، أنَّ جَوارِىَ أرْبعًا قالتْ إحْداهنَّ: هى رَجُلٌ. وقالتِ الأُخْرَى: هى امرأةٌ. وقالتِ الثَّالثةُ: هى أبو التى زَعَمَتْ أنَّها رَجُلٌ. وقالتِ الرَّابعةُ: هى أبو التى زَعَمَتْ أنَّها امرأة. فخَطَبَتِ التى زَعَمَتْ أنَّها أبو الرَّجُلِ إلى (¬4) التى زعَمَتْ أنَّها أبو المرأةِ، فزَوَّجُوها إيَّاها، فعَمَدَتْ إليها فأفْسَدَتْها بإصْبَعِها، فرُفِعَ ذلك إلى عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ، فجَعَلَ الصَّداقَ بَيْنَهُنَّ أرْباعًا (¬5)، وألْغَى (¬6) حِصَّةَ التى أمْكَنَتْ مِن نَفْسِها، فَبَلَغ ذلك عبدَ اللَّهِ بنَ مَعْقِلٍ، فقال: لو وُلِّيتُ أنا لجَعَلْتُ الصَّداقَ على التى أفْسَدَتِ الجاريةَ وَحْدَها. وهذه قِصَصٌ (¬7) تَنْتَشِر ولم تُنْكَرْ، فكانت إجْماعًا. ولأَنَّ إتْلافَ العذْرَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «المهر». (¬3) في الباب السابق 2/ 85، 86. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «أربعًا». (¬6) في م: «ألقى». (¬7) سقط من: الأصل.

3312 - مسألة: (وإن فعل ذلك الزوج، ثم طلق قبل الدخول، لم يكن)

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِك الزَّوْجُ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَحَقٌّ بعَقْدِ النِّكاحِ، فإذا أتْلَفَه أجْنَبِىٌّ، وَجَب المَهْرُ، كمَنْفَعةِ (¬1) البُضْعِ. والقَوْلُ الأَوَّلُ هو القِياسُ، لولا ما رُوِى عن الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وأَرشُ البَكارةِ ما بينَ مَهْرِ البِكْرِ (¬2) والثَّيِّبِ. واللَّهُ أعلمُ. 3312 - مسألة: (وإنْ فَعَل ذلك الزَّوْجُ، ثُمَّ طَلَّق قبلَ الدُّخولِ، لم يَكُنْ) لها (عليه إلَّا نِصْفُ المُسَمَّى) وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: عليه الصَّداقُ كاملًا؛ لأنَّه أذْهَبَ عُذْرَتَها في نِكاحٍ صَحيحٍ، فأَشْبَهَ ما لو أذْهَبَها بالوَطْءِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. وهذه مُطَلَّقَةٌ قبلَ المَسِيسِ، فأشْبَهَ ما لو (¬3) لم يَدْفَعْها، ولأنه أتْلَفَ ما يَسْتَحِقُّ إتْلافَه بالعَقْدِ، فلم يَضْمَنْه لغيرِه، كما لو أتْلَفَ عُذْرَةَ أمَتِه. ويتَخَرَّجُ أن يَجِبَ لها الصَّداقُ كاملًا؛ فإنَّ أحمدَ قال: إذا فَعَل ذلك أجْنَبِىٌّ، عليه الصَّداقُ. ¬

(¬1) في م: «كنفقة». (¬2) بعده في الأصل: «كمنفعة البضع». (¬3) سقط من: الأصل.

3313 - مسألة: (وللمرأة منع نفسها حتى تقبض مهرها)

وَلِلْمَرأةِ مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيما إذا فَعَلَه الزَّوْجُ أوْلَى، فإنَّ ما يَجِبُ به الصَّداقُ ابْتِداءً أحَقُّ (¬1) بتَقرِيرِ (¬2) الصَّداقِ. وقد رُوِى عن أحمدَ، في مَن أخَذ امرأتَه وقَبَض عليها، أو نَظَر إليها وهى عُرْيانَةٌ: أنَّ عليه الصَّداقَ كاملًا. فهذا أوْلَى. 3313 - مسألة: (وللمَرْأةِ مَنْعُ نَفْسِها حتى تَقْبِضَ مَهْرَها) إذا كان حالًّا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ للمرأةِ أن تَمْتَنِع مِن دُخولِ الزَّوْجِ عليها، حتى يُعْطيَها مَهْرَها. فإن قال الزَّوْجُ: لا أُسَلِّمُ إليها الصَّداقَ حتى أَتسَلَّمَها. أُجْبِرَ على تَسْليمِ الصَّداقِ أوَّلًا، ثم تُجْبَرُ هى على تَسْلِيمِ نَفْسِها. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا على نحوِ مذْهَبِه في البَيْعِ. ولَنا، أنَّ في إجْبارِها على تَسْليمِ نَفْسِها أوَّلًا خَطَرَ إتْلافِ البُضْعِ، والامْتِناعِ مِن بَذْلِ الصَّداقِ، فلا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ ¬

(¬1) في الأصل: «حق». (¬2) في م: «بتقدير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في البُضْعِ، بخلافِ المَبِيعِ الذى يُجْبَرُ على تَسْليمِه قبلَ تَسْليمِ ثَمَنِه. فإذا تَقَرَّرَ ذلك، فلها النَّفقَةُ إنِ امْتَنَعَتْ لذلك، وإن كان مُعْسِرًا بالصَّداقِ؛ لأَنَّ امْتِناعَها بحَقٍّ. فإن كان الصَّداقُ مُوجَّلًا، فليس لها مَنْعُ نَفْسِها قبلَ قَبْضِه؛ لأَنَّ رِضاهَا بتَأْجِيلِه رِضًا منها بتَسْليمِ نَفْسِها قبلَ قَبْضِه، كالثَّمَنِ المُؤَجَّلِ في البَيْعِ. فإن حَلَّ المُؤَجَّلُ قبلَ تَسليمِ نَفْسِها، لم يَكُنْ لها مَنْعُ نَفْسِها أيضًا؛ لأَنَّ التَّسْلِيمَ قد وَجَبَ عليها، واسْتَقَرَّ قبلَ قَبْضِه،

فَإِنْ تَبَرَّعَتْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا، ثُمَّ أَرادَتِ الْمَنْعَ، فَهَلْ لَهَا ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يكُنْ لها أن تَمْتَنِعَ منه. فإن كان بعْضُه حالًا وبعضُه مُؤَجَّلًا، فلها مَنْعُ نَفْسِها قبلَ قَبْضِ العاجِلِ دُونَ الآجِلِ. فإن سَلَّمَتْ نَفْسَها قبلَ قَبْضِه، ثم أرادَتْ مَنْعَ نَفْسِها حتى تَقْبِضَه، فهل لها ذلك؟ على وَجْهَيْنِ. وقد تَوَقَّفَ أحمدُ، رَحِمَهُ اللَّهِ، عن الجوابِ في هذه المسألةِ. وذهبَ أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ بَطَّةَ، وأبو إسْحاقَ ابنُ شاقْلَا، إلى أنَّها ليس لها ذلك. وهو قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لأَنَّ التَّسْليمَ استَقَرَّ به العِوَضُ برِضَا المُسَلِّمِ، فلم يكُنْ لها أن تَمْنَعَ نَفْسَها بعدَ ذلك، كما لو سَلَّمَ البائعُ المَبِيعَ. وذهبَ أبو عبدِ اللَّه ابنُ حامدٍ، إلى أنَّ لها ذلك. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه تَسْلِيمٌ يُوجِبُه عليها عَقْدُ (¬1) النِّكاحِ، فَمَلَكَتْ أن تَمْتَنِعَ منه قبلَ قَبْضِ صَداقِها، كالأوَّلِ (¬2). فأمَّا إن وَطِئَها مُكْرَهَةً، لم يَسْقُطْ به (¬3) حَقُّها مِنَ الامْتِناعِ؛ لأنَّه حَصَل بغير رِضاها، فهو كالمَبِيعِ إذا أخَذَه المُشْتَرِى مِن البائِعِ كُرْهًا. فإن أخَذَتِ الصَّداقَ فوَجَدَتْ به عَيْبًا، فلها مَنْعُ نَفْسِها حتى يُبَدِّلَه (¬4) أو يُعْطِيَها أرْشَه؛ لأَنَّ صَداقَها صحيحٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الأول». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «يبذله».

3314 - مسألة: (وإن أعسر بالمهر قبل الدخول، فلها الفسخ)

وَإِنْ أَعْسَرَ بالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا الْفَسْخُ، وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْدَهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم تَعْلَمْ عَيْبَه حتى سَلَّمَتْ نَفْسَها، خُرِّجَ على الوَجْهَيْن فيما إذا سَلَّمَتْ نَفْسَها قبلَ قَبْضِ صَداقِها ثم بَدَا لها أن تَمْتَنِعَ. والأَولَى ههُنا أنَّ لها الامْتِناعَ؛ لأنَّها إنَّما (¬1) سَلَّمَتْ نَفْسَها ظنا أنَّها قد قَبَضَتْ صَداقَها، بخِلافِ المسْألَةِ المَقِيسِ عليها. وكلُّ مَوْضعٍ قُلْنا: لها الامْتِناعُ مِن تَسْليمِ نَفْسِها. فلها السَّفَرُ بغيرِ إذْنِ، الزَّوْجِ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ للزَّوْجِ عليها حَقُّ الحَبْسِ، فصارَت كمَن لا زَوْجَ لها. ولو بَقِىَ منه دِرْهَمٌ، كان كبَقاءِ جميعِه؛ لأَنَّ كلَّ مَن ثَبَت له الحَبْسُ بجميعِ البَدَلِ، ثَبَت له الحَبْسُ ببَعْضِه، كسائرِ الدُّيونِ. 3314 - مسألة: (وَإن أعْسَرَ بالمَهْرِ قبلَ الدُّخولِ، فلها الفَسْخُ) إذا كان حَالًّا. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ الوُصولُ إلى عِوَضِ العَقْدِ قبلَ ¬

(¬1) في الأصل: «إن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْليمِ المُعَوَّضِ (¬1)، فكان لها الفَسْخُ، كما لو أعْسَرَ المُشْتَرِى بالثَّمَنِ قبلَ تَسْليمِ المَبِيعِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، ليس لها الفَسْخُ. اخْتارَه ابنُ حامدٍ. قال شيخُنا (¬2): وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه دَيْنٌ، فلم يُفسَخْ بالإِعْسارِ به، كالنَّفقَةِ الماضِيَةِ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا يَصِحُّ قياسُه على الثَّمَنِ في المَبِيعِ؛ لأَنَّ الثَّمَنَ كلُّ (¬3) مقْصُودِ البائعِ، والعادَةُ تَعْجِيلُه، والصَّداقُ فَضْلَةٌ ونِحْلَةٌ، ليس هو المقْصودَ في النِّكاحِ، ولذلك لا يَفسُدُ ¬

(¬1) في م: «بعوض». (¬2) في: المغنى 11/ 368. (¬3) في النسختين: «كان». وانظر المغنى الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحُ بفَسادِه، ولا بتَرْكِ ذِكْرِه، والعادَةُ تَأْخِيرُه، ولأَنَّ أكْثَرَ مَن يَشْتَرِى بثَمَنٍ حالٍّ يكونُ مُوسِرًا به، وليس الأكْثرُ أنَّ مَن يتَزَوَّجُ بمهرٍ يكونُ مُوسِرًا به. وفيه وَجْهٌ ثالثٌ، أنَّه إن أعْسَرَ قبلَ الدُّخولِ، فلها الفَسْخُ، كما لو أفْلَسَ المُشْتَرِى والمَبِيعُ بحالِه. فإن كان بعدَ الدُّخولِ، لم تَمْلِكِ (¬1) الفَسْخَ؛ لأَنَّ المعْقُودِ عليه قد اسْتَوفِىَ، فأَشْبَهَ ما لو أفْلَسَ المُشْتَرِى بعدَ تَلَفِ المَبِيعِ أو بعْضِه. وللشافعىِّ نحوُ هذه الوُجوهِ. وقيلَ: إذا أعْسَرَ بعدَ الدُّخولِ، انْبَنَى على مَنْعِ نَفْسِها، إن قُلْنا: لها مَنْعُ نَفْسِها [بعدَ الدُّخولِ] (¬2). فلها الفَسْخُ كما قبلَ الدُّخولِ. وإن قُلْنا: ليس لها مَنْعُ نَفْسِها. فليس لها الفَسْخُ، كما لو أفْلَسَ بدَيْنٍ آخَرَ. ¬

(¬1) في م: «يملك». (¬2) في م: «بالدخول».

3315 - مسألة: (ولا يجوز الفسخ)

وَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3315 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الفَسْخُ) في ذلك كلِّه (إلَّا بِحُكْم حاكمٍ) لأنَّه فَسْخ مُجْتَهَدٌ فيه، مُخْتَلَفٌ فيه، فأشبَهَ الفَسْخَ للعُنَّةِ، والفَسْخَ للإِعْسار بالنَّفقَةِ، ولأنَّه لو فُسِخَ بغيرِ حُكْمٍ، اعْتقَدَتْ (¬1) أنَّ النِّكاحَ انْفَسَخَ وأُبَيحَ لها أن تَتَزَوَّجَ، والزَّوْجُ الأَوَّلُ (¬2) يَعْتَقِدُ أنَّها زَوْجَتُه، لم يَنْفسِخْ نِكاحُها، فيَصِيرُ للمرأةِ زَوْجانِ؛ كلُّ واحدٍ يَعْتَقِدُ حِلَّها له ¬

(¬1) في الأصل: «اعتقد». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَحْرِيمَها على الآخَرِ، وهذا لا يَجوزُ في الإِسْلامِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَجوزُ بغيرِ حُكْمِ حاكمٍ، كخِيَارِ المُعْتَقَةِ تحتَ العَبْدِ. والصَّحِيحُ الأوَّل، ولا يَصِحُّ قِياسُه على المُعْتَقَةِ؛ لأَنَّ ذلك مُتَّفَقٌ عليه، وهذا مُخْتَلَفٌ فيه. واللَّهُ تعالى أعْلمُ.

باب الوليمة

بَابُ الْوَلِيمَةِ وَهِىَ اسْمٌ لِدَعْوَةِ الْعُرْسِ خَاصَّةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الوليمة (وهى اسْمٌ لدَعْوَةِ العُرْسِ خاصَّةً) لا يقَعُ هذا الاسْمُ على غيرِه. كذلك حَكاه ابنُ عبدِ البَرِّ عن ثَعْلَبٍ وغيرِه مِن أهلِ اللُّغةِ (¬1). وقال بعضُ أصْحابِنا وغيرُهم: إنَّها تَقَعُ على كلِّ طعامٍ لسُرورٍ حادِثٍ، إلَّا أنَّ اسْتعمالَها في طعامِ العُرْسِ أكثرُ. وقولُ أهلِ اللُّغةِ أقْوَى؛ لأنَّهم أهلُ ¬

(¬1) انطر: الاستذكار 16/ 353، 360، والتمهيد: 10/ 178، 182. فقد حكاه عن الخليل وأهل اللغة، والذى حكاه عن ثعلب هو تفسيره لكلمة «المأدبة». ولم نجده عن ثعلب في مظانه من كتب اللغة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللِّسانِ، وهم أعْرَفُ بمَوْضوعاتِ اللُّغةِ، وأعلمُ بلسانِ العربِ. والعَذِيرةُ اسْمٌ لدَعْوَةِ الخِتَانِ، وتُسَمَّى الإِعْذارَ. والخُرْسُ والخُرْسَة عندَ الوِلادةِ. والوَكيرةُ (¬1) دَعْوَةُ البِناءِ (¬2). يُقالُ: وكَّر (¬3) وَخرَّسَ. مُشَدَّدٌ. والنَّقِيعةُ عندَ قُدومِ الغائبِ، يُقالُ: نَقَع، مُخفَّفٌ. والعَقِيقَةُ الذَّبْحُ لأجْلِ الوَلَدِ. ¬

(¬1) في م: «الذكيرة». (¬2) في الأصل: «النساء». (¬3) في م: «ذكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشَّاعرُ (¬1): كلّ الطَّعامِ تَشْتَهِى رَبِيعَهْ … الخُرْس والإِعْذار والنَّقِيعَهْ والحِذاقُ: الطَّعامُ عندَ حِذاقِ الصَّبِىِّ (¬2). والمَأْدُبَةُ: اسمٌ لكلِّ دعوةٍ، لسَبَبٍ كانت أو لغيرِ سَبَبٍ. والآدِبُ: صاحِبُ المَأْدُبَةِ. قال الشاعرُ (¬3): نحنُ في الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلى … لا تَرَى (¬4) الآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرْ والجَفَلَى في الدَّعوَةِ. أن يَعُمَّ الناسَ بدَعْوتِه. والنَّقَرَى: هو أن يَخصَّ قومًا دونَ قومٍ. ¬

(¬1) الرجز في: الجمهرة 3/ 447، واللسان والتاج (ع ذ ر)، (خ ر س)، (ن ق ع). (¬2) أى عند ختمه القرآن. (¬3) هو طرفة بن العبد. والبيت في ديوانه 65. (¬4) في الأصل: «نرى»، وفى م: «يرى». والمثبت من ديوانه.

3316 - مسألة: (وهى مستحبة)

وَهِىَ مُسْتَحَبَّةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3316 - مسألة: (وهى مُسْتَحَبَّةٌ) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ الوَلِيمةَ في العُرْسِ سُنَّةٌ مَشْروعَةٌ؛ لِما رُوِىَ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ بها وفَعَلَها، فقال لعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، حينَ قال له: تَزَوَّجْتُ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». وقال أنَسٌ: ما أوْلَمَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على امرأةٍ من نِسائِه ما أوْلَمَ على زَيْنَبَ، جَعَل يَبْعَثُنِى فأدْعُو له النَّاسَ، فأطْعَمَهُم لَحْمًا وخُبْزًا حتى شَبِعُوا. وقال أنَسٌ: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اصْطَفى صَفِيَّةَ لنَفْسِه، فخَرَج بها حتى بَلَغ (¬1) ثَنِيَّةَ الصَّهْباءِ (¬2)، فَبَنَى بها، ثم صَنَع حَيْسًا في نِطْعٍ ¬

(¬1) بعده في م: «بها». (¬2) الصهباء: اسم لموضع بينه وبين خيبر روحة. معجم البلدان 3/ 437.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَغِيرٍ (¬1)، ثم قال: «ائْذَنْ لمَنْ حَوْلَكَ». فكانتْ وَليمةَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على صَفِيَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ (¬2). ويُسْتَحَبُّ أن يُولِمَ بشَاةٍ؛ لحديثِ عبدِ الرحمنَ بنَ عَوْفٍ. وقال أنَسٌ: ما أوْلَمَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على شئٍ مِن نِسائِه ما أوْلمَ على زينبَ، أوْلَمَ بشاةٍ. لفظُ البُخارِىِّ. فإن أوْلَمَ بغيرِ هذا، ¬

(¬1) الحيس: الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن. وقد يجعل عوض الأقط والفتيت. والنطع: وعاء من أدَم. (¬2) الأول تقدم تخريجه في: 20/ 85، 86. والثانى، أخرجه البخارى، في: باب: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. . .}، من كتاب التفسير من سورة الأحزاب، وفى: باب الوليمة ولو بشاة، وباب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 6/ 148، 149، 7/ 31. ومسلم، في: باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، وباب زواج زينب بنت جحش. . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1046، 1409. كما أخرجه أبو داود، في: باب في استحباب الوليمة عند النكاح، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 307. وابن ماجه، في: باب الوليمة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 165. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 172، 227. والثالث، أخرجه البخارى، في: باب هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها، من كتاب البيوع، وفى: باب من غزا بصبى للخدمة، من كتاب الجهاد، وفى: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى، وفى: باب الخبز المرقق. . .، وباب الأقط، وباب الحيس، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 3/ 110، 4/ 43، 5/ 171، 172، 7/ 91، 94، 99. ومسلم، في: باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1044 - 1046. وهو عند أبى داود، وابن ماجه في الموضع السابق. وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الوليمة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 3. والنسائى، في: باب البناء في السفر، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 109. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 110.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جازَ، فقد أوْلَمَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على صَفِيَّةَ بحَيْسٍ، وأوْلَمَ على بعضِ نِسائِه بمُدَّيْنِ مِن شَعِيرٍ (¬1). فصل: وليستْ واجبةً في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: هى واجبةٌ، لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ بها عبدَ الرحمنِ بنَ عَوْفٍ، ولأَنَّ الإِجابةَ إليها واجبةٌ، فكانت واجِبَةً (¬2). ولَنا، أنَّها طعامٌ لسُرورٍ حادثٍ، فأَشْبَهَ سائِرَ الأطْعِمَةِ، والخبرُ محمولٌ على الاسْتِحْبابِ؛ لِما ذكَرْناه، وكَوْنِه أمَرَ بشَاةٍ، ولا خِلافَ في أنَّها لا تَجِبُ، وما ذكَرُوه مِن المعنى لا أصْلَ له، ثم هو باطِلٌ بالسَّلامِ، ليس هو بواجبٍ، وإجابةُ المُسَلِّمَ واجبةٌ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى عن صفية بنت شيبة، في: باب من أو لم بأقل من شاة، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 31. والإمام أحمد عن عائشة، في: المسند 6/ 113. وانظر الكلام عن الحديث في: فتح البارى 9/ 238 - 240. (¬2) سقط من: م.

3317 - مسألة: (والإجابة إليها واجبة، إذا عينه الداعى المسلم فى اليوم الأول)

وَالإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ، إِذَا عَيَّنهُ الدَّاعِى الْمُسْلِمُ فِى الْيَوْمِ الأَوَّلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3317 - مسألة: (والإِجَابَةُ إليها وَاجِبَةٌ، إذا عَيَّنَهُ الدَّاعِى المُسْلِمُ فِى اليوم الأَوَّلِ) قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): لا خِلافَ في وجُوبِ الإِجابةِ إلى الوَلِيمَةِ لمَن دُعِىَ إليها، إذا لم يكُنْ فيها لَهْوٌ. وبه يقول مالكٌ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، والعَنْبَرِىُّ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه. ومِن أصْحاب الشافعىِّ مَنْ قال: هى مِن فُروضِ الكِفاياتِ؛ لأَنَّ الإِجابةَ إكْرامٌ ومُوالَاةٌ، فهى كرَدِّ السَّلامِ. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا دُعِىَ أحَدُكُمْ إلَى الوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِها». وفى لفظٍ قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أجِيبُوا هذِهِ الدَّعْوَةَ إذا دُعِيتُمْ إليها». وقال أبو هُرَيْرَةَ: شَرُّ الطَّعامِ طَعامُ (¬2) الوليمةِ؛ يُدْعَى لها الأغْنياءُ ويُتْرَكُ الفقراءُ، ومَن لم يُجِبْ فقد ¬

(¬1) في: التمهيد 10/ 178. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عصَى اللَّهَ ورسولَه. روَاهُنَّ البُخَارِىُّ (¬1). وهذا عامٌّ. و (¬2) معنى قولِه: شرُّ الطَّعامِ طَعامُ الوَلِيمَةِ -واللَّهُ أعلمُ- أىْ طعامُ الوَليمةِ التى يُدْعَى لها الأغْنِياءُ ويُتْرَكُ الفُقراءُ، ولم يُرِدْ أنَّ كلَّ وَلِيمةٍ طَعامُها شَرُّ الطَّعامِ؛ فإنَّه ¬

(¬1) الأول أخرجه البخارى، في: باب حق إجابة الوليمة. . .، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 31. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1052. وأبو داود، في: باب ما جاء في إجابة الدعوة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 306. وابن ماجه، في: باب إجابة الداعى، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 616. والدارمى، في: باب إجاب الوليمة، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 143. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الوليمة، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 546. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 20، 22، 37، 101. والثانى أخرجه البخارى، في: باب إجابة الداعى في العرس وغيرها، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 32. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1053. والترمذى، في: باب ما جاء في إجابة الداعى، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 10. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 68، 127. والثالث أخرجه البخارى، في: باب من ترك الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 32. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1054، 1055. وأبو داود، في: باب ما جاء في إجابة الدعوة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 306. وابن ماجه، في: باب إجابة الداعى، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 616. والدارمى، في: باب في الوليمة، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 105. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الوليمة، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 546. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 241، 267، 405، 406، 494. (¬2) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أرادَ ذلك لَما أمرَ بها، ولا ندَبَ إليها، ولا أمرَ بالإِجابةِ إليها، ولا فَعَلَها، ولأَنَّ الإِجابةَ تجِبُ بالدَّعْوةِ، فكلُّ مَن دُعِىَ فقد وَجَبَتْ عليه الإِجابةُ. فصل: وإنَّما تجبُ الإِجابةُ على مَن عُيِّنَ بالدَّعوةِ، بأنْ يَدْعُوَ رَجُلًا بعَيْنِه، أو جماعةً مُعَيَّنِينَ.

3318 - مسألة: (فإن دعا الجفلى، كقوله: يا أيها الناس تعالوا إلى الطعام)

فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى، كَقَوْلِهِ: أيُّهَا النَّاسُ تَعَالَوْا إِلَى الطَّعَامِ. أَوْ دَعَاهُ فِيمَا بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3318 - مسألة: (فَإنْ دَعا الْجَفَلَى، كقَوْلِه: يا أَيُّها النَّاسُ تَعالَوْا إلى الطَّعامِ) أَوْ يَقولُ الرَّسولُ: اُمِرْتُ أن أدْعُوَ كُلَّ مَن لَقِيتُ -أو- مَن (¬1) شِئْتُ. لم تجبِ الإِجابةُ، ولم تُسْتَحَبَّ؛ لأنَّه لم يُعَيَّنْ بالدَّعوةِ، فلم تَتَعَيَّنْ عليه الإِجابةُ، ولأنَّه غيرُ منْصُوصٍ عليه، ولا يَحْصُلُ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِى بتَرْكِ إجابَتِه، وتجوزُ الإِجابةُ بهذا؛ لدُخولِه في عُمومِ الدُّعاءِ. 3319 - مسألة: (أو دَعاه فيما بعدَ اليَوْمِ الأَوَّلِ) إذا صُنِعتِ الوَلِيمةُ أكثرَ مِن يومٍ، جازَ، فقد رَوَى الخَلَّالُ بإسْنادِه عن أُبَىٍّ، أنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

أَوْ دَعَاهُ ذِمِّىٌّ، لَمْ تَجِبِ الإِجَابَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْرَسَ فدَعا الأَنْصارَ ثمانيةَ أيامٍ. فمتى دَعا فيما بعدَ اليومِ الأَوَّلِ؛ فإن كان في اليومِ الثَّانى اسْتُحبَّتِ الإِجابة ولم تجبْ، وفى اليومِ الثَّالثِ لا تُستحبُّ. قال أحمدُ: الأَوَّلُ يجبُ، والثَّانى يُستحبُّ، والثَّالث فلا. وهكذا مذهبُ الشافعىِّ. وقد رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الْوَلِيمَةُ أوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، والثَّانِى مَعْرُوفٌ، والثَّالِث رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ». روَاه أبو داودَ، وابنُ ماجه، وغيرُهُما (¬1). ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه دُعِىَ إلى وَليمةٍ (¬2) مَرَّتَيْنِ فأجابَ، فَدُعِىَ لثالثةٍ، فحَصَبَ الرَّسولَ. روَاه الخَلَّالُ (¬3). فصل: (فإن دَعاه ذِمِّىٌّ، لم تَجِبِ الإِجابةُ) قاله (¬4) أصْحابُنا؛ لأَنَّ الإِجابةَ للمُسْلمِ للإِكْرامِ والمُوالاةِ وتَأْكيدِ المَوَدَّةِ والإِخاءِ، فلا تجبُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في كم تستحب الوليمة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 307. وابن ماجه، في: باب إجابة الداعى، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 617. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الوليمة، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 4. والدارمى، في: باب في الوليمة، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 105. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 28، 371. وضعفه الحافظ في التلخيص 3/ 195، 196. والألبانى في الإرواء 7/ 8 - 11. (¬2) بعده في م: «عرس». (¬3) وأخرجه أبو داود. في: باب في كم تستحب الوليمة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 307. والدارمى، في: باب في الوليمة، من كتاب الأطعمة. الدارمى 2/ 105. وضعفه الألبانى. ضعيف سنن أبى داود 369. (¬4) في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُسْلمِ للذِّمِّىِّ، ولأنَّه لا يَأْمَنُ اخْتِلاطَ طَعامِهِمْ بالحَرامِ والنَّجاسةِ، وتجوزُ إجابَتُهم؛ لِما روَى أنَسٌ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعاه يَهُودِىٌّ إلى خُبْزِ شعيرٍ (¬1)، وإهَالةٍ سَنِخَةٍ (¬2)، فأجابَه. ذكَرَه الإِمامُ أحمدُ في «الزُّهْدِ» (¬3). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) الإهالة: الدسم ما كان، وسنخة: متغيرة. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 87. وهو في الزهد 5.

3320 - مسألة: (وسائر الدعوات والإجابة إليها مستحبة غير واجبة)

وَسَائِرُ الدَّعَوَاتِ والإِجَابَةُ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3320 - مسألة: (وَسائرُ الدَّعَواتِ والإِجَابَةُ إليها مُسْتَحَبَّةٌ غيرُ واجِبَةٍ) لِمَا فِيهَا مِن إطْعامِ الطَّعامِ، وكذلكَ الإِجابَةُ إليها. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى حنيفةَ. وقال العَنْبَرِىُّ: تجبُ الإِجابةُ إلى كلِّ دعوةٍ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا دَعا أحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كان أو غيرَ عُرْسٍ». روَاه أبو داودَ (¬1). ولَنا، أنَّ الصَّحيحَ مِن السُّنَّةِ إنَّما وردَ في إجابةِ الدَّاعِى إلى الوَلِيمةِ، وهى الطَّعامُ في العُرْسِ خاصَّةً، كذلك قال الخليلُ، وثَعْلَبٌ (¬2)، وغيرُهما مِن أهلِ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في إجابة الدعوة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 306. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1053. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 146. (¬2) انظر ما تقدم في صفحة 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللُّغةِ. وقد صرحَ بذلك في بعضِ رِواياتِ ابنِ عمرَ، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «إذا دُعِىَ أحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). وقال عثمانُ بنُ أبى العاصِ: كُنَّا لا نَأْتِى الخِتانَ على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نُدْعَى إليه. روَاه الإِمامُ أحمدُ، في «المُسْنَدِ» (¬2). ولأَنَّ التَّزْوِيجَ يُسْتَحَبُّ إعْلانُه، وكثرةُ الجمعِ فيه، ¬

(¬1) في: باب إجابة الداعى، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 616. كما أخرجه مسلم، في: باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1053. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 22. (¬2) 4/ 217.

3321 - مسألة: (وإذا حضر وهو صائم صوما واجبا، لم يفطر،

وَإذَا حَضَرَ وَهُوَ صَائِمٌ صَوْمًا وَاجِبًا، لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّصْويتُ، والضَّرْبُ بالدُّفِّ، بخلافِ غيرِه. فأمَّا الأمْرُ بالإِجابةِ إلى غيرِه، فمحمولٌ على الاسْتِحْبابِ، بدليلِ أنَّه لم يَخُصَّ به دَعْوةً ذاتَ سَبَبٍ دونَ غيرِها، وإجابةُ كلِّ داعٍ مُسْتحبَّةٌ؛ لهذا الخَبَرِ. وقد روَى البَرَاءُ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ بإجابةِ الدَّاعِى. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأَنَّ فيه (¬2) جَبْرَ قَلْبِ الدَّاعِى، وتَطْيِيبَ قَلْبِه، وقد دُعِىَ أحمدُ إلى خِتانٍ، فأجابَ وأكلَ. فأمَّا غيرُ دعوةِ العُرْسِ في حَقِّ فاعِلِها، فليست لها فَضِيلةٌ تَخْتَصُّ بها؛ لعدَمِ وُرودِ الشَّرْعِ بها، وهى بمنزلةِ الدَّعوةِ لغيرِ سَبَبٍ حادثٍ، فإذا قَصَد فاعِلُها شُكْرَ نِعْمةِ اللَّه عِليه، وإطْعامَ إخْوانِه، وبَذْلَ طَعامِه، فله أجْرُ ذلك، إن شاءَ اللَّهُ تعالَى. 3321 - مسألة: (وَإذَا حَضَر وهو صائمٌ صومًا وَاجِبًا، لم يُفْطِرْ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 7. (¬2) في م: «ولأنه».

كَانَ مُفْطِرًا، اسْتُحِبَّ لَهُ الأَكْلُ، وإِنْ أَحَبَّ دَعَا، وَانْصَرَفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان نَفْلًا أو كان مُفْطِرًا، اسْتُحِبَّ له الأَكْلُ، وإن أحَبَّ دَعا وانْصَرَفَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الواجبَ الإِجابةُ إلى الدعوةِ؛ لأنَّها الذى أمَرَ به، وتوعَّدَ على تَرْكِه، أمَّا الأَكْلُ فغيرُ واجبٍ، صائمًا كان أو مُفْطِرًا. نَصَّ عليه أحمدُ. لكنْ إن كان صَوْمُه واجبًا، أجابَ ولم يُفْطِرْ؛ لأَنَّ الفِطْرَ مُحَرَّمٌ، والأكْلَ غيرُ واجبٍ. وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا دُعِىَ أحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإنْ كان صَائِمًا فَلْيَدْعُ، وإنْ كان مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ». روَاه أبو داودَ (¬1). وفى روايةٍ «فَلْيُصَلِّ». يعنى: يَدْعُو. ودُعِىَ ابنُ عمرَ إلى وليمةٍ، فحضَرَ ومَدَّ يدَه، وقال: بسمِ اللَّهِ. ثم قَبضَ يدَه، وقال: كُلوا، فإنِّى صائمٌ (¬2). وإن كان صائمًا تَطَوُّعًا، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 5. وهو عند الترمذى في 3/ 308 وليس 1/ 308. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب يجيب المدعو صائما. . .، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 263. وابن أبى شيبة، في: باب من كان يقول إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب، من كتاب الصيام. المصنف 3/ 64.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتُحِبَّ له الأَكلُ؛ لأَنَّ له الخُروجَ مِن الصَّومِ، ولأَنَّ فيه إدْخالَ السُّرورِ على قلبِ أخِيه المُسْلمِ. وقد رُوِى أنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في دَعْوةٍ، ومعه جماعةٌ، فاعْتَزلَ رجلٌ مِن القوم ناحيةً، فقال: إنِّى صائمٌ. فقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «دَعاكُمْ أَخُوكُم، وتَكَلَّفَ لَكُمْ، كُلْ، ثمَّ صُمْ يَوْمًا مَكانَهُ إن شِئْتَ» (¬1). وإن أحَبَّ إتْمامَ الصِّيامِ جازَ؛ لِما ذكَرْنا من حديثِ ابنِ عمرَ وفِعْلِه، ولكنْ يَدْعو لهم ويُبارِكُ، ويُخْبرُهُم بصِيامِه؛ ليَعْلَموا عُذْرَه، فتزولَ عنه التُّهْمَةُ في تَرْكِ الأكلِ. فقد رَوَى أبو حفصٍ، بإسْنادِه عن عثمانَ بنِ عَفَّانَ (¬2)، أنَّه أجابَ عبدَ المُغيرَةِ وهو صائمٌ، فقال: إنِّى صائمٌ، ولكنْ أحْبَبْتُ أن أُجِيبَ الدَّاعِىَ، فأدْعُوَ بالبَركةِ. وعن عبدِ اللَّهِ قال: إذا عُرِضَ على أحَدِكُم الطَّعامُ وهو صائمٌ فَلْيَقُلْ: إنِّى صائمٌ. وإن كان مُفْطِرًا فالأَوْلَى له الأكلُ؛ لأنَّه أبلغُ في إكْرامِ الدَّاعِى، وجَبْرِ قَلْبِه. ولا يجبُ عليه الأكلُ. وقال أصحابُ الشَّافعىِّ: فيه وَجْهٌ، أنَّه يجبُ عليه الأكلُ؛ لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ». ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 4/ 279. وحسنه الألبانى، في: الإرواء 7/ 12 - 14. (¬2) في الأصل: «عثمان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ المقْصودَ منه الأكلُ، فكان واجبًا كالإِجابةِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا دُعِىَ أحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإن شَاءَ أَكَلَ وَإن شَاءَ تَرَكَ» (¬1). حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّه لو وَجَبَ الأكلُ، لَوجبَ على المُتَطَوِّعِ بالصَّومِ، فلمَّا لم يَلْزَمْه الأكلُ، لم يَلْزَمْه إذا كان مُفْطِرًا. وقولُهم: المقْصودُ الأكلُ. قُلْنا: بل المقْصودُ الإِجابةُ، ولذلك وَجبَتْ على الصَّائمِ الذى لم يَأْكُلْ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعا، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 279.

3322 - مسألة: (وإن دعاه اثنان، أجاب أولهما)

فإِن دَعَاهُ اثنَانِ، أَجَابَ أَوَّلهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3322 - مسألة: (وَإن دَعاه اثنان، أجابَ أوَّلَهما) لأَنَّ إجابتَه وَجَبتْ حينَ دَعاه، فلم يَزُلِ الوُجوبُ بدُعاءِ الثَّانِى، ولم تجبْ إجابةُ الثَّانى؛ لأنَّها غيرُ مُمْكِنَةٍ مع إجابةِ الأَوَّلِ، فإنِ اسْتَوَيا، أجابَ أقْرَبَهُما منه (¬1) ¬

(¬1) سقط من: م.

فَإِنِ اسْتَوَيَا، أجَابَ أَدْيَنَهُمَا، ثُمَّ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابًا؛ لِما روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا اجْتَمَعَ داعيانِ، فَأجِبْ أقْرَبَهُما بَابًا؛ فَإنَّ أقْرَبَهُما بابًا (¬2) أقْرَبُهُمَا جِوَارًا، فَإن سَبَقَ أحَدُهُما، فَأجبِ الَّذى سَبَقَ». ورَوَى البُخَارِىُّ (¬3) عن عائشةَ، قالت: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ لى جارَيْنِ، فإلى أيِّهما أُهْدِى؟ قال: «إلَى (¬4) أَقْرَبِهِما مِنْكِ بابًا». ولأَنَّ هذا من أَبْوابِ البِرِّ، فقُدِّمَ بهذه المعانى. فإنِ اسْتَوَيا، أجابَ أقْرَبَهُما رَحِمًا؛ لِما فيه مِن صِلَةِ الرَّحِمِ (فإنِ اسْتَوَيا، أجابَ أدْيَنَهما) فإنِ اسْتَوَيا (¬5)، أقْرَعَ بينَهما؛ لأَنَّ القُرْعةَ تُعَيِّنُ المُسْتَحِقَّ عندَ اسْوءِ الحُقوقِ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في: باب إذا اجتمع داعيان أيهما أحق، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 310. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 408. وضعف الحافظ إسناده في التلخيص 3/ 196. وانظر الإرواء 7/ 11. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب أى الجوار أقرب، من كتاب الشفعة، وفى: باب بمن يبدأ بالهدية، من كتاب الهبة، وفى: باب حق الجوار في قرب الأبواب، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 3/ 115، 208، 8/ 13. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 175، 187، 193، 239. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) بعده في م: «إجابة».

3323 - مسألة: (وإن علم أن فى الدعوة منكرا، كالزمر والخمر، وأمكنه الإنكار، حضر وأنكر، وإلا لم يحضر)

وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِى الدَّعْوَةِ مُنْكَرًا، كَالزَّمْرِ وَالْخَمْرِ، وَأَمْكَنَهُ الإِنْكَارُ، حَضَرَ وَأَنكَرَ، وَإِلَّا لَمْ يَحْضُرْ. وَإِنْ حَضَرَ، فَشَاهَدَ الْمُنْكَرَ، أَزَالَهُ، وَجَلَسَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ، انْصَرَفَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3323 - مسألة: (وَإن عَلِمَ أَنَّ في الدَّعْوَةِ مُنْكَرًا، كالزَّمْرِ والخَمْرِ، وأَمْكَنَهُ الإِنْكَارُ، حَضَرَ وأنْكَرَ، وإلَّا لم يَحْضُرْ) مَن دُعِىَ إلى وَليمةٍ فيها مَعْصِيَة، كالخَمْرِ والزَّمْرِ والعُودِ ونحوِه، فأمْكَنَه إزالةُ المُنْكَرِ، لَزِمَه الحُضُورُ والإِنْكارُ؛ لأنَّه يُؤدِّى فَرْضَيْنِ؛ إجابةَ أخيه المسلمِ، وإزالةَ المُنْكَرِ. وإن لم يَقْدِرْ على الإِنْكارِ، لم يحضُرْ. فإن لم يَعْلَمْ بالمُنْكَرِ حتى حضرَ، أزالَه، فإن لم يُمْكِنْه، انْصرَفَ. ونحوَ هذا قال الشافعىُّ. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ: أمَّا اللَّهْوُ الخَفِيفُ، كالدُّفِّ والكَبَرِ (¬1)، فلا يَرْجِعُ. وقالَه ابنُ القاسمِ. وقال أصْبَغُ: يَرْجِعُ. وقال أبو حنيفةَ: إذا وجدَ اللَّعِبَ، فلا بَأَسَ أن يَقْعُدَ فيأْكُلَ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: إن كان ممَّن يُقْتَدَى به، فأحَبُّ إلىَّ أن يَخْرُجَ. وقال اللَّيْثُ: إذا كان فيها الضَّربُ بالعُودِ، فلا يَنْبَغِى له أن يَشْهَدَها. والأصلُ في هذا ما روَى سَفِينَةُ، أنَّ رجُلًا أضافَه علىٌّ، فَصنعَ له طعامًا، فقالتْ (¬2) فاطمةُ (¬3): لو دعَوْنا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأكلَ معنا. فدعَوه، فجاءَ، فَوضَعَ يدَه على عِضَادَتَى البابِ، فرأى قِرامًا في ناحيةِ البيتِ، فرجَعَ، فقالتْ فاطمةُ لعلىٍّ: الحَقْه، فقل له: ما رَجَعَكَ يا رسولَ اللَّهِ؟ فقال: «إنَّهُ لَيْس لِى أن أدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا» (¬4). حديثٌ حسنٌ. ورَوَى أبو حفص، بإسْنادِه، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَن كان يُومِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فلا يَقْعُدْ على مائِدَةٍ يُدَارُ عليها الْخَمْرُ» (¬5). وعن نافعٍ، قال: كنتُ أسيرُ مع عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، ¬

(¬1) في م: «الكير». والكبر -بفتحتين- الطبل الذى له وجه واحد، وجمعه كبار، مثل جِمال. اللسان (ك ب ر). (¬2) بعده في الأصل: «له». (¬3) بعده في م: «لعلى». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب إجابة الدعوة إذا حضرها مكروه، من كتاب الأطعمة، سنن أبى داود 2/ 309. وابن ماجه، في: باب إذا رأى الضيف منكرا رجع، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1115. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 221، 222. (¬5) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في دخول الحمام، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 242، 243. والدارمى، في: باب النهى عن القعود على مائدة يدار عليها الخمر، من كتاب الأشربة. سنن الدارمى 2/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 20، 3/ 339. وصححه في الإرواء 7/ 6 - 8.

3324 - مسألة: (وإن علم به، ولم يره ولم يسمعه، فله الجلوس)

وَإِنْ عَلِمَ بِهِ، وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ، فَلَهُ الْجُلُوسُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فسَمِعَ زَمَّارَةَ راعٍ، فَوضعَ إِصْبَعَيْهِ (¬1) في أُذُنَيْهِ، ثم عدَلَ عن الطَّريقِ، [فلم يَزَلْ يَقُولُ: يا نافعُ أتسْمعُ؟ قلتُ: لا. فأخرَجَ إِصْبعَيْه عن أُذُنَيْه، ثم رَجَع إلى الطَّريقِ] (¬2)، ثم قال: هكذا رأيتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صنعَ. روَاه أبو داودَ (¬3)، والخَلَّالُ. ولأنَّه يُشاهِدُ المُنْكَرَ ويسمعُه مِن غيرِ حاجةٍ إلى ذلك، فَمُنِعَ منه، لو قَدَر على إزالَتِه. ويُفارِقُ مَن له جارٌ مُقِيمٌ على المُنْكَرِ والزَّمْرِ، حيث يُباحُ له المُقَامُ، فإنَّ تلك حالُ حاجةٍ؛ لِما في الخُروجِ مِن المنزلِ مِن الضَّررِ. 3324 - مسألة: (وإن عَلِمَ به، ولم يَرَه ولم يَسْمَعْه، فله الجُلوسُ) والأَكْلُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وله الامْتِناعُ مِن الحضُورِ في ظاهرِ ¬

(¬1) في الأصل: «أصبعه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب كراهية الغناء والزمر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 579. وقال أبو داود: هذا حديث منكر. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الغناء والدف، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 613.

3325 - مسألة: (وإن شاهد ستورا معلقة فيها صور الحيوان، لم يجلس إلا أن تزال، وإن كانت مبسوطة أو على وسائد، فلا بأس)

وإنْ شَاهَدَ سُتُورًا مُعَلَّقَةً فِيها صُوَرُ الْحَيَوَانِ، لم يَجْلِسْ إِلّا أَنْ تُزَالَ، وَإِنْ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أو عَلَى وِسَادَةٍ، فَلَا بَأْسَ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامِه؛ فإنَّه سُئِلَ عن الرَّجلِ يُدْعَى إلى الخِتَانِ أو العُرْسِ، وعندَه المُخَنَّثُونَ (¬1)، فيدْعُوه بعدَ ذلك بيوم أو ساعةٍ، وليسَ عندَه أولئك؟ فقال: أرْجُو أن لا يَأْثَمَ (¬2) إن لم يُجِبْ، وإن أجابَ فأرْجُو أن لا يكونَ آثِمًا. فأسقطَ الوُجوبَ؛ لاسْقاطِ الدَّاعِى حُرْمةَ نَفْسِه باتِّخاذِ (¬3) المنكرِ، ولم يَمْنَعِ الإِجابةَ؛ لِكَوْنِ المُجيبِ لا يَرَى مُنْكَرًا ولا يَسْمَعُه. وقال أحمدُ: إنَّما تجبُ الإِجابةُ إذا كان المَكْسَبُ طيِّبًا، ولم يرَ مُنْكَرًا (¬4). فعلى هذا، لا تجبُ إجابةُ مَن طَعامُه مِن مَكْسَبٍ خَبِيثٍ؛ لأَنَّ اتِّخَاذَه (¬5) مُنْكَرٌ، والأكلُ منه مُنْكَرٌ، فهو أوْلَى بالامْتِناعِ، وإن حضرَ لم يَأْكُلْ. 3325 - مسألة: (وَإن شاهَدَ سُتُورًا مُعَلَّقَةً فيها صُوَرُ الحَيَوانِ، لم يَجْلِسْ إلَّا أن تُزالَ، وَإن كانت مَبْسُوطَةً أو على وَسائِدَ، فلا بَأْسَ) ¬

(¬1) في الأصل: «المختون». (¬2) في الأصل: «يكون بإثم». (¬3) في م: «بإيجاد». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «إيجاده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كانت صورُ الحيوانِ على السُّتورِ والحِيطانِ وما لا يُوطَأُ، وأمْكَنَه حَطُّها (¬1)، أو قَطْعُ رُءُوسِها، فَعَل وجَلَس، وإن لم يُمْكِن (¬2) ذلك (¬3)، انصرفَ لم يَجْلِسْ. وعلى هذا أكثرُ أهلِ العلمِ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): هذا أعْدَلُ المذاهبِ. وحَكاه عن سعدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ، وسالمٍ، وعُرْوةَ، وابنِ سِيرِينَ، وعَطاءٍ، وعِكْرِمَةَ بنِ خالدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وكان أبو هُرَيْرَةَ يَكْرَهُ التَّصاويرَ، ما نُصِبَ منها وما بُسِطَ. وكذلك مالكٌ، إلَّا أنَّه كان يَكْرَهُها تَنَزُّهًا، ولا يراها مُحَرَّمَةً. ولَعَلَّهم يذهبونَ إلى عُمومِ (¬5) قولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ المَلائكَةَ لا تَدْخلُ ¬

(¬1) في الأصل: «خطها». (¬2) في الأصل: «يكن». (¬3) سقط من: م. (¬4) في: التمهيد 21/ 199. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْتًا فيه صُورَةٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ورُوِىَ عن أبى (¬2) مسعودٍ، أنَّه دُعِىَ إلى طعامٍ، فلمَّا قيل له: إنَّ في البيتِ صُورةً. أبَى أن يَذْهَبَ حتى كُسِرتْ (¬3). ولَنا، ما روَتْ عائشةُ، قالتْ: قَدِمَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من سَفَرٍ، وقد ستَرْتُ لى سَهْوَةً بنَمَطٍ (¬4) فيه تَصاوِيرُ، فلمَّا رآه قال: «أَتسْتُرِينَ الخِدْرَ بسَتْرٍ (¬5) فيه تَصاوِيرُ؟» فهَتَكَهُ. قالتْ: فَجَعَلْتُ منه مُنْتَبَذَتَيْنِ (¬6)، كأنِّى أنْظُرُ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَّكِئًا على إحداهُما. روَاه ابنُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، من كتاب الأنبياء، وفى: باب حدثنى. . .، من كتاب المغازى، وفى: باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة، من كتاب النكاح، وفى: باب من كره القعود على الصورة، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 4/ 158، 169، 170، 5/ 105، 7، 33، 7/ 216. ومسلم، في: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1665، 1666. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الجنب يؤخر الغسل، من كتاب الطهارة. وفى: باب في الصور، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 1/ 52، 2/ 392. والترمذى في: باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 248، 249. والنسائى في: باب في الجنب إذا لم يتوضأ، من كتاب الطهارة، وفى: باب امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب، من كتاب الصيد، وفى: باب، التصاوير، من كتاب الزينة. المجتبى 1/ 116، 7/ 164، 8/ 187، 188. والدارمى، في: باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 284. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 104، 107، 148، 150، 277، 3/ 90، 4/ 28، 29، 30، 6/ 246، 330. (¬2) في م: «ابن». (¬3) أخرجه البخارى معلقا، في: باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 32. ووصله البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 286. (¬4) السهوة: الطاق، أو شبه الرف. والنمط: بساط ليف له خمل. (¬5) في م: «بشئ». (¬6) في الأصل: «منتبذين»، وفى التمهيد وصحيح مسلم: «مرفقتين»، والمثبت كما في م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ البَرِّ (¬1). ولأنَّها إذا كانت تُداسُ وتُبْتَذَلُ، لم تكُنْ مُعَزَّزَةً [ولا] (¬2) مُعَظَّمَةً، فلا تُشْبِهُ الأَصْنامَ التى تُعْبَدُ وتُتَّخَذُ آلهةً، فلا تُكْرَهُ. وما رَوَيناه أخَصُّ ممَّا رَوَوْه، وقد رُوِى عن أبى طَلْحَةَ أنَّه قِيل له: ألم يَقُلِ (¬3) النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تَدْخُلُ الملائكَة بَيْتًا فيه كَلبٌ ولا صُورَة»؟ قال: ألم تَسمَعْه قال: «إلَّا رَقْمًا في ثوْبٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وهو محْمُولٌ على ما ذكَرْناه مِن أنَّ المُباحَ ما كان مَبْسوطًا، والمَكْرُوهَ منه ما كان مُعَلَّقًا، بدليلِ حديثِ عائشةَ (¬5). فصل: فإن قَطَع رَأْسَ الصُّورةِ، ذَهَبتِ الكَراهَةُ. قال ابنُ عبَّاسٍ: ¬

(¬1) في: التمهيد 16/ 53، 54. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الصور فيما يوطأ، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 2/ 1204. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 247. وانظر صحيح البخارى 3/ 179، 7/ 215، 216. وصحيح مسلم 3/ 1669. والمجتبى 8/ 189. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في الأصل: «إن». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب إذا قال أحدكم آمين، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب من كره القعود على الصورة، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 4/ 138، 139، 7/ 216. ومسلم، في: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1665، 1666. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الصور، من كتاب اللباس، سنن أبى داود 2/ 392. والترمذى، في: باب ما جاء في الصورة، من أبواب اللباس. عارضة الأحوذى 7/ 252. والنسائى، في: باب التصاوير، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 187، 188. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الصور والتماثيل، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 966. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 28. (¬5) في الأصل: «عبد اللَّه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصُّورةُ الرَّأْسُ، فإذا قُطِعَ الرأْسُ فليسَ بصورةٍ (¬1). وحُكِىَ ذلك عن عِكْرِمَةَ. وقد رُوِى عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أتانِى جِبْرِيلُ، فقالَ: اتيْتُكَ البارِحَةَ، فلم يَمْنَعْنِى أن أَكُونَ دَخَلْتُ إلَّا أَنَّه كان على البابِ تَمَاثِيلُ، وكان في البَيْتِ سِتْرٌ فيه تَماثِيلُ، وكان فِى البَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ [التِّمْثالِ الذى] (¬2) عَلَى بَابِ البَيْتِ فَيُقْطَعُ، فيَصِيرُ (¬3) كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، ومُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ منه وِسادَتانِ مَنْبُوذَتانِ يُوطَآنِ، ومُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ». ففَعَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وإن قَطَع منه ما لا تَبْقَى الحياةُ بعدَ ذَهابِه (¬5)، كصَدْرِه أو بَطْنِه، أو جُعِلَ له رَأْسٌ مُنْفَصِلٌ عن بدَنِه، لم يَدْخُلْ تحت النَّهْى، لأَنَّ الصُّورةَ لا تَبْقَى بعدَ ذَهابِه، فهو كقَطْعِ الرَّأْسِ. وإن كان الذَّاهِبُ يَبْقَى الحيوانُ بعدَه، كالعَيْنِ واليَدِ والرِّجْلِ، فهو صُورةٌ داخلةٌ تحتَ النَّهْى. فإن كان في ابْتِداءِ التَّصْويرِ صورةُ بَدَنٍ بلا رَأْسٍ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب الرخصة فيما يوطأ من الصور. . .، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 270. (¬2) في م: «التماثيل التى». (¬3) في م: «حتى تصير». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في الصور، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 2/ 393. والترمذى، في: باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 249، 250. والنسائى، في: باب ذكر أشد الناس عذابا، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 191. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 305. (¬5) بعده في الأصل: «فهو كقطع الرأس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو رَأْسٍ بلا بدَنٍ، أو جُعِلَ له رَأْسٌ، وسائِرُ بدَنِه صورةُ غيرِ حيوانٍ، لم يدْخُلْ في النَّهْى؛ لأنَّه ليس بصُورةِ حيوانٍ. فصل: وصَنْعَةُ التَّصاوِيرِ مُحَرَّمةٌ على فاعِلِها؛ لِما روَى ابنُ عمرَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يومَ القِيَامَةِ، يُقَالُ لهم: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ». وعن مَسْروقٍ، قال: دَخَلْنا مع عبدِ اللَّهِ بيتًا فيه تماثيلُ، فقال لتمثالٍ منها: تمثالُ مَن هذا؟ قالوا: تمثالُ مَرْيَمَ (¬1). قال عبدُ اللَّهِ: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذابًا يومَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬2). والأمْرُ بعَمَلِه مُحَرَّمٌ، كعَملِه. فصل: فأمَّا دُخولُ مَنْزِلٍ فيه صُورةٌ، فليسَ بمُحَرَّمٍ، وإنَّما أُبِيحَ تَرْكُ إجابةِ (¬3) الدَّعْوةِ لأجْلِه عُقُوبةً للدَّاعِى، بإسْقاطِ حُرْمَتِه؛ لاتِّخاذِه المُنْكَرَ ¬

(¬1) في م: «من صنم». (¬2) الأول أخرجه البخارى، في: باب عذاب المصورين يوم القيامة، من كتاب اللباس، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ. . .}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 7/ 215، 9/ 197. ومسلم، في: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1670. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 4، 26. والثانى أخرجه البخارى، في: باب عذاب المصورين يوم القيامة، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 7/ 215. ومسلم، في: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1670. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر أشد الناس عذابا، من كتاب الزينة. المجتبى 8/ 191. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 375، 426. (¬3) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في دارِه. ولا يَجِبُ على مَن رآه في منزلِ الدَّاعِى الخُروجُ، في ظاهرِ كلامِ أحمدَ؛ فإنَّه قال في رِوايةِ الفَضْلِ، إذا رأى صُوَرًا على السِّتْرِ، لم يكُنْ رآها حينَ دخلَ؟ قال: هو أسْهَلُ مِن أن يكونَ على الجِدَارِ. قيلَ له: فإن لم يَرَه إلَّا عندَ وَضْعِ الخِوانِ بينَ أيْدِيهم، أُيَخْرُجُ؟ فقال: لا تُضَيِّقْ علينا، ولكنْ إذا رأى هذا وَبَّخَهُم (¬1) ونَهاهم. يعنى لا يَخْرُجُ. وهذا مذهبُ مالكٍ؛ فإنَّه كان يَكْرَهُها تَنَزُّهًا، ولا يراها مُحَرَّمَةً. وقال أكثرُ أصْحابِ الشافعىِّ: إذا كانتِ الصُّوَرُ على السُّتورِ، أو (¬2) ما ليس بمَوْطُوءٍ، لم يَجُزْ له الدُّخولُ؛ لأَنَّ الملائكةَ لا تَدْخُلُه، ولأنَّه لو لم يكُنْ مُحَرَّمًا، لَما جازَ تَرْكُ الدَّعوةِ الواجبةِ لأجْلِه. ولَنا، ما رُوِى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَل الكَعْبةَ، فرأى فيها صُورةَ إبراهيمَ وإسماعيلَ يسْتَقْسِمانِ بالأزْلامِ، فقال: «قاتَلَهُمُ اللَّه، لقدْ عَلِمُوا أنَّهُما ما اسْتَقْسَما بها قَطُّ». روَاه أبو داود (¬3). وما ذكَرْنا مِن خَبَرِ عبدِ اللَّهِ أنَّه دخلَ بيتًا فيه تماثيلُ. وفى شُروطِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، على أهلِ الذِّمَّةِ: أن يُوَسِّعُوا أبوابَ كَنائِسِهم وبِيَعِهم، ليَدْخُلَها المسلمونَ للمَبِيتِ بها، والمارَّةُ بدَوابِّهم (¬4). ¬

(¬1) سقط من: «الأصل». (¬2) في الأصل: «و». (¬3) في: باب الصلاة في الكعبة، كتاب المناسك. سنن أبى داود 1/ 467. كما أخرجه البخارى، في: باب من كبر في نواحى الكعبة، من كتاب الحج، وفى: باب أين ركز النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 184، 5/ 188. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 365. (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 439.

3326 - مسألة: (فإن سترت الحيطان بستور لا صور فيها، أو فيها صور غير الحيوان، فهل تباح؟ على روايتين)

وَإِنْ سُتِرَتِ الْحِيطَانُ بِسُتُورٍ لَا صُوَرَ فِيهَا، أَو فِيهَا صُوَرُ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، فَهَلْ تُبَاحُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوَى ابنُ عائذٍ (¬1)، في «فُتوحِ الشَّامِ»، أن النَّصارَى صَنَعوا لعُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، حينَ قَدِمَ الشامَ طعامًا، فدَعَوْه، فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسةِ. فأبى أن يذهبَ، وقال لعلىٍّ: امْضِ بالنَّاسِ، فليَتَغَدَّوْا. فذَهبَ علىٌّ بالنَّاسِ، فدخلَ الكنيسةَ، وتغَدَّى هو والمسلمونَ، وجعلَ علىٌّ ينظرُ إلى الصُّوَرِ، وقال: ما على أميرِ المؤمنينَ لو دخلَ وأكلَ (¬2). وهذا اتِّفاقٌ منهم على إباحةِ دُخُولِها وفيها الصُّوَرُ، ولأَنَّ دُخولَ الكنائسِ والبِيَعِ غيرُ مُحَرَّمٍ، فكذلك المنازلُ التى فيها الصُّوَرُ، وكَوْنُ الملائكةِ لا تَدْخُلُه، لا يُوجِبُ تَحْريمَ دُخولِه، كما لو كان فيه كلبٌ، ولا يَحْرُمُ علينا (¬3) صُحْبة رُفْقةٍ فيها جَرَسٌ، مع أنَّ الملائكةَ لا تَصْحَبُهم، وإنَّما أُبِيحَ تَرْكُ الدَّعوةِ مِن أجْلِه عُقوبة لفاعلِه، وزجْرًا له عن فِعْلِه. 3326 - مسألة: (فَإن سُتِرَتِ الحِيطانُ بِسُتُورٍ لا صُوَرَ فيها، أو فيها صُوَرُ غيرِ الحَيَوانِ، فهل تُباحُ؟ على رِوايَتَيْنِ) أمَّا إذا اسْتَعْمَلَ ذلك ¬

(¬1) في الأصل: «عابد». وفى م: «عائد». وانظر ترجمته في: 11/ 67. (¬2) بنحوه دون ذكر ذهاب على أخرجه البخارى معلقا، في: باب الصلاة في البيعة، من كتاب الصلاة. صحيح البخارى 1/ 118. ووصله عبد الرزاق، في: المصنف 1/ 411، 412. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 268. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحاجةٍ، مِن وِقايةِ حَرٍّ أو بَرْدٍ، فلا بَأْسَ بهِ؛ لأنَّه يَسْتَعْمِلُه لحاجةٍ، فأشْبَهَ السِّتْرَ على البابِ. وإن كان لغيرِ حاجةٍ ففيه روايتان؛ إحْدَاهما، هو مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٍ، وهو عُذْرٌ في تَرْكِ الإِجابةِ إلى الدَّعوةِ؛ بدليلِ ما رَوَى سالمُ ابنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، قال: أعْرَستُ في عَهْدِ أبى، فآذَنَ أبى النَّاسَ، فكان في مَن آذَنَ أبو أيُّوبَ، وقد سَتَرُوا بَيْتى بجُنادِىٍّ (¬1) أخْضَرَ، فأقبلَ أبو أيُّوبَ مُسْرِعًا (¬2)، فاطَّلعَ فرأى البيتَ مستترًا (¬3) بجُنادِىٍّ (1) أخْضَرَ، فقال: يا عبدَ اللَّهِ أتَسْتُرونَ الجُدُرَ؟ فقال أبى، واسْتَحْيَا: غَلَبَنا (¬4) النِّساءُ يا أبا أيُّوبَ. فقال: مَن خَشِيتُ (¬5) أن يَغْلِبْنَه، فلم أخْشَ أن يَغْلِبْنَكَ. ثم قال: لا أطْعَمُ لكم طَعامًا، ولا أدْخُلُ لكم بيتًا، ثم خرجَ. رواه الأَثْرَمُ (¬6). قال ¬

(¬1) في م: «بخباء». والجنادى؛ قيل: هو نوع من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران. (¬2) سقط من: «م». (¬3) في م: «مستورا». (¬4) في م: «غلبتنا». (¬5) بعده في الأصل: «من». (¬6) أخرجه البخارى معلقا بصيغة الجزم، في: باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 32، 33. ووصله الإمام أحمد، في: كتاب الورع 85. وعزاه في مجمع الزوائد إلى الطبرانى في الكبير، وقال: رجاله الصحيح. مجمع الزوائد 4/ 54، 55.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضى: وكلامُ أحمدَ يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ؛ أحدَهما، الكَراهةَ مِن غيرِ تَحْريمٍ؛ لأَنَّ ابنَ عمرَ أقَرَّ على فِعْلِه، ولأَنَّ كَراهَتَه لِما فيه مِن السَّرَفِ (¬1)، وذلك لا يَبْلُغُ به التَّحْريمَ، كالزِّيادةِ في الملْبُوسِ والمَأكُولِ الطَّيِّبِ (¬2)، ويَحْتَمِلُ التَّحْريمَ. وهى الرِّوِايةُ الثَّانيةُ؛ لِما روَى الخَلَّالُ بإسْنادِه عن علىِّ بنِ الحسينِ، قال: نهى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تُسْتَرَ الجُدُرُ (¬3). ورَوتْ عائشةُ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ لَم يَأمرْنا فيما رَزَقَنا أَن نَسْتُرَ الْجُدُرَ» (¬4). واخْتارَ شيْخُنا (¬5) أنَّ سَتْرَ الحِيطانِ مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّم. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ إذ لم يَثْبُتْ في تَحْرِيمِه حديثٌ، وقد فَعلَه ابنُ عمرَ، وفُعِلَ في زَمَنِ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، ولو ثَبَت الحديثُ، حُمِلَ على الكَراهةِ؛ لِما ذكَرْنا. واللَّهُ أعلمُ. فصل: سُئِلَ أحمدُ عن السُّتورِ فيها القرآنُ، فقال: لا يَنْبَغِى أن يكونَ شيئًا مُعَلَّقًا فيه القرآنُ، يُسْتهانُ به، ويُمْسَحُ به (¬6). قيلَ له: فيُقْلَعُ؟ فكَرِهَ أن يُقْلَعَ القرآنُ، وقال: إذا كان سِتْر فيه ذِكْرُ اللَّهِ تعالى، فلا بَأْسَ. ¬

(¬1) في الأصل: «الشرف»، وفى م: «الستر». وانظر المغنى 10/ 205. (¬2) في م: «والطيب». (¬3) وأخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في تستير المنازل، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 272. وقال: هذا منقطع. (¬4) أخرجه بنحوه مسلم، في: باب تحريم تصوير صورة الحيوان. . .، من كتاب اللباس. صحيح مسلم 3/ 1666. وأبو داود، في: باب في الصور، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 2/ 392. (¬5) انظر المغنى 10/ 205. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكَرِه أن يُشْتَرَى الثَّوْبُ فيه ذِكْرُ اللَّهِ، ممَّا يُجْلَسُ عليه. فصل: قيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكْتَرِى بيتًا فيه تصاويرُ، تَرَى أن يحُكَّها؟ قال: نعم. قال المَرُّوذِىُّ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: دخلتُ حمَّامًا، فرأيتُ صورةً، تَرَى أن أَحُكَّ الرأْسَ؟ قال: نعم. إنَّما جازَ ذلك لأَنَّ اتِّخاذَ الصُّورةِ مُنْكرٌ، فجازَ تَغْيِيرُها، كآلةِ اللَّهْوِ والصَّليبِ والصَّنَمِ، ويُتْلَفُ منها ما يُخْرِجُها عن حَدِّ الصُّورةِ، كالرَّأسِ ونحوِه؛ لأَنَّ ذلك يَكْفِى. قال أحمدُ: ولا بَأْسَ باللُّعَب ما لم تكُنْ صُورةً؛ لِما رُوِى عن عائشةَ، قالت: دخلَ علىَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا ألْعَبُ باللُّعَبِ، فقال: «مَا هذا يا عائشةُ؟». فقلتُ: هذه خَيْلُ سُلَيْمانَ. فجعلَ يضحكُ (¬1). فصل: واتِّخاذُ آنِيَةِ الذَّهب والفِضَّة مُحَرَّمٌ، فإذا رآه المَدْعُوُّ في منزلِ الدَّاعِى، فهو مُنْكَرٌ يَخْرُجُ مِن أجلِه. وكذلك ما كان من الفِضَّةِ مُسْتَعْمَلًا كالمُكْحُلَةِ ونحوِه. قال الأَثْرَمُ: سُئلَ أحمدُ: إذا رأى حَلْقَةَ مِرآةٍ فِضَّةً، ورأسَ مُكْحُلَةٍ، يَخْرُجُ مِن ذلك؟ فقال: هذا تَأْوِيل تَأَولْتُه، وأمَّا الآنِيَةُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في اللعب بالبنات، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 581. والنسائى، في: باب إباحة الرجل اللعب لزوجته بالبنات، من كتاب عشرة النساء. السنن الكبرى 5/ 306، 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسُها (¬1) فليس فيها شَكٌّ. وقال: ما لا يُسْتَعْمَلُ فهو أسْهَلُ، مِثْل الضَّبَّةِ في السِّكِّينِ والقَدَحِ. وذلك لأَنَّ رُؤْيَةَ المُنْكَرِ كسَماعِه، فكما لا يجْلِسُ في مَوْضِعٍ يَسْمَعُ فيه صوتَ الزَّمْرِ، لا يجلسُ في موضعٍ يَرَى فيه مَن يشربُ الخمرَ وغيرَه مِنَ المنكرِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3327 - مسألة: (ولا يباح الأكل بغير إذن)

وَلَا يُبَاحُ الأَكْلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَالدُّعَاءُ إِلَى الْوَلِيمَةِ إِذْنٌ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3327 - مسألة: (ولا يُباحُ الأَكْلُ بغيرِ إذْنٍ) لأَنَّ أكلَ مالِ الغيرِ بغيرِ إذْنِه مُحَرَّمٌ (والدُّعاءُ إلى الوَلِيمَةِ إذْنٌ) في الدُّخولِ والأكْلَ؛ بدليلِ ما رَوى أبو هُرَيْرَةَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إِذَا دعِىَ أحَدُكُمْ، فجاءَ (¬1) مَعَ الرَّسُولِ، فَذلِكَ إذْنٌ لَهُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: ¬

(¬1) في م: «فأتى». (¬2) في: باب في الرجل يدعى أكون ذلك إذنه، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 639. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 533. وصححه في الإرواء 7/ 16، 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا دُعِيتَ فقد أُذِنَ لك. روَاه الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه (¬1) ¬

(¬1) وأخرجه البخارى، في الأدب المفرد 2/ 510. وقال في الإرواء: وإسناده صحيح على شرط مسلم. الإرواء 7/ 17. ولم نجده في المسند.

3328 - مسألة: (والنثار والتقاطه مكروه. وعنه، لا يكره)

وَالنِّثَارُ وَالْتِقَاطُهُ مَكْرُوهٌ. وَعَنْهُ، لَا يُكْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3328 - مسألة: (والنِّثارُ والتِقاطُهُ مَكْرُوهٌ. وعنه، لا يُكْرَهُ) اخْتلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في النِّثارِ والْتِقاطِه؛ فرُوِىَ أنَّ ذلك مَكْرُوهٌ في العُرْسِ وغيرِه. رُوِى ذلك عن أبى مسعودٍ البَدْرِىِّ، وعِكْرِمَةَ، وابنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، وعَطاءٍ، وعبدِ اللَّهِ ابنِ زيدٍ الخَطْمِىِّ (¬1)، وطلحةَ وزُبَيْدٍ الْيامِيَّيْنِ (¬2). وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه ليس بمَكْرُوهٍ. اخْتارَها أبو بكرٍ. وهو قولُ الحَسنِ، وقَتادةَ، والنَّخَعِىِّ، وأبى حنيفةَ، وأبى عُبَيْدٍ، وابنِ المُنْذِرِ، لِما روَى عبدُ اللَّه بِنُ قُرْطٍ، قال: قُرِّبَ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْسُ بَدَناتٍ أو سِتٌّ، فطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إليه بِأَيَّتِهِنَّ يبدأُ، فنَحَرَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال كلمةً لم أسْمَعْها، فسألْتُ مَن قَرُبَ منه، فقال: قال: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ». روَاه أبو داودَ (¬3). وهذا جارٍ مَجْرَى النِّثارِ. وقد رُوِى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دُعِىَ إلى وَلِيمةِ رجُلٍ مِن الأنْصارِ، ¬

(¬1) هو عبد اللَّه بن يزيد بن زيد الخطمى، نسبة إلى بنى خطمة بن جشم، بطن من الأنصار، له صحبة، شهد الحديبية وهو صغير، وكان أميرا على الكوفة زمن ابن الزبير. اللباب 1/ 480، تهذيب التهذيب 6/ 78. (¬2) في م: «اليامى». والأول هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامى الهمذانى الكوفى، أبو محمد، الإمام الحافظ المقرئ، المجود، شيخ الإسلام، توفى في آخر سنة اثنتى عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 191 - 193. والثانى هو زبيد بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب اليامى الكوفى، الحافظ، أحد الأعلام، عداده في صغار التابعين، توفى سنة اثنتين وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 296 - 298. (¬3) تقدم تخريجه في 9/ 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أُتُوا بنَهْبٍ فأُنْهِبَ عليه. قال الرَّاوِى: ونظرتُ إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُزاحِمُ النَّاسَ ويَحْثُو (¬1) ذلك. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أوَ ما نَهَيْتَنا (¬2) عن النُّهْبَةِ؟ قال: «نَهَيْتُكُمْ عن نُهْبَةِ الْعَساكِرِ» (¬3). ولأنَّه نوْعُ إباحةٍ، فأشْبَهَ إباحةَ الطَّعامِ للضِّيفانِ. ولَنا، ما رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَا تَحِل النُّهْبَى والمُثْلَةُ (¬4)» (¬5). ولأَنَّ فيه نَهْبًا وتَزاحُمًا وقِتالًا، ورُبَّما أخَذَه مَن يَكْرَهُ صاحِبُ النِّثارِ أخْذَه، لحِرْصِه وشَرَهِه ودَناءةِ نفْسِه، ويُحْرَمُه مَن يُحِبُّ صاحِبُه، لمُروءَتِه وصِيانَةِ نفْسِه وعِرْضِه، والغالبُ (¬6) هذا، فإنَّ أهلَ المُروءاتِ يصُونونَ أنفُسَهم عن مُزاحَمةِ سَفِلَةِ النَّاسِ على شئٍ مِن (¬7) الطَّعامِ أو غيرِه، ولأَنَّ في هذا دناءةً، واللَّه يُحِبُّ مَعالِىَ الأُمورِ، ¬

(¬1) في م: «أو نحو». (¬2) في الأصل: «نهينا». (¬3) أخرج نحوه البيهقى في: السنن الكبرى 7/ 288. والطحاوى، في: شرح معانى الآثار 3/ 50. وأبو نعيم الأصبهانى في حلية الأولياء 6/ 340، 341. وابن الجوزى في: الموضوعات 2/ 265، 266. وانظر تضعيف الحديث والكلام عليه، في: تلخيص الحبير 3/ 200، 201. (¬4) في م: «المسألة». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب النهى بغير إذن صاحبه، من كتاب المظالم، وفى: باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، من كتاب الذبائح. صحيح البخارى 3/ 178، 7/ 122. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 307. (¬6) بعده في م: «عليه». (¬7) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَكْرَهُ سَفْسافَها. فأمَّا خَبَرُ البَدَناتِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علمَ أنَّه لا نُهْبَةَ في ذلك، لكَثْرَةِ اللَّحْمِ، وقِلَّةِ الآخِذِينَ، أو فعَلَ ذلك لاشْتِغالِه بالمَناسكِ عن تَفْرِيقِها. وفى الجملةِ، فالخلافُ إنَّما هو في كراهةِ ذلك، وأمَّا الإِباحةُ، فلا خلافَ فيها (¬1)، ولا في الالْتِقاطِ، لأنَّه نَوْعُ إباحةٍ لمالِه، فأَشْبَهَ سائرَ المُباحَاتِ. فصل: فأمَّا إن قَسَمَ على الحاضِرينَ ما يُنْثَرُ مِثل اللَّوْزِ والسُّكَّرِ وغيرِه، فلا خلافَ في أنَّ ذلك حسَنٌ غَيرُ مكْروهٍ. وقد رُوِى عن أبى هُرَيْرَةَ، قال: قسمَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ أصْحابِه تَمْرًا، فأَعْطَى كلَّ إنْسانٍ سبْعَ تَمَراتٍ، فأَعْطانِى سبعَ تَمَراتٍ إحْداهُنَّ حَشَفَةٌ، فلم يَكُنْ مِنْهُنَّ تَمْرَةٌ أعجبَ إلىَّ منها، شَدَّت في مَضاغِى. رَواه البُخَارِىُّ (¬2). وكذلك إن وضَعه بينَ أيدِيهم وأَذنَ لهم في أخْذِه على وَجْهٍ لا يقَعُ تَناهُبٌ، فلا يُكْرَهُ أيضًا. قال المَرُّوذِىُّ: سألْتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن الجوزِ يُنْثَرُ، فَكَرِهَه، وقال: يُعْطَوْنَ، يُقْسَمُ عليهم. وقال [محمدُ بنُ علىِّ] (¬3) بنِ بحرٍ: سمعتُ ¬

(¬1) في الأصل: «فيهما». (¬2) في: باب ما كان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه يأ كلون، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 96. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 324، 352، 415. (¬3) في النسختين: «على بن محمد» وفى حاشية المطبوعة إشارة إلى ما في المغنى. وهو محمد بن على بن بحر، أبو بكر البزاز، حدث عن أبى حفص عمر ابن أخت بشر بن الحارث، روى عنه محمد بن مخلد وأبو عمرو بن السماك، توفى سنة تسع وتسعين ومائتين. تاريخ بغداد 3/ 66. وانظر طبقات الحنابلة 1/ 429، 430. والمغنى 10/ 210.

3329 - مسألة: (ومن حصل فى حجره شئ، فهو له)

وَمَنْ حَصَلَ فِى حِجْرِهِ شَىْءٌ مِنْهُ، فَهُوَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حُسْنَ (¬1) أمَّ وَلَدِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ تقولُ: لَمَّا حَذَق ابنِى حسَنٌ، قال لى مَوْلاىَ: حُسْنُ، لا تَنْثُروا عليه. فاشْتَرى تمرًا وجَوْزًا، فأرْسلَه إلى المُعَلِّمِ، قالتْ: وعمِلْتُ أنا عَصِيدَةً، وأطْعَمْتُ الفقراءَ، فقال: أحْسَنْتِ أحسنتِ. وفرَّقَ أبو عبدِ اللَّهِ على الصِّبْيانِ الجوْزَ، [لكلِّ واحدٍ] (¬2) خمسةٌ خمسةٌ. 3329 - مسألة: (ومَنْ حَصَل في حِجْرِهِ شَىْءٌ، فهو له) غير مَكْرُوهٍ؛ لأنَّه مُباحٌ حصَل في حِجْرِه، فمَلَكه، كما لو وثَبتْ سمكةٌ مِن (¬3) البَحْرِ فوقَعتْ في حِجْرِه، وليسَ لأحَدٍ أَنْ يأخُذَه (¬4)؛ لِما ذكَرْناه. وقال في «المُحرّرِ»: يَمْلِكُه مع القَصْدِ، وبدُونِ القَصْدِ وَجْهان. ¬

(¬1) حُسْن: جارية اشتراها الإمام أحمد، بعد موت زوجته أم ابنه عبد اللَّه، فولدت منه بعض أبنائه، وروت عنه أشياء. طبقات الحنابلة 1/ 429، 430. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «في». (¬4) بعده في المغنى 10/ 210: «من حجره».

3330 - مسألة: (ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف)

وَيُسْتَحَبُّ إِعْلَانُ النِّكَاحِ وَالضَّرْبُ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3330 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ إعْلانُ النِّكاحِ والضَّرْبُ عليه بِالدُّفِّ) قال أحمدُ: يُسْتَحَبُّ أن يُظْهَرَ النِّكاحُ، ويُضْرَبَ عليه بالدُّف، حتى يَشْتَهِرَ ويُعْرَفَ. قيلَ له: ما الدُّفُّ؟ قال: هذا الدُّفُّ. وقال: لا بَأْسَ بالغَزَلِ في العُرْسِ، كقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنْصارِ: «أَتَيْناكُمْ، أَتَيْناكُمْ، فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُم، لولا (¬1) الذَّهَبُ الأحْمَرُ ما (¬2) خلَّتْ بَوادِيكُمْ، ولَوْلا الحَبَّةُ السَّوداءُ مَا سُرَّتْ (¬3) عَذَارِيكُمْ» (¬4) لا على ¬

(¬1) في م: «ولو». (¬2) في الأصل: «لما». (¬3) في م: «سمنت». (¬4) عزاه في مجمع الزوائد 4/ 289 للطبرانى في الأوسط. وله شاهد عند ابن ماجه، في: باب الغناء والدف، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 613. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 391. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 289. وحسنه في الإرواء 7/ 51، 52. وأصل الحديث أخرجه البخارى، في: باب النسوة اللاتى يهدين المرأة إلى زوجها، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يصْنَعُ النَّاسُ اليومَ. ومِن غيرِ هذا الوَجْهِ: «وَلَوْلا الحِنْطَةُ الحَمْراءُ، ما سَمِنَتْ (¬1) عَذارِيكُم». وقال أحمدُ أيضًا: يُسْتَحَبُّ ضَرْبُ الدُّفِّ، والصَّوْتُ في الإِمْلاكِ. فقيلَ له: ما الصَّوْتُ؟ قال: يُتَكَلَّمُ ويُتَحَدَّثُ ويُظْهَرُ. والأَصْلُ في هذا ما روَى محمدُ بنُ حاطِبٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَصْلُ ما بينَ الحَلالِ والْحَرَامِ، الصَّوْتُ والدُّفُّ فِى النِّكاحِ». روَاه النَّسَائِىُّ (¬2). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «أعْلِنُوا النِّكاحَ» (¬3). وفى لفظٍ: «أظْهِرُوا النِّكاحَ» (4). وكان يُحِبُّ أن يُضْرَبَ عليها بالدُّفِّ. وفى لفظٍ: «اضْرِبُوا عليه بالغِرْبالِ» (¬4). وعن ¬

(¬1) في الأصل: «سرت». (¬2) في: باب إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 104. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في إعلان النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 4/ 307. وابن ماجه، في: باب إعلان النكاح، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 611. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 418، 4/ 259. وحسنه في الإرواء 7/ 50، 51. (¬3) تقدم تخريجه في 17/ 360. (¬4) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 174. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 290. وضعف إسناده. وابن الجوزى، في: العلل المتناهية 2/ 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةَ، أنَّها زَوَّجَتْ يَتِيمةً رَجُلًا مِن الأنْصارِ، وكانت عائشةُ في مَن أهْداها إلى زَوْجِها، قالت: فلمَّا رَجَعْنا قال لنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟» قالت: سَلَّمْنا، ودَعَوْنا بالبَرَكَةِ، ثم انْصَرَفْنا. فقال: «إنَّ الأنْصارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ، ألَا قُلْتُمْ يا عائِشَةُ: أتَيْناكُم أتَيْناكُم، فحَيَّانا وحَيَّاكُم». رَوَى هذا كلَّه أبو (¬1) عبدِ اللَّهِ ابنُ ماجَه، في «سُنَنِه» (¬2). وقال أحمدُ: لا بَأْسَ بالدُّفِّ في العُرْسِ والخِتانِ، وأكْرَهُ الطَّبْلَ، وهو المُنْكَرُ، وهو الكُوبَةُ التى نَهى عنها النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وإنَّما يُسْتَحَبُّ الضَّرْبُ بالدُّفِّ للنِّساءِ. ذكَرَه شيْخُنا، رَحِمَه اللَّهُ. فصل: ولا بَأْسَ أن يَخْلِطَ المُسافِرون أزْوادَهم، ويأْكُلونَ جميعًا، ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في: باب إعلان النكاح، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 611. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب النهى عن المسكر، وباب في الأوعية، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 295، 297. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 274، 289، 350، 2/ 158، 165، 167، 171، 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أكلَ بعْضُهم أكْثرَ مِن بعضٍ، فلا بَأْسَ، وقد كان السَّلَفُ يَتَناهَدُونَ (¬1) في الغَزْوِ والحجِّ، ويُفارِقُ النِّثارَ، فإنَّه يُؤْخَذُ بنَهْبٍ وتَسالُبٍ وتَجاذُبٍ، بخِلافِ هذا. ¬

(¬1) تناهد القوم: أخرجوا ما لديهم من الطعام والشراب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصولٌ في آدابِ الأَكلِ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ اليَدِ قبلَ الطَّعامِ وبعدَه، وإن كان على وُضوءٍ. قال المَرُّوذِىُّ: رأيتُ أبا عبدِ اللَّه يِغْسِلُ يَدَيْه قبلَ الطَّعامِ وبعدَه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان على وُضوءٍ. وقد رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «مَن أَحَبَّ أَن يَكْثُرَ خَيْرُ بَيْتِه، فَلْيَتَوَضَّأْ إذا حَضرَ غَدَاؤُه، وإذا رُفِعَ». رواه ابنُ ماجه (¬1). ورَوَى أبو بكرٍ بإسْنادِه عن الحسنِ (¬2)، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «الوُضوءُ قبلَ الطَّعامِ يَنْفِى الفَقْرَ، وبعدَه يَنْفِى اللَّمَمَ» (¬3). يعنى به غَسْلَ اليدَيْنِ. وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن نام وفى يدِه رِيحٌ غَمَرٍ (¬4)، فَأَصابَه شَىْءٌ، فَلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَه». روَاه أبو داودَ (¬5). ولا بَأْسَ بتَرْكِ الوُضوءِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج مِن الغائِطِ، فأُتِىَ ¬

(¬1) في: باب الوضوء عند الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1085. وقال الألباني: منكر، تفرد به كثير بن سليم، وهو ضعيف اتفاقا. الإرواء 7/ 23. وانظر: سلسلة الأَحاديث الضعيفة 1/ 237، 238. (¬2) في المغنى 10/ 211: «الحسن بن على». (¬3) عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ: «الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفى الفقر وهو من سنن المرسلين». وقال: فيه نهشل بن سعيد وهو متروك. مجمع الزوائد 5/ 23، 24. وأورده الشوكانى، في: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة 155. والصاغانى، في رسالته في الموضوعات 9. (¬4) عُمر: دسم ووسخ من اللحم. (¬5) في: باب في غسل اليد من الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 330. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية البيتوتة وفى يده ريح غمر، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 47. وابن ماجه، في: باب من بات وفى يده ريح غمر، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1096. والدارمى، في: باب في الوضوء بعد الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 104. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 263، 344، 537. وصححه في: صحيح الجامع الصغير 5/ 262.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بطَعامٍ، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ألا آتِيكَ بوَضوءٍ؟ قال: «أُرِيدُ (¬1) الصَّلاةَ!». روَاه ابنُ ماجه (¬2). وعن جابرٍ قال: أقبلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من شِعْبِ الجَبَلِ (¬3)، وقد قَضَى حاجَتَه، وبينَ أيدِينا تَمْرٌ على تُرْسٍ أو حَجَفَةٍ (¬4)، فدَعَوْناه فأكلَ معنا، وما مَسَّ ماءً. روَاه أبو داودَ (¬5). ¬

(¬1) في م: «ما أريد». (¬2) في: باب، الوضوء عند الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1085. (¬3) في م: «بالجبل». (¬4) الحجفة؛ بمعنى الترس، وهو شك من الراوى. (¬5) في: باب في طعام الفجأة، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 311. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 397. وضعف إسناده، في: ضعيف سنن أبى داود 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ عنه، أنَّه كان يَحْتَزُّ (¬1) مِن كَتِفِ شَاةٍ في يَدِه، فدُعِىَ إلى الصَّلاةِ، فألقاها من يَدِه، ثُمَّ قام فصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ. روَاه البُخارِىُّ (¬2). ولا بَأْسَ بتَقْطِيعِ اللَّحْمِ بالسِّكِّينِ؛ [لهذا الحَدِيثِ. وقال مُهَنَّا: سَألْتُ أحمدَ عن حديثٍ يُرْوَى عنِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): «لا تَقْطَعُوا اللَّحْم بالسِّكِّينِ؛ فإنَّه مِن صَنيعِ الأعاجِمِ، وانْهَشُوه نَهْشًا؛ فَإنَّهُ أهْنَأُ وَأمْرَأُ» (¬4). قال: ليس بصَحيحٍ. واحْتَجَّ بهذا الحديثِ الَّذى ذكَرْناه. ¬

(¬1) في الأصل: «يجتز». (¬2) تقدم خريجه في 2/ 61. ويضاف إليه: والبخارى، في: باب إذا دعى الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل، من كتاب الأذان، وفى: باب ما يذكر في السكين، من كتاب الجهاد، وفى: باب قطع اللحم بالسكين، وباب شاة مسموطة. . .، وباب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 1/ 172، 4/ 51، 7/ 96، 98، 108. والترمذى، في: باب ما جاء عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرخصة في قطع اللحم بالسكين، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 31. والدارمى، في: باب الرخصة في ترك الوضوء، من كتاب الوضوء. سنن الدارمى 1/ 185. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 365، 4/ 139، 179، 5/ 288. (¬3) في م: «قال أحمد: حديث». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في آكل اللحم، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 314. وقال: ليس هو بالقوى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عندَ الأَكْلِ، وأن يَأْكُلَ بيَمِينِه ممَّا يَلِيه؛ لِما روَى عمرُ بنُ أبى سَلَمَةَ، قال: كُنْتُ يتيمًا في حِجْرِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكانتْ يدِى تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ (¬1)، فقال [لى رسولُ اللَّهِ] (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يَا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، [وكُلْ بيَمِينِك] (¬3)، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وعن ابنِ عمرَ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بيمِينِه، فَإنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُلُ بِشِمالِه ويَشْرَبُ بِشِمالِه». رواه مسلمٌ (¬5). وعن ¬

(¬1) في م: «الصفحة». (¬2) في م: «النبى». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 88. ومسلم، في: باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1599. كما أخرجه أبو داود، في: باب الأكل باليمين، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 314. والترمذى، في: باب ما جاء في التسمية على الطعام، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 46. وابن ماجه، في: باب التسمية عند الطعام، وباب الأكل باليمين، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1087. والدارمى، في: باب في التسمية على الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 94. والإمام مالك، في: باب جامع ما جاء في الطعام الشراب، من كتاب صفة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. الموطأ 2/ 934. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 26، 27. (¬5) في: باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1598. كما أخرجه أبو داود، في: باب الأكل باليمين، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 314. والدارمى، في: باب الأكل باليمين، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 97. والإمام مالك، في: باب النهى عن الأكل بالشمال، من كتاب صفة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. الموطأ 2/ 923. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 8، 33، 106، 128، 135، 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا أَكَل أَحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ (¬1) اللَّهِ، فَإن نَسِىَ أن يَذْكُرَ اسْمَ اللَّه في أوَّلِه فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ». وكان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جالِسًا ورَجُلٌ يَأْكُلُ، فلم يُسَمِّ حتَّى لم يَبْقَ مِن طعامِه إلَّا لقمةٌ، فلمَّا رَفَعها إلى فِيه قال: بسمِ اللَّهِ. فضَحِكَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قال: «مَا زَالَ (¬2) الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ معه، فلمَّا ذَكَر اللَّهَ قَاءَ ما فِى بَطْنِهِ». روَاهُنَّ أبو داودَ (¬3). وعن عِكْرَاشِ بنِ ذُؤَيْبٍ قال: أُتِى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بجَفْنَةٍ كثيرةِ الثَّرِيدِ والوَدَكِ (¬4)، فأقْبَلْنا نأكلُ، فخَبَطْتُ يَدِى في نَواحِيهَا، فقال: «يَا عِكْرَاشُ، كُلْ مِن مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ فَإنَّه طَعَامٌ وَاحِدٌ». ثم أُتِينَا بطَبَقٍ فيه ألْوان مِن الرُّطَبِ، فَجالَتْ يَدُ رسولِ اللَّهِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يزال». (¬3) الأول أخرجه أبو داود في: باب التسمية على الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 312. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في التسمية على الطعام، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 46. وابن ماجه، في: باب التسمية عند الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1087. والدارمى، في: باب في التسمية على الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 94. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 143، 208، 246، 265. وصححه في: الإرواء 7/ 24 - 27. والثانى أخرجه أبو داود في: الباب نفسه. سنن أبى داود 2/ 312، 313. (¬4) الودك: دسم اللحم والشحم، وهو ما يتحلب من ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- في في الطَّبَقِ، وقال: «عِكْرَاشُ، كُلْ مِن حيثُ شِئْتَ؛ فَإنَّهُ غيرُ لَوْنٍ واحدٍ». روَاه ابنُ ماجه (¬1). ولا يأكُلُ مِن ذرْوَةِ الثَّرِيدِ؛ لِما رَوَى ابنُ عباسٍ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّها قال: «إذا أَكَل أَحَدُكُمْ طَعامًا، فَلا يَأْ كُلْ مِن أعْلَى الصَّحْفَةِ، ولكنْ لِيَأْكُلْ مِن أسْفَلِها، فَإِنَّ البَرَكَةَ تَنْزِلُ مِن أعْلاها». وفى حديثٍ آخَرَ: «كُلُوا مِن جَوانِبِها، وَدَعُوا ذِرْوَتَها، يُبارَكْ فيها (¬2)». رَواهما ابنُ ماجه (¬3). ¬

(¬1) في: باب الأكل مما يليك، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1089، 1090. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في التسمية في الطعام، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 40. وضعفه الألبانى، انظر: ضعيف سنن الترمذى 210، 211. ضعيف سنن ابن ماجه 263. (¬2) سقط من: م. (¬3) الحديث الأول، باللفظ الذى أورده المصنف، أخرجه أبو داود عن ابن عباس، في: باب ما جاء في الأكْل من أعلى الصحفة، من كتاب الأطعمة:. سنن أبى داود 2/ 313. وأخرجه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع الليثى باختلاف في ألفاظه، انظر: باب النهى عن الأكل من ذروة الثريد، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1090. والحديث الثانى أخرجه ابن ماجه وأبو داود عن عبد اللَّه بن بسر، في: الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُسْتَحَبُّ الأَكْلُ بالأصابعِ الثَّلاثِ، ولا يَمْسَحُ يَدَه حتَّى يَلْعَقَها. قال مُثَنَّى (¬1): سألْتُ أبا عبد اللَّهِ عن الأكْلِ بالأصابعِ (¬2) كلِّها؟ فذهبَ إلى ثلاثِ أصابِعَ، فذكَرْتُ له الحديثَ الَّذى يُرْوَى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يأكلُ بكَفِّه كلِّها (¬3). فلم يُصَحِّحْه، ولم يَرَ إلَّا ثلاثَ أصابِعَ. ¬

(¬1) في م: «مهنأ». (¬2) ف م: «بيده». (¬3) حديث موضوع، أخرجه العقيلى، في: الضعفاء الكبير 4/ 90، وابن الجوزى، في: الموضوعات 3/ 35، 36. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 3/ 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد رَوَى كَعْبُ بنُ مالكٍ، قال: كان النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأكلُ بثلاثِ أصابِعَ، ولا يَمْسَحُ يَدَه حتَّى يَلْعَقَها. رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬1). ويُكْرَهُ الأكلُ مُتَّكِئًا؛ لِما روَى أبو جُحَيْفَةَ (¬2)، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لا آكُلُ مُتَّكِئًا». روَاه البُخَارِىُّ (¬3). ولا يَمْسَحُ يَدَه بالمِنْدِيلِ حتَّى يلْعَقَها؛ [لِما رَوَيْنا. ورَوَى ابنُ عبَّاسٍ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا أَكَل أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَها] (¬4) [أو يُلْعِقَها] (¬5)». رَواه أبو داودَ (¬6). ¬

(¬1) وأخرجه مسلم، في: باب استحباب لعق الأصابع والقصعة. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1605. وأبو داود، في: باب في المنديل، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 329. والدارمى، في: باب الأكل بثلاث أصابع، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 97. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 386. (¬2) في الأصل: «جحفة». (¬3) في: باب الأكل متكئًا، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 93. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الأكل متكئًا، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 313. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الأكل متكئًا، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 26. وابن ماجه، في: باب الأكل متكئًا، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1086. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 308، 309. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م. (¬6) في: باب في المنديل، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 329. كما أخرجه البخارى، في: باب لعق الأصابع. . .، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 106. ومسلم، في: باب استحباب لعق الأصابع والقصعة. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1065. وابن ماجه، في: باب لعق الأصابع، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1088. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 221، 293، 346.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن نُبَيْشَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن أَكَل في قَصْعَةٍ فَلَحَسَها، اسْتَغْفَرَتْ له القَصْعَةُ». روَاه التِّرْمِذِىُّ (¬1). وعن جابِرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا وَقَعَتِ اللُّقْمَةُ مِن (¬2) يَدِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَمْسَحْ ما عليها مِن الأَرْضِ، وَلْيَأْكُلْهَا». رَوَاه (¬3) ابنُ ماجه (¬4). ¬

(¬1) في: باب ما جاء في اللقمة تسقط، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 7/ 310. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب تنقية الصحفة، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1089. والدارمى، في: باب في لعق الصحفة، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 96. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 76. وضعفه الألبانى، انظر: ضعيف سنن الترمذى 205. وضعيف سنن ابن ماجه 262. (¬2) في الأصل: «في». (¬3) في م: «رواهن». (¬4) في: باب اللقمة إذا سقطت، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1091. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في اللقمة تسقط، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 7/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْمَدُ اللَّهَ إذا فَرَغ؛ لقولِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى مِنَ العَبْدِ أن يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، أو يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَه عليها». رَوَاه مسلمٌ (¬1). وعن أبى سعيدٍ، قال: كان النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أكلَ طعامًا قال: «الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَطعَمَنا وَسَقانَا وجَعَلَنا مسْلِمِينَ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن أبى أُمامَةَ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يقول إذا رُفِعَ طَعامُه: «الحَمْدُ للَّهِ كَثِيرًا، مُبارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِىٍّ، ولَا مُوَدَّعٍ، ولَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا». وعن مُعاذِ بنِ أنَس الجُهَنِىِّ (¬3)، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَن أَكَل طَعامًا فقال: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أطْعَمَنِى هَذَا وَرَزَقَنِيهِ، مِن غيرِ ¬

(¬1) في: باب استحباب حمد اللَّه تعالى بعد الأكل والشرب، من كتاب الذكر. صحيح مسلم 4/ 2095. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 9. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 100، 117. (¬2) في: باب ما يقول الرجل إذا طعم، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 329. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 3/ 121. وانظر: ضعيف سنن أبى داود 381. (¬3) في م: «الجهمى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَوْلٍ مِنِّى ولا قُوَّةٍ. غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ». رَواهُنَّ ابنُ ماجه (¬1). و (¬2) رُوِى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكلَ طَعامًا هو وأبو بكرٍ وعمرُ، ثم قال: «مَن قال في أَوَّلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، [وَبَرَكَةِ اللَّهِ] (¬3). وَفِى آخِرِه: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَطْعَمَ وَأَرْوَى وَأَنْعَمَ وَأَفْضَلَ. فَقَدْ أدَّى شُكْرَهُ» (¬4). ويُسْتَحَبُّ الدُّعاءُ لصاحب الطَّعامِ؛ لِما روَى جابِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ قال: صَنَع أبو الهَيْثمِ للنَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَصْحابِه طعامًا، فدعا النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحابَه، فلمَّا فرَغَ قال: «أَثيبُوا صَاحِبَكُمْ». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وما إثَابَتُه؟ قال: «إنَّ الرَّجُلَ إذا دُخِلَ بَيْتُهُ، وَأُكِلَ طَعامُهُ، وشُرِبَ شَرابُه، فَدَعَوْا له، فذَلك إثابَتُه». وعن أنَسٍ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جاءَ إلى سعدِ بنِ عُبادَةَ يَعُودُه، ¬

(¬1) تقدم تخرج الحديث الأول، عند أبى داود، وغيره. والثلاثة أخرجها ابن ماجه، في: باب ما يقال إذا فرغ من الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1092، 1093. كما أخرج الثانى البخارى، في: باب ما يقول إذا فرغ من طعامه، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 106. وأبو داود، في: باب ما يقول الرجل إذا طعم، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 329. والترمذى، في: باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، من أبواب الدعاء. عارضة الأحوذى 13/ 12. والدارمى، في: باب الدعاء بعد الفراغ من الطعاء، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 95. كما أخرج الثالث أبو داود، في: باب أول كتاب اللباس، من كتاب اللباس. سنن أبى داود 2/ 365. والترمذى، في: باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، من أبواب الدعوات. عارضة الأحوذى 13/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 439. (¬2) في م: «وقد». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) لم نجده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجاءَ بخُبْزٍ وزَيْتٍ، فأكَلَ، ثم قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أفْطَرَ عِنْدَكُمُ (¬1) الصَّائِمُونَ، وَأَكَل طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائكَةُ». رواهما (¬2) أبو داودَ (¬3). فصل: ولا بأْسَ بالجمعِ بينَ طَعامَيْنِ؛ فإنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ جَعْفَرٍ قال: رأيتُ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْكلُ القِثَّاءَ بالرُّطَبِ. ويُكْرَهُ عَيْبُ الطَّعامِ؛ لقولِ أبى هُرَيْرَةَ: ما عابَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «طعامًا قَطٌّ، إذا اشْتَهى شيئًا أَكَلَه، وإن ¬

(¬1) في م: «عندك». (¬2) في م: «رواه». (¬3) في: باب ما جاء في الدعاء لرب الطعام. . .، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 330. كما أخرج الثانى الإمام أحمد، في: المسند 3/ 118، 201. وضعف الحديث الأول في: الإرواء 7/ 48، 49. وقال الحافظ عن الحديث الثانى: وإسناده صحيح. تلخيص الحبير 3/ 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَشْمتَهِه تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). وإذا حَضَر فصادفَ قومًا يأْكُلونَ، فدعَوْه، لم يُكْرَهْ له (¬2) الأَكْلُ؛ لِما قَدَّمْنا مِن حديثِ جابرٍ، حينَ دَعَوْا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكلَ معهم. ولا يَجوزُ له أبى يَتَحَيَّنَ وَقْتَ أكْلِهِم، فيَهْجُمَ عليهم ليَطْعَمَ معهم؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} (¬3). أي غيرَ مُنْتظرِينَ بُلوغَ نُضْجِه. وعن أنَسٍ، قال: ما أكلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ¬

(¬1) الأول أخرجه البخارى، في: باب الرطب بالقثاء، وباب: القثاء، وباب جمع اللونين أو الطعامين بمرة، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 102، 104. ومسلم، في: باب أكل القثاء بالرطب، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1616. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الجمع بين لونين في الأكل، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 326. والترمذى، في: باب ما جاء في أكل القثاء بالرطب، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 35. وابن ماجه، في: باب القثاء والرطب يجمعان، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1104. والدارمى، في: باب من لم ير بأسًا أن يجمع بين الشيئين، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 103. الإمام أحمد، في: المسند 1/ 203، 204. والثانى أخرجه البخارى، في: باب ما عاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- طعاما، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 96. ومسلم، في: باب لا يعيب الطعام، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1632، 1633. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية ذم الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 311. والترمذى، في: باب ما جاء في ترك العيب للنعمة، من أبواب البر. عارضة الأحوذى 8/ 185. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة الأحزاب 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِوَانٍ، ولا في سُكُرَّجَةٍ (¬1). قال: فعلامَ كنتم تأْكُلونَ؟ قال (¬2): على السُّفَرِ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: لم يكُنْ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْفُخُ في طَعامٍ ولا شَرابٍ، ولا يتَنَفَّسُ في الإِناءِ. وفى المُتَّفَقِ عليه (¬3) مِن حديثِ أبى قَتادةَ: «ولَا يَتَنَفَّسْ أحَدُكُمْ في الإِناءِ». وعن ابنِ عمرَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِذا وُضِعَتِ المَائِدَةُ، فلا يَقومُ رَجُلٌ (¬4) حَتَّى ترْفَعَ المائِدَةُ، ولا يَرْفَعُ يَدَهُ وإنْ شَبعَ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، [ولْيُعْذِرْ] (¬5)؛ فَإنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ، وعسَى أن يَكُونَ له في الطَّعامِ حاجَةٌ». روَاهُنَّ كلَّهن ¬

(¬1) السكرجة: الصحفة التى يوضع فها الأكل. (¬2) في الأصل: «قالوا». والقائل هنا هو قتادة -كما صح في البخارى. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 1/ 208. ويضاف إليه والبخارى، في: باب التنفس في الإناء، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 7/ 146. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية التنفس في الإناء، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 81. والدارمى، في: باب من شرب بنفس واحد، من كتاب الأشربة. سنن الدارمى 8/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 383، 5/ 309. (¬4) في م: «الرجل». (¬5) في الأصل: «وليعد». وفى م: «وليقعد». والمثبت من سنن ابن ماجه 2/ 1096. ومعناه: ليبالغ في الأكل، أو يتظاهر بأنه يأكل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1). فصل: قال محمدُ بنُ يَحيى: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: الإِناءُ يُؤْكَلُ فيه ثم تُغْسَلُ فيه اليَدُ؟ قال: لا بَأْسَ (¬2). وقيلَ لأبى عبدِ اللَّهِ: ما تقولُ في غَسْلِ اليَدِ بالنُّخالَةِ (¬3)؟ قال: لا بأْسَ به، نحنُ نفعلُه. واسْتدلَّ ¬

(¬1) حديث أنس أخرجه في: باب الأكل على الخوان والسفرة، من كتاب الأطعمة، سنن ابن ماجه 2/ 1095. كما أخرجه البخارى، في: باب الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة، وباب ما كان النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه يأكلون، من كتاب الأطعمة، وفى: باب فضل الفقر، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى 7/ 91، 97، 8/ 119. والترمذى، في: باب ما جاء علام كان يأكل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأطعمة، وفى: باب ما جاء في معيشة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهله، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى 7/ 282، 6/ 219. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 130. وحديث ابن عباس أخرجه في: باب النفخ في الطعام، من كتاب الأطعمة، وفى: باب النفخ في الشراب، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1094، 1134. وقال في ضعيف سنن ابن ماجه 264: ضعيف، وقد صح من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. كما أخرجه أبو داود، في: باب في النفخ في الشراب والتنفس فيه، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 303. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 80. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 309، 357. وحديث ابن عمر أخرجه في: باب النهى أن يقام عن الطعام حتى يرفع. . .، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1096. وقال في الزوائد: في إسناده عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف. وانظر: ضعيف سنن ابن ماجه 265. (¬2) بعده في م: «به». (¬3) في الأصل: «بالنجاسة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَطَّابِىُّ (¬1) على جوازِ ذلك بما روَى أبو داودَ (¬2) بإسْنادِه عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه أمَرَ امْرأةً أَنْ تجعلَ مع الماءِ مِلْحًا، ثم تَغْسِلَ به الدَّمَ [عن حَقِيبَتِه] (¬3). والمِلْحُ طعامٌ، ففى مَعْناه ما أشْبَهَه. ¬

(¬1) معالم السنن 1/ 96. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 292. (¬3) في م: «من حيضة». وهو يعنى هنا حقيبة رحله التى أصابها الدم.

باب عشرة النساء

بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُعَاشَرَةُ الْآخَرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ لَا يَمْطُلَهُ بِحَقِّهِ، وَلَا يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ لِبَذْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ عِشْرةِ النِّساءِ (يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُعَاشَرَةُ الْآخَرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ لَا يَمْطُلَهُ بِحَقِّهِ، وَلَا يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ لِبَذْلِه) لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2). قال [ابْنُ زيدٍ] (¬3): يتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ، كما عليهنَّ أن يتَّقِينَ اللَّهَ فيهم. وقال ابنُ عبَّاسٍ: إنِّى أُحِبُّ أن أَتَزَيَّنَ للمرأةِ كما أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لى؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بالْمَعْرُوفِ}. وقال الضَّحَّاكُ في تفْسيرِها: إذا أطَعْنَ اللَّهَ، وأطَعْنَ أَزْواجَهُنَّ، فعليه أن يُحْسِنَ صُحْبَتَها، ويَكُفَّ عنها أذَاه، ويُنْفِقَ عليها مِن ¬

(¬1) سورة النساء 19. (¬2) سورة البقرة 228. (¬3) في النسختين: «أبو زيد». وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العُمَرى المدنى، صاحب قرآن وتفسير، جمع تفسيرًا في مجلد، وكتابا في الناسخ والمنسوخ، لكن ضعفوه في الحديث، توفى سنة اثنتين وثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 309، تهذيب التهذيب 6/ 177 - 179.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَعَتِه (¬1). وقال بعضُ أهلِ العلمِ: التَّماثُلُ ههُنا في تَأْدِيَةِ كلِّ واحدٍ منهما ما عليه مِن الحْقِّ لصاحِبِه بالمعروفِ، ولا يَمْطُلُه به، ولا يُظْهِرُ الكَراهَةَ، بل ببِشْرٍ وطَلاقَةٍ، ولا يُتْبِعُه أذًى ولا مِنَّةً؛ لأَنَّ هذا مِن المعروفِ الَّذى أمَرَ اللَّهُ تعالى به. ويُسْتَحَبُّ لكلِّ واحدٍ نهما تَحْسِينُ الخُلُقِ لصاحِبِه، والرِّفْقُ به، واحْتِمالُ أذَاه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} إلى قولِه: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (¬2). قيلَ: هو كلُّ واحدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ. وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ (¬3) عِنْدَكُمْ، أَخْذْتُمُوهُنَّ بِأَمانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُروجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ». رَواه مسلم (¬4). وقال النَّبِىُّ: «إنَّ المرأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ، لن تَسْتَقِيمَ علَى طَرِيقَةٍ، فَإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُها كَسَرْتَها، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِها اسْتَمْتَعْتَ بِها وَفِيها عِوَجٌ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وقال: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ». رَواه ابنُ ماجه (¬6). ¬

(¬1) أخرج هذه الآثار ابن جرير في تفسيره 2/ 453. (¬2) سورة النساء 36. (¬3) عوان: أسرى، أو كالأسرى. (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 363، من حديث جابر الطويل. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، من كتاب الأنبياء، وفى: باب الوصاة بالنساء، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 4/ 161، 7/ 34. ومسلم، في: باب الوصية بالنساء، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1090، 1091. كما أخرجه الترمذى، في؛ باب ما جاء في مداراة النساء، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 163. والدارمى، في: باب مداراة الرجل أهله، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 148. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 428، 449، 497، 530. (¬6) في: باب حسن معاشرة النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 636. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَقُّ الزَّوْج عليها أعْظَمُ مِن حَقِّها عليه، قال اللَّهُ تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (¬1). وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحْدًا أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ، لأَمَرْتُ النِّساءَ أَن يَسْجُدْنَ لِأَزْواجِهِنَّ؛ لِما جَعَل اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الحَقِّ». روَاه أبو داودَ (¬2). وقال: «إذا باتتِ المَرْأةُ مُهاجِرَةً (¬3) فِراشَ زَوْجِها، لَعَنَتْها الْمَلائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وقال لامْرأةٍ: «أذَاتُ زَوْجٍ أنْتِ؟» قالت: نعم. قال: «فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ» (¬5). وقال: «لَا يَحِلُّ لِلمَرْأةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُها شَاهِدٌ إلَّا بإذْنِهِ، ولا تَأْذَنَ في بَيْتِه إِلَّا بإذْنِه، وما أَنْفَقَتْ مِن نَفقَةٍ بغيرِ إذْنِه فإنَّه يُرَدُّ ¬

= كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 110. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 250، 472. (¬1) سورة البقرة 228. (¬2) في: باب في حق الزوج على المرأة، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 494. كما أخرجه بنحوه الترمذى، في: باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 109. وابن ماجه، في: باب حق الزوج على المرأة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 595. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 158، 4/ 381، 5/ 227، 228، 6/ 76. وصححه في الإرواء 7/ 54 - 58. (¬3) في م: «هاجرة». وهو لفظ مسلم. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 39. ومسلم، في: باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1059، 1060. كما أخرجه الدارمى، في: باب في حق الزوج على المرأة، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 150. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 255، 348، 386، 468، 519، 538. (¬5) أخرجه النسائى، في: باب طاعة المرأة زوجها، من كتاب عشرة النساء. السنن الكبرى 5/ 310 - 312. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 419.

3331 - مسألة: (وإذا تم العقد، وجب تسليم المرأة في بيت الزوج إذا طلبها، وكانت حرة يمكن الاستمتاع بها)

وَإذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ إِذَا طَلَبَهَا، وَكَانَتْ حُرَّةً يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه شَطْرُهُ». روَاه البُخارِىُّ (¬1). 3331 - مسألة: (وَإذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ إِذَا طَلَبَهَا، وَكَانَتْ حُرَّةً يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا) لأَنَّ بالعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ تَسْليمَ المُعَوَّضِ، كما تَسْتَحِقُّ المرأة تَسْليمَ العِوَضِ، وكما [يَسْتحِقُّ المُسْتَأْجِرُ] (¬2) تسليمَ العَيْنِ المُسْتَأجَرَةِ، ويُسْتَحَقُّ عليه الأُجْرَةُ به. وقولُه: و (¬3) كانت حُرَّةً. لأَنَّ الأمةَ لا يجبُ تَسْلِيمُها إلَّا باللَّيلِ، على ما نَذْكُرُه. ويُشْتَرطُ إمْكانُ الاسْتِمْتاعِ بها، فإن كانت صغيرةً لا ¬

(¬1) في: باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 39. كما أخرجه مسلم، في: باب ما أنفق العبد من مال مولاه، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 711. وأبو داود، في: باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 572. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية صوم المرأة إلا بإذن زوجها، من أبواب الصوم. عارضة الأحوذى 3/ 309. وابن ماجه، في: باب في المرأة تصوم بغير إذن زوجها، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 560. والدارمى، في: باب النهى عن صوم المرأة تطوعًا. . .، من كتاب الصوم. سنن الدارمى 2/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 464. (¬2) في م: «تستحق المستأجرة». (¬3) في الأصل: «إذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجامَعُ مِثْلُها. وذلك مُعْتَبَرٌ بحالِها واحْتِمالِها لذلك. قالَه القاضى. وذَكَر أنَّهُنَّ يَخْتَلِفْنَ، فقد تكونُ صَغِيرةَ السِّنِّ تَصلُحُ، وكبيرةً لا تَصْلُحُ. وحَدَّه أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، بتِسْعِ سِنِينَ، فقال، في رِوايةِ أبى الحارِثِ، في الصَّغيرةِ يَطْلُبُها زَوْجُها: فإن أتَى عليها تِسْعُ سِنِينَ، دُفِعَتْ إليه، ليس لهم أن يَحْبِسُوها بعدَ التِّسْعِ. وذَهبَ في ذلك إلى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَنَى بعائشةَ وهى بنتُ تِسْعِ سِنِينَ (¬1). قال القاضى: هذا عندِى ليس على طريقِ التَّحْديدِ، وإنَّما ذكَرَه لأَنَّ الغالِبَ أنَّ ابْنَةَ تِسْعٍ يُتَمَكَّنُ مِن الاسْتِمْتاعِ بها. ومتى كانت لا تصْلُحُ للوَطْءِ، لم يجبْ على أهْلِها تَسْلِيمُها إليه، وإن ذكَر أنَّه يَحْضُنُها (¬2) ويُرَبِّيها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ الاسْتِمْتاعَ بها، ¬

(¬1) وزيادة من: م. والحديث تقدم تخريجه في 6/ 132. ويضاف إليه: وأخرجه مسلم، في: باب تزويج البكر الصغيرة، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1038، 1039. (¬2) في م: «يحصنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليستْ له بمَحَلٍّ، ولا يُؤْمَنُ شَرَهُ نَفْسِه إلى مُواقَعَتِها، فَيُفْضِيها (¬1). وإن كانت مَريضَةً مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوالِ، لم يَلْزَمْها تَسْلِيمُ نَفْسِها (¬2) قبلَ بُرْئِها؛ لأنَّه مانِعٌ مَرْجُوُّ الزّوالِ، فهو كالصِّغَرِ، ولأَنَّ العادةَ لم تَجْرِ بتَسْليمِ المريضَةِ إلى زَوْجِها، والتَّسْليمُ في العَقْدِ يَجِبُ على حَسَبِ العُرْفِ. فإن كان المرَضُ غيرَ مَرْجُوِّ الزَّوالِ، لَزِمَ تَسْلِيمُها إلى الزَّوْجِ إذا طَلَبَها، ولَزِمَه تَسَلُّمُها (¬3) إذا عُرِضَتْ عليه؛ لأنَّها ليست لها حالةٌ يُرْجَى زَوَالُ ذلك فيها، فلو لم تُسَلِّمْ نَفْسَها لم يُفِدِ التَّزْوِيجُ، وله أن يَسْتَمْتِعَ بها، فإن كانت نِضْوَةَ الخَلْقِ (¬4)، وهو جَسِيمٌ تخافُ على نَفْسِها الإِفْضاءَ مِن عِظَمِه، فلها مَنْعُه من جِماعِها، وله الاسْتِمْتاعُ بها فيما دونَ الفَرْجِ، وعليه النَّفَقَةُ، ولا ¬

(¬1) في م: «فيفضها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «تسليمها». (¬4) نضوة الخلق: مهزولة.

3332 - مسألة: (و)

وَلَمْ تَشْتَرِطْ دَارَهَا. وَإِنْ سَأَلَتِ الإِنْظَارَ، أُنْظِرَتْ مُدَّةً جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِصْلَاحِ أَمْرِهَا فِيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتُ له خِيارُ الفَسْخِ؛ لأنَّ هذه يُمْكِنُ الاسْتِمْتاعُ بها لغيرِه، وإنَّما الامْتِناعُ لأمْرٍ من جِهَتِه، وهو عِظَمُ خَلْقِه، بخلافِ الرَّتقاءِ. فإن طَلَبَ تَسْلِيمَها إليه وهى حائضٌ، احْتَمَلَ أن لا يَجبَ ذلك، كالمرضِ المَرْجُوِّ زَوالِه، واحْتَمَلَ وُجوبَ [التَّسْلِيمِ؛ لأَنَّه يَزُولُ] (¬1) قريبًا، ولا يَمْنَعُ من الاسْتِمْتاعَ بما دونَ الفَرْجِ. 3332 - مسألة: (و) إنَّما يَجِبُ تَسْلِيمُها في بيتِ الزَّوْجِ إذا (لم تَشْتَرِطْ دارَها) وقَد ذكَرْنا ذلك في بابِه، ويجبُ عليها تَسْلِيمُ نفْسِها في دارِها. فصل: فإن كانت حُرَّةً، لَزِمَ تَسْلِيمُها ليلًا ونهارًا؛ لأنَّه لا حَقَّ لغيرِه عليها. 3333 - مسألة: (فإن سَأَلَتِ الإِنْظارَ، انْظِرَتْ مُدَّةً جَرَتِ العادَةُ بإصْلَاحِ أمْرِها فيها) كاليَوْمَيْن والثَّلَاثةِ؛ لأَنَّ ذلك يَسِيرٌ جَرَتِ العادةُ بمِثْلِه، وقد قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَطْرُقُوا النِّساءَ لَيْلًا، حَتَّى تَمْتَشِطَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3334 - مسألة: (وإن كانت أمة، لم يجب تسليمها إلا بالليل)

وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إِلَّا بِاللَّيْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّعِثَةُ، وتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» (¬1). فمَنَعَ من الطُّروقِ، وأمَر بإمْهالِها لتُصْلِحَ أمْرَها، مع تقَدُّمِ صُحْبَتِها له، فههُنا أوْلَى. 3334 - مسألة: (وإن كانت أَمَةً، لم يَجِبْ تَسْلِيمُها إلَّا باللَّيْلِ) وللسَّيِّدِ اسْتِخْدامُها نهارًا، وعليه إرْسالُها بالليلِ للاسْتِمْتاعِ بها؛ لأنَّه زَمانُه، وذلك لأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ من أمَتِه مَنْفَعَتَيْنِ؛ الاسْتِخْدامَ والاسْتِمْتاعَ، فإذا عُقِدَ على إحداهما، لم يَلْزَمْه تَسْلِيمُها إلَّا في زَمَنِ اسْتِيفائِهَا (¬2)، كما لو أَجَرَها للخِدْمَةِ، لم يَلْزَمْه تَسْلِيمُها إلَّا في زَمَنِها، وهو النَّهارُ، فإن أرادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ بها، لم يَمْلِكْ ذلك؛ لأنَّه يُفَوِّت خِدْمَتَها المُسْتَحَقَّةَ لسَيِّدِها. وإن أرادَ السَّيِّدُ السَّفَرَ بها، فقد توَقَّفَ أحمدُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب تستحد المغيبة وتمتشط، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 51. ومسلم، في: باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا. . .، من كتاب الإِمارة. صحيح مسلم 3/ 1527. وأبو داود، في: باب في الطروق، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 82. والدارمى، في: باب في تزوج الأبكار، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 146. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 104، 3/ 298، 303، 355. (¬2) في م: «استطابتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ذلك، فقال: ما أدْرِى؟ فيَحْتَمِلُ المنْعَ منه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّ الزَّوْجِ منها، فمُنِعَ منه، كما لو أرادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ بها. ويَحْتَمِلُ أنَّ له السَّفَرَ بها؛ لأنَّه مالِكٌ لرَقَبَتِها، فهو كسَيِّدِ العَبْدِ إذا زَوَّجَه. فصل: ويجوزُ للسَّيِّدِ بَيْعُها؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَذِنَ لعائشةَ في شِراءِ بَرِيرَةَ، وهى ذاتُ زَوْجٍ (¬1). ولا يَنْفَسِخُ النِّكاحُ بذلك، بدليلِ أنَّ بَيْعَ بَرِيرَةَ لم يُبْطِلْ نِكاحَها. ¬

(¬1) انظر ما تقدم تخريجه في 11/ 234، 235.

3335 - مسألة: (وله الاستمتاع بها ما لم يشغلها عن الفرائض، من غير إضرار بها)

وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مَا لَمْ يَشْغَلْهَا عَنِ الْفَرَائِض، مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِهَا، وَلَهُ السَّفَرُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَشْتَرِطَ بَلَدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3335 - مسألة: (وَلَهُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا مَا لَمْ يَشْغَلْهَا عَنِ الْفَرَائِض، مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِهَا) لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا بَاتَتِ المَرْأةُ مُهَاجِرَةً فِراشَ زَوْجِهَا، لعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجعَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولقولِ اللَّهِ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) (وله السَّفَرُ بها إلَّا أن تَشْتَرِطَ بلَدَها) لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسافِرُ بنِسائِه (¬3). فإنِ اشْتَرطتْ بلَدَها، فلها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 379. (¬2) سورة النساء 19. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 32.

3336 - مسألة: (ولا يجوز وطؤها فى الحيض)

وَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا فِى الْحَيْضِ وَلَا فِى الدُّبُرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطُها؛ لقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بها (¬1) ما اسْتَحْلَلْتُمْ به الفُرُوجَ» (¬2). 3336 - مسألة: (ولا يَجُوزُ وَطْؤُها في الحَيْضَ) إجْماعًا؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬3). (ولا) يجوزُ وَطْؤُها (في الدُّبُرِ) في قولِ أكثرِ أهلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 392. (¬3) سورة البقرة 222.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العلمِ؛ منهم علىٌّ، وعبدُ اللَّهِ، وأبو الدَّرداءِ، وابنُ عبَّاسٍ، وعبدُ اللَّهِ ابنُ عَمْرٍو (¬1)، وأبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَتْ إباحَتُه عن ابنِ عمرَ، وزيدِ ابنِ أسْلَمَ، ونافِعٍ، ومالكٍ. ورُوِىَ عن مالكٍ، أنَّه قال: ما أدْرَكْتُ (¬2) أحدًا أقْتَدِى به في دِينى يشُكُّ في أنَّه حلالٌ (¬3). وأهلُ العراقِ مِن أصْحابِ مالكٍ يُنْكِرونَ ذلك. واحْتجَّ مَن أحَلَّه بقَوْلِه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬4). وقولِه سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬5) الآية. ولَنا، ما رُوِى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِ مِنَ الحَقِّ، ¬

(¬1) في النسختين: «عمر». وانظر المغنى 10/ 226. (¬2) في م: «رأيت». (¬3) هذا القول من البهتان العظيم على إمام دار الهجرة مالك بن أنس رَحِمَه اللَّهُ، وأشنع منه نسبته إلى بعض الصحابة، رضى اللَّه عنهم. وانظر الرد على هذه الفرية في: تفسير القرطبى 3/ 91 - 96. وتفسير ابن كثير 1/ 381 - 389. (¬4) سورة البقرة 223. (¬5) سورة المؤمنون 5، 6، وسورة المعارج 29، 30.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِى أَعْجازِهِنَّ». وعن أبى هُرَيْرَةَ، وابنِ عبَّاسٍ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [«لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلى رَجُلٍ جَامَع امْرَأتهُ في دُبُرِها» رواهما ابنُ ماجه (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال] (¬2): «مَن أتى حائِضًا أو امْرَأةً فِى دُبُرِها، أَوْ كاهِنًا فَصَدَّقَهُ بما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ» (¬3). روَاهُنَّ كلَّهُنَّ الأَثْرَمُ. فأمَّا الآية، فرَوى جابِرٌ قال: كان اليهودُ يقولون: إذا جامَعَ الرَّجلُ امْرأتَه في فَرْجها مِن وَرائِها، جاءَ الوَلَدُ أحْوَلَ، فأنْزلَ اللَّهُ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. مِنِ بينِ يَدَيْها، ومِن خَلْفِها، غيرَ أن لا يَأتِيَها إلَّا في المَأْتَى (¬4). مُتَّفقٌ عليه. وفى روايةٍ: «ائْتِها مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً، إذا كان ذلك ¬

(¬1) الأول في: باب النهى عن إتيان النساء في أدبارهن، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 619. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 112. والدارمى، في: باب من أتى امرأته في دبرها، من كتاب الوضوء، وفى: باب النهى عن إتيان النساء في أعجازهن، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 1/ 261، 2/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 86، 5/ 213. والثانى في الباب نفسه عن أبى هريرة. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 112. عن ابن عباس. وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 344 عن أبى هريرة. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 378، من حديث أبى هريرة، ولم نجده عن ابن مسعود. (¬4) هذا اللفظ أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 195. والمتفق عليه هو سبب النزول الزيادة بعده. وأخرجه البخارى، في: باب: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. . .} من كتاب التفسير. صحيح البخارى 6/ 36. ومسلم، في: باب جواز جماع امرأته في قبلها. . .، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1058. وأبو داود، في: باب في جامع النكاح، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 499. والترمذى، في: باب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الفَرْجِ» (¬1). والآيةُ الأُخْرَى المُرادُ بها ذلك. فصل: فإن وَطِئها في دُبُرِها، فلا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ له (¬2) في ذلك شُبْهَةً، ويُعَزَّرُ لفِعْلِه المُحَرَّمَ، وعليهما الغُسْلُ؛ لأنَّه إِيلاجُ فَرْجٍ في فَرْجٍ، وحكمُه حكمُ الوَطْءِ في القُبُلِ في إفْسادِ العِباداتِ، وتَقْرِيرِ المَهْرِ، ووُجوبِ العِدَّةِ (¬3). فإن كان الوَطْءُ في أجْنَبِيَّةٍ، وَجَب (¬4) حَدُّ اللُّوطِىِّ (¬5)، ولا مَهْرَ عليه؛ لأنَّه لم يُفَوّتْ مَنْفَعةً لها عِوَضٌ في الشَّرْعِ. ولا يَحْصُلُ بوَطْءِ زَوْجَتِه في الدُّبرِ إحْصان، إنَّما يحْصُلُ بالوَطْءِ في الفَرْجِ؛ لأنَّه وَطْءٌ كامِلٌ، بخلافِ هذا، ولا الإِحْلالُ للزَّوْج الأَوَّلِ؛ لأَنَّ المرأةَ لا تَذُوقُ به (¬6) عُسَيْلَةَ الرَّجُلِ. ولا تحْصُلُ به الفَيْئَةُ؛ لأَنَّ الوَطْءَ لِحَقِّ المرأةِ، وحقُّها الوَطْءُ في القُبُلِ. ولا يَزُولُ به الاكْتِفاءُ بصُماتِها في الإِذْنِ في النِّكاحِ؛ لأَنَّ بَكارةَ الأَصْلِ باقِيَةٌ. ¬

= حدثنا محمد بن عبد الأعلى. . .، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 102. وابن ماجه، في: باب النهى عن إتيان النساء في أدبارهن، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 620. والدارمى، في: باب إتيان النساء في أدبارهن، من كتاب الطهارة، وفى: باب النهى عن إتيان النساء في أعجازهن، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 1/ 258، 259، 2/ 145، 146. (¬1) أخرج هذه الرواية الطحاوى، في: باب وطء النساء في أدبارهن، من كتاب النكاح. شرح معانى الآثار 3/ 43، من حديث ابن عباس. وعن جابر في 3/ 41 بلفظ: «مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «فعليه». (¬5) في الأصل: «الوطء». (¬6) سقط من: م.

3337 - مسألة: (ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها)

وَلَا يَعْزِلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإذْنِهَا، وَلَا عَنِ الأَمَةِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا التَّلَذُّذُ بينَ الألْيَتَيْنِ مِن غيرِ إيلاج، فلا بأْسَ به؛ لأَنَّ السنَّةَ إنَّما ورَدَتْ بتَحْريمِ الدُّبُرِ، فهو مخْصُوصٌ بذلك، ولأنَّه حَرُمَ لأجْلِ الأذَى، وذلك مخْصُوصٌ بالدُّبُرِ، فاخْتصَّ التَّحْريمُ به. 3337 - مسألة: (ولا يَعْزِلُ عنِ الحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِها) معنى العَزْلِ أن يَنزِعَ إذا قَرُبَ الإِنْزالُ، فيُنْزِل خارجًا مِن الفَرْجِ، وهو مَكْرُوهٌ، رُوِيَت كَراهَتُه عن عمرَ، وعلىٍّ، وابنِ عمرَ، وابنِ مسعودٍ. ورُوِىَ عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ أيضًا؛ لأن فيه تَقْلِيلَ النَّسْلِ، وقطعَ اللَّذَّةِ عن المَوْطوءَةِ، وقد حَثَّ النَّبِى -صلى اللَّه عليه وسلم- على تَعاطِى أسْبابِ الوَلَدِ، فقال: «تَنَاكَحُوا، تَناسَلُوا، تَكْثُرُوا» (¬1). وقال: «سَوْدَاءُ وَلُودٌ، خَيْر مِن حَسْنَاءَ عَقِيمٍ» (¬2). إلَّا أن يكونَ العَزْلُ لحاجةٍ، مثلَ أن يكونَ في دارِ الحربِ، فتَدْعُو حاجَتُه إلى الوَطْءِ. ذكَرَ الْخِرَقِىُّ (¬3) هذه الصُّورَةَ (¬4). أو تكونَ زَوْجتُه أمَةً، فيَخْشَى الرِّقَّ على وَلَدِه، أو تكونَ له أمَةٌ، فيَحْتاجُ إلى وَطْئِها وإلى بَيْعِها. فقد رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يَعْزِلُ عن إمائِه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق عن سعيد بن أبى هلال مرسلا في: المصنف 6/ 173، بلفظ: «تناكحوا، تكثروا. . .». (¬2) أخرجه الطبرانى، في: المعجم الكبير 19/ 416، من حديث معاوية بن حيدة، وقال في مجمع الزوائد 4/ 258: وفيه على بن الربيع وهو ضعيف. (¬3) بعده في م: «في». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن عزَلَ مِن غيرِ حاجةٍ، كُرِهَ، ولم يَحْرُمْ. وقد رُوِيَتِ الرُّخْصَةُ فيه عن علىٍّ، وسعدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ، وأبى أيُّوبَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وجابِر، وابنِ عبَّاسٍ، والحسنِ بنِ علىٍّ، وخَبَّابِ بنِ الأرَتِّ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وطاوُس، وعَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحاب الرَّأْى. ورَوَى أبو سعيدٍ، قال: ذُكِرَ -يعنى العَزْلَ- عندَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «فَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أحَدُكُمْ؟». ولم يَقُلْ: فلا يَفْعَلْ. «فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ (¬1) نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ، إلَّا اللَّهُ خَالِقُها». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ لى جاريةً، وأنا أعْزِلُ عنها، وأنا أكْرَهُ أن تَحْمِلَ، وأنا أُرِيدُ ما يُرِيدُ الرِّجالُ، وإنَّ اليهودَ تُحَدِّثُ أنَّ العَزْلَ هى المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى. قال: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أرَادَ اللَّهُ أن يَخْلُقَهُ ما اسْتَطَعْتَ أن تَصْرِفَهُ». روَاه أبو داودَ (¬3). ولا يَعْزِلُ عن زَوْجتِه الحُرَّةِ إلَّا بإذْنِها. قال القاضى: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ وُجوبُ اسْتِئْذانِ الزَّوْجَةِ في العزلِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ مُسْتَحَبًّا؛ لأَنَّ حَقَّها في ¬

(¬1) في الأصل: «لم». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب هو اللَّه الخالق البارئ المصور، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 9/ 148. ومسلم، في: باب حكم العزل، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1063. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في العزل، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 500. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية العزل، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 75. (¬3) في: باب ما جاء في العزل، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 501. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 33، 51، 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَطْءِ دونَ الإِنْزالِ، بدليلِ أنَّه يَخْرُجُ به مِن الفَيْئَةِ والعُنَّةِ. وللشافعيَّةِ في ذلك وَجْهان. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لِما رُوِى عن عمرَ، قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُعْزَلَ عن الحُرَّةِ إِلَّا بإذْنِها. روَاه الإِمامُ أحمدُ، في «المُسْنَدِ»، وابنُ ماجه (¬1). ولأَنَّ لها (¬2) في الوَلَدِ حَقًّا. وعليها في العزلِ ضَرَرٌ، فلم يَجُزْ إلَّا بإذْنِها. فصل: والنِّساءُ ثلاثةُ أقسام؛ إحْداهُنَّ زَوْجتُه الحُرَّةُ، فلا يجوزُ العزلُ عنها إلَّا بإذْنِها، في ظاهرِ المذهبِ، وقد ذكَرْنا ذلك. الثَّانيةُ، أمَتُه، فيَجُوزُ العزلُ عنها. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ وذلك لأنَّه لا حَقَّ لها في الوَطْءِ، ولا في الوَلَدِ، ولذلك لم تملكِ المُطالبَةَ بالقَسمِ ولا الفَيْئَةِ، فلأَنْ لا (¬3) تَمْلِكَ المَنْعَ مِن العَزْلِ أوْلَى. الثَّالثةُ، زَوْجتُه الأمَةُ، فالأَوْلَى جوازُ العَزْلِ عنها بغيرِ إذْنِها. وهو ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب العزل، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 620. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 620. وضعفه في الإرواء 7/ 70. (¬2) في الأصل: «هذا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ الشافعىِّ، استِدلالًا بمَفْهُومِ الحديثِ المذْكورِ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: تُسْتَأْذِنُ الحُرَّةُ، ولا تُسْتَأْذِنُ الأمَةُ. ولأَنَّ عليه ضَرَرًا في إرْقاقِ وَلَدِه، بخلافِ الحُرَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ إلَّا بإذْنِها؛ لأنَّها زَوْجةٌ تَمْلِكُ المُطالَبَةَ بالوَطْءِ في الفَيْئَةِ، والفَسْخَ عندَ تعَذُّرِه بالعُنَّةِ (¬1)، فلم يَجُزْ بغيرِ إذْنِها، كالحُرَّةِ. وقال أصحابُنا: لا يجوزُ العزلُ عنها إلَّا بإذْنِ سَيِّدِها؛ لأَنَّ الوَلَدَ له. والأَوْلَى جوازُه؛ لأَنَّ تَخْصِيصَ الحُرَّةِ بالاسْتِئْذانِ دليلُ سُقوطِه في غيرِها، ولأَنَّ السَّيِّدَ لا حَقَّ له في الوَطْء، فلا يَجِبُ اسْتِئْذانُه في كيْفِيَّته. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ اسْتِئْذانُها مُسْتَحَبًّا؛ لأَنَّ حَقَّها في الوَطْءِ، لا في الإِنْزالِ، بدليلِ خُروجِه بذلك مِن الفَيْئَةِ والعُنَّةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «بالضر».

3338 - مسألة: (وله إجبارها على الغسل من الحيض والجنابة والنجاسة، واجتناب المحرمات، وأخذ الشعر الذى تعافه النفس، إلا الذمية، فله إجبارها على الغسل من الحيض، وفى سائر الأشياء روايتان)

وَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالجَنَابَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَخْذِ الشَّعَرِ الَّذِى تَعَافُهُ النَّفْسُ، إِلَّا الذِّمِّيَّةَ فَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غُسْلِ الْحَيضِ، وَفِى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3338 - مسألة: (وله إجْبارُها على الغُسْلِ مِنَ الحَيْضِ والجَنابَةِ والنَّجاسَةِ، واجْتِنَابِ المحَرَّماتِ، وأخْذِ الشَّعَرِ الَّذِى تَعافهُ النَّفْسُ، إلَّا الذِّمِّيَّةَ، فله إجْبارُها على الغُسلِ مِنَ الحَيْضِ، وفِى سائرِ الْأَشْيَاءِ رِوايَتانِ) وجملةُ ذلك، أنَّ للزَّوْج إجْبارَ زَوْجَتِه على الغُسْلِ مِن الحَيْضِ والنِّفاسِ، مُسْلِمَةً كانت أو ذِمِّيَّة، حرَّةً أو مَمْلُوكةً، لأنَّه يَمْنَعُ الاسْتِمْتاعَ الذى هو حقٌّ له، فمَلَك إجْبارَها على إزالَةِ ما يَمْنَعُ حَقَّه. فإنِ احْتاجَتْ إلى شِراءِ الماءِ فثمنُه عليه؛ لأنَّه لحَقِّه. وله إجْبارُ المُسْلمةِ البالغةِ على الغُسْلِ مِن الجَنابَةِ؛ لأَنَّ الصَّلاةَ واجِبَةٌ عليها، ولا تَتَمكَّنُ منها إلَّا بالغُسْلِ. فأمَّا الذِّمِّيَّةُ، ففيها رِوايتانِ؛ إحداهما، له إجْبارُها عليه؛ لأَنَّ كمالَ الاسْتِمْتاعِ يَقِفُ عليه، فإنَّ النَّفْسَ تَعافُ مَن لا يَغْتَسِلُ مِن جَنابَةٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، ليس له إجْبارُها عليه (¬1). وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ؛ فإنَّ الوَطْءَ لا يقف عليه، لإِباحَتِه بدُونِه. وللشافعىِّ قَوْلان، كالرِّوايتَيْنِ. وفى إزالَةِ الوَسَخِ والدَّرَنِ وفى تَقْلِيمِ الأظْفارِ وَجْهانِ، بِناءً على الرِّوايتَيْن في غُسْلِ الجَنَابَةِ. ويَسْتَوِى في هذا المُسْلِمَةُ والذِّمِّيَّةُ، لاسْتِوائِهما في حُصولِ النَّفْرَةِ مِمَّن ذلك حالُها. وله إجْبارُها على إزالَةِ شَعَرِ العانَةِ إذا خَرَج عن العادةِ، روايةً واحدةً. ذكَرَه (¬2) القاضى. وكذلك الأظْفارُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ذكرها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن طالا قليلًا بحيثُ تَعافُه النَّفْسُ، ففيه وَجْهانِ. وهل له منْعُها من أكلِ ما لَه رائحةٌ كريهةٌ، كالبصَلِ والثُّومِ والكُرَّاثِ؟ على وَجْهَيْنِ؛ أحدُهما، له مَنْعُها مِن ذلك؛ لأنَّه يمنعُ القُبْلَةَ، وكمالَ الاسْتِمْتاعِ. والثانى، ليس له ذلك، لأنَّه لا يَمْنَعُ الوَطْءَ. وله مَنْعُها مِن السُّكْرِ وإن كانت ذِمِّيَّةً، لأنَّه يمنعُ الاسْتِمْتاعَ بها، ويُزِيلُ عَقْلَها، ولا يَأْمَنُ أن تَجْنِىَ عليه. فأمَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُرْبُ ما لا يُسْكِرُ، فله مَنْعُ المُسْلِمَةِ منه؛ لأنَّهما يَعْتَقدانِ تَحْريمَه، وليس له منعُ الذِّمِّيَّةِ منه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّها تَعْتقِدُ إباحتَه في دِينِها. وله إجْبارُها على غَسْلِ فِيها منه ومِن [سَائِرِ النجاسةِ؛ ليَتَمَكَّنَ مِن الاسْتِمْتاعِ بفِيها. ويَتَخَرَّجُ أن يملكَ مَنْعَها منه] (¬1)؛ لِما فيه مِن الرَّائحةِ الكريهةِ، فهو كالثُّومِ. وهكذا الحكمُ لو تزَوَّجَ مُسْلِمةً تَعْتَقِدُ (¬2) إباحَةَ يَسِيرِ النَّبِيذِ. ومذهبُ الشافعىِّ على نحوٍ مِن هذا كلِّه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يعقد».

فصل

فَصْلٌ: وَلَهَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيت عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَع لَيَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ولها عليه أن يَبيتَ عندَها ليلةً مِن كلِّ أرْبَعِ لَيالٍ) إن كانت حُرَّةً. وجملةُ ذلك، أَنَّ قَسْمَ الإبتداءِ واجبٌ، ومعناه أنَّه إذا كانتْ له امرأةٌ حُرَّةٌ، لَزِمَه المَبِيتُ عندَها ليلةً مِن كلِّ أربعِ ليالٍ، ما لم يكُنْ له عُذْرٌ. وإن كان له نِساءٌ، فلكلِّ واحدةٍ منهنَّ ليلةٌ مِن كلِّ أربعٍ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال القاضى، في «المُجَرَّدِ»: لا يجبُ قَسْمُ الابتداءِ، إلَّا أن يَتْرُكَ (¬1) الوَطْءَ مُضِرًّا (¬2)، فإن تَرَكَه غيرَ مُضِرٍّ (¬3)، لم يَلْزَمْه قَسْم ولا وَطْءٌ؛ لأَنَّ أحمدَ قال: إذا وصلَ الرَّجلُ إلى امرأتِه مَرَّةً، بَطَل أن يكونَ عِنِّينًا. أى لا يُؤجَّلُ. وقال الشافعىُّ: لا يجبُ قَسْمُ الابتداءِ بحالٍ؛ لأَنَّ القَسْمَ لحَقِّه، فلم يجبْ عليه. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ: «يا عبدَ اللَّهِ، ألم أُخْبَرْ أَنَّك تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟» قلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ. قال: «فلا تَفْعَلْ، صُمْ وأَفْطِرْ، وَقُمْ ونَمْ؛ فَإنَّ لجَسَدِكَ عليك حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عليك حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عليك حَقًّا». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) في م: «كان بترك». (¬2) كذا في الأصل، وفى م: «مضرة». وفى المغنى 10/ 227: «مصرا». (¬3) في م: «مضرة». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا على بن عبد اللَّه، من كتاب التهجد، وفى: باب حق الضيف في الصوم، وباب حق الجسم في الصوم، من كتاب الصوم، وفى: باب لزوجك عليك حق، من كتاب النكاح، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخْبَرَ أنَّ للمرأةِ عليه حَقًّا. وقد روَى الشَّعْبِىُّ أنَّ كَعْبَ بنَ سُورٍ (¬1) كان جالسًا عندَ عمرَ بن الخَطَّابِ، فجاءَتِ امرأةٌ، فقالتْ: يا أميرَ المؤمنينَ، ما رأيْتُ رجلًا قَطُّ أفْضَلَ مِن زَوْجِى، واللَّهِ إنَّه لَيَبِيتُ ليلَه قائمًا، ويظَلُّ نهارَه صائمًا. فاسْتَغْفَرَ لها، وأثْنَى عليها. واسْتَحْيَتِ المرأةُ، وقامتْ راجعةً، فقال كعبٌ: يا أميرَ المؤمنينَ، هلَّا (¬2) أعْدَيْتَ المرأةَ على زَوْجِها؟ [فقال: وما ذاك؟ فقال: إنَّها جاءت تَشْكُوه، إذا كانت حالُه هذه في العِبادةِ، متى يتفَرَّغُ لها؟ فبَعَثَ عمرُ إلى زَوْجِها] (¬3)، فجاءَ، فقال لكَعْبٍ: اقْضِ بينَهما، فإنَّك فَهِمْتَ مِن أمْرِهما ما لم أفْهَمْ. قال: فإنِّى أرَى كأنَّها (¬4) امرأةٌ عليها ثلاثُ نِسْوَةٍ، هى رابعتُهنَّ، فأقضِى له (¬5) بثلاثةِ أيَّامٍ وليالهِنَّ يتَعَبَّدُ فيهِنَّ، ولها يومٌ وليلةٌ. فقال عمرُ: واللَّهِ ¬

= وفى: باب حق الضيف، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 2/ 68، 3/ 51، 7/ 40، 41، 8/ 38. ومسلم، في: باب النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقا، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 812, 813، كما أخرجه أبو داود، في: باب في صوم الدهر تطوعا، من كتاب الصوم. سنن أبى داود 1/ 565. والنسائى، في: باب صوم يوم وإفطار يوم من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 180. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 194، 198، 199. (¬1) في م: «سوار». وهو كعب بن سور الأزدى قاضى البصرة، وليها لعمر وعثمان، وكان من نبلاء الرجال وعلمائهم، قتل يوم الجمل، قام يعظ الناس ويذكرهم، فجاءه سهمُ غرب فقتله. وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين. سير أعلام النبلاء 3/ 524، 525. الإصابة 5/ 645 - 647. (¬2) في الأصل: «لها». (¬3) سقط من النسختين. والمثبت من المغنى 10/ 238. وانظر مصادر التخريج. (¬4) في م: «أنها». (¬5) سقط من: الأصل.

3339 - مسألة: (وإن كانت أمة، فمن كل ثمان)

وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مِنْ كُلِّ سَبْعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما رأيُك الأَوَّلُ بأعْجَبَ إلىَّ مِن الآخِرِ، اذْهبْ فأنتَ قاضٍ على البَصْرةِ. رَوَى ذلك (¬1) عمرُ بنُ شَبَّةَ (¬2) في كتابِ «قُضَاةِ البَصْرَةِ» مِن وُجُوهٍ هذا أحَدُها (¬3). وفى لفظٍ، قال عمرُ: نِعْمَ القاضى أنتَ. وهذه قَضِيَّةٌ اشْتَهَرَتْ فلم تُنْكَرْ، فكانتْ إجْماعًا. ولأنَّه لو لم يكُنْ حَقًّا للمرأةِ لمَلَكَ الزَّوْجُ تخْصِيصَ إحْدَى زَوْجاتِه به (¬4)، كالزِّيادةِ في النَّفَقَةِ على قَدْرِ الواجبِ. 3339 - مسألة: (وإن كانت أَمَةً، فمِن كلِّ ثَمانِ) لَيالٍ لَيْلَةٌ. هذا اخْتيارُ شيْخِنا (¬5) (وقال أصْحابُنا: مِن كلِّ سَبْعٍ) لأَنَّ أكثرَ ما ¬

(¬1) بعده في م: «عن». (¬2) هو عمر بن شبة بن عبدة بن زيد أبو زيد النميرى، البصرى النحوى، العلامة الإخبارى الحافظ الحجة صاحب التصانيف، كان ثقة عالمًا بالسير وأيام الناس، توفى سنة اثنتين وستين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 369 - 372. (¬3) وأخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 1/ 275، 276. وبنحوه أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 148 - 150. وابن سعد، في: الطبقات الكبرى 7/ 92. وصححه في الإرواء 7/ 80. (¬4) سقط من: م. (¬5) انظر: المغنى 10/ 239.

3340 - مسألة: (وله الانفراد بنفسه فيما بقى)

وَلَهُ الِانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ فِيمَا بَقِىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُ أن يَجْمَعَ معها ثلاثَ (¬1) حرائرَ، ولها السابعةُ. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لتكونَ على النِّصْفِ ممَّا للحُرَّةِ، فإنَّ حَقَّ الحُرَّةِ مِن كلِّ ثَمانٍ ليلتانِ، [ليس لها أكثرُ مِن ذلك] (¬2)، فلو كان للأمَةِ ليلةٌ مِن سَبْعٍ، لزَادَ على النِّصْفِ، ولم يكُنْ للحُرَّةِ ليلتانِ وللأمَةِ ليلة، ولأنَّه إذا كان تحتَه ثلاثُ حرائِرَ وأمَةٌ، فلم يُرِدْ أن يَزِيدَهُنَّ (¬3) على الواجبِ لهنَّ، فقَسَم بينَهُنَّ سَبْعًا، فماذا يَصْنَعُ في اللَّيلةِ الثامِنةِ؟ إن أوْجَبْنا عليه مَبِيتَها عندَ حُرَّةٍ، فقد زادَها على ما يجبُ لها، وإن باتَها عندَ الأمَةِ، جعَلها كالحُرَّةِ، ولا سبيلَ إليه، وعلى ما اخْتارَه شيْخُنا تكونُ هذه الليلةُ الثامنةُ له، إن أحَبَّ انْفَردَ فيها، وإن أحَبَّ باتَ عندَ الأُولَى مُسْتَأْنِفًا للقَسْمِ. وإن كان عندَه حُرَّةٌ وأمَةٌ، قسمَ لهنَّ ثلاثَ ليالٍ مِن ثمانٍ، وله الانْفِرادُ في خمسٍ. وإن كان تحتَه حُرَّتانِ وأمَةٌ، فلهُنَّ خمسٌ وله ثلاثٌ. وإن كان حُرَّتانِ وأمَتانِ، فلهنَّ ستٌّ وله ليلتانِ. وإن كانت أمَة واحدة، فلها ليلةٌ وله سَبْعٌ، وعلى قولِ الأصْحابِ لها ليلةٌ وله ستٌّ. 3340 - مسألة: (وله الانْفِرَادُ بنَفْسِه فيما بَقِىَ) وقد ذَكَرْناه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «يردهن».

3341 - مسألة: (وعليه أن يطأ فى كل أربعة أشهر مرة)

وَعَلَيْهِ وَطْؤُهَا فِى كُلِّ أَرْبَعَةِ أشْهُرٍ مَرَّةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه قد وفَّاهُنَّ حَقَّهُنَّ، فلم تَجبْ عليه زِيادَةٌ، كما لو وَفَّاهُنَّ حَقَّهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ والسَّكَنِ. 3341 - مسألة: (وعليه أن يَطَأَ في كل أرْبَعَةِ أشْهُرٍ مَرَّةً) الوَطْءُ واجبٌ على الرَّجُلِ (إذا لم يكُنْ عُذْرٌ) وبه قال مالكٌ. وقال القاضى: لا يجبُ إلَّا أن يَتْرُكَه للإِضْرارِ. وقال الشافعىُّ: لا يجبُ عليه، لأنَّه حَقٌّ له، فلا يجبُ عليه، كسائرِ حُقوقِه. ولَنا، ما تقَدَّمَ في المسألةِ المُتَقَدِّمَةِ في أوَّلِ الفصلِ، ولأَنَّ في بعضِ رِواياتِ حديثِ كعبٍ، حينَ قَضَى بينَ الرَّجُلِ وامْرأتِه، قال: إنَّ لها عليك حَقًّا يا بَعَلْ تُصِيبُها في أرْبَعٍ لمنْ عَدَلْ فأعْطِها ذاك ودَعْ عنك العِلَلْ (¬1) ¬

(¬1) في الأصل: «العل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فاسْتَحْسَنَ عمرُ قضاءَه، ورَضِيَه (¬1). ولأنَّه حَقٌّ يجبُ بالاتِّفاقِ إذا حلَفَ على تَرْكِه، فيجبُ قبلَ أن يحْلِفَ، كسائرِ الحُقوقِ الواجبةِ، يُحَقِّقُ هذا أنَّه لو لم يكُن واجِبًا، لم يَصِرْ باليَمِينِ على تَرْكِه واجبًا، كسائرِ ما لا يجبُ، ولأَنَّ النِّكاحَ شُرِعَ لمصْلَحةِ الزَّوْجَيْنِ، ودَفْعِ الضَّرَرِ عنهما، وهو مُفْضٍ إلى دَفْعِ (2) ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عن المرأةِ كإفْضائِه إلى دَفعِ (¬2) ذلك عن الرَّجُلِ، فيَجِبُ تَعْلِيلُه بذلك، ويكونُ الوَطْءُ حقًّا لهما جميعًا، ولأنَّه لو لم يكُنْ لها (¬3) فيه حَقٌّ، لَما وَجَب اسْتِئْذانُها في العَزْلِ، كالأمَةِ. ¬

(¬1) أخرجه وكيع. في: أخبار القضاة 1/ 277. وعنده: «نصيبها من» بدلًا من: «تصيبها في». (¬2) في م: «رفع». (¬3) في م: «لهما».

3342 - مسألة: (فإن سافر عنها أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه، لزمه ذلك إن لم يكن عذر)

وَإِنْ سَافَرَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَطَلَبَتْ قُدُومَهُ، لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجبُ في كلِّ أرْبَعةِ أشْهُرٍ مَرَّةً. نَصَّ عليه أحمدُ. ووَجْهُه أنَّ اللَّهَ تعالى قدَّرَه بأرْبعةِ أشْهُرٍ في حَقِّ المُولِى، فكذلك في حَقِّ غيرِه؛ لأنَّ اليَمِينَ لا تُوجِب ما حَلَف على تَرْكِه، فيدُلُّ على أنَّه واجبٌ بدُونِها. 3342 - مسألة: (فإن سافَرَ عنها أَكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ فَطَلَبَتْ قدُومَه، لَزِمَه ذلك إن لم يَكُنْ عُذْرٌ) وجملُة ذلك، أنّه إذا سافرَ عن امرأتِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعُذْرٍ وحاجَةٍ، سقطَ حَقُّها مِن القَسْمِ والوَطْءِ وإن طالَ سَفَرُه، ولذلك لا يُفْسَخُ نِكاحُ المفْقودِ إذا تَرَكَ لامْرأتِه نفَقَةً. وإن لم يكُنْ له عُذْرٌ مانعٌ مِن الرُّجوعِ، فإنَّ أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ذهبَ إلى تَوْقِيته بسِتَّةِ أشْهُرٍ، فإنَّه قيلَ له: كم يَغِيبُ الرَّجلُ عن زَوْجَتِه؟ قال: ستَّةَ أشْهُرٍ، يُكْتَبُ إليه، فإنْ أبَى أن يَرْجِعَ، فرَّقَ الحاكمُ بينَهما. وإنَّما صارَ إلى تقْديرِه (¬1) بهذا؛ لحديثِ عمرَ، روَاه أبو حفصٍ (¬2)، بإسْنادِه عن زيدِ بنِ أسْلَمَ، قال: بينَما عمرُ بنُ الخَطَّابِ يحرسُ المَدِينَةَ (¬3)، فمرَّ بامرأةٍ [في بَيْتها] (¬4) وهى تقولُ: تطَاوَلَ هذا اللَّيْلُ واسْوَدَّ جانِبُهْ … وطالَ عَلَى أَنْ لا خَليلَ أُلاعِبُهْ وَواللَّهِ لولا خَشْيَةُ اللَّهِ وحْدَه … لَحُرِّكَ مِن هذا السَّرِيرِ جَوانِبُهْ فسأل عنها عمرُ، فقيلَ له: هذه فلانةُ، زَوْجُها غائبٌ في سبيلِ اللَّهِ. فأرسلَ إليها امرأةً تكونُ معها، وبعثَ إلى زَوْجِها فأَقْفَلَه، ثم دَخَل على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) وأخرجه سعيد، في: سننه 2/ 174. والبيهقى مختصرًا، في: السنن الكبرى 9/ 29. (¬3) في م: «بالمدينة». (¬4) سقط من: م.

3343 - مسألة: (فإن أبى شيئا من ذلك ولم يكن عذر، فطلبت

فَإِنْ أبَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَطَلَبَتِ الْفُرْقَةَ، فُرِّقَ ـــــــــــــــــــــــــــــ حَفْصةَ، فقال: يا بُنَيَّةُ، كم تَصْبِرُ المرأةُ عن زَوْجِها؟ فقالتْ: سبحانَ اللَّهِ، مِثْلُك يسألُ مِثْلِى عن هذا! فقال: لولا أنِّى أرِيدُ النَّظر للمُسْلِمِين ما سألْتُكِ. قالتْ: خمْسَةَ أشْهُرٍ، أو (¬1) سِتَّةَ أشْهُرٍ. فوَقَّتَ للنَّاسِ في مَغازِيهم سِتَّةَ أشْهُرٍ، يَسِيرونَ شَهْرًا، ويُقِيمُونَ أرْبعةً، ويَسيرونَ شَهْرًا راجِعينَ. وسُئلَ أحمدُ: كم للرَّجُلِ أن (¬2) يَغِيبَ عن أهْلِه؟ قال: يُرْوَى سِتَّةُ أشْهُرٍ، وقد يَغِيبُ الرجلُ أكْثَرَ مِن ذلك لأمْرٍ لا بُدَّ له. 3343 - مسألة: (فَإن أبَى شَيْئًا مِن ذلك ولم يَكُنْ عُذْرٌ، فَطَلَبَتِ ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) سقط من: م.

بَيْنَهُمَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَيَكُونُ هَذَا كُلُّهُ غَيْرَ وَاجِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفُرْقَةَ، فُرِّقَ بينَهما) قال أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ منْصورٍ، في رَجُلٍ تزَوَّجَ امرأةً ولم يَدْخُلْ بها، يَقُولُ: غدًا أدْخُلُ بها. إلى شَهْرٍ، هل (¬1) يُجْبَرُ على الدُّخولِ؟ قال: أذْهَبُ إلى أرْبعةِ أشْهُرٍ، إن دخلَ بها، وإلَّا فُرِّقَ بينَهما. فجعَله أحمدُ كالمُولِى. وقال أبو بكرٍ ابنُ جعفرٍ (¬2): لم يَرْوِ مسألةَ ابنِ منْصورٍ غيرُه، وفيها نَظَرٌ، وظاهرُ قولِ أصْحابِنا، أنَّه لا يُفَرَّقُ بينَهما (¬3) لذلك. وهو قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّه لو ضُرِبَتْ له المُدَّةُ لذلك، وفُرِّقَ بينَهما، لم يكُنْ للإِيلاءِ أثَرٌ، ولا خِلافَ في اعْتِبارِه. وقال بعضُ أصْحابِنا: إن غابَ أكثر مِن ذلك لغيرِ عُذْرٍ، يُراسِلُه الحاكمُ، فإن أبى أن يَقْدَمَ، فُسِخَ نِكاحُه. ورُوِىَ ذلك عن أحمد. ومَن قال: [لا يُفسَخُ نِكاحُه إذا تَرَك الوَطْء وهو حاضِرٌ. فههُنا أولَى. وفى جميع ذلك] (¬4)، لا يجوزُ الفَسْخُ عندَ مَن يَراه إلَّا بحُكْمِ الحاكمِ؛ لأنَّه مُخْتَلفٌ فيه (وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ الوطءَ غيرُ واجبٍ، فيكونُ هذا كلُّه غيرَ واجبٍ) لأنَّه حَقٌّ له، فلم يُجْبَرْ عليه، كسائرِ حُقوقِه. وهذا مذهبُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أى: غلام الخلال عبد العزيز بن جعفر. وتقدم. (¬3) بعده في الأصل: «لم يكن بينهما». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ (¬1). والأَوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذكَرْنا. فصل: سُئِلَ أحمدُ: يُؤجَرُ الرَّجُلُ أن يَأْتِىَ أهْلَه وليس له شَهْوةٌ؟ قال (¬2): إى واللَّهِ، يَحْتسِبُ الولَدَ، فإن لم يُرِدِ الولدَ، يقولُ: هذه امرأةٌ شابَّةٌ، لِمَ (¬3) لا يُؤْجَرُ؟ وهذا صحيحٌ، فإنَّ أبا ذَرٍّ روَى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مُباضَعَتُكَ أَهْلَكَ صَدَقَةٌ». قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَنُصِيبُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «له». (¬3) سقط من: الأصل.

3344 - مسألة: (ويستحب أن يقول عند الجماع: بسم الله، اللهم جنبنى الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنى)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْجِمَاعِ: بِسْم اللَّهَ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهْوتَنا ونُؤْجَرُ؟ قال: «أرأيتَ لو وَضَعهُ في غيرِ حَقِّه، ما كان عليه وِزْرٌ؟». قال: قلتُ (¬1) بلَى. قال: «أفتَحْتَسِبُونَ بِالسَّيِّئَةِ، ولا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟» (¬2). ولأنَّه وَسِيلةٌ إلى الولَدِ، وإعْفافِ نفْسِه وامْرأتِه، وغَضِّ بصَرِه، وسُكونِ نفْسِه، أو إلى بعضِ ذلك. 3344 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَقُولَ عندَ الْجِمَاعِ: بسمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشيطانَ، وجَنِّبِ الشيطانَ ما رَزَقْتَنِى) لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} (¬3). قال عَطاءٌ: هى التَّسْمِيَةُ عندَ الجِماعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 697، 698. وأبو داود، في: باب في إماطة الأذى عن الطريق، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 651، 652. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 155، 167، 178. (¬3) سورة البقرة 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوَى ابنُ عبَّاسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لو أن أحَدَكُمْ حينَ يَأْتِى أهْلَه قال: بسمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطانَ ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَزَقْتَنا. فَوُلِدَ بَيْنَهما وَلَدٌ، لم يَضُرَّه الشَّيْطانُ أبدًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب التسمية على كل حال وعند الوقاع، من كتاب الوضوء، وفى: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله، من كتاب النكاح، وفى: باب ما يقول إذا أتى أهله، من كتاب الدعوات، وفى: باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة بها، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 1/ 48، 4/ 149، 7/ 29، 30, 8/ 102, 103، 9/ 146. ومسلم، في: باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، من كتاب النكاح. صحيح مسلم 2/ 1058. كما أخرجه أبو داود، في: باب في جامع النكاح، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 498. والترمذى، في: باب ما يقول إذا دخل على أهله، من كتاب النكاح. عارضة الأحوذى 4/ 313. وابن ماجه في: باب ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 618. والدارمى، في: باب القول عند الجماع، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 217، 220، 243، 283، 286.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُكْرَهُ التَّجَرُّدُ عندَ المُجامَعَةِ؛ لِما روَى عُتْبَةُ بنُ عَبْدٍ (¬1)، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا أتَى أحَدُكُمْ أهْلَهُ، فَلْيَسْتَتِرْ، ولا [يَتَجَرَّدان تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ] (¬2)» (¬3). روَاه ابنُ ماجه (¬4). وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا دَخَل الخَلاءَ غَطَّى رأسَه، وإذا أتَى أهْلَه غطَّى رأسَه (¬5). ولا يُجامِعُ بحيثُ يراهُما أحَدٌ، أو يَسْمَعُ حِسَّهما، ولا يُقَبِّلُها ويُباشِرُها عندَ النَّاسِ. قال أحمدُ: ما يُعْجِبُنِى إلَّا أن يَكْتُمَ هذا كلَّه. وقال أحمدُ، في الذى يُجامِعُ المرأةَ، والأُخْرَى تَسْمَعُ، قال: كانوا ¬

(¬1) في م: «عبد اللَّه». والمثبت كما في الأصل وسنن ابن ماجه. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 98. (¬2) في الأصل: «يتجردا تجرد البعيرين». (¬3) العير -بالفتح- الحمار الوحشى والأهلى أيضًا. والأنثى عيرة. (¬4) هذا اللفظ أخرجه عبد الرزاق عن أبى قلابة، في: المصنف 6/ 194، 195. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 193. والبزار، في: باب التستر عند الجماع، من كتاب النكاح. كشف الأستار 2/ 170.كلاهما من حديث ابن مسعود. وضعف إسناده في مجمع الزوائد 4/ 293. وبنحوه أخرجه ابن ماجه، في: باب التستر عند الجماع، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 619. وضعفه في الإرواء 7/ 71. (¬5) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 1/ 96. وقال البيهقى: وهذا الحديث أحد ما أنكر على محمد بن يونس الكديمى. وتقدم الحديث في 1/ 194 معزوا إلى البيهقى في 1/ 24، والصواب ما هنا.

3345 - مسألة: (ولا يكثر الكلام حال الوطء)

وَلَا يُكْثِرُ الْكَلَامَ حَالَ الْوَطْءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكْرَهونَ الوَجْسَ، وهو الصَّوْتُ الخَفِىُّ. ولا يتَحَدَّثُ بما كان بينَه وبينَ أهْلِه؛ لِما رُوِى عن الحسنِ، قال: جلسَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الرِّجالِ والنِّساءِ، فأقْبَلَ على الرِّجالِ، فقال: «لَعَل أحَدَكُمْ يُحَدِّثُ بما يَصْنَعُ بأهْلِهِ إذا خَلا؟». ثم أقْبلَ على النِّساءِ، فقال: «لَعَلَّ إحْدَاكُنَّ تُحَدِّثُ النِّساءَ (¬1) بما يَصْنَعُ بها زَوْجُها». قال: فقالتِ امرأةٌ: إنَّهم لَيَفْعَلُونَ، وإنَّا لنَفْعَلُ. فقال: «لا تَفْعَلُوا، فَإنَّمَا [مَثَلُ ذَلِكُمْ] (¬2) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ لَقِىَ شَيْطانَةً، فَجامَعَها والنَّاسُ يَنْظُرُونَ». ورَوَى أبو داودَ (¬3)، عن أبى هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِثْلَه بمعْناه. ولا يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ حالَ الجِماعِ؛ لأن عمرَو بنَ حَزْم وعَطاءً كَرِها ذلك. 3345 - مسألة: (ولا يُكْثِرُ الكَلامَ حالَ الوَطْءِ) لِما روَى قَبِيصَةُ ابنُ ذُؤَيْبٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لا تُكْثِرُوا الكَلامَ عندَ [مُجَامَعَةِ النِّسَاءِ] (¬4)؛ فَإنَّ منه يَكُونُ الْخَرَسُ وَالْفَأْفَاءُ (¬5)» (¬6). ولأنَّه يُكْرَهُ الكلامُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مثلكم». (¬3) في: باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون من إصابته أهله، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 501، 502. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 541. وعن أسماء بنت يزيد، في: المسند 6/ 456، 457. وصححه الألبانى، في: الإرواء 7/ 73 - 75. ولم نجده عن الحسن. (¬4) في الأصل: «الجماع». (¬5) الفأفأة: حبسة في اللسان وغلبة الفاء على الكلام. (¬6) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 5/ 700. وإسناده ضعيف جدًّا. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 355, 356.

3346 - مسألة: (ولا ينزع إذا فرغ قبلها حتى تفرغ)

وَلَا يَنْزِعُ إذَا فَرَغَ قَبْلَهَا حَتَّى تَفْرُغَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حالَ البَوْلِ، وحالُ الجِماعِ في مَعْناه. ويُسْتَحَبُّ أن يُلاعِبَ امْرأتَه عندَ الجِمَاعِ؛ لتَنْهَضَ شَهْوَتُها، فتَنالَ مِن لَذَّةِ الجِمَاعِ مثلَ ما نالَه. وقد رُوِىَ عن (¬1) عمرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَا تُواقِعها إلَّا وقدْ أَتاها مِن الشَّهْوَةِ مثلُ ما أَتاكَ؛ لِكَيْلَا تَسْبِقَها بالْفَراغِ». قلتُ: وذلك إلىَّ؟ قال: «نَعَمْ، إنَّكَ تُقَبِّلُهَا، وَتَغْمِزُها، وتَلْمَسُها، فإذا رَأْيْتَ أَنَّه قَدْ جاءَها مثلُ ما جاءَكَ وَاقعْتَها» (¬2). 3346 - مسألة: (وَلَا يَنْزِعُ إذا فَرَغ قَبْلَها حتَّى تَفْرُغَ) لِما روَى أنَسُ [بنُ مالكٍ] (¬3)، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا جامَع الرَّجُلُ أَهْلَهُ، فَلْيَصْدُقْها (¬4)، ثُمَّ إذا قَضَى (¬5) حاجَتَهُ، فلا يُعْجِلْها حتَّى تَقضِىَ حاجَتَها» (¬6). ولأَنَّ في ذلك ضَرَرًا عليها، ومَنْعًا لها مِن قَضاءِ شَهْوَتِها. ويُسْتَحَبُّ للمرأةِ أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً، تُناوِلُها الزَّوْجَ بعدَ فَراغِه، فيتَمَسَّحُ بها؛ فإنَّ عائشةَ قالت: يَنبَغِى للمرأةِ إذا كانتْ عاقِلَةً أن تَتَّخِذَ خِرْقَةً، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) لم نجده في المصادر التى بين أيدينا. (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسختين: «فليقصدها». والمثبت من مصنف عبد الرزاق. (¬5) بعده في م: الرجل. (¬6) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القول عند الجماع وكيف يصنع وفضل الجماع، من كتاب النكاح. المصنف 6/ 194. وضعفه في الإرواء 7/ 71 - 73.

3347 - مسألة: (ولا بأس أن يجمع بين وطء نسائه وإمائه بغسل واحد)

وَلَهُ الجَمْعُ بَيْنَ وَطْءِ نِسَائِهِ وَإِمَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عِنْدَ مُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جامَعَها زَوْجُها، ناوَلتْه فمسَحَ عنه، ثم تَمْسَحُ عنها، فيُصَلِّيانِ في ثَوْبِهما ذلك، ما (¬1) لم تُصِبْه جَنابَةٌ. 3347 - مسألة: (ولا بَأْسَ أن يَجْمَعَ بينَ وَطْءِ نِسائِه وِإمائِه بِغُسْلٍ واحدٍ) لِما روَى أنَسٌ، قال: سكَبْتُ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاغْتَسَلَ (1) مِن نِسائِه غُسْلًا واحدًا، في ليلةٍ واحدةٍ (¬2). ولأَنَّ حدَثَ الجَنابَةِ لا يَمْنَعُ الوَطْءَ؛ بدليلِ إتْمامِ الجِماعِ (ويُسْتَحَبُّ الوُضُوءُ عندَ مُعاوَدَةِ الوَطْءِ) نَصَّ عليه أحمدُ، قال: فإن لم يَفْعلْ، فأرْجُو أن لا يكونَ به بأسٌ. ولأن الوُضوءَ يَزِيدُه نَشَاطًا ونَظافةً، فاستُحِبَّ. وإنِ اغتسل بينَ كلِّ وَطْئَيْنِ، فهو أفْضَلُ؛ فإنَّ أبا رافعٍ روَى أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طافَ على نِسائِه جميعًا، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من طاف على نسائه في غسل واحد، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 44. ومسلم، في: باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضرء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 249. وأبو داود، في: باب في الجنب يعود، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 49. والترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يطوف على نسائه بغسل واحد، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 231. والنسائى، في: باب إتيان النساء قبل إحداث الغسل، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 118. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من يغتسل من جميع نسائه غسلا واحدا، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 194. والدارمى، في: باب الذى يطوف على نسائه في غسل واحد، من كتاب الطهارة. سنن الدارمى 1/ 192، 193. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 161، 185، 189، 225.

وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْهِ فِى مَسْكَنٍ وَاحِدٍ إِلَّا بِرِضَاهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فاغْتسَلَ عندَ كلِّ امرأةٍ منْهُنَّ غُسْلًا، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، لو جعَلْتَه غُسْلًا واحدًا؟ قال: «هذا أزْكَى [وَأطْيَبُ] (¬1) وَأطْهَرُ». روَاه الإِمامُ أحمدُ، في «المُسْنَدِ» (¬2). ورَوَى هذه الأحاديثَ التى في آدابِ الجِماعِ كلَّها أبو حَفْصٍ العُكْبَرِىُّ. ورَوَى ابنُ بَطَّةَ، بإسْنادِه عن أبى سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذا جامَعَ الرَّجُلُ أوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أرَادَ أن يَعُودَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ» (¬3). فصل: وليسَ للرَّجلِ أن يَجْمَعَ بينَ امْرأتَيْه (في مَسْكَنٍ واحدٍ إلَّا برِضاهُما) صَغِيرًا كان المَسْكَنُ أو كبيرًا؛ لأَنَّ عليهما ضَرَرًا؛ لِما بينَهما من العَداوَةِ والغَيْرَةِ، فاجْتِماعُهما يُثيرُ الخُصومَةَ والمُقاتَلَةَ (¬4)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: 6/ 9, 10. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 2/ 154. ويضاف إليه: وأبو داود، في: باب الوضوء لمن أراد أن يعود، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 50. والنسائى، في: باب في الجنب إذا أراد العود توضأ من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 117. (¬4) في م: «المقابلة».

3348 - مسألة: (ولا يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى أو غيرها)

وَلَا يُجَامِعُ إِحْدَاهُمَا بِحَيْثُ تَرَاهُ الأُخْرَى أَوْ غَيْرُهَا، وَلَا يُحَدِّثُهَا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتسْمَعُ كلُّ واحدَةٍ منهما حِسَّه إذا أتَى الأُخْرَى، أو ترَى ذلك، فإن رَضِيَا بذلك، جازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لهما، فلهما المُسامَحَة بتَرْكِه، وكذلك إن رَضِيتا بنَوْمِه بينَهما في لِحَافٍ واحدٍ، فإن رَضِيَتا بأن يُجامِعَ إحْداهما بحيثُ تَراهُ الأُخْرَى، لم يَجُزْ؛ لأَنَّ فيه دَناءَةً وسُخْفًا وسُقوطَ مُروءَةٍ، فلم يَجُزْ برِضاهما. وإن أسْكنَهما في دارٍ واحدةٍ , كلَّ واحدةٍ منهما في بيتٍ، جازَ، إذا كان ذلك [مَسْكَنَ مِثْلِها] (¬1). 3348 - مسألة: (ولا يُجامِعُ إحدَاهما بحيثُ تَراهُ الأُخْرَى أو غَيْرُها) لأَنَّ فِيه دَناءَةً (ولا يُحَدِّثُها بما جرى بَيْنَهما) ولا يحدِّثُ غيرَها؛ لِما ذكرنا (¬2) مِن حديثِ الحسنِ. ¬

(¬1) في م: «سكن مثلهما». (¬2) في م: «روى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: رُوِىَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «أتَعْجَبونَ مِن غَيْرَةِ (¬1) سَعْدٍ؟ لأَنَا أغيَر منهُ، واللَّهُ أغيَرُ مِنِّى» (¬2). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال (¬3): بلَغَنِى أنَّ نِساءَكم يُزَاحِمْنَ العُلوجَ (¬4) في الأسْواقِ، أمَا تَغارُونَ؟ إنَّه لا خَيْرَ في مَن لا يَغارُ (¬5). وقال محمدٌ [بنُ علىٍّ] (¬6) بنِ الحسينِ: كان إبراهيمُ، ¬

(¬1) سقط من النسختين. والمثبت من مصادر التخريج. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الغيرة، من كتاب النكاح. وفى: باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله، من كتاب الحدود، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- لا شخص أغير من اللَّه، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 7/ 45، 8/ 215، 9/ 151. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1135، 1136. والدارمى، في: باب في الغيرة، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 149. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 248. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) العلج: السمين القوى، والرجل من كفار العجم. (¬5) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 133. (¬6) سقط من: الأصل.

3349 - مسألة: (وله منعها من الخروج من منزله)

وَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ مَنْزِلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه السَّلامُ، غَيُورًا، وما مِن امْرِئٍ لا يَغارُ إلَّا مَنْكوسُ القَلْبِ. 3349 - مسألة: (وله مَنْعُها من الْخُرُوجِ مِن مَنْزِلِه) إلى ما لَها مِنه بُدٌّ، سَواءٌ أرادَتْ زِيارَةَ والِدَيْها، أو عِيادَتَهما، أو حُضُورَ جِنازَةِ أحَدِهِما قال أحمدُ، في امرأةٍ لها زَوْجٌ وأُمٌّ مَريضَةٌ: طاعةُ زَوْجها أوْجَبُ عليها مِن أُمِّها، إلَّا أن يَأذَنَ لها. وقد روَى ابنُ بَطَّةَ في «أحْكامِ النِّساءِ»، عن أنَسٍ، أنَّ رجلًا سافرَ ومنَع زَوجتَه الخُروجَ، فمَرِضَ أبوها، فاسْتَأْذَنَتْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في عيادةِ أبِيها، فقال لها رسوِلُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اتَّقِى اللَّهَ ولَا تُخَالِفِى زَوْجَكِ». [فمات أبوها، فَاسْتَأْذَنتْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حُضورِ جِنازتِه، فقال لها: «اتَّقى اللَّهَ ولا تَخالِفِى زَوْجَكِ»] (¬1). فأَوْحَى اللَّهُ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنِّى قَد غَفَرتُ لها بِطاعَةِ زَوْجِهَا» (¬2). ولأَنَّ طاعةَ الزَّوْجِ واجِبَةٌ، [والعِيادَةُ غيرُ واجِبَةٍ] (¬3)، فلا يَجوزُ تَرْكُ الواجبِ لِما ليسَ بواجبٍ، ولا يجوزُ لها الخُروجُ إلَّا بإذْنِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) عزاه الهيثمى إلى الطبرانى في الأوسط، وقال: فيه عصمة بن المتوكل وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 313. وضعفه في الإرواء 7/ 76، 77. (¬3) سقط من: الأصل.

3350 - مسألة: (فإن مرض بعض محارمها أو مات، استحب له أن يأذن لها فى الخروج إليه)

فَإِنْ مَرِضَ بَعْضُ مَحَارِمِهَا أَوْ: مَاتَ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأذَنَ لَهَا فِى الْخُرُوجِ إلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3350 - مسألة: (فَإن مَرِضَ بعضُ مَحارِمِها أو مات، اسْتُحِبَّ له أَن يَأْذَنَ لها في الخُرُوجِ إليه) لِما في ذلك مِن صِلَةِ الرَّحِمِ، وفى مَنْعِها منه قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وحَمْلٌ لزَوْجَتِه على مُخالَفَتِه، وقد أمرَ اللَّهُ تعالى بالمُعاشَرَةِ بالمعْرُوفِ، وليس هذا مِن المُعاشَرَةِ بالمعْرُوفِ. فإن كانت زَوْجَتُه ذِمِّيَّةً، فله مَنْعُها مِن الخُرُوجِ إلى الكَنِيسَةِ؛ لأَنَّ ذلك ليس بطاعةٍ ولا نَفْعٍ. فإن كانت مُسْلِمَةً، فقال القاضى: له مَنْعُها مِن الخُروجِ إلى المساجدِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وظاهرُ الحديثِ مَنْعُه مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْعِها، وهو قوْلُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَساجِدَ اللَّهِ» (¬1). ورُوِىَ أنَّ الزُّبَيْر (¬2) تزَوَّجَ عاتِكَةَ بنتَ زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيْلٍ، فكانت تخرجُ إلى المساجدِ، وكان غَيُورًا، فيقولُ لها: لو صَلَّيْتِ في بَيْتكِ. فتقولُ: لا أزالُ أخْرُجُ أو تَمنعَنى. فكَرِه مَنْعَها لهذا الخَبرِ. وقال أحمدُ، في الرَّجُلِ تكونُ له المرأةُ أو الأمَةُ النَّصْرانِيَّةُ، يشْتَرِى لها زُنَّارًا؟ قال: لا، بل تخْرُجُ هى تَشْتَرِى لنَفْسِها. فقيل له: جاريتُه تعملُ الزَّنانِيرَ؟ قال: لا. فصل: وليس على المرأةِ خِدْمَةُ زَوجِها، في العَجْنِ، والخَبْزِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 334. (¬2) في م: «ابن الزبير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والطَّبْخِ، وأشْباهِه. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال أبو بكرِ بنُ أبى شَيْبَةَ، وأبو إسْحاقَ الجُوزْجَانِىُّ: عليها ذلك. واحتجَّا بقِصةِ علىٍّ وفاطمةَ؛ فإنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى على ابْنَتِه فاطمةَ بخِدْمَةِ البيتِ، وعلى علىٍّ ما كان خارجًا مِن البيتِ مِن عَمَلٍ. روَاه الجُوزْجَانِىُّ [مِن طُرُقٍ (¬1). وقال الجُوزجَانِىُّ] (¬2): وقد قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لو كُنْتُ آمِرًا أحَدًا أن يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأمَرْتُ المَرْأةَ أن تَسْجُدَ لزَوْجِها، ولو أنّ رَجُلًا أمَر امْرأتَه أن تَنْقُلَ مِن جَبَلٍ أَسْوَدَ إلى جَبَلٍ أَحْمَرَ، أو مِن جَبَلٍ أَحْمَرَ إلى جَبَلٍ أَسْوَدَ، كان نَوْلُها (¬3) أن تَفْعَلَ». وراه بإسْنادِه (¬4). قال: فهذا طاعَتُه فيما لا منفعةَ فيه، فكيفَ بمُؤْنَةِ مَعاشِه؟ وقد كان النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْمُرُ [نِساءَه بخِدْمَتِه] (¬5)، فقال: «يا عائِشَةُ اسْقِينا، يا عائِشُةُ أطعمينا»، «يا عائِشَةُ ¬

(¬1) وأخرجه أبو نعيم في الحليه 6/ 104. عن ضمرة بن حبيب. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عليها». ونولها: حقها والواجب عليها. (¬4) وأخرجه ابن ماجه، في: باب حق الزوج على المرأة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 595. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 76. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَلُمِّى الشَّفْرَةَ (¬1)، وَاشْحَذِيها بحَجَرٍ» (¬2). ورُوِىَ أنَّ فاطِمةَ أتَتْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَشْكو إليه ما تَلْقَى مِن الرَّحَى، وسَألتْه خادِمًا يَكْفيها ذلك (¬3). ولَنا، أنَّ المعْقودَ عليه مِن جِهَتِها الاسْتمتاعُ، فلا يَلْزَمُها غيرُه، كسَقْى دَوابِّه وحَصادِ زَرْعِه. فأمَّا قَسْمُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ علىٍّ وفاطمةَ، فعلى ما تَلِيقُ به (¬4) الأخْلاقُ المَرْضِيَّةُ، ومَجْرَى العادة، لا على سبيلِ الإِيجابِ، كما قد رُوِى عن أسْماءَ بنتِ أبى بكرٍ، أنَّهاَ كانت تقومُ بفَرَسِ الزُّبَيْرِ، وتَلْتَقِطُ له النَّوَى، وتحْمِلُه على رأسها (¬5). ولم يكُنْ ذلك واجبًا عليها. وكذلك (¬6) لا يجب على الزوجِ القِيام بمَصالِحِ خارجِ البيتِ، ولا ¬

(¬1) في الأصل: «النفرة». (¬2) حديث: «يا عائشة أطعمينا. . . ياعائشة اسقينا». أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل ينبطح على بطنه، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 604، 605. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 426. ولفظ: «هلمى المدية، واشحذيها بحجر». أخرجه مسلم، في: باب استحباب الضحية وذبحها. . .، من كتاب الأضاحى. صحيح مسلم 3/ 1557. وأبو داود، في: باب ما يستحب من الضحايا، من كتاب الضحايا. سنن أبى داود 2/ 85، 86. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 78. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب مناقب على بن أبى طالب. . .، من كتاب فضائل الصحابة، وفى: باب عمل المرأة في بيت زوجها، من كتاب النفقات، وفى: باب التكبير والتسبيح عند المنام، من كتاب الدعوات. صحيح البخارى 4/ 102، 5/ 24، 7/ 84، 8/ 87. وأبو داود، في: باب في التسبيح عند النوم، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 609، 610. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 136, 153. (¬4) في م: «بها من». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب الغيرة، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 45، 46. ومسلم، في: باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1717. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 347. (¬6) في الأصل: «لذلك».

3351 - مسألة: (ولا تملك المرأة إجارة نفسها للرضاع والخدمة بغير إذن زوجها)

وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ إِجَارَةَ نَفْسِهَا لِلرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الزِّيادةُ على ما يجبُ لها مِن النَّفقَةِ والكُسْوَةِ، ولكنَّ الأُوْلَى لها (¬1) فعْلُ ما جَرتْ به العادةُ بقِيامِها به، لأنَّه العادةُ، ولا تصْلُحُ الحالُ إلَّا به، ولا تنْتظِمُ المعيشةُ بدُونِه. 3351 - مسألة: (ولا تَمْلِكُ المَرأةُ إجارةَ نَفْسِها لِلرَّضاعِ والخِدْمَةِ بغير إذْنِ زَوْجِها) أمَّا إذاِ فعلتْ ذلك بإذْنِه، جاز، ولَزِمَ العقدُ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرجُ عنهما. وإن كان بغيرِ إذْنِه، لم يَصِحَّ؛ لِما يتَضَمَّنُ مِن تَفْوِيتِ حَقِّ زَوْجِها. وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ. ويجوزُ في الآخرِ، لأنَّه تَناوَلَ مَحَلًّا غيرَ مَحَلِّ النِّكاحِ، لكنْ للزَّوْج فَسْخُه، لأنَّه يَفُوتُ به الاسْتِمْتاعُ ويَخْتَلُّ. ولَنا، أنه عقدٌ يفُوتُ به حَقُّ مَن ثَبَت (¬2) له الحَقُّ بعَقْدٍ سابقٍ، فلم يَصِحَّ، كإجارةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ينسب».

3352 - مسألة: (وله أن يمنعها من رضاع ولدها، إلا أن يضطر إليها، وتخشى عليه)

وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، إِلَّا أن يُضْطرَّ إِلَيْهَا وَتَخْشَى عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَأْجَرِ. فأمَّا إن أجَرَتِ المرأةُ نفْسَها للرَّضاعِ، ثم تزَوَّجَتْ، صَحَّ العقدُ، ولم يَمْلِكِ الزَّوْجُ فَسْخَ الإِجارةِ، ولا مَنْعَها مِن الرَّضاعِ حتى تَنْقَضِىَ المدَّةُ؛ لأَنَّ منافِعَها مُلِكَتْ بعَقْدٍ سابقٍ على نِكاحِه، فأشبَهَ ما لو اشْتَرى أمَةً مُسْتَأْجَرَةً، أو دارًا مشْغولةً. فإن نامَ الصَّبِىُّ أو اشْتَغلَ بغيرِها، فللزَّوجِ الاسْتِمْتاعُ، وليس لوَلِىِّ الصَّبىِّ مَنْعُها. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: ليس له وَطْؤها إلَّا برِضَا الوَلِىِّ؛ لأَنَّ ذلك يَنْقُصُ اللَّبَنَ. ولَنا، أنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ بالعَقْدِ، فلا يَسْقُطُ بأمْرٍ مَشْكوكٍ فيه، كما لو أذِنَ فيه الوَلِىُّ، ولأنَّه يجوزُ له الوَطْءُ مع إذْنِ الوَلِىِّ، فجازَ مع عدَمِه؛ لأنّه ليس للوَلِىِّ الإِذْنُ فيما يَضُرُّ بالصَّبىِّ، ويُسْقِطُ حُقوقَه. 3352 - مسألة: (وله أن يَمْنَعَها مِن رَضاعِ وَلَدِها، إلَّا أن يُضْطرَّ إليها، وَتَخْشَى عليه) وجملتُه، أنَّ للزَّوْجِ منْعَ امْرأتِه مِن رَضاعِ ولَدِها مِن غيرِه، ومِن رَضاعِ وَلَدِ غيرِها، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إليها؛ لأَنَّ عَقْدَ النِّكاحِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْتَضِى تَمْليكَ الزَّوْجِ الاسْتِمْتاعَ في كلِّ الزَّمانِ، مِن كلِّ الجِهاتِ، سِوَى أوْقاتِ الصَّلَواتِ، والرَّضاعُ يُفوِّتُ عليه الاسْتِمْتاعَ في بعضِ الأوْقاتِ، فكان له المَنْعُ، كالخُروجِ مِن مَنْزِلِه. فإنِ اضْطَرَّ الوَلَدُ إليها، بأن لا يُوجَدَ مُرْضِعَةٌ سِواها، أو لا يَقْبَلَ الولدُ الارْتِضاعَ مِن غيرِها، وجَبَ التَّمْكِينُ مِن إرْضاعِه، لأنَّها حالُ ضَرُورَةٍ وحِفْظٍ لنَفْسِ وَلَدِها، فقُدِّمَ على حَقِّ الزَّوْجِ، كتَقْدِيمِ المُضْطَرِّ على المالكِ إذا لم يكُنْ بالمالكِ مثلُ ضَرُورَتِه. فصل: فإن أرادَتْ رَضاعَ وَلَدِها منه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، أنَّ له مَنْعَها مِن رَضاعِه، ولفْظُ شَيْخِنا في هذا الكتابِ يَقْتَضِيه بعُمومِ لَفْظِه. وهو قولُ الشَّافعىِّ. ولفْظُ الخِرَقِىِّ يَقْتَضِيه أيضًا (¬1)، لأنَّه يُخِلُّ باستِمْتاعِه منها، فأَشْبَهَ ما لو كان الوَلَدُ مِن غيرِه. وهذا ظاهرُ كلامِ القاضى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، ليس له مَنْعُها. ويَحْتَمِلُه كلامُ الْخِرَقِىِّ؛ فإنَّه قال: وإن أرادَتْ رَضاعَ وَلَدِها بأُجْرَةِ مِثْلِها، فهى أحَقُّ به مِن غيرِها، سواءٌ كانت في حِبالِ الزَّوْجِ أو مُطَلَّقَةً. وهكذا ذكَرَه شيْخُنا في كتابِ نفَقَةِ الأقارِبِ في الكتابِ المشْروحِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬1). وهو خبَرٌ يُرادُ به الأمْرُ، وهو عامٌّ في كلِّ والِدَةٍ (¬2). ولا يَصِحُّ مِن أصْحابِ الشافعىِّ حَمْلُه على المُطَلَّقاتِ؛ لأنَّه جعلَ لَهُنَّ رزْقَهُنَّ وكُسْوَتَهُنَّ، وهم لا يُجِيزُونَ جَعْلَ ذلك أجْرَ الرَّضاعِ ولا غيرِه. وقولُنا في الوَجْهِ الأَوَّلِ: إنَّه يُخل باسْتِمْتاعِه. قُلْنا: [ولكنْ] (¬3) لإيفاءِ حَقٍّ عليه، وليس ذلك مُمْتَنِعًا، كما أنَّ قَضاءَ دَيْنِه بدَفْعِ مالِه فيه واجبٌ، سِيَّما إذا تعَلَّقَ به حَقُّ الوَلَدِ في كَوْنِه مع أُمِّهِ، وحَقُّ الأمِّ في الجَمْعِ بينَها وبينَ وَلَدِها. وهذا ظاهِرُ كلامِ ابنِ أبى موسى. ¬

(¬1) سورة البقرة 233. (¬2) في م: «واحدة». (¬3) سقط من: م.

فصل فى القسم

فَصْلٌ فِى الْقَسْمِ: وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِىَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِى الْقَسْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في القَسْمِ: قال، رَحِمَهُ اللَّه: (وعلى الرَّجُلِ أَن يُساوِىَ بينَ نِسائِه فِى القَسْمِ) لا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ في وجُوبِ التَّسْوِيَةِ بينَ الزَّوْجاتِ في القَسْمِ خلافًا، قال اللَّهُ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وليس مع المَيْلِ مَعْرُوفٌ. وقال سبحانه: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (¬2). ورَوَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن كانت له امرَأتان، فَمَالَ إلى إحْدَاهما، جَاءَ يومَ القيامةِ وَشِقُّه مَائِلٌ». وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْسِمُ بيْنَنا فيَعْدِلُ، ثم يقولُ: «اللَّهُمَّ (¬3) هذا قَسْمِى فِيمَا أَمْلِكُ، فلا تَلُمْنِى فيما لا أمْلِكُ». ¬

(¬1) سورة النساء 19. (¬2) سورة النساء 129. (¬3) سقط من: الأصل.

3353 - مسألة: (وعماد القسم الليل، إلا لمن، معيشته بالليل، كالحارس)

وَعِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ، إلَّا لِمَنْ مَعِيشتُهُ بِاللَّيْلِ، كَالْحَارِسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رواهما أبو داودَ (¬1). 3353 - مسألة: (وعمادُ القَسْمِ اللَّيْلُ، إلا لمَن، مَعِيشَتُه باللَّيْلِ، كالْحَارِسِ) ولا خلافَ في هذا؛ وذلكَ لأَنَّ الليلَ للسَّكَنِ والإِيواءِ، يَأْوِى فيه الإِنْسانُ إلى مَنْزِلِه، ويَسْكُنُ إلى أهْلِه، ويَنامُ في فِراشِه مع زَوْجَتِه عادةً، والنَّهارَ للمَعاشِ، والخُروجِ، والتَّكَسُّبِ، والاشْتِغالِ، قال اللَّهُ تعالى: [{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} (¬2). وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (¬3). وقال تعالى] (¬4): {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ ¬

(¬1) في: باب في القسم ببن النساء، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 492. كما أخرجهما الترمذى، في: باب في التسوية بين الضرائر، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 80، 81. والنسائى، في: باب ميل الرجل الى بعض نسائه دون بعض، من كتاب عشرة النساء. المجتبى 7/ 60. وابن ماجه، في: باب القسمة بين النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 633. والدارمى، في: باب في العدل بين النساء، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 143. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 295، 347، 471, 6/ 144. (¬2) سورة الأنعام 96. (¬3) سورة النبأ 10، 11. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). فعلى هذا يَقْسِمُ الرَّجلُ بينَ نِسائِه ليلةً وليلةً، ويكونُ في النَّهارِ في مَعاشِه فيما شاءَ ممَّا يُباحُ له، إلَّا أن يكونَ ممَّن مَعاشُه باللَّيْلِ، كالحارسِ ومَن أشْبَهَه (¬2)، فإنه يَقْسِمُ بينَ نِسائِه بالنَّهارِ، ويكونُ اللَّيْلُ في حَقِّه كالنَّهارِ في حَقِّ غيرِه. فصل: والنَّهارُ يَدْخُلُ في القَسْمِ تَبعًا للَّيلِ؛ بدليل ما رُوِى أنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يوْمَها لعائشةَ. مُتَّفقٌ عليه (¬3). وقالت عائشةُ: قُبِضَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَيْتِى، وفى يَوْمِى (¬4). وإنَّما قُبِضَ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهارًا. ويَتْبَعُ اليومُ اللَّيْلَةَ ¬

(¬1) سورة القصص 73. (¬2) في الأصل: «أشبههم». (¬3) أخرجه البخارى، في: باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 43. ومسلم، في: باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1085. كما أخرجه أبو داود، في: باب في القسم بين النساء، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 492، 493. وابن ماجه، في: باب المرأة تهب يومها لصاحبتها، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 634. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 117. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب ما جاء في بيوت أزواج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب الخمس، وفى: باب فضل عائشة، رضى اللَّه عنها، من كتاب فضائل أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، وفى: باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 4/ 99، 5/ 37، 7/ 44. ومسلم، في: باب في فضل عائشة، رضى اللَّه عنها، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1893. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 48، 121، 200، 274.

3354 - مسألة: (وليس له البداية بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة)

وَلَيْسَ لَهُ الْبِدَايَةُ بِإِحْدَاهُنَّ وَلَا السَّفَرُ بِهَا إِلَّا بِقُرْعَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الماضِيَةَ؛ لأنّ النَّهارَ تابعٌ للَّيْلِ، ولهذا يكونُ أوَّلُ الشَّهْرِ اللَّيلَ، ولو نذَرَ اعْتِكافَ شهرٍ دخَلَ مُعْتَكَفَه قبلَ غُروبِ شَمْسِ الشَّهْرِ الذى قبلَه، ويَخْرُجُ منه (¬1) بعدَ غُروبِ شمسِ (2) آخرِ يومٍ منه، فيَبْدَأُ باللَّيلِ. وإن أحَبَّ أن يجعَلَ النَّهارَ مُضافًا إلى اللَّيلِ الذى يَتَعَقَّبُه، جازَ، لأَنَّ ذلك لا يتَفاوَتُ. 3354 - مسألة: (وليس له البِدايَةُ بإحْدَاهُنَّ ولا السَّفَرُ بها إلَّا بقُرْعَةٍ) متى كان عندَه نِسْوَةٌ، لم يَجُزْ له أن يَبْتَدِئ بواحدةٍ منهنَّ إلَّا بقُرْعَةٍ؛ لأَنَّ البِدايَةَ (¬2) بها تَفْضِيلٌ لها، والتَّسويةُ واجِبةُ، ولأنَّهُنَّ مُتَساويات في الحقِّ، ولا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَهنَّ، فَوجبَ المَصِيرُ إلى القُرْعَةِ؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أرادَ سفرًا أقْرَعَ بينَ نِسائِه، فمَنْ خَرجَتْ لها القُرْعَةُ، خرجَ بها معه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فالقُرْعَةُ في السَّفَرِ منصوصٌ ¬

(¬1) بعده في م: «من». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 32.

3355 - مسألة: (فإذا بات عندها بقرعة أو غيرها، لزمه المبيت عند الثانية)

فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا بِقُرْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَ الثَّانِيَةِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِى الْوَطْءِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، وابْتِداءُ القَسْمِ مَقِيسٌ عليه. 3355 - مسألة: (فإذا بات عندَها بقُرْعَةٍ أو غيرِها، لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عندَ الثَّانِيَةِ) لتَعَيُّنِ حقِّها. فإن كانتا اثْنَتَيْن، كَفاه قرعةٌ واحدةٌ، ويَصِيرُ في اللَّيلةِ الثَّانيةِ إلى الثَّانيةِ بغيرِ قُرْعةٍ؛ لأَنَّ حقَّها مُتَعَيِّنٌ. فإن كُنَّ ثلاثًا، أقْرَعَ (¬1) في اللَّيلةِ الثَّانيةِ للبِدايةِ بإحْدَى الباقِيَتَيْن. فإن كُنَّ أربعًا، أقْرَعَ في اللَّيلةِ الثَّالثةِ، ويَصِيرُ في اللَّيلةِ الرَّابعةِ إلى الرَّابعةِ بغيرِ قُرْعَةٍ. ولو أقْرَعَ في اللَّيلةِ الأُولَى، فَجعلَ سَهْمًا للأولَى، وسهمًا للثَّانيةِ، وسهمًا للثَّالثةِ، وسهمًا للرَّابعةِ، ثمّ أخرَجَها عليهنَّ مَرَّةً واحدةً، جازَ، وكانت لكلِّ واحدةٍ ما (¬2) خَرَجَ لها. 3356 - مسألة: (وليس عليه التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ في الوطءِ، بل يُسْتَحَبُّ) ولا نعلمُ خلافًا بينَ أهلِ العلمِ، في أنَّه لا تجبُ التَّسْويةُ بينَ النِّساءِ في الجِماعِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ وذلك لأَنَّ الجِمَاعَ طريقه الشَّهْوَةُ والمَيْلُ، ولا سبِيلَ إلى التَّسْويةِ بينَهنَّ في ذلك، فإنَّ قلْبَه قد يَمِيلُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «مما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى إحداهما دُونَ الأُخْرَى، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (¬1). قال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِىُّ: في الحُبِّ والجِمَاعِ (¬2). وإن أمْكَنَتِ التَّسْوِيةُ بينَهما في الجِماعِ، كان أحْسنَ وأولَى، فإنَّه أبلَغُ في العَدْلِ، وقد كان النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسمُ بينَهنَّ فيَعْدِلُ، ثم يقولُ: «اللَّهُمَّ هَذا قَسْمِى فيما أمْلِكُ، فلا تَلُمْنِى فيما لا أَمْلِكُ» (¬3). ورُوِىَ أنَّه كان يُسَوِّى بينَهنَّ حتى في القُبَلِ (4). ولا تجبُ التَّسْويةُ بينَهنَّ في الاسْتِمْتاعِ بما دُونَ الفَرْجِ مِن القُبَلِ (¬4)، واللَّمْسِ، ونحوِهما؛ لأنَّه إذا لم تَجِبِ التَّسْويةُ في الجِماعِ، ففى دَواعِيه أولَى. فصل: وليس عليه التَّسْويةُ بينَ نِسائِه في النَّفقَةِ والكُسْوَةِ، إذا قامَ بالواجبِ لكلِّ واحدةٍ منهنَّ. قال أحمدُ، في الرَّجُلِ له امْرأتانِ: له أَنْ يُفضِّلَ إحْداهما على الأُخْرَى في النَّفقَةِ والشَّهَواتِ والسُّكْنَى (¬5)، إذا كانتِ الأُخْرَى في كِفايَةٍ، ويَشْتَرِى لهذه أرْفعَ مِن ثَوْبِ هذه، وتكونُ تلك في كِفايَةٍ. وهذا لأَنَّ التَّسْوِيةَ في هذا كلِّه تَشُقُّ، فلو وَجَبَ لم يُمْكِنْه القِيامُ به إلَّا بحَرَجٍ، فسَقطَ وُجوبُه، كالتَّسْويةِ في الوَطْءِ. ¬

(¬1) سورة النساء 129. (¬2) أخرجه ابن جرير في تفسيره 5/ 313. (¬3) تقدم تخريجه صفحة 431. (¬4) في م: «القبلة». (¬5) في الأصل: «الكسى».

3357 - مسألة: (ويقسم لزوجته الأمة ليلة، وللحرة ليلتين وإن كانت كتابية)

وَيَقْسِمُ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3357 - مسألة: (ويَقْسِمُ لزَوْجَتِه الأَمَةِ لَيْلَةً، ولِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْن وإن كانت كتابِيَّةً) وبهذا قال علىُّ بنُ أبى طالبٍ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومَسْروقٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبوْ عُبَيْدٍ. وذكَرَ أبو عُبَيْدٍ أنَّه مذهبُ الثَّوْرِىِّ، والأَوْزاعِىِّ، وأهلِ الرَّأْى. وقال مالكٌ، في إحْدَى الرِّوايتَيْنِ عنه: يُسَوِّى بينَ الحُرَّةِ والأمَةِ في القَسْمِ؛ لأنَّهما سَواءٌ في حُقوقِ النِّكاحِ، مِن النَّفَقةِ، والسُّكْنَى، وقَسْمِ الابتداءِ، فكذلك هذا. ولَنا، ما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يَقولُ: إذا تَزَوَّجَ الحُرَّةَ على الأمَةِ، قَسَم للأمَةِ ليلةً وللحُرَّةِ ليلتَيْنِ. رواه الدَّارَقُطنى (¬1). واحْتَجَّ به أحمدُ. ولأَنَّ الحُرَّةَ يجبُ تَسْلِيمُها ليلًا ونهارًا، فكان حظُّها [أكثرَ في] (2) الإِيواءِ، ويُخالِفُ النَّفقةَ والسُّكْنَى؛ فإنَّه مُقَدَّرٌ بالحاجةِ، وحاجَتُها [إلى ذلك] (¬2) كحاجَةِ الحُرَّةِ. وأمَّا قَسْمُ الإبتداءِ، فإنَّما شُرِعَ ليزُولَ الاحْتِشامُ مِن كلِّ واحدٍ منهما مِن صاحِبِه، ولا يخْتلِفانِ في ذلك، ¬

(¬1) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطنى 3/ 285. كما أخرجه البيهقى، في: باب الحر ينكح حرة على أمة. . .، من كتاب القسم والنشوز. السنن الكبرى 7/ 299. وعبد الرزاق، في: باب نكاح الأمة على الحرة، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 265. وابن أبى شيبة، في: باب في الحرة والأمة إذا اجتمعتا. . .، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 150. وضعفه في الإرواء 7/ 86، 87. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى مسْألَتِنا يَقْسِمُ لهما ليتَساوَى حَظُّهما. فصل: والمسلمةُ والكِتابِيَّةُ سواءٌ في القَسْمِ، فلو كانت له امْرأتانِ، أمَةٌ مسلمةٌ، وحُرَّةٌ كِتابِيَّةٌ، قَسَم للأمَةِ ليلةً وللحُرَّةِ ليلتَيْنِ. وإن كانَتا جميعًا حُرَّتَيْنِ، فلَيْلَةٌ وليلةٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ القَسْم بينَ المسْلِمةِ والذِّمِّيَّةِ سواءٌ، كذلك قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِى، والزُّهْرِىُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والثَّوْرىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وذلك لأَنَّ القَسْمَ مِن حُقوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فاسْتَوَتْ فيه المُسلمةُ والكتابِيَّةُ، كالنَّفقةِ والسُّكْنَى، ويُفارِقُ الأمَةَ، لأَنَّ الأمَةَ لا يَتمُّ تَسْلِيمُها، ولا يَحْصُلُ (¬1) لها الإِيواءُ التَّامُّ، بخِلافِ الكِتابِيَّةِ. ¬

(¬1) في م: «يحتمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أُعْتِقَتِ الأمَةُ في ابْتِداءِ مُدَّتِها، أضافَ إلى ليْلَتِها ليلةً أُخْرَى؛ لتُساوِىَ الحُرَّةَ، وإن كان بعدَ انْقضاءِ مُدَّتِها، اسْتُؤْنِفَ القَسْمُ مُتَساوِيًا، ولم يَقْضِ لها ما مَضَى؛ لأَنَّ الحُرِّيَّةَ حصَلَتْ بعدَ اسْتِيفاءِ حَقِّها. [وإن عتَقَت [وقد] (¬1) قَسَمَ للحُرَّةِ ليلةً، لم يَزِدْها على ذلك؛ لأنَّهما تَساوَيا، فسَوَّى بينَهما. فصل: والحَقُّ في القَسْمِ للأمَةِ] (¬2) دُونَ سَيِّدِها، فلها أن تَهَبَ لَيْلَتَها لزَوْجِها، ولبَعْضِ ضَرائرِها، كالحُرَّةِ، وليس (¬3) لسَيِّدِها الاعْتِراضُ عليها، ولا أن يَهبَه دُونَها؛ لأَنَّ الإِيواءَ والسَّكَنَ حَقٌّ لها دُونَ سَيِّدِها، فَمَلَكَتْ إسْقاطَه. وذكرَ القاضى، أنَّ (¬4) قياسَ قولِ أحمدَ: إنَّه يَسْتَأْذِنُ سَيِّدَ الأمَةِ في العَزْلِ عنها. أن لا يجوزَ هِبَتُها لحقِّها مِن القَسْمِ إلَّا بإذْنِه. ¬

(¬1) تكملة من المغنى 10/ 247. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «لأن». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الوَطْءَ لا يتَناوَلُه القَسْمُ، فلم يكُنْ للمَوْلَى فيه حَقٌّ، ولأَنَّ المُطالبةَ بالفَيْئَةِ للأمَةِ دُونَ سَيِّدِها، وفَسْخُ النِّكاحِ بالجَبِّ والعُنَّةِ لها دونَ سَيِّدِها، فلا وَجْهَ لإِثْباتِ الحَقِّ له ههُنا. فصل: ويَقْسِمُ المريضُ والْمَجْبوبُ والعِنِّينُ والخَصِىُّ. وبذلك قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ لأَنَّ القَسْمَ للأُنْسِ، وذلك حاصِلٌ ممَّن لا يَطَأُ (¬1). وقد روَتْ عائشةُ، أن رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا كان في مَرضِه، جَعَلَ يدُورُ على نِسائِه، ويقولُ: «أيْنَ أنَا غَدًا؟ أيْنَ أنَا غَدًا؟». روَاه البُخَارِىُّ (¬2). فإن شَقَّ عليه ذلك، اسْتَأْذَنَهُنَّ في السُّكُونِ (¬3) عندَ إحْداهنَّ، كما فعلَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالت عائشةُ: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَث إلى النِّساءِ فاجْتَمَعْنَ، قال: «إنِّى لا أسْتَطِيعُ أَن أَدُورَ بَيْنَكُنَّ، فَإن رَأيْتُنَّ أن تَأذَنَّ لِى، فَأَكُونَ عندَ عائِشَةَ فَعَلْتُنَّ». فأَذِنَّ له. روَاه أبو داودَ (¬4). فإن لم يَأْذَنَّ له، أقامَ عندَ إحداهنَّ ¬

(¬1) في م: «يوطأ». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 432. (¬3) في م: «الكون». (¬4) في: باب في القسم بين النساء، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 493. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 219.

3358 - مسألة: (ويقسم للحائض، والنفساء، والمريضة،

وَيَقْسِمُ لِلْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالْمَرِيضَةِ، وَالْمَعِيبَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقُرْعَةِ، أو اعْتَزلَهنَّ جميعًا إن أحَبَّ. فإن كان الزَّوْجُ مَجْنونًا لا يُخافُ منه، طافَ به الوَلِىُّ عليهنَّ، وإن كان يُخافُ منه، فلا قَسْمَ عليه؛ لأنَّه لا يحْصُلُ منه أُنْسٌ ولا فائدةٌ. فإن لم يَعْدِلِ الوَلِىُّ في القَسْمِ بينَهنَّ، ثم أفاقَ المَجْنونُ، فعليه أن يَقْضِىَ للمَظْلُومَةِ؛ لأنَّه حَقٌّ ثبتَ في ذِمَّتِه، فلَزِمَه إيفاؤُه حالَ الإفاقَةِ (¬1)، كالمالِ. 3358 - مسألة: (ويَقْسِمُ للْحائِضِ، والنُّفَسَاءِ، والمَرِيضَةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «الإقامة».

3359 - مسألة: (فإن دخل فى ليلتها إلى غيرها، لم يجز إلا لحاجة داعية، فإن لم يلبث، لم يقض، وإن لبث، أو جامع، لزمه أن يقضى لها ذلك من حق الأخرى)

فَإِنْ دَخَلَ فِى لَيْلَتِهَا إلَى غَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ إِلَّا لِحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَلْبَثْ عِنْدَهَا، لَمْ يَقْضِ، وإنْ لَبِثَ أَوْ جَامَعَ، لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِىَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَعِيبَةِ) والمُحْرِمَةِ، والصَّغِيرَةِ المُمْكِنِ وَطْؤُها، وَكُلّهُنَّ سَوَاءٌ فِى الْقَسْمِ. وبذلك قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. ولا نعلمُ عن غيرهم خِلافَهم. وكذلك التى ظاهَرَ منها؛ لأَنَّ القَصْدَ الإِيواءُ والسَّكَنُ والأُنْسُ، وهو حاصِلٌ لهنَّ (¬1). فأمَّا المجْنُونَةُ، فإن كانت لا يُخافُ منها، فهى كالعاقِلَةِ، وإن خافَ منها، فلا قَسْمَ لها؛ لأنَّه لا يَأْمنها على نَفسِه، ولا يحْصُلُ لها أُنْسٌ ولا بها. 3359 - مسألة: (فإن دَخَل في لَيْلَتِها إلى غيرِها، لم يَجُزْ إلَّا لحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ، فَإن لم يَلْبَثْ، لم يَقضِ، وإن لَبِثَ، أو جامَعَ، لَزِمَهُ أن يَقْضِىَ لها ذلك مِن حَقِّ الأخْرَى) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا دخلَ في زَمَنِها ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ضَرَّتِها، فإن كان ليلًا، لم يَجُزْ إلَّا لِضَرُورَةٍ، مثلَ أن يكونَ مَنْزولًا بها، فيُرِيدُ أن يَحْضُرَها، أو تُوصِى إليه، أو ما لا بُدَّ منه، فإن فعلَ ولم يَلْبَثْ أن خَرَج، لم يَقْضِ. وإن أقامَ وبَرَأَتِ المرأةُ المَريضَةُ، قضَى للأُخْرَى مِن لَيْلَتِها بقَدْرِ ما أقامَ عندَها. وإن دخلَ لحاجةٍ غيرِ ضَرُورِيَّةٍ، أتَمَّ (¬1). والحكمُ في القَضاءِ كما لو دخلَ لضَرُورَةٍ؛ لأنَّه لا فائدةَ في قَضاءِ اليَسِيرِ. وإن دخلَ عليها فجامَعَها في الزَّمَنِ اليَسِيرِ، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا يَلْزَمُه قضاؤه؛ لأَنَّ الوَطْءَ لا يُسْتَحَقُّ في القَسْمِ، والزَّمنُ اليَسِيرُ لا يُقْضَى. والثانى، يَلْزَمُه أن يَقْضِيَه، وهو أن يدْخُلَ على المظْلومَةِ في ليلةِ المُجامعَةِ، فيُجامِعَها، ليَعْدِلَ بينَهما. وهذا هو الصَّحيحُ؛ لأَنَّ اليَسِيرَ مع الجِماعِ [يَحْصُلُ به السَّكَنُ، فأشْبَهَ الكَبِيرَ، ولأَنَّ اليَسِيرَ مع الجِماعِ] (¬2) أشَقُّ على ضَرَّتِها وأغْبَطُ لها مِن الكثيرِ مِن غيرِ جماعٍ، فكان وُجوبُ قَضائِه أوْلَى. فأمَّا الدُّخول إلى المرأةِ في يوم غيرِها في النَّهارِ، فيجوزُ للحاجةِ، مِن دَفْعِ النَّفَقةِ، أو عِيَادةٍ، أو سُؤَالٍ عن أمرٍ يَحْتاجُ إلى معْرفَتِه، أو زِيارتها لبُعْدِ عَهْدِه بها، فيجوزُ لذلك؛ لِما ¬

(¬1) في م: «أثم». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَتْ عائشةُ، قالت: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يدْخُلُ علىَّ في يومِ غيرِى، فينالُ منِّى كلَّ شئٍ إلَّا الجِماعَ (¬1). وإذا دخلَ عليها لم يُجامِعْها، ولم يُطِلْ عندَها؛ لأَنَّ السَّكَنَ يحْصُلُ بذلك، وهى لا تَسْتَحِقُّه، وفى الاسْتِمْتاعِ منها بما دُونَ الفَرْجِ وَجْهانِ؛ أحدُهما، يجوزُ؛ لحديثِ عائشةَ. والثانى، لا يجوزُ؛ لأنَّه يحْصُلُ به السَّكَنُ؛ فأشْبَهَ الجِماعَ. فإن أطالَ المُقامَ عندَها، قَضَاهُ. وإن جَامعَها في الزَّمَنِ اليَسِيرِ، ففِيه وَجْهانِ على ما ذكَرْنا. ومذهبُ الشافعىِّ على نحوِ ما ذكَرْنا، إلَّا [أنَّهم قالوا] (¬2): لا يَقْضِى إذا جامعَ في النَّهارِ. ولَنا، أنَّه زَمَنٌ يقْضِيه إذا طالَ المُقامُ، فيَقْضِيه إذا جامعَ، كاللَّيلِ. فصل: فإن خرجَ مِن عندِ بعضِ نِسائِه في زَمانِها، فإن كان في النَّهارِ أو أوَّلِ اللَّيلِ أو آخرِه الذى جَرَتِ العادةُ بالانْتِشارِ فيه، والخُروجِ إلى الصَّلاةِ، جازَ، فإنَّ المُسلِمينَ يخْرجون لصَلاةِ العِشَاءِ، ولصَلاةِ الفَجْرِ قبلَ طُلوعِه، وأمَّا النهارُ، فهو للمَعاشِ والانْتِشارِ. وإن خَرَج في غيرِ ذلك، ولم يَلْبَثْ أن عادَ، لم يَقْضِ لها؛ لأنَّه لا فائدةَ في قَضاءِ ذلك. ¬

(¬1) أخرج نحوه أبو داود، في: باب القسم بين النساء، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 492. وحسنه في الإرواء 7/ 85، 87. (¬2) في م: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أقامَ، قَضاهُ لها، سواءٌ كانت إقامَتُه لعُذْرٍ؛ مِن شُغْلٍ أو حَبْسٍ، أو لغيرِ عُذْرٍ؛ لأَنَّ حَقَّها قد فاتَ بغَيْبَتِه عنها. وإن أحَبَّ أن يجْعلَ قَضاءَه لذلك غَيْبَتَه عن الأُخْرَى مثلَ ما غابَ عن هذه، جازَ؛ لأَنَّ التَّسْوِيةَ تَحْصُلُ بذلك، ولأنَّه إذا جازَ له تَرْكُ اللَّيلةِ بكَمالِها في حَقِّ كلِّ واحدةٍ منهما، فبَعْضُها أوْلَى. ويُسْتَحَبُّ أن يَقْضِىَ لها في مثلِ ذلك الوقتِ؛ لأنَّه أبلَغُ في المُماثَلَةِ، والقَضاءُ تُعْتَبَرُ فيه المُماثَلَةُ، كقَضاء العِباداتِ والحُقوقِ. وإن قَضاه في (¬1) غيره مِن اللَّيل، مثلَ أن فاتَه (¬2) في أَوَّلِ اللَّيلِ، فقَضاهُ في آخِرِه، أو بالعَكْسِ، جازَ في أحدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه قد قَضَى بقَدْرِ ما فاتَه مِن اللَّيلِ. والآخر، لا يجوزُ؛ لعَدَمِ المُماثَلةِ. إذا ثَبتَ هذا، فإنَّه لا يُمْكِنُ قَضاؤُه كلّه مِن ليلةِ الأُخْرَى، لئلَّا يَفُوتَ حَقُّ الأُخْرَى، فيَحْتاجَ إلى قَضاءٍ، ولكن إمَّا أن يَنْفَرِدَ بنَفْسِه في ليلةٍ، فيَقْضِىَ منها، وإمَّا أن يَقْسِمَ ليلةً بينَهُنَّ، ويُفَضِّلَ هذه بقَدْرِ ما فاتَ مِن حَقِّها، [وإمّا] (¬3) أن ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في الأصل: «فاتها». (¬3) في م: «وله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتْرُكَ مِن ليلةِ كلِّ واحدةٍ مثلَ ما فاتَ مِن ليلةِ هذه، وإمَّا أن يَقْسِمَ المَتْروكَ بينَهما، مثلَ أن يَتْرُكَ مِن ليلةِ إحْداهُما ساعتَيْنِ، فيَقْضِىَ لها مِن ليلةِ الأُخْرَى ساعةً، فيصير الفائِتُ على كلِّ واحدةٍ منهما ساعةً. فصل: والأَوْلَى أن يكونَ لكل واحدةٍ مِن نِسائِه مَسْكَنٌ يَأْتِيها فيه؛ لأَنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقْسِمُ هكذا، ولأنَّه أصْوَنُ لَهُنَّ وأسْتَرُ، حتى لا يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ. فإنِ اتَّخَذَ لنَفْسِه مَنْزِلًا يَدْعو إليه كلَّ واحدةٍ مِنهُنَّ في لَيْلَتِها ويَوْمِها، جازَ ذلك؛ لأَنَّ للرَّجُلِ نَقْلَ زَوْجتِه حيث شاءَ، ومَنِ امْتنَعَتْ مِنْهُنَّ مِن إجابَتِه، سقَطَ حَقُّها مِن القَسْم؛ لنُشُوزِها. وإنِ اخْتارَ أن يَقْصِدَ بعْضَهُنَّ في مَنازِلِهِنَّ، ويَسْتَدْعِىَ البعْضَ، كانَ له ذلك؛ لأَنَّ له أن يُسْكِنَ كلَّ واحدةٍ منهنَّ حيثُ شاءَ. وإن حُبِسَ الزَّوْجُ، فأحَبَّ القَسْمَ بينَ نِسائِه، بأن يَسْتَدْعِىَ كلَّ واحدةٍ في لَيْلَتِها، فعليهنَّ طاعتُه، إن كان ذلك سُكْنَى مِثْلِهِنَّ، وإن لم يكُنْ، لم يَلْزَمهُنَّ إجابَتُه؛ لأَنَّ عَليهنَّ في ذلك ضَرَرًا. وإن أطَعْنَه، لم يكُنْ له أن يَتْرُكَ العَدْلَ بينَهنَّ، ولا اسْتِدْعاءُ بعضِهِنَّ دُونَ بعض، كما في غيرِ الحَبْسِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويقْسِمُ بينَ نِسائه ليلةً ليلةً، فإن أحَبَّ الزِّيادةَ على ذلك، لم يَجُزْ إلَّا برضاهُنَّ. وقال القاضى: له أن يَقْسِمَ (¬1) لَيْلَتَيْن لَيْلتَيْن، وثلاثًا، ثلاثًا، ولا تجوزُ الزِّيادةُ على ذلك إلا برضاهُنَّ، والأَوْلَى مع هذا ليلة و (¬2) ليلةٌ؛ لأنَّه أقْرَبُ لعَهْدِهِنَّ به، وتَجوزُ الثَّلاثُ؛ لأنَّها في حدِّ القِلَّةِ، فهى كاللَّيلةِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ولَنا، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما قَسَم ليلةً وليلةً، ولأَنَّ التَّسْوِيةَ واجبةٌ، وإنما جَوَّزْنا البِدايةَ بواحدةٍ، لتعَذُّر الجَمْعِ، فإذا باتَ عندَ إحداهُنَّ ليلةً، تَعَينَّتَ (¬3) اللَّيلةُ الثَّانيةُ حقًّا للأُخْرَى، فلم يَجُزْ جَعْلها للأُولى بغيرِ رِضاها، ولأنه تأْخِيرٌ لحُقوقِ بعْضِهنَّ، فلم يَجُزْ بغيرِ رضاهُنَّ، كالزِّيادةِ على الثَّلاثِ، ولأنَّه إذا كان له أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فجعلَ لكلِّ واحدةٍ ثلاثًا، حصلَ تأْخِيرُ الأخيرةِ في تِسْعِ ليالٍ، وذلك كثيرٌ، فلم يَجُزْ، كما لو كان له امْرأتانِ، فأرادَ أن يَجْعلَ لكلِّ واحدةٍ تِسْعًا، ولأَنَّ للتَّأْخِيرِ آفاتٍ (¬4)، فلا يَجوزُ مع إمْكانِ التَّعْجيلِ بغيرِ رِضا المُسْتَحِقِّ، كتَأْخِيرِ الدَّيْنِ الحالِّ، والتَّحْديدُ بالثَّلاثِ تَحَكُّمٌ لا يُسْمَعُ مِن غيرِ دليلٍ، وكونُه في حَدِّ القِلَّةِ لا يُوجِبُ جَوازَ تَأْخيرِ الحَقِّ، كالدُّيونِ الحالَّةِ وسائرِ الحقوقِ. فصل: فإن كانتِ امْرأتَاه في بَلَدَيْنِ، فعليه العَدْلُ بينَهما؛ لأنَّه اخْتارَ ¬

(¬1) بعده في م: «ليلة ليلة و». (¬2) في م: «وهذه». (¬3) في م: «بقيت». (¬4) في م: «عليها ضرر، فإن لم يفعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُباعَدَةَ بينَهما، فلا يَسْقطُ حقُّهما عنه بذلك، فإمَّا أن يَمْضِىَ إلى الغائِبَةِ في أيَّامِها، وإمَّا أن يُقْدِمَها إليه، فيَجْمعَ بينَهما في بلَدٍ واحدٍ، فإنِ امْتنعَتْ مِن القُدومِ مع الإِمْكانِ، سقطَ حَقُّها لنُشُوزِها. وإن أحَبَّ القَسْمَ بينَهما في بلَدَيْهما، لم يُمْكِنْ أن يَقْسِمَ ليلةً وليلةً، فيجعلُ المُدَّةَ بحَسَبِ ما يُمْكِنُ، كشَهْرٍ وشَهْرٍ، أو أكثرَ أو أقلَّ، على حَسَبِ ما يُمْكِنُه، وعلى حسَبِ تَقارُبِ البلدَيْنِ وتَباعُدِهما. فصل: فإن قَسَم، ثم جاءَ ليَقْسِمَ للثَّانيةِ، فأَغْلَقَتِ البابَ دُونَه، أو منَعتْه مِن الاسْتِمْتاعِ بها، أو قالت: لا تدْخُلْ علىَّ، ولا تَبِتْ عندِى. أو ادَّعَتِ الطَّلاقَ، سقطَ حَقّها مِن القَسْمِ. فإن عادَتْ بعدَ ذلك إلى المُطاوَعَةِ، اسْتَأْنَفَ القَسْمَ بينَهما، ولم يَقْضِ للنَّاشِزِ؛ لأنَّها أسْقطَتْ حَقَّ نفْسِها. فإن كان له أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فأقامَ عندَ ثلاثٍ مِنهنَّ ثلاثينَ ليلةً، لَزِمَه أن يُقِيمَ عندَ الرَّابعةِ عَشْرًا؛ لتُساوِيهنَّ، فإن نَشَزَتْ إحْداهُنَّ عليه، وظلمَ واحدةً فلم يقْسِمْ لها، [وأقامَ عندَ الاثْنَتَيْنِ ثَلاثِينَ لَيْلَةً، ثم أطَاعَتْه النَّاشِزُ، وأَرادَ القَضاءَ للمَظْلُومةِ، فإنَّه يَقْسِمُ لها] (¬1) ثلاتًا، وللنَّاشِزِ ليلةً، خمسةَ أدْوارٍ، فيُكْمِلُ للمَظْلومةِ خَمْسَ عشْرةَ ليلةً، ويحْصُلُ للناشزِ خمسةٌ، ثم يسْتَأْنِفُ القَسْمَ بينَ الجميعِ، فإن كان له ثلاث نِسْوَةٍ، فقَسَمَ بينَ اثنتَيْنِ ثلاثينَ ليلةً، وظلَمَ الثَّالثةَ، ثم تزَوَّجَ جديدةً، ثم أرادَ أن يَقْضِىَ للمَظْلومةِ، فإنَّه يَخُصُّ الجديدةَ بسَبْعٍ إن كانت بِكْرًا، وثلاثٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

3360 - مسألة: (وإن أراد النقلة من بلد إلى بلد وأخذ إحداهن معه، والأخرى مع غيره، لم يجز إلا بقرعة)

وَإِنْ أَرَادَ النُّقْلَةَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وأَخْذَ إِحْدَاهُنَّ مَعَهُ، وَالأُخْرَى مَعَ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِقُرْعَةٍ، وَمَتَى سَافَرَ بِهَا بِقُرْعَةٍ، لَمْ يَقضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كانت ثَيِّبًا، ثم يقْسِمُ بينَها وبينَ المظْلومةِ خمسةَ أدْوارٍ على ما قدَّمْنا، للمظْلومةِ مِن كلِّ دَوْرٍ ثلاثًا، وواحدةً للجديدةِ. 3360 - مسألة: (وَإِنْ أَرَادَ النُّقْلَةَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وأَخْذَ إِحْدَاهُنَّ مَعَهُ، وَالأُخْرَى مَعَ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِقُرْعَةٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ الزَّوجَ إذا أرادَ الانْتِقالَ بنِسائِه إلى بلدٍ آخرَ، فأمْكَنَه اسْتِصْحابُ الكلِّ في سَفرِه، فعلَ، وليس له إفرادُ إحداهُنَّ به؛ لأَنَّ هذا السَّفرَ لا يخْتَصُّ بواحدةٍ، بل يحْتاجُ إلى نَقْلِ جميعِهنَّ، فإن خَصَّ إحداهُنَّ، قضَى للباقياتِ، كالحاضِرِ، فإن لم يُمْكِنْه [صُحْبَةُ الجَميعِ] (¬1)، أو شَقَّ عليه ذلك، وبعَثَ بهنَّ جميعًا مع غيرِه ممَّن هو مَحْرَمٌ لهنَّ، جازَ، ولا يَقْضِى لأحدٍ، ولا يحْتاجُ إلى قُرْعةٍ؛ لأنَّه سَوَّى بينَهُنَّ، وإن أرادَ إفْرادَ بعْضِهنَّ بالسَّفَرِ معه، لم يَجُزْ إلَّا بقُرْعَةٍ، فإذا وصلَ إلى البلدِ الَّذى انْتقلَ إليه، فأقامَتْ معه فيه، قضَى للباقياتِ مُدَّةَ كوْنِها معه في البلدِ خاصَّةً؛ لأنَّه صار مُقِيمًا، وانْقطَعَ حكمُ السَّفَرِ عنه. 3361 - مسألة: (ومتى سافَرَ بها بقُرْعَةٍ، لم يَقْضَ، وَإن كانَ ¬

(¬1) في م: «الجمع».

وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلأُخْرَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ قُرْعَةٍ، لَزِمَهُ الْقَضاءُ للأُخْرَى) وجملةُ ذلك، أنَّ الزَّوْجَ إذا أرادَ سفَرًا، فأحَبَّ حَمْلَ نِسائِه كلِّهِنَّ معه، أو ترْكَهُنَّ كُلِّهنَّ، لم يَحْتَجْ إلى قُرْعَةٍ؛ لأَنَّ القُرْعةَ لتعْيِينِ المخْصُوصةِ منهُنَّ بالسَّفَرِ، وههُنا قد سَوَّى، وإن أرادَ السَّفَرَ ببعْضِهنَّ، لم يَجُزْ له ذلك إلَّا بقُرْعةٍ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّ له ذلك مِن غيرِ قُرْعَةٍ. وليس بصحيحٍ؛ فإنَّ عائشةَ، قالتْ: كان رِسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذا أرادَ سفَرًا، أقْرَعَ بينَ نِسائِه، فأَيُّتُهُنَّ خَرَج سَهمُها، خرَج بها معه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأَنَّ في المُسافَرَةِ ببعْضِهنَّ مِن غيرِ قُرْعةٍ تَفْضِيلًا لها، ومَيْلًا إليها، فلم يَجُزْ بغيرِ قُرْعةٍ، كالبِدايةِ بها في القَسْمِ. وإن أحَبَّ المُسافَرَةَ بأكثرَ مِن واحدةٍ، أقْرَعَ أيضًا، فقد رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-[كان إذا خرجَ] (¬2) أقْرَعَ بينَ نِسائِه، فصارَتِ القُرْعةُ لعائشةَ وحَفْصةَ. رواه البُخَارِىُّ (¬3). ومتى سافرَ بأكثرَ مِن واحدةٍ، سَوَّى بينَهُنَّ؛ يُسوِّى بينَهُنَّ في الحَضَرِ، ولا يَلْزَمُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 32. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 43. كما أخرجه مسلم، في: باب في فضل عائشة رضى اللَّه عنها، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1894. والدارمى، في: باب في خروج النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- مع بعض نسائه في الغزو، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 211.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَضاءُ للحاضِراتِ بعدَ قُدومِه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن داودَ، أنَّه يَقْضِى؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (¬1). ولَنا، أنَّ عائشةَ لم تذْكُرْ قضاءً في حدِيثِها، ولأَنَّ هذه التى سافرَ بها يَلْحَقُها مِن مَشَقَّةِ السَّفَرِ بإزاءِ ما حَصَل مِن السَّكَنِ، [ولا يَحْصُلُ لها مِن السَّكَنِ] (¬2) مثلُ ما يحْصُلُ في الحَضَرِ، فلو قَضَى للحاضِراتِ، لَكانَ قد مالَ على المُسافِرَةِ كلَّ المَيْلِ، لكن إن كان سافَرَ (¬3) بإحْداهُنَّ بغيرِ قُرْعَةٍ، أَثِمَ، وقَضَى للبَواقِى بعدَ سَفَرِه. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يَقْضِى؛ لأَنَّ قَسْمَ الحضَرِ ليس بمثْل لقَسْمِ السَّفَرِ، فيتعَذَّرُ القَضاءُ. ولَنا، أنَّه خصَّ بعضَهُنَّ بمُدَّةٍ، على وَجْهٍ تَلْحَقُه التُّهْمَةُ فيه، فلَزِمَه القَضاءُ، كما لو كان حاضرًا. إذا ثَبَت هذا، فيَنْبَغِى أن لا يَلْزَمَه قَضاءُ المُدَّةِ، وإنَّما يَقْضِى منها ما أقامَ منها بمَبِيتٍ ونحوِه، فأمَّا زَمانُ السَّيْرِ، فلم يحْصُلْ لها منه إلَّا التَّعَبُ والمَشَقَّةُ، فلو جَعلَ للحاضِرَةِ في مُقابَلَةِ ذلك مَبِيتًا عندَها، واسْتِمْتاعًا بها، لَمالَ كُلَّ المَيْلِ. ¬

(¬1) سورة النساء 129. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «مسافرًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ لإِحْداهُنَّ، لم يجبْ عليه السَّفَرُ بها، وله تَرْكُها والسَّفَرُ وحدَه؛ لأَنَّ القُرْعَةَ لا تُوجِبُ، وإنَّما تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْديمَ. فإن أرادَ السَّفَرَ بغيرِها، لم يَجُزْ؛ لأنَّها تعَيَنَّتْ بالقُرْعَةِ، فلم يَجُزِ العُدولُ عنها إلى غيرِها. وإن وَهَبَتْ حَقَّها مِن ذلك لغيرِها، جازَ إذا رَضِىَ الزَّوْجُ؛ لأَنَّ الحقَّ لها، فَصَحَّتْ (¬1) هِبَتُها له، كما لو وَهَبَتْ ليلتَها في الحَضَرِ. ولا يجوزُ بغيرِ رِضاهُ، كما لو وهَبَت لَيْلتَها في الحضَرِ. وإن وَهَبَتْه للزَّوْجِ، أو للجميعِ، جازَ. وانِ امْتنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ معه، سَقَط حَقُّها إذا رَضِىَ الزَّوْجُ، وإن أبَى، فله إكْراهُها على السَّفَرِ معه؛ لِما ذكَرْنا. وإن رَضِىَ بذلك، اسْتَأْنفَ القُرْعةَ بينَ البَواقِى. وإن رَضِىَ الزَّوْجاتُ كُلُّهنَّ بسَفَرِ واحدةٍ معه مِن غيرِ قُرْعَةٍ، جازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لَهُنَّ، إلَّا أن لا يَرْضَى الزَّوْجُ، ويُرِيدَ غيرَ مَنِ اتَّفَقْنَ عليها، فيُصارُ إلى القُرْعةِ. ¬

(¬1) في م: «فيجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا فَرْقَ في جميعِ ما ذكَرْنا بينَ السَّفَرِ الطَّويلِ والقصيرِ؛ لعُمومِ الخَبَرِ والمعْنى. وذكرَ القاضى احْتِمالًا، أنَّه يَقضِى للبَواقِى في السَّفَرِ القَصيرِ؛ لأنَّه في حُكْمِ الإِقامَةِ. وهو وَجْهٌ لأصْحابِ الشافعىِّ. ولَنا، أنَّه سافرَ بها بقُرْعَةٍ، فلم يَقْضِ، كالطَّويلِ، ولو كان في حُكْمِ الإِقامَةِ لم تَجُزِ المُسافَرةُ بإحْداهُنَّ دُونَ الأُخرَى،؛ لا يجوزُ إفْرادُ إحْداهُنَّ بالقَسْمِ دُونَ غيرِها. ومتى سافرَ بإحْداهُنَّ بقُرْعةٍ، ثم بَدا له فأبْعدَ (¬1) السَّفَرَ، نحوَ أن يُسافرَ إلى القُدْسِ، ثم. يَبْدُو له فَيَمْضِى إلى مِصرَ، فله اسْتِصْحابُها معه؛ لأنَّه سفَرٌ واحدٌ قد أقْرَعَ له. فإن أقامَ في بلْدَةٍ مُدَّةَ إحْدَى وعشرينَ صلاةً فما دونَ، لم يُحْتَسَبْ عليه بها؛ لأنَّه في حُكْمِ السفرِ، تَجْرِى عليه أحْكامُه. وإن زادَ على ذلك، قَضَى الجميعَ ممَّا أقامَه؛ لأنَّه خرجَ مِن (¬2) حُكْمِ السَّفرِ. وإن أجْمَعَ (¬3) على المُقامِ، قَضَى ما أقامَه (¬4) وإن قَلَّ؛ لأنَّه خرَجَ عن حُكْمِ السفرِ. ثم إذا خرجَ بعدَ ذلك إلى بَلَدِه (¬5)، أو بلدةٍ أُخرَى، لم يَقضِ ما سافَرَه؛ لأنَّه في حُكْمِ السَّفَرِ الواحدِ، وقد أقْرَعَ له. ¬

(¬1) في م: «بعد». (¬2) في الأصل: «على». (¬3) في الأصل: «امتنع». (¬4) في الأصل: «فاته». (¬5) في م: «بلد».

3362 - مسألة: (وإن امتنعت من السفر معه، أو من المبيت عنده، أو سافرت بغير إذنه، سقط حقها من القسم)

وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ، أَوْ مِنَ الْمَبِيتِ عِنْدَهُ، أَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ، وَإِنْ أَشْخَصَهَا هُوَ، فَهِىَ عَلَى حَقِّهَا مِنْ ذَلِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3362 - مسألة: (وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ، أَوْ مِنَ الْمَبِيتِ عِنْدَهُ، أَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ) لا نعلمُ خلافًا في ذلك؛ لأنَّها عاصِيَةٌ له بمَنعِ نفْسِها منه، فسقَطَ حقها، كالنَّاشِزَةِ. 3363 - مسألة: (وَإن أَشْخَصَها هو، فهى على حَقِّها مِن ذلك) نحوَ أن يَبْعَثَها لِحاجَتِه، أوِ يَأْمُرَها بالنُّقْلَةِ مِن بلَدِها، لم يَسْقُطْ حَقُّها مِن نفَقَةٍ ولا قَسْم؛ لأنَّها لم تُفوِّتْ عليه التَّمْكِينَ، ولا فاتَ مِن جِهَتِها، وإنَّما حَصَل بتَفْوِيتِه، فلم يسْقُطْ حَقُّها، كما لو أتْلَفَ المُشْتَرِى المَبِيعَ، لم يسْقُطْ

3364 - مسألة: (وإن سافرت لحاجتها بإذنه، فعلى وجهين)

وَإِنْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقُّ البائعِ مِن تَسْليمِ ثَمَنِه إليه. فعلى هذا، يَقْضِى لها بحَسَبِ ما أقامَ عندَ ضَرَّتِها. وإن سافَرَتْ معه، فهى على حَقِّها منهما جميعًا. 3364 - مسألة: (وَإِنْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ) إذا سافَرَتِ المرأةُ في حاجَتِها بإذْنِ زَوْجِها؛ لتجارةٍ لها، أو زِيارةٍ، أو حَجِّ تَطَوُّعٍ، أو عُمْرَةٍ، لم يَبْقَ لها حَقٌّ في نفَقَةٍ ولا قَسْمٍ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ. هذا الَّذى ذكَرَه الخِرَقِىُّ، والقاضى. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه لا يَسْقُطُ. وهو [أحدُ قوْلَى] (¬1) الشافعىِّ؛ لأنَّها سافرتْ بإذْنِه، أشْبَهَ ما لو سافَرَتْ معه. ووَجْهُ الأوَّل، أنَّ (¬2) القَسْمَ للأُنْسِ، والنَّفقَةَ للتَّمْكِين مِن الاسْتِمْتاعِ، وقد تعذَّرَ ذلك بسَبَب مِن جِهَتِها، فَسَقَط، كما لو تعَذَّرَ ذلك قبلَ دُخولِه بها. وفارَقَ ما إذا سافَرتْ معه؛ لأنَّه لم يتَعَذَّرْ ¬

(¬1) في م: «قول». (¬2) سقط من: الأصل.

3365 - مسألة: (وللمرأة أن تهب حقها من القسم لبعض ضرائرها باذنه، وله فيجعله لمن شاء منهن)

وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِبَعْض ضَرَائِرِهَا بِإِذْنِهِ، وَلَهُ فَيَجْعَلُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. ويَحْتَمِلُ أن يَسْقُطَ القَسْمُ، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّه لو سافَرَ عنها لَسَقَط قَسْمُها، والتَّعَذُّرُ مِن جِهتِه، فإذا تعَذَّرَ مِن جهتِها بسَفَرِها (¬1)، كان أَوْلَى، ويكونُ في النَّفَقةِ الوَجْهانِ. 3365 - مسألة: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِبَعْض ضَرَائِرِهَا بِاذْنِهِ، وَلَهُ فَيَجْعَلُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنّ) لأَنَّ الحقَّ لها وللزَّوْجِ، فإذا رَضِيَتْ هى والزَّوْجُ، جازَ؛ لأَنَّ الحقَّ لا يخرجُ عنهما، فإن أبَتِ المَوْهُوبَة قَبُولَ الهِبَةِ، لم يكُنْ في ذلك؛ لأَنَّ حقَّ الزَّوْجِ من في الاسْتِمْتاعِ [ثابتٌ في كلِّ وَقْتٍ، إنَّما منَعَتْه المُزاحمَةُ لحقِّ صاحِبَتِها، فإذا زالَتِ المُزاحَمةُ بِهِبتِها، ثَبَت حقُّه في الاسْتِمْتاعِ] (¬2) بها، وإن كَرِهَتْ، كما لو كانت مُنْفَرِدَةً. وقد ثَبَتْ أنَّ سَوْدَةَ وهَبتْ يوْمَها لعائشةَ، ¬

(¬1) في م: «بسفر». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقْسِمُ لعائشةَ يومَها ويومَ سودةَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ويَجُوزُ (¬2) ذلك في جميعِ الزَّمانِ وفى بعضِه، فإنَّ سَوْدَةَ وهَبت يوْمَها في جميعِ زَمانِها. ورَوَى ابنُ ماجه (¬3)، عن عائِشَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَد على صَفِيَّةَ بنتِ حُيَىٍّ في شئٍ، فقالت صَفِيَّةُ لعائشةَ: هل لكِ أن تُرْضِى عنِّى رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولكِ يَوْمِى؟ فأخذتْ خِمارًا مَصْبُوغًا بزَعْفَرانٍ، فرَشَّتْهُ لِيَفُوحَ رِيحُه، ثم اخْتَمَرَتْ به، وقَعَدَتْ إلى جَنْبِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إلَيْكِ يا عائِشَةُ، إنَّهُ لَيْسَ يَوْمَكِ». قالت: ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَن يشاءُ. فأخْبَرَتْه بالأمْرِ، فرَضِىَ عنها. إذا ثَبَت هذا، فإن وَهَبَتْ ليلتَها لجميعِ ضَرائِرِها، صارَ القَسْمُ بينَهُنَّ كما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 432. (¬2) في م: «في». (¬3) في: باب المرأة تهب يومها لصاحبتها، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 634.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو طلَّقَ الواهِبَةَ. وإن وَهَبَتْها للزَّوْجِ، فله جَعْلُها لمن شاءَ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ على الباقِياتِ في ذلك، إن شاءَ جعَلَه للجميعِ، وإن شاءَ خَصَّ بها واحدةً منهُنَّ، وإن شاءَ جعلَ لبعْضِهِنَّ فيها أكثرَ مِن بعضٍ. وإن وَهَبَتْها لواحدةٍ كفِعْلِ سَوْدَةَ، جازَ، ثم إن كانت [تلك اللَّيْلَةُ] (¬1) تَلِى ليلةَ المَوْهُوبةِ، وَالَى بينَهما، وإن كانت لا تَلِيها، لم يَجُزْ له المُوالاةُ بينَهما إلَّا بِرضَا الباقياتِ، ويَجعلُها لها في الوقتِ الَّذى كان للواهِبَةِ؛ لأَنَّ المَوْهوبةَ قامَتْ مَقامَ الواهبةِ في لَيْلَتِها، فلم يَجُزْ تَغْييرُها عن مَوْضِعِها، كما لو كانت باقيةً للواهبةِ. ولأَنَّ في ذلك تأْخِيرًا لحقِّ غيرِها، وتَغْيِيرًا للَيْلَتِها بغيرِ رِضاها، ¬

(¬1) سقط من: م.

3366 - مسألة: (فمتى رجعت فى الهبة، عاد حقها)

فَمَتَى رَجَعَتْ في الْهِبَةِ، عَادَ حَقُّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ. وكذلك الحُكْمُ إذا وَهَبَتْها للزَّوْجِ، فآثَرَ بها امرأةً منهنَّ بعيْنِها. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه (¬1) يجوزُ المُوالاةُ [بين الليلتيْنِ؛ لعدَمِ الفائدةِ في التَّفْرِيقِ. والأَوَّلُ أصَحُّ، وقد ذكَرْنا فيه فائدةً، فلا يجوزُ اطِّراحُها] (¬2). 3366 - مسألة: (فمتى رَجَعَتْ في الهِبَةِ، عاد حَقُّها) ولها ذلك في المُسْتَقْبَلِ؛ لأنَّهَا هِبَةٌ لم تُقْبَضْ، وليس لها الرُّجُوعُ فيما مضى؛ لأنَّه بمنْزلةِ المَقْبُوضِ. ولو رجَعتْ في بعضِ اللَّيلِ، كان على الزَّوْج من أن يَنْتَقِلَ إليها، فإن لم يَعْلَمْ حتَّى أتَمَّ اللَّيلةَ، لم يَقْضِ لها شيئًا؛ لأَنَّ التَّفرِيطَ منها. فصل: فإن بذَلَت ليْلَتَها بمالٍ، لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ حَقَّها في كَوْنِ الزَّوْجِ ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عندَها، وليس ذلك بمالٍ، فلا يجوزُ مُقابَلَتُه بمالٍ، فإذا أخَذَتْ عليه مالًا، لَزِمَها رَدُّه، وعليه أن يَقْضِىَ لها؛ لأنَّها تَرَكَتْه بشَرْطِ العِوَضِ، ولم يُسَلَّمْ لها، فإن كان عِوَضُها غيرَ المالِ، مثلَ إرْضاءِ زَوْجِها عنها، أو غيرِه، جازَ؛ لأَنَّ عائشةَ أرْضَتْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-[عن صَفِيَّةَ، وأخَذَتْ يوْمَها، وأخْبَرَتْ بذلك رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1)، فلم يُنْكِرْهُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3367 - مسألة: (ولا قسم عليه فى ملك اليمين، وله الاستمتاع بهن كيف شاء)

وَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ في مِلْكِ يَمِينِهِ، وَلَهُ الِاستِمْتَاعُ بِهِنَّ كَيْفَ شَاءَ، وَتُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْضُلَهُنَّ إِنْ لَمْ يُرِدْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3367 - مسألة: (ولا قَسْمَ عليه في مِلْكِ اليَمِينِ، وله الاسْتِمْتاعُ بهنَّ كيف شاءَ) ومن كان (¬1) له نِساءٌ وإماءٌ، فله الدُّخولُ على الإِماءِ كيف شاءَ، والاسْتِمْتاعُ بهنَّ إن شاءَ كالنِّساءِ، وإن شاءَ أَقلَّ، وإن شاء أكَثرَ، وإن شاءَ ساوَى بينَ الإِمَاءِ، وإن شاءَ فَضَّلَ، وإن شاء اسْتَمْتَعَ ببعْضِهنَّ دُونَ بعْض؛ بدليلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬2). وقد كان للنَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مارِيَةُ القِبْطِيَّةُ ورَيْحانَةُ، فلم يَكُنْ (1) يَقْسِمُ لهما. ولأَنَّ الأمةَ لا حَقَّ لها في الاسْتِمْتاعِ، ولذلك لا يَثْبُتُ لها الخِيَارُ بجَبِّ السّيِّدِ ولا عُنَّتِه، ولا تُضْرَبُ لها مُدَّةُ الإِيلاءِ. 3368 - مسألة: (وتُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ) لِئَلَّا يَضُرَّ ببعضِهِنَّ (وأن لا يَعْضُلَهُنَّ إن لم يُرِدْ الاسْتِمْتاعَ بهنَّ) إذا احتاجَتِ الأمةُ إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 3.

فصل

الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ. فَصْلٌ: وَإذَا تَزَوَّجَ بِكْرًا، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ دَارَ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ دَارَ، فَإِنْ أَحَبَّتْ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا فَعَلَ وَقَضَاهُنَّ لِلْبَوَاقِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ، وَجَبَ عليه إعْفافُها؛ إمَّا بوَطْئِها، أو تَزْويجِها، أو بَيْعِها. فصل: قالَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وإذا تَزَوَّجَ بِكْرًا، أَقَامَ عِندَها سَبْعًا ثُمَّ دَارَ، وَإن كانت ثَيِّبًا، أقَامَ عِندَها ثَلَاثًا ثُمَّ دَارَ) متى تزَوَّجَ صاحِبُ النَّسْوةِ امرأةً جديدةً، قَطَع الدَّوْرَ، وأقَامَ عندَها سَبْعًا إن كانت بِكْرًا، ولا يَقْضِيها للباقياتِ. وإن كانت ثَيِّبًا، أقامَ عندَها ثلاثًا، ولا يَقْضِيها، إلَّا أن تشاءَ هى أن يُقِيمَ عندها سبعًا، فإنَّه يُقِيمُها عندَها، ويَقْضِى الجميعَ للباقياتِ. رُوِى ذلك عن أَنَسٍ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ (¬1)، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، وخِلَاسِ بنِ عمرٍو، ونافع مَوْلَى ابنِ عمرَ: للبكرِ ثلاثٌ وللثَّيِّبِ ليْلتانِ. ونحوَه قال الأوْزاعِىُّ. وقال الحَكَمُ، وحَمَّادٌ، وأصْحابُ ¬

(¬1) في م: «عبيدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّأْى: لا فضلَ للجديدةِ في القَسْمِ، فإن أقامَ عندَها شَيئًا (¬1) قَضاهُ للباقياتِ؛ لأنَّه فَضَّلَها بمُدَّةٍ، فَوجَبَ قَضاؤُها، كما لو أقامَ عندَ الثَّيِّبِ سَبْعًا. ولَنا، ما رَوَى أبو قِلابَةَ، عن أنَسٍ، قال: مِن السُّنَّةِ إذا تزَوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أقامَ عندَها سبعًا وقَسَم، وإذا تزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أقامَ عندَها ثلاثًا، ثم قَسَمَ. قال أبو قِلَابَةَ: ولو شِئتُ لقلْتُ: إنَّ أنَسًا رَفعَه إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن أُمِّ سَلَمَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا تزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، أقامَ عندَها ثلاثًا، وقال: «ليس بِكِ على أهْلِكِ هَوانٌ، إن شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِى». روَاه مسلمٌ (¬3). وفى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب إذا تزوج البكر على الثيب، وباب إذا تزوج الثيب على البكر، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 43. ومسلم، في: باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1084. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المقام عند البكر، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 490. والترمذى، في: باب ما جاء في القسمة للبكر والثيب، من كتاب النكاح. عارضة الأحوذى 5/ 77، 78. وابن ماجه، في: باب الإقامة على البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 617. والدارمى، في: باب الإقامة عند الثيب والبكر إذا بنى بها، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 144. والإمام مالك، في: باب المقام عند البكر والأيم، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 530. (¬3) في: باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1083. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المقام عند البكر، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 490. وابن ماجه، في: باب الإقامة على البكر والثيب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 617. والدارمى، في: باب الإقامة عند الثيب والبكر إذا بنى بهما، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 144. والإمام مالك، في: باب المقام عند البكر والأيم، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 529. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 292، 295، 307، 308، 314، 320، 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظٍ (¬1): «وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ». [وفى لَفْظٍ: «وإن شِئْتِ زِدْتُكِ ثم حاسَبْتُكِ به، للبِكْرِ سَبْعٌ وللثَّيِّبِ ثلاثٌ، ثُمَّ دُرْتُ»] (¬2). وفى لفظٍ روَاه الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3): «إن شِئْتِ أَقَمْتُ عِندَكِ (¬4) ثَلَاثًا خَالِصَةً لَكِ، وَإِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، ثُمَّ سَبَّعْتُ لِنِسَائِى». وهذا يَمْنَعُ قِياسَهم، ويُقَدَّمُ عليه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): الأحاديث المرفوعةُ في هذا البابِ على ما قُلْناه، وليس مع مَن خالَفَنا (¬6) حديثٌ مَرْفوعٌ، والحُجَّةُ مع مَن أدْلَى بالسُّنَّةِ. فصل: والأمَةُ والحُرَّةُ في هذا سَواءٌ. ولأصْحابِ الشافعىِّ في هذا ثلاثةُ أوْجُهٍ، أحدُها، كقَوْلِنا. والثانى، الأمَةُ على النِّصْفِ مِن الحُرَّةِ، كسائرِ القَسْمِ. والثَّالثُ، للبِكْرِ مِن الإِماءِ أربعٌ، وللثَّيِّبِ ليلتانِ، تكْمِيلًا لبعْضِ اللَّيلةِ. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السَّلامُ: «للبِكْرِ سَبْعٌ، ولِلثَّيِّبِ ثَلاثٌ» (¬7). ولأنَّه يُرادُ للأُنْسِ وإزالةِ الاحْتِشامِ، والأمَةُ والحُرَّةُ سواءٌ ¬

(¬1) عند مسلم ومالك في الموضع السابق. (¬2) سقط من: م. وهذه اللفظ عند مسلم دون قوله: «ثم درت». (¬3) في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطنى 3/ 284. (¬4) سقط من: م. وعند الدارقطنى: «معك». (¬5) انظر: التمهيد 17/ 247. (¬6) في الأصل: «خالفه». (¬7) في المواضع السابقة عن أم سلمة، وعند ابن ماجه والإمام مالك عن أنس.

3369 - مسألة: (وإن زفت إليه امرأتان، قدم السابقة منهما، ثم أقام عند الأخرى، ثم دار، فإن زفتا معا، قدم إحداهما بالقرعة، ثم أقام عند الأخرى،)

وَإِنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ، قَدَّمَ السَّابِقَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَقَامَ عِنْدَ الأُخْرَى، ثُمَّ دَارَ، فَإِنْ زُفَّتَا مَعًا، قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ، ثُمَّ أَقَامَ عِنْدَ الأُخْرَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ في الاحْتِياجِ إلى ذلك، فاسْتَويا فيه، كالنَّفَقةِ. 3369 - مسألة: (وَإِنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ، قَدَّمَ السَّابِقَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَقَامَ عِنْدَ الأُخْرَى، ثُمَّ دَارَ، فَإِنْ زُفَّتَا مَعًا، قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ، ثُمَّ أَقَامَ عِنْدَ الأُخْرَى،) يُكْرَهُ أن تُزَفَّ إليه امْرأتانِ في ليلةٍ واحدةٍ، أو في مدَّةِ عَقْدِ إحْداهُما، لأنَّه لا يُمْكِنُه أن يُوفِّيَهما، وتَسْتَضِرُّ التى لا يُوَفِّيها حقَّها. فإن دَخلَت إحْداهُما إليه قبلَ الأُخْرَى، بدَأَ بها، فوَفَّاها حقَّها، ثم عادَ فوَفَّى الثَّانيةَ، ثم ابْتَدأَ القَسْمَ. وإن زُفَّتِ الثَّانيةُ في أثْناءِ مُدَّةِ العَقْدِ، أتمَّه للأُولَى، ثم قضَى حَقَّ الثَّانيةِ. وإن أُدْخِلَتا عليه جميعًا في مكانٍ واحدٍ، أقْرَعَ بينَهما، وقَدَّمَ مَن خرَجَتْ لها القُرْعَةُ منهما، ثم وَفَّى للأُخرَى بعدَها فصل: وإذا كانت عندَه امْرأتانِ، فباتَ عندَ إحْداهُما ليلةً، ثم تزوَّجَ

3370 - مسألة: (وإن أراد السفر فخرجت القرعة لإحداهما،

وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لإِحْدَاهمَا، سَافَرَ بِهَا، وَدَخَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثالثةً قبلَ ليلةِ الثَّانيةِ، قَدَّمَ المَزْفُوفَةَ بليالِيها؛ لأَنَّ حقَّها آكَدُ، لأنَّه ثَبَت بالعَقْدِ، وحقُّ الثَّانيةِ ثَبَت بفِعْلِه، فإذا قضَى حَقَّ الجديدةِ، بدَأَ بالثَّانيةِ، فوَفَّاها ليلتَها، ثم يَبِيتُ عندَ الجديدةِ، ثم يَبْتَدِئُ القَسْمَ. وذكرَ القاضى أنَّه إذا وَفَّى الثَّانيةَ ليلتَها، باتَ عندَ الجديدةِ نِصْفَ ليلةٍ، ثم يَبْتَدِئُ القَسْمَ؛ لأَنَّ الليلةَ التى يُوَفِّيها الثَّانيةَ نِصْفُها مِن حقِّها ونِصْفُها مِن حقِّ الأُخْرَى، فيَثْبُتُ للجَديدةِ في مُقابيَةِ ذلك نِصْفُ ليلةٍ بإزاءِ ما حَصَل لكلِّ واحدةٍ مِن ضَرَّتَيْها (¬1). وعلى هذا القولِ يَحْتاجُ أن يَنْفَرِدَ بنَفْسِه في نِصْفِ ليلةٍ، وفيه حَرَج؛ فإنَّه رُبَّما لا يجدُ مكانًا ينْفرِدُ فيه، أو لا يَقْدِرُ على الخُروجِ إليه في نِصْفِ اللَّيلةِ، أو المجئِ منه، وفيما ذكَرْناه مِن البدايةِ بها بعدَ الثَّانيةِ وفاءٌ بحقِّها بدُونِ هذا الحَرَجِ، [فيكونُ أوْلَى] (¬2)، إن شاء اللَّهُ تعالى. 3370 - مسألة: (وإن أَرادَ السَّفَرَ فَخَرَجَتِ القُرْعَةُ لإِحْداهُما، ¬

(¬1) في م: «ضرتها». (¬2) سقط من: الأصل.

حَقُّ الْعَقْدِ في قَسْمِ السَّفَرِ، فَإِذَا قَدِمَ، بَدَأَ بِالأُخْرَى فَوَفَّاهَا حَقَّ الْعَقْدِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ سَافَرَ بها، ودَخَل حَقُّ العَقْدِ في قَسْمِ السَّفَرِ، فإذا قَدِمَ، بَدَأَ بالأُخْرَى فَوَفَّاها حَقَّ العَقْدِ) إذا تزوَّجَ امْرأتَيْنِ، وعَزَم على السَّفَرِ، أقْرَعَ بينَهما، فسافرَ بالتى تَخْرُجُ لها القُرْعةُ، ويَدْخُلُ حَقُّ العَقْدِ في قَسْمِ السَّفَرِ، فإذا قَدِمَ، قضَى للثَّانيةِ حقَّ العَقْدِ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ، لأنَّه حقٌّ وَجَب لها قبلَ سفرِه، لم يُؤَدِّه إليها، فلَزِمَه قَضاؤُه، كما لو لم يُسافِرْ بالأُخْرَى معه. والثانى، لا يَقْضِيه؛ لئلَّا يكونَ تَفْضِيلًا لها على التى سافرَ بها، لأنَّه لا يحْصُلُ للمُسافِرَةِ مِن الإِيواءِ والسَّكَنِ والمَبِيتِ عندَها، مثلُ ما يَحْصُلُ في الحضَرِ، فيكونُ مَيْلًا، فيتعَذَّرُ قَضاؤُه. فإن قَدِمَ مِن سفرِه قبلَ مُضِىِّ مدَّةٍ يَنْقَضِى فيها حقُّ عَقْدِ الأُولَى، أتَمَّه في الحَضَرِ، وقضَى للحاضِرَةِ مثلَه، وَجْهًا واحدًا، وفيما زِادَ الوَجْهانِ. ويَحْتَمِلُ في المسْألةِ الأُولَى (¬1) وَجْهًا ثالثًا، وهو أن يَسْتَأْنِف حقَّ العَقْدِ لكلِّ واحدةٍ منهما، ولا يَحْتَسِبُ على المُسافِرَةِ بمُدَّةِ سفَرِها، كما لا يحْتَسِبُ به عليها فيما عَدَا حَقّ العَقْدِ. وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ مِن إسْقاطِ حقِّ العَقْدِ الواجبِ بالشَّرْعِ (¬2) بغيرِ مُسْقِطٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بالتبرع».

3371 - مسألة: (وإن طلق إحدى نسائه فى ليلتها، أثم)

وَإِذَا طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ في لَيْلَتِهَا أَثِمَ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدُ، قَضَى لَهَا لَيْلَتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانت له امرأةٌ، فتزَوَّجَ أُخْرَى، وأرادَ السفرَ بهما جميعًا، قَسَم للجديدةِ سَبْعًا إن كانتِ بكْرًا، وثلاثًا إن كانت ثَيِّبًا، ثم يَقْسِمُ بعدَ ذلك بينَها وبينَ القديمةِ. وإن أَرادَ السفرَ بإحْداهُما، أقْرَعَ بينَهما، فإن خَرَجَتْ قُرْعةُ الجديدةِ، سافرَ بها معه، ودخلَ حقُّ العَقدِ [في قَسْم السَّفَرِ؛ لأنَّه نوعُ قَسْمٍ. وإن وَقَعتِ القُرْعَةُ للأُخرَى، سافَر بها، فإذا حَضَر، قَضَى للجديدةِ حَقَّ العَقْدِ] (¬1)؛ لأنَّه سافرَ بعدَ وُجُوبِه عليه. 3371 - مسألة: (وإن طَلَّقَ إحْدَى نِسائِه في لَيْلَتِها، أَثِمَ) لأنَّه فَوَّتَ حَقَّها الوَاجِبَ لها، فإن عَادَتْ إليه برَجْعَةٍ أو نِكاحٍ، قَضَى لها؛ لأنَّه قَدَر على إيفاءِ حَقِّها، فَلَزِمَه، كالمُعْسِرِ إذا أَيْسَرَ بِالدَّيْنِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل فى النشوز

وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ في نَهَارِ لَيْلِ الْقَسْمِ لِمَعَاشِهِ وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ. فَصْلٌ في النُّشُوزِ: وَهُوَ مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3372 - مسألة: (وله أن يَخْرُجَ في نهارِ لَيْلِ الْقَسْمِ لمَعاشِه وَقَضاءِ حُقُوقِ النَّاسِ) لقولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (¬1). وقال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (¬2). أي لتَسْكُنوا في اللَّيْلِ، ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه في النَّهارِ. وحُكْمُ السَّبْعَةِ والثَّلاثةِ التى يُقيمُها عندَ المَزْفُوفةِ حُكْمُ سائرِ القَسْمِ، فيما ذكَرْنا، فإن تعَذَّرَ عليه المُقامُ عندَها ليلًا، لشُغْلٍ أو حَبْسٍ، أو تَرَك ذلك لغيرِ عُذْرٍ، قَضاهُ لها. وله الخُروجُ إلى صلاةِ الجماعةِ، فإنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُنْ (¬3) يَتْرُكُ الجماعَةَ لذلك، ويَخْرُجُ لِما لا بُدَّ له منه، فإن أطالَ، قَضاهُ، ولا يقْضِى اليَسِيرَ. فصْلٌ في النُّشُوزِ: (وهو معْصِيَتُها إيَّاه فيما يَجِبُ عليها) مِن طاعَتِه، ¬

(¬1) سورة النبأ 10، 11. (¬2) سورة القصص 73. (¬3) سقط من: م.

3373 - مسألة: (فمتى ظهرت منها أمارات النشوز، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة متكرهة، وعظها، فإن أصرت، هجرها فى المضجع ما شاء، وفى الكلام ما دون ثلاثة أيام، فإن أصرت، فله أن يضربها ضربا غير مبرح)

وَإذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ، بِأَنْ لَا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبَهُ مُتَبَرِّمَةً مُتَكَرِّهَةً، وَعَظَهَا، فَإِنْ أَصَرَّت، هَجَرَهَا في الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَفِى الْكَلَامِ فِيمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَصَرَّت، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مأْخوذٌ مِنَ النَّشَزِ، وهو الارْتِفاعُ، فكأنَّها ارْتفعَتْ وتعالت عمَّا وَجَب عليها مِن طاعَتِه. 3373 - مسألة: (فمتى ظَهَرتْ منها أماراتُ النُّشُوزِ، بأن لا تُجِيبَه إلى الاسْتِمْتاعِ، أو تُجِيبَه مُتَبَرِّمَة مُتَكَرّهَةً، وَعَظَها، فإن أصَرَّت، هَجَرها في المَضْجَعِ ما شاء، وفى الْكلام ما دونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَصَرَّت، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) متَى ظَهرت مِنَ المرأةِ أماراتُ النُّشوزِ، مثلَ أن تتَثاقَلَ وتُدافِعَ إذا دَعاها، ولا تصيرَ إليه إلَّا بتكَرُّهٍ وَدَمْدَمَةٍ (¬1)، فإنَّه يَعِظُها، فيُخَوِّفُها اللَّهَ سبحانه، ويَذْكُرُ ما أوْجبَ اللَّهُ له عليها مِن الحقِّ والطَّاعةِ، وما يَلْحَقُها مِن الإِثْمِ بالمُخالَفَةِ ¬

(¬1) أي: وغضب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَعْصِيَةِ، وما يَسْقُطُ بذلك مِن النَّفَقةِ والكُسْوَةِ، وما يُباحُ له مِن هَجْرِها وضَرْبِها؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُون نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (1). فإن أظْهَرتِ النُّشوزَ، وهو أن تَعْصِيَه، وتَمْتَنِعَ مِن فِراشِه، أو تَخْرُجَ مِن مَنْزِلِه بغيرِ إذْنِه، فله أن يهْجُرَها في المضْجَعِ ما شاءَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ} (¬1). قال ابنُ عبَّاسٍ: لا تُضاجِعْها في فِراشِكَ (¬2). فأمَّا الهِجْرانُ في الكلامِ، فلا يجوزُ أكَثَرَ مِن ثلاثةِ أيَّامٍ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِم أن يَهْجُرَ أخاه فَوقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» (¬3). وظاهرُ كلامِ الْخِرَقِىِّ، أنَّه ليس له ضَرْبُها في النُّشُوزِ في أوَّلِ مَرَّةٍ. وقد رُوِى عن أحمدَ: إن عَصَتِ المرأةُ زَوْجَها، فله ضَرْبُها ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ. فظاهرُ هذا إباحَةُ ضَرْبِها [أوَّلَ مرَّةٍ] (¬4)؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}. ولأنَّها صَرَّحَت ¬

(¬1) سورة النساء 34. (¬2) أخرجه ابن أبى حاتم، عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور 2/ 155. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 8/ 65. ومسلم، في: باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعى، من كتاب البر. صحيح مسلم 4/ 1984. وأبو داود، في: باب من يهجر أخاه المسلم، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 577. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية الهجر للمسلم، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 118. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمنْعِ فكان له ضَرْبُها، كما لو أصَرَّتْ، ولأَنَّ عُقوباتِ المعاصى لا تَخْتَلِفُ بالتَّكْرارِ وعدَمِه، كالحُدودِ. ووَجْهُ قولِ الْخِرَقِىِّ، أنَّ المقْصودَ زَجْرُها عن المعْصِيَةِ في المُسْتَقْبَلِ، وما هذا سَبِيلُه يُبْدأُ فيه بالأسْهَلِ فالأسْهَلِ، كمَنْ هُجِمَ مَنْزِلُه فأرادَ إخْراجَه. وأمَّا قولُه: {وَاللَّاتَي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}. الآية. ففيها إضْمارٌ تَقْديرُه: واللَّاتِى تَخَافُون نُشُوزَهُنَّ فعِظُوهنَّ، فإن نَشَزْنَ فاهْجُروهُنَّ في المَضاجِعِ، فإن أصْرَرْنَ فاضْرِبُوهُنَّ، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). والذي يَدُلُّ على هذا أنَّه رَتَّبَ هذه العُقوباتِ على خَوْفِ النُّشُوزِ، ولا خِلافَ أنَّه لا يَضْرِبُها لخَوْفِ النُّشُوزِ قبلَ إِظْهارِه. وللشافعىِّ قَوْلانِ كهذَيْنِ. فإذا لم تَرْتَدِعْ بالهجْرِ والوَعْظِ، فله ضَرْبُها؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}. وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ لكُمْ عَلَيْهِنَّ أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدًا تَكْرَهُونه، فإن فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ». روَاه مسلمٌ (¬2). ومعنى «غيرَ مُبَرِّحٍ». أي ليس ¬

(¬1) سورة المائدة 33. (¬2) تقدم تخريجه من حديث جابر الطويل في 8/ 363. ويضاف إليه فيما يخص هذا اللفظ: وأخرجه الترمذى، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشَّديدِ. قال الخَّلالُ: سألْتُ أحمدَ بنَ يحيى ثَعْلبًا (¬1) عن قولِه: «ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ». قال: غير شديدٍ. وعليه أن يَجْتَنِبَ الوَجْهَ والمواضِعَ المَخُوفَةَ، لأَنَّ المقْصودَ التَّأْديبُ لا الإِتْلافُ. وقد روَى أبو داودَ (¬2)، عن حَكِيمِ بن مُعاوِيةَ القُشَيْرِىِّ، عن أبِيه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما حقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَها إِذَا طَعِمْتَ، وتَكْسُوَها إذا اكْتَسَيْتَ، ولَا تُقَبِّحْ، ولَا تَهْجُرْ إلَّا في الْبَيْتِ». ورَوَى عبدُ اللَّهِ بنُ زَمْعَةَ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَه جَلْدَ العبدِ، ثم يُضاجعُها في آخِرِ اليومِ» (¬3). ولا يَزِيدُ في ضَرْبِها على عشَرَةِ ¬

= في: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذى 5/ 111. وابن ماجه، في: باب حق المرأة على الزوج، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 594. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 73. (¬1) سقط من: م. وهو أحمد بن يحيى بن يزيد الشيبانى أبو العباس ثعلب، العلامة المحدث، إمام النحو، صاحب الفصيح والتصانيف، كان ثقة حجة، دينا صالحا، مشهورًا بالحفظ، مات في جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 14/ 5 - 7. (¬2) في: باب في حق المرأة على زوجها، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 494. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب حق المرأة على الزوج، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 593. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 447، 5/ 3، 5. وصححه في: الإرواء 7/ 98. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب ما يكره من ضرب النساء، وقوله: واضربوهن ضربا غير مبرح، من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 42. ومسلم، في: باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، من كتاب الجنة. صحيح مسلم 4/ 2191. والترمذى، في: باب ومن سورة الشمس وضحاها، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 244. وابن ماجه، في: باب ضرب النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 638. والدارمى، في: باب في النهى عن ضرب النساء، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 147. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْواطٍ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَجْلِدُ أحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إلَّا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللَّهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كم التعزير والأدب، من كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة. صحيح البخارى 8/ 215. ومسلم، في: باب قدر أسواط التعزير، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1332، 1333. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التعزير، من كتاب الحدود، سنن أبى داود 2/ 476. والترمذى، في: باب ما جاء في التعزير، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 249، 250. وابن ماجه، في: باب التعزير، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 867. والدارمى، في: باب التعزير في الذنوب، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وله تأْدِيبُها على تَرْكِ فَرائضِ اللَّهِ تعالى. [وسَأَل إِسْماعِيلُ ابنُ سَعِيدٍ أحمدَ عمَّا يَجوزُ ضَرْبُ المرْأةِ عليه، قال: على فَرائضِ اللَّهِ] (¬1). وقال في الرَّجُلِ له امرأةٌ لا تُصَلِّى: يضْرِبُها ضَرْبًا رَفِيقًا غيرَ مُبَرِّحٍ. وقال علىٌّ في (¬2) تفْسيرِ قولِه تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (¬3). قال: عَلِّمُوهُم أدِّبُوهم (¬4). ورَوَى الخَلَّالُ، بإسْنادِه، عن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا عَلَّقَ في بَيْتِهِ سَوْطًا يُؤْدِّبُ أَهَلَهُ» (¬5). فإن لم تُصَلِّ، فقد قال أحمدُ: أخْشَى أن لا يَحِلَّ للرَّجُلِ أن يُقِيمَ مع امرأةٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة التحريم 6. (¬4) أخرجه ابن جرير في: تفسيره 28/ 165. (¬5) أخرجه ابن عدى في: الكامل 4/ 1642.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تصَلِّى، ولا تَغْتَسِلُ مِن الجَنابَةِ، ولا تتَعَلَّمُ القرآنَ. قال أحمدُ، في الرَّجُلِ يَضْرِبُ امْرأتَه: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ أن يَسْألَه ولا أبوها، لِمَ ضَرَبْتَها؟ والأَصْلُ في هذا ما روَى الأشْعَثُ، عن عمرَ، أنَّه قال: يا أشْعَثُ، احْفَظْ عنِّى شيئًا سَمِعْتُه مِن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تَسْأَلَنَّ رَجُلًا فيما ضَرَب امْرَأَتَه». روَاه أبو داودَ (¬1). لأنَّه قد يَضْرِ بُها لأجلِ الفِراشِ، فإن أخْبَرَ بذلك اسْتَحْيا، وإن أخْبرَ بغيرِه كَذَب. فصل: وإن خافَتِ المرأةُ نُشوزَ زَوْجِها وإعْراضَه عنها، لرَغْبَتِه عنها، لمرَضٍ بها، أو كِبَرٍ، أو دَمامَةٍ، فلا بأْسَ أن تضَعَ عنه بعضَ حُقُوقِها تَسْتَرْضِيه بذلك؛ لقولِه تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا (¬2) بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (¬3). ورَوَى البُخارِىُّ (¬4)، عن عائشةَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}. قالت: هى المرأةُ تكونُ عندَ الرَّجُلِ، لا يَسْتَكْثِرُ منها، فيُرِيدُ طَلاقَها، ويتزَوَّجُ عليها، تقولُ له: أمْسِكْنِى ولا تُطَلِّقْنِى، ثم تزَوَّجْ غيرِى، فأنتَ في حِلٍّ مِنَ النفقَةِ علىَّ، والقِسْمَةِ لى. وعن عائشةَ، أنَّ ¬

(¬1) في: باب في ضرب النساء، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 495. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ضرب النساء، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 639. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 20. وضعفه في: الإرواء 7/ 98، 99. (¬2) في م: {يُصْلِحَا}. وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائى، وما في الأصل قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبى عمرو. انظر: السبعة في القراءات، لابن مجاهد 238. وما في الأصل موافق لرواية البخارى. (¬3) سورة النساء 128. (¬4) في: باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} من كتاب النكاح. صحيح البخارى 7/ 42.

3374 - مسألة: (فإن ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه له، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة، يشرف عليهما، ويلزمهما الإنصاف)

فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ ظُلْمَ صَاحِبِهِ لَهُ، أَسْكَنَهُمَا الْحَاكِمُ إِلَى جَانِبِ ثِقَةٍ، يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا، وَيُلزِمُهُمَا الإِنْصَافَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ سَوْدَةَ بنتَ زَمْعةَ، حينَ أسَنَّتْ، وفَرِقَتْ أن يُفارِقَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، يَوْمِى لعائشةَ. فقَبِلَ ذلكَ (¬1) رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منها. قالت: ففى ذلك أنْزلَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه وفى أشْباهِها أُرَاه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}. روَاه أبو داودَ (¬2). ومتى صَالَحَتْ على تَرْكِ شئٍ مِن قَسْمِها أو نفَقَتِها أو على ذلك كلِّه، جازَ. فإن رَجَعتْ، فلها ذلك. قال أحمدُ. في الرَّجُلِ يَغِيبُ على امْرأتِه، فيَقُولُ لها: إن رَضِيتِ على هذا، وإلَّا فأنتِ أعلمُ. فتقولُ: قد رَضِيتُ: فهو جائزٌ، فإن شاءَتْ رجعَتْ. 3374 - مسألة: (فَإنِ ادَّعَى كُلُّ واحدٍ مِنْهما ظُلْمَ صاحبِه لَهُ، أسْكَنَهُما الْحَاكِمُ إلى جانِبِ ثِقَةٍ، يُشْرِفُ عليهما، ويُلْزِمُهُما الإِنْصَافَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الزَّوْجَيْنِ إذا وقعَ بينَهما شِقاقٌ، نَظَر الحاكمُ، فإن كان مِن المرأةِ، فهو نُشُوزٌ، وقد ذكَرْناه، وإن بانَ أنَّه مِن الرَّجُلِ، أسْكَنَهُما إلى جانبِ ثِقَةٍ، يَمْنَعُه مِن الإِضْرَارِ بها، والتَّعَدِّى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 432.

3375 - مسألة: (فإن خرجا إلى الشقاق والعداوة، بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين -والأولى أن يكونا

فَإِنْ خَرَجَا إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعَدَاوَةِ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ حُرَّيْن مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ -وَالْأوْلَى أَنْ يَكُونَا مِنْ أهْلِهِمَا- بِرِضَاهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها. وكذلك إن بانَ مِن كلِّ واحدٍ منهما [تَعَدِّ، أوِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما] (¬1) أنَّ الآخَرَ ظَلَمَه، أسْكَنَهما إلى جانبِ مَن يُشرِفُ عليهما ويُلْزِمُهما الإِنْصافَ؛ لأَنَّ ذلك طريقٌ إلى (¬2) الإِنْصافِ، فتَعَيَّن فِعْلُه، كالحُكْمَ بالحقِّ. 3375 - مسألة: (فَإِنْ خَرَجَا إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعَدَاوَةِ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ حُرَّيْن مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ -وَالْأوْلَى أَنْ يَكُونَا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

وَتَوْكِيلِهِمَا، فَيَكْشِفَانِ عَنْ حَالِهِمَا، وَيَفْعَلَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَفْرِيقٍ بِطَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أهْلِهما) للآيةِ (بتَوْكِيلِهِمَا، فَيَكْشِفَانِ عَنْ حَالِهِمَا، وَيَفْعَلَانِ مَا يَرَيَانِهِ مِنْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَفْرِيقٍ بِطَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ) فما فعلَا مِن ذلك لَزِمَهما. والأَصْلُ في ذلك قولُه سبحانَه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء 35.

3376 - مسألة: (فإن امتنعا من ذلك، لم يجبرا)

فَإِنِ امْتَنَعَا مِنَ التَّوْكِيلٍ لَمْ يُجْبَرَا. وَعَنْهُ، أَنَّ الزَّوْجَ إنْ وَكَّلَ في الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ أَوْ غيْرِهِ، وَوَكَّلَتِ الْمَرْأَةُ في بَذْلِ الْعِوَضِ بِرِضَاهُمَا، وَإلَّا جَعَلَ الْحَاكِمُ إِلَيْهِمَا ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3376 - مسألة: (فإِنِ امْتَنَعا مِن ذلك، لم يُجْبَرا) عليه (وَعَنْهُ، أَنَّ الزَّوْجَ إنْ وَكَّلَ في الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ أَوْ غيْرِهِ، وَوَكَّلَتِ الْمَرْأَةُ في بَذْلِ الْعِوَضِ، وَإِلَّا جَعَلَ الْحَاكِمُ إِلَيْهِمَا ذَلِكَ) اخْتلفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في الحَكَمَيْنِ، ففى إحدَى الرِّوايتَيْنِ عنه، أنَّهما وَكِيلانِ لهما، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْلِكانِ التَّفْرِيقَ إلَّا بإذْنِهما. وهذا مذهبُ عَطاءٍ، وأحدُ قَوْلَى الشَّافعىِّ. وحُكِىَ ذلك (¬1) عن الحسَنِ، وأبى حنيفةَ؛ لأَنَّ البُضْعَ حَقُّه، والمالَ حقُّها، وهما رَشِيدانِ، فلا يجوزُ لغيرِهما التَّصرُّفُ فيه إلَّا بوَكالَةٍ منهما، أو وِلَايةٍ عليهما. والثانيةُ، أنَّهما حاكِمانِ، ولهما أن يَفْعَلا ما يَريانِ مِن جَمْعٍ وتَفْريقٍ، بعِوَضٍ وغيرِ عِوَضٍ، ولا يَحْتاجانِ إلى تَوْكيلِ الزَّوْجَيْنِ ولا رِضاهُمَا. رُوِى نحوُ ذلك عن علىٍّ، وابنِ عبَّاسٍ، وأبى سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}. فسَمَّاهُما حَكَمَيْنِ، ولم يَعْتَبِرْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، ثم قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا}. فخاطبَ الحَكَمَيْنِ بذلك. ورَوَى أبو بكرٍ، بإسْنادِه، عن عَبِيدَةَ السَّلْمَانِىِّ، أنَّ رجلًا وامرأةً أتَيا عليًّا، مع كلِّ واحدٍ منهما فِئَامٌ (¬2) مِنَ النَّاسِ، فقال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «قياما». وفئام من الناس: جماعة منهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ علىٌّ: ابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِه وحكمًا مِن أهْلِها. فبَعَثُوا حَكَمَيْنِ، ثم قال علىٌّ للحَكَمَيْنِ: هل تَدْرِيانِ ما عليكُما مِنَ الحقِّ؟ عليكُما مِن الحقِّ إن رَأَيتُما أَنْ تَجْمَعا جَمعْتُما، وإن رأْيتُما أن تُفَرِّقا فَرَّقْتُما. فقالتِ المرأةُ: رَضِيتُ بكتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ ولِى. فقال الرَّجلُ: أمَّا الفُرْقَةُ فلا. فقال علىٌّ: كَذَبْتَ حَتَّى تَرْضَى بما رَضِيَتْ به (¬1). وهذا يدُلُّ علِى أنَّه أجْبَرَه على ذلك. ويُرْوَى أَنَّ، عَقِيلًا تزَوَّجَ فاطمةَ بنت عُتْبَة (¬2) فتَخاصَما، فجمَعتْ، ثِيابَها، ومضَتْ إلى عثمانَ، فبعثَ حَكَمًا مِن أهْلِه عبدَ اللَّهِ بنَ عبَّاسٍ، وحَكَمًا مِن أهْلِها مُعاوِيةَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: لأُفَرِّقَنَّ بينَهما. وقال معاويةُ: ما كُنْتُ لأُفَرِّقَ بينَ شَيْخَيْن (¬3) مِن بنى عَبْدِ مَنافٍ. فلمَّا بلَغا البابَ كانا قد أغْلَقَا البابَ واصْطَلحا (¬4). ولا يَمْتَنِعُ أن تَثْبُتَ الوِلايةُ على الرَّشيدِ عندَ امْتِناعِه مِن أداءِ الحقِّ، كما يُقْضَى الدَّيْنُ عنه مِن مالِه إذا امْتنَعَ، ويُطَلِّقُ الحاكمُ على المُولِى إذا امْتَنَعَ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 512. والدارقطنى، في: سننه 3/ 295. (¬2) في م: «عقبة». (¬3) في م: «شخصين». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 513. وابن جرير في تفسيره 5/ 74، 75.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يكونُ الحكَمانِ إلَّا عاقِلَيْنِ بالغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ؛ لأَنَّ هذِه مِن شُروطِ العَدالةِ، سَواءٌ قُلْنا: هما حَكَمانِ أو وَكيلانِ؛ لأَنَّ الوكيلَ إذا كان مُتَعَلِّقًا بنظَرِ الحاكمِ، لم يَجُزْ أن يكونَ إلَّا عَدْلًا، كما لو نُصِبَ وَكيلًا لصَبِىٍّ أو مُفْلِسٍ. ويكونان ذَكَرَيْنِ؛ لأنَّه يَفْتَقِرُ إلى الرَّأْى والنَّظَرِ. قال القاضى: ويُشْتَرَطُ كوْنُهما حُرَّيْنِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ العبدَ عندَه لا تُقْبَلُ شَهادَتُه، فتكونُ الحُرِّيَّةُ مِن شروطِ العدالةِ. قال شيْخُنا (¬1): والأَوْلَى أن يُقالَ: إنْ كانا وَكِيلَيْنِ، لم تُعْتَبَرِ الحُرِّيَّةُ؛ لأَنَّ تَوْكِيلَ العبدِ جائزٌ، وإن كانا حَكَمَيْنِ، اعْتُبِرَتِ الحُرِّيَّةُ؛ لأَنَّ الحاكمَ لا يجوزُ أن يكونَ عبدًا. ويُعْتَبَرُ أن يكونا عالِمَيْنِ بالجَمْعِ والتَّفْرِيقِ؛ لأنُّهما يتصَرَّفَانِ في ذلك، فيُعْتبَرُ عِلْمُهما له. والأَوْلَى أن يكُونا مِن أهْلِهما؛ لأمرِ اللَّهِ تعالى بذلك، ولأنَّهما أشْفَقُ وأعلمُ بالحالِ، فإن كانا مِن غيرِ أهْلِهما، جازَ؛ لأَنَّ القَرابةَ ليستْ شَرْطًا في الحُكْمِ ولا الوَكالةِ، فكان الأمْرُ بذلك إرْشادًا واسْتِحْبابًا. فإن قُلْنا: هما وَكيلانِ. فلا يَفْعلانِ شيئًا حتَّى يَأْذَنَ الرَّجُلُ لوَكيلِهِ فيما يراهُ مِن طَلاقٍ أو صُلْحٍ، وتَأْذَنَ المرأةُ لوَكيلِها في الخُلْعِ والصُّلْحِ على ما يَراهُ، فإنِ امْتنَعا مِن التَّوْكيلِ، لم ¬

(¬1) في: المغنى 10/ 265.

3377 - مسألة: (فإن غاب الزوجان أو أحدهما، لم ينقطع نظر الحكمين على الرواية الأولى، وينقطع على الثانية. وإن جنا انقطع نظرهما على)

فَإِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُولَى، وَيَنْقَطِعُ عَلَى الثَّانِيَةِ. وَإِنْ جُنَّا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى الأُولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْبَرا. وإن قُلْنا: إنَّهما حَكمانِ. فإنَّهما يُمْضِيانِ ما يَريَانِه مِن طلاقٍ وخُلْعٍ، فيَنْفُذُ حُكْمُهما عليهما (¬1)، رَضِيَاهُ أو أَبَيَاهُ. 3377 - مسألة: (فَإِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُولَى، وَيَنْقَطِعُ عَلَى الثَّانِيَةِ. وَإِنْ جُنَّا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى) الروايةِ (الأُولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ) إذا غابَ الزَّوْجانِ أو أحدُهما بعدَ بَعْثِ الحَكَمَيْنِ، جازَ لهما إمْضاءُ رَأْيِهما إن قُلْنا: إنَّهما وَكيلانِ. لأَنَّ الوَكالةَ لا تَبْطُلُ بالغَيْبَةِ. وإن قُلْنا: إنَّهما حاكِمان (¬2). لم يَجُزْ لهما إمْضاءُ الحُكْمِ؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ مَحْكومٌ له وعليه، والقَضاءُ للغائبِ لا يَجوزُ، إلَّا أن يكُونا قد وَكَّلاهُما، ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) في م: «حكمان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيفْعَلانِ ذلك بحُكْمِ التَّوْكيلِ، لا بالحُكْمِ. وإن كان أحدُهما قد وَكَّلَ، جازَ لوَكِيلِه فِعْلُ ما وَكَّلَه فيه مع غَيْبَتِه. وإن جُنَّ أحَدُهما، بَطَل حُكْمُ وَكِيلِه، لأَنَّ الوَكالةَ تَبْطُلُ بجُنونِ المُوَكِّلِ. ولا تَبْطُلُ إذا قُلْنا: إنَّهما حاكِمانِ. لأَنَّ الحاكمَ يحْكُمُ على المجْنُونٍ. وذكرَ شيْخُنا في كتابِ «المُغْنِى» (¬1) أنَّه لا يجوزُ له الحكمُ أيضًا، لأن مِن شَرْطِ ذلك بقاءَ الشِّقاقِ وحُضورَ المُتَداعِيَيْنِ، ولا يتَحَقَّقُ ذلك مع الجُنُونِ. فصل: فإن شَرَطَ الحَكمانِ شَرْطًا، أو شَرَطَه الزَّوْجانِ، لم يَلْزَمْ، مثلَ أن يَشْرِطا تَرْكَ بعضِ النَّفَقةِ والقَسْمِ، لم يَلْزَمِ الوَفاءُ به، لأنَّه إذا لم يَلْزَمْ بِرِضَا المُوَكِّلَيْنِ، فبِرِضَا الوَكِيليْنِ أَوْلَى. فإن أَبْرَأَ وَكِيلُ المرأةِ مِن الصَّداقِ أو دينٍ لها، لم يَبْرَأَ الزَّوْجُ إلَّا في الخُلْع. وإن أَبْرَأ وَكيلُ الزَّوْجِ مِن دَيْنٍ له، أو مِن الرَّجُلَ، [لم تَبْرَأ] (¬2) الزَّوْجَةُ، لأنَّهما وكيلانِ فيما يتَعَلَّقُ بالإِصْلاحِ، لا في إسْقاطِ الحُقوقِ. ¬

(¬1) 10/ 266. (¬2) في م: «إن لم ترض».

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الخلع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْخُلْعِ وَإِذَا كَانَتِ الْمَرأةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ، وَتَخْشَى أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِى حَقِّهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِىَ نَفْسَهَا مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْخُلْعِ 3378 - مسألة: (وَإذَا كَانَتِ الْمَرأةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ، وَتَخْشَى أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِىَ نَفْسَهَا مِنْهُ) وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا كرِهتْ زَوْجَها، لخَلْقِه، أو خُلُقِه، أو دِينِه، أو كِبَرِه، أو ضَعْفِه، أوْ نحوِ ذلك، وخَشِيَتْ أن لا تُؤدِّىَ حقَّ اللَّهِ في طْاعتِه، جازَ لها أن تُخالِعَه على عِوَضٍ تَفْتَدِى به نَفْسَها منه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} (¬1). ورُوِىَ أنَّ ¬

(¬1) سورة البقرة 229.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَج إلى الصُّبْحِ، فَوجدَ حَبِيبَةَ بنتَ سَهْلٍ عندَ بابِه في الغَلَسِ، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ما شَأْنُكِ؟». قالت: لا أنا ولا ثابِتٌ. لزَوجِها (¬1)، فلمَّا جاءَ ثابتٌ، قال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هذِه حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْل، [قدْ ذكَرَتْ] (¬2) ما شاءَ اللَّهُ أن تَذْكُرَ». وقالت حبيبةُ: يارسولَ اللَّهِ، كلُّ ما أعْطانِى عندِى. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لثابتِ ابنِ قَيْسٍ: «خُذْ مِنها». فأخذَ منها، وجلَسَتْ في أهْلِها. وهذا حديثٌ صحيحٌ، ثابتُ الإِسْنادِ، روَاه الأئِمَّةُ مالكٌ وأحمدُ وغيرُهُما (¬3)، وفى رِوايةٍ للبُخَارِىِّ (¬4)، قال: جاءتِ امرأةُ ثابتِ بنِ قيسٍ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، ما أنْقِمُ على ثابتٍ في دينٍ ولا خُلُقٍ، إلَّا أنِّى أخافُ الكُفْرَ. فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟». قالت: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فذكرت». (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الخلع، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 564. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 433، 434. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 516. والنسائى، في: باب ما جاء في الخلع، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 138، 139. والدارمى، في: باب في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 163. (¬4) في: باب الخلع وكيف الطلاق فيه، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 60، 61.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نعم. فرَدَّتْ عليه، وأمرَه ففارَقَها. وفى رِوايةٍ، فقال له: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْها تَطْلِيقَةً» (¬1). ولأَنَّ حاجتَها داعيةٌ إلى فُرْقَتِه، ولا تَصِلُ إليها إلَّا ببَذْلِ العِوَضِ، فأُبِيحَ لها ذلك، كشِرَاءِ المتاعِ. وبهذا قال جميعُ الفُقَهاءِ بالشَّامِ والحِجازِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): لا نعلمُ أحدًا خالفَه، إلَّا بكرَ (¬3) بنَ عبدِ اللَّهِ المُزَنِىَّ، فإنَّه لم يُجِزْه، وزَعَم أنَّ آيةَ الخُلْعِ مَنْسُوخَةٌ بقولِه سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (¬4) الآية. ورُوِىَ عن ابنِ سِيرِينَ وأبى قِلَابَةَ أنَّه لا يَحِلُّ الخُلْعُ حَتى يَجِدَ على بَطْنِها رَجُلًا؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5). ولَنا، الآيةُ التى تلوناها والخبرُ، ولأنَّه قولُ عمرَ، وعثمانَ، وعلى، وغيرِهم مِنَ الصَّحابةِ، ولم يُعْرَفْ لهم في عَصْرِهم مُخالِفٌ، فيكونُ إجْماعًا، ودَعْوَى النَّسْخِ لا تُسْمَعُ حتَّى يَثْبُتَ تعَذُّرُ الجَمْعِ وأنَّ الآيةَ النَّاسخةَ مُتَأخِّرَةٌ، ولم يَثْبُتْ شىئٌ مِن ذلك. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُسَمَّى خُلْعًا؛ لأَنَّ المرأةَ تَنْخَلِعُ مِن لباسِ زَوْجِها، قال اللَّهُ تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهُنَّ} (¬6). ¬

(¬1) عند البخارى 7/ 60. والنسائى 6/ 139. (¬2) انظر: الاستذكار 17/ 175، والتمهيد 23/ 375. (¬3) في الأصل: «بكير». (¬4) سورة النساء 20. (¬5) سورة النساء 19. (¬6) سورة البقرة 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُسَمَّى افْتِداءً؛ لأنَّها تَفْتَدِى نفْسَها بمالٍ (¬1) تَبْذُلُه، قال اللَّه تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. فصل: ولا يَفْتَقِرُ الخُلْعُ إلى حاكم. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: يجوزُ الخُلْعُ دونَ السُّلطانِ. ورَوَى البُخَارِىُّ (¬2) ذلك عن عمرَ. وعثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال شُرَيْحٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأهلُ الرَّأْى. وعن الحسَنِ، وابنِ سِيرينَ: لا يَجوزُ إلَّا عنْدَ السُّلطانِ. ولَنا، قولُ عمرَ وعثمانَ، ولأنَّه مُعاوَضَةٌ، فلم يَفْتَقِرْ إلى السُّلطانِ، كالبيعِ والنِّكاحِ، ولأنَّه قَطْعُ عَقْدٍ بالتَّراضِى، أشْبَهَ الإِقالةَ. فصل: ولا بَأْسَ به في الحَيْضِ والطُّهْرِ الَّذى أصابَها فيه (¬3)؛ لأَنَّ المنعَ مِنَ الطَّلاقِ في الحَيْضِ مِن أجْلِ الضَّرَرِ الَّذى يَلْحَقُها بطُولِ العِدَّةِ، والخُلْعُ لإِزالةِ الضَّرَرِ الَّذى يلْحَقُها بسُوءِ العِشْرَةِ والمُقَامِ مع مَن (¬4) ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) أخرجه البخارى معلقًا بصيغة الجزم عن عمر، في: باب الخلع. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 60. ووصل أثر عمر، عبد الرزاق، في: باب الخلع دون السلطان، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 494. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الخلع يكون دون السلطان، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 116. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن سعيد بن منصور 1/ 336. والذي علقه البخارى في الموضع السابق عن عثمان أنه أجاز الخلع دون عقاص رأسها. وما ورد عن عثمان من إجازة الخلع دون السلطان، أخرجه البيهقى، في: باب الخلع عند غير سلطان، من كتاب الخلع والطلاق. السنن الكبرى 7/ 316. وابن أبى شيبة في الموضع السابق. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

3379 - مسألة: (وإن خالعته لغير ذلك، كره، ووقع الخلع. وعنه، لا يجوز)

وَإِنْ خَالَعَتْهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، كُرِهَ، وَوَقَعَ الْخُلْعُ. وَعَنْهُ، لَا يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكْرَهُه وتُبْغِضُه، وذلك أعْظَمُ مِن ضَرَرِ طُولِ العِدَّةِ، فجازَ دَفْعُ أعْلاهما بأدْناهما، ولذلك لم يسْألِ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُخْتَلِعَةَ عن حالِها، ولأَنَّ ضرَرَ تَطْويلِ العِدَّةِ عليها، والخُلْعُ بسُؤالِها، فيكونُ ذلك رِضًا منها به، ودليلًا على رُجْحانِ مصْلَحَتِها فيه. 3379 - مسألة: (وإن خالَعَتْه لغيرِ ذلك، كُرِهَ، وَوَقَع الخُلْعُ. وعنه، لا يجوزُ) أي إن خالَعَتْه مع اسْتِقامَةِ الحالِ، كُرِهَ لها ذلك، ويَصِحُّ الخُلْعُ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ ما يدُلُّ على تَحْرِيمِه؛ فإنَّه قال: الخُلْعُ مثلُ حديثِ سَهْلَةَ، تَكْرَهُ الرَّجُلَ فتُعْطِيه المَهْرَ، فهذا الخُلْعُ. وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يكونُ الخُلْعُ صحيحًا إلَّا في هذه الحالِ. وهذا قولُ ابنِ المُنْذِرِ وداودَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: رُوِى معْنى ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ وكثيرٍ مِن أهلِ العلمِ؛ وذلك لأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}. وهذا صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ إذا لم يخافا ألَّا يُقيمَا حُدودَ اللَّهِ، ثم قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. فَدَلَّ بمفْهُومِه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّ الجُناحَ لاحِقٌ بهما [إذا افتدت به] (¬1) مِن غيرِ خوفٍ، ثم غَلَّظَ بالوعيدِ، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ورَوَى ثَوْبانُ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَيَّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَها الطَّلاقَ مِن غيرِ ما بَأْس، فحرامٌ عليها رَائِحَةُ الْجَنَّةِ». روَاه أبو داود (¬2). وعن أبى هريرةَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الْمُخْتَلِعَات والمتَبَرِّجات (¬3) هُنَّ المُنافِقات». روَاه أبو حفص، وأحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬4)، وذكَرَه مُحْتَجًّا به. وهذا يدلُّ على تحْريمِ المُخالعَةِ ¬

(¬1) في م: «فيما افتدت». (¬2) في: باب في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 516. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في المختلعات، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 162، 163. وابن ماجه، في: باب كراهية الخلع للمرأة، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 662. والدارمى، في: باب النهى عن أن تسأل المرأة زوجها طلاقها، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 162. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 283. وصححه في الإرواء 1/ 7. (¬3) في الأصل: «المتبرعات». (¬4) 2/ 414، بلفظ «المنتزعات». كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في المختلعات، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 162. والنسائى، في: باب ما جاء في الخلع، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 138.

3380 - مسألة: (فأما إن عضلها لتفتدى نفسها منه، ففعلت، فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها، إلا أن يكون طلاقا،

فَأَمَّا إِنْ عَضَلَهَا لِتَفْتَدِىَ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالْعِوَضُ مَرْدُودٌ، وَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، فَيَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيرِ حاجةٍ، ولأنَّه إضْرارٌ [بها وبزَوْجِها، وإزالةٌ لمصالحِ النِّكاحِ مِن غيرِ حاجَةٍ، فحَرُمَ؛ لقولِه عليه السلامُ: «لا ضَرَرَ ولا إضْرَارَ] (¬1). واحْتَجَّ مَن أجازَه بقولِه سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيَئًا مَّريَئًا} (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: لا يَلْزَمُ مِن الجوازِ في غيرِ عَقْدٍ، الجوازُ في المُعاوَضَةِ، بدليلِ الرِّبا، حَرَّمَه اللَّه في العَقْدِ وأجازَه في الهِبَةِ. قال شَيْخُنَا (¬3): والحُجَّةُ مع مَن حَرَّمَه، وخُصوصُ الآيةِ في التَّحْرِيمِ يَجِبُ تَقْديمُها على (¬4) عُمُومِ آيةِ الجوازِ، مع ما عَضَدَها مِن الأخْبارِ. 3380 - مسألة: (فَأمَّا إِنْ عَضَلَهَا لِتَفْتَدِىَ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالْعِوَضُ مَرْدُودٌ، وَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬2) سورة النساء 4. (¬3) في: المغنى 1/ 272. (¬4) في م: «في».

رَجْعِيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَكونُ رَجْعِيًّا) يعنى [بعَضْلِها مُضارًّا] (¬1) بها بالضَّرْبِ والتَّضْيِيقِ عليها، أو مَنْعِها حُقُوقَها مِن النَّفَقةِ والقَسْمِ ونحوِ ذلك، لتَفْتَدِىَ نَفْسَها، فإن فعَلَتْ، فالخُلْعُ باطلٌ، والعِوَضُ مرْدودٌ. رُوِى نحوُ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والقاسمِ بنِ محمدٍ، وعُرْوَة، وعمرِو بنِ شُعَيْبٍ، وحُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، والزُّهْرِىِّ. وبه قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: العَقْدُ صحيحٌ، والعِوَضُ لازِمٌ، وهو آثِمٌ عاصٍ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}. وقال اللَّهُ تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (¬2). ولأنَّه عِوَضٌ أُكْرِهَتْ على بَذْلِه بغيرِ حقٍّ، فلم يُسْتَحَقَّ، كالثَّمَنِ في البيعِ، والأجْرِ في الإِجارةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يعضلها مضار». (¬2) سورة النساء 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا لم يَمْلِكِ العِوَضَ وقُلْنا: الخُلْعُ طَلاقٌ. وَقَع (¬1) الطَّلاقُ بغيرِ عِوَضٍ، فإن كان أقلَّ مِن ثلاثٍ، فله رَجْعَتُها؛ لأَنَّ الرَّجْعةَ إنَّما سَقطَتْ بالعِوَض، فإذا سقَطَ العِوَضُ، ثَبَتتِ الرَّجْعةُ. وإن قُلْنا: هو فَسْخٌ. ولم يَنْوِ به الطَّلاقَ، لم يقَعْ شئٌ؛ لأَنَّ الخُلْعَ بغيرِ عِوَضٍ لا يقَعُ على إِحْدَى الرِّوايتَيْنِ، وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، إنَّما رَضِىَ بالفَسْخِ ههُنا بالعِوَضِ، فإذا لم يحْصُلِ العِوَضُ [لا يَحْصُلُ المُعَوَّضُ] (¬2). وقال مالكٌ: إن أَخَذَ منها شيئًا على هذا الوَجْهِ، ردَّه، ومَضَى الخُلْعُ عليه. ويتَخَرَّجُ لنا مثلُ ذلك إذا قُلْنا: يَصِحُّ الخُلْعُ بغيرِ عِوَضٍ. فأمَّا إن ضَرَبَها على نُشُوزِها، أو مَنَعَها حقَّها، لم يَحْرُمْ خُلْعُها لذلك؛ لأَنَّ ذلك لا يَمْنَعُهما أن لا يخافا أن لا يُقيما حُدودَ اللَّهِ. وفى بعضِ حديثِ حَبِيبَةَ، أنَّها كانت تحتَ ثابتِ بنِ قَيْسٍ، فضرَبَها، فكَسَر ضِلَعَها، فأتَتِ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدَعَا النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابِتًا، فقال: «خُذْ بعضَ مَالِها وفارِقْها». فَفعَلَ. رَواه أبو داودَ (¬3). وهكذا لو ضربَها ظُلْمًا؛ لسُوءِ خُلُقِه أو غيرِه، لا يُرِيدُ بذلك أن تَفْتَدِىَ نفْسَها، لم يَحْرُمْ عليه مُخالَعَتُها؛ لأنَّه لم يَعْضُلْها ليَذْهَبَ ببعضِ (¬4) الَّذى آتاها، ولكنْ عليه إثمُ الظُّلْمِ. ¬

(¬1) في م: «ووقع». (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 516. (¬4) بعده في الأصل: «مالها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أتَتْ بفاحِشَةٍ، فعَضَلَها لتفْتَدِىَ نفْسَها منه، ففَعَلَتْ، صَحَّ الخُلْعُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. والاسْتِثْناءُ مِنَ النَّهْى إباحةٌ. ولأنَّها متى زَنَتْ، لم يأْمَنْ أن تُلْحِقَ به ولدًا مِن غيرِه، وتُفْسِدَ فِراشَه، فلا تُقِيمَ حُدودَ اللَّهِ في حقِّه، فتَدخلُ في قولِ اللَّهِ تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وهذا أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ. والقولُ الآخَرُ، لا يجوزُ؛ لأنَّه عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عليه، أشْبَهَ ما لو لم تَزْنِ. والعمَلُ بالنَّصِّ أوْلَى.

3381 - مسألة-: (ويصح الخلع من كل زوج يصح طلاقه، مسلما كان أو ذميا)

وَيَجُوز الْخلْعُ مِنْ كلِّ زَوْجٍ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، دُفِعَ الْمَالُ إِلَى وَلِيِّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3381 - مسألة-: (ويَصِحُّ الخُلْعُ مِن كُلِّ زَوْجٍ يَصِحُّ طَلاقُهُ، مُسْلِمًا كان أو ذِمِّيًّا) لأنَّه إذا مَلَك الطَّلاق، وهو مُجَردُ إِسْقَاطٍ مِن غيرِ تَحْصِيلِ شئٍ، فَلَأَن يَمْلِكَه مُحَصِّلًا للعِوَضِ أولَى. 3382 - مسألة: (فإن كان مَحْجُورًا عليه، دُفِعَ المالُ إلى وَلِيِّهِ) لأَنَّ وَلِىَّ المَحْجُورِ عليه هو الَّذى يَقْبِضُ حُقُوقَه وأموَالَه، وهذا مِن حُقُوقِه.

3383 - مسألة: (وإن كان عبدا، دفع إلى سيده)

وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، دُفِعَ إِلَى سَيِّدِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يَصِحُّ الْقَبْضُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ خُلْعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3383 - مسألة: (وإن كان عَبْدًا، دُفِعَ إلى سَيِّدِه) لأنَّهُ للسَّيِّدِ؛ لكَوْنِه مِن أكسَاب عَبْدِه، وأكْسَابُهُ له. وإن كان مُكاتَبًا، دُفِعَ العِوَضُ إليه؛ لأنَّه يَمْلِكُ أكْسَابَه، وهو الَّذى يتَصَرَّفُ لنفْسِه (وقال القاضى: يصِحُّ القَبْضُ مِن كلِّ مَن يَصِحُّ خُلْعُه) فعلى قولِه: يَصِحُّ قَبْضُ العَبْدِ والمَحْجُورِ عليه؛ لأنَّ مَن صَحَّ خُلْعُه صَحَّ قَبْضُه للعِوَضِ، كالمحْجُورِ عليه لفَلَسٍ. واحْتَجَّ بقولِ أحمدَ: ما مَلَكَه العَبْدُ مِن خُلْعٍ فهو لسَيِّدِه، وإنِ اسْتَهْلَكَه لم يَرْجِعْ على الواهبِ والمُخْتَلِعةِ بشئٍ. والمحْجورُ عليه في معنى العبدِ. والأَولَى أنَّه لا يجوزُ؛ لأَنَّ العِوَضَ في الخُلْعِ لسَيِّدِ العبدِ،

3384 - مسألة: (وهل للأب خلع زوجة ابنه الصغير أو طلاقها؟

وَهَلْ لِلأَبِ خُلْعُ زَوْجَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ طَلَاقُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يجوزُ دَفْعُه إلى غيرِ مَن هو له بغيرِ (¬1) إذْنِ مالِكِه، والعِوَضُ في خُلْعِ المَحْجورِ عليه مِلْكٌ له، إِلَّا أنَّه لا يجوزُ تَسْلِيمُه إليه؛ لأَنَّ الحَجْرَ أفادَ مَنْعَه مِن التَّصَرُّفِ، وكلامُ أحمدَ محْمولٌ على ما أَتْلَفَه العبدُ قبلَ تَسْليمِه، وعلى أنَّ عَدَمَ الرُّجوعِ عليها لا يَلْزَمُ منه جوازُ الدَّفْعِ إليه، فإنَّه لو رجَعَ عليها لرجَعتْ على العبدِ، وتعلَّقَ حقُّها برقبَتِه، وهى مِلْكٌ للسَّيِّدِ، فلا فائدةَ في الرُّجوعِ عليها بما يُرْجَعُ به [في مالِه] (¬2). وإن سلَّمَتِ العِوَضَ إلى المَحْجورِ عليه، لم تَبْرَأْ (¬3)، فإن أخَذَه الوَلِىُّ منه، بَرِئَتْ، وإن أتْلفَه أو تَلِفَ، كان لوَلِيِّه الرُّجوعُ عليها به. 3384 - مسألة: (وهل للأبِ خُلْعُ زَوْجةِ ابْنِه الصَّغيرِ أو طَلاقُها؟ ¬

(¬1) في م: «من غير». (¬2) في م: «فيما له». (¬3) في م: «يبرأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على رِوايَتَيْنِ) إحْداهما، له ذلك. قال أحمدُ في رَجُلَين زوَّجَ أحدُهما ابْنَه بابنَةِ الآخَرِ، وهما صَغِيرانِ، ثم إنَّ الأبوَيْنِ كَرِها، هل لهما أن يَفْسَخا؟ قال: قد اخْتُلِفَ في ذلك. وكأنَّه رآه. قال أبو بكرٍ: لم يَبْلُغْنى عن أبى عبدِ اللَّهِ في هذه المسألةِ إلَّا هذه الرِّوايةُ. فتُخَرَّجُ على قوْلَيْنِ؛ أحدُهما، يَمْلِكُ ذلك. وهو قولُ عَطاءٍ، وقَتادَةَ؛ لأنَّها وِلاية يَسْتَفِيدُ بها تَمْلِيكَ البُضْعِ، فجازَ أن يَمْلِكَ بها إزالَتَه إذا لم يَكُنْ مُتَّهَمًا، كالحاكمِ يَمْلِكُ الطَّلاقَ على الصَّغيرِ والمَجْنونِ بالإِعْسارِ، وتَزْوِيجَ الصَّغيرِ. والقولُ الآخَرُ، لا يَمْلِكُ ذلك. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ، ومالكٍ؛ لقولِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّما الطَّلاقُ لمَن أخذَ بالسَّاقِ». روَاه ابنُ ماجه (¬1). وعن عمرَ أنَّه قال: إنَّما الطَّلاقُ [بيَدِ الَّذى] (¬2) يَحِلُّ له الفَرْجُ (¬3). ولأنَّه إسْقاطٌ لحقِّه، فلم يَمْلِكْه، كالإِبراءِ مِن الدَّيْنِ وإسْقاطِ القِصاصِ، ولأَنَّ طَرِيقَه الشَّهْوَةُ، فلم يدْخُلْ في الولايةِ (¬4). والقولُ في زَوْجَةِ عبدِه الصَّغيرِ، كالقولِ في زوجةِ ابنِه الصَّغْيرِ؛ لأنَّه في مَعْناه. فأمَّا غيرُ الأبِ، فليس له (¬5) تَطْليقُ امرأةِ المُوَلَّى عليه، سواءٌ كان ممَّن يَمْلِكُ التَّزْويجَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 456. (¬2) في م: «لمن». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 241، 242. (¬4) في م: «الآية». (¬5) سقط من: م.

3385 - مسألة: (وليس له خلع ابنته الصغيرة بشئ من مالها)

وَلَيْسَ لَهُ خُلْعُ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِشَىْءٍ مِنْ مَالِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَوَصِىِّ (¬1) الأبِ والحاكِمِ، على قولِ ابنِ حامِدٍ، أو لا يَمْلِكُه. لا نَعْلَمُ في هذا خلافًا. 3385 - مسألة: (وليس له خُلْعُ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بشئٍ مِن مالِها) لأنَّه إنَّما يَمْلِكُ التصرُّفَ بما لَها فيه الحَظُّ، وليس في هذا حَظٌّ، بل فيه إسْقاطُ نفَقَتِها وكُسْوَتِها وبَذْلُ مالِها. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ ذلك إذا رأى الحظَّ فيه، فإنَّه يجوزُ أن يكونَ لها الحظُّ فيه بتَخْلِيصِها ممَّن يُتْلِفُ مالَها، وتَخافُ منه على نفْسِها وعَقْلِها، ولذلك لم يُعَدَّ بذْلُ (¬2) المالِ في الخُلْعِ ¬

(¬1) في م: «كوطء». (¬2) في الأصل: «بذلك».

3386 - مسألة: (ويصح الخلع مع الزوجة)

وَيَصِحُّ الْخُلْعُ مَعَ الزَّوْجَةِ وَمَعَ الأَجْنَبِىِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبْذِيرًا ولا سَفَهًا، فيجوزُ له بَذْلُ مالِها لتَحْصيلِ حَظِّها ولحِفْظِ (¬1) نفْسِها ومالِها، كما (¬2) يجوزُ له (¬3) بذْلُه في مُداواتِها وفَكِّها مِن الأسْرِ. وهذا مذهبُ مالكٍ. والأبُ وغيرُه مِن أوْليائِها [في هذا] (¬4) سواءٌ، إذا خالَعوا في حَقِّ المجْنونةِ والمَحْجُورِ عليها للسَّفَهِ والصِّغَرِ. فأمَّا إن خالعَ بشئٍ مِن مالِه، جازَ؛ لأنَّه يَجوزُ مِن الأجْنَبِىِّ، فمِن الوَلِىِّ أوْلَى. 3386 - مسألة: (وَيَصِحُّ الخُلْعُ مع الزَّوْجَةِ) وقد ذكَرْناه (و) يَصِحُّ (مع الأجْنَبِىِّ) بغيرِ إذْنِ المرأةِ، مثلَ أن يقولَ الأجْنَبِىُّ للزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرأتَكَ بألْفٍ علَىَّ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال أبو ثَوْرٍ: ¬

(¬1) في م: «ظ». (¬2) بعده في الأصل: «لا». (¬3) زيادة من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَصِحُّ، لأنَّه سَفَهٌ، فإنَّه يبْذُلُ عِوَضًا في مُقابلَةِ ما لَا مَنْفَعَةَ له فيه، فإنَّ المِلْكَ لا يَحْصُلُ له، فأَشْبَهَ ما لو قال: بعْ عَبْدَكَ لزيدٍ بألْفٍ علىَّ. ولَنا، أنَّه بذْلُ مالٍ (¬1) في إسْقاطِ حَقٍّ عن غيرِه، فصَحَّ، كما لو قال: أعْتِقْ عَبْدَكَ وعلىَّ ثَمَنُه. ولأنَّه لو قال: ألْقِ مَتاعَكَ في البَحْرِ وعلىَّ ثَمَنُه. صَحَّ ولَزِمَه ثَمَنُه، مع أنَّه لا يُسْقِطُ حَقًّا عن أحَدٍ، فههُنا أوْلَى، ولأنَّه حَقٌّ على المرأةِ، يجوزُ أن يُسْقِطَه عنها بعِوَض، فجازَ لغيرِها، كالدَّيْنِ، وفارَقَ البيعَ؛ فإنَّه تَمْلِيكٌ، فلا يجوزُ بغيرِ رِضَا مَنْ يَثْبُت (¬2) له المِلْكُ. وإن قال: طَلِّقِ امْرأَتَكَ بمَهْرِها وأنا ضَامِنٌ له. صَحَّ، ويَرْجِعُ (¬3) عليه بمَهْرِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ثبت». (¬3) في م: «يرد».

3387 - مسألة: (ويصح بذل العوض فيه من كل جائز التصرف)

وَيَصِحُّ بَذْلُ الْعِوَضِ فِيهِ مِنْ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3387 - مسألة: (ويَصِحُّ بذلُ العِوَضِ فيه مِن كلِّ جائزِ التَّصَرُّفِ) لأنَّه بذلُ عِوَضٍ في عَقْدِ (¬1) مُعاوَضَةٍ، أشْبَهَ الْبَيْعَ. فصل: إذا قالتْ له امرأتُه: طَلِّقْنِى وضَرَّتِى بأَلْفٍ. وطَلَّقَهما، وقعَ الطَّلاقُ بهما بائنًا، واسْتَحَقَّ الألْفَ على باذِلَتِه؛ لأَنَّ الخُلْعَ مِن الأجْنَبِىِّ جائزٌ. وإن طَلَّقَ إحْداهما، فقال القاضى: تَطْلُقُ طلاقًا بائِنًا، ويَلْزَمُ الباذِلَةَ بحِصَّتِها مِن الألْفِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، إلَّا أنَّ بعضَهم قال: يَلْزَمُها مَهْرُ مِثلِ المُطَلَّقَةِ. وقياسُ قولِ أصْحابِنا فيما إذا قالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا بألْفٍ. فطَلَّقَها واحدةً، لم يَلْزَمْها شئٌ، ووَقَعَتْ بها التَّطْليقَةُ، أن (¬2) لا يَلْزَمَ الباذلةَ ههُنا شئٌ؛ لأنَّه لم يُجِبْها إلى ما سألتْ، فلم يَجِبْ عليها ما بذَلَتْ، ولأنَّه قد يكونُ غَرَضُها في بَيْنُونَتِهما حميعًا منه، فإذا طَلَّق إحْداهما لم يحْصُلْ غَرَضُها، فلا يَلْزَمُها عِوَضُها. فصل: فإن قالت: طلِّقْنِى بألْفٍ على أنَّ تُطَلِّقَ ضَرَّتِى -[أو- على أن لا تُطَلِّقَ ضَرَّتى] (¬3). فالخُلْعُ صحيحٌ، والشَّرطُ والبَذْلُ لازِمٌ. وقال الشافعىُّ: الشَّرطُ والعِوَضُ باطلانِ، ويَرْجِعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ؛ لأَنَّ الشَّرطَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «إنما». (¬3) سقط من: م.

3388 - مسألة: (فإن خالعت الأمة على شئ معلوم بغير إذن سيدها، كان فى ذمتها، تتبع به بعد العتق)

وَإِنْ خَالَعَتِ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا عَلَى شَىْءٍ مَعْلُومٍ، كَانَ فِى ذِمَّتِهَا تُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَلَفٌ في الطَّلاقِ، والعِوَضُ بعضه (¬1) في مُقابَلَةِ الشَّرطِ الباطلِ، فيكونُ الباقى مجهولًا. وقال أبو حنيفةَ: الشَّرطُ باطلٌ والعِوَضُ صحيحٌ؛ لأَنَّ العَقْدَ يسْتَقِلُّ بذلك العِوَضِ. ولَنا، أنَّها بذَلَتْ عِوَضًا في طَلاقِها وطَلاقِ ضَرَّتِها، فصَحَّ، كما لو قالت: طَلِّقْنِى وضَرَّتِى بألْفٍ. فإن لم يَفِ لها بشَرْطِها، فعليه الأَقَلُّ مِنَ المُسَمَّى أو الألْفِ الذى شَرَطَتْه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْتَحِقَّ شيئًا مِن العِوَضِ؛ لأنَّها إنَّما بَذَلَتْه بِشَرْطٍ لم يُوجَدْ، فلم يسْتَحِقَّه، كما لو طَلَّقَها بغيرِ عِوَضٍ. 3388 - مسألة: (فإن خَالَعَتِ الأمَةُ على شئٍ معْلُوم بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها، كان فِى ذِمَّتِها، تُتْبَعُ به بعدَ الْعِتْقِ) الخُلْعُ مع الأمَةِ صحيحٌ، سواءٌ كان بإذْنِ سَيِّدِها أو بغيرِ إذْنِه؛ لأَنَّ الخُلْعَ يَصِحُّ مع الأجْنَبِى، فمع الزَّوْجَةِ أَوْلَى، ويكونُ طلاقُها على عِوَضٍ بائنًا، والخُلْعُ معها كالخُلْعِ مع الحُرَّةِ سَواءً. فإن كان الخُلْعُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِها على شئٍ في ذِمَّتِها، ¬

(¬1) في م: «نقضه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه يَتْبَعُها إذا عتَقَتْ؛ لأنَّه رَضِىَ بذِمَّتِها. وإن كان على عَيْنٍ، فقال الخِرَقِىُّ: إنَّه يَثْبُتُ في ذِمَّتِها مِثْلُه، أو قِيمتُه إن لم يكُنْ مِثْلِيًّا؛ لأنَّها لا تَمْلِكُ العَيْنَ، وما في يَدِها مِن شئٍ فهو لسَيِّدِها، فيَلْزَمُها بَدَلُه (¬1)، كما لو خالَعَها على عبدٍ فخرجَ حُرًّا أو مُستَحَقًّا. وقياسُ المذهبِ أنَّه لا شئَ له؛ لأنَّه إذا خالَعَها على عَيْنٍ وهو يَعْلَمُ أنَّها أمَةٌ، فقد عَلِمَ أنَّها لا تَمْلِكُ العَيْنَ، فيكونُ راضِيًا بغيرِ عِوَضٍ، فلا يكونُ له شئٌ، كما لو قال: خالَعْتُكِ على هذا المغْصُوبِ -أو- هذا الحُرِّ. وكذلك ذَكَر القاضى في «المُجَرَّدِ»، قال: هو كالخُلْعِ على المغْصوبِ؛ لأنَّها لا تَمْلِكُها. وهذا قولُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ: يَرْجِعُ عليها بمَهْرِ المِثْلِ. كقولِه في الخُلْعِ على الحُرِّ والمغْصوبِ. ويُمْكِنُ حملُ كلامِ الْخِرَقِىِّ على أنَّها ذَكرَت ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لزَوْجِها أنَّ سَيِّدَها أَذِنَ لها في ذلك، ولم تكُنْ صادِقَةً، أو جَهِلَ أنَّها لا تَمْلِكُ العَيْنَ، أو يكونُ اخْتِيارُه فيما إذا خالَعَها على مغْصوبٍ؛ أنَّه يَرْجِعُ عليها بقِيمَتِه. ويكونُ الرُّجوعُ عليها في حالِ عِتْقِها؛ لأنَّه الوقتُ الذى تَمْلِكُ فيه، فهى (¬1) كالمُعْسِرِ يُرْجَعُ عليه في حالِ يَسارِه، ويُرْجَعُ بقِيمَتِه أو مِثْلِه؛ لأنَّه مُسْتَحَقٌّ تَعَذَّرَ (¬2) تَسْليمُه مع بقاءِ سَبَبِ الاسْتِحْقاقِ، فَوجبَ الرُّجوعُ بمِثْلِه أو قِيمَتِه، كالمغْصُوبِ. فصل: فإن كان الخُلْعُ بإذْنِ السَّيِّدِ، تعَلَّقَ العِوَضُ بذِمَّتِه، في قياسِ المذهبِ، كما لو أذِنَ لعَبْدِه في أنَّ يَسْتَدِينَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يتعَلَّقَ برَقَبَةِ الأمَةِ، بِناءً على اسْتِدانَتِها (¬3) بإذْنِ سَيِّدِها. وإن خالَعَتْ على مُعَيَّنٍ بإذْنِ السَّيِّدِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسختين «بعد»، والمثبت كما في المغنى 10/ 306. (¬3) في م: «استئذانها».

3389 - مسألة: (وإن خالعته المحجور عليها، لم يصح الخلع، ووقع طلاقه رجعيا)

وَإِنْ خَالَعَتْهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ، وَوَقَعَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، مَلَكَه. وإن أَذِنَ في قَدْرٍ مِن المالِ فخالَعَتْ بأكثرَ منه، فالزِّيادةُ في ذِمَّتِها. وإن أطْلَقَ الإِذْنَ، اقْتَضَى الخُلْعَ بالمُسَمَّى لها، فإن خالعَتْ به أو بما دُونَه، لَزِمَ السَّيِّدَ (¬1)، وإن كان بأكثرَ منه تعلَّقَتِ الزِّيادةُ بذِمَّتِها، كما لو عَيَّنَ لها قَدْرًا فخالَعَتْ بأكثرَ منه. وإن كانت مأْذونًا لها في التِّجارةِ، سَلَّمَتِ العِوَضَ ممَّا في يَدِها. فصل: والحُكْمُ في المُكاتَبةِ (¬2)، كالحُكْمِ في الأمَةِ القِنِّ سَواءً؛ لأنَّها لا تَمْلِكُ التَّصرُّفَ فيما في يَدِها بتَبَرُّع وما لا حَظَّ فيه، وبَذْلُ المالِ في الخُلْعِ لا فائدةَ فيه مِن حيثُ تحْصيلُ المالِ، بل فيه ضَرَرٌ بسُقوطِ نَفَقَتِها، وبعْضِ مَهْرِها إن كانت غيرَ مَدْخُولٍ بها. وإذا كان الخُلْعُ بغيرِ إذْنِ السَّيِّدِ، فالعِوَضُ في ذِمَّتِها، يَتْبَعُها به بعدَ العِتْقِ، وإن كان بإذْنِ السَّيِّدِ، سَلَّمَتْه ممّا (¬3) في يَدِها، وإن لم يَكُنْ في يَدِها شئٌ، فهو على سَيِّدِها. 3389 - مسألة: (وإن خالَعَتْه المَحْجُورُ عليها، لم يَصِحَّ الخُلْعُ، ووَقَع طَلاقُه رَجْعِيًّا) أمَّا المَحْجُورُ عليها للفَلَسِ، فَيَصِحُّ خُلْعُها وَبَذْلُها ¬

(¬1) في الأصل: «للسيد». (¬2) في الأصل: «المكاتب». (¬3) في م: «بما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للعِوَضِ؛ لأَنَّ لها ذِمَّةً يَصِحُّ تَصرُّفُها فيها، ويَرْجِعُ عليها بالعِوَضِ إذا أيْسرَتْ وفُكَّ الحَجْرُ عنها، وليس له مُطالبَتُها في حالِ حَجْرِها، كما لو اسْتَدانَتْ منه، أو باعَها شيئًا في ذِمَّتِها. وأمَّا المَحْجُورُ عليها لِسَفَهٍ أو صِغَر أو جُنُونٍ، فلا يَصِحُّ بَذْلُ العِوَضِ منها في الخُلْعِ؛ لأنَّه تَصرُّفٌ في المالِ، وليس هى مِن أهلِه، وسواءٌ أَذِنَ فيه الوَلِى أو لم يَأْذَنْ؛ لأنَّه ليس له الإِذْنُ في التَّبَرُّعاتِ، وهذا كالتَّبَرُّعِ. وفَارقَ الأمةَ؛

3390 - مسألة: (والخلع طلاق بائن، إلا أن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوى به الطلاق، فيكون فسخا لا ينقص به عدد الطلاق، فى إحدى الروايتين. والأخرى، هو طلاق بائن بكل حال)

وَالْخُلْعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أوِ الْفَسْخِ أَوِ الْمُفَادَاةِ، وَلَا يَنْوِىَ بِهِ الطَّلَاقَ، فَيَكُونُ فَسْخًا لَا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِى الأُخْرَى، هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها أهْلٌ للتَّصرُّفِ، تَصِحُّ منها الهِبَةُ وغيرُها مِن التبَّرُّعاتِ بإذْنِ سَيِّدِها، ويُفارِقُ المُفْلِسَةَ؛ لأنَّها مِن أهلِ التَّصرُّفِ. فإن خالعَ المحجورَ عليها بلَفْظٍ يكونُ طَلاقًا، فهو طلاقٌ رَجْعِىٌّ، ولا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، وإن لم يَكُنِ اللَّفْظُ ممَّا يَقَعُ به الطَّلاقُ، كان كالخُلْعِ بغيرِ عِوَض. ويَحْتَمِلُ أن لا يقعَ الخُلْعُ (¬1) ههُنا؛ لأنَّه إنَّما رَضِىَ به بعِوَضٍ، ولم يحْصُلْ له، ولا أمْكَنَ الرُّجوعُ ببَدَلِه (¬2). 3390 - مسألة: (والخُلْعُ طَلاقٌ بائنٌ، إلَّا أنَّ يَقَعَ بلَفْظِ الخُلْعِ أو الفَسْخِ أو المُفادَاةِ، ولا يَنْوِىَ به الطَّلاق، فيَكُونُ فَسْخًا لا يَنْقصُ بِه عَدَدُ الطَّلاقِ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ. والأُخْرَى، هو طَلاقٌ بائنٌ بكلِّ حالٍ) اخْتلفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في الخُلعِ إذا لم يَنْوِ به الطَّلاقَ؛ فرُوِىَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ببذله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه أنَّه فَسْخٌ. اخْتارَه أبو بكرٍ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وطاوُسٍ، وعِكْرِمَةَ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وهو أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ. ورُوِىَ عنه أنَّه طَلْقةٌ بائنةٌ بكلِّ حالٍ. رُوِى ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والحسَنِ، وقَبِيصَةَ، وشُرَيْحٍ، ومُجاهِدٍ، وأبى سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرِحمنِ، والنَّخَعِىِّ، [والشَّعْبِىِّ] (¬1)، والزُّهْرِىِّ، ومَكْحُولٍ، وابنِ أبى نجِيحٍ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. وقد رُوِى عن عثمانَ، وعلىٍّ، وابنِ مسعودٍ، لكنْ ضَعَّفَ أحمدُ الحديثَ عنهم (¬2)، وقال: ليس لنا في البابِ شئٌ أصَحَّ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه فَسْخٌ. واحْتَجَّ ابنُ عبَّاس بقولِه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3). ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4). فذكرَ تطْليقتَيْنِ والخُلْعَ وتَطْلِيقةً بعدَها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 229. (¬4) سورة البقرة 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو كان الخُلْعُ طلاقًا لَكانَ أَرْبَعًا. ولأنَّها فُرْقَةٌ خَلَتْ عن صَرِيحِ الطَّلاقِ ونِيَّتِه، فكانت فَسْخًا، كسائرِ الفُسُوخِ. ووَجْهُ الرِّوايةِ الثَّانيةِ أنَّها بذَلَتِ العِوَضَ للفُرْقَةِ، والفُرْقَةُ التى يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقاعَها هى الطَّلاقُ دُونَ الفَسْخِ، فَوجبَ أنَّ يكونَ طلاقًا، ولأنَّه أتَى بكِنايةِ الطَّلاقِ قاصِدًا فِراقَها، فكان طلاقًا، كغيرِ الخُلْعٍ. وفائدةُ الخلافِ أنَّا إذا قُلْنا: إنَّها (¬1) طَلْقَةٌ. فخالَعها مَرَّةً، حُسِبَتْ طَلقةَ، فنَقَصَ بها عَدَدُ طَلاقِه، وإن خالَعَها ثلاثًا، لم تَحِلَّ له حتى تَنْكِحَ زوْجًا غيرَه. وإن قُلْنا: هو فَسْخٌ. لم تَحْرُمْ عليه (¬2) وإن خالعَها مائةَ مَرَّةٍ. وهذا الخِلافُ فيما إذا خالَعَها ¬

(¬1) في الأصل: «بها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ لَفْظِ الطَّلاقِ ولم يَنْوِه. فأمَّا إن بذَلَتْ له (¬1) العِوَضَ على فِراقِها، فطَلَّقَها، فهو طلاقٌ لا اخْتِلافَ فيه، وكذلك إن وقعَ بغيرِ لَفْظِ الطَّلاقِ، مثلَ كِناياتِ الطَّلاقِ و (¬2) لفظِ الخُلْعِ أوْ المُفَاداةِ، ونَوَى به الطَّلاقَ، فهو طَلاقٌ أيضًا (¬3)؛ لأنَّه كِناية نَوَى بها الطَّلاقَ، فكانت طلاقًا، كما لو كان بغيرِ عِوَضٍ، وإن لم يَنْوِ به الطَّلاقَ، فهو الذى فيه الرِّوايتانِ (¬4). فصل: وألْفاظُ الخُلْعِ تَنْقَسِمُ إلى صريحٍ وكِنايةٍ؛ فالصَّرِيحُ ثلاثةُ ألْفاظٍ: خالعْتُكِ؛ لأنَّه ثَبَتَ له العُرْفُ (¬5). والمُفاداةُ؛ لأنَّه وَرَد به في القرآنِ، بقولِه سبحانه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أو». (¬3) زيادة من: م. (¬4) في الأصل: «الروايات». (¬5) في م: «الفرق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفَسَخْتُ نِكاحَكِ؛ لأنَّه حَقِيقة فيه. فإذا أتَى بأحَدِ هذه الألْفاظِ، وقعَ مِن غيرِ نِيَّةٍ، وما عدَا هذه، مثل: بارَأْتُكِ، [وأَبْرَأْتُكِ] (¬1)، وأبَنْتُكِ. فهو كِنايَةٌ؛ لأنّ الخُلْعَ أحَدُ نَوْعَى الفُرْقَةِ، فكان له صَرِيحٌ وكنايةٌ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالطَّلاقِ. وهذا قولُ الشافعىِّ، إلَّا أنَّ له في لَفْظِ الفَسْخِ وَجْهَيْنِ. فإذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طلَبَت وبذَلَتِ العِوَضَ، فأجابَها بصَرِيحِ الخُلْعِ أو كنايَتِه، صَحَّ مِن غيرِ نِيَّةٍ؛ لأَنَّ دَلالةَ الحالِ مِن سُؤالِ الخُلْعِ وبَذْلِ العِوَضِ صارِفَةٌ إليه، فأغْنَى عَنِ النِّيَّةِ فيه، وإن لم تكُنْ دَلالةُ حالٍ، فأَتَى بصَريحِ الخُلْعِ، وقعَ مِن غيرِ نِيَّةٍ، سواءٌ قُلْنا: هو فَسْخٌ أو طلاقٌ. ولا يَقَعُ بالكِنايةِ إلَّا بنِيَّةٍ ممَّن تَلفَّظَ به منهما، ككِناياتِ الطَّلاقِ مع صَريحِه. فصل: ولا يحْصُلُ الخُلْعُ بمُجَرَّدِ بَذْلِ المالِ وقَبُولِه، مِن غيرِ لَفْظٍ مِن الزَّوْجِ. قال القاضى: هذا الذى عليه شُيُوخُنا البَغْدادِيُّونَ، وقد أَوْمَأَ إليه أحمدُ. وذهبَ أبو حَفْص العُكْبَرِىُّ، وابنُ شِهابٍ، إلى وُقوعِ الفُرْقَةِ بقَبُولِ الزَّوجِ للعِوَضِ. وأفْتَى بذلك ابنُ شِهابٍ بعُكْبَرا (¬1)، واعْترَضَ عليه أبو الحُسَيْنِ ابنُ هُرْمُزَ (¬2)، واسْتَفْتَى، عليه مَن كان ببغدادَ مِن ¬

(¬1) عكبرا: اسم بليدة من نواحى دُجَيل، قرب صريفين وأوانا، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. معجم البلدان 3/ 705. (¬2) محمد بن هرمز العكبرى أبو الحسين القاضى، كانت له رياسة وجلالة، تو في سنة أربع وعشرين وأربعمائة. طبقات الحنابلة 2/ 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصْحابِنا، فقال ابنُ شِهَابٍ: المُخْتَلِعَةُ على وَجْهَيْنِ؛ مُسْتَبْرِئَةٌ، ومُفْتَدِيَةٌ، فالمُفْتَدِيَةُ هى التى تقولُ: لا أنا ولا أنت، ولا [أبَرُّ لكَ] (¬1) قَسَمًا، وأنا أفْتَدِى نَفْسِى منك. فإذا قَبِلَ الفِديَةَ، وأخذَ المالَ، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأَنَّ إسْحاقَ بنَ مَنْصورٍ رَوَى (¬2)، قال: قلتُ لأحمدَ: كيف الخُلْعُ؟ قال: إذا أخذَ المالَ، فهى فُرْقَة. وقال إبراهيمُ النَّخَعِىُّ: أخْذُ المالِ تَطْليقةٌ بائنةٌ. ونحوُ ذلك عن الحسَن. وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهُ: مَن قَبِلَ مالًا على فِراقٍ، فهى تَطْليقةٌ بائنةٌ، لا رَجْعةَ فيها. واحْتَجَّ بقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَتَرُدِّينَ عليهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعمَ. ففَرَّق رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَهما. وقال: «خُذْ ما أَعْطَيْتَها ولا تَزْدَدْ» (¬3). ولم يَسْتَدْعَ منه لَفْظًا. ولأَنَّ دَلالةَ الحالِ تُغْنِى عن اللَّفْظِ؛ بدليلِ ما لو دَفَع ثَوْبَه (¬4) إلى قَصَّارٍ أو خيَّاطٍ مَعْروفَيْن بذلك، فعَمِلاه، اسْتَحَقَّا الأجْرَ وإن لم يَشْتَرِطا عِوَضًا. ولَنا، أنَّ هذا أحَدُ نَوْعَى الخُلْعِ، فلم يَصِحَّ بدُونِ لَفْظٍ، كما لو سأَلَتْه أنَّ (¬5) يُطَلِّقَها بعِوَض، ولأنَّه تَصَرُّفٌ في البُضْعِ بعِوَضٍ، فلم يَصِحَّ بدُونِ اللَّفْظِ، كالنِّكاحِ والطَّلاقِ، ولأَنَّ أخْذَ المالِ ¬

(¬1) في م: «أبرئك». (¬2) بعده في م: «عن أحمد». (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب المختلعة تأخذ ما أعطاها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 663. وصححه الألبانى، في: الإرواء 7/ 103 - 105. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) بعده في م: «لا».

3391 - مسألة: (ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها

وَلَا يَقَعُ بِالْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْخُلْعِ طَلَاقٌ وَلَوْ وَاجَهَهَا بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبْضٌ لعِوَضٍ (¬1)، فلم يقُمْ بمُجَرَّدِه مَقامَ الإِيجابِ، كقَبْضِ أحَدِ العِوَضَيْنِ في البيعِ، ولأَنَّ الخُلْعَ إن كان طلاقًا، فلا يقعُ بدُونِ صَرِيحِه أو كِنايَتِه، وإن كان فَسْخًا فهو أحدُ طَرَفَىْ عَقْدِ النِّكاحِ، فيُعْتَبَر فيه اللَّفْظُ، كابْتِداءِ العَقْدِ. فأمَّا حديث جَمِيلةَ، فقد روَاه البُخَارِىُّ (¬2): «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْها تَطْلِيقَةً». وهذا صَرِيحٌ في اعْتِبارِ اللَّفْظِ. وفى رِوايةٍ: فأمَرَه فَفارَقَها. ومَن لم يذْكرِ الفُرْقةَ، فإنَّما اقْتَصرَ على بعضِ القِصَّةِ، بدليلِ رِوايةِ مَن رَوَى الفُرْقةَ والطَّلاقَ، فإنَّ القصَّةَ واحدةٌ، والزِّيادةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، ويدلُّ على ذلك أنَّه قال: ففرَّقَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَهما، وقال: «خذْ ما أَعْطَيْتَها». فجعلَ التَّفْريقَ [قَبْلَ العِوَضِ] (¬3)، ونسَب التَّفْريقَ إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعْلْومٌ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُباشِرُ التَّفْريقَ، فدَلَّ على أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ به، ولعلَّ الرَّاوِىَ اسْتَغْنَى بذِكْرِ العِوَضِ عن ذِكْرِ اللَّفْظِ؛ لأنَّه مَعْلومٌ منه. وعلى هذا يُحْمَلُ كلامُ أحمدَ وغيرِه مِن الأئِمَّةِ، ولذلك لم يذْكُروا مِن جانِبِها لَفْظًا ولا دَلالةَ حالٍ، ولا بُدَّ منه اتِّفاقًا. 3391 - مسألة: (ولا يَقَعُ بالمعْتَدَّةِ مِن الخُلْعِ طَلاقٌ ولو واجَهَها ¬

(¬1) في م: «بعوض». (¬2) تقدم تخريج الروايات في صفحة 6، 7. (¬3) في م: «قبولًا لعوض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به) وجملةُ ذلك، أنَّ المُخْتَلِعَةَ لا يَلْحَقُها طلاقٌ بحالٍ. وبه قال ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ الزُّبَيْرِ، وعِكْرِمَةُ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والحسَنُ، والشَّعْبِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ أنَّه يَلْحَقُها الطَّلاقُ الصَّرِيحُ المُعَيَّنُ، دونَ الكِنايةِ والطَّلاقِ المُرْسَلِ، وهو أن يَقولَ: كُلُّ امْرأةٍ لى طالقٌ. ورُوِىَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٍ، وطاوُسٍ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، والحَكَمِ، وحَمَّادٍ، والثَّوْرِىِّ؛ لِما رُوِى عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «المُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُها الطَّلاقُ ما دَامَتْ في العِدَّةِ» (¬1). ولَنا، أنَّه قولُ ابنِ عبَّاسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، ولا نَعْرِفُ لهما مُخالِفًا في عَصْرِهما. ولأنَّها لا تَحِلُّ له إلَّا بنِكاحٍ جديدٍ، فلم يَلْحَقْها طَلاقُه، كالمُطَلَّقَةِ قبلَ الدُّخولِ. أو المُنْقَضِيَةِ عِدَّتُها، ولأنَّه لا يَمْلِكُ بُضْعَها، فلم يَلْحَقْها طَلاقُه، كالأجْنبِيَّةِ، ولأنَّها لا يقعُ بها الطَّلاقُ المُرْسَلُ، ولا تَطْلُقُ بالكِنَايةِ، فلم يَلْحَقْها الصَّرِيحُ، كما قبلَ الدُّخولِ. ولا فَرْقَ بينَ أنَّ يُواجِهَها به، فيقولَ: أنتِ طالقٌ. أو لا يُواجِهَها به، مثلَ أن يقولَ: فلانةُ طالقٌ. وحدِيثُهم لا نَعْرِفُ له أصْلًا، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الطلاق بعد الفداء، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 489. قال عبد الرزاق: فذكرناه للثورى، فقال: سألنا عنه فلم نجد له أصلا.

3392 - مسألة: (وإن شرط الرجعة فى الخلع، لم يصح الشرط، فى أحد الوجهين. وفى الآخر، يصح الشرط ويبطل العوض)

وَإِنْ شَرَطَ الرَّجْعَةَ فِى الْخُلْعِ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَبْطُلُ الْعِوَضُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا ذَكَرَه أَصْحابُ السُّنَنِ. فصل: ولا يَثْبُتُ في الخُلْعِ رَجْعةٌ، سواءٌ قُلْنا: هو فسخٌ أو طَلاقٌ. في قَوْلِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسَنُ، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وحُكِىَ عن الزُّهْرِىِّ وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّهما قالَا: الزَّوجُ بالخيارِ بينَ إمْساكِ العِوَضِ ولا رَجْعةَ له، وبينَ رَدِّه وله الرَّجْعةُ. وقال أبو ثَوْرٍ: إن كان الخُلْعُ بلفظِ الطَّلاقِ، فله الرَّجْعةُ؛ لأَنَّ الرَّجعةَ مِن حُقوقِ الطَّلاقِ، فلا تَسْقُطُ بالعِوَضِ، كالوَلاءِ مع العِتْقِ. ولنا (¬1)، قولُه سبحانه وتعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وإنَّما يكونُ فداءً إذا خَرجَتْ به (¬2) عن قَبْضَتِه وسُلْطانِه، وإذا كانت له الرَّجعةُ، فهى تحتَ حُكْمِه، ولأَنَّ القَصْدَ إزالةُ الضَّرَرِ عن المرأةِ، فلو جازَ ارْتجاعُها لَعادَ الضَّرَرُ، وفارَقَ الوَلاءَ؛ فإنَّ العِتْقَ لا يَنْفَكُّ منه، والطَّلاقُ ينْفَكُّ عنِ الرَّجْعةِ فيما قبلَ الدُّخولِ وإذا أكملَ العَدَدَ. 3392 - مسألة: (وَإن شرَط الرَّجْعَةَ في الخُلْعِ، لم يَصِحَّ الشَّرْطُ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ. وفى الْآخرِ، يَصِحُّ الشَّرْطُ ويَبْطُلُ العِوَضُ) ¬

(¬1) في م: «أما». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا شرَط في الخُلْعِ الرَّجْعةَ، فقال ابنُ حامدٍ: يبْطُلُ الشَّرْطُ ويَصِحُّ الخُلْعُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وإحْدَى الرِّوايتَيْن عن مالكٍ؛ لأَنَّ الخُلْعَ لا يفْسُدُ بكَوْنِ عِوَضِه فاسدًا، فلا يفْسُدُ بالشَّرْطِ الفاسدِ، كالنِّكاحِ، ولأنَّه لفْظٌ يَقْتَضِى البَيْنُونَةَ، فإذا شَرَط الرَّجْعةَ معه، بطَل الشَّرْطُ، كالطَّلاقِ الثَّلاثِ. والوَجْهُ الثَّانِى، يصِحُّ الشرْطُ (¬1) ويَبْطُلُ العِوَضُ، فتَثْبُتُ الرَّجْعةُ. وهو مَنْصوصُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ شَرْطَ العِوَضِ والرَّجْعةِ يتَنافَيانِ، فإذا شَرطَاهما سقَطا، وبَقِىَ مُجَرَّدُ الطَّلاقِ، فنُثْبِتُ الرَّجْعةَ بالأصلِ لا بالشَّرْطِ، ولأنَّه شرَط في العَقْدِ ما يُنافِى مُقْتَضاه، فأبْطَلَه، كما لو شرَط أن لا يتَصَرَّفَ في المَبِيعِ. وإذا حَكَمْنا بالصِّحَّةِ، فقال القاضى: يسْقُطُ المُسَمَّى في العِوَضِ؛ لأنَّه لم يَرْضَ به عِوَضًا حتى ضَمَّ إليه الشَّرْطَ، فإذا سقَط الشَّرْطُ، وجَب ضَمُّ النُّقْصانِ الذى نقَصَه مِن أجْلِه إليه، فيصيرُ مَجْهولًا، فيسْقُطُ، ويجِبُ المُسَمَّى في العَقْدِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يجبَ المُسَمَّى في الخُلْعِ؛ لأنَّهما تَراضَيا به عِوَضًا، فلم يجبْ غيرُه، كما لو خَلا عن شَرْطِ الرَّجْعةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: نقلَ مُهَنَّا في رجلٍ قالتْ له امْرأتُه: اجْعَلْ أمْرِى بيَدِى وأُعْطِيكَ عبْدِى هذا. فقَبَضَ العبدَ، وجعَل أمرَها بيَدِها، وباعَ العبدَ قبلَ أن تقولَ المرأةُ شيئًا: هو له، إنَّما قالتْ: اجْعَلْ أمْرِى بيَدِى وأُعْطِيكَ. فقيل له: متى شاءتْ تخْتارُ؟ قال: نعم، ما لم يَطَأها أو ينقُض. فجعَل له الرُّجوعَ ما لم تُطَلِّقْ. وإذا رجَع فيَنْبَغى أنَّ تَرْجِعَ عليه بالعِوَضِ؛ لأنَّه اسْتَرْجَعَ ما جعَلَ لها، فتَسْترجِعُ منه ما أعْطَتْه. ولو قال: إذا جاءَ رأسُ الشَّهْرِ فأمْرُكِ بيَدِكِ. مَلَك إبْطالَ هذه الصِّفَةِ؛ لأَنَّ هذا يجوزُ الرُّجوعُ فيه لو لم يكُنْ مُعَلقًا، فمع التَّعْليقٍ أوْلَى، كالوَكالةِ. قال أحمدُ: ولو جعَلَتْ له امرأتُه ألْفَ درْهَمٍ على أنَّ يُخَيِّرَها، فاخْتارَتِ الزَّوْجَ، لا [يَرُدُّ عليها] (¬1) شيئًا. ووَجْهُهَ أنَّ الأَلْفَ في مُقابَلَةِ تَمْليكِه إيَّاها الخِيارَ، وقد فعَل، فاسْتَحَق الألْفَ، وليس الأَلْفُ في مُقابَلَةِ الفُرْقَةِ. فصل: إذا قالتِ امْرأتُه: طلِّقْنِى بدِينارٍ. فطَلَّقَها، ثم ارْتَدَّتْ، لزِمَها الدِّينارُ، ووَقَعَ الطلاقُ بائنًا، ولا تُؤثِّرُ الرِّدَّةُ؛ لأنَّها وُجِدَتْ بعدَ البَيْنُونةِ. وإن طَلَّقَها بعدَ رِدَّتِها قبلَ دُخولِه بها، بانَتْ بالرِّدَّةِ، ولم يقَعِ الطَّلاقُ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «ترد».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْخُلْعُ إِلَّا بِعِوَض فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَمْ يَقَعْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، فَيَقَعُ رَجْعِيًّا. وَالأُخْرَى، يَصِحُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِىُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه صادَفَها بائنًا. فإن كان بعدَ الدُّخولِ، وقلْنا: إنَّ الرِّدَّةَ ينْفَسِخُ بها النِّكاحُ في الحالِ. فكذلك. وإن قُلْنا: تَقِف على انْقِضاء العِدَّةِ. كان الطَّلاقُ مُرَاعًى. فإن أقامَتْ على رِدَّتِها حتى انْقَضتْ عِدَّتُها، تَبَيَّنَّا أنَّها لم تكُنْ زَوْجَه (¬1) حينَ طَلَّقَها، فلم يقَع، ولا شئَ له عليها، وإن عادتْ إلى الإِسْلامِ، بانَ (¬2) أنَّ الطَّلاقَ صادَف زَوْجه (1)، فَوقعَ، واسْتَحَقَّ عليها العِوَضَ. فصل: قَالَ الشيخُ، رحِمَه اللَّهُ: (ولا يَصِحُّ الخُلْعُ إلَّا بعِوَضٍ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ، فإن خالَعَها بغيرِ عِوَضٍ، لم يَقَعْ، إلَّا أنَّ يَكُونَ طَلاقًا، فَيَقَعُ رَجْعِيًّا. والأُخْرَى، يَصِحُّ بغيرِ عِوَضٍ. اخْتارَها الخِرَقِىُّ) اخْتلَفتِ الرِّوايةُ [عن أحمدَ] (¬3) في هذه المسألةِ، فرَوى عنه ابْنُه عبدُ اللَّهِ، قال: قلتُ لأبى: رجلٌ عَلِقَتْ به امْرأتُه تقولُ: اخْلَعْنِى. قال: قد خَلَعْتُكِ. قال: ¬

(¬1) في م: «زوجة». (¬2) في م: «تبينا». (¬3) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَزَوَّجُ بها، ويُجَدِّدُ نِكاحًا جديدًا، وتكونُ عندَه على ثِنْتَيْنِ (¬1). فظاهرُ هذا صِحَّةُ الخُلْعِ بغيرِ عِوَضٍ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه قَطْعٌ للنِّكاحِ، فصَحَّ مِن غيرِ عِوَضٍ، كالطَّلاقِ، ولأَنَّ الأَصْلَ في مَشْرُوعِيَّةِ الخُلْعِ أنَّ يُوجَدَ مِنَ المرْأةِ رَغْبَةٌ عن زَوْجِها، أو حاجَة إلى فِراقِه، فتَسْألَه فِراقَها، فإذا أجابَها، حصَل المَقْصودُ مِن الخُلْعِ، فيَصِحُّ، كما لو كان بعِوَضٍ. قال أبو بكرٍ: لا خِلافَ عن أبى عبدِ اللَّهِ، أنَّ الخُلْع ما كان مِن قِبَلِ النِّساءِ، فإذا كان مِن قِبَلِ الرِّجالِ، فلا نِزاعَ في أنَّه طَلاق يَمْلِكُ به الرَّجْعةَ، ولا يكونُ فَسْخًا. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا يكونُ خُلْعٌ إلَّا بعِوَضٍ. رَوَى عنه مُهَنَّا، إذا قال لها: اخْلَعِى نَفْسَكِ. فقالتْ: خلَعْتُ نَفْسِى. لم يكُنْ خُلْعًا إلَّا على شئٍ، إلَّا أنَّ يكونَ نَوَى الطَّلاقَ، فيكونُ ما نَوَى. فعلى هذه الرِّوايةِ، لا يصِحُّ الخُلْعُ إلَّا بعِوَضٍ، فإن تَلفَّظَ به بغيرِ عِوَضٍ ونوَى الطَّلاقَ، ¬

(¬1) في م: «شئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان طلاقًا رَجْعِيًّا؛ لأنَّه يصْلُحُ كِنايةً عن الطَّلاقِ. وإن لم يَنْوِ به الطَّلاقَ، لم يكُنْ شيئًا. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأَنَّ الخُلْعَ إن (¬1) كان فَسْخًا، فلا يَمْلِكُ الزوجُ فَسْخَ النِّكاحِ إلَّا لِعَيْبِها. ولذلك لو قال: فسَخْتُ النِّكاحَ. ولم يَنْوِ به الطَّلاقَ، لم يَقَعْ شئٌ، بخلافِ ما إذا دخلَه العِوَضُ، فإنَّه يَصيرُ مُعاوَضَةً، فلا يجْتَمِعُ له العِوَضُ والمُعَوَّضُ. وإن قُلْنا: الخُلْعُ طَلاقٌ. فليس بصَريح فيه اتفاقًا، وإنَّما هو كِنايةٌ، والكنايةُ لا يَقَعُ بها الطلاقُ إلَّا بنِيةٍ، أو بَذْلِ العِوَضِ، فيَقُومُ مَقامَ النِّيَّةِ، وما وُجِدَ واحدٌ منهما. ثم إن وَقَع الطَّلاقُ، فإذا لم يكُنْ بعِوضٍ، لم يَقْتَضِ البَيْنُونةَ إلَّا أن تَكْمُلَ الثَّلاثُ. فصل: فإن قالت: بِعْنِى عَبْدَكَ هذا وطلِّقْنِى بألْفٍ. ففَعَلَ، صَحَّ، وكان بيْعًا وخلعًا بعِوَضٍ واحدٍ؛ لأنَّهما عَقدانِ يصِحُّ إفرادُ كلِّ واحدٍ منهما ¬

(¬1) سقط من: م.

3393 - مسألة: (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، فإن فعل، كره وصح. وقال أبو بكر: لا يجوز، ويرد الزيادة)

وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أعْطَاهَا، فَإِنْ فَعَلَ، كُرِهَ وَصَحَّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ، وَيَرُدُّ الزِّيَادَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضٍ، فصَحَّ جَمْعُهما، كبَيْعِ ثَوْبَيْنِ. وقد نَصَّ أحمدُ على الجَمْعِ بيْنَ بَيْعٍ وصَرْفٍ، أنَّه يَصِحُّ، وهو نظيرٌ لهذا. وذكرَ أصْحابُنا فيه وجْهًا آخَرَ، أنَّه لا يصِحُّ؛ لأَنَّ أحْكامَ النَّقْدَيْنِ تَختَلِفُ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لِما ذكَرْنا. وللشافعىِّ قَوْلان أيضًا. فعلى قَوْلِنا يتَقَسَّطُ الألْفُ على الصَّداقِ المُسَمَّى وقِيمةِ العبدِ، فيكونُ عِوَضُ الخُلْعِ ما يَخُصُّ المُسَمَّى، وعِوَضُ العَبْدِ ما يَخُصُّ قِيمَتَه، حتى لو رَدَّتْه بعَيْبٍ رجَعتْ بذلك، وإن وجَدَتْه حُرًّا أو مغْصُوبًا، رَجعتْ به؛ لأنَّه (¬1) عِوَضُه. فإن كان مكانَ العَبْدِ شِقْصٌ مَشْفُوعٌ، ثَبَتَتْ فيه الشُّفْعَةُ، ويَأْخُذُ الشَّفِيعُ بحِصَّةِ قِيمَتِه مِن الألْفِ؛ لأنَّها عِوَضُه. 3393 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ أَن يَأْخُذَ منها أَكثَرَ ممَّا أَعْطاها، فإن فعَل، كُرِهَ وصَحَّ. وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لا يَجوزُ، ويَرُدُّ الزِّيادَةَ) إذا تَراضَيا على الخُلْعِ بشئٍ، صَحَّ وإن كان أكثرَ مِن الصَّداقِ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. رُوِى ذلك عن عثمانَ، وابنِ عمرَ، وابنِ عبَّاسٍ، وعِكْرمَةَ، ومُجاهِدٍ، وقَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، والنَّخعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. ويُرْوَى عن ابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عمرَ، ¬

(¬1) في م: «لأن له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهما قالا: لو اخْتلَعَتِ امرأةٌ مِن زَوْجِها بميراثِها وعِقاصِ (¬1) رأْسِها، كان ذلك جائزًا. وقال عَطاءٌ، وطاوُسٌ والزُّهْرِىُّ، وعمرُو بنُ شعَيْبٍ: لا يأْخُذُ أكثرَ ممَّا أعْطاها. ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ بإسْنادٍ مُنْقَطِعٍ (¬2). واخْتارَه أبو بكرٍ. فإن فعَلَ رَدَّ الزِّيادةَ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: ما أرَى أنَّ يأخُذ كلَّ مالِها،. ولكنْ لِيَدَعْ لها شيئًا. واحْتَجُّوا بما رُوِى أنَّ جَمِيلَةَ بنتَ سَلُولٍ، أتَتِ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالتْ: واللَّهِ ما أعْتِبُ على ثابتٍ في دينٍ ولا خُلُقٍ، ولكن أكْرَهُ الكُفْرَ في الإِسْلامِ، لا أُطِيقُه بُغْضًا. فقال لها النَّبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَه؟» قالت: نعم. فأمرَه النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَأْخُذَ منها حَدِيقَتَه ولا يَزْدادَ. روَاه ابنُ ماجه (¬3). ولأنَّه بَدَلٌ في مُقابَلَةِ فَسْخٍ، فلم يَزِدْ على قَدْرِه في ابْتداءِ العَقْدِ، كالعِوَضِ في الإِقالةِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعاَلى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصحابةِ، قالتِ الرُّبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ: اخْتلَعْتُ ¬

(¬1) العقاص: خيط تشد به أطراف الذوائب. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 3/ 506. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 335. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 123. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 36.

3394 - مسألة: (وإن خالعها على محرم، كالخمر والحر، فهو كالخلع بغير عوض)

وَإِنْ خَالَعَهَا بِمُحَرَّمٍ كَالْخَمْرِ وَالْحُرِّ، فَهُوَ كَالْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن زَوْجى بما دُونَ عِقاصِ رَأْسِى، فأجازَ ذلك [عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ] (¬1)، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ومثلُ هذا يَشْتَهِرُ، ولم يُنْكَرْ، فيكونُ إجْماعًا، ولم يَصِحَّ عن علىٍّ خلافُه. إذا ثبتَ هذا، فإنَّه لا يُسْتَحَبُّ له أنَّ يَأْخُذَ منها أكثرَ ممَّا أعْطاها. وبذلك قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسَنُ، والشَّعْبِىُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ. وإن فعلَ جازَ مع الكَراهَةِ، ولم يَكْرَهْه أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ. قال مالكٌ: لم أزلْ أسْمَعُ إجازةَ الفِدَاءِ بأكثرَ مِن الصَّداقِ. ولَنا، حديثُ جَمِيلةَ. ورُوِىَ عن عَطاءٍ، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كَرِه أنَّ يَأْخُذَ مِن المُخْتَلِعةِ أكثرَ ممَّا أعْطاها. روَاه أبو حَفْصٍ بإسْنادِه (¬2). وهو صريحٌ في الحُكْمِ، فنَجْمَعُ بينَ الآيةِ والخَبَرِ، فنقولُ: الآيةُ دالَّة على الجَوازِ، والنَّهْىُ عن الزِّيادَةِ للكَراهَةِ. 3394 - مسألة: (وإن خالَعَها على مُحَرَّمٍ، كالخَمْرِ والحُرِّ، فهو كالخُلْعِ بغيرِ عِوَضٍ) إذا عَلِما تَحْرِيمَهُ. ولا يَسْتَحِقُّ شيئًا. وبه ¬

(¬1) في النسختين: «على». والأثر علقه البخارى مختصرا، في: باب الخلع وكيف الطلاق فيه. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 60. ووصله الحافظ ابن حجر باللفظ المذكور، في: تغليق التعليق 4/ 461. وحسن إسناده. وأخرجه مطولا عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 504. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 315. وله شاهد في الموطأ 2/ 565. وانظر ما أخرجه سعيد في سننه 1/ 336، عن على في قصة امرأة أخرى. (¬2) وأخرجه سعيد بن منصور، في: السنن 1/ 335. وأبو داود، في: المراسيل 150. والبيهقى، في: السنن الكبرى 4/ 317. وأخرجه سعيد موقوفا على عطاء في 1/ 337.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: له عليها مهرُ المِثْلِ؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ بالبُضْعِ، فإذا كان العِوَضُ مُحَرَّمًا وجبَ مَهْرُ المِثْلِ، كالنِّكاحِ. ولَنا، أنَّ خُروجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ غيرُ مُتَقوَّمٍ على ما أسْلَفْنا، فإذا رَضِىَ بغيرِ عِوَضٍ، لم يكُنْ له شئٌ، كما لو طَلَّقَها، أو علَّقَ طَلاقَها على فِعْلِ شئٍ ففَعَلَتْه، وفارَقَ النِّكاحَ؛ فإن دُخولَ البُضْعِ في مِلْكِ الزوْجِ مُتَقَوَّمٌ، ولا يَلْزَمُ إذا خَلَعَها على عبدٍ فبانَ حُرًّا؛ لأنَّه لم يَرْضَ بغيرِ عِوَضٍ مُتَقَوَّمٍ، فيَرْجِعُ بحُكْمِ الغُرور، وههُنا رَضِىَ بما لا قِيمَةَ له. إذا تقَرَّرَ هذا، فإن كان الخُلْعُ بلَفْظِ الطَّلاقِ، فهو طلاقٌ رَجْعىٌّ؛

3395 - مسألة: (وإن خالعها على عبد فبان حرا أو مستحقا،

وَإِنْ خَالعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَبَانَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، فَلَهُ قِيمَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه خلا عن عِوَضٍ، وإن كان بلفْظِ الخُلْعِ و (¬1) كِناياتِ الخُلْعِ، فكذلك إذا نَوَى الطَّلاقَ؛ لأَنَّ الكِنايةَ مع النِّيَّةِ كالصريحِ، وإن كان بلفْظِ الخُلْعَ، ولم يَنْوِ الطَّلاقَ، انْبَنَى على أصْلٍ، هو أنَّه هل يَصِحُّ الخُلْعُ بغيرِ عِوَضٍ؟ فيه رِوايتانِ؛ فإن قُلْنا: يَصِحُّ. صَحَّ ههُنا. وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ. لم يَصِحَّ، ولم يقعْ شئٌ. فإن قال: إن أعْطَيْتِنى خَمْرًا أو مَيْتَةً فأنتِ طالقٌ. فأعْطَتْه ذلك، طَلُقَتْ، ولا شئَ عليها. وعند الشافعىِّ، عليها مَهْرُ المِثْلِ، كقولِه في التى قبلَها. 3395 - مسألة: (وَإن خالَعَها على عَبْدٍ فبان حُرًّا أو مُسْتَحَقًّا، ¬

(¬1) بعده في م: «لم ينو».

عَلَيْهَا، وَإِنْ بَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ أَرْشُهُ أَوْ قِيمَتُهُ، وَيَرُدُّهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فله قِيمَتُهُ عليها، وإن بانَ مَعِيبًا، فله أَرْشُه أو قِيمَتُهُ، ويَرُدُّهُ) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجلَ إذا خالَعَ امْرأته على عِوَضٍ فبانَ غيرَ مالٍ (¬1)، أو أنَّه ليس لها (¬2)، مثلَ أن يُخالِعَها على عبدٍ بعَيْنِه فبَانَ حُرًّا أو مغْصُوبًا، أو على خَلٍّ فبَانَ خَمْرًا، فالخُلْعُ صحيحٌ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لأَنَّ الخُلْعَ مُعاوَضَةٌ بالبُضْعِ، فلا يَفْسُدُ بفَسادِ العِوَضِ، كالنِّكاحِ، ولكنَّه يَرْجِعُ عليها بقِيمَتِه لو كان عبدًا. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ، وصاحِبَا أبى حنيفةَ. وإن خالَعها على هذا الدَّنِّ الخَلِّ فبانَ خَمْرًا، رجَع عليها (¬3) بمثْلِه خَلًّا؛ لأَنَّ الخَلَّ مِن ذَواتِ الأمْثالِ، وقد دخَل على أنَّ هذا المُعَيَّنَ خَلٌّ، فكان له مثلُه، كما لو كان خَلًّا فتَلِفَ قبلَ قَبْضِه. وقد قِيلَ: يَرْجِعُ بقِيمَةِ مثلِه خَلًّا؛ لأَنَّ الخمرَ ليس مِن ذواتِ الأمْثالِ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّه إنَّما وجَب عليها (¬4) مثلُه لو كان خَلًّا، كما تجبُ قيمةُ الحُرِّ بتَقْديرِ كَوْنِه عبدًا، فإنَّ الحُرَّ لا قِيمةَ له. وقال أبو حنيفةَ في المسْألةِ كلِّها: يَرْجِعُ بالمُسَمَّى. وقال الشافعىُّ: يَرْجِعُ بمهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه عَقْدٌ على البُضْعِ بعِوَضٍ فاسدٍ، فأشْبَهَ النِّكاحَ بخَمْرٍ. واحْتَجَّ أبو حنيفةَ بأنَّ خُروجَ البُضْعِ لا قِيمةَ له، فإذا ¬

(¬1) في م: «ماله». (¬2) في الأصل: «له». (¬3) في م: «عليهما». (¬4) في م: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [غُرَّ به] (¬1)، رجَع عليها بما أخَذَتْ. ولَنا، أنَّها عَيْنٌ يَجِبُ تَسْليمُها مع سَلامَتِها وبَقاءِ سبَبِ الاسْتِحْقاقِ، فوَجبَ بَدَئها (¬2) مُقَدَّرًا بقِيمَتِها أو مِثْلها، كالمغْصُوبِ والمُسْتَعارِ، وإذا خالَعها على عبدٍ فخرجَ مَغْصُوبًا، أو على أمَةٍ فخرجَتْ أُمَّ ولَدٍ، فقد سَلَّمَه أبو حنيفةَ ووَافقَنا فيه. فصل: وإن ظهرَ مَعِيبًا، فله الخِيَارُ بينَ أخْذِ أَرْشِه، ورَدِّه وأخْذ قِيمَتِه؛ لأنَّه عِوَضٌ في مُعاوَضَةٍ، فيُسْتَحَقُّ فيه ذلك، كالبيعِ والصَّداقِ. فإن كان على مُعَيَّنٍ، كقولِها (¬3): اخْلَعْنِى على هذا العبدِ. فيَقولُ: خَلَعْتكِ. ثم يَجِدُ به عَيْبًا لم يكُنْ عَلِمَ به، فهذا يخَيَّرُ فيه بينَ أخْذِ أَرْشِه، أو رَدِّه وأخْذِ قِيمَتِه، على ما ذكَرْنا. وإن قال: إن أعْطَيْتِنى هذا الثَّوْبَ فأنتِ طالقٌ. فأَعْطَتْه إيَّاه، طَلُقَتْ، ومَلَكَه. قال أصْحابُنا: والحُكمُ ¬

(¬1) في م: «غرته». (¬2) في النسختين: «بذلها». وانظر المغنى 10/ 295. والمبدع 7/ 231. (¬3) في الأصل: «كقوله».

3396 - مسألة: (وإن خالعها على رضاع ولده عامين، أو سكنى دار، صح، فإن مات الولد أو خربت الدار، رجع بأجرة باقى المدة)

وإنْ خَالَعَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ عَامَيْنِ، أَوْ سُكْنَى دَارٍ، صَحَّ، فَإنْ مَاتَ الْوَلَدُ أَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ، رَجَعَ بِأُجْرَةِ بَاقِى الْمُدَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه كما لو خالَعَها عليه. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، إلَّا أنَّه لا يجْعَلُ له المُطالبَةَ بالأَرْشِ مع إمْكانِ الرَّدِّ. وهذا أصلٌ ذكَرْناه في البيعِ (¬1). وله قولٌ، أنَّه إذا رَدَّه رجَع بمهرِ المِثْلِ. وهذا الأصلُ ذُكِرَ في الصَّداقِ (¬2). 3396 - مسألة: (وإن خالَعَها على رَضاعِ وَلَدِه عامَيْنِ، أو سُكْنَى دارٍ، صَحَّ، فَإن ماتَ الولدُ أو خَرِبَتِ الدَّارُ، رَجَعَ بأُجْرَةِ باقِى المُدَّةِ) أمَّا إذا خالعَها على سُكْنَى دارٍ مُعَيَّنةٍ، فلا بُدَّ مِن تَعْيِينِ المُدَّةِ، كالإِجارَةِ، فإق خَرِبَتِ الدَّارُ، رجعَ عليها بأُجْرَةِ باقِى المُدَّةِ، وتُقدَّرُ بأُجْرَةِ المِثْلِ، ويَنْفَسِخُ العَقْدُ، كالإِجارَةِ (¬3) إذا هَلكتِ الدَّابَّةُ. وأمَّا إذا خالَعَتْه على رَضاعِ ولدِه مُدَّةً معْلومةً، صَحَّ، قلَّ أو كَثُرَ. وبهذا قال ¬

(¬1) تقدم في 11/ 376، 377. (¬2) تقدم في 21/ 175. (¬3) في م: «والإجارة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىُّ؛ لأَنَّ هذا ممَّا تَصِحُّ المُعاوَضَة عليه في غيرِ الخُلْع، ففى الخُلْعِ أَوْلَى. فإن خالعَتْه على رَضاعِ ولَدِه مُطْلَقًا ولم تذْكَرْ مُدَّةٌ، صَحَّ أيضًا، ويَنْصَرِفُ إلى ما بَقِىَ مِن الحَوْلَيْنِ. نَصَّ عليه أحمدُ، قيلَ له: ويَستقيمُ هذا الشَّرْطُ -رَضاعُ ولَدِها- ولا يَقول: تُرْضِعُه سنتَيْنِ؟ قال: نعم. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: لا يَصِحُّ حتى تُذْكَرَ مُدَّةُ الرَّضاعِ، كما لا تصِحُّ الإِجارةُ حتى تُذْكَرَ المُدَّةُ. ولَنا، أنَّ اللَّهَ تعالى قيَّدَه بالحَوْلَيْنِ، فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬1). وقال سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (¬2). وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬3). ولم يُيَيِّنْ مدَّةَ الحَمْلِ والفِصَالِ ههُنا، فحُمِلَ على ما فصَّلَتْه الآيةُ (¬4) الأُخْرَى، وجُعِلَ الفِصالُ عامَيْنِ والحمْلُ ¬

(¬1) سورة البقرة 233. (¬2) سورة لقمان 14. (¬3) سورة الأحقاف 15. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِتَّةَ أشْهُرٍ، وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا رَضاعَ بعدَ فِصالٍ» (¬1). يعنى بعدَ العامَيْنِ، فيُحْمَلُ المُطْلَقُ مِن كَلامِ الآدَمِىِّ على المُطْلَقِ مِن كلامِ اللَّهِ تعالى. ولا يَحْتاجُ إلى وَصْفِ الرَّضاعِ؛ لأَنَّ جنْسَه كافٍ، كما لو ذكرَ جِنْسَ الخِياطَةِ في الإِجارةِ. فإن ماتَت المُرْضِعَةُ أَو جَفَّ لَبَنُها، فعليها أجرُ المِثْلِ لِما بَقِىَ مِنِ المُدَّةِ. وإن ماتَ الصَّبِىُّ فكذلك. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَنْفسِخُ، ويَأْتِيها بصَبِىٍّ تُرْضِعُه؛ لأَنَّ الصَّبِىَّ مُسْتَوْفًى به لا مَعْقُودًا عليه، فأشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ دابَّةً ليَرْكَبَها فماتَ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ على فِعْلٍ مُعَيَّنٍ (¬2) في عَيْنٍ، فيَنْفَسِخُ بتَلَفِها، كما لو ماتَتِ الدَّابَّةُ المُسْتَأْجَرَةُ، ولأَنَّ ما يَسْتَوْفِيه مِن اللَّبَنِ إنَّما يتَقَدَّرُ بحاجةِ الصَّبِىِّ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 464. والطبرانى، في: المعجم الصغير 2/ 98، كلاهما من حديث على. وعبد الرزاق، في الموضع السابق. وأبو داود الطيالسى في مسنده 243، كلاهما من حديث جابر بن عبد اللَّه. كما أخرجه عبد الرزاق، في الموضع السابق موقوفا على علىّ. وانظر الكلام على الحديث في: نصب الراية 3/ 219. (¬2) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحاجاتُ الصِّبيان [تَخْتَلِفُ و] (¬1) لا تَنْضَبِطُ، فلم يَجُزْ أنَّ يقومَ غيرُه مَقامَه، كما لو أرادَ إبْدالَه في حياتِه، فلم يَجُزْ بعدَ مَوْتِه، كالمُرْضِعَةِ، بخلافِ راكب الدَّابَّةِ. وإن وُجِدَ أحدُ هذه الأمُورِ قبلَ مُضِىِّ شئٍ مِن المدَّةِ، فعليها أَجْرُ رَضاعِ مِثْلِه. وعن مالكٍ كقَوْلِنا، وعنه، لا يَرْجِعُ بشئٍ. وعن الشافعىِّ كقَوْلِنا، وعنه، يَرْجِعُ بالمَهْرِ. ولَنا، أنَّه عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قبلَ قَبْضِه، فَوجبتْ قِيمَتُه أو مِثْلُه، كما لو خالَعَها على قَفِيزٍ، فهَلكَ قبلَ قَبْضِه. فصل: وإن خالَعَها على كَفالَةِ وَلَدِه عشْرَ سِنِينَ، صَحَّ وإن لم يَذْكُرْ مدَّةَ الرَّضاعِ منها ولا قَدْرَ الطَّعامِ والأُدْمِ (¬2)، ويُرْجَعُ عندَ الإِطْلاقِ إلى نفَقَةِ مِثْلِه. وقال الشافعىُّ: لا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَ مدَّةَ الرَّضاعِ، وقَدْرَ الطَّعامِ وجِنْسَه، وقَدْرَ الأُدْمِ وجِنْسَه، ويكونَ المبلغُ مَعْلومًا مَضْبوطًا بالصِّفَةِ كالمُسْلَمِ فيه، وما يَحِلُّ منه كلَّ يوم. ومَبْنَى الخلافِ على اشْتِراطِ الطَّعامِ للأجيرِ مُطْلقًا، وقد ذكَرْناه في الإِجارةِ ودَلَّلْنا عليه بقِصَّةِ مُوسَى، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) الأدم: الإدام، وهو ما يستمرأ به الخبز.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه السَّلامُ، وقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رَحِمَ اللَّهُ أَخِى مُوسَى، أجَرَ نَفْسَه بطَعامِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجهِ» (¬1). ولأَنَّ نفَقةَ الزَّوْجَة مُسْتَحَقَّةٌ بطَريقِ المُعاوَضةِ، وهى غير مُقَدَّرَةٍ، كذا ههُنا. وللوالدِ أن يَأْخُذَ منها ما يَسْتَحِقُّه مِن مُؤْنَةِ الصَّبِىِّ وما يَحْتاجُ إليه؛ لأنَّه بدَل ثَبَت له في ذِمَّتِها، فله أنَّ يَسْتَوْفِيَه بنَفْسِه وبغيرِه، فإن أحَبَّ أنْفقَه بعَيْنِه، وإن أحَبَّ أخَذَه لنَفْسِه وأنْفَقَ عليه غيرَه. وإن أذِنَ لها في إنْفاقِه على الصَّبِىِّ، جازَ. فإن ماتَ الصَّبِىُّ بعدَ انْقضاءِ مُدَّةِ الرَّضاعِ، فلأبِيه أنَّ يَأْخُذَ ما بَقِىَ مِن المُؤْنَةِ. وهل يَسْتَحِقُّه دَفْعةً أو يومًا بيَوْمٍ؟ فيه وجْهَان؛ إحدُهما، يَسْتَحِقُّه دَفْعةً واحدةً. ذكَره القاضى في «الجَامِع»، واحْتَجَّ بقولِ أحمدَ، إذا خالعَها على رَضاعِ وَلَدِه، فماتَ في أثْناء الحَوْلَيْنِ، قال: يَرْجِعُ عليها ببَقِيَّةِ ذلك. فلم يَعْتَبِرِ الأجَلَ. ولأنَّه إنَّمَا فُرِّقَ لحاجةِ الولدِ إليه متفَرِّقًا، فإذا زالتِ الحاجةُ إلى التَّفْريقِ استُحِقَّ جُمْلةً واحدةً. والثانى، لا يسْتَحِقُّه إلَّا يومًا بيَوْمٍ. ذكره القاضى في «المُجَرَّدِ». وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّه ثَبَت مُنَجَّمًا، فلا يسْتحِقه مُعَجَّلًا، كما لو أسْلَمَ إليه في خبْز يَأْخُذُ منه كلَّ يَوْم أرْطالًا معْلومةً، فمات المُسْتَحِقُّ له، ولأَنَّ الحقَّ لا يُسْتَحَقُّ بموتِ المُسْتَوْفِى، كما لو مات وكيلُ صاحبِ الحقِّ، وإن وقَع الخِلافُ في اسْتِحْقاقِه بموتِ مَن هو عليه. ولأصحابِ الشافعىِّ في هذا وَجْهانِ كهذَيْنِ. وإن ماتَتِ المرأةُ خُرِّجَ في اسْتِحْقاقِه في الحالِ وَجْهانِ كهذَيْنِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 14/ 259.

3397 - مسألة: (وإن خالع الحامل على نفقة عدتها، صح وسقطت)

وَإِنْ خَالَعَ الْحَامِلَ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا، صَحَّ وَسَقَطَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِناءً على أنَّ الدَّيْنَ هل يَحِلُّ بموتِ مَن هو عليه أو لا؟ 3397 - مسألة: (وَإن خالَع الحَامِلَ على نَفَقَةِ عِدَّتِها، صَحَّ وسَقَطَتْ) حُكِىَ جوازُ ذلك عن أحمدَ، وأبى حنيفةَ. وهذا إنَّما يُخَرَّجُ على أصلِ أحمدَ إذا كانت حامِلًا، أمَّا غيرُ الحاملِ، فلا نَفَقةَ لها عليه، فلا تَصِحُّ عِوَضًا. وقال الشافعىِّ: لا تَصِحُّ النَّفقَةُ عِوَضًا، فإن خالَعَها به وجَب مهرُ المِثْلِ؛ لأَنَّ النَّفقةَ لم تَجِبْ (¬1)، فلم يصِحَّ الخُلْعُ عليها، كما لو خالعَها على عِوَضِ ما يتلِفُه عليها. ولَنا، أنَّها إحْدَى النَّفَقَتَيْنِ، فصَحَّتِ المُخالعَةُ عليها، كنَفَقَةِ الصَّبِىِّ فيما إذا خالعَتْه على كَفالةِ وَلَدِه وَقْتًا معْلومًا. وقولُهم: إنَّها لم تَجِبْ. مَمْنُوعٌ، فقد قيلَ: إنَّ النَّفقَةَ تجبُ بالعَقْدِ. ثم إنَّها إن لم تَجِبْ، فقد وُجِدَ سبَبُ وُجوبِها، كنفَقَةِ الصَّبِىِّ، بخلافِ عِوَضِ ما يُتْلِفُه. ¬

(¬1) بعده في م: «بالعقد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والعِوَضُ في الخُلْعِ، كالعِوَضِ في الصَّداقِ والبيعِ، إن كان مَكِيلًا أو مَوْزونًا، لم يَدْخُلْ في ضَمانِ الزَّوجِ ولم يَمْلِكِ التَّصرُّفَ فيه إلَّا بقَبْضِه، وإن كان غيرَهما، دخَل في ضَمانِه بمُجَردِ الخُلْعِ، وصَحَّ تَصرُّفه فيه. قال أحمدُ في امرأةٍ قالتْ لزَوْجِها: اجْعَلْ أمْرِى بيَدِى، [ولكَ هذا العبدُ] (¬1). [ففَعلَ، ثم خُيِّرَتْ فاخْتارتْ نفْسَها بعدَ ما ماتَ العبدُ: جائزٌ، وليس عليها شئٌ، ولو أعْتَقَتِ العبدَ] (2) ثم اخْتارَتْ نَفْسَها، لم يَصِحَّ عِتْقُها. فلم [يُصَحِّحْ عِتْقَها] (¬2)؛ لأَنَّ مِلْكَها زالَ عنه بجَعْلِها (¬3) له عِوَضًا في الخُلْعِ، ولم يُضَمِّنْها إيَّاه إذا تَلِفَ؛ لأنَّه عِوَضٌ مُعَيَّنٌ غيرُ مَكيلٍ ولا مَوْزونٍ، فدخلَ في ضَمانِ الزَّوجِ بمُجَرَّدِ العَقْدِ. ويُخَرَّجُ فيه وَجْهٌ، أنَّه لا يدْخُلُ في ضَمانِه ولا يصِحُّ تَصرُّفُه فيه حتى يَقْبِضَه، كما ذكَرْنا في عِوَضِ البيعِ وفى الصَّداقِ. وأمَّا المَكِيلُ والموْزونُ، فلا يَصِحُّ تَصرُّفه فيه ولا يدْخُلُ في ضَمانِه إلَّا بقَبْضِه، فإن تَلِفَ قبلَ قَبْضِه، فالواجبُ مثلُه؛ لأنَّه مِن ذواتِ الأمْثالِ. وقد ذكرَ القاضى في الصَّداقِ أنَّه يجوز التَّصَرُّف فيه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «بخلعها».

فصل

فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصِحُّ. وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الأَوَّلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ قَبْضِه وإن كان مَكِيلًا أو مَوْزونًا؛ لأنَّه لا يَنْفَسِخُ سبَبُه بتَلَفِه، فههُنا مثلُه. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ويَصِحُّ الخُلْعُ بالمَجْهُولِ. وقال أبو بكرٍ: لا يَصِحُّ. والتَّفْريعُ على الأَوَّلِ) فإذا قُلْنا: يَصِحُّ. فللزَّوجِ ما جُعِلَ له. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْى. وقال أبو بكرٍ: لا يَصِحُّ الخُلْعُ، ولا شئَ له؛ لأنَّه مُعاوَضَة، فلا يَصِحُّ بالمجْهُولِ، كالبيعِ. وهذا قولُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى ثَوْرٍ. وقال الشافعىُّ: يَصِحُّ الخُلْعُ، وله مَهْرُ مِثْلِها؛ لأنَّه مُعاوَضَةٌ بالبُضْعِ، فإذا كان العِوَضُ مَجْهولًا، وجَب مَهْرُ المِثْلِ، كالنِّكاحِ. ولَنا، أنَّ الطَّلاقَ مَعْنًى يجوزُ تعْلِيقُه بالشَّرْطِ، فجازَ أن يُسْتَحَقَّ به العِوَضُ المجْهولُ، كالوصِيَّةِ، ولأَنَّ الخُلْعَ إسْقاط لحقِّه مِنَ البُضْعِ، وليس فيه تَمْلِيكُ شئٍ، والإِسْقاطُ تدْخلُه المُسامَحَةُ، ولذلك جازَ مِن غيرِ عِوَضٍ، بخلافِ النِّكاحِ، وإذا صَحَّ الخُلْعُ، فلا يجبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّها لم تبذُلْه، ولا فَوَّتَتْ (¬1) عليه ما يُوجِبُه، فإنَّ خُروجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجٍ غيرُ مُتَقَوَّمٍ، بدليلِ ما لو أخْرجَتْه مِن مِلْكِه برِدَّتِها أو إرْضاعِها لمَن ينْفسِخُ به نِكاحُها، لم يجبْ عليها شئٌ، ولو قَتلتْ نفْسَها أو قتلَها أجْنَبِىٌّ، لم يجِبْ للزَّوْجِ عِوَضٌ عن بُضْعِها، ولو وُطِئَتْ بشُبْهَةٍ أو مُكْرَهَةً، لَوجبَ المَهْرُ لها دُونَ الزَّوجِ، ولو طاوعَتْ لم يَكُنْ للزَّوجِ شئٌ، وإنَّما يُتقَوَّمُ البُضْعُ على الزَّوْجِ في النِّكاحِ خاصَّةً، وأباحَ لها افْتِداءَ نَفْسِها لحاجتِها إلى ذلك، فيكونُ الواجبُ ما رَضِيَتْ ببَذْلِه، فأمَّا إيجابُ شئٍ لم تَرْضَ (¬2) به، فلا وَجْهَ له. ¬

(¬1) في م: «فوت». (¬2) سقط من: الأصل.

3398 - مسألة: (فإن خالعها على ما فى يدها من الدراهم)

فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِى يَدِهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ، أو مَا فِى بَيْتِهَا مِنَ الْمَتَاعِ، فَلَهُ مَا فِيهما، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا شَىْءٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى مَتَاعًا. وَقَالَ الْقَاضِى: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِصَدَاقِهَا فِى ـــــــــــــــــــــــــــــ 3398 - مسألة: (فَإن خالعَها على ما في يَدِها مِن الدَّرَاهِمِ) صَحَّ، وله ما في يَدِها، وإن لم يَكُنْ في يَدِها شَىْءٌ، فله عليها ثَلاثَةُ دَراهِمَ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه أقَل ما يقعُ عليه اسْمُ الدَّراهِمِ حقيقةً، ولَفْظُها دَلَّ على ذلك، فاسْتحَقَّه، كما لو وُصِّىَ له بدراهمَ. وإن كان في يَدِها (¬1) أقل مِن ثلاثةٍ، احْتَمَلَ أن لا يكونَ له غيرُه، لأنَّه مِنَ الدَّراهمِ، وهو في يَدِها، واحْتَمَلَ أن يكون له ثلاثةٌ كاملةٌ؛ لأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِيها فيما إذا لم يكُنْ في يَدِها شئٌ، فكذلك إذَا كان في يَدِها. 3399 - مسألة: وَإن خالَعَها على (ما في بَيْتِها مِن المَتاعِ) فَإن كان فيه مَتاعٌ، فهو له، قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا؛ لأَنَّ الخُلْعَ على المَجْهُولِ جائِزٌ، كالوصِيَّةِ به، مَعْلُومًا كان أو مَجْهولًا؛ لأَنَّ الاسمَ يقعُ عليه، وإن لم يَكُنْ فيه مَتاعٌ، فله أقَلُّ ما يَقَعُ عليه اسمُ المَتاعِ، كالوصِيَّةِ، وكالمَسْألةِ قَبْلَها. وقال القاضى وأصْحابُه: له المُسَمَّى في صَداقِها؛ لأنَّها فَوَّتَتْ عليه ¬

(¬1) في النسختين: «يده». وانظر المغنى 10/ 281.

3400 - مسألة: (وإن خالعها على حمل أمتها أو ما تحمل شجرتها، فله ذلك، فإن لم يحملا، فقال أحمد: ترضيه بشئ. وقال القاضى: لا شئ له)

مَسْأَلَةِ الْمَتَاعِ. وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى حَمْلِ أَمَتِهَا أَوْ مَا تَحْمِلُ شَجَرَتُهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلَا، فَقَالَ أحْمَدُ: تُرْضِيهِ بِشَىْءٍ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا شَىْءَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البُضْعَ بعِوَضٍ مجْهول، فيَجِبُ فيه قيمةُ ما فَوَّتَتْ عليه، وهو الصَّداقُ. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى. ووَجْهُ القَوْلَيْنِ ما تقَدَّمَ. 3400 - مسألة: (وَإن خالَعَها على حَمْلِ أمَتِها أو ما تَحْمِلُ شَجَرَتُها، فله ذلك، فإن لم يَحْمِلا، فقال أحمدُ: ترْضيهِ بشَىْءٍ. وقال القاضِى: لا شئَ له) إذا خالَعَها على حَمْلِ أمَتِها أو غَنَمِها أو غيرِهما مِنَ الحيوانِ، أو قال: على ما في بُطونها -أو- ضُروعِها. صَحَّ الخُلْعُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، أنَّه يصِحُّ الخُلْعُ على ما في بَطْنِها، [ولا يَصِحُّ على حَمْلِها. ولَنا، أنَّ حَمْلَها هو ما في بَطْنِها، فَصَحَّ الخُلْعُ عليه، كالْخُلْعِ على ما في بَطنِها] (¬1). إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الولدَ إن خرَج سَلِيمًا، أو كان في ضرُوعِها شئٌ مِنَ اللَّبَنِ، فهو له، وإن لم يخْرُجْ شئٌ، فقال القاضى: لا شئَ له. وبه قال مالكٌ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال ابنُ عَقِيلٍ: له مهرُ المِثْلِ. وقال أبو الخَطَّابِ: له المُسَمَّى. وإن خالَعَها على ما تَحْمِلُ أمَتُها أو على ما تُثْمِرُ نَخْلُها، صَحَّ. قال أحمدُ: إذا خالعَ امْرأتَه على ثَمَرةِ نَخْلِها سِنِينَ، فجائزٌ، فإن لم تَحْمِلْ نَخْلُها، تُرْضِيه بشئٍ. قيل له: فإن حَمَلَ نَخْلُها؟ قال: هذا أجودُ مِن ذاك. قيلَ له: يَسْتقيمُ هذا؟ قال: نعم جائزٌ. فيَحْتَمِلُ (¬2) قولُ أحمدَ: تُرْضِيه بشئٍ. [أىْ: له أقَلُّ ما يَقَعُ عليه اسمُ الثمَرَةِ [أو الحملِ] (¬3)، فتُعْطِيه شيئًا، أىَّ شئٍ (¬4) كان، مثلَ ما ألْزَمْناه في مَسألةِ المَتاعِ. وقال القاضى: لا شئَ له. وتأوَّلَ قولَ أحمدَ: تُرْضِيه بشئٍ] (1). على الاسْتِحْبابِ؛ لأنَّه لو كان واجِبًا لَتَقَدَّرَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيحمل». (¬3) زيادة من المغنى. (¬4) سقط من النسختين. والمثبت من المغنى 10/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَقْدِيرٍ يُرْجَعُ إليه، وفَرَّقَ بينَ هاتين (¬1) المسْأَلَتَيْن ومسْألةِ الدَّراهِمِ والمتاعِ -حيث يَرْجِعُ [فيهما بأقلِّ] (¬2) ما يقَعُ عليه الاسْمُ إذا لم يجدْ شيئًا، وههنا لا يَرْجِعُ بشئٍ إذا لم يجدْ حَمْلًا ولا ثمرةً- أنَّ ثَمَّ أوْهَمَتْه أنَّ معها دراهمَ، وفى بيْتِها متاعٌ؛ لأنَّها خاطبَتْه بلفْظٍ يَقْتَضِى الوُجودَ مع إمْكانِ عِلْمِها به، فكان له ما دلَّ عليه لفْظُها، كما لو خالَعَتْه على عبدٍ فوجِدَ حُرًّا، وفى هاتَيْنِ المسْألتَيْنِ دخَل معها في العَقْدِ مع تَساوِيهِما في العلمِ في الحالِ، ورِضاهما بما فيه مِن الاحْتِمالِ، فلم يَكنْ له شئٌ غيرَه، كما لو قال: خالَعْتُكِ على هذا الحُرِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يصِحُّ العِوَضُ ههنا؛ لأنَّه معْدُومٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «منهما على».

3401 - مسألة: (وإن خالعها على عبد، فله أقل ما يسمى عبدا. وإن قال: إن أعطيتنى عبدا فأنت طالق، طلقت بأى عبد أعطته طلاقا بائنا، وملك العبد. نص عليه. وقال القاضى: يلزمها عبد وسط فيهما)

وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، فَلَهُ أَقَلُّ مَا يُسَمَّى عَبْدًا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِى عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِأَىِّ عَبْدٍ أَعْطَتْهُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَمَلَكَ الْعَبْدَ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يَلْزَمُهَا عَبْدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ ما جازَ في الحَمْلِ في البَطْنِ، جازَ فيما يَحْمِلُ، كالوَصِيَّةِ. وأخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّ له المُسَمَّى (¬1) في الصَّداقِ. وأوْجَبَ له الشافعىِّ مَهْرَ المِثْلِ. ولم يُصحِّحْ أبو بكرٍ الخُلْعَ في هذا كلِّه. وقد ذكَرْنا نُصوصَ أحمدَ على جَوازِه، والدَّليلَ عليه. 3401 - مسألة: (وإن خالَعَها على عبدٍ، فله أقَلُّ ما يُسَمَّى عَبْدًا. وإن قال: إن أعْطَيتِنى عَبْدًا فأنتِ طالقٌ، طَلُقَتْ بأَىِّ عَبْدٍ أعْطتْهُ طَلاقًا بَائِنًا، ومَلَكَ العبدَ. نصَّ عليه. وقال القاضى: يَلْزَمُها عَبْدٌ وَسَطٌ فيهما) ¬

(¬1) بعده في الأصل: «في هذه الأقسام الثلاثة المسمى».

وَسَطٌ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا خالَعَها على عَبْدٍ مُطْلَقٍ أو عبيدٍ، أو (¬1) قال: إن أعْطَيْتِنى عبدًا فأنتِ طالقٌ. فإنَّها تَطْلُقُ بأىِّ عَبْدٍ أعْطه إيَّاه، ويَمْلِكُه بذلك، ولا يكونُ له غيرُه، وليس له إلَّا ما يقَعُ عليه اسْمُ العَبْدِ. وإن خالَعَتْه على عبيدٍ، فله ثلاثةٌ. هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ، وقياسُ قولِه وقولِ الْخِرَقِىِّ في مسْألةِ الدَّراهمِ. وقال القاضى: [له عليها] (¬2) عَبْدٌ وَسَطٌ. وتَأوَّلَ كلامَ أحمدَ على أنَّها تُعْطِيه عبدًا وَسَطًا. وقد قال أحمدُ: إذا قال: إذا أعْطَيْتِنى عبدًا فأنتِ طالقٌ. فإذا أعْطَتْه عبدًا فهى طالقٌ. والظاهِرُ مِن كلامِه خِلافُ ما ذكَرَه القاضى؛ لأنَّها خالَعَتْه على مُسَمًّى مجْهولٍ، فكان له أقَلُّ ما يقعُ عليه الاسْمُ، كما لو خالَعها على ما في يَدِها مِنَ الدَّراهِمِ، ولأنَّه إذا قال: إن أعْطَيْتِنى عبدًا فأنتِ طالقٌ. فأعْطَتْه عبدًا، فقد وُجِدَ شَرْطُه، ¬

(¬1) في م: «وإن». (¬2) في النسختين: «لها عليه». والمثبت من المغنى 10/ 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيجبُ أن يقع الطَّلاقُ، كما لو قال: إن رأيتِ عبدًا فأنتِ طالقٌ. ولا يَلْزَمُها أكثرُ منه؛ لأنَّها لم تَلْتَزِمْ له شيئًا، فلا يَلْزَمُها شئٌ، كما لو طَلَّقَها بغيرِ خُلْعٍ. فصل: فإن أعْطَتْه مُدَبَّرًا أو مُعْتَقًا نِصْفُه، وقَع الطَّلاقُ؛ لأنَّهما كالقِنِّ في التَّمْلِيكِ، وإن أعْطَتْه حُرًّا أو مغْصُوبًا أو مَرْهُونًا، لم تَطْلُقْ؛ لأَنَّ العَطِيَّةَ إنَّما تتَناولُ ما يصِحُّ تَمْلِيكُه، وما لا يصحُّ تَمْلِيكُه لا تكونُ مُعْطِيَةً له. فصل: فإن خالَعَها على دابَّةٍ، أو بعيرٍ، أو بقرةٍ، أو ثوبٍ، أو يَقولُ: إن أعْطَيْتِنى ذلك فأنتِ طالقٌ. فالواجب في الخُلْعِ ما يقعُ عليه الاسْمُ مِن ذلك، ويقعُ الطَّلاقُ بها إذا أعْطَتْه إيَّاه، فيما إذا علَّقَ طلاقَها على عَطيَّتِه إيَّاه، ولا يَلْزَمُها غيرُ ذلك في قياسِ ما قبلَها. وقال القاضى وأصحابُه مِنَ الفُقَهاءِ: تَرُدُّ عليه ما أخذَتْ مِن صَداقِها؛ لأنَّها فوَّتَتِ البُضْعَ، ولم يحْصُلْ له العِوَضُ بجَهالَتِه، فوجبَ عليها قيمةُ ما فوَّتتْ، وهو المَهْرُ. ولَنا،

3402 - مسألة: (وإذا قال: إن أعطيتنى هذا العبد فأنت طالق. فأعطته إياه، طلقت، فإن خرج معيبا فلا شئ له)

وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِى هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، طَلُقَتْ، فَإنْ خَرَجَ مَعِيبًا فَلَا شَىْءَ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما تقَدَّمَ، ولأنَّها ما الْتزَمتْ له المهرَ المُسمَّى ولا مهرَ المِثْلِ، فلم يَلْزَمْها، كما لو قال: إن دخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. فدَخَلَتْ. ولأَنَّ المُسَمَّى قد اسْتُوفِىَ بدَلُه بالوَطْءِ، فكيف يَجِبُ عليها بغيرِ رِضًا ممَّن يجبُ عليه! والأشْبَهُ بمذهبِ أحمدَ أنَّ يكونَ الخُلْعُ بالمجهولِ كالوصِيَّةِ به (¬1). 3402 - مسألة: (وإذا قال: إن أعْطَيْتِنى هذا العبدَ فَأنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ، طَلُقَتْ، فإن خرَج مَعِيبًا فلا شئَ له) ذكرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه شَرْطٌ لوُقوعِ الطَّلاقِ، أشْبَهَ ما لو قال: إن ملَكْتُه فأنتِ طالقٌ. ثم مَلَكَه (وإن خرَجَ مغْصوبًا، لم يقَعِ الطَّلاقُ) لأَنَّ الإِعْطاءَ إنَّما يتَناوَلُ ما يصِحُّ تَمْليكُه منها، وما لا يصِحُّ تَمْليكُه مُتعَذِّرٌ، فلا يصِحُّ مِن جِهَتِها إعْطاءٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ، يَقَعُ، وَلَهُ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِى الَّتِى قَبْلَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وعنه، يقَعُ، وله قِيمَتُه) وكذلك فيما أذا قال: إن أعْطَيْتِنى عبدًا فأنتِ طالقٌ. فأعْطَتْه عبدًا مغْصوبًا؛ لأنَّه خالَعها على عِوَضٍ يظُنُّه مالًا فبانَ غيرَ مالٍ، فيكونُ الخُلْعُ صحيحًا؛ لأنَّه مُعاوَضَة بالبُضْعِ، فلا يفْسُدُ بفَسادِ العِوَضِ، كالنِّكاحِ. فعلى هذا، يَرْجِعُ عليها بالقِيمَةِ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بغيرِ عِوَضٍ. فصل: وإن خالعَها على ثَوْبٍ موْصوفٍ في الذِّمَّةِ، واسْتَقْصَى صفاتِ السَّلَمِ، صَحَّ، وعليها أنَّ تُعْطَيَه إيَّاه سليمًا؛ لأَنَّ إطْلاقَ (¬1) ذلك يَقْتَضِى السَّلامةَ، كما في البيعِ والصَّداقِ، فإن دفَعَتْه إليه مَعِيبًا أو ناقِصًا عن الصِّفاتِ المذْكورةِ، فله الخِيَارُ بينَ إمْساكِه، ورَدِّه والمُطالبَةِ بثَوْبٍ سليمٍ على تلك الصِّفَةِ؛ لأنَّه إنَّما وجبَ في الذِّمَّةِ سَلِيمٌ تامُّ الصِّفاتِ، فيَرْجِعُ بما وجبَ له؛ لأنَّها ما أعْطَتْه الذى وجبَ عليها له. ¬

(¬1) في الأصل: «الطلاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قال: إن أعْطَيْتِنى ثوبًا صِفَتُه كذا وكذا. فأعْطَتْه ثوبًا. على تلك الصِّفاتِ، طَلُقَتْ، وملَكَه. وإن أعْطَتْه ناقِصًا صِفَةً، لم يقَعِ الطَّلاقُ، ولم يَمْلِكْه؛ لأنَّه ما وُجِدَ الشَّرْطُ. فإن كان على الصِّفَةِ لكنْ به عَيْبٌ، وقعَ الطَّلاقُ؛ لوُجودِ شَرْطِه. قال القاضى: ويتَخَيَّرُ بينَ إمْساكِه، ورَدِّه والرُّجوعِ بقيمتِه. وهذا قولُ الشافعىِّ، إلَّا أنَّ له قَوْلًا، أنَّه يَرْجِعُ بمَهْرِ المِثْلِ، على ما ذكَرْنا، وعلى ما ذكَرْنا فيما تقَدَّمَ، أنَّه (¬1) إذا قال: إذا أعْطَيْتِنِى ثوبًا -أو- عبدًا -أو- هذا الثَّوْبَ -أو- هذا العبدَ. فأَعْطَتْه إيَّاه مَعِيبًا، طَلُقَتْ، وليس له سِوَاه. وقد نَصَّ أحمدُ على مَن قال: إن أعْطَيْتِنى هذا الألْفَ فأنتِ طالقٌ. فأعْطَتْه إيَّاه، فوَجدَه مَعِيبًا: فليس له البَدَلُ. وقال أيضًا: إن [قال: إن] (¬2)، أعْطَيْتِنى عبدًا فأنتِ طالقٌ. ¬

(¬1) بعده في م: «قال». (¬2) تكملة من المغنى 10/ 290.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أعْطَتْه عهدًا، فهى طالقٌ، ويَمْلِكُه. وهذا يدُلُّ على أنَّ كُل مَوْضِعٍ قال: إن أعْطَيْتِنى كذا. فأعْطَتْه إيَّاه، فليس له غيرُه؛ وذلك لأَنَّ الإنْسانَ لا يَلْزَمُه شئٌ إلَّا بإلْزام أو الْتِزامٍ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ بإلْزامِها (¬1) هذا، ولا هى الْتَزَمَتْه له، وإنَّما عَلَّقَ طلاقَها على شَرْطٍ، وهو عَطِيَّتُها له ذلك، فلا يَلْزَمُها شَئٌ سِواهُ. وقد ذكَرْناه. فصل: إذا قال: إن أعْطَيْتِنى ألفَ دِرهمٍ فأنتِ طالقٌ. فأعْطَتْه ألْفًا أو أكثرَ، طَلُقَتْ؛ لوُجودِ الصِّفَةِ، وإن أعْطَتْه دُونَ ذلك، لم تَطْلُقْ؛ لعدمِها. وإن أعْطَتْه ألفًا وازِنَةً (¬2) تَنْقُصُ في العدَدِ، طَلُقَتْ، وإن أعْطَتْه ألْفًا عددًا تَنْقُصُ في الوزنِ، لم تَطْلُقْ؛ لأَنَّ إطْلاقَ الدَّراهمِ ينْصَرِفُ إلى الوازنِ مِن دراهمِ الإِسْلامِ، وهى ما (¬3) كلُّ عشَرةٍ منها وزنُ سبعةِ مَثاقِيلَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ الدَّراهمَ متى كانت تَنْفُقُ برُءُوسِها مِن غيرِ وَزْنٍ، طَلُقَتْ؛ لأنَّها يقعُ عليها اسْمُ الدَّراهمِ، ويحْصُلُ منها مَقْصودُها. ولا تطْلُقُ إذا أعْطَتْه وازنةً تَنْقُصُ في العَدَدِ؛ لِذلك (¬4). وإن أعْطَتْه ألفًا مغْشُوشةً بنُحاسٍ أو رَصاصٍ أو نحوِه، لم تَطْلُقْ؛ لأَنَّ إطْلاقَ الألْفِ يتَناوَلُ ¬

(¬1) في الأصل: «بالتزامها». (¬2) بعده في م: «لا». (¬3) في م: «أن». (¬4) في م: «كذلك».

3403 - مسألة: (وإن قال: إن أعطيتنى ثوبا هرويا فأنت طالق. فأعطته مرويا، لم تطلق)

وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْنِى ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ مَرْوِيًّا، لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى هَرَوِىٍّ فَبَانَ مَرْوِيًّا، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ رَدِّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ألْفًا مِن الفِضَّةِ، وليس في هذه ألفٌ مِنَ الفِضةِ. وإن زادَتْ على الألْفِ بحيثُ يَكونُ فيها [ألفٌ فِضَّةً] (¬1) طَلُقَتْ؛ لأنَّها قد أعْطَتْه ألْفًا فِضَّةً. وإن أعْطَتْه سَبِيكةً تبْلُغُ ألْفًا، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّها لا تُسَمَّى دراهمَ، فلم تُوجَدِ الصِّفَةُ، بخلافِ المغْشُوشَةِ، فإنَّها تُسَمَّى دَراهِمَ. وإن أعْطَتْه ألْفًا رَدِئَ الجنْسِ، لخُشُونَةٍ أو سَوادٍ، أو (¬2) كانت وَخْشَةَ (¬3) السَّكَّةِ، طَلُقَتْ (¬4)؛ لأَن الصِّفةَ وُجِدَتْ. قال القاضى: وله رَدُّها وأخْذُ بدَلِها. وهذا قد ذكَرْناه في المسألةِ التى قبلَها. 3403 - مسألة: (وإن قال: إن أعْطَيْتِنى ثوبًا هَرَوِيًّا فَأنتِ طالقٌ. فأَعْطَتْه مَرْوِيًّا، لم تَطْلُق) لأَنَّ الصِّفَةَ التى علقَ الطَّلاقَ عليها لم تُوجَدْ، وإن أعْطَتْه هَرَوِيًّا، طَلُقَتْ. وإن خالَعَها على مَرْوِىٍّ فأعْطَتْه هَرَوِيًّا، فالخُلْعُ ¬

(¬1) في م: «الفضة». (¬2) في الأصل: «و». (¬3) في م: «خشنة». ووخشة: رديئة. (¬4) سقط من: م.

وَإِمْسَاكِهِ، وَعِنْدَ أبِى الْخَطَّابِ، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ إِنْ وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَى عَيْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واقعٌ، ويُطالِبُها بما خالعَها عليه. وإن خالعَها على ثوبٍ بعَيْنِه على أنَّه هَرَوِىٌّ فبان مَرْوِيًّا، فالخُلعُ صحيحٌ؛ لأَنَّ جِنْسَهما واحدٌ، وإِنَّما ذلك اخْتِلافُ صِفَةٍ، فجرَى مَجْرَى العَيْبِ في العِوَضِ. وهو مُخَيَّرٌ بينَ إمْساكِه ولا شئَ له غيرُه، وبينَ رَدِّه وأخْذِ قيمَتِه هَرَوِيًّا؛ لأَنَّ مُخالفَةَ الصِّفَةِ بمَنْزِلةِ العَيْبِ في جَوازِ الرَّدِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: وعنِدِى أنَّه لا يَسْتَحِقُّ شيئًا سِواهُ؛ لأَنَّ الخُلْعَ على عَيْنِه، وقد أخَذَه. وإن خالَعَها على ثَوْبٍ على أنَّه قُطْنٌ فبَان كَتَّانًا، رَدَّه، ولم يكُنْ له إمْساكُه؛ لأنَّه جِنْسٌ آخَرُ، واخْتِلافُ الأجْناسِ كاخْتِلافِ الأعْيانِ، بخلافِ ما لو خالَعَها على هَرَوِىٍّ فخرجَ مَرْوِيًّا، فإنَّ الجِنْسَ واحدٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ موْضعٍ علَّقَ طَلاقَها على عَطِيَّتِها إيَّاه، فمتى أعْطَتْه على صِفَةٍ يُمْكِنُه القَبْضُ (¬1)، وقعَ الطَّلاقُ، سواءٌ قَبضَه منها أو لم يَقْبِضْه، لأَنَّ ¬

(¬1) بعده في م: «ببينة».

فصل

فَصْلٌ: إِذَا قَالَ: إِنْ أعْطَيْتِنِى. أَوْ: إِذَا أعْطَيْتِنِى. أَوْ: مَتَى أعْطَيْتِنِى ألْفًا، فَانْتِ طَالِقٌ. كَانَ عَلَى التَّرَاخِى، أَىَّ وَقْتٍ أعْطَتْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ العَطِيَّةَ وُجِدَتْ، فإنَّه يُقالُ: أعْطيْتُه فلم يَأْخُذْ. ولأنَّه علَّقَ اليمنَ على فِعْلٍ مِن جِهَتِها، والذى مِن جِهَتِها في العَطِيَّةِ البَذْلُ على وَجْهٍ يُمْكِنُه قبْضُه. فإن هربَ الزَّوجُ أو غابَ قبلَ عَطيَّتِها، أو قالت: يَضْمَنُه لك زيدٌ. أو: اجْعَلْه قِصاصًا بما لى عليك. أو أعْطَتْه به رَهْنًا، أو أحالَتْه به، لم يقَعِ الطَّلاقُ، لأَنَّ العَطِيَّةَ ما وُجِدَتْ، ولا يقَعُ الطَّلاقُ بدُونِ شَرْطِه. وكذلك كلُّ مَوْضعٍ تعَذَّرَتِ العَطِيَّةُ فيه، لا يَقعُ الطَّلاقُ، سواءٌ كان التَّعَذُّرُ مِن جِهَتِه أو مِن جِهَتِها، أو مِن جِهَةِ غيرِهما (¬1)، لانْتِفاءِ الشَّرْطِ. ولو قالت: طلِّقْنِى بألْفٍ. فطَلَّقَها، اسْتَحَقَّ الألْفَ، وبانَتْ وإن لم يَقْبِضْ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال أحمدُ: ولو قالتْ: لا أُعْطِيكَ شيئًا. يَأْخُذُها بالألْفِ. يَعْنِى ويقَعُ الطَّلاقُ، لأَنَّ هذا ليس بتَعْليقٍ على شَرْطٍ، بخلافِ الأوَّلِ. فَصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإن، قال: إن أَعْطَيْتِنِى. أو: إذا أَعْطَيْتِنِى. أو: متى أَعْطَيْتِنِى ألْفًا، فأنتِ طالقٌ. كان على التَّراخِى، أَىَّ وَقْتٍ أَعْطَتْهُ ألْفًا طَلُقَتْ) وجملةُ ذلك، أنَّ تعْليقَ الطَّلاقِ على ¬

(¬1) في م: «غيرها».

أَلْفًا طَلُقَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطِ العَطِيَّةِ، أو الضَّمانِ، أو التَّمْليكِ، لازِمٌ مِن جِهَةِ الزَّوجِ لُزومًا لا سبيلَ إلى رَفْعِه؛ فإنَّ المُغَلَّبَ فيها حُكْمُ التَّعْليقِ المَحْضِ؛ بدليلِ صِحَّةِ تعْليقِه على الشُّروطِ. ويقَعُ الطَّلاقُ بوُجودِ الشَّرطِ، سواءٌ كانتِ العَطِيَّة على الفَوْرِ أو التَّراخِى. وقال الشافعىُّ: إذا قال: متَى أعْطَيْتِنِى -أو- متَى ما أعْطَيْتِنِى -أو- أىَّ حينٍ -أو- أىَّ زمانٍ أعْطَيْتِنى ألْفًا، فأنتِ طالقٌ. كان على التَّراخِى، وإن قال: إن أعْطَيْتِنى -أو- إذا أعْطَيْتِنى ألْفًا، فأنتِ طالقٌ. كان على الفَوْرِ، فإن أعْطَتْه جَوابًا لكَلامِه، وقعَ الطَّلاقُ، وإن تأَخَّرَ الإعْطاءُ لمِ يقَعِ الطَّلاقُ؛ لأَنَّ قَبُولَ المعاوَضاتِ على الفَوْرِ، فإذا لم يُوجَدْ منه تَصْريحٌ بخلافِه، وجبَ حَمْلُ ذلك على المُعاوَضاتِ، بخلافِ «متى» و «أىّ»، فإنَّ فيها تَصْريحًا بالتَّراخِى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَصًّا فيه، وإن صارَا مُعاوَضَةً، فإنَّ تعْليقَه بالصِّفَةِ جائز، أمَّا «إن» و «إذا»، فإنَّهما يَحْتَمِلان (¬1) الفَوْرَ والتَّراخِىَ، فإذا تعَلَّقَ بهما العِوَضُ حُمِلَا على الفَوْرِ. ولَنا، أنَّه علَّق الطَّلاقَ بشَرْطِ الإِعْطاءِ، فكان على التَّراخِى، كسائرِ التَّعْليقِ. أو نقولُ: علَّقَ الطَّلاقَ بلَفْط مُقْتَضاه التَّراخِىَ، فكان على التَّراخِى، كما لو خَلا عنِ العِوَضِ، والدَّليلُ على أنَّه يَقْتَضِى التَّراخِىَ، أنَّه يَقْتَضِيهِ إذا خلا عن العِوَضِ، ومُقْتَضَيات الألفاظِ لا تَخْتَلِفُ بالعِوَضِ وعدَمِه، وهذه المُعاوَضَةُ معْدولٌ بها عن سائرِ المُعاوَضاتِ؛ بدليلِ جَوازِ تعلِيقِها على الشُّروطِ، ويكون على التَّراخِى فيما إذا عَلَّقَها بـ «متى» أو بـ «أىّ»، فكذلك في مسْألَتِنا، ولا يصِحُّ قياسُ ما نحن فيه على غيرِه مِنَ المُعاوَضاتِ؛ لِما ذكَرْنا مِن الفَرْقِ، ثم يَبْطُلُ قِياسُهم بقَوْلِ السَّيِّدِ لعبدِه: إن أعْطَيْتَنى ألْفًا فأنتَ حُرٌّ. فإنَّه كمَسْألَتِنا، وهو على التَّراخِى، على أنَّنا قد ذكَرْنا أنَّ حُكْمَ [هذا الشرطِ] (¬2) حُكْمُ اللَّفْظِ المُطْلَقِ. ¬

(¬1) في م: «يحملان على». (¬2) في م: «هذه الشروط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قال لامْرأتِه: أنتِ طالقٌ بألْفٍ إن شِئْتِ. لم تَطْلُقْ حتى تشاءَ، فإذا شاءتْ وقَع الطَّلاقُ بائِنًا، ويَسْتَحِقُّ الألْفَ، سواءٌ سألَتْه الطَّلاقَ فقالتْ: طَلِّقْنِى بألْفٍ. فأجابَها، أو قال ذلك لها ابْتداءً؛ لأنَّه علَّقَ طلاقَها على شَرْطٍ، فلم يُوجَدْ قبلَ وُجودِه. وتُعْتَبَرُ مَشِيئَتُها بالقولِ، فإنَّها وإن كان مَحَلُّها القلبَ، فلا يُعْرَفُ ما في القلبِ إلَّا بالنُّطْقِ (¬1)، فتَعَلَّقَ الحُكْمُ به، ويكونُ ذلك على التَّراخِى، فمتى شاءتْ طَلُقَتْ. نصَّ عليه أحمدُ. ومذهبُ الشَّافعىِّ كذلك، إلَّا أنَّه على الفَوْرِ عندَه. ولو أنَّه قال لامْرأتِه: أمْرُكِ بيَدِكِ إن ضَمِنْتِ لى ألْفًا. فقياسُ قولِ أحمدَ أنَّه على التَّراخِى؛ [لأنَّه نصَّ على أنّ: أمْركِ بيَدِكِ، على التَّراخِى] (¬2)، ونَصَّ على أنَّه إذا قال لها: أنتِ طالقٌ إن شئْتِ. أنَّ لها المَشِيئةَ بعدَ مَجْلِسِها. ومذهبُ الشافعىِّ أنَّه (¬3) على الفَوْرِ؛ لِما تقَدَّمَ. ولَنا، أنَّه لو قال لعبدِه: إن ضَمِنْتَ لى ألْفًا فأنتَ حُرٌّ. كان على التَّراخِى. ولو قال له: أنتَ حُرٌّ على أَلْفٍ إن شِئْتَ. كان على التَّراخِى، والطَّلاقُ نظيرُ العِتْقِ. فعلى هذا، متى ضَمِنَتْ له ألْفًا كان أمْرُها بيَدِها، وله الرُّجوعُ فيما (¬4) جعَل إليها؛ ¬

(¬1) في الأصل: «بالتطلق». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «بما».

3404 - مسألة: (إذا قالت: اخلعنى بألف. أو: على ألف. ففعل، بانت، واستحق الألف)

وَإِنْ قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِى بأَلْفٍ. أَوْ: عَلَى أَلْفٍ. أَوْ: طَلِّقْنِى بِأَلْفٍ. أو: عَلى أَلْفٍ. ففعَل، بَانَتْ، وَاسْتَحَقَّ الْأَلْفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ: أمْركِ بيَدِكِ، تَوْكيلٌ منه لها، فله الرُّجوعُ فيه، كما يَرْجِعُ في الوَكالةِ. وكذلك لو قال لزَوْجتِه: طَلِّقِى نفْسَك إن ضَمِنْتِ لى ألْفًا. [فمتى ضَمِنَتْ له ألْفًا] (¬1) وطلَّقَتْ نفْسَها، وقعَ ما لم يَرْجِعْ. وإن ضَمِنَتِ الألْفَ ولم تُطَلِّقْ، أو طَلَّقَتْ ولم تَضْمَنْ، لم يقَعِ الطَّلاقُ. 3404 - مسألة: (إذا قالت: اخْلَعْنِى بألْفٍ. أو: على أَلْفٍ. ففعَل، بانَتْ، واسْتَحَقَّ الألْفَ) لأَنَّ الباءَ للمُقابَلَةِ، و «على» في مَعْناها، فيَقعُ العَقْدُ بهما، ويَسْتَحِقُّ العِوَضَ، ويكْفِى قولُه: خَلَعْتُكِ (¬2). وإن لم يذْكُرِ الألْفَ؛ لأَنَّ قولَه جوابٌ لِما اسْتَدْعَتْه منه، والسُّؤالُ كالمُعادِ في الجوابِ، فأشْبَهَ ما لو قالت: بِعْنِى عبدَك بألفٍ. فقال: بِعْتُكِه. وكذلك إن قالت: (طَلِّقْنِى (¬3) بألْفٍ. أو: على أَلْفٍ) أو: على أنَّ لكَ ألْفًا. أو: إن طَلَّقْتَنِى فلكَ علَىَّ ألفٌ. فقال: أنتِ طالقٌ. لِما ذكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «ثلاثا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قالت: اخْلَعْنِى بألْفٍ. فقال: أنتِ طالقٌ. فإن قُلْنا: الخُلعُ طَلْقَةٌ بائِنَةٌ. وقعَ، واسْتَحَقَّ الألْفَ؛ لأنَّه أجابَها إلى ما بذلَتِ العِوَضَ فيه. وإن قُلْنا: هو فَسْخٌ. احْتَمَلَ أن يَسْتَحِقَّ العِوَضَ أيضًا؛ لأَنَّ الطَّلاقَ يتضَمَّنُ ما طَلَبَتْ، وهو البَيْنُونةُ، وفيه زيادةٌ نُقْصانُ العَدَدِ، فأشْبَهَ ما لو قالت: طَلِّقْنِى واحدةً بألْفٍ. فطَلَّقَها ثلاثًا. واحْتَملَ أن لا يَسْتَحِقَّ شيئًا، لأنَّها اسْتَدْعَتْ منه فَسْخًا، فلم يُجِبْها إليه، وأوْقَعَ طَلاقًا (¬1) ما طَلَبَتْه، ولا بذَلَتْ فيه عِوَضًا. فعلى هذا، [يَحْتَمِلُ أن يقَعَ الطَّلاقُ رَجْعِيًّا؛ لأنَّه أَوْقَعَهُ مُبْتَدِئًا به، غيرَ مَبْذُولٍ فيه عِوَضٌ، فأَشْبَهَ ما لو طَلَّقَها ابْتِداءً] (¬2). ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ، لأنَّه أوْقعَه بعِوَضٍ، فإذا لم يحْصُلِ العِوَضُ، لم يقَعْ؛ لأنَّه كالشَّرْطِ فيه، فأشْبَهَ ما لو قال: إن أعْطَيْتِنى ألْفًا فأنتِ طالقٌ. وإن قالت: طَلِّقْنِى بألْفٍ. قال: خَلَعْتُكِ. فإن قُلْنا: هو طَلاقٌ. اسْتَحَقَّ العِوَضَ، لأنَّه طَلَّقَها، وإن نَوَى به الطَّلاقَ فكذلك، لأنَّه كِنايةٌ فيه، وإن لم يَنْوِ الطَّلاقَ وقُلْنا: ليس بطَلاقٍ. لم يَسْتَحِقَّ عِوَضًا؛ لأنَّه ما أجابَها إلى ما بذَلَتِ العِوَضَ فيه، ولا يتَضَمَّنُه؛ لأنَّها سألَتْه طَلاقًا يَنْقُصُ به عدَدُ طَلاقِه (¬3)، فلم يُجِبْها إليه، وإذا لم يَجِبِ العِوَضُ، لم يصِح الخُلْعُ، لأنَّه إنَّما خالَعَها مُعْتَقِدًا لحُصُولِ العِوَضِ، فإذا لم يَحْصُلْ، لم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «الطلاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يصِحَّ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ كالخُلْعِ (¬1) بغيرِ عِوَضٍ، فيه مِنَ الخِلافِ ما فيه. ¬

(¬1) في الأصل: «الخلع».

3405 - مسألة: (وإذا قالت: طلقنى واحدة بألف. فطلقها ثلاثا، استحق الألف)

وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِى وَاحِدَةً بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، اسْتَحَقَّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3405 - مسألة: (وإذا قالتْ: طَلِّقْنى واحدَةً بألفٍ. فطلَّقها ثلاثًا، استحقَّ الألفَ) وقالَ محمدُ بنُ الحسنِ: قياسُ قولِ أبى حَنِيفَةَ أنَّه لا يستحقُّ شيئًا؛ لأَنَّ الثَّلاثَ مخالِفةٌ للواحِدَةِ؛ لأَنَّ تَحْريمَها لا يَرْتَفِعُ إلَّا بزَوْجٍ وإصابةٍ، وقد لا تُريدُ (¬1) ذلك، ولا تَبْذُلُ (¬2) العِوَضَ فيه، فلم يكُنْ ¬

(¬1) في النسختين: «يريد». وانظر المغنى 10/ 299. (¬2) في م: «يبذل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إيقاعًا لما استدْعَتْه، بل هو إيقاعٌ مُبْتَدَأٌ، فلم يَسْتحِقَّ شيئًا. ولنا، أنَّه أوقَعَ ما استدعَتْه وزِيادةً؛ لأَنَّ الثَّلاث واحِدَةٌ واثْنَتان. وكذلك لو قال: طَلِّقى نَفْسَكِ ثلاثًا. فطَلَّقَتْ نَفْسَها واحِدَةً، وقَع، فيَسْتحقُّ العِوَضَ بالواحِدَةِ، وما حصَل مِنَ الزِّيادَةِ التى لم تَبْذُلِ العِوَضَ فيها لا يَسْتَحِقُّ بها شيئًا. فإن قالَ لها: أنْتِ طالقٌ بألفٍ، وطالقٌ، وطالقٌ. وقعتِ الأُولى بائنةً، ولم تَقَعِ الثَّانيةُ ولا الثَّالثةُ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وإن قال لها: أنتِ طالقٌ [، وطالقٌ] (¬1)، وطالقٌ بأَلْفٍ. وقَع الثَّلاثُ. وإن قال: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ. ولم يَقُلْ: بأَلْفٍ. قيلَ له: أيَّتُهُنَّ أوْقَعْتَ بالألْفِ؟ فإن قال: الأُولى. بانَت بها، ولم يَقَعْ ما بعدَها. وإن قال: الثَّانِيَة. بانَتْ بها، ووقَع بها طَلْقَتان، ولم تقعِ الثَّالِثَةُ. وإن قال: الثَّالِثَة. وقَع الكُلُّ. ¬

(¬1) في الأصل: «فطالق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: نَوَيْتُ أنَّ الأَلْف في مُقَابَلَةِ الكلِّ. بانَتْ بالأُولى وحدَها، ولم يقعْ بها ما بعدَها؛ لأَنَّ الأُولى حصَل في مُقَابَلَتِها عِوَضٌ، وهو قِسْطُها مِنَ الألْفِ، فبانَتْ بها، وله ثُلُثُ الألْفِ؛ لأنَّه رَضِىَ بأن يُوقِعَها بذلك، مثلَ أن تقولَ: طَلِّقْنِى بألفٍ. فيقولَ: أنتِ طالقٌ بخَمْسِمائةٍ. هكذا ذكَرَه القاضى. وهو مذهبُ الشَّافِعِىِّ. ويحتملُ أن يَسْتَحِقَّ الألفَ؛ لأنَّه أتَى بما بذَلَتِ العِوَضَ فيه بنيَّةِ العِوَضِ، فلم يَسْقُطْ بعضُه بنِيَّتِه، كما لو قالَتْ: رُدَّ عَبْدِى بألفٍ. فرَدَّه يَنْوى خَمْسَمِائَةٍ. وإنْ لم يَنْوِ شَيْئًا، اسْتَحَقَّ الألْفَ بالأُولى، ولم يقعْ ما بعدَها. ويحتملُ أَنْ يقعَ الثلاثُ؛ لأنَّ الواوَ للجَمعِ لا تقْتَضِى تَرْتيبًا، فهو كقولِه: أنْتِ طالقٌ ثلاثًا بألفٍ. وكذلك لو قالَ ذلك لغيرِ مَدْخولٍ بها، أو قال: أنْتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ بألفٍ. طَلُقَتْ ثلاثًا.

3406 - مسألة: (وإن قالت: طلقنى ثلاثا بألف. فطلقها واحدة، لم يستحق شيئا. ويحتمل أن يستحق ثلث الألف)

وَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِى ثَلَاثًا بِأَلْفٍ. فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ ثُلُثَ الأَلْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3406 - مسألة: (وإن قالت: طَلِّقْنِى ثَلَاثًا بألفٍ. فَطَلَّقَها واحدةً، لم يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. ويَحْتَمِلُ أن يَسْتَحِقَّ ثُلُثَ الألفِ) فعلى هذا يقعُ الطَّلاقُ ولا يَسْتَحِقُّ شيئًا. ويَحْتَمِلُ أن يَسْتَحِقَّ ثُلُثَ الألفِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ وصاحبَيْه (¬1)، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّها اسْتَدْعَتْ منه فِعْلًا بعِوَضٍ، فإذا فعَل بعْضَه اسْتَحَقَّ بقِسْطِه، كما لو قالت (¬2): مَن رَدَّ عَبيدِى فله ألفٌ. فرَدَّ ثُلُثَهم، اسْتَحَقَّ ثُلُثَ الألفِ، وكذلك في بناءِ الحائطِ وخِياطَةِ الثُّوْبِ. ولَنا، أنَّها بذَلَتِ العِوَضَ في مُقابَلَةِ شئٍ لم يُجِبْها إليه، فلم يَسْتَحِقَّ شيئًا، كما لو قال في المُسابَقَةِ: مَن سبَق إلى خَمْسِ إصاباتٍ فله ألفٌ. فسَبَقَ إلى بعْضِها. أو قالت: بِعْنِى عَبْدَيْكَ (¬3) بألفٍ. فقال: بِعْتُكِ أحَدَهما بخَمْسِمائةٍ. وكما لو قالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا على ألفٍ. عندَ أبى حنيفةِ. فإن قيلَ: الفَرْقُ بينَهما أنَّ الباءَ للعِوَضِ دُونَ الشَّرْطِ، و «على» للشَّرْطِ، فكأنَّها شرَطَتْ في اسْتِحْقاقِه الألفَ أن يُطَلِّقَها ثلاثًا. قُلْنا: لا نُسَلِّمُ أنَّ «على» للشَّرْطِ، فإنَّها ليست ¬

(¬1) في م: «صاحبه». (¬2) في م: «قال». (¬3) في م: «عبدك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مذْكُورةً في حُروفِه، وإنَّما مَعْناها ومعنى الباءِ واحدٌ، وقد سَوَّى بينَهما فيما إذا قالت: طَلِّقْنِى وَضَرَّتِى بألفٍ -أو- على ألفٍ. ومُقْتَضَى اللَّفْظِ لا يخْتلِفُ بكَوْنِ المُطَلَّقَةِ واحدةً أو اثْنَتَيْنِ. فصل: فإن قالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا ولك ألفٌ. فهى كالتى قبلَها، إن طَلَّقَها أقلَّ مِن ثلاثٍ، وقَع الطَّلاقُ، ولا شئَ له، وإن طَلَّقَها ثلاثًا، اسْتَحَقَّ الألفَ. ومذهبُ الشافعىِّ، وأبى يوسفَ، ومحمدٍ، فيها كمذهبِهم في التى قبلَها. وقال أبو حنيفةَ: لا يَسْتَحِقُّ شيئًا وإن طَلَّقَها ثلاثًا؛ لأنَّه لم يُعَلَّقِ الطَّلاقُ بالعِوَضِ. ولَنا، أنَّها اسْتَدْعَتْ منه الطَّلاقَ بالعِوَضِ، فأَشْبَهَ ما لو قال: رُدَّ عبدِى ولك ألفٌ. فرَدَّه. وقولُه: لم يُعلَّقِ الطَّلاقُ بالعِوَضِ. مَمْنُوعٌ، فإنَّ معنى الكلامِ: ولك ألفٌ عن طَلاقِى. فإنَّ قَرينَةَ الحالِ دَالَّة عليه (¬1). وإن قالت: طَلِّقْنِى وضَرَّتِى بأَلْفٍ. أو: على ألفٍ علينا. فطَلَّقَها وحدَها، طَلُقَتْ، وعليها قِسْطُها مِنَ الألفِ؛ لأَنَّ عَقْدَ الواحدِ مع الاثْنَيْنِ بمَنْزِلةِ العَقْدَيْنِ، وخُلْعَه للمرأتَيْنِ بعِوَضٍ عليهما خُلْعانِ، فجازَ أن يَنْعَقِدَ أحدُهما صحيحًا مُوجِبًا للعِوَضِ دُونَ الآخرِ. وإن كان العِوَضُ منها وحدَها، فلا شئَ له في قياسِ المذهبِ، لأنَّ العَقْدَ لا يتَعدَّدُ بتَعدُّدِ العِوَضِ، وكذلك (¬2) لو اشْتَرى مِن إنْسانٍ عَبْدَيْنِ بثَمَنٍ واحدٍ، كان عَقْدًا واحدًا؛ بخلافِ ما إذا كان العاقِدُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لذلك».

3407 - مسألة: (وإن لم يكن بقى من طلاقها إلا واحدة ففعل، استحق الألف، علمت أو لم تعلم. ويحتمل أن لا يستحق إلا ثلثه إذا لم تعلم)

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِىَ مِنْ طَلَاقِهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ فَفَعَلَ، اسْتَحَقَّ الْأَلفَ، عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَهُ إِذَا لَمْ تَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أحدِ الطَّرَفَيْنِ اثْنينِ، فإنَّه يكونُ عَقْدينِ. 3407 - مسألة: (وإن لم يَكُنْ بَقِىَ مِن طَلاقِها إلَّا واحدةٌ ففعَلَ، اسْتَحَقَّ الألْفَ، عَلِمَتْ أو لم تَعْلَمْ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَه إذا لم تَعْلَمْ) إذا قالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا بألفٍ. ولم يكُنْ بَقِىَ مِن طَلاقِها إلَّا واحدةٌ، فطَلَّقَها واحدةً أو ثلاثًا، بانَتْ بثَلاثٍ. قال أصحابُنا: ويَسْتَحِقُّ الألفَ، عَلِمَتْ أو لم تعلمْ. وهو منْصوصُ الشافعىِّ. وقال المُزَنِىُّ: لا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الألفِ؛ لأنَّه إنَّما طَلَّقَها ثُلُثَ ما طَلَبَتْ منه، فلا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الألْفِ، كما لو كان طلاقُها ثلاثًا. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَه إذا لم تَعْلَمْ. وهو قولُ ابنِ سُرَيْجٍ (¬1)؛ لأنَّها إن كانت عالمةً، كان معنى كلامِها: كَمِّلْ لِى الثَّلاثَ. وقد فعلَ ذلك. ووَجْهُ قولِ أصْحابِنا، أنَّ هذه الواحدةَ كَمُّلَتِ الثَّلاثَ، وحَصَّلَتْ ما يحْصُلُ بالثَّلاثِ مِن البَيْنُونَةِ وتَحْريمِ العَقْدِ، فوجَبَ بها العِوَضُ، كما لو طَلَّقَها ثلاثًا. فصل: فإن لم يكُنْ [بَقِىَ مِن] (¬2) طَلاقِها إلَّا واحدةٌ فقالت: طَلِّقْنِى ¬

(¬1) في النسختين: «شريح». وانظر ترجمته في 10/ 442. (¬2) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثًا (¬1) بألفٍ، واحدةً أبِينُ (¬2) بها، واثْنَتَيْنِ في نِكاحٍ آخَرَ. فقال أبو بكرٍ: قياسُ قولِ أحمدَ أنَّه إذا طَلَّقَها واحدةً، اسْتَحَقَّ العِوَضَ، فإن تَزَوَّجَ بها بعدَ ذلك (1) ولم يُطَلِّقْها، رجَعَتْ عليه بالعِوَضِ؛ لأنَّها بذَلَتِ العِوَضَ في مُقابَلَةِ ثلاثٍ، فإذا لم يُوقِعِ الثَّلاثَ، لم يَسْتَحِقَّ العِوَضَ، كما لو كانت ذاتَ طَلَقاتٍ (¬3) ثلاثٍ، فقالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا. فلم يُطَلِّقْها إلَّا واحدةً. ومُقْتَضَى هذا، أنه إذا لم يَنْكِحْها نِكاحًا آخَرَ، أنَّها تَرْجعُ عليه بالعِوَضِ، وإنَّما يَفُوتُ نِكاحُه إيَّاها بمَوْتِ أحَدِهما. وإن نَكَحَهاَ نِكاحًا آخَرَ وطَلَّقَها اثْنَتَيْن، لم تَرْجِعْ عليه بشئٍ، وإن لم يُطَلِّقْها إلَّا واحدةً، رَجَعتْ عليه بالعِوَضِ كلِّه. وقال القاضى: الصَّحيحُ مِن المذهبِ أنَّ هذا لا يَصِحُّ في الطَّلْقَتَيْن الآخِرَتَيْن؛ لأنَّه سلَفٌ في طَلاقٍ، ولا يصِحُّ السَّلَفُ في الطَّلاقِ، ولأنَّه مُعاوَضَةٌ على الطَّلاقِ قبلَ النِّكاحِ، [والطَّلاقُ قبلَ النِّكاحِ] (¬4) لا يصِحُّ، فالمُعاوَضَةُ عليه أَوْلَى. فإذا بطَل فيهما انْبَنَى ذلك على تَفْريقِ الصَّفْقَةِ؛ فإن قُلْنا: تُفَرَّقُ. فله ثُلُثُ الألْفِ. وإن قُلْنا: لا تُفَرَّقُ. فسَد العِوَضُ في الجميعِ، ويَرْجِعُ بالمُسَمَّى في عَقْدِ النِّكاحِ. فصل: ولو قالتْ: طَلِّقْنِى عشْرًا بأَلْفٍ. فطَلَّقَها واحدةً أو اثْنَتَيْن، فلا شئَ له؛ لأنَّه لم يُجِبْها إلى ما سألَتْ، فلم يَسْتَحِقَّ عليها ما بذَلَتْ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أبنى». (¬3) في م: «تطليقات». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن طَلَّقَها ثلاثًا، اسْتَحَقَّ الألفَ، على قياسِ قولِ أصْحابِنا فيما إذا قالت: طَلِّقْنِى ثلاثًا بألفٍ. ولم يكُنْ بَقِىَ مِن طلاقِها إلَّا واحدةٌ، فطَلَّقَها واحدةً، اسْتَحَقَّ الألفَ؛ لأنَّه قد حصَل بذلك جميعُ المقْصودِ. فصل: ولو لم يَكُنْ بَقِىَ مِن طَلاقِها إلَّا واحدةٌ، فقالت: طَلِّقْنِى ثَلاثًا بألفٍ. فقال: أَنْتِ طالقٌ طَلْقَتَيْن، الأُولَى بألفٍ، والثَّانيةُ بغيرِ شئٍ. وقَعتِ الأُولَى واسْتَحَقَّ الألفَ، ولم تَقَعِ الثَّانيةُ. وإن قال: الأُولَى بغيرِ شئٍ. وقَعتْ وحدَها، ولم يَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لأنَّه لم يَجْعَلْ لها عِوَضًا، وكَمَلَتِ الثلاثُ. وإن قال: إحْداهما بألفٍ. لَزِمَها ألفٌ؛ لأنَّها طلَبَتْ منه طَلْقةً بألفٍ، فأجابَها إليها (¬1) وزادَها أُخْرَى. فصل: وإنْ قَالتْ: طَلِّقْنِى بألفٍ إلى شهرٍ. أو أَعْطَتْه (¬2) ألفًا على أن يُطَلِّقَها (¬3) إلى شهرٍ، فقال: إذا جاءَ رأسُ الشَّهْرِ فأنتِ طالقٌ. صحَّ ذلك، واسْتَحَقَّ العِوَضَ، ووَقَعَ الطَّلاقُ عندَ رأسِ الشَّهْرِ بائِنًا؛ لأنَّه بعِوَضٍ. وإن طَلَّقَها قبلَ مُضِىِّ الشَّهْرِ، طَلُقَتْ ولا شئَ له. ذكَرَه أبو بكرٍ، وقال: رَوَى ذلك عن أحمدَ علىُّ بنُ سعيدٍ. وذلك لأنَّه إذا طَلَّقَها قبلَ رأسِ الشَّهْرِ، فقد اخْتارَ إيقاعَ الطَّلاقِ مِن غيرِ عِوَضٍ. وقال الشافعىُّ: إذا أخذَ منها ألفًا على أن يُطَلِّقَها إلى شَهْرٍ، فطَلَّقَها بألفٍ، بانَتْ، وعليها مهرُ المِثْلِ؛ لأَنَّ هذا سَلَفٌ في طَلاقٍ، فلم يَصِحَّ؛ لأنَّ الطَّلاقَ ¬

(¬1) في م: «إليه». (¬2) في الأصل: «أعطه». (¬3) في الأصل: «يطلقنى».

3408 - مسألة: (وإن كان له امرأتان؛ مكلفة، وغير مكلفة

وَإِنْ كَانَ لَهُ امْرأَتَانِ؛ مُكَلَّفَةٌ، وَغَيْرُ مُكَلَّفَةٍ مُمَيِّزَةٌ، فَقَالَ: أَنْتُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، ولأنَّه عَقْدٌ تعَلَّقَ بعَيْنٍ، فلا يجوزُ شَرْطُ تأْخيرِ التَّسْليمِ فيه. ولَنا، أنَّها جعَلَتْ عِوَضًا صحيحًا على طلاقِها، فإذا طَلَّقَها اسْتَحَقَّه، كما لو لم يَقُلْ: إلى شَهْرٍ. ولأنَّها جَعلَتْ له عِوَضًا صحيحًا على طلاقِها، فلم يَسْتَحِقَّ أكثرَ منه، كالأصلِ. وإن قالت: لكَ ألفٌ على أن تُطَلِّقَنِى أىَّ وَقْتٍ شئتَ، مِن الآنَ إلى شهرٍ. صَحَّ في قياسِ المسألةِ التى قبلَها. وقال القاضى: لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ زمَنَ الطَّلاقِ مجهودٌ، فإذا طَلَّقَها فله مهرُ المثلِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه طَلَّقَها على عِوَضٍ لم يَصِحَّ؛ لفَسادِه (¬1). ولَنا، ما تقَدَّمَ في التى قبلَها، ولا تَضُرُّ الجَهالَةُ في وَقْتِ الطَّلاقِ؛ لأنَّه ممَّا يَصِحُّ تعْليقُه على الشَّرْطِ، فصَحَّ بَذْلُ العِوَضِ فيه مجهولَ الوقتِ (¬2) كالجَعالةِ، ولأنَّه لو قال: متى أعْطَيْتِنى ألفًا فأنتِ طالقٌ. صَحَّ، وزَمَنُه مجهولٌ أكثرُ من الجَهالةِ ههُنا، [فإنَّ الجَهالةَ ههُنا] (¬3) في شهرٍ واحدٍ، وثَمَّ في العُمُرِ كلِّه. وقولُ القاضى: له مَهْرُ المِثْلِ. مُخالِفٌ لقياسِ المذهبِ؛ فإنَّه ذكَر في المواضعِ التى يفسُدُ فيها العِوَضُ أنَّ له المُسَمَّى، فكذلك يَجِبُ أن يكونَ ههُنا إن حَكَمْنا بفَسادِه. واللَّهُ أعلمُ. 3408 - مسألة: (وإن كان له امْرَأَتان؛ مُكَلَّفَةٌ، وغَيْرُ مُكَلَّفَةٍ ¬

(¬1) في م: «فساده». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

طَالِقَتَانِ بِأَلْفٍ إِنْ شِئْتُمَا. فَقَالَتَا: قَدْ شِئْنَا. لَزِمَ الْمُكَلَّفَةَ نِصْفُ الْأَلْفِ، وَطَلُقَتْ بَائِنًا، وَوَقَعَ الطَّلاقُ بِالْأُخْرَى رَجْعِيًّا، وَلَا شَىْءَ عَلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُمَيِّزَةٌ، فقال) لهما: (أنْتُما طالقَتان بأَلْفٍ إن شِئْتُما. فقالتا: قد شِئْنا. لَزِمَ المُكَلَّفَةَ نِصْفُ الألْفِ، وطَلُقَتْ بائِنًا، ووَقَعَ الطَّلاقُ بالأُخْرَى رَجْعِيًّا، ولا شئَ عليها) إنَّما كان كذلك، لأَنَّ المُكلَّفَةَ إذا كانت رَشِيدةً فمَشيئَتُها صَحيحَةٌ، وتَصَرُّفُها في مالِها صحيحٌ، فيقَعُ الطَّلاقُ عليهما، ويجبُ على الرَّشيدةِ بقِسْطِها مِن العِوَضِ، ووَقَعَ طَلاقُها (¬1) بائِنًا، ويُقَسَّطُ (¬2) العِوَضُ بينَهما على قَدْرِ مَهْرَيْهِما، في ظاهرِ المذهبِ. وعلى قولِ أبى بكرٍ، يكونُ بينَهما نِصْفَيْنِ، ولا شئَ على غيرِ المُكَلَّفَةِ. وكذلك إن كانت محْجُورًا عليها للسَّفَهِ، ويقَعُ الطَّلاقُ عليها رَجْعِيًّا، لأَنَّ لها مَشِيئةً، [ولذلك يُرْجَعُ إلى مَشيئَةِ المَحْجُورِ عليه في النِّكاحِ، ويخَيَّرُ الغُلامُ بينَ أبويْه إذا بلَغ سَبْعَ سِنينَ] (¬3)، ولكنَّ الحَجْرَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يسقط». (¬3) في م: «بقسطها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعدَمَ التَّكْليفِ منعَ صِحَّةَ تَصَرُّفِها ونُفوذَه. فإن كانت إحْداهما مجْنونةً أو صَغِيرَةً غيرَ مُمَيِّزَةٍ، لم تَصِحَّ المَشِيئةُ منهما، ولم يقَعِ الطَّلاقُ. فصل: فإن كانَتا رَشِيدتَيْن، وقَع الطَّلاقُ بهما بائِنًا، إذا قالتَا: قد شِئْنا. ويَلْزَمُهما العِوَضُ بينَهما على قَدْرِ مَهْرَيْهما، في الصّحيحِ مِن المذهبِ. وهو قولُ ابنِ حامِدٍ، ومذهبُ أهلِ الرَّأْى، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: يَلْزَمُ كُلَّ واحدةٍ منهما مَهْرُ مِثْلِها. وعلى قولِ أبى بكرٍ مِن أصحابِنا، يكونُ العِوَضُ بينَهما نِصْفَيْنِ. وأصلُ هذا في النِّكاحِ إذا تَزوَّجَ امرأتَيْنِ بمَهْرٍ واحدةٌ وقد ذَكَرْناه (¬1). فإن شاءتْ إحْداهما دُونَ الأُخْرَى، لم تَطْلُقْ واحدةٍ منهما؛ لأنَّه جعلَ مشيئَتَهما (¬2) شَرْطًا في طَلاقِ كلِّ واحدةٍ منهما، ويخالِفُ هذا ما إذا قال: أنتما طالِقتان ¬

(¬1) تقدم في 20/ 106، 107. (¬2) في م: «مشيئتها».

3409 - مسألة: (وإن قال لامرأته: أنت طالق وعليك ألف.

وَإِنْ قَالَ لِامْرأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ. طَلُقَتْ وَلَا شَىْءَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بألفٍ. فقَبِلَتْ إحْداهما دُونَ الأُخْرَى، لَزِمَه الطَّلاقُ بعِوَضِه؛ لأنَّه لم يَجْعَلْ لطَلاقِها شَرْطًا، وههُنا علَّقَ طلاقَ كلِّ واحدةٍ مِنهما بمَشِيئتِهما جميعًا. ويتَعَلَّقُ الحُكْمُ بمشيئتِهما لَفْظًا، إذا قالَتا: قد شِئْنا. لأَنَّ ما في القلبِ لا سَبِيلَ إلى معْرفتِه، فلوَ قال الزَّوْجُ: ما شِئْتُما وإنَّما قُلْتُما ذلك بألْسِنَتِكما. أو قالَتا: ما شِئْنا بقُلوبِنا. لم يُقْبَلْ. 3409 - مسألة: (وإن قال لامرأتِه: أنتِ طَالِقٌ وعليكِ ألفٌ.

عَلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقَتْ، ولا شئَ عليها) لأنَّه لم يَجْعَلْ له العِوَضَ في مُقابَلَتِها، ولا شرْطًا فيها، وإنَّما عطفَ ذلك على طَلاقِها، فأشْبَهَ ما لو قال: أنتِ طالقٌ وعليكِ الحَجُّ. فإن أعْطَتْه المرأةُ عن ذلك عِوَضًا، لم يكُنْ عِوَضًا؛ لأنَّه لم يُقابِلْه شئٌ، وكان ذلك هِبَة مُبْتَدأةً، تُعْتَبَرُ فيها شَرائِطُ الهِبَةِ. وإن قالتِ المرأةُ: ضَمِنْتُ لك ألفًا. لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ الضَّمانَ إنَّما يكونُ عن غيرِ الضَّامِنِ لحقٍّ واجِبٍ، أو مآلُه إلى الوُجوبِ، وليس ههُنا شئٌ مِن ذلك. وذكَر القاضى أنَّه يَصِحُّ، لأَنَّ ضمانَ ما لم يَجِبْ يَصِحُّ. قال شيْخُنا (¬1): ولم أعْرِفْ لذلك وَجْهًا، إلَّا أن يكونَ أرادَ أنَّها (¬2) إذا قالتْ له قبلَ طَلاقِها: ضَمِنْتُ لكَ ألفًا على أن تُطَلِّقَنِى. فقال: أنتِ طالقٌ وعليكِ ألفٌ. [فإنَّه يَسْتَحِقُّ الأَلْفَ. وكَذَلك إن قالت: طَلِّقْنِى طَلَّقَةً بأَلْفٍ. فقال: أنتِ طالقٌ وعليكِ ألْفٌ] (¬3). وقَع الطَّلاقُ، وعليها ألفٌ؛ لأَنَّ قولَه: أنتِ ¬

(¬1) في: المغنى 10/ 303. (¬2) في الأصل: «بها». (¬3) سقط من: م.

3410 - مسألة: (وإن قال)

وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طالقٌ. يَكْفِى في صِحَّةِ الخُلْعِ واسْتِحْقاقِ العِوَضِ، وما وُصِلَ به تَأْكيدٌ. فإنِ اخْتلَفا، فقال: أنتِ اسْتَدْعَيْتِ منِّى الطَّلاقَ بألفٍ. فأنْكَرَتْه، فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الأصلَ عدَمُه، فإذا حَلَفَتْ بَرِئَتْ مِن العِوَضِ وبانَتْ؛ لأَنَّ قولَه مَقْبولٌ في بَيْنونَتِها؛ لأنها حَقُّه، غيرُ مَقْبولٍ في العِوَضِ؛ لأنَّه عليها. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، وأبى حنيفةَ. وإن قال: ما اسْتَدْعَيْتِ منِّى الطَّلاقَ، وإنَّما أنا (¬1) ابْتَداتُ به، فلى عليكِ الرَّجْعَةُ. وادَّعَتْ أنَّ ذلك كان جَوابًا لاسْتِدْعائِها، فالقولُ قولُ الزَّوْجِ؛ لأَنَّ الأصلَ معه، ولا يَلْزَمُها الألفُ؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه. 3410 - مسألة: (وإن قال): أنتِ طالقٌ (على أَلْفٍ) فالمنصوصُ عن أحمدَ أنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا، كقولِه: أنتِ طالقٌ وعليكِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ألفٌ. فإنَّه قال في رِوايةِ مُهَنَّا، في الرَّجُلِ يقولُ لامْرأتِه: أنتِ طالقٌ على ألفِ درهمٍ، فلم تَقُلْ هى شيئًا: فهى طالقٌ يَمْلِكُ (¬1) الرَّجْعةَ. وقال القاضى في «المُجَرَّدِ»: ذلك للشَّرْطِ، تقْدِيرُه: إن ضَمِنْتِ لى ألفًا فأنتِ طالقٌ. فإن ضَمِنَتْ له ألفًا، وقعَ الطَّلاقُ بائنًا، وإلَّا لم يقَعْ. وكذا الحُكْمُ إذا قال: أنتِ طالقٌ على أنَّ لى عليكِ ألفًا. فقياسُ قولِ أحمدَ أنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا، ولا شئَ له. وعلى قولِ القاضى، إن قَبِلَتْ ذلك، لَزِمَها الألفُ، وكان خُلْعًا، وإلَّا لم يقَعِ الطَّلاقُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخرَقِىِّ؛ لأنَّه اسْتَعْمَلَ «على» بمعنى الشَّرْطِ في كِتابِه في مَواضِعَ، منها قولُه: إذا نَكَحَها على أن لا يتَزَوَّجَ عليها، فلها فِراقُه إن تزَوَّجَ عليها. وذلك أنَّ «على» تُسْتَعْمَلُ بمعنى الشَّرْطِ، بدليلِ قولِه تعالى في قِصَّةِ شُعَيْبٍ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬2). وقولِه: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (¬3). وقال موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (¬4). ولو قال في النِّكاحِ: زوَّجْتُكَ ابْنَتِى على صداقِ كذا. صَحَّ، فإذا أوْقَعه ¬

(¬1) في م: «تملك». (¬2) سورة القصص 27. (¬3) سورة الكهف 94. (¬4) سورة الكهف 66.

3411 - مسألة: وإن قال: (بألف. فكذلك. ويحتمل أن لا تطلق حتى تختار، فيلزمها الألف)

أَوْ: بِأَلْفٍ. فَكَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَطْلُقَ حَتَّى تَخْتَارَ، فَيَلْزَمُهَا الْأَلفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعِوَضٍ لم يَقَعْ بدُونِه، وجَرَى مَجْرَى قولِه: أنتِ طالقٌ إن أعْطَيْتِنى ألفًا. ووَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه أوْقعَ الطَّلاقَ غيرَ مُعَلَّقٍ بشَرْطٍ، وجعَل عليها عِوَضًا لم تَبْذُلْه، فوقَعَ رَجْعِيًّا مِن غيرِ عِوَضٍ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ وعليكِ ألفٌ. ولأَنَّ «على» ليست للشَّرْطِ (¬1)، ولا للمُعاوَضَةِ، ولذلك لا يَصِحُّ [أن يَقولَ: بِعْتُك] (¬2) ثَوْبِى على دينارٍ. 3411 - مسألة: وإن قال: (بِألْفٍ. فكذلِك. ويَحْتَمِلُ أن لا تَطْلُقَ حتَّى تَخْتارَ، فَيَلْزَمُها الألْفُ) يَعْنِى أنَّ قولَه: أنتِ طالقٌ بألفٍ. مثلُ قولِه: أنتِ طالقٌ على ألفٍ. لأنَّها ليست مِن حُروفِ ¬

(¬1) في م: «للشروط». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطِ. والأَوْلَى أنَّها لا تَطْلُقُ في قولِه: بألفٍ. حتى تَخْتارَ فيَلْزَمُها الألفُ، كما ذكَرَه القاضى في: على ألفٍ. لأنَّها إن لم تكُنْ من حُروفِ الشَّرطِ، فهى للمُعاوَضَةِ في قولِه: بعْتُكَ بكذا. و: زَوَّجْتُك بكذا. فإنَّه يَصِحُّ البيعُ والنِّكاحُ بغيرِ خلافٍ. فصل (¬1): فإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بأَلْفٍ (1). فقالت: قد قَبِلْتُ واحدةً بأَلْفٍ (1). وقعَ الثَّلاث، واسْتَحَقَّ الألفَ؛ لأَنَّ إيقاعَ الطَّلاقَ إليه، وإنَّما علَّقَه بعِوَض يَجْرِى مَجْرَى الشَّرْطِ مِن جِهَتِها، وقد وُجِدَ الشَّرْطُ، فيقَعُ الطَّلاقُ. وإن قالتْ: قَبِلْتُ بألْفَيْنِ. وقعَ، ولم يَلْزَمْها الألْفُ الزَّائدُ؛ لأَنَّ القَبُولَ لِما أوْجبَه دُونَ ما لم يُوجِبْه. فإن قالت: قَبلْتُ بخَمْسِمائةٍ. لم يقَعْ؛ لأَنَّ الشَّرْطَ لم يُوجَدْ. وإن قالت: قَبِلْتُ واحدةً مِن الثَّلاثِ بثُلُثِ الألفِ. لم يقَعْ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بانْقِطاعِ رَجْعَتِه عنها إلَّا بألفٍ. وإن قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَتَيْن، إحْداهما بألفٍ. وقعَتْ بها واحدةٌ؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها بغيرِ عِوَضٍ، ووَقَعَتِ الأُخْرَى على قولِها (¬1)؛ لأنَّها بعِوَضٍ. فصل: إذا قال الأبُ: طَلِّقِ ابْنَتِى وأنتَ بَرِئٌ مِن صَداقِها. فطَلَّقَها، وقَع الطَّلاقُ رَجْعِيًّا، ولم يَبْرَأْ مِن شئٍ، ولم يَرْجِعْ على الأبِ، ولم يَضْمَنْ له؛ لأنَّه أبْرَأه (¬2) ممَّا ليس له الإِبْراءُ منه، فأشْبَهَ الأجْنَبِىَّ. قال القاضى: وقد قال أحمدُ: إنَّه يَرْجِعُ على الأبِ. قال القاضى: هذا مَحْمولٌ على أنَّ الزَّوْجَ كان جاهلًا بأنَّ إبْراءَ الأبِ لا يَصِحُّ، فكان له الرُّجوعُ عليه؛ [لأنَّه غَرَّه، فرَجَعَ عليه] (¬3)، كما لو غَرَّه فزَوَّجَه مَعِيبَةً. وإن علِمَ أنَّ إبْراءَ الأبِ لا يَصِحُّ، لم يَرْجِعْ عليه بشئٍ، ويقَعُ الطَّلاقُ رَجْعِيًّا؛ لأنَّه خَلا عن العِوَضِ، وفى الموضعِ الذى يَرْجِعُ عليه، يقَعُ الطَّلاقُ بائِنًا؛ لأنَّه بعِوَضٍ. فإن قال الزَّوجُ: هى طالقٌ إن أبْرَأْتَنِى مِن صَداقِها. فقال: قد أبْرَأْتُكَ. لم يَقعِ الطلاق؛ لأنَّه لا يَبْرَأُ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّ الطَّلاقَ واقِعٌ. ¬

(¬1) في المغنى 10/ 305: «قبولها». (¬2) في م: «برأه». (¬3) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: وإِذَا خَالَعَتْهُ فِى مَرَضِ مَوْتِهَا، فَلَهُ الْأَقَلُّ؛ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْتَمِلُ أنَّه أوْقَعَه إذا قصَد الزَّوْجُ تعليقَ الطَّلاقِ على مُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بالإِبْراءِ، دونَ حقيقةِ البَراءةِ. وإن قال الزَّوْجُ: هى طالقٌ إن بَرِئْتُ (¬1) من صَداقِها. لم يقَعْ؛ لأنَّه علَّقَه على شَرْطٍ لم يُوجَدْ. وإن قال الأبُ: طَلِّقْهِا على ألفٍ مِن مالِها، وعلَىَّ الدَّرَكُ (¬2). فطَلَّقَها، طَلُقَتْ بائِنًا؛ لأنَّه بعِوَضٍ، وهو ما لَزِمَ الأبَ مِن ضمانِ الدَّرَكِ، ولا يَمْلِكُ الألْفَ؛ لأنَّه ليس له بَذْلُها. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وإذا خَالَعَتْه فِى مَرَضِ مَوْتِها، فله الأقَلُّ؛ مِن المُسَمَّى أو مِيرَاثِه منها) المُخالَعَةُ في المرضِ صحيحةٌ، سواءٌ كان المريضُ الزَّوْجَ أو الزَّوْجةَ، أو هما جميعًا؛ لأنَّها ¬

(¬1) في م: «أبرأتنى». (¬2) الدَّركُ -بفتحتين وسكون الراء- التبعة.

3412 - مسألة: (وإن خالعها فى مرض موته، وأوصى لها بأكثر

وَإِنْ طَلَّقَهَا فِى مَرَضِ مَوْتِهِ، وَأَوْصَى لَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا، لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعاوَضَةٌ، فتَصِحُّ في المرضِ، كالبَيْعِ. ولا نَعلمُ في هذا خلافًا. ثم إذا خالَعَتْه المريضةُ بمِيراثِه منها فما دُونه، صَحَّ، ولا رُجوعَ، وإن خالَعَتْه بزِيادةٍ، بطَلَتِ الزِّيادةُ. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ، وإسْحاقَ. وقال أبو حنيفةَ: له العِوَضُ كلُّه، فإن حابَتْه (¬1) فمِن الثُّلُثِ؛ لأنَّه ليس بوارثٍ لها، فصَحَّتْ مُحاباتُها له (¬2) مِن الثُّلُثِ كالأجْنَبِىِّ. وعن مالكٍ كالمذْهبَيْنِ. وعنه، يُعْتَبَرُ بخُلْعِ مِثْلِها. وقال الشافعىُّ: إن خالعَتْ بمَهْرِ مِثْلِها، جازَ، وإن زادَ فالزِّيادَةُ مِنَ الثُّلُثِ. ولَنا على (¬3) أنَّه لا يُعْتَبَرُ مَهْرُ المِثْلِ، أنَّ (¬4) خُروجَ البُضْعِ من مِلْكِ الزَّوجِ غيرُ مُتَقَوَّمٍ بما قدَّمْناه، واعتبارُ مَهْرِ المِثْلِ تَقويمٌ له، وعلى إبْطالِ الزِّيادةِ، أنَّها مُتَّهمَةٌ في أنَّها قصَدتِ الخُلْعَ لتُوَصِّلَ إليه شيئًا من مالِها بغيرِ عِوَض، على وَجْهٍ لم تَكُنْ قادرةً عليه وهو وارثٌ لها، فبَطَلَ، كما لو أوْصَتْ له أو أقَرَّتْ له، وأمَّا قَدْرُ المِيراثِ، فلا تُهْمَةَ فيه، فإنَّها لو لم تُخالِعْه لوَرِثَ مِيراثَه. وإن صَحَّتْ مِن مرَضِها ذلك، صَحَّ الخُلْعُ، وله جميعُ ما خالَعَها به؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّه ليس بمرَضِ الموتِ، والخُلْعُ في غَيْرِ مرضِ الموتِ كالخُلْعِ فِى الصِّحَّةِ. 3412 - مسألة: (وإن خالعها فِى مَرَضِ موتِه، وأَوْصَى لها بِأَكْثَرَ ¬

(¬1) في م: «أجابته». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «لأن».

3413 - مسألة: (وإن خالعها وحاباها، فهو من رأس المال)

تَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا، وَإِنْ خَالَعَهَا فِى مَرَضِهِ وَحَابَاهَا، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن مِيرَاثِها، لم تَسْتَحِقَّ أكثرَ مِن مِيراثِها) أمَّا خُلْعُه لزَوْجَتِه، فلا إشْكالَ [في صِحَّتِه] (¬1)، سواءٌ كان بمَهْرِ مِثْلِها أو أقلَّ أو أكثرَ. وإن أوْصَى لها بمثلِ مِيراثِها أو أقلَّ، صَحَّ؛ لأنَّه لا تُهْمَةَ في أنَّه أبانَها ليُعْطِيَها ذلك، فإنَّه لو لم يُبِنْها، لأخَذَتْه بمِيراثِها. وإن أوْصَى لها بزيادةٍ عليه، فللورَثَةِ مَنْعُها ذلك؛ لأنَّه اتُّهِمَ في أنَّه قصَدَ إيصالَ ذلك إليها، لأنَّه لم يكُنْ له سبيلٌ إلى إيصالِه إليها وهى في حِبَالِه، فطَلَّقَها ليُوصِلَ ذلك إليها، فمُنِعَ منه، كما لو أوْصَى لوارثٍ. 3413 - مسألة: (وإن خالَعَها وحاباها، فهو مِن رَأْسِ المالِ) مثلَ أن يُخالِعَها بأقلَّ من مهرِ مِثْلِها، أو يكونَ قادِرًا [على خُلعِها بأَلْفٍ فيخالِعَها] (¬2) بمائةٍ، لم يُحسبْ ما حابَاها به مِنَ الثُّلُثِ، إذا كان في مرضِ موتِه، ولا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ؛ لأنَّه لو طَلَّقَ بغيرِ عِوَض، لَصَحَّ، فلأَنْ يصِحَّ بعِوَضٍ أوْلَى، ولأَنَّ الورَثَةَ لا يفُوتُهم بخُلْعِه شئٌ، فإنَّه لو ماتَ وله امرأة، لَبانتْ بمَوْتِه، ولم تَنْتَقِلْ إلى وَرَثَتِه. ¬

(¬1) في الأصل: «لصحته». (¬2) في م: «بألف فخالعها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا خالعَ امرأتَه (¬1) في مرَضِها بأكثرَ من مَهْرِها، فللورَثةِ أن لا يُعْطُوه أكثرَ من مِيراثِه منها؛ لأنَّها مُتَّهَمَةٌ في أنَّها قصَدَتْ إيصالَ أكثرَ مِن مِيراثِه إليه. وعند مالكٍ، إن زادَ على مَهْرِ المِثْلِ، فالزِّيادةُ مرْدُودَةٌ. وعنه، أنَّ خُلْعَ (¬2) المريضَةِ باطِلٌ. وقال الشافعىُّ: الزِّيادةُ على مَهْرِ المِثْلِ مُحاباةٌ تُعْتَبَرُ مِن الثُّلُثِ. وقال أبو حنيفةَ: إن خالعَها قبلَ دُخولِه بها، [أو ماتَ] (¬3) بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، فالعِوَضُ من الثُّلُثِ. ومثالُ ذلك: امرأةٌ اخْتلعَتْ من زَوْجِها بثَلاِثينَ، لا مالَ لها سِواها، وصَداقُ مِثْلِها اثْنا عَشَرَ، فله خَمْسَةَ عشرَ، سَواءٌ قَلَّ صَداقُها أو كَثرُ؛ لأنَّها قَدْرُ مِيراثِه. وعندَ الشافعىِّ، له ثَمانِيَةَ عشَرَ؛ اثْنا عشرَ لأنَّها قَدْرُ صَداقِها، وثُلُثُ باقِى المالِ بالمُحابَاةِ وهو سِتَّةٌ. وإن كان صَداقُها سِتَّةً، فله أربعةَ عشَرَ؛ لأَنَّ ثُلُثَ الباقِى ثمانِيةٌ. فصل: مريضٌ تزَوَّجَ امرأةً على مائةٍ لا يَمْلِكُ غيرَها، ومَهْرُ مِثْلِها عشَرَةٌ، ثم مَرِضَتْ، فاخْتَلَعَتْ منه بالمائةِ، ولا مالَ لها سِوَاها، فلها مَهْرُ مِثْلِها، ولها شئٌ بالمُحاباةِ، والباقِى له، ثم يَرْجِعُ إليه نِصْفُ مالِها بالمُحاباةِ، وهو خَمْسةٌ ونِصْفُ شئ، فصارَ مع وَرَثَتِه خَمْسةٌ وتِسْعون إلَّا نِصْفَ شئٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فبَعْدَ الجَبْرِ (¬4) يَخْرُجُ (¬5) الشئُ ثمانِيَةً ¬

(¬1) في م: «امرأة». (¬2) في الأصل: «جعل». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «الخبر». (¬5) بعده في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وثلاثِين (¬1)، فقد صَحَّ لها بالصَّداقِ والمُحاباةِ ثمانِيَة وأرْبعونَ، وبَقِىَ مع وَرَثَتِه اثْنانِ وخَمْسون، ورجعَ إليه بالخُلْعِ أرْبعةٌ وعِشرون، فصارَ معهم سِتَّةٌ وسَبْعون، وبَقِىَ للمرأةِ أرْبعةٌ وعِشْرونَ. وعندَ الشافعىِّ، يَرْجِعُ إليهم صَداقُ المِثْلِ وثُلُثُ شئٍ بالمُحاباةٍ، فصارَ بأيْدِيهم مائةٌ إلَّا ثُلُثَ شئٍ، يَعْدِلُ شيْئَيْن، فالشئٌ ثَلَاثَةُ أثْمانِها، وهو سَبْعَةٌ وثلاثون ونِصْفٌ، فصارَ لها ذلك ومَهْرُ المِثْلِ، رجَع إليه مَهْرُ المِثْلِ وثُلُثُ الباقِى اثْنا عشرَ ونِصْفٌ، فيَصِيرُ بأيْدِى ورَثَتِه خَمْسةٌ وسَبْعون، وهو مِثْلَا مُحابَاتِها. وعندَ أبى حنيفةَ، يَرْجِعُ إليهم ثُلُثُ العشَرَةِ وثُلُثُ الشئِ، فصارَ معهم ثَلاثةٌ وتِسْعون وثُلُثٌ إلَّا ثُلُثَىْ شئٍ، فالشئُ ثَلاثةُ أثْمانِها، [وهو] (¬2) خَمْسةٌ وثَلاثُون مع العَشَرةِ، صارَ لها خمْسةٌ وأرْبعون، ورَجَعَ إلى الزَّوْجِ ثُلُثُها، صارَ لورَثَتِه سَبْعون ولوَرَثَتِها ثَلاثون، هذا إذا ماتَ بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها. وإن ترَكَتِ المرأةُ مائةً أُخْرَى، فعلى قَوْلِنا، يَبْقَى مع وَرَثَةِ الزَّوجِ مائةٌ وخَمْسَةٌ وأرْبعون إلَّا نِصْفَ شئٍ، يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، والشئُ خُمْسا ذلك، وهو ثمانيةٌ وخَمْسون، وهذا الذى صَحَّتِ المُحابَاةُ فيه، صارَ لها ذلك وعَشَرَةٌ مَهْرُ المِثْلِ، صارَ لها مائةٌ وثمانِيةٌ وسِتُّون، يرْجِعُ إلى الزَّوجِ نِصْفُها أرْبَعةٌ وثَمانون، صارَ له (¬3) مائةٌ وسِتَّةَ عشَرَ، ولوَرَثَتِها أرْبَعةٌ وثَمانونَ. واللَّه أعلمُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: م. (¬3) في الأصل: «لها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: [قال الخِرَقِىُّ] (¬1): ولو خَالَعَتْه بمُحَرَّمٍ وهما كافِران، فقَبَضَه (2)، ثم أسْلَما أو أحَدُهما، لم يرْجِعْ عليها بشئٍ؛ لأَنَّ الخُلْعَ مِن الكُفَّارِ جائِزٌ، سواءٌ كانوا أهلَ ذِمَّةٍ أو أهلَ حَرْبٍ؛ لأَنَّ كلَّ مَن مَلَكَ الطَّلاقَ، مَلَكَ المُعاوَضَةَ عليه، كالمُسْلِمِ. فإن تخالَعا بعِوَضٍ صحيحٍ، ثم أسْلَما وتَرافَعا إلى الحاكِمِ، أمْضَى ذلك بينَهما كالمُسْلِمَيْن، وإن كان بمُحَرَّمٍ كخمرٍ وخِنْزِيرٍ فقَبَضَه (¬2)، ثم أسْلَما أو (¬3) تَرافَعا إلينا، أو أسْلَمَ أحَدُهما، مَضَّى ذلك عليهما، ولم يَعْرِضْ له، ولم يَرُدَّه (¬4)، ولا يَبْقَى له عليها شئٌ، كما لو أصْدَقَها خمرًا ثم أسْلَما، أو تَبايَعا خمرًا وتقابَضا ثم أسْلما. وإن كان إسْلامُهما أو تَرافُعُهما قبلَ القَبْضِ، لم يُمْضِه (¬5) الحاكمُ، ولم يَأْمُرْ بإقْباضِه؛ لأَنَّ الخمرَ والخِنْزِيرَ لا يكونُ عِوَضًا لمسْلمٍ أو مِن مسلمٍ، ولا يأْمُرُ الحاكمُ بإقْباضِه. قال القاضى في «الجامعِ»: ولا شئَ له؛ لأنَّه رَضِىَ منها بما ليس بمالٍ، كالمسلمَيْن إذا تخالَعَا بخمرٍ. وقال في «المُجَرَّدِ»: يجِبُ مَهْرُ المِثْلِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ العِوَضَ فاسدٌ، فيرْجِعُ إلى قيمةِ المُتْلَفِ، وهو مَهْرُ المِثْلِ. وكلامُ الخِرَقِىِّ يدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّه يجبُ [له شَىْءٌ] (1)؛ لأَنَّ تَخْصِيصَه حالةَ (¬6) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في النسختين: «فقبضته». وانظر المغنى 10/ 314، 315. (¬3) في م: «و». (¬4) في م: «يزده». (¬5) في الأصل: «يضمنه». (¬6) في م: «بحالة».

3414 - مسألة: (وإذا وكل الزوج فى خلع امرأته مطلقا، فخالع بمهرها فما زاد، صح، وإن نقص من المهر، رجع على الوكيل بالنقص.

وَإذَا وَكَّلَ الزَّوْجُ فِى خُلْعِ امْرأَتِهِ مُطْلَقًا، فَخَالَعَ بِمَهْرِهَا فَمَا زَادَ، صَحَّ، وَإِنْ نَقَصَ الْمَهْرِ، رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالنَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القَبْضِ [بنَفْى الرُّجُوعِ، يَدُلُّ على الرُّجُوعِ] (¬1) مع عدَمِ القَبْضِ، والفَرْقُ بينَه وبينَ الْمُسْلمِ، أنَّ المُسْلِمَ لا يعْتَقِدُ (¬2) الخمرَ والخِنْزِيرَ مالًا، فإذا رَضِىَ به عِوَضًا، فقد رَضِىَ بالخُلْعِ بغيرِ مالٍ، فلم يكُنْ له شئٌ، والمُشْرِكُ يعْتَقِدُه مالًا، فلم يَرْضَ بالخُلْعِ بغيرِ عِوَضٍ، فيكونُ العِوَضُ واجِبًا له، كما لو خالعَها على حُرِّ يظُنُّه عبدًا، أو (¬3) خَمْرٍ يظُنُّه خَلًّا. إذا ثَبَتَ أنَّه يجبُ له العِوَضُ، فذكَرَ القاضى أنَّه مَهْرُ المِثْلِ، كما لو تزَوَّجَها على خَمْرٍ ثم أسْلما. وعلى ما عَلَّلْنا (¬4) به يَقْتَضِى وجُوبَ قِيمَةِ ما سَمَّى لها على تقْديرِ كَوْنِه مالًا، فإنَّه رَضِىَ بمالِيَّةِ ذلك، فيكونُ له قَدْرُه من المالِ، كما لو خالعَها على خمرٍ يَظُنُّه خَلًّا. وإن حصلَ القَبْضُ في بعْضِه دُونَ بعضٍ، سقَط ما قَبَضَ، وفيما لم يَقْبِضِ الوجوهُ الثَّلاثةُ. والأصلُ فيه قولُه تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5). 3414 - مسألة: (وإذا وَكَّلَ الزَّوْجُ في خُلْعِ امْرَأَتِه مُطْلَقًا، فخالَع بمَهْرِها فما زَادَ، صَحَّ، وإن نقصَ مِنَ المهرِ، رجَع على الوَكِيلِ بِالنَّقْصِ. ¬

(¬1) في الأصل: «ينفى الرجوع». (¬2) بعده في م: «أن». (¬3) في الأصل: «و». (¬4) في م: «عللناه». (¬5) سورة البقرة 278.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ قَبُولِهِ نَاقِصًا، وَبَيْنَ رَدِّهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْعِوَضَ فَنَقَصَ مِنْهُ، لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ عِنْدَ ابْن حَامِدٍ، وَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالنَّقْصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يَتَخَيَّرَ بينَ قَبُولِه نَاقِصًا، وبينَ رَدة وله الرَّجْعَةُ. وإن عيَّنَ له العِوَضَ فنَقَصَ منه، لم يَصِحَّ الخُلْعُ عند ابنِ حامدٍ. ويَصِحُّ عندَ أبى بَكْرٍ، ويَرْجِعُ على الوَكِيلِ بالنَّقْصِ) يصحُّ التَّوْكيلُ في الخُلْعِ مِن كل واحدٍ مِن الزَّوْجَيْن، ومِن أحدِهما مُنْفَرِدًا. وكلُّ مَن صَحَّ أن يتَصرَّفَ في الخُلْعِ لنَفْسِه، صَحَّ تَوْكيلُه ووَكالتُه، حُرًّا كان أو عبدًا، ذكرًا أو أُنْثَى، مُسْلِمًا كان أو كافرًا، محْجُورًا عليه أو رَشِيدًا، لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم يجوزُ أن يُوجِبَ الخُلْعَ، فصَحَّ أن يكونَ وَكيلًا ومُوَكِّلًا، كالحُرِّ الرَّشيدِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، وأصحاب الرَّأْى، ولا نعلمُ فيه مُخالفًا. ويكونُ تَوْكيلُ المرأةِ في ثلاثةِ أشْياءَ؛ اسْتِدْعاءُ الخُلْعِ أو الطَّلاقِ، وتَقْديرُ العِوَضِ، وتسليمُه. وتَوْكيلُ الرَّجلِ في ثلاثةِ أشْياءَ؛ شَرْطُ العِوَضِ، وقبْضُه، وإيقاعُ الطَّلاقِ أو الخُلْعِ. ويجوزُ التَّوْكيلُ مع تقديرِ العِوَضِ ومِن غيرِ تَقْديرٍ؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فصَحَّ كذلك، كالبيعِ والنِّكاحِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُسْتَحَبُّ التَّقْديرُ؛ لأنَّه أسْلَمُ مِن الغَرَرِ، وأسْهَلُ على الوكيلِ؛ لاسْتِغْنائِه عن الاجْتِهادِ. فإنْ وَكَّلَ الزَّوجُ، لم يَخْلُ مِن حالَيْنِ؛ أحدُهما، أن يُقَدِّرَ له العِوَضَ، فإن خالعَ به أو بما زادَ، صَحَّ، ولَزِمَ المُسَمَّى؛ لأنَّه فعَلَ ما أُمِرَ به، وإن خالَع بأقلَّ منه، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ الخُلْعُ. وهو اخْتِيارُ ابنِ حامدٍ، ومذهبُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه خالفَ مُوَكِّلَه، فلم يصِحَّ تَصَرُّفُه، كما لو وَكَّلَه في خُلْعِ امرأةٍ (¬1) فخالعَ أُخْرَى، ولأنَّه لم يُؤْذنْ له في الخُلْعِ بهذا العِوَضِ، فلم يَصِحَّ منه، كالأجْنَبِىِّ. والثَّانى، يصِحُّ، ويَرْجِعُ على الوكيلِ بالنَّقْصِ. وهذا قولُ أبى بكرٍ؛ لأَنَّ المُخالفةَ (¬2) في قَدْرِ العِوَضِ لا تُبْطِلُ الخُلْعَ، كحالةِ (¬3) الإطْلاقِ. والأَوَّلُ أوْلَى. فإن خالفَ في الجِنْسِ، مثلَ أن يَأْمُرَه بالخُلْعِ على دراهمَ فيُخالِعَ على عبدٍ، أو بالعكسِ، أو يَأْمُرَه بالخُلْعِ حالًّا فخالَع على عِوَضٍ نَسِيئةً، فالقياسُ أنَّه لا يصِحُّ؛ لأنَّه مُخالِفٌ لمُوَكِّلِه في جنْسِ العِوَضِ، فلم يصِحَّ، كالوكيلِ في البيعِ، ولأَنَّ ما خالعَ به لا يَمْلِكُهَ الموكِّلُ؛ لكَوْنِه لم يَأْذَنْ فيه، ولا الوكيلُ؛ لأنَّه لم يُوجَدِ السَّبَبُ بالنِّسْبَةِ (¬4) إليه. وفارَقَ ¬

(¬1) في الأصل: «امرأته». (¬2) في الأصل: «المخالعة». (¬3) في الأصل: «بحالة». (¬4) في الأصل: «بالتشبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُخالفةَ (¬1) في القَدْرِ؛ لأنَّه أمْكَنَ جَبْرُه (¬2) بالرُّجوعِ بالنَّقْصِ على الوكيلِ. وقال القاضى: القياسُ أن يَلْزَمَ الوكيلَ القَدْرُ الذى أُذِنَ فيه، ويكونَ له ما خالعَ به، قياسًا على المُخالفَةِ في القَدْرِ. وهذا يَبْطُلُ بالوكيلِ (¬3) في البيعِ، ولأَنَّ هذا خُلْعٌ لم يَأْذَنْ فيه الزَّوجُ، فلم يَصِحَّ، كما لو لم يُوَكِّلْه في شئٍ، ولأنَّه يُفْضِى إلى أن يَمْلِكَ عِوَضًا ما مَلَّكَتْه إيَّاه المرأةُ، ولا قَصَدَ هو تَمَلكَه (¬4)، وتَنْخَلِعَ المرأةُ من زَوْجِها بغيرِ عِوَضٍ لَزِمَها له بغيرِ إذْنِه. وأمَّا المُخالفَةُ في القَدْرِ، فلا يَلْزَمُ فيها ذلك، مع أنَّ الصَّحِيحَ أنَّه لا يَصِحُّ الخُلْعُ (¬5) فيها أيضًا، لِما تقَدَّمَ. الحالُ الثَّانى، إذا أطْلَقَ الوَكالةَ، فإنَّه يَقْتَضِى الخُلْعَ بمَهْرِها المُسَمَّى حالًّا، مِن جِنْسِ نَقْدِ البلدِ، فإن خالعَ بذلك فما زادَ، صَحَّ، لأنَّه زادَه خيرًا، وإن خالعَ بدُونِه، ففيه الوَجْهانِ المذْكورانِ فيما إذا قَدَّرَ له العِوَضَ فخالَعَ بدُونِه. وذكَرَ القاضى احْتِمالَيْن آخرَيْن، أحدُهما، أن يَسْقُطَ المُسَمَّى، ويجبَ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّه خالعَ بمالٍ (¬6) لم يُؤْذَنْ له فيه. والثانى، يتَخَيَّرُ ¬

(¬1) في الأصل: «المخالعة». (¬2) في الأصل: «خبره». (¬3) في الأصل: «من الوكيل». (¬4) في م: «تمليكه». (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «بما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوجُ بين قَبُولِ العِوَضِ ناقِصًا، وبين رَدِّه وله الرَّجْعةُ. فإن خالَعَ بغيرِ نَقْدِ البلدِ، فحُكْمُه حكمُ ما لو عَيَّنَ له عِوَضًا فخالعَ بغيرِ جِنْسِه. وإن خالعَ الوكيلُ بما ليس بمالٍ، كالخمرِ والخِنْزِيرِ، لم يَصِحَّ الخُلْعُ، ولم يقَع الطَّلاقُ، لأنَّه غيرُ مأذُونٍ له فيه، [إنَّما أُذِنَ له في الخُلْعِ، وهو إبانةُ المرأةِ بِعَوَضٍ، وما أتَى به، وإنَّما أتَى بطلاقٍ غيرِ مَأْذونٍ فيه] (1). ذكَرَه القاضى في «المُجَردِ». وهو مذهبُ الشافعىِّ. وسواءٌ عَيَّنَ له العِوَضَ أو أطلقَ. وذكرَ في «الجامعِ» أنَّ الخُلْعَ يَصِحُّ، ويَرجِعُ على الوكيلِ بالمُسَمَّى، ولا شئَ على المرأةِ. هذا إذا قُلْنا: إنَّ الخُلْعَ بغيرِ عِوَضٍ يَصِحُّ. وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ. لم يَصِحَّ إلَّا أن يكونَ بلَفْظِ الطَّلاقِ، فيَقَع طَلْقةً رَجْعِيَّةً. واحْتَجَّ بأنَّ وَكيلَ الزَّوْجَةِ لو خالَعَ بذلك صَحَّ، فكذلك وكيلُ الزَّوجِ. وهذا القياسُ غيرُ صحيحٍ؛ فإنَّ وكيلَ الزَّوجِ [يُوقِعُ الطَّلاقَ، فلا يَصِحُّ أن يُوقِعَه على غيرِ ما اذِنَ له فيه، ووكيلُ الزوْجةِ لا يُوقِعُ، وإنَّما يَقْبَلُ، ولأَنَّ وكيلَ الزوجِ] (¬1) إذا خالَعَ على مُحَرَّمٍ، فَوَّتَ ¬

(¬1) سقط من: م.

3415 - مسألة: (وإن وكلت المرأة فى خلعها، فخالع بمهرها فما دون، أو بما عينته فما دون، صح، وإن زاد لم يصح. ويحتمل أن يصح، وتبطل الزيادة)

وَإِنْ وَكَّلَتِ الْمَرْأَةُ فِى ذَلِكَ، فَخَالَعَ بِمَهْرِهَا فَمَا دُونَ، أَوْ بِمَا عَيَّنَتْهُ فَمَا دُونَ، صَحَّ، وإِنْ زَادَ لَمْ يَصِحَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ، وَتَبْطُلَ الزِّيَادَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على مُوَكِّلِه العِوَضَ، ووكيلُ الزَّوجَةِ يُخَلِّصُها منه، فلا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ في موضعِ يُخَلِّصُ مُوكِّلَه مِن وجُوبِ العِوَضِ عليه، الصِّحَّةُ في موضعِ يُفَوِّتُه عليه، ألَا تَرَى أنَّ وكيلَ الزَّوجةِ لو صالحَ بدُونِ العِوَضِ الذى قُدِّرَ له به، صَحَّ ولَزِمَها، ولو خالعَ وكيلُ الزَّوجِ بدونِ العِوَضِ الذى قَدَّرَه له، لم يَصِحَّ. 3415 - مسألة: (وإنْ وَكَّلَتِ المَرْأةُ فِى خُلْعِهَا، فَخَالَعَ بِمَهْرِهَا فَمَا دُونَ، أَوْ بِمَا عَينَّتْهُ فَمَا دُونَ، صَحَّ، وَإِنْ زَادَ لم يَصِحَّ. ويَحْتَمِلُ أَن يَصِحَّ، وتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ) متى خالعَ وكيلُ المرأةِ بما عَيَّنَتْه له فما دُونَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّ ولَزِمَها ذلك؛ لأنَّه زادَها خيرًا، وإن خالَعَها بأكثرَ منه، صَحَّ ولم تَلْزَمْها الزِّيادةُ؛ لأنَّها لم تَأْذَنْ فيها، ولَزِمَ الوكيلَ؛ لأنَّه الْتَزَمَه للزَّوْجِ، فلَزِمَه الضَّمانُ، كالمُضارِبِ إذا اشْتَرى مَن يَعْتِقُ على ربِّ المالِ. وقال القاضى في «المُجَرَّدِ»: عليها مَهْرُ مِثْلِها، ولا شئَ على وكِيلِها؛ لأنَّه لا يَقْبَلُ العَقْدَ لنَفْسِه، إنَّما يَقْبَلُه لغيرِه. ولعلَّ هذا مذهبُ الشافعىِّ. والأَوْلَى أنَّه لا يَلْزَمُها أكثرُ ممَّا بذَلَتْه؛ لأنَّها ما الْتَزَمَتْ أكثرَ منه، ولا وُجِدَ منها تَغْريرٌ للزَّوجِ، ولا يَنْبَغِى أن يجبَ للزَّوجِ أيضًا أكثرُ ممَّا بذَلَ له الوكيلُ؛ لأنَّه رَضِىَ بذلك عِوَضًا، وهو عوضٌ صحيحٌ معْلومٌ، فلم يكُنْ له أكثرُ منه، أشْبَهَ ما لو بذَلَتْه المرأةُ. فإن اطلَقَتِ الوكالةَ، اقْتَضَى خُلْعَها

3416 - مسألة: (وإذا تخالعا، تراجعا بما بينهما من الحقوق. وعنه أنها تسقط)

وَإِذَا تَخَالَعَا، تَرَاجَعَا بِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ. وَعَنْهُ أنَّهَا تَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَهْرِها مِن جنسِ نَقْدِ البلدِ، فإن خالَعَه (1) بمَهْرِها فما دونَ، صَحَّ ولَزِمَها، وإن خالعَه (¬1) بأكثرَ منه، فهو كما لو خالعَ بأكثرَ ممَّا قَدَّرَت له، على ما مضَى من القولِ فيه. 3416 - مسألة: (وَإذا تَخالَعا، تراجَعا بما بينَهما مِنَ الحُقُوقِ. وعنه أَنَّها تَسْقُطُ) إذا خالعَ زوْجتَه أو بارأَها بعِوَضٍ، فإنَّهما يتَراجعانِ بما بينَهما مِنَ الحُقُوقِ، فإن كان قبلَ الدُّخولِ، فلها نِصْفُ المَهْرِ، فإن كانت قَبَضَتْه ردَّتْ نِصْفَه، وإن كانت مُفَوّضةً فلها المُتْعَةُ. وهذا قولُ عَطاءٍ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: ذلك براءَةٌ لكلِّ واحدٍ منهما ممَّا لصاحبِه عليه مِنَ المَهْرِ. وأمَّا الدُّيونُ التى ليستْ ¬

(¬1) في م: «خالعته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حقوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فعنه فيها روايتانِ، ولا تسْقُطُ النَّفقَةُ في المُسْتقبَلِ؛ لأنَّها ما وجبَتْ بعدُ. ولَنا، أنَ المَهْرَ حَقٌّ لا يسْقُطُ بلَفْظِ الطَّلاقِ، فلا يسْقُطُ بلفْظِ الخُلْعِ، كسائرِ الدُّيونِ، ونفَقَةِ العِدَّةِ [إذا كانت حامِلًا، ولأَنَّ نِصْفَ المهرِ الذى يَصِيرُ له لم يجبْ له قبلَ الخُلْعِ، فلم يسْقُطْ بالمُبارأَةِ، كنفَقَةِ العِدَّةِ] (¬1)، والنِّصْفُ لها لا يَبْرأُ (¬2) منه بقولِه: بارَأْتُكِ. لأَنَّ ذلك يَقْتَضِى براءَتها مِن حُقوقِه، لا براءَتَه من حُقوقِها. وعنه أنَّها تسْقُطُ، كمذهبِ [أبى حنيفةَ] (¬3). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «تبرأ». (¬3) في الأصل: «أحمد».

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ. فَأْنْكَرَتْهُ وَقَالَتْ: إِنَّمَا خَالَعْتَ غَيْرِى. بَانَتْ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِى الْعِوَضِ. وَإِنْ قَالَتْ: نَعَمْ، لَكِنْ ضَمِنَهُ غَيْرِى. لَزِمَهَا الْأَلفُ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا. وَيَتَخَرَّجُ أنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا فَيَرْجِعَا إِلَى الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قَالَ الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وإذا قَالَ: خالَعْتُكِ بِألْفٍ. فأنْكَرَتْهُ وقالت: إنَّما خالَعْتَ غَيْرِى. بَانَتْ) بإقْرَارِهِ (والقولُ قولُها مع يَمِينِها في العِوَضِ) لأنَّها مُنْكِرَة (وإن قالت: نعم، لكنْ ضَمِنَه غيرِى. لَزِمَها الألفُ) لأنَّها أقَرَّتْ بها، ولا يَلْزَمُ الغيرَ شئٌ، إلَّا أن يُقِرَّ به. فإنِ ادَّعَتْه المرِأةُ وانْكَرَه الزَّوجُ، فالقولُ قولُه؛ لذلك (¬1)، ولا يَسْتَحِقُّ عليها عِوَضًا؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه. 3417 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ الْعِوَضِ، أو عَيْنِهِ، أَوْ تَأْجيلِه، فَالْقَوْلُ قَوْلُها) وَكَذَلِكَ إنِ اخْتَلفَا فِى صِفَتِهِ. حَكاه أبو بكرٍ نَصًّا (¬2) عن أحمدَ. وهو قولُ مالكِ، وأبى حنيفةَ. وعنه، أنَّ القولَ قولُ ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) في الأصل: «أيضًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوجِ. حكَاها القاضى عن أحمدَ؛ لأَنَّ البُضْعَ يخْرُجُ عن مِلْكِه، فكان القولُ قولَه في عِوَضِه، كالسَّيِّدِ مع مُكاتَبِه. وقال الشافعىُّ: يتَحالَفانِ؛ لأنَّه اخْتِلافٌ في عِوَضِ العقدِ (¬1)، فيَتحالَفانِ فيه، كالمُتبايعَيْن إذا اخْتلَفا في الثَّمَنِ. ولَنا، أنَّه أحَدُ نَوْعَى الخُلْعِ، فكان القولُ قولَ المرأةِ، كالطَّلاقِ على مالٍ إذا اخْتلَفا في قَدْرِه، ولأَنَّ المرأةَ مُنْكِرَة للزَّائدِ في القَدْرِ أو الصِّفَةِ، فكانَ القولُ قولَها؛ لقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْيَمِين عَلَى المُدَّعَى علَيْهِ» (¬2). وأمَّا التَّحالُفُ في البيعِ، فيُحْتاجُ إليه لفَسْخِ العَقْدِ، والخُلْعُ في نَفْسِه فَسْخٌ، فلا يَنْفَسِخُ. فصل: فإن قال: سَألْتنِى طَلْقةً بألفٍ. فقالتْ: بل سَألْتُكَ ثلاثًا بألفٍ فطَلَّقْتَنِى واحدةً. بانَتْ بإقرارِه، والقولُ قولُها في سُقوطِ العِوَضِ. وعندَ أكثرِ الفُقَهاءِ، يَلْزَمُها ثُلُثُ الألفِ، بِناءً على أصْلِهم فيما إذا قالت: طلِّقْنِى ثلاثًا بألفٍ. فطَلَّقَها واحدةً، أنَّه يَلْزَمُها ثُلُثُ الألفِ. وإن خالَعَها على ألفٍ، فادَّعَى أنَّها دَنانيرُ، فقالتْ: بل هى دراهمُ. فالقولُ قولُها؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما ذكَرْنا في أوَّلِ الفصلِ. وإن قال أحَدُهما: كانتْ دراهمَ راضِيَّةً (¬1). وقال الآخر: مُطْلَقةً. فالقولُ قولُها، إلَّا على الرِّوايةِ التى حَكاها القاضى، فإنَّ القولَ قولُ الزَّوجِ. في هاتَيْنِ المسألتيْن. وإنِ اتَّفقا على الإِطْلاقِ، لَزِمَه مِن غالِبِ نَقْدِ البلدِ، وإنِ اتَّفقا على أنَّهما أرادا دراهمَ راضِيَّةً (¬2)، لزِمَها ما [اتَّفَقَتْ إرادَتُهما] (¬3) عليه. وإن اخْتلَفا في الإِرادةِ، كان حكمُها (¬4) حُكْمَ المُطْلَقَةِ، يُرْجَعُ إلى غالِبِ نَقْدِ البلدِ. وقال القاضى: إذا اخْتلَفا في الإِرادةِ، وجبَ المَهْرُ المُسَمَّى في العَقْدِ، لأَنَّ اخْتلافَهما يَجْعَلُ البَدَلَ مجهولًا، فيَجِبُ المُسَمَّى في النِّكاحِ. والأَوَّلُ أصَحُّ، لأنَّهما لو أطْلَقا، لصَحَّتِ التَّسْمِيَةُ، ووَجبَ ألفٌ مِن غالِبِ نَقْدِ البلدِ، ولم يكنْ إطلاقهما جَهالةً تَمنعُ صِحةَ العِوَضِ، فكذلك إذا اخْتلَفا، ولأنَّه يُجيزُ العِوَضَ المجهولَ إذا لم تكُنْ جَهالَتُه تَزِيدُ على جَهالةِ مهرِ المِثْلِ، كعبدٍ مُطْلَقٍ، والجَهالةُ ههُنا (¬5) أقَلُّ، فالصِّحَّةُ أَوْلَى. ¬

(¬1) في م: «قراضة». وكان اسم الراضى باللَّه، أحمد بن المقتدر باللَّه، الذى بويع بالخلافة من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة -على السكة. انظر: النقود العربية، وعلم التميات للكرملى 58، 125. (¬2) في م: «قراضة». وبعده في الأصل: «وقال الآخر». (¬3) في م: «اتفقا». (¬4) في الأصل: «حكمهما». (¬5) في الأصل: «فيها».

3418 - مسألة: (وإن علق طلاقها بصفة، ثم خالعها فوجدت الصفة، ثم عاد فتزوجها، فوجدت الصفة، طلقت. نص عليه. ويتخرج أن لا تطلق، بناء على الرواية فى العتق. واختاره أبو الحسن التميمى. وإن لم توجد الصفة حال البينونة، عادت، رواية واحدة)

وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِصِفَةٍ، ثُمَّ خَالَعَهَا فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، طَلُقَتْ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا تَطْلُقَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ فِى الْعِتْقِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَن التَّمِيمِىُّ. وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ حَالَ الْبَيْنُونَةِ، عَادَتْ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3418 - مسألة: (وإن عَلَّقَ طَلاقَها بصِفَةٍ، ثُمَّ خَالَعَهَا فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، ثُمَّ عادَ فَتَزَوَّجَها، فَوُجدَتِ الصِّفَةُ، طَلُقَت. نَصَّ علَيْهِ. ويَتَخَرَّجُ أَن لا تَطْلُقَ، بِنَاءً على الرِّوايَةِ فِى العِتْقِ. واخْتَارَه أَبُو الحَسَنِ التَّمِيمىُّ. وَإِنْ لَم توجَدِ الصِّفَةُ حالَ البَيْنُونَةِ، عَادَتْ، رِوَايَةً واحِدَةً) مثالُ ذلك إذا قال: إن كلّمْتِ أباكِ فأنتِ طالقٌ. ثم أبانَها، ثم تزَوَّجَها فكَلَّمتْ أباها، فإنَّها تَطْلُقُ. نَصَّ عليه أحمدُ. فأما إن وُجِدَتِ [الصِّفَةُ في حالِ البَيْنُونَةِ، ثم تزَوَّجَها، ثم وُجِدَتْ] (¬1) مَرَّةً أُخْرَى، فظاهرُ المذهبِ أنَّها تَطلُقُ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّها لا تَطْلُقُ. نصَّ عليه في العِتْقِ، في رَجُلٍ قال لعبدِه: أنتَ حُرٌّ إنْ دخَلْتَ الدَّارَ. فباعَه، ثم رجعَ -يَعْنِى فاشْتراه: فإنْ رجعَ وقد دخلَ الدَّارَ، لم يَعْتِقْ، وإنْ لم يكُنْ دخلَ فلا يدْخلُ إذا رجعَ إليه، فإن دخلَ عَتَقَ. فإذا نَصَّ في العِتْقِ على أن الصِّفَةَ لا تَعودُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجبَ أن يكونَ في الطَّلاقِ مثلُه، بل أَولَى؛ لأن العِتْقَ يتَشوَّفُ الشَّرْعُ إليه، ولذلك قال الْخِرَقِىُّ: إذا قال: إن تزَوَّجْتُ فلانَةَ فهى طالقٌ. لم تَطْلُقْ إن تزَوَّجَها، ولو قال: إن ملَكْتُ فُلانًا. فهو حُرٌّ. فَملَكَه صارَ حُرًّا. وهذا اخْتِيارُ أبى الحسنِ التَّمِيمِىِّ. وأكثرُ أهلِ العلِم يَرَوْنَ أن الصِّفَةَ لا تَعودُ إذا أبانَها بطلاقٍ ثلاثٍ، وإن لم تُوجَدِ الصِّفةُ (¬1) في حالِ البَيْنُونَةِ. وهذا مذهبُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، وأحدُ أقوالِ الشافعىِّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجمعَ كلُّ مَن نحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ الرَّجلَ إذا قال لزَوْجتِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إن دخلْتِ الدَّارَ. فطَلَّقَها ثلاثًا، ثم نكَحَتْ غيرَه، ثم نَكَحَها الحالفُ، ثم دخَلتِ الدَّارَ، أنَّه (1) لا يقَعُ عليها الطَّلاقُ. وهذا على (¬2) مذهبِ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ [إطلاقَ المِلكِ يَقْتَضِى ذلك] (¬3). فإن. أبانَها دُونَ الثَّلاثِ فوُجِدَتِ الصِّفةُ، ثم تزَوَّجَها، انْحلَّتْ يمينُه في قولِهم. وإن لم تُوجَدِ الصِّفَةُ في البَيْنُونَةِ، ثم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) في الأصل: «لأن إطلاق ذلك الملك يقضى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَكَحَها، لم تَنْحلَّ في قولِ مالكٍ، وأصْحابِ الرَّأْى، وأحدِ أقوالِ الشافعىِّ. وله قولٌ آخَرُ: لا تَعودُ الصِّفَةُ بحالٍ. وهو اخْتيارُ المُزَنِىِّ، وأبى إسْحاقَ؛ لأَنَّ الإِيقاعَ وُجِدَ قبلَ النِّكاحِ، فلم يَقَعْ، لو علَّقَه بالصِّفَةِ قبلَ أن يَتزوَّجَ بها، فإنَّه لا خِلافَ في أنَّه لو قال لأجْنَبِيَّةٍ: أنتِ طالق إذا دخَلْتِ الدَّارَ. ثم تزَوَّجَها، ودَخلتِ الدَّارَ، لم تَطْلُقْ. وهذا في معناه، فأمَّا إذاوُجدَتِ الصِّفَةُ في حالِ البَيْنونَةِ، انْحلَّتِ اليَمِين؛ لأن الشَّرْطَ وُجِدَ في وقتٍ لا يُمْكنُ وقوعُ الطَّلاقِ فيه، فسَقَطَتِ اليَمِينُ، وإذا انحَلَّتْ مَرةً، لم يُمْكِنْ عَوْدُها إلَّا بعَقْدٍ جديدٍ. ولَنا، أنَّ عقدَ الصِّفةِ ووُقوعَها وُجِدَا في النِّكاحِ، فيَقَعُ، كما لو لم يتَخَلَّلْه بينونةٌ، أو كما لو بانَتْ بما دونَ الثَّلاثِ عندَ مالكٍ وأبى حنيفةَ، ولم تَفْعَلِ الصِّفةَ. وقولُهم: إن هذا طَلاقٌ قبلَ نِكاحٍ. قلْنا: يَبْطُلُ بما إذا لم يُكْمِلِ الثَّلاثَ. وقولُهم: تَنْحلُّ الصِّفةُ بفِعْلِها. قلْنا: إنَّما تَنْحلُّ بفِعْلِها على وَجْهٍ يَحْنَثُ به؛ وذلك لأَنَّ اليمينَ [حُلَّ وعُقِدَ] (¬1)، ثم ثَبَتَ أنَّ عَقْدَها يفْتَقِرُ إلى المِلْكِ، فكذلك حَلُّها، ¬

(¬1) في الأصل: «حلًّا وعقدًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحِنْثُ لا يحصُلُ بفِعْلِ الصِّفةِ حالَ بَيْنُونَتِها، فلا تَنْحلُّ اليمينُ به. وأمَّا العِتْقُ، ففيهِ رِوايتانِ؛ إحداهما أنَّه كالنِّكاحِ في أنَّ الصِّفَةَ لا تَنْحلُّ بوُجودِها بعدَ بيعِه، فيكونُ كمسْأَلتِنا. والثَّانيةُ، تنْحَلُّ؛ لأَنَّ المِلْكَ الثَّانِىَ لا يُبْنَى على الأَوَّلِ في شئٍ مِن أحْكامِه. وفارَقَ النِّكاحَ، فإنَّه يُبْنَى على الأَوَّلِ في بعضِ أحْكامِه، وهو عدَدُ الطَّلاقِ، فجازَ أن يُبْنَى عليه في عَوْدِ الصِّفَةِ، ولأَنَّ هذا يُفعلُ حِيلَةً على إبطْالِ الطَّلاقِ المُعَلَّقِ، والحِيَلُ خِداعٌ لا تُحِلُّ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فإنَّ ابنَ ماجَه (¬1) وابنَ بَطَّةَ روَيا بإسْنادَيْهما، عن أبى موسى، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ما بَالُ أقْوامٍ (¬2) يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بآيَاتِه: قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ». وفى لفظٍ روَاه ابنُ بَطَّةَ: «خَلَعْتُكِ، وراجَعْتُكِ، [طَلَّقْتُكِ، راجَعْتُكِ] (¬3)». ورَوَى بإسْنادِه عن أبى هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تَرْتَكِبُوا ما ارْتَكَبتِ اليَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا (¬4) مَحارِمَ اللَّهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب حدثنا سويد بن سعيد، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 650. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 322. (¬2) في م: «قوم». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «فتستحلون». (¬5) أورده ابن كثير في تفسيره عن طريق ابن بطة. التفسير 3/ 492، وانظر إرواء الغليل 5/ 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانتِ الصِّفةُ لا تَعودُ بعدَ النِّكاحِ الثَّانِى، مثلَ أن قال: إن أكلْتِ هذا الرَّغِيفَ فأنتِ طالقٌ ثلاثًا. ثم أبانَها فأكَلَتْه (¬1)، ثم نَكَحَها، لم يَحْنَثْ؛ لأَنَّ حِنْثَه بوُجودِ الصِّفَةِ في النِّكاحِ الثَّانى، وما وُجِدَتْ، ولا يُمْكِنُ إيقاعُ الطَّلاقِ بأكْلِها له حالَ البَيْنُونَةِ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ لا يَلْحَقُ البائِنَ. ¬

(¬1) في م: «ثم أكلته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللَّهُ تعالى أعلمُ.

كتاب الطلاق

كِتَابُ الطَّلَاقِ وَهُوَ حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الطَّلاقِ (وهو حَلُّ قَيْدِ النِّكاحِ) وهو مشروعٌ، والأصلُ في مَشْرُوعِيَّتِه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ اللَّه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وقال سبحانَه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2). وأمَّا السُّنَّةُ، فروَى ابنُ عمرَ أنَّه طَلَّقَ امْرأَته وهى حائضٌ، فسألَ عمرُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، فقال له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِى أمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). في آىٍ وأخْبارٍ سِوَى هذيْنِ كثيرٍ. وأجْمَعَ النَّاسُ على جوازِ الطَّلاقِ، والعِبْرَةُ ¬

(¬1) سورة البقرة 229. (¬2) سورة الطلاق 1. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 391. والحديث في سنن أبى داود 1/ 503، 504، وليس في 1/ 500 كما تقدم.

3419 - مسألة: (ويباح عند الحاجة إليه، ويكره من غير حاجة. وعنه، أنه يحرم، ويستحب إذا كان بقاء النكاح ضررا)

وَيُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِليْهِ، وَيُكرَهُ مِنْ غيْرِ حَاجَةٍ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يَحْرُمُ، وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ بَقَاءُ النِّكَاحِ ضَرَرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ دالَّةٌ على جوازِه، فإنَّه رُبَّما فَسَدَتِ الحالُ بينَ الزَّوْجَيْن، فيَصيرُ بقاءُ النِّكاحِ مَفْسَدةً مَحْضَنةً، وضَرَرًا مُجَرَّدًا، بإلْزامِ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ والسُّكْنَى، وحَبْسِ المرأةِ مع سوءِ العِشْرَةِ، والخُصُومةِ الدائمةِ مِن غيرِ فائدةٍ، فاقْتَضَى ذلك شَرْعَ ما يُزيلُ النِّكاحَ، لِتَزولَ المَفْسدةُ الحاصِلةُ منه. 3419 - مسألة: (ويُبَاحُ عِنْدَ الحاجَةِ إليه، ويُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وعنه، أنَّه يَحْرُمُ، ويُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ بَقَاءُ النِّكَاحِ ضَرَرًا) الطَّلاقُ على خمسةِ أضْرُبٍ؛ واجبٌ، وهو طلاقُ المُولِى بعدَ التَّرَبُّص إذا أبَى الفَيْئَةَ (¬1)، وطلاقُ الحَكَمَيْن في الشِّقاقِ إذا رأيا ذلك. والثانى، مَكْرُوهٌ، وهو الطَّلاقُ مِن غيرِ حاجةٍ إليه؛ لأنَّه مُزيلٌ للنِّكاحِ المُشْتَمِلِ على المَصَالِحِ المَنْدوبِ (¬2) إليها، فيكونُ مكروهًا. وقال القاضى: فيه رِوَايتان؛ إحداهما، أنَّه مُحَرَّمٌ؛ لأنَّه ضَرَرٌ بنَفْسِه وزَوْجَتِه، وإعْدامٌ للمَصْلَحةِ الحاصلةِ لهما مِن غيرِ حاجةٍ إليه، فكان حرامًا، ¬

(¬1) في م: «الفئة». (¬2) في الأصل: «والمندوب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كإتْلافِ المالِ، ولقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ» (¬1). والثانيةُ، أنَّه مُباحٌ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أبْغَضُ الحَلَالِ إلَى اللَّه الطَّلاقُ». وفى لفظٍ: «مَا أحَل اللَّهُ شَيْئًا أبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ». رواه أبو داودَ (¬2). والثالثُ، مُباحٌ، وهو عندَ الحاجةِ إليه لسُوءِ خُلُقِ المرأةِ، وسُوءِ عِشْرَتِها، والتَّضَرُّرِ (¬3) منها مِن غيرِ حُصولِ الغَرَضِ بها. والرابعُ، مندوبٌ إليه، وهو عندَ تَفْريطِ المرأةِ في حُقوقِ اللَّهِ الواجبةِ عليها، مثلَ الصَّلاةِ ونحوها، ولا يُمْكِنُه إجْبارُها عليها، أو يكونُ له امرأةٌ غيرُ عَفِيفةٍ. قال أحمدُ: لا يَنْبَغِى له إمْساكُها. وذلك لأَنَّ فيه نَقْصًا لدينِه (¬4)، ولا يأْمَنُ إفْسادَها فِراشَه، وإلْحاقَها به وَلَدًا مِن غيرِه، ولا بأْسَ بعَضْلِها في هذه الحالِ، و (¬5) التَّضْيِيقِ عليها لتَفْتَدِىَ منه، قال اللَّهُ تَعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬6). ويَحْتَمِلُ أنَّ الطَّلاقَ في هذَيْن الموْضِعَيْن واجبٌ. ومِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬2) في: باب في كراهية الطلاق، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 503. كما أخرج ابن ماجه اللفظ الأول، في: باب حدثنا سويد بن سعيد، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 650. وضعفه الألبانى، ضعيف سنن أبى داود 214. وانظر الإرواء 7/ 106 - 108. (¬3) في الأصل: «التصرف». (¬4) في م: «في دينه». (¬5) في م: «في». (¬6) سورة النساء 19.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنْدوبِ إليه الطَّلاقُ في حالِ الشِّقاقِ، وفى الحالِ التى تُخْرِجُ المرأةَ إلى المُخالَعَةِ لِتُزيلَ عنها الضَّرَرَ. والخامسُ، المَحْظُورُ، وهو طَلاقُ الحائِضِ، أو في طُهْرٍ أصَابَها فيه، وقد أجْمَعَ العُلَماءُ في جميعِ الأمْصارِ على تَحْريمِه، ويُسَمَّى طَلاقَ البِدْعَةِ؛ لأَنَّ المُطَلِّقَ خالفَ السُّنَّةَ، وتَرَكَ أمرَ اللَّهِ ورسولِه، قال اللَّهُ تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فتلك العدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وفى لفظٍ رَواه الدَّارَقُطْنِى (¬1) بإسْنادِه عن ابنِ عمرَ، أنَّه طَلَّقَ امْرأتَه تَطْلِيقةً وهى حائِضٌ، ثم أرادَ أَنْ يُتْبِعَها بتَطْلِيقَتَيْن آخِرَتَيْنِ عندَ ¬

(¬1) في: سننه 4/ 31. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 330، 334. وهو منكر. الإرواء 7/ 120، 119.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القُرْأيْنِ، فبلغَ ذلك رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فقال: «يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا هَكَذَا أَمرَكَ اللَّهُ، إِنَّكَ أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ، والسُّنَّةُ ان تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ، فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قَرْءٍ». ولأنَّه إذا طَلَّقَ في الحيْضِ طَوَّلَ العِدَّةَ عليها؛ فإِنَّ الحَيْضَةَ التى طَلَّقَ فيها لا تُحْسَبُ مِن عِدَّتِها، ولا الطُّهْرَ الذى بعدَها عندَ مَنْ يَجْعَلُ الأقْراءَ الحِيَضَ، وإذَا طَلَّقَ في طُهْرٍ أصَابَها فيه، لم يأْمَنْ (¬1) أن تكونَ حاملًا فيَنْدَمَ، وتكون مُرتابةً [لا تَدْرِى] (¬2) أتَعْتَدُّ بالحَمْلِ أو الأقْراءِ؟ ¬

(¬1) بعده في م: «من». (¬2) سقط من: م.

3420 - مسألة: (ويصح من الزوج العاقل البالغ المختار، ومن الصبى العاقل. وعنه، لا يصح حتى يبلغ)

وَيَصِحُّ مِنَ الزَّوْجِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمُخْتَارِ، ومِنَ الصَّبِىِّ الْعَاقِلِ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3420 - مسألة: (ويَصِحُّ مِن الزَّوْجِ العاقِلِ البالِغِ المُخْتارِ، ومِن الصَّبِىِّ العَاقِلِ. وعنه، لَا يَصِحُّ حَتى يَبْلُغَ) أمَّا صِحَّةُ الطَّلاقِ مِن الزَّوْجِ العاقِلِ المُختارِ، فلا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فصَحَّ منه، كالبَيْعِ. وأمَّا الصَّبِىُّ؛ فإنْ لم يَعْقِلْ، فلا طَلاقَ له بغيرِ خِلافٍ. وأمَّا الذى يَعْقِلُ الطَّلاقَ، ويَعْلَمُ أنَّ زَوْجَتَه تَبِينُ منه، وتَحْرُمُ عليه، فأكْثَرُ الرِّواياتِ عن أحمدَ، أنَّ طَلاقَه يَقَعُ. وذَكَرَه الخِرَقِىُّ. واخْتارَه أبو بكرٍ، وابنُ حامدٍ. ورُوِىَ نحوُ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، والحسنِ، والشَّعْبِىِّ، وإسْحاقَ. ورَوَى أبو طالبٍ، عن أحمدَ: لا يَجوزُ طلاقُه حتى يَحْتَلِمَ. وهو قولُ النّخَعىِّ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، وحَمَّادٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وذَكَرَ أبو عُبَيْدٍ أنَّه قولُ أهلِ العراقِ وأهلِ الحجازِ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» (¬1). ولأنَّه غير مُكَلَّفٍ، فلم يَقَعْ طَلاقُه، كالمجنونِ. ووَجْهُ الأُولَى قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّمَا الطَّلاقُ لِمَنْ أخَذَ بِالسَّاقَ» (¬2). وقولُه: «كُلُّ الطَّلاقَ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ المَعْتُوهِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» (¬3). ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: اكْتُمُوا الصِّبْيانَ النِّكَاحَ (¬4). فيُفْهَمُ أنَّ فائِدَتَه أن لا يُطَلِّقُوا. ولأنَّه طلاقٌ مِن عاقلٍ صادفَ مَحَلَّ الطَّلاقِ، فأشْبَهَ طلاقَ البالغِ. ¬

(¬1) هذا اللفظ أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 6/ 84. وانظر ما تقدم في 3/ 15، والذى عند البخارى معلقا عن على وليس مرفوعًا. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 456. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في طلاق المعتوه، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 166، 167. وضعفه الألبانى مرفوعًا، وصحح الوقف على علىّ. ضعيف سنن الترمذى 142. الإرواء 7/ 110، 111. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الصبى، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأكْثرُ الرِّواياتِ عن أبى عبدِ اللَّهِ، تحديدُ مَن يَقَعُ طلاقُه مِنَ الصِّبيانِ بِكونِه يَعْقِلُ. وهو اخْتِيارُ القاضى. ورَوَى أبو الحارِثِ عن أحمدَ: إذا عَقَلَ الطَّلاقَ، جازَ طَلاقُه، ما بينَ عَشْرٍ إلى اثْنَتىْ عَشْرَةَ. وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَقَعُ لدونِ العَشْرِ. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ؛ لأَنَّ العَشْرَ حدُّ الضَّرْبِ على الصَّلاةِ والصِّيامِ، وصِحَّةِ الوصِيَّةِ، فكذلك هذا. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ: إذا أحْصَى الصلاةَ وصامَ رمضانَ، جازَ طلاقُه (¬1). وقال عطاءٌ: إذا بَلَغَ أن يُصِيبَ النِّساءَ (¬2). وعن الحسنِ: إذا عَقَلَ وحَفِظَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ. وقال إسْحاقُ: إذا جَازَ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ. ¬

(¬1) أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 392. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 34. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 84.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن أجازَ طَلاقَه، اقْتَضَى مذْهَبُه أن يَجوزَ تَوْكِيلُه فيه (¬1) وتَوَكُّلُه لغيرِه. وقد أَوْمَأَ إليه (¬2)، فقال -في رجلٍ قال لصَبِىٍّ: طَلِّقِ- امرأتِى (¬3). فقال: قد طَلَّقْتُكِ ثلاثًا: لا يَجوزُ عليها حتى يَعْقِلَ الطَّلاقَ. قيل له: فإنْ كانت له زَوْجَة صَبِيَّة فقالت له: صَيِّرْ أمْرِى إلىَّ. فقال لها: أمْرُكِ بيدِك. فقالت: قد اخْتَرْتُ نَفْسِى. [فقال أحمدُ] (¬4): ليس بشئ حتى يكونَ مثلُها يَعْقِلُ الطَّلاقَ. وقال أبو بكرٍ: لا يَصِحُّ أن يُوَكِّلَ حتى يَبْلُغَ. وحَكاه عن أحمدَ. ولَنا، أنَّ مَن صَحَّ تصَرُّفُه في شئٍ ممَّا تَجوزُ الوَكالَةُ فيه بنَفْسِه، صَحَّ تَوْكِيلُه ووَكالتُه فيه، كالبالغِ، وما رُوِىَ عن أحمدَ مِنْ مَنْعِ ذلك، فهو على الرِّوايةِ التى لا (¬5) تُجِيزُ طَلاقَه، إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. فصل: فأمَّا السَّفِيهُ، فيَقَعُ طلاقُه (5) في قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم القاسِمُ بنُ محمدٍ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه. ومَنَعَ منه عَطاءٌ. والأَوْلَى صِحَّتُه؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لمَحَلِّ الطَّلاقِ، فوَقَعَ طَلاقُه، كالرَّشيدِ، والحَجْرُ عليه في مالِه لا يَمْنَعُ مِن التَّصَرُّفِ في ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أى الإمام أحمد. انظر المغنى 10/ 349. (¬3) في م: «امرأتك». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: الأصل.

3421 - مسألة: (ومن زال عقله بسبب يعذر فيه؛ كالمجنون، والنائم، والمغمى عليه، والمبرسم، لم يقع طلاقه)

وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ؟ كَالْمَجْنُونِ، والنَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْمُبَرْسَمِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ ما هو مَحْجُورٌ عليه فيه، كالمُفْلِسِ. 3421 - مسألة: (ومَن زال عَقْلُه بسَبَبٍ يُعْذَرُ فيه؛ كالمَجْنُونِ، والنَّائِمِ، والمُغْمَى عَليه، والمُبَرْسَمِ، لم يَقَعْ طَلاقُهُ) أجْمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الزَّائِلَ العقلِ بغيرِ سُكْرٍ، أو ما في مَعْناه، لا يَقَعُ طَلاقُه. كذلك قال عُثمانُ، وعلىٌّ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، وقَتادةُ، وأبو قِلابَةَ، والزُّهْرىُّ، ويحيى الأنْصارِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وأجْمَعُوا على أنَّ الرَّجُلَ [إذا طَلَّقَ] (¬1) في حالِ [نومِه، أنَّه] (¬2) لا طَلاقَ له. وقد ثَبَتَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «نومانه».

3422 - مسألة: (وإن كان بسبب لا يعذر فيه، كالسكران،

فَإِنْ زَالَ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهٍ كَالسَّكْرَانِ، وَمَنْ شَرِبَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» (¬1). ورُوِىَ عن أبى هُرَيْرَةَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «كُلُّ الطَّلاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ المَغْلُوبِ (¬2) عَلَى عَقْلِهِ». رَواه النَّجّادُ (¬3). وقال التِّرْمِذِىُّ: لا نَعْرِفُه إلَّا مِن حديثِ عَطاءِ (¬4) بنِ عَجْلانَ، وهو ذاهِبُ الحديثِ. ورَوَى (¬5) بإسْنَادِهِ عَنْ عَلِىٍّ مثلَ ذلك. ولأنَّه قولٌ يُزِيلُ المِلْكَ، فاعْتُبِرَ له العَقْلُ، كالبيعِ. وسواءٌ زالَ بجُنونٍ، أو إغْماءٍ، أو شُرْبِ دواءٍ، أو إكْراهٍ على شُربِ الخمرِ، أو شُرْبِ ما يُزِيلُ عقلَه، أو لم يَعْلَمْ أنَّه مُزِيلٌ للعقلِ، فكل هذا يَمْنَعُ وُقوعَ الطَّلاقِ، رِوايةً واحدةً، ولا نَعلمُ فيه خلافًا. 3422 - مسألة: (وإنْ كان بِسَبَبٍ لا يُعْذَرُ فيهِ، كَالسَّكْرَانِ، ¬

(¬1) انظر ما تقدم تخريجه في 3/ 15. والحديث ليس عند البخارى. (¬2) في م: «والمغلوب». (¬3) في م: «البخارى». والحديث تقدم تخريجه في صفحة 135. (¬4) بعده في م: «عن». (¬5) أى النجاد. وعلقه البخارى، في: باب الطلاق في الإغلاق والكره. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 59. ووصله ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 31. وسعيد، في سننه 1/ 271، 272. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 359.

لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِى صِحَّةِ طَلَاقِهِ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِى قَتْلِهِ، وَقَذْفِهِ، وَسَرِقَتِهِ، وَزِنَاهُ، وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَنْ شَرِبَ مَا يُزِيلُ عَقْلَه لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِى صِحَّةِ طَلَاقِهِ رِوايَتَان. وكَذَلِكَ يُخَرَّجُ في قَتْلِه، وقَذْفِه، وسَرِقَتِه، وَزِنَاهُ، وظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ) اخْتلفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في طَلاقِ السَّكْرانِ؛ فرُوِىَ عنه أنَّه يَقَعُ. اخْتارَها أبو بكرٍ الخَلَّالُ، والقاضى. وهو (¬1) مذهبُ سعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والحَكَمِ، ومَالكٍ، والأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وأبى حنيفةَ، وصاحِبَيْه، وسليمانَ بنِ حربٍ، لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إِلَّا طُلَاقَ المَعْتُوهِ». ومثلُ هذا عن علىٍّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ومعاوية] (¬1)، وابنِ عباسٍ. قال ابنُ عباسٍ: طَلاقُ السَّكْرانِ جائِزٌ، أن رَكِبَ مَعْصِيةً مِن مَعاصِى اللَّهِ نَفَعَهُ ذلك (¬2)! ولأَنَّ الصحابةَ جَعَلُوه كالصّاحِى في الحَدِّ بالقَذْفِ؛ بدليلِ ما رَوَى [ابنُ وَبرَةَ] (¬3) الكَلْبِىُّ، قال: أرْسَلَنِى خالدٌ إلى عمرَ، فأتَيْتُه في المسجدِ، وعندَه عثمانُ، وعلىٌّ، وعبدُ الرحمنِ، وطَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، فقلتُ: إنَّ خالدًا يقولُ: إنَّ النَّاسَ انْهَمَكُوا في الخمرِ، وتَحاقَرُوا العُقُوبَةَ. قال عمرُ (¬4): هؤلاءِ عندَك فَسَلْهم. فقال علىٌّ: نَراه إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، وعلى المُفْتَرِى ثمانون. فقال عمرُ: أبْلِغْ صاحِبَك ما قال (¬5). فجَعلُوه كالصَّاحِى. ولأنَّه إيقاعُ طَلاق مِن مُكَلَّفٍ غيرِ مُكْرَهٍ صَادفَ مِلْكَه، فوَجبَ أَنْ يَقَعَ، كطَلاقِ الصَّاحِى، ويدُلُّ على تَكْلِيفِه أنَّه يُقْتَلُ بالقَتْلِ، ويُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ، وبهذا فَارَقَ المجْنونَ. والثانيةُ، لا يَقَعُ (¬6) طَلاقُه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. وانظر ما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 359. (¬2) أخرج البخارى عن ابن عباس معلقًا، وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. باب الطلاق في الإغلاق. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 58. (¬3) في النسختين: «أبو وبرة». والمثبت كما عند الدارقطنى والبيهقى. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أخرجه الدارقطنى، في: سننه 3/ 157. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 320. (¬6) في م: «يقطع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتارَها أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ. وهو قولُ عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ومذهبُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والقاسمِ، وطاوُسٍ، ورَبِيعَةَ، ويحيى الأنْصارِىِّ، واللَّيْثِ، والعَنْبَرِىِّ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، والمُزَنِىِّ. قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا ثابِتٌ عن عثمانَ، ولا نعلمُ أحدًا مِن الصحابَةِ خالَفَه. وقال أحمدُ: حديثُ عثمانَ أرْفَعُ شئٍ فيه (¬1)، وهو أصَحُّ -يعنى من حديثِ علىٍّ- وحديثُ الأعْمَشِ، [مَنْصُورٌ لا يَرْفَعُه إلى علىٍّ] (¬2). ولأنَّه زَائلُ العقْلِ، أشْبَهَ المَجْنونَ والنَّائِمَ، ولأنَّه مفقودُ الإِرادةِ، أشْبَهَ المُكْرَهَ، ولأَنَّ العَقْلَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ؛ إذ هو عبارةٌ عن الخِطابِ بأمْرٍ أو نَهْىٍ، ولا يَتوجَّهُ ذلك إلى مَنْ لا يَفْهَمُه، ولا فرقَ بينَ زوالِ الشَّرْطِ بمَعْصِيَةٍ أو غيرِها، بدليلِ أنَّ مَن كَسَرَ ساقَه جازَ له أن يُصَلِّى قاعِدًا، ولو ضرَبتِ المرأةُ بطْنَها فنَفِسَتْ سَقَطَتْ عنها الصلاةُ، ولو ضَرَبَ (¬3) رأْسَه فجُنَّ سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وحديثُ أبى هُرَيْرَةَ لا يَثْبُتُ. وأمَّا قَتْلُه [وقَذْفُه] (¬4) وسَرِقَتُه، فهو كَمسألتِنا. ¬

(¬1) حديث عثمان علقه البخارى بصيغة الجزم، في: باب الطلاق في الإغلاق. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 58. ووصله عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 84. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 30. (¬2) في م: «عن منصور ولا يرفعها على». (¬3) في م: «ضربت». (¬4) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والحُكْمُ في عِتْقِه، ونَذْرِه، وبَيْعِه، وشِرَائِه، ورِدَّتِه، وإقْرارِه، وقَتْلِه، وقَذْفِه، وسَرِقَتِه، كالحُكْمِ في طَلاقِه؛ لأَنَّ المَعْنَى في الجميعِ واحدٌ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ في بيعِه وشرائِه الرِّوايتان. وسألَه ابنُ مَنْصورٍ: إذا طَلَّقَ السَّكْرانُ، أو سَرَقَ، أو زَنَى أو افْتَرَى، أو اشْتَرَى، أو باعَ؟ فقال: أَجْبُنُ (¬1) عنه، لا يَصِحُّ مِن أمرِ السَّكْرانِ شئٌ. وقال أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامدٍ: حُكْمُ السَّكْرانِ حُكْمُ الصَّاحِى فيما له وفيما عليه؛ أمَّا في ماله وعليه، كالبَيْعِ والنِّكاحِ والمُعَاوَضَاتِ، فهو كالمجنونِ، لا يَصِحُّ له شئٌ. وقد أَوْمَأَ إليه أحمدُ. والأَوْلَى أنَّ ما لَه أيضًا ¬

(¬1) في م: «أخبر»، ومكانها بياض في الأصل، وانظر المغنى 10/ 349.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَصِحُّ منه؛ لأَنَّ تَصْحِيحَ تَصرُّفاتِه فيما (¬1) عليه مُؤاخَذَةٌ له، وليس مِنَ المُؤاخَذَةِ تصْحِيحُ التَّصَرُّفِ (¬2) له. وكذلك الحُكْمُ في مَن شَرِبَ أو أكَلَ ما يُزِيلُ عقْلَه لغيرِ حاجةٍ وهو يعلمُ، قِياسًا على السَّكْرانِ [في وقوعِ طَلاقِه] (¬3). وبهذا قال أصحابُ الشافعىِّ. وقال أصحابُ أبى حنيفةَ: لا يَقَعُ طَلاقُه؛ لأنَّه لا يَلْتذُّ بشُرْبِها. ولَنا، أنَّه زالَ عقلُه بمَعْصِيَةٍ (2)، فأشْبَهَ السَّكْرانَ. فصل: وحَدُّ السُّكْرِ الذى يَقَعُ الخِلافُ في صاحِبِه، هو الذى يَجْعَلُه يَخْلِطُ في كلامِه، ولا يَعْرِفُ ردَاءَه مِن ردَاءِ غيرِه، [ونَعْلَه مِن] (¬4). غيرِه، ونحو ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬5). فجَعَلَ علامةَ ¬

(¬1) في م: «مما». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «وفعله من فعل». (¬5) سورة النساء 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوَالِ السُّكْرِ عِلْمَه ما يَقولُ. ورُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: اسْتَقْرِئوه القُرآنَ، أو ألْقُوا رِداءَه في الأرْدِيَةِ، فإنْ قَرأَ أُمَّ القُرْآنِ، أو عَرَفَ رِداءَه، وإلَّا فأَقِمْ عليه الحَدَّ (¬1). ولا يُعْتَبَرُ أن لا يَعْرِفَ السَّماءَ مِنَ الأرْضِ، ولا الذَّكرَ مِنَ الأُنْثَى؛ لأَنَّ ذلك لا يَخْفَى على المجنونِ، فعليه (¬2) أوْلَى. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الريح، من كتاب الأشربة. المصنف 9/ 229. (¬2) في م: «فغيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قالَ أحمدُ، في المُغْمَى عليه إذا طلَّق، فلمَّا أفاقَ وعَلِمَ أنَّه كان مُغْمًى عليه، وهو ذاكِرٌ لذلك، فقال: إذا كان ذاكِرًا لذلك، فليس هو مُغْمًى عليه، يَجوزُ طَلاقُه. وقال في روايةِ أبى طالبٍ، في المجنونِ يُطَلِّقُ، فقيلَ له لمَّا أفاقَ: إنَّك طَلَّقْتَ امْرأتَك. فقال: أنا (¬1) أذْكُرُ إنِّى طَلَّقْتُ، ولم يَكُنْ عقْلِى معى. فقال: إذا كان يذْكُرُ أنَّه طَلَّقَ، فقد طَلُقَتْ. فلم ¬

(¬1) في م: «ما أنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجْعَلْه مجنونًا إذا كان يذْكُرُ الطَّلاقَ ويعلمُ به. قال شيخُنا (¬1): وهذا، واللَّهُ أعلمُ، في مَن جُنونُه بذَهابِ معْرفتِه بالكُلِّيَّةِ، وبُطْلانِ حَواسِّه، فأمَّا مَن كان جُنونُه لنشافٍ أو كان مُبَرْسَمًا، فإنَّ ذلك يُسْقِطُ حُكْمَ تَصَرُّفِه، مع أنَّ معْرِفَتَه غيرُ ذاهبةٍ بالكُلِّيَّةِ، فلا يَضُرُّه ذِكْرُه للطَّلاقِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) في: المغنى 10/ 346.

3423 - مسألة: (ومن أكره على الطلاق بغير حق، لم يقع طلاقه)

وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاقِ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3423 - مسألة: (ومَن أُكْرِهَ على الطَّلاقِ بغيرِ حَقٍّ، لم يَقَعْ طَلاقُه) لا تخْتلِفُ الرِّوايةُ عن أحمدَ، أنَّ طلاقَ المُكْرَهِ لا يَقَعُ. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، وابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، وجابرِ ابنِ سَمُرَةَ. وبه قال عبدُ اللَّهِ بنُ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ، والحسَنُ، وجابرُ بنُ زيدٍ، وشُرَيْحٌ، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وابنُ عَوْنٍ (¬1)، وأيُّوبُ السَّخْتِيانِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيْدٍ. وأجازَه أبو قِلابَةَ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ وصاحِبَاه؛ لأنَّه طلاقٌ مِن مُكَلَّفٍ في مَحَلٍّ يَمْلِكُه، فنَفَذَ، كطَلاقِ غيرِ المُكْرَهِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». روَاه ابنُ ماجَه (¬2). وعن عائشةَ، قالتْ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا طَلَاقَ في إغْلَاقٍ». روَاه أبو داودَ (¬3). قال أبو عُبَيْدٍ، والقُتَبِىُّ (¬4): معناه في إكْراهٍ. وقال أبو بكرٍ: سألتُ ابنَ دُرَيدٍ (¬5) وأبا طاهرٍ (¬6) النَّحْوِيَّيْنِ، فقالا: يُريدُ الإِكْراهَ؛ [لأنَّه إذا أُكْرِهَ] (¬7) انْغَلَقَ عليه رأْيُه. ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 276. (¬3) في: باب في الطلاق على غلق، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 507. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب طلاق المكره والناسى، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 660. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 276. وحسنه الألبانى في الإرواء 7/ 113. (¬4) في م: «القتيبى». (¬5) محمد بن الحسن بن دريد بن عَتاهية الأزدى البصرى أبو بكر، العلامة شيخ الأدب صاحب التصانيف، له شعر جيد، كان يقال: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء. كان آية من الآيات في قوة لحفظ. توفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وله ثمان وتسعون سنة. سير أعلام النبلاء 15/ 96، 97. (¬6) عبد اللَّه بن عمر بن محمد بن أبى هاشم أبو طاهر المقرئ، من أهل مدينة أبى جعفر، لم ير بعد ابن مجاهد مثله، كان يقرئ في سكة عبد الصمد بن على ببغداد، وكان كوفى المذهب، توفى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. طبقات النحويين واللغويين للزبيدى 120، 121. (¬7) سقط من: الأصل.

3424 - مسألة: (وإن هدده بالقتل وأخذ المال ونحوه، قادر يغلب على ظنه وقوع ما هدده به، فهو إكراه. وعنه، لا يكون مكرها حتى ينال بشئ من العذاب؛ كالضرب، والخنق، وعصر الساق.

وَإِنْ هَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِهِ، قَادِرٌ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ. وَعَنْهُ، لَا يَكُونُ مُكْرَهًا، حَتَّى يُنَالَ بِشَىْءٍ مِنَ الْعَذَابِ؛ كَالضَّرْبِ، وَالْخَنْقِ، وَعَصْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ويدخلُ في هذا المعنى المُبَرْسَمُ والمجنونُ. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنَا مِن الصَّحابةِ، ولا مُخالِفَ لهم في عصْرِهم، فيكونُ إجْماعًا، ولأنَّه قولٌ حُمِلَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَثْبُتْ له حُكمٌ، ككلمةِ الكُفْرِ إذا أُكْرِهَ عليها. فصل: وإنْ كان الإِكْراهُ بحَقٍّ، نحوَ إكْراهِ الحاكمِ المُولِيَ على الطَّلاقِ بعدَ التَّرَبُّصِ إذا لم يَفِئْ، أو إكراهِه الرَّجُلَيْن اللَّذَيْن زَوَّجَهُما الوَلِيَّانِ -ولم يُعْلَمِ (¬1) السَّابِقُ منهما- على الطَّلاقِ، فإنَّه يَقَعُ عليه (¬2)؛ لأنَّه قولٌ حُمِلَ عليه بِحَقٍّ، فصَحَّ، كإسْلامِ المُرْتَدِّ إذا أُكْرِهَ عليه، ولأنَّه إنَّما جازَ إكْراهُه على الطَّلاقِ ليَقَعَ طَلاقُه، فلو لم يَقَعْ لم يَحْصُلِ المقْصودُ. 3424 - مسألة: (وإن هَدَّدَه بِالقَتْلِ وأخْذِ المالِ ونحوِه، قَادِرٌ يَغْلِبُ على ظَنِّه وُقُوعُ ما هَدَّدَهُ بِهِ، فهو إكْرَاهٌ. وعنه، لا يَكونُ مُكْرَهًا حتى يُنَالَ بشَئٍ مِن العَذَابِ؛ كالضَّرْبِ، والخَنْقِ، وعَصْرِ السَّاقِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يعلق». (¬2) سقط من: م.

السَّاقِ. اخْتَارَهُ الْخِرَقِىُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واخْتارَه الخِرَقِىُّ) أمَّا إذا نِيلَ بشئٍ مِن العذابِ؛ كالضَّربِ، والخَنْقِ، والعَصْرِ، والحبْسِ، والغَطِّ في الماءِ مع الوعيدِ، فإنَّه يكونُ إكْراهًا بلا إشْكالٍ، لِما رُوِىَ أنَّ المُشرِكينَ أخَذُوا عمَّارًا، فأرادُوه على الشِّرْكِ، فأعْطاهم، فانْتَهَى (¬1) إليه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يَبْكِى، فجَعَلَ يَمْسَح الدُّموعَ عن عَيْنَيْه، ويقولُ: «أَخَذَكَ المُشْرِكُونَ فَغَطَّوْكَ فِى الْمَاءِ، وَأَمَرُوكَ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، فَفَعَلْتَهُ، فَإنْ أخَذُوكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَافْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ». رَواه أبو حفصٍ بإسْنادِه (¬2). وقال عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: ليس الرَّجُلُ أمِينًا على نَفْسِه إذا أَجَعْتَهُ (¬3)، أو ضَرَبْتَه، أو أوْثَقْتَه (¬4). وهذا يَقْتَضِى وُجودَ فعلٍ يكونُ به إكْراهًا. فأمَّا الوَعِيدُ بمُفْرَدِه، فعن أحمدَ فيه رِوَايتانِ؛ ¬

(¬1) في م: «فأتى». (¬2) أخرجه بنحوه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 3/ 249. (¬3) في م: «أوجعته». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 411. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 359.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما، ليس بإكْراهٍ؛ لأَنَّ الذى وَرَدَ الشَّرْعُ بالرُّخْصَةِ معه هو ما وردَ في حديثِ عمَّارٍ، وفيه: «إنَّهُمْ أخَذُوكَ فَغَطُّوْكَ فِى الْمَاءِ». فلا يَثْبُتُ الحُكمُ إلَّا فيما كان مثلَه. والثانيةُ، أنَّ الوَعيدَ بمُفْرَدِه إكْراهٌ. قال في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ: حَدُّ الإِكْراهِ إذا خافَ القَتْلَ أو ضَرْبًا شديدًا. وهذا قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ. وبه يقولُ أبو حنيفةَ، والشافعىُّ؛ لأَنَّ الإِكْراهَ لا يكونُ إلَّا بالوَعيدِ، فإنَّ الماضِىَ مِن العُقُوبَةِ لا يَنْدَفِعُ بفِعْلِ ما أُكْرِهَ عليه، ولا يَخْشَى مِن وُقُوعِه، وإنَّما أُبِيحَ له فِعْلُ المُكْرَهِ عليه دَفْعًا لِما يُتَوعَّدُ به مِنَ العُقُوبةِ فيما بعدُ، وهو في الموْضِعَيْن واحدٌ، ولأنَّه متى تُوُعِّدَ بالقَتْلِ وعَلِمَ أنَّه يَقْتُلُه، فلم يُبَحْ له الفِعْلُ (¬1)، أفْضَى إلى قَتْلِه، وإفضائِه بيَدِه إلى التَّهلُكَةِ، ولا يُفيدُ ثُبُوتُ الرُّخْصَةِ بالإِكْراهِ شيئًا؛ لأنَّه إذا طَلَّقَ في هذه الحالِ، وقعَ طَلاقُه، فيَصِلُ المُكْرِهُ إلى مُرادِه، ويَقعُ الضَّرَرُ بالمُكْرَهِ، وثُبُوتُ الإِكْراهِ في حَقِّ مَن نِيلَ بشئٍ مَن العَذابِ لا يَنْفِى ثُبوتَه في حَقِّ ¬

(¬1) في م: «فعل ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِه، وقد رُوِى عن عمرَ في الذى تَدَلَّى يَشْتارُ عَسَلًا (¬1)، فَوقَفتِ امْرأتُه على الحَبْلِ (¬2) وقالت: طلِّقْنِى ثلاثًا وإلَّا قَطَعْتُه. فذَكَّرَها اللَّهَ والإِسْلامَ، فقالت: لتَفْعَلَنَّ أو لأفْعَلَنَّ. فطَلَّقَها ثلاثًا، [فرَدَّه إليها] (¬3). روَاه سعيدٌ بإسْنادِه (¬4). وهذا كان وَعِيدًا. فصل: ومِن شَرْطِ الإِكْراهِ ثَلاثةُ أمورٍ؛ أحدُها، أن يكونَ قادِرًا بسُلْطانٍ أو تَغَلُّبٍ، كاللِّصِّ ونحوِه. وحُكِىَ عن الشَّعْبِىِّ: إن أكْرَهَه اللِّصُّ، لم يَقَعْ طَلاقُه، وإن أكْرَهَه السُّلْطانُ، وقَعَ. وقال ابن عُيَيْنَةَ؛ لأَنَّ اللِّصَّ يَقْتُلُه (¬5). وعمومُ ما ذَكَرْناه في دليلِ الإِكْراهِ يَتناوَلُ الجميعَ، والذين أكْرَهُوا عمَّارًا لم يَكونُوا لُصُوصًا، وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمَّارٍ: «إِنْ عادُوا فَعُدْ» (¬6). ولأنَّه إكْراهٌ، فمَنَعَ وُقوعَ الطَّلاقِ، كإكْراهِ اللِّصِّ. الثانى، أن يَغْلِبَ على ظَنِّه نُزولُ الوَعيدِ به إنْ لم يُجِبْه إلى ما طَلَبَه. ¬

(¬1) يشتار عسلًا: يجتنيه. (¬2) في الأصل: «الجبل». (¬3) في م: «فردها إليه». (¬4) في: باب ما جاء في طلاق المكره، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 274، 275. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 357. وقال ابن حجر: وهو منقطع؛ لأنَّ قدامة لم يدرك عمر. تلخيص الحبير 3/ 216. (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 411. وأخرجه عن الشعبى سعيد بن منصور، في: سننه 1/ 277. (¬6) أخرجه الحاكم، في: المستدرك 2/ 357. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 208، 209.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثُ، أَنْ يكونَ مِمَّا (¬1) يسْتَضِرُّ به ضَرَرًا كثيرًا؛ كالقَتْلِ، والضَّرْبِ الشَّديدِ، والحَبْسِ والقَيْدِ الطَّوِيلَيْن، فأمَّا السَّبُّ والشَّتْمُ، فليس بإكْراهٍ، روايةً واحدةً، وكذلك أخْذُ المالِ اليَسِيرِ. فأمَّا الضَّرْبُ اليَسِيرُ، فإنْ كان في حَقِّ مَن لا يُبالِى به، فليس بإكْراهٍ، وإن كان في حَقِّ (¬2) ذوِى المُروءاتِ، على وَجْهٍ يكونُ إخْراقًا (¬3) بصاحبِه، وغَضًّا له، وشُهْرَةً في حَقِّه، فهو كالضَّرْبِ الكثيرِ في حَقِّ غيرِه. وإن تُوُعِّدَ بتَعْذِيب وَلَدِه، فقد قِيلَ: ليس بإكْراهٍ؛ لأَنَّ الضَّرَرَ لاحِقٌ بغيرِه. والأَوْلَى أَن يكونَ إكْراهًا؛ لأَنَّ ذلك أعظمُ عندَه مِن أخْذِ مالِه، والوعيدُ بذلك إكْراهٌ، فكذلك هذا. ¬

(¬1) في م: «فيما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أى: فيه إهانة وغضاضة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ أُكْرِهَ على طَلاقِ امْرأةٍ فطَلَّقَ غيرَها، وَقَعَ؛ لأنَّه غيرُ مُكْرَهٍ عليه. وإن أُكْرِهَ على طَلْقةٍ فطَلَّقَ ثلاثًا، وَقَعَ أيضًا؛ لأنَّه لم يُكْرَهْ على الثَّلاثِ. وإن طَلَّقَ مَن أُكْرِهَ على طَلاقِها وغيرَها، وقَعَ طَلاقُ غيرِها دُونَها. وإن خَلَصَتْ نِيَّتُه في الطَّلاقِ دُونَ دَفْعِ الإِكْراهِ، وَقَعَ؛ لأنَّه قَصَدَه واخْتارَه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ؛ لأَنَّ اللَّفْظَ مَرْفوعٌ عنه، فلا يَبْقَى إلَّا مُجَرَّدُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّيَّةِ، فلا يقَعُ بها طَلاقٌ. وإن طلَّقَ ونَوَى بِقَلْبه غيرَ امرأتِه، أو (¬1) تأَوَّلَ في يَمينِه، فله تَأْويلُه، ويُقْبَلُ قولُه في نِيَّتِه؛ لأَنَّ الإِكْراهَ دليلٌ له (¬2) على تأْوِيلِه. وإن لم يَتأَوَّلْ وقَصَدها بالطَّلاقِ، لم يَقَعْ؛ لأنَّه مَعْذُورٌ. وذكرَ أصحابُ الشافعىِّ وَجْهًا أنَّه يَقَعُ؛ لأنَّه لا [مُكْرِهَ له] (¬3) على نِيَّتِه. ولَنا، أنَّه مُكْرَهٌ عليه، [فلم يَقَعْ] (¬4)؛ لعُمومِ ما ذكَرْنا مِن الأدِلَّةِ، ولأنَّه قد لا يَحْضُرُه التَّأْويلُ في تلك الحال، فتفُوتُ الرُّخْصَةُ. ¬

(¬1) في النسختين: «و». وانظر المغنى 10/ 354. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يكره». (¬4) تكملة من المغنى 10/ 354.

3425 - مسألة: (ويقع الطلاق فى النكاح المختلف فيه، كالنكاح بلا ولى عند أصحابنا. واختار أبو الخطاب أنه لا يقع حتى يعتقد صحته)

وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِى النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كِالنِّكَاحِ بِلَا وَلِىٍّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَاختَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لا يَقعُ حَتَّى يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3425 - مسألة: (وَيَقَعُ الطَّلاقُ في النِّكَاحِ المُخْتَلَفِ فيه، كَالنِّكَاحِ بلا وَلِىٍّ عِنْدَ أصحَابِنَا. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه لا يقَعُ حتى يَعْتَقِدَ صِحَّتَه) [ولَنا، أنَّه] (¬1) إزالةُ مِلْكٍ بُنِىَ على التَّغْلِيبِ والسِّرايةِ، فجازَ أن ¬

(¬1) في الأصل: «ولأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْفُذَ في العَقْدِ الفاسِدِ إذا لم يكُنْ في نُفُوذِه إسْقاطُ حَقِّ الغيرِ، [كالعِتْقِ يَنْفُذُ في الكتابةِ الفَاسِدَةِ بالأَدَاءِ، كما يَنْفُذُ في الصَّحيحةِ، وفيه احْتِرَازٌ مِن العتقِ في البَيْعِ الفاسِدِ، لِكونِه لا يَنْفُذُ؛ لأَنَّ فيه إسْقَاطَ حَقِّ الغَيْرِ] (¬1)، ولأنَّه عَقْدٌ يُسْقِطُ الحَدَّ، ويُثْبتُ النَّسَبَ والعِدَّةَ والمهْرَ، أشْبَهَ الصَّحيحَ. ووَجْهُ قولِ أبى الخَطَّابِ، أَنَّه ليس بعَقْدٍ صَحِيحٍ، ولم يَثْبُتْ به النِّكاحُ، فلم يَقَعْ فيه الطَّلاقُ، كالمُتَّفَقِ على بُطْلانِه. فإنِ (¬2) اعْتَقَدَ صِحَّتَه، وقَعَ (¬3) فيه الطَّلاقُ، كالمُتَّفَقِ على صِحَّتِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فإنه». (¬3) في الأصل: «ووقع».

3426 - مسألة: (وإذا وكل فى الطلاق من يصح توكيله، صح طلاقه)

وَإِذَا وَكَّلَ فِى الطَّلاقِ مَنْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ، صَحَّ طَلَاقُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3426 - مسألة: (وإذَا وَكَّل في الطَّلَاقِ مَنْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ، صَحَّ طَلَاقُهُ) لأنَّه إزالَةُ مِلْكٍ، فصَحَّ التوكيلُ فيه، كالعِتْقِ، ولا يَصِحُّ [تَوْكِيلُ إلَّا البالِغِ] (¬1) العاقِلِ، فأمَّا الطِّفْلُ والمجْنونُ، فلا يَصِحُّ تَوْكيلُهما، فإنْ فَعَلَ، فطَلَّقَ واحدٌ منهم، لم يَقَعْ طلاقُه. وقال أصحابُ الرَّأْى: يَقَعُ. ولَنا، أنَّهما ليسا مِن أهلِ التَّصرُّفِ، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُهم، كما لو وَكَّلَهم في العِتْقِ. وإن وَكَّلَ كافرًا أو عبدًا، صَحَّ؛ لأنَّهما ممَّن يَصِحُّ طَلاقُه لنَفْسِه، فصَحَّ تَوْكيلُهما فيه. وإن وَكَّل امرأةً، صَحَّ؛ لأنَّه يَصِحُّ توكيلُها في العِتْقِ، فصَحَّ في الطَّلاقِ، كالرَّجُلِ. فإن جَعَلَه في يَدِ صَبِىٍّ يَعْقِلُ الطَّلاقَ، انْبَنَى ذلك على صِحَّةِ طَلاقِه لزَوْجَتِه، وقد مَضَى ذلك، وقد نصَّ أحمدُ ههُنا على اعْتِبارِ وَكالتِه بطَلاقِه، فقال -إذا قال لِصَبِىٍّ: طَلِّقِ امْرأتِى ثلاثًا. فطَلَّقَها ثلاثًا: لا يَجوزُ عليها حتى يَعْقِلَ الطَّلاقَ، أرأيتَ لو كان لهذا الصَّبِىِّ امرأةٌ فطلَّقَها، أكانَ يَجوزُ طَلاقُه؟ فاعْتَبَرَ طَلاقَه بالوَكالةِ بطلاقِه (¬2) لنَفْسِه. وهكذا لو جَعَلَ أمْرَ الصَّغيرةِ ¬

(¬1) في م: «التوكيل إلا للبالغ». (¬2) سقط من: الأصل.

3427 - مسألة: (وله أن يطلق متى شاء، إلا أن يحد له حدا)

وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ مَتَى شَاءَ، إِلَّا أَنْ يَحُدَّ لَهُ حَدًّا، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمجْنونةِ بيَدِها، لم تَمْلِكْ ذلك. نصَّ عليه أحمدُ في امرأةٍ صغيرةٍ قال لها: أمْرُكِ بيَدِكِ. فقالت: اخْتَرْتُ نفْسِى: ليس بشئٍ حتى يَكونَ مثلُها يَعْقِلُ (¬1)؛ لأنَّه (¬2) تصرُّفٌ بحُكْمِ التَّوْكِيلِ، وليست مِن أهلِ التَّصرُّفِ. فظاهِرُ كلامِ أحمدَ هذا، أنَّها إذا عَقَلَتِ الطَّلاقَ، وقعَ طلاقُها وإن لم تَبْلُغْ، كما قَرَّرْناه في الصَّبِىٍّ. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ الصَّبِىِّ لا يَصِحُّ طَلاقُه حتى يَبْلُغَ. فكذلك يُخَرَّجُ في هذه؛ لأنَّها مثلُه في المَعْنَى. 3427 - مسألة: (وله أن يُطَلِّقَ متى شاءَ، إلَّا أَنْ يَحُدَّ لَهُ حَدًّا) لأَنَّ لفظَ التوكيلِ يَقْتَضِى ذلك؛ لكَوْنِه توكيلًا مُطْلَقًا، فأشْبَهَ التوكيلَ في البَيْعِ، إلَّا أَنْ يَحُدَّ له حدًّا، فيَكونُ على ما أذِنَ له؛ لأَنَّ الأمْرَ إلى المُوكِّلِ في ذلك، لكَوْنِ الحقِّ له، والوَكيلُ نائِبُه، فتُنْسَبُ له الوَكالةُ على ما يَقْتَضيه لَفْظُ الموكِّلِ؛ إن كان لَفْظُه عامًّا اقْتَضَى العُمومَ، وإن كان خاصًّا اقْتَضى ذلك. ¬

(¬1) أى الطلاق، وتقدم كلامه في صفحة 637. (¬2) سقط من: الأصل.

3428 - مسألة: (ولا يطلق أكثر من واحدة، إلا أن يجعل)

وَلَا يُطَلِّقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهِ. وَإِنْ وَكَّلَ اثْنَيْنِ فِيهِ، فَلَيْسَ لأحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِهِ، إِلَّا بِإِذْنٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3428 - مسألة: (وَلَا يُطَلِّقُ أكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ) ذلكَ (إلَيْه) لأَنَّ الأمْرَ المُطْلقَ (¬1) يتَناولُ أقلَّ (¬2) ما يَقَعُ عليه الاسْمُ، إلَّا أن يَجْعَلَ أكثرَ مِن واحدةٍ بلَفْظِه أو نِيَّتِه. نصَّ عليه؛ لأنَّه نَوَى بكلامِه ما يَحْتَمِلُه. والقولُ قولُه في نِيَّتِه؛ لأنَّه أعْلَمُ بها. 3429 - مسألة: (فَإنْ وَكَّلَ اثْنَيْن) صَحَّ (ولَيْسَ لأحَدِهِما) ¬

(¬1) في الأصل: «للمطلق». (¬2) سقط من: م.

3430 - مسألة: (فإن وكلهما فى ثلاث، فطلق أحدهما أكثر من الآخر)

وَإِنْ وَكَّلَهُمَا فِى ثَلَاثٍ، فَطَلَّقَ أحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَقَعَ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنْ يُطَلِّقَ على الانْفِرَادِ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذلكَ إلَيْهِ؛ لأنَّه إنَّما رَضِىَ بتَصرُّفِهما جميعًا. وبهذا قال الحسنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. فإنْ أذِنَ لأحَدِهما في الانْفِرادِ، صَحَّ؛ لأَنَّ الحَقَّ له. 3430 - مسألة: (فإنْ وكَّلَهما في ثلاثٍ، فطَلَّقَ أحَدُهما أكثرَ مِن الآخَرِ) مثلَ أن يُطَلِّقَ أحَدُهما واحدةً والآخَرُ ثلاثًا، فتَقَعُ واحدةٌ. وبهذا قال إسْحاقُ. وقال الثَّوْرِىُّ: لا يَقَعُ شىْءٌ. ولَنا، أنَّهما طلَّقَا جميعًا واحدةً مأْذُونًا فيها، فصَحَّ، كما لو جَعَل إليهما واحدةً. وإن طلَّقَ أحَدُهما اثْنَتَيْن والآخرُ ثلاثًا، وَقَعَتِ اثْنتانِ؛ لأنَّهما اجْتَمَعَا عليهما،

3431 - مسألة: (وإن قال لامرأته: طلقى نفسك. فلها ذلك، كالوكيل)

وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِى نَفْسَكِ. فَلَهَا ذَلِكَ، كَالْوَكِيلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3431 - مسألة: (وإن قال لامْرَأتِه: طَلِّقِى نَفْسَكِ. فلها ذَلِكَ، كالوَكِيلِ) فإنْ نَوَى عَدَدًا، فهو على ما نَوَى. وإنْ أطْلَقَ (¬1) مِنْ غيرِ نِيَّةٍ، لم تَمْلِكْ (¬2) إلَّا واحِدَةً؛ لأَنَّ الأمْرَ المُطْلَقَ يَتَناوَلُ أقلَّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ. وكذلك الحُكْمُ لو وَكَّلَ أجْنَبِيًّا فقال: طَلِّقْ زَوْجَتِىِ. فالحُكْمُ على ما ذَكَرْناه. قال أحمدُ: إذا قال لامْرأتِه: طَلِّقى نَفْسَكِ. ونوَى ثلاثًا، [فطَلَّقَتْ نفْسَها ثلاثًا] (¬3)، فهى ثلاثٌ، وإنْ كان نَوَى واحدةً [فهى واحدةٌ] (¬4)؛ لأن الطَّلاقَ يَكونُ واحدةً وثلاثًا، فأيُّهما نَوَاهُ فقد نَوَى بلَفْظِه ¬

(¬1) في م: «طلق». (¬2) في م: «يملك». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما احْتَمَلَه، وإن لم يَنْوِ تَناوَلَ اليَقِينَ. فإن طَلَّقَتْ نَفْسَها، أو طَلَّقَها الوَكيلُ في المجلسِ أو بعدَه، وَقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّه توكيلٌ. وقال القاضى: إذا قال لامْرأتِه: طَلِّقِى نفْسَكِ. تَقَيَّدَ بالمجلسِ؛ لأنَّه تفويضٌ للطَّلاقِ إليها، فتَقيَّدَ بالمجلسِ، كقولِه: اخْتارِى. ولَنا، أنَّه تَوْكِيلٌ في الطَّلاقِ، فكان على التَّراخِى، كتَوْكِيلِ الأجْنَبِىِّ، وكقولِه: أمْرُكِ بيَدِكِ. [وفارقَ: اخْتارِى. فإنه تَخْييرٌ. ويَنْتَقِضُ ما ذكَرَه بقَوْلِه: أمْرُكِ بيَدِكِ] (¬1). فإن قال: طَلِّقِى ثلاثًا. فطَلَّقَتْ واحدةً، وَقَعَ. نَصَّ عليه. وقال مالكٌ: لا يَقعُ شئٌ؛ لأنَّها لم تَمْتَثِلْ أمرَه. ولَنا، أنَّها مَلَكَتْ إيقاعَ ثلاثٍ، فمَلَكَتْ إيقاعَ واحدةٍ، كالمُوَكَّلِ، ولأنه لو قال: وهَبْتُكَ هؤلاء العبيدَ الثلاثةَ. فقال: قَبِلْتُ واحدًا منهم. صَحَّ، كذا ههُنا. وإن قال: طَلِّقِى واحدةً. فطَلَّقَتْ ثلاثًا، وَقَعتْ واحدةٌ. نَصَّ عليه أحمدُ أيضًا. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَقعُ شئٌ؛ لأنَّها لم تَأْتِ بما يَصْلُحُ قَبُولًا، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: بِعْتُكَ نِصْفَ هذا العبدِ. فقال: قَبِلْت البيعَ في ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جميعِه. ولَنا، أنَّها أوْقَعَتْ طلاقًا مَأْذُونًا فيه وغيرَه، فوَقَعَ المأْذُونُ فيه دونَ غيرِه، كما لو قال: طَلِّقِى نفْسَك. فَطَلَّقَتْ نفْسَها وضَرائرَها. فإن قال: طَلِّقِى نَفْسَك (¬1). فقالتْ: أنا طالقٌ إن قَدِمَ زيدٌ. لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ إذْنَه انْصَرَف إلى المُنْجَزِ، فلم يتَناولِ المعَلَّقَ على شرْطٍ. وحُكْمُ توكيلِ الأجْنَبِىِّ في الطَّلاقِ كحُكْمِها فيما ذَكَرْناه كلّه. فصل: نقَلَ عنه أبو الحارِثِ، إذا قال: طلِّقى نَفْسَكِ طلاقَ السُّنَّةِ. فقالت: قد طلَّقْتُ نفْسِى ثلاثًا: هى واحدةٌ، وهو أحَقُّ برَجْعَتِها. إنَّما كان كذلك؛ لأَنَّ التَّوْكيلَ بلَفْظٍ يتَناوَلُ أقلَّ ما يقَعُ عليه اللَّفْظُ، وهو طَلْقةٌ واحدةٌ، وسِيَّما وطلاقُ السُّنَّةِ في الصَّحيحِ واحدةٌ في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه (1). ¬

(¬1) سقط من: م.

3432 - مسألة: (وإن قال: اختارى من ثلاث ما شئت. لم يكن لها أن تختار أكثر من اثنتين)

وَإِنْ قَالَ لها: اخْتَارِى مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْتِ. لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3432 - مسألة: (وإن قال: اخْتَارِى مِنْ ثَلاثٍ ما شِئْتِ. لَمْ يَكُنْ لها أن تختارَ أكثرَ مِن اثْنَتَيْن) لأَنَّ لفظَه يَقتَضِى ذلك؛ لأَنَّ «مِن» للتَّبْعِيضِ، فلم يَكُنْ لها اسْتِيعابُ الجميعِ. واللَّه أَعلمُ.

باب سنة الطلاق وبدعته

بَابُ سنَّةِ الطَّلَاقِ وَبِدْعَتِهِ السُّنَّة فِى الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِى طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، ثمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِىَ عِدَّتهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ سنَّةِ الطَّلاقِ وبدْعَتِهِ (السُّنَّةُ في الطَّلاقِ أن يُطَلِّقَها واحدةً في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه، ثم يَدَعَها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها) يعنى بطلاقِ السُّنَّةِ الطَّلاقَ الذى وَافقَ أمرَ اللَّهِ سبحانه وتعالى وأمْرَ رَسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-، في قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1). وفى حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، الذى ذكَرْناه (¬2). ولا خِلافَ في أنَّه إذا طَلَّقَها في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه واحدةً، ثم تَرَكَها حتى تَنْقَضىَ عِدَّتُها، أنَّه مُصِيبٌ للسُّنَّةِ مُطَلِّقٌ للعدَّةِ التى أمَرَ اللَّهُ بها. قاله (¬3) ابنُ عبدِ البَرِّ، وابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) سورة الطلاق 1. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 391. وهو في سنن أبى داود 1/ 503، 504. (¬3) في الأصل: «قال». وانظر: التمهيد 15/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ مسعودٍ: طَلاقُ السُّنَّةِ أن يُطَلِّقَها مِن غيرِ جماعٍ (¬1). وقال في قولِه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. قال: طَاهِرًا مِن غيرِ جِمَاعٍ (¬2). ونحوُه عن ابنِ عباسٍ (¬3). وفى حديثِ ابنِ عمرَ الذى رَوَيْناه: «ليَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ (¬4) إنْ شَاءَ أمْسَكَ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أمَرَ اللَّه أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وقولُه: ثم يدعَها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها. فمَعْناه أن لا يُتْبِعَها طَلاقًا آخَرَ قبلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، ولو طَلقَها ثَلاثًا في ثَلاثةِ أطْهارٍ، كان حُكْمُ ذلك حُكْمَ جَمْعِ الثَّلاثِ في طُهْرٍ واحدٍ. قال أحمدُ: طلاقُ السُّنَّةِ واحدةٌ، ثم يَتْرُكُها حتى تَحِيضَ ثلاثَ حِيَضٍ. وكذلك قال مالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: السُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَها ثلاثًا، في كُلِّ قَرْءٍ طَلْقَةٌ. وهو قولُ سائِرِ الكُوفِيِّينَ، واحْتَجُّوا بحديثِ ابنٍ عمرَ، حين قال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رَاجعْهَا، ثُمَّ أمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ». قالوا: وإنَّما أَمَرَه بإمْساكِها في هذا الطُّهْرِ؛ ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب طلاق السنة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 114. وابن ماجه، في: باب طلاق السنة، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 651. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 260. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 303. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 1. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 325. وابن جرير، في: تفسيره 28/ 129. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره. سنن الدارقطنى 4/ 13، 14. وابن جرير في الموضع السابق. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لم يَفْصِلْ بينَه وبينَ الطَّلاقِ طُهْرٌ كاملٌ، فإذا مَضَى ومَضَتِ الحَيْضَةُ التى بعدَه، أمرَه بطَلاقِها. وقولِه في حدِيثِه الآخَرِ: «والسُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ، فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قَرْءٍ» (¬1). ورَوَى النَّسَائِىُّ (¬2) بإسْنادِه عن عبدِ اللَّهِ، قال: طلاقُ السُّنَّةِ أن يُطَلِّقَها تطليقةً وهى طاهرٌ في غيرِ جِماعٍ، فإذا حاضَتْ وَطَهُرَتْ، طَلَّقَها أُخْرَى، فإذا حاضَتْ وطَهُرَتْ، طَلَّقَها أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بعدَ ذلك بِحَيْضَةٍ (¬3). ولَنا، ما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: لا يُطَلِّقُ أحَدٌ للسُّنَّةِ فيَنْدَمُ. رَوَاه الأَثْرَمُ (¬4). وهذا لا يَحْصُلُ إلَّا في حَقِّ مَن لم يُطَلِّقْ ثَلاثًا. وقال ابنُ سِيرِينَ: إنَّ عليًّا، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَه، قال: لو أنَّ النَّاسَ أخَذُوا بما أمَرَ اللَّهُ مِنَ الطَّلاقِ، ما يُتْبِعُ رجلٌ نَفْسَه امرأةً أبدًا، يُطَلِّقُها تطليقةً، ثم يَدَعُها ما بينَها وبينَ أن تحِيضَ ثلاثًا، فمتى شاءَ رَاجَعَها. رَواه النَّجَّادُ (¬5) بإسْنادِه. ورَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ (¬6) عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: طلاقُ السُّنَّةِ أن يُطَلِّقَها وهى طاهِرٌ، ثم يَدَعَها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها، أو يُراجِعَها إنْ شاء. فأمَّا حديثُ ابنِ عمرَ الأَوَّلُ، فلا حُجَّةَ لهم فيه، لأنَّه ليس فيه جمعُ الثَّلاثِ، وأمَّا حديثُه الآخرُ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ ذلك بعدَ ارْتِجَاعِهاِ، ومتى ارْتَجَعَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 132. (¬2) في: باب طلاق السنة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 114. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 3. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 325. (¬5) في م: «البخارى». وأخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 4. (¬6) في: التمهيد 15/ 74.

3433 - مسألة: (وإن طلق المدخول بها فى حيضها، أو طهر أصابها فيه، فهو طلاق بدعة محرم، ويقع)

وَإِنْ طَلَّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِى حَيْضِهَا، أَوْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٌ، وَيَقَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ الطَّلْقَةِ ثم طَلَّقَها، كان للسُّنَّةِ على كلِّ حالٍ، حتى قد قال أبو حنيفةَ: لو أمْسَكَها بيَدِه (¬1) لشَهْوةٍ، ثم والَى [بينَ الثَّلاثِ] (¬2)، كان مُصِيبًا للسُّنَّةِ؛ لأنَّه يكونُ مُرْتَجِعًا لها (¬3). والمعنى فيه أنَّه إذا ارْتَجَعَها، سَقَطَ حُكْمُ الطَّلْقَةِ الأُولَى، فصارتْ كأنَّها لم تُوجَدْ، ولا غِنَى به عن الطَّلْقَةِ الأُخْرَى إذا احْتاجَ إلى فِراقِ امْرأتِه، بخِلافِ ما إذا لم يَرْتَجعْها؛ فإنَّه مُسْتَغْنٍ عنها، لإِفْضائِها إلى مَقْصودِه مِن إبانَتِها، فافْتَرقا، ولأَنَّ ما ذَكَرُوه إرْدافُ طَلاقٍ مِن غيرِ ارْتجاعٍ، فلم يكُنْ للسُّنَّةِ، كجَمْعِ الثَّلاثِ [في طُهْرٍ واحدٍ، أو تَحْرِيمٌ للمَرأةِ لا يَزولُ إلَّا بِزَوْجٍ وإصابةٍ مِنْ غيرِ حاجةٍ، فلم يكُنْ للسُّنَّةِ، كجَمْعِ الثَّلاثِ] (¬4). 3433 - مسألة: (وإنْ طَلَّقَ المَدْخُولَ بِهَا في حَيْضِهَا، أَوْ طُهْرٍ أصَابَهَا فيهِ، فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٌ، وَيَقَعُ) طلاقُه، في قولِ عامَّةِ أهلِ ¬

(¬1) في الأصل: «مدة». (¬2) في الأصل: «بالثلاث». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): لم يُخالِفْ في ذلك إلَّا أهلُ البِدَعِ والضَّلالِ. وحكاه أبو نَصْرٍ (¬2) عن ابنِ عُلَيَّةَ، وهِشامِ بنِ الحَكَمِ (¬3)، والشِّيعةِ، قالوا: لا يَقَعُ طَلاقُه؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى أمَرَ به في قُبُل العِدَّةِ، فإذا طَلَّقَ في غيرِه لم يَقَعْ، كالوكيلِ إذا أوْقَعَه في زَمَنٍ أمَرَه مُوَكِّلُه بإيقاعِه في غيرِه. ولَنا، حديثُ ابنِ عمرَ أنَّه طَلَّقَ امْرأتَه وهى حائِضٌ فأمَرَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمُراجَعَتِها. وفى روايةِ الدَّارَقُطْنِىِّ (¬4)، قال: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ: أفَرَأَيْتَ لو أنِّى طَلَّقْتُها ثلاثًا، أكان يَحِلُّ لى أَنْ أُراجِعَها؟ قال: «لَا، كانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وتَكُونُ مَعْصِيةً». وقال نافعٌ: وكان عبدُ اللَّهِ طَلَّقَها تطليقةً، فحُسِبَتْ مِن طَلاقِه، وراجَعَها كما أمَرَه رسولُ اللَّهِ ¬

(¬1) انظر: التمهيد 15/ 58، 59. (¬2) لعله يريد ابن نصر، محمد بن نصر المروزى، فقد كان أعلم الأئمة باختلاف العلماء على الإطلاق. انظر ترجمته، في: تاريخ بغداد 3/ 315 - 318، سير أعلام النبلاء 14/ 33 - 40. (¬3) هشام بن الحكم المتكلم الكوفى الرافضى المشبه، له نظر وجدل وتواليف كثيرة. سير أعلام النبلاء 10/ 543، 544. (¬4) تقدم تخريحه في صفحة 132.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ومِن روايةِ يُونُسَ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: قلتُ لابنِ عمرَ: أفتُعْتَدُّ عليه -أو- تُحْتَسَبُ عليه؟ قال: نعم، أرأيتَ إن عَجَزَ واسْتحْمَقَ (¬2)! وكلُّها أحاديثُ صِحَاحٌ. ولأنَّه طَلاقٌ مِن مُكَلَّفٍ في مَحَلِّ الطَّلاقِ، فوَقَعَ، كطلاقِ الحامِلِ، ولأنَّه ليس بقُرْبَةٍ فيُعْتَبَرَ لوُقُوعِه مُوافَقَةُ السُّنَّةِ، بل هو إزالةُ عِصْمَةٍ وقَطْعُ مِلْكٍ، فإيقاعُه في زمنِ البدْعةِ أوْلَى، تغْليظًا عليه، وعُقوبةً له، أمَّا غيرُ الزَّوْجِ، فلا يَمْلِكُ الطَّلاقَ، والزَّوْجُ يَمْلِكُه بمِلْكِ مَحَلِّه. ¬

(¬1) هذا اللفظ أخرجه مسلم عن سالم، في: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. . .، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1095. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 130. أما لفظ نافع فهو، قال: واحدة اعتدَّ بها. وهو عند مسلم 2/ 1094. (¬2) في الأصل: «واستحق» وهو استفهام إنكار، وتقديره: نعم تحتسب، ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته. والحديث أخرجه البخارى، في: باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 52، 53. ومسلم، في: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1096، 1097. وأبو داود، في: باب في طلاق السنة، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 504. والترمذى، في: باب ما جاء في طلاق السنة، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 123، 124. وابن ماجه، في: باب طلاق السنة، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 651. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 43، 51، 79.

3434 - مسألة: (وتستحب رجعتها. وعنه أنها واجبة)

وَتُسْتَحَبُّ رَجْعَتُهَا. وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجبَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3434 - مسألة: (وتُسْتَحَبُّ رَجْعَتُها. وعنه أنَّها وَاجِبَةٌ) إنَّما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتُحِبَّتْ مُراجَعَتُها لأمرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمُراجَعَتِها، وأقَلُّ أحْوالِ الأمْرِ الاسْتِحْبابُ، ولأنَّه بالرجْعَةِ يُزيلُ المعنى الذى حَرَّمَ الطَّلاقَ. ولا يَجِبُ في ظاهِرِ المذهبِ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وابنِ أبى لَيْلَى، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وحَكَى ابنُ أبى موسى عن أحمدَ أنَّ الرَّجْعَةَ تَجِبُ. واخْتارَها. وهو قولُ مالكٍ، وداودَ؛ [لظاهِرِ الأمرِ] (¬1)، ولأَنَّ الرَّجْعَةَ تَجْرى مَجْرَى [اسْتبْقاءِ النِّكاحِ، واسْتِبْقاؤُه] (¬2) ههُنا واجبٌ؛ بدليلِ تحْريمِ الطَّلاقِ، ولأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْساكٌ للزَّوْجَةِ، بدليلِ قولِه تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬3). فوَجَبَ ذلك، كإمْساكِها قبلَ الطَّلاقِ. وقال مالكٌ، وداودُ: يُجْبَرُ على رَجْعَتِها. قال أصحابُ مالكٍ: يُجْبَرُ على رَجْعَتِها ما داتْ في العِدَّةِ. إلَّا أشْهَبَ، قال: ما لم تَطْهُرْ، ثم تَحِيضُ، ثم تَطْهُرُ؛ لأنَّه لا يَجِبُ عليه إمْساكُها في تلك الحالِ، فلا ¬

(¬1) في م: «لأن ظاهر الأمر الوجوب». (¬2) في النسختين: «استيفاء النكاح واستيفاؤه». والمثبت من المغنى 10/ 328، 329. (¬3) سورة البقرة 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجِبُ عليه رَجْعَتُها فيه. ولَنا، أنَّه طَلاقٌ لا يَرْتَفِعُ بالرَّجْعَةِ، فلم تَجِبْ عليه الرَّجْعَةُ فيه، كالطَّلاقِ في طُهْرٍ أصابَها (¬1) فيه، فإنَّهم أجْمَعُوا على أنَّ الرَّجْعَةَ لا تَجِبُ. حَكاه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2) عن جميعِ العُلَماءِ. وما ذكَرُوه مِنَ المعنى يَنْتَقِضُ بهذه الصُّورةِ. والأمْرُ بالرَّجْعَةِ مَحْمولٌ على الاسْتحبابِ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: فإن راجَعَها وجبَ إمْساكُها حتى تَطْهُرَ، ويُسْتَحَبُّ أن يُمْسِكَها حتى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثم تَطْهُرَ، على ما أمرَ به (¬3) النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديثِ ابنِ عمرَ الذى رَوَيْناه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): ذلك مِن وُجُوهٍ عندَ أهلِ العلمِ؛ منها، أنَّ الرَّجْعَةَ لا تَكادُ تُعْلَمُ صِحَّتُها إلَّا بالوَطْءِ؛ لأنَّه المُبْتَغَى (¬5) مِن النِّكاحِ، ولا يحْصُلُ الوَطْءُ إلَّا في الطُّهْرِ، فإذا وَطِئَها ¬

(¬1) في الأصل: «يمسها». (¬2) في: الاستذكار 18/ 23. (¬3) في الأصل: «بها». (¬4) انظر: الاستذكار 18/ 14، 15. والتمهيد 15/ 53 - 55. (¬5) في م: «المعنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَرُمَ طَلاقُها فيه حتى تَحِيضَ تَطْهُرَ، فاعْتَبرْنا مَظِنَّةَ الوَطْءِ ومَحَلَّه لا حَقِيقَتَه، ومنها، أنَّ الطَّلاقَ كُرِهَ في الحَيْضِ لتَطْويلِ العِدَّةِ، فلو طَلَّقَها عَقِيبَ الرَّجْعَةِ مِن غيرِ وَطْءٍ، كانت في مَعْنى المُطَلَّقَةِ قبلَ الدُّخولِ، وكانت تَبْنِى على عِدَّتِها، فأرادَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطْعَ حُكْمِ الطَّلاقِ بالوَطْءِ، واعْتَبَرَ الطُّهْرَ الذى هو مَوْضِعُ الوَطْءِ، فإذا وَطِئَ حَرُمَ طَلاقُها حتى تَحِيضَ ثم تَطْهُرَ، وقد جاءَ في حديثٍ عن ابنِ عمرَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإذَا طَهُرَتْ مَسَّهَا، حَتَّى إذَا طَهُرَتْ أُخْرَى، فَإنْ شَاءَ طَلَّقَها، وإنْ شَاءَ أمْسَكَهَا». رَواه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1). ومنها، أنَّه عُوقِبَ على إيقاعِه في الوقتِ المُحَرَّمِ بمنْعِه منه في الوقتِ الذى يُباحُ له. وذكَرَ غيرَ هذا. فإن طَلَّقَها في الطُّهْرِ الذى يَلى الحَيْضَةَ قبلَ أن يَمَسَّهَا، فهو طلاقُ سُنَّةٍ. وقال أصحابُ مالكٍ: لا يُطَلِّقُها حتى تَطهُرَ، ثم تَحِيضَ، ثم تَطْهُرَ، على ما جاء (¬2) في الحديثِ. ولَنا، قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. وهذا مُطَلِّقٌ للعِدَّةِ، فيَدْخُلُ [في الأمرِ] (¬3). وقد روَى يُونُسُ بنُ جُبَيْرٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وابنُ سِيرِينَ، ¬

(¬1) في: التمهيد 15/ 54، والاستذكار 18/ 15. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

3435 - مسألة: (وإن طلقها ثلاثا فى طهر لم يصبها فيه، كره. وفى تحريمه روايتان)

وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِى طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، كُرِهَ. وَفِى تَحْرِيمِهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزيدُ بنُ أسْلَمَ، وأبو الزُّبَيْرِ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَه أَنْ يُراجِعَها حتى تَطْهُرَ، ثم إنْ شَاءَ طَلَّقَ، وإنْ شَاء أمْسَكَ. ولم يذْكُروا تلك الزِّيادَةَ. وهو حديثٌ صحيحٌ مُتَّفَقٌ عليه. ولأنَّه طُهْرٌ لم يَمَسَّها فيه، فأشْبَهَ الطُّهْرَ الثَّانِىَ، وحَدِيثُهم محْمولٌ على الاسْتِحْبابِ. 3435 - مسألة: (وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا في طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فيه، كُرِهَ. وَفِى تَحْرِيمِه رِوَايَتَان) اخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في جَمْعِ الثَّلاثِ؛ فرُوِىَ عنه أنَّه غيرُ مُحَرَّمٍ. اخْتَارَها الخِرَقِىُّ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وداودَ. ورُوِىَ ذلك عن الحَسنِ بنِ علىٍّ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ، والشَّعْبِىِّ؛ لأَنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلانِىَّ لمَّا لاعَنَ امْرأتَه، قال: كذبتُ عليها يا رسولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها. فطَلَّقَها ثلاثًا قبلَ أَنْ يَأْمُرَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولم يُنْقَلْ إنْكارُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه. وعن عائشة أنَّ امرأةَ رِفَاعةَ (¬2) جاءتْ إلى رسوِلِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالتْ: يا رسولَ اللَّهَ، إنَّ رِفاعَةَ طَلَّقَنِي فبَتَّ طَلاقِى. مُتَّفقٌ عليه (¬3). وفى حديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ، أنَّ زَوْجَها أرْسَلَ إليها [بثلاثِ تَطْليقاتٍ] (¬4). ولأنَّه طلاقٌ جازَ تَفْرِيقُه، فجازَ جَمْعُه، كطَلاقِ النَّساءِ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ مُحَرَّمٌ، وهو طَلاقُ بِدْعَةٍ. اخْتارَها أبو بكرٍ، وأبو حَفْصٍ. رُوِى ذلك عن عمرَ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من أجاز طلاق الثلاث لقول اللَّه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، من كتاب الطلاق، وفى: باب من أظهر الفاحشة. . .، من كتاب الحدود، وفى: باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم. . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 7/ 54، 55، 8/ 217، 9/ 121. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1129 - 1132. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 520. والنسائى، في: باب الرخصة في ذلك، وباب بدء اللعان، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 117، 140. والدارمى، في: باب في اللعان، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 150. والإمام مالك، في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 566، 567. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 331، 337. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 411. (¬4) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في 11/ 181، وفى 20/ 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ. قال علىٌّ: لا يُطَلِّقُ أحَدٌ للسُّنَّةِ فَيَنْدَمُ. وفى رِوايةٍ قال: يُطَلِّقُها واحدةً، ثم يَدَعُها ما بينَها وبينَ أَنْ تَحِيضَ ثلاثَ حِيَضٍ، فمتى شاءَ راجَعَها (¬1). وعن عمرَ، أنَّه كان إذا أُتِى برَجُلٍ طَلَّقَ ثلاثًا، أوْجَعَه ضَرْبًا (¬2). وعن مالكِ بنِ الحارِثِ، قال: جاءَ رجُلٌ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: إنَّ عَمِّى (¬3) طَلَّقَ امْرأتَه ثلاثًا. فقال: إنَّ عَمَّكَ (¬4) عَصَى اللَّهَ، وأطَاعَ الشَّيْطانَ، فلم يَجْعَلِ اللَّهُ له مَخْرَجًا (¬5). ووَجْهُ ذلك قولُ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قولِه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬6). ثم قال بعدَ ذلك: ¬

(¬1) تقدم تخريجهما في صفحة 170. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 396. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 264. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 334. (¬3) في م: «ابن عمى». (¬4) في م: «ابن عمك». (¬5) أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 1/ 262. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 11. والبيهقى. في: السنن الكبرى 7/ 337. (¬6) سورة الطلاق 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1). {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬2). [ومَن جمعَ الثَّلاثَ، لم يَبْقَ له أمرٌ يَحْدُثُ، ولا يجْعَلُ اللَّهُ له مخرجًا، ولا مِن أمْرِه يُسْرًا] (¬3). وروَى النَّسَائِىُّ (¬4) بإسْنادِه عن محمودِ بنِ لَبِيدٍ قال: أُخْبِرَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجلٍ طَلَّقَ امْرأتَه ثلاثَ تطْليقاتٍ جميعًا، فغَضِبَ، ثم قال: «أيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ عِزَّ وَجَلَّ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟». حتى قامَ رجلٌ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، ألَا أقْتُلُه. وفى حديثِ ابنِ عمرَ قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ (¬5) لو طَلَّقْتها ثلاثًا. قال: «إِذًا عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ» (¬6). ورَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬7) بإسْنادِه عن علىٍّ، قال: سَمِعَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا طَلَّقَ ¬

(¬1) سورة الطلاق 2. (¬2) سورة الطلاق 4. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 116. وهو ضعيف انظر: مشكاة المصابيح 2/ 981. (¬5) سقط من: م. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 173. (¬7) في: كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره. سنن الدارقطنى 4/ 20. وقال: إسماعيل بن أبى أمية هذا كوفى ضعيف الحديث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْبَتَّةَ، فغَضِبَ، وقال: «تَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا -[أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا] (¬1) -[وَلَعِبًا] (¬2)؟ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ ألْزَمْنَاهُ ثَلاثًا (¬3)، لا تَحِلُّ له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ». ولأنَّه تَحْرِيمٌ للبُضْعِ بقولِ الزَّوْجِ مِن غيرِ حاجةٍ، فَحَرُمَ كالظِّهارِ، بل هذا أوْلَى؛ لأَنَّ الظِّهارَ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُه بالتَّكْفِيرِ، وهذا لا سَبِيلَ للزَّوْجِ إلى رَفْعِه (¬4) بحالٍ، ولأنَّه ضَرَرٌ وإضْرارٌ بنَفْسِه وبامْرأتِه مِن غيرِ حاجةٍ، فيَدْخُلُ في عمُومِ النَّهْى، ورُبَّما كان وَسِيلةً إلى عَوْدِه إليها حَرامًا، أو بحِيلةٍ لا تُزِيلُ التَّحْرِيمَ، ووُقُوعِ النَّدَمِ، وخَسارةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فكان أوْلَى بالتَّحْرِيمِ مِنَ الطَّلاقِ في الحَيْضِ، الذى ضَرَرُه بَقاؤُها في العِدَّةِ أيَّامًا يَسِيرةً، أو الطَّلاقِ في طُهْرٍ مَسَّها فيه، الذى ضرَرُه احْتِمالُ النَّدَمِ بظُهورِ الحَمْلِ؛ فإنَّ ضَرَرَ جَمْعِ الثَّلاثِ يَتضاعَفُ على ذلك أضْعافًا كثيرةً، فالتَّحْريمُ ثَمَّ [تَنْبيهٌ على] (¬5) التَّحْريمِ ههُنا، ولأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لا واجبا». (¬3) بعده في الأصل: «ثلاثا». (¬4) في م: «دفعه». (¬5) في الأصل: «بنية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابةِ، رَواه الأَثْرَمُ وغيرُه، ولم يَصِحَّ عندَنا في عَصْرِهم خِلافُ قولِهم، فيكونُ ذلك إجْماعًا. فأمَّا حديثُ المُتلَاعِنَيْن فغيرُ لازِمٍ، فإنَّ الفُرْقَةَ لم تَقَعْ بالطَّلاقِ، فإنَّها وقَعَتْ بمُجَرَّدِ لِعَانِهما، وعندَ الشافعىِّ بمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ، فلا حُجَّةَ فيه. ثم إنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فالطَّلاقُ بعدَه كالطَّلاقِ بعدَ انْفساخِ النِّكاحِ بالرَّضاعِ أو غيرِه، ولأَنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ إنَّما حَرُمَ لِما يَعْقُبُه مِنَ النَّدَمِ، ويحْصُلُ به مِنَ الضَّرَرِ، ويَفُوتُ عليه مِن حِلِّ نِكاحِها، ولا يَحْصُلُ ذلك بالطَّلاقِ بعدَ اللِّعَانِ، لحُصُولِه باللِّعَانِ، وسائِرُ الأحاديثِ ليس [فيها جَمْعُ الثَّلاثِ] (¬1) بينَ يَدَىِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيكون مُقِرًّا عليه، ولا حضرَ المُطَلِّقُ عندَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أُخْبِرَ بذلك لِيُنْكِرَ عليه. على أنَّ حديثَ فاطمةَ قد جاءَ فيه أنَّه أرْسَلَ إليها بتَطْليقةٍ كانتْ بَقِيَتْ لها مِن طَلاقِها (¬2)، وحديثُ ¬

(¬1) في الأصل: «فيما جمع للثلاث». (¬2) هذه الرواية أخرجها مسلم، في: باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1117. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 20، 21.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ امْرأةِ رِفاعةَ جاءَ فيه [أنَّه طَلَّقَها] (¬1) آخِرَ ثلاثِ تَطْليقاتٍ. مُتَّفَقٌ عليه، فلم يكُنْ في شئٍ مِن ذلك جَمْعُ الثَّلاثِ. ولا خِلافَ بينَ الجميعِ في (¬2) أنَّ الاختِيارَ والأَوْلَى أن يُطَلِّقَ واحدةً، ثم يَدَعَها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها، إلَّا ما حَكَيْنا مِن قولِ مَنْ قالَ: إنَّه يُطَلِّقُها في كلِّ قَرْءٍ طَلْقةً. والأَوَّلُ أوْلَى؛ فإنَّ في ذلك امْتِثالًا لأَمرِ اللَّه سِبحانه، ومُوافَقَةً لقولِ السَّلَفِ، وأمْنًا مِنَ النَّدَمِ، فإنَّه متى نَدِمَ رَاجَعها، فإنْ فاته ذلك بانْقِضاءِ عِدَّتِها، فله نِكاحُها. قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: إنَّ عَليًّا، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قال: لو أنَّ النَّاسَ أخَذُوا بما أمرَ اللَّهُ مِنَ الطَّلاقِ، ما يُتْبعُ رجلٌ نَفْسَه امرأةً أبدًا، يُطَلِّقُها تَطْليقةً ثم يَدعُها (¬3) ما بينَها وبينَ أن تَحِيضَ ثلاثًا، فمتى شاءَ راجَعَها. ¬

(¬1) في م: «أن طلاقها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في م: «حتى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَاه النَّجَّادُ بإسْنادِه (¬1). وقال عبدُ اللَّهِ: مَن أرادَ أن يُطَلِّقَ الطَّلاقَ الذى هو الطَّلاقُ، فَلْيُمْهِلْ، حتى إذا حاضَتْ ثم طَهُرَتْ، طَلَّقَها تَطْليقةً في غيرِ جماعٍ، ثم يَدَعُها حتى تَنْقَضِىَ عِدَّتُها، ولا يُطَلِّقُها ثلاثًا (¬2) وهى حامِلٌ، فيجْمَعُ اللَّهُ عليه نَفَقَتَها وأجرَ رَضاعِها، ويُنْدِمُه، فلا يَسْتطيعُ إليها سبيلًا (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 170. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرج ابن أبى شيبة نحوه مختصرا، في: المصنف 5/ 151.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن طَلَّقَ ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وقعَ الثَّلاثُ، وحَرُمَتْ عليه حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، ولا فَرْقَ بينَ قبلِ الدُّخولِ وبعدِه. رُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وأبى هُرَيْرَةَ، وابنِ عمرَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، وابنِ مسعودٍ، وأنَسٍ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ مِن التَّابِعينَ والأئِمَّةِ بعدَهم. وكان عَطاءٌ، وطاوسٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو الشَّعْثاءِ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، يقولونَ: مَن طلَّقَ البِكْرَ ثَلاثًا فهى واحدةٌ. ورَوَى طاوسٌ عن ابنَ عباسٍ، قال: كان الطَّلاقُ على عَهْدَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكرٍ وسَنَتَيْن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن خِلافَةِ عمرَ، طلاقُ الثَّلاثِ واحدةً. رَواه أبو داودَ (¬1). ورَوَى سعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، ومُجاهِدٌ، ومالكُ بنُ الحارِثِ، عن ابنِ عباسٍ، خِلافَ روايةِ طَاوُسٍ. أخْرَجَه أيضًا أبو داودَ (¬2). وأفْتَى ابنُ عباسٍ بخِلافِ ما روَى عنه طَاوسٌ (¬3). وقد ذَكَرْنا حديثَ ابنِ عمرَ: أرأيتَ لو طَلَّقْتُها (¬4) ثلاثًا. ورَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬5) بإسْنادِه عن عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، قال: طَلَّقَ بعضُ آبائِى امْرأتَه ألفًا، فانْطلَقَ بَنوه إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أبانا طَلَّقَ أُمَّنا ألفًا، فهلِ له مَخْرَجٌ؟ فقال: «إِنَّ أبَاكُمْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَل لَهُ مِنْ أمْرِهِ مَخْرَجًا، بَانتْ مِنْهُ بثَلاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمائَةٍ وسبعةٌ وتِسْعُونَ إثمٌ في عُنُقِهِ». ولأَنَّ النِّكاحَ مِلْكٌ يَصِحُّ إزالَتُه مُتَفرِّقًا، فصَحَّ مُجْتَمِعًا، كسائرِ الأمْلاكِ. فأمَّا حديثُ ابنِ عباسٍ، فقد صَحَّتِ الرِّوايةُ عنه بخِلافِه، وأفْتَى بخلافِه. قال الأَثْرَمُ: ¬

(¬1) في: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 509. كما أخرجه مسلم، في: باب طلاق الثلاث، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1099. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 314. (¬2) في الموضع السابق. سنن أبى داود 1/ 508. (¬3) انظر سنن أبى داود الموضع السابق. وانظر ما تقدم في صفحة 180. وما أخرجه الدارقطنى في: سننه 4/ 12 - 14. (¬4) في النسختين: «طلقها». وانظر تخريج الحديث في صفحة 173. (¬5) في: كتاب الطلاق والخلع والإِيلاء وغيره. سنن الدارقطنى 4/ 20. وضعف إسناده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن حديثِ ابنِ عباسٍ، بأىِّ شئٍ تَدْفَعُه؟ فقال: أدْفَعُه بروايةِ النَّاسِ عن ابنِ عباسٍ مِن وُجُوهٍ خلافَه. ثم ذَكَرَ عن [عِدَّةٍ، عن] (¬1) ابنِ عباسٍ مِن وُجوهٍ خلافَه، أنَّها ثلاثٌ. وقيلَ: معنى حديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّ النَّاسَ كانوا يُطَلِّقُونَ واحدةً على عَهْدِ رسولِ ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً، أَوْ آيِسَةً، أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَلَا سُنَّةَ لطَلاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ إِلَّا في الْعَدَدِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. أَوْ قَالَ: لِلْبِدْعَةِ، طَلُقَتْ فِى الْحَال وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكرٍ. وإلَّا فلا يَجوزُ أن يُخالِفَ عمرُ ما كان في عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكرٍ، ولا يَسُوغُ لابنِ عباسٍ أَنْ يَرْوِىَ هذا عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ويُفْتِىَ بخِلافِه. فصل: فإنْ طَلَّقَ اثْنَتين في طُهْرٍ، ثم تَركَها حتى انْقَضَتْ عِدَّتُها، فهو للسُّنَّةِ؛ لأنَّه لم يُحَرِّمْها على نَفْسِه، ولِم يَسُدَّ على نَفْسِه المَخْرَجَ مِنَ النَّدَمِ، ولكنَّه تركَ الاخْتِيارَ؛ لأنَّه فَوَّتَ على نفْسِه طَلْقَةً جعلَها اللَّهُ له مِن غيرِ فائدةٍ تحْصُلُ بها، فكان مكْروهًا، كتَضْيِيعِ المالِ. (فإن كانتِ المرأةُ صغيرةً، أو آيِسَةً، أو غيرَ مَدْخولٍ بها، أو حامِلًا قد اسْتَبانَ حَمْلُها، فلا سُنَّةَ لِطَلاقِها ولا بِدْعَةَ إلَّا في العَدَدِ، فإذا قال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ. أو قال: للبِدْعَةِ. طَلُقَتْ في الحالِ واحدةً) قال ابنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ البَرِّ (¬1): أجْمَعَ العُلَماءُ أنَّ طَلاقَ السُّنَّةِ إنَّما هو للمَدْخولِ بها، فأمَّا غيرُ المَدْخولِ بها، فليس لِطَلاقِها سُنَّةٌ ولا بِدْعَةٌ، إلَّا في عَدَدِ الطَّلاقِ. على اخْتِلافٍ بينَهم فيه؛ وذلك لأَنَّ الطَّلاقَ في حَقِّ المدْخُول بها إذا كانتْ مِن ذَواتِ الأقْراءِ إنَّما كان له سُنَّةٌ وبدعةٌ؛ لأَنَّ [العِدَّةَ تطولُ] (¬2) عليها بالطَّلاقِ في الحَيْضِ، وتَرْتابُ بالطَّلاقِ في الطُّهْرِ الذى جامَعَها فيه، ويَنْتَفى عنها الأمْرانِ بالطَّلاقِ في الطُّهْرِ الذى لم يُجامِعْها فيه، أمَّا غيرُ المدْخُولِ بها، فلا عِدَّةَ عليها [يُنْفَى تَطْويلُها ولا] (¬3) الارْتِيابُ فيها، وكذلك ذَواتُ الأشْهُرِ؛ كالصَّغِيرةِ التى لم تَحِضْ، والآيِسَاتِ مِنَ المَحِيضِ، لا سُنَّةَ لِطلاقِهِنَّ ولا بِدْعةَ؛ لأَنَّ العِدَّةَ لا تَطولُ بطلاقِها في حالٍ، ولا تَحْمِلُ فتَرْتابَ. وكذلك الحامِلُ التى اسْتَبانَ حَمْلُها، فهؤلاءِ كلُّهنَّ ليس لطلاقِهِنَّ سُنَّةٌ ولا بِدْعَةٌ مِن جِهَةِ الوقتِ، في قولِ أصحابِنا. وهو مذهبُ الشافعىِّ، وكثيرٍ مِن أهلِ العلمِ. فإذا قال لإِحْدَى هؤلاءِ: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ -أو- لِلبدْعةِ. وقَعتْ طَلْقةٌ في الحالِ، ولَغَتِ الصِّفَةُ؛ لأَنَّ طَلاقَها لا يَتَّصِفُ بذلك، فصارَ كأنَّه قال: أنتِ طالقٌ. ولم يَزِدْ. وكذلك إن قال: ¬

(¬1) انظر التمهيد 15/ 72، 73. (¬2) في الأصل: «العدد يطول». (¬3) في م: «تبقى بتطويلها أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ والبِدْعةِ. أو قال: أنتِ طالقٌ لا لسُّنَّةِ ولا لِلبدْعةِ. طَلُقَتْ في الحالِ؛ لأنَّه وَصَفَ الطَّلْقَةَ بصِفَتِها. ويَحْتَمِلُ كلامُ الخِرَقِىِّ أن يكونَ للحامِلِ طلاقُ سُنَّةٍ؛ لأنَّه طَلاقٌ أُمِرَ به؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا». روَاه مسلمٌ (¬1). وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، فإنَّه قال: أذْهَبُ إلى حديثِ سالمٍ عن أبِيه. يعنى هذا الحديثَ. ولأنَّها في حالٍ انْتقَلتْ إليها بعدَ زَمَنِ البِدْعَةِ، ويُمْكِنُ أن تَنْتقِلَ عنها إلى زمانِ البِدْعَةِ، فكان طلاقُها طَلاقَ سُنَّةٍ، كالطّاهِرِ مِن الحَيْضِ مِن غيرِ مُجَامَعَةٍ. ويتَفَرَّعُ مِن هذا، أنَّه لو قال لها: أنتِ طالقٌ للبِدْعةِ. لم تَطْلُقْ في الحالِ، فإذا وضَعَتِ الحَمْلَ طَلُقَتْ؛ لأَنَّ النِّفاسَ ¬

(¬1) في: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1095. كما أخرجه أبو داود، في: باب في طلاق السنة، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 504. والترمذى، في: باب ما جاء في طلاق السنة، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 124، 125. والنسائى، في: باب ما يفعل إذا طلق تطليقة وهى حائض؟ من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 114. وابن ماجه، في: باب الحامل كيف تطلق، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 652. والدارمى، في: باب السنة في الطلاق، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 160. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 26، 58، 59.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زمانُ بدْعَةٍ، كالحَيْضِ. وقولُه: إلَّا في العَدَدِ. يعنى أنَّه يُكْرَهُ له أن يُطَلِّقَ ثلاثًا أوَ يَحْرُمُ؛ لأنَّه إذا طلَّقَ ثلاثًا، لم يَبْقَ له سَبِيلٌ إلى الرَّجْعَةِ، فطلاقُ السُّنَّةِ في حَقِّهم أن يكونَ واحدةً؛ ليكونَ له سَبِيلٌ إلى تَزَوُّجِها مِن غيرِ أن تَنْكِحَ زوجًا غيرَه. فصل: وإنْ قال لصغيرِةٍ أو غيرِ مَدْخولٍ بها: أنتِ طالقٌ لِلبدْعَةِ. ثم قال: أرَدْتُ إذا حاضَتِ الصغيرةُ -أو- أُصيبتْ (¬1) غيرُ المَدْخولِ بها. أو قال لهما: أنْتُما طالقتانِ للسُّنَّةِ. وقال: أرَدْتُ طلاقَهما في زمنٍ يصيرُ طَلاقُهما فيه للسُّنَّةِ. دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ فيه وَجْهان، ذكَرَهُما القاضى؛ أحدُهما، لا يُقْبَلُ. وهو [مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه خلافُ الظَّاهرِ، فأشْبَهَ ما لو قال: أنتِ طالقٌ. ثم قال: أرَدْتُ إذا دَخَلتِ الدَّارَ. والثانى: يُقْبَلُ. وهو] (¬2) أشْبَهُ بالمذهبِ؛ لأنَّه فَسَّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه، فيُقْبَلُ (¬3)، كما لو قال: أنتِ طالقٌ، [أنتِ طالقٌ] (¬4). وقال: أرَدْتُ [بالثانيةِ إفْهامَها] (¬5). فصل: إذا قال لها في طُهْرٍ جَامَعَها فيلا: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أصبت». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «فقيل». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «الثانية إفهاما».

3436 - مسألة: (وإن قال لمن لها سنة وبدعة: أنت طالق للسنة. فى طهر لم يصبها فيه، طلقت فى الحال، وإن كانت حائضا، طلقت إذا طهرت، وإن كان فى طهر أصابها فيه، طلقت إذا طهرت من الحيضة المستقبلة)

وَإِنْ قَالَ لِمَنْ لَهَا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. فِى طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، طَلُقَتْ فِى الْحَال، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، طَلُقَتْ إِذَا طَهُرَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِى طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، طَلُقَتْ إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَئِسَتْ مِن الحَيْضِ، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّه وَصَفَ طلاقَها بأنَّه للسُّنَّةِ في زمنٍ يَصْلُحُ له، فإذا صارتْ آيِسَةً، فليس لطَلاقِها سُنَّةٌ، فلم تُوجَدِ الصِّفَةُ، فلا يَقَعُ. وكذلك إنِ اسْتَبانَ حَمْلُها، لم يَقَعْ أيضًا، إلَّا على قولِ مَنْ جعلَ طلاقَ الحامِلِ طلاقَ (¬1) سُنَّةٍ، فإنَّه يَنْبَغِى أن يَقَعَ؛ لوُجُودِ الصِّفَةِ، كما لو حاضَتْ ثم طَهُرَتْ. 3436 - مسألة: (وإن قال لمَن لها سُنَّةٌ وبِدْعَةٌ: أنتِ طالِقٌ للسُّنَّةِ. في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه، طَلُقَتْ في الحالِ، وإن كَانَتْ حَائِضًا، طَلُقَتْ إذا طَهُرَتْ، وَإِنْ كَانَ في طُهْرٍ أصَابَها فِيهِ، طَلُقَتْ إذَا طَهُرَتْ مِن الحَيْضَةِ المُسْتَقْبَلَةِ) إذا قال لامْرأتِه: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ. فمَعْناه في وَقْتِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّنَّةِ، فإن كانت في طُهْرٍ غيرَ مُجامَعَةٍ فيه، فهو وقتُ السُّنَّةِ على ما أسْلَفْناه، وكذلك إن كانت حامِلًا قد اسْتَبَانَ حَمْلُها، على ظاهِرِ كلامِ أحمدَ. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في الحامِلِ. فإذا قال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ. في الحَالَتَيْن، طَلُقَتْ؛ لأنَّه وَصَفَ الطَّلْقَةَ بصِفَتِها، فوَقَعَتْ في الحالِ. وإن قال ذلك لحائضٍ، لم يَقَعْ في الحالِ؛ لأَنَّ طَلاقَها طَلاقُ بِدْعَةٍ، لكنْ إذا طَهُرَتْ طَلُقَتْ؛ لأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ حِينَئِذٍ، فصارَ كأنَّه قال: أنتِ طالقٌ في النَّهارِ. فإن كان في النَّهارِ طَلُقَتْ، وإن كانت في اللَّيْلِ طَلُقَتْ إذا جاءَ النَّهارُ. وإنْ كانت في طُهْرٍ جَامَعَها فيه، لم يَقَعْ حتى تَحِيضَ ثم تَطْهُرَ؛ لأَنَّ الطُّهْرَ الذى جَامَعَها فيه والحَيْضَ بعدَه زمانُ بِدْعةٍ، فإذا طَهُرَتْ مِن الحَيْضَةِ المُسْتَقْبَلَةِ، طَلُقَتْ حِينَئذٍ؛ لأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. فإن أوْلَجَ في آخِرِ الحَيْضَةِ، واتَّصَلَ بأوَّلِ الطُّهْرِ، أو أوْلَجَ مع أوَّلِ الطُّهْرِ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ في ذلك الطُّهْرِ، لكنْ متى جاءَ طُهْرٌ لم يُجامِعْها فيه، طَلُقَتْ في أوَّلِه. وهذا كلُّه مذهبُ الشافعىِّ، ولا أعلمُ فيه مخالفًا. فصل: إذا انْقَطَعَ الدَّمُ مِن الحَيْضِ، فهو زمانُ السُّنَّةِ، يَقَعُ عليها طلاقُ السُّنَّةِ وإن لم تغْتَسِلْ. كذلك قال أحمدُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وبه

3437 - مسألة: (وإن قال لها: أنت طالق للبدعة. وهى حائض

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. وَهِىَ حَائِضٌ أَوْ فِى طُهْرٍ أَصَابَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، إن طَهُرَتْ لأكْثرِ الحَيْضِ مثلَ ذلك: وإنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أكْثرِه، لم يَقَعْ حتى تَغْتسلَ أو تَتيَمَّمَ عندَ عدمِ الماءِ و (¬1) تُصَلِّىَ، أو يَخْرُجَ عنها وقتُ صلاةٍ؛ لأنَّه متى لم يُوجَدْ، فما حكَمْنا بانْقِطاعِ حَيْضِها. ولَنا، أنَّها طاهرٌ، فوَقَعَ بها طَلاقُ السُّنَّةِ، كالتى طَهُرَتْ لأكْثرِ الحَيْضِ، والدَّليلُ على أنَّها طاهرٌ، أنَّها تُؤْمَرُ بالغُسْلِ، ويَلْزَمُها، ويَصِحُّ منها، وتُؤْمَرُ بالصَّلاةِ، وتَصِحُّ صلاتُها، ولأَنَّ في حديثِ ابنِ عمرَ: «فَإِذَا طَهُرَتْ، طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ» (¬2). وما قالَه لا يَصِحُّ، فإنَّنا لو لم نَحْكُمْ بالطُّهْرِ، لَما أمَرْناها بالغُسْلِ، ولا صَحَّ منها. 3437 - مسألة: (وإنْ قَالَ لَهَا: أنْتِ طَالِقٌ لِلْبدْعَةِ. وهى حَائِضٌ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) هذه الرواية أخرجها الدارقطنى، في: سننه 4/ 6. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 326.

فِيهِ، طَلُقَتْ فِى الْحَالِ. وَإِنْ كَانَتْ فِى طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ طَلُقَتْ إِذَا أَصَابَهَا أَوْ حَاضَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَوْ في طُهْرٍ أصَابَهَا فيهِ، طَلُقَتْ في الحَالِ. وإن كان في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه، طَلُقَتْ إذا أصابَها أو حاضَتْ) هذة المسألةُ عكسُ المسألةِ التى قبلَها، فإنَّه وَصَفَ الطَّلْقَةَ بأنَّها لِلبدْعَةِ، فإذا كان ذلك لحائضٍ أو طاهرٍ مُجَامَعَةٍ فيه، وقَعَ الطَّلاقُ في الحالِ؛ لأنَّه وصَفَ الطَّلْقَةَ بصِفَتِها. وإنْ كانت في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه، لم يَقَعْ في الحالِ، فإذا حاضَتْ طَلُقَتْ بأوَّلِ الحَيْضِ، وإنْ أصابَها طَلُقَتْ بالْتِقَاءِ الخِتَانَيْنِ، فإن نَزَعَ مِن غيرِ تَوَقُّفٍ، فلا شئَ عليهما، وإنْ أوْلَجَ بعدَ النزْعِ، فقد وَطِئَ مُطلَّقَتَه، ويَأْتِى بَيانُ حُكْمِ ذلك. وإنْ وَطِئَها واسْتدامَ، فسنذْكُرُها إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فيما بعدُ. فصل: فإنْ قال لطاهرٍ: أنتِ طالقٌ لِلبدْعةِ في الحالِ. فقد قيل: تَلْغُو الصِّفَةُ، ويَقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّه وَصَفَها بما لا تَتَّصِفُ به، فلَغَتِ الصِّفَةُ دُونَ الطَّلاقِ. ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ ثلاثًا في الحالِ؛ لأَنَّ ذلك طَلاقُ بِدْعةٍ، فانْصَرَفَ الوَصْفُ بالِبدْعةِ إليه، لتَعَذُّرِ صِفَةِ البِدْعَةِ مِن الجِهَةِ الأُخْرَى. وإن قال لحائِضٍ: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ في الحالِ. لَغَتِ الصِّفَةُ، ووَقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّه وصَفَ الطَّلْقَةَ بما لا تَتَّصِفُ به. وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا للسُّنَّةِ، وثلاثًا للبِدْعَةِ. طَلُقَتْ ثلاثًا في الحالِ، بِناءً على ما سنذْكُرُه.

3438 - مسألة: (وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا للسنة. طلقت ثلاثا فى طهر لم يصبها فيه، فى إحدى الروايتين. وفى الأخرى، تطلق فى الحال واحدة، وتطلق الثانية والثالثة فى طهرين في نكاحين إن أمكن)

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا لِلسُّنَّةِ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِى طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِى الْأُخْرَى، تَطْلُقُ فِيهِ وَاحِدَةً، وَتَطْلُقُ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فِى طُهْرَيْنِ فِى نِكَاحَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3438 - مسألة: (وإن قال لها: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا للسُّنَّةِ. طَلُقَتْ ثَلاثًا في طُهْرٍ لَم يُصِبْهَا فيهِ، فِى إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ. وفى الأُخْرَى، تَطْلُقُ في الحَالِ وَاحدَةً، وتَطْلُقُ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ في طُهْرَيْنِ فِي نِكَاحَيْنِ إنْ أمْكَنَ) المنْصوصُ عن أحمدَ في هذه المسألةِ، أنَّها تَطْلُقُ ثلاثًا إن كانت في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه، وإن كانت حائِضًا، طَلُقَتْ ثلاثًا إذا طَهُرَتْ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال القاضى، وأبو الخَطَّابِ: هذا على الرِّوايةِ التى قال فيها: إنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ يكونُ (¬1) سُنَّةً. فأمَّا على الرِّوايَةِ الأُخْرَى، فإذا طَهُرَتْ طَلُقَتْ واحدةً، وتَطْلُقُ الثَّانيةَ والثَّالِثَةَ في نِكاحَيْنِ آخَرَيْنِ، أو بعدَ رَجْعَتَيْنِ. وقد أنْكَرَ أحمدُ هذا القولَ، فقال في رِوايةِ مُهَنَّا، إذا قال لامْرأتِه: أنتِ طالقٌ ثَلاثًا للسُّنَّةِ: فقد اخْتَلَفُوا فيه، فمنهم مَن يقولُ: يَقَعُ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها السَّاعَةَ واحدةٌ، فلو راجعَها تَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى، وتكونُ عندَه على أُخْرَى. وما يُعْجِبُنِى قوْلُهم هذا. فيَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ أوْقَعَ الثَّلاثَ؛ لأَنَّ ذلك عندَه سُنَّةٌ، ويَحْتَمِلُ أنَّه أوْقَعَها لوَصْفِه الثَّلاثَ بما لا تَتَّصِفُ به، فألْغَى الصِّفَةَ وأوْقَعَ الطَّلاقَ، كما لو قال لحائضٍ: أنت طالقٌ في الحالِ للسُّنَّةِ. وقد قال في روايةِ أبى الحارِثِ ما يَدُلُّ على هذا، قال: يَقَعُ عليها الثَّلاثُ، ولا مَعْنَى لقولِه: للسُّنَّةِ: وقال أبو حنيفةَ: يَقَعُ في كلِّ قَرْءٍ طَلْقَةٌ، وإن كانتْ مِن ذَواتِ الأشْهُرِ وقعَ في كلِّ شَهْرٍ طَلْقةٌ. وبناه على أصْلِه في أنَّ السُّنَّةَ تَفْرِيقُ الثَّلاثِ على الأطْهارِ، وقد بَيَّنَّا أن ذلك في حُكْمِ جَمْعِ الثَّلاثِ. فإن قال: أرَدْتُ بقَوْلِى: لِلسُّنَّةِ. إيقاعَ واحدةٍ في الحالِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واثْنَتَيْن في نِكاحَيْن آخَرَيْنِ. قُبِل منه. وإن قال: أرَدْتُ أن يَقَعَ في كلِّ قَرْءٍ طَلْقَةٌ. قُبِلَ أيضًا؛ لأنَّه مذهبُ طائِفةٍ مِن أهلِ العلمِ، وقد ورَدَ به الأثَرُ، فلا يَبْعُدُ أن يُرِيدَه. وقال أصحابُنا: يُدَيَّنُ (¬1). وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، لا يُقْبَلُ؛ لأَنَّ ذلك ليس بسُنَّةٍ. والثانى، يُقْبَلُ؛ لِما قَدَّمْنا. فإن كانت في زمنِ البِدْعَةِ، فقال: سَبَقَ لِسانِي إلى قَوْلِى: للسُّنَّةِ، ولم أُرِدْه، وإنَّما أرَدْتُ الإِيقاعَ في الحالِ. وقعَ في الحالِ؛ لأنَّه مالكٌ لإيقاعِها، فإذا اعْتَرَفَ بما يُوقِعُها قُبِلَ منه. ¬

(¬1) أي يصدق فيما بينه وبين اللَّه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بعضُهُنَّ للسُّنَّةِ وبعْضُهنَّ لِلبدْعةِ. طَلُقَتْ في الحالِ طَلْقَتَيْنَ، وتَأَخَّرَتِ الثّالثةُ إلى الحالِ الأُخْرَى؛ لأنَّه سَوَّى بينَ الحالَينِ، فاقْتَضَى الظَّاهِرُ أن يكُونا سَواءً، فيَقَعُ في الحالِ واحدةٌ ونِصْفٌ، ثم يُكَمَّلُ النِّصْفُ؛ لكَوْنِ الطَّلاقِ لا يَتَبَعَّضُ. ويَحْتَمِلُ أن تَقَعَ طَلْقَةٌ، وتَتَأَخَّرَ اثْنَتانِ إلى الحالِ الأُخْرَى؛ لأَنَّ البعضَ يقعُ على ما دُونَ الكُلِّ، ويتَناولُ القليلَ مِن ذلك والكثيرَ، فيقَعُ أقَلُّ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ؛ لأنَّه اليَقِينُ، وما زادَ لا يقَعُ بالشَّكِّ، فيتَأَخَّرُ إلى الحالِ الأُخْرى. فإن قيلَ: فلِمَ لا يَقَعُ مِن كلِّ طَلْقَةٍ بعضُها، ثم تُكَمَّلُ، فتَقَعُ الثَّلاثُ؟ قُلْنا: متى (¬1) أمْكَنَتِ القِسْمَةُ مِن غيرِ تَكْسيرٍ، وجَبَتِ القِسْمةُ على الصِّحَّةِ. فإن قال: نِصْفُهنَّ للسُّنَّةِ ونِصْفُهنَّ لِلبدْعةِ. وقعَ في الحالِ ¬

(¬1) في الأصل: «متى ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اثْنَتانِ، وتَأَخَّرَتِ الثَّالثَةُ. وإن قال: طَلْقتانِ للسُّنَّةِ وواحدةٌ لِلبدْعةِ -أو- طَلْقَتانِ لِلبدْعةِ وواحدةٌ للسُّنَّةِ. فهو على ما قال. فإنْ أَطلَقَ (¬1) ثم قال: نوَيْتُ ذلك. إن فَسَّرَ نِيَّتَه بما يُوقِعُ في الحالِ طَلُقَتْ، وقُبِلَ؛ لأنَّه مُقْتَضَى (¬2) الإِطْلاقِ، ولأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ فيه. وإن فَسَّرَها بما يُوقِعُ طَلْقةً واحدةً، ويُؤَخِّرُ اثْنَتَيْنِ، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعْالى. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ فيه وَجْهان؛ أظْهَرُهما، أنَّه يُقْبَلُ؛ لأَنَّ البعْضَ حَقِيقةٌ في القليلِ والكثيرِ، فما فَسَّرَ كلامَه به لا يُخالِفُ الحقيقةَ، فيَجِبُ أن يُقْبَلَ. والثانى، لاْ يُقْبَلُ؛ لأنَّه فَسَّرَ كلامَه بأخَفَّ ممَّا يَلْزَمُه حالَةَ الإِطْلاقِ. ومذهبُ الشافعىِّ على نحوِ هذا. فإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بعضُها (¬3) للسُّنَّةِ. ولم يَذْكُرْ شيئًا آخَرَ، احْتَمَلَ أن تكونَ كالتى قبلَها؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن ذلك أن يكونَ بعضُها للبِدْعةِ، فأشْبَهَ ما لو صَرَّحَ به. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ في الحالِ إلَّا واحدةٌ؛ لأنَّه لم يُسَوِّ بينَ الحالَيْنِ، والبَعْضُ لا يَقْتَضِى النِّصْفَ، فتَقَعُ الواحدةُ؛ لأنَّها اليقِينُ، والزَّائدُ لا يقَعُ بالشَّكِّ. وكذلك لو قال: بعضُها للسُّنَّةِ وباقِيها لِلبدْعةِ -أو- سائِرُها لِلبدْعةِ. ¬

(¬1) في م: «طلق». (¬2) في النسختين: «يقتضى». وانظر المغنى 10/ 339. (¬3) في م: «بعضهن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال: أنتِ طالقٌ إذا قَدِمَ زيدٌ. فقَدِمَ وهى حائضٌ، طَلقَتْ لِلبدْعةِ، إِلَّا أنَّه لا يَأْثَمُ؛ لأنَّه لم يَقْصِدْه. وإن قال (¬1): أنتِ طالقٌ إذا قَدِمَ زيدٌ للسُّنَّةِ. فقَدِمَ زيد في زَمانِ السُّنَّةِ، طَلقَتْ. وإن قَدِمَ في زمانِ البِدْعَةِ، لم يَقَعْ، حتى إذا صارتْ إلى زمانِ السُّنَّةِ وقعَ، ويَصير كأنَّه قال: إن قَدِمَ زيدٌ أنتِ طالق للسنةِ. لأنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ بقدومِ زيدٍ على صِفَةٍ، فلا يَقَعُ إلَّا عليها. وإن قال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ إذا قَدِمَ زيد. قبلَ أَنْ يدْخلَ بها، طَلُقَتْ عندَ قدومِه، حائضًا كانت أو طاهِرًا؛ لأنَّها لا سنَّةَ لطلاقِها ولا بِدْعةَ. وإن قَدِم بعدَ دخولِه بها، وهى في طُهْرٍ لم يصِبْها فيه، طَلقَتْ. وإن قدِمَ في زمنِ البِدْعَةِ، لم تَطْلُقْ حتى يَجِئَ زمن السُّنَّةِ؛ لأنَّها صارتْ ممَّن لطلاقِها سُنَّةٌ وبِدْعة. وإن قال لامْرأتِه: أنتِ طالقٌ إذا جاءَ رأسُ الشَّهْرِ للسُّنَّةِ. فكان رأسُ الشَّهْرِ في زمنِ السُّنَّةِ، وقَعَ، وإلَّا وقَعَ إذا جاء زمانُ السُّنَّةِ. ¬

(¬1) في م: «قالت».

3439 - مسألة: (وإن قال لها: أنت طالق فى كل قرء طلقة. وهى من اللائى لم يحضن، لم تطلق حتى تحيض، فتطلق فى كل حيضة طلقة)

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أنْتِ طَالِقٌ فِى كُلِّ قَرْءٍ طَلْقَةً. وَهِىَ مِنَ اللَّائِى لَمْ يَحِضْنَ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَطْلُقُ فِى كُلِّ حَيْضَةٍ طَلْقَةً. وَإِنْ قُلْنَا: الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ. فَهَلْ تَطْلُقُ طَلْقَةً فِى الْحَالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَيَقَعُ بِهَا الْبَاقِى فِى الأَطْهَارِ الْبَاقِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3439 - مسألة: (وإنْ قَالَ لَهَا: أنْتِ طَالِق في كُلِّ قَرْءٍ طَلْقَةً. وَهِىَ مِنَ اللَّائِى لَمْ يَحِضْنَ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَطْلُقُ في كُلِّ حَيْضَةٍ طَلْقَةً) فإن كانت مِن ذَواتِ القُروءِ، وقعَ في كُلِّ قَرْءٍ طلقةٌ. فإن كانت في القَرْءِ (¬1) وقَعتْ بها واحدة في الحالِ، ووَقَعَ بها طَلْقتانِ في قَرْأَيْن آخَرَيْن في أوَّلِهِما (¬2)، سواء قُلْنا: القُروءُ (3) الحِيَضُ -أو- الأطْهارُ. وسواءٌ كانت مَدْخولًا بها أو غيرَ مَدْخولٍ بها، إلَّا أن غيرَ المَدْخولِ بها تَبِينُ بالطَّلْقَةِ الأُولَى، فإن تَزَوَّجَهَا، وقَعَ بها في القَرْءِ الثَّانى طَلْقة أُخْرَى. وكذلك الحُكْمُ في الثَّالثةِ. فإنْ كانت مِن اللَّائِى لم يَحِضْنَ، وقُلْنا: القُروءُ (¬3) الحِيَضُ. لم تَطْلُقْ حتى تَحِيض، فتَطْلُقُ في كلِّ حَيْضَةٍ طَلْقةً (وإنْ قُلْنا: القُروءُ الأطْهارُ) احْتَمَلَ أَنْ تَطْلُقَ في الحالِ واحدةً، ثم لا تَطْلُقُ حتى ¬

(¬1) في الأصل: «القروء». (¬2) في الأصل: «أولها». (¬3) في م: «القرء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحِيضَ، ثم تَطْهُرَ فتَطْلُقَ الثَّانيةَ، ثم الثَّالثةَ في [الطُّهْرِ الآخَرِ] (¬1)؛ لأَنَّ الطُّهْرَ قبلَ الحَيْضِ كله قَرْء واحد. ويَحْتَمِلُ أن لا تَطْلُقَ حتى تَطْهُرَ بعدَ الحَيْضِ، لأَنَّ القَرْءَ هو الطُّهْرُ بينَ حَيْضَتَيْنِ، فلذلك (¬2) لو حاضَتِ الصَّغيرةُ في عِدَّتِها، لم تَحْتَسبْ بالطُّهْرِ الذى قبلَ الحَيْضِ مِن عِدَّتِها، في أحَدِ الوَجْهَيْن. والحُكْمُ في الحامِلِ كالحُكْمِ في الصَّغيرةِ؛ لأَنَّ زمنَ الحَمْلِ كلَّه قَرْءٌ واحدٌ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ، إذا قُلْنا: الأقْراءُ الأطْهارُ. والوَجْهُ الآخَرُ، ليس بقَرْء على كلِّ حالٍ. وإن كانت آيِسَةً، فقال القاضى: تَطْلُقُ واحدَةً على كلِّ حالٍ؛ لأنَّه عَلَّقَ طَلاقَها بصفَةٍ تَسْتَحِيلُ فيها، فَلغَتْ ووَقَعَ بها الطَّلاقُ، كما لو قال لها: أنتِ طالقٌ للبدْعَةِ. وإذا طَلُقَتِ الحاملُ في حالِ حَمْلِها، بانَتْ بوَضْعِه (¬3)؛ لأَنَّ عِدَّتَها تَنْقَضِى به، فلم يَلْحَقْها طلاق آخَرُ. فإنِ اسْتَأنَفَ نكاحَها (¬4)، أو راجَعَها قبلَ وَضْعِ حَمْلِها، ثم طَهُرَتْ مِن النِّفاسِ، طَلُقَتْ أُخْرَى، ثم إذا حاضَتْ ثم طَهُرَتْ وقَعتِ الثَّالثةُ. ¬

(¬1) في م: «القرء». (¬2) في م: «وكذلك». (¬3) في م: «بوصفه». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ إن كان الطَّلاقُ يقَعُ عليك للسُّنَّةِ. وهى في زمنِ السُّنَّةِ، طَلُقَتْ بوُجودِ الصِّفَةِ. وإن لم تكُنْ في زمنِ السُّنَّةِ، انْحَلَّتِ الصِّفَةُ، ولم يَقَعْ بحالٍ؛ لأنَّ الشَّرْطَ ما وُجِدَ. وكذلك إنْ قال: أنتِ طالقٌ لِلبدْعةِ إن كان الطَّلاقُ يَقَعُ عليك للبدْعةِ. إن كانت في زمنِ البِدْعةِ، وقَعَ، وإلَّا لم يَقَعْ بحالٍ. فإن كانت ممَّن لا سُنَّةَ لطلاقِها ولا بِدْعةَ، فذكرَ القاضى فيها احْتمالَيْن؛ أحدُهما، لا يقَعُ في المسألَتَين؛ لأنَّ الصِّفَةَ ما وُجِدَتْ، فأشْبَهَ ما لو قال: أنتِ طالقٌ إن كنتِ هاشِميَّةً. ولم تكُنْ كذلك. والثانى، تَطْلُقُ؛ لأنَّه شَرَطَ لوُقوعِ الطَّلْقَةِ شَرْطًا مُسْتَحِيلًا، فلَغَى، ووَقَعَ الطَّلاقُ. والأوَّلُ أشْبَهُ. وللشَّافعيَّةِ (¬1) وَجْهان كهذَيْن. ¬

(¬1) في م: «للشافعى».

3440 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق أحسن الطلاق -أو- أجمله. فهو كقوله: أنت طالق للسنة)

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلاقِ -أَوْ- أجْمَلَهُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3440 - مسألة: (وَإِنْ قَالَ: أنْتِ طَالِق أحْسَنَ الطَّلاقِ -أَوْ- أجْمَلَه. فهو كقَوْلِه: أنْتِ طَالِق للسُّنَّةِ) وكذلك إنْ قال: أعْدلَه -أو- أبهْملَه -أو- أتَمَّه -أو- أفْضَلَه. أو: طَلْقة جيلةً (¬1) -أو- سَنِيَّةً. فذلك كلُّه عبارة عن طلاق السُّنَّةِ. وبه قال الشافعى. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: إذا قال: أعْدلَ الطَّلاق -أو- أحْسنَه. كقَوْلِنا، وإن قال: [سَنِيَّةً -أو- عَدْلَةً] (¬2). وقعَ الطَّلاقُ في الحالِ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ لا يتَّصِفُ بالوقْتِ، والسُّنَّةُ والبِدْعَةُ وقتٌ، فإذا وصَفَها بما لا تتَّصِفُ به، سَقَطَتِ الصِّفةُ، كما لو قال لغيرِ المدْخولِ بها: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً رجْعيَّةً. أو قال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ -أو- للبِدْعةِ. ولَنا، أنَّ ذلك عبارة عن طَلاق السُّنَّةِ، ويَصِحُّ وَصْفُ الطَّلاقِ بالسنةِ والحُسْنِ؛ لكَوْنِه في ذلك الوقتِ مُوافِقًا للسُّنَّةِ، مُطابِقًا للشَّرْعِ، فهو كقَوْلِه: أحْسَنَ الطَّلاقِ (¬3). وفارقَ قوْلَه: طلْقةً رَجْعِيَّةً. لأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ لا تكونُ إلَّا في عِدَّةٍ، ولا عِدَّة لها، فلا يحْصُلُ ذلك بقَوْلِه. ¬

(¬1) في م: «جليلة». (¬2) في م: «سنته أو أعدله». (¬3) سقط من: م.

3441 - مسألة: (وإن قال: أقبحه وأسمجه)

وإنْ قَالَ لَهَا: أَقْبَحَ الطَّلاقِ -أو- أَسْمَجَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: للْبِدْعَةِ. إِلَّا أَنْ يَنْوِىَ: أَحْسَنُ أَحْوَالِكِ أَوْ أقْبَحُهَا أَنْ تَكُونِى مُطَلَّقَةً، فَيَقَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قال: نَوَيْتُ بقولِى: أعْدلَ الطَّلاقِ. وُقُوعَه في زمانِ الحَيْضِ؛ لأنَّه أشْبَهُ بأخْلاقِها القَبيحَةِ، ولم أُرِدِ الوَقْتَ. وكانت في الحَيْضِ، وقعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّه إقْرارٌ على نفْسِه بما فيه تَغْلِيظٌ. وإن كانت في حالِ السُّنَّةِ، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ على وَجْهَيْن، كما تَقَدَّمَ. 3441 - مسألة: (وَإِنْ قَالَ: أقْبَحَهُ وأسْمَجَهُ) أو -أفْحَشَهُ- أو -أرْدَأهُ -أو- أنْتَنَهُ (¬1). حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ البِدْعَةِ، فإنْ كانت في وقتِ البِدْعةِ، وألا وقفَ على مَجِئِ زمانِ البِدْعةِ. وحُكِىَ عن أبى بكرٍ أنَّه يقعُ ثلاثًا، إن قُلْنا: أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ بدْعة. ويَنْبغِى أن تَقَعَ الثلاث في وقْتِ البِدْعةِ؛ ليكُونَ جامِعًا لبِدْعَتى الطَّلاقِ، فيكونَ أقْبَحَ الطَّلاقِ. وإن نَوَى بذلك غيرَ طَلاقِ البِدْعةِ، نحوَ أن يقولَ: إنَّما أرَدْتُ أنَّ طَلاقَكِ أقْبَحُ الطَّلاقِ؛ لأنَّك لا تَسْتَحِقِّينَه؛ لحُسْنِ عِشْرَتِك، وجَميلِ طَريقَتِك. وقَعَ في الحالِ. وإن قال: أرَدْتُ بذلك طَلاقَ السُّنَّةِ. ليَتأَخَّرَ الطَّلاقُ عن نَفْسِه إلى زمَنِ السُّنَّةِ، لم يُقْبَلْ؛ لأَنَّ لفْظَه لا يَحْتَمِلُه. 3442 - مسألة: وإنْ قَالَ: أرَدْتُ أنَّ (أحْسَنَ أحْوَالِكِ أَوْ أقْبَحَهَا ¬

(¬1) في م: «ألكعه».

3443 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة)

فِى الْحَالِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً. طَلُقَتْ فِى الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنْ تَكُونِى مُطَلقَةً. فَيَقَعُ في الحَالِ) لأَنَّ هذا يُوجَدُ في الحالِ، فوقَعَ فيه. 3443 - مسألة: (وإنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِق طَلْقَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً) فَاحِشَةً جَمِيلَةً، تَامَّةً نَاقِصَةً (وقَعَ في الحَالِ) لأنَّه وَصَفَها بصِفَتَيْن مُتَضادَّتَيْنِ، فلَغَتا، وبَقِىَ مُجَرَّدُ الطَّلاقِ، فَوقَعَ. فإن قال: أرَدْتُ أنَّها حَسَنَةٌ لكَوْنِها في زمانِ السُّنَّةِ، وقَبِيحَةٌ لإضْرارِها بكِ. أو قال: أرَدْتُ أنَّها حَسَنةٌ لتخْليصِى مِن شَرِّكِ، وسُوءِ خُلُقِكِ، وقَبِيحةٌ لكَوْنِها في زَمانِ البِدْعةِ. وكان ذلك يُؤَخِّرُ وُقوعَ الطَّلاقِ [عنه، دُيِّنَ] (¬1). وهَل يُقبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على وَجْهَيْنِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ طَلاقَ الحَرَجِ. فقال القاضى: معناه طلاقُ البِدْعةِ؛ لانَّ الحَرَجَ الضِّيقُ والإِثْمُ، فكأنَّه قال: طلاقَ الإِثْمِ. وطلاقُ البِدْعةِ طلاقُ إثمٍ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ، عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه يَقَعُ ثلاثًا (¬1)؛ لأنَّ الحَرَجَ الضِّيقُ، والذى يُضَيِّقُ عليه، ويَمْنَعُه الرُّجوعَ إليها، ويَمْنَعُها الرُّجوعَ إليه (¬2)، هو الثلاثُ، وهو مع ذلك طلاقُ بِدْعةٍ، وفيه إثْمٌ، فيَجْتَمِعُ عليه الأمْرانِ؛ الضِّيقُ والإِثْمُ. وإن قال: طلاقَ الحَرَجِ والسُّنَّةِ. كان كقولِه: طلاقَ البِدْعةِ والسُّنَّةِ. ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب طلاق الحرج، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 365. (¬2) سقط من: م.

باب صريح الطلاق وكنايته

بابُ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِه لا يقَعُ الطَّلاقُ بغيرِ لفْظٍ، فلو نَوَاهُ بقَلْبِه مِن غيرِ لفْظٍ، لم يَقَعْ في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ويَحْيَى ابنُ أبى كَثِيرٍ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. ورُوِىَ أيضًا عن القاسِمِ، وسالمٍ، والحسَنِ، والشَّعْبِىِّ. وقال الزُّهْرِىُّ: إذا عَزَم على ذلك طَلُقَتْ. وقال ابنُ سِيرينَ في مَن طَلَّقَ في نفْسِه: أليس قد عَلِمَه اللَّه. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا، مَا لَم تكلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ». رَواه النَّسَائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. ولأنَّه تَصَرُّفٌ يُزِيلُ المِلْكَ، فلم يَحْصُلْ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كالبَيْعِ والهِبَةِ. وكذلك إن نَواه بقَلْبِه وأشارَ بإِصْبَعِه، فإنَّه لا يَقَعُ؛ لِما ذَكَرْناه. إذا ثَبَتَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 428.

3444 - مسألة: (وقال الخرقى: صريحه ثلاثة ألفاظ؛ الطلاق، والفراق، والسراح، وما تصرف منهن)

وَصَرِيحُهُ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، فِى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: صَرِيحُهُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ؛ الطَّلَاقُ، وَالْفِرَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُنَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يُعْتَبَرُ له اللَّفْظُ، فهو يتَصرَّفُ إلى صريحٍ وكنايةٍ (فصَريحُه لفْظُ الطَّلاقِ وما تَصرَّفَ منه، في الصَّحيحِ) وهو اخْتِيارُ ابنِ حامدٍ. فإذا قال: أنتِ طالقٌ -أو- مُطَلَّقَةٌ -أو- قد (¬1) طَلَّقْتُكِ. وَقَعَ الطَّلاقُ مِن غيرِ نِيَّةٍ. والكِنايةُ لا يقَعُ بها الطَّلاقُ حتى يَنْوِيَه، أو يَأْتِىَ بما يَقومُ مَقامَ نِيَّتِه. 3444 - مسألة: (وَقَالَ الخِرَقِىُّ: صَرِيحُهُ ثَلَاثَةُ ألْفَاظٍ؛ الطَّلاقُ، والفِراقُ، والسَّراحُ، وما تَصَرَّفَ مِنْهُنَّ) وهذا مذهبُ ¬

(¬1) في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ. ومذهبُ أبى حنيفةَ، أنَّ صَرِيحَه يخْتَصُّ بلَفْظِ الطَّلاقِ وما تصرَّفَ منه [ووَجْهُه] (¬1) أنَّ لفْظَ الفِراقِ والسَّراحِ يُسْتَعْملانِ في غيرِ الطَّلاقِ كثيرًا، فلم يكونا صَرِيحَيْن فيه، كسائِرِ كِنَاياتِه. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّ هذه الألْفاظَ ورَدَ بها الكِتابُ بمَعْنى (¬2) الفُرْقَةِ بين الزَّوْجَيْنِ، فكانا صَرِيحَيْنِ فيه، كلَفْظِ الطَّلاقِ، قال اللَّهُ تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3). وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬4). وقال سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬5). وقال سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (¬6). والقولُ الأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ ¬

(¬1) في م: «ووجه هذا القول». (¬2) في م: «في». (¬3) سورة البقرة 229. (¬4) سورة البقرة 231. (¬5) سورة النساء 130. (¬6) سورة الأحزاب 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّرِيحَ في الشئِ ما كان نصًّا فيه، لا يَحْتَمِلُ غيرَه إِلَّا احْتمالًا بعيدًا، ولفظةُ الفِراقِ والسَّراحِ إنْ ورَدَتْ [في القرْآنِ] (¬1) بمعنى الفُرْقةِ بينَ الزَّوْجَيْن، فقد ورَدَتْ فيه لغيرِ ذلك المعنى، وفى العُرْفِ كثيرًا، قال اللَّهُ تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2). وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬3). فلا مَعْنَى لتَخْصِيصِه بفرْقَةِ الطَّلاقِ، على أنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «إلى الفراق». (¬2) سورة آل عمران 103. (¬3) سورة البينة 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولَه: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1). لم يرِدْ به الطَّلاقَ، وإنَّما هو تَرْكُ ارْتِجاعِها، وكذلك قولُه: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. ولا يَصِحُّ قياسُه على لفظِ الطلاقِ، فإنَّه مُخْتَصٌّ بذلك، سابِقٌ إلى الأَفْهامِ مِن غيرِ قَرينةٍ ولا دَلالةٍ، بخِلافِ الفِرَاقِ والسَّراحِ. ¬

(¬1) سورة الطلاق 2.

3445 - مسألة: (فمتى أتى بصريح الطلاق، وقع، نواه أو لم ينوه)

فَمَتَى أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَقَعَ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3445 - مسألة: (فمتى أَتَى بصَرِيحِ الطَّلاق، وَقَعَ، نَواه أو لم يَنْوِه) وجلة ذلك، أنَّ الصَّريحَ لا يحْتاج إلى نِيَّةٍ، بل يقَع مِن غيرِ قَصْدٍ، فمتى قال: أنتِ طالقٌ -أو- مُطَلَّقةٌ -أو- طَلَّقْتُكِ. وقَعَ من غيرِ نِيَّةٍ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ ما يعْتَبَر له القَوْل يكْتَفَى فيه به مِن غيرِ نِيَّةٍ، إذا كان صَرِيحًا فيه، كالبَيْعِ. وسَواءٌ قَصَدَ المَزْحَ أو الجِدَّ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وَهَزْلهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحٌ، وَالطَّلاقُ، وَالرَّجْعَةُ». روَاه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحيحٌ. قال ابن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 104.

3446 - مسألة: (فإن نوى بقوله: أنت طالق. من وثاق. أو أراد

وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. مِنْ وَثَاقٍ. أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: طَاهِرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على (¬1) أنَّ جِدَّ الطَّلاقِ وهَزْلَه سواءٌ. رُوِىَ هذا عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، وابنِ مسعودٍ. ونحوُه عن عَطاءٍ، وعَبيدَةَ. وبه قال الشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ. قال أبو عُبَيْدٍ: وهو قولُ سفيانَ، وأَهلِ العراقِ. فأمَّا لَفْظُ الفِرَاق والسَّراحِ، فيَنْبَنِى على الخِلافِ فيه؛ فمَن جعلَه صَرِيحًا أوْقعَ به الطَّلاقَ مِن غيرِ نيَّةٍ، ومَن جعلَه كِنايةً لم يُوقِعْ به الطَّلاقَ حتى يَنْوِيَه، ويكونُ بمَنْزلةِ الكِناياتِ الخَفِيَّةِ. فإن قال: أرَدْتُ بقَوْلِى: فارَقْتُكِ: أى بجِسْمِى، أو بقَلْبِى، أو بمَذْهَبِى، أو سَرَّحْتُكِ مِن يَدِى، أو شُغْلِى، أو مِن حَبْسِى، أو سَرَّحْتُ شعَرَكِ. قُبِلَ قوْلُه. 3446 - مسألة: (فَإنْ نَوَى بقَوْلِه: أنْتِ طَالِقٌ. مِن وَثَاقٍ. أو أراد ¬

(¬1) في الأصل: «عن».

فَسَبَقَ لِسَانُهُ، أَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مُطَلَّقَة. مِنْ زَوْج كَانَ قَبْلَهُ، لَمْ تَطْلُقْ، وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَل فِى الْحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِى حَالِ الْغَضَبِ، أَوْ بَعْدَ سُؤالِهَا الطَّلَاقَ، فَلَا يُقْبَلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَقُولَ: طَاهِرٌ. فسَبَقَ لِسَانُه) [فقال: طالقٌ] (¬1) (أَوْ أرَادَ) أنَّها (مُطَلَّقَة مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ، لَمْ تَطْلُقْ، فإنِ ادَّعَى ذلك، دُيِّنَ. وهَلْ يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِى حَالِ الغَضَبِ، أَوْ بَعْدَ سُؤَالِها الطَّلاقَ، فَلَا يُقْبَلُ) إذا نَوَى بقولِه: أنتِ طالقٌ. مِن وَثاقٍ. أو قال: أرَدْتُ أن أقولَ: طَلَّبْتُكِ. فسَبَقَ لِسانِى فقلتُ: طَلَّقْتُكِ. أو نحو ذلك، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، فمتى عَلِمَ مِن نَفْسِه ذلك، لم يَقَعْ عليه فيما بينَه وبينَ رَبَّه. قال أبو بكرٍ: لا خِلافَ عن أبى عبدِ اللَّهِ، أنَّه إذا أرادَ أن يقولَ لزَوْجَتِه: اسْقِينى ماءً. فسبَقَ لسانُه فقال: أنتِ طالقٌ -أو- أنتِ حُرَّةٌ. أنَّه لا طَلاقَ فيه. ونقلَ ابنُ مَنْصُورٍ عنه، أنَّه سُئِلَ عن ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلٍ حَلَفَ، فجَرَىِ على لسانِه غيرُ ما في قلْبِه، فقال: أرْجو أن يكونَ (¬1) الأمرُ فيه واسِعًا. وهل تُقْبَلُ دَعْواه في الحُكْمِ؟ يُنْظَرُ؛ فإنْ كان في حال الغَضَبِ، أو سُؤالِها الطَّلاقَ، لم يُقْبَلْ في الحُكْمِ؛ لأن لَفْظَه ظَاهِرٌ في الطَّلاقِ، وقَرينةَ حالِه تدُلُّ عليه، فكانت دَعْواه مُخالِفةً للظَّاهرِ مِن وجْهَيْن، فلا تُقْبَلُ، وإن لم يكُنْ في هذه الحالِ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، في روايةِ ابنِ مَنْصورٍ، وأبى الحارِثِ، أنَّه يُقْبَلُ قوْلُه. وهو قولُ جابرِ ابنِ زيدٍ، والشَّعْبِىِّ، والحَكَمِ. حَكَاه عنهم أبو حَفْصٍ؛ لأنَّه فَسَّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه احْتِمالًا غيرَ بعيدٍ، فقُبِلَ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ. وقال: أردتُ بالثَّانيةِ إفْهامَها. وقال القاضى: فيه رِوَايتان -إحداهما، التى ذَكَرْناها- قال: وهى ظاهرُ كلامِ أحمدَ. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه خلافُ ما يَقْتَضِيَه الظَّاهِرُ في العُرْفِ، فلم يُقْبَلْ في الحُكْمِ، كما لو أقَرَّ بعشَرةٍ ثم قال: زُيُوفًا -أو- صِغارًا -أو- إلى شهرٍ. فأمَّا إن صَرَّحَ بذلك في اللَّفْظِ فقال: طَلَّقْتُكِ مِن وَثَاقِى. أو: فارَقْتُكِ بجِسْمِى. أو: سرَّحتُكِ مِن يَدِى. فلا شَكَّ في أنَّ الطَّلاقَ لا يقعُ؛ لأنَّ ما يتَّصِلُ بالكَلامِ يَصْرِفُه عن (¬2) مُقْتضاه، كالاسْتِثْناءِ ¬

(¬1) في الأصل: «لا يكون». (¬2) في الأصل: «على».

وَفِيمَا إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ زَوْجٍ قَبْلِى. وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ يُقْبَلُ إنْ كَانَ وُجِدَ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّرْطِ. وذكَرَ أبو بكرٍ في قولِه: أنتِ مُطَلَّقَةٌ. [أنَّه إن] (¬1) نَوَى أنَّها مُطَلَّقة طلاقًا ماضِيًا، أو (¬2) مِن زَوْجٍ كانَ قَبْلَه، لم يَكُنْ عليه شئٌ، وإنْ لم يَنْوِ شيئًا، فعلى قوْلَيْن؛ أحدُهما، يقَعُ. والثانى، لا يَقَعُ. وهذا مِن قولِه يَقْتَضِى أن تكونَ هذه اللَّفْظَةُ غيرَ صَرِيحةٍ في أحَدِ القَوْلَيْن. قال القاضى: والمنْصوصُ عن أحمدَ أنَّه صَرِيحٌ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأَنَّ هذه مُتصَرِّفةٌ مِن لفظِ الطَّلاقِ، فكانتْ صَرِيحةً فيه، كقوْلِه: أنتِ طالقٌ (فإن قال: أرَدْتُ بقَوْلِى أنَّها مُطَلَّقةٌ مِن زَوْجٍ) كان (قَبْلِى) ففيهِ (وَجْهٌ ثالثٌ، أنَّه يُقْبَلُ إنْ كان وُجِدَ) لأَنَّ كلامَه يَحْتَمِلُه، ولا يُقْبَلُ إن لم يكُنْ وُجِدَ؛ لأنَّه لا يَحْتَمِلُه. وقد ذَكَرْنا في ذلك رِوايَتَيْن غيرَ هذا الوَجْهِ. ¬

(¬1) في م: «إن هو». (¬2) سقط من: م.

3447 - مسألة: (ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم. وأراد الكذب، طلقت. ولو قيل له: ألك امرأة؟ قال: لا. وأراد الكذب، لم تطلق)

وَلَوْ قِيلَ لَهُ. أَطَلَّقْتَ امْرأتَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَرَادَ الْكَذِبَ، طَلُقَتْ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَلَكَ امْرأةٌ؟ قَالَ: لَا. وَأَرَادَ الْكَذِبَ، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3447 - مسألة: (ولو قِيلَ له: أطَلَّقْتَ امْرَأتَكَ؟ فقال: نعم. وأراد الكَذِبَ، طَلُقَتْ. ولو قِيلَ له: ألكَ امْرَأةٌ؟ قال: لا. وأراد الكَذِبَ، لم تَطْلُقْ) أمَّا إذا قيلَ له: أطَلَّقْتَ امْرأتَكَ؟ قال: نعم. أو قيلَ له: امْرأتُكَ طالق؟ فقال: نعم. طَلُقَتِ امْرأتُه وإنْ لم يَنْوِ. وهذا الصحيحُ مِن مذهبِ الشافعىِّ، واخْتِيَارُ المُزَنِىِّ؛ لأَنَّ «نَعَمِ» صَريحٌ في الجوابِ، والجوابُ (1) الصَّريحُ لِلَّفْظِ الصَّريحِ صريحٌ، ألا ترَى أنَّه (¬1) لو قيلَ له: ألِفُلانٍ عليك ألْفٌ؟ قال: نعم. وجَبَ عليه. فإنْ قيلَ له: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أطَلَّقْتَ امْرأتَك؟ فقال: قد كان بعضُ ذلك. وقال: أردتُ الإيقاعَ. وقَع. وإن قال: أردتُ أنَّنِى علَّقتُ طَلاقَها بشَرْطٍ. قُبِلَ؛ لأَنَّ ما قالَه مُحْتَمِلٌ. وإن قال: أردتُ الإخْبارَ عن شئٍ ماضٍ. أو قيلَ له: ألكَ امرأةٌ؟ فقال: قد طَلَّقْتُها. ثم قال: إنَّما أردتُ أنِّى طَلَّقتُها في نكاحٍ آخَرَ. دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، وأمَّا في الحُكْمِ، فإنْ لم يكُنْ وُجِدَ ذلك منه، لم يُقْبَلْ، وإن كان وُجِدَ، فعلى وَجْهَيْن. وأمَّا إذا قيلَ له: ألك امرأةٌ؟ فقال: لا. وأرادَ به الكذبَ، لم يَلْزَمْه شئ؛ لأنَّ قولَه: ما (¬1) لى امرأةٌ. كِنايةٌ تَفْتَقِرُ إلى نِيَّةِ الطَّلاقِ، وإذا نَوَى الكَذِبَ فما نَوَى الطَّلاقَ، فلم يَقَعْ. وهكذا لو نَوَى أنَّه ليس لى امرأةٌ تَخْدِمُنى، أو تُرضِينى، أو أنِّى كمَنْ لا امرأةَ له، أو لم يَنْوِ شيئًا، لم تَطْلُقْ؛ لعَدَمِ النِّيَّةِ المُشْتَرطةِ في الكِنايةِ. وإن أرادَ بهذا اللَّفْظِ طَلاقَها، طَلُقَتْ؛ لأنّها كِناية صَحِبَتْها النِّيَّةُ. وبهذا قال الزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، وحَمَّادُ بنُ أبى سليمانَ، وأبو حنيفةَ، والشافعِىُّ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: لا تَطْلُقُ؛ لأنَّ هذا ليس بكِنايةٍ، ولكنَّه خبَرٌ هو كاذبٌ فيه، وليس بإيقاع. ولَنا، أنَّه مُحْتَمِلٌ للطَّلاقِ؛ لأنَّه إذا طَلَّقَها، فليست له بامرأةٍ، فأشْبَهَ قوْلَه: أنتِ بائِنٌ. وغيرَها مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِناياتِ الظَّاهرةِ، وبهذا يَبْطُلُ قوْلُهم. فصل: فأمَّا لفْظةُ الإِطْلاقِ، فليستْ صريحةً في الطَّلاقِ؛ لأنَّها لم يَثْبُتْ لها عُرْفُ الشَّرْعِ ولا الاسْتِعمال، فأشْبَهَتْ سائرَ كِناياتِه. وذكَرَ القاضى فيها احْتِمالًا، أنَّها صَريحةٌ؛ لأَنَّه لا فَرْقَ بين: فَعَّلْتُ وأفْعَلْتُ، نحو عَظَّمْتُهُ وأعْظَمْتُهُ، وكَرمْتُه وأكْرَمْتُه. وليس هذا الذى ذكَره بمُطَّرِدٍ؛ فإنَّهم يقولون: حَييته مِن التَّحِيَّةِ، وأحْيَيْتُه مِن الحياةِ، وأصْدَقْتُ المرأةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صداقًا، وصَدَّقْتُ حديثَها تَصْديقًا. ويُفَرِّقُونَ بين قَبَل و (¬1) أقْبَلَ، ودبَرَ و (1) أدْبَرَ، وبَصُرَ وأَبْصَرَ، ويُفَرِّقُون بين المعانى المُخْتَلِفَةِ بحَرَكةٍ أو حرفٍ، فيقولونَ: حَمْلٌ. لما في البطنِ، وبالكسرِ لما على الظَّهْرٍ، والوَقْرُ بالفَتْحِ الثِّقْلُ في الأُذُنِ، وبالكسرِ لثِقْلِ الحِمْلِ. وههُنا فرَّقُوا بينَ حَلِّ (¬2) قَيْدِ النِّكاحِ بالتَّضْعيفِ في أحدِهما، والهمزةِ في الآخَرِ، ولو كان معنى اللَّفْظَيْن واحدًا لقِيلَ: طَلَّقْتُ الأسِيرَ، والفَرَسَ (¬3)، والطَّائِرَ، فهو طالقٌ، وطَلَّقْتُ الدَّابَّةَ، فهى طالق، ومُطَلَّقةٌ. ولم يُسْمَعْ هذا في كلامِهم. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «أو». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «القوس».

3448 - مسألة: (وإن لطم امرأته، أو أطعمها، أو سقاها، وقال: هذا طلاقك. طلقت، إلا أن ينوى أن هذا سبب طلاقك، أو نحو ذلك)

وَلَوْ لَطَمَ امْرأَتَهُ، أَوْ أَطْعَمَهَا، أَوْ سَقَاهَا، وَقالَ: هَذَا طَلَاقُكِ. طَلُقَتْ، إِلَّا أَنْ يَنْوِىَ أَنَّ هَذَا سَبَبُ طَلَاقِكِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3448 - مسألة: (وَإِنْ لَطَمَ امرأتَهُ، أَوْ أطْعَمَهَا، أو سقَاهَا، وَقال: هَذا طَلاقُكِ. طَلُقَتْ، إلَّا أَنْ يَنْوِىَ أنَّ هذَا سَبَبُ طَلاقِكِ، أَوْ نَحْوَ ذلك) لأنَّ هذَا اللَّفْظَ كِنَايَةٌ في الطَّلاقِ، إذَا نَوَاهُ بِهِ وَقَعَ، وَلا يَقَعُ مِن غَيْرِ نِيَّةٍ أو دَلالَةِ حَالٍ؛ لأنَّه أضافَ إليْهَا الطَّلاقَ، فَوَقَعَ بِهَا، كما لو قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ. وقال ابنُ حامدٍ: تَطْلُقُ مِن غيرِ نِيَّةٍ؛ لأن تَقْديرَه: أوْقعتُ عليكِ طلاقًا، هذا الضَّربُ مِن أجْلِه. فعلَى قولِه يكونُ صَرِيحًا. وقال أكثرُ الفُقَهاءِ: ليس بكِنايةٍ، ولا يقَعُ به طَلاقٌ وإنْ نَوَى؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ هذا لا (¬1) يُؤَدِّى معْنى الطَّلاقِ، ولا هو سَبَبٌ له، ولا حُكْمٌ فيه، فلم يَصِحَّ التَّعْبِيرُ به عنه، كما لو قال: غَفرَ اللَّهُ لكِ. ولَنا على أنَّه كِنايةٌ، أنَّه يَحْتَمِلُ هذا التَّفْسِيرَ الذى ذكَرَه ابنُ حامدٍ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ سبَبًا للطَّلاقِ؛ لكَوْنِ الطَّلاقِ مُعلَّقًا عليه، فصَحَّ أَنْ يُعَبِّرَ به عنه، ولأَنَّ الكِنايةَ ما احْتَملتِ الطَّلاقَ، وهذا يَحْتَمِلُه؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ قد عَلَّقَ طَلاقَها به (¬2)، فلَمّا فعله قال: هذا طَلاقُكِ. إخْبارًا لها، فلَزِمَه ذلك، كقوْلِه: اعْتَدِّى. ويدُلُّ على أنَّه ليس بصَريحٍ، أنَّه احْتاجَ إلى التَّقْدِيرِ، والصَّريحُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحْتاجُ إلى تقْديرٍ، فيكونُ كِنايةً. فإن نَوَى أنَّ هذا سبَبُ طَلاقِك، أو نحوَ ذلك، فلا تَطْلُقُ؛ لأنَّه إذا أرادَ سبَبَ الطَّلاقِ، جازَ أن يكونَ سَببًا له في زمانٍ بعدَ هذا الزَّمانِ.

3449 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق لا شئ -أو- ليس بشئ -أو- لا يلزمك. طلقت)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا شَىْءَ. أَوْ: لَيْسَ بِشَىْءٍ. أَوْ: لَا يَلْزَمُكِ شَىْءٌ. طَلُقَتْ، وَإِنْ قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا؟ أَوْ: طَالِقٌ وَاحِدَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ 3449 - مسألة: (وإنْ قَالَ: أنْتِ طَالقٌ لا شَئَ -أو- ليس بشئٍ -أو- لا يَلْزَمُكِ. طَلُقَتْ) وكذلك إنْ قال: أنتِ طالقٌ طلقةً لا تقَعُ عليك -أو- طالقٌ طلْقَةً لا يَنْقُصٌ (¬1) بها عدَدُ الطَّلاقِ (¬2). لأَنَّ ذلك رَفْعٌ لجميعِ ما أوْقَعه، فلم يَصِحَّ، كاسْتِثناءِ الجميعِ، وإنْ كان ذلك خبرًا، فهو كَذِبٌ؛ لأَنَّ الواحِدَةَ إذا أوْقَعَها وقَعَتْ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ولا نعلمُ فيه مخالفًا. 3450 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالِقٌ أَوْ لا؟ أَوْ: طالِقٌ وَاحِدَةً ¬

(¬1) في م: «ينقضى». (¬2) في م: «طلاقك».

أَوْ لَا؟ لَمْ يَقَعْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَوْ لا؟ لَم تَطْلُقْ) لأَنَّ هذا اسْتِفْهامٌ، فإذا اتَّصَلَ به خَرَجَ عن أَنْ يَكونَ لَفْظًا لإِيقَاعٍ، ويُخالِفُ المسألةَ قبلَها؛ لأنَّه إيقاع (ويَحْتَمِلُ أن يَقَعَ) لأَنَّ لَفْظَه لَفظُ الإيقاعِ لا لَفْظُ الاسْتِفْهامِ؛ لأَنَّ لَفْظَ الاسْتِفْهامِ يَكون بالهَمْزَةِ أو نحوِها، فيَقَعُ ما أوْقَعَه، ولا يَرْتَفِعُ بما ذكَرَه بعدَه، كالتى قبلَها. وكذلك إن قال: أنتِ طالقٌ واحدةً أو لا؟ وبه قال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ. وهو قِياسُ قولِ الشافعىِّ. وقال محمدٌ في هذه: تَقَعُ واحدةٌ؛ لأَنَّ قوْلَه: أو لا. يَرْجِعُ إلى ما يَلِيه منِ اللَّفْظِ، وهو واحدةٌ دُونَ لَفْظِ الإِيقاعِ. ولا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الواحدةَ صِفةٌ للطَّلْقَةِ الواقِعَةِ، فما اتصَلَ بها [يَرْجِعُ إليهما] (¬1)، فصارَ كقولِه: أنتِ طالقٌ أو لا؟ ¬

(¬1) في م: «رجع إليها».

3451 - مسألة: (وإن كتب طلاق امرأته ونوى الطلاق، وقع، وإن نوى تجويد خطه، أو غم أهله، لم يقع. وهل تقبل دعواه فى الحكم؟ على روايتين)

وَإِنْ كَتَبَ طَلَاقَ امْرأَتِهِ وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَقَعَ، وَإِنْ نَوَى تَجْوِيدَ خَطِّهِ، أَوْ غَمَّ أَهْلِهِ، لَمْ يَقَعْ. وَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِى الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3451 - مسألة: (وَإِنْ كَتَبَ طَلاقَ امْرَأتِه ونَوَى الطَّلاقَ، وَقَعَ، وإنْ نَوَى تَجْوِيدَ خَطِّهِ، أو غَمَّ أهْلِهِ، لَمْ يقَعْ. وَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِى الحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن) إذا كتبَ طَلاقَ زَوْجتِه ونوَى الطَّلاقَ، طَلُقَتْ زَوْجتُه. وبهذا قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، والحَكَمُ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ. وهو المنْصوصُ عن الشافعىِّ. وذكَرَ بعضُ أصحابِه، أنَّ له قَوْلًا آخَرَ، أنَّه لا يَقَعُ به طلاق وإنْ نَوَاه؛ لأنَّه فِعْل مِن قادرٍ على النُّطْقِ، فلم يَقَعْ به الطَّلاقُ، كالإِشارةِ. ولَنا، أنَّ الكِتابةَ حُروفٌ يُفهَمُ منها الطَّلاقُ، فإذا أتَى فيها بالطلاق وفُهِمَ منها، ونَواهُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَع كاللَّفْظِ، ولأَنَّ الكِتابةَ تَقومُ مَقامَ قَوْلِ (¬1) الكاتبِ؛ بدَلالةِ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مَأْمُورًا بتَبْليغِ رِسالَتِه، فَحَصَل (¬2) ذلك في حَقِّ البعْضِ بالقَوْلِ، وفى حَقِّ آخرينَ بالكتابةِ إلى مُلُوكِ الأطْرافِ، ولأَنَّ كتابَ القاضى يَقومُ مَقامَ لَفْظِه في إثْباتِ الدُّيونِ والحُقُوقِ. فإنْ نَوَى بذلك تَجْوِيدَ خَطِّه، أو تَجْرِبَةَ قَلَمِه، لم يَقَعْ؛ لأنَّه لو نَوَى باللَّفْظِ غيرَ الإِيقاعِ، لم يَقَعْ، فالكَتابةُ أوْلَى. وإذا ادَّعَى ذلك، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، ويُقْبَلُ في الحُكْمِ في أصَحِّ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ ذلك يُقْبَلُ في اللَّفْظِ الصَّرِيحِ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَههُنا مع أنَّه ليس بلَفْظٍ أوْلَى. وإن قال: نوَيْتُ غَمَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فجعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهْلِى. فقد قال في رِوايَةِ أبى طالبِ، في مَن كتبَ طَلاقَ زَوْجَتِه ونَوَى الطَّلاقَ: وَقَعَ، وإن أرادَ أن يَغُمَّ أهْلَه، فقد عَمِلَ في ذلك أيضًا. يعنى أنه يُؤاخَذُ به؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عُفِىَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ (¬1)». فظاهِرُ هذا أنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ؛ لأَنَّ غَمَّ أهْلِه يَحْصُلُ بالطَّلاقِ، فيَجْتَمِعُ غَمُّ أهْلِه ووُقُوعُ طَلاقِه، كما لو قال: أنتِ طالقٌ. يُرِيدُ به غَمَّها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ؛ لأنَّه أرادَ غَمَّ أهْلِه بتَوَهُّمِ الطَّلاقِ دُونَ حقيقتِه، فلا يَكونُ ناوِيًا للطَّلاقِ، والخَبَرُ إنَّما يدُلُّ على مُؤاخَذَتِه بما نَوَاه عندَ العَمَلِ به أو الكلامِ، وهذا لم يَنْوِ طَلاقًا، فلا يُؤاخَذُ به. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 428.

3452 - مسألة: (وإن لم ينو شيئا)

وَإن لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَهَلْ يَقَعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3452 - مسألة: (وإن لم يَنْوِ شَيْئًا) فقال أبو الخَطَّابِ: قد خَرَّجَها القاضى الشريفُ (¬1) في «الإِرْشادِ» على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، يقعُ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، والحَكَمِ؛ لما ذَكَرْنا مِن أنَّ الكِتابةَ تقومُ مَقامَ اللَّفْظِ. والثانيةُ، لا يقعُ إلا بِنيَّةٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، ومَنْصوصُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ الكِتابَةَ مُحْتَمِلَة؛ فإنَّه يُقْصَدُ بها تَجْرِبةُ القلمِ، وتَجْويدُ الخَطِّ، وغَمُّ الأهْلِ، فلم يقَعْ مِن غيرِ نِيَّةٍ، ككِناياتِ الطَّلاقِ. ¬

(¬1) في م: «والشريف».

3453 - مسألة: (وإن كتبه بشئ لا يبين)

وَإِنْ كَتَبَهُ بِشَىْءٍ لَا يَبِينُ، لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: يَقَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3453 - مسألة: (وإن كَتَبَه بِشئٍ لا يَبِينُ) مِثْلَ [أن كتبَه] (¬1) بإصْبَعِهِ عَلَى وِسَادَةٍ، أَوْ في الهَوَاءِ، فَظَاهِرُ كَلامِ أَحمدَ أنَّه لا يَقَعُ (وقال أبو حفصٍ) العُكْبَرِىُّ: (يَقَعُ) ورَواهُ الأَثْرَمُ عن الشَّعْبِىِّ؛ لأنَّه كتبَ حروفَ الطَّلاقِ، فأشْبَهَ ما لو كَتَبَه بشئٍ يَبِينُ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ (¬2) الكِتابةَ التى (¬3) لا تَبِينُ كالهمْسِ بالفمِ (¬4) بما لا يَسْتَبِينُ، وثَمَّ لا يَقَعُ، فههُنا أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «بالقلم». وفوقها إحالة غير موجودة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يقَعُ الطَّلاقُ بغيرِ لَفْظٍ إلَّا في مَوْضِعَيْن؛ أحدُهما، إذا كتبَ الطَّلاقَ ونَوَاه، وقد ذَكَرْناه. الثانى، مَنْ لا يَقْدِرُ على الكلامِ، كالأخْرَسِ إذا طَلَّقَ بالإِشارَةِ، طَلُقَتْ زَوْجَتُه. وبهذا قال [مالكٌ و] (¬1) الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خلافَهم؛ لأنَّه لا طريقَ له [إلى الطَّلاقِ] (¬2) إلَّا بالإِشَارَةِ، فقامَتْ إشارَتُه مَقامَ النُّطْقِ مِن غيرِه فيه، كالنِّكاحِ. فأمَّا القادِرُ، فلا يَصِحُّ طَلاقُه بالإِشارةِ، كما لا يَصِح نِكاحُه بها. [فإنْ أشارَ الأخْرَسُ بأصابِعِه الثَّلاثِ، لم يَقَعْ إلَّا واحدةٌ؛ لأَنَّ إشارَتَه لا تَكْفِى] (¬3). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) كذا ذكر ههنا، وعزاه إليه في المبدع 7/ 274. والذى في: المغنى 10/ 502، أن إشارة الأخرس بالطلاق بأصابعه الثلاث تقع ثلاثا، لأنَّ إشارته كنطق غيره، أما الناطق إذا أشار بأصابعه الثلاث، فلا تقع إلا واحدة، لأن إشارته لا تكفى. وانظر الكافى 3/ 178.

3454 - مسألة: (وصريح الطلاق فى لسان العجم بهشتم)

وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ فِى لِسَانِ الْعَجَمِ بِهِشْتَمْ. فَإِنْ قَالَهُ الْعَرَبِىُّ وَلَا يَفْهَمُهُ، أَوْ نَطَقَ الْعَجَمِىُّ بِلَفْظِ الطَّلَاق وَلَا يَفْهَمُهُ، لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ نَوَى مُوجَبَهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3454 - مسألة: (وصَرِيحُ الطَّلاقِ في لِسَانِ العَجَمِ بِهِشْتَمْ) فإذَا أتَى بها العَجَمِىُّ، وقَعَ الطَّلاقُ منه بغيرِ نِيَّةٍ. وقال النَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ: هو كنايةٌ، لا تَطْلُقُ به إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لأَنَّ معناه خلَّيْتُكِ، وهذه اللَّفْظَةُ كِنايةٌ. ولَنا، أنَّ هذه اللَّفْظةَ بلِسانِهم موْضوعةٌ للطَّلاقِ، ويَسْتَعْمِلونها فيه، فأشْبَهَ لفْظَ الطَّلاقِ بالعربيَّةِ، ولو لم تكُنْ هذه صريحةً، لم يكُنْ في العَجَمِيَّةِ صريحٌ للطَّلاقِ (¬1)، وهذا بعيدٌ، ولا يَضُرُّ كوْنُها بمعنى خَلَّيْتكُ، فإنَّ معنى طَلَّقْتُكِ خَلَّيْتُك أيضًا، إلَّا أنَّه لمَّا كان موْضوعًا له، يُسْتَعْمَلُ فيه، كان صريحًا، كذا هذه. ولا خلافَ في أنَّه إذا نَوَى بها الطَّلاقَ، كانت طلاقًا. كذلك قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحسَنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفة، وزُفَرُ، والشافعىُّ (فإنْ قالَه العَرَبِىُّ ولا يَفْهَمُه، أو [نطقَ العَجَمِىُّ بلفظِ الطَّلاقِ وِلا يَفْهَمُهُ] (¬2)، لم يَقَعْ) لأنَّه لم يَخْتَرِ الطَّلاقَ؛ لعَدمِ عِلْمِه بمعناه (وإنْ نوَى موجَبَه، فعلَى وَجْهَيْن) أحدُهما، لا يَقَعُ؛ ¬

(¬1) في م: «في الطلاق». (¬2) في م: «طلق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يتَحَقَّقُ اخْتِيارُه لما لا يَعْلَمُه، فأشْبَهَ ما لو نَطَقَ بكلمةِ الكُفْرِ مَنْ (¬1) لا يعْرفُ معناها. والثانى، يقَعُ؛ لأنَّه أتَى بالطَّلاقِ ناوِيًا مقْتضاهُ، فوَقَعَ، كما لو عَلِمَه. ¬

(¬1) في م: «فإنه».

فصل

فَصْلٌ: وَالْكِنَايَاتُ نَوْعَانِ؛ ظَاهِرَةٌ، وَهِىَ سَبْعَةٌ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَبَرِيَّةٌ، وَبَائِنٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَأَنْتِ الْحَرَجُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رحمَه اللَّه: (والكِناياتُ نوْعان؛ ظاهرَةٌ، وهى سَبْعة: أنتِ خَلِية، وبَرِيَّةٌ، وبَائِنٌ، وبَتَّةٌ، وبَتْلَةٌ، وأنتِ حُرَّةٌ، وأنتِ الحَرَجُ) أكثْرُ الرواياتِ عن أبى عبدِ اللَّهِ، رَحِمَه اللَّهُ، كَراهِيَةُ الفُتْيا في هذه الكناياتِ، مع مَيْلِه إلى أنَّها ثلاثٌ. وحَكَى ابنُ أبى موسى في «الإِرْشادِ» عنه رِوَايَتَيْن؛ إحْداهما، أنَّها ثلاثٌ. والثَّانيةُ، يُرْجَعُ إلى ما نَوَاه اختارَها أبو الخَطَّابِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، قال: يُرْجَعُ إلى ما نَوَى، فإنْ لم يَنْوِ شيئًا وقَعَتْ واحدةٌ. ونحوُه قولُ النَّخَعِىِّ، إلَّا أنَّه قال: يَقَعُ طلقةٌ بائنةٌ؛ لأنَّ لَفْظَه يقْتَضِى البَيْنُونَةَ، ولا يَقْتَضِى عدَدًا. ورَوَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ ما يدُلُّ على هذا؛ فإنَّه قال: يَزِيدُها في مَهْرِها إنْ أرادَ رَجْعَتَها. ولو وقَعَ ثَلاثًا لم تُبَحْ له رَجْعَتُها، ولو لم تَبِنْ لم يَحْتَجْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى زِيادةٍ في مَهْرِها. واحْتَجَّ الشافعىُّ بما روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، أنَّ رُكَانَةَ بنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرأتَه سُهَيْمَة البَتَّةَ، فأخْبَرَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، وقال: واللَّهِ ما أردتُ إلَّا واحدةً. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «آللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلّا وَاحِدَةً». فقال رُكَانَةُ: واللَّهِ ما أردْتُ إلَّا واحدةً. فرَدَّها إليه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فطَلَّقَها الثَّانيةَ في زمنِ عمرَ، والثَّالِثةَ في زمن عثمانَ. قال علىُّ بنُ محمدٍ الطَّنافِسىُّ (¬2): ما أشْرفَ هذا الحديثَ. ولأَنَّ الكناياتِ مع النِّيَّةِ كالصَّريحِ، فلم يَقَعْ به عندَ الإِطْلاقِ أكثرُ مِنِ واحدةٍ، كقوْلِه: أنتِ طالقٌ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى: إنْ نوَى ثلاثًا، فثلاثٌ، وإن نَوَى اثْنَتَيْن أو واحدةً، وقعتْ وِاحدة، ولا يقعُ اثْنتان؛ لأنَّ الكنايةَ تَقْتَضِى البَيْنُونةَ دونَ العَدَدِ، [والبَيْنُونةُ بَيْنُونَتانِ، صُغْرَى وكُبْرَى، فالصُّغْرَى بالواحدةِ، والكُبْرَى بالثَّلاثِ، ولو أوْقَعْنا اثْنَتَيْن كان مُوجَبُه العَدَدَ] (¬3)، ¬

(¬1) في: باب في البتة، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 511. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 131، 132. وابن ماجه، في: باب طلاق البتة، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 661. (¬2) على بن محمد بن إسحاق أبو الحسن الطنافسى الكوفى، الإمام الحافظ المتقن، محدث قزوين، كان ثقة صدوقا، أقام هو وأخوه بقزوين، وارتحل إليهما الكبار. توفى سنة ثلاث وثلاثين ومائين. سير أعلام النبلاء 11/ 459 - 461. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهى لا تقْتَضِيه. وقال رَبِيعةُ، ومالكٌ: يقَعُ بها الثَّلاثُ وإن لم يَنْوِ، إلَّا في الخُلْعِ (¬1) أو قبلَ الدُّخولِ، فإنَّها تَطْلُقُ واحدةً؛ لأنَّها تَقتَضِى [البَيْنُونةَ، والبَيْنُونَةُ تَحْصُلُ في الخُلْعِ وقبلَ الدُّخولِ بواحدةٍ، فلم يُزَدْ عليها؛ لأنَّ اللَّفْظَ لا يَقْتَضِى] (¬2) زيادةً عليها (¬3)، وفى غيرِهما (¬4) يقَعُ الثَّلاثُ ضرورةَ أنَّ (¬5) البَيْنُونَةَ لا تحْصُلُ إلَّا بها. ووَجْهُ أنَّها ثلاثٌ أنَّه قَوْلُ أصحاب رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرُوِىَ عن علىٍّ، [وابنِ عُمَرَ] (¬6)، وزيدِ بنِ ثابتٍ، أَنَّها ثلاثٌ. قال أحمدُ في الخَلِيَّةِ والبَرِيَّةِ والبَتَّةِ: قولُ علىٍّ وابنِ عمرَ قولٌ صحيحٌ ثلاثًا. وقال علىٌّ، والحسنُ، والزُّهْرِىُّ، في البائِنِ: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) في الأصل: «علهما». (¬4) في م: «غيرها». (¬5) في م: «لأن». (¬6) في النسختين: «عمر». والمثبت من المغنى 10/ 365. والذى ورد عن عمر أنه كان يجعلها واحدة، وأنه أحق برجعتها، أخرجه عنه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 356. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 66. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 383، 385. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 343. وانظر ما يأتى في كلام الشارح، رحمه اللَّه. أما ابن عمر فكان يجعلها ثلاثًا، أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الخلية البرية. . .، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 552. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 356، 359. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 66. وسعيد، في: سننه 1/ 386. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 344.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّها ثلاثٌ. ورَوَى النَّجّادُ بإسْنادِه، عن نافعٍ، أنَّ رجلًا جاءَ إلى عاصمٍ وابنِ الزُّبَيْرِ، فقال: إنَّ ظِئْرِى هذا طلَّقَ امْرأتَه البَتَّةَ قبلَ أن يدخلَ بها، فهل تَجِدان له رُخْصةً؟ فقالا: لا، ولكنَّا تَركْنا ابنَ عباسٍ وأبا هُرَيْرَةَ عندَ عائشة فسَلْهُم، ثم ارْجِعْ إلينا فأخْبِرْنا. فسألهم، فقال أبو هُرَيْرَةَ: لا تَحِلُّ له حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه. وقال ابنُ عباسٍ: هى ثلاثٌ. وذكَرَ عن عائشةَ مُتابَعَتَهما (¬1). وروَى بإسْنادِه، أنَّ عمرَ جعلَ البَتَّةَ واحدةً، ثم جعلها بعدُ ثلاثَ تَطليقاتٍ. وهذه أقْوالُ عُلَماءِ الصحابةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالفٌ في عَصْرِهم؛ فكان إجْماعًا. ولأنَّه طلَّقَ امْرأتَه بلَفْظٍ يَقْتَضِى البَيْنُونةَ، فوَجبَ الحُكْمُ بطَلاقٍ تحْصُلُ به البَيْنُونَةُ، كما لو طلَّقَ ثلاثًا، أو نَوَى الثَّلاثَ، وإفْضاؤُه إلى البَيْنُونَةِ ظاهِرٌ في قوْلِه: أنتِ بائنٌ. وكذا في قوْلِه: البتَّةَ. لأَنَّ البَتَّ القَطْعُ، فكأنَّه قطَع النِّكاحَ كلَّه، ولذلك (¬2) يُعَبَّرُ به عن الطَّلاقِ الثَّلاثِ، كما قالتِ امرأةُ رِفاعةَ: إنَّ رِفاعةَ طَلَّقَنِى فبَتَّ طَلاقِى (¬3). وبَتْلَةٌ (¬4) هو مِن القَطْعِ أيضًا؛ ولذلك (2) قيلَ في مَريمَ: البَتُولُ؛ لانْقِطاعِها عن النِّكاحِ. ونَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التَّبَتُّلِ (¬5)، وهو ¬

(¬1) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يطلق امرأته البتة، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 67. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 411. (¬4) في م: «بتله». وآخرها غير منقوط في: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الانْقِطاعُ عن النِّكاحِ بالكُلِّيَّةِ. وكذلك الخَلِيَّةُ والبَرِيَّةُ يَقْتضيانِ الخُلُوَّ مِن النِّكاحِ والبَراءَةَ منه، وإذا كان للَّفْظِ معنًى فاعْتبرَه الشَّرْعُ، إنَّما يَعْتبرُه فيما يَقْتَضِية ويُؤَدِّى مَعْناه، ولا سبيلَ إلى البَيْنونَةِ بدُونِ الثلاثِ، فوَقعتْ ضَرُورةَ الوفاءِ بما يَقْتَضِيه لفْظُه، ولا يُمْكِنُ إيقاعُ واحدةٍ بائِنَةٍ؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على إِيقاعِ ذلك بصَريحِ الطَّلاقِ، فكذلك بكِنايتِه، ولم (¬1) يُفَرِّقْ بينَ المدخولِ بها وغيرِها؛ لأَنَّ الصحابةَ لم يُفَرِّقوا؛ لأَنَّ كلَّ لفْظةٍ أوْجَبَتِ الثَّلاثَ في المدخولِ بها أوْجَبَتْها في غيرِها، كقولِه: أنت طالقٌ ثلاثًا. فأمَّا حديث رُكانَةَ، فإنَّ أحمدَ ضَعَّف إسْنادَه، فلذلك تَرَكَه. وقولُه: أنتِ حُرَّة. يَقْتَضِى ذَهابَ الرِّقِّ عنها، وخُلوصَها منه، والرِّقُّ ههُنا النِّكاحُ. وقولُه: أنت الحَرَجُ. يعنى الحَرَامَ والإِثْمَ، قال اللَّه تعالى: {عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} (¬2). أى إثْمٌ، وأصْلُه الضِّيقُ، قال اللَّهُ تعالى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (¬3). فكأنَّه حَرَّمَها وأثَّمَ ¬

(¬1) في م: «ولا». (¬2) سورة النور 61، وسورة الفتح 17. (¬3) سورة الأعراف 2.

3455 - مسألة: (والخفية نحو: اخرجى، واذهبى، وذوقى، وتجرعى، وخليتك، وأنت مخلاة، وأنت واحدة، ولست لى بامرأة، واعتدى، واستبرى، وما أشبهه)

وَالْخَفِيَّةُ نَحْوُ: اخْرُجِى، وَاذْهَبِى، وَذُوقِى، وَتَجَرَّعِى، وَخَلَّيْتُكِ، وَأَنْتِ مُخَلَّاةٌ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ، وَلَسْتِ لِى بِامْرَأَةٍ، وَاعْتَدِّى، وَاسْتَبْرِى، وَاعْتَزِلِى، وَمَا أَشْبَهَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسَه في إمساكِها، فصارَ في ضِيقٍ مِن أمْرِها، وإنَّما تكونُ بالبَيْنونَةِ على ما مَرَّ. [والرِّوايةُ الثَّانيةُ، يقعُ ما نَواه. اختَاره أبو الخَطَّابِ؛ لحديثِ رُكَانَةَ. فإِنْ لم يَنْوِ عَددًا، وقعَ واحدةٌ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وروى عنه حَنْبَلٌ أنَّه يقعُ بها واحدةٌ بائنةٌ. وقد ذكرناه] (¬1). 3455 - مسألة: (والخَفِيَّةُ نَحْوُ: اخْرُجِى، واذْهَبِى، وذُوقِى، وتَجَرَّعِى، وخَلَّيْتُكِ، وأنْتِ مُخَلَّاةٌ، وأنْتِ وَاحِدَةٌ، ولستِ لى بامْرَأةٍ، واعْتَدِّى، واسْتَبْرِى، ومَا أشْبَهَهُ) واخْتارِى، ووَهَبْتُكِ لأهْلِكِ، فَهَذِهِ ثَلاثٌ إنْ نَوَى ثَلاثًا، واثْنَتَانِ إنْ نَوَاهُمَا، وَوَاحِدَة إنْ نَوَاهَا أو أطْلَقَ. ¬

(¬1) سقط س: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [قال أحمدُ:] (¬1) ما ظهرَ [مِن الطلاقِ فهو على ما ظَهَر] (¬2) وما عَنَى به الطَّلاقَ، فهو على ما عَنَى مثلَ: حَبْلُكِ على غارِبِكِ. [إذا نَوَى واحدةً أو اثْنَتَيْن أو ثلاثًا، فهو على ما نَوَى. وقد ذكَرَ الخِرَقِىُّ (¬3) قولَه: حَبْلُكِ على غارِبكِ] (¬4). في الكِناياتِ الظَّاهرةِ. وإن فال: أنتِ واحدةٌ. فهى كنايةٌ خَفِيَّةٌ، لكنَّه لا يَقَعُ بها إلَّا واحدةٌ وإن نوَى ثلاثًا. ذكَره شيخُنا (¬5)؛ لأنَّها لا تَحْتَمِلُ أكثرَ منها. وإن قال: أغْناكِ اللَّهُ. فهو كنايةٌ خَفِيَّةٌ، لأنَّه يَحْتَمِلُ: أغْناكِ اللَّهُ بالطَّلاقِ. قال اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬6). وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ في الكناياتِ: لا يقَعُ اثْنتانِ وإنْ نَوَاهما، وتقَعُ واحدةٌ. وقد ذكَرْناه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تكملة من المغنى 10/ 369. (¬3) بعده في م: «في». ولعل السياق يستقيم بدونها. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) انظر: المغنى 10/ 370. (¬6) سورة النساء 130.

3456 - مسألة: (واختلف فى قوله: الحقى بأهلك، و: حبلك على غاربك، و: تزوجى من شئت، و: حللت للأزواج، و: لا سبيل لى عليك، و: لا سلطان لى [عليك)

وَاخْتُلِفَ فِى قَوْلِهِ: الْحَقِى بِأَهْلِكِ، وَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَ: تَزَوَّجِى مَنْ شِئْتِ، وَ: حَلَلْتِ لِلْأَزْوَاجِ، وَ: لَا سَبِيلَ لِى عَلَيْكِ، وَ: لَا سُلْطَانَ لِى عَلَيْكِ. هَلْ هِىَ ظَاهِرَةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3456 - مسألة: (واخْتُلِفَ في قولِه: الْحَقِى بأهْلِكِ، و: حَبْلَكِ عَلَى غَارِبِكِ، و: تَزَوَّجِى مَنْ شِئْتِ، و: حَلَلْتِ للأزْواجِ، و: لا سَبِيلَ لى علَيْكِ، و: لا سُلْطَان لِى [عليكِ) و: أنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ، و: أنْتِ عَلَىَّ حَرَجٌ (هَلْ هِىَ ظَاهِرَة أو خَفِيَّةٌ؟) و: غَطِّى شَعَرَكِ، و: قَدْ أعْتَقْتُكِ. فَهذِه عَنْ أحمدَ فيها رِوَايَتَانِ إحْداهما، أنَّها ثلاثٌ. والأُخْرَى، تَرْجِعُ إلى ما نَوَاه، وإن لم يَنْوِ شيئًا، فواحدةٌ، كسائِرِ الكِناياتِ الخَفِيَّةِ. وقد قاسُوا على هذه: اسْتَبْرِئِى رَحِمَك، و: تَقَنَّعِى] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فهذه في] (¬1) معْنى المذكورةِ، فيكونُ حُكْمُها حُكْمَها. والصَّحيحُ في: الْحَقِى بأهْلِكِ. أنَّها واحدةٌ، ولا تكونُ ثلاثًا إلَّا بنِيَّةٍ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لابْنِةِ الجَوْنِ: «الْحَقِى بأهْلِكِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولم يَكُنِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليُطَلِّقَ ثلاثًا وقد نَهَى عنه أُمَتَّهَ. قال الأَثْرَمُ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لابْنةِ الجَوْنِ: «الْحَقِى بأهْلِكِ». ولم يكنْ طلاقًا غير هذا، ولم يَكُنِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليطَلِّقَ ثلاثًا، فَيكونَ غيرَ طلاقِ السُّنَّةِ. قال: لا أدْرِى. وكذلك قولُه: اسْتَبْرِئى رَحِمَك. [لا يَخْتَصُّ الثَّلاثَ] (¬3)؛ فإِنَّ ذلك يكونُ مِنَ الواحدةِ، كما يكونُ مِن الثَّلاثِ. وقد روَى هُشَيمٌ (¬4)، أنا الأعْمشُ، عن المِنْهَالِ بنِ عمرٍو (¬5)، أنَّ نُعَيمَ بنَ دَجَاجَةَ الأسَدِىَّ طلَّقَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 53. كما أخرجه النسائى، في: باب مواجهة الرجل المرأة بالطلاق، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 122. وابن ماجه، في: باب ما يقع به الطلاق من الكلام، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 661. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 498، 5/ 339. ولم يعزه صاحب التحفة إلى مسلم. تحفة الأشراف 2/ 541. وانظر الإرواء 7/ 146. (¬3) في م: «لمن لا تحيض ثلاث». والمثبت كما في المغنى 10/ 368. (¬4) في م: «هاشم». (¬5) في م: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [امرأتَه تطليقَتَيْن، ثم قال: هى علىَّ حَرَجٌ. فكتبَ في ذلك إلى عمرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال: أمَا إنَّها ليستْ بأهْونِهِنَّ (¬1). فأمَّا سائرُ اللَّفَظاتِ، فإن قُلْنا: هى ظاهرةٌ. فإنَّ مَعْناها معْنى الظَّاهرةِ، فإنَّ قولَه: لا سبيلَ لى عليكِ، ولا سُلْطانَ لى] (¬2) عليك. إنَّما يكونُ في المَبْتُوتَةِ، أمَّا الرَّجْعِيَّة فله عليها سبيلٌ وسُلْطانٌ. وقولُه: أعْتَقْتُكِ. يَقْتَضِى ذَهابَ الرِّقِّ عنها، والرِّقُّ ههُنا النِّكاحُ. وقولُه: أنتِ علىَّ حَرَامٌ. يَقْتَضِى بَيْنُونَتَها منه؛ لأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غيرُ مُحرَّمةٍ. وكذلك قولُه: حَلَلْت للأزْواجِ؛ لأنَّكِ بِنْتِ مِنِّى. وكذلك سائِرُها. وإن قُلْنا: هى واحدة. فلأنَّها محْتمِلةٌ، فإنَّ قولَه: حَلَلْتِ للأزْواجِ. أى بعدَ انْقضاءِ عِدَّتِك؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ حِلُّها قبلَ ذلك، والواحدَةُ تُحِلُّها. وكذلك: انْكِحى مَن شِئْتِ. وكذلك سائرُ الألْفاظِ، يتَحَقَّقُ معْناها بعدَ انْقِضاء عِدَّتِها. وذكَرَ بعضُ أصحابِنا: اعْتَدِّى. في المخْتَلَفِ فيه. والصَّحيحُ أَنَّها مِن الخَفِيَّةِ؛ لِما روَى أبو هريرةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لسَوْدَةَ: «اعْتَدِّى». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) من هذا الطريق أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 2/ 56. ومن طرق أخرى أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 365، 366. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 71. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 344. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الحديث لم يخرجه البخارى ولا مسلم، ولعله وهم من بعض النساخ، وأخرجه البيهقى، بسند ضعيف، في: باب ما جاء في كنايات الطلاق، من كتاب الطلاق. السنن الكبرى 7/ 343. وابن سعد مرسلا، في: الطقات الكبرى 8/ 53، 54. وانظر: إرواء الغليل 7/ 146، 147.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ بائنٌ -أو- (¬1) البَتَّةَ. ففيه مِن الخلافِ ما ذكَرْنا في الكِناياتِ الظَّاهرةِ، [إلَّا أنَّه] (¬2) لا يحْتاجُ إلى نِيَّةٍ؛ لأنَّه وصَفَ بها الطَّلاقَ الصَّريحَ. فإن قال: أنتِ طالقٌ لا رَجْعَةَ لى عليك. وهى مَدْخولٌ بها، فقال أحمدُ: إذا قال لامرأتِه: أنتِ طالقٌ لا رجْعةَ فيها، ولا مَثْنَوِيَّةَ (¬3). هذه مثلُ الخَلِيَّةِ والبَرِيَّةِ ثلاثًا، هكذا هو عندِى. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. وإن قال: ولا رجْعةَ لى فيها. بالواوِ، فكذلك. وقال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لأنه». (¬3) في النسختين: «مبتوتة». والمثبت من المغنى 10/ 367.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابُ أبى حنيفةَ: تكونُ رجْعِيَّةً؛ لأنَّه لم يَصِفِ الطَّلْقَةَ بذلك، وإنَّما عطَفَ عليها. ولَنا، أنَّ الصِّفَةَ تَصِحُّ مع العطفِ، كما لو قال: بِعْتُك بعشرةٍ وهى مَغْرِبِيَّةٌ. صحَّ (¬1)، وكان صِفةً للثَّمَنِ. قال اللَّه تعالى: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (¬2). وإن قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بائنًا -أو- واحدةً بَتَّةً. ففيها ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُن، أنَّها واحدةٌ رَجْعيَّةٌ، ويلغو ما بعدَها. قال أحمدُ: لا أعْرِفُ شيئًا مُتَقَدِّمًا أنَّ بواحدةٍ تكونُ بائنًا. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه وصَفَ الطَّلْقةَ بما لا تتَّصِفُ به، فَلَغَتِ الصِّفَةُ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً لا تقعُ عليك. والثانيةُ، هى ثلاثٌ. قالَه أبو بكرٍ، وقال: هو قولُ أحمدَ؛ لأنَّه أتَى بما يَقْتَضِى الثَّلاثَ، فوقعَ، ولَغَا قولُه (¬3): واحدةً: كما لو (1) قال: أنتِ طالقٌ واحدةً ثلاثًا. والثَّالثةُ، روَاها حَنْبَلٌ عن أحمدَ، إذا طَلَّقَ امْرأتَه واحدةً (1) البَتَّةَ، فإنَّ أمْرَها بيَدِها، يَزِيدُها في مَهْرِها إن أرادَ رَجْعَتَها. فهذا يدُلُّ على أنه أوْقعَ بها واحدةً بائنًا؛ لأنَّه جَعَلَ أمْرَها بيَدِها، ولو كانت رَجْعِيَّةً (¬4) لَما جَعَلَ أمْرَها بيَدِها، ولو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الأنبياء 2. (¬3) في م: «وله». (¬4) في الأصل: «رجعيا».

3457 - مسألة: (ومن شرط وقوع الطلاق)

وَمِنْ شَرْطِ وُقُوع، الطَّلَاقِ أَنْ يَنْوِىَ بِهَا الطَّلَاقَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقعَ ثلاثٌ لَما حَلَّتْ له رَجْعتُها. قال أبو الخَطَّابِ: هذه الرِّوايةُ تُخَرَّجُ في جميعِ الكِناياتِ الظَّاهرةِ، فيكونُ مثلَ قولِ إبراهيمَ النَّخَعِىِّ. وَوجْهُه أنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ بصفَةِ البَيْنُونَةِ، فوَقَعَ على ما أوْقَعَه، ولم يَزِدْ على واحدةٍ؛ لأَنَّ لفْظَه لم يَقْتَضِ عَددًا، فلم يَقَعْ أكثرُ مِن واحدةٍ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ. وحملَ القاضى رِوايةَ حَنْبَلٍ على أنَّ ذلك بعدَ انْقضاءِ العِدَّةِ. 3457 - مسألة: (ومِنْ شَرْطِ وُقُوعِ الطَّلاقِ) بها (أن يَنْوِىَ بها الطَّلاقَ) يَعْنِى مِن شَرْطِ وُقوعِ الطَّلاقِ بالكِنايةِ النِّيَّةُ للطَّلاقِ؛ لأنَّها كنايةٌ، فلا يقَعُ بها طَلاقٌ بدونِ النِّيَّةِ، كالكِنايةِ الخَفِيَّةِ. وإن لم يَنْوِ شيئًا، ولا دَلَّتْ عليه قَرِينةٌ، لم يَقَعْ؛ لأنَّه ظاهِر في غيرِ الطَّلاقِ، فلم يُصْرَفْ إليه عندَ الإِطْلاقِ، كما لا يَنْصَرِفُ الصَّريحُ إلى غيرِه. وإن نَوَى بها الطَّلاقَ، وقَعَ. وذكَرَ القاضى أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ والخِرَقِىِّ، أنَّ الطَّلاقَ يقعُ بالكِناياتِ الظَّاهرةِ مِن غيرِ نِيَّةٍ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه اشْتَهَر اسْتِعْمالُها فيه، فلم تحْتَجْ إلى نِيَّةٍ، كالصَّريحِ. ومَفْهومُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّهْ لا يقَعُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بنِيَّةٍ؛ [لقوْلِه (¬1): وإذا أتى بصريحِ الطَّلاقِ، وقعَ، نَواه أو لم يَنْوِه. فمفهومُه أنَّ غيرَ الصَّريحِ لا يَقعُ إلَّا بنيَّةٍ] (¬2)، لأنَّه كنايةٌ، فأشْبَهَ سائِرَ الكِناياتِ. فصل: إذا ثَبَتَ اعْتِبارُ النِّيَّةِ، فإنَّها تُعْتبرُ [مُقارِنةً للفظهِ] (¬3)، فإن وُجِدَتْ في ابْتدائِه، وعزَبتْ عنه في سائِرِه، وقَعَ الطَّلاقُ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعىِّ: لا يقَعُ، فلو قال: أنتِ بائنٌ. يَنْوِى الطَّلاقَ، وعزَبتْ عنه (¬4) حينَ قال: أنت بائِنٌ. لم يَقَعْ، لأَنَّ القَدْرَ الذى صاحَبَتْه النِّيَّةُ لا يقَعُ به شئٌ. ولَنا، أنَّ ما يُعْتَبَرُ له النِّيَّةُ يُكْتَفَى فيه بوُجودِها فىِ أوَّلِه، كالصلاةِ وسائرِ العباداتِ. فأمَّا إنْ تلَفَّظَ بالكنايةِ غيرَ ناوٍ، ثم نوَى بها بعدَ ذلك، لم يَقَعْ بها الطَّلاقُ، كما لو نَوَى الطَّهارةَ بالغُسْلِ بعدَ فَراغِه منه. ¬

(¬1) في الأصل: «كقوله». وانظر نص الخرقى في: المغنى 10/ 372. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «مقاربة للفظ». (¬4) في م «نيته».

3458 - مسألة: (إلا أن يأتى بها فى حال الخصومة والغضب، فعلى روايتين)

إِلَّا أَنْ يَأتِىَ بِهَا فِى حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3458 - مسألة: (إلَّا أَنْ يَأتِىَ بِهَا فِى حالِ الخُصُومَةِ والغَضَبِ، فَعَلى رِوَايَتَيْن) ذكَرَهما أبو بكرٍ، والقاضى، وأبو الخَطَّابِ؛ إحْداهما، يَقَعُ الطَّلاقُ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. قال في روايةِ المَيْمُونِىِّ: إذا قال لزَوْجَتِه: أنتِ حُرَّةٌ لوَجْهِ اللَّهِ. في الغَضبِ، فأخْشَى أن يكونَ طَلاقًا. والرِّوايةُ الأُخْرَى، ليس بطَلاقٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ يقولُ في: اعتَدِّى، واخْتارِى، وأمْرُك بيَدِك. كقَوْلِنا في الوُقوعِ. واحْتَجَّا بأنَّ هذا ليس بصَريحٍ في الطَّلاقِ، ولم يَنوِه، فلم يَقَعْ به الطَّلاق، كحالِ الرِّضَا، ولأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لا يتَغَيَّرُ بالرِّضا والغَضبِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ ما كان مِن الكِناياتِ لا يُسْتَعْمَلُ في غيرِ الفُرْقةِ إلَّا نادِرًا، نحوَ قولِه: أنتِ حُرَّةٌ لوَجْهِ اللَّهِ. و: اعْتَدِّى. و: اسْتَبْرِئِى رَحِمَكِ. و: حَبْلُكِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على غارِبِكِ. و: أنتِ بائنٌ. وأشباهُ ذلك، أنَّه يقَعُ في حالِ الغَضبِ وجوابِ سؤالِ الطَّلاقِ مِن غيرِ نيَّةٍ، وما كَثُرَ [اسْتِعْمالُه لغيرِ ذلك، نحوَ: اخْرُجى. و: اذْهَبِى. و: رُوحِى. و (¬1): تَقَنَّعِى. لا يقَعُ الطَّلاق به إلَّا بنِيَّةٍ. ومذهبُ أبى حنيفةَ قريبٌ مِن هذا. وكلامُ الخِرَقِىِّ إنَّما ورَدَ في قولِه: أنتِ حُرَّةٌ. وهو ممَّا لا يَسْتَعْمِلُه الإِنْسانُ في حَقِّ زَوْجَتِه غالبًا إلَّا كِنايةً عن الطَّلاقِ، ولا يَلْزَمُ مِن الاكتِفاءِ بذلك (¬2) بمُجَرَّدِ الغضَبِ وُقوعُ غيرِه مِن غيرِ نِيَّةٍ، لأَنَّ ما كثُرَ] (¬3) اسْتِعْمالُه يُوجَدُ كثيرًا غيرَ مُرادٍ به الطَّلاقُ في حال الرِّضا، فكذلك في حالِ الغَضبِ، إذْ لا حَجْرَ عليه في اسْتِعْمالِه والتَّكَلُّمِ [به، بخِلافِ] (¬4) ما لم تَجْرِ العَادةُ بذِكْرِه، فإنَّه لمَّا قَلَّ اسْتعمالُه في غيرِ الطَّلاقِ، كان مُجَرَّدُ ذِكْرِه يُظَنُّ منه إرادةُ الطَّلاقِ، ¬

(¬1) الواو ساقطة من: م. (¬2) في م: «كذلك». وانظر المغنى 10/ 361. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «يخالف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا انْضَمَّ إلى ذلك مَجِيئُه عَقِيبَ سُؤالِ الطَّلاقِ أو في حالِ الغَضبِ، قَوِىَ الظَّنُّ، فصارَ ظَنًّا غالبًا. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُخْرَى، أن دَلالةَ الحالِ تُغَيِّرُ حُكْمَ الأقْوالِ والأفْعالِ؛ فإنَّ مَنْ قالَ لرجلٍ: يا عفيفُ ابن العفيفِ. حالَ تَعْظِيمِه كان مَدْحًا له، وإنْ قالَه في حالِ شَتْمِه [وتَنَقُّصِه] (¬1) كان قذْفًا وذَما. ولو قال: إنَّه لا يَغْدِرُ بذِمَّةٍ، ولا يَظْلِمُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ، وما أحدٌ أوْفى ذِمَّةً منه. في حالِ المدْحِ كان مَدْحًا بَلِيغًا، كما قال حسَّانُ (¬2): فما حَمَلَتْ مِن ناقَةٍ فَوْقَ رَحْلِها … أبَرَّ وأَوْفَى ذِمَّةً مِن مُحَمَّدِ ولو قالَه في حالِ الذَّمِّ كان هجْوًا قَبِيحًا، كقولِ النَّجَاشِىِّ (¬3): قُبَيِّلَةٌ (¬4) لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ … ولا يَظِلمونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ وقال آخرُ (¬5): كأنَّ رَبِّىَ لم يَخْلُقْ لخَشْيَتِه … سِواهُمُ مِن جَميعِ النَّاسِ إنْسانًا وهذا في هذا الموضعِ هجاءٌ قَبِيحٌ وذمٌّ، حتى حُكِىَ عن حسَّانَ أنَّه قال: ¬

(¬1) في الأصل: «وتبعض». (¬2) كذا نسبه لحسان، وليس في ديوانه، وهو لأنس بن زنيم، في: السيرة 4/ 424، وخزانة الأدب 6/ 474، ولأنس ولآخرين في الإصابة 3/ 5، وغير منسوب في زهر الآداب 2/ 1093. (¬3) قيس بن عمرو بن مالك، والبيت، في: الشعر والشعراء 1/ 331، والعقد الفريد 2/ 297، 6/ 145. وانظر ترجمته، في: الإصابة 6/ 491 - 494. (¬4) في م: «قبيلته». (¬5) هو قُرَيْط بن أُنَيف، رجل من بلعنبر بن تميم. شرح الحماسة 1/ 31، والبيت في الحماسة 1/ 58، وفى العقد الفريد 2/ 297 بدون عزو.

3459 - مسألة: (وإن جاءت جوابا لسؤالها الطلاق، فقال أصحابنا: يقع بها الطلاق)

وَإِنْ جَاءَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِهَا الطَّلاقَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقَعُ بِهَا الطَّلاقُ. وَالأَوْلَى فِى الأَلفَاظِ الَّتِى يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرِ الطَّلاقِ، نَحْوَ: اخْرُجِى، وَاذْهَبِى، وَرُوحِى، أنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ حَتَّى يَنْوِيَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أراه إلَّا قد سَلَحَ (¬1) عليهم. ولولا القَرينةُ ودَلالةُ الحالِ كان مِن أحسن المدْحِ وأبلَغِه. وفى الأفْعالِ لو أنَّ رجلًا قصدَ رجلًا بسيفٍ، والحالُ تَدُلُّ على المَزْحِ واللَّعِبِ، لم يَجُزْ قَتْلُه، ولو دلَّتِ الحالُ على الجِدِّ، جازَ دَفْعُه بالقَتْلِ. والغضبُ ههُنا [يَدُلُّ على قَصْدِ] (¬2) الطَّلاقِ، فيقومُ مَقامَه. 3459 - مسألة: (وإنْ جَاءَتْ جَوَابًا لسُؤالِهَا الطَّلاقَ، فَقَالَ أصحَابُنا: يَقَعُ بِهَا الطَّلاقُ) لدَلالةِ الحالِ عليه، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا أتَى بها في حالِ الغَضبِ، على ما فيه مِن الخلافِ والتَّفْصيلِ. والوَجْهُ لذلك ما تَقَدَّمَ مِن التَّوْجيهِ. قال شيخُنا: (والأَوْلَى في الألْفاظِ التى يَكْثُرُ اسْتعمالُها لغيرِ الطَّلاقِ، نحوَ: اخْرُجِى، و: اذْهَبِى، و: رُوحِى، أنَّه لا يقَعُ بها طلاقٌ حتى يَنْوِيَه) بخلافِ ما لا يُسْتَعْمَلُ في غيرِ الطَّلاقِ إلَّا نادِرًا. وقد ذكَرْنا في المسألةِ التى قبلَها دَليلَ ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «سلخ». وسلح عليه: أخرج نَجْوَ بطنه. (¬2) في النسختين: «على عقد». والمثبت كما في المغنى 10/ 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ ادَّعَى أنَّه لم يَنْوِ، فالمنْصوصُ عن أحمدَ ههُنا، أنَّه لا يُصَدَّقُ في عَدمِ النِّيَّةِ. قال في روايةِ أبى (¬1) الحارثِ: إذا قال: لم أنْوِه. صُدِّقَ في ذلك إذا لم تَكُنْ سأَلَتْه الطَّلاقَ، وإن كان بينَهما غَضبٌ، قُبلَ ذلك. ففَرَّقَ بينَ كونِه جوابًا للسُّؤالِ وكَوْنِه في حالِ الغَضبِ؛ وذلك لأَنَّ الجوابَ يَنْصَرِفُ إلى السُّؤالِ، فلو قال: لى عندَك دينارٌ؟ قال: نعم. أو: صدَقْتَ. كان إقْرارًا به، ولم يُقْبَلْ منه (1) تَفْسيرُه بغيرِ الإقْرارِ. ولو قال: زَوَّجْتُك ابْنَتِى. أو: بعْتُك ثَوْبِى هذا. قال: قَبِلْتُ. كَفَى هذا، ولم يحْتَج إلى زيادَةٍ عليه. ولو أرادَ بالكِنايةِ حالَ الغَضبِ أو سُؤالِ الطَّلاقِ غيرَ الطَّلاقِ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّه لو أرادَه بالصَّريحِ لم يقَعْ، فالكنايةُ أوْلَى. وإذا ادَّعَى ذلك دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ ظاهرُ كلامِ أحمدَ في رِوايةِ أبى (1) الحارثِ، أنَّه يُصَدَّقُ إن كان في حالِ (¬2) الغَضبَ ولا يُصَدَّقُ إن كان جوابًا لسُؤالِ الطَّلاقِ. ونُقِلَ عنه في موضِعٍ آخَرَ أنَّه قال: [إذا قال] (¬3): أنتِ خَلِيَّةٌ. أو: بَرِيَّةٌ. أو: بائنٌ. ولم يَكُنْ بينَهما ذِكْرُ طَلاقٍ ولا غضبٌ، صُدِّقَ. فمَفْهومُه أنَّه لا يُصَدَّقُ مع ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: م. (¬3) سقط من: م.

3460 - مسألة: (ومتى نوى بالكناية الطلاق، وقع بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة)

وَمَتَى نَوَى بِالْكِنَايَةِ الطَّلاقَ، وَقَعَ بِالظَّاهِرَةِ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجودِهما. وحُكِىَ هذا عن أبى حنيفةَ، إلَّا في الأربعةِ المذْكورةِ. والصَّحيحُ أنَّه يُصَدَّقُ؛ لِما روَى سعيدٌ (¬1) بإِسْنادِه، أنَّ رجلًا خطَبَ إلى قومٍ فقالوا: لا نُزَوِّجُكَ حتى تُطَلِّقَ امرأتَك. فقال: قد طَلَّقْت ثلاثًا. فزَوَّجُوه (¬2)، ثم أمْسَك امرأتَه، فقالوا: ألم تَقُلْ إنَّكَ طَلَّقْتَ ثلاثًا؟ قال: ألم تعْلموا أنِّى تَزَوَّجْتُ فلانةَ وطَلَّقْتُها، ثم تَزَوَّجتُ فلانةَ ثم طَلَّقْتُها، ثم تَزَوَّجتُ فلانةَ وطَلَّقْتُها. فسُئِلَ عثمانُ عن ذلك، فقال: له نِيَّتُه. ولأنَّه أمْرٌ تُعْتَبَرُ نِيَّتُه فيه، فقُبِلَ قولُه فيما يَحْتَمِلُه، كما لو كرَّر لفظًا، قال: أرَدْتُ التَّوْكيدَ. واللَّهُ أعلمُ. 3460 - مسألة: (ومَتَى نَوَى بالكِنايَةِ الطَّلاقَ، وَقَعَ بالظَّاهِرَةِ ثلاثٌ وإنْ نَوَى وَاحِدَةً) هذا ظاهرُ المذهبِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن إجْماعِ ¬

(¬1) في: باب الرجل يتزوج المرأة فبدخل عليها ومعها نساء فوقع على امرأة منهن. السنن 1/ 250، 251. (¬2) بعده في م: «بها».

وَعَنْهُ، يَقَعُ مَا نَوَاهُ. وَعَنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَقَعُ بِهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّحابةِ (وعنه، يقعُ ما نَوَاهُ) وهو مذهبُ الشافعىِّ، كالكِناياتِ الخَفِيَّةِ، ولحديث رُكانةَ (¬1) (وعنه، تَقَعُ واحدةً بائنةً) وهى رِوايةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 239.

وَيَقَعُ بِالْخَفِيَّةِ مَا نَوَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ عَدَدًا، وَقَعَ وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَنْبَلٍ؛ لِما ذَكَرنا مِن قبلُ (ويقَعُ بالخَفِيَّةِ ما نَوَاهُ) لأنَّه مُحْتَمِلٌ له (¬1). وهو قولُ الشافعىِّ. إلَّا إذا قال: أنتِ واحدةٌ. فإنَّه لا يقعُ بها إلَّا واحدةً وإن نَوَى ثلاثًا؛ لأنَّها لا تَحْتَمِل غيرَ الواحدةِ. ذكَرَه شيخُنا. ¬

(¬1) سقط من: م.

3461 - مسألة: (وأما ما لا يدل على الطلاق، نحو: كلى، و: اشربى، و: اقعدى، و: اقربى، و: بارك الله عليك، و: أنت مليحة، أو: قبيحة)

وَأَمَّا مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ، نَحْوَ: كُلِى، وَ: اشْرَبِى، وَ: اقْعُدِى، وَ: اقْرُبِى، وَ: بَارَكَ اللَّه عَلَيْكِ، وَ: أَنْتِ مَلِيحَةٌ، أَوْ: قَبِيحَة، فَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والطَّلاقُ الواقعُ بالكِناياتِ رَجْعِىٌّ، ما لم يَقَعْ به الثَّلاثُ، في ظاهِرِ المذهبِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: كلُّها بَوائنُ، إلَّا: اعْتَدِّى، و: اسْتَبْرئِى رَحِمَك، و: أنتِ واحدةٌ؛ لأنَّها تَقْتَضِى البَيْنُونةَ، فتَقَعُ، كقولِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. ولَنا، أنَّه طَلاقٌ صادفَ مَدْخولًا بها، مِن غيرِ عِوَضٍ ولا اسْتِيفاءِ عَدَدٍ، فوَجَبَ أَنْ يكونَ رَجْعِيًّا، كصَريحِ الطَّلاقِ وما سَلَّمُوه من الكِناياتِ. وقولُهم: إنَّها تَقْتَضى البَيْنُونَةَ. قُلْنا: فيَنْبَغِى أن تَبِينَ بثلاثٍ؛ لأَنَّ المدْخولَ بها لا تبِينُ إلَّا بعِوَضٍ أو ثلاثٍ. 3461 - مسألة: (وَأمَّا مَا لا يَدُلُّ عَلَى الطَّلاقِ، نَحْوَ: كُلِى، و: اشْرَبِى، و: اقْعُدِى، و: اقْرُبِى، و: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكِ، و: أنْتِ مَلِيحةٌ، أَوْ: قَبِيحَةٌ) وقُومِى، و: أطْعِمِينِى، و: اسْقِينِى، و: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ، و: ما أحْسنَكِ. وأشْبَاهُ ذلِكَ، فليسَ بِكِنَايَةٍ، وَلَا تَطْلُقُ به (وإنْ نَوَى) لأَنَّ اللَّفْظَ لا يَحْتَمِلُ الطَّلاقَ، فلو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقعَ به الطَّلاقُ وقعَ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وقد ذَكَرْنا أنَّه لا يَقَعُ بها. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعىِّ في قولِه: كُلِى، و: اشْرَبِى. فقال بعْضُهم كقَوْلِنا، وقال بعضُهم: هو كناية؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ: كُلِى ألَمَ الطَّلاقِ، و: اشْرَبى كَأسَ الفِراقِ. فوقَع، كقَوْلِه: ذُوقِى (¬1)، و: تَجَرَّعِى. ولَنا، أنَّ هذا اللَّفْظَ لا يستَعْمَلُ بمفْرَدِه إلَّا فيما لا ضَرَرَ فيه، كنحْوِ قولِه تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2). وقال: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬3). فلم يَكُنْ كنايةً، كقولِه: أطْعِمِينى. وفارَقَ: ذُوقِى، و: تَجرَّعِى. فإنَّه يُسْتَعْمَلُ في المَكارِهِ؛ كقَوْلِه (¬4) سبحانه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (¬5). وَ {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬6). و: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (¬7). وكذلك التَّجَرُّعُ، قال اللَّهُ تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (¬8). فلم يَصِحَّ أن يلحَقَ بهما ما ليس مثْلَهما. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة الطور 19. (¬3) سورة النساء 4. (¬4) في م: «لقول اللَّه». (¬5) سورة الدخان 49. (¬6) سورة آل عمران 181. (¬7) سورة القمر 48. (¬8) سورة إبراهيم 17.

3462 - مسألة: (وكذلك قوله: أنا طالق)

وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنَا طَالِقٌ. فَإِنْ قَالَ: أنَا مِنْكِ طَالِقٌ. فَكَذَلِكَ. وَيَحْتَمِل أنَّهُ كِنَايَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3462 - مسألة: (وكذلِك قَوْلُه: أنا طالِقٌ) لأَنَّ الزَّوْجَ ليس مَحَلًّا للطَّلاقِ (وإن قال: أنا منكِ طَالِقٌ) لم تَطْلُقْ زَوْجَتُه. نَصَّ عليه في رِوايةِ الأَثْرَمِ، في رجل جَعَلَ أمَرَ امْرأتِه بيَدِها، فقالت: أنتَ طالقٌ. لم تَطْلُقْ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبى عُبَيْدٍ (¬1)، وأصحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِىَ ذلك عن عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه (ويَحْتَمِلُ أنَّه كنايةٌ) تَطْلُقُ (¬2) به إذا نَوَى. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. ورُوِىَ نحوُ ذلك عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وعَطاءٍ، [والنَّخَعِىِّ] (¬3)، والقاسِمِ، وإسْحاقَ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ إزالَةُ النِّكاحِ، وهو مُشتَرَكٌ بينَهما، فإذا صَحَّ في أحَدِهما صَحَّ في الآخَرِ. ولا خِلافَ في أنَّه لا يَقَعُ به الطَّلاقُ مِن غيرِ نِيَّةٍ. ولَنا، أنَّه مَحَلٌّ لا يَقَعُ الطَّلاقُ إذا أضافَه إليه مِن غيرِ نِيَّةٍ، فلم يَقَعْ وإنْ نَوَى، كالأجْنَبِىِّ، ولأنَّه لو قال: أنا طالقٌ. ولم يَقُلْ: منكِ. لم يقَعْ، ¬

(¬1) في م: «سيد». (¬2) في م: «يطلق». (¬3) سقط من: م.

3463 - مسألة: (وإن قال: أنا منك بائن. أو: حرام. فهل هو كناية أو لا؟ على وجهين)

وَإِنْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ. أَوْ: حَرَامٌ. فَهَلْ هُوَ كِنَايَةٌ، أَوْ لَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان مَحَلًّا للطَّلاقِ لوَقَعَ بذلك، كالمرأةِ، ولأَنَّ الرَّجلَ مالكٌ في النِّكاحِ، والمرأةَ مَمْلُوكةٌ، فلم تَقَعْ إِزالةُ المِلْكِ بالإِضافةِ إلى المالِكِ، كالعِتْقِ، ويَدُلُّ على هذا أنَّ الرَّجلَ لا يُوصَف بأنَّه مُطلَّقٌ، بخِلافِ المرأةِ. وجاء رجلٌ إلى ابنِ عباسٍ فقال: ملَّكْتُ امْرأتِى أمْرَها، فطَلَّقَتْنِى ثلاثًا. فقال ابنُ عباسٍ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا (¬1)، إنَّ الطَّلاقَ لك وليس لها عليك. روَاه أبو عُبَيْدٍ (¬2)، والأَثْرَمُ. واحْتَجَّ به أحمدُ. 3463 - مسألة: (وإن قال: أنا مِنْكِ بائنٌ. أو: حَرَامٌ. فهل هو كِنَايَةٌ أَوْ لا؟ على وَجْهَيْن) إذا قال: أنا منكِ بائنٌ. أو: بَرِئٌ. فقد تَوَقَّفَ أحمدُ عنها. وقال أبو عبدِ (¬3) اللَّهِ ابنُ حامدٍ: يَتَخَرَّجُ (¬4) على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، لا يَقَعُ؛ لأَنَّ الرَّجُلَ مَحَلٌّ لا يَقَعُ ¬

(¬1) أى: أخطأها المطر. دعاء عيها. (¬2) في: غريب الحديث 4/ 210، 311. كما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 520. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 377. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 57، 58. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 349. (¬3) في الأصل: «عبيد». (¬4) في الأصل: «يخرج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّلاقُ بإضافةِ صريحِه إليه، فلم يَقَعْ بإضافةِ كنايتِه إليه، كالأجْنَبِىِّ. والثَّانى، يَقَعُ؛ لأَنَّ لفظَ البَيْنُونةِ والبراءةٍ والتَّحْريمِ يُوصَفُ به كُل واحدٍ مِن الزَّوْجَيْن، يُقال: بانَ منها، وبانتْ منه [وبَرِئَ منها، وبَرِئَتْ منه] (¬1)، وحَرُمَ عليها، وحَرُمَتْ عليه. وكذلك لَفْظُ الفُرْقَةِ يُضافُ إليهما، قال اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬2). وقال تعالى: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (¬3). ويُقالُ: فارَقَتْه المرأةُ وفارَقَها. ولا يُقالُ: طَلَّقَتْه ولا سَرَّحَتْه، ولا تَطَلَّقَا ولا تَسَرَّحا. فإن قال: أنا بائنٌ. ولم يقُلْ: منكِ. فذكر القاضى فيما إذا قال لها: أمرُكِ بيَدِك. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 130. (¬3) سورة البقرة 102.

3464 - مسألة: (وإن قال: أنت على كظهر أمى. ينوى به الطلاق، لم يقع، وكان ظهارا)

فَإنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَىَّ كَظَهْرِ أُمِّى. يَنْوِى بهِ الطَّلاقَ، لَمْ يَقَعْ، وَكَانَ ظِهَارًا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ. أَوْ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَىَّ حَرَامٌ. فَفِيهِ ثَلَاثُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالت: أنتَ بائنٌ. ولم تَقُلْ: مِنِّى. أنَّه لاْ يَقَعُ، وجْهًا واحدًا. وإن قالت: أنا بائنٌ. ونَوَتْ، وَقَع. وإن قالتْ: أنتَ مِنِّى بائنٌ. فعلى الوَجْهَيْن، فيُخرَّجُ ههنا مثلُ ذلك. 3464 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ عَلَىَّ كظَهْرِ أُمِّى. يَنْوِى به الطَّلاقَ، لم يَقَعْ، وكان ظِهارًا) لأنَّه صَريحٌ [في الظِّهارِ] (¬1)، فلم يكُنْ كنايةً في الطَّلاقِ، كما لا يَكُونُ الطَّلاقُ كِنايةً في الظِّهارِ، ولأَنَّ الظِّهارَ تَشْبِيهٌ (¬2) بمَن هى مُحَرَّمَةٌ على التَّأْبِيدِ، والطَّلاقُ يُفيدُ (¬3) تَحْريمًا غيرَ مُؤَبَّدٍ، فلم تَصِحَّ الكنايةُ بأحَدِهما عَن الآخَرِ. ولو صرَّحَ به فقال: أعْنِى به الطَّلاقَ. لم يَصِرْ طَلاقًا؛ لأنَّه لا تَصْلُحُ الكِنايةُ به عنه. 3465 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ علَىَّ حَرَامٌ. أو: ما أحَلَّ اللَّهُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يشبه». (¬3) في الأصل: «يتقيد».

رِوَايَاتٍ؛ إِحْدَاهُنَّ، أَنَّهُ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ. اخْتَارَهُ الْخِرَقِىُّ. وَالثَّانِيَةُ، كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَالثَّالِثَةُ، هُوَ يَمِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَىَّ حَرَامٌ. فَفيه ثَلاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ، أنَّه ظِهَارٌ وإن نَوَى الطَّلاقَ. اخْتَارَه الخِرَقِىُّ. والثانية، كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ. والثالثةُ، هو يَمِينٌ) إذا قال ذلك وأطْلَقَ، فهو ظِهارٌ. وقال الشافعىُّ: لا شئَ عليه. وله قولٌ آخَرُ: عليه كَفَّارةُ يَمِينٍ، وليس بيَمينٍ. وقال أبو حنيفةَ: هو يَمِينٌ. وقد رُوِى ذلك عن أبى بكرٍ، وعمرَ، وابنِ مسعودٍ. وقال سعيدٌ (¬1): ثَنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ، أنَّ أبا بكرٍ وعمرَ وابنَ مسعودٍ قالوا في الحرامِ: إنَّه يَمِينٌ. وبه قال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ. وعن أحمدَ ما يدُلُّ على ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬2). ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬3). وقال ابنُ عباسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ¬

(¬1) في: كتاب الطلاق. السنن 1/ 389. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 74. وقال الحافظ: وهذا ضعيف ومنقطع أيضًا. تلخيص الحبير 3/ 215. (¬2) سورة التحريم 1. (¬3) سورة التحريم 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُسْوَةٌ (¬1) حَسَنَةٌ} (¬2). ولأنَّه تحْريمٌ للحلالِ، أشْبَهَ تحْريمَ الأمَةِ. ووَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه تحْريمٌ للزَّوْجةِ بغيرِ طَلاقٍ، فَوَجَبَتْ به كَفَّارةُ الظِّهارِ، كما لو قال: أنتِ علىَّ حرامٌ كظَهْرِ أُمِّى. فأمَّا إن نَوَى غيرَ الظِّهارِ، فالمنْصوص عن أحمدَ في رِوايةِ جماعةٍ (¬3)، أنَّه ظِهارٌ، نَوَى الطَّلاقَ أو لم ¬

(¬1) بالضم قراءة عاصم حيث وقعت، وقرأ الباقون بالكسر حيث وقعت. انظر كتاب السبعة في القراآت لابن مجاهد 520، 521. والكشف عن وجوه القراآت. . . لمكى 2/ 196. والأثر أخرجه البخارى، في: باب تفسير صورة المتحرَّم (لم تحرِّم)، من كتاب التفسير، وفى: باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 6/ 194، 7/ 56. ومسلم، في: باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1100. وابن ماجه، في: باب الحرام، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 670. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 225. (¬2) سورة الأحزاب 21. (¬3) في الأصل: «الجماعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْوِه. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وممَّن قال: إنَّه ظِهارٌ؛ عثمانُ بنُ عفانَ، وأبو قِلابَةَ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وميْمونُ بنُ مِهْرَانَ، والبَتِّىُّ. ورَوَى الأَثْرَمُ بإِسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، في الحرامِ، أنَّه تحْريرُ (¬1) رَقَبَةٍ، فإن لم يَجِدْ فصِيامُ شهْرَيْن مُتَتابِعَيْن، أو إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكينًا. ولأنَّه صَريحٌ في تحْريمِها، فكان ظِهارًا وإنْ نوَى غيرَه، كقَوْلِه: أنتِ علىَّ كظَهْرِ أُمِّى. وعن أحمدَ، أنَّه إذاْ نَوَى به الطَّلاقَ [كان طلاقًا. قال: إذا قال: ما أحَلَّ اللَّهُ عليه حَرامٌ. يَعْنِى به الطَّلاقَ] (¬2)، أخافُ أن يكونَ ثلاثًا، ولا أُفْتِى به. وهذا مثلُ قولِه في الكِناياتِ الظَّاهرةِ، فكأنَّه جَعلَه مِن كِناياتِ الطَّلاقِ، يَقَعُ به الطَّلاقُ إذا نَوَاه. ونَقَلَ عنه البَغَوِىُّ (¬3) في رجلٍ قال لامرأتِه: أمْرُكِ بيَدِك. فقالتْ: أنا عليك حَرامٌ. فقد حَرُمَتْ عليه. فجعلَه منها كنايةً في الطَّلاقِ، فكذلك مِنَ الرَّجلِ. واخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ. وممَّن رُوِى عنه أنَّه (¬4) طلاقٌ ثلاثٌ؛ علىٌّ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو هُرَيْرَةَ، والحسنُ ¬

(¬1) في الأصل: «تحريم». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) عبد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز المرْزُبان أبو القاسم البغوى، الحافظ الإمام الحجة المعمَّر، مسند العصر، حدث عنه مسلم وأبو داود وغير هما، وسمع من الإمام أحمد وغيره، توفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهرًا واحدًا. سير أعلام النبلاء 14/ 440 - 457. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَصْرِىُّ، وابنُ أبى ليلَى. وهو مذهبُ مالكٍ في المدْخولِ بها؛ لأنَّ الطَّلاقَ نَوْعُ تحْريمٍ، فصَحَّ أن يُكْنَى به عنه، كقولِه: أنتِ بائنٌ. فإن لم يَنْوِ الطَّلاقَ، لم يَكُنْ طَلاقًا بحالٍ؛ لأنَّه ليس بصَريحٍ في الطَّلاقِ، فإذا لم يَنْوِه لم يَقَعْ به طَلاقٌ، كسائرِ الكِناياتِ. وإن قُلْنا: إنَّه كِنايةٌ في الطَّلاقِ. ونوى به، فحُكْمُه حُكْمُ الكناياتِ الظَّاهرةِ، على ما مَضَى مِن الاخْتلافِ فيها. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفةَ، والشافعىِّ، كُلٌّ على أصْلِه. ويُمْكِنُ حَمْلُه على الكناياتِ الخَفِيَّةِ إذا قُلْنا: إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرِّمَةٌ؛ لأَنَّ أقَلَّ ما تَحْرُمُ به الزَّوجَةُ طَلْقةٌ رَجْعيَّةٌ، فحُمِلَ على اليَقِينِ. وقد رُوِى عن أحمدَ ما يدُلُّ عليه؛ فإنَّه (¬1) قال: إذا قال: أنتِ عَلَىَّ حَرامٌ، أعْنِى به طَلاقًا. فهى واحدةٌ. ورُوِىَ هذا عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، والزُّهْرِىِّ. وقد رُوِى عن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسْروقٍ، وأبى سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، والشَّعْبِىِّ: ليس بشئٍ؛ لأنَّه قولٌ هو كاذِبٌ فيه. وهذا يَبْطُلُ بالظِّهارِ؛ لأنَّه مُنْكَرٌ (¬1) مِن القَوْلِ وزُورٌ، وقد أوْجبَ الكَفَّارَةَ، ولأَنَّ هذا إيقاعٌ للطَّلاقِ، فأشْبَهَ قولَه: أنتِ بائنٌ -و- أنتِ طالقٌ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه إذا نَوَى اليَمِينَ كان يمينًا؛ [فإنَّه قال في روايةِ مُهَنَّا: إنَّه إذا قال: أنتِ علىَّ حرامٌ. ونَوَى يمينًا، ثم تَرَكَها أربعةَ أشْهرٍ، قال: هو يَمِينٌ، إنَّما الإيلاءُ أن يَحْلِفَ باللَّهِ لا يَقْرَبُ امرأتَه. فظاهر هذا أنَّه إذا نَوَى اليمينَ كانت يمينًا] (¬2). وهذا مذهبُ ابنِ مسعودٍ، وقولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وممَّن رُوِى عنه: عليه كَفَّارةُ يَمِينٍ؛ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وعمرُ، وابن عباسٍ، وعائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عَنهم. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسَنِ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، وسُليمانَ بنِ يَسَارٍ، وقَتادةَ، والأوْزَاعِىِّ. وفى المُتَّفَقِ عليه (¬3)، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أنَّه سَمِعَ ابنَ عباسٍ يَقولُ: إذا حرَّمَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 432.

3466 - مسألة: (وإن قال: ما أحل الله على حرام، أعنى به الطلاق. فقال أحمد: تطلق امرأته ثلاثا. وإن قال: أعنى به طلاقا. طلقت واحدة)

وَإِنْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَىَّ حَرَامٌ، أَعْنِى بِهِ الطَّلاقَ. فَقَالَ أحْمَدُ: تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: أَعْنِى بِهِ طَلَاقًا. طَلُقَتْ وَاحِدَةً. وَعَنْهُ، أَنَّهُ ظِهَارٌ فِيهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّجلُ عليه امرأتَه، فهى يَمِينٌ يُكَفِّرُها. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. فجعلَ الحرامَ يَمِينًا. ومعنى قولِه: نوَى يَمينًا -واللَّهُ أعلم- أنَّه نوَى بقَوْلِه: أنتِ علىَّ حرامٌ. تَرْكَ وَطْئِها واجْتِنابَها، وأقامَ ذلك مُقامَ: واللَّهِ لا وَطِئْتُكِ. 3466 - مسألة: (وَإِنْ قَالَ: ما أحَلَّ اللَّهُ عَلَىَّ حَرَامٌ، أعْنِى بِهِ الطَّلاقَ. فقال أحمَدُ: تَطْلُقُ امرأتُه ثَلاثًا. وإن قال: أعْنِى به طَلاقًا. طَلُقَتْ وَاحِدَةً) روَاه جماعةٌ (¬1) عن أحمدَ؛ فرَوَى أبو عبدِ اللَّهِ النَّيْسابُورِىُّ (¬2)، أنَّه قال: إذا قال: أنتِ علىَّ حرامٌ، أُريدُ به الطَّلاقَ. ¬

(¬1) في م: «الجماعة». (¬2) محمد بن يحيى بن عبد اللَّه الذُّهْلى النيسابورى، أبو عبد اللَّه، الإمام العلامة الحافظ البارع، شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان. توفى سنة ثمان وخمسين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 273 - 285، طبقات الحنابلة 1/ 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كنتُ أقولُ: إنَّها طالقٌ، يُكَفِّرُ كفَّارة الظِّهارِ. وهذا كأنَّه رُجوعٌ عن قولِه: إنَّه طلاقٌ. ووجْهُه أنَّه صَرِيحٌ في الظِّهارِ، فلم يَصِرْ طَلاقًا بقولِه: أُرِيدُ به الطَّلاقَ. كما لو قال: أنتِ علىَّ كظَهْر أُمِّى، أعْنِى به الطَّلاقَ. قال القاضى: ولكِنَّ جماعةَ أصحابِنا على أنَّه طَلاقٌ. وهى الرِّوايةُ المَشْهورةُ التى روَاها عنه الجماعةُ؛ لأنَّه صَرَّحَ بلَفْظِ الطَّلاقِ، فكان طلاقًا، كما لو ضربَها وقال: هذا طَلاقُكِ. وليس هذا صَريحًا في الظِّهارِ، إنَّما هو صَريحٌ في التَّحْرِيمِ، [والتَّحْرِيمُ] (¬1) يتَنَوَّعُ إلى تحْريمٍ بالظِّهارِ وإلى تحْريمٍ بالطَّلاقِ، فإذا بَيَّنَ بلَفْظِه إرادةَ تحْريمِ الطَّلاقِ، وجبَ صَرْفُه إليه. وفارَقَ قولَه: أنتِ علىَّ كظَهْرِ أُمِّى. فإنَّه صَريحٌ في الظِّهارِ، وهو تَحْريمٌ لا يَرْتَفِعُ إلَّا بالكَفَّارةِ، فلم يُمْكِنْ جعْلُ ذلك طَلاقًا، بخلافِ مسألتِنا. ثم إن قال: أعْنِى به الطَّلاقَ. أو نوَى به ثلاثًا، فهى ثلاثٌ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه أتَى بالألفِ واللَّامِ التى للاسْتِغْراقِ، تفْسيرًا للتَّحْريمِ، فدَخلَ فيه الطَّلاقُ كلُّه، وإذا نَوَى الثَّلاثَ، فقد نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُه مِن الطَّلاقِ، فوَقَعَ، كما لو قال: أنتِ بائنٌ. وعنه، لا يَكونُ ثلاثًا حتى (¬2) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يعنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْويَها، سواءٌ كانت فيه الألفُ واللَّامُ أو لم تَكُنْ؛ لأَنَّ الألفَ واللَّامَ تكونُ لغيرِ الاسْتغراقِ في أكثرِ أسْماءِ الأجْناسِ. وإنْ قال: أعْنِى به طلاقًا. فهى واحدةٌ؛ لأنَّه ذكَرَه مُنَكَّرًا، فيكونُ طلاقًا واحدًا. نصَّ عليه أحمدُ. وقال في روايةِ حَنْبَلٍ: إذا قال: أعنى طلاقًا. فهى واحدةٌ أو اثْنَتان، إذ لم يَكُنْ فيه ألِفٌ ولامٌ (وعنه، أنَّه ظِهارٌ فيهما) وقد ذَكَرْناه

3467 - مسألة: (وإن قال: أنت على كالميتة والدم. وقع ما نواه من الطلاق والظهار واليمين. وإن لم ينو شيئا، فهل يكون ظهارا أو يمينا؟ على وجهين)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَىَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمَ. وَقَعَ مَا نَوَاهُ مِنَ الطَّلاقِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَهَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَمِينًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَرْنا دَليلَه. 3467 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ عَلَىَّ كالمَيْتَةِ والدَّم. وَقَع ما نَواه مِن الطَّلاقِ والظِّهَارِ واليَمِينِ. وإن لم يَنْوِ شَيْئًا، فهل يَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَمِينًا؟ عَلَى وَجْهَيْن) أمَّا إذا نَوَى الطَّلاقَ، كان طلاقًا؛ لأنَّه يصْلُحُ أن يكونَ كِنايةً فيه، فإذا اقْتَرَنَتْ به النِّيَّةُ (¬1)، وقعَ به الطَّلاقُ، ويَقَعُ ما نَوَاه مِن عَدَدِ الطَّلاقِ، فإن لم يَنْوِ شيئًا، وقَعَتْ واحدةٌ؛ لأنَّه مِن الكِناياتِ الخَفِيَّةِ، وهذا حُكْمُها. وإنْ نَوَى به الظِّهارَ، وهو أن يَقْصِدَ تَحْريمَها عليه مع بقاءِ نِكاحِها، احْتَمَلَ أن يكونَ ظِهارًا، كما قُلْنا في قولِه: أنتِ علىَّ حرامٌ. واحْتَمَلَ أن لا يكونَ ظِهارًا، كما لو قال: أنتِ علىَّ كظَهْرِ البَهِيمَةِ -أو- كظهرِ أبى. [وإن] (¬2) نَوَى اليَمِينَ، وهو أَنْ يُريدَ بذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرْكَ وَطْئِها، لا تحْريمَها ولا طَلاقَها، فهو يَمِينٌ. وإن لم يَنْوِ شيئًا، لم يَكُنْ طَلاقًا؛ لأنَّه ليس بصَريحٍ في الطَّلاقِ، لا (¬1) ولو نَوَاهُ به. وهل يَكُونُ ظِهارًا أو يَمِينًا؟ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يكونُ ظِهارًا؛ لأَنَّ معناه: أنتِ حَرامٌ علىَّ كالمَيْتَةِ والدَّمِ. فإنَّ تَشْبِيهَها بهما يَقْتَضِى التَّشْبيهَ بهما في الأمْرِ الذى اشْتَهَرَا (¬2) به، وهو التَّحْريمُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى فيهما: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬3). والثانى، يكونُ يَمِينًا، لأَنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ، فإذا أتَى بلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ ثَبتَ فيه أقلُّ الحُكْمَيْنِ؛ لأنَّه اليقينُ، وما زادَ مشْكوكٌ فيه، فلا نُثْبِتُه بالشَّكِّ، ولا نزُولُ عن الأَصْلِ إلَّا بيَقِينٍ. وعندَ الشافعىِّ، هو كقَوْلِه: أنتِ حرامٌ. سواءً. ¬

(¬1) في م: «لو». (¬2) في النسختين: «استهزأ». وانظر المغنى 10/ 400. (¬3) سورة المائدة 3.

3468 - مسألة: (وإن قال: حلفت بالطلاق. وكذب، لزمه إقراره فى الحكم، ولا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى)

وَإِنْ قَالَ: حَلَفْتُ بِالطَّلَاقِ. وَكَذَبَ، لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ فِى الْحُكمِ، وَلَا يَلْزَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3468 - مسألة: (وإن قال: حَلَفْتُ بالطَّلاقِ. وكَذَبَ، لَزِمَه إقْرارُه في الحُكْمِ، ولا يَلْزَمُه فيما بينه وبينَ اللَّهِ تعالى) وإنْ قَالَ: حَلُفْتُ بالطَّلاقِ. أَوْ قَالَ: عَلَىَّ يَمِينٌ بالطَّلاقِ. ولَمْ يَكُنْ حَلَفَ، لَمْ يَلْزَمْه شَئٌ فيما بينَهُ وبينَ اللَّهِ تَعَالى، ولَزِمَهُ مَا أقَرَّ بِهِ فِى الحُكْمِ. ذكَرَه القاضى، وأبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما قالَه، ويَلْزَمُهُ في الحُكْمِ؛ لأنَّه خِلافُ ما أقَرَّ به. وقال أحمدُ في روايةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ، في الرَّجُلِ يقولُ: حَلَفْتُ بالطَّلاقِ. ولم يَكُنْ حَلَفَ: هى كِذْبَةٌ، ليس عليه يَمِينٌ. وذلك لأَنَّ قولَه: حَلَفْتُ. [ليس بحَلِفٍ] (¬1)، وإنَّما هو خَبَرٌ عن الحَلِفِ، فإذا كان كاذِبًا فيه، لم يَصِرْ حالفًا، كما لو قال: حَلَفْتُ باللَّهِ. وكان كاذِبًا. واخْتارَ أبو بكرٍ أنَّه يَلْزَمُه ما أقَرَّ به (¬2). وحَكَى في «زادِ المُسافِرِ» عن المَيْمُونِىِّ، عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا قال: حَلَفْتُ بالطَّلاقِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في المغنى 10/ 379: «في الحكم». وفى الإنصاف: «أنه يلزمه فيما بينه وبين اللَّه تعالى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَكُنْ حَلَفَ، يَلْزَمُه الطَّلاقُ، ويُرْجَعُ إلى نِيَّتِه في الطَّلاقِ الثَّلاثِ أو الواحدةِ. وقال القاضى: مَعْنى قولِ أحمدَ: يَلْزَمُه الطَّلاقُ. أى في الحُكْمِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ يَلْزَمُه الطَّلاقُ (¬1) إذا نَوَى به الطَّلاقَ، فجعلَه كنايةً عنه، ولذلك (¬2) قال: ويُرْجَعُ إلى نِيَّتِه. أمَّا الذى قَصَدَ الكَذِبَ [ولا] (¬3) نِيَّةَ له في الطَّلاقِ، فلا يقَعُ به شئٌ؛ لأنَّه ليس بصَريحٍ في الطَّلاقِ، ولا نَوَى الطَّلاقَ، فلم يقَعْ به طلاقٌ، كسائِرِ الكنايْاتِ. وذكَرَ القاضى في كتابِ الأيْمانِ في مَن قال: حَلَفْتُ بالطَّلاقِ. ولم يَكُنْ حَلَفَ، هل يَقَعُ به؟ على رِوَايَتَيْن؛ إحْداهما، لا يَلْزَمُه شئٌ؛ لأنَّه لم يَحْلِفْ، واليَمِينُ إنَّما تكونُ بالحَلِفِ. والثانيةُ، يَلْزَمُه ما أقَرَّ به. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه إذا أقَرَّ ثم قال: كَذَبْتُ. كان جُحُودًا بعدَ الإِقْرارِ، فلا يُقْبَلُ، كما لو أقَرَّ بدَيْنٍ ثم أنْكَرَ. ويُرْجَعُ إلى نِيَّتِه؛ لأنَّه أعلمُ بحالِه. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في م: «فلا».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ لِامْرأَتِهِ: أمْرُكِ بِيَدِكِ. فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَىَ وَاحِدَةً، وَهُوَ فِى يَدِهَا مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والقولُ قولُه قى قَدْرِ ما حَلَفَ به، وفى الشَّرْطِ الذى علَّقَ اليَمينَ به؛ لأنَّه (¬1) أعلمُ بحالِه. ويُمْكِنُ حملُ كلامِ أحمدَ على هذا، وهو أن يكونَ قولُه: ليس عليه يَمِينٌ. يَعْنِى (¬2) فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى. وقَوْلُه: يَلْزمُه الطَّلاقُ. أى في الحُكْمِ. [قال القاضى: ومَعْنَى قولِ أحمدَ: يَلْزَمُهُ الطَّلاقُ. أى يَلْزَمُهُ إقرَارُه في الحُكْمِ] (¬3)؛ لأنَّه يتَعلَّقُ بحَقِّ إنْسانٍ مُعَيَّنٍ، فلم يُقْبَلْ في الحُكْمِ، وفيما بينَه وبينَ اللَّهِ سبحانه إذا عَلِمَ أنَّه لم يَحْلِفْ، فلا شئَ عليه. فصل: قالَ الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وإذا قال لامْرأتِه: أمْرُكِ بيَدِك. فلَها أَنْ تُطَلِّقَ ثلاثًا وإنْ نَوَى واحدةً، وهو في يَدِها ما لم يَفْسَخْ أو يَطَأْ) الكلامُ في هذه المسألةِ في فَصْلَيْن؛ أحدُهما، أنَّه إذا قال لامْرأِته: أمْرُكِ بيَدِك. كان لها أن تُطَلِّقَ ثلاثًا وإنْ نَوَى أقَلَّ منها. هذا ظاهرُ المذهبِ؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها من الكناياتِ الظَّاهرةِ. وقد مَضَى الكلامُ فيها. رُوِى ذلك عن عثمانَ، وابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ. ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ أيضًا، وفَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، قالوا: إذا طَلَّقَتْ ثلاثًا فقال: لم أجْعَلْ إليها إلَّا واحدةً. لم يُلْتَفَتْ إلى قولِه، والقَضاءُ ما قَضَتْ. وعن عمرَ، وابنِ مسعودٍ، أنَّها طَلْقَةٌ واحدةٌ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والقاسمُ، ورَبِيعةُ، ومالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال الشافعىُّ: إن نَوَى ثلاثًا فلَها أن تُطَلِّقَ ثلاثًا، وإن نوَى غيرَ ذلك لم تُطَلِّقْ ثلاثًا، والقولُ قولُه في نِيَّتِه. قال القاضى: ونقَلَ عبدُ اللَّهِ عنِ أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه إذا نَوَى واحدةً فهى واحدةٌ؛ لأنَّه نوْعُ تخْيِيرٍ، فيُرْجَعُ إلى نِيَّتِه فيه، كقوْلِه: اخْتارِى. ولَنا، أنَّه لفظٌ يَقْتَضِى العُمومَ في جميعِ أمْرِها؛ لأنَّه اسمُ جِنْس مُضافٌ، فيَتناولُ الطَّلَقاتِ الثَّلاثَ، كما لو قال: طَلِّقِى نفْسَكِ ما شِئْتِ. ولا يُقْبَلُ قولُه: أردْتُ (¬1) واحدةً. لأنَّه خِلافُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، [ولا يُدَيَّنُ] (¬2) في هذا؛ لأنَّه مِن الكناياتِ الظَّاهرةِ، والكناياتُ الظَّاهرةُ تَقْتَضِى ثلاثًا. ¬

(¬1) في الأصل: «أرادت». (¬2) في م: «لا يبين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصْلُ الثانى، أنَّه لا يتَقَيَّدُ بالمجلسِ، ويكونُ في يَدِها ما لم يَفْسَخْ أو يَطَأْ. وإنْ جعلَ أمْرَها في يَدِ غيرِها، فكذلك في الفصلِ الأَوَّلِ والثانى. وَوافقَ الشافعىُّ في أنَّه إذا جعلَه في يدِ غيرِها، أنَّه لا يتَقَيَّدُ بالمجْلِسِ؛ لأنَّه وَكيلٌ (¬1). وإذا قال له: جَعَلْتُ أمْرَ امرأتِى بيدِك (¬2) -أو- جَعَلْتُ لكَ الخِيارَ في طلاقِ امْرأتِى -أو- طَلِّقِ امْرأتِى (¬3). فالجميعُ سواءٌ في أنَّه لا يتَقَيَّدُ بالمجلسِ. وقال أصحابُ أبى حنيفةَ: ذلك مقْصُورٌ على المجلسِ؛ لأنَّه نَوْعُ تخْيِيرٍ، أشْبَهَ ما لو قال: اخْتارِى. ولَنا، أنَّه تَوْكيلٌ مُطْلَقٌ، ¬

(¬1) كذا في النسختين، وفى المغنى 10/ 384: «توكيل». (¬2) في م: «في يدك». (¬3) سقط من: الأصل.

3469 - مسألة: (وإن قال: اختارى نفسك. لم يكن لها أن تطلق أكثر من واحدة، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك، وليس لها أن تطلق إلا ما دامت فى المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه)

وَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِى نَفْسَكِ. لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ إِلَّا مَا دَامَتْ فِى الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان على التَّراخِى، كالتَّوْكيلِ في البَيْعِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ له أن يُطَلِّقَ ما لم يَفْسَخْ أو يَطَأْ، وله أَنْ يُطَلِّقَ ثلاثًا وواحدةً، كالمرأةِ. فإنْ فَسَخَ الوَكالةَ، بطلَتْ، كسائِرِ الوَكالاتِ، وكذلك إن وَطِئَها؛ لأنَّه يدُلُّ على الفَسْخِ، أشْبَهَ ما لو فَسَخَ بالقَوْلِ. 3469 - مسألة: (وإن قال: اخْتَارِى نَفْسَكِ. لم يَكُنْ لها أن تُطَلِّقَ أكْثَرَ مِن واحِدَةٍ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ إليها أكْثَرَ مِن ذلك، وليس لها أن تُطَلَّقَ إلَّا ما دَامَتْ في المَجْلِسِ، ولم يتشاغلا بما يَقْطَعُه) وجملةُ ذلك، أنَّ لفظَةَ التَّخْييرِ لا تَقْتَضِى بمُطْلَقِها أكْثَرَ مِن طَلْقةٍ رَجْعِيَّةٍ. قال أحمدُ: هذا قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وعمرَ، وعائشةَ، رَضِىَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهُ عنهم. ورُوِىَ ذلك عن جابرٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو (¬1). وقال أبو حنيفةَ: هى واحدةٌ بائنةٌ. وهو قولُ ابنِ شُبْرُمَةَ؛ لأَنَّ اخْتِيارَها نَفْسَها يَقْتَضِى زَوالَ سُلْطانِه، ولا يكونُ إلَّا بالبَيْنُونةِ. وقال مالكٌ: هى ثلاثٌ في المدْخولِ بها؛ لأَنَّ المدخولَ بها لا تَبِينُ إلَّا بالثَّلاثِ، إلَّا أن تكونَ بعِوَضٍ (¬2). ولَنا، إجْماعُ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فإنَّ مَن سَمَّيْنا منهم قالوا: إنِ اخْتَارَتْ نَفْسَها، فهى واحدةٌ، وهو أحَقُّ بها. روَاه النَّجَّادُ عنهم بأسانِيدِه. ولأَنَّ قولَه: اخْتارِى. تَفْويضٌ مُطْلَقٌ، فيتَنَاولُ (¬3) أقَلَّ ما يقَعُ عليه الاسمُ، وذلك طلقةٌ واحدةٌ، ولا تكونُ بائنًا؛ لأنَّها طَلْقةٌ بغير عِوَضٍ، لم يَكْمُلْ بها العَدَدُ بعدَ الدُّخولِ، فأشْبَهَ ما لو طَلَّقَها واحدةً (¬4). ويخالفُ قولَه: أمْرُكِ بيَدِك. فإنَّه للعُموم؛ لأنَّه اسمُ جِنْسٍ مُضافٌ، فيَتناولُ جميعَ أمْرِها. لكنْ إنْ جعلَ لها أكثرَ مِن ذلك، فلها ما جَعَلَ إليها، سَواء جَعلَه بلَفْظِه، بأنْ يقولَ: اخْتارِى ما شِئْتِ -أو- اخْتارِى الطَّلَقاتِ إن شِئْتِ. فلها أن تخْتارَ ذلك، أو جعلَه ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) في الأصل: «بعرض». (¬3) في الأصل: «فيه تأول». (¬4) بعده في م: «ولا تكون بائنا؛ لأنها طلقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنِيَّتِه، وهو أن يَنْوِىَ بقولِه: اخْتارِى. عَددًا، فإنَّه يُرْجَعُ إلى ما نَوَاه؛ لأَنَّ قولَه: اخْتارِى. كنايةٌ خَفِيَّةٌ، فيُرْجَعُ في [قَدْرِ ما يَقَعُ بها] (¬1) إلى نِيَّتِه، كسائرِ الكناياتِ الخَفِيَّةِ. فإن نَوَى ثلاثًا أوِ اثْنَتَيْن أو واحدةً، فهو على ما نَوَى، وإن أطْلَقَ (¬2) فهى واحدةٌ، وإن نوَى ثلاثًا فطَلَّقَتْ أقلَّ منها، وقعَ ما طَلَّقَتْه؛ لأنَّه يُعْتَبَرُ قولُهما (¬3) جميعًا، كالوَكِيلَيْنِ إذا طَلَّقَ أحدُهما واحدةً والآخَرُ ثلاثًا. (وليس لها أن تُطَلِّقَ إلَّا ما دامَتْ في المجلسِ، ولم يتَشاغَلا بما يَقْطَعُه) هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، أنَّ التَّخْييرَ على الفَوْرِ إنِ اخْتارَتْ في وَقْتِها، وإلَّا فلا خِيارَ لها بعدَه. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ مسعودٍ، وجابرٍ. وبه قال عَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، ومُجاهِدٌ، والشعبىُّ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ ¬

(¬1) في م: «قدرها». (¬2) في الأصل: «طلق». (¬3) في الأصل: «قولها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّأْى. وقال الزُّهْرِىُّ، وقَتادةُ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ، ومالكٌ في روايةٍ: هو على التَّراخِى، ولها الاخْتيارُ في المجلسِ وبعدَه، ما لم يَفْسَخْ أو يَطَأْ. واحْتَجَّ ابنُ المُنْذِرِ بقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشةَ: «إنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أمْرًا، فَلَا عَليْكِ أن لا تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أبَوَيْكِ» (¬1). وهذا يَمْنَعُ قَصْرَه على المجلسِ. ولأنَّه جعلَ أمْرَها إليها، أشْبَهَ ما لو قال: أمْرُكِ بيَدِك. ولَنا، أنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابةِ، فرَوَى النّجَّاد (¬2) بإسْنادِه، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه قال: قَضَى عمرُ وعثمانُ، في الرَّجلِ يُخَيِّرُ امْرأتَه، أنَّ لَها الخِيارَ ما لم يتَفَرَّقا (¬3). وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، قال: ما دامتْ في مَجْلِسِها. ونحوُه عن ابنِ مسعودٍ وجابرٍ (¬4). ولم نعْرِفْ لهم (¬5) مُخالفًا في الصحابةِ، فكان إجْماعًا. ولأنَّه خِيارُ تَمْلِيكٍ، فكان على الفَوْرِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الغرفة والحلية المشرفة. . .، من كتاب المظالم، وفى: باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 3/ 176، 177، 6/ 147. ومسلم، في: باب بيان أن تخيير امرأته لا يبهون طلاقا إلَّا بالنية، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1103، 1105. والترمذى، في: باب ومن سورة التحريم، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 215، 216. والنسائى، في: باب ما افترض اللَّه عز وجل على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب النكاح، وفى: باب التوقيت في الخيار، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 45، 46، 130. وابن ماجه، في: باب الرجل يخير امرأته، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 662. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 328، 6/ 78، 153، 163، 173، 240، 248، 264. (¬2) وانظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 525. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 62. (¬3) في الأصل: «يفترقا». (¬4) أخرجه عنهما عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 524، 525. وابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 62. (¬5) في م: «لهما».

3470 - مسألة: وليس لها أن تطلق إلا ما داما فى المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه وذلك بأن لا يخرجا من الكلام [الذى كانا فيه] (1)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كخيارِ القَبُولِ، فأمَّا الخَبَرُ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جعلَ لها الخِيارَ على التَّراخِى، [وخِلافُنا في المُطْلَقِ] (¬1). فأمَّا: أمْرُكِ بيَدِك. فهو تَوْكيلٌ، والتَّوْكيلُ يَعُمُّ الزَّمانَ ما لم يُقَيِّدْه بقيْدٍ، بخِلافِ مَسْأَلَتِنا. 3470 - مسألة: وليس لهَا أن تُطَلِّقَ إلَّا ما داما في المَجْلِسِ، ولم يتَشَاغَلَا بما يَقْطَعُه وذلك بأنْ لا يَخْرُجَا مِن الكلامِ [الذى كانا فيه] (1) إلى غيرِ ذِكْرِ الطَّلاقِ، فإن تَفَرَّقا عن ذلك الكلامِ إلى كلامٍ غيرِه، بَطَلَ خِيارُها. قال أحمدُ: إذا قال لامْرأتِه: اخْتارِى. فلها الخِيارُ ما دامُوا في ذلك الكلامِ، فإن طال المجلسُ، وأخذُوا في كلام غيرِ ذلك ولم تَخْتَرْ، فلا خِيارَ لها. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. ونحوُه مذهبُ الشافعىِّ، على اخْتلافٍ عنه، فقِيلَ عنه: إنَّه يتَقَيَّدُ بالمجْلِسِ. وقِيلَ: هو على الفَوْرِ. وقال أحمدُ: الخِيارُ على مُخاطَبَةِ الكلامِ أن (¬2) [تُجارِيَه ويُجارِيَها] (¬3)، إنَّما هو جوابُ كلام، إن أجابَتْه مِن ساعَتِه، وإلَّا فلا شئَ. ووَجْهُه أنَّه تَمْلِيكٌ مُطلَقٌ تأخَّرَ قَبُولُه عن أوَّلِ حالِ الإمْكانِ، فلم يَصِحَّ، كما لو قامَتْ مِن مَجْلِسِها. فإنْ قامَ أحدُهما عن المجلسِ قَبْلَ اخْتِيارِها، بَطَلَ خِيارُها. وقال أبو حنيفةَ: يَبْطُلُ بقيامِها دُونَ قِيامِه. بناءً (¬4) على أصْلِه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وأن». (¬3) في المغنى 10/ 388: «تجاوبه ويجاوبها». (¬4) سقط من: م.

3471 - مسألة: (فإن جعل لها الخيار اليوم كله، أو جعل أمرها

فَإِنْ جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ الْيَوْمَ كُلَّهُ، أَوْ جَعَلَ أمْرَهَا بِيَدِهَا فَرَدَّتْهُ، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ [في أنَّ] (¬1) الزَّوْجَ لا يَمْلِكُ الرُّجوعَ، وعندَنا أنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ، فبَطَلَ [بقيامِه، كما يَبْطُلُ] (¬2) بقيامِها. وإن كان أحدُهما قائمًا فركِبَ أو مَشَى، بَطل الخِيارُ، وإن قَعَدَ لم يَبْطُلْ، لأَنَّ القِيامَ يُبْطِلُ الفِكْرَ والارْتِياءَ في الخِيارِ، فيكونُ إعْراضًا، والقُعُودُ بخِلافِه. ولو كانت قاعِدَةً فاتَّكَأَتْ، أو مُتَّكِئَةً فقَعَدَتْ، لم يَبْطُلْ، لأَنَّ ذلك لا يُبْطِلُ الفِكْرَةَ. وإنْ تَشاغَلَتْ (¬3) بالصلاةِ، بَطَل الخِيارُ. وإن كانت في صلاةٍ فأتَمَّتْها، لم يَبْطُلْ خِيارُها. وإن أضافَتْ إليها ركْعَتَيْن أُخْرَيَيْن، بَطَل خِيارُها. وإن أكَلَتْ شيئًا يسيرًا (¬4)، أو قالت: بسمِ اللَّهِ. أو سبَّحَتْ شيئًا يسيرًا، لم يَبْطُلْ؛ لأَنَّ ذلك ليس بإعْراضٍ. وإن قالت: ادْعُ (¬5) لى شُهودًا أُشْهِدُهم على ذلك. لم يَبْطُلْ خيارُها (4). وإن كانت راكبةً فسارتْ، بَطَلَ (¬6) خيارُها. وهذا كلُّه قولُ أصحابِ الرَّأْى. 3471 - مسألة: (فإن جَعَلَ لها الخِيارَ اليومَ كُلَّه، أو جَعَلَ أمْرَها ¬

(¬1) في م: «بأن». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «تشاغل». وفى المغنى 10/ 389: «تشاغل أحدهما». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «ادعوا». (¬6) في م: «لم يبطل».

رَجَعَ فِيهِ، أَوْ وَطِئَهَا، بَطَلَ خِيَارُهَا. هَذَا الْمَذْهَبُ. وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِى كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَجْهًا مِثْلَ حُكْمِ الأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِيَدِها فرَدَّتْهُ، أو رَجَعَ فيه، أو وَطِئَها، بَطَلَ خِيارُها. هذا المَذْهَبُ) إذا جعلَ لها الخِيارَ اليومَ كلَّه، أو أكثرَ مِن ذلك، أو متى شاءتْ، فلها ذلك (¬1) في تلك المُدَّةِ. وإن قال: اخْتارِى إذا شِثْتِ -أو- متى شِئْتِ -[أو- متى ما شئتِ] (¬2). فلها ذلك؛ لأَنَّ هذه تُفِيدُ جَعْلَ الخِيارِ لها في عُموم الأوْقاتِ. فإن رَدَّتْ ذلك، أو جَعَلَ أمْرَها بيَدِها فرَدَّتْه، بَطَلَ خِيارُهَا؛ لأنَّها إنَّما مَلَكَتْه بالوَكالةِ، فهى كالوَكيلِ إذا رَدَّ (¬3) الوَكالةَ. وإنْ رَجَعَ فيما مَلَّكَها، بَطَلَ أيضًا، كما إذا رَجَعَ المُوكِّلُ فيما وَكَّلَ فيه. وإن وَطِئَها، فهو رُجوعٌ أيضًا؛ لأنَّه يدُلُّ على الرُّجوعِ، أشْبَهَ ما لو رَجَع بالقَوْلِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَنْفَسِخَ الوَكالةُ، كما لو وَكَّلَه في بَيْعِ دارٍ وسَكَنَها. ذَكَرَه ابنُ أبى موسى. وإن قال: اخْتارِى اليومَ وغدًا وبعدَ غدٍ. فلها ذلك، فإن رَدَّتِ الخِيارَ في الأَوَّلِ، بَطَلَ كلُّه. وإن قال لها: لا تَعْجَلى حتى تَسْتَأْمِرِى أبَوَيْكِ. ونحوَه، فلها الخِيارُ على التَّراخِى؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك لعائشةَ (¬4)، فدَلَّ على أنَّ خِيارَها لا يَبْطُلُ بالتَّأْخيرِ. ¬

(¬1) في م: «الخيار». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «أراد». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: اخْتارِى نفْسَكِ اليومَ، واخْتارِى نَفْسَكِ غدًا. فرَدَّتْه في اليومِ الأَوَّلِ، لم يَبْطُلْ في الثانى. وقال أبو حنيفةَ: لا يَبْطُلُ في المسألةِ الأُولَى أيضًا؛ لأنَّهما خِيَارانِ في وَقْتَيْن، فلم يَبْطُلْ أحدُهما برَدِّ الآخرِ، قياسًا على المسألةِ الثَّانيةِ. ولَنا، أنَّه خِيارٌ واحدٌ في مُدَّةٍ واحدةٍ، فإذا بَطَلَ أوَّلُه بَطَلَ ما بعدَه، كما لو كان الخِيارُ في يوم واحدٍ، وكخيارِ الشَّرْطِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّهما خِيارانِ، وإنَّما هو خِيار واحدٌ في يَوْمَيْنِ، وفارقَ ما إذا قال: اخْتارِى نفْسَكِ اليومَ، واخْتارِى نفْسَكِ غدًا. فإنَّهما خِيارانِ؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ منهما (¬1) ثَبَت بسَبَبٍ مُفرَدٍ. فصل: ولو خَيَّرَها شَهرًا، فاخْتارَتْ نفسَها (¬2)، ثم تَزَوَّجَها، لم يَكُنْ لها عليه خِيارٌ، وعندَ أبى حنيفةَ لها الخيارُ. ولَنا، أنَّها اسْتَوْفَتْ ما جَعلَ لها في هذا العَقْدِ، فلم يَكُنْ لها في عقْدٍ ثانٍ، كما لو اشْتَرَطَ الخِيارَ في سِلْعَةٍ مُدَّةً، ثم فَسَخَ، ثم اشْتَراها بعَقْدٍ آخَرَ في تلك المُدَّةِ. ولو لم تَخْتَرْ نَفْسَها و (¬3) اخْتارَتْ زَوْجَها، وطَلَّقَها الزَّوْجُ، ثم تَزَوَّجَها، بَطَل خيارُها (2)؛ لأَنَّ الخِيارَ المَشْروطَ في عَقْدٍ لا يَثْبُت في عقدٍ سِوَاه، كما في البيعِ. والحُكمُ في قولِه: أمْرُكِ بيَدِكِ. في هذا كلِّه، كالحُكْمِ في التَّخْيِيرِ؛ لأنَّه نَوْعُ تخْيِيرٍ. ولو قال لها: اخْتارِى -أو- أمْرُكِ بيَدِك، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليومَ وبعدَ الغَدِ. [فرَدَّتْ في اليومِ الأَوَّلِ] (¬1)، لم يَبْطُلْ في (¬2): بعدَ غدٍ؛ لأنَّهما خِيارانِ يَنْفَصِلُ أحدُهما عن (¬3) صاحِبِه، فلم يَبْطُلْ أحدُهما ببُطْلانِ الآخَرِ، بخِلافِ ما إذا كان الزَّمان مُتَّصِلًا واللَّفظُ واحدًا، فإنَّه خِيارٌ واحدٌ، فبَطَلَ كلُّه ببُطْلانِ بعْضِه. وإن قال: لكِ الخِيارُ يومًا -أو- أمْرُكِ بيَدِك يومًا. فأبْتداؤُه مِن حينَ نَطَقَ به إلى مِثْلِه مِن الغَدِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اسْتِكْمالٌ يوم بتَمامِه إلَّا بذلك. وإن قال: شهرًا. فمِن ساعةِ نَطقَ إلى اسْتِكْمالِ ثلاثينَ يومًا إلى مثلِ تلك الساعةِ. وإن قال: الشَّهْرَ -أو- اليومَ -أو- السَّنَةَ. فهو على ما بَقىَ مِن اليوم والشَّهْرِ والسَّنةِ (وخَرَّجَ أبو الخَطَّابِ في كُلِّ مسألةٍ وَجْهًا مثلَ حُكْمِ الأُخرَى) أى خَرَّجَ في قولِه: أمْرُكِ بيَدِكِ. وَجْهًا أنها لا تَطْلُقُ أكثرَ مِن واحدةٍ، وأنها تَتَقَيَّدُ بالمجلسِ، بشَرْطِ أن لا يتَشاغَلا بما يَقْطَعُ كلامَهما، وفى قولِه: اخْتارِى نَفْسَكِ. أنَّه لا يتَقَيَّدُ بالمجلسِ، وأنَّ لها أن تُطَلِّقَ أكثرَ مِن واحدةٍ عندَ الإطْلاقِ، قياسًا لكُلِّ واحدَةٍ منهما على الأُخْرَى. فصل: فإن خَيَّرَها فاخْتارَتْ زَوْجَها، أو رَدَّتِ الخيارَ أو الأمْرَ، لم يَقَعْ شئٌ. نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ الجماعةِ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وهو قولُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وابنِ أبى ليلَى، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن الحسنِ: تَكونُ واحدةً رَجْعِيَّةً. ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ورَواه إسْحاقُ بنُ مَنْصورٍ عن أحمدَ، قال: إنِ اخْتارَتْ زَوْجَها، فواحدةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وإنِ اخْتارَتْ نَفْسَها فثلاثٌ (¬1). قال أبو بكرٍ: انْفَردَ بهذا إسْحاقُ بنُ مَنْصُورٍ، والعملُ على مما رَوَاه الجماعةُ. ووَجْهُ هذه الرِّوايةِ، أنَّ التَّخْيِيرَ كِنايةٌ نَوَى بها الطَّلاقَ، فَوقعَ بها بمُجَرَّدِها (¬2)، كسائِرِ كناياتِه. وكقَوْلِه: انْكِحى مَنْ شِئْتِ. ولَنا، قولُ عائشةَ: قد خَيَّرَنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أفكان (¬3) طلاقًا؟ وقالتْ: لمَّا أُمِرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتَخْيِيرِ أزْواجِه بدأَ بى فقال: «إِنِّى لمُخْبِرُكِ خَبَرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لا تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ». ثم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} حتى بلَغَ: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬4). فقلتُ: في أىِّ هذا أسْتَأْمِرُ أبَوَىَّ! فإنِّى أُريدُ اللَّهَ ورسولَه والدَّارَ الآخِرَةَ. قالتْ: ثم فَعَلَ أزْوِاجُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلَ ما فعلْتُ. مُتَّفَقٌ عليهما (¬5). قال مَسْروقٌ: ما أُبالى خيَّرْتُ امْرأتِى واحدةً أو ¬

(¬1) في الأصل: «قبلت». (¬2) في م: «بمجرده». (¬3) في م: «فكان». (¬4) سورة الأحزاب 28، 29. (¬5) الأول أخرجه البخارى، في: باب من خير نساءه، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 55. =

3472 - مسألة: (ولفظة الأمر والخيار كناية فى حق الزوج، تفتقر إلى نية)

وَلَفْظَةُ الأَمْرِ والخيَارِ كِنَايَةٌ فِى حَقِّ الزَّوْجِ، تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مائةً أو ألْفًا، بعدَ أن تخْتارَنِى (¬1). ولأنَّها مُخَيَّرةٌ اخْتارتِ النِّكاحَ، فلم يقَعْ بها الطَّلاقُ، كالمُعْتَقَةِ تحتَ عبدٍ. وقولُهم: إنَّ التَّخْييرَ كنايةٌ نَوَى بها الطَّلاقَ، فَوقعَ بها بمُجَردِها، كسائِرِ كناياتِه. قُلْنا: إِنَّما أرادَ بذلك تَفْويضَ الطَّلاقِ إلى زَوْجتِه لا إيقاعَ الطَّلاقِ، وصارَ ذلك كقولِه: طَلِّقِى نفْسَك. فإنَّه لا يقَعُ بذلك طَلاقٌ، والكنايةُ مع النِّيَّةِ لا تَزِيدُ (¬2) على الصَّريحِ. فأما إنْ نوَى بقولِه: اخْتارِى نفْسَكِ. إيقاعَ الطَّلاقِ، وَقعَ كسائرِ الكناياتِ. 3472 - مسألة: (ولَفْظَةُ الأمْرِ والخِيارِ كِنَايَةٌ في حَقِّ الزَّوْجِ، تَفْتَقِرُ إلى نِيَّةٍ) فلفْظةُ الأمْرِ مِن الكناياتِ الظَّاهرةِ، والخيارِ مِن الخَفِيَّةِ، وكلاهُما يحْتاجُ إلى النِّيَّةِ؛ لِما ذَكَرْنا في الكنايةِ الظَّاهرةِ. قولُه: إنَّها ¬

= ومسلم، في: باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1103، 1104. وأبو داود، في: باب في الخيار، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 510. والترمذى، في: باب ما جاء في الخيار، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 138. والنسائى، في: باب ما افترض اللَّه عز وجل على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، من كتاب النكاح، وفى: باب في المخيرة تختار زوجها، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 46، 131، 132. وابن ماجه، في: باب الرجل يخير امرأته، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 661. والدارمى، في: باب في الخيار، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 162. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 45، 47، 48، 171، 202، 205. والثانى، تقدم تخريجه في صفحة 284. (¬1) عند البخارى في الموضع السابق، وعند مسلم، في 2/ 1104. (¬2) في م: «ترد».

فَإِنْ قَبِلَتْهُ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ، نَحْوَ: اخْتَرْتُ نَفْسِى. افْتَقَرَ إلَى نِيَّتِهَا أيْضًا، وَإِنْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفسِى. وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تحْتاجُ إلى نِيَّةٍ. وهو قولُ مالكٍ. وقد ذكَرْناه (فإن قَبِلَتْه بلفْظِ الكنايةِ، فقالت: اخْتَرْتُ نَفْسِى. افْتَقَرَ إلى نِيَّتِها أيضًا) كالزَّوْجِ (وإن قالت: طَلَّقْتُ نفْسِى. وَقعَ مِن غيرِ نِيَّةٍ) لأنَّه صَريحٌ، فلم يَحْتَجْ إلى نِيَّةٍ، كقولِه: أنتِ طالقٌ. فإن نَوَى أحدُهما دُونَ الآخرِ، لم يَقَعْ؛ لأَنَّ الزَّوجَ إذا لم يَنْوِ فما فَوَّضَ إليها الطَّلاقَ، فلا يصِحُّ أن يوقِعَه، وإن نَوَى ولم تَنْوِ هى، فقد فَوَّضَ إليها الطَّلاقَ فما أوْقَعَتْه، فلم يَقَعْ شئٌ، كما لو وكَّل وَكِيلًا

3473 - مسألة: (فإن اختلفا فى نيتها)

وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى نِيَّتِهَا، فَالْقُوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى رُجُوعِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الطَّلاقِ فلم يُطَلِّقْ. وإن نَوَيا جميعًا، وقَعَ ما نَوَياه (¬1) مِن العَددِ (¬2). وإن نَوَى أحدُهما أقَلَّ مِن الآخَرِ، وقَعَ الأقَلُّ؛ لأَنَّ ما زادَ انْفَردَ به أحدُهما، فلم يَقَعْ. 3473 - مسألة: (فَإنِ اخْتَلَفَا في نِيَّتِهَا) فقال: لم تَنْوِ الطَّلاقَ باخْتِيارِكِ نَفْسَكِ. فقالت: بل نَوَيْتُ (فالقَوْلُ قَوْلُهَا) لأنَّها أعلمُ بنِيَّتِها، ولا يُعْلَمُ ذلك إلَّا مِن جِهَتِها (وإنِ اخْتَلَفا في رُجوعِه، فالقولُ قولُه) لأنَّهما ¬

(¬1) في م: «نواه». (¬2) بعده في المغنى 10/ 392: «إن اتفقا عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَلَفا فيما يخْتَصُّ به (¬1)، فكان القولُ قولَه فيه، كما لو اخْتَلَفا في نِيَّتِه. فصل: وإن قال: أمْرُكِ بيَدِكِ. أو قال: اخْتارِى. فقالتْ: قَبِلْتُ. لم يَقَعْ شئٌ (¬2)، كما لو قال لأجْنَبِىٍّ: أمْرُ امْرأتِى بيَدِكَ. فقال: قبلتُ. واخْتارِى في معناه. ونحوُه إن قالت: أخَذْت أمْرِى. نَصَّ عليهما أحمدُ، في روايةِ إبراهيمَ بنِ هانِئٍ: إذا قال لامْرأتِه: أمْرُكِ بيَدِكِ. فقالت: قبلت. ليس بشئٍ حتى تُبَيِّن (¬3). وقال: إذا قالتْ: أخَذْتُ أمْرِى. ليس بشئٍ. قال: وإذا قال لامْرأتِه: اخْتارِى. فاخْتارتْ فقالت: قَبِلتُ نَفْسِى -وَ- اخْتَرْتُ نَفْسِى. كان أبْيَنَ. قال القاضى: ولو قالت: اخْتَرْتُ. ولم تَقُلْ: نَفْسِى. لم تَطْلُقْ وإن نوَتْ، ولو قال الزَّوجُ: اخْتارِى. ولم يَقُلْ: نفْسَكِ. ولم يَنْوِه، لم تَطْلُقْ ما لم يَذْكُرْ نَفْسَها، ما لم يَكُنْ في كلامِ الزَّوجِ أو جَوابِها ما يَصْرِفُ الكلامَ إليه؛ لأَنَّ ذلك في حُكْمِ التَّفْسيرِ، فإذا عَرِىَ عن ذلك لم يَصِحَّ. وإن قالت: اخْتَرْتُ زَوْجِى. أو (¬4): اخْتَرْتُ البقاءَ على النِّكاحِ. أو: رَدَدْتُ الخيارَ. أو: رَدَدْت عليك سَفْهَتَكَ (¬5). بَطَل الخيارُ. وإن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في المغنى 10/ 392: «لأنّ: أمرك بيدك. توكيل، فقولها في جوابه: قبلت. ينصرف إلى قبول الوكالة، فلم يقع شئ». (¬3) في م: «يبين». (¬4) في م: «و». (¬5) في الأصل: «سفهك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: اخْتَرْتُ نفْسِى. أو: أبَوَىَّ. ونَوَتْ، وقَعَ الطَّلاقُ؛ لأَنَّ هذا يصْلُحُ أن يكونَ كنايةً مِن الزَّوجِ فيما إذا قال: الْحَقِى بأهْلِكِ. فكذلك منها. وإنْ قالت: اخْتَرْت الأَزْواجَ. فكذلك؛ لأنَّهم لا يَحِلُّونَ إلَّا بمُفارقةِ هذا الزَّوجِ، ولذلك كان كنايةً منه في قولِه: انْكِحِى مَنْ شِئْتِ. [وإن قالت: قد اخْتَرْت نَفْسِى. وأنْكَرَ وُجُودَ الاخْتيارِ منها، فالقول قولُه؛ لأنَّه مُنْكِرٌ له، وهو ممّا يُمْكِنُه عَمَلُه ويُمْكِنُها إقامةُ البَيِّنَةِ عليه، أشْبَهَ ما لو عَلَّقَ طَلاقَها على دُخُولِ الدّارِ فادَّعَتْه وأنْكَرَه] (¬1). فصل: فإن كَرَّرَ لفْظةَ الخيارِ ثلاثَ مرَّاتٍ، فقال: اخْتارِى، اخْتارِى، اخْتارِى. فقال أحمدُ: إن كان إنَّما (¬2) يُرَدِّدُ عليها ليُفْهِمَها، وليصر نِيَّتُه ثلاثًا، فهى واحدةٌ، وإن كان أرادَ بذلك ثلاثًا، فهى ثلاثٌ. فرَدَّ الأمْرَ إلى نِيَّتِه في ذلك. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قَبِلَتْ، وقعَ ثلاثًا؛ لأنَّه كرَّرَ ما يَقَعُ به الطَلاقُ، فتَكَرَّرَ، كما لو كَرَّرَ الطَّلاقَ. ولَنا، أنَّه يَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ، فإذا قَصَدَه [قُبِلَ مِنه] (¬3)، كما لو قال: أنتِ طالقٌ الطَّلاقَ. وإن أطْلَقَ، فقد رُوِى عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّها واحدة، يَمْلِكُ (¬4) الرَّجْعةَ. وهذا اخْتيارُ القاضى، ومذهبُ عَطاءٍ، وأبى ثَوْرٍ؛ لأَنَّ تَكْرِيرَ (¬5) التَّخْيِيرِ لا يَزِيدُ به الخِيارُ، كشَرْطِ الخيارِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ما». (¬3) في م: «قبلت نيته». (¬4) في م: «تملك». (¬5) في م: «تكرر».

3474 - مسألة: (وإن قال: طلقى نفسك. فقالت: اخترت نفسى. ونوت الطلاق، وقع. ويحتمل أن لا يقع)

وَإِنْ قَالَ: طَلِّقِى نَفْسَكِ. فَقَالَتِ: اخْتَرْتُ نَفْسِى. وَنَوَتِ الطَّلاقَ، وَقَعَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البيعِ. ورُوِىَ عن أحمدَ: إذا قال لامْرأتِه: اخْتارِى. فقالت: اخْتَرْتُ نفْسِى. هى واحدةٌ، إلّا أن يقولَ: اخْتارِى، اختارِى، اخْتارِى (¬1). وهذا يدُلُّ على أنّها تَطْلُقُ ثلاثًا. ونحوَه قال الشعبىُّ، والنَّخَعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، ومالكٌ؛ لأَنَّ لفْظةَ الواحدةِ [تَقْتَضِى طَلْقةً، فإذا] (¬2) تَكَرَّرَتِ، اقْتَضَتْ ثلاثًا، كلَفْظةِ الطَّلاقِ. فصل: ويجوزُ أن يَجْعلَ أمْرَ امرأتِه بيَدِها (¬3) بعِوَضٍ، وحُكْمُه حُكْمُ ما لا عِوَضَ له، في أنَّ له الرُّجوعَ فيما جَعلَ لها، وأنَّه يَبْطُلُ بالوَطْءِ. قال أحمدُ: إذا قالتِ امْرأتُه: اجْعَلْ أمْرِى بيَدِى، وأُعْطِيكَ عَبْدِى هذا. فقَبضَ العَبْدَ، وجَعلَ أمْرَها بيَدِها، فلها أَنْ تَخْتارَ ما لم يَطَأْها أو يَنْقُضْه؛ وذلك لأنَّه تَوْكيلٌ، والتَّوْكيلُ لا يَبْطُلُ بدُخولِ العِوَضِ فيه، وكذلك التَّمْليكُ (¬4) بعِوَضٍ لا يَلْزَمُ، ما لم يَتَّصِلْ به القَبُولُ. 3474 - مسألة: (وإن قال: طَلِّقِى نَفْسَكِ. فقالت: اخْتَرْتُ نَفْسِى. وَنَوَتِ الطَّلاقَ، وَقَعَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ) لأنَّه فَوَّضَه إليها بلفْظِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إذا». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «التحليل».

3475 - مسألة: (وليس لها أن تطلق أكثر من واحدة، إلا أن يجعل إليها أكثر منها)

وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّريحِ (¬1)، فلا يَصِحُّ أن تُوقِعَ غيرَ (¬2) ما فَوَّضَه إليها. وَوجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه فَوَّضَ إليها الطَّلاقَ، وقد أوْقَعَتْه، فوقَعَ، كما لو أوْقَعَتْه بلفْظِ الصَّريحِ (1)، ولا يَصِحُّ ما ذكَرُوه (¬3)، لأَنَّ التَّوْكيلَ في الشئِ لا يَقْتَضِى أن يكون إيقاعُه بلَفْظِ الأمْرِ، كما لو وَكَّلَه فقال: بعْ دارِى. فباعها (¬4) بلفْظِ التَّمْلِيكِ، صَحَّ، وكما لو قال لها: اخْتارِى نفْسَك. فقالت: طَلَّقْتُ نفْسِى. فإنَّه يقَعُ مع اخْتِلافِ اللَّفْظِ. 3475 - مسألة: (وليس لها أن تُطَلِّقَ أكْثَرَ مِن واحِدَةٍ، إلَّا أن يَجْعَلَ إليها أكْثَرَ منها) قال أحمدُ، رَحِمهُ اللَّهُ: إذا قال لامرأتِه: طَلِّقِى ¬

(¬1) في الأصل: «التصريح». (¬2) سقط من: م. (¬3) جاء الكلام في المغنى 10/ 394 ردًّا على ما ذهب اليه بعض أصحاب الشافعى من عدم وقوع الطلاق بالكناية. (¬4) في م: «فباع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسَكِ. ونَوَى ثلاثًا، فطَلَّقَتْ نفْسَها ثلاثًا، فهى ثلاثٌ، وإن نَوَى واحدةً، فهى واحدةٌ؛ وذلك لأَنَّ الطَّلاقَ يكونُ واحدةً وثلاثًا، فأيُّهما نَوَاهُ فقد نَوَى بلَفْظِه ما احْتَمَله، وإن لم يَنْوِ وقَعَ واحدةٌ؛ لأنَّها اليَقِينُ؛ لأَنَّ المُطْلَقَ (¬1) يَتناولُ أقَلَّ ما يَقَعُ عليه الاسمُ. ¬

(¬1) في م: «النطق».

3476 - مسألة: (وإذا قال: وهبتك لأهلك. فإن قبلوها فواحدة، وإن ردوها فلا شئ. وعنه، إن قبلوها فثلاث، وإن ردوها فواحدة. وكذلك إذا قال: وهبتك لنفسك)

وَإِنْ قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأهْلِكِ، فَإِنْ قَبِلُوهَا فَوَاحِدَةٌ، وَإِنْ رَدُّوهَا فَلَا شَىْءَ. وَعَنْهُ، إِنْ قَبِلُوهَا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ رَدُّوهَا فَوَاحِدَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: وَهَبْتُكِ لِنَفْسِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3476 - مسألة: (وإذا قال: وَهَبْتُكِ لأهْلِكِ. فإن قَبِلُوها فواحِدَةٌ، وإن رَدُّوها فلا شئَ. وعنه، إنْ قَبِلُوها فثلاثٌ، وإن رَدُّوها فواحِدَةٌ. وكذلك إذا قال: وَهَبْتُكِ لِنَفْسِكِ) الرِّوايةُ الأُولَى هى المشْهورةُ عن أحمدَ. نَصَّ عليها. وبه قال ابنُ مسعودٍ، وعَطاءٌ، ومَسْروقٌ، والزُّهْرِىُّ، ومَكْحولٌ، ومالكٌ، وإسْحاقُ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، والنَّخَعِىِّ: إن قَبِلُوها فَواحِدَةٌ بائنةٌ، وإنْ لم يَقْبَلُوها فواحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. ورُوِى عن أحمدَ مثلُ ذلك. وعن زيدِ بنِ ثابتٍ، والحسنِ: إن قَبِلُوها فثَلاثٌ، [وإن لم يَقْبَلوها فواحدةٌ رجْعِيَّةٌ. ورُوى عن أحمدَ مثلُ ذلك] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال رَبِيعةُ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وأبو الزِّنَادِ، ومالكٌ: هى ثلاثٌ على كلِّ حالٍ، قَبِلُوها أو رَدُّوها. وقال أبو حنيفةَ فيها كقَوْلِه في الكِنايةِ الظَّاهرةِ، ومثلَه قال الشافعىُّ. واخْتلَفا ههُنا بِناءً على اخْتِلافِهما ثَمَّ. ولَنا على أنَّها لا تَطْلُقُ إذا لم يَقْبَلُوها، أنَّه تَمْلِيكٌ للبُضْعِ، فافْتَقَرَ فيه إلى القَبُولِ، كقولِه: اخْتارِى. و: أمْرُكِ بيَدِك. وكالنِّكاحِ. وعلى أنَّها لا تكونُ ثلاثًا، أنَّه لفْظٌ مُحْتَمِلٌ، فلا يُحْمَلُ على الثَّلاثِ عندَ الإِطْلاقِ، كقولِه: اخْتارِى. وعلى أنَّها رَجْعِيَّة، أنَّها طَلْقةٌ لمَنْ عليها عِدَّةٌ بغيرِ عِوَضٍ، قبلَ اسْتِيفاءِ العَددِ، فكانت رجْعِيَّةً، كقولِه: أنتِ طالقٌ (¬1). وقولُه: إنَّها واحدةٌ. مَحْمولٌ على ما إذا أطْلَقَ النِّيَّةَ، أو نَوَى واحدةً، فأمَّا إن نَوَى ثلاثًا، أو اثْنَتَيْنِ، فهو على ما نَوَى؛ لأنَّها كنايةٌ غيرُ ظاهرةٍ، فيُرْجَعُ إلى نِيَّتِه في عَدَدِها، كسائِرِ الكِناياتِ. ولابدَّ مِن أن يَنْوِىَ بذلك الطَّلاقَ، ¬

(¬1) بعده في م: «ثنتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تكونَ ثَمَّ دَلالَةُ حالٍ؛ لأنَّها كنايةٌ، ولابُدَّ [من النِّيَّةِ في الكِنايةِ كذلك] (¬1). قال القاضى: ويَنْبَغِى أن تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ مِن الذى يَقْبَلُ أيضًا، كما تُعْتَبَرُ في اخْتِيارِ الزَّوْجَةِ إذا قال لها: اخْتارِى. أو: أمْرُكِ بيَدِك. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ صِيغةَ (¬2) القَبُولِ أن يقولَ أهلُها: قَبِلْناها. نَصَّ عليه أحمدُ. والحُكْمُ في هِبَتِها لنَفْسِها أو لأجْنَبِىٍّ، كالحُكْمِ في هِبَتِها لأهْلِها. ¬

(¬1) في م: «للكناية من ذلك». (¬2) في م: «صفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ باعَ امرأتَه لغيرِه، لم يَقَعْ به طَلاقٌ وإن نَوَى. [وبه] (¬1) قال الثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ. وقال مالكٌ: تَطْلُقُ واحدةً، وهى أمْلَكُ بنَفْسِها؛ لأنَّه أتَى بما يَقْتَضِى خُروجَها عن مِلْكِه، أشْبَهَ ما لو وَهَبَها. ولَنا، أنَّ البَيْعَ لا يتَضَمَّنُ معنى الطَّلاقِ؛ لأنَّه نقلُ مِلْكٍ بعِوَضٍ، والطَّلاقُ مُجَرَّدُ إسْقاطٍ لا يَقْتَضِى العِوَضَ، فلم يَقَعْ به طَلاقٌ، كقولِه: أطْعِمينِى واسْقِينِى. فصولٌ في قولِ الزَّوْجِ لامْرأتِه: أمْرُكِ بيَدِكِ: قد ذكَرْنا أنَّ الزَّوجَ إذا قال لامْرأتِه: أمْرُكِ بيَدِكِ. أنَّه في يَدِها ما لم يَفْسَخْ أو يَطَأْ؛ لأَنَّ الزَّوجَ مُخَيَّرٌ بينَ أن يُطَلِّقَ بنَفْسِه (¬2)، وبين أن يُوَكِّلَ فيه، وأنْ يُفَوِّضَه إلى المرأةِ، ويَجْعلَه إلى اخْتِيارِها؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيَّرَ نِساءَه فاخْتَرْنَه (¬3). ومتى جَعلَ أمْرَ امْرأتِه بيَدِها، لم يَتَقيَّدْ بالمجلسِ. رُوِى ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال الحَكَمُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى: هو مقْصورٌ على المجلسِ، كقولِه: اخْتارِى. ولَنا، قولُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في رجلٍ جَعلَ أمْرَ امْرأتِه بيَدِها، قال: هو لها حتى تَنْكِلَ (¬4). ولأنَّه نَوْعُ تَوْكيلٍ في الطَّلاقِ، ¬

(¬1) في الأصل: «فيه». (¬2) في الأصل: «نفسه». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 290 في حديث: قد خيرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أفكان طلاقًا؟ (¬4) في الأصل: «تنكلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان على التَّراخِى،؛ كما لو جَعَلَه لأجْنَبِىٍّ. فإنْ رَجَعَ الزَّوجُ فيما جعلَ إليها، أو قال: فَسَخْتُ ما جعَلْتُ إليكِ. بَطَلَ. وبذلك قال عطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وإسْحاقُ. وقال الزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأْى: ليس له الرُّجوعُ؛ لأنَّه مَلَّكها ذلك، فلم يَمْلِكِ الرُّجوعَ، كما لو طَلقَتْ. ولَنا، أنَّه توكيلٌ، فكان له الرُّجوعُ فيه، كالتَّوكيلَ في البيعَ، وكما لو وَكَّل في ذلك أجْنَبِيًّا. ولا يَصِحُّ قوْلُهم: تَمْلِيكًا؛ لأَنَّ الطَّلاقَ لا يَصِحُّ تَمْلِيكُه، ولا يَنْتَقِلُ عن الزَّوجِ، وإنَّما يَنُوبُ غيرُه فيه عنه، وإن سُلِّمَ أنَّه تَمْلِيكٌ، فالتَّمْلِيكُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فيه قبلَ اتِّصالِ (¬1) القَبُولِ به، كالبَيْعِ. وإن وَطِئَها الزَّوجُ كان رُجوعًا؛ لأنَّه نوعُ تَوْكيلٍ، والتَّصَرُّفُ فيما وَكَّلَ فيه يُبْطِلُ الوَكالةَ. وإن ردَّتِ المرأةُ ما جُعِلَ إليها، بَطَلَ، كما تَبْطُلُ الوكالةُ برَدِّ الوكيلِ. فصل: ولا يقَعُ الطَّلاقُ بمُجَرَّدِ هذا القولِ، ما لم يَنْوِ به إيقاعَ طَلاقِها في الحالِ، أو تُطَلِّقْ نفْسَها. ومتى رَدَّتِ الأمْرَ الذى جُعِلَ إليها، بَطَلَ، ولم يَقَعْ شئٌ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ عمرَ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومَسْروقٌ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ. وقال قَتادةُ: إن رَدَّتْ فوَاحِدَةٌ رَجْعيَّةٌ. ولَنا، أنَّه توكيل رَدَّه الوكيلُ، أو تَمْليكٌ لم يَقْبَلْه ¬

(¬1) في م: «إيصال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُمَلَّكُ، فلم يَقَعْ به شئٌ، كسائِرِ التَّوكيلِ والتَّمْليكِ. فأمَّا إن نَوَى بهذا تَطْلِيقَها في الحالِ، طَلُقَتْ في الحالِ، ولم يَحْتَجْ إلى قَبُولِها، كما لو قال: حَبْلُكِ على غارِبِكِ. فصل: فإن قالت: اخْتَرْتُ نَفْسِى. فَهِىَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. رُوِى ذلك عن عمرَ، [وابنِ مسعودٍ] (¬1)، وابنِ عباسٍ. وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ أبى ليلَى، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. ورُوِىَ عن علىٍّ أنَّها واحدةٌ بائنةٌ. وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه؛ لأَنَّ تَمْلِيكَه إيَّاها أمْرَها يَقْتَضِى زَوالَ سُلْطانِه عنها، فإذا قَبِلَتْ ذلك بالاخْتِيارِ، وَجبَ أن يَزُولَ عنها، ولا يَحْصُلُ (¬2) ذلك مع بقاءِ الرَّجْعَةِ. وعن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها ثلاثٌ. وبه قال الحسَنُ، ومالكٌ، واللَّيْثُ، إلَّا أنَّ مالِكًا قال: إذا لم تَكُنْ مَدْخولًا بها قُبِلَ منه، إذا أرادَ واحدةً أو اثْنَتَيْنِ. وحُجَّتُهم أنَّ ذلك يَقْتَضِى زَوالَ سُلْطانِه عنها، ولا يكونُ ذلك إلَّا بثلاثٍ. وفى قولِ مالكٍ أنَّ غيرَ المدْخولِ بها يَزُولُ سُلْطانُه عنها بواحدةٍ، فاكْتُفِىَ بها. ولَنا، أنَّها لم تُطَلِّقْ. بلَفْظِ الثَّلاثِ، ولا نَوَتْ ذلك، فلم تَطْلُقْ ثلاثًا، كما لو أتَى الزَّوجُ بالكِناياتِ الخَفِيَّةِ. وهذا إذا لم تَنْوِ إلَّا واحدةً، فإن نَوَتْ أكْثَرَ منها، وقَعَ ما نَوَتْ، لأنَّها تَمْلِكُ الثَّلاثَ بالتَّصْريحِ، فتَمْلِكُها بالكِناياتِ، كالزَّوْجِ. وهكذا إن أتَتْ بشئٍ مِن الكناياتِ، فحُكْمُها فيها حُكْمُ الزَّوجِ، إن كانت ممَّا يَقَعُ بها الثَّلاثُ مَّنَ الزَّوجِ، وقَعَ بها الثَّلاثُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يجعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أتَتْ بها، وإن كانتْ مِنَ الكناياتِ الخَفِيَّةِ، نحوَ قولِها: لا تَدخُلْ علىَّ. ونحوَها، وقعَ ما نَوَتْ. قال. أحمدُ: إذا قال لها: أمْرُكِ بيَدِك. فقالتْ: لا تَدْخُلْ علىَّ إلَّا بإذْنٍ، تَنْوِى (¬1) في ذلك، إن قالتْ: واحدةً. فواحدةٌ، وإن قالت: أرَدْتُ أن أغِيظَه. قُبِلَ منها. يعنى لا يَقَعُ شئٌ. وكذلك إن جَعلَ أمْرَها بيدِ أجْنَبِىٍّ، فأتَى بهذه الكناياتِ، لا يَقَعُ شئٌ حتى يَنْوِىَ الوكيلُ الطَّلاقَ. ثم إن طَلَّقَ بلفظٍ صَريحٍ ثلاثًا، أو بكنايةٍ ظاهرةٍ، وقَعَتِ الثَّلاثُ، وإن كان بكنايةٍ خَفِيَّةٍ، وقَعَ ما نَوَاه. ¬

(¬1) في النسختين: «سواء». والمثبت كما في المغنى 10/ 383.

باب ما يختلف به عدد الطلاق

بَابُ مَا يَخْتَلِف بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ يَمْلِكُ الْحُرُّ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ، وَيَمْلِكُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَعَنْهُ أَنَّ الطَّلاقَ بِالنِّسَاءِ، فَيَمْلِكُ زَوْجُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ما يختلفُ به عَددُ الطَّلاقِ (يَمْلِكُ الحُرُّ ثَلاثَ طَلَقَاتٍ وإن كان تَحْتَه أمَةٌ، ويَمْلِكُ العَبْدُ اثْنَتَيْنِ وإنْ كان تَحْتَهُ حُرَّةٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ الطَّلاقَ مُعْتَبَرٌ بالرِّجالِ، فإنْ كان الزَّوْجُ حُرًّا، فطلاقُه ثلاثٌ، حُرَّةً كانتِ الزَّوجَةُ أو أمَةً، وإن كان عَبْدًا، فطلاقه اثْنَتانِ، حُرَّةً كانت زَوْجَتُه أو أمَةً. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وزيدٍ، وابنِ عباسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ عمرَ: أيُّهما رَقَّ نَقَصَ الطَّلاقُ بِرِقِّه، فطَلاقُ العبدِ اثْنَتانِ وإن كان تحْتَه حُرَّةٌ، وطَلاقُ الأمَةِ اثْنَتانِ وإنْ كان زَوْجُها حُرًّا (وعنه أنَّ الطَّلاقَ بالنِّساءِ، فيَمْلِكُ زَوْجُ الحُرَّةِ ثلاثًا وإن كان

الْحُرَّةِ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا، وَزَوْجُ الأَمَةِ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدًا، وزَوْجُ الأمةِ اثْنَتَيْنِ وإن كان حُرًّا) رُوِى ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ. وبه قال الحسنُ، وابنُ سِيرينَ، وعِكْرِمَةُ، وعَبِيدَةُ، ومَسْروقٌ، والزُّهْرِىُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «طَلَاقُ الأمَةِ تَطْلِيقَتَان، [وقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ] (¬1)». رَواه أبو داودَ، [وابنُ ماجَه] (¬2). ولأَنَّ المرأةَ مَحَلُّ الطَّلاقِ، فيُعْتَبَرُ بِها، كالعِدَّةِ. ولَنا، أنَّ اللَّه تعالى خاطَبَ الرِّجالَ بالطَّلاقِ، فكان حُكْمُه (¬3) مُعْتَبَرًا بهم، ولأَنَّ الطَّلاقَ خالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ، وهو ممَّا يَخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، فكان اخْتلافُه به، كعَدَدِ المنْكوحاتِ. وحديثُ عائشةَ، قال أبو داودَ: روايةُ (¬4) مُظاهِرِ بنِ أسْلَمَ، وهو مُنْكَرُ الحديثِ. وقد أخْرَجَه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. والحديث أخرجه أبو داود، في: باب في سنة طلاق العبد، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 506. وابن ماجه، في: باب في طلاق الأمة وعدتها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 672. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذى 5/ 152. والدارمى، في: باب في طلاق الأمة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 171. وضعفه في الإرواء 7/ 148 - 150. (¬3) في م: «محله». (¬4) في م: «رواه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّارَقُطْنِىُّ (¬1)، في «سُنَنِه» عن عائشةَ، قالتْ: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «طَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه، وَقُرْءُ (¬2) الأمَةِ حَيْضَتَانِ، وَتَتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الأمَةِ، وَلَا تَتَزَوَّجُ الأمَةُ عَلَى الحُرَّةِ». وهذا نَصٌّ. ولأَنَّ الحُرَّ يَمْلِكُ أن يَتَزَوَّجَ أرْبعًا، فمَلَكَ طَلَقاتٍ ثلاثًا، كما لو كان تحتَه حُرَّةٌ، ولا خِلافَ في أنَّ الحُرَّ الذى زَوْجَتُه حُرَّةٌ، طلاقُه ثلاثٌ، وأنَّ العبدَ الذى تحتَه أمَةٌ، طلاقُه اثْنَتانِ، وإنَّما الخِلاف فيما إذا كان أحَدُ الزَّوْجَيْن حُرًّا والآخَرُ رَقِيقًا. قال أحمدُ: المُكاتَبُ عبدٌ ما بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ، [وطلاقُه وأحْكامُه كلُّها أحْكامُ العبدِ. وهذا صَحِيحٌ؛ فإنَّه جاءَ في الحديثِ: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ»] (¬3). ولأنَّه يَصِحُّ عِتْقُه، ولا يَنْكِحُ ¬

(¬1) في: كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره. سنن الدارقطنى 4/ 39. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 369، 370، 426. وضعفه في الإرواء، الموضع السابق. (¬2) في الأصل: «قروء». (¬3) سقط من: الأصل. والحديث تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا اثْنَتَيْن، ولا يَتَزَوَّجُ ولا يَتَسَرَّى إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، وهذه أحْكامُ العَبيدِ، فيكونُ طَلاقُه كطلاقِ سائِرِ العَبِيدِ. وقد رَوَى الأَثْرَمُ، في «سُنَنِه» عن سليمانَ بنِ يَسارٍ [أنَّ نُفَيْعًا] (¬1) مُكاتَبَ أُمِّ سَلَمَةَ، طَلَّقَ امرأةً حُرَّةً تطْليقَتَيْنِ، فسألَ عثمانَ وزيدَ بنَ ثابتٍ عن ذلك، فقالا: حَرُمَتْ عليك (¬2). والمُدبَّرُ كالعَبْدِ القِنِّ في نِكاحِه وطَلاقِه، وكذلك المُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفَةٍ؛ لأنَّه عبدٌ، فثَبَتَتْ فيه أحْكامُ العبيدِ (¬3). فصل: قال أحمدُ في روايةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ: العبدُ إذا كان نِصْفُه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرجه البيهقى، في: باب طلاق العبد بغير إذن سيده، من كتاب الخلع والطلاق. السنن الكبرى 7/ 360. (¬3) في م: «العبد».

3477 - مسألة: (فإذا قال: أنت الطلاق. أو: الطلاق لى لازم. ونوى الثلاث، طلقت ثلاثا)

فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. أَو: الطَّلَاقُ لِى لَازِمٌ. وَنَوَى الثَّلَاثَ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ حُرًّا ونِصْفُه عبدًا، يَتَزَوَّجُ ثلاثًا، ويُطَلِّقُ ثلاثَ تَطْلِيقاتٍ، وكذلك كلُّ ما تَجَزَّأَ (¬1) بالحِسابِ. وإنَّما جَعَلَ له نِكاحَ ثلاثٍ؛ لأَنَّ عَدَدَ المنْكُوحاتِ يتَبَعَّضُ، فوَجَبَ أن يَتَبَعَّضَ في حَقِّه، كالحَدِّ، فلذلك (¬2) كان له أن يَنْكِحَ نِصْف ما يَنْكِحُ [الحُرُّ ونِصْفَ ما يَنْكِحُ] (¬3) العبدُ، وذلك ثلاثٌ. وأمَّا الطَّلاقُ فلا تُمْكِنُ قِسْمَتُه في حَقِّه؛ لأَنَّ مُقْتَضَى حالِه أن يكونَ له ثلاثةُ أرْباعِ الطَّلاقِ، وليس له ثلاثةُ أرْباعٍ، فكَمَلَ في حَقِّه، ولأَنَّ الأَصْلَ إثْبَاتُ الطَّلَقاتِ الثَّلاثِ في حَقِّ كُلِّ مُطَلِّقٍ، وإنَّما خُولِفَ في حَقِّ مَن كَمَلَ الرِّقُّ فيه، ففيما عَداهُ يَبْقَى على الأَصْلِ. 3477 - مسألة: (فإذا قال: أنْتِ الطَّلاقُ. أو: الطَّلاقُ لِى لازِمٌ. ونَوَى الثَّلاثَ، طَلُقَتْ ثَلاثًا) قال القاضى: لا تَخْتَلِفُ الرِّوايةُ عن أحمدَ، في مَن قال لامرأتِه: أنتِ الطَّلاقُ. أنَّه يَقَعُ به (¬4)، نَوَاه أو لم ¬

(¬1) في النسختين: «يجرى». وانظر المغنى 10/ 535. (¬2) في م: «فكذلك». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْوِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهانِ؛ أحدُهما، أنَّه غيرُ صَرِيحٍ؛ لأنَّه مصْدرٌ، والأعْيانُ لا تُوصَف بالمصادِرِ إلَّا مَجازًا. ولَنا، أنَّ الطَّلاقَ لفظٌ صريحٌ، فلم يفْتَقِرْ إلى نِيَّةٍ، كالمُتَصرِّفِ منه (¬1)، وهو مُسْتَعْملٌ في عُرْفِهم، قال الشَّاعرُ (¬2): أنَوَّهْتِ باسْمِىَ في العالَمِينَ … وأفْنَيْتِ عُمْرِىَ عامًا فعامَا فأنتِ الطَّلاقُ وأنتِ الطَّلاقُ … وأنتِ الطَّلاقُ ثلاثًا تَمامَا قولُهم: إنَّه مَجازٌ. قُلْنا: نعم، إلَّا أنَّه يَتَعَيَّنُ (¬3) حمْلُه على الحقيقةِ، ولا مَحْمَلَ له يَظهرُ سِوَى هذا المحْمَلِ، فَتَعَيَّنَ فيه. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّه إذا قال: أنتِ الطَّلاقُ. أو: الطَّلاقُ لى لازِمٌ. أو: الطَّلاقُ يَلْزَمُنِى. أو: علىَّ الطَّلاقُ. فهو بِمَثابةِ قوْلِه: الطَّلاقُ يَلْزَمُنِى؛ لأَنَّ مَن يَلْزَمُه شئٌ يَضُرُّه، فهو عليه كالدَّيْنِ، وقد اشْتَهَرَ اسْتِعمالُ هذا في إيقاعِ الطَّلاقِ، فهو صَرِيحٌ؛ فإنَّه يُقال لمَنْ وقَعَ طَلاقُه: لَزِمَه الطَّلاقُ. وقالوا: إذا عَقَلَ الصَّبِىُّ الطَّلاقَ، فطَلَّقَ لَزِمَه. ولعَلَّهم أرادُوا: لَزِمَه حُكْمُه. فحَذَفُوا المُضافَ، وأقامُوا المُضافَ إليه مُقامَه، ثم اشْتَهَرَ ذلك حتى صارَ مِن الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ، وانْغَمَرتِ الحقيقةُ فيه. ويَقعُ ما نَوَاه مِن (1) واحدةٍ أو اثْنَتَيْنِ أو ثلاثٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) نسبهما ابن قتيبة إلى أعرابى قالهما في امرأته. عيون الأخبار 4/ 127. (¬3) في النسختين: «يتعذر» والمثبت من المغنى 10/ 359.

3478 - مسألة: (فإن لم ينو شيئا)

وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3478 - مسألة: (فإن لم يَنْوِ شيئًا) فَفِيهِ رِوايتان؛ إحْداهما، يقَعُ الثَّلاثُ. نَصَّ عليها أحمدُ في روايةِ مُهَنَّا. وهى اخْتِيارُ أبى بكرٍ؛ لأَنَّ الألِفَ واللَّامَ للاسْتِغْراقِ، فيَقْتَضِى اسْتِغْراقَ الكُلِّ، وهو ثَلاثٌ. والثانيةُ، أنَّها واحدةٌ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن تعودَ الألِفُ واللَّامُ إلى مَعْهُودٍ، يُرِيدُ الطَّلاقَ الذى أوْقَعْتُه، ولأَنَّ الألفَ واللَّامَ في أسْماءِ الأجْناسَ تُسْتَعْمَلُ لغيرِ الاسْتِغْراقِ كثيرًا، كقولِه: ومَنْ أُكْرِهَ على الطَّلاقِ. و: إذا عَقَلَ الصَّبِىُّ الطَّلاقَ. وأشْباهِ هذا ممَّا يُرادُ به ذلك الجِنْسُ، ولا يُفْهَمُ منه الاسْتِغْراقُ، فعند ذلك لا يُحْمَلُ على التَّعْمِيمِ إلا بنِيَّةٍ صارفةٍ إليه. قال شيْخُنا (¬1): والأشْبَهُ في هذا جميعِه أَنْ يكونَ واحدةً في حالِ الإِطْلاقِ؛ لأَنَّ أهلَ العُرْفِ لا يَعْتَقِدُونَه ثلاثًا، ولا يَعْلَمونَ أنَّ الألفَ واللَّامَ للاسْتِغْراقِ، ولهذا يُنْكِرُ أحدُهم أن يكونَ طَلَّقَ ثلاثًا، ولا يَعْتَقِدُ أنَّه طَلَّقَ إلَّا واحدةً، فمُقْتَضَى اللَّفْظِ في ظَنِّهِم واحدةٌ، فلا يُريدونَ إلَّا ما يعْتَقِدُونَه مُقْتَضَى لَفْظِهم، فيَصِيرُ كأنَّهم نوَوْا واحدةً. فصل: فأمَّا إن قال لامرأتِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا، فهى ثلاثٌ وإن نَوَى واحدةً. لا نَعْلَمُ بين أهلِ العلمِ فيه خلافًا؛ لأَنَّ اللفْظَ صَرِيحٌ في (¬2) ¬

(¬1) في المغنى 10/ 501. (¬2) بعده في م: «الطلاق».

3479 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق. ونوى ثلاثا، ففيه روايتان؛ إحداهما، تطلق ثلاثا)

أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَنَوَى الثَّلَاثَ، فَفِيهِ رِوايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَالأُخْرَى، تَطْلُقُ وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّلاثِ، والنِّيَّةُ لا تُعارِضُ الصَّريحَ؛ لأنَّها أضْعَفُ من اللفْظِ، [ولذلك لا تَعْمَلُ بمُجَرَّدِها، والصَّريحُ قوىٌّ يُعْمَلُ بمُجَرَّدِه، من غير نِيَّةٍ، فلا يُعَارِضُ القوىَّ الضَّعِيفُ] (¬1)، كما لا يُعارِضُ النَّصَّ القِياسُ، ولأَنَّ النِّيَّةَ إنَّما تعْمَلُ في صَرْفِ اللفظِ إلى بعْضِ مُحْتَمِلاِتِه، والثَّلاثُ نَصٌّ فيها، لا تَحْتَمِلُ الواحدةَ بحالٍ، فإذا نَوَى واحدةً، فقد نَوَى ما لا تَحْتَمِلُه، فلم يصِحَّ، كما لو قال: له علىَّ ثلاثةُ دراهمَ. وقال: أرَدْتُ واحدًا. 3479 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طَالِقٌ. ونَوَى ثلاثًا، ففِيهِ رِوايتان؛ إحْداهما، تَطْلُقُ ثلاثًا) وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى عُبَيْدٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأَنَّ لَفْظَه لو قُرِنَ به لَفْظُ الثَّلاثِ كان ثلاثًا، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَوَى به الثَّلاثَ كان ثلاثًا، كالكناياتِ، ولأنَّه نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُه، فوَقَعَ ذلك به، كالكنايةِ. وبَيانُ احْتمالِ اللفْظِ للعَدَدِ، أنَّه يَصِحُّ تَفْسِيرُه به؛ فيقولُ: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. ولأَنَّ قولَه: طالقٌ. اسمُ فاعل، واسمُ الفاعِلِ يقْتَضِى المصدرَ كما يَقْتَضِيه الفِعْلُ، والمصْدَرُ يقع على القليلِ والكثيرِ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا تقَعُ إلَّا واحدةٌ. وهو قولُ الحسنِ، وعمرِو بنِ دِينارٍ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا، ولا بَيْنُونةً، فلم يَقَعْ به الثَّلاثُ، كما لو قال: أنتِ واحدةٌ. بَيانُه؛ أنَّ قَولَه: أنتِ طالقٌ. إخبارٌ عن صِفَةٍ هى عليها، فلم يتَضَمَّنِ العَدَدَ، كقولِه: قائمةٌ، وحائضٌ، وطاهرٌ. والأُولَى أصَحُّ؛ لِما ذَكَرْنا. وفارَقَ قولَه: أنتِ حائضٌ (¬1)، وطاهِرٌ. لأَنَّ الحَيْضَ والطُّهْرَ لا يُمْكِنُ تَعَدُّدُه في حَقِّها، [والطَّلاقُ] (¬2) يُمْكِنُ تعَدُّدُه. ¬

(¬1) في الأصل: «طالق». (¬2) في م: «والطهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ طلاقًا. ونَوَى ثلاثًا، وقعَ ثلاثٌ (¬1)؛ لأنَّه صَرَّحَ (¬2) بالمصْدَرِ، والمصْدَرُ يقَعُ على [القليلِ والكثيرِ] (¬3)، فقد نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُه، وإن نَوَى واحدةً فهى واحدةٌ، وإن أطْلَقَ فهى واحدةٌ، لأنَّه اليَقِينُ. وإن قال: أنتِ طالقٌ الطَّلاقَ. وقعَ ما نَوَاه. وإن لم يَنْوِ شيئًا، ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في النسختين: «صريح». وانظر المغنى 10/ 500. (¬3) في الأصل: «قليله وكثيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فذَكَرَ القاضى فيها رِوايَتَيْنِ؛ إحْداهما؛ تقَعُ الثَّلاثُ؛ لأَنَّ الألِفَ واللَّامَ للاسْتِغْراقِ، فيَقْتَضِى اسْتِغْراقَ الكُلِّ، وهو ثلاثٌ. والثانيةُ، أنَّها واحدةٌ؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ الألفَ واللَّامَ [يَحْتَمِلُ أن] (¬1) تعودَ إلى المعْهُودِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3480 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق واحدة. ونوى ثلاثا، لم يقع إلا واحدة)

وإنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً. وَنَوَى ثَلَاثًا، لَمْ تَطْلُقْ إِلَّا وَاحِدَةً فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3480 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طَالِقٌ واحدةً. ونَوَى ثلاثًا، لِم يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ) لأَنَّ لفْظَه لا يَحْتَمِلُ أكثرَ منها، فإذا نَوَى [ثلاثًا، فقد نوَى] (¬1) ما لا يَحْتَمِلُه لفْظُه، فلو وقَعَ أكْثرُ مِن ذلك، لَوقعَ بمُجَرَّدَ النِّيَّةِ، ومُجَرَّدُ النِّيَّةِ لا يقعُ بها طَلاقٌ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: تقعُ ثلاثٌ، في ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3481 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق هكذا. وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثا)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ: أرَدْتُ بِعَدَدِ الْمَقْبُوضَتَيْنِ. قُبِلَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ واحدَةً معها اثْنَتانِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ فإنَّ قولَه: معها اثْنَتان. لا يُؤَدِّيه معنى الواحدةِ، ولا يحْتَمِلُه، فنِيَّتُه فيه نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ، فلا تَعْمَلُ، كما لو نَوَى الطَّلاقَ مِن غيرِ لفْظٍ. وفيه وجَهٌ (¬1) لأصْحابِنا، أنَّه يَقَعُ ثلاثٌ. والأَوَّلُ أصَحُّ. 3481 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالقٌ هكذا. وأشار بأصابِعِه الثَّلاثِ، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لأَنَّ قولَه: هكذا. صَرِيحٌ بالتَّشْبيهِ بالأصابعِ في العَددِ، وذلك يصْلُحُ بيانًا، كما قال النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا [وهكذا] (¬2)». وأشارَ بيَدَيَهْ (¬3) مَرَّةً ثلاثينَ، ومَرَّةً تسعًا وعشرينَ (¬4) (فإن قال: أرَدْتُ بعددِ المقبوضتَيْن. قُبلَ منه) لأنَّه يَحْتَمِلُ ما يدَّعِيه. فأمَّا إن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «بيده». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، وباب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا نكتب ولا نحسب، من كتاب الصوم، وفى: باب اللعان وقول اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ. . .}، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 3/ 34، 35. ومسلم، في: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال. . .، وباب الشهر يكون تسعا وعشرين، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 759 - 761، 764. وأبو داود، في: باب الشهر يكون تسعا وعشرين، من كتاب الصيام. سنن أبى داود =

وَإِنْ قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، بَلْ هَذِهِ ثَلَاثًا. طَلُقَتِ الأُولَى وَاحِدَةً، وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أنتِ طالقٌ. وأشارَ بأصابِعِه الثَّلاثِ، ولم يَقُلْ: هكذا. لم يَقَعْ إلَّا واحدةٌ؛ لأَنَّ إشارَتَه لا تَكْفِى. فصل: (وإن قال) لإِحْدَى امْرأتَيْه: (أنْتِ طالقٌ واحدةً، بل هذهِ) وأشارَ إلى الأُخْرَى (ثلاثًا. طَلُقَتِ الأُولَى واحدةً، والثَّانيةُ ثلاثًا) لأنَّه أوْقَعَه بهما كذلك، أشُبَهَ ما لو قال: له علىَّ هذا الدِّرْهمُ، بل هذا. فإنَّه يجبُ عليه (¬1) الدِّرهمانِ، ولا يصِحُّ إضْرابُه عن الأَوَّلِ. ¬

= 1/ 542. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف على إسماعيل في خبر سعد بن مالك فيه، وباب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبى كثير في خبر أبى سلمة فيه، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 112 - 114. وابن ماجه، في: باب ما جاء في «الشهر تسع وعشرون»، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 530. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 184، 2/ 28، 43، 44، 52، 81، 122، 125، 3/ 329، 5/ 42. (¬1) سقط من: م.

3482 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثره، أو جميعه، أو منتهاه، أو: طالق كألف، أو بعدد الحصى، أو القطر، أو الرمل، أو الريح، أو التراب. طلقت ثلاثا وإن نوى واحدة)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ الطَّلَاقِ، أَوْ أَكْثَرَهُ، أَوْ جَمِيعَهُ، أَوْ مُنْتَهَاهُ، أَوْ: طَالِقٌ كَأَلْفٍ، أَوْ بِعَدَدِ الْحَصَى، أَوِ الْقَطْرِ، أَوِ الرِّيحِ، أَوِ الرَّمْلِ، أَوِ التُّرَابِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ نوَى وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3482 - مسألة: (وإنْ قَالَ: أنْتِ طَالقٌ كُلَّ الطَّلاقِ، أو أكْثَرَه، أو جَمِيعَهُ، أو مُنْتَهَاهُ، أو: طَالِقٌ كَأَلْفٍ، أو بعَدَدِ الحَصَى، أو القَطْرِ، أو الرَّمْلِ، أو الرِّيحِ، أو التُّرابِ. طَلُقَتْ ثَلاثًا وإنْ نَوَى وَاحِدَةً) لأَنَّ هذا يَقْتَضِى عَددًا، ولأَنَّ للطَّلاقِ أقَلَّ وأكْثَرَ، فأقلُّه واحدةٌ، وأكثرُهُ ثلاثٌ. وإنْ قال: كعَدَدِ الماءِ، أو التُّرابِ. وقَعَ ثلاثٌ. وقال أبو حنيفةَ: تقعُ واحدةٌ بائنٌ، لأَنَّ الماءَ والتُّرابَ من أسْماءِ الأجْناسِ، لا عَدَدَ له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ الماءَ تَتَعَدَّدُ أنْواعُه وقَطرَاتُه، والتُّرابَ تَتعدَّدُ أنْواعُه وأجْزاؤُه، فأشْبَهَ الحَصَى. وإن قال: يا مائَةَ طالقٍ. أو: أنتِ مائةُ طالقٍ. طَلُقَتْ ثلاثًا. وإن قال: أنتِ طالقٌ كمائةٍ، أو: ألفٍ. فهى ثلاثٌ. قال أحمدُ، في مَن قال: أنتِ طالقٌ كألفِ تَطْليقةٍ: فهى ثلاثٌ. وبه قال محمدُ بنُ الحسنِ، وبعضُ أصحابِ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: إن لم يكُنْ له نِيَّةٌ، وقَعَتْ واحدةٌ؛ لأنَّه لم يُصَرِّحْ بالعَددِ، وإنَّما شَبَّههَا بالألفِ، وليس المُوقَعُ المُشَبَّهَ به. ولَنا، أنَّ قولَه: كألفٍ. يُشْبِهُ العَدَدَ خاصَّةً؛ لأنَّه لم يذْكُرْ إلَّا ذلك، فوقَعَ العَددُ، كقولِه: أنتِ طالقٌ كعَددِ الألفِ. وفى هذا انْفِصالٌ عمَّا قال. وإن قال: أردْتُ أنَّها كألفٍ في صُعوبَتِها. دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن.

3483 - مسألة: (وإن قال: أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله، أو أعرضه، أو ملء الدنيا)

وَإِنْ قَالَ: أَشَدَّ الطَّلَاقِ، أَوْ أَغْلَظَهُ؛ أَوْ أَطْوَلَهُ، أَوْ أَعْرَضَهُ، أَوْ مِلْءَ الدُّنْيَا. طَلُقَتْ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَنْوِىَ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3483 - مسألة: (وإنْ قَالَ: أشَدَّ الطَّلاقِ، أو أغْلَظَه، أو أطْوَلَه، أو أعْرَضَه، أو مِلءَ الدُّنْيَا) وَنَوَى الثَّلاثَ، وَقَعَ الثَّلاثُ، وإنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، أَوْ نَوَى وَاحِدَةً، فَهِى وَاحِدَةٌ. قال أحمدُ، في مَن قال لامرأتِه: أنتِ طالقٌ مِلءَ البيتِ: فإن أرادَ الغِلْظَةَ عليها -يعنى يُرِيدُ أَنْ تَبينَ منه- فهى ثلاثٌ. فاعْتَبَرَ نِيَّتَه، فدَلَّ على أنَّه إذا لم يَنْوِ، تَقَعُ واحدةٌ؛ وذلك لأَنَّ هذا الوَصْفَ لا يقْتَضِى عَددًا. وهذا لا نَعلمُ فيه خلافًا. فإذا وقَعَتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواحدةُ، فهى رَجْعِيَّةٌ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: تكونُ بائنًا؛ [لأنَّه وصَفَ] (¬1) الطَّلاقَ بصِفَةٍ زائدةٍ، فيَقْتَضِى الزِّيادَةَ عليها، وذلك هو البَيْنُونَةُ. ولَنا، أنَّه طَلاقٌ صادفَ مَدْخُولًا بها، مِن غيرِ اسْتِيفاءِ عَدَدٍ ولا عِوَض، فكان رَجْعيًّا، كقولِه: أنتِ طالقٌ. وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ حُكْمٌ، فإذا ثبتَ ثَبَتَ في الدُّنْيا كلِّها، فلا يقْتَضِى ذلك زِيادةً. فإنْ قال: أنتِ طالقٌ مِثْلَ الجَبَلِ، أو مِثْلَ عِظَمِ الجَبَلِ. ولا نِيَّةَ له، وقَعتْ طَلْقةٌ رَجْعِيَّةٌ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تقعُ بائنًا. وقال أصحابُه: إن قال: مِثْلَ الجَبَلِ. كانت رَجْعِيَّةً. وإن قال: مِثْلَ عِظَمِ الجَبَلِ. كانت بائنًا. ووَجْهُ القَوْلَيْن ما تقَدَّمَ. [ولأنَّه] (¬2) لا يَمْلِكُ إيقاعَ البَيْنُونَةِ، فإنَّها حُكْمٌ، وليس ذلك إليه، وإنَّما تَثْبُتُ البَيْنُونَةُ بأسْبابٍ مُعَيَّنَةٍ؛ كالخُلْعِ، والطَّلاقِ [الثلاثِ، والطَّلاقِ] (¬3) قَبْلَ الدُّخولِ، فيَمْلِكُ مُباشَرةَ سَبَبِها فتَثْبُتُ. وإن أرادَ إثْباتَها (¬4) بدُونِ ذلك، لم تَثْبُتْ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ أشدّ (¬5) الطَّلاقِ ¬

(¬1) في الأصل: «يتوصف». (¬2) في م: «ولنا أنه». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «ثباتها». (¬5) في م: «ابتداء».

3484 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث. وقع طلقتان)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ. طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه أو عليها؛ لتَعَجُّلِها، أو لحُبِّ أحدِهما صاحِبَه، ومَشَقَّةِ فِراقِه عليه، فلم يَقَعْ أمْرٌ زائِدٌ (¬1) بالشَّكِّ. فإن قال: أقْصَى الطَّلاقِ، أو أكْبَرَهُ (¬2). فكذلك في قِياسِ المذهبِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ أقْصَى الطَّلاقِ ثلاثًا؛ لأَنَّ أقْصاه آخِرُه وآخِرُ الطَّلاقِ الثَّالثةُ، ومِن ضَرورةِ كَوْنِها ثالثةً وُقوعُ اثْنَتَيْنِ. وإن قال: أتَمَّ الطَّلاقِ، أو أكمَلَه. فواحدةٌ، إلَّا أنَّها تكون سُنِّيَّةً (¬3). 3484 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالِقٌ مِن واحِدَةٍ إلى ثَلاثٍ. وقَعَ طَلْقَتَانِ) وبهذا قال أبو حنيفةَ؛ لأَنَّ ما بعدَ الغايةِ لا يدْخُلُ فيها، كقولِه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬4). وإنَّما [يَدْخُلُ إذا] (¬5) كانتْ بمعنى «مع»، وذلك خِلافُ مَوْضوعِها. وقال زُفَرُ: تَطْلُقُ واحدةً؛ لأَنَّ ابْتِداءَ الغايةِ ليس منها، كقولِه: بعْتُك مِن هذا الحائطِ إلى هذا الحائطِ. (ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ ثلاثًا) وهو قولُ أبى يوسفَ، ومحمدٍ؛ لأنَّه نَطَقَ بها، ¬

(¬1) في م: «زيد». (¬2) في م: «أكثره». (¬3) في م: «بنيته». (¬4) سورة البقرة 187. (¬5) سقط من: م.

3485 - مسألة: (وإذا قال: أنت طالق طلقة فى اثنتين. ونوى طلقة مع طلقتين، وقعت الثلاث، وإن نوى موجبه عند الحساب، وهو يعرفه، طلقت طلقتين، وإن لم يعرفه، فكذلك عند ابن حامد. وعند

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً في اثْنَتَيْنِ. وَنَوَى طَلْقَةً مَعَ طَلْقَتَيْنِ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى مُوجَبَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ ابْن ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزْ إلْغاؤُها، وكقولِه: بِعتُك هذا الثَّوْبَ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه. ولَنا على أنَّ ابْتِداءَ الغايةِ يَدْخُلُ، قولُه: خَرجْتُ مِن البَصْرَةِ. فإنَّه يدلُّ على أنَّه كان فيها، وأمَّا انْتِهاءُ الغايةِ، فلا يَدْخُلُ بمُقْتَضَى اللَّفْظِ، ولو احْتَملَ الدُّخولَ وعَدَمَه، لم يَقَعِ الطَّلاقُ بالشَّكِّ. فإن قال: أنتِ طالقٌ ما بينَ واحدةٍ وثلاثٍ. وقَعَتْ واحدةٌ (¬1)؛ لأنَّها التى بينَهما (¬2). 3485 - مسألة: (وإذا قال: أنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً في اثْنَتَيْن. وَنَوَى طَلْقَةً مع طَلْقَتَيْن، وَقَعَتِ الثَّلاثُ، وإن نَوَى مُوجَبَه عندَ الحسابِ، وهو يَعْرِفُه، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وإن لم يَعْرِفه، فكذلك عندَ ابنِ حامدٍ. وعندَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يليها».

حَامِدٍ. وَعِنْدَ الْقَاضِى، تَطْلُقُ وَاحِدَةً. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَقَعَ بِامْرَأَةِ الْحَاسِبِ طَلْقَتَانِ، وَبِغَيْرِهَا طَلْقَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضى تَطْلُقُ واحدةً. وإن لم يَنْوِ، وقَعَ بامرأةِ الحاسِبِ طَلْقَتانِ، وبغَيْرِها طَلْقَةٌ. ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ ثلاثًا) إذا قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً في طَلْقَتَيْن. أو: واحِدَةً في اثْنَتَيْن. ونَوَى به ثلاثًا، فهى ثلاثٌ؛ لأنَّه [يعَبَّرُ بـ «في»] (¬1) عن «مع» (¬2)، كقولِه تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (¬3). فتَقديرُ الكلامِ: طَلْقَةً مع طَلْقَتَيْن. فإذا أقَرَّ بذلك على نفسِه، قُبِل منه. وإن قال: أرَدْتُ واحدةً. قُبِل أيضًا وإن كان حاسبًا. وقال القاضى: لا يُقْبَلُ إذا كان عارِفًا بالحسابِ، وَوقعَ طَلْقتانِ؛ لأنَّه خلافُ ما اقْتَضاه اللَّفْظُ. ولَنا، أنَّه فَسَّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه، فإنَّه لا يَبْعُدُ أن يُرِيدَ بكلامِه ما يُرِيدُه العامِّىُّ. وإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، وكان عارِفًا بالحسابِ، وقَعَ طَلْقَتانِ. وقال الشافعىُّ: إن أطْلَقَ، لم يَقَعْ إلَّا واحدةٌ؛ لأَنَّ لَفْظَ الإِيقاعِ إنَّما هو لَفْظُ (2) الواحدةِ، وما زادَ عليها لم يَحْصُلْ فيه لَفْظُ ¬

(¬1) في م: «بغير نفى». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة الفجر 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِيقاعِ، وإنَّما يَقَعُ الزَّائدُ بالقَصْدِ، فإذا خَلا عن القَصْدِ، لم يَقَعْ إلَّا ما أوْقَعَه. وقال بعضُ أصحابهِ كقَوْلِنا. وقال أبو حنيفةَ: لا يَقَعُ إلَّا واحدةٌ، سواءٌ قَصَدَ به الحسابَ أو لم يَقْصِدْ، [إذا لم يَقْصِدْ به واحدةً مع اثْنَتَيْن] (¬1)؛ لأَنَّ الضَّرْبَ إنَّما يَصِحُّ فيما لَهُ مِسَاحةٌ، فأمَّا ما لا مِسَاحَةَ له، فلا حَقِيقةَ فيه للحِسَابِ، وإنَّما حصل منه الإِيقاعُ في واحدةٍ، فوَقَعتْ دُونَ غيرِها. ولَنا، أنَّ هذا اللَّفْظَ موْضوعٌ في اصْطِلاحِهم لاثْنَيْنِ، فإذا لَفَظَ به وأطْلَقَ، وَقَعَ, كما لو قال: أنتِ طالقٌ اثْنَتَيْنِ. وبهذا يحْصُلُ الانْفِصالُ عمَّا قاله الشافعىُّ، فإنَّ اللَّفْظَ الموْضوعَ لا يُحْتاجُ معه إلى نِيَّةٍ. فأمَّا ما قَالَه أبو حنيفةَ، فإنَّما ذلك في وَضْع (¬2) الحِسَابِ بالأصْلِ، ثم صار مُسْتَعْمَلًا في كُلِّ مَا لَه عَددٌ، فصارَ حقيقةً فيه، فأمَّا الجاهِلُ بمُقتَضَى ذلك في الحِسَابِ إذا أطْلَقَ، وقَعَتْ طَلْقَةٌ واحدةٌ؛ لأَنَّ لَفْظَ الإِيقاعِ إنَّما ¬

(¬1) في النسختين: «به واحدة أو اثنتين». والمثبت كما في المغنى 10/ 540. (¬2) في م: «موضع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو لَفْظَةٌ واحدةٌ، وإنَّما صارَ مَصْرُوفًا إلى الاثْنَتَيْن بوَضْعِ أَهْلِ الحِسَابِ واصْطِلاحِهم، فَمَنْ لا يَعْرِفُ اصْطِلاحَهم لا يَلْزَمُه مُقتَضاه، كالعَرَبِىِّ يَنْطِقُ بالطَّلاقِ بالعَجَمِيَّةِ وهو لا يَعْرِفُ مَعْناها. فإن نَوَى مُوجَبَه عندَ الحِسَابِ، وهو لا يَعْرِفُه، فقال ابنُ حامدٍ (¬1): هو كالحاسِب قِياسًا عليه؛ لاشْتِرَاكِهما في النيَّةِ. وعندَ القاضى، تَطْلُقُ واحدةً؛ لأنَّه إذا لم يَعْرِفْ مُوجَبَه لم يَقْصِدْ إيقاعَه، فهو كالعَجَمِىِّ يَنْطِقُ بالطَّلاقِ بالعَرَبِىِّ ولا يَفْهَمُه. وهذا قولُ أكثرِ أصحابِ الشافعىِّ، إذا لم يَكُنْ يَعْرِفُ مُوجَبَه؛ لأنَّه لا يَصِحُّ منه قَصْدُ ما لا يَعْرِفُه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ ثلاثًا، بِناءً على أنَّ «في» مَعْناها «مع»، فالتَّقْديرُ: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً مع طَلْقَتَيْن. قال ¬

(¬1) بعده في م: «لا يقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شيْخُنا (¬1): ولم يُفَرِّقْ أصحابُنا في ذلك بينَ أن يكونَ المُتَكَلِّمُ بذلك ممَّن لهم عُرْفٌ في هذا اللَّفْظِ (2) أو لا، والظَّاهِرُ أنَّه (¬2) إنْ كان المُتَكَلِّمُ بذلك ممَّن عُرْفُهم أنَّ «في» ههُنا بمعنى «مع» وَقَعَتِ الثَّلاثُ؛ لأَنَّ كلامَه يُحْمَلُ على عُرْفِهم، والظَّاهِرُ منه إرادَتُه، وهو المُتَبادَرُ إلى الفَهْمِ مِن كلامِه. فصل: إذا قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً، بل طَلْقَتَيْن. وقَعَ طَلْقَتانِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعيَّةُ (¬3): يقَعُ ثَلاثًا، في أحدِ الوَجْهَيْن؛ لأَنَّ قولَه: أنتِ طالقٌ. إيقاعٌ، فلا يجوزُ إيقاعُ الواحدةِ مَرَّتَيْنِ، فيَدُلُّ على أنَّه أوْقَعَها، ثُمَّ أرادَ رَفْعَها (¬4)، وأَوْقَعَ (¬5) اثْنَتَيْن آخِرَتَيْنِ، فوَقَعَ ¬

(¬1) في: المغنى 10/ 541. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «الشافعى». (¬4) في م: «دفعها». (¬5) في م: «وقع».

فصل

فَصْلٌ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَو نِصْفَىْ طَلْقَةٍ، أَو نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ. طَلُقَتْ طَلْقَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّلاثُ. ولَنا، أنَّ ما لَفَظَ به قَبْلَ الإِضْرابِ لَفَظ به بعدَه، فلم يَلْزَمْه أكْثَرُ ممَّا بعدَه، كقولِه: له علىَّ دِرْهمٌ، بل دِرْهمان. وقَوْلُهم: لا يجوزُ إيقاعُ ما أوْقَعَه. قُلْنا: يَجوزُ أن يُخْبِرَ (¬1) بوُقوعِه مع وُقوعِ غيرِه، فلا يَقَعُ الزَّائدُ بالشَّكِّ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإذا قال: أنتِ طالقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أو نِصْفَىْ طَلْقَةٍ، أو نِصْفَ طَلْقَتَيْن. طَلُقَتْ طَلْقَةً) إذا قال: أنتِ ¬

(¬1) في م: «نجبره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طالقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أو جُزْءًا منها وإن قَلَّ. وقَعَ طَلْقَةٌ كاملةٌ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا داودَ، قال: لا تَطْلُقُ بذلك. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّها تَطْلُقُ بذلك؛ منهم الشَّعْبِىُّ، والحارِثُ العُكْلِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادةُ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وأبو عُبَيْدٍ. قال أبو عُبَيْدٍ: وهو قولُ مالكٍ، وأهلِ الحجازِ، وأهلِ العِراقِ، وذلك لأَنَّ ذِكْرَ ما لا يتَبَعَّضُ في الطَّلاقِ ذكْرٌ لجَمِيعِه, كما لو قال: نِصْفُكِ طالقٌ. فإن قال: نِصْفَىْ طَلْقَةٍ. وقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَنَّ نِصْفَى الشَّئِ كُلُّه. وإن قال: أنت طالقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْن. طَلُقَتْ (¬1) واحدةً؛ لأَنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْن طَلْقَةٌ. وذَكَرَ أصحابُ الشافعىِّ وَجْهًا آخَرَ، أنَّه يقَعُ طَلْقتانِ؛ لأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِى النِّصْفَ من كُلِّ واحدةٍ منهما، ثم يُكَمَّلُ. وما ذكَرْناه أوْلَى؛ لأَنَّ التَّنْصِيفَ يتَحَقَّقُ به، وفيه عَمَلٌ باليَقِينِ، وإلْغاءُ الشَّكِّ، وإيقاعُ ما أوْقَعَه مِن غيرِ زيادةٍ، فكان أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «وقعت».

3486 - مسألة: (وإن قال: نصفى طلقتين. وقعت طلقتان)

وَإِنْ قَالَ: نِصْفَىْ طَلْقَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3486 - مسألة: (وإن قال: نِصْفَىْ طَلْقَتَيْن. وَقَعَتْ طَلْقَتان) لأَنَّ نِصْفَىِ الشئِ جَمِيعُه، فهو كما لو قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَتَيْنِ. 3487 - مسألة: (وإن قال: ثَلَاثةَ أنْصَافِ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْن) لأَنَّ ثلاثةَ الأنْصافِ طَلْقَةٌ ونِصْفٌ، فكُمِّل النِّصْفُ، فصارَ طَلْقَتَيْن. وهذا وَجْهٌ لأصحابِ الشافعىِّ. ولهم وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها لا تَطْلُقُ إلَّا واحدةً؛ لأنَّه جعلَ الأنْصافَ من طَلْقَةٍ واحدةٍ، فيَسْقُطُ ما ليس منها، ويَقَعُ طَلْقَةٌ؛ لأَنَّ إسْقاطَ الطَّلاقِ المُوقَعِ من [الأهلِ في المحَلِّ] (¬1) لا سَبِيلَ إليه، وإنَّما الإِضافةُ إلى الطَّلْقَةِ الواحدةِ غيرُ صَحيحةٍ، فَلَغَتِ الإِضافَةُ. وإن قال: أنتِ طالقٌ نِصْفَ ثَلاثِ طَلَقاتٍ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لأَنَّ نِصْفَها طَلْقَةٌ ونصفٌ، ثم يُكَمَّلُ النِّصْفُ، فيَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ. ¬

(¬1) في م: «الأول في المجلس».

3488 - مسألة: (وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين. طلقت ثلاثا. ويحتمل أن تطلق طلقتين)

وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ طَلْقَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3488 - مسألة: (وَإِنْ قَالَ: ثَلاثةَ أنْصَافِ طَلْقَتَيْن. طَلُقَتْ ثَلاثًا. ويَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ طَلْقَتَيْن) نصَّ أحمدُ على وُقوعِ الثَّلاثِ في روايةِ مُهَنَّا. وقال أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامدٍ: تَقَعُ طَلْقتانِ؛ لأَنَّ مَعْناه ثَلاثةُ أنْصافٍ مِن طَلْقَتَيْن، وذلك طَلْقةٌ ونِصْفٌ، ثم تُكَمَّلُ فتَصِيرُ طَلْقَتَيْن. وقيلَ: بل لأَنَّ النِّصْفَ الثَّالِثَ مِن طَلْقَتَيْن مُحالٌ. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهانِ كهذَيْنِ. ولَنا، أنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْن طَلْقةٌ، وقد أوْقَعَه (¬1) ثلاثًا، ¬

(¬1) في م: «أوقعت».

3489 - مسألة: (وإن قال: نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، أو نصف وثلث وسدس طلقة. طلقت طلقة)

وَإِنْ قَالَ: نِصْفَ طَلْقَةٍ، ثُلُثَ طَلْقَةٍ، سُدْسَ طَلْقَةٍ، أَوْ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ طَلْقَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَقَعُ ثلاثٌ, كما لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثَ طَلَقاتٍ. وقولُهم: معناه ثلاثةُ أنْصافٍ من طَلْقَتَيْن. تأْويلٌ يُخالِفُ ظاهِرَ اللَّفْظِ؛ فإنَّه على ما ذكَرَه يكونُ ثلاثةَ أنْصافِ [طَلْقَةٍ، ويَنْبَغِى أن يكُونَ ثلاثةُ أنْصافِ] (¬1) طَلْقَتَيْن مُخالِفَةً لثلاثةِ أنْصافِ طَلْقَةٍ. وقولُهم: إنَّه مُحالٌ (¬2). قُلْنا: وُقوعُ نِصْفِ الطَّلْقَتَيْن عليها ثلاثَ مَرَّاتٍ ليس بِمُحالٍ، فوَجَبَ أن يَقَعَ. 3489 - مسألة: (وإنْ قال: نِصْفَ طَلْقَةٍ، ثُلُثَ طَلْقَةٍ، سُدْسَ طَلْقَةٍ، أو نِصْفَ وثُلُثَ وسُدْسَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ طَلْقَةً) لأنَّه لم يعْطِفْ بواوِ الغَطْفِ، فيَدُلُّ على أنَّ هذه الأجْزاءَ من طَلْقةٍ غيرِ مُتغايِرَةٍ، وأنَّ الثَّانِىَ ههُنا يكونُ بدَلًا من الأَوَّلِ، والثَّالثَ من الثَّانِى، والبَدَلُ هو المُبْدَلُ أو بعضُه، فلم يقْتَضِ (¬3) المُغايَرَةَ. وعلى هذا التَّعْليلِ لو قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً، نِصْفَ طَلْقةٍ. أو: طَلْقَةً طَلْقَةً. لم تَطْلُقْ إلَّا طَلْقَةً. وكذلك إن قال: نِصْفًا وثُلُثًا وسُدْسًا. لم يَقَعْ إلَّا طَلْقةٌ؛ لأَنَّ هذه أجْزاءُ الطَّلْقَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مخالف». (¬3) في م: «تتبعض».

3490 - مسألة: (وإن قال: نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة. طلقت ثلاثا)

وَإِنْ قَالَ: نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدْسَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يُرِيدَ مِن كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا، فتَطْلُقُ ثلاثًا. ولو قال: أنتِ طالقٌ نصفًا وثُلُثًا ورُبْعًا. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْن؛ لأنَّه يَزِيدُ على الطَّلْقةِ نصفَ سُدْسٍ (¬1)، ثم يُكَمَّلُ. وإن أرادَ مِن كُلِّ طَلْقَةٍ جُزْءًا، طَلُقَتْ ثلاثًا. وإن قال: أنتِ طَلْقةٌ. أو: أنتِ نِصْفُ طَلْقَةٍ. [أو: أنتِ نِصْفُ طَلْقةٍ] (¬2) ثُلُثُ طَلْقةٍ سُدْسُ طَلْقةٍ. أو: أنتِ نصفُ طالقٍ. وقَعَ بها طَلْقَةٌ؛ بِنَاءً على قوْلِنا في قولِه: أنتِ الطَّلاقُ (¬3). أنَّه صَرِيحٌ في الطَّلاقِ، وههُنا مثلُه. 3490 - مسألة: (وإن قال: نِصْفَ طَلْقَةٍ وثُلُثَ طَلْقَةٍ وسُدْسَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ ثَلاثًا) ذكَرَه أصحابُنا؛ لأنَّه عطَفَ جُزْءًا مِن طَلْقَةٍ على جُزْءٍ مِن طَلْقَةٍ، فظاهِرُه أنَّها طَلَقاتٌ مُتغايِرَةٌ، ولأنَّه لو كانتِ الثَّانيةُ هى الأُولَى، لجاءَ بها بلامِ التَّعْريفِ فقال: ثُلُثَ الطَّلْقَةِ وسُدْسَ الطَّلْقَةِ. فإنَّ أهْلَ العربيَّةِ قالوا: إذا ذُكِرَ (¬4) لَفْظٌ، ثم أُعِيدَ مُنَكَّرًا، فالثَّانِى غيرُ الأَوَّلِ، وإن أُعِيدَ مُعرَّفًا بالألفِ واللَّامِ، فالثَّانِى هو الأَوَّلُ، [كقولِه تعالى] (¬5): ¬

(¬1) بعده في م: «طلقة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «طالق». (¬4) في الأصل: «ذكرتم». (¬5) سقط من: م.

3491 - مسألة: (وإذا قال لأربع)

وَإِنْ قَالَ لِأَرْبَعٍ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً، أو: اثْنَتَيْنِ، أَوْ: ثَلَاثًا، أَوْ: أَرْبَعًا. وَقَعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬1). فالعُسْرُ الثَّانى هو الأَوَّلُ] (¬2)؛ لإِعادَتِه مُعَرَّفًا، [واليُسْرُ] (¬3) الثَّانى غيرُ الأَوَّلِ؛ لإِعادَتِه مُنَكَّرًا. ولهذا قِيلَ: لَن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ (¬4). وقيلَ: لو أرادَ بالثَّانيةِ الأُولَى، لذكَرَها بالضَّمِيرِ؛ لأنَّه الأَوْلَى. 3491 - مسألة: (وإذا قال لأرْبَعِ) نِسْوَةٍ: (أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً، أو: اثْنَتَيْنِ، أَوْ: ثَلاثًا، أَوْ: أرْبَعًا. وَقَعَ بكُلِّ واحِدَةٍ طَلْقَةٌ) إذا قال: أوْقَعْتُ بيْنَكُنَّ طَلْقةً. وقَعَ بكُلِّ واحدةٍ منْهُنَّ طَلْقَةٌ. كذلك قال الحسنُ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى قَسْمَها بَيْنَهنِّ، لكُلِّ واحدةٍ رُبْعُها، ثم تُكَمَّلُ. وإن قال: بَيْنَكُنَّ طَلْقةٌ. فكذلك. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأَنَّ مَعْناه: أوْقَعْتُ بيْنَكُنَّ طَلْقَةً. وإن قال: أوْقَعْتُ بيْنَكُنَّ طَلْقَتَيْن. فكذلك. ذكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ ¬

(¬1) سورة الشرح 5، 6. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «وليس». (¬4) ورد مرفوعا إلى النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحسن مرسلا، أخرجه الحاكم، في: المستدرك 2/ 528. والطبرى، في: تفسيره 30/ 236. كما أخرجه الإِمام مالك موقوفا على عمر، في: باب الترغيب في الجهاد، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 446. وانظر طرق الحديث والكلام عليها في: كشف الخفاء 2/ 149، 150.

وَعَنْهُ، إِذَا قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثَلَاثًا: مَا أَرَى إِلَّا قَدْ بِنَّ مِنْهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وقال أبو بكرٍ، والقاضى: يقَعُ بكُلِّ واحدةٍ طَلْقتان. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ عليه، فإنَّه رُوِى عنه، في رجلٍ (قال: أوْقَعْتُ بيْنَكُنَّ ثلاثَ) تَطْلِيقاتٍ: (ما أرَى إلَّا قد بِنَّ منه) ووَجْهُ ذلك، أنَّا إذا قَسَمْنا كُلَّ طَلْقَةٍ بيْنَهُنَّ، حَصَلَ لكُلِّ واحدةٍ جُزْءٌ (¬1) من طَلْقَتَيْن، ثم يُكَمَّلُ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ. طَلُقَتْ واحدةً، ويُكَمَّلُ نَصِيبُها مِن الطَّلاقِ في واحدةٍ، فيكونُ لكلِّ واحدةٍ نصفٌ، ثم يُكَمَّلُ طَلْقةً واحدةً، وإنَّما يُقْسَمُ بالأجْزاءِ مع الاخْتِلافِ، كالدُّورِ ونحوِها مِن المخْتَلِفاتِ، أمَّا الجُمَلُ المتَساوِيَةُ من جِنْسٍ كالنُّقُودِ، فإنَّما تُقْسَمُ بِرُءوسِها، ويُكَمَّلُ نَصِيبُ كُلِّ واحدٍ مِن واحدٍ، كأرْبعةٍ لهم دِرْهمان صَحيحان، فإنَّه يُجْعَلُ لكُلِّ واحدٍ نصْفٌ مِن دِرْهَمٍ واحدٍ، والطَّلَقَاتُ لا اختلافَ (¬2) فيها؛ ولأَنَّ فيما ذَكَرْناه أخْذًا باليَقِينِ، فكان ¬

(¬1) كذا في النسختين، وفى المغنى 10/ 511: «جزءان» وكذا في المبدع 7/ 299. ولعل مراد الشارح قسم كل طلقة على حدة فيصير لها جزء من الأولى ثم جزء من الثانية، فهما جزءان من الطلقتين كما في المغنى، يكمل كل جزء فيصير طلقة، فتطلق كل واحدة طلقتين. واللَّه أعلم. (¬2) في م: «خلاف».

3492 - مسألة: (وإن قال: أوقعت بينكن خمسا. وقع بكل واحدة طلقتان)

وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ خَمْسًا. فَعَلَى الأَوَّلِ، يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى من إيقاعِ طَلْقَةٍ زَائدةٍ بالشَّكِّ. فأمَّا إن أرادَ قِسْمةَ كُلِّ طَلْقَةٍ بَيْنَهُنَّ، فهو على ما قال أبو بكرٍ. وإن قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثلاثًا، أو: أرْبعًا. فعلى قَوْلِنا يَقَعُ بكُلِّ واحدةٍ طَلْقَةٌ، وعلى قَوْلِهما يَطْلُقْنَ ثلاثًا ثلاثًا. 3492 - مسألة: (وَإِنْ قَالَ: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ خَمْسًا. وَقعَ بِكُلِّ واحِدَةٍ طَلْقَتَانِ) وبه قال الحسَنُ، وقَتادَةُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ واحدةٍ تَطْلِيقَةٌ ورُبْعٌ، ثم تُكَمَّلُ. وكذلك إن قال: ستًّا، أو: سَبْعًا، أو: ثمانيًا. وإن قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تِسْعًا. وقَعَ بكُلِّ واحدةٍ ثلاثٌ، على القَوْلَيْن جميعًا. فصل: فإنْ قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقةً وطَلْقَةً وطَلْقةً. وقَعَ بكُلِّ واحدةٍ منهنّ ثلاثٌ؛ لأنَّه لَمَّا عطَفَ، وَجَبَ قَسْمُ كُلِّ طَلْقةٍ على حِدَتِها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَسْتَوِى في ذلك المدْخُولُ بها وغيرُها في قياسِ المذهبِ؛ لأَنَّ الواوَ لا تَقْتَضِى تَرْتِيبًا. وقيلَ: يقَعُ بها واحدةٌ على الأُولى خاصَّةً, كما إذا قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثلاثًا. ذَكَرَه صاحِبُ «المُحَرَّرِ» (¬1). وإنْ قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ وثُلُثَ طَلْقةٍ وسُدْسَ طَلْقةٍ. فكذلك؛ لأَنَّ هذا يَقْتَضِى وُقوعَ ثلاثٍ على ما قَدَّمْنا. وإن قال: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقةً فطَلْقَةً فطَلْقَةً. أو (¬2): طَلْقَةً، ثم طَلْقَةً [ثم طلقةً] (¬3). أو: أَوْقعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً، وأوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقةً، [وأَوقَعْتُ بيْنَكُنَّ طَلْقَةً] (¬4). طَلُقْنَ ثلاثًا، إلَّا التى لم يَدْخُلْ بها، فإنَّها لا تَطلُقُ إلَّا واحدةً؛ لأنَّها بانَتْ بالأُولَى، فلم يَلْحَقْها ما بعدَها. فصل: فإن قال لنِسائِه: أنْتُنَّ طوالِقُ (¬5) ثلاثًا. أو: طَلَّقْتُكُنَّ ثَلاثًا. طَلُقْنَ ثلاثًا ثلاثًا (¬6). نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأَنَّ قوْلَه: طلَّقْتُكُنَّ. يَقْتَضِى ¬

(¬1) في م: «المجرد». (¬2) بعده في م: «طلقتها». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من النسختين، وأثبتناه من المغنى 10/ 512. (¬5) في م: «طالق». (¬6) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: نِصْفُكِ، أَوْ: جُزءٌ مِنْكِ، أَوْ: إِصْبَعُكِ، أَوْ: دَمُكِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَطْلِيقَ كلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ وتَعْمِيمَهُنَّ به، ثم وَصَفَ ما عمَّمَهُنَّ به مِن الطَّلاقِ بأنَّه ثَلاثٌ، فصارَ لكلِّ واحدةٍ ثلاثٌ، بخِلافِ قولِه: أوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ ثلاثًا. فإنَّه يَقْتَضِى قِسْمَةَ الثَّلاثِ عليهنَّ، لكُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ جُزْءٌ منها، وجُزْءُ الواحدةِ مِن الثَّلاثِ ثلاثةُ أرْباعِ تَطْليقةٍ. فصل: (إذا قال: نِصْفُكِ، أو: جُزْءٌ منك، أو: إِصْبَعُكِ، أو دَمُكِ طالِقٌ. طَلُقَتْ) متى طَلَّق جُزْءًا مِنَ المرأةِ مِن أجْزائِها الثَّابِتَةِ، طَلُقَتْ كلُّها، سَواءٌ كان شائِعًا، كنِصْفِها أو سُدْسِها، أو جُزْءًا مِن ألْفِ جُزْءٍ منها، أو جُزْءًا مُعَيَّنًا؛ كيَدِها، أو رَأْسِها، أو إِصْبَعِها. وهذا قولُ الحسنِ، ومذهبُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ القاسمِ مِن أصحابِ مالكٍ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: إن أضافَه إلى جُزْءٍ شائِعٍ، أو واحدٍ مِن أعْضاءٍ خمسةٍ، الرَّأْسِ، والوَجْهِ، والرَّقَبةِ، والظَّهْرِ، والفَرْجِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقَتْ، وإن أضافَه إلى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ غيرِ هذه الخمسةِ، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّه جُزْءٌ تَبْقَى الجُمْلَةُ بدُونِه، أو جزءٌ لا يُعَبَّرُ به عن الجُمْلَةِ، فلم تَطْلُقِ المرأةُ بإضافَةِ الطَّلاقِ إليه، كالسِّنِّ والظُّفْرِ. ولَنا، أنَّه أضافَ الطَّلاقَ إلى جُزْءٍ ثابتٍ، اسْتَباحَه بعَقْدِ النِّكاحِ، فأشْبَهَ الجُزْءَ الشَّائِعَ والأعْضاءَ الخَمْسَةَ، ولأنَّها جُملَةٌ لا تَتَبَعَّضُ في الحِلِّ والحُرْمَةِ، وُجِدَ فيها ما يَقْتَضِى التَّحْريمَ والإِباحةَ، فَغَلَبَ فيها حُكْمُ التَّحْريمِ, كما لو اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ ومَجُوسِىٌّ في

3493 - مسألة: (وإن قال: شعرك، أو: ظفرك، أو: سنك طالق. لم تطلق)

وَإِنْ قَالَ: شَعَرُكِ، أَوْ: ظُفُرُكِ، أَوْ: سِنُّكِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَتْلِ صَيْدٍ، وفارَقَ ما قاسُوا عليه؛ فإنَّه ليس بثابتٍ (¬1)، فإنَّ الشَّعَرَ والظُّفْرَ يَزُولانِ ويَخْرُجُ غيرُهما، ولا يَنْقُضُ مَسُّها (¬2) الطَّهارةَ. 3493 - مسألة: (وإن قال: شَعَرُكِ، أَوْ: ظُفْرُكِ، أَوْ: سِنُّكِ طَالِقٌ. لم تَطْلُقْ) وبهذا قال أصْحابُ الرَّأْى. ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ. ذَكَرَه ¬

(¬1) في م: «يبقى». (¬2) في م: «منها».

3494 - مسألة: (وإن أضافه إلى الريق، والحمل، والدمع، والعرق، لم تطلق)

وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى الرِّيقِ، وَالدَّمْعِ، وَالْعَرَقِ، وَالْحَمْلِ، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبُ «المُحَرَّرِ». وقال مالكٌ، والشافعىُّ: تَطْلُقُ بذلك. ونحوُه عن الحسنِ؛ لأنَّه جُزْءٌ يُسْتَباحُ بنِكاحِها، فتَطْلُقُ بطَلاقِه، كالإِصْبَعِ. ولَنا، أنَّه جُزْءٌ يَنْفَصِلُ عنها في حالِ السَّلامةِ، وفارقَ الإِصْبَعَ، فإنَّها لا تَنْفَصِلُ في حالِ السَّلامةِ، والسِّنُّ تَزولُ مِن الصغيرِ، ويُخْلَقُ (¬1) غيرُها، وتَنْقَلِعُ مِن الكبيرِ، بخِلافِ الإِصْبَعِ، فلم تَطْلُقْ بطَلاقِه، كالحَمْلِ والرِّيقِ، ولأَنَّ الشَّعَرَ لا رُوحَ فيه، ولا يَنْقُضُ الوُضوءَ مَسُّه، فأشْبَهَ العَرَقَ واللَّبَنَ. 3494 - مسألة: (وإن أضافَه إلى الرِّيقِ، والحَمْلِ، والدَّمْعِ، والعَرَقِ، لم تَطْلُقْ) لا نَعْلمُ فيه خلافًا؛ لأَنَّ هذه ليستْ مِن جِسْمِها، فإنَّ الرِّيقَ والدَّمْعَ والعَرَقَ فَضَلاتٌ (¬2)، والحَمْلُ وإن كان مُتَّصلًا بها، إلَّا ¬

(¬1) في الأصل: «ويختلف». (¬2) في الأصل: «فاضلات».

3495 - مسألة: (وإن قال: روحك طالق. طلقت)

وَإِنْ قَالَ: رُوحُكِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ مآله إلى الانْفِصالِ، فلذلك لم تَطْلُقْ به، وهو مُودَعٌ فيها، قال اللَّهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (¬1). [قيل: مُسْتَوْدَعٌ] (¬2) في بَطنِ الأُمِّ. 3495 - مسألة: (وإن قال: رُوحُكِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ) لأَنَّ الحياةَ لا تبْقَى بدُونِ رُوحِها، فهى (¬3) كالدَّمِ. وقال أبو بكرٍ: لا يَخْتَلِفُ قولُ أحمدَ في الطَّلاقِ والْعَتاقِ والظِّهار والحَرامِ، أنَّ هذه الأشْياءَ لا تَقَعُ إذا ¬

(¬1) سورة الأنعام 98. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَ أرْبعةَ أشْياءَ؛ الشَّعَرَ والسِّنَّ والظُّفْرَ والرُّوحَ، جَرّدَ القولَ عنه مُهَنَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ يحيى، والفَضْلُ بنُ زِيادٍ القَطَّانُ، فبذلك أقولُ. وَوجْهُه أنَّ الرُّوحَ ليستْ عُضْوًا، ولا شَيْئًا يُسْتَمْتَعُ به.

فصل فيما تخالف به المدخول بها غيرها

فَصْلٌ فِيمَا تُخَالِفُ بِهِ الْمَدْخُولُ بِهَا غَيْرَهَا إِذَا قَالَ لمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِىَ بِالثَّانِيَةِ التَّأْكِيدَ أَوْ إِفِهَامَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل فيما تُخالِفُ به المَدْخولُ بها غيرَها 3496 - مسألة: (إذا قال لمَدْخُولٍ بِها: أنتِ طالِقٌ، أنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَنْوِىَ بالثَّانِيَةِ التَّأْكِيدَ أَوْ إفْهَامَهَا) إذا قال لامرأتِه المدْخولِ بها: أنْتِ طالقٌ. مَرَّتَيْنِ. ونَوَى بالثَّانيةِ إيِقاعَ طَلْقةٍ ثانيةٍ، وقَعَتْ بها طَلْقَتانِ بلا خلافٍ، وإن نَوَى بها إفْهامَها أنَّ الأُولَى قد وَقَعَت بها، أو التَّأْكِيدَ، لم تَطْلُقْ إلَّا واحدةً، وإن لم تَكُنْ له نيَّةٌ وقعَتْ طَلْقتانِ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وهو الصَّحيحُ مِن قَوْلَى (¬1) الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: تَطْلُقُ واحدةً؛ لأَنَّ التَّكْرارَ يكونُ للتَّأْكِيدِ والإِفْهامِ، ويَحْتَمِلُ الإِيقاعَ، فلا نُوقِعُ طَلْقةً بالشَّكِّ. ولَنا، أنَّ هذا اللَّفْظَ للإِيقاعِ، ويَقْتَضِى الوُقوعَ، بدليلِ ما لو لم (¬2) يَتَقدَّمْه مثلُه، وإنَّما يَنْصَرِفُ عن ذلك بنيَّةِ ¬

(¬1) في الأصل: «قول». (¬2) سقط من النسختين، وانظر المغنى 10/ 490.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّأْكِيدِ والإِفْهامِ، فإذا لم يُوجَدْ ذلك وقَعَ مُقْتضاهُ, كما يجبُ العَمَلُ (¬1) بالعُمومِ في العامِّ إذا لم يُوجَدِ المُخَصِّصُ، وبالإِطْلاقِ في المُطْلَقِ إذا لم يُوجَدِ المُقَيِّدُ. فأمَّا غيرُ المدْخولِ بها، فلا تَطْلُقُ إلَّا واحدةً، سَواءٌ نَوَى الإِيقاعَ أو غيرَه، وسَواءٌ قال ذلك مُنْفَصِلًا أو مُتَّصِلًا. وهذا قولُ عِكْرِمَةَ، والنَّخَعِىِّ، وحَمَّادِ بنِ أبى سليمانَ، والحَكَمِ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى، وأبى عُبَيْدٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وذكَرَه الحَكَمُ (¬2) عن علىٍّ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وابنِ مسعودٍ. وقال مالكٍ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ: يقَعُ بها طَلْقَتانِ، وإن قال ذلك ثلاثًا، طَلُقَتْ ثلاثًا، إذا كان مُتَّصِلًا؛ لأنَّه طَلَّقَ ثلاثًا بكَلامٍ مُتَّصِلٍ، أشْبَهَ قولَه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. ولَنا، أنَّه طَلاقٌ مُفَرَّقٌ في غيرِ المدْخولِ بها، فلم يَقَعْ إلَّا ¬

(¬1) بعده في الأصل: «به». (¬2) في م: «الحاكم». وانظر: مصنف ابن أبى شيبة 5/ 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى, كما لو فَرَّقَ كلامَه، ولأَنَّ غيرَ المدْخُولِ بها تَبينُ بطَلْقَةٍ؛ لأنَّه لا عِدَّةَ عليها، فتُصادِفُها الطَّلْقَةُ الثَّانيةُ بائنًا، فلا يَقَعُ الطَّلاقُ بها؛ لأنَّها غيرُ زَوْجةٍ، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّيْنا مِن الصَّحابةِ، ولا نَعْلَمُ لهم مُخالفًا في عَصْرِهم، فيكونُ إجْماعًا. فصل: فأمَّا إن قال: أنتِ طالقٌ. ثم مَضَى زمنٌ طويلٌ، ثم أعادَ ذلك للمَدْخولِ بها، طَلُقَتْ ثانيةً، ولم يُقْبَلْ قولُه: نوَيْتُ التَّوْكِيدَ. لأَنَّ التَّوْكِيدَ تابعٌ للكلامِ، فشَرْطُه أن يكونَ مُتَّصِلًا به، كسائرِ التَّوابعِ؛ مِن العطْفِ والصِّفَةِ والبَدَلِ.

3497 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق فطالق. أو: ثم طالق. أو: طالق طلقة بل طلقتين. أو: بل طلقة. أو: طالق طلقة بعدها طلقة. أو: قبل طلقة. طلقت طلقتين)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ. أَوْ: ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ: بَلْ طَالِقٌ. أَوْ: طَالِقٌ طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ. أَوْ: بَلْ طَلْقَةً. أَوْ: طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ. أَوْ: قَبْلَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدخُولٍ بِهَا، بَانَتْ بِالأُولَى، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَعْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3497 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالِقٌ فطالِقٌ. أو: ثم طَالِقٌ. أو: طَالِقٌ طَلْقَةً بل طَلْقَتَيْنِ. أو: بل طَلْقَةً. أو: طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَها طَلْقَةٌ. أو: قَبْلَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ طَلْقَتَين) إن كانت مَدْخُولًا بها (وإن كانت غيرَ مَدْخُولٍ بها، بانَتْ بالأُولَى، ولم يَلْزَمْهَا ما بعدَها) وعنه فيما إذَا قَالَ:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بل طَلْقَةً. أَوْ: طالِقٌ بل طالِقٌ. أنَّه لا يَقَعُ بالمَدْخُولِ بِها إلَّا طَلْقَةٌ، بِناءً على ما إذا قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ بل دِرْهَمٌ. ذَكَرَه في «المُحَرَّرِ». كُلُّ طلاقٍ مُرَتَّبٍ في الوُقوعِ يَأتى بعْضُه بعدَ بعضٍ، لا يقَعُ بغيرِ المدْخولِ بها منه أكْثَرُ مِن واحدةٍ؛ لِما ذَكَرْناه. ويقَعُ بالمدْخولِ بها ثلاثٌ إذا أوْقَعَها، كقولِه: أنْتِ طالقٌ، فطالِقٌ، فطالقٌ (¬1). أو: أنْتِ طالقٌ، ثم طالِقٌ، [ثم طالقٌ] (¬2). أو: أنتِ طالقٌ، [ثم طالقٌ، وطالقٌ] (2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: فطالقٌ. وأشْباهُ ذلك؛ لأَنَّ هذه حروفٌ تَقْتَضِى التَّرْتِيبَ، فتَقَعُ بها الأُولَى فتُبِينُها، فتَأتِى الثَّانيةُ فتُصادِفُها بائنًا غيرَ زَوْجةٍ، فلا تَقَعُ بها. وأمَّا المدْخولُ جمها فتأْتِى الثَّانيةُ فتصادِفُ (¬1) محِلَّ النِّكاحِ، فتَقَعُ، وكذلك الثَّالثةُ. وكذلك لو قال: أنتِ طالقٌ، بل طالقٌ، وطالقٌ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وإن قال: أنتِ طالقٌ طلقةً قبلَ طَلْقةٍ. أو: بعدَ طَلْقةٍ. أو: ¬

(¬1) في م: «فتصادفها».

3498 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة. فكذلك عند القاضى)

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةٌ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِى. وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ, تَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَها طَلْقةٌ. أو: طلقةً فطلقةً. أو: طَلْقةً ثم طَلْقةً. وقَعَ بغيرِ المدْخولِ بها طَلْقَةٌ، وبالمدْخولِ بها اثْنَتانِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ هذا يَقْتَضِى طَلْقةً بعدَ طَلْقةٍ. 3498 - مسألة: (وَإن قالَ: أنتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قبلَها طَلْقَةٌ. فكذلِكَ عندَ القَاضِى) وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقعُ بغيرِ المدْخولِ بها شئٌ. بِنَاءً على قوْلِهم في السُّرَيْجِيَّةِ (¬1). وقال أبو بكرٍ، وأبو الخَطَّابِ: يقَعُ اثْنَتانِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه اسْتحالَ (¬2) وُقوعُ الطَّلْقَةِ الأُخْرَى قَبْلَ الطَّلْقَةِ المُوقَعَةِ، فوقَعَتْ معها؛ لأنَّها لَمَّا تأَخَّرَت عن الزَّمنِ الذى قَصَد إيقاعَها فيه لكَوْنِه زمنًا ماضِيًا، وَجَبَ إيقاعُها في أقْرَبِ الأزْمِنَةِ، وهو معها، ولا يَلْزَمُ تأَخُّرُها إلى ما بعدَها؛ لأَنَّ قبلَه زمَنًا يُمْكِنُ الوُقوعُ فيه، وهو زَمنٌ قَرِيبٌ، فلا يُؤَخَّرُ إلى البَعيدِ. ولَنا، أنَّ هِذا طَلاقٌ بعْضُه قبلَ بعضٍ، فلم يقَعْ بغيرِ المدْخولِ بها جَميعُه, كما لو قال: طَلْقةً بعدَ طلقةٍ. أو قال: أنتِ طالقٌ طلقةً غدًا وطَلْقةً اليومَ. ولو قال: جاءَ زيدٌ بعدَ عمرٍو، أو: جاء زيدٌ وقبلَه عمرٌو. أو: أعْطِ زيدًا بعدَ عمرٍو. كان كلامُه صحيحًا، يُفِيدُ تأخيرَ المُتقدِّمِ لفظًا عن المذْكُورِ بعدَه، وليس هذا طَلاقًا في زَمَنٍ ماضٍ، وإنَّما يقَعُ إيقاعُه في المُسْتَقْبَلَ على الوَجْهِ الذى رَتَّبَه، ولو قُدِّرَ أنَّ إحْداهما مُوقَعَةٌ ¬

(¬1) سميت السريجية، نسبة لأبى العباس ابن سريج، وسيأتى بيانها في صفحة 506, 507. (¬2) في م: «استكمال».

3499 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق طلقة معها طلقة. أو: مع طلقة. أو: طالق وطالق. طلقت طلقتين)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ. أَوْ: مَعَ طَلْقَةٍ. أَوْ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في زمنٍ ماضٍ، لامْتَنَعَ وُقوعُها وحدَها (¬1) وَوَقَعَتِ الأُخْرَى، وهذا تعليلُ القاضى؛ لكَوْنِه لا يَقَعُ إلَّا واحدةٌ. قال شيْخُنا (¬2): والأَوَّلُ مِن التَّعْلِيلِ (¬3) أصَحُّ، إن شاءَ اللَّه تعالى. 3499 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالِقٌ طَلْقَةً معها طَلْقَةٌ. أو: مع طَلْقَةٍ. أو: طَالِقٌ وطالِقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ) إذا قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً معها طلقةٌ. وقعَ بها طَلقَتانِ، سواءٌ في ذلك المدْخولُ بها أو غيرُها. وإن قال: معها اثْنَتانِ. وقَعَ بها ثلاثٌ، في قياسِ المذهبِ. وهو أحَدُ الوَجْهَيْنِ لأصْحابِ الشافعىِّ. وقال أبو يُوسفَ: تقَعُ واحدةٌ؛ لأَنَّ الطَّلْقَةَ إذا وَقَعَت مُفْرَدَةً، لم يُمْكِنْ أن يكونَ معها شئٌ. ولَنا، أنَّه أوْقَعَ ثَلاثَ طَلَقاتٍ بلَفْظٍ يَقْتَضِى وُقُوعَهُنَّ معًا، فوقَعْنَ كلُّهُنَّ, كما لو قال: أنتِ طالقٌ، ثلاثًا. ولا نُسَلِّمُ أنَّ الطَّلْقَةَ تَقَعُ مُفْرَدَةً، فإنَّ الطَّلاقَ لا يَقَعُ بمُجَرَّدِ اللَّفْظِ به، إذْ لو وقَعَ بذلك، لَما صَحَّ تَعْلِيقُه بشَرْطٍ، ولا صَحَّ وَصْفُه بالثَّلاثِ ولا بغيرِها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغنى 10/ 492. (¬3) في م: «التعليلين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال لغيرِ مَدْخولٍ بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ. وقَعَتْ بها (¬1) طَلقَتانِ. وإن قال: أنتِ طَالقٌ وطَالِقٌ وطالقٌ. طَلُقَتْ ثلاثًا. وبه قال مالكٌ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ، ورَبِيعةُ، وابنُ أبى لَيلَى. وحُكِىَ عن الشافعىِّ في القديمِ ما يَدُلُّ عليه. وقال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ: لا يقَعُ إلَّا واحدةٌ؛ لأنَّه أوْقَعَ الأُولَى قبلَ الثَّانيةِ، فلم يَقَعْ عليها شئٌ آخَرُ, كما لو فَرَّقَها. وذكَرَه ابنُ أبى موسى، في «الإِرْشادِ» وَجْهًا في المذهبِ. ولَنا، أنَّ الواوَ تَقْتضِى الجَمْعَ، ولا تَرْتِيبَ فيها، فيكونُ مُوقِعًا للثَّلاثِ جَمِيعًا، فيَقَعْنَ عليها، كقولِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. أو: طَلْقَةً معها طَلْقتانِ. ويُفارِقُ ما إذا فَرَّقَها، [فإنَّها لا تَقَعُ] (¬2) جميعًا، وكذلك إذا عَطَفَ بعْضَها على بعضٍ بحرفٍ يَقْتَضِى التَّرْتِيبَ، فإنَّ الأُولَى تَقَعُ قبلَ الثَّانيةِ بمُقتَضَى إيقاعِه، وههُنا لا تَقَعُ الأُولَى حينَ نُطْقِه بها حتى يَتِمَّ كلامُه، بدَليلِ أنَّه لو ألْحَقَه اسْتِثْناءً أو شرْطًا، لَحِقَ به، ولم يَقَعِ الأَوَّلُ مُطْلَقًا، ولو كان يقَعُ حينَ نُطْقِه، لم يَلْحَقْه شئٌ مِن ذلك، وإذا ثَبَتَ أنَّه يَقِفُ وُقوعُه على ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في م: «فإنه لا يقع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمامِ الكَلامِ، فإنَّه يقعُ عندَ تَمامِ كلامِه على الوَجْهِ الذى اقْتَضاه لَفْظُه، ولَفْظُه يَقْتَضِى وُقوعَ الطَّلَقاتِ الثلاثِ مُجْتَمِعاتٍ. فإن قيلَ: إنَّما وقَفْنَا (¬1) أوَّلَ، الكلامِ على آخرهِ مع الشَّرْطِ والاسْتِثْناءِ؛ لأنَّه مُغَيِّرٌ (¬2) له، والعَطْفُ لا يُغَيِّرُ (¬3)، فلا يتَوَقَّفُ عليه، ونَتَبَيَّنُ أنَّه وقَعَ أوَّلَ ما لَفَظَ به، ولذلك (¬4) لو قال لها: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ. لم يَقَعْ إلَّا واحدةٌ. قُلْنا: ما لم يَتِمَّ الكلامُ فهو عُرْضةٌ للتَّغْييرِ، إمَّا بما يَخُصُّه بزَمنٍ، أو يُقَيِّدُه بقيدٍ كالشَّرْطِ، وإمَّا بما يَمْنَعُ بعضَه كالاسْتِثْناءِ، وإمَّا بما يُبَيِّنُ عددَ الواقعِ، كالصِّفَةِ بالعَدَدِ، وأشْباهِ هذا، فيَجِبُ أن يكونَ واقعًا، ولولا ذلك لَما وقَعَ بغيرِ المدْخولِ بها ثلاثٌ بحالٍ؛ لأنَّه لو قال لها: أنت طالقٌ ثلاثًا. فوقعَتْ بها طَلقَةٌ قبل قولِه: ثلاثًا. لم يُمْكِنْ أن يقعَ شئٌ آخَرُ. وأمَّا إذا قال: أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ (¬5). فهاتانِ جُمْلَتانِ لا تَتعلَّقُ إحْداهما بالأُخْرَى، ولو تَعَقَّبَ إحْداهما شرطٌ أو اسْتِثْناءٌ أو صِفَةٌ، لم يَتناوَلِ الأُخْرَى، فلا وَجْهَ لوُقوفِ إحْداهما على الأُخْرَى، والمعطوفُ مع المعطوفِ عليه شئٌ واحدٌ، لو تَعَقَّبَه شَرْط لَعادَ إلى الجميعِ، ولأَنَّ ¬

(¬1) في م: «أوقعنا» (¬2) في م: «معبر». (¬3) في م: «يعبر». (¬4) في م: «كذلك». (¬5) بعده في م: «أنت طالق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المعْطوفَ لا يَسْتَقِلُّ بنَفْسِه، ولا يُفِيدُ بمُفْردِه، بخلافِ قولِه: أنتِ طالقٌ. فإنَّها جُمْلَةٌ مُفيدَةٌ لا تَعَلُّقَ. لها بالأُخْرَى، فلا يَصِحُّ قياسُها عليها. فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَتين ونِصْفًا. فهى عندَنا كالتى قبلَها، تَقَعُ الثَّلاثُ. وقال مُخالِفُونا: تَقَعُ طَلْقتانِ. فصل: وإذا قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً بعدَها طلْقةٌ. ثم قال: أرَدْتُ أن أُوقِعَ بعدَها طلقةً. دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن. وإن قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً قبلَها طَلْقةٌ. وقال: أرَدْتُ أنِّى طَلَّقتُها قبلَ هذا في نِكاحٍ آخَرَ. أو: أنَّ زَوْجًا قَبْلِى طَلَّقَها. دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يُقْبَلُ. والثانى، لا يُقْبَلُ. والثالثُ، يُقْبَلُ إن كان وُجِدَ. والصَّحِيحُ أنَّه لا يُقْبَلُ إذا لم يَكُنْ وُجِدَ؛ لأنَّه لا يَحْتَمِلُ ما قالَه. فصل: فإن قال: أنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ. وقال: أرَدْتُ التَّوْكِيدَ. قُبِلَ منه؛ لأَنَّ الكلامَ يُكَرَّرُ للتَّأْكيدِ، كقولِه عليه السلامُ: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» (¬1). وإن قَصَدَ الإِيقاعَ وتَكَرُّرَ اللَّفَظَاتِ (¬2) طَلُقَتْ ثلاثًا. وإن لم يَنْوِ شيئًا، لم يَقَعْ إلَّا واحدةٌ؛ لأنَّه لم يَأْتِ بينَهما بحرفٍ يَقْتَضِى المُغايَرَةَ، فلا تَكُنَّ مُتَغايرَاتٍ. وإن قال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ. وقال: أرَدْتُ بالثَّانيةِ التَّأْكيدَ. لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه غايرَ بينَها وبينَ الأُولَى بحرفٍ يَقْتَضِى العطفَ والمُغايرَةَ، وهذا يَمْنَعُ. وأمَّا الثَّالثةُ، فهى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 311، 312. (¬2) في م: «اللفظان». وفى المغنى 10/ 493: «الطلقات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالثَّانيةِ في لَفْظِها. فإن قال: أردتُ بها التَّوْكيدَ. دُيِّنَ، وهَلْ يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ على رِوايَتيْنِ؛ إحْداهما، يُقْبلُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه كَرَّرَ لفظَ الطَّلاقِ مثلَ الأَوَّلِ، فقُبِلَ تَفْسِيرُه بالتَّأْكيدِ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ. والثَّانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأَنَّ حوفَ العَطْفِ للمُغايَرَةِ، فلا يُقْبَلُ منه ما يُخالِفُ ذلك, كما لا يُقْبَلُ في الثَّانيةِ. ولو قال: أنتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ. أو: أنتِ طالقٌ، ثم طالقٌ، ثم طالقٌ. فالحُكْمُ فيها كالتى عَطَفَها بالواوِ. فإن غايرَ بينَ الحروفِ فقال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، ثم طالقٌ. [أو: طالقٌ، ثم طالقٌ وطالقٌ. أو] (¬1): طالقٌ [وطالقٌ] (¬2) فطالقٌ. ونحو ذلك، لم يُقْبَلْ في شئٍ منها إرادةُ التَّوْكيدِ؛ لأَنَّ كُلَّ كلمةٍ مُغايِرَةٌ لِما قبلَها، مُخالِفةٌ لها في لَفْظِها، والتَّوْكيدُ إنَّما يكونُ بتَكْريرِ الأَوَّلِ بصُورَتِه (¬3). فصل: فإن قال: أنتِ مُطَلَّقةٌ، أنتِ مُسَرَّحَةٌ، أنتِ مُفارَقَةٌ. وقال: أردتُ التَّوْكيدَ بالثَّانيةِ والثَّالثةِ. قُبِلَ؛ لأنَّه لم يُغايِرْ بينَهما بالحروفِ الموْضوعَةِ للمُغايرَةِ بينَ الألْفاظِ، بل أعادَ اللَّفْظَةَ بمَعْناها، ومثلُ هذا يُعادُ تَوْكيدًا. وإن قال: أنتِ مُطلَّقةٌ (¬4) ومُسَرَّحَةٌ ومُفارَقَةٌ. وقال: أردْتُ التَّوْكيدَ. احْتَمَلَ أن يُقْبَلَ منه؛ لأَنَّ اللَّفْظَ المُخْتَلِفَ يُعْطَفُ بعضُه على ¬

(¬1) في م: «ثم طالق وطالق أو طالق و». (¬2) سقط من النسختين. والمثبت من المغنى 10/ 494. (¬3) في الأصل: «بصوته». (¬4) في م: «طلقة».

3500 - مسألة: (والمعلق كالمنجز)

وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ في هَذَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضٍ تَوْكيدًا، كقولِه (¬1): * فأَلْفَى (¬2) قَوْلَها كذِبًا وَمَيْنَا * ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ؛ لأَنَّ الواوَ تَقْتَضِى المُغايرةَ، فأشْبَهَ ما لو كان بلفظٍ واحدٍ. 3500 - مسألة: (وَالمعَلَّقُ كالمُنْجَزِ) في حُكْمِ المَدْخُولِ بِهَا وغيرِها، فلو قال: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ وطالقٌ [وطالقٌ] (¬3). فدخَلتِ الدَّارَ، طَلُقَتْ ثلاثًا. وبه قال أبو يُوسفَ، ومحمدٌ، وأصحابُ الشافعىِّ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ. وقال أبو حنيفةَ: يقَعُ واحدةٌ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ المُعَلَّقَ (¬4) إذا وُجِدَتِ الصِّفَةُ، يكونُ كأنَّه أوْقَعه في الحالِ على تلك الصِّفَةِ، ولو أوْقَعَه كذلك لم يقَعْ إلَّا واحدةٌ. ولَنا، أنَّه وُجِدَ شَرْطُ وُقوعِ ثلاثِ طَلَقاتٍ غيرِ مُرَتَّباتٍ، فوقَع الثَّلاثُ, كما لو قال: إن دَخلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. وكَرَّرَ ذلك ثلاثًا، فدَخَلَتْ، فإنَّها تَطْلُقُ ثلاثًا في قولِ الجميعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. والقائل هو عدى بن زيد العبادى، وهو عجز بيت صدره: * وقدَّدَتِ الأدِيمَ لرَاهِشَيْه * انظر: الشعر والشعراء 1/ 227، وحاشيته، واللسان والتاج (م ى ن). (¬2) في الأصل: «ألفت». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «المطلق».

3501 - مسألة: (وإن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق طلقة معها طلقة. فدخلت، طلقت طلقتين)

فَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. أو: طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ. أَوْ: مَعَ طَلْقَةٍ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3501 - مسألة: (وإن قال: إن دَخلْتِ الدَّارَ فَأنْتِ طالقٌ طَلْقَةً معها طَلْقَةٌ. فَدَخَلَت، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ) وذَكَرَ مِثْلَ هذَا بَعْضُ أصحابِ الشافعىِّ، ولم يحْك عنهم فيه خِلافًا. وكذلِك إذا قال: طَلْقَةً مع طَلْقَةٍ. فَدَخَلَتْ.

3502 - مسألة: وإن قال لغير مدخول بها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، إن دخلت الدار. أو

وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ: ثُمَّ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، إِنْ كَانَتْ غَيْئرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَاثْنَتَيْنِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3502 - مسألة: وإن قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أنْتِ طالقٌ ثم طالقٌ ثُمَّ طالقٌ، إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. أو (¬1): إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتْ واحِدَةً، فَبَانَتْ بِهَا، ولَمْ تَطْلُقْ غَيْرَهَا. وبهذا قال الشافعىُّ. وذهَبِ القاضى إلى أنَّها تَطْلُقُ في الحالِ واحدةً، تَبِينُ بها. وهو قولُ أبى حنيفةَ في الصُّورَةِ الأُولَى، لأَنَّ «ثُمَّ» تَقْطَعُ الأُولَى عمَّا بعدَها؛ لأنَّها (¬2) للمُهْلَةِ، فتكونُ الأُولَى واقِعَةً، والثانيةُ مُعَلَّقَةً بالشَّرْطِ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: لا يقعُ حتى تَدْخُلَ الدَّارَ، فيقَعُ بها ثلاثٌ؛ لأَنَّ دُخولَ الدَّارِ شَرْطٌ للثَّلاثِ، فوقَعَتْ, كما لو قال: إن دخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ. ولَنا، أنَّ «ثُمَّ» للعَطْفِ، وفيها تَرْتيبٌ، فَتَعلَّقَتِ التَّطْليقاتُ كلُّها بالدُّخولِ، لأَنَّ العَطْفَ لا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الشَّرْطِ بالمعْطوفِ عليه، ويجبُ التَّرْتِيبُ فيها, كما يجبُ لو لم يُعَلِّقْه بالشَّرْطِ، وفى هذا انْفِصالٌ عمَّا ذكَرُوه، ولأَنَّ الأُولَى تَلِى ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م.

3503 - مسألة: (وإن قال: إن دخلت فأنت طالق، إن دخلت فأنت طالق. فدخلت، طلقت اثنتين بكل حال)

وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطَ، فلم يَجُزْ وُقوعُها بدُونِه، كما لو لم يعْطِفْ عليها، ولأنَّه جَعلَ الأُولَى جزاءً (¬1) للشَّرْطِ، وعقَّبَه إيَّاها بفاءِ التَّعْقِيبِ الموْضُوعةِ للجزاءِ، فلم يَجُزْ تَقْديمُها عليه، كسائِرِ نَظائِرِه، ولأنَّه لو قال: إن دخلَ زَيدٌ دارِى، فأعْطِه دِرْهمًا ثُمَّ دِرْهَمًا. لم يَجُزْ أن يُعْطِيَه قبلَ دُخولِه. فكذا ههنا. وما ذكَرُوه تحَكُّمٌ، ليس له شاهِدٌ في اللُّغَةِ، ولا أصْلٌ في الشَّرْعِ. فأمَّا إن قال لمدْخولٍ بها: إن دخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ. لم يقَعْ بها شئٌ حتى تَدْخُلَ الدَّارَ، فتَقَعُ بها الثَّلاثُ. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. وذهب القاضى إلى وُقوعِ طَلْقَتَيْن في الحالِ، وتَبْقَى الثَّالثةُ مُعَلَّقَةً بالدُّخولِ. وهو ظاهِرُ الفَسادِ، فإنَّه يجْعلُ الشَّرْطَ المُتَقَدِّمَ للمعْطوفِ دُونَ المعطوفِ عليه، ويُعَلِّقُ به ما يَبْعُدُ عنه، دُونَ ما يَلِيه، ويجعلُ جَزِاءَه ما لم تُوجَدْ فيه الفاءُ التى يُجازَى بها، دُونَ ما وُجِدَتْ فيه، تحَكُّمًا، لا نعْرِفُ عليه دليلًا، ولا نَعْلمُ له نَظِيرًا. وإن قال لها: إن دخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ. فدَخَلَتْ، طَلُقَتْ ثلاثًا في قولِهم جميعًا. 3503 - مسألة: (وإن قال: إن دَخَلْتِ فأنتِ طالقٌ، إن دَخَلْتِ فأنتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ بكُلِّ حَالٍ) وإن كَرَّرَ ذلك ثلاثًا، ¬

(¬1) في م: «جزءًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [طَلُقتْ ثلاثًا] (¬1) في قولِ الجميعِ؛ لأَنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ، فاقْتَضَى وقُوعَ الثَّلاثِ (¬2) دَفْعةً واحدةً. واللَّه أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الطلاق والثلاث».

باب الاستثناء فى الطلاق

بَابُ الِاستِثْنَاءِ في الطَّلَاقِ حُكِىَ عَنْ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ في الطَّلَاقِ. وَالمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا دُون النِّصْفِ، وَلا يَصِحُّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَفِى النِّصْفِ وَجْهَانِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً. طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الاسْتِثْناءِ في الطَّلاقِ (حُكِىَ عن أبى بكرٍ، أنَّه لا يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ في الطَّلاقِ. والمذهبُ على أنَّه يَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما دُونَ النِّصْفِ، ولا يَصِحُّ فيما زادَ عليه، وفى النِّصْفِ وَجْهانِ) إذا اسْتَثْنَى في الطَّلاقِ بلسانِه صَحَّ اسْتِثْناؤُه. وهو قولُ جُمْلَةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ الرَّجُلَ (إذا قال) لامْرأتِه: (أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً. أنَّها تَطْلُقُ طَلْقَتَيْن) منهم الثَّورِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وحُكِىَ عن أبى بكرٍ، أنَّ الاسْتِثْناءَ لا يُؤَثِّرُ في عَددِ الطَّلَقاتِ، ويَجوزُ في المُطَلَّقاتِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً. وقَعَ الثَّلاثُ، ولو قال: نِسائِى طَوالِقُ إلَّا فُلانةَ. لم تَطْلُقْ؛ لأَنَّ الطَّلاقَ لا يُمْكِنُ رَفْعُه بعدَ إيقاعِه، والاسْتِثْناءُ يَرْفَعُه لو صَحَّ. وما ذكَرَه مِن التَّعْليلِ (¬1) باطِلٌ بما سلَّمَه مِن الاسْتِثْناءِ في المُطلَّقاتِ، وليس الاسْتِثْناءُ رَفْعًا لِما وقعَ، إذ لو كان كذلك، لَمَا صَحَّ في المُطَلَّقاتِ والإِعْتاقِ، ولا في الإِقْرارِ ولا الإِخْبارِ، وإنَّما هو مُبَيِّن أنَّ المُسْتَثْنَى (¬2) غيرُ مُرادٍ في الكلامِ، فهو يَمْنَعُ أن يَدْخُلَ فيه ما لَوْلاهُ لَدخلَ، فقولُه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬3). عبارةٌ عن تِسْعِمائَةٍ وخَمْسِينَ عامًا. وقولُه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (¬4). [تَبَرُّؤٌ مِن غيرِ] (¬5) اللَّهِ، فكذلك ¬

(¬1) في م: «التحليل». (¬2) في الأصل: «الاستثناء». (¬3) سورة العنكبوت 14. (¬4) سورة الزخرف 26، 27. (¬5) في م: «مقتضاه أنه لم يتبرأ من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً. عبارةٌ عن اثْنَتَيْن لا غيرُ. وحرفُ الاسْتِثْناءِ المُسْتَوْلِى عليه «إلَّا»، ويشَبَّهُ به أسْماءٌ وأفْعالٌ وحروفٌ؛ فالأسْماءُ غيرُ وسِوَى، والأفعالُ ليس [ولا يكونُ] (¬1) وعدَا، والحروفُ حَاشَا وخَلَا، فبأىِّ كلمةٍ اسْتَثْنَى بها صَحَّ الاسْتِثْناءُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الأكْثرِ. نَصَّ عليه أحمدُ. فلو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ. وقَعَ ثلاثٌ. والأكْثَرونَ على أنَّ ذلك جائزٌ، إلَّا أنَّ أهلَ العربيةِ إنَّما أجازُوه في القليلِ مِن الكثيرِ. حُكِىَ ذلك عن جماعةٍ مِن أئِمَّةِ اللُّغةِ، فإذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً. وقعَ اثْنَتانِ. ولو قال: إلَّا اثْنَتَيْنِ. وقعَ ثلاثٌ. وإن قال: طَلْقَتَيْنِ إلَّا طَلْقَةً. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَقَعُ طَلْقَةٌ. والثانى، طَلْقتانِ. بِناءً على صِحَّةِ استِثْناءِ النِّصْفِ، هل يَصِحُّ أَوْ لا؟ على وَجْهَيْنِ.

3504 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا. أو: ثلاثا إلا اثنتين. أو: خمسا إلا ثلاثا. أو: ثلاثا إلا ربع طلقة. طلقت ثلاثا)

فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا. أَوْ: ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ. أَوْ: خَمْسًا إِلَّا ثَلَاثًا. أَوْ: ثَلَاثًا إِلَّا رُبْعَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3504 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طَالقٌ ثَلاثًا إلَّا ثَلاثًا. أو: ثلاثًا إلَّا اثْنَتَينِ. أو: خَمْسًا إلَّا ثلاثًا. أو: ثَلاثًا إلَّا رُبْعَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ ثَلاثًا) إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. وقَعَ ثلاثٌ بغيرِ خلافٍ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ لِرَفْعِ بَعضِ (¬1) المُسْتَثْنَى منه، فلا يَصِحُّ أن يُرْفَعَ جَمِيعُه. وإن قال: ثلاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ. فعندنا يَقَعُ ثلاثٌ، بِناءً على أنَّه لا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الأكْثرِ. وسنذْكُرُ ذلك، والخِلاف فيه ودَليلَ كُلِّ واحدٍ مِن القَوْلَيْنِ في كتابِ الإِقْرارِ (¬2)، إن شاء اللَّهُ تعالى. وإن قال: أنتِ طالقٌ خَمْسًا إلَّا ثلاثًا. وقعَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره.

3505 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق اثنتين إلا واحدة. فعلى وجهين)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثٌ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ إن عادَ إلى الخمْسِ، فقد اسْتَثْنَى الأكْثرَ، وإن عادَ إلى الثَّلاثِ التى يَمْلِكُها، فقد رَفَعَ جَمِيعَها، وكِلاهُما لا يَصِحُّ. وإن قال: خمسًا إلَّا طَلْقةً. ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يقَعُ ثلاثٌ؛ لأَنَّ الكلامَ مع الاسْتِثْناءِ كأنَّه نَطَقَ بما عَدا المُسْتَثْنَى، فكَأنَّه قال: أنتِ طالقٌ أرْبعًا. والثانى، يقَعُ اثْنَتَانِ. ذكَرَه القاضى؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ يَرْجِعُ إلى ما مَلَكَه مِن الطَّلَقاتِ، وما زادَ عليهَا يَلْغُو، وقد اسْتَثْنَى واحدةً مِن الثَّلاثِ، فيَصِحُّ ويقَعُ طَلْقَتانِ. وإن قال: (ثلاثٌ إلَّا رُبْعَ طَلْقَةٍ. طَلُقَتْ ثلاثًا) لأَنَّ الطَّلْقَةَ النَّاقِصةَ تُكَمَّلُ فتَصِيرُ ثلاثًا. 3505 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْن إلَّا واحدةً. فعلى وَجْهَيْن) ذَكَرْناهما، وَذلكَ مَبْنِىٌّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ. وإن قال: أنتِ طالقٌ أرْبعًا إلَّا اثْنَتَيْن. فعلى أحدِ (¬1) الوَجْهَيْنِ، يَصِحُّ ¬

(¬1) سقط من: م.

3506 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة. فهل تطلق ثلاثا أو اثنتين؟ على وجهين)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَهَلْ تَطْلُقُ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِثْناءُ ويقَعُ طَلْقتانِ. وعلى قولِ القاضى، يَنْبَغِى أن لا يَصِحَّ الاسْتِثْناءُ، ويقَعُ ثلاثٌ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ يَرْجِعُ إلى الثَّلاثِ، فيكونُ اسْتِثْناءَ الأكثرِ. 3506 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا واحدةً. فهل تَطْلُقُ ثلاثًا أو اثْنَتَيْن؟ على وَجْهَيْنِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الاسْتِثْناءَ مِن الاسْتِثْناءِ لا يَصِحُّ منه في الطَّلاقِ إلَّا هذه المسألةُ، فإنَّه يَصِحُّ إذا أجَزْنا اسْتِثْناءَ النِّصْفِ، فيقَعُ به طَلْقتانِ. فإن قِيلَ: فكيف أجَزْتُم اسْتِثْناءَ الثِّنْتَيْنِ مِن الثَّلاثِ، وهى أكْثَرُها (¬1)؟ قُلْنا: لأنَّه لم يَسْكُتْ ¬

(¬1) في الأصل: «أكثرهما».

3507 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلاثًا إِلَّا وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَليْها، بل وصَلَها بأنِ اسْتَثْنَى منها (¬1) طَلْقةً، فصارتا (¬2) عبارةً عن واحدةٍ (¬3). وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ النِّصْفِ. وقعَ الثَّلاثُ. 3507 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طَالقٌ ثلاثًا إلَّا ثَلاثًا إلَّا واحدةً) لم يَصِحَّ، ووَقَع ثلاثٌ؛ لأنَّه إذا اسْتَثْنَى واحدةً مِن ثلاثٍ، بَقِىَ اثْنَتانِ، لا يَصِحُّ اسْتِثْناؤُهما مِن الثَّلاثِ الأُولَى، فيَقَعُ الثَّلاثُ. وذكرَ أبو الخَطَّابِ فيها وَجْهًا آخَرَ، أنَّه يَصِحُّ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ الأوَّلَ يَلْغُو، لكَوْنِه اسْتَثْنَى الجميعَ، فيَرْجِعُ قولُه: إلَّا واحدةً. إلى الثَّلاثِ المُثْبَتَةِ، فيَقَعُ منها طَلْقتانِ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ من الإِثْباتِ نَفْىٌ، ومِن النَّفْى إثْباتٌ (¬4)، فإذا اسْتَثْنَى مِن الثَّلاثِ المَنْفِيَّةِ طَلْقةً، كان مُثْبِتًا لها، فلا يَجوزُ جَعْلُها مِنَ الثَّلاثِ المثْبَتَةِ؛ لأنَّه يكونُ إثْباتًا مِن إثْباتٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «منهما». (¬2) في الأصل: «فصار». (¬3) في الأصل: «واحد». (¬4) سقط من: الأصل.

3508 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا واحدة. أو: طلقتين وواحدة إلا واحدة. أو: طلقتين ونصفا إلا واحدة. طلقت ثلاثا. ويحتمل أن تقع طلقتان)

أَوْ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إِلَّا وَاحِدَةً. أَوْ: طَلْقَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً. أَوْ: طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا إِلَّا وَاحِدَةً. طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ طَلْقَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3508 - مسألة: (وإن قَالَ: أنْتِ طالقٌ وطَالقٌ وطَالقٌ إلَّا واحدةً. أو: طَلْقَتَيْنِ وَوَاحدةً إلّا وَاحدةً. أو: طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفًا إلَّا واحدةً. طَلُقَتْ ثلاثًا. ويَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ طَلْقَتَانِ) في هذه المسائِلِ الثَّلاثِ وجْهان؛ أحدُهما، لا يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ يَرْفَعُ الجُمْلَةَ الأخيرةَ بكَمالِها، مِن غيرِ زِيادةٍ عليها، فيَصِيرُ [ذِكْرُها واسْتِثْناؤُها] (¬1) لَغوًا، وكلُّ اسْتِثْناءٍ أفْضَى تَصْحِيحُه إلى إِلْغائِه وإلْغاءِ المُسْتَثْنَى منه بَطَلَ، كاسْتِثْناءِ الجميعِ، ولأَنَّ إلْغاءَه وحدَه أوْلَى مِن إلْغائِه وإلْغاءِ غيرِه، ولأَنَّ الاسْتِثْناءَ يعودُ إلى الجُمْلةِ الأخيرةِ في أحَدِ الوَجْهَيْنِ، فيكونُ اسْتِثْناءً للجميعِ. الوجْهُ الثَّانى، يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ، ويقَعُ طَلْقَتانِ؛ لأَنَّ العَطْفَ بالواوِ يَجْعلُ ¬

(¬1) في م: «ذكره استثناءها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجُمْلَتَيْنِ كالجُمْلَةِ الواحدةِ، فيَصِير مُسْتَثْنِيًا واحدةً مِن ثلاثٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك (¬1) لو قال: له علىَّ مِائةٌ وعِشرونَ إلَّا خَمْسِينَ. صَحَّ. والأَوَّلُ مذهبُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. فصل: وَإن قال: أنتِ طَالقٌ واحدةً واثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحدةً. فعلى الوَجْهِ الثَّانِى، يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ، وعلى الوَجْهِ الأَوَّلِ يُخرَّجُ في صحَّتِه وَجْهانِ، بِناءً على اسْتِثْناءِ النِّصْفِ. فإن كان العطفُ بغيرِ واوٍ كقولِه: أنتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ (¬2) -أو- طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ (¬3)، إلَّا طَلْقةً. لم يَصِحَّ الاسْتِثْناءُ؛ لأَنَّ هذا حرفٌ يَقْتَضِى التَّرْتِيبَ، وكَوْنَ الطَّلْقَةِ (¬4) الأخيرةِ مُفْرَدَةً عمَّا قبلَها، فيَعودُ الاسْتِثْناءُ إليها وحدَها، فلا يَصِحُّ. وإن قال: أنتِ طالقٌ اثْنَتَيْنِ واثْنَتَيْن إلَّا اثْنَتَيْنِ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إن عادَ إلى الجُمْلَةِ الأخيرةِ فهو (¬5) رَفْعٌ لجميعِها، وإن عادَ إلى الثَّلاثِ التى يَمْلِكُها، فهو رَفْعٌ لأكثَرِها، وكلاهما لا يَصِحُّ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ؛ بِناءً ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) سقط من: م، وبعده في الأصل: «فطالق». (¬3) بعده في الأصل: «ثم طالق». (¬4) في الأصل: «اللفظة». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّ العَطفَ بالواوِ يجْعلُ الجُمْلَتَيْن جملةً واحدةً، وأنَّ اسْتِثْناءَ النِّصْفِ يَصِحُّ، فكأنَّه قال: أربعًا إلَّا اثْنَتيْنِ. فإن قال: أنتِ طالقٌ اثْنَتَيْن واثْنَتَيْن إلَّا واحدةً. احْتَمَلَ أن يَصِحَّ؛ لأنَّه اسْتَثْنَى واحدةً مِن ثلاثٍ. واحْتَمَلَ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه إنْ (¬1) عاد إلى الرَّابعةِ، فقد بَقِىَ بعدَها ثلاثٌ، وإن عادَ إلى الواحدةِ الباقِيَةِ مِنَ الاثْنَتَيْنِ، فهو استثناءُ الجميعِ. فصل: وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا طَلْقةً وطلقةً وطلقةً. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَلْغُو الاسْتِثْناءُ، وَيَقعُ ثلاثٌ؛ لأَنَّ العطفَ يُوجِبُ اشْتراكَ المعطوفِ مع المعْطوفِ عليه، فيَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا ثلاثًا مِن ثلاثٍ. وهذا وَجْه لأصْحابِ الشافعىِّ، [وقولُ أبى حنيفةَ. والثانى] (¬2)، يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ في طَلْقةٍ؛ لأَنَّ اسْتِثْناءَ الأقَلِّ جائزٌ، وإنَّما لا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الثَّانيةِ والثَّالثةِ، فَيَلْغُو وحدَه. وقال أبو يُوسفَ، ومحمدٌ: يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الثِّنْتَيْنِ، ويَلْغُو في (1) الثَّالثةِ. بِناءً على أصْلِهم في أنَّ اسْتِثْناءَ الأكثرِ جائزٌ. وهو الوَجْهُ الثَّانى لأصْحابِ الشافعىِّ. وإن قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَتَيْنِ إلَّا طلقةً وطلقةً. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وقال أبو حنيفة والشافعى».

3509 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق ثلاثا. واستثنى بقلبه

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِق ثَلاثًا. وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ: إِلَّا وَاحِدَةً. وَقَعَتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه الوَجْهانِ. وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا طلقةً ونِصْفًا. احْتَمَلَ وَجْهَيْن أيضًا؛ أحدُهما، يَلْغُو الاسْتِثْناءُ؛ لأَنَّ النِّصْفَ يُكَمَّلُ، فيَكُونُ مُسْتَثْنِيًا للأكْثرِ، فيَلْغُو. والثانى، يَصِحُّ في طلقةٍ، فتَقعُ طَلْقتانِ؛ لِما ذَكَرْنا في التى قبلَها. وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً وإلَّا واحدةً. كان عاطِفًا لاسْتِثْناء على اسْتِثْناء، فيَصِحُّ الأَوَّلُ، ويَلْغُو الثَّانى؛ لأنَّنا لو صَحَّحْناه لَكان مُسْتَثْنِيًا للأكثرِ، فيَقَعُ به طَلْقتانِ. ويَجِئُ على قولِ مَن أجازَ اسْتِثْناءَ الأكْثرِ أنَّه يَصِحُّ فيهما (¬1)، فيَقَعُ طلقةٌ واحدةٌ. وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدْةً إلَّا واحدةً. كان مُسْتَثْنِيًا مِنَ الواحدةِ المُسْتَثْناةِ واحدةً، فيَحْتَمِلُ أن يَلْغُوَ الاسْتثناءُ الثَّانِى، ويَصِحَّ الأَوَّلُ، فيَقَعَ به طَلْقتانِ. ويَحْتَمِلُ أن يَقَعَ به الثَّلاثُ؛ لأَنَّ الاسْتثْناءَ الثَّانِى معْناه إثْباتُ طلقةٍ في حَقِّها، لكَوْنِ الاستثْناءِ مِنَ النَّفْى إثْباتًا، فيُقْبلُ (¬2) ذلك في إيقاعِ طلاقِه وإن لم يُقْبَلْ في نَفْيِه, كما لو قال (¬3): طَلْقَتَيْنِ ونِصْفًا. وقَعَ به ثلاثٌ. 3509 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثًا. واسْتَثْنَى بقَلْبِه: ¬

(¬1) في م: «فيها». (¬2) في النسختين: «فيقع». والمثبت من المغنى 10/ 407. (¬3) في م: «طلق».

الثَّلَاثُ، وَإِنْ قَالَ: نِسَائِى طَوَالِقُ. واسْتَثْنَى وَاحِدَةً بِقَلْبِهِ لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا واحدةً. وَقَعَتِ الثَّلاثُ. وإن قال: نِسَائِى طَوَالِقُ. واسْتَثْنَى واحدةً بقَلْبِه لم تَطْلُقْ) وجملةُ ذلك، أنَّ ما يتَّصِلُ باللَّفْظِ مِنٍ قَرِينةٍ أو اسْتِثْناءٍ، على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، ما لا يَصِحُّ نُطْقًا ولا نِيَّة، وذلك نَوْعانِ؛ أحدُهما، ما يَرْفَعُ حُكْمَ اللَّفْظِ كلَّه، مثلَ أن يقولَ: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. أو: أنتِ طالقٌ طلقةً لا تَلْزَمُكِ -أو- لا تَقَعُ عليك. فهذا لا يَصِحُّ بلَفْظِه [ولا] (¬1) نِيَّتِه؛ لأنَّه يَرْفَعُ حُكْمَ اللَّفْظِ كلَّه، فيَصِيرُ الجميعُ لَغْوًا، فلا يَصِحُّ هذا في اللُّغَةِ بالاتِّفاقِ، وإذا كان كذلك سَقَطَ الاسْتِثْناءُ والصِّفَةُ، وَوقعَ الطَّلاقُ. الضَّرْبُ الثَّانِى، ما يُقْبَلُ لَفْظًا ولا يُقْبَلُ نِيَّةً، لا في الحُكْمِ ولا فيما ينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، وهو اسْتِثْناءُ الأقَلِّ، فهذا يَصِحُّ لَفْظًا؛ لأنَّه مِن لسانِ العربِ، ولا يَصِحُّ بالنِّيَّةِ، مثلَ أن يقولَ: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. ويَسْتَثْنِىَ بقَلْبِه: إلَّا واحدةً. أو أكثرَ. فهذا لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ العَدَدَ نَصٌّ فيما يَتناوَلُه، لا يَحْتَمِلُ غيرَه، فلا يَرْتَفِعُ بالنِّيَّةِ ما ثبَتَ بنَصِّ اللَّفْظِ، فإنَّ اللَّفْظَ أقْوَى مِن النِّيَّةِ، ولو نَوَى بالثَّلاثِ اثْنَتَيْن، كان مُسْتَعْمِلًا لِلَّفْظِ في غيرِ ما يَصْلُحُ له، فوقعَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَلَغَتْ نِيَّتُه. وحُكِى ¬

(¬1) في الأصل: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن بعضِ الشافعيَّةِ، أنَّه يُقْبَلُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، كما لو قال: نِسائِى طَوَالِقُ. واسْتَثْنَى بقَلْبِه: إلَّا فُلانَة. والفرقُ بينَهما أنَّ نِسائِى اسمٌ عامٌّ يَجوزُ التَّعْبِيرُ به عن بعضِ ما وُضِعَ له، وقد اسْتُعْمِلَ العُمومُ بإزاءِ الخُصوصِ كثيرًا، فإذا أرادَ به البَعْضَ صَحَّ. وقولُه: ثلاثًا. اسمُ عدَدٍ للثَّلاثِ، لا يَجوزُ التَّعْبيرُ به عن عَدَدِ غيرِها، ولا يَحْتَمِلُ سِوَاها بوَجْهٍ، فإذا أرادَ بذلك اثْنَتَيْن، فقد أرادَ باللَّفْظِ ما لا يَحْتَمِلُه، وإنَّما تَعْمَلُ النِّيَّةُ في صَرْفِ اللَّفْظِ المُحْتَمِلِ إلى أحدِ مُحْتَمِلاِته، فأمَّا ما لا يَحْتَمِلُ فلا، فإنَّه لو عَمِلْنا به (¬1) فيما لا يَحْتَمِلُ، كان عملًا بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، ومُجَرَّدُ النِّيَّةِ لا تَعْمَلُ في نِكاحٍ، ¬

(¬1) في م: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا طَلاقٍ، ولا بَيْعٍ. ولو قال: نِسائِى الأرْبَعُ طَوالِقُ. أو قال لهنَّ: أرْبَعَتُكُنَّ طَوالقُ. واسْتَثْنَى بَعْضَهنَّ بالنِّيَّةِ. لم يُقْبَلْ، على قياسِ ما ذَكَرْناه، ولا يُدَيَّنُ فيه؛ لأنَّه عَنَى باللَّفْظِ ما لا يَحْتَمِلُه. الضَّربُ الثَّالثُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَصِحُّ نُطْقًا، وإذا نَوَاه دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، وذلك مثلُ تَخْصيصِ اللَّفظِ (¬1) العامِّ، أَوْ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَجازِه، مثلَ قولِه: نِسائِى طَوالقُ. يُرِيدُ بعْضَهُنَّ، أو يَنْوِى بقَوْلِه: طالقٌ. أى مِن وَثَاقى (¬2)، فهذا يُقْبَل إذا كان لَفْظًا. [وَجْهًا] (¬3) واحدًا؛ لأنَّه وَصَلَ كلامَه بما بَيَّنَ به مُرادَه، وإن كان بنِيَّتِه (¬4)، قُبِلَ منه فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أرادَ تَخْصيصَ اللَّفْظِ العامِّ، واسْتِعْمالَه في الخصوصِ، وهذا سائغٌ في الكلام، فلا يُمْنَعُ مِن اسْتِعْمالِه والتَّكَلُّمِ به، ويكونُ اللَّفْظ بنِيَّتِه مُنْصرِفًا إلى ما أرَادَه، دُون ما لم يُرِدْه. وهل يُقْبَلُ ذلك في الحُكْمَ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْنِ؛ إحداهما، يُقْبَلُ؛ لأنَّه فَسَّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه (¬5)، فصَحَّ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ. وأرادَ بالثَّانِيةِ إفْهامَها. والثَّانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه خلافُ الظَّاهِرِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. والأَوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ اللَّه تعالى؛ لأَنَّ (¬6) أكْثرَ نُصوصِ القُرآنِ العامَّةِ أُرِيدَ بها الخُصوصُ. ومِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وثاق». (¬3) تكملة من المغنى 10/ 402. (¬4) في الأصل: «بينه». (¬5) في م: «لا يحتمله». (¬6) في الأصل: «لكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطِ هذا أَنْ تكونَ النِّيَّةُ مُقارِنةً للَّفْظِ، وهو أن يقولَ: نِسائِى طَوالِقُ. يَقْصِدُ بهذا اللَّفْظِ بعْضَهُنَّ، فأمَّا إن كانتْ مُتَأَخِّرَةً عن اللَّفْظِ، مثلَ أن قال: نِساِئى طَوالِقُ. ثم بعدَ فَراغِه نَوَى بقَلْبِه (¬1) بعْضَهِنَّ، لم تَنْفعْه النِّيَّةُ، وَوقَعَ الطَّلاقُ بجمِيعِهنَّ. وكذلك لو طلَّقَ نِساءَه، ونوَى بعدَ طَلاقِهِنَّ، أىْ مِن وَثاقِى، لَزِمَه الطَّلاقُ؛ لأنَّه مُقْتَضَى اللَّفْظِ، والنِّيَّةُ الأخيرةُ (¬2) نِيَّةٌ مُجرَّدةٌ (¬3)، لا لَفْظَ معها، فلا تَعْمَلُ. ومِن هذا الضَّرْبِ تَخْصِيصُ حالٍ دُونَ حالٍ، مثلَ أن يقولَ: أنتِ طالقٌ. ثم يَصِلَه بشَرْطٍ أو صِفَةٍ، مثلَ قوْلِه: إن دَخَلْتِ الدَّارَ. أو: بعدَ شَهْرٍ. أو قال: إن دخلْتِ الدَّارَ بعدَ شَهْرٍ. فهذا يَصِحُّ إذا كان نُطْقًا، بغيرِ خلافٍ. وإن نَوَاه، ولم يَلْفِظْ به، دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ على رِوايَتَيْن. قال أحمدُ، في روايةِ إسْحاقَ بنِ إبْراهيمَ، في مَن حَلَفَ لا تدْخُلُ الدَّارَ، وقال: نَوَيْتُ شهرًا: يُقْبَلُ منه. أو قال: إذا دَخَلْتِ دارَ فُلانٍ فأنتِ طالقٌ. ونَوَى تلك السَّاعةَ، وذلك اليومَ: قُبِلَتْ نِيَّتُه. والرِّوايةُ الأُخْرَى، لا يُقْبَلُ؛ فإنَّه قال: إذا قال لامرأتِه: أنتِ طالقٌ. ونوى في قلبِه إلى سَنَةٍ، تَطْلُقُ، ليس يُنْظَرُ إلى نِيَّتِه. وقال: إذا قال: أنتِ طالق. وقال: نَوَيْتُ إن دَخَلَتِ الدَّارَ. لا يُصدَّقُ. ويُمْكِنُ الجَمْعُ بين هاتَيْنِ الرِّوايَتَيْن، بأن يُحْمَلَ قولُه ¬

(¬1) في النسختين: «بلفظه» وانظر المغنى 10/ 402. (¬2) في م: «إلا أن خبره». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في [القَبُولِ على أنَّه يُدَيَّنُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، وقولُه في] (¬1) عَدَمِ القَبُولِ، على الحُكْمِ، فلا يكونُ بينَهما اخْتِلافٌ، والفَرْقُ بين هذه الصُّورةِ والتى قبلَها، أنَّ إرادَةَ الخاصِّ بالعامِّ شائعٌ (¬2) كثيرٌ، وإرادةَ الشَّرْطِ مِن غيرِ ذِكْرِه غيرُ سائِغٍ (¬3)، فهو قريبٌ مِن الاسْتِثْناءِ. ويُمْكِنُ أن يُقالَ: هذا كلُّه مِن جُمْلَةِ التَّخْصِيصِ. فصل: إذا قالتْ له امرأةٌ من نِسائِه: طَلِّقْنِى. فقال: نِسائِى طَوالِقُ. ولا نِيَّةَ له، طَلُقْنَ كلُّهنَّ. بغيرِ خلافٍ؛ لأَنَّ لَفْظَه عامُّ. وإن قالتْ له: طَلِّقْ نِساءَكَ. فقال: نِسائِى طَوالِقُ. فكذلك. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّ السَّائِلَةَ لا تَطْلُقُ في هذه الصُّورةِ؛ لأَنَّ الخِطابَ العامَّ (¬4) يُقْصَرُ على سَبَبِه الخاصِّ، وسَبَبُه سؤالُ طَلاقِ مَنْ سِوَاها. ولَنا، أنَّ اللَّفْظَ عامٌّ فيها، ولم يُرِدْ به غيرَ مُقْتَضاهُ، فوَجَبَ العَمَلُ بعُمومِه، كالصُّورةِ الأُولَى، والعَملُ بعُمومِ اللَّفْظِ أوْلَى مِن خُصوصِ السَّبَبِ؛ لأَنَّ دليلَ (¬5) الحُكْمِ هو اللَّفظُ (¬6)، فيَجِبُ اتِّباعُه والعملُ بمُقْتَضاهُ في خُصوصِه وعُمومِه، ولِذلك (¬7) لو كان أخَصَّ مِن السَّببِ، لَوجَبَ قَصْرُه على خُصوصِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «سائغ». (¬3) في الأصل: «شائع». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «ذلك». (¬6) في م: «للفظ». (¬7) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واتِّباعُ صِفَةِ اللَّفْظِ دُونَ صِفَةِ السَّببِ، فأمَّا إن أخرجَ السَّائلةَ بنِيَّتِه، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى في الصُّورَتَيْنِ، [وقُبِلَ] (¬1) في الحُكْم (¬2) في الصُّورةِ الثَّانيةِ؛ لأَنَّ خُصوصَ السَّبَبِ دليلٌ على نِيَّتِه، ولم يُقْبَلْ في الصُّورةِ الأَولَى. قاله ابنُ حامدٍ؛ لأَنَّ طَلاقَه جوابٌ لسُؤالِها الطَّلاقَ لنَفْسِها، فلا يُصَدَّقُ في صَرْفِه عنها؛ لأنَّه يُخالفُ الظَّاهِرَ من وَجْهَيْن، ولأنَّها سَبَبُ الطَّلاقِ، وسَبَبُ الحُكْمِ لا يَجوزُ إخْراجُه من العُمومِ بالتَّخْصيصِ. وقال القاضى: يَحْتَمِلُ أن لا تَطْلُقَ؛ لأَنَّ لفْظَه عامٌّ، والعامُّ يَحْتَمِلُ التَّخْصيصَ (¬3). ¬

(¬1) في م: «وقيل». (¬2) بعده في م: «وقيل». (¬3) إلى هنا ينتهى الجزء السادس من نسخة أحمد الثالث، والتى كانت هى الأصل.

باب الطلاق فى الماضى والمستقبل

بَابُ الطَّلَاقِ فِى الْمَاضِى وَالْمُسْتَقْبَلِ إِذَا قَالَ لِامْرأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. أَوْ: قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ. يَنْوِى الْإِيقَاعَ، وَقَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (¬1) بابُ الطَّلاقِ في الماضِى والمُسْتَقْبَلِ 3510 - مسألة: (إذَا قال لِزَوْجَتِه: أنتِ طالقٌ أمْسِ. أو: قبلَ أن أَنْكِحَكِ. يَنْوِى الإيقَاعَ، وَقَعَ) في الحالِ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفْسِه بما هو أغْلَظُ. ¬

(¬1) من هنا الجزء السابع من نسخة أحمد الثالث، وهى الأصل، ويجد القارئ أرقام صفحاتها بداخل صفحات التحقيق.

3511 - مسألة: (وإن لم ينو، لم يقع فى ظاهر كلامه)

وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، لَمْ يَقَعْ فِى ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يَقَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3511 - مسألة: (وإن لم يَنْوِ، لم يَقَعْ في ظَاهِرِ كَلامِه) فرُوِىَ عنه، في مَن قال لزَوْجَتِه: أنتِ طالقٌ أمسِ. وإنَّما تزَوَّجَها اليومَ: ليس بشئٍ. وهذا قولُ أبى بكرٍ (وقال القاضى) في بعضِ كُتُبِه: (يقَعُ) الطَّلاقُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه وَصَفَ الطَّلْقَةَ (¬1) بما لا تَتَّصِفُ به، فَلغَتِ الصِّفَةُ وَوقَعَ الطَّلاقُ، كما لو قال لمنْ لا سُنَّةَ لَها ولا بِدْعَةَ: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ. أو قال: أنتِ طالقٌ طَلْقةً لا تَلْزَمُكِ. ووَجْهُ الأَوَّلِ أنَّ الطَّلاقَ رَفْعٌ للاسْتِباحةِ، ولا يُمْكِنُ رَفْعُها في الزَّمنِ الماضى، فلم يَقَعْ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ قبلَ قُدومِ زيدٍ بيَومَيْنِ. فَقدِمَ اليومَ، فإنَّ أصحابَنا لم يَخْتَلِفُوا في أنَّ الطَّلاقَ لا يقَعُ، وهو قولُ أكثَرِ (¬2) أصحابِ الشافعىِّ، وهذا طلاقٌ في زمنٍ ماضٍ، ولأنَّه عَلَّقَ الطَّلاقَ بمُسْتَحيلٍ، فَلغَا، كما لو قال: أنتِ طالقٌ إن قَلَبْتِ الحَجَرَ ذَهبًا. والحُكْمُ في قولِه: أنتِ طالقٌ قبلَ أَنْ أتَزَوَّجَك. كما إذا قال: أنتِ طالقٌ أمسِ. ¬

(¬1) في م: «المطلقة». (¬2) سقط من: م.

3512 - مسألة: (وحكى عن أبى بكر)

وَحُكِىَ عَنْ أَبِى بَكْرٍ، لَا يَقَعُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. وَيَقَعُ إِذَا قَالَ: قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أنَّ زَوْجًا قَبْلِى طَلَّقَهَا. أَوْ: طَلَّقْتُهَا أَنَا فِى نِكَاحٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3512 - مسألة: (وحُكِىَ عن أبى بَكْرٍ) أنَّه (يَقَعُ إذا قال: قبلَ أن أتَزَوَّجَكِ، ولا يَقَعُ إذَا قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ أمْسِ) قال القاضى: ورأيْتُ بخَطِّ أبى بكرٍ في جُزْءٍ مفردٍ، أنَّه قال: إذا قال: أنتِ طالقٌ قبلَ أَنْ أتَزَوَّجَكِ. طَلُقتْ. ولو قال: أنتِ طالقٌ أمسِ. لم يَقَعْ؛ لأَنَّ أمسِ لا يُمْكِنُ وُقوعُ الطَّلاقِ فيه، وقبلَ تَزَوُّجِها مُتَصَوَّرُ الوُجُودِ؛ فإنَّه يُمْكِنُ أن يتَزَوَّجَها ثانيًا، وهذا الوقتُ قبلَه، فوقعَ في الحالِ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ قبلَ قُدومِ زيدٍ. 3513 - مسألة: (فإن قال: أردْتُ أنَّ زَوْجًا قَبْلِى طَلَّقَها. أو:

قَبْلَ هذَا. قُبِلَ مِنْهُ إِذَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ، فِى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلَّقْتُها أنَا في نِكاحٍ قبل هذا. قُبِلَ منه إذا احْتَمَلَ الصِّدْقَ، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ) إذا أرادَ الإخْبارَ (¬1) أنَّه كان طَلَّقَها هو، أو زَوْجٌ قبلَه، في ذلك ¬

(¬1) زيادة من: م.

3514 - مسألة: (فإن مات أو جن أو خرس قبل العلم بمراده،

فَإنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ خَرِسَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِمُرَادِهِ، فَهَلْ تَطْلُقُ؟ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّمانِ الذي ذكَرَه، وكان قد وُجِدَ ذلك، قُبِلَ منه. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وقال القاضِي: يُقبَل على ظاهِرِ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّه فَسَّرَه بما يَحْتَملُه، وإن أرادَ أنِّي كنت طَلَّقْتُك أمسِ. فكَذَّبَتْه، لَزِمَتْه (¬1) الطَّلْقَة، وعليها العِدَّةُ مِن يَوْمِها؛ لأنَّها اعْتَرفَتْ أنَّ أمسِ لم يَكُنْ مِن عِدَّتِها. 3514 - مسألة: (فَإن مات أو جُنَّ أو خَرِسَ قَبْلَ العِلْمِ بمُرَادِه، ¬

(¬1) في م: «لزمتها».

3515 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر. فقدم قبل مضي شهر، لم تطلق)

وَجْهَينِ. وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ زَيدٍ بِشَهْرٍ. فَقَدِمَ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَهَل تَطْلُقُ؟ على وَجْهَين) بِناءً على اخْتلافِ القَوْلَينِ في المُطَلقِ؛ إنْ قُلْنا: لا يَقَعُ به شيءٌ. لم يَلْزَمْه ها هنا شيءٌ. وإن قُلْنا بوُقوعِه ثَمَّ، وقَعَ ههُنا. 3515 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالِق قبلَ قُدُومِ زَيدٍ بِشَهْرٍ. فَقَدِمَ قبلَ مُضِيِّ شَهْرٍ، لم تَطْلُقْ) بِغَيرِ خِلافٍ مِن أصحَابِنَا، وهو قولُ أكثرِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه تعْليقٌ للطَّلاقِ على صِفَةٍ كان وُجُودُها

3516 - مسألة: (وإن قدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه، تبينا وقوعه فيه)

وَإنْ قَدِمَ بَعدَ شَهْرٍ وَجُزْءٍ يَقَعُ الطَّلاقُ فِيهِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُمْكِنًا، فَوَجَبَ اعْتِبارُها. وإن قَدِمَ زيدٌ مع مُضِيِّ الشهرِ، لم تَطْلُقْ؛ لأَنه لا بُدَّ مِن جُزْءٍ يقَعُ الطَّلاقُ فيه. 3516 - مسألة: (وإن قَدِمَ بعدَ شَهْرٍ وَجُزْءٍ يَقَعُ الطَّلاقُ فِيهِ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَهُ فيه) لأنَّه إيقَاعٌ للطَّلاقِ بَعْدَ عَقْدِهِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وزُفَرُ. وقال أبو حنيفةَ وصاحِبَاه: يقَعُ عندَ [قُدومِ زيد] (¬1)؛ لأنَّه جَعَلَ الشَّهْرَ شَرْطًا لوُقوعِ الطَّلاقِ، فلا يَسْبِقُ الطَّلاقُ شَرْطَه. ولَنا، أنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ في زمنٍ على صِفَةٍ، فإذا حَصَلَتِ الصِّفَةُ وقَعَ فيه، كما لو قال: أنتِ طالقٌ قبلَ شهرِ رمضانَ بشَهْرٍ -أو- قبلَ مَوْتِك بشهرٍ. فإنَّ أبا حنيفةَ خاصَّةً يُسَلِّمُ ذلك، ولا نُسَلِّمُ أنَّه جَعَلَ الشَّهرَ شَرْطًا، وليس فيه حرفُ الشَّرْطِ. ¬

(¬1) في م: «قدومه».

3517 - مسألة: (وإن خالعها بعد اليمين بيوم، وكان الطلاق بائنا، ثم قدم بعد الشهر بيومين، صح الخلع وبطل الطلاق)

وَإنْ خَالعَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ بِيَوْمٍ، وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، ثُمَّ قَدِمَ زَيدٌ بَعْدَ الشَّهْرِ بِيَوْمَينِ، صَحَّ الْخُلْعُ وَبَطَلَ الطَّلَاقُ. وَإنْ قَدِمَ بَعْدَ شَهْرٍ وَسَاعَةٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ دُونَ الْخُلْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3517 - مسألة: (وإن خَالعَها بعدَ اليَمِينِ بِيَوْم، وكانَ الطَّلاقُ بَائِنًا، ثم قَدِمَ بَعْدَ الشَّهْرِ بِيَوْمَينِ، صَحَّ الخُلْعُ وَبَطَلَ الطَّلاقُ) لأنَّه صادَفَها بائنًا (وإن قَدِمَ بعدَ شهرٍ وساعةٍ، وَقَعَ الطَّلاقُ دُونَ الخُلْعِ) ولها الرُّجوعُ بالعِوَضِ، إلَّا أن يكونَ الطَّلاقُ رَجْعيًّا؛ لأنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُها. فصل: فإن ماتَ أحدُهما بعدَ عَقْدِ الصِّفَةِ بيومَينِ، ثم قَدِمَ زيدٌ بعدَ شهر وساعةٍ من حينِ (¬1) عَقْدِ الصِّفَةِ، لم يَرِثْ أحدُهما الآخرَ؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّ الطَّلاقَ قد كان وَقَعَ قبلَ موْتِ المَيِّتِ منهما، فلم يَرِثْه صاحِبُه، إلَّا أن يكونَ الطَّلاقُ رَجْعيًّا، فإنَّه لا يقْطَعُ التَّوارُثَ ما دامتْ في العِدَّةِ. فإن ¬

(¬1) في الأصل: «غير».

3518 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق قبل موتي. طلقت في الحال)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدِمَ بعدَ الموتِ بشَهْرٍ وساعةٍ، تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وَقَعَتْ بالموْتِ، ولم [يقَعِ الطَّلاقُ] (¬1). فإن قال: أنتِ طالقٌ قبلَ مَوْتِي بشهرٍ. فمات أحدُهما قبلَ مُضِيِّ شهرٍ، لم يقَعْ طلاقٌ؛ لأنَّ الطَّلاقَ لا يقَعُ في الماضِي. وإن ماتَ بعدَ عَقْدِ اليَمِينِ بشهرٍ وساعةٍ، تَبيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلاقِ في تلك السَّاعةِ، ولم يتَوَارَثا، إلَّا أن يكونَ الطَّلاقُ رَجْعِيًّا، ويموتَ (¬2) في عِدَّتِها. 3518 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالقٌ قبلَ مَوْتِي. طَلُقَتْ في الحالِ) لأنَّ ما قبلَ موْتِه مِن حين عِقْدِ الصِّفَةِ مَحَلٌّ للطَّلاقِ، فوَقعَ في أوَّلِه. وإن قال: قبلَ مَوْتِك. أو: موتِ زيدٍ. فكذلك. وإن قال: أنتِ طالقٌ قُبَيلَ مَوْتِي. أو: قُبَيلَ قُدومِ زيدٍ. لم يقَعْ في الحالِ، وإنَّما يَقَعُ ذلك في الجُزْءِ الذي يَلِيه الموتُ؛ لأنَّ ذلك تَصْغيرٌ يَقْتَضِي الجزءَ الصغيرَ الذي يَبْقَى. وإن قال: أنتِ طالقٌ قبلَ قُدومِ زيدٍ. أو: قبلَ ¬

(¬1) في م: «تقع بالطلاق». (¬2) في م: «تموت».

3519 - مسألة: (وإن قال)

وَإنْ قَال: بَعْدَ مَوْتِي. أَوْ: مَعَ مَوْتِي. لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دُخولِك الدَّارَ. فقال القاضي: تَطْلُقُ في الحالِ، سَواءٌ قَدِمَ زيدٌ أو لم يَقْدَمْ؛ بدليلِ قولِ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} (¬1). ولم يُوجَدِ الطَّمْسُ في المأْمُورينَ، ولو قال لغُلامِه: اسْقِني قبلَ أنْ أضْرِبَكَ. فسَقاه في الحالِ عُدَّ مُمْتَثِلًا وإن لم يَضْرِ بْه. وإن قال: أنتِ طالقٌ قبلَ موتِ زيدٍ وعمرو بشهرٍ. فقال القاضي: تتَعلَّقُ الصِّفَةُ بأوَّلِهما مَوْتًا؛ لأنَّ اعْتِبارَه بالثَّانِي يُفْضِي إلى وُقُوعِه بعدَ مَوْتِ الأوَّلِ، واعتبارُه بالأوَّلِ لا يُفْضِي إلى ذلك، فكان أوْلَى. 3519 - مسألة: (وإن قال): أنتِ طالق (بعدَ مَوْتِي. أو: معَ مَوْتِي. لم تَطْلُقْ) نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك إن قال: بعدَ مَوْتِكِ. أو: مع مَوْتِك. وبه قال الشافعيُّ. ولا نعلمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّها تَبِينُ بموْتِ أحدِهما، فلا يُصادِفُ الطَّلاقُ نِكاحًا يُزِيلُه. ¬

(¬1) سورة النساء 47.

3520 - مسألة: (وإن تزوج أمة أبيه، ثم قال: إذا مات أبي أو اشتريتك فأنت طالق. فمات أبوه أو اشتراها، لم يقع الطلاق)

وَإذَا تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ، ثُمَّ قَال: إِذَا مَاتَ أَبِي أَو اشْتَرَيتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَمَاتَ أَبُوهُ أَو اشْتَرَاها لَمْ تَطْلُقْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَطْلُقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3520 - مسألة: (وإن تَزَوّجَ أمَةَ أبِيهِ، ثم قال: إذا مات أبِي أو اشْتَرَيتُكِ فَأنْتِ طالِقٌ. فَمَات أبوه أو اشْتَرِاها، لم يَقَعِ الطَّلاقُ) اخْتارَه القاضي؛ لأنَّه بالموْتِ والشِّرَاءِ يَمْلِكُها، فيَنْفَسِخُ نِكاحُها بالمِلْكِ، وهو زَمنُ الطَّلاقِ، فلم يَقَعْ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ مع مَوْتِي (ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ) اخْتارَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ المَوْتَ سَبَبُ مِلْكِها وطلاقِها، وفسْخُ النِّكاحِ يَتَرتَّبُ على المِلْكِ، فيُوجَدُ الطلاقُ في زَمَنِ المِلْكِ السَّابِقِ على الفَسْخِ، فيَثْبُتُ حُكْمُه. وهذا أظْهرُ، إن شاء الله تَعالى.

فَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً، فَمَاتَ أَبُوهُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ مَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال الأبُ: إذا مِتُّ فأنتِ حُرَّةٌ. وقال الابنُ: إذا ماتَ أبِي فأنْتِ طالقٌ. وكانت تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، [ثم مات الأبُ، وقعِ العتقُ والطَّلاقُ معًا. وكذلك إن كانت مُدَبَّرةً؛ لأنَّه لا تَنافىَ بينهما، وإن لم تخْرُجْ مِن الثُّلُثِ] (¬1)، فكذلك؛ لأنَّ بعْضَها يَنْتَقِلُ إلى الوَرَثَةِ، فيَمْلِكُ الابْنُ جُزْءًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي في الْكُوزِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنها، فيَنْفَسِخُ به النِّكاحُ، فيكونُ كَمِلْكِ (¬1) جميعِها في فَسْخِ النِّكاحِ ومَنْعِ وُقُوعِ الطَّلاقِ. فإن أجازَ الوَرَثَةُ عِتْقَها، فذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنَّ هذا (¬2) يَنْبَنِي على الإِجازَةِ، هل هي تَنْفِيذٌ أو عَطيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ؟ فإنْ قُلْنا: هي عَطيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ. فقد انْفَسَخَ النِّكاحُ قبلَها، فلم يَقَعِ الطَّلاقُ. وإن قُلْنا: هي تَنفيذٌ لِما فعلَ السَّيِّدُ. وقَعَ الطَّلاقُ. وكذلك إن أجازَ الزَّوجُ وحْدَه عِتْقَ أبيه (¬3)، فإن كان على الأبِ دَينٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَه، لم تَعْتِقْ. قال شيخُنا: والصَّحيحُ أنَّ ذلك لا يَمْنَعُ نَقْلَ التَّرِكَةِ إلى الوَرَثَةِ، فهو كما لو لم يَكُنْ عليه دَينٌ في فَسْخِ النّكاحِ. فإن كان الدَّينُ لا يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، وكانتْ تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ بعدَ أداءِ الدَّينِ، عَتَقَتْ وطَلُقَتْ، وإن لم تَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، لم تَعْتِقْ كلُّها، فيكونُ حُكْمُها في فَسْخِ النِّكاحِ ومَنْعِ الطلاقِ (¬4)، كما لو اسْتَغْرَقَ الدَّينُ التَّرِكَةَ، وإن أسْقَطَ الغَرِيمُ الدَّينَ بعدَ المَوْتِ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّ النِّكاحَ انْفَسَخَ قَبلَ إسْقاطِه. فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ الله عَنه: (وإن قال: أنتِ طالقٌ لأشْرَبَنَّ ¬

(¬1) في م: «ذلك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «ابنه». (¬4) في م: «الدين».

وَلَا مَاءَ فِيهِ. أَوْ: لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا الْمَيِّتَ. أَوْ: لأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ. أَوْ: لَأطِيرَنَّ. أَوْ: إِنْ لَمْ أَصْعَدِ السَّمَاءَ. وَنَحْوَهُ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ: لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماءَ الذي في الكُوزِ. ولا ماءَ فيه. أو: لأقْتُلَنَّ فُلانًا المَيِّتَ. أو: لأصْعدَنَّ السَّماءَ. أو: لأطِيرَنَّ. أو: إنْ لم أصْعَدِ السَّماءَ. ونحوَه. طَلُقَتْ في الحالِ. وقال أبو الخَطَّابِ في موْضعٍ: لا تَنْعَقِدُ يَمِينُه) وجملةُ ذلك، أنَّه قد اسْتَعْملَ الطَّلاقَ والعَتاقَ اسْتِعْمال القَسَمِ، وجَعلَ جَوابَ القَسَمِ جَوابًا له، فإذا قال: أنْتِ طالقٌ لأقُومَنَّ. وقامَ، لم تَطْلُقِ امرأتُه، فإن لم يَقمْ في الوقتِ الذي عَيَّنَه، حَنِثَ. هذا قولُ أكْثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال شُرَيحٌ: يَقَعُ طَلاقُه وإن قامَ؛ لأنَّه طَلَّقَ طلاقًا غيرَ مُعَلَّقٍ بشَرْطٍ، فَوَقَعَ، كما لو لم يَقُمْ. ولَنا، أنَّه حَلِفٌ بَرَّ فيه، فلم يَحْنَثْ، كما لو حَلَفَ باللهِ تعالى. وإن قال: أنتِ طالقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ أخاكِ لعاقلٌ. وكان أخوها عاقلًا، لم يَحْنَثْ، وإن لم يَكُنْ عاقلًا حَنِثَ، كما لو قال: واللهِ إنَّ أخاك لعاقلٌ. وإنْ شكَّ في عَقْلِه، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ. وإن قال: أنتِ طالقٌ لا أكلتُ هذا الرَّغيفَ. فأكلَه، حَنِثَ، وإلَّا فلا. وإن قال: أنتِ طالقٌ ما أكلْتُه. لم يَحْنَثْ إن كان صادِقًا، ويَحْنَثُ إن كان كاذِبًا، كما لو قال: واللهِ ما أكلْتُه. وإن قال: أنتِ طالقٌ لولا أبوك لَطَلَّقْتُكِ. وكان صادِقًا، لم تَطْلُقْ، وإنْ كان كاذِبًا طَلُقَتْ (¬1). ولو قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِك فأنتِ طالقٌ. ثم قال: أنتِ طالقٌ لأُكْرِمَنَّكِ. طَلُقَتْ في الحالِ. ولو قال: إن حَلَفْتُ بعِتْقِ عبدي فأنتِ طالقٌ. ثم قال: عَبْدِي حُرٌّ لأقُومَنَّ. طَلُقَتِ المرأةُ. وإن قال: إن حَلَفْتُ [بطلاقِ امرأتي فعبدي حُرٌّ. ثم قال: أنتِ طالقٌ لقد صمتُ أمسِ] (¬2). عَتَق العبدُ. رجَعْنا إلى مسائِلِ الكتابِ، وهو ما إذا علَّقَه على مُسْتَحِيل، كقولِه: أنتِ طالقٌ لأشْرَبَنَّ الماءَ الذي في الكُوزِ. ولا ماءَ فيه. أو: لأقْتُلَنَّ فلانًا المَيِّتَ. وقعَ الطَّلاقُ في الحالِ، كما لو قال: ¬

(¬1) في م: «لم تطلق». (¬2) في م: «بعتق عبدي فأنت طالق لقد صمت أمس».

3521 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إن شربت ماء الكوز. ولا ماء فيه. أو: إن صعدت السماء. أو)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شَرِبْتِ مَاءَ الْكُوزِ. وَلَا مَاءَ فِيهِ. أَوْ: صَعِدْتِ السَّمَاءَ. أَوْ: شَاءَ الْمَيِّتُ أَو الْبَهِيمَةُ. لَمْ تَطْلُقْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَتَطْلُقُ فِي الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنتِ طالقٌ (¬1) لم أبعْ عَبْدِي. فماتَ العبدُ، ولأنَّه علَّقَ الطَّلاقَ على نَفْي فِعْلِ المُسْتَحِيلِ، وعدَمُه مَعْلومٌ في الحالِ وفي الثَّانِي، فوقعَ (¬2) الطَّلاقُ؛ لما ذَكرْناه. وكذلك قولُه: أنتِ طالقٌ لأصْعَدنَّ السماءَ. أو: لأطِيرَنَّ. أو: إن لم أصْعَدِ السَّماءَ (¬3). وذكَرَ أبو الخَطَّابِ عن القاضي، أنَّه لا تَنْعَقِدُ يَمِينُه. والصَّحيحُ أنَّه يَحْنَثُ؛ فإنَّ الحالِفَ على فِعْلِ المُمْتَنِعِ كاذِبٌ حانِثٌ، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} إلى قولِه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (¬4). ولأنَّه لو حَلَفَ على فِعْلٍ مُتَصَوَّرٍ، فصارَ مُمْتَنِعًا، حَنِثَ بذلك، فَلأنْ يَحْنَثَ بكَوْنِه مُمْتَنِعًا حال يمينه أوْلَى. 3521 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالقٌ إن شَرِبْتِ ماءَ الكُوزِ. ولا ماءَ فِيهِ. أو: إنْ صَعِدْتِ السَّماءَ. أو) إنْ (شاءَ المَيِّتُ أو البَهِيمَةُ. لم تَطْلُقْ في أحَدِ الوَجْهَين، وَتَطْلُقُ في الآخرِ) إذا عَلَّقَ الطَّلاقَ على فعلٍ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في م: «وقوع». (¬3) بعده في م: «أطيرن». (¬4) سورة النحل 38، 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتحيلٍ، كالذي ذَكَرْناه ونحوه، كقولِه: إن جَمعْتِ بين الضِّدَّينِ. أو: إن (¬1) كان الواحدُ أكثرَ مِن اثْنَين. وسواءٌ كان مُسْتَحِيلًا عَقْلًا أو عادةً، كقولِه: إن طِرْتِ. أو: صَعِدْتِ السَّماءَ. أو: قَلَبْتِ الحَجَرَ ذَهبًا. أو: شَرِبْتِ ماءَ هذا (¬2) النَّهَرِ كلَّه. أو: حَمَلْتِ الجَبَلَ. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَقَعُ الطّلاقُ في الحالِ؛ لأنَّه أرْدفَ الطَّلاقَ بما يَرْفَعُ جُمْلَتَه، ويَمْنَعُ وُقوعَه في الحالِ وفي الثاني، فلم يَصِحَّ، كاسْتِثناءِ الكُلِّ، وكما لو قال: أنتِ طالقٌ طلقةً لا تَقَعُ عليكِ. والثاني، لا يَقَعُ. وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّه عَلَّقَ الطَّلاقَ بصِفَةٍ لم تُوجَدْ، ولأنَّ ما يُقْصَدُ تبْعِيدُه يُعَلَّقُ على المُحَالِ، قال الله تَعالى في حَقِّ الكُفّارِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬3). وقال الشَّاعرُ (¬4): إذا شابَ الغرابُ أتَيتُ أهْلِي … وصارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحليبِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) سورة الأعرف 40. (¬4) البيت في حلية الأولياء 7/ 289، ولم ينسبه. ونسبه صاحب الدر الفريد وبيت القصيد (مخطوط) لتميم بن حبيب الداري 1/ 330.

3522 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد. فعلى

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ اليَوْمَ إِذَا جَاءَ غَدٌ. فَعَلَى وَجْهَينِ. وَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ أي لا آتِيهم (¬1) أبدًا. وقيلَ: إن علَّقَه على ما يَسْتحِيلُ عَقْلًا، وقَعَ في الحالِ؛ لأنَّه لا وُجودَ له، فلم تَتَعلَّقْ به الصِّفَةُ، وبَقِيَ مُجَرَّدُ الطَّلاقِ، فَوقَعَ، وإن عَلَّقَه على المُسْتَحِيلِ عادةً، كالطَّيرَانِ وصُعودِ السَّماءِ، لم يَقَعْ؛ لأنَّ له وُجُودًا، وقد وُجِدَ جنسُ ذلك في مُعْجِزاتِ الأنْبياءِ، وكراماتِ الأوْلياءِ، فجازَ تَعلُّقُ الطَّلاقِ به، ولم يَقَعْ قبلَ وُجودِه. 3522 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالِقٌ اليومَ إذا جاء غدٌ. فعلى ¬

(¬1) في م: «يأتيهم».

الْقَاضِي: لَا تَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَينِ. وقال القاضي: لا تَطْلُقُ) وقال القاضي (¬1): يَقَع في الحالِ؛ لأنَّه عَلَّقَه بشّرْطٍ مُحَالٍ، فَلَغَا الشَّرْطُ، وَوقَعَ الطَّلاقُ، كما لو قال لمَنْ لا سُنَّةَ لطَلاقِها ولا بدْعَةَ: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ -أو- للبِدْعَةِ. وقال في «المُجَرَّدِ»: لا يقَعُ؛ لأنَّ شَرْطَه لم يتَحَقَّقْ؛ لأنَّ مُقْتَضاه وُقوعُ الطَّلاقِ إذا جاءَ غدٌ في اليومِ، ولا يَأْتِي غَدٌ إلَّا بعدَ ذَهابِ اليومِ وذَهابِ مَحَلِّ الطَّلاقِ. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في م: «أبو الخطاب».

فصل في الطلاق في زمن مستقبل

فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ إِذَا قَال: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا. أَوْ: يَوْمَ السَّبْتِ. أَوْ: فِي رَجَبٍ. طَلُقَتْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل فِي الطَّلاقِ في زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ 3523 - مسألة: (إذا قال: أنتِ طَالِقٌ غَدًا. أو: يَوْمَ السَّبْتِ. أو: في رَجَبٍ. طَلُقَتْ بأَوَّلِ ذلك) إذا قال: أنتِ طالقٌ. في شَهْرٍ عَيَّنَه، كشَهْرِ رجبٍ، وقعَ الطَّلاقُ في أوَّلِ جُزْءٍ من اللَّيلةِ الأُولَى منه، وذلك حين تَغْرُبُ الشَّمسُ من آخِرِ الشَّهرِ الذي قبلَه، وهو شهرُ جُمادَى. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال أبو ثَوْرٍ: يقَعُ الطَّلاقُ في آخرِ رجبٍ؛ لأنَّ ذلك يَحْتَمِلُ وُقُوعَه في أوَّلِهِ وآخِرِه، فلا يقَعُ إلَّا بعدَ زَوالِ الاحْتِمالِ. ولنا، أنَّه جَعَل الشَّهْرَ ظَرْفًا للطَّلاقِ، فإذا وُجِدَ ما يكونُ ظَرْفًا له طَلُقَتْ، كما لو قال: إذا دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. فإذا دَخَلَتْ أوَّلَ جُزْءٍ منها طَلُقَتْ. فأمَّا إن قال: إن لم أقْضِكَ حَقَّكَ في شهرِ رمضانَ، فامْرأتِي طالقٌ. لم تَطْلُقْ حتى يَخْرُجَ رمضانُ قبلَ قَضائِه؛ لأنَّه إذا قَضاهُ في آخِرِه لم تُوجَدِ الصِّفَةُ. وفي الموْضِعَينِ لا يُمْنَعُ [مِن وَطْءِ زَوْجتِه قبلَ الحِنْثِ. وقال مالكٌ: يُمْنَعُ، وكذلك كُلُّ يَمِين على فِعْلٍ يَفْعَلُه، يُمْنَعُ] (¬1) من الوَطْءِ قبلَ فِعْلِه؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّه على حِنْثٍ، لأنَّ الحِنْثَ بتَرْكِ الفِعْلِ وليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3524 - مسألة: (ولو قال: أنت طالق اليوم. أو: في هذا الشهر)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ. أَوْ: فِي هذَا الشَّهْرِ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَإنْ قَال: أَرَدْتُ فِي آخِرِ هَذِهِ الأَوْقَاتِ. دُيِّنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بفاعلٍ. ولَنا، أنَّ طَلاقَه لم يَقَعْ، فلا يُمْنَعُ مِنَ الوَطءِ لأجْلِ اليَمِينِ، كما لو حَلَفَ: لا فعلتُ كذا. ولو صَحَّ ما ذكَرَه لَوجَبَ إيقاعُ الطَّلاقِ. ولو قال: أنتِ طالقٌ غدًا. أو: يومَ السَّبْتِ. وقَعَ الطَّلاقُ في أوَّلِ جُزْءٍ منه؛ لِما ذَكَرْنا. 3524 - مسألة: (ولو قال: أنتِ طَالِقٌ اليومَ. أو: في هذا الشَّهْرِ) فكذلك؛ لِما ذَكَرْنا (وإن قال: أرَدْتُ في آخِرِه) أو أوسَطِه، أوْ يَوْمِ كذا مِنَ الشَّهْرِ، أو في النَّهارِ دونَ اللَّيلِ. قُبِلَ فيما بينَه وبينَ اللهِ

وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعَالى (وَهَلْ يُقْبَلُ في الحُكْم؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَين) إحْداهما، يُقْبَلُ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ آخِرَ الشَّهْرِ منه، فإرادَتُه لا تُخالِفُ ظاهِرَ لَفْظِه، وكذلك أوسَطُه، إذ ليس أوَّلُه بأوْلَى في ذلك مِن وَسَطِه وآخِرِه، بل رُبَّما كان آخِرُه أوْلَى؛ لأنَّه مُتَيَقَّنٌ، وما قبلَه مَشْكُوكٌ فيه. والثانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنه لو أطْلَقَ لَتَناوَلَ أوَّلَه. فأمَّا إن قال: أنتِ طالقٌ في أوَّلِ رمضانَ. أو: غُرَّةِ رمضانَ. أو: في رأْسِ شهرِ رمضانَ. أو: اسْتِقْبالِ شهرِ رمضانَ. أو: مَجِئ شهرِ رمضانَ. طَلُقَتْ بأوَّلِ جُزْءٍ منه، ولم يُقْبَلْ قَوْلُه: أردتُ أوْسَطَه. أَو: آخِرَه. ظاهِرًا [ولا] (¬1) باطنًا؛ لأنَّ لَفْظَه لا يَحْتَمِلُه. وإن قال: بانْقِضاءِ رمضانَ. أو: انْسِلاخِه. أو: نَفادِه. أو: مُضِيِّه. طَلُقَتْ ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في آخِرِ جُزْءٍ منه. وإن قال: أنتِ طالقٌ أوَّلَ نهارٍ مِن شهرِ رمضانَ. أو: في أوَّلِ يومٍ منه. طَلُقَتْ بطُلوعِ فَجْرِ أوَّلِ يوم مِنه؛ لأنَّ ذلك أولُ النهارِ واليومِ. ولهذا لو نَذَرَ اعتِكاف يومٍ، أو صيامَ يومٍ، لَزِمَه مِن طُلُوعِ الفَجْرِ. وإن قال: أنتِ طالقٌ إذا كان رمضانُ. أو: إلى رمضانَ. أو: إلى هلالِ رمضانَ. أو: في هلالِ رمضانَ. طَلُقَتْ ساعةَ يَسْتَهِلُّ، إلَّا أن يقولَ (¬1): مِن السَّاعةِ إلى الهلالِ. فتَطْلُقُ في الحالِ. وإنْ قال: أنتِ طالقٌ ¬

(¬1) في م: «يكون». وفي المغني 10/ 409: «ينوي».

3525 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق اليوم وغدا وبعد

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ. أَوْ: فِي الْيَوْمِ وَفِي ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَجِئِ ثلاثةِ أيَّامٍ. طَلُقَتْ في أوَّلِ اليومِ الثَّالثِ. 3525 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالقٌ اليومَ وَغَدًا وبعدَ

غَدٍ وَفِي بَعْدِهِ. فَهَلْ تَطْلُقُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَقِيلَ: تَطْلُقُ فِي الْأُولَى وَاحِدَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ غَدٍ. أو: في اليَوْمِ وفي غَدٍ وفِي بَعْدِه. فهل تَطْلُقُ ثَلاثًا أو واحِدَةً؟ عَلَى وَجْهَين) أحدُهما، تَطْلُقُ واحدةً؛ لأنَّها إذا طَلُقَتِ اليومَ، فهي طالقٌ في غدٍ وفي بعدِه. والثاني، تَطْلُقُ ثلاثًا؛ لأنَّ ذِكْرَه لأوْقاتِ الطَّلاقِ يدُلُّ على تَعْدادِه، لعدَمِ الفَائِدةِ في (¬1) ذِكْرِ أوْقاتِه بدونِ تَعْدادِه (وقيل: تَطْلُقُ في الأولَى واحدةً) لِما ذَكَرْنا للوَجْهِ الأوَّلِ (وفي الثانيةِ ثلاثًا) لأنَّ ذِكْرَه «في» وتكرارَه يدُلُّ على تَكْرارِ الطَّلاقِ. ¬

(¬1) في م: «ثم».

3526 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم. طلقت في آخر جزء منه)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ، طَلُقَتْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لَا تَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3526 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالقٌ اليومَ إن لم أُطَلِّقْكِ اليومَ. طَلُقَتْ في آخِرِ جُزْءٍ منه) إذا بَقِيَ مِن اليومِ مَا لا يَتَّسِعُ لِتَطْلِيقِها فيه. وهذا اخْتِيارُ أبي الخَطَّابِ، وقولُ أصحابِ الشافعيِّ. وحَكَى القاضي فيها وَجْهين؛ هذا، ووَجْهًا آخرَ، أنَّ الطَّلاقَ لا يقَعُ. وحُكِيَ ذلك عن أبي بكرٍ، وابنِ سُرَيجٍ (¬1)؛ لأنَّ محَلَّ الطَّلاقِ اليوم، ولا يُوجَدُ شَرْطُ طَلاقِها إلَّا بخُروجِه، فلا يَبْقَى مِن مَحَلٍّ طلاقِها ما يَقَعُ الطَّلاقُ فيه. ولَنا، أنَّ خُروجَ اليومِ يفوتُ به طلاقُها، فوَجَبَ وُقوعُه قبلَه في آخِرِ وقتِ الإِمكانِ، كموتِ أحَدِهما في اليومِ، وذلك لأنَّ معنى يَمِيِنه: إنْ فاتَنِي ¬

(¬1) في الأصل: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلاقُكِ اليومَ، فأنتِ طالقٌ فيه. فإذا بَقِيَ مِن اليومِ ما لا يَتَّسِعُ لتَطْلِيقِها فقد فاتَه طَلاقُها فيه، فَوقَعَ حِينَئذٍ، كما يقَعُ طَلاقُه في مَسْألَتِنا في آخِرِ حيَاةِ أوَّلِهما مَوْتًا. وما ذكَرُوه باطلٌ بما لو ماتَ أحَدُهما في اليوم، فإنَّ مَحَلَّ الطَّلاقِ يفوتُ بمَوْتِه، ومع ذلك فإنَّ الطَّلاقَ يقَعُ قُبَيلَ (¬1) مَوْتِه، كذا ها هنا. فإنْ قال لها: أنتِ طالقٌ اليومَ إن لم أتَزَوَّجْ عليكِ اليومَ. أو: إنْ لم أشْتَرِ لكِ ثَوْبًا اليومَ. ففيه الوَجْهانِ. والصَّحِيحُ منهما وُقوعُ الطَّلاقِ بها إذا بَقِيَ من اليوم ما لا يَتَّسِعُ لفِعْلِ المحْلُوفِ عليه فيه. فإن قال لها: أنتِ طالقٌ إن لم أُطَلِّقْكِ اليومَ. طَلُقَتْ بغيرِ خِلافٍ، في آخرِ اليوم في أحَدِ الوَجْهَينِ. والوَجْهِ الآخرِ، بعدَ خُروجِ اليومِ. وإن قال: أنَتِ طالقٌ اليومَ إن لم أُطَلِّقْكِ. فهو كقَوْلِه: أنتِ طالقٌ اليومَ إن لم أُطَلِّقكِ اليومَ. لأنَّه جَعَلَ عدمَ طَلاقِها شَرْطًا لطَلاقِها اليومَ، والشَّرْطُ يتَقَدَّمُ المَشْروطَ. ¬

(¬1) في الأصل: «قبل».

3527 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق يوم يقدم زيد. فماتت

وَإنْ قَال أنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيد. فَمَاتَتْ غُدْوَةً، وَقَدِمَ بَعْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال لعبدِه: إن لم أبِعْكَ اليومَ فامْرأتِي طالقٌ اليومَ. ولم يَبِعْه حتى خَرَجَ اليومُ، ففيه الوَجْهانِ. وإن أعْتَقَ العبدَ أو ماتَ، أو مات الحالِفُ، أو المرأةُ في اليومِ، طَلُقَتْ زَوْجَتُه حِينَئذٍ؛ لأنَّه قد فاتَ بَيعُه. وإنْ دَبَّرَه أو كاتَبَه، لم تَطْلُقِ امرأتُه؛ لأنَّ بَيعَه جائزٌ، ومَن مَنَعَ بَيعَهما قال: يَقَعُ الطَّلاقُ بذلك، كما لو ماتَ. وإن وَهَبَ العَبْدَ لإِنْسانٍ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّه يُمْكِنُ عَوْدُه إليه فيَبيعُه، فلم يَفُتْ (¬1) بَيعُه. ولو قال: إن لم أبعْ عَبْدِي فامْرَأتِي طالقٌ. ولم يُقَيِّده باليومِ، فكاتَبَ العبدَ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ؛ لأنَّه يُمْكِنُ عَجْزُه، فلم يُعْلمْ فَواتُ البَيعِ، فإنْ عَتَق بالكتابةِ أو غيرِها، وقَعَ الطَّلاقُ حِينَئذٍ؛ لأنَّه قد فاتَ بَيعُه. 3527 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالقٌ يومَ يَقْدَمُ زَيدٌ. فماتَتْ ¬

(¬1) في م: «يفك».

مَوْتِهَا، فَهَلْ وَقَعَ بِها الطَّلَاقُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غُدْوَةً، وقَدِمَ بَعدَ مَوْتِهَا، فَهَلْ وَقَعَ بِهَا الطَّلاقُ؟ عَلَى وَجْهَينِ) أحَدُهما، يَبِينُ أنَّ طَلاقَها وَقَعَ مِن أوَّلِ اليوم؛ لأنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ يومَ الجمعةِ. طَلُقَتْ مِنِ أوَّلِه، فكذا إذا قال: أَنتِ طالقٌ يومَ يَقْدَمُ زيدٌ. يَنْبَغِي أن تَطْلُقَ بطُلُوعِ فجْرِه. والثَّاني، لا يَقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّ شَرْطَه قُدومُ زيدٍ، ولم يُوجَدْ إلَّا بعدَ موتِ المرأةِ، فلم يَقَع، بخِلافِ يومِ الجمعةِ، فإنَّ شَرْطَ الطَّلاقِ مَجِئُ يوم الجمعةِ، وقد وُجِدَ، وههنا شَرْطانِ، فلا تَطْلُقُ بأحَدِهما. والأوَّلُ أَوْلَى، وليس هذا شَرْطًا، إنَّما هو بَيان للوَقْتِ الذي يَقَعُ فيه الطَّلاقُ مُعَرَّفًا بفِعْلٍ يَقَعُ فيه، فيَقَعُ في أوَّلِه، كقولِه: أنتِ طالقٌ اليومَ الذي نُصَلِّي فيه الجمعةَ. وإنْ قال: أنتِ طالقٌ في اليومِ الذي يَقْدَمُ فيه زيدٌ. [فكذلك. ولو] (¬1) مات الرَّجُلُ غدْوةً، ثم قَدِمَ زيدٌ، أو مات الزَّوْجانِ قبلَ قُدومِ زيدٍ، كان الحُكْمُ كما لو ماتتِ المرأةُ. ولو قال: أنتِ طالقٌ في شهرِ رمضانَ إن قَدِمَ زيدٌ. فقَدِمَ زيدٌ فيه، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا تَطْلُقُ حتى يَقْدَمَ زيدٌ؛ لأنَّ قُدومَه شَرْطٌ، فلا يَتَقَدَّمُه المَشْرُوطُ، بدليلِ ما لو قال: أنتِ طالقٌ إن قَدِمَ زيدٌ. فإنَّها لا تَطْلُقُ قبلَ قُدُومِه بالاتِّفاقِ. وكما لو قال: إذا قَدِمَ زيدٌ. والثاني، أنَّه إن قَدِمَ زَيدٌ تَبَيَّنَّا وُقوعَ الطَّلاقِ مِن أوَّلِ الشَّهرِ. وهو أصَحُّ، قياسًا على المسألَةِ التي قبلَ هذه. ¬

(¬1) في النسختين: «وكذلك لو». والمثبت كما في المغني 10/ 416.

3528 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق في غد إذا قدم زيد. فماتت قبل قدومه، لم تطلق)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ إِذَا قَدِمَ زَيدٌ. فَمَاتَتْ قَبْلَ قُدُومِهِ، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3528 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالقٌ في غَدٍ إذا قَدِم زَيدٌ. فماتَتْ قبلَ قُدُومِه، لم تَطْلُقْ) [حتى يَقْدَمَ] (¬1)؛ لأنَّ «إذا» اسمُ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فمَعْناه: أنتِ طالقٌ غدًا وقْتَ قُدومِ زيدٍ. فإن لم يَقْدَمْ زيدٌ في غدٍ، لم تَطْلُقْ وإن قَدِمَ بعدَه؛ لأنَّه قَيَّدَ طَلاقَها بقُدومٍ مُقَيَّدٍ بصِفةٍ، فلا تَطْلُقُ حتى تُوجَدَ، وإن ماتتْ غُدْوةً، وقَدِمَ بعدَ مَوْتِها، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّ الوقْتَ الذي أوْقَعَ طلاقَها فيه لم يَأْتِ وهي محَلٌّ للطَّلاقِ، فلم تَطْلُقْ، ¬

(¬1) زيادة من: م.

3529 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق اليوم غدا. طلقت اليوم واحدة)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا. طَلُقَتْ الْيَوْمَ وَاحِدَةً، إلا أَنْ يُرِيدَ: طَالِقٌ الْيَوْمَ وَطَالِقٌ غَدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو ماتتْ قبلَ دُخُولِ (¬1) ذلك اليوم. 3529 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالِقٌ اليَوْمَ غدًا. طَلُقَتِ اليَوْمَ واحِدَةً) لأنَّ مَن طَلُقَتِ اليَوْمَ فهي طالقٌ غدًا. 3530 - مسألة: (فإن أرادَ: طَالِقٌ اليومَ وطالِقٌ غدًا. فتَطْلُقُ ¬

(¬1) في م: «دخوله».

3531 - مسألة: وإن أراد (نصف طلقة اليوم ونصفها غدا)

أَوْ: نِصْفَ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَنِصْفَهَا غَدًا. فَتَطْلُقُ اثْنَتَينِ. وَإنْ نَوَى: نِصْفَ طَلْقَةٍ الْيَوْمَ وَبَاقِيَهَا غَدًا. احْتَمَلَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلْقَتَينِ) فِي اليَوْمَينِ. فإنْ قَال: أرَدْتُ أنَّها تَطْلُقُ في أحَدِ اليَوْمَينِ. طَلُقَتِ اليَوْمَ ولم تَطْلُقْ غَدًا؛ لأنَّه جَعَلَ الزَّمَانَ كُلَّهُ ظَرْفًا لوُقُوعِ الطَّلاقِ، فَوَقَعَ في أوَّلِه. 3531 - مسألة: وإن أرَادَ (نِصْفَ طَلْقَةٍ اليَوْمَ وَنِصْفَهَا غَدًا) فَتَطْلُقُ اليَوْمَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى؛ لأنَّ النِّصْفَ يُكَمَّلُ [فَيَصِيرُ طَلْقَةً تامَّةً] (¬1). وإن قال: أرَدْتُ (¬2) (نِصْفَ طَلْقَةٍ اليَوْمَ وَبَاقِيَهَا غَدًا. احْتَمَلَ وَجْهَين) أحَدُهما، لا تَطْلُقُ إلَّا واحدةً؛ لأنَّه إذا قال: نِصْفُها اليومَ. كُمِّلَتْ كُلُّها (2)، فلم يَبْقَ لها بَقِيَّةٌ تَقَعُ غدًا، ولم يَقَعْ شيءٌ غيرُها؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

3532 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إلى شهر. طلقت عند انقضائه)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهرٍ. طَلُقَتْ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ما أوْقَعَه. وذكَر القاضي هذا الاحْتمال أيضًا في المسألةِ الأُولَى. وهو مذهبُ الشافعيِّ، ذَكَرَ أصحابُه فيها الوَجْهينِ. ويَحْتَمِلُ أن يَقَعَ اثْنَتانِ، كالمسألَةِ التي قبلَها. 3532 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ. طَلُقَتْ عندَ انْقِضَائِه) إذا قال: أنتِ طالقٌ إلى شهرِ كذا. أو: سنةِ كذا. فهو كما لو قال: في شهرِ كذا. أو: سنةِ كذا. ولا يَقَعُ الطَّلاقُ إلَّا في أوَّلِ ذلك الوقْتِ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَطْلُقُ في الحالِ؛ لأنَّ قولَه: أنتِ طالقٌ. إيقاعٌ في الحالِ، وقولَه: إلى شهرِ كذا. تَأْقِيتٌ له وغايةٌ، وهو لا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ، فَوَقَعَ في الحالِ؛ لأنَّه لا يَقْبَلُ التَّأقِيتَ. ولَنا، أنَّ ذلك قد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، وأبي ذَرٍّ، ولأنَّ هذا يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ تَوْقِيتًا لإيقاعِه، كقولِ الرَّجلِ: أنا خارجٌ إلى سنةٍ. أي (¬1) بعدَ سنةٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

إلا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَهَا فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا احْتَمَلَ الأمْرَينِ، لم يَقَعِ الطَّلاقُ بالشَّكِّ. وقد تَرجَّحَ ما ذَكَرْناه مِن وَجْهَينَ؛ أحَدُهما، أنَّه جَعَلَ للطَّلاقِ غايةً، ولا غايةَ لآخرِه، وإنَّما الغايَةُ لأوَّلِه. والثَّاني، أنَّ ما ذكَرْناه عَمَلٌ باليَقِينِ، وما ذكَرُوه أخْذٌ بالشَّكِّ. فصل: (فإن نَوَى طَلاقَها في الحالِ) إلى سنةِ كذا. وَقَعَ في الحالِ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفْسِه بما هو أغْلَظُ، ولفظُه يَحْتَمِلُه. فصل: وإن قال: أنتِ طالقٌ مِن اليوم (¬1) إلى سنةٍ. طَلُقَتْ في الحالِ؛ لأنَّ «مِنْ» لابْتِداءِ الغايةِ، فيَقْتَضِي أنَّ طلاقَها مِن اليومِ. فإن قال: أرَدْتُ [أنَّ عَقْدَ الصِّفةِ مِن اليومِ، ووقوعَه بعدَ سنةٍ. لم يَقَعْ إلَّا بعدَها. وإن قال: أرَدْتُ] (¬2) تَكْرِيرَ طَلاقِها مِن حينَ لَفَظْتُ به إلى سنةٍ. طَلُقَتْ مِن ساعَتِها ثلاثًا، إذا كانت مَدْخُولًا بها. قال أحمدُ: إذا قال لها: أنتِ طالقٌ مِنَ اليومِ إلى سنةٍ. يرِيدُ التَّوْكيدَ، وكَثْرَةَ الطَّلاق، فتلك طالقٌ مِن ساعَتِها. ¬

(¬1) في الأصل: «يوم». (¬2) سقط من: م.

3533 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق في آخر الشهر. أو: أول آخره. طلقت)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ الشَّهْرِ. أَوْ: أوَّل آخِرِهِ. طَلُقَتْ بِطُلُوعِ فَجْرِ آخِرِ يَوْم مِنْهُ. وَإنْ قَال: فِي آخِرِ أَوَّلِهِ. طَلُقَتْ فِي آخِرِ يَوْم مِنْ أَوَّلِهِ. وقَال أَبو بَكْرِ: تَطْلُقُ فِي الْمَسْألَتَينِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3533 - مسألة: (وإن قال: أنتِ طالِقٌ فِي آخِرِ الشَّهْرِ. أو: أوَّلِ آخِرِه. طَلُقَتْ) فِي أوَّلِ (¬1) آخِرِ يَوْم مِنْه؛ لأنَّه آخِرُه (وإن قال: في آخِرِ أوَّلِه. طَلُقَتْ فِي آخِرِ أوَّلِ يَوْم) مِنْهُ؛ لأنَّه أوَّلُهُ (وقال أبو بكرٍ: تَطْلُقُ في المسألَتَين بغُروب شَمْسِ الخامِسَ عَشَرَ منه) لأنَّ الشَّهْرَ نِصْفانِ، [أوَّلُ، وآخِرُ] (¬2)، فآخِرُ أَوَّلِه يَلِي (¬3) أوَّلَ آخِرِه. وهذا قولُ أبي العبَّاسِ بنِ سُرَيجٍ (¬4). وقال أكثرُهم كقَوْلِنا، وهو أصَحُّ؛ فإنَّ ما عدَا ¬

(¬1) بعده في م: «جزء من». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ثلاثة». (¬4) في النسختين: «شريح». وانظر ترجمته في 10/ 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليومَ الأوَّلَ لا يُسَمَّى أوَّلَ الشَّهرِ، ويَصِحُّ نَفْيُه عنه، وكذلك لا يُسَمَّى أوْسَطُ الشَّهرِ آخِرَه، ولا يُفْهَمُ ذلك مِن إطْلاقِ لَفْظِه، فَوجَبَ أن لا يُصْرَفَ كلامُ الحالفِ إليه، ولا يُحْمَلَ عليه.

3534 - مسألة: (وإن قال: إذا مضت سنة فأنت طالق. طلقت إذا مضى اثنا عشر شهرا بالأهلة، ويكمل الشهر الذي حلف في أثنائه بالعدد)

وَإن قَال: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ إِذَا مَضَى اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالأَهِلَّةِ، وَيُكَمَّلُ الشَّهْرُ الَّذِي حَلَفَ فِي أَثْنَائِهِ بِالْعَدَدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3534 - مسألة: (وإن قَال: إذَا مضتْ سَنةٌ فَأنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ إذَا مضَى اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بِالأهِلَّةِ، وَيُكَمَّلُ الشَّهْرُ الذي حَلَفَ في أثْنائِهِ بِالعَدَدِ) إلى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بالأهِلَّةِ؛ لقولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1). فإنْ حَلَفَ في أوَّلِ شَهْرٍ، فإذا مَضَى اثْنا عَشَرَ شَهْرًا بِالأهِلَّةِ (¬2) وَقَعَ طلاقُه. وإن حَلَفَ في أثناءِ شَهرٍ، عَدَدْتَ ما بَقِيَ منه، ثم حَسَبْتَ بَعدُ بالأهِلَّةِ، فإذا مَضَتْ أحَدَ عَشَرَ شهرًا بالأهِلَّةِ نَظَرْتَ ما بَقِيَ مِن الشَّهْرِ الأوَّلِ، فكَمَّلْتَ ثلاثينَ يومًا؛ لأنَّ الشَّهْرَ اسمٌ لِما بينَ هِلالينِ، فإن تَفَرَّقَ كان ثلاثينَ يومًا. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه تُعْتَبَرُ الشُّهورُ كلُّها بالعَدَدِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن نَذَر صِيامَ شهْرَينِ مُتَتابِعَينِ، فاعترضَ الأَيَّام (¬3)، قال: يَصومُ سِتِّينَ يومًا، وإنِ ¬

(¬1) سورة البقرة 189. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «الإمام».

3535 - مسألة: (وإن قال: إذا مضت السنة فأنت طالق. طلقت بانسلاخ ذي الحجة)

وَإنْ قَال: إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَأنْتِ. طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابْتدَأَ مِن شهر، فصامَ شَهْرَينِ، فَكانا ثمانيةً وخمسينَ يومًا، أجْزَأه؛ وذلك أنَّه لمَّا صامَ نِصْفَ شهرٍ، وجَبَ تَكْمِيلُه مِنَ الذي يَلِيه، فكان ابْتِداءُ الثاني مِن نِصْفِه أيضًا، فَوجَبَ أنْ يُكَمِّلَه بالعَدَدِ، وهذا المعنى مَوْجودٌ في السَّنَةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّه أمْكَنَ اسْتِيفَاءُ أحَدَ عشَرَ شهرًا بالأهِلَّةِ، فَوَجَبَ الاعْتِبارُ بها، كما لو كانت يَمِينُه في أوَّلِ شهرٍ، ولا يَلْزمُ أن يُتِمَّ الأوَّلَ مِن الثَّاني، بل يُتِمُّه مِن آخرِ الشُّهورِ. وإن قال: أرَدْتُ بقَوْلِي: سَنَةً. إذا انْسَلَخَ ذُو الحِجَّةِ. قُبِلَ؛ لأَنه يُقِرُّ على نَفْسِه بما هو أغْلَظُ. 3535 - مسألة: (وإن قال: إذا مَضَتِ السَّنَةُ فَأنْتِ طَالقٌ. طَلُقَتْ بِانْسِلاخِ ذِي الحِجَّةِ) لأنَّه لمَّا عَرَّفَها بلامِ التَّعْريفِ، انصَرفَتْ إلى السَّنَةِ المعْروفَةِ، التي آخِرُها ذو الحِجَّةِ. فإن قال: أرَدْتُ بالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، قُبِلَ؛ لأنَّ السَّنةَ اثْنَا عَشَرَ شهرًا حقيقةً.

3536 - مسألة: (وإذا قال: أنت طالق في كل سنة طلقة)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةً. طَلُقَتِ الْاُّولَى فِي الْحَالِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَا الثَّالِثَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3536 - مسألة: (وإذا قال: أنْتِ طَالِقٌ في كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةً) فَهذه صِفَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لأنَّه يَمْلِكُ إيقاعَه في كُلِّ سنةٍ، فإذا جعلَ ذلك صِفَةً، جازَ، ويَكونُ ابْتداءُ المُدَّةِ عَقِيبَ يَمِينِه؛ لأنَّ كُلٍّ أجَلٍ ثَبَتَ بمُطْلَقِ العَقْدِ، ثَبَتَ عَقِيبَه، كقولِه: واللهِ لا كَلَّمْتُك سَنَة فتَقَعُ (الأُولَى في الحالِ) لأنهَّ جعلَ السَّنَةَ ظَرْفًا للطَّلاقِ، فتَقَعُ في أوَّلِ جُزْءٍ منها، وتقَعُ الثَّانِيَةُ في أوَّلِ الثَّانِيَةِ، والثَّالِثَةُ [في أوِّلِ الثَّالثةِ] (¬1)، إنْ دَخَلَتا عليها وهي في نِكاحِه؛ لكَوْنِها لم تَنْقَضِ عِدَّتُها، أو ارْتجعَها (¬2) في عِدَّةِ الطَّلْقةِ الأُولَى وعِدَّةِ الثَّانيةِ، أو جَدَّدَ نِكاحَها بعدَ أن بانَتْ. فإنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها فبانَتْ منه، ودَخلَتِ السَّنَةُ الثَّانيةُ وهي بائنٌ، لم تَطْلُقْ؛ لكَوْنِها غيرَ زَوْجةٍ له. فإنْ تَزَوَّجَها في أثْنائِها، اقْتَضَى قولُ أكثرِ أصحابِنا وُقوعَ الطَّلاقِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «راجعها».

3537 - مسألة: (وإن قال: أردت بالسنة اثني عشر شهرا.

فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَل فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيبَ [تزْويجِه لها] (¬1)، لأنَّه جُزْءٌ مِن السَّنَةِ الثَّانيةِ التي جعلَها ظَرْفًا للطَّلاقِ، وَمَحِلًّا له، وكان سَبِيلُه أن يقَعَ في أوَّلِها، فمَنَع منْه كَوْنُها غيرَ مَحِلٍّ للطَّلاقِ؛ لعَدَمِ نِكاحِه حِينَئذٍ، فإذا عادَتِ الزَّوجيَّةُ (¬2)، وقَعَ في أوَّلِها. وقال القاضي: تَطْلُقُ بدُخولِ السَّنَةِ الثَّالثةِ. وعلى قولِ التَّميمِيِّ ومَنْ وافَقَه، تَنْحَلُّ الصِّفَةُ بوُجودِها في حالِ البَينُونَةِ، فلا تَعودُ بحالٍ. وإن لم يَتَزَوَّجْها حتى دخلَتِ السَّنَةُ الثَّالثةُ، ثم نَكَحَها، طَلُقَتْ عَقِيبَ تَزْويجِها، ثم طَلُقَتِ الثَّالثةَ بدُخولِ السَّنَةِ الرَّابعةِ. وعلى قولِ القاضي، لا تَطْلُقُ إلَّا بدُخولِ الرَّابعةِ (¬3)، ثم تَطْلُقُ الثَّالثةَ بدُخولِ الخامسةِ. وعلى قولِ التَّمِيمِيِّ، قد انْحَلَّتِ الصِّفَةُ. واخْتُلِفَ في مَبْدَأ السَّنَةِ الثَّانيةِ؛ فظاهِرُ ما ذكَرَه القاضي، أنَّ أوَّلَها بعدَ انْقِضاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شهرًا مِن حينِ يَميِنه. وكذلك قال أصحابُ الشافعيِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: ابْتِداءُ السَّنَةِ الثَّانيةِ أوَّلُ المُحَرَّم. على ما ذَكَرْنا؛ لأنَّها السَّنَةُ المْعرُوفةُ، فإذا عَلَّقَ ما يَتَكَرَّرُ على تَكَرُّرِ السِّنينَ، انْصَرفَ إلى السِّنِينَ المعْروفةِ، كقَوْلِ (¬4) اللهِ تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} (¬5). 3537 - مسألة: (وإن قال: أرَدْتُ بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. ¬

(¬1) في م: «تزوجه بها». (¬2) في م: «الزوجة». (¬3) في م: «السنة الرابعة». (¬4) في م: «لقول». (¬5) سورة التوبة 126.

الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. وَإنْ قَال: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ ابْتَدَاءُ السِّنِينَ الْمُحَرَّمَ. دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قُبِلَ) لأنَّها سَنَةٌ حَقِيقَةً (وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخرَّجُ على رِوَايَتَينِ) أصَحُّهما، أنَّه يُقْبَلُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثَّانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه خلافُ الظَّاهِرِ. (وإنْ قال: أرَدْتُ أنَّ ابْتِداءَ السِّنِينَ) مِنَ (المُحَرَّمِ. دُيِّنَ ولم

3538 - مسألة: (وإذا قال: أنت طالق يوم يقدم زيد. فقدم ليلا، لم تطلق، إلا أن يريد باليوم الوقت، فتطلق)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيدٌ. فَقَدِمَ لَيلًا، لَمْ تَطْلُقْ، إلا أَنْ يُرِيدَ بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ، فَتَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْبَلْ في الحُكْمِ) ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ. قال شيخُنا (¬1): والأَوْلَى أنَّه يُخرَّجُ على رِوايَتَين؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ مُخالِفٌ للظَّاهِرِ. 3538 - مسألة: (وإذا قال: أنْتِ طالقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيدٌ. فَقَدِمَ لَيلًا، لم تَطْلُقْ، إلَّا أن يُريدَ باليَوْمِ الوَقْتَ، فَتَطْلُقُ) وَقْتَ قُدُومِه؛ لأنَّ الوَقْتَ يُسَمَّى يَوْمًا، قَال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (¬2). ¬

(¬1) في: المغني 10/ 414. (¬2) سورة الأنفال 16.

3539 - مسألة: (وإن قدم به ميتا أو مكرها، لم تطلق)

وَإنْ قُدِمَ بِهِ مَيَّتًا أَوْ مُكْرَهًا، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3539 - مسألة: (وإن قُدِمَ به مَيِّتًا أو مُكْرَهًا، لم تَطْلُقْ) إذا كان مَحْمولًا (¬1)؛ لأنَّه لم يَقْدَمْ، وإنَّما قُدِمَ به. وهذا قولُ الشافعيِّ. ونُقِلَ عن أبي بكر أنَّه يَخْنَثُ؛ لأنَّ الفِعْلَ يُنْسَبُ إليه، ولذلك يُقالُ: دَخَلَ الطَّعامُ البلدَ. إذا حُمِلَ إليه، ولو قال: أنتِ طالقٌ إذا دَخلَ الطَّعامُ البَلدَ. طَلُقَتْ إذا حْمِلَ إليه. ولَنا، أنَّ الفِعْلَ ليس منه، والفعلُ لا يُنْسَبُ ¬

(¬1) بعده في م: «لم تطلق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى غيرِ فاعلِه إلَّا مَجازًا، والكلامُ عندَ [إطْلاقِه لحقيقتِه] (¬1) إذا أمْكَنَ. فأمَّا الطَّعامُ، فلا يُمْكِنُ وُجودُ الفعلِ منه حَقِيقةً، فتَعَيَّنَ حَمْلُ الدُّخولِ فيه على مَجازِه. فأمَّا إن قَدِمَ بنَفْسِه لإكْراهٍ، فعلى قولِ الخِرَقِيِّ: لا يَخْنَثُ. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. وقال أبو بكر: يخْنَثُ. وحكَاه عن أحمدَ؛ لأنَّ الفعلَ منه حَقِيقةً، ويُنْسَبُ إليه، قال الله تَعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} (¬2). ويَصِحُّ أمْرُ المُكْرَهِ بالفعلِ، قال اللهُ تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} (¬3). ولولا أنَّ الفِعْلَ يتحَقُّقُ منه، لَما صَحَّ أمْرُه به. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه بالإكْراهِ زال (¬4) اخْتِيارُه، فإذا وُجِدَتِ الصِّفَةُ منه، كان كوُجودِ الطَّلاقِ منه، وهذا فيما إذا أطْلَقَ. وإن كانتْ له نِيَّةٌ، حُمِلَ عليها كلامُه، وتَقَيَّدَ بها. فصل: فإن قَدِمَ مُخْتارًا، حَنِثَ الحالِفُ، سواءٌ عَلِمَ القادِمُ باليَمينِ أو جَهِلَها. قال أبو بكر الخلَّالُ: يَقَعُ الطَّلاقُ، قَوْلًا واحدًا. وقال أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ: إن كان القادِمُ ممَّن لا [يَمْتَنِعُ مِن] (¬5) القُدُومِ بيَميِنه، ¬

(¬1) في م: «تحقيقه». (¬2) سورة الزمر 71. (¬3) سورة الزمر 72، وسورة غافر 76. (¬4) في الأصل: «أزال». (¬5) في م: «يمنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالسُّلْطانِ، والحاجِّ، والرجُلِ الأجْنَبِيِّ، حَنِثَ الحالِفُ، ولا يُعْتَبَرُ عِلْمُه ولا جَهْلُه، وإن كان ممَّن يَمْتَنِعُ باليمينِ مِنَ القُدُومِ، كقَرابةٍ لهما، أو لأحدِهما، أو غلامٍ لأحدِهما، فجهِلَ اليَمِينَ، أو نَسِيَها، فالحُكْمُ فيه كما لو حَلَفَ على فعْلِ نفْسِه ففَعَلَه جاهِلًا أو ناسِيًا، وفي ذلك رِوَايتان، كذلك ههُنا؛ وذلك لأنَّه إذا لم يَكُنْ ممَّن تَمْنعُه اليَمِينُ، كان تَعْليقًا للطَّلاقِ على صِفَةٍ، ولم يكُنْ يمِينًا، فأشْبَهَ ما لو عَلَّقَه على طُلوعِ الشَّمْسِ، وإن كان ممَّن يَمْتَنِعُ، كان يمينًا، فيُعْذرُ فيها بالنِّسْيانِ والجَهْلِ، ويَنْبَغِي أن تُعْتَبَرَ على هذا القولِ نِيَّةُ الحالِفِ، وقَرائنُ أحْوالِه الدَّالَّةُ على قَصْدِه، فإن كان قَصْدُه بيَمِيِنه مَنْعَ القادِمِ مِن القُدومِ، كان يَمِينًا، وإن كان قَصْدُه جَعْلَه صِفَةً في طَلاقِها مُطْلَقَةً، لم يَكُنْ يمينًا، ويَسْتَوي فيه عِلْمُ القادِمِ وجَهْلُه، ونِسْيانُه، وجُنونُه وإفَاقَتُه، مثلَ أن يقْصِدَ طَلاقَها إذا حصَلَ معها مَحْرَمُها، ولا يُطَلِّقَها وحْدَها، وتُعْتَبَرُ قَرائنُ الأحْوالِ؛ فمتى علَّقَ اليمينَ على قُدُومِ غائبٍ بعيدٍ، يَعْلَمُ أنَّه لا يَعْلَمُ اليَمِينَ، ولا يَمْتَنِعُ بها، أو على (¬1) فعلِ صغيرٍ أو مَجْنونٍ، أو مَن لا يَمْتَنِعُ بها، لم تَكُنْ يَمِينًا. وإن علَّقَ ذلك على فعْلِ حاضر يَعْلَمُ بيَمِيِنه، ويَمْتَنِعُ لأجْلِها مِن فِعْلِ ما علَّقَ الطَّلاقَ عليه، كان يَمِينًا. ومتى أشْكَلَتِ الحالُ، فيَنْبَغِي أن يَقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّ لفْظَه يَقْتَضِي وُقوعَ الطَّلاقِ عندَ وُجودِ هذه الصِّفَةِ على العُمومِ، وإنَّما ينْصَرِفُ عن ذلك بدَليلٍ، فمتى شَكَكْنا في الدَّليلِ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُخَصِّصِ (¬1)، وجبَ العملُ بِمُقْتَضَى العُمومِ. فصل: فإن قال: إن تَرَكْتِ هذا الصَّبِيَّ يَخْرُجُ فأنتِ طالقٌ. فانْفَلَتَ الصَّبِيُّ بغيرِ اخْتِيارِها، فخَرَجَ، فإنْ كان نوَى أن لا يَخْرُجَ قد حَنِثَ، وإن نَوَى أن لا تَدَعَه لم يَحْنَثْ. نَصَّ أحمدُ على معْنى هذا؛ وذلك لأنَّ اليَمِينَ إذا وَقَعتْ على فِعْلِها، فقد فَعَلَ الخُروجَ [مِنِ غيرِ] (¬2) اخْتيارٍ منها، فكانتْ كالمُكْرَهِ إذا (¬3) لم يُمْكِنْها حِفْظُه وَمَنْعُه. وإن نوَى فِعْلَه، فقد وُجِدَ، وحَنِثَ. وإن لم تُعْلَمْ نِيَّتُه، انْصَرَفَتْ يَمِينُه إلى فِعْلِها؛ لأَنه الذي تَناوَلُه لَفْظُه، فلا يَحْنَثُ إلَّا إذا خَرَجَ بَتَفْرِيطِها في حِفْظِه أو باخْتِيارِها. فصل: فإن حَلَفَ: لا تأْخُذُ حَقُّكَ مِنِّي. فأُكرِهَ على دَفْعِه إليه (¬4)، أو أخَذَه منه قَهْرًا، حَنِثَ؛ لأنَّ المحْلوفَ عليه فِعْلُ الأخْذِ، وقد أخَذَه مُخْتارًا. وإن أُكْرِهَ صاحبُ الحَقِّ على أخْذِه، خُرِّجَ على الوَجْهَينِ في مَن أُكْرِهَ على القُدُومِ. وإن وَضَعَه الحالِفُ في حِجْرِه (¬5) أو بينَ يَدَيه، أو إلى (4) جَنْبِه، فلم يَأْخُذْه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ الأخْذَ ما وُجدَ. وإن أخَذَه الحاكمُ أو السُّلْطانُ مِن الغَرِيمِ، فدَفَعَه إلى المُسْتَحِقِّ فأَخَذَه، فقال القاضي: لا يَحْنَثُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه ما أخَذَه منه. وإن قال: ¬

(¬1) في الأصل: «المختص». (¬2) في م: «بغير». (¬3) كذا في النسختين، وفي المغني 10/ 488: «إذ». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «حجه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَأْخُذْ حَقَّك عَلَيَّ. حَنِثَ؛ لأنَّه قد أخَذَ حَقَّه الذي عليه. والمنْصوصُ عن أحمدَ، أنَّه يَحْنَثُ في الصُّورَتَين. قاله أبو بكرٍ. وهو الذي يَقْتَضِيه مذهَبُه؛ لأنَّ الأيمانَ عندَه على الأسْبابِ، لا على الأسْماءِ، ولأنَّه لو وكَّلَ وكيلًا فأخذه (¬1) منه، كان آخِذًا لحَقِّه منه عُرْفًا، ويُسَمَّى آخِذًا؛ قال اللهُ تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬2). وقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬3). وإن كان اليمينُ مِن صاحبِ الحقِّ، فحَلَفَ: لا أخَذْتُ حَقِّي منك (¬4). فالتَّفْريعُ فيها كالتي قبلَها. فإن تَرَكهَا الغَرِيمُ في أثْناءِ مَتاعٍ في خُرْجٍ (¬5)، ثم دفَع الخُرْجَ إلى الحالفِ، فأخَذه ولم يَعلَمْ أنَّها فِيه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ هذا ليس بمعدودٍ أخذًا، ولا يَبْرأُ به الغَرِيمُ منها. فإن كانتِ اليَمِينُ: لا أُعْطيكَ حَقَّك. فأَخَذَه الحاكمُ منه كُرْهًا، ودَفَعَه إلى الغَرِيمِ، لم يَحْنَثْ. وإن أكْرَهَه على دَفْعِه إليه، خُرِّجَ على الوَجْهَينِ في المُكْرَهِ. وإن أعطاه باخْتِيارِه، حَنِثَ. وإن وَضَعَه في حِجْرِه، أو جَيبِه، أو صُنْدوقِه، وهو يَعلُم، حَنِثَ؛ لأنَّه أعْطاه. وإن دَفَعَه إلى الحاكِمِ اخْتيارًا ليَدْفَعَه إلى الغَرِيمِ، فدَفَعه، أو أخَذَه مِن مالِه باخْتِيارِه، فدَفَعَه إلى الغَرِيمِ، حَنِثَ. وقال القاضي: لا يَحْنَثُ. [وقياسُ] (¬6) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النساء 154، وسورة الأحزاب 33. (¬3) سورة المائدة 12. (¬4) سقط من: م. (¬5) الخرج: وعاء من شعر أو جلد، ذو عدلين، يوضع على ظهر الدابة لوضع الأمتعة فيه. (¬6) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المذهبِ أنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه أوْصَلَه إليه مُخْتارًا، فأشْبَهَ ما لو دَفَعَه إلى وَكيِله فأعْطاه إيَّاه، ولأنَّ الأيمانَ على الأسْبابِ، لا على الأسْماءِ، على ما ذكَرْناه فيما مَضَى. فصل: فإن قال: إن رأيتِ أباكِ فأنتِ طالقٌ. فرأتْه مَيِّتًا، أو نائمًا، أو مُغْمًى عليه، أو رَأتْه مِن خَلْفِ زُجاجٍ، أو جِسْمٍ شَفَّافٍ، طَلُقَتْ؛ لأنَّها رأتْه، وإن رأتْ خَياله في ماءٍ، أو مِرْآةٍ، أو صُورتَه (¬1) على حائطٍ، أو غيرِه، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّها لم تَرَه، وإن أُكْرِهَتْ على رُؤْيَتِه، خُرِّجَ على الوَجْهَينِ. ¬

(¬1) في م: «ضوءه».

باب تعليق الطلاق بالشروط

بَابُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الزَّوْجِ، وَلَا يَصِحُّ مِنَ الأَجْنَبِيِّ، فَلَوْ قَال: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ. أَو: تَزَوَّجْتُ امرأَةً، فَهِيَ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ إِذَا تَزَوَّجَهَا. وَعَنْهُ، تَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ تعْليقِ الطَّلاقِ بالشُّروطِ (يَصِحُّ ذلك مِن الزَّوجِ، ولا يَصِحُّ مِن الأجْنَبِيِّ، فلو قال: إن تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ. أو: تَزَوَّجْتُ امْرأةً، فهي طالقٌ. لم تَطْلُقْ إن تَزَوَّجَها. وعنه تَطْلُقُ) اخْتلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في هذه المسألةِ، فالمشهُورُ عنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لا يقَعُ الطَّلاقُ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وبه قال عَطاءٌ، والحسَنُ، وعُرْوَةُ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، وسَوَّارٌ القاضي، والشافعيُّ، وأبو ثَورٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ورَواه التِّرْمِذِيُّ (¬1) عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، وجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وعليِّ بنِ الحسينِ، وشُرَيحٍ، وغيرِ واحدٍ مِن فُقَهاءِ التَّابِعين. ورُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، ما يَدُلُّ على وُقوعِ الطَّلاقِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّه يَصِحُّ تَعْليقُه على الأخْطارِ، فَصَحَّ على حُدوثِ المِلْكِ، كالوَصِيَّةِ. والأوَّلُ أصَحُّ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ لِما رَوَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» (¬2). قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، وهو أحْسَنُ ما رُوِيَ في هذا البابِ. وعن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَإنْ عَيَّنَهَا». روَاه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬3). ¬

(¬1) انظر عارضة الأحوذي 5/ 148، 149، فقد حكى ذلك عنهم تعليقا. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 323. (¬3) أخرجه عن معاذ وليس عن عائشة بلفظ: «لا طلاق إلا بعد نكاح، وإن سميت المرأة بعينها». وقال: يزيد بن عياض ضعيف. سنن الدارقطني 4/ 17. وبنحوه أخرجه عن عائشة في: سننه 4/ 15، 16. وليس فيه: «وإن عينها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوَى أبو بكرٍ، في «الشَّافي» (¬1)، عن الخَلَّالِ، عن الرَّمادِيِّ، عن عبدِ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن جويبِرٍ (¬2)، عن الضَّحَّاكِ، عن النَّزَّالِ بنِ سَبْرَةَ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ» (¬3). قال أحمدُ: هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعِدَّةٍ مِن الصَّحابةِ. ولأنَّ مَن لا يَقَعُ طَلاقُه بالمُباشَرَةِ، لا تَنْعَقِدُ له صِفَةٌ، كالمجْنونِ، ولأنَّه قَوْلُ مَنْ سَمَّينا مِن الصَّحابةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالف في عَصْرِهم، فيَكونُ إجْماعًا. قال أبو بكرٍ في كتابِ «الشَّافي» (1): لا يَخْتَلِفُ قولُ أبي عبدِ اللهِ، أنَّ الطَّلاقَ إذا وَقَعَ قبلَ النِّكاحِ لا يَقَعُ، [وأنَّ العَتاقَ يَقَعُ] (¬4). والرِّوايةُ الأولَى أصَحُّ؛ لأنَّه تعْليقٌ للطَّلاقِ قبلَ المِلْكِ، فأشْبَهَ ما لو قال لأجْنَبيَّةٍ (¬5): إن دخلتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. ثم تَزَوَّجَ الأجْنَبِيَّةَ، ودَخَلَتْ، فإن الطَّلاقَ لا يقَعُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، كذلك هذا. ¬

(¬1) في م: «الشافعي». (¬2) في م: «جوبر». (¬3) وأخرجه ابن ماجه، في: باب لا طلاق قبل النكاح، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 660. وعبد الرزاق، في: المصنف 6/ 416. وضعف إسناده في الزوائد. (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: م.

3540 - مسألة: (وإن قال لأجنبية: إن قمت فأنت طالق. فتزوجها، ثم قامت، لم تطلق رواية واحدة)

وَإنْ قَال لِأَجْنِبَيَّةٍ: إِنْ قُمْتِ فَأنْتِ طَالِقٌ. فَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ قَامَتْ، لَمْ تَطْلُقْ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَإنْ عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ، لَمْ تَطْلُقْ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَإنْ قَال: عَجَّلْتُ مَا عَلَّقْتُهُ. لَمْ يَتَعَجَّلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3540 - مسألة: (وإن قال لأجْنَبيَّةٍ: إن قُمْتِ فأنتِ طالِقٌ. فتَزَوَّجَها، ثم قَامَتْ، لم تَطْلُقْ رِوايةً واحدةً) لا نَعْلَمُ فيه خلافًا؛ لأنَّه لم يُضِفْه إلى زَمَنٍ يَقَعُ فيه الطَّلاقُ، فأشْبَهَ ما لو أسْلَمَ فِي معدومٍ ولم يَذْكُرْ له أجلًا يُوجدُ السَّلَمُ فيه. 3541 - مسألة: (وإن عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلاقَ بِشَرْطٍ، لم تَطْلُقْ قبلَ وُجُودِه) لأنَّه إزالةُ مِلْكٍ بُنِيَ على التَّغْلِيبِ والسِّرايةِ، أشْبَهَ العِتْقَ. 3542 - مسألة: (وَإنْ قَال: عَجَّلْتُ ما عَلَّقْتُه. لم يَتَعجَّلْ) لأنَّه

3543 - مسألة: (وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده. وقع

وَإنْ قَال: سَبَقَ لِسَانِي بِالشَّرْطِ وَلَمْ أُرِدْهُ. وَقَعَ فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعلُّقَ بالشَّرْطِ، فلم يَكُنْ له تَغيِيرُه، فإن أرادَ تعْجيلَ طَلاقٍ سِوَى تلك الطَّلْقَةِ، وَقَعتْ بها، فإذا جاءَ الزَّمنُ الذي علَّقَ الطُّلاقَ به وهي زَوْجَتُه، وقَعَ بها الطَّلاقُ المُعَلَّقُ. 3543 - مسألة: (وإن قال: سَبَقَ لسَانِي بالشَّرْطِ ولم أُرِدْه. وَقَعَ

3544 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق. ثم قال: أردت إن قمت. دين)

وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ إِنْ قُمْتِ. دُيِّنَ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِي الحَالِ) لأنَّه أقَرَّ على نَفْسِه بما يُوجِبُ التَّغْليظَ مِن غيرِ تُهْمَةٍ (¬1) وهو يَمْلِكُ إيقاعَه في الحالِ. فصل: وإذا تَخَلَّلَ الشَّرْطَ وحُكْمَه غيرُهما تَخَلُّلًا مُنْتَظِمًا، كقولِه: أنتِ طالقٌ يا زانِيَةُ إن قُمْتِ. لم يَقْطَعِ التَّعْليقَ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن يَقْطعَه، ويُجْعَلَ كسَكْتَةٍ، كما لو قال بينَهما: سُبحانَ اللهِ. أو: أسْتَغْفِرُ اللهَ. ذكرَه صاحبُ «المُحَرَّرِ». 3544 - مسألة: (وإن قَال: أنْتِ طَالِقٌ. ثُمّ قَال: أرَدْتُ إنْ قُمْتِ. دُيِّنَ) لأنّه أعْلَمُ بنِيَّتِه، وما ادَّعاهُ مُحْتَمِلٌ، فأشْبَهَ ما لو قال: أنتِ طالقٌ. ثم قال: أردتُ (¬2) مِن وَثاقٍ (¬3) (ولم يُقْبَلْ في الحُكْمِ. نَصَّ عليه) لأنَّه يَدّعِي خلافَ ما يَقْتَضِيه [إطْلاقُ اللَّفْظِ] (¬4). وقال شيخُنا، في ¬

(¬1) في م: «تتمة». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «وثاقي». (¬4) في الأصل: «الطلاق».

فَصْل: وَأَدوَاتُ الشَّرْطِ سِتَّةٌ (¬1)؛ إِنْ، وَإِذَا، وَمَتَى، وَمَنْ، وَأَيّ، وَكُلَّمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابِ «الكافي» (¬2): يُخَرَّجُ على رِوايَتَينِ. إحداهما، لا يُقْبَلُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثَّانيةُ، يُقْبَلُ؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ، أشْبَهَ ما لو قال: أنتِ طالقٌ. ثم قال: أرَدْتُ مِن وَثاقٍ (¬3). وهذا مثلُه، واللهُ أعلمُ. فصل: (وأدواتُ الشَّرْطِ ستٌّ؛ إنْ، وإذَا، ومَتَى، ومَن، وأيّ، وكُلَّمَا). ¬

(¬1) كذا وقع بخط المؤلف، والوجه: ست. وبمكن تخريجه على الحمل على المعنى على تأويل الأداوات بالألفاظ. المبدع 7/ 326. (¬2) 3/ 190. (¬3) في م: «وثاقي».

3545 - مسألة: (وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا «كلما»)

وَلَيسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلا «كُلَّمَا»، وَفِي «مَتَى» وَجْهَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3545 - مسألة: (وليس فِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا «كُلَّمَا») لأنَّ مَوضِعَها للتَّكرارِ، قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (¬1). ولا نعلمُ في ذلك خلافًا. (فأمَّا «مَتَى»، ففيها وَجْهان) أحدُهما، أنَّها تَقْتَضِي التَّكْرارَ. ذَكَرَه أبو بكرٍ؛ لأنَّها تُسْتَعْملُ للتَّكْرارِ، بدليلِ قول الشَّاعرِ (¬2): متى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِه … تَجِدْ خَيرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيرُ مُوقِدِ أي: في كُلِّ وقتٍ. ولأنَّها تُسْتَعْمَلُ في الشَّرْطِ والجزاءِ، ومتى وُجِدَ الشَّرْطُ تَرَتَّبَ عليه جَزاؤُه. والثاني، لا تَقْتَضِيه. قال شيخُنا (¬3): وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّها اسمُ زَمَنٍ بمعنى أيّ وقتٍ، وبمعنى إذا، فلا تَقْتَضِي ما لا يقْتَضِيانِه، وكوْنُها تُسْتَعْمَلُ للتَّكْرارِ في بعضِ أحْيانِها، لا يَمْنَعُ اسْتعمالها في غيرِه، مثلَ: «إذا»، وأيّ وقتٍ، فإنَّهما ¬

(¬1) سورة المائدة 64. (¬2) هو الحطيئة. والبيت في ديوانه 161. (¬3) في: المغني 10/ 445.

3546 - مسألة: (وكلها على التراخي إذا تجردت عن «لم»،

وَكُلُّهَا عَلَى التَّرَاخِي إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ «لَمْ»، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَعملانِ في الأمْرَينِ، قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬1). {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيكُمْ} (¬2). {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيتَهَا} (¬3). وقال الشَّاعرُ (¬4): قَومٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيه لهمْ … طَارُوا إليه زَرَافاتٍ ووُحْدانَا وكذلك أيّ وَقْتٍ وأيّ زمانٍ، فإنَّهما يُسْتَعْملانِ للتَّكْرارِ، وسائرُ الحروفِ يُجازَى بها، إلَّا أنَّها لمَّا كانتْ تُسْتعمَلُ للتَّكْرارِ وغيرِه، لا تُحْمَلُ على التَّكْرارِ إلَّا بدليلٍ، كذلك «متى» (¬5). 3546 - مسألة: (وَكُلُّهَا عَلَى التَّرَاخِي إذَا تَجَرَّدَتْ عن «لَمْ»، ¬

(¬1) سورة الأنعام 68. (¬2) سورة الأنعام 54. (¬3) سورة الأعراف 203. (¬4) هو قريط بن أنيف. شاعر من بلعنبر. والبيت في الحماسة 1/ 58. وانظر: شرح الحماسة 1/ 27. (¬5) في م: «حتى».

3547 - مسألة

صَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ، إلا «إِنْ»، وَفِي «إِذَا» وَجْهَانِ. فَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ. أَوْ: إِذَا قُمْتِ. أَوْ: مَنْ قَامَ مِنْكُنَّ. أَوْ: أَيَّ وَقْتٍ قُمْتِ. أَوْ: مَتَى قُمْتِ. أَوْ: كُلَّمَا قُمْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَمَتَى قَامَتْ، طَلُقَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإذَا اتَّصَلَتْ بِهَا صَارَتْ عَلَى الفَوْرِ، إلَّا «إنْ»، وَفِي «إذَا» وَجْهَانِ) متَى علَّقَ الطَّلاقَ بإيجادِ فعلٍ بواحدٍ منها، كان على التَّراخِي (فإذا قال: إن قُمْتِ. أو: إذا قُمْتِ. أَوْ: مَنْ قام مِنْكُنَّ. أو: أيَّ وقْتٍ قُمْتِ. أو: مَتى قُمْتِ. أو: كُلَّما قُمْتِ، فأنتِ طالقٌ. فمتى قامَتْ طَلُقَتْ) لوُجودِ الشَّرْطِ، وإن ماتَ أحدُهما قبلَ وُجودِ الشَّرْطِ، سقَطَتِ اليَمِينُ. 3547 - مسألة (¬1): (وإنِ اتَّصَلَتْ بِهَا) أي بـ «لم» (صَارَتْ عَلَى الفَوْر، إلَّا «إنْ») فإنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي؛ لأنَّهَا لا تَقْتَضِي وَقْتًا، إلَّا ضَرُورَةَ أنَّ الفِعْلَ لا يَقَعُ إلَّا فِي وَقْتٍ، فهِي مُطْلَقَةٌ فِي الزَّمَانِ كُلِّه. فإذا ¬

(¬1) من هنا جاء ترتيب المسائل في الأصل مخالفا لترتيب المسائل في المقنع، ولذا جاء ترقيم صفحات الأصل غير متوال، والمثبت بحسب ما في المطبوعة والمقنع.

3548 - مسألة: (وفي «إذا» وجهان)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إنْ لم تَدْخُلِي الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. لم يَقَعِ الطَّلاقُ إلَّا عندَ تعَذُّرِ إيقاعِه بالموْتِ، أو ما يقومُ مَقامَه. 3548 - مسألة: (وَفِي «إذَا» وَجْهَانِ) أحدُهما، هي على التَّراخِي. وهو قولُ أبي حنيفةَ. ونَصَرَه القاضي؛ لأنَّها تُسْتعملُ شَرْطًا بمعنى «إنْ»، قَال الشَّاعرُ (¬1): * وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجمَّلِ (¬2) * فجزَمَ بها كما يَجْزِمُ بإنْ، ولأنّها تُسْتَعْملُ بمعنى «متى» و «إنْ»، وإذا احْتَمَلَتِ الأمْرَينِ، فاليقينُ بقاءُ النَّكاحِ، فلا يَزولُ بالاحْتمالِ. والآخَرُ، أنَّها على الفَوْرِ. وهو قولُ أبي يوسف، ومحمدٍ. وهو المنْصوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّها اسمٌ لزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فتَكونُ كمتى. ¬

(¬1) هو عبد قيس بن خُفَاف، من بني عمرو بن حنظلة من البراجم قوم من تميم، وهو عجز بيت صدره: * واستغن ما أغناك ربك بالغنى * والبيت له في المفضليات 385، والأصمعيات 230. أو لحارثة بن بدر الغداني. انظر معجم شواهد العربية 319. (¬2) في م: «فتحملي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا المُجازَاة بها فلا تخْرِجها عن مَوْضوعِها، فإن «متى» يُجازَى بها، ألَا ترَى إلى قول الشَّاعرِ: مَتَى تَأْتِه تَعْشَو إلى ضَوْءِ نَارِه … تَجِدْ خَيرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيرُ مُوقِدِ و «مَنْ» يُجازَى بها أيضًا، وكذلك «أيّ» وسائرُ الحروفِ، ولم يُخْرِجْها ذلك عن كَوْنِها للفَوْرِ في النَّفْي. فصل: وقولهم: إنَّ هذه الأدواتِ الأرْبَعَ في النَّفْي تكون على الفَوْرِ. صَحِيحٌ في «كلَّما» و «أيّ» و «مَتى»، فإنَّها تَعُمُّ الزَّمانَ، فإذا قال: كلَّما لم أُطَلِّقْكِ. أو: أيّ وقتٍ لم أطَلِّقْكِ. أو: متى لم أُطَلِّقْكِ، فأنتِ طالقٌ. ثم مَضَى زَمَنٌ يُمْكِن (¬1) طَلاقُها فيه، ولم يُطَلِّقْها، طَلُقَتْ؛ لوجودِ الصِّفَةِ، فإنَّها اسمٌ لوقْتِ الفعلِ، فيقَدَّرُ بها (¬2)، ولهذا يَصِحُّ ¬

(¬1) في م: «يملك». (¬2) في م: «بهذا».

3549 - مسألة: (فإن تكرر القيام لم يتكرر الطلاق، إلا في

وَإِنْ تَكَرَّرَ الْقِيَامُ لَمْ يَتَكَرَّرِ الطَّلَاقُ إلا فِي «كُلَّمَا»، وَفِي ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّؤالُ به، فتقولُ: متى دَخَلْت. أو: أيُّ وقْتٍ دَخَلْت. أمَّا «مَنْ» فليستْ مِن أسْماءِ الزَّمانِ، إنَّما تَعُمُّ الأشْخاصَ، فلا يَظْهَرُ لي أنَّها تَقْتَضِي الفَوْرَ لذلك. فعلى هذا، إذا قال: مَنْ لم أُطَلِّقْها منْكُنّ فهي طالقٌ. لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهنَّ، إلَّا أن يتَعَذَّرَ طَلاقُها، كما قلنا في «إنْ» إذا قال: إنْ لم أُطَلِّقْكِ فأنتِ طالقٌ. فإنّ كلَّ واحدةٍ منهما ليستْ مِن أسْماءِ الزَّمانِ. والله أعلمُ. 3549 - مسألة: (فَإنْ تَكَرَّرَ القِيَامُ لم يَتَكَرَّرِ الطَّلاقُ، إلَّا في

3550 - مسألة: (فإذا قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق. فأكلت رمانة، طلقت ثلاثا)

«مَتَى» فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَلَوْ قَال: كُلَّمَا أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكُلَّمَا أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَ «كُلَّمَا» إِنْ أَكَلْتِ. لَمْ تَطْلُقْ إلا اثْنَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «كلَّما»، وفي «متى» في أحدِ الوَجْهَينِ) وقد ذَكَرْنا دليلَ الوَجْهَينِ فِي مُقْتَضَاها (¬1) التَّكْرَارَ وعَدَمَه. 3550 - مسألة: (فإذا قال: كلَّما أكَلْتِ رُمَّانَةً فأنْتِ طَالقٌ، وكُلَّما أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فأنْتِ طالقٌ. فأكَلَتْ رُمَّانَةً، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لوُجُودِ صِفَةِ النِّصْفِ مَرَّتَينِ، والجميعِ مَرَّةً، فَتَطْلُقُ بِكُلِّ نِصْفٍ طَلْقَةً، وبِالرُّمَّانَةِ طَلْقَةً. [فإنْ نوى نِصْفًا مُفردًا عن الرُّمَّانةِ، أو كانت مع الكلامِ قَرِينةٌ تَقْتَضى ذلك، لم يَحْنَثْ حتَّى تَأْكُلَ ما نَوى تَعَلُّقَ الطَّلاقِ به؛ لأنَّ مَبْنى الأيمَانِ على النِّيَّةِ] (¬2). (ولو جَعَلَ مَكَانَ كلَّما «إن» لم تَطْلُقْ إلَّا طَلْقَتَينِ) بصِفَةِ النِّصْفِ مَرَّةً، وبالكمالِ مَرَّةً، ولا تَطْلُقُ بالنِّصْفِ الآخَرِ، لأنَّها لا تَقْتَضِي التَّكْرارَ. ¬

(¬1) في م: «مقتضى». (¬2) سقط من: م.

3551 - مسألة: (ولو علق طلاقها على صفات ثلاث فاجتمعن في عين واحدة، نحو أن يقول: إن رأيت رجلا فأنت طالق. وإن رأيت أسود فأنت طالق، وإن رأيت فقيها فأنت طالق. فرأت رجلا أسود فقيها، طلقت ثلاثا)

وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى صِفَاتٍ ثَلَاثٍ فَاجْتَمَعْنَ فِي عَينٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلَ أنْ يَقُولَ: إِنْ رَأَيتِ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ رَأيتِ أَسْوَدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ رَأَيتِ فَقِيهًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَرَأَتْ رَجُلًا أَسْوَدَ فَقِيهًا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3551 - مسألة: (ولو عَلَّقَ طلاقَها على صِفاتٍ ثلاثٍ فاجْتَمعْن في عَينٍ واحِدَةٍ، نحوَ أنْ يَقُولَ: إنْ رَأَيتِ رَجُلًا فأنْتِ طَالقٌ. وإنْ رَأَيتِ أسْوَدَ فأنْتِ طالقٌ، وإن رَأيتِ فَقِيهًا فأنْتِ طالقٌ. فرَأتْ رَجُلًا أسْوَدَ فَقِيهًا، طَلُقَتْ ثلاثًا) لوُجودِ الصِّفاتِ الثّلاثِ فيه، أشْبَهَ ما لو رَأَتْ ثلاثةً فيهم الثّلاثُ الصِّفاتِ. فصل: وهذه الحروفُ السِّتَّةُ إذا تَقَدَّمَ جَزاؤُها عليها، لم تَحْتَجْ إلى حرفِ الفاءِ في الجزاءِ، كقولِه: أنتِ طالقٌ إن دخلتِ الدَّارَ. وإن تَأَخَّرَ جَزاؤُها، احْتاجَتْ في الجزاءِ إلى حرفِ الفاءِ، إذا كان جُمْلَةً مِن مبتدأٍ وخَبَرٍ، كقولِه: إن دخلتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. وإنَّما اخْتَصَّتْ بالفاءِ؛ لأنَّها للتَّعْقِيبِ، فتَرْبِطُ بينَ الجزاءِ وشَرْطِه، وتَدُلُّ على تَعْقِيبِه به.

3552 - مسألة:. (وإن قال: إن لم أطلقك فأنت طالق. لم تطلق إلا في آخر جزء من حياة أحدهما، إلا أن يكون له نية)

وَإِنْ قَال: إِنْ لَمْ أَطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، لَمْ تَطْلُقْ إلا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاةِ أَحَدِهِمَا، إلا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3552 - مسألة:. (وإن قال: إن لم أطَلِّقْكِ فَأنْتِ طَالقٌ. لَمْ تَطْلُقْ إلَّا في آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَياةِ أحَدِهِمَا، إلَّا أنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ) لأنَّ حرفَ «إن» موْضوعٌ للشَّرْطِ، لا يَقتَضِي زَمَنًا، ولا يَدُلُّ عليه إلَّا مِن حيثُ إنَّ الفِعْلَ المُعَلَّقَ به مِنْ ضَرُورَته الزَّمانُ، فلا يَتَقَيَّدُ بزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فما عُلِّقَ عليه كان على التَّراخِي، سواءٌ في ذلك الإِثْباتُ والنَّفْيُ. فعلى هذا إذا قال: إن لم أُطَلِّقْكِ فأنتِ طالقٌ. ولم يَنْو وَقْتًا بعَينِه، ولم يُطَلِّقْها، كان ذلك على التَّراخِي، لا يَحْنَثُ بِتأْخِيرِه؛ لأنَّ كُلَّ زَمَنٍ يُمْكِنُ أن يفْعَلَ فيه ما حَلَفَ عليه، فلم يَفُتِ الوقتُ، فإذا مات أحدُهما عَلِمْنا حِنْثَه حينئذٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ إيقاعُ الطَّلاقِ بها بعدَ موتِ أحدِهما، فَتَبَيَّنَ أنَّه يَقَعُ، إذْ (¬1) لم يَبْقَ مِن حياتِه ما يتَّسِعُ لتَطْليقِها. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ولا نعلمُ فيه بينَ أهلِ العلمِ خلافًا. ولو قال: إن لم أُطَلِّقْ عَمْرَةَ فحفصةُ طالقٌ. ¬

(¬1) في النسختين: «إذا». وانظر المغني 10/ 438.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأيُّ الثَّلاثةِ ماتَ أوَّلًا وقعَ الطَّلاقُ قَبْلَ موْتِه؛ لأنَّ تَطْليقَه حَفْصَةَ على وَجْهٍ تَنحَلُّ به يَمِينُه، إنَّما يكونُ في حياتِهم جميعًا. وكذلك لو قال: إن لم أُعْتِقْ عَبْدِي. أو: إن لم أضْرِبْه، فامْرأتِي طالقٌ. وقعَ بها الطَّلاقُ في آخِرِ جُزْءٍ مِن حياةِ أوَّلِهم مَوْتًا. فأمّا إن عَيَّنَ وَقْتًا بلَفْظِه أو نِيَّتِه، تَعَيَّنَ، وتَعَلَّقَتْ يمينُه به. قال أحمدُ: إذا قال: إن لم أضْرِبْ فُلانًا فأنتِ طالقٌ ثلاثًا. فهو على ما أرادَ مِن ذلك؛ وذلك لأنَّ الزَّمانَ المحْلوفَ على تَرْكِ الفِعْلِ فيه تَعَيَّنَ بنِيَّتِه وإرادَتِه، فصارَ كالمُصَرّحِ به في لَفْظِه، فإنَّ مَبْنَى الأيمانِ على النِّيَّةِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإنَّما لامْرِئٍ مَا نَوَى» (¬1). فصل: إذا كان المُعَلَّقُ طلاقًا بائِنًا فماتَتْ، لم يَرِثْها، لأنَّ طَلاقَه أبانَها منه، فلم يَرِثْها، كما لو طَلَّقَها ناجِزًا عندَ مَوْتِها. وإن ماتَ وَرِثَتْه. نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ أبي طالبٍ، إذا قال الرَّجلُ لزَوْجَتِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إن لم أتَزَوَّجْ عليكِ. [وماتَ ولم] (¬2) يَتَزوَّجْ عليها، وَرِثَتْه، وإن ماتَتْ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) في الأصل: «وما لم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَرِثْها؛ وذلك لأنَّها تَطْلُقُ في آخِرِ حياتِه، فأشْبَهَ طَلاقَه لها في تلك الحالِ. ونحوَ هذا قال عطاءٌ، ويحيى الأنْصارِيُّ. ويتَخَرَّجُ لنا أنَّها لا تَرِثُه أيضًا. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، والشَّعْبِيِّ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّه إنَّما طَلَّقَها في صِحَّتِه، وإنَّما تَحَقَّقَ شَرْطُ وُقوعِه في المرضِ، فلم تَرِثْه، كما لو عَلَّقَه على فِعْلِها، ففَعَلَتْه في مَرَضِه. وقال أبو حنيفةَ: إن حَلَفَ إن لم تَأْتِ البَصْرَةَ فأنتِ طالقٌ. فلم تَفْعَلْ، فإنَّهما لا يَتوارَثانِ، وإن قال: إن لم آتِ البصرةَ فأنتِ طالقٌ. فماتَ، وَرِثَتْه، وإن ماتَت لم يَرِثْها؛ فإنَّه في الأُولَى عَلَّقَ الطَّلاقَ على فِعْلِها، فإذا امْتَنَعتْ منه، فقد حَقَّقَتْ شَرْطَ الطَّلاقِ، فلم تَرِثْه، كما لو قال: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. فدَخَلَتْها، وإذا عَلَّقَه على فِعْلِ نفْسِه، فامْتَنَعَ، كان الطّلاقُ منه، فأشْبَهَ ما لو نَجَزَه في الحالِ. ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّه طَلاقٌ في مرضِ مَوْتِه، فمنعَه مِيراثَه (¬1)، ولم يَمْنَعْها، كما لو طَلَّقَها ابتداءً، ولأن الزّوجَ أخَّرَ الطَّلاقَ اخْتِيارًا منه حتى وقعَ ما عَلَّقَ عليه في مرضِه، فصارَ كالمُباشِرِ له. فأمَّا ما ذُكِرَ عن أبي حنيفةَ، فحسَنٌ إذا كان الفِعْلُ ممّا لا مَشَقَّةَ عليها فيه؛ لأنَّ تَرْكَها له كفِعْلِها لِما حَلَف عليها لتَتْرُكَه، وإن كان ممَّا فيه مَشَقّةٌ، فلا يَنْبَغِي أن يَسْقُطَ مِيراثُها بتَرْكِه، كما لو حَلَفَ عليها بتَرْكِ ما لا بُدّ لَها مِن فِعْلِه. ¬

(¬1) في م: «ميراثها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُمْنَعُ مِن وَطْءِ زَوْجَتِه قبلَ فِعْلِ ما حَلَفَ عليه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ ومالكٌ، وأبو عُبَيدٍ: لا يَطَأُ حتى يَفْعَلَ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدمُ الفِعْلِ، ووقوعُ الطَّلاقِ. وروَى الأثْرَمُ عن أحمدَ مثلَ ذلك. وقال الأنْصارِيُّ، ورَبِيعةُ، ومالكٌ: يُضْرَبُ له أجَلُ المُولِي، كما لو حَلَفَ أن لا يَطَأَها. ولَنا، أنَّه نِكاحٌ صَحِيحٌ، لم يَقَعْ فيه طَلاقٌ ولا غيرُه من أسْبابِ التَّحْريمِ، فَحلَّ له الوَطْءُ فيه، كما لو قال: إن طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ. وقولُهم: الأصْلُ عَدَمُ [الفِعْلِ، ووُقوعُ] (¬1) الطَّلاقِ. قُلْنا: هذا الأصْلُ لم يَقْتَضِ وُقوعَ الطَّلاقِ، فلم يَقْتَضِ حُكْمَه، ولو وَقَعَ الطَّلاقُ بعدَ وَطْئِه لم يَضُرَّ، كما لو طَلَّقَها ناجِزًا، وعلى أنَّ الطَّلاقَ ههُنا إنَّما يَقَعُ في زمنٍ لا (¬2) يُمْكِنُ الوَطْءُ بعدَه، بخِلافِ قولِه: إن وَطِئْتُكِ فأنتِ طالقٌ. فصل: إذاحَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شيئًا، ولم يُعَيِّنْ له وَقْتًا بلَفْظِه ولا نِيَّتِه، فهو على التَّراخِي أيضًا؛ لأنَّ لَفْظَه مُطْلَقٌ بالنِّسْبَةِ إلى الزَّمانِ كلِّه، فلا يَتَقَيُّدُ بدونِ تَقْييدِه، ولذلك لمَّا قال اللهُ تعالى في السَّاعةِ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (¬3). وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة سبأ 3.

وَإِنْ قَال: مَنْ لَمْ أُطَلِّقْهَا. أَوْ: أَيَّ وَقْتٍ لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلَاقُهَا فِيهِ، طَلُقَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمِلْتُمْ} (¬1). [كان ذلك] (¬2) على التَّراخِي، ولَمّا قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬3). كان ذلك على التَّراخِي؛ فإنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في نوْبَةِ الحُدَيبِيَةِ في سنةِ ستٍّ، وتَأَخَّرَ الفَتْحُ إلى سَنَةِ ثَمانٍ. ولذلك رُوِيَ عن عمرَ، أنَّه قال: قلت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوَ ليس كنتَ تُحَدِّثُنا أنَّا سَنَأْتي البَيتَ ونَتَطوَّفُ به؟ قال: «بَلَى، فَأَخْبَرتُكَ أنَّك آتِيهِ الْعَامَ؟». قلتُ: لا. قال: «فَإنَّكَ آتِيهِ وَمُطوِّفٌ بهِ» (¬4). وهذا لا خِلافَ فيه نَعْلَمُه. ¬

(¬1) سورة التغابن 7. (¬2) في م: «وذلك». (¬3) سورة الفتح 27. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب الشروط في الجهاد. . . .، من كتاب الشروط. صحيح البخاري 3/ 256. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 330.

3553 - مسألة: (وإن قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق)

وَإِنْ قَال: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهَلْ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. وَإِنْ قَال: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلَاقُهَا فِيهِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُطَلِّقهَا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، إلا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَإِنَّها تَبِينُ بِالْأُولَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3553 - مسألة: (وإن قال: إذا لم أُطَلِّقْكِ فَأنْتِ طَالقٌ) ولم يُطَلِّقْهَا (فهل تَطْلُقُ في الحالِ؟ على وَجْهَينِ) بِناءً على قَوْلِنا: هي على الفَوْرِ، أو على التَّراخِي. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ القَوْلَينِ. 3554 - مسألة: (وإن قال: كُلَّمَا لَم أُطَلِّقْكِ فَأنْتِ طَالقٌ. فمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فِيهِ طَلاقُها ثلاثًا، ولم يُطَلِّقْها، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لأنَّ «كُلَّما» تَقْتَضِي التَّكْرارَ ([إلَّا التي لم يَدْخُلْ بها، فإنَّها تَبِينُ بالأُولَى]) (¬1) ¬

(¬1) سقط من: م.

3555 - مسألة: (وإن قال العامي: أن دخلت الدار فأنت طالق. بفتح الهمزة، فهو شرط)

وَإِنْ قَال الْعَامِّيُّ: أَنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ، وَإِنْ قَالهُ عَارِفٌ بِمُقْتَضَاهُ، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [لأنَّ «كلَّما» تقتضي التَّكْرارَ] (¬1) على ما بَيَّنَّا، قال الله تعالى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} (¬2). فيَقْتضى تَكْرَارَ الطَّلاقِ بتَكْرارِ الصِّفَةِ، والصِّفةُ عَدَمُ طَلاقِه لها، فإذا مَضَى زمنٌ يُمْكِنُ فيه أن يُطَلِّقَها ولم يَفْعَلْ، فقد وُجِدَتِ الصِّفَةُ، فتَقَعُ واحدةٌ وثانِيَةٌ وثالثةٌ، إن كانتْ مَدْخولًا بها، وإن لم تَكُنْ مدْخولًا بها، بانَتْ بالأُولَى، ولم يَلْزَمْها ما بعدَها؛ لأنَّ البائنَ لا يقَعُ عليها طَلاقٌ. 3555 - مسألة: (وإن قال العامِّيُّ: أنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ. بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فهو شَرْطٌ) لأنَّ العَامِّيَّ لا يُريدُ بذلك إلَّا الشَّرْطَ، ولا يَعْرِفُ أنَّ مُقْتَضاها التَّعْليلُ، فلا يُريدُه، فلا يَثْبُتُ له حُكْمُ ما لا يَعْرِفُه ولا يُريدُه، كما لو نَطَقَ بكلمةِ الطَّلاقِ بلسانٍ لا يَعْرِفُه. وإن كان نَحْويًّا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة المؤمنون 44.

وَحُكِيَ عَنِ الْخَلَّالِ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْو مُقْتَضَاهُ فَهُوَ شَرْطٌ أَيضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَعَ طلاقُه في الحالِ؛ لأنَّ «أنْ» المفْتوحةَ ليستْ للشَّرْطِ إنَّما هي للتَّعْليلِ، فمعناه: أنتِ طالقٌ لأنَّكِ (¬1) دخلتِ الدَّارَ. أو: لدُخولِك الدَّارَ. كقولِه تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسْلَمُوا} (¬2). و {تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (¬3). و {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} (¬4). قال القاضي: هذا التَّفْصيلُ قياسُ المذهبِ. (وحُكِيَ عن الخَلَّالِ) أنَّ حُكْمَ النحْويِّ حُكْمُ العَامِّيِّ، في أنَّه لا يَقَعُ طَلاقُه بذلك، إلَّا أن يَنْويَه؛ لأنَّ الطَّلاقَ يُحْمَلُ على العُرْفِ في حَقِّهِما جميعًا. وقال أبو بكرٍ: تَطْلُقُ في الحالِ في حَقِّهما جميعًا، عَمَلًا بمُقْتَضى اللُّغَةِ. واخْتلَفَ أصحابُ الشافعيِّ على ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يَقَعُ في الحالِ في حقِّهما جميعًا، كقولِ أبي بكرٍ. والثاني، يكونُ شَرْطًا في حَقِّ العامِّيِّ (¬5)، ¬

(¬1) في م: «لأنت». (¬2) سورة الحجرات 17. (¬3) سورة مريم 90، 91. (¬4) سورة الممتحنة 1. (¬5) في م: «العاص».

3556 - مسألة: (وإن قال: إن قمت وأنت طالق. طلقت في الحال)

وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ وَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الْجَزَاءَ. أَوْ: أرَدْتُ أنْ أَجْعَلَ قِيَامَهَا وَطَلَاقَهَا شَرْطَينِ لِشَيْءٍ، ثُمَّ أَمْسَكْتُ. دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَعْليلًا في حَقِّ النَّحْويِّ، على ما ذكَرَه القاضي. والثالثُ، يَقَعُ الطَّلاقُ إلَّا أن يكونَ من (¬1) أهلِ الإِعْرابِ، فيقولُ: أردتُ الشَّرْطَ. فيُقْبَلُ؛ لأنَّه لا يجوزُ صَرْفُ الكلامِ عن مُقْتَضاه إلَّا بقَصْدِه. وإن قال: أنتِ طالقٌ إذْ دَخَلْتِ الدَّارَ. طَلُقَتْ في الحالِ؛ لأنَّ «إذْ» للماضِي. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ؛ لأنَّ الطَّلاقَ لا يَقَعُ في زمنٍ ماضٍ، كقولِه: أنتِ طالقٌ أمسِ. 3556 - مسألة: (وإن قال: إن قُمْتِ وأنْتِ طالقٌ. طَلُقَتْ في الحالِ) لأنَّ الواوَ ليستْ جوابًا للشرْطِ (فَإنْ قَال: أرَدْتُ) بِهَا (الجَزَاءَ. أو: أرَدْتُ أن أجْعَلَ قِيَامَها وطَلاقَهَا شَرْطَينِ لِشَيءٍ، ثُمَّ أمْسَكْتُ. دُيِّنَ) لأنَّ ما قاله مُحْتَمِلٌ (وهل يُقْبَلُ فِي الحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ) إحْداهما، ¬

(¬1) في الأصل: «بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه خلافُ الظَّاهِرِ. والثانيةُ، يُقْبَلُ؛ لأنَّ قوْلَه يَحْتَمِلُه، وهو أعْلمُ بمُرادِه، وإن جعلَ لهذا جَزاءً، فقال: إن دخَلْتِ الدَّارَ وأنتِ طالقٌ فعبْدِي حُرٌّ. صَحَّ، ولم يَعْتِقِ العبدُ حتى تدْخُلَ الدَّارَ وهي طالقٌ؛ لأنَّ الواوَ ههُنا للحالِ، كقولِ اللهِ تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1). ولو قال: إن دخلْتِ الدارَ طالقًا [فأنتِ طالقٌ] (¬2). فدخلَتْ وهي طالقٌ، طَلُقَتْ أُخْرَى، [وإن دَخَلَتْها غيرَ طالِقٍ لم تَطلُقْ] (¬3)؛ لأنَّ هذا حالٌ، فجرَى مَجْرَى قولِه: إن دخلْتِ الدَّارَ راكبةً. ¬

(¬1) سورة المائدة 95. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: إن دخَلْتِ الدَّارَ أنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقْ حتى (¬1) تَدخُلَ. وبه قال بعضُ الشافعيَّةِ. وقال محمدُ بنُ الحسَنِ: تَطْلُقُ في الحالِ؛ لأنَّه لم يُعَلِّقْه بدُخولِ الدَّارِ بالفاءِ التي إنَّما يُتَعَلَّقُ بها، فيكونُ كلامًا مُسْتأْنَفًا غيرَ مُعَلَّقٍ بشَرْطٍ، فيَثْبُتُ حُكْمُه في الحالِ. ولَنا، أنَّه أتَى بحرفِ الشَّرْطِ، فيدُلُّ ذلك على أنَّه أرادَ التَّعْلِيقَ، وإنَّما حَذَفَ الفاءَ وهي مُرادَةٌ، كما يُحْذَفُ المبتدأُ تارةً، والخَبرُ أُخْرَى، لدَلالةِ باقي الكلامِ على المحْذوفِ، ويجوزُ أن يكونَ حَذْفُ الفاءِ على التَّقْديمِ [والتأخيرِ، فكأنَّه قال: أنتِ طالقٌ إن دَخَلْتِ الدَّارَ. فقَدَّمَ الشَّرطَ، ومُرادُه] (¬2) التَّأْخيرُ، ومهما أمْكَنَ حَمْلُ كلامِ العاقلِ على فائدةٍ، وتَصْحيحُه عن الفسادِ، وَجَبَ، وفيما ذَكَرْنَا تَصْحيحُه، وفيما ذَكَرُوه [إلْغاؤُه. وإن] (¬3) قال: أردتُ الإِيقاعَ في الحالِ. وَقَعَ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفسِه ¬

(¬1) من هنا يتفق ترتيب المخطوطة مع المطبوعة، وهو موافق لترتيب المقنع. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «للعادة فإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما هو أغْلَظُ. وإن قال: أنتِ طالقٌ وإن دخَلْتِ الدَّارَ. وَقَعَ الطَّلاقُ في الحالِ؛ لأنَّ معناه أنتِ طالقٌ في كُلِّ حالٍ، ولا يَمْنَعُ من ذلك دُخولُكِ الدَّارَ، كقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَال: لَا إِلهَ إلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى، وإِنْ سَرَقَ» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صِلْهمْ وَإِنْ قَطَعُوكَ، وَأَعْطِهِمْ وَإِنْ حَرَمُوكَ» (¬2). وإن قال: أردتُ الشَّرْطَ. دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَينِ. فإن قال: إن دخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ وإن دخَلَتِ الأُخْرَى. فمتى دخَلَتِ الأُولَى طَلُقَتْ، سواءٌ دخلَتِ الأُخْرَى أو لم تَدْخُلْ، ولا تَطْلُقُ الأُخْرَى. وقال ابنُ الصَّبَّاغِ: تَطْلُقُ بدُخولِ كلِّ واحدةٍ منهما. ومُقْتَضَى اللُّغَةِ ما قُلْناه. وإن قال: أردتُ جَعْلَ الثَّانِي شَرْطًا لطَلاقِها أيضًا. طَلُقَتْ بكُلِّ واحدةٍ منهما؛ لأنّه يُقِرُّ على نفْسِه بما هو أغْلَظُ. وإن قال: أردتُ أنَّ دخولَ الثَّانيةِ شَرْطٌ لطلاقِ الثَّانيةِ. فهو على ما أرادَه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز، وفي: باب الثياب البيض، من كتاب اللباس، وفي: باب من أجاب بلبيك وسعديك، من كتاب الاستئذان، وفي: باب المكثرون هم المقلون، وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا»، من كتاب الرقاق، وفي: باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 2/ 89، 90، 7/ 192، 193، 8/ 75، 117، 118، 9/ 174. ومسلم، في: باب من مات لا يشرك. . . .، من كتاب الإيمان، وفي: باب الترغيب في الصدقة، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 1/ 94، 95، 2/ 688، 689. والترمذي، في: باب ما جاء في افتراق هذه الأُمة، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 10/ 113. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 152، 159، 161، 166. (¬2) أخرج نحوه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 148، 158. وعبد الرزاق، في: باب صلة الرحم، من كتاب الجامع. المصنف 11/ 172، 173. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في البكاء من خشية الله، من كتاب الزهد. المصنف 14/ 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: إن دخلْتِ الدَّارَ وإن دخَلَتْ هذه الأُخْرَى فأنتِ طالقٌ. فقد قيلَ: لا تَطْلُقُ إلَّا بدُخولِهما؛ لأنَّه جعلَ طَلاقَها جَزاءً لهذَينِ الشَّرْطَينِ. ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ بأحَدِهما أيِّهما كان؛ لأنَّه ذكَرَ شَرْطَينِ بحَرْفَينِ، فيَقْتَضِي كلُّ واحدٍ منهما جَزاءً، فتَرك ذِكْرَ جزاءِ الأوَّلِ، وكان الجزاءُ الآخَرُ دَالًّا عليه، كما لو قال: ضَرَبْتُ وضَرَبَنِي زيدٌ. قال الفَرَزْدَقُ (¬1): ولَكِنَّ نِصْفًا لو سَبَبْتُ وسَبَّنِي … بَنو عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ قُرَيشٍ وَهَاشِمِ والتَّقدير سَبَّني هؤلاءِ وسَبَبْتهم. وقال الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (¬2). أي عن اليمينِ قَعِيدٌ وعن الشِّمالِ قَعِيدٌ. فصل: ولو قال: أنتِ طالقٌ لو قمْتِ. كان ذلك شَرْطًا بمَنْزِلةِ قوْلِه: إن قُمْتِ. ويُحْكَى هذا عن أبي يوسفَ؛ لأنَّها لو لم تَكُنْ للشَّرْطِ كانتْ ¬

(¬1) في ديوانه: 844. وفيه «ولكن عدلًا». وأورده صاحب لسان العرب في (ن ص ف) وقال: والنصف: الإنصاف. (¬2) سورة ق 17.

3557 - مسألة: (وإن قال: إن قمت فقعدت فأنت طالق)

وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ فَقَعَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: إِنْ قَعَدْتِ إِذَا قُمْتِ. أَوْ: إِنْ قَعَدْتِ إِنْ قُمْتِ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَقُومَ ثُمَّ تَقْعُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لَغْوًا، والأصْلُ اعْتِبارُ كَلامِ المُكَلَّفِ. وقيلَ: يَقَعُ الطَّلاقُ في الحالِ. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ، لأنَّها بعدَ الإِثْباتِ تُسْتَعْملُ لغيرِ المَنْعِ، كقَوْلِه تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (¬1)، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} (¬2). وإن قال: أردتُ أن أجْعلَ لها جوابًا. دُيِّنَ. [وهل] (¬3) يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَينِ. 3557 - مسألة: (وإن قَال: إن قُمْتِ فَقَعَدْتِ فَأنْتِ طَالقٌ) أو: إنْ قُمْتِ ثم قَعَدْتِ (لم تَطْلُقْ حَتَّى تَقُومَ ثُمَّ تَقْعُدَ) لأنَّهُمَا حَرْفَا تَرْتِيبٍ، وكذلك إن قال (إن قَعَدْتِ إذَا قُمْتِ. أو: إنْ قَعَدْتِ إنْ قُمْتِ) لأنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى تَعْلِيقَ الطَّلاقِ بِالْقُعُودِ بَعْدَ الْقِيَامِ. فصل: وإن قال: إن قُمْتِ إذا قَعَدْتِ. أو: إن قُمْتِ إن قَعَدْتِ. ¬

(¬1) سورة الواقعة 76. (¬2) سورة القصص 64. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَطْلُقْ حتى تَقْعُدَ ثم تقومَ. وكذلك إن قال: أنتِ طالقٌ إن أكَلْتِ إذا لَبِسْتِ. أو: إن أكَلْتِ إن لَبسْتِ. أو: إن أكَلْتِ متى لَبِسْتِ. لم تَطْلُقْ حتى تَلْبَسَ ثم تَأْكُلَ. ويُسَمِّيه النَّحْويُّونَ اعْتِراضَ الشَّرْطِ على الشَّرْطِ، فيَقْتَضِي تقْديمَ المُتَأَخِّرِ وتأْخِيرَ المتقدِّمِ؛ لأنَّه جَعَلَ الثَّانِيَ في اللَّفْظِ شَرْطًا للذي قبلَه، والشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ المَشْروطَ، قال اللهُ تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْويَكُمْ} (¬1). فلو قال لامرأتِه: إن أعطيتُكِ، إن وعدْتُكِ، إن سألْتِيني (¬2)، فأنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقْ حتى تسْألَه، ثم يَعِدَها، ثم يُعطِيهَا؛ لأنَّه شَرَطَ في العَطِّيَّةِ الوَعْدَ، وفي الوعدِ السُّؤال، فكأنَّه قال: إن سألْتِيني (2)، فوعَدْتُكِ، فأعْطَيتُكِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال القاضي، إذا كان ¬

(¬1) سورة هود 34. (¬2) في الأصل: «سألتني».

3558 - مسألة: (وإن قال: إن قمت وقعدت فأنت طالق.

وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ وَقَعَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِوُجُودِهِمَا كَيفَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطُ بـ «إذا» (¬1) كقوْلِنا، وفيما إذا كان بـ «إن» مثلَ قولِه: إن شَرِبْتِ إن أكلتِ. أنَّها تَطْلُقُ بوُجودِهما كيفما وُجِدَا. قال: لأنَّ أهلَ العُرْفِ لا يعْرِفون (¬2) ما يقولُه أهلُ العربيَّةِ في هذا، فتَعلَّقَتِ اليَمِينُ بما يَعْرِفُه أهلُ العُرْفِ، بخِلافِ ما إذا كان الشَّرْطُ بـ «إذا» (1). قال شيخُنا (¬3): والصَّحيحُ الأوَّلُ، وليس لأهلِ العُرْفِ في هذا عُرْفٌ؛ فإنَّ هذا الكلامَ غيرُ مُتَدَاوَلٍ بينَهم، ولا يَنْطِقُونَ به إلَّا نادرًا، فيَجِبُ الرُّجوعُ فيه إلى مُقْتَضاه عندَ أهلِ اللِّسانِ. والله أعلمُ. 3558 - مسألة: (وإن قال: إن قُمْتِ وَقَعَدْتِ فأنْتِ طالقٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «نادرًا». (¬2) في الأصل: «يعرف». (¬3) في: المغني 10/ 449.

كَانَ. وَعَنْهُ، تَطْلُقُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا، إلا أنْ يَنْويَ. وَالأوَّلُ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقَتْ بِوُجُودِهَما كَيفَما كان) لأنَّ الواوَ لا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، ولا تَطْلُقُ بوُجودِ أحدِهما؛ لأنَّهَا للجَمْعِ، فلم يقَعْ قبلَ وُجُودِهما جميعًا (وعنه) أنَّها (تَطْلُقُ بوُجودِ أحَدِهما) وخَرَّجَه القاضي وَجْهًا؛ بِناءً على إحْدَى الرِّوايَتَينِ، في مَن حَلَفَ لا يَفْعَلُ شيئًا، فَفَعلَ بعضَه. والأوَّلُ أصَحُّ، وهذه الرِّوايةُ بَعِيدةٌ جدًّا، تُخالِفُ الأصُولَ ومُقْتَضَى اللُّغَةِ والعُرْفَ وعامَّةَ أهلِ العلمِ؛ فإنَّه لا خلافَ بينَهم في أنَّه إذا عَلَّقَ الطَّلاقَ على شَرْطَينِ مُرَتَّبَين، في مثلِ قولِه: إن قُمْتِ فقَعَدْتِ. أنَّه لا يقَعُ بوُجودِ أحَدِهما، فكذلك هنا (¬1)، ثم يَلْزَمُ على هذا ما لو قال: إن أعْطَيتِنِي دِرْهَمين فأنتِ طالقٌ. أو: إذا مَضَى شَهْران فأنتِ طالقٌ. فإنَّه لا خلافَ في أنَّها لا تَطلُقُ قبلَ وُجودِهما جميعًا، وكان قولُه يقْتَضِي الطَّلاقَ بإعْطائِه بعضَ دِرْهمٍ، ومُضِيِّ بعضِ يومٍ، وأصولُ الشَّرْعِ تَشْهدُ بأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ بشَرْطَينِ لا يَثْبُتُ إلَّا بهما، وقد نَصَّ أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، في أنَّه إذا قال: إذا حِضْتِ حيضَةً فأنتِ طالقٌ. أو: إذا صُمْتِ يومًا فأنتِ طالقٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «هذا».

3559 - مسألة: (وإن قال: إن قمت أو قعدت فأنت طالق.

وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ أَوْ قَعَدْتِ فَأنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّها لا تَطْلُقُ حتى تَحيضَ حَيضَةً كاملةً، وإذا غابَتِ الشَّمْسُ مِن اليومِ الذي تَصُومُ (¬1) فيه طَلُقَتْ، وأمَّا اليَمِينُ، فإَّنه متى كان في لَفْظِه أو نِيَّتِه ما يَقْتَضِي جميعَ المَحْلوفِ عليه، لم يَحْنَثْ إلَّا بفِعْلِ جميعِه، وفي مَسألتِنا ما يَقْتَضِي تَعْليقَ الطَّلاقِ بالشَّرْطينِ؛ لتَصْريحِه بهما، وجَعْلِهما شَرْطًا للطَّلاقِ، والحُكْمُ لا يَثْبُتُ بدونِ شَرْطِه، على أنَّ اليَمِينَ مُقْتَضاها المَنْعُ ممَّا حَلَفَ عليه، فيَقْتَضِي المنعَ مِن فِعْلِ جميعِه، كنَهْي الشَّارعِ عن شيءٍ يَقْتَضِي المنعَ مِن كلِّ جزءٍ منه، كما يَقْتَضِي المنعَ مِن جُمْلَتِه، وما عُلِّقَ على شَرْطٍ جُعِلَ جَزاءً وحُكْمًا له (¬2)، والجزاءُ لا يُوجَدُ بدونِ شَرْطِه، والحُكْمُ لا يتَحَقَّقُ قبلَ تَمامِ شَرْطِه، لُغَةً وعُرْفًا وشَرْعًا. 3559 - مسألة: (وإنْ قَال: إنْ قُمْتِ أَوْ قَعَدْتِ فأنْتِ طالقٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «تقوم». (¬2) سقط من: م.

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْحَيضِ: إِذَا قَال: إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ بِأَوَّلِ الْحَيضِ، فَإِنْ بَانَ أَنَّ الدَّمَ لَيسَ بِحَيضٍ، لَمْ تَطلُقْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقَتْ بوُجُودِ أحَدِهما) لأنَّ «أو» لأحَدِ الشَّيئَينِ، وكذلك إنْ قال: إن أكَلْتِ. أو: إنْ لَبِسْتِ. أو: لا أكَلْتِ ولا لَبِسْتِ. لأنَّ «أو» تَقْتَضِي تَعْليقَ الجزاءِ على واحدٍ من المَذْكورِ، كقولِه سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). فصل في تَعْلِيقِه بالحيضِ: قال الشَّيخُ، رَحِمَه الله: (إذا قال) لامْرأتِه (إن حِضْتِ فأنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ بأوَّلِ الحَيضِ) لأنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ، ولذلك (¬2) حَكَمْنا أنَّه حَيضٌ في المنْعِ من الصَّلاةِ والصِّيامِ (فإنْ بانَ أنَّ الدَّمَ ليس بحَيضٍ) [إمَّا أن يَنْقُصَ عن أقلِّ الحيضِ، أو لكوْنِهَا بنتَ دونَ تسعِ سنينَ] (¬3) (لم تَطْلُقْ) وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّا تَبَيَّنا أنَّ الصِّفَةَ لم تُوجَدْ. ¬

(¬1) سورة البقرة 184. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) سقط من: م.

3560 - مسألة: (وإذا قال لطاهر: إذا حضت حيضة فأنت طالق. لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر)

وَإِذَا قَال لِطَاهِرٍ: إِذَا حِضْتِ حَيضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَلَاتَعْتَدُّ بِالْحَيضَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3560 - مسألة: (وإذا قال لطاهرٍ: إذا حِضْتِ حَيضَةً فأنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقْ حتى تَحِيضَ ثم تَطْهُرَ) نصَّ عليه أحمدٌ (¬1)؛ لأَنها لا تَحِيضُ حَيضَةً إلَّا بذلك (ولا تَعْتَدُّ بالحَيضةِ التي هي فيها) لأنَّها ليستْ حَيضَةً كاملةً. وإن قال: إذا حِضْتِ حَيضَةً فأنتِ طالقٌ، وإذا حِضْتِ حَيضَتَينِ فأنتِ طالقٌ. فحاضَتْ حَيضَةً، طَلُقَتْ واحدةً، فإذا حاضَتِ الثَّانيةَ، [طَلُقَتِ الثَّانِيةَ] (¬2) عندَ طُهْرِها. وإن قال: إذا حِضْتِ حَيضةً ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

3561 - مسألة: (وإذا قال: إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق)

وَإِنْ قَال: إِذَا حِضْتِ نِصْفَ حَيضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. احْتَمَلَ أَنْ يُعْتَبَرَ نِصْفُ عَادَتِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنَّهَا مَتَى طَهُرَتْ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْغُوَ قَوْلُهُ: نِصْفَ حَيضَةٍ. وَقِيلَ: إِذَا حَاضَتْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا طَلُقَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأنتِ طالقٌ، ثم إذا حِضْتِ حَيضتَينِ فأنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقِ الثَّانيةَ حتى تَطْهُرَ مِن الحَيضَةِ الثَّالثةِ؛ لأنَّ «ثُمَّ» للتَّرْتِيبِ، فتَقْتَضِي حَيضَتَين بعدَ الطَّلْقَةِ الأُولَى، لكَوْنِهما مُرَتَّبَتَينِ عليها (¬1). 3561 - مسألة: (وإذا قال: إذا حِضْتِ نِصْفَ حَيضَةٍ فأنْتِ طالقٌ) طَلُقَتْ إذَا ذَهَب نِصْفُ الحَيضَةِ، ويَنْبَغِي أن يُحْكَمَ بِوُقوعِ الطَّلاقِ إذا حاضَتْ نِصْفَ عادَتِها؛ لأنَّ الأحْكامَ تَعلَّقَتْ بالعادَةِ، فَيتعلَّقُ بها وُقوعُ الطَّلاقِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَقَعَ الطَّلاقُ حتى يَمْضِيَ (¬2) سبعةُ أَيَّامٍ ونِصْفٌ؛ لأنَّا لا نَتَيَقَّنُ مُضِيَّ نِصْفِ الحَيضِ إلَّا بذلك، إلَّا أنْ تَطْهُرَ لأقَلَّ ¬

(¬1) في الأصل: «عليهما». (¬2) سقط من: الأصل.

3562 - مسألة: (وإن قال: إذا طهرت فأنت طالق)

وَإِنْ قَال: إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ إِذَا انْقَطَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ذلك، ومتى طَهُرَتْ تَبَيَّنَّا وُقوعَ الطَّلاقِ في نِصْفِ الحَيضَةِ. وحُكِيَ عن القاضِي أنَّه يَلْغُو قَولُه: نِصْفَ حَيضَةٍ. فعلى هذا، يَتَعَلّقُ طَلَاقُها بأوَّلِ الدَّمِ؛ لأَنَّها لا نِصْفَ لَها، فيكونُ كقولِه: إذا حِضْتِ. وقيل: يَلْغو قولُه: نِصفٌ. فهو كقولِه: إذا حِضْتِ حَيضَةً. والأوَّلُ أصَحُّ؛ فإنَّ الحَيضَ لَه مُدَّةٌ، أقَلُّهَا يومٌ وليلةٌ أَوْ يوْمٌ، فيكونُ له نِصْفٌ (¬1) حَقِيقَةً، والجَهْلُ بِقَدْرِ ذلك لا يَمْنَعُ وجُودَه وتَعلُّقَ الحُكمِ بِه، كالحَمْلِ. 3562 - مسألة: (وإن قال: إذا طَهُرْتِ فَأنْتِ طَالقٌ) وكانت طاهرًا، لم تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ. وهذا يُحْكَى عن أبي يوسفَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

الدَّمُ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيضَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَإِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: الذي يَقْتَضِيه مذهبُ الشافعيِّ أنَّها تَطْلُقُ بما يتَجدَّدُ مِن طُهْرِها، وكذلك قال في قوْلِه: إذا حِضْتِ فأنتِ طالقٌ. وكانت حائضًا، أنَّها تَطْلُقُ بما يتَجدَّدُ مِن الحَيضِ؛ لأنَّه قد وُجِدَ منها الحَيضُ والطُّهْرُ (¬1) فَوَقَع الطَّلاقُ لوُجودِ صِفَتِه. ولَنا، أنَّ «إذا» اسمٌ لزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، يَقْتَضِي فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا، وهذا الطُّهْرُ والحَيضُ مُسْتَدامٌ غيرُ مُتجدِّدٍ، ولا يُفْهَمُ مِن إطْلاقِ (¬2): حاضَتِ المرأةُ وطَهُرَتْ. إلَّا ابتداءُ ذلك، [فتَعلَّقَتِ الصِّفَةُ به] (¬3). فأمَّا إذا قال: إذا طَهُرْتِ فأنتِ طالقٌ. وهي حائضٌ، طَلُقَتْ بانْقِطاعِ الدَّمِ قبلَ الغُسْلِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ إبراهيمَ الحَرْبِيِّ. وذكرَ أبو بكَرٍ في «التَّنْبِيهِ» فيها قَوْلًا، أنَّها لا تَطْلُقُ حتى تَغْتَسِلَ، بناءً على العِدَّةِ في أنَّها لا تَنْقَضِي إلَّا بالغُسْلِ. ولَنا، أنَّ اللهَ تعالى قال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬4). أي: يَنْقطعَ دَمُهنَّ، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (4). أي: اغْتَسَلْنَ. ولأنَّه قد ثَبَتَ لها أحْكامُ الطّاهراتِ (¬5) في وُجوبِ الصَّلاةِ وصِحَّةِ الطَّهارةِ والصِّيامِ، وإنَّما ¬

(¬1) بعده في الأصل: «فتعلقت الصفة». (¬2) في الأصل: «الطلاق». (¬3) زيادة من: م. (¬4) سورة البقرة 222. (¬5) في م: «الطهارات».

3563 - مسألة: (وإذا قالت)

قَالتْ: حِضْتُ. وَكَذَّبَهَا، قُبِلَ قَوْلُهَا فِي نَفْسِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَقِيَ بعضُ الأحكامِ مَوقوفًا (¬1) على وُجودِ الغُسْلِ، ولأنَّها ليستْ حائضًا، فيَلْزَمُ أن تكونَ طاهِرًا؛ لأنَّهما ضِدَّانِ على التَّعْيينِ، فيَلْزَمُ مِن انْتِفاءِ أحدِهما وُجودُ الآخَرِ. 3563 - مسألة: (وإذَا قَالتْ): قد (حِضْتُ. وكذَّبَها، قُبِلَ قَوْلُهَا فِي نَفْسِهَا) في إحْدَى الرِّوايَتَينِ بغيرِ يَمِينٍ؛ لأنَّهَا أمِينَةٌ على نَفْسِهَا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وهو ظاهرُ المذْهبِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬2). قيلَ: هو الحَيضُ والحَمْلُ. ولولا أنَّ قَوْلَها فيه مَقْبولٌ، ما حَرَّمَ اللهُ عليها كِتْمانَه، وصارَ كقولِه تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (¬3). لَمَّا حَرَّمَ كِتْمانَها دلَّ علَى قَبُولِها، كذا ههُنا. ولأنَّه معنًى فيها لا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِها، فَوجَبَ الرُّجوعُ إلى قَوْلِها فيه، كقَضاءِ عِدَّتِها. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا يُقْبَلُ قوْلُها، ويَخْتَبِرُها النِّساءُ، بإدْخالِ قُطْنَةٍ في الفَرْجِ في الزَّمانِ الذي ادَّعَتِ الحَيضَ فيه، فإن ظهرَ الدَّمُ فهي حائِضٌ، وإلَّا فَلا. ¬

(¬1) في م: «وقوفا». (¬2) سورة البقرة 228. (¬3) سورة البقرة 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أحمدُ في رِوايةِ مُهَنَّا، في رجلٍ قال لامْرأتِه: إذا حِضْتِ فأنتِ طالقٌ وعَبْدِي حُرٌّ. قالت: قد حِضْتُ: يَنْظُرُ إليها النِّساءُ، فتُعْطى قُطْنَةً وتُخْرِجُها، فإن خَرجَ الدَّمُ (¬1) فهي حائضٌ، تَطْلُقُ ويَعْتِقُ العبدُ. قال أبو بكرٍ: وبهذا أقولُ؛ لأنَّ الحَيضَ يُمْكِنُ التَّوصُّلُ إلى مَعْرِفَتِه من غيرِها، فلم يُقْبَلْ فيه مُجَرَّدُ قَوْلِها، كدُخولِ الدَّارِ. والأوَّلُ المذهبُ، ولعلَّ أحمدَ إنَّما اعْتَبَرَ البَيِّنَةَ في هذه الرِّوايةِ من أجلِ عِتْقِ العبدِ، فإنَّ قوْلَها إنَّما يُقْبَلُ في حَقِّ نَفْسِها دُونَ غيرِها. وهل تُعْتَبَرُ يَمِينُها إذا قُلْنا: القَوْلُ قولُها؟ على وَجْهَينِ، بِناءً على ما إذا ادَّعَتْ أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها، وأنْكَرَها. ولا يُقْبَلُ قولُها إلَّا في حَقِّ نفْسِها خاصَّةً دُونَ غيرِها، مِن طلاقِ أُخْرَى، أو عِتْقِ عبدٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رجلٍ قال لامرأتِه: إذا حِضْتِ فأنتِ طالقٌ وهذه معكِ. لامرأةٍ أُخْرَى (¬2). قالت: قد حِضْتُ. من ساعَتِها تَطْلُقُ ¬

(¬1) في الأصل: «الذي». (¬2) سقط من: الأصل.

3564 - مسألة: (ولو قال: قد حضت. فأنكرته، طلقت بإقراره)

وَإِنْ قَال: قَدْ حِضْتِ. فَأَنْكَرَتْهُ، طَلُقَتْ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ قَال: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَتَانِ. فَقَالتْ: قَدْ حِضْتُ. وَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ دُونَ ضَرَّتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ هي، ولا تَطْلُقُ هذه حتى تَعْلَمَ، لأنَّها مُؤْتَمَنَةٌ [في حقِّ] (¬1) نفْسِها دُونَ غيرِها، فصارَتْ كالمُودَعِ يُقْبَلُ قولُه في الرَّدِّ على المُودِعِ دُونَ غيرِه. 3564 - مسألة: (ولو قَال: قد حِضْتِ. فأنْكَرتْهُ، طَلُقَتْ بِإقْرَارِه) لأنَّه أقَرَّ بما يُوجِبُ طَلاقَها، فأشْبَهَ ما لو قال: قد طَلَّقْتُها. 3565 - مسألة: (وإن قال: إن حِضْتِ فأنْتِ وَضَرَّتُكِ طالقتان. فقالت: قد حِضْتُ. وَكَذَّبَها، طَلُقَتْ) وَحْدَهَا؛ لأنَّ قولَها مَقْبولٌ على ¬

(¬1) في الأصل: «على».

3566 - مسألة: (وإن قال)

وَإِنْ قَال: إِنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَقَالتَا: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُمَا، طَلُقَتَا، وَإِنْ أكْذَبَهُمَا، لَمْ تَطْلُقَا، وَإِنْ أكْذَبَ إِحْدَاهُمَا، طَلُقَتْ وَحْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ نفْسِها، ولا تَطْلُقُ الضَّرَّةُ، إلَّا أنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى حَيضِهَا. وإنِ ادَّعَتِ الضَّرَّةُ أنَّها قد حَاضَتْ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لأنَّ مَعْرِفَتَها بِحَيضِ غَيرِهَا كَمَعْرِفَةِ الزَّوْجِ بِهِ، وإنَّما اؤْتُمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فِي حَيضِهَا. وإن قال: قد حِضْتِ. وأنْكَرتْ، طَلُقَتا بإقْرارِه. 3566 - مسألة: (وإن قال) لامْرَأتَيهِ: (إنْ حِضْتُما فأنتُما طالِقَتان. فقالتا: قد حِضْنَا. فَصَدَّقَهُمَا، طَلُقَتَا) لأنَّهما أقَرَّتا وصَدَّقَهما، فوُجِدَتِ الصِّفَةُ في حَقِّهما (وإن كَذَّبَهما) لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهما (¬1)؛ لأنَّ طلاقَ كلِّ واحدةٍ منهما مُعَلَّقٌ على شَرْطَينِ، حَيضِها، وحَيضِ ضَرَّتِها، ولا يُقْبَلُ قولُ ضَرَّتِها عليها، فلم يُوجدِ الشَّرْطانِ. (وإِن كَذَّبَ إحْداهما، طَلُقَتِ) المُكَذَّبَةُ (وَحْدَها) لأنَّ قولَها مَقْبولٌ في حَقِّها، وقد صَدَّقَ الزَّوْجُ ضَرَّتَها، فَوُجِدَ الشَّرْطانِ في طَلاقِها، ولم تَطْلُقِ المُصَدَّقَةُ؛ لأنَّ قولَ ضَرَّتِها غيرُ مَقْبولٍ في حَقِّها، ولم يُصَدِّقْها الزَّوجُ، فلم يُوجدْ شَرْطا طلاقِها. ¬

(¬1) في م: «منهن».

3567 - مسألة: (وإن قال ذلك لأربع)

وَإِنْ قَال ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ فَقُلْنَ: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُنَّ، طَلُقْنَ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً أَو اثْنَتَينِ، لَمْ يَطْلُقْ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3567 - مسألة: (وإن قال ذلك لأرْبَعٍ) فَقَدْ عَلَّقَ طَلاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ على حَيضِ الأرْبَعِ، فَإنْ (قُلْنَ: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُنَّ، طَلُقْنَ) لأنَّه قد وُجِدَ حَيضُهُنَّ بتَصْدِيقِه، وإن كَذَّبَهُنَّ لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهُنَّ؛ لأنَّ شَرْطَ طَلاقِهنَّ حَيضُ الأرْبعِ، ولم يُوجَدْ (وإن صَدَّقَ واحدةً أو اثْنَتَينِ) لم تَطْلُقْ واحدةٌ مِنْهُنَّ؛ لأنَّه لم يُوجدِ الشَّرْطُ، لكَوْنِ قولِ كُلِّ

3568 - مسألة: (وإن قال: كلما حاضت إحداكن فضرائرها طوالق)

وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طَلُقَتِ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا. وَإِنْ قَال: كُلَّمَا حَاضَتْ إِحْدَاكُنَّ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ. فَقُلْنَ: قَدْ حِضْنَا. فَصَدَّقَهُنَّ، طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةٍ منهنَّ لا يُوجَدُ إلَّا في نَفْسِها (وإن صدَّقَ ثلاثًا، طَلُقَتِ المُكَذَّبَةُ وَحْدَها) لأنَّ قولَها مقْبولٌ في حَيضِها، وقد صدَّقَ الزَّوجُ صَواحِبَها، فوُجِدَ حَيضُ الأرْبعِ في حَقِّها، فطَلُقَتْ، ولا تَطْلُقُ المُصَدَّقاتُ؛ لأنَّ قولَ المُكَذَّبَةِ غيرُ مقْبولٍ في حَقِّهِنَّ. 3568 - مسألة: (وإن قال: كُلَّما حَاضَتْ إِحْداكُنَّ فضَرَائِرُها طَوَالِقُ) [أو: أيَّتُكُنَّ حاضَتْ فضَرَائِرُها طَوالِقُ] (¬1). فقد جعلَ حيضَ كلِّ واحدةٍ منهنَّ شَرْطًا لطَلاقِ ضَرائِرِها (فَقُلْنَ: قد حِضْنا. فصدَّقهُنَّ) ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً لَمْ تَطْلُقْ، وَطَلُقَتْ ضَرَّاتُهَا طَلْقَةً طَلْقَةً، وَإِنْ صَدَّقَ اثْنَتَينِ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً، وطَلُقَتِ الْمُكَذَّبَتَانِ طَلْقَتَينِ طَلْقَتَينِ، وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا، طَلُقَتِ الْمُكَذَّبَةُ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ [ثلاثًا؛ لأن لِكلِّ (¬1) واحدةٍ منهنَّ ثلاثَ ضَرَائِرَ، وإن كذَّبهنَّ، لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهنَّ] (¬2)؛ لأنَّ قوْلَهنَّ غيرُ مقْبولٍ عليه في طَلاقِ غيرِهنَّ (وإن صدَّقَ واحدةً) منْهنَّ (لم تَطْلُقْ) لأنَّه ليس لها صاحِبَةٌ ثَبَتَ حَيضُها (وطَلُقَتْ ضَرَّاتُها طَلْقَةً طلقةً) لأنَّ لهنَّ صاحبةً قد ثَبَتَ حَيضُها (وإن صَدَّقَ اثْنَتَينِ، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهما طلقةً) لأنَّ لكلِّ (¬3) واحدةٍ منهما ضَرَّةً مُصَدَّقَةً (وطَلُقَتِ المُكَذَّبَتانِ طَلْقَتَينِ طَلْقَتَينِ) لأنَّ لكلِّ واحدةٍ منهما ضَرَّتَينِ مُصَدَّقَتَينِ (وإن صدَّقَ ثلاثًا، طَلُقَتِ المُكَذَّبَةُ ثلاثًا) لأنَّ لها ثلاثَ ضَرائِرَ مُصَدَّقاتٍ، وطَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ مِن المُصَدَّقاتِ طَلْقَتَينِ؛ لأنَّ لكلِّ واحدةٍ ضَرَّتَينِ مُصدَّقَتَينِ. فصل: إذا قال لامْرأتَيه: إن حِضْتُما حَيضةً واحدةً فأنْتما طالِقَتانِ. لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهما حتى تَحِيضَ كلُّ واحدةٍ منهما حَيضَةً واحدةً، ويكونُ التَّقْديرُ: إن حاضَتْ كُلُّ واحدةٍ منكما حَيضَةً واحدةً فأنتما طَالقتانِ. ويكونُ كقولِه تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬4). أي: اجْلِدُوا ¬

(¬1) في الأصل: «كل». وانظر المبدع 7/ 338. (¬2) سقط من: م. (¬3) في النسختين: «كل». وانظر المغني 10/ 454، والمبدع 7/ 339. (¬4) سورة النور 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلَّ واحدٍ منهم ثَمانينَ جَلْدةً. ويَحْتَمِلُ أن يتَعلَّقَ (¬1) الطَّلاقُ بحَيضِ إحْداهما حَيضَةً؛ لأنَّه [لمَّا تَعَذَّرَ] (¬2) وُجُودُ الفِعْلِ منهما، وَجَبَتْ إضافَتُه إلى إحْداهما، كقولِه تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (¬3). وإنَّما يَخْرُجُ مِن أحَدِهما. وقال القاضي: يَلْغُو قَولُه: حيضةً واحدةً؛ لأنَّ حَيضَةً واحدةً مِن امْرأتَينِ مُحَالٌ، فيَبْقَى كأنَّه قال: إن حِضْتُما فأنتُما طالقتان. وهذا أحَدُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الآخَرُ، لا تَنْعَقِدُ هذه الصِّفةُ؛ لأنَّها مُسْتحيلةٌ، فيَصِيرُ كتَعْليقِ الطَّلاقِ بالمُسْتَحيلاتِ. والوَجْهُ الأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ فيه تَصْحيحَ كلامِ المُكَلَّفِ بحَمْلِه على مَحَلٍّ (¬4) سائِغٍ، وتبعيدًا لوُقوعِ الطَّلاقِ، واليَقِينُ بقاءُ النِّكاحِ، فلا يَزُولُ حتى يُوجَدَ ما يَقَعُ به الطَّلاقُ يَقِينًا، وغيرُ هذا الوَجْهِ لا يَحْصُلُ به اليَقِينُ. فإن أرادَ بكلامِه أحدَ هذه الوُجوهِ، حُمِلَ عليه، وإذا ادَّعَى ذلك قُبِلَ منه. وإذا قال: أردتُ أن تكونَ الحَيضَةُ الواحدةُ منهما، فهو تعْليقٌ للطَّلاقِ بمُسْتحيلٍ، فيَحْتَمِلُ أن يَلْغُوَ قولُه (¬5): حيضةً. ويَحْتَمِلُ أن لا (¬6) يَقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّ هذه الصِّفَةَ لا تُوجَدُ، فلا يُوجَدُ ما عُلِّقَ عليها، ويَحْتَمِلُ أن يقعَ الطَّلاقُ في الحالِ ويَلْغُوَ ¬

(¬1) بعده في م: «بها». (¬2) في الأصل: «لم يعذر». (¬3) سورة الرحمن 22. (¬4) كذا في النسختين، وفي المغني 10/ 456: «محمل». (¬5) بعدها في الأصل: «نصف». (¬6) سقط من: م.

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْحَمْلِ: إِذَا قَال: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلاقِ حِينَ الْيَمِينِ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطُ، بِنَاءً على ما ذَكَرْناه في تعْليقِ الطَّلاقِ على المُسْتَحِيلِ. فصل: إذا كان له أرْبعُ نِسْوةٍ، فقال: أيَّتُكُنَّ لم أطَأْها، فضَرائِرُها طَوالِقُ. وقَيَّدَه بوقتٍ، فمَضَى الوقتُ ولم يَطأْهُنَّ، طَلُقْنَ ثلاثًا ثلاثًا؛ لأنَّ لكلِّ واحدةٍ ثلاثَ ضَرائرَ غيرِ مَوْطُوءاتٍ. وإن وَطِئَ ثلاثًا وتَركَ واحدةً، لم تَطْلُقِ المتْروكةُ؛ لأنَّها ليست لها ضَرَّةٌ غيرُ مَوْطُوءةٍ، وتَطْلُقُ كلُّ واحدةٍ من المَوْطُوءاتِ طلقةً طلقةً. وإن وَطِئَ اثْنَتَينِ طَلُقَتا طلْقَتَينِ [طَلْقَتَينِ، وطَلُقَتِ المَتْروكاتُ طلقةً طلقةً. وإن وَطِئَ واحدةً طَلُقَتْ ثلاثًا، وطَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ مِنَ المَتْروكاتُ طَلْقَتَينِ طَلْقَتَينِ] (¬1). وإن لم يُقَيِّدْه بوقتٍ، كان وقتُ الطَّلاقِ مُقَيَّدًا بعُمْرِه وعُمْرِهنَّ، فأيَّتُهنَّ ماتتْ طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ من ضَرائرِها طلقةً طلقةً، وإذا ماتتْ أُخْرَى فكذلك، وإن مات هو طَلُقْنَ كلُّهنَّ في آخِرِ جزءٍ من حياتِه. فصلٌ في تعْليقِه بالحملِ: قال شيخُنا، رَحِمَه الله: (إذا قال: إن كنتِ حامِلًا فأنتِ طالقٌ. فتَبَيَّنَ أنَّها كانت حامِلًا، تَبَيَّنَّا وُقوعَ الطَّلاقِ) مِن (حينِ اليمينِ، وإلَّا فلا) ويُعْلَمُ حَمْلُها بأنْ تَلِدَ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

3569 - مسألة: (وإن قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق.

وَإِنْ قَال: إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهِيَ بِالْعَكْسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حينِ اليمينِ، فيقَعُ الطَّلاقُ؛ لوُجودِ شَرْطِه، وإن وَلَدَتْ لأكثرَ مِن أربعِ سِنينَ، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّا عَلِمْنا براءَتَها من الحملِ، وإن وَلدَتْ لأكْثرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ ولأقَلَّ من أربعِ سِنينَ، ولم يكُنْ لها مَن يطَؤُها، طَلُقَتْ؛ لأنَّها كانْت حامِلًا، وإنْ كان لها زَوْجٌ يطَؤُها، فوَلَدَتْ لأقَلَّ من سِتَّةِ أشْهُرٍ من حينِ وَطْئِه، طَلُقَتْ؛ لأنَّنا عَلِمْنا أنَّه ليس من الوَطْءِ، وإن ولَدَتْ لأكثرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ من [حينِ وَطْءِ الزَّوْجِ بعدَ اليمينِ، ولأقَلَّ مِن أربعِ سِنينَ مِن حينِ عَقْدِ الصِّفَةِ، لم تَطْلُقْ] (¬1)؛ لأنَّ يَقِينَ النِّكاحِ باقٍ، والظَّاهِرُ حدوثُ الولدِ مِن الوطْءِ؛ لأنَّ الأصْلَ عدَمُه قبلَه. 3569 - مسألة: (وإن قَال: إن لم تَكُونِي حَامِلًا فأنْتِ طَالقٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «وطئه».

3570 - مسألة: (ويحرم وطؤها قبل استبرائها في إحدى

وَيَحْرُمُ وَطْؤُها قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَين، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَهِيَ بالعَكْسِ) ففي كلِّ موْضِعٍ يقَعُ الطَّلاقُ في التي قبلَها، لا يقَعُ ههُنا، وفي كلِّ موضعٍ لا يَقَعُ ثَمَّ، يقَعُ ههُنا، لأنَّها ضِدُّها، إلَّا إذا أتَتْ بولدٍ لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، ولأقَلَّ مِن أربعِ سِنينَ، هل يَقعُ الطّلاقُ ههُنا؟ فيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، تَطْلُقُ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الحَمْلِ قبلَ الوَطْءِ. والثاني، لا تَطْلُقُ؛ لأنَّ الأصْلَ بقاءُ النِّكاحِ. 3570 - مسألة: (ويَحْرُمُ وَطْؤُها قَبْلَ اسْتِبْرَائِها في إحْدَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوَايَتَينِ، إن كان الطَّلاقُ بَائِنًا) نَصَّ عليه أحمدُ. وكذلك يَحْرُمُ في التي قبلَها؛ لاحْتِمالِ الحَمْلِ، فغَلَبَ التَّحْرِيمُ. وقال القاضي: يَحْرُمُ الوَطْءُ وإنْ كان الطَّلاقُ رَجْعِيًّا، سواءٌ قُلْنا: إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُباحَةٌ أو مُحَرَّمَةٌ؛ لأنَّه يَمْنَعُ المعْرِفَةَ بوُقُوعِ الطَّلاقِ وعَدَمِه. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه روايةٌ أُخْرَى، أنَّ الوَطْءَ لا يَحْرُمُ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ، وبَراءةُ الرَّحِمِ من الحَمْلِ. فإنِ اسْتَبْرَأَها، حَلَّ وَطْؤُها على الرِّوايَتَينِ. ويَكْفِي في الاسْتِبْراءِ حَيضَةٌ. قال أحمدُ في روايةِ أبي طالبٍ (¬1): إذا قال لامْرأتِه: متى حَمَلْتِ فأنتِ طالقٌ. لا يَقْرَبُها حتى تَحِيضَ، فإذا طَهُرَتْ وَطِئَها، فإن تَأَخَّرَ حَيضُها أُرِيَتِ النِّساءَ مِن أهلِ المعْرفةِ، فإن لم يُوجَدْنَ أو خَفِيَ عَلَيهِنَّ، انْتُظِرَ عليها تِسْعَةُ أشهُرٍ غالبُ مُدَّةِ الحَمْلِ. وذكَرَ القاضي روايةً ¬

(¬1) في م: «الخطاب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُخْرَى، أنَّها تُسْتَبْرأُ بثلاثةِ قُرُوءٍ؛ لأنَّه اسْتِبْراءُ الحُرَّةِ. وهو أحَدُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحيحُ ما ذَكَرْناه؛ لأنَّ المقْصودَ معرفَةُ بَراءَةِ رَحِمِها، وهو يَحْصُلُ بحَيضةٍ؛ بدليلِ قولِه عليه السلامُ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيضَةٍ» (¬2). يعني: تُعْلَمَ بَراءتُها من الحمْلِ بحيضةٍ. ولأنَّ ما تُعْلَمُ به البَراءةُ في حقِّ الأمَةِ والحُرَّةِ واحدٌ؛ لأنَّه أمْرٌ حَقِيقيٌّ لا يَخْتلفُ بالرِّقِّ والحُرِّيِّةِ. وأمَّا العِدَّةُ، ففيها نوعُ تَعَبُّدٍ لا يَجوزُ أنْ يُعَدَّى بالقِياسِ. وهل يُعْتَدُّ بالاسْتِبْراءِ قبلَ عَقْدِ اليَمِينِ، أو بالحَيضَةِ التي حَلَفَ فيها؟ على ¬

(¬1) في: المغني 10/ 458. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 390.

3571 - مسألة: (وإذا قال: إن كنت حاملا بذكر فأنت طالق

وَإِنْ قَال: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا بِذَكَرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كُنْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين؛ أصَحُّهما، الاعْتِدادُ به؛ لأنَّه يَحْصُلُ به ما يَحْصُلُ بالاسْتِبْراءِ بعدَ اليَمينِ. والثَّاني، لا يُعْتَدُّ به؛ لأنَّ الاسْتِبْراءَ لا يتَقَدَّمُ على سَبَبِه، ولأنَّه لا يُعْتَدُّ به في اسْتِبْراءِ الأمَةِ الممْلُوكةِ. قال أحمدُ: إذا قال لامرأتِه: إذا حَبِلْتِ فأنتِ طالقٌ. يَطَؤُها في كلِّ طُهْرٍ مرَّةً (¬1). يعني إذا حاضَتْ ثم طَهُرَتْ حلَّ وَطْؤُها؛ لأنَّ الحَيضَ عَلَمٌ على بَراءَتِها من الحَمْلِ، ووَطْؤُها سَبَبٌ له، فإذا وَطِئَها اعْتَزَلَها؛ لاحْتمالِ أن تكونَ قد حَمَلَتْ مِن وَطْئِه فطَلُقَتْ به. 3571 - مسألة: (وإذا قَال: إنْ كُنْتِ حَامِلًا بِذَكَرٍ فأنتِ طالقٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

حَامِلًا بِأُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَينِ. فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتِ حَامِلًا. إِنْ كَانَ حَمْلُكِ. لَمْ تَطْلُقْ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا بِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةً، وإن كُنْتِ حَامِلًا بِأُنْثَى فأنْتِ طالقٌ اثْنَتَينِ. فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لوُجُودِ الصِّفَةِ. ولو قال: إن كان حَمْلُكِ غُلامًا فأنتِ طالقٌ واحدةً، وإن كان حَمْلُكِ جاريةً فأنت طالقٌ اثْنَتَينِ. فولَدَتْ غُلامًا وجاريةً، لم تطْلُقْ؛ لأنَّ حَمْلَها كلَّه ليس بغُلامٍ ولا جاريةٍ. ذكَرَه القاضي في «المُجَرَّدِ»، وأبو الخطَّابِ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال القاضي في «الجامعِ»: في وُقوعِ الطَّلاقِ وَجْهانِ؛ بِناءً على الرِّوايَتَين في مَن حَلَفَ: لا لَبِسْتُ ثَوْبًا مِن غَزْلِها. فَلبِسَ ثوبًا فيه مِن غَزْلِها.

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْولَادَةِ: إِذَا قَال: إِذَا وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَينِ. فَوَلَدَتْ ذَكَرًا ثُمَّ أُنْثَى، طَلُقَتْ بالْأَوَّلِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِي وَلَمْ تَطْلُقْ بِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تَطْلُقُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في تعْليقِه بالولادةِ: (إذا قال: إنْ وَلَدْتِ ذَكرًا فأنتِ طالقٌ واحدةً، وإن وَلَدْتِ أُنْثَى فأنتِ طالقٌ اثْنَتَينِ. فوَلَدَتْ ذَكَرًا ثم أُنْثَى، طَلُقَتْ بالأوَّلِ، وبانَتْ بالثَّاني ولم تَطْلُقْ به. ذكَرَه أبو بكرٍ) لأنَّ العِدَّةَ انْقَضَتْ بوَضْعِه، فصادَفَها الطَّلاقُ، فلم يَقَعْ، كما لو قال: إذا مِتُّ فأنتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طالقٌ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وحُكِيَ عن ابنِ حامدٍ، أنَّها تَطْلُقُ؛ لأنَّ زمنَ البَينُونَةِ زَمَنُ الوُقوعِ، فلا تَنافِيَ بينَهما. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِما ذَكَرْنا. وقد نَصَّ أحمدُ في مَن قال: أنتِ طالقٌ مع مَوْتِي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّها لا تَطْلُقُ. فهذا أوْلَى. فإن وَلَدَتْهُما دَفْعةً واحدةً، طَلُقَتْ ثلاثًا؛ لوُجودِ الشَّرْطَينِ.

3572 - مسألة: (فإن أشكل كيفية وضعهما، وقعت واحدة بيقين، ولغا ما زاد)

وَإِنْ أَشْكَلَ كَيفِيَّةُ وَضْعِهِمَا، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، بِيَقِينٍ، وَلَغَا مَا زَادَ. وَقَال الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرَعَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3572 - مسألة: (فَإنْ أشْكَلَ كَيفِيَّةُ وَضْعِهما، وَقَعَتْ واحدةٌ بيَقِينٍ، وَلَغَا مَا زَادَ) فَلَا تَلْزَمُهُ الثَّانِيَةُ؛ لأنَّه مَشْكُوكٌ فِيهِ، والوَرَعُ أنْ يَلْتَزِمَهُمَا. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. (وقال القاضي: قِياسُ المذهبِ أن يُقْرَعَ بينَهما) لأنَّه يَحْتَمِلُ كُلُّ واحدٍ (¬1) منهما احْتمالًا مُساويًا للآخَرِ (¬2)، فيُقْرَعُ بينَهما، كما لو أعْتَقَ أحَدَ (¬3) عَبْدَيه مُعَيَّنًا (¬4)، ثم ¬

(¬1) في م: «واحدة». (¬2) في م: «للأخرى». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «معا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَسِيَه. فإن قَال: إن كان أوَّلُ ما تَلِدِينَ ذَكَرًا فأنتِ طالقٌ واحدةً، وإن كان أُنْثَى فأنتِ طالقٌ اثْنَتَينِ. فوَلَدَتْهُما دَفْعةً واحدةً، لم يَقَعْ بها شيءٌ؛ لأنَّه لا أوَّلَ فيهما، فلم تُوجَدِ الصِّفَةُ. وإن وَلَدَتْهُما دَفْعَتَينِ، طَلُقَتْ

3573 - مسألة: (ولا فرق بين أن تلده حيا أو ميتا)

وَلَا فَرْقَ بَينَ أَنْ تَلِدَهُ حَيًّا أَوْ ميِّتًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأوَّلِ، وبانَتْ بالثَّاني، ولم تَطْلُقْ به إلَّا على قولِ ابنِ حامدٍ، وقد ذَكرْناه. 3573 - مسألة: (وَلَا فَرْقَ بَينَ أنْ تَلِدَهُ حَيًّا أو مَيِّتًا) لأنَّ الشَّرْطَ ولادَةُ ذَكَرٍ أو أُنْثَى، وقد وُجِدَ، ولأنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي به، وتَصِيرُ به الجاريةُ أُمَّ وَلَدٍ، كذلك هذا. فصل: إذا قال: إن كنتِ حامِلًا بغُلامٍ فأنتِ طالقٌ واحدةً؛ وإن وَلَدْتِ أُنْثَى فأنتِ طالقٌ اثْنَتَينِ. فوَلَدَتْ غُلامًا كانت حامِلًا به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقْتَ اليَمِينِ، تَبَيَّنَّا أنَّها طَلُقَتْ واحدةً حِينَ حَلَفَ، وانْقَضَتْ عدَّتُها بوَضْعِهِ. وإن وَلَدَتْ أُنْثَى؛ طَلُقَتْ بولادَتِها طَلْقَتينِ، واعْتدَّتْ بالقُرُوءِ. وإن وَلَدَتْ غُلامًا وجاريةً، وكان الغُلامُ أوَّلَهما ولادةً، تَبَيَّنَّا أنَّها طَلُقَتْ واحدةً، [وبانَتْ بوضعِ الجاريةِ، ولم تَطْلُقْ بها (¬1)، إلَّا على قولِ ابنِ حامدٍ. وإن كانتِ الجارِيَةُ وُلِدَتْ أوَّلًا، طَلُقَتْ ثلاثًا؛ واحدةً] (¬2) بحَمْلِ الغُلامِ، واثْنَتَينِ بولادَةِ الجارِيةِ، وانْقَضَتْ عِدَّتُها بوضْعِ الغُلامِ. فصل: فإن كان له أرْبَعُ نِسْوَةٍ فقال: كلَّما وَلَدَتْ واحدةٌ مِنْكُنَّ فَضَرَائِرُها طوالقُ. فوَلَدْنَ (¬3) دَفْعَةً واحدةً، طَلُقْنَ كلُّهنَّ ثلاثًا ثلاثًا. وإن وَلَدْنَ في دَفَعاتٍ، وَقَعَ بضَرائِرِ الأُولَى طَلْقَةٌ طَلْقةٌ، فإذا وَلَدَتِ الثَّانيةُ بانَتْ بوضْعِ الوَلَدِ، ولم تَطْلُقْ. وهل يَطْلُقُ سائِرُهُنَّ؟ فيه احْتِمالانِ؛ أحدُهما، لا يقَعُ بهنَّ طلاقٌ؛ لأنَّها لمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُها بانَتْ، فلم يَبقَينَ ضرائرَها، والزَّوْجُ إنَّما عَلَّقَ [على ولادَتِها] (¬4) طَلاقَ ضَرائِرِها. والوَجْهُ الثَّاني، يَقَعُ بكُلِّ واحدةٍ طَلْقَةٌ (¬5)؛ لأنَّهُنَّ ضَرائِرُها في حالِ ولادَتِها. فعلى هذا، يَقَعُ بكلِّ واحدةٍ من اللَّتَينِ لم يَلِدْنَ طَلْقتانِ طَلْقتانِ، وتَبِينُ هذه، وتَقَعُ بالوَالدَةِ الأُولَى طَلْقَةٌ، فإذا وَلَدَتِ الثَّالثةُ بانَتْ. وفي وُقوعِ الطَّلاقِ بالباقِيَتَينِ ¬

(¬1) في م: «بهما». والمثبت كما في المغني 10/ 459. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فولدت». (¬4) في م: «بولادتها». (¬5) بعدها في م: «طلقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهانِ؛ فإذا قُلْنا: يَقَعُ بهنَّ. طَلُقَتِ الرَّابعةُ ثلاثًا، والأُولى طَلْقَتَين، وبانَتِ الثَّانيةُ والثَّالثةُ، وليس فيهِنَّ مَنْ له رَجْعَتُها إلَّا الأُولَى، ما لم تَنْقَضِ عِدَّتُها، وإذا وَلَدَتِ الرَّابعةُ لم تَطْلُقْ واحدةٌ مِنْهُنَّ، وتَنْقَضِي عِدَّتُها بذلك. وإن قال: كلَّما وَلَدَتْ واحدةٌ مِنكُنَّ فسائرُكُنَّ طَوالِقُ. أو: فبَاقِيكُنَّ طَوالِقُ. فكلَّما وَلَدَتْ واحدةٌ منْهُنَّ وقَعَ ببَاقِهنَّ طَلْقَةٌ طلقةٌ (¬1)، وتَبِينُ الوالِدَةُ بوَضْعِ وَلَدِها إلَّا الأُولَى. والفَرْقُ بينَ هذه وبينَ التي قبلَها، أنَّ الثَّانيةَ والثَّالثةَ يَقعُ الطلاقُ ببَاقِيهنَّ بولادَتِهما ههُنا، وفي الأُولَى لا يَقَعُ؛ لأنَّهُنَّ لم يَبْقَينَ ضَرائِرَها، وههُنا لم يُعَلِّقْه بذلك. وإن قال: كلَّما وَلَدَتْ واحدةٌ مِنْكُنَّ فأنْتُنَّ طوالِقُ. فكذلك، إلَّا أنَّه لا يَقَعُ على الأُولَى طلقةٌ بولادتِها، فإنْ كانتِ الثَّانيةُ حامِلًا باثْنَينِ، فوضَعَتِ الأوَّلَ منهما، وقَعَ بكُلِّ واحدةٍ من ضَرائِرِها طَلْقَةٌ في المسائلِ كلِّها، ووَقَعَ بها طَلْقَةٌ في المسألةِ الثَّالثةِ. وإذا وضَعتِ الثَّالثةُ أو كانتْ حامِلًا باثْنَين، فكذلك، فتَطْلُقُ الرَّابعةُ (¬2)، وتَطْلُقُ كلُّ واحدةٍ مِن الوَالِدَاتِ طَلْقتَين طَلْقَتَين في المسألَتَين الأُوليَينِ، وثلاثًا ثلاثًا في المسألةِ الثَّالثةِ، ثم كلَّما وضَعتْ واحدةٌ مِنْهنَّ تَمامَ حَمْلِهَا، انْقَضَتْ به عِدَّتُها. قال القاضي: إذا كانتْ له زَوْجتانِ، فقال: كلَّما وَلَدَتْ واحدةٌ منكما فأنْتُما طَالقتانِ، فَوَلَدَتْ إحْداهما يومَ الخميسِ، طَلُقَتا جميعًا، ثم وَلَدَتِ الثَّانيةُ يومَ الجُمُعَةِ، بانَتْ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في المغني 10/ 461: «ثلاثا».

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالطَّلَاقِ: إِذَا قَال: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وانْقَضَتْ عِدَّتُها، ولم تَطْلُقْ، وطَلُقَتِ الأُولَى ثانِيةً، فإن كانتْ كلُّ واحدةٍ منهما حامِلًا باثْنَينِ، طَلُقَتا بوضعِ الثَّانيةِ طَلْقَةً طَلْقَةً أيضًا، ثم إذا وَلَدَتِ الأُولَى تمامَ حَمْلِها، انْقَضَتْ عِدَّتُها به، وطَلُقَتِ الثَّانيةُ ثلاثًا، فإذا وضَعَتِ الثَّانيةُ تَمامَ حَمْلِها، انْقَضَتْ عِدَّتُها به. فصلٌ في تَعْليقِه بالطَّلاقِ: (إذا قال: إذا طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ) ثم قال: أنتِ طالقٌ. وقَعَتْ واحدةٌ بالمباشَرَةِ، وأُخْرَى بالصِّفةِ إن كانت مَدْخُولًا بها؛ لأنَّه جعلَ تَطْلِيقَها شَرْطًا لوُقوعِ طَلاقِها، فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ وقَعَ الطَّلاقُ، وإن كانت غيرَ مدْخُولٍ بها، بانَتْ بالأُولَى، ولم تَقَعِ الثَّانيةُ؛ لأنَّها لا عِدَّةَ عليها، ولا تُمْكِنُ رَجْعَتُها، فلا يقَعُ طَلاقُها إلَّا بائنًا، ولا يقَعُ الطَّلاقُ بالبائنِ. فإن قال: عَنَيتُ بقوْلِي هذا، أنَّكِ تكونِينَ طالقًا بما أوْقَعْتُه عليكِ، ولم أُرِدْ [إيقاعَ طلاقٍ] (¬1) سِوَى ما باشَرْتُكِ به. دُيِّنَ. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَينِ؛ إحْداهما، لا يُقْبَلُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهرِ، إذ الظَّاهرُ أنَّ هذا تعْلِيقٌ للطَّلاقِ بشَرْطِ الطَّلاقِ، ولأنَّ إخْبارَه إيَّاها بوُقوعِ طَلاقِه بها لا فائِدَةَ فيه. والوَجْهُ الثاني، يُقْبَلُ قولُه؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما قاله، فقُبِلَ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ. وقال: أرَدْتُ بالثَّاني التَّأْكِيدَ. أو: إفْهامَها. ¬

(¬1) في م: «طلاقًا».

3574 - مسألة: (إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق. ثم قال: إن قمت فأنت طالق. فقامت، طلقت)

ثُمَّ قَال: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ. وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3574 - مسألة: (إذا قال: إذا طَلَّقْتُكِ فأنْتِ طَالقٌ. ثم قال: إنْ قُمْتِ فأنْتِ طالقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ) بقِيَامِها، ثُمَّ طَلُقتْ بِالصِّفَةِ أُخْرَى؛ لأنَّه قَدْ طَلَّقَها بعدَ عَقْدِ الصِّفَةِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ تَطْلِيقَهُ لَهَا، وتَعْلِيقُه لِطَلاقِهَا بقِيَامِهَا إذا اتَّصَلَ به الْقيامُ تَطْليقٌ لَهَا. 3575 - مسألة: (ولو قال) أوَّلًا: (إنْ قُمْتِ فأنْتِ طالقٌ. ثُمَّ قَال: إنْ طَلَّقْتُكِ فأنْتِ طالقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ) بِالْقِيامِ (واحِدَةً) ولَمْ تَطْلُقْ بتَعْلِيقِ الطَّلاقِ، لأنَّه لم يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذلك، لأنَّ هذا يَقْتَضِي ابْتِداءَ إيقاعٍ، [ووُقوعُ] (¬1) الطَّلاقِ ههُنا بالقيامِ، إنَّما هو وُقوعٌ بصِفَةٍ سابقةٍ ¬

(¬1) في النسختين: «وقوع». وانظر المبدع 7/ 344. والكافي 3/ 202.

3576 - مسألة: (ولو قال: إن قمت فأنت طالق. ثم قال: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق. فقامت، طلقت)

وَإِنْ قَال: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال: إِنْ وَقَعَ عَلَيكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ. وَإِنْ قَال: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَقْدِ الطَّلاقِ شَرْطًا. 3576 - مسألة: (ولو قال: إنْ قُمْتِ فأنْتِ طالقٌ. ثم قال: إن وَقَعَ عَلَيكِ طَلاقِي فأنْتِ طالقٌ. فَقَامَتْ، طَلُقَتْ) بِالْقِيامِ، ثُمَّ تَطْلُقُ الثَّانِيَةَ بِوُقُوعَ الطَّلاقِ عليها، إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا؛ لأنَّ الطَّلاقَ الوَاقِعَ بِهَا طَلاقُهُ، فَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ. 3577 - مسألة: (وإن قال: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فأنْتِ طالقٌ) فهذا حَرْفٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ (فإذا قال) لها بعدَ ذلك (¬1): (أنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ) إحْداهما بالمُباشَرَةِ، والأُخْرَى بالصِّفَةِ. ولا تَقَع ثالِثَةٌ، لأنَّ الثَّانيةَ لم تَقَعْ بإيقاعِه بعدَ عَقْدِ الصِّفَةِ؛ لأنَّ قَوْلَه: كُلَّما طَلَّقْتُكِ. يَقْتَضِي: كلَّما أوْقَعْتُ عليكِ الطَّلاقَ. وهذا يَقْتَضِي تجْديدَ ¬

(¬1) سقط من: م.

3578 - مسألة: (وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق. ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة أو سبب)

وَإنْ قَال: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيكِ طَلَاقِي فَأَنتِ طَالِقٌ. ثُمَّ وَقَعَ عَلَيهَا طَلَاقُهُ بِمُبَاشَرَةٍ أوْ سَبَبٍ، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إيقاعِ طَلاقٍ بعدَ هذا القَوْلِ، وإنَّما وَقَعتِ الثَّانيةُ بهذا القَوْلِ. وإن قال لها بعدَ عَقْدِ الصِّفَةِ: إن خَرَجْتِ فأنتِ طالقٌ. فخَرَجَتْ، طَلُقَتْ بالخُروجِ طَلْقةً، وبالصِّفَةِ أُخْرَى؛ لأنَّه قد طَلَّقَها، ولم تَقَعِ الثَّالثةُ. فإن قال لها: كُلَّما أوْقَعْتُ عليكِ طَلاقِي فأنْتِ طالقٌ. فهو كقَوْلِه: كُلَّما طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ. وذكر القاضي في هذه، أَنه إذا وَقَعَ عَليها طَلاقُه بصِفَةٍ عَقَدَها بعدَ قوْلِه: إذا أوْقَعْتُ عليكِ طلاقًا فأنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقْ؛ لأنَّ ذلك ليس بإيقاعٍ منه. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وفيه نَظَرٌ؛ فإنَّه قد أوْقَعَ الطَّلاقَ عليها بِشَرْطٍ، فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ فهو الموقِعُ للطَّلاقِ عليها، فلا فرْقَ بينَ هذا وبينَ قولِه: إذا طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ. 3578 - مسألة: (وإن قال: كُلَّمَا وقَعَ علَيكِ طَلاقِي فأنْتِ طَالقٌ. ثُمَّ وقَعَ عليها طَلاقُهُ بمُبَاشَرَةٍ أوْ سَبَبٍ) أوْ بِصِفَةٍ عَقَدَهَا بَعْدَ ذلك أوْ قَبْلَهُ (طَلُقَتْ ثَلاثًا) لأنَّ الثَّانِيَةَ طَلْقَةٌ وَاقِعَةٌ عليها، فتَقَعُ بِهَا الثَّالِثَةُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال لها: إن خَرَجْتِ فأنتِ طالق. ثم قال: كُلَّما وَقَعَ عليكِ طَلاقِي فأنتِ طالقٌ. ثُمَّ خرَجَتْ، وَقَعَ عليها طَلْقَة (¬1) بالخُروجِ، ثم وَقَعَتْ عليها الثَّانِيَةُ بوُقُوعِ الأُولَى، ثُمَّ وقَعت الثَّالثةُ بوُقوعِ الثَّانيةِ؛ لأنَّ «كلَّما» (¬2) تقْتَضِي التَّكْرَارَ، وقد عَقَدَ الصِّفَةَ بوُقوعِ الطَّلاقِ، فكيفما وقَعَ يَقْتَضِي وُقوعَ أُخْرَى. ولو قال لها: إذا طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ. ثم قال: إذا وقَعَ عليكِ طَلاقِي فأنتِ طالقٌ. ثم قال: أنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ ثلاثًا؛ واحدةً بالمُباشَرَةِ، واثْنتَين بالصِّفَتَينِ؛ لأنَّ تطْليقَه لها يَشْتَمِلُ على الصِّفَتَينِ، هو تَطْلِيقٌ منه، وهو وقوعُ طلاقِه، ولأنَّه إذا قال: أنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ بالمُباشَرَةِ واحدةً، فتَطْلُقُ الثَّانيةَ بكَوْنِه طَلَّقَها، وذلك طلاقٌ منه واقعٌ عليها، فَتَطْلُقُ به الثَّالثةَ. وهذا كلُّه في المدْخولِ بها. فأمَّا غيرُ المدْخولِ بها، فلا تَطْلُقُ إلَّا واحدةً في جميعِ هذا. وهذا كلُّه مذهبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي، ولا نَعلمُ فيه خِلافًا. فصل: فإن قال: كُلَّما طَلَّقْتُك طَلاقًا أمْلِكُ فيه رَجْعَتَكِ فأنتِ طالقٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «طلاقه». (¬2) في م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: أنتِ طالقٌ. طَلُقَتِ اثْنَتَينِ؛ إحْداهما بالمُباشَرَةِ، والأُخْرَى بالصِّفَةِ، إلّا أن تكونَ الطَّلْقَةُ بعِوَضٍ، أو في غيرِ مَدْخولٍ بها، فلا يقَعُ بها ثانيةٌ؛ لأنَّها تَبِينُ بالطَّلْقَةِ التي باشَرَها بها، فلا يَمْلِكُ رَجْعَتَها. فإن طَلَّقَها ثِنْتَين، طَلُقَتِ الثَّالِثةَ. وقال أبو بكر: قيل: تَطْلُقُ. وقيل: لا تَطْلُقُ. واخْتِيارِي أنَّها تَطْلُقُ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: لا تَطْلُقُ الثَّالثةَ؛ لأنَّا لو أوْقَعْناها، لم يَمْلِكِ الرَّجْعةَ، ولم يُوجَدْ شَرْطُ طَلاقِها، فيُفْضِي ذلك إلى الدَّوْرِ، فنقْطعُه (¬1) بمَنْعِ وُقُوعِه. ولَنا، أنَّه طلاقٌ لم يَكْمُلْ به العَدَدُ، بغيرِ عِوَضٍ في مدْخولٍ بها، فتَقَعُ التي بعدَها كالأُولَى، وامْتِناعُ الرَّجْعةِ ههُنا لعَجْزِه عنها، لا لعدَمِ المِلْكِ، كما لو طَلَّقَها واحدةً وأُغْمِيَ عليه عَقِيبَها، فإنَّ الثَّانيةَ تقَعُ وإنِ امْتَنَعتِ الرَّجْعةُ لعَجْزِه عنها. وإن كان الطَّلاقُ بعِوَضٍ، أو في غيرِ المدْخُولِ بها، لم يقَع إلَّا الطَّلْقةُ التي باشَرَها بها؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ رَجْعَتَها. وإن قال: كُلَّما وقعَ عليكِ طَلاقٌ أمْلِكُ فيه رَجْعَتَكِ فأنْتِ طالقٌ. ثم وَقَّعَ عليها طَلْقةً بمباشرةٍ أو صِفَةٍ، طَلُقَتْ ثلاثًا. وعندَهم لا تَطْلُقُ؛ لِما ذَكَرْنا في التي قبلَها. ولو قال لامرأتِه: إذا طلقْتُكِ طلاقًا أمْلِكُ فيه الرَّجْعةَ (¬2) فأنتِ طالق ثلاثًا. ثم طَلَّقَها، طَلُقَتْ ثلاثًا. وقال المُزَنِيُّ: لا تَطْلُقُ. وهو قِياسُ قولِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لِما تَقَدَّمَ. ¬

(¬1) في م: «فنسقطه». (¬2) بعده في م: «فأنت طالق فأنت طالق».

3579 - مسألة: (وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي. أو: إن وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثا. ثم قال: أنت طالق. فلا نص فيها. وقال أبو بكر والقاضي: تطلق ثلاثا)

وَإنْ قَال: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيكِ طَلَاقِي. أوْ: إِنْ وَقَعَ عَلَيكِ طَلَاقِي، فَأنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا. ثُئم قَال: أَنْتِ طَالِقٌ. فَلَا نَصَّ فِيهَا عَنْ أحْمَدَ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي: تَطْلُقُ ثَلَاثًا. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: تَطْلُقُ بِالطَّلَاقِ الْمُنْجَزِ وَيَلْغُو مَا قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3579 - مسألة: (وإن قال: كُلّمَا وَقَعَ عليكِ طلاقِي. أو: إن وَقَعَ عليكِ طَلاقِي، فأنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلاثًا. ثم قال: أنْتِ طَالقٌ. فَلا نَصَّ فِيهَا. وقال أبو بكر والقاضي: تَطْلُقُ ثلاثًا) واحدة بالمُباشَرَةِ، واثْنَتان مِن المُعَلَّقِ. وهو قِياسُ قولِ الشافعيِّ وبعضِ (¬1) أصحابِه (وقال ابنُ عَقِيلٍ: تَطْلُقُ بالطَّلاقِ المُنْجَزِ ويَلْغُو المعَلَّقُ) لأنَّه طَلاقٌ في زَمنٍ ماضٍ. [وبه قال أبو العَبّاسِ بنُ القَاصِّ مِن أصْحابِ الشافعيِّ] (¬2). وقال أبو العبَّاسِ ابنُ ¬

(¬1) في المغني 10/ 422: «وقول بعض». (¬2) سقط من: م. وأبو العباس هو أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري البغدادي، الإمام، الفقيه، شيخ الشافعية، إمام عصره، وصاحب التصانيف. المشهورة، أخذ الفقه عن أبي العباس ابن سريج، توفي مرابطًا بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 371، 372.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُرَيجٍ، وبعضُ الشافعيَّةِ: لا تَطْلُقُ أبدًا؛ لأنَّ وُقُوعَ الواحدَةِ يَقْتَضِي وُقوعَ ثَلاثٍ قبلَها، وذلك يَمْنَعُ وُقُوعَها، فإثْبَاتُها يَؤَدِّي إلى نَفْيِها، فلا تَثْبُتُ، ولأنَّ إيقاعَها يُفْضِي إلى الدَّوْرِ؛ لأنَّها إذا وَقَعَت، وقَعَ قبلَها ثلاثٌ، فيَمْتَنِع وُقُوعُها، وما أفْضَى إلى الدَّوْرِ وجَبَ قَطْعُه مِن أصْلِه. ولَنا، أنَّه طلاق مِن مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ، في مَحَلٍّ لِنِكاحٍ صَحِيحٍ، فيجبُ أن يقَعَ، كما لو لم يَعْقِدْ هذه الصِّفَةَ، ولأن عُمُوماتِ النُّصوصِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلاقِ، مثلَ قولِه سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} (¬1). وقولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2). وكذلك سائرُ النُّصوصِ، ولأنَّ اللهَ تعالى شَرَعَ الطَّلاقَ لمصْلَحَةٍ تَتَعلَّقُ به، وما ذَكَرُوه يَمْنَعُه بالكُلِّيَّةِ، ويُبْطِلُ مَشْرُوعِيَّتَه، ويُفَوِّتُ مَصْلَحَتَه، فلا يَجوزُ ذلك بمُجَرَّدِ الرَّأْي والتَّحَكمِ، وما ذكَرُوه غيرُ مُسَلَّم، فإنَّا إذا قُلْنا: لا يقَعُ الطَّلاقُ المُعَلَّقُ. فله وَجْهٌ؛ لأنَّه أوْقَعَه في زَمنٍ ماضٍ، ولا يُمْكِنُ وُقُوعُه في ¬

(¬1) سورة البقرة 230. (¬2) سورة البقرة 228.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الماضِي، فلم يقَعْ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ قبلَ قُدومِ زيدٍ بيوم. فقَدِم في اليومِ، ولأنَّه جعَل الطَّلْقَةَ الواقِعَةَ شَرْطًا لوُقُوعِ الثَّلاثِ، ولا يُوجَدُ المشْروطُ قبلَ شرطِه. فعلى هذا، لا يَمْنَعُ مِن وُقوعِ الطلْقَةِ المُباشِرَةِ، ولا يُفْضِي إلى دَوْرٍ ولا غيرِه. وإن قُلْنا بوُقوعِ الثَّلاثِ، فوَجْهُه أنَّه وصَفَ الطَّلاقَ المُعَلَّقَ بما يَسْتَحِيلُ وَصْفُه به، فَلَغَتِ الصِّفَةُ وَوَقَعَ الطَّلاقُ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ طَلْقَةً لا تَلْزَمُكِ، ولا تَنْقُصُ عَدَدَ طَلاقِكِ. أو قال للآيسَةِ: أنتِ طالقٌ للسُّنَّةِ -أو- للبدْعَةِ. وبيانُ اسْتِحالتِه، أنَّ تَعْلِيقَه بالشَّرْطِ يَقْتَضِي وُقوعَه بعدَه، لأنَّ الشَّرْطَ يَتَقَدّمُ مَشْروطَه، ولذلك لو أطْلَقَ لوقعَ بعدَه، وتعْقِيبُه بالفاءِ في قولِه: فأنتِ طالقٌ. يقْتَضى كَوْنَه عَقِيبَه، وكونُ الطَّلاقِ المُعَلَّقِ قبلَه بعدَه مُحالٌ، لا يَصِحُّ الوَصْفُ به، فلَغَتِ الصِّفَةُ، وَوقعَ الطَّلاقُ، كما لو قال: إذا طَلَّقْتُكِ فأنتِ طالقٌ ثلاثًا لا تَلْزَمُكِ. ثم يَبْطُلُ ما ذكَرُوه بقَوْلِه: إذا انْفَسخَ نِكاحُك فأنتِ طالقٌ قبلَه ثلاثًا. ثم وُجِدَ ما يَفْسَخُ نِكاحَها، مِن رَضاعٍ، أو رِدَّةٍ، أو وَطْءِ أُمِّها أو ابْنَتِها بشُبْهَةٍ، فإنَّه يَرِدُ عليه (¬1) ما ذَكَرُوه، ولا خلافَ في انْفساخِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحِ. قال القاضي: ما ذكَرُوه ذَرِيعةٌ إلى أن لا يقَعَ عليها الطَّلاقُ جُمْلةً. وإن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا قُبَيلَ وُقُوعِ طَلاقِي بكِ واحدةً. أو قال: أنتِ طالقٌ اليومَ ثلاثًا إن (¬1) طَلَّقْتُكِ غدًا واحدةً. فالكَلامُ عليها مِن وَجْهٍ آخرَ، وهو وارِدٌ على المسألتَين جميعًا، وذلك أنَّ الطَّلْقَةَ المُوقَعَةَ يَقْتَضِي وُقُوعُها وقوعِ ما لا يُتَصَوَّرُ وُقوعُها معه، فيَجِبُ أن يُقْضَى بوُقوعِ الطَّلْقَةِ الموقَعَةِ دون ما تَعلَّقَ بها؛ [لأنَّ ما تَعَلَّقَ بها] (¬2) تابعٌ، ولا يَجوزُ إبْطالُ المَتْبُوعِ لامْتِناعِ حصُولِ التَّبَعِ، فيَبْطُلُ التَّابعُ وحدَه، كما لو قال في مَرضِه: إذا أعْتَقْتُ سالمًا فغانمٌ حُرٌّ. ولم يَخْرُجْ مِن ثُلُثِه إلّا أحَدُهما، فإنَّ سالمًا يَعْتِقُ وحدَه، ولا يُقْرَعُ بينَهما؛ لأنَّ ذلك رُبَّما أدَّى إلى عِتْقِ المشْرُوطِ دُونَ الشَّرْطِ، وذلك غيرُ جائزٍ، ولا فَرْقَ بينَ أن يقولَ: فغانمٌ معه، أو: قبلَه، أو: بعدَه. أو يُطْلِقَ. كذا ههُنا. ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال: إن طَلَّقْتُ حَفْصَةَ فَعَمْرةُ طالقٌ. ثم قال: إن طَلَّقْتُ عَمْرةَ فحفْصةُ طالقٌ. ثم طَلَّقَ حفصةَ، طَلُقَتا معًا؛ حفصةُ بالمُباشَرَةِ، وعَمْرَةُ بالصِّفَةِ، ولم تَزِدْ كل واحدةٍ منهما على طَلْقةٍ. وإن بدأ بطَلاقِ عَمْرةَ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ، وطَلُقَتْ حَفْصةُ طلقةً واحدةً؛ لأنَّه إذا طَلَّقَ حَفْصةَ طَلُقَتْ عَمْرَةُ (¬1) بالصِّفَةِ، لكَوْنِه عَلَّقَ طَلاقَهَا على طلاقِ حَفْصَةَ، ولم يَعُدْ على حَفْصةَ طَلاقٌ آخَرُ؛ لأنَّه ما أحْدث في عَمْرَةَ طَلاقًا، إنَّما طَلُقَتْ بالصِّفَةِ السَّابقةِ على تَعْليقِه طَلاقَها. وإن بَدأ بطَلاقِ عَمْرةَ، طَلُقَتْ حَفْصةُ؛ لكَوْنِ طَلاقِها مُعَلَّقًا على طَلاقِ عَمْرةَ، ووقوعُ الطَّلاقِ بها تَطْلِيقٌ منه لها؛ لأنَّه أحْدثَ فيها (¬2) طلاقًا، بتَعْليقِه طَلاقَها على تَطْليقِ عَمْرَةَ، بعدَ قولِه: إن طَلَّقْتُ حَفْصَةَ فعَمْرَةُ طالقٌ. ومتى وُجِدَ التَّعْلِيقُ والوُقُوعُ معًا، فهو تطْليقٌ. فإن وُجِدَا معًا بعدَ تَعْليقِ الطَّلاقِ بطلاقِها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقعَ الطَّلاقُ المُعَلَّقُ بطَلاقِها، وطَلاقُ عَمْرَةَ ها هنا مُعَلَّقٌ بطلاقِها، فوَجَب القولُ بوقُوعِه. ولو قال لعمرةَ: كلَّما طلَّقْتُ حَفْصَةَ فأنتِ طالِقٌ. ثم قال لحفْصَةَ: كلَّما طلَّقْتُ عَمْرَةَ فأنتِ طالقٌ. ثم قال لعَمْرَةَ: أنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ، وطَلُقتْ حَفْصةُ طلقةً واحدةً. وإن طَلَّقَ حَفْصَةَ ابْتِداءً، لم يَقَعْ بكلِّ واحدةٍ منهما إلَّا طَلْقةٌ؛ لأنَّ هذه المسألةَ كالتي قبلَها سَواءً، فإنَّه بَدَأ [بتَعْليقِ طلاقِ] (¬1) عَمْرةَ على تطليقِ حَفْصةَ، ثم ثَنَّى بتَعْليقِ طَلاقِ حَفْصةَ على تَطْليقِ عَمْرَةَ. ولو قال لعَمْرَةَ: إن طَلَّقْتُكِ فحَفْصَةُ طالقٌ. ثم قال لحفْصةَ: إن طلَّقْتُكِ فَعَمْرَةُ طالقٌ. ثم طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلُقَتْ طَلقَتَينِ، وطَلُقَتْ عَمْرَةُ طَلْقةً. وإن طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهما طلقةً؛ لأنَّها عكسُ التي قبلَها. ذكَر هاتَين المسألَتَين القاضي في «المُجَرَّدِ». ولو قال لإحْدَى زوجَتَيه: كلَّما طَلَّقْتُ ضَرَّتَكِ فأنتِ طالقٌ. ثم قال للأُخْرَى مثلَ ذلك، ثم طَلَّقَ الأُولَى، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ، وطَلُقَتِ الثَّانيةُ طَلْقَةً. وإن طَلَّقَ الثَّانيةَ، طَلُقَتْ، كلُّ واحدةٍ منهما طَلْقَةً. ¬

(¬1) في النسختين: «بطلاق». والمثبت كما في المغني 10/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: كُلَّما طَلَّقْتُكِ فضَرَّتُكِ طالقٌ. ثم قال للأُخْرَى مثلَ ذلك، ثم طَلَّقَ الأُولَى، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهما طَلْقَةً. وإنْ طَلَّقَ الثَّانيةَ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ، وطَلُقَتِ الأُولَى طَلْقَةً، وتَعْليلُ ذلك على ما ذَكَرْنا في المسألةِ الأُولَى. فصل: فإن كان له ثَلاثُ نِسْوَةٍ، فقال: إن طَلَّقْتُ زينبَ فَعمْرَةُ طالقٌ، وإن طَلَّقتُ عَمْرَةَ فحَفْصَةُ طالقٌ، وإن طَلَّقتُ حَفْصَةَ فزَينبُ طالقٌ. ثم طَلَّقَ زينبَ، طَلُقَتْ عَمْرَةُ، ولم تَطْلُقْ حَفْصةُ؛ لأنَّه ما أحْدَثَ في عَمْرَةَ طَلاقًا بعدَ تَعْليقِ طَلاقِ حَفْصةَ بتَطْلِيقِها، وإنَّما طَلُقَتْ بالصِّفَةِ السَّابقةِ على ذلك، فيكونُ وُقوعًا للطَّلاقِ، وليس بتَطْلِيقٍ. وإن طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلُقَتْ حَفْصةُ، ولم تَطْلُقْ زينبُ لذلك. وإن طَلَّقَ حَفْصةَ، طَلُقَتْ زينبُ، ثم طَلُقَتْ عَمْرَةُ (¬1)، فيَقَعُ الطَّلاقُ بالثَّلاثِ؛ لأنه أحْدثَ في زينبَ طَلاقًا بعدَ تَعْليقِه طَلاقَ عَمْرَةَ [بطلاقِها، فإنَّه علَّقَ طلاقَها بعد ذلك على تطْليقِ حفصةَ، ثم طلَّقَ حفصةَ، والتَّعليقُ مِع تَحَقُّقِ شَرْطِه تَطْليقٌ، وقد وُجِدَ التَّعليقُ وشرطُه معًا بعد تعليقِه طلاق عَمْرَةَ] (¬2) ¬

(¬1) في م: «حفصة». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَطْلِيقِها، فكانَ وُقوعُ الطَّلاقِ بزينبَ تَطْلِيقًا، فطَلُقَتْ به عَمْرَةُ، بخِلافِ غيرِها. ولو قال لزينبَ: إن طَلَّقْتُ عَمْرَةَ فأنتِ طالقٌ. ثم قال لعَمْرَةَ: إن طَلّقْتُ حَفْصةَ فأنتِ طالقٌ. ثم قال لحَفْصَةَ: إن طَلَّقْتُ زينبَ فأنتِ طالقٌ. ثم طَلَّقَ زينبَ، طَلُقَ الثَّلاثُ؛ زينبُ بالمُباشَرَةِ، وحَفْصَةُ بالصِّفَةِ، ووُقوعُ الطَّلاقِ بحَفْصَةَ تَطْليقٌ لها، وتَطْلِيقُها شرطُ طلاقِ عَمْرَةَ، فَتَطْلُقُ به أيضًا. والدَّليلُ على أنَّه تَطْليق لحَفْصَةَ، أَنه أحْدثَ فيها طَلاقًا، بتَعْليقِه طَلاقَها على تَطْليقِ زينبَ، بَعْدَ تَعْليقِ طَلاقِ عَمْرَةَ بتَطْليقِها، وتَحَقُّقِ شَرْطِه، والتَّعْليقُ مع شَرْطِه تَطليقٌ، وقد وُجِدَا معًا بعدَ جَعْلِ تَطْلِيقِها صِفَةً لطَلاقِ عَمْرَةَ. وإن طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلُقَتْ هي وزينبُ، ولم تَطْلُقْ حَفْصةُ. وإن طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلُقَتْ هي وعَمْرَةُ، ولم تَطْلُقْ زينبُ؛ لِما ذَكَرْنا في المسألةِ التي قبلَها. وإن قال لزينبَ: إن طَلَّقْتكِ فَضَرَّتاكِ طالقتانِ. ثم قال لعَمْرَةَ مثلَ ذلك، ثم قال لحَفْصَةَ مثلَ ذلك، ثم طَلَّقَ زينبَ، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً واحدةً؛ لأنَّه لم يُحْدِثْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في غيرِ زينبَ طَلاقًا، وإنَّما طَلُقَتا بالصِّفَةِ السَّابقةِ (¬1) على تَعْليقِ الطَّلاقِ بتَطْلِيقِهما. وإن طَلَّقَ عَمْرَةَ، طَلُقَتْ زينبُ طَلْقَةً، وطَلُقَتْ عَمْرَةُ وحَفْصةُ كلُّ واحدةٍ منهما طَلْقَتَينِ؛ لأنَّ عَمْرَةَ طَلُقَتْ واحدةً بالمُباشَرَةِ، وطَلُقَتْ زينبُ وحَفْصَةُ بطَلاقِها واحدةً واحدةً، وطَلاقُ زينبَ تَطْلِيق لها، لأنَّه وقَعَ بها بصِفَةٍ أحْدَثَها (¬2) بعدَ تَعْليقِ طَلاقِهما بتَطْلِيقِها، فعادَ على حَفْصَةَ وعَمْرَةَ بذلك طَلْقتانِ، ولم يَعُدْ على زينبَ بطَلاقِهما طَلاقٌ؛ لِما تَقَدَّمَ. وإن طَلَّقَ حَفْصَةَ، طَلُقَتْ ثلاثًا؛ لأنَّها طَلُقَتْ واحدةً بالمُباشَرَةِ، وطَلُقَتْ بها ضَرَّتاهَا، ووقُوعُ الطَّلاقِ بكُلِّ واحدةٍ منهما [تَطْليقٌ؛ لأنَّه بصِفَةٍ أحْدَثَها فيهما، بعدَ تَعْليقِ طَلاقِها بطَلاقِهما، فعادَ عليها مِن طَلاقِ كلِّ واحدةٍ منهم] (¬3) طَلْقَةٌ، فَكَمُلَ لها ثَلاثٌ، وطَلُقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَينِ، واحدةً بتَطْليقِ حَفْصَةَ، وأُخْرَى بوُقوعِ الطَّلاقِ على زينبَ؛ لأنَّه تَطْليقٌ لزينبَ؛ لِما (¬4) ذَكَرْناه، وطَلُقَتْ زينبُ واحدةً؛ لأنَّ طَلاقَ ضَرَّتَيها (¬5) بالصَّفَةِ ليس بتَطْليقٍ في حَقِّها. وإن قال لكُلِّ واحدةٍ مِنْهنَّ: كُلَّما طَلَّقْتُ إحْدَى ضَرَّتَيكِ فأنتِ طالقٌ. ثم طَلَّقَ الأُولَى، طَلُقَتْ ثلاثًا، وطَلُقَتِ الثَّانيةُ طَلْقَتَينِ، والثَّالثةُ طَلْقةً واحدةً؛ لأنَّ تَطْليقَه للأُولَى شَرْطٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «فيهما». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «على ما». (¬5) في الأصل: «ضرتها».

3580 - مسألة: (وإن قال لنسائه الأربع: أيتكن وقع عليها

وَإنْ قَال لأرْبَعِ نِسْوَةٍ: أيَّتُكُنَّ وَقَعَ عَلَيهَا طَلَاقِي فَصَوَاحِبُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ لطَلاقِ ضَرَّتَيْها، ووقوعُ الطَّلاقِ بهما تَطْليق بالنِّسْبةِ إليها، لكَوْنِه واقِعًا بصِفَةٍ أحْدَثَها بعدَ تَعْليقِ طَلاقِها بطَلاقِهما، فعادَ عليها مِن تَطْليقِ كُلِّ واحدةٍ منهما طَلْقَةٌ، فكَمُلَ لها الثَّلاثُ، وعادَ على الثَّانيةِ مِن طلاقِ الثَّالثةِ طَلْقَة ثانيةٌ لذلك، ولم يَعُدْ على الثَّالثةِ مِن طَلاقِهما الواقِعِ بالصِّفَةِ شيءٌ، لأنَّه ليس بتَطْليقٍ في حَقِّهما. وإن طَلَّقَ الثَّانيةَ، طَلُقَتْ أيضًا طَلْقَتَينِ، وطَلُقَتِ الأُولَى ثلاثًا، والثَّالثةُ طَلْقَةً. وإن طَلَّقَ الثَّالثةَ، طَلُقَتِ الأُولَى طَلْقَتَينِ، وطَلُقَ كلُّ واحدةٍ مِن الباقيَتَينِ طَلْقةً طلقةً. فصل: ولو قال لامرأتِه: إن طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ. ثم قال لعبْدِه: إن قُمْتَ فامْرأتِي طالقٌ. فقام، طَلُقَتِ المرأةُ، وعَتَقَ العَبْدُ. ولو قال لعبْدِه: إن قُمْتَ فامْرأتِي طالقٌ. ثم قال لامرأتِه: إن طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ. فقامَ العبدُ، طَلُقَتِ المرأةُ، ولم يَعْتِقِ العَبْدُ؛ لأنَّ وُقوعَ الطَّلاقِ بالصِّفَةِ إنَّما يكونُ تَطْليقًا مع وُجودِ الصِّفَةِ، ففي الصُّورةِ الأُولَى وُجِدَتِ الصِّفَةُ والوُقوعُ بعدَ قولِه: إن طَلَّقْتُكِ فعبدِي حُرٌّ. وفي الصُّورةِ الأُخْرَى لم يُوجَدْ بعدَ ذلك إلا الوُقوعُ وحدَه، وكانت الصِّفَةُ سابقةً، فلذلك لم يَعْتِقِ العبْدُ. ولو قال لعبْدِه: إن أعْتَقْتُكَ فامْرأتِي طالقٌ. ثم قال لامْرأتِه: إن حَلَفْتُ بطلاقِك فعبْدِي حُرٌّ. ثم قال لعبدِه: إن لم أضْرِبْكَ فامْرأتِي طالقٌ. عَتَقَ العَبْدُ، وطَلُقَتِ المرأةُ. 3580 - مسألة: (وإن قال لنِسائِه الأرْبَعِ: أيَّتُكُنَّ وَقَعَ عليها

3581 - مسألة: (وإن قال: كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت اثنتين فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أحرار، وكلما طلقت أربعا فأربعة أحرار)

طَوَالِقُ. ثُمَّ وَقَعَ عَلَى إِحْدَاهُنَّ طَلَاقُهُ، طَلُقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَإنْ قَال: كُلَّمَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ اثْنَتَينِ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ ثَلَاثًا فَثلَاثَةٌ أَحْرَارٌ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ أَرْبَعًا فَأَرْبَعَةٌ أَحْرَارٌ. ثُمَّ طَلَّقَهُنَّ جَمِيعًا، عَتَقَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا. وَقِيلَ: عَشَرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلاقِي فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ. ثم وَقَعَ على إحْدَاهُنَّ طَلاقُه، طَلُقَ الجَمِيعُ ثَلاثًا) لأَنه إذا وقَعَ طَلاقُه على واحدةٍ، وقَعَ على صَواحِبِها، ووقوعُه على واحدةٍ منهنَّ يَقْتَضِي وُقوعَه على صَواحِبِها، فيَتسلْسَلُ الوُقوعُ عليهنَّ إلى أن تَكْمُلَ الثَّلاثُ لكلِّ واحدةٍ منهنَّ. 3581 - مسألة: (وإن قال: كُلَّما طَلَّقْتُ واحِدَةً مِنْكُنَّ فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وكُلَّمَا طَلَّقْتُ اثْنَتَينِ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ ثَلاثًا فَثَلاثَةٌ أحْرَار، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ أرْبَعًا فأرْبَعَةٌ أحْرَارٌ) ثُمَّ طَلَّقَ الأرْبَع مُجْتَمِعَاتٍ أوْ مُتَفَرِّقَاتٍ (عَتَقَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْدًا. وقيل): يَعْتِقُ (عشَرةٌ) بالواحدةِ واحدٌ، وبالثَّانيةِ اثْنانِ، وبالثَّلاثِ ثَلاثةٌ، وبالأرْبعِ أرْبعةٌ. وهذا غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّ قائلَ هذا لا يَعْتَبِرُ صِفَةَ طَلاقِ الواحدةِ في غيرِ الأُولَى، ولَفْظَةُ «كُلَّمَا» تَقْتَضِي التَّكْرارَ، فيجبُ تَكْرَارُ الطَّلاقِ بتَكْرارِ الصِّفاتِ، وتَسْقُطُ أيضًا صِفَةُ التَّثْنِيَةِ في الثَّالثةِ والرَّابعةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحِيحُ أنَّه يَعْتِقُ خمسةَ عشَرَ عبدًا، لأنَّ فيهن أرْبَعَ صفاتٍ، هُنَّ أربعٌ فيَعْتِقُ (¬1) أرْبعةٌ، وهُنَّ أربعةُ آحادٍ (¬2)، وهُنَّ اثْنَتانِ واثْنَتانِ، فيَعْتِقُ بذلك أرْبعةٌ، وفيهنَّ ثلاثٌ، فيَعْتِقُ بهِنَّ ثلاثةٌ. وإن شِئْتَ قُلْتَ: يَعْتِقُ بالواحدةِ واحدٌ، وبالثَّانيةِ ثلاثةٌ، لأنَّ فيها صِفَتَينِ هي واحدةٌ، وهي مع الأُولَى اثْنَتانِ، ويَعْتِقُ بالثَّالثةِ أرْبعة؛ لأنَّها واحدةٌ، وهي مع الأُولَى والثَّانيةِ ثلاثٌ، ويَعْتِقُ بالرَّابعةِ سَبْعةٌ، لأنَّ فيها ثَلاثَ صِفاتٍ، هي واحدةٌ، وهي مع الثَّالثةِ اثْنَتانِ، وهي مع الثَّلاثِ التي قبلَها أرْبعٌ. وقيلَ: يَعْتِقُ سَبْعةَ عشرَ، لأنَّ صِفَةَ التَّثْنِيَةِ قد وُجِدَتْ ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإنَّها تُوجَدُ بضَمِّ الأُولَى إلى الثَّانيةِ، وبضمِّ الثَّانيةِ إلى الثَّالثةِ، وبضمِّ (¬3) الثَّالثةِ إلى الرَّابعةِ. وقيل: يَعْتِقُ عشرُون. وهو قولُ أبي حنيفةَ، لأنَّ صفةَ الثَّالثةِ وُجِدتْ مَرَّةً ثانيةً، بضَمِّ الثَّانيةِ والثَّالثةِ إلى الرَّابعةِ. وكلا القَوْلَينِ غيرُ سَديدٍ؛ لأنَّهم عَدُّوا الثّانيةَ مع الأُولَى في صِفَةِ التَّثْنِيَةِ مَرَّةً، ثم عَدُّوها مع الثَّالثةِ مَرَّةً أُخْرَى، وعَدُّوا الثَّانيةَ والثَّالثَةَ في صِفَةِ التَّثْلِيثِ (¬4) مَرَّتَينِ، مَرَّةً مع الأُولَى، ومَرَّةً مع الرَّابعةِ، وما عُدَّ في صِفَةٍ مَرَّةً، لا يجوزُ عَدُّه في تلك الصِّفَةِ مَرَّةً أُخْرَى. ¬

(¬1) في م: «فيقع». (¬2) بعده في المغني 10/ 436: «فيعتق بذلك أربعة». وانظر المبدع 7/ 348. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «الثلاث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك لو قال: كُلَّما أكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فأنتِ طالقٌ. فأكَلتْ رُمَّانَةً، لم تَطْلُقْ إلَّا اثْنَتَينِ؛ لأنَّ الرُّمَّانةَ نِصْفانِ. ولا يُقالُ: إنّها تَطْلُقُ ثالثةً، بأن يُضَمَّ الرُّبْعُ الثاني إلى الرُّبْعِ الثالثِ فيَصِيرانِ نصفًا ثالثًا (¬1). وكذلك في مسْألتِنا، لم تُضَمَّ الأُولَى إلى الرَّابعةِ، فيَصِيرانِ اثْنَتَينِ. وعلى سِياقِ هذا القولِ يَنْبَغِي أن يَعْتِقَ اثْنَانِ وثلاثونَ، واحدٌ بطلاقِ واحدةٍ، وثلاثة بطَلاقِ الثَّانيةِ، وثمانية بطلاقِ الثَّالثةِ، لأنَّها واحدةٌ، وهي مع ما قبلَها ثلاثٌ، وهي مع ضَمِّها إلى الأُولَى اثْنَتانِ، ومع ضَمِّها إلى الثَّانيةِ اثْنَتانِ، ففيها صِفَةُ التَّثنِيَةِ مَرَّتانِ، ويَعْتِقُ بطلاقِ الرَّابعةِ عشْرونَ؛ لأنَّ فيها ثمانِيَ صِفاتٍ، هي واحدةٌ، وهي مع ما قبلَها أرْبعٌ، وفيها صِفَةُ التَّثْليثِ (¬2) ثلاثُ مَرَّاتٍ، هي مع الأُولَى والثَّانيةِ ثلاثٌ، ومع الثَّانيةِ (¬3) والثَّالثةِ ثلاثٌ، ومع الأُولَى والثَّانيةِ ثلاثٌ، فيَعْتِقُ بذلك تسعةٌ، وفيها صِفَةُ التَّثْنِيَةِ ثلاثُ مَرَّاتٍ، مع الأُولي اثْنَتانِ، [ومع الثَّانيةِ اثْنَتانِ] (¬4)، ومع الثَّالثةِ اثْنَتانِ، فيَعْتِقُ لذلك سِتَّةٌ، ويَصِيرُ الجميعُ اثْنَينِ وثلاثينَ. قال شيخُنا (¬5): وما نعْلمُ بهذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الثلاث». (¬3) في م: «الثمانية». (¬4) سقط من: م. (¬5) في: المغني 10/ 437.

وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَعْتِقَ إلا أرْبَعَةٌ، إلا أنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قائلًا. قال شيخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن لا يَعْتِقَ إلَّا أربعةٌ)؛ لو قال: كُلَّما أعْتَقْتُ أرْبَعةً فأرْبَعةٌ أحْرارٌ؛ لأن هذا الذي يَسْبِقُ إلى أذْهانِ العامَّةِ. وهذه الأوْجُهُ التي ذَكَرْناها مع الإِطْلاقِ، فأمَّا إن نَوَى بلَفْظِه غيرَ ما يَقْتَضِيه الإطْلاقُ، مثلَ أن يَنْويَ بقَوْلِه: اثْنتَين. غيرَ الواحدةِ، فيَمِينُه على ما نَوَاه. ومتى لم يُعَيِّنِ العَبِيدَ المُعْتَقِين، أُخْرِجُوا بالقُرْعةِ. ولو جعل مكانَ «كُلَّما» «إنْ» في المسألةِ المذْكُورَةِ، لم يَعْتِقْ إلَّا عشَرة، بالواحدةِ واحدٌ، وبالثَّانيةِ اثْنانِ، وبالثَّالثةِ ثلاثةٌ، وبالرَّابعةِ أرْبعةٌ؛ لأنَّ «إِنْ» لا تَقْتَضِي التَّكْرارَ. فصل: ولو قال: كلَّما أعْتَقْتُ عبدًا مِن عَبِيدي فامرأةٌ مِن نِسائِي طالقٌ، وكُلَّما أعْتَقْتُ اثْنَينِ فامرأتانِ طالِقتانِ. ثُمَّ أعْتَقَ الاثْنَينِ، طَلُقَ الأرْبعُ، على القولِ الصَّحِيحِ. وعلى القولِ الثاني، يَطْلُقُ ثلاثٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُخْرَجْنَ بالقُرْعَةِ. ولو قال: كُلَّما أعْتَقْتُ عبدًا مِن عَبيدِي فجاريةٌ مِن جَواريَّ حُرَّةٌ.، وكُلَّما أعْتَقْتُ اثْنَينِ فجارِيتانِ حُرَّتانِ، وكلَّما أعْتَقْتُ ثلاثةً فثلاثٌ أحْرارٌ، وكُلَّما أعْتَقْتُ أرْبعةً فأرْبع أحْرارٌ (¬1)، عَتَقَ مِن جَوارِيه بعدَدِ ما أعْتَقَ مِن عَبِيدِه في المسْألةِ التي ذَكَرْناها، خَمسَ عشْرةَ على الصَّحِيحِ. وقِيلَ: عشَرةٌ. وقِيلَ: سَبْعَ (¬2) عشْرةَ. وقِيلَ: عِشْرونَ. لأنَّها مثْلُها. وإنْ أعتَقَ خَمْسًا، فعلي القولِ الصَّحِيحِ يَعْتِقُ إحْدَى وعِشْرونَ؛ لأنَّ عِتْقَ الخامسِ عَتَقَ به ستٌّ؛ لكَوْنِه واحدًا، وهو مع ما قبلَه خمسةٌ، ولم يُمْكِنْ عَدُّه في سائِرِ الصِّفاتِ؛ لأنَّ ما قبلَ ذلك قد عُدَّ في ذلك مَرَّةً، فلا يُعَدُّ ثانيةً. وعلى القولِ الآخرِ، يَعْتِقُ من جَوارِيه خمسَ عشْرةَ؛ بالواحدِ واحدةٌ، وبالثَّاني اثْنَتينِ، وبالثَّالثِ ثلاثٌ، وبالرَّابعِ أرْبعٌ، وبالخامسِ خمسٌ. فصل: فإن قال: إن دَخَلَ الدَّارَ رجُلٌ فعَبْدٌ مِن عبيدِي حُرٌّ، وإن دَخَلَها طويلٌ فعَبْدانِ حُرَّانِ، وإن دَخَلَهَا أسْودُ فثَلاثةُ أعْبُدٍ أحْرارٌ، وإن دَخَلَها فَقِيهٌ فأرْبعةُ أعْبُدٍ أحْرارٌ. فدَخَلَها فَقِية طويلٌ أسودُ، عَتَقَ مِن عَبِيدِه عشرةٌ. ¬

(¬1) بعده في المغني: «ثم أعتق أربعة». (¬2) في م: «تسع».

3582 - مسألة: (إذا قال لامرأته: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق. ثم كتب إليها: إذا أتاك كتابي فأنت طالق. فأتاها الكتاب، طلقت طلقتين)

وَإنْ قَال لِامْرأتِهِ: إِذَا أتَاكِ طَلَاقِي فَأنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيهَا: إذَا أتَاكِ كِتَابِي فَأنْتِ طَالِقٌ. فَأتَاهَا الْكِتَابُ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ. فَإِنْ قَال: أرَدْتُ أَنَّكِ طَالِقٌ بِذَلِكَ الطَّلاقِ الْأَوَّلِ. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؛ يُخَرَّجُ عَلَى رِوايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3582 - مسألة: (إذا قال لامْرَأتِهِ: إذا أتاكِ طَلاقِي فأنْتِ طَالِقٌ. ثم كَتَبَ إليها: إذَا أتَاكِ كِتَابِي فَأنْتِ طَالِقٌ. فَأتَاهَا الْكِتَابُ، طَلُقَتْ طَلْقَتَينِ) لأنَّه عَلَّقَ طَلاقَها بصِفَتَينِ؛ مَجئِ الطَّلاقِ، ومَجئِ كتابِه، وقد اجْتَمعتِ الصفتانِ (¬1) في مَجِئِ الكتابِ، فَوقعَ بها طَلْقتانِ (فإن قال: أرَدْتُ إذا أتاكِ كتابِي فأنتِ طالقٌ بالطَّلاقِ الأوَّلِ. دُيِّنَ) لأنَّه ¬

(¬1) في م: «الصفات».

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْحَلِفِ: ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْتَمِلُ ما قاله فيُدَيَّنُ فيه، كما لو كَررَ قولَه: أنتِ طالقٌ. وقال: أرَدْتُ بالثَّانيةِ إفْهامَها. أو (¬1): التَّأْكيدَ. ويُقْبَلُ قوْلُه في الحُكْمِ في إحْدَى الرِّوايَتَينِ، لِما ذَكَرْنا، والأُخْرَى، لا يُقْبَلُ، لمخَالفَتِه (¬2) لِظاهِرِ اللَّفْظِ. واللهُ أعلمُ. فصل في تعليقِه بالحلِفِ: اخْتَلَفَ أصْحابُنا في الحَلِفِ بالطَّلاقِ، فقال القاضي في «الجامعِ»، وأبو الخَطَّابِ: هو تَعْليقُه على شرْطٍ، أيِّ شرْطٍ كان، إلَّا قولَه: إذا شِئْتِ فأنتِ طالقٌ. ونحوَه، فإنَّه تَمْليكٌ، و: إذا حِضْتِ فأنتِ طالقٌ. فإنَّه طَلاقُ بِدْعَةٍ، و: إذا طَهُرْتِ فأنتِ طالقٌ. فإنَّه طَلاقُ سُنَّةٍ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، لأنَّ ذلك يُسَمَّى حَلِفًا عُرْفًا، فيَتَعَلَّقُ الحكْمُ به، كما لو قال: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م.

3583 - مسألة: (فإذا قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق. ثم قال: أنت طالق إن قمت، أو: دخلت الدار)

إِذَا قَال إِنْ حَلَفْتُ بِطَلاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قُمْتِ، أوْ: دَخَلْتِ الدَّارَ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ في الشَّرْطِ مَعْنى القَسَمِ، مِن حيثُ كونُه جملةً غيرَ مُسْتَقِلَّةٍ دُونَ الجَوابِ، فأشْبَهَ قولَه: واللهِ، وباللهِ، وتاللهِ. وقال القاضي في «المُجَرَّدِ»: هو تعْليقُه على شَرْطٍ يَقْصِدُ به الحَثَّ على فِعْلٍ، أو المنْعَ منه، كقولِه: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ، وإن لم تَدْخُلِي فأنتِ طالقٌ. أو على تَصْديقِ خَبَرِه، كقوْلِه: أنتِ طالقٌ [لقد قَدِمَ] (¬1) زيدٌ أو: لم (¬2) يَقْدَمْ. فأمَّا التَّعْليقُ على غيرِ ذلك، كقولِه: أنتِ طالقٌ إن طَلَعَتِ الشَّمْسُ. أو: قَدِمَ (¬3) الحاجُّ. أو: إن لم يَقْدَمِ السُّلْطانُ. فهو شَرْطٌ مَحْضٌ ليس بحَلِفٍ؛ لأنَّ حَقِيقةَ الحَلِفِ القَسَمُ، وإنَّما سُمِّيَ تَعْليقُ الطَّلاقِ على شَرْطٍ حَلِفًا تَجَوُّزًا لمُشارَكَتِه الحَلِفَ في المعْنى المشهورِ، وهو الحَثُّ، أو المنْعُ، أو تَأْكِيدُ الخَبرِ، نحوَ قولِه: واللهِ لأفعلنَّ. أو: لا أفْعلُ. أو: لقد فَعَلْت. أو: إن لم أفْعَلْ. وما لم يُوجَدْ فيه هذا المعنى، لا يَصِحُّ تَسْمِيَتُه حَلِفًا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. 3583 - مسألة: (فإذَا قَال: إن حَلَفْتُ بطَلاقِكِ فأنْتِ طَالِقٌ. ثم قال: أنتِ طالقٌ إن قُمْتِ، أو: دَخَلْتِ الدَّارَ) أو: إن لم تَدْخُلِي الدَّارَ. ¬

(¬1) في م: «لقدوم». (¬2) في م: «إن لم». (¬3) في م: «قدوم».

وَإنْ قَال: أَنْت طَالِقٌ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. أوْ: قَدِمَ الْحَاجُّ. فَهَلْ هُوَ حَلِفٌ؛ فِيهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: إن لم يَكنْ هذا القَوْلُ حَقًّا فأنتِ طالقٌ (طَلُقَتْ في الحالِ) لأنَّه حَلَفَ بطَلاقِها (فإن قال: إن طلَعتِ الشَّمسُ. أو: قَدِمَ الحاجُّ فأنتِ طالقٌ) لم تَطْلُقْ في الحالِ، على الوَجْهِ الثاني. وهو قولُ الشافعيِّ. واخْتارَه ابنُ عَقِيلٍ. وتَطْلُقُ على الأوَّلِ. وهو قولُ أبي الخَطاب. وقد ذَكَرْنا دليلَ القَوْلَينِ.

3584 - مسألة: (وإن قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق. وأعاده مرة أخرى، طلقت واحدة)

وَإنْ قَال: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. أوْ قَال: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأنْتِ طَالِقٌ. وَأَعادَهُ مَرَّةً أُخْرَى، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وإنْ أَعادَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3584 - مسألة: (وإن قال: إنْ حَلَفْتُ بِطَلاقِكِ فأنْتِ طَالِقٌ. وأعَادَهُ مَرَّةً أُخْرَى، طَلُقَتْ وَاحِدَةً) لأنَّ إعَادَتَهُ حَلِفٌ (وَإنْ أعَادَهُ ثَلاثًا، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لأنَّ كلَّ مَرَّةٍ يُوجَدُ بها شَرْطُ الطَّلاقِ، ويَنْعَقِدُ شَرْطُ طَلْقةٍ أُخْرَى. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي. وقال أبو ثَوْرٍ: ليس ذلك بحَلِفٍ، ولا يَقَعُ الطَّلاقُ بتَكْرَارِه؛ لأنَّه تَكْرارٌ للكلامِ، فيكونُ تَأْكِيدًا لا حَلِفًا. ولَنا، أنَّه تَعْليقٌ للطَّلاقِ على شَرْطٍ يُمْكِنُ فِعْلُه وتَرْكُه، فكان حَلِفًا، كما لو قال: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ. وقولُه: إنَّه تَكْرارٌ للكلام. حُجَّةٌ عليه، فإنَّ تَكْرارَ الشيءِ عِبارَة عن وُجودِه مَرَّةً أُخْرَى، وأمَّا التَّأْكيدُ فإنَّه يُحْمَلُ عليه الكلامُ المُكَرَّرُ إذا قصدَه، وههُنا إن قصدَ إفْهامَها [لم يقعْ بالثَّاني شيءٌ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ. يعني بالثَّانيةِ إفْهامَها] (¬1). فأمَّا إن كَرَّرَ (¬2) ذلك لغيرِ مَدْخولٍ بها، بانَتْ بطلْقَةٍ، ولم يَقَعْ بها أكْثرُ منها. 3585 - مسألة: (وإن قال: إنْ كَلَّمتُكِ فَأنْتِ طَالِقٌ. وَأعَادَهُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «كون».

3586 - مسألة: (وإن قال لامرأتيه: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان)

ثَلَاثًا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا. وَإنْ قَال لَامْرَاتَيهِ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. وَأَعَادَهُ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا غَيرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَأَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثًا، طَلُقَتْ ثَلاثًا) لوُجودِ الصِّفَةِ، كالمسألةِ قبلَها. 3586 - مسألة: (وَإن قَال لامْرأتَيهِ: إن حَلَفْتُ بِطَلاقِكُمَا فأنتما طَالِقَتَانِ) ثُمَّ أعَادَ ذلك ثَلاثًا، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ منهما ثَلاثًا؛ لوُجِودِ شَرْطِها، وهو الحَلِفُ (فإن كانت إحْدَاهما غيرَ مدْخولٍ بها) بانتْ بالمَرَّةِ (¬1) الثَّانيةِ (فإذا أعادَه بعدَ ذلك، لم تَطْلُقْ واحدة منهما) لأنَّ غيرَ المدْخولِ بها بائِنٌ، فلم تَكُنْ إعادَةُ هذا القَوْلِ حَلِفًا بطَلاقِها، وهي غيرُ زَوْجَةٍ، فلم يُوجَدِ الشَّرْطُ، فإن شَرْطَ طَلاقِهما الحَلِفُ بطَلاقِهما جميعًا، ¬

(¬1) في الأصل: «المرأة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن جَدَّد نِكاحَ البائِنِ، ثم قال لها: إن تَكَلَّمتِ فأنتِ طالقٌ. فقد قيلَ: يَطْلُقانِ حِينَئذٍ؛ لأنَّه صار بهذا حالِفًا بطَلاقِها (¬1)، وقد حَلَفَ بطَلاقِ المدْخولِ بها بإعادةِ قَوْلِه في المَرَّةِ الثَّالثةِ، فطَلُقَتا حينَئذٍ. قال شيخُنا (¬2): ويَقْوَى عندِي أنَّه لا يقَعُ الطَّلاقُ بهذه التي جَدَّدَ نِكاحَها؛ لأنها حينَ إعادَتِه المرَّةَ الثَّالثةَ بائنٌ، فلم تَنْعقِدِ الصِّفَةُ بالإِضافَةِ إليها، كما لو قال لأجْنَبِيَّةٍ: إن حَلَفْتُ بطَلاقِكِ فأنتِ طالقٌ. ثم تَزَوَّجَها وحَلَفَ بطَلاقِها، ولكن تَطْلُقُ المدْخولُ بها حينَئذٍ؛ لأنَّه قد حَلَفَ بطَلاقِها في المرَّةِ الثَّالثةِ، وحَلَفَ بطَلاقِ هذه حينَئذٍ، فكَمَلَ شَرْطُ طَلاقِها، فَطَلُقَتْ وحدَها. ¬

(¬1) في م: «بطلاقهما». (¬2) في: المغني 10/ 427.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان له امْرأتانِ، حَفْصَةُ وعَمْرَةُ، فقال: إن حَلَفْتُ بطَلاقِكما فعَمْرَةُ طالقٌ. ثم أعادَه، لم تَطْلُقْ واحدة منهما؛ لأنَّ هذا حَلِفٌ بطلاقِ عَمْرَةَ وحدَها، فلم يوجَدِ الحَلِفُ بطَلاقِهما. وإن قال بعدَ ذلك: إن حَلَفْتُ بطَلاقِكما فحَفْصَةُ طالقٌ. طَلُقَتْ عَمْرةُ؛ لأنَّه حَلَفَ بطَلاقِهما بعدَ تَعْليقِه طَلاقَها (1) على الحَلِفِ بطلاقِهما، ولمْ تَطْلُقْ حَفْصَةُ؛ لأنَّه ما حَلَفَ بطَلاقِهما بعْدَ تَعْليقِه طَلاقَها (¬1) عليه. فإن قَال بعْدَ هذا: إن حَلَفْتُ ¬

(¬1) في م: «طلاقهما».

3587 - مسألة: فإن قال لإحداهما: إذا حلفت بطلاق ضرتك فأنت طالق. ثم قال ذلك للأخرى، طلقت الأولى؛ لأن التعليق حلف، وقد علق طلاق ضرتها، فتطلق الأولى؛ لوجود شرط طلاقها، وهو تعليق طلاق ضرتها، فإن أعاده للأولى، طلقت الأخرى لذلك، وكلما أعاده لامرأة [منهما على هذا الوجه]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِطَلاقِكُمَا فعَمْرةُ طالقٌ. لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهما؛ لأنَّه لم يَحْلِفْ بطلاقِهما، إنَّما حَلَفَ بطَلاقِ عَمْرةَ وحدَها. فإن قال بعدَ هذا: إن حَلَفْتُ بطلاقِكما فحفْصَةُ طالقٌ. طَلُقَتْ حَفْصَةُ. وعلى هذا القياسُ. فصل: إذا قال لإِحْداهما: إنْ حَلَفْتُ بطلاقِكِ فَضَرَّتُكِ طالقٌ. ثم قال للأُخْرَى مثلَ ذلك، طَلُقَتِ الثَّانيةُ؛ لأنَّ إعادَتَه للثَّانيةِ هو حَلِفٌ بطلاقِ الأُولَى، وذلك شَرْطُ وقُوعِ طلاقِ الثَّانيةِ، ثم إن أعادَه للأُولَى، طَلُقَتْ، ثم كلَّما أعادَه على هذا الوَجْهِ لامْرأةٍ، طَلُقَتْ، حتى يَكْمُلَ للثَّانيةِ ثلاثٌ، ثم إذا أعادَه للأُولَى، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّ الثَّانيةَ قد بانَتْ منه، فلم يَكُنْ ذلك حَلِفًا بطَلاقِها. ولو قال هذا القولَ لامرأةٍ، ثم أعادَه لها، لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهما، لأنَّ ذلك ليس بحَلِفٍ بطَلاقِها، إنَّما هو حَلِفٌ بطلاقِ ضَرَّتِها، ولم يُعَلِّقْ على ذلك طَلاقًا. 3587 - مسألة: فإن قال لإحْداهما: إذا حَلَفْتُ بطَلاقِ ضَرَّتِكِ فَأنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال ذَلِكَ للأُخْرَى، طَلُقَتِ الأُولَى؛ لأنَّ التَّعْليقَ حَلِفٌ، وقد عَلَّقَ طلاقَ ضَرَّتِها، فَتَطْلُقُ الأُولَى؛ لوُجُودِ شَرْطِ طلاقِها، وهو تَعْليقُ طَلاقِ ضَرَّتِها، فإن أعادَه للأُولَى، طَلُقَتِ الأُخْرَى لذلك، وكلَّما أعادَه لامرأةٍ [منهما على هذا الوَجْهِ] (¬1)، طَلُقَتِ الأُخْرَى، [إلى أن يبلغَ ثلاثًا] (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

3588 - مسألة: (وإن قال لمدخول بها: كلما حلفت بطلاق واحدة منكما فأنتما طالقتان. وأعاده ثانيا، طلقت كل واحدة طلقتين)

وَإنْ قَال لِمَدْخُولٍ بهما: كُلَّمَا حَلَفْتُ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. وَأَعَادَهُ ثَانِيَةً، طَلُقَتْ كلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَينِ. وَإِنْ قَال: كُلَّمَا حَلَفْتُ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا فَهِيَ طَالِقٌ. أَوْ: فَضَرَّتُهَا طَالِقٌ. وَأعَادَهُ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانت إحْداهما غيرَ مَدْخولٍ بها، فطَلُقَتْ مَرَّةً، [لم تَطْلُقْ أُخْرَى] (¬1)، ولم تَطْلُقِ الأُخْرَى بإعادَتِه لها؛ لأنَّه ليس بحَلِفٍ بطلاقِها، لكَوْنِها بائنًا. 3588 - مسألة: (وإن قال لمَدْخُولٍ بها: كُلَّما حَلَفْتُ بطَلاقِ وَاحِدةٍ مِنْكُمَا فأنتما طَالِقَتانِ. وأعَادَهُ ثَانِيًا، طَلُقَتْ كُل واحِدَةٍ طَلْقَتَينِ) لأنَّ قولَه ذلك حَلِفٌ بطلاقِ كلِّ واحدةٍ منهما، وحَلِفُه بكلِّ واحدةٍ يَقْتَضِي طلاقَ الثِّنْتَينِ، فطَلُقَتا بحَلِفِه بطلاقِ واحدةٍ طَلْقةً طلقةً، وبحَلِفِه بطَلاقِ الأُخْرَى طَلْقةً طلقةً. 3589 - مسألة: (وإن قال: كُلَّما حَلَفْتُ بِطَلاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا فَهِيَ طَالِقٌ. أوْ: فَضَرَّتُهَا طَالِقٌ. وأعَادَهُ، طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ) مِنْهُن (¬2) (طَلْقَةً) لأنَّ حَلِفَه بطَلاقِ واحدةٍ إنَّما اقْتَضَى طلاقَها وحدَها، وما حَلَفَ بطلاقِها إلا مَرَّةً، فلا تَطْلُقُ إلَّا طَلْقَةً. فصل: وإن قال لإِحْداهُما: إذا حَلَفْتُ بطلاقِ ضَرَّتِكِ فهي طالقٌ. ثم قال لأُخْرَى مثلَ ذلك، لم تَطْلُقْ واحدةٌ منهما، ثم إن أعادَ ذلك ¬

(¬1) في م: «بانت». (¬2) في م: «منهما».

وَإنْ قَال لإِحْدَاهُمَا: إِذَا حَلَفْتُ بِطَلاقِ ضَرَّتِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ قَال ذَلِكَ لِلأُخْرَى، طَلُقَتِ الأُولَى، فَإِنْ أَعَادَهُ لِلأُولَى، طَلُقَتِ الْأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ لإِحْداهما، طَلُقَتِ الأُخْرَى، ثم إن أعادَه للأُخْرَى، طَلُقَتْ صاحِبَتُها، ثم كلَّما أعادَه لامْرأةٍ، طَلُقَتِ الأُخْرَى، إلَّا أن تكونَ إحْداهما غيرَ مَدْخولٍ بها، أو لم يَبْقَ مِن طلاقِها إلَّا دونَ الثَّلاثِ، فإنَّها إذا بانَتْ صارتْ كالأجْنَبِيَّةِ. فإن قال لإِحْدَاهما: إذا حَلَفْتُ بطلاقِ ضَرَّتِك فهي طالقٌ. ثم قال للأُخْرَى: إذا حَلَفْتُ بطلاقِك فأنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ في الحالِ، ثم إن قال للأُولَى مثلَ ما قال لها، أو قال للثَّانيةِ مثلَ ما قال لها، طَلُقَتِ الثَّانيةُ، وكذلك الثَّالثةُ، ولا يَقَعُ بالأُولَى بهذا طلاقٌ؛ لأنَّ الحَلِفَ في الموضِعَينِ إنَّما هو بطَلاقِ الثَّانيةِ. ولو قال للأُولَى: إن حَلَفْتُ بطلاقِكِ فأنتِ طالقٌ. ثم قال للأُخْرَى: إن حَلَفْتُ بطلاقِ ضَرَّتِك فهي طالقٌ. طَلُقَتِ الأُولَى (¬1)، ثم متى أعادَ [أحَدَ] (¬2) هذين الشَّرْطَينِ مَرَّةً أُخْرَى، طَلُقَتِ الأُولَى ثانيةً، وكذلك الثَّالثةُ، ولا يقَعُ بالثَّانيةِ بهذا طلاقٌ. ولو قال لإِحْداهما: إذا حَلَفْتُ [بطلاقِكِ فَضَرَّتُكِ] (¬3) طالقٌ. ثم قال للأُخْرَىِ: إذا حَلَفْتُ بطلاقِ ضَرَّتِك فأنتِ طالقٌ. لم تَطْلُقْ واحدة منهما؛ لأنَّه في الموضِعَينِ عَلَّقَ طلاقَ الثَّانيةِ على الحَلِفِ بطلاقِ الأُولَى، ولم يَحْلِفْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تكملة من المغني 10/ 428. (¬3) في م: «بطلاق ضرتك فأنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بطلاقِها. ولو أعادَ ذلك لهما، لم (¬1) تَطْلُقْ واحدةٌ منهما، وسَواء تَقَدَّمَ القولُ للثَّانيةِ على القولِ للأُولَى، أو تأَخَّرَ عنه. فصل: فإن كان له ثلاثُ نِسْوَةٍ، فقال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ زَينبَ فعَمْرَةُ طالقٌ. ثم قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ عَمْرةَ فحفْصةُ طالقٌ. ثم قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ حَفْصَةَ فزينبُ طالقٌ. طَلُقَتْ عَمْرَةُ. وإن جعلَ مكانَ زينبَ عَمْرةَ، طَلُقَتْ حَفْصةُ. ثم متى أعادَه بعدَ ذلك، طَلُقَتْ منهنَّ واحدةٌ، على الوَجْهِ الذي ذَكَرْناه. وإن قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ زينبَ فنِسائِي طَوالِقُ. [ثم قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ عَمْرَةَ فنِسائِي طَوالِقُ. ثم قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ حفْصةَ فنِسائِي طوالقُ. طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ طَلْقَتَينِ؛ لأنَّه لمَّا قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ عَمْرةَ فنسائِي طوالقُ] (¬2). فقد حَلَفَ بطلاقِ زينبَ بعدَ تَعْليقِه طلاقَ نِسائِه على الحلفِ بطلاقِها، فطَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ طَلْقَةً، ولمَّا قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ حفصةَ فنِسائِي طوالِقُ. فقد حَلَفَ بطلاقِ عَمْرَةَ [وزينبَ، فطَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ طلقةً بحَلِفِه بطلاقِ عَمرةَ] (2)، ولم يَقَعْ بحَلِفِه بطلاقِ زينبَ شيءٌ؛ لأنَّه قد حَنِثَ به مَرَّةً فلا يَحْنَثُ ثانيةً. ولو كان مكانَ قولِه: «إن». «كلَّما»، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ ثلاثًا؛ لأنَّ «كُلَّما» تَقْتَضِي التَّكْرارَ. ولو قال: كلَّما حَلَفْتُ بطلاقِ واحدةٍ منكنَّ فأنْتُنَّ طوالقُ. ثم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعادَ ذلك مَرَّةً ثانيةً، طَلُقْنَ ثلاثًا ثلاثًا؛ لأنَّه بإعادَتِه حالِفٌ بطلاقِ كلِّ واحدةٍ منهنَّ، وحَلِفُه بطلاقِ كلِّ (¬1) واحدةٍ شَرْطٌ لطلاقِهنَّ جميعًا. وإن قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِ واحدةٍ منكنَّ فأنْتُنَّ طوالقُ. ثم أعَادَ ذلك، طَلُقَتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ طَلْقَةٍ؛ لأنَّ «إن» لا تَقْتَضِي التَّكْرارَ. وإن قال بعدَ ذلك لإحْداهُنَّ: إن قمتُ فأنت طالقٌ. [طَلُقَتْ كل واحدةٍ منهنَّ طَلقةً أُخْرَى. ولو قال: كلَّما حَلَفْت بطلاقِكنَّ فأنْتنَّ طوالقُ. ثم أعَادَ ذلك، طَلُقَتْ كل واحدةٍ طَلقةً. فإن قال بعد ذلك لإِحْداهُنَّ: إن قُمْتُ فأنتِ طالقٌ] (¬2). لم تَطْلُقْ واحدة منهنَّ. وإن قال ذلك للاثْنَتَين الباقِيَتَينِ، طَلُقَ الجميعُ طَلْقةً طلقةً. فصل: وإن قال لزَوْجتِه: إن حَلَفْتُ بعِتْقِ عبدِي فأنتِ طالقٌ. ثم قال: إن حَلَفْتُ بطلاقِكِ فعَبْدِي حُرٌّ. طَلُقَتْ. ثم إن (1) قال لعَبْدِه: إن حَلَفْتُ بعِتْقِكَ فامْرأتِي طالِقٌ. عَتَقَ العبدُ. ولو قال له: إن حَلَفْتُ بطلاقِ امْرأتِي فأنتَ حُرٌّ. ثم قال لها: إن حَلَفْتُ بعِتْقِ عبدِي فأنتِ طالقٌ. عَتَقَ العبدُ. ولو قال لعبدِه: إن حَلَفْتُ بعِتْقِكَ فأنتِ حُرٌّ. ثم أعَادَه، عَتَقَ العبدُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْكَلَامِ: إِذَا قَال: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأنْتِ طَالِقٌ، فَتَحَقَّقِي ذَلِكَ. أوْ زَجَرَهَا فَقَال: تَنَحَّيْ. أو: اسْكُتِي. أوْ قَال: إِنْ قُمْتِ فَأنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتْ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحْنَثَ بِالْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِيَميِنِهِ، لِأنَّ إِتْيَانَهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ الْكَلَامَ الْمُنْفَصِلَ عَنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في تعْليقِه بالكلام: (إذا قال: إن كلَّمْتُكِ فأنتِ طالقٌ، فتَحَقَّقِي ذلك) طَلُقَتْ؛ لأَنهَ كَلَّمَها بعدَ عَقْدِ اليَمينِ، إلَّا أن يُرِيدَ بعدَ انقِضاءِ كلامِي هذا أو نحوَه. وكذلك إن (زَجَرَها فقال: تَنَحَّيْ. أو: اسْكُتى. أو قال: إن قُمْتِ فأنتِ طالقٌ. طَلُقَتْ) لأنَّه كلَّمَها بعدَ عقدِ (¬1) اليَمِينِ، إلَّا أن يَنْويَ كلامًا مُبْتَدَأً (ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ بالكلامِ المُتَّصِلِ بيَمِينه؛ لأنَّ إتْيانَه به يَدُلُّ على إرادَتِه الكلامَ المنفَصِلَ عنها) وإن سَمِعَها تَذْكُرُه فقال: الكاذبُ عليه لعنةُ اللهِ. حَنِثَ. نَصَّ عليه ¬

(¬1) سقط من: م.

3590 - مسألة: (وإن قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق. فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر. انحلت يمينه)

وَإنْ قَال: إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَقَالتْ: إِنْ بَدَأْتُكَ بِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ. انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، إلا أَنْ يَنْويَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْنَثَ بِبِدَايَتِه إيَّاهَا بِالْكَلَامِ فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أرَادَ ذَلِكَ بِيَمينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ؛ لأنَّه كَلَّمَها. 3590 - مسألة: (وَإنْ قَال: إنْ بَدَأْتكِ بِالْكَلام فَأنْتِ طالقٌ. فقالتْ: إن بَدَأْتُكَ به فعَبْدِي حُرٌّ. انْحَلَّت يَمِينُه) لأنَّها كَلَّمَتْه، فلم يَكُنْ كلامُه لها بعدَ ذلك ابْتِداءً (إلَّا أنْ يَنْويَ) أنَّه لا يَبْدَؤُها في مَرَّةٍ أُخْرَى، وبَقِيَتْ يَمِينُها مُعَلَّقةً. فإن بدَأَها بكلامٍ، انحَلَّتْ يَمِينُها أيضًا، وإن بَدَأتْه هي، عَتَقَ عبدُها. هكذا ذكرَه أصحابُنا. قال شيخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن يَحْنَثَ ببِدايَتِه إيَّاها بالكَلامِ في وقْتٍ آخَرَ؛ لأنَّ الظَّاهرَ إرادَتُه ذلك بيَمِينِه).

3591 - مسألة: (وإذا قال: إن كلمت فلانا فأنت طالق. فكلمته فلم يسمع لتشاغله أو غفلته، أو كاتبته أو راسلته، حنث)

وَإِنْ قَال: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأنْتِ طَالِقٌ. فَكَلَّمَتْهُ فَلَمْ يَسْمَعْ لِتَشَاغُلِهِ أوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ كَاتَبَتْهُ أوْ رَاسَلَتْهُ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3591 - مسألة: (وإذَا قَال: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فأنْتِ طَالِقٌ. فَكَلَّمَتْهُ فلم يَسْمَعْ لِتَشَاغُلِه أوْ غَفْلَتِه، أوْ كَاتَبَتْهُ أو رَاسَلَتْهُ، حَنِثَ) إذا كَلَّمَتْه فلم يَسْمَعْ لِتَشَاغُلِه أو غَفْلَتِه، حَنِثَ؛ لأنَّها كَلَّمَتْه، وكذلك إن كَاتَبَتْه أو راسَلَتْه، إلَّا أن يكونَ قَصَدَ أن لا تُشافِهَه. نَصَّ عليه أحمدُ، وذلك لقولِ الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (¬1). ولأنَّ القَصْدَ بالتَّرْكِ لكلامِها إيَّاه هِجْرانُه، ولا يحْصُلُ ذلك مع مُواصَلَتِه بالرُّسُلِ والكُتُبِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ إلَّا أنْ يَنْوىَ تَرْكَ ذلك، لأنَّ هذا القِسْمَ ليس بِتكَلُّم حقيقةً، ولأنَّه لو حَلَفَ (¬2) ليكَلِّمنَّه (¬3)، لم يَبَرَّ (¬4) بذلك إلَّا أن يَنْويَه، فكذلك ¬

(¬1) سورة الشورى 51. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «لتكلميه»، وفي م: «لتكلمنه». وانظر المغني 10/ 465. (¬4) في م: «يبرأ».

3592 - مسألة: (وإن أشارت إليه، احتمل وجهين)

وَإنْ أشَارَتْ إِلَيهِ، احْتَمَلَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحْنَثُ به. فإن أرْسَلَتْ إنْسانًا يسْألُ أهلَ العلمِ عن مسْألةٍ [أو حَديثٍ] (¬1)، فجاءَ الرَّسولُ فسألَ المحْلُوفَ عليه، لم يَحْنَث بذلك. 3592 - مسألة: (وإن أشارَتْ إليه، احْتَمَلَ وَجْهَينِ) أحدُهما، لا تَطْلُقُ؛ لأنَّه لَم يُوجَدِ الكلامُ. والثَّاني، تَطْلُقُ؛ لأنَّه يحْصُلُ به مقْصودُ الكلامَ. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) في م: «أحدثت».

3593 - مسألة: (وإن كلمته سكران أو أصم، بحيث يعلم أنها تكلمه، أو مجنونا يسمع كلامها، حنث)

وَإنْ كَلَّمَتْهُ سَكْرَانَ أَوْ أَصَمَّ بحَيثُ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُكَلِّمُهُ، أَوْ مَجْنُونًا بِحَيثُ يَسْمَعُ كَلَامَهَا، حَنِثَ. وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3593 - مسألة: (وَإنْ كَلَّمَتْه سَكْرَانَ أو أصَمَّ، بحَيثُ يَعْلَمُ أنَّها تُكَلِّمُهُ، أوْ مَجْنُونًا يَسْمَعُ كَلامَهَا، حَنِثَ) لأنَّ السَّكْرانَ يُكلَّمُ ويَحْنَثُ، ورُبَّما كان تكْلِيمُه في حالِ سُكْرِه أضَرَّ مِن تَكْليمِه في صَحْوه، ولأنَّ المجنونَ يسْمَعُ الكلامَ أيضًا ويَحْنَثُ، وكذلك إن كَلَّمتْ صَبِيًّا يَسْمَعُ ويَعْلَمُ أنَّه مُكَلَّمٌ حَنِثَ. فأمَّا إن جُنَّتْ هي، وكَلَّمتْهُ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ القَلَمَ مرْفوعٌ عنها، ولم يَبْقَ لكلامِها حُكْمٌ. وإن كَلَّمَتْه سَكْرانةً، حَنِثَ؛ لأنَّ حُكْمَها حُكْمُ الصَّاحِي (وقيلَ: لا يَحْنَثُ) لأنَّه لا عَقْلَ لها. [فإنْ كان السَّكْرانُ أو المجنونُ مصروعًا، لم يَحْنَثْ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

3594 - مسألة. (وإن كلمته ميتا، أو غائبا، أو مغمى عليه، أو نائما، لم يحنث. وقال أبو بكر: يحنث)

وَإنْ كَلَّمَتْهُ مَيِّتًا، أو غَائِبًا، أو مُغْمًى عَلَيهِ، أو نَائِمًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَال أَبُو بَكرٍ: يَحْنَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3594 - مسألة. (وَإنْ كَلَّمَتْه مَيِّتًا، أو غَائِبًا، أو مُغْمًى عليهِ، أو نَائِمًا، لم يَحْنَثْ. وقال أبو بكرٍ: يَحْنَثُ) لقَوْلِ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كَيفَ تُكَلِّمُ أجْسَادًا لَا أرْواع فيها؟ (¬1) ولَنا، أنَّ التَّكْليمَ فِعْلٌ يتَعدَّى إلى المُتَكَلَّمِ، وقد قِيلَ: إنَّه مأْخُوذٌ مِن الكَلْمِ، وهو الجُرْحُ؛ لأنَّه يُؤثِّرُ فيه كتَأْثيرِ الجُرْحِ، ولا يكونُ ذلك إلَّا بإسْماعِه (¬2)، فأمَّا تَكْليمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المَوْتَى، فَمِن مُعْجِزَاتِه، فإنَّه قال: «مَا أنْتُمْ بأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ». ولم يَثْبُتْ هذا لغيرِه، وقولُ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كيف تُكَلِّمُ أجْسادًا لا أرْواحَ فيها؟ حُجَّةٌ لنا، فإنَّهم قالوا ذلك اسْتِبعادًا (¬3)، أَو سُؤالًا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قتل أبي جهل، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 5/ 97. ومسلم، في: باب عرض مقعد الميت. . . .، من كتاب الجنة. صحيح مسلم 4/ 2203. والنسائي، في: باب أرواح المؤمنين، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 90. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 131. (¬2) في الأصل: «باستماعه». (¬3) في م: «استعبادًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمَّا خَفِيَ عنهم سَبَبُه وحِكْمَتُه، حتى كَشَفَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِكْمَةَ (¬1) ذلك بأمْرٍ مُخْتَصٍّ به، فيَبْقَى الأمْرُ [في حَقِّ مَن] (¬2) سِوَاه على النَّفْي. وإن سَلَّمَتْ عليه حَنِثَ؛ لأنَّه كلامٌ. فإن كان أحَدُهما إمامًا، والآخَرُ مَأْمُومًا، لم يَحْنَثْ بتَسْلِيمِ الصَّلاةِ؛ لأنَّه للخُروجِ منها، إلَّا أن يَنْوِيَ بتَسْلِيمِه (¬3) المأْمُومِينَ، فيكونُ حُكْمُه كما لو سَلَّمَ عليهم في غيرِ الصَّلاةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَث بحالٍ؛ لأنَّ هذا لا يُعَدُّ تَكْليمًا، ولا يُريدُه الحالِفُ. فصل: وإن حَلَفَ لا يُكلِّمُ إنْسانًا، فكَلَّمَ غيرَه وهو يسْمَعُ، يَقْصِدُ بذلك إسْماعَه، كما لو قال: * إيَّاكِ أعْنِي واسْمَعِي يا جَارَهْ (¬4) حَنِثَ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: إذا حَلَفَ لا يُكَلِّمُ فُلانًا، فكلَّمَ إنسانًا وهو يَسْمَعُ، يُرِيدُ بكَلامِه إيَّاه المحْلُوفَ عليه، حَنِثَ؛ لأنَّه قد أرادَ تَكْليمَه. ورُوِيَ عن أبي بَكْرةَ ما يدُلُّ على أنَّه لا يَحْنَثُ؛ فإنَّه كان (1) حَلَفَ أن لا يُكَلِّمَ أخَاه زِيادًا، فأرادَ زيادٌ الحَجَّ، فجاءَ أبو بَكْرةَ، فدخلَ ¬

(¬1) ساقط من: م. (¬2) في م: «في من». (¬3) بعده في الأصل، «على». (¬4) نسبه الميداني لسهل بن مالك الفزاري. انظر مجمع الأمثال 1/ 80، 81. وهو في اللسان والتاج (ع ط ر) غير منسوب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قصرَه وأخذَ ابنَه في حِجْرِه، فقال: إنَّ أباكَ يُريدُ الحَجَّ والدُّخولَ على زَوْجِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهذا السَّبَب، وقد علمَ أنَّه غيرُ صَحيحٍ. ثم خرَجَ، ولم يَرَ أنَّه كلَّمَه (¬1). والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه أسْمَعَه كلامَه يُريدُه به، فأشْبَهَ ما لو خاطَبَه به، ولأنَّ مقْصودَ تكْليمِه قد حَصَلَ بإسْماعِه كلامَه. فصل: فإن حَلَفَ لا يُكَلِّمُ امرأتَه، فجامَعَها، لم يَحْنَثْ، إلَّا أن تكونَ نِيَّتُه هِجْرانَها. قال أحمدُ في رجلٍ قال لامرأتِه: إن كَلَّمْتُك خمسةَ أيَّام فأنتِ طالقٌ. ألَهُ (¬2) أن يُجامِعَها ولا يُكَلِّمَها؟ فقال: أيُّ شيءٍ [كان بُدُوُّ هذا، أيَسُوءُها أو يغيظُها] (¬3)؟ فإن لم تكُنْ له نِيَّةٌ، فله أن يُجامِعَها ولا يُكَلِّمَها. وإن حَلَفَ لا يَقْرأُ كتابَ فلانٍ، فقَرأَه في نفسِه، ولم يُحَرِّكْ شَفَتَيه به (¬4)، حَنِثَ؛ لأنَّ هذا قراءةُ الكُتُبِ في عُرْفِ النَّاسِ، فتَنْصرِفُ يَمِينُه إليه، إلَّا أن يَنْويَ حقيقةَ القراءة (¬5). قال أحمدُ: إذا حَلَفَ: لا قَرَأْتُ لفُلانٍ كتابًا. ففَتَحَه حتى اسْتَقْصَى آخِرَه، إلَّا أنَّه لم يُحَرِّكْ (¬6) شَفَتَيه، ¬

(¬1) انظر: ما أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 7/ 16. (¬2) في م: «إن له». (¬3) في م: «كان به وهذا يسوؤها أو يغبطها». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «القرآن». (¬6) بعده في الأصل: «به».

3595 - مسألة: (فإن قال لامرأتيه: إن كلمتما هذين)

وَإنْ قَال: لِامْرَأَتيهِ: إِن كَلَّمْتُمَا هَذَينِ فَأنْتُمَا طَالقَتَانِ. فَكَلَّمَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ وَاحِدًا مِنْهُمَا، طَلُقَتَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ حَتَّى تُكَلِّمَا جَمِيعًا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أرادَ: أن [لا يَعْلَمَ] (¬1) ما فيه، فقد عَلِمَ ما فيه وقرأه. 3595 - مسألة: (فإن قال لامْرَأتَيه: إنْ كَلَّمْتُما هَذَينِ) الرجُلَينِ (فَأنْتُما طَالِقَتَانِ. فَكَلَّمَتْ كُلُّ واحدةٍ مِنْهُما وَاحِدًا، طَلُقَتا. وَيَحْتَمِلُ أنْ لا يَحْنَثَ حَتَّى تُكَلِّمَا جَمِيعًا كُلَّ واحدٍ منهما) هذه المسألةُ فيها وَجْهانِ؛ أحْدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّ تَكْليمَهما وُجِدَ منهما، فحَنِثَ، كما لو قال: إن حِضْتُما فأنتُما طالقَتانِ. فحاضَتْ كلُّ واحدةٍ حَيضَةً. وكذلك لو قال: إن رَكِبْتُما دابتَّيكُما فأنْتُما طالقتان. فرَكِبَتْ كلُّ واحدةٍ دابتَّهَا. والثاني، لا يَحْنَثُ حتى تُكَلِّمَ كُلُّ واحدةٍ منهما الرَّجلَين معًا؛ لأنَّه عَلَّقَ طَلاقَهما بكلامِهما لهما، فلا تَطْلُقُ واحدة بكلامِ الأُخْرَى ¬

(¬1) في النسختين: «يعلم». والمثبت كما في المغني 10/ 465.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحدَها. وهذا أظْهَرُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. وهو أوْلَى إن شَاء اللهُ تعالى، إذا لم تكُنْ له نِيَّةٌ. وهكذا إن قال: إن دَخْلتُما هاتَين الدَّارَينِ. فالحُكْمُ فيها كذلك؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ. قال شيخُنا (¬1): [وهذا] (¬2) فيما لم تَجْرِ العادَةُ بانْفِرادِ الواحِدَةِ به. فأمَّا ما جَرَتِ العادةُ بانْفرادِ الواحدَةِ فيه بالواحدِ، كنحو: رَكِبَا دابَّتَيهما، ولَبِسا ثوبَيهما، وتَقَلَّدا سَيفَيهما، واعْتَقَلا رُمْحَيهما، ودَخَلا بزَوْجَتَيهما. وأشْباه هذا، فإنَّه يَحْنَثُ إذا وُجِدَ (¬3) منهما مُنْفَردَينِ، وما لم تَجْرِ العادةُ فيه بذلك، ¬

(¬1) في: المغني 10/ 466. (¬2) سقط من النسختين. والمثبت من المغني. (¬3) في الأصل: «وجد».

3596 - مسألة: (فإن قال: إن أمرتك فخالفتني فأنت طالق

وَإنْ قَال: إِنْ أمَرْتُكِ فَخَالفْتِنِي فَأنْتِ طَالِقٌ. فَنَهَاهَا وَخَالفَتْهُ، لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو على الوَجْهَينِ. فأمَّا إن قال: إن أكلْتُما هذَينِ الرَّغِيفَينِ. فأكلتْ كُلُّ واحدةٍ منهما رَغِيفًا، فإنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه يَسْتَحِيلُ أن تَأْكُلَ كلُّ واحدةٍ منهما الرَّغيفينِ، بخِلافِ الرَّجُلَينِ والدَّارَينِ. 3596 - مسألة: (فَإنْ قَال: إنْ أمَرْتُكِ فخالفْتِني فأنْتِ طالقٌ

يَحْنَثْ، إلَّا أنْ يَنْويَ مُطْلَقَ الْمُخَالفَةِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ تَطْلُقَ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَنَهاها فخالفَتْه، لم يَحْنَثْ، إلَّا أن يَنْويَ مُطْلقَ المُخالفَةِ) اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها خالفَتْ [نَهْيَه لا أمْرَه] (¬1) (وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْنَثُ إذا لم يَكُنْ ممَّن يَعْرِفُ حقيقةَ الأمْرِ والنَّهْي) لأنَّه إذا كان كذلك فإنَّما يُريدُ نَفْيَ المُخالفَةِ. (ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ) بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّ الأمْرَ بالشيءِ نَهْيٌ عن ضدِّه، والنَّهْيُ عنه أمْرٌ بضدِّه، فقد خالفَتْ أمْرَه. وإن قال لها: إن نَهَيتِني عن نَفْعِ أُمِّي فأنتِ طالقٌ. [فقالت له] (¬2): لا تُعْطِها مِن مالِي شيئًا. لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ إعْطاءَها مِن مالِها لا يَجوزُ، ولا يجوزُ النَّفْعُ به، فيكونُ هذا النَّفْعُ مُحَرَّمًا، فلا تَتَناوَلُه يَمِينُه. ويَحْتَمِلُ أن يَحْنَثَ؛ لأنَّه نَفْعٌ، ولَفْظُه عامٌّ، فيَدْخلُ المُحَرَّمُ فيه. ¬

(¬1) في النسختين: «أمره لا نهيه» وانظر للمبدع 7/ 357. (¬2) في الأصل: «فقال لها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قل: أنتِ طالقٌ إن كلَّمتِ زيدًا ومحمدٌ مع خالدٍ. لم تَطْلُقْ حتى تُكَلِّمَ زيدًا في حالٍ كَوْنِ محمدٍ فيها مع خالدٍ. وذَكَرَ القاضي أنَّه يَحْنَثُ بكلامِ زيدٍ فقط؛ لأنَّ قوْلَه: ومحمدٌ مع خالدٍ. اسْتِئْنافُ كلام؛ بدليلِ أنَّه مَرْفوعٌ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّه متى أمْكَنَ جعلُ الكلامِ مُتَّصِلًا كان أوْلَى مِن فَصْلِه، والرَّفْعُ لا يَنْفِي كَوْنَه حالًا، فإنَّ الجملةَ مِنَ المُبتَدأَ والخَبَرِ تكونُ حالًا، كقولِه تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (¬1). وقال: {إلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (¬2). وهذا كثيرٌ، فلا يجوزُ قَطْعُه عن الكلامِ الذي هو في سِياقِه مع إمْكانِ وَصْلِه به، ولو قال: إن كلُّمْتِ زيدًا ومحمدٌ مع خالدٍ [فأنتِ طالقٌ] (¬3). لم تَطْلُقْ حتى تُكَلِّمَ زيدًا في حالِ كَوْنِ محمدٍ مع خالدٍ، فكذلك إذا تأخَّرَ قولُه: محمدٌ مع خالدٍ. ولو قال: أنتِ طالقٌ إن كَلَّمْتِ زيدًا وأنا غائِبٌ. لم تَطْلُقْ حتى تُكَلِّمَه في حالِ غَيبَتِه. وكذلك لو قال: أنتِ طالقٌ إن كَلَّمتِ زيدًا وأنتِ راكِبَةٌ. أو: وهو راكبٌ. أو: ومحمدٌ راكبٌ. لم تَطْلُقْ حتى تُكَلِّمَه في تلك الحالِ. ولو قال: أنتِ طالقٌ إن كَلَّمتِ زيدًا ومحمدٌ أخوه مريضٌ. ¬

(¬1) سورة الأنبياء 1. (¬2) سورة الأنبياء 2. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَطْلُقْ حتى تُكَلِّمَه وأخوه محمدٌ مريضٌ. فصل: وإن قال: إن كلَّمْتِنِي إلى أن يَقْدَمَ زيدٌ. أو: حتى يَقْدَمَ زيدٌ، فأنتِ طالقٌ. فكَلَّمَتْه قبلَ قُدومِه، حَنِثَ، لأنَّه مَدَّ المنْعَ إلى غايةٍ هي قُدومُ زيدٍ، فلا يَحْنَثُ بعدَها. فإن قال: أرَدْتُ إنِ اسْتَدَمْتِ كلامِي مِن الآنَ إلى أن يَقْدَمَ زيدٌ. دُيِّنَ، وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ.

3597 - مسألة: (إذا قال: إن خرجت بغير إذني. أو: إلا بإذني. أو: حتى آذن لك، فأنت طالق. ثم أذن لها، فخرجت، ثم خرجت بغير إذنه، طلقت)

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالإذْنِ: إِذَا قَال: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيرِ إِذْنِي. أوْ: إلا بِإِذْنِي. أوْ: حَتَّى آذَنَ لَكِ، فَانْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ أذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ، ثمَّ خَرَجَتْ بِغَيرِ إِذْنِهِ، طَلُقَتْ. وَعَنْهُ، لَا تَطْلُقُ إلَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في تعليقِه بالإِذْنِ: 3597 - مسألة: (إذا قال: إن خَرَجْتِ بغَيرِ إذْنِي. أوْ: إلَّا بإذْنِي. أوْ: حَتَّى آذَنَ لَكِ، فأنْتِ طالقٌ. ثُمَّ أَذِنَ لَهَا، فَخرَجَت، ثُمَّ خَرَجَتْ بغَيرِ إذْنِه، طَلُقَتْ) لخُرُوجِهَا بغَيرِ إذْنِهِ (وعنه، لا تَطْلُقُ حَتَّى

3598 - مسألة: (وإن أذن لها من حيث لا تعلم، فخرجت، طلقت)

أَنْ يَنْويَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَإنْ أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيثُ لَا تَعْلَمُ، فَخَرَجَتْ، طَلُقَتْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَطْلُقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْويَ الإِذْنَ في كُلِّ مَرَّةٍ) لأنَّ «إنْ» لا تَقْتَضِي التَّكْرارَ، فَتَتناوَلُ الخُروجَ في المرَةِ الأُولَى. 3598 - مسألة: (وإن أذِنَ لها مِن حَيثُ لا تَعْلَمُ، فَخَرَجَتْ، طَلُقَتْ) لأنَّها إذا لم تَعْلَمْ فليس بإذْنٍ، لأنَّ الإِذْنَ هو الإِعْلامُ، ولم يُعْلِمْها (ويَحْتَمِلُ أن لا تَطْلُقَ) لأنَّه يُقَالُ: أذِنَ لها ولم تَعْلمْ.

3599 - مسألة: (وإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق)

وَإنْ قَال: إِنْ خَرَجْتِ إِلَى غَيرِ الْحَمَّامِ بِغَيرِ إِذْنِي فَأنْتِ طَالِقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3599 - مسألة: (وَإنْ قَال: إنْ خَرَجْتِ إلَى غَيرِ الحَمَّامِ بغَيرِ إذْنِي فَأنْتِ طالقٌ) فخَرَجَتْ إلَى غَيرِ الحَمَّامِ طَلُقَتْ، سَواءٌ عَدَلَتْ إلَى

3600 - مسألة: (وإن خرجت تريد الحمام ثم عدلت إلى غيره)

فَخَرَجَتْ تُرِيدُ الْحَمَّامَ وَغَيرَهُ، طَلُقَتْ. وَإنْ خَرَجَتْ إِلَى الْحَمَّامِ ثُمَّ عَدَلَتْ إِلَى غَيرِهِ، طَلُقَتْ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا تَطْلُقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمَّامِ أو لم تَعْدِلْ. وإن (خَرَجَتْ تُريدُ الحَمَّامَ وغيرَه) ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّها خرَجَتْ إلى غيرِ الحَمَّامِ، وانْضمَّ إليه غيرُه، فحَنِثَ بما حَلَفَ عليه، كما لو حَلَفَ لا يُكَلِّمُ زيدًا، [فكلَّمَ زيدًا وعمرًا] (¬1) والثَّاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّها ما (¬2) خرجَتْ إلى غيرِ الحمَّامِ، بل الخُرُوجُ مُشتَرَكٌ. 3600 - مسألة: (وَإنْ خَرَجَتْ تُرِيدُ الحَمَّامَ ثُمّ عَدَلَتْ إلَى غَيرِه) فقياسُ المذهبِ أنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّ ظاهِرَ هذه اليَمِينِ المنْعُ مِن غيرِ الحَمَّامِ، فكيفما صارتْ إليه حَنِثَ، كما لو خالفَتْ لَفْظَه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ. ¬

(¬1) في م: «وعمرا». (¬2) سقط من: الأصل.

3601 - مسألة: (وإن حلف لعامل أن لا يخرج إلا بإذنه، فعزل، فهل تنحل يمينه؟ على وجهين)

وَإنْ حَلَفَ لِعَامِلٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلا بِإِذْنِهِ، فَعُزِلَ، فَهَلْ تَنْحَلُّ يَمِينُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّها لم تَفْعَل ما حَلَفَ عليه وتَناوَلَه لَفْظُه. ونَقَلَ الفَضْلُ بنُ زيادٍ عن أحمدَ أنَّه سُئِلَ: إذا حَلَفَ بالطَّلاقِ أن لا يَخْرُجَ مِن بغْدادَ إلَّا لنُزْهَةٍ، فخرجَ إلى النُّزْهةِ، ثم مَرَّ إلى مكَّةَ، فقال: النُّزْهة لا تَكونُ إلى مكَّةَ. فظاهرُ هذا أنَّه أحْنَثَه، ووَجْهُه ما ذَكَرْنا. وقال في رجلٍ حَلَفَ بالطَّلاقِ أن لا يَأْتِيَ أرْمِينيَةَ (¬1) إلَّا بإذْنِ امرأتِه، فقالتِ امرأتُه: اذهبْ حيثُ شِئْتَ. فقال: لا حتى تقولَ: إلى أرْمِينيَةَ. والصحيحُ أنَّه متى أذِنَتْ له إذْنًا عامًّا لم (¬2) يَحْنَثْ. قال القاضي: وهذا مِن كلامِ أحمدَ محمولٌ على أنَّ هذا خَرَجَ مَخْرَجَ الغَضَبِ والكَرَاهةِ، ولو قالت هذا بطِيبِ قَلْبِها، كان إذْنًا منها، وله الخُروجُ، وإن كان بلَفْظٍ عامٍّ. 3601 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ لِعَامِلٍ أن لا يَخْرُجَ إلَّا بإذْنِه، فَعُزِلَ، فَهَلْ تَنْحَلُّ يَمِينُه؟ عَلَى وَجْهَينِ) وهذا مَبْنِيٌّ على ما إذا حَلَفَ ¬

(¬1) أرمينية: اسم لصقع عظيم واسع في جهة الشمال (شمال غربي آسيا). معجم البلدان 1/ 219. وكانت تقع فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي. (¬2) في م: «ما لم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يمينًا عامَّةً لسَبَبٍ خاصٍّ، هل تَخْتَصُّ يَمِينُه بسَبَبِ اليَمينِ؟ على وَجْهَينِ؛ أحدُهما، أنَّها تَخْتَصُّ به؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّه أرادَه، فاخْتَصتْ يَمِينُهُ به، كما لو نَوَاه. فعلى هذا، تَنْحَلُّ يَمينُه؛ لأنَّه إنَّما حَلَفَ عليه لكَوْنِه عامِلًا له. وهذا قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ. ورُوِيَ عن أحمدَ ما يدُلُّ على أنَّ يَمينَه تُحْمَلُ على العُمُومِ، فقال في مَن قال: للهِ عليَّ أن لا أصِيدَ في هذا النَّهرِ. لظُلْمٍ رآه، فتَغَيَّرَ حالُه، فقال: النَّذْرُ يُوفَى به. وذلك لأنَّ اللَّفْظَ دليلُ الحُكْمِ، فيَجِبُ اعْتِبارُه في الخُصُوصِ والعُمُومِ، كما في لَفْظِ الشَّارِعِ. وَوَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ السَّبَبَ الخاصَّ يدُلُّ على قَصْدِ الخُصوصِ، ويقُومُ مَقامَ النِّيَّةِ عند عَدَمِها (¬1)؛ لدَلالتِه عليها، فوَجَبَ أن يَخْتَصَّ به اللَّفْظُ العامُّ كالنِّيَّةِ، وفارَقَ لَفْظَ الشَّارِعِ، فإنَّه يُرِيدُ بيانَ الأحْكامِ، ولا يَخْتَصُّ بمحَل السَّبَبِ؛ لكَوْنِ الحاجَةِ داعِيةً إلى مَعْرفةِ الحُكْمِ في غيِر محَلِّ السَّببِ. فعلى هذا، لو قامتِ امْرأتُه لتَخْرُجَ فقال: إنْ خَرَجْتِ فأنتِ طالقٌ. فرَجَعَتْ، ثُمَّ خرجتْ بعدَ ذلك، أو دَعَاهُ إنْسانٌ إلى غَدَائِه، فقال: امْرأتِي طالقٌ إن تَغَدَّيتُ. ثم رَجَعَ فتَغَدَّى في مَنزِله، لم يَحْنَثْ على الأوَّلِ، ويَحْنَثُ على الثاني. وإن حَلَفَ لعامل أنْ لا يَخْرُجَ إلَّا بإذْنِه، أو حَلَفَ بذلك على امْرأتِه أو مَمْلوكِه، فَعَزلَ العامِلَ، أو طَلَّقَ المرأةَ، أو بَاعَ المَمْلُوكَ، أو حَلَفَ على وَكيلٍ فَعَزَلَه، خُرِّجَ في ذلك كُلِّه وَجْهانِ. ¬

(¬1) في م: «عمومها».

3602 - مسألة: ومتى وجدت المشيئة باللسان، وقع الطلاق (سواء كان على الفور أو التراخي)

فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَشِيئَةِ: إذَا قَال: أنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ. أوْ: كَيفَ شِئْتِ. أوْ: حَيثُ شِئْتِ. أوْ: مَتَى شئْتِ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَقُولَ: قَدْ شِئْتُ. سَوَاءٌ شَاءَتْ عَلَى الْفَوْرِ أَو التَّرَاخِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في تعليقِه بالمشِيئَةِ: (إذَا قَال: أنتِ طالقٌ إنْ شِئْتِ) أو: إذا شئْتِ (أو: متى شِئتِ) أو: كلَّما شِئْتِ (أو: كيف شِئْتِ. أو: حيث شئتِ) أو: أنَّى شئتِ. (لم تَطْلُقْ حتى تقولَ: قد شئْتُ) لأنَّ ما في القَلْبِ لا يُعْلَمُ حتى يُعَبِّرَ عنه اللسانُ، فَتَعَلَّقَ الحُكْمُ بما يَنْطِقُ به، دُونَ ما في القَلْبِ، فلو شاءت بقلْبِها دُونَ نُطْقِها، لم يَقَعْ به طَلاقٌ. ولو قالت: قد شِئْتُ. بلسانِها وهي كارِهَة، وقَعَ الطَّلاقُ، اعْتِبارًا بالنُّطْقِ. وكذلك إن عَلَّقَ الطَّلاقَ بمَشِيئةِ غيرِها. 3602 - مسألة: ومَتى وُجِدَتِ المَشيئةُ بِاللِّسَانِ، وَقَعَ الطلاقُ (سَوَاء كان علَى الفَوْرِ أو التَّرَاخِي) نَصَّ عليه أحمدُ، في تَعْليقِ الطَّلاقِ بمشِيئَةِ فُلانٍ، وفيما إذا قال: أنتِ طالقٌ حيثُ شئتِ. أو: أينَ شئتِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحوَ هذا قال الزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ. وقال أبو حنيفةَ دُونَ صاحِبَيه: إذا قال: أنتِ طالقٌ كيف شئتِ. تَطْلُقُ في الحالِ طَلْقةً رَجْعِيَّةً؛ لأنَّ هذا ليسِ بشَرْطٍ، إنَّما هو صِفَةٌ للطَّلاقِ الواقعَ بمَشِيئَتِها. ولَنا، أنَّه أضافَ الطَّلاق إلى مَشِيئَتِها، فأشْبَهَ ما لو قال: حيت شِئْتِ. وقال الشافعيُّ في جميعِ الحروفِ: إن شاءَتْ (¬1) في الحالِ، وإلَّا فلا تَطْلُقُ؛ لأنَّ هذا تَمْليكٌ للطَّلاقِ، فكان على الفَوْرِ، كقولِه: اخْتارِى. وقال أصحابُ الرَّأْي في «إن» كقولِه، وفي سائرِ الحُروفِ كقَوْلِنا؛ لأنَّ هذه الحُروفَ صَرِيحةٌ في التَّراخِي، فحُمِلَتْ على مُقْتَضاها، بخِلافِ «إن»، فإنَّها لا تَقْتَضِي زمانًا، وإنَّما هي لمُجَرَّدِ الشَّرْطِ، فتُقَيَّدُ بالفَوْرِ بقضِيَّةِ (¬2) التَّمْلِيكِ (¬3). وقال الحسنُ، وعطاءٌ، في قولِه: أنتِ طالقٌ إن شِئْتِ. إنَّما ذلك ما دامَا في المجْلِسِ. ولَنا، أنَّه تَعْليقٌ للطَّلاقِ على شَرْطٍ، [فكان على التَّراخِي، كسائِرِ التَّعْليقِ، ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ مُعَلَّقٍ على المشيئةِ] (¬4)، فكان على التَّراخِي، كالعتقِ، وفارقَ: اخْتارِي (¬5). فإنَّه ليس بشَرْطٍ، ¬

(¬1) في م: «شئت». (¬2) في م: «يقضيه». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «اختياري».

3603 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إن شئت. فقالت: قد شئت إن شئت. فقال: قد شئت. لم تطلق)

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْمَجْلِسِ، كَالاخْتِيَارِ. وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ. فَقَالتْ: قَدْ شِئْتُ إِنْ شِئْتَ. فَقَال: قَدْ شِئْتُ. لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما هو تَخْييرٌ، فتَقَيَّدَ بالمجلسِ، [كخِيَارِ المجْلِسِ] (¬1). (ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ على المجْلِسِ، كالاخْتِيَارِ) لأنَّه تَمْلِيكٌ للطَّلاقِ، فكان على الفَوْرِ، كقولِه: اخْتارِي. والصَّحيحُ الأوَّلُ. وقد ذَكَرْنا الفَرْقَ بين الأصْلِ والفَرْعِ. فإن قَيَّدَ المَشِيئَةَ بوقْتٍ، فقال: أنتِ طالقٌ إن شئتِ اليومَ. تَقَيَّدَ به، فإنْ خَرَجَ اليومُ قبلَ (¬2) مَشِيئَتِها، لم تطْلُقْ. وإن عَلَّقَه على مَشِيئَةِ اثْنَينِ، لم يَقَعْ حتى تُوجَدَ مَشِيئَتُهما. وخَرَّجَ القاضي وَجْهًا، أنَّه يَقَعُ بمَشِيئَةِ أحدِهما، كما يَحْنَثُ بفِعْلِ بعضِ المحْلوفِ عليه. وقد بَيَّنَّا فسادَ هذا. 3603 - مسألة: (وَإن قَال: أنتِ طالقٌ إنْ شِئْتِ. فَقالتْ: قَدْ شِئْتُ إن شِئْتَ. فقَال: قَدْ شِئْتُ. لَمْ تَطْلُقْ) لأنَّها لم تَشَأْ، فإنَّ المشِيئَةَ أمْرٌ حَقِيقيٌّ، لا يَصِحُّ تَعْليقُها على شَرْطٍ. وكذلك إن قالتْ: قد شئتُ إن طَلَعَتِ الشَّمسُ. نَصَّ أحمدُ على هذا، وهو قولُ سائِرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. قال ابنُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

3604 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إن شئت وشاء أبوك. لم تطلق حتى يشاءا)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ وَشَاءَ أَبُوكِ. لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَشَاءَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَنْ نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ الرَّجُلَ إذا قال لزَوْجَتِه: أنتِ طالقٌ إن شئتِ. فقالتْ: قد شِئْتُ إن شاءَ فُلانٌ. أنَّها قد رَدَّتِ الأمْرَ، ولا يَلْزَمُها الطَّلاقُ وإن شاءَ فُلان؛ وذلك لأنَّه لم يُوجَدْ منها مَشِيئَةٌ، إنَّما وُجدَ منها تَعْليقُ مَشِيئَتِها بشَرْطٍ، وليس تَعْليقُ المشِيئَةِ بشَرْطٍ مَشِيئَةً. وإن عَلًّقَ الطلاقَ على مَشِيئَةِ اثْنَينِ، فشاءَ أحدُهما على الفَوْرِ، والآخَرُ على التَّراخِي، وقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّ المشِيئَةَ قد وُجِدَتْ منهما جميعًا. 3604 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالقٌ إنْ شِئْتِ وَشَاءَ أبُوكِ. لم تَطْلُقْ حَتَّى يَشَاءَا) لأنَّ الصِّفَةَ مشِيئَتُهما، ولا تَطْلُقُ بمشِيئَةِ أحدِهما؛ لعدَمِ وُجودِ الشَّرْطِ.

3605 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إن شاء زيد. فمات أو جن أو خرس قبل المشيئة، لم تطلق)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيدٌ. فَمَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ خَرِسَ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، لَمْ تَطْلُقْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3605 - مسألة: (وَإنْ قَال: أنْتِ طَالِق إنْ شَاءَ زَيدٌ. فَمَاتَ أوْ جُنَّ أو خَرِسَ قَبْلَ المَشِيئَةِ، لَمْ تَطلُقْ) لأنَّ شَرْطَ الطَّلاقِ لم يُوجَدْ. وحُكِيَ عن أبي بكرٍ أنَّه يَقَعُ؛ لأنَّه علَّقَه على شَرْطٍ [تَعَذَّر الوقوفُ عليه] (¬1)، فوقعَ في الحالِ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ إن شاءَ اللهُ. وليس بصَحيح؛ لأنَّ الطَّلاقَ المُعَلَّقَ على شَرْطٍ لا يَقَعُ إذا تَعَذَّرَ شَرْطُه، كالمُعَلَّقِ على دُخولِ الدَّارِ. وإن شاءَ وهو مَجْنونٌ، لم يَقَعْ طَلاقُه؛ لأنَّه لا حُكْمَ ¬

(¬1) سقط من: م.

وَإنْ شَاءَ وَهُوَ سَكْرَانُ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَينِ فِي طَلَاقِهِ، وَإنْ كَانَ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْمَشِيئَةَ، فَشَاءَ، طَلُقَتْ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكلامِه. (وإن شاءَ وهو سَكْرانُ) فالصَّحيحُ أنَّه لا يَقَعُ؛ لأنَّه زائلُ العَقْلِ، أشْبَهَ المجْنونَ. وقال أصحابُنا: (يُخرَّجُ على الرِّوايَتَينِ في طلاقِه) والفَرْقُ بينَهما أنَّ إيقاعَ طلاقِه تَغْليظٌ عليه كيلا تكونَ المعْصِيَةُ سَبَبًا للتَّخْفيفِ عنه، وههُنا إنَّما يقَعُ الطَّلاقُ بغيرِه، فلا يَصِحُّ منه في حالِ زَوالِ عَقْلِه. وإن شاءَ وهو صَبِيٌّ طفلٌ، لم يَقَعْ، كالمجْنونِ. وإن كان يَعْقِلُ الطَّلاقَ، وقَعَ؛ لأنَّ له مَشِيئةً، ولذلك صَحَّ اخْتيارُه لأحدِ أبَوَيه. وإن كان أخْرسَ فشاءَ بالإِشارَةِ، وقَعَ الطَّلاقُ؛ لأنَّ إشارَتَه تقومُ مَقامَ نُطْقِ النَّاطِقِ، ولذلك وقَعَ طَلاقُه بها، وإن كان ناطِقًا حال التَّعْليقِ،

3606 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد. فمات أو جن أو خرس، طلقت)

وَإنْ قَال: أنْتِ طَالِقٌ إلا أنْ يَشَاءَ زَيدٌ. فَمَاتَ أوْ جُنَّ أوْ خَرِسَ، طَلُقَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فخَرِسَ، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَقَعُ الطَّلاقُ بها؛ لأنَّ طلاقَه في نَفْسِه يَقَعُ بها، فكذلك طلاقُ مَنْ عَلَّقَه بمَشِيئتِه. والثاني، لا يَقَعُ بها؛ لأنَّه حال التَّعْليقِ كان لا يَقَعُ إلَّا بالنُّطْقِ، فلم يَقَعْ بغيرِه، كما لو قال في التَّعْليقِ: إن نَطَقَ فُلانٌ بِمَشيئَتِه فهي طالقٌ. 3606 - مسألة: (وَإنْ قَال: أنْتِ طَالقٌ إلَّا أنْ يَشَاءَ زَيدٌ. فَمَاتَ أو جُنَّ أوْ خَرِسَ، طَلُقَتْ) فِي الْحَالِ؛ لأنَّه أوْقَعَ الطَّلاقَ، وعَلَّقَ رَفْعَه (¬1) بشَرْطٍ، ولم يُوجَدْ. وأمَّا إذا خَرِسَ فشاءَ بالإِشارَةِ، خُرِّجَ فيه الوَجْهانِ اللَّذانِ ذَكَرْناهما، بِناءً على وُقوعِ الطَّلاقِ بإشارَتِه إذا علَّقَه (¬2) على مَشِيئَتِه. ¬

(¬1) في م: «عقبه». (¬2) في م: «علقت».

3607 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء زيد ثلاثا. فشاء ثلاثا)

وَإنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلا أَنْ يَشَاءَ زَيدٌ ثَلَاثًا، فَشَاءَ ثَلَاثًا، طَلُقَتْ ثَلَاثًا، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ، وَفِي الْآخَرِ، لَا تَطْلُقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3607 - مسألة: (وَإنْ قَال: أنْتِ طَالقٌ واحدةً إلَّا أن يَشَاءَ زَيدٌ ثَلاثًا. فَشَاءَ ثَلاثًا) فَقَال أبو بَكْرٍ: (تَطْلُقُ ثَلاثًا فِي أحَدِ الوَجْهَينِ) لأنَّ السَّابِقَ إلى الفَهْمِ مِن هذا الكلامِ إيقاعُ الثَّلاثِ إذا شاءَها زيدٌ، كما لو قال: له عَلَيَّ دِرهمٌ إلَّا أن يُقيمَ بَيِّنةً بثلاثةٍ، و: خُذْ درهمًا إلَّا أن تُرِيدَ أكثرَ منه. ومنه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيعَ الْخِيَارِ» (¬1). أي أنَّ بيعَ الخيارِ يَثْبُتُ الخيارُ فيه بعدَ تَفَرُّقِهما. والثَّاني (لا تَطْلُقُ) [إذا شاءَ ثلاثًا. وهو قولُ أصْحابِ الشافعيِّ وأبي حنيفةَ] (¬2)؛ لأنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 7. (¬2) في م: «وقال أصحاب الشافعي وأبي حنيفة: لا تطلق إذا شاء ثلاثا».

3608 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إن شاء الله. طلقت. وإن قال لأمته: أنت حرة إن شاء الله. عتقت. وحكي عنه، أنه يقع العتق دون الطلاق)

وَإِنْ قَال: أنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللهُ. طَلُقَتْ، وَإنْ قَال لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حرَّةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ. عَتَقَتْ. وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَقَعُ الْعِتْقُ دُونَ الطَّلاقَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِثْناءَ مِن الإِثْباتِ نَفْيٌ، فتَقْدِيرُه: أنتِ طالقٌ واحدةً، إلَّا أنْ يَشاءَ زيدٌ ثلاثًا فلا تَطْلُقِي. ولأنَّه لو (1) لم يَقُلْ: ثلاثًا. لَما طَلُقَتْ بمشِيئَتِه ثلاثًا، فكذلك إذا قال: ثلاثًا؛ لأنَّه إنَّما ذكرَ الثَّلاثَ صِفَةً لمَشِيئَةِ زيدٍ الرَّافعةِ لطلاقِ الواحدةِ، فيَصِيرُ كما لو قال: أنتِ طالقٌ إلَّا أن يُكَرِّرَ زيدٌ مشِيئَتَه ثلاثًا. فأمَّا إن لم يَشَأْ زيدٌ، أو شاءَ أقَلَّ مِن ثلاثٍ، طَلُقَتْ واحدةً. 3608 - مسألة: (وَإنْ قَال: أنْتِ طالقٌ إنْ شاءَ اللهُ. طَلُقَتْ. وإنْ قَال لأمَتِه: أنْتِ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللهُ. عَتَقَتْ. وحُكِيَ عنه، أنَّه يَقَعُ الْعِتْقُ دُونَ الطَّلاقِ) نصَّ أحمدُ، رَحِمَهُ اللهُ، على وُقوعِ الطَّلاقِ والعِتْقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في رِوايةِ جماعةٍ، وقال: ليس هما مِن الأيمانِ. وبهذا قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ومَكْحول، وقَتادةُ، والزُّهْرِي، ومالك، واللَّيثُ والأوْزَاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ. وعن أحمدَ ما يدُل على أنَّ الطَّلاقَ لا يقَعُ، ولا العَتَاقُ. وهو قولُ طاوُس، والحَكَمِ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه علَّقه على مشِيئَةٍ لم يُعْلَمْ وُجودُها، فلم يَقَعْ، كما لو علَّقه (¬1) على مشِيئَةِ زيدٍ، ولقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ، فَقَال: إنْ شَاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ». روَاه التِّرْمذِي (¬2)، وقال: حديث حسنٌ. ولَنا، ما رَوَى [أبو حَمْزَةَ] (¬3)، قال: سمعتُ ابنَ عباس يقولُ: إذا قال ¬

(¬1) في م: «علقها». (¬2) بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 309. من حديث أبي هريرة. ولفظ الترمذي: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. لم يحنث». ثم نقل كلام محمد بن إسماعيل عن الحديث، والذي حسنه الترمذي حديث ابن عمر بلفظ: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فقد استثنى، لا حنث عليه». انظر: باب ما جاء في الاستثناء في اليمين، من أبواب النذور والأيمان. عارضة الأحوذي 7/ 12 - 14. ومن حديث ابن عمر بنحو ما أخرجه الترمذي، أخرجه أبو داود، في: باب الاستثناء في اليمين، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 201، 202. والنسائي، في: باب من حلف فاستثنى، وباب الاستثناء، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 12، 23. وابن ماجه، في: باب الاستثناء في اليمين، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 680. والدارمي، في: باب الاستثناء في اليمين، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمي 2/ 185. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 2، 10، 48، 68، 126، 127، 153. وانظر لحديث أبي هريرة: المجتبى 7/ 29، وسنن ابن ماجه 1/ 680. (¬3) كذا في النسختين والمبدع 7/ 363، وفي المغني 10/ 472: «أبو جمرة». والمرفوع عنه بخلافه، أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 332. والبيهقي، في السنن الكبرى 7/ 361.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجُلُ لامْرأتِه: أنتِ طالق إن شاء الله. فهي طالق. روَاه أبو حفص بإسْنادِه. وعن أبي بُرْدَةَ نحوُه. ورَوَى ابنُ عمرَ، وأبو سعيدٍ، قالا (¬1): كُنَّا مَعاشِرَ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، نَرَى الاسْتِثْناءَ جائِزًا في كلِّ شيءٍ، إلَّا في الطَّلاقِ والعَتَاقِ. ذَكَرَه أبو الخَطّابِ. وهذا نقل للإِجْماعِ، فإن قُدِّرَ أنَّه قولُ بعْضِهم، فقد انتشرَ، ولم يُعْلَمْ (¬2) له مُخافِ، فهو إجْماعٌ، ولأنَّه اسْتِثْناء يَرْفَعُ جمْلةَ الطَّلاقِ، فلم يَصِحَّ، كقولِه: أنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. ولأنَّه إنْشَاءُ حُكْم في محَل، فلم يَرْتَفِعْ بالمشِيئَةِ، كالبَيعِ والنِّكاحِ، أو نقولُ: إزالةُ مِلْكٍ. فلم يَصِحَّ تَعْليقُه على مشِيئَةِ اللهِ، كما لو قال: أبرَأتك إن شاء الله. أو تَعْليق على ما لا سبيلَ إلى عِلْمِه، فأشْبهَ تَعْليقَه على المُسْتحيلاتِ. والحديثُ لا حُجَّةَ لهم فيه؛ فإنَّ الطَّلاقَ [والعَتَاقَ] (¬3) إنْشاء، وليس بيَمِين حقيقةً، وإن سُمِّيَ بذلك فَمجاز، لا ¬

(¬1) في النسختين: «قال». (¬2) في م: «يعرف». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُتْرَكُ الحَقِيقَةُ مِن أجْلِه، ثم إنَّ الطَّلاقَ إنَّما سُمِّيَ يَمِينًا إذا كان مُعَلَّقًا علي شَرْطٍ يُمْكِنُ فِعْلُه وتَرْكُه، ومُجَرَّدُ قولِه: أنتِ طالقٌ. ليس بيَمِين حقيقة ولا مَجازًا، فلم يَكُنْ الاسْتِثْناءُ بعدَ يَمِين. وقولُهم: عَلّقَه على مشِيئَةٍ لا تُعْلَمُ. قُلْنا: قد عُلِمَتْ مَشِيئَةُ اللهِ للطَّلاقِ بمُباشَرَةِ الآدَمِيِّ سَبَبَه. قال قَتادةُ: قد شاءَ اللهُ حينَ أذِنَ أنْ تُطَلَّقَ. ولو سَلَّمْنا أنّها لم تُعْلَمْ، لكنْ قد عَلَّقَه على شَرْطٍ يَسْتحيلُ عِلْمُه، فيَكُونُ كتَعْليقِه غلى المُسْتحيلاتِ، يَلْغُو، ويَقَعُ الطَّلاقُ في الحالِ. وحُكِيَ عن أحمدَ، أنَّه يَقَعُ العتقُ دُونَ الطَّلاقِ، وعَلَّلَه أحمدُ، رَحِمَهُ الله، بأنَّ العِتْقَ للهِ سبحانه وتعالى، والطَّلاقَ ليس هو للهِ، ولا فيه قُرْبَة إليه، ولأنَّه لو قال لأمَتِه: كلُّ وَلَدٍ تَلِدينَه فهو حُرٌّ.

3609 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله. طلقت)

وَإنْ قَال: أنْتِ طَالِقٌ إلا أنْ يَشَاءَ اللهُ. طَلُقَتْ. وَإنْ قَال: إِنْ لَمْ يَشَأَ اللهُ. فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا تَعْليقٌ للحُرِّيَّةِ على المِلْكِ، وهو صَحِيح، ولأنّ مَن نَذَرَ العِتْقَ، لَزِمَه الوَفاءُ به، ومَن نَذَرَ الطَّلاقَ، لا يَلْزَمُه الوَفاءُ به، فكما افْتَرَقَا في النَّذْرِ، جازَ أن يَفْتَرِقَا في اليَمِينِ. 3609 - مسألة: (وإنْ قَال: أنْتِ طَالق إلا أنْ يَشَاءَ اللهُ. طَلُقَتْ) ووَافقَ أصحابُ الشافعيِّ على هذا، في الصَّحيحِ مِن المذهبِ؛ لأنَّه أوْقعَ الطَّلاقَ، وعَلَّقَ رَفْعَه بمشيئَةٍ لم تُعْلَمْ. 3610 - مسألة: (وَإنْ قَال: إنْ لَمْ يَشَأَ اللهُ) أو: مَا لَمْ يَشَأَ اللهُ (فَعَلَى وَجْهَينِ) أحدُهما، يَقَعُ في الحالِ؛ لأنَّ وُقوعَ طلاقِها

3611 - مسألة: (وإن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء

وَإنْ قَال: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَدَخَلَتْ، فَهَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا لم يَشَأَ الله مُحالٌ، فَلَغَتْ هذه الصِّفَةُ، ووَقَعَ الطَّلاقُ. والثاني، لا يَقَعُ، بِناءً على تعْليقِ الطَّلاقِ على المُحالِ، مثلَ قولِه: أنتِ طالقٌ إن جَمَعْتِ بينَ الضِّدَّينِ. أو: شَرِبْتِ الماءَ الذي في الكُوزِ. ولا ماءَ فيه. فصل: وإن قال: أنتِ طالق لَتَدْخُلِنَّ الدَّارَ إن شاءَ اللهُ. لم تَطْلُقْ، دَخَلَتْ أو لم تَدْخُلْ؛ لأنَّها إن دخَلَتْ فقد فَعَلَتِ المحْلُوفَ عليه، وإن لم تَدْخُلْ، عَلِمْنا أنَّ اللهَ لم يَشَأه؛ لأنَّه لو شاءَه لوُجِدَ، فإنَّ ما شاءَ الله كانَ. وكذلك إن قال: أنتِ طالقٌ لا تَدْخُلِي الدَّارَ إن شاءَ الله. لِما ذكَرْنا. وإن أرادَ بالاستثناءِ والشَّرْطِ رَدَّهُ إلى الطَّلاقِ دُونَ والدخول، خُرِّجَ فيه مِن الخِلافِ ما ذَكَرْنا في المُنْجَزِ. وإن لم تُعْلَمْ نِيته، فالظَّاهِرُ رُجوعُه إلى الدُّخولِ، ويَحْتَمِلُ أن يَرجِعَ إلى الطلاقِ. 3611 - مسألة: (وإن قال: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالق إنْ شَاءَ

تَطْلُقُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله. فَدَخَلَتْ، فهل تَطْلُقُ؟ على رِوَايَتَينِ) إحْدَاهما، يَقَعُ الطَّلاقُ بدُخولِ الدَّارِ، ولا يَنْفعُه الاسْتِثْناءُ؛ لأنَّ الطَّلاقَ والعَتاقَ ليسا مِن الأيمانِ، ولِما ذَكَرْناه فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ إن شاءَ الله. والثانيةُ، لا تَطْلُقُ. وهو قولُ أبي عُبَيدٍ؛ لأنَّه (¬1) إذا عَلَّقَ الطَّلاقَ بشرْطٍ صارَ يَمِينًا وحَلِفًا، فصَحَّ الاسْتِثْناءُ فيه، لعُمومِ قولِه - عليه السلام -: «مَنْ حَلَفَ عَلَىِ يَمِينٍ فَقَال: إنْ شَاءَ الله. لَمْ يَحْنَثْ» (¬2). وفارَقَ إذا لم يُعَلِّقْه، فإنه ليس ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 563.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بيَمِينٍ، فلا يَدْخُل في العُمومِ.

3612 - مسألة: (وإن قال: أنت طالق لرضا زيد. أو: مشيئته. طلقت في الحال)

وَإنْ قَال: أنتِ طَالِقٌ لِرِضَا زَيدٍ. أوْ: مَشِيئَتِهِ. طَلُقَتْ فِي الْحَالِ. فَإِنْ قَال: أرَدْتُ الشَرْطَ. دُيِّنَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3612 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ طالقٌ لرِضَا زَيدٍ. أو: مَشِيئَتِه. طَلُقَتْ في الحَالِ) لأنَّ مَعْناه: أنتِ طالقٌ لِكَوْنِه قد شاءَ ذلك، أو رَضِيَه، كقَوْلِه: هو حُر لوَجْهِ اللهِ، أو لرِضَا اللهِ (فإن قال: أردْتُ به الشَّرْطَ. دُيِّنَ) قال القاضي: ويُقْبَلُ في الحُكْمِ؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ، فإنَّ ذلك يُسْتَعْمَلُ للشَّرْطِ، كقولِه: أنتِ طالق للسُّنَّةِ. وهذا أظْهَرُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الثاني، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: أنتِ طالق إن أحْبَبْتِ. أو: إن (1) أرَدْتِ. أو: إن (¬1) كَرِهْتِ. احْتَمَلَ أن يتَعلَّى الطَّلاقُ بقَوْلِها بلِسانِها: قد أحْبَبْت. أو: أرَدْتُ. أو: كَرِهْتُ؛ لأن هذه المعاني في القَلْبِ، لا يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عليها إلَّا مِن قِبَلِها، فتَعَلَّقَ الحُكْمُ بقولِها، كالمشِيئَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَتعلَّقَ الِحُكْمُ بما في القَلْبِ مِن ذلك، ويكونَ اللسانُ دليلًا عليه. فعلى هذا، لو أقرَّ الزَّوْجُ بوُجودِه، وَقَعَ طلاقُه وإن لم يَتَلَفَّظْ (¬2) به، ولو قالتْ: أنا أحِب ذلك. ثم قالتْ: كنتُ كاذِبة. لم تَطْلُقْ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «تتلفظ».

3613 - مسألة: (وإن قال: إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق. أو قال: إن كنت تحبينه بقلبك. فقالت: أنا أحبه. فقد توقف أحمد عنها)

وَإنْ قَال: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أنْ يُعَذِّبَكِ اللهُ بِالنَّارِ فَأنْتِ طَالِق. أوْ قَال: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَهُ بِقَلْبِكِ فَأنْتِ طَالِقٌ. فَقَالتْ: أنا أحِبُّهُ. فَقَدْ تَوَقَّفَ أحْمَدُ عَنْهَا. وَقَال الْقَاضِي: تَطْلُقُ. وَالْأوْلَى أنَّهَا لَا تَطْلُقُ إِذَا كَانَتْ كَاذِبَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3613 - مسألة: (وإنْ قَال: إنْ كُنْتِ تُحِبِّين أنْ يُعَذِّبَك الله بالنَّارِ فأنْتِ طالق. أو قَال: إنْ كُنْتِ تُحبِّينه بِقَلْبِكِ. فَقَالتْ: أنَا أحبهُ. فقد توَقفَ أحمدُ عنها) وسُئِلَ فلم يُجِبْ فيها بشيء، وفيها احْتِمالانِ؛ أحدُهما، لا تَطْلُقُ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ المحبَّةَ في القَلْبِ، ولا تُوجَدُ مِن أحدٍ مَحَبَّةُ ذلك، وخَبرُها بحُبِّها له كذبٌ معلوم، فلم يصحَّ دليلًا على ما في قَلْبِها. والاحْتِمالُ الثَّاني، تَطْلُقُ. قاله القاضي. وهو قولُ أصحابِ الرَّأي؛ لأنَّ ما في القلبِ لا يُوقفُ عليه إلَّا مِن لَفْظها، فاقتَضَى تَعْليقَ الحُكْمِ بلَفْظِها به، كاذبةً كانتْ أو صادقةً، كالمَشيئَةِ. ولا فَرْقَ بينِ قَوْلِه: إن كُنْتِ تُحِبِّينَ ذلك. وبينَ قولِه: إن كُنْتِ تُحِبِّينَه بقَلْبِك. لأن المحبَّةَ لا تكونُ إلَّا بالقلْبِ. قال شيخُنا: (والأوْلَى أنَّها لا تَطْلُقُ إذا كانت

فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ: إِذَا قَال: أنْتِ طَالِقٌ إِذَا رَأيتِ الْهِلَال. طَلُقَتْ إِذَا رُئِيَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كاذبةً) وهذا الاحْتِمالُ الأوَّلُ. واللهُ أعلمُ. فصل في مسائلَ متفرِّقةٍ: (إذا قال: أنتِ طالقٌ إذا رأيت الهِلال. طَلُقَتْ إذا رُئِيَ) في أوَّلِ الشَّهْرِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَطْلُقُ حتى يَراهُ (¬1)؛ لأنَّه عَلَّقَ الطَّلاقَ بِرؤيةِ نفْسِه، أشْبَهَ تعْليقَه على رُؤيةِ ¬

(¬1) في م: «تراه».

إلا أن يَنْويَ حَقِيقَةَ رُؤيَتهَا، فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَرَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زيدٍ. ولَنا، أنَّ الرُّؤيَةَ للهلالِ (¬1) في عُرْفِ الشَّرعِ العلمُ به في أوَّلِ الشَّهر؛ بدليل قولِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «إِذَا رَأيتُمُ الْهِلَال فَصُومُوا، وَإذَا رأيتُمُوهُ فَأفْطِرُوا» (¬2). والمُرادُ به رُؤيَةُ البعض وحصولُ العلمِ، فانْصرفَ لَفْظُ الحالِفِ إلى عُرْفِ الشَّرْعِ، كما إذا قال: إذا صَلَّيت فأنتِ طالقٌ. فإنَّه ينْصرِفُ إلى الصَّلاةِ الشَّرْعيَّةِ، لا إلى الدُّعاءِ. وفارَقَ رُؤيَةَ زيدٍ، فإنَّه لم يَثْبُتْ له عُرْفت شَرْعِي يُخالِفُ الحقِيقةَ. وكذلك لو لم يَرَه أحد، لكنْ ثَبَتَ الشهرُ بتَمامِ العَدَدِ طَلُقَتْ (1)؛ لأنَّه قد عُلِمَ طُلوعُه (إلَّا أن ينويَ حقيقةَ رُؤيتها) فلا تَطْلُقُ حتى تَرَاه، ويُقْبَلُ قولُه في ذلك؛ لأنَّها رُؤية حقِيقةً. وتَتعلَّقُ الرُّويةُ برُؤيته بعدَ الغُروبِ، فإن رأتْ قبلَ ذلك لمٍ تَطْلُقْ؛ لأنَّ هلال الشَّهْرِ ما كانَ في أوَّلِه، ولأنَّا جَعَلْنا رُؤيةَ الهِلالِ عبارِة عن دُخولِ أوَّلِ (2) الشَّهْرِ. ويَحْتَمِلُ أن تَطْلُقَ برؤيته قبلَ الغُروبِ؛ لأنه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 327.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسَمَّى رُؤيةً، والحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ به في الشَّرْعِ (¬1). فإن قال: أرَدْتُ إذا رأيتُه أنا بعَيني. فلم يَرَه حتى أقْمَرَ، لم تَطْلُقْ؛ لأنَّه ليس بهلالٍ. واختُلِفَ فيما يَصِيرُ به قَمَرًا، فقِيلَ: بعدَ ثالثةٍ. وقيلَ: إذا اسْتدارَ. وقيل: إذا بَهَرَ ضَوْؤه. فصل: قال أحمدُ: إذا قال لها: أنتِ طالقٌ ليلةَ. القَدْرِ. يَعْتَزِلُها إذا دخلَ العَشْرُ وقبلَ العَشْرِ، أهلُ المدينةِ يَرَوْنها في السَّبْعَ عشرةَ، إلَّا أنَّ الثَّابِتَ ¬

(¬1) في م: «الشهر».

3614 - مسألة: (وإن قال: من بشرتنى بقدوم أخي فهي طالق. فأخبرته امرأتاه، طلقت الأولى منهما، إلا أن تكون الثانية هي الصادقة وحدها، فتطلق وحدها)

وَإنْ قَال: مَن بَشَّرَتْنِي بِقُدُومِ أخِي فَهِيَ طَالِقٌ. فَأخْبَرَهُ بِهِ امْرَأَتَاهُ، طَلُقَتِ الأولَى مِنْهُمَا، إِلا أن تَكُونَ الثَّانِيَةُ هِيَ الصادِقَةَ وَحْدَهَا، فَتَطْلُقُ وَحْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في العشرِ الأواخِرِ. إنَّما أمَرَه باجْتِنابِها في العشْرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بالتماسِ ليلةِ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخِرِ (¬1)، فيَحْتَمِلُ أن تكونَ أوَّلَ ليلةٍ منه، ويُمْكِنُ أنَّ (¬2) هذا منه على سبيلِ الاحْتياطِ، ولا يتَحَقَّقُ حِنْثُه إلى آخِرِ ليلةٍ مِنَ الشَّهْرِ؛ لاحْتِمالِ أن تكونَ هي تلك اللَّيلةَ. 3614 - مسألة: (وَإنْ قال: مَنْ بَشَّرَتْنِى بقُدُومِ أخِي فَهِيَ طالق. فأخْبَرَتْه امْرَأتاهُ، طَلُقَتِ الأولَى مِنْهُمَا، إلَّا أنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ هِي الصَّادِقَةَ وَحْدَها، فَتَطْلُقُ وَحْدَها) إنَّما طَلُقَتِ الأولَى وحدَها؛ لأنُّ التبشِيرَ خَبَرُ صِدْق، تَتَغَيَّرُ به بَشَرَةُ الوَجْهِ مِن سُرورٍ أو غَمٍّ، وقد حصَلَ بخَبرِ الأولَى، واشْتَرَطْنا صِدْقَها؛ لأنَّه متى عُلِمَ أنَّه كذِبٌ زال السُّرورُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 557. (¬2) بعده في م: «يكون».

3615 - مسألة: (وإن قال: من أخبرتني بقدومه فهي طالق. فكذلك عند القاضي)

وإنْ قَال: مَنْ أخْبَرَتْنِي بِقُدُومِهِ فَهِيَ طَالِق. فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ تَطْلُقَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانتِ الثانيةُ هي الصادقةَ، طَلقَتْ وحدَها؛ لأن السُّرورَ إنَّما حصَل بخَبَرِها، هذا إذا أخْبَرَتْه إحْدَاهما بعدَ الأخْرَى، وإن بَشرَه بذلك اثْنَتانِ، أو ثلاث، أو أرْبعٌ دَفْعةً واحدةً، طَلُقْنِ كُلهنَّ؛ لأنَّ «مَنْ» تَقَعَ على الواحدَةِ (¬1) فما زادَ، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬2). وقال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ} (¬3). 3615 - مسألة: (وإنْ قَال: مَنْ أخْبَرَتْنِي بِقُدُومِه فَهِيَ طالق. فكذلك عندَ القاضي) تَطْلُقُ المُخْبرَةُ الأولَى إن كانتِ صادِقةً، وإن كانت كاذبةً، احْتَمَلَ أن (¬4) تَطْلُقَ؛ [لأَن الخبرَ ما يدخلُه الصدْقُ والكَذِبُ. اخْتَاره أبو الخَطابِ. ويَحْتَملُ أن لا تَطْلُقَ] (¬5). وهو ظاهرُ كلامِ ¬

(¬1) في م: «الواحد». (¬2) سورة الزلزلة 7، 8. (¬3) سورة الأحزاب 31. (¬4) بعده في م: «لا». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي، لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِه أنَّه أرادَ: مَن أعْلَمَتْنِي. ولا يحْصُلُ إلَّا بالصِّدْق، ولذلك لو قال: مَن بَشَّرَتْنِي بقُدومِه فهي طالق. لم تَطْلُقِ الكاذِبَةُ، وإن كان السُّرورُ يحْصُلُ [به عندَه] (¬1) إذا جَهِل كَذِبهَا. وإن أخْبَرَتْه أخْرَى، طَلُقَتْ في قولِ أبي الخَطَّابِ؛ لأنها مُخْبِرَة، ولم تَطْلُقْ عندَ القاضي الثاثيةُ ولا الكاذبةُ، كالبِشارةِ سواءً. فصل: إذا قال: أولُ مَن يَقومُ مِنكُنَّ فهي طالق. أو قال لِعَبيدِه: أوَّلُ مَن قَامَ مِنْكم فهو حُر. فقامَ الكُلُّ دَفْعةً واحدةً، لم يَقَعْ طلاق ولا عِتْق، لأنَّه لا أولَ فيهم. وإن قامَ واحد أو واحدة، ولم يَقُمْ بعدَه أحدٌ، احْتَمَلَ وَجْهَينِ، أحدُهما، يقَعُ الطَّلاق أو العِتْقُ؛ لأن الأوَّلَ [ما لم يَسْبقْه شيء، وهذا كذلك. والثاني، لا يَقَعُ طلاق ولا عِتْق؛ لأنَّ الأوَّل] (¬2) ما كان بعدَه شيء، ولم يُوجَدْ. فعلى هذا، لا يُحْكَم بوُقوعِ ذلك ولا انْتفائِه، حتى يَيئَسَ مِن قيامِ أحدٍ منهم بعدَه، فَتَنْحَل يَمِينُه. وإن قامَ اثْنانِ أو ثلاثة دَفْعَةً واحدةً، وقامَ بعدَهم آخَرُ، وَقَعَ الطَّلاقُ والعِتْقُ بمَنْ قامَ في الأوَّلِ؛ لوُقُوعِه على القَليلِ والكثيرِ، قال اللهُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} (¬1). وحُكِيَ عن القاضي في مَن قال: أوَّل مَنْ يَدْخُلُ مِن عَبيدِي فهو حُر. فدخلَ اثْنانِ دَفْعةً واحدةً، ثم دخلَ بعدَهم آخَرُ، لم يَعْتِقْ واحد منهم. وهذا بعيدٌ؛ فإنَّه قد دخلَ بعضُهم بعدَ بعض، ولا أوَّلَ فيهم، وهذا لا يَسْتقيمُ إلَّا أن يَكونَ قال: أوَّلُ مَن يَدخلُ منكم وَحْدَه. ولم يَدخلْ بعدَ الثَّالثِ أحدٌ، فإنَّه لو دخل بعدَ الثَّالثِ أحدٌ، عَتَقَ الثالثُ (¬2)، لكَوْنِه أوَّلَ مَنْ دخَلَ وحدَه، وإذا لم يَقُلْ: وحدَه. فإنَّ لفظَةَ الأوَّلِ تَتَناولُ الجماعةَ كما ذَكَرْنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ» (¬3). ولو قال: آخِرُ مَن يدْخلُ مِنكُنَّ الدَّارَ فهي طالق. فدخلَ بعضُهُنَّ، لم يُحْكَمْ بطلاقِ ¬

(¬1) سورة البقرة 41. (¬2) سقط من: م. (¬3) بنحو هذا اللفظ أخرجه البزار، انظر: كشف الأستار 4/ 256، 257. وأبو نعيم، في: حلية الأولياء 1/ 347. وبلفظ: «إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين. . . .». أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 168.كما أخرجه الإمام أحمد، في الموضع السابق بلفظ: «. . . . الفقراء والمهاجرون. . . .». كلهم من حديث عبد الله بن عمرو، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، وانظر كلامه على الرواية الأخيرة، في: شرح المسند 10/ 76، 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةٍ مِنْهُنَّ حتى يُيئَسَ مِن دُخولِ غيرِها بمَوْتِه، أو مَوْتِهنَّ، أو غيرِ ذلك، فيَتَبَيَّنُ وُقوعُ الطلاقِ بآخرِهنَّ دُخولًا مِن حينَ دخلتْ، وكذلك الحُكْمُ في العِتْقِ. فصل: إذا قال: إنْ دخلَ دارِي أحد فامْرَأتِي طالق. فدَخَلَها هو. أو قال لإنسانٍ: إن دخَلَ دَارَك أحد فعَبْدِي حُر. فدَخَلَها صاحِبُها، فقال القاضِي: لا يَحْنَثُ؛ لأن قرِينَةَ حالِ المُتَكَلِّمِ تدُلُّ على أنَّه إنَّما حَلَفَ على غيرِه، وتَمْنَعُ مَنْ سِوَاهُ، فيخْرُجُ هو مِن العُمُوم بالقَرينةِ، ويَخْرُجُ المُخاطَبُ مِن اليمينِ بها (¬1) أيضًا. ويَحْتَمِلُ الحِنْثَ أخَذًا بعُمُومِ اللَّفْظِ، وإعْراضًا عن السَّبَبِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3616 - مسألة: (وإن حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا، حنث في الطلاق والعتاق، ولم يحنث في اليمين المكفرة، في ظاهر المذهب)

وَإن حَلَفَ لَا يفعَلُ شَيئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا، حَنِثَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3616 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ لا يَفْعَلُ شَيئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا، حَنِثَ فِي الطلاقِ والْعَتَاقِ، ولم يَحْنَثْ فِي اليَمِينِ المُكَفَّرَةِ، فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ) نَقَلَ ذلك عن أحمدَ جماعة. واخْتارَه الخَلَّالُ وصاحِبُه. وهو قولُ أبي عُبَيدٍ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أخْرَى، أنه لا يَحْنَثُ في الطَّلاقٍ والْعَتاقِ أيضًا. وهذا قولُ عطاءٍ، وعَمْرِو بنِ دِينار، وابنِ أبي نجِيحٍ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ؛ لقولِ الله تعالى: {وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأمَّتِي عنِ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (¬2). ولأنه غيرُ قاصدٍ للمُخالفَةِ، فلم يَحْنَثْ، كالنائمِ والمجْنونِ. ولأنه أحَدُ طَرَفَيِ اليَمِين، فاعْتُبِرَ فيه القَصْدُ، كحالةِ الابتداءِ بها (وعن أحمدَ) رِوايَة ثالثة، أَنَّه (يَحْنَثُ في ¬

(¬1) سورة الأحزاب 5. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 276.كما أخرجه الدارقطني، في: سننه 4/ 170، 171.

وَعَنْهُ، لَا يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجميعِ) وتَلْزَمه الكَفَّارَةُ في اليَمِينِ المُكَفَّرَةِ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَير، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، [وأصحابِ الرَّأي] (¬1)، والقولُ الثَّانِي للشافعيِّ؛ لأنَّه فَعَلَ ما حَلَفَ عليه قاصِدًا لِفعْلِه، فَلَزِمَه الحِنْثُ، كالذَّاكِرِ، وكما لو كانت اليَمِينُ بالطَّلاقِ والْعَتاقِ. ووَجْهُ الأولَى، أنَّ الكَفَّارَةَ إنَّمَا تجبُ لرَفْعِ الإِثْمِ، ولا إثْمَ على النّاسِي، ولِما ذَكَرْنا مِن الآيةِ والخَبَرِ. وأما الطَّلاقُ والعَتاقُ، فهو مُعَلَّق بشَرْطٍ، فيَقَعُ بوُجودِ شَرْطِه مِن غيرِ قَصْدٍ، كما لو قال: أنت طالق إن طَلَعَت الشَّمسُ، أو قَدِمَ الحاجُّ. ولأنَّ هذا يَتَعَلقُ به حَقُّ آدَمِي، فتَعَلَّقَ الحُكْمُ به مع النِّسْيانِ، كالإتْلافِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3617 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل على فلان بيتا، أو لا يكلمه، أو لا يسلم عليه، أو لا يفارقه حتى يقضيه حقه، فدخل بيتا هو فيه ولم يعلم، أو سلم على قوم هو فيهم ولم يعلم، أو قضاه حقه ففارقه، فخرج رديا، أو أحاله به ففارقه ظنا منه أنه قد بر

وَإنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيتًا، أوْ لَا يُكَلِّمُهُ، أوْ لَا يُسَلِّمُ عَلَيهِ، أَوْ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ، فَدَخَلَ بَيتًا هُوَ فِيهِ وَلَمْ يَعْلَمْ، أوْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَلَمْ يَعْلَمْ، أوْ قَضَاهُ حَقَّهُ فَفَارَقَهُ، فَخَرجَ رَدِيًّا، أوْ أحَالهُ بِحَقِّهِ فَفَارَقَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أنَّهُ قَدْ بَرَّ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَينِ فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3617 - مسألة: (وإنْ حَلَفَ لا يَدْخُلُ على فُلَانٍ بَيتًا، أو لا يُكَلِّمُهُ، أو لَا يُسَلِّمُ عليه، أو لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقضِيَهُ حَقَّهُ، فَدَخَلَ بَيتًا هو فِيهِ ولم يَعْلَمْ، أو سَلَّمَ عَلَى قَوْم هو فِيهم ولم يَعْلَمْ، أو قَضَاهُ حَقَّهُ فَفَارَقَهُ، فَخَرَجَ رَدِيًّا، أو أحَالهُ به فَفَارَقَهُ ظَنًّا مِنْهُ أنَّهُ قَدْ بَرَّ (¬1)، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَينِ فِي النَّاسِي والجَاهِلِ) فَإنَّ فِي النَّاسي رِوَايَتَينِ، وَالجَاهِلُ مَقِيس عليهِ؛ لأنَّه غيرُ قاصدٍ للمُخالفُةِ، وقد سَبَقَ دليلُ ذلك. وكذلك إن حَلَفَ لا يُكَلِّمُ فُلانًا، فسَلَّمَ عليه يحْسَبُه أجْنَبِيًّا، أو حَلَفَ لا يَبِيع (¬2) ¬

(¬1) في النسختين: «بريء». (¬2) في الأصل: «بعث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لزيدٍ ثَوْبًا، فوَكَّلَ زيد مَن يدْفَعُه إلى مَنْ يَبِيعُه، فدَفَعَه إلى الحالِفِ، فباعَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ عِلْمِه، فهو كالناسِي؛ لأنَّه غيرُ قاصدٍ للمُخالفَةِ، أشْبَهَ النَّاسِيَ.

3618 - مسألة: (وإن حلف لا يفعل شيئا، ففعل بعضه، لم يحنث. وعنه، يحنث، إلا أن ينوي جميعه)

وَإن حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيئًا، فَفَعَلَ بَعْضَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَعَنْهُ، يَحْنَثُ، إِلا أنْ يَنْويَ جَمِيعَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3618 - مسألة: (وإن حَلَفَ لا يَفْعَلُ شَيئًا، ففَعَلَ بَعْضَه، لم يحْنَثْ. وعنه، يَحْنَثُ، إلَّا أنْ يَنْويَ جَمِيعَهُ) هذه الرِّوايةُ ظاهِر المذهب. نصَّ أحمدُ على ذلك، في رِوايةِ حَنْبَلٍ، وصالحٍ، في مَن حَلَفَ على امْرأتِه لا تدْخُلُ بَيتَ أخْتِها: لم تَطْلُقْ حتى تَدْخُلَ كلها، ألَا تَرَى أنَّ عَوْفَ بنَ مالك، قال: كُلِّي أو بَعْضِي (¬1)؛ لأن الكُلَّ لا يكونُ بعْضًا، والبعضَ لا يكونُ كُلا. وهذا اخْتِيارُ أبي الخَطَّابِ، ومذهبُ أبي حنيفةَ، والشافعي؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُخْرِجُ رأسَه وهو مُعْتَكِف إلى عائشةَ، ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ الحاكم، في: المستدرك 4/ 551. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 248. كما أخرجه بدون لفظ: «كلي أو بعضي» البخاري، في: باب ما يحذر من الغدر، من كتاب الجزية. صحيح البخاري 4/ 124. وبنحوه أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في المزاح، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 596. وابن ماجه، في: باب أشراط الساعة، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1341، 1342.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتُرَجِّلُه وهي حائِض (¬1). والمُعْتَكِفُ مَمْنوع مِن الخُروج مِن المسْجِدِ، والحائِضُ مَمْنُوعَة مِن اللُّبْثِ فيه. ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبَيِّ بنِ كَعْبٍ: «إنِّي لَا أخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ حَتي أعَلِّمَكَ سُورَة» (¬2). فلَمَّا أخْرَجَ رِجْلَه مِن المسْجِدِ عَلَّمَه إيَّاها. ولأن يَمِينَه تعَلَّقَتْ بالجميعِ، فلم تَنْحَلَّ بالبَعْضِ، كالإثْباتِ. وعنه، أنه يَحْنَثُ، إلَّا أنْ يَنْويَ جَمِيعَه. حُكِيَ ذلك عن مالك. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لأن اليَمِينَ تَقْتَضِي المَنْعَ مِن (¬3) فِعْلِ المحْلُوفِ عليه، فاقْتَضَتِ المنْعَ مِن فِعْلِ شيءٍ منه، كالنَّهْي، ونظيرُ الحَلِفِ على تَرْكِ الشيءِ قولُه سبحانه: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيرَ بُيُوتِكُمْ} (¬4). وقولُه: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} (¬5). لا يكونُ المَنْهِيُّ (¬6) مُمْتَثِلًا إلا بتَرْكِ الدُّخولِ كلِّه، فمتى أدْخلَ بعضَه، لم يَكنْ تاركًا لِما حَلَفَ عليه، فكان مُخالِفًا، كالنَّهْيِ عن الدُّخولِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 576. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، من أبواب فضائل القرآن. عارضة الأحوذي 11/ 2 - 6. والإمام مالك، في: باب ما جاء في أم القرآن، من كتاب الصلاة. الموطأ 1/ 83. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 412، 413. بدون ذكر معنى قول الشارح: «فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها». ولم نجد معنى هذا اللفظ فيما بين أيدينا من المصادر، سواء من حديث أبي أو من حديث أبي سعيد بن المعلى. (¬3) بعده في م: «تخلف». (¬4) سورة النور 27. (¬5) سورة الأحزاب 53. (¬6) في م: «النهي».

3619 - مسألة: وإن حلف ليفعلن شيئا، أو ليدخلن الدار، لم يبرأ إلا بفعل جميعه، والدخول إلى الدار بجملته

وَإنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّهُ، لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَفْعَلَ جَمِيعَهُ. وَإذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَأدخَلَهَا بَعْض جَسَدِهِ، أو دَخَلَ طَاقَ ـــــــــــــــــــــــــــــ والخِلافُ إنَّما هو في اليَمِينِ المُطْلَقَةِ، فأمَّا إن نَوَى الجميعَ أو البَعْضَ، فَيمِينُه على ما نَوَى. وكذلك إنِ اقْتَرَنَتْ به قَرِينَة تَقْتَضِي أحدَ الأمْرَينِ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُه به، كمَنْ حَلَفَ لا شَرِبْتُ هذا النَّهْرَ، أو هذه البِرْكَةَ. تَعَلَّقَتْ يَمِينُه ببَعْضِه، وَجْهًا واحدًا. وفيه خِلاف نذْكُرُه في موْضِعِه بعدُ. 3619 - مسألة: وإنْ حَلَف لَيَفْعَلَنَّ شَيئًا، أوْ ليَدْخُلَنَّ الدَّارَ، لم يَبْرأ إلَّا بفِعْلِ جَميعِهِ، والدخُولِ إلَى الدَّارِ بجُمْلَتِهِ. لا يخْتَلِفُ المذهبُ في ذلك، ولا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ فيه اخْتِلافًا؛ لأنَّ اليَمِينَ تَناوَلَتْ فِعْلَ الجميعِ، فلم يَبْرأ إلَّا بفِعْلِه، كما لو أمَرَه اللهُ تعالى بفِعْلِ شيءٍ، لم يَخْرُجْ مِن عُهْدَةِ الأمْرِ إلّا بفِعْلِ الجميعِ؛ لأنَّ اليَمِينَ عَلَى فعلِ شيءٍ إخْبار بفِعْلِه في المُسْتَقْبَلِ مُؤَكَّدٌ بالقَسَمِ، والخبَرُ بفِعْلِ شيءٍ يَقْتَضي فِعْلَه كُلَّه. 3620 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ لا يَدْخُلُ دَارًا، فَأدْخَلَهَا بَعْضَ

الْبَابِ، أو لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، فَلَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ مِنْهُ، أوْ لَا يَضْرَبُ مَاءَ هَذَا الإنَاءِ، فَضَرِبَ بَعْضَهُ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَسَدِهِ، أو دَخَلَ طاقَ الْبَابِ، أو لا يَلْبَسُ ثَوبًا مِن غَزْلِها، فلبس ثَوْبًا فيه منه، أو لا يَضْرَبُ ماءَ هذا الكُوزِ، فضرِبَ بعْضَه، خُرِّج على الرِّوايَتَينِ) في (¬1) فِعْلِ بعضِ المحْلوفِ عليه، وقد ذَكَرْناه قبلَ هذه المسألةِ. ¬

(¬1) بعده في م: «من».

3621 - مسألة: (وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر، فشرب منه، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ ماءَ هَذَا النَّهْرِ، فَضَرِبَ مِنْهُ، حَنِث. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3621 - مسألة: (وإن حَلَفَ لا يَشْرَبُ مَاءَ هذا النَّهْرِ، فَشَرِبَ مِنه، حَنِثَ) وَجْهًا وَاحِدًا؛ لأنَّ فِعْلَ الجميعِ مُمْتَنِعٌ، فلا تَنْصرِفُ يَمِينه إليه، وكذلك إن قال: واللهِ لا آكُلُ الخُبْزَ، ولا أشْرَث الماءَ. وما أشْبَهَهُ ممّا علَّقَ على اسْمِ جِنْس، أو عَلَّقَه على اسمِ جَمْعٍ؛ كالمُسْلِمِين، والمشْرِكين، والفُقَراءِ، والمساكينِ، فإنَّه يَحْنَثُ بالبَعْضِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وسَلَّمَه أصحاب الشافعيِّ في اسْمِ الجِنْسِ دُونَ الجَمْعِ. وسواءٌ عَلقه على اسْمِ جِنْس مُضافٍ، كقولِه: واللهِ لا شَرِبْتُ ماءَ هذا النَّهْرِ. أو قال: والله لِا شَرِبْتُ الماءَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأحدُ الوَجْهَينِ لأصْحابِ الشافعيِّ. والوَجْه الآخر، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ لَفْظَه يَقْتَضِي جَمِيعَه، فلم يَحْنَثْ بفِعْلِ بَعْضِه، كالإدَاوَةِ. ولَنا، أنَّه لا (¬1) يمْكِن شُرْبُ جَمِيعِه، فتَعلَّقَتْ يَمِينه ببَعْضِه، كما لو حَلَفَ لا يكَلِّمُ النَّاسَ، فكَلَّمَ بعْضَهم، وبهذا فارَقَ ماءَ الإدَاوَةِ. فإن نَوَى بيَمِينه فِعْلَ الجميعِ، أو (¬2) كان في لَفْظِه ما يَقْتَضِي ذلك، لم يَحْنَثْ إلَّا بفِعْلِ الجميعِ، بلا خِلافٍ، فلو قال: لا صُمْت يومًا. أو: لا صَلَّيتُ صلاةً. أو: لا أَكَلْتُ رَغِيفًا. أو قال لزَوْجَتِه: إن حِضْتِ حَيضَةً. فهذا وشِبْهُه ممَّا يدل على إرادَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجميعِ، فوجبَ تَعَلُّقُ اليَمِينِ به. فصل: إذا حَلَف: لا شَرِبْتُ مِن ماءِ الفُراتِ. فشَرِبَ مِن مائِه، حَنِثَ، سواءٌ كَرَعَ (¬1) فيه، أو اغْتَرَفَ منه ثم شَرِبَه. وبه قال الشافعيُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ حتى يَكْرَعَ فيه؛ لأنَّ حَقِيقة ذلك الكَرْعُ، فلم يَحْنَث بغَيرِه، كما لو حَلَفَ لا يَشْرَبُ مِن هذا الإِنَاءِ، فصَبّ منه في غيرِه وشَرِبَ. ولَنا، أنَّ مَعْنى يَمِينه أن لا يَشْرَبَ مِن ماءِ الفُراتِ؛ لأنَّ الشرْبَ يكونُ مِن مائِها لا منها في العُرفِ (¬2)، فحُمِلَتِ اليَمِينُ عليه، كما لو حَلَفَ: لا شَرِبْتُ مِن هذا البِئْرِ، ولا أكَلْتُ مِن هذه الشَّجرَةِ، ولا شَرِبْتُ مِن هذه الشَّاةِ. ويُفارِقُ الكُوزَ؛ فإنَّ الشُّرْبَ في العُرْفِ (2) منه؛ لأَنه آلة للشرْب، بخلافِ النَّهْرِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالبِئْرِ والشاةِ والشجَرةِ، وقد سَلَّمُوا أَنه لو اسْتَقَى (¬3) مِن البِئْرِ، أو حَلَبَ لبنَ الشَّاةِ، أو الْتَقَطَ مِن الشَّجَرَةِ، فشَرِبَ وأكَلَ، أَنه يَحْنَثُ، فكذا في مسْألتِنا. فصل: وإن حَلَفَ لا يَشْرَبُ مِن ماءِ الفُراتِ، فشَرِبَ مِن نَهْر يَأخُذُ منه، حَنثَ؛ لأنه مِن ماءِ الفُراتِ. وإن حَلَفَ لا يَشْرَبُ مِن الفُراتِ، فشَرِبَ مِن نَهْر يأخُذُ منه، ففيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يَحْنَثُ؛ لأن مَعْنَى ¬

(¬1) كرع في الماء: تناوله بفيه من موضعه، من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. (¬2) في الأصل: «الغرف». (¬3) في م: «استسقى».

3622 - مسألة: (وإن حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد أو نسجه، أو لا يأكل طعاما طبخه، فلبس ثوبا نسجه هو وغيره، أو اشترياه، أو أكل طعاما طبخاه، فعلى روايتين)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ زَيد أو نَسَجَهُ، أوْ لَا يَأكلُ طَعَامًا طَبَخَهُ زَيد، فَلَبِس ثَوبًا نَسَجَهُ هُوَ وَغَيرُهُ، أو اشْتَرَيَاهُ، أوْ أكَلَ مِنْ طَعَام طَبَخَاهُ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشُّرْب منه الشُّرْبُ مِن مائِه، فحَنِثَ، كما لو حَلَفَ: لا شَرِبْتُ مِن مائِه. وهذا أحدُ الاحْتِمالينِ لأصْحابِ الشافعيِّ. والثاني، لا يَحْنَثُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصْحابِه، إلَّا أبا يوسفَ، فإنَّ عنه رِوايَةً، أنَّه يَحْنَثُ. وإنَّما قُلْنا: إنَّه لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ ما أخَذَه النَّهْرُ يُضافُ إلى ذلك النَّهْرِ، لا إلى الفُراتِ، ويَزُولُ بإضافَتِه إِليه عن إضافَتِه إلى الفُراتِ، فلا يَحْنَثُ به، كغيرِ الفُراتِ. 3622 - مسألة: (وإنْ حَلَفَ لا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ زَيدٌ أو نَسَجَه، أو لا يَأكلُ طَعَامًا طَبَخَهُ، فَلَبِسَ ثَوْبَّا نَسَجَهُ هُوَ وَغَيرُه، أو اشْتَرَيَاهُ، أو أكَلَ طَعَامًا طَبَخَاه، فَعَلَى رِوَايَتَينِ) إحْدَاهما، يَحْنَثُ، كما لو حَلَفَ لا يَلْبَسُ مِن غَزْلِ فُلانَةَ، فلَبِسَ ثَوْبَّا مِن غَزْلِها [وغَزْلِ غيرِها. والثَّانيةُ، لا يَحْنَثُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه لم يَلْبَسْ ثوبًا كامِلًا] (¬1). وكذلك إن حَلَفَ لا يَلْبَسُ ثَوْبَّا نَسَجَه زيدٌ، ولا يَأكُلُ من قِدْر طَبَخَها، ولا يَدْخُلُ دارًا اشْتَرَاها، ولا يَلْبَسُ ثوبًا خَاطَه زيد، فَفَعَلَ ذلك هو وغيرُه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَبِسَ الثوْبَ، أو دَخَلَ الدَّارَ، أو أكَلَ مِن الطَّعامِ، ففي هذا كلِّه من الخِلافِ ما ذَكَرْنا في مَن حَلَفَ لا يفْعَلُ شيئًا فَفَعَلَ بعْضَه. فأمَّا إن حَلَفَ أن لا يَلْبَسَ ممَّا خاطَه زيدٌ، فإنَّه يَحْنَثُ بلُبْسِ ثَوْبٍ خَاطَاه جميعًا؛ لأنَّه لبِسَ ممَّا خاطَه زيدٌ، بخلافِ ما إذا قال: ثَوْبًا خَاطَه زيد. وإن حَلَفَ لا يَدْخُلُ دارًا لزيدٍ، فدَخَلَ دارًا له ولغيرِه، خُرِّجَ فيه وَجْهان؛ بِناءً على ما ذَكَرنا. فصل: وإنْ حَلَفَ لا يَأكلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيدٌ، فَأكَلَ طَعَامًا اشْتَرَاه هو وغيرُهُ، حَنِثَ، إلَّا أنْ يَكُونَ أرَادَ أنْ لا يَنْفَرِدَ أحَدُهما بِالشِّرَاءِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالك. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ فيه احْتِمالًا (¬1)؛ لأنَّ كُلَّ جُزْءٍ لم يَنْفَرِدْ أحَدُهما بشرائِه، فلم يَحْنَثْ، كما لو حَلَفَ لا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَراه زيدٌ، فلبِسَ ثوبًا اشْتَراه هو وغَيرُه. ولَنا، أنَّ زيدًا اشْتَرَى نِصْفَه، وهو طَعام، وقد أكَلَه، فأشْبَهَ ¬

(¬1) في م: «احتمالين».

وَإنِ اشْتَرَى غَيرُهُ شَيئًا فَخَلَطَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ، فَأكلَ أكثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ، حَنِثَ، وَإنْ أكلَ مِثْلَهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لو اشْتَرَاه زيدٌ وخَلَطَه بما اشْتَراه عَمْرٌو، فأكَلَ الجميعَ، فأمَّا الثَّوْبُ، فلا نُسَلِّمُه، وإنْ سَلَّمْناه، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ نِصْفَ الثَّوْبِ ليس بثَوْبٍ، ونِصْفَ الطَّعامِ طعامٌ، وقد أكَلَه بعدَ أنِ اشْتَراه زيدٌ. وإنِ اشْتَرَى زيدٌ نِصْفَه مُشاعًا، أو اشْتَرَى نِصْفَه، ثم اشْتَرَى آخَرُ باقِيَه، فأكَلَ منه، حَنِثَ. والخِلافُ فيه على ما تَقَدَّمَ. فأمَّا إنِ اشْتَرَى زيدٌ نِصْفَه مُعَينا، ثم خَلَطَه بالنِّصْفِ الآخَرِ، ثم أكلَ أكثَرَ مِن النِّصْفِ، حَنِثَ، وَجْهًا واحدًا، بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّه أكلَ ممَّا اشْتَرَاه زيد يَقِينًا. وإن أكلَ نِصْفَه، أو أقَلَّ مِن نِصْفِه، ففيه وَجْهانِ. أحدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه يَسْتَحِيلُ في العادَةِ انْفِرادُ (¬1) ما اشْتَرَاه زيد مِن غيرِه، فيَكونُ الحِنْثُ ظاهِرًا. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الحِنْثِ، ولم يُتَيَقَّنْ. وإن أكَلَ مِن طَعام اشْتَرَاه زيد، ثم باعَه، أو اشْتَرَاه لغيرِه، حَنِثَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ. وكلُّ مَوْضِع لا يَحْنَثُ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو حَلَفَ لا يَأكلُ تَمْرَةً، فوَقَعَتْ في تَمْر، فأكَلَ منه واحدةً، على ما سَنَذْكُرُه، إن شاءَ الله تَعالى. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «من».

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب التأويل في الحلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ التَّأويلَ فِي الْحَلِفِ وَمَعْنَى التَّأويلِ أنْ يُرِيدَ بِلَفْظِهِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، لَمْ يَنْفَعْهُ تَأويلُهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»، وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فَلَهُ تَأويلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ التَّأويلَ في الحَلِفِ (ومَعْنَى التَّأويلِ أنْ يُرِيدَ بلَفْظِه ما يُخالِفُ ظاهِرَه، فإن كان الحالِفُ ظالِمًا، لم يَنْفعْه تَأويلُه؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بهِ صَاحِبُكَ» (¬1). وإن لم يَكُنْ ظالِمًا، فله تَأويلُه) نحوَ أنْ يَحْلِفَ أنه أَخِي، يُرِيدُ بذلك أخُوة في الإسْلام، أو يَعْنِي بالسقْفِ والبِناءِ السماءَ، وبالبِساطِ والفِرَاشِ الأرْضَ، وبالأَوْتادِ الجبال، وباللِّباسِ اللَّيلَ، أو يقولَ: ما رَأيتُ فُلانًا. أي ما ضَرَبْتُ رِئَتَه (¬2). ولا ذَكَرْتُه. أي ما ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب يمين الحالف على نية المستحلف، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1274. وأبو داود، في: باب المعاريض في الأيمان، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 200. والترمذي، في: باب ما جاء أن اليمين على ما يصدقه صاحبه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 107. والدارمي، في: باب الرجل يحلف على الشيء وهو يورِّكُ على يمينه، من باب النذور. سنن الدارمي 2/ 187. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 288، 331. (¬2) في الأصل: «رؤيته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطَعْتُ ذَكَرَه. أو يقولَ: جَوارِيَّ أحْرار. يعني سُفُنَه (¬1). ونِسائِي طَوالِقُ. يعني النساءَ الأقارِبَ منه، أو يقولَ: ما كَتَبْتُ فُلانًا، ولا عَرَفْتُه، ولا أعْلَمْتُه، ولا سَألتُه حاجَةً، ولا أكَلتُ له دَجاجَةً، ولا فَرُّوجةً، ولا شَرِبْتُ له ماءً، ولا في بَيتي فَرشٌ ولا حَصِير، ولا بارِية. ويَعْني بالمكاتَبَةِ مكاتَبَةَ الرقِيقِ، وبالتَّعْريفِ جَعْلَه عَرِيفًا، وبالإعْلامِ جعْلَه أعْلَمَ الشفَةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «شفتيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحاجَةِ شَجَرَةً صَغِيرَةً، والدَّجاجةِ الكُبَّةَ من الغَزْلِ، والفَرُّوجةِ الدُّرَّاعَةَ (¬1)، والفَرْشِ صِغارَ الابلِ، والحَصِيرِ الحَبسَ، والبارِيةِ السِّكِّينَ التي يُبرَى بها، أو يقولَ: واللهِ مَا أكَلْتُ من هذا شيئًا، ولا أخَذْتُ منه. يعني الباقِيَ بعدَ أخْذِهِ وأكْلِه. فهذا وأشْباهُه ممَّا يَسْبِقُ إلى فَهْمِ السَّامِعِ خِلافُه، إذا عَناه بيَمِينه، فهو تَأويل؛ لأنه خِلاف الظاهِرِ. فصل: ولا يَخْلُو حالُ الحالِفِ المُتَأوِّلِ من ثلاثةِ أحْوال؛ أحدُها، أن يكونَ مَظْلُومًا، مثلَ أنْ يَسْتَحْلِفَه ظالم على شيءٍ، لو صَدَقَه لَظَلَمَه، أو ظَلَمَ غيرَه، أو نال مُسْلِمًا منه ضَرَر، فهذا له تَأويلُه. قال مُهَنَّا: سألتُ أحمدَ عن رَجُلٍ له امْرَأتانِ، اسْمُ كلِّ واحدةٍ منهما فاطِمَةُ، فماتَتْ واحدةْ منهما، فحَلَفَ بطَلاقِ فاطِمَةَ، ونوَى التي ماتَت. قال: إن كان المُسْتَحْلِفُ له ظالِمًا، فالنيةُ نِيَّةُ صاحب الطَّلاقِ، وإن كان المُطَلِّقُ هو الظالِمَ، فالنيةُ نِيَّةُ الذي اسْتَحْلَفَه. ورَوَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه، عن سوَيدِ بنِ حَنْظَلَةَ، قال: خَرَجْنَا نُرِيدُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومَعَنا وائِلُ بنُ ¬

(¬1) الدراعة: ثوب من الصوف، وجبة مشقوقة المُقدم. (¬2) في: باب المعاريض في الأيمان، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 200.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من ورى في يمينه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 685. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُجْر، فأخَذَه عَدُوٌّ له، فتَحَرَّجَ القومُ أن يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أنَّه أخِي، فخلَّى سَبِيلَه، فأتَينا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرْنا ذلك له، فقال: «أنْتَ (¬1) كنتَ أصْدَقَهُمْ وَأبَرَّهُمْ، الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ». وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» (¬2) يعني سَعَةَ المَعارِيضِ التي يُوهِمُ بها السَّامعَ غيرَ ما عَناهُ. قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: الكلامُ أوْسَعُ مِن أنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ. يعني لا يَحْتاجُ أن يَكْذِبَ؛ لكَثْرَةِ الْمَعَارِيضِ، وخَصَّ الظرِيفَ بذلك، يعني به الكَيِّسَ الفَطِنَ، فإنَّه يَفْطِنُ للتَّأويلِ، فلا حاجَةَ به إلى الكذِبِ. الوَجْهُ الثانِي، أن يكونَ الحالِفُ ظالِمًا، كالذي يَسْتَحْلِفُه الحاكِمُ على حَق عندَه، فهذا تَنْصَرِفُ يَمِينُه إلى ظاهِرِ الذي عَناهُ المُسْتَحْلِفُ، ولا يَنْفَعُ الحالِفَ تَأويلُه. وبهذا قال الشافعي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالفًا؛ فإنَّ أبا هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في م: «إن». (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب المعاريض فيها مندوحة عن الكذب، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 199. وصحح وقفه على عمران بن حصين، كما أخرجه موقوفًا على عمر. كما أخرجه البخاري موقوفًا على عمران، في: باب المعاريض، في كتاب الأدب المفرد 2/ 334. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 215، 213.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ». روَاه مُسْلِم، [وأبو داودَ. وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْيَمِينُ عَلَى نِيةِ الْمُسْتَحْلِفِ». رَواه مسلم] (¬1). ولأنَّه لو ساغَ التَّأويلُ، لَبطلَ المعْنَى المُبْتَغَى باليَمِينِ، إذْ مقْصُودُها تَخْويفُ الحالِفِ ليَرْتَدِعَ عن الجُحود خَوْفا مِن عاقِبةِ اليَمِينِ الكاذِبَةِ، فمتى ساغَ التَّأويلُ له، انتَفَى ذلك، وصار التَّأويلُ وَسِيلَةً إلى جَحْدِ الحُقوقِ. قال إبراهيمُ، في رجلٍ اسْتَحْلَفَه السُّلْطانُ على شيءٍ بالطَّلاقِ، فَوَرَّكَ (¬2) في يَمِينه إلى شيءٍ: أجْزَأ عنه، وإن كان ظالما، لم يُجْزِ عنه التأويلُ. الحالُ الثَّالثُ، أن لا يكونَ ظالما ولا مَظْلومًا، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ له تَأويلَه، فإنَّه رُوِيَ أنَّ مُهَنَّا كان عندَه، هو والمَرُّوذِي وجماعَةٌ، فجاءَ رجل يطْلُبُ المَرُّوذِيَّ، ولم يُرِدِ المَرُّوذِيُّ أن يُكَلِّمَه، فوَضَعَ مُهَنَّا إِصْبَعَه في كَفِّه، وقال: ليس المَرُّوذِي ههُنا، وما يَصْنَعُ المَرُّوذِيُّ ههُنا! يُريدُ: ليس المَرُّوذِيُّ في كَفه. فلم يُنْكِرْه أبو عبدِ اللهِ. ورُوِيَ أنَّ (¬3) مُهَنَّا قال: إنِّي أريدُ الخُروجَ -يعني السَّفَرَ إلى بلدِه- وأحِبُّ أن تُسْمِعَني الجُزْءَ الفُلانِي. ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث أخرجه مسلم، في: باب يمين الحالف على نية المستحلف، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1274.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من ورى في يمينه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 685. (¬2) في م: «فورى». والتوريك في اليمين: نية ينويها الحالف غير ما نواه مستحلفه. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأسْمَعَه إياه، ثم رآهُ بعدَ ذلك، فقال: ألم تَقُلْ إنك تُرِيدُ، الخُروجَ؟ فقال له مُهَنَّا: قلتُ لَكَ: إنِّي أريدُ الخُروجَ الآن! فلم يُنْكِرْ عليه. وهو مذهبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا أيضًا. ورَوَى سعيد، عن جَرِير، عن المُغِيرَةِ، قال: كان إذا طَلَبَ إنْسان إبراهيمَ، ولم يُرِدْ إبْراهِيمُ أنْ يَلْقاهُ، خَرَجَتْ إليه الخادِمُ، فقالت: اطْلُبوه في المسْجدِ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمْزَحُ، ولا يقولُ إلا حَقًّا. ومُزاحُه أنْ يُوهِمَ السًّامِعَ بكلامِه غيرَ ما عَناهُ، فقال لعَجُوزٍ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوز» (¬1). يعني أن الله يُنْشِئُهُنَّ أبْكَارًا (¬2) عرُبًا أتْرَابًا. وقال أنس: إن رَجُلًا جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ، احْمِلْنِي. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ». فقال: وما أصْنَعُ بوَلَدِ النَّاقَةِ؟ قال: «وَهَلْ تَلِدُ الإبِلَ إلا النوقُ». روَاه أبو داودَ (¬3). وقال لامْرأةٍ وقد ذَكَرَتْ له زَوْجَها: «أهُوَ الَّذِي في عَينه بَيَاض؟». فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنه لصَحِيحُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي عن الحسن مرسلًا، في: الشمائل 2/ 31. وأسنده ابن الجوزي، في: الوفاء، من حديث أنس بسند ضعيف. انظر إحياء علوم الدين 3/ 1574. والدر المنثور 6/ 158. وحسنه الألباني بشواهده، في: غاية المرام 375. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب ما جاء في المزاح، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 596. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المزاح، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذي 8/ 158. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَينِ (¬1). وأرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - البَياض الذي حَوْلَ الحَدَقةِ. وقال لرَجُل احْتَضَنَه مِن وَرائِه: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» فقال: يا رسولَ اللهِ، تَجدُنِي إذا كاسِدًا. قال: «لَكِنَّكَ عِنْدَ (¬2) اللهِ لَسْتَ بكَاسِدٍ» (¬3). وهذا كلُّه من التَّأويلِ والمَعاريضِ، وقد سَمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَقا، فقال: «لَا أقولُ إلا حَقا» (¬4). ورُوِيَ عن شُرَيح، أنه خرَجَ من عندِ زياب (¬5)، وقد حَضَرَه الموتُ، فقيلَ له: كيف تَرَكْتَ الأمِيرَ؟ فقال: تَرَكْتُه يَأمُرُ وَيَنْهَى. فلما مات قيلَ له: كيف قُلْتَ ذلك؟ فقال: تَرَكْتُه يَأمُرُ بالصبْرِ، ويَنْهَى عن البُكاءِ والجَزَعِ. ويُرْوَى عن شَقِيق أنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرأةً، وتحيه أخْرَى، فقالوا: لا نُزَوِّجُك حتى تُطَلِّقَ امْرَأتَك. فقال: اشْهَدُوا أنِّي قد طَلَّقْتُ ثلاثًا. فَزَوَّجُوه. فأقامَ (¬6) على امْرأتِه، فقالوا: قد طَلقْتَ ثلاثا. قال: ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّه كان لي ثلاثُ نِسْوةٍ فطَلَّقْتُهُنَّ؟ قالوا: بَلَى. قال: قد طَلَّقْتُ ثلاثًا (¬7). قالوا: ما هذا أرَدْنا. فذكَرَ ذلك شَقِيق لعُثْمانَ، فجعَلَها ¬

(¬1) عزاه الحافظ العراقي للزبير بن بكار، في كتاب الفكاهة والمزاح من حديث زيد بن أسلم، ولابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم. انظر: إحياء علوم الدين 3/ 1574. (¬2) في الأصل: «عبد». (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 161. (¬4) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المزاح، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذي 8/ 157. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 340، 360. (¬5) في النسختين: «ابن زياد». وانظر: تاريخ الطبري 5/ 289. (¬6) في م: «فقام». (¬7) سقط من: م.

3623 - مسألة: (فإذا أكل تمرا

فَإذَا أكَلَا تَمْرًا، فَحَلَفَ لتخْبِرِنِّي بِعَدَدِ ما أكَلْتُ. أوْ: لتمَيِّزِنَّ نَوَى مَا أكَلْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــ نِيَّتَه (¬1). ويُرْوَى عن الشَّعْبِيِّ أنه كان في مَجْلِس، فنَظَرَ إليه رَجُلٌ ظَن أنه طَلَبَ منه التعْرِيفَ به، والثناءَ عليه، فقال الشعْبِي: إن له بَيتا وشَرَفًا. فقيلَ للشعْبِيِّ بعدَ ما ذَهَبَ الرَّجُلُ: أتَعْرفُه؟ قال: لا، ولكِنه نَظَرَ إلي. قيلَ: فكيف أثْنَيتَ عليه؟ قال: شَرَفُه أذُناهُ، وبَيتُه الذي يَسْكُنُه. ورُوِيَ أن رجُلًا أخِذَ علي شَرابٍ، فقيلَ له: مَنْ أنْتَ؟ فقال (¬2): أنا ابنُ الذي لا يَنْزِلُ الدَّهْرَ قِدْرُهُ … وإنْ نَزَلَتْ يومًا فسَوْفَ تَعُودُ تَرَى الناس أفْواجًا على بابِ دارِه … فمِنْهُم قِيامٌ حَوْلَها وقُعُودُ فظَنُّوه شَرِيفًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَه، ثم سألوا عنه، فإذا هو ابنُ البَاقلاني. وأخَذَ الخوارِجُ رافِضيًّا، فقالُوا له: تَبَرا من عثمانَ وعلي. فقال: أنا مِن علي ومن عثمان برئٌ. فهذا وشِبْهُه هو التأويلُ الذي لا يُعْذَرُ به الظالِمُ، ويَسُوغُ لغيرِه مَظْلومًا كان أو غيرَ مَظْلوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ ذلك في المُزَاح من غيرِ حاجَةٍ إليه. 3623 - مسألة: (فَإذَا أكَلَ تَمْرًا (¬3)، فَحَلَفَ: لتُخْبِرِنِّي بعَدَدِ مَا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 257. (¬2) البيت الأول في: الدر الفريد 2/ 274، والثاني في حاشيته. (¬3) سقط من: م.

فَإنَّهَا تُفْرِدُ كُلَّ نَوَاةٍ وَحْدَهَا، وَتَعُدُّ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَدَدٍ يَتَحَقَّقُ دُخُولُ مَا أكَلَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكَلت أو: لتمَيِّزِن نَوَى مَا أكلْتُ) ولَمْ تَعْلَمْ ذلك (¬1)، فَإنَّها تَعُدُّ لَهُ عَدَدًا يُعْلَمُ أنَّه قَدْ (¬2) أتَى عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ، مثلَ أن يُعْلَمَ أن عَددَ ذلك ما بينَ مائةٍ إلى ألفٍ، فتَعُدُّ ذلك كله، وكذلك إن قال: إنْ لم تُخبِريني بعَدَدِ حبِّ هذه الرُّمَّانةِ. ولا يَحْنَثُ إذا كانت نِيته ذلك، وإنْ نَوَى الإخْبارَ بكِمِّيَّته مِن غيرِ نَقْص ولا زِيَادَةٍ، لم يَبْرأ إلا بذلك. وإنْ أطْلَقَ، فقِياسُ المذهبِ أنَّه لا يَبْرأ إلا بذلك أيضًا؛ لأن ظاهِرَ حالِ الحالِفِ إرَادَتُهُ، فتَنْصَرِفُ يَمِينُه إليه، كالأسْماءِ العُرْفِيَّةِ التي تَنْصَرِفُ اليَمِينُ عليها إلى مُسَمَّاها [عُرْفًا، دُون مُسَماها] (¬3) حقيقةً (ولو أكَلَا تَمْرًا، فحَلَفَ لتُمَيِّزنَّ نَوَى ما أكلْتُ. فأفْرَدَتْ كُلَّ نَواةٍ وَحْدَها) فالحُكْمُ فيها كالتي قبلَها. ¬

(¬1) بعده في م: «فقال». (¬2) زيادة من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

3624 - مسألة: (وإن حلف ليقعدن على بارية في بيته، ولا يدخله بارية، فإنه يدخل قصبا فينسجه فيه)

وَإنْ حَلَفَ لَيَقْعُدَنَّ عَلَى بَارِيَّةٍ فِي بَيتهِ، وَلَا يُدْخِلُهُ بَارِيَّةً، فَإنَّهُ يُدْخِلُ قَصَبًا فَيَنْسِجُهُ فِيهِ. وَإنْ حَلَفَ لَيَطْبُخَن قِدْرًا بِرَطْلِ مِلْح، وَيَأكُلُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ طَعْمَ الْمِلْحِ، فَإِنَّهُ يَسْلُقُ بِهِ بَيضًا. وَإن حَلَفَ لَا يَأكُلُ بَيضًا وَلَا تُفَّاحًا، وَلَيَأكُلَنَّ مِمَّا فِي هَذَا الْوعَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3624 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ لَيَقْعُدَنَّ عَلَى بَارِيةٍ في بَيته، ولا يُدْخِلُه بَارِيَّةً، فإنَّه يُدْخِلُ قَصَبًا فَيَنْسِجُهُ فِيهِ) فيَجْلِس عَليهَا فِي الْبَيتِ، فَلَا يَحْنَثُ؛ لأنه قد قعَد على بَارِيَّةٍ في بَيته، ولم يُدْخِلْه بَارِيَّةً، إنَّما أدْخَلَه قَصَبًا، وليس هو بَاريةً. 3625 - مسألة: (وَانْ حَلَفَ لَيَطْبُخَنَّ قِدْرًا بِرَطْلِ مِلْحٍ، ويَأكلُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ طَعْمَ المِلْحِ، فَإنه يَسْلُقُ بِهِ بَيضًا) وَيَأكُلُ مِنْهُ، ولا يَحْنَثُ؛ لأنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ. 3626 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ لا يَأكُلُ بَيضًا ولَا تُفَّاحًا، ولَيَأكُلَنُّ

3627 - مسألة: (وإن كان على سلم، فحلف)

فَوَجَدَهُ بَيضًا وَتُفَّاحًا، فَإنهُ يَعْمَلُ مِنَ الْبَيضِ نَاطِفًا، وَمِنَ التُّفَّاحِ شَرَابًا. وَإنْ كَانَ عَلَى سُلَّمٍ، فَحَلَفَ لَا صَعِدْتُ إلَيكِ، وَلَا نَزَلْتُ إلَى هَذِهِ، وَلَا أقَمْتُ مَكَانِي سَاعَةً. فَلْتَنْزِلِ الْعُلْيَا وَتَصْعَدِ السُّفْلَى، فَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِمَّا في هذَا الوعَاء، فَوَجَدَ) فِيهِ (بَيضًا وَتُفَّاحًا، فَإَّنه يَعْمَلُ مِنَ البَيض نَاطِفًا (¬1)، ومِنَ التُّفاحِ شَرَابًا) ويَأكلُ مِنْهُ، وَلَا يَحْنَثُ؛ لأنَّ ذلك ليس ببَيض ولا تُفاح. 3627 - مسألة: (وَإنْ كَانَ عَلَى سُلَّم، فَحَلَفَ) لا نَزَلْتُ إلَيكِ، ولا صَعِدْتُ إلَى هذِهِ (وَلَا أقَمْتُ مَكَانِي سَاعَةً) يُريدُ إذا كان له امْرأتانِ؛ إحْدَاهُما في الغُرْفَةِ، والأخْرَى أسْفَل (فَلْتَنْزِلِ الْعُلْيَا، ولْتَصْعَدِ السُّفْلَى) ثُمَّ يَنْزِلُ إنْ شَاءَ أوْ يَصْعَدُ (فَتَنْحَل يَمِينُه) لأنَّ الصِّفَةَ لم توجَدْ. ¬

(¬1) الناطف: ضرب من الحلوى يصنع من اللوز والجوز والفستق.

3628 - مسألة: (وإن حلف لا أقمت عليه، ولا نزلت منه، ولا صعدت فيه. فإنه ينتقل)

وإنْ حَلَفَ لَا أقَمْتُ عَلَيهِ، وَلَا نَزَلْتُ مِنْهُ، وَلَا صَعِدْتُ فِيهِ. فَإنهُ يَنْتَقِلُ إلَى سُلم آخَرَ. وإنْ حَلَفَ لَا أقمْتُ فِي هَذَا الْمَاءِ، وَلَا خَرَجْتُ مِنْهُ، فَإن كَانَ جَارِيًا لَمْ يَحْنَثْ، إذَا نَوَى ذَلِكَ المَاءَ بِعَينهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3628 - مسألة: (وإنْ حَلَفَ لا أقَمْتُ عليهِ، ولا نَزَلْتُ مِنه، ولا صَعِدْتُ فِيهِ. فإنَّه يَنتقِلُ) منه (إلى سُلم آخَرَ) وتَنْحَلُّ يَمِينُه؛ لأنه لم يَقُمْ عليه، ولا صَعِدَ فيه، ولا نَزَلَ منه، إنَّما نَزَلَ أو صَعِدَ من غيرِه. 3629 - مسألة: (وإنْ حَلَفَ لا أقَمْتُ في هذا الماءِ، ولا خَرَجْتُ مِنه. وكَانَ المَاءُ جَارِيًا، لَمْ يَحْنَثْ) لأن الماءَ المحْلُوفَ عليه جَرَى، وصارَ في غيرِه، فلم يَحْنَثْ، سواء أقامَ أو خَرَجَ؛ لأنَّه إنَّما يَقِفُ في غيرِه أو يَخْرُجُ منه، وهذا الذي ذكَرَه القاضي في «المُجَردِ». وهو مذهبُ

3630 - مسألة: (وإن كان)

وَإنْ كَانَ وَاقِفًا، حُمِلَ مِنْهُ مُكْرَهًا. وإنِ استَحْلَفَهُ ظَالِم: مَا لِفُلَانٍ عِنْدَكَ وَدِيعَة؟ وَكانَتْ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَة، فَإِنَّهُ يَعْنِي بـ «مَا»: الَّذِي، وَيَبَرُّ فِي يَمِينهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأيمانَ عندَهم تُبْنَى على اللّفْظِ، لا على القَصْدِ، وكذلك قالوا: لا يَحْنَثُ في هذه الأيمانِ السَّابقةِ كلها. وقال القاضي في كتابٍ آخرَ: قِياسُ المذهبِ أنَّه يَحْنَثُ إلَّا أن يَنْويَ عَينَ الماءِ الذي هي فيه؛ لأن إطْلاقَ يَمِينه يَقْتَضِي خُروجَها من النَّهْرِ أو إقامَتَها فيه. 3630 - مسألة: (وإن كان) الماءُ (واقِفًا، حُمِلَ منه مُكْرَهًا) لِئلَّا يُنْسَبَ إليه فِعْل. 3631 - مسألة: (وَإنِ اسْتَحْلَفَهُ ظَالِم: مَا لِفُلانٍ عِنْدَكَ وَدِيعَة؟ وكانتْ له عِنْدَهُ وَدِيعَة، فَإنَّهُ يَعْنِي بـ «ما»: الذي، وَيبرُّ فِي يَمِينه) لأنَّه صَادِق.

3632 - مسألة: (وإن حلف ما فلان ههنا. وعنى موضعا معينا، بر في يمينه)

وَإنْ حَلَفَ لَهُ مَا فُلَان ههنَا. وَعَنَى مَوْضِعًا مُعَينًا بَرَّ فِي يَمِينهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3632 - مسألة: (وَإنْ حَلَفَ ما فلان ههُنَا. وعَنَى مَوْضِعًا مُعَينًا، بَرَّ فِي يَمِينه) لصِدْقِه في ذلك. وقد ذَكرْنا ما روَاه مُهَنَّا، أنَّه كان هو والمَرُّوذِيُّ عندَ أحمدَ، فجاءَ رجل يطْلُبُ المَرُّوذِيَّ، ولم يُرِدِ المَرُّوذِيُّ أن يُكَلِّمَه، فوضَعَ مُهَنَّا إصْبَعَه في كَفِّه، وقال: ليس المَرُّوذِيُّ ههُنا. يُرِيدُ ليس هو في كَفِّه، فلم يُنْكِرْه أبو عبدِ اللهِ. 3633 - مسألة: ولو سَرَقتْ مِنه امْرَأتُهُ شَيئًا، فَحَلَفَ بالطَّلاقِ: لَتَصْدُقِنِّي أسَرَقْتِ مِنِّي شَيئًا أمْ لا؟ وخَافَتْ أنْ تَصْدُقهُ، فإنَّها تَقُولُ: سَرَقتُ مِنْكَ ما سَرَقتُ منكَ. [وتعنى بـ «ما»: الذي سرقت مِنك] (¬1). ولو اسْتَحْلَفَه ظالم: هَلْ رَأْيتَ فُلانًا أو لا؟ وكان قد رَآهُ، فإَّنه يَعْني بـ «رَأيتُ»: ما ضَرَبْت رِئَتَه (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «رؤيته».

3634 - مسألة: (ولو حلف على امرأته: لا سرقت مني شيئا. فخانته في وديعته، لم يحنث)

وَإنْ حَلَفَ عَلَى امْرأتِهِ: لَا سَرَقْتِ مِنِّي شَيئًا. فَخَانَتْهُ فِي وَدِيعَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أنْ يَنْويَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3634 - مسألة: (ولو حَلَفَ على امْرَأتِهِ: لا سَرَقْتِ مِنِّي شَيئًا. فَخَانَتْهُ فِي وَدِيعَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ) لأنَّ الخِيانةَ لَيستْ بسرِقَة (إلَّا أن يَنْويَ) ذلك، فيَحْنَثُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو قال: إنْ كانتِ امرَأتِي في السُّوقِ فعَبْدِي حُر، وإن كان عَبْدِي في السُّوق فامْرَأتِي طالق. وكانَا جَميعًا في السوق، فقِيلَ: يَعْتِقُ العَبْدُ ولا تَطْلُقُ المرْأةُ؛ لأَنه لمَّا حَنِثَ في اليَمِينِ الأولَى، عَتَقَ العَبْدُ، فلم يَبقَ له في السوق عَبْد. ويَحْتَمِلُ أن يَحْنَثَ، بِناءً على قَوْلِنا في مَن حَلَفَ على مُعَين: تَعَلَّقَتِ اليَمِينُ بعَينه دُونَ صِفَتِه. كما لو قال: إن كَلَّمْتِ عَبْدِي سعدًا فأنْتِ طالق. ثم أعْتَقَه وكَلمَتْه، طَلُقَتْ، فكذلك ههُنا؛ لأنَّ يَمِينَه تَعَلقَتْ بعَبْدٍ مُعَيَّن. وإن لم يُرِدْ عَبْدًا بعَينه، لم تَطْلُقِ المرأةُ؛ لأنه لم يَبْقَ له عَبْد في السوق. ولو كان في فِيهَا تَمْرَة، فقال: أنتِ طَالق إن أكَلْتِها أو ألْقَيتهَا أو أمْسَكْتِهَا. فأكلَتْ بعْضَها وألْقَتْ بعْضَها، لم يَحْنَثْ، إلَّا على قَوْلِ مَن قال: إنَّه يَحْنَثُ بفِعْلِ بعْضِ المحْلُوفِ عليه. وإن نَوَى الجميعَ، لم يَحْنَثْ بحالٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ: سَألتُ أبي عن رَجُل قال لامْرَأته: أنْتِ طالق إنْ لم أجَامِعْكِ اليومَ، وأنْتِ طالق إنِ اغْتَسَلْتُ منكِ اليومَ. قال: يُصَلِّي العَصْرَ، ثم يُجامِعُها، فإذا غابَتِ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ، إنْ لم يَكُنْ أرادَ بقَوْلِه: اغْتَسَلْتُ. قبل (¬1) المُجَامَعَةِ. وقال في رجل قال لامْرَأتِه: أنتِ طالق، إن لم أطَأكِ في رَمضانَ. فسافَرَ مَسِيرةَ أرْبَعَةِ أيام أو ثَلاثةٍ، ثم وَطِئَها. فقال: لا يُعْجِبُنِي؛ لأنَّها حِيلَة، ولا تُعْجِبُنِي الحِيلَةُ في هذا ولا ¬

(¬1) في م: «منك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في غيرِه. قال القاضي: إنَّما كَرِهَ أحمدُ هذا، لأنَّ السفَرَ الذي يُبيحُ الفِطْرَ السَّفَرُ المُبَاح المقْصُودُ، وهذا لا يُقْصَدُ به غيرُ حَلِّ اليَمِينِ. والصَّحِيحُ أنَّ هذا تَنْحَل به اليَمِينُ، ويُبَاحُ به الفِطْرُ، لأنه سَفَر بَعِيد مُبَاح لِقَصْدٍ صَحِيح، فإن إرادةَ حَلِّ يَمِينه مِن المَقاصدِ الصحِيحةِ، وقد أبحْنا لمَن له طريقان، قصيرة لا يقْصُرُ فيها وبَعيدَة، أن يَسْلُكَ البَعِيدَةَ ليقْصُرَ فيها الصَّلاةَ ويُفْطِرَ، مع أنَّه لا قَصْدَ له سِوَى التَّرَخصِ، فههُنا أوْلَى.

باب الشك في الطلاق

بَابُ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ إِذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أوْ لَا، لَمْ تَطْلُقْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشَّكِّ في الطلاقِ (إذا شَكَّ هل طَلَّقَ أو لا، لم تَطْلُقْ) وجملَةُ ذلك، أنَّ مَن شَكَّ في طَلاقِه، لم يَلْزَمْه حُكْمُه. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي؛ لأنَّ النِّكاحَ ثابِتٌ بيَقِينٍ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ. والأصلُ في هذا حديثُ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلاةِ، فقال: «لَا يَنْصَرِف حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمَرَه بالبِناءِ على اليَقِينِ واطِّراحِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّكِّ. ولأنَّه شَكٌ طَرَأ على يَقِينٍ، فوَجَبَ اطِّرَاحُه، كما لو شَكَّ المُتَطَهِّرُ في الحَدَثِ. قال شيخُنا (¬1): والوَرَعُ الْتِزامُ الطَّلاقِ، فإن كان المَشْكُوكُ فيه طلاقًا رَجْعِيًّا، راجَعَ امْرأتَه إن كانت مَدْخُولًا بها، أو جَدَّدَ نِكاحَها إن كانت غيرَ مَدْخولٍ بها، أو (¬2) قد انْقَضَتْ عِدَّتُها. وإن شكَّ في طَلاقِ ثلاثٍ، طَلَّقَها واحدةً، وتَرَكَها؛ لأنَّه إذا لم يُطَلِّقْها فيَقِينُ نِكاحِه باقٍ، فلا تَحِلّ لغيرِه. وحُكِيَ عن شَرِيكٍ، أنَّه إذا شكَّ في طلاقِه، طلَّقَها واحدةً، ثم راجَعَها؟ لتَكُونَ الرَّجْعَةُ عن طَلْقَةٍ، فتكونَ صَحِيحَةً في الحُكْمِ. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ التَّلَفُّظَ بالرَّجْعَةِ مُمْكِنٌ مع الشَّكِّ في الطَّلاقِ، ولا يَفْتَقِرُ إلى ما تَفْتَقِرُ إليه العِباداتُ مِن النيةِ، ولأنَّه لو شَكَّ في طَلْقَتَينِ، فطَلَّقَ واحدةً، لصار شاكًّا في تَحْرِيمِها عليه، فلا تُفِيدُه الرَّجْعَة. ¬

(¬1) في: المغني 10/ 514. (¬2) في م: «و».

3635 - مسألة: (وإن شك في عدد الطلاق، بنى على اليقين)

وَإنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلاقِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ. وَقَال الْخِرَقيُّ: إِذَا طَلَّقَ، فَلَمْ يَدْرِ أواحِدَةً طَلَّقَ أم ثَلَاثًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤهَا حَتَّى يَتَيَقَّنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3635 - مسألة: (وإن شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلاقِ، بَنَى على اليَقِينِ) لِما ذَكَرْنَا (وقال الخِرَقِيُّ: إذا طَلَّقَ، فلم يَدْرِ واحدِةً طَلَّقَ أم ثَلاثًا) اعْتَزَلها، وعليه نَفَقَتُها ما دامَتْ في العِدَّةِ، فإن راجَعَها في العِدَّةِ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، ولمْ يَطَأها حتى يَتَيَقَّنَ كَمِ الطَّلاقُ؛ لأنَّه مُتَيَقِّنٌ للتَّحْرِيمِ، شَاكٌّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في التَّحْلِيلِ (¬1). وجملةُ ذلك، أنَّ مَن طلَّقَ وشكَّ في عَدَدِ الطَّلَقاتِ، بَنَى على اليَقِينِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ، في رجُل لَفَظَ بطَلاقِ امْرَأتِه، لا يَدْرِي واحدَةً أم ثلاثًا؟ فقال: أمَّا الواحِدَةُ فقد وَجَبَتْ عليه، وهي عندَه حتى يَسْتَيقِنَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، لأنَّ ما زاد على القَدْرِ الذي تَيَقَّنَه طلاقٌ مَشْكُوكٌ فيه، فلم يَلْزَمْه، كما لو شكَّ في أصْلِ الطَّلاقِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه تَبْقَى أحْكامُه أحْكامَ المُطَلِّقِ دُونَ الثَّلاثِ من إباحةِ الرَّجْعةِ. وإذا ارْتَجَعَ (¬2) عادت إلى ما كانت عليه قبلَ الطَّلاقِ. وقال الخِرَقِيُّ: يَحْرُمُ وَطْؤُها. ونحوُه قولُ مالكٍ، إلَّا أنَّه حُكِيَ عنه، أنَّه يَلْزمُه الأكثرُ مِن الطَّلاقِ المشْكُوكِ فيه. وقولُهما: مُتَيَقنٌ للتَّحْرِيمِ؛ لأنَّه تَيَقَّنَ وُجودَه بالطَّلاقِ، وشَكَّ في رَفْعِه بالرَّجْعَةِ، فلا يَرْتَفِعُ بالشَّكِّ، كما لو أصابَ ثَوْبَه نجَاسَةٌ، وشَكَّ في مَوْضِعِها، فإنَّه لا ¬

(¬1) إلى هنا ينتهي كلام الخرقي كما في المغني 10/ 514، 515. (¬2) في م: «رجع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَزُول حُكْمُ النَّجاسَةِ بغَسْلِ مَوْضعٍ مِن الثَّوْبِ، ولا يَزُولُ حتى يَغْسِلَه جَمِيعَه. وفارَقَ لُزُومَ النَّفَقَةِ، فإنَّها لا تَزُولُ بالطَّلْقَةِ الواحدةِ، فهي باقيةٌ؛ لأنَّها كانت باقِيَةً، وقد شَكَكْنا في زَوالِها. وظاهرُ قولِ سائرِ أصحابِنا، أنَّه إذا راجَعَها حَلَّتْ له. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وهو ظاهرُ كلامِ أحمدَ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ؛ لأنَّ التَّحْرِيمَ المُتَعَلِّقَ بما تَيَقَّنَه يَزُولُ بالرَّجْعَةِ يَقِينًا، فإنَّ التَّحْريمَ أنْواعٌ؛ تحريمٌ تُزِيلُه الرَّجْعَةُ، وتحْريمٌ يُزِيلُه نِكاحٌ جديدٌ، وتحريم يُزِيلُه نِكاحٌ بعد زَوْجٍ وإصابةٍ، ومَن تَيَقَّنَ الأدْنَى لا يثْبُتُ فيه حُكْمُ الأعْلَى، كَمَن تَيَقَّنَ الحَدَثَ الأصْغَرَ، لا يَثْبُت فيه حُكْمُ الأكْبرِ، ويَزُولُ تحْريمُ الصَّلاةِ بالطَّهارةِ الصُّغْرى، ويُخالِفُ الثَّوْبَ، فإنَّ غَسْلَ بعْضِه لا يَرْفعُ ما تَيَقَّنَه مِن النَّجاسَةِ، فنَظِيرُ مَسألتِنا أن يَتَيقَّنَ

وَكَذَلِكَ قَال فِي مَنْ حَلَف بِالطَّلَاقِ لَا يَأكُلُ تَمْرَةً، فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ، فَأكَلَ مِنْهُ وَاحِدَةً، مُنِعَ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أنَّهَا لَيسَتِ الَّتِي وَقَعَتِ الْيَمِينُ عَلَيهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ حِنْثُهُ حَتَّى يَأكُلَ التَّمْرَ كُلَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نجاسةَ كُمِّ الثَّوبِ ويَشُكَّ في نجاسةِ سائرِه، فإنَّ حُكْمَ النَّجاسةِ فيه يَزُولُ بغَسْلِ الكمِّ وحْدَه، كذا هاهُنا، ويُمْكِنُ مَنْعُ حُصولِ التَّحْريم هاهُنا ومَنْعُ تَيَقُّنِه، فإنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُباحَة لزَوْجِها، في ظاهرِ المذهبِ، فما هو إذًا مُتَيَقِّنٌ للتَّحْريمِ، بل هو مُتَيَقِّنٌ للإِباحَةِ، شاكٌّ في التَّحْريم (وكذلك قال في مَن حَلَفَ لا يَأكُلُ تَمْرَةً، فوَقَعَتْ في تَمْرٍ، فأكلَ منه واحدةً، مُنِعَ مِن وَطْءِ امْرأتِه حتى يتَحَقَّقَ (¬1) أنَّها ليستِ التي وَقَعَتِ اليَمِينُ عليها، ولا يتَحَقَّقُ حِنْثُه حتى يَأكُلَ التَّمْرَ كُلَّه) وهذه المسألةُ لا تَخْلُو مِن أحْوالٍ ثلاثٍ؛ أحدُها، أنَّ يَتَحَقَّقَ أكلَ التَّمرةِ المحْلوفِ عليها؛ إمَّا بأن ¬

(¬1) في م: «يعلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْرِفَها بعَينها أو صِفَتِها، أو يأكُلَ التَّمْرَ كُلَّه، أو الجانبَ الذي وَقَعَتْ فيه كلَّه، فيَحْنَثُ بلا خلافٍ بينَ أهلِ العِلْمِ؛ لأنَّه أكلَ التَّمرةَ المحْلُوفَ عليها. الثَّاني، أنَّ يتَحَقَّقَ أنَّه لم يَأكُلْها، إمَّا بأن لا يأكُلَ مِنَ التَّمْرِ شيئًا، أو يأكُلَ شيئًا يَعْلَمُ أنَّه غيرُها، فلا يَحْنَثُ أيضًا بلا خلافٍ، ولا يَلْزَمُه اجْتِنابُ زَوْجَتِه. الثَّالثُ، أكلَ مِن التمرِ شيئًا، واحدةً أو أكثَرَ، إلى أن لا تَبْقَى منه إلَّا واحدة، ولم يَدْرِ أكَلَها أو لا؟ فهذه مسْألَةُ الخِرَقِيِّ، ولا يتَحَقَّقُ حِنْثُه؛ لأنَّ الباقِيَةَ يَحْتَمِلُ أنَّها المحْلوفُ عليها، ويَقِينُ النِّكاحِ ثابِتٌ، فلا يَزُولُ بالشكِّ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأي. فعلى هذا، يكونُ حُكْمُ الزُّوْجِيَّةِ باقِيًا في لُزُومِ نَفَقَتِها، وكُسْوَتِها، ومَسْكَنِها، وسائِرِ أحْكامِها، إلَّا في الوَطْءِ؛ فإنَّ الخِرَقِيَّ قال. يُمْنَعُ مِن وَطْئِهَا، لأنَّه شاكٌّ في حِلِّها، فحَرُمَتْ عليه، كما لو اشْتَبَهَتْ عليه امْرأتُه بأجْنَبيَّةٍ. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ أنَّها باقِيَةٌ على الحِلِّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأَصْلَ الحِلُّ، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ، كسائرِ أحْكام النِّكاحِ، ولأنَّ النِّكاحَ باقٍ حُكْمًا (¬1)، فأثْبَتَ الحِلَّ، كما لو شَكَّ هل طَلَّقَ أو لا؟ وإن كانت يَمِينُه: ليَأكُلَنَّ هذه التَّمرةَ. فلا يتَحَقَّقُ بِرُّه حتى يَعْلَمَ أنَّه أكَلَها. ¬

(¬1) في م: «حكمه».

3636 - مسألة: (وإن قال لامرأتيه: إحداكما طالق. ينوي واحدة بعينها، طلقت وحدها، فإن لم ينو، أخرجت المطلقة بالقرعة)

وَإنْ قَال لِامْرَأتيهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ. يَنْوي وَاحِدَةً مُعَينَّةً، طَلُقَتْ وَحْدَهَا، وَإنْ لَمْ يَنْو، أُخْرِجَتِ الْمُطَلَّقَةُ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3636 - مسألة: (وإن قال لامْرأتَيه: إحْداكما طالِقٌ. يَنْوي واحِدَةً بعَينها، طَلُقَتْ وَحْدَهَا، فإن لم يَنْو، أُخْرِجَتِ المُطَلَّقَةُ بالقُرْعَةِ) أمَّا إذا نَوَى واحدةً بعَينها، فإنَّها تَطْلُقُ وحدَها؛ لأَنه عَيَّنهَا بنِيَّته، فأشْبَهَ ما لو عَيَّنهَا بلَفْظِه، فإن قال: إنَّما أرَدْتُ فُلانَةَ. قُبِلَ منه؛ لأنَّ ما قاله مُحْتَمِلٌ، ولا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِه. وأمَّا إن لم يَنْو واحدةً بعَينها، فإنَّها تُخْرَجُ بالقُرْعَةِ. نَصَّ عليه في روايةِ جماعةٍ. وبه قال الحسنُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال قَتَادَةُ، ومالكٌ: يَطْلُقْنَ جميعًا. وقال حَمَّادُ بنُ أبي سليمانَ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ: له أن يَخْتارَ أيَّتَهُنَّ شاءَ، فَيُوقِعَ عليها الطَّلاقَ؛ لأَنه يُمْكِنُ (¬1) إيقاعُه ابْتِداءً وتَعْيينُه، فإذأ أوْقَعَه ولم يُعَينه، مَلَكَ تَعْيِينَه؛ لأنَّه اسْتِيفَاءُ ما مَلَكَه. ولَنا، أنَّ ما ذَكَرْناه مَرْويٌّ ¬

(¬1) في م: «لا يمكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عليٍّ، وابنِ عباس، رَضِيَ الله عنهما، ولا مُخالِفَ لهما في الصَّحابةِ، ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ بُنِيَ على التَّغْليب والسِّرايَةِ (¬1)، فتَدْخُلُه القُرْعَةُ كالعِتْقِ، وقد ثَبَتَ الأصْلُ بكَوْنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أقْرَعَ بينَ العَبيدِ السِّتَّةِ (¬2). ولأنَّ الحَقَّ لواحِدٍ غيرِ مُعَيَّن، فوَجَبَ تَعْيِينُه بالقُرْعَةِ، كالحُرِّيَّةِ في العَبِيدِ إذا أعْتَقَهُم في مَرَضِه ولم يَخْرُجْ جمِيعُهم مِن الثُّلُثِ، وكالسَّفَرِ بإحْدَى نِسائِه، والبِدايَةِ بإحْداهُنَّ في القَسْمِ، وكالشَّرِيكَينِ إذا اقْتَسَما، ولأنَّه طَلَّقَ واحدةً مِن نِسائِه، لا يُعْلَمُ عَينُها، فلم يَمْلِكْ تَعْيِينَها باخْتِيارِه، كالمَنْسِيَّةِ. وأمَّا الدَّليلُ على أنَّهُنَّ لا يَطْلُقْنَ جميعًا، أنَّه أضافَ الطَّلاقَ إلى واحدةٍ، فلم يَطْلُقِ الجميعُ، كما لو عَيَّنهَا. قولُهم: إنَّه كان يَمْلِكُ الإِيقاعَ والتَّعْيِينَ. قُلْنا: مِلْكُه للتَّعْيِينِ بالإِيقاعِ لا يَلْزَمُ أن يَمْلِكَه بعدَه، كما لو طَلَّقَ واحدةً بعَينها وأُنْسِيَها. فإن مات قبلَ القُرْعَةِ والتَّعْيينِ، أَقرَعَ الوَرَثَةُ بَينَهُنَّ، فمَن وقَعَتْ عليها قُرْعَةُ الطَّلاقِ، فحُكْمُها في المِيراثِ حُكْمُ ما لو عَيَّنهَا ¬

(¬1) في الأصل: «الرواية». (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 124، 19/ 110.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّطْليقِ. [نَصَّ أحمدُ على هذا. وقال أبو حنيفةَ: يُقْسَمُ الميراثُ بينَ الكلِّ، لتَسَاويهنَّ في احتمالِ الاستحقاقِ، ولا يَخْرُجُ الحَقُّ] (¬1) عنهُنَّ (¬2). وقال الشافعيُّ: يُوقَفُ المِيراثُ المُختَصُّ بهنَّ حتى يَصْطَلِحْنَ عليه؛ لأنه لا يُعْلَمُ المُسْتَحِقُّ منْهُنَّ. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، قولُ عليٍّ (¬3)، رَضِيَ الله عنه، ولأنَّهُنَّ قد تَساوَينَ، ولا سَبِيلَ إلى التَّعْيينِ، فوَجَبَ المصِيرُ إلى القُرْعَةِ، كمَنْ أعْتَقَ عَبِيدًا في مَرَضِه لا مال له سِوَاهم، وقد ثَبَتَ الحُكْمُ فيهم بالنَّصِّ؛ لأنَّ في تَوْرِيثِ الجميعِ تَوْرِيثَ مَن لا يَسْتَحِقُّ يَقِينًا، والوَقفُ لا إلى غايَةٍ حِرْمانٌ للمُسْتَحِقِّ يَقِينًا، والقُرْعَةُ يُسْلَمُ بها (¬4) مِن هذين المحْذُورَين، ولها نَظيرٌ في الشَّرْعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «منهن». (¬3) يأتي في المسألة 3636. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال لنِسائِه: إحْداكُنَّ طالقٌ غدًا. طَلُقَتْ وَاحدَةٌ مِنْهُنَّ إذا جاء الغدُ، وَأُخْرِجَت بِالقُرْعَةِ. فإن مات قبلَ الغَدِ، وَرِثْنَه كُلُّهُنَّ. وإن ماتَتْ إحْداهُنَّ وَرِثَها؛ لأنَّها ماتَتْ قبلَ وُقوعِ الطَّلاقِ، فإذا جاء غدٌ، أُقْرِعَ بينَ المَيِّتةِ والأحْياءِ، فإن وَقَعَتِ القُرْعَةُ على المَيتةِ، لم يَطْلُقْ شيءٌ مِن الأحْياءِ، وصارَتْ كالمُعَينَّةَ بقولِه: أنت طالق غدًا. وقال القاضي: قياس المذهبِ أن يَتَعَيَّنَ الطَّلاقُ في الأحْياءِ، فلو كانتا اثْنَتَينِ، فماتَتْ إحْداهما، طَلُقَتِ الأخْرَى (¬1)، كما لو قال لامْرأتِه وأجْنَبِيَّةٍ: إحْداكُما طالق. وهو قولُ أبي حنيفةَ. والفَرْقُ بينَهما ظاهِرٌ؛ فإنَّ الأجْنَبِيَّةَ ليست مَحَلًّا للطَّلاقِ وَقْتَ قوْلِه، فلا يَنْصَرِفُ قولُه إليها، وهذه قد كانت مَحَلا للطَّلاقِ، فإرادَتُها بالطَّلاقِ مُمْكِنَة، وإرادَتُها بالطَّلاقِ كإرادَةِ الأخْرَى، وحُدُوثُ الموتِ بها لا يَقْتَضِي في حَقِّ الأخْرَى ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طلاقًا، فتَبْقَى على ما كانت عليه. والقولُ في تَعْليقِ العِتْقِ، كالقَوْلِ في تَعْليقِ الطَّلاقِ، فإذا جاء غدٌ وقد باع بعْضَ العَبْدِ، أقْرَعَ بينَه وبينَ العَبْدِ الآخَرِ، فإن وقَعَتْ على المَبِيعِ، لم يَعْتِقْ منه شيءٌ. وعلى قولِ القاضي، يَنْبَغِي أن يَتَعَيَّنَ العِتْقُ في الباقِينَ، وكذلك يَنْبَغِي أن يكونَ مذهبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ له تَعْيِينَ العِتْقِ عندَهم بقولِه، فبَيعُ أحَدِهم صَرْفٌ للعِتْقِ عنه، فَيَتَعَيَّنُ في الباقِينَ. فإن باعَ نِصْفَ العبدِ، أقْرَعَ بينَه وبينَ الباقِينَ، فإن وَقَعَت قُرْعَةُ العِتْقِ عليه، عَتَقَ نِصْفُه، وسَرَى إلى باقِيه إن كان المُعْتِقُ مُوسِرًا، وإن كان مُعْسِرًا، لم يَعْتِقْ إلّا نِصْفُه. فصل: وإذا قال: امرأتيِ طالق، وأمَتى حُرَّةٌ. وله نِساءٌ وإماءٌ، ونَوَى مُعَينةً، انْصَرَفَ إليها، وإن نوَى واحدةً مُبْهَمَة، فهي مُبْهَمَة فيهِنَّ، وإن لم يَنْو شيئًا، فقال أبو الخَطَّاب: يَطْلُقُ نِساؤه كُلُّهُنَّ، ويَعْتِقُ إماؤه، لأنَّ الواحِدَ المُضافَ يُرادُ به الكُلُّ، كقولِه تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1). و: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيَامِ} (¬2). ولأنَّ ذلك ¬

(¬1) سورة إبراهيم 34، وسورة النحل 18. (¬2) سورة البقرة 187.

3637 - مسألة: (وإن طلق واحدة وأنسيها، فكذلك عند أصحابنا)

وَإن طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَينهَا وَأُنْسِيَهَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرْوَى عن ابنِ عباس. وقال الجماعَةُ: يقَعُ على واحدةٍ مُبْهَمَةٍ، وحُكْمُه حُكْمُ ما لو قال: إحْداكُنَّ طالقٌ، وإحْداكُنَّ حُرَّةٌ. لأنَّ لَفْظَ الواحدِ لا يُسْتَعْمَلُ في الجمعِ إلَّا مَجازًا، والكلامُ يُحْمَلُ على حقيقَتِه ما لم يَصْرِفْه عنها دليلٌ، ولو تَساوَى الاحْتمالان، لوجَبَ قَصْرُه على الواحدةِ؛ لأنَّها اليَقِينُ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ فيما زادَ عليها بأمْرٍ مَشْكوكٍ فيه. وهذا أصَحُّ. واللهُ أعلمُ. 3637 - مسألة: (وإن طَلَّقَ واحِدَةً وَأُنْسِيَها، فكذلك عندَ أصحابِنا) أكثرُ أصحابِنا على أنَّه إذا طَلَّقَ امرأةً مِن نِسائِه وأُنْسِيَها، أنَّها تُخْرَجُ بالقُرْعَةِ، فيَثْبُتُ حُكْمُ الطَّلاقِ فيها، وتَحِل له الباقِيات. وقد روَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إسْماعيلُ بنُ سعيدٍ عن أحمدَ ما يدُلُّ على أنَّ القُرْعَةَ لا تُسْتَعْملُ هاهُنا لمعْرفةِ الحِلِّ، وإنَّما تُسْتَعْملُ لمعْرفَةِ المِيراثِ، فإنَّه قال: سألْتُ أحمدَ عن الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرأةً مِن نِسائِه، ولا يَعْلَمُ أيَّتهُنَّ طلَّقَ؟ قال: أكْرَهُ أن أقولَ في الطَّلاقِ بالقُرْعَةِ. قلتُ: أرَايتَ إن ماتَ هذا؟ قال: أقولُ بالقُرْعَةِ. وذلك لأنَّ القُرْعَةَ تَصِيرُ على المالِ. وجَماعَةُ مَن رَوَى عنه القُرْعَةَ في المُطَلَّقَةِ المَنْسِيَّةِ إنَّما هو في التَّوْرِيثِ، فأمَّا في الحِلِّ فلا يَنْبَغِي أن يَثْبُتَ بالقُرْعَةِ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، فالكلامُ إذًا في المسْألةِ في شَيئَينِ؛ أحدُهما، في استعْمالِ القُرْعَةِ في المَنْسِيَّةِ في التَّوْريثِ. والثَّاني، في اسْتِعْمالِها فيها للحِلِّ. أمَّا الأوَّلُ فوَجْهُه ما روَى عبدُ اللهِ بنُ حُمَيدٍ (¬1)، قال: سألْتُ أبا جَعْفَرٍ، عن رَجُل قَدِمَ مِن خُراسَانَ، وله أرْبَعُ نِسْوَةٍ، [قَدِمَ البَصْرَةَ] (¬2) فَطَلَّقَ إحْداهُنَّ، ونَكَح، ثم مات لا يَدْرِي الشهودُ أيَّتهُنَّ طَلَّقَ؟ فقال: قال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: أقْرِعْ بينَ الأرْبَعِ، وأنْدِرْ (¬3) مِنْهُنَّ واحِدَةً، ¬

(¬1) عبد الله بن حميد بن عبيد الأنصاري الكوفي، ثقة، روى عن عطاء والشعبي وأبي جعفر، وروى عنه أبو أسامة وأبو نعيم. التاريخ الكبير 5/ 71. الجرح والتعديل 5/ 37. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «أنذر». وأندر: أي أسقط.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واقْسِمْ بينَهنَّ المِيراثَ. ولأنَّ الحُقوقَ إذا تَساوَتْ على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ التَّمْييزُ إلَّا بالقُرْعَةِ، صَحَّ اسْتِعْمالُها، [كالشركاءِ في القِسْمَةِ، والعبيدِ في الحريةِ. فأمَّا القُرْعةُ في الحلِّ في المَنْسِيَّةِ، فلا يَصِحُّ اسْتِعْمالُها] (¬1)؛ لأنَّها اشْتَبَهَتْ عليه زَوْجَتُه بأجْنَبِيَّةٍ، فلم تَحِلَّ له إحْداهُما بالقُرْعَةِ، كما لو اشْتَبَهَتْ بأجْنَبِيَّةٍ لم يَكُنْ له عليها عَقْدٌ، ولأنَّ القُرْعَةَ لا تُزِيلُ التَّحْريمَ عن المُطَلَّقةِ، ولا تَرْفَعُ الطلاقَ عمَّن وقعَ عليها (¬2)، ولاحْتِمالِ كونِ المُطَلَّقةِ غيرَ مَن وقَعَتْ عليها القُرْعَةُ، ولهذا لو ذَكَرَ أنَّ المُطَلَّقَةَ غيرُها، حَرُمَتْ عليه، ولو ارْتَفَعَ التَّحْريمُ أو زال الطَّلاقُ، لَمَا عادَ بالذِّكْرِ، فيَجِبُ بقَاءُ التَّحْريمِ بعدَ القُرْعَةِ، كما كان قبلَهَا. وقد قال الخِرَقِي، في مَن طَلَّقَ امْرأتَه، فلمِ يَدْرِ واحدةً طَلَّقَ أم ثلاثًا؟ ومَن حَلَفَ بالطَّلاقِ لا يَأكُلُ تَمْرَةً، فوَقَعَتْ في تمْرٍ، فأكَلَ منه واحدةً: لا تَحِلُّ له امْرأتُه، حتى يَعْلَمَ أنَّها ليستِ التي وقَعَتِ اليَمِينُ عليها. فحَرَّمَهَا مع أنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ، ولم يُعارِضْه يَقِينُ التَّحْريمِ، فهاهنا أوْلَى. وكذلك الحُكْمُ [في كل مَوضعٍ وقَعَ] (¬3) الطَّلاقُ على امْرأةٍ بعَينها، ثم اشْتَبَهَتْ بغيرِها؛ مثلَ أن يَرَى امْرَأةً ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «عليه». (¬3) في م: «في من أوقع».

وَالصَّحِيحُ أنَّ الْقُرْعَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا هاهنَا، وَتَحْرُمَانِ عَلَيهِ جَمِيعًا، كَمَا لَو اشْتَبَهَتِ امْرَأتهُ بِأجْنَبِيَّةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوَلِّيَةً، فيقولُ: أنتِ طالقٌ. ولا يَعْلَمُ عَينَها مِن نِسائِه، فإنَّ جميعَ نِسائِه يَحْرُمْنَ عليه، حتى يَعْلَمَ المُطَلَّقَةَ، ويُؤْخَذُ بنَفَقَةِ الجميعِ؛ لأنَّهُنَّ مَحْبُوسات عليه. وإن أقْرَعَ بينَهُنَّ، لم تُفِدِ القُرْعَةُ شيئًا، ولا يَحِلُّ لمَن وقَعَتْ عليها القُرْعَةُ التَّزَوُّجُ (¬1)؛ لأنَّها يَجوزُ أن تكونَ غيرَ المُطَلّقَةِ. وقال أصحابُنا: إذا أقْرَعَ بَينَهُنَّ، فخَرَجَتِ القُرْعَةُ على إحداهُنَّ، ثَبَتَ حُكْمُ الطَّلاقِ فيها، فحَلَّ لها النِّكاحُ بعدَ قَضاءِ عِدَّتِها، وأُبِيحَ للزَّوْجِ مَن سِواها، كما لو طَلَّقَ واحدةً غيرَ مُعَينَّةَ. واحْتَجُّوا بما ذَكَرْنا مِن حديثِ عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، ولأنَّها مُطَلَّقَة لم تُعْلَمْ بِعَينها، فأشْبَهَ ما لو قال: إحْداكُنَّ طالق. ولم يُرِدْ واحدةً بعَينها. ولأنَّه إزَالةُ أحَدِ المِلْكَين المَبْنِيَّين على التَّغْلِيبِ والسِّرايَة، أشْبَهَ العِتْقَ. قال شيخُنا: (والصَّحِيحُ أنَّ القُرْعَةَ لا مَدْخَلَ لها هاهُنا) لِما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ (وتَحْرُمان عليه، كما لو اشْتَبَهَتِ امْرأتُه بأجْنَبِيَّةٍ) وفارَقَ ما قاسُوا عليه، فإنَّ الحَقَّ لم يَثْبُت لواحدٍ بعَينه، فجعَلَ الشَّرْعُ القُرْعَةَ مُعَيَّنةً، فإنَّها تَصْلُحُ للتَّعْيِينِ، وفي مسألتِنا، الطَّلاقُ واقعٌ على مُعَينَّةٍ لا مَحَالةَ، والقُرْعَةُ لا تَرْفَعُه عنها، ولا تُوقِعُه على غيرِها، ولا يُؤْمَنُ وُقُوعُ القُرْعَةِ على غيرِها، واحْتِمالُ وُقوعِ القُرْعَةِ على غيرِها كاحْتِمالِ وُقوعِها عليها، بل هو أظْهَرُ مِن غيرِها، فإنَّهُنَّ إذا كُنَّ ¬

(¬1) في م: «التزويج».

3638 - مسألة: فعلى قول أصحابنا (إن تبين أن المطلقة غير التي وقعت عليها القرعة)

وَإنْ تَبَيَّنَ أنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيرُ الّتِي خَرَجَتْ عَلَيهَا الْقُرْعَةُ، رُدَّتْ إِلَيهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ، إلا أن تَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَتْ، أو تَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْبَعًا، فاحْتِمالُ وُقُوعِه في واحدةٍ مِنهنَّ بعَينها أنْدَرُ مِن احْتِمال وُقُوعِه في واحدةٍ مِن ثلاثٍ، وكذلك لو اشْتَبَهَتْ أُخْتُه بأجْنَبِيَّةٍ، أو مَيتَةٌ بمُذَكَّاةٍ، أو زَوْجَتُه بأجْنَبِيَّةٍ، أو حَلَفَ بالطَّلاقِ لا يأكُلُ تَمْرَةً، فَوقَعَتْ في تَمْر، وأشْباهُ ذلك ممَّا يطُولُ ذِكْرُه، لا تَدْخُلُه قُرْعَة، فكذا هاهُنا. وأمَّا حديثُ عليٍّ، فهو في المِيراثِ، لا في الحِلِّ، وما نَعْلَمُ بالقَوْلِ بها في الحِلِّ مِنَ الصَّحابةِ قائِلًا. 3638 - مسألة: فَعلى قولِ أصحابِنا (إن تَبَيَّنَ أنَّ المُطَلَّقَةَ غَيرُ التي وَقَعَت عليها القُرْعَةُ) بأن يَذْكُرَ ذلك، تَبَيَّنَ أنَّها كَانَتْ مُحَرَّمَةً عليهِ، ويَكُونُ وُقُوعُ الطَّلاقِ مِن حينَ طَلَّقَ، لا مِنِ حِينَ ذَكَرَ. وقَوْلُه في هذا مَقْبُولٌ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نَفْسِه، وتُرَدُّ إليه التي خرَجَتْ عليها القُرْعَةُ؛ لأننا ظَهَرَ لَنا أنَّها غيرُ مُطَلَّقَةٍ، والقُرْعَةُ ليستْ بطَلاقٍ صَريح ولا كِنايَةٍ، فإن لم تَكُنْ تَزَوَّجَتْ (رُدَّتْ إليه) وقُبِلَ قوْلُه في هذا؛ لأنَّه أمْرٌ مِن جِهَتِه، لا يُعْرَفُ إلا مِن قِبَلِه. 3639 - مسألة: (إلَّا أن تَكُونَ قد تَزَوَّجَتْ، أو تَكُونَ بحُكْمِ

وَقَال أبو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ: تَطْلُقُ الْمَرْأتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حاكِمٍ) لأنها إذا تَزَوَّجَتْ، فقد تَعَلَّقَ بها حَقُّ الزَّوْجِ الثاني، فلا يُقْبَلُ قَوْلُه فِي فسْخِ نِكَاحِه، والقرْعَةُ مِن جِهَةِ الحاكِمِ بالفرْقَةِ لا يُمْكِنُ الزَّوْجَ رَفْعُها، فَتَقَعُ الفُرْقَةُ بِالزَّوْجَينِ. قال أحمدُ في رِوايةِ المَيمونِيِّ: إذا كان له أرْبَعُ نِسْوةٍ، فطَلَّقَ واحدَةً مِنْهُنَّ، ولم يَدْرِ أيتهُن طَلَّقَ؟ يُقْرَعُ بَينَهنَّ. فإن وقعتِ القُرْعَة على واحدةٍ، ثم ذَكَرَ، فقال: هذه تَرْجِعُ إليه، والتي ذَكَرَ أنَّها التي طَلَّقَ يَقَعُ الطَّلاقُ عليها، فإن تَزَوَّجَتْ، فهذا شيءٌ قد مَرَّ، فإن كان الحاكِم أقْرَعَ بينَهُنَّ، فلا أُحِبُّ أنْ تَرْجِعَ إليه؛ لأنَّ الحاكمَ في ذلك أكثر منه (وقال أبو بكر وابن حامدٍ: تَطْلُقُ المرْأتان) ولا تَرْجِعُ إليه واحدةٌ منهما؛ لأنَّ الثَّانيةَ حَرُمَتْ بقَوْلِه، وتَرِثُه إن مات، ولا يَرِثُها، ويَجِئُ على قِياسِ قوْلِهما، أن تَلْزَمَه نَفَقَتُها، ولا يَحِلَّ وَطْؤُها. والأولَى بالقُرْعَةِ. فصل: إذا قال: هذه المُطَلَّقَةُ. قبِلَ منه؛ لِما ذَكَرْنا. وإن قال: هذه المُطَلَّقَةُ، بل هذه. طَلُقَتا؛ لأنَّه أقَرَّ بطَلاقِ الأولَى، فقُبِلَ إقْرارُه، [ثُم قُبِلَ إقْراره] (¬1) بطَلاقِ الثَّانيةِ، ولم يُقْبَلْ إضْرابه عن إقْرارِه بطلاقِ الأولَى. وكذلك لو كُنَّ ثلاثًا، فقال: هذه بل هذه، بل هذه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلُقْنَ كلهُنَّ. وإن قال: هذه أو هذه، بل هذه. طَلُقَتِ الثَّالثةُ، وإحْدَى الأولَيَين. وإن قال: طَلَّقْتُ هذه، بل هذه أو هذه. طَلُقَتِ الأولَى، وإحْدَى الأخْرَيَين. وإن قال: أنتِ طالق، وهذه أو هذه. فقال القاضي: هي كذلك. وذكَرَ أنَّه قَوْلُ الكِسائِي (¬1). وقال محمدُ بنُ الحسنِ: تَطْلُقُ الثانيةُ، ويَبْقَى الشَّكُّ في الأولَى والثَّالثةِ. ووَجه الأوَّلِ أنَّه عَطفَ الأولَى على الثَّانيةِ، بغيرِ شَك، ثم فَصَلَ بينَ الثَّانيةِ والثَّالثةِ بحرفِ الشّك، فيَكُونُ الشكُّ فيهما. ولو قال: طَلَّقْتُ هذه أو هذه، [وهذه] (¬2). طَلُقَتِ الثَّالثَةُ، وكان الشَّكُّ في الأولَيَين. ويَحْتَمِلُ في هاتَينِ المَسْألَتَين أن يَكونَ الشَّكُّ في الجميعِ؛ لأنَّه في الأولَى أتَى بحَرْفِ الشَّكِّ بعدَهما، فيعودُ إليهما، وفي المسْألَةِ الثَّانيةِ عَطف الثَّالثةَ على الشَّكِّ. فعلى هذا، إذا قال: طَلَّقْتُ هذه [وهذه، أو] (¬3) هذه. طُولِبَ بالبَيانِ، فإن قال: هي الثَّالثةُ. طَلُقَتْ وحدَها. وإن قال: لم أطَلِّقْها. طَلُقَتِ الأولَيانِ. وإن لم يُبيِّنْ، أُقْرِعَ بينَ الأولَيَينِ والثَّالثَةِ. قال القاضي في ¬

(¬1) علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي أبو الحسن، المعروف بالكسائي النحوي، أحد أئمة القراء، له «معاني القرآن» و «الآثار في القراءات»، توفي سنة تسع وثمانين ومائة. تاريخ بغداد 11/ 403 - 415. الأنساب 10/ 418 - 422. (¬2) سقط من: م. (¬3) في النسختين: «أو هذه و». والمثبت كما في المغني 10/ 525.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «المُجَرَّدِ»: وهذا أصَحُّ. [فإن قال: طَلَّقْتُ هذه أو هذه وهذه. أُخِذَ بالبيانِ، فإن قال: هي الأولَى. طَلُقَتْ وحدَها] (¬1). وإن قال: ليستِ الأولَى. طَلُقَتِ الأخِيرَتانِ، كما لو قال: طَلَّقْتُ هذه أو هاتَين. وليس له الوَطْءُ قبلَ التَّعْيِينِ، فإن فَعَلَ، لم يَكُنْ تَعْيِينًا. وإن ماتَت إحْداهما، لم يَتَعَيَّنِ الطَّلاقُ في الأخْرَى. وقال أبو حنيفةَ: يتَعَيَّنُ الطَّلاقُ في الأخْرَى؛ لأنَّها ماتَتْ قبلَ ثُبُوتِ طلاقِها. ولَنا، أنَّ مَوْتَ إحْداهُما أو وَطْأها، لا يَنْفِي احْتِمال كَوْنِها مُطَلَّقَةً، فلم يَكُنْ تَعْيِينًا لغيرِها، كمرَضِها. وإن قال: طَلَّقْتُ هذه وهذه، [أو هذه] (1) وهذه. فالظَّاهِرُ أنَّه طَلَّقَ اثْنَتَين، لا يَدْرِي أيَّهما، الأولَيانِ أم الآخِرَتان؟ كما لو قال: طَلَّقْتُ هاتَين أو هاتَين. فإن قال: هما الأولَيَان. تَعَيَّنَ الطلاق فيهما. وإن قال (¬2): لم أُطَلِّقِ (¬3) الأولَيَين. تَعَيَّن الآخِرَتان. وإن قال: إنَّما أشُكُّ في طَلاقِ الثَّانيةِ والآخِرَتَينِ (¬4). طَلُقَتِ الأولَى، وبَقِيَ الشَّكُّ في الثّلاثِ. ومتى فَسَّرَ كلامَه بشيءٍ مُحْتَمِل، قُبِلَ منه. فصل: فإن مات بعْضُهُنَّ أو جَمِيعُهُنَّ، أقْرَعْنا بينَ الجميعِ، فمَن خَرَجَتِ القُرْعَةُ لها، لم يُوَرَّثْها (¬5). وإن مات بعْضُهُن قبلَه وبعْضهُنَّ بعدَه، فَخَرَجَتِ القُرْعَةُ لِميِّتةٍ قَبْلَه، حَرَمْناه مِيراثَها، وإن خَرَجَتْ لمَيِّتةٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «يطلق». (¬4) في م: «الأخريين». (¬5) في م: «نورثها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَه، حَرَمْناها مِيراثَه، والباقياتُ يَرِثُهُنَّ ويَرِثْنَه. فإن قال الزَّوجُ بعدَ مَوْتِها: هذه التي طَلَّقْتُها. أو قال في غيرِ المُعَيَّنة: هذه التي أرَدْتُها. حُرِمَ مِيرَاثَها؛ لأنَّه يُقِرُّ على نَفْسِه، ويَرِثُ الباقياتِ، سَواءٌ صَدَّقَه ورَثتهُنَّ أو كَذَّبُوه؛ لأنَّ عِلْمَ ذلك إنَّما يُعْرَفُ مِن جِهَتِه، ولأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ بينَهما، وهم يَدَّعُونَ طلاقَه إيَّاها، والأصْلُ عدَمُه. وهل يُسْتَحْلَفُ في ذلك؟ فيه رِوايَتان، فإن قُلْنا: يُسْتَحْلَفُ. فنَكَلَ، حَرَمْناه مِيراثَها؛ لنُكُولِه، ولم يَرِثِ الأخْرَى؛ لإِقْرارِه بطلاقِها. فإن مات فقال وَرَثته لإحْداهُنّ: هذه المُطَلَّقَةُ. فأقَرَّتْ، أو أقَرَّ ورَثتها بعدَ مَوْتِها، حَرَمْناها مِيراثَه، وإنْ أنْكَرَتْ، أو أنكَرَ ورَثَتُها، فقِياسُ ما ذَكَرْناه أن القولَ قولُها؛ لأنَّها تَدَّعِي بَقاءَ نِكاحِها، وهم يَدَّعُونَ زَواله، والأصْلُ معها، فلا يُقْبَلُ قولُهم عليها إلَّا بِبَينةٍ. وإن شَهِدَ اثْنان مِن وَرَثَتِه أنّه طَلّقَها، قُبِلَتْ شَهادَتُهما، إذا لم يَكُونا ممَّن يَتَوَفَّرُ عليهما مِيراثُها، ولا على مَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُما له، [كأمِّهِما وجَدَّتِهما] (¬1)؛ لأنَّ مِيراثَ إحْدَى الزَّوْجاتِ لا يَرْجِعُ إلى وَرَثَةِ الزَّوجِ، وإنَّما يتَوَفّرُ على ضَرائرِها. وإنِ ادَّعَتْ إحْدَى الزَّوجاتِ أنَّه طَلَّقَها طلاقًا تَبِينُ به، فأنْكَرَها، فالقولُ قولُه، وإن مات لم تَرِثْه؛ لإقْرارِها بأنَّها لا تَسْتَحِقُّ ميراثَه، فقَبِلْنا قولَها فيما عليها، دُونَ ما لها، وعليها العِدَّةُ؟ لأنَّا لم نَقْبَلْ قوْلَها فيما عليها، وهذا التَّفْريعُ فيما إذا كان الطلاقُ يُبينُها، فإن كان رَجْعِيًّا، ومات في عِدَّتِها، أو ماتت، ¬

(¬1) في الأصل: «كأمها وجدتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرِثَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه. فصل: إذا كان له أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فطَلَّقَ إحْداهُنَّ، ثم نَكَحَ أُخْرَى بعدَ قَضاءِ عِدَّتِها، ثم مات، ولم يُعْلَمْ أيَّتهُنَّ طَلَّقَ، فَلِلَّتي تَزَوَّجَها رُبْعُ ميراثِ النِّسْوَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. ولا خِلافَ فيه بينَ أهلِ العلمِ. ثم يُقْرَعُ بينَ الأرْبَعِ , فأيَّتهُنَّ خَرَجَتْ قُرْعَتُها، حُرِمَتْ، ووَرِثَتِ الباقياتُ نَصَّ عليه أحمدُ أيضًا. وذهَبَ الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وعَطاءٌ الخُرَاسَانِي، وأبو حنيفةَ، إلى أنَّ البَاقِيَ بينَ الأرْبَعِ. وزَعَمَ أبو عُبَيدٍ أنَّه قولُ أهلِ الحجازِ وأهلِ العراقِ جميعًا. وقال الشافعيُّ: يُوقَفُ البَاقِي بينَهُنَّ حتى يَصْطَلِحْنَ. ووَجْهُ الأقوالِ (¬1) ما تَقَدَّمَ. وقد قال أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ، في رجُلٍ له أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلقَ واحدةً منْهُنَّ ثلاثًا، ووَاحِدَةً اثْنَتَين، وواحدةً واحدةً، ومات على أثَرِ ذلك، ولا يُدْرَى أيَّتهُنَّ طَلَّقَ ثلاثًا، وأيَّتهُنَّ طَلَّقَ اثْنَتَين، وأيَّتهُنَّ (¬2) واحدةً: يُقْرَعُ بينَهُنَّ، فالتي أبانَها تَخْرُجُ، ولا مِيراثَ لها. هذا فيما (¬3) إذا مات في عِدَّتِهِنَّ، وكان طلاقه في صِحَّتِه، فإنه لا يُحْرَمُ الميراثَ إلَّا المُطَلَّقَةُ ثلاثًا، [والباقيتان رَجْعِيَّتان] (¬4)، يَرِثْنَه في العِدَّةِ، ويَرِثُهُنَّ (¬5). ومَن انْقضَتْ عِدَّتُها مِنهُنَّ، لم ¬

(¬1) في م: «الأول». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) زيادة من: الأصل. (¬4) في م: «الباقيات رجعيات». (¬5) في م: «يرثن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرِثْه ولم يَرِثْها، ولو كان طَلاقُه في مَرَضِه الذي مات فيه، لوَرِثَه الجميعُ في العِدَّةِ، وفيما بعدَها قبلَ التَّزْويجِ رِوايَتان. فصل: إذا طَلَّقَ واحدةً لا بِعَينها، [أو بِعَينها] (¬1) فأُنْسِيَها (¬2)، فأنْقَضَتْ عِدَّةُ الجميعِ، فله نِكاحُ خامِسَةٍ قبلَ القُرْعَةِ. وخَرَّجَ ابنُ حامدٍ وَجْهًا، في أنَّه لا يَصِحُّ نِكاحُ الخامِسَةِ؛ لأنَّ المُطَلَّقَةَ في حُكْمِ نِسائِه، بالنِّسْبَةِ إلى وُجُوبِ الإنْفاقِ عليها، وحُرْمَةِ النِّكاحِ في حَقِّها. ولا يَصِحُّ ما قاله؛ لأنَّنا عَلِمْنا أنَّ مِنْهُنَّ واحدةً بائنًا منه، ليستْ في نِكاحِه، ولا في عِدَّةٍ مِن نِكاحِه، فكيفَ تكونُ زَوْجَتَه! وإنَّما الإِنْفاقُ عليها لأجْلِ حَبْسِها ومَنْعِها مِن التَّزوُّجِ بغيرِه؛ لأجْلِ اشْتباهها. ومتى عَلِمْناها بعَينها، إمَّا بتَعْيينه، أو بقُرْعَةٍ، فعِدَّتُها مِن حِينَ طَلَّقَها، لا مِن حِينَ عَيَّنهَا. وذَكَرَ أبو حنيفةَ، وبعضُ أصْحابِ الشافعيِّ، أنَّ عِدَّتَها مِن حينِ التَّعْيِينِ. وهذا فاسِدٌ؛ فإنَّ الطَّلاقَ وَقَعَ حينَ إيقاعِه، وثَبَتَ حُكْمُه في تَحْرِيمِ الوَطْءِ، وحِرْمانِ الميراثِ مِن الزَّوجِ، وحِرْمانِه منها قَبْلَ التَّعْيينِ، فكذلك العِدَّةُ، وإنَّما التعْيينُ تَبْيِينٌ لِمَا كان واقعًا. فإن مات الزَّوْجُ قبلَ التَّعْيِينِ، فعلى الجميعِ عِدَّةُ الوَفاةِ، في قولِ الشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وعطاء الخُراسَانِيِّ. قال أبو عُبَيدٍ: وهو قولُ أهلِ الحجازِ والعراقِ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أنَّها باقية على النِّكاحِ، والأصْلُ بَقاؤه، فتَلْزَمُها عِدَّتُه. والصَّحِيحُ أنَّه يَلْزَمُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فإن نسيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كُلَّ واحدةٍ أطوَلُ الأجَلَينِ، مِن عِدَّةِ الوَفاةِ وعِدَّةِ الطَّلاقِ، لَكِنَّ عِدَّةَ الطلاق مِن حِينَ طَلَّقَ، وعِدَّةَ الوَفاةِ مِن حِينِ مَوْتِه؛ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ مِنْهُنَّ يَحْتَمِلُ أن تكونَ عليها عِدَّةُ الوَفاةِ، ويَحْتَمِلُ أنَّها المُطَلَّقَةُ، فعليها عِدَّةُ الطَّلاقِ، فلا تَبْرأُ يَقِينًا إلَّا بأطْولِهما. وهذا في الطَّلاقِ البائِنِ، فأمَّا الرَّجْعِيَّةُ، فعليها عِدَّةُ الوفاةِ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّها زَوْجَةٌ. فصل: إذا ادَّعَتِ المرأةُ أنَّ زوْجَها طَلَّقَها، فأنْكَرَها، فالقولُ قولُه؛ لأنَّه مُنْكِر، ولأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ، فإن كان لها بما ادَّعَتْه بَيِّنة، قُبلَتْ، ولا يُقْبَلُ فيه إلَّا عَدْلان. ونَقَلَ ابنُ مَنْصُورٍ عن أحمدَ، أنَّه سُئِلَ: أَتَجُوزُ شَهادةُ رَجُلٍ وامْرأتَين في الطَّلاقِ؟ قال: لا (¬1) واللهِ. إنَّما كان كذلك؛ لأنَّ الطَّلاقَ ليس بمالٍ، ولا المقصودُ منه المالُ، ويَطّلِعُ عليه الرِّجالُ في غالِبِ الأحْوالِ، فلم يُقْبَلْ فيه إلَّا عَدْلان، كالحدودِ والقِصَاصِ. فإن عُدِمَتِ البَيِّنةُ، استُحْلِفَ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين. نَقَلَها أبو طالبٍ عن أحمدَ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِنَّ اليَمينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬2). وقولُه: «اليَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ» (¬3). ولأنَّه يَصِحُّ من الزَّوْجِ بَذْلُه، فيُسْتَحْلَفُ فيه، كالمَهْرِ. ونَقَل ابنُ مَنْصُورٍ عنه: لا يُسْتَحْلَفُ في الطَّلاقِ [والنِّكاحِ] (¬4)؛ لأنَّه لا يُقْضَى فيه بالنُّكُولِ، فلا يُسْتَحْلَفُ فيه، كالنِّكاحِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬3) تقدم تخريجه عند الدارقطني، والبيهقي في 16/ 252. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ادَّعَى زَوْجيَّتها فأنْكَرَتْه. فإنِ اخْتَلَفا في عَدَدِ الطَّلاقِ، فالقولُ قولُه، لِما ذَكَرْناه. فعلى هذا، إذا طَلّقَ ثلاثًا، وسَمِعَتْ ذلك، فأنْكَرَ، أو ثَبَتَ ذلك عندَها بقولِ عَدْلَينِ، لم يَحِلَّ لها تَمْكِينُه مِن نَفْسِها، وعليها أن تَفِرَّ منه ما اسْتطاعَتْ، وتَمْتَنِعَ منه إذا أرادَها، وتَفْتَدِيَ منه إن قَدَرَت، ولا تَزَيَّنَ له، ولا تَقْرَبَه، وتَهْرُبَ إن قَدَرَتْ، ولا تُقِيمَ معه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلم. قال (¬1) جابرُ بنُ زيدٍ، وحمادُ بنُ أبي سليمانَ، وابنُ سِيرِينَ: تفِرُّ منه ما اسْتطاعَتْ، وتَفْتَدِي منه بكُلِّ ما يُمْكِنُ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وأبو يُوسفَ: تَفِرُّ منه. وقال مالكٌ: لا تَتَزَيَّنُ له، ولا تُبْدِي له شيئًا مِن شَعَرِها، ولا يُصِيبُها إلَّا مُكْرَهَةً. ورُوِيَ عن الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، والنَّخَعِيِّ: يُسْتَحْلَفُ، ثم يَكونُ الإِثمُ عليه. والصَّحِيحُ ما قاله الأوَّلُونَ، لأنَّ هذه تَعْلَمُ أنَّها أجْنَبِيّةٌ منه، مُحَرّمَة عليه، فوجب عليها الامْتِناعُ والفِرارُ منه، كسائِرِ الأجانبِ. وهكذا لو ادَّعَى نِكاحَ امْرأةٍ كَذِبًا، وأقامَ بذلك شاهِدَىْ زُورٍ، فحَكَمَ له الحاكِمُ بالزَّوْجِيَّةِ، أو لو تَزَوَّجَها تَزْويجًا باطلًا، فسُلِّمَتْ إليه بذلك، فالحُكمُ في هذا كالحُكْمِ في المُطَلَّقَةِ ثلاثًا. فصل: ولو طَلَّقَها ثلاثًا، ثم جحَدَ طَلاقَها، لم تَرِثْه. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال قَتادَةُ، وأبو حنيفةَ، وأبو يُوسفَ، والشافعي، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الحسنُ: تَرِثُه؛ لأنَّها في حُكْمِ الزَّوْجاتِ ظاهِرًا. ولَنا، أنَّها تَعْلَمُ ¬

(¬1) في الأصل: «فإن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّها أجْنَبِيّةٌ، فلم تَرِثْه، كسائِرِ الأجْنَبِيَّاتِ. وقال أحمدُ في رِوايةِ أبي طالبٍ: تَهْرُبُ منه، ولا تَتَزَوَّجُ حتى يُظْهِرَ طلاقَها، وتَعْلَمَ ذلك، يَجِئُ فيَدَّعِيها، فتُرَدُّ عليه وتُعَاقَبُ، وإن مات ولم يُقِرَّ بِطَلاقِها، لا تَرِثُه، لا تأخُذُ ما ليس لها، تَفِرُّ منه، ولا تَخْرُجُ مِن البَلَدِ، ولكن تَخْتَفِي في بَلَدِها. قيل له: فإنَّ بعضَ النَّاسِ قال: تَقْتُلُه، هي بمَنْزِلَةِ مَن يَدْفَعُ عن نَفْسِه. فلم يُعْجِبْه ذلك. فَمَنَعَها مِن التَّزَوُّجِ قبلَ ثُبُوتِ طَلاقِها؛ لأنها في ظاهِرِ الحُكْمِ زَوْجَةُ هذا المُطَلِّقِ، فإذا تَزَوَّجَتْ غيرَه، وَجَبَ عليها في ظاهِرِ الشرْعِ (¬1) العُقُوبَةُ، والرّدُّ إلى الأوَّلِ، ويَجْتَمِعُ عليها زَوْجان، هذا بظاهرِ الأمْرِ، وذلك بباطِنِه، ولم يَأذَنْ لها في الخُرُوجِ مِن البَلَدِ؛ لأنَّ ذلك يُقَوِّي التُّهْمَةَ في نُشُوزِها، ولا في قَتْلِه قَصْدًا؛ لأنَّ الدّافِعَ عن نَفْسِه لا يَقْتُلُ قَصْدًا، فأمَّا إن قَصَدَتِ الدَّفْعَ عن نَفْسِها فآلَ إلى نَفْسِه، فلا إثْمَ عليها، ولا ضَمانَ في الباطِنِ، فأمَّا في الظَّاهِرِ، فإنَّها تُؤْخَذُ بحُكْمِ القَتْلِ، ما لم يَثْبُتْ صِدْقُها. فصل: قال أحمدُ: إذا طَلَّقَها ثلاثًا، فشَهِدَ أرْبَعَة أنَّه وَطِئَها، أُقِيمَ عليه الحَدُّ. إنَّما أوْجَبَه، لأنَّها صارَت بالطَّلاقِ أجْنَبِيَّةً، فهي كسائرِ الأجْنَبِيَّاتِ، بل هي أشَدُّ تَحْريمًا؛ لأنَّها مُحَرّمَةٌ وَطْأً ونِكاحًا. فإن جَحَدَ طَلاقَها وَوَطِئَها، ثم قامَتِ البَيِّنةُ بطلاقِه، فلا حَدَّ عليه. وبهذا قال الشَّعْبِيُّ، ومالكٌ، وأهلُ الحجازِ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، ورَبِيعةُ، ¬

(¬1) في م: «الحكم».

3640 - مسألة: (وإن طار طائر، فقال: إن كان هذا غرابا ففلانة طالق، وإن لم يكن غرابا ففلانة طالق. ولم يعلم حاله، فهي كالمنسية)

وَإنْ طَارَ طَائِرٌ، فَقَال: إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَفُلَانَةُ طَالِقٌ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَفُلَانَةُ طَالِق. وَلَمْ يَعْلَمْ حَالهُ، فَهِيَ كَالْمَنْسِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعي، وَأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ جَحْدَه لطَلاقِه يُوهِمُنا أنَّه نَسِيَه، وذلك شُبْهَةٌ في دَرْءِ الحَدِّ عنه، ولا سَبِيلَ لنا إلى عِلْم مَعْرِفَتِه بالطَّلاقِ حالةَ وَطْئِه إلَّا بإقْرارِه بذلك. فإن قال: وَطِئْتُها عالِمًا بأننِي كنتُ طَلَّقْتُها ثلاثًا. كان إقْرارًا منه بالزِّنَى، فيُعْتَبَرُ فيه ما يُعْتَبَرُ في الإِقْرارِ بالزَّنَى. 3640 - مسألة: (وإن طار طائِرٌ، فقال: إن كان هذا غُرابًا ففُلانَةُ طالقٌ، وإن لم يَكُنْ غُرابًا ففُلانَةُ طالقٌ. ولم يَعْلَمْ حاله، فهي كالمنْسِيَّةِ) والحُكْمُ فيها على ما ذَكَرْنا فيها؛ لأنَّها في مَعْناها، والخِلافُ فيها على ما ذَكَرنا.

3641 - مسألة: (وإن قال: إن كان غرابا ففلانة طالق، وإن كان حماما ففلانة طالق)

وإنْ قَال: إِنْ كَانَ غرَابًا فَفلَانَةُ طَالِقٌ، وَإنْ كَان حَمَامًا فَفُلَانَة طَالِق. لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3641 - مسألة: (وإن قال: إن كان غُرابًا ففُلانَةُ طالق، وإن كان حَمامًا ففُلانَةُ طالق) لَمْ يُحْكَمْ بحِنْثِه في واحِدَةٍ منهما؛ لأنَّه مُتَيَقِّنٌ للنِّكاحِ، شاكٌّ في الحِنْثِ، فلا يَزُولُ عن يَقِينِ النِّكاحِ بالشكِّ؛ لأنه يَحْتَمِلُ أنَّه غيرُهما. فصل: إذا رَأى رجُلان طائِرًا، فحَلَفَ أحَدُهما بالطلاقِ أنَّه غُراب، وحَلَفَ الآخَرُ أنَّه حَمَامٌ. فطارَ، ولم يَعْلَما حاله، لم يُحْكَمْ بحِنْثِ واحدٍ منهما؛ لأنَّ يقينَ النِّكاحِ ثابِتٌ، ووُقوعَ الطَّلاقِ مَشْكوكٌ فيه. فإنِ ادَّعَتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ امرأةُ أحَدِهما حِنْثَه فيها، فالقَوْلُ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ معه (¬1)، واليَقِينَ في جانِبِه. فصل: فإن قال أحَدُ الرَّجُلَينِ: إن كان غُرَابًا فامْرَأتُه طالق ثلاثًا. وقال الآخَرُ: إن لم يَكُنْ غُرابًا فامْرأتُه طالقٌ ثلاثًا. فطار، ولم يَعْلَما حاله، فقد حَنِثَ أحَدُهما، لا بعَينه، ولا يُحْكَمُ به في حَقِّ واحدٍ منهما بعَينه، بل تَبْقَى في حَقِّه أحْكامُ النِّكاحِ، مِنَ النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ والسَّكَنِ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يَقِينُ نِكاحِه باقٍ، ووُقوعُ طلاقِه مَشْكوكٌ فيه، فأمَّا الوَطْءُ، فذَكَر القاضي، أنَّه يَحْرُمُ عليهما؛ لأنَّ أحَدَهما حانِثٌ يَقِينًا، فامْرأتُه مُحَرَّمَة عليه، وقد أشْكَلَ، فَحَرُمَ عليهما جميعًا، كما لو حَنِثَ في إحْدَى امْرأتَيه لا بعَينها. وقال أصحابُ الرَّأي، والشافعيُّ: لا يَحْرُمُ على واحدٍ منهما وَطْءُ امْرأتِه؛ لأنَّه مَحْكُومٌ ببقاءِ نِكاحِه، [ولم يُحْكَمْ بوقُوعِ الطَّلاقِ عليه، وفارَق الحانثَ في إحْدَى امْرأتَيه، فإنَّه معلومٌ زوالُ نِكاحِه] (¬2) عن إحْدَى زَوْجَتَيه. قُلْنا: إنَّما تَحَقَّقَ حِنْثُه في واحدةٍ غيرِ مُعَينةٍ، وبالنَّظَرِ إلى كلِّ واحدةٍ مُفْرَدَةٍ، فَيَقِينُ نِكاحِها باقٍ، وطَلاقُها مَشْكوكٌ فيه، لَكِنْ لمَّا تَحَقَّقْنا أنَّ إحْداهما حَرامٌ، ولم يُمْكِنْ تَمْييزُها، حَرُمَتا عليه جميعًا، وكذلك هاهنا قد عَلِمْنا أنّ أحَدَ هذَين الرجُلَينِ قد طَلُقَتِ امْرأتُه، وحَرُمَتْ عليه، وتَعَذَّرَ التمْيِيزُ، فيَحْرُمُ الوَطْءُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

3642 - مسألة: (فإن قال)

وَإنْ قَال: إِنْ كَانَ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ. فَقَال آخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَلَمْ يَعْلَمَاهُ، لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنِ اشْتَرَى ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهما، ويَصِيرُ كما لو تَنَجَّسَ أحَدُ الإناءَين لا بعَينه، فإنَّه يَحْرُمُ اسْتِعْمالُ كلِّ واحدٍ منهما، سواءٌ كانا لرَجُلَين أو لرَجُل واحدٍ. وقال مَكْحُولٌ: يُحْمَلُ الطَّلاقُ عليهما جميعًا. ومال إليه أبو عُبَيدٍ. فإنِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّه عَلِمَ الحال، وأنَّه لم يَحْنَثْ، دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى. ونحوَ هذا قال عَطاءٌ، والشَّعْبِي، والزُّهْرِيُّ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعي؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يُمْكِنُ صِدْقُه فيما ادَّعاه. وإن أقَرَّ كلُّ واحدٍ منهما أنَّه الحانِثُ، طَلُقَتْ زَوْجتاهُما بإقْرارِهما على أنْفُسِهما. وإن أقَرَّ أحَدُهما، حَنِثَ وحدَه. فإنِ ادّعَتِ امرأةُ أحَدِهما عليه الحِنْثَ، فأنْكَرَ، فالقولُ قولُه. وهل يَحْلِفُ؟ على رِوايَتَين. 3642 - مسألة: (فإن قال) أحَدُهما: (إن كان غُرابًا فعَبْدِي حُر. وقال الآخَرُ: إن لم يَكُنْ غُرَابًا فعَبْدِي حُر. فطار، ولم يَعْلَما) حاله (لم يُحْكَمْ بعِتْقِ واحدٍ مِن العَبْدَين) لأنّ الأصْلَ بَقاءُ الرِّقِّ (فإنِ

أحَدُهُمَا عَبْدَ الْآخَرِ، أُقْرِعَ بَينَهُمَا حِينَئِذٍ. وَقَال الْقَاضِي: يَعْتِقُ الَّذِي اشْتَرَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتَرَى أحَدُهما عبدَ الآخَرِ) بعدَ أن أنْكَرَ حِنْثَ نَفْسِه، عَتَقَ الذي اشْتَرَاه؛ لأنَّ إنْكارَه حِنْثَ نَفْسِه (¬1) اعْتِرَافٌ منه بحِنْثِ صاحِبِه، وإقْرارٌ منه بعِتْقِ الذي اشْتَراه. وإنِ اشْتَرَى مَن أقرَّ بحُرِّيته، عَتَقَ عليه. وإن لم يَكُنْ منه إنْكارٌ ولا اعْتِرافٌ، فقد صارَ العَبْدان في يَدِه؛ أحَدُهما حُر، لا يُعْلَمُ عَينُه، فيُرْجَعُ في تَعْيِينه إلى القُرْعَةِ. وهو قولُ أبي الخَطَّابِ (وقال القاضي: يَعْتِقُ الذي اشْتَراه) في الموْضِعَينِ؛ لأنَّ تَمَسُّكَهُ بعَبْدِه اعْتِرافٌ منه بِرقِّه وحُرِّيَّةِ صاحِبِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّه لم يَعْتَرِفْ لَفْظًا، ولا فَعَلَ ما يَلْزَمُ منه الاعْتِرافُ، فإنَّ الشَّرْعَ سَوَّغَ له إمْساكَ عبْدِه مع الجَهْلِ، اسْتِنادًا إلى الأصْلِ، فكيف يكونُ مُعْتَرِفًا مع تَصْريحِه بأنَّني لا أعْلَم الحُرَّ منهما! وإنَّما اكْتَفَينا في إبْقاءِ رِقِّ عبدِه باحْتِمالِ الحِنْثِ في حَقِّ صاحِبِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا صار العَبْدان له، وأحَدُهما حُرٌّ لا بعَينه، صار كأنهما كانا له، فأعْتَقَ أحَدَهما وحدَه، فيُقرَعُ بينَهما حِينَئذٍ. فإن كان الحالِفُ واحدًا، فقال: إن كان غرابًا فعَبْدِي حُرٌّ، وإن لم يَكنْ غرابًا فأمَتِي حرَّة. ولم يَعْلَمْ حاله، فإنه يُقْرَعُ بينَهما، فيَعْتِقُ أحَدُهما، فإنِ ادَّعَى أحَدُهما أنَّه الذي أُعْتِقَ، أو ادَّعَى كل واحدٍ منهما ذلك، فالقولُ قولُ السَّيِّدِ مع يَمِينه. فصل: فإن قال: إن كان غُرابًا فنِساؤه طوالِقُ، وإن لم يَكُنْ غُرابًا فعَبِيدُه أحْرارٌ. ولم يَعْلَمْ حاله، مُنِعَ مِن التَّصرُّفِ في المِلْكَين حتى يبينَ، وعليه نَفَقَةُ الجميعِ. فإن كان غُرابًا، طَلَّقَ نِساؤه، ورَقَّ عَبِيدُه. فإنِ ادَّعَى العَبِيدُ أنَّه لم يَكنْ غُرابًا لِيَعْتِقوا، فالقول قولُ السَّيِّدِ. وهل يَحلِفُ؟ يُخَرَّجُ على رِوايَتَين. وإن قال (¬1): لم يكُنْ غُرابًا. عَتَقَ عَبِيدُه، ولم تَطْلُقِ النِّساءُ. فإنِ ادَّعَين أنَّه كان غرابًا لِيَطْلَّقْنَ، فالقولُ قولُه. وفي تَحْليفِه وَجْهان. وكل مَوْضع قلْنا: يُسْتَحْلَفُ. فنَكَلَ، قُضِيَ عليه بنُكولِه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: لا أعْلَمُ ما الطَّائِرُ. فقياسُ المذهبِ أن يُقْرَعَ بينَهما، فإن وَقَعَتِ القُرْعَةُ على الغُرابِ، طَلُقَ النِّساءُ، ورَقَّ العَبيدُ، وإن وَقَعَتْ على العَبِيدِ، عَتقُوا، ولم تَطلُقِ النِّساءُ. وهذا قولُ أبي ثَوْرٍ. [وقال] (¬1) أصحابُ الشافعيِّ: إن (¬2) وقَعَتِ القُرْعَةُ على العَبيدِ، عتَقُوا، وإن وَقَعَتْ على النِّساءِ، لم يَطْلُقْنَ، ولم يَعْتِقِ العَبِيدُ؛ لأَنَّ القُرْعَةَ لها مَدْخَلٌ في العِتْقِ، لكَوْنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أقْرَعَ بينَ العَبِيدِ السِّتَّةِ (¬3)، ولا مدْخَلَ لها في الطَّلاقِ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ مثلُ ذلك فيه، ولا يُمْكِنُ قِياسُه على العِتْقِ؛ لأنَّ الطَّلاقَ حَلُّ قَيدِ النِّكاحِ، والقُرْعَةُ لا تَدْخُلُ في النِّكاحِ، [والعِتْقَ] (¬4) حَلُّ المِلْكِ، والقُرْعَةُ تَدْخُلُ في تَمْييزِ الأمْلاكِ. قالوا: ولا يُقْرَعُ بينَهم إلَّا بعدَ مَوْتِه. قال شيخُنا (¬5): ويُمْكِنُ أن يُقال على هذا: إنَّ ما لا يَصْلُحُ للتَّعْيِينِ في حَقِّ الموْروثِ، لا يَصْلُحُ في حَقِّ الوارثِ، كما لو كانتِ اليَمِينُ في زَوْجَتَين، ولأنَّ الإماءَ مُحرَّماتٌ على الموروثِ تَحْريمًا لا تُزِيلُه القُرْعَةُ، فلم يُبَحْنَ ¬

(¬1) في الأصل: «وبه قال». (¬2) في الأصل: «وإن». (¬3) تقدم تخريجه في 17/ 124، 19/ 110. (¬4) في النسختين: «والقرعة». والمثبت من المغني 10/ 519. (¬5) في: المغني 10/ 519.

3643 - مسألة: (إذا قال لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق)

وَإنْ قَال لِامْرأتِهِ وَأجْنَبِيَّةٍ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ. أوْ قَال: سَلْمَى طَالِقٌ. وَاسْمُ امْرَأتِهِ سَلْمَى، طَلُقَت امْرَأتُهُ، فَإِنْ أرَادَ الْأجْنَبِيَّةَ، لَمْ تَطْلُقِ امْرَأتُهُ، وَإنِ ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للوارثِ بها، كما لو تَعَيَّنَ العِتْقُ فِيهنَّ. 3643 - مسألة: (إذا قال لامْرَأتِه وأجْنَبِيَّةٍ: إحْداكُما طالقٌ) أو قال لحَماتِه: ابْنَتُكِ طَالقٌ (أو قال: سَلْمَى طالقٌ. واسْمُ امْرَأتِه سَلْمَى، طَلُقَتِ امْرَأتُه) لأنَّه لا يَمْلِكُ طلاقَ غيرِها، ولأنَّه إزالةُ مِلْكٍ، أشْبَهَ ما لو باعَ ماله ومال غيرِه، صَحَّ في مالِه دُونَ غيرِه. فإن قال: أرَدْتُ الأجْنَبِيَّةَ. لم يُصَدَّقْ. قال أحمدُ في رجُلٍ تَزَوَّجَ امرأةً، فقال لحَماتِه: ابْنَتُكِ طالقٌ. وقال: أردْتُ ابْنَتَكِ الأخْرَى التي ليستْ بزَوْجَتِي: فلا يُقْبَلُ منه. وقال في رِوايةِ أبي داودَ، في رجلٍ له امْرأتانِ، اسْماهُما فاطِمَةُ، ماتتْ إحْدَاهما، فقال: فاطمةُ طالقٌ. يَنْوي المَيِّتةَ، فقال: المَيِّتةُ تَطْلُقُ! قال أبو داودَ: كأنَّه أراد في الروايةِ الأولَى أن لا يُصَدِّقَه في الحُكْمِ، وفي الثَّانيةِ يُدَيَّنُ. وقال القاضي، فيما إذا نَظَرَ إلى امْرأتِه وأجْنَبِيَّةٍ، فقال: إحْداكما طالقٌ (¬1). وقال: أرَدْتُ الأجْنَبِيَّةَ. فهل يُقْبَلُ؟ على رِوايَتَين. وقال الشافعيُّ: يُقْبَلُ هاهُنا، ولا يُقْبَلُ فيما إذا قال: سَلْمَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طالقٌ. وقال: أرَدْتُ أجْنَبِيَّةً اسْمُها سَلْمَى؛ لأنَّ سَلْمَى لا يتَناولُ الأجْنَبِيَّةَ بصَرِيحِه، بل مِن جِهَةِ الدَّليلِ، وقد عارَضَه دليلٌ آخَرُ، وهو أنَّه لا تَطْلُقُ غيرُ زَوْجَتِه، فصارَ اللفْظُ في زَوْجَتِه أظْهَرَ، فلم يُقْبَلْ خِلافُه، أمَّا إذا قال: إحْداكُما. فإنَّه يَتَناوَلُ الأجْنَبِيَّةِ بصَرِيحِه. وقال أصحابُ الرَّأي، وأبو ثَوْرٍ: يُقْبَلُ في الجميعِ؛ لأنَّه فَسَّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه. ولَنا، أنَّه لا يَحْتَمِلُ غيرَ امْرأتِه على وجهٍ صَحِيح، فلم يُقْبَل تَفْسِيرُه به، كما لو فَسَّرَ كلامَه بما لا يَحتَمِلُه، وكما لو قال: سَلْمَى طالق. عندَ الشافعيِّ، ولا يَصِحُّ ما ذَكَرُوه مِن الفَرقِ، فإنَّ قولَه (¬1): إحْداكما. ليس بصَريح في واحدةٍ منهما بعَينها، وسَلمَى يتَناوَلُ واحدةً لا بعَينها، ثم تَعَينَّتِ الزَّوْجَةُ لكَوْنِها مَحَلًّا للطَّلاقِ، وخِطابُ غيرِها به عَبَثٌ، كما إذا قال: إحْداكما طالقٌ. ثم لو تَناوَلَها بصَريحِه لكِن صَرَفَه عنها دَليل، فصار ظاهِرًا في غيرِها، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال للمُتَلاعِنَين: «أحَدُكُما (¬2) كَاذِبٌ» (¬3). لم يَنْصرِفْ ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في النسختين: «إحداكما». والمثبت من مصادر التخريج. وانظر المغني 10/ 374. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب المتعة للتي لم يفرض لها. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 79، 80. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 524. والنسائي، في: باب اجتماع المتلاعنين، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 145. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 11. وانظر ماتقدم في حديث: «لولا الأيمان. . . .» في 16/ 338. وهو عند أبي داود 1/ 521، والترمذي 12/ 45. وليس كما تقدم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا إلى الكاذِبِ منهما وحدَه، ولمَّا قال حَسَّانُ (¬1)، يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا سفيانَ: * فشَرُّكما لخيرِكما الفِداءُ * لم ينْصَرِفْ شَرُّهما إلَّا إلى أبي سفيانَ، وخيرُهما إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وحدَه. وهذا في الحُكْمِ، وأمَّا فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى فَيُدَيَّنُ فيه، فمتى عَلِمَ مِن نَفْسِه أنَّه أراد الأجْنَبِيَّةَ، لم تَطْلُقْ زَوْجَتُه، لأنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ له وإن كان غيرَ مُقَيَّدٍ. ولو كانت ثَم قَرِينَة دالَّة على إرادَتِه الأجْنَبيَّةَ، مثلَ أن يَدْفَعَ بيَمِينه ظُلْمًا، أو يتَخلّصَ بها مِن مَكْروهٍ، قُبِلَ قولُه في الحُكْمِ، لوُجودِ الدَّليلِ الصَّارفِ إليها. وإن لم يَنْو زَوْجتَه، ولا الأجْنَبِيَّةَ، طَلُقَتْ زَوْجتُه، لأنّها محَل الطَّلاقِ، واللَّفْظُ يحْتمِلُها ويَصْلُح لها (¬2)، ولم يَصْرِفه عنها، فوقَعَ بها، كما لو نَوَاها. ¬

(¬1) ديوان حسان 76. وصدر البيت: * أتهجوه ولست له بكفء * وأخرجه عنه ابن جرير في تفسيره 18/ 88. وانظر القصيدة في سيرة ابن هشام 4/ 421 - 424. (¬2) سقط من: الأصل.

3644 - مسألة: (فإن نادى امرأته، فأجابته امرأة له أخرى، فقال: أنت طالق. يظنها المناداة، طلقتا في إحدى الروايتين)

وَإنْ نَادَى امْرأتَهُ، فَأجَابَتْهُ امْرأةٌ لَهُ أُخْرَى، فَقَال: أنْتِ طَالِقٌ. يَظُنُّهَا الْمُنَادَاةَ، طَلُقَتَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ، وَالأُخْرَى، تَطْلُقُ الَّتِي نَادَاهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3644 - مسألة: (فإن نادَى امْرأتَه، فأجابَتْه امْرأةٌ له أُخْرَى، فقال: أنْتِ طالقٌ. يَظُنُّها المُنَاداةَ، طَلُقَتا في إحْدَى الرِّوايَتَين) وهو قولُ النَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، والأوْزاعِيِّ، وأصحابِ الرَّأي. واخْتارَه ابنُ حامدٍ؛ لأنَّه خاطَبَها بالطَّلاقِ، وهي مَحَلٌّ له، فطَلُقَتْ، كما لو قَصَدَها (والثَّانيةُ، تَطْلُقُ التي ناداها) وحدَها. وهو قولُ الحسَنِ، والزُّهْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ. قال أحمدُ في رِوايةِ مُهَنَّا، في رجل له امْرأتانِ فقال: فُلانَةُ، أنْتِ طالق. فالْتَفَتَ، فإذا هي غيرُ التي حَلَفَ عليها، قال: قال إبراهيمُ: يَطْلُقان. والحسَنُ يقولُ: تَطْلُقُ التي نَوَى. قيل له: ما تقولُ أنتَ؟ قال: تَطْلُقُ التي نَوَى؛ وذلك لأنَّه لم يَقْصِدْها بالطَّلاق، فلم تَطْلُقْ، كما لو أراد أن يقولَ: أنتِ طاهرٌ. فسَبَقَ لسانُه، فقال: أنتِ طالق. وقال أبو بكرٍ: لا يَخْتَلِفُ كلامُ أحمدَ أنَّها لا تَطْلُقُ. وقال الشافعيُّ: تَطْلُقُ

وَإنْ قَال: عَلِمْتُ أنَّهَا غَيرُهَا، وَأرَدْتُ طَلَاقَ الْمُنَادَاةِ. طَلُقَتَا مَعًا، وَإنْ قَال: أردْتُ طَلَاقَ الثَّانِيَةِ. طَلُقَتْ وَحْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُجِيبَةُ وحدَها؛ لأنَّها مُخاطَبَةٌ بالطَّلاقِ، فطَلُقَتْ، كما لو لم يَنْو غيرَها، ولا تَطْلُقُ المَنْويَّةُ؛ لأنَّه لم يُخاطِبْها بالطَّلاقِ، ولم يَعْتَرِفْ بطَلاقِها (¬1). وهذا يَبْطُلُ بما لو عَلِمَ أنَّ المُجِيبَةَ غيرُها، فإنَّ المَنْويَّةَ تَطْلُقُ بإرادَتِها بالطَّلاقِ، ولولا ذلك لم تَطلُقْ بالاعْتِرافِ به، لأنَّ الاعْتِرافَ بما لا يُوجِبُ لا يُوجِبُ، ولأنَّ التي لم تُجِبْ مقْصودَةٌ بلَفْظِ الطَّلاقِ، فطلُقَتْ، كما لو عَلِمَ الحال (فإن قال: عَلِمْتُ أنَّها غيرُها، وأرَدْتُ طَلاقَ المُنادَاةِ. طَلُقَتا معًا) في قوْلِهم جميعًا (وإن قال: أرَدْتُ طلاقَ الثَّانيةِ) وحدَها (طَلُقَتْ وحدَها) لقَصْدِه لها وخِطابِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3645 - مسألة: (وإن لقي أجنبية ظنها زوجته، فقال: فلانة، أنت طالق)

وَإنْ لَقِيَ أجْنَبِيَّةً ظَنَّهَا امْرأتَهُ، فَقَال: فُلَانَةُ، أنْتِ طَالِقٌ. طَلُقَتِ أمْرَأتهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3645 - مسألة: (وإن لَقِيَ أجْنَبِيَّةً ظَنَّهَا زَوجَتَه، فقال: فُلانَةُ، أنْتِ طالق) فإذا هي أجْنَبِيَّة (طَلُقَتْ زَوْجَتُه) نصَّ عليه أحمدُ. وقال الشافعيُّ: لا تَطْلُقُ؛ لأنَّه خاطبَ بالطَّلاقِ غيرَها، فلم يَقَعْ، كما لو عَلِمَ أنها أجْنَبِيَّةٌ، فقال: أنتِ طالق. ولَنا، أَنه قَصَدَ زَوْجتَه بلَفْظِ الطَّلاقِ، [فطَلُقَتْ، كما لو قال: عَلِمْتُ أنَّها أجْنَبِيَّة، وأرَدْتُ طلاقَ زوجتي. فإن قال لها: أنتِ طالق. ولم يَذْكُرِ اسمَ زوجتِه، احْتَمَل ذلك أيضًا؛ لأنَّه قَصَدَ زوجتَه بلفظِ الطلاقِ] (¬1)، واحْتَمَلَ أن لا تَطْلُقَ؛ لأنَّه لم يُخاطِبْها بالطَّلاقِ، ولا ذكَرَ اسْمَها معه، وإن عَلِمَها أجْنَبِيَّةً، وأرادَ بالطَّلاقِ زَوْجَتَه، طَلُقَتْ. وإن لم يُرِدها بالطَّلاقِ، لم تَطلُقْ. فصل: وإن لَقِيَ امْرأتَه، فظنَّها أجْنَبِيَّةً، فقال: أنتِ طالق. أو: تَنَحَّيْ يا مُطَلَّقَةُ. أو لَقِيَ أمَتَه، فظَنَّها أجْنَبِيَّةً، فقال: أنتِ حُرَّة. أو: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُنَحَّيْ يا حُرَّةُ. فقال أبو بكر في مَن لَقِيَ امْرأةً، فقال: تَنَحَّيْ يا مُطَلَّقَةُ. أو: يا حُرَّةُ. وهو لا يَعْرِفُها، فإذا هي زَوْجَتُه أو أمتُه: لا يَقعُ بهما طَلاقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا حُرِّيَّةٌ؛ لأنه لم يُرِدْهُما بذلك، فلم يَقَعْ بهما شيءٌ، كسَبْقِ اللِّسانِ إلى ما لم يُرِدْه. ويَحْتَمِلُ أن لا تَعْتِقَ الأمَةُ؛ لأنَّ عادةَ النَّاسِ مُخاطَبَةُ مَن لا يَعْرِفُها بقولِه: يا حُرَّةُ. وتَطْلُقُ الزَّوْجةُ؛ لعَدَمِ العادةِ في المُخاطَبَةِ بقولِه: يا مُطَلَّقةُ. والله أعلمُ.

كتاب الرجعة

كتابُ الرَّجْعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الرَّجْعَةِ وهي ثابِتَةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قولِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (¬1). والمرادُ به الرَّجْعَةُ عندَ جماعةِ العُلَماءِ وأهْلِ التَّفْسِيرِ. وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). أي بالرَّجْعَةِ، ومَعْناه: إذا قارَبْنَ بُلُوغَ أجَلِهنَّ، أي انْقِضاءَ عِدَّتِهنَّ. وأمَّا السُّنَّةُ، فروَى ابنُ عمرَ، قال: طَلَّقْتُ امرَأتِي وهي حَائِضٌ، فسأل عمرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجعْهَا». مُتَّفقٌ عليه (¬3). وروَى أبو داودَ (¬4) عن عمرَ، قال: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَلَّقَ حَفْصَةَ ثم رَاجَعَها. وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أنَّ الحُرَّ إذا طَلَّقَ الحرَّةَ دُونَ الثَّلاثِ، أو العَبْدَ إذا طَلَّقَ واحِدَةً، أنَّ لهما الرَّجْعَةَ في العِدَّةِ. ذَكَرَه ابنُ المُنْذِرِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) سورة البقرة 231. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 391. وهو في سنن أبي داود 1/ 503، 504. (¬4) في: باب في المراجعة، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 531. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب حدثنا سويد بن سعيد، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 650. والدارمي، في: باب في الرجعة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 160، 161.

3646 - مسألة: (إذا طلق الحر امرأته بعد دخوله بها أقل من ثلاث، أو العبد واحدة بغير عوض)

إِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ امْرَأتَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا أقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، أو الْعَبْدُ وَاحِدَةً بِغَيرِ عِوَضٍ، فَلَهُ رَجْعَتُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، رَضِيَتْ أوْ كَرِهَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3646 - مسألة: (إذا طَلَّقَ الحُرُّ امْرَأتَه بعدَ دُخُولِه بِها أقَلَّ مِن ثلاثٍ، أو العَبْدُ وَاحِدَةً بِغَيرِ عِوَضٍ) [ولا أمْرٍ] (¬1) يَقْتَضِي (¬2) بَينُونتها (فله رَجْعَتُها ما دامَتْ في العِدَّةِ، رَضِيَتْ أو كَرِهَتْ) لِما ذَكَرْنا، أجمعَ على ذلك أهلُ العلمِ، وأجْمَعُوا على أنَّه لا رَجْعَة له عليها بعدَ قَضاءِ عِدَّتِها. وقد ذَكَرْنا أنَّ الطَّلاقَ مُعْتَبَرٌ بالرِّجالِ، فيكونُ له رَجْعَتُها ما لم يُطَلِّقْها ثلاثًا، كالحُرَّةِ. وفيما إذا طَلَّقَ الأمَةَ اثْنَتَين خِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. ولا يُعْتَبَرُ في الرَّجْعَةِ رِضَا المرأةِ في ذلك؛ لقَوْلِ الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. أي في العِدَّةِ. فجعَلَ الحَقَّ لهم. وقال سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فخاطبَ الأزْواجَ بالأمْرِ، ولم يَجْعَلْ لهُنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «ولا أخر حتى»، وفي م: «والأمر». والمثبت كما في المغني 10/ 553. (¬2) في الأصل: «تنقضي».

3647 - مسألة: (وألفاظ الرجعة: راجعت امرأتي. أو: رجعتها. أو: ارتجعتها. أو: رددتها. أو: أمسكتها)

وَألفَاظُ الرَّجْعَةِ: رَاجَعْتُ امْرأتِي. أوْ: رَجَعْتهَا. أو: ارْتَجَعْتهَا. أَوْ: رَدَدْتهَا. أوْ: أمْسَكْتهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتِيارًا. ولأنَّ الرَّجْعةَ إمْساكٌ للمَرْأةِ بحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، فلم يُعْتَبَرْ رِضاهَا في ذلك، كالتي في صُلْبِ نِكاحِه. وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على هذا. وللعَبْدِ بعدَ الواحدةِ ما للحُرِّ قبلَ الثَّلاثِ. وقد أجمعَ العُلَماءُ على أن للعَبْدِ رَجْعَةَ امْرأتِه بعدَ الطَّلْقَةِ الواحدةِ إذا وُجدَتْ شُروطُها، فإذا طَلَّقَها ثانِيَةً، فلا رَجْعةَ له، سواءٌ كانتِ امْرأتُه حُرًّةً أو أمَةً؛ لأنَّ طَلاقَ العَبْدِ اثْنَتانِ، وفي هذا خِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. 3647 - مسألة: (وألْفاظُ الرَّجْعَةِ: راجَعْتُ امْرَأتِي. أو: رَجَعْتُها. أو: ارْتَجَعْتُها. أو: رَدَدْتُها. أو: أمْسَكْتُها) لأنَّ هذه الألْفاظَ

3648 - مسألة: (فإن قال: نكحتها. أو: تزوجتها)

فَإِنْ قَال: نَكَحْتُهَا. أو: تَزَوَّجْتُهَا. فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَد بها الكتابُ والسُّنَّةُ، فالرَّدُّ والإِمْساكُ وَرَدَ بهما الكتابُ بقولِه تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. يَعْنِي الرَّجْعَةَ. والرجْعَةُ ورَدَتْ بها السُّنَّةُ بقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا». وقد اشْتَهَرَ هذا الاسْمُ فيما بينَ أهْلِ العُرْفِ، كاشْتِهارِ اسْمِ الطَّلاق فيه، فإنَّهم يُسَمُّونَها رَجْعَةً، والزَّوْجةَ (¬1) رَجْعِيَّةً. قال شيخُنا (¬2): ويَتَخَرَّجُ أن يكونَ لَفْظُها هو الصَّرِيحَ وَحْدَه؛ لاشْتِهَارِه دُونَ غَيرِه، كقَوْلِنا في صَرِيحِ الطَّلاقِ. فصل: والاحْتِياطُ أن يقولَ: اشْهَدا عليَّ أنِّي قد راجَعْتُ زَوْجَتِي إلى نِكاحِي، أو زَوْجِيَّتي. أو: راجَعْتُها لِمَا وَقَعَ عليها مِن طَلاقِي. 3648 - مسألة: (فإن قال: نَكَحْتُها. أو: تَزَوَّجْتُها) فليس ¬

(¬1) في الأصل: «الزوجية». (¬2) في: المغني 10/ 561.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو بصَرِيحٍ فيها. وهل تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ به؟ فِيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تَحْصُلُ به؛ لأنَّ هذا كِنايَةٌ، والرَّجْعَةُ اسْتِباحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، فلا يَحْصُلُ بالكِنايَةِ، كالنِّكاحِ. والثَّاني، تَحْصُلُ به الرَّجْعَةُ. أوْمَأ إليه أحمدُ. واخْتارَه ابنُ حامدٍ؛ لأنَّ الأجْنَبِيَّةَ تُباحُ به، فالرَّجْعِيَّةُ أوْلَى. فعلى هذا، يَحْتاجُ أن يَنْويَ به الرَّجْعَةَ؛ لأنَّ ما كان كِنايَةً تُعْتَبَرُ له النيةُ، ككِناياتِ الطَّلاقِ. فصل: فإن قال: رَاجَعْتُكِ للمَحَبَّةِ. أو: للإِهانَةِ. أو قال: أرَدْتُ أنَّنِي راجَعْتُكِ لِمَحَبَّتِي إيَّاكِ، أو: إهانَةً لك. صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأنَّه أتَى

3649 - مسألة: (وهل من شرطها الإشهاد؟ على روايتين)

وَهَلْ مِنْ شَرْطِهَا الإشْهَادُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرَّجْعَةِ، وبَيَّنَ سَبَبَها. وإن قال: أرَدْتُ أنَّنِي كنتُ أُهِينُكِ، أو: أُحِبُّكِ، وقد رَدَدْتُكِ بفِراقِي إلى ذلك. فليس بِرَجْعَةٍ. وإن أطْلَقَ ولم يَنْو شيئًا، صَحَّتِ الرَّجْعَةُ. ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّه أتَى بصريحِ الرَّجْعَةِ، وضَمَّ إليه ما يَحْتَمِلُ أن يكونَ سَبَبَها، ويَحْتَمِلُ غَيرَها، فلا يَزُولُ اللَّفْظُ عن مُقْتَضاه بالشَّكِّ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. 3649 - مسألة: (وهل مِن شَرْطِها الإِشْهادُ؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجْعَةَ لا تَفْتَقِرُ إلى وَلِيٍّ، ولا صَداقٍ، ولا رِضَا المرْأةِ، ولا عِلْمِها، بإجْماعِ أهلِ العِلْمِ؛ لأنَّ حُكْمَ الرَّجْعِيَّةِ حُكْمُ الزَّوْجاتِ؛ لِما نَذْكُرُه. والرَّجْعَةُ (¬1) إمْساكٌ لها، واسْتِبْقاءٌ لنِكاحِها، ولهذا سَمَّى اللهُ تعالى الرَّجْعَةَ إمْساكًا، وتَرْكَها فِراقًا وسَراحًا، فقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). وفي آيةٍ (¬3) أُخْرَى: ¬

(¬1) في م: «الرجعية». (¬2) سورة الطلاق 2. (¬3) في م: «رواية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وإنَّما تَشَعَّثَ النَّكاحُ بالطَّلْقَةِ، وانْعَقَدَ بها (¬2) سَبَبُ زوالِه، فالرَّجْعَةُ تُزِيلُ شَعَثَهُ، وتَقْطَعُ مُضِيَّه إلى البَينُونَةِ، فلم تَحْتَجْ لذلك إلى ما يَحْتَاجُ إليه ابْتِداءُ النِّكاحِ. فأمَّا الإشْهادُ ففيه رِوايَتانِ؛ إحْداهما، يَجِبُ. وهذا أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأن اللهَ تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وظاهرُ الأمْرِ الوُجُوبُ، ولأنَّه اسْتِباحَةُ بُضْعٍ مقْصودٍ، فوَجَبَتِ الشَّهادةُ فيه، كالنِّكاحِ، وعَكْسُهُ البَيعُ. والرِّوايةُ الثَّانِيَةُ، لا تَجِبُ الشَّهادَةُ. وهي اخْتِيارُ أبي بكرٍ، وقَوْلُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّها لا تَفْتَقِرُ إلى قَبُولٍ، فلم تَفْتَقِرْ إلى شَهادَةٍ، كسائِرِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، ولأنَّ ما لايُشتَرَطُ فيه الوَلِيُّ لا يُشتَرطُ فيه الإشْهادُ، كالبَيعِ. وهذه أوْلَى إن شاءَ اللهُ تعالى، ويُحْمَلُ الأمْرُ على الاسْتِحْبابِ، ويُؤَكِّدُ ذلك أنَّ الأمْرَ بالشَّهادَةِ عَقِيبَ قولِه: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ}. فهو يرجِعُ إلى أقْرَبِ المَذْكُورَينِ يقينًا، ولا تَجِبُ الشهادةُ فيه، فكذلك ما قبلَه، وهو قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ}. بطريقِ الأوْلَى. ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ ¬

(¬1) سورة البقرة 229. (¬2) في النسختين: «لها». وانظر المغني 10/ 559.

3650 - مسألة: (والرجعية زوجة يلحقها الطلاق والظهار والإيلاء)

وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّاقُ وَالظِّهَارُ وَالإيلَاءُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في اسْتِحْبابِ الإشْهادِ. فإن قُلْنا: هو شَرْطٌ. فإنَّه يُعْتَبَرُ وُجُودُه حال الرَّجْعَةِ، فإنِ ارْتَجَعَ بغيرِ إشْهادٍ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ المُعْتَبَرَ وُجُودُها في الرَّجْعَةِ، دونَ الإِقْرارِ بها، إلَّا أن يَقْصِدَ بذلك الإِقْرَارِ الارْتجاعَ، فيَصِحُّ. 3650 - مسألة: (وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطلاقُ والظِّهارُ والإِيلاءُ) ولعانُه، ويَرِثُ أحَدُهُما صاحِبَهُ إن مات، بالإِجْماعِ، وإن خَالعَها صَحَّ خُلْعُهْ. وقال الشافعي في أحَدِ قَوْلَيهِ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُرادُ للتَّحْرِيمِ، وهي مُحَرَّمَةٌ. ولَنا، أنَّها زَوْجَةٌ يَصِحُّ طَلاقُها، فصَحَّ خُلْعُها، كما قَبْلَ الطَّلاقِ، وليس مَقْصُودُ الخُلْعِ التَّحْرِيمَ، بل الخَلاصَ مِن ضَرَرِ (¬1) الزَّوْجِ ونِكَاحِه الذي هو سَبَبُه، والنِّكاحُ باقٍ، ولا نَأمَنُ رَجْعَتَه، على أنَّنا نمْنَعُ كَوْنَها مُحَرَّمَةً. ¬

(¬1) سقط من: م.

3651 - مسألة: (ويباح لزوجها وطؤها، والخلوة والسفر بها، ولها أن تتزين)

وَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا وَطْؤهَا، وَالْخَلْوَةُ وَالسَّفَرُ بِهَا، وَلَهَا أن تَتَشَرَّفَ لَهُ وَتَتَزَيَّنَ، وَتَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِوَطْئِهَا، نَوَى الرَّجْعَةَ بِهِ أوْ لَمْ يَنْو. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3651 - مسألة: (ويُباحُ لزَوْجِها وَطْؤُها، والخَلْوةُ والسَّفَرُ بِهَا، ولَها أن تَتَزَيَّنَ) له (وتَتَشَرَّفَ له) قال القاضي: هذا ظاهِرُ المذهبِ. قال أحمدُ في رِوايةِ أبي طالبٍ: لا تَحْتَجِبُ عنه. وفي رِوايةِ أبي الحارِثِ: تتشَرَّفُ له ما كانت في العِدَّةِ. فظاهِرُ هذا أنَّها مُباحَةٌ له، له أن يُسافِرَ بها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَخْلُوَ بها، ويَطَأها. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّها في حُكْمِ الزَّوْجاتِ،

وَعَنْهُ لَيسَتْ مُبَاحَةً، وَلَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِوَطْئِهَا، وَإنْ أَكْرَهَهَا عَلَيهِ، فَلَهَا الْمَهْرُ إِذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا بَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأُبِيحَتْ له، كما قبلَ الطَّلاقِ (وعن أحمدَ) رَحِمَه اللهُ، أنَّها (ليستْ مُباحَةً، ولا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بوَطْئِها، وإن أكْرَهَها عليه، فلها المهْرُ إن لم يَرْتَجِعْها بعدَه) وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، ومذهبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ ذلك عن عطاءٍ، ومالكٍ؛ لأنَّها مُطَلَّقَةٌ، فكانت مُحَرَّمَةً، كما لو طَلَّقَها بعِوَضٍ (¬1)، ولا حَدَّ عليه بالوَطْءِ، [بغيرِ خِلافٍ] (¬2). وإن قُلْنا: إنَّها مُحَرَّمَةٌ. ولا يَنْبَغِي أن يَلْزَمَه مَهْرٌ، سواءٌ راجَعَ أو لم يُراجِعْ؛ لأنَّه وَطِئَ ¬

(¬1) بعده في م: «واحدة». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوْجَتَه التي يَلْحَقُها طَلاقُه، فلم يكن عليه مَهْرٌ، كسائِرِ الزَّوْجاتِ، ويُفارِقُ ما لو وَطِئَ الزَّوْجُ بعدَ إسْلامِ أحَدِهما في العِدَّةِ؛ حيثُ يَجِبُ المَهْرُ إذا لم يُسْلِمِ الآخرُ في العِدَّةِ؛ لأنَّه إذا لم يُسْلِمْ، تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِن حِينِ إسْلامِ الأوَّلِ، وهي فُرْقَةُ فَسْخ تَبِينُ به مِن نِكاحِه، فأشْبَهَتِ التي أرْضَعَتْ مَن يَنْفَسِخ نِكاحُها برَضَاعِه، وفي مَسْألَتِنا لا تَبِينُ إلَّا بانْقِضاءِ (¬1) العِدَّةِ، فافْتَرَقا. وقال أبو الخَطَّابِ: إذا أكْرَهَها على الوَطْءِ، وَجَبَ عليه المَهْرُ عندَ مَن حَرَّمَها. وهو الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المشْروحِ، وهو المنْصُوصُ عن الشافعيِّ؛ لأنَّه وَطْءٌ حَرَّمَه الطَّلاقُ، فَوَجَبَ به المَهْرُ، كوَطْءِ [المُخْتَلِعَةِ في عِدَّتِها] (¬2). والأوَّلُ أَولَى؛ لظُهُورِ الفَرْقِ بينَهما؛ فإنَّ البائِنَ ليستْ زَوْجَةً له، وهذه زَوْجَةٌ يَلْحَقها طَلاقُه، وقِياسُ الزَّوْجَةِ على الأجْنَبِيَّةِ في الوَطْءِ وأحْكامِه بَعيدٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «بقضاء». (¬2) في المغني 10/ 555: «البائن». وما هنا على رواية أن الخلع طلاق بائن. انظر ما تقدم في 22/ 29 - 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإذا قُلْنا: إنَّها مُباحَةٌ. حَصَلَتِ الرَّجْعَةُ بوَطْئِها، سواءٌ نَوَى الرَّجْعَةَ أو لم يَنْو. اخْتارَها ابنُ حامدٍ، والقاضي. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، والزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وابنِ أبي لَيلَى، وأصحابِ الرَّأْي. قال بعْضُهم: ويُشهِدُ. وقال مالكٌ، وإسْحاقُ: يكونُ رَجْعَةً إذا أَرادَ به الرَّجْعَةَ؛ لأنَّ هذه مُدَّةٌ تُفْضِي إلى بَينُونَةٍ، فتَرْتَفِعُ بالوَطْءِ، كَمُدَّةِ الإيلاءِ، ولأنَّ الطَّلاقَ سَبَبٌ لزَوالِ المِلْكِ ومعه خِيَارٌ، فتَصَرُّفُ المالِكِ بالوَطْءِ يَمْنَعُ (¬1) عَمَلَه، كوَطْءِ البائِعِ الأمَةَ المَبِيعَةَ في مُدَّةِ الخِيارِ، وكما يَنْقَطِعُ به التَّوْكيلُ في طَلاقِها. فصل: وإن قُلْنا: ليستْ مُباحةً. لم تَحْصُلِ الرَّجْعَةُ بوَطْئِها, ولا تَحْصُلُ إلَّا بالقَوْلِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لقَوْلِه: والمُراجَعَةُ أنْ يَقولَ لرَجُلَينِ مِن المسْلِمين: اشْهَدا أنِّي قد راجَعْتُ امْرأتِي. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها اسْتِباحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، أُمِرَ بالإِشْهادِ فيه، فلم يَحْصُلْ مِن القادِرِ بغَيرِ قَوْلٍ، كالنِّكاحِ، ولأنَّ غيرَ القَوْلِ فِعْل مِن قادِرٍ على القَوْلِ، فلم تَحْصُلْ به الرَّجْعَةُ، كالإِشارَةِ مِن النَّاطِقِ. وهو رِوايَةٌ عن أحمدَ. ¬

(¬1) في الأصل: «يمتنع».

3652 - مسألة: (ولا تحصل بمباشرتها، والنظر إلى فرجها، والخلوة بها لشهوة. نص عليه)

وَلَا تَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهَا، وَالنَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا، وَالْخلْوَةِ بِهَا لِشَهْوَةٍ. نَصَّ عَلَيهِ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3652 - مسألة: (ولا تَحْصُلُ بمُباشَرَتِهَا، والنَّظَرِ إلى فَرْجِهَا، والخَلْوَةِ بِهَا لشهوةٍ. نَصَّ عليه) أحمدُ (وخَرَّجَه ابنُ حامدٍ على وَجْهَينِ) مَبْنيَّينِ على الرِّوايَتَينِ في تَحْريمِ المُصاهَرَةِ به؛ أحَدُهما، هو رَجْعَةٌ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّه اسْتِمْتاعٌ يُباحُ بالزَّوْجِيَّةِ، فحصَلَتِ الرَّجْعَة به، كالوَطْءِ. والثاني، ليس برَجْعَةٍ؛ لأَنه أمْرٌ (¬1) لا يتَعَلَّقُ به إيجَابُ عِدَّةٍ ولا مَهْرٍ، فلا تَحْصُلُ به الرَّجْعَةُ، كالنَّظرَ. فأمَّا الخَلْوَةُ بها، فليستْ بِرَجْعَةٍ؛ لأنَّه ليس باسْتِمْتاعٍ. وهذا اخْتِيارُ أبي الخَطَّابِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِيَ عن غيره مِن أصحابِنا، أنَّ الرَّجْعَةَ تَحْصُل به؛ لأنه مَعْنًى يَحْرُمُ مِن الأجْنَبِيَّةِ، ويَحِلُّ مِن الزَّوْجَةِ، فَحَصَلَتْ به الرَّجْعَة، كالاسْتِمْتاعِ. والصَّحِيحُ أنَّ الرَّجْعَةَ لا تَحْصُلُ بها؛ لأنَّها لا تُبْطِلُ خِيارَ المُشْتَرِي للأمَةِ، [فلم تَكنْ رَجْعَةً] (¬1)، كاللَّمْسِ لغَيرِ شَهْوَةٍ، فأمَّا اللَّمْسُ للشَّهْوَةِ، والنَّظَرُ لذلك (¬2) ونَحْوُهُ، فليس بِرَجْعَةٍ؛ لأنَّه يَجُوزُ في غَيرِ الزَّوْجَةِ عندَ الحاجَةِ، فأشْبَهَ (¬3) الحَدِيثَ معها. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في م: «فأشبهت».

3653 - مسألة: (ولا يصح تعليق الرجعة على شرط)

وَلا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِشَرْطٍ، وَلَا الارْتِجَاعُ في الرِّدَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3653 - مسألة: (ولا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ على شَرْطٍ) لأنَّه اسْتِباحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ، فأشْبَهَ النِّكاحَ. فلوقال: راجَعْتُكِ إن شِئْتِ. لم يَصِحَّ لذلك. ولو قال: كُلَّما طَلَّقْتُكِ فقد راجَعْتُكِ. لم يَصِحَّ أَيضًا؛ لأَنه راجَعَها قبلَ أن يَمْلِكَ الرَّجْعَةَ، فأشْبَهَ الطَّلاقَ قبلَ النِّكاحِ. وإن قال: إن قَدِمَ أبوكِ فقد راجَعْتُكِ. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه تَعْليق على شَرْطٍ. فإن راجَعَها في الرِّدَّةِ مِن أحَدِهما، لم يَصِح. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو صَحِيحُ مذهبِ الشافعيِّ؛ لأنَّه اسْتِباحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ، فلم يَصِحَّ مع الرِّدَّةِ، كالنِّكاحِ، ولأنَّ الرَّجْعَةَ تَقْرِيرٌ للنِّكاحِ، والرِّدَّةَ تُنافِي ذلك، فلم يَصِحَّ اجْتِماعُهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: إن قُلْنا بتَعْجيلِ الفُرْقَةِ بالرِّدَّة، لم تَصِحَّ الرجْعَةُ؛ لأنها قد بانَتْ بها. وإن قُلْنا: لا تُتَعَجَّلُ الفُرْقَةُ. فالرَّجْعَةُ مَوْقُوفَةٌ، إن أسْلَمَ المُرْتَدُّ منهما في العِدَّةِ، صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّه ارْتَجَعَها في نِكاحِه، ولأنَّه نَوْعُ إمْساكٍ، فلم تَمْنَعْ منه الرِّدَّةُ، كما لو لم يُطَلِّقْ، وإن لم يُسْلِمْ في العِدَّةِ تَبَيَّنَّا أنَّ الفُرْقَةَ وَقَعَتْ قبلَ الرَّجْعَةِ. وهذا قَوْلُ المُزَنِيِّ. واخْتِيارُ ابنِ حامدٍ. وهكذا يَنْبَغِي أن يكونَ فيما إذا راجَعَها بعدَ إسْلامِ أحَدِهما. فصل: قد ذَكرنا أنَّ مَن طَلَّقَ طلاقًا بغَيرِ عِوَضٍ، فله رَجْعَةُ زَوْجتِه ما دامَتْ في العِدَّةِ، إذا كان طلاقُ الحُرِّ أقَلَّ مِن ثلاثٍ، أو العبدِ واحدةً. فعلى هذا، إن كانت حامِلًا باثْنينِ، فوَضَعَتْ أحَدَهما، فله مُراجَعَتُها ما لم تَضَعِ الثَّانِيَ. هذا قولُ عامَّةِ العُلَماءِ، إلَّا أنَّه حُكِيَ عن عِكْرِمَةَ أنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بوَضْعِ الأوَّلِ. وما عليه سائِرُ أهْلِ العِلْمِ أصَحُّ؛ فإنَّ العِدَّةَ لا تَنْقَضِي إلَّا بوَضْعِ الحَمْلِ كلِّه؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). واسْمُ الحَمْلِ مُتَناولٌ لكُلِّ ما في ¬

(¬1) سورة الطلاق 4.

3654 - مسألة: (وإن طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل، فهل له رجعتها؟ على روايتين)

فَإِنْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَمَّا تَغْتَسِلْ، فَهَلْ لَهُ رَجْعَتُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَطْنِ، فتَبْقَى العِدَّةُ مُسْتَمِرَّةً إلى حينِ وَضْعِ باقِي الحَمْلِ، فتَبْقَى الرَّجْعَةُ ببَقائِها. ولأنَّ العِدَّةَ لو انْقَضَتْ بوَضْعِ بعضِ الحَمْلِ، لحَلَّ لها التَّزْويجُ وهي حامِلٌ مِن زَوْجٍ آخَرَ، ولا قَائِلَ به. قال شيخُنا (¬1): وأظُنُّ أنَّ قَتادَةَ ناظَرَ عِكْرِمَةَ في هذا، فقال عِكْرِمَةُ: تَنْقَضِي عِدَّتُها بوَضْعِ أحَدِ الوَلَدَينِ. فقال له قَتادَةُ: أيَحِلُّ لها أن تَتَزَوَّجَ؟ قال: لا. قال: خُصِمَ (¬2) العَبْدُ. ولو خَرَجَ بَعْضُ الوَلَدِ، فارْتَجَعَها قبلَ أن تَضَعَ باقِيَه صَحَّ؛ لأنَّها لم تَضَعْ جَمِيعَ حَمْلِها، فصارَتْ كمَن وَلَدَتْ أحَدَ الوَلَدَين. 3654 - مسألة: (وإن طَهُرَتْ مِن الحَيضَةِ الثَّالِثَةِ ولم تَغْتَسِلْ، فهل له رَجْعَتُها؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا انْقَطَعَ حَيضُ المرْأةِ المُعْتَدَّةِ في المرَّةِ الثَّالثَةِ، ولمَّا تَغْتَسِلْ، فهلْ تَنْقَضِي عِدَّتُها بِطُهْرِها؟ فيه ¬

(¬1) في: المغني 10/ 555. (¬2) خصم: أي غُلِب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتانِ، ذكَرَهُما ابنُ حامدٍ؛ إحْداهُما، لا تَنْقَضِي حتَّى تَغْتَسِلَ، ولزَوْجِها رَجْعَتُها في ذلك. وهذا ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، فإنَّه قال في العِدَدِ: فإذا اغْتَسَلَتْ مِن الحَيضَةِ الثَّالثَةِ أُبِيحتْ للأزْواجِ. وبه قال كثيرٌ مِن أَصْحابِنا. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والثَّوْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ. ورُوِيَ نحوُه عن أبي بكر الصِّدِّيقِ، وأبي مُوسى، وعُبادَةَ، وأبي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ الله عنهم. ورُوِيَ عن شَرِيكٍ، لَه الرَّجْعَةُ وإنْ فَرَّطَتْ في الغُسْلِ عِشْرينَ سَنَةً؛ لأنَّه قَوْلُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابَةِ، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا, ولأنَّ أكْثَرَ أحْكامِ الحَيضِ لا تَزُولُ إلَّا بالغُسْلِ، فكذلك هذا. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بمُجَرَّدِ الطهْرِ قبلَ الغُسْل. وهو قَوْلُ طَاوُسٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والأوْزَاعِيِّ. واخْتارَه أبو الخَطَّابِ؛ لقَوْلِ الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). والقُرْءُ: الحَيضُ. وقد زَالتْ، فيَزُولُ التَّرَبُّصُ. وفيما رُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «وقُرْءُ الأمَةِ حَيضَتانِ» (¬2). وقال: «دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أقْرَائِكِ» (¬3). أي أيَّامَ حَيضِكِ. ولأنَّ انْقِضاءَ العِدةِ تَتَعلَّقُ به بَينُونتها مِن ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في 22/ 308، 309. (¬3) بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني، في: سننه 1/ 212. وانظر ما تقدم في 1/ 401. وانظر نصب الراية 1/ 201 , 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجِ، وحِلُّها مِن غيرِه، فلم يَتَعَلَّقْ بفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ مِن جِهَةِ المرْأةِ بغَيرِ تَعْليقِ الزَّوْجِ، كالطَّلاقِ وسائِرِ العِدَدِ، ولأنَّها لو تَرَكَتِ الغُسْلَ اخْتِيارًا أو لجُنُونٍ أو نحْوه، لم تَحِلَّ؛ فإمَّا أن يُقال بقَوْلِ شَرِيكٍ: إنَّها تَبْقَى مُعْتَدَّةً ولو بَقِيَتْ عِشْرِينَ سَنَة. وذلك خِلافُ قَوْلِ الله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. فإنَّ عِدَّتَها تَصِيرُ أكْثَرَ مِن مِائَتَيْ قُرْءٍ. أو يُقالُ: تَنْقَضِي العِدَّةُ قبلَ الغُسْلِ. [فيكونُ رجوعًا عن قولِهم، ويُحْمَلُ قولُ الصحابةِ في قولِهم: حتَّى تَغْتَسِلَ. أي حتَّى يَلْزَمَها الغُسْلُ] (¬1). واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَزَوُّجَتِ الرَّجْعِيَّةُ في عِدَّتِها، وحَملَتْ مِن الزَّوْجِ الثَّانِي، انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الأوَّلِ بوَطْءِ الثَّانِي. وهل يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَها في مُدَّةِ الحَمْلِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ؛ أوَّلُهما، أنَّ له رَجْعَتَها؛ لأنَّها ما (¬1) لم تَقْضِ عِدَّتَه، فحُكْمُ نِكاحِه باقٍ (¬2)، يَلْحَقُها طَلاقُه وظِهارُه، وإنَّما انْقَطَعَتْ عِدَّتُه لعارِضٍ، فهو كما لو وُطِئَتْ في صُلْبِ نِكاحِه، فإنَّها تَحْرُمُ عليه، وتَبْقَى سائِرُ أحْكامِ الزَّوْجِيَّةِ، ولأنَّه يَمْلِكُ ارْتِجاعَها إذا عادَت إلى عِدَّتِه، فَمَلَكَه قبلَ ذلك، كما لو ارْتَفَعَ حَيضُها في أثْناءِ عِدَّتِها، والوَجْهُ الثَّانِي، ليس له رَجْعَتُها؛ لأنَّها ليست في عِدَّتِه. فإذا وَضَعَتِ الحَمْلَ، انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي، وبَنَتْ على ما مَضَى مِن عِدَّةِ الأوَّلِ، وله ارْتِجاعُها حِينَئذٍ، وَجْهًا واحدًا، ولو كانتْ في نِفاسِها؛ لأنَّها بعدَ الوَضْعِ تَعُودُ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) بعده في م: «بأن».

3655 - مسألة: (وإن انقضت عدتها ولم يرتجعها، بانت،

وَإنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَرْتَجِعْهَا، بَانَتْ، وَلَمْ تَحِلَّ إلا بِنِكَاحٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى عِدَّةِ الأوَّلِ وإن لم تَحْتَسِبْ به، فكان له الرَّجْعَةُ فيه، كما لو طَلَّقَ حائِضًا، فإنَّ له رَجْعَتَها في حَيضِها، وإن كانت لا تَعْتَدُّ بها. وإن حَمَلَتْ حَمْلًا يُمْكِنُ أن يكونَ منهما، فعلى الوَجْهِ الذي لا يَمْلِكُ رَجْعَتَها في حَمْلِها مِن الثَّانِي، إذا راجَعَها في هذا الحَمْلِ، ثم بان أنَّه مِن الثَّانِي لم يَصِحَّ، وإن بان مِن الأوَّلِ، احْتَمَلَ أن (¬1) يَصِحَّ؛ لأنه راجَعَها في عِدَّتِها منه، واحْتَمَلَ أن لا يَصِحَّ؛ لأنَّه راجَعَها مع الشَّكِّ في إباحَةِ الرَّجْعَةِ. والأوَّلُ أَصَحُّ؛ فإنَّ الرّجْعَةَ ليستْ بعبادَةٍ يُبْطِلها الشَّكُّ في صِحَّتِها، وعلى أنَّ العِبادَةَ تَصِحُّ مع الشَّكِّ فيما إذا نَسِيَ صلاةً مِن يوْم لا يَعْلَمُ عَينها، فصَلَّى خَمْسَ صَلَواتٍ، فإنَّ كلَّ صلاةٍ يَشُكُّ في أنَّها هل هي المَنْسِيَّةُ أو غَيرُها؟ ولو شَكَّ في الحَدَثِ، فتَطَهَّرَ يَنْوى رَفْعَ الحَدَثِ، صَحَّتْ طَهارَتُه، وارْتَفعَ حَدَثُه، فههُنا أوْلَى. فإن راجَعَها بعدَ الوَضْعِ، وبَانَ أنَّ (¬2) الحَمْلَ مِن الثَّانِي، صَحَّتْ رَجْعَتُه، وإن بان مِن الأوَّلِ، لم تَصِحَّ؛ لأنَّ العِدَّةَ انْقَضَتْ بوَضْعِه. 3655 - مسألة: (وإنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها ولمْ يَرْتَجِعْها، بانَتْ، ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) زيادة من: الأصل.

3656 - مسألة: (وتعود على ما بقي من طلاقها، سواء رجعت بعد نكاح زوج غيره أو قبله. وعنه)

جَدِيدٍ. وَتَعُودُ إِلَيهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، سَوَاءٌ رَجَعَتْ بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيرِهِ أَوْ قَبْلَهُ. وَعَنْهُ، إِنْ رَجَعَتْ بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيرِهِ، رَجَعَتْ بِطَلَاقِ ثَلَاثٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا تَحِلُّ إلَّا بنِكَاح جَدِيدٍ) لقَوْلِ اللهِ سبحانَه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}. يُريدُ الرَّجْعةَ عندَ جماعَةِ أهلِ التَّفْسِيرِ {فِي ذَلِكَ} أي في العِدَّةِ. وأجْمَعَ أهل العِلْمِ على أنَّ المرْأةَ إذا طَلَّقَها زَوْجُها، فلم يَرْتَجِعْها حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها، أنَّها تَبِينُ منه، فلا تَحِلُّ له إلَّا بنِكاحٍ جَدِيدٍ. 3656 - مسألة: (وتَعُودُ على ما بَقِيَ مِن طلاقِها، سَواءٌ رَجَعَتْ بعدَ نِكاحِ زَوْجٍ غَيرِه أوْ قَبْلَه. وعنه) أنَّها (إن رَجَعَتْ بعدَ نِكاحِ زَوْجٍ غَيرِه، رَجَعَتْ بطلاقِ ثلاثٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُطَلَّقَةَ لا تَخْلُو مِن أحَدِ ثلَاثَةِ أحْوالٍ؛ أحدُها أن يُطَلِّقَها دُونَ الثَّلاثِ، ثم تَعُودَ إليه برَجْعَةٍ أو نِكاحٍ جَدِيدٍ قبلَ زوجٍ ثانٍ، فهذه تَعُودُ إليه على ما بَقِيَ مِن طَلاقِها، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. والثَّانِي، أن يُطَلِّقَها ثلَاثا، فتَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، ويُصِيبَها، ثم يتَزَوجَها الأوَّلُ، فهذه تَعُودُ [على طَلاقِ] (¬1) ثَلاثٍ، ¬

(¬1) في م: «بطلاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإجْماعٍ مِن أهلِ العِلْمِ. حَكاه ابنُ المُنذِرِ. الثَّالِثُ، طَلَّقَها دُونَ الثَّلاثِ، فقَضَتْ عِدَّتَها، ثم نَكَحَتْ غيرَه، ثم تَزوَّجَها الأوَّلُ، ففيها رِوايَتان؛ أظْهَرُهما، أنَّها تَعُودُ إليه على ما بَقِيَ مِن الثَّلاثِ. وهو قولُ الأكبرِ (¬1) مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ منهم عمرُ، وعليٌّ، وأُبَيٌّ، ومُعاذٌ، وعِمْرانُ بنُ حُصَينٍ، وأبو هُرَيرَةَ، وزَيدٌ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَبِيدَة، والحسَنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، ومحمدُ بنُ الحسَنِ، وابنُ المُنْذِرِ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ (¬2) عن أحمدَ، أنَّها تَرْجِعُ إليه على طَلاقِ ثلاثٍ. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، وشُرَيحٍ، وأبي حَنِيفةَ، وأبي يوسُفَ؛ لأنَّ وَطْءَ [الزوجِ الثَّاني مُثْبِتٌ للحِلِّ، فيُثْبِتُ حِلًّا يَتَّسِعُ لثلاثِ طَلَقاتٍ؛ كما بعدَ الثلاثِ، ولأنَّ وطءَ] (¬3) الثَّاني يَهْدِمُ الطَّلَقاتِ الثَّلاثَ، فأوْلَى أن يَهْدِمَ ما دُونَها. ولَنا، أنَّ وَطْءَ الثَّاني لا يُحْتاجُ إليه في الإِحْلالِ للزَّوْجِ الأوَّلِ، فلا يُغَيِّرُ حُكْمَ الطَّلاقِ، كوَطْءِ السَّيِّدِ، ولأنَّه تَزْويجٌ قبلَ اسْتِيفاءِ الثَّلاثِ، فأشْبَهَ ما لو رَجَعَتْ إليه قبلَ وَطْءِ الثَّانِي. وقَوْلُهم: إنَّ وَطْءَ الثَّانِي يُثْبِتُ الحِلَّ. لا يَصِحُّ؛ لوَجْهَينِ؛ أحَدُهما، مَنْعُ كَوْنِه مُثْبِتًا ¬

(¬1) في م: «الأكثر». (¬2) في الأصل: «الثالثة». (¬3) سقط من: م.

3657 - مسألة: (وإن ارتجعها في عدتها، وأشهد على رجعتها من حيث لا تعلم، فاعتدت، ثم تزوجت من أصابها، ردت إليه، ولا يطؤها حتى تنقضي عدتها)

وَإنِ ارْتَجَعَهَا في عِدَّتِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا مِنْ حَيثُ لَا تَعْلَمُ، فَاعْتَدَّتْ، وَتَزَوَّجَتْ مَنْ أصَابَهَا، رُدَّتْ إِلَيهِ، وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَعَنْهُ، أَنَّهَا زَوْجَةُ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ للحِلِّ أصلًا، وإنَّما هو في الطَّلاقِ الثَّلاثِ غايةُ التَّحْريمِ، بدليلِ قولِه تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} (¬1). وحتَّى للغَايَةِ، وإنَّما سَمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزَّوْجَ الذي قَصَدَ الحِيلَةَ مُحَلِّلًا تَجَوُّزًا، بدليلِ أنَّه لَعَنَه، ومَن أثْبَتَ حَلالًا لم (¬2) يَسْتَحِقَّ لَعْنًا. والثاني، أنَّ الحِلَّ إنّما يَثْبُتُ في مَحَلٍّ فيه تَحْرِيمٌ، وهي المُطَلَّقةُ ثلَاثًا، وههُنا هي حَلالٌ له، فلا يَثْبُتُ فيها حِلٌّ. وقولُهم: إنه يَهْدِمُ الطَّلاقَ. قُلْنا: بل هو غايةٌ لتَحْرِيمِه، وما دُونَ الثَّلاثِ لا تَحْرِيمَ فيها، فلا يَكُون غايةً له. 3657 - مسألة: (وإنِ ارْتَجَعَها في عِدَّتِهَا، وأشْهَدَ على رَجْعَتِها مِن حَيثُ لا تَعْلَمُ، فاعْتَدَّتْ، ثم تَزَوَّجَتْ مَن أصابها، رُدَّتْ إليه، ولا يَطَؤُها حتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها) في إحْدَى الرِّوايَتَينِ. والأخْرَى، هي زَوْجَةُ الثَّانِي. وجملةُ ذلك، أنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إذا رَاجَعها مِن حيثُ لا تَعْلَمُ، ¬

(¬1) سورة البقرة 230. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتِ المُرَاجَعَةُ؛ لأنَّها لا تَفْتَقِرُ إلى رِضاها، فلم تَفْتَقِرْ إلى عِلْمِها، كطلاقِها. فإذا راجَعَها ولم تَعْلَمْ، فانْقَضَتْ عِدَّتُها، وتَزَوَّجَت، ثم جاء وادَّعَى أنَّه كان راجعَهَا قبلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، وأقامَ البَيِّنةَ على ذلك، ثَبَتَ أنَّها زَوْجَتُه، وأنَّ نِكاحَ الثَّاني فاسِدٌ؛ لأنَّه تَزَوَّجَ امْرَأةَ غيرِه، وتُرَدُّ إلى الأوَّلِ، سَواءٌ دَخَلَ بها الثَّاني (¬1) أو لم يَدْخُلْ. وهذا هو الصَّحِيحُ. وهو قَوْلُ أكثَرِ الفُقَهاءِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. ورُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ، رَحِمَه اللهُ، رِوايَةٌ ثانِيَةٌ، إن دَخَلَ بها الثَّانِي، فهي امْرأتُه، ويَبْطُلُ نِكاحُ الأوَّلِ. رُويَ ذلك عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه. وهو قول مالكٍ. ورُوِيَ مَعْناه عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ القاسمِ، ونافعٍ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما عَقَدَ عليها وهي ممَّن يَجوزُ العَقْدُ عليها في الظَّاهِرِ، ومع الثَّانِي مَزِيَّةُ الدُّخول، فقُدِّمَ بها. ولَنا، أنَّ الرَّجْعَةَ قد صَحَّتْ، وتَزَوَّجَتْ وهي زَوْجَةُ الأوَّلِ، فلم يَصِحَّ نِكاحُها، كما لو لم يُطَلِّقْها. إذا ثَبَتَ هذا، فإن كان الثَّانِي ما دَخَلَ بها، فُرِّقَ بينَهما، ورُدَّت إلى الأوَّلِ، ولا شيءَ على الثَّانِي. وإن كان دَخَلَ بها، فلها عليه مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّ هذا وَطْءُ شُبْهَةٍ، وتَعْتَدُّ، ولا تَحِلُّ للأوَّلِ حتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها منه. ¬

(¬1) سقط من: م.

3658 - مسألة: (وإن لم يكن للمدعي بينة بالرجعة)

وَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِرَجْعَتِهَا, لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، لَكِنْ إِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ الثَّانِي بَانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأةُ، لَمْ يُقْبَلْ تَصْدِيقُهَا، لَكِنْ مَتَى بَانَتْ مِنْهُ، عَادَتْ إِلَى الأوَّلِ بِغَيرِ عَقْدٍ جَدِيدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كان أقامَ البَيِّنَةَ قبلَ دُخولِ الثَّانِي بها، رُدَّتْ إلى الأوَّلِ، بِغَيرِ خِلافٍ في المذْهَبِ. وهي إحْدَى الرِّوايَتَين عن مالكٍ. وأمَّا إن تَزَوَّجَها مع عِلْمِها بالرَّجْعَةِ، أو عِلْمِ أحَدِهما، فالنِّكاحُ باطِلٌ بغَيرِ خِلافٍ، والوَطْءُ مُحَرَّم على مَن عَلِمَ، وحُكْمُه حُكْمُ الزَّانِي في الحَدِّ وغيرِه؛ لأنَّه وَطِئَ امْرأةَ غيرِه مع عِلْمِه. 3658 - مسألة: (وإن لم يَكُنْ للمُدَّعِي بَيِّنةٌ بالرَّجْعةِ) فأنْكَرَه أحَدُهما، لم يُقْبَلْ قَوْلُه، فإن أنْكَراه جيعًا، فالنِّكاحُ صَحِيحٌ في حَقِّهِما، وإنِ اعْتَرَفا له بالرَّجْعَةِ، ثَبَتتْ، والحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا قامَت به البَيِّنةُ سَواءً، في أنَّها تُرَدُّ إليه. وإن أقَرَّ له الزَّوْجُ وحدَه، فقد اعْتَرَفَ بفسادِ نِكاحِه، فتَبينُ منه، وعليه مَهْرُها إن كان دَخَلَ بها، أو نِصْفُه إن كان لم يَدْخُلْ بها؛ لأنَّه لا يُصَدَّقُ على المرْأةِ في إسْقاطِ حَقِّها عنه، ولا تُسَلَّمُ المرْأة إلى المُدَّعِي؛ لأنَّه لا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ الثَّانِي عليها، وإنَّما يُقْبَلُ في حَقِّه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَكُونُ القَوْلُ قولَها. وهل هو مع يَمِينِها أو لا؟ على وَجْهَينِ. قال شيخُنا (¬1): ولا تُسْتَحْلَفُ؛ لأنّها لو أقَرَّتْ لم يُقْبَلْ إقْرارُها، فإذا أنْكَرَتْ لم تَجِبِ اليَمِينُ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تَجِبُ عليها. وإنِ اعْتَرَفَتِ المرْأةُ وأنْكَرَ الزَّوْجُ، لم يُقْبَلِ اعْتِرافُها على الزَّوْجِ في فَسْخ نِكاحِه؛ لأنَّ قَوْلَها إنَّما يُقْبَلُ على نَفْسِها في حَقِّها. وهل يُسْتَحْلَفُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ؛ أحَدُهما، لا يُسْتحْلَفُ. اخْتارَه القاضي؛ لأنَّه دَعْوَى في النِّكاحِ، فلم يُسْتَحْلَفْ، كما لو ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأةٍ فأنْكَرَتْه. والثَّاني، يُسْتَحْلَف. قال القاضي: وهو قَوْلُ الخِرَقِيِّ؛ لعُمُومِ قَوْلِه - عليه السلام -: «ولَكِنَّ اليَمِينَ علَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬2). ولأنَّه دَعْوَى في حَقِّ آدَمِيٍّ، فيُسْتَحْلَفُ فيه كالمالِ. فإن حَلَفَ فيَمِينُه على نَفْي العِلْمِ؛ لأنَّه على نفي فِعْلِ الغَيرِ. فإن زال نِكاحُه بطَلاقٍ، أو فَسْخٍ، أو مَوْتٍ، رُدَّتْ إلى الأوَّلِ مِن غَيرِ عَقْدٍ؛ لأنَّ المَنْعَ مِن رَدِّها إنَّما كان لحَقِّ الثَّانِي، فإذا زال زال المَنْعُ، وحُكِمَ بأنَّها زَوْجَةُ الأوَّلِ، كما لو شَهِدَ بحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثم اشْتَراه، عَتَقَ عليه. ولا يَلْزَمُها للأوَّلِ مَهْرٌ بحَالٍ. وذَكَرَ القاضي أنَّ له عليها مَهْرًا. ¬

(¬1) في: المغني 10/ 575. (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478.

3659 - مسألة: (وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها، قبل قولها إذا كان ممكنا، إلا أن تدعيه بالحيض في شهر، فلا يقبل إلا ببينة)

فَصْلٌ: وَإذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، قُبِلَ قَوْلُهَا إِذَا كَانَ مُمْكِنًا، إلا أَنْ تَدَّعِيَهُ بِالْحَيضِ في شَهْرٍ، فَلَا يُقْبَلُ إلا بِبَيِّنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ بعْضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّها أقَرَّتْ أنَّها حالتْ بينَه وبينَ بُضْعِها بغيرِ حَقٍّ، فأشْبَهَ شُهودَ الطَّلاقِ إذا رَجَعُوا. ولَنا، أنَّ مِلْكَها اسْتَقَرَّ على المَهْرِ، فلم يَرْجِعْ به عليها، كما لو ارْتَدَّتْ، أو أسْلَمَتْ، أو قَتَلَتْ نَفْسَها. فإن ماتَ الأوَّلُ وهي في نِكاحِ الثَّاني، فيَنْبَغِي أن تَرِثَه؛ لإِقْرارِه بِزَوْجِيَّتِها وإقْرارِها بذلك. وإن ماتَتْ، لم يَرِثْها؛ لأنَّها لا تصَدَّقُ في إبْطالِ مِيراثِ الزَّوْجِ الثَّاني، كما لم تُصَدَّقْ في إبْطالِ نِكاحِه، ويَرِثُها الزَّوْجُ الثَّانِي، لذلك. وإن مات الزَّوْجُ الثَّاني، لم تَرِثْه؛ لأنَّها تُنْكِرُ صِحَّةَ نِكاحِه، فتُنْكِرُ مِيراثَه. 3659 - مسألة: (وَإذا ادَّعَتِ المرْأةُ انْقِضاءَ عِدَّتِهَا، قُبِلَ قَوْلُها إذا كان مُمْكِنًا، إلَّا أن تَدَّعِيَه بالحَيضِ في شَهْرٍ، فلا يُقْبَلُ إلَّا ببَيِّنَةٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ المرْأةَ إذا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِها في وَقْتٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُها (¬1) ¬

(¬1) في الأَصْل: «انقضاء عدتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، قُبِلَ قَوْلُها؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬1). قِيلَ في التَّفْسِيرِ: هو الحَيضُ [والحَمْلُ] (¬2). ولولا أنَّ قَوْلَهنَّ مَقْبُولٌ، لم يُحْرَجْنَ (¬3) بكِتْمانِه، ولأنَّه أمْرٌ تَخْتَصُّ بمَعْرِفَتِه، فكان القَوْلُ قوْلَها فيه، كالنِّيَّةِ مِن الإِنْسانِ فيما تُعْتَبرُ (¬4) فيه النِّيَّةُ، أو أمْرٌ لا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِها، فقُبلَ قَوْلُها فيه، كما يَجِبُ على التَّابِعيِّ قَبُولُ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا ما تَنْقَضِي به العِدَّةُ، فهو ثلاثةُ أقْسَامٍ؛ الأوَّلُ، أن تَدَّعِيَ انْقِضاءَ عِدَّتِها بالقُرُوءِ، وهو يَنْبَنِي على ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «يخرجن». (¬4) في م: «تعبر».

وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدّةِ مِنَ الأقْرَاءِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ إِذَا قُلْنَا: الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ. وَأقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإنْ قُلْنَا: الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ. فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاُثونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِلافِ في أقَلِّ الطُّهْرِ بينَ الحَيضَتَين، وعلى الخِلافِ في أقَلِّ الحَيضِ، وهل الأقْراءُ الحِيَضُ أو الطُّهْرُ؟ (فإن قُلْنا: هي الحِيَضُ، وأقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثةَ عَشَرَ يَوْمًا. فأقَلُّ ما تَنْقَضِي به العِدَّةُ تِسْعَة وعِشْرُونَ يَوْمًا ولَحْظَةٌ) وذلك أن يُطَلِّقَها مع آخِرِ الطُّهْرِ، ثم تَحِيضَ بعدَه يَوْمًا ولَيلَةً، ثم تَطْهُرَ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثم تَحِيضَ يَوْمًا وَلَيلَةً، ثم تَطْهُرَ ثَلَاثةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثم تَحِيضَ يَوْمًا ولَيلَةً، ثم تَطْهُرَ لَحْظَةً، ليُعْرَفَ بها انْقطاعُ الحَيضِ، وإن لم تَكُنْ هذه اللَّحْظَةُ مِن عِدَّتِها، فلا بُدَّ منها لمَعْرِفَةِ انْقِطَاعِ حَيضِها، ولو صادَفَتْها رَجْعَتُه لم تَصِحَّ. ومَن اعْتَبَرَ الغُسْلَ في انْقِضاءِ العِدَّةِ، فلا بُدَّ مِن وَقْتٍ يُمْكِنُ الغُسْلُ فيه بعدَ انْقِطَاعِ الحَيضِ (وإن قُلْنا): القُرُوءُ الحِيَضُ، وأقَلُّ (الطُّهْرِ خمسَةَ عَشَرَ) يومًا. فأقَلُّ ما تَنْقَضِي به العِدَّةُ (ثَلاثَةٌ وثَلاُثونَ يَوْمًا ولَحْظَةٌ) تَزِيدُ أرْبَعَةَ أيَّامٍ في الطُّهْرَين (وإن قُلْنا:

وَإنْ قُلْنَا: الْقُرُوءُ الأطْهَارُ. فَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ. وَإنْ قُلْنَا: الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القُرُوءُ الأطْهارُ) وأقَلُّ الطُّهْرِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فإنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي (بثَمانِيَةٍ وعِشْرينَ يَوْمًا ولَحْظَتَينِ) وهو أن يُطَلِّقَها في آخِرِ لَحْظَةٍ مِن طُهْرِها، فتَحْتَسِبَ بها قُرْءًا، ثم تَحْتَسِبَ طُهْرَينِ آخَرَينِ سِتَّةً وعِشْرينِ يَوْمًا، وبينَهما حَيضَتان يَوْمَينِ، فإذا طَعَنَتْ في الحَيضَةِ الثَّالثةِ لَحْظَةً، انْقَضَتْ عِدَّتُها (وإن قُلْنا: الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) زِدْنَا على هذا أرْبَعَةَ اأيَّامٍ في الطُّهْرَينِ، فيَكُونُ (اثْنَينِ وثَلاثِينَ يَوْمًا ولَحْظَتَين) وهذا قولُ الشافعيِّ. فإن كانت أمَةً، انْقَضَتْ عِدَّتُها بخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ولَحْظَةٍ على الوَجْهِ الأوَّلِ، وبِسَبْعَةَ (¬1) عَشَرَ يَوْمًا ولَحْظَةٍ على الوَجْهِ الثَّانِي، وبأرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ولَحْظَتَينِ على الوَجْهِ الثَّالِثِ، وبسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا ولَحْظَتَينِ على الوَجْهِ الرَّابعِ، فمتى ادَّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها بالقُرُوءِ في أقَلَّ مِن هذا، لم يُقْبَلْ قَوْلُها عندَ أحدٍ فيما أعْلَمُ؛ لأنَّه لا يَحْتَمِلُ صِدْقَها. ¬

(¬1) في م: «تسعة».

3660 - مسألة: فإن ادعت انقضاء عدتها بالقروء في [أقل من]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3660 - مسألة: فإنِ ادَّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها بِالقُرُوءِ في [أقَلَّ مِن] (¬1) شَهْرٍ، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ شُرَيحًا قال: إذا ادَّعَتْ أنَّها حاضَت ثَلاثَ حِيَضٍ في شَهْرٍ، وجاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِن النِّساءِ العُدُولِ مِن بِطانَةِ أهْلِها، مِمَّن يُرْضَى صِدْقُه وعَدْلُه، أنَّها رَأتْ ما يُحَرِّمُ عليها الصَّلاةَ مِن الطَّمْثِ، وتَغْتَسِلُ عندَ كُلِّ قُرْءٍ وتُصَلِّي، فقد انْقَضَتْ عِدَّتُها، وإلَّا فهي (¬2) كاذِبَةٌ. فقال له عليُّ بنُ أبي طالبٍ، رَضِيَ الله عنه: قالُون. ومَعْناه بالرُّومِيَّةِ: أصَبْتَ أو أحْسَنْتَ (¬3). فأخَذَ أحمدُ بقَولِ عليٍّ في الشَّهْرِ. فإنِ ادَّعَتْ ذلك في أكْثَرَ مِن شَهْرٍ، صَدَّقَها، [على حديثِ: «إنَّ المرأةَ اؤْتُمِنَتْ على فرجِها] (¬4)». لأنَّها اؤْتُمِنَتْ على ذلك، وإنَّما لم يُصَدِّقْها في ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «في». (¬3) أخرجه الدَّارمي، في: باب في أقل الطهر، من كتاب الطهارة. سنن الدَّارمي 1/ 212، 213. وسعيد بن منصور، في: باب المرأة تطلق تطليقة أو تطليقتين. . . .، من كتاب الطلاق. سنن سعيد 1/ 309، 310. والبيهقي، في: باب تصديق المرأة فيما يمكن فيه انقضاء عدتها، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 418، 419. وتقدم مختصرًا في 2/ 396. (¬4) سقط من: م. والحديث أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 310. موقوفًا على أبي بن كعب. وابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 282. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 418. كلاهما موقوفًا على أبي بن كعب وعبيد بن عمير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهْرِ؛ لأنَّ حَيضَها ثلاثَ مَرَّاتٍ فيه يَنْدُرُ جدًّا، فرُجِّحَ بِبَيِّنَةٍ، ولا يَنْدُرُ فيما زاد على الشَّهْرِ كنُدْرَتِه فيه. وقال الشافعيُّ: لا يُقْبَلُ قَوْلُها في أقَلَّ مِن اثْنَين وثلاثينَ يَوْمًا ولَحْظَتَين؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ عندَه في أقَلَّ مِن ذلك. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْبَلُ في أقلَّ مِن ستِّينَ يومًا. وقال صاحِبَاه: لا تُصَدَّق (¬1) في أقلَّ من تِسْعَةٍ وثَلاثِينَ يومًا (¬2)؛ لأنَّ أقَلَّ الحَيضِ عندَهم ثَلَاثةُ أيَّامٍ، فثَلاثُ حِيَضٍ تِسْعَةُ أيَّامٍ، وطُهْران ثَلاثُونَ. والخِلافُ في هذا مَبْنِيٌّ على أقَلِّ الحَيضِ، وأقَلِّ الطُّهْرِ، وفي القُرْءِ ما هو. وممَّا يدُلُّ عليه في الجُمْلَةِ قَبُولُ عليٍّ وشُرَيحٍ بيَّنتَها على انْقِضاءِ عِدَّتِها في شَهْرٍ، ولولا تَصَوُّرُه لَما قُبِلَتْ عليه بَيِّنَةٌ، ولا سُمِعَتْ فيه دَعْوَى، ولا يُتَصَوَّرُ إلَّا بما قُلْناه. وأمَّا إنِ ادَّعَتِ انْقضاءَ العِدَّةِ في أقَلَّ مِن ذلك، لم تسْمَعْ دَعْواها، ولا يُصْغَى إلى بَيِّنتِها؛ لأنَّنا نَعْلَمُ كَذِبَها. فإن بَقِيَتْ على دَعْواها حتَّى أتَى عليها ما يُمْكِنُ صِدْقُها فيه، نَظَرْنا؛ فإن بَقِيَتْ على دَعْواها المرْدُودَةِ، لم يُسْمَعْ قَوْلُها؛ لأنَّها تَدَّعِي مُحالًا، وإنِ ادَّعَتْ أنَّها انْقَضَتْ عِدَّتُها في هذه المُدَّةِ كُلِّها، أو فيما يُمْكِنُ منها، قُبِلَ قَوْلُها؛ لأنَّه أمْكَنَ صِدْقُها. ولا فَرْقَ في ذلك بينَ الفاسِقَةِ والمَرْضِيَّةِ، والمُسْلِمَةِ والكافِرَةِ؛ لأنَّ ما يُقْبَلُ فيه قَوْلُ الإِنْسانِ على نَفْسِه، لا يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ حالِه، كإخْبارِه عن ¬

(¬1) في م: «يقبل». (¬2) بعده في م: «ولحظتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِيَّتِه (¬1) فيما تُعْتَبَرُ فيه نِيَّتُه (¬2). فصل: فإنِ ادّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها بوَضْعِ الحَمْلِ؛ فإنِ ادَّعَتْه لتَمامٍ، لم يُقْبَلْ قَوْلُها في أقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حِينِ إمْكانِ الوَطءِ بعدَ العَقْدِ؛ [لأنَّه لا يَكْمُلُ في أقلَّ مِن ذلك. وإنِ ادَّعَتْ أنّها أسْقَطَتْه، لم يُقْبَلْ قولُها في أقلَّ مِن ثمانين يومًا مِن حينِ إمكانِ الوطءِ بعدَ العَقْدِ] (¬3)؛ لأنَّ أقَلَّ سَقْطٍ تَنْقَضِي به العِدَّةُ [ما أتَى عليه ثمانون يَوْمًا؛ لأنَّه يكونُ نُطْفَةً أربعين يَوْمًا، وعَلَقَةً مثلَ ذلك، ثم يَصِيرُ مُضْغَةً بعدَ الثمانينَ، ولا تَنْقَضِي به العِدَّةُ] (¬4) قبلَ أن يَصِيرَ مُضْغَةً بحالٍ (¬5). وهذا ظاهِرُ قَوْلِ الشافعيِّ. فأمَّا إنِ ادَّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها بالشُّهورِ، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها فيه؛ لأنَّ الخِلافَ في ذلك يَنْبَنِي على الاخْتِلافِ في وقتِ (¬6) الطَّلاقِ، والقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فيه، فيكون القَوْلُ قَوْلَه فيما يَنْبَنِي عليه، إلَّا أن يَدَّعِيَ انْقِضَاءَ عِدَّتِها؛ لِيُسْقِطَ عن نَفْسِه نَفَقَتَها، مثلَ أن يقولَ: طَلَّقْتُكِ في شَوَّالٍ. فتقولَ هي: بل في ذِي القَعْدَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «بينة». (¬2) في الأصل: «البينة». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «قال». (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالقَوْلُ قَوْلُها؛ لأنَّه يَدَّعِي ما يُسْقِطُ النَّفَقَةَ، والأصْلُ وُجُوبُها، فلا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. فإنِ ادَّعَتْ ذلك ولم يَكُنْ لها نَفَقَةٌ، قُبِلَ قَوْلُها؛ لأنَّها تُقِرُّ على نَفْسِها بما هو أغْلَظُ. ولو انْعَكَسَ الحالُ، فقال: طَلَّقْتُكِ في ذِي القَعْدَةِ، فَلِي رَجْعَتُكِ. قالتْ: بلْ طَلَّقْتَنِي في شَوَّالٍ، فلا رَجْعَةَ لك. فالقَوْلُ قَوْلُه؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ نِكاحِه، ولأنَّ القَوْلَ قَوْلُه في إثْباتِ الطَّلاقِ ونَفْيِه، فكذلك في وَقْتِه. إذا ثَبَت ذلك، فكلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: القَوْلُ قَوْلُها. فأنْكَرَها الزَّوْجُ، فقال الخِرَقِيُّ: عليها اليَمِينُ. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ. وقد أوْمأ إليه أحمدُ في رِوايَةِ أبي طالِبٍ. وقال القاضي: قِياسُ المَذْهَبِ أن لا يَجِبَ عليها يَمِينٌ. وقد أوْمَأ إليه أحمدُ أَيضًا، فقال: لا يَمِينَ في نِكاحٍ ولا طَلاقٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنّ الرَّجْعَةَ لا يَصِحُّ بَذْلُها، فلا يُسْتَحْلَفُ فيها، كالحُدُودِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اليَمِينُ عَلَى المُدّعَى عَلَيهِ» (¬1). ولأنَّه حَقُّ آدَمِيٍّ يُمْكِنُ صِدْقُ مُدَّعِيه، فتَجِبُ اليَمِينُ فيه، كالأمْوالِ. فإن نَكَلَتْ عنِ اليَمِينِ، فقال القاضي: لا يُقْضَى بالنُّكُولِ؛ لأنه ممَّا (¬2) لا يَصِحُّ بَذْلُه. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن يُسْتَحْلَفَ الزَّوْجُ، وله رَجْعَتُها، بناءً (2) على القَوْلِ بِرَدِّ اليَمِينِ على المُدَّعِي؛ لأنَّه لمَّا وُجِدَ النُّكُولُ منها، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغني 10/ 567.

3661 - مسألة: (إذا قالت: انقضت عدتي. فقال: قد كنت راجعتك. فالقول قولها)

وَإذَا قَالتِ: انْقَضَتْ عِدَّتِي. فَقَال: قَدْ كُنْتُ رَاجَعْتُكِ. فَأنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظَهَرَ صِدْقُ الزَّوْجِ، وقَوىَ جانِبُهُ، واليَمِينُ تُشْرَعُ في حَقِّ مَن قَوِيَ جَانِبُهُ، ولذلك شُرِعَتْ في حَقِّ المُدَّعَى عليه؛ لقُوَّةِ جَانِبِه باليَدِ في العَينِ، وبالأصْلِ في بَراءَةِ الذِّمَّةِ في الدَّينِ. وهو مذْهَبُ الشافعي. فصل: إذا ادَّعَى الزَّوْجُ في عِدَّتِها أنَّه كان راجَعَها أمْسِ، أو مُنْذُ شَهْرٍ، قُبِلَ قَوْلُه؛ لأنَّه لمَّا مَلَكَ الرَّجْعَةَ، مَلَكَ الإقْرارَ بها، كالطَّلاقِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي وغيرُهم. فإن قال بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها: كُنْتُ راجَعْتُكِ في عِدَّتِكِ. فأنْكَرَتْه، فالقَوْلُ قَوْلُها بإجْماعِهِم؛ لأنَّه ادَّعاها في زَمَنٍ لا يَمْلِكُهَا، والأصْلُ عَدَمُها وحُصُولُ البَينُونَةِ. 3661 - مسألة: (إذا قالت: انْقَضَتْ عِدَّتِي. فقال: قد كُنْتُ رَاجَعْتُكِ. فالقَوْلُ قَوْلُها) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا كان اخْتِلافُهما في زَمَنٍ يُمْكِنُ فيه انْقِضاءُ عِدَّتِها وبَقاؤُها، فبَدَأتْ فقالتْ: قد (¬1) انْقَضَتْ عِدَّتِي. فقال: قد كُنْتُ راجَعْتُكِ. فأنْكَرَتْه، فالقَوْلُ قَوْلُها؛ لأنَّ خَبَرَها بانْقِضاءِ عِدَّتِها مَقْبُولٌ، لإمْكانِه، فصَارَتْ دَعْواه للرَّجْعَةِ بعدَ الحُكْمِ بانْقِضاءِ عِدَّتِها، فلم تُقْبَلْ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

3662 - مسألة: (وإن سبق فقال: ارتجعتك. فقالت: قد انقضت عدتي قبل رجعتك)

وَإنْ سَبَقَ فَقَال: ارْتَجَعْتُكِ. فَقَالتْ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3662 - مسألة: (وإن سَبَق فقال: ارتَجَعْتُك. فقالت: قد انْقَضَت عِدَّتِي قبلَ رَجْعتِكَ) فأنْكَرَها (فالقَوْلُ قَولُه) ذَكَره القاضي؛ لِمَا ذَكَرْنا. وهو أحَدُ الوُجُوهِ لأصحابِ الشافعيِّ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنّ قَوْلَها مَقْبُولٌ، سَواءٌ سَبَقَها بالدَّعْوَى أو سَبَقَتْه. وهو وَجْهٌ ثانٍ لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ البَينُونَةُ، والأصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، فكان الظَّاهِرُ معها, ولأنَّ مَن قُبِلَ قَوْلُه سابِقًا، قُبِلَ (¬1) مَسْبُوقًا، كسائِرِ مَن يُقْبَلُ قَوْلُه. ولهم وَجْهٌ ثالِثٌ، أنَّ القَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بكُلِّ حالٍ؛ لأنَّ المرْأة تَدَّعِي ما يَرْفَعُ النِّكاحَ، وهو يُنْكِرُه، فكان القَوْلُ [قولَه، كما لو ادَّعَى المُولِي والعِنِّينُ إصابةَ امرأتِه، فأنْكَرَتْه. وهذا لا يَصِحُّ، فإنَّه قد انْعَقَدَ سببُ البَينُونةِ، وهو مُفْضٍ إليها، ما لم يوجدْ ما يَرْفعُه ويُزِيلُ حُكْمَه، والأصْلُ عَدَمُه، فكان القولُ] (¬2) قَوْلَ مَن أنْكَرَه، بخِلافِ ما ¬

(¬1) في م: «كان كذلك». (¬2) سقط من: م.

3663 - مسألة: (وإن تداعيا معا، قدم قولها)

وَإنْ تَدَاعَيَا مَعًا، قُدِّمَ قَوْلُهَا. وَقِيلَ: يُقَدَّمُ قَوْلُ مَنْ تَقَعُ لَهُ القُرْعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قاسوا عليه. 3663 - مسألة: (وإن تَداعَيا مَعًا، قُدِّمَ قَوْلُها) لأنَّ خَبَرَها بانْقِضَاءِ عِدَّتِها يكونُ بعدَ انْقِضَائِها، فيَكونُ قَوْلُه بعدَ العِدَّةِ، فلا يُقْبَلُ (وقيلَ: يُقَدَّمُ مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ احْتِمالًا. والصَّحِيحُ الأولُ. فصل: فإنِ اخْتَلَفَا في الإصابَةِ فقال: قد أصَبْتُكِ، فلي رَجْعَتُكِ. فأنْكَرَتْه، أو قالت: قد أصابَنِي، فلِيَ المَهْرُ كاملًا. فالقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ منهما؛ لأنَّ الأصْلَ معه، فلا يَزُولُ إلَّا بيَقِينٍ، وليس له رَجْعَتُها في الموْضِعَينِ؛ لأنَّه إن أنْكَرَ الإِصابَةَ، فهو يُقِرُّ على نَفْسِه بِبَينُونَتِها، وأنَّه لا رَجْعَةَ له عليها. وإن أنْكَرَتْها هي، فالقَوْلُ قَوْلُها, ولا تَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَ المَهْرِ، وإن أنْكَرَها، فالقَوْلُ قَوْلُه. هذا إذا كان المَهْرُ غيرَ مَقْبُوضٍ، فإن كان اخْتِلافُهُما بعدَ قَبْضِها له، وادَّعَى إصابَتَها فأنْكَرَته، لم يَرْجِعْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها بشيءٍ؛ لأنه يُقِرُّ لها به ولا يَدَّعِيهِ. وإن كان هو المُنْكِرَ، رَجَعَ عليها بنِصْفِه. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. فإن قيلَ: فلِمَ قَبِلْتُمْ قَوْلَ المُولِي والعِنِّينِ في الإِصابَةِ، ولم تَقْبَلُوه ههُنا؟ قُلْنا: لأنَّ (¬1) المُولِيَ والعِنِّينَ يَدَّعِيان ما يُبْقِي النِّكاحَ على الصِّحَّةِ، ويَمْنَعُ فَسْخَه، والأصْلُ صِحَّةُ العَقْدِ وسَلامَتُه، فكان قَوْلُهما مُوافِقًا للأصْلِ، فقُبِلَ، وفي مسْألَتِنا قد وَقَعَ ما يَرْفَعُ النِّكاحَ ويُزِيلُه، وهو ما والى (¬2) بَينُونَتِه، وقد اخْتَلَفا فيما يَرْفَعُ حُكْمَ الطَّلاقِ، ويُثْبِتُ له الرَّجْعَةَ، والأصْلُ عدَمُ ذلك، فكان قَوْلُه مُخالِفًا للأصْلِ، فلم يُقْبَلْ، ولأنَّ المُولِيَ والعِنِّينَ يَدَّعِيان الإِصابَةَ في مَوْضِعٍ تحَقّقَتْ فيه الخَلْوَةُ والتَّمْكِينُ مِن الوَطْءِ؛ لأنَّه لو لم يُوجَدْ ذلك لَمَا اسْتَحَقَّتا الفَسْخَ بعَدَمِ الوَطْءِ، فكان الاخْتِلافُ فيما يَخْتَصُّ به، وفي مسْألَتِنا لم تَتَحقَّقْ خَلْوَةٌ ولا تَمْكِينٌ؛ لأنَّه لو تَحَقَّقَ ذلك لَوجَبَ المَهْرُ كامِلًا، فكان الاخْتِلافُ في أمْرٍ ظاهِرٍ لا يَخْتَصُّ به، فلم يُقْبَلْ فيه قَوْلُ مُدَّعِيه إلَّا ببَيِّنَةٍ. وهل تُشْرَعُ اليَمِينُ في حَقِّ مَن القَوْلُ قَوْلُه؟ على وَجْهَينِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «إلى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخَلْوَةُ كالإِصابَةِ في إثْباتِ الرَّجْعَةِ للزَّوْجِ على المرْأَةِ التي خَلا بها، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لقَوْلِه: حُكْمُها حُكْمُ الدُّخولِ في جَميعِ أُمُورها. وهذا قَوْلُ الشافعيِّ [القَدِيمُ. وقال أبو بكرٍ: لا رَجْعَةَ له عليها، إلَّا أن يُصِيبَها. وبه قال أبو حنيفةَ، وصَاحِباه، والشافعيُّ] (¬1) في الجدِيدِ؛ لأنَّها غَيرُ مُصابَةٍ، فلا يَسْتَحِقُّ رَجْعَتَها، كالتي لم يَخْلُ بها. ووَجْهُ الأوَّلِ قَوْلُه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. إلى قَوْلِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬2). ولأنَّها مُعْتَدَّةٌ مِن طَلاقٍ لا عِوَضَ فيه، ولم تَسْتَوْفِ عَدَدَه، فثَبَتَتْ عليها الرَّجْعَةُ، كالمَوْطُوءَةِ، ولأنَّها مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُها طَلاقُه، فَمَلَكَ رَجْعَتَها، كالتي أصابَها. وفارَقَ التي لم يَخْلُ بها، فإنَّها بائِنٌ منه لا عِدَّةَ لها, ولا يَلْحَقُها طَلاقُه، وإنَّما تكون الرَّجْعَةُ للمُعْتَدَّةِ التي يَلْحَقُها طَلاقُه. والخِلافُ في هذا مَبْنِيٌّ على وُجوبِ العِدَّةِ بالخَلْوَةِ مِن غيرِ إصابَةٍ، ويُذْكَرُ في مَوْضِعِه، إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 228.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ ادَّعَى زَوْجُ الأمَةِ بعدَ عِدَّتِها [أنَّه كان راجَعَها في عِدَّتِها] (¬1)، فأنْكَرَتْه، وصَدَّقَه مَوْلاها، فالقَوْلُ قَوْلُها. نَصَّ عليه. وبذلك قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وهو أحَقُّ بها؛ لأنَّ إقْرارَ مَوْلَاها مَقْبُولٌ في نِكاحِها، فقُبِلَ في رَجْعَتِها، كالحُرَّةِ إذا أقَرَّتْ. ولَنا، أنَّ قَوْلَها في انْقِضاءِ عِدَّتِها مَقْبُولٌ، فقُبِلَ إنْكارُها للرَّجْعَةِ كالحُرَّةِ، ولأنَّه اخْتِلافٌ منهما فيما يَثْبُتُ به النِّكاحُ، فيَكونُ المُنازِعُ هي دُونَ سَيِّدِها، كما لو اخْتَلَفا في الإِصابَةِ، وإنَّما قبِلَ قَوْلُ السَّيِّد في النِّكاحِ؛ لأنَّه يَمْلِكُ إنْشاءَه، فَمَلَكَ الإِقْرارَ به، بخِلافِ الرَّجْعَةِ. وإن صَدَّقَتْه وكَذَّبَه مَوْلَاها, لم يُقْبَلْ إقْرارُها؛ لأنَّ حَقَّ السَّيِّدِ تعَلَّقَ بها، وحَلَّتْ له بانْقِضَاء عِدَّتِها، فلم يُقْبَلْ قَوْلُها في إبْطالِ حَقِّه، كما لو تَزَوَّجَتْ، ثم أقَرَّتْ أنَّ مُطَلِّقَها كان راجَعَها, ولا يَلْزَمُ مِن قَبُولِ إنْكارِها قَبُولُ تَصْدِيقِها، كالتي تَزَوَّجَتْ، فإنَّه يُقْبَلُ إنْكارُها ولا يُقْبَلُ تَصْدِيقُها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ مَوْلَاها إذا عَلِمَ صِدْقَ الزَّوْجِ، لم يَحِلَّ له وَطْؤُها، ولا تَزْويجُها، وإن عَلِمَتْ هي صِدْقَ الزَّوْجِ في رَجْعَتِها، فهي حَرامٌ على سَيِّدِها, ولا يَحِلُّ لها تَمْكِينُه مِن وَطْئِها إلَّا مُكْرَهَةً، كما قبلَ طَلاقِها. فصل: ولو قالت: انْقَضتْ عِدَّتِي. ثم قالت: ما انْقَضَتْ بَعْدُ. فلَه ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَإنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ، وَيَطَأَها في الْقُبُلِ، وَأَدْنَى مَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ في الْفَرجِ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجْعَتُها؛ لأنَّها أقَرَّتْ بكَذِبِها فيما يَثْبُتُ به حَقٌّ عليها، فقُبِلَ إقْرارُها. ولو قال: أخْبَرَتْنِي بانْقِضاءِ عِدَّتِها. ثم راجَعَها (¬1)، ثم أقَرَّتْ بكَذِبِها في انْقِضاءِ عِدَّتِها، أو أنْكَرَتْ ما ذَكَرَ عنها، وأقَرَّتْ بأنَّ عِدَّتَهَا لم تَنْقَضِ، فالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ؛ لأنَّه لِم يُقِرَّ بانْقِضاءِ عِدَّتِها، وإنَّما أخْبَرَ بخَبَرِها عن ذلك، وقد رَجَعَتْ عن خبَرِها، فقُبِلَ رُجُوعُها؛ لِما ذَكَرْناه. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَهُ اللهُ: (وإن طَلَّقَها ثلَاثًا، لم تَحِلَّ له حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَه، ويَطَأها في القُبُلِ، وأدْنَى ما يَكْفي مِن ذلك تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرْجِ، وإن لم يُنْزِلْ) وجملةُ ذلك، أنَّ المرْأةَ إذا لم يُدْخَلْ بها تُبِينُها طَلْقَةٌ (¬2)، وتُحَرِّمُها الثَّلاثُ مِن الحُرِّ، والاثْنَتان من العَبْدِ. وقد أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على أنَّ غيرَ المدْخُولِ بِها تَبِينُ بطَلْقَةٍ واحدةٍ، ولا يَسْتَحِقُّ مُطَلِّقُها رَجْعَتَها؛ لأنَّ الرَّجْعَةَ إنَّما تكونُ في العِدَّةِ، ولا عِدَّةَ ¬

(¬1) في م: «راجعتها». (¬2) في م: «تطليقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ الدُّخُولِ، لقَوْلِ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬1). فبَيَّنَ سبحانَهُ أنَّه لا عِدَّةَ عليها، فتَبِينُ بِمُجَرَّدِ طَلاقِهَا، وتَصِيرُ كالمدْخُولِ بها بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها, لا رَجْعَةَ عليها, ولا نَفَقَةَ لها. فإن رَغِبَ فيها مُطَلِّقُها، فهو خاطِبٌ مِن الخُطَّابِ، لا تَحِلُّ له إلَّا أن يتَزَوَّجَها برِضَاهَا نِكاحًا (¬2) جَدِيدًا، وتَرْجِعُ إليه بطَلْقَتَين. وإنْ طَلَّقَها اثْنَتَين، ثم تَزَوَّجَها، رَجَعَتْ إليه بطَلْقَةٍ واحدةٍ، بغيرِ خِلافٍ، إن لم تَكُنْ تَزَوَّجَتْ غيرَه، بغيرِ خِلافٍ. فإن طَلَّقَها ثلاثًا بلَفْظٍ واحدٍ، حَرُمَت عليه حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، في قَوْلِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. وقد ذَكَرْنا ذلك فيما مَضَى، ولا خِلافَ بينَهم في أنَّ المُطَلَّقَةَ ثلَاثًا بعدَ الدُّخول، لا تَحِلُّ له (2) حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، لقَولِ اللهِ سبحانَه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} (¬3). ورَوَتْ عائشةُ أنَّ امرأةَ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ جاءتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّها كانت عندَ رِفاعَةَ، فَطَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْليقاتٍ، فتَزوَّجَتْ بعدَه بعبدِ الرَّحمنِ بنِ الزَّبِيرِ، [وإنَّه] (¬4) ¬

(¬1) سورة الأحزاب 49. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 230. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللهِ ما معه إلَّا مِثْلُ هذه الهُدْبَةِ (¬1). وأخَذَتْ بهُدْبَةٍ مِن جِلْبابِها. فتَبَسَّمَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَاحِكًا، وقال: «لَعَلَّكِ (¬2) تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيلَتَهُ». مُتَّفَق عليه (¬3). وفي إجْماعِ أهْلِ العِلْمِ على هذا غُنْيَةٌ عن الإِطالةِ فيه. وجُمْهُورُ العُلَماءِ على أنَّها لا تَحِلُّ للزَّوْجِ الأوَّلِ حتَّى يَطَأها الثَّانِي وَطْئًا يُوجَدُ فيه الْتِقاءُ الخِتانَين، إلَّا أنَّ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ مِن بينِهم، قال: إذا تَزَوَّجَها تَزْويجًا صَحِيحًا، لا يُرِيدُ به إحْلالًا، فلا بأْسَ أن يَتَزَوَّجَها الأوَّلُ (¬4). قال ابنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلَمُ أحدًا مِن أهلِ العِلْمِ قال بقَوْلِ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ هذا، إلَّا الخَوارِجَ أخَذُوا بظاهِرِ قوْلِه سبحانَه: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. ومع تَصْرِيحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ببَيَانِ المُرادِ مِن كتابِ اللهِ تعالى، وأنَّها لا تَحِلُّ للأوَّلِ حتَّى يَذُوقَ الثّانِي عُسَيلَتَها وتَذُوقَ عُسَيلَتَه، لا يُعَرَّجُ على شيءٍ سِواه، ولا يَسُوغُ لأحدٍ المَصِيرُ إلى (¬5) غيرِه، مع ما عليه جُمْلَةُ أهلِ العِلْمِ؛ منهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عمرَ (¬6)، وابنُ عبَّاس، وجابِرٌ، وعائشةُ، رَضِيَ الله عنهم، ومِمَّن بعدَهم مَسْرُوقٌ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، ¬

(¬1) سقط من: م. وهدبة الثوب: طرف الثوب الذي لم ينسج، والمعنى: أرادت متاعه وأنه رخو مثل طرف الثوب لا يغني عنها شيئًا. (¬2) سقط من: م (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 411. (¬4) سقط من: م. والأثر أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 2/ 49. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) بعده في م: «وابن عمرو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأهلُ المدِينَةِ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، والأوْزاعيُّ، وأهلُ الشَّامِ, والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وغيرُهم. فصل: ويُشْتَرَطُ لحِلِّها للأوَّلِ ثلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أن تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَه، فلو كانت أمَةً، فوَطِئَها سَيِّدُها, لم تَحِلَّ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. وهذا ليس بزَوْجٍ. الشَّرْطُ الثَّاني، أن يكونَ نِكاحًا صَحِيحًا، فلو كان فاسِدًا لم يُحِلَّها الوَطْءُ فيه. وبهذا قال الحسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ في الجَدِيدِ. وقال في القَدِيمِ: يُحِلُّها ذلك (¬1). وهو قَوْلُ الحَكَمِ. وخَرَّجَه أبو الخطَّاب وَجْهًا في المَذْهَبِ؛ لأنَّه زَوْجٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ له (¬2). فسَمَّاه مُحَلِّلًا مع فسادِ نِكاحِه. ولَنا، قَوْلُه تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. وإطْلاقُ النِّكاحِ يَقْتَضِي الصَّحِيحَ، ولذلك لو حَلَف لا يَتَزَوَّجُ، فَتَزَوَّجَ تَزْويجًا فاسِدًا، لم يَحْنَثْ. ولو حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ، لم يَبَرَّ بالتَّزَوُّجِ الفاسِدِ. ولأنَّ أكثَرَ أحْكامِ التَّزْويجِ غَيرُ ثابِتَةٍ فيه، مِن الإِحْصانِ، واللِّعانِ، والظِّهارِ، والإيلاءِ، والنَّفَقَةِ، وأشْباهِ ذلك. وأمَّا تَسْمِيَتُه مُحَلِّلًا، فلِقَصْدِه التَّحْلِيلَ فيما لا يَحِلُّ، ولو أحَلَّ حَقِيقَةً لَما لُعِنَ، ولا لُعِنَ المُحَلَّلُ له، وإنَّما هذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 406.

3664 - مسألة: (فإن كان مجبوبا)

فَإِنْ كَانَ مَجْبُوَبًا بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ، فَأَوْلَجَهُ، أَوْ وَطِئَهَا زَوْجٌ مُرَاهِقٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما آمَنَ بالقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» (¬1). وقال اللهُ تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} (¬2). ولأنَّه وَطْءٌ في غيرِ نِكاحٍ صَحِيحٍ، أشْبَه وَطءَ الشُّبْهَةِ. وعلى هذا، لو وَطِئَها بشُبْهَةٍ، لم تُبَحْ؛ لأنَّه (¬3) غيرُ نِكاحٍ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أن يَطَأها في الفَرْجِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ عائشةَ. فعلى هذا، إن وَطِئَها دُونَ الفَرْجِ، أو في الدُّبُرِ، لم يُحِلَّها؛ لأنَّه عَلَّقَ الحِلَّ على ذَواقِ (¬4) العُسَيلَةِ، ولا يَحْصُلُ إلَّا بالوَطءِ في الفَرْجِ، وأدْناهُ تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرْجِ وإن لم يُنْزِل؛ لأنَّ أحْكامَ الوَطْءِ تَتَعلَّقُ [به، ولو أوْلَجَ الحَشَفَةَ مِن غيرِ انْتِشارٍ لم تَحِلَّ؛ لأنَّ الحُكْمَ يَتَعَلَّقُ] (¬5) بذَواقِ العُسَيلَةِ، ولا يَحْصُلُ مِن غيرِ انْتِشَارٍ. 3664 - مسألة: (فإن كان مَجْبُوبًا) قَدْ (بَقِيَ مِن ذَكَرِه قَدْرُ الحَشَفَةِ، فأوْلَجَه) أحَلَّها، وإلَّا فلا (وإن وَطِئَها زَوْجٌ مُراهِقٌ، أحَلَّها) في قَوْلِهم، إلَّا مالِكًا، وأبا عُبَيدٍ، فإنَّهُما قالا: لا يُحِلُّهَا. وَيُرْوَى ذلك ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 414. (¬2) سورة التوبة 37. (¬3) بعده في م: «في». (¬4) في الأصل: «ذوق». (¬5) سقط من: م.

3665 - مسألة: فإن كانت ذمية، فوطئها زوجها الذمي، أحلها لمطلقها المسلم

أَوْ ذِمِّيٌّ وهِيَ ذِمِّيَّةٌ، أَحَلَّهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الحسنِ؛ لأنَّه وَطْءٌ مِن غَيرِ بالِغٍ، فأشْبَهَ وَطْءَ الصَّغِيرِ. ولَنا، ظاهِرُ النَّصِّ، وأنَّه وَطْءٌ مِن زَوْجٍ في نِكاحٍ صَحِيحٍ، فأشْبَهَ البالِغ، ويُخالِفُ الصَّغِيرَ؛ فإنَّه لا يُمْكِنُ الوَطْءُ منه، ولا تُذاقُ عُسَيلته. قال القاضي: يُشْتَرَطُ أن يكونَ له اثْنَتا عَشْرَةَ سَنَةً؛ لأنَّ مَن دُونَ ذلك لا يُمْكِنُه المُجامَعَة. ولا مَعْنى لهذا؛ فإنَّ الخِلافَ في المُجَامِعِ (¬1)، ومتى أمْكَنَه الجِماعُ، فقد وُجِدَ منه المقْصُودُ، فلا مَعْنَى لاعْتِبارِ سِنٍّ ما ورَد (¬2) الشَّرْعُ باعْتِبارِها، وتَقْدِيرٍ بمُجَرَّدِ الرَّأْي والتَّحَكُّمِ. 3665 - مسألة: فإن كانت ذِمِّيَّةً، فوَطِئَها زَوْجُها الذِّمِّيُّ، أحَلَّها لمُطَلِّقِها المُسلمِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال: هو زَوْجٌ، وبه تَجِبُ المُلاعَنَةُ والقَسَمُ. وبه قال الحسَنُ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ. وقال رَبِيعَةُ، ومالكٌ: لا يُحِلُّها. ولَنا، ظاهِرُ الآيَةِ، ولأنَّه وَطْءٌ مِن زَوْجٍ في نِكاحٍ صَحِيحٍ تَامٍّ، أشْبَهَ وَطْءَ المُسْلِمِ. ¬

(¬1) في م: «المجامعة». (¬2) بعده في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كانا مَجْنُونَين، أو أحَدُهما، فوَطِئها، أحَلَّها. وقال أبو عبدِ الله بنُ حامِدٍ: لا يُحِلُّها؛ لأنَّه لا يَذُوقُ العُسَيلَةَ. ولَنا، ظاهِرُ الآيَةِ، ولأنَّه وَطْءٌ مُباحٌ في نِكاحٍ صَحِيحٍ، أشْبَهَ العاقِلَ. وقَوْلُه: لا يَذوقُ العُسَيلَةَ. لا يَصِحُّ، فإنَّ الجُنُونَ إنَّما هو تَغْطِيَةُ العَقْلِ، وليس العَقْلُ شَرْطًا في الشَّهْوَةِ وحُصُولِ اللَّذَّةِ، بدَلِيلِ [البَهائِمِ، لكن إن كان المجْنُونُ ذاهِبَ الحِسِّ، كالمصْرُوعِ والمُغْمَى عليه، لم يَحْصُلِ الحِلُّ بوَطْئِه، ولا بوَطْءِ مَجْنُونَةٍ في هذه] (¬1) الحَالِ؛ لأنَّها لا تَذُوقُ العُسيلَةَ، ولا تَحْصُلُ لها لَذَّةٌ. ولعلَّ ابنَ حامِدٍ إنَّما أَرادَ المجْنُونَ الذي هذا حالُه، فلا يكونُ ههُنا اخْتِلافٌ. [ولو وَطِئَ] (¬2) مُغْمًى عليها، أو نائِمَةً لا تُحِسُّ بوَطْئِه، فيَنْبَغِي أن لا تَحِلَّ بهذا؛ لِما ذَكَرْنا. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ. ويَحْتَمِلُ حُصُولُ الحِلِّ في ذلك كُلِّه؛ لعُمُومِ النَّصِّ. فإن وَجَدَ على فِراشِه امْرَأةً، فَظَنَّها أجْنَبِيَّةً، أو ظَنَّها جارِيَتَه، فوَطِئَها، فإذا هي امْرَأتُه، أحلَّها؛ لأنَّه صادَفَ نِكاحًا صَحِيحًا. ولو وَطِئها فأفْضاها، أو وَطِئَها وهي مَرِيضَةٌ تَتَضَرَّرُ بوَطْئِه، أحَلَّها؛ لأنَّ التَّحْرِيمَ ههُنا لِحَقِّها. وإنِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَه وهو نَائِمٌ، أو مُغْمًى عليه، لم تَحِلَّ؛ لأنَّه لم يَذُقْ عُسَيلَتَها. ويَحْتَمِلُ أن تَحِلَّ؛ لعُمُومَ الآيَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «وكوطء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان خَصِيًّا، أو مَسْلُولًا، أو مَوْجُوءًا، حَلَّتْ بوَطْئِه؛ لأنَّه يَطَأ كالفَحْلِ، ولم يَفْقِدْ إلَّا الإِنْزال، وهو غَيرُ مُعْتَبَرٍ في الإِحْلالِ. وهذا قَوْلُ الشافعيِّ. قال أبو بكرٍ: وقد رُوِيَ عن أحمدَ في الخَصِيِّ، أنّه لا يُحِلُّها؛ فإنَّ أَبا طالِبٍ سألَه عن المرْأةِ تَتَزَوَّجُ الخَصِيَّ، تُسْتَحَلُّ به؟ قال: لا [خَصِيَّ يَذُوقُ] (¬1) العُسَيلَةَ. قال أبو بكرٍ: والعَمَلُ على ما رَواه مُهَنَّا، أنَّها تَحِلُّ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الخَصِيَّ لا يَحْصُلُ منه الإِنْزالُ، فلا تَنالُ لَذَّةَ الوَطْءِ، فلا تَذُوقُ العُسَيلَةَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ قال ذلك؛ لأنَّ الخَصِيَّ في الغَالِبِ لا يَحْصُلُ منه الوَطْءُ، أو ليس مَظِنَّةَ الإِنْزالِ، فلا يَحْصُلُ الإِحْلالُ بوَطْئِه، كالوَطْءِ مِن غيرِ انْتِشارٍ. والأولى، إن شاءَ اللهُ، حُصُولُ الإِحْلالِ به؛ لأنَّه يَحْصُلُ بوَطْءِ المُراهِقِ الذي لا يَحْصُلُ منه الإِنْزالُ، ولذلك تَحِلُّ المُرَاهِقَةُ التي لا يُتَصَوَّرُ منها الإِنْزَالُ قبلَ البُلُوغِ، كذلك هذا. وعلى هذا، يُمْنَعُ أنَّه (¬2) لا يَذُوقُ (¬3) العُسَيلَةَ إذا حَصَلَ منه الانْتِشارُ كغيرِ البالغِ، ولدُخُولِه في عُمُومِ الآيَةِ. ¬

(¬1) في م: «حتَّى تذوق». (¬2) في م: «أن». (¬3) في م: «تذوق».

3666 - مسألة: (وإن وطئها في الدبر، أو وطئت بشبهة، أو بملك يمين، لم تحل)

وَإنْ وَطِئَهَا في الدُّبُرِ، أوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، أوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ، لَمْ تَحِلَّ، وَإنْ وُطِئَتْ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ، لَمْ تَحِلَّ في أصَحِّ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3666 - مسألة: (وإن وَطِئها في الدُّبُرِ، أو وُطِئَتْ بشُبْهَةٍ، أو بمِلْكِ يَمِين، لمْ تَحِلَّ) لأنَّ الوَطْءَ في الدُّبُرِ لا تَذُوقُ به العُسَيلَةَ، والوَطْءُ بالشبْهَةِ وبمِلْكِ اليَمِينِ وَطْءٌ مِن غيرِ زَوْجٍ، فلا يدخلُ في عُمُومِ قولِه تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. فتَبْقَى على المَنْعِ. فصل: فإن وَطِئَها في رِدَّتِه، أو رِدَّتِها, لم يُحِلَّها؛ لأنَّه إن عاد إلى الإسْلامِ، فقد وَقَعَ الوَطْءُ في نِكاحِ غيرِ تامٍّ؛ لانْعِقادِ سبَبِ البَينُونَةِ، وإنْ لم يُسْلِمْ (¬1) في العِدَّةِ، فلم يُصادِفِ الوَطْءُ نِكاحًا. وهكذا لو أسْلَمَ أحَدُ الزَّوْجَين، فوَطِئَها (¬2) الزَّوْجُ قبلَ إسْلامِ الآخَرِ، لم يُحِلَّها لذلك. ¬

(¬1) في م: «تسلم». (¬2) سقط من: الأصل.

3667 - مسألة: (وإن وطئها زوجها في حيض، أو نفاس، أو إحرام، أحلها. وقال أصحابنا: لا يحلها)

وَإنْ وَطِئَهَا زَوْجُهَا في حَيضٍ، أَوْ نِفَاسٍ، أوْ إِحْرَامٍ، أَحَلَّهَا. وَقَال أَصْحَابُنَا: لَا يُحِلُّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3667 - مسألة: (وإن وَطِئَها زَوْجُها في حَيضٍ، أو نِفَاسٍ، أو إحْرامٍ، أحَلَّها. وقال أصْحابُنا: لا يُحِلُّها) اشْتَرَطَ أصْحابُنا أن يكونَ الوَطْءُ حلالًا. فعلى قَوْلِهم، [إن وَطِئَها] (¬1) في حَيضٍ، أو نِفَاسٍ، أو إحْرامٍ، أو صِيَامِ فرْضٍ مِن أحَدِهما، أو مِنْهما، لم تَحِلَّ. وهو قَوْلُ مالكٍ؛ لأنَّه وَطْءٌ حرامٌ لحَقِّ الله تعالى، فلم يحْصُلْ به الإِحْلالُ، كوَطْءِ المُرْتَدَّةِ. وظاهِرُ النَّصِّ حِلُّها، وهو قولُه تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. وهذه قَد نَكَحَتْ زَوْجًا غيرَه، وأيضًا قولُه عليه السَّلامُ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيلَتَهُ، ويَذُوقَ عُسَيلَتَكِ» (¬2). وقد وُجِدَ، ولأنَّه وَطْءٌ في ¬

(¬1) في الأصل: «أوطئها». (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 411.

3668 - مسألة: (ولو كانت أمة فاشتراها مطلقها, لم يحل)

وَإنْ كَانَتْ أمَةً فَاشْتَرَاهَا مُطَلِّقُهَا، لَمْ تَحِلَّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ تَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نِكاحٍ صحيحٍ في محَلِّ الوَطْءِ على سَبِيلِ التَّمامِ، فأحَلَّها، كالوَطْءِ المُباحِ، وكما لو وَطِئَها وقد ضاقَ وَقْتُ الصَّلاةِ، أوَ وَطِئَها مَرِيضَةً يَضُرُّها الوَطْءُ. وهذا أَصَحُّ إن شاءَ اللهُ تَعالى. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومذهبُ الشافعيِّ. فأمَّا وَطْءُ المُرْتَدَّةِ، فقد ذَكَرْناه، وأشَرْنا إلى الفَرْقِ. فصل: فإن تَزَوَّجَها مَمْلُوكٌ، ووَطِئَها، أحَلَّها. وبذلك قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا؛ لأنَّه دخَلَ في عُمُوم النَّصِّ، ووَطْؤُه كوَطْءِ الحُرِّ. 3668 - مسألة: (ولو كانت أمَةً فاشْتَراها مُطَلِّقُها, لم يِحِلَّ) له وَطْؤُها، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ (ويحتَمِلُ أن تَحِلَّ) وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: تَحِلُّ له؛ لأنَّ الطلاقَ يَخْتَصُّ الزَّوْجِيَّةَ، فأَثَّرَ في

3669 - مسألة: (وإن طلق العبد زوجته اثنتين، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، سواء عتقا أو بقيا على الرق)

وَإنْ طَلَّقَ الْعَبْدُ امْرَأتَهُ طَلْقَتَينِ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ، سَوَاءٌ عَتَقَا أَوْ بَقِيَا عَلَى الرِّقِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّحريمِ بها. وقولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ}. صَرِيحٌ في تَحْرِيمِها، فلا نُعَوِّلُ على ما خالفَه، ولأنَّ الفَرْجَ لا يجوزُ أن يكونَ مُحَرَّمًا مُباحًا، فسقَطَ هذا. 3669 - مسألة: (وإن طَلَّقَ العَبْدُ زَوْجَتَه اثْنَتَين، لم تَحِلَّ له حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَه، سواءٌ عَتَقا أو بَقِيا على الرِّقِّ) وجملةُ ذلك، أنَّ الطَّلاقَ مُعْتَبَرٌ بالرِّجَالِ، فإذا كان الزَّوْجُ حُرًّا، فطَلاقُه ثلاثٌ، حُرَّةً كانتِ الزَّوْجَةُ أو أمَةً، وإن كان عَبْدًا، فطَلاقُه اثْنَتان، حُرَّةً كانت زَوْجَتُه أو أمَةً. فإذا طَلَّقَ اثْنَتَين، حَرُمَتْ عليه حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وزيدٍ، وابنِ عباسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّ الطَّلاقَ بالنِّسَاءِ. وقد ذَكَرْنا ذلك في كتابِ الطَّلاقِ (¬1). والمُخْتارُ أنَّ الطَّلاقَ بالرِّجالِ، والتَّفْرِيعُ عليه. فعلى هذا، إذا طَلَّقَها اثْنَتَين، حَرُمَتْ عليه بالطَّلاقِ تَحْرِيمًا لا ينْحَلُّ إلَّا بزَوْجٍ وإصابَةٍ، ولم يُوجَدْ ذلك، فلا يَزُولُ التَّحْرِيمُ. هذا ظاهِرُ المذْهَبِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّه يَحِلُّ له أن يَتَزَوَّجَهَا، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 22/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَبْقَى عندَه على واحدةٍ. وذَكَرَ حدِيثَ ابنِ عباسٍ في الممْلُوكَينْ: «إذَا طَلَّقَها تَطْليقَتَين، ثم عَتَقَا (¬1)، فله أن يَتَزَوَّجَهَا» (¬2). وقال: لا أرَى شيئًا يَدْفَعُه، وغيرُ واحدٍ يقولُ به، أبو سَلَمَةَ، وجابِرٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ. رَواه الإمامُ أحمدُ في «المُسْنَدِ» (¬3). وأكْثَرُ الرِّواياتِ عن أحمدَ على (¬4) الأوَّلِ. وقال في حديثِ عثمانَ وزيدٍ (¬5) في تَحْرِيمِها عليه: جَيِّدٌ، وحَدِيثُ ابنِ عباسٍ يَرْويه [عمرُ بنُ مُعَتِّبٍ] (¬6)، ولا أعْرِفُه. وقال ابنُ المُبَارَكِ: مَن أبو حَسَنٍ (¬7) هذا؟ لقد حَمَلَ صَخْرَةً عظيمةً. مُنْكِرًا لهذا الحديثِ. قال أحمدُ: أمَّا أبو حَسَنٍ فهو عندِي معْرُوفٌ، ولكن لا أعْرِفُ [عمرَ بنَ مُعَتِّبٍ] (¬8). قال أبو بكرٍ: إن صَحَّ الحديثُ، فالعَمَلُ عليه، وإن لم ¬

(¬1) في الأصل: «عتقها». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في سنة طلاق العبد، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 505. والنسائي، في: باب طلاق العبد، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 126. وابن ماجه، في: باب من طلق أمة تطليقتين ثم اشتراها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 673. (¬3) المسند 1/ 229، 334. (¬4) زيادة من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 22/ 310. (¬6) في الأصل: «عمرو بن شعيب». وفي م: «عمرو بن مغيث». خطأ. وهو عمر بن معتب، ويقال: ابن أبي معتب المدني. روى عن أبي حسن مولى بني نوفل، وعنه يحيى بن أبي كثير. ضعفوه. تهذيب التهذيب 7/ 498. (¬7) أبو حسن مولى بني نوفل المدني، روى عن ابن عباس، وعنه الزُّهْرِي وعمر بن معتب. وثقوه. تهذيب التهذيب 12/ 73، 74. (¬8) في النسختين: «عمرو بن مغيث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحَّ، فالعَمَلُ على حَدِيثِ عثمانَ وزيدٍ، وبه أقولُ. قال أحمدُ: ولو طَلَّقَ عبدٌ زوْجَتَه الأمَةَ تَطْلِيقَتَين، ثم عَتَقَ واشْتَرَاها, لم تَحِلَّ له. ولو تَزَوَّجَ وهو عبدٌ، فلم يُطَلِّقْها، أو طَلَّقَها واحدةً، ثم عَتَقَ، فله عليها ثلاثُ تَطْلِيقَاتٍ، أو طَلْقَتان إن كان طَلَّقَها واحدةً؛ لأنَّه في حالِ الطَّلاقِ حُرٌّ، فاعْتُبِرَ حالُه حِينَئذٍ، كما يُعْتَبَرُ حالُ المرْأةِ في العِدَّةِ حِينَ وُجُودِها. ولو تَزَوَّجَها وهو حُرٌّ كافرٌ، فسُبِيَ واسْتُرِقَّ، ثُمَّ أسْلَما جميعًا، لم يَمْلِكْ إلَّا طلاقَ العَبِيدِ، اعْتِبارًا بحالِه حينَ الطَّلاقِ. ولو طَلَّقَها في كُفْرِه واحدةً ورَاجَعَها، ثم سُبِيَ واسْتُرِقَّ، لم يَمْلِكْ إلَّا طَلْقَةً واحدةً. ولو طَلَّقَها في كُفْرِه طَلْقَتَين، ثم اسْتُرِقَّ، فأرادَ التَّزَوجَ بها، جازَ، وله طَلْقَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ الطَّلْقَتَين وقَعَتا غير مُحَرِّمَتَين، فلا يُعْتَبَرُ (¬1) حُكْمُهُما بما يَطْرأُ بعدَهما، كما أنَّ الطَّلْقَتَين مِن العبدِ لمَّا وقَعَتا مُحَرِّمَتَين، لم يُعْتَبَرْ (1) ذلك بالعِتقِ بعدَهما. ¬

(¬1) في م: «يتغير».

3670 - مسألة: (وإذا غاب عن مطلقته، فأتته فذكرت أنها نكحت من أصابها وانقضت عدتها)

وَإذَا غَابَ عَنْ مُطَلَّقَتِهِ، فَأَتَتْهُ فَذَكَرَتْ أنَّهَا نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَلَهُ نِكَاحُهَا، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3670 - مسألة: (وإذا غاب عن مُطَلَّقَتِه، فأتَتْه فذَكَرَتْ أنَّها نَكَحَتْ مَن أصابَها وانْقَضَتْ عِدَّتُها) منه (وكان ذلك مُمْكِنًا، فله نكاحُها، إذَا غَلَبَ على ظَنِّه صِدْقُها، وَإلَّا فلا) وجملةُ ذلك، أنَّ المُطَلَّقَةَ المَبْتُوتَةَ إذا مَضَى بعدَ طَلاقِها زَمَنٌ يُمْكِنُ فيه انْقِضاءُ عِدَّتَين بينَهما نِكاحٌ ووَطْءٌ، فأخْبَرَتْه بذلك، وغَلَبَ على ظَنِّه صِدْقُها؛ إمَّا بأمانَتِها، أو بخَبَرِ غيرِها ممَّن يَعْرِفُ حالها، فله أن يَتَزَوَّجَها، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسَنُ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصْحابُ الرأْي؛ وذلك لأنَّ المرأةَ مُؤْتَمَنَةٌ على نَفْسِها وعلى ما أخْبَرَتْ به عنها, ولا سَبيلَ إلى مَعْرِفةِ هذه الحالِ على الحَقيقةِ إلَّا مِن جهَتِها، فيَجبُ الرُّجوعُ إلى قولِها، كما لو (¬1) أخْبَرَتْ بانْقِضاءِ عِدَّتِها، فأمَّا إن لم يَعْرِفْ ما يغلبُ على ظَنِّه صِدْقها, لم يَحِلَّ له نِكاحُها. وقال الشَّافعيُّ: له نِكاحُها؛ لِما ذَكَرْنا أوَّلًا، والوَرَعُ أن لا يَنْكِحَها. ولَنا، أنَّ الأصْلَ التَّحْريمُ، ولم يُوجَدْ غَلبةُ ظَنٍّ تنقُلُ عنه، فَوجبَ البَقاءُ عليه، كما لو أخْبرَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فاسِقٌ عنها. فصل: إذا أخْبَرَتْ أنَّ الزَّوجَ أصابَها، فأنْكَرَها، فالقولُ قولُها في حِلِّها للأوَّلِ، والقولُ قولُ الزَّوجِ في المَهْرِ، ولا يَلْزَمُه إلَّا نِصْفُه إذا لم يُقِرَّ بالخَلْوَةِ بها. فإن قال الزَّوجُ الأوَّلُ: أنا أعْلَمُ أنَّه ما أصابَها. لم يَحِلَّ له نِكاحُها؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفْسِه بتَحْرِيمِها عليه (¬1). فإن عاد فأكْذَبَ نفْسَه، وقال: قد عَلِمْتُ صِدْقَها. دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فإذا عَلِمَ حِلَّها لم تَحْرُمْ بكَذِبهِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ولأنَّه قد يَعْلَمُ ما لم يكُنْ عَلِمَه. ولو قال: ما أعْلَمُ أنَّه أصابَها. لم تَحْرُمْ عليه بهذا؛ لأنَّ المُعْتَبَرَ في حِلِّها له خَبَرٌ يَغْلِبُ على ظَنِّه صِدْقُها (¬2)، لا حقيقةُ العِلْمِ. فصل: إذا طَلَّقَها طلاقًا رَجْعِيًّا، وغابَ، فقَضَتْ عِدَّتَها وأرادَتِ التَّزوُّجَ، فقال وكِيلُه: تَوَقَّفِي كيلا يكونَ راجَعَكِ. لم يَجِبْ عليها التَّوَقفُ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وحِلُّ النِّكاحِ، فلا يَجِبُ الزَّوالُ عنه بأمْرٍ مشْكوكٍ فيه، ولأنَّه لو وَجَبَ عليها التَّوَقُّفُ في هذه الحالِ، لَوجبَ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) في م: «صدقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها التَّوَقُّفُ قبلَ قولِه؛ لأنَّ احْتِمال الرّجْعةِ موْجودٌ، سَواءٌ قال أو لم يَقُلْ، فيُفْضِي إلى تَحْرِيمِ النِّكاحِ على كلِّ رَجْعِيّةٍ غابَ زوْجُها أبدًا. فصل: فإذا قالت: قد تَزَوَّجْتُ مَن أصابَنِي. ثم رجَعتْ عن ذلك قبلَ أن يعْقِدَ عليها, لم يَجُزِ العَقْدُ؛ لأنَّ الخَبَرَ المُبِيحَ للعَقدِ قد زال، فزَالتِ الإِباحةُ. وإن كان ذلك بعدَ العَقْدِ عليها, لم يُقْبَلْ؛ لأنَّ ذلك إبطالٌ للعَقْدِ الذي لَزِمَها بقولِها، فلم يُقْبَلْ، كما لو ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امرأةٍ، فأقَرَّتْ له بذلك، ثم رَجعتْ عَنِ الإقْرارِ.

كتاب الإيلاء

كِتابُ الإِيلَاءِ وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الإِيلاءِ (¬1) الإِيلاءُ في اللُّغةِ: الحَلِفُ. يُقالُ: آلَى يُولِي إيلاءً وألِيَّةً. وجَمْعُ الألِيَّةِ: ألايا. قال الشاعرُ (¬2): قليلُ الألايا حافِظٌ لِيَمينِه … إذا صَدَرَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّتِ. ويُقالُ: تألَّى يَتَألَّى (¬3). وفي الخَبَرِ: «مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللهِ يُكَذِّبْهُ» (¬4). 3671 - مسألة: (وهو الحَلِفُ على تَرْكِ الوَطْءِ) في مَوْضِعِ (¬5) ¬

(¬1) من هنا يبدأ الجزء السابع من نسخة تشستربيتي، والمرموز له بـ «تش». (¬2) هو كُثَيِّر بن عبد الرَّحْمَن الخُزَاعِي. قال هذا البيت في مدح عمر بن عبد العزيز. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 5/ 321، وعزاه إليه في الاستذكار 17/ 98. والبيت في اللسان والتاج (أل ى) دون نسبة. (¬3) في الأصل: «آلى». (¬4) أخرجه البيهقي، في: دلائل النبوة 5/ 241. ونقله عنه الحافظ ابن كثير، في البداية والنهاية 5/ 13، 14. وقال: هذا حديث غريب، وفيه نكارة، وفي إسناده ضعف. (¬5) في م: «موضوع».

3672 - مسألة: (ويشترط له أربعة شروط؛ أحدها، الحلف على ترك الوطء في القبل)

وَيُشْتَرَطُ لَهُ أرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُهَا، الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ في الْقُبُلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْعِ. والأصْلُ فيه قَوْلُ الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬1). وكان أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَآنِ: (يُقْسِمُونَ) (¬2). 3672 - مسألة: (ويُشْتَرَطُ له أرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، الحَلِفُ على تَرْكِ الوَطْءِ في القُبُلِ) لأنَّه الذي يَحْصُلُ الضَّرَرُ به (فإن تَرَكَه بغيرِ يَمِينٍ، لم يَكُنْ مُولِيًا) لأنَّ الإِيلاءَ الحَلِفُ. ¬

(¬1) سورة البقرة 226. (¬2) أخرجه عن أبي، ابن أبي داود، في: كتاب المصاحف 53. وأخرجه عن ابن عباس، عبد الرَّزّاق، في: المصنف 6/ 454، 455. وسعيد بن منصور، في: تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. سنن سعيد 3/ 870. وانظر: الدر المنثور 1/ 170.

3673 - مسألة: (فإن تركه مضرا بها من غير عذر، فهل تضرب له مدة الإيلاء، ويحكم عليه بحكمه؟ على روايتين)

فَإِنْ تَرَكَهُ بِغَيرِ يَمِينٍ، لَمْ يَكُن مُولِيًا، لَكِنْ إِنْ تَرَكَهُ مُضِرًّا بِهَا مِنْ غَيرِ عُذْرٍ، فَهَلْ تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، وَيُحْكَمُ عَلَيهِ بِحُكْمِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3673 - مسألة: (فإن تَرَكَه مُضِرًّا بها مِن غيرِ عُذْرٍ، فهل تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ الإِيلاءِ، ويُحْكَمُ عليه بحُكْمِه؟ على رِوايَتَين) أمَّا إذا تَرَكَه لعُذْرٍ، مِن مَرَضٍ، أو غَيبَةٍ، أو نحوه، لم تُضْرَبْ له مُدَّةٌ، وإلَّا ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، تُضْربُ له مُدَّةُ أرْبعةِ أشْهُرٍ، فإن وَطِئَها، وإلَّا دُعِيَ بعدَها إلى الوَطْءِ، فإنِ امْتَنَعَ منه، أُمِرَ بالطَّلاقِ، كما يُفْعَلُ في الإِيلاءِ سواءً؛ لأنَّه أضَرَّ بها بتَرْكِ الوَطْءِ في مُدَّةِ الايلاءِ، فيَلْزَمُ حُكْمُه، كما لو حَلَفَ، ولأنَّ ما وَجبَ أداؤُه إذا حَلَفَ على تَرْكِه، وجبَ أداؤُه إذا لم يَحْلِفْ، كالنَّفقَةِ وسائِرِ الواجباتِ، يُحَقِّقُه أنَّ اليَمِينَ لا تَجْعلُ غيرَ الواجبِ واجِبًا إذا حَلَفَ على تَرْكِه، فوُجوبُه معها يَدُلُّ على وُجوبِه قبلَها, ولأَنَّ وُجوبَه في الإيلاءِ إنَّما كان لدَفْعِ حاجةِ المرأةِ، وإزالةِ الضَّرَرِ عنها، وضَرَرُها لا يخْتَلِفُ بالإيلاءِ وعدَمِه، فلا يَخْتلِفُ الوُجوبُ. فإن قيل: فلا يَبْقَى للإيلاءِ أثَرٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلِمَ أفْرَدْتُمْ له بابًا؟ قُلْنا: بل له أثَرٌ، فإنّه يَدُلُّ على قَصْدِ الإِضْرارِ، فيَتَعلَّقُ الحكمُ به، وإن لم يَظْهَرْ منه قَصْدُ الإضْرارِ، اكْتَفَينا بدَلالتِه، وإذا لم يُوجَدِ الإِيلاءُ، احْتَجْنا إلى دَليلٍ سواه يَدُلُّ على المُضَارَّةِ، فيُعْتَبَر الإِيلاءُ لدلالتِه على المُقْتَضى لا لعَينِه. والثَّانيةُ، لا تُضْرَبُ له مُدَّةٌ. وهو مَذْهَبُ (¬1) أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه ليس بمُولٍ، فلم تُضْرَبْ له مدةٌ، كما لو لم يَقْصِدِ الإِضْرارَ، ولأنَّ تَعْليقَ الحكْمِ بالإِيلاءِ يدُلُّ على انْتِفائِه عندَ عَدمِه، إذ لو ثَبَتَ هذا الحُكْمُ بدُونِه لم يكنْ له أثَرٌ، ولأنَّ (¬2) امْتِناعَه باليَمِينِ أقْوَى مِن امْتِناعِه بقصْدِ الضَّرَرِ؛ لأنَّه يَمْتَنِعُ بقَصْدِ الضَّرَرِ، وبلزُومِه الكَفَّارةَ، فلا يَصِحُّ الإلْحاقُ إذا لم يَحْلِفْ بما إذا حَلَفَ لقوَّةِ المانعِ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «قول». (¬2) في م: «ليس».

3674 - مسألة: (وإن حلف على ترك الوطء في الدبر، أو دون الفرج، لم يكن موليا)

وَإنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ في الدُّبُرِ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَإِنْ حَلَفَ أنْ لَا يُجَامِعَهَا إلَّا جِمَاعَ سَوْءٍ، يُرِيدُ جِمَاعًا ضَعِيفًا، لَا يَزِيدُ عَلَى الْتِقَاءِ الْخِتَانَينِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3674 - مسألة: (وإن حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ في الدُّبُرِ، أو دُونَ الفَرْجِ، لم يَكنْ مُولِيًا) لأنَّه إذا حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ في الدُّبُرِ، لم يَتْرُكِ الوَطْءَ الواجِبَ عليه، ولا تَتَضَرَّرُ المرأةُ بتَرْكِه؛ لأنَّه وَطْءٌ محَرَّمٌ، وقد أكَّدَ منعَ نَفْسِه منه (¬1) بيَمِينِه، وكذلك إن حَلَف على تَرْكِ الوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ؛ لأنَّه لم يَحْلِفْ على الوَطْءِ الذي يُطالبُ به في الفَيئَةِ، ولا ضَرَرَ على المرأةِ في تَرْكِه. 3675 - مسألة: (وإنْ حَلَفَ أن لا يُجامِعَها إلَّا جِماعَ سَوءٍ، يُرِيدُ جِماعًا ضَعِيفًا، لا يَزِيد على الْتِقاءِ الخِتانَين، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

3676 - مسألة: (وإذا حلف على ترك الوطء بلفظ لا يحتمل غيره، كلفظه الصريح، وقوله: لا أدخلت ذكري في فرجك. وللبكر خاصة: لا افتضضتك

وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْوَطْءَ في الدُّبُرِ، أوْ دُونَ الْفَرْجِ، صَارَ مُولِيًا. وَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ في الْفَرْجِ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيرَهُ، كَلَفْظِهِ الصَّرِيحِ، وَقَوْلِهِ: لَا أدْخَلْتُ ذَكَرِي في فَرْجِكِ. وَلِلْبِكْرِ خَاصَّةً: لَا افْتَضَضْتُكِ. لَمْ يُدَيَّنْ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُه (¬1) الوَطْءُ الواجِبُ عليه مِن غيرِ حِنْثٍ. وإن قال: أرَدْتُ وَطْأً لا يَبْلُغُ الْتِقاءَ الخِتَانَين. فهو مُولٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه الوَطْءُ الواجِبُ عليه في الفَيئَةِ بغيرِ حِنْثٍ، وكذلك (إن أراد به الوَطْءَ في الدُّبُرِ، أو دُونَ الفَرْجِ) فكذلك. وإن لم يكُنْ له نِيَّةٌ، فليس بمُولٍ؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ، فلا يتَعَيَّنُ ما يكونُ به مُولِيًا. وإن قال: واللهِ لا جامعتُكِ جِماعَ سَوءٍ. لم يكُنْ مُوليًا بحالٍ؛ لأنَّه لم يَحْلِفْ على تَرْكِ الوَطْءِ، إنَّما حَلَفَ على تَرْكِ صِفَتِه المَكْروهةِ. 3676 - مسألة: (وإذا حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ بلَفْظٍ لا يَحْتَمِلُ غيرَه، كلَفْظِهِ الصَّرِيحِ، وقَوْلِه: لا أدْخَلْتُ ذَكَرِي في فَرْجِكِ. وللبِكْرِ خَاصَّةً: لا افْتَضَضْتُكِ (¬2). لم يُدَيَّنْ فيه) وجملَتُه، أنَّ الألْفاظَ التي يكونُ بها مُولِيًا تَنْقِسمُ ثلاثةَ أقْسامٍ؛ أجدُها، ما هو صَرِيحٌ في الحُكْمِ والباطِنِ ¬

(¬1) في تش: «بمنزلة». (¬2) في الأصل: «اقتضتك». بالقاف، واقتضاض البكر وافتضاضها بمعنى، وهو إزالة بكارتها بالذكر.

وَإِنْ قَال: وَالله لا وَطِئْتُكِ وَلَا جَامَعْتُكِ. أوْ: لَا بَاضَعْتُكِ. أَوْ: لَا بَاشَرْتُكِ. أوْ: لَا بَاعَلْتُكِ. أوْ: لَا قَرِبْتُكِ. أَوْ: لَا مَسَسْتُكِ. أَوْ: لَا أَتَيتُكِ. أَوْ: لَا اغْتَسَلْتُ مِنْكِ. فَهُو صَرِيحٌ في الْحُكْمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ جميعًا، كقولِه: واللهِ لا أنِيكُكِ، ولا أُدْخِلُ. أو: أُغَيِّبُ -أو- أُولِجُ ذَكَرِي في فَرْجِكِ. و: لا افْتَضَضْتُكِ. للبِكْرِ خاصَّةً. فهذه صَرِيحَةٌ لا يُدَيَّنُ فيها؛ لأنَّها لا تَحْتَمِلُ غيرَ الإِيلاءِ. القِسمُ الثَّاني، صَرِيحٌ في الحُكْمِ، ويُدَيَّنُ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، وهي عشَرةُ ألْفاظٍ: (لا وَطِئْتُكِ. و: لا جامَعْتُكِ. و: لا باضَعْتُكِ. و: لا باعَلْتُكِ. و: لا باشَرْتُكِ. و: لا قَرِبْتُكِ) و: لا أصَبْتُكِ. و (لا أتَيتُكِ. و: لا مَسَسْتُكِ. و: لا اغْتَسَلْتُ مِنْكِ. فهذه صَرِيحَةٌ في الحُكْمِ) لأنَّها تُسْتَعْمَلُ في العُرْفِ في الوَطْءِ. وقد وَرَدَ القُرْآنُ ببَعْضِها فقال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (¬1). وقال: {وَلَا ¬

(¬1) سورة البقرة 222.

وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ اللهِ تَعَالى. وَسَائِرُ الأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ مُولِيًا فِيهَا إلا بِالنِّيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬1). وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬2). وأمَّا الجِماعُ والوَطْءُ، مهما أشْهَرُ الألْفاظِ في الاسْتِعْمالِ، فلو قال: أرَدْتُ بالوَطْءِ الوَطْءَ بالقَدَمِ، وبالجِماعِ اجْتِماعَ الأجْسامِ، وبالإِصابَةِ الإِصابَةَ باليَدِ (دُيِّنَ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى) ولم يُقْبَلْ في الحُكْمِ؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ والعُرْفِ. وقد اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافعيِّ فيما عدا الوَطْءَ والجِماعَ مِن هذه الألْفاظِ، فقال في مَوْضِعٍ: ليس بصَرِيحٍ في الحُكْمِ؛ لأنَّه حَقِيقَةٌ في غَيرِ الجِماعِ. وقال في: لا ¬

(¬1) سورة البقرة 187. (¬2) سورة البقرة 237، وسورة الأحزاب 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باضَعْتُكِ: ليس بصَريحٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ مِن (¬1) الْتِقاءِ البَضْعَتَينِ، البَضْعَةُ مِن البَدَنِ بالبَضْعَةِ منه؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» (¬2). ولَنا، أنَّه مُسْتَعْمَلٌ في الوَطْءِ عُرْفًا، وقد وَرَدَ بِبعْضِه القُرْآنُ والسُّنَّةُ، فكان صَرِيحًا، كلَفْظِ الوَطْءِ والجِماعِ، وكَوْنُه حقِيقَةً في غيرِ الجِماعِ يَبْطُلُ (¬3) بلَفْظِ الوَطْءِ والجِماعِ، وكذلك قوْلُه: فارَقْتُكِ. و: سَرَّحْتُكِ. في ألْفاظِ الطَّلاقِ، فإنَّهم قالُوا: هي صَرِيحَةٌ في ألْفاظِ الطَّلاقِ. مع كَوْنِها حَقِيقَةً في غيرِه. وأمَّا (¬4) قوْلُه: باضَعْتُكِ. فهو مُشْتَقٌّ مِنَ البُضْعِ، ولا يُسْتَعْمَلُ هذا اللَّفْظُ في غيرِ الوَطْءِ، فهو أوْلَى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب مناقب قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنقبة فاطمة، وباب ذكر أصهار النَّبِي، وباب مناقب فاطمة عليها السلام، من كتاب فضائل الصَّحَابَة. وفي: باب ذب الرَّجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف، من كتاب النكاح. صحيح البُخَارِيّ 5/ 26، 28، 36، 7/ 47. ومسلم، في: باب فضائل فاطمة بنت النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1902، 1903. وأبو داود، في: باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 478. والتِّرمذي، في: باب فضل فاطمة بنت محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 246، 247. وابن ماجه، في: باب المغيرة، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 643، 644. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 5، 326. (¬3) في النسخ: «لا يبطل». والمثبت كما في المغني 11/ 28. (¬4) في الأصل: «لنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ صَرِيحًا مِن سائِرِ الألْفاظِ؛ لأنَّها تُسْتَعْمَلُ في غيرِه. وبه قال أبو حنيفةَ. القِسْمُ الثَّالِثُ، ما لا يكونُ مُولِيًا فيها إلَّا بالنِّيَّةِ، وهو ما عدا هذه الألْفاظَ، ممَّا يَحْتَمِلُ الجِماعَ، كقولِه: واللهِ لا يَجْمَعُ رَأْسِي ورَأْسَكِ شيءٌ. لا ساقَفَ رَأْسِي رَأْسَكِ. لأسُوأَنَّكِ. لأغِيظَنَّكِ. لتَطُولَنَّ غَيبَتِي عنْكِ. لا مَسَّ جِلْدِى جِلْدَكِ. لا قَرَبْتُ فِراشَكِ. لا آوَيتُ معكِ. لا نِمْتُ عندَكِ. فهذه إن أَرادَ بها الجِماعَ، واعْتَرَفَ بذلك، كان مُولِيًا، وإلَّا فلا؛ لأنَّ هذه الألْفاظَ ليستْ ظاهرةً في الجِماعِ، كظُهُورِ (¬1) التي قبْلَها، ولم يَرِدِ النَّصُّ باسْتِعْمالِها (¬2) فيه، إلَّا أنَّ هذه الألْفاظَ مُنْقَسِمَةٌ إلى ما يَفْتَقِرُ إلى نِيَّةِ الجِماعِ والمُدَّةِ معًا، وهي قوْلُه: لأسُوأَنَّكِ. أو: لأغِيظَنَّكِ. أو: لَتَطُولَنَّ غَيبَتِي عنكِ. فلا يكونُ مُولِيًا حتَّى يَنْويَ تَرْكَ الجِماعِ في مُدَّةٍ تَزِيدُ على أرْبَعَةِ أشْهُرٍ؛ لأنّ غَيظَها يُوجَدُ بتَرْكِ الجِماعِ فيما دُونَ ذلك، وسائِرُ الألْفاظِ يكونُ مُولِيًا بنِيَّةِ الجِماعِ فقط. فإن قال: واللهِ لا أدْخَلْتُ جميعَ ذَكَرِي في فَرْجِكِ. لم يَكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّ الوَطْءَ الذي تَحْصُلُ به الفَيئَةُ يَحْصُلُ بدونِ إيلاجِ جميعِ الذَّكَرِ. فإنْ قال: واللهِ لا ¬

(¬1) بعده في الأصل: «غيرما». (¬2) في م: «في استعمالهما».

3677 - مسألة: (فإن حلف بنذر، أو عتق، أو طلاق، لم يصر موليا في الظاهر عنه. وعنه، يكون موليا)

فَصْل: الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ يَحْلِفَ بِاللهِ تَعَالى، أوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَإنْ حَلَفَ بِنَذْرٍ، أَوْ عِتْقٍ، أوْ طَلَاق، لَمْ يَصِرْ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ عَنْهُ وَعَنْهُ، يَكُونُ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَجْتُ حَشَفَتي في فرجِكِ. كانْ مُولِيًا؛ لأنَّ الفَيئَةَ لا تحْصُلُ بدُونِ ذلك. (الشَّرْطُ الثَّانِي، أنَّ يَحْلِفَ باللهِ تعالى، أو بصِفَةٍ مِن صِفاتِه) ولا خِلافَ بينَ (¬1) أهلِ العلمِ في أنَّ الحَلِفَ بذلك إيلاءٌ. 3677 - مسألة: (فإن حَلَفَ بنَذْرٍ، أو عِتْقٍ، أو طَلاقٍ، لم يَصِرْ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ عنه. وعنه، يَكُونُ مُولِيًا) إذا حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ بغيرِ ¬

(¬1) في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسمِ اللهِ تعالى أو صِفَةٍ مِن صِفاتِه، مثلَ أنَّ حَلَفَ بطَلاقٍ، أو عَتاقٍ، أو صَدَقَةِ المالِ، أو الحَجِّ، أو الظِّهارِ، ففيه رِوايَتان؛ إحْدَاهما، لا يكونُ مُولِيًا. وهو قَوْلُ الشافعيِّ القَدِيمُ. والرِّوايةُ الثَّانِيةُ، هو مُولٍ. ورُوِيَ عن ابنِ عباس أنَّه قال: كُل يَمِين مَنَعَتْ جِماعًا (¬1)، فهي إيلاءٌ (¬2). وبذلك قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِي، ومالكٌ، وأهْلُ الحِجَازِ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وأهْلُ العِرَاقِ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيدٍ، وغيرُهم؛ لأنَّها يَمِين مَنَعَتْ جِماعَها، فكانَتْ إيلاءً، كالحَلِفِ باللهِ تعالى، ولأنَّ تَعْلِيقَ الطَّلاق والعَتاقِ [على وَطْئِها] (¬3) حَلِفٌ، بدَليلِ أنَّه لو قال: متى حَلَفْتُ بطَلاقِكِ فأنْتِ طَالِقٌ. ثم قال: إن وَطِئْتُكِ فأنْتِ طالِقٌ. طَلُقَتْ في الحالِ. وقال أبو بكر: كُلُّ يَمِين مِن حَرام أو غيرِها، تَجِبُ بها كَفَّارَةٌ، يكونُ الحالِفُ بها مُولِيًا. وأمَّا الطَّلاقُ والعَتاقُ، فليسَ الحَلِفُ به إيلاءً، لأنَّه يَتَعَلَّقُ به حَقُّ آدَمِيٍّ، وما أوْجَبَ كَفَّارَةً تَعَلَّقَ به حَقُّ اللهِ تعالى. والرِّوايةُ الأولَى هي المَشْهُورَةُ، لأن الإِيلاءَ المُطْلَقَ إنَّما هو القَسَمُ، ولهذا قَرَأ أبَيٌّ وابنُ عباس (يُقْسِمُونَ) بدَلَ {يُوَلُّونَ} (¬4). ¬

(¬1) في الأصل، م: «جماعها». (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب كل يمين منعت الجماع، من كتاب الإيلاء. السنن الكبرى 7/ 381. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر ما تقدم في صفحة 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ عن ابنِ عباس في تَفْسِيرِ: {يُوَلُّونَ} قال: يحْلِفُونَ بالله (¬1) ذكَرَه الإمامُ أحمدُ. والتَّعْليقُ بشَرْطٍ ليس بقَسَم، ولهذا لا يُؤْتَى فيه بحَرْفِ القَسَمِ، ولا يُجَابُ بجَوابه، ولا ذَكَرَه أفصلُ العَرَبِيَّةِ في بابِ القَسَمِ، فلا يكونُ إيلاءً، وإنَّما يُسَمًّى حَلِفًا تَجَوُّزًا، لمُشَارَكَتِه القَسَمَ في المَعْنَى المَشْهُورِ فيه، وهو الحَثُّ على الفِعْلِ أو المَنْعُ منه، أو تَوْكِيدُ الخَبَرِ، والكَلامُ عندَ إطْلاقِه لحَقِيقَتِه؛ ويَدُلُّ على هذا قَوْلُ اللهِ تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وإنَّما يَدْخُلُ الغُفْرانُ في اليَمِينِ باللهِ، وأيضًا قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوأ بِآبَائِكُمْ». مُتَّفَق عليه (¬3). وإنْ سَلَّمْنا أنَّ غيرَ القَسَمِ حَلِفٌ، لَكِنَّ الحَلِفَ بإطْلاقِه ¬

(¬1) انظر ما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 380. (¬2) سورة البقرة 226. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، من كتاب الأدب، وفي: باب لا تحلفوا بآبائكم، من كتاب الأيمان، وفي: باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 8/ 33، 164، 9/ 147. ومسلم، في: باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1266، 1267. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية الحلف بالآباء، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 198. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وباب حدثنا قتيبة، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 16 - 18. والنسائي: في: باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى، وباب الحلف بالآباء، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 4، 5. وابن ماجه، في: باب النهي أنَّ يحلف بغير الله، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 677. والإمام مالك، في: باب جامع الأيمان، من كتاب النذور والأيمان. الموطأ 2/ 480. والدارمي، في: باب النهي عن أن يحلف بغير الله، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمي 2/ 185. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 18، 36، 7/ 2، 8، 11، 48.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى القَسَمِ، وإنَّما يُصْرَفُ إلى غيره بدَلِيل، ولا خِلافَ في أنَّ القَسَمَ بغيرِ اللهِ وصِفَاتِه لا يكونُ إيلاءً؛ لأنَّه لا يُوجِبُ كفارَةً ولا شيئًا يَمْنَعُ مِن الوَطْءِ، فلا يكونُ إيلاءً، كالخَبَرِ بغيرِ قَسَم. وإذا قُلْنا بالرِّوايَةِ الثَّانِيَةِ، فلا يكون مُولِيًا إلَّا أنَّ يَحْلِفَ بما يَلْزَفُه بالحِنْثِ فيه حَق، كقَوْلِه: إن وَطِئْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ. أو: فأنْتِ طالِقٌ. أو: فأنْتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. أو: فأنْتِ حَرامٌ. أو: فلِلَّهِ عليَّ صَوْمُ سَنَةٍ أو الحَجُّ أو صَدَقَةٌ.

3678 - مسألة: (وإن قال: إن وطئتك فأنت زانية. أو: فلله علي صوم هذا الشهر. لم يكن موليا)

وَإنْ قَال: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأنْتِ زَانِيَة. أوْ: فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا يكون إيلاءً؛ لأنَّه يَلْزَمه بوَطْئِها حَق يَمْنَعُه مِن وَطْئِها خَوْفه مِن وُجُوبِه. 3678 - مسألة: (وإن قال: إن وَطِئْتُكِ فأنْتِ زانِيَةٌ. أو: فلِلَّهِ عليَّ صَوْمُ هذا الشَّهْرِ. لم يَكُنْ مُولِيًا) لأنَّه لو وَطِئَها، لم يَلْزَمْه حَق، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِيرُ قَاذِفًا بِالوَطْءِ؛ لأنَّ القَذْفَ لا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ؛ ولا يَجُوزُ أنَّ تَصِيرَ زَانِيَةً بوَطْئِه لها، كما لا تَصِيرُ زانِيَةً بطُلُوعِ الشمْس. وأمَّا قوْلُه: إن وَطِئْتُكِ فلِلَّهِ عليَّ صَوْمُ هذا الشَّهْرِ. لم يَكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّه لو وَطِئَها بعدَ مُضِيِّه، لم يَلْزَمْه حَقٌّ، فإنَّ صَوْمَ هذا الشَّهْرِ لا يُتَصَوَّرُ بعدَ مُضِيِّ بَعْضِه، فلا يُلْزَمُ بالنَّذْرِ، كما لو قال: إن وَطِئْتُكِ فِلله عليَّ صَوْمُ أمْسِ. فلو قال: إن وَطِئْتُكِ فلِلَّه عليَّ أنَّ أُصَلِّيَ عشْرِين رَكْعَةً. كان مُولِيًا. وقال أبو حنيفةَ: لا (¬1) يكونُ مُولِيًا؛ لأنَّ الصَّلاةَ لا يتَعَلَّقُ بها مالٌ، ولا تَتَعَلَّقُ (¬2) بمالٍ، فلا يكونُ الحالِفُ بها مُولِيًا، كما لو قال: إن وَطِئْتُكِ فلِلَّه عليَّ أنَّ أمْشِيَ في السُّوقِ. ولَنا، أنَّ الصلاةَ تَجِبُ بالنَّذْرِ، فكانَ الحالِفُ بها مُولِيًا، كالصَّوْمِ والحَجِّ، وما ذَكَرَه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الصلاةَ تَحْتاجُ إلى الماء والسُّتْرَةِ. وأمّا المَشْيُ في السُّوقِ، فقياس المذْهَبِ على هذه الرِّوايةِ، أنَّه يكونُ مُولِيًا؛ لأنَّه يَلْزَمُه بالحِنْثِ في هذا النَّذْرِ (¬3) أحَدُ شَيئَينِ؛ إمَّا الكَفَّارَةُ، وإمَّا المَشْيُ، فقد صارَ الحِنْثُ مُوجِبًا لحَقٍّ عليه، فعلى هذا يَكُونُ مُولِيًا بنَذْرِ فِعْلِ المُباحاتِ والمَعاصِي، فإنَّ نَذْرَ المَعْصِيَةِ مُوجِبٌ للكَفَّارَةِ في ظاهِرِ المذْهَبِ، وإن سَلَّمْنا، فالفَرْقُ بينَهما أنَّ المَشْيَ لا يَجِبُ بالنَّذْرِ، بخِلافِ مَسْألتِنا. وإذا اسْتَثْنَى في يَمِينه، لم يَكُنْ مُولِيًا في قَوْلِ الجَمِيعِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه كَفارَةٌ بالحِنْثِ، فلم يَكُنِ الحِنْثُ مُوجِبًا لحَقٍّ ¬

(¬1) في الأصل: «لأن». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في تش: «الأمر».

فَصْل: الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أنْ يَحْلِفَ عَلَى أكْثَرَ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُر. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. وهذا إذا كانَتِ اليَمِينُ باللهِ تعالى، أو كانت يَمِينًا مُكَفَّرَةً، فأمَّا الطلاقُ والعَتاقُ، فمَن جعَلَ الاسْتِثْناءَ فيهما غيرَ مُؤَثِّرٍ، فوُجُودُه كعَدَمِه، ويكونُ مُولِيًا بهما، سواءٌ اسْتَثْنَى أو لم يَسْتَثْنِ. (الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أنَّ يَحْلِفَ على أكْثَرَ مِن أربَعةِ أشْهُرٍ) وهذا قَوْلُ ابنِ عباس، وسعيدِ بنِ جُبَير، وطاوُس، ومالكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأبي عُبَيدٍ. وقال عَطَاءٌ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي: إذا حَلَفَ على أرْبَعَةِ أشْهُر فما زادَ، كان مُولِيًا. وحَكَى ذلك القاضي أبو الحسينِ رِوايَةً عن أحمدَ؛ لأنَّه مُمْتَنِعٌ عَن الوَطْءِ باليَمِينِ أرْبَعَةَ أشْهُر، فكانَ مُولِيًا، كما لو حَلَفَ على ما زاد. وقال النَّخَعِي، وقَتادَةُ، وحَمَّادٌ، وابنُ أبي لَيلَى، وإسْحاقُ: مَن حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ في قَلِيل مِن الأوْقاتِ أو كَثِيرٍ، فتَرَكَها أرْبَعَةَ أشْهُر، فهو مُولٍ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬1). وهذا مُولٍ؛ لأنَّ الإيلاءَ الحَلِفُ، وهذا حالِفٌ. ولَمْا، أنَّه لم يَمْنَعْ نفْسَه مِنَ الوَطْءِ باليَمِينِ ¬

(¬1) سورة البقرة 226.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُر، [فلم يَكُنْ مُولِيًا، كما لو حَلَف على تَرْكِ قُبْلَتِها، والآيةُ حُجَّةٌ لنا؛ لأنَّه جَعَلَ له تَرَبُّصَ أربعةِ أشْهُرٍ] (¬1)، فإذا حَلَفَ على أرْبَعَةٍ فما دُونَها، فلا مَعْنَى للتَّرَبُّصِ؛ لأنَّ مُدَّةَ الإِيلاءِ تَنْقَضِي قبلَ ذلك أو مع انْقِضَائِه، وتَقْدِيرُ التَّرَبُّصِ بأرْبَعَةِ أشْهُر يَقْتَضِي كَوْنَه في مُدَّةٍ تَناوَلَها الإيلاءُ، ولأنَّ المُطالبَةَ إنَّما تكونُ بعدَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فإذا انْقَضَتِ المُدَّةُ بأرْبَعَةٍ فما دونَ، لم تَصِحَّ المُطالبَةُ مِن غيرِ إيلاءٍ، وأبو حنيفةَ ومَن وافَقَه (¬2) بَنَوْا ذلك على قَوْلِهم في الفَيئةِ (¬3): إنَّها تكونُ في مُدَّةِ أرْبَعةِ الأشْهُرِ. وظاهِرُ الآيَةِ خِلافُه؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا}. فعَقَّبَ الفَيئَةَ عَقِيبَ التَّرَبُّص بفاءِ التَّعْقِيبِ، فيَدُلُّ على تأَخُّرِها عنه. إذا ثَبَتَ هذا، فقد حُكِيَ عن ابنِ عباس أنَّ المُولِيَ مَن يَحْلِفُ على تَرْكِ الوَطْءِ أَبدًا أو مُطْلَقًا؛ لأنَّه إذا حَلَفَ على ما دُونَ ذلك، فقد (¬4) أمْكَنَه التَّخَلُّصُ بغيرِ الحِنْثِ، فلم يَكُنْ مُولِيًا، كما لو حَلَفَ لا وَطِئَها في مَدِينَةٍ بعَينِها. ولَنا، أنَّه لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ بعدَ التَّربصِ مِن يَمِينه بغيرِ حِنْثٍ، فأشْبَهَ المُطْلَقَةَ، بخِلافِ اليَمِينِ علي مَدِينَةٍ مُعَيَّنةٍ، فإنَّه يُمْكِنُ التَّخَلصُ بغيرِ الحِنْثِ، ولأن الأرْبَعَةَ الأشْهُرَ مُدَّة تَتَضَرَّرُ المرْأةُ بتأخِيرِ الوَطْءِ عنها، فإذا حَلَفَ على أكْثَرَ منها، كان مُولِيًا كالأبَدِ. ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في الأصل، تش: «وافقهم». (¬3) في م: «العنة». (¬4) زيادة من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ودَلِيلُ الوَصْفِ ما رُوِيَ عن (¬1) عمرَ، رَضِيَ الله عنه، أنَّه (¬2) كان يَطُوفُ لَيلَةً في المدِينَةِ، فسَمِعَ امْرَأةً تقولُ: تَطاوَلَ هذا اللَّيلُ وازْوَرَّ جانِبُه … وليس إلى جَنْبِي خَلِيلٌ أُلاعِبُهْ فواللهِ لولا اللهُ لا رَبَّ غَيرُه … لَزُعْزِعَ مِن هذا السَّرِيرِ جَوانبُهْ مَخافَةُ رَبِّي والحَياءُ يَكُفُّنِي … وأُكْرِمُ (¬3) بَعْلِي أنْ تُنال مَراكِبُهْ فسأل عمر نِساءً: كم تَصْبِر المرأةُ عن الزَّوْجِ؟ فقُلْنَ: شَهْرَين، وفي الثَّالِثِ يقِل الصَّبْرُ، وفي الرَّابعِ يَنْفَذ الصَّبْرُ. فكتَبَ إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، أنَّ لا تَحْبِسُوا رَجُلًا عن امْرأتِه أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُر (¬4). فصل: إذا عَلَّقَ الإيلاءَ بشَرْطٍ (¬5) مُسْتَحيل، كقَوْلِه: واللهِ لا وَطِئْتك حتى تَصْعَدِي السَّماءَ. أو: تَقْلِبِي الحَجَرَ ذَهَبًا. أو: يَشِيبَ الغرَابُ. فهو مُولٍ؛ لأنَّ مَعْنى ذلك تَرْكُ وَطْئِها، فإنَّ ما يُراد إحالة وُجُودِه يُعَلَّق على المُسْتَحِيلاتِ، قال اللهُ تعالى في الكفَّارِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬6). مَعْناه لا يَدْخلونَ الجَنَّةَ أُبدًا. وقال بعْضهم (¬7): ¬

(¬1) في م: «أنَّ». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «إكرام». (¬4) ذكره ابن الجوزي، في: سيرة عمر بن الخطاب 71، 72. وعزاه ابن كثير في تفسيره 1/ 394 لابن إسحاق. والأبيات فيها اختلاف عما ورد هنا. وانظر ما تقدم في 21/ 407. (¬5) في تش: «على شرط». (¬6) سورة الأعراف 40. (¬7) تقدم تخريجه في 22/ 405.

3679 - مسألة: (أو يعلقه على شرط يغلب على الظن أنه لا يوجد في أقل)

أوْ يُعَلِّقَهُ عَلَى شَرْطٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي أقَلَّ مِنْهَا، مِثْلَ أنْ يَقُولَ: وَاللهِ لَا وَطِئْتُكِ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ. أوْ: يَخْرُجَ الدَّجَّالُ. أوْ: مَا عِشْتُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا شاب الغُرابُ أتَيتُ أهْلِي … وصارَ القارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ 3679 - مسألة: (أو يُعَلِّقَه على شَرْطٍ يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّه لا يُوجَدُ في أقَلَّ) مِن أرْبَعَةِ أشْهُر، كقَوْلِه: (واللهِ لا وَطِئْتُكِ حتى يَنْزِلَ عِيسى بنُ مريمَ. أو: يَخْرُجَ الدَّجَّالُ) أو الدَّابَّةُ. أو غير ذلك مِن أشْرَاطِ الساعَةِ (أو: ما عِشْتُ) أو: حتى أمُوتَ. أو: تَمُوتِي. أو: يَمُوتَ وَلَدُكِ. أو: زَيدٌ. أو: حتى يَقْدَمَ زَيدٌ مِن مَكَّةَ. والعادَةُ أنَّه لا يَقْدَمُ في أرْبَعَةِ أشْهُر، فإَّنه يكونُ مُولِيًا؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ ذلك لا يُوجَدُ في أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فأشْبَهَ ما لو قال: والله لِا وَطِئْتُكِ في نِكاحِي هذا. وكذلك لو عَلَّقَ الطَّلاقَ على مَرَضِها أو مَرَضِ إنسانٍ (¬1) بعَينِه. وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ إلى قِيامِ السَّاعةِ. أو: حتى آتِيَ الهِنْدَ. أو نحوَه، فهو مُولٍ؛ لأنَّه مَعْلُومٌ أنَّه لا يُوجَدُ ذلك في أرْبعَةِ أشْهُرٍ؛ لأنَّ قِيامَ الساعَةِ له عَلاماتٌ تَسْبِقُه، فقد علمَ أنَّه لا يُوجَدُ في المُدَّةِ المَذْكُورَةِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

3680 - مسألة: وإن قال: والله لا وطئتك (حتى تحبلي)

أَوْ: حَتَّى تَحْبَلِي؛ لأنَّهَا لَا تَحْبَلُ إِذَا لَمْ يَطَأْهَا. وَقَال الْقَاضِي: اذَا قَال: حَتَّى تَحْبَلِي. وَهِيَ مِمَّنْ يَحْبَلُ مِثْلُهَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3680 - مسألة: وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ (حتى تَحْبَلِي) فهو مُولٍ، لأنَّ حَبَلَها بغيرِ (¬1) وَطْءٍ مُسْتَحِيلٌ عادةً، فهو كصُعُودِ السَّماءِ. وقال القاضي، وأبو الخَطَّاب، وأصحابُ الشافعيِّ: ليس بمُولٍ، إلَّا أن تكونَ صَغِيرةً يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّها لا تَحْمِلُ في أرْبَعةِ أشْهُرٍ، أو تكونَ آيِسَةً، فأمَّا إن كانت مِن ذواتِ الأقْراءِ، لم يَكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّ حَمْلَها مُمْكِن. [قال القاضي: إذا كانتِ الصغيرةُ بنتَ تِسْعٍ، لم يكُنْ موليًا؛ لأنَّ حَمْلَها مُمْكِن] (¬2). ولَنا، أنَّ الحَمْلَ بدُونِ الوَطْءِ مُسْتَحِيل عادةً، فكان تَعْلِيقُ اليَمِينِ عليه إيلاءً، كصُعُودِ السَّماءِ، ودَلِيلُ اسْتِحالتِه قَوْلُ مَرْيَمَ: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (¬3). ولولا اسْتِحالتُه لَمَا نَسَبَتْ نَفْسَها إلى البِغاءِ لوُجُودِ الوَلَدِ. وأيضًا قولُ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: الرَّجْمُ حَقٌّ على مَن زَنَى وقد أحْصَنَ، ¬

(¬1) في م: «من غير». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة مريم 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قامَتْ به البَيِّنَةُ، أو كان الحَبَل، أو الاعْتِرافُ (¬1). ولأنَّ العادَةَ أنَّ الحَبَلَ لا يُوجَدُ مِن غيرِ وَطْء. فإن قالوا: يُمْكِن حَبَلُها مِن وَطْءِ غيرِه، أو باسْتِدْخَالِ مَنِيِّه. قُلْنا: أمَّا الأوَّلُ فلا؛ فإنَّه لو صَرَّحَ به، فقال: لا وَطِئْتُك حتى تَحْبَلِي مِن غيري. أو: ما دُمْتِ في نِكاحِي. أو: حتى تَزْنِي. كان مولِيًا، ولو صَحَّ ما ذَكَرُوه لم يكُنْ مولِيًا. وأما الثَّاني، فهو مِن المُسْتَحِيلاتِ عادَةً، إن وُجِدَ كان مِن خَوارِقِ العَاداتِ، بدَليلِ ما ذَكَرْناه. وقد قال أهْلُ الطِّبِّ: إنَّ المَنِيَّ إذا بَرَدَ لم يُخَلَّقْ منه وَلَدٌ. وصَحَّحَ قَوْلَهم قِيامُ الأدِلَّةِ التي ذَكَرْنا بعْضَها، وجَرَيانُ العادَةِ على وَفْقِ ما قالُوه. وإذا كان تَعْلِيقُه على مَوْتِها أو مَوْتِه إيلاءً، فتَعْلِيقُه على حَبَلِها مِن غيرِ وَطْء أوْلَى. فإن قال: أرَدْتُ بقَوْلِي: حتى تَحْبَلِي. السَّبَبِيَّةَ، ولم أُرِدِ الغَايَةَ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الاعتراف بالزنى، وباب رجم الحبلى من الزنى، من كتاب الحدود. صحيح البخاري 8/ 208، 209. ومسلم، في: باب رجم الثيب في الزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1317. وأبو داود، في: باب في الرجم، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 456. والترمذي، في: باب ما جاء في تحقيق الرجم، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 204، 205. وابن ماجه، في: باب الرجم، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 853، 854. والدارمي، في: باب في حد المحصنين بالزناء، من كتاب الحدود. سنن الدارمي 2/ 179. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 823. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 40، 55.

3681 - مسألة: (وإن قال: والله لا وطئتك مدة. أو: ليطولن تركي لجماعك. لم يكن موليا حتى ينوي)

وَإنْ قَال: وَاللهِ لَا وَطِئْتُكِ مُدَّةً. أوْ: لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لِجِمَاعِكِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى يَنْويَ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ. وإنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْء حَتَّى يَقْدَمَ زَيدٌ، أَوْ نَحْوهِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ فِي أرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. أوْ: لَا وَطِئْتُكِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ. لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعْناه لا أطَؤُكِ لتَحْبَلِي. قُبِلَ منه، ولم يكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّه ليس بحالِفٍ على تَرْكِ الوَطْءِ، وإنَّما حَلَفَ على تَرْكِ قَصْدِ الحَبَلِ به، فإنَّ «حتى» تُسْتَعْمَلُ بمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. 3681 - مسألة: (وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ مُدَّةً. أو: ليَطُولَنَّ تَرْكِي لجِماعِكِ. لم يَكُنْ مُولِيًا حتى يَنْويَ) أكْثَرَ من (أرْبَعَةِ أشْهُر) لأنَّ ذلك يَقَعُ على القَلِيلِ والكَثِيرِ، فلا يَصِيرُ مُولِيًا به. فإن نَوَى أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُر صار مُولِيًا. 3682 - مسألة: (وإن حَلَفَ على تَرْكِ الوَطْءِ حتى يَقْدَمَ زَيدٌ، أو نَحْوه مِمَّا لا يَغْلِبُ على الظنِّ عَدَمُه في أرْبعَةِ أشْهُرٍ. أو: لا وَطِئْتُكِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذه البَلْدَةِ. لم يَكُنْ مُولِيًا) لأنَّه لا يُعْلَمُ قَدْرُه، فهذا ليس بإيلاءٍ؛ لكَوْنِه لا يُعْلَمُ حَلِفُه على أكْثَرَ مِن أرْبَعةِ أشْهُرٍ، ولأنَّه يُمْكِنُه وَطْؤُها في غيرِ البَلْدَةِ المَحْلُوفِ عليها. وهذا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ وصاحِبَيه. وقال ابنُ أبي لَيلَى، وإسْحاقُ: هو مُولٍ؛ لأنَّه حالِف على تَرْكِ وَطْئِها. ولَنا، أنَّه يُمْكِنُ وَطْؤُها بغيرِ حِنْثٍ، فلم يَكُنْ مُولِيًا، كما لو اسْتَثْنَى في يَمِينه. فإن عَلَّقَه على ما يُعْلَمُ أنَّه يُوجَدُ في أقَلَّ مِن أرْبَعةِ أشْهُرٍ، أو يُظَنُّ ذلك، كذُبُولِ بَقْلٍ، وجَفافِ ثَوْبٍ، ونُزُولِ المَطرَ في أوانِه، وقُدُومِ الحاجِّ في زمانِه. فهذا لا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِما ذَكَرْناه، ولأنَّه لم يَقْصِدِ الإضْرارَ بتَرْكِ وَطْئِها أكْثَرَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، أشْبَهَ ما لو قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ شَهْرًا. فصل: فإن عَلَّقَه على فِعْل منها، هي قادِرة عليه، أو فِعْل مِن غَيرِها، فهو مُنْقَسِمٌ ثَلاثةَ أقْسام؛ أحدها، أنَّ يُعَلِّقَه على فِعْل مُباح لا مَشَقَّةَ فيه، كقَوْلِه: واللهِ لا أطَؤُكِ حتى تَدْخُلِي الدَّارَ. أو: تَلْبَسي هذا الثَّوْبَ. أو: حتى أتَنَفَّلَ بصَوْمِ يَوْمٍ. أو: حتى أكْسُوَكِ. فهذا ليس بإيلاءٍ؛ لأنَّه مُمْكنُ الوُجُودِ بغيرِ ضَرَرٍ عليها فيه. الثَّاني، أنَّ يُعَلِّقَه على مُحَرَّم، كقَوْل: واللهِ لا أطَؤُكِ حتى تشْرَبِي الخَمْرَ. أو: تَزْنِي. أو: تُسْقِطِي وَلَدَكِ. أو: تَتْرُكِي صَلاةَ الفَرْضِ. أو: حتى أقْتُلَ زَيدًا. أو: نحوه. فهذا إيلاءٌ لأنَّه عَلَّقَه بمُمْتَنِعٍ (¬1) شَرْعًا، فأشْبَهَ المُمْتَنِعَ حِسًّا. ¬

(¬1) في م: «على ممتنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّالِثُ، أنَّ يُعَلِّقَه على ما على فاعِلِه فيه مَضَرَّة، كقَوْلِه: واللهِ لا أطَؤُكِ حتى تُسْقِطِي صَداقَكِ عنِّي (¬1). أو: دَينَكِ (¬2). أو: حتى تَكْفُلِي وَلَدِي. أو: حتى تَهَبيني دارَكِ. أو: حتى يَبِيعَنِي أبُوكِ دارَه. أو: نحو ذلك. فهذا إيلاءٌ؛ لأَنَّ أخْذَه لمالِها أو مالِ غيرِها عن غيرِ رضا صاحِبِه مُحرَّمٌ، فجرى مَجْرى شُرب الخَمْرِ. فإنْ قال: واللهِ لا أطَؤُكِ حتى أُعْطِيَكِ مالًا. أو: أفْعَلَ في حَقِّكِ جَمِيلًا. لم يَكُنْ إيلاءً؛ لأنَّ فِعْلَه ذلك ليسَ بمُحَرَّم ولا مُمْتَنِعٍ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِه: حتى أصُومَ يَوْمًا. فصل: فإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ إلَّا برِضَاكِ. لم يكُنْ مُولِيًا؛ لإِمْكانِ وَطْئِهَا بغيرِ حِنْثٍ، ولأنَّه مُحْسِنٌ في كَوْنِه ألْزَمَ نَفْسَه اجْتِنابَ سَخَطِها. وعلى قِياسِ ذلك كُلُّ حالٍ يُمْكِنُهْ الوَطْءُ فيها بغيرِ حِنْثٍ، كقَوْلِه: واللهِ لا وَطِئْتُكِ مُكْرَهَةً، أو مَحْزُونَةً. ونحوَ ذلك. فإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ مَرِيضَةً. لم يَكُنْ مُولِيًا، إلَّا أنْ يكونَ بها مَرَضٌ لا يُرْجَى بُرْؤُه، أو لا يَزُولُ في أرْبَعَةِ أشْهُر، فيَنْبَغِي أنَّ يكونَ مُولِيًا؛ لأنَّه حالِف على تَرْكِ وَطْئِها أرْبعَةَ أشْهُرٍ. فإن قال ذلك لها وهي صَحِيحَةٌ، فمَرِضَتْ مَرَضًا يُمْكِنُ بُرْؤُه قبلَ أرْبَعةِ أشْهُر، لم يَصِرْ مُولِيًا، وإن لم يُرْجَ بُرْؤُه فيها، صارَ مُولِيًا، وكذلك إن كان الغالِبُ أنَّه لا يَزُولُ في أرْبَعةِ أشْهُر؛ لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ ما لا يُرْجَى زَوالُه. وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ حائِضًا. أو: نُفَساءَ. أو: مُحْرِمَةً. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «جنينك».

3683 - مسألة: (وإن قال: إن وطئتك فو الله لا وطئتك. أو: إن دخلت الدار فوالله لا وطئتك. لم يكن موليا)

وَإنْ قَال: إِنْ وَطِئْتُكِ فَوَالله لا وَطِئْتُكِ. أوْ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَوَ اللهِ لَا وَطِئْتُكِ. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا حَتَّى يُوجَدَ الشَّرْطُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَصِيرَ مُولِيًا فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: صائِمةً فَرْضًا. لم يَكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّ ذلك مَمْنُوعٌ منه شَرْعًا. فقد أكَّدَ مَنْعَ نَفْسِه بيَمِينِه. وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ طاهِرًا. أو: لا وَطِئْتُكِ وَطْأ مُباحًا. صارَ مُولِيًا؛ لأنَّه حالِفٌ على تَرْكِ الوَطْءِ الذي يُطالبُ به في الفَيئَةِ، فكانَ مُولِيًا، كما لو قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ (¬1) في قُبُلِكِ. وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ لَيلًا. أو: واللهِ لا وَطِئْتُكِ نَهارًا. لم يكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّ الوَطْءَ مُمْكِنٌ بدُونِ الحِنْثِ. 3683 - مسألة: (وإن قال: إن وَطِئْتُكِ فو اللهِ لا وَطِئْتُكِ. أو: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فواللهِ لا وَطِئْتُكِ. لم يَكُنْ مُولِيًا) في الحالِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه بالوَطْءِ حَق، لكن إن وَطِئَها، أو دَخَلَتِ الدَّارَ، صار مُولِيًا؛ لأنَّها تَبْقَى يَمِينًا تَمْنَعُ الوَطْءَ على التَّأْبِيدِ. وهذا الصَّحِيحُ عن الشافعيِّ (ويَحْتَمِلُ أنَّ يكونَ مُولِيًا) وحُكِيَ عنه قَوْلٌ قَدِيمٌ، أنَّه يكونُ مُولِيًا مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه الوَطْءُ إلَّا بأن يَصِيرَ مُولِيًا، فيَلْحَقُه بالوَطْءِ ضَرَرٌ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «في ذلك».

3684 - مسألة: (وإن قال: والله لا وطئتك في السنة إلا مرة. لم يصر موليا)

وَإنْ قَال: وَاللهِ لَا وَطِئْتُكِ في هَذِهِ السَّنَةِ إلا مَرَّةً. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا حَتَّى يَطَأَها وَقَدْ بَقِيَ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَربَعَةِ اشْهُر. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه عَلَّقَه على شيءٍ إذا وُجِدَ صار مُولِيًا، فيَصِيرُ مُولِيًا في الحالِ، [كما إذا قال: إن وَطِئْتُكِ، لا دَخَلْتِ الدارَ. فإنَّه يَصِيرُ مُولِيًا في الحالِ] (¬1)، كذلك ها هنا. ولَنا، أنَّ يَمِينَه مُعَلَّقَة على شَرْطٍ، ففِيمَا قبلَه ليس بحالِفٍ، فلا يكونُ مُولِيًا، ولأنَّه يُمْكِنُه الوَطْءُ مِن غيرِ حِنْثٍ، فلم يَكُنْ مُولِيًا، كما لو لم يَقُلْ شيئًا. 3684 - مسألة: (وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. لم يَصِرْ مُولِيًا) في الحَالِ؛ لأنَّه يُمْكِنُه الوَطءُ بغيرِ حِنْثٍ، فلم يَكنْ مَمْنُوعًا مِن الوَطْءِ بحُكْمِ يَمِينه. فإن وَطِئَها وقد بَقِيَ مِن السَّنَةِ أكثرُ مِن أرْبَعةِ أشهُر، صار مُولِيًا. وهذا قَوْلُ أبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي، وظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ. وقال الشافعيُّ في القَدِيمِ: يكونُ مُولِيًا في الحالِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه الوَطْءُ إلَّا بأن يَصِيرَ مُولِيًا، فيَلْحَقُه بالوَطْءِ ضَرَرٌ. ولَنا، أنَّ يَمِينَه مُعَلَّقَةٌ بالإصابَةِ، فَقبْلَها لا يكونُ حالِفًا؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه بالوَطْءِ شيءٌ، وكَوْنُه يَصِيرُ مُولِيًا لا يَلْزَمُه (¬2) شيءٌ إنَّما يَلْزَمُه بالحِنْثِ. وقَوْلُه: لا يُمْكِنُه الوَطْءُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «به».

3685 - مسألة: (وإن قال)

وَإنْ قَال: إلا يَوْمًا. فَكَذَلِكَ فِي أحَدِ الْوَجْهَين. وَفِي الْآخَرِ، يَصِيرُ مُولِيًا فِي الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بأن يَصِيرَ مُولِيًا. مَمْنُوعٌ فيما إذا لم يَطَأْ إلَّا وقد بَقِيَ مِن السَّنَةِ أرْبَعةُ أشْهُرٍ فما دُونَ. 3685 - مسألة: (وَإنْ قَال): واللهِ لا وَطِئْتُكِ في السَّنَةِ (إلَّا يَوْمًا. فَكذلك في أحدِ الوَجْهَينِ) وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ اليَوْمَ مُنَكَّرٌ، فلم يَخْتَصَّ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ، وكذلك لو قال: صُمْتُ رمضانَ إلَّا يَوْمًا. لم يَخْتَصَّ اليَوْمَ الآخِرَ. وكذلك لو قال: لا أُكَلِّمُكِ في السَّنَةِ إلَّا يَوْمًا. لم يَخْتَصَّ يَوْمًا منها. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه (يَصِيرُ مُولِيًا في الحالِ) لأنَّ اليَوْمَ المُسْتَثْنَى يكونُ مِن آخِرِ المُدَّةِ، كالتَّأْجيلِ ومُدَّةِ الخِيارِ، بخِلافِ قوْلِه: لا وَطِئْتُكِ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. فإنَّ المَرَّةَ لا تَخْتَصُّ وَقْتًا بعَينِه. ومَن نَصَرَ الأوَّلَ فُرَّقَ بينَ هذا وبينَ التَّأْجِيلِ ومُدَّةِ الخِيَارِ، مِن حيثُ إنَّ التَّأجيلَ ومُدَّةَ الخِيارِ تَجِبُ المُوَالاةُ فيهما، ولا يَجُوزُ أنَّ يتَخَلَّلَهما يَوْم لا أجلَ فيه ولا خِيارَ؛ لأنَّه لو جازَتْ له المُطالبَةُ، لَزِمَ قَضاءُ الدَّينِ، فيَسْقُطُ التَّأْجِيلُ بالكُلِّيَّةِ، ولو لَزِمَ العَقْدُ في أثْناءِ مُدَّةِ الخِيارِ، لم يَعُدْ إلى الجَوازِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَعَيَّنَ جَعْلُ اليَوْمِ المُسْتَثْنَى مِن آخِرِ المُدَّةِ، بخِلافِ ما نحنُ فيه، فإنَّ جَوازَ الوَطْءِ في يَوْم مِن أوَّلِ السَّنَةِ أو أوْسَطِها، لا يَمْنَعُ حُكمَ اليَمِينِ فيما بَقِيَ منها، فصارَ كَقوْلِه: لا وَطِئْتُكِ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. فصل: فإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا. ثم قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا. فهو إيلاءٌ واحدٌ، حَلَفَ عليه بيَمِينَين، إلَّا أنَّ يَنْويَ عامًا آخَرَ سواه. فإن قال: واللهِ لا وَطِئتُكِ عامًا. ثم قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ نِصفَ عام. أو قال: والله لا وَطِئْتُكِ نِصْفَ عام. ثم قال: والله لا وَطِئْتُكِ عامًا. دخَلَتِ المُدَّةُ القَصِيرَةُ في الطَّويلَةِ؛ لأنَّها بعضُها، ولم تُجْعَلْ إحْدَاهُما بعدَ الأخْرى، فأشْبَهَ ما لو أقَر بدِرْهَم لرَجُل، ثم أقَرَّ له بنِصْفِ درْهَمٍ، أو أقَر بنِصْفِ درْهَمٍ، ثم أقَرَّ (¬1) بدِرهَمٍ، فيكونُ إيلاءً وَاحِدًا، لهما وَقْتٌ واحِدٌ، وَكفّارَة واحِدَةٌ. وإن نوَى بإحْدَى المُدَّتَين غيرَ الأخْرَى في هذِه أو في التي قَبْلَها، أو قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ثُمَّ قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا آخَرَ. أو: نِصْفَ عام آخَرَ. أو قال: واللهِ لا وَطِئْتُك عامًا] (¬1)، فإذا مَضَى فو اللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا. فهما إيلاءانِ في زَمِانَين، لا يَدْخُلُ حُكْمُ أحدِهما (¬2) في الآخَرِ، أحَدُهما مُنَجَّزٌ، والاخرُ مُتَأخِّرٌ. فإذا مَضَى حُكْمُ أحَدِهما بَقِيَ حُكْمُ الآخَرِ؛ لأنَّه أفْرَدَ كلَّ واحِدٍ منهما بزَمَن غيرِ زَمَنِ صاحِبِه، فيكونُ له حُكْمٌ يَنْفَرِدُ به. فإن قال في المُحَرَّمِ: واللهِ لا وَطِئْتُكِ هذا العامَ. [ثُمَّ قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا] (1) [مِن رَجَب إلى تمامِ اثْنَيْ عَشَرَ شهرًا. أو (¬3) قال في المُحَرَّمِ: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا] (¬4)، ثم قال في رَجَبٍ: واللهِ لا وَطِئْتُكِ عامًا. فهما إيلاءان في مُدَّتَين، بَعْضُ إحداهُما داخِلٌ في الأُخْرَى. فإن فاء في رَجبٍ، أو فيما بعدَه مِن بَقِيَّةِ العامِ الأوَّلِ، حَنِثَ في اليَمِينَين، ويُجْزِئُه كفَّارَة واحِدَة، ويَنْقَطِعُ حُكْمُ الإيلاءَين. وإن فاء قبل رَجَبٍ، أو بعدَ العامِ الأوَّلِ، حَنِثَ في إحْدَى اليَمِينَين دُونَ الأخرَى. وإن فاء في المَوْضِعَين، حَنِثَ في اليَمِينَين، وعليه كفَّارَتان. فصل: فإن حَلَفَ على وَطْءِ امْرأتِه عامًا، ثم كَفَّرَ يَمِينَه، انْحَلَّ الإيلاءُ. قال الأثْرَمُ: قِيل لأبي عبدِ اللهِ: المُولِي يُكَفِّرُ يَمِينَه قبلَ مُضِيِّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «و». وانظر المغني 11/ 18. (¬4) سقط من: تش، م.

3686 - مسألة: (فإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فو الله لا وطئتك أربعة أشهر)

وَإنْ قَال: وَالله لا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَوَ الله لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْبَعةِ أشْهُرٍ؟ قال: يَذْهَبُ عنه الإِيلاءُ، ولا (¬1) يُوقَفُ بعدَ الأرْبَعةِ، وذَهبَ الإيلاءُ حينَ ذَهَبَتِ اليَمِينُ. وذلك لأنَّه لم يَبْقَ مَمْنُوعًا مِن الوَطْءِ بيَمِينِه، فأشْبَهَ مَن حَلَفَ واسْتَثْنَى. فإن كان تكْفِيرُه قبلَ مُضِيِّ الأرْبَعةِ الأشْهُرِ، انْحَلَّ الإيلاءُ حينَ التكْفِيرِ، وصار [كالحالِف علي تَرْكِ الوَطْءِ أقَلَّ مِن أرْبَعةِ أشْهُرٍ. وإن كَفَّرَ بعدَ الأرْبَعةِ وقبلَ الوَقفِ، صار] (¬2) كالحالِفِ على أكْثَرَ منها، إذا مَضَتْ يَمِينُه قبلَ وَقْفِه. 3686 - مسألة: (فإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فإذا مضَتْ فو الله لا وَطِئْتُكِ أرْبَعَةَ أشْهُر) أو: فَإذَا مَضَتْ فلا وَطِئْتُكِ شَهْرَين. أو: لا وَطِئْتُكِ شَهْرَين (1)، فَإذَا مَضَتْ فو اللهِ لا وَطِئْتُكِ أرْبَعَةَ أشْهُر. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، ليسَ بمُولٍ؛ لأنَّه حالِفٌ بكُل يَمِينٍ علي مُدَّةٍ ناقِصَةٍ عن مُدَّةِ الإِيلاءِ، فلم يَكُنْ مُولِيًا، كما لو لم يَنْو إلَّا مُدَّتَهُما، ولأنَّه يُمْكِنُه الوَطْءُ بالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ يَمِين عَقِيبَ مُدَّتِها مِن غيرِ حِنْثٍ فيها، فأشْبَهَ ما لو اقْتَصَرَ عليها (ويَحْتَمِلُ أنَّ يَصِيرَ مُولِيًا) لأنَّه مَنَعَ نَفْسَه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

3687 - مسألة: (وإن قال: والله لا وطئتك إن شئت. فشاءت، صار موليا)

وَإنْ قَال: وَالله لا وَطِئْتُكِ إِنْ شِئْتِ. فَشَاءَتْ، صَارَ مُولِيًا، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الوَطْءِ بيَمِينِه أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُر مُتَوالِيَةٍ، فكانَ مُولِيًا، كما لو مَنَعَها بيَمِين واحِدَةٍ، ولأنَّه لا يُمْكِنُه الوَطْءُ بعدَ المُدَّةِ إلَّا بحِنْثٍ في يَمِينه، فأشْبَهَ ما لو حَلَفَ على ذلك بِيَمِين واحدةٍ، ولو لم يَكُنْ هذا إيلاءً أفْضَى إلى أنَّ يَمْتَنِعَ مِن الوَطْءِ طُولَ دَهْرِه باليَمِينِ فلا يكونُ مُولِيًا. وهكذا الحُكْمُ في كُلِّ مُدَّتَين مُتَوالِيتَين يَزِيدُ مَجْمُوعُهما على أرْبَعةِ أشْهُر، [كثلاثةِ أشْهُر وثلاثةٍ، أو ثلاثةٍ وشهرين] (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا مِن التَّعْلِيلَين. هذا هو الصَّحِيحُ، إن شاء الله تعالى. 3687 - مسألة: (وإن قال: والله لا وَطِئْتُكِ إن شِئْتِ. فشاءت، صار مُولِيًا) وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط عن: م.

3688 - مسألة: (وإن قال: إلا أن تشائي. أو: إلا باختيارك.

وَإنْ قَال: إلا أنْ تَشَائِي. أَوْ: إلا بِاخْتِيَارِكِ. أَوْ إلا أنْ تَخْتَارِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا (¬1) يَصِير ممْتَنِعًا مِن الوَطْءِ حتى (¬2) تشاءَ، إلَّا أنَّ أصحابَ الشافعيِّ قالُوا: إن شاءت على الفَوْرِ جوابًا لكلامِه، صار مُولِيًا، وإن أخَّرَتِ المَشِيئَةَ انْحَلَّتْ يَمِينه، لأنَّ ذلك تَخْيِيرٌ لها، فكان على الفَوْرِ، كقَوْلِه: اخْتارِي. في الطَّلاقِ. ولَنا، أنَّه عَلَّقَ اليَمِينَ على المَشِيئَةِ بحَرْفِ «إِن» فكان على التَّرَاخِي، كمَشِيئَةِ غيرِها. فإن قِيلَ: فهَلَّا قلْتم: لا يكون مُولِيًا، فإنَّه عَلَّقَ ذلك بإرادَتِها، فأشْبَهَ ما لو قال: لا وَطِئْتكِ إلَّا برِضَاكِ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما، أنَّها إذا شاءت، انْعَقَدَتْ يَمِينه مانِعَةً مِن وَطْئِها، بحيثُ لا يُمْكِنُه بعدَ ذلك الوَطْء بغيرِ حِنْثٍ. وإذا قال: واللهِ لا وَطِئْتكِ إلَّا برِضَاكِ. فما حَلَفَ إلَّا على تَرْكِ وَطْئِها في بعْضِ الأحْوالِ، وهو حالُ سَخَطِها، فيُمْكِنُه الوَطْءُ في حالِ رضاها بغيرِ حِنْثٍ. وإذا طالبَتْه بالفَيئَةِ، فهو بِرضاها. وإنْ قال: واللهِ لا وَطِئْتُكِ إلَّا أنَّ يشاءَ أبوكِ. أو: فُلانٌ. لم يَكُنْ مولِيًا، لأنَّه عَلَّقَه بفِعْل منه، يُمْكِنُ وُجُودُه في الأرْبَعةِ الأشْهرِ إمْكانًا غيرَ بَعِيدٍ، وليسَ بمحَرَّم ولا فيه مَضَرَّة، أشْبَهَ ما لو قال: واللهِ لا وَطِئْتكِ، إلَّا أنَّ تَدْخُلِي الدَّارَ. 3688 - مسألة: (وإن قال: إلَّا أنَّ تشائِي. أو: إلَّا باخْتِيارِكِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حيث».

لَمْ يَصِرْ مُولِيًا. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: أنْ لَمْ تَشَأْ فِي الْمَجْلِس صَارَ مُولِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: إلَّا أنَّ تخْتارِي. لم يَصِرْ مُولِيًا) وصار كقولِه: إلَّا برضاكِ. أو: حتى تشائِي. وقال أبو الخَطَّابِ: إن شاءَتْ في المَجْلِسِ، لم يَصِرْ مُولِيًا، وإلَّا صار مُولِيًا. وقال أصحابُ الشافعيِّ: إن شاءت على الفَوْرِ عَقِيبَ كَلامِه، لم يَصِرْ مُولِيًا، وإلَّا صار مُولِيًا؛ لأنَّ المَشِيئة عندَهم على الفَوْرِ، وقد فاتَتْ بتَراخِيها. وقال القاضي: تَنْعَقِدُ يَمِينُه، فإن شاءَتِ انْحَلَّتْ، وإلَّا فهي مُنْعَقِدَةٌ. ولَنا، أنَّه مَنَعَ نَفْسَه بيَمِينِه مِن وَطْئِها، إلَّا عندَ إرادَتِها، فأشْبَهَ ما لو قال: إلَّا برِضاكِ. أو: حتى تشائِي. ولأنَّه عَلَّقَه على وُجُودِ المَشِيئَةِ، أشْبَهَ ما لو عَلَّقَه على مَشِيئَةِ غيرِها. فأمَّا قولُ القاضي، فإن أراد وُجُودَ المَشِيئَةِ على الفَوْرِ، فهو كقَوْلِهم، وإن أرادَ وُجُودَ المَشِيئَةِ على التَّراخِي، تَنْحَل به اليَمينُ، لم يَكُنْ ذلك إيلاءً؛ لأن تَعْلِيقَ اليَمِينِ على فِعْل يُمْكِنُ وُجُودُه في مُدَّةِ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ، إمْكانًا غيرَ بَعِيدٍ ليس بإيلاءٍ.

3689 - مسألة: (وإن قال لنسائه)

وَإِنْ قَال لِنِسَائِهِ: لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ. صَارَ مُولِيًا مِنْهُنَّ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ وَاحِدَةً بعَينهَا. فَيَكُونَ مُولِيًا مِنْهَا وَحْدَهَا. وَإنْ أَرَادَ وَاحِدَةً مُبْهَمَةً، فَقَال أَبُو بَكْر: تُخْرَجُ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3689 - مسألة: (وإن قال لنسائِه): واللهِ (لا وَطِئْتُ واحِدَةً مِنْكُنَّ. صار مُولِيًا مِنْهُنَّ، إلَّا أنَّ يُرِيدَ وَاحِدَةً بعَينِهَا. وإن أراد واحدةً مُبْهَمَة، فقال أبُو بَكْر: تُخْرَجُ بالقُرْعَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الرجلَ إذا قال لنسائِه: واللهِ لا وَطِئْتُ واحِدَةً مِنْكُنَّ. وأطْلَقَ، كان مُولِيًا مِن جَمِيعِهِنَّ في الحالِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه وَطْءُ واحدةٍ مِنْهُنَّ إلَّا بالحِنْثِ، فإن طَلَّقَ واحِدَةً مِنْهُن أو ماتَتْ، كان مُولِيًا مِن البَواقِي. فإن وَطِيء واحِدَةً مِنْهُنَّ، حَنِثَ وانحَلت يَمِينُه، وسَقَطَ حُكْمُ الإِيلاءِ في الباقياتِ؛ لأنَّها يَمِينٌ واحِدَةٌ، فإذا حَنِثَ فيها مَرَّةً، لم يَحْنَثْ مَرَّةً ثانِيَةً، ولا يَبْقَى حُكْمُ اليَمِينِ بعدَ حِنْثِه فيها، بخِلافِ ما إذا طَلَّقَ واحِدَةً أو ماتَت، فإَّنة لم يَحْنَثْ ثَمَّ، فبَقِيَ حُكْمُ يَمِينه في الباقِياتِ مِنْهُن. وهذا مذْهبُ الشافعيِّ. وذَكَر القاضي أنَّه إذا أطْلَقَ، كان الإيلاءُ في واحدةٍ غيرِ مُعَيَّنَةَ. وهو اختيارُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ لَفْظَه تَناوَلَ واحِدَةً مُنَكَّرَةً، فلا يَقتَضِي العُمُومَ. ولَنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النَّكِرَةَ في سِياقِ النَّفْي تَعُمُّ، كقَوْلِه: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} (¬1). وقولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬2). ولو قال إنْسانٌ: واللهِ لا شَرِبْتُ ماءً مِن إداوَةٍ. حَنِثَ بالشُّرْبِ مِن أيِّ إداوَةٍ كانت، فيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عندَ الإطْلاقِ على مُقْتَضاه في العُمُومِ. فإن قال: نَوَيتُ واحِدَةً بعَينِها. تَعَلَّقَتْ يَمِينُه بها وحدَها، وصار مُولِيًا منها دُونَ غيرِها؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُه احْتِمالًا غيرَ بَعِيدٍ. وإن قال: نَوَيتُ واحِدَةً مُبْهَمَةً. قُبِلَ منه لذلك. وهذا مذْهبُ الشافعيِّ. ولا يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُنَّ في الحالِ، فإذا وَطِيء ثَلاثًا، كان مُولِيًا مِن الرَّابِعَةِ. وقال أبو بكر: تُخْرَجُ بالقُرْعَةِ، كما لو طَلَّقَ واحِدَةً مِن نِسَائِه لا بعَينِها. ومذهبُ الشافعيِّ فيما إذا أبْهَمَ المَحْلُوفَ عليها، فله أنَّ يُعَيِّنَها بقَوْلِه. وأصْلُ هذا مذْكُورٌ فيما إذا طَلَّقَ واحِدَةً لا (¬3) بعَينِها. ¬

(¬1) سورة الجن 3. وورد في النسخ: «ولم يتخذ صاحبة». (¬2) سورة الإخلاص 4. (¬3) سقط من: م.

3690 - مسألة: (وإن قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن. كان موليا من جميعهن)

وَإنْ قَال: وَاللهِ لَا وَطِئْتُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ. كَانَ مُولِيًا مِنْ جَمِيعِهِنَّ، وَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ بِوَطْءِ وَاحِدَةٍ. وَقَال الْقَاضِي: لَا تَنْحَلُّ فِي البَوَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3690 - مسألة: (وإن قال: واللهِ لا وَطِئْتُ كُلَّ واحِدَةٍ منْكُنَّ. كان مُولِيًا مِن جَمِيعِهنَّ) في الحالِ، ولا يُقْبَلُ قَوْلُه: نَوَيتَ واحِدَةً مِنْهُنَّ مُعَيَّنَةً، وَلَا: مُبْهَمَة؛ لأنَّ لَفْظَةَ «كُلّ» أزَالتِ احْتِمال الخُصُوصِ (وتَنْحَلُّ يَمِينُه بِوَطْءِ واحِدَةٍ) كالمَسْألَةِ التي قَبْلَها (وقال القاضي) وبعْضُ أصحابِ الشافعيِّ: (لا تَنْحَلُّ في الباقياتِ) لأنَّه صَرَّحَ بمَنْعِ نَفسِه مِن كُلِّ واحِدَةٍ، فأشْبَهَ ما لو حَلَف علي كُلِّ واحدةٍ يَمِينًا. ولَنا، أنَّها يَمِينٌ واحِدَةٌ حَنِثَ فيها، فسَقَطَ حُكْمُها، كما لو حَلَفَ على واحِدَةٍ، ولأنَّ اليَمِينَ الواحِدَةَ إذا حَنِثَ فيها مَرَّةً، لم [يُمْكِنِ الحِنْثُ] (¬1) فيها مَرَّةً أُخْرَى، فلم يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِن وَطْءِ الباقِياتِ بِحُكْمِ اليَمِينِ، فلم (¬2) يَبْقَ الإِيلاءُ كسائِرِ الأيمانِ التي حَنِثَ فيها. ¬

(¬1) في الأصل: «يحنث». (¬2) في الأصل: «فمن».

3691 - مسألة: (وإن قال: والله لا أطؤكن. فهي كالتي قبلها في أحد الوجهين)

وَإِنْ قَال: وَالله لا أَطَؤكُنَّ. فَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، لَا يَصِيرُ مُوليًا حَتَّى يَطَأَ ثَلاثًا، فَيَصِيرَ مُوليًا مِنَ الرَّابِعَةِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ مَاتَتِ، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ هَهُنَا. وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ، لَا تَنْحَلُّ فِي الْبَوَاقِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3691 - مسألة: (وإن قال: واللهِ لا أطَؤُكُنَّ. فهي كالتي قبْلَها في أحدِ الوَجْهَينِ) وهذا يَنْبَنِي على أصْل، وهو الحِنْثُ بفِعْلِ بَعْض المَحْلُوفِ عليه أَوْ لَا؟ فإن قُلْنا: يَحْنَثُ. فهو مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهنَّ في الحالِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه وَطْءُ (¬1) واحِدَةٍ بغيرِ حِنْثٍ، فصار مانِعًا لنَفْسِه مِن وَطْءِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ في الحالِ. فإن وَطِيء واحِدَةً مِنْهُنَّ، حَنِثَ، وانْحَلَّتْ يَمِينُه، وزال الإِيلاءُ مِن البواقي. وإن طَلَّقَ بعْضَهُنَّ أو ماتَتْ، لم يَنْحَلَّ الإِيلاءُ في البَواقِي. وإن قُلْنا: لا يَحْنَثُ بفِعْلِ البَعْضِ. لم يَكُنْ مُولِيًا مِنْهُنَّ في ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالِ؛ لأنَّه يُمْكِنُه وَطْءُ كلِّ (¬1) واحِدَةٍ منهُنَّ مِن غيرِ حِنْثٍ، فلم يَمْنَعْ نَفْسَه بيَمِينِه مِن وَطْئِها، فلم يَكُنْ مُولِيًا منها. فإن وَطِيء ثلاثًا، صار مُولِيًا مِن الرَّابِعَةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه وَطْؤُها مِن غيرِ حِنْثٍ في يَمِينِه. وإن مات بعْضُهُنَّ، أو طَلَّقَها، انْحَلَّتْ يَمِينُه، وزال الإِيلاءُ؛ لأنَّه لا يَحْنَثُ إلَّا بوَطْءِ الأرْبَعِ (¬2). فإن راجَعَ المُطَلَّقَةَ، أو تَزَوَّجَها بعدَ بَينُونَتِها، عاد حُكْمُ يَمينه. وذَكَرَ القاضي، أنَّا إذا قُلْنا: يَحْنَث بفِعْلِ البعْضِ. فوَطِيء واحِدَةً، حَنِثَ، ولم يَنْحَلَّ الإِيلاءُ في البواقي؛ لأنَّ الإِيلاءَ مِن امْرَأةٍ لا يَنْحَلُّ بوَطْءِ غَيرِها. ولَنا، أنَّها يَمِينٌ واحِدَةٌ حَنِثَ فيها، فوَجَبَ أنَّ تَنْحَلَّ، كسَائِرِ الأيمانِ، ولأنَّه إذا وَطِيء واحِدَةً حَنِثَ، وَلَزِمَتْه الكَفَّارَةُ، فلا يَلْزَمُه بوَطْءِ الباقياتِ شيءٌ، فلم يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِن وَطْئِهِنَّ بِحُكْمِ يَمِينه، فانْحَلَّ الإِيلاءُ، كما لو كَفَّرَها. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ، فقال بعْضُهُم: لا يكونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ حتى يَطَأ ثَلاثًا، فيَصِيرُ مُولِيًا مِن الرَّابِعَةِ. وحَكَى المُزَنِيُّ عن الشافعيِّ، أنَّه يكونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ كلِّهِنَّ، يُوقَفُ لكُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «الرابعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أصابَ بَعْضَهُنَّ، خَرَجَتْ مِن حُكْمِ الإِيلاءِ، ويُوقَفُ لمَن بَقِيَ حَتَّى يَفِئَ أو يُطَلِّقَ، ولا يَحْنَثُ حتَّى يَطَأ الأرْبَعَ. وقال أصحابُ الرَّأْي: يكون مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلّهِنَّ، فإن تَرَكَهُنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، بِنَّ منه جَمِيعًا بالإِيلاءِ، وإن وَطِيء بَعْضَهُنَّ، سَقَطَ الإِيلاءُ في حَقِّها، ولا يَحْنَث إلَّا بوَطْئِهِنَّ جميعًا. ولَنا، أنَّ مَن لا يَحْنَثُ بوَطْئِها، لا يكونُ مُولِيًا منها، كالتي لم يَحْلِفْ عليها. فصل: وفي هذه المواضِعِ التي قُلْنا: يكونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ. إذا طالبْنَ كُلُّهُنَّ بالفَيئَةِ، وُقِفَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، وإن طالبْنَ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، ففيه روايتان؛ إحْداهما، يُوقَفُ للْجَميعِ وَقْتَ مُطالبةِ أُولَاهُنَّ. قال القاضي: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. والثَّانِيَةُ، يُوقَفُ لكُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ عندَ مُطالبَتِها. اختاره أبو بكرٍ. وهو مذْهبُ الشافعيِّ. وإذا وُقِفَ للأولَى، فَطَلَّقَها، وُقِفَ للثَّانِيَةِ، فإن طَلَّقَها، وُقِفَ للثَّالِثةِ، فإن طَلقَها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُقِفَ للرَّابِعَةِ. وكذلك مَن مات مِنْهُنَّ، لم يَمْنَعْ مِن وَقْفِه للأُخْرَى؛ لأنَّ يَمِينَه لم تَنْحَلَّ، وإيلاؤُه باقٍ؛ لعَدَمِ حِنْثِه فيهنَّ. فإن وَطِيء إحْداهُنَّ حِينَ وُقِفَ لها، أو قَبلَه (¬1)، انْحَلَّتْ يَمِينُه، وسَقَطَ حُكْمُ الإِيلاءِ في الباقياتِ، على ما قُلْناه. وعلى قَوْلِ القاضي ومَن وافَقَه، يُوقَفُ للباقياتِ، كما لو طَلَّقَ التي وُقِفَ لها. فصل: فإن قال: كُلَّما وَطِئْتُ واحِدَةً مِنْكُنَّ فضَرائِرُها طَوالِقُ. فإن قُلْنا: ليس هذا بإيلاءٍ. فلا كلامَ. وإن قُلْنا: هو إيلاءٌ. فهو مُولٍ مِنْهُنَّ كلِّهِنَّ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه وَطْءُ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَّا بطَلاقِ ضَرائِرِها، فَيُوقَفُ لَهُنَّ. فإن فاء إلى واحِدَةٍ، طَلُقَ ضَرائِرُها، فإن كان الطَّلاقُ بائِنًا، انْحَلَّ الإِيلاءُ؛ لأنَّه لم يَبْقَ مَمْنُوعًا مِن وَطْئِهَا بحُكْمِ يَمِينه. فإن كان رَجْعِيًّا، فراجَعَهُنَّ، بَقِيَ حُكْمُ الإِيلاءِ في حَقِّهِنَّ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه وَطْءُ واحِدَةٍ إلَّا بطَلاقِ ضَرائِرِها. وكذلك إن راجَعَ بعْضَهُنَّ لذلك، إلَّا أنَّ المُدَّةَ تُسْتأْنفُ مِن حِينِ الرَّجْعَةِ. ولو كانَ الطَّلاقُ بائنًا (¬2)، فعاد فَتَزَوجَهُنَّ، أو تَزَؤجَ بعْضَهُن، عاد حُكْمُ الإِيلاءِ، واسْتُؤْنِفَتِ المُدَّةُ مِن حِينِ النِّكاء. وسَواءٌ تَزَوجَها في العِدَّةِ أو بَعْدَها، أو بعدَ زَوْجٍ آخَرَ وإصابةٍ؛ لِما سَنذْكُرُه، إن شاء الله تعالى، فيما بعدُ. وإن قال: نوَيتُ واحِدَةً بعَينِها. قُبِلَ منه، ¬

(¬1) في م: «قبلها». (¬2) في م: «تامًّا».

3692 - مسألة: (وإن آلى من واحدة، وقال للأخرى: شركتك معها. لم يصر موليا من الثانية)

وَإنْ إلى مِنْ وَاحِدَةٍ، وَقَال لِلأُخْرَى: أشْرَكْتُكِ مَعَهَا. لَمْ يَصِرْ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ. وَقَال الْقَاضِي: يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَعَلَّقَتْ يَمِينُه بها، فإذا وَطِئَها، طَلُقَ ضَرائِرُها. وإن وَطِيء غَيرَها، لم يَطْلُقْ مِنْهُنَّ شيءٌ، ويكونُ مُولِيًا مِن المُعَيَّنَةَ دُونَ غَيرِها؛ لأنَّها التي يَلْزَمُه بوَطْئِها الطَّلاقُ دُونَ غَيرِها. 3692 - مسألة: (وإن آلى مِن واحِدَةٍ، وقال للأُخْرَى: شَرَكْتُكِ معها. لم يَصِرْ مُولِيًا مِن الثَّانِيَةِ) لأنَّ اليَمِبنَ بِاللهِ لا تَصِحُّ إلَّا بلَفْظٍ صَرِيحٍ مِن اسْمٍ أوصِفَةٍ، والتَّشْرِيكُ بَينَهُما كِنَايَةٌ، فلم تَصِحَّ بِهِ اليَمِينُ. (وقال القاضي: يكون مُولِيًا مِنْهُما) كما لو طَلَّقَ واحِدَة وقال للأخْرَى: شَرَكْتُكِ معها. يَنْوي به الطَّلاقَ. والفَرْقُ بينَهما أنَّ الطَّلاقَ يَنْعَقِدُ بالكِنايةِ، ولا كذلك اليَمِينُ. وإن قال: إن وَطِئْتُكِ فأنت طالِقٌ. ثمَّ قال للأخْرَى: شَرَكْتُكِ معها. ونَوَى، فقد صار طَلاقُ الثَّانِيَةِ مُعَلَّقًا على وَطْئِها أيضًا؛ لأنَّ الطَّلاقَ يصِحُّ بالكِنايةِ. وإن قُلْنا: إنَّ ذلك إيلاءٌ في الأُولَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صارَ إيلاءً في الثَّانِيَةِ؛ لأنَّها صارَتْ في مَعْناها، وإلَّا فليس بإيلاءٍ في واحِدَةٍ منهما. وكذلك لو آلى رجلٌ مِن زَوْجَتِه، فقال آخَرُ لامْرأتِه: أنتِ مِثْلُ فُلانَةَ. لم يكُنْ مُولِيًا. وقال أصحابُ الرَّأي: هو مُولٍ. ولَنا، أنَّه ليسَ بصَرِيحٍ في القَسَمِ، فلا يكونُ مُولِيًا به (¬1)، كما لو لم يُشَبِّهْها بها. فصل (¬2): ويَصِحُّ الإِيلاءُ بكُلِّ لُغَةٍ كالعَجَمِيَّةِ وغيرِهَا، ممَّن يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ، ومِمَّن لا يُحْسِنُها؛ لأنَّ اليَمِينَ تَنْعَقِدُ بغيرِ العرَبِيَّةِ، وتَجِبُ بها الكَفَّارَةُ، والمُولِي هو الحالِفُ بالله أو بِصِفَتِه على تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِه، المُمْتَنِعُ مِن ذلك بيَمِينه. فإن آلى (¬3) بالعَجَمِيَّةِ مَن لا يُحْسِنُها، وهو لا يَدْرِي مَعْناها، لم يَكُنْ مُولِيًا وإن نَوَى مُوجَبَها عندَ أهْلِها. وكذلك الحُكْمُ إذا إلى بالعربيَّةِ مَن لا يُحْسِنُها؛ لأنَّه لا يَصِحُّ منه قَصْدُ الإِيلاءِ بلَفْظٍ لا يَدْرِي مَعْناه. فإنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجان فِي مَعْرِفتِه بذلك، فالقولُ قولُه إذا كان مُتَكَلِّمًا بغيرِ لِسَانِه؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ مَعْرِفَتِه بها. فأمَّا إن آلى العَرَبِيُّ بالعربيَّةِ، ثُمَّ قال: جَرَى على لساني مِن غيرِ قَصْدٍ. أو قال ذلك العَجَمِيُّ في إيلائِه بالعَجَمِيَّةِ، لم يُقْبَلْ قَوْلُه في الحُكْمِ؛ لأنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ. ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «الإيلاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَصِحُّ الإِيلاءُ إلَّا مِن زَوْجَةٍ (¬1)؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬2). وإن حَلَفَ على تَرْكِ وَطْءِ أمَتِه، لم يكُنْ مُولِيًا؛ [لِمَا ذَكَرْنا. فإن حَلَفَ على تَرْكِ وَطْءِ أجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ نَكَحَها، لم يكنْ مُولِيًا؛ لذلك. وبه قال الشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ: يكونُ مُولِيًا] (¬3) إذا بَقِيَ مِن مُدَّةِ يَمِينه أكْثَرُ مِن أرْبَعَةِ أشْهُر، لأنَّه مُمْتَنِعٌ مِن وَطْءِ امْرأته بحُكْمِ يَمينِه مُدَّةَ الإيلاءِ، فكان مُولِيًا، كما لو حَلَفَ في الزَّوْجِيَّةِ. وحُكِيَ عن أصَحابِ الرَّأْي، أنَّه إن (¬4) مَرَّتْ به امْرَأةٌ، فحَلَفَ أنَّ لا يَقْرَبَها ثم تَزَوَّجَها، لم يكُنْ مُولِيًا، وإن قال: إن (¬5) تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ، فو اللهِ لا قَرِبْتُها. صارَ مُولِيًا، لأنَّه أضافَ اليَمِينَ إلى حالِ الزَّوْجيَّةِ، فأشْبَهَ ما لو حَلَفَ بعدَ تَزَوُّجِها. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}.وليسَتْ هذه مِن نسائِه، ولأنَّ الإِيلاءَ حُكْمٌ مِن أحْكامِ النِّكاحِ، فلم يَتَقَدَّمْه، كالطَّلاقِ والقَسْمِ، ولأنًّ المُدَّةَ تُضْرَبُ له لِقَصْدِه ¬

(¬1) في م: «زوجته». (¬2) سورة البقرة 226. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «من». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإضْرارَ بها بيَمِينِه، وإذا كانتِ اليَمِينُ قبلَ النِّكاحِ، لم يكنْ قاصِدًا للإِضْرارِ، فأشْبَهَ المُمْتَنِعَ بغيرِ يَمِينٍ. قال الشَّرِيفُ أبو جعْفرٍ: وقد قال أحمدُ: يَصِحُّ الظِّهارُ قبلَ النِّكاحِ؛ [لأنَّه يَمِينٌ. فعلى هذا التَّعْلِيلِ، يَصِحُّ الإيلاءُ قبلَ النكاحِ] (¬1). والمَنْصُوصُ عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنا. فصل: فإن آلى مِن الرجْعِيَّةِ، صَحَّ إيلاؤُه. وهو قَوْلُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصحاب الرَّأْي. وذكَرَ ابنُ حامِدٍ فيه رِوايَةً أُخْرَى، أنَّه لا يَصِحُّ إيلاؤُه؛ لأنَّ الطَّلاقَ يَقْطَعُ مُدَّةَ الإِيلاءِ إذا طَرَأ، فَلأنْ يَمْنَعَ صِحَّتَه ابْتِداءً أوْلَى. ولَنا، أنَّها زَوْجَةٌ يَلْحَقُها طَلاقُه، فصَحَّ إيلاؤُه منها، كغيرِ المُطَلَّقَةِ. وإذا آلى منها احْتُسِبَ بالمُدَّةِ مِن حِينَ آلى، وإن كانتْ في العِدَّةِ. ذَكَرَه ابنُ حامِدٍ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ. ويَجِئُ على قَوْلِ الخِرَقِيِّ أنَّ لا يُحْتَسَبَ عليه بالمُدَّةِ إلَّا مِن حِينَ راجَعَها؛ لأنَّ الرَّجْعِيَّةَ (¬2) في ظاهِرِ كَلامِه مُحَرَّمَة. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنّها مُعتدَّةٌ منه (¬3)، أشْبَهَتِ البائِنَ، ولأنَّ الطَّلاقَ إذا طَرَأَ قَطَعَ المُدَّةَ، ثم لا يُحْتَسَبُ عليه بشيءٍ مِن المُدَّةِ قبلَ رَجْعَتِها، فأوْلَى أنَّ لا (¬4) تُسْتأَنَف المُدَّةُ في العِدَّةِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ مَن صَحَّ إيلاؤُه، احْتُسِسبَ عليه بالمُدَّةِ مِن حِينِ إيلائِه، كما لو لم تكُنْ مُطَلَّقَةً، ولأنَّها مُباحَة، فاحْتُسبَ عليه بالمُدَّةِ فيها، كما لو لم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الرجعة». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُطَلِّقْها. وفارَقَ البائِنَ، فإنَّها ليسَتْ زَوْجَةً، ولا يَصِحُّ الإِيلاءُ منها بحالٍ، فهي كسائِرِ الأجْنَبِيَّاتِ. فصل: ويَصِحُّ الإِيلاءُ مِن كُلِّ زَوْجَةٍ، مُسْلِمَةً كانتْ أو ذمِّيَّةً، حُرَّةً أو أمَةً؛ لعُمُوم قَوْلِه سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}.ولأَنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ زَوْجَة، فصَحَّ الإِيلاءُ منها كالحُرَّةِ المُسْلِمَةِ. ويَصِحُّ الإِيلاءُ قبلَ الدُّخُولِ وبعدَه. وبهذا قال النَّخَعِيُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ. وقال عَطَاءٌ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ: إنَّما الإِيلاءُ بعدَ الدُّخُولِ. ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ والمَعْنَى، ولأنَّه مُمْتَنِعٌ مِن جِماعِ زَوْجَتِه بيَمِينِه، فأشْبَهَ ما بعدَ الدُّخُولِ. ويَصِحُّ الإِيلاءُ مِن الصَّغِيرَةِ والمَجْنُونَةِ، إلَّا أنَّه لا يُطالبُ بالفَيئَةِ في حالِ الصِّغَرِ والجُنُونِ؛ لأنَّهما ليسَتا مِن أهْلِ المُطالبَةِ. فأمَّا الرَّتْقاءُ والقَرْناءُ، فلا يَصِحُّ الإِيلاءُ منهما؛ لأنَّ الوَطْءَ مُتَعَذِّر دائِمًا، فلم تَنْعَقِدِ اليَمِينُ على تَرْكِه، كما لو حَلَفَ لا يَصْعَدُ (¬1) السَّماءَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَصِحَّ، وتُضْربَ له المُدَّةُ؛ لأنَّ المَنْعَ بسَبَب مِن جِهَتِها، فهي كالمَرِيضَةِ. فعلَى هذا، يَفِئُ فَيئَةَ المَعْذُورِ؛ لأنَّ الفَيئَةَ بالوَطْءِ في حَقِّها (¬2) مُتَعَذِّرَة، فلا يُمْكِنُ المُطالبَةُ به، فأشبَهَ المَجْبوبَ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «تصعد». (¬2) في الأصل: «حقهما».

3693 - مسألة: ويصح إيلاء الذمي، ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا

فَصلٌ: الشَّرْطُ الرَّابعُ، أنْ يَكُونَ مِنْ زَوْج يُمْكِنُهُ الْجِمَاعُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ، مُسْلِمًا كَانَ أوْ كَافِرًا، حُرًّا أوْ عَبْدًا، سَلِيمًا أَوْ خَصِيًّا، أَوْ مَرِيضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (الشرطُ الرابعُ، أنَّ يَكُونَ مِن زَوْج يُمْكِنُه الوَطْءُ، وتَلْزَمُه الكَفَّارَةُ بالحِنْثِ، مُسْلِمًا كان أو كافِرًا، حُرًّا أو عَبْدًا، سَلِيمًا أو خَصِيًّا، أو مَرِيضًا يُرْجَى بُرْؤُه) وجملةُ ذلك، أنَّه يُشْتَرَطُ أنَّ يكونَ الإِيلاءُ مِن زَوْجٍ؛ لقَوْلِ اللهِ سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ويُشْتَرَطُ أنَّ يكون مُكَلَّفًا، فأمَّا الصَّبِيُّ والمَجْنُونُ، فلا يَصِحُّ إيلاؤُهما؛ لأنَّ القَلَمَ مَرْفُوعٌ عنهما. 3693 - مسألة: ويَصِحُّ إيلاءُ الذِّمِّيِّ، ويَلْزَمُه ما يَلْزَمُ المُسْلِمَ إذا تقاضَوْا إلينا. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وإن أسْلَمَ، لم يَنْقَطِعْ حُكْمُ إِيلائِه. وقال مالكٌ: إن أسْلَمَ، سَقَطَ حُكْمُ يَمِينه. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: إن حَلَفَ باللهِ، لم يَكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّه لا يَحْنَثُ إذا

فَأَمَّا الْعَاجزُ عَنِ الْوَطْءِ بِجَبٍّ أَوْ شَلَلٍ، فَلَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ. وَفَيئَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ قَدَرْتُ لَجَامَعْتُكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جامَعَ، لكَوْنِه غيرَ مُكَلَّفٍ، وإن كانَتْ يَمِينُه بطَلاقٍ أو عَتاقٍ، فهو مُولٍ؛ لأنَّه يَصِح عِتْقُه وطَلاقُه. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر}. ولأنَّه مانِعٌ نَفْسَه باليَمِينِ مِن جِماعِها، فكان مُولِيًا كالمُسْلِمِ، ولأنَّ مَن صَحَّ طَلاقُه صَحَّ إيلاؤُه، ومَن صَحَّتْ يَمِينُه عندَ الحاكِمِ، صَحَّ إيلاؤُه كالمُسْلِمِ (فأمَّا العاجِزُ عن الوَطْءِ) فإن كان لعارِض مَرجُوِّ الزَّوالِ كالمَرَضِ والحَبْسِ، صَحَّ إيلاؤُه؛ لأنَّه يَقْدِرُ على الوَطْءِ، فصَحَّ منه الامْتِناعُ منه، وإن كان غيرَ مَرْجُوِّ الزّوالِ (كالجَبِّ والشَّلَلِ، لم يَصِحَّ إيلاؤُه) لأنَّها يَمِينٌ على ترْكِ مُسْتَحيل، فلم تَنْعَقِدْ، كما لو حَلَفَ لا يَقْلِبُ الحِجارَةَ ذَهَبًا، ولأنَّ الإيلاءَ اليَمِينُ المانِعَةُ مِن الوَطْءِ، وهذا لا يَمْنَعُه يَمِينُه، فإنّه مُتَعَذِّرٌ منه، ولا تَضَرَّرُ المرأةُ بِيمِينِه. قال أبو الخَطابِ: ويَحْتَمِلُ أنَّ يَصِح الإِيلاءُ منه، قِياسًا على العاجِزِ بمَرَض أو حَبْس. (وفَيئته: لو قدَرْتُ لجامَعْتُكِ) لأنّه مَعْذُورٌ

3694 - مسألة: (ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون)

وَلَا يَصِحُّ إِيلَاءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَفِئُ بلِسَانِه، كالعَاجزِ بعُذْر يَزُولُ. وللشافعيِّ في ذلك قَوْلان. والأوَّلُ أوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنا. فأَمَّا الخَصِيُّ الذي سُلَّتْ بَيضَتاه أو رُضَّتْ، فيُمْكِنُه الوَطْءُ، ويُنْزِلُ ماءً رَقِيقًا، فيَصِحُّ إيلاؤُه. وكذلك المَجْبُوبُ الذي بَقِيَ مِن ذكَرِه ما يُمْكِنُ الجِماعُ به. 3694 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إيلاءُ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ) لأنَّ القَلَمَ مَرْفُوعٌ عنهما، ولأنَّه قَوْلٌ يَجِبُ بمُخالفَتِه كَفَّارَةٌ أو حَقٌّ، فلم يَنْعَقِدْ منهما، كالنَّذْرِ.

3695 - مسألة: (وفي إيلاء السكران وجهان)

وَفِي إِيلَاءِ السَّكْرَانِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3695 - مسألة: (وفي إيلاءِ السَّكْرانِ وَجْهان) بناءً على طَلاقِه. فصل: ولا يُشْتَرَطُ في صِحَّةِ الإِيلاءِ الغَضَبُ، ولا قَصْدُ الإِضْرارِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسْعُودٍ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأهْلُ العِراقِ، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه: ليس في إصْلاحٍ إيلاءٌ (¬1). وعن ابنِ عباس قال: إنَّما الإيلاءُ في الغَضَبِ (¬2). ونحوُه عن الحسنِ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادةَ. وقال مالكٌ، والأوْزاعِي، وأبو عُبَيدٍ: مَن حَلَفَ لا يَطَأُ زَوْجَتَه حتى تَفْطِمَ وَلَدَه، لا يكون إيلاءً، إذا أرادَ الإِصْلاحَ (¬3) لوَلَدِه. ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ، ولأنَّه مانِعٌ لنَفْسِه مِن جِماعِها بيَمِينِه، فكانَ مُولِيًا، كحالِ الغَضَبِ، يُحَقِّقُه أنَّ حُكْم الإيلاءِ ثَبَتَ لحَقِّ الزَّوْجَةِ، فيَجِبُ أنَّ يَثْبُتَ، سَواءٌ قَصَدَ الإِضْرارَ أو لم يَقْصِدْ، كاسْتيفاءِ ¬

(¬1) بهذا اللفظ أخرجه عبد بن حميد، كما في الدر المنثور 1/ 270. وبنحوه أخرجة البيهقي، في: معرفة السنن والآثار 5/ 524. وسعيد بن منصور، في: سننه 2/ 25. وابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 141. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب ما جاء في الإيلاء، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 25. (¬3) في م: «الصلاح».

3696 - مسألة: (ومدة الإيلاء في الأحرار والرقيق سواء. وعنه، أنها في العبد على النصف)

وَمُدَّةُ الإِيلَاءِ فِي الْأَحْرَارِ وَالرَّقِيقِ سَوَاءٌ. وَعَنْهُ، أَنَّهَا فِي الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دُيُونِها وإتْلافِ مالِها، ولأنَّ الطَّلاقَ والظِّهارَ وسائِرَ الأيمانِ سَواءٌ في الغَضَبِ والرِّضا، فكذلك (¬1) الإِيلاءُ، [ولأنَّ حُكْمَ اليَمِينِ في الكَفَّارَةِ وغيرِها سواءٌ في الغَضَبِ والرِّضا فكذلك في الإِيلاءِ] (¬2). وأمَّا إذا حَلَفَ أنَّ لا يَطَأها حتى تَفْطِمَ وَلَدَه، فإذا أرادَ وَقْتَ الفِطامِ، وكانت مُدَّتُه تَزِيدُ على أرْبَعةِ أشْهُرٍ، فهو مُولٍ، وإن أرادَ فِعْلَ الفِطَامِ، لم يكُنْ مُولِيًا؛ لأنَّه مُمْكِنٌ قبلَ أرْبَعةِ أشْهُرٍ، وليس بمُحَرَّم، ولا فيه تَفْويتُ حَقٍّ لها، فلم يكُنْ مُولِيًا، كما لو حَلَفَ أنَّ (¬3) لا يَطَأها حتى تَدْخُلَ الدَّارَ. 3696 - مسألة: (ومُدَّةُ الإيلاءِ في الأحْرارِ وَالرَّقِيقِ سَواءٌ. وعنه، أنَّها في العَبْدِ على النِّصْفِ) يَصِحُّ إيلاءُ العَبْدِ كما يَصِحّ مِن الحُرِّ، قياسًا عليه، ولدُخُولِه في عُمُوم الآيَةِ، ولا تَخْتَلِفُ مُدَّتُه، ولا فَرْقَ بينَ الحُرَّةِ والمُسْلِمَةِ والذِّمِّيَّةِ [والأَمَةِ] (¬4)، والصَّغِيرَةِ والكبِيرَةِ، في ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) سقط من: م. (¬3) زيادة من: تش، م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهِرِ المذْهَبِ. وهو قَوْلُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ مُدَّةَ الإيلاءِ للعَبْدِ شَهْرانِ. وهو اخْتِيارُ أبي بكر، وقَوْلُ عَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، وإسْحاقَ؛ لأْنَّهم على النِّصْفِ في الطَّلاقِ، وعَدَدِ المَنْكُوحاتِ، فكذلك [في مُدَّةِ] (¬1) الإيلاء. وقال الحسَنُ، والشَّعْبِيُّ: إيلاؤُه مِن الأمَةِ شَهْران، ومِن الحُرَّةِ أرْبَعةٌ. وقال أبو حنيفةَ: إيلاءُ الأمَةِ نِصْفُ إيلاءِ الحُرَّةِ؛ لأنَّ ذلك تَتَعلَّقُ به البَينُونَةُ، فاخْتَلَفَ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ كالطَّلاقِ، ولأنَّها مُدَّة يَثْبُتُ ابْتِداؤُها بقَوْلِ الزَّوْجِ، فَوجَبَ أنَّ تَخْتلِفَ برِقِّ الأمَةِ وحُرِّيّتِها، كمُدّةِ العِدَّةِ (¬2). ولَنا، عُمُومُ الآيةِ، ولأنَّها مُدَّة ضُرِبَتْ للوَطْءِ، فاسْتَوَى فيها الرِّقُّ والحُرِّيَّةُ، [كمُدَّةِ العُنَّةِ] (¬3)، ولا نُسَلِّمُ أنَّ البَينُونَةَ تَتَعلَّقُ بها، ثم يَبْطُلُ ذلك بمُدَّةِ العُنَّةِ، ويُخالِفُ مُدَّةَ العِدَّةِ؛ لأنَّ العِدَّةَ مَبْنِيَّةٌ على الكَمالِ، بدليلِ أنَّ الاسْتِبْراءَ يحْصُلُ بِقُرْءٍ واحدٍ. وأمَّا مُدَّةُ الإيلاءِ فإنَّ الاسْتِمْتاعَ بالحُرَّةِ أكْثَرُ، وكان يَنْبَغِي أنَّ تَتقَدَّمَ مُطالبَتُها مُطالبَةَ الأمَةِ، والحَقُّ على الحُرِّ في الاسْتِمْتاعِ أكثرُ منه على العَبْدِ، ولا تَجوزُ الزِّيادَةُ عليه في مُطالبَةِ العَبْدِ عليه. ¬

(¬1) في الأصل: «مدة». وفي م: «في». (¬2) في تش، م: «العنة». (¬3) سقط من: تش، م.

3697 - مسألة: (ولا حق لسيد الأمة في طلب الفيئة والعفو عنها، وإنما ذلك إليها)

وَلَا حَقَّ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ فِي طَلَبِ الْفَيئَةِ وَالْعَفْو عَنْهَا، وَإنَّمَا ذَلِكَ إِلَيهَا. فصلٌ: وإذَا صَحَّ الإيلَاءُ، ضُرِبَتْ لَهُ مُدَّةُ أربَعَةِ أشْهُرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3697 - مسألة: (ولا حَقَّ لسَيِّدِ الأمَةِ في طَلَبِ الفَيئَةِ والعفْو عنها، وإنَّما ذلك إليها) وجملةُ ذلك، أنَّ الجُرَّةَ والأمَةَ سَواءٌ في اسْتِحْقاقِ المُطالبَةِ، سَواءٌ عفا السَّيِّدُ عن ذلك أو لم يَعْفُ؛ لأنَّ الحَقَّ لها، لأنَّ الاسْتِمْتاعَ يَحْصُلُ لها. فإن ترَكَتِ المطالبَةَ، لم يكنْ لمَوْلاها الطَّلَبُ، ولأنه لا حَقَّ له. فإن قِيلَ: حَقُّه في الولَدِ، ولهذا لم يَجُزِ العَزْلُ عتها إلَّا بإذْنِه. قُلْنا: لا يستَحِقُّ على الزَّوْجِ اسْتِيلادَ المرأةِ؛ ولذلك (¬1) لو حَلَفَ لَيَعْزِلَنَّ عنها، أو لا يَسْتَوْلِدُها، لم يكُنْ مُولِيًا. ولو أنَّ المُولِيَ وَطِيء بحيثُ يُوجَدُ (¬2) التِقاءُ الخِتانَين، حَصَلتِ (¬3) الفَيئَةُ، وزالتْ عنه المُطالبَةُ، وإن لم يُنْزِلْ، وإنَّما اسْتُؤْذِنَ السَّيِّدُ في العَزْلِ؛ لأنَّه يَضُرُّ بالأمَةِ، فرُبَّمَا نَقَصَ قِيمَتَها. ولَنا في وُجُوبِ اسْتِئْذانِه مَنْعٌ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإذا صَحَّ الإِيلاءُ، ضُرِبَتْ له مُدَّةُ أرْبَعَةِ أشْهُر) وجملَةُ ذلك، أنّ المُولِيَ يتربَّصُ أرْبعَةَ أشْهُر، كما أمَرَ الله تعالى، ولا يُطالبُ بالوَطْءِ فيهنَّ، فإذا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُر، وَرافَعَتْه امْرأتُه ¬

(¬1) في تش: «كذلك». (¬2) في م: «يوجب». (¬3) في م: «وجبت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الحاكِمِ، أمَرَه بالفَيئَةِ، فإن أبَى أمَرَه بالطَّلاقِ، ولا تَطْلُق زَوْجَته بمُضِيِّ المُدَّةِ. قال أحمدُ في الإِيلاءِ: يوقَفُ، عن أكابِرَ (¬1) أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ عن عمرَ ما يدُلُّ على ذلك، وعن عُثْمانَ، وعليٍّ. وجَعَلَ يُثْبِتُ حَدِيثَ عليٍّ. وبه قال ابن عمرَ، وعائِشَةُ. ورُوِيَ ذلك عن أبي الدَّرْداء. وقال سليمانُ بنُ يَسارٍ: كان تِسعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِن أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يُوقِفُون في الإِيلاءِ (¬2). وقال سُهَيلُ بن أبي صالح، [عن أبيه] (¬3): سَألْت اثْنَيْ عَشَرَ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكلُّهم يقولُ: ليس عليه شيءٌ، حتى يَمْضِيَ أرْبعَةُ أشْهُر فيُوقَفُ فإن فاءَ وإلَّا طَلَّقَ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ، ومُجاهِدٌ، وطاوسٌ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابن المُنْذِرِ. وقال ابن مَسْعودٍ، وابنُ عباس، وعِكْرِمَة، وجابِرُ بن زَيدٍ، وعطاءٌ، ومَسْروقٌ، والحسَنُ، وقَبِيصَةُ، والنَّخَعِي، والأوزاعِيُّ، وابن أبي لَيلَى، وأصحابُ الرَّأْي: إذا مَضَتْ أرْبعة أشْهُرٍ، فهي تَطْلِيقَة بائِنَةٌ. ورُوِيَ ذلك أيضًا عن عُثْمانَ، وعليٍّ، وزيدٍ، وابنِ عمرَ. ورُوِيَ عن أبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرحمنِ، ومَكْحُولٍ، ¬

(¬1) في م: «الأكابر من». (¬2) أخرجه الإمام الشافعي، انظر: ترتيب المسند 2/ 42. وسعيد بن منصور، في: السنن 2/ 32. وابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 132. والدارقطني، في: سننه 4/ 61، 62. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 376. (¬3) سقط من: النسخ. والمثبت من مصادر التخريج. وقد أخرجه الدارقطني، في: سننه 4/ 61. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 377.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِيِّ، تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة. ويُحْكَى عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كان يقْرأُ: (فإن فَاءُوا فِيهن فإن اللهَ غفورٌ رَحِيمٌ) (¬1). ولأن هذه مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لاسْتِدْعاءِ الفِعْلِ منه، فكان ذلك في المُدَّةِ، كمُدَّةِ العُنَّةِ. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. [وظاهِرُ ذلك أنَّ الفَيئَةَ بعدَ أربعةِ أشهر] (¬2)؛ لذِكْرِه الفَيئَةَ بعدَها بالفاءِ المُقْتَضِيَةِ للتَّعْقِيبِ، ثم قال: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ولو وَقَعَ بمُضِيِّ المدَّةِ لم يَحْتَجْ إلى عَزْم عليه، وقولُه: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. يَقْتَضِي أنَّ الطَّلاقَ مَسْمُوعٌ، ولا يكونُ المَسْمُوعُ إلَّا كَلامًا، ولأنَّها مُدَّة ضُرِبَتْ له تأْجيلًا، فلم تُسْتَحَقَّ المُطالبَةُ فيها، كسائرِ الآجالِ، ولأنَّ هذه مُدَّةٌ لم يتَقَدَّمْها إيقاعٌ، فلم يتَقَدَّمْها وُقُوعٌ كَمُدَّةِ العُنَّةِ. ومُدَّةُ العُنَّةِ حُجَّةٌ لَنا؛ فإنَّ الطَّلاقَ لا يَقَعُ بمُضِيِّها، ولأنَّ مُدَّةَ العُنَّةِ ضُرِبَتْ له ليُخْتَبرَ فيها، ويُعْرَفَ عَجْزُه عن الوَطْءِ بتَرْكِه في مُدَّتِها، وهذه ضُرِبَتْ تَأْخِيرًا لها، وتأْجِيلًا، فلا يَسْتَحِقُّ المُطالبَةَ إلَّا بمُضِيِّ الأجَلَ، كالدَّيْنِ. فصل: وابْتِداءُ المُدَّةِ مِن حينِ اليَمِينِ، ولا تَفْتَقِرُ إلى ضَرْبِ مُدَّةٍ؛ لأنَّها ثَبَتَتْ بالنَّصِّ والإِجْماعِ، فلا تَفْتَقِرُ إلى ضَرْبٍ، كمُدَّةِ العِدَّةِ، ولا يُطالبُ بالوَطْءِ فيها؛ لِمَا ذَكَرْنا. ¬

(¬1) عزاه في الدر المنثور 2/ 271 لأبي عبيد، في: فضائله، وابن المنذر، من قراءة أبي بن كعب. (¬2) سقط من: م.

3698 - مسألة: (فإن كان بالرجل عذر يمنع الوطء، احتسب عليه بمدته، وإن كان ذلك بها، لم يحتسب عليه، وإن طرأ بها، استؤنفت المدة عند زواله)

فَإِنْ كَانَ بِالرَّجُلِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ، احْتُسِبَ عَلَيهِ بِمُدَّتِهِ، وَإنْ كَانَ ذَلِكَ بِهَا، لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيهِ، وَإنْ طَرأ بِهَا، اسْتُؤنِفَتِ الْمُدَّةُ عِنْدَ زَوَالِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3698 - مسألة: (فإن كان بالرَّجلِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الوَطْءَ، احْتُسِبَ عليه بمُدَّتِه، وإن كان ذلك بها، لم يُحْتَسَبْ عليه، وإن طرَأَ بها، اسْتُؤْنِفَتِ المُدَّةُ عَندَ زوالِه) يعني إذا انْقَضَتِ المُدَّةُ، وكان بالرجلِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الوَطْءَ، كحَبْسِه وإحْرامِه، حُسِبَتْ عليه المُدَّةُ مِن حينِ إيلائِه، لأنَّ المانِعَ مِن جِهَتِه، وقد وُجِدَ التَّمْكِينُ الذي عليها. ولذلك لو أمْكَنَتْه مِن نَفْسِها، وكان مُمْتَنِعًا لعُذْرٍ، وجَبَتْ لها النَّفَقَةُ. وإن طرأَ شيءٌ مِن هذه الأعْذارِ بعدَ الإِيلاءِ، أو جُن، لم تَنْقَطِعِ المُدَّةُ، للمَعْنَى الذي ذَكَرْناه. وإن كان المانِعُ مِن جِهَتِها، كصِغَرِها، ومَرَضِها، وحَبْسِها، وصِيامِها واعْتِكافِها المَفْرُوضَين، وإحْرامِها، وغَيبَتِها، فإن وُجِدَ منها حال الإيلاءِ، لم تُضْرَبْ له المُدَّةُ حتى يَزُولَ؛ لأنَّ المُدَّةَ تُضْرَبُ لامْتِناعِه مِن وَطْئِها، والمَنْعُ ههُنا مِن قِبَلِها. وإن طرأ بها شيءٌ مِن هذه الأسْبابِ، اسْتُؤْنِفَتِ المُدَّةُ ولم تُبْنَ على ما مَضَى؛ لأنَّ قَوْلَه سبحانه: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}. يَقْتَضِي مُتَوالِيةً. فإذا قَطَعَتْها، وجَبَ اسْتِئْنافُها، كمُدَّةِ الشهْرَين في صَوْمِ الكَفَّارَةِ.

3699 - مسألة: (إلا الحيض فإنه يحتسب عليه بمدته. وفي النفاس وجهان)

إلَّا الْحَيضَ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ عَلَيهِ بِمُدَّتِهِ. وَفِي النِّفَاسِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3699 - مسألة: (إلَّا الحَيضَ فإنَّه يُحْتَسَبُ عليه بمُدَّتِه. وفي النِّفاسِ وَجْهان) قد ذَكَرْنا أنَّ المانِعَ إذا كان مِن جِهَتِها لا يُحْتَسَبُ عليه، إلَّا الحَيض فإَّنه يُحْتَسَبُ عليه، ولا يَمْنعُ ضَرْبَ المُدَّةِ إذا كان مَوْجُودًا وَقْتَ (¬1) الإيلاءِ؛ لأنَّه لو منَع لم يُمْكِنْ ضَرْبُ المُدَّةِ، لأن الحَيضَ في ¬

(¬1) بعده في الأصل: «حكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغالِبِ لا يَخْلُو منه شَهْر، فيُؤَدِّي ذلك إلى إسْقاطِ حُكْم الإِيلاءِ. وإن طرأ الحَيضُ، لم يَقْطَعِ (¬1) المُدَّةَ؛ لِمَا ذَكَرْنا. والنِّفَاسُ مثل الحَيضِ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ أحْكامَه أحْكَامُ الحَيضِ. والثاني، هو كسائِرِ الأعْذارِ التي مِن جِهَتِها؛ لأنَّه نادِرٌ غيرُ مُعْتادٍ، فأشْبَهَ سائِرَ الأعْذارِ. فأمَّا إن جُنَّتْ، وهَرَبَتْ مِن يَدِه، انْقَطَعَتِ المُدَّةُ. وإن بَقِيَتْ في يَدِه وأمْكَنَه وَطْؤُها، احْتسِبَ عليه بها. فإن قِيلَ: فهذه الأسْبابُ منها ما لا صُنْعَ (¬2) لها فيه، فلا يَنْبَغِي أنَّ تُقْطَعَ المدَّةُ، كالحَيضِ. قُلْنا: إذا كان المَنْعُ لمَعْنًى فيها، فلا فَرْقَ بينَ كَوْنِه بفِعْلِها أو بغيرِ فِعْلِها، كما أنَّ البائِعَ إذا تَعَذر عليه تَسْلِيم المَعْقُودِ عليه، لم تَتَوَجَّهْ له المُطالبَةُ بعِوَضِه، سواءٌ كان لعُذْرٍ أو لغيرِ عُذْرٍ. وإن آلى في الرِّدَّةِ، لم تضْرَبْ له المدَّةُ إلَّا مِن حينِ رُجُوعِ المُرْتَدِّ منهما إلى الإِسْلامِ. فإن طرأَتِ الرِّدَّةُ في أثْناءِ المدَّةِ، انْقَطَعَتْ؛ ¬

(¬1) في م: «تقع». (¬2) في الأصل: «منع».

3700 - مسألة: (وإن طلقها في أثناء المدة، انقطعت)

وَإنْ طَلَّقَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، انْقَطَعَتْ، وَإنْ رَاجَعَهَا أَوْ نَكَحَهَا إِذَا كانَتْ بَائنًا، اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النِّكاحَ قدْ تَشَعَّثَ وحَرُمَ الوَطْءُ، فإن عاد إلى الإِسْلامِ، اسْتُؤْنِفَتِ المُدَّةُ، سواءٌ كانتِ الرِّدُّةُ منهما أو مِن أحَدِهما. وكذلك إن أسْلمَ أحَدُ الزَّوْجَين الكافِرَين، أو خالعَها ثم تَزَوَّجَها. 3700 - مسألة: (وإن طَلَّقَها في أثناءِ المُدَّةِ، انْقَطَعَتْ) لأنَّها صارتْ مَمْنُوعةً بغيرِ اليَمِينِ، فانْقَطَعَتِ المُدَّةُ، كما لو كان الطَّلاقُ بائِنًا، سواءٌ بانَتْ بفَسْخٍ أو طَلاقِ ثَلاثٍ، أو بخُلْع، أو بانْقِضاءِ عِدَّتِها مِن الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لأنَّها صارَتْ أجْنَبِيَّةً منه، ولم يَبْقَ شيءٌ مِن أحْكامِ نِكاحِها. فإن عاد فتَزَوَّجَها، عادَ حُكْمُ الإِيلاءِ بِن حينَ تزَوَّجَها، [واسْتُؤْنِفَتِ المُدَّة حينَئذٍ] (¬1)، وكذلك إن كان الطَّلاق رَجْعِيًّا فراجَعَها، اسْتُؤْنِفَتِ المُدَّة، كما لو كان الطَّلاقُ بائِنًا فتَزَوَّجَها. فإن كان ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباقِي مِن مُدَّةِ يَمِينِه أرْبَعةَ أشْهُرٍ فما دُونَ، لم يَثْبُتْ حُكْمُ الإِيلاءِ؛ لأنَّ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أرْبعَةُ أشهرٍ، وإن كان أكثرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، تَرَبَّصَ أرْبعَةَ أشْهُرٍ، ثم وُقِفَ لها، فإمَّا أنَّ يَفِئَ أو يُطَلِّقَ، فإن لم يُطَلقْ، طَلَّقَ عليه الحاكمُ. وهذا قَولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الطَّلاقُ أقلَّ مِن ثلاثٍ، ثم تَرَكَها حتى انْقضَتْ عِدَّتُها، ثم نَكَحَها، عادَ الإِيلاءُ، وإنِ اسْتَوْفَى عَدَدَ الطَّلاقِ، لم يَعُدِ الإيلاءُ؛ لأنَّ حُكْمَ النِّكاحِ الأوَّلِ زال بالكُلِّيَّةِ، ولهذا تَرْجِعُ إليه على (¬1) طَلاقِ ثلاثٍ، فصار إيلاؤُه في النِّكاحِ الأوَّلِ كإيلائِه مِن أجْنَبِيَّةٍ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يَتَحَصَّلُ مِن أقْوالِه ثلاثةُ أقاويلَ؛ قَوْلان كالمذهَبَين، وقولٌ ثالِثٌ: لا يعودُ حُكْمُ الإِيلاءِ بحالٍ. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّها صارَتْ بحالٍ لو آلى منها لم يَصِحَّ إيلاؤُه، فبَطَلَ حُكْمُ الإيلاءِ منها، كالمُطَلَّقَةِ ثلاثًا. ولَنا، أنَّه مُمْتَنِعٌ مِن وَطْءِ امْرأتِه بيَمِينٍ في حالِ نِكاحِها، فثَبَتَ له حُكْمُ الإِيلاءِ، كما لو لم يُطلِّقْ، وفارَقَ الإيلاءَ مِن الأجْنَبيةِ؛ فإنَّه لا يَقْصِدُ باليَمِينِ عليها الإضْرارَ بها، بخِلافِ مسْألَتِنا. ¬

(¬1) في م: «في».

3701 - مسألة: (وإن انقضت المدة وبها عذر)

وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَبِهَا عُذْرٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ، لَمْ تَمْلِكْ طَلَبَ الْفَيئَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن آلى مِن امْرأتِه الأمَةِ، ثم اشْتَراها، ثم أعْتَقَها وتَزَوَّجَها، عاد الإيلاءُ. ولو كان المُولِي عَبْدًا، فاشْتَرتْه امْرأتُه، ثم أعْتَقَتْه وتَزَوَّجَتْه، عاد الإيلاءُ. ولو بانَتِ الزوْجَةُ برِدَّةٍ، أو إسْلامٍ مِن أحَدِهما، أو غيرِه، ثم تَزَوَّجَها تَزْويجًا جَدِيدًا، عاد الإِيلاءُ، وتُسْتأنَفُ المُدَّةُ في جميعِ ذلك، سواءٌ عادَتْ إليه بعدَ زَوْج ثانٍ أو قبلَه؛ لأنَّ اليَمِينَ كانت منه في حالِ الزَّوْجِيَّةِ، فبَقِيَ حُكْمُها ما وُجِدَتِ الزَّوْجِيَّةُ. وهكذا لو قال لزَوْجَتِه: إن دخَلْتِ الدَّارَ فو اللهِ لا جامَعْتُكِ. ثم طَلَّقَها، ثم نَكَحَتْ غيرَه، ثم تَزَوَّجَها، عاد حُكْمُ الإيلاءِ؛ لأنَّ الصِّفَةَ المَعْقُودَةَ في حالِ الزَّوْجِيَّةِ لا تَنْحَلُّ بزوالِ الزوْجِيَّةِ. فإن دخَلَتِ الدَّارَ في حالِ البَينُونَةِ، ثم عادَ فتَزَوَّجَها، لم يَثْبُتْ حُكْمُ الإيلاءِ في حَقِّه؛ لأنَّ الصِّفَةَ وُجِدَتْ في حالِ كَوْنِها أجْنَبِيَّةً، ولا يَنْعَقِدُ الإيلاءُ بالحَلِفِ على الأجْنَبِيَّةِ، بخِلافِ ما إذا دخَلَتْ وهي امْرأتُه. 3701 - مسألة: (وإنِ انْقَضَتِ المُدَّةُ وبها عُذْرٌ) [الحَيضِ والنِّفاسِ] (¬1) (يَمْنَعُ الوَطْءَ، لم تَمْلِكْ طَلَبَ الفَيئَةِ) لأنَّ الوَطْءَ مُمْتَنِعٌ مِن جِهَتِها، فلم يَكنْ لها مُطالبَتُه بما تَمْنَعُه منه، ولأنَّ المُطالبَةَ مع الاسْتِحْقاقِ، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش.

3702 - مسألة: (وإن كان العذر به، وهو مما يعجز به عن الوطء)

وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَعْجِزُ بِهِ عَنِ الْوَطْءِ، أُمِرَ أَنْ يَفِئَ بِلِسَانِهِ فَيَقُولَ: مَتَى قَدَرْتُ جَامَعْتُكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي لا تَسْتَحِقُّ الوَطْءَ في هذه الأحْوالِ، وليس لها المُطالبَةُ بالطَّلاقِ؛ لأنَّه إنَّما يُسْتَحَقُّ عندَ امْتِناعِه، ولم يَجبْ عليه شيءٌ، ولكنْ تتأخَّرُ المُطالبَةُ إلى حالِ زَوالِ العُذْرِ، إن لم يكُنِ العُذْرُ قاطِعًا للمُدَّةِ كالحَيضِ، أو كان العُذْرُ حَدَثَ بعدَ انْقِضاء المُدَّةِ. 3702 - مسألة: (وإن كان العُذْرُ به، وهو مِمَّا يَعْجِزُ به عن الوَطْءِ) مِن مَرَض، أو حَبْس بغيرِ حَقٍّ، أو غيرِه، لَزِمَهُ (أنَّ يَفِئَ بلِسانِه فيقولَ: متى قَدَرْتُ جامَعْتُكِ) أو نحوَ هذا. ومِمَّن قال: يَفِئُ بلسانِه إذا كان ذا عُذْرٍ. ابنُ مسعودٍ، وجابِرُ بنُ زيدٍ، والنَّخَعِي، والحسَنُ، والزُّهْرِيُّ، [والثَّوْرِيُّ] (¬1)، والأوْزَاعِيُّ، وعِكْرِمَةُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: لا يكونُ الفَىْءُ إلَّا بالجِماعِ، في حالِ العُذْرِ وغيرِه. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا لم يَقْدِرْ، لم يُوقَفْ حتى يَصِحَّ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يَصِلَ إن كان غائِبًا، ولا تَلْزَمُه الفَيئَةُ بلِسانِه؛ لأن الضَّرَرَ بتَرْكِ الوَطْءِ لا يَزُولُ بالقَوْلِ (¬1). وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ: يحْتاجُ أنَّ يقولَ: قد نَدِمْتُ على ما فَعَلْت، وإن قَدَرْت وَطِئْت. ولَنا، أنَّ القَصْدَ بالفَيئَةِ تَرْك ما [قَصَدَه مِنَ] (¬2) الإضْرارِ، وقد تَرَكَ قَصْدَ الإضْرارِ بما أتَى به مِن الاعْتِذارِ، والقولُ مع العذْرِ يقومُ مَقامَ فِعْلِ القادِرِ، بدَليلِ أنَّ إشْهادَ الشَّفِيعِ على الطَّلَبِ بالشُّفْعَةِ عندَ العَجْزِ عن طَلَبِها، يقومُ مَقامَ طَلَبِها عندَ الحُضورِ في إثْباتِها. ولا يحْتاجُ أنَّ يقولَ: نَدِمْت. لأنَّ الغَرَضَ أنَّ يُظْهِرَ رُجُوعَه عِن المقامِ على اليَمِينِ، وقد حَصَلَ بظُهورِ عَزْمِه عليه. وحَكَى أبو الخَطَّابِ عن القاضي، أنَّ فَيئَةَ المَعْذُورِ أنَّ يقولَ: فِئْتُ إليكِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأصحاب الرَّأْي. والذي ذَكَرَ القاضي في «المُجَرَّدِ» مِثْلُ ما ذَكَرَ الخِرَقِيُّ، وهو أَحْسَن؛ لأنَّ وعْدَه بالفِعْلِ عندَ القُدْرَةِ عليه، دَلِيلٌ على تَرْكِ قَصْدِ الإضْرارِ، وفيه نَوْعٌ مِن الاعْتِذارِ، وإخْبارٌ بإزالتِه ¬

(¬1) في الأصل: «بالقبول». (¬2) في م: «قصد بنفس».

3703 - مسألة: ومتى قدر على الفيئة، وهي الجماع، طولب به؛ لأنه تأخر للعذر، فإذا زال العذر طولب به، كالدين الحال، فإن لم يفعل أمر بالطلاق. وهذا قول كل من يقول: يوقف المولي. لأن الله تعالى قال: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}

ثُمَّ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْوَطْءِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، أوْ يُطَلِّقُ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لَا يَلْزَمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للضَّرَرِ (¬1) عندَ إمْكانِه، ولا يَحْصُلُ بقَوْلِه: فِئْتُ إليكِ. شيءٌ مِن هذا. فأمَّا العاجِزُ بجَبٍّ (¬2) أو شَلَلٍ، ففَيئَتُه أنَّ يقولَ: لو قَدَرْتُ لجامَعْتُها. لأنَّ ذلك يُزِيلُ ما حَصَلَ بإيلائِه. والإِحْرامُ كالمَرضِ في ظاهِرِ قولِ الخِرَقِيِّ. وكذلك على قِياسِه الاعْتِكافُ المَنْذُورُ والظِّهارُ. 3703 - مسألةْ: ومتى قَدَرَ على الفَيئَةِ، وهي الجِماعُ، طُولِبَ به؛ لأنَّه تأخَّرَ للعُذْرِ، فإذا زال العُذْرُ طُولِبَ به، كالدَّينِ الحال، فإن لم يَفْعَلْ أُمِرَ بالطَّلاقِ. وهذا قولُ كُلِّ مَن يقولُ: يُوقَفُ المُولِي. لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3). فإذا امْتَنَعَ مِن أداءِ الواجِبِ عليه، فقد امْتَنَعَ مِن الإِمْساكِ بالمَعْرُوفِ، فيُؤْمَرُ بالتَّسْريحِ بالإِحْسانِ. فإن كان قد فاءَ بلِسانِه في حالِ العُذْرِ ثم قَدَرَ على الوَطْءِ، أُمِرَ به، فإن فَعَلَ، وإلَّا أُمِرَ بالطَّلاقِ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال ¬

(¬1) في الأصل، م: «الضرر». (¬2) في م: «لجب». (¬3) سورة البقرة 229.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بَكْر: إذا فاءَ بلسانِه، لم يُطالبْ بالفَيئَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وخَرَجَ مِن الإِيلاءِ. وهو قَوْلُ الحسَنِ، وعِكْرِمَةَ، والأوْزاعِيِّ؛ لأنَّه فاءَ مَرَّةً، فخَرَجَ مِنِ الإِيلاءِ، ولم تَلْزَمْه فَيئَةٌ ثانِيَةٌ، كما لو فاء بالوَطْءِ. وقال أبو حنيفةَ: تُسْتَأنَفُ له مُدَّةُ الإِيلاءِ؛ لأنَّه وَفَّاها حَقَّها بما أمْكَنَه مِن الفَيئَةِ، فلا يُطالبُ إلَّا بعدَ اسْتِئْنافِ مُدَّةِ الإِيلاءِ، كما لو طَلَّقَها. ولَنا، أنَّه أخَّرَ حَقَّها لعَجْزِه عنه، فإذا قَدَرَ عليه، لَزِمَه أنَّ يوفِّيَها إيَّاه، كالدَّينِ على المُعْسِرِ إذا قَدَرَ عليه. وما ذَكَرَه فليس بحَقِّها، ولا يَزُولُ الضَّرَرُ عنها، وإنَّما وَعَدَها بالوَفاءِ، فلَزِمَها الصَّبْرُ عليه وإنْظارُه كالغَرِيمِ المُعْسِرِ. فصل: وليس على مَن فاء بلِسانِه كَفَّارَة، ولا حِنْثٌ؛ لأنَّه لم يَفْعَل المَحْلُوف عليه، وإنَّما وَعَدَ بفِعْلِه، فهو كمَن عليه دَينٌ حَلَفَ أنَّ لا يُوَفِّيَه، ثم أعْسَرَ به، فقال: متى قَدَرْتُ وَفيتُه.

3704 - مسألة: (وإن كان مظاهرا، فقال: أمهلوني حتى أطلب رقبة أعتقها عن ظهاري. أمهل ثلاثة أيام)

وَإنْ كَانَ مُظَاهِرًا، فَقَألَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أطْلُبَ رَقَبَةً أُعْتِقُهَا عَنْ ظِهَارِي. أُمْهِلَ ثَلَاثةَ أَيَّامٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3704 - مسألة: (وإن كان مُظاهِرًا، فقال: أمْهِلُونِي حتى أطْلُبَ رَقَبَةً أُعْتِقُها عن ظِهارِي. أُمْهِلَ ثلاثةَ أيَّامٍ) ذَكَرَ شَيخُنا (¬1) أنَّ الظِّهارَ كالمَرضِ في قِياسِ قَوْلِ الخِرَقِيِّ، وكذلك الاعْتِكافُ المَنْذُورُ. وقد ذَكَرَ أصحابُنا أنَّ المُظاهِرَ لا يُمْهَلُ، ويُؤْمَرُ بالطَّلاقِ. فيُخَرَّجُ مِن هذا أنَّ كُلَّ عُذْرٍ مِن فِعْلِه يَمْنَعُ الوَطْءَ لا يُمْهَلُ مِن أجْلِه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأن الامْتِناعَ بسَبَبٍ منه، فلا يُسْقِطُ حُكْمًا واجِبًا. فعلى هذا، لا يُؤْمَرُ بالوَطْءِ؛ لأنَّه مُحَرَّمٌ عليه، ولكِن يُؤْمَرُ بالطَّلاقِ. وَوجْهُ القَوْلِ الأوَّلِ، أنَّه عاجِزٌ عن الوَطْءِ بأمْر لا يُمْكِنُه الخُرُوجُ منه، فأشْبَهَ المَرِيضَ. فأمَّا المُظاهِرُ فيُقالُ له: إمَّا أنَّ تُكَفِّرَ وتَفِئَ، وإمَّا أنْ تُطَلِّقَ. فإن قال: أمْهِلُونِي حتى أطْلُبَ رَقَبَةً، أو أُطْعِمَ. فإن عُلِمَ أنَّه قادِرٌ على التَّكْفِيرِ في الحال، وإنَّما يَقْصِدُ المُدافَعَةَ والتَّأْخِيرَ، لم يُمْهَلْ؛ لأنَّ الحَق حالٌّ عليه، وإنَّما يُمْهَل للحاجَةِ، [ولا حاجَةَ] (¬2). وإن لم يُعْلَمْ أُمْهِلَ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّها قَرِيبَةٌ، ولا يُزادُ على ذلك. وإن كان فَرْضُه الصِّيامَ، فَطَلَبَ الإِمْهال ليصومَ شَهْرَين مُتَتابِعَين، لم يُمْهَلْ؛ لأنَّه كثيرٌ. ويتَخرَّجُ أنَّ يَفِئَ بلِسانِه فَيئَةَ ¬

(¬1) في: المغني 11/ 43. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعْذُورِ، ويُمْهَلَ حتى يصومَ، كقَوْلِنا في المُحْرِمِ. فإن وَطِئَها فقد عَصَى، وانْحَلَّ إيلاؤُه. ولها مَنْعُه؛ لأنَّه وَطْءٌ مُحَرَّمٌ عليهما. وقال القاضي: يَلْزَمُها التَّمْكِينُ، وإنِ امْتَنَعَتْ سَقَطَ حَقُّها؛ [لأنَّ حقَّها] (¬1) في الوَطْءِ، وقد بَذَلَه لها، ومتى وَطِئَها فقد وَفَّاها حَقَّها، والتَّحْرِيمُ عليه دُونَها. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ حرامٌ، فلا يَلْزَمُ التَّمْكِينُ منه، كالوَطْءِ في الحَيضِ والنِّفاسِ، وهذا يَنْقُضُ دَلِيلَه. ولا نُسَلِّمُ أنَّ التَّحْرِيمَ عليه دُونَها؛ فإنَّ الوَطْءَ متى حَرُمَ على أحَدِهما حَرُمَ على الآخَرِ؛ لكَوْنِه فِعْلًا واحدًا، ولو جازَ اخْتِصاصُ أحَدِهما بالتَّحْرِيمِ، لاخْتَصَّتِ المرأةُ بتَحْرِيم الوَطْءِ في الحَيضِ والنِّفاسِ وإحْرامِها وصِيَامِها؛ لاخْتِصاصِها بسَبَبِه. فصل: وإنِ انْقَضَتِ المُدَّةُ وهو مَحْبُوسٌ بحَقِّ يُمْكِنُه أداؤُه، طُولِبَ بالفَيئَةِ؛ لأنَّه قادِرٌ عليها بأداءِ ما عليه، فإن لم يَفْعَلْ أُمِرَ بالطَّلاقِ. وإن كان عاجِزًا عن أدائِه، أو حُبِسَ ظُلْمًا، أُمِرَ بفَيئَةِ المَعْذُورِ. وإنِ انْقَضَتْ وهو غائِبٌ والطَّرِيقُ آمِنٌ، فلَها أنْ تُوَكِّلَ مَن يُطالِبُه بالمَسِيرِ إليها، أو حَمْلِها إليه، فإن لم يَفْعَلْ، أُخِذَ بالطَّلاقِ. وإن كان الطَّرِيقُ مَخُوفًا، أو له عُذرٌ يَمْنَعُه، فاءَ فَيئَةَ المَعْذُورِ. فصل: فإن كان مَغْلُوبًا على عَقْلِه بجُنُونٍ أو إغْماءٍ، لم يُطالبْ؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

3705 - مسألة: (وإن قال: أمهلوني حتى أقضي صلاتي. أو: أتغدى)

وَإنْ قَال: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَقْضِيَ صَلَاتي. أَوْ: أَتَغَدَّى. أوْ حَتَّى يَنْهَضِمَ الطَّعَامُ. أَوْ: أَنَامَ فَإِنِّي نَاعِسٌ. أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَصْلُحُ للخِطابِ، ولا يَصِحُّ منه الجَوابُ، وتتَأخَّرُ المُطالبةُ إلى حالِ القُدْرَةِ وزَوالِ العُذْرِ، ثُمَّ يُطالبُ حِينَئذٍ. 3705 - مسألة: (وإن قال: أمْهِلُونِي حتى أقْضِيَ صَلاتِي. أو: أتَغَدَّى) فإنِّي جائِعٌ (أو: حتى يَنْهَضِمَ الطَّعامُ. أو: أنامَ فإنِّي ناعِسٌ. أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذلك) لأنَّه عُذْرٌ، ولا يُمْهَلُ أكْثرَ مِن قَدْرِ الحاجَةِ، كالدَّينِ الحالِّ. وكذلك إن قال: أمْهِلُونِي حتى أُفْطِرَ مِن صَوْمِي. أُمْهِلَ لذلك. وإن قال: أمْهِلُونِي حتىْ أرْجِعَ إلى بَيتِي. أُمْهِلَ؛ لأنَّ العادَةَ فِعْلُ ذلك في بَيتِه. فصل: فإن كانتِ المرأةُ صغيرةً أو مَجْنُونَةً، فليس لهما المُطالبَةُ؛ لأنَّ قَوْلَهما غيرُ مُعْتَبَر، وليس لوَلِيِّهما المُطالبَةُ؛ لأنَّ هذا طَرِيقُه الشّهْوَةُ، فلا يقُومُ غيرُهما مَقامَهما فيه. فإن كانَتا مِمَّن لا يُمْكِنُ وَطْؤُهُما (¬1)، لم يُحْتَسَبْ عليه بالمُدَّةِ؛ لأنَّ المَنْعَ مِن جِهَتِهما. وإن كان وَطْؤُهُما مُمْكِنًا، فأفاقَتِ المَجْنُونَةُ، أو بلَغَتِ الصّغِيرَةُ قبلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، تُمِّمَتِ المُدَّةُ، ثُمَّ لهما المُطالبَةُ. وإن كانَ ذلك بعدَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، فلهما المُطالبَةُ يَومَئِذٍ؛ لأنَّ الحَق لهما ثابِتٌ، وإنَّما تأخَّرَ لعَدَمِ إمْكانِ المطالبَةِ. وقال الشافعيُّ: لا تُضْرَبُ المُدَّةُ في الصَّغِيرَةِ حتى تَبْلُغَ. وقال أبو حنيفةَ: تُضْرَبُ المُدَّةُ، ¬

(¬1) في تش: «طلبهما».

3706 - مسألة: (فإذا لم يبق له عذر، وطلبت الفيئة -وهي الجماع)

فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْر وطَلَبَتِ الْفَيئَةَ -وَهِيَ الْجِمَاعُ- ـــــــــــــــــــــــــــــ سواءٌ أَمْكَنَ الوَطْءُ أو لم يُمْكِنْ، فإن لم يُمْكِنِ الوَطْءُ فاءَ بلِسانِه، وإلَّا بانَتْ بانْقِضاءِ المُدَّةِ. وكذلك الحُكْمُ عندَه في النَّاشِزِ، والرَّتْقاءِ، والقَرْناءِ، والتي غابَتْ في المُدَّةِ؛ لأنَّ هذا إيلاءٌ صَحِيحٌ، فوجَبَ أنَّ تَتَعَقبَه المُدَّةُ، كالتي يُمْكِنُه جِماعُها. ولَنا، أنَّ حَقَّها مِن الوَطْءِ يَسْقُطُ بتَعَذُّرِ جِماعِها، فوَجَبَ أنَّ تَسْقُطَ المُدَّةُ المَضْرُوبَةُ له، كما يَسْقُطُ أجَلُ الدَّينِ بسُقُوطِه. وأمَّا التي أمْكَنَه جِماعُها، فتُضْرَبُ له المُدَّةُ في حَقِّها، لأنَّه إيلاءٌ صَحِيحٌ ممَّن يُمْكِنُه جِماعُها، فتُضْرَبُ له المُدَّةُ كالبالِغَةِ، ومتى قَصَدَ الإِضْرارَ بهما بتَرْكِ الوَطْءِ أثِمَ، ويُسْتَحَبُّ أنَّ يُقال له: اتَّقِ اللهَ؛ فإمَّا أنَّ تَفِئَ وإمَّا أنَّ تُطَلِّقَ، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). [وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. وليس الإِضرارُ مِن المعاشرةِ بالمعروفِ] (¬2). 3706 - مسألة: (فإذا لم يَبْقَ له عُذْرٌ، وطَلَبَتِ الفَيئَةَ -وهي الجِمَاعُ) وليس في هذا بحمدِ اللهِ اخْتِلافٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العلمِ، على أنَّ الفَىْءَ الجِماعُ، كذلك قال ابنُ عباس. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ. وبه قال عَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، ¬

(¬1) سورة النساء 19. (¬2) سقط من: م.

3707 - مسألة: (فإذا جامع، انحلت يمينه، وعليه كفارتها)

فَجَامَعَ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَعَلَيهِ كَفَّارَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحَابُ الرَّأْي، إذا لم يَكُنْ عُذْرٌ. وأصْلُ الفَىْءِ الرُّجُوعُ، [ولذلك يُسَمَّى الظِّلُّ بعدَ الزوالِ فيئًا؛ لأنَّه رَجَعَ مِن المَغْربِ إلى المَشْرِقِ، فسُمِّيَ الجِماعُ مِن المُولِي فَيئَةً؛ لأنَّه رُجُوعٌ] (¬1) إلى فِعْل ما تَرَكَه. 3707 - مسألة: (فإذا جامَعَ، انْحَلَّتْ يَمِينُه، وعليه كفَّارَتُها) في قَوْلِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم زيدٌ، وابنُ عباس. وبه قال ابنُ سِيرِينَ، والثَّوْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، وأهْلُ المدِينَةِ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ. وله قَوْلٌ آخَرُ: لا كفَّارَةَ عليه. وهو قَوْلُ الحسَنِ. وقال النَّخَعِيُّ: كانُوا يقُولُونَ ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قال قَتادَةُ: فذا خالفَ النَّاسَ. يعني [قولَ الحسنِ] (¬2). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: ({وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية (¬3) إلى قولِه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬4). وقال سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} (¬5). وقال النبيُّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الحسن». (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة المائدة 89. (¬5) سورة التحريم 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرأيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَأتِ الذي هُوَ خيرٌ، وكَفِّرٌ عَنْ يَمِينكَ». مُتَّفق عليه (¬1). ولأَنه حالِفٌ حانِثٌ في يَمِينه، فلَزمَتْه (¬2) الكَفَّارَةُ، كما لو حَلَفَ على تَرْكِ فَرِيضَةٍ ثُمَّ فَعَلَها، والمغْفِرَةُ لا تُنافِي الكَفّارَةَ، فإنَّ الله تعالى قد غفرَ لرَسُولِه ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تَأخّرَ، وقد كان يقولُ: «إنِّي وَالله لا أحْلِفُ علَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، إلا أتَيتُ الَّذِي هُوَ خير، وتَحَلَّلْتُهَا». مُتَّفق عليه (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ}، من كتاب الأيمان والنذور، وفي: باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله، وباب من سأل الإمارة وكل إليها، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 8/ 159، 9/ 79. ومسلم، في: باب ندب من حلف يمينا. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 3/ 1273، 1274. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يكفر قبل أن يحنث، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 205. والترمذي، في: باب ما جاء في من حلف. . . .، وباب ما جاء في الكفارة قبل الحنث، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 10، 11. والنسائي، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، وباب الكفارة قبل الحنث، وباب الكفارة بعد الحنث، من كتاب الإيمان والنذور. المجتبى 7/ 10 - 12. والدارمي، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب الأيمان والنذور. سنن الدارمي 2/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 61 - 63. (¬2) في م: «فقبلت منه». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، من كتاب الخمس. وفي: باب الدجاج، من كتاب الذبائح. وفي: باب لا تحلفوا بآبائكم، من كتاب الأيمان والنذور. وفي: باب الاستثناء في الأيمان، وباب الكفارة بعد الحنث وقبله، من كتاب الكفارات. وفي: باب قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 4/ 109، 7/ 123، 8/ 165، 182، 183، 9/ 197. ومسلم، في.: باب ندب من حلف يمينًا. . . .، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1268 - 1271. كما أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يكفر قبل أن يحنث، من كتاب الإيمان. سنن أبي داود 2/ 205. والنسائي، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، من كتاب الإيمان والنذور. المجتبى 7/ 9. وابن ماجه، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 681. =

3708 - مسألة: (وأدنى ما يكفي)

وَأدْنَى مَا يَكْفِيهِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ في الْفَرْجِ. وَإنْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ في الدُّبُرِ، لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْفَيئَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3708 - مسألة: (وأدْنَى مَا يَكْفِي) مِن ذلك (تَغْييبُ الحَشَفَةِ في الفَرْجِ) لأنَّ أحْكامَ الوَطْءِ تَتَعَلَّقُ به (فإن وَطِئَ في الدُّبُرِ، أو دُونَ الفَرْجِ) لم تَحْصُلِ الفَيئَةُ به؛ لأنَّه ليس بمَحْلُوفٍ عليه، ولا يَزُولُ الضَّرَرُ بفِعْلِه. فصل: فإن وَطِئَها ناسِيًا ليَمِينه، فهل يَحْنَثُ؟ على رِوايَتَين. فإن قُلْنا: يَحْنَثُ. انْحَلَّ إيلاؤه. وإن قُلْنا: لا يَحْنَثُ. فهل يَنْحَلُّ إيلاؤه؟ على وَجْهَين، قياسًا على المَجْنُونِ. وكذلك يُخَرَّجُ فيما إذَا آلى مِن [إحْدَى زَوجِتَيه] (¬1)، ثمّ وجَدَها على (¬2) فِراشِه، فظنَّها الأخْرَى فوَطِئَها؛ لأنه جاهِلٌ بها، والجاهِلُ كالنَّاسِي في الحِنْثِ. وكذلك إن ظَنَّها أجْنَبِيّةً فبانَتْ زَوْجَتَه. وإنِ اسْتَدْخَلَتْ ذكَرَه وهو نائِمٌ، لم يَحْنَثْ؛ لأنه لم يَفْعَلْ ما حَلَفَ عليه، ولأنَّ القَلَمَ مَرْفُوعٌ عنه. وهل يَخْرُجُ مِن حُكْمِ الإيلاءِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحدُهما، يَخْرُجُ؛ لأنَّ المرأةَ وصَلَتْ إلى ¬

= والإمام أحمد، في: المسند 4/ 398، 401، 404، 408. (¬1) في م: «زوجته». (¬2) في م: «في».

3709 - مسألة: (وإن وطئها في الفرج وطأ محرما، مثل أن يطأ في الحيض، أو النفاس، أو الإحرام، أو صيام فرض من أحدهما)

وَإنْ وَطِئَهَا في الْفَرْجِ وَطْاءً مُحَرَّمًا، مِثْلَ أَنْ يَطَأهَا حَال الْحَيضِ، أو النِّفَاسِ، أو الْإحْرَامِ، أوْ صِيَام فَرْض مِنْ أحَدِهِمَا، فَقَدْ فَاءَ إِلَيهَا؛ لأنَّ يَمِينَهُ انْحَلَّتْ بِهِ. وَقَال أَبو بَكْرٍ: الأصَحُّ أنهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَيئَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِّها، فأشبَهَ ما لو وَطِئَ. والثاني، لا يَخْرُجُ مِن حُكْمِ الإيلاءِ؛ لأنَّه ما وَفَّاها حَقَّها، وهو باقٍ على الامْتِناعِ مِن الوَطْءِ بحُكْمِ اليَمِينِ، فكان مُولِيًا، كما لو لم تَفْعَلْ به ذلك. والحُكْمُ فيما إذا وَطِئَ وهو نائِمٌ كذلك؛ لأنَّه لا يَحْنَث به. 3709 - مسألة: (وإن وَطِئَها في الفَرْجِ وطْأً مُحَرَّمًا، مثلَ أن يَطَأ في الحَيضِ، أو النِّفاسِ، أو الإحْرام، أو صِيام فَرْض مِن أحَدِهما) أو مُظاهِرًا (فقد فاء إليها؛ لأنَّ يَمِينَه انْحَلَّتَ) فزَال حُكْمُها، وزَال عنها الضرَرُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو بَكْرٍ: قِياسُ المذهبِ أن لا يخْرُجَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الإِيلاءِ؛ لأنَّه وَطْءٌ لا يُؤْمَرُ به في الفَيئَةِ، [فلم يَخْرُجْ به مِن الفَيئَةِ، كالوَطْءِ في الدُّبُرِ. والذي ذكَرَه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ يَمِينَه انْحَلَّتَ، ولم يَبْقَ مُمْتَنِعًا مِن الوَطْءِ بحُكْمِ اليَمِينِ] (¬1)، فلم يَبْقَ الإِيلاءُ، كما لو كَفَّرَ يَمِينَه، أو كما لو وَطِئَها مَرِيضَةً. وقد نَصَّ أحمدُ في مَن حَلَفَ ثم كفَّرَ يَمِينَه؛ أنَّه لا يَبْقَى مُولِيًا، لعَدَمِ حُكْمِ اليَمِينِ، مع أنَّه ما وَفَّاها حَقَّها، فَلأن [يزُولَ بزوالِ اليَمِينِ] (¬2) بحِنْثِه فيها أوْلَى. وقد ذَكَرَ القاضي في المُحْرِمِ والمُظاهِرِ، أنَّهما إذا وَطِئَا فقد وَفَّياها حقَّها. وفارَقَ الوَطْءَ في الدُّبُّرِ؛ فإنَّه لا يَحْنَثُ به، وليس بِمَحَل للوَطْءِ، بخِلافِ مسْألَتِنا. فصل: فإن كان الإِيلاءُ بتَعْليقِ عِتْقٍ أو طَلاقٍ، وَقَعَ بنَفْسِ الوَطْءِ؛ لأنَّه مُعَلَّق بصِفَةٍ، وقد وُجِدَتْ. وإن كان على نَذْرِ عِتْقٍ، أو صَوْمٍ، أو صلاةٍ، أو حَجٍّ، أو غيرِ ذلك مِن الطَّاعاتِ أو المُباحاتِ، فهو مُخيَّرٌ بينَ الوَفاءِ به، وبينَ التَّكْفيرِ؛ لأنَّه نَذْرُ لَجاجٍ (¬3) و (¬4) غَضَبٍ، وهذا حُكْمُه. فإن عَلَّقَ طَلاقَها الثَّلاثَ بوَطْئِها, لم يُؤْمَرْ بالفَيئَةِ، وأُمِرَ بالطَّلاقِ؛ لأنَّ الوَطْءَ غيرُ مُمْكِنٍ؛ لكَوْنِها تَبِينُ منه بإيلاجِ الحَشَفَةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «تزول اليمين» وفي م: «يزول». (¬3) اللجاج: الخصومة. (¬4) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَصِيرُ مُسْتَمْتِعًا بأجْنَبِيَّةٍ. وهذا قولُ بعْضِ أصحابِ الشافعيِّ. وأكْثَرُهم قال: تجوزُ الفَيئَةُ؛ لأنَّ النَّزْعَ تَرْكٌ للوَطْءِ. وتَرْكُ الوطْءِ ليس بوَطْءٍ. وقد ذَكَرَ القاضي أنَّ كلامَ أحمدَ يقتَضِي رِوايَتَين، كهذَينِ الوَجْهَينِ. قال شيخُنا (¬1): واللَّائِقُ بمَذْهَبِ أحمدَ تَحْرِيمُه لوُجُوهٍ ثلاثةٍ، أحدُها، أنَّ آخِرَ الوَطْءِ يحْصُلُ في أجْنَبيَّةٍ؛ ذَكَرْناه؛ فإنَّ النَّزْعَ يُلْتَذُّ به كما يُلْتَذُّ بالإيلاجِ، فيكونُ في حُكْمَ الوَطْءِ، ولذلك قُلْنا في مَن طَلَعَ عليه الفَجْرُ وهو مُجامِعٌ، فنزَعَ: إنَّه يُفْطِرُ. والتَّحْرِيمُ ها هُنا أوْلَى؛ لأنَّ الفِطْرَ بالوَطْءِ، ويُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِ النَّزْعِ وَطْأَ، والمُحَرَّمُ ها هُنا الاسْتِمْتاعُ، والنَّزْعُ اسْتِمْتاعٌ، فكان مُحَرَّمًا, ولأنَّ لَمْسَها على وَجْهِ التَّلَذُّذِ مُحَرَّمٌ، فصَرُّ الفَرْجِ بالفَرْجِ أوْلَى بالتَّحْرِيمِ. فإن قيلَ: فهذا إنما يحْصُلُ ضَرُورةَ تَرْكِ الوَطْءِ المُحَرَّمِ. قُلْنا: فإذا لم يُمْكِنِ الوَطْءُ إلا بفِعْلِ مُحَرَّم، حَرُمَ ضرورةَ تَرْكِ الحَرامِ، كما لو اخْتَلَطَ لَحْمُ الخِنْزِيرِ بلَحْمٍ مُباحٍ، لا يُمْكِنُه أكْلُه إلَّا بأكلِ لَحْمِ الخِنْزِيرِ، حَرُمَ، ولو اشْتَبَهَتْ مَيتَةٌ بمُذَكَّاةٍ، أو امْرأتُه بأجْنَبِيَّةٍ، حَرُمَ الكُلُّ. والوَجْه الثَّانِي، أنَّه بالوَطْءِ يَحْصُلُ الطَّلاقُ بعدَ الإِصابَةِ، وهو طَلاقُ بِدْعَةٍ، فكما يَحْرُمُ إيقاعُه بلِسانِه، يَحْرُمُ بتَحْقيقِ سَبَبِه. الثَّالِثُ، أنَّه يَقَعُ به طَلاقُ البِدْعَةِ مِن وَجْهٍ آخَرَ، وهو جَمْعُ الثَّلاثِ. فإن وَطِئَ، فعليه النَّزْعُ حينَ يُولِجُ الحَشَفَةَ, ¬

(¬1) في: المغني 11/ 40.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَزِيدُ على ذلك ولا يَلْبَثُ، ولا يتَحَرَّكُ عندَ النَّزْعِ؛ لأنَّها أجْنَبِيَّةٌ. فإن فعلَ ذلك، فلا حَدَّ ولا مَهْرَ؛ لأنَّه تارِك للوَطْءِ. وإن لَبِثَ أو تَمَّمَ الإِيلاجَ، فلا حَدَّ عليه لتَمَكُّنِ الشبْهَةِ منه؛ لكَوْنِه وَطْأ في زَوْجَتِه. وفي المَهْرِ وَجْهان؛ أحدُهما، يَلْزَمُه؛ لأنَّه حَصَلَ منه وَطْءٌ مُحَرَّمٌ في مَحَلٍّ غيرِ مَمْلوكٍ، فأوْجبَ المَهْرَ، كما لو أوْلَجَ بعدَ النَّزْعِ. والثاني، لا يَجِبُ؛ لأنَّه تابَع الإيلاجَ في مَحَل مَمْلُوكٍ، فكان تابِعًا له في سُقُوطِ المَهْرِ. وإن نَزَعَ ثم أوْلَجَ، وكانا جاهِلَين بالتَّحْريمِ، فلا حَدَّ عليهما، وعليه المَهْرُ لها، ويَلْحَقُه النَّسَبُ. وإن كانا عالِمَين بالتَّحْرِيمِ، فعليهما الحَدُّ؛ لأنه إيلاجٌ في أجْنَبِيَّةٍ بغيرِ شُبْهَةٍ، فأشْبَهَ ما لو طَلَّقَها ثلاثا ثُمَّ وَطِئَها, ولا مَهْرَ لها؛ لأنَّها مُطاوعَةٌ على الزِّنى، ولا يَلْحَقُه النَّسبُ؛ لأنَّه مِن زِنًى لا شُبْهَةَ فيه. وذكَرَ القاضي وَجْهًا، أنَّه لا حَدَّ عليهما؛ لأنَّ هذا يَخْفَى على كثيرٍ مِن النَّاسِ. وهو وَجْهٌ لأصحابِ الشافعيِّ. والصَّحيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الكلامَ في العالمَينِ، وليس هو في مَظنةِ الخَفَاءِ؛ فإنَّ أكثَرَ المُسْلِمِينَ يعْلَمون أنَّ الطَّلاقَ الثَّلاثَ مُحَرِّمٌ للمَرْأةِ. وإن كان أحَدُهما عالِمًا والآخَرُ جاهِلًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَظَرْتَ؛ فإن كان هو العالِمَ، فلها المَهْرُ، وعليه الحَدُّ، ولا يَلْحَقُه النَّسَبُ؛ لأنَّه زانٍ مَحْدُود. وإن كانت هي العالِمَةَ دُونَه، فعليها الحَدُّ، وحْدَها, ولا مَهْرَ لها، ويَلْحَقُه النَّسَبُ؛ لأنَّ وَطْأه وَطْءُ شبْهَةٍ. فصل: فإن قال: إن وَطِئْتُكِ فأنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. فقال أحمدُ: لا يَقْرَبُها حتى يُكَفِّرَ. وهذا نَصٌّ تَحْرِيمِها قبلَ التَّكْفيرِ، وهو دليلٌ على تَحْريمِ الوَطْءِ في المسْألَةِ التي قَبْلَها بطَرِيقِ التنبِيهِ؛ لأنَّ المُطَلَّقَةَ ثلاثًا أعْظَمُ (¬1) تَحْرِيمًا مِن المُظاهَرِ منها. فإذا وَطِيء ها هنا، فقد صار مُظاهِرًا مِن زَوْجَتِه، وزَال حُكْمُ الايلاءِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحمدَ أراد، إذا وَطِئَها مَرَّةً فلا يَطَؤُها أخْرَى حتى يُكَفِّرَ؛ لكَوْنِه صار بالوَطْءِ مُظاهِرًا، إذ لا يَصِحُّ تقْدِيمُ الكفَّارَةِ على الظِّهارِ؛ لأنَّه سَبَبُها (¬2)، ولا يجوزُ تَقْدِيمُ الحُكْمِ على سَبَبِه، ولو كَفَّرَ قَبْلَ الظِّهارِ لم يُجْزِئْه. وقد روَى إسْحاقُ، قال: قلتُ لأحمدَ، في مَن قال لزَوْجَتِه: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي إن قَرِبْتُكِ إلى سَنَةٍ. فقال: إن جاءَتْ تَطْلُبُ، فليس له أن يَعْضُلَها بعدَ مُضِيِّ الأرْبَعةِ الأشْهُر، يُقالُ له: إمَّا أن تَفِئَ، وإمَّا أنْ تُطَلِّقَ. فإن وَطِئَها، فقد وَجبَ عليه كَفَّارة، وإن أبى وأرادَتْ مُفارَقَتَه، طَلَّقَها الحاكِمُ عليه. فيَنْبَغِي أن تُحْمَلَ الرِّوايَةُ الأولَى على الوَطْءِ بعدَ الوَطْء الذي صارَ به مُظاهِرًا؛ لِما ذَكَرْناه، فتكونُ الرِّوايَتان مُتَّفِقَتَين. والله أَعلمُ. فصل: ولو انْقَضَتِ المُدَّةُ، فادَّعَى أنَّه عاجِر عن الوَطْءِ؛ فإن كان ¬

(¬1) في تش: «أكثر». (¬2) في الأصل: «شبهها».

3710 - مسألة: (وإن لم يفئ وأعفته المرأة، سقط حقها. ويحتمل أن لا يسقط، ولها المطالبة بعد)

وَإنْ لَمْ يَفِئْ وأعْفَتْهُ الْمَرْأةُ، سَقَطَ حَقُّهَا. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَسْقُطَ، وَلَهَا الْمُطَالبَةُ بَعْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قد وَطِئَها مَرَّةً، لم تُسْمَعْ دَعْواه العُنَّةَ (¬1)، كما لا تُسْمَعُ دَعْواها عليه، ويُؤْخَذُ بالفَيئَةِ، أو بالطَّلاقِ كغَيرِه. وإن لم يكُنْ وَطِئَها، ولم تكُنْ حالُه مَعْرُوفَةً، فقال القاضيِ: تُسْمَعُ دَعْواه، ويُقْبَلُ قَوْلُه؛ لأنَّ العُنَّةَ مِن العُيُوبِ التي لا يَقِفُ عليها غيرُه. وهذا ظاهِرُ نَصِّ الشافعيِّ. ولَها أن تَسْألَ الحاكِمَ، فيَضْرِبُ له مُدَّةَ العُنَّةِ بعدَ أن يَفِئَ فَيئَةَ المَعْذُور. وفيه وَجْه آخَرُ، أنّه لا يُقْبَل قَوْلُه؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ في دَعْوَى ما يُسْقِطُ عنه حقا تَوَجّه عليه الطَّلَبُ به، والأصْلُ سَلامتُه منه. وإنِ اعْتَرَفَتْ أنَّه قد أصابَها مَرَّةً وأنْكَرَ ذلك، لم يكُنْ لها المُطالبَةُ بضَرْبِ مُدَّةِ العُنَّةِ، لاعْتِرافِها بعَدَمِ عُنتِه، والقَوْلُ قَوْلُه في عَدَم الإصابَةِ. 3710 - مسألة: (وإن لم يَفِئْ وأعْفَتْه المَرْأةُ، سَقَطَ حَقُّها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَسْقُطَ، ولها المُطالبَةُ بعدُ) إذا عَفَتِ المرأةُ عن المطالبَةِ بالفَيئَةِ بعدَ وُجوبِها، فقال بعض أصحابِنا: يَسْقُطُ حَقها, وليس لها المُطالبَةُ. قال القاضي: هذا قِياسُ المذْهَبِ؛ لأنَّها رَضِيَتْ بإسْقاطِ حقِّها مِن ¬

(¬1) في م: «الفيئة».

3711 - مسألة: (وإن لم تعفه، أمر بالطلاق)

وَإنْ لَمْ تُعْفِهِ، أُمِرَ بِالطَّلاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً، فَلَهُ رَجْعَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَسْخِ، فسَقَطَ حَقُّها منه، كامْرأةِ العِنينِ إذا رَضِيَتْ بعُنَّتِه. ويَحْتَمِل أن لا يَسْقُطَ. حَقُّها, ولها المُطالبَة متى شاءَتْ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها ثَبَتَتْ لدَفْعِ الضَّرَرِ بتَرْكِ ما يَتَجَدَّدُ مع الأحْوالِ، فكان لها الرُّجُوعُ، كما لو أعْسَرَ بالنَّفَقةِ، فعَفتْ عن المُطالبَة بالفَسْخ، ثم طالبتْ (¬1)، وفارَقَ الفَسْخَ للعُنَّةِ؛ فإنَّه فَسْخ لعَيبِه، فمتى رَضِيَت بالعَيبِ، سَقَطَ حَقُّها، كما لو عَفا المُشتَرِي عن عَيبِ المَبِيع، فأمَّا إن سَكَتَتْ عن المُطالبَةِ، ثم طالبَتْ بعدُ، فلها ذلك وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ حَقَّها ثَبَتَ على التَّراخِي، فلم يَسْقُطْ بتأخُّرِ المُطالبَةِ، كاسْتِحْقاقِ النَّفَقَةِ. 3711 - مسألة: (وإن لم تُعْفِه، أُمِرَ بالطَّلاقِ) إن طَلَبَتْ ذلك؛ لقَوْلِ اللهِ سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فإذا امْتَنَعَ مِن أداءِ الواجِبِ، فقد امْتَنَعَ مِن الامْساكِ بالمعْروفِ، فيُؤْمَرُ بالتَّسْرِيحِ بإحْسانٍ. 3712 - مسألة: (فإن طَلَّقَ واحِدَةً، فله رَجْعَتُها. وعنه، أنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «طالب».

وَعَنْهُ أنَّهَا تكون بَائِنَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكُونُ بَائِنَةً) وحملةُ ذلك، أنَّ الطَّلاقَ الواجِبَ على المُولِي رَجْعِيٌّ، سواءٌ أوْقَعَه بنَفْسِه أو طَلَّقَ الحاكمُ عليه. وبهذا قال الشافعيّ. قال الأثْرَمُ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ في المُولِي: فإن طَلَّقَها. قال: تكونُ واحِدَةً وهو أحَقُّ بها. وعن أحمدَ رواية أخْرَى، أنَّ (¬1) فُرْقَةَ الحاكِمَ تكونُ بائنًا. ذَكَرَ أبو بكرٍ الرِّوايَتَين جميعًا. وقال القاضي: المنْصُوصُ عن أحمدَ، في فرْقَةِ الحاكِمِ، أنَّها تكونُ بائِنًا؛ فإنَّ في رِوايَةِ الأثْرَمِ وقد سُئِلَ: إذا طَلَّقَ عليه السُّلْطانُ، أتكونُ واحِدَةً؟ فقال: إذا طَلَّقَ فهي واحدةٌ، وهو أحَقُّ بها، فأمَّا تَفْرِيقُ السُّلْطانِ، فليس فيه رَجْعَةٌ. وقال أبو ثَورٍ: طَلاقُ المُولِي بائِنٌ، سواء طَلَّقَ هو أو طَلَّقَ عليه الحاكمُ؛ لأنَّها فُرْقَةٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ، فكانت بائِنًا، كفُرْقَةِ العُنَّةِ، ولأنَّها لو كانت رَجْعِيَّة لم يَنْدَفِعِ الضَّرَرُ. وقال أبو حنيفة: يقَعُ الطلاقُ بانْقِضاءِ المُدَّةِ بائِنًا. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنه طَلاقٌ صادَفَ مَدْخُولًا بها مِن غيرِ عِوَض، ولا اسْتِيفاءِ عَدَدٍ، فكانَ رَجْعِيًّا، كالطلاقِ في غيرِ الإيلاءِ، ويُفارِقُ فُرْقَةَ (¬2) العُنَّةِ؛ لأنَّها فَسْخٌ لعَيبٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «طلاق».

3713 - مسألة: (فإن لم يطلق، حبس وضيق عليه حتى يطلق، في إحدى الروايتين. والأخرى، يطلق الحاكم عليه)

وَإنْ لَمْ يُطَلِّقْ، حُبِسَ وَضُيِّقَ عَلَيهِ حَتَّى يُطَلِّقَ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَفِي الأخْرَى، يُطَلِّق الْحَاكِمُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذه طَلْقَةٌ، ولأنَّه لو أُبِيحَ له ارْتجاعُها, لم يَنْدَفع عنها الضَّرَرُ، [وهذه يَنْدَفِعُ عنها الضَّرَرُ] (¬1)، فإنَّه (¬2) إذا ارْتَجَعَها، ضُرِبَتْ له مُدَّة أخْرَى، ولأنَّ العِنِّينَ قد يئس مِن وَطْئِه، فلا فائِدَةَ في رَجْعَتِه، وهذا غيرُ عاجز، ورَجْعَتُه دليلٌ على رَغْبَتِه فيها وإقْلاعِه عن الإضْرارِ بها، فافْتَرَقا. 3713 - مسألة: (فإن لم يُطَلِّقْ، حُبِسَ وضُيِّقَ عليه حتى يُطَلِّقَ، في إحْدَى الرِّوايَتَين. والأخْرَى، يُطَلِّقُ الحَاكِمُ عليهِ) إذا امْتَنَعَ المُولِي مِن الفَيئَةِ بعدَ التَّرَبُّصِ، أو امْتَنَعَ المَعْذُورُ مِن الفَيئَةِ بلِسانِه، أو امْتَنَعَ مِن الوَطْءِ بعدَ زَوالِ عُذْرِه، أُمِرَ بالطَّلاقِ، فإن طَلَّقَ، وَقَعَ طَلاقُه الذي أوْقَعَه، واحِدَةً كانت أو أكثرَ. وليس للحاكِمِ إجْبارُه على أكثرَ مِن طَلْقَةٍ؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فهذه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يَحْصُلُ الوَفاءُ بِحقِّها بها؛ فإنَّها تُفْضِي إلى البَينُونَةِ، والتَّخَلُّصِ مِن ضَرَرِه. وإنِ امْتَنَعَ مِن الطَّلاقِ، طَلَّقَ الحاكمُ عليه. وبه قال مالكٌ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أخْرَى، ليس للحاكمِ الطَّلاقُ عليه؛ لأنَّ ما خُيِّرَ الزَّوْجُ فيه (¬1) بينَ أمْرَين، لم يَقُمِ الحاكِمُ مَقامَه فيه، كالاخْتِيارِ لبَعْضِ الزَّوْجاتِ في حَقِّ مَن أسْلَمَ وتَحْتَه أكْثَرُ مِن أرْبَعِ نِسْوَةٍ أو اخْتان. فعلى هذا يَحْبِسُه، و (¬2) يُضَيِّقُ عليه، حتى يَفِئَ أو يُطَلقَ. وللشافعيِّ قَوْلان، كالرِّوايتَين. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأخْرَى، أنَّ ما دَخَلَتْه النِّيابَة، وتَعَيَّنَ مُسْتَحِقه، وامْتَنَعَ مَن هو عليه، قامَ الحاكِمُ مَقامَه فيه، كقَضاءِ الدَّينِ، وفارَقَ الاخْتِيارَ، فإنَّه ما تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّه. وهذا أصَحُّ في المذهبِ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. وليس للحاكِم أن يأمُرَه بالطَّلاقِ، ولا يُطَلِّقَ عليه إلَّا أن تَطْلُبَ المرأةُ ذلك؛ لأنَّه حَقٌّ لها، وإنَّما الحاكمُ يَسْتَوْفِي لها الحَقَّ، فلا يكونُ إلا عندَ طَلَبِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أو».

3714 - مسألة: (فإن طلق واحدة، فهو كطلاق المولي)

وَإنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً، فَهِيَ كَطَلَاقِ الْمُولِي، وَإنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أوْ فَسَخَ، صَحَّ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3714 - مسألة: (فإن طَلَّقَ واحِدَةً، فهو كطلاقِ المُولِي) يعْنِي إذا طَلَّقَ الحاكمُ واحدةً، فهل هي رَجْعِيَّة أو بائِنَة؟ على رِوايَتَين؛ لأنَّه قَامَ مَقامَه، ونابَ عنه، فكان حُكْمُه حكمَ المُولِي (وإن طَلَّقَ) الحاكمُ (ثلاثًا أو فَسَخَ جاز) لأنَّ المُولِيَ إذا امْتَنَعَ مِن الفَيئَةِ والطَّلاقِ، قامَ الحاكمُ مَقامَه، فمَلَكَ مِن الطَّلاقِ ما يَمْلِكُه المُولِي، وإليه الخِيَرَةُ فيه، إن شاءَ طَلَّقَ واحدةً، وإن شاءَ اثْنَتَين، وإن شاءَ ثلاثًا، وإن شاءَ فَسَخ. قال القاضي: هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ. وقال الشافعيُّ: ليس له إلَّا واحدةٌ؛ لأنَّ إيفاءَ الحَقِّ يَحْصُلُ بها، فلم يَمْلِكْ زِيادَةً عليها، كما لم يَمْلِكِ الزِّيادَةَ على وَفاءِ الدَّينِ في حَقِّ المُمْتَنِعِ. ولَنا، أنَّ الحاكمَ قائِم مَقامَه، فمَلَكَ مِن الطَّلاقِ ما يَمْلِكُه، كما لو وَكَّلَه في ذلك، وليس ذلك زِيادَةً على حَقها؛

3715 - مسألةـ: (وإن ادعى أن المدة ما انقضت)

وَإنِ ادَّعَى أنَّ الْمُدَّةَ مَا انْقَضَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ حَقَّها الفُرْقَةُ، غيرَ أنها تَتَنوَّعُ، وقد يَرَى الحاكمُ المَصْلَحَةَ في تَحْرِيمِها عليه، ومَنْعِه رَجْعَتَها؛ لِعلْمِه بسُوءِ قَصْدِه، وحُصُولِ المَصْلَحَةِ ببُعْدِه. قال أبو عبدِ اللهِ: إذا قال: فَرَّقْتُ بينَكما. فإنَّما هو فَسْخٌ، وإذا قال: طَلَّقْتُ واحِدَةً. فهي واحدةٌ، وإذا قال: طَلَّقْتُ ثلاثًا. فهي ثلاثٌ. 3715 - مسألةـ: (وإنِ ادَّعَى أنَّ المُدَّةَ ما انْقَضَتْ) وَادَّعَتْ مُضِيَّها، فالقَوْلُ قَوْلُه في أنها لم تَمْضِ مع يَمِينه، وإنَّما كان كذلك؛ لأن الاخْتِلافَ في مُضِيِّ المُدَّةِ يَنْبَنِي على الخِلافِ في وَقْتِ يَمِينِه، فإنَّهما لو اتَّفَقا على وَقْتِ اليَمِينِ، حُسِبَ مِن ذلك الوَقْتِ، فعُلِمَ هل انْقَضَتِ المُدَّةُ أو لا، وزال الخِلافُ. أمَّا إذا اخْتَلَفا في وَقْتِ اليَمِينِ، فقال: حَلَفْتُ في غُرَّةِ رَمضانَ. وقالت: بل حَلَفْتَ في غُرةِ شَعْبانَ. فالقَوْلُ قوْلُه؛ لأنَّه يَصْدُرُ مِن جِهَتِه، وهو أعْلَمُ به، فكان القولُ قوْلَه فيه، كما لو اخْتَلَفا في أصْلِ الإيلاءِ، ولأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الحَلِفِ في غُرَّةِ شَعْبانَ، فكانَ قولُه في نَفْيِه مُوافِقًا للأصْلِ. ويكونُ ذلك مع يَمِينِه، في قَوْلِ الخِرَقِيِّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. لي قال أبو بَكْر: لا يَمِينَ عليه. قال القاضي: وهو أصَحُّ؛ لأنّه اخْتِلاف في أحْكامِ النكاحِ، فلم تُشْرَعْ فيه اليَمِينُ، كما لو

3716 - مسألة: (فإن ادعى أنه وطئها)

أوْ أنهُ وَطِئَهَا، وَكَانَتْ ثيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وإنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَادَّعَتْ أنهَا عَذْرَاءُ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ امْرَأة عَدْلٌ، فَالْقَوْلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امرأةٍ فأنْكَرَتْه. والأوَّلُ أوْلَى لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬1). ولأنَّه حَق لآدَمِيٍّ يَجُوزُ بَذْلُه، فيُسْتَحْلَفُ فيه كالدُّيونِ. 3716 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى أنَّه وَطِئَها) فأنْكَرَتْه (وكانَتْ ثيبًا، فالقَوْلُ قَولُه) مع يَمِينِه. اخْتارَه الخِرَقِيُّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ النِّكاحِ، والمرْأةُ تَدَّعِي رَفْعَه، وهو يَدَّعى ما يُوافِقُ الأصْلَ، فكانَ القَولُ قَولَه، كما لو ادَّعَى الوَطْءَ في العُنَّةِ، ولأنَّ هذا أمْرٌ خَفِيٌّ، ولا يُعْلَمُ إلَّا مِن جِهَتِه، فقُبِلَ قَولُه فيه، كقَوْلِ المرْأةِ في حَيضِها، وتَلْزَمُه اليَمينُ؛ لأنَّ ما تَدعِيه المرأةُ مُحْتَمِل، فوَجَبَ نَفْيُه باليَمِينِ. ونَصَّ أحمدُ في رِوايَةِ الأثْرَمِ، على أنَّه لا تَلْزَمُه يَمِينٌ؛ لأنَّه لا يُقْضَى فيه بالنُّكُولِ. وهذا اخْتيارُ أبي بَكْرٍ. فأمَّا (إن كانتْ بِكْرًا) واخْتَلَفا في الإِصابَةِ (وادَّعَتْ أنَّها عَذْراءُ) أُرِيَتِ النِّساءَ الثِّقاتِ، فإن شَهِدْنَ بثُيُوبَتِها، فالقَوْلُ قولُه. وإن شَهِدْنَ ببَكارَتِها (فالقَوْلُ قولُها) لأنَّه لو وَطِئَها زالتْ بَكارَتُها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه فيه 12/ 478.

قَوْلُهَا، وإلا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَهَلْ يَحْلِفُ مَنِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنّه لا يَمِينَ ها هُنا؛ لأنه قال في باب العِنِّينِ: فإن شَهِدْنَ بما قالتْ، أُجِّلَ سنَة. ولم يَذْكُرْ يَمِينَه. وهذا قولُ أَبِي بَكْرٍ؛ لأن البَينةَ تَشْهَدُ لها، فلا تَجِبُ اليَمِينُ معها. وقيلَ: تجبُ عليها اليَمِينُ؛ لاحْتِمالِ أن تكونَ العُذْرَةُ عادَتْ بعدَ زَوالِها (وإن لم) يَشْهَدْ لها (¬1) أحدٌ (فالقَوْلُ قولُه) كما لو كانتْ ثيبا (وهل يَحْلِفُ؟ على وَجْهَين) مَضَى ¬

(¬1) في م: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَوْجِيهُهُما. والله تَعالى أعلمُ.

كتاب الظهار

كتابُ الظِّهَارِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الظِّهارِ الظِّهارُ: مُشْتَقٌّ مِن الظَّهْرِ، وإنَّما خَصُّوا الظَّهْرَ بذلك مِن بينِ سائرِ الأعْضاءِ؛ لأنَّ كُلَّ مَرْكُوبٍ يُسَمَّى ظَهْرًا، لحُصُولِ الرُّكُوبِ على ظَهْرِه في الأغْلَبِ، فشَبَّهُوا الزَّوْجَةَ بذلك (وهو مُحَرَّم) لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1). ومعناه أنَّ الزَّوْجَةَ ليسَتْ كالأمِّ في التَّحْرِيمِ. قال الله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (¬1). وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} (¬2). والأصْلُ في الظِّهار الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ فقولُه تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬3) مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (¬4). والآيَةُ التي بعدَها. وأمَّا السُّنَّةُ، فروَى أبو داودَ (¬5)، ¬

(¬1) سورة المجادلة 2. (¬2) سورة الأحزاب 4. (¬3) في تش: «يظهِّرون» وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بياء مفتوحة وألف وتشديد الظاء، وقرأ عاصم بياء مضومة وألف وتخفيف الظاء وهو المثبت. انظر: كتاب السبعة في القراءات، لابن مجاهد 628. (¬4) سورة المجادلة 2. (¬5) في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 513، 514. كما أخرجه الإِمام أحمد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه عن خُوَيلَةَ بنتِ مالكِ بنِ ثَعْلَبَةَ، قالت: تَظاهَرَ مِنِّي أوسُ بنُ الصَّامِتِ، فجِئْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أشْكُو، ورسَولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجادِلُنِي فيه (¬1)، ويقولُ: «اتَّقِي الله فَإنَّه ابْنُ عَمِّكِ». فما بَرِحْت حتى نَزَلَ القُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬2). فقال: «يَعْتِقُ رَقَبَةً». فقُلْتُ: لا يَجِدُ. فقال: «يَصُومُ شَهْرَين مُتَتَابِعَين». فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّه (¬3) شَيخٌ كبيرٌ ما به مِن صِيامٍ، قال: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا». قلتُ: ما عندَه مِن شيءٍ يتصَدَّقُ به (¬4). قال: «فَإنِّي سَأعِينُه بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ». فقُلْتُ: يا رسولَ الله، فإنِّي سأعِينُه بعَرَقٍ آخَرَ. قال: «قَدْ أحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأطْعِمِي عنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ». قال الأصْمَعِيُّ: العَرَق، بفَتْحِ العَينِ والرَّاءِ: هو ما سُفَّ (¬5) مِن خُوصٍ، كالزِّنْبِيل الكبيرِ. وروَى أيضًا (¬6)، بإسْنادِه عن سليمانَ بنِ يسارٍ، عن سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ البَياضِيِّ، قال: كنت أصِيبُ مِن النِّساءِ ما لا يُصِيبُ غيرِي، فلمَّا دَخَلَ ¬

= في المسند 6/ 410، 411: وأصل الحديث عند البخاري معلقا، انظر: باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 9/ 144. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المجادلة 1. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) سُفّ: أي نُسِجَ. (¬6) تقدم تخريجه في 7/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهْرُ رَمضانَ، خِفْتُ أن أصِيبَ مِن امرَأتِي شيئًا يَتَتايَعُ (¬1) حتى أصْبِحَ، فظاهَرْتُ منها حتى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمضانَ، فبَينا (¬2) هي تَخْدِمُنِي ذاتَ لَيلَةٍ، إذ تَكَشَّفَ لي منها شيءٌ، فلم ألْبَثْ أن نَزَوْتُ عليها (¬3)، فلمَّا أصْبَحْتُ خَرَجْتُ إلى قَوْمِي، فأخْبَرْتُهم الخبرَ، وقُلْتُ: امْشُوا معي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قالُوا: لا واللهِ. فانْطَلَقْت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرْتُه الخبرَ، فقال: «أنْتَ بذَاكَ يَا سَلَمَةُ؟» (¬4) فقُلْتُ: أنا بذَاكَ يا رسولَ اللهِ، وأنا صابِر لحُكْمِ اللهِ، فاحْكُمْ فِيَّ ما أراكَ الله. قال «حَرِّرْ رَقَبَةً» قُلْتُ: والذي بعثك بالحَقِّ ما أمْلِكُ رَقَبَةً غيرَها (¬5)، وضَرَبْتُ صَفحَةَ رَقَبَتِي. قال: «فَصُمْ شَهْرَينْ مُتَتَابعَين». قُلْتُ: وهل أصَبْتُ [الذي أصَبْتُ] (¬6) إلَّا مِن الصِّيامِ؟ قال: «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِن تَمْر بَينَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» قُلْتُ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، لقد بِتْنا وَحْشَين (¬7)، ما لنا طَعامٌ. قال: «فَانْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيقٍ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيكَ». قال: «فَأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِن تَمْر، وكُلْ أنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيتَّهَا». فَرَجَعْتُ إلى قَوْمِي، فقلتُ: وَجَدْتُ عندَكُم الضِّيقَ وسُوءَ الرَّأي، وَوَجَدْتُ عندَ رسولِ اللهِ ¬

(¬1) التتايع: الوقوع في الشر من غير فكرة وروية، والمتابعة عليه. ومعناه إذا أدركني النهار منلبسًا بالوطء لا يمكنني المنع منه. (¬2) في تش: «فبينما». (¬3) في الأصل: «عنها». (¬4) أي أنت المُلِمُّ بذاك، أو أنت المرتكب له. (¬5) في م: «غيري». (¬6) سقط من: م. (¬7) يقال: رجل وحش. إذا كان جائعا، لا طعام له.

3717 - مسألة: (والظهار أن يشبه امرأته أو عضوا منها، بظهر من تحرم عليه على التأبيد، أو بها أو بعضو منها، فيقول: أنت علي كظهر أمي. أو: كيد أختي. أو: كوجه حماتي. أو)

وَهُوَ أنْ يُشَبِّهَ امْرَأتهُ أوْ عُضْوًا مِنْهَا، بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيهِ عَلَى التَّأبِيدِ، أوْ بِهَا أوْ بِعُضْوٍ مِنْهَا، فَيَقُولَ: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمِّي. أوْ: كَيَدِ أخْتِي. أوْ: كَوَجْهِ حَمَاتِي. أوْ: ظَهْرُكِ. أوْ: يَدُكِ عَلَيَّ كَظَهْر أمِّي. أوْ: كَيَدِ أخْتِي. أوْ: خَالتِي. مِنْ نَسَبٍ أوْ رَضَاعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - السَّعَةَ وحُسْنَ الرَّأي، وقد أمَرَ لي بصَدَقَتِكُم. 3717 - مسألة: (والظِّهارُ أن يُشَبِّهَ امْرأتَه أو عُضْوًا منها، بظَهْرِ مَن تَحرُمُ عليه على التَّأبِيدِ، أو بها أو بعُضْوٍ منها، فيَقُولَ: أنْتِ علَيَّ كظَهْرِ أمِّي. أو: كَيَدِ أخْتِي. أو: كوَجْهِ حَمَاتِي. أو) يَقُولَ: (ظَهْرُكِ. أو: يَدُكِ عَلَيَّ كظهْرِ أمِّي. أو: كيَدِ أخْتِي. أو: خالتي. مِن نَسَبٍ أو رَضاعٍ) فمتى شَبَّه امْرَأتَه بظَهْرِ مَن تَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ، فقال: أنت عَلَيَّ كظَهْرِ أمِّي [أو أختي. فهو مظاهِرٌ، وهُنَّ على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ أحدُها، أن يقولَ: أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي] (¬1). فَهذَا ظِهارٌ ¬

(¬1) سقط من: تش، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْماعًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ تَصْرِيحَ الظِّهارِ أن يقولَ: أنتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أمِّي. وفي حديثِ خُوَيلَةَ امرأةِ أوْسِ بنِ الصامت، أنه قال لها: أنتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي. فذَكَرَ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَه بالكفَّارَةِ. الضَّرْبُ الثَّانِي، أن يُشَبِّهَها بظَهْرِ مَن تَحْرُمُ عليه مِن ذَوي رَحِمِه، كجَدَّتِه وعَمَّتِه وخالتِه واخْتِه. فهذا ظِهار في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسَنُ، وعَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، والثوْرِيُّ، والأوْزَاعِي، ومالك، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرّأي. وهو جَدِيدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في القَدِيمِ: لا يكونُ الظهارُ إلَّا بَامٍّ [أو جَدَّةٍ] (¬1)؛ لأنَّها أم أيضًا؛ لأنَّ اللفْظَ الذي وَرَدَ به القُرآنُ مُخْتَصٌّ بالأمِّ، فإذا عدَلَ عنه، لم يتَعَلَّقْ به ما أوْجَبَه الله تعالى فيه. ولَنا، أنَّهُن مُحَرماتٌ بالقَرابَةِ، فأشْبَهْنَ الأمَّ. وأمَّا الآيَةُ فقد قال فيها: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}. وهذا مَوْجُود في مَسْألتِنا، فجَرَى مَجْراه وتَعْليقُ الحُكمِ بالأمِّ لا يَمْنَعُ الحُكْمَ في غيرِها إذا كانت مِثْلَها. الثالِثُ، أن يُشَبِّهَها بظَهْرِ مَن تَحْرُمُ عليه على التأبِيدِ سِوى الأقارِبِ، كالأمَّهَاتِ المُرْضِعاتِ، والأخَواتِ مِن الرَّضاعَةِ، وحلائلِ الآباءِ والأبناءِ، وأمهاتِ النِّساءِ، والرَّبائبِ اللاتِي ¬

(¬1) في تش: «واحدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَخَلَ بأمِّهِنَّ، فهو ظِهار أيضًا. والخِلافُ فيها كالتي قَبْلَها. ووَجْهُ المذْهَبَينِ ما تَقَدَّمَ، ويَزِيدُ في الأمَّهاتِ المُرْضِعاتِ (¬1) دُخُولُها في عُمُومِ الأمَّهاتِ، وسائِرُهُنَّ في مَعْناها، فيَثْبُتُ فيهنَّ حُكْمُها. فصل: فإن قال: أنتِ عندي. أو: مِني. أو: مَعِي كظَهْرِ أمِّي. كان ظِهارًا بمَنْزِلَةِ «عَلَيَّ»؛ لأنَّ هذه الألْفاظَ في مَعْناه. وإن قال: جُمْلتكِ. أو: بَدَنُك (¬2). أو: جسْمُكِ. أو: ذَاتُكِ (¬3). أو: كُلُّكِ (¬4) عَلَي كظَهْرِ أمِّي. كان ظِهارًا؛ لأَنَّه أشار إليها، فهو كقولِه: أنتِ. وإن قال: أنتِ كظَهْرِ أمِّي. كان ظِهارًا؛ لأنه أتَى بما يَقتَضِي تَحْرِيمَها عليه، فانْصَرفَ الحكمُ إليه، كما لو قال: أنتِ طالق. وقال بعضُ الشافِعِيَّةِ: ليس بظِهارٍ؛ لأنَّه أليس فيه ما يَدُلُّ على أنَّ ذلك في حَقِّه. وليس بصَحِيحٍ؛ فإنَّها إذا كانت كظَهْرِ أمِّه، فظَهْرُ أمِّه مُحَرَّمٌ عليه. وأمَّا إذا شَبَّهَ عُضْوًا مِن امْرأتِه بظَهْرِ أمِّه أو عُضْو (¬5) مِن أعْضائِها، فهو مُظاهِرٌ، فلو قال: فَرْجُكِ -أو- ظهْرُكِ -أو- رأسُكِ -أو- جلْدُكِ كظَهْرِ أمِّي -أو- بَدنِها -أو- رَأسِها -أو- يَدِها. فهو مُظاهِرٌ. وبهذا قال مالكٍ. وهو ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) في الأصل: «يديك». (¬3) في الأصل: «آذانك». (¬4) في م: «ذلك». (¬5) في تش، م: «عضوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصُّ الشافعيِّ. وعن أحمدَ رِواية أخْرَى، أنَّه ليس بمُظاهِر حتى يُشَبِّهَ جُمْلَةَ امْرأتِه؛ لأنَّه لو حَلَفَ باللهِ لا يَمسُّ عُضْوًا منها, لا يَسْرِي إلى غيرِه، فكذلك المُظاهَرَةُ (¬1)، ولأنَّ هذا ليس بمَنْصُوص عليه، ولا هو في مَعنى المَنْصُوصٍ؛ لأن تَشْبِيهَه بِجُمْلَتِها تَشْبِية بمَحَلِّ الاستِمْتاعِ بما يتَأكَّدُ تَحْريمُه، وفيه تحْريمٌ لجُمْلَتِها، فيكونُ آكَدَ. وقال أبو حنيفةَ: إن شَبَّهَها بما يَحْرُمُ النَّظَرُ إليه مِن إلَّا، كالفَرْجِ والفَخِذِ ونحوهما، فهو مُظاهِرٌ، وإن لم يحْرُمِ النَّظَرُ إليه، كالرأسِ والوَجْهِ، لم يكُنْ مُظاهِرًا؛ لأنَّه شَبَّهَها بعُضْوٍ [لا يَحْرُمُ النَّظَرُ إليه، فلم يَكُنْ مُظاهِرًا، كما لو شَبَّهها بعُضْو زوجةٍ له أخْرَى. ووَجْهُ الأولى، أنَّه شَبَّهَها بعُضْوٍ] (¬2) مِن أمِّه، فكان مُظاهِرًا، كما لو شَبهها بظَهْرِها، وفارَقَ الزَّوْجَةَ؛ فإنه لو شَبَّهَها بظَهْرِها لم يكُنْ مُظاهِرًا، والنظَرُ إن لم يَحْرُمْ، فإن التَّلَذُّذَ يَحْرُمُ، وهو المُسْتَفادُ بعَقْدِ النِّكاحِ. فصل: فإن قال: كشَعَرِ أمِّي، أو: سنِّها، أو: ظُفُرِ ها. أو شَبَّهَ شيئًا مِن ذلك مِن امْرأتِه بأمِّه، أو بعُضْوٍ مِن أعْضمائِها, لم يكُنْ مُظاهِرًا؛ لأنَّها ليستْ مِن أعْضاءِ الأمِّ الثابِتَةِ، ولا يقَعُ الطَّلاقُ بإضافَتِه إليها، فكذلك الظِّهارُ. وكذلك إن قال: برُوحِ أمِّي. فإنَّ الرُّوحَ لا تُوصَفُ بالتَّحْريمِ، ولا هي مَحَل للاسْتِمْتاعِ. وكذلك الرِّيقُ، والعَرَقُ، والدَّمُ. فإن قال: ¬

(¬1) في الأصل، تش: «المظاهر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهِي مِن وَجْهِكِ حرامٌ. فليس بظِهارٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، وقال: هذا شيءٌ يقولُه النَّاسُ، ليس بشيءٍ. وذلك لأن هذا يُسْتَعْمَلُ كثيرًا في غيرِ الظِّهارِ، ولا يُؤَدِّي مَعْنَى الظِّهارِ، فلم يكُنْ ظِهارًا، كما لو قال: لا أكَلِّمُكِ. فصل: فإن قال: أنا مُظاهِر. أو: عَلَى الظِّهارُ. أو: عليَّ الحَرامُ. أو: الحرامُ لِي لازِمٌ. ولا [نِيَّةَ له] (¬1)، لم يَلْزَمْه شيءٌ؛ لأنَّه ليس بصَريحٍ في الظِّهار، [ولا نوَى به الظِّهارَ] (¬2). وإن نَوَى به الظِّهارَ، أو اقْتَرنَت به قَرِينَة تدُلُّ على إرادَةِ الظِّهارِ، مثلَ أنْ يُعَلِّقَه على شَرْطٍ، مثِلَ أن يقولَ: علَيَّ الحرامُ إن كَلَّمْتُكِ. احْتَمَلَ أن يكونَ ظِهارًا؛ لأنَّه أحَدُ نوْعَيْ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فصَحَّ بالكِنايَةِ مع النِّيَّةِ (¬3)، كالطَّلاقِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ الظِّهارُ به؛ لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما وَرَدَ به بصَرِيحِ لَفْظِه، وهذا ليس بصَريحٍ فيه، ولأنَّه يَمِينٌ مُوجِبَةٌ للكَفَّارَةِ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه بغيرِ الصَّريحِ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى. فصل: يُكْرَهُ أن يُسَمِّيَ الرجلُ امْرأتَه بمَن تَحْرُمُ عليه، كأمّه، وأخْتِه، وبِنْتِه؛ لِمَا روَى أبو داودَ (¬4)، بإسْنادِه عن أبي تَمِيمَةَ (¬5) ¬

(¬1) في الأصل: «سماه» (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «البينة». (¬4) في: باب في الرجل يقول لامرأته: يا أختي، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 512. وانظر ضعيف سنن أبي داود 219، 220. (¬5) في النسخ: «تميم». والمثبت من سنن أبي داود.

3718 - مسألة: (وإن قال: أنت علي كأمي. كان مظاهرا. فإن قال: أردت كأمي في الكرامة، أو نحوه. دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين)

وإنْ قَال: أنْتِ عَلَيَّ كَأمِّي. كَانَ مُظَاهِرًا. وَإنْ قَال: أرَدْتُ كَأمِّي في الْكَرَامَةِ، أَوْ نَحْوهِ. دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ في الْحُكْمِ؟ يُخَرجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهجَيمِيِّ، أنَّ رَجلًا قال لامْرأتِه: يا أُخَيَّةُ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أخْتكَ هِيَ!». فكَرِهَ ذلك، ونَهَى عنه. ولأنه لَفْظٌ يُشْبهُ لَفْظَ الظِّهارِ (¬1). ولا تَحْرُمُ بهذا, ولا يَثْبُتُ حكمُ الظِّهارِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُلْ له: حَرُمَتْ عليكَ. ولأنّ هذا اللّفْظَ ليس بصَريح في الظهار ولا نواه به، فلا يَثْبُت التَّحْريمُ. وفي الحديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أرْسَلَ إليه جَبَّارٌ، فسأله عنها -يَعْنِي عن سارَةَ- فقال: إنَّها أخْتِي (¬2). ولم يَعُدّ ذلك ظِهارًا. 3718 - مسألة: (وإن قال: أنتِ عَليَّ كأمِّي. كان مُظاهِرًا. فإن قال: أرَدْتُ كأمِّي في الكَرامَةِ، أو نَحْوهِ. دُيِّنَ. وهل يقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يُخرَّجُ على رِوايَتَين) إذا قال: أنتِ عليَّ كأمِّي. أو: مِثْلُ أمِّي. ¬

(¬1) سقط. من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 276 عند قول أبي هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء. ويضاف إليه: وعلقه البخاري، في: باب إذا قال لأمرأته وهو مكره: هذه أختي. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 58. وأخرجه موصولا أبو داود، في: باب في الرجل يقول لامرأته: يا أختي، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 512. والترمذي، في: باب ومن سورة الأنبياء، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 12/ 24. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 403، 404.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَوَى به (¬1) الظِّهارَ، فهو ظِهارٌ، في قولِ عامّةِ العُلَماءِ؛ منهم أبو حنيفةَ وصاحباه، والشافعيُّ، وإسحاقُ. وإنْ أطْلَقَ، فقال أبو بَكْر: هو صَريحٌ في الظِّهارِ. وهو قول مالكٍ، ومحمدِ بنِ الحسَنِ. وقال ابن أبي موسى: فيه رِوايتان، أظْهَرهما أنه ليس بظِهارٍ حتى يَنْويَه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ هذا يسْتَعْمَلُ في الكَرامَةِ (¬2) أكثرَ ممَّا يُسْتعمل في التّحريمِ، فلم يَنصَرِفْ إليه بغير نِيَّةٍ، ككِناياتِ الطَّلاقِ. والثَّانية هو ظِهارٌ؛ لأنَّه شَبَّهَ امْرأتَه بجُمْلَةِ أُمِّه، فكان مُشَبِّهًا لها بظَهْرِها، فيَثْبُت الظِّهارُ كما لو شَبَّهَهَا به مُنْفَرِدًا. قال شيخُنا (¬3): والذي يَصِحُّ عندِي في قياسِ المذْهَبِ، أنه أن وُجِدَتْ قَرِينة تدلُّ على الظِّهارِ، مثلَ أن يُخْرِجَه مَخْرَجَ الحَلِفِ، فيقولُ: إن فعلتِ كذا فأنتِ عليَّ مثلُ أمِّي. أو قال ذلك حال الخصُومَةِ والغَضَبِ، فهو ظِهارٌ؛ لأنه إذا أخْرَجَه مَخرَجَ الحَلِفِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الكراهة». (¬3) في: المغني 11/ 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالحَلِفُ يرادُ للامْتِناعِ مِن شيءٍ أو الحَثِّ عليه، وإنَّما يحْصُلُ ذلك بتَحْريمِها عليه، ولأنَّ كَوْنَها مثلَ أمِّه في صِفَتِها وكرامَتِها, لا يتَعَلَّقُ بشَرْطٍ، فيدُلُّ على أنَّه إنَّما أراد الظِّهارَ؛ ووُقُوعُ ذلك في حالِ الخُصُومَةِ والغَضَبِ، دليلٌ على أنَّه أراد به ما يتَعَلَّقُ بأذاها (¬1)، ويُوجِبُ اجْتِنابَها وهو الظِّهارُ. وإن عُدِمَ ذلك فليس بظِهارٍ؛ لأنه مُحْتَمِل لغيرِه احْتِمالًا كثيرًا، فلا يتَعَيَّنُ الظِّهارُ فيه بغيرِ دليل. ونحوُه قولُ أبي ثَوْرٍ. فأمَّا إن قال: أرَدْتُ كأمِّي في الكرامَةِ، ونحو ذلك. فإنَّه يُدَيَّنُ؛ لأنَّ ما قاله مُحْتَمِلٌ، ويُقْبَلُ في الحُكْمِ في أصَحِّ الرِّوايَتَين. اخْتارَه شيخُنا (¬2)؛ لأنَّه لمَّا احْتَمَلَ الظِّهارَ وغيرَه، ترَجَّحَ عَدَمُ الظِّهارِ بدَعْوَى الإرادَةِ. والثَّانيةُ، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه لما قال: أنتِ علي كأمِّي. اقْتَضَى أن يكونَ عليه فيها تحْرِيمٌ، فأشْبَهَ ما لو قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. ¬

(¬1) في م: «بأدائها». (¬2) في: المغني 11/ 61.

3719 - مسألة: (وإن قال: أنت كأمي. أو: مثل أمي)

وَإنْ قَال: أَنْتِ كَأُمِّي. أَوْ: مِثْلُ أمِّي. فَذَكَرَ أبو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَينِ. وَالأوْلَى أنَّ هَذَا لَيسَ بِظِهَارٍ، إلا أنْ يَنْويَهُ، أو يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3719 - مسألة: (وإن قال: أنتِ كأمِّي. أو: مِثْلُ أمِّي) ولم يَقُلْ: عَلَيَّ. ولا: عِنْدِي. فإن نَوَى (¬1) به الظِّهارَ، كان ظِهارًا؛ لأنه يَحْتَمِلُه. قال شيخُنا (¬2): وحكْمُه؛ إذا قال: أنتِ عَلَيَّ كأمِّي. أو قال: أنتِ أمي. أو: امْرأتِي أمي (1). إن نواه، أو كان مع الدليلِ الصَّارِفِ له إلى الظِّهارِ، فهو ظِهارٌ، وإلَّا فلا. (وذكَرَ أبو الخَطابِ فيها رِوايَتَين) مثلَ قَوْلِه: أنتِ علَيَّ كأمي (والأوْلَى أنَّ هذا ليس بظِهارٍ) إذا أطْلَقَ؛ لأنَّه ليس بصَريح في الظهارِ، لكَوْنِه غيرَ اللَّفْظِ المُسْتَعْملِ فيه، فلا يكونُ ظِهارًا بغيبرِ نِيَّةٍ، كما لو قال: أنتِ كبيرة مثلُ أمي. ولأنَّه يَحْتَمِلُ التَّشْبيهَ في التَّحريمِ وغيرِه، فلا يجوزُ أن يَتَعَيَّنَ التحْريمُ بغيرِ نِيَّةٍ. فأمَّا إن قال: أمي امْرأتِي. أو: مِثْلُ امْرأتِي. لم يكُنْ ظِهارًا؛ لأنَّه تَشْبِيهٌ لأمِّه، ووصْفٌ لها, وليس بوَصفٍ لامْرأتِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: المغني 11/ 61.

3720 - مسألة: (وإن قال: أنت علي كظهر أبي)

وَإِنْ قَال: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أبِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3720 - مسألة: (وإن قال: أنْتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أبي) ففيه رِوايَتان؛ إحْداهما، هو ظِهارٌ؛ لأنَّه شَبَّهَها بظَهْرِ مَن يَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ، أشْبَهَ الأمَّ. وكذلك إن شَبَّهَها بظَهْرِ غيرِه مِن الرِّجالِ، أو قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ البَهِيمَةِ. أو: أنتِ عليَّ كالمَيتَةِ والدَّمِ. قال المَيمُونِيُّ:

3721 - مسألة: (وإن قال: أنت علي كظهر أجنبية. أو: أخت زوجتي. أو: عمتها. أو: خالتها. فعلى روايتين)

أوْ: كَظَهْرِ أجْنَبِيَّةٍ. أوْ: أُخْتِ زَوْجَتِي. أوْ: عَمَّتِهَا. أوْ: خَالتِهَا. فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلتُ لأحمدَ: إن ظاهرَ مِن ظَهْرِ الرجل؟ قال: فظَهْرُ الرجُلِ حَرامِّ، يكونُ ظِهارًا. وبهذا قال ابنُ القاسمِ صاحبُ مالكٍ، فيما إذا قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أبي. ورُوِيَ ذلك عن جابرِ بنِ زَيدٍ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، ليس بظِهارٍ. وهو قولُ أكثرِ العُلماءِ؛ لأنَّه تَشْبِية بما ليس بِمَحَلٍّ للاسْتِمْتاعِ، أشبهَ ما لو قال: أنتِ عليَّ كمالِ زيدٍ. وهل فيه كفَّارَة؟ على رِوايَتَين؛ إحداهُما، فيه كفارَة؛ لأنه نَوْعُ تَحْريم، أشْبَهَ ما لو حَرمَ ماله. والثَّانية. ليس فيه شيءٌ. نقلَ ابنُ القاسمِ عن أحمدَ، في مَن شَبَّه امْرأتَه بِظَهْرِ الرجلِ: لا يكونُ ظِهارًا، ولم أرَ يَلْزَمُه فيه شيءٌ؛ وذلك لأنَّه تَشْبِية لامْرأتِه بما ليس بمَحَلٍّ للاسْتِمْتاعِ، أشْبَهَ التَّشْبِيهَ بمالِ غيرِه. وإن قال: أنا عليكِ كظَهْرِ أَبِي (¬1). أو: حرامٌ. ونَوَى به الظِّهارَ، فهل هو ظِهارٌ؟ على وَجْهَين. ذكَرَه في «المُحَرَّرِ». 3721 - مسألة: (وإن قال: أنتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أجْنَبِيَّةٍ. أو: أُخْتِ زَوْجَتِي. أوْ: عَمَّتِها. أو: خالتِها. فعلى رِوايَتَين) إذا شَبَّهَ امْرأتَه بظَهْرِ مَن تَحْرُمُ عليه تحْريمًا مُؤَقَّتًا، كأخْتِ امْرأتِه، أو عَمَّتِها، أو الأجْنَبِيَّةِ، ¬

(¬1) في الأصل، م: «أمي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعن أحمدَ فيه رِوايتانِ؛ إحداهما، أنَّه ظِهار. اخْتارَه الخِرَقِيُّ. وهو قولُ أصحاب مالكٍ. والثَّانيةُ، ليس بظِهارٍ. وهو مذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّها غيرُ مُحَرَّمَةٍ على التَّأبيدِ، فلا يكونُ التَّشْبِيهُ بها ظِهارًا، كالحائِضِ (¬1)، والمُحْرِمَةِ مِن نِسائِه. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأولَى، أنَّه شَبَّهَها بمُحَرَّمَةٍ، فأشْبَهَ ما لو شَبَّهَها بالأمِّ، ولأنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِه: أنتِ عليَّ حرام. إذا نَوَى به الظِّهارَ، ظِهارٌ (¬2)، والتَّشْبِيهُ بالمُحَرَّمةِ تَحْريمٌ، فكان ظِهارًا. فأمَّا الحائِضُ، فيُباحُ الاستِمْتاعُ بها في غيرِ الفَرْجِ، والمُحرِمَةُ يَحِلُّ النَّظَرُ إليها ولَمْسُها بغيرِ (¬3) شَهْوَةٍ، وليس في وَطْء واحدةٍ منهما حَدٌّ، بخِلافِ مَسْألتِنا. واخْتارَ أبو بَكْر أنَّ الظِّهارَ لا يكونُ إلَّا مِن ذَواتِ المَحارِمِ. [فقال: أصلُ الظِّهارِ (¬4) لا يكونُ إلا مِن ذَواتِ المحارِمِ] (¬5) مِن النِّساءِ، قال: فبهذا أقولُ. ¬

(¬1) في م: «كالحيض». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل، م: «لغير». (¬4) سقط من النسخ. (¬5) سقط من: م.

3722 - مسألة: (وإن قال: أنت علي كظهر البهيمة. لم يكن مظاهرا لأنه ليس بمحل للاستمتاع. وفيه وجه آخر، أنه يكون مظاهرا، كما لو شبهها بظهر أبيه.

وَإنْ قَال: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهرِ الْبَهِيمَةِ. لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا. وَإنْ قَال: أنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. فَهُوَ مُظَاهِرٌ، إلا أنْ يَنْويَ طَلَاقًا أو يمِينًا، فَهَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أو مَا نَوَاهُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3722 - مسألةْ: (وإن قال: أنتِ عَلَيَّ كظَهْرِ البَهِيمَةِ. لم يَكُنْ مُظَاهِرًا لأنَّه ليس بمَحَلّ للاسْتِمْتاعِ. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّه يكونُ مُظاهِرًا، كما لو شَبَّهَها بظَهْرِ أبِيه. 3723 - مسألة: (وإن قال: أنت عَلَيَّ حَرامٌ. فهو ظِهارٌ، إلَّا أن يَنْويَ طَلاقًا أو يَمِينًا، فهل يَكُونُ ظِهارًا أو ما نواه؟ على رِوايَتَين) إذا نَوَى به الظِّهارَ، فهو ظِهار، في قولِ عامَّتِهِم. وبه يقولُ أبو حنيفةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعي. وإن نَوَى به الطَّلاقَ، فقد ذَكَرْناه في بابِ صَرِيحِ الطَّلاقِ وكِنايته. وإن أطْلَقَ، ففيه روايتان؛ إحداهما، أنَّه ظِهارٌ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. ونصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ جماعةٍ مِن أصحابِه. وحكاه إبراهيمُ الحَرْبِيُّ، عن عثمانَ، وابنِ عباس، وأبي قِلابَةَ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ، ومَيمُونِ بنِ مِهْرانَ، والبَتِّيِّ، أنَّهم قالوا: الحرامُ ظِهارٌ. ورُوِيَ عن أحمدَ ما يدُلُّ على أن التَّحْريمَ يَمِينٌ. ورُوِيَ عن ابنِ عباس أنَّه قال: إن (¬1) التَّحْرِيمَ يَمِينٌ في (¬2) كتاب اللهِ عزَّ وجل (¬3). قال اللهُ عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} , ثُمَّ قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} (¬4). وأكثرُ الفُقَهاءِ على أنَّ التَّحْريمَ إذا لم يَنْو به الظِّهارَ، فليس بظِهارٍ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ للآيَةِ المذْكُورَةِ، ولأنَّ التَّحْرِيمَ يَتَنَوَّعُ، منه ما هو ظِهارٍ (¬5) وبطلاقٍ وبحَيضٍ وإحرامٍ و [صيام، فلا] (¬6) يكونُ التَّحْريمُ صريحًا في واحدٍ منها, ولا يَنْصَرِفُ إليه بغيرِ نِيَّةٍ، كما لا يَنْصَرِفُ إلى تحْريمِ الطَّلاقِ. ووَجْهُ الأولَى، أنَّه تَحْريمٌ أوْقَعَه في امْرأتِه، فكان بإطْلاقِه ظهارًا، كتَشْبِيهِها بظهرِ أُمِّه. ¬

(¬1) زيادة من تش. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 22/ 267. وانظر ما أخرجه الدارقطني، في: سننه 4/ 40. (¬4) سورة التحريم 1، 2. (¬5) في الأصل: «بظاهر». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُهم: إنَّ التَّحْريمَ يَتَنَوعُ. قُلْنا: إلَّا أن تلك الأنْواعَ مُنْتَفِيَة، ولا يحْصُلُ بقَوْلِه منها إلَّا الطَّلاقُ، وهذا أوْلَى منه؛ لأنَّ الطَّلاق تَبِينُ به المرأةُ، وهذا يُحَرِّمُها (¬1) مع بقاءِ الزَّوْجِيَّةِ، فكان أدْنَى التَّحْريِمَين، فكان أوْلَى. فأمَّا إن قال ذلك لمُحَرَّمَةٍ عليه بحَيض أو نحْوه، ونوَى الظِّهارَ، فهو ظِهارٌ، وإن قصَدَ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عليه بذلك، فليس بظِهارٍ، [ولا شَيءَ فيه، وإن أطْلَقَ فليس بظِهارٍ] (¬2)؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ الخبرَ عن حالِها، ويَحْتَمِلُ إنشاءَ التَّحْريمِ فيها بالظِّهارِ، فلا يتعَيَّنُ أحَدُهما بغيرِ تَعْيِينٍ. فصل: فإن قال (¬3): الحِلُّ عليَّ حرامٌ. أو: ما أحَلَّ الله عليَّ حرامٌ. أو: ما أنْقلِبُ إليه حرامٌ. وله امْرأة، فهو مُظاهِرٌ. نَصَّ عليه أحمدُ في الصُّوَرِ الثَّلاثِ؛ وذلك لأنَّ لَفْظَه يَقْتَضِي العُمُومَ، فيتَناولُ المرأةَ بعُمُومِه. وإن صَرَّحَ بتَحْريمِ المرأةِ، أو نَواها، فهو آكَدُ. قال أحمدُ في مَن قال: ما أحَلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ مِن أهْلٍ ومالٍ: عليه كَفَّارَةُ الظِّهارِ، هو يَمِينٌ. ويُجْزِئُه ¬

(¬1) في الأصل: «تحريم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كفَّارَةٌ واحِدَةٌ، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ هذا واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ أنَّه يَلْزَمُه كفَّارتان للظِّهارِ ولتحْريمِ المالِ؛ لأنَّ التَّحْريمَ يتَناوَلُهما، وكُلُّ واحدٍ منهما لو انْفَرَدَ أوْجَبَ كفَّارَةً، فكذلك إذا اجْتَمَعا. ولَنا، أنَّها يَمِينٌ واحِدَةٌ، فلا تُوجِبُ كفَّارَتَين، كما لو تَظاهَرَ مِن امْرَأتَين، أو حَرمَ مِن مالِه شَيئَين. وما ذكَرَه مُنْتَقِضٌ بهذا. وفي قولِ أحمدَ: هو يَمِينٌ. إشارةٌ إلى التَّعْليلِ بما ذَكَرْناه؛ لأنَّ اليَمِينَ الواحِدَةَ لا تُوجِبُ أكثرَ مِن كفَّارَةٍ (¬1). فإن نَوَى بقَوْلِه: ما أحَل اللهُ عليَّ حرامٌ -أو غيرِه من لَفَظاتِ العُمُومِ المال، لم يَلْزَمْه إلا كفَّارَةُ يَمِين؛ لأنَّ اللَّفْظَ العامَّ يَجوزُ اسْتِعْمالُه في الخاصِّ. وعلى الرِّوايَةِ الأخْرَى التي تقولُ: إنَّ الحرامَ بإطلاقِه ليس بظِهارٍ. لا يكونُ ها هُنا مُظاهِرًا، إلَّا أن يَنْويَ الظهارَ. ¬

(¬1) بعده في م: «واحدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال: أنتِ عليّ كظَهْرِ (¬1) أمِّي حرامٌ. فهو صَريحٌ في الظِّهارِ، لا ينْصَرِفُ إلى غيرِه، سواءٌ نَوَى الطَّلاقَ أو لم يَنْوه. وليس فيه اخْتِلافٌ بحَمْدِ اللهِ؛ لأنَّه صَرَّحَ بالظِّهارِ، وبَيَّنَه بقَولِه: حرامٌ. وإن قال: أنتِ عليَّ حرامٌ كظهرِ أمِّي. أو: كأمِّي. فكذلك. وبه قال أبو حنيفةَ، وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والقَوْلُ الثَّانِي، إذا نَوَى الطَّلاقَ فهو طَلاقٌ. وهو قولُ أبي يوسُفَ ومحمدٍ، إلَّا أنَّ أبا يوسُفَ قال: لا أقْبَلُ قَوْلَه في نَفْي الظِّهارِ. ووَجْهُ قوْلِهم، أنَّ قَوْلَه: أنتِ عليَّ حرام. إذا نَوَى به الطَّلاقَ فهو طلاقٌ، وزِيادَةُ قَوْلِه: كظَهْرِ أمِّي. بعدَ ذلك لا تَنْفِي الطَّلاقَ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ كظَهْرِ أمِّي. ولَنا، أنَّه أتَى بصَريحِ الظِّهارِ، فلم يَكُنْ طَلاقًا، كالتي قَبْلَها. وقَوْلُهم: إنَّ التَّحْريمَ مع نِيَّةِ الطَّلاقِ طَلاق. لا نُسَلِّمُه. وإن سَلَّمْناه لكنَّه فَسَّرَ لَفْظَه ها هُنا بصَرِيحِ الظِّهارِ بقولِه، فكان العملُ بصَرِيحِ القَوْلِ أولَى مِن العَملِ بالنيةِ. فصل: وإن قال: أنتِ طالقٌ كظَهْرِ أمِّي. طَلُقَتْ، وسَقَطَ قَوْلُه: كظَهرِ أمِّي. لأنَّه أتَى بصَريحِ الطَّلاقِ أوَّلًا، وجَعَلَ قوْلَه: كظهرِ أمِّي. صِفَة له. فإن نَوَى بقولِه: كَظَهْرِ أمِّي. تَأكِيدَ الطَّلاقِ، لم يكُنْ ظِهارًا، كما لو أطْلَقَ. وإن نَوَى به الظِّهارَ، وكان الطَّلاقُ بائِنًا، فهو كالظهارِ مِن الأجْنَبِيَّةِ؛ لأنَّه أتَى به بعدَ بَينُونَتِها بالطَّلاقِ. وإن كان رَجْعِيًّا، كان ظِهارًا صَحِيحًا. ذكَرَه القاضي. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أتَى بلَفْظِ الظهارِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مَن (¬1) هي زَوْجَةٌ. وإن نَوَى بقَوْلِه: أنتِ طالق. الظِّهارَ، لم يَكُنْ ظِهارًا؛ لأنَّه نَوَى الظِّهارَ بصَريحِ الطَّلاقِ. وإن قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي طالقٌ. وقعَ الظِّهارُ والطَّلاقُ معًا، سواء كان الطَّلاقُ بائِنًا أو رَجْعِيًّا؛ لأنَّ الظِّهارَ سَبَقَ الطلاقَ. فصل: وإن قال: أنتِ عليَّ حرام. ونَوَى الطَّلاقَ والظِّهارَ معًا، كان ظِهارًا، ولم يكُنْ طَلاقًا؛ لأنَّ اللَّفْظَ الواحِدَ لا يكونُ ظِهارًا وطلاقًا، والظِّهارُ أوْلَى بهذا اللَّفْظِ، فيَنْصَرِفُ إليه. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يقالُ له: اخْتَرْ أيهما شِئْتَ. وقال بعْضُهم: إن قال: أرَدْتُ الطَّلاقَ والظِّهارَ. كان طلاقًا؛ لأنَّه بَدَأ به. وإن قال: أرَدْتُ الظِّهارَ والطَّلاقَ. كان ظِهارًا؛ لأنَّه بَدَأ به، فيكونُ ذلك اخْتِيارًا له، ويَلْزَمُه ما بَدَأ به. ولَنا، أنَّه أتَى بلَفْظةِ الحرامِ يَنْوي بها الظِّهارَ، فكانت ظِهارًا، كما لو انْفَرَدَ الظِّهارُ بنِيَّته، ولا يكونُ طَلاقًا؛ لأنَّه زاحَمَتْ نِيته نِيَّةَ الظِّهارِ، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ، والظِّهارُ أوْلَى بهذه اللَّفْظَةِ؛ لأن مَعْناهما واحِدٌ، وهو التَّحْريمُ، فيجبُ أنْ يُغَلَّبَ ما هو الأولَى، أمَّا الطَّلاقُ فإنَّ معناه الاطْلاقُ، وهو حَلُّ قَيدِ النِّكاحِ، وإنَّما التَّحْريمُ حُكْم له في بعضِ أحْوالِه، وقد يَنْفَكُّ عنه؛ فإنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُطَلَّقَةٌ مُباحةٌ. وأمّا التَّخْيِيرُ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ هذه اللَّفْظَةَ قد ثَبَتَ حكمُها حينَ لَفَظَ بها, لكَوْنِه أهْلًا والمَحَلِّ قابلًا, ولهذا لو حَكَمْنا بأنَّه طَلاق، لكانَتْ عِدَّتُها مِن حينَ أوْقَعَ الطَّلاقَ، وليس إليه رَفْعُ حُكْم ثَبَتَ ¬

(¬1) في م: «زمن».

فَصْلٌ: وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ يَصِح طَلَاقُهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا. وَالأقْوَى عِنْدِي أنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ ظِهَارٌ وَلَا إِيلَاءٌ؛ لأنهُ يَمِينٌ مُكَفرَةٌ، فَلَم تنْعَقِدْ في حَقهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في المَحَلِّ باخْتِيارِه، وإبْدالِه بإرادَتِه. والقولُ الآخَرُ مَبْنِي على أنَّ له الاخْتِيارَ. وهو فاسِدٌ على ما ذَكَرْنا. ثُمَّ إنَّ الاعْتبارَ بجَمِيعِ لَفْظِه، لا بما بَدَأ به، ولذلك (¬1) لو قال: طَلَّقْتُ هذه أو هذه. لم يَلْزَمْه طَلاقُ الأولَى. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه الله: (ويَصِحُّ مِن كُلِّ زَوْجٍ يَصِحُّ طَلاقُه، مُسْلِمًا كان أو ذِمِّيًّا) كُل زَوْج صَحَّ طَلاقُه صَحَّ ظِهارُه، وهو البالِغُ العاقِلُ، مسْلِمًا كان أو كافِرًا، حُرًّا أو عَبْدًا. قال أبو بَكْر: وظِهارُ السَّكْرانِ مَبْنِي على طَلاقِه. قال القاضي: وكذلك ظِهارُ الصَّبِيِّ مَبْنِي على طَلاقِه. قال شيخُنا: (والأقْوَى عندِي أنَّه لا يَصِحُّ مِن الصَّبِيِّ ظهارٌ ولا إيلاءٌ؛ لأنَّها يَمِينٌ مُوجِبَةٌ للكفَّارَةِ، فلم تَنْعَقِدْ) منه (¬2)، كاليَمِينِ باللهِ ¬

(¬1) في تش: «كذلك». (¬2) في م: «يمينه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى، ولأنَّ الكفَّارَةَ وجَبَتْ لِمَا فيه مِن قَوْلِ المُنْكَرِ والزُّورِ، وذلك مَرْفوعٌ عن الصَّبِيِّ؛ لكَوْنِ القَلَمِ مَرْفُوعًا عنه. فأمَّا ظِهارُ (¬1) العَبْدِ، فهو صَحِيحٌ. وقيلَ: لا يَصِحُّ ظِهارُه؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬2). والعبدُ لا يَمْلِكُ الرِّقابَ. ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ، ولأنَّه مُكَلَّفٌ يَصِحُّ طَلاقُه، فصَحَّ ظِهارُه، كالحُرِّ. وأمَّا إيجابُ الرَّقَبَةِ، فإنَّما هو على مَن يَجِدُها, ولا يُنْفَى الظِّهارُ في حَقِّ مَن لم يَجِدْها، كالمُعْسِرِ، فَرْضُه الصِّيامُ. ويَصِحُّ ظِهارُ الذِّمِّيِّ. وبه قال الشافعيُّ. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ منه (3)؛ لأنَّ الكفَّارَةَ لا تَصِحُّ منه، وهي الرَّافِعَةُ للتَّحْريمِ، فلا يصِحُّ منه التَّحْرِيمُ، ودليلُ أنَّ الكفَّارَةَ لا تصِحُّ منه، أنَّها عبادةٌ (¬3) تَفْتَقِرُ إلى النيةِ، فلا تصِحُّ منه، كسائرِ العباداتِ. ولَنا، أنَّ ¬

(¬1) في تش: «الظهار من». (¬2) سورة المجادلة 3. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن صَحَّ طلاقُه صَحَّ ظِهارُه، كالمسلمِ. فأمَّا ما ذَكَرُوه فيَبْطُلُ بكفَّارَةِ الصَّيدِ إذا قَتَلَه في الحَرَم، وكذلك الحَدُّ يُقامُ عليه. ولا نُسَلِّمُ أنَّ التَّكْفِيرَ لا يصِحُّ منه؛ فإنَّه يصحُّ منه العِتْقُ، وإنَّما لا يصِحُّ منه الصِّيامُ، فلا تمتنعُ صِحَّةُ الظِّهارِ بامْتِناعِ بعْضِ أنواعِ الكفَّارَةِ، كما في حَقِّ العَبْدِ. والنيةُ إنَّما تُعْتَبَرُ لتَعْيينِ الفِعْلِ للكفَّارَةِ، فلا يَمْتَنِعُ ذلك في حَقِّ الكافِرِ، كالنيَّةِ في كِناياتِ الطَّلاقِ. ومَن يُخْنَقٌ (¬1) في الأحْيانِ، يصِحُّ ظِهارُه في إفاقَتِه، كما يصِح طلاقُه فيه. ¬

(¬1) الخُناق: داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب.

3724 - مسألة: (ويصح من كل زوجة)

وَيَصِح مِن كل زَوْجَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن لا يصِحُّ طَلاقُه لا يصحُّ ظِهارُه، كالطِّفْلِ، والزَّائِل العَقْلِ بجُنونٍ، أو إغْماءٍ، أو نَوْم، أو غيرِه. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرأي. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا, ولا يصِحُّ ظِهارُ المُكْرَهِ. وبه قال الشافعيّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو يوسفَ: يصِحُّ ظِهارُه. والخِلافُ في ذلك مَبْنِي على الخِلافِ في صِحَّةِ طَلاقِه. وقد مَضَى ذكْرُه (¬1). 3724 - مسألة: (ويَصِحُّ مِن كلِّ زَوْجَةٍ) كبِيرَةً كانت أو صَغِيرَةً، مُسْلِمَةً أوْ ذِمِّيَّةً، مُمْكِنًا وَطْؤهَا أو غيرَ مُمْكِن. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يصِحُّ الظِّهارُ ممَّن لا يُمْكِنُ وَطْؤُها؛ لأن ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 22/ 149 - 151.

3725 - مسألة: (فإن ظاهر من أمته، أو أم ولده، لم يصح، وعليه كفارة يمين. ويحتمل أن تلزمه كفارة ظهار)

فَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ أمَتِهِ، أوْ أُمِّ وَلَدِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَيَحْتَمِلُ أنْ تَلْزَمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الظِّهارَ لتَحْريمِ وَطْئِها، وهو مُمْتَنِعٌ منه بغيرِ اليَمِينِ. ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ، ولأنَّها زَوْجَةٌ يَصِحُّ طَلاقُها، فَصحَّ الظِّهارُ منها كغيرِها. 3725 - مسألة: (فإن ظَاهرَ مِن أمَتِه، أو أمِّ وَلَدِه، لم يَصِحَّ، وعليه كَفَّارَةُ يَمِين. ويَحْتَمِلُ أن تَلزمَه كَفَّارَةُ ظِهَارٍ) وممَّن رُوِيَ عنه أنَّه لا يصِحُّ الظِّهارُ منهما؛ ابنُ عمرَ، وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرو، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِيُّ، ورَبِيعَةُ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ وأصحابُه. ورُوِيَ عن الحسَنِ، وعِكْرِمَةَ، والنَّخعِيِّ، وعمرِو بنِ دِينارٍ، وسليمانَ بنِ يَسارٍ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، والحَكَمِ، والثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، في الظِّهارِ مِن الأمَةِ كفَّارَة تامَّةٌ؛ لأنَّها مُباحَة له، فصَحَّ الظِّهارُ منها كالزَّوْجَةِ. وعن الحسَنِ، والأوْزَاعِيِّ، إن كان يَطَؤُها فهو ظِهارٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلَّا فلا؛ لأنَّه إذا لم يَطَأها فهو كتَحْريمِ مالِه. وقال عَطاءٌ: عليه نِصْفُ كفَّارَةِ حُرةٍ؛ لأنَّ الأمَةَ على النِّصْفِ مِن الحُرَّةِ في كثير مِن أحْكامِها، وهذا مِنِ أحْكامِها، فتكونُ على النِّصْفِ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِنْ نِسَائِهِمْ}. فخَصَّهُنَّ به، ولأنه لَفْظ تَعَلَّقَ به تَحْريمُ الزَّوْجَةِ، فلا تَحْرُمُ به الأمَةُ، كالطَّلاقِ، ولأنَّ الظِّهارَ كان طلاقًا في الجاهِلِيَّةِ، فنُقِلَ حُكْمُه وبَقِيَ مَحَلُّه. قال أحمدُ: قال أبو قِلابَةَ، وقَتادَةُ: إنَّ الظِّهارَ كان طَلاقًا في الجاهِلِيَّةِ. ويَلْزَمُه كفَّارَةُ يَمِين؛ لأنَّه تَحْريمٌ لمُباحٍ مِن مالِه، فكانت فيه كفَّارَةُ يَمِين, كتَحْريمِ سائِرِ مالِه. قال نافع: حَرَّمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جارِيَتَه، فأمَرَه الله أن يُكَفِّرَ يَمِينَه (¬2). وعن أحمدَ، عليه كفَّارَةُ ظِهارٍ؛ لأنَّه أتَى بالمُنْكَرِ مِن القَوْلِ والزُّورِ. وكما لو قالتِ المرأةُ لزَوْجِها: أنتَ عليَّ كظَهْرِ أبي (¬3). قال أبو بَكْرٍ: لا يتَوَجهُ هذا على مَذْهَبه؛ لأنَّه لو كانت عليه كفَّارَةُ ظِهارٍ كان ظِهارًا. ويحْتَمِل أن لا يَلْزَمَه شيءٌ. قاله أبو الخَطَّابِ، بِناءً على قَوْلِه في المرأةِ إذا قالت لزَوْجِها: أنتَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يظاهرون». وانظر صفحة 225. (¬2) أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر، كما في الدر المنثور 6/ 240. وذكر الحافظ ابن كثير سند الهيثم بن كليب، ولكن وقع عنده عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وكذا في الفتح 8/ 657. وصحح الحافظ ابن كثير إسناده. التفسير 8/ 186. وانظر: تفسير ابن جرير 28/ 156 - 158. (¬3) في تش: «أمي».

3726 - مسألة: (وإن قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي. لم تكن مظاهرة)

وَإنْ قَالتِ الْمَرأة لِزَوْجِهَا: أنت عَلَيَّ كَظَهْرِ أبي. لَمْ تَكُنْ مُظَاهِرَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليَّ كظَهْرِ أبي. لا يَلْزَمُها شيءٌ. فإن قال لأمَتِه: أنتِ عليَّ حرامٌ. فعليه كفَّارَةُ يَمِين؛ لقَوْلِ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوْلِه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ}. نزَلَتْ في تَحْريمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لجارِيته في قَوْلِ بعْضِهم. ويُخَرَّجُ على الرِّوايَةِ الأخْرى أن تَلْزَمَه كفَّارَةُ ظِهارٍ؛ لأنَّ التَّحْرِيمَ ظِهارٌ. والأوَّلُ هو الصحِيحُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. 3726 - مسألة: (وإن قالتِ المرأةُ لزَوْجِها: أنتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أبي. لم تَكُنْ مُظاهِرَةً) وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا قالت لزَوْجِها (¬1): أنتَ عليَّ كظَهْرِ أبي. أو قالت: إن تَزَوَّجْتُ فُلانًا فهو عَلَيَّ كظَهْرِ أبي. فليس ذلك بظِهارٍ. قال القاضي: لا تكونُ مُظاهِرَةً، رِوايةً واحِدَةً. وهو قولُ أكثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٍ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي. وقال الزُّهْرِيُّ والأوْزَاعِيُّ: هو ظِهارٌ. ورُوِيَ ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَعَلَيهَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. وَعَنْهُ، كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، لَا شَيْءَ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الحسَنِ، والنَّخَعِيِّ، إلَّا أنَّ النَّخَعِيَّ قال: إذا قالت ذلك بعدَ ما تُزَوَّجُ (¬1) فليس بشيء (¬2). ولعَلَّهم يحْتَجُّونَ بأنها أحَدُ الزَّوْجَين ظاهَرَ مِن الآخرِ، فكان مُظاهِرًا كالرجل. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬3) مِنْ نِسَائِهِمْ}. فخصَّهُم بذلك، ولأنَّه قَوْل يُوجِبُ تَحْرِيمًا في الزَّوْجة، يملكُ الزَّوْجُ رَفْعَه، فاخْتَصَّ به الرجلُ، كالطلاقِ، ولأنَّ الحِلَّ في المرْأةِ حق للرّجُلِ، فلم تَمْلِكِ المرْأةُ إزالتَه، كسائِرِ حُقوقِه. إذا ثَبَتَ ذلك، فاخْتُلِفَ عن أحمدَ في الكفَّارَةِ، فنقَلَ عنه جماعَة: عليها كفَّارَةُ الظِّهارِ؛ لِما روَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن إبراهيمَ، أنَّ عائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ قالت: إن تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بنَ الزُّبَيرِ، فهو عليَّ كظَهْرِ أبي. فسألتْ أهلَ المدينَةِ، فرَأوا أنَّ عليها الكفَّارَةَ. ورَوى عليُّ بنُ مُسْهِر، عن الشَّيبانِيِّ، قال: كنتُ جالِسًا في المسْجِدِ، أنا وعبدُ الله بنُ المُغَفَّلِ المُزَنِي (¬4)، ¬

(¬1) في م: «تزوجت». (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب ما جاء في ظهار النساء، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 20. (¬3) في تش: «يظهرون». وانظر صفحة 225. (¬4) في م: «المرى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجاء رجل حتى جلَسَ إلينا، فسألْتُه: مَن أنْتَ؟ فقال: أنا مَوْلًى لعائِشَةَ بنتِ طَلْحَةَ، أعْتَقَتْنِي عن ظِهارِها، خَطَبَها مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيرِ، فقالت: هو عليّ كظَهْرِ أبي إن تزَوَّجْتُه. ثم رَغِبَتْ فيه بَعْدُ، فاسْتَفْتَتْ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهم يومَئذٍ كثير، فأمَرُوها أن تُعْتِقَ رَقَبَةً وتَتَزَوَّجَه، فَتَزَوَّجَتْه وأعْتَقَتْني. ورَوى سعيدٌ (¬1) هذَينِ الخَبَرَين (¬2) مُخْتَصَرَين. ولأنَّها زَوْجٌ أتَى بالمُنْكَرِ مِن القَوْلِ والزورِ، فلَزِمَه كفّارَةُ الظِّهارِ كالآخَرِ، ولأنَّ الواجِبَ كفَّارَةُ يَمِين، فاسْتَوَى فيها الزَّوْجانِ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى. والرِّوايَةُ الثَّانِيَةُ، عليها كفَّارَةُ يَمِينِ. قال أحمدُ: قد ذهبَ عَطاءٌ مذْهَبًا حَسَنًا، جَعَلَه بمَنْزِلَةِ مَن حَرَّمَ على نفْسِه شيئًا [مثلَ الطَّعامِ] (¬3) وما أشْبَهَه. وهذا أقْيَسُ على مذهبِ أحمدَ وأشْبَهُ بأصُولِه؛ لأنه ليس بظِهارٍ، ومُجَرَّدُ المُنْكَرِ مِن القَوْلِ والزورِ لا يُوجبُ كفَّارَةَ الظهارِ، بدليلِ سائرِ الكَذِبِ، والظِّهارِ قبلَ العَوْدِ، والظِّهارِ مِن أمَتِه وأمِّ وَلَدِه، ولأنَّه تحْريمٌ لا يُثْبِتُ التَّحْريمَ في المَحَلِّ، فلم يُوجب كفَّارَةَ الظهارِ، كتَحْريمِ سائرِ الحَلالِ، ولأنَّه ظِهارٌ مِن غيرِ امْرأتِه، فأشْبَهَ الظِّهارَ مِن ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ظهار النساء، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 19، 20. كما أخرج الأول عبد الرزاق، في: باب ظهارها قبل نكاحها، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 444. والدارقطني، في: سننه 3/ 319. (¬2) في الأصل: «الحديثين». (¬3) في م: «كالطعام».

3727 - مسألة: (وعليها تمكين)

وَعَلَيهَا التَّمْكِينُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَتِه، وما رُوِيَ عن عائشة بنتِ طلحةَ في عتْقِ الرَّقَبَةِ، فيَجُوزُ أن يكونَ إعْتاقُها تكْفِيرًا لِيَمينها، فإنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ أحَدُ خِصَالِ كفَّارَةِ اليَمِينِ، ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه على هذا؛ لكَوْنِ الموْجُودِ منها ليس بظِهارٍ، وكلامُ أحمدَ في روايةِ الأثْرَمِ، لا يَقْتَضِي وُجوبَ كفَّارَةِ الظِّهارِ، وإنَّما قال: الأحْوَطُ أن يُكَفِّرَ. وكذا حكاه (¬1) ابنُ المُنْذِرِ. ولا شَكَّ أنَّ الأحْوَطَ التَّكْفِيرُ بأغْلَظِ الكفَّاراتِ؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ثالثة، لا شيءَ عليها. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه قَوْلٌ مُنْكَرٌ وزُورٌ، وليس بظِهارٍ، فلم يُوجِبْ كفَّارَةً، كالسَّبِّ والقَذْفِ. وإذا قُلْنا بوُجوبِ الكفَّارَةِ عليها، فلا تجبُ عليها حتى يَطَأها وهي مُطاوعَةٌ. فإن طَلَّقَها، أو مات أحَدُهما قبلَ وَطْئِها، أو أكرَهَها على الوَطْءِ، فلا كفَّارَةَ عليها؛ لأنَّها يَمِينٌ، فلم تجبْ كفَّارَتُها قبلَ الحِنْثِ فيها، كسائِرِ الأيمانِ. ويجوزُ تَقْدِيمُها لذلك. 3727 - مسألة: (وعليها تَمْكِينُ) زَوْجها مِن وَطْئِها (قبلَ التَّكْفِيرِ) لأنَّه حَق له عليها، فلا يَسْقُطُ بيَمِينها, ولأَنَّه ليس بظِهارٍ، وإنَّما هو تحْرِيمٌ للحَلالِ، فلا يُثْبِتُ تَحْرِيمَها، كما لو حَرَّمَ طعامَه. وقيلَ: ظاهِرُ ¬

(¬1) في م: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامِ أبي بَكْرٍ، أنَّها لا تمَكِّنُه قبلَ التَّكْفيرِ، إلْحاقًا بالرَّجلِ. وليس بجَيِّدٍ؛ لأنَّ الرجلَ ظِهارُه صَحِيحٌ، وظِهارُ المرأةِ غير صَحِيح، ولأنَّ حِلَّ الوَطْءِ حَق للرَّجُلِ، فَمَلَكَ رَفْعَه، وهو حَق عليها، فلا تَمْلِكُ إزالتَه.

3728 - مسألة: (وإن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي. لم يطأها إن تزوجها حتى يكفر)

وَإنْ قَال لأجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمِّي. لَمْ يَطَأهَا إِنْ تَزَوَّجَهَا حَتى يُكَفِّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3728 - مسألة: (وَإن قال لأجْنَبِيَّةٍ: أنتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أمِّي. لم يَطَأها إن تَزَوَّجَها حَتَّى يُكَفِّرَ) الظِّهارُ مِن الأجْنَبِيَّةِ صحيحٌ، سواءٌ قال ذلك لامْرأةٍ بعَينها، أو قال: كُلُّ النِّساءِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. وسواءٌ أوْقَعَه مُطْلَقًا، أو عَلَّقَه على التَّزْويجِ، فقال: كُلُّ امرأةٍ أتزَوَّجُها فهي عليَّ كظَهْرِ أمِّي. ومتى تزَوَّجَ التي ظاهَرَ منها, لم يَطَأها حتى يُكَفِّرَ. يُرْوَى نحوُ ذلك عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ، وعَطاء، والحسَنُ، ومالك، وإسْحاقُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ حكمُ الظِّهارِ قبلَ التَّزْويجِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ. ورُوِيَ ذلك في ابنِ عباس؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِنْ نِسَائِهِمْ}. والأجْنَبِيَّةُ ليستْ مِن نِسائِه، ولأنَّ الظِّهارَ يَمِينٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بحُكْمِها مُقَيَّدًا بنِسائِه، فلم يَثْبُتْ حُكْمُها في الأجْنَبِيَّةِ، ¬

(¬1) في تش: «يظهرون». وانظر صفحة 225.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالإيلاءِ، فإنَّ الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِنْ نِسَائِهِمْ}. كما قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2). ولأنَّها ليست بزَوْجَةٍ، فلم يَصِحَّ الظِّهارُ منها، كأمَتِه، ولأَنه حَرَّمَ مُحَرَّمَة، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو قال: أنتِ حرامٌ. ولأَنه نَوْعُ تَحْريم، فلم يتَقَدَّمِ النِّكاحَ، كالطَّلاقِ. ولَنا، ما روَى الإمامُ أحمدُ (¬3) بإسْنادِهِ، عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنه، أَنه قال في رجل قال: إن تَزَوَّجْتُ فُلانةَ فهي عليَّ كظَهْرِ أمِّي. فتَزَوَّجَها. قال: عليه كَفَّارَةُ الظِّهارِ. ولأنَّها يَمِين مُكَفَّرَةٌ، فصَحَّ انْعِقَادُها قبلَ النِّكاحِ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى. وأمَّا الآيَةُ، فإنَّ التَّخْصِيصَ خَرَجَ مَخْرَجَ الغالبِ، فإنَّ الغالِبَ أنَّ الانْسانَ إنَّما يُظاهِرُ من نِسائِه، فلا يُوجبُ تَخْصِيصَ الحُكْمِ بهنَّ، كما أنَّ تخْصِيصَ الرَّبِيبَةِ التي في حِجْرِه بالذِّكْرِ، لم يُوجِبِ اخْتِصاصَها بالتَّحْريمِ. وأمَّا الإِيلاءُ، فإنَّما اخْتَصَّ حُكْمُه بنِسائِه؛ لكَوْنِه يَقْصِدُ الإِضْرارَ بهنَّ دُونَ غَيرِهنَّ، والكفَّارَةُ وجَبَتْ ها هُنا لقَوْلِ المُنْكَرِ والزُّورِ، فلا يَخْتَصُّ ذلك بنِسائِه، ويُفارِقُ الظِّهارُ الطَّلاقَ مِن وَجْهَين؛ أحدُهما، أنَّ الطَّلاقَ حَلُّ قَيدِ النكاحِ، ولا يُمْكِنُ حَلُّه قَبْلَ عَقْدِه، والظِّهارُ تحْريمٌ للوَطْءِ، فيَجوزُ تَقْدِيمُه على العَقْدِ ¬

(¬1) في الأصل: «يظهرون». (¬2) سورة البقرة 226. (¬3) لم نجده في المسند. وانظر مسائل الإِمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1111. وأخرجه الإِمام مالك، في: باب ظهار الحر، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 559. وعبد الرزاق، في: المصنف 6/ 435، 436. وسعيد بن منصور، في: سننه 2/ 251. والبيهقي في: سننه 7/ 383. وأعله بالانقطاع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحَيضِ. الثاني، أنَّ الطَّلاقَ يَرْفَعُ العَقْدَ، فلم يَجُزْ أن يَسْبِقَه، وهذا لا يَرْفَعُه، وإنَّما يُعَلِّقُ الإِباحةَ على شَرْطٍ، فجاز تَقَدُّمُه، وأمَّا الظِّهارُ مِن الأمَةِ، فقد انْعَقَدَ يَمِينًا وَجَبَتْ به الكفَّارَةُ، ولم تَجِبْ كفَّارَةُ الظِّهارِ؛ لأنَّها ليستِ امْرأةً له حال التَّكْفيرِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فصل: إذا قال: كلُّ امْرأةٍ أتَزَوَّجُها، فهي عليَّ كظَهْرِ أمِّي. وقُلْنا بصِحَّة الظِّهارِ مِن الأجْنَبِيَّةِ، ثم تَزَوَّج نساءً، وأراد العَوْدَ، فعليه كَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، سواء تَزَوّجَهُنَّ في عَقْدٍ أو في عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ عُرْوَةَ، وإسْحاقَ؛ لأنَّها يَمِين واحِدَة، فكَفَّارَتُها واحِدَة. كما لو ظاهَرَ مِن أرْبَعِ نساءٍ بكَلِمَةٍ واحدةٍ. وعنه، أنَّ لكُل عَقْدٍ كَفَّارَةً؛ فلو تَزَوَّجَ اثْنَتَين في عَقْدٍ، وأراد العَوْدَ، فعليه, كفَّارَة واحدة، ثم إذا تزَوَّجَ أخْرَى، وأرادَ العَوْدَ، فعليه كفَّارَة أخْرَى. ورُوِيَ ذلك عن إسْحاق؛ وإن المرأةَ الثّالثَةَ وُجِدَ العَقْدُ عليها الذي يَثْبُت به الظِّهارُ، وأرادَ العَوْدَ إليها بعدَ التكْفيرِ عن الأولَيَينِ، فكانت لها عليه كَفَّارَةٌ، كما لو ظاهَرَ منها ابْتِداءً. فإن قال لأجْنَبِيّةٍ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. وقال: أرَدْتُ أنَّها مِثْلُها في التَّحْريمِ في الحالِ. دُيِّنَ في ذلك. وهل يُقْبَلُ في الحُكْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه صَرِيحٌ للظِّهارِ، فلا يُقْبَلُ صَرْفُه إلى

3729 - مسألة: (وإن قال)

وَإنْ قَال: أنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. يُرِيدُ في كُلِّ حَالٍ، فَكَذَلِكَ، وَإنْ أرَادَ في تِلْكَ الْحَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ؛ لِأنَّهُ صَادِقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِه. والثَّانِي، يُقْبَلُ؛ لأنَّها حرامٌ عليه، كما أنَّ أمَّه عليه حرامٌ. 3729 - مسألة: (وإن قال) لأجْنَبِيَّةٍ: (أنتِ عَلَيَّ حَرام. وأرادَ في تلك الحالِ، لم يَكُنْ عليه شَيءٌ؛ لأنَّه صادِقٌ) وإن أرادَ في كُلِّ حالٍ، لم يَطَأهَا إن تَزَوَّجَها حتى يُكَفِّرَ. أمَّا إذا أراد تَحْرِيمَها في الحالِ، أو (¬1) أطْلَقَ، فلا شيءَ عليه؛ لذلك. وإن أراد تَحْرِيمَها في كُلِّ حالٍ، فهو ظِهارٌ؛ لأنَّ لَفْظَةَ الحرامِ -إذا أرِيدَ بها الظِّهارُ- ظهارٌ في الزَّوْجَةِ، فكذلك في الأجْنَبِيَّةِ، وصار كقَوْلِه: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمي. ¬

(¬1) في الأصل: «و».

3730 - مسألة: (ويصح الظهار معجلا ومعلقا بشرط، ومطلقا ومؤقتا، نحو)

وَيَصِحُّ الظِّهَارُ مُعَجَّلًا وَمُعَلَّقًا بشَرْطٍ، وَمُطْلَقًا وَمُؤقَّتًا، نَحْوَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمِّي شَهْرَ رَمَضَانَ. أو: أَنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. فَمَتَى انْقَضَى الْوَقْتُ زَال الظِّهَارُ، وَإنْ أصَابَهَا فِيهِ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3730 - مسألة: (ويَصِحُّ الظهارُ مُعَجَّلًا ومُعَلَّقًا بشَرْطٍ، ومُطْلَقًا ومُؤقَّتًا، نحوَ) أن يَقُولَ: (أنتِ عَلَيَّ كظهْرِ أمِّي) في (شَهْرِ رَمَضانَ. أو: إن دَخَلْتِ الدَّارَ. فمتى انْقَضَى الوَقْتُ زال الظِّهارُ، وإن أصابَها فيه، وَجَبَتِ الكَفَّارَةُ عليه) أمَّا الظِّهارُ المُطْلَقُ فهو أن يقولَ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. وقد سَبَقَ ذِكْرُه. ويَصِحُّ مُؤَقَّتًا، مثلَ أن يقولَ: أنتِ علَيَّ كظَهْرِ أمِّي شَهْرًا. أو: حتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمضانَ. فإذا مَضَى الوَقْتُ زال الظِّهارُ، وحَلَّتْ بلا كفَّارَةٍ، ولا يكونُ عائِدًا إلَّا بالوَطْءِ في المُدَّةِ. [وهذا قولُ ابنِ عباس، وعَطاءٍ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ. وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: لا يكونُ ظِهارًا] (¬1). وبه قال ابن أبي لَيلَى، واللَّيثُ؛ لأنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بلَفْظِ الظِّهارِ مُطْلَقًا، وهذا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُطْلِقْ، فأشْبَهَ ما لو شَبَّهَها بمَن تَحْرُمُ عليه في وقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وقال طاوُسٌ: إذا ظاهَرَ في وَقْتٍ، فعليه الكفَّارَةُ وإن بَرَّ. وقال مالكٌ: يَسْقُطُ التَّأقِيتُ، ويكونُ مُظاهِرًا مُطْلَقًا؛ لأنَّ هذا لَفْظ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فإذا وَقَّتَه لم يَتَوَقَّتْ كالطلاقِ (¬1). ولَنا (¬2)، حَدِيثُ سَلَمَةَ بنِ صخرٍ (¬3)، وقولُه: ظَاهَرْتُ (¬4) مِن امْرأتِي حتى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمضانَ. وأخْبَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أصابَها في الشَّهْرِ، فأمره, بالكفَّارَةِ، ولم يُغَيِّرْ عليه تَقْيِيدَه، ولأنَّه مَنَعَ نفْسَه منْها بيَمِين لها كفَّارَة، فصَحَّ مُؤَقَّتًا كالإِيلاءِ، وفارَقَ الطَّلاقَ؛ فإنَّه يُزِيلُ المِلْكَ، وهذا يُوقِعُ تَحْرِيمًا يَرْفَعُه التَّكْفِيرُ، فجازَ تَأقِيتُه. ولا يَصِحُّ قولُ مَن أوْجَبَ الكفَّارَة وإن بَرَّ؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما أوْجَبَ الكفَّارَةَ على الذين يَعُودُونَ لِما قالوا، ومَن بَرَّ وتَرَكَ العَوْدَ في الوَقْتِ الذي ظاهَرَ فيه، فلم يَعُدْ لِمَا قال، فلا تَجبُ عليه كفَّارَة (1). وفارَقَ التَّشْبِيهَ بمَن لا تَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ؛ لأنَّ تَحْريمَها غيرُ كامِلٍ، وهذه حَرَّمَها في هذه المُدةِ (¬5) تَحْرِيمًا مُشَبَّهًا بتَحْريم ظَهْرِ أُمِّه. على أنَّا نَمْنَعُ الحكمَ فيها. إذا ثَبَتَ هذا، فإَّنه لا يكونُ عائِدًا إلَّا بالوَطْءِ في المُدَّةِ. وهذا المَنْصُوصُ عن الشافعيِّ. وقال بعْضُ أصحابِه: إن لم يُطَلِّقْها عَقِيبَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «أما». (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 276. (¬4) في م: «تظاهرت». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظِّهارِ، فهو عائِدٌ عليه الكفَّارَةُ. وقال أبو عُبَيدٍ: إذا أجْمَعَ على غِشْيانِها في الوَقْت، لَزِمَتْه الكفَّارَةُ، وإلَّا فلا؛ لأنَّ العَوْدَ العَزْمُ على الوَطْءِ. ولَنا، حَدِيثُ سَلَمَةَ بنِ صَخْر، وأنَّه لم يُوجِبْ عليه الكَفَّارَةَ إلَّا بالوَطْءِ، ولأنَّها يَمِينٌ لم يَحْنَثْ فيها، فلا يَلْزَمُه كفَّارَتُها، كاليَمِينِ باللهِ تعالى، ولأنَّ المُظاهِرَ في وَقتٍ, عازمٌ على إمْساكِ زَوْجَتِه في ذلك الوقتِ، فمَن أوْجَبَ عليه الكفَّارَةَ، كان قَوْلُه كقَوْلِ طاوُسٍ، فلا مَعْنَى لقَولِه: يَصِحُّ الظِّهارُ مُؤَقَّتًا؛ لعَدَمِ تَأثِيرِ التَّأقِيتِ. فصل: ويصِحُّ تَعْلِيقُ الظِّهار [بالشُّرُوطِ] (¬1)، نحوَ أن يقولَ الرجلُ (¬2): إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. أو: إن شاء زيدٌ فأنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. فمتى شاءَ زيدٌ أو دَخَلَتِ الدَّارَ، صارَ مُظاهِرًا، وإلَّا فلا. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّه يَمِينٌ، فجازَ تَعْليقُه على شَرْطٍ كالإيلاءِ، ولأنَّ أصْلَ الظِّهارِ أنَّه كان طَلاقًا، والطَّلاقُ يصِحُّ تَعْليقُه بالشَّرْطِ، فكذلك الظِّهارُ، ولأنَّه قَوْلٌ تَحْرُمُ به الزَّوْجَةُ، فصَحَّ تَعْليقُه على شَرْطٍ كالطَّلاقِ. ولو قال لامْرأتِه: إن تَظاهَرْتُ مِن امْرأتِي الأخْرَى، فأنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. ثم تظاهَرَ مِن الأخرَى، صار مُظاهِرًا منهما جميعًا. وإن قال: إن تظاهَرْتُ مِن فُلانَةَ الأجْنَبِيَّةِ، فأنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. ثم قال للأجْنَبِيَّةِ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي. صار مُظاهِرًا مِن امرأتِه، عندَ مَن ¬

(¬1) في الأصل: «في الشروط». (¬2) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرَى الظِّهارَ مِن الأجْنَبِيةِ، ومَن لا فلَا. وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: وإن قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي إن شاءَ الله. لم يَنْعَقِدْ ظِهارُهْ. نصَّ عليه أحمدُ، فقال: إذا قال: امْرَأتُه (¬1) عليه كظَهْرِ أُمِّه إن شاءَ الله. فليس عليه شيءٌ، هي يَمِينٌ. وقال ابنُ عَقِيلٍ: هو مُظاهِرٌ. ذَكَرَه في «المُحَرَّرِ». وإذا قال: ما أحَلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ إن شاء الله. وله أهلٌ، هي يَمِينٌ، ليس عليه شيءٌ. وبهذا قال الشافعي، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأي. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهم؛ وذلك لأنَّها يَمِينٌ مُكَفَّرَة، فصَحَّ الاسْتِثْناءُ فيها، كاليَمِينِ باللهِ تعالى، أو كتَحْريمِ مالِه، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن حَلَفَ على يَمِين، فقال: إن شاء اللهُ. فلا حِنْثَ عَلَيهِ». رَواه التِّرْمِذِيّ (¬2)، وقال: حديث حسن غريبٌ. وفي لفظٍ: «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى، فإن شَاءَ فَعَلَ، وَإن شَاءَ رَجَعَ غَيرَ حِنْثٍ». رَواه [الإِمامُ أحمدُ و] (¬3) أبو داودَ، والنَّسائِيُّ وإن قال: أنتِ عليَّ حرامٌ، واللهِ لا أكَلِّمُكِ إن شاءَ الله. عادَ الاسْتِثْناءُ إليهِما، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ إذا تَعَقَّبَ جُمَلًا، عادَ إلى جَمِيعِها، إلَّا أن يَنْويَ الاسْتِثْناءَ في بعْضِها، فيعودُ إليه وحدَه. وإن قال: أنتِ عليَّ حرام إذا شاءَ اللهُ. أو: إلَّا ما شاءَ اللهُ. أو: إلى أن يشاءَ الله. أو: ما شاءَ اللهُ. فكُله ¬

(¬1) في م: «لامرأته». (¬2) انظر ما تقدم في 22/ 563. (¬3) سقط من: م. وانظر ما تقدم عن ابن عمر في الموضع السابق.

فَصْلٌ في حُكْمِ الظِّهَارِ: يَحْرُمُ وَطْءُ الْمُظَاهَر مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِثْناءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ الظِّهارِ (¬1)؛ [وإن قال: إن شاء الله فأنت حرامٌ. فإنَّه اسْتثِناءٌ يَرْفعُ حُكْمَ الظِّهارِ] (¬2) لأنَّ الشَّرْطَ إذا تقَدَّمَ يُجابُ بالفاءِ. وإن قال: إن شاءَ اللهُ أنتِ حرامٌ. فهو اسْتثناءٌ؛ لأنَّ الفاءَ مُقَدَّرَةٌ. وإن قال: إن شاءَ الله فأنتِ حرامٌ. صحَّ أيضًا، والفاءُ زائِدَةٌ. وإن قال: أنتِ حرامٌ إن شاءَ الله وشاءَ زَيدُ. فشاءَ زيدٌ، لم يَكُنْ مُظاهِرًا؛ لأنَّه (¬3) علَّقَه على مَشِيئَتَين، فلا يحْصُلُ بإحداهما. فصل في حُكْمِ الظِّهارِ: (يَحْرُمُ وَطْءُ المُظاهَرِ منها قبلَ التَّكْفيرِ) إذا كان التَّكْفِيرُ بالعِتْقِ أو بالصِّيامِ. وليس في ذلك اخْتِلافٌ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (4). وقولِه سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬4). وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّ التَّكْفِيرَ بالإِطْعامِ مِثْلُ ذلك؛ منهم عَطاءٌ، ¬

(¬1) في تش: «الاستثناء». وسقط ما بعدها كما في المطبوعة. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «إلا أنه». (¬4) سورة المجادلة 3، 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزُّهْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرأي. وعن أحمدَ إباحَةُ الوَطْءِ قبلَ التَّكْفِيرِ بالإِطْعامِ؛ لأنَّ الله تعالى لم يَمْنَعِ المَسِيسَ قَبْلَه، كما في العِتْقِ والصِّيام. اخْتارَه أبو بَكْرٍ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لِما ذَكَرْنا. ولَنا، ما روَى عِكرِمَةُ عن ابنِ عباس، أنَّ رَجلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي تَظاهَرْتُ مِن امْرأتِي، فَوَقَعْتُ عليها قبلَ أن أكَفِّرَ. فقال: «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ، يَرْحَمُكَ اللهُ؟». [قال: رأيتُ] (¬1) خَلْخالها في ضَوْءِ القَمَرِ. فقال: «لا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أمرَكَ الله». رَواه أبو داودَ، والترْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديث حسن. [ولأنَّه مُظاهرٌ لم يُكَفِّرْ] (¬3)، فحرُمَ عليه جِماعُها، كما لو كانت كفَّارَتُه العِتْقَ أو (¬4) الصِّيامَ، وتَرْكُ النَّصِّ عليها لا يَمْنَعُ قِياسَها على المَنْصُوصِ الذي في مَعْناها. ¬

(¬1) في الأصل: «وأنت». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 515. والترمذي، في: باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 177. كما أخرجه النسائي، في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 136. وابن ماجه، في: باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 666، 667. وانظر تلخيص الحبير 3/ 221، 222. (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسخ: «و». وانظر المغني 11/ 67.

3731 - مسألة: (وهل يحرم الاستمتاع منها بما دون الفرج؟ على روايتين)

وَهَل يَحْرُمُ الاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَينِ. وَعَنْهُ، لَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إِذَا كَانَ التَّكْفِيرُ بِالإِطْعَامِ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3731 - مسألة: (وهل يَحْرُمُ الاسْتِمْتاعُ مِنها بما دُونَ الفَرْجِ؟ على رِوايَتَين) إحداهما، يَحْرُمُ. وهو قَولُ أبي بَكْرٍ. وبه قال الزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والأوزاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ؛ لأن ما حَرَّمَ الوَطْءَ مِن القَوْلِ حَرَّمَ دَواعِيَه، كالطَّلاقِ والإحْرام. والثَّانِيَةُ، لا يَحْرُمُ. قال أحمدُ: أرْجُو ألّا يكونَ به بأْسٌ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ، وأبي حنيفةَ. وحُكِيَ عن مالكٍ أيضًا. وهو القولُ الثَّانِي للشافعيِّ؛ لأنه وَطْء يتَعَلَّقُ بتَحْريمِه مالٌ، فلم يَتَجاوَزْه التَّحْريمُ، كوَطْءِ الحائِضِ.

3732 - مسألة: (وتجب الكفارة بالعود، وهو الوطء. نص عليه أحمد، وأنكر قول مالك أنه العزم على الوطء. [وقال القاضي، وأبو الخطاب: هو العزم)

وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ، وَهُوَ الْوَطْءُ. نَصَّ عَلَيهِ أحْمَدُ، وَأنْكَرَ قَوْلَ مَالِكٍ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَال الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّاب: هُوَ الْعَزْمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3732 - مسألة: (وتَجبُ الكَفَّارَةُ بالعَوْدِ، وهو الوَطْءُ. نَصَّ عليه أحمدُ، وأنْكَرَ قَوْلَ مالكٍ أَنَّه العَزْمُ على الوَطْءِ. [وقال القاضي، وأبو الخَطَّابِ: هو العَزْمُ) وجملةُ ذلك، أنَّ] (¬1) العَوْدَ هو الوَطْءُ عندَ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ. فمتى وَطِيء لَزِمَتْه الكفَّارَةُ، ولا تَجِبُ قبلَ ذلك، إلَّا أنَّها شَرْط لحِلِّ الوَطْءِ، فيُؤْمَرُ بها مَن أرادَه ليَسْتَحِلَّه بها، كما يُؤْمَرُ بعَقْدِ النِّكاحِ مَن أرادَ حِلَّ المرْأةِ. وحُكِيَ نحوُ ذلك عن الحسَنِ، والزُّهْرِيِّ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. إلَّا أنَّه لا يُوجبُ الكفَّارَةَ على مَن وَطِئَ، وهي (¬2) عندَه في حَقِّ مَن وَطِئَ كمَن لم يَطَأْ. وقال القاضي وأصحابُه: العَوْدُ العَزْمُ على الوَطْءِ. إلَّا أنَّهم لم يُوجِبُوا الكفَّارَةَ على العازِمِ [على الوَطْءِ] (1)، إذا مات أحَدُهما أو طَلَّقَ قبلَ الوَطْءِ، إلَّا أبا الخَطَّابِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «هو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه قال: إذا ماتَ بعدَ العَزْمِ أو طَلَّقَ فعليه الكفَّارَةُ. وهذا قولٌ مالكٍ، وأبي عُبَيدٍ. وقد أنْكَرَ أحمدُ هذا، وقال: مالِكٌ يقولُ: إذا أجْمَعَ لَزِمَتْه الكفَّارَةُ. فكيفَ يكونُ هذا! لو طَلَّقَها بعدَ ما يُجْمِعُ كان عليه كفَّارَةٌ! إلَّا أنَّ يكونَ يذْهَبُ إلى قَوْلِ طاوُسٍ: إذا تَكَلَّمَ بالظِّهارِ (¬1) لَزِمَه مِثْلُ الطَّلاقِ. ولم يُعْجِبْ أحمدَ قولُ طاوُسٍ. وقال أحمدُ، في قوله تعالى: [{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}. قال: العَوْدُ الغِشْيانُ، إذا أرادَ أنَّ يَغْشَى كفَّرَ. واحْتَجَّ مَن ذهبَ إلى هذا بقَوْلِه تعالى] (¬2): {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. فأوْجَبَ الكفّارَةَ بعدَ العَودِ قبلَ التَّماسِّ، وما يَحْرُمُ قبلَ الكفَّارَةِ، لا يجوزُ كَوْنُه مُتَقَدِّمًا عليها، ولأنَّه قَصَدَ بالظِّهارِ تحْرِيمَها، فالعَزْمُ على وَطْئِها عَوْدٌ فيما قَصَدَه، ولأنَّ الظِّهارَ تَحْرِيمٌ، فإذا أرادَ اسْتِباحَتَها فقد رَجَعَ في ذلك التّحْرِيمِ، فكان عائِدًا. وقال الشافعيُّ: العَوْدُ إمْسَاكُها بعدَ ظِهارِه زَمنًا يُمْكِنُه طَلاقُها فيه؛ لأنَّ ظِهارَه منها يَقْتَضِي إبانَتَها، فإمْساكُها عَوْدٌ فيما قال. وقال داودُ: العَوْدُ تَكْرارُ الظِّهارِ مرَّةً ثانِيَةً؛ لأنَّ العَوْدَ في الشيءِ إعادَتُه. ولَنا، أنَّ العَوْدَ فِعْلُ ضِدِّ قَوْلِه، ومنه العائِدُ في هِبَتِه، هو الرَّاجِعُ في المَوْهُوبِ، والعائِدُ في عِدَتِه، التَّارِكُ للوَفاءِ بما وَعَدَ، والعائِدُ فيما نُهِيَ عنه فاعِلُ المَنْهِيِّ عنه. ¬

(¬1) تكملة من المغني 11/ 73. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (¬1). فالمُظاهِرُ مُحَرِّمٌ للوَطْءِ على نَفْسِه، ومانِعٌ لها منه، فالعَوْدُ فِعْلُه. وقوْلُهم: إن العَوْدَ يَتَقَدَّمُ التَّكْفِيرَ، والوَطْءَ يتَأخَّرُ عنه. قُلْنا: المُرادُ بقَوْلِه: {ثُمَّ يَعُودُونَ}. أي يُرِيدُونَ العَوْدَ، كقَوْلِه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬2). أي أرَدْتُمْ ذلك. وقولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬3). فإن قيلَ: هذا تأْويلٌ، وهو رُجُوع إلى وُجُوب الكفَّارَةِ بالعَزْمِ المُجَرَّدِ. قُلْنا: دليلُ التاويلِ ما ذَكَرْنا، وأمَّا الأمْرُ بالكفَّارَةِ عندَ العَزْمِ، فإنَّما أمَرَ بها شَرْطًا للحِلِّ، كالأمْرِ بالطَّهارَةِ (¬4) لمَن أرادَ النَّافِلَةَ، والأمْرِ بالنيةِ لمن أرادَ الصيامَ. فأمَّا الإِمْساكُ فليس بعَوْدٍ؛ لأنَّه ليس بعَوْدٍ في الظهارِ المُؤَقَّتِ، فكذلك في المُطْلَق، ولأنَّ العَوْدَ فِعْلُ ضِدِّ ما قاله، والإمْساكُ ليس بضِدٍّ له. وقوْلُهم: إنَّ الظِّهارَ يَقْتَضِي إبانَتَها. مَمْنُوعٌ، وإنَّما يَقْتَضِي تَحْرِيمَها واجْتِنابَها، ولذلك صَحَّ تَوْقِيتُه، ولأنَّه قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ}. و «ثُمَّ» للتَّراخِي، والإمْساكُ غيرُ مُتَراخٍ. وأمَّا قولُ داودَ ¬

(¬1) سورة المجادلة 8. (¬2) سورة المائدة 6. (¬3) سورة النحل 98. (¬4) في الأصل، تش: «بالظهار».

3733 - مسألة: (فإن مات أحدهما، أو طلقها قبل الوطء، فلا كفارة عليه، فإن عاد فتزوجها، لم يطأها حتى يكفر)

وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أو طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيهِ، فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يصِحُّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أوْسًا وسَلَمَةَ بنَ صَخْر بالكفَّارَةِ مِن غيرِ إعادَةِ اللَّفْظِ، ولأنَّ العَوْدَ إنَّما هو في مَقُولِه دُونَ قَوْلِه، كالعَوْدِ في العِدَةِ والهبَةِ، والعَوْدِ فيما نُهِيَ عنه، ويدُلُّ على إبطالِ هذه الأقْوالِ كُلِّها أنَّ الظِّهارَ يَمِينٌ مُكَفَّرَة، فلا تَجِبُ الكفَّارَةُ إلَّا بالحِنْثِ فيها، وهو فِعْلُ ما حَلَفَ على تَرْكِه كسائِرِ الأيمانِ، وتَجِبُ الكفَّارَةُ به كسائِرِ الأيمانِ، ولأنَّها يَمِين تَقْتَضِي تَرْكَ الوَطْءِ، فلا تَجِبُ كفَّارَتُها إلَّا به، كالإِيلاءِ. 3733 - مسألة: (فإن مات أحَدُهما، أو طَلَّقَها قبلَ الوَطْءِ، فلا كَفَّارَةَ عليه، فإن عاد فتَزَوَّجَها، لم يَطَأْها حتى يُكَفِّرَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الكفارَةَ لا تَجِبُ بمُجَرَّدِ الظِّفارِ، فلو مات أحَدُهما أو فارَقَها قبلَ العَوْدِ، فلا كفَّارَةَ عليه. وهذا قولُ عَطاءٍ، والنّخَعِيِّ، والحسَنِ، والأوْزَاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، ومالكٍ، وأبي عُبَيدٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال طاوسٌ، ومُجاهِدٌ، والشعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ: عليه الكفَّارَةُ بمُجَرَّدِ الظِّهارِ؛ لأنَّه سَبَبٌ للكفَّارَةِ، وقد وُجِدَ، ولأنَّ الكفَّارَةَ وَجَبَتْ لقَوْلِ المُنْكَرِ والزُّورِ، وهذا يحْصُلُ بمُجَرَّدِ الظِّهارِ. وقال الشافعيُّ: متى أمْسَكَها بعدَ ظِهارِه زَمَنًا يُمْكِنُه طَلاقُها فيه، فلم يُطَلِّقْها، فعليه الكفَّارَةُ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ذلك هو العَوْدُ عندَه. ولَنا، قَولُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِن نسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. فأوْجَبَ الكفَّارَةَ بأمْرَين، ظِهارٍ وعَوْدٍ، فلا يَثْبُتُ بأحَدِهما، ولأنَّ الكفَّارَةَ في الظِّهارِ كفَّارَةُ (¬2) يَمِين، فلا تَجِبُ بغيرِ الحِنْثِ، كسائرِ الأيمانِ، والحِنْثُ فيها هو العَوْدُ، وذلك فِعْلُ ما حَلَفَ على تَرْكِه، وهو الجِماعُ. وقد ذكَرْنا ذلك في المسْألةِ التي قَبْلَها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا كفَّارَةَ عليه إذا مات أحدُهما (¬3) قبلَ وَطْئِها. وكذلك إن فارَقَها، سواء كان ذلك مُتراخِيًا عن يَمينِه أو عَقِيبَه. وأيُّهما ماتَ وَرِثَه صاحِبُه في قولِ الجُمْهُورِ. وقال قَتادَةُ: إن ماتَتْ لم يَرِثْها حتى يُكَفِّرَ. ولَنا، أنَّ مَن وَرِثَها إذا كفَّرَ وَرِثَها وإن لم يُكَفِّرْ، كالمُولِي منها. ومتى طَلَّقَ مَن ظاهَرَ منها ثم تَزَوَّجَها، لم يَحِلَّ له وَطْؤُها حتى يُكَفرَ، سواءٌ كان الطَّلاقُ ثلاثًا أو أقَلَّ منه، وسواءٌ رَجَعَت إليه بعدَ زَوْجٍ آخَرَ أو قبلَه. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قَوْلُ الحسَنِ، وعَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، والنَّخَعِيِّ، ومالكٍ، وأبي عُبَيدٍ. وقال قَتادَةُ: إذا بانَتْ سَقَطَ الظِّهارُ، فإذا عادَ فنَكَحَهَا فلا كفَّارَةَ عليه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يظهرون». وانظر صفحة 225. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

3734 - مسألة: (وإن وطئ قبل التكفير، أثم، واستقرت عليه الكفارة)

وَإنْ وَطِيء قَبْلَ التَّكْفِيرِ، أَثِمَ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيهِ الْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشافعيِّ قَوْلانِ كالمذْهَبَين، وقولٌ ثالِثٌ، إن كانتِ البَينونَةُ بالثَّلاثِ، لم يَعُدِ الظِّهارُ، وإلَّا عاد. وبناه على الأقاويلِ في عَوْدِ صِفَةِ الطَّلاقِ في النِّكاحِ الثَّانِي. ولَنا، عُمُومُ قَوْلِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِن نسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا}. وهذا قد ظاهَرَ مِن امْرأتِه، فلا يَحِلُّ (¬2) أنَّ يتَمَاسَّا حتى يُكَفِّرَ، ولأنَّه ظاهَرَ مِن امْرأتِه، فلا يَحِلُّ له مَسُّها فبلَ التَّكْفِيرِ، كالتي لم يُطَلِّقْها، ولأنَّ الظِّهارَ يَمِين مُكَفَّرَة، فلم يَبْطُلْ حُكْمُها بالطَّلاقِ، كالإِيلاءِ. 3734 - مسألة: (وإن وَطِئَ قبلَ التَّكْفِيرِ، أثِمَ، وَاسْتَقَرَّتْ عليه الكفَّارَةُ) قد ذَكَرْنا أنَّ المُظاهِرَ يَحْرُمُ عليه وَطْءُ زَوْجَتِه قبلَ التَّكْفِيرِ؛ لقَوْلِ الله تعالى في العِتْقِ والصِّيامِ: (مِن قَبْلِ أنَّ يَتَمَاسَّا). فإن وَطِئَ عَصَى رَبَّه [لمُخالفةِ أمرِ] (¬3)، وتَسْتقِرُّ الكفَّارَةُ في ذِمَّتِه، فلا تَسْقُطُ بعدَ ذلك ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يظهرون». (¬2) بعده في الأصل: «له». (¬3) سقط من: م.

3735 - مسألة: (وتجزئه كفارة واحدة)

وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَة وَاحِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَوْتٍ، ولا طَلاقٍ، ولا غيرِه، وتَحْرِيمُ زوْجتِه عليه باقٍ عليه (¬1) حتى يُكَفِّرَ. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. رُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعَطاء، وطاوُسٍ، وجابرِ بنِ زيدٍ، ومُوَرِّقٍ (¬2) العِجْلِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ أُذَينَةَ (¬3)، ومالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ. وتَلْزَمُه الكفَّارَةُ إذا وَطِئَها وهو مَجْنون. نصَّ عليه. [مِن «المُحَرَّرِ»] (¬4). 3735 - مسألة: (وتُجْزِئُه كَفَّارَة واحِدَة) وهو قولُ الحسَنِ، وابنِ سِيرِينَ، وبَكْر المُزَنِيِّ، ومُوَرِّقٍ (¬5)، وعَطاءٍ، وطاوسٍ، ومُجاهدٍ، وعِكْرِمَةَ، وقَتادَةَ. وحُكِيَ عن عمرِو بنِ العَاصِ، أنَّ عليه كفَّارَتَين. ورُوِيَ ذلك عن قَبِيصَةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والزُّهْرِيِّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «مسروق». وهو مورق بن مُشَمْرِج العجلي أبو المعتمر البصري، الإمام من كبار التابعين، ثقة عابد توفي في ولاية عمر بن هبيرة على العراق. سير أعلام النبلاء 4/ 353 - 355، تهذيب التهذيب 10/ 331، 332. (¬3) كذا جاء في النسخ، وكذلك ذكره الطبري في حوادث سنة سبع وثمانين. تاريخ الطبري 6/ 433. وهو عبد الرحمن بن أذينة بن سلمة العبدي الكوفي، قاضي البصرة في زمن شرج، استقضاه الحجاج سنة ثلاث وثمانين، فلم يزل بها قاضيا حتى مات الحجاج. تهذيب الكمال 16/ 510 - 512. وانظر عن قوله في الظهار ما أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 1/ 305. (¬4) في تش: «في المحرر»، وفي م: «في المجرد». (¬5) في الأصل: «مسروق».

3736 - مسألة: (وإن ظاهر من امرأته الأمة ثم اشتراها، لم تحل له حتى يكفر. وقال [أبو بكر]

وَإنْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأتِهِ الْأمَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ. وقَال أَبُو بَكْرٍ: يَبْطُلُ الظِّهَارُ وَتَحِلُّ لَهُ، فَإِنْ وَطِئَهَا فَعَلَيهِ كَفَّارَةُ يمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَتادَةَ؛ لأنَّ الوَطْءَ يُوجِبُ كفَّارَةً، والظِّهارَ يُوجِبُ أُخْرَى. وقال أبو حنيفةَ: لا تَثْبُتُ الكفَّارَةُ في ذِمَّتِه، وإنَّما هي شَرْط للإِباحَةِ بعدَ الوَطْءِ، كما كانتْ قبْلَه. وحُكِيَ عن بعْضِ العُلَماءِ أنَّ الكفَّارَةَ تَسْقُطُ، لأنَّه قد فات وقْتُها، لكَوْنِها وَجَبَتْ قبلَ المَسِيسِ. ولَنا، حَدِيثُ سَلَمةَ بنِ صَخْرٍ، حينَ ظاهَرَ ثم وَطِيء قبلَ التَّكْفِيرِ، فأمَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفَّارَةٍ واحدةٍ (¬1). ولأنَّه وُجِدَ الظِّهارُ والعَوْدُ، فيدخلُ في عُمومِ قولِه: (ثُمَّ يَعُودُون لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). فأمَّا قَوْلُهم: فات وَقْتُها. فيَبْطُلُ بما ذَكَرْناه، وبالصَّلاةِ، وسائرُ العِبادَاتِ يَجِبُ قَضاؤُها بعدَ فَواتِ وَقْتِها. 3736 - مسألة: (وإن ظاهَرَ مِن امْرأتِه الأمَةِ ثم اشْتَراها، لم تَحِلَّ له حتى يُكَفِّرَ. وقال [أبُو بَكْرٍ] (¬2): يَبْطُلُ الظِّهَارُ وَتَحِل له، فإن وَطِئَها فعليه كفَّارَةُ يَمِينٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ الظِّهارَ يصِحُّ مِن كُلِّ زَوْجَةٍ، أمَةً كانت أو حُرَّةً، لعُمُوم الايَةِ. فإذا ظاهَرَ مِن زَوْجَتِه الأمَةِ ثم مَلَكَها، انْفَسَخَ النِّكاحُ. واخْتَلَفً أصحابُنا في بَقاءِ حُكْمِ الظهارِ، فذَكَرَ الخِرَقِيُّ أنَّه باقٍ، ولا يَحِل له الوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ. وبه يقولُ مالكٌ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 276. (¬2) في الأصل، تش: «أبو الخطاب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. ونصَّ عليه الشافعيُّ. وقال القاضي: المذهبُ ما ذكَرَ الخِرَقِيُّ. وهو قولُ أبي عبدِ الله بِنِ حامِدٍ؛ لقَوْلِ الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) من نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أنَّ يَتَمَاسَّا}. وهذا قد ظاهَرَ مِن امْرأتِه، فلم يَحِلَّ له مَسُّها حتى يُكَفِّرَ، ولأنَّ الظهارَ قد صَحَّ فيها، وحُكْمُه لا يَسْقُطُ بالطَّلاقِ المُزِيل للمِلْكِ (¬2) والحِلِّ، فبمِلْكِ اليَمِينِ أَوْلَى، ولأنَّها يَمِين انْعَقَدَتْ موجِبَةً لكفَّارةٍ (¬3)، فوَجَبَتْ دُونَ غيرِها، كسائِرِ الأيمانِ. وقال أبو بكْرٍ عبدُ العزِيزِ، وأبو الخَطَّابِ: يَسْقُطُ الظِّهارُ بمِلْكِه لها، وإن وَطِئَها حَنِثَ، وعليه كفَّارةُ يَمِين، كما لو تَظاهَرَ منها وهي أمَتُه. ويَقْتَضِي (¬4) قولُ أبي بَكْرٍ وأبي الخَطَّابِ ههُنا أنْ تُباحَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ لأنَّه أسْقَطَ الظِّهارَ، وجَعَلَه يَمِينًا، كتَحْريمِ أمَتِه. فإنْ أعْتَقَها عن كفَّارَتِه، صَحَّ على القَوْلَين جميعًا (¬5). فإن تَزَوَّجَها بعدَ ذلك، حَلَّتْ له بغيرِ كفَّارَةٍ؛ لأنَّه كفَّرَ عن ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يظهرون». (¬2) في الأصل: «لذلك». (¬3) في تش، م: «للكفارة». (¬4) في تش: «مقتضى». (¬5) زيادة من: م.

3737 - مسألة: (وإن كرر الظهار قبل التكفير فكفارة واحدة)

وَإنْ كَرَّرَ الظِّهَارَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْهُ، إِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجْلِس وَاحِدٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإنْ كَرَّرَه فِي مَجَالِسَ فَكَفَّارَاتٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظِهارِه بإعْتاقِها، ولا يَمْتَنِعُ إجْزاوها عن الكفَّارَةِ التي وجَبَثْ بسَبَبِها، كما لو قال: إن مَلَكْتُ أمَةً فللَّهِ عليَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. فمَلَكَ أمَةً فأعْتَقَها. وإن أعْتَقَها عن غَيرِ (¬1) الكفَّارَةِ، ثُمَّ تزَوَّجَها، لم تَحِلَّ له حتى يُكَفِّرَ. 3737 - مسألة: (وإن كَرَّرَ الظِّهارَ قبلَ التَّكْفِيرِ فكَفَّارَةٌ واحِدَةٌ) هذا ظاهِرُ المذهب، سواءٌ كان في مَجْلِس أو مَجالِسَ، يَنْوي به التَّأْكِيدَ، أو الاسْتِئْنافَ، أوَ أطْلَقَ. نَقَلَه عن أحمدَ جماعة. اخْتارَه أبو بكرٍ، وابنُ حامدٍ، والقاضي. وبه قال مالكٌ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، والشافعيُّ في القَدِيمِ. ونُقِلَ عن أحمدَ: مَنِ حَلَفَ أيمانًا كثيرةً، فأرادَ التَّأْكِيدَ، فكفَّارَةٌ واحدة. فمَفْهُومُه أنَّه إن نوَى الاسْتِئْنافَ فكفَّارَتٌ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ في الجديدِ. وقال أصحابُ الرَّأْي: إن كان في مَجْلِس، فكفَّارَة واحدة، وإن كان في مَجالِسَ فكفَّارات. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وعمرِو بنِ دِينارٍ؛ لأنَّه قولٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فإذا نَوَى الاسْتِئْنافَ تعَلَّقَ بكُلِّ مَرَّةٍ حُكْم، كالطَّلاقِ. ¬

(¬1) في الأصل: «يمين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه قولٌ لم يُؤثِّرْ [تَحْرِيمًا في] (¬1) الزَّوْجَةِ، فلم تَجِبْ به كفَّارَةُ الظِّهارِ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى، ولا يَخْفَى أنَّه لم يُؤثر تَحْرِيمًا (¬2)، فإنَّها حَرُمَتْ بالقَوْلِ الأوَّلِ، ولأنَّه لفْظ يَتَعَلَّقُ به كفَّارَة، فإذا تكَرَّرَ كَفاه كفَّارَة واحدة، كاليَمِينِ باللهِ تعالى. وأمَّا الطَّلاقُ، فإن ما زاد منه على الثَّلاثِ، لا يَثْبُتُ له حُكْمٌ بالإجْماعِ، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذكَرُوه. وأمَّا الثَّالِثَةُ، فإنَّها تُثْبِتُ تَحْرِيمًا زائِدًا، وهو التَّحْرِيمُ قبلَ زَوْجٍ وإصابَةٍ، بخِلافِ الظِّهارِ الثَّانِي، فإنَّه لا يَثْبُتُ به تَحْريم، فنَظِيرُ الظِّهارِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، لا يَثْبُتُ بما زادَ عليها تَحْرِيم، ولا يَثْبُتُ له حُكْم، كذلك الظِّهارُ. فأمَّا إن كفَّرَ عن الأوَّلِ، ثم ظاهَرَ، لَقمَه للثَّانِي كفَّارَة، بلا خِلافٍ؛ لأنَّ الظِّهارَ الثَّانِيَ مِثْلُ الأوَّلِ، فإنَّه حَرَّمَ الزَّوْجَةَ المُحَلَّلَةَ، فأوْجَبَ الكفَّارَةَ كالأوَّلِ، بخِلافِ ما قبلَ التَّكْفِيرِ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «تحريم». (¬2) في الأصل: «تحريمها».

3738 - مسألة: (وإن ظاهر من نسائه بكلمة واحدة، فكفارة واحدة، وإن كان بكلمات، فلكل واحدة كفارة)

وَإنْ ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَفَّارَة وَاحِدَة، وَإِنْ كَانَ بِكَلِمَاتٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3738 - مسألة: (وإن ظاهَرَ مِن نِسَائِه بكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، فكَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، وإن كان بكَلِماتٍ، فلِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ) إذا ظاهَرَ مِن نِسائِه بلَفْظٍ واحدٍ، فقال: أنْتُنَّ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي. فليس عليه أكْثَرُ مِن كفَّارَةٍ، بغيرِ خِلافٍ في المذهَبِ. لي هو قولُ عمرَ، وعلي، وعُرْوَةَ، وطاوُسٍ، وَعَطاءٍ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، والأوْزَاعِيِّ، وإسْحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، والشافعيِّ في القَديمِ. وقال الحسَنُ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، ويحيى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنْصَارِيُّ، والحَكَمُ، والثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ في الجَديدِ: عليه لِكُلِّ امرأةٍ كفَّارَة. وعن أحمدَ مثلُ ذلك، مِن «المُحَرَّرِ»؛ لأنَّه وُجِدَ الظِّهارُ والعَوْدُ في حَقِّ كُلِّ امرأةٍ مِنهُنَّ، فوَجَبَ عليه لكُلِّ واحدةٍ كفَّارَة، كما لو أفْرَدَها به (¬1). ولَنا، قولُ عمرَ، وعليٍّ، رَضِيَ الله عنهما، رواه عنهما الأثْرَمُ (¬2)، ولا نَعْرِفُ لهما في الصَّحابَةِ مُخالِفًا، فكان إجْماعًا، ولأنَّ الظِّهارَ كَلِمَة تَجِبُ بمخُالفَتِها الكفَّارَةُ، فإذا وُجِدَتْ في جَماعَةٍ أوْجَبَتْ كفَّارَةً واحِدَةً، كاليَمِينِ باللهِ تعالى. وفارَقَ ما إذا ظاهَرَ بكلماتٍ؛ فإنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَقْتَضِي كفَّارَةً تَرْفَعُها، وتُكَفِّرُ إثْمَها، وههُنا الكَلِمَةُ واحِدَة، فالكفَّارَةُ الواحِدَةُ تَرْفَعُ حُكْمَها، وتَمْحُو إثْمَها، فلا يَبْقَى لها حُكْمٌ. فأمَّا إن كَرَّرَه بكَلِماتٍ، فقال لِكُلِّ واحِدَةٍ: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي. فإنَّ لِكلِّ يَمِين كفَّارَةً. وهذا قَوْلُ عُرْوَةَ، وعَطاءٍ. قال أبو عبدِ اللهِ ابنُ حامِدٍ: المذهب رواية واحدةٌ في هذا. قال القاضي: المذهبُ عندِي ما ذَكَرَه الشَّيخُ أبو عبدِ اللهِ. وقال أبو بكرٍ: فيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يُجْزِئُه كفَّارَةٌ واحِدَة. واخْتارَ ذلك، وقال: هذا الذي قُلْناه اتِّباعًا لعُمرَ بنِ الخَطَّابِ، والحسَنِ، وعَطاءٍ، وإبْراهيمَ، ورَبِيعَةَ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرج قول عمر البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 383.كما أخرجه عنه في من ظاهر من ثلاث نسوة، عبد الرزاق، في: المصنف 6/ 438، 439. وسعيد بن منصور، في: سننه 6/ 12. والدارقطني، في: سننه 3/ 319. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 384.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَبِيصَةَ، وإسْحاقَ؛ لأنَّ كفَّارَةَ الظِّهارِ حَق للهِ تعالى، فلم تَتَكَرَّرْ بتَكَرُّرِ سَبَبِها، كالحُدُودِ، وعليه يُحرَّجُ الطَّلاقُ. ولَنا، أنَّها أيمانٌ مُتَكَرِّرَة على أعْيانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فكان لِكُلِّ واحدةٍ كفَّارَةٌ، كما لو كفَّرَ ثم ظاهرَ، ولأنَّها أيمانٌ لا يَحْنَثُ في إحْداها بالحِنْثِ في الأخْرَى، فلا يُكَفِّرُها كفَّارَةٌ واحدةٌ، كالأصْلِ، ولأنَّ الظِّهارَ مَعْنًى يُوجِبُ الكفَّارَةَ، فتَتَعَدَّدُ الكفَّارَةُ بتَعَدُّدِه في المَحالِّ المُخْتَلِفَةِ، كالقَتْلِ، ويُفارِقُ الحَدَّ؛ فإنَّه عُقُوبَة تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. فصل: فإن قال: كُلُّ امرأةٍ أتَزَوَّجُها فهي عليَّ كظَهْرِ - رضي الله عنه - أُمِّي. ثم تَزَوَّجَ نِساءً في عَقْدٍ واحدٍ، فكفَّارَة واحدة، وإن تَزَوَّجَهُنَّ في عُقُودٍ، فكذلك في إحْدَى الرِّوايَتَين؛ لأنَّها يَمِينٌ واحدة. والأخْرَى، لِكُلِّ عَقْدٍ كفَّارَةٌ. فعلى هذا، لو تَزَوَّجَ امْرأتَين في عَقْدٍ (¬1)، وأُخْرَى في عَقْدٍ، لَزِمَتْه كفَّارَتان؛ لأنَّ لكُلِّ عَقْدٍ حُكْمَ نَفْسِه، فتَعَلَّقَ بالثانِي كفَّارَةٌ، كالأوَّلِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فصل في كفارة الظهار وما في معناها

فَصْلٌ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَجِبُ عَلَيهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَكَفّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ مِثْلُهَا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ في كفَّارَةِ الظِّهارِ وما في مَعْناها 3739 - مسألة: (كَفَّارَةُ الظِّهارِ على التَّرْتِيبِ، فيَجِبُ عليه تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فإن لم يَجِدْ فصِيامُ شَهْرَين مُتَتابِعَين، فإن لم يَسْتَطِعْ فإطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) والأصْلُ في ذلك قولُ اللهِ تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬1) مِن نسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أنَّ يَتَمَاسَّا) الآيَتَينِ (¬2). وقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لخَوْلَةَ حينَ ظاهرَ منها زوْجُها: «يُعْتِقُ رَقَبَةً». قلتُ: لا يَجِدُ. قال: «فَيَصُومُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّه شَيخٌ كبيرٌ ما به صِيامٌ. قال: «فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا (¬3). وهذا التَّرْتِيبُ لا خِلافَ فيه إذا كان المُظاهِرُ حُرًّا، فأمَّا العَبْدُ، فنَذْكُرُ حُكْمَه إن شاءَ الله تعالى (وكَفَّارَةُ الوَطْءِ في) نَهارِ (رَمضانَ مِثْلُها، في ظاهرِ المذْهَبِ) لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رَجُلًا قال: يا رسولَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يظهرون». (¬2) سورة المجادلة 3، 4. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 225.

3740 - مسألة: (وكفارة القتل مثلهما)

وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ مِثْلُهُمَا، إلَّا فِي الْإطْعَامِ، فَفِي وُجُوبِهِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ، وَقَعْتُ على امْرأتِي وأنا صائِم. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَين مُتَتَابِعَينِ؟». قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟». وذكَرَ الحدِيثَ، وهو (¬1) صَحِيحٌ مُتَّفقٌ عليه (¬2). وفي كفَّارَةِ الوَطْءِ في رَمضانَ رِواية أنَّها على التَّخْيِيرِ، وقد ذَكَرْنا ذلك في الصَّوْم (¬3). 3740 - مسألة: (وكَفارَةُ القَتْلِ مِثْلُهما) لأنَّ التَّحْرِيرَ والصِّيامَ مَنْصُوصٌ عليهما في كتابِ اللهِ تعالى (إلَّا الإِطْعامَ، ففي وُجُوبِه رِوايَتان) ¬

(¬1) بعده في تش: «حديث». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 445. (¬3) انظر ما تقدم في 7/ 468.

3741 - مسألة: (والاعتبار في الكفارة بحال الوجوب في إحدى الروايتين)

وَالاعْتِبَارُ فِي الْكَفَّارَاتِ بِحَالِ الْوُجُوبِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. فَإِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْداهما، لا يجبُ؛ لأنَّ الله تعالى لم يذْكُرْه في الكفَّارَةِ. والثَّانِيَةُ، يَجِبُ، قِياسًا على كفَّارَةِ الظِّهار والجِماعِ في نَهارِ شَهْرِ رَمضانَ. 3741 - مسألة: (والاعْتِبارُ في الكَفَّارَةِ بِحَالِ الوُجُوبِ في إحْدَى الرِّوايَتَين) وهي ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه قال: إذا حَنِثَ وهو عَبْدٌ، فلم يُكَفِّرْ حتى عَتَقَ، فعليه الصَّوْمُ، لا يُجْزِئُه غيرُه. وكذلك قال الأثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْأَلُ عن عبدٍ حَلَفَ على يَمِين، فحَنِثَ فيها وهو عبدٌ، فلم يُكَفِّرْ حتى عَتَقَ، أيُكَفِّرُ كفارَةَ حُرٍّ أو كفَّارَةَ عَبْدٍ؟ قال: يُكَفِّرُ كفَّارَةَ عَبْدٍ؛ لأنَّه إنَّما يُكَفِّرُ ما وَجَبَ عليه يَوْمَ حَنِثَ، لا

وَجَبَتْ وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ أَعْسَرَ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلا الْعِتْقُ، وَإنْ وَجَبَتْ وَهُوَ مُعْسِر، فَأَيسَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِتْقُ، وَلَهُ الانْتِقَالُ إِلَيهِ إنْ شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يومَ حَلَفَ. قلتُ له: حَلَفَ وهو عَبْدٌ، وحَنِثَ وهو حُرٌّ؟ قال: يومَ حَنِثَ. واحْتَجَّ فقال: افْتَرَى وهو عَبْدٌ -أي (¬1) ثم أُعتِقَ- فإنَّما يُجْلَدُ جَلْدَ العَبْدِ. وهذا أحدُ أقْوالِ الشافعيِّ. فعلَى هذه الرِّوايَةِ، يُعتبَرُ يَسارُه وإعْسارُه حال وجُوبِها عليه، فإن كان مُوسِرًا حال الوُجوبِ، اسْتَقَرَّ وُجوبُ الرَّقَبَةِ عليه، فلم تَسْقُطْ بإعْسارِه بعدَ ذلك. وإن كان مُعْسِرًا، ففَرْضُه الصَّوْمُ، فإذا أيسَرَ بعدَ ذلك، لم يَلْزَمْه الانْتِقالُ [إلى الرَّقَبَةِ] (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل، تش: «إليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والرِّوايةُ الثَّانِيَةُ، الاعْتِبارُ بأغْلَظِ الأحْوالِ مِن حينِ الوُجُوبِ إلى حينِ التَّكْفِيرِ، فمتى وَجَدَ رَقَبَةً فيما بينَ الوُجُوب إلى حينِ التَّكْفِيرِ، لم يُجْزِئه إلَّا (¬1) الإِعْتاقُ. وهو قولٌ ثانٍ للشافعيِّ؛ لأنَّه حَقٌّ يَجِبُ في الذِّمَّةِ بوُجودِ مالٍ، فاعْتُبِرَ فيه أغْلَظُ الأحْوالِ كالحَجِّ. وله قولٌ ثالِث، أنَّ الاعْتِبارَ بحالةِ الأداءِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ؛ لأنَّه حَق له بَدَلٌ مِن غيرِ جِنْسِه، فكان الاعْتِبارُ فيه بحالةِ الأداءِ، كالوُضُوءِ. ولَنا، أنَّ الكفَّارَةَ تَجِبُ على وَجْهِ الطُّهْرَةِ، فكان الاعْتِبارُ فيها بحالةِ الوُجُوبِ كالحدِّ، أو نقُولُ: مَن وَجَبَ عليه الصِّيامُ في الكفَّارَةِ، لم يَلْزَمْه غيرُه، كالعَبْدِ إذا عَتَقَ. ويُفارِق الوُضُوءَ، فإنَّه لو تَيَمَّمَ ثم وَجَدَ الماءَ (¬2)، بَطَلَ تَيَمُّمُه، وههُنا لو صامَ، ثم قَدَرَ على الرَّقَبَةِ، لم يَبْطُلْ صَوْمُه، وليس الاعْتِبارُ في الوُضُوءِ بحالةِ الأداءِ، إنَّما الاعْتِبارُ بأداءِ الصَّلاةِ. فأمَّا الحَجُّ فهو عبادةُ العُمْرِ، وجَمِيعُه وقتٌ لها، فمتى قَدَرَ عليه في جُزْءٍ مِن وَقْتِه، وَجَبَ، بخِلافِ مَسْألتِنا. ثم يَبْطُلُ ما ذكَرُوه [بالعبدِ إذا عَتَقَ، فإنَّه لا يَلْزَمُه الانتقالُ إلى العِتْقِ مع ما ذَكَرُوه] (¬3). فإن قِيلَ: العبدُ كان مِمَّن لا تَجبُ عليه الرَّقَبَةُ، ولا تُجْزِئُه في حالِ رِقِّه، فلَمَّا لم تُجْزِئْه، لم تَلْزَمْه بتَغَيُّرِ الحالِ، بخلافِ مَسْألَتِنا. قُلْنا: هذا (¬4) لا أثَرَ له. ¬

(¬1) سقط من: تش. (¬2) بعده في م: «لما». (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في م: «مما».

وعنه في الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ، لَا يُجْزِئُهُ غَيرُ الصُّوْمِ. وَالرِّوَايَةُ الثُّانِيَةُ، الاعْتِبَارُ بِأَغْلَظِ الْأحْوَالِ، فَمَنْ أمْكَنَهُ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إلَى حِينِ التَّكْفِيرِ، لَا يُجْزِئُهُ غَيرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قُلْنا: إنَّ الاعْتِبارَ بحالةِ الوُجُوبِ. وكان مُعْسِرًا، ثم يسَرَ، فله الانْتِقالُ إلى العِتْقِ إن شاءَ. وهو قولُ الشافعيِّ، على القَوْلِ الذي يُوافِقُنا فيه، بأنَّ الاعْتِبارَ بحالةِ الوُجُوبِ؛ لأنَّ العِتْقَ هو الأصْلُ، فوَجَبَ أنَّ يُجْزِئَه كسائرِ الأصُولِ (وعن أحمدَ في العَبْدِ إذا عَتَق، لا يُجْزِئُه غيرُ الصَّوْمِ) وهذا على قَوْلِنا: إنَّ الاعْتِبارَ بحالةِ الوُجُوبِ. وهي حينَ حَنِثَ. [اخْتارَه الخِرَقِيُّ؛ لأنَّه حَنِثَ] (¬1) وهو عَبْدٌ، فلم يَكُنْ يُجْزِئُه إلَّا الصَّوْمُ، فكذلك بعدُ. وقد نَصَّ أحمدُ على أنَّه يُكَفِّرُ كفَّارَةَ عبدٍ. قال القاضي: وفي ذلك نَظَرٌ، ومَعْناه أنَّه لا يَلْزَمُه التَّكْفِيرُ بالمالِ، فإن كَفَّرَ به أجْزَأه. وهذا مَنْصُوصُ الشافعيِّ. ومِن أصحابِه مَن قال كقَوْلِ الخِرَقِيِّ. ووَجْهُ ذلك، أنَّه حُكْم تَعَلَّقَ بالعَبْدِ في رِقِّه، فلم يتَغَيَّرْ بحُرِّيَّته، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحدِّ. وهذا على القَوْلِ الذي لا (¬1) يُجَوِّزُ للعَبْدِ التَّكْفِيرَ بالمال بإذْنِ سَيِّدِه. فأمَّا على القَوْلِ الآخَرِ، فله التَّكْفِيرُ به (¬2) ههُنا بطَرِيقِ الأَوْلَى؛ لأنَّه إذا جازَ له في حالِ رِقِّه، ففي حالِ حُرِّيَّتِه [أوْلَى، وإنَّما احتَاج إلى إذنِ سيدِه حال رِقِّه؛ لأنَّ المال لسيدِه، أو لتَعَلًّقِ حَقه بمالِه، وبعدَ الحريةِ] (¬3) قد زال ذلك، فلا حاجَةَ إلى إذْنِه. فأمَّا إن قُلْنا: الاعْتِبارُ في التَّكْفِيرِ بأغْلَظِ الأحْوالِ. لم يَكُنْ له أنَّ يُكَفِّرَ إلَّا بالمالِ، إن كان له مالٌ. فأمَّا إن حَلَفَ لي هو عَبْدٌ، وحَنِثَ وهو حُرٌّ، فحُكْمُه حُكْم الأحْرارِ؛ لأنَّ الكفَّارَةَ لا تَجِبُ قبلَ الحِنْثِ، وإنَّما وجَبَتْ (¬4) وهو حُرٌّ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: تش. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في تش: «حنث».

3742 - مسألة: (فإن شرع في الصوم)

فَإِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْم، ثُمَّ أيسَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الانْتِقَالُ عَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَلْزَمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3742 - مسألة: (فإن شَرَعَ في الصَّوْمِ) ثم قَدَرَ على العِتْقِ (لم يَلْزَمْه الانْتِقَالُ إليه) وبه قال الشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو أحَدُ قَوْلَي الحسَنِ (ويَحْتَمِلُ أنَّ يَلْزَمَه) وإليه ذهبَ ابنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأي؛ لأنَّه قَدَرَ على الأصْلِ قبلَ أداءِ فَرْضِه بالبَدَلِ، فلَزِمَه العَوْدُ إليه، كالمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الماءَ قبلَ الصَّلاةِ، أو في أثْنائِها. ولَنا، أنَّه لم يَقْدِرْ على العِتْقِ قبلَ تَلبُّسِه بالصِّيامِ، فأشْبَهَ ما لو اسْتَمَرَّ العَجْزُ إلى ما (¬1) بعدَ الفَراغِ، ولأنَّه وَجَدَ المُبْدَلَ بعدَ الشُّرُوعِ في صَوْمِ البَدَلِ، فلم يَلْزَمْه الانْتِقالُ إليه، كالمُتَمَتِّعِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِدُ الهَدْيَ بعدَ الشُّرُوعِ في صيامِ (¬1) الأيَّامِ السَّبْعَةِ (¬2)، ويُفارِقُ ما إذا وَجَدَ الماءَ في الصَّلاةِ؛ فإنَّ الصَّلاةَ قَضاؤُها يَسِيرٌ، والمَشَقَّةُ في هذا أكْبَرُ. فصل: وإذا قُلْنا: الاعْتِبارُ بحالةِ الوُجُوبِ. فَوَقْتُه في الظِّهارِ مِن حينِ العَوْدِ، لا وقت المُظاهَرَةِ، لأنَّ الكفَّارَةَ لا تَجِبُ حتى يَعُودَ، ووَقْتُه في اليَمِينِ زَمَنُ (¬3) الحِنْثِ لا وقتُ اليَمِينِ، وفي القَتْلِ زمنُ الزُّهوقِ لا زمنُ الجَرْحِ، وتَقْديمُ الكفَّارَةِ قبلَ الوُجُوبِ تَعْجِيل لها قبلَ وُجُوبِها، لوُجودِ سَبَبِها، كتَعْجيلِ الزَّكاةِ قبلَ الحَوْلِ بعدَ كمالِ النِّصابِ. فصل: إذا كان المُظاهِرُ ذِمِّيًّا، فتَكْفِيرُه بالعِتْقِ أو بالإطْعام؛ لأنَّه يصِحُّ منه في غيرِ الكفَّارَةِ، فصَحَّ منه فيها، وليس له الصِّيامُ؛ لأنَّه عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، والكافِرُ ليس مِن أهْلِها، ولأنَّه لا يصِحُّ منه في غيرِ الكفَّارَةِ، فلا يَصِحُّ منه فيها، ولا يُجْزِئُه في العِتْقِ إلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فإن كانت في مِلْكِه أو وَرِثَها، أجْزَأتْ عنه، وإن لم تكُنْ كذلك، فلا سبيلَ له إلى شِراءِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ؛ لأنَّ الكافِرَ لا يصِحُّ منه شِراءُ المُسْلِمِ، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، م. (¬2) في تش: «التسع». (¬3) في م: «من».

فصلٌ: فَمَنْ مَلَكَ رَقَبَةً، أو امكَنَهُ تَحْصِيلُهَا بِمَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَغَيرِهَا مِن حَوَائِجِهِ الأصْلِيَّةِ بِثَمَنِ مِثْلِهَا، لَزِمَهُ الْعِتْقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَيَتَعَيَّنُ تَكفِيرُه بالإِطْعامِ، إلَّا أنَّ يقولَ لمُسلِمٍ: أعْتِقْ عَبْدَك (¬1) عن كفَّارَتي وعَلَيَّ ثَمَنُه. فيصِحُّ في إحدى الرِّوايَتَين. وإن أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بالإِطعَام، فحكْمُه حُكْمُ العبْدِ، يَعْتِقُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بالصِّيامِ، على ما مَضَى؛ لَأنَّه في مَعْناه. وإن ظاهَرَ وهو مُسْلِمٌ، ثم ارْتَدَّ، وصام في رِدَّتِه عن كَفَّارَته، لم يَصِحَّ. وإن كَفَّرَ بعِتْق أو إطْعام، فقد أطْلَقَ أحمدُ القَوْلَ أنَّه لا يُجْزِئُه. وقال القاضي: المذهبُ أنَّ ذلك مَوْقُوفٌ؛ فإن أسْلَمَ تَبَينا أنَّه أجْزاه، وإن مات أو قُتِلَ، تَبَّينَّا أنَّه لم يَصِحَّ منه، كسائرِ تصَرُّفاتِه. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (فمَن مَلَكَ رَقَبَةً، أو أمْكَنَه تَحْصِيلُها فاضِلًا عن كِفايَتِه وكِفايَةِ مَن يَصونُه على الدَّوامِ، وغيرِها مِن حَوائِجهِ الأصْلِيَّةِ بثَمَنِ مِثْلِها، لَزِمَه العِتْقُ) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على ذلك، وأنَّه ليس له الانْتِقالُ إلى الصِّيامِ إذا كان مُسْلِمًا حُرًّا. ¬

(¬1) سقط من: م.

3743 - مسألة: فإن كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها؛ لكبر، أو مرض، أو زمن

وَمَنْ لَهُ خَادِمٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3743 - مسألة: فإن كانت له رَقَبَةٌ يَحْتَاجُ إلى خِدْمَتِها؛ لكِبَرٍ، أو مَرَض، أو زَمَن (¬1)، أو عِظَمِ خَلْقٍ، ونَحْوه مِمَّا يُعَجِّزُ عن خِدْمَةِ نَفْسِه، أو يَكُونُ مِمَّن لا يَخْدِمُ نَفْسَه في العادَةِ، وَلَا يَجِدُ رَقَبَةً فَاضِلَةً عن خِدْمَتِه، فليس عليه الإِعْتاقُ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والأوْزَاعِيُّ: متى وَجَدَ رَقَبَةً، لَزِمَه إعْتاقُها، ولم يَجُزْ له الانْتِقالُ إلى الصِّيامِ، سواءٌ كان مُحْتاجًا إليها (¬2) أو لم يَكُنْ؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَطَ في الانْتِقالِ إلى الصِّيامِ أنَّ لا يَجِدَ رَقَبَة، بقَوْلِه تعالى: (فَمَن لمْ يَجِدْ) (¬3). وهذا واجِدٌ. وإن وَجَدَ ثَمَنَها وهو مُحْتاجٌ إليه، لم يَلْزَمْه شِراؤُها. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال مالكٌ: يَلْزَمُه؛ لأنَّ وجْدانَ ثَمَنِها كوجْدانِها. ولَنا، أنَّ ما اسْتَغْرَقَتْه حاجَةُ الإِنْسانِ، فهو كالمَعْدُومِ في ¬

(¬1) الزَّمَن: المرض يدوم زمنا طويلا. (¬2) في م: «إليه». (¬3) سورة المجادلة 4.

3744 - مسألة: [وكذلك إن]

أَوْ دَارٌ يَسْكُنُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ جَوازِ الانْتِقالِ إلى البَدَلِ، كمَن وَجَدَ ماءً يَحْتاجُ إليه للعَطَشِ، يَجوزُ له الانْتِقالُ إلى التَّيَمُّمِ. فإن كان له خادِمٌ، وهو (¬1) مِمَّن يَخْدِمُ نفْسَه عادَةً، لَزِمَه إعْتَاقُها؛ لأنَّه فاضِلٌ عن حاجَتِه، بخِلافِ مَن لم تَجْرِ عادَتُه بخِدْمَةِ نَفْسِه، فإنَّ عليه مشَقَّةً في إعْتاقِ خادِمِه، وتَضْيِيعًا لِكَثِير مِن حَوائِجِه. وإن كان له خادِم يَخْدِمُ امْرأتَه، وهي (1) مِمَّن عليه إخْدَامُها (¬2)، أو كان له رَقِيقٌ يَتَقَوَّتُ بخَراجِهم، لم يَلْزَمْه العِتْقُ؛ لِما ذَكَرْنا. 3744 - مسألة: [وكذلك إن] (¬3) كان له (دَارٌ يَسْكُنُها) أو عَقارٌ يَحْتاجُ إلى غَلَّتِه لمُؤْنَتِه، أو عَرْضٌ للتِّجَارَةِ لا يَسْتَغْنِي عن رِبْحِه في مُؤْنَتِه (لمْ يَلْزَمْه العِتْقُ) وإنِ اسْتَغْنَى عن شيءٍ مِن ذلك ممَّا يُمْكِنُه أنَّ يَشْتَرِيَ به رَقَبَةً، لَزِمَه؛ لأنَّه واجِدٌ للرَّقَبَةِ. وإن كالْت له رَقَبَةٌ تَخْدِمُه، يُمْكِنُه بَيعُها وشِراءُ رَقَبَتَين بثَمَنِها، يَسْتَغْنِي بخِدْمَةِ إحْداهما ويُعْتِقُ الأخْرَى، لَزِمَه؛ لأنَّه لا ضرَرَ في ذلك. وهكذا لو كانت له ثِيابٌ فاخِرَةٌ تَزِيدُ على مَلابِسِ مِثْلِه، يُمْكِنُه بَيعُها، وشِراءُ ما يَكْفِيه في لِباسِه ورَقَبَةٍ يُعْتِقُها، لَزِمَه ذلك. وكذلك إن كانت له دارٌ يُمْكِنُه بَيعُها، وشِرَاءُ ما يَكْفِيه لسُكْنَى مِثْلِه ورَقَبَةٍ، أو ضَيعَةٌ يَفْضُلُ منها عن كِفايَتِه ما يُمْكِنُه به شِراءُ رَقَبَةٍ. وتُراعَى في ذلك الكِفايَةُ التي يَحْرُمُ معها أخْذُ الزَّكاةِ، فإذا ¬

(¬1) في م: «هو». (¬2) في م: «خدمتها». (¬3) في م: «فإن».

3745 - مسألة: وإن وجد رقبة بثمن مثلها، لزمه شراؤها

أو دابَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى رُكُوبِهَا، أوْ ثِيَاب يَتَجَمَّلُ بِهَا، أوْ كُتُبٌ يَحْتَاجُ إِلَيهَا، أوْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً إلا بِزِيَادَةٍ عَنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا تُجْحِفُ بِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِتْقُ. وَإنْ وَجَدَهَا بِزِيَادَةٍ لَا تُجْحِفُ بِهِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَضَلَ عن ذلك شيءٌ يُمْكِنُه شِراءُ رَقَبَةٍ به، لَزِمَتْه الكفَّارَةُ (وإن كان له دابَّة يَحْتاجُ إلى رُكُوبِها، أو كُتُبٌ يَحْتاجُ إليها، لم يَلْزَمْه العِتْقُ) ومذهبُ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ على نحو ما ذَكَرْنا. وإن كانت له سُرِّيَّة، لم يَلْزَمْه إعْتاقُها؛ لأنَّه مُحْتاج إليها. وإن أمْكَنَه بَيعُهَا، وشِراءُ سُرِّيَّةٍ أُخْرَى ورَقَبَةٍ يُعْتِقُها، لم يَلْزَمْه ذلك؛ لأنَّ الغَرَضَ قد يَتَعَلَّقُ بعَينها، فلا يَقُومُ غيرُها مَقامَها، سِيَّما إذا كان بدُونِ ثَمَنِها (¬1). 3745 - مسألة: وإن وَجَدَ رَقَبَةً بِثَمَنِ مِثْلِها، لَزِمَه شِراؤُها. وإن كانت بزيادَةٍ تُجْحِفُ بمالِه، لم يَلْزَمْه شِراؤُها؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا فِي ذلك. وإن كانتِ الزِّيادَةُ لا تُجْحِفُ بمالِه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «مثلها».

3746 - مسألة: (وإن وهبت له رقبة، لم يلزمه قبولها)

وَإنْ وُهِبَتْ لَهُ رَقَبَةٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدَرَ على الرَّقَبَةِ بثَمَن يَقْدِرُ عليه، لا تُجْحِفُ به، فأشْبَهَ ما لو بِيعَتْ بثَمَنِ مِثْلِها. والثَّانِي، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه لم يَجِدْ رَقَبَةً بثَمَنِ مِثْلِها، أشْبَهَ العادِمَ. وأصْلُ الوجهَين، العادِمُ للماءِ إذا وجَدَه بزيادَةٍ على ثَمنِ مِثْلِه. فإن وجَد رَقَبةً بِثَمنِ مثْلِهَا، إلَّا أنَّها رَقَبَةٌ رَفِيعَةٌ، يُمْكِنُ أنَّ يَشْتَرِيَ بثَمَنِها رِقابًا مِن غيرِ جِنْسِها، لَزِمَه شِراؤُها؛ لأنَّها بثَمَنِ مِثْلِها، ولا يُعَدُّ شِراؤُها بذلك الثَّمَنِ (¬1) ضَرَرًا، وإنَّما الضَّرَرُ في إعْتاقِها، وذلك لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، كما لو كان مالِكًا لها. 3746 - مسألة: (وإن وُهِبَتْ له رَقَبَة، لم يَلْزَمْه قَبُولُها) لأنَّ عليه مِنَّةً في قَبُولِها، وذلك ضَرَرٌ في حَقِّه. ¬

(¬1) سقط من: م.

3747 - مسألة: (وإن كان ماله غائبا وأمكنه شراؤها بنسيئة)

وَإنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا وَأَمكَنَهُ شِرَاؤُهَا بِنَسِيئَةٍ، لَزِمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3747 - مسألة: (وإن كان مالُه غَائِبًا وأمْكَنَه شراؤها بنَسِيئَةٍ) فقد ذَكَرَ شَيخُنا (¬1) -فيما إذا عَدِمَ الماءَ، فَبُذِلَ له بثَمَن فِي الذِّمَّةِ يَقْدِرُ على أدائِه في بَلَدِه- وَجْهَين؛ أحدُهما، يَلْزَمُه شِراؤُه. قاله القاضي؛ لأنَّه قادِرٌ على أخْذِه بما لا مَضَرَّةَ فيه. وقال أبو الحسَنِ التَّمِيمِيُّ: لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ عليه ضَرَرًا في بَقاءِ الدَّينِ في ذِمَّتِه، ورُبَّما تَلِفَ مالُه قبلَ أدائِه. فيُخَرَّجُ ههُنا على الوَجْهَين (¬2). والأوْلَى، إن شاءَ الله، أنَّه لا يَلْزَمُه؛ لذلك. وإن كان مالُه غائِبًا، ولم يُمْكِنْه شِراؤُها نَسِيئَةً، فإن كان مَرْجُوَّ الحُضُورِ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في المغني 1/ 317، 318، وما تقدم في الشرح 1/ 185. وقد ذكر الوجه الثاني عن أبي الحسن الآمدي لا أبي الحسن التميمي. (¬2) في م: «وجهين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَريبًا، لم يَجُزْ الانْتِقالُ إلى الصِّيامِ؛ [لأنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ الانْتِظار لشِراءِ الرَّقَبَةِ. وإن كان بَعِيدًا، لم يَجُزْ الانْتِقالُ إلى الصِّيامِ] (¬1) في غيرِ كفارَةِ الظِّهارِ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في الانْتظارِ. وهل يجوزُ في كفَّارَةِ الظِّهارِ؟ على وَجْهَين؛ أحدُهما، لا يَجوزُ؛ لوُجُودِ الأصْلِ في مالِه، [فأشْبَه سائرَ] (¬2) الكفَّاراتِ. والثاني، يَجوز؛ لأنَّه يَحْرُمُ عليه المَسِيسُ، فجازَ له الانْتِقالُ للحاجَةِ. فإن قِيلَ: فلو عدِمَ الماءَ وثَمَنَه، جار له الانْتِقالُ إلى التَّيَمُّمِ، وإن كان قادِرًا عليهما في بَلَدِه. قُلْنا: الطَّهارَةُ تَجِبُ لأجْلِ الصَّلاةِ، وليس له تأْخِيرُها عن وَقْتِها، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى الانْتِقالِ، بخِلافِ مَسْألتِنا، ولأنَّنا لو مَنَعْناه مِن التَّيَمُّمِ لوُجُودِ القُدْرَةِ (¬3) على الماءِ في بَلَدِه، بَطَلَتْ رُخْصَةُ التَّيَمُّمِ، فإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَقْدِرُ على ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لوجود». (¬3) في م: «العذر للقدرة».

3748 - مسألة: (ولا تجزئ في كفارة القتل إلا رقبة مؤمنة)

وَلَا يُجْزِئُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إك رَقَبَة مُومِنَة. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3748 - مسألة: (ولا تُجْزِئُ في كَفارَةِ القَتْلِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ) لقَوْلِ اللهِ تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطئا فَتحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمِنَةٍ) (¬1). (وكذلك في سائرِ الكفاراتِ، في ظاهرِ المذهبِ) وهو قَوْلُ الحسَن، و (¬2) مالكٍ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبي عُبَيدٍ. وعن أحمدَ روايةٌ ثانيةٌ، أنَّه يُجْزِئُ فيما عدا كفَّارَةَ القَتْلِ، مِنَ الظِّهارِ وغيرِه، عِتْقُ رَقَبَةٍ ذِمِّيَّةٍ. وهو قَوْلُ عَطاءٍ، والثَّوْرِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ الله تعالى أطْلَقَ الرقَبَةَ في كفَّارَةِ الظهارِ، فَوَجَبَ أنْ يُجْزِئَ ما تَناوَلَه الإِطْلاقُ. ولَنا، ما روَى معاويةُ بنُ الحَكَمِ، قال: كانت ¬

(¬1) سورة النساء 92. (¬2) في م: «وبه قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لي جارِيَةٌ، فأتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: علَيَّ رَقَبَة أفأُعْتِقُها؟ فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أينَ الله؟» قالت: في السَّماء. قال: «مَنْ أنا؟» قالتْ: أنتَ (¬1) رسولُ اللهِ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أعْتِقْهَا؛ فَإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». أخْرَجَه مُسْلِم (¬2). فعَلَّلَ جَوازَ إعْتاقِها عن الرَّقَبَةِ التي عليه بأنَّها مُؤْمِنَةٌ، فدَلَّ على أنَّه لا يُجْزِئُ عن الرَّقَبَةِ التي هي (¬3) عليه إلَّا مُؤْمِنَةٌ، ولأنَّه عِتْقٌ في كفَّارَةٍ، فلا يُجْزِئُ فيه الكافِرَةُ، ككَفَّارَةِ القَتْلِ. والجامِعُ بينَهما، أنَّ الإعْتاقَ يتَضَمَّنُ تَفْرِيغَ العَبْدِ الفسْلِمِ لعِبادَةِ رَبَّه، وتَكْمِيلَ أحْكامِه، وعِبادَتِه، وجِهَادِه، ومَعُونَةَ المُسْلِمِين، فناسبَ ذلك شَرْعُ إعْتاقِه في الكفَّارَةِ، تحْصِيلًا لهذه المصالحِ، والحُكْمُ مَقْرُون بها في كفَّارَةِ القَتْلِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 557. ويضاف إليه: وأبو داود، في: باب في الرقبة المؤمنة، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 206. والإمام مالك، في: باب ما يجوز من العتق. . . .، من كتاب العتق والولاء. الموطأ 2/ 776. (¬3) زيادة من: الأصل، تش.

3749 - مسألة: (ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا)

وَلَا يُجْزِئُهُ إلا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنْصُوصِ على الإيمانِ فيها، فيُعَلَّلُ بها، ويتَعَدَّى ذلك إلى كُلِّ عِتْقٍ في كفَّارَةٍ، فيَخْتَصُّ (¬1) بالمُؤْمِنَةِ لاخْتِصاصِها بهذه الحِكْمَةِ. فأمَّا المُطْلَقُ الذي احْتَجُّوا به، فإنَّه يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ في كفَّارَةِ القَتْلِ، كما حُمِلَ مُطْلَقُ قَوْلِه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬2). على المُقَيَّدِ في قَوْلِه: (وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ) (¬3). وإن لم يُحْمَلْ عليه مِن جِهَةِ اللُّغَةِ، حُمِلَ عليه مِن جِهَةِ القِياسِ. 3749 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ إلَّا رَقَبَةٌ سَلِيمَة مِن العُيُوبِ المُضِرَّةِ بالعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا) لأنَّ المقْصُودَ تَمْلِيكُ العَبْدِ مَنافِعَه، وتَمْكِينُه مِن التَّصَرُّفِ لنَفْسِه، ولا يَحْصُلُ هذا مع ما يَضُرُّ بالعَمَلِ ضَرَرًا ¬

(¬1) في م: «مختص». (¬2) سورة البقرة 282. (¬3) سورة الطلاق 2.

3750 - مسألة: ولا يجزيء مقطوع اليد، أو الرجل

كَالْعَمَى وَشَلَلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، أوْ قَطْعِهِمَا (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيِّنًا، فلا يُجْزِيء الأعْمَى؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه العَمَلُ في أكْثَرِ الصَّنائِعِ، ولا المُقْعَدُ، وكذلك مَقْطُوعُ اليَدَينِ والرِّجْلَينِ، أو أشَلُّهُما؛ لأنَّ اليدَين آلةُ البَطْشِ، والرِّجْلَينِ آلةُ المَشْي، فلا يَتَهَيَّأُ له كَثِيرٌ مِن العَمَلِ مع تَلَفِهِما. ولا يُجْزِئُ المجْنُونُ جُنونًا مُطْبِقًا؛ لأنَّه وُجِدَ فيه المَعْنَيانِ، ذَهابُ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ، وحُصُولُ الضَّرَرِ بالعَمَلِ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وحُكِيَ عن داودَ، أنه جَوَّزَ كُلَّ رَقَبَةٍ يَقَعُ عليها الاسْمُ، أخْذًا بإطْلاقِ اللَّفْظِ. ولَنا، أنَّ هذا نَوْعُ كفَّارةٍ، فلم يُجْزِئُ مُطْلَقُ ما يقَعُ عليه الاسْمُ، كالإطْعامِ؛ فإنَّه لا يُجْزِئُ أنَّ يُطْعِمَ مُسَوَّسًا ولا عَفِنًا، وإن كان يُسَمَّى طَعامًا. والآيةُ مُقُيَّدَة بما ذَكَرناه. 3750 - مسألة: ولا يُجْزِيء مَقْطُوعُ اليَدِ، أو الرجلِ، ولا ¬

(¬1) في النسختين: «قطعها». والمثبت موافق للمبدع 8/ 53.

أَوْ قَطْعِ إِبْهَامِ الْيَدِ، أَوْ سَبَّابَتِهَا، أَو الْوُسْطىَ، أَو الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصَرِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أشَلُّهُما (¬1)، ولا مَقْطُوعُ إبْهامِ اليَدِ، أو سَبَّابَتِها، أو الوُسْطَى؛ لأنَّ نَفْعَ اليَدِ يَذْهَبُ بذَهابِ هؤلاءِ، ولا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ (الخِنْصَرِ والبنْصَرِ مِن يَدٍ واحِدَةٍ) لأنَّ نَفْعَ اليَدِ يزُولُ أكْثَرُه بذلك. وإن قطِعَتْ كُلُّ واحِدَةٍ منهما مِن يَدٍ، جازَ؛ لأنَّ نَفْعَ الكَفَّينِ باقٍ، وقَطْعُ أُنْمُلَةِ الإبْهامِ كقَطْعِها؛ لأنَّ نَفْعَها يَذْهَبُ بذلك، لكَوْنِها أُنْمُلَتَين. وإن كان مِن غيرِ الإبْهامِ، لم يَمْنَعْ؛ لأنَّ مَنْفَعَتَها لا تَذْهَبُ، فإنَّها تَصِير كالأصابعِ القِصار، حتى لو كانت أصابعُه كلُّها غيرَ الإبهام قد قُطِعَتْ مِن كلِّ واحِدَةٍ منْهَا (¬2) أُنْمُلَةٌ، لم يَمْنَعْ. وإن قطِعَ مِن الإصْبَعِ (¬3) أُنْمُلَتانِ، فهو كقَطْعِها؛ لأنَّه يَذْهَبُ بمَنْفَعَتِها. وهذا كله مذْهَبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إحْدَى اليَدَين وإحْدَى الرِّجْلَين، ولو قطِعَتْ يَدُه ¬

(¬1) في تش: «أشلها». (¬2) في م: «مهما». (¬3) في تش: «الأصابع».

3751 - مسألة: (ولا يجزئ المريض المأيوس من برئه)

وَلَا يُجْزِئُ الْمَرِيضُ الْمَأْيُوسُ مِنْهُ، وَلَا النَّحِيفُ الْعَاجِزُ عَنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ورِجْلُه جميعًا مِن خِلافٍ أجْزأ؛ لأنَّ مَنْفَعَةَ الجِنْسِ باقِيَة، فَأجْزَأَ في الكفَّارَةِ، كالأعْوَرِ، وأمَّا إن قُطِعَتا مِن وفاقٍ -أي مِن جانِبٍ واحدٍ- لم يُجْزِئ؛ لأنَّ مَنْفَعَةَ الشيءِ تَذْهَبُ. ولَنا، أنَّ هذا يُؤَثِّرُ في العَمَلِ، ويَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، فيَمْنَعُ، كما لو قُطِعَتَا مِن وفاقي. ويُخالِفُ العَوَرَ؛ فإنَّه لا يَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، ولَنا فيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ، فالاعْتِبارُ بالضرَرِ أَوْلَى [مِن الاعْتِبارِ] (¬1) بمَنْفَعَةِ الجِنْسِ؛ فإَّنه لو ذَهَبَ شَمُّه، أو قُطِعَتْ أُذُناه معًا، أجْزَأَ مع ذَهابِ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ. 3751 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ المَرِيضُ المَأْيُوسُ مِن بُرْئِه) كمَرضِ السُّلِّ؛ لأنَّ بُرْأه يَنْدُرُ، ولا يَتَمَكَّنُ مِن العَمَلِ مع بَقائِه. وإن كان المرَضُ يُرْجَى زَوالُه، كالحُمَّى ونحو ما، لمْ يَمْنَعِ الإجْراءَ في الكفَّارَةِ (ولا) يُجْزِئُ (النَّحِيفُ العاجِزُ عن العَملِ) لأنَّه كالمَريض ¬

(¬1) في م: «بالاعتبار».

3752 - مسألة: (ولا)

العَمَلِ، وَلَا غَائِبٌ لَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَأْيُوسِ مِن بُرْئِه، وإن كان يَتَمَكَّنُ مِن العَملِ، أجْزَأ. 3752 - مسألة: (ولا) يُجْزِئُ (غائِبٌ لا يُعْلَمُ خَبَرُه) لأنَّه

3753 - مسألة: (ولا)

وَلَا مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ، وَلَا أَخْرَسُ لَا تُفْهَمُ إِشَارَتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْكوكٌ في حَياتِه، والأصْلُ بَقاءُ شُغْلِ الذمةِ، فلا تَبْرأُ بالشَّكِّ، وهو مَشْكُوكٌ في وُجُودِه، فيُشَكُّ في إعْتاقِه. فإن قيل: الأصْلُ حَياتُه. قُلْنا: إنَّ المَوْتَ قد عُلِمَ أنَّه لا بُدَّ منه، وقد وُجِدَتْ دَلالة عليه، وهو انْقِطاعُ أخْبارِه. فإنْ تَبَيَّنَ بعدَ هذا كَوْنُه حَيًّا، صَحَّ إعْتاقُه، وتَبَيَّنَّا بَراءَةَ ذِمَّتِه مِن الكفَّارَةِ، وإلَّا فلا. وإن لم يَنْقَطِعْ خَبَرُه، أجْزأ عِتْقُه؛ لأنَّه عِتْقٌ صَحِيحٌ. 3753 - مسألة: (ولا) يُجْزِئُ (مَجْنُون مُطْبِق) لأَنه لا يَقْدِرُ على العَمَلِ. 3754 - مسألة: ولا يُجْزِئُ الأصَمُّ (¬1) الأخْرَسُ. وهو قَوْلُ القاضي، وبَعْضِ الشافعيةِ. قال شَيخُنا (¬2): والأوْلَى أنَّه متى فهِمَتْ إشارَتُه، وفَهِمَ إشارَةَ غيرِه أنَّه يُجْزِئُ لأنَّ الإشارةَ تَقُومُ مَقامَ الكَلامِ في الإفْهامِ، وأحْكامُه كُلُّها تَثْبُتُ بإشارَته، فكذلك عِتْقُه. وكذلك الأخْرَسُ الذي تُفْهَمُ إشارَتُه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ. وعن أحمدَ أنَّه لا يُجْزِئُ. وبه قال أصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ مَنْفَعَةَ الجِنْسِ ذاهِبَة، ¬

(¬1) سقط من: م. وهذه المسألة مستفادة من المغني 11/ 84. (¬2) في: المغني، الموضع السابق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ زائِلَ العَقْلِ، ولأنَّ الخَرَسَ نَقْصٌ كَثِيرٌ (¬1)، يَمْنَعُ كثيرًا مِن الأحْكامِ، مثلَ القَضاءِ والشَّهادَةِ، وكثيرٌ مِن النَّاسِ لا يَفْهَمُ إشارَتَه، فيَتَضَرَّرُ بتَرْكِ اسْتِعْمالِه. والأوَّلُ أوْلَى إن شاءَ الله؛ لِمَا ذَكَرْنا. وذَهابُ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ لا يَمْنَعُ الإجْزاءَ، كذَهابِ الشمِّ، وذَهابُ الشَّمِّ لا يَمْنَعُ الإجْزاءَ؛ لأنَّه لا يَضُرُّ بالعَمل ولا بغيرِه. ويُجْزِئُ مَقْطوعُ الأُذُنَين. وبذلك قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ، وزُفَرُ: لا يُجْزِئُ (¬2). ولَنا، أنَّ قَطْعَهما لا يَضُرُّ بالعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنَّا، فلم يَمْنَعْ، كنَقْصِ السَّمْعِ، بخِلافِ قَطْعِ اليَدَين. ويُجْزِيء مَقْطُوعُ الأنْفِ أيضًا (¬3) لذلك. ¬

(¬1) في م: «كبير» وغير منقوطة في: تش. (¬2) بعده في الأصل: «مقطوع الأنف أيضًا». (¬3) سقط من: م.

3755 - مسألة: (ولا)

وَلَا عِتْقُ مَنْ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيهِ بِالْقَرَابَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3755 - مسألة: (ولا) يُجْزِئُ (عِتْقُ مَن عُلِّقَ عِتْقُهُ بصِفَةٍ عندَ وُجُودِها) [لأن عِتْقَه مُسْتَحَق في غيرِ الكفّارَةِ، فلم يُجْزِه، كالذي اسْتُحِق عليه الإطْعامُ في النَّفَقَةِ، فدَفَعَه في الكفّارَةِ] (¬1). فأمَّا إن عَلَّقَ عِتْقَه للكفَّارَةِ، [أو أعْتَقَه قبلَ] (¬2) وُجُودِ الصِّفَةِ، أجْزَأه؛ لأنَّه أعْتَقَ عَبْدَه الذي يَمْلِكُه عن كفَّارَته (¬3). 3756 - مسألة: (ولا) يُجْزِئُ (مَن يَعْتِقُ عليه بالقرابَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا اشْتَرَى مَن يَعْتِقُ عليه إذا مَلَكَه، يَنْوي بشِرائِه عِتْقَه عن الكفَّارَةِ، عَتَقَ، ولم يُجْزِئْه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأي: يُجْزِئُه اسْتِحْسانًا؛ لأنَّه يُجْزِئُ عن كفَّارَةِ البائِعِ، فأجْزَأ عن كفَّارَةِ المُشْتَرِي كغيرِه. ولَنا، قَوْلُه تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). والتَّحْرِيرُ فِعْلُ العِتْقِ، ولم يَحْصُلِ العِتْقُ ها هنا بتَحْرِير منه ولا إعْتاقٍ، فلم يكُنْ مُمْتَثِلًا للأمْرِ، ولأنَّ عِتْقَه مُسْتَحَقٌّ بسَبَبٍ آخَرَ، فلم يُجْزِئْه، كما لو وَرِثَه يَنْوي به العِتْقَ عن كفَّارَته، أو كأمِّ الوَلَدِ، ويُخالِفُ المشْتَرِي البائِع مِن وَجْهَينِ؛ أحدُهما، أنَّ البائِعَ يُعْتِقُه، والمُشْتَرِيَ لم يُعْتِقْه، وإنما يَعْتِقُ بإعْتاقِ الشَّرْعِ عن غيرِ اختِيارٍ منه. ¬

(¬1) جاء هذا في المطبوعة بعد قوله: «ولا يجزئ عتق المدبر»، المشار إليه بعد قليل. (¬2) في م: «وأعتقه عند». (¬3) بعده في م: «ولا يجزئ عتق المدبر» وانظر ما سيأتي في جواز عتق المدبر في صفحة 316.

3757 - مسألة: (ولا)

وَلَا مَنِ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّاني، أنَّ البائِعَ لا يُسْتَحَقُّ عليه إعْتاقُه، والمُشْتَرِي بخِلافِ ذلك. فصل: إذا اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوي إعْتاقَه عن كفَّارَته، فوَجَدَ به عَيبًا لا يَمْنَعُ مِن الإجْزاءِ في الكفَّارَةِ، فأخَذَ أرْشَه، ثم أعْتَقَ العَبْدَ عن كفَّارَتِه، أجْزَأه، وكان الأرْشُ له؛ لأنَّ العِتْقَ إنَّما وَقَعَ على العَبْدِ المَعِيبِ دُونَ الأَرْشِ. فإن أعْتَقَه قبلَ العِلْمِ بالعَيبِ، ثم ظَهَرَ على العَيبِ، فأخَذَ أَرْشَه، فهو له، كما لوْ أخَذَه قبلَ إعْتاقِه. وعنه، أنَّه يَصْرِفُ الأرْشَ في الرِّقابِ؛ لأنَّه أعْتَقَه مُعْتَقِدًا أنَّه سَلِيم، فكان بمَنْزِلَةِ العِوَضِ عن حَقِّ اللهِ تعالى، فكان الأرْشُ مَصْرُوفًا في حَقِّ الله تعالى، كما لو باعَه كان الأرْشُ للمُشْتَرِي. فإن عَلِمَ العَيبَ ولم يَأْخُذْ أرْضَه حتى أعْتَقَه، كان الأرْشُ للمُعْتِقِ؛ لأنَّه أعْتَقَه مَعِيبًا عالِمًا بعَيبِه، فلم يَلْزَمْه أرْشٌ، كما لو باعَه لِمَن يعْلَمُ عَيبَه. 3757 - مسألة: (ولا) يُجْزِيء (مَن اشْتَراه بشَرْطِ العِتْقِ في ظاهرِ المذْهَبِ) وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ. وقد رُوِيَ عن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ ما يدُلُّ عليه؛ وذلك لأنَّه إذا اشْتَراه بشَرْطِ العِتْقِ، فالطاهِرُ أنَّ البائِعَ نَقَصَه مِن الثمَنِ لأجْلِ هذا الشَّرْطِ، [فكان آخِذًا] (¬1) عن العِتْقِ عِوَضًا، ¬

(¬1) في م: «فكأنه أخذ».

3758 - مسألة: (ولا أم ولد، في الصحيح عنه)

وَلَا أُمُّ وَلَدٍ، فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُجْزِئْه عن الكفَّارَةِ. قال أحمدُ: إن كانت رَقَبَةً واجِبَةً، لم تُجْزِئْه؛ لأنها ليست رَقَبةً سليمةً، ولأنَّ عِتْقَها مُسْتَحَقُّ بسَبَبٍ آخَرَ، وهو الشَّرْطُ، فلم تُجْزِئْه، كما لو اشْتَرَى قَرِيبَه، فنَوَى بشِرائِه العِتْقَ عن الكفارَةِ، أو قال: إن دَخَلْتُ الدَّارَ فأنْتَ حُرٌّ. ثم نوَى عندَ دُخُولِه أنَّه عن كفَّارَته. فصل: ولو قال رجُلٌ له: أعْتِقْ عَبْدَك عن كفَّارَيكَ، ولك عَشَرَةُ دنانِيرَ. ففَعَلَ، لم يُجْزِئْه عن الكفارَةِ؛ لأنَّ الرَّقَبَةَ لم تَقَعْ خالِصَةً عن الكفَّارَةِ. وذكَرَ القاضي أنَّ العِتْقَ كله يَقَعُ عن باذِلِ العِوَضِ، وله وَلاؤُه. وهذا فيه نَظرٌ؛ فإنَّ المعْتِقَ لم يُعْتِقْه عن باذِلِ العِوَض، ولا رَضِيَ بإعْتاقِه عنه، وباذِلُ العِوَضِ لم يَطْلُبْ ذلك، والصحِيحُ أنَّ إعْتاقَه عن المعْتِقِ، والوَلاءُ له. فإن رَدَّ العَشَرَةَ على باذِلِها ليكونَ العِتْق عن الكفارَةِ، لم يُجْزِئْ عنها (¬1)؛ لأنَّ العِتْقَ إذا وقَعَ على صِفَةٍ، لم يَنْتَقِلْ عنها. وإن قَصَدَ العِتْقَ عن الكفَّارَةِ وحدَها، وعَزَمَ على رَدِّ العَشَرَةِ، أو رَدَّ العَشَرَةَ قبلَ العِتْقِ، وأعْتَقَه عن كفَّارَته، أجْزَأه. 3758 - مسألة: (ولا أُمُّ وَلَدٍ، فِي الصَّحِيحِ عنه) هذا ظاهِر المذهبِ. وبه قال الأوْزَاعِي، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وعن أحمدَ رِواية أُخْرَى، أنَّها تجْزِئُ. يُرْوَى ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3759 - مسألة: (ولا)

وَلَا مُكَاتَبٌ قَدْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيئًا، فِي اخْتِيَارِ شُيُوخِنَا. وَعَنْهُ، يُجْزِئُ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُ مُكَاتَبٌ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الحسَنِ، وطاوُسٍ، والنَّخَعِيِّ، وعثمانَ البَتِّيِّ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: (فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). ومُعْتِقُها قد حَرّرَها. ولَنا، أنَّ عِتْقَها مُسْتَحَقٌّ بسَبَبٍ آخَرَ، فلم تُجْزِئْ عنه، كما لو اشْتَرَى قَرِيبَه، أو عَبْدًا يشَرْطِ العِتْقِ، فأعْتَقَه، وكما لو قال لعَبْدِه: أنتَ حُرُّ إن دَخَلْتَ الدَّارَ. ونَوَى عِتْقَه عن كفَّارَته عندَ دُخُولِه. والآيَةُ مَخْصُوصَة بما ذَكَرْنا، فنَقِيسُ عليه ما اخْتَلفْنا فيه. ووَلَدُ أُمِّ الوَلَدِ الذي وَلَدَتْه بعدَ كَوْنِها أُمَّ وَلَدٍ، حُكْمُه حُكْمُها فيما ذَكَرْناه؛ لأنَّ حُكْمَه حُكْمُها في العِتْقِ بمَوْتِ سَيِّدِها. 3759 - مسألة: (ولا) يُجْزِىُ (مُكاتَبٌ قد أدَّى مِن كِتابَتِه شَيئًا، فِي اخْتِيارِ شُيُوخِنَا. وعنه، يُجْزِيءُ. وعنه، لا يُجْزِئُ مُكاتَب بِحَالٍ) رُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في المُكَاتَبِ ثَلاث رِواياتٍ؛ إحْداهُن، يُجْزِئُ مُطْلَقًا. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو مذهبُ أبي ثَورٍ؛ لأنَّ المُكاتَبَ عَبْدٌ يَجُوزُ بَيعُه، فأجْزَأ عِتْقُه، كالمُدَبَّرِ، ولأنَّه رَقَبَةٌ، فيَدْخُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في (¬1) مُطْلَقِ قَوْلِه سبحانَه: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). والثَّانِيَةُ، لا يُجْزِئُ مُطْلَقًا. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّ عِتْقَه مُسْتَحَقٌّ بسَبَبٍ آخَرَ، ولهذا لا يَمْلِكُ إبْطال كِتالته، فأشْبَهَ أُمَّ الوَلَدِ. والثَّالِثَةُ، إن كان أدَّى شيئًا مِن كِتابَتِه، لم يُجْزِئْه، وإلَّا أجْزَأه. وبه قال اللَّيثُ، والأوْزَاعِيُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. قال القاضي: هو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه إذا أدَّى شيئًا فقد حصل العِوَضُ عن بعضِه، فلم يُجْزِئ، كما لو أعْتَقَ بعْضَ رَقَبَةٍ، وإذا لم يُؤَدِّ، فقد أعْتَقَ رَقَبَةٌ كامِلَةً، مُؤْمِنَةً، سالمَةَ الخَلْقِ، تامَّةَ المِلْكِ، لم يحْصُلْ عن شيءٍ منها عِوَضٌ، فأجْزَأ عِتْقُها، كالمُدَبَّرِ. ولو أعْتَقَ عَبْدًا على (¬2) مالٍ يَأْخُذُه من العبدِ، لم يُجْزِيء عن كفَّارَتِه، في قولِهم جميعًا. فصل: ولا يُجْزِيء؛ إعْتاقُ الجَنِينِ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال أبو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ؛ لأنَّه آدَمِيٌّ مَمْلُوكٌ، ¬

(¬1) بعده في م: «عموم». (¬2) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ إعْتاقُه، فصَحَّ عن الرَّقَبَةِ، كالمَوْلُودِ. ولَنا، أنَّه لم يَثْبُتْ له أحْكامُ الدُّنْيا بعدُ؛ فإنَّه لا يَمْلِكُ إلَّا بالإرْثِ والوَصِيَّةِ، ولا يُشْتَرَطُ لهما كَوْنُه آدمِيًّا؛ لكَوْنِه يثْبُتُ له ذلك وهو نُطْفَةٌ أو عَلَقَةٌ، وليس بآدَمِيٍّ في تلك الحالِ. فصل: فإن أعْتَقَ غيرُه عنه عبدًا بغيرِ أمْرِه، لم يَقَعْ عن المُعْتَقِ عنه إذا كان حَيًّا، ووَلاوه للمُعْتِقِ، ولا يُجْزِئُ عن كفَّارَتِه وإن نَوَى ذلك. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه يُجْزِئُ إذا أعْتَقَ عن وَاجِبٍ على غيرِه بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّه قَضَى عنه واجِبًا، فصَحَّ، كما لو قَضَى عنه دَينًا. ولَنا، أنَّه عِبادَةٌ مِن شَرْطِها النِّيَّةُ، فلم يصِحَّ أداؤُها عمَّن وجَبَتْ عليه بغيرِ أمْرِه، مع كَوْنِه مِن أهلِ الأمْرِ، كالحَجِّ، ولأنَّه أحَدُ خِصالِ الكفَّارَةِ، فلم يَصِحَّ عن [المُكَفَّرِ عنه] (¬1) بغيرِ أمْرِه، كالصيامِ. وهكذا الخِلافُ [في مَن] (¬2) كُفِّرَ عنه بالاطْعامِ. فأمَّا الصيامُ، فلا يجوزُ أنَّ يَنُوبَ عنه بإذْنِه ولا بغيرِ إذْنِه؛ لأنَّه عِبادَة بدَنِيَّة، فلا تَدْخُلُها النِّيابَة. فأمَّا إن أعْتَقَ عنه بأمْرِه، نَظَرْتَ؛ فإن جَعَلَ له (¬3) عِوَضًا، صَحَّ العِتْقُ عن المُعْتَقِ عنه، وله وَلاؤُه، وأجْزَأ عن كفَّارَتِه، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه. وبه يقولُ أبو حنيفةَ (¬4)، والشافعي، وغيرُهما (¬5)؛ لأنَّه حَصَلَ العِتْقُ عنه ¬

(¬1) في الأصل، تش: «المكفِّر». (¬2) في الأصل، تش: «فيما». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في المغني 13/ 521: «ومالك». (¬5) في الأصل، تش: «غيرهم».

3760 - مسألة: (ويجزيء الأعرج يسيرا)

وَيُجْزِئُ الْأعْرَجُ يَسِيرًا، وَالْمُجَدَّعُ الْأنفِ وَالأذُنِ، وَالْمَجْبُوبُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بمالِه، فأشْبَهَ ما لو اشْتَراه ووَكَّلَ البائِعَ في إعْتاقِه عنه. وإن لم يَشْتَرِطْ عِوَضًا، ففيه رِوايتان؛ إحْداهما، يَقَعُ العِتْقُ عن المُعْتَقِ عنه، ويُجْزِيء عن كفَّارَته. وهو قول مالكٍ، والشافعي؛ لأنَّه أعْتَقَ عنه بأمْرِه، فصَحَّ، كما لو شَرَطَ عِوَضًا. والأخْرَى، لا يُجْزِئُ، ووَلاؤُه للمُعْتِقِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ العِتْقَ بعِوَضٍ كالبَيعِ، وبغيرِ عِوَضٍ كالهِبَةِ، ومِن شَرْطِ الهبَةِ القَبْضُ، ولم يَحْصُلْ، فلم يَقعْ عن المَوْهُوب له، ويُفارِقُ البَيعَ؛ لأَنَّه لا يُشْتَرَطُ فيه القَبْضُ. فإن كان المُعْتَقُ عنه مَيِّتًا، وكان قد وَصَّى بالعِتْقِ عنه، صَحَّ؛ لأنَّه بأمْرِه، وإن لم يُوصِ فأعْتَقَ عنه أجْنَبِيٌّ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه ليس بنائِبٍ عنه. وإن أعْتَقَ عنه وارِثُه؛ فإن لم يكُنْ عليه واجِبٌ، لم يصِحَّ العِتْقُ عنه، ووَقَعَ عن المُعْتِقِ، وإن كان عليه عِتْقٌ واجِبٌ، صَحَّ العِتْقُ عنه؛ لأنَّه نائِبٌ عنه في مالِه وأداءِ واجِباتِه. فإن كانت عليه كفَّارَةُ يَمِين فأطْعَمَ عنه، جاز، وإن أعْتَقَ عنه، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَيِّن، فجَرَى مَجْرَى التَّطَوُّعِ. والثَّاني، يُجْزِئُ؛ لأنَّ العِتْقَ يَقَعُ واجِبًا؛ لأنَّ الوُجُوبَ يتَعَيَّنُ فيه بالفِعْلِ، فأشْبَهَ المُعَيَّنَ، ولأنَّه أحَدُ خِصالِ كفَّارَةِ اليَمِينِ، فجازَ أنَّ يَفْعَلَه عنه، كالإطْعامِ والكُسْوَةِ. ولو قال مَن عليه الكفَّارَةُ: أطْعِمْ عن كفَّارَتِي. أو: اكْسُ. صَحَّ إذا فَعَلَ، رِوايةً واحِدَةً، سواء ضَمِنَ له عِوَضًا أو لا. 3760 - مسألة: (ويُجْزِيء الأعْرَجُ يَسِيرًا) لأنَّه قَلِيلُ الضَّرَرِ

وَالْخَصِيُّ، وَمَنْ يُخْنَقُ فِي الأحْيَانِ، وَالْأَصَمُّ وَالأخْرَسُ الَّذِي يَفْهَمُ الْإشَارَةَ وَتُفْهَمُ إِشَارَتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعَمَلِ، فإن كان فاحِشًا كثيرًا، لم يُجْزِئْ؛ لأنَّه يَضُرُّ بالعَمَلِ، فهو كقَطعَ الرِّجْل. (و) يجزِيء (المُجَدَّعُ الأنْفِ والأذُنِ) وفي مُجدَّعِ الأذُنين خِلاف ذَكَرْناه. (و) يُجْزِئُ (المَجْبُوبُ، والخَصِيُّ، ومَنْ يُخْنَقُ في الأحْيانِ، والأصَمُّ) لأنَّ هذا لا يَضُرُّ بالعملِ، وتُجْزِئُ الرَّتْقاءُ، والكبيرةُ التي تَقْدِرُ على العملِ؛ لأنَّ ما لا يَضُرُّ بالعملِ لا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ العَبْدِ مَنافِعَه، وتَكْمِيلَ أحْكامِه، فحصَلَ الإجْزاءُ به، كالسَّالِم مِن العُيُوبِ. فصل: ويُجْزِئُ عتْقُ الجانِي، وإن قُتِل قِصاصًا، والمَرْهُونِ، وعِتْقُ المُفْلِسِ عبدَه، إذا قُلْنا بصِحَّةِ عِتْقِه. فصل: ويُجْزِئُ الأعْوَرُ في قولِهم جيعًا. وقال أبو بكرٍ: فيه قولٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آخَرُ، لا يُجْزِئُ؛ لأنَّه نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ والإجْزاءَ في الهَدْي، فأشْبَهَ العَمَى. والصَّحِيحُ ما ذَكَرْناه؛ فإنَّ المقْصُودَ تَمْلِيكُ العبدِ المنافِعَ، وتَكْمِيلُ الأحْكامِ، والعَوَرُ لا يَمْنَعُ ذلك، ولأنَّه لا يَضُرُّ بالعملِ، أشْبَهَ قَطْعَ إحْدَى الأُذُنَين. ويُفارِقُ العَمَى، فإنَّه يَضُرُّ بالعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنَّا، ويَمْنَعُ كثيرًا مِن الصَّنائِعِ، ويَذْهَبُ بمَنْفَعَةِ الجِنْسِ. ويُفارِقُ قَطْعَ إحْدَى اليَدَينِ أو الرِّجْلَين؛ فإنَّه لا يَعْمَلُ بإحْداهما ما يَعْمَلُ بهما، والأعْوَرُ يُدْرِكُ بإحْدَى العَينَين ما يُدْرِكُ بهما. وأمَّا الأضْحِيَةُ والهَدْيُ، فإنَّه لا يَمْنَعُ منهما مُجَرَّدُ العَوَرِ، وإنَّما يَمْنَعُ انْخِسافُ العَينِ؛ لأنَّها عُضْوٌ مُسْتَطابٌ، ولأنَّ الأضْحِيَةَ يَمْنَعُ فيها قَطْعُ الأُذُنِ والقَرْنِ، والعِتْقُ لا يَمْنَعُ فيه إلَّا ما يَضُرُّ بالعَمَلِ.

3761 - مسألة: (و)

وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3761 - مسألة: (و) يُجْزِئُ عِتْقُ (المُدَبَّرِ) وهذا قولُ طاوسٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال مالكٌ، والأوْزَاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي: لا يُجْزِئُ لأنَّ عِتْقَه مُسْتَحَقٌّ بسَبَبٍ آخَرَ، فأشْبَهَ أمَّ الوَلَدِ، ولأنَّ بَيعَه عندَهم غيرُ جائز، فهو كأمِّ الوَلَدِ. ولَنا، قولُه تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). وقد حَرَّرَ رَقَبَةً، ولأنَّه عَبْدٌ كامِلُ المَنْفَعَةِ، لم يحْصُلْ عن شيءٍ منه عِوَضن، فجازَ عِتْقُه، كالقِنِّ، ولأنَّه يجوزُ بَيعُه، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باعِ مُدَبَّرًا (¬1). وقد ذَكَرْنا ذلك، ولأنَّ التَّدْبِيرَ إمَّا أنَّ يكونَ وَصِيَّةً أو عِتْقًا بصِفةٍ، وأيُّهما كان، فلا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بإعْتاقِه قبلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، والصِّفَةُ ههُنا الموتُ، ولم توجَدْ. (و) يُجْزِئُ (المُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفَةٍ) قبلَ وُجُودِها؛ لأنَّ مِلْكَه فيه تامٌّ، ويَجُوزُ بَيعُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 18/ 379.

3762 - مسألة: (و)

وَوَلَدُ الزِّنَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3762 - مسألة: (و) يُجْزِئُ (¬1) عِتْقُ (وَلَدِ الزِّنَى) وهذا قولُ أكثرِ أهلَ العلمَ. رُوِيَ ذلك عن فَضالةَ بنَ عُبَيدٍ، وأبي هُرَيرَةَ. وبه قال ابنُ المُسَيَّبِ، والحسَنُ، وطاوُسٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِيَ عن عَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وحَمَّادٍ، أنَّه لا يُجْزِئُ؛ لأنَّ أبا هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عنه، روَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «وَلَدُ الزِّنَى شَرُّ الثَّلاثَةِ». قال أبو هُرَيرَةَ: ولأنْ أُمَتِّعَ (¬2) بسَوْطٍ في سبيلِ اللهِ، أحَبُّ إليَّ منه. رواه أبو داودَ (¬3). ولَنا، دُخُولُه في مُطْلَقِ قولِه تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). ولأنَّه مَمْلُوكٌ مسلمٌ كامِلُ العَمَلِ، لم يُعْتَضْ (¬4) عن شيءٍ منه (¬5)، ولا اسْتُحِقَّ ¬

(¬1) في م: «يجوز». (¬2) أي: لأن أُعطِيَ بسوط. انظر: عون المعبود 4/ 52. (¬3) في: باب في عتق ولد الزنى، من كتاب العتق. سنن أبي داود 2/ 353، 354. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 311. (¬4) في م: «يعتق». (¬5) سقط من: م.

3763 - مسألة: (و)

وَالصَّغِيرُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: إِذَا صَلَّى. ـــــــــــــــــــــــــــــ عِتْقُه بسَبَبٍ آخَرَ، فأجْزَأ عِتْقُه، كوَلَدِ الرّشدَةِ (¬1). فأمَّا الأحادِيثُ الوارِدَةُ في ذَمِّه، فاخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في تَفْسيرِها؛ فقال الطَّحاويُّ (¬2): وَلَدُ الزِّنى هو المُلازِمُ للزِّنَى، كما يقالُ: ابنُ السَّبِيلِ المُلازِمُ لها، ووَلَدُ اللَّيلِ الذي لا يَهابُ السَّيرَ فيه. وقال الخَطابِي (¬3)، عن بعْضِ أهلِ العلمِ، قال: هو شَرُّ (¬4) الثَّلاثَةِ أصْلًا وعُنْصُرًا ونَسَبًا؛ لأنَّه خُلِقَ مِن ماءِ الزِّنى، وهو خَبِيثٌ. وأنْكَرَ قَوْمٌ هذا التَّفْسِيرَ، وقالُوا: ليس عليه مِن وزْرِ والِدَيه شيءٌ، قال اللهُ تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وزْرَ أُخْرَى) (¬5). وقد جاء في بعْضِ الأحاديثِ: «هُوَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ إذَا عَمِلَ عَمَلَهُمْ» (¬6). فإن صَحَّ ذلك، انْدَفَعَ الإشْكالُ. وفي الجُملَةِ، هذا يَرْجِعُ إلى أحْكامِ الآخِرَةِ، أمَّا أحْكامُ الدُّنْيا فهو كغَيرِه في صِحَّةِ إمامَتِه، وبَيعِه، وعِتْقِه، وقَبُولِ شَهادَتِه، فكذلك في إجْزاءِ عِتْقِه عن الكفَّارَةِ؛ لأنَّه مِن أحْكامِ الدُّنْيا. 3763 - مسألة: (و) يُجْزِيء (الصَّغِيرُ) وقال الخِرَقِيُّ: لا ¬

(¬1) في تش: «الرشيدة». والرشدة، بفتح الراء وكسرها. (¬2) في: مشكل الآثار 1/ 394. (¬3) في: معالم السنن 4/ 80. (¬4) سقط من: م. (¬5) سورة الأنعام 164، سورة الإسراء 15، سورة فاطر 18. (¬6) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 109.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْزِئُ حتى يُصَلِّيَ ويَصُومَ. قال القاضي: لا يجوزُ إعْتاقُ مَن له دُونَ سَبْعِ سِنِينَ؛ لأنَّه لا تصِحُّ منه العِباداتُ، في ظاهرِ كلام أحمدَ. وظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ أنَّ المُعْتَبَرَ الفِعْلُ (¬1) دُونَ السِّنِّ، فمَن صَلَّىَ وصامَ ممَّن له عقْلٌ يَعْرِفُ الصَّلاةَ والصِّيامَ، ويتَحَقَّقُ منه (¬2) الإتْيانُ به بنِيَّته وأرْكانِه، فإنَّه يُجْزِئُ في الكفَّارَةِ وإن لم يَبْلُغِ السَّبْعَ، وإن لم يُوجَدْ منه، لم يُجْزِئْ الكفَّارَةِ وإن كان كبيرًا. وقال أبو بكرٍ وغيرُه مِن أصحابِنا: يجوزُ إعْتاقُ الطِّفلِ في الكفَّارَةِ. وهو قولُ الحسَنِ، وعَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ المُرادَ بالإيمانِ ههُنا الإسْلامُ، بدليلِ إعْتاقِ الفاسِقِ. قال الثَّوْرِيُّ: المُسْلمون كلُّهم مُؤْمِنُون عندَنا في الأحْكامِ، ولا نَدْرِي ما هم عندَ اللهِ. وبهذا تَعَلَّقَ حُكْمُ القَتْلِ بكُلِّ مسلمٍ، بقولِه تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا) (¬3). والصَّبِيُّ محْكومٌ بإسْلامِه، يَرِثُه المسلمون ويَرِثُهم، ويُدْفَنُ في مَقابِرِ المسلِمين، ويُغَسَّلُ، ويُصَلَّى عليه. ¬

(¬1) في م: «العقل». (¬2) في م: «من». (¬3) سورة النساء 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن سُبِيَ مُنْفَرِدًا عن أبوَيه، أجزَأ (¬1) عِتْقُه؛ لأنَّه محْكوم بإسْلامِه، وكذلك إن سُبِيَ مع أحَدِ أبَوَيه، ولو كان أحَدُ أبوَيِ الطِّفل -مُسْلِمًا والآخَرُ كافِرًا، أجْزَأ إعْتاقُه؛ لأنَّه محْكومٌ بإسْلامِه. قال القاضي في مَوْضِعٍ: يُجْزِئُ؛ إعْتاقُ الصَّغيرِ في جميعِ الكفَّاراتِ، إلَّا كفَّارَةَ القَتْلِ، فإنَّها على رِوايَتَين. وقال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: ما كان في القُرْآنِ مِن رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فلا يُجْزِئُ إلَّا مَن صامَ وصَلَّى، وما كان في القُرآنِ رَقَبَةً ليست بمُؤْمِنَةٍ، فالصَّبِيُّ يُجْزِئُ (¬2). ونحوُ هذا قولُ الحسنِ (2). ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّ الواجِبَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، والإيمانُ قولٌ وعملٌ، فما لم تحْصُل الصَّلاةُ والصِّيامُ، لا يحْصُلُ العَمَلُ. قال مُجاهدٌ، وعَطاءٌ، في قولِه: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمِنَةٍ). قالا (¬3): قد صَلَّتْ. ونحوُ هذا قولُ الحسنِ، وإبراهيمَ. وقال مَكْحُولٌ: إذا وُلِدَ المَوْلُودُ فهو نَسَمَة، فإذا تَقَلَّبَ ظَهْرًا لبَطْن فهو رَقَبَةٌ، فإذا صَلَّى فهو مُؤْمِنَةٌ. ولأنَّ الطِّفْلَ لا تصِح منه عِبادَة؛ لأنَّه لا نِيَّةَ له، فلم يُجْزِئْ في الكفَّارَةِ، كالمَجْنُونِ، ولأنَّ ¬

(¬1) بعده في م: «عنه». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه عنهما ابن جرير، في تفسيره 5/ 205.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [الصَّبى فيه] (¬1) يَسْتَحِقُّ به النَّفَقَةَ على القَرابَةِ، فأشْبَهَ الزَّمانَةَ. قال شيخُنا (¬2): والقَوْلُ الآخَرُ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ والصِّحَّةِ، إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّ الإيمانَ الإسْلامُ، وهو حاصِل في حَقِّ الصَّبِيِّ الصَّغيرِ، ويدُلُّ على هذا أنَّ مُعاويَةَ بنَ الحَكَمِ السُّلَمِيَّ أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بجارِيَةٍ [فقال لها: «أينَ اللهُ؟». قالت: في السَّماءِ. قال: «مَنْ أنا؟». قالت: أنت رسولُ اللهِ. قال: «أعْتِقْهَا، فإنَّها مُؤْمِنَةٌ». رواه مسلمٌ (¬3). وفي حديثٍ عن أبي هريرةَ، أنَّ رجلًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بجاريةٍ] (¬4) أعْجَمِيَّةٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إن عليَّ رَقَبةً مُؤْمِنَةً. فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أينَ اللهُ؟». فأشارت برأشِها إلى السماءِ. قال: «مَنْ أنا؟». فأشارت إلى رسولِ اللهِ وإلى السماءِ، أي: أنتَ رسولُ اللهِ. قال: «أعْتِقْها، فإنَّها مُؤْمِنَةٌ» (¬5). فحكَمَ لها بالإيمانِ بهذا القولِ. ¬

(¬1) في تش، م: «الصبا». (¬2) في: المغني 13/ 519. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 276، وفي صفحة 299. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في الرقبة المؤمنة، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 206. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 291.

3764 - مسألة: ولو ملك نصف عبد، فأعتقه عن كفارته (ثم اشترى باقيه فأعتقه، أجزأه)

وَإنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ اشْتَرَى بَاقِيَهُ، فَأَعْتَقَهُ أَجْزأَهُ، إلا عَلَى رِوَايَةِ وُجُوبِ الاسْتِسْعَاءِ، وَإنْ أَعْتَقَة وَهُوَ مُوسِرٌ، فَسَرَى، لَمْ يُجْزِئْهُ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3764 - مسألة: ولو مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ، فأعْتَقَه عن كَفَّارَته (ثم اشْتَرَى بَاقِيَه فأعْتَقَه، أجْزَأه) لأنَّه أعْتَقَ رَقَبَةً كامِلَةً في وَقْتَين، فأجزَأ، كما لو أطْعَمَ المساكينَ في وَقْتَين (إلَّا على روايَةِ وُجُوبِ الاسْتسْعاءِ) والصَّحِيحُ في المذهبِ خِلافُها. 3765 - مسألة: (فإن أعْتَقَه) عن كَفَّارَتِه (وهو مُوسِرٌ، فَسَرَى) إلى نَصِيبِ شَرِيكِه، عَتَقَ و (لم يُجْزِئْه) عن كفَّارَتِه، في قول أبي بكرٍ الخَلَّالِ وصاحِبِه، وحكاه عن أحمدَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، لأنَّ عِتْقَ نَصِيبِ شَرِيكِه لم يحْصُلْ بإعْتاقِه، إنَّما حصَلَ بالسِّرايَةِ، وهي غيرُ فِعْلِه، وإنَّما هي مِن آثارِ فِعْلِه، فأشْبَه ما لو اشْتَرَى مَن يَعْتِقُ عليه يَنْوي به الكفَّارَةَ، يُحَقِّقُ هذا، أنَّه لم يُباشِرْ بالإِعْتاقِ إلَّا نَصِيبَه، فسَرَى إلى نَصِيبِ (¬1) غيرِه، ولو خَصَّ نَصِيبَ غيرِه بالإعْتاقِ، لم يَعْتِقْ منه شيءٌ، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه إنَّما يَمْلِكُ إعْتاقَ نَصِيبِه، لا نَصِيبَ غيرِه. وقال القاضي: قال غيرُهما مِن أصحابِنا: يُجْزِئُه إذا نَوَى إعْتاقَ جَمِيعِه عن كفَّارَتِه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أعْتَقَ عَبْدًا كامِلَ الرِّقِّ، سَليِمَ الخَلْقِ، غيرَ مُسْتَحِقِّ العِتْقِ، ناويًا به (¬1) الكفَّارَةَ، فأجْزَأه، كما لو كان الجمِيعُ مِلْكَه. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى، ولا نُسَلِّمُ أنَّه أعْتَقَ العَبْدَ كلَّه، وإنَّما أعْتَقَ نِصْفَه، وعَتَقَ الباقِي عليه، فأشْبَهَ شِراءَ قَرِيبِه، ولأن إعْتاقَ باقِيه مُسْتَحَقٌّ بالسِّرايَةِ، فهو كالقَرِيبِ. فعلى هذا، هل يُجْزِئُه عِتْقُ نِصْفِه الذي هو مِلْكُه (¬2)، ويُعْتِقُ نِصْفًا آخَرَ، وتَكْمُلُ الكفَّارَةُ؛ ينْبَنيِ على ما إذَا أَعْتَقَ نِصْفَيْ عبْدَينِ. وسنذْكُرُ ذلك. فأمَّا إن نوَى عِتْقَ نصِيبِه عنِ الكفَّارَةِ، ولِم يَنْو ذلك في نَصِيبِ شَرِيكِه، لم يُجْزِئْه في نَصِيبِ شَرِيكِه. وفي نَصِيبِ نفْسِه ما سَنَذْكُرُه، إن شاء الله تعالى. فصل: فإن كان العَبْدُ كله له، فأعْتَقَ جُزْءًا منه مُعَيَّنًا أو مُشاعًا، ¬

(¬1) بعده في تش: «عن». (¬2) في م: «نصيبه».

3766 - مسألة: ولو أعتق نصفي عبدين، أو نصفي أمتين، أو نصف عبد ونصف أمة، أجزأ عنه

وَيَحْتَمِلُ أنْ يُجْزِئَهُ. وَإنْ أعْتَقَ نِصْفًا آخَرَ، أجْزأهُ عِنْدَ الْخِرَقِيِّ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَتَقَ جَمِيعُه. فإن نَوَى به الكفَّارَةَ، أجْزأَ عنه؛ لأنَّ إعْتاقَه بعْضَ العَبْدِ إعْتاقٌ لجَمِيعِه، وإنْ نوَى إعْتاقَ الجُزْءِ الذي باشَرَه بالإِعْتاقِ عن الكفَّارَةِ دُونَ غيرِه، [لم يُجْزِئْه عِتْقُ غيرِه] (¬1). وهل يُحْتَسبُ له بما نَوَى به الكفَّارَةَ؟ على وَجْهَينِ. 3766 - مسألة: ولو أعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَين، أو نِصْفَيْ أمَتَين، أو نِصْفَ عَبْدٍ ونِصْفَ أمَةٍ، أجْزَأ عنه. ذكَرَه الخِرَقِيُّ. قال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: هذا قولُ أكثرِهم. وقال أبو بكرٍ بنُ جَعْفرٍ: لا يُجْزِئُ؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المقْصُودَ مِن العِتْقِ تَكْمِيلُ الأحْكامِ، ولا يحْصُلُ مِن إعْتاقِ نِصْفَين. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ على ثلاثَةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، كقَوْلِ الخِرَقِيِّ. والثاني، كقَوْلٍ أبي بكرٍ. والثَّالِثُ، إن كان نِصْفُ الرَّقِيقِ حورًا، أجْزَأ؛ لأنَّه يحْصُلُ تَكْمِيلُ الأحْكامِ، وإن كان رَقِيقًا، لم يُجْزِ؛ لأنَّه لا يحْصُلُ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الأشْقاصَ كالأشْخاصِ فيما لا يَمْنَعُ منه العَيبُ اليَسِيرُ، [ونَعْنِي به] (¬1) الزَّكاةَ إذا كان له نِصْفُ ثمانين شاةً مُشاعًا، وجَبَتِ (¬2) الزَّكاةُ، كما لو مَلَكَ أرْبَعِين مُنْفَرِدَةً (¬3)، وكالهدايا والضَّحايا إذا اشْتَرَكُوا فيها. قال شيخُنا (¬4): والأوْلَى أنَّه لا يُجْزِئُ إعتاقُ (¬5) نِصْفَين، إذا لم يَكُن الباقِي منهما حُرًّا؛ لأنَّ إطْلاقَ الرَّقَبَةِ إنَّما ينْصَرِفُ إلى إعْتاقِ الكامِلَةِ، ¬

(¬1) في م: «وبدليل». (¬2) في تش: «ووجبت». (¬3) في تش: «متفرقة». (¬4) في: المغني 13/ 539. (¬5) سقط من: الأصل.

فصلٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَعَلَيهِ صِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَين كَانَ أوْ عَبْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يحْصُلُ مِن الشَّخْصَين ما يحْصُلُ مِن الرَّقَبَةِ الكامِلَةِ في تَكْمِيل الأحْكامِ، وتخْليصِ الآدَمِيِّ مِن ضَرَرِ الرِّقِّ ونَقْصِه، فلا يَثْبُتُ به مِن الأحْكامِ ما يَثْبُتُ بإعْتاقِ رَقَبَةٍ كامِلَةٍ، ويَمْتَنِعُ قِياسُ الشَّخْصَين على الرَّقَبَةِ الكامِلَةِ، ولهذا لو أمَرَ إنْسانًا بشِراءِ رَقَبَةٍ أو بَيعِها، أو بإهْداءِ حيوانٍ أو بالصَّدَقَةِ به (¬1)، لم يكُنْ له أنْ يُشَقِّصَه، كذا ههُنا. فصل: (فمَن لم يَجِدْ، فعليه صِيامُ شَهْرَين مُتَتابِعَين) إذا قَدَرَ على الصِّيامِ. وهذا إجْماعٌ مِن أهلِ العلمِ؛ لقَوْلِ الله تعالى: (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِن قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا) (¬2). ولحَدِيثِ أوْسِ بنِ الصَّامِتِ (¬3)، وسَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ (¬4) (حُرًّا كانْ أو عَبْدًا) ويَسْتَوي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المجادلة 4. (¬3) تقدم تخريجه في 225. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 276.

وَلَا تَجِبُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذلك الحُرُّ والعَبْدُ عندَ أهلِ العلمِ، لا نعلمُ فيه خلافًا. وأجْمَعُوا على وُجوبِ التَّتابُعِ (¬1) في الصِّيام، وقد تَناوَلَه نَصُّ القُرآنِ والسُّنَّةِ، ومَعْنى التَّتابُعِ المُوَالاةُ بينَ صِيامِ أيَّامِهما (¬2)، فلا يُفْطِرُ فيهما (¬3) ولا يَصُومُ عن غيرِ الكفَّارَةِ (ولا تَجِبُ نِيَّةُ التَّتابُعِ) ويَكْفِي فِعْلُه؛ لأنَّه شَرْطٌ، وشَرائِطُ العِباداتِ لا تَحْتاجُ إلى نِيَّةٍ، وإنَّما تَجِبُ النِّيَّةُ لأفْعالِها. وهذا أحَدُ الوُجُوهِ (¬4) لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الآخَرُ، أنَّها واجِبَةٌ لكُلِّ لَيلَةٍ؛ لأنَّ ضَمَّ العِبادَةِ إلى العِبادَةِ إذا كان شَرْطًا، وجَبَت النِّيَّةُ فيه، كالجَمْعِ بينَ الصَّلاتين. والثالِثُ، تَكْفِي نِيَّةُ التَّتابُعِ في اللَّيلَةِ الأُولَى. ولَنا، أنَّه تَتابُع واجِبٌ في العِبادَة، فلم يَفْتَقِرْ إلى نِيَّةٍ، كالمتابعةِ (¬5) بينَ الرَّكعاتِ. ويُفارِقُ الجَمْعَ بينَ الصَّلاتين، فإنَّه رُخْصَةٌ، فافْتَقَرَ إلى نِيَّةِ التَّرَخُّصِ. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالمُتابَعَةِ بينَ الرَّكَعاتِ. ¬

(¬1) بعده في م: «لأنه شرط». (¬2) في م: «أيامها»، أي أيام الكفارة، والمثبت من الأصل، تش، ومعناه أيام الشهرين. (¬3) في م: «فيها». (¬4) في الأصل: «الوجهين». (¬5) في م: «كالتتابع».

3767 - مسألة: (فإن تخلل صومها صوم شهر رمضان، أو فطر واجب كفطر العيد، أو الفطر لحيض أو نفاس، لم ينقطع التتابع)

فَإنْ تَخَلَّلَ صَوْمَهَا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، أوْ فِطْرٌ وَاجِبٌ كَفِطْرِ الْعِيدِ، أَو الْفِطْرِ لِحَيضٍ أوْ نِفَاسٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3767 - مسألة: (فإن تخَلَّلَ صَوْمَها صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، أو فِطْرٌ واجِبٌ كفِطْرِ العيدِ، أو الفِطْرِ لحَيضٍ أو نِفاسٍ، لَم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ) ويَبْنِى على ما مَضَى مِن صِيامِه. وجملةُ ذلك، أنَّه إذا تَخَلَّلَ صومَ الظِّهارِ زَمانٌ لا يصِحُّ صَوْمُه فيه عن الكفَّارَةِ، مِثْلَ أن يَبْتَدِئَ الصَّوْمَ مِن أوَّلِ شعبانَ، فيَتَخَلَّلَه رَمضانُ ويومُ الفِطْرِ، أو يَبْتَدِئ مِن ذِي الحِجَّةِ، فيَتَخَلَّلَه يومُ النَّحْرِ وأيَّامُ التَّشْرِيقِ، فإنَّ التَّتابُعَ لا يَنْقَطِعُ بهذا، ويَبْنِي على ما مَضَى مِن صِيامِه. وقال الشافعيُّ: يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ، ويَلْزَمُه الاسْتِئْنافُ؛ لأنَّه أفْطَرَ في أثْناءِ الشَّهْرَين بما كان يُمْكِنُه التَّحَرُّزُ منه، فأشْبَهَ إذا أفْطَرَ لغيرِ ذلك، أو صامَ عن نَذْرٍ أو كفَّارَةٍ أُخْرَى. ولَنا، أنَّه زَمَن منَعَه الشَّرْعُ عن صَوْمِه في الكفَّارَةِ، فلم يَقْطَعِ التَّتابُعَ، كالحَيضِ والنِّفاسِ. فإن قالوا: الحَيضُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنِّفاسُ غيرُ مُمْكِنٍ التَّحَرُّزُ منه. قُلْنا: قد يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِن النِّفاسِ، بأن لا تَبْتَدِئَ الصَّومَ في حالِ الحَمْلِ، ومِن الحَيضِ إذا كان طُهْرُها يَزِيدُ على الشَّهْرَين، بأن تَبْتَدئَ الصَّومَ عَقِيبَ طُهْرِها مِن الحَيضَةِ، ومع هذا لا يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ به، ولا يجوزُ للمَأْمُوم مُفارَقَةُ إمامِه لغيرِ عُذْرٍ، ويَجوزُ أن يَدْخُلَ معه المَسْبُوقُ، مع عِلْمِه بلُزومِ مُفارَقَتِه قبلَ إتْمامِها. ويتَخَرَّجُ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يَصُومُها عنِ الكفَّارَةِ، ولا يُفْطِرُ إلَّا يومَ النَّحْرِ وحدَه. فعلَى هذا، إن أفْطَرَ ما اسْتَأْنَف؛ لأنَّها أيَّامٌ أمْكَنَه صِيامُها في الكفَّارَةِ، فَفِطْرُها يقْطَعُ التَّتابُعَ كغيرِها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إنِ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِن أوَّلِ شعبانَ، أجْزَأه صومُ شعبانَ عن شهر، وإن كان ناقِصًا، وأمَّا شَوَّالٌ، فلا يجوزُ أن يَبْتَدِئَ مِن أوَّلِه؛ لأنَّ أوَّلَه يومُ الفِطْرِ، وصومُه حرامٌ، فيَشْرَعُ فيه مِن اليومِ الثَّانِي، ويُتَمِّمُ شَهْرًا بالعَدَدِ ثلاثين، وإن بَدَأ مِن أوَّلِ ذِي الحِجَّةِ إلى آخِرِ المُحَرَّمِ، قَضَى أرْبَعَةَ أيَّامٍ، وأجْزَأه؛ لأنَّه بَدَأ الشهرين (¬1) مِن أوَّلِهما. ولو ابْتَدَأ صَوْمَ الشَّهْرَين مِن يومِ الفِطْرِ، لم يَصِحَّ صَوْمُ يومِ الفِطْرِ، ويصِحُّ صَوْمُ بَقِيَّةِ الشَّهْر، وصَوْمُ ذِي القَعْدَةِ، ويُحتَسَبُ له بذِي القَعْدَةِ، وإن كان ناقِصًا؛ لأَنَه بَدَأه مِن أوَّلِه، وأمَّا شَوَّالٌ، فإن كان تامًّا صامَ يومًا مِن ذي الحِجَّةِ، وإن كان ناقِصًا، صامَ يَوْمَين؛ لأنَّه لم يَبْدَأه مِن أوَّلِه. وإنَّ بَدَأ بالصِّيامِ مِن أوَّلِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، وقُلْنا: يَصِحُّ صَوْمُها عن الفَرْضِ. فإنَّه يُحْتَسَبُ له ¬

(¬1) سقط من: م.

3768 - مسألة: فإن أفطر (لمرض مخوف، أو جنون)

أَوْ جُنُونٍ، أَوْ مَرَضٍ مَخوفٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمُحَرَّمِ، ويُكْمِلُ صومَ ذِي الحِجَّةِ بتَمامِ (¬1) ثلاثين يومًا مِن صَفَر. وإن قُلْنا: لا يَصِحُّ صومُها (¬2) عن الفَرْضِ. صامَ مكانَها مِن صَفَرٍ. فصل: وإنْ أفْطَرت لحَيضٍ أو نِفاسٍ، فقد أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ (1) الصَّائِمَةَ مُتتابعًا، إذا حاضَتْ قبلَ إتْمامِه، تَقْضِي إذا طَهُرَتْ، وتَبْنِي. وذلك لأنَّ الحَيضَ لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه في الشَّهْرَين إلّا بتأْخِيرِه إلى الإياسِ، وفيه تَغْرِيرٌ بالصَّوْمِ؛ لأنَّها رُبَّما ماتَتْ قبلَه. والنِّفاسُ كالحَيضِ، في أنَّه لا يَقْطَعُ التَّتابُعَ، في أحَدِ الوَجْهَينِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَتِه في أحْكامِه، ولأنَّ الفِطْرَ لا يحْصُلُ فيهما بفِعْلِهما، وإنَّما ذلك الزَّمانُ كزَمانِ اللَّيلِ في حَقِّهِما. والثَّانِي، أنَّ النِّفاسَ يَقْطَعُ التَّتابُعَ؛ لأنَّه فِطْرٌ أمْكَنَ التَّحَرُّزُ منه، لا يَتَكَرَّرُ في العامِ، فقَطَعَ التَّتابُعَ، كالفِطْرِ لغيرِ عُذْرٍ. ولا يصِحُّ قِياسُه على الحَيضِ؛ لأنَّه أنْدَرُ منه، ويُمْكِنُ التحَرُّزُ منه. 3768 - مسألة: فإن أفْطَرَ (لمرَض مَخُوفٍ، أو جنُونٍ) لم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباس. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسَنُ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، ومالكٌ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، والشافعي في القَدِيمِ. وقال في الجَديدِ: يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والحَكَمِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

3769 - مسألة: وكذلك (فطر الحامل، والمرضع؛ لخوفهما على أنفسهما)

أَوْ فِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ؛ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، لَمْ يَنْقَطِع التَّتَابُعُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِيِّ، وأصحاب الرَّأْي، لأنَّه أفْطَرَ بفعْلِه، فلَزِمَه الاسْتِئْنافُ، كما لو أفْطَرَ لسَفَرٍ. ولَنا، أنَّه أفْطَرَ بسَبَبٍ لا صُنْعَ له فيه، فلم يَقْطَعِ التَّتابُعَ، كإفْطارِ المَرْأةِ للحَيضِ. وما ذَكَرُوه مِن الأصْلِ مَمْنُوعٌ. وإن أفْطَرَ لجُنُونٍ، أو إغْماءٍ، لم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ، لأنَّه لا صُنْعَ له فيه، فهو كالحَيضِ. 3769 - مسألة: وكذلك (فِطْرُ الحامِلِ، والمُرْضِعِ؛ لخَوْفِهِما على أنْفُسِهما) لأنَّهما كالمريضِ.

3770 - مسألة: (فإن خافتا على ولديهما)

وَكَذَلِكَ إِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أن يَنْقَطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3770 - مسألة: (فإن خافتَا على وَلَدَيهِما) فأفْطَرَتا، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ. اخْتارَه أبو الخَطَّابِ، لأنَّه فِطْرٌ أُبِيحَ لهما بِسَببٍ لا يَتَعَّلقُ باخْتِيارِهما، فلم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ، كما لو أفْطَرَتا خَوْفًا على أنْفُسِهما. والثَّانِي، يَنْقَطِعُ، لأنَّه لأجْلِ الخَوفِ على غَيرِهما، ولذلك تَلْزَمُهما الفِدْيَةُ مع القَضاء.

3771 - مسألة: (وإن أفطر لغير عذر، أو صام تطوعا، أو قضاء، أو عن نذر أو كفارة أخرى، لزمه الاستئناف)

وَإنْ أَفْطَرَ لِغَيرِ عُذْرٍ، أَوْ صَامَ تَطَوُّعًا، أَوْ قَضَاءً، أوْ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، لَزِمَهُ الاسْتِئْنَافُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3771 - مسألة: (وإن أفْطَرَ لغَيرِ عُذْرٍ، أو صامَ تَطَوُّعًا، أو قَضَاءً، أو عَن نَذْرٍ أو كفَّارَةٍ أُخْرَى، لَزِمَه الاسْتِئْنافُ) لأنَّه أخَلَّ بالتَّتابُعِ المَشْرُوطِ، ويَقَعُ صَوْمُه عمَّا نَواه؛ لأنَّ هذا الزَّمانَ ليس بمُسْتَحَقٍّ مُعَيَّنٍ للكفَّارَةِ، ولهذا يجوزُ صَوْمُها في غيرِه، بخلافِ شَهْرِ رمضانَ؛ فإنَّه مُتَعَيِّنٌ لا يَصْلُحُ لغيرِه. وإذا كان عليه نَذْرُ صَوْمٍ غيرِ مُعَيَّنٍ، أخَّرَه إلى فَراغِه مِن الكفَّارَةِ، وإن كان مُتَعَيِّنًا، أخَّرَ الكفَّارَةَ عنه، أو قَدَّمَها عليه إن أمْكَنَ. وإن كان أيَّامًا مِن كُلِّ شَهْر، كيَوْمِ الخَميسِ، أو أيَّامِ البيضِ، قَدَّمَ الكفَّارَةَ عليه، وقَضاه بعدَها؛ لأنَّه لو وَفَّى بنَذْرِه انْقَطَعَ التَّتابُعُ ولَزِمَه الاسْتِئْنافُ، فيُفْضِي إلى أن لا يَتَمَكَّنَ مِن التَّكْفِيرِ، والنَّذْرُ يُمْكِنُ قَضاؤُه، فيكوْنُ هذا عُذْرًا في تأْخِيرِه كالمرضِ.

3772 - مسألة: (وإن أفطر لعذر يبيح الفطر، كالسفر، والمرض غير المخوف، فعلى وجهين)

وَإنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ يُبِيحُ الْفِطْرَ، كَالسَّفَرِ، وَالْمَرَضِ غَيرِ الْمَخُوفِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3772 - مسألة: (وإن أفْطَرَ لعُذْرٍ يُبِيحُ الفِطْرَ، كالسَّفَرِ، والمَرَضِ غَيرِ المخُوفِ، فعلى وَجْهَين) إذا أفْطَرَ لمَرضٍ (¬1) غيرِ مَخُوفٍ يُبِيحُ الفِطْرَ، ففيه وَجْهان، ذَكَرَهما أبو الخَطَّابِ؛ أحَدُهما، لا يَقْطَعُ التَّتابُعَ؛ لأنَّه مَرَضٌ أباحَ الفِطْرَ، أشْبَهَ المَخُوفَ. والثَّانِي، يَقْطَعُ التَّتابُعَ؛ لأنَّه أفْطَرَ اخْتِيارًا، فانْقَطَعَ التَّتابُعُ، كما لو أفْطَرَ لغيرِ عُذْرٍ. فإن [أفْطَرَ لسفر] (¬2) مُبِيحٍ للفِطْرِ، فكلامُ أحمدَ يحْتَمِلُ الأمْرَين، وأظْهَرُهما، أنَّه لا يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ؛ فإنَّه قال في رِوايَةِ الأثْرَمِ: كأنَّ (¬3) السَّفَرَ غيرُ المَرَضِ، وما يَنْبَغِي أن يكونَ أوْكَدَ مِن رَمضانَ. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يَقْطَعُ التَّتابُعَ. وهذا قولُ الحسَن. ويَحْتَمِلُ أن يَنْقَطِعَ التَّتابُعُ. وهو قول مالكٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «السفر». (¬3) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابِ الرَّأْي. واخْتَلَفَ أصحابُ الشافعيِّ، فمنهم مَن قال: فيه قَوْلان كالمَرَضِ. ومِنهم مَن يقولُ: يَقْطَعُ التَّتابُعَ، وَجْهًا واحِدًا، لأنَّ السَّفَرَ يحْصُلُ باخْتِيارِه، فقَطَعَ التَّتابُعَ، كما لو أفْطَرَ لغيرِ عُذْرٍ. [والصَّحِيحُ الأوَّلُ، لأنَّه أفْطَرَ لعُذْرٍ يُبيحُ الفِطْرَ في رَمضانَ، فلم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ، كإفْطارِ المرْأةِ للحَيضِ، وفارَقَ الفِطْرَ لغيرِ عُذْرٍ] (¬1)، فإنَّه لا يُباحُ. فإن أكَلَ يَظُنُّ أن الفَجْرَ لم يَطْلُعْ، وكان قد طَلَعَ، أو أفْطَرَ يَظُنُّ أنَّ الشَّمْسَ قد غابَتْ، ولم تَغِبْ، أفْطَرَ. ويَتَخَرَّجُ في انْقِطاعِ التَّتابُعِ وَجْهان؛ أحدُهما، لا يَنْقَطِعُ، لأنَّه فِطْر لعُذْرٍ. والثَّانِي، يَنقَطِعُ التَّتابُعُ، لأنَّه بفِعْلٍ أخْطأ فيه، فأشْبَهَ ما لو ظَنَّ أنَّه قد أتَمَّ الشَّهْرَين، [فبان بخِلافِه. وإن أفْطَرَ ناسيًا لوجوبِ التَّتابُعِ، أو جاهلًا به، أو ظنًّا أنَّه قد أتَمَّ الشَّهْرَين] (¬2)، انْقَطَعَ التَّتابُعُ، لأنَّه أفْطَرَ لجَهْلِه، فقَطَعَ التَّتابُعَ، كما لو ظَنَّ أن الواجِبَ شَهْرٌ واحدٌ. وإن أُكْرِه على الأكْلِ والشُّرْبِ، بأَنْ أُوجِرَ الطَّعامَ أو الشَّرابَ، لم يُفْطِرْ. وإن أكَلَ خَوْفًا، فقال القاضي: لا يُفْطِرُ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُفْطِرُ. فعلى ذلك، هل يَقْطَعُ التَّتابُعَ؟ فيه وَجْهانِ، أحدُهما، لا يَقْطَعُه، لأنه عُذْرٌ مُبِيحٌ للفِطْرِ، أشْبَهَ المَرَضَ. والثَّانِي، يَقْطَعُه. وهو مذهب الشافعيِّ، لأنَّه أفْطَرَ بفِعْلِه لعُذْرٍ نادِرٍ. والأوَّلُ أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجوزُ أن يَبْتَدِئَ صَوْمَ الشَّهْرَين مِن أوَّلِ شَهْرٍ، ومِن أثْنائِه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِما بينَ الهِلالين ولثلاثين (¬1) يومًا. فأيُّهما صامَ فقد أدَّى الواجِبَ، فإن بَدَأ مِن أوَّلِ شَهْرٍ، فصامَ شَهْرَين بالأهِلَّةِ، أجْزَأه ذلك، وإن كانا ناقِصَين، إجْماعًا. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأهْلُ العِراقِ، ومالكٌ في أهلِ الحِجَازِ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيدٍ، وغيرُهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ}. وهذان شَهْران مُتَتابعانِ. وإنْ بَدَأ مِن أثْناءِ شَهْرٍ، فصامَ سِتِّينَ يَوْمًا، أجْزَأه، بغيرِ خلافٍ أيضًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على هذا. فأمَّا إن صامَ شَهْرًا بالهِلَالِ، وشَهْرًا بالعَدَدِ، فصامَ خمْسَةَ عَشَرَ يومًا مِن المُحَرَّمِ، وصَفَرَ (¬2) جَمِيعَه، وخمسةَ عشرَ مِن رَبِيعٍ، فإنَّه يُجْزِئُه، سواءٌ كان صَفَرُ تامًّا أو ناقِصًا؛ لأنَّ الأصْلَ اعْتِبارُ الشُّهورِ بالأهِلَّةِ، لكن تَرَكْناه في الشَّهْرِ الذي بَدَأ مِن ¬

(¬1) في الأصل، م: «الثلاثين». (¬2) هذا على رأي أبي عبيد في منع صفر من الصرف. تاج العروس (ص ف ر) 12/ 330، 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَسَطِه لِتَعَذُّرِه، ففي الشَّهْرِ الذي أمْكَنَ اعْتِبَارُه وَجَبَ أنْ يُعْتَبَرَ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ويَتَوَجَّهُ أن لا يُجْزِئَه إلَّا شَهْرانِ بالعَدَدِ؛ لأنَّنا لمَّا ضَمَمْنا إلى الخَمْسَةَ عشَرَ مِن المُحَرَّم خمْسَةَ عشَرَ مِن صَفَر، فصارَ ذلك شَهْرًا، صارَ ابْتِداءُ صومِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِن أثْناءِ شَهْرٍ أيضًا. وهذا قولُ الزُّهْرِيِّ. فصل: فإن نَوَى صَوْمَ (¬1) شهرِ رَمضانَ عن الكفَّارَةِ، لم يُجْزِئْه عن رَمضانَ ولا عن الكفَّارَةِ، وانْقَطَعَ التَّتابُعُ، حاضِرًا كان أو مُسافِرًا؛ لأنَّه تَخَلَّلَ صَوْمَ الكفَّارَةِ فِطْر غيرُ مَشْروعٍ. وقال مُجاهِدٌ، وطاوُسٌ: يُجْزِئُه عنهما. وقال أبو حنيفةَ: إن كان حاضِرًا، أجْزَأه عن رَمضانَ دُونَ الكفَّارَةِ؛ لأنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ غيرُ مُشْتَرَطٍ لرمضانَ، وإن كان في سَفَرٍ، أجْزَأه عن الكفَّارَةِ دُونَ رمضانَ. وقال صاحباه: يُجْزِئُ عن الكفَّارَةِ دُونَ رمضانَ (¬2)، حَضَرًا و (¬3) سَفَرًا. ولَنا، أنَّ رمضانَ مُتَعَيِّنٌ لصَوْمِه، مُحَرَّمٌ صَوْمُه عن غيرِه، فلم يُجْزِئه عن غيرِه، كيَوْمَي العِيدَين، ولا يُجْزِئُ عن رمضانَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّما لامْرِئٍ مَا نوَى» (¬4). وهذا ما نَوَى رمضانَ، فلا يُجْزِئه، ولا فَرقَ بينَ الحَضَرِ والسَّفَرِ؛ لأنَّ الزَّمانَ مُتَعَيِّنٌ، وإنَّما جازَ فِطْرُه في السَّفَرِ رُخْصَةً، فإذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) كذا حكى عنهما، وفي المغني 11/ 105، أنه يجزئ عن رمضان لا الكفارة. (¬3) في م: «أو». (¬4) تقدم تخريجه في: 1/ 308.

3773 - مسألة: (وإن أصاب المظاهر منها ليلا أو نهارا، انقطع التتابع)

وَإنْ أصَابَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيلًا أوْ نَهَارًا، انْقَطَعَ التَّتَابُعُ. وَعَنْهُ، لَا يَنْقَطِعُ بِفِعْلِهِ نَاسِيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَكَلَّفَ وصامَ، رَجَعَ إلى الأصْلِ. فإن سافَرَ في رَمضانَ المُتَخَلِّلِ لصَوْمِ الكفَّارَةِ وأفْطَرَ، لم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ؛ لأنَّه زَمَن لا يُسْتَحَقُّ صَوْمُه عن الكفَّارَةِ، فلم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ بفِطْرِه كاللَّيلِ. 3773 - مسألة: (وإن أصاب المُظاهَرَ منها لَيلًا أو نَهَارًا، انْقَطَعَ التَّتابُعُ) وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1). فأمَرَ بهما خالِيَين عن وَطْءٍ، ولم يَأْتِ بهما على ما أُمِرَ، فلم يُجْزِئه، كما لو وَطِئَ نهارًا ذاكِرًا، ولأنَّه تَحْرِيمٌ للوَطْءِ لا يَخْتَصُّ النَّهارَ، فاسْتَوَى فيه اللَّيلُ والنَّهارُ، كالاعْتِكافِ. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّ التَّتابُعَ لا يَنْقَطِعُ بالوَطْءِ ليلًا. وهو مذهبُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه وَطْءٌ لا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، فلا يُوجِبُ الاسْتِئْنافَ، كوَطْءِ غيرِها، ولأنَّ التَّتابُعَ في الصِّيامِ عِبارةٌ عن إتْباعِ صَوْمِ يوم لِلَّذِي قَبْلَه مِن غيرِ فارِقٍ، ¬

(¬1) سورة المجادلة 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مُتَحَقِّقٌ وإن وَطِئَ ليلًا، وارْتِكابُ النَّهْي في الوَطْءِ قبلَ إتْمامِه، إذا لم يُخِلَّ بالتَّتابُعِ المُشْتَرَطِ، لا يَمْنَعُ صِحَّتَه وإجْزاءَه، كما لو وَطِئَ قبلَ الشَّهْرَين، أو لو وَطِئَ ليلةَ أوَّلِ الشَّهْرَينِ وأصْبَح صائِمًا، والإِتْيانُ بالصِّيامِ قبلَ التَّماسِّ (¬1) لا سَبِيلَ إليه، سواءٌ بَنَى أو اسْتَأْنفَ. وإن وَطِئَها أو وَطِئَ غيرَها في نَهارِ الشَّهْرَين عامِدًا، أفْطَرَ، وانْقَطَعَ التَّتابُعُ، إجْماعًا، إذا كان غيرَ مَعْذُورٍ. وإن وَطِئَها أو وَطِئَ غيرَها نهارًا ناسِيًا، أفْطَرَ، وانْقَطَعَ التَّتابُعُ، في إحدَى الرِّوايتَين؛ لأنَّ الوَطْءَ لا يُعْذَرُ فيه بالنِّسْيانِ. وعن أحمدَ، رواية أخرى، لا يُفْطِر، ولا يَنْقَطِعُ التَّتابُعُ. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه فَعَلَ المُفْطِرَ ناسِيًا، أشْبَهَ ما لو أَكَلَ ناسِيًا. وإن أُبِيحَ له الفِطْرُ لعُذْرٍ، فوَطِئَ غيرَها نهارًا، لم يَنْقَطِعِ التَّتابُعُ؛ لأنَّ الوَطْءَ لا أثَرَ له في قَطْعِ التَّتابُعِ. وإن (¬2) وَطِئَها، كان كوَطْئِها ليلًا، هلْ يَنْقَطِعُ (¬3) التَّتابُعُ؟ على وَجْهَين. ¬

(¬1) في م: «الثمانين». (¬2) بعده في م: «كان». (¬3) في الأصل، م: «يقطع».

3774 - مسألة: (وإن وطئ غيرها ليلا، لم ينقطع)

وَإنْ أَصَابَ غَيرَهَا لَيلًا لَمْ يَنْقَطِعْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3774 - مسألة: (وإن وَطِئَ غيرَها لَيلًا، لم يَنقَطِعِ) التَّتابُعُ؛ لأنَّ ذلك غيرُ مُحَرَّمٍ عليه، ولا هو مُخِلُّ بإتْباعِ الصَّوْمِ، فلم يَقْطَع التَّتابُعَ، كالأكْلِ. وليس في هذا اخْتِلافٌ نعْلَمُه. فإن لَمَسَ المُظاهَرَ منها، أو باشَرَها دُونَ الفَرْجِ على وَجْهٍ يُفْطِرُ به، قَطَعَ التَّتابُعَ؛ لإِخْلالِه بمُوالاةِ الصِّيامِ، وإلَّا لم يَنْقَطِعْ. والله أعلمُ.

فَصلٌ: فَإِنْ لَم يَسْتَطِعْ، لَزِمَهُ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُسْلِمًا حُرًّا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، إِذَا أَكلَ الطَّعَامَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (¬1) فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (فإن لم يَسْتَطِعْ، لَزِمه إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، مُسْلِمًا حُرًّا، صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا، إذا أَكَلَ الطَّعامَ) أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ المُظاهِرَ إذا لم يَجِدِ الرَّقَبَةَ، ولم يَسْتَطِع الصِّيامَ، أنَّ فَرْضَه إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، على ما أمَرَ اللهُ تعالى في كتابِه، وجاءَ في سُنَّةِ نَبِيِّه - صلى الله عليه وسلم -، سَواءٌ عَجَزَ عن الصِّيامِ لِكِبَرٍ، أو مَرَضٍ يَخافُ بالصَّوْمِ تَباطُؤُه (¬2) أو الزِّيادَةَ فيه، أو الشَّبَقِ فلا يَصْبِرُ فيه عن الجِماعِ، فإنَّ أوْسَ بنَ الصَّامِتِ، لمَّا أمَرَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّوْمِ، قالتِ امْرَأتُه: يا رسولَ اللهِ، إنَّه شَيخٌ كبيرٌ، ما به مِن صِيامٍ. قال: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» (¬3). ولمَّا أمَرَ سَلَمَةَ بنَ صَخْرٍ بالصِّيامِ، قال: وهل أصَبْتُ ما أصبْتُ إلَّا مِن الصِّيامِ! قال: «فَأطْعِمْ» (¬4). فنَقَلَه إلى الإطْعامِ لمَّا ¬

(¬1) من هنا يبدأ الجزء السابع من مخطوطة آل فريان والمرموز لها بـ (ق). (¬2) في تش: «تطاوله». (¬3) تقدم تخريجه في 4/ 225. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْبَرَه أنَّ به مِن الشَّبَقِ والشَّهْوَةِ ما يَمْنَعُه مِن الصِّيامِ. وقِسْنَا على هذين ما يُشْبِهُهُما في مَعْناهما. ويجوزُ أنْ يَنْتَقِلَ إلى الإِطْعامِ إذا عَجَزَ عن الصِّيامِ للمَرَضِ وإن كان مَرْجُوَّ الزَّوالِ؛ لدُخُولِه في قَوْلِه تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. ولأنَّه لا يَعْلَمُ أنَّ له نِهايةٌ، فأشْبَهَ الشَّبَقَ. ولا يجوزُ أن يَنْتَقِلَ الأجْلِ السَّفَرِ؛ لأنَّ السَّفَرَ لا يُعْجِزُه عن الصِّيامِ، وله نِهايَة يَنْتَهِي إليها، وهو مِن أفْعالِه الاخْتِيَارِيَّةِ. والواجِبُ إطْعامُ سِتِّينَ مِسكينًا، لا يُجْزِئُه أقَلُّ مِن ذلك. وقال أبو حنيفةَ: لو أطْعَمَ مِسكينًا واحدًا في سِتِّينَ يومًا، أجْزَأه. وسَنذْكُرُ ذلك، إن شاءَ اللهُ تَعالى.

وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مُكَاتَبٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ في المساكِينِ ثلاثَةُ شُرُوطٍ؛ الإِسْلامُ، والحُرِّيَّةُ، وأن يكونَ قد أكَلَ الطَّعامَ. والمساكينُ هم الذين تُدْفَعُ إليهم الزَّكاةُ، لحاجَتِهم، المذْكُورُون في أَبوابِ الزَّكاةِ، ويَدْخُلُ في ذلك الفُقَراءُ؛ لأنَّهم وإن كانوا في الزَّكاةِ صِنْفَين، فهما في غيرِها صِنْفٌ واحدٌ؛ لكَوْنِهم يأْخُذُونَ لحاجَتِهم إلى ما يَكْفِيهم، أو لِما تَتِمُّ به كِفَايَتُهم. أحدُها، إسْلامُهم، فلا يجوزُ دَفْعُها. إلى كافِرٍ، ذِمِّيًّا كان أو حَرْبِيًّا. وبذلك قال الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ. وقال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي: يجوزُ دَفْعُها إلى الذِّمِّيِّ؛ لدُخُولِه في اسْمِ المساكينِ، فيَدْخُلُ في عُمُوم الآيَةِ، ولأنَّه مسكينٌ مِن أهْلِ دارِ الإسْلامِ، فأجْزَأ الدَّفْعُ إليه مِن الكفَّارَةِ، كالمُسْلِمِ. ورُوِيَ نحوُه عن الشَّعْبِيِّ. وخَرَّجَه أبو الخَطَّابِ وَجْهًا في المذهبِ، بِناءً على جَوازِ إعْتاقِه في الكفَّارَةِ. وقال الثَّوْرِيُّ: يُعْطِيهِم إذا لم يَجِدْ غيرَهم. ولَنا، أنَّهم كُفَّارٌ، فلم يَجُزْ إعْطاؤُهم، كمَساكِينِ أهْلِ الحَرْبِ، والآيَةُ مَخْصُوصةٌ بهذا، فنَقِيسُ عليه. الثَّانِي، أن يكونوا أحْرارًا (فلا يجوزُ دَفْعُها إلى) عَبْدٍ، ولا (مُكاتَبٍ) ولا أُمِّ وَلَدٍ، ولا خِلافَ في أنَّه لا يجوزُ دَفْعُها إلى عَبْدٍ؛ لأنَّ نفَقَتَه واجِبَةٌ على سَيِّدِه، ولا إلى أُمِّ ولَدٍ؛ لذَلكَ. وبهذا قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ، والشافعيُّ. واختارَ الشَّريفُ أبو جَعْفَرٍ جوازَ دَفْعِها إلى مُكاتَبِه وغيرِه. وقال أبو الخَطَّابِ: يَتَخرَّجُ دَفْعُها إليه، بِنَاءً على جَوازِ إعْتاقِه؛ لأنَّه فِيأْخُذُ مِن الزَّكاةِ حاجَتَه، فأشْبَهَ المسكِينَ. ولَنا، أنَّ اللهَ تعالى عَدَّه صِنْفًا في الزَّكاةِ غير صنفِ المسَاكِينِ، ولا هو في مَعْنَى المسَاكِينِ؛ لأنَّ حاجَتَه مِن غيرِ جِنْسِ حاجَتِهم، فيَدُلُّ على أنَّه ليس بمِسْكِين، والكفَّارَةُ إنَّما هي للمَساكِينِ، بدَليلِ الآيَةِ، ولأنَّ المِسْكِينَ يُدْفَعُ إليه لتَتِمَّ كِفايَتُه، والمُكاتَبُ إنَّما يَأْخُذُ لِفَكاكِ رَقَبَتِه، وأمَّا كِفايَتُه، فإنَّها حاصِلَةٌ بكَسْبِه ومالِه، فإن لم يَكُنْ له كَسْبٌ ولا مالٌ، عَجَّزَه سيِّدُه، ورَجَعَ إليه فاسْتَغْنَى بإنْفاقِه عليه، ويُفارِقُ الزَّكاةَ، فإنَّها تُصْرَفُ إلى الغَنِيِّ، والكفَّارةُ بخِلافِها. الثَّالِثُ، أنْ يكونُوا أكلُوا الطَّعامَ، فإن كان طِفْلًا لم يَأْكل الطَّعامَ، لم يُدْفَعْ إليه. في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ القاضي. وهو ظاهِرُ قولِ مالكٍ، فإنَّه قال: يَجُوزُ الدَّفْعُ إلى الفَطِيمِ. وهذا إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ. والثَّانِيَةُ، يَجُوزُ دَفْعُها إلى الصَّغِيرِ الذي لم يَطْعَمْ (¬1)، ويَقْبِضُ له وَلِيُّه. وهذا الذي ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ المذهبَ. ¬

(¬1) في الأصل: «يفطم».

3775 - مسألة: ولا يجوز دفعها إلى كافر. وقد ذكرناه (ولا إلى من تلزمه مؤنته)

وَلَا إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مذهبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. قال أبو الخَطَّابِ: وهو قولُ أكثر الفُقهاءِ؛ لأنَّه حُرٌّ مُسْلِمٌ مُحْتاجٌ، فأشْبَهَ الكَبِيرَ، ولأنَّ أكلَه للكفَّارَةِ ليس بشَرْطٍ، وهدْا يَصْرِفُ الكفَّارَةَ إلى ما يحتاجُ إليه ممَّا تَتِمُّ به كِفايَتُه، فأشْبَهَ الكبِيرَ. ولَنا، قوْلُه تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬1). وهذا يَقْتَضِي أكْلَهُم له، فإذا لم يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ أكْلِهم، وَجَبَ اعْتِبارُ إمْكانِه ومَظِنَّتِه، ولا تَتَحَقَّقُ مَظِنَّتُه في مَن لا يَأْكُلُ، ولأنَّه لو كان المقْصُودُ دَفْعَ حاجَتِه؛ لجاز دَفْعُ القِيمَةِ، ولم يتَعَيَّنِ الإِطْعامُ، وهذا يُقَيِّدُ (¬2) ما ذَكَرُوه. فإذا اجْتَمَعَتْ هذه الأوْصافُ في واحدٍ، جاز الدَّفْعُ إليه، كبيرًا كان أو صَغِيرًا، مَحْجُورًا عليه أو غيرَ مَحْجُورٍ عليه، إلَّا أن مَن لا حَجْرَ عليه يقْبِضُ لنَفْسِه، أو يَقْبِضُ له وَكِيلُه، والمَحْجُورُ عليه كالصَّغِيرِ والمَجْنُونِ، يَقْبِضُ له وَلِيُّه. 3775 - مسألة: ولا يَجُوزُ دَفْعُها إلى كافرٍ. وقد ذَكَرْناه (ولا إلى مَن تَلْزَمُه مُؤْنَتُه) وقد ذَكَرْنا ذلك في الزَّكاةِ (¬3). وفي دَفْعِها إلى الزَّوْجِ وَجْهانِ؛ بِناءً على دَفْعِ الزَّكاةِ إليه (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة 89. (¬2) في م: «يفسد». (¬3) انظر ما تقدم في 7/ 299 - 301. (¬4) انظر ما تقدم في 7/ 304 - 306.

3776 - مسألة: ويجوز دفع الكفارة إلى من ظاهره الفقر

وَإنْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ مِسْكِينًا، فَبَانَ غَنِيًّا، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. وَإنْ رَدَّدَهَا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ سِتِّينَ يَوْمًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، إلا أَنْ لَا يَجِدَ غَيرَهُ، فَيُجْزِئُهُ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُ وَإنْ وَجَدَ غَيرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3776 - مسألة: ويَجُوزُ دَفْعُ الكَفَّارَةِ إلى مَن ظاهِرُه الفَقْرُ. فإن بان غَنِيًّا، فهل يُجْزِئُه؟ فيه وَجْهان، بناءً على الرِّوايَتَين في الزَّكاةِ. وإن بان كافرًا أو عَبْدًا، لم يُجْزِئْه، وَجْهًا واحِدًا. 3777 - مسألة: (وإن رَدَّدَهَا على مِسْكِينٍ واحِدٍ سِتِّين يَوْمًا، لم يُجْزِئْه، إلَّا أن لا يَجِدَ غيرَه، فيُجْزِئُه في ظَاهِرِ المذْهَب. وعنه، لا يُجْزِئُه. وعنه، يُجْزِئُ وإن وَجَدَ غيرَه) وجملةُ ذلك، أنَّ الواجِبَ في كفَّارَةِ الظِّهارِ إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكينًا؛ للآيَةِ، لا يُجْزِئُه أقَلُّ مِن ذلك. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُه أن يُطْعِمَ مسكينًا واحدًا في سِتِّينَ يومًا. ورُوِيَ ذلك عن أحمدَ. حكاه القاضي أبو الحُسَينِ؛ لأنَّ هذا المسكينَ لم يَسْتَوْفِ (¬1) قُوتَ يَوْمِه مِن هذه الكفَّارَةِ، فجاز أن يُعْطَى ¬

(¬1) بعده في م: «إلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منها، كاليَوْم الأوَّلِ. وعن أحمدَ رِوايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّه (¬1) إن وجَدَهم لم يُجْزئْه؛ لأنَّه أمكَنَه امْتِثالُ الأمْر بصُورَته ومَعْناه، وإن لم يَجدْ غيرَه أجْزَأه؛ لتَعَذُّرِ المساكينِ. ووَجْهُ الأُوَلَى، قَوْلُ اللهِ تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (¬2). وهذا يُطْعِمْ إلَّا واحِدًا، فلم يَمْتَثِلِ الأمْرَ، ولأنَّه لم يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فلم يُجْزِئْه، كما لو دَفَعَها إليه في يَوْمٍ واحدٍ، ولأنَّه لو جازَ الدَّفْعُ إليه في أيَّامٍ؛ لجازَ الدَّفْعُ إليه في يَوْمٍ واحدٍ، كالزَّكاةِ وصدقةِ الفِطْرِ، يُحَقِّق هذا أن الله تعالى أمَرَ بعدَدِ المساكينِ، لا بعَدَدِ الأيَّامِ، وقائِل هذا يَعْتَبِر عدَدَ الأيَّامِ دُونَ عدَدِ المساكينِ، والمَعْنى في اليومِ الأوَّلِ، أنَّه لم يَسْتَوف حَقَّه من هذه الكفَّارَةِ، وفي اليومِ الثَّانِي قد اسْتَوْفَى حقَّه، وأخَذَ منها قوتَ يَوْمٍ، فلم يَجُزْ أن يَدْفَعَ إليه في اليومِ الثَّانِي، كما لو أوْصَى إنْسانٌ بشيءٍ لسِتِّين مسكينًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة المجادلة 4.

3778 - مسألة: (وإن دفع إلى مسكين في يوم واحد من كفارتين، أجزأه)

وَإِنْ دَفَعَ إِلَى مِسْكِينٍ في يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كَفَّارَتَينِ، أَجْزأهُ. وَعَنْهُ، لَا يُجْزِئُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3778 - مسألة: (وإن دَفَعَ إلى مِسْكِينٍ في يَوْم واحدٍ مِن كَفّارَتَين، أجْزَأه) وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه دَفَعَ القَدْرَ الواجِبَ إلى العَدَدِ الواجِبِ، فأجْزَأ، كما لو دَفَعَ إليه المُدُيَّن في يَوْمَين. وفيه رِواية أخْرَى، أنَّه (لا يُجْزِئُه) وهو قول أبي حنيفةَ؛ لأنَّه اسْتَوْفَى قوتَ (¬1) يومٍ مِن كفَّارَةٍ، فلم يَجُزِ الدَّفْعُ إليه ثانيًا، كما لو دَفَعَها إليه مِن كفَّارةٍ واحدةٍ. فعلى هذه الروايَةِ، يُجْزِئُه عن إحْدَى الكفَّارَتَين. وهل له الرُّجُوعُ في الأُخْرَى؟ يُنْظَر؛ فإن كان أعْلَمَه أنَّها عن كفَّارَتَين (¬2)، فله الرُّجُوعُ، وإلَّا فلا. وَيَتَخَرَّجُ أن لا يَرْجِع بشيءٍ، على ما ذَكَرْنا في الزَّكاةِ. والرِّوايَة الأولَى أقْيَسُ وأصحُّ، فإنَّ اعْتِبارَ عَدَدِ المساكينِ أَوْلَى مِن اعْتِبارِ عَددِ الأيَّامِ، ولو دَفَعَ إليه ذلك في يَومَين (¬3) ¬

(¬1) في الأصل: «وقت». (¬2) في ق: «كفاءة»، وهو موافق لما في المغني 11/ 99. (¬3) في م: «يوم».

3779 - مسألة: (والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة)

وَالْمُخْرَجُ في الْكَفَّارَةِ مَا يُجْزِئُ في الْفِطْرَةِ. وَفِي الْخُبْزِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْزَأه، ولأنَّه لو كان الدَّافِعُ اثْنَين، أجْزَأ عنهما، فكذلك إذا كان الدَّافِعُ واحدًا. ولو دَفَعَ سِتِّينَ مُدًّا إلى ثلاثين مسكينًا مِن كفَّارَةٍ واحدةٍ، أجْزَأه من ذلك ثلاثون، ويُطْعِمُ ثلاثين آخَرِين، فإن دَفَعَ السِّتِّينَ مِن كفَّارَتَين، خُرِّجَ على الرِّوايَتَين في المسْأَلةِ قبلَها، وهي إذا أطْعَمَ مسكينًا واحدًا مُدَّين مِن كفَّارَتَين في يومٍ واحدٍ. 3779 - مسأَلة: (والمُخْرَجُ في الكَفَّارَةِ مَا يُجْزِئُ في الفِطْرَةِ) وهو البُرُّ، والشَّعِيرُ، والتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، سَواءٌ كان قُوتَ بَلَدِه أو لم يَكُنْ. وما عداها، فقال القاضي: لا يُجْزِئُ إخْراجُه، سواءٌ كان قُوتَ بَلَدِه أو لم يكُنْ؛ لأنَّ الخبَرَ وَرَدَ بإخْراجِ هذه الأصْنافِ (¬1) على ما جاءَ في الأحاديثِ التي نَذْكُرُها، ولأنَّه الجِنْسُ المُخْرَجُ في الفِطْرَةِ، فلم يُجْزِئُ غيرُه، كما لو لم يكُنْ قُوتَ بَلَدِه. 3780 - مسألة: (وفي الخُبْزِ رِوايَتان) إحداهما، يُجْزِئُ. اخْتارَها الخِرَقِيُّ. ونصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ الأثْرَمِ، فإنَّه قال: قلتُ ¬

(¬1) في م: «الأوصاف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأبي عبدِ اللهِ: رجُلٌ أخَذَ ثلاثةَ عشَرَ رَطْلًا وثُلُثًا دَقِيقًا، وهو كفَّارَةُ اليَمِينِ، فخَبَزَه للمساكينِ، وقَسَمَ الخُبْزَ على عشَرةِ مَساكِينَ، أيُجْزِئُه ذلك؟ قال: ذلك أعْجَبُ إليَّ، والذي جاءَ فيه الحَدِيثُ أن يُطْعِمَهُم مُدَّ بُرٌّ، وهذا إن فَعَلَ فأرْجُو أن يُجْزِئَه. قلتُ: إنَّما قال اللهُ تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}. فهذا قد أطْعَمَهم، وأوْفَاهم المُدَّ. قال: أرْجُو أن يُجْزِئَه. وهذا قولُ بعْضِ أصحابِ الشافعيِّ. ونَقَلَ الأثْرَمُ، في موضِعٍ آخَرَ، أنَّ أحمدَ سألَه رجلٌ عن الكفَّارَةِ، قال: أُطْعِمُهم خُبْزًا وتَمْرًا؟ قال: ليس فيه تَمْرٌ. قال: فخُبْزٌ؟ قال: لا، ولكن بُرًّا أو دَقِيقًا بالوَزْنِ، رَطْلٌ وثُلُثٌ لكُلِّ مِسْكينٍ. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يُجْزِئُه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه خرَجَ عن حالةِ الكَمَالِ والادِّخارِ، فأَشْبَه الهَرِيسَة. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أحْسَنُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. وهذا مِن أوْسَطِ ما يُطْعِمُ أهْلَه، وليس الادِّخارُ مقْصُودًا في الكفَّارَةِ، فإنَّها مُقَدَّرَة بما يَقُوتُ المسكينَ في يومِه، فيدُلُّ ذلك على أنَّ المقْصُودَ كفَايَتُه في يومِه، وهذا قَد هَيَّأَه للأكْلِ ¬

(¬1) في: المغني 11/ 100.

3781 - مسألة: (فإن كان قوت بلده غير ذلك)

وَإنْ كَانَ قُوتُ بَلَدِهِ غَيرَ ذَلِكَ، أَجْزَأَهُ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ الله تِعَالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. وَقَال الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُعْتادِ لِلاقْتِياتِ، وكَفاهم مُؤْنَتَه، فأشْبَهَ ما لو نَقَّى الحِنْطَةَ وغَسَلَها. وأمَّا الهَرِيسَةُ والكَبُولا (¬1) ونَحْوُهما، فلا يُجْزِئُ؛ لأنَّهما خرُجَا عن الاقْتِياتِ المُعْتادِ إلى حَيِّزِ الإدام. وأمَّا السَّويقُ، فيَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئ؛ لذلك. ويَحْتَمِلُ أن يُجْزِئ؛ لأَنَّه يُقْتاتُ في بعضِ البُلْدانِ، ولأنَّ السَّويقَ يُجْزِئُ في الفِطْرَةِ، فأجْزَأ (¬2) ههُنا. 3781 - مسألة: (فإن كان قُوتُ بَلَدِه غيرَ ذلك) كالذُّرةِ، والدُّخْنِ، والأرُزِّ، لم يُجْزِئُ إخْراجُه، على قَوْلِ القاضِي. وقال أبو ¬

(¬1) الكبولا: العصيدة. (¬2) في الأصل: «وكذلك»، وفي ق، م: «فكذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَطَّابِ: عندِي أنَّه يجْزِئُه الإِخْراجُ مِن جميعِ الحُبُوب التي هي قُوتُ بَلَدِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬1). وهذا ممَّا يُطْعِمُه أهْلَه، فوَجَبَ أن يُجْزِئَه بظاهرِ النَّصِّ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. فإن أخْرَجَ عن (¬2) قُوتِ بَلَدِه، أجْوَدَ منه، فقد زادَ خيرًا. فصل: وإخْراجُ الحَبِّ أفْضَلُ عندَ أبي عبدِ اللهِ؛ لأنَّه يَخْرُجُ به مِن الخِلافِ، وهي حالة كَمالِه؛ لأنَّه يُدَّخَر فيها، ويَتَهَيَّأُ لمنافِعِه كُلِّها، بخِلافِ غيرِه. فإن أخْرَجَ دَقِيقًا، جاز، لكنْ يَزِيدُ على المُدِّ قَدْرًا يَبْلُغُ المُدَّ حَبًّا، أو يُخْرِجُه بالوَزْنِ؛ لأنَّ الحَبَّ يَرُوعُ (¬3)، فيكونُ في مِكْيَالِ الحَبِّ أكثرُ ممَّا يكونُ في مِكْيالِ الدَّقِيقِ. قال الأثْرَمُ: قِيل لأبي عبدِ اللهِ: فيُعْطِي البُرَّ والدَّقِيقَ؟ قال: أمَّا الذي جاءَ فالبُرُّ، ولكن إن أعْطاهُم الدَّقِيقَ بالوزنِ، جازَ. وقال الشافعيُّ: لا يُجْزِئُ؛ لأنَّه ليس بحَالِ الكَمالِ، لأجْلِ ما يَفوتُ به مِن وُجُوهِ الانْتِفاعِ، فأشْبَهَ الهَرِيسَةَ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. والدَّقِيق مِن أوْسَطِ ما يُطْعِمُه أهلَه، ولأنَّ الدَّقِيقَ أجْزَاءُ الحِنْطَةِ، وقد كَفاهم مُؤْنَتَه وطَحْنَه، وهَيَّأه وقَرَّبَه مِن الأكْلِ، وفارَقَ ¬

(¬1) سورة المائدة 89. (¬2) كذا في النسخ، وفي المغني 11/ 99: «غير». (¬3) كذا ورد في النسخ، وراعت الحنطة، تريع: نمت وزادت، أي يكون له زيادة وفضل.

3782 - مسألة: (ولا يجزئ من البر أقل من مد، ولا من غيره أقل من مدين)

وَلَا يُجْزِئُ مِنَ الْبُرِّ اقَلُّ مِنْ مُدٍّ، وَلَا مِنْ غَيرِهِ أقَلُّ مِنْ مُدَّينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الهَرِيسَةَ، فإنَّها تَفْسُدُ عن قَرِيبٍ، ولا يُمْكِنُ الانْتِفاعُ بها في غيرِ الأكْلِ في تلك الحالِ، بخلافِ مَسْأَلتِنا. 3782 - مسألة: (ولا يُجْزِئُ مِن البُرِّ أقَلُّ مِن مُدٍّ، ولا مِن غَيرِه أقَلُّ مِن مُدَّين) وجملةُ ذلك، أنَّ قَدْرَ الطَّعامِ في الكفَّاراتِ مُدٌّ مِن بُرٍّ لكُلِّ مسكينٍ، أو نصفُ صاعِ تَمْرٍ أو شعيرٍ. ومِمَّن قال: مُدُّ بُرٍّ. زيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ، وابنُ عمرَ. حَكاه عنهم الإمامُ أحمدُ، ورواه عنهم الأثْرَمُ، وعن عطاءٍ، وسليمانَ بنِ موسى. وقال سليمانُ بنُ يَسارٍ: أدْرَكْتُ النَّاسَ إذا أعْطَوْا في كفَّارَةِ اليَمِينِ، أعْطَوْا مُدًّا مِن حِنْطَةٍ بالمُدِّ الأصْغَرِ، مُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال أبو هُرَيرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِن أيِّ الأنْواعِ كان. وبه قال عَطاء، والأوْزَاعِيُّ، والشافعيُّ؛ لِما روَى أبو داود (¬2) بإسْنادِه، عن أوْس أخِي (¬3) عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 55. (¬2) في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 514. (¬3) في النسخ: «ابن أخي»، والمثبت من سنن أبي داود 1/ 514، وانظر أسد الغابة 1/ 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعْطاه -يَعني المُظاهِرَ- خمسةَ عَشَرَ صاعًا مِن شَعِيرٍ، إطْعامَ سِتِّينَ مسكينًا. وروَى الأثْرَمُ (¬1) بإسْنادِه، عن أبي هُرَيرَة، في حَدِيثِ المُجامِعِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ بِعَرَقٍ فيه خمسةَ عَشَرَ صاعًا، فقال: «خُذْه وَتَصَدَّقْ به». وإذا ثَبَتَ هذا (¬2) في المُجامِعِ بالخَبَرِ، ثَبَتَ في المُظاهِرِ قِياسًا عليه، ولأنَّه إطْعامٌ واجبٌ، فلم يَخْتَلِفْ باخْتلافِ أنْواعِ المُخْرَجِ، كالفِطْرَةِ. وقال مالكٌ: لكُلِّ مِسكينٍ مُدَّان مِن جيعِ الأنْواعِ. وممَّن قال: مُدَّان مِن قَمْحٍ. مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ؛ لأنَّها كفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ على صِيَام وإطْعامٍ، فكان لكُلِّ مِسكين نِصْفُ صاعٍ، كفِدْيَةِ الأذَى. وقال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرّأْيِ: مِن القمحِ مُدَّان، ومِن التَّمْرِ والشَّعِيرِ صاعٌ لكُلِّ مسْكِينٍ؛ لقوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ: «فَأطْعِمْ وَسْقًا مِن تَمْرٍ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وغيرُهما (¬3). وروَى الخَلَّالُ (¬4) بإسْنادِه، عن يُوسفَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ، عن خُوَيلَةَ: فقال لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ». وفي روايةِ أبي داودَ (¬5): والعَرَقُ سِتُّونَ صاعًا. وروَى ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب كفارة من أتى أهله في رمضان، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 558. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 208. (¬2) زيادة من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 276. (¬4) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 411. (¬5) في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 514.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ ماجه (¬1) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، قال: كَفَّرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بصَاعٍ مِن تَمْرٍ، وأمَرَ النَّاسَ، فَمَن لم يَجِدْ فنِصْفُ صَاعٍ مِن بُرٍّ. [وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِن تَمْرٍ أو شَعِيرٍ، أو نِصْفَ صاعٍ مِن بُرٍّ] (¬2). ولأنَّه إطْعامٌ للمساكِينِ، فكان صاعًا مِن التَّمْرِ والشَّعِيرِ، أو نِصْفَ صاعٍ مِن بُرٍّ، كصَدَقَةِ الفِطْرِ. ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ، ثنا إسماعيلُ، ثنا أيُّوبُ، عن أبي يَزِيدَ المَدَنِيِّ، قال: جاءتِ امْرَأةٌ مِن بني بَياضَةَ بنِصْفِ وَسْقِ شَعِيرٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمُظاهِرِ: «أطْعِمْ هذا؛ فَإنَّ مُدَّىْ شَعِيرٍ مَكَان مُدِّ بُرٍّ» (¬3). وهذا نَصٌّ. ولأنَّه قَوْلُ زَيدٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وأبي هُرَيرَةَ، ولم نَعْرِفْ لهم في الصَّحابَةِ مُخَالِفًا، فكان إجْماعًا. وعلى أنَّه نِصْفُ صاع مِن التَّمْرِ والشَّعِيرِ، ما روَى عطاءُ بنُ يَسارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لخَوْلَةَ (¬4) امْرَأةِ أوْسِ بنِ الصَّامِتِ: «اذْهَبِي إلى فُلانٍ الأنْصَارِيِّ، فإنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، أخْبَرَنِي أنَّه يُرِيدُ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيه، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» (¬5). وفي حديثِ ¬

(¬1) في: باب كم يطعم في كفارة اليمين، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 682. (¬2) سقط من: الأصل. والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 507. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 55. (¬3) انظر ما تقدم في 7/ 471، 472. (¬4) في م: «لخويلة». ويقال: خولة، وخويلة. انظر عون المعبود 2/ 334. (¬5) أخرجه سعيد، في: سننه 2/ 15. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 389، 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْسِ بنِ الصَّامِتِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ: فإنِّي سأُعِينُه بعَرَقٍ آخَرَ. قال: «أحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ». وروَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، عن أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنَّه قال: العَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خمسةَ عَشَرَ صاعًا. فالعَرَقان ثلاثونَ صاعًا، لكُلِّ مِسْكينٍ نِصْف صاعٍ. ولأنَّها كفَّارَة تَشْتَمِلُ على صِيامٍ وإطْعامٍ، فكان لكُلِّ مِسْكينٍ نِصْفُ صاعٍ مِن التَّمْرِ (¬2) والشَّعِيرِ، كفِدْيَةِ الأذَى. فأمَّا رِوايَةُ أبي داودَ أنَّ الْعَرَقَ سِتُّون صاعًا. فقد ضَعَّفَها، وقال: غيرُها أصَحُّ منها. وفي الحديثِ ما يدُلُّ على الضَّعْفِ؛ لأنَّ ذلك في سياقِ قَوْلِه: «إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ». فقالتِ امْرأتُه: إنِّي سأُعِينُه بعَرَقٍ آخَرَ. قال: «فأَطْعِمِي بها عنه سِتِّينَ مِسْكِينًا». فلو كان العَرَقُ سِتِّينَ صاعًا، لكانتِ الكفَّارَةُ مائةً وعشرين صاعًا، ولا قائِلَ به. وأمَّا حَدِيثُ المُجامِعِ الذي أعْطاه خمسةَ عَشَرَ صاعًا، فقال: «تَصَدَّقْ بِهِ». فيَحْتَمِلُ أنَّه اقْتَصَرَ عليه إذ (¬3) لم يَجِدْ سِواه، ولذلك لمَّا أخْبَرَه بحاجَتِه إليه أمرَه بأكْلِه. وفي الحديثِ المُتَّفَقِ عليه (¬4): «قَرِيبٌ مِن عِشْرِينَ صاعًا». وليس ذلك مَذْهَبًا لأحَدٍ، فيَدُلُّ ¬

(¬1) في: باب في الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 514. (¬2) في الأصل، ق: «البر». (¬3) في الأصل، م: «إذا». (¬4) يعني به حديث أبي هريرة، الذي أخرجه البخاري، في: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، من كتاب الصوم. صحيح البخاري 3/ 41. ومسلم، في: باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 781. ولم يرد فيه عندهما تعيين مقدار المكتل أنه قريب =

3783 - مسألة: (ولا)

وَلَا مِنَ الْخُبْزِ أَقلُّ مِنْ رَطْلَينِ بِالْعِرَاقِيِّ، إلَّا أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ مُدٌّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنَّه اقْتَصَرَ على البَعْضِ الذي لم يَجِدْ سواه. وحَدِيثُ أوْسٍ أخِي (¬1) عُبادَةَ مُرْسَلٌ، يَرْويه عنه عَطاءٌ، ولم يُدْرِكْه، على أنَّه حُجَّةٌ لنا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطاه عَرَقًا، وأعانَتْه امْرَأتُه بعَرقٍ آخَرَ، فصارا جَمِيعًا ثلاثين صاعًا، كما فَسَّرَه أبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمنِ. وسائِرُ الأحادِيثِ يُجْمَعُ بينَها وبينَ أخْبارِنا بحملِها على الجوازِ، وأخْبارُنا على الإجْزاءِ، وقد عَضَد هذا أنَّ ابنَ عباسٍ رَاوي (¬2) بعْضِها، ومذْهَبُه أنَّ المُدَّ مِن البُرِّ يُجْزِئُ، وكذلك أبو هُرَيرَةَ، وسائِرُ ما ذَكَرْنا مِن الأخْبارِ، مع الإجْماعِ الذي نَقَلَه سليمانُ بنُ يَسارٍ. 3783 - مسألة: (ولا) يُجْزِئُ (مِن الخُبْزِ أقَلُّ مِن رَطْلَينِ بالعراقِيِّ، إلَّا أن يَعْلمَ أنَّه مُدٌّ) وجملةُ ذلك، أنَّه [إذا أعْطى] (¬3) المسْكِينَ ¬

= من عشرين صاعا، كما أورده الشارح. وأخرجه ابن خزيمة، في: باب ذكر قدر مكيل التمر. . .، من كتاب الصيام. صحيح ابن خزيمة 3/ 221. وأبو داود في: باب كفارة من أتى أهله في رمضان، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 558. والبيهقي، في: باب رواية من روى الأمر بقضاء يوم. . .، من كتاب الصيام. السنن الكبرى 4/ 227. وعبد الرزاق، في: باب من يبطل الصيام. . .، من كتاب الصيام. المصنف 4/ 195. وانظر الكلام على طرق الحديث في فتح الباري 4/ 169. (¬1) في تش: «ابن أخي». (¬2) في الأصل: «روى». (¬3) سقط من: الأصل.

3784 - مسألة: (فإن أخرج القيمة، أو غدى المساكين أو عشاهم، لم يجزئه)

وَإنْ أُخرَجَ الْقِيمَةَ، أَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَطْلَيْ خُبْزٍ بالعِراقِيِّ، أجْزَأه. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وذلك بالرَّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الذي هو سِتُّمائةِ دِرْهَمٍ، خَمْسُ أواقٍ وسُبْعُ أُوقِيَّةٍ؛ لأنَّ ذلك لا يكونُ من (1) أقَلَّ مِن مُدٍّ. قال القاضي: المُدُّ يَجِئُ منه رَطْلان؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ رَطْلَين مِن الخُبْزِ لا يَكونُ مِن (¬1) أقَلَّ مِن مُدٍّ. فأمَّا إن عَلِمَ أنَّه مُدٌّ، بحيثُ يَأْخُذُ مُدًّا مِن حِنْطَةٍ، فيَطْحَنُه، ويَخْبِزُه، أو رَطْلًا وثُلُثًا مِن دَقِيقِ الحِنْطَةِ، ويَصنَعُه خُبْزًا، فيُجْزِئُه. وهذا في البُرِّ. فأمَّا إن كان مِن الشَّعِيرِ، فلا يُجْزِئُه إلَّا ضِعْفُ [ذلك على ما قَرَّرْنا] (¬2)، أو يَخْبِزُ نِصْفَ صاعِ شعيرٍ. كما قُلْنا في البُرِّ، ويُخْرِجُه، فيُجْزِئُه. 3784 - مسألة: (فإن أخْرَجَ القِيمَةَ، أو غَدَّى المساكِينَ أو عَشَّاهم، لم يُجْزِئْه) ويَحْتَمِلُ أنْ يُجْزِئَه. لا يُجْزِئُ إخْراجُ القِيمَةِ في الكَفَّارَةِ. نَقَلهَا المَيمُونِيُّ، والأثْرَمُ. وهو مذهبُ مالكٍ، والشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ. وهو الظَّاهِرُ مِن قولِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، وابنِ عباسٍ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش. (¬2) في م: «ما قدرنا».

3785 - مسألة: (وإن غدى المساكين أو عشاهم، لم يجزئه. وعنه، يجزئه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجازَه الأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ المقْصُودَ دَفْعُ حاجَةِ المساكينِ، وهو يَحْصُلُ بذلك. وخرَّجَ بعْضُ أصحابِنا مِن كلامِ أحمدَ روايةً أُخْرَى، أنَّه يُجْزِئُه. وهو ما روَى الأثْرَمُ، أنَّ رَجُلًا سأل أحمدَ، قال: أعْطَيتُ في كفَّارَةٍ خَمْسَ دَوانِيقَ؟ فقال: لو اسْتَشَرْتَني قبلَ أن تُعْطِيَ، لم أُشِرْ عليك، ولكن أعْطِ ما بَقِيَ مِن الأثْمانِ على ما قُلتُ لك. وسَكَتَ عن الذي أعْطىَ. وهذا ليس بروايةٍ، إنَّما سَكَتَ عن الذي أعْطى؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ فيه، فلم يَرَ التَّضْيِيقَ عليه فيه. والمذهبُ الأوَّلُ؛ لظاهِرِ قولِه سبحانه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. ومَن أخْرَجَ القِيمَةَ، لم يُطْعِمْ. وقد ذَكَرْناه في الزَّكاةِ. 3785 - مسألة: (وإن غَدَّى المَساكِينَ أو عَشَّاهُمْ، لم يُجْزِئْه. وعنه، يُجْزِئُه) ظاهِرُ المذْهَبِ في كيفِيَّةِ إطْعامِ المساكينِ، أنَّ الواجِبَ أنْ يُمَلِّكَ كلَّ إنْسانٍ مِن المساكينِ القَدْرَ الواجِبَ مِن الكفَّارَةِ، فلو غَدَّى المساكِينَ أو عشَّاهُم، لم يُجْزِئه، سواءٌ [فَعَل ذلك بالقَدْرِ] (¬1) الواجب، أو أقلَّ، أو أكْثَرَ، ولو غَدَّى كلَّ واحدٍ بمُدٍّ (¬2)، لم يُجْزِئْه، إلَّا أن يُمَلِّكه إيَّاه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ، روايةٌ أُخْرَى، أنَّه يُجْزِئُه إذا أطْعَمَهم القَدْرَ الواجِبَ لهم. وهو قولُ النَّخَعِيِّ، وأبي حنيفةَ. وأطْعَمَ أنَسٌ ¬

(¬1) في م: «كان ذلك بقدر». (¬2) في م: «غداء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في فِدْيَةِ الصِّيامِ (¬1). قال أحمدُ: أطْعَمَ شيئًا كَثِيرًا، وَضَعَ الجِفانَ. وذكَرَ حَدِيثَ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنَسٍ؛ وذلك لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. وهذا قد أطْعَمَهُم، فيَنْبَغِي أن يُجْزِئَه، ولأنَّه أطْعَمَ المساكينَ، فأجْزَأه، كما لو مَلَّكَهم. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّ المَنْقُولَ عن الصَّحابةِ إعْطاؤُهم، ففي قولِ زيدٍ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمَرَ، وأبي هُرَيرَةَ، مُدٌّ لكُلِّ فَقِيرٍ. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لكَعْبٍ، في فِدْيَةِ الأذَى: «أطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، بَينَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» (¬2). ولأنَّه مالٌ وَجَبَ للفُقَراء شَرْعًا، فوجَبَ تَمْلِيكُهم إيَّاه كالزَّكاةِ. فإن قُلْنا: يُجْزِئُ. اشْتُرِطَ أَن يُغَديهم سِتِّينَ مُدًّا (¬3) فصَاعِدًا، ليكونَ قد أطْعَمَهم قَدْرَ الواجِبِ. وإن قُلْنا: لا يُجْزِئُ أن يُغَدِّيَهُم. فَقدَّمَ إليهم سِتِّينَ مُدًّا، وقال: هذا بينَكم بالسَّويَّةِ. فقَبِلُوه، أجْزَأ، لأنَّه مَلَّكَهم التَّصَرُّفَ فيه والانتِفاعَ (¬4) قَبْلَ القِسْمَةِ. وهذا ظاهِرُ مذْهَبِ الشافعيِّ. وقال أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ: يُجْزِئُه، وإن لم يَقُلْ: بالسَّويَّةِ، لأنَّ قَوْلَه: خُذُوها عن كَفَّارَتِي. يَقْتَضِي التَّسْويَةَ، لأنَّ ذلك حُكْمُها. وقال ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 4/ 220. والطبراني، في: المعجم الكبير 1/ 214. والدارقطني، في: سننه 2/ 207، والبيهقي، في: السنن الكبرى 4/ 271. (¬2) تقدم تخريجه في: 2/ 145. وأخرجه البخاري، في: صحيحه 5/ 164. وهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد، في: مسنده 4/ 243. (¬3) في الأصل، تش: «صاعًا». (¬4) في م: «الامتناع».

فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُ الإخْرَاجُ إلا بِنِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ الإعْتَاقُ وَالصِّيَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: إن عَلِمَ أنَّه وَصَلَ إلى كلِّ واحدٍ قَدْرُ حَقِّه، أجْزَأ، وإن لم يَعْلَمْ، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ الأصْلَ شَغْلُ ذِمَّتِه، ما لم يَعْلَمْ وُصُولَ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه دَفَعَ الحَقَّ إلى مُسْتَحِقِّه مُشَاعًا، فقَبِلُوه، فبَرِئَ منه، كدُيُونِ غرَمائِه. فصل: ولا يَجِبُ التّتابُعُ في الإطْعامِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في روايةِ الأثْرَمِ، وقيل له: يكونُ عليه كفَّارَةُ يَمِينٍ، فيُطْعِمُ الصَوْمَ واحِدًا، والآخَرَ بعدَ أيَّامٍ، وآخَرَ بَعْدُ حتى يَسْتَكْمِلَ عَشَرَةً؟ فلم يَرَ بذلك بأْسًا؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى لم يَشْتَرِطِ التَّتابُعَ فيه. ولو وَطِئَ في أثْناءِ الإطْعامِ، لم تَلْزَمْه إعادَةُ ما مَضَى منه. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال مالكٌ: يَسْتَأْنِفُ؛ لأنَّه وَطِئَ في أثْناءِ الكفَّارَةِ، فوَجَبَ الاسْتِئْنافُ كالصِّيامٍ. ولَنا، أنَّه وَطِئَ في أثْناءِ ما لا يُشْتَرَطُ التَّتابُعُ فيه، فلم يُوجِبْ الاسْتِئْناف، كوَطْءِ غيرِ المُظاهَرِ منها، أو كالوَطْءِ (¬1) في كفَّارَةِ اليَمِينِ، وبهذا فارَقَ الصِّيامَ. فصل: (ولا يُجْزِئُ الإخْراجُ إلَّا بنِيَّةٍ، وكذلك الإعْتاقُ والصِّيامُ) لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» (¬2). ولأنَّ العِتْقَ يَقَعُ مُتَبَرِّعًا ¬

(¬1) في م: «كما لو وطئ». (¬2) تقدم تخريجه في: 1/ 308.

3786 - مسألة: (فإن كانت عليه كفارة واحدة، فنوى عن كفارتي، أجزأه)

فَإِنْ كَانَ عَلَيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَنَوَى عَنْ كَفَّارَتِي، أَجْزَأَةُ، وَإنْ كَانَ عَلَيهِ كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ، فَنَوَى إِحْدَاهَا، أَجْزأَهُ عَنْ وَاحِدَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به، وعن كفَّارَةٍ أُخْرَى، أو نَذْرٍ، فلم يَنْصَرِفْ الن هذه الكفَّارَةِ إلَّا بنِيَّةٍ، وصِفَتُها أن يَنْويَ العِتْقَ، أو الإطْعامَ، أو الصِّيامَ عن الكفَّارَةِ، فإن زادَ الواجبَةَ فهو تأْكيدٌ، وإلَّا أجْزَأتْ نِيَّةُ الكفَّارَةِ. وإن نَوَى وُجُوبَها، ولم يَنْو الكفَّارَةَ، لم تُجْزِئْه؛ لأنَّ الوُجُوبَ يَتَنَوَّعُ عن كفَّارَةٍ ونَذْرٍ، فَوجَبَ تَمْيِيزُه. ومَوْضِعُ النِّيَّةِ مع التَّكْفِيرِ، أو قَبْلَه بيَسِيرٍ. وهذا الذي نَصَّ عليه الشافعيُّ، وقال به بعضُ أصحابه. وقال بعضُهم: لا يُجْزِئُ حنى يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ. وإن كانتِ الكفَّارَةُ صِيامًا، اشْتُرِطَتْ نِيَّةُ الصِّيام عن الكفَّارَةِ في كلِّ لَيلَةٍ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيلِ» (¬1). 3786 - مسألة: (فإن كانت عليه كَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، فَنَوَى عن كَفَّارَتِي، أجْزَأه) لأنَّ النِّيَّةَ تَعَينَّتْ لها (وإن كان عليه كفَّاراتٌ مِن جنْسٍ) وَاحِدٍ، لم يَجِبْ تَعْيِينُ سَبَبِها. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصَحابُ الرَّأْي. ولا نعلمُ فيه مُخالِفًا. فعلى هذا، لو كان مُظاهِرًا مِن أرْبَعِ نِساءٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: 7/ 391.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأعْتَقَ عبدًا عن ظِهارِه، أجْزَأه عن إحْداهُنَّ، وحَلَّتْ له واحدةٌ غيرُ مُعَينَّةٍ؛ لأنَّه وَاجِبٌ مِن جِنْس واحِدٍ، فأجْزَأتْه نِيَّةٌ مُطْلَقَة، كما لو كان عليه صَوْمُ يَوْمَينِ مِن رَمضانَ. وقِياسُ المذهبِ أن يُقْرِعَ بَينَهُنَّ، فتُخْرَجَ المُحَلَّلَةُ مِنْهُنَّ بالقُرْعَةِ. وهذا قولُ أبي ثَوْرٍ. وقال الشافعيُّ: له أن يَصْرِفَها إلى أيَّتِهِنَّ شاءَ، فَتَحِل. وهذا يُفْضِي إلى أنَّه يَتَخَيَّرُ بينَ كَوْنِ هذه المرأةِ مُحَلَّلَةً له أو مُحَرَّمَةً عليه. وإن كان الظِّهارُ مِن ثَلاثِ نِسْوَةٍ، فأعْتَقَ عبدًا عن إحْداهُنَّ، ثم صامَ شَهْرَينِ عن أُخْرَى، ثم مَرِض، فأطْعَمَ سِتِّينَ مسكينًا عن أُخْرَى، أجْزَأه، وحَلَّ (¬1) له الجَمِيعُ مِن غيرِ قُرْعَةٍ ولا تَعْيِينٍ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال أبو ثَوْرٍ: يُقْرِعُ بَينَهُنَّ، فمَنْ تَقَعُ لها القُرْعَةُ، فالعِتْقُ لها، ثم يُقْرِعُ بينَ الباقِيَتَين، فمن تَقَعُ لها القُرْعَةُ فالصِّيامُ لها، والإطْعامُ عن الثَّالثةِ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ مِن هذه الخِصالِ لو انْفَرَدَتْ، احْتاجَتْ إلى قُرْعَةٍ، فكذلك إذا اجْتَمَعَتْ. ولَنا، أنَّ التَّكْفِيرَ قد حَصَلَ عن الثَّلاثِ، وزالتْ حُرْمَةُ الظِّهارِ، فلم يَحْتَجْ إلى قُرْعَةٍ، كما لو أعْتَقَ ثلاثةَ أعْبُدٍ (1) عن ظِهارِهِنَّ، دَفْعَةً واحِدَةً. ¬

(¬1) سقط من: م.

3787 - مسألة: (وإن كانت من أجناس)

وَإنْ كَانَتْ مِنْ أجْنَاسٍ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ. وَعِنْدَ الْقَاضِي، لَا تُجْزِئُهُ حَتَّى يُعَيِّنَ سَبَبَهَا. فَإنْ كَانَتْ عَلَيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ نَسِيَ سَبَبَهَا، أَجْزأَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الأوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي، يَجِبُ عَلَيهِ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِ الأسْبَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3787 - مسألة: (وإن كانت مِن أجْناسٍ) كظِهارٍ، وقَتْلٍ، وجِماعٍ في رَمَضانَ، ويَمِينٍ، فقال أبو الخَطَّابِ: لا تَفْتَقِرُ (¬1) إلى تعْيِينِ السَّبَبِ. [وهذا مذهبُ] (¬2) الشافعيِّ؛ لأنَّها عِبادَةٌ واجِبَةٌ، فلم تَفْتَقِرْ صِحَّةُ أدائِها إلى تَعْيِينِ سَبَبِها، كما لو كان مِن جِنْسٍ واحِدٍ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن يُشْتَرَطَ تَعْيينُ سَبَبها، ولا يُجْزِئُ بنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ. وحَكاه بعْضُ أصحابِ الشافعيِّ، عن أحمدَ. وهو مذهبُ إلى حنيفة؛ لأنَّهما عِبادتان مِن جِنْسَين، فوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لهما، كما لو وَجَبَ عليه صَوْمٌ مِن قَضَاءٍ ونَذْرٍ. فعلى هذا، لو كانت عليه كفَّارَةٌ واحدةٌ لا يَعْلَمُ سَبَبَها، أجْزَأتْه كفَّارَةٌ واحدةٌ، على الوَجْهِ الأوَّلِ. قاله أبو بكرٍ. وعلى الوَجْهِ الثَّانِي يَنْبَغِي أن تَلْزَمَه (كفَّاراتٌ بعَدَدِ الأسْبابِ) كُلُّ واحدةٍ عن سَبَبٍ، كمَن نَسِيَ صلاةً مِن يومٍ لا يَعْلمُ عَينَها، فإَّنه يَلْزَمُه خمسُ صلواتٍ، ولو عَلِمَ أنَّ عليه يومًا، لا يَعْلَمُ هل هو مِن قَضاءٍ أو مِن نَذْرٍ، لَزِمَه صَوْمُ يَوْمَين. ¬

(¬1) في تش: «يحتاج». (¬2) في م: «وبهذا قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كان عليه صِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ، لا يَدْرِي أهي مِن كفَّارةٍ، أو نَذْرٍ، أو قَضاءٍ، لَزِمَه صيامُ تِسْعَةِ أيَّامٍ، كلُّ ثلاثةٍ عن واحدةٍ مِن الجِهاتِ الثَّلاثِ. فصل: إذا كان على رجلٍ كفَّارَتان، فأعْتَقَ عنهما عَبْدَين، لم يَخْلُ مِن أرْبَعةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يَقُولَ: أعْتَقْتُ هذا عن هذه الكفَّارَةِ، وهذا عن هذه. فيُجْزِئُه، إجْماعًا. الثَّانِي، أن يَقُولَ: أعْتَقْتُ هذا عن إحْدَى الكفَّارَتَينِ، وهذا عن الأُخْرَى. مِن غيرِ تَعْيينٍ؛ وإنْ كانا مِن جِنْسٍ واحدٍ، ككَفَّارَتَيْ ظِهارٍ، أو قَتْل، أجْزَأه. وإنْ كانتا مِن جِنْسَين، ككَفارَةِ ظِهارٍ، وكفَّارَةِ قَتْل، خُرِّجَ على وَجْهَينِ في اشْتِراطِ تَعْيِينِ السَّبَب؛ فإن قُلْنا: يُشْتَرَطُ. لم يُجْزِئْه واحدٌ منهما. وإن قُلْنا: لا يُشْتَرَطُ. أجزَأه عنهما. الثَّالِثُ، أن يقولَ: أعْتَقْتُهما عن الكفَّارَتَين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانتا مِن جِنْسٍ، أجْزَأ عنهما، ويَقَعُ كلُّ واحدٍ عن كفَّارَةٍ؛ لأنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ والاسْتِعْمالِ إعْتاقُ الرَّقَبَةِ عن الكفَّارَةِ، فإذا أطْلَقَ ذلك، وَجَبَ حَمْلُه عليه، وإن كانا مِن جِنْسَين، خُرِّجَ على الوَجْهَين. الرَّابعُ، أن يُعْتِقَ كلَّ واحدٍ منهما عنهما جميعًا، فيَكون مُعْتِقًا عن كلِّ واحدةٍ مِن الكفَّارَتَينِ نِصْفَ العَبْدَين (¬1)، فيَنْبَنِي ذلك (¬2) على أصْلٍ آخَرَ، وهو إذا أعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَين عن كفَّارَةٍ (¬3)، هل يُجْزِئُه أو لا؟ فعلى قَوْلِ الخِرَقِيِّ، يُجْزِئُه؛ لأنَّ الأشْقاصَ بمَنْزِلَةِ الأشْخاصِ، فيما لا يَمْنَعُ منه العَيبُ اليَسِيرُ، بدليلِ الزَّكاةِ، فإنَّ مَن مَلَكَ نِصْفَ ثمانينَ شاةً، كان كمَن مَلَكَ أرْبَعِينَ، ولا تَلْزَمُ الأُضْحِيَةُ، فإنَّه يَمْنَعُ منها العَيبُ اليَسِيرُ. وقال أبو بكرٍ، وابنُ حامدٍ: لا يُجْزِئُه. وهو قولُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّ ما أُمِرَ بصَرْفِه إلى شَخْصٍ في الكفَّارَةِ، لم يَجُزْ تَفْرِيقُه على اثْنَين، كالمُدِّ في الإِطْعامِ. ولأصحاب الشافعيِّ كهذين الوَجْهَين، ولهم وَجْهٌ ثالِثٌ، وهو أنَّه إن كان باقِيهما حُرًّا، أجْزَأ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه متى كان باقِيهما ¬

(¬1) في تش: «العبد». (¬2) سقط من: م. (¬3) في تش: «كفارتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُرًّا، حَصَلَ تَكْمِيلُ الأحْكام والتَّصَرُّفُ. وخَرَّجَه القاضي وَجْهًا لنا أيضًا، إلَّا أنَّ للمُعْتَرِضِ عليه أَن يقولَ: إنَّ تَكْمِيلَ الأحْكامِ ما حَصَلَ بعِتْقِ هذا، وإنّما حَصَلَ بانْضِمامِه إلى عِتْقِ النِّصْفِ الآخَرِ، فلم يُجْزِئْه. فإذا قُلْنا: لا يُجْزِيء عِتْقُ النِّصْفَين. لم يُجزِئْ في هذه المسْأَلةِ عن شيءٍ مِن الكفَّارَتَين. وإن قُلْنا: يُجْزِئُ. وكانتِ الكفَّارَتان مِن جِنْسٍ، أجْزَأ العِتْقُ عنهما. وإن كانتا مِن جِنْسَين، فقد قِيلَ: يُخَرَّجُ على الوَجْهَين. والصَّحِيحُ أنَّه يُجْزِئُ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ عِتْقَ النِّصْفَين عنهما، كعِتْقِ عَبْدَين عنهما. فصل: ولا يجوزُ تَقْدِيمُ كفَّارَةِ الظِّهارِ قَبْلَه؛ لأنَّ الحُكْمَ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُه على سَبَبِه، فلو قال لعَبْدِه: أنت حُرٌّ السَّاعَةَ إن تَظَهَّرْتُ (¬1). عَتَقَ، ولم يُجْزِئْه عن ظِهارِه إن تَظَهَّرَ (¬2)؛ لأنَّه قَدَّمَ الكفَّارَةَ على سَبَبِها المُخْتَصِّ؛ فلم يَجُزْ، كما لو قَدَّمَ كفَّارَةَ [اليَمِينِ عليها، أو كفَّارَةَ] (¬3) القَتْلِ على الجَرْحِ. ولو قال لامْرأتِه: إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي. لم يَجُزِ التَّكْفِيرُ قبلَ دُخُولِ الدَّارِ؛ لأنَّه تَقْدِيمٌ للكفَّارَةِ قبلَ الظِّهارِ. فإن أعْتَقَ عَبْدًا عن ظِهارِه، ثم دَخَلَتِ الدَّارَ، عَتَقَ العَبْدُ، وصارَ مُظاهِرًا، ¬

(¬1) في م: «تظاهرت». (¬2) في م: «تظاهر». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُجْزِئْه؛ لأنَّ الظِّهارَ مُعَلَّقٌ على شَرْطٍ، [فلا يُوجَدُ قبلَ وجودِ شَرْطِه] (¬1). وإن قال لعَبْدِه: إن تَظَهَّرْتُ (¬2) فأنتَ حُرٌّ عن ظِهارِي. ثم قال لامْرأتِه: أنتِ عليَّ كظَهْر أُمِّي. عَتَقَ العبدُ؛ لوُجُودِ الشَّرْطِ. وهل يُجْزِئُه عن الكفَّارَةِ؟ فيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يُجْزِئه؛ لأنَّه عَتَقَ بعدَ الظِّهارِ، وقد نَوَى إعْتاقَه عن الكفَّارَةِ. والثَّانِي، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ عِتْقَه مُسْتَحَقٌّ بسَبَبٍ آخَرَ، وهو الشَّرْطُ، ولأنَّ النِّيَّةَ لم تُوجَدْ عندَ عِتْقِ العَبْدِ، والنِّيَّةُ عندَ التَّعْلِيقِ لا تُجْزِئُ؛ لأنّه تَقْدِيمٌ لها على سَبَبِها. والله سبحانه وتعالى أعْلَمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «تظاهرت».

كتاب اللعان

كِتَابُ اللِّعَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ اللِّعَانِ قِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِن اللَّعْنِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَين يَلْعَنُ نفْسَه في الخامِسَةِ إن كان كاذِبًا. وقال القاضي: سُمِّيَ بذلك لأنَّ الزَّوْجَين لا يَنْفَكَّان مِن أن يكونَ أحَدُهما كاذِبًا، فتَحْصُلُ اللَّعْنَةُ عليه، وهي الطَّرْدُ والإبعادُ. والأصْلُ فيه قَوْلُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ} الآيات (¬1). وروَى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ السَّاعِديُّ، أنَّ عُوَيمِرًا العَجْلانِي، أتَى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ، أرَأيتَ رجلًا وَجَدَ مع امْرَأتِه رجلًا فيَقْتُلُه فتَقْتُلُونَه، أم كيف يَفْعَلُ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قد أنْزَلَ اللهُ (¬2) فِيكَ وفي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا». قال سَهْلٌ: فتلاعنا، وأنا مع النَّاسِ عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا فَرَغا، قال عُوَيمِرٌ: كذَبْتُ عليها يا رسولَ الله إن أمْسَكْتُها. فَطَلَّقَها ¬

(¬1) سورة النور 6 - 9. (¬2) لم يرد في الأصل، ق، وفي صحيح مسلم: «قد نزل فيك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثًا قبلَ أن يأْمُرَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، قال: جاء هِلالُ بنُ أُمَيَّةَ، وهو أحَدُ الثَّلاثَةِ الذين تاب اللهُ عليهم، فجاءَ مِن أرْضِه (¬3) عِشاءً، فوَجَدَ عند أهْلِه رجلًا، فرأى بعَينَيه، وسَمِعَ بأُذُنَيه، فلم يَهِجْهُ (¬4) حتى أصْبَحَ، ثم غَدَا (¬5) على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي جِئْتُ أهْلِي عِشاءً، فوَجَدْتُ عندَهم رَجُلًا، فرَأَيتُ بعَينِي، وسَمِعْتُ بأُذُنُي. فكَرِه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما [جاء به] (¬6)، واشْتَدَّ عليه، فنزَلَت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}. الآيَتَين كِلْتَيهما. فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أَبشِرْ يا هِلالُ، فقدْ جَعَل اللهُ لك فَرَجًا ومَخْرَجًا». قال هِلالٌ: قد كنتُ أرْجو ذلك مِن رَبِّي تبارَك وتعالى. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أرْسِلُوا إلَيها». فأرْسَلُوا إليها، فتَلَاها عليهما رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَّرَهُما، وأخْبَرَهُما أنَّ عذابَ الآخِرَةِ أشَدُّ مِن عذابِ الدُّنْيا. فقال هِلالٌ: والله لِقد صَدَقْتُ عليها. فقالت: كَذَبَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 179. (¬2) في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 523، 524. كما أخرجه أبو داود الطيالسي، في: مسنده 348. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 394، 395. (¬3) في الأصل، ق: «أهله». (¬4) في الأصل: «يهجم». ولم يهجه: أي لم يزعجه ولم ينفره. (¬5) في الأصل: «غدوا». (¬6) في م: «حدثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاعِنُوا بينَهُما». فقِيلَ (¬1) لهِلَالٍ: اشْهَدْ (¬2). فشَهِدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بالله إنَّه لمِن الصَّادِقين، فلَمّا كانتِ الخامِسَةُ، قيل: يا هلالُ، اتَّقِ الله، فإنَّ عَذَابَ الدُّنْيا أهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرَةِ، وإنَّ هذه المُوجِبَةُ التي تُوجِبُ عليك العَذابَ. فقال: واللهِ لا يُعَذِّبُنِي اللهُ عليها، [كما لم يَجْلِدْني عليها] (¬3)، فشَهِدَ الخامِسَةَ أنّ لَعْنَةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذِبِين. ثم قِيلَ لها: اشْهَدِي. فشَهِدَتْ أرْبَعَ شَهاداتٍ باللهِ إَّنه لِمن الكَاذِبِينَ، فلمَّا كانتِ الخامِسَةُ، قِيلَ لها: اتَّقِي اللهَ، فإنَّ عذابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِن عَذاب الآخِرَةِ، وإنَّ هذه المُوجِبَةُ التي تُوجِبُ عليكِ العَذابَ. فتَلَكَّأَتْ ساعَةً، ثم قالتْ: واللهِ لا أفْضَحُ قَوْمي. فشَهِدَتِ الخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصَّادِقِينَ. ففرَّقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما، وقَضَى أن لا بَيتَ لها عليه، ولا قُوتَ، مِن [أجْلِ أنَّهُما] (¬4) يَتَفَرَّقان مِن غيرِ طَلاقٍ، ولا مُتَوَفَّى عنها، وقال: «إن جاءَتْ به أُصَيهِبَ (¬5) أُرَيصِحَ (¬6) أُثيبِجَ (¬7) حَمْشَ السَّاقَين (¬8)، فَهُوَ لِهِلَالٍ، وإنْ ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق: «فقال». (¬2) بعده في م: «فقال أشهد بالله». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «أجلها». (¬5) الأصيهب: تصغر الأصهب، وهو من الرجال الأشقر، ومن الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. (¬6) الأريصح: تصغير الأرصح، وهو خفيف الأليتين. (¬7) الأثيبج: تصغر الأثبج، وهو الناتئ الثبج، وهو ما بين الكاهل ووسط الظهر. (¬8) حمش الساقين: دقيقهما.

3788 - مسألة: (إذا قذف الرجل زوجته بالزنى، فله إسقاط الحد)

وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرأتَهُ بِالزِّنَى، فَلَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ جَاءَت به جَعْدًا (¬1) جُمَالِيًّا (¬2) خَدَلَّجَ السَّاقَينِ (¬3) سَابغَ الألْيَتَينِ (¬4)، فَهُوَ للَّذي رُمِيَتْ بِه». فجاءَتْ به جَعْدًا، أوْرَقَ (¬5)، جُمالِيًّا، خَدَلَّجَ السَّاقَين، سَابغَ الأَلْيَتَين، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا الأيمَانُ، لكَانَ لِي وَلَها شَأْنٌ». قال عِكْرِمَةُ: فكان بعدَ ذلك أمِيرًا على مِصْرٍ (¬6)، وما يُدْعَم لأبٍ. ولأنَّ الزَّوْجَ يُبْتَلَى بقَذْفِ امرأتِه لنَفْي العارِ والنَّسَب الفاسِدِ، وتَتَعَذَّرُ عليه البَيِّنَةُ، فجُعِلَ اللِّعانُ بَيِّنَةً له، ولهذا لمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعانِ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أبْشِرْ يا هِلَالُ، فقد جَعَلَ اللهُ لَكَ فَرَجًا ومَخْرَجًا». واللهُ أعلمُ. 3788 - مسألة: (إذا قَذَفَ الرجُلُ زَوْجَتَه بِالزِّنى، فله إسْقاطُ الحَدِّ) عنه (باللِّعانِ) وجملَةُ ذلك، أنَّ الرجلَ إذا قَذَفَ زَوْجَتَه المُحْصَنَةَ بالزِّنَى، وجَبَ عليه الحَدُّ، وحُكِمَ بفِسْقِه، ورَدِّ شَهادَتِه، إلَّا أن يأْتِيَ بِبَيِّنةٍ أو يُلاعِنَ (¬7)، فإن لم يأْتِ بأرْبَعةِ شُهداءَ، وامْتَنَعَ مِن اللِّعانِ، لَزِمَه ذلك ¬

(¬1) الجعد من الشعر: خلاف السبط والقصير منه. (¬2) الجمالى: الضخم الأعضاء التام الأوصال كأنه الجمل. (¬3) خدلج الساقين: ممتلئ الساقين عظيمهما. (¬4) سابغ الأليتين: تامهما وعظيمهما. (¬5) الأورق: الأسمر. (¬6) كذا في النسخ، وعند أبي داود: «مُضَر»، وعند الطيالسى والبيهقي: «أمير مصر من الأمصار». (¬7) في الأصل، تش: «بلعان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلُّه. وبهذا قال مالِكٌ، والشافِعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يجبُ اللِّعانُ دونَ الحَدِّ، فإن أبَى حُبِسَ حتى يُلاعِنَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآيات. فلم يُوجِبْ بقَذْفِ الأزْواجِ إلَّا اللِّعانَ. ولَنا، قَوْلُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). وهذا عامٌّ في الزَّوْجِ وغيرِه، وإنَّما خَصَّ الزَّوْجَ بأن أقامَ لِعانَه مُقامَ الشَّهادَةِ، في نَفْي الحَدِّ والفِسْقِ ورَدِّ الشَّهادَةِ عنه، ويَدُلُّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِهِلالِ بن أُمَيَّةَ: «البَيِّنةُ وإلَّا حَدٌّ في ظَهْرِكَ». وقولُه له لمَّا لَاعَنَ: «عَذَابُ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِن عَذَابِ الآخِرَةِ». ولأنَّه قاذِفٌ فَلَزِمَه الحَدُّ، كما لو أكْذَبَ نَفْسَه، فلَزِمَه إذ (¬2) لم يأْتِ بالبَيِّنةِ المَشْرُوعَةِ، كالأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) سورة النور 4. (¬2) في ق، م «إذا».

3789 - مسألة: (وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى. ويشير إليها)

وَصِفَتُهُ أنَّ يَبْدَأ الزَّوْجُ، فَيَقُولَ: أشْهَدُ بِالله إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيتُ بِهِ امْرَأتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَى. وَيُشِيرُ إِلَيهَا، وَإنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً، سَمَّاهَا وَنَسَبَهَا حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولَ في الْخَامِسَةِ: وَأنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيتُهَا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3789 - مسألة: (وصِفَةُ اللِّعانِ أن يَبْدأ الزَّوجُ فيَقُولَ: أشْهَدُ باللهِ إنِّي لمن الصَّادقِين فيما رَمَيتُ به امْرَأتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنى. ويُشِيرُ إليها) ولا يحْتاجُ مع الحُضُورِ والإشارَةِ إلى تَسْمِيَةٍ ونَسَب، كما لا (¬1) يَحْتاجُ إلى ذلك في سائرِ العُقُودِ (وإن لم تكنْ حاضِرَةً، سمَّاها ونَسَبَها) حتى تنْتَفِيَ المُشارَكَةُ بينها وبينَ غيرِها (حتى يُكْمِلَ ذلك أرْبَعَ مَرَاتٍ، ثم يقولَ في الخامِسَةِ: وأن لَعْنَةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبين فيما رَمَيتُها به ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

مِنَ الزِّنَى. ثُمَّ تَقُولَ هِيَ: أشْهَدُ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى. أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُولَ في الْخَامِسَةِ: وَأَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الزِّنى. ثم تقولَ هي: أشْهَدُ بالله إنَّ زَوْجِي هذا مِن الكَاذِبِينَ فيما رَمانِي به مِن الزِّنَى) وتُشِيرُ إليه إن كان حاضِرًا، وإن كان غائبًا، اسْمَتْه ونَسَبَتْه، فإذا كَمَّلَتْ (أرْبَعَ مَرّاتٍ، تقولُ في الخامِسَةِ: وأنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصَّادِقِين فيما رَمَانِي به مِن الزِّنَى) لقولِه سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات. ولِما ذَكَرْنا مِن حَدِيثِ عُوَيمِرٍ العَجْلانِيِّ، وحَدِيثِ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ في أوَّلِ البابِ.

3790 - مسألة: (فإن نقص أحدهما من الألفاظ الخمسة شيئا، أو بدأت باللعان قبله، أو تلاعنا بغير حضرة الحاكم أو نائبه، لم يعتد به)

فَإنْ نَقَصَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ شَيئًا، أوْ بَدَأَتْ بِاللِّعَانِ قَبْلَهُ، أَوْ تَلَاعَنَا بِغَيرِ حَضْرَةِ الْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3790 - مسألة: (فإن نَقَصَ أحَدُهما مِن الألْفَاظِ الخَمْسَةِ شَيئًا، أو بَدَأت بِاللِّعانِ قَبْلَه، أو تَلاعَنا بغَيرِ حَضْرَةِ الحاكَمِ أو نائِبِه، لم يُعْتَدَّ به) وجمْلَةُ ذلك، أنَّه يُشتَرَطُ في صِحَّةِ اللِّعانِ شُروطٌ سِتَّةٌ؛ أحدُها، اسْتِكْمالُ اللَّفَظاتِ الخَمْسَةِ، فإن نَقَصَ منها لَفْظَة، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه عَلّقَ الحُكْمَ عليها، فلا يَثْبُتُ بدُونِها، ولأنَّها بَيِّنَةٌ، فلم يَجُزِ النَّقْصُ مِن عَدَدِها، كالشَّهادَةِ. الثَّاني، أن يَأْتِيَ كُلُّ واحِدٍ منهما باللِّعانِ بعدَ إلْقائِه عليه، فإن بادَرَ به (¬1) قبلَ أن يُلْقِيَه الإمامُ عليه أو نائِبُه، لم يَصِحَّ، كما لو حَلَفَ قبلَ أن يُحَلِّفَه الحاكِمُ. الثالثُ، أن يَبْدَأَ الزَّوْجُ باللِّعانِ، فإن بَدَأتِ المرْأةُ باللِّعانِ (¬2) قبلَه، لم يُعْتَدَّ به؛ لأنَّه خِلافُ ما وَرَدَ به الشَّرْعُ، وكذلك إن قَدَّمَ الرجلُ اللَّعْنَةَ على شيءٍ مِن الألْفاظِ الأرْبَعَةِ، أو قدَّمتِ المرأةُ الغَضَبَ، ولأنَّ لِعانَ الرجلِ بَيِّنَةُ الإثْباتِ، ولِعانَ المرْأةِ بَيِّنَةُ الإنْكارِ، فلم يَجُزْ تَقْدِيمُ الإنْكارِ على الإثْباتِ. الرابعُ، أن يكونَ بحَضْرَةِ الحاكِمِ أو نائِبِه؛ لأنَّه يَمِينٌ في دَعْوَى، فاعْتُبِرَ فيه أمْرُ الحاكِمِ كسائِرِ الدَّعاوَى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، م: «به».

3791 - مسألة: (وإن أبدل لفظة: أشهد، بـ: أقسم، أو أحلف، أو لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط. فعلى وجهين)

وَإِنْ أُبْدَلَ لَفْظَةَ: أَشْهَدُ، بـ: أُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالْإبعَادِ، أو الْغضَبِ بِالسَّخَطِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامسُ، أن يُشِيرَ كلُّ واحِدٍ منهما إلى صاحِبِه إن كان حاضِرًا، أو يُسَمِّيَه ويَنْسبَه إن كان غائِبًا، ولا يُشْترَطُ حُضُورُهما معًا، بل لو كان أحَدُهما غائِبًا عن صاحِبِه، مثلَ (¬1) أن لَاعَنَ الرجلُ في المَسْجِدِ، والمرْأةُ على بابِه لعُذْرٍ، جاز. 3791 - مسألة: (وإن أبْدَلَ لَفْظَةَ: أشْهَدُ، بـ: أُقْسِمُ، أو أحْلِفُ، أو لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بالإبعَادِ، أو الغَضَبَ بِالسَّخَطِ. فعلى وَجْهَين) هذا الشَّرْطُ السَّادِسُ، وهو أن يأْتِيَ بالألْفاظِ على صُورَةِ ما وَرَدَ في الشَّرْعِ، فإن أبْدَلَ لَفْظًا منها، فظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ أنَّه يجوزُ أن يُبْدِلَ قولَه: مِنَ الصَّادِقِين. بقَوْلِه: لقد زَنَتْ. لأن معْناهُما واحِدٌ، ويجوزُ (¬2) لها إبْدالُ إنَّه لمن الكاذِبين. بقولِها: لقد كَذَبَ. لأنَّه ذكَر صِفةَ اللِّعانِ كذلك: واتِّباعُ لَفْظِ النَّصِّ أوْلَى وأحْسَنُ. وإن أبْدَلَ لَفْظَ: أشْهَدُ. بلَفْظٍ مِن ألْفاظِ اليَمِينِ، فقال: أُقْسِمُ أو أحْلِفُ. لم يُعْتَدَّ به. [وفيه وجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُعْتَدُّ بِه] (¬3). ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه أتَى بالمَعْنَى، فأشْبَهَ ما ¬

(¬1) في م: «قبل و». (¬2) في الأصل: «لا يجوز». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو أبْدَلَ: إنِّي لمن الصادقينَ. بقولِه: لقد زَنَتْ. وللشافعيِّ وَجْهان في هذا. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّ ما اعْتُبِرَ فيه لفظُ الشَّهادَةِ، لم يَقُمْ غيرُه مَقامَه، كالشَّهاداتِ في الحُقُوقِ، ولأنَّ اللِّعانَ يُقْصَدُ فيه التَّغْلِيظُ، واعْتِبارُ لَفْظِ الشَّهاداتِ أبْلَغُ في التَّغْلِيظِ، فلم يَجُزْ تَرْكُهُ (¬2)، ولهذا لم يَجُزْ أن يُقْسِمَ بالله مِن غيرِ كلمةٍ تقومُ مَقامَ: أشْهَدُ. وفيه وجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُعْتَدُّ به؛ لأنَّه أتَى بالمَعْنى، أشْبَهَ ما قبلَه. فإن أبْدَلَ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بالإبْعادِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ أبْلَغُ في الزَّجْرِ وأشَدُّ في أنْفُسِ النَّاسِ، ولأنَّه عَدَلَ عن المَنْصُوصِ. وفيه وجْهٌ آخَرُ، أنَّه يجوزُ (¬3)؛ لأنَّ مَعْناهُما واحِدٌ. وإن أبْدَلَتِ المرأةُ لفظةَ الغَضَبِ باللَّعْنَةِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّ الغَضَبَ أغلظُ، ولهذا اخْتُصَّتِ المرأةُ به؛ لأنَّ إثْمها أعْظَمُ [مِن إثْمِه بالقَذْفِ] (¬4) والمعَيَّرَةُ (¬5) بزِناها أقْبَحُ. وإن أبْدَلَتْها بالسَّخَطِ، ¬

(¬1) في: المغني 11/ 178. (¬2) في م: «بدله». (¬3) في م: «لا يجوز». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «المعرة».

3792 - مسألة: (ومن قدر على اللعان بالعربية، لم يصح منه

وَمَنْ قَدَرَ عَلَى اللِّعَانِ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إلَّا بِهَا، وَإِنْ عَجَزَ ـــــــــــــــــــــــــــــ خُرِّجَ على الوجْهَينِ فيما إذا أبْدَلَ الرجلُ لَفْظَ اللَّعْنَةِ بالإبعادِ. وإن أبْدَلَ الرجلُ لَفْظَ اللعنةِ بالغَضَبِ، احْتَمَلَ أن يجوزَ؛ لأنَّه أبْلَغُ، واحْتَمَلَ أن لا يجوزَ؛ لمُخالفَةِ المَنْصُوصِ. قال الوزيرُ يَحيى بنُ محمدِ بنِ هُبَيرَةَ: مِن الفُقَهاءِ مَنِ اشْتَرَطَ أن [يُزادَ -بعدَ قَوْلِه] (¬1): مِن الصَّادِقِين- فيها رَمَيتُها به مِن الزِّنى. واشترطَ في نَفْيِها عن نَفْسِها: فيما رَمَانِي به مِن الزِّنَى. ولا أراه يُحْتاجُ إليه؛ لأنَّ اللهَ سُبْحَانه أنْزَلَ ذلك وبَيَّنَه، ولم يَذْكُرْ هذا الاشْتِراطَ. 3792 - مسألة: (وَمَن قَدَرَ عَلَى اللِّعانِ بِالعَرَبِيّةِ، لم يَصِحَّ منه ¬

(¬1) في م: «يراد بقوله».

عَنْهَا، لَزِمَهُ تَعَلُّمُهَا، في أَحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الْآخَرِ، يَصِحُّ بلِسَانِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بها، فإن عَجَزَ عنها، لَزِمَه تَعَلُّمُها، في أحَدِ الوَجْهَينِ، وَفِي الآخَرِ، يَصِحُّ بِلِسانِه) إذا كان الزَّوْجان يَعْرِفانِ العربيةَ، لم يَجُزْ أن يَلْتَعِنا بغيرِها؛ لأنَّ اللِّعانَ وَرَدَ في القُرآنِ بلَفْظِ العربيةِ، فلم يَصِحَّ بغيرِها، كأذْكارِ الصَّلاةِ. وإن لم يُحْسِنْها بالعربيةِ، لَزِمَه تَعَلُّمُها في أحَدِ الوَجْهَين؛ لذلك (¬1)، وفي الآخَرِ، يَصِحُّ بلسانِه، ولا يَلْزَمُه التَّعَلُّمُ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ، كما قُلْنا في النِّكاحِ، وهو أصَحُّ إن شاء اللهُ تعالى. فإن كان الحاكِمُ يُحْسِن لِسانَهُما، أجْزَأ ذلك، ويُسْتَحَبُّ أن يَحْضُرَ معه أربعةٌ يُحْسِنون لِسانَهُما، وإن كان الحاكِمُ لا يُحْسِن، فلا بُدَّ من تَرْجُمان. قال القاضي: ولا يُجْزِئُ في التَّرْجَمَةِ أقَلُّ مِن عَدْلَين. وهو قوْلُ الشافعيِّ، وظاهِر قولِ الخِرَقِيِّ. وفيه [رِوايَةٌ أُخْرَى] (¬2)، أنَّه يُجْزِئُ قَوْلُ عَدْلٍ واحدٍ. ذَكَرَها أبو الخَطّابِ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، وسنَذْكُرُ ذلك في كِتابِ القَضاءِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «وجه آخر».

3793 - مسألة: (وإذا فهمت إشارة الأخرس أو كتابته، صح لعانه بها، وإلا فلا)

وإِذَا فُهِمَتْ إشَارَةُ الْأخْرَسِ أوْ كِتَابَتُهُ، صَحَّ لِعَانُهُ بِهَا، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن شاءَ اللهُ تَعالى. 3793 - مسألة: (وإذا فُهِمَتْ إشارَةُ الأخْرَسِ أو كِتابَتُه، صَحَّ لِعانُه بها، وإِلَّا فلا) وجمْلَةُ ذلك، أنَّ الأخْرَسَ الخَرْساءَ إذا كانا غيرَ مَعْلُومَيِ الإشارَةِ والكِتابَةِ، لم يَصِحَّ لِعانُهُما؛ لأنه لا يُتَصَوَّرُ منهما لِعانٌ، ولا يُعْلَمُ مِن الزَّوْجِ قَذْفٌ، ولا مِن المَرْأةِ مُطالبَةٌ. وإن كانا مَعْلُومَي الإشارَةِ والكِتابَةِ، فقد قال أحمدُ: إذا كانتِ المرْأةُ خَرْساءَ لم تُلاعنْ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ مُطالبَتُها. وحكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عنه، وعن أبي عُبَيدٍ (¬1)، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْي. فكذلك يَنْبَغِي أن يكونَ في الأخْرَسِ؛ وذلك لأنَّ اللِّعانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إلى الشَّهادَةِ، فلم يَصِحَّ مِن الأخْرَسِ، كالشَّهادةِ الحقيقِيَّةِ، ولأنَّ الحَدِّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، والإشَارَةُ ليست صَرِيحَةً كالنُّطْقِ، ولا تَخْلُو مِن احْتِمالٍ وتَرَدُّدٍ، فلا يَجِبُ الحَدُّ بها، كما لا يَجِبُ على أجْنَبِيٍّ بشَهادَتِه. وقال القاضي، وأبو الخَطَّابِ: هو كالنَّاطِقِ في قَذْفِه ولِعانِه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه يَصِحُّ طلاقُه، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «عبيدة».

3794 - مسألة: (وهل يصح لعان من اعتقل لسانه وأيس من نطقه

وَهَلْ يَصِحُّ لِعَانُ مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، وَأُيِسَ مِنْ نُطْقِهِ بِالْإِشَارَةِ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصَحَّ قَذْفُه ولِعانُه، كالنَّاطِقِ، ويُفارِقُ الشَّهادَةَ؛ فإنَّه يُمْكِنُ حُصُولُها مِن غيرِه، فلم تَدْعُ الحاجَةُ إليه فيها، وفي اللِّعانِ لا يَحْصُلُ إلَّا منه، فدَعَتِ الحاجَةُ إلى قَبولِه منه، كالطَّلاقِ. قال شيخُنا (¬1): والأوَّلُ أحْسَنُ؛ لأنَّ مُوجبَ القذفِ وجُوبُ الحَدِّ، وهو يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ (¬2)، ومقصودُ اللِّعانِ الأصْليُّ نَفْيُ النَّسَبِ، وهو يَثْبُتُ بالإمْكانِ، مع ظهورِ انْتِفائِه، فلا يَنْبَغِي أن يُشْرَعَ ما يَنْفِيه، ولا ما يُوجِبُ الحَدَّ مع الشُّبْهةِ العظيمةِ، ولذلك لم تُقْبَلْ شهادتُه. قوْلُهم: إنَّ الشَّهادَةَ تَحْصُلُ مِن غيرِه. قُلْنا: قد لا تَحْصُلُ إلَّا منه؛ لاخْتِصَاصِه برؤيةِ المَشْهُودِ عليه، أو سَماعِه إيَّاه. فصل: فإن قَذَفَ الأخْرَسُ ولَاعَنَ ثم تَكَلَّمَ، فأنْكَرَ القَذْفَ واللِّعانَ، لم يُقْبَلْ إنْكارُه لِلْقَذْفِ؛ لأنَّه قد تَعَلَّقَ به حَقٌّ لغيرِه بحُكْمِ الظَّاهِرِ، فلا يُقْبَلُ إنْكارُه له، ويُقْبَلُ إنْكارُه للِّعانِ فيما عليه، فيُطالبُ بالحَدِّ، ويَلْحَقُه النَّسَبُ، ولا تَعُودُ الزَّوْجيَّةُ. فإن قال: أنا أُلاعِنُ لسُقُوطِ الحَدِّ ونَفْي النَّسَبِ. كان له ذلك؛ لأنَّة إنَّما لَزِمَه بإقْرارِه أنَّه لم يُلَاعِنْ، فإذا أرادَ أنْ يُلاعِنَ كان له ذلك. 3794 - مسألة: (وهل يَصِحُّ لِعانُ مَن اعْتُقِلَ لِسانُهُ وأُيِسَ مِنْ نُطْقِه ¬

(¬1) في: المغني 11/ 128. (¬2) في م: «بالشهادة».

عَلَى وَجْهَينِ. وَهَلْ هُوَ شَهَادَةٌ أوْ يَمِينٌ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإشارَةِ؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّه مَأْيُوسٌ مِن نُطْقِه، أشْبَهَ الأخْرَسَ. والثَّاني، لا يَصِحُّ؛ لأنّه ليس بأخْرَسَ، فلم يُكْتَفَ بإشارَته، كغيرِ المأْيُوسِ. ذكَرَ هذين الوجْهَين أبو الخَطَّابِ. وذَكَرَ شيخُنا (¬1) فيما إذا قَذَفَ وهو ناطِقٌ، ثم خَرِسَ وأُيِسَ مِن نُطْقِه، أنَّ حُكْمَه حُكْمُ الأخْرَسِ الأصْلِيِّ، فإن رُجِيَ عَوْدُ نُطْقِه، انْتُظِرَ به ذلك، ويُرْجَعُ فيه إلى قَوْل عَدْلَينِ مِن أطِبَّاءِ المُسْلِمِينَ. وهذا قوْلُ بعضِ أصْحابِ الشَّافِعِيِّ. وذُكِرَ أَنَّه يُلاعِنُ في الحالين بالإشارَةِ؛ لأنَّ أُمامَةَ بنتَ أبي العاصِ أصْمَتَتْ، فقيل لها: لِفُلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا؟ فأشارَتْ برأْسِها (¬2) أن نَعَمْ. فرَأَوْا أنَّها وَصِيَّةٌ. قال شَيخُنا (¬3): وهذا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه لم يُذْكَرْ مَن الرّائي (¬4) ¬

(¬1) انظر: المغني 11/ 128، 129. (¬2) سقط من: م. (¬3) في المغني 11/ 129. (¬4) في م: «الراوي».

فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أنْ يَتَلَاعَنَا قِيَامًا بمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ في الْأوْقَاتِ وَالْأمَاكِنَ الْمُعَظَّمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لذلك، ولم يُعْلَمْ أنَّه قولُ مَن قَوْلُه حُجَّةٌ، ولا عُلِمَ هل كان ذلك لِخَرَسٍ يُرْجَى زَوالُه أوْ لا؟. فصل: قال الشيخُ، رحمَه اللهُ: (والسُّنَّةُ أن يتَلَاعَنا قِيامًا بمَحْضَرِ جماعَةٍ في الأوْقاتِ والأماكنِ المُعَظَّمَةِ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه يُسَنُّ في اللِّعانِ أمورٌ؛ أحَدُها، أن يَتَلاعَنا قِيامًا، فيَبْدَأ الزَّوْجُ فيَلْتَعِنَ وهو قَائِمٌ، فإذا فَرَغَ قامَتِ المرأةُ فالْتَعَنَتْ وهي قائِمَةٌ؛ فإنَّه رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهِلالِ بن أُمَيَّةَ: «قُمْ فاشْهَدْ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ» (¬1). ولأنَّه إذا قام شاهَدَه الناسُ، فكان أبْلَغ في شُهْرَتِه. [وفي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ: فقامَ هِلَالٌ فشَهِدَ، ثم قامَتْ فشَهِدَتْ] (¬2). الثَّاني، أن يكونَ بمَحْضَرِ جماعَةٍ مِن المُسْلِمينَ؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338، وليس في المصادر المذكورة هذا اللفظ. (¬2) سقط من: الأصل، تش. وانظر تخريجه في 16/ 338، عند الترمذي في 12/ 45، 46. وابن ماجه في 1/ 668.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ابنَ عباسٍ، وابنَ عمرَ، وسَهْلَ بنَ سعدٍ، حَضَرُوا مع حَداثَةِ أسْنانِهم، فدَلَّ على أنَّه حَضَرَ جَمْعٌ كثِيرٌ؛ لأنَّ الصِّبْيانَ إنَّما يَحْضُرُون المجالسَ تَبَعًا للرِّجالِ، ولأنَّ اللِّعانَ بُنِيَ على التَّغْلِيظِ، مُبالغَةً في الرَّدْعِ به والزَّجْرِ، وفِعْلُه في الجماعةِ أبْلَغُ في ذلك. ويُسْتَحَبُّ أن لا يَنْقُصُوا عن أرْبَعَةٍ؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَى التي شُرِعَ اللِّعانُ مِن أجْلِ الرَّمْي به أرْبَعَةٌ، وليس شيءٌ (¬1) مِن هذا واجِبًا. وبهذا كلِّه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. الثَّالثُ، أن يكونَ في الأوقاتِ والأماكنِ المعظَّمَةِ. وهذا قولُ أبي الخطّابِ، وهو مذهب الشافعيِّ، إلَّا أنَّ عندَه في التَّغْلِيظِ بالمَكانِ قَوْلَين؛ أحدُهما، أنَّ (¬2) التَّغْلِيظَ به مُسْتَحَبٌّ كالزَّمانِ. والثَّاني، أنَّه واجِبٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بينَهما عندَ المِنْبَرِ، فكان فِعْلُه [بَيانًا لِلِّعانِ] (¬3). ومَعْنَى التَّغْلِيظِ بالمَكانِ بمَكَّةَ، بينَ الرُّكْنِ والمَقامِ، ¬

(¬1) في م: «ينبني». (¬2) بعده في الأصل: «اللعان». (¬3) في الأصل: «ثابتًا باللعان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالمَدِينَةِ عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بَيتِ المَقْدِسِ عندَ الصَّخْرَةِ، وفي سائِرِ البُلْدانِ في جَوامِعِها. وأمَّا الزَّمانُ فبَعْدَ (¬1) العَصْرِ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (¬2). أجْمَعَ المُفَسِّرُون على أن المُرادَ بالصَّلاةِ صلاةُ العَصْرِ. وقال أبو الخطَّابِ في مَوْضِعٍ آخَرَ: بينَ الأذانَين؛ لأنَّ الدُّعاءَ بينَهما لا يُرَدُّ. وقال القاضي: لا يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ في اللِّعانِ بمَكانٍ ولا زَمانٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أطْلَقَ الأمْرَ بذلك، ولم يُقَيِّدْه بزَمانٍ ولا مَكانٍ، ولا يجوزُ تَقْيِيدُه إلَّا بدَلِيلٍ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ الرجلَ بإحْضارِ امْرأَتِه، ولم يَخُصَّه بزمنٍ، ولو خَصَّه بذلك لَنُقِلَ ولم يُهْمَلْ، ولو اسْتُحِبَّ ما دْكَرُوه لَفَعَلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو فَعَلَه لَنُقِلَ، ولم يَسُغْ تَرْكُه وإهْمالُه، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما دَلَّ حدِيثُه في لِعانِ أوسٍ (¬3) أنَّه إنَّما كان في صَدْرِ النَّهارِ؛ لِقَوْلِه في الحديثِ: فلم يَهِجْه (¬4) حتى أصْبَحَ، ثم غَدَا على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. والغُدُوُّ ¬

(¬1) في الأصل: «فعند صلاة». (¬2) سورة المائدة 106. (¬3) كذا ورد في النسخ، والحديث تقدم تخريجه في صفحة 225 في قصة هلال بن أمية. (¬4) في الأصل: «يهجم».

3795 - مسألة: (وإذا بلغ كل واحد منهما الخامسة، أمر الحاكم

وَإِذَا بَلَغ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ، أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ يَدَهُ عَلَى فِي الرَّجُلِ، وَامْرَاةً تَضعُ يَدَهَا عَلَى في الْمَرْأَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ في أَوَّلِ النَّهارِ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). وأمَّا قَوْلُهم: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَاعَنَ بينَهما عندَ المِنْبَرِ. فليس هذا في شيءٍ مِن الأحادِيثِ المَشْهُورةِ. وإن ثَبَت هذا، فلَعَلَّه كان بحُكْمِ الاتِّفاقِ؛ لأنَّ مجْلِسَه كان عندَه، فلاعَنَ بينَهما في مجْلِسِه. فإن كان اللِّعانُ بينَ كافِرَين، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في اللِّعانِ بينَ المُسْلِمَين. ويَحْتَمِلُ أن يُغلَّظَ بالمَكانِ؛ لقَوْلِه في الأيمانِ: وإن كان لهم مَواضِعُ يُعَظِّمُونَها، ويَتَّقُونَ أن يحْلِفُوا فيها كاذِبين، حُلِّفُوا فيها. فعلى هذا، يُلاعَنُ بَينَهم في مواضعِهم التي يُعَظِّمُونَها؛ اليَهُودِيُّ في البِيعةِ، والنَّصْرانِيُّ في الكَنِيسَةِ، والمَجُوسِيُّ في بيتِ النَّارِ. وإن لم يَكُنْ لهم مَواضِعُ يُعَظِّمُونَها، حَلَّفَهُم الحاكِمُ في مَجْلِسِه؛ لتَعَذُّر التَّغْلِيظِ بالمكانِ. وإن كانتِ المرأةُ المُسْلِمَةُ حائِضًا، وقُلْنا: إن اللِّعانَ بَينَهما يكونُ في المَسْجِدِ. وقَفَتْ على بَابِه، ولم تَدْخُلْه؛ لأنَّ ذلك أقْرَبُ المواضِعِ إليه. 3795 - مسألة: (وَإِذَا بَلَغ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ، أَمَرَ الْحَاكِمُ ¬

(¬1) انظر المغني 11/ 175، 176.

3796 - مسألة: (وأن يكون ذلك بحضرة الحاكم)

ثُمَّ يَعِظُهُ، فَيَقُولُ: اتَّقِ اللهَ، فَإنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلًا فأمْسَكَ يَدَه على فِي الرجلِ، وامْرَأةً تَضَعُ يَدَها على فِي المَرْأةِ، ثم يَعِظُه، فيَقُولُ: اتَّقِ اللهَ، فإنَّها المُوجِبَةُ، وعَذابُ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ) لِما رَوَى ابنُ عباسٍ، في حَدِيثِ المُتَلاعِنَين، قال: فشَهِدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادِقين، ثم أُمرَ به فأُمْسِكَ على فِيهِ فَوَعَظَه، وقال: «وَيحَكَ كُلُّ شَيْءٍ أهْوَنُ عليكَ مِن لَعْنَةِ اللهِ». ثم أُرْسِلَ، فقال: لَعْنَةُ اللهِ عليه إن كان مِنَ الكَاذِبين. ثم دعا بها، فشَهِدَت (¬1) أرْبَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لمن الكَاذِبِين، ثم أُمِرَ بها فأُمْسِكَ على فِيها فوَعَظَها، وقال: «ويلَكِ كُلُّ شَيْءٍ أهْوَنُ عليكِ مِن غَضَبِ اللهِ». أخْرَجَه الجُوزْجَانِيُّ (¬2). 3796 - مسألة: (وأن يَكُونَ ذلك بحَضْرَةِ الحاكِمِ) أوْ نائِبِه. قد ذَكَرْنا [أن مِن شَرْوطِ] (¬3) صِحَّةِ اللِّعانِ أن يكونَ بحَضْرَةِ الحاكِمِ أو نائِبِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ هِلال بنَ أُمَيَّةَ أن يَسْتَدْعِيَ زَوْجَتَه إليه، ولاعَنَ بَينَهما، ولأنَّه إمَّا يَمِينٌ وإمَّا شَهادَةٌ، وأيُّهما كان فمِن ¬

(¬1) بعده في م: «بذلك». (¬2) انظر ما أخرجه أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 523. والنسائي، في: باب الأمر بوضع اليد على في المتلاعنين عند الخامسة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 143. مختصرًا دون ذكر في المرأة. وانظر: تلخيص الحبير 3/ 230. وإرواء الغليل 7/ 186. (¬3) في ق: «أن من شروط»، وفي م: «من شروط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطِه الحاكِمُ، فإن تَراضَى الزَّوْجان (¬1) بغيرِ الحاكِمِ، فلَاعَنَ بَينَهما، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ اللِّعانَ مَبْنِيٌّ على التَّغْلِيظِ والتَّأْكيدِ، فلم يَجُزْ لغيرِ الحاكِمِ، كالحَدِّ. وقد حَكَى شَيخنا في آخِرِ كتاب القَضاءِ، في كِتابه المَشْرُوحِ، أنَّه (¬2) إذا تحاكَمَ رَجُلان إلى رجلٍ يَصْلُحُ للقضاءِ، فحَكَّماه بَينهما، أنَّه يَنْفذ حكْمُه في اللِّعانِ، في ظاهرِ كلامِ أحمدَ، وكذلك حَكاه أبو الخَطَّابِ. وقِيلَ: لا يَنْفُذُ إلا في المالِ. فيكونُ فيه روايتان؛ إحْداهما، لا يَنْفُذُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثانية، يَنْفذُ، قِياسًا على حاكِمِ الإِمامِ. وسَواءٌ كان الزَّوْجان حُرِّين أو مَمْلُوكَين، في ظاهِرِ كلام الخِرَقِيِّ. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: للسيدِ أن يُلَاعِنَ بينَ عبْدِه وأمَتِه؛ لأَنَّ له إقامَةَ الحَدِّ عليهما. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وكان». (¬2) سقط من: م.

3797 - مسألة: (وإن كانت المرأة خفرة

فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ خَفِرَةً، بَعَثَ مَنْ يُلَاعِنُ بَينَهُمَا. وَإِذَا قَذَفَ رَجُلٌ نِسَاءَهُ، فَعَلَيهِ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِلِعَانٍ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ لِعَانٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه لِعانٌ بينَ زَوْجَين، فلم يَجُزْ لغيرِ الحاكِمِ أو نائِبه، كاللِّعانِ بينَ الحُرَّينِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ السَّيِّدَ يمْلِكُ إقامَةَ الحَدِّ على أَمَتِه المُزَوَّجَةِ، ثم لا يُشْبِة اللِّعانُ الحَذ؛ لأنَّ الحَدَّ زَجْرٌ وتأْدِيبٌ، واللِّعانَ إمَّا شَهادةٌ وإمَّا يَمِين، فافْتَرَقا، ولأنَّ اللِّعانَ دارئٌ للحَدِّ، ومُوجبٌ له، فجرَى مَجْرَى إقامَةِ البَيِّنَةِ على الزِّنى، والحُكْمِ به أو بنَفْيِه. 3797 - مسألة: (وإن كانتِ المَرْأةُ خَفِرَةً (¬1)، بَعَثَ مَن يُلاعِنُ بَينَهما) فيَبْعَثُ نائِبَه، ويَبْعَثُ معه عُدُولًا ليُلاعِنُوا بينَهما، وإن بَعَث نائِبَه وحْدَه جاز؛ لأنَّ الجَمْعَ غيرُ واجِبٍ، كما يَبْعَثُ مَن يَسْتَحْلِفها في الحُقوقِ. 3798 - مسألة: (وإذا قَذَفَ رجلٌ نِساءَه، فعليه أن يُفْرِدَ كلَّ واحِدَةٍ بلِعانٍ. وعنه؛ يُجْزِئه لِعانٌ واحِدٌ) إنَّما لَزِمَه لكلِّ واحدَةٍ لِعانٌ؛ ¬

(¬1) أي: شديدة الحياء.

وَاحِدٌ. فَيَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيتُكُنَّ بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَتَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِن الزِّنَى. وَعَنْهُ، إِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَهُ لِعَانٌ وَاحِدٌ، وَإنْ قَذَفَهُنّ بِكَلِمَاتٍ، أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِلِعَانٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه قَذَفَها، فلَزِمَه لها لِعانٌ مُفْرَدٌ، كما لو لم يَقْذِفْ غيرَها. ويَبدأُ لعانِ التي تَبْدأُ بالمُطالبَةِ، فإن طالبْنَ جميعًا أو تَشاحَحْنَ، بَدَأ بإحْداهُنُّ بالقُرعَةِ، وإن لم يَتَشاحَحْنَ بَدَأ بلِعانِ مَن شاء مِنْهُنَّ، ولو بَدَأ بواحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِن غيرِ قُرْعَةٍ مع المُشاحَّةِ (¬1)، صَحَّ. وعنه، يُجْزِئُهُ لِعانٌ واحِدٌ؛ لأنَّ القَذْفَ واحِدٌ (فيقولُ: أشْهَدُ باللهِ إِنِّي لِمن الصَّادِقين فيما) رَمَيتُ به كلَّ واحِدَةٍ مِن زَوْجاتِي هؤلاءِ (مِن الزِّنَى. وتقولُ كلُّ واحِدَةٍ: أشْهَدُ باللهِ إِنَّه لِمن الكَاذِبينَ فيما رَمانِي به مِن الزِّنى) لأنَّه يحْصُلُ المقْصودُ بذلك. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ اللِّعانَ أَيمانٌ، فلا تتداخَلُ لجماعَةٍ، كالأيمانِ في الدُّيونِ (وعنه، إن كان القَذْفُ بكلمةٍ واحدَةٍ، أجْزَأ لِعانٌ واحدٌ) لأنَّه قذْف واحِدٌ، فخرَجَ عن عُهْدَتِه بلِعانٍ واحدٍ، كما لو قَذَفَ واحِدَةً (وإن قَذَفَهُنَ بكَلِماتٍ، أفْرَدَ كُلَّ واحِدَةٍ بلِعانٍ) لأنَّه أفْرَدَ كل واحِدَةٍ بقَذْفٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «المسامحة».

فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ إلا بِشُرُوطٍ ثَلَاثةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ بَينَ زَوْجَينِ عَاقِلَينِ بَالِغَينِ؛ سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَينِ، أَوْ ذِمِّيَّينِ، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْبَهَ ما لو قَذَفَ كلَّ واحِدَةٍ بعدَ لِعانِ الأُخْرَى. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وَلَا يَصِحُّ إلا بِشُرُوطٍ ثَلَاثةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ بَينَ زَوْجَينِ عَاقِلَينِ بَالِغَينِ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَينِ، أَوْ

رَقِيقَينِ، أَوْ فَاسِقَينِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَالأُخْرَى، لَا يَصِحُّ إلا بَينَ زَوْجَينِ مُسْلِمَينِ حُرَّين عَدْلَينِ، فَإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا في أَحَدِهِمَا، فَلَا لِعَانَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كافِرَين، أو رَقِيقَين، أو فاسِقَين، أو كان أحَدُهما كذلك في إحْدَى الرِّوايَتَين) اختلَفتِ الرِّواية عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في ذلك، فروىَ أنَّه يَصِحُّ بينَ كلِّ زَوْجَينِ مُكلَّفَيْن، سواءٌ كانا مُسْلِمَين أو كافِرَين، أو عَدْلَين أو فاسِقَين، أو رَقِيقَين، أو مَحْدُودَين في قَذْفٍ، أو كان أحَدُهما كذلك. وبه قال سعيدٌ بن المُسَيِّبِ، وسُليمانُ بن يَسارٍ، والحسن، ورَبِيعَة، ومَالِكٌ، وإسْحاقُ. قال أحمدُ في رِوايَةِ إسْحاقَ بنِ مَنصُورٍ: جَميعُ الأزْواجِ يَلْتَعِنون؛ الحُرُّ مِن الحُرَّةِ والأمَةِ إذا كانت زَوْجَةً، وكذلك العَبْدُ مِن الحُرَّةِ والأمَةِ إذا كانت زَوْجَةً، وكذلك المُسْلِمُ مِن اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخرَى (لا يَصِحُّ اللِّعان إلا بينَ زَوْجَين مُسْلِمَين، عَدْلَين حُرِّين) غيرِ (¬1) مَحْدُودَين في قَذْفٍ (فإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ منها في أحَدِهما، فلا لِعانَ بَينَهما) لفَواتِ الشَّرْطِ. ورُوِيَ هذا عن الزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والأَوْزاعِيِّ، وحَمَّادٍ، وأصْحابِ الرَّأْي. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن مَكْحُولٍ: ليسَ بينَ المُسْلِمِ والذِّمِّيَّةِ لِعانٌ. وعن عطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، في المَحْدُودِ في القَذْفِ: يُضرَبُ في الحَدِّ، ولا يُلَاعِنُ. ورُوِيَ فيه حَدِيثٌ ولا يَثْبُتُ. كذلك قال الشافعيُّ، والسَّاجِيُّ؛ لأنَّ اللِّعانَ شَهادَة، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ}. فاسْتَثْنَي أنْفُسَهم مِن الشهداءِ، وقال: {فَشَهَدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَاداتٍ بِاللهِ}. ولا تُقْبَلُ ممَّن ليس مِن أهلِ الشهادةِ. وإن كانتِ المرْأة مِمَّن لا يُحَدُّ (¬1) بقَذْفِها (¬2)، لم يَجِبِ اللِّعانُ، لأنَّه يُرادُ لإسْقاطِ الحَدِّ، بدليلِ قولِه تعالى: {وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَتٍ بِاللهِ}. فلا حَدَّ ههُنا، فيَنْتَفِي اللِّعانُ بانْتِفَائِه. وذَكَرَ القاضي في «المُجَرَّدِ» أنَّ مَن لا يَجِبُ الحَدُّ بقَذْفِها؛ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يحل»، وفي م: «تحد». وغير منقوطة في ق. (¬2) في الأصل، تش: «قذفها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي الأمَة، والذِّمِّيَّة، والمَحْدُودَة في الزِّنَى، لِزَوْجها لِعانها لنَفْي الوَلَدِ خاصَّةً، وليس له لِعنها لإسْقاطِ حَدِّ القَذْفِ والتَّعْزِيرِ؛ لأنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ، واللِّعان إنَّما شرِعَ لإسْقاطِ حَدٍّ أو نَفْي وَلَدٍ، فإذا لم يكنْ واحدٌ منهما لم يُشْرَعِ اللِّعان. ولَنا، عُمومْ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَجَهُمْ} الآية. ولأنَّ اللِّعانَ يَمِينٌ، فلا يَفْتَقِر إلى ما شرَطوه، كسائرِ الأيمانِ، ودليلُ أنَّه يَمِينٌ قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلَا الأيمان، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» (¬1). وأنَّه يَفْتَقِر إلى اسْمِ اللهِ تعالى، ويَسْتَوِي فيه الذَّكَر والأُنْثى. وأمَّا تَسْمِيَته شهادةً، فلقَوْلِه [في يَمِينِه] (¬2): أَشهَدُ باللهِ. فسَمَّى ذلك شهادَةً وإن كان يَمِينًا، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬3). ولأنَّ الزَّوْجَ يَحْتاجُ إلى نَفْي الوَلَدِ، فيُشْرَعُ له طَرِيقًا إلى نَفْيِه، كما لو كانتِ امرأتُه ممَّن يُحَدُّ بقَذْفِها. وهذه الرِّواية هي المَنْصُوصة عن أحمدَ، في روايةِ الجماعةِ، وما يُخَالِفُها شاذٌّ في النَّقْلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338. ويعدل أبي داود إلى 1/ 522، 523. والترمذي إلى 12/ 45، 46. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة المنافقون 1.

3799 - مسألة: (وإن قذف أجنبية)

وَإِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً، أَوْ قَال لِامْرَأَتِهِ: زَنَيتِ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ. حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الزَّوْجَةِ مَدْخُولًا بها أو غيرَ مَدْخُولٍ بها، في أنَّه يُلَاعِنُها. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه (¬1) مِن عُلماءِ الأمصارِ؛ منهم عطاءٌ، والحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، وقَتَادَةُ، ومَالِكٌ، وأهْلُ المدينةِ، والثَّوْريُّ، وأهلُ العراقِ، والشافعيُّ، وذلك ظاهِرُ (¬2) قولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَجَهُمْ}. فإن كانت غيرَ مَدْخُولٍ بها، فلها نصفُ الصَّداقِ. وعنه، لا شيءَ لها. وقد ذُكِرَ ذلك في كِتابِ الصداق. والله أعلمُ. 3799 - مسألة: (وإِنْ قَذَفَ أجْنَبِيَّةً) ثُمَّ تَزَوَّجَها، حُدَّ ولمِ يُلاعِنْ؛ لأنَّه وَجَبَ في حالِ كَوْنِها أجْنَبِيَّةً، فلم يَمْلِكِ اللِّعانَ مِن أجْلِه، كما لو لم يَتَزَوَّجْها. وكذلك إن قال لها وهي زَوْجَتُه: (زَنَيتِ قبلَ أن أنْكِحَكَ. حُدَّ، ولم يُلاعِنْ) سواءٌ كان ثَمْ وَلَدٌ أو لم يَكُنْ. وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْر. ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِيِّ. ¬

(¬1) بعده في تش: «من أهل العلم». (¬2) في ق، م: «لظاهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحسنُ، وزُرارَةُ بنُ أوْفَى، وأصحابُ الرَّأْي: له أن يُلاعِنَ؛ لأنَّه قَذَفَ امْرَأتَه، فيدْخُلُ في عُمُوم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. ولأنَّه قَذَفَ امْرأتَه، فأَشْبَهَ ما لو قَذَفَها ولم يُضِفْه إلى ما قبلَ النِّكاحِ. وحَكَى الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ عن أحمدَ رِوايَةً كذلك. وقال الشافعيُّ: إن لم يَكُنْ ثَم ولَدٌ، لم يلاعِنْ، وإن كان بينَهما ولَدٌ، فَفِيه وجْهانِ. ولَنا، أنَّه قَذَفَها بِزِنًى مُضافًا إلى حالِ البَينُونةِ، أشْبَهَ ما لو قَذَفَها وهي بائِنٌ، وفارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ، لأنَّه مُحْتاجٌ إليه؛ لأنَّها غاظَتْه وخانَتْه، وإن كان بينَهما ولَدٌ، فهو مُحْتاجٌ إلى نَفْيِه، وههُنا إذا تَزَوَّجَها وهو يَعْلَمُ زِنَاها فهو المُفَرِّطُ في نِكاحِ حامِلٍ مِن الزِّنَى، فلا يُضْرَعُ له طرِيقٌ إلى نَفْيِه. فأمَّا إن قَذَفَها ولم يَتَزَوَّجْها، فعليه لِلْمُحْصَنَةِ (¬1) الحَدُّ، والتَّعْزِيرُ لغيرِها، ولا لِعانَ، ولا خِلافَ في هذا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية. ثم (¬2) خَصَّ الزَّوجاتِ مِن عُمُومِ (¬3) هذه الآيَةِ بقَوْلِه سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. فيَبْقَى فيما عدَاهُ على قَضِيَّةِ العُمُومِ. وإن مَلَكَ أمَةً وقَذَفَها، فلا لِعان، سواءٌ كانت فِراشًا له، أو لم تَكُنْ، ولا حَدَّ عليه، ويُعَزَّرُ. فصل: فإن قال لامْرَأتِه: أنْتِ طالِقٌ يا زانِيَةُ ثَلاثًا. فنَقَلَ مُهَنَّا، قال: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في الأصل: «بينهم».

3800 - مسألة: (وإن أبان زوجته، ثم قذفها بزنى)

وَإِنْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًى فِي النِّكَاحِ، أَوْ قَذَفَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَبَينَهُمَا وَلَدٌ، لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سألتُ أحمدَ عن رَجُلٍ قال لِامْرَأتِه: أنْتِ طالِقٌ يا زانِيَةُ ثَلاثًا. فقال: يُلَاعِنُ. قلتُ: فإنَّهم يقُولُونَ: يُحَدُّ، ولا يَلْزَمُها إلا واحِدَةٌ. فقال: بِئْسَ ما يقُولُون. فهذا يُلَاعِنُ؛ لأنَّه قَذَفَها قبلَ الحُكْمِ ببَينُونَتِها، فأشبَهَ قَذْفَ الرَّجعِيَّةِ. فأمَّا إن قال: أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا يا زَانِيَةُ. فإن كان بينَهما ولَدٌ، فإنَّه يُلَاعِنُ لِنَفْيه، وإلَّا حُدَّ ولم يُلَاعِنْ؛ لأنَّه يَتَعيَّنُ إضافَةُ القَذفِ إلى حالِ الزَّوْجِيَّةِ، لاسْتِحالةِ الزِّنَى منها بعدَ طَلاقِه لها، فصارَ كأنَّه قال لها بعدَ إبانَتِها: زَنَيتِ إذْ كنتِ زَوْجَتي. على ما نَذكُرُه. 3800 - مسألة: (وَإِنْ أَبان زَوْجَتَه، ثم قَذَفَها بِزِنًى) أضَافَه إلى حالِ الزَّوْجِيَّةِ، فمتى كان بَينَهُما وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فله أن يَنْفِيَه بِاللِّعانِ (وإِلَّا حُدَّ ولم يُلاعِنْ) وبهذا قال مالِكٌ، والشافعي. وقال أبو حنيفةَ: يُحَدُّ، ويَلْحَقه الوَلَدُ، ولا يُلاعِنُ. وهو قول عطاءٍ؛ لأنَّها أَجْنَبِيَّة، فأَشبَهَت سائِرَ الأجْنَبِيَّاتِ، أو إذا لم يَكُنْ بَينهما ولَدٌ. ولَنا، أنَّ هذا وَلَدٌ يلْحَقُه نَسَبُه بحُكْمِ عَقْدِ النِّكاحِ، فكان له نَفيُه، كما لو كان النِّكاحُ باقِيًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُفارِقُ إذا لم يكنْ وَلَدٌ، فإنَّه لا حاجَةَ إلى القَذْفِ؛ لكَوْنِها أجْنَبِيَّةً، ويُفَارِقُ سائِرَ الأجْنَبِيَّاتِ، فإنَّه لا يلْحَقُه ولَدُهُن، فلا حاجَةَ به إلى قَذْفِهِنَّ. وقال عُثمانُ البَتِّيُّ في هذه المسألةِ: له أن يُلَاعِنَ وإن لم يكُنْ بينَهما وَلَدٌ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، والحسنِ؛ لأنَّه قَذْفٌ مُضافٌ إلى حالِ الزَّوْجِيَّةِ، أشْبَهَ ما لو كانتْ زَوْجَتَه. ولَنا، أنَّه إذا كان بينَهما وَلَدٌ فبه (¬1) حاجةٌ إلى القَذْفِ، فشُرِعَ، كما لو قَذَفَها وهي زوْجَتُه، وإذا لم يكنْ له وَلَدٌ، فلا حاجَةَ به إليه، وقد قَذَفَها وهي أجْنَبِيَّة، فأشْبَهَ ما لو لم يُضِفْه إلى حال الزَّوْجِيَّةِ. ومتى لاعَنَها لنَفْي وَلَدِها، انْتَفَى، وسَقَطَ عنه الحَدُّ. وفي ثُبُوتِ التَّحْريمِ المُؤَبَّدِ وَجْهان. وهل له أن يُلاعِنَها قبلَ وَضْعِ الوَلَدِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، له ذلك؛ لأن مَن كان له لِعانُها بعدَ الوَضْعِ، كان له لِعانُها قبلَه، كالزوْجةِ. والثاني، ليس له ذلك. وهو ظاهرُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأن الوَلَدَ عندَه لا يَنْتَفِي في حالِ الحَمْلِ، ولأنَّ اللِّعانَ إنَّما يَثْبُتُ ها هنا لأجْلِ ابوَلَدِ، فلم يَجُزْ أن يُلَاعِنَ إلا بعدَ تَحَقُّقِه بوَضْعِه، بخلافِ الزَّوْجَةِ، فإنَّه يجوزُ لِعانُها مع عدمِ الولدِ. وهكذا ¬

(¬1) في الأصل، تش، م: «فيه».

3801 - مسألة: (وإن قذفها في نكاح فاسد)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُكْمْ في نَفْي الحملِ في النِّكاحِ الفاسدِ. 3801 - مسألة: (وإن قَذَفَها في نِكاحٍ فاسِدٍ) فهي كالمَسْأَلَةِ التي قَبْلَها، إن كان بَينَهُما وَلَدٌ، فله لِعانها ونَفْيُه، وإن لم يَكنْ بَينَهُما وَلَدٌ، حُدَّ ولَا لِعَانَ بَينَهما. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْحَقه الولدُ، وليس له نَفْيُه، ولا اللِّعان؛ لأنَّها أجْنَبِيَّةً، أشْبَهَتْ سائرَ الأجْنَبِيَّاتِ، أو إذا لم يكنْ بينهما ولدٌ. ولَنا، أنَّ هذا ولدٌ يَلْحَقه بحُكْمِ عَقْدِ النِّكاحِ، فكان له نَفْيُه، كالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، ويُفارِقُ إذا لم يكنْ وَلَدٌ، فإنَّه لا حاجَةَ إلى القَذْفِ؛ لكَوْنِها أجْنَبِيَّةً، ويُفارِقُ الزَّوْجةَ، فإنَّه يحْتاجُ إلى قَذْفِها مع عَدَم الوَلَدِ، لكَوْنِها خانَتْه وأفْسَدَت فِراشَه، فإذا كان له وَلَدٌ، فالحاجة موجودَةٌ فيهما. ومتى لاعَنَ سَقَطَ الحَدُّ؛ لأنَّه لِعان مَشْروعٌ نَفَى (¬1) الوَلَدَ، فأسْقَطَ الحَدَّ، كاللّعانِ في النِّكاحِ الصَّحيحِ. وفي ثُبُوتِ التَّحْريمِ المُؤَبَّدِ وجْهان؛ أحذهما، يُثْبِت؛ لأنَّه لِعان صَحِيحٌ، أشْبَهَ لِعانَ الزَّوْجَةِ. والثاني، لا يُثْبِته؛ لأنَّ الفرقَةَ لم تحْصُلْ به، فإنَّه لا نكاحَ بينَهما يَثْبُتُ قَطْعُه به، بخِلَافِ لِعانِ الزَّوجةِ، فإنَّ الفرْقَةَ حَصَلَتْ به، ولو لَاعَنَها مِن غيرِ وَلَدٍ، لم يَسْقُطِ الحَدُّ، ولم يَثْبُتِ التَّحْرِيمْ المُؤَبَّدُ؛ لأنَّه لِعانٌ فاسدٌ، فلم تَثْبُتْ أحكامُه، وسواءٌ اعْتقدَ أنَّ النِّكَاحَ صحيحٌ أو لم يعْتَقِدْ ذلك؛ لأنَّ النِّكَاحَ في نفسِه ليس بنكاحٍ صحيحٍ، فأشْبَهَ ما لو لاعَنَ أجْنَبِيَّةً يَظُنُّها زَوْجَتَه. ¬

(¬1) في م: «النفي».

3802 - مسألة: (وإن أبان امرأته بعد قذفها، فله أن يلاعن، سواء كان بينهما ولد أو لم يكن)

وَإِنْ أَبَانَ امْرأَتهُ بَعْدَ قَذْفِهَا، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، سَوَاءٌ كَانَ بَينَهُمَا وَلَدٌ، أوْ لَمْ يَكُنْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3802 - مسألة: (وَإِنْ أَبَانَ امْرأَتهُ بَعْدَ قَذْفِهَا، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، سَوَاءٌ كَانَ بَينَهُمَا وَلَدٌ أوْ لَمْ يَكُنْ) نَصَّ عليه. وبه قال الحسنُ، والقاسمُ بن محمدٍ، ومكْحُولٌ، ومَالِكٌ، والشافِعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابنْ المُنْذِرِ. وقال الحارث العُكْلِيُّ، وجابرُ بنُ زَيدٍ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ: يُجْلَدُ. وقال حَمادُ بنُ أبي سُلَيمانَ، وأصحابُ الرَّأْي: لا حَدَّ عليه ولا لِعانَ؛ لأنَّ اللِّعانَ إنَّما يكونُ بينَ زَوْجَين، وليس هذان بزَوْجَين، ولا يُحَدُّ؛ لأنَّه لم يَقْذِفْ أجْنَبِيَّةً. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. وهذا قد رَمَى زَوْجَتَه، فيدخلُ في عُمومِ الآيةِ، وإذا لم يُلاعِنْ وَجَب الحَدُّ بِعُمُومِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. ولأنَّه قاذِفٌ لِزَوْجَتِه، فوَجَبَ أن يكونَ له أن يُلاعِنَ، كما لو بَقِيَا على النِّكَاحِ إلى حالةِ اللِّعانِ. فصل: فإن قالت: قَذَفَنِي قبلَ أن يَتَزَوَّجَني. وقال: بل بعدَه. أو قالت: قَذَفَنِي بعدَ ما بِنْتُ منه. وقال: بل قبلَه. فالقول قولُه؛ لأنَّ القولَ قولُه في أصْلِ القَذْفِ، فكذلك في وَقْتِه. وإن قالتْ أجْنَبيَّةٌ: قَذَفْتَنِي. قال: كنْتِ زَوْجَتِي حينئذٍ. فأَنْكَرَتِ الزَّوْجيَّةَ، فالقولُ قَوْلُها؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اشْتَرَى (¬1) زَوْجَتَه الأمَةَ، ثم أقَرَّ بِوَطْئِها، ثم أتَتْ بوَلَدٍ لسِتَّةِ أشْهُر، كان لاحِقًا به، إلا أن يَدَّعِيَ الاسْتِبْراءَ، فيَنْتَفِي عنه؛ لأنَّه مُلْحَقٌ به بالوَطْءِ في المِلْك دونَ النِّكاحِ، لكَوْنِ المِلْكِ حاضِرًا، فكان كالزَّوْجِ الثاني، يَلْحَقُ به الوَلَدُ وإن أمْكَنَ أن يكونَ مِن الأوَّلِ. وإن لم يكنْ أقَرَّ بوَطْئِها، أو أقَرَّ به وأتَتْ بوَلَدٍ لدونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَ، كان مُلْحَقًا بالنِّكَاحِ إن أمْكَنَ ذلك، وله نَفْيُه باللِّعانِ. وهل يثبِتُ هذا اللِّعانُ التَّحْريمَ المُؤبَّدَ؟ على وجْهَينِ. فصل: وإن قَذَف زَوْجتَه الرجْعِيَّةَ، صَحَّ لِعانُها، سواءٌ كان بينهما وَلَدٌ ولم يَكُنْ. قال أبو طالبٍ: سألتُ أبا عبدِ الله عِن الرجلِ يُطَلِّقُ تَطْلِيقَةً أو تطْلِيقَتَين، ثم يَقْذِفُها. قال: قال ابنُ عَباسٍ: لا يُلاعِنُ، ويُجْلَدُ. وقال ابنُ عمرَ: يُلاعِنُ ما كانت في العِدَّةِ. قال: وقولُ ابنِ عمرَ أجْوَدُ؛ لأنَّها زَوْجَتُه، وهو يَرِثُها وتَرِثُه، فهو يُلاعِنُ. وبهذا قال جابرُ بنُ زَيدٍ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، والشافعيُّ، [وإسحاقُ] (¬2) وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، فكان له لِعانُها، كا لو لم يُطَلِّقْها. فصل: وكلُّ موضِع قُلْنَا: لا لِعانَ فيه. فالنَّسَبُ لاحِقٌ فيه، ويجبُ بالقَذْفِ مُوجَبُه مِن الحَدِّ والتَّعْزيرِ، إلا أن يكونَ القاذِفُ صَبِيًّا أو مَجْنُوَنًا، ¬

(¬1) في م: «استبرأ». (¬2) سقط من: م.

3803 - مسألة: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة، عزر، ولا لعان بينهما)

وَإِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ الْمَجْنُونَةَ، عُزِّرَ، وَلَا لِعَانَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا ضَرْبَ فيه، ولا لِعانَ. كذلك (¬1) قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ، قال (¬2): ولا أحْفَظُ عن غيرِهم خِلَافهم. 3803 - مسألة: (وإن قَذَفَ زَوْجَتَه الصَّغِيرَةَ أَو المَجْنُونَةَ، عُزِّرَ، ولا لِعانَ بَينَهُمَا) وجُمْلَةُ ذلك، أن الزَّوْجَ إذا قَذَفَ امْرأتَه وأحَدُ الزَّوْجَين غيرُ مُكَلِّفٍ، فلا لِعانَ بينَهما؛ لأنَّه قَوْلٌ تَحْصُلُ وبه الفُرْقَةُ، فلا يَصْحُّ مِن غيرِ مُكَلَّفٍ، كالطَّلاقِ، أو يَمِين، فلا يَصِحُّ مِن غيرِ مُكَلفٍ، كسائِرِ الأيمانِ، ولا يَخْلُو غيرُ المُكَلَّفِ مِن أن يكون الزَّوجَ، أو الزَّوجةَ، أو هُمَا (¬3)؛ فإنْ كان الزَّوجَ فله حالان؛ أحَدُهما، أن يكونَ طِفْلًا. والثَّاني، أن يكونَ بالِغًا زائِلَ العَقْلِ. فإن كان طِفْلًا لم يَصِحَّ منه القذْفُ، ولا يَلْزَمُه به حَدٌّ؛ لأنَّ القَلمَ مَرْفُوعٌ عنه، وقولَه غيرُ مُعْتَبَرٍ. وإن أتَتِ امْرَأتُه بوَلَدٍ، وكان له دُونَ عشْرِ سِنِينَ، لم يَلْحَقْه نَسَبُه، ¬

(¬1) بعده في م: «وبه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «أحدهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان مَنْفِيًّا عنه؛ لأنَّ العِلْمَ (¬1) يُحِيطُ بأنَّه ليس منه، فإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لم يُجْرِ العادَةَ بأن يكونَ له وَلَدٌ لدونِ ذلك، فيَنْتَفِي عنه، كما لو أتَتْ به المرْأةُ لِدونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ منْذُ تَزَوَّجَها. وإن كان ابنَ عشْر فصاعِدًا، فقال أبو بكرٍ: لا يُلْحَقُ به إلَّا بعدَ البُلُوغِ أيضًا؛ لأنَّ الوَلَدَ لا يُخْلَقُ (¬2) إلَّا مِن ماءِ الرجلِ والمرْأةِ، ولو أنْزَلَ لبَلَغَ. وقال ابنُ حامِدٍ: يُلْحَقُ به. قال القاضي: وهو ظاهِر كلامِ أحمدَ. وهو مذهث الشافعيِّ؛ لأنَّ الوَلَدَ يُلْحَق بالإمْكانِ وإن خالفَ الظَّاهِرَ، ولهذا لو أتَت بوَلَدٍ لِسِتَّةِ أشْهُر مِن حِينِ العَقْدِ، لَحِقَ بالزَّوْجِ، وإن كان خِلَافَ الظَّاهِرِ، وكذلك يُلْحَقُ به إذا أتَتْ به لأرْبعِ سِنِينَ، مع نُدْرَته. وليس له (¬3) نَفْيه في الحالِ، حتَّى يُتَحَقَّقَ بُلُوغُه بأحَدِ أسْبابِ البُلُوغِ، فله نَفى الوَلَدِ أو اسْتِلْحَاقه. فإنْ قِيلَ: فإذا أَلْحَقْتُم به الوَلَدَ، فقد حَكَمْتُم بِبُلُوغِه، فهَلَّا سَمِعْتم نَفْيَه ولِعانَه؛ قُلْنا: إلْحَاقُ الوَلَدِ يَكْفِي فيه الإِمْكانُ، والبُلُوغ لا يَثْبُتُ إلَّا بسَبَبٍ (¬4) ظاهِر، ولأن إلْحاقَ الوَلَدِ به حَقٌّ عليه، واللِّعانُ حَقٌّ (3) له، فلم يَثْبُتْ مع الشَّكِّ. فإن قِيلَ: فإن لم يَكنْ بالِغًا، انْتَفَى عنه الوَلَدُ، وإن كان بالِغًا انْتَفَى عنه باللِّعانِ (¬5). ¬

(¬1) في الأصل: «القلم». (¬2) في الأصل، تش: «يلحق». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «كسب». (¬5) في م: «اللعان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُلْنا: إلا أنَّه لا يجوزُ أن يَبتَدِئَ اليمينَ مع الشَّكِّ في صِحَّتِها، فسَقَطَتْ للشَّكِّ فيها. الثَّاني، إذا كان زائِلَ العَقْلِ لجُنُونٍ، فلا حُكْمَ لِقَذْفِه؛ لأنَّ القَلَمَ عنه مَرْفوعٌ أيضًا (¬1). وإن أتَتِ امْرَأتُه بوَلَدٍ، فنَسَبُه لاحِقٌ به، لإِمْكانِه، ولا سَبِيلَ إلى نَفْيِه مع زَوالِ عَقْلِه، فإذا عَقَلَ، فله نَفْيُ الوَلَدِ حينئذٍ واستِلْحاقُه. وإنِ ادَّعى أنَّه كان ذاهِبَ العقلِ حِينَ قَذْفِه، فأنْكَرَتْ ذلك، ولأحَدِهما بَيِّنَةٍ بما قال، ثَبَتَ قولُه. وإن لم يكنْ لواحِدٍ منهما بَيِّنَةٍ، ولم يكنْ له حالٌ عُلِمَ فيها زَوالُ عقْلِه، فالقولُ قولُها مع يَمِينِها؛ لأنَّ الأصلَ [السلامةُ والظَّاهرَ] (¬2) الصِّحةُ. وإن عُرِفَتْ له حالُ جُنُونٍ، ولم تُعْرَفْ له حالُ إفاقَةٍ، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، وإن عُرِفَتْ له حالُ جُنُونٍ وحالةُ إفاقَةٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، القولُ قولُها. قال القاضي: وهو قِياسُ قولِ أصحابِنا في المَلْفُوفِ إذا ضَرَبَه فَقَدَّه، ثم ادَّعَى أنَّه كان مَيِّتًا، وقال الوَلِيُّ: كان حَيًّا. والوجهُ الثاني، أنَّ القولَ قولُه؛ لأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمتِه مِن الحَدِّ، فلا يَجبُ بالشكِّ، ولأنَّ الحَدَّ يَسْقُطُ بالشُّبْهَةِ، ولا يُشْبهُ هذا المَلْفُوفَ؛ لأنَّ المَلْفُوفَ قد عُلِمَ أنَّه كان حَيًّا، ولم يُعْلَمْ منه ضِدُّ ذلك، فنَظيرُه في مَسْألتِنا أنَّه يُعْرَفُ له حالُ إفاقَةٍ، ولا يُعْلَمُ منه ضِدُّها، وفي مَسْأَلتِنا قد تَقَدَّمَتْ له حالُ جُنُونٍ، فيَجوزُ (1) أن تكونَ قد ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، وفي ق، م: «والظاهر السلامة و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَمَرَّتْ إلى حِينِ قَذْفِه. فإن كانتِ الزَّوْجَةُ غيرَ مُكَلَّفَةٍ، فقَذَفَها الزَّوْجُ، فإن كانت طِفْلَةً لا يُجَامَعُ مِثْلُها، فلا حَدَّ على قاذِفِها؛ لأنَّه قَوْلٌ يُتَيَقَّنُ كذبُه فيه، وبَراءةُ عِرْضِها منه، فلم يَجِبْ به حَدٌّ، كما لو قال: أهلُ الدُّنيا زُنَاةٌ. ولكنَّه يُعَزَّرُ للسَّبِّ لا للقَذْفِ، ولا يُحْتاجُ في التَّعْزِيرِ إلى مُطالبَةٍ؛ لأنَّه مشْرُوعٌ لتَأْدِيبِه، للإمامِ فِعْلُه إذا رَأى ذلك. فإن كانت يُجامَعُ مِثْلُها، كابنةِ تسعِ سِنِينَ، فعليه الحَدُّ، وليس لِوَلِيِّها ولا لها المطالبة به حتَّى تَبْلُغ، فإذا بَلَغتْ فطالبَتْ، فلها الحَدُّ، وله إسْقاطُه باللِّعانِ، وليس له لِعانُها قبلَ البُلُوغ، لأن اللِّعانَ يُرادُ لإسْقاطِ الحَدِّ أوْ نَفْي الوَلَدِ، ولا حَدَّ عليه (¬1) قبلَ بُلُوغِها، ولا وَلَدَ فيَنْفِيَه، وإن أتَتْ بوَلَدٍ حُكِمَ ببُلُوغِها، لأنَّ الحَمْلَ أحَدُ أسْبابِ البُلُوغِ، ولأنَّه لا يكونُ إلا مِن نُطْفَتِها، ومِنٍ ضَرورَتِه إنْزالُها، وهو مِن أسْبابِ بُلوغِها. فإن قَذَفَ امْرأتَه المَجْنُونَةَ بزِنًى وأضافَه إلى حالِ إفاقَتِها، أو قَذَفَها وهي عاقِلَةٌ، ثم جُنَّتْ، لم يَكنْ لها المُطالبةُ، ولا لِوَلِيِّها قبلَ إفاقَتِها، لأنَّ هذا طَرِيقُه التَّشَفِّي، فلا يَنُوبُ عنه الوَلِيُّ فيه، كالقِصاصِ، فإذا أفاقَتْ فلها المُطالبَةُ بالحَدِّ، وللزَّوْجِ إسْقاطُه باللِّعانِ. وإن أرادَ لِعانَها في حالِ جُنُونِها، ولا وَلَدَ يَنْفِيه، لم يكنْ له ذلكَ؛ لعَدَمِ الحاجةِ إليه، لأنَّهْ لم يَتَوَجَّهْ عليه حَدٌّ فيُسْقِطَه، ولا نَسَبٌ، فيَنْفِيَه. وإن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْل: الشَّرْطُ الثّانِي، أَنْ يَقْذِفَهَا بِزِنًى، فَيَقُولَ: زَنَيتِ. أَوْ: يَا زَانِيَةُ. أوْ: رَأْيتُكِ تَزْنِينَ. سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِالزِّنَى في الْقُبُلِ أو الدُّبُرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان هناك وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَه، فالذي يَقْتَضِيه المذهبُ [أنَّه لا] (¬1) يُلاعِنُ، ويَلْحَقُه الوَلَدُ؛ لأنَّ الولَدَ إنَّما يَنْتَفِي باللِّعانِ مِن الزَّوْجَين، وهذه لا يَصِحُّ منها لِعانٌ. وقد نَصَّ أحمدُ في الخَرْساءِ، أنَّ زَوْجَها لا يُلاعِنُ. فهذه أوْلَى. وقال الخِرَقِيُّ في العاقِلَةِ: لا يعْرَضُ له حتَّى تُطالِبَه زَوْجتُه. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْي؛ لأنها أحَدُ الزَّوْجَين، فلم يُشْرَع اللِّعانُ مع جُنُونِه، كالزَّوْجِ، ولأَنَّ لِعانَ الزَّوْجِ وحدَه لا ينْتَفِي به الوَلَدُ، فلا فائِدَةَ في مَشْرُوعِيَّتِه. وقال القاضي: له أن يُلاعِنَ لنَفْي الوَلَدِ؛ لأنَّه مُحْتاجٌ إلى نَفْيه، فيُشْرَعُ له طريقٌ إليه. وقال الشَّافِعيُّ: له أنْ يُلاعِنَ. وظَاهِرُ مذهبِه أنَّ له لِعانَها مع عَدَمِ الوَلَدِ؛ لدُخُولِه في عُمومِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَجَهُمْ}. ولأنَّه زَوْجٌ مُكَلفٌ، قاذِفٌ لامْرأتِه التي يُولَدُ لمِثْلِها، فكان له أن يُلاعِنَها، كالعاقِلَةِ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (الشَّرْطُ الثَّاني، أن يقْذِفَها بالزِّنَى، فيقولَ: زَنَيتِ. أو: يا زانِيَةُ. أو: رَأَيتُكِ تَزْنِينَ. وسواءٌ قَذَفَها بِزِنًى في القُبُلِ أو في الدُّبُرِ) لأنَّ كلَّ قَذَفٍ يجبُ به الحَدُّ، وسواءٌ في ذلك الأعْمَى والبَصِيرُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشَّافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وهو قولُ عطاءٍ. وقال يَحيى الأنْصارِيُّ، وأبو الزِّنادِ، ومالِكٌ: لا يكونُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أن».

3804 - مسألة: (فإن قال: وطئت بشبهة، أو مكرهة. فلا

فَإِنْ قَال: وُطِئْتِ بِشُبْهَةٍ، أوْ مُكْرَهَةً. فَلَا لِعَانَ بَينَهُمَا. وَعَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ اللِّعانُ إلَّا بأحَدِ أمْرَين: إمَّا رُويَةٍ، وإمَّا إنْكارِ الحَمْلِ؛ لأنَّ آيَةَ اللِّعانِ نَزَلَتْ في هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ، وكان قال: رأيتُ بِعَينِي، وسَمِعْتُ بأُذُنِي. فلا يَثبُتُ اللِّعانُ إلَّا في مِثْلِه. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية. وهذا رامٍ لِزَوْجَتِه، فيَدْخُلُ في عُمومِ الآيَةِ، ولأنَّ اللِّعانَ مَعْنًى (¬1) يُتَخَلَّصُ به مِن مُوجَبِ القَذْفِ، فيُشْرَعُ في حَقِّ كلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِه، كالبَيِّنةِ، والأخْذُ بعُمُومِ اللَّفْظِ أوْلَى مِن خُصُوصِ السَّبَبِ، ثم لم يَعْمَلوا به في قَوْلِه: وسَمِعْتُ بأذُنِي. إذا ثَبَتَ ذللط، فسواءٌ قَذَفَها بِزِنًى في القُبُلِ أو في الدُّبُرِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَثْبُتُ اللِّعانُ بالقَذْفِ بالوَطْءِ في البُرِ. وبَنَاه على أصلِه في أنَّ ذلك لا يَجِبُ به الحَدُّ. ولَنا، أنَّه رَام لِزَوْجَتِه بوَطْءٍ في فَرْجِها، فأَشْبَهَ ما لو قَذَفَها بالوَطْءِ في قُبُلِها. 3804 - مسألة: (فإن قال: وُطِئتِ بِشُبْهَةٍ، أو مُكْرَهَةً. فلا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

إِنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ، لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لِعانَ بَينَهما) لأنَّه لم يَقْذِفْها بما يُوجِبُ الحَدَّ. (وعنه، إن كان ثَمَّ وَلَدٌ، لاعَنَ لِنَفْيه، وإلَّا فلَا) لأنَّه مُحْتاجٌ إلى نَفْيِه. [فأمَّا إن قَذَفَها بالوَطءِ [دُونَ الفَرْجِ] (¬1)، أو بشَيْءٍ مِنَ الفواحشِ غيرِ الزِّنى، فلا حدَّ عليه، ولا لعانَ؛ لأنَّه قَذَفَها بما لا يَجِبُ به الحدُّ، فلم يَثْبُتُ به الحدُّ واللِّعان، كما لو قَذَفَها بضربِ الناسِ وأذاهم] (¬2). ¬

(¬1) سقط من الأصل، ق. (¬2) سقط من: م.

3805 - مسألة: (وإن قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني. فهو ولده في الحكم)

وَإِنْ قَال: لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ لَيسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي. فَهُوَ وَلَدُهُ في الْحُكْمِ، وَلَا لِعَانَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3805 - مسألة: (وَإِنْ قَال: لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ لَيسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي. فَهُوَ وَلَدُهُ في الْحُكْمِ) ولا حَدَّ عليه لها؛ لأنَّ هذا ليس بقَذْفٍ بظاهِرِه؛ لاحْتِمالِ أن رِيدَ أنَّه مِن زَوجٍ آخَرَ، أو مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ، أو غيرِ ذلك، ولكنَّه يُسْألُ، فإن قال: زَنتْ، فوَلَدَتْ هذا مِن الزِّنَى. فهذا قَذْفٌ يَثْبُتُ به اللِّعانُ. وإن قال: أرَدْتُ أنَّه لا يُشْبِهُنِي خَلْقًا ولا خُلُقًا. فقالتْ: بل أرَدْتَ قَذْفِي. فالقولُ قولُه؛ لأنَّه أعْلَمُ بمُرادِه، لاسِيَّمْا وقد صَرَّحَ بقَوْلِه: لم تَزْنِ. فإن قال: وُطِئْتِ بِشبْهَةٍ، والوَلَدُ مِن الوَاطِئَ. فلا حَدَّ عليه أيضًا؛ لأنَّه لم يَقْذِفْها، ولا قَذَفَ واطِئَها. وإن قال: أُكْرِهْتِ على الزِّنَى. فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه لم يَقذِفها، ولا لِعان في هذه المَواضِعِ؛ لعَدَمِ القذفِ الَّذي هو مِن شَرْطِ اللِّعانِ، ويَلْحَقُه نَسَبُ الولَدِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكَر القاضي أنَّه إذا قال: أُكْرِهْتِ. روايةً أُخْرَى، أن له اللِّعانَ؛ لأنَّه مُحْتاجٌ إلى نَفْي الوَلَدِ، بخِلافِ ما إذا قال: وُطِئْتِ بشُبْهَةٍ. فإنَّه يُمْكِنُه نَفْيُ الوَلَدِ بعَرْضِه على القافَةِ، فيُسْتَغْنَى (¬1) بذلك عن اللِّعانِ، فلا يُشْرَعُ، كما لا يُشْرَعُ لِعانُ أمَتِه لمَّا أمْكَنَ نَفْيُ وَلَدِ ها بدَعْوَى الاسْتِبْراءِ. وهذا مذهَبُ الشافعيِّ. ولَنا، أنَّ اللِّعانَ إنَّما وَرَدَ به الشَّرْع بعدَ القَذْفِ بقوْلِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ} الآية. ولمَّا لَاعَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ وامْرأتِه (¬2) وبينَ عُوَيمِرٍ العَجْلانِيِّ وامْرأتِه (¬3) إنَّما كان بعدَ قَذْفِه إيَّاها، ولا يَثْبُتُ الحُكْمُ إلا (¬4) في مِثْلِه، ولأنَّ نَفْيَ اللِّعانِ إنَّما يَنْتَفِي به الوَلَدُ بعدَ تَمامِه منهما، ولا يتَحَقَّقُ اللِّعانُ مِن المرْأةِ ههُنا. فأمَّا إن قال: وَطِئَكِ فلانٌ بشُبْهَةٍ، وأنتِ تَعْلَمِينَ الحال. فقد قَذَفَها، وله لِعانُها، ونَفْيُ نَسَبِ ولدِها. وقال القاضي: ليس له نَفْيُه باللِّعانِ. وكذلك قال أصْحابُ الشافِعِيِّ؛ لأنَّه يُمْكِنُه نَفْيُ نَسَبِه بعَرْضِه على القافَةِ، فأشْبَهَ ما لو قال: واشْتَبَهَ عليكِ أيضًا. ولَنا، ¬

(¬1) في الأصل: «فيستعين». (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 338، ويعدل سنن أبي داود إلى 1/ 522، 523، وعارضة الأحوذي إلى 12/ 45، 46. وانظر صفحة 370. (¬3) تقدم تخريجه في 22/ 179. (¬4) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه رامٍ لزَوْجَتِه، فيَدْخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية. ولأنَّه رامٍ لزَوْجَتِه بالزِّنى، فمَلَكَ لِعانَها ونَفْىَ ولَدِها، كما لو قال: زَنَى بكِ فلانٌ. وما ذَكرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّه قد لا يُوجَدُ قافَةٌ، وقد لا يعْترِفُ الرجلُ بما نُسِبَ إليه، أو يَغِيبُ، أو يَموتُ، فلا يَنْتَفِي الولَدُ. وإن قال: ما وَلَدْتِه، وإنَّمْا الْتَقَطْتِهِ، أو اسْتَعَرْتِه. فقالت: بل هو وَلَدِي منك. لم يُقْبَلْ قولُ المرْأةِ إلا بِبَيِّنةٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ الولادَةَ يُمْكِنُ إقامةُ البَيِّنَةِ عليها، والأصْلُ عدَمُها، فلم تُقْبَلْ دَعْواها مِن غيرِ بَيِّنةٍ، كالدِّينِ. قال القاضي: وكذلك لا تُقْبَلُ دَعْواها في الولادةِ، فيما إذا عَلَّقَ طَلَاقَها بها، ولا دَعْوَى الأمةِ لها لتَصِيرَ بها (1) أمَّ وَلَدٍ، ويُقْبَلُ قَوْلُها فيه لِتَنْقَضِيَ عِدَّتُها بها. فعلى هذا، لا يَلْحَقُه الوَلَدُ إلَّا أن تقِيمَ بَيِّنَةً؛ وهى امْرأةٌ مَرْضِيَّة، تَشْهَدُ بولادَتِها له (¬1)، فإذا ثَبَتَتْ ولادَتُها، لحِقَهُ نسَبُه؛ لأنَّه وُلِدَ على فِراشِه، والوَلَدُ للفِراشِ. وذَكَر القاضي في موضع آخَرَ أنَّ القولَ قولُ المرأَةِ؛ لِقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنْ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬2). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 228.

3806 - مسألة: (وإن قال ذلك بعد أن أبانها، فشهدت امرأة مرضية أنه ولد على فراشه، لحقه نسبه)

وَإِنْ قَال ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَبانَهَا، فَشَهِدَتِ امْرَأة مَرْضِيَّةٌ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَحْرِيمُ كِتْمانِه دليلٌ على قَبُولِ قَوْلها فيه، ولأنَّه خارِجٌ مِن المرْأةِ، تَنْقَضِي به عِدَّتُها، فقُبِلَ قولُها فيه، كالحَيضِ، ولأنَّه حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بالولادَةِ، فقُبِلَ قَوْلُها فيه، كالحَيضِ. فعلى هذا، يَلْحَقُه النسَبُ. وهل له نَفْيُه باللِّعانِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، ليس (¬1) له نَفْيُه؛ لأنَّ إنْكارَه لولادَتِها إيَّاه إقرارٌ بأنَّها لم تَلِدْه مِن زِنًى، فلم يُقْبَلْ إنْكارُه لذلك (¬2)؛ لأنَّه تكْذِيبٌ لنفْسِه. والثاني، له نَفْيُه؛ لأنَّه رامٍ لزَوْجَتِه، ونافٍ لوَلَدِها، فكان له نَفْيُه باللِّعانِ كغيرِه. 3806 - مسألة: (وإن قال ذلك بعدَ أن أبانَها، فشَهِدَتِ امْرَأةٌ مَرْضِيَّة أنَّه وُلِدَ على فِراشِه، لَحِقَه نَسَبُه) لأنَّ شَهادَةَ المَرْأةِ الواحِدَةِ ¬

(¬1) سقط من النسخ، والمثبت من المغني 11/ 167. (¬2) في م: «كذلك».

3807 - مسألة: (وإن ولدت توأمين، فأقر بأحدهما ونفى الآخر، لحقه نسبهما، ويلاعن لنفي الحد)

وَإنْ وَلَدَتْ تَوأَمَينِ، فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ، لَحِقَهُ نَسَبُهُمَا، وَيُلَاعِنُ لِنَفْي الْحَدِّ. وَقَال الْقَاضِي: يُحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالولادَةِ مَقبُولة؛ لأنَّها مِمَّا لا يَطَّلِعُ عليها الرِّجال. 3807 - مسألة: (وإن وَلَدَتْ تَوْأمَين، فأقَرَّ بأحَدِهما ونَفَى الآخَرَ، لَحِقَه نَسَبُهُما، ويُلاعِنُ لِنَفْي الحَدِّ) عنه (وقال القاضي: يُحَدُّ) إذا وَلَدَت تَوْأمَين، بينَهما أقَلُّ مِن سِتَّةِ أشْهُر، فاسْتَلْحَقَ أحَدَهُما ونَفَى الآخَرَ، لَحِقا به؛ لأنَّ الحَمْلَ الواحدَ لا يجوزُ أن يكونَ بعضُه منه وبعضُه مِن غيرِه، فإذا ثَبَت نَسَبُ أحَدِهما منه، ثَبَتَ نسبُ الآخَرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَرُورةً، فجَعَلْنا ما نَفَاه تابِعًا لِما اسْتَلْحَقَه، ولم يُجْعَلْ ما أقَرَّ به تابِعًا لِما نَفَاه؛ لأنَّ النَّسَبَ يُحْتاطُ لإِثْباتِه لا لِنَفْيه، ولهذا لو أتَتِ امرأتُه بوَلَدٍ يُمْكِنُ كونُه منه، ويُمْكِنُ كونُه مِن غيرِه، أَلْحَقْناه به احْتِياطًا، ولم نَقْطَعْه عنه احْتِياطًا لِنَفْيه. فعلى هذا، إن كان قد قَذَفَ أُمَّهما (¬1) فطالبَتْه بالحَدِّ، فله إسْقاطُه باللِّعانِ. وحُكِيَ عن القاضي، أنَّه يُحَدُّ، ولا يَمْلِكُ إسْقاطَه باللِّعانِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه باسْتِلْحاقِه اعْتَرَفَ بكَذِبِهِ في قَذْفِه، فلم يُسْمَع إنْكارُه بعدَ ذلك. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه لا يَلْزَمُ مِن كونِ الوَلَدِ منه انْتِفاءُ الزِّنَى عنها، كما لا يَلْزَمُ مِن وُجُودِ الزِّنَى كونُ الوَلَدِ منه، ولذلك لو أقَرَّتْ بالزِّنَى، أو قامت به (¬2) بَيِّنَة، لم يَنْتَفِ الوَلَدُ عنه، فلا تَنافِيَ بينِ لِعانِه وبينَ اسْتَلْحَاقَه للولَدِ. فإنِ اسْتَلْحَقَ أحَدَ التَّوْأمَينِ وسَكَتَ عن الآخرِ، لَحِقَه؛ لأنَّه لو نَفَاه لَلَحِقَه، فإذا سَكَتَ عنه كان أَوْلَى، ولأنَّ امْرَأتَه متى أتَتْ بوَلَدٍ، لَحِقَه ما لم يَنْفِه عنه باللِّعانِ. وإن نَفَى أحَدَهما، وسَكَتَ عن الآخَرِ، لَحِقَاهُ جميعًا. فإن قيل: ألَا نَفَيتُم المَسْكُوتَ عنه؛ لأنَّه قد نَفَى أخاه، وهما حَمْلٌ واحدٌ؟ قُلْنا: لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ على التَّغلِيبِ، وهو يَثْبُتُ بمُجَرَّدِ الإمكانِ وإن لم يَثْبُتِ الوَطْءُ، ولا يَنْتَفِي لإِمْكانِ النَّفْي، ¬

(¬1) في الأصل: «أمها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فافْتَرَقا. فإِن أتَتْ بوَلَدٍ، فنَفَاه، ولاعَنَ لِنَفْيه، ثم ولدَتْ آخَرَ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، لم يَنْتَفِ الثاني باللِّعانِ الأولِ؛ لأنَّ اللِّعان يتناوَلُ الأَوَّلَ وحدَه، ويَحْتاجُ (¬1) في نَفْي الثَّانِي إلى لِعانٍ ثانٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّه يَنْتَفِي بِنَفْيِه مِن غيرِ حاجةٍ إلى لِعانٍ ثَانٍ؛ لأنَّهما حَمْلٌ واحِدٌ، وقد لاعَنَ لِنَفْيِه مَرَّةً، فلا يَحْتاجُ إلى لِعانٍ ثانٍ (¬2). ذَكَرَه القاضي. فإن أقَرَّ بالثاني لَحِقَه هو والأولُ؛ لِما ذكَرْناه، وإدْ سَكَت عن نَفْيه، لَحِقاه أيضًا. فأمَّا إن نَفَى الوَلَدَ باللعانِ، ثم [أتَتْ بوَلَدٍ] (¬3) آخَرَ بعدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فهو مِن حَمْلٍ آخَرَ، فإنَّه لا يجوزُ أن يكونَ بمنَ وَلَدَين مِن حَمْلٍ واحِدٍ مُدَّةُ الحَمْلِ، ولو أمْكَنَ لم تَكُنْ هذه مُدَّةَ حَمْلٍ كاملٍ. فإن نَفَى هذا الولد باللِّعانِ، انْتَفَى، ولا يَنْتَفِي بغيرِ اللِّعانِ؛ لأنَّه حَمْل مُنْفَرِد، وإنِ اسْتَلْحَقَه أو تَرَك نَفْيَه، لَحِقَه وإن كانَتْ قد بانتْ باللِّعَانِ؛ لأنَّه يُمكِنُ أن يكونَ قد وَطِئَها بعدَ وضْعِ الأوَّلِ. وإن لَاعَنَها قبلَ وَضْعِ الأوَّلٍ، فَأَتَتْ بولَدٍ، ثم ولَدَتْ آخرَ بعدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ، لم يَلْحَقْه الثاني؛ لأنَّها بانتْ باللِّعانِ، وانْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضْعِ الأوَّلِ، وكان حَمْلُها الثاني بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها في غيرِ نكاحٍ، فلم يَحْتَجْ إلى نَفْيِه. ¬

(¬1) في م: «لا يحتاج». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «ولد».

فَصْلٌ: الثَّالِثُ: أن تُكَذِّبَهُ الزَّوْجَةُ وَيَسْتَمِرّ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ اللِّعَانِ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ أو سَكَتَتْ، لَحِقَهُ النَّسَبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مات أحَدُ التَّوْأمَين، أو ماتا معًا، فله أن يُلاعِنَ لنَفْي نَسَبِهما. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه نَسَبُ الحَيٍّ، ولا يُلاعِنُ إلَّا (¬1) لِنَفْي الحَدِّ، لأنَّ المَيِّتَ لا يَصِحُّ نَفْيُه باللِّعانِ، فإنَّ نسَبَه قد انْقَطَعَ بمَوْتِه، ولا حاجَةَ إلى نَفْيِه باللِّعانِ، كما لو ماتتِ امرأتُه، فإنَّه لا يُلاعِنُها بعدَ مَوْتِها لِقَطْعِ النِّكاحِ؛ لكَوْنِه قد انْقَطَعَ، وإذا لم يَنْتَفِ المَيِّتُ لم يَنْتَفِ الحَيُّ؛ لأنَّهما حَمْل واحِدٌ. ولَنا، أنَّ المَيِّتَ يُنْسَبُ إليه، فيقالُ: ابنُ فلانٍ. ويَلْزَمُه تَجْهِيزُه وتَكْفِينُه، فكان له نَفْيُ نَسَبِه، وإسْقاطُ مُؤنَتِه، كالحَيِّ، وكما لو كان للمَيِّتِ وَلَدٌ. فصل: قال المُصَنِّفُ، رَحِمَه اللهُ: (الثَّالثُ، أن تُكَذِّبَه الزَّوْجَةُ ويَسْتَمِرَّ ذلك إلى انْقِضاءِ اللِّعانِ) لأنَّ المُلاعَنَةَ إنَّما تَنْتَظِمُ مِن الزَّوْجَينِ، وإذا لم تُكَذِّبْه، لم تُلاعِنْه، فلا يَصِحُّ اللِّعانُ (فإن صَدَّقَتْه أو سَكَتَتْ، لَحِقَه النَّسَبُ) لأنَّ الولَدَ للفِراشِ، وإنَّما يَنْتَفِي عنه باللِّعانِ، ولم يُوجَدِ ¬

(¬1) سقط من: م.

وَلَا لِعَانَ في قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللِّعانُ؛ لانْتِفاءِ شَرْطِه، فبَقِيَ (¬1) النَّسَبُ لاحِقًا به (ولا لِعانَ في قِياسِ المذهبِ) ثم إن كان تَصْديقُها له قبلَ لِعانِه، فلا لِعانَ بينَهما؛ لأنَّ اللِّعانَ كالبَيِّنَةِ، إنَّما تُقامُ مع الإِنْكارِ، فإن كان بعدَ لِعانِه، لم تُلاعِنْ هي؛ لأنَّها لا تَحْلِفُ مع الإقْرارِ، وحُكْمُها حُكْمُ ما لو امْتَنَعَتْ مِن غيرِ إقْرارٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: إن صَدَّقَتْه قبلَ لِعَانِه، فعليها الحَدُّ، وليس له أن يُلاعِنَ، إلَّا أن يكونَ له نسَبٌ يَنْفِيه، فيُلاعِنُ وحدَه، ويَنْتَفِي النَّسَبُ بمُجَرَّدِ لِعَانِه، وإن كان بعدَ لِعَانِه، فقد انْتَفَى النَّسَبُ، ولَزِمَها الحَدُّ. بِناءً على أنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بمُجَرَّدِ لِعانِه، وتَقَعُ الفُرْقَةُ، ويَجِبُ الحَدُّ، [فإنَّ الحَدَّ يَجِبُ] (¬2) بإقْرارِه مَرَّةً. وهذه الأُصُولُ تُذْكَرُ في مَوْضِعِها إن شاءَ اللهُ تَعالى. ولو أقَرَّتْ أرْبَعًا، وَجَبَ الحَدُّ، ولا لِعَانَ بَينَهما إذا لم يَكُنْ ثَمَّ نَسَبٌ يُنْفَى. وإن رجَعَتْ سَقَطَ الحَدُّ عنها، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. ¬

(¬1) في م: «فنفى». (¬2) سقط من: الأصل.

3808 - مسألة: (وإن مات أحدهما قبل اللعان، ورثه صاحبه، ولحقه نسب الولد، ولا لعان)

وَإنْ مَاتَ أَحدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ، وَرِثَهُ صَاحِبُهُ، وَلَحِقَهُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَا لِعَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه يقولُ الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ فإنَّ الرُّجوعَ عن الإِقْرارِ بالحَدِّ مَقْبُولٌ. وليس له أن يُلاعِنَ للحَدِّ، فإنَّه لم يَجِبْ عليه؛ لِتَصْديقِها إيَّاه. فإن أراد لِعانَها لِنَفْي نَسَبٍ، فليس له ذلك في جميع هذه الصُّوَرِ. وهو ظاهِرُ قَوْلِ الخِرَقِيِّ، وقولُ أصحابِ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: له لِعانُها لِنَفْي النَّسَبِ فيها كلِّها؛ لأنَّها لو كانت عَفِيفَةً صالحةً فكَذَّبَتْه، مَلَكَ نَفْيَ وَلَدِها، فإذا كانت فاجِرَةً فصَدَّقَتْه، فَلأنْ يَمْلِكَ نَفْيَ وَلَدِها أَوْلَى. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ نَفْيَ الوَلَدِ إِنَّما يكونُ بلِعانِهما معًا، وقد تَعَذَّرَ اللِّعانُ منها؛ لأنَّها لا تُسْتَحْلَفُ على نفْي ما تُقِرُّ به، فتَعَذرَ نَفْيُ الوَلَدِ لتَعَذُّر سَبَبِه (¬1)، كما لو مات بعدَ القَذْفِ وقبلَ اللِّعانِ. 3808 - مسألة: (وإِن مات أحَدُهما قبلَ اللِّعانِ، وَرِثَه صاحِبُه، ولَحِقَه نَسَبُ الوَلَدِ، ولا لِعانَ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّه إذا قَذَفَها ثم مات قبلَ لِعانِهما، أو (¬2) قبلَ إتْمام لِعانِه، سَقَطَ اللِّعانُ، ولَحِقَه الوَلَدُ، ووَرِثَتْه، في قَوْلِ الجميعِ؛ لأنَّ اللِّعانَ لم يُوجَدْ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه، وإن ماتَ بعدَ أن أكْمَلَ لِعانه، وقبلَ لِعانِها، فكذلك. وقال الشافعيُّ: تَبِينُ بِلعانِه، ¬

(¬1) في الأصل: «نسبه». (¬2) في الأصل، تش: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَسْقُطُ التَّوارُثُ، ويَنْتَفِي الولدُ، ويَلْزَمُها الحَدُّ، إلَّا أن تَلْتَعِنَ. ولَنا، أنَّه ماتَ قبلَ إكْمالِ اللِّعانِ، أشْبَهَ ما لو مات قبلَ إكْمالِ الْتِعانِه، وذلك لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما رَتَّبَ هذه الأحكامَ على اللِّعانِ التامِّ، والحُكْمُ لا يَثْبُتُ قبلَ كَمالِ سَبَبِه. وإن ماتَتِ المرأةُ قبلَ اللِّعانِ، فقد ماتت على الزَّوْجِيَّةِ، ويَرِثُها في قولِ عامَّةِ أهْل العِلْمِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ: إنِ الْتَعَنَ، لم يَرِثْ. ونحوُ ذلك عن الشَّعْبِيِّ، وعِكْرِمَةَ؛ لأنَّ اللِّعانَ يُوجِبُ فُرْقَةً تَبينُ بها، فيَمْنَعُ التَّوارُثَ، كما لو الْتَعَنَ في حَياتِها. ولَنا، أنَّها ماتت على الزَّوْجِيَّةِ فوَرِثَها، كما لو لم يَلْتَعِنْ، ولأنَّ اللِّعانَ سَبَبُ الفُرْقَةِ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه بعدَ مَوْتِها كالطَّلَاقِ، وفارَقَ اللِّعانَ في الحياةِ، فإنَّه يَقْطَعُ الزَّوْجِيَّةَ، على أنَّا نقُولُ: إنَّه لو لَاعَنَها ولم تَلْتَعِنْ هي، لم تَنْقَطِعِ الزَّوْجِيَّةُ. وسنذكرُ ذلك إنْ شاءَ اللهُ تعالى، فههُنا أوْلَى. فإن قِيلَ: فعندَم لو الْتَعَنَ مِن الوَلَدِ المَيِّتِ ونَفَاه لم يَرِثْه، فكذلك الزَّوْجَةُ. قُلْنا: لو الْتَعَنَ الزَّوْجُ وحدَه دونَها، لم يَنْتَفِ الولدُ، ولم يَثْبُتْ حُكْمُ اللِّعانِ، على ما نَذْكُرُه، ثم الفَرْقُ بينَهما أنَّه إذا نَفَى الوَلَدَ تَبَيَّنَّا أنَّه لم يَكُنْ منه أصْلًا في حالٍ مِن الأحوالِ، والزَّوجةُ قد كانتِ امْرأتَه فيما قبلَ اللِّعانِ، وإنَّما يُزِيلُه نِكاحَها اللعانُ، كما يُزِيلُه الطَّلاقُ، فإذا ماتت قبلَ وُجودِ ما يُزِيلُه، فيكون مَوْجودًا حال الموْتِ، فيوجبُ التَّوارُثَ، ويَنْقَطِعُ بالمَوْتِ، فلا يُمْكِنُ انْقِطاعُه مَرَّةً أُخْرَى. وإن أَراد الزَّوْجُ اللِّعانَ، ولم تكُنْ طالبَتْ بالحَدِّ في حياتِها، لم يَكُنْ له أن يَلْتعِنَ، سَواءٌ كان ثَمْ ولدٌ يُرِيدُ نَفْيَه أو لم يكُنْ. وعند الشافعيِّ،

3809 - مسألة: (وإن مات الولد، فله لعانها ونفيه)

وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَلَهُ لِعَانُهَا وَنَفْيُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن كان ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَه، فله أن يَلْتَعِنَ. وهذا يَنْبَنِي على أصْلٍ، وهو أنَّ اللِّعانَ إنَّما يكونُ بينَ الزَّوْجَين، فإنَّ لعانَ الرجلِ وحدَه لا يَثْبُتُ به حُكْمٌ، وعندَهم بخِلَافِ ذلك. فأما إن كانت طالبَتْ بالحَدِّ في حياتِها، فإنَّ أوْلِياءَها يقُومون في الطَّلَبِ به مَقامَها، فإن طُولِبَ به، فله إسْقاطُه باللِّعانِ. ذكَرَه القاضي، وإلَّا فلا، فإنَّه لا حاجَةَ إليه مع عدَم الطَّلَبِ؛ لأنَّه لا حَدَّ عليه. وقال أصْحابُ الشافعيِّ: إن كان للمَرْأَةِ وارِثٌ غيرُ الزَّوْجَ، فله اللِّعانُ، لِيُسْقِطَ الحَدَّ عن نفْسِه، وإلَّا فلا. 3809 - مسألة: (وإن مات الوَلَدُ، فله لِعانُها ونَفْيُه) لأنَّ شُرُوطَ اللِّعَانِ تَتَحَققُ بدُونِ الوَلَدِ فلا تَنْتَفِي بمَوْتِه. فصل: إذا مات المقْذُوفُ قبلَ المُطالبَةِ بالحَدِّ، [سَقَط، و] (¬1) لم يَكُنْ لوَرَثَتِه الطلَبُ به. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يُورَثُ وإن لم يَكُنْ طالبَ به؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِه» (¬2). ولأنَّه حَقٌّ ثَبَتَ له في الحياةِ، يُورَثُ إذا طالبَ به، فيُورَثُ وإن لم يطالِبْ به، كحقِّ (¬3) القِصاصِ. ولَنا، أنَّه حَدٌّ تُعْتَبَرُ فيه المُطالبَةُ، فإذا لم يُوجَدِ الطَّلَبُ مِن المالِكِ، [لم يَجِبْ] (¬4)، كحَدِّ القَطْعِ في الوقةِ، والحديثُ يَدُلُّ على أنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 188. بلفظ: «من ترك مالا». (¬3) في م: «لحق». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحق المَتْرُوكَ يُورَثُ، وهذا ليس بمَتْرُوكٍ، وأمَّا حَقُّ القِصاصِ، فإنَّه حقٌّ يجوزُ الاعْتِياضُ عنه، ويَنْتَقِلُ إلى المالِ، بخِلافِ هذا. فأمَّا إن طالبَ به ثم مات، فإنَّه يَرِثُه العَصَباتُ مِن النَّسَبِ دُونَ غيرِهم؛ لأنَّه حَق ثَبَتَ لدَفْعِ العارِ، فاخْتَصَّ به العَصَباتُ، كولَايةِ النِّكاحِ. وهذا أحدُ الوُجُوهِ لأصحابِ الشافعيِّ. ومتى ثَبَتَ للعَصَباتِ، فلهم اسْتِفَاؤُه. [وإن طَلَبَ أحَدُهم وحدَه، فله اسْتِفَاؤُه. وإن عَفَى بَعْضُهم، لم يَسْقُطْ وكان للباقِين اسْتِفَاؤُه] (¬1). ولو بَقِيَ واحدٌ، كان له اسْتِفَاءُ جَمِيعِه؛ لأنَّه حقٌّ يُرادُ للرَّدْعِ والزَّجْرِ، فلم يَتَبَعَّضْ (¬2)، كسائرِ الحُدُود، ولا يَسْقُطُ بإسْقاطِ البعضِ؛ لأنَّه يُرادُ لِدَفْعِ العارِ عن المَقْذُوفِ، وكُلُّ واحدٍ مِن العَصَباتِ يقومُ مَقامَه في اسْتِيفائِه، فيَثْبُتُ له جَمِيعُه، كولايةِ النِّكاحِ، ويُفارِقُ حَقَّ القِصاصِ؛ لأنَّ ذلك يَفُوتُ إلى بَدَلٍ، ولو أسْقَطْاه ههُنا، لَسَقَطَ حَقُّ (¬3) غيرِ العافِي إلى غيرِ بَدَلٍ. فصل: وإذا قَذَفَ امرأتَه، وله بَيِّنَة تَشهَدُ بِزِناها، فهو مُخَيَّرٌ بينَ لِعانِها وبينَ إقامةِ البَيِّنَةِ؛ لأنَّهما سَبَبَان، فكانت له الخِيَرَةُ في إقامةِ أَيِّهما شاء، كمَن له بدَينٍ شاهِدان وشاهِدٌ وامْرَأتان، ولأنَّ كلَّ واحدةٍ (¬4) منْهما يَحْصُلُ بها ما لا يَحْصُلُ بالأُخْرَى، فإنَّه يَحْصُلُ باللِّعانِ نَفْيُ النَّسَبِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ينتقص». (¬3) في م: «في». (¬4) في الأصل: «واحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الباطِلِ، ولا يَحْصُلُ ذلك بالبَيِّنَةِ، ويَحْصُلُ بالبَيِّنَةَ ثُبُوتُ زِنَاها وإقامَةُ الحَدِّ عليها، ولا يَحْصُلُ باللِّعانِ. فإن لَاعَنها ونَفَى وَلَدَها، ثم أراد إقامَةَ البَيِّنَةِ، فله (¬1) ذلك، فإذا أقامَها، ثَبَتَ مُوجَبُ اللِّعانِ ومُوجَبُ البَيِّنَةَ، وإن أقامَ البَيِّنَةَ أولًا، ثَبَتَ الزِّنَى ومُوجَبُه، ولم يَنتفِ عنه الوَلَدُ؛ فإنَّه لا يَلْزَمُ مِن الزِّنَى كَوْنُ الوَلَدِ منه. وإن أراد لِعانَها بعدَ ذلك، وليس بينَهما وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَه، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأنَّ الحَدَّ قد انْتَفَى عنه بإقامةِ البَيِّنَةَ، فلا حاجةَ إليه. وإن كان بينَهما ولدٌ يُرِيدُ نَفْيَه، فعلى قولِ القاضي، له أن يُلاعِنَ. وقد ذَكَرْنا ذلك. فصل: وإن قَذَفَها، فطالبَتْه بالحَدِّ، فأقامَ شاهِدَين على إقْرارِها بالزِّنَى، سَقَطَ عنه الحَدُّ؛ لأنَّه ثَبَتَ تَصْدِيقُها إيَّاه، ولم يَجِبْ عليها؛ لأنَّه لا يَجِبُ إلا بإقْرارِ أرْبَعِ مَرَّاتٍ، ويَسْقُطُ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ. فإن لم يكنْ له بَيِّنَةٌ حاضِرَةٌ، فقال: لي بَيِّنةٌ غائِبَة أُقِيمُها على الزِّنَى. أُمْهِلَ اليَوْمَين والثَّلاثةَ؛ لأنَّ ذلك قَرِيبٌ، فإن أَتَى بالبَيِّنَةِ، وإلَّا حُدَّ، إلا أن يُلاعِنَ إذا كان زَوْجًا. فإن قال: قَذَفْتُها وهي صَغِيرَةٌ. فقالت: قَذَفَني وأنا كَبِيرَةٌ. وأقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةَ بما قال، فهما تَذْفان. وكذلك إنِ اخْتَلَفا في الكُفْرِ والرِّقِّ أو الوَقْتِ؛ لأنَّه لا تَنافِيَ بينَهما، إلا أن يكُونا مُؤَرَّخَين تَأْرِيخًا واحِدًا، فيَسْقُطان، في أحَدِ الوَجْهَين، وفي الآخرِ، يُقْرَعُ بينهما، فمَن خرَجَتْ قُرْعَتُه، قُدِّمَت بَيِّنَتُه. ¬

(¬1) في الأصل: «قبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَهِدَ شاهِدان أنَّه قَذَفَ فُلانَةَ وقَذَفَنا (¬1). لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما؛ لاعْتِرافِهما بعَداوَتِه لهما، وشَهادةُ العَدُوِّ لا تُقْبَلُ على عَدُوِّه. وان أبرَآه وزالتِ العَداوَةُ، ثم شَهِدا عليه بذلك، لم تُقْبَلْ؛ لأنَّها رُدَّتْ للتُّهْمَةِ، فلم تُقْبَلْ بعدُ، كالفاسِقِ إذا شَفِدَ فرُدَّتَ شَهادَته لفِسْقِه ثم تاب وأعادها. ولو أنَّهما ادَّعَيا عليه أنَّه قَذَفَهما، ثم أْبرَآهُ (¬2) وزالتِ العَداوَةُ، ثم شَهِدَا عليه بقَذْفِ زَوْجَتِه، قُبِلَتْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما لم يُرَدَّا في هذه الشَّهادةِ. ولو شَهِدا أنَّه قَذَفَ امْرأتَه، ثم ادَّعَيا بعدَ ذلك أنَّه قَذَفَهما، فإن أضافا دَعْواهما إلى ما قبلَ شهادَتِهما، [بَطَلَتْ شَهادَتُهما] (¬3)؛ لاعْتِرافِهما أنَّه كان عَدُوًّا لهما حينَ شَهِدا عليه. وإن لم يُضِيفاها إلى ذلك الوقتِ، وكان ذلك قبلَ الحُكْمِ بشهادَتِهما، لم يُحْكَمْ بها؛ لأنَّه لا يُحْكَمُ عليه بشَهادةِ عَدُوَّيْن، وإن كان بعدَ الحُكْمِ، لم تَبْطُلْ؛ لأنَّ الحُكْمَ تَمْ قبلَ وُجُودِ المانِعِ، كظُهُورِ الفِسْقِ، وإن شَهِدا أنَّه قَذَفَ امْرأتَه [وأُمَّنا] (3)، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما؛ لأنَّها رُدَّتَ في البعضِ للتُّهْمَةِ، فوَجَبَ أن تُرَدَّ في الكُلِّ، وإن شَهِدا على أبِيهِما أنَّه قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِما، قُبِلَتْ شهادَتُهما. وبهذا قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في الجَدِيدِ. وقال في القديم: لا تُقْبَلُ؛ لأنَّهُما يَجُرَّانِ إلى أُمِّهِما نَفْعًا، وهو أنَّه يُلاعِنُها فتَبِينُ، ويَتَوَفَّرُ على أُمِّهِما. وليس بشيءٍ؛ لأنَّ لِعانَه لها يَنْبَنِي على مَعْرِفَتِه بِزِناها، ¬

(¬1) في م: «قذفهما». (¬2) في الأصل: «أتاه». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا على الشّهادَةِ عليه بما لا يَعْتَرِفُ (¬1) به. وإن شَهِدا بطَلاقِ الضَّرَّةِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا تقْبَلُ؛ لأنَّهما يَجُرَّانِ إلى أُمِّهِما نَفْعًا، وهو تَوَفُّرُه على أُمِّهِما. والثَّاني، تُقْبَلُ؛ لأنَّهما لا يَجُرَّان إلى أنْفُسِهما نَفْعًا. فصل: ولو شَهِدَ شاهدٌ أنَّه أقَرَّ بالعَرَبِيَّةِ أنَّه قَذَفَها، وشَهِدَ آخرُ أنَّه أقَرَّ بذلك بالعَجَمِيَّةِ، ثَبَتَتِ الشَّهادة؛ لأنَّ الاخْتلافَ في العَجَمِيَّةِ والعَرَبِيَّةِ عائدٌ إلى الإقْرارِ دُونَ القَذْفِ، ويجوز أن يكونَ القَذْفُ واحدًا والإقْرارُ به (¬2) في مَرَّتَين، ولذلك لو شَهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ يَوْمَ الخَمِيسِ بقَذْفِها، وشَهِدَ آخر أنَّه أقَرَّ بذلك يومَ الجُمُعَةِ، تَمَّتِ الشَّهادةُ؛ لِما ذَكَرْناه. وإن شَهِدَ أحَدُهما أنَّه قَذَفَها بالعَرَبِيَّةِ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه قَذَفَها بالعَجَمِيَّةِ، أو شَهِدَ أحَدُهُما أنَّه قَذَفَها يومَ الخميسِ، وشَهِدَ الآخَر أنَّه [قَذَفَها يومَ الجُمُعَةِ، أو شَهِدَ أَحَدُهما أنَّه] (3) أقَرَّ بقَذْفِها [بالعَرَبِيَّةِ، أو يومَ الخميسِ، وشَهِدَ الآخَر أنَّه قَذَفَها] (¬3) بالعَجَمِيَّةِ، أو يومَ الجُمُعَةِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، تَكْمُلُ الشَّهادَةُ. وهو قولُ أبِي بكرٍ، ومذهَبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الوَقْتَ ليس ذِكْره شَرْطًا في الشَّهادَةِ بالقَذْفِ، وكذلك اللِّسان، فلم يُؤثِّرْ الاخْتِلاف فيه، كما لو شَهِدَ أحَدُهُما أنَّه أقَرَّ بقَذْفِها يومَ الخميسِ بالعَرَبِيَّةِ، وشَهِدَ الآخَر أنَّه أقَرَّ بقَذْفِها يومَ الجُمُعَةِ بالعَجَمِيَّةِ. والثَّاني، لا تَكْمُلُ الشَّهادَة. وهر مذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّهما قذفان لم تتِمَّ الشَّهادَة على واحدٍ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يعرف». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

3810 - مسألة: (وإن لاعن ونكلت الزوجة عن اللعان، خلي سبيلها، ولحقه الولد. ذكره الخرقي. وعن أحمد أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن)

وَإِنْ لَاعَنَ وَنَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ اللِّعَانِ، خُلِّيَ سَبِيلُهَا، وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. وَعَنْ أحْمَدَ أَنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما، فلم تَثْبُتْ، كما لو شَهِدَ أحَدُهما أنَّه تَزَوَّجَها يومَ الخميسِ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه تزَوَّجَها يومَ الجُمُعَةِ، وفارَقَ الإِقْرارَ بالقَذْفِ؛ فإنَّه يجوزُ أن يكونَ المُقِرُّ به واحِدًا، أقَر به في وَقْتَين بلِسانَين. 3810 - مسألة: (وإن لاعَنَ ونَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عن اللِّعانِ، خُلِّيَ سَبِيلُها، ولَحِقَه الوَلَدُ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وعن أحمدَ أنَّها تحْبَسُ حَتَّى تقِرَّ أو تُلاعِنَ) إذا لاعَنَ امرأتَه، وامْتَنَعَتْ مِن المُلاعَنَةِ، فلا حَدَّ عليها، والزَّوْجِيَّةُ بحالِها. وبه قال الحسنُ، والأوْزاعِيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ذلك عن الحارثِ العُكْلِيِّ، وعَطاءٍ الخُراسَانِيِّ. وذهَبَ مَكْحُولٌ، والشَّعْبِيُّ، ومالِكٍ، والشافعيِّ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو إسْحاقَ الجُوزْجَانِيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، إلى أنَّ عليها الحَدَّ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬1). والعذابُ الَّذي يَدْرَؤُه عنها لِعانُها هو الحَدُّ المَذْكُورُ في قولِه تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). ولأنَّه بلِعانِه ¬

(¬1) سورة النور 8. (¬2) سورة النور 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقَّقَ زِنَاها، فوَجَبَ عليها الحَدُّ، كما لو شَهِدَ عليها أرْبَعةٌ. ولَنا، أنَّه يتَحَقَّقْ زنَاها، فلا يَجبُ عليها الحَدُّ، كما لو لم يُلاعِنْ، ودَلِيلُ ذلك، أنَّ تَحَققَ زِنَاها لا يَخْلُو إمّا أن يكونَ بِلعانِ الزَّوجِ، أو (¬1) بِنُكُولِها، لا يجوزُ أن يكونَ بِلعانِ الزَّوجِ وحدَه (¬2)؛ لأنَّه لو ثبَتَ زِنَاها به (¬3)، لَما سُمِعَ لِعَانها (¬4)، ولا وجَبَ الحَدُّ على قاذِفِها، ولأنَّه إمَّا يَمِينٌ وإمَّا شَهادَةٌ، وكلاهما لا يُثْبِتُ له الحَقَّ على غيرِه، ولا يجوز أن يَثْبُتَ ¬

(¬1) في الأصل «و». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في تش: «إنكارها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِنُكُولها؛ لأنَّ الحَدَّ لا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، فإنَّه يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فلا يَثْبُتُ بها؛ وذلك (¬1) لأنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ أن يكونَ لِشِدَّةِ خَفَرِها (¬2)، أو لثِقَلِه على لِسَانِها، أو غيرِ ذلك، فلا يجوزُ إثْباتُ الحَدِّ الَّذي اعْتُبِرَ في بَيِّنَتِه مِن العَدَدِ ضِعْفُ ما اعْتُبِرَ في صمائِرِ الحُدُودِ، واعْتُبِرَ في حَقِّهِم أن يَصِفُوا صُورةَ الفِعْلِ، وأن يُصَرِّحُوا بلَفْظِه، وغيرُ ذلك، مُبالغَةً في نَفْي الشُّبُهاتِ عنه، وتَوَسُّلًا إلى إسْقاطِه، ولا يجوزُ أن يُقْضَى فيه بِالنُّكُولِ الَّذي هو في نفسِه شُبْهَةٌ، لا يُقْضَى به في شيءٍ مِن الحُدُودِ ولا العُقُوباتِ، ولا ما عَدَا الأمْوال، مع أنَّ الشافعيَّ لا يَرَى القضاءَ بالنُّكُولِ في شيءٍ، فكيف يَقْضِي به في أعْظَمِ الأُمُورِ وأْبعَدِها ثُبُوتًا، وأسْرَعِها سُقُوطًا! ولأنَّها لو أقَرَّتْ بِلِسانِها، ثم رَجَعَتْ، لم يَجِبْ عليها الحَدُّ؛ فلَأن لا يَجِبَ بمُجَرَّدِ امْتِناعِها مِن اليَمِينِ على بَراءَتِها (¬3) أوْلَى، ولا يجوزُ أن يُقْضَى فيه بهما؛ لأنَّ ما لا يُقْضَى فيه باليَمِينِ المُفْرَدَةِ، لا يُقْضَى فيه باليَمِينِ مع النُّكُولِ، كسائِرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أي: حيائها. (¬3) في الأصل: «ميراثها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُقُوقِ، ولأنَّ ما (¬1) في كُلِّ واحدٍ منهما مِن الشُّبْهَةِ لا يَنْتَفِي بضَمِّ أحدِهما إلى الآخَرِ، فإنَّ احْتِمال نُكُولِها لِفَرْطِ حَيائِها وعَجْزِها عن النُّطْقِ باللِّعانِ في مَجْمَعِ النَّاسِ، لا يَزُولُ بلِعانِ الزَّوْجِ، والعَذابُ يجوزُ أن يكونَ الحَبْسَ أو غيرَه، فلا يَتَعَيَّنُ في الحَدِّ، وإنِ احْتَمَلَ أن يكونَ هو المُرادَ، فلا يَثْبُتُ (¬2) الحَدُّ بالاحْتمالِ، وقد يُرَجَّحُ ما ذَكَرْناه بقولِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ الرَّجْمَ (¬3) على مَن زَنى وقد أحْصَنَ، إذا كانت بَيِّنَةٍ، أو كان الحملُ، أو الاعْتِرافُ (¬4). فذَكَرَ مُوجِباتِ الحَدِّ، ولم يَذْكُرِ اللِّعانَ. واخْتَلَفَتِ الرِّواية فيما يُصْنَعُ بها، فرُوىَ أنَّها تحْبَسُ حتَّى تَلْتَعِنَ أو تُقِرَّ أرْبَعًا. قال أحمدُ: فإن أبَتِ المرْأةُ أن تَلْتَعِنَ بعدَ الْتِعانِ الرجلِ (¬5)، أجْبَرْتها عليه، وهِبْت أن أحْكمَ عليها بالرَّجْمِ؛ لأنَّها لو أقَرَّتْ بلِسانِها لم أرْجُمْهَا إذا رَجَعَتْ، فكيف إذا أَبَتِ اللِّعان! ولا يسْقُطُ النَّسَبُ إلا بالْتِعانِهِما جميعًا؛ لأنَّ الفِراشَ قائمٌ حتَّى تَلْتَعِنَ، والوَلَذ للفِرَايقِ. قال القاضي: هذه الرِّواية أصَحُّ. وهذا قولُ مَن وافَقَنا في أنَّه لا حَدَّ عليها؛ وذلك لقولِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ينتف». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 158. (¬5) في م: «الزوج».

3811 - مسألة: (ولا يعرض للزوج حتى تطالبه زوجته. فإن أراد اللعان من غير طلبها، فإن كان بينهما ولد يريد نفيه، فله ذلك، وإلا فلا)

وَلَا يُعْرَضُ لِلزَّوْجِ حَتَّى تُطَالِبَهُ الزوْجَةُ. فَإنْ أرَادَ اللِّعَانَ مِنْ غَيرِ طَلَبِهَا، فَإنْ كَانَ بَينَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى: {وَيَدْرَؤْأ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَتٍ}. فيَدُلُّ على أنَّها إذا لم تشْهَدْ لا يُدْرَأُ عنها العَذَابُ. والرِّوايةُ الثانيةُ، يُخَلَّى سَبِيلُها. وهو قولُ أبي بكرٍ؛ لأنَّه لم يَجِبْ عليها الحَدُّ، فيَجِبُ تَخْلِيةُ سَبِيلها، كما لو لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ. فأمَّا الزَّوْجِيَّةُ، فلا تَزُولُ، والولَدُ لا يَنْتَفِي مما لم يَتِمَّ اللِّعانُ بينَهما، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا الشافعيَّ، فإنَّه قَضَى بالفرْقَةِ ونَفْيِ الوَلَدِ بمُجَرَّدِ لِعَانِ الرجلِ، على ما نَذْكُرُه. 3811 - مسألة: (وَلَا يُعْرَضُ لِلزَّوْجِ حَتَّى تُطَالِبَهُ زوْجَتُهُ. فَإنْ أرَادَ اللِّعَانَ مِنْ غَيرِ طَلَبِهَا، فَإنْ كَانَ بَينَهُمَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإلَّا فَلَا) يعني لا يُتَعَرَّضُ له بإقامَةِ الحَدِّ عليه، [ولا طَلَبِ اللِّعانِ] (¬1) منه، حتَّى تُطالِبَه زوجتُه بذلك؛ فإنَّ ذلك حَقٌّ لها، فلا يُقامُ مِن غيرِ طَلَبِها، كسائِرِ حُقُوقِها. وليس لوَلِيِّها المُطالبةُ عنها إن كانتْ مَجْنونَةً أو مَحْجُورًا عليها، ولا لِوَلِيِّ صغيرَةٍ وسَيِّدِ أمَةٍ المُطالبةُ بالتَّعْزيرِ مِن أجْلِهما؛ لأنَّ هذا حَقٌّ ثَبَتَ للتَّشَفِّي (¬2)، فلا يَقومُ الغيرُ فيه مَقامَ المُسْتَحِقِّ، كالقِصَاصِ. فإن أراد الزَّوجُ اللِّعانَ مِن غيرِ مُطالبةٍ، نَظَرْنا؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «للنفي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن لم يكُنْ هناك ولَدٌ يُرِيدُ نَفْيَه، لم يَكُنْ له أن يُلاعِنَ، وكذلك كلُّ موْضعٍ سَقَطَ فيه الحَدُّ، مثلَ أن أقامَ البَيِّنَةَ (¬1) بِزِناها، أو أَبْرَأتْه مِن قَذْفِها، أو حُدَّ لها ثم أراد لِعانَها، ولا نَسَبَ هناك يُنْفى، فإنَّه لا يشْرَعُ اللِّعانُ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، إلَّا بعضَ أصحابِ الشافعيِّ. قالوا: له المُلاعَنَةُ لإِزالةِ الفِراشِ. والصحِيحُ عندَهم مثلُ قولِ الجماعةِ؛ لأنَّ إزالةَ الفِراشِ مُمْكِنَةٌ بالطَّلاقِ، والتَّحريمُ المُؤبَّدُ ليس بمَقْصُودٍ شُرِعَ اللِّعانُ مِن أجْلِه، وإمْا حَصَلَ ضِمْنًا. فأمَّا إن كان هناك ولَدٌ يُريدُ نَفيَه، فقال القاضي: له أن يُلاعِنَ. وهو مذهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ هِلال بنَ أُمَيَّةَ لمَّا قَذَفَ امْرأتَه وأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرَه، أرْسَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليها، فلاعَنَ بَينَهما (¬2)، ولم تَكُنْ طالبَتْهُ، ولأنَّه مُحْتاجٌ إلى نَفْيِه، فيُشْرَعُ له طَرِيق إليه، كما لو طالبَتْه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) حديث هلال تقدم تخريجه في صفحة 370. وانظر ما تقدم في 16/ 338.

3812 - مسألة: (فإذا تم اللعان بينهما، ثبت أربعة أحكام؛ أحدها، سقوط الحد عنه أو التعزير. ولو قذفها برجل بعينه، سقط الحد عنه لهما)

فَصْلٌ: فَإِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَينَهُمَا، ثَبَتَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ أَو التَّعْزِيرِ. وَلَوْ قَذَفَهَا بِرَجُل بِعَينِهِ، سَقَطَ الحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ نَفْيَ النَّسَبِ الباطلِ حَقٌّ له، فلا يَسْقُطُ برِضَاها به، كما لو طالبَتْ باللِّعانِ ورَضِيَتْ بالوَلَدِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُشْرَعَ اللِّعانُ ههُنا، كما لو قَذَفَها فَصَدَّقَتْه، وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه أحَدُ مُوجَبَيِ القَذفِ، فلا يُشْرَعُ مع عَدَم المُطالبةِ، كالحَدِّ. 3812 - مسألة: (فَإِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَينَهُمَا، ثَبَتَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ؛ أَحَدُهَا، سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ أَو التَّعْزِيرِ. وَلَوْ قَذَفَهَا بِرَجُلٍ بِعَينِهِ، سَقَطَ الحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا) وجملةُ ذلك، أنَّ اللِّعانَ إذا تَمَّ سَقَطَ الحَدُّ الَّذي أوْجَبَه القذفُ عن الزَّوْجِ، إذا كانتِ الزَّوْجَةُ مُحْصنةً، والتَّعْزيرُ إن لم تكُنْ مُحْصنةً؛ لأنَّ هِلال بنَ أُمَيَّةَ قال: واللهِ لا يُعَذِّبُنِي الله عليها، كما لمْ يجلدْنِي (¬1) عليها. ولأنَّ شَهادَتَه أُقِيمَتْ مُقامَ بَيِّنَتِه، وبَيِّنتُه تُسْقِطُ الحَدَّ، كذلك لِعانه، ويحْصُلُ هذا بمُجَرَّدِ لِعانِه لذلك. فإن نَكَلَ عن اللِّعانِ، أو عن إتْمامِه، فعليه الحَدُّ، وإن ضُرِبَ بَعْضَه (¬2)، فقال: أنا أُلاعِنُ. سُمِعَ ذلك منه؛ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يحدني». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ ما أُسْقِطَ كلُّه أُسْقِطَ بعضُه، كالبَيِّنةِ. ولو نَكَلَتِ المرْأةُ عن (¬1) المُلاعَنَةِ، ثم بَذَلَتْها، سُمِعَتْ منها كالرجلِ. فإن قَذَفَها برَجُلٍ بعَينِه، سَقَطَ الحَدُّ عنه لهما إذا تَمَّ اللِّعانُ، سَواءٌ ذَكَرَ الرجلَ في لِعَانِه أو لم يَذْكُرْه. وإن لم يُلاعِنْ، فلِكُلِّ واحِدٍ منهما المُطالبَةُ، وأيُّهما طالبَ حُدَّ له دونَ مَن لم يُطالِبْ، كما لو قَذَفَ رجلًا بالزِّنَى بامرأةٍ مُعَيَّنةٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومَالِكٍ، إلا في أنَّه لا يَسْقُطُ حَدُّه بلِعانِها. وقال بعضُ أصحابِنا: القذْفُ للزَّوْجَةِ وحدَها، ولا يَتَعَلقُ بغيرِها حَقُّ في المُطالبَةِ ولا الحَدِّ؛ لأنَّ هِلَال بنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَه بشَرِيكِ بنِ السَّحْماءِ، فلم يَحُدَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عَزَّره له. وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يجبُ الحَدُّ لهما. وهل يَجِبُ حَدٌّ واحِدٌ أو حَدَّان؟ على وَجْهَين. وقال بعضُهم: لا يجبُ إلا حَدُّ واحِدٌ، [قولًا واحدًا] (¬2). ولا خِلافَ بينَهم أنَّه إذا لاعَنَ، وذكَرَ الأجْنَبِيَّ في لِعانِه، أنَّه يَسْقُطُ حُكْمُه عنه، وإن لم يَذْكُرْه، فعلى وَجْهَين. ولَنا، أنَّ اللِّعانَ بَيِّنةٌ في أحَدِ الطَّرَفَين، فكان بَيِّنَةً في الطَّرَفِ الآخرِ، كالشَّهادةِ، ولأنَّ به حاجةً إلى قَذْفِ الزَّانِي، لِمَا أفْسَدَ عليه مِن فِراشِه، وربما يحْتاجُ إلى ذِكْرِه؛ ليَسْتَدِلَّ بشَبَهِ الوَلَدِ [للمَقْذُوفِ على صِدْقِ قاذِفِه، كما اسْتَدَلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على صِدْقِ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ بشَبَهِ] (¬3) ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَلَدِ (¬1) لشَرِيكِ بنِ سَحْماءَ، فوَجَبَ أن يُسْقِطَ حُكْمَ قَذْفِه ما أسْقَطَ حُكْمَ قَذْفِها، قياسًا له عليها. فصل: فإن قَذَفَ امرأتَه وأجْنَبِيَّةً وأجْنَبِيَّةً بكلمتَين، فعليه حَدَّان لهما، فيَخْرُجُ مِن حَدِّ الأجْنَبِيَّةِ بالبَيِّنَةِ (1) خاصَّةً، ومِن حَدِّ الزَّوجةِ بالبَيِّنةِ أو اللِّعانِ. وإن قَذَفَهما بكلمةٍ فكذلك، إلَّا أنَّه إذا لم يُلاعِنْ ولم تَقُمْ بَيِّنَةٌ، فهل يُحَدُّ لهما حَدًّا واحِدًا أو حَدَّين؟ على رِوايَتَينِ؛ إحْداهما، يُحَدُّ حَدًّا واحِدًا. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في القديمِ. وزاد أبو حنيفةَ: سواءٌ كان بكلمةٍ أو كلماتٍ؛ لأنَّهما حُدُودٌ مِن جِنْسٍ، فوَجَبَ أن تَتَداخَلَ، كحَدِّ الزِّنَى. والثانيةُ، إن طالبُوا مُجْتَمِعين فحدٌّ واحدٌ، وإن طالبُوا مُتَفَرِّقِينَ فلكلِّ واحِدٍ حَدٌّ؛ لأنَّهم إذا اجْتمعُوا في الطَّلَبِ، أمْكَنَ إيفاؤُهم (¬2) بالحَدِّ الواحِدِ، وإذا تَفَرَّقُوا لم يُمْكِنْ جَعْلُ الحَدِّ الواحِدِ إيفاءً لمَن لم يُطالِبْ؛ لأنَّه لا يجوزُ إقامةُ الحَدِّ له قبلَ المُطالبَةِ منه. وقال الشافعيُّ، في الجديدِ: يُقامُ لكلِّ واحِدٍ حَدٌّ [بكلِّ حالٍ] (¬3)؛ لأنَّها حُقوق لآدَمِيِّين، فلم تَتَداخَلْ، كالدُّيُونِ. ولَنا، أنَّه إذا قَذَفَهُما بكلمةٍ واحدةٍ يُجْزِئُ حَدٌّ واحِدٌ؛ لأنَّه يَظْهَرُ كَذِبُه في قَذْفِه، وبَراءَةُ عِرْضِهما مِن رَمْيِه (¬4) بحَدٍّ واحِدٍ، فأجْزَأ، كما لو كان القذفُ لواحِدٍ. وإذا قَذَفَهما ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «إبقاؤهم». وفي م: «إلغاؤهم». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «ذمته».

3813 - مسألة: (الثاني، الفرقة بينهما وعنه، لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما)

الثَّانِي، الفُرْقَةُ بَينَهُمَا وَعَنْهُ، لَا تَحْصُلُ حَتَّى يُفَرقَ الْحَاكِمُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بكلمتين، وجَبَ حَدَّان؛ لأنَّهما قَذْفان لشَخْصَين، فوَجَبَ لكلِّ واحِدٍ حَدٌّ، كما لو قَذَفَ الثانيَ بعدَ حَدِّ الأوَّلِ. وهكذا الحكمُ فيما إذا قَذَفَ أجْنَبِيَّتَينِ أو أجْنَبِيَّاتٍ، والتَّفْصِيلُ فيه على ما ذَكَرْناه. فصل: وإن قال لزَوْجَتِه: يا زانِيةُ بِنْتَ الزَّانيةِ. فقد قَذَفَها وقَذَفَ أُمَّها بكلمتَين، والحكمُ في الحَدِّ لهما على ما مَضَى مِن التَّفْصِيلِ فيه. فإنِ اجْتَمَعتا في المُطالبَةِ، ففي أيِّهما يُقَدَّمُ وَجْهان؛ أحَدُهما، الأُمُّ؛ لأنَّ حَقَّها آكَدُ، لِكونِه لا يَسْقُطُ إلَّا بالبَيِّنَةِ، ولأنَّ لها فَضِيلةَ الأُمومةِ. والثاني، تُقَدَّمُ البِنْتُ؛ لأنَّه بَدَأ بقَذْفِها. ومتى حُدِّ لإِحْداهما، ثم وجَبَ عليه الحَدُّ للأُخرَى، لم يُحَدَّ حتَّى يَبْرَأَ جِلْدُه مِن حَدِّ الأُولَى. فإن قيل: إنَّ الحَدَّ ههُنا حَقٌّ لآدَميٍّ، فلِمَ لا يُوالي بينَهما كالقِصاصِ، فإنَّه لو قَطَعَ يَدَيْ رَجُلَينِ، قَطَعْنا يَدَيه لهما ولم نُؤخِّرْه؟ قُلْنا: لأنَّ حَدَّ القَذْفِ لا يتكَرَّرُ بتَكَرُّرِ سَبَبِه قبلَ إقامةِ حَدِّه، فالمُوَالاةُ بين حَدَّين فيه تُخْرِجُه عن موْضُوعِه، والقِصاصُ يجوزُ أن يُقْطَعَ أطْرَافُه كلُّها في قِصاصٍ واحدٍ، فإذا جازَ لواحِدٍ، فلاثنَين أَوْلَى. 3813 - مسألة: (الثَّانِي، الفُرْقَةُ بَينَهُمَا وَعَنْهُ، لَا تَحْصُلُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَينَهُمَا) وجملة ذلك، أن الفرْقَةَ بينَ المُتلاعِنَين لا تَحْصُلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا (¬1) بتَلاعُنِهما جميعًا. وهل يُعْتَبَرُ تَفْرِيقُ الحاكمِ؟ فيه رِوايتان؛ إحداهما، لا يُعْتَبَرُ، وأنَّ الفُرْقَةَ تَحْصُلُ بمُجَرَّدِ لِعانِهما. وهي اختيارُ أبي بكرٍ، وقولُ مالكٍ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وداودَ، وزُفرَ، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ؛ لِما رُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: المُتَلاعِنان يُفَرَّقُ بَينَهما، ولا يَجْتَمِعان أبَدًا. رواه سعيدٌ (¬2). ولأنَّه مَعْنًى يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ المُؤبَّدَ، فلم يَقِفْ على حُكْمِ الحاكِمِ، كالرَّضَاعِ، ولأنَّ الفُرْقَةَ لو لم تَحْصُلْ إلَّا بتَفْرِيقِ الحاكِمِ، لَسَاغَ ترْكُ التَّفْرِيقِ إذا كَرِهاهُ، كالتَّفْرِيقِ للعَيبِ (¬3) والإعْسارِ، ولَوَجَبَ أنَّ الحاكِمَ إذا لم يُفَرِّقْ بَينَهما، أن يَبْقَى النِّكاحُ مُسْتَمِرًّا، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيها» (¬4). يَدُلُّ على هذا. وعلى هذا، تَفْرِيقُه بينَهما، بمَعْنَى (¬5) إعْلامِه لهما حُصُولَ الفُرْقَةِ (¬6). والثانيةُ، لا تَحْصُلُ الفُرْقَة حتَّى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 360.كما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 410. (¬3) في م: «للعنت». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 71. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1132. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 524. والنسائي، في: باب اجتماع المتلاعنين، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 145. كلهم من حديث ابن عمر. (¬5) زيادة من: ق، م. (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفَرِّقَ الحاكِمُ بَينَهما. وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وقولُ أصْحابِ الرَّأْي؛ لقولِ ابنِ عباسٍ في حدِيثِه: ففَرَّقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَينهما (¬1). وهذا يَقْتَضِي أنَّ الفُرْقَةَ لم تَحْصُلْ قبلَه. وفي حَديثِ عُوَيمِرٍ (¬2)، قال: كَذَبْتُ عليها يارسولَ اللهِ إِن أمْسَكْتُها. فطَلَّقَها ثَلاثًا قبلَ أن يَأمُرَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يَقْتَضِي إمْكانَ إمْساكِها، وأنَّه وَقَعَ طَلاقُه، ولو كانتِ الفُرْقَةُ وَقَعَتْ قبل ذلك، لَما وَقَعَ طَلاقُه، ولا أمْكَنَه إمْساكُها. ولأن سَبَبَ هذه الفُرْقَةِ يَتَوَقَّفُ على الحاكِمِ، فالفُرْقَةُ المتعلِّقةُ به لا تَقَعُ إلا بحُكْمِ حاكم، كفُرْقَةِ العُنَّةِ. وعلى كِلْتا الرِّوايَتَينِ، لا تَحْصُلُ الفُرْقَةُ قبلَ تَمامِ لِعَانِهما. وقال الشافعيُّ: تَحْصُلُ الفُرْقَةُ بلِعانِ الزَّوْجِ وحدَه، وإن لم تَلْتَعِنِ (¬3) المرأةُ؛ لأنَّها فُرْقَة حاصِلَةٌ بالقولِ، فتَحْصُلُ بقولِ الزَّوْجِ وحدَه، كالطَّلاقِ. قال شيخُنا (¬4): ولا نَعْلَمُ أحَدًا وافَقَ الشافعيَّ على هذا القولِ. وحُكِيَ عن البَتِّيِّ أنَّه لا يَتَعَلَّقُ باللِّعانِ فُرْقَةٌ؛ لِما رُوِيَ أنَّ العَجْلانِي لمَّا لاعَنَ امرأتَه طَلَّقَها ثَلَاثًا، فأنْفَذَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ولو وقَعَتِ الفُرْقَةُ، لَما نَفَذَ طَلَاقُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 179. (¬2) أخرج هذا اللفظ أبو داود، في الموضع السابق 1/ 524. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 39. (¬3) في الأصل: «تتلعن». وفي م: «تتيقن». (¬4) في المغني 11/ 145. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 521.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكلا القَوْلَين لا يَصِحُّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرقَ بينَ المُتَلَاعِنَين. رواه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍ، وسَهْلُ بن سَعْدٍ، أخْرَجَهُما مُسْلِمٌ (¬1). وقال سَهْلٌ: فكانت سُنَّةً لمَن كان بعدَهما، أن يُفَرَّقَ بينَ المُتَلاعِنَين. وقال عمرُ: المُتَلاعِنان يُفَرَّقُ بينهما، ثم لا يَجْتَمِعان أبدًا (¬2). وأمَّا القَوْل الآخرُ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّرْعَ إنَّما ورَدَ بالتَّفْريقِ بينَ المُتَلاعِنَين، ولا يكونان مُتَلاعِنَين بلِعانٍ أحدِهما، وإنَّما فَرَّقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَينهما (¬3) بعدَ تَمامِ اللِّعانِ منهما، فالقول بوُقُوعِ الفرْقَةِ قبلَه تحَكُّمٌ يُخالِفُ مدْلُولَ السَّبَبِ (¬4) وفِعْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ لَفْظَ اللِّعانِ لا يَقْتَضِي فرْقَةً؛ فإنَّه إمَّا أَيمانٌ على زِناها، أو شَهادةٌ بذلك، ولولا وُرُودُ الشَّرْعِ بالتَّفْريقِ بَينَهما، لم ¬

(¬1) حديث ابن عمر يأتي تخريجه في صفحة 440. وحديث سهل بن سعد تقدم تخريجه في 22/ 179. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 436. (¬3) سقط من: م. (¬4) في ق، م: «السنة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْصُلِ الفُرْقَةُ، وإنَّما ورَدَ (¬1) الشَّرْعُ بها بعدَ لِعَانِهما، فلا يَجوزُ تَعْلِيقُها على بعضِه، كما لم يَجُزْ تَعْلِيقُها على بعضِ لِعانِ الزَّوْجِ، ولأنَّه فَسْخٌ ثَبَتَ بأيمانِ مُخْتَلِفَين، فلم يَثْبُتْ بيَمِينِ أحدِهما، كالفَسْخِ لِتَحالُفِ المُتَبايِعَينِ عندَ الاخْتِلافِ. ويَبْطُلُ ما ذكَرُوه بالفَسْخِ بالعَيبِ أو العِتْقِ، وقَوْلِ الزَّوجِ: اخْتارِي [نَفْسَكِ. أو: أمْرُكِ بِيَدِكِ] (¬2). أو: وَهَبْتُكِ لأهْلِكِ أو لنَفْسِكِ. وأشْباهُ ذلك كثيرٌ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنْ قُلْنا: إنَّ الفُرْقَةَ تَحْصُلُ بلِعَانِهما. فلا تَحْصُلُ إلا بعدَ إكْمالِ اللِّعانِ بَينهما. وإن قُلْنا: لا تَحْصُلُ إلا بتَفْريقِ الحاكمِ. لم يَجُزْ له أنْ يُفَرِّقَ بَينهما إلا بعدَ كَمالِ لِعانِهما، فإن فَرَّقَ قبلَ ذلك كان تَفْريقُه باطِلًا، وُجُودُه كعَدَمِه. وبهذا قال مالِكٌ. وقال الشافعيُّ: لا تقَعُ الفُرْقةُ حتَّى يُكْمِلَ الزَّوْجُ لِعانَه. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: إذا فَرَّقَ بَينَهما بعدَ أن لاعَنَ كلُّ واحدٍ منهما ثلاثَ مَرَّاتٍ، أخْطأَ السُّنَّةَ، والفُرْقَةُ جائِزَةٌ، وإن فَرَّقَ بَينهما بأقَلَّ مِن ثلاثٍ، فالفُرْقَةُ باطلةٌ؛ لأنَّ مَن أتَى بالثَّلاثِ فقد أتَى بالأكْثَرِ، فتَعَلقَ الحُكْمُ به. ولَنا، أنَّه تَفْرِيق قبلَ تَمامِ اللِّعانِ، فلم يَصِحَّ، كما لو فَرَّقَ بينَهما لأقَلَّ مِن ثلاثٍ، أو قبلَ لِعانِ المرأةِ، ولأنَّها أيمان مَشْرُوعَةٌ، لا يجوزُ للحاكمِ الحُكْمُ (¬3) قبلَها بالإِجْماعِ، فإذا حَكَمَ، لم يَصِحَّ حُكْمُه، كأيمانِ المُخْتَلِفَين في البَيعِ، ¬

(¬1) في م: «ورود». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكما قبلَ الثَّلاثِ، ولأنَّ الشَّرْعَ إنَّما ورَدَ بالتَّفْرِيقِ بعدَ كَمالِ السَّبَبِ، فلم يَجُزْ قبلَه، كسائِرِ الأسْبابِ، [ولأنَّ] (¬1) ما ذَكَرُوه تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه، ولا أصْلَ له، ثم يَبْطُلُ بما إذا شَهِدَ بالدَّينِ رجلٌ وامرأةٌ واحدَةٌ، أو بمَن تَوجَّهَتْ (¬2) عليه اليَمِينُ إذا أتَى بأكْثَرِ حُرُوفِها، وبالمُسابَقَةِ إذا قال: مَن سَبَقَ إلى خَمْسِ إصَاباتٍ. فسَبَقَ إلى ثلاثةٍ، وبسائِرِ الأسْبابِ. فأمَّا إذا تَمَّ اللِّعانُ، فلِلْحاكِمِ أن يُفَرِّقَ بَينَهما مِن غيرِ اسْتِئْذانِهِما؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بينَ المُتَلاعِنَين ولم يَسْتَأْذِنْهُما. وروَى مالِكٌ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ رجلًا لاعَنَ امرأتَه في زَمَنِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وانْتَفَى مِن ولَدِهَا، فَفَرَّقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَينَهما، وَأَلْحَقَ الولدَ بالمرأةِ. وروَى سُفيانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَهْلِ بنِ سعدٍ، قال: شَهِدتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بينَ المُتَلَاعِنَينِ. أخْرَجَهُما سَعيدٌ (¬3). ومتى قُلْنا: إنَّ الفُرْقَةَ لا تَحْصُلُ إلا بتَفْرِيقِ الحاكمِ. فلم يُفَرِّقْ بينَهما، فالنِّكاحُ بحَالِه باقٍ؛ لأنَّ ما يُبْطِلُ ¬

(¬1) في ق، م: «و». (¬2) في الأصل: «يوجب». (¬3) في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 359. كما أخرج الأول البخاري، في: باب يلحق الولد بالملاعنة، من كتاب الطلاق، وفي: باب ميراث الملاعنة، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 7/ 72، 8/ 191. ومسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1132، 1133. والترمذي، في: باب ما جاء في اللعان، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 188، 189. والنسائي، في: باب نفي الولد باللعان وإلحاقه بأمه، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 146. وابن ماجة، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجة 1/ 669. والدارمي، في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب النِّكَاح. سنن الدارمي 2/ 151. والإمام مالك، في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 567. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 27، 64، 71، 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحَ لم يُوجَدْ، فأشْبَهَ ما لو لم يُلَاعِنْ. فصل: وفُرْقَةُ اللِّعانِ فَسْخٌ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: هي طَلاقٌ؛ لأنَّها فُرْقَةٌ مِن جِهَةِ (¬1) الزَّوْجِ، تَخْتَصُّ النِّكاحَ، فكانت طَلاقًا، كالفُرْقَةِ بقَوْلِه: أنْتِ طالِقٌ. ولَنا، أنَّها فُرْقَة تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤبَّدًا، فكانت فَصْحًا، كفُرْقَةِ الرَّضاعِ، ولأنَّ اللِّعانَ ليس بصَرِيحٍ في الطلاقِ، ولا نَوَى به الطلاقَ، فلم يكُنْ طَلاقًا، أو، كسائِرِ ما يَنْفَسِخُ به النِّكاحُ، ولأنَّه لو كان طَلاقًا، لوَقَعَ بلِعانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعانِ المرأةِ. فصل: ذكَر بعضُ أهْلِ العِلْمِ، أن الفُرْقَةَ إنَّما حَصَلَتْ باللِّعانِ؛ لأنَّ لَعْنَةَ اللهِ وغَضَبَه قد وَقَعَ بأحَدِهما لِتَلاعُنِهما، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال عندَ الخامسةِ: «إنَّها الْمُوجبَةُ». أي إنَّها تُوجبُ لعْنَةَ اللهِ وغضَبَه، ولا نَعْلَمُ مَن هو منهما يَقِينًا، ففرَّقْنا بَينَهما خَشْيَةَ أن يَكونَ هبر المَلْعونَ، فيَعْلُوَ امرأةً غيرَ مَلْعُونَةٍ، وهذا لا يجوزُ، كما لا يجوزُ أن يَعْلُوَ المُسْلِمَةَ كافرٌ. ويمكنُ أن يُقال على هذا: لو كان هذا الاحتمالُ مانِعًا مِن دَوامِ نِكاحِهما، لمَنَعَه مِن نِكاحِ غيرِها، فإنَّ هذا الاحتمال مُتَحَقِّقٌ فيه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المُوجِبُ للفُرْقَةِ وُقُوعَ اللَّعْنَةِ أو الغَضَبِ بأحَدِهما غيرَ مُعَيَّنٍ، فيُفْضِي إلى عُلُوِّ مَلْعُونٍ غيرَ مَلْعُونةٍ، أو إلى إمْساكِ مَلْعُونَةٍ مَغْضُوبٍ عليها. ويَحْتَمِلُ أنَّ سَبَبَ الفُرْقَةِ النُّفْرةُ الحاصلةُ مِن إساءةِ كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحِبِه، ¬

(¬1) في م: «قبل».

3814 - مسألة: (الثالث، التحريم المؤبد. وعنه، أنه إن أكذب نفسه، حلت له)

الثَّالِثُ، التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، حَلَّتْ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الرجلَ إن كان صادِقًا فقد أشاعَ فاحِشَتَها، وفَضَحَها على رُءُوسِ الأشْهابِ، وأقامَها مُقامَ خِزْيٍ، وحَقَّقَ عليها الغَضَبَ، وقَطَعَ نَسَبَ ولَدِها، وإن كان كاذَبًا، فقد أضافَ إلى ذلك بَهْتَها وقَذْفَها بهذه الفِرْيةِ العظيمةِ، والمرأةُ إن كانت صادقةً، فقد أكْذَبَتْه على رُءُوسِ الأشْهادِ، وأوْجَبَتْ عليه لَعْنةَ اللهِ، وإن كانت كاذبةً، فقد أفْسَدَت فِراشَه، وخانَتْه في نَفْسِها، وألْزَمَتْه اللِّعانَ والفَضِيحَةَ، وأخْرَجَتْه (¬1) إلى هذا المَقامِ المُخْزِي، فحَصَلَ لكلِّ واحدٍ منهما نُفْرَةٌ مِن صاحِبِه، لِما حَصَلَ إليه مِن إساءَةٍ لا يكادُ يَلْتَئِمُ لهما معها حالٌ، فاقْتَضَتْ حِكْمةُ الشَّارعِ الْتِزامَ الفُرْقَةِ بَينَهما، وإزالةَ الصُّحْبةِ المُتَمَحّضةِ مَفْسَدةً، ولأنَّه إن كان كاذِبًا عليها، فلا يَنْبَغِي أن يُسَلَّطَ على إمْساكِها مع ما صَنَعَ مِن القَبِيحِ إليها، وإن كان صادِقًا، فلا ينبغِي أن يُمْسِكَها مع عِلْمِه بحالِها، ولهذا قال العَجْلانِيُّ: كَذَبْتُ عليها إن أمْسَكْتُها. 3814 - مسألة: (الثالثُ، التَّحْرِيمُ المُؤَبَّدُ. وعنه، أنَّه إن أكْذَبَ نَفْسَه، حَلَّتْ له) ظاهِرُ المذهَبِ أنَّ المُلاعِنَةَ تَحْرُمُ على المُلَاعِنِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فلا تَحِلُّ له وإن أكْذَبَ نفْسَه. ولا خِلَافَ بينَ أهْلِ العِلْمِ ¬

(¬1) في ق، م: «أحوجته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أنَّه إذا لم يُكْذِبْ نَفْسَه أنَّها لا تَحِلُّ له، إلَّا أن يكونَ قَوْلًا شاذًّا. فإن أكْذَبَ نَفْسَه، فالذي رَوَاه الجماعةُ عن أحمدَ، أنَّها لا تَحِلُّ له أيضًا. وجاءتِ الأخْبارُ عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم؛ أنَّ المُتَلاعِنَينِ لا يَجْتَمِعانِ أبدًا. وبه قال الحسنُ، وعطاءٌ، وجابِرُ بنُ زَيدٍ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، والحَكَمُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، والشَّافِعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، [وأبو يُوسفَ] (¬1). وعن أحمدَ رِواية أُخرى، أنَّه إن أكْذَبَ نفْسَه، حَلَّتْ له، وعادَ فِرَاشُه بحالِه. وهي رِوايَةٌ شاذَّة، شَذَّ بها حَنْبَلٌ عن أصْحابِه. قال أبو بكر: لا نَعْلَمُ أحدًا رواها غيرُه. قال شيحنا (¬2): ويَنْبَغِي أن تُحْمَلَ هذه الرِّوايةُ على ما إذا لم يُفَرِّقِ الحاكمُ، فأمَّا مع تَفْرِيقِ الحاكمِ بَينَهما، فلا وَجْهَ لبَقَاءِ النِّكاحِ بحالِه (¬3). وقد ذَكَرْنا أنَّ مذهَبَ البَتِّيِّ، أنَّ اللِّعانَ لا يتعَلَّقُ به فُرْقَةٌ. وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ: إن أكْذَبَ نَفْسه، فهو خاطِبٌ مِن الخُطَّاب. وبه قال أبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ؛ لأنَّ فُرْقَةَ اللِّعانِ عندَهما طلاقٌ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: إن أكْذَبَ نَفْسَه، رُدَّتْ إليه ما دامتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في المغني 11/ 149. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في العِدَّةِ. ولَنا، ما روَى سَهْل بنُ سعدٍ، قال: مَضَتِ السُّنَّةُ في المُتَلاعِنَينِ أن يُفَرقَ بَينَهما، ثم لا يَجْتَمِعانِ أبدًا. رواه الجُوزْجَانِيُّ (¬1) بإسْنادِهِ في كِتابِه. ورُوِيَ مثلُ هذا عن الزُّهْرِيِّ ومالِكٍ. ولأنَّه تَحْرِيمٌ لا يَرْتَفِعُ قبلَ الحَدِّ والتَّكْذِيبِ، فلم يرتَفِعْ بهما، كتَحْرِيمِ الرَّضاعِ. ¬

(¬1) وأخرج هذ اللفظ أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 521. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 410.

3815 - مسألة

وَإنْ لَاعَنَ زَوْجَتَهُ الأَمَةَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ، إِلَّا أَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3815 - مسألة (¬1): (وإن لاعَنَ زَوْجَتَه الأمَةَ ثم اشتراها، لم تَحِلَّ له، إلَّا أن يُكْذِبَ نَفْسَه، على الرِّوايةِ الأُخْرَى) لأنَّه تَحْريمْ مُؤبَّدٌ، فحَرُمَت على مُشْتَريها، كتَحْريمِ الرَّضاعِ. ولأنَّ المُطَلِّقَ ثلَاثًا إذا اشْتَرَى مُطَلَّقَتَه، لم تَحِلَّ له قبلَ زوجٍ وإصابةٍ، فههنا أَوْلَى؛ لأنَّ هذا التَّحْريمَ مُؤَبَّدٌ، وتَحْريمُ الطلاقِ ليس بمؤبَّدٍ، ولأنَّ تَحْريمَ الطلاقِ يَخْتَصُّ النِّكَاحَ، وهذا لا يَخْتَصُّ به. وهذا مَذْهبُ الشافعيِّ. فأمَّا على الرِّوايةِ الضعيفةِ، فتَحِلُّ له. ¬

(¬1) سقطت هذه المسألة من: م.

3816 - مسألة: (وإذا قلنا: تحل له بإكذاب نفسه. فإن لم يكن وجد منه طلاق، فهي باقية على النكاح)

وَإِذَا قُلْنَا: تَحِلُّ لَهُ الزَّوْجَةُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ مِنْهُ طَلَاقٌ، فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى النِّكَاحِ، وَإنْ وُجِدَ مِنْهُ طَلَاقٌ دُونَ الثَّلَاثِ، فَلَهُ رَجْعَتُهَا. الرَّابِعُ، انْتِفَاءُ الْوَلَدِ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَيَنْتَفِي عَنْهُ حمْلُهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: لَا يَنْتَفِي عَنْهُ حَتَّى يَذْكُرَهُ في اللِّعَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3816 - مسألة: (وإذا قُلْنا: تَحِلُّ لَهُ بإِكْذابِ نَفْسِه. فإن لم يَكُنْ وُجِدَ منه طَلاقٌ، فهي باقِيَةٌ عَلَى النِّكاحِ) لأنَّ اللِّعانَ على هذا القول لا يُحَرِّمُ على التَّأْبِيدِ، وإنَّما يُؤْمَرُ بالطَّلاقِ، كما يُؤْمَرُ المُولِي به إذا لم يأْتِ بالفَيئَةِ، فإذا لم يَأْتِ بالطَّلاقِ، بَقِيَ النِّكاحُ بحالِه، وزال الإِخبارُ على الطَّلاقِ، لِتَكْذِيبِه نَفْسَه، كما لو امْتَنَعَ المُولِي مِن الفَيئَةِ، فأُمِرَ بالطَّلاقِ، فعادَ فأجاب إلى الفَيئَةِ (وإن وُجِدَ منه طَلاقٌ دونَ الثَّلاثِ، فله رَجْعَتُها) كالمُطَلَّقَةِ دونَ الثَّلاثِ بغيرِ عِوَضٍ. 3817 - مسألة: (الرَّابِعُ، انْتِفَاءُ الْوَلَدِ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَيَنْتَفِي عَنْهُ حمْلُهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: لَا يَنْتَفِي حَتَّى يَذْكُرَهُ في اللِّعَانِ) وجملَةُ ذلك، أنَّ الزَّوْجَ إِذا ولَدتِ امْرأتُه ولَدًا يُمْكِنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ منه، فهو ولدُه في الحُكْمِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» (¬1). ولا يَنْتَفِي عنه إلَّا أن يَنْفِيَه باللِّعانِ التَّامِّ، الذي اجْتَمَعَتْ شُرُوطُه، وهي أرْبعةٌ؛ أحدُها، أن يُوجَدَ اللِّعانُ منهما جميعًا. وهذا قولُ عامةِ أهلِ العلمِ. وقال الشافعيُّ: يَنْتَفِي بلِعانِ الزَّوجِ وحدَه؛ لأنَّ نَفْيَ الولدِ إنَّما كان بيَمِينِه والْتِعانِه، لا بيَمِينِ المرأةِ على تَكْذِيبِه، ولا مَعْنَى ليَمِينِ المرْأةِ في نَفْي النَّسَبِ، وهي تُثْبِتُه وتُكَذِّبُ قولَ مَن يَنْفِيه، وإنَّما لِعانُها لِدَرْءِ الحَدِّ عنها (¬2)، كما قال الله تَعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬3). ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نَفَى الولَدَ عنه بعدَ تَلَاعُنِهِما، فلا يجوزُ النَّفْيُ ببعضِه، كبعضِ (¬4) لِعانِ الزَّوجِ. الثاني، أن يَكْمُلَ اللِّعانُ منهما جميعًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338، 339 من حديث: «احتجبي منه يا سودة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة النور 8. (¬4) في تش: «كنقض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثُ، أن يَبدَأَ الزَّوْجُ باللِّعانِ قبلَ المرأةِ، فإن بَدَأت باللِّعانِ قبلَه لم (¬1) يُعْتَدَّ به. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ، وأصْحابُ الرَّأْي: إن فعَل أخْطأَ السُّنَّةَ، والفُرْقَةُ جائِزَةٌ، ويَنتفِي الولَدُ عنه (1)؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَطَفَ لِعانَها على لِعانِه بالواو، وهي لا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، ولأن اللِّعانَ قد وُجدَ منهما جميعًا، فأشْبَه ما لو رُتِّبَ. وعندَ الشافِعِيِّ، لا يَتِمُّ اللِّعانُ إلَّا بالتَّرْتِيبِ، إلَّا أنَّه يَكْفِي عندَه لِعانُ الرجُلِ وحدَه لنَفْي الوَلَدِ، وذلك حاصِلٌ مع إخْلالِه بالتَّرْتِيبِ، وعَدَم كَمالِ ألفاظِ اللِّعانِ مِن المرأةِ. ولَنا، أنَّه أتَى باللِّعانِ على غيرِ ما وَرَدَ به القُرَآنُ والسُّنَّةُ، فلم يَصِحَّ، كما لو اقْتَصَرَ على لَفْظَةٍ واحِدَةٍ، ولأنَّ لِعانَ الرَّجُلِ بَيِّنَةُ الإِثْباتِ زِنَاها ونفْي وَلَدِها، ولِعانَ المرأةِ للإنْكارِ، فقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الإِثْباتِ، كتَقْدِيمِ (¬2) الشُّهودِ على الأيمانِ، ولأنَّ لِعانَ المرأةِ لدَرْءِ العَذابِ عنها، ولا يَتَوجَّهُ عليها ذلك إلَّا بلِعانِ الرَّجُلِ، فإذا قَدَّمَتْ لِعانَها على لِعانِه، فقد قَدَّمَتْه على وقتِه، فلم يَصِحَّ، كما لو قدَّمَتْه على القَذْفِ. الرابعُ، أن يَذْكُرَ نَفْيَ الولدِ في اللِّعانِ، فإن لم يَذْكُرْه، لم يَنْتَفِ، إلَّا أن يُعِيدَ اللِّعانَ ويذكرَ نفْيَه. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ القاضي، ومذهبُ الشافغيِّ. فإذا قال: أشْهَدُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «لتقديم».

فَإِذَا قَال: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ زَنَتْ. يَقُولُ: وَمَا هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي. وَتَقُولُ هِيَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باللهِ إنِّي لَمِنَ الصَّادِقينَ فيما رَمَيتُها به مِن الزِّنى (يقولُ: وما هذا الولَدُ ولَدِي. وتقولُ هي: أشْهَدُ باللهِ لقد كَذَبَ) فيما رَمانِي به مِن الزِّنَى (وهذا الولدُ ولَدُه) في كلِّ لَفْظَةٍ. وقال الشافعيُّ: لا تحْتاجُ المرأةُ إلى ذِكْرِه؛ لأنَّها لا تَنْفِيه. ولَنا، أنَّها أحَدُ الزَّوْجَين، فكان ذِكْرُ الولدِ شَرْطًا في لِعانِه، كالزَّوْجِ. وقال أبو بكر: لا يُحْتاجُ إلى ذكرُ الولَدِ ونَفْيِه، ويَنتفِي بزوالِ الفِراشِ؛ لأن حَدِيثَ سَهْلِ بنِ سعدٍ، الذي وَصَفَ فيه اللِّعانَ، لم يذكُرْ فيه الولدَ، وقال فيه: ففَرَّقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما، وقَضَى أن لا يُدْعَى ولَدُها لأبٍ، [ولا تُرْمَى] (¬1) ولا يُرْمَى ولَدُها. رواه أبو داودَ (¬2). وفي حَدِيثٍ رواه مُسْلِمٌ (¬3)، عن عبدِ الله (¬4)، أنَّ رَجُلًا لَا عَنَ امرأةً على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ففَرَّقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما، والحَقَ الوَلَدَ بأُمِّه. ولَنا، أنَّ مَن ¬

(¬1) سقط من الأصل، تش، م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 370 من حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية، ولم نجد هذا اللفظ من حديث سهل بن سعد. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 440. (¬4) أي عبد الله بن عمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَقَطَ حَقُّه باللِّعانِ، كان ذِكْرُه شَرْطًا، كالمرأةِ، ولأنَّ غايةَ ما في اللِّعانِ أن يَثْبُتَ زِنَاها، وذلك لا يُوجِبُ نَفْيَ الوَلَدِ، كما لو (¬1) أقَرَّتْ به، أو قامَتْ به بَيِّنَةٌ، فأمَّا حَدِيثُ سَهْلِ بنِ سعدٍ، فقد رُوِيَ فيه: وكانت حامِلًا، فأنْكَرَ حَمْلَها. مِن روايةِ البُخَارِيِّ (¬2). وروَى ابنُ عمرَ، أنَّ رَجُلًا لاعَنَ امرأتَه في زمنِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وانْتَفَى مِن وَلَدِها، ففَرَّقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَينَهما، وألْحَقَ الولدَ بالمرأةِ (¬3). والزِّيادَةُ مِن الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. فعلى هذا، لا بُدَّ مِن ذِكْرِ الولدِ في كلِّ لَفْظَةٍ، ومعِ اللَّعْنِ في الخامسةِ؛ لأنَّها مِن لَفَظاتِ اللِّعانِ. وذكرَ الخِرَقِي شرْطًا خامسًا، وهو تَفْرِيقُ الحاكمِ بَينَهما. وهذا على الرِّوايةِ التي تَشْتَرِطُ تَفْرِيقَ الحاكمِ بَينَهما لوُقُوعِ الأُخْرَى، فَأمَّا على الرِّوايةِ الأُخْرَى، فلا يُشْتَرَطُ تَفْريقُ الحاكمِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب التلاعن في المسجد، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 69. كما أخرجه أبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 525. (¬3) أخرجه البخاري، في: تفسير سورة النور، من كتاب التفسير، وفي: باب يلحق الولد بالملاعنة، من كتاب الطلاق، وفي: باب ميراث الملاعنة، من كتاب الفرائض. صحيح البخاري 6/ 127، 7/ 72، 8/ 191. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 524، 525. وابن ماجه، في: باب اللعان، من كناب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 669. والإمام مالك، في: باب ما جاء في اللعان، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 567. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 7، 64، 71، 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لنَفْي الوَلَدِ، كما لا يُشْتَرَطُ لدَرْءِ الحَدِّ عنه، ولا لفَسْخِ النِّكاحِ. وشَرَطَ أيضًا شَرْطًا سادِسًا، وهو أن يكونَ قد قَذَفَها. وهذا مِن شُرُوطِ اللِّعانِ. وقد ذَكَرْناه. فصل: متى كان اللِّعانُ لِنَفْي الوَلَدِ اشْتُرِطَ ذِكْرُه [في لعانِهما. وقال الشافعيُّ: لا تحتاجُ المرأةُ إلى ذكرِه؛ لأنَّها لا تَنْفِيه. ولَنا، أنَّ مَن سَقَط حَقُّه باللعانِ، اشْتُرِطَ ذِكْرُه فيه، كالمرأةِ، وهي أحدُ الزوجينِ، فكان ذِكْرُ الولدِ شرطًا في لعانِها كالزوجِ. وظاهرُ كلامِ الخِرَقيِّ أنَّه يُكْتَفَى بقولِ الزوجِ: وما هذا الولدُ ولدي. ومِن المرأةِ بقولِها: وهذا الولدُ ولدُه. وقال القاضي] (¬1): يُشْتَرَطُ أن يقولَ: هذا الوَلَدُ مِن زِنًى، وليس هو مِنِّي. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه قد يُرِيدُ بقوله: ليس هو مِنِّي. يَعْنِي خَلْقًا وخُلُقًا، ولم يَقْتَصِر على قولِه: هو مِن زِنًى؛ لأنَّه قد يَعْتَقِدُ أنَّ الوَطْءَ في النِّكاحِ الفاسِدِ زِنّى، فأكَّدْنا بذِكْرِهما جَمِيعًا. ولَنا، أنَّه نَفَى الولدَ في اللِّعانِ، فاكْتُفِيَ (¬2) به، كما لو ذكَر اللَّفْظَين، وما ذَكَرُوه مِن ¬

(¬1) في ق، م: «وقد مضى ذلك، قال». (¬2) في م: «فانتفى».

3818 - مسألة: (وإن نفى الحمل في التعانه، لم ينتف حتى ينفيه عند وضعفا له ويلاعن)

وإِنْ نَفَى الحَمْلَ فِي الْتِعَانِهِ، لَمْ يَنْتَفِ حَتَّى يَنْفِيَهُ عِنْدَ وَضْعِهَا لَهُ وَيُلَاعِنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّأْكِيدِ تَحَكُّمٌ بغيرِ دَلِيلٍ، ولا يَنْتَفِي الاحْتِمالُ (¬1) بضَمِّ إحْدَى اللَّفْظَتَين إلى الأُخْرَى، فإنَّه إذا اعْتَقَدَ أنَّه مِن وطْءٍ فاسدٍ، واعْتَقَدَ أنَّ ذلك زِنًى، صَحَّ منه أن يقولَ اللَّفْظَين جميعًا (¬2)، وقد [يُرِيدُ أنَّه لا] (¬3) يُشْبِهُني خَلْقًا ولا خُلُقًا، وأنَّه مِن وَطْءٍ فاسدٍ. [فإن لم يَذْكُرِ الولدَ في اللعانِ، لم يَنْتَفِ عنه، فإن أراد نَفْيَه، أعاد اللعانَ، وذَكَرَه فيه. وقال أبو بكرٍ: لا يَحْتاجُ واحدٌ منهما إلى ذِكْرِه، ويَنْتَفِى بزوالِ الفراشِ. والقولُ الأولُ قولُ الخِرَقِيِّ ومَن وافقه، وقد ذكرناه] (¬4). 3818 - مسألة: (وإن نَفَى الحَمْلَ في الْتِعانِه، لم يَنْتَفِ حَتَّى يَنْفِيَه عندَ وَضْعِفَا له ويُلاعِنَ) اخْتلَف أصحابُنا في ذلك، فقال الخِرَقي وجماعَة: لا يَنْتَفِي الحملُ بِنَفْيِه قبلَ الوَضْعِ، ولا يَنْتَفِي حتى يُلاعِنَها بعدَ الوَضْعِ، ويَنْتَفِي الولدُ فيه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، وجماعةٍ مِن أهْلِ الكُوفةِ؛ لأنَّ ¬

(¬1) في م: «اللعان». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «يراد به ألا». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحملَ غيرُ مُسْتَيقَنٍ، يجوزُ أن يكونَ رِيحًا أو غيرَها، فيَصِيرُ نَفْيُه مَشْرُوطًا بوُجُودِه، ولا يجوزُ تَعْلِيقُ اللِّعانِ بشَرْطٍ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ، وجماعةٌ مِن أهْلِ الحِجَازِ: يَصِحُّ نَفيُ الحملِ، [ويَنْتَفِي عنه] (¬1). مُحْتَجِّينَ بحَدِيثِ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ، وأنَّه نَفَى حَمْلَها فنَفاه عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وألْحَقَه بالأُمِّ (¬2). [ولا خفاءَ] (¬3) بأنَّه كان حَمْلًا، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرُوهَا، فإنْ جَاءَت بِهِ كذا وكذا». قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): الآثارُ الدَّالَّةُ على صِحَّةِ هذا القولِ كثيرَةٌ. وأوْرَدَها. ولأن الحملَ مَظْنُونٌ بأماراتٍ تَدُلُّ عليه، ولهذا ثَبَتَ للحامِلِ أحْكامٌ تُخَالِفُ فيها الحائلَ؛ مِن النَّفَقَةِ، والفِظْرِ في الصِّيامِ (¬5)، وتَرْكِ إقامَةِ الحَدِّ عليها، وتَأْخِيرِ القِصاصِ عنها، وغيرِ ذلك مما يَطُولُ ذِكْرُه. ويَصِحُّ اسْتِلْحاقُ الحملِ، فكان كالولَدِ بعدَ وَضْعِه. وهذا القولُ الصَّحِيحُ؛ لمُوافَقَتِه (¬6) ظواهِرَ الأحادِيثِ، وما خالفَ الحَدِيثَ لا يُعْبَأُ به كائِنًا ما كان. وقال أبو بكرٍ: يَنتَفِي الولَدُ بزَوالِ الفِراشِ، ولا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه في اللِّعانِ. ¬

(¬1) في الأصل: «وينبغي نفيه». (¬2) انظر تخريجه في 16/ 338، وهو عند أبي داود في 1/ 522، 523. والترمذي 12/ 45، 46. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر: التمهيد 25/ 34. (¬5) في الأصل: «رمضان». (¬6) في الأصل: «وافقته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتِجاجًا بظاهِرِ الأحادِيثِ، حيث لم يُنْقَلْ فيها نَفْيُ الحَمْلِ، ولا التَّعَرُّضُ لِنَفْيِه. فأمَّا مَن قال: إنَّ الوَلَدَ لا يَنتفِي إلَّا بِنَفْيِه بعدَ الوَضْعِ، فإنَّه يَحْتاجُ إلى إعادَةِ اللِّعانِ بعدَ الوَضْعِ. وقال أبو حنيفةَ ومَن وافَقَه: إنْ لاعَنَها حامِلًا، ثم أتَتْ بوَلَدٍ، لَزِمَه، ولم يتَمَكنْ مِن نَفْيِه؛ لأنَّ اللِّعانَ لا يكونُ إلَّا بينَ زَوْجَين، وهذه قد بانَتْ بلِعانِها في حَمْلِها. وهذا فيه إلْزامُه ولدًا ليس منه، وسَدُّ بابِ الانْتِفَاءِ مِن أَوْلادِ الزِّنَى، والله تَعالى قد جَعَلَ له إلى ذلك طَرِيقًا (¬1)، فلا يجوزُ سَدُّه، وإنَّما تُعْتَبَرُ الزَّوْجِيَّةُ في الحالِ التي أضافَ اليها الزِّنَى فيه؛ لأن الولَدَ الذي (¬2) يأْتِي به يَلْحَقُه إذا لم يَنْفِه، فيَحتاجُ إلى نَفْيِه، وهذه كانت زَوجةً في تلك الحالِ، فمَلَكَ نَفْيَه. واللهُ أعْلمُ. فصل: فإنِ اسْتَلْحَقَ الحملَ، فمَن قال: لا يَصِحُّ [نَفْيُه. قال: لا يصحُّ] (¬3) اسْتِلْحاقُه. وهو المنْصوصُ عن أحمدَ، ومَن أجازَ نَفْيَه، قال: يَصِحُّ اسْتِلْحاقُه: وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه مَحْكومٌ بوُجُودِه، بدليلِ وُجُوبِ النفقةِ، ووَقْفِ المِيراثِ، فَصحَّ الإقرارُ به كالمولودِ، وإذا (2) اسْتَلْحَقَه لم يَمْلِكْ نَفْيَه بعدَ ذلك، كما لو اسْتَلْحَقَه بعدَ الوضْعِ. ومَن قال: لا يَصِحُّ اسْتِلْحاقُه. قال: لو صَحَّ اسْتِلْحاقُه للَزِمَه بتَرْكِ نفْيِه كالمولودِ، ولا يَلْزَمُه ذلك (2) بالإِجْماعَ، ولأنَّ للشبَهِ أثَرًا في الاسْتِلْحاقِ، بدليلِ ¬

(¬1) في م: «سبيلا و». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ نَفْي الْوَلَدِ أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ، أَوْ بِتَوأَمِهِ، أَوْ نَفَاهُ وَسَكَتَ عَنْ تَوْأَمِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثِ المُلاعَنةِ، وذلك مُخْتَصٌّ بما بعدَ الوضعِ، فاخْتُصَّ صحةُ الاسْتِلْحاقِ به. فعلى هذا، لو اسْتَلْحَقَه ثم نَفاه بعدَ وَضْعِه، كان له ذلك، فأمّا إن سَكَتَ عنه، فلم يَنْفِه، ولم يَسْتَلحِقْه، لم يَلْزَمْه عندَ أحَدٍ عَلِمْنا قولَه؛ لأنَّ تَرْكَه يَحْتَمِلُ أن يكونَ لأنَّه لا يتَحَقَّقُ وُجُودَه إلَّا أن يُلَاعِنَها، فإنَّ أبا حنيفةَ ألْزَمَه الولدَ، على ما أسْلَفْناه. فصل: (ومِن شَرْطِ نَفْي الولدِ أن لا يُوجَدَ) منه (دليلٌ على الإقْرارِ به، فإن أقَرَّ به) لم يَمْلِكْ نَفْيَه في قولِ جماعةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الشَّعْبِي، والنَّخَعِيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأْي (وإن أقَرَّ بتَوْأمِه، أو نَفاه وسَكَتَ عن تَوْأمِه) لَحِقَه نَسَبُه، ولم يَكُنْ له نَفْيُه، وقد ذَكَرْناه، ولأنَّه إذا أقَرَّ بأحَدِهما كان إقْرارًا

3819 - مسألة: (وإن هنيء به فسكت)

أَوْ هُنِّيء بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالآخَرِ، إذ لا يُمْكِنُ أنْ يَعْلَمَ الذي له منهما (¬1)، فإذا نَفَى الآخَرَ كان رُجُوعًا عن إقْرارِه، فلا يُقْبَلُ منه، ومثلُه إذا نَفَاه وسَكَتَ عن تَوْأمِه. 3819 - مسألة: (وإن هُنِّيء بِهِ فَسَكَتَ) كانَ إقْرارًا. ذكَرَهُ أبو بَكْرٍ؛ لأنَّ السُّكُوتَ صَلُحَ دالًّا على الرِّضَا في حَقِّ البِكْرِ، فههنا أوْلَى. 3820 - مسألة: (فإن أمَّنَ على الدُّعاءِ) لَزِمَه فِي قَوْلِهِم جميعًا، فإن قال: أحْسَنَ اللهُ جَزاءَكَ (¬2). أو: بارَكَ اللهُ عليك. أو: رَزَقَكَ الله مثلَه. لَزِمَه الولدُ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعي: لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه جازاه على قصْدِه. وإذا قال: رَزَقَكَ اللهُ مثلَه. فليس ذلك إقْرارًا، ولا مُتَضَمِّنًا له. ولَنا، أنَّ ذلك جَوابُ الرَّاضِي في العادَةِ، فكان إقرارًا، كالتَّأْمِينِ على الدُّعاءِ. 3821 - مسألة: (وإن أخَّرَ نَفْيَهُ مع إمْكانِه، لَزِمَه نَسَبُه) ولم يَكُنْ ¬

(¬1) في الأصل: «منها». (¬2) في الأصل، تش: «عزاك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَهُ نَفْيُه بعدَ ذلك. وبهذا قال الشافعيُّ. قال أبو بكرٍ: لا يتَقَدَّرُ ذلك بثلاثٍ، بل هو على ما جَرَتْ به العادةُ، إن كان ليلًا فحتى يُصْبِحَ ويَنْتَشِرَ الناسُ، وإن كان جائِعًا أو ظَمْآنَ فحتى يأكُلَ أو يَشْرَبَ، أو ينامَ إن كان ناعِسًا، أو يَلْبَسَ ثِيابَه ويُسْرِجَ دابَّتَهَ ويَرْكَبَ، ويُصَلِّيَ إن حَضَرتِ الصلاةُ، ويُحْرِزَ ماله إن كان غيرَ مُحْرَزٍ، وأشْباهُ هذا مِن أشْغالِه، فإن أخَّرَه بعدَ هذا كلِّه، لم يكنْ له نَفْيُه. وقال أبو حنيفةَ: له تَأْخيرُ نَفْيِه يومًا ويومينِ اسْتِحْسانًا؛ لأنَّ النَّفْيَ عَقِيبَ الولادَة يَشُقُّ، فقُدِّرَ باليَوْمين لقِلَّتِها. وقال أبو يُوسفَ، ومحمدٌ: يتَقَدَّرُ بمُدَّةِ النِّفاسِ؛ لأنَّها جارِيَةٌ مَجْرَى الولادَةِ في الحُكْمِ. وحُكِيَ عن عطاءٍ، ومُجاهِدٍ، أن له نَفْيَه ما لم يَعْتَرِفْ به، كحالةِ الولادَةِ. ولَنا، أنَّه خِيارٌ (¬1) لدَفْعِ ضَرَرٍ متَحَقِّقٍ، فكان على الفَوْرِ، كخِيارِ الشُّفْعَةِ، ولأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الوَلَدُ للفِرَاشِ» (¬2). عامٌّ خرَج منه ما اتَّفَقْنا عليه مع السُّنَّةِ الثَّابتةِ، فما عَداه يَبْقَى على عُمُوم الحدِيثِ. وما ذَكَره أْبو حنيفةَ يَبطُلُ بخِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ، والأخْذِ بالشَفْعَةِ. وتَقْدِيرُه بمُدَّةِ النِّفاسِ تحَكُّم لا دَلِيلَ عليه. وما قاله عَطاءٌ يَبْطُلُ أيضًا بما ذَكَرْناه، ولا يَلْزَمُ عليه القِصاصُ؛ فإنَّه لاسْتِيفاءِ حَقٍّ لا لِدَفْعِ ضَرَرٍ، ولا الحَمْلُ؛ لأنَّه لا يَتَحَقَّقُ ضَرَرُه. وهل يتَقَدَّرُ ¬

(¬1) في الأصل، تش «جاز». (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 338، 339.

3822 - مسألة: (فإن قال: أخرته رجاء موته. لم يعذر بذلك)

وَإِنْ قَال: أَخَّرْتُ نَفْيَهُ رَجَاءَ مَوْتِهِ. لَمْ يُعْذَرْ بِذَلِكَ. وَإِنْ قَال: لَمْ أَعْلَمْ بِهِ. أوْ: لَمْ أَعْلَمْ أن لِي نَفْيَهُ. أَوْ: لَمْ أَعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَمكَنَ صِدْقُهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ نَفْيُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِيارُ في النَّفْي بمَجْلِسِ العِلْمِ، أو بإمْكانِ النَّفْي؟ على وجْهين، بِناءً على المُطالبَةِ بِالشُّفْعَةِ. 3822 - مسألة: (فإن قال: أخرْتُه رَجاءَ مَوْتِه. لم يُعْذَرْ بذلك) ويَبْطُلُ خِيارُه؛ لأنَّه أخَّرَ نَفيَه مع إمْكانِه لِغَيرِ عُذْرٍ. 3823 - مسألة: (وإن قال: لم أعْلَمْ به. أو: لم أعْلَمْ أنَّ لي نَفْيَه. أو: لم أعْلَمْ أنَّ ذلك على الفَوْرِ. وأمْكَنَ صِدْقُه، قُبِلَ منه) إذا أخَّرَ نَفْيُه، ثم ادَّعَى أنَّه لم يَعْلَمْ بالولادَةِ، وأمْكَنَ صِدْقُه، بأن يكونَ في مكانٍ يَخْفَى عليه ذلك، كمَن هو في مَحَلَّةٍ أخْرَى، فالقَوْلُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأنَّ الأصْلِ عدَمُ العِلْمِ، فإن لم يُمْكِنْ، مثلَ أن يكونَ معها في الدَّارِ، لم يُقْبَل؛ لأنَّ ذلك لا يَكادُ يَخْفَى عليه. وإن قال: عَلِمْتُ ولادَتَه، ولم أعْلَمْ أن لي نَفْيَه.

3824 - مسألة: (وإن أخره لمرض، أو غيبة، أو شيء يمنعه ذلك، لم يسقط نفيه)

وَإِنْ أخَّرَهُ لِحَبْسٍ، أَوْ مَرَضٍ، أوْ غَيبَةٍ، أوْ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، لَمْ يَسْقُطْ نَفْيُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: عَلِمْتُ ذلك، و (¬1) لم أعْلَمْ أنَّه علي الفَوْرِ. وكان مِمَّن يَخْفَى عليه ذلك، كعامَّةِ الناسِ، قُبِلَ منه؛ لأن هذا ممَّا يَخْفَى عليهم، فأشبَهَ ما لو كان حَدِيثَ عَهْدٍ بالإِسْلامِ، فإن كان فَقِيهًا، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّه ممَّا لا يَخْفَى عليه ذلك. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ منه؛ لأن الفَقِيهَ يَخْفَى عليه كثيرٌ مِن الأحْكامِ. وقال أصْحابُنا: لا يُقْبَلُ ذلك مِن الفَقِيةِ، ويقْبَلُ مِن الناشئ ببادِيَةٍ، وحَديثِ العَهْدِ بالإِسْلامِ. ويُقْبَلُ مِن سائِرِ الناسِ. وفيه وجْهٌ آَخَرُ (¬2)، أنَّه لا يُقْبَلُ. والأوَّلُ أوْلَى. 3824 - مسألة: (وإن أخَّرَه لمَرَضٍ، أو غَيبَةٍ، أو شيءٍ يَمْنَعُه ذلك، لَمْ يَسْقُطْ نَفْيُه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا كان له عذرٌ يَمْنَعُه مِن الحُضُورِ لِنَفْيِه) كالمَرَضِ والحَبْسِ، أو الاشْتِغالِ بحِفْظِ مالٍ يخافُ ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) زيادة من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَيعَتَه، أو بمُلازَمَةِ غَرِيمٍ يخافُ فوتَه أو غَيبَتَه، نَظَرْتَ؛ فإن كانت مُدَّةُ ذلك قصيرةً فأخَّرَهُ إلى الحضُورِ ليَزُولَ عُذْرُه، لم يَبْطلْ نَفْيُه؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ مَن عَلِمَ ذلك ليلًا فأَخَرَه إلى الصُّبْحِ، وإن كانت تَتَطاولُ، فأمْكَنَه التَّنْفِيذُ إلى الحاكمِ، لِيَبْعَثَ إليه مَن يَسْتَوْفِي عليه اللِّعانَ والنَّفْيَ، فلم يَفْعَلْ، سَقَطَ نَفْيُه، وإن لم يُمْكِنْه، أشْهَدَ على نَفْسِه أنَّه نافٍ لوَلَدِ امرأتِه، فإن لم يَفْعَلْ، بَطَلَ خِيارُه؛ لأنَّه إذا لم يَقْدِرْ على نَفْيِه، قام الإِشْهادُ مَقامَه، كما يُقِيمُ المريضُ الفَيئَةَ بالقَوْلِ بدَلًا عن الفَيئَةِ بالجِماعِ. فصل: فإن قال: لم أُصَدِّقِ المُخْبِرَ به. وكان مُسْتَفِيضًا مُنْتَشِرًا، لم يُقْبَلْ قولُه. وإن لم يكنْ مُسْتَفِيضًا، وكان المُخْبِرُ مَشْهُورَ العَدالةِ، لم يُقْبَلْ قولُه، وإلَّا قُبِلَ. وإن قال: لم أعْلَمْ أنَّ عليَّ ذلك. قُبِلَ قولُه؛ لأنَّه ممَّا يَخْفَى. وإن عَلِمَ وهو غائِبٌ، فأمْكَنَه السَّيرُ، فاشْتَغَلَ به، لم يَبْطُلْ خِيارُه، وإن أقامَ مِن غيرِ حاجةٍ، بَطَلَ؛ لأنَّه أخَّرَ لغيرِ عُذْرٍ. وإن كانت له حاجةٌ تَمْنَعُه مِن السَّير، فهو على ما ذكرْنا مِن قبلُ. وإن أخَّرَه مِن غيرِ عُذْرٍ، بَطَلَ. وفي كلِّ مَوْضِع لَزِمَه الولدُ، لم يكنْ له نَفْيُه بعدَ ذلك، في قولِ جماعةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم مالِكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأْي. وقال الحسنُ: له أن يُلاعِنَ لِنَفْيِه، ما دامَتْ أُمُّه عندَه يَصِيرُ لها الوَلَدُ، ولو أقَرَّ به. والذي عليه الجُمْهورُ أوْلَى، فإنَّه

3825 - مسألة: (ومتى أكذب نفسه بعد نفيه، لحقه نسبه، ولزمه الحد إن كانت المرأة محصنة، أو التعزير إن لم تكن محصنة)

وَمَتَى أكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَلَزِمَهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَتِ الْمَراةُ مُحْصَنَةً، أَو التَّعْزِيرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقَرَّ به، فلم يَمْلِكْ جَحْدَه، لو بانَتْ منه أُمُّه، ولأنَّه أقَرَّ بحَق عليه، فلم يُقْبَلْ منه جِحْدُه، كسائِرِ الحُقُوقِ. 3825 - مسأَلة: (ومَتى أكْذَبَ نَفْسَه بعدَ نَفْيِه، لَحِقَه نَسَبُه، ولَزِمَه الحَدُّ إن كانتِ المَرأةُ مُحْصَنَةً، أو التَّعْزِيرُ إن لم تَكُنْ مُحْصَنَةً) إذا لاعَنَ الرجلُ امرأَته، ونفَى ولَدَها (¬1)، ثم أكْذَبَ نَفْسَه، لَحِقَه الوَلَدُ إذا كان حَيًّا، غَنِيًّا كان أو فقيرًا، بغيرِ خِلافٍ بينَ أهْلِ العِلْمِ، وكذلك إن كان مَيِّتًا. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الثَّوْرِيُّ: إذا اسْتَلْحَقَ الولَدَ المَيِّتَ، وكان ذا مالٍ، لم يَلْحَقْه؛ لأنَّه إِنَّما يَدَّعِي مالًا، وإن لم يكنْ له مالٌ، لَحِقَه. وقال أصْحابُ الرَّأْي: إن كان الولدُ المَيِّتُ تَرَكَ ولدًا، ثَبَتَ نَسَبُه مِن المُسْتَلْحِقِ، وتَبِعَه نَسَبُ ابْنِه، وإن لم يكنْ تَرَكَ ولَدًا، لم يَصِحَّ اسْتِلْحاقُه، ولم يَثْبُتْ نسَبُه، ولا يَرِثُ منه المُدَّعِي شيئًا؛ لأنَّ نَسَبَه مُنْقَطِعٌ بالموتِ، فلم يَصِحَّ اسْتِلْحاقُه، فإذا كان له ولدٌ كان مُسْتَلْحِقًا لوَلَدِه، وتَبِعَه نَسَبُ المَيِّتِ. ولَنا، أنَّ هذا وَلَدٌ نَفَاهُ (¬2) ¬

(¬1) في م: «ولده». (¬2) في الأصل، تش: «رماه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باللِّعانِ، فكان له اسْتِلْحاقُه، لو كان حَيًّا، أو كان له ولدٌ، ولأنَّ ولَدَ الولدِ يَتْبَعُ نَسَبَ الولدِ، وقد جَعَل أبو حنيفةَ نَسَبَ الولدِ تابعًا لنَسَبِ ابْنِه، فجَعَلَ الأصْلَ تابِعًا للفَرْعِ، وذلك باطِلٌ. فأمَّا قولُ الثَّوْرِيِّ: إنَّه إنَّما يَدَّعِي مالًا. قُلْنا: إنَّما يَدَّعِي النَّسَبَ، والمِيراثُ تَبَعٌ له. فإن قِيلَ: فهو مُتَّهَمٌ في أنَّ غَرَضَه (¬1)، حُصُولُ المِيراثِ. قُلْنا: النَّسبُ لا تَمْنَعُ التُّهْمَةُ لُحُوقَه، بدليلِ أنَّه لو كان له أخٌ يُعادِيه، فأقَرَّ بابنٍ، لَزِمَه، وسَقَطَ مِيراثُ أخِيه، ولو كان الابنُ حَيًّا غنِيًّا والأبُ فَقِيرًا، فاسْتَلْحَقَه، فهو مُتَّهَمٌ في إيجابِ نَفَقَتِه على ابنِه، ويُقْبَلُ قولُه، كذلك ههُنا، ثم كان يَنْبَغِي أنَّ يَثْبُتَ النَّسَبُ (¬2) ههُنا؛ لأنَّه حَق للوَلَدِ، ولا تُهْمَةَ فيه، ولا يثْبُتُ المِيراثُ المُخْتَصُّ بالتهْمَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن انْقِطاعِ [التبَّعَ انْقِطاعُ] (3) الأصْلِ. قال القاضي: يَتَعَلَّقُ باللِّعانِ أرْبعةُ أحكامٍ؛ حَقَّانِ عليه، وُجُوبُ الحَدِّ، ولُحُوقُ النسبِ، وحَقَّان له؛ الفُرْقَةُ، والتَّحْرِيمُ المُؤَبَّدُ، فإذا أكْذَبَ نَفْسَه، قُبِلَ قولُه فيما عليه، فلَزِمَه الحَدُّ والنَّسَبُ، ولم يُقْبَلْ فيما له، فلم تَزُلِ الفُرْقَةُ ولا التَّحْرِيمُ المُؤَبَّدُ. ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يُكْذِبْ نَفْسَه، ولكن لم تَكُنْ له بَيِّنَةٌ، ولا (¬1) لَاعَنَ، أُقِيمَ عليه الحَدُّ. فإن أُقِيمَ عليه (¬2) بعْضُه قبلَ (¬3) اللِّعانِ، وقال: أنا أُلاعِنُ. قُبِلَ منه؛ لأن اللِّعانَ يُسْقِطُ جَمِيعَ الحَدِّ، فيُسْقِطُ بعضَه، كالبَيِّنَةِ. فإنِ ادَّعَتْ زَوْجَتُه أنَّه قَذَفَها بالزِّنَى، فأنْكَرَ، فأقامَتْ عليه بَيِّنَةً أنَّه قَذَفَها بالزِّنَى. فقال: صَدَقَتِ البَيِّنَةُ، وليس ذلك قَذْفًا؛ لأنَّ القَذْفَ الرَّمْىُ بالزِّنَي كَذِبًا، وأنا صادِقٌ فيما رَمَيتُها به. لم (¬4) يكنْ ذلك إكْذابًا لِنَفْسِه؛ لأنِّه مُصِرٌّ على رَمْيِها بالزِّنَى، وله إسْقاطُ الحدِّ باللِّعانِ. ومذهبُ الشافعيِّ في هذا الفصلِ كمَذْهَبِنا. فأمَّا إن قال: ما زَنَتْ، ولا رَمَيتُها بالزِّنَى. فقامَتِ البَيِّنَةُ عليه بقَذْفِها، لَزِمَه الحدُّ، ولم تُسْمَعْ بِيَّنَتُه ولا لِعانُه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ قولَه: ما زَنَتْ. تَكْذِيبٌ للبَيِّنَةِ واللِّعانِ، فلا تَثْبُتُ له حُجَّةٌ قد أكْذَبَها. وجَرَى هذا مَجْرَى قولِه في الوَدِيعةِ إذا ادُّعِيَتْ عليه، فقال: ما أوْدَعْتَنِي. فقامتْ عليه البَيِّنَةُ بالوَدِيعَةِ، فادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، لم يُقْبَلْ. ولو أجابَ بأنَّه ما له عندِي شيءٌ. أو لا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شيئًا. فقامتْ عليه البَيِّنَةُ، فادَّعَى الرَّدَّ أو التَّلَفَ، قُبِلَ منه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) زيادة من: ق، م. (¬3) في ق، م: «فأراد». (¬4) في النسخ: «ولم». والمثبت كما في المغني 11/ 151.

3826 - مسألة: ويلزمه الحد إذا أكذب نفسه، سواء أكذبها قبل لعانها أو بعده. وهذا قول الشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، ولا نعلم لهم مخالفا؛ لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج، فإذا أكذب نفسه بان أن لعانه كذب، وزيادة في هتكها، وتكرار لقذفها، فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد. فإن عاد عن إكذاب نفسه، وقال: لي بينة أقيمها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3826 - مسألة: ويَلْزَمُه الحَدُّ إذا أكْذَبَ نَفْسَه، سَواءٌ أكْذَبَها قَبْلَ لِعانِها أو بعدَه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْي، ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا؛ لأنَّ اللِّعانَ أُقِيمَ مُقامَ البَيِّنَةِ في حَقِّ الزَّوْجِ، فإذا أكْذَبَ نَفْسَه بان أنَّ لِعانَه كَذِبٌ، وزِيادَةٌ في هَتْكِها، وتَكْرارٌ لِقَذْفِها، فلا أقَلَّ مِن أن يَجِبَ الحَدُّ الذي كان واجِبًا بالقَذْفِ المُجَرَّدِ. فإن عاد عن إكْذابِ نَفْسِه، وقال: لي بَيِّنَةٌ أُقِيمُها (¬1) بِزِناها. أو أراد إسْقاطَ الحَدِّ عنه باللِّعانِ، لم يُسْمَعْ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ واللِّعانَ لتَحْقِيقِ ما قاله، وقد أقَرَّ بكَذِبِ نَفْسِه، فلا يُسْمَعُ منه خِلافُه. وهذا إذا كانتِ المَقْذُوفَةُ مُحْصَنةً، فإن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ فِيمَا يَلْحَقُ مِنَ النَّسَبِ: مَنْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ بِهَا، وَلِأقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أَبَانَهَا، وَهُوَ مِمَّنْ يُولَدُ لِمِثْلِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتْ غيرَ مُحْصَنةٍ، فعليه التَّعْزيرُ. فصل فيما يَلْحَقُ مِن النَّسَبِ: (مَن أتَتِ امرأتُه بولَدٍ يُمْكِنُ كونُه منه؛ وهو أن تَأْتِيَ به بعدَ سِتَّةِ أشْهُرِ منذ أمْكَنَ اجْتِماعُه بها، ولأقَلَّ مِن أرْبعِ سِنينَ منذُ أبانها، وهو ممَّن يُولَدُ لمِثْلِه) كابْنِ عشْرِ سِنِينَ (لَحِقَه) الولدُ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: [«الوَلَدُ للِفِرَاشِ»] (¬1). ولأنَّ مع ذلك يُمْكِنُ كونُه منه، وقَدَّرْناه بِعَشْرِ سِنِينَ [فما زاد] (¬2)؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «واضْرِبُوهُم عَلَيها لِعَشْرٍ، وفَرِّقُوا بَينَهم في المَضَاجِعِ» (¬3). وقال القاضي: يَلْحَقُ به] (¬4) إذا أتَت به (¬5) لتسعَةِ (¬6) أعْوامٍ ونِصْفِ عامٍ (¬7) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338، 339. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 115. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 180، 187. من حديث عبد الله بن عمرو. وتقدم تخريجه عند الترمذي والدارمي، في 3/ 19. بنحوه دون آخره من حديث سبرة بن معبد. (¬4) في الأصل: «واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع». وقال القاضي: يلحق به؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش». ولأن مع ذلك يمكن كونه منه. وقدرناه بعشر سنين فما زاد. (¬5) في ق، م: «له». (¬6) في الأصل: «لتسع». وفي ق، م: «تسعة». والمثبت كما في المغني 11/ 168. (¬7) تكملة من المغني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُدَّةَ الحملِ، قِياسًا على الجارِيَةِ. وقال أبو بكرٍ: لا يَلْحَقُه حتى يَبْلُغَ؛ لأنَّ الولَدَ إنَّما يكونُ مِن الماءِ، ولا يُنْزِلُ حتى يَبْلُغَ. ولَنا، أنَّه زَمَن يُمْكِنُ البُلُوغُ فيه، فيَلْحَقُه الوَلَدُ، كالبالِغِ. وقد رُوِيَ أنَّ عمرَو بنَ العاصِ وابْنَه، لم يَكُنْ بَينهما إلَّا اثنا عَشَرَ عامًا، وأمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّفْرِيقِ بَينَهم، دَلِيلٌ على إمْكانِ الوَطْءِ الذي هو سَبَبُ الولادَةِ. وأمَّا قِياسُ الغُلامِ على الجاريةِ، فغيرُ صَحِيحٍ، فإن الجارِيَةَ يُمْكِنُ الاسْتِمْتاعُ بها لِتِسْعٍ عادةً، وقد تَحِيضُ لِتِسْع، والغُلامُ لا يُمْكِنُه الاسْتِمْتاعُ لتسعٍ، وما عُهِدَ بُلُوغُ غُلامٍ لِتِسْعٍ.

3827 - مسألة: (فأما إن أتت به لدون ستة أشهر منذ تزوجها، أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها)

وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنْهُ؛ مِثْلَ أن تَأْتِيَ بِهِ لِأقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا، أوْ لِأَكْثَرَ مِنْ أرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أَبَانَهَا، أوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، ثُمَّ أَتَتْ بِهِ لأكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3827 - مسألة: (فأمَّا إن أتَتْ به لِدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَها، أو لأكْثَرَ مِن أرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أبانها) لم يلْحَقْ بالزَّوْجِ؛ لأنَّا عَلِمْنا أنَّها عَلِقَتْ به قَبْلَ النِّكاحِ، ولَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعانِ، لأنَّ اللِّعانَ يَمِينٌ، واليَمِينُ جُعِلَتْ لِتَحْقِيقِ أحَدِ الجائِزَينِ ونَفْيِ أحَدِ المُحْتَملَينِ، وما لا يَجُوزُ لَا يُحْتَاجُ إلى نَفيِه. 3828 - مسألة: (وإن أقَرَّتْ بانْقِضاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، ثم أتَتْ به لأَكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ) لم يلْحَقْ بِالزَّوْجِ. وهذا قولُ أبي العباسِ ابنِ سُرَيجٍ (¬1). وقال غيرُه مِن أصْحابِ الشافعيِّ: يلْحَقُ به؛ لأنَّه يُمْكِنُ أن ¬

(¬1) في تش، م: «شريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونَ منه، والوَلَدُ يُلْحَقُ بالإِمْكانِ. ولَنا، أنَّها أتَتْ به بعدَ الحُكْمِ بانْقِضاءِ عدَّتِها، في وقتٍ يُمْكِنُ أن لا يكونَ منه، فلم يَلْحَقْه، كما لو انْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضْعِ الحَمْلِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ الإمْكانُ مع بقاءِ الزَّوْجِيَّةِ أو العِدَّةِ، وأمَّا بعدَهما، فلا يُكْتَفَى بالإمْكانِ لِلَحاقِه، وإنَّما يُكْتَفَى بالإمْكانِ لِنَفْيِه، وذلك لأنَّ الفِراشَ سَبَبٌ، ومع وُجُودِ السَّبَبِ يُكْتَفَى بإمْكانِ الحِكْمةِ واحتمالِها، فإذا انْتَفَى السَّبَبُ وآثارُه، انْتَفَى الحُكْمُ لانْتِفائِه، ولا يُلْتَفَتُ إلى مُجَرَّدِ (¬1) الإِمْكانِ. فأمَّا إن طَلَّقَها فاعْتَدَّتْ بالأَقْراء، ثم وَلَدَتْ ولدًا قبلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن آخِرِ أقْرائِها، لَحِقَ الزَّوْجَ؛ لأنَّا تَيَقَّنَّا أنَّها [لم تَحْمِلْه بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، ويُعْلَمُ أنَّها كانت حامِلًا به في زَمَنِ رُؤْيةِ الدَّمِ، فيَلْزَمُ أن لا يكونَ الدَّمُ حَيضًا] (¬2)، فلم تَنْقَضِ عِدَّتُها به. ¬

(¬1) في الأصل: «وجود». (¬2) سقط من: الأصل.

3829 - مسألة: فإن طلقها وهي حامل، فولدت، ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر، فهو من الزوج؛ لأنا نعلم أيهما حمل واحد، فإذا كان أحدهما منه، فالآخر منه. وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر، لم يلحق بالزوج، وانتفى عنه من غير لعان؛ لأنه لا

أَوْ فَارَقَهَا حَامِلًا، فَوَضَعَتْ، ثُمَّ أَتَتْ بِآخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ، أوْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهَا، كَالَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بِمَحْضَرِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فِي الْمَجْلِسِ، أوْ يَتَزَوَّجُهَا وَبَينَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي أَتَتْ بِالْوَلَدِ فِيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3829 - مسألة: فإن طَلَّقَها وهي حامِلٌ، فَوَلَدَتْ، ثم وَلَدَتْ آخَرَ قبلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فهو مِن الزوجِ؛ لأنَّا نَعْلَمُ أيُّهُما حملٌ واحِدٌ، فإذا كان أحَدُهما منه، فالآخَرُ منه. وإن كان بَينَهما أكْثَرُ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، لم يُلْحَقْ بالزَّوْجِ، وانْتَفَى عنه مِن غيرِ لِعانٍ؛ لأنَّه لا (¬1) يُمْكِنُ أن يكونَ الوَلدان حَمْلًا واحِدًا وبَينهما مُدَّةُ الحملِ، فعُلِمَ أنَّها عَلِقَتْ به بعدَ زَوالِ الزَّوْجِيَّةِ، وانْقِضاءِ العِدَّةِ، وكَوْنِها أجْنَبِيَّةً، فهي كسائِرِ الأجْنَبِيَّاتِ. 3830 - مسألة: (أو مع العِلْمِ بِأنَّه لم يَجْتَمِعْ بها، كالذي يَتَزَوَّجُها بِحَضْرَةِ الحاكمِ، ويُطَلِّقُها في المَجْلِسِ) قبل غيبَتِه عنهم، ثم أتَتِ المرأةُ بولَدٍ لسِتةِ أشْهُرٍ (أو يَتَزَّوجُها وبَينَهما مسافَةٌ لا يَصِلُ إليها في ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُدَّةِ التي ولَدَتْ فيها) كمَشْرِقِيِّ يَتَزَوَّجُ بمَغْرِبِيَّةٍ، ثم مَضَتْ سِتَّةُ أشْهُرٍ، وأتَتْ بولَدٍ، لم يَلْحَقْه. وبذلك قال مالِكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْحَقُه نَسَبُه؛ لأنَّ الوَلَدَ إنَّما يَلْحَقُه بالعَقْدِ ومُدَّةِ الحَمْلِ، ألَا تَرَى أنَّكُم قُلْتُمْ: إذا مَضَى زمانُ الإمْكانِ، لَحِقَ الولدُ وإن عُلِمَ أنَّه لم يَحْصُلْ منه الوَطْءُ. ولَنا، أنَّه لم يَحْصُلْ منه (¬1) إمْكانُ الوَطْءِ في هذا العقدِ، فلم يلْحَقْ به الولدُ، كزَوْجَةِ (¬2) الطِّفْلِ، أو كما لو وَلَدَتْه لدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ وفارَقَ ما قاسُوا عليه؛ فإنَّ الإِمْكانَ إذا وُجِدَ لم يُعْلَمْ أنَّه ليس منه قَطْعًا، لجَوازِ أن يكونَ وَطِئَها مِن حيثُ لا نَعْلَمُ، ولا سَبِيلَ لنا إلى معرفةِ حقيقةِ الوَطْءِ، فعَلَّقْنا الحُكْمَ على إمْكانِه في النِّكاحِ، ولم يَجُزْ حَذْفُ الإمْكانِ عن الاعْتبارِ؛ لأَنه إذا انْتَفَى حصلَ اليَقِينُ بانْتِفائِه عنه، فلم يَجُزْ إلْحاقُه [به مع] (¬3) يَقِينِ كَوْنِه ليس منه. ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) في م: «كزوجية». (¬3) في م: «بدفع».

3831 - مسألة: (أو صبي له دون عشر سنين، أو مقطوع الذكر والأنثيين)

أَوْ يَكُونُ صَبِيًّا لَهُ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، أوْ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَينِ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَإِنْ قُطِعَ أحَدُهُمَا، فَقَال أصْحَابُنَا: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ. وَفِيهِ بُعْدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3831 - مسألة: (أو صَبِيٍّ له دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، أو مَقْطُوعِ الذَّكَرِ والأُنْثَيَين) أمَّا الصَّبِيُّ الذي له دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، فقد ذَكَرْناه في أوَّل الفَصْلِ، [وذكرنا الخِلافَ فيه] (¬1). وأمّا مَقْطُوعُ الذَّكَرِ والأُنْثَيَينِ، فلا يلْحَقُ به الوَلَدُ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّه يَسْتَحِيلُ منه الإيلاجُ والإنْزالُ. فإن قُطِعَتْ أُنْثياهُ دون ذَكَرِه، فكذلك؛ لأنَّه لا يُنْزِلُ ما (¬2) يُخْلَقُ منه الولدُ (وقال أصْحابُنا: يَلْحَقُه. وفيه بُعدٌ) قالوا: لأنَّه يُتَصَورُ منه الإِيلاجُ، وبُنْزِلُ ماءً رَقِيقًا. ولَنا، أن هذا لا يُخْلَقُ منه الولدُ عادَةً، ولا وُجِدَ ذلك، فأشْبَهَ ما لو قُطِعَ ذَكَرُه معهما، ولا اعتِبارَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «ماء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإيلاجٍ لا يُخْلَقُ منه الولدُ، فهو كما لو أوْلَجَ إِصْبَعَه. فأمَّا إن قُطِعَ ذَكَرُه وحدَه، فقد قِيلَ: يَلْحَقُه الولدُ؛ لأنَّه يُمْكِنُ أن يُساحِقَ، فيُنْزِلَ ما يُخْلَقُ منه الولدُ، فيَدْخُلَ الماءُ إلى فرْجِ المرأةِ، ولهذا ألْحَقْنا ولَدَ الأمَةِ بسَيِّدِها إذا اعْتَرَفَ بوَطْئِها فيما دُونَ الفَرْجِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ اخْتِلافٌ في ذلك، كنحو ما ذَكَرْنا مِن الاخْتِلافِ عندَنا. وقال ابنُ اللَّبّانِ: لا يَلْحَقُه الولَدُ في هاتَين الصُّورَتَين، في قولِ الجُمْهُورِ. وقال بعضُهم. يَلْحَقُه بالفِراشِ. وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ الولَدَ إنَّما يُلْحَقُ بالفِراشِ إذا أمْكَنَ، ألَا تَرَى أنَّها إذا ولَدَتْ بعدَ شَهْرٍ (¬1) منذُ تَزَوَّجَها لم يَلْحَقْه، وههُنا لا يُمْكِنُ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «ستة أشهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِفَقْدِ المَنيِّ مِن المَسْلُولِ، وتَعَذُّرِ إيصالِ المَنِيِّ إلى قَعْرِ الرَّحِمِ مِن المَجْبُوبِ. ولا مَعْنَى لقولِ مَن قال: يَجوزُ أن تَسْتَدْخِلَ المرأةُ مَنيَّ الرَّجُلِ، فتَحْبَلَ. لأنَّ الولَدَ مَخْلُوقٌ مِن مَنِيِّ الرَّجُلِ والمرأةِ جميعًا، ولذلك يأْخُذُ الشَّبَهَ منهما، فإذا اسْتَدْخَلَتِ المَنِيِّ بغيرِ جِماعٍ، لم يَحْدُثْ لها لَذَّةٌ تُمْنِي بها، فلا يَخْتَلِطُ منِيُّهُما، ولو صَحَّ ذلك، لكان الأجْنَبِيَّان الرجلُ والمرأةُ إذا تَصادَقا أنَّها اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّه، وأنَّ الولَدَ مِن ذلك المَنِيِّ،

3832 - مسألة: (وإن طلقها طلاقا رجعيا، فولدت لأكثر من أربع سنين منذ طلقها، ولأقل من أربع سنين منذ انقضت عدتها، ففيه وجهان)

وَإنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ طَلَّقَهَا، وَلأقَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مُنْذُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَهَلْ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْحَقُه نَسَبُه، وما قال ذلك أحَدٌ، والذي ذَكَرَه ابنُ اللَّبَّانِ إنَّما يَصِحُّ إذا اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّه مِن غيرِ مُباشَرَةٍ، فأمَّا مع المُباشَرَةِ والمُساحَقَةِ، فيُمْكِنُ أنْ يَحْدُثَ لها شَهْوَةٌ، يَنْزِلُ المَنِيُّ معها، فتَحْبَلُ، فلا يُشْبِهُ ما ذَكَرَه مِن الأصْلِ. واللهُ أعلمُ. 3832 - مسألة: (وإنْ طَلَّقَها طَلاقًا رَجْعِيًّا، فوَلَدَتْ لأكْثَرَ مِن أرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ طَلَّقَهَا، ولأقَلَّ مِن أرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ انقَضَتْ عِدَّتُها، ففيه وَجْهان) أحَدُهما، لا يَلحَقه نَسَبُه، ويَنْتَفِي عنه بغيرِ لِعانٍ؛ لأنَّها عَلِقتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به بعدَ طَلَاقِها، فأشْبَهَتِ البائِنَ. والثاني، يَلْحَقُه؛ لأنَّها في حُكْمِ الزَّوْجاتِ في السُّكْنَى والنَّفَقَةِ والطَّلاقِ والظِّهارِ والإِيلاء، [والحلِّ في رِوايَةٍ] (¬1)، فأشْبَهَتْ ما قبلَ الطَّلاقِ. فأمَّا إن وضَعَتْه لأكْثَرَ مِن أرْبعِ سِنين مُنْذُ انْقَضَتِ العِدَّةُ، لم يَلْحَقْ به؛ لأنَّها حَمَلَتْ (¬2) به بعدَ زَوالِ الفِراشِ، وكذلك إن كان الطلاقُ بائِنًا، فوَضَعَتْه لأكْثَرَ مِن أربعِ سِنِينَ مِن حينِ الطَّلاقِ، فإنَّه يَنْتَفِي عنه بغيرِ لِعانٍ، ولا يَلْحَقُه؛ لذلك. فصل: إذا غاب عن زَوْجَتِه سِنِينَ، فبلَغتْها وفاتُه، فاعْتَدَّتْ، ونَكَحَتْ نِكاحًا صَحِيحًا في الظاهرِ، ودَخَلَ بها الثاني، وأوْلَدَها أولادًا، ثم قَدِمَ الأوَّلُ، فُسِخَ نِكاحُ الثاني، ورُدَّتْ إلى الأوَّلِ، وتَعْتَدُّ مِن الثاني، ولها عليه صَداقُ مِثْلِها، والأوْلادُ له؛ لأنَّهم وُلِدوا على فِراشِه. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، وأهْلِ العِرَاقِ، وابنِ أبي لَيلَى، [ومالكٍ] (¬3)، وأهْلِ الحِجازِ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي يُوسفَ، وغيرِهم مِن أهْلِ العِلْمِ، إلَّا أبا حنيفةَ، قال: الولدُ للأوَّلِ؛ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الحبل في أوانه». (¬2) في م: «حلت». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه صاحِبُ الفِراشِ، لأنَّ نِكاحَه صَحِيحٌ ثابِتٌ، ونِكاحُ الثاني غيرُ ثابتٍ، فأشْبَهَ الأجْنَبِيَّ. ولَنا، أنَّ الثانيَ انْفَرَدَ بوَطْئِها في نكاحٍ يَلْحَقُ النَّسَبُ (¬1) في مِثْلِه، فكانَ الولدُ له، كوَلَدِ الأمَةِ مِن زَوْجِها يَلْحَقُه دُونَ سَيِّدِها، وفارَقَ الأجْنَبِيَّ، فإنَّه ليس له نِكاحٌ. فصل: ولو وَطِئَ رجلٌ امرأةً لا زَوْجَ لها بشبْهَةٍ، فأتَتْ بوَلَدٍ، لَحِقَه نَسَبُه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ. وقال القاضي: وجَدْتُ بخَطِّ أبي بكرٍ، أنَّه لا يَلْحَقُ به؛ لأنَّ النَّسَبَ لا يَلْحَقُ إلَّا في نِكاحٍ صحيحٍ، أو فاسدٍ، أو مِلْكٍ، أو شُبْهَةِ مِلْكٍ، ولم يُوجَدْ شيءٌ مِنِ ذلك، ولأنَّه وَطْءٌ لا يَسْتَنِدُ إلى عَقْدٍ، فلم يَلْحَقِ الوَلَدُ فيه الواطِئَ، كالزِّنى. والصَّحِيحُ في المذهبِ الأوَّلُ. قال أحمدُ: كلُّ مَن دَرَأْتُ عنه الحَدَّ ألْحَقْتُ به الوَلَدَ. ولأنَّه وَطْءٌ اعْتَقَدَ الواطِيء حِلَّه، فلَحِقَ به النَّسَبُ، كالوَطْءِ في النِّكاحِ الفاسِدِ. وفارَقَ وَطْءَ الزِّنَى، فإنَّه لا يَعْتَقِدُ الحِلَّ فيه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو تَزَوَّجَ رجلانِ أُخْتَين، فغُلِطَ بهما عندَ الدُّخُولِ، فَزُفَّتْ كلُّ واحدَةٍ مهما إلى زَوْجِ الأُخْرَى، فوَطِئَها، وحَمَلَتْ منه، لَحِقَ الوَلَدُ بالوَاطِئِ؛ لأنَّه يَعْتَقِدُ حِلَّه، فلَحِقَ به النَّسَبُ، كالواطِئِ في نِكاح فاسدٍ. وقال أبو بكرٍ: لا يكونُ الولَدُ للواطِئ، وإنَّما يكونُ للزَّوْجِ. وهو الذي يَقْتَضِيه مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ الولَدَ للفِراشِ. ولَنا، أن الواطِئَ انْفَرَدَ بوَطْئِها فيما يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فلَحِقَ به، كما لو لم تَكُنْ ذاتَ زَوْجٍ، وكما لو تَزَوَّجَتِ امرأةُ المفْقُودِ عندَ الحُكْمِ بوَفاتِه، ثم بانَ حَيًّا، والخبرُ مَخْصُوصٌ بهذا، فنَقِيسُ عليه ما كان في مَعْناه. فصل: وإن وُطِئَتِ امرأتُه أو أمَتُه بشُبْهَةٍ في طُهْرٍ لم يُصِبْها فيه، فاعْتَزَلها حتى أتَتْ بوَلَدٍ لسِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ الوَطْءِ، لَحِقَ الواطِئَ، وانْتَفَى عن الزَّوْجِ مِن غيرِ لِعانٍ. وعلى قولِ أبي بكرٍ، وأبي حنيفةَ، يَلْحَقُ الزَّوْجَ؛ لأنَّ الوَلَدَ للفِراشِ. وإن أنْكَرَ الواطِيء الوَطْءَ، فالقولُ قولُه بغيرِ يَمِين، ويَلْحَقُ نَسَبُ الولدِ بالزَّوْجِ؟ لأنَّه لا يُمْكِنُ إلْحَاقُه بِالمُنْكِرِ، ولا تُقْبَلُ دَعْوَى الزَّوْجِ في قَطْعِ (¬1) نَسَبِ الولدِ. وإن أتَتْ بالولَدِ لدُونِ ستَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ الوَطْءِ، لَحِقَ الزَّوْجَ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّنا نَعْلَمُ أنَّه ليس مِن الواطئ. فإنِ اشْتَرَكا في وَطْئِها في طُهْرٍ، فأتَتْ بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ منهما، لَحِقَ الزَّوْجَ؛ لأن الولدَ للفِراشِ، وقد أمْكَنَ كونُه منه. وإنِ ادَّعَى الزَّوْجُ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الوَاطِئِ، فقال بعضُ أصْحابِنا: يُعْرَضُ على القَافَةِ معهما فيُلْحَقُ بمَن ألْحَقَتْه به منهما، فإن ألْحَقَتْه بالواطِئِ لَحِقَه، ولم يَمْلِكْ نَفْيَه عن نَفسِه، وانْتَفَى عن الزَّوْجِ بغيرِ لِعانٍ، وإن ألْحَقَتْه بالزَّوْجِ لَحِقَ، ولم يملكْ نَفْيَه باللِّعانِ في أصَحِّ الرِّوايَتَين، وإن ألْحَقَتْه بهما، [لَحِقَ بهما] (¬1)، ولم يَمْلِكِ الواطِئُ نَفْيَه عنِ نَفْسِه. وهل يَمْلِكُ الزَّوْجُ نَفْيَه باللِّعانِ؟ على روايتَين. فإن لم تُوجَدْ قافَةٌ، [وأنْكَرَ الواطِئُ الوَطْءَ] (¬2)، أو [اشْتَبهَ على القافَةِ] (¬3)، لَحِقَ الزَّوْجَ؛ لأنَّ المُقْتَضِيَ لِلَحاقِ النَّسَب به مُتَحَقِّق، ولم يُوجَدْ ما يُعارِضُه، فوَجَبَ إثْباتُ حُكْمِه. ويَحْتَمِلُ أَن يَلْحَقَ الزَّوْجَ بكلِّ حالٍ؟ لأن دَلالةَ قَوْلِ القَافَةِ ضعِيفَةٌ، ودلالةَ الفِراشِ قَويَّةٌ، فلا يجوزُ تَرْكُ دلالتِه لمُعارَضَةِ دلالةٍ ضَعِيفةٍ. فصل: فإن أتَتِ امْرأتُه بولدٍ، فادَّعَى أنَّه مِن زَوْجٍ قَبْلَه، نَظَرْنا؛ فإن كانت تَزَوَّجَتْ بعدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ، لم يَلْحَقْ بالأوَّلِ بحالٍ، وإن كان بعدَ أربعِ سِنِينَ منذُ بانَتْ مِن الأَوَّلِ، لم يَلْحَقْ به أيضًا، وإن وضَعَتْه لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ منذُ تزَوَّجَها الثاني، [لم يَلْحَقْ به، ويَنْتَفِي عنهما، وإن كان لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، فهو ولَدُه، وإن كان لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ منذُ تزَوَّجَها الثاني] (¬4)، ولأقَلَّ مِن أرْبعِ سِنِينَ مِن طَلاقِ الأوَّلِ، ولم يُعْلَم انْقِضاءُ العِدَّةِ، عُرِضَ على القافَةِ، وأُلحِقَ بمَن ألْحَقَتْه به منهما، فإن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «اشتبه عليهم». (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَمَنِ اعْتَرَفَ بِوَطْءِ أَمَتِهِ فِي الْفَرْجِ أَوْ دُونَهُ، فَأتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ وَإِنِ ادَّعَى الْعَزْلَ، إلا أَنْ يَدَّعِيَ الاسْتِبْرَاءَ. وَهَلْ يَحْلِفُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ألْحَقَتْه بالأوَّلِ، انْتَفَى عن الزَّوْجِ بغيرِ لِعانٍ، وإن ألْحَقَتْه بالزَّوْجِ، انْتَفَى عن الأوَّلِ وأُلْحِقَ بالزَّوْجِ. وهل له نَفْيُه باللِّعانِ؟ على رِوايتَين. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (ومَنِ اعْتَرَفَ بوَطْءِ أمَتِه في الفَرْجِ أو دُونَه، فأتَتْ بولدٍ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ، لَحِقَه نسَبُه وإنِ ادَّعَى العَزْلَ، إلَّا أن يَدَّعِي الاسْتِبْراءَ. وهل يَحْلِفُ؟ على وجْهَين) مَن اعترفَ بوَطْءِ أمَتِه في الفرْجِ، صارَتْ فِراشًا له، فإذا أتَتْ بولدٍ لمُدَّةِ الحَمْلِ مِن يومِ الوَطْءِ، لَحِقَه نسَبُه. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: لا تَصِيرُ فِراشًا حتى يُقِرَّ بولَدِها، فإذا أقَرَّ به صارَتْ فِراشًا، ولَحِقَه أولادُه بعدَ ذلك؛ لأنَّها لو صارَتْ فِراشًا بالوَطْءِ، لصارَتْ فِراشًا بإباحَتِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالزَّوْجَةِ. ولَنا، أنَّ سَعْدًا نازَعَ عَبْدَ بنَ زَمْعَةَ في ابنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فقال: هو أخي، وابنُ وَلِيدَةِ أبي، وُلِدَ على فِراشِه. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وللعَاهِرِ الحَجَرُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى ابنُ عمرَ، أن عمرَ، رَضِيَ الله عنه، قال: ما بالُ رجالٍ يطَؤُونَ وَلَائِدَهم، ثم يَعْزِلُونَ، لا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُها أنَّه ألَمَّ بها، إلَّا ألحقتُ به ولَدَها، فاعْزِلُوا بعدَ ذلك أو اترُكُوا (¬2). ولأنَّ الوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِه تحْريمُ المُصاهَرَةِ، فإذا كان مَشْرُوعًا صارتْ به المرأةُ فِراشًا، كالنِّكاحِ، ولأنَّ المرأةَ إنَّما سُمِّيَتْ فِراشًا تَجَوُّزًا، إمَّا لمُضاجَعَتِه لها على الفِراشِ، وإمَّا لكَوْنِها تَحْتَه في حالِ المُجامَعَةِ، وكلا الأمْرَين يَحْصُلُ في الجِماعِ، وقِياسُهم الوَطْءَ على الملكِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المِلْكَ لا يَتَعَلَّقُ به تَحْريمُ المُصاهَرَةِ، [ولا يَحْصُلُ منه الوَلَدُ بدونِ الوطْءِ، ويُفارِقُ النِّكاحَ؛ فإنَّه لا يُرادُ إلا للوطْءِ، ويتَعَلَّقُ به تَحْريمُ المُصَاهَرَةِ] (¬3)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338، 339. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب القضاء في أمهات الأولاد، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 742. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 132. والبيهقي، في: السنن الكبرى 3/ 417. (¬3) تكملة من المغني 11/ 130.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَنْعَقِدُ في مَحَلٍّ يحْرُمُ الوَطْءُ فيه، كالمَجُوسِيَّةِ والوَثَنِيَّةِ وذَواتِ مَحارمِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا أرادَ نَفْيَ ولدِ أمتِه التي يَلْحَقُه ولدُها، فطَرِيقُه أن يدَّعِيَ أنه اسْتَبْرَأها بعدَ وَطْئِه لها بحَيضَةٍ، فيَنْتَفِي بذلك. وإنِ ادَّعَى أنَّه كانَ يَعْزِلُ عنها، لَحِقَه النَّسَبُ، ولم يَنْتَفِ عنه بذلك؛ لِما روَى جابِرٌ، قال: جاءَ رجلٌ مِن الأنْصارِ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ لي جارِيةً، وأنا أطُوفُ (¬1) عليها، وأنا أكْرَه أن تَحْمِلَ. فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْتَ، فإنَّه سَيَأْتِيهَا ما قُدِّرَ لَهَا». رواه أبو داودَ (¬2). ولِمَا ذَكَرْنا مِن حديثِ عمرَ. ورُوِيَ عن أبي سعيدٍ، أنَّه قال: كنت أعْزِلُ عن جارِيَتِي، فولَدَتْ أحَبَّ الخَلْقِ إلَيَّ (¬3). يعني ابْنَه. ولأنَّه حُكْمٌ تَعَلَّقَ بالوَطْءِ، فلم يُعْتَبَرْ معه الإِنْزالُ، كسائرِ الأحْكامِ. وقد قِيلَ: إنَّه يَنْزِلُ مِن الماءِ ما لا يُحَسُّ به. فأمَّا إن أقَرَّ بالوَطْءِ دُونَ الفَرْجِ، أو في الدُّبُرِ، ¬

(¬1) في الأصل: «أخاف». (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 351. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العزل عن الإماء، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 141.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَصِرْ بذلك فِرَاشًا؛ لأنَّه ليس بِمَنْصُوصٍ عليه، ولا في مَعْنَى المَنْصُوصِ. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّها تَصِيرُ فِراشًا؛ لأنَّه قد يُجامِعُ، فيَسْبِقُ الماءُ إلى الفَرْجِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذَين. وإذا ادَّعَى الاسْتِبْراءَ، قُبِلَ قولُه بغيرِ يَمِينٍ، في أحدِ الوجْهَين؛ لأن مَن قُبِلَ قولُه في الاسْتِبْراءِ قُبِلَ بغيرِ يَمِينٍ، كالمرْأةِ تَدَّعِي انْقِضاءَ عِدَّتِها. وفي الآخرِ، يُسْتَحْلَفُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لقولِه عليه الصَّلَاةُ والسَّلامُ: «ولَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» (¬1). ولأنَّ الاسْتِبْراءَ غيرُ مُخْتَصٍّ به، فلم يُقْبَلْ قولُه فيه بغيرِ يَمِينٍ، كسائِرِ الحُقُوقِ. ومتى لم يَدَّعِ الاسْتِبْراءَ لَحِقَه وَلَدُها، ولم يَنْتَفِ عنه. وقال الشافعي في أحدِ قَوْلَيه: له نَفْيُه باللِّعانِ؛ لأنَّه ولَدٌ لم يَرْضَ به، فأشْبَهَ ولَدَ المَرْأةِ. ولنا، قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬2). فخَصَّ بذلك الأزْواجَ، ولأنِّه ولَدٌ يَلْحَقُه نَسَبُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) سورة النور 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ الزُّوْجَةِ، فلم يَمْلِكْ نفْيَه باللِّعانِ، كما لو وَطِئَ أجْنَبِيَّةً بشُبْهَةٍ، فألْحَقَتِ القَافَةُ ولَدَها به، ولأنَّ له طَريقًا إلى نَفيِ الوَلَدِ بغيرِ اللِّعانِ، فلم يَحْتَجْ إلى نَفْيِه باللِّعانِ، فلا يُشْرَعُ، ولأنَّه لو وَطِئَ أمَتَه ولم يَسْتَبْرِئْها، فأتَتْ بوَلَدٍ، احْتَمَلَ أن يكونَ منه، فلم يَجُزْ له نفْيُه؛ لكَوْنِ النَّسَبِ يَلْحَقُ بالإِمْكانِ (¬1)، فكيف مع الظُّهُورِ ووُجُودِ سَبَبِه (¬2)! فإنِ ادَّعَى الاسْتِبْراءَ، فأتَتْ بولَدَينِ، فأقَرَّ بأحَدِهما ونَفَى الآخَرَ، لَحِقاه معًا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ جَعْلُ أحَدِهما منه والآخَرِ مِن غيرِه، وهما حَمْلٌ واحِدٌ، ولا يَجُوزُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «فيكون مع الإمكان». (¬2) في م: «نسبه».

3833 - مسألة: (وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها، فأتت بولد لدون ستة أشهر)

فَإن أَعْتَقَهَا أَوْ بَاعَهَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فَهُوَ وَلَدُهُ، وَالْبَيعُ بَاطِلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْيُ الولَدِ المُقَرِّ به عنه مع إقْرارِه به (¬1)، فوَجَبَ إلْحاقُهُما به معًا. وكذلك لو أتَتْ أمتُه (¬2) التي لم يعْتَرِفْ بوَطْئِها بتَوْأَمَينِ (¬3)، فاعْتَرفَ بأحَدِهما، ونَفَى الآخَرَ. 3833 - مسألة: (وإن أعْتَقَها أو باعها بعدَ اعْتِرافِه بوَطْئِها، فأتَتْ بوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ) مِن حِينِ العِتْقِ أو البَيعِ (فهو وَلَدُه) لأنَّها حَمَلَتْ به وهي فِراشُه؛ لأنَّ أقَلَّ الحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ، فإذا أتَتْ به لأقَلَّ مِن ذلك، عُلِمَ أنَّ حَمْلَها كان قبلَ بَيعِها، فيَلْحَقُ النَّسَبُ به، كما لو لم يَبِعْها، وتَصِيرُ أمَّ ولدٍ (والبَيعُ باطِلٌ) لأنَّها صارَتْ أمَّ ولدٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. وفي الأصل: «بوليديه». وفي تش، ق: «بولده». والمثبت كما في المغني 11/ 132. (¬3) في م: «بولدين توأمين».

3834 - مسألة: (وكذلك إن لم يستبرئها فأتت به لأكثر من ستة أشهر، فادعى المشتري أنه منه، سواء ادعاه البائع أو لم يدعه)

وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا فَأَتتْ بهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فادَّعَى المُشْتَرِي أَنَّهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَدَّعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3834 - مسألة: (وكذلِك إن لم يَسْتَبْرِئْها فأتَتْ به لأَكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، فَادَّعَى المُشْتَرِي أنَّه منه، سَواءٌ ادَّعَاهُ البائِعُ أو لم يَدَّعِهِ) لأنَّه وُجِدَ منه سَبَبُه، وهو الوَطْءُ، ولم يُوجَدْ ما يُعارِضُه ولا يَمْنَعُه، فتَعَيَّنَ إحالةُ حُكْمِه (¬1) عليه، وإلْحَاقُ الولدِ بمَن وُجدَ السَّبَبُ منه، سواءٌ ادَّعاهُ البائِعُ أو لا. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «حمله».

3835 - مسألة: (وإن استبرئت ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، لم يلحقه نسبه)

وَإنِ اسْتُبْرِئَتْ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لأكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ تُسْتَبْرا، وَلَمْ يُقِرَّ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهِ. فَأمَّا إِنْ لَمْ يَكُن الْبَائِعُ أقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ بَيعِهَا، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ بِحَالٍ، إلا أنْ يَتَّفِقَا عَلَيهِ، فَيَلْحَقَهُ نَسَبُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3835 - مسألة: (وإنِ اسْتُبْرِئَتْ ثمَّ أتَتْ بِوَلَدٍ لأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، لم يَلْحَقْه نَسَبُه) لأنَّ الاسْتِبْراءَ يدُلَّ على بَراءَتِها مِن الحَمْلِ، وقد أمْكَنَ أن يكونَ مِن غيرِه؛ لوُجُودِ مُدَّةِ الحَمْلِ بعدُ الاسْتِبْراءِ مع قِيامِ الدَّليلَ على ذلك، فأمَّا إن أتَتْ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، فقد (¬1) عَلِمْنا أنَّها كانت حامِلًا في زَمَنِ الاسْتِبْراءِ، فيكونُ الاسْتِبْراءُ غيرَ صَحيحٍ، وتكونُ بمَنْزِلَةِ مَن لم يَسْتَبْرِئْها، (وكذلك إن لم تُسْتَبْرأْ. ولم يقرَّ المُشْتَرِي له به) لأنَّه ولدُ أمَةِ المُشْتَرِي، فلا تُقْبَلُ دَعْوى غيرِه له إلَّا بإقْرارٍ مِن المُشْتَرِي. 3836 - مسألة: (فأمَّا إن لم يَكُنِ البائِعُ أقَرَّ بِوَطْئِهَا قبلَ بَيعِهَا، لَمْ يَلْحَقْه الوَلَدُ بحالٍ) سَواءٌ وَلَدَتْه لِسِتَّةِ أشْهُرٍ أو لأقَلَّ مِنْهَا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ¬

(¬1) في الأصل: «بعد».

3837 - مسألة: (وإن ادعاة البائع، فهو عبد للمشتري)

وَإنِ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُشْتَرِي. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَلْحَقَهُ نَسَبُهُ مَعَ كَوْنِهِ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكونَ مِن غيرِه. وإنِ اتَّفَقا على أنَّه ولدٌ البائعِ، لَحِقَه؟ لأنَّ الحَقَّ لهما، [فيَثْبُت باتِّفاقِهِما] (¬1). 3837 - مسألة: (وإنِ ادَّعاة البائِعُ، فهو عَبْدٌ لِلْمُشْتَرِي) ولا تقْبَل دَعْوَى البائعِ في (¬2) الإِيلادِ؛ لأنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ إلى المُشْتَرِي في الظاهرِ، فلا يُقْبَل قولُ البائعِ فيما يُبْطِل حقَّه، كما لو باع عَبْدًا، ثم أقَرَّ أنَّه كان أعْتَقَه، والقول قول المُشْتَرِي مع يَمِينِه؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. وهل يَلْحَقُ البائِعَ نَسَبُه؟ على وجْهَين؛ أحَدُهما، يَلْحَقه مع كوْنِه عبْدًا للمُشْتَرِي؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ ابْنًا لواحدٍ، مَمْلوكًا لآخرَ، [كولدِ الأمَةِ المُزَوَّجَةِ. والثاني، لا يَلْحَقُه؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا على المُشْتَرِي، فإنَّه لو أعْتَقَه كان أبوه أحَقَّ بمِيراثِه] (1) منه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

3838 - مسألة: (وإن وطئ المجنون من لا ملك له عليها ولا شبهة ملك، فأتت بولد، لم يلحقه نسبه)

وَإِذَا وَطِئَ الْمَجْنُونُ مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَيهَا وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3838 - مسألة: (وإن وَطِئَ المَجْنُونُ مَن لَا مِلْكَ له عليها ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فأتَتْ بِوَلَدٍ، لم يَلْحَقْه نَسَبُه) لأنَّه لا يَسْتَنِدُ إلى مِلْكٍ، ولا اعْتِقادِ إباحَةٍ، فإن أكْرَهَها على الوَطْءِ، فعليه مَهْرُ مِثْلِها، كالمُكَلَّفِ؟ لأن الضَّمانَ يَسْتَوي فيه المُكَلَّفُ وغيرُه. والله تَعالى أعلمُ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب العدد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْعِدَدِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْعِدَدِ الأصْلُ في وُجُوبِ العِدَّةِ، الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ فقولُه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وقولُه سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2). وقولُه سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬3). وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُومِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، أن تُحِدَّ على مَيِّتٍ فوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا على زَوْجٍ، أرْبَعه أشْهُرٍ وعَشْرًا» (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) سورة الطلاق 4. (¬3) سورة البقرة 234. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، من كتاب الحيض، وفي: باب حد المرأة على غير زوجها، من كتاب الجنائز، وفي: باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، وباب تلبس الحادة ثياب العصب، وباب الكحل للحادة، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 1/ 85، 2/ 99، 7/ 76، 77. ومسلم، في: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1123 - 1127. وأبو داود، في: باب إحداد المتوفى عنها زوجها، وباب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 535 - 537. والترمذي، في: باب ما جاء في =

3839 - مسألة. (كل امرأة فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة)

كُلُّ امْرأَةٍ فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْخَلْوَةِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال لفاطمةَ بنتِ قَيس: «اعْتَدِّي في بَيتِ ابنِ أمِّ مَكْتُومٍ» (¬1). في آيٍ وأحاديثَ كثيرةٍ. وأجْمَعَتِ الأمَّةُ على وُجُوبِ العِدَّةِ في الجُمْلَةِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في أنْواعٍ منها. 3839 - مسألة. (كلُّ امْرَأةٍ فارَقَها زَوْجُها في الحَياةِ قبلَ المَسِيسِ وَالخَلْوَةِ) بها (فلا عِدَّةَ عليها) أجْمَع العُلَماءُ على ذلك، لقولِ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). ولأنَّ العِدَّةَ إنَّما وَجَبَتْ في الأصْلِ لِبراءَةِ الرَّحِمِ، وقد تَيَقَّنَّاها (¬3) ههُنا. ¬

= عدة المتوفى عنها زوجها، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 172، 173. والنسائي، في: باب الإحداد، وباب سقوط الأحداد في الكتابية المتوفى عنها زوجها، وباب ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، وباب الخضاب للحادة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 164 - 168. وابن ماجه، في: باب هل تحد المرأة على غير زوجها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 674. والدارمي، في: باب النهي للمرأة عن الزينة في العدة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 167، 168. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الإحداد، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 597، 598. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 85، 6/ 37، 184، 249، 281، 286، 287، 324 - 326، 408، 426. (¬1) تقدم تخريجه في 11/ 181، 20/ 53. (¬2) سورة الأحزاب 49. (¬3) في الأصل: «نفياها».

3840 - مسألة: (وإن خلا بها وهي مطاوعة، فعليها العدة، سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء، كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة، أو لم يكن، إلا أن لا يعلم بها، كالأعمى والطفل، فلا عدة عليها)

وَإِنْ خَلَا بِهَا وَهِيَ مُطَاوعَةٌ، فَعَلَيهَا الْعِدَّةُ، سَواءٌ كَانَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ مِنَ الوَطْءِ، كَالْإِحْرَامِ والصِّيامِ والحَيضِ وَالنِّفَاسِ والمَرَضِ وَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَجِبُ العِدَّةُ على الذِّمِّيَّةِ مِن الذِّمِّيِّ والمسلمِ. وقال أبو حنيفةَ: إن لم يكُنْ مِن دِينِهم، لم يَلْزَمْها؛ لأنَّهم لا يُخاطَبُونَ بفُرُوعِ الإِسْلامِ. ولَنا، عُمُومُ الآياتِ، ولأنَّها بائِنٌ بعدَ الدُّخُولِ، أشْبَهَتِ المُسْلِمةَ (¬1). وعِدَّتُها كعِدَّةِ المُسْلِمةِ، في قولِ علماءِ الأمْصارِ؛ منهم الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. وهو قولُ مالِكٍ. ورُويَ عنه أنَّه قال: تَعْتَدُّ مِن الوَفاةِ بحَيضَةٍ. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. ولأنَّها مُعْتَدَّة مِن الوَفاةِ، أشْبَهَتِ المُسْلِمةَ. 3840 - مسألة: (وإن خَلَا بها وهِي مُطاوعَةٌ، فعليها العِدَّةُ، سَواءٌ كان بهما أو بأحَدِهما مانِعٌ مِن الوَطْءِ، كالإِحْرامِ وَالصِّيامِ والحَيضِ والنِّفاسِ والمَرَضِ والجَبِّ والعُنَّةِ، أو لم يَكُنْ، إلَّا أن لا يَعْلَمَ بها، كالأعْمَى والطِّفلِ، فلَا عِدَّةَ عليها) وجُملَةُ ذلك، أنَّ العِدَّةَ تَجِبُ على ¬

(¬1) في الأصل: «المسلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن خَلَا بها زَوْجُها ولم يَمَسَّها. ولا خِلَافَ بينَ أهْلِ العلمِ في وُجُوبِها على المُطَلَّقَةِ بعدَ المَسِيسِ، فأمَّا إن خَلَا بها ولم يُصِبْها، ثم طَلَّقَها، فإن العِدَّةَ تَجِبُ عليها. رُوِيَ ذلك عن الخُلفاءِ الرَّاشِدين، وزيدٍ، وابنِ عمرَ. وبه قال عُرْوَةُ، وعليُّ بنُ الحُسَينِ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزَاعِيُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْي، والشافعيُّ في قديمِ قَوْلِه. وقال في الجَديدِ: لا عِدَّةَ عليها؛ لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}. وهَذا نَصٌّ، ولأنَّها مُطَلَّقَةٌ لم تُمَسَّ فأشْبَهَتْ مَن لم يَخْلُ بها. ولَنا، إجْماعُ الصَّحابةِ، فروَى الإمامُ أحمدُ، والأثْرَمُ، بإسْنادِهما عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى (¬1)، قال: قَضَى الخُلَفاءُ الراشدون أنَّ مَن أرْخَى سِتْرًا، أو أغْلَقَ بابًا، فقد وجَبَ المَهْرُ، وَوَجَبَتِ العِدَّة (¬2). ورواه الأثْرَمُ أيضًا عن عمرَ وعليٍّ، وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ¬

(¬1) في تش: «أبي أوفى». (¬2) تقدم تخريجه في 21/ 251.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عمرَ وزَيدِ بنِ ثابتٍ. وهذه قَضَايا اشْتَهَرَتْ، فلم تُنْكَرْ، فصارَتْ إجْماعًا. وضَعَّفَ أحمدُ ما رُوِيَ في خِلافِ ذلك، وقد ذكرْناه في كِتابِ (¬1) الصَّداقِ. ولأنَّه عَقْدٌ على المنافِعِ، فالتَّمْكِينُ فيه يَجْرِي مَجْرى الاسْتِيفاءِ في الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ، كعَقْدِ الإِجارَةِ، والآيةُ مَخْصُوصةٌ بما ذكَرْناه، ولا يَصِحُّ القياسُ على مَن لم يَخْلُ بها؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منها التَّمْكِينُ. ولا فَرْقَ بينَ أن يَخْلُوَ بها مع المانِعِ مِن الوَطْءِ أو مع عَدَمِه، وسَواءٌ كان المانِعُ حَقِيقيًّا؛ كالجَبِّ والعُنَّةِ والرَّتْقِ، أو شَرْعِيًّا؛ كالصَّوْمِ والإِحْرامِ والحَيضِ والنِّفَاسِ والظِّهَارِ؛ لأنَّ الحُكْمَ عُلِّقَ ههُنا على الخَلْوَةِ التي هي مَظِنَّةُ الإِصابَةِ دُونَ حَقِيقَتِها، ولهذا لو خَلَا بها فأتَتْ بولَدٍ لمُدَّةِ الحَمْلِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

3841 - مسألة: (إلا أن لا يعلم بها، كالأعمى والطفل، فلا عدة عليها)

إلا أَنْ لَا يَعْلَمَ بِهَا، كَالْأَعْمَى وَالطِّفْلِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لَحِقَه نَسَبُه، وإن لم يَطَأْها. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّ الصَّداقَ لا يكْمُلُ معِ وُجُودِ المانعِ، فكذلك يُخَرجُ في العِدَّةِ. ورُوِيَ عنه أن صَوْمَ شَهْرِ رمضان يَمْنَعُ كَمال الصَّداقِ مع الخَلْوَةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ (¬1) المانِعَ متى كان مُتَأكِّدًا، كالإِحْرامِ وشِبْهِه، مَنَع (¬2) كمال الصَّداقِ، ولم تَجِبِ العِدَّةُ؛ لأنَّ الخَلْوَةَ إنَّما أُقِيمَتْ تُقامَ المَسِيسِ لأنَّها مَظَنَّةٌ له، ومع المانعِ لا تَتَحَقَّقُ المَظِنَّةُ. 3841 - مسألة: (إلَّا أنْ لا يَعْلَمَ بها، كالأَعْمَى والطِّفْلِ، فلا عِدَّةَ عليها) ولَا يَكْمل صَداقُها؛ لأن المَظِنَّةَ لا تَتَحَقَّقُ، وكذلك إن كانت صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ مِثْلُها، أو لم تَكنْ مُطاوعَةً؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ المَظِنَّةِ مع ظُهُورِ اسْتِحَالةِ المَسِيسِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «مع».

وَالْمُعْتَدَّاتُ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ؛ إِحْدَاهُنَّ، أُولَاتُ الأَحْمَالِ، أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، حَرَائِرَ كُنَّ أَوْ إِمَاءً، مِنْ فُرْقَةِ الْحَيَاةِ أَو الْمَمَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والمُعْتَدَّاتُ على سِتَّةِ أضْرُبٍ؛ أحَدُها، أُولَاتُ الأحْمالِ، أجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، حَرائِرَ كُنَّ أو إماءً، مِن فُرْقَةِ الحَياةِ أو المَماتِ) كلُّ امرأةٍ حاملٍ مِن زَوْجٍ، إذا فارقَتْ زَوْجَها بطلاقٍ أو فسخٍ أو موتِه عنها، حُرَّةً كانت أو أمَةً، مُسْلِمةً أو كافرَةً، فعِدَّتُها بوضْعِ الحَمْلِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وهذا إجْماعُ أهلِ العلمِ (¬1)، إلَّا أنَّه رُوِيَ عن ابنِ عَباسٍ، وعن عليٍّ مِن وَجْهٍ، أن المُتَوَفَّى عنها. زَوْجُها تَعْتَدُّ بأطْوَلِ (¬2) الأجَلَين. وقاله أبو السَّنابلِ بنُ بَعْكَكٍ (¬3)، في حَياةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قولَه (¬4). وقد رُوِيَ ¬

(¬1) في ق، م: «المدينة». (¬2) في الأصل، تش: «بأقل». (¬3) أبو السنابل بن بعكك بن الحجاج بن الحارث القرشي العبدرى، اسمه حَبَّة، وقيل عمرو، أسلم في الفتح، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان شاعرًا وسكن الكوفة، ومات بمكة. الاستيعاب 4/ 1684، أسد الغابة 1/ 439، 6/ 156، 157. (¬4) يأتي الحديث بتمامه قريبًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن ابنَ عَباسٍ رَجَعَ إلى قَوْلِ الجماعةِ لمَّا بَلَغه حَديثُ سُبَيعَةَ (¬1). وكَرِهَ الحسنُ، والشَّعْبِيُّ، أن تنْكحَ في (¬2) دَمِهَا. وحُكِيَ عن إسْحاقَ، وحَمادٍ، أنَّ عِدَّتَها لا تَنْقَضِي حتى تَطْهُرَ. وأبَى سائِرُ أهلِ العلمِ هذا القولَ، وقالوا: لو وَضَعَتْ بعدَ ساعةٍ مِن وفاةِ زَوْجِها، حَلَّ لها أن تَتَزَوَّجَ، ولكن لا يَطَؤُها زَوْجُها حتى تَطْهُرَ مِن نِفاسِها وتَغْتَسِلَ، وذلك لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ورُوِيَ عن أُبَيِّ بنِ (¬3) كَعْبٍ، قال: قلتُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا والمُتَوَفى عنها زَوْجُها؟ قاك: «هِيَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا، والمُتَوَفَّى عَنْهَا (¬4)». وقال ابنُ مسعودٍ: مَن شاء باهَلْتُه -أو- لاعَنْتُه، أنَّ الآيةَ التي في سُورةِ النِّساءِ القُصْرَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. نَزَلَتْ بعدَ التي في سورةِ البقرةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (¬5). يعني أنَّ هذه الآيةَ هي الأخيرةُ، فتُقَدَّمُ على ما ¬

(¬1) في الأصل: «شعبة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في الأصل: «زوجها». والحديث أخرجه عبد الله في زوائد المسند 5/ 116. وهو ضعيف. الإرواء 7/ 196. (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب في عدة الحامل، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 539. والنسائي، في: باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 163، 164. وابن ماجه، في: باب الحامل المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 654.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَالفَها [مِن عُمومِ الآيةِ المتقدِّمةِ] (¬1)، ويُخَصُّ بها عُمُومُها. وروَى عبدُ اللهِ بنُ الأرْقَمِ (¬2)، أن سُبَيعةَ الأسْلَمِيَّةَ أخْبَرَتْه أنَّها كانت تَحتَ سعدِ بنِ خوْلَةَ، وتُوُفِّيَ عنها في حَجَّةِ الوَداعِ وهي حاملٌ، فلم تَنْشَبْ (¬3) أن وضَعَتْ حَمْلَها بعدَ وفَاتِه، فلما تَعَلَّتْ (¬4) من نِفَاسِها، تجَمَّلَتْ للخُطَّابِ، فدَخَلَ عليها أبو السَّنابِلِ بنُ بَعْكَكٍ، فقال: ما لي أراكِ مُتَجَمِّلَةً، لعلَّك تَرْجِينَ النِّكاحَ؟ إنَّكِ واللهِ ما أنتِ بناكِحٍ حتى تَمُرَّ عليك أربعةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ. قالت سُبَيعَةُ: فلمَّا قال لي ذلك، جَمَعْت عليَّ ثِيابي حينَ أمْسَيتُ، فأتَيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فسألتُه عن ذلك، فأفْتانِي بأنِّي قد حَلَلْتُ حينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وأمَرَنِي بالتَّزْويجِ إن بَدَا لي. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الأثرم». (¬3) في م: «تلبث». (¬4) تعلت من نفاسها: سَلِمَت. (¬5) أخرجه البخاري معلقا، في: باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي، من كتاب المغازي. وموصولا، في: باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 5/ 102، 103، 7/ 73. ومسلم، في: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها. . . .، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1122. كما أخرجه أبو داود، في: باب في عدة الحامل، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 538، 539. والترمذي، في: باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع، من أبواب الطلاق واللعان. عارضة الأحوذي 5/ 169، 170. والنسائي، في: باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 161 - 163. وبنحوه عند ابن ماجه، في: باب الحامل المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 653، 654. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 304، 305.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا حديث صحيحٌ (¬1)، قد جاء مِن وُجُوهٍ شَتَّى، كلُّها ثابتةٌ، إلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، ورُوِيَ عن عليٍّ مِن وَجْهٍ مُنْقَطِعٍ. ولأنَّها مُعْتَدَّةٌ حامِلٌ، فتَنْقَضِي عِدَّتُها بوَضْعِه كالمُطَلَّقَةِ، يُحَقِّقُه أن العِدَّةَ إنَّما شُرِعَتْ لمَعْرِفةِ بَراءَتِها مِن الحملِ، وَوَضْعُه أدَلُّ الأشْياءِ على البَراءَةِ منه، فوَجَبَ أن تنْقَضِيَ به العِدَّةُ، ولأنَّه لا خِلافَ في بَقاءِ العِدَّةِ بِبقاءِ الحملِ، فوَجَبَ أن تنْقَضِيَ به، كما في حَقِّ (¬2) المُطَلَّقَةِ. فصل: وإذا كان الحَمْلُ واحِدًا، انْقَضَتِ العِدَّةُ بوَضْعِه، وانْفِصالِ جَميعِه، وإن ظَهَرَ بعضه، فهي في عِدَّتِها حتى يَنْفَصِلَ باقِيه، لأنَّها لا تكونُ واضِعَةً لحَمْلِها حتى يَخْرُجَ كله. وإن كان الحَمْلُ اثْنَينِ أو أكْثَرَ، لم تَنْقَضِ عِدَّتُها إلَّا بوَضْعِ الآخِرِ، لأنَّ الحملَ هو الجميِعُ. هذا قولُ جماعةِ أهلِ العلمِ، إلَّا أبا قِلابَةَ وعِكْرِمَةَ، فإنَّهما قالا: تنْقَضِي عِدَّتُها بوَضْعِ الأوَّلِ، ولا تَتَزوَّجُ حتى تَضَعَ الآخِرَ. وذكرَ ابنُ أبي شَيبَةَ (¬3)، عن قَتادَةَ، عن عِكْرِمَةَ، أنَّه قال. إذا وَضَعَتْ أحَدَهُما، فقد انْقَضَتْ ¬

(¬1) في م: «حسن صحيح». وانظر: التمهيد 20/ 33. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب من قال: إذا وضعت أحدهما فقد حلت، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 176. وتقدم في 23/ 94.

3842 - مسألة: (والحمل الذي تنقضي به العدة، ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن وضعت مضغة لا يتبين فيها شيء من ذلك، فذكر ثقات من النساء أنه مبتدأ خلق آدمي، فهل تنقضي به العدة؟ على روايتين)

وَالْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، ما يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ثِقَاتٌ مِنَ النِّسَاءِ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَهَلْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عِدَّتُها. قيل له: أفَتَتَزَوَّجُ؟ قال: لا. قال قَتادَةُ: خُصِمَ العَبْدُ. وهذا قولٌ شاذٌّ، يُخالِفُ ظاهِرَ الكِتابِ وقولَ أهْلِ العلمِ والمَعْنَى، فإن العِدَّةَ شُرِعَتْ لمَعْرِفَةِ البَراءَةِ مِن الحَمْلِ، فإذا عُلِمَ وُجُودُ الحَمْلِ، فقد تَبَيَّنَ وُجُودُ المُوجِبِ لِلعِدَّةِ، وانْتَفَتِ البَراءَةُ المُوجِبَةُ لانْقِضائِها، ولأنَّها لو انْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضعِ الأوَّلِ، لأُبِيحَ (¬1) لها النِّكاحُ، كما لو وَضَعَتِ الآخِرَ. فإن وضَعَتْ ولَدًا، وشَكَّتْ في وُجُودِ ثَانٍ، لم تَنْقَضِ عِدَّتُها حتى تَزولَ الرِّيبَةُ، وتَتَيَقَّنَ أنَّه لم يَبْقَ معها حَمْلٌ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاؤُها، فلا يَزُولُ بالشَّكِّ. 3842 - مسألة: (والحَمْلُ الذي تَنْقَضِي به العِدَّةُ، ما يَتَبَيَّنُ فيه شَيْءٌ مِن خَلْقِ الإِنْسانِ، فإن وَضَعَتْ مُضْغَةً لا يَتَبَيَّنُ فيها شَيْءٌ مِن ذلك، فذَكَرَ ثِقَاتٌ مِن النِّساءِ أنَّه مُبْتَدأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فهل تَنْقَضِي به العِدَّةُ؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا ألْقَتْ بعدَ فُرْقَةِ زَوْجِها شيئًا، لم تَخْلُ ¬

(¬1) في الأصل: «لا صح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن خَمْسةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن تَضَعَ ما بان فيه خَلْقُ آدَمِيٍّ، مِن الرَّأْسِ واليَدِ والرِّجْلِ، فتَنْقَضِي به العِدَّة، بغيرِ خِلافٍ بينهم. قال ابن المُنْذِرِ: أجْمَعَ كل مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ عِدَّةَ المرأةِ تَنْقَضِي بالسَّقْطِ إذا عُلِمَ أنَّه وَلَدٌ، وممَّن نَحْفَظُ عنه ذلك، الحسن، وابنُ سِيرِينَ، وشرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسْحاقُ. قال الأثْرَمُ: قلت لأبي عبدِ اللهِ: إذا نُكِسَ في الخلقِ الرابعِ -يعني تَنْقَضِي به العِدَّةُ؟ فقال: إذا نُكِسَ في الخَلْقِ الرابعِ، فليس فيه اخْتِلافٌ، ولكن إذا تَبَيَّنَ [خَلْقُه، هذا أدَلُّ] (¬1). وذلك لأنَّه إذا بانَ فيه شيءٌ مِن خَلْقِ الآدَمِيِّ، عُلِمَ أنَّه حَمْلٌ، فيَدْخُل في عُمُومِ قولِه تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. الحالُ الثَّاني، ألْقَت نطْفَةً أو دَمًا، لا تَدْرِى هل هو ما يُخْلَق منه آدَمِيٌّ أو لا؟ فهذا لا يَتَعَلَّق به شيءٌ مِن الأحْكامِ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ أنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «خلق هذا أو هذا أول». وفي ق: «خلقه هذا أول هذا أول».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَا بالمُشاهَدَةِ ولا بالبَيِّنةِ. الحالُ الثالثُ، ألْقَتْ مُضْغَةً لم تَبِنْ فيها الخِلْقةُ، فشَهِدَ ثِقَاتٌ مِن القَوابِلِ، أنَّ فيه صُورَةً خَفِيَّةً، بانَ بها (¬1) أنَّها خِلْقةُ آدَمِيٍّ، فهذا في حُكْمِ الحالِ الأولِ. الحالُ الرابعُ، ألْقَتْ مُضْغَةً لا صُورَةَ فيها، فَشَهِدَ ثِقات مِن القَوابِلِ أنَّه مُبْتَدا خَلْقِ آدَمِيٍّ، فاخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، فنقَلَ (¬2) أبو طالبٍ أنَّ عِدَّتَها لا تَنْقَضِي به، ولا تَصِيرُ به أُمَّ وَلَدٍ؛ لأنَّه لم يَبِنْ فيه خَلْقُ آدَمِيٍّ (¬3)، أشْبَهَ الدَّمَ. وقد ذُكِرَ هذا قوْلًا للشَّافِعِيِّ. وهو اخْتيارُ أبي بكرٍ. ونَقَلَ الأثْرَمُ عن أحمدَ أنَّ عِدَّتَها لا تَنْقَضِي به، ولكن تصيرُ أُمَّ ولَدٍ؛ لأنَّه مَشْكُوكٌ في كَوْنِه ولدًا، فلم يُحْكَمْ بانْقِضاءِ العِدَّة المُتَيَقَّنةِ بأمْر مَشْكُوكٍ فيه، ولم يَجُزْ بَيعُ الأمَةِ الوالدةِ له مع الشَّكِّ في رِقِّها، فيثْبُتُ كَوْنُها أُمَّ ولدٍ احْتِيَاطًا، ولا تَنْقَضِي العِدَّةُ احْتِياطًا. ونَقَلَ حَنْبَلٌ أنَّها تَصِيرُ أُمَّ ولدٍ، ولم يَذْكُرِ العِدَّةَ، فقال بعضُ أصْحابِنا: على هذا تَنْقَضِي به العِدَّةُ. وهو قولُ الحسنِ. وظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ؛ لأنهم شَهِدُوا بأنَّه خِلْقَةُ آدَمِيٍّ، أشْبَهَ ما لو تَصَوَّرَ. قال شيخنا (¬4): والصَّحِيحُ أن هذا ليس رِوايةً في العِدَّةِ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْها (3)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في ق، م: «مهنا و». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في المغني 11/ 230.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يتَعَرَّضْ لها. الحالُ الخامسُ، أن تَضَعَ مُضْغَةً لا صُورةَ فيها، ولم تَشْهَد القَوابلُ بأنَّها مُبْتَدأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فلا تَنْقَضِي به العِدَّةُ، ولا تَصِيرُ به الأمَةُ أُمَّ ولَدٍ؛ لأنَّه (¬1) لم يَثْبُتْ كَوْنُه ولدًا بِبيِّنَةٍ ولا مُشاهَدَةٍ، فأشْبَهَ العَلَقَةَ. ولا تَنْقَضِي العِدَّةُ بوَضْعِ ما قبلَ المُضْغَةِ بحالٍ، سَواءٌ كان نُطْفَةً أو عَلَقَةً، وسَواءٌ قيل: إنَّه بَدْءُ خلقِ آدَمِيٍّ. أو لم يُقَلْ. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: أمَّا إذا كان عَلَقَةً، فليس بشيءٍ، إنَّما هو دَمٌ، لا تَنْقَضِي بها عِدَّةٌ، ولا تَعْتِقُ بها أمَةٌ. ولا نَعْلَمُ في هذا مُخالِفًا، إلَّا الحسنَ فإنَّه قال: إذا عُلِمَ أنَّها حَمْلٌ، انْقَضَتْ به العِدّةُ، وفيه الغُرَّةُ. والأوَّلُ أصَحُّ، وعليه الجُمْهورُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3843 - مسألة: (وإن أتت بولد لا يلحقه نسبه، كامرأة الطفل، لم تنقض به العدة. وعنه، تنقضي. وفيه بعد)

وَإنْ أتَتْ بِوَلَدٍ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، كَامْرَأةِ الطِّفْلِ، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِهِ. وَعَنْهُ، تَنْقَضِي بِهِ. وَفِيهِ بُعْدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3843 - مسألة: (وإن أتَتْ بِوَلَدٍ لا يَلْحَقُه نَسَبُه، كامْرأةِ الطِّفْلِ، لم تَنْقَضِ به العِدَّةُ. وعنه، تَنْقَضِي. وفِيهِ بُعْدٌ) إذا أتَتْ بولدٍ بعدَ أرْبَعِ سِنِينَ منذُ مات، أو بانتْ منه بطَلاقٍ أو فَسْخٍ، أو انْقِضاءِ عِدَّتِها إن كانت رَجْعِيَّةً، لم يَلْحَقْه وَلَدُها؛ لأنَّا نَعْلَمُ أنَّها عَلِقَتْ به بعدَ زَوالِ النِّكاحِ والبَينُونَةِ منه، وكَوْنِها قد صارَتْ أجْنَبِيَّةً منه، فأشْبَهَتْ سائِرَ الأجْنَبِيَّاتِ. فعلى هذا، لا تَنْقَضِي به العِدَّةُ. وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه يَنْتَفِي عنه بغيرِ لِعانٍ، فلم تَنْقَضِ عِدَّتُها به، كما لو أتَتْ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُر منذُ نَكَحَها. وقال أبو الخَطَّابِ: هل تَنْقَضِي به العِدَّةُ؟ على وجْهَين. وذكرَ القاضي أنَّ عِدَّتَها تَنْقَضِي به. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه وَلَا يُمْكِنُ أن يكونَ منه بعدَ نِكاحِه، بأن يكونَ قد وَطِئَها بشُبْهَةٍ، أو جَدَّدَ نِكاحَها، فوَجَب أن تَنْقَضِيَ به العِدَّةُ وإن لم يَلْحَقْ به، كالوَلَدِ المَنْفِيِّ باللِّعانِ، وبهذا فارَقَ الذي أتَتْ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُر، فإنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْتَفِي عنه يَقِينًا. ثم ناقَضُوا قولَهم، فقالوا: لو تَزَوَّجَتْ في عِدَّتِها، وأتَتْ بولدٍ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينَ دَخَلَ بها الثاني، ولأكْثَرَ مِن أرْبعِ سِنِينَ مِن حِينَ بانَتْ مِن الأوَّلِ، فالوَلَدُ مُنْتَفٍ عنهما، ولا تَنْقَضِي عِدَّتُها بوَضْعِه عن واحدٍ منهما. وهذا أصَحُّ؛ فإنَّ احْتِمال كَوْنِه منه لم يَكْفِ في إثْباتِ نَسَبِ الولَدِ منه. مع أنَّه يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الإِمْكانِ، فَلأن لا يَكْفِيَ في (¬1) انْقِضاءِ العِدَّةِ أَوْلَى وأَحْرَى. وما ذكَرُوه مُنْتَقِضٌ بما سَلَّمُوه. وما ذكَرُوه مِن الفَرْقِ بينَ هذا وبينَ الذي أتَتْ به قبلَ سِتَّةِ أشْهُرٍ غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ أصابَها قبلَ نِكاحِها بشُبْهَةٍ، أو بنكاحٍ غيرِ هذا النِّكاحِ الذي أتَتْ بالولَدِ فيه، فاسْتَوَيا. وأمَّا المَنْفِيُّ بِلِعانٍ فإنَّنا نَفَينَا الولَدَ عن الزَّوْجِ بالنِّسْبةِ إليه، ونَفَينا حُكْمَه في كَوْنِه منه بالنِّسْبَةِ إليها، حتى أوْجَبْنا الحَدَّ على قاذِفِها وقاذِفِ وَلَدِها، وانْقِضاءُ العِدَّةِ مِن الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بها دُونَه، فثَبَتَتْ. فصل: فأمَّا امرأةُ الطفلِ الذي لا يُولَدُ لمِثْلِه إذا مات عن زَوْجَةٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَلَدَتْ، لم يَلْحَقْه نَسَبُه، ولم تَنْقَضِ به عِدَّتُها، [وتَعْتَدُّ] (¬1) بالأشْهُرِ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن مات وبها حَمْلٌ ظاهِرٌ، اعْتَدَّتْ عنه بالوَضْعِ، فإن ظهرَ الحَمْلُ بها بعدَ مَوْتِه، لم تَعْتَدَّ به. وقد رُوِيَ عن أحمدَ في الصَّبِيِّ مثلُ قولِ [أبي حنيفةَ. وذكَرَه] (1) ابنُ أبي مُوسى. قال أبو الخَطَّابِ: وفيه بُعْدٌ. وهكذا الخِلافُ فيما إذا تَزَوَّجَ امرأةً، ودَخَلَ بها، وأتَتْ بولَدٍ لدُونِ سِتَّةِ أشْهُر مِن حينِ عَقْدِ النِّكاحِ، فإنَّها لا تَعْتَدُّ بوَضْعِه عندَنا، وعندَه تَعْتَدُّ به، واحْتَجَّ بقولِه سبحانه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ولَنا، أنَّ هذا حَمْلٌ مَنْفِيٌّ عنه يَقِينًا، فلم تَعْتَدَّ بوضْعِه، كما لو ظَهَرَ بعدَ مَوْتِه، والآيةُ واردةٌ في المُطَلَّقاتِ، ثم هي مخْصُوصَة بالقِياسِ الذي ذكرْناه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ عِدَّتَها تَنْقَضِي بوَضْعِ الحَمْلِ مِن الوَطْءِ الذي عَلِقَتْ به منه، سواغ كان هذا الولَدُ مُلْحَقًا بغيرِ الصَّغِيرِ، مثلَ أن يكونَ مِن عَقْدٍ فاسدٍ، أو وَطْءٍ بِشُبْهَة، أو كان من زِنًى لا يَلْحَقُ بأحدٍ؛ لأنَّ العِدَّةَ تجبُ مِن كلِّ وطْءٍ، فإذا وَضَعَتْه اعْتَدَّتْ مِن الصَّبِيِّ بأرْبَعةِ أشْهُر وعَشْرٍ؛ لأنَّ العِدَّةَ مِن رَجُلَين لا يَتَداخَلان. وإن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3844 - مسألة: (وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وغالبها تسعة،

وَأقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُر، وَغَالِبُهَا تِسْعَة، وَأكْثَرُهَا أرْبَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتِ الفُرْقَةُ في الحياةِ بعدَ الدُّخُولِ، كزَوْجةِ كبيرٍ (¬1) دَخَلَ بها، ثم طَلَّقها، وأَتتْ بولَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أشْهُر منذُ تَزَوَّجَها، فإنَّها تَعْتَدُّ بعدَ وَضْعِه بثَلاثةِ قُرُوءٍ. وكذلك إذا طَلَّقَ الخَصِيُّ (¬2) المَجْبُوبُ امْرأتَه، أو مات عنها، فأتَتْ بولدٍ، لم يَلْحَقْه نَسَبُه، ولم تَنْقَضِ عِدَّتُها بوَضْعِه، وتَنْقَضِي به عِدَّةُ الوَطْءِ، ثم تسْتَأنِفُ عِدَّةَ الطَّلاقِ أو عِدَّةَ الوَفاةِ، على ما بَيناه. وذكَر القاضي أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ، أنَّ الوَلَدَ يَلْحَقُ به؛ لأنه قد يُتَصَوَّرُ منه الإِنْزالُ، بأن يَحُكَّ مَوْضِعَ ذَكَرِه بفَرْجِها فيُنْزِلَ. فعلى هذا القولِ يَلْحَقُ به الولَدُ، وتَنْقَضِي به العِدَّةُ. والصَّحِيحُ أنَّ هذا لا (¬3) يَلْحَقُ به ولدٌ، لأنَّه لم تَجْرِ به عادَة، فلا يَلْحَقُ به ولَدُها، كالصَّبِيِّ الذي لم يَبْلُغْ تِسْعَ سِنِينَ. وكذلك إذا تَزَوَّجَ امْرأةً بحَضْرةِ الحاكمِ، ثم طَلَّقَها في المَجْلسِ، أو تَزَوَّجَ المَشْرِقِيُّ بالمَغْرِبِيَّةِ، ثم أتَتْ بوَلَدٍ، لم يَلْحَقْه، ولا تَنْقَضِي به العِدَّةُ. وقد ذكَرْناه في البابِ الذي قبلَه، وذكَرْنا الخِلافَ فيه، وانْقِضاءُ العِدَّةِ مَبْنِيٌّ على لُحُوقِ النَّسَبِ. واللهُ أعلمُ. 3844 - مسألة: (وأقَلُّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وغَالِبُها تِسْعَةٌ، ¬

(¬1) في الأصل: «كبيرة». (¬2) في الأصل: «الصبي». (¬3) سقط من: الأصل.

سِنِينَ. وَعَنْهُ، سَنَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكثَرُها أرْبَعُ سِنِينَ. وعنه، سَنَتانِ) إنَّما كان أقَلُّ (¬1) مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةَ أشْهُرٍ؛ لِمَا روَى الأثْرَمُ بإسْنادِه عن أبي الأسْودِ، أنَّه رُفِعَ إلى عمرَ أنَّ امْرأةً ولَدَتْ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ، فهَمَّ عمرُ بِرَجْمِها، فقال له عليٌّ: ليس لك ذلك، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَينِ} (¬2). وقال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬3). فحَوْلانِ وسِتَّةُ أشْهُرٍ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، لا رَجْمَ عليها. فخَلَّى عمرُ سَبِيلَها، ووَلَدَتْ مَرَّةً أُخْرَى لذلك الحَدِّ (¬4). ورواه الأثْرَمُ أيضًا، عن عِكْرِمَةَ، أنَّ ابنَ عباسٍ قال ذلك (¬5). قال عاصمٌ الأحْوَلُ: فقلتُ لِعِكْرِمَةَ: إنَّه بَلَغَنا أنَّ عَلِيًّا قال هذا. قال: فقال عِكْرِمَةُ: لا، ما قال هذا إلَّا ابنُ عباس. وذكَرَ ابنُ قُتَيبَةَ، في «المعارفِ» (¬6) أنَّ عبدَ الملكِ بنَ مروانَ وُلِدَ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ. وهذا ¬

(¬1) في الأصل: «أول». (¬2) سورة البقرة 233. (¬3) سورة الأحقاف 15. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 349 - 351. وسعيد بن منصور، في: سننه 2/ 66. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 442. (¬5) وانظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 351. وسعيد، في: سننه 2/ 66. (¬6) المعارف 595: وفيه: «عبد الله بن مروان». خطأ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأي، وغيرِهم. وغالِبُه تِسْعَةُ أشْهُرٍ؛ لأن غالِبَ النِّساءِ كذلك، وهذا أمْرٌ مَعْرُوفٌ بينَ الناسِ. وأكْثَرُ مُدَّةِ الحَمْلِ أرْبَعُ سِنِينَ. هذا ظاهِرُ المذهبِ. وبه قال الشافعيُّ، وهو المَشْهُورُ عن مالِكٍ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ أقْصَى مُدَّتِه سَنَتانِ. رُوِيَ ذلك عن عائشةَ. وهو مذهبُ. الثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ؛ لِمَا رَوَتْ جَميلةُ بنت سَعْدٍ، عن عائشةَ: لا تَزِيدُ المرأةُ على السَّنَتَين في الحَمْل (¬1). ولأنَّ التَّقْديرَ إنَّما يُعْلَمُ بتَوْقِيفٍ (¬2) أو اتِّفاقٍ، ولا تَوْقِيفَ ههُنا، والاتِّفاقُ إنَّما هو على ما ذكَرْنا. وقد وُجِدَ ذلك، فإنَّ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِم (¬3)، وهَرِمَ بنَ حَيَّانَ (¬4)، حَمَلَتْ أُمُّ كلِّ واحدٍ منهما به سَنَتَين. وقال اللَّيثُ: أقْصاهُ ثَلاثُ (¬5) سِنِينَ، حَمَلَتْ مَوْلاةٌ لعمرَ بنِ [عبدِ الله] (¬6) ثَلاثَ سِنِينَ. وقال عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ: خَمْسُ سِنِينَ. وعن الزُّهْرِيِّ قال: قد تَحْمِلُ المرأةُ ستَّ سِنِينَ، وسَبْعَ سِنِينَ. وقال أبو عُبَيدٍ: ليس لأقْصاه وَقْتٌ يُوقَف عليه. ¬

(¬1) أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 2/ 67. والدارقطني، في: سننه 3/ 322. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 443. (¬2) في الأصل، تش: «بتقدير». (¬3) ذكر ابن قتيبة أنه ولد وهو ابن ستة عشر شهرا. المعارف 594. (¬4) ذكر ابن قتيبة أيضًا، أنه حمل به أربع سنين، ولذلك سمي هرما. المعارف 595. (¬5) في م: «ثلاثين». (¬6) في الأصل: «عبد العزيز». وهو عمر بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وانظر: الأشراف 1/ 254.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ ما لَا نَصَّ فيه يُرْجَعُ فيه إلى الوُجُودِ، وقد وُجِدَ الحَمْلُ أرْبَعَ سِنِينَ، فروَى الوَلِيدُ بنُ سلِم، قال: قلتُ لمالِكٍ: حَدِيثُ جَميلةَ بنتِ سَعْدٍ، عن عائشةَ: لا تَزِيدُ المرأةُ على السَّنَتَين في الحَمْلِ. قال مالكٌ: سُبْحانَ اللهِ، مَن يقولُ هذا؟ هذه جارَتُنا امرأةُ محمدِ بنِ عَجْلانَ تَحْمِلُ أرْبعَ سِنِينَ قبلَ أن (¬1) تَلِدَ (¬2). وقال الشافعيُّ: بَقِيَ محمدُ بنُ عَجْلانَ في بَطْنِ أُمِّه أرْبَعَ سِنِينَ (¬3). قال أحمدُ: نِساءُ بني عَجْلانَ يَحْمِلْنَ أرْبَعَ سِنِينَ، وامرأةُ عَجْلانَ حَمَلَتْ ثَلاثَ بُطُونٍ، كلَّ دَفْعَةٍ أرْبَعَ سِنِينَ. وبَقِيَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ بنِ [الحَسنِ بنِ] (¬4) عليٍّ في بَطْنِ أُمِّه أرْبَعَ سِنِينَ. وهكذا إبْراهيمُ بنُ نَجِيح العُقَيليُّ. حَكَى ذلك أبو الخَطَّابِ. وإذا تَقَرَّرَ وُجُودُه، وجَبَ أن يُحْكَمَ به، ولا يُزادَ عليه؛ لأنَّه ما وُجِدَ، ولأنَّ عمرَ ضَرَبَ لامْرأةِ المَفْقُودِ أرْبَعَ سِنِينَ، ولم يَكُنْ ذلك إلَّا لأنَّه غايةُ (¬5) الحَمْلِ. ورُوِيَ ذلك عن عثمانَ، وعلي، وغيرِهما. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: سننه 3/ 322. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 443. (¬3) ذكر ابن قتيبة أن محمد بن عجلان حمل به أكثر من ثلاث سنين، فلما ولد كانت قد نبتت أسنانه. المعارف 595. (¬4) سقط من: الأصل، تش. وفي م: «بن الحسين». والمثبت كما في ق والمغني 11/ 233. وانظر: سير أعلام النبلاء 6/ 210. (¬5) في الأصل: «غالب».

3845 - مسألة: (وأقل ما يتبين به الولد أحد وثمانون يوما)

وَأقَلُّ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْوَلَدُ أَحَدٌ وَثَمانُونَ يَوْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ المرأةَ إذا وَلَدَتْ لأرْبَعِ سِنِينَ فما دُونَ (¬1)، مِن يَوْم موتِ الزَّوْج أو طَلاقِه، ولم تكنْ تَزَوَّجَتْ، ولا وُطِئَتْ، ولا انْقَضَت عِدَّتُها بالقُرُوءِ، ولا بوَضْعِ الحَمْلِ، فإنَّ الوَلَدَ لاحِقٌ بالزَّوْجِ، وعِدَّتُها تَنْقَضِي به (¬2). 3845 - مسألة: (وأقَلُّ ما يَتَبَيَّنُ به الوَلَدُ أحَدٌ وثَمانُونَ يَوْمًا) وهو أقَلُّ ما تَنْقَضِي بهِ العِدَّةُ مِن الحَمْلِ، وهو أن تَضَعَه بعدَ ثَمانِينَ يَوْمًا مُنْذ أمْكَنَه وَطْؤُها؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ خَلْقَ أحَدِكُمْ يُجْمَعُ (¬3) في بَطْنِ أُمِّه، فَيَكُونُ نُطْفَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يكُونُ عَلَقَة مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ» (¬4). ولا تَنْقَضِي العِدَّةُ بما دُونَ المُضْغَةِ، فوَجَبَ أن يكونَ بعدَ الثمانِينَ، فأمَّا بعدَ أرْبَعةِ أشْهُرٍ، فليس فيه إشْكالٌ؛ لأنَّه ¬

(¬1) بعده في الأصل: «سنتين». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ق، م: «ليجمع». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب ذكر الملائكة، من كتاب بدء الخلق، وفي: باب قول الله تعالى: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، من كتاب الأنبياء، وفي: باب حدثنا أبو الوليد. . . .، من كتاب القدر، وفي: باب: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 4/ 135، 161، 8/ 152، 9/ 165. ومسلم، في: باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه. . . .، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2036. وأبو داود، في: باب في القدر، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 530. والترمذي، في: باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، من أبواب القدر. عارضة الأحوذي 8/ 301. وابن ماجه، في: باب في القدر، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 29. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 382، 414، 430.

فَصلٌ: الثَّانِي، الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، عِدَّتُهَا أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّام إِنْ كَانَتْ أمَةً، وَسَوَاءٌ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وبَعْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [يُنَكَّسُ في الخَلْقِ الرَّابع] (¬1). فصل: الضربُ (الثاني، المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها، فعِدَّتُها أرْبَعةُ أشْهُرٍ وعشرٌ إن كانت حُرَّةً، وشَهْران وخَمْسةُ أيام إن كانت أمَةً، وسواءٌ ما قبلَ الدُّخُولِ وبعدَه) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ عِدَّةَ الحُرَّةِ المُسْلِمةِ غيرِ ذاتِ الحَمْلِ مِن وفاةِ زَوْجِها أرْبَعةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ، مَدْخُولًا بها أو غيرَ مَدْخُولٍ بها، سواء كانت بَالِغَةً أو لم تَبْلُغْ؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬2). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْج، أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). فإن ¬

(¬1) في م: «يستكمل الخلق في الرابع». (¬2) سورة البقرة 234. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: ألا حَمَلْتُم الآيةَ على المَدْخُولِ بها، كما قُلْتُمْ في قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). قُلْنا: إنَّما خَصَصنا هذه بقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). ولم يَرِدْ تَخْصِيصُ عِدَّةِ الوَفاةِ، ولا أمْكَنَ قِياسُها على المُطَلَّقةِ في التَّخْصِيصِ لوَجْهَين؛ أحدُهُما (¬3)، أنَّ النِّكاحَ عَقْدُ عُمْرٍ، فإذا مات انْتَهَى، والشيءُ إذا انْتَهَى تقرَّرَتْ أحْكامُه، كتَقَرُّرِ أحْكامِ الصِّيامِ بدُخُولِ اللَّيلِ، وأحْكامِ الإجارَةِ بانْقِضائِها، والعِدَّةُ مِن أحْكامِه. الثاني، أنَّ المُطَلَّقةَ إذا أتَتْ بولَدٍ يُمْكِنُ الزَّوْجَ تَكْذِيبُها ونَفْيُه باللِّعانِ، وهذا مُمْتَنِعٌ في حَقِّ المَيِّتِ، فلا يُؤمَنُ أن تَأتِيَ بولَدٍ، فيَلْحَقَ المَيِّتَ نَسَبُه، وما له مَن يَنْفِيه، فاحْتَطْنا بإيجابِ العِدَّةِ عليها لحِفْظِها عن التَّصَرُّفِ والمَبِيتِ في غيرِ مَنْزِلِها، حِفْظًا لها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الحَيضِ في عِدَّةِ الوَفاةِ، في قَوْلِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. وحُكِيَ عن ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) سورة الأحزاب 49. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ، أنَّها إذا كانت مَدْخولًا بها، وجَبَت أرْبَعة أشْهُرٍ وعَشْرٌ فيها حَيضَةٌ. واتِّباعُ الكِتابِ والسُّنَّةِ أوْلَى، ولأنَّه لو اعْتبِرَ الحَيضُ في حَقِّها، لَاعْتبِرَ ثَلاثَةَ قُروءٍ، كالمُطَلَّقَةِ. وهذا الخِلافُ مخْتَصٌّ بذاتِ القروءِ، فأمَّا الآيِسَة والصَّغِيرة، فلا خِلافَ فيهما. وأمَّا الأمَة المُتَوَفَّى عنها، فعِدَّتها شَهْران وخَمْسَة أيَّام، في قَوْلِ عامَّةِ أهْلِ العلمِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وسليمان بنُ يَسارٍ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي، وغيرُهم، إلَّا ابنَ سِيرِينَ فإنَّه قال: ما أرَى عِدَّةَ الأمَةِ إلَّا كعِدَّةِ الحُرَّةِ، إلَّا أن تكونَ قد مَضَتْ في ذلك سُنَّةٌ، فإنَّ السُّنَّةَ أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. وأخَذَ بظاهِرِ اللَّفْظِ وعُمُومِه. ولَنا، اتِّفاقُ الصَّحابةِ، رضِيَ اللهُ عنهم، على أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ المُطَلَّقَةِ على النِّصْف مِن عِدَّةِ الحُرَّةِ، فكذلك عِدَّةُ الوَفاةِ. فصل: والعَشْرُ المُعْتَبَرَةُ (¬1) في العِدَّةِ هي عشْرُ لَيالٍ، فيَجِبُ عشَرةُ أيَّام مع اللَّيالِي. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأي. وقال الأوْزاعِيُّ: يَجِبُ عَشْرُ لَيالٍ وتِسْعةُ أيام؛ لأنَّ العَشْرَ تسْتَعْمَلُ في اللَّيالِي دُونَ الأيَّامِ، وإنَّما دَخَلَتِ الأيامُ اللَّاتِي في أثْناءِ اللَّيالِي تَبَعًا. قُلْنا: العَرَبُ تُغَلِّبُ حُكْمَ التَّأْنِيثِ في العَدَدِ خاصَّةً على ¬

(¬1) في الأصل «المفسرة».

3846 - مسألة: (وإن مات زوج الرجعية)

فَإِنْ مَاتَ زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الوَفَاةِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ، وَسَقَطَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المُذَكَّرِ، فتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيالِي وتُرِيدُ الليالِيَ بأيَّامِها، كما قال الله تَعالى لزَكَرِيَّا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَويًّا} (¬1). يريدُ بأيَّامِها، بدليلِ أنَّه قال في موضع آخَرَ: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} (¬2). ولو نَذَرَ اعْتِكافَ العَشْرِ الأخيرِ مِن رمضانَ، لَزِمَه اللَّيالِي والأَيَّامُ. ويقولُ القائِلُ: سِرْنا عَشْرًا. يُرِيدُ اللَّيالِيَ بأيَّامِها. فلم يَجُزْ نَقْلُها عن العِدَّةِ إلى الإِباحَةِ بالشَّكِّ. 3846 - مسألة: (وإن مات زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ) في عِدَّتِها (اسْتأنَفَتْ عِدَّةَ الوَفاةِ مِن حِينِ مَوْتِه، وسَقَطَتْ عِدَّةُ الطَّلاقِ) وهذا لا خِلَافَ فيه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على ذلك؛ ¬

(¬1) سورة مريم 10. (¬2) سقط من: م. والآية رقم 41 سورة آل عمران.

3847 - مسألة: (وإن طلقها في الصحة طلاقا بائنا، ثم مات في عدتها، لم تنتقل عن عدتها)

وإنْ طَلقَهَا في الصِّحَّةِ طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ مَاتَ في عِدَّتِهَا، لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ عِدَّتهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُها طَلاقُه، ويَنالُها مِيراثُه، فاعْتَدَّتْ للوَفاةِ، كغيرِ المُطَلَّقَةِ. [وحَكَى في «المُحَرَّرِ» أنَّها تَعْتَدُّ أطْوَلَ الأجَلَين، وهو بَعِيدٌ] (¬1). 3847 - مسألة: (وإن طَلَّقَها في الصِّحَّةِ طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ مات في عِدَّتِهَا، لم تَنْتَقِلْ عَن عِدَّتِهَا) وتَبْنِي على عِدَّةِ الطَّلاقِ، [ولَا تَعْتَدُّ لِلوَفاةِ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: عليها أطْوَلُ الأجَلَين، كما لو طَلّقَها في مَرَضِ مَوْتِه. ولَنا، قولُه سُبْحانَه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. ولأنَّها أجْنَبِيَّةٌ منه في نِكاحِه، ومِيراثِه، والحِلِّ له، ووُقوعِ طلاقِه وظِهارِه، وتَحِلُّ له أخْتُها، وأرْبَعٌ سِوَاها، فلم تَعْتَدَّ لوفاتِه، كما لو انْقَضَتْ] (¬2) ¬

(¬1) ما بين المعقوفين جاء في الأصل، تش، مكان الحاشية (¬2) والمثبت كما في ق، م. وانظر المغني 11/ 226.

3848 - مسألة: (وإن كان الطلاق في مرض موته، اعتدت أطول الأجلين؛ من عدة الطلاق وعدة الوفاة)

وَإِنْ كَانَ الطَّلاقُ في مَرَضِ مَوْتِه، اعْتَدَّتْ أطْوَلَ الْأجَلَينِ؛ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [عِدَّتُها. وذكَر القاضي، في المُطَلَّقَةِ في المرضِ، أنَّها إذا كانتْ حامِلًا، تَعْتَدُّ أطْوَلَ الأجَلَينِ. وليس بشيءٍ، فإنّ الحَمْلَ تَنْقَضِي بوَضْعِه كلُّ عِدَّةٍ، ولا يجوزُ أن يَجِبَ عليها الاعْتِدادُ بغيرِ الحَمْلِ، لِما ذكَرْناه] (¬1). والله أعلمُ. 3848 - مسألة: (وإن كان الطَّلاقُ في مَرَضَ مَوْتِه، اعْتَدَّتَ أطْوَلَ الأجْلَين؛ مِن عِدَّةِ الطَّلاقِ وعِدَّةِ الوَفاةِ) نَصَّ على هذا أحمدُ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: تَبْنِي على عِدَّةِ الطَّلاقِ؛ لأنَّه مات وليست زَوْجةً له، لأنَّها بائنٌ مِن النِّكاحِ، فلا تكونُ مَنْكوحَةً. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. وعنه روايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّها تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوَفاةِ فقط. ذَكَرَ هاتَين في «المُحَرّرِ»؛ لأنَّها تَرِثُه، أشْبَهَتِ الرَّجْعِيَّةَ. ¬

(¬1) انظر الحاشية السابقة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُولَى ظاهِرُ المذهبِ. ووَجْهُ ذلك، أنَّها وارِثَةٌ، فتَجِبُ عليها عِدَّةُ الوَفاةِ كالرُّجْعِيَّةِ، ويَلْزَمُها عِدَّةُ الطَّلاقِ، لِما ذكَرُوه في دَلِيلهم. فصل: وإن مات المريضُ المُطَلِّقُ بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها بالحِيَضِ، أو بالشُّهورِ، أو بوَضْعِ الحَمْلِ، أو كان طَلاقُه قيلَ الدُّخولِ، فليس عليها عِدَّةٌ لمَوْتِه. وقال القاضي: عليهنَّ (¬1) عِدَّةُ الوَفاةِ إذا قُلْنا: [يَرِثْنَه؛ لأنَّهنَّ يَرِثْنَه بالزوجيةِ] (¬2)، فتَجِبُ عليهنَّ (1) عِدَّةُ الوَفاةِ، كما لو مات بعدَ الدُّخُولِ قبلَ قَضاءِ العِدَّةِ. ورواه أبو طالبٍ عن أحمدَ، في التي انْقَضَتْ عِدَّتُها. وذكَر ابنُ أبي موسى فيها رِوايتَين. والصَّحِيحُ أنَّها لا عِدَّةَ عليها؛ ¬

(¬1) في م: «عليها». (¬2) في م: «ترثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.وقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وقال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1). فلا يجوزُ تَخْصِيصُ هذه النُّصوصِ بالتَّحَكمِ، ولأنَّها أجْنَبِيَّة تَحِلُّ للأزْواجِ، ويَحِلُّ للمُطَلِّقِ نِكاحُ أُخْتِها وأرْبَع سِوَاها، فلم تَجِبْ عليها عِدَّةٌ لمَوْتِه، كما لو تَزَوَّجَتْ، وتُخالِفُ التي مات زَوْجُها في عِدَّتِها، فإنَّها لا تَحِلُّ لغيرِه في هذه الحالِ، ولم تَنْقَضِ عِدَّتُها، ونَمْنَعُ أنَّها تَرِثُه؛ لأنَّها لو وَرِثَتْه لأَفْضَى إلى أن يَرِثَ الرَّجُلَ ثَمانِيَ زَوْجاتٍ. فأمَّا إن تَزَوَّجَتْ إحْدَى هؤلاءِ، فلا عِدَّةَ عليها، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، ولا تَرِثُه. فإن كانتِ المُطَلَّقَةُ البائِنُ لا تَرِثُ، كالأمَةِ، أو الحُرةِ يُطَلِّقُها العَبْدُ، أو الذِّمِّيَّةِ يُطَلِّقُها المُسْلِمُ، والمُخْتَلِعَةِ أو فاعلةِ ما يَفْسَخُ نِكاحَها، لم يَلْزَمْها عِدَّةٌ، سَواءٌ مات زَوْجُها في عِدَّتِها أو بعدَها، على قياسِ قَوْلِ أصْحابِنا؛ لأنَّهم عَللُوا نَقْلَها إلى عِدَّةِ الوَفاةِ بإرْثِها، وهذه ليست وارِثَةً، فأشْبَهَتِ المطَلَّقَةَ في الصِّحَّةِ. ¬

(¬1) سورة الطلاق 4.

3849 - مسألة: (وإن ارتابت المتوفى عنها لظهور أمارات الحمل، من الحركة، وانتفاخ البطن، وانقطاع الحيض قبل أن تنكح، لم تزل في عدتها حتى تزول الريبة، وإن تزوجت قبل زوالها لم يصح النكاح، وإن ظهر بها ذلك بعد نكاحها، لم يفسد به، لكن إن أتت بولد لأقل من ستة أشهر منذ نكحها، فهو باطل، وإلا فلا)

وَإنِ ارْتَابَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ؛ مِنَ الْحَرَكَةِ، وانْتِفَاخِ الْبَطْنِ، وانْقِطَاعِ الحَيضِ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ، لَمْ تَزَلْ في عِدَّةٍ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، وإنْ تَزَوَّجتَ قَبْلَ زَوَالِهَا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَإنْ ظَهَرَ بِهَا ذَلِكَ بَعْدَ نِكَاحِهَا، لَمْ يَفْسُدْ بِهِ، لكنْ إنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشْهُرٍ مُنْذُ نَكَحَهَا، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3849 - مسألة: (وإنِ ارْتابَتِ المُتَوَفَّى عنها لظُهُورِ أماراتِ الحَمْلِ، مِن الحَرَكَةِ، وانْتِفاخِ البَطْنِ، وانْقِطاعِ الحَيضِ قَبْلَ أن تَنْكِحَ، لم تَزَلْ في عِدَّتِهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، وإن تَزَوَّجَتْ قبلَ زَوالِها لم يَصِحَّ النِّكَاحُ، وإن ظَهَرَ بها ذَلِكَ بعدَ نِكاحِها، لم يَفْسُدْ به، لَكنْ إن أتَتْ بوَلَدٍ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مُنْذُ نَكَحَها، فهو باطِلٌ، وإلَّا فلا) وجملةُ ذلك، أنَّ المُعْتَدَّةَ إذا ارْتابَتْ في عِدَّتِها، بأن تَرَى أماراتِ الحَمْلِ؛ مِن حَرَكَةٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو نَفْخَةٍ، أو نَحْوهما، وشَكت هل هو حَمْلٌ أم لا؟ لم تَخْلُ مِن ثَلاثَةِ أحْوالٍ؛ أحَدُها، أن تَحْدُثَ بها الرِّيبةُ قبلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، فإنَّها تَبْقَى في حُكْمِ الاعْتِدادِ حتى تَزُولَ الرِّيبَةُ، فإن بان حَمْلًا، انْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضْعِه، فإن زالت، وبان أنَّه ليس بحَمْل، تَبَينا أنَّ عِدَّتَها انْقَضَتْ بالشهُورِ أو بالأقْراءِ، إن كان فارَقَها في الحياةِ. فإن تَزَوَّجَت قبلَ زَوالِ الريبةِ، فالنِّكاحُ بَاطِلٌ؟ لأنَّها تَزَوَّجَتْ: وهي في حُكْمِ المُعْتَدَّاتِ في الظاهِرِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا تَبَيَّنَ عَدَمُ الحَمْلِ، أنَّه يَصِحُّ النِّكاحُ إذا كان بعدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ. الثاني، أن تَطهَرَ الرِّيبةُ بعدَ قَضاءِ عِدَّتِها والتَّزَوُّجِ، فالنِّكاحُ صَحِيحٌ؛ لأنَّه وُجِدَ بعدَ قَضاءِ العِدَّةِ ظاهِرًا، والحملُ مع الرِّيبةِ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَزُولُ به (¬1) ما حَكَمْنا بصِحَّتِه، لكن لا يَحلُّ لزَوْجِها وَطْؤُها؛ لأنَّنا شَكَكْنا في صِحَّةِ النِّكاحِ، ولأنَّه لا يَحِلُّ لمَن يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ أن يَسْقِيَ ماءَه زَرْعَ غيرِه، ثم يُنْظَرُ؛ فإن وضَعَتِ الولَدَ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُر منذُ تَزَوَّجَها الثاني ووَطِئَها، فنِكاحُه باطِلٌ؛ لأنَّه نَكَحَها وهي حامِلٌ، وإن أتَتْ به لأكثرَ مِن ذلك، فالولَدُ لَاحِقٌ به. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثُ، ظهَرَتِ الرِّيبَةُ بعدَ قَضاءِ العِدَّةِ وقبلَ النِّكاح، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَحِلُّ لها أن تَتَزَوَّجَ، وإن فَعَلَتْ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ؛ لأنَّها تَتَزَوَّجُ مع الشَّكِّ في انْقِضاءِ العِدَّةِ، فلم يَصِحَّ، كما لو وُجِدَتِ الرِّيبَةُ في العِدَّةِ، ولأنَّنا لو صَحَّحْنا النِّكاحَ، لَوَقَعَ مَوْقُوفًا، ولا يجوزُ كَوْنُ النِّكاحِ مَوْقُوفًا، ولهذا لو أسْلَمَ وتَخَلَّفَتِ امرأتُه في الشِّرْكِ، لم يَجُزْ أن يَتَزَوَّجَ أُخْتَها؛ لأنَّ نِكاحَها يكونُ مَوْقُوفًا على إسْلامِ الأُولَى. والثاني، يَحِلُّ لها النِّكاحُ، ويَصِحُّ؛ لأنَّا حَكَمنا بانْقِضاءِ العِدَّةِ، وحِلِّ النِّكاحِ، وسُقُوطِ النَّفَقَةِ والسُّكْنَى، فلا يجوزُ زَوالُ ما حَكَمْنا به بالشَّكِّ الطَّارِئ، ولهذا لا يَنْقُضُ الحاكمُ ما حكَم به بتَغَيُّرِ اجْتِهادِه ورُجُوعِ الشُّهُودِ. فصل: وإذا طلَّقَ واحِدَةً مِن نِسائِه لا بِعَينِها، أُخْرِجَتْ بالقُرْعَةِ، وعليها العِدَّةُ دُونَ غيرِها، وتُحْسَبُ عِدَّتُها مِن حينَ [طَلَّقَ، لا مِن حينَ] (¬1) خَرَجَتِ القُرْعَةُ. وإن طَلَّقَ واحدةً بعَينِها وأُنْسِيَها، ففي قَوْلِ أصْحابِنا، الحكمُ فيها كذلك. والصَّحِيحُ أنَّه يَحْرُمُ عليه الجميعُ. وهو ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3850 - مسألة: (وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد، فقال القاضي: عليها عدة الوفاة. نص عليه. وقال ابن حامد: لا عدة عليها

وَإذَا مَاتَ عَنِ امْرأةٍ نِكَاحُهُا فَاسِدٌ، فَقَال الْقَاضِي: عَلَيهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: لَا عِدَّةَ عَلَيهَا لِلْوَفَاةِ في ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتيارُ شيخِنا، وقد ذَكَرْناه في بابِ الشَّكِّ في الطَّلاقِ (¬1). فإن مات، فعلَى الجميعِ الاعْتِدادُ بأقْصَى الأجَلَين مِن عِدَّةِ الطَّلاقِ أو الوَفاةِ؛ لأنَّ النِّكاحَ كان ثَابِتًا (¬2) بيَقِينٍ، وكلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ يجوزُ أن تكونَ المُطَلَّقَةَ، ويجوزُ أن تكونَ زوجةً، فوجَبَ أقْصَى الأجَلَين إن كان الطَّلاقُ بائِنًا (¬3)، ليَسْقُطَ الفَرضُ بيَقِينٍ، كمَن نَسِيَ صَلاةً مِن يومٍ لا يَعْلَمُ عَينَها، لَزِمَه أن يُصَلِّيَ خمْسَ صلواتٍ، لكنَّ ابْتِداءَ القَرْءِ مِن حينَ طَلَّقَ، وابْتِداءَ عِدَّةِ الوَفاةِ مِن حينِ الموْتِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وإن طَلَّقَ الجميعَ ثَلاثًا بعدَ ذلك، فعليهِنَّ كلِّهنَّ تَكْمِيلُ عِدَّةِ الطَّلاقِ مِن حينَ طَلَّقَهُنَّ. وإن طَلَّقَ ثَلاثًا وأُنْسِيَهُنَّ، فهو، كما لو طَلَّقَ واحدَةً. 3850 - مسألة: (وإذا مات عن امْرَأةٍ نِكاحُها فَاسِدٌ، فقال القاضي: عليها عِدَّةُ الوَفاةِ. نَصَّ عليه. وقال ابنُ حامِدٍ: لا عِدَّةَ عليها ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 23/ 47 - 51. (¬2) في م: «بائنا». (¬3) في الأصل «ثابتا».

ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى بُطْلَانِهِ، لَمْ تَعْتَدَّ لِلْوَفَاةِ مِنْ أجْلِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ للوَفَاةِ لذلكَ. فإن كان النِّكاحُ مُجْمَعًا على بُطْلانِه، لم تَعْتَدَّ للوَفاةِ مِن أجْلِه، وَجْهًا واحِدًا) أمَّا إذا كان النِّكاحُ مُجْمَعًا على بُطْلانِه، مثلَ أن يَنْكِحَ ذاتَ مَحْرَمِه، أو مُعْتَدَّةً يَعْلَمُ حالها وتَحْرِيمَها، فلا حُكْمَ لعَقْدِها، والخَلْوَةُ بها كالخلْوَةِ بالأجْنَبِيَّةِ، لا تُوجِبُ عِدَّةً، وكذلك الموتُ عنها لا يُوجِبُ عِدَّةَ الوَفاةِ. وإن وَطِئَها، اعْتَدَّتْ لِوَطْئِها بثلاثةِ قُرُوءٍ منذُ وَطِئَها، سَواءٌ فارَقَها أو ماتَ عنها، كالمَزْنِيِّ بها مِن غيرِ عَقْدٍ. فأمَّا إن نَكَحَها نِكاحًا مُخْتَلَفًا فيه، فهو فاسِدٌ، فإن مات عنها، فنَقَلَ جَعْفرُ بنُ محمدٍ، أنَّ عليها عِدَّةَ الوَفاةِ. وهو اخْتيارُ أبي بكرٍ. وقال أبو عبدِ اللهِ ابنُ حامدٍ: ليس عليها عِدَّةُ الوَفاةِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه نِكاحٌ لا يَثْبُتُ، فأشْبَهَ الباطِلَ. فعلى هذا، إن كان قبلَ الدُّخولِ، فلا عِدَّةَ عليها، وإن كان بعدَه، اعْتَدَّتْ بثلاثةِ قُرُوءٍ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه نِكاحٌ يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فوَجَبَتْ به العِدَّةُ، كالنِّكاحِ الصَّحِيحِ، بخِلافِ الباطِلِ، فإنَّه لا يَلْحَقُ به النَّسَبُ. وإن فارَقَها في الحياةِ بعدَ الإصابةِ، اعْتَدَّتْ بعدَ فُرْقَتِه

3851 - مسألة؛ قال، رضي الله عنه: (الثالث، ذات القروء التي فارقها في الحياة بعد دخوله بها، عدتها ثلاثة قروء إن كانت حرة، وقرءان إن كانت أمة)

فصْلٌ: الثَّالِثُ: ذَاتُ الْقُرُوءِ الَّتِي فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَقَرْءَانِ إِنْ كَانَتْ أَمَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ بثَلاثةِ قُرُوءٍ، إن كانت مِن ذَواتِ الأقْراءِ، أو بثَلاثةِ أشْهُرٍ إن لم تَكُنْ، ولا خِلافَ في ذلك. وإن كان قبلَ الخَلْوَةِ، فلا عِدَّةَ عليها، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ المفارِقَةَ في الحياةِ في النِّكاحَ الصَّحيحِ لا عِدَّةَ عليها، ففي الفاسِدِ أوْلَى. وإن كان بعدَ الخَلْوَةِ قبلَ الإِصابَةِ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ عليها العِدَّةَ؛ لأنَّه أُجْرِىَ مُجْزَى النِّكاحِ الصَّحِيحِ في لُحُوقِ النَّسَبِ، فكذلك في العِدَّةِ. وقال الشافعيُّ: لا عِدَّةَ عليها؛ لِوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّها خَلْوَةٌ في غيرِ نِكاحٍ صَحِيحٍ، أشْبَهَتِ التي نِكاحُها باطِلٌ. والثاني، أنَّ الخَلْوَةَ عندَه في النِّكاحِ الصَّحيحِ لاتُوجِبُ العِدَّةَ، ففي الفاسِدِ أوْلَى. وهذا مُقْتَضَى قولِ ابنِ حامِدٍ. 3851 - مسألة؛ قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (الثالثُ، ذاتُ القُروءِ التي فارَقَها في الحياةِ بعدَ دُخُولِه بها، عِدَّتُها ثَلاثة قُروءٍ إن كانت حُرَّةً، وقَرْءانِ إن كانت أمَةً) أمَّا الحُرَّةُ مِن ذَواتِ القُروءِ فعِدَّتُها ثَلاثةُ قُرُوءٍ، بغيرِ خِلافٍ بينَ أهلِ العلمِ؛ لِقَوْلِ الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وأمَّا الأمَةُ فعِدَّتُها بالقَرءِ قَرْءانِ، في قولِ أكثرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ؛ منهم عمرُ، وعليٌّ، [وابنُ عمرَ] (¬1)، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وعبدُ اللهِ بنُ عُتْبةَ، والقاسمُ، وسالمٌ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادةُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. وعن ابنِ سِيرِينَ، عِدَّتُها عِدَّةُ الحُرَّةِ، إلَّا أن تكونَ قد مَضَتْ بذلك سُنَّةٌ. وهو قولُ داودَ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَرْءُ الأمَةِ حَيضَتانِ» (¬2). ولأنَّه قولُ [عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عمرَ] (¬3)، ولم نَعْرِفْ لهِم مُحْالِفًا في الصَّحابةِ، فكان إجْماعًا، وهذا يَخُصُّ عُمُومَ الآيةِ. ولأنَّه مَعْنًى ذو عَدَدٍ، بُنِيَ على التَّفاضُلِ، فلا تُساوي الأمَةُ فيه الحُرَّةَ، كالحَدِّ. وكان القِياسُ يَقْتَضِي أن تكونَ حيضةً ونِصْفًا، كما كان حَدُّها على النِّصْفِ مِن حَدِّ الحُرَّةِ، إلَّا أنَّ الحَيضَ لا يَتَبَعَّضُ، فكَمَلَ حَيضَتَين، وٍ لهذا قال عمرُ، رَضِيَ الله عن عنه: لو اسْتَطَعْتُ (¬4) أن أجْعَلَ العِدَّةَ حَيضَةً ونِصْفًا لَفَعَلْتُ (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في 22/ 308، 309. (¬3) في ق، م: «من ذكرنا من الصحابة». (¬4) في ق، م: «أستطيع». (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب عدة الأمة، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 221، 222. وسعيد بن منصور، في: باب الأمة تطلق فتعتق في العدة، من كتاب الطلاق. سنن سعيد 1/ 302. والبيهقي، في: باب عدة الأمة، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 426.

3852 - مسألة: (والقروء الحيض، في أصح الروايتين)

وَالْقُرُوءُ الحِيَضُ، في أَصَحِّ الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3852 - مسألة: (والقُروءُ الحِيَضُ، في أصَحِّ الرِّوايَتَين) والثانيةُ، هي الأطْهارُ. القَرْءُ في كلامِ العربِ يَقَعُ على الحَيضِ والطُّهْرِ جميعًا، فهو مِن الأسْماءِ المُشْتَرَكَةِ. قال أحمدُ بنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: القُروءُ الأوْقاتُ، الواحدُ قَرْءٌ، وقد يكونُ حَيضًا وقد يكونُ طُهْرًا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يأتِي لِوَقْتٍ. قال الشاعرُ (¬1): كَرِهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي تَمِيمٍ … إذا هَبَّتْ لِقارِئِها الرِّياحُ (¬2) يعني: لوَقْتِها. وقال الخليلُ بنُ أحمدَ: يُقالُ: أقْرَأتِ (¬3) المرأةُ. إذا دَنَا حَيضُها، وأقْرَأتْ: إذا دَنَا طُهْرُها، وفي الحديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعِي الصَّلَاةَ أيَّامَ أقْرائِكِ» (¬4). فهذا الحيضُ. وقال الشاعرُ (¬5): مُوَرِّثَة عزًّا وفي الحَيِّ رِفْعَةً … لِمَا ضَاعَ فيها مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا ¬

(¬1) هو مالك بن الحارث الهذلي أخو بني كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. انظر: ديوان الهذليين 3/ 81، والبيت فيه 3/ 83. وقد نسب لتأبط شرا، في معجم البدان 3/ 695، انظر ديوانه 240. وفي هذه المصادر: عقر بني شُلَيلٍ. وشليل: جد جرور بن عبد الله البجلي. (¬2) العقر مكان بعينه. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه، في 23/ 95. (¬5) هو الأعشى، والبيت في ديوانه 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا الطُّهْرُ. واخْتَلَف أهلُ العلمِ في المُرادِ بقولِه (¬1) تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. واختلفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في ذلك، فرُوِيَ أنَّها الحِيَضُ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عباس، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والثَّوْرِيِّ، والأوزاعِيِّ، والعَنْبَرِيِّ، وإسْحاقَ، وأبي عُبَيدٍ، وأصْحابِ الرَّأي. ورُوِيَ أيضًا عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعثمانَ بنِ عَفَّانَ، وأبي موسى، وعُبادةَ بنِ الصَّامتِ، وأبي الدَّرْداءِ. قال القاضي: الصَّحِيحُ عن أحمدَ أنَّ الأقْراءَ الحِيَضُ. وإليه ذهبَ أصْحابُنا، ورَجَعَ عن قوْلِه بالأطْهارِ، فقال في روايةِ النَّيسابُورِيِّ: كنتُ أقولُ: إنَّه الأطْهارُ، وأنا أذهبُ اليومَ إلى أنَّ الأقْراءَ الحِيَضُ. وقال في رِوايةِ الأثْرَمِ: كنتُ أقولُ (¬2): الأطْهارُ، ثم وَقَفْتُ (¬3) لقولِ الأكابِرِ. والرِّوايةُ الثانيةُ عن أحمدَ، أنَّ القُرُوءَ الأطْهارُ. وهو قولُ زيدٍ، وابنِ عمرَ، وعائشةَ، وسُلَيمانَ بنِ يَسارٍ، والقاسمِ بنِ محمدٍ، وسالمِ بنِ عبدِ اللهِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، والزُّهْرِيِّ، ومالِكٍ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ. وقال أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمن: ما أدْرَكْتُ أحدًا مِن فُقَهائِنا إلَّا وهو يقولُ ذلك. ¬

(¬1) في ق، م: «في قوله». (¬2) بعده في م: «إنه». (¬3) في الأصل، تش: «وفقت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): رجَعَ أحمدُ إلى [أنَّ القُروءَ الأطْهارُ] (¬2)، قال في رِوايةِ الأثْرَمِ: رأيتُ الأحادِيثَ عَمَّن قال: القُروءُ الحِيَضُ. تختلفُ، والأحادِيثُ عَمَّن قال: إنَّه أحَقُّ بها حتى تَدْخُلَ في الحَيضَةِ الثالثةِ. أحادِيثُها صِحاحٌ قَويَّةٌ (¬3). واحْتَجَّ مَن قال ذلك بقولِ اللهِ تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬4). أي، في عِدَّتِهِنَّ، كقولِه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬5). أي، في يومِ القِيامةِ. وإنَّما أمَرَ بالطَّلاقِ في الطُّهْرِ لا في الحَيضِ. ويَدُلُّ على ذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ عمرَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا حتى تَطْهُرَ، ثم تَحِيضَ، ثم تَطهُرَ، فإن شاء. طَلَّقَ، وإنْ شاءَ أمْسَكَ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التي أمَرَ الله أن تُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ». مُتَّفَق عليه (¬6). وفي رِوايةِ ابنِ عمرَ: (فَطَلِّقُوهُن في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ) (¬7). ولأنَّها عِدَّةٌ عن طَلاقٍ مُجَرَّدٍ مُباح، فوَجَبَ أن تُعْتَبَرَ عَقِيبَ الطَّلاقِ، كعِدَّةِ الآيِسَةِ والصَّغِيرةِ. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأولَى قولُ الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ ¬

(¬1) انظر: التمهيد 15/ 93، 94. (¬2) في م: «القرء والأطهار». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) سورة الطلاق 1. (¬5) سورة الأنبياء 47. (¬6) تقدم تخريجه في 2/ 391. وهو عند أبي داود في 1/ 503، 504. (¬7) عند مسلم في 2/ 1098. وأبي داود 1/ 505. والنسائي 6/ 113. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحِضْنَ}. فنقَلَهُنَّ عندَ عَدَمِ الحَيضِ إلى الاعْتِدادِ بالأشْهُرِ، فيدُلُّ ذلك على أنَّ الأصْلَ الحَيضُ، كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). ولأنَّ المَعْهودَ في لِسانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمالُ القَرْءِ بمعنى الحَيضِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَدَعُ الصَّلاةَ أيَّامَ أقْرَائِها». رواه أبو داودَ (¬2). وقال لفاطمةَ بنتِ أبي حُبَيش: «انْظُرِي فَإذَا أتَى قَرْؤُكِ، فلا تُصَلِّي، وإذَا مَرَّ قَرْؤُكِ، فتَطَهَّرِى، ثم صَلِّي ما بَينَ القَرْءِ إلى القَرْءِ». رواه النَّسائِيُّ (¬3). ولم يُعْهَدْ في لِسانِه اسْتِعْمالُه بمعنى الطُّهْرِ في مَوْضِعٍ، فوَجَبَ أن يُحْمَلَ كلامُه على المَعْهُودِ في لِسانِه. ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «طَلاقُ الأمَةِ طَلْقَتانِ، وقَرْؤهَا حَيضَتَانِ». رواه أبو داودَ (¬4)، وغيرُه. فإن قالوا: هذا يَرْويه مُظاهِرُ بنُ أسْلَمَ، وهو مُنْكَرُ الحديثِ. قُلْنا: قد رواه عبدُ اللهِ بنُ عيسى، عن عَطِيَّةَ العَوْفيِّ (¬5)، عن ابنَ عمرَ، كذلك أخْرَجَه ابنُ ماجه، في «سُنَنِه»، وأبو بكرٍ الخَلَّالُ، في «جامِعِه»، وهو نَصٌّ في عِدَّةِ الأمَةِ، فكذلك عِدَّةُ الحُرَّةِ. ولأنَّ ظاهِرٍ قولِه تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وجُوبُ التَّرَبُّصِ ثَلاثةً ¬

(¬1) سورة النساء 43، المائدة 6. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 401. (¬3) في: باب ذكر الأقراء، من كتاب الحيض، وفي: باب الأقراء، من كتاب الطلاق. المجتبى 1/ 150، 6/ 176.كما أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة تستحاض، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 63. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرأئها. . . .، من كتاب الطهارة وسنتها. سنن ابن ماجه 1/ 203. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 420، 464. (¬4) تقدم تخريجه في 22/ 308. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كاملةً، ومَن جَعَلَ القُرُوءَ الأطهارَ، لم يُوجِبْ ثلاثةً، بل يَكْتَفِي بطُهْرَين وبعضِ الثالثِ، فيُخالِفُ ظاهرَ النَّصِّ، ومَن جَعَلَه الحِيَضَ، أوْجَبَ ثلاثةً كاملةً، فيُوافِقُ ظاهِرَ النَّصِّ، فيكونُ أوْلَى مِن مُخالفتِه، ولأنَّ العِدَّةَ اسْتِبْراء، فكانت بالحَيضِ، كاسْتِبْراءِ الأمَةِ، وذلك لأن الاسْتِبْراءَ لمَعْرِفَةِ بَراءَةِ الرَّحِمِ مِن الحَمْلِ، والذي يَدُلُّ عليه الحَيضُ (¬1)، فوَجَبَ أن يكونَ الاسْتِبْراءُ به. فإن قِيلَ: لا نُسلِّمُ أنَّ اسْتِبْراءَ الأمَةِ بالحَيضِ (¬2). كذلك قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3). وإنَّما هو بالطُّهْرِ الذي قبلَ الحَيضَةِ. وقال: قوْلُهم: إنَّ اسْتِبْراءَ الأمَةِ حَيضَة بإجْماعٍ. ليس كما ظَنُّوا، بل جائِز لها عندَنا أن تَنْكِحَ إذا دَخَلَتْ في (¬4) الحَيضَةِ، واسْتَيقَنَتْ أنَّ دَمَها دَمُ حَيضٍ، كذلك قال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ لِيَحْيى بنِ أكثمَ حينَ دخلَ عليه في مُناظَرَتِه إيَّاه. قُلْنا:. هذا يَرُدُّه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُوطَأُ حَامِل حتى تَضَعَ، ولَا حَائِلٌ حتى تُسْتَبْرَأ بِحَيضَةٍ» (¬5). ولأنَّ الاسْتِبْراءَ يُعَرِّفُ (¬6) بَراءةَ الرَّحِمِ، وإنَّما يَحْصُلُ بالحَيضَةِ، لا بالطُّهْرِ الذي قبلَها، ولأنَّ العِدَّةَ تَتَعَلَّقُ بخُرُوجِ خارجٍ مِن الرَّحِمِ، فوَجَبَ أن تتعلَّقَ بالحَيضِ (¬7)، ¬

(¬1) في الأصل: «النص». (¬2) في م: «بالحيضة». (¬3) انظر: التمهيد 15/ 99، 100، والاستذكار 18/ 38. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 2/ 390. وهو عند أبي داود في 1/ 497. (¬6) في الأصل، ق، م: «تعرف». (¬7) في الأصل، تش: «بالطهر». وكتبت هكذا في ق، وفي الحاشية: «لعلها بالحيض». وفي نسختين خطيتين من المغني: «بالظهور».

3853 - مسألة: (ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها حتى تأتي بثلاث كاملة بعدها)

وَلَا تَعْتَدُّ بِالْحَيضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا حَتَّى تَأْتِيَ بِثَلَاثٍ كَامِلَةٍ بَعْدَهَا، فَإِذا انْقَطَعَ دَمُهَا مِنَ الثَّالثَةِ، حَلَّتْ في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كوَضْعِ الحَمْلِ، يُحَقِّقُه أنَّ العِدَّةَ مقْصُودُها براءَةُ الرَّحِمِ مِن الحَمْلِ، فتارَةً تَحْصُلُ بوَضْعِه، وتارَةً تَحْصُلُ (¬1) بما يُنافِيه، وهو الحَيضُ الذي لا يُتَصَوَّرُ وُجُودُه معه. فأمَّا قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. فيجوزُ أنَّه أراد قبْلَ عِدَّتِهِنَّ (¬2)، إذ لا يُمْكِنُ حَمْلُه على الطَّلاقِ في العِدَّةِ، ضَرُورةَ أنَّ الطلاقَ يَسْبِقُ العِدَّةَ، لكَوْنِه سَبَبَها، والسَّبَبُ يتقَدَّمُ الحُكْمَ، ولا يُوجَدُ (¬3) الحُكْمُ قبلَه، والطَّلاقُ في الطُّهْرِ تَطْلِيقٌ قبْلَ العِدَّةِ إذا كانتِ الأقْراءُ بالحِيَضِ. 3853 - مسألة: (ولا تَعْتَدُّ بالحَيضَةِ التي طَلَّقَها فيها حتى تَأْتِيَ بِثَلاثٍ كامِلَةٍ بعدَها) لا نعلمُ في ذلك خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بثلاثةِ قُروءٍ، فيَتَناوَلُ ثَلاثةً كاملةً، والتي طَلَّقَ فيها لم يَبْقَ منها (¬4) ما تَتِمُّ به مع اثْنَتَين ثلاثةٌ كاملة، فلا يُعْتَدُّ بها، ولأنَّ الطَّلاقَ إنَّما حَرُمَ في الحَيضِ؛ لِما فيه مِن تَطْويلِ العِدَّةِ عليها، فلو احْتُسِبَ بتلك الحَيضَةِ قَرْءًا، كان أقْصَرَ لِعِدَّتِها، وأنْفَعَ لها، فلم يكنْ مُحَرَّمًا. 3854 - مسألة (¬5): فَإذا طَهُرَتْ مِن الحَيضَةِ الثالثةِ (حَلَّتْ في إحْدَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل، تش: «لأنه لا يتصور». (¬3) في م: «يؤخذ». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) بعده في م: «ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها».

وَالأُخْرَى، لَا تَحِلُّ حَتَّى تَغْتَسِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوَايَتَين. والأُخْرَى، لَا تَحِلُّ حتى تَغْتَسِلَ) حكَى هاتين الرِّوايتَين أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ؛ إحداهما، أنَّها في العِدَّةِ ما لم تَغْتَسِلْ، يُباحُ لزَوْجِها ارْتِجاعُها، ولا يَحِلُّ لغيرِه نِكاحُها. قال أحمدُ: عمرُ، وعليٌّ، وابنُ مسعودٍ، يقولون: قبلَ أن تَغْتَسِلَ مِن الحَيضَةِ الثالثةِ. رُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ. ورُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعثمانَ بنِ عَفَّانَ؛ وأبي مُوسَى، وعُبادَةَ، وأبي الدَّرْداءِ، رَضِي اللهُ عنهم. قال شَرِيكٌ: له الرَّجْعَةُ وإن فَرَّطَتْ في الغُسْلِ عِشْرِينَ سنةً. قال أبو بكرٍ: ورُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّها في عِدَّتِها، ولزَوْجِها رَجْعَتُها حتى يَمْضِيَ وقْتُ الصَّلاةِ التي طَهُرَتْ في وَقْتِها. وهذا قولُ الثَّوْرِيِّ. وبه (¬1) قال أبو حنيفةَ إذا انْقَطَعَ الدَّمُ لدُونِ أكثرِ الحَيض، وإنِ انْقَطَعَ لأكْثَرِه، انْقَضَتِ العِدَّةُ بانْقِطاعِه. ووَجْهُ اعتبارِ الغُسْلِ أَنَّه قولُ الأكابرِ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا مُخالفِ لهم في عَصْرِهم، فيكونُ إجْماعًا. ولأنَّها مَمْنُوعةٌ مِن الصَّلاةِ بحُكْمِ حَدَثِ الحَيضِ، فأشْبَهَتِ الحائِضَ. والروايةُ الثانيةُ، أنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بطُهْرِها مِن الحَيضَةِ الثالثةِ، وانْقِطاعِ دَمِها. اخْتاره أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ سَعِيدِ بنِ جُبَير، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ في القَديمِ، لقولِ الله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وقد كَمَلَتِ القُرُوءُ بوُجُوبِ الغُسْلِ عليها، ووُجُوبِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلاةِ، وفِعْلِ الصِّيامِ، وصِحَّتِه منها، ولأنَّه لم (¬1) يَبْقَ حُكْمُ العِدَّةِ في المِيراثِ، ووُقُوعِ الطَّلاقِ بها، واللِّعانِ، والنَّفَقَةِ، وكذلك فيما نحن فيه. قال القاضي: إذا شَرَطْنَا الغُسْلَ، أفادَ عَدَمُه إباحةَ (¬2) الرَّجْعةِ وتَحْرِيمَها على الأزْواجِ، فأمَّا سائِرُ الأحْكامِ، فإنَّها تَنْقَطِعُ بانْقِطاعِ دَمِها. فصل: ومَن قال: القُرُوءُ الأطْهارُ. احْتَسَبَ لها بالطهْرِ الذي طَلَّقَها فيه قَرْءًا، وإن بَقِيَ منه لَحْظَة حَسَبَها قَرْءًا. هذا قولُ كلِّ مَن قال: إنَّ القُروءَ الأطْهارُ. إلَّا الزُّهْرِيَّ، فإنَّه قال: تَعْتَدُّ بثَلاثة قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الذي طَلَّقَها فيه. وحُكِيَ عن أبي عُبَيدٍ، أنَّه إن كان (¬3) جَامَعَها في الطُّهْرِ، لم تَحْتَسِبْ بِبَقِيَّته؛ لأنَّه زَمَن حَرُمَ فيه الطلاقُ، فلم تَحْتَسِبْ به مِن العِدَّةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «لو لم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كزَمَنِ الحيضِ. ولَنا، أنَّ الطَّلاقَ حَرُمَ في زَمَنِ الحَيضِ دَفْعًا لضَرَرِ تَطْويلِ العِدَّةِ عليها، فلو لم تَحْتَسِبْ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ قَرْءًا، كان الطَّلاقُ في الطُّهْرِ أضَرَّ بها وأطْوَلَ عليها، وما ذُكِرَ عن أبي عُبَيدٍ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ تَحْرِيمَ الطَّلاقِ في الحَيضِ لِكَوْنِها لا تَحْتَسِبُ بِبَقِيَّتهِ، فلا يجوزُ أن تُجْعَلَ العِلَّة في عَدَمِ [الاحْتِسابِ تَحْرِيمَ] (¬1) الطَّلاقِ، فتَصِيرَ العِلَّةُ مَعْلُولًا، وإنَّما تَحْرِيمُ الطلاقِ في الطُّهْرِ الذي أصابها فيه لكَوْنِها مُرْتابَةً، ولكَوْنِه لا يأْمَنُ النَّدَمَ بظُهورِ حَمْلِها (¬2)، فأمَّا إنِ انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلاقِ مع انْقِضاءِ الطُّهْرِ، فإنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ في أوَّلِ الحَيضَةِ، ويكونُ مُحَرَّمًا، ولا تَحْتَسِبُ بتلك الحَيضَةِ مِن عِدَّتِها، وتَحْتاجُ أن تَعْتَدَّ بثَلاثِ حِيَضٍ، أو ثَلاثةِ أطْهارٍ ¬

(¬1) في الأصل: «الاختيار يحرم». (¬2) في الأصل: «حكمها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الرِّوايةِ الأُخْرَى. ولو قال لها: أنْتِ طالقٌ في آخرِ طُهْرِكِ. أو: في آخِرِ جُزْءٍ مِن طُهْرِكِ. فإنَّها لا تَحْتَسِبُ الذي وقَعَ فيه الطَّلاقُ؛ لأنَّ العِدَّةَ لا تكونُ إلَّا بعدَ وُقُوعِ الطَّلاقِ، وليس بعدَه طُهْرٌ تَعْتَدُّ به، ولا يجوزُ الاعْتِدَادُ بما قبلَه، ولا بما قارَنَه، ومن جَعَلَ القَرْءَ الحَيضَ، اعْتَدَّ لها بالحَيضَةِ التي تَلِي الطَّلاقَ؛ لأنَّها حَيضَة كاملةٌ لم يَقَعْ فيها طلاقٌ، فوَجَبَ أن تَعْتَدَّ بها قَرْءًا. فإنِ اخْتَلَفَا فقال الزوجُ: وقَعَ الطَّلاقُ في أوَّلِ الحَيضِ. وقالت: بل في آخرِ الطُّهْرِ. أو قال: انْقَضَتْ حُرُوفُ الطَّلاقِ مع انْقِضاءِ الطُّهْرِ. وقالت: بل قد بَقِيَ منه بَقِيَّة. فالقولُ قولُها؛ لأنَّ قولَها مقْبولٌ في الحَيضِ وفي انْقِضاءِ العِدَّةِ.

3855 - مسألة: (والرواية الثانية، القروء الأطهار، وتعتد بالطهر الذي طلقها فيه قرءا، فإذا طعنت في الحيضة، الثالثة، حلت)

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، الْقُرُوءُ الأطْهَارُ. وتَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذي طَلَّقَهَا فِيهِ قَرْءًا، ثُمَّ إِذَا طَعَنَتْ في الْحَيضَةِ الثَّالِثَةِ، حَلَّتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3855 - مسألة: (والرِّوايَةُ الثَّانِيَةُ، القُرُوءُ الأطْهَارُ، وتَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الذِي طَلَّقَها فِيه قَرْءًا، فإذا طَعَنَتْ في الحَيضَةِ، الثَّالِثَةِ، حَلَّتْ) إذا طَلَّقَها وهي طاهِرٌ، انْقَضَتْ عِدَّتُها برُويةِ الدَّمِ مِن الحَيضَةِ. الثالثةِ، وإن طَلَّقَها حائِضًا، انْقَضَتْ برُويةِ الدَّمِ مِن الحَيضَةِ الرَّابعةِ. وهذا قولُ زَيدِ بنِ ثابِتٍ، وابنِ عمرَ، وعائشةَ، والقاسمِ بنِ محمدٍ، وسالمِ بنِ عبدِ اللهِ، وأبانَ بنِ عُثمانَ، ومالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعيِّ. وحُكِيَ عنه قولٌ آخَرُ، لا تَنْقَضِي العِدَّةُ حتى يَمْضِيَ مِن الدَّمِ يومٌ وليلةٌ؛ لجَوَازِ (¬1) أن يكونَ الدَّمُ دَمَ فَسادٍ، فلا يُحْكَمُ بانْقِضاء العِدَّةِ حتى يَزُولَ الاحْتِمالُ. وحَكَى القاضي هذا احْتِمالًا في مذْهَبِنا أَيضًا. ولَنا، أنَّ الله تَعالى جعلَ العِدَّةَ ثَلاثةَ قُروءٍ، فالزِّيادةُ عليها مُخالفةٌ للنَّصِّ، فلا يُعَوَّلُ عليه، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابةِ، رواه الأثْرَمُ عنهم ¬

(¬1) في الأصل: «نحو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه، ولَفْظُ حديثِ زَيدِ بنٍ ثابِتٍ: إذا دَخَلَتْ في الدَّمِ مِن الحَيضةِ الثالثةِ، فقد بَرِئَتْ منه، وبَرِء منها، ولا تَرِثُه ولا يَرِثُها (¬1). وقولُهم: إنَّ الدَّمَ يجوزُ أن يكونَ دَمَ فسادٍ. قُلْنا: قد حُكِمَ بكَوْنِه حَيضًا في تَرْكِ الصَّلاةِ، وتَحْرِيمِها على الزَّوْجِ، وسائِرِ أحْكامِ الحَيضِ، فكذلك في انْقِضاءِ العِدَّةِ. ثم إن كان التَّوَقُّفُ عن الحُكْمِ بانْقِضاءِ العِدَّةِ للاحْتِمالِ، فإذا تَبَيَّنَ أنَّه حَيضٌ، عَلِمْنا أنَّ العِدَّةَ قد انْقَضَتْ حينَ رأتِ الدَّمَ، كما لو قال لها: إن حِضْتِ فأنْتِ طالِقٌ. واخْتَلَفَ القائلُون بهذا القولِ، فمنهم مَن قال: اليومُ والليلةُ مِن العِدَّةِ؛ لأنَّه دَم تَكْمُلُ به العِدّةُ، فكان منها، كالذي في أثْناء الأطْهارِ. ومنهم مَن قال: ليس منها، إنَّما يتَبَيَّنُ به انْقِضاؤُها؛ لأنَّنا لو جَعَلْناه منها، أوْجَبْنا الزِّيادَةَ على ثَلاثةِ قُروءٍ، ولكِنَّا نَمْنَعُها مِن النِّكاحِ حتى يَمْضِيَ يومٌ وليلةٌ، ولو راجَعَها زَوْجُها فيها، لم تَصِحَّ الرَّجْعةُ. وهذا أصَحُّ الوَجْهَين. فصل: وكلُّ فُرْقَةٍ بينَ زَوْجَين في الحياةِ بعدَ الدُّخُولِ، فَعِدَّةُ المرأةِ منها عِدَّةُ الطَّلاقِ، سواءٌ كانت بخُلْعٍ، أو لِعانٍ، أو رَضاعٍ، أو فَسْخٍ بعَيبٍ، أو إعْسارٍ، أو إعْتاقٍ، أو اخْتِلافِ دِينٍ، أو غيرِه، في قولِ أكثرِ ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 577. والإمام الشافعي، انظر الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب مسند الشافعي 2/ 59. والبيهقي، في: باب ما جاء في قوله عزَّ وجلَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 415.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّ عِدَّةَ المُلاعِنَةِ تِسْعَةُ أشْهُرٍ. وأبي ذلك سائِرُ أهْلِ العلمِ، وقالوا: عِدَّتُها عدَّةُ الطَّلاقِ، لأنَّها مُفارِقَةٌ في الحياةِ، أشْبَهَتِ المُطَلَّقَةَ. وأكثرُ أهلِ العلمِ يقُولُون: عِدَّةُ المُخْتَلِعَةِ عدَّةُ المُطَلَّقةِ؛ منهم سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، والحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادةُ، وخِلاسُ بنُ عمرٍو، وأبو عِيَاض، ومالكٌ، [واللَّيثُ] (¬1)، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ. ورُوِيَ عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وابنِ عمرَ، وابنِ عَبَّاس، وأبانَ بنِ عثمانَ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ، أنَّ عِدَّةَ المُخْتَلِعَةِ حَيضَةٌ. ورواه ابنُ القاسمِ عن أحمدَ؛ لِمَا روَى ابنُ عباس، أنَّ امرأةَ ثابتِ بنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ منه، فجَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِدَّتَها حَيضَةً. روَاهُ النَّسَائِيُّ (¬2). وعن رُبَيِّع بنتِ مُعَوِّذٍ مثلُ ذلك، ولأنَّ عُثمانَ قَضَى به. رواه النَّسائِيُّ، وابنُ ماجَه (¬3). ولَنا، قولُ اللهِ تعالي: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. ولأنَّها فُرْقَةٌ بعدَ الدُّخولِ في الحياةِ، فكانت ثلاثةَ قُرُوءٍ، كغيرِ الخُلْعِ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَرْءُ الأمَةِ حَيضَتَانِ» (¬4). عامٌّ، وحَدِيثُهم يَرْويه عِكْرِمَةُ مُرْسَلًا. قال ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب عدة المختلعة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 153. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الخلع، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 516. (¬3) أخرجه النسائي، في: باب عدة المختلعة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 153، 154. وابن ماجه، في: باب عدة المختلعة، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 663، 664. (¬4) انظر ما تقدم تخريجه في 22/ 308، 309.

فصْلٌ: الرَّابع، اللَّائِي يَئسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ إِنْ كُنَّ حَرَائِر، وَإنْ كُنَّ إِمَاءً فَشَهْرَانِ. وَعَنْهُ، ثَلَاثَة. وَعَنْهُ، شَهْرٌ وَنِصْفٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بكرٍ: هو ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ. وقولُ عُثمانَ وابنِ عَباسٍ، قد خالفَه قولُ عمرَ وعليٍّ، فإنَّهما قالا: عِدَّتُها ثلاثُ حِيَض. وقَوْلُهما أَوْلَى. وأمَّا ابنُ عمرَ، فقد روَى مالِكٌ (¬1)، عن نافعٍ، عنه، أنَّه قال: عِدَّةُ المُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ المُطَلَّقَةِ. وهو أصَحُّ عنه. فصل: (الرَّابعُ، اللَّائي يَئسْنَ مِن المَحِيضِ، واللَّائِي لم يَحِضْنَ، فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشْهُر إن كُنَّ حَرائِرَ، وإن كُنَّ إماءً فَشَهْران. وعنه، ثلاثةٌ. وعنه، شَهْرٌ ونِصْفٌ) أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ عِدَّةَ الحُرَّة الآيِسَةِ والصَّغِيرَةِ التي لم تَحِضْ ثلاثُةُ أشْهُرٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} ¬

(¬1) في: باب طلاق المختلعة، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 565.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1). فإن كان الطَّلاقُ في أوَّلِ الشَّهْرِ، اعْتُبِرَ ثلاثةُ أشْهُر بالأهِلَّةِ؛ لقولِ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬2). وقال سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (¬3). ولم يخْتلفِ الناسُ في أنَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ مُعْتَبَرة بالأهِلَّةِ. وإن وقَعَ الطَّلاقُ في أثْناءِ شَهْرٍ، اعْتَدَّتْ بقِيَّتَه، ثم اعْتَدَّتْ شهْرَين بالأهِلَّةِ، ثم. اعْتَدَّتْ مِن الشَّهْرِ الثالِثِ تَمامَ ثلاثِين يَوْمًا. وهذا مذهبُ مالكٍ، والشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: تَحْسِبُ بَقِيَّةَ الأوَّلِ، وتَعْتَدُّ مِن الرَّابعِ بقَدْرِ ما فَاتَها مِن الأوَّلِ، تامًّا كان أو ناقِصًا؛ لأنَّه لو كان مِن أوَّلِ الهِلالِ، كانت العِدَّةُ بالأهِلَّةِ، فإذا كان مِن بعضِ الشَّهْر، وجَبَ فَضاءُ ما فاتَ منه: وخَرَّجَ أصْحابُنا وجْهًا ثانيًا، أنَّ جميعَ الشُّهورِ مَحْسُوبَة بالعَدَدِ. وهو قول ابنِ بنتِ الشافعيِّ؛ لأنَّه إذا حُسِبَ الأوَّلُ بالعَدَدِ، كان ابْتِداءُ الثاني مِن نِصْف ¬

(¬1) سورة الطلاق 4. (¬2) سورة البقرة 189. (¬3) سورة التوبة 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهْرِ، وكذلك الثالثُ. ولَنا، أنَّ الشَّهْرَ يقعُ على ما بينَ الهِلَالين وعلى الثَّلاثِين، ولذلك إذا غُمَّ الشَّهْرُ كُمِّلَ ثَلاثين، والأصْلُ الهِلالُ، فإذا أمْكَنَ اعْتِبارُ الهِلَالِ اعْتُبِرَ، وإذا تَعَذَّرَ رُجِعَ إلى العَدَدِ. وفي هذا انْفِصالٌ عمَّا ذُكِرَ لأبي حنيفةَ. وأمَّا التَّخْرِيجُ الذي ذُكِرَ لأصْحابِنَا، فإنه لا يَلْزَمُ إتْمامُ الشَّهْرِ الأوَّلِ مِن الثاني، ويجوزُ أن يكونَ تَمامُه مِن الرَّابعِ. فصل: وتُحْسَبُ العِدَّةُ مِن السَّاعةِ التي فارَقَها زَوْجُها فيها، فلو فارَقَها نِصْفَ النَّهارِ، أو نِصْفَ اللَّيلِ، اعْتَدَّتْ مِن ذلك الوقتِ إلى مِثْلِه. في (¬1) قولِ أكثرَ [أهلِ العلمِ] (¬2). وقال [أبو عبدِ الله] (¬3) ابنُ حامدٍ: لا تَحْتَسبُ بالسَّاعاتِ، وإنَّما تَحْتَسِبُ بأوَّلِ اللَّيلِ والنَّهارِ، فإذا طَلقَها نَهارًا، احْتَسَبَتْ مِن أوَّلِ اللَّيلِ الذي يليه، وإن طَلَّقَها ليلًا، احْتَسَبَتْ مِن أوَّلِ النهارِ الذي يليه. وهذا قولُ مالكٍ؛ لأنَّ حِسابَ السَّاعاتِ يَشُقُّ، فسَقَطَ اعْتِبارُه. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. فلا تجوزُ الزيادةُ عليها بغيرِ دَلِيلٍ، وحِسابُ السَّاعاتِ مُمْكِن، إما يَقِينًا وإمَّا اسْتِظْهارًا، فلا وَجْهَ للزِّيادَةِ على ما أوْجَبَه اللهُ تعالى. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ في عِدَّةِ الأمَةِ، فأكثَرُ الرِّواياتِ عنه، أنَّها شَهْران، ¬

(¬1) بعده في تش: «ظاهر». (¬2) في تش: «العلماء». (¬3) زيادة من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. رواه عنه جماعةٌ مِن أصْحابِه، واحْتَجَّ فيه بقولِ عمرَ، رَضِيَ الله عنه: عِدَّةُ أُمِّ الوَلَدِ حَيضَتان، ولو لم تَحِضْ كانت عِدَّتُها شَهْرَينِ. رواه الأثْرَمُ عنه بإسْنادِه (¬1). وهذا قولُ (¬2) عَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، وإسْحاقَ، وأحَدُ أقْوالِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأشْهُرَ بَدَلٌ مِن القُرُوءِ، وعِدَّةُ ذاتِ القروءِ قَرْءانِ، فبَدَلُهما شَهْران، ولأنَّها مُعْتَدَّة بالشُّهورِ مِن غيرِ الوَفاةِ، فكان عدَدُها كعَدَدِ القُروءِ، لو كانت ذاتَ قُرُوءٍ، كالحُرَّةِ. والرِّوايةُ الثانيةُ، أنَّ عِدَّتَها شَهْر ونِصْف. نقَلَها المَيمُونِيُّ، والأثْرَمُ، واخْتارَها أبو بكرٍ. وهذا قولُ عليٍّ، - رضي الله عنه -. ورُويَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وابنِ المُسَيَّبِ، وسالم، والشَّعْبِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي. وهو قولٌ ثانٍ (2) للشافعيِّ؛ لأنَّ عِدَّةَ الأمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الحُرَّةِ، وعِدَّةُ الحُرَّةِ ثَلاثةُ أشْهُرٍ، فنِصْفُها شَهْرٌ ونِصْفٌ، وإنَّما كَمَّلْنا لذاتِ الحَيضِ حيضَتَين؛ لتَعَذُّرِ تَبْعِيضِ الحَيضَةِ، فإذا صِرْنا إلى الشُّهورِ، أمْكَنَ التَّنصِيفُ، فوَجَبَ المَصِيرُ إليه، كما في عِدَّةِ الوَفاةِ، ويصيرُ هذا كالمُحْرِمِ، إذا وَجَبَ عليه في جَزاءِ الصَّيدِ نِصْفُ مُدٍّ، [أمْكَنَه إخْراجُه] (¬3)، فإن أراد الصِّيامَ مَكانَه، صامَ يَوْمًا كاملًا. ولأنَّها عِدَّةٌ أمْكَنَ ¬

(¬1) وأخرجه الإمام الشافعي، انظر الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 57. وأخرجه عبد الرزاق، في: باب عدة الأمة، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 221. وسعيد بن منصور، في: باب الأمة تطلق فتعتق في العدة، من كتاب الطلاق. سنن سعيد بن منصور 1/ 303. والبيهقي، في: باب عدة الأمة، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 425. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «مكيل أخرجه».

3856 - مسألة: (وعدة أم الولد عدة الأمة)

وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ عِدَّةُ الأَمَةِ، وَعِدَّةُ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا بِالْحِسَابِ مِنْ عِدَّةِ حُرَةٍ وَأَمةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَنْصِيفُها، فكانت على النِّصْفِ مِن عِدَّةِ الحُرَّةِ، كعِدَّةِ الوَفاةِ. والثالثةُ، أنَّ عليها ثلاثةَ أشْهُرٍ. رُوِيَ ذلك عن الحسنِ، ومُجاهِدٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، ويَحْيى الأنْصَارِيِّ، ورَبِيعةَ، ومالكٍ. وهو القوْلُ الثالثُ للشافعيِّ؛ لِعُمُومِ قولِه تعالى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. ولأنَّ اعْتِبارَ الشُّهُورِ ههُنا للعِلْمِ ببَرَاءَةِ رَحِمِها، ولا يَحْصُلُ هذا بدُونِ ثَلاثةِ أشْهُرٍ في الحُرَّةِ والأمَةِ جميعًا؛ لأنَّ الحَمْل يكونُ نُطْفَةً أرْبَعِينَ يومًا، وعَلَقَةً أرْبَعِين يومًا، ثم يَصِيرُ مُضْغَةً، ثم يتَحَرَّكُ، ويَعْلُو بَطْنُ المرأةِ، فيَظْهَرُ الحَمْلُ، وهذا مَعْنى لا يخْتلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ. ومَن رَدَّ هذه الرِّوايةَ قال: هي مُخالِفةٌ لإجْماعِ الصَّحابةِ؛ لأنَّهم اخْتَلَفوا على القَوْلَين الأوَّلَينِ، ومتى اخْتَلَفَ الصَّحابةُ على قَوْلَين، لم يَجُزْ إحْداثُ قولٍ ثالِثٍ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَخْطِئتِهِم، وخُرُوجِ الحَقِّ عن قولِ جَمِيعِهم، ولا يجوزُ ذلك، ولأنَّها مُعْتَدَّةٌ بغيرِ الحَمْلِ، فكانت دونَ عِدَّةِ الحُرَّةِ، كذاتِ القُرُوءِ المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها. 3856 - مسألة: (وعِدَّةُ أُمِّ الوَلَدِ عِدَّةُ الأمَةِ) لأنَّها أمَة مَمْلُوكةٌ (وعِدَّةُ المُعْتَقِ بَعْضُها بالحِسابِ مِن عِدَّةِ حُرَّةٍ وأمَةٍ) أمَّا إذَا اعْتَدَّتْ

3857 - مسألة: (وحد الإياس خمسون سنة. وعنه، أن ذلك حده في نساء العجم، وحده في نساء العرب ستون سنة)

وَحَدُّ الإياسِ خَمْسُونَ سَنَةً. وَعَنْهُ، أنَّ ذَلِكَ حَدُّهُ في نساءِ الْعَجَمِ، وَحَدُّهُ في نِسَاءِ الْعَرَبِ سِتُّونَ سَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحَمْلِ أو بالقُروءِ، فعِدَّتُهَا كعِدَّةِ الحُرَّةِ؛ لأنَّ عِدَّةَ الحاملٍ لا تَخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، وعِدَّةُ الأمَةِ بالقُروء قَرْءان، فأدْنى ما يكونُ فيها مِن الحُرِّيَّةِ يُوجِبُ قَرْءًا ثالِثًا؛ لأنَّه لا يَتَبَعَّضُ، وإن كانت عِدَّتُها بالشُّهُورِ للوَفاةِ، وكان بَعْضُها (¬1) حُرًّا، اعْتَدَّتْ بثلاثةِ شُهُورٍ وثمانيةِ أيام، وإذا كان نِصْفُها حُرًّا، فعِدَّتُها ثلاثةُ أرْباعِ عِدَّةِ الحُرَّةِ. فإن قُلْنا: عِدَّةُ الأمَةِ شَهْران. فعِدَّتُها شَهْران ونِصْفٌ. وإن قُلْنا: شَهْرٌ ونِصْفُ. فعِدَّتُها شَهْران وسَبْعَةُ أيام ونِصْفٌ. وإن قُلْنا: عِدَّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ. فهي كالحُرَّةِ. 3857 - مسألة: (وحَدُّ الإِياسِ خَمْسُون سَنَةً. وعنه، أنَّ ذلك حَدُّه في نِساءِ العَجَمِ، وحَدُّه في نِساءِ العَرَبِ سِتُّون سَنَةً) اخْتُلِفَ عن أحمدَ في السِّنِّ الذي تَصِيرُ به المرأةُ مِن الآيِساتِ، فعنه، أوَّلُه خَمْسُون سنةً؛ لأنَّ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: لن تَرَى المرأةُ في بَطْنِها ولدًا بعدَ خمسين ¬

(¬1) في ق، م: «نصفها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سنةً. وعنه، إن كانت مِن نِساءِ العَجَم فخمْسُون سنةً، وإن كانت مِن نِساءِ العَرَبِ فسِتُّون؛ لأنَّهُنَّ أقْوَى جِبِلًّةً وطَبيعَةً. وقد ذَكَرَ الزُّبَيرُ بنُ بَكَّارٍ، في كتابِ «النَّسَبِ»، أنَّ هندًا بنتَ أَبي عُبَيدَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ زَمْعةَ، ولَدَتْ مُوسَى بنٍ عبدِ اللهِ بنِ حسنِ [بنِ حسنِ] (¬1) بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ولها سِتُّون سنة. وقال: يقالُ: إَّنه لن تَلِدَ بعدَ خمسين سنةً إلَّا عَرَبِيَّةٌ، ولا تَلِد لِستِّين إلَّا قُرَشِيَّةٌ. وللشافعيِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الذي يُتَيَقَّنُ أنَّها إذا بَلَغَتْه لم تَحِضْ. قال بعضُهم: هو اثْنَان وسِتُّون سنةً. والثاني، يُعْتَبَرُ السِّنُّ الذي يَيأسُ فيه نِساءُ عَشِيرَتِها؛ لأنَّ الظّاهِرَ أنَّ نَشْأها ¬

(¬1) سقط من: الأصل، وفي تش: «بن حسين». ويعدل ما ورد في 2/ 388، كما أثبتناه هنا. وانظر الخبر في: مقاتل الطالبيين 390، زهر الآداب 1/ 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كنَشْئِهِنَّ، وطَبْعَها كطَبْعِهِنَّ. وقال شيخُنا (¬1): الصَّحِيحُ، إن شاءَ الله تعالى، أنَّه متى بلغَتِ المرأةُ خَمْسِين سنةً، فانْقَطَعَ حَيضُها عن عادَتِها مَرّاتٍ لغيرِ سَبَبٍ، فقد صارَتْ آيِسَةً؛ لأنَّ وُجُودَ الحَيضِ في حَقِّ هذه نادِرٌ، بدَلِيلِ قولِ عائشةَ، وقِلَّةِ وُجُودِه، فإذا انْضَمَّ إلى هذا انْقِطاعُه عن العاداتِ مَرَّاتٍ، حَصَلَ اليَأْسُ مِن وُجُودِه، فلها حِينَئِذٍ أن تَعْتَدَّ بالأشْهُرِ، وإنِ انْقَطَعَ قبلَ ذلك، فحُكْمُها حُكْمُ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ الله تَعالى. وإن رأتِ الدَّمَ بعدَ الخَمْسِين، على العادَةِ التي كانت [تَراه فيها، فهو حَيضٌ، في الصَّحِيحِ؛ لأنّ دلِيلَ الحَيضِ الوُجودُ في زَمَنِ الإمْكانِ، وهذا يُمْكِنُ وُجُودُ الحَيضِ فيه وإن كان] (¬2) نادِرًا. وإن رَأَته بعدَ السِّتِّين، فقد تُيُقِّنَ أنَّه ليس بِحَيضٍ، فعندَ ذلك لا ¬

(¬1) في المغني 11/ 211. (¬2) سقط من: الأصل.

3858 - مسألة: (وإن حاضت الصغيرة في عدتها، انتقلت إلى القروء، ويلزمها إكمالها)

وَإنْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ في عِدَّتِهَا، انْتَقَلَتْ إِلَى الْقُرُوءِ، وَيَلْزَمُهَا إِكْمَالُهَا. وَهَلْ يَحْسِبُ مَا قَبْلَ الحَيضِ قَرْءًا إِذَا قُلْنَا: الْقُرُوءُ الْأطْهَارُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعْتَدُّ به، وتعْتَدُّ بالأشْهُرِ، كالتي لا تَرَى دَمًا. وأمَّا أقَل سِنٍّ تَحِيضُ له المرأةُ، فقد ذَكَرْناهُ في بابِ الحَيضِ، وذَكَرْنا دَلِيلَه (¬1). فإن رَأَته قبلَ ذلك، اعْتَدَّتْ بالأشْهُرِ، وإن رَأَته بعدَ ذلك، فالمُعْتَبَرُ مِن ذلك ما تَكَرَّرَ ثلاثَ مَرَّاتِ في حالِ الصِّحَّةِ، وإن لم يُوجَدْ ذلك لم تَعْتَدَّ به. 3858 - مسألة: (وإن حاضَتِ الصَّغِيرَةُ في عِدَّتِها، انْتَقَلَتْ إلى القُروءِ، ويَلْزَمُها إكْمالُها) وجملةُ ذلك، أن الصَّغيرةَ التي لم تَحِضْ إذا اعْتَدَّتْ بالشهُورِ فحاضَتْ قبلَ انْقِضاء عِدَّتِها ولو بساعةٍ، لَزِمَها استئنافُ العِدَّةِ بالأقْراءِ في قولِ عامَّةِ فُقهاءِ الأَمْصارِ؛ منهم سعيدُ بن المُسَيَّبِ، ¬

(¬1) انظر 2/ 384 - 386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصْحابُ الرَّأْي، وأهلُ المدِينَةِ، وأهلُ البَصْرَةِ؛ وذلك لأنَّ [الشُّهورَ بَدَلٌ عن الحِيَضِ، فإذا] (¬1) وُجِدَ المُبْدَلُ بَطَلَ حُكْمُ البَدَلِ، كالتَّيَمُّم مع الماءِ، ويَلْزَمُها أن تَعْتَدَّ بثلاثِ حِيَض إن قُلْنا. القُروءُ الحِيَضُ. وإن قُلنا: القُروءُ الأطْهارُ. فهل تَعْتَدُّ بما مَضَى مِن الطُّهْرِ قَبلَ الحَيضِ قَرْءًا؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَعْتَدُّ به؛ لأنَّه طُهْرٌ انْتَقَلَتْ منه إلى حَيضٍ، فأشْبَهَ الطُّهْرَ بينَ الحَيضَتَين. والثاني، لا تَعْتَدُّ به. وهو ظاهِرُ كلامِ الشافعيِّ؛ لأنَّ القَرْءَ هو الطُّهْرُ بينَ حَيضَتَين، وهذا لم يَتَقَدَّمْه حَيضٌ. فأمَّا إن حاضَتْ بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها بالشُّهُورِ ولو بلَحْظَةٍ، لم يَلْزَمْها اسْتِئْنافُ العِدَّةِ؛ لأنَّه حَدَثَ بعدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ، فأشْبَهَ ما لو حَدَثَ بعدَ طُولِ الفَصْلِ، ولا يُمْكِنُ منعُ هذا الأصْلِ؛ لأنَّه لو صَحَّ مَنْعُه، لم يَحْصُلْ للصَّغرةِ الاعْتِدادُ بالشهورِ بحالٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «المشهور يدل على الحيض وإن قلنا».

3859 - مسألة: (وإن يئست ذات القروء في عدتها، انتقلت إلى عدة الآيسات)

وَإنْ يَئِسَتْ ذَاتُ الْقُرُوءِ في عِدَّتِهَا، انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْآيِسَاتِ، وَإنْ عَتَقَتِ الأمَةُ الرَّجْعِيَّةُ في عِدَّتِهَا، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ، وَإنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3859 - مسألة: (وإن يَئسَتْ ذاتُ القُروءِ في عِدَّتِها، انْتَقَلَتْ إلى عِدَّةِ الآيِساتِ) ثَلاثةِ أشْهُرٍ؛ لأنَّ العِدَّةَ لا تُلَفَّقُ مِن جِنْسَين، وقد تَعَذَّرَ إتْمامُها بالحِيَضِ، فوَجَبَ تَكْمِيلُها بالأشْهُرِ؛ لأنَّها عجَزَتْ عن الأصْلِ، فانْتَقَلَتْ إلى البَدَلِ، كمَن عَجَزَ عن الماءِ، يَنْتَقِلُ إلى التُّراب. فإن ظَهَرَ بها حَمْلٌ مِن الزَّوْجِ، سَقَطَ حُكْمُ ما مَضَى، وبانَ لنا أنَّ ما رَأتْه مِن الدَّمِ لم يَكُنْ حَيضًا؛ لأنَّ الحامِلَ لا تَحِيضُ. ولو حاضَتْ ثَلاثَ حِيَض، ثم ظَهَرَ بها حَمْلٌ، فوَلَدَتْ لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُر منذُ انْقَضَتِ الحَيضَةُ الثالثةُ تبَيَّنَّا أنَّ الدَّمَ ليس بحَيضٍ؛ لأنَّها كانتْ حامِلًا مع رُؤْيَةِ الدَّم، والحامِلُ لا تَحِيضُ. فأمَّا إن حاضَتْ ثَلاثَ حِيَض، ثم ظَهَر بها حَمْل يُمْكِنُ حُدُوثُه بعدَ العِدَّةِ، بأن تَلِدَ لِسِتَّةِ أشْهُر منذُ انْقَضَتْ عِدَّتُها، لم يَلْحَقِ الزوْجَ، وحَكَمْنا بصِحَّةِ الاعْتِدادِ، وكان هذا الولدُ حادِثًا. 3860 - مسألة: (وإن عَتَقَتِ الأمَةُ الرَّجْعِيَّةُ في عِدَّتِها، بَنَتْ على

كَانَتْ بَائِنًا، بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عِدَّةِ حُرَّةٍ، وإن كانت بائِنًا، بَنَتْ على عِدَّةِ أمَةٍ) هذا قولُ الحسنِ، والشَّعْبِيِّ، والضَّحَّاكِ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْي. وهو أحدُ أقْوالِ الشافعيِّ. والقولُ الثاني، تُكْمِلُ عِدَّةَ أمَةٍ، سَواءٌ كانت بائِنًا أو رَجْعِيَّةً. وهو قوْلُ مالكٍ، وأبي ثَوْرٍ، لأنَّ الحُرِّيَّةَ طَرَأتْ بعدَ وُجُوبِ العِدَّةِ عليها، فلا يُعْتَبَرُ (¬1) حُكْمُها، كما لو كانت بائِنًا، أو كما لو طَرَأتْ بعدَ وُجُوبِ الاسْتِبْراءِ، ولأنَّه مَعْنًى يخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، فكان الاعْتِبارُ بحالةِ الوُجُوبِ، كالحَدِّ. وقال عَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادةُ: تَبْنِي على عِدَّةِ حُرَّةٍ بكلِّ حالٍ. وهو القَوْلُ الثالثُ للشافعيِّ؛ لأنَّ سبَبَ العِدَّةِ الكاملةِ إذا وُجِدَ في أثْناءِ العِدَّةِ، انْتَقَلَتْ إليها وإن كانت بائِنًا، كما لو اعْتَدَّتْ بالشُّهُورِ ثم حاضَتْ. ولَنا، أنَّها إذا اعْتِقَتْ وهي رَجْعِيَّةٌ، فقد وُجِدَتِ الحُريَّةُ، وهي زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوَفاةِ لو مات، فوَجَبَ أن تَعْتَدَّ عِدَّةَ الحرِّائرِ، لو أُعْتِقَتْ قبلَ الطَّلاقِ. وإن أُعْتِقَتْ وهي بائنٌ، فلم تُوجَدِ الحُرِّيَّةُ في الزَّوْجِيَّةِ، فلم تَجِبْ عليها عِدَّةُ الحرائرِ، كما لو أُعْتِقَتْ بعدَ مُضِيِّ القَرأَين، ولأنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَنْتَقِلُ إلى عِدُّةِ الوَفاةِ لو مات، فتَنْتَقِلُ إلى عِدَّةِ الحرائرِ. والبائِنُ لا تَنْتَقِلُ إلى عِدَّةِ الوَفاةِ، فلا تَنْتَقِلُ إلى عِدَّةِ الحرائرِ، كما لو انْقَضَتْ عِدَّتُها. وما [ذَكَرْناه لمالِكٍ] (¬2) يَبْطُلُ بما إذا مات زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ، ¬

(¬1) في ق، م: «يغير». (¬2) في م: «ذكره مالك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّها تَنْتَقِل إلى عِدَّةِ الوَفاةِ، والفَرْقُ بينَ ما نحن فيه وبينَ ما إذا حاضَتِ الصَّغيرةُ، أنَّ الشهورَ بَدَلٌ عن الحِيَضِ، فإذا وُجِدَ المُبْدَلُ زال حُكْمُ البَدَلِ، كالمُتَيَمِّمِ يجِدُ الماءَ، وليس كذلك ههُنا، فإن عِدَّةَ الأمَةِ ليست بِبَدَلٍ، ولذلك تَبْنِي الأمَة على ما مَضَى مِن عِدَّتِها اتِّفاقًا، وإذا حاضَتِ الصَّغِيرةُ اسْتَأْنفَتِ العِدَّةَ، فافْتَرَقا. وتخالِفُ الاسْتِبْراءَ؛ فإنَّ الحُرِّيَّةَ لو قارَبَتْ سَبَبَ وُجُوبِه، لم يَكْمُلْ، ألا تَرَى أنَّ أُمَّ الولَدِ إذا مات سَيِّدُها عَتَقَتْ لمَوْتِه، ووَجَب الاسْتِبْراءُ، كما يجبُ على التي لم تَعْتِقْ، ولأنَّ الاسْتِبْراءَ لا يَخْتَلِفُ بالرِّقِّ والحُرِّيَّةِ، بخلافِ مَسْألتِنا. فصل: إذا عَتَقَتِ الأمَةُ تحتَ العَبْدِ فاخْتَارَتْ نَفْسَها، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الحُرَّةِ؛ لأنَّها بانَتْ مِن زَوْجها وهي حرَّة. وروَى الحسن، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بَرِيرَةَ أن تَعْتَدَّ عِدَّةَ الحُرَّةِ (¬1). وإن طَلَّقَها العَبْدُ طَلاقًا رَجْعِيًّا، فأعْتَقَها سَيِّدُها، بَنَتْ على عِدَّةِ حُرةٍ، سَواءٌ فَسَخَتْ أو أقامَتْ على النِّكاحِ؛ لأنَّها عَتَقَتْ في عِدَّةِ رَجْعيَّةٍ. وإن لم تَفْسَخْ، فراجَعَها في عِدَّتِها، فلها الخيارُ بعدَ رَجْعتها، فإنِ اخْتارَتِ الفَسْخَ قبلَ المَسِيسِ، فهل تَسْتَأْنِفُ العِدَّةَ أو تَبْنِي على ما مَضَى مِن عِدَّتِها؟ على وجْهَين. فإن قُلْنا: تَسْتأنِفُ. فإنَّها تَسْتأنِفُ عِدَّةَ حُرَّةٍ. وإن قُلْنا: تَبْنِي. بَنَتْ على عِدةِ حُرَّةٍ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 181.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 361. عن ابن عباس. والبزار، انظر: كشف الأستار 2/ 201. عن عائشة. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 451. عن ابن عباس وعائشة.

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، مَنِ ارْتَفَعَ حَيضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، اعْتَدَّتْ سَنَةً؛ تِسْعَةَ أشْهُرٍ لِلْحَمْلِ، وَثَلَاثَةً لِلْعِدَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (الخامسُ، مَن ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه، اعْتَدَّتْ سنةً؛ تِسْعَةَ أشْهُرٍ للحَمْلِ، وثَلَاثَةً للعِدَّةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجُلَ إذا طَلَّقَ زوْجَتَه، وهي مِن ذواتِ الأقْراءِ، فلم تَرَ الحَيضَ في عادَتِها، ولم تَدْرِ ما رَفَعه، فإنَّها تَعْتَدُّ سنةً؛ تِسْعَةَ أشْهُرٍ منها تَتَرَبَّصُ فيها لتَعْلَمَ بَراءَةَ رَحِمِها؛ لأنَّ هذه غالبُ مُدَّةِ الحَمْلِ، فإذا لم يَبِنِ الحَمْلُ فيها، عُلِمَ بَراءَةُ الرَّحِمِ ظاهِرًا، فتَعْتَدُّ بعدَ ذلك عِدَّةَ الآيِسات، ثَلاثةَ أشْهُرٍ. هذا قولُ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه. قال الشافعيُّ: هذا قضاءُ عمرَ بينَ المُهاجِرين والأنْصارِ، لا يُنْكِرُه منهم مُنْكِر عَلِمْناه. وبه قال مالكٌ، والشافعي في أحَدِ قَوْلَيه. ورُوِيَ ذلك عن الحسنِ. وقال الشافعي في قولٍ آخرَ: تَتَرَبَّصُ أرْبَعَ سِنِينَ، أكثرَ مُدَّةِ الحَمْلِ، ثم ثَعْتَد بثلاثةِ أشْهُرٍ؛ لأنَّ هذه المُدَّةَ هي التي يُتَيَقَّنُ بها بَراءَةُ رَحِمِها، فوَجَبَ اعْتِبارُها احْتِياطًا. وحَكَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شيخُنا مثلَ ذلك في المذهبِ. وقال الشافعيُّ في الجديدِ: تكونُ في عِدَّةٍ أُبدًا حتى تَحِيضَ، أو تَبْلُغَ سِنَّ الإِياسِ، فتَعْتَدُّ حِينَئِذٍ بثَلاثةِ أشْهُرٍ. وهذا قولُ جابرِ بنِ زيدٍ، وعَطاءٍ، وطاوسٍ، والشَّعْبيِّ، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأهْلِ العِرَاقِ؛ لأنَّ الاعْتِدادَ بالأشْهُرِ جُعِلَ بعدَ الإياسِ، فلم يَجُزْ قبلَه، وهذه ليست آيِسَةً، ولأنَّها تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ، فلم تَعْتَدَّ بالشُّهُورِ، كما لو تَباعَدَ حَيضُها لعارِضٍ. ولَنا، الإجْماعُ الذي (¬1) حكَاهُ الشافعيُّ، ولأنَّ الغَرَضَ بالاعْتِدادِ مَعْرِفةُ بَراءَةِ رَحِمِها، وهذا يَحْصُلُ به براءَةُ رَحِمِها، فاكْتُفِيَ به، [ولهذا اكْتُفِيَ] (¬2) في حَقِّ ذاتِ القُرُوءِ بثلاثةِ قُرُوءٍ، وفي حَقِّ الآيسَةِ بثلاثةِ أشْهُرٍ، ولو رُوعِيَ اليَقِينُ لاعْتُبِرَ أقْصَى مُدَّةِ الحَمْلِ، ولأنَّ عليها في تَطْويلِ العِدَّةِ (¬3) ¬

(¬1) بعده في م: «ذكرناه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «المدة».

3861 - مسألة: (وإن كانت أمة، اعتدت أحد عشر شهرا)

وَإنْ كَانَتْ أمَةً، اعْتَدَّتْ بِأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَيَحْتَمِلُ أنْ تَقْعُدَ لِلْحَمْلِ أرْبَعَ سِنِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَرَرًا، فإنَّها تُمْنَعُ مِن الأزْواجِ، وتُحْبَسُ (¬1) دائِمًا، ويتَضَرَّرُ الزَّوْجُ بإيجابِ السُّكْنَى والنَّفَقَةِ عليه. وقد قال ابنُ عبّاسٍ: لا تُطَوِّلُوا عليها الشُّقَّةَ، كَفَاها تِسْعَةُ أشْهُرٍ. فإن قِيلَ: فإذا مَضَت تِسْعَةُ أشْهُرٍ، فقد عُلِمَ بَراءَةُ رَحِمِها ظاهِرًا، فلِمَ اعْتَبَرْتُم بثلاثةِ أشْهُرٍ بعدَها؟ قُلْنا: الاعْتِدادُ بالقُرُوءِ والأشْهُرِ إنَّما يكونُ عندَ عَدَمِ الحَمْلِ، وقد تَجِبُ العِدَّةُ مع العِلْمِ ببَراءَةِ الرَّحِمِ، بدَلِيلِ ما لو عَلَّقَ طَلَاقَها بوَضْعِ الحَمْلِ، فوَضَعَتْه، وقَعَ الطَّلاقُ، ولَزِمَتْها العِدَّةُ. 3861 - مسألة: (وإن كانت أمَةً، اعْتَدَّتْ أحَدَ عَشَرَ شَهْرًا) تِسْعَةَ أشْهُرٍ للحَمْلِ وشَهْرَين للعِدَّةِ. وهذا مَبْنِيٌّ على أنَّ الحُرَّةَ تَعْتَدُّ بتِسْعَةِ أشْهُرٍ للحَمْلِ، وثلاثةٍ للعِدَّةِ، على ما ذكَرْنا في المَسْأَلةِ قبلَها، وأنَّ عِدَّةَ الأمَةِ شَهْران؛ لأنَّ مُدَّةَ الحملِ تَتَساوَى فيها الحُرَّةُ والأمَةُ؛ لكَوْنِه أمْرًا حَقِيقِيًّا، فإذا يَئسَتْ مِن الحَمْلِ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ آيِسَةٍ شَهْرَين. وعلى قوْلِنا: إنَّ عِدَّةَ الأمَةِ شَهْرٌ ونِصْفٌ. تكونُ عِدَّتُها عَشَرَةَ أشْهُرٍ ونِصْفًا. ومَن جَعَل عِدَّتَها ثلاثةَ أشْهُرٍ، فهي كالحُرَّةِ سَوَاءً. ¬

(¬1) في الأصل: «تجلس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن عاد الحَيضُ إليها في السَّنَةِ، ولو في آخِرِها، أو عادَ إلى الأمَةِ قبلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، على ما فيها مِن الاخْتِلافِ، لَزِمَها الانْتِقَالُ إلى القُروءِ؛ لأنَّها الأصْلُ، فبَطَلَ بها حُكْمُ البَدَلِ، وإن عادَ بعدَ مُضِيِّها ونِكاحِها، لم تَعُدْ إلى القُرُوءِ؛ لأنَّ عِدَّتَها انْقَضَتْ، وحَكَمْنا بصِحَّةِ نِكاحِها، فلم تَبْطُلْ، كما لو اعْتَدَّتِ الصَّغيرَةُ بثَلاثةِ أشْهُرٍ، وتَزَوَّجَتْ، ثم حاضَتْ. وإن حاضَتْ بعدَ السَّنَةِ وقبلَ نِكاحِها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا تَعُودُ؛ لأنَّ العِدَّةَ انْقَضَتْ بالشُّهُورِ، فلم تَعُدْ (¬1)، كالصَّغِيرةِ. والثاني، تَعُودُ؛ لأنَّها مِن ذَواتِ القُروءِ، وقد قَدَرَتْ على المُبْدَلِ قبلَ تَعَلُّقِ حَقِّ زَوْجٍ بها، فَلَزِمَها العَوْدُ، كما لو حاضَتْ في السَّنَةِ. فصل: فإن حاضَتْ حَيضَةً، ثم ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه، فهي كالمَسْأَلةِ التي قبلَها، تَعْتَدُّ سَنَةً مِن وقتِ انْقِطاعِ الحَيضِ؛ وذلك لِما رُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال في رَجُلٍ طَلَّقَ امرأتَه، فحاضَتْ حَيضَةً أو حَيضَتَين، فارْتَفَعَ حَيضُها، لا تَدْرِي ما رَفَعَه: تَجْلِسُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ، فإن لم يَسْتَبِنْ بها حَمْلٌ، تَعْتَدُّ بثلاثةِ أشْهُرٍ (¬2). فذلك سَنَةٌ. ولا ¬

(¬1) في م: «تعتد». (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب جامع عدة الطلاق، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 582. والإمام الشافعي، انظر: الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب مسند الشافعي 2/ 58. وعبد الرزاق، في: باب المرأة يحسبون أن يكون الحيض قد أدبر عنها، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 339. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يطلق المرأة فترتفع حيضتها، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 209. والبيهقي، في: باب عدة من تباعد حيضها، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 419، 420.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَعْلَمُ له مُخالِفًا. قال ابنُ المُنْذِرِ: قَضَى به عمرُ بينَ المُهاجِرين والأنْصار، لا يُنْكِرُه مُنْكِرٌ. وقال الأثْرَمُ: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْئَلُ عن الرجلِ يُطَلِّقُ امرأتَه، فتَحِيضُ حَيضَةً، ثم [يَرْتَفِعُ حَيضُها] (¬1)؟ قال: أذْهَبُ إلى حَديثِ عمرَ: إذا رُفِعَتْ (¬2) حَيضَتُها فلم تَدْرِ بما ارْتَفَعَتْ، فإنَّها تَنْتَظِرُ سَنَةً. قِيلَ له: فحاضَتْ دُونَ السَّنَةِ؟ فقال: تَرْجِعُ إلى الحَيضِ. قِيلَ له: فإنِ ارْتَفعَتْ حَيضَتُها أيضًا (¬3) لا تَدْرِي ممَّا ارْتَفَعَتْ؟ قال: تقْعُدُ سَنَةً أُخْرَى. وهذا قولُ كلِّ مَن وافَقَنا في المَسْأَلةِ قبلَها؛ وذلك لأنَّها لمَّا ارْتَفعَتْ حَيضَتُها، حَصَلَتْ مُرْتَابةً، فوَجَبَ أن تَنْتَقِلَ إلى الاعْتِدادِ بسَنَةٍ، كما لو ارْتَفَعَ حَيضُها حينَ طَلَّقَها، ووَجَبَ عليها سَنَةٌ كاملةٌ؛ لأنَّ العِدَّةَ لا تُبْنَى على عِدَّةٍ أُخْرَى، ولذلك لو حاضَتْ حَيضَةً أو حَيضَتَينِ، ثم يَئسَتْ، انْتَقَلَتْ إلى ثلاثَةِ أشْهُرٍ كاملةٍ، ولو اعْتَدَّتِ الصغيرةُ شَهْرًا أو شَهْرَين، ثم حاضَتْ، انْتَقَلَتْ إلى ثلاثةِ قُروءٍ. فصل: فإن كانت عادَةُ المرأةِ أن يَتَباعَدَ ما بينَ حَيضَتَيها، لم تَنْقَضِ عِدَّتُها إلَّا بثلاثِ حيضاتٍ وإن طالتْ؛ لأنَّ هذه لم يَرْتَفِعْ حَيضُها، ولم يَتَأخَّرْ عن عادَتِها، فهي مِن ذَواتِ القُروءِ، باقِيَةٌ على عادَتِها، فأشْبَهَتْ ¬

(¬1) في م: «ترتفع حيضتها». (¬2) في الأصل، تش: «رفعتها». (¬3) سقط من: م.

3862 - مسألة: (وعدة الجارية التي أدركت فلم تحض، والمستحاضة الناسية، ثلاثة أشهر. وعنه، سنة)

وَعِدَّة الْجَارِيَةِ الَّتِي أَدرَكَتْ فَلَمْ تَحِضْ، وَالْمُسْتَحَاضَةِ النَّاسِيَةِ، ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ، سَنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن لم يَتَباعَدْ حَيضُها. ولا نَعْلَمُ [في هذا] (¬1) مُخالِفًا. 3862 - مسألة: (وعِدَّةُ الجارِيَةِ التي أدْرَكَتْ فلم تَحِضْ، والمُسْتَحاضَةِ النَّاسِيَةِ، ثَلاثَةُ أشْهُرٍ. وعنه، سَنَةٌ) إذا بلغَتِ الجاريةُ سِنًّا تحيضُ فيه النِّساءُ في الغالبِ، فلم تَحِضْ، كخَمسَ عشْرةَ سنةً، فعِدَّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ، وهذا ظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ، وقولُ أبي بكرٍ. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ. وضَعَّفَ أبو بكرٍ الرِّوايةَ المُخالِفةَ لهذا، وقال: رواها أبو طالبٍ، فخالفَ فيها أصْحابَه، فروَى أبو طالبٍ عن أحمدَ، أنَّها تَعْتَدُّ سنةً. قال القاضي: هذه الرِّوايةُ أصَحُّ؛ لأنَّه متى أتَى ¬

(¬1) في م: «فيه».

3863 - مسألة: وهكذا حكم المستحاضة الناسية. وجملة القول في عدة (1)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها زمانُ الحَيضِ فلم تَحِضْ، حصَلَتْ مُرْتابةً، يجوزُ أن يكونَ بها حَمْلٌ مَنَعَ حَيضَها، فيجبُ أن تَعْتَدَّ بسَنةٍ، كالتي ارْتَفَعَ حَيضُها بعدَ وُجُودِه. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}. وهذه مِن اللَّائِي لم يَحِضْنَ، ولأنَّ الاعْتِبارَ بحالِ المُعْتَدَّةِ لا بحالِ غيرِها، ولهذا لو حاضَتْ قبلَ بُلُوغِ سِنٍّ تَحِيضُ لمِثْلِه النِّساءُ في الغالبِ، مثل أن تَحِيضَ لعَشْرِ سِنِينَ، اعْتَدَّت بالحِيَضِ، وفارَقَ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها، فإنَّها مِن ذَواتِ القُروءِ. 3863 - مسألة: وهكذا حُكْمُ المُسْتَحاضَةِ النَّاسِيَةِ. وجملةُ القولِ في عِدَّةِ (1) المُسْتَحاضَةِ، وهي لا تَخْلُو إمَّا أن تكونَ لها حَيضٌ مَحْكُومٌ به (1) بعادةٍ أو تَمْيِيزٍ أو لا؛ فإن كان لها حَيضٌ (1) مَحْكُومٌ به، فحكمُها فيه حُكْمُ غيرِ المُسْتحاضَةِ، إذا مَرَّتْ لها ثلاثةُ قُرُوءٍ، فقد انْقَضَتْ عِدَّتُها. قال أحمدُ: المُسْتحاضَةُ تَعْتَدُّ أيامَ أقْرائِها التي كانَتْ (¬1) تَعْرِفُ. فإن عَلِمَتْ أنَّ لها في كلِّ شَهْر حَيضةً، ولم تَعْلَمْ مَوْضِعَها، فعِدَّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ. وإن شَكَّتْ في شيء، تَرَبَّصَتْ حتى تَسْتَيقِنَ أنَّ القُروءَ الثلاثَ قد انْقَضَتْ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانتْ مُبْتَدَأةً لا تَمْيِيزَ لها، أو ناسِيَةً لا تَعْرِفُ لها وَقْتًا ولا تميِيزًا، فعن أحمدَ فيها روايتان؛ إحداهما، أنَّ عِدَّتَها ثلاثةُ أشْهُرٍ. وهو قولُ عِكْرِمَةَ، وقَتادةَ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ حَمْنَةَ [بنتَ جَحْش] (¬1) أن تَجْلِسَ في كلِّ شَهْرٍ سِتَّةَ أيام أو سَبْعَةً (¬2). فجَعلَ لها حَيضَةً كلَّ شَهْرٍ، ولأنَّنا نَحْكُمُ لها بحَيضَةٍ في كلِّ شَهْر تَتْرُكُ فيها الصَّلاةَ والصِّيامَ، ويَثْبُتُ فيها سائرُ أحْكام الحَيضِ، فيَجِبُ أن تَنْقَضِيَ بها العِدَّةُ؛ لأنَّ ذلك مِن أحْكَامِ الحَيضِ. والروايةُ الثانيةُ، تَعْتَدُّ سَنَةً بِمَنْزِلَةِ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه. قال أحمدُ: إذا كانت قد اختَلَطَتْ، ولم تَعْلَمْ إقْبال الدَّمِ وإدْبارَه، اعْتَدَّتْ سَنَةً؛ لحديثِ عمرَ؛ لأنَّ به يَتَبَيَّنُ الحَمْلُ. وهو قولُ مالكٍ، وإسْحاقَ؛ لأنَّها لم تَتَيَقَّنْ لها حَيضًا، مع أنَّها مِن ذَواتِ القُرُوءِ، فكانت عِدَّتُها سَنَةً، كالتي ارْتَفَعَ حَيضُها. وعلى الرِّوايةِ الأولَى، يَنْبَغِي أن يُقال: إنَّنا متى حَكَمْنا بأنَّ حَيضَها سَبْعَةُ أيام مِن كلِّ شَهْر، فمَضَى لها شَهْرانِ بالهِلال وسَبْعَةُ أيام مِن أوَّلِ الثالثِ، فقد انْقَضتْ عِدَّتُها. وإن قُلْنا: القُرُوءُ الأَطْهارُ. فطَلَّقَها في آخرِ شَهْرٍ، ثم مَضَى لها شَهْران وهَلَّ الثالثُ، انْقَضَتْ عِدَّتُها. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقديم تخريجه في 2/ 395. ويضاف إليه في تخرج المسند 6/ 381، 382.

3864 - مسألة: (فأما التي عرفت ما رفع الحيض؛ من مرض أو رضاع ونحوه، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به)

فَأَمَّا الَّتِي عَرَفَتْ مَا رَفَعَ الْحَيض؛ مِنْ مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ وَنَحْوهِ، فَلَا تَزَالُ في عِدَّةٍ حَتَّى يَعُودَ الْحَيضُ، فَتَعْتَدُّ بِهِ، إلا أنْ تَصِيرَ آيِسَةً، فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ آيِسَةٍ حِينَئِذٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3864 - مسألة: (فأمَّا التي عَرَفَتْ ما رَفَعَ الحَيضَ؛ مِن مَرَض أو رَضاعٍ ونحْوه، فلا تَزالُ في عِدَّةٍ حتى يَعُودَ الحَيضُ، فَتَعْتَدُّ به) أمَّا إذا عَرَفَتْ أنَّ (¬1) ارْتِفاعَ الحَيضِ بِعارِضٍ مِن مَرَض، أو نِفاسٍ، أو رَضاع، فإنَّها تَنْتَظِرُ زَوال العارِضِ، وَعْودَ الدَّمِ وإن طال، إلَّا أن تَصِيرَ في سِنِّ الإياسِ، وقد ذَكَرْناه، فتَعْتَدُّ حِينَئِذٍ عِدَّةَ الآيِساتِ. وقد روَى الشافعيُّ في «مُسْنَدِه» (¬2) بإسْنادِه، عن حَبَّان بنِ مُنْقِذٍ، أنَّه طَلَّقَ امرأتَه طَلْقَةً واحدَةً، وكان لها منه بُنَيَّةٌ تُرْضِعُها، فتباعَدَ حَيضُها، ومَرِضَ حَبَّان، فقيل له: إنَّك إن مِتَّ وَرِثَتْكَ. فمَضَى إلى عُثمانَ، وعندَه عليٌّ وزيدُ بنُ ثابتٍ، فسأله عن ذلك، فقال عثمانُ لعليٍّ وزيدٍ: ما تَرَيان؟ فقالا: نَرَى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 58.كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب تعتد أقراءها ما كانت، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 340، 341. والبيهقي، في: باب عدة من تباعد حيضها، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 419.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّها إن ماتَتْ وَرِثَها، وإن مات وَرِثَتْه؛ لأنها ليست مِن القَواعِدِ اللَّا ئى يئسْنَ مِن المَحِيضِ، ولا مِن الأبكارِ اللَّائى لم [يبْلُغْنَ المَحِيضَ] (¬1). فرَجَعَ حَبَّان (¬2) إلى أهْلِه، فانتَزَعَ البِنْتَ منها، فعاد إليها الحَيضُ، فحاضَتْ حَيضَتَين، ومات حَبَّان قبلَ انْقِضاءِ الثالثةِ، فوَرَّثَها عثمانُ، رَضِيَ الله عنه. وروَى الأثْرَمُ بإسْنادِه (¬3)، عن محمدِ بنِ يَحْيَى بنِ حَيان، أنه كان عندَ جَدِّهِ امْرأتان؛ هاشِمِيَّة، وأنْصارِية، فطَلَّقَ الأنْصارِيَّةَ وهي مُرْضِع، فمرَّتْ بها سَنَة، ثم هَلَكَ ولم تَحِضْ، فقالتِ الأنْصارِيةُ (2): لم أحِضْ. فاخْتَصَمُوا إلى عثمانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، فقَضَى لها بالمِيراثِ، فلامَتِ الهاشِمِيَّةُ عثمانَ، فقال: هذا عَمَلُ ابنِ عَمِّكِ، هو أشارَ علينا بهذا. يَعْنِي عليَّ بنَ أبي طالب، رَضِيَ الله عنه. ¬

(¬1) في الأصل: «يحضن بتعلق المحيض». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) وأخرجه الإمام مالك، في: باب طلاق المريض، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 572. والإمام الشافعي، في: الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق، من ترتيب المسند 2/ 58، 59. وعبد الرزاق، في: باب تعتد أقراءها ما كانت، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 341، 342. وسعيد بن منصور، في: باب المرأة تطلق تطليقة أو تطليقتين، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 308. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يطلق امرأته فترتفع حيضتها، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 210، 211. والبيهقي، في: باب عدة من تباعد حيضها، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 419.

فَصْلٌ: السَّادِس، امْرأةُ الْمَفْقُودِ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ؛ كَالَّذِي يُفْقَدُ مِنْ بَينِ أهْلِهِ، أوْ فِي مَفَازَةٍ، أوْ بَينَ الصَّفَّينِ إذَا قُتِلَ قَوْمٌ، أوْ مَنْ غَرِقَ مَرْكَبُهُ، وَنَحو ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ أرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (السادسُ، امرأةُ المَفْقُودِ الذي انْقَطَعَ خبرُه لغيبَةٍ ظاهِرُها الهلاكُ، كالذي يفْقَدُ مِن بينِ أهْلِه، أو في مَفازَةٍ) مُهْلِكَة (أو بينَ الصَّفين إذا قُتِلَ قوم، أو مَن غَرِق مَرْكَبُه، ونحو ذلك، فإنَّها تَتَرَبَّصُ أرْبعَ سنين، ثم تَعْتدُّ للوَفاةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا غاب الرجلُ عن امرأته لم يَخْلُ مِن حالينِ؛ أحَدُهما، أن تكونَ غَيبَتُه ظاهِرُها الهلاكُ، كالذي يُفْقَدُ مِن بينِ أهْلِه ليلًا أو نهارًا، أو يَخْرُجُ إلى الصَّلاةِ فلا يَرْجِعُ، أو يَمْضِي إلى مكانٍ قريبٍ ليَقْضِيَ حاجة ويَرْجِعَ، فلا يَظْهَرُ له خَبَر، أو يُفْقَدُ بينَ (¬1) الصَّفَّين، أو مَن انْكَسَرَ مَرْكَبُه فيَغْرَقُ بعضُ رُفْقَتِه، أو يُفْقَدُ في مَهْلَكَهَ، ¬

(¬1) في تش: «من بين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَبَرِّيةِ الحِجَازِ ونحوها، فمذهبُ أحمدَ الظاهِرُ عنه، أنَّ زَوْجَتَه تَتَرَبَّصُ أرْبَعَ سنينَ، أكثرَ مُدةِ الحملِ، ثم تَعْتَدُّ للوَفاةِ أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا، وتَحِل للأزْواجِ. قال الأثْرَمُ: قيل لأبي عبدِ اللهِ: تذْهَبُ إلى حَديثِ عمرَ؟ قال: هو أحْسَنُها، يُرْوَى عن عمرَ مِن ثمانيةِ وُجُوهٍ. ثم قال: زَعَمُوا أن عمرَ رَجَع عن هذا، هؤلاء الكَذَّابِين (¬1). قلتُ: فرُوِيَ مِن وجْهٍ ضعيف أن عمرَ قال بخلافِ هذا؟ قال: لا، إلَّا أن يكونَ إنسان يَكْذِبُ. وقلتُ له مرةً: إن إنْسانًا قال لي: إنَّ أبا عبدِ اللهِ قد تَرَكَ قولَه في المَفْقُودِ بعدَك. فضَحِكَ، ثم قال: مَن تَرَكَ هذا القولَ، أي شيءٍ يقولُ! وهذا قولُ عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وابنِ عباس، وابنِ الزُّبَيرِ. قال أحمدُ: خمسة مِن أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وبه قال عطاء، وعمرُ بنُ عبدِ العَزيزِ، والحسنُ، والزُّهْرِي، وقَتادةُ، والليثُ، وعَلِيُّ بنُ المَدِيني، وعبدُ العَزِيزِ بنُ أبي سَلَمَةَ. وبه قال (¬2) مالِك، والشافعي في القدِيمِ، إلا أن مالِكًا قال: ليس في انْتِظارِ مَن يُفْقَدُ في القِتالِ وقْت. ليقال سعيدُ. بنُ المُسَيبِ في امرأةِ المَفْقُودِ بينَ الصفين: تَتَرَبصُ سنةً؛ لأن غَلَبَةَ هَلاكِه ههُنا (¬3) أكثرُ مِن غلَبَةِ غيرِه، لوُجُودِ سَبَبِه. وقد نُقِلَ عن أحمدَ أنه قال: ¬

(¬1) كذا على حكاية قوله. (¬2) في ق، م: «يقول». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كنتُ أقولُ: إذا تَرَبَّصَتْ أرْبَعَ سنين، ثم اعْتَدَّتْ أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا، تَزَوَّجَتْ، وقد ارْتَبْتُ فيها، وهِبْتُ الجوابَ فيها، لمَّا اخْتَلَفَ الناسُ فيها، فكأنِّي أحِبُّ السَّلامةَ. وهذا تَوَقف يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عمَّا قاله، وتَتَرَبَّصُ أبدًا، ويَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ، ويكونُ المذهبُ ما قاله أوَّلًا. قال القاضي: أكثرُ أصْحابِنا على أنَّ المذْهَبَ رواية واحدةٌ، وعندِي أنَّ المَسْألةَ على روايتَين. وقال أبو بكر: الذي أقولُ به إن صَحَّ الاخْتِلافُ في المَسْألةِ، أن لا [يُحْكَمَ بحكم ثانٍ] (¬1) إلَّا بدَلِيل على الانْتِقالِ، وإن ثَبَتَ الإجْماعُ، فالحُكْمُ فيه على ما نصَّ عليه. وظاهِرُ المذْهَبِ على ما حَكَيناه (¬2) أوَّلًا. نقَلَه عن أحمدَ الجماعةُ، وقد أنْكَرَ أحمدُ روايةَ مَن روَى عنه الرُّجُوعَ على ما حَكَيناه مِن رِوايةِ الأثْرَمِ. وقال أبو قِلابةَ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى، ¬

(¬1) في الأصل، ق: «يحكم ثان». وفي تش: «يحكم اثنان». (¬2) في تش: «حكاه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأي، والشافعيُّ في الجَدِيدِ: لا تَتَزَوَّجُ امرأةُ المفْقُودِ حتى تَتَيَقنَ موْتَه أو فِراقَه؛ لِما روَى المُغِيرَةُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «امْرَأةُ المَفْقُودِ امْرَأتهُ حَتَّى يَأتِيَهَا زَوْجُهَا (¬1)» (¬2). وروَى الحَكَمُ (¬3)، وحَمَّاد، عن علي: لا تَتَزَوَّجُ امرأةُ المفْقُودِ حتى يَأتِيَ مَوْتُه أو طَلاقُه (¬4). ولأنَّه شَك في زَوالِ الزَّوْجِيَّةِ، فلم تَثْبُتْ به الفُرْقَة، كما لو كان [ظاهِرُ غَيْبَتِه] (¬5) السَّلامَةَ. ولَنا، ما روَى الأثْرَمُ والجُوزْجانِيُّ بإسْنادِهما، عن عُبَيدِ بنِ عُمَير، قال: فُقِدَ رَجُل في عَهْدِ عمرَ، فجاءتِ امرأتُه إلى عمرَ، فذَكَرَتْ ذلك له، فقال: انْطَلِقِي فَتَرَبَّصِي أرْبَعَ سنين. ففَعَلَتْ، ثم أتَتْه، فقال: انْطَلِقي فاعْتَدِّي أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشرًا. ففَعَلَتْ، ثم أتَتْه، فقال: أينَ وَلِيُّ هذا الرجلِ؟ فجاء وَلِيُّهُ، فقال: طَلِّقْها. ففَعَلَ، فقال لها عمرُ: ¬

(¬1) في سنن الدارقطني: «الخبر». وفي سنن البيهقي: «بيان». وهي في نسخة للدارقطنى أيضًا. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. السنن 3/ 312. والبيهقي،: باب من قال: امرأة المفقود. . . .، من كتاب العدد. السنن 7/ 445. وضعف إسناده. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب التي لا تعلم مهلك زوجها، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 90. وسعيد بن منصور، في: باب الحكم في امرأة المفقود، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 402. والبيهقي، في: باب من قال بتخيير المفقود. . . .، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 446. (¬5) في ق، م: «ظاهرها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْطَلِقِي، فتَزَوجِي مَن شِئْتِ. فتَزَوجَتْ، ثم جاء زَوْجُها الأوَّلُ، فقال له عمرُ: أينَ كنتَ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، استَهْوَتْنِي الشَّياطِين (¬1)، فواللهِ ما أدْرِي في أيِّ أرْضِ اللهِ، كنتُ عندَ قَوْم يَسْتَعْبِدُونَنِي، حتى [اغْتَزَاهُم منهم] (¬2) قوم مُسْلِمونُ، فكنتُ في ما غَنِمُوه، فقالوا لي: أتْتَ رَجُل مِن الإنْسِ، وهؤلاءِ الجنُّ، فما لك وما (¬3) لهم؟ فأخْبَرْتُهم خَبَرِي، فقالوا: بأيِّ (¬4) أرْضِ اللهِ تُحِبُّ أن تُصْبِحَ؟ قلتُ: المَدِينةُ هي أرْضِي، فأصْبَحْتُ وأنا أنظرُ إلى الحَرَّةِ. فخَيَّرَه عمرُ؛ إن شاء امْرأتَه، وإن شاء الصَّداقَ. فاخْتارَ الصَّداقَ، وقال: قد حَبِلَتْ، لا حاجَةَ لي فيها (¬5). قال. أحمدُ: يُرْوَى عن عمرَ مِن ثمانيةِ وُجُوهٍ، ولم يُعْرَفْ في الصحابةِ له مُخالِف. وروَى الجُوزْجاني وغيرُه بإسْنادِهم (¬6)، عن علي في امرأةِ المفْقُودِ: تَعْتَدُّ أرْبَعَ سِنِين، ثم يُطَلِّقُها وَلِيُّ زَوْجِها، وتَعْتَدُّ بعدَ ذلك أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا، فإن جاء زَوْجُها المفْقُودُ ¬

(¬1) بعده في ق، م: «قال». (¬2) في ق: «اغتزاهم»، وفي م: «غزاهم». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، م: «بأية». (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 86 - 88. وسعيد، في: سننه 1/ 401، 402. وعنده أن الرجل اختار امرأته. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 445، 446. وابن أبي شيبة مختصرًا، في: المصنف 4/ 238. (¬6) في الأصل: «بإسناده».

3865 - مسألة: (وهل تفتقر إلى رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم

وَهَلْ تَفْتَقِرُ إِلَى رَفْعِ الأمْرِ إلَى الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِضَرْبِ الْمُدَّةِ وَعِدَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَ ذلك، خُيرَ بينَ الصَّدَاقِ وبينَ امْرأتِه. وقَضَى به عثمانُ أيضًا. وقَضَى به ابنُ الزُّبَيرِ في مَوْلَاةٍ لهم. وهذه قَضَايا انْتَشَرَتْ في الصَّحابةِ، فلم تُنْكَرْ، فكانت إجْماعًا. فأمَّا الحدِيثُ الذي رَوَوْه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يَثْبُتْ، ولم يَذْكُرْه أصْحابُ السُّنَنِ. وما رَوَوْه عن علي، فيَرْويه الحَكَمُ وحَمَّاد مُرْسَلًا، والمُسْندُ عنه مثلُ قَوْلِنا، ثم يُحْمَلُ ما رَوَوْه على المفْقُودِ الذي ظاهِرُ غَيبتِه السَّلامَةُ، جَمْعًا بينَه وبينَ ما رَوَيناه. وقولُهم: إنَّه شَك في زَوالِ الزَّوْجِيَّةِ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الشَّكّ ما يَتَساوَى فيه الأمْرانِ، والظاهِرُ في مَسْألتِنا الهَلاكُ. فصل: وهل يُعْتَبَرُ أن يُطَلقَها وَلِيُّ زَوْجِها، ثم تَعْتَدَّ بعدَ ذلك بثلاثةِ قُروءٍ؟ فيه روايتان؛ إحداهما، يُعْتَبَرُ ذلك؛ لأنَّه في حَدِيثِ عمرَ الذي رَوَيناهُ، وقد قال أحمدُ: هو أحْسَنُها. وذُكِرَ في حديثِ علي، أنَّه يُطَلِّقُها وَلِيُّ زَوْجِها. والثانيةُ، لا يُعْتَبَرُ. كذلك قال (¬1) ابنُ عمرَ، وابنُ عباس. وهو القِياسُ؛ فإنَّ وَلِيَّ الرجلِ لا ولايةَ له في طَلاقِ امرأتِه، ولأنَّنا حَكَمْنا عليها بعِدَّةِ الوَفاةِ، فلا يَجِبُ عليها مع ذلك عِدَّةُ الطَلاقِ، كما لو تَيَقَّنَتْ وَفاتَه، ولأنه قد وُجِدَ دَلِيلُ هَلاكِه على وَجْهٍ أباحَ التَّزْويجَ لها، وأوْجَبَ عليها عِدةَ الوَفاةِ، فأشْبَهَ ما لو شَهدَ به شاهدان. 3865 - مسألة: (وهل تَفْتَقِرُ إلى رَفْعِ الأمْرِ إلى الحاكِمِ ليَحْكُمَ ¬

(¬1) في م: «قاله».

الْوَفَاةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بضَرْب المُدَّةِ وعِدَّةِ الوَفاةِ؟ على رِوايَتَين) إحداهما، تَفْتَقِرُ؛ لأنَّها مُدة مُخْتَلَف فيها، فافْتَقَرَتْ إلى ضَرْبِ الحاكمِ، كمُدَّةِ العُنَّةِ. فعلى هذا، يكونُ ابْتِداءُ المُدَّةِ مِن حينَ (¬1) ضَرَبَها الحاكمُ. والثانيةُ، لا تَفْتَقِرُ؛ لأنَّها مُدَّة تُعْتَبَرُ لإباحةِ النِّكاحِ، فلم تَفْتَقِرْ إلى الحاكمِ، كمُدةِ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه، فيكونُ ابْتِداءُ المدَّةِ مِن حينَ انْقَطَعَ خبرُه، وبَعُدَ أثَرُه، ولأنَّ هذا ظاهِر في مَوْتِه، فكان ابْتِداءُ المدَّةِ منه، كما لو شَهِدَ به شاهِدان. وللشّافعيَّةِ (¬2) وَجْهان، كالرِّوايَتَين. ¬

(¬1) في م: «آن». (¬2) في الأصل: «للشافعي».

3866 - مسألة: (وإذا حكم الحاكم بالفرقة، نفذ حكمه في الظاهر دون الباطن، فلو طلق الأول، صح طلاقه)

وَإذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ، نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَلَوْ طَلَّقَ الأوَّلُ، صَحَّ طَلَاقهُ. وَيَتَخَرَّجُ أنْ يَنْفُذَ حُكْمُهُ بَاطِنًا، فيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الْأوَّلِ، وَلَا يَقَعَ طَلَاقُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3866 - مسألة: (وإذا حَكَم الحاكِمُ بالفُرْقَةِ، نَفَذَ حُكْمُه في الظَّاهِرِ دونَ الباطِنِ، فلو طلَّق الأوَّلُ، صحَّ طلاقُه) لأنَّنا حَكَمْنا بالفُرْقَةِ بِناء (¬1) على أنَّ الظاهِرَ هَلاكُه، فإذا ثَبَتَتْ حياتُه، انْتَقَضَ ذلك الظاهِرُ، ولم يَبْطُلْ طَلاقُه، كما لو شَهِدَتْ به بَينة كاذِبة، ولذلك خُيِّرَ في أخْذِها، وكذلك إن ظاهَرَ، أو آلى، أو قَذَفَ؛ لأنَّ نِكاحَه باقٍ، بدَلِيلِ تَخْيِيرِه ¬

(¬1) سقط من: م.

3867 - مسألة: (فإذا فعلت ذلك)

وَإذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ، ثُمَّ قَدِمَ زَوْجُهَا الأوَّلُ، رُدَّتْ إِلَيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ في أخْذِها. وقال أبو الخَطَّابِ: القِياسُ أنَّنا إذا حَكَمْنا بالفُرْقَةِ نَفَذَ ظاهِرًا وباطِنًا، فتكونُ امرأةَ الثاني، ولا خِيارَ للأوَّلِ؛ لأنها بانَتْ منه بفرْقَةِ الحاكمِ في مَحَل مُخْتَلَفٍ فيه، فنَفَذَ حُكْمُه في الباطِنِ، كما لو فَسَخَ نِكاحها لعُسْرَتِه أو عَيبِه، فلهذا لم يَقَعْ طَلاقُه، وإن لم يَحْكُمْ بفُرْقَتِه باطِنًا، فهي امرأةُ الأولِ، ولا خِيارَ له. 3867 - مسألة: (فإذا فَعَلَتْ ذلك) يَعْنِي تَرَبَّصَتْ أرْبَعَ سنين،

إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ واعْتَدتَ عِدَّةَ الوَفَاةِ (ثم تَزَوجَتْ، ثم قَدِمَ زَوْجُها الأوَّلُ) فإن كان (¬1) قبلَ أن تَتَزَوجَ، فهي امْرَأتُه. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: إذا ضُربَتْ لها المُدةُ، فانْقَضَتْ، بَطَلَ نِكاحُ الأوَّلِ. والذي ذَكَرْنا أوْلَى؛ لأننا إنما (1) أربحْنا لها التَّزْويجَ لأن الظاهِرَ مَوْتُه، [فإذا بانَ حَيًّا، انْخَرَمَ ذلك الظاهِرُ، وكان النِّكاحُ بحالِه، كما لو شَهِدَتِ البَيِّنةُ بمَوْتِه] (¬2)، فبانَ حَيًّا، ولأنَّه أحَدُ المِلْكَين (¬3)، فأشْبَهَ مِلْكَ (¬4) المالِ. فإن قَدِمَ بعدَ التزْويجِ، وكان قبلَ دُخُولِ الثاني بها (1)، فكذلك تُرَدُّ إليه، وليس على الثاني صَداق؛ لأنَّنا تَبَينا أن النِّكاحَ باطِل ولم يَتَّصِلْ به دُخُول. قال أحمدُ: أما قبلَ الدُّخُولِ، فهي امرأتُه، وإنما يُخَيرُ بعدَ الدُّخُولِ. وهذا قولُ عطاء، والحسنِ، وخِلاسِ بنِ عَمْرو، والنَّخَعِيِّ، وقَتادةَ، ومالِكٍ، وإسْحاقَ. وقال القاضي: فيه رواية أخْرَى، أنَّه يُخَيرُ. أخَذَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «المالكين». (¬4) في م: «مالك».

3868 - مسألة: وإن قدم بعد دخول الثاني بها (خير الأول بين أخذها)

وَإنْ كَانَ بَعْدَهُ، خُيِّرَ الأوَّلُ بَينَ أخْذِهَا وَبَينَ تَرْكِهَا مَعَ الثَّانِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن عُمُومِ قولِ أحمدَ: إذا تَزَوَّجَتِ امرأتُه فجاء، خُيِّرَ بينَ الصَّداقِ وبينَ امرأتِه. والصَّحِيحُ أنَّ عُمُومَ كلامِ أحمدَ يُحْمَل على خَاصِّه (¬1) في روايةِ الأثْرَمِ، وأنَّه لا يُخَيَّرُ إلَّا بعدَ الدُّخُولِ، فتكونُ زَوْجَةَ الأولِ، روايةً واحدةً؛ لأنَّ النِّكاحَ إنَّما صَحَّ في الظاهِرِ دُونَ الباطِنِ، فإذا قَدِمَ تَبَينا أنَّ النِّكاحَ كان باطِلًا؛ لأنَّه صادفَ امرأةً ذَاتَ زَوْجٍ، فكان باطِلًا، كما لو شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بمَوْتِه، وتعودُ إلى الزَّوْجِ بالعَقْدِ الأوَّلِ، كما لو لم تَتَزَوَّجْ. 3868 - مسألة: وإن قَدِمَ بعدَ دُخُولِ الثَّانِي بها (خُيِّرَ الأوَّلُ بينَ أخْذِها) فتَكُونُ امْرَأتَه بالعَقْدِ الأوَّلِ، وبينَ أخْذِ (¬2) صَداقِها، وتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي. وهذا قولُ مالِكٍ؛ لإجْماعِ الصَّحابةِ عليه، فروَى مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنّ عمرَ وعثمانَ قالا: إن جاء زَوْجُها الأولُ، خُيِّرَ بينَ المرأةِ وبينَ الصَّداقِ الذي ساق هو. رواه الجُوزْجانِيُّ، والأثْرَمُ (¬3). وقَضَى به ابنُ الزُّبَيرِ في مَوْلاةٍ لهم. وقال على ذلك في الحديثِ الذي رَوَيناه. ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِف في عصرِهم، فكان إجْماعًا. فعلى ¬

(¬1) في م، ق: «خصوصه». (¬2) سقط من: م. (¬3) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 85. وابن أبي شيبة، في: المصنف 4/ 238. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 445.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا، إن أمْسَكَها الأوَّلُ، فهي زَوْجَتُه بالعَقْدِ الأوَّلِ. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّ الثاني لا يَحْتاجُ إلى طَلاقٍ؛ لأنَّ نِكاحَه كان باطِلًا في الباطِنِ. وقال القاضي: قِياسُ قولِه، أنَّه يَحْتاجُ إلى طَلاقٍ؛ لأنَّ هذا نِكاح مُخْتَلَف في صِحَّتِه، فكان مَأمُورًا بالطلاقِ ليَقْطَعَ (¬1) حُكْمَ العَقْدِ الثاني، كسائرِ الأنْكِحَةِ الفاسِدَةِ، ويجبُ على الأوّلِ اعْتِزالُها حتى تَقْضِيَ عِدَّتَها مِن الثاني. وإن لم يَخْتَرْها الأوَّلُ، فإنَّها تكونُ مع الثاني، ولم يَذْكُرُوا لها عَقْدًا جديدًا. قال شَيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه يجبُ أن يَسْتَأنِف لها عَقْدًا؛ لأنَّنَا تَبَيَّنَّا بُطْلانَ عَقْدِهِ بمَجِئِ الأوَّلِ، ويُحْمَلُ قولُ الصحابةِ على هذا؛ لقِيامِ الدَّليلِ عليه، فإنَّ زَوْجَةَ الإنسانِ لا تَصِيرُ زوجة لغيرِه بمُجَرَّدِ تَرْكِه لها. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ليقع». (¬2) في: المغني 11/ 253.

3869 - مسألة: (ويأخذ منه صداقها)

وَيَأخُذُ صَدَاقَهَا مِنْهُ. وَهَلْ يَأخُذُ صَدَاقَها الَّذِي أعطَاهَا أو الَّذِي أعْطَاهَا الثَّانِي؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3869 - مسألة: (ويأخُذُ منه صَداقَها) أي يأخُذُ الزوجُ الأوَّلُ مِن الزوج الثاني -إذا تَرَكَها له- صَداقَها؛ لقَضاء الصحابةِ بذلك. (وهل يأخُذُ) مِنه (صَداقَها الذي أعطاها أو الذي أَعطاها الثاني؟ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتَين) اخْتُلِفَ عن أحمدَ فيما يَرْجِعُ به؛ فرُوِيَ عنه، أنَّه يرْجِعُ بالصَّداقِ الذي أصْدَقَها هو. وهو اخْتيارُ أبي بكر، وقولُ الحسنِ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادةَ، وعليِّ بنِ المَدِينيِّ؛ لقَضاءِ عليّ (¬1) وعُثمانَ أنَّه يُخَيَّرُ بينَها وبينَ الصَّداقِ الذي ساقَ إليها هو. ولأنَّه أتْلَفَ عليه المُعَوضَ، فرَجَعَ عليه بالعِوَضِ، كشهُودِ الطلاقِ إذا رَجَعُوا عن الشَّهادةِ. فعلى هذا، إن كان لم يَدْفَعْ إليها الصَّداقَ، لم يَرْجِعْ بشيءٍ، وإن كان دفَعَ بَعْضَه، رجَعَ بما دَفعَ. ويَحْتَمِلُ أن يَرْجِعَ عليه بالصَّداقِ، وتَرْجِعَ المرأة عليه بما بَقِيَ عليه مِن صَداقِها. وعن أحمدَ أنَّه يَرْجِعُ عليه بالمَهْرِ الذي أصْدَقَها الثاني؛ لأن الإتْلافَ مِن جِهَتِه، والرُّجُوعُ عليه بقِيمَتِه، والبُضْعُ لا يتَقَومُ إلَّا على زَوْج أو مَن جَرَى مَجْراه، فيَجِبُ الرُّجُوعُ عليه بالمُسَمَّى الثاني دُونَ الأوَّلِ. وهل يَرْجِعُ الزَّوْج الثاني على الزَّوْجةِ بما أخِذَ (¬2) منه؟ فيه روايتان. ذكَرَ ذلك أبو عبدِ الله بنُ حامدٍ؛ إحداهما، يَرْجِعُ به؛ لأنَّها غَرامة لزِمَتِ الزَّوْجَ بسبَبِ وَطْئِه لها، فرَجَعَ بها، كالمَغْرُورِ، ولأنَّ ذلك يُفْضِي إلى أن يَلْزَمَه مَهْرانِ بوَطْءٍ واحدٍ. والثانيةُ، لا يَرْجِعُ؛ لأنَّ الصَّحابةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 82. (¬2) في الأصل: «أخذت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَقْضُوا بالرُّجُوعِ، فإنّ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ روَى أنَّ عليًّا وعثمانَ قَضَيَا في المرأةِ التي لا تَدْرِي ما مَهْلِكُ زَوْجِها، أن تَتَرَبَّصَ أرْبَعَ سنين، ثُمَّ تَعْتَدَّ عدَّةَ المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرا، ثم تَتَزَوَّجَ إن بدَا لها، فإن جاء زَوْجُها خُيِّرَ؛ إمَّا امرأتُه وإمَّا الصَّداقُ، فإنِ اخْتارَ الصَّداقَ، فالصَّداقُ على زَوْجِها الآخِرِ، وتَثْبُتُ عندَه وإنِ اخْتارَ امرأتَه، عُزِلَتْ عن زَوْجِها الآخِرِ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، وإن قَدِمَ زَوْجُها وقد تُوُفِّيَ زَوْجُها الآخِرُ، وَرِثَتْ، واعْتدَّتْ عِدَّةَ [المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها] (¬1)، وتَرْجِعُ إلى الأوَّلِ. رواه الجُوزْجَانِي. ولأنَّ المَرْأةَ لا تَغْرِيرَ منها، فلم يَرْجِعْ عليها بشيء، كغَيرِها. وإن قُلْنا: يرْجِعُ عليها. فإن كان قد دَفَعَ إليها الصَّداقَ، رَجَعَ به، وإن كان لم يَدْفَعْه إليها، دَفَعَه إلى الأوَّلِ، ولم يَرْجِعْ عليها بشيءٍ، وإن كان قد دَفَعَ بعضَه، رجَعَ بما دَفَعَ. وإن قُلْنا: لا يَرْجِعُ عليها. وكان قد دفَعَ إليها الصَّداقَ، لم يرْجِعْ به، وإن لم يكنْ دَفَعَه إليها، لَزِمَه دَفْعُه (¬2)، ويَدْفَعُ إلى الأوَّلِ صَداقًا آخَرَ. ¬

(¬1) في الأصل: «الوفاة». ولم ترد: «زوجها» في تش. (¬2) بعده في تش: «إليها».

وَالْقِيَاسُ أن تُرَدَّ إِلَى الأوَّلِ وَلَا خِيَارَ، إلا أنْ يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَينَهُمَا، وَنَقُولَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَاطِنًا، فَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ. وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ فِي أمرِهِ. وَالْمَذْهَبُ الأوَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال شيخُنا: (والقِياسُ أن تُرَدَّ إلى الأوَّلِ ولا خِيارَ) لأنَّ زَوْجَها لم يُطَلِّقْها، ولم يَنْفَسِخْ نِكاحُه، فرُدَّتْ إليه، كما لو تَزَوَّجَتْ لبينةٍ قامت بوَفاتِه، ثم تَبَيَّنَ كَذِبُها بقُدومِه (إلَّا أن يُفَرِّقَ الحاكمُ بينَهما، ونقُولَ بوقوعِ الفُرْقَةِ باطِنًا) فينفسِخُ نِكاحُ الأوَّلِ؛ لأنَّ نِكاحَه انْفَسَخَ بحُكْمِ [الحاكِمِ، ووَقَعَ] (¬1) نِكاحُ الثاني بعدَ بُطْلانِ نِكاحِ الأوَّلِ وقَضاءِ عِدَّتِها، فأشْبَهَ ما لو طَلَّقَها الأوَّلُ (فتكونُ زوْجَةَ الثاني بكلِّ حالٍ) لذلك (وعن أحمدَ التَّوَقُّف في أمْرِه) وقد ذَكَرْناه فيما مَضَى (والمذهَبُ الأوَّلُ) [لقضاءِ الصَّحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم] (¬2). فصل: إذا فَقَدَتِ الأمةُ زَوْجَها لِغَيبَةٍ ظاهِرُها الهَلاكُ، تَرَبَّصَتْ أرْبَعَ ¬

(¬1) في ق، م: «حاكم ووقوع». (¬2) في م: «أولى».

فَأمَّا مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيبَةٍ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، كَالتَّاجِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ سنين، ثم اعْتَدَّتَ للوَفاةِ شَهْرَين وخمسةَ أيام. وهذا اخْتيارُ أبي بكر. وقال القاضي: تَتَرَبَّصُ نِصْفَ تَرَبُّصِ الحُرَّةِ. ورواه أبو طالبٍ عن أحمدَ. وهو قولُ الأوْزاعِيِّ، واللَّيثِ؛ لأنَّها مُدَّة مضْروبةٌ للمرأةِ لعَدَمِ زَوْجِها، فكانتِ الأمَةُ فيه على النِّصْفِ مِن الحُرَّةِ، كعِدَّةِ الوَفاةِ. ولَنا، أنَّ الأرْبَعَ السنين مَضْرُوبَة لِكَوْنِها أكْثَرَ مُدَّةِ الحَمْلِ، [ومُدَّةُ الحَمْلِ] (¬1) في الأمَةِ والحُرَّةِ سواءٌ، فاسْتَوَيا في التَّرَبُّصِ لها، كالتِّسْعَةِ الأشْهُرِ في حَقِّ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها لا تَدْرِي ما رَفَعَه، وكالحَمْلِ نَفْسِه (¬2)، وبهذا (¬3) يَنْتَقِضُ قِياسُهم. فأمَّا العَبْدُ، فإن كانت زَوْجَتُه حُرَّةً فتَرَبُّصُها كتَرَبُّص الحُرَّةِ [تحت الحُرِّ] (¬4). وإن كانت أمَةً، فهي كالأمَةِ تحت الحُرِّ (¬5)؛ لأنَّ العِدَّةَ مُعْتَبَرَة بالنِّساءِ دُونَ الرِّجالِ، وكذلك مُدَّةُ التَّرَبُّصِ. وحُكِيَ عن الزُّهْرِيِّ، ومالِك، أنَّه يُضْرَبُ له نِصْفُ أجَلِ الحُرِّ (¬6). والأوْلَى ما قُلْناه؛ لأنه تَرَبُّص مَشْرُوع في حَقِّ المرأةِ لفُرْقَةِ زَوْجِها، فأشْبَهَتِ العِدَّةَ. الثاني (مَن انْقَطَعَ خَبَرُه لغَيبَةٍ ظاهِرُها السَّلامَةُ) كسَفَرِ التِّجارَةِ في غيرِ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «تسعة». (¬3) بعده في الأصل: «قال». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في ق، م: «الحرة».

وَالسَّائِحِ، فَإِنَّ امْرَاتَهُ تَبْقَى أبَدًا إِلَى أنْ يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ. وَعَنْهُ؛ أنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعِينَ عَامًا مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ وُلِدَ، ثُمَّ تَحِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَهْلَكَةٍ، وإباقِ العَبْدِ، وطَلَبِ العِلْمَ والسياحةِ (فإنَّ امْرأتَه تَبْقَى أبدًا، حتى يُتَيَقَّنَ موْته) رُوِيَ ذلك عن علي. وإليه ذهبَ ابنُ شبْرُمَةَ، وابنُ أبي لَيلَى، [والثَّوْرِيُّ] (¬1)، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في الجَديدِ. ورُوِيَ ذلك عن أبي قِلابَةَ، [والنَّخَعِيِّ] (¬2)، وأبي عُبَيدٍ. وقال مالِكٌ، والشافعيُّ في القديمِ: تَتَرَبَّصُ أرْبَعَ سِنِينَ، وتَعْتَدُّ للوَفاةِ أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا، وتَحِل للأزْواجِ؛ لأنَّه إذا جاز الفَسْخ لِتَعَذُّرِ الوَطْءِ بالعُنَّةِ، وتَعَذر النَّفَقَةِ. بالإِعْسارِ، فلَأن يجوزَ ههُنا لتَعَذُّرِ الجميعِ أولَى. واحْتَجُّوا بحديثِ عمرَ الذي ذَكَرْناه في [المفْقُودِ، مع مُوافَقَةِ الصَّحابةِ، وتَرْكِهم إنْكارَه. ونَقَلَ أحمدُ بنُ أصْرَمَ، عن أحمدَ: إذا مَضَى عليه] (2) تِسْعُونَ (¬3) سنةً، قُسِمَ مالُه. وهذا يَقْتَضِي أنَّ زَوْجَتَه تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوَفاةِ ثم تتزوَّجُ. قال أصحابُنا: إنَّما اعْتَبَرَ تِسْعِينَ سنةً مِن يومِ ولادَتِه؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّه لا يعيشُ أكثرَ منها، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «سبعون».

وَكَذَلِكَ امْرَأةُ الْأسِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا اقْتَرَنَ به انْقطاعُ خَبَرِه، وجَبَ الحُكْمُ بمَوْتِه، كما لو كان فَقْدُه لِغَيبَةٍ ظاهِرُها الهَلاكُ. والمذْهَبُ الأوَّلُ؛ لأنَّ هذه غَيبَةٌ ظاهِرُها السَّلامَةُ، فلم يُحْكَمْ بمَوْتِه، كما قبلَ أرْبَعِ سِنِينَ، أو كما قبلَ التِّسْعِين (¬1)، ولأنَّ هذا التَّقْديرَ بغيرِ تَوْقِيفٍ، فلا يَنْبَغِي أنْ يُصارَ إليه إلَّا بالتَّوْقِيفِ، ولأنَّ تَقْدِيرَ هذا بتِسْعين سنةً مِنِ يومِ ولادَتِه، يُفْضِي إلى اخْتِلافِ العِدَّةِ في حَقِّ المرأةِ، ولا نَظِيرَ لهذا، وخبَرُ عمرَ وَرَدَ في مَن ظاهِرُ غَيبَتِه الهَلاكُ، فلا يُقَاسُ عليه غيرُه. فصل: فإن كافت غيبَتُه غيرَ مُنْقَطِعةٍ، يُعْرَفُ خَبَرُه، ويأتِي كِتابُه، فهذا ليس لامْرَأتِه أن تَتَزَوَّجَ في قولِ أهلِ العلمِ أجْمَعِينَ (¬2)، إلَّا أن يَتَعَذَّرَ ¬

(¬1) في الأصل: «السبعين». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِنْفاقُ عليها مِن مالِه، فلها أن تَطْلُبَ فَسْخَ النِّكاحِ، فيُفْسَخَ نِكاحُه. وأجْمَعُوا أنَّ امرأةَ الأسِيرِ لا تَنْكِحُ حتىَ تَعْلَمَ يَقِينَ وَفاتِه. هذا قولُ النَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، ويَحْيى الأنْصارِي، ومَكْحُولٍ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْر، وإسْحاقَ، وأصحابِ الرَّأي. وإن أبقَ العبدُ، فزَوْجَتُه على الزَّوْجِيَّةِ، حتى تَعْلَمَ مَوْتَه أو رِدَّتَه. وبه قال الأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ. وقال الحسنُ: إباقُه طَلاقُه. ولَنا، أله ليس بمَفْقُودٍ، فلم يَنْفسِخْ نِكاحُه، كالحُر. ومَن تَعَذَّرَ الانْفاقُ مِن مالِه على زَوْجَتِه، فحُكْمُه في الفَسْخِ حُكْمُ ما ذَكَرْنا، إلَّا أنَّ العَبْدَ نَفَقَةُ زَوْجَتِه على سَيِّدِه، أو (¬1) في كَسْبِه، فيُعْتَبَرُ تَعَذُّرُ الإِنْفاقِ مِن (¬2) مَحِلِّ الوُجُوبِ. فصل: إذا تَزَوَّجَ الرجلُ امرأةً لها وَلَا مِنٍ غيرِه، فمات ولدُها، فإنَّ أحمدَ قال: يَعْتَزِلُ امرأتَه حتى تَحِيضَ حَيضَة. وهذا يُرْوَى عن عليِّ بنِ أبي طالب، والحسنِ ابْنِه، ونحوُه عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ الله عنهم، وعن الحسينَ بنَ علي، والصَّعْبِ بنَ جَثَّامةَ (¬3). وبه قال عطاء، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والنَّخَعِيُّ، ومالِكٌ، وإسْحاقُ، وأبو عُبيدٍ. قال عمرُ ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في ق، م: «في». (¬3) الصعب بن جثامة بن قيس الليثي كان ينزل ودان من أرض الحجاز، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، روى عنه ابن عباس وشريح بن عبيد الحضرمي، توفي بعد خلافة أبي بكر. الاستيعاب 2/ 739، الإصابة 3/ 426.

3870 - مسألة: (ومن مات عنها زوجها، أو طلقها وهو غائب، فعدتها من يوم مات أو طلق، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدات. وعنه، إن ثبت ذلك ببينة فكذلك، وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر)

وَمَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، أوْ مَاتَ عَنْهَا وَهُوَ غَائِب عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ مَاتَ أو طَلَّقَ، وإنْ لَمْ تَجْتَنِبْ مَا تَجْتَنِبُهُ الْمُعْتَدَّةُ. وَعَنْهُ، إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَينةٍ فَكَذَلِكَ، وَإلَّا فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ بَلَغَهَا الْخَبَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ عبدِ العَزيزِ: حتى يَنْظُرَ بها حَمْلٌ أو لا. وإنَّما قالوا ذلك لأنَّها إن كانت حامِلًا حينَ مَوْتِه، وَرِثَه حَمْلُها، وإن حَدَثَ الحملُ بعدَ الموْتِ، لم يَرِثْه (¬1). وإن كان للمَيتِ ولَد أو أب أو جَد، لم يَحْتَجْ إلى اسْتِبْرائِها؛ لأنَّ الحملَ لا مِيراثَ له، وإن كانت حامِلًا قد تبَيَّنَ حَمْلها، لم يَحْتَجْ إلى اسْتِبْرائِها؛ لأنَّ الحملَ معلوم، وإن كانتْ آيِسَةً، لم يَحْتَجْ إلى اسْتِبْرائِها؛ لليَأسِ مِن حَمْلِها. وإن كانت ممن يُمْكِنُ حَمْلُها، ولم يَتَبَيَّنْ بها حَمْل، ولم يَعْتَزِلْها زَوْجُها، فأتَتْ بوَلَدٍ قبلَ سِتَّةِ أشْهُر، وَرِثَ، وإن أتَتْ به بعدَ سِتّةِ أشْهُر مِن حين وَطِئَها بعدَ مَوْتِ وَلَدِها، لم يَرِثْ؛ لأنَّا لا نَتَيَقَّنُ وُجُودَه حال مَوْتِه. هذا يُرْوَى عن سُفْيانَ، وهو قِياسُ قولِ الشافعيِّ. 3870 - مسألة: (ومَن مات عنها زَوْجُها، أو طَلَّقَها وهو غائِب، فَعِدَّتُها مِن يومِ مات أو طَلَّقَ، وإن لم تَجْتَنِبْ ما تَجْتَنِبُه المُعْتَدَّاتُ. وعنه، إن ثَبَتَ ذلك ببَينةٍ فكذلك، وإلَّا فَعِدَّتُها مِن يومِ بَلَغَها الخَبَرُ) المشهورُ ¬

(¬1) في تش: «ترثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المذهبِ، أنَّه متى مات عنها أو طَلَّقَها زَوْجُها، فعدَّتُها مِن يومِ مَوْتِه وطَلاقِه. قال أبو بكر: لا خِلافَ عن أبي عبدِ اللهِ أعْلَمُه، أنَّ العِدَّةَ تجبُ مِن حينِ الموْتِ والطلاقِ، إلَّا ما رواه إسْحاقُ بنُ إبْراهيمَ. وهذا قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباس، وابنِ مسعودٍ، ومَسْرُوق، وعطاء، وجابرِ بنِ زَيدٍ، وابنِ سِيرِينَ، ومُجاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَير، وعِكْرِمَةَ، وطَاوُس، وسُليمانَ بنِ يَسارٍ، وأبي قِلابَةَ، وأبي العالِيَةِ، والنَّخَعِيِّ، ونافِعٍ، ومالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسْحاقَ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأي. وعن أحمدَ، إن قامت بذلك بَينةٌ، فكما ذَكَرْنا، وإلَّا فعدَّتُها مِن يومِ يأتِيها الخَبَرُ. ورُوِيَ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ. ويُرْوَى عن [عليٍّ، و] (¬1) الحسنِ، وقتادةَ، وعطاءٍ الخُرَاساني، وخِلاسِ بنِ عمرو، أنَّ عِدتَها مِن يومِ يَأتِيها الخَبَرُ؛ لأنَّ العِدةَ (¬2) اجْتِنابُ أشْياءَ، وما اجْتَنَبَتْها. ولَنا، أنها لو كانتْ حاملًا (¬3)، فوَضَعَتْ حمْلَها غيرَ عالمةٍ بفُرْقَةِ زَوْجِها، لانْقَضَتْ عِدَّتُها، فكذلك سائرُ أنْواعِ العِدَدِ، ولأنَّه زمانٌ عَقِيبَ الموْتِ أو الطَّلاقِ، فوَجَبَ أن تَعْتَد به، كما لو كان حاضِرًا، ولأنَّ القَصْدَ (¬4) غيرُ مُعْتَبَرٍ في العِدَّةِ، بدَلِيلِ الصَّغيرةِ والمَجْنُونَةِ تَنْقَضِي عِدَّتُهُما مِن غيرِ قَصْدٍ، ولم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «من». (¬3) في م: «حائلا». (¬4) في الأصل: «الفصل».

3871 - مسألة: (وعدة المؤطوءة بشبهة عدة المطلقة، وكذلك المزني بها. وعنه، أنها تستبرأ بحيضة)

وَعِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا. وَعَنْهُ، أنهَا تُسْتَبْرأُ بِحَيضَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْدَمْ ههُنا إلَّا القَصْدُ، وسواء في هذا اجْتَنَبَتْ ما تَجْتَنِبُه المُعْتَدَّاتُ أو لم تَجْتَنِبْه، فإنَّ الإِحْدادَ الواجبَ ليس بشَرْطٍ في العِدَّةِ، فلو تَرَكَتْه قَصْدًا، أو عن غيرِ قَصْدِ، لانْقَضَتْ عِدَّتُها، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وقال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وقال: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. وقال: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وفي اشْتِراطِ الإِحْدادِ مُخالفَةُ هذه النُّصُوصِ، فوَجب أن لا (¬1) يُشتَرَطَ. 3871 - مسألة: (وعِدَّةُ المَؤطُوءَةِ بشُبْهَةٍ عِدَّةُ المُطَلَّقَةِ، وكذلك المَزْنِيُّ بِها. وعنه، أنَّها تُسْتَبْرأ بِحَيضَةٍ) [وجملةُ ذلك، أن عِدَّةَ المَوْطُوءةِ بشُبْهَةٍ عِدَّةُ المُطَلَّقَةِ، وكذلك المَوْطُوءَةُ في نكاحٍ فاسدٍ] (¬2). وبهذا قال الشافعيُّ؛ لأنَّ وَطْءَ الشّبْهَةِ وفي النكاحِ الفاسدِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في شَغْلِ الرَّحِمِ ولُحُوقِ النَّسَبِ، كالوَطْءِ في النِّكاحِ الصَّحِيحِ، فكان مثلَه فيما تَحْصُلُ به البَراءَةُ. وإن وُطِئَتِ المُزَوَّجَةُ بشُبْهَةٍ، لم يَحِلَّ لزَوْجِها وَطْؤها قبلَ قَضاءِ عِدَّتِها؛ كي لا يُفْضِيَ إلى اخْتِلاطِ المِياهِ واشْتِباهِ الأنْسابِ. وله (¬1) الاسْتِمْتاعُ منها بما دُونَ الفَرْجِ، في أحدِ الوَجْهينِ؛ لأنَّها زَوْجَةٌ حَرُمَ وَطْؤها لعارِض مُخْتَصٍّ بالفَرْجِ، فأبِيحَ الاسْتِمْتاعُ منها بما دُونَه، كالحَيضِ. والثاني، لا تَحِلُّ؛ لأنَّ ما (1) حَرَّمَ الوَطْءَ حَرَّمَ دَواعِيَه، كالإِحْرامِ. فصل: وكذلك المَزْنِيُّ بها، [عِدَّتُها عِدَّةُ] (¬2) الموْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «حكمها حكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الحسنُ، والنَّخَعِيُّ. وعن أحمدَ روَاية أخْرَى، أنَّها تُسْتَبْرأ بحَيضَةٍ. ذكرَها ابنُ أبي مُوسى. وهو قولُ مالِكٍ؛ لأنَّ المَقْصُودَ به معْرِفَةُ البَراءَةِ مِن الحملِ، فأشْبَهَ اسْتِبْراءَ الأمَةِ. ورُوِيَ عن أبي بكر وعمرَ، رَضِيَ الله، عنهما، أنَّه (¬1) لا عِدَّةَ عليها. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرأي؛ لأنَّ العِدَّةَ لحِفْظِ النَّسَب، [ولا يَلْحَقُه النَّسَبُ] (¬2). وقد رُوي عن علي، رَضِيَ اللهُ عنه، ما يَدُلُّ على ذلك. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ يَقْتَضِي شَغْلَ الرَّحِمِ، فوَجَبَتِ العِدَّةُ منه، كوَطْءِ الشُّبْهَةِ. وأمَّا وُجُوبُها كعِدَّةِ المُطَلَّقَةِ؛ فلأنها حُرَّة، فأشْبَهَتِ المَوْطُوءَةَ بشُبْهَةٍ. وقولُهم: إنَّما تجبُ لحِفْظِ النَّسَبِ. قُلْنا: لو وَجَبَ لذلك، لَمَا وَجَبَ على المُلَاعِنَةِ المَنْفِيِّ وَلَدُها، والآيِسَةِ، والصَّغيرةِ، ولَما وَجَبَ اسْتِبْراءُ الأمَةِ التي لا يَلْحَقُ ولَدُها بالبائِعِ، ولو وَجَبَ لذلك (¬3)، كان اسْتِبْراءُ الأمَةِ على البائِعِ، ثم لو ثَبَتَ أنَّها وجَبَتْ لذلك (¬4)، فالحاجَةُ إليها داعِيَةٌ؛ فإنَّ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «كذلك». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَزْنِيَّ بها إذا تَزَوَّجَتْ قبلَ الاعْتِدادِ، اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ (¬1) بالوَلَدِ مِن الزِّنَى، فلا يَحْصُلُ حِفْظُ النَّسَبِ. فصولٌ تَتعلَّقُ بالمفْقودِ: إذا اخْتارَتِ امرأةُ المَفْقُودِ المُقامَ والتَّصَبُّرَ حتى يَتَبَيَّنَ أمرُه، فلها النَّفَقَةُ ما دام حَيًّا، ويُنْفَقُ عليها بالمعروف (¬2) من مالِه [حتى يَتَبَيَّنَ أمرُه] (¬3)، لأنها مَحْكُوم لها بالزَّوْجِيَّةِ، فيَجِبُ لها النفَقَةُ، كما لو عُلِمَتْ حياتُه. فإذا تَبَيَّنَ أنَّه كان حَيًّا، وقَدِمَ، فلا كلامَ، وإن تَبَيَّنَ أنَّه مات، أو فارَقَها، فلها النَّفَقَةُ إلى يومِ مَوْتِه أو بَينُونَتِها منه، ويَرْجِعُ عليها بالباقِي، لأنَّنا تَبَينا أنَّها أنْفَقَتْ مال غيرِه، أو أنْفَقَتْ مِن مالِه وهي غيرُ زوجةٍ له. وإن رَفَعَتْ أمْرَها إلى الحاكمِ، فضَرَبَ لها مُدَّةً، فلها النَّفَقَةُ في مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ومُدَّة العِدَّةِ، لأنَّ مُدةَ العِدةِ لم يُحْكَمْ فيها ببَينُونَتِها مِن زَوْجِها، فهي مَحْبُوسَة عليه بحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، فأشْبَهَ ما قبلَ العِدَّةِ، وأمَّا مُدَّةُ العِدَّةِ، [فلأنَّها غيرُ مُتَيَقَّنَ] (¬4)، بخِلافِ عِدَّةِ الوَفاةِ، فإنَّ مَوْتَه مُتَيَقَّنٌ، وما بعدَ العِدَّةِ إن تَزَوَّجَتْ أو فَرَّقَ الحاكمُ بينَهما، سَقَطَتْ نَفَقَتُها؛ لأنَّها أسْقَطَتْها بخُرُوجِها عن حكمِ نِكاحِه، وإن لم تَتَزَوَّجْ ولا فَرَّقَ الحاكمُ بَينَهما، فنَفَقَتُها باقِيَةٌ، لأنها لم تَخْرُجْ مِن نِكاحِه. فإن قَدِمَ الزَّوْجُ بعدَ ذلك وَرُدَّتْ إليه، عادَتْ نَفَقَتُها مِن حينِ الردِّ. وقد ¬

(¬1) في م: «الزوجة». (¬2) زيادة من: تش. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «فإنها غير منتفية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ روَى الأثْرَمُ والجُوزْجانِيُّ، عن ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، قالا: تَنْتَظِرُ امرأةُ المفْقُودِ أرْبَعَ سِنِينَ. قال ابنُ عمرَ: ويُنْفقُ عليها مِن مالِ زَوْجِها. وقال ابنُ عباسٍ: إذًا يُجْحِفَ ذلك بالوَرَثَةِ، ولكنَّها تَسْتَدِينُ، فإذا جاء زَوْجُها أخَذَت مِن مالِه، وإن مات أخَذَتْ مِن تَرِكَتِه (¬1) نَصِيبَها مِن المِيراثِ. وقالا: يُنْفَقُ عليها بعدُ في العِدَّةِ بعدَ الأرْبَعِ سِنِينَ مِن مالِ زَوْجِها جَمِيعِه، أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا (¬2). وإن قُلْنا: ليس لها أن تَتَزَوَّجَ. لم تَسْقُطْ نَفَقَتُها ما لم تَتَزَوَّجْ، فإن تزَوَّجَتْ، سَقَطَتْ نَفَقَتُها؛ لأنَّها بالتَّزْويجِ تخرُجُ عن يَدَيه، وتَصيرُ ناشِزًا، وإن فُرِّقَ بينَهما، فلا نفَقَةَ لها ما دامتْ في العِدَّةِ، فإذا انْقَضَتْ، فلم تعُدْ إلى مَسْكنِ زَوْجِها، فلا نفَقَةَ لها أيضًا؛ لأنَّها باقيةٌ على النُّشُوزِ. وإن عادت إلى مَسْكنِه، احْتَمَلَ أن تعودَ النَّفقَةُ؛ لأن النُّشُوزَ المُسْقِطَ لِنَفَقَتِها قد زال، ويَحْتَمِلُ أنَّها لا تعودُ؛ لأنَّها ما سَلّمَتْ نفْسَها إليه. وإن عادَ فتَسَلَّمها عادَتْ نَفَقَتُها. ومتى أُنْفِقَ عليها، ثم بانَ أنَّ الزَّوْجَ كان قد ماتَ قبلَ ذلك، حُسِبَ عليها ما انْفِقَ عليها مِن حينِ مَوْتِه مِن مِيراثِها، فإن لم تَرِثْ شيئًا، فهو عليها؛ لأنَّها أنْفقَتْ مِن مالِ الوارِثِ ما لا تَسْتَحِقُّه. فأمَّا نفَقَتُها على الزَّوْجِ الثاني، فإن قُلْنا: لها أنْ تتَزَوَّجَ. فنِكاحُها صَحِيحٌ، حُكْمُه في النَّفَقَةِ حُكْمُ الأنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ. وإن قُلنا: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب الحكم في امرأة المفقود، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 402. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يطلق امرأته وهي مستحاضة بما تعتد، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 159.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس لها أن تتَزَوَّجَ. فلا نفَقَةَ لها، فإن أنْفَقَ، لم يَرجِعْ بشيءٍ؛ لأنه مُتَطَوِّعٌ به (¬1)، إلَّا أن يُجْبِرَه الحاكمُ على ذلك، فيَحْتَمِلُ أن يرْجِعَ بها؛ لأنَّه ألْزَمَه أداءَ ما (¬2) لم يكن واجِبًا عليه، ويَحْتَمِلُ أن لا يرْجِعَ به؛ لأنَّ ما حَكمَ به الحاكمُ لا يجوزُ نقْضُه، ما لم يُخالِفْ كِتابًا أو سُنَّةً أو إجْماعًا. فإن فارَقَها بتَفْريقِ الحاكمِ أو غيرِه، فلا نفَقَةَ لها، إلَّا أن تكونَ حامِلًا، فيَنْبَنِي وُجوبُ النَّفقَةِ على الرِّوايتَين في النَّفَقَةِ؛ هل هي للحَمْلِ، أو لها مِن أجْلِه؟ فإن قُلْنا: هي للحَمْلِ. فلها النَّفَقَةُ؛ لأنَّ نَسَبَ (¬3) الحَمْلِ لاحقٌ به، فيَجبُ عليه الإنْفاقُ على وَلَدِه. وإن قُلْنا: لها مِن أجْلِه. فلا نَفَقَةَ لها؛ لأنَّها في غيرِ نِكاح صَحيح، فأشْبَهَ حَمْلَ المَوْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ. وإذا أتَتْ بوَلَدٍ يُمْكنُ كَوْنُه مِن الثاني، لَحِقَه نَسَبُه؛ لأنَّها صارَتْ فِراشًا له، وقد عَلِمْنا أنَّ الولَدَ ليس مِن الأوَّلِ؛ لأنَّها ترَبَّصَتْ بعدَ فَقْدِه أكثرَ (¬4) مُدَّةِ الحَمْلِ، وتَنقَضِي عِدَّتُها مِن الثاني بوَضْعِه؛ لأنَّ الولَدَ منه، وعليها أنْ تُرْضِعَه اللِّبَأ (¬5)؛ لأنَّ الولَدَ لا يقومُ بَدَنُه إلَّا به، فإن رُدَّتْ إلى الأوّلِ، فله مَنْعُها مِن رَضاعِه، كما له أن يَمْنَعَها مِن رَضاعِ أجْنَبِيٍّ؛ لأنَّ ذلك يَشْغَلُها عن حُقُوقِه، إلّا أن يُضْطرَّ إليها، ويُخْشَى عليه التَّلَفُ، فليس له مَنْعُها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) في تش، ق: «سبب». (¬4) بعده في تش، م: «من». (¬5) اللبأ: أول اللبن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن رَضاعِه؛ لأنَّ هذا حالُ ضَرورَةٍ. فإن أرْضَعَتْه في بيتِ الزوْجَ الأوَّلِ، لم تَسْقُطْ نفَقَتُها؛ لأنَّها في قَبْضَتِه ويَدِه، وإن أرْضَعَتْه في غيرِ بَيته بغيرِ إذْنِه، فلا نفَقَةَ لها؛ لأنها ناشِزٌ، وإن كان بإذْنِه، خُرِّجَ على الرِّوايتَين فيما إذا سافَرَتْ بإذْنِه. فصل في مِيراثها مِن الزَّوْجَين وتَوْرِيثهما منها: متى مات زَوْجُها الأوَّلُ، أو ماتَتْ قبلَ تَزَوُّجها الثاني، وَرِثَتْه وَوَرِثَها. وكذلك إن تَزَوَّجَتِ الثاني فلم يَدْخُلْ بها؛ لأنَّنا قد تَبَيَّنا أنه متى قَدِمَ قبلَ الدُّخولِ بها، رُدَّتْ إليه بغيرِ تخْيِيرٍ. وذكرَ القاضي فيها روايةً أُخْرَى (¬1)، أنَّه يُخيَّرُ فيها. فعلى هذه الرِّوايةِ، حُكْمُها حُكْمُ ما لو دَخَلَ بها الثاني. فأمَّا إذا دَخَلَ بها الثاني، وقَدِمَ زَوْجُها الأولُ فاخْتارَها، رُدَّت إليه، ووَرِثَها ووَرِثَتْه، ولم تَرِثِ الثانِيَ ولم يَرِثْها؛ لأنه لا زَوْجِيَّةَ بَينَهما. وإن مات أحَدُهما قبلَ اخْتِيارِها؛ إمَّا في الغَيبَةِ أو بعدَ قُدومِه، فإن قُلْنا: إن لها أن تتَزَوَّجَ. وَرِثَتِ الزوْج الثانِيَ ووَرِثَها، ولِم تَرِثِ الأوَّلَ ولم يَرِثْها؛ لأن مَن خُيِّرَ بينَ شَيئَين فتَعَذرَ أحَدُهما، تعَيَّنَ الآخرُ. وإن ماتَتْ قبلَ اخْتِيارِ الأوَّلِ، خُيِّرَ، فإنِ اخْتارَها وَرِثَها، وإن لم يَخْتَرْها وَرِثَها الثاني. هذا ظاهِرُ قولِ أصْحابِنا. وأنا على ما اخْتارَه شيخُنا (¬2)، فإنها لا تَرِثُ الثانِيَ ولا يَرِثُها بحالٍ، إلَّا أن يُجَدِّدَ لها (¬3) عَقْدًا، أو لا يَعْلَمَ أن الأولَ كان حَيًّا، ومتى عَلِمَ أنَّ الأوَّلَ كان ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: المغني 11/ 257. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَيًّا، وَرِثَها ووَرِثَتْه، إلا أن يَخْتارَ تَرْكَها، فتَبِين منه بذلك، فلا تَرِثه ولا يَرِثها. وعلى قولِ أبي الخَطابِ، إن حَكَمْنا بوقوعِ الفرْقَةِ بتَفْريقِ الحاكمِ ظاهِرًا وباطِنًا، وَرِثَتِ الثاني ووَرِثَها دونَ الأولِ، وإن لم نَحْكمْ بوقوعِ الفرْقَةِ باطِنًا، وَرِثَتِ الأولَ، ووَرِثَها دونَ الثاني. فأمَّا عِدتها منهما، فمَن وَرِثَتْه اعْتَدتْ لوَفاتِه عِدَّةَ الوَفاةِ. وإن مات الثاني في موْضِع لا تَرِثه، فالمَنْصوص عن أحمدَ، أنَّها تَعْتَدُّ عِدةَ الوَفاةِ في النِّكاحِ الفاسدِ. فعلى هذا، عليها عِدَّة الوَفاةِ لِوَفاتِه. وهو اخْتيار أبي. وقال ابن حامِدٍ: لا عِدَّةَ عليها لِوَفاتِه، لكنْ تَعْتَدُّ مِن وَطْئِه بثلاثةِ قروءٍ، فإن ماتا معًا، اعْتَدتَ لكلِّ واحدٍ منهما، وبدأتْ بعِدَّةِ الأولِ، فإن أكْمَلَتْها، اعْتَدَّتْ للآخَرِ، وإن مات الأول أولًا، فكذلك، وإن مات الثاني أولًا، بدَأتْ بعِدَّتِه، فإن مات الأوَّل، انقَطَعَتْ عِدَّة الثاني، ثم ابتدأتْ عِدَّةَ الأولِ، فإذا أكَمْلَتْها، أتَمَّتْ عِدةَ الثاني. وإن علِمَ مَوْت أحَدِهما، وجهِلَ وَقْت (¬1) مَوْتِ الآخَرِ، أو جهِلَ مَوْتهما، فعليها أن تَعْتَد عِدتَين مِن حينَ تَيَقَّنَتِ المَوْتَ، وتبْدأ بعِدَّةِ الأوَّلِ؛ لأنَّه أسْبَق وأوْلَى، وإن كانتْ حامِلًا فبِوَضْعِ الحملِ تَنْقَضِي عِدَّة الثاني لأنَّ الولَدَ منه، ثم تَبْتَدِيء بعِدَّةِ الوَفاةِ، أرْبعَةَ أشْهر وعَشْرًا. فصل: إذا تزَوَّجَتِ امرأة المَفْقُودِ في وَقْتٍ ليس لها أن تتزَوجَ فيه، نحوَ أن تتزَوَّجَ قبلَ مضِيِّ المدَّةِ التي يباحُ لها التزَوُّج بعدَها، أو كانت غَيبَة ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوْجِها ظاهِرُها السَّلامَةُ، أو ما أشْبَهَ هذا، فنِكاحها باطِل. وقال القاضي: إن تَبَيَّنَ أنَّ زَوْجَها قد مات، وانْقَضَتْ عِدَّتُها منه، أو فارَقَها وانْقَضَتْ عِدَّتُها، ففي صِحَّةِ نِكاحِها وَجْهان؛ أحَدُهما، هو صَحيح؛ لأنَّها ليستْ في نِكاح ولا عِدَّةٍ، فصَحَّ تَزْويجُها، كما لو عَلِمَتْ ذلك. والثاني، لا يَصِحُّ؛ لأنَّها مُعْتَقِدَة تَحْرِيمَ نِكاحِها وبُطْلانَه. وأصْلُ هذا مَن باعَ عَينًا في يَدِه يعْتَقِدُها لمَوْرُوثِه، فبانَ مَوْرُوثُه مَيِّتًا والعينُ مَمْلوكةً له بالإِرْثِ، هل يَصِحُّ البَيعُ؟ فيه وَجْهان. كذا ههُنا. ومذهبُ الشافعيِّ مثلُ هذا. ولَنا، أنَّها تزَوَّجَتْ في مُدَّةٍ مَنَعَها الشَّرْعُ النِّكاحَ فيها، فلم يَصِحَّ، كما لو تزَوَّجَتِ المُعْتَدَّةُ في عِدَّتِها، والمُرْتابَةُ قبلَ زَوالِ الرِّيبَةِ. فصل: وإن غابَ رَجُلٌ عن زَوْجَتِه، فشَهِدَ ثِقات بوَفاتِه، فاعْتَدَّتْ زوجَتُه للوَفاةِ، أُبِيحِ لها أن تتزَوَّجَ. فإن عادَ الزوجُ بعدَ ذلك، فحُكْمُه حُكْمُ المَفْقُودِ، يُخيَّرُ زَوْجُها بينَ أخْذِها وتَرْكِها وله الصَّداقُ، وكذلك إن تظاهَرَتِ الأخْبارُ بمَوْتِه. وقد رَوَى الأثْرَمُ بإسنادِه، عن أبي المَلِيحِ، عن سُهَيَّةَ (¬1)، أنَّ زَوْجَها صَيفِيَّ بنَ فَسِيلٍ (¬2)، نُعِيَ لها مِن قَنْدابِيلَ (¬3)، فتزوَّجَتْ بعدَه، ثم إنَّ زَوْجَها الأوَّلَ قَدِمَ، فأتَينا (¬4) عُثمانَ وهو مَحْصُور، ¬

(¬1) في الأصل: «شهبة». (¬2) في النسخ: «فشيل». وفي سنن البيهقي: «قتيل». وفي نسخة منه: «فسيل». وكذا ورد اسمه عند الطبري في تاريخه 5/ 80. وعند ابن سعد: «قسيل» بالقاف، وهو كذلك في نسخة لابن الأثير، في: الكامل 3/ 341. (¬3) في م: «قيذائيل». وقندابيل: مدينة بالسند وهي قصبة لولاية يقال لها: الندهة. معجم البلدان 4/ 183. (¬4) في الأصل: «فأتيا».

فَصْل: وَإذَا وُطِئَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ أوْ غَيرِهَا، أتَمَّتْ عِدَّةَ الْأوّلِ، ثُمّ اسْتَأنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الْوَطْءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْرَفَ علينا، ثم قال: كيف أقْضِي بَينَكم (¬1) وأنا على هذه الحالِ! فقُلْنا: قد رَضِينا بقَوْلِكَ. فقَضَى أن يُخَيَّرَ الزَّوْجُ الأوَّلُ بينَ الصداقِ وبينَ المرأةِ. فلما قُتِلَ عثمانُ، أتَينا عليًّا، فخَيَّرَ الزَّوْجَ الأوَّلَ بينَ الصَّداقِ والمرأةِ، فاخْتارَ الصداقَ، فأخَذَ مِنِّي ألْفَين، ومِن زَوْجِي الآخَرِ (¬2) ألْفَين (¬3). فإن حَصَلَتِ الفُرْقَةُ بشَهادَةٍ مَحْصُورَةٍ، فما حَصَلَ مِن غَرامةٍ فعليهما؛ لأنَّهما سَبَب في إيجابِها. وإن شَهِدا بِمَوْتِ رجل، فَقُسِمَ مالُه، ثم قَدِمَ، فما وَجَدَ مِن مالِه أخَذَه، وما تَلِفَ منه أو تَعَذرَ رُجُوعُه فيه، فله تَضْمِينُ الشَّاهِدَين؛ لأنَّهما سَبَبُ الاسْتِيلاءِ عليه، وللمالِكِ تَضْمِينُ المُتْلِفِ؛ لأنه أتْلَفَ ماله بغيرِ إذْنِه. فصل: (وإذا وُطِئَتِ المُعْتَدَّةُ بشُبْهَةٍ أو غيرِها، أتَمَّتْ عِدَّةَ الأوَّلِ، ثم اسْتأنفَتِ العِدةَ مِن الوَطْءِ) إنما كان كذلك؛ لأن العِدَّتَين مِن رَجُلَين ¬

(¬1) في م: «بينكما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 8/ 471. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 88، 89. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 447.

3872 - مسألة (وإن كانت بائنا فأصابها المطلق عمدا، فكذلك)

وَإنْ كَانَتْ بَائِنًا فَأصَابَهَا الْمُطَلِّقُ عَمْدًا، فَكَذَلِكَ، وَإنْ أصَابَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يتَداخلانِ، لِكَوْنِهما حَقّ! ين لرَجُلَين، أشْبَهَ الدَّينَين، فتُتِمُّ عِدَّةَ الأوَّلِ، وتجبُ للثاني عِدَّة كاملة بعدَ قضاءِ عِدَّةِ الأوَّلِ. 3872 - مسألة (وإن كانت بائِنًا فأصابها المُطَلِّقُ عَمْدًا، فكذلك) لأنَّها قد صارَتْ أجْنَبِيَّةً منه، فأشْبَهَ وَطْءَ الأجْنَبِيِّ (وإن

بِشُبْهَةٍ، اسْتَأنَفَتِ الْعِدَّةَ لِلْوَطْءِ، وَدَخَلَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ الأولَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ أصابَها بشُبْهَةٍ، اسْتأنفَتِ العِدَّةَ مِن الوَطْءِ، ودخَلَتْ فيها بَقِيَّةُ الأولى) لأنَّ الوَطْءَ بالشُّبْهَةِ يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فدخَلَتْ بَقِيَّةُ الأولى في العِدةِ الثانيةِ.

3873 - مسألة: وكل معتدة من غير النكاح الصحيح؛ كالزانية، والموطوءة بشبهة، أو في نكاح فاسد، فقياس المذهب تحريم نكاحها على الواطئ وغيره. قال شيخنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3873 - مسألة: وكلُّ مُعْتَدَّةٍ مِن غيرِ النكَاحِ الصَّحِيحِ؛ كالزَّانِيَةِ، والمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، أو في نِكاح فَاسِدٍ، فقِياسُ المَذْهَبِ تَحْرِيمُ نِكاحِها على الواطِئ وغَيرِه. قال شيخُنا (¬1): والأوْلَى حِلُّ نِكاحِها لمن هي مُعْتَدَّة منه، إن كان يَلْحَقُه نَسَبُ ولَدِها؛ لأنَّ العِدَّةَ لحِفْظِ مائِه، وصِيانةِ نَسَبِه، ولا يُصانُ ماؤه المُحْتَرَمُ عن مائِه المُحَرَّمِ (¬2)، ولا يُحْفَظُ نَسَبُه عنه، ولذلك أبِيحَ للمُخْتَلِعَةِ نِكاحُ مَن خالعَها، ومَن لا يَلْحَقُه نَسَبُ ولَدِها، كالزَّانِيَةِ، لا يَحِلُّ له نِكاحُها؛ لأنَّه يُفْضِي إلى اشْتِباهِ النَّسَبِ، فالواطِيء كغيرِه في أنَّ النَّسَبَ لا يَلْحَقُ بواحدٍ منهما. ¬

(¬1) في المغني 11/ 240. (¬2) في الأصل، ق، م: «المحترم».

3874 - مسألة: (وإن تزوجت في عدتها، لم تنقطع عدتها حتى يدخل بها، فتنقطع حينئذ)

المقنع وَإنْ تَزَوَّجَتْ فِي عدَّتِهَا، لَمْ تَنْقَطِعْ عِدَّتُهَاحَتَّى يَدْخُلَ بِهَا، فَتَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3874 - مسألة: (وإنْ تَزَوَّجْت في عِدَّتِها، لم تَنْقَطِعْ عِدَّتُها حتى يَدْخُلَ بها، فتَنْقَطِعُ حينَئذٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُعْتَدَّةَ لا يجوزُ لها أن تَنْكِحَ في عِدَّتِها، إجْماعًا، لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (¬1). ولأنَّ العِدَّةَ إِنَّما اعْتُبِرَتْ لمَعْرِفَةِ براءَةِ الرَّحِمِ، لِئلَّا يُفْضِيَ إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ. فإن تزَوَّجت فالنِّكاحُ باطِل، لأنَّها مَمنوعَة مِن النِّكاحِ لحَقِّ الزَّوْج الأوَّلِ، فكان نِكاحًا باطِلًا، كما لو تزَوَّتَجْت وهي في نِكاحِه، ويجبُ أن يُفرَّقَ بينَه وبينَها، فإن لم يَدْخُلْ بها، فالعِدةُ بحالِها لا تَنْقَطِعُ بالعَقْدِ الثاني، لأَنه باطِل لا تَصِيرُ به المرأةُ فِراشًا، ولا يُسْتَحَقُّ عليه بالعَقْدِ شيءٌ، وتَسْقُطُ نَفَقَتُها وسُكْناها عن الزَّوْجِ الأوَّلِ، لأنَّها ناشِزٌ. وإن وَطِئَها، انْقَطَعَتِ العِدَّةُ، سَواءٌ عَلِمَ التَّحْريمَ أو جَهِلَه. وقال أبو حنيفةَ: لا تَنْقَطِعُ، لأنَّ كَوْنَها فِراشًا لغيرِ مَن له العِدَّةُ لا يَمْنَعُها، كما لو وُطِئتْ بشُبْهَةٍ وهي زَوْجَة، فإنَّها تَعْتَدُّ وإن كانت فِراشًا للزَّوْجِ. وقال الشافعيُّ: إن وَطِئَها عالِمًا بأنَّها مُعْتَدَّة، وأنَّه مُحَرَّمٌ، فهو زانٍ، فلا تَنْقَطِعُ العِدَّةُ بوَطْئه، لأنَّها لا تَصِيرُ به فِراشًا، ولا ¬

(¬1) سورة البقرة 235.

3875 - مسألة: (ثم إذا فارقها، بنت على عدة الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني)

ثُمَّ إِذَا فَارَقَهَا، بَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا مِنَ الأوَّلِ، وَاسْتَأنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الثَّانِي، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْحَقُ به نَسَبٌ، وإن كان جاهِلًا أنَّها مُعْتَدَّة، أو بالتَّحْريمِ، انْقَطَعَتِ العِدَّةُ بالوَطْءِ؛ لأنَّها تَصِيرُ به فِراشًا، والعِدَّةُ تُرادُ للاسْتِبْراءِ، وكَوْنُها فِراشًا يُنافِي ذلك، فوَجَبَ أن يَقْطَعَها، فأمَّا طَرَيانُه عليها، فلا يجوزُ. ولَنا، أنَّ هذا وَطْءٌ بشُبْهَةِ نِكاحٍ، فتَنْقَطِعُ به العِدَّةُ، كما لو جَهِلَ. وقولُهم: إنَّها لا (¬1) تصيرُ به فِراشًا. قُلْنا: لكنَّه لا يَلْحَقُ الولَدُ الحادثُ مِن وَطئِه بالزَّوْجِ الأوَّلِ، فهما سِيَّانِ (¬2). إذا ثَبَتَ هذا، فعليه فِراقُها، فإن لم يَفْعَلْ، وجَبَ التفْرِيقُ بينَهما. 3875 - مسألة: (ثم إذا فارَقَها، بَنَتَ على عِدَّةِ الأوَّلِ، ثم اسْتأنَفَتِ العِدَّةَ مِن الثَّانِي) إنما بَنَتْ على عِدَّةِ الأوَّلِ؛ لأنَّ حَقَّه أسْبق، ولأنَّ عِدَّتَه وجَبَتْ عن وَطْء في نِكاح صحيح، فإذا كَمَّلَتْ عِدَّةَ الأؤلِ، وجَبَ عليها أن تَعْتَدَّ مِن الثاني، ولا تَتداخَلُ العِدَّتانِ؛ لأنَّهما مِن رَجُلَين. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: تتَداخَلان، فتَأتِي بِثلاثةِ قروءٍ بعدَ مُفارَقَةِ الثاني، تكونُ عن بَقِيَّةِ عِدَّةِ الأوَّلِ، وعِدَّةً للِثاني؛ لأن القَصْدَ معْرِفَةُ بَراءَةِ الرَّحِمِ، وهذا يَحْصُلُ به بَراءَةُ الرَّحِمِ منهما جميعًا. ولَنا، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «سببان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما روَى مالِك (¬1)، عن ابنِ شِهاب، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وسُليمانَ بنِ يَسار، أنَّ طُلَيحَةَ كانت تحتَ رُشَيدٍ الثَّقَفِيِّ، فطَلَّقَها، ونكحَتْ في عِدَّتِها، فضَرَبَها عمرُ بنُ الخَطَّابِ، رَضِيَ الله عنه، وضَرَبَ زَوْجَها ضَرَباتٍ (¬2) بمِخْفَقَةٍ، وفَرَّفَ بينَهما، ثم قال: أيما امْرأةٍ نَكَحَتْ في عِدَّتِها، فإن كان زَوْجُها الذي تَزَوَّجَها لم يَدْخُلْ بها، فُرِّقَ بينَهما، ثم اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِها مِن زَوْجِها الأوَّلِ، [وكان خاطبًا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدتْ بَقِيةَ عِدَّتِها مِن الأوَّلِ] (¬3)، ثم اعْتَدَّتْ مِن الآخرِ، ولا يَنْكِحُها (¬4) أبدًا. وروى بإسْنادِه عن علي أنَّه قَضَى في التي تزَوَّجُ في عِدَّتِها، أنَّه يُفَرَّقُ بينَهما، ولها الصَّداقُ بما اسْتَحَلَّ مِن فرْجِها، وتُكْمِلُ ما أفْسَدَتْ مِن عِدَّةِ الأوَّلِ، وتَعْتَدُّ مِن الآخَر (¬5). وهذان قَوْلَا سَيِّدَين مِن الخُلَفاءِ، لم يُعْرَفْ لهما في الصَّحابةِ مُخالِف، ولأنَّهما حَقَّانِ مَقْصُودان لآدَمِيَّينِ، فلم يتَداخَلا، كالدَّينَين واليَمِينَين، ولأنَّه حَبْسٌ يَسْتَحِقُّه الرجالُ على النِّساءِ، فلم يَجُزْ أن تكونَ المرأةُ في حَبْسِ رَجُلَين، كالزّوْجَةِ. ¬

(¬1) في: باب جامع ما لا يجوز من النكاح، من كتاب النكاح. الموطأ 2/ 536.كما أخرجه الإمام الشافعي، انظر: الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 56، 57. وعبد الرزاق، في: باب نكاحها في عدتها، من كتاب الطلاق. المصنف 6/ 210. (¬2) في الأصل: «ضربتان». (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في الأصل: «من الآخر». (¬5) أخرجه الإمام الشافعي، انظر: الباب الخامس في العدة، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 57. =

3876 - مسألة: (وإن أتت بولد من أحدهما، انقضت عدتها به منه، ثم اعتدت للآخر أيهما كان)

وَإنْ أتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ أحَدِهِما، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِهِ مِنْهُ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلآخَرِ أيِّهِمَا كَانَ، وَإنْ أمْكَنَ أنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3876 - مسألة: (وإن أتَتْ بِولَدٍ مِن أحَدِهما، انْقَضَتْ عِدَّتُها به منه، ثم اعْتَدَّتْ للآخَرِ أيهما كان) وجملةُ ذلك، أنَّ التي تزَوَّجْت في عِدَّتِها إذا كانت حامِلًا، انْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضْعِ حَمْلِها؛ لقولِ الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). فإن كان يُمْكِن أن يكونَ مِن الأوَّلِ دُونَ الثاني، [وهو أن تَأتِيَ به] (¬2) لِدُونِ ستَّةِ أشْهُر مِن وَطْءِ الثاني، وأرْبَعِ سِنِينَ فما دُونَها مِن فِراقِ الأوَّلِ، فإنَّه يَلْحَقُ بالأوَّلِ، وتَنْقَضِي عِدَّتُها منه بوَضْعِه، ثم تَعْتَدُّ بثلاثةِ قُروء عن الثاني. وإن أمْكَنَ كَوْنُه مِن الثاني دونَ الأوَّل، وهو أن تأتِيَ به لِسِتَّةِ أشْهُر فما زادَ إلى أرْبَع سِنِينَ مِن وَطْءِ الثاني، ولأكثرَ مِن أرْبَعِ سِنِينَ منذُ بانتْ مِن الأوَّلِ، فهو مُلْحَق بالثاني وحْدَه، تَنْقَضِي به عِدَّتُها منه، ثم تُتَمِّمُ عِدَّةَ الأوَّلِ. وتُقَدَّمُ عِدَّةُ الثاني ههُنا؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يكونَ الحملُ مِن إنْسانٍ والعِدَّةُ مِن غيرِه. 3877 - مسألة: (وإن أمْكَنَ أن يَكُونَ مِنْهُما) وهو أن تأتِيَ به لِسِتَّةِ أشْهُر فصاعِدًا مِن وَطْءِ الثَّانِي، ولأرْبَعِ سِنِينَ فَما دُونَها مِن بَينُونَتِها مِن الأوَّلِ (أُرِيَ القافَةَ معهما) فإن ألْحَقَتْه بالأوَّلِ، لَحِقَ به، كما لو أمْكَنَ ¬

= وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في المرأة تزوج في عدتها، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 170. والبيهقي، في: باب اجتماع العدتين، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 441. (¬1) سورة الطلاق 4. (¬2) في الأصل: «يلحق بالأول وتنقضي عدتها».

فَأُلحِقَ بِمَنْ ألحَقُوهُ بِهِ مِنْهُمَا، وَانْقَضَتْ عِدتُهَا بِهِ مِنْهُ، وَاعْتَدتْ لِلآخرِ، وإن ألحَقتْهُ بِهِمَا، ألحِقَ بِهِمَا، وَانقضَت عِدتهَا بِهِ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَكُونَ منه دُونَ الثَّانِي، وإن ألْحَقتْه بِالثَّانِي، لَحِقَ به، وكان الحُكْمُ كما لو أمْكَنَ أن يَكُونَ مِن الثَّانِي دُونَ الأوَّلِ (فإن ألْحَقَتْه بهما، لَحِقَ بهما) ومُقْتَضَى المذهبِ أن تَنْقَضِيَ عِدَّتُها به (¬1) منهما جميعًا؛ لأنَّ نَسَبَه ثَبَتَ منهما، كما تَنْقَضِي عِدَّتُها به مِن الواحدِ الذي ثَبَتَ نَسَبُه منهما. فأمَّا إن نَفَتْه القافةُ عنهما، فحُكْمُه حكمُ ما لو أشكلَ أمرُه. فعلى هذا، تَعْتَدُّ بعدَ وَضْعِه بثلاثةِ قُروءٍ؛ لأنَّه إن كان مِن الأوَّلِ، فقد أتَتْ بما عليها مِن عِدّةِ الثاني، وإن كان مِن الثاني (¬2)، فعليها أن تُكْمِلَ عِدَّةَ الأوَّلِ؛ ليَسْقُطَ الفَرضُ بيَقِينٍ، ولا يَنْتَفِي الولَدُ عنهما لقَوْلِ القافةِ؛ لأنَّ عملَ القافةِ ترْجِيحُ أحدِ صاحِبَي الفِراش، لا في النَّفْي عن الفِراش كله، ولهذا لو كان صاحبُ الفِراشِ واحِدًا فنَفَتْه القافةُ عنه، لم يَنْتَفِ بقَوْلِها. فأمَّا إن ولَدَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الأول».

3878 - مسألة: (وللثاني أن ينكحها بعد انقضاء العدتين.

وَللثَّانِي أن يَنْكِحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ العِدَّتَينِ. وَعَنْهُ، أنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ لدُونِ سِتَّةِ أشْهُر مِن وَطْءِ الثاني، ولأكْثرَ مِن أرْبَعِ سِنِينَ مِن فِراقِ الأوَّلِ، لم يَلْحَقْ بواحِدٍ منهما، ولا تَنْقَضِي به (¬1) عِدَّتُها منه، لأنَّا نَعْلَمُ أنَّه مِن وَطْءٍ آخَرَ، فتَنْقَضِي به عِدَّتُها مِن ذلك الوَطْءِ، ثم تُتِمُّ عِدَّةَ الأولِ، وتَسْتأنف عِدَّةَ الثاني، لأنَّه قد وُجِدَ ما يَقْتَضِي عِدةً ثالثةً، وهو الوَطْءُ الذي حَمَلَتْ منه، فيَجِبُ عليها عِدَّتان، وإتْمامُ العِدَّةِ [مِن الأولِ] (¬2). فصل: إذا تزَوَّجَ مُعْتَدَّةً، وهما عَالِمان بالعِدَّةِ وبتَحْرِيمِ النِّكاحِ فيها، ووَطِئَها، فهما زَانِيان عليهما حَدُّ الزِّنَى، ولا مَهْرَ لها، ولا يَلْحَقُه النَّسَبُ، وإن كانا جاهِلَين بالعِدَّةِ أو بالتَّحْرِيمِ، ثَبَتَ النَّسَبُ، وانْتَفَى الحَدُّ، ووَجَبَ المَهْرُ، وإن عَلِمَ هو دُونَها، فعليه الحَدُّ والمَهْرُ، ولا يَلْحَقُه النّسَبُ، وإن عَلِمَتْ هي دُونَه، فعليها الحَدُّ، ولا مَهْرَ لها، ويَلْحَقُه النَّسَبُ، وإنَّما كان كذلك، لأنَّ هذا نِكَاح مُتّفَق على بُطْلانِه، فأشْبَهَ نِكاحَ ذَواتِ مَحارِمِه. 3878 - مسألة: (وللثَّاني أن يَنْكِحَها بعدَ انْقِضاء العِدَّتَين. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «للأول»، وفي ق، م: «الأولى».

عَلَى التَّأبِيدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، أنَّها تَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ) أمَّا الزوجُ الأوَّلُ، فإن كان طَلَّقَ ثلاثًا، لم تَحِلَّ له بهذا النِّكاحِ وإن وَطِئَ فيه؛ لأنَّه نِكاح باطل، وإن طَلَّقَ دُونَ الثَّلاثِ، فله نِكاحُها بعدَ العِدَّتَين. وإن كانت رَجْعِيَّة، فله رَجْعَتُها في عِدَّتِها منه. وأمَّا الزَّوْجُ الثاني، ففيه روايتان؛ إحداهما، تَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ في القَديمِ؛ لقَوْلِ عمرَ، رَضِيَ الله عنه: لا يَنْكِحُها أَبدًا. ولأنَّه استَعْجَل الحَقَّ قبلَ (¬1) وَقْتِه، فحُرِمَه في وَقْتِه، كالوارِثِ إذا قتلَ مَوْرُوثَه، ولأنه يُفْسِدُ النَّسبَ، فيُوقِعُ التَّحْرِيمَ المُؤبَّدَ، كاللِّعانِ. والثانيةُ، تَحِلُّ له. قال الشافعيُّ في الجديدِ: له نِكاحُها بعدَ قَضاء عِدَّةِ الأولِ، ولا يُمْنَعُ مِن نِكاحِها في عِدَّتِها منه؛ لأنه وَطْء يَلْحَقُ به النَّسَبُ، فلا يَمْنَعُ مِن نِكاحِها في عِدَّتِها منه، كالوَطْءِ في النِّكاحِ، ولأنَّ العِدَّةَ إنَّما شُرِعَتْ حِفْظًا للنَّسَبِ، وصِيانَةً للماءِ، والنَّسَبُ لاحِقٌ به ههُنا، فأشبَهَ ما لو خالعَها ثم نَكَحَها في عِدَّتِها. قال شَيخُنا (¬2): وهذا قول حسن مُوافِق للنظَرِ. ولَنا على إباحَتِها بعدَ العِدَّتَين، أنَّه لا يَخْلو؛ إمَّا أن يكونَ تَحْرِيمُها بالعَقْدِ، أو بالوَطْءِ في النِّكاحِ الفاسدِ، أو بهما، ¬

(¬1) في ق، م: «في غير». (¬2) في: المغني 11/ 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجميعُ ذلك لا يَقْتَضِي التَّحْريمَ، بدليلِ ما لو نَكَحَها بلا وَلِي ووَطِئَها، ولأنه لو زَنَى بها، لم تَحْرُمْ عليه على التَّأبيدِ، فهذا أوْلَى، ولأنَّ آياتِ الإِباحةِ عامَّة، كقولِه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬1). وقولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). فلا يجوزُ تَخْصِيصُها بغيرِ دليل، وما رُوِيَ عن عمرَ في تَحْرِيمِها، فقد خالفَه على فيه، ورُوِيَ عن عمرَ، أنَّه رَجَعَ عن قولِه في التَّحْرِيمِ إلى قولِ علي، فإنَّ عَلِيًّا قال: إذا انْقَضَتْ عِدَّتُها، فهو خاطِب مِن الخُطابِ. فقال عمرُ: رُدُّوا الجَهالاتِ إلى السُّنَّة. ورَجَعَ إلى قولِ علي (¬3). وقِياسُهم يَبْطُلُ بما إذا زَنَى بها، فإنَّه قد اسْتَعْجَلَ وَطْأها، ولا تَحْرُمُ عليه على التَّأبِيدِ، ووَجْهُ تَحْرِيمِها قبلَ قَضاءِ عِدَّةِ الثاني عليه، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (¬4). ولأنَّه وَطْء يَفْسُدُ به النَّسَب، فلم يَجُزِ النِّكاحُ في العِدَّةِ منه، كوَطْءِ الأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) سورة المائدة 5. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور، في: باب من راجع امرأته وهو غائب، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 314. والبيهقي، في: باب الاختلاف في مهرها وتحريم نكاحها على الثاني، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 442. (¬4) سورة البقرة 235.

3879 - مسألة: (وإن وطيء رجلان امرأة، فعليها عدتان لهما)

وَإنْ وَطِيء رَجُلَانِ امْرأةً، فَعَلَيهَا عِدَّتَانِ لَهُمَا. فصل: وإذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ثَانِيَةً، بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3879 - مسألة: (وإن وَطِيء رجلان امْرَأةً، فعليها عِدَّتان لهما) لحَدِيثِ عمرَ وعلي الذي ذَكَرْناه فيما إذا تَزَوَّجَتْ في عِدّتِها، ولأنَّهما حَقَّان مَقْصُودان لآدَمِيين، فلم يَتَداخَلا، كالدَّينَين. فصل: إذا خالعَ الرجلُ امرأتَه، أو فَسَخَ نِكاحَه، فله أن يتَزَوَّجَها في عِدَّتِها في قولِ الجُمْهورِ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاء، والزُّهْرِيُّ، والحسنُ، وقَتادةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأي. وشَذّ بعضُ المُتَأخِّرين، فقال: لا يَحِلُّ له نِكاحُها، ولا خِطْبَتُها؛ لأَنَّها مُعْتَدَّةٌ. ولَنا، أنّ العِدَّةَ لحِفْظِ نَسَبِه، وصِيانةِ مَائِه، ولا يُصانُ ماؤهُ عن مائِه إذا كانا مِن نِكاحٍ صَحِيحٍ. فإذا تزَوَّجَها، انْقَطَعَت العِدَّةُ؟ لأنَّ المرأةَ تَصِيرُ فِراشًا له بعَقْدِه، ولا يجوزُ أن تكونَ زَوْجَتُه مُعْتَدَّةً. فصل (¬1): (إذا طَلَّقَها واحِدَةً، فلم تَنْقَضِ عِدَّتُها حتى طَلَّقَها ثانيةً، بَنَتْ على ما مَضَى مِن العِدَّةِ) لأنَّهُما طَلاقان لم يَتَخَلَّلْهُما وَطْء ولا رَجْعَةٌ، ¬

(¬1) سقط هذا الفصل من الأصل.

3880 - مسألة: (وإن راجعها، ثم طلقها بعد دخوله بها، استأنفت العدة)

وإنْ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، اسْتَأنَفَتِ الْعِدَّةَ، وإنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَهَلْ تَبْنِي الْعِدَّةَ أوْ تَسْتَأنِفُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَها الطلقَتَين في وقتٍ واحدٍ. 3880 - مسألة: (وإن راجَعَها، ثم طَلَّقَها بعدَ دُخُولِه بها، اسْتأنَفَتِ العِدَّةَ) مِن الطَّلاقِ الثانِي؛ لأنه طَلَاق مِن نِكاح اتَّصَلَ به المَسِيسُ. 3881 - مسألة: (وإن طَلقَها قبلَ دُخُولِه بها، فهل تَبْنِي أو تَسْتأنِفُ؟ على رِوايَتَين) أولاهما، أئها تَسْتَأنِفُ؛ لأنَّ الرَّجْعَةَ أزالتْ شَعَثَ الطَّلاقِ الأوَّلِ، [ورَدَّتْها] (¬1) إلى النكاء الأوَّلِ، فصار الطَّلاقُ الثاني طَلاقًا مِن نكاح اتَّصَلَ به المَسِيسُ. والثانيةُ، تَبْنِي؛ لأنَّ الرَّجْعَةَ لا تَزِيدُ على النِّكاحِ الجديدِ، ولو نَكَحَها ثم طَلَّقَها قبلَ المَسِيسِ، لم يَلْزَمْها لذلك الطلاقِ عِدَّة، فكذلك الرجعةُ. فإن فَسَخ نِكاحَها قبلَ الرَّجْعَةِ بخُلْعٍ أو غيرِه، احْتَمَلَ أن يكونَ حُكْمُه حُكْمَ الطلاقِ؛ لأنَّ مُوجَبَهما (¬2) في العِدَّةِ مُوجَبُ الطَّلاقِ، ولا فَرْقَ بينَهما، واحْتَمَلَ أن ¬

(¬1) في م: «ورد بما». (¬2) في الأصل، م: «موجبها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْتأنِفَ العِدَّةَ؛ لأنَّهما جِنْسان، بخلافِ الطلاق. وإن لم يَرْتَجِعْها بلَفْظِه، لكنَّه وَطِئَها في عِدَّتِها، فهل تَحْصُلُ بذلك رَجْعة؟ فيه روايتان؛ إحداهما، تَحْصُلُ، فيكونُ حُكْمُها حُكْمَ مَن ارْتَجَعَها بلَفْظِه ثم وَطِئَها سَواءً (¬1). والثانيةُ، لا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ به، ويَلْزَمُها اسْتِئْنافُ عِدةٍ؛ لأنه وَطْءٌ في نكاح تَشَعَّثَ، فهو كَوطْءِ الشبْهَةِ. وتَدْخُلُ بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطلاقِ فيها؛ لأنهما مِن رجل واحدٍ. [وإن حَمَلَتْ مِن هذا الوَطْءِ، فهل تَدْخُلُ فيها بَقِيَّةُ الأولَى؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، تَدْخُلُ؛ لأنَّهما مِن رجلٍ واحدٍ] (¬2). والثاني، لا تَدْخُلُ؛ لأنهما مِن جِنْسَين. فعلى هذا، إذا وضَعَتْ حَمْلَها، أتَمتْ عِدة الطلاق. وإن وَطِئَها وهي حامِل، ¬

(¬1) في م: «سواه». (¬2) سقط من: الأصل.

3882 - مسألة: (وإن طلقها طلاقا بائنا، ثم نكحها في عدتها، ثم طلقها قبل دخوله بها، فعلى روايتين)

وَإنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا، ثُمَّ نَكَحَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهَا قَبْلَ دُخولِهِ بِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَينِ؛ أوْلَاهُمَا، أنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مضَى مِنَ الْعِدَّةِ الأولَى، لِأنَّ هَذَا طَلَاق مِنْ نِكَاحٍ لَا دخولَ فِيهِ، فَلَا يوجِبُ عِدَّة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ففي تَداخلِ العِدَّتَين وَجْهان، فإن قلنا: يَتَداخَلان. فانْقِضاؤهما معًا بوَضْعِ الحَمْلِ. وإن قلْنا: لا يَتَداخَلان. فانْقِضاء عِدَّةِ الطلاق بِوَضْعِ الحملِ، وتَسْتَأنِف عِدَّةَ الوَطْءِ بالقروءِ. 3882 - مسألة: (وإن طَلَّقَها طَلاقًا بائِنًا، ثم نَكَحَها في عِدَّتِها، ثم طَلَّقَها قبلَ دُخولِه بها، فعلى رِوايَتَين) إحداهما، تَسْتأنِفُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه طَلاق لا يَخْلو مِن عِدَّةٍ، فأوْجَب عِدَّة مُسْتأنَفَةً كالأوَّلِ. والثانية، لا يَلْزَمها اسْتِئْناف عِدَّةٍ. اختارَها شيخُنا (¬1). وهو قولُ الشافعيِّ، ومحمدِ بنِ الحسنِ؛ لأَنه طَلاقٌ في نكاح قبلَ المَسِيسِ، فلم يُوجب عِدَّةً، لعُمُومِ قولِه سبحانه: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). وذكرَ القاضي في ¬

(¬1) انظر المغني 11/ 243. (¬2) سورة الأحزاب 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابِ «الروايتَينِ» أنَّه لا يَلْزَمُها اسْتِئْنافُ العِدَّةِ، روايةً واحدةً، لكنْ يَلْزَمُها إتْمامُ بَقِيَّةِ العِدَّةِ الأولَى؛ لأنَّ إسْقاطَها يُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، لأَنه يَتَزَوَّجُ امرأةً ويَطَؤها ويخْلَعُها، ثم يتزَوَّجُها ويُطَلقُها في الحالِ، ويتزوَّجُها الثاني، في يومٍ واحدٍ. فإن خَلَعَها حامِلًا، [ثم تَزَوَّجَها حامِلًا] (¬1)، ثم طَلَّقَها وهي حامِلٌ، انْقَضَتْ عِدَّتُها بوَضْعِ الحَمْلِ، على كِلتا الروايتَين، ولا نعلمُ فيه مُخالِفًا، ولا تَنْقَضِي عِدَّتُها قبلَ وَضْعِ حَمْلِها بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وإن وضَعَتْ حَمْلَها قبلَ النكاحِ الثاني، فلا عِدَّةَ عليها لِلطلاقِ مِن النِّكاحِ الثاني، بغيرِ خِلافٍ أيضًا؛ لأنه نكحَها بعدَ قَضاءِ عِدَّةِ الأوَّلِ. وإن وَضَعَتْه بعدَ النِّكاحِ الثاني وقبلَ طَلاقِه، فمَن قال: يَلْزَمُها استئنافُ عِدَّةٍ. أوْجَبَ عليها الاعْتِدادَ بعدَ طَلاقِ الثاني بثلاثةِ قُروءٍ. ومن قال: لا يَلْزَمُها استئنافُ عِدَّةٍ. لم يُوجِبْ عليها ههُنا عِدَّةً؛ لأنَّ العِدَّةَ الأولَى انْقَضَتْ بوَضْعِ الحملِ، إذْ لا يجوزُ أن تَعْتَدَّ الحامِلُ بغيرِ وَضْعِه. وإن كانت مِن ذَواتِ القُروءِ أو الشُّهورِ، فنَكَحَها الثاني بعد مُضِيِّ قَرْءٍ أو شَهْر، ثم مَضَى قَرءَانِ أو شَهْران قبلَ طَلاقِه مِن النكاحِ الثاني، فقد انْقَطَعَتِ العِدَّةُ بالنكاحِ الثاني. وإن قُلْنا: تَسْتَأنِفُ العِدَّةَ. فعليها عِدَّة تامَّةٌ، بثلاثةِ قُروء، أو ثلاثةِ أشْهُر. وإن قُلْنا: تَبْنِي. أتَمَّتِ العِدَّةَ الأولَى بقَرْأين أو شَهْرَين. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن طَلَّقَها طَلاقًا رَجْعِيًا، فنَكَحَتْ في عِدَّتِها مَن وَطِئها، فقد ذَكَرْنا أنَّها تَبْنِي على عِدَّةِ الأوَّل، ثم تَسْتَأنِفُ عِدَّةَ الثاني، ولِزَوْجِها الأوَّلِ. رَجْعَتُها في بَقِيَّةِ عِدَّتِها منه؛ لأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْساكٌ للزَّوْجةِ، وطَرَيانُ الوَطْءِ مِن أجْنَبِي على النِّكاحِ لا يَمْنَعُ الزَّوْجَ إمْساكَ زَوْجَتِه، كما لو كانت في صُلْبِ النِّكاحِ. وقيلَ: ليس له رَجْعَتُها؛ لأنَّها مُحَرَّمَة عليه، فلم يَصِحَّ له ارْتِجاعُها، كالمُرْتَدَّةِ. والصَّحيحُ الأوَّلُ (¬1)؛ فإنَّ التَّحْرِيمَ لا يَمْنَعُ الرَّجْعَة، كالإحْرامِ. ويُفارِقُ الرِّدّةَ؛ لأنَّها جارِيَة إلى بَينُونَةٍ (¬2) بعدَ الرَّجْعَةِ، بخِلافِ العِدَّةِ. وإذا انْقَضَتْ عِدَّتُها منه، فليسِ له رَجْعَتُهَا في عِدَّةِ الثاني؛ لأنَّها ليست منه. وإذا ارْتَجَعَها في عِدَّتِها مِن نفسِه، وكانت بالقُرُوءِ أو بالأشْهُرِ، انْقَطَعَتْ عِدّتُه بالرَّجْعَةِ، وابْتَدَأتْ عِدَّةً مِن الثاني، ولا يَحِلُّ له وَطْؤها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثاني، كا لو وُطِئَتْ بشُبْهَةٍ في صُلْبِ نِكاحِه. وإن كانت مُعْتَدَّةً بالحملِ، لم يُمْكِنْ (¬3) شُرُوعُها في عِدَّةِ الثاني قبلَ وَضْعِ الحمل؛ لأنَّها بالقُروءِ، فإذا وضَعَتْ حَمْلَها، شَرَعَتْ في عِدَّةِ الثاني، [وإن كان الحملُ مُلْحَقًا بالثاني، فإنَّها تَعْتَدُّ به عن الثاني] (¬4)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «بينونته». (¬3) في تش، ق، م: «يكن». (¬4) تكملة من المغني 11/ 245، 246.

فَصْلٌ: وَيَجِبُ الإحْدَادُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِنِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أوْ زِنًى، أوْ فِي نِكَاح فَاسِدٍ، أوْ بِمِلْكِ يَمِين، ـــــــــــــــــــــــــــــ وتتَقَدَّمُ عِدَّةُ الثاني على الأوَّلِ، فإذا أكْمَلَتْها، شَرَعَتْ في إتْمامِ عِدَّةِ الأوَّلِ، وله حينَئذٍ أن يَرْتَجِعَها (¬1)؛ لأنَّها في عِدَّتِه. وإن أحَبَّ أن يرْتَجِعَها في حالِ حَمْلِها (¬2)، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّها ليست في عِدَّتِه، وهي مُحَرَّمَة عليه، فأشْبَهَتِ الأجْنَبِيَّةَ أو المُرْتَدَّةَ. والثاني، له رَجْعَتُها؛ لأن عِدَّتَها منه لم تَنْقَضِ، وتحْرِيمُها لا يَمْنَعُ رَجْعَتَها، كالمُحْرِمَةِ. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه الله: (ويَجِبُ الإحْدادُ على المُعْتَدَّةِ مِن الوَفاةِ. وهل يجبُ على البائِنِ؟ على رِوايتَين. ولا يَجِبُ على الرجْعِيَّةِ، والمَوْطُوءةِ بشُبْهَةٍ أو زِنًى، أو في نِكاحٍ فاسدٍ، أو بمِلْكِ يَمينٍ) لا ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يتزوجها». (¬2) في الأصل: «حمله».

3883 - مسألة: (وهل يجب على البائن؟ على روايتين)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نعلمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في وُجُوبِ الإِحْدادِ على المُتَوَفَّى عنها زوْجُها، إلَّا عن الحسنِ، فإنَّه قال: لا يجبُ الإِحْدادُ. وهو قولٌ شَذَّ به عن أهلِ العلمِ، وخالفَ فيه السُّنَّةَ، فلا يُعَرَّجُ عليه. 3883 - مسألة: (وهل يَجِبُ على البائِنِ؟ على رِوايَتَين)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما، يجبُ عليها (¬1). وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأي. والثانيةُ، لا يجبُ عليها. وهو قولُ عَطاءٍ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، وابنِ المُنْذِرِ. ونحوُه قولُ (¬2) الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُومِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا» (¬3). وهذه عِدَّة (1) الوَفاةِ، فيَدُلُّ على أنَّ الإِحْدادَ إنَّما يجبُ في عِدَّةِ الوَفاةِ، ولأنَّها مُعْتَدَّة عن (¬4) غيرِ (1) وَفاةٍ، فلم يَجِبْ عليها الإِحْدادُ، كالرَّجْعِيَّةِ، والمَوْطُوءَةِ بشُبْهَة، ولأنَّ الإِحْدادَ في عِدَّةِ الوَفاةِ لإظْهارِ الأسَف على فِراقِ زَوْجِها وموْتِه، فأمّا الطَّلاقُ فإنَّه فارَقَها باخْتِيارِ نَفْسِه، وقطَع نِكاحَها، فلا مَعْنَى لتَكْلِيفِها (¬5) الحُزْنَ عليه، ولأنَّ المُتَوَفَّى عنها لو أتَتْ بولدٍ، لَحِقَ الزَّوْجَ، وليس له مَن يَنْفِيه، فاحْتِيطَ عليها بالإِحْدادِ؛ لئلَّا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «قال». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 5. (¬4) في ق، م: «من». (¬5) في م: «لتكلفها».

3884 - مسألة: ولا إحداد على الرجعية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْحَقَ بالمَيِّتِ مَن ليس منه، بخِلافِ المطَلَّقَةِ، فإنَّ زَوجَها باقٍ، فهو يَحْتاطُ عليها (1) بِنَفْسِه، ويَنْفِى ولَدَها إذا كان مِن غيرِه. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأولَى، أنَّها مُعْتَدَّة بائِنٌ مِن نِكاح، فَلَزِمَها الإحْدادُ، كالمُتَوَفَّى عنها زَوْجُها؛ وذلك لأن (¬1) العِدَّةَ تُحَرِّمُ النِّكاحَ، فحَرَّمَتْ دَواعِيَه، بخِلافِ الرَّجْعِيَّةِ، فإنها زَوْجَة، والمَوْطُوءَةُ بشُبْهَةٍ ليست مُعْتَدَّةً مِن نكاح، فلم تَكْمُلِ الحُرْمَةُ. فأمَّا الحديثُ، فإنَّما مدْلُولُه تَحْرِيمُ الإِحْدادِ على مَيِّتٍ غيرِ الزَّوْجِ، ونحن نقولُ به، ولهذا جازَ الإِحْدادُ ههُنا بالإِجْماعِ. فإذا قُلْنا: يَلْزَمُها الاحْدادُ. فحُكْمُها حُكْمُ المُتَوَفَّى عتها زَوْجُها؛ مِن تَوَقِّى الطِّيبِ والزِّينَةِ في نَفْسِها، على ما نَذْكُرُه إن شاءَ الله تعالى. وذَكَرَ (¬2) شيخُنا في كتاب «الكَافِي» (¬3) أنَّ (¬4) المُخْتَلِعَةَ كالبائِن فيما ذَكَرْنا مِن الخِلافِ. والصَّحِيحُ أنَّه لا يَجِبُ عليها؛ لأنَّها تَحِل لِزَوْجِها الذي خالعَها، و (¬5) يَتَزَوَّجُها في عِدَّتِها، بخِلافِ البائِنِ بالثَّلاثِ. والله أعلمُ. 3884 - مسألة: ولا إحْدادَ على الرَّجْعِيَّةِ، بغَيرِ خِلافٍ نَعلَمُه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «قال». (¬3) 3/ 326، 327. (¬4) زيادة من: ق، م. (¬5) في ق، م: «أن».

3885 - مسألة: ويستوي في وجوبه الحرة والأمة

وَسَوَاء فِي الإحْدَادِ، الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ وَالْمُكَلَّفَةُ وَغَيرُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها في حُكْمِ الزَّوْجاتِ، لها أن تتَزَيَّنَ لزوْجِها، وتَسْتَشْرِفَ له ليَرْغَبَ فيها، وتَنْفُقَ عندَه، كما تَفْعَلُ في صُلْبِ النِّكاحِ. ولا إحْدادَ على المَنْكُوحَةِ نِكاحًا فاسِدًا؛ لأنَّها ليست زَوْجَةً على الحقيقةِ، ولا لها مَن كانت تَحِل له، و (¬1) تَحْزَنُ على فَقْدِه، وكذلك المَوْطُوءَةُ بشُبْهَة والمَزْنِيُّ بها. ولا إحْدادَ على غيرِ الزَّوْجاتِ، كأمِّ الوَلَدِ إذا مات سَيِّدُها، والأمَةِ التي يَطؤها سَيِّدُها إذا ماتَ عنها؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، أنْ تُحِد عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا». 3885 - مسألة: ويَسْتَوي في وُجُوبِه الحُرَّةُ والأمَةُ، والمُسْلِمَةُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لا».

3886 - مسألة: (والإحداد اجتناب الزينة والطيب والتحسين، كلبس الحلي والملون من الثياب للتحسين)

وَالإحْدَادُ اجْتِنَابُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ وَالتَّحْسِينِ، كَلُبْسِ الْحَلْي، وَالمُلَوَّنِ مِنَ الثيابِ لِلتحْسِينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والذِّمِّيَّةُ، والكَبيرَةُ والصَّغِيرَةُ. وقال أصْحابُ الرَّأي: لا إحْدادَ على ذِمِّيَّةٍ ولا صَغِيرَةٍ؛ لأَنَّهما غيرُ مُكَلَّفتَين. ولَنا، عُمومُ الأحاديثِ التي نَذْكُرُها إن شاءَ الله، ولأنَّ غيرَ المُكَلَّفةِ تُساوي المُكَلَّفةَ (¬1) في اجْتِنابِ المُحَرَّماتِ؛ كالخَمْرِ والزِّني، وإنَّما يَفْتَرِقان في الإِثْمِ، فكذلك الإِحْدادُ؛ ولأنَّ حُقُوقَ الذِّمِّيَّةِ في النِّكاحِ كحُقوقِ المسْلِمَةِ، فكذلك فيما عليها. 3886 - مسألة: (والإحْدادُ اجْتِنابُ الزِّينةِ والطِّيبِ والتَّحْسِينِ، كلُبْسِ الحَلْي والمُلَوَّنِ مِن الثِّيابِ لِلتَّحْسِينِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحادَّةَ يجبُ عليها اجْتِنابُ ما يَدْعُو إلى جِماعِها، ويُرَغِّبُ في النَّظَرِ إليها، ويُحَسِّنُها، وذلك أرْبَعةُ أمُور؛ أحَدُها، الطِّيبُ، ولا خِلافَ في تَحْرِيمِه عندَ مَن أوْجَبَ الإحْدادَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَمس طِيبًا، إلَّا عِنْدَ أدْنَى طهْرِهَا، إذَا طَهُرَتْ مِن حَيضِهَا نُبْذَةً (¬2) مِنْ قُسْطٍ أو ¬

(¬1) في الأصل: «المطلقة». (¬2) في الأصل، تش: «بنبذة». وهو لفظ أبي داود وابن ماجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أظْفارٍ (¬1)». مُتَّفَق عليه (¬2). ورَوَتْ زينبُ بنتُ أمِّ سَلَمَةَ، قالت: دخَلْتُ على أمِّ حَبِيبَةَ، زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حينَ تُوُفِّيَ أبوها أبو سُفْيانَ، فدَعَتْ بطِيبٍ فيه صُفْرَةٌ، خَلُوقٌ (¬3) أو غيرُه، فدَهَنَتْ منه جارِيَةً، ثم مَسَّتْ بعارِضِها، وقالت: واللهِ ما لِي بالطِّيبِ مِن حاجَةٍ، غيرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرأةٍ تُومِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ (¬4) تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إلَّا عَلَى زَوْج، أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشرًا». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ولأنَّ الطِّيبَ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، ويَدْعُو ¬

(¬1) القسط ويقال الكست، والأظفار نوعان من البخور. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الطيب للمرأة عند غسلها، من كتاب الحيض، وفي: باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، وباب القسط للحادة عند الطهر، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 1/ 85، 7/ 77، 78. ومسلم، في: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1127، 1128. كما أخرجه أبو داود، في: باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 537. والنسائي، في: باب ما تجتنب الحادة بن الثياب المصبغة، وباب الخضاب للحادة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 168، 169. وابن ماجة، في: باب هل تحد المرأة على غير زوجها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 674، 675. والدارمي، في: باب النهي للمرأة عن الزينة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 167، 168. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 85، 6/ 408. (¬3) الخلوق: طيب مخلوط. (¬4) بعده في م: «أن». والمثبت موافق لرواية البخاري ومسلم. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب حد المرأة على غير زوجها، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 2/ 99. ومسلم، في: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1123 - 1127. كما أخرجه أبو داود، في: باب إحداد المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 535. والترمذي، في: باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 172، 173. والنسائي، في: باب سقوط الإحداد عن الكتابية المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. المجتبى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المُباشَرَةِ. ولا يَحِلُّ لها اسْتِعمالُ الأدْهانِ المُطبَّةَ، كدُهْنِ الوَرْدِ والبَنَفْسَجِ والياسَمِينِ والْبانِ، وما أشْبَهَه؛ [لأنَّه اسْتِعْمال للطِّيبِ] (¬1). فأمَّا الادِّهانُ بغيرِ المُطَيَّبِ، كالزَّيتِ والشَّيرَجِ [والسَّمْنِ] (¬2)، فلا بأسَ به؛ لأنَّه ليس بِطِيب. الثاني، اجْتِنابُ الزِّينَةِ، وذلك واجب في قولِ عامَّةِ أهلِ العِلْمِ؛ منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عَباس، وعَطاءٌ. وجماعَةُ أهْلِ العِلْمِ يَكرَهُون ذلك ويَنْهَوْنَ عنه. وهو ثلاثةُ أقْسام؛ أحَدُها، الزِّينةُ في نَفْسِها، فيَحْرُمُ عليها أن تَخْتَصبَ، وأن تُحَمِّرَ وَجْهَها بالكَلْكَون (¬3)، وأن تُبَيِّضَه بأسْفِيداجِ (¬4) العَرائسِ، وأن تَجْعَلَ عليه صَبِرًا (¬5) يُصَفِّرُه، وأن تَنْقُشَ وجْهَها وبَدَنَها، وأن تُحَفِّفَ وَجْهَها، وما أشْبَهَه ممَّا يُحَسنُها، وأن تَكْتَحِلَ بالإثْمِدِ مِن غيرِ ضَرُورَةٍ؛ لِما رَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

= 6/ 165. والدارمي، في: باب النهي للمرأة عن الزينة في المدة، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 12/ 67. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الإحداد، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 596، 597. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 325، 326، 426. (¬1) في الأصل: «ولا استعمال الطيب». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الكلكلون: طلاء تحمر به المرأة وجهها، مركب من كَل، أي ورد، وكَون، أي لون. الألفاظ الفارسية المعربة 137. (¬4) الأسفيداج: رماد الرصاص. معرب اسفيدآب، وأصل معناه الماء الأبيض. الألفاظ الفارسية المعربة 10. (¬5) الصبر: عصارة شجر مر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لا تَلْبَس المُعَصْفَرَ مِنَ الثيابِ (¬1)، ولَا المُمَشَّقَ (¬2)، ولا الحُلِيَّ، ولَا تَخْتَضِبُ، ولَا تَكْتَحِلُ». رواه النَّسائِيُّ، وأبو داودَ (¬3). ورَوَتْ أمُّ عَطِيَّةَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُحِدُّ المَرْاة فَوْقَ ثَلاثةِ أيام، إلَّا عَلَى زَوْج، فإنَّها تُحِدُّ أرْبَعَةَ أشْهُر وعَشْرًا، ولا تَلْبَس ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ (¬4)، ولَا تَكْتَحِلُ، ولَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا عِنْدَ أدْنَى طُهْرِهَا، إذا طَهُرَتْ مِنْ حَيضِهَا، بِنُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ أو أظْفَار». مُتَّفَقٌ عليه. وعن أمِّ سَلَمَةَ، قالت: جاءَتِ امرأة إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عنها زَوْجُها، وقد اشْتَكَتْ عَينَها، أفَتَكْحُلُها؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا». مَرَّتَين أو ثَلاثًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ورَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، قالت: دَخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ ¬

(¬1) أي المصبوغ بالعُصفر. (¬2) أي المصبوغ بالمِشق. والمِشق: صبغ أحمر. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 538. والنسائي، في: باب ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 169.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 302. (¬4) هو ما صبغ غزله قبل نسجه. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 7/ 77. ومسلم، في: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة. . . .، من كتاب الأطعمة. صحيح مسلم 2/ 1124، 1126. كما أخرجه أبو داود، في: باب إحداد المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 536. والترمذي، في: باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 173، 174. والنسائي، في: باب عدة المتوفى عنها زوجها، وباب ترك الزكاة للحادة المسلمة. . . .، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 155، 167، 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - حينَ تُوُفِّيَ أبو سَلَمَةَ، وقد جَعَلْتُ على عَينَيَّ صَبِرًا، فقال: «ماذا يا أم سَلَمَةَ». قنتُ (¬1): إنَّما هو صَبِرٌ، ليس فيه طِيب. قال: «إنه يَشُبُّ الوَجْهَ (¬2)، لَا تَجْعَليه (¬3) إلَّا باللَّيلِ، وتَنْزِعِيه (¬4) بِالنَّهارِ، ولَا تَمْتَشِطِي بالطِّبِ، ولا بِالحِنَّاءِ، فإنَّه خِضَابٌ». قالت: قلتُ: بأيِّ شيء أمْتَشِطُ؟ قال: «بالسِّدْرِ، تُغَلِّفِينَ بِه رَأسَكِ» (¬5). ولأنَّ الكُحْلَ مِن أبلَغِ الزِّينَةِ، والزِّينَةُ تَدْعو إليها، وتُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، فهي كالطِّيبِ وأبلَغ منه. وحكِيَ عن بعضِ الشَّافِعِيَّةِ، أنَّ للسَّوْداءِ أن يكتَحِلَ. وهو مُخالِف للخَبَرِ والمَعْنى، فإنه يزَينها ويحَسِّنها. فإنِ اضْطرَّتِ الحادَّةُ إلى الكُحْلِ بالإثْمِدِ للتَّدَاوي به (¬6)، فلها أن تَكْتَحِلَ ليلًا، وتَمْسَحَه نهارًا. ورَخَّصَ فيه عند الضَّرورَةِ عَطاء، والنخَعِيُّ، ومالِكٌ، وأصْحابُ الرأي؛ لِما رَوَتْ أمُّ حَكِيم بنت أسِيدٍ (¬7)، عن أمِّها، أنَّ زَوْجَها تُوفِّيَ، وكانت تَشْتَكِي عَينَيها، فتَكْتَحِل بالجِلاءِ، فأرسْلَتْ مَوْلاةً لها إلى أمِّ سَلَمَةَ، ¬

(¬1) في تش: «قالت». (¬2) أي يزيد في حسنه. (¬3) في م: «تجعلنه». (¬4) في م: «تنزعينه». (¬5) أخرجه أبو داود، في: باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 538. والنسائي، في: باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 170. (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في م: «أسد».

كَالأحْمَرِ وَالأصْفَرِ وَالأخْضَرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْألُها عن كُحْلِ الجِلاءِ، فقالت: لا تَكْتَحِلْ إلَّا ما (¬1) لا بُدَّ منه، يَشْتَدُّ عليك، فتَكْتَحِلِينَ بالليلِ، وتَغْسِلِينَه بالنَّهارِ. رواه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ (¬2). وإنَّما تُمْنَعُ مِن الكُحْلِ بالإِثْمِدِ؛ لأنَّه الذي تَحْصُلُ به الزِّينةُ، فأمَّا الكُحْلُ بالتُّوتِيا (¬3) والعَنْزَرُوتِ (¬4) ونحوهما، فلا بَأْسَ به؛ لأنَّه لا زِينَةَ فيه، بل يُقَبِّحُ العَينَ، ويَزِيدُها مَرَهًا (¬5). ولا تُمْنَعُ مِن جَعْلِ الصَّبِرِ على غيرِ وَجْهِها مِن بَدَنِها؛ لأنَّه إنَّما مُنِعَ منه في الوَجْهِ لأنَّه يُصَفِّرُه، فيُشْبِهُ الخِضابَ، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّه يَشُبُّ الوَجْهَ». ولا تُمْنَعُ مِن التنظِيفِ بتَقْلِيمِ الأظْفارِ، ونَتْفِ الإبطِ، وحَلْقِ الشَّعَرِ المَنْدوبِ إلى حَلْقِه، ولا مِن الاغْتِسالِ بالسِّدْرِ، والامْتِشاطِ به، لحديثِ أُمِّ سَلَمَةَ، ولأنَّه يُرادُ للتَّنْظِيفِ لا للطِّيبِ. القسمُ الثاني، زِينَةُ الثِّيابِ، فتَحْرُمُ عليها الثِّيابُ المُصَبَّغةُ للتَّحْسِينِ؛ كالمُعَصْفَرِ، والمُزَعْفَرِ، (و) سائرِ (الأحْمَرِ و) سائرِ (المُلَوَّنِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «بما». وفي مصادر التخريج: «من أمر». (¬2) هو حديث أم سلمة المتقدم في صفحة 135. (¬3) التوتيا: تكون في المعادن، منها بيضاء، ومنها إلى الخضرة، ومنها إلى الصفرة مشرب بحمرة، وهي جيدة لتقوية العين. الجامع لمفردات الأدوية 1/ 143 - 145. (¬4) العنزروت: هو الأنزروت، وهو صمغ شجرة تنبت في بلاد الفرس، شبيهة بالكندر، صغير الحصا، في طعمه مرارة، ولونه إلى الحمرة، تقطع الرطربة السائلة في العين. الجامع لمفردات الأدوية 1/ 63. (¬5) مرهت العين: ابيضت حماليقها، أو فسدت لترك الكحل.

الصَّافِي وَالْأزْرَقِ الصَّافِي، وَاجْتِنَابِ الحِنَّاءِ والخِضَابِ، وَالْكُحْلٍ الْأسْوَدِ وَالْحِفَافِ، وإسْفِيدَاجِ العَرَائِسِ، وَتَحْمِيرِ الْوَجْهِ وَنحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للتَّحْسِينِ، كالأزْرَقِ الصَّافِي، والأخْضَرِ الصَّافِي، والأصْفَرِ) الصَّافِي (¬1)، فلا يجوزُ لُبْسُه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا» (¬2). وقولِه: «لا تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّياب، ولا المُمشَّقَ» (¬3). فأمَّا مالا يُقْصَدُ بصَبْغِه حُسْنُه؛ كالكُحْلِيِّ، والأَسودِ، والأخضرِ المُشْبَعِ، فلا تُمْنَعُ منه؛ لأنَّه ليس بزِينةٍ. وما صُبغَ غَزْلُه ثم نُسِجَ، ففيه احْتمالان (¬4)؛ أحَدُهما، يَحْرُمُ لُبْسُه؛ لأنَّه أحْسَنُ وأرْفَعُ، ولأنَّه مَصْبُوغٌ للحُسْنِ، فأشْبَهَ ما صُبغَ بعدَ نَسْجِه. والثاني، لا يَحْرُمُ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ» (¬5). قال القاضي: هو ما صُبغَ غَزْلُه قبلَ نَسْجِه. ولأنَّه لم يُصْبَغْ وهو ثَوْبٌ، فأشْبَهَ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 135. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 136. (¬4) في تش: «وجهان». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 135 من حديث أم عطية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما (¬1) كان حَسَنًا مِنِ الثِّيابِ غيرَ مَصْبُوغٍ. والأوَّلُ أصَحُّ. وأمَّا العَصْبُ، فالصَّحيحُ أنَّه نبْتٌ تُصْبَغُ به الثِّيابُ. قال صاحبُ «الرَّوضِ الأُنُفِ» (¬2): الوَرْسُ والعَصْبُ نَبْتان باليَمَنِ، لا يَنْبُتانِ إلَّا به. فأرْخصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحادَّةِ (3) في لُبْسِ ما صُبغ بالعَصْبِ؛ لأنَّه في مَعْنى ما صُبغَ لغيرِ التَّحْسِينِ، أمَّا ما (¬3) صُبغَ غَزْلُه للتَّحْسِينِ، كالأحْمَرِ والأصْفَرِ، فلا مَعْنى لتَجْويزِ لُبْسِه، مع حُصُولِ الزِّينَةِ بصَبْغِه، كحُصُولِها بما صُبغَ بعدَ نَسْجِه. القسمُ الثالثُ، الحَلْىُ، فيَحْرُمُ عليها لُبْسُ الحَلْي كُلِّه، حتى الخاتَمِ، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العلمِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا الحَلْىَ». وقال ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «لو». (¬2) انظر الروض الأنف 7/ 96. (¬3) سقط من: الأصل.

3887 - مسألة: (ولا يحرم عليها الأبيض من الثياب وإن كان حسنا)

وَلَا يَحْرُمُ عَلَيهَا الْأبْيَضُ مِنَ الثِّيَابِ وَإنْ كَانَ حَسَنًا، وَلَا الْمُلَوَّنُ لِدَفْعِ الْوَسَخِ، كَالْكُحْلِيِّ وَنَحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءٌ: يُباحُ حَلْيُ الفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ. ولا يَصِحُّ؛ لِعُمُومِ النَّهْي، ولأنَّ الحَلْىَ يَزِيدُها حُسْنًا، ويَدْعُو إلى مُباشَرَتِها، قال الشاعرُ (¬1): وما الحَلْيُ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ … يُتَمِّمُ مِن حُسْنٍ إذا الحُسْنُ قَصَّرا 3887 - مسألة: (ولا يَحْرُمُ عليها الأبْيَضُ مِن الثِّيابِ وإن كان حَسَنًا) سواءٌ كان مِن قُطْنٍ أو كَتَّانٍ [أو صُوفٍ] (¬2) أو إبْريسَمٍ (¬3)؛ لأنَّ حُسْنَه مِن أصْلِ خِلْقَتِه، فلا يلزمُ تغييرُه، كما أنَّ المرأةَ إذا كانت حَسَنَةَ الخِلْقَةِ، لا يَلْزَمُها أن تُغَيِّرَ لَوْنَها، وتُشَوِّهَ نَفْسَها (ولا المُلَوَّنُ لدَفْعِ الوَسَخِ، كالكُحْلِيِّ) والأسْوَدِ، والأخْضَرِ المُشْبَعِ؛ لأنَّه لا يُرادُ ¬

(¬1) البيت في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي، ونفح الطيب للمقري، مما أنشده أبو الفرج ابن الجوزي إما له أو لغيره. مرآة الزمان 8/ 494، نفح الطيب 5/ 165. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) الإبريسم: الحرير.

وَقَال الْخِرَقِيُّ: وَتَجْتَنِبُ النقَابَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للزِّينَةِ، أشْبَهَ الأبيَضَ (قال الخِرَقِيُّ: وتَجْتَنِبُ النِّقابَ) وما في مَعْناه، مثلَ البُرْقُعِ ونحوه؛ لأنَّ المُعْتَدَّةَ مُشَبَّهةٌ بالمُحْرِمةِ، والمُحْرِمَةُ تُمْنَعُ مِن ذلك، فإنِ احْتاجَتْ إلى سَتْرِ وَجْهِها، سَدَلَتْ عليه كما تَفْعَلُ المُحْرِمَةُ. ويَحْتَمِلُ أن لا تُمْنَعَ مِن ذلك؛ لأنَّه ليس بمَنْصُوصٍ عليه، ولا هو في

فَصْلٌ: وَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْنى المَنْصُوصِ، وإنَّما مُنِعَتْ منه المُحْرِمَةُ؛ لأنَّها مَمْنُوعَةٌ مِن تَغْطِيَةِ وَجْهِها، بخِلافِ الحادَّةِ، ولأنَّ المُحْرِمَةَ يَحْرُمُ عليها لُبْسُ القُفَّازَين، بخِلافِ الحادَّةِ، ويجوزُ لها لُبْسُ الثِّيابِ المُزَعْفَرَةِ وغيرِها مِن الثِّياب المَصْبوغَةِ والحَلْيِ، والحادَّةُ يَحْرُمُ عليها ذلك،. فلا يَصِحُّ القِياسُ، ولأنًّ المَبْتُوتَةَ لا يَحْرُمُ عليها النِّقابُ، وإن وجَبَ عليها الإِحْدادُ، فكذلك المُتَوَفَّى عنها زَوْجُها. فصل: (وتَجِبُ عِدَّةُ الوَفاةِ في المنزلِ الذي وجَبَتْ فيه) رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعُثمانَ. [ورُوِيَ عن] (¬1) ابنِ عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وأُمِّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه يقولُ مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، ¬

(¬1) في ق، م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ، وإسحاقُ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): وبه يقولُ جماعةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ بالحِجَازِ، والشامِ، والعِراقِ، ومصرَ. وقال جابرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ، وعَطاءٌ: تَعْتَدُّ حيثُ شاءتْ. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وجابرٍ، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. قال ابنُ عباس: نَسَخَتْ هذه الآيةُ عِدَّتَها عندَ أهْلِها (¬2)، وسَكَنَت في وَصِيَّتها، وإن شاءتْ خَرَجَتْ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (¬3). قال عَطاءٌ: ثم جاء المِيراثُ فنَسَخَ السُّكْنَى، تَعْتَدُّ حيثُ شاءَتْ. رواهما أبو داودَ (¬4). ولَنا، ما رَوَتْ فُرَيعَة بنتُ مالكِ بنِ سِنَانٍ، أُختُ أبي سعيدٍ، أنَّها جاءت إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْبَرَتْه أنَّ زَوْجَها خَرَجَ في طَلَب أعْبُدٍ له أبَقُوا (¬5)، فقَتَلُوه بطَرَفِ القَدُومِ (¬6)، فسألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن أرْجِعَ إلى أهْلِي، فإنَّ زَوْجي لم يَتْرُكْنِي في مَسْكَنٍ يَمْلِكُه، ولا نَفقَةٍ. قالت: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في: التمهيد 21/ 31. (¬2) في م: «أهله». (¬3) سورة البقرة 240. (¬4) في: باب من رأى التحول، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 537. كما أخرجهما البخاري تعليقا، في: باب {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا. . . .}، من كتاب التفسير، وفي الباب نفسه، من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 6/ 37، 7/ 78. وأخرجه عن ابن عباس النسائي، في: باب الرخصة للمتوفى عنها زوجها أن تعتد. . . .، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 166. (¬5) سقط من: الأصل، تش. (¬6) القدوم: موضع على ستة أميال من المدينة، واسم جبل بالموضع. انظر: معجم البلدان 4/ 40.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «نَعَمْ». قالت (¬1): فخَرَجْتُ حتى إذا كنتُ في الحُجْرَةِ أو في المسْجِدِ، دَعانِي، أو أمَرَ بي فَدُعِيتُ له، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَيفَ قُلْتِ؟». فردَّدْتُ عليه القِصَّةَ، فقال: «امْكُثِي فِي بَيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أجَلَه». فاعْتَدَدْتُ فيه أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، فلمَّا كان عثمانُ بنُ عَفَّانَ، أرْسَلَ إليَّ، فسألَنِي عن ذلك، فأخْبَرْتُه فاتَّبَعَه، وقَضَى به. رواه مالكٌ في «مُوَطَّئِه» (¬2)، والأثرَمُ، وهو حديثٌ صَحِيحٌ، قَضَى به عُثمانُ في جماعةٍ مِن (¬3) الصَّحابةِ، فلم يُنْكِرُوه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يجبُ الاعْتِدادُ في المنْزِلِ الذي ماتَ (¬4) زَوْجُها وهي ساكِنَةٌ به، سواءٌ كان مَمْلوكًا (3) لزَوْجِها، أو بإجارَةٍ، أو عارِيَّةٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لفُرَيعَةَ: «امْكُثِي فِي بَيتكِ». ولم تَكُنْ في بيتٍ يَمْلِكُه زَوْجُها، وفي بعضِ ألْفاظِه: «اعْتَدِّي في البَيتِ الذي أتَاكِ فِيه نَعْيُ زَوْجِكِ» (¬5). وفي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 591. كما أخرجه أبو داود، في: باب في المتوفى عنها تنتقل، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 536، 537. والترمذي، في: باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، من أبواب الطلاق. عارضة الأحوذي 5/ 195، 196. والنسائي، في: باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 165، 166. وابن ماجه، في: باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 654، 655. والدارمي، في: باب خروج المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 168. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 370، 420، 421. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في الأصل: «فيه». (¬5) في: المسند 6/ 370 بلفظ: «امكثي في البيت. . . .».

3888 - مسألة: (إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه، بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها، فتنتقل)

إلا أن تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ إِلَى خُرُوجِهَا مِنْهُ، بِأَنْ يُحَوِّلَهَا مَالِكُهُ، أَوْ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا فَتَنْتَقِلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظٍ: «اعْتَدِّي حَيثُ أتاكِ الخَبَرُ» (¬1). فإن أتَاها الخَبَرُ في غيرِ مَسْكَنِها، رَجَعَتْ إلى مَسْكَنِها، فاعْتَدَّتْ (¬2) فيه. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِيُّ: لا تَبْرَحُ مِن مَكانِها الذي أتَاها فيه نَعْيُ زَوْجِها، اتِّباعًا لِلَفْظِ الخَبَرِ الذي رَوَيناه. ولَنا، قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «امْكُثِي فِي بَيتكِ». واللَّفْظُ الآخَرُ قَضِيَّةٌ في عَينٍ، والمُرادُ به هذا، فإنَّ قَضَايا الأعْيانِ لا عُمُومَ لها، ثم لا يُمْكِنُ حَمْلُه على العُمُومِ؛ فإنَّه لا يَلْزَمُها الاعْتِدادُ في السُّوقِ والطَّريقِ والبَرِّيَّةِ إذا أتاها الخَبَرُ (¬3) وهي فيها. 3888 - مسألة: (إلَّا أنْ تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ إلى خُرُوجِها منه، بأن يُحَوِّلَها مالِكُه، أو تَخْشَى على نَفْسِها، فتَنْتَقِلُ) وجملةُ ذلك، أنَّها إذا خافَتْ هَدْمًا أو غَرَقًا أو عَدُوًّا و (¬4) نحوَ ذلك، أو حَوَّلَها صاحبُ المنْزِلِ؛ لكونِه عارِيَّةً رَجَعَ فيها، أو بإجارَةٍ انْقَضَتْ مُدَّتُها، أو مَنَعَها السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أو امْتَنَعَ مِن إجارَته، أو طَلَبَ به أكْثَرَ مِن أُجْرَةِ المِثْلِ، أو لم تَجِدْ ¬

(¬1) عند النسائي 6/ 166 بلفظ: «اعتدي حيث بلغك الخبر». (¬2) في م: «أو اعتدت». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في ق، م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما تَكْتَرِي به، أو لم تَجِدْ إلَّا مِن مالِها، فلها أن تَنْتَقِلَ؛ لأنَّها حالُ عُذْرٍ، ولا يَلْزَمُها بَذْلُ أُجْرَةِ المَسْكَنِ، وإنَّما الواجبُ عليها السُّكْنَى، لا تَحْصِيلُ المَسْكَنِ، فإذا تَعَذَّرَتِ السُّكْنَى، سَقَطَتْ، وتَسْكُنُ حيثُ شاءتْ. ذَكَرَه القاضي. وذكر أبو الخَطَّاب، أنَّها تَنْتَقِلُ إلى أقْرَبِ ما يُمْكِنُها النُّقْلَةُ إليه. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أَقْرَبُ إلى مَوْضِعِ الوجُوب، أشْبَهَ مَن وَجَبَتْ عليه الزَّكاةُ في مَوْضع لا يَجِدُ فيه أهْلَ السُّهْمان، فإنَّه يَنْقُلُها إلى مَوْضِع يَجِدُهم فيه. ولَنا، أنَّ الواجِبَ سَقَطَ لعُذْرٍ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ له بِبَدَلٍ، فلا يجبُ، كما لو سَقَطَ الحجُّ للعَجْزِ عنه وفَواتِ شَرْطٍ، والمُعْتَكِفِ إذا لم يَقْدِرْ على الاعْتِكافِ في المَسْجِدِ، ولأنَّ ما ذكَرُوه إثْباتُ حُكْمٍ بلا نَصٍّ، [ولا مَعْنى نَصٍّ] (¬1)، فإنَّ مَعْنى الاعْتِدادِ في بَيتِها لا يُوجَدُ [في السُّكْنَى] (¬2) فيما قَرُبَ منه، ويُفارِقُ أهْلَ السُّهْمان؛ فإنَّ القَصْدَ نَفْعُ الأقْرَبِ، وفي نَقْلِها إلى أقْرَب مَوْضِعٍ يَجِدُه نَفْعُ الأقْرَبِ. فصل: ولا سُكْنَى للمُتَوَفَّى عنها، إذا كانت حائِلًا، رِوايةً واحدةً. وإن كانتْ حامِلًا، فعلى رِوايَتَين. وللشافعيِّ [في المُتَوَفَّى عنها] (¬3) قَوْلان؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) زيادة من: م. (¬3) في ق، م: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، لها السُّكْنَى؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيرَ إِخْرَاجٍ} (¬1). فنُسِخَ بعضُ المُدَّةِ، وبَقِيَ بَاقِيها على الوُجُوبِ، ولأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ فُرَيعَةَ بالسُّكْنَى في بيتِها مِن غيرِ اسْتِئْذانِ الوَرَثَةِ، ولو لم تجبِ السُّكْنَى، لم يَكُنْ لها أن تَسْكُنَ إلَّا بإذْنِهِم، كما أنَّها ليس لها أن تَتَصَرَّفَ في مالِ زَوْجِها بغيرِ إذْنِهم (¬2). ولَنا، أنَّ اللهَ تعالى إنَّما جَعَلَ للزَّوْجَةِ ثُمْنَ التَّرِكَةِ أو رُبْعَها، وجَعَلَ باقِيَها لِسائِرِ الوَرَثَةِ، والمَسْكَنُ مِن التَّرِكَةِ، فوَجَبَ أن لا تَسْتَحِقَّ منه أكْثَرَ مِن ذلك، وأمَّا إذا كانت حامِلًا، وقُلْنا: لها السُّكْنَى. فلأنَّها حامِلٌ مِن زَوْجِها، فوَجَبَ لها السُّكْنَى، قِياسًا على المُطَلَّقَةِ. فأمَّا الآيةُ التي احْتَجُّوا بها، فإنَّها مَنْسُوخَةٌ، وأمَّا أمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فُرَيعَةَ بالسُّكْنَى، فقَضِيَّةٌ في عَينٍ، يَحْتَمِلُ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ أنَّ الوارِثَ يأْذَنُ في ذلك، أو بكَوْنِ السُّكْنَى واجِبًا عليها، ويَتَقَيَّدُ ذلك بالإِمْكانِ، وإذْنُ الوارِثِ مِن جُمْلَةِ ما يَحْصُلُ به الإِمْكانُ. فإذا قُلْنا: لها السُّكْنَى. فهي أحَقُّ بسُكْنَى المَسْكَنِ الذي كانت تَسْكُنُه مِن الوَرَثَةِ والغُرَماءِ، مِن رأسِ [مالِ المُتَوَفَّى] (¬3)، ولا يُباعُ في دَينِه بَيعًا (¬4) يَمْنَعُها السُّكْنَى، حتى ¬

(¬1) سورة البقرة 240. (¬2) في تش: «إذنه». (¬3) في تش: «المال الذي للمتوفى». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقْضِيَ العِدَّةَ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وجمهورُ العلماءِ. وإن تَعَذَّرَ ذلك المَسْكَنُ، فعلى الوارثِ أن يَكْتَرِيَ لها مَسْكَنًا مِن مالِ المَيِّتِ، فإن لم يَفْعَلْ، أجْبَرَه الحاكمُ، وليس لها أن تَنْتَقِلَ إلَّا لعُذْرٍ، كا ذكرْنا. وإنِ اتَّفَقَ الوارِثُ والمرأةُ على نَقْلِها عنه، لم يَجُزْ؛ لأنَّ السُّكْنَى ها هنا يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ اللهِ سبحانه وتعالى، فلم يَجُزِ اتِّفاقُهما على إبْطالِها، بخِلافِ سُكْنَى النِّكاحِ، فإنَّه حَقٌّ لهما، ولأنَّ السُّكْنَى ههُنا مِن الإحْدادِ، فلم يَجُزْ الاتِّفاقُ على تَرْكِها، كسائرِ خِصالِ الأحْدادِ. وليس لهم إخْرَاجُها إلا أن تَأْتِيَ بفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1). وهو أن يَطُولَ لِسانُها على أحْمائِها وتُؤذِيَهُم بالسَّبِّ ونحوه. رُوِيَ ذلك عن ابن. عباس. وهو قولُ الأكْثَرَين. وقال ابنُ مسعودٍ، والحسنُ: هي الزِّنى؛ لقولِ الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬2). وإخْراجُهُنَّ هو لإِقامةِ حَدِّ الزِّنى، ثم تُرَدُّ إلى مَكانِها (¬3). ولَنا، أنَّ الآيةَ تَقْتَضِي الإخْراجَ مِن السُّكْنَى (¬4)، وهذا ¬

(¬1) سورة الطلاق 1. (¬2) سورة النساء 15. (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره 28/ 133، عن الحسن. (¬4) في م: «المسكن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَتَحَقَّقُ فيما قالاه. وأمَّا الفاحِشَةُ فهي اسْمٌ للزِّنَى وغيرِه من الأقوالِ الفاحِشَةِ، يُقالُ: أفْحَشَ الرجلُ في قَوْلِه. ولهذا رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالت له عائشةُ: يا رسولَ اللهِ، قلتَ لفلانٍ: «بئْسَ أخُو العَشِيرَةِ». ثم ألَنْتَ له القولَ لمَّا دَخَلَ. قال: «يا عَائِشَةُ، إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ» (¬1). إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الوَرَثَةَ يُخْرِجُونَها مِن (¬2) ذلك المَسْكَنِ إلى مَسْكَنٍ آخَرَ مِن الدارِ إن كانتْ كبيرةً تَجْمَعُهم، فإن كانت لا تَجْمَعُهم، أو لم يُمْكِنْ نَقْلُها إلى غيرِه في الدارِ، أو لم يَتَخَلَّصُوا مِن أذاها بذلك، فلهم نَقْلُها. وقال بعضُ أصْحابِنا: يَنْتَقِلُون هم عنها؛ لأنَّ سُكْناها واجبٌ في المكانِ، وليس بواجبٍ عليهم. والنَّصُّ يَدُلُّ على أنَّها تُخْرَجُ، فلا يُعَرَّجُ على ما خالفَه، ولأنَّ الفاحِشَةَ منها، فكان الإخْراجُ لها. وإن كان أحْماؤُها هم الذين يُؤذُونَها، ويَفْحُشُون عليها، ¬

(¬1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه أبو داود، في: باب في حسن العشرة، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 551. أما قوله: «بئس أخو العشيرة» وآخره بلفظ آخر، فأخرجه البخاري في: باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا، وباب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، وباب المداراة مع الناس، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 8/ 15، 16، 20، 21، 38. ومسلم، في: باب مداراة من يتقى فحشه، من كتاب البر والصلة والآداب. صحيح مسلم 4/ 2002، 2003. والإمام مالك، في: باب ما جاء في حسن الخلق، من كتاب حسن الخلق. الموطأ 2/ 903، 904. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 38، 158، 159. وقوله: «إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» في قصة أخرى أخرجها مسلم، في: باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. . . .، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1707. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 134، 135، 230. (¬2) في م: «عن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نُقِلُوا هم دُونَها، فإنَّها لم تَأْتِ بفاحِشَةٍ، فلا تُخْرَجُ بمُقْتَضَى النَّصِّ، ولأنَّ الذَّنْبَ لهم، فيُخَصُّونَ بالإِخْراجِ، وإن كان (¬1) المَسْكَنُ لغيرِ المَيِّتِ، فتَبَرَّعَ صاحبُه بإسْكانِها فيه، لَزِمَها الاعْتِدادُ به، وإن أبَى أن يُسْكِنَها إلَّا بأُجْرَةٍ، وجَبَ بَذْلُها مِن مالِ المَيِّتِ، إلَّا أن يَتَبَرَّعَ إنْسانٌ ببَذْلِها، ويَلْزَمُها الاعْتِدادُ به. فإن حَوَّلَها مالِكُ (¬2) المَكانِ، أو طَلَب أكثرَ مِن أجْرِ المِثْلِ، فعلى الوَرَثَةِ إسْكانُها إن كان للمَيِّتِ تَرِكَةٌ يُسْتأْجَرُ لها به مَسْكَنٌ؛ لأنَّه حَقٌّ لها يُقَدَّمُ على المِيراثِ، فإنِ اخْتارَتِ النُّقْلَةَ عن المَسْكَنِ الذي [يَنْقُلُونَها إليه، فلها ذلك؛ لأنَّ سُكْناها به حَقٌّ لها، وليس بواجبٍ عليها، فإنَّ المَسْكَنَ الذي] (¬3) كان يَجِبُ عليها السُّكْنَى به، هو الذي كانت تَسْكُنُه حينَ مَوْتِ زَوْجِها، وقد سَقَطَتْ عنها السُّكْنَى به، وسَواءٌ كان المَسْكَنُ الذي كانت به لأبوَيها، أو لأحَدِهما، أو لغيرِهم. وإن كانت تَسْكُنُ في دارٍ لها، فاخْتارَتِ الإِقامةَ فيها والسُّكْنَى بها مُتَبَرِّعةً أو بأُجْرَةٍ تأْخُذُها مِن التَّرِكةِ، جازَ، وعلى الوَرَثَةِ بَذْلُ الأُجْرَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «صاحب». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا طَلَبَتْها، وإن طَلَبَتْ أن تُسْكِنَها غيرَها، وتَنْتَقِلَ عنها، فلها ذلك؛ لأنَّه ليس عليها أن تُؤْجِرَ دارَها ولا تُعِيرَها، وعليهم إسْكانُها. فصل: فأمَّا إذا قُلْنا: ليس لها السُّكْنَى. فتَطَوَّعَ الوَرَثَةُ بإسْكانِها في مَسْكَنِ زَوْجها، أو السُّلْطانُ، أو أجْنَبِيٌّ، لَزِمَها الاعْتِدادُ به، وإن مُنِعَتِ السُّكْنَى، أَو طَلَبوا منها الأُجْرَةَ، فلَها أن تَنْتَقِلَ عنه إلى غيرِه، كما ذكرْنا فيما إذا أخْرَجَها المُؤْجرُ عندَ انْقِضاءِ الإِجارَةِ، وسَواءٌ قَدَرَتْ عك الأجْرَةِ أو عَجَزَتْ عنها (¬1)؛ لأَنَّه إنَّما تَلْزَمُها السُّكْنَى لا تَحْصِيلُ المَسْكَنِ. وإن كانت في مَسْكَن لزَوْجِها، فأخْرَجَها الوَرَثةُ منه، وبَذَلُوا لها مَسْكَنًا آخَرَ، لم تَلْزَمْها السُّكْنَى به، وكذلك (¬2) إن أُخْرِجَتْ مِن المَسْكَنِ الذي هي به، أو خَرَجَتْ لأيِّ عارِضٍ كان، لم تَلْزَمْها السُّكْنَى في مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ سِواه، سواءٌ بَذَلَه الوَرَثَةُ أو غيرُهم؛ لأنَّها إنَّما يَلْزَمُها الاعْتِدادُ في بَيتِها الذي كانت فيه، لا في غيرِه. وكذلك إذا قُلْنا: لها السُّكْنَى. فتَعَذَّرَ سُكْناها في مَسْكَنِها، وبُذِلَ لها سِواه. وإن طَلَبتْ مَسْكَنًا بأُجْرَةٍ أو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، ق، م: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِها، لَزِمَ الورثةَ تَحْصِيلُه، إن خَلَّفَ المَيِّتُ تَرِكَةً تَفِي بذلك، ويُقَدَّمُ على المِيراثِ؛ لأنَّه حَقٌّ على المَيِّتِ، فأشْبَهَ الدَّينَ، فإن كان على المَيِّتِ دَينٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَه، ضَرَبَتْ بأُجْرَةِ المَسْكَنِ؛ لأنَّ حَقَّها مُساوٍ لحُقُوقِ الغُرَماءِ، وتَسْتأجِرُ بما يَخُصُّها مَوْضِعًا تَسْكُنُه. وكذلك الحكمُ في المُطَلَّقَةِ إذا حُجِرَ على الزَّوْجِ قبلَ أن يُطَلِّقَها، ثم طَلَّقَها، فإنَّها تَضْرِبُ بأُجْرَةِ المَسْكَنِ لمُدَّةِ (¬1) العِدَّةِ مع الغُرَماءِ، إذا كانت حامِلًا. فإن قيل: فَهَلَّا قَدَّمْتُم حَقَّ الغُرَماءِ لأنَّه أسْبَقُ؟ قُلْنا: لأنَّ حَقَّها ثَبَتَ عليه بغيرِ اخْتِيارِها (¬2)، فشارَكَتِ الغُرَماءَ فيه، كما لو أتْلَفَ المُفْلِسُ مالًا لإنْسانٍ أو جَنَى عليه. وإن مات وهي في مَسْكَنِه، لم يَجُزْ إخْراجُها منه؛ لأنَّ حَقَّها تعَلَّقَ بعينِ المَسْكَنِ قبلَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الغُرَماءِ بعَينِه، فكان حَقُّها مُقَدّمًا، كحَقِّ المُرْتَهِنِ. وإن طلبَ الغُرَماءُ بَيعَ هذا المسكنِ، وتُتْرَكُ السُّكْنَى لها مُدَّةَ العِدَّةِ، لم يَجُزْ؛ لأنَّها إنَّما تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى إذا كانت حامِلًا، ومُدّةُ الحَمْلِ مَجْهُولَةٌ، فتَصِيرُ كما لو باعها واسْتَثْنَى نَفْعَها (¬3) مُدَّةً مجهولةً. وإن أرادَ الورثةُ قِسْمةَ مَسْكَنِها على وَجْهٍ يَضُرُّ بها في السُّكْنَى، لم يَكُنْ لهِم ذلك. وإن أرادوا التَّعْلِيمَ بخُطُوطٍ مِن غيرِ نَقضٍ ولا بِناءٍ، جازَ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ عليها فيه. ¬

(¬1) في م: «كمدة». (¬2) في ق، م: «اختياره». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قُلْنا: إنَّها تَضْرِبُ مع الغُرَماءِ بقَدْرِ مُدَّةِ عِدَّتِها. فإنَّها تَضْرِبُ بمُدَّةِ [عادَتِها في وَضْعِ] (¬1) الحَمْلِ، إن كانت حامِلًا. وإن كانت مُطَلَّقَةً مِن ذَواتِ القُروءِ، وقُلْنا: لها السُّكنَى. ضَرَبَتْ بمُدَّةِ عادَتِها في القُروءِ، فإن لم تكُنْ لها عادةٌ، ضَرَبَتْ بغالبِ عاداتِ النِّساءِ، وهي تِسْعَةُ أشْهُرٍ للحَمْلِ، وثلاثةُ أشْهُرٍ، لكلِّ قَرْءٍ شَهْرٌ، أو بما بَقِيَ مِن ذلك، إن كان قد مَضَى مِن مُدَّةِ حَمْلِها شيءٌ، لأنَّه لا يُمْكِنُ تأْخِيرُ القِسْمةِ لحَقِّ الغُرَماءِ، فإذا ضَرَبَتْ بذلك، فوافَقَ الصَّوابَ، لم يَزِدْ ولم يَنْقُصْ، اسْتَقَرَّ الحُكْمُ، وتَسْتأْجِرُ (¬2) بما يَحْصُلُ لها مكانًا تَسْكُنُه. فإذا تَعذَّرَ (¬3) ذلك سَكَنَتْ حيثُ شاءتْ. وإن كانتِ المُدَّةُ أقَلَّ ممَّا ضَرَبَتْ، مثلَ أن وضَعَتْ حَمْلَها لِسِتَّةِ أشْهُرٍ، أو تَرَبَّصَتْ ثلاثةَ قُروءٍ في شَهْرَين، فعليها رَدُّ الفَضْلِ، وتَضْرِبُ فيه بحِصَّتِها منه. وإن طالتِ العِدَّةُ أكثرَ مِن ذلك، مثلَ أن وضَعَتْ حَمْلَها في عامٍ، أو رأتْ ثلاثةَ قُروءٍ في نِصْفِ عامٍ، رجَعَتْ بذلك على الغُرَماءِ، كما يَرْجِعُونَ عليها في صُورَةِ النَّقْصِ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَرْجِعَ ¬

(¬1) في الأصل: «عدتها في مدة». (¬2) في م: «يستأجر». (¬3) في الأصل، تش: «نفد».

3889 - مسألة: (ولا تخرج ليلا، ولها الخروج نهارا لحوائجها)

وَلَا تَخْرُجُ لَيلًا، وَلَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا لِحَوَائِجِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ به، وتكونَ في ذِمَّةِ زَوْجِها؛ لأنَّنا قَدَّرْنا ذلك مع تَجْويزِ الزِّيادَةِ، فلم يَكُنْ لها الزِّيادةُ عليه. 3889 - مسألة: (ولا تخْرجُ لَيلًا، ولها الخروجُ نَهَارًا لحَوائِجِها) سَواءٌ كانَتْ مُطَلَّقَةً أو مُتَوَفَّى عنِها؛ لِما روَى جابرٌ، قال: طَلُقَتْ خالتِي ثلاثًا، فخرَجَتْ تَجُذُّ نَخْلَها، فَلَقِيَها رجلٌ فنهاها، فذَكَرَتْ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «اخْرُجِي فَجُذِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أنْ (¬1) تَصَدَّقِي منه (¬2)، أو تَفْعَلِي خَيرًا». رواه النَّسائِيُّ، وأبو داودَ، [ومسلمٌ] (¬3). وروَى مُجاهِدٌ، قال: اسْتُشْهِدَ رِجالٌ يَومَ أُحُدٍ، فجاء ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «تمرًا». (¬3) سقط من: ق، م. والحديث أخرجه مسلم، في: باب جواز المعتدة البائن. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1121. وأبو داود، في: باب في المبتوتة تخرج بالنهار، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 535. والنسائي، في: باب خروج المتوفى عنها بالنهار، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 174. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب هل تخرج المرأة في عدتها، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 656. والدارمي، في: باب خروج المتوفى عنها زوجها، من كتاب الطلاق. سنن الدارمي 2/ 168. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِساؤُهم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقُلْنَ: يا رسولَ اللهِ، نَسْتَوْحِشُ باللَّيلِ، أفَنَبِيتُ عندَ إحْدانا، فإذا أصْبَحْنا بادَرْنا إلى بُيُوتِنا؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ، حتى إذا أرَدْتُنَّ النَّومَ (¬1)، فَلْتَؤُبْ كلُّ واحِدَةٍ إلى بَيتِهَا» (¬2). وليس لها المَبِيتُ في غيرِ بَيتِها، ولا الخُروجُ ليلًا، إلَّا لِضَرُورَةٍ؛ لأنَّ الليلَ مَظِنَّةُ الفَسادِ، بخِلافِ النَّهارِ، فإنَّه مَظِنَّةُ قَضاءِ الحَوائِجِ والمَعاشِ، وشِراءِ ما يُحْتاجُ إليه. وإن وَجَبَ عليها حَقٌّ لا يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُه إلَّا بها، كاليَمِينِ والحَدِّ، وكانت ذاتَ خِدْرٍ، بَعَثَ إليها الحاكمُ مَن يَسْتَوْفِي الحَقَّ منها في مَنْزِلِها، وإن كانت بَرْزَةً (¬3)، جازَ إحْضارُها لاسْتِيفائِه، وتَرْجِعُ إلى مَنْزِلِها إذا فَرَغَتْ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 36. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 436. (¬3) امرأة برزة: تبرز للقوم، يجلسون إليها ويتحدثون، وهي عفيفة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأمةُ كالحُرَّةِ في الإحْدادِ والاعْتدادِ في مَنْزِلِها، إلَّا أنَّ سُكْناها في العِدَّةِ كسُكْناها في حَياةِ زَوْجِها، للسَّيِّدِ إمْساكُها نَهارًا، ويُرْسِلُها ليلًا، فإن أرْسَلَها ليلًا ونَهارًا، اعْتَدَّتْ زَمانَها كلَّه في المنزلِ، وعلى الوَرَثَةِ إسْكانُها فيهما (¬1)، كالحُرَّةِ سَواءً. فصل: والبَدَويَّةُ كالحَضَرِيَّةِ في الاعْتِدادِ في المَنْزِلِ الذي مات زَوْجُها [وهي ساكِنَةٌ] (¬2) فيه، فإنِ انْتَقَلَتِ الحِلَّةُ، انْتَقَلَتْ (¬3) معهم؛ لأنَّها لا يُمْكِنُها المُقامُ وحْدَها، وإنِ انْتَقَلَ غيرُ أهْلِها، لَزِمَها المُقامُ مع أهْلِها، وإنِ انْتَقَلَ أهْلُها، انْتَقَلَتْ معهم، إلَّا أن يَبْقَى مِن الحِلَّةِ مَن لا تَخافُ على نَفْسِها معهم، فتُخَيَّرُ بينَ الإقامةِ والرَّحِيلِ. وإن هَرَبَ أهْلُها، فخافَتْ، هَرَبَتْ معهم، فإن أمِنَتْ أقامَتْ لِقَضاءِ العِدَّةِ في مَنْزِلِها. فصل: فإن مات صاحبُ السَّفِينَةِ، وامرأتُه في السَّفِينَةِ، ولها مسكنٌ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل.

3890 - مسألة: (وإن أذن لها زوجها في النقلة إلى بلد للسكنى فيه، فمات قبل مفارقة البنيان، لزمها العود إلى منزلها، وإن مات بعده، فلها الخيار بين البلدين)

وَإنْ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي النُّقْلَةِ إِلَى بَلَدٍ لِلسُّكْنَى فِيهِ، فَمَاتَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، لَزِمَهَا الْعَوْدُ إلَى مَنْزِلِهَا، وَإنْ مَاتَ بَعْدَهُ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَينَ الْبَلَدَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في البَرِّ، فحُكْمُها حكمُ المُسافِرَةِ في البَرِّ، على ما نَذْكُرُه. وإن لم يَكُنْ لها مَسْكَنٌ سِواها، وكان لها فيها بَيتٌ يُمْكِنُها السُّكْنَى فيه، بحيثُ لا تَجْتَمِعُ مع الرِّجالِ، وأمْكَنَها المُقامُ فيه، بحيثُ تَأْمَنُ على نَفْسِها ومعها مَحْرَمُها، لَزِمَها أن تَعْتَدَّ به، وإن كانت ضَيِّقَةً، وليس معها مَحْرَمُها، أو لا يُمْكِنُها الإقامةُ فيها إلَّا بحيثُ تَخْتَلِطُ بالرِّجالِ، لَزِمَها الانْتِقالُ عنها إلى غيرِها (¬1). 3890 - مسألة: (وإن أذِنَ لها زَوْجُها في النُّقْلَةِ إلى بَلَدٍ للسُّكْنَى فيه، فمات قبلَ مُفارَقَةِ البُنْيانِ، لَزِمَها العَوْدُ إلى مَنْزِلِها، وإن مات بَعْدَه، فلها الخِيارُ بينَ البَلَدَين) إِذا أذِنَ للمرأةِ زَوْجُها في النُّقْلَةِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، أو مِن دارٍ إلى دارٍ أُخْرَى، فمات قبلَ انْتِقالِها مِن الدارِ، أو قبلَ خُروجِها مِن البَلَدِ، لَزِمَها الاعْتِدادُ في الدَّارِ، وكذلك إن مات قبلَ خُروجِها مِن الدَّارِ؛ لأنَّها بَيتُها، وسواءٌ مات قبلَ نَقْلِ مَتاعِها مِن الدَّارِ أو بعدَه؛ لأنَّها مَسْكَنُها ما لم تَنْتَقِلْ عنها. وإن مات بعدَ انْتِقالِها إلى الثانيةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «منزلها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اعْتَدَّتْ فيها؛ لأنَّها مَسْكَنُها، وكذلك إن مات بعدَ وُصُولِها إلى البَلَدِ الآخَرِ على قِياسِ ذلك. وإن مات وهي بَينَهما، فهي مُخيَّرَةٌ؛ لأنَّها لا مَسْكَنَ لها منهما، فإنَّ الأُولَى قد خَرَجَتْ عنها مُنْتَقِلَةً، فخَرَجَتْ عن كَوْنِها مَسْكنًا لها، والثانيةَ لم تَسْكُنْ بها، فهما سَواءٌ، وكذلك إن مات (¬1) بعدَ خُرُوجها مِن البلَدِ؛ لِمَا ذَكَرْنا. وقيل: يَلْزَمُها الاعْتِدادُ في الثانيةِ؛ لأنَّها المسكَنُ الذي أذِنَ لها زَوْجُها في السُّكْنَى به، وهذا يُمْكِنُ في الدَّارَين. فأمَّا إذا كانا بَلَدَين، لم يَلْزَمْها (¬2) الانْتِقالُ إلى البلدِ الثاني بحالٍ؛ لأنَّها إنَّما كانت تَنْتَقِلُ لغَرَضِ زَوْجِها في صُحْبَتِها إيَّاه، وإقامَتِها معه، فلو ألْزَمْناها ذلك بعدَ مَوْتِه، لَكَلَّفْناها السَّفَرَ الشَّاقَّ، والتَّغَرُّبَ عن وَطَنِها وأهْلِها، والمُقامَ مع غيرِ مَحْرَمِها، والمخاطرةَ بنَفْسِها مع فَواتِ الغَرَضِ، وظاهرُ حالِ الزَّوجِ أنَّه لو عَلِمَ أنَّه يَمُوتُ، لَما نَقَلَها، فصارتِ الحَياةُ مَشْرُوطَةً في النُّقْلَةِ. فأمَّا إنِ انْتَقَلَتْ إلى الثانيةِ، ثم عادَتْ إلى الأُولَى لنَقْلِ مَتاعِها، فمات زَوْجُها وهي بها، فعليها الرُّجُوعُ إلى الثانيةِ؛ لأنَّها صارت مَسْكَنَها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «لم يكن لها».

3891 - مسألة: (وإن سافر بها فمات في الطريق وهي قريبة، لزمها العود)

وَإنْ سَافَرَ بِهَا فَمَاتَ فِي الطَرِّيقِ وَهِيَ قَرِيبَةٌ، لَزِمَهَا الْعَوْدُ، وَإنْ تَبَاعَدَتْ، خُيِّرَتْ بَينَ الْبَلَدَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بانْتِقالِها إليها، وإنَّما عادت إلى الأُولَى لحاجةٍ، والاعْتِبارُ بمَسْكَنِها دُونَ مَوْضِعِها. وإن مات وهي في الثانيةِ، فقالت: أذِنَ لي زَوْجِي في السُّكْنَى بهذا المكانِ. وأنْكَرَ ذلك الوَرَثَةُ، أو قالت: إنَّما أذِنَ لي زَوْجِي في المَجِئِ إليه، لا في الإِقامَةِ به. وأنْكَرَ ذلك الوَرَثَةُ، فالقولُ قَوْلُها؛ لأنَّها أعْرَفُ بذلك منهم. وكلُّ مَوْضِع قُلْنا: يَلْزَمُها السَّفَرُ [إليه مِن] (¬1) بَلَدِها. فهو مَشْروطٌ بوُجُودِ مَحْرَمٍ يُسافِرُ معها، والأمْنِ على نَفْسِها؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، أنْ تُسافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم ولَيلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ منها (¬2)» (¬3). أو كما قال. 3891 - مسألة: (وإن سافَرَ بها فَمات في الطرَّيقِ وهي قَرِيبَةٌ، لَزِمَها العَوْدُ) لأنَّها في حكمِ الإِقامةِ (وإن تَباعَدَتْ، خُيِّرَت بينَ البَلَدَين) ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في الأصل، ق، م: «من أهلها». وهي رواية المسند 2/ 236. (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 41. وهو عند الترمذي في الجزء الخامس وليس الثاني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ البَلَدَين تَساوَيا، فكانتِ الخِيَرَةُ إليها فيما المصلحةُ لها فيه؛ لأنَّها أخْبَرُ بمَصْلَحَتِها. فصل: وإن أذِنَ لها زَوْجُها في السَّفَرِ لغيرِ النُّقْلَةِ، فخَرَجَتْ، ثم مات زَوْجُها، فالحكمُ في ذلك كالحُكْمِ في سَفَرِ الحجِّ، على ما نَذْكُرُه مِن التَّفْصيلِ. وإذا مَضَتْ إلى مَقْصِدِها، فلها الإقامةُ حتى تَقْضِيَ ما خَرَجَتْ إليه، وتَقْضِيَ حاجَتَها مِن تِجارَةٍ أو غيرِها. فإن كان خُرُوجُها لنُزْهَةٍ أو زِيارةٍ، ولم يَكُنْ قَدَّرَ لها مُدَّةً، فإنَّها تُقِيمُ إقامةَ المُسافِرِ ثلاثًا، وإن كان قد (¬1) قَدَّرَ لها مُدَّةً، فلها إقامَتُها؛ لأنَّ سَفَرَها بحُكْمِ إذْنِه، فكان لها إقامةُ ما أذِنَ لها فيه، فإذا مَضَتْ مُدَّتُها، أو قَضَتْ حاجَتَها، ولم يُمْكِنْها الرُّجوعُ؛ لخَوْفٍ أو غيرِه، أتَمَّتِ العِدَّةَ في مكانِها. وإن أمْكَنَها الرُّجوعُ، لكن لا يُمْكِنُها الوُصولُ إلى مَنْزِلِها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، لَزِمَها الإقامةُ في مَكانِها؛ لأنَّ الاعْتِدادَ وهي مُقِيمَةٌ أوْلَى مِن الإتْيانِ بها في السَّفرِ. وإن كانت تَصِلُ وقد بَقِيَ مِن عِدَّتِها شيءٌ، لَزِمَها العَوْدُ لتأتِيَ بالعِدَّةِ في مَكانِها. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش.

3892 - مسألة: (وإن أذن لها في الحج فأحرمت به، ثم مات، فخشيت فوات الحج، مضت في سفرها، وإن لم تخش، وهي في بلدها أو قريبة يمكنها العود، أقامت لتقضي العدة في منزلها، وإلا مضت في سفرها، وإن لم تكن أحرمت به، أو أحرمت بعد موته، فحكمها حكم من لم تخش الفوات)

وَإنْ أذِنَ لَهَا فِي الْحَجِّ، فَأحْرَمَتْ بِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ، مَضَتْ فِي سَفرِهَا، وَإنْ لَمْ تَخْشَ، وَهِيَ فِي بَلَدِهَا أوْ قَرِيبَةٌ يُمْكِنُهَا الْعَوْدُ، أقَامَتْ لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ فِي مَنْزِلِهَا، وَإلَّا مَضَتْ فِي سَفَرِهَا، وَإنْ لَمْ تَكُنْ أحْرَمَتْ بِهِ، أوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ لَمْ تَخْشَ الْفَوَاتَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3892 - مسألة: (وإن أذِنَ لها في الحَجِّ فأحْرَمَتْ به، ثم مات، فخَشِيَتْ فَواتَ الحَجِّ، مَضَتْ في سَفَرِها، وإن لم تَخشَ، وهي في بَلَدِها أو قَرِيبةٌ يُمْكِنُها العَوْدُ، أقامَتْ لِتَقْضِيَ العِدَّةَ في مَنْزِلِها، وإلَّا مَضَتْ في سَفَرِها، وإن لم تَكُنْ أحْرَمَتْ به، أو أحْرَمَتْ بعدَ مَوْتِه، فحُكْمُها حُكْمُ مَن لم تَخْشَ الفَواتَ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُعْتَدَّةَ ليس لها أن تَخْرُجَ إلى الحَجِّ ولا غيرِه. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومالكٌ، والشافعيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي. فإن خَرَجَتْ، فمات زَوْجُها في الطرَّيقِ، رَجَعَتْ إن كانت قَريبَةً؛ لأنَّها في حُكْمِ الإِقامةِ، وإن تَباعَدَتْ، مَضَتْ في سَفَرِها. وقال مالكٌ: تُرَدُّ ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تُحْرِمْ. والصَّحِيحُ ما ذكرْنا؛ لأنَّه يَضُرُّ بها، وعليها مَشَقَّةٌ، ولا بُدَّ لها مِن سَفَرٍ وإن رَجَعَتْ. ويُحَدُّ القَرِيبُ بما لا تُقْصَرُ فيه (¬1) الصَّلاةُ، والبَعيدُ بما تُقْصَرُ فيه. قاله القاضي. وهو قولُ أبي حنيفةَ، إلَّا أنَّه لا يَرَى القَصْرَ إلَّا في مُدَّةِ ثلاثةِ أيَّامٍ. فعلى قولِه: متى كان بينَها وبينَ مَسْكَنِها دونَ (¬2) ثَلاثَةِ أيَّامٍ، لَزِمَها الرُّجوعُ إليه، وإن كان فوقَ ذلك، لَزِمَها المُضِيُّ إلى مقْصِدِها إذا كان بينَها وبينَه دُونَ ثلاثةِ أيامٍ، وإن كان بينَها وبينَه ثلاثةُ أيامٍ، وفي مَوْضِعِها الذي هي به مَكانٌ يُمْكِنُها الإِقامةُ فيه، لَزِمَتْها الإقامةُ، وإلَّا مَضَتْ إلى مَقْصِدِها. وقال الشافعيُّ: إن فارَقَتِ ¬

(¬1) في م: «إليه». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البُنْيانَ، فلها الخيارُ بينَ الرُّجوعِ والتَّمامِ؛ لأنَّها صارَتْ في مَوْضِع أَذِنَ لها زَوْجُها فيه، وهو السَّفَرُ، فأشْبَهَ ما لو بَعُدَتْ. ولَنا، على وُجُوبِ الرُّجوعِ على القَريبَةِ، ما روَى سعيدٌ (¬1) بإسْنادِه، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: تُوُفِّيَ أزْواجٌ، نِساؤُهُنَّ حاجَّاتٌ أو مُعْتَمِراتٌ، فرَدَّهُنَّ عمرُ مِن ذِي الحُلَيفَةِ، حتى يَعْتَدِدْنَ في بُيُوتِهِنَّ. ولأنَّه أمْكَنَها الاعْتِدادُ في مَنْزِلِها قبلَ أن تَبْعُدَ (¬2)، فلَزِمَها، كما لو لم تُفارِقِ البُنْيانَ. وعلى أنَّ البَعِيدَةَ لا يَلْزَمُها الرُّجوعُ؛ لأنَّ عليها مَشَقَّةً، وتَحْتاجُ إلى سَفرٍ طويلٍ في رُجُوعِها، أشْبَهَتْ مَن بَلَغَتْ مَقْصِدَها. وإنِ اخْتارَتِ البَعيدَةُ الرُّجوعَ، فلها ذلك إِذا كانت تَصِلُ إلى مَنْزِلِها في عِدَّتِها. ومتى كان عليها [في الرُّجوعِ خوْفٌ أو ضَرَرٌ، فلها المُضِيُّ في سَفَرِها، كالبَعِيدَةِ. ومتى رجَعَتْ وقد بَقِيَ عليها] (¬3) شيءٌ مِن عِدَّتِها لَزِمَها أن تأْتِيَ به في مَنْزِلِ زَوْجِها، بلا خِلافٍ بينَهم؛ لأنَّه أمْكَنَها الاعْتِدادُ فيه، فهو كما لو لم تُسافِرْ منه. ¬

(¬1) في: باب المتوفى عنها زوجها أين تعتد، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 317. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، من كتاب الطلاق. الموطأ 2/ 591، 592. وعبد الرزاق، في: باب أين تعتد المتوفى عنها، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 33. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في المطلقة لها أن تحج في عدتها من كرهه، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 182، 183. والبيهقي، في: باب سكنى المتوفى عنها زوجها، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 435. (¬2) في الأصل، تش، م: «تعتد». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كان عليها حَجَّةُ الإِسْلام، فمات زَوْجُها، لَزِمَتْها العِدَّةُ في مَنْزِلِها وإن فاتَها الحَجُّ؛ لأَنَّ العِدَّةَ في المَنْزلِ تَفُوت، ولا بَدَلَ لها، والحَجُّ يُمْكِنُ الإتْيانُ به بعدَها. وإن مات زَوْجُها بعدَ إحْرامِها بحَجِّ الفَرْضِ، أو بحَجٍّ أذنَ لها فيه، وكان وقْتُ الحَجِّ مُتَّسِعًا، لا تَخاف فوتَه، ولا فَوْتَ الرُّفْقَةِ، لَزِمَها الاعْتِدادُ في مَنْزِلِها؛ لإِمْكانِ الجَمْعِ بينَ الحَقَّين. وإن خَشِيَتْ فواتَ الحَجِّ، لَزِمَها المُضِيُّ فيه. وهو قولُ الشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُها المُقامُ وإن فاتَها؛ لأنَّها مُعْتَدَّةٌ، فلم يَجُزْ لها أن تُنْشِئَ سَفَرًا، كما لو أحْرَمَتْ بعدَ وُجُوبِ العِدَّةِ عليها. ولَنا، أنَّهما عِبادَتان اسْتَوَيا في الوُجُوب وضِيقِ الوَقتِ، فوَجَبَ تقديمُ الأسْبَقِ منهما، كما لو سَبَقَتِ العِدَّةُ، ولأنَّ الحَجَّ آكَدُ؛ لأنَّه أحدُ أرْكانِ الإِسْلامِ، والمَشَقَّةُ بتَفْويتِه تَعْظُمُ، فوَجَبَ تَقْديمُه، كما لو مات زَوْجُها بعدَ أن بَعُدَ سَفَرُها إليه. وإن أحْرَمَتْ بالحجِّ بعدَ موتِ زَوْجِها، وخَشِيَتْ فواتَه، احْتَمَلَ أن يجوزَ لها المُضِيُّ إليه؛ لِما في بَقائِها على الإِحْرامِ مِن المَشَقَّةِ،

3893 - مسألة: (وأما المبتوتة فلا تجب عليها العدة في منزله، وتعتد حيث شاءت. نص عليه)

وأمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَيهَا الْعِدَّةُ فِي مَنْزِلِهِ، وَتَعْتَدُّ حَيثُ شَاءَتْ. نصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحْتَمَلَ أن تَلْزَمَها العِدَّةُ في مَنْزِلِها؛ لأنَّها أسْبَقُ، ولأنَّها فَرَّطَتْ وغَلَّظَتْ على نَفْسِها، فإذا قَضَتِ العِدَّةَ، وأمْكَنَها [السَّفَرُ إلى] (¬1) الحجِّ، لَزِمَها ذلك، فإن أدْرَكَتْه، وإلَّا تَحَلَّلَتْ بعُمْرَةٍ، وحُكْمُها في القَضاءِ حكمُ مَن فاتَه الحجُّ. وإن لم يُمْكِنْها السَّفَرُ، فهي كالمُحْصَرَةِ التي يَمْنَعُها زَوْجُها مِن السَّفَرِ. وحُكْمُ الإِحْرامِ بالعُمْرَةِ كذلك، إذا خِيفَ فواتُ الرُّفْقةِ أو لم يُخَفْ. 3893 - مسألة: (وأمَّا المَبْتُوتَةُ فلا تَجِبُ عليها العِدَّةُ في مَنْزِلِه، وتَعْتَدُّ حيثُ شَاءتْ. نَصَّ عليه) قال أصْحابُنا: لا يَتَعَيَّنُ الموْضِعُ الذي ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْكُنُه المْبْتُوتَةُ في الطَّلاقِ، سَواءٌ قُلْنا: لها (¬1) السُّكْنَى. أو لم نَقُلْ، بل يتَخَيَّرُ الزَّوجُ بينَ إقْرارِها في مَوْضِعِ طَلاقِها، وبينَ نَقْلِها إلى مَسْكَنِ مِثْلِها؛ لحديثِ فاطمةَ بنتِ قَيسٍ (¬2)، يُذْكرُ في بابِ (¬3) النَّفَقاتِ إن شاء اللهُ تعالى. والمُسْتَحَبُّ إقْرارُها؛ لقولِه سبحانه: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.ولأنَّ فيه خُروجًا مِن الخِلافِ، فإنَّ الذين يَرَوْنَ لها السُّكْنَى يُوجِبون عليها الاعْتِدادَ في مَنْزِلِها. فإن كانت (¬4) في بَيتٍ يَمْلِكُ الزوجُ سُكْناه، يَصْلُحُ لمِثْلِها، اعْتَدَّت فيه، فإن ضاق عليهما (¬5)، انْتَقَلَ عنها؛ لأنَّه يُسْتَحَبُّ سُكْناها في البيتِ الذي طَلَّقَها فيه، وإنِ اتَّسَعَ الموضعُ لهما، وأمْكَنَها السُّكْنَى في موضعٍ مُنْفَرِدٍ، كالحُجْرَةِ وعُلْو الدارِ، وبينَهما بابٌ مُغْلَقٌ، جازَ، وسَكَنَ الزوجُ في الباقي، [كالحُجْرَتَين المُتَجاورَتَين] (¬6)، وإن لم يكنْ بينَهما بابٌ مُغْلَقٌ، ¬

(¬1) في الأصل: «لهم». (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 181، 20/ 53. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «كان». (¬5) في م: «عنهما». (¬6) في م: «كالحجرة بين المتجاورتين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن لها موضعٌ تَسْتَتِرُ فيه، بحيثُ لا يَراها، ومعها مَحْرَمٌ تَتَحَفَّظُ به، جاز، وتَرْكُه أَوْلَى، ولا يجوزُ مع عَدَمِ المَحْرَمِ؛ لأنَّ الخَلْوَةَ بالأجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمَةٌ. وإنِ امْتَنَعَ مِن إسْكانِها، وكانت ممَّن لها عليه السُّكْنَى، أجْبَرَهُ الحاكمُ، فإن لم يكنْ ثَمَّ حاكمٌ، رجَعَتْ على الزوجِ، وإن وُجِدَ الحاكمُ، ففي رُجُوعِها رِوايتان. فإن كان الزوجُ حاضِرًا ولم يَمْنَعْها المَسْكَنَ، فاكْتَرَتْ لنَفْسِها مَسْكَنًا، أو سَكَنَتْ في موضع تَمْلِكُه، لم تَرْجِعْ؛ لأنَّها تَبَرَّعَتْ بذلك. وإن عَجَزَ الزَّوْجُ عن إسْكانِها؛ لِعُسْرَتِه، أو غَيبَتِه، أو امْتَنَعَ منه مع القُدْرَةِ، سَكَنَتْ حيثُ شاءتْ. واللهُ أعلمُ.

باب في استبراء الإماء

بَابٌ فِي استِبْرَاءِ الْإِمَاءِ وَيَجِبُ الاسْتِبْرَاءُ فِي ثَلَاثةِ مَوَاضِعَ؛ أحَدُهَا، إِذَا مَلَكَ أمَةً، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا الاسْتِمْتَاعُ بِهَا بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا قُبْلَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، إلا المَسْبِيَّةَ، هَلْ لَهُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابٌ في استِبْراءِ الإِماءِ (ويجبُ الاسْتِبْراءُ في ثلاثةِ مواضعَ؛ أحدُها، إذا مَلَكَ أمَةً، لم يَحِلَّ له وَطْؤُها ولا الاسْتِمْتاعُ بها بمُباشَرَةٍ أو قُبْلَةٍ حتى يَسْتَبْرِئَها، إلَّا المَسْبِيَّةَ، هل له الاسْتِمْتاعُ منها بما دُونَ الفَرْجِ؟ على رِوايَتَين) مَن مَلَكَ أمَةً بسَبَبٍ مِن أسْبابِ المِلْكِ؛ كالبيعِ، والهِبَةِ، والإِرْثِ، وغيرِ ذلك، لم يَحِلَّ له وَطْؤُها حتى يَسْتَبْرِئَها، بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا، صَغِيرةً أو كبيرةً، ممَّن تَحْمِلُ أو ممَّن (¬1) لا تَحْمِلُ. هذا قولُ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، وأكثرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العِلْمِ؛ منهم مالكٌ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي. وقال ابنُ عمرَ: لا يجبُ اسْتِبْراءُ البِكْرِ. وهو قولُ داودَ؛ لأنَّ الغَرَضَ بالاسْتِبْراءِ مَعْرِفَةُ بَراءَتِها مِن الحَمْلِ، وهذا مَعْلُومٌ في البِكْرِ، فلا حاجةَ إلى الاسْتِبْراء. وقال اللَّيثُ: إن كانتْ ممَّن لا يَحْمِلُ مِثْلُها، لم يَجِبِ اسْتِبْراؤُها [لذلك. وقال عثمانُ البَتِّيُّ: يجبُ الاسْتِبْراءُ على البائعِ دونَ المُشْتَرِي؛ لأنَّه لو زَوَّجَها، لكان الاسْتِبْراءُ] (¬1) على السَّيِّدِ دونَ الزَّوْجِ، كذلك ههُنا. ولَنا، ما روَى أبو سعيدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عامَ أوْطَاسٍ أن تُوطَأ حامِلٌ حتى تَضَعَ، ولا غيرُ حامِلٍ حتى تَحِيضَ. روَاه أحمدُ في «المسندِ» (¬2). وعن رُوَيفِعِ بنِ ثابتٍ، قال: إنَّنِي لا أقولُ إلَّا ما سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سمِعْتُه يقولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، أنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأةٍ مِنَ السَّبْي حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بحَيضَةٍ». رواه أبو داودَ (¬3). وفي لفظٍ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَينٍ يقولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْم الآخِرِ، [فَلَا يَسْقِ مَاءَه زَرْعَ غَيرِه، ومَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ] (1)، فَلَا يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 390. وهو عند أبي داود في 1/ 497. (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بحَيضَةٍ». رواه الأثْرَمُ (¬1). ولأنَّه مَلَكَ جارِيةً مُحَرَّمَةً عليه، فلم تَحِلَّ له قبلَ اسْتِبْرائِها، كالثَّيِّبِ (¬2) التي تَحْمِلُ، ولأنَّه سَبَبٌ وَجَبَ للاسْتِبْراءِ، فلم تَفْتَرِقِ الحالُ فيه بينَ البِكْرِ والثَّيِّبِ، والتي تَحْمِلُ والتي لا تَحْمِلُ، كالعِدَّةِ. قال أبو عبدِ اللهِ: قد بَلَغَنِي أنَّ العَذْراءَ تَحْمِلُ. فقال له بعضُ أهْلِ المجْلِسِ: نعم، قد كان في جِيرانِنا. وذَكَره بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ. وما ذكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا اشْتَراها مِن امرأةٍ أو صَبِيٍّ، أو مَن تَحْرُمُ عليه برَضاعٍ أو غيرِه، وما ذكَرَه البَتِّيُّ (¬3) لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المِلْكَ قد يكونُ بالسَّبْي والإرْثِ والوَصِيَّةِ، فلو لم يَسْتَبْرِئْها المُشتَرِي، أفْضَى إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ. والفَرْقُ بينَ البَيعِ والتَّزْويجِ، أنَّ التزويجَ لا يُرادُ إلَّا للاسْتِمْتاعِ، فلا يجوزُ إلَّا في مَن تَحِلُّ له، فوَجَبَ أن يتقَدَّمَه الاسْتِبْراءُ، ولهذا لا يَصِحُّ تَزْويجُ مُعْتَدَّةٍ، ولا مُرْتَدَّةٍ، ولا مَجُوسِيَّةٍ، ولا وَثَنِيَّةٍ، ولا مُحَرَّمَةٍ بالرَّضاعِ ولا المُصاهَرَةِ، والبيعُ يُرادُ لغيرِ ذلك، فصَحَّ قبلَ الاسْتِبْراءِ، ولهذا صَحَّ في هذه المُحَرَّماتِ، ووَجَبَ الاسْتِبْراءُ على المُشْتَرِي؛ لِما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) بنحوه أخرجه أبو داود فيما تقدم. وذكر أن زيادة: «بحيضة» وهم في هذا الحديث من أبي معاوية، وهي صحيحة في حديث أبي سعيد. (¬2) في م: «كالبنت». (¬3) سقط من: الأصل.

3894 - مسألة: ويحرم الاستمتاع منها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3894 - مسألة: وَيَحْرُمُ الاسْتِمْتاعُ منها (¬1) بالقُبْلَةِ والنَّظَرِ لِشَهْوَةٍ، والاسْتِمْتاعُ بها فيما دُونَ الفَرْجِ إذا لم تَكُنْ مَسْبِيَّةً، روايةً واحدةً. وقال الحسنُ: لا يَحْرُمُ مِن المُسْتَبْرأةِ إلا فَرْجُها، وله أن يَسْتَمْتِعَ منها بما شاءَ، ما لم يَمَسَّ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نَهَى عن الوَطْءِ، ولأنَّه تَحْرِيمٌ للوَطْءِ مع ثُبُوتِ المِلْكِ، فاختَصَّ بالفَرْجِ، كالحَيضِ. ولَنا، أنَّه اسْتِبْراءٌ يُحَرِّمُ الوَطْءَ، فحرَّمَ الاسْتِمْتاعَ، كالعِدَّةِ، ولأنَّه لا يَأْمَنُ مِن (¬2) كَوْنِها حامِلًا مِن بائِعِها، فتكونُ أُمَّ ولَدٍ، فلا يَصِحُّ بَيعُها، فيكونُ مُسْتَمْتِعًا بأُمِّ ولَدِ غيرِه، وبهذا فارَقَ الحائِضَ. فأمَّا المَسْبِيَّةُ، ففيها روايتان؛ إحداهما، تَحْريمُ مُباشَرَتِها. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو الظَّاهِرُ عن أحمدَ، إذا كان لشَهْوَةٍ، قِياسًا على العِدَّةِ، ولأنَّه داعِيَةٌ إلى الوَطْءِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحَرَّمِ المُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ، فأشْبَهَتِ المَبِيعةَ (¬1). والرِّوايةُ الثانيةُ، لا يَحْرُمُ؛ لِما رُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه قال: وقَعَ في سَهْمِي يومَ جَلُولاءَ (¬2) جارِيةٌ، كأنَّ عُنُقَها إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، فما مَلَكْتُ نَفْسِي أن قُمْتُ إليها فَقَبَّلْتُها والناسُ يَنْظُرون (¬3). ولأنَّه لا نَصَّ في المَسْبيَّةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على المَبِيعَةِ؛ لأنَّها تَحْتَمِلُ أن تكونَ أمَّ ولَدٍ للبائِعِ، فيكونَ مُسْتَمْتِعًا بأُمِّ ولدِ غيرِه، ومُباشِرًا لمَمْلُوكةِ غيرِه، والمَسْبِيَّةُ مملوكةٌ له على كلِّ حالٍ، وإنَّما حَرُمَ وَطْوها لِئَلَّا يَسْقِيَ ماءَه زَرْعَ غيرِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) جلولاء: ناحية من نواحي السواد، في طريق خراسان، فتحها المسلمون في السنة التاسعة عشرة. معجم البلدان 2/ 107، معجم ما استعجم 2/ 390، البداية والنهاية 7/ 69. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يشتري الأمة يصيب منها شيئًا دون الفرج أم لا، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 227، 228.

3895 - مسألة: (وسواء ملكها من صغير أو كبير، أو رجل أو امرأة)

سَوَاءٌ مَلَكَهَا مِنْ صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ، أوْ رَجُلٍ أو امْرأةٍ. وَإنْ أعتَقَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3895 - مسألة: (وسَواءٌ مَلَكَها مِن صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ، أو رجلٍ أو امرأةٍ) أو مَجْبُوبٍ (¬1)، أو مِن رَجُلٍ قد اسْتَبْرأها، ثم لم يَطَأها؛ لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا تُوطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرأ بِحَيضَةٍ». [ولأنَّه يجوزُ أن تكونَ حامِلًا مِن غيرِ البائعِ، فوَجَبَ اسْتِبْراؤُها، كالمَسْبِيَّةِ مِن امرأةٍ] (¬2). 3896 - مسألة: (وإن أعْتَقَها قبلَ اسْتِبْرائِها، لم يَحِلَّ له نِكَاحُها ¬

(¬1) في الأصل: «مجنون». (¬2) سقط من: الأصل. وجاء في تش في بداية شرح المسألة القادمة.

وَلَهَا نِكَاحُ غَيرِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَائِعُهَا يطَؤُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى يَسْتَبْرِئَها، ولها نِكاحُ غَيرِهِ إن لم يَكُنْ بائِعُها يَطَؤُها) إذا اشْتَرَى أمَةً، فأعْتَقَها قبلَ اسْتِبْرائِها، لم يَجُزْ أن يتزَوَّجَها [حتى يَسْتَبْرِئَها] (¬1). وبه قال الشافعيُّ. وقال أصْحابُ الرَّأْي: له ذلك. ويُرْوَى أنَّ الرَّشِيدَ اشْتَرى جارِيةً، فتاقَتْ نَفْسُه إلى جِماعِها قبلَ اسْتِبْرائِها، فَأمَرَه أبو يوسفَ أن يُعْتِقَها ويتزَوَّجَها ويَطَأَها. قال أبو عبدِ اللهِ: وبَلَغَنِي أنَّ المَهْدِيَّ اشْتَرَى جارِيةً، فأعْجَبَتْه، فقيل له: أعْتِقْها وتزَوَّجْها. قال أبو عبدِ اللهِ: ما أعْظَمَ هذا، أبْطَلُوا الكِتابَ والسُّنَّةَ، جَعَلَ اللهُ على الحَرائرِ العِدَّةَ مِن أجْلِ الحَمْلِ، فليس مِن امرأةٍ تُطَلَّقُ أو يَمُوتُ زَوْجُها إلَّا وتَعْتَدُّ مِن أجلِ الحَمْلِ، وسَنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتِبْراءَ الأمَةِ بحَيضَةٍ مِن أجْلِ الحَمْلِ، ففَرْجٌ يُوطَأُ (¬2)، يشْتَرِيه ثم يُعْتِقُها على المكانِ، ثم يتزَوَّجُها، فيَطَؤُها، يَطَؤُها (¬3) رجلٌ اليومَ ويطؤُها الآخَرُ غدًا، فإن كانت حامِلًا كيف يَصْنَعُ؟ هذا نَقْضُ الكتابِ والسُّنَّةِ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُوطَأُ الحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، ولَا غَيرُ الحَامِلِ حَتَّى تَحِيضَ». وهذا لا يَدْرِي أهى حامِلٌ أم لا؟ ما أسْمَجَ هذا! قِيلَ له: إنَّ قَوْمًا يقولُون هذا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) بعده في الأصل: «ثم». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: قَبَّحَ الله هذا، وقَبَّحَ مَن يَقُولُه. وفيما نَبَّه عليه أبو عبدِ الله مِن الأدِلَّةِ كِفايةٌ. إذا ثَبَتَ هذا، فليس له تَزْويجُها لغيره قبلَ اسْتِبْرائِها، إذا لم يُعْتِقْها؛ لأنَّها ممَّن يَجِبُ اسْتِبْراؤُها، فلم يَجُزْ أن تتَزَوَّجَ، كالمُعْتَدَّةِ. وسَواءٌ في ذلك المُشْتَراةُ (¬1) مِن رجل يَطَؤُها، أو مِن رجل قد اشْتَراها ثم لم يَطَأْها، أو ممَّن لا يُمْكِنُه الوَطْءُ، كالصَّبِيِّ والمَجْبُوبِ والمرأةِ. وقال الشافعيُّ: إذا اشْتَراها ممَّن لا يَطَؤُها، فله تَزْويجُها، سَواءٌ أعْتَقَها أو لم يُعْتِقْها، وله أن يتَزَوَّجَها إذا أعْتَقَها؛ لأنَّها ليست فِراشًا، وقد كان لسَيِّدِها تزْويجُها قبلَ بَيعِها، فجازَ ذلك بعدَ بَيعِها، ولأنَّها لو عتَقَتْ على البائعِ بإعْتاقِه أو غيرِه، لجازَ لكلِّ أحَدٍ نِكاحُها، فكذلك إذا أعْتَقَها المُشْتَرِي. ولَنا، عُمُومُ قولِه - عليه السلام -: «لَا تُوطَأُ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأ بِحَيضَةٍ». ¬

(¬1) في ق، م: «المستبرأة».

3897 - مسألة: (والصغيرة التي لا يوطأ مثلها، هل يجب استبراؤها؟ على وجهين)

وَالصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، هَلْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّها أمَةٌ يَحْرُمُ عليه وَطْؤُها قبلَ اسْتِبْرائِها، فحَرُمَ عليه تَزْويجُها والتَّزَوُّجُ بها، كما لو كان بائِعُها يَطَؤُها. فأمَّا إن أعْتَقَها في هذه الصُّورَةِ، فله تَزْويجُها لغيرِه؛ لأنَّها حُرَّةٌ لم تَكنْ فِراشًا، فأُبِيحَ لها النِّكاحُ، كما لو أعْتَقَها البائعُ، وفارَقَ المَوْطُوءَةَ، فإنَّها فِراشٌ يجبُ عليها اسْتِبْراءُ نَفْسِها، فَحَرُمَ عليها النِّكاحُ، كالمُعْتَدَّةِ، وفارَقَ ما إذا أراد سَيِّدُها نِكاحَها، فإنَّه لم يَكُنْ له وَطْؤُها بِمِلْكِ اليَمِينِ، فلم يكُنْ له أن يتزَوَّجَها، كالمُعْتَدَّةِ، ولأنَّ هذا يُتَّخَذُ حِيلَةً على إبْطالِ الاسْتِبْراءِ، فحَرُمَ، بخلافِ تَزْويجِها لغيرِه. 3897 - مسألة: (والصَّغِيرَةُ التي لا يُوطَأُ مِثْلُها، هل يَجِبُ اسْتِبْراؤُها؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، يَجِبُ. وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أكْثَرَ الرِّواياتِ عنه، فإنَّه قال: تُسْتَبْرأُ وإن كانت في المَهْدِ. وتَجْرُمُ مُباشَرَتُها على هذه الرِّوايَةِ، كالكَبِيرَةِ؛ لأنَّ الاسْتِبْراءَ يجبُ عليها بالعِدَّةِ، كذلك هذا. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: إن كانت صغيرةً، [بأيِّ شيءٍ تُسْتَبْرأُ] (¬1) إذا كانت رضيعةً؟ وقال في رِوايةٍ أُخْرى: تُسْتَبْرأُ بحَيضَةٍ إن كانت تَحِيضُ، وإلَّا ثلاثةِ أشْهُرٍ إن كانت ممَّن يُوطَأُ ويَحْبَلُ. فظاهِرُ هذا أنَّه لا يجبُ اسْتِبْراؤُها، ولا تَحْرُمُ مُباشَرَتُها. وهذا اخْتيارُ ابنِ أبي مُوسى، وقولُ مالكٍ، وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ سَبَب الإباحَةِ مُتَحَقِّقٌ، وليس على تَحْريمِها دَلِيلٌ، فإنَّه لا نَصَّ فيه، ولا مَعْنى نَصٍّ، ولايرادُ لبَراءَةِ الرَّحِمِ، ولا يُوجَدُ الشُّغلُ في حَقِّها. ¬

(¬1) في م: «تأنى شيئًا يسيرا».

3898 - مسألة: (وإن اشترى زوجته)

وَإنِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، أوْ عَجَزَتْ مُكَاتَبَتُهُ، أوْ فَكَّ أمَتَهُ مِنَ الرَّهْنَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3898 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَى زَوْجَتَه) لَم يَلْزَمْه اسْتِبْراؤُها؛ لأنَّها فِراشٌ له فلم يَلْزَمْه اسْتِبْراؤُها مِن مائِه، لكن يُسْتَحَبُّ ذلك؛ ليَعْلَمَ هل الولَدُ مِن النِّكاحِ ليكونَ عليه ولاءٌ له؛ لأنَّه عَتَقَ بمِلْكِه، ولا تَصير به الجاريةُ أُمَّ ولَدٍ، أو هو حادِثٌ في مِلْكِ يَمِينِه، فلا يكونُ عليه ولاءٌ، وتَصِيرُ به الأمَةُ أُمَّ ولَدٍ. ومتى تَبَيَّنَ حَمْلُها فله وَطْؤُها، لأنَّه قد تَبَيَّنَ الحَمْلُ وزال (¬1) الاشْتِباهُ. 3899 - مسألة: (أو عَجَزَتْ مُكاتَبَتُه) حَلَّتْ لسَيِّدِها بغيرِ اسْتِبْراءٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وكذلك إنِ ارْتَدَّتْ أمَتُه، ثم أسْلَمَتْ، أو زَوَّجَ [الرجلُ أمَتَه] (¬2)، فطَلَّقَها الزَّوْجُ، لم يَلْزَمِ السَّيِّدَ اسْتِبْراؤُها. وقال الشافعيُّ: يجبُ عليه الاسْتِبْراءُ في هذا كلِّه؛ لأنَّه زال مِلْكُه عن اسْتِمْتاعِها ثم عاد، فأشْبَهَتِ المُشْتَراةَ. ولَنا، أنَّه لم يتجدَّدْ مِلْكُه عليها، فأشْبَهَتِ المُحْرِمَةَ إذا حَلَّتْ. (وإن فَكَّ أمَتَه مِن الرَّهْن) حَلَّتْ بغيرِ اسْتِبْراءٍ، بغيرِ خلافٍ، فكذلك هذا، ولأنَّ الاسْتِبْراءَ إنَّما شُرِعَ لمعْنًى مَظِنَّتُه تجْديدُ المِلْكِ، فلا يُشْرَعُ مع تَخَلُّفِ المَظِنَّةِ والمَعْنَى. ¬

(¬1) في الأصل: «فكذلك». (¬2) في الأصل: «أمه».

3900 - مسألة: (أو أسلمت)

أوْ أسْلَمَتِ الْمَجُوسِيَّةُ، أَو الْمُرْتَدَّةُ، أَو الْوَثَنِيَّةُ الَّتِي حَاضَتْ عِنْدَهُ، أوْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ فَأَسْلَمَ، أو اشْتَرَى مُكَاتَبُهُ ذَوَاتِ رَحِمِهِ، فَحِضْنَ عِنْدَهُ، ثُمَّ عَجَزَ، أو اشْتَرَى عَبْدُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3900 - مسألة: (أو أسْلَمَتْ) أمَتُه (المَجُوسِيَّةُ، أو المُرْتَدَّةُ، أو الوَثَنِيَّةُ التي حاضَتْ عندَه، أو كان هو المُرْتَدَّ فأسْلَمَ) فهي حلال بغَيرِ اسْتِبْراءٍ. إذا مَلَكَ مَجُوسِيَّةً، أو وَثَنِيَّةً، فأسْلَمَتْ قبلَ اسْتِبْرائِها، لم تَحِلَّ حتى يَسْتَبْرِئَها، أو تُتِمَّ ما بَقِيَ مِن اسْتِبْرائِها؛ لِمَا مَضَى. فإنِ اسْتَبْرأها [ثم أسْلَمَتْ، حَلَّتْ بغيرِ اسْتبراءٍ. وقال الشافعيُّ: لا تَحِلُّ حتى يُجَدِّدَ اسْتِبْراءَها] (¬1) بعدَ إسْلامِها؛ لأنَّ مِلْكَه تَجدَّدَ على اسْتِمْتاعِها، فأشْبَهَ مَن تَجَدَّدَ مِلْكُه على رَقَبَتِها. ولَنا، قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا تُوطَأُ حَائِلٌ حتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيضَةٍ». وهذا وَرَدَ في سَبايا أوْطاسٍ، وهُنَّ مُشْرِكاتٌ، ولم يَأْمُرْ في حَقِّهِنَّ بأكْثَرَ مِن حَيضَةٍ، ولأنَّه لم يتَجَدَّدْ مِلْكُه عليها، ولا أصابَها وَطْءٌ مِن غيرِه، فلم يَلْزَمْه اسْتِبْراؤُها، كما لو حَلَّتِ المُحْرِمَةُ، ولأنَّ الاسْتِبْراءَ إنَّما وَجَبَ كَيلا يُفْضِيَ إلى اخْتِلاطِ المِياهِ واشْتِباهِ الأنْسابِ، ومَظنَّةُ ذلك تَجْديدُ المِلْكِ على رَقَبَتِها، ولم يُوجَدْ. 3901 - مسألة: (أو اشْتَرَى مُكاتَبُه ذَواتِ رَحِمِه، فحِضْنَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

التَّاجِرُ أمَةً فَاسْتَبْرأهَا، ثُمَّ أخَذَهَا سَيِّدُهُ، حَلَّتْ بِغَيرِ اسْتِبْرَاءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عِنْدَه، ثم عَجَزَ، أو اشْتَرَى عَبْدُه التَّاجِرُ أمَةً، فاسْتَبْرأها، ثم أخَذَها سيِّدُه) منه، فإنَّها (تَحِلُّ بغَيرِ اسْتِبْراءٍ) [أمّا إذا اشْتَرى عبدُه التاجِرُ أمةً، فأخَذَها منه سيِّدُه بغيرِ اسْتِبْرائِها، فليس على السّيدِ اسْتِبْراؤُها] (¬1)، لأنَّ مِلْكَه ثابِتٌ على ما في يَدِ عَبْدِه، فقد حَصَلَ اسْتِبْراؤُها في مِلْكِه. وأمَّا إذا اشْتَرى مُكاتَبُه أمَةً، فاسْتَبْرأها (¬2)، ثم صارت إلى سَيِّدِه ولم تَكُنْ مِن ذَواتِ رَحِمِ المُكاتَبِ، فعلى السَّيِّدِ اسْتِبْراؤُها، لأنَّ مِلْكَه تجَدَّدَ عليها، إذ ليس للسَّيِّدِ مِلْكٌ على (¬3) ما في يَدِ مُكاتَبِه. فإن كانت مِن ذَواتِ مَحارِمِه، فإنَّها تُباحُ للسَّيِّدِ بغيرِ اسْتِبْراءٍ. كذلك ذَكَرَه أصْحابُنا؛ لأنَّه يَصِيرُ حُكْمُها حكمَ المُكاتَبِ، إن رَقَّ رَقَّتْ، وإن عَتَقَ عَتَقَتْ، والمُكاتَبُ عبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ. فصل: فإن وَطِئَ الجاريةَ التي يَلْزَمُه اسْتِبْراؤُها قبلَ اسْتِبْرائِها، أثِمَ، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «فاشتراها». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاسْتِبْراءُ باقٍ بحالِه؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، فلا يَسْقُطُ بعُدْوانِه، فإن لم تَعْلَقْ منه، اسْتَبْرأها بما كان يَسْتَبْرِئُها به قبلَ الوَطْءِ، وتَبْنِي على ما مَضَى مِن الاسْتِبْراء، وإن عَلِقَتْ منه، فمتى وضَعَتْ حَمْلَها، اسْتَبْرأها بحَيضَةٍ، ولا يَحِلُّ له الاسْتِمْتاعُ بها في حالِ حَمْلِها؛ لأنَّه لم يَسْتَبْرِئْها. وإن وَطِئَها وهي حامِلٌ حَمْلًا كان موْجودًا حينَ البَيعِ مِن غيرِ البائعِ، فمتى وضَعَتْ حَمْلَها انْقَضَى اسْتِبْراؤُها. قال أحمدُ: ولا يَلْحَقُ بالمُشْتَرِي، ولا يَبِيعُه، ولكن يُعْتِقُه؛ لأنَّه قد شَرِكَ فيه؛ لأنَّ الماءَ يَزِيدُ في الولَدِ. وقد روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه عن أبي الدَّرْداءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه مَرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ، على بابِـ (¬2) فُسْطاطٍ، فقال: «لَعَلَّه يُرِيدُ أن يُلِمَّ بِهَا؟». قالوا: نعم. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ ألْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ معه قَبْرَه، كَيفَ يُوَرِّثُه وهو لا يَحِلُّ لَهُ، أو كَيفَ يَسْتَخْدِمُهُ وهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ!». ومعْناه أنَّه إنِ اسْتَلْحَقَه وشَرَّكَه في مِيراثِه، لم يَحِلَّ له؛ لأنَّه ليس بوَلَدِه، وإنِ اتَّخَذَه مَمْلُوكًا له، لم يَحِلَّ له (¬3)؛ لأنَّه قد شَرِكَ فيه، لِكَوْنِ الماءِ يَزيدُ في الولَدِ. وعن ابنِ عباسٍ قال: نَهَى رسولُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 19/ 428. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

3902 - مسألة: (وإن وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض، أجزأ. ويحتمل أن لا يجزئ)

وَإنْ وُجدَ الاسْتِبْرَاءُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أجْزأَ. وَيَحْتَمِلُ ألا يُجْزِئَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن وَطْءِ الحَبَالى حتى يَضَعْنَ ما في بُطُونِهِن. رواه النَّسَائِيُّ (¬1). 3902 - مسألة: (وإن وُجِدَ الاسْتِبْراءُ في يَدِ البائِعِ قَبْلَ القَبْضِ، أجْزَأ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَ) [لا يكونُ الاسْتِبْراءُ إلَّا] (¬2) بعدَ مِلْكِ المُشْتَرِي لجميعِ الأمَةِ، فلو مَلَكَ بعْضَها، ثم مَلَكَ بَاقِيَها، لم يُحْتَسَبْ الاسْتِبْراءُ إلَّا مِن حينَ مَلَكَ بَاقِيَها. فإن مَلَكَها ببَيعٍ فيه الخِيارُ، انْبَنَى على نَقْلِ المِلْكِ في مُدَّتِه، فإن قُلْنا: يَنْتَقِلُ. فابْتِداءُ الاسْتِبْراءِ مِن حينِ البَيعِ. وإن قُلْنا: لا يَنْتَقِلُ. فابْتِداؤُه مِن حينَ انْقَطَعَ الخِيارُ. وإن كان المَبِيعُ مَعِيبًا، فابْتِداؤُه مِن حينِ البيعِ؛ لأنَّ العَيبَ (¬3) لا يَمْنَعُ نَقْلَ ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «والترمذي». والحديث أخرجه النسائي، في: باب بيع المغانم قبل أن تقسم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 264، 265. والدارقطني، في: كتاب البيوع 3/ 69. والحاكم، في: المستدرك 2/ 137. أما الترمذي فأخرجه عن العرباض بن سارية، في: باب ما جاء في كراهية وطء الحبالى من السبايا، من أبواب السير. عارضة الأحوذي 7/ 59. (¬2) في تش: «إلا أن يكون». (¬3) في الأصل: «البيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المِلْكِ، بغيرِ خلافٍ. فإنِ ابْتَدَأ الاسْتِبْراءَ بعدَ البَيعِ، [وقبلَ القَبْض] (¬1)، أجْزَأ، في أظْهَرٍ الوَجْهَين؛ لأنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ به. والثاني، لا يُجْزِئُ؛ لأنَّ القَصْدَ مَعْرِفةُ بَراءَتِها مِن ماءِ (¬2) البائعِ، ولا يَحْصُلُ ذلك مع كَوْنِها في يَدِه. ¬

(¬1) في الأصل، ق: «وقبض». (¬2) في ق، م: «مال».

3903 - مسألة: (وإن باع أمته، ثم عادت إليه بفسخ أو غيره بعد القبض، وجب استبراؤها، وإن كان قبله، فعلى روايتين)

وَإنْ بَاعَ أَمتَهُ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيهِ بِفَسْخٍ أَوْ غَيرِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3903 - مسألة: (وإن باع أَمتَه، ثم عادَتْ إليه بفَسْخٍ أو غَيرِه بعدَ القَبْضِ، وَجَبَ اسْتِبْراؤُها، وإن كان قَبْلَه، فعلى رِوايَتَين) أمَّا إذا عادتْ إليه بعدَ القَبْضِ وافْتِراقِهما، لَزِمَه اسْتِبْراؤُها؛ لأنَّه تَجْديدُ مِلْكٍ، سَواءٌ كان المُشْتَرِيَ لها رَجُلٌ أو امرأةٌ. وإن كان ذلك قبلَ افْتِراقِهما، أو قبلَ غَيبَةِ المُشْتَرِي بالجاريةِ، فعليه الاسْتِبْراءُ أيضًا، في إحْدَى الرِّوايتَين. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه تَجْديدُ مِلْكٍ. والثانيةُ، ليس عليه اسْتِبْراءٌ.

3904 - مسألة: (وإذا اشترى أمة مزوجة، فطلقها الزوج قبل الدخول، وجب استبراؤها)

وَإنِ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَزِمَ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَمْ يَجِبْ فِي أَحدِ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ أبي حنيفةَ إذا تَقايَلا قبلَ القَبْضِ؛ لأنَّه لا فائدةَ في الاسْتِبْراءِ مع يَقِينَ البَراءَةِ. 3904 - مسألة: (وإذا اشْتَرَى أمَةً مُزَوَّجَةً، فَطَلَّقَها الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُول، وَجَبَ اسْتِبْراؤُها) نصَّ عليه أحمدُ، وقال: هذه حِيلَةٌ وضَعَها أهْلُ الرَّأْي، لابُدَّ مِن اسْتِبْراءٍ. لأنَّها تَجَدَّدَ المِلْكُ فيها، ولم يَحْصُلِ اسْتِبْراؤُها في مِلْكِه، فلم تَحِلَّ بغيرِ اسْتِبْراءٍ، كما لو لم تكنْ مُزَوَّجَةً ولأنَّ إسْقاطَه ههُنا ذَرِيعَةٌ إلى إسْقاطِ الاسْتِبْراءِ (¬1) في حَقِّ مَنْ أرادَ إسْقاطَه، بأن يُزَوِّجَها عندَ بَيعِها، ثم يُطَلِّقَها زَوْجُها بعدَ تَمامِ البيعِ، والحِيَلُ حَرامٌ. 3905 - مسألة: (وإن كان بَعْدَه، لم يَجِبْ في أحَدِ الوَجْهَين) ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَّا إذا كان الزَّوْجُ دَخَلَ بها، ثم طَلَّقَها، فعليها العِدَّةُ، ولا يَلْزَمُ المُشْتَرِيَ اسْتِبْراؤُها؛ لأنَّ ذلك قد حصَلَ بالعِدَّةِ، ولأنَّها لو عَتَقَتْ لم يَجِبْ عليها مع العِدَّةِ اسْتِبْراءٌ، ولأنَّها قد اسْتَبْرأتْ نَفْسَها ممَّن كانت فِراشًا له، فأجْزَأ ذلك، كما لو اسْتَبْرأتْ نَفْسَها مِن سَيِّدِها إذا كانتْ خالِيَةً مِن زَوجٍ. وإنِ اشْتَراها (¬1)، وهي مُعْتَدَّةٌ مِن زَوْجِها، لم يجبْ عليه الاسْتِبْراءُ؛ لأنَّها لم تكنْ فِراشًا لِسَيِّدِها، وقد حَصَلَ الاسْتِبْراءُ مِن الزَّوْجِ بالعِدَّةِ، ولذلك لو عَتَقَتْ في هذه الحالِ، لم يجبْ عليها اسْتِبْراءٌ. وقال أبو الخَطَّابِ في المُزَوَّجَةِ: هل يَدْخُلُ الاسْتِبْراءُ في العِدَّةِ؟ على وجْهَين. وقال القاضي، في المُعْتَدَّةِ: يَلْزَمُ السَّيِّدَ اسْتِبْراؤها بعدَ قَضاءِ العِدَّةِ، ولا يتَداخَلان؛ لأنَّهما مِن رَجُلَين. ومَفْهُومُ كلامِ أحمدَ ما ذكَرْناه أوَّلًا؛ لأنَّه عَلَّلَ فيما قبلَ الدُّخُولِ بأنَّها حِيلَةٌ وضَعَها أهْلُ الرَّأْي، ولا يُوجَدُ ذلك ههُنا، ولا يَصِحُّ قولُهم: إنَّ الاسْتِبْراءَ مِن رَجُلَين. فإنَّ السَّيِّدَ ههُنا ليس له اسْتِبْراءٌ ¬

(¬1) في م: «استبرأها».

الثَّانِي، إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ أرَادَ تَزْويجَهَا، لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَإنْ أَرَادَ بَيعَهَا، فَعَلَى رِوَايَتَينِ. وَإنْ لَمْ يَطَأْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا فِي الْمَوْضِعَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا كانتِ الأمَةُ لرَجُلَين، فوَطِئاها، ثم باعاها لرجلٍ آخرَ، أجْزَأ اسْتِبْراءٌ واحدٌ؛ لأنَّه يحْصُلُ به مَعْرِفَةُ البَراءَةِ. فإن قِيلَ: فلو أعْتَقاها ألْزَمْتُمُوها اسْتِبْراءَين. قُلْنا: وُجوبُ الاسْتِبْراءِ في حَقِّ المُعْتَقَةِ مُعَلَّلٌ بالوَطْءِ، ولذلك لو أعْتَقَها وهي ممَّن لا يَطَؤُها، لم يَلْزَمْها اسْتِبْراءٌ، وقد وُجِدَ الوَطْءُ مِنْ اثْنَين، فَلَزِمَها حُكْمُ وَطْئِهما (¬1)، وفي مسأَلَتِنا هو مُعَلَّلٌ بتَجْديدِ المِلْكِ لا غيرُ، ولهذا يجبُ (¬2) على المُشْتَرِي الاسْتِبْراءُ، سَواءٌ كان سَيِّدُها يَطَؤُها أو لم يكنْ، والمِلْكُ واحِدٌ، فوَجَبَ أن يتجَدَّدَ الاسْتِبْراءُ. (الثاني، إذا وَطِئَ أمَتَه ثم أرادَ تَزْويجَها، لم يَجُزْ حتى يَسْتَبْرِئَها، وإن أرادَ بَيعَها، فعلى رِوايتَين) وإن لم يكنْ بائِعُها يَطَؤُها، لم يَجِبِ اسْتِبْراؤُها في الموْضِعَين. أمَّا إذا أرادَ تَزْويجَها وكان يَطَؤُها، وجَبَ عليه اسْتِبْراؤُها ¬

(¬1) في م: «وطئها». (¬2) في الأصل: «لا يجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ تَزْويجِها، وجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ الزَّوْجَ لا يَلْزَمُه اسْتِبْراءٌ، فيُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ. وهو قولُ الثَّوْرِيِّ، والشَّافعيِّ. وقال أصْحابُ الرَّأي: ليس عليها اسْتِبْراءٌ؛ لأنَّ له بَيعَها، فكان له تَزْويجُها، كالتي لا يُصِيبُها. وتَسْتَبْرِئُ بحيضَةٍ. وقال عطاءٌ، وقتادةُ: عِدَّتُها حيضَتان كعِدَّةِ الأمَةِ المُطَلَّقَةِ. ولَنا، أنَّها فِراشٌ لسَيِّدِها، فلم يَجُزْ أن تَنْتَقِلَ إلي فِراشِ غيرِه بغيرِ اسْتِبْراءٍ، كما لو مات عنها، ولأنَّها مَوْطُوءَةٌ وَطْأً له حُرْمَةٌ، فَلَزِمَه اسْتِبْراؤُها قبلَ التَّزْويجِ، كالمَوْطوءةِ بشُبْهَةٍ، ولأنَّه يُفْضِي إلى أن يَطَأَها سَيِّدُها اليومَ وزَوْجُها غدًا، فيُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِيَاهِ، وهذا لا يَحِلُّ، ويفارِقُ البَيعَ، فإنَّها لا تَصِيرُ للمُشْتَرِي فِراشًا حتى يَسْتَبْرِئَها، فلا يُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِيَاهِ، ولهذا يَصِحُّ بَيعُ المُزَوَّجَةِ والمُعْتَدَّةِ، بخلافِ تَزْويجِها، على أنَّ لنا في البيعِ مَنْعًا أيضًا، أنَّه لا يجوزُ. فإن أراد بَيعَها، وكان (¬1) لا يَطَؤُها، أو كانت آيِسَةً، فليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه اسْتِبْراؤُها، لكن يُسْتَحَبُّ ذلك؛ ليَعْلَمَ خُلُوَّها مِن الحَمْلِ، فيكونَ أحْوَطَ للمُشْتَرِي، وأقْطَعَ للنِّزاعِ. قال أحمدُ: وإن كانت لامرأةٍ، فإنِّي أحبُّ أن لا تَبِيعَها حتى تسْتَبْرِئَها بحَيضَةٍ، فهو أحْوَطُ لها. وإن كان يَطَؤُها، وكانت آيِسَةً، فليس عليه اسْتِبْراءٌ؛ لأنَّ انْتِفاءَ الحَمْلِ مَعْلُومٌ. وإن كانت ممَّن تَحْمِلُ، وَجَبَ عليه اسْتِبْراؤُها، في أصَحِّ الرِّوايتَين. وبه قال النَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ. والثانيةُ، لا يَجِبُ عليه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالِكٍ، والشافعيِّ؛ لأنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عَوْفٍ باعَ جاريةً كان يَطَؤُها قبلَ اسْتِبْرائها. ولأنَّ الاسْتِبْراءَ على المُشْتَرِي، فلا يجبُ على البائعِ، ولأنَّ الاسْتِبْراءَ في حَقِّ الحُرَّةِ آكَدُ، ولا يجبُ قبلَ النكاحِ وبعدَه، كذلك لا يجبُ في الأمَةِ قبلَ البَيعِ وبعدَه. ولَنا، أنَّ عمرَ أنْكَرَ على عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ بَيعَ جاريةٍ كان يَطَؤُها قبلَ اسْتِبْرائِها، فروَى عبدُ اللهِ بنُ عُبَيدِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عُمَيرٍ، قال: باعَ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ جاريةً كان يَقَعُ عليها قبلَ أن يَسْتَبْرِئَها، فظَهَرَ بها حَمْلٌ عندَ الذي اشْتَراها، فخاصَمُوه إلى عمرَ، فقال له عمرُ: كُنْتَ تَقَعُ عليها؟ قال: نعم. قال: فبِعْتَها قبلَ أن تَسْتَبْرِئَها؟ قال: نعم. قال: ما كُنْتَ لذلك [بخَلِيقٍ. قال] (¬1): فدَعا القافةَ، فنَظَرُوا إليه، فألْحَقُوه به (¬2). ولأنَّه يجبُ على المُشْتَرِي الاسْتِبْراءُ لحِفْظِ مائِه، فكذلك البائعُ، ولأنَّه قبلَ الاسْتِبْراءِ مَشْكُوكٌ في صِحَّةِ البيعِ وجَوازِه؛ لاحْتِمالِ أن تكونَ أُمَّ وَلَدٍ، فيَجِبُ الاسْتِبْراءُ لإزالةِ الاحْتِمالِ، ولأنَّه قد يَشْتَرِيها مَن لا يَسْتَبْرِئُها، فيُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ. فإن باع، فالبيعُ صحيحٌ في الظاهِرِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدمُ الحملِ، ولأنَّ عمرَ وعبدَ الرحمنِ لم يَحْكُما بفَسادِ البيعِ في الأمَةِ التي باعَها قبلَ اسْتِبْرائِها، إلَّا بلَحاقِ الوَلَدِ به، ولو كان البيعُ باطِلًا قبلَ ذلك، لم يَحْتَجْ إلى ذلك. قال شيخُنا (¬3): وذكرَ أصْحابُنا الرِّوايتَين في كلِّ أمَةٍ يَطؤُها، مِن غيرِ تَفْريقٍ بينَ الآيِسَةِ وغيرِها، والأوْلَى أنَّ ذلك لا يجبُ في الآيِسَةِ؛ لأنَّ عِلَّةَ الوُجوبِ احْتِمالُ الحملِ، وهو وَهْمٌ بعيدٌ، والأصْلُ عَدَمُه، فلا ¬

(¬1) في الأصل: «تختلق». (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في الرجل يريد أن يبيع الجارية، من قال: يستبرئها، وباب في الرجل تكون له المرأة أو الجارية فيشك في ولدها، ما يصنع؟ من كتاب النكاح. المصنف 4/ 228، 378، 379. (¬3) في: المغني 11/ 282، 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتُ به حكمٌ بمُجَرَّدِه. فصل: إذا اشْتَرَى جاريةً، فظَهَرَ بها حَمْلٌ، لم يَخْلُ مِن أحْوالٍ خمسةٍ؛ أحدُها، أن يكونَ البائعُ أقَرَّ بوَطْئِها عندَ البَيْعِ أو قبلَه، وأتَتْ بوَلَدٍ لدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ، أو يكونَ البائعُ ادَّعَى الوَلَدَ، فصَدَّقَه المُشْتَرِي، فإنَّ الولَدَ يكونُ للبائعِ، والجاريةُ أُمُّ وَلَدٍ له، والبيعُ باطِلٌ. الثاني، أن يكونَ أحَدُهما اسْتَبْرأها (¬1)، ثم أتَتْ بوَلَدٍ لأكثرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينَ وَطِئَها المُشْتَرِي، فالولَدُ للمُشْتَرِي، والجاريةُ أُمُّ وَلَدٍ له. الحالُ الثالثُ، أن تَأْتِيَ به لأكثرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ بعدَ اسْتِبْراءِ أحَدِهما لها، ولأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَها المُشْتَرِي، فلا يَلْحَقُ نَسَبُه بواحدٍ منهما، ويكونُ مِلْكًا للمُشْتَرِي، ولا يَمْلِكُ فَسْخَ البيعِ؛ لأنَّ الحملَ تَجَدَّدَ في مِلْكِه ظاهرًا، فإنِ ادَّعاه كُلُّ واحدٍ منهما، فهو للمُشْتَرِي؛ لأنَّه وُلِدَ في مِلْكِه مع احْتِمالِ كَوْنِه منه، وإنِ ادَّعاه البائعُ وحدَه، فصَدَّقَه المُشْتَرِي، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «اشتراها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَحِقَه، وكان البيعُ باطِلًا، وإن كَذَّبَه، فالقولُ قولُ المُشْتَرِي في مِلْكِ الوَلَدِ؛ لأنَّ المِلْكَ انْتَقَلَ إليه ظاهِرًا، فلا تُقْبَلُ دَعْوَى البائعِ فيما يُبْطِلُ حَقَّه، كما لو أقَرَّ بعدَ البيعِ أنَّ الجاريةَ مَغْصُوبةٌ أو مُعْتَقَةٌ. وهل يَثْبُتُ نَسَبُ الولدِ مع البائعِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَثْبُتُ؛ لأنَّه نَفْعٌ للوَلَدِ مِن غيرِ ضَرَرٍ على المُشْتَرِي، فيُقْبَلُ قولُه فيه، كما لو أَقَرَّ لوَلَدِه بمالٍ. والثاني، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا على المُشْتَرِي، فإنَّه لو أعْتَقَه كان أبوه أحَقَّ بمالِه منه مِيراثًا، ولذلك (¬1) لو أقرَّ عَبْدان كلُّ واحدٍ منهما بأُخُوَّةِ صاحِبِه (¬2)، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. الحالُ الرابعُ، أن تَأْتِيَ به بعدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ منذُ وَطِئَها المُشْتَرِي وقبلَ اسْتِبْرائِها، فنَسَبُه لاحِقٌ بالمُشْتَرِي، فإنِ ادَّعاه البائعُ، فأقَرَّ له المُشْتَرِي، لَحِقَه، وبَطَلَ البيعُ، وإن كَذَّبَه، فالقولُ قولُ المُشْتَرِي. وإنِ ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّه مِن الآخَرِ، عُرِضَ على القافةِ، فأُلْحِقَ بمَن ألْحَقَتْه به؛ لحديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، ولأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ مِن كلِّ واحدٍ منهما. فإن ألْحَقَتْه بهما لَحِقَ بهما، ويَنْبَغِي أن ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) سقط من: الأصل.

الثَّالِثُ، إِذَا أعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ، أوْ أمَةً كَانَ يُصِيبُهَا، أوْ مَاتَ عَنْهَا، لَزِمَهَا اسْتِبْرَاءُ نَفْسِهَا، إلا أنْ تَكُونَ مُزَوَّجَةً أوْ مُعْتَدَّةً، فَلَا يَلْزَمُهَا اسْتِبْرَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْطُلَ البيعُ، وتكونَ الجاريةُ أُمَّ ولَدٍ للبائِعِ؛ لأنَّا نَتَبَيَّنُ أنَّها كانت حامِلًا منه قبلَ بَيعِها. الحالُ الخامسُ، أتَتْ به لأقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ منذُ باعَها، ولم يكنْ [أقَرَّ بوَطْئِها] (¬1)، فالبيعُ صحيحٌ في الظاهرِ، والوَلَدُ مَمْلُوكٌ للمُشْتَرِي، فإنِ ادَّعاه البائعُ، فالحكمُ فيه كما ذكرْنا في الحالِ الثالثِ سواءً. المَوْضِعُ (الثالثُ، إذا أعْتَقَ أُمَّ وَلَدِه، أو أمَتَه التي كان يُصِيبُها، أو مات عنها، لَزِمَها الاسْتِبْراءُ) لأنَّها صارتْ فِراشًا له، فلم تَحِلَّ لغيرِه قبلَ اسْتِبْرائِها؛ لئلَّا يُفْضِيَ إلى اخْتِلاطِ المِياهِ، واشْتِباهِ الأنْسابِ (إلَّا أن تكونَ مُزَوَّجَةً أو مُعْتَدَّةً، فلا يَلْزَمُها اسْتِبْراءٌ) وإذا زَوَّجَ أُمَّ ولَدِه، ثم مات، عتَقَتْ ولم يَلْزَمْها اسْتِبْراءٌ؛ لأنَّها مُحَرَّمةٌ على المَوْلَى، وليست له فِراشًا، وإنَّما ¬

(¬1) في الأصل: «وطأها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هي فِراشٌ للزَّوْجِ، فلم يَلْزَمْها الاسْتِبْراءُ ممَّن ليستْ له فِراشًا, ولأنَّه لم يُزَوِّجْها حتَّى اسْتَبْرأها، فإنَّه لا يَحِلُّ له تَزْويجُها قبلَ اسْتِبْرائِها، وفيه خِلافٌ ذَكَرْناه. وكذلك إن أعْتَقَها، أو مات عن أمَةٍ كان يَطَؤُها، أو أعْتَقَها، فهي على ما ذَكَرْنا. فإن زَوَّجَها فطَلَّقَها [الزَّوْجُ قبلَ دُخولِه بها، فلا عِدُّةَ عليها أَيضًا؛ لأنَّه لم يُوجدْ في حَقِّها ما يُوجِبُ الاسْتِبْراءَ، فإن طَلَّقَها] (¬1) بعدَ المسِيسِ، أو مات عنها قبلَ ذلك أو بعدَه، فعليها (¬2) عِدَّةُ حُرَّةٍ كاملةٌ؛ لأنَّها (¬3) قد صارت حُرُّةً في حالِ وُجوبِ العِدَّةِ عليها. وإن مات سَيِّدُها وهي في عِدَّةِ الزَّوجِ، عَتَقَتْ، ولم يَلْزَمْها اسْتِبْراءٌ؛ لِما ذكَرْناه، ولأنَّه زال فِراشُه عنها قبلَ مَوْتِه، فلم يلزَمْها اسْتِبْراءٌ مِن أجلِه، كغيرِ أمِّ الولَدِ إذا باعَها ثم مات، وتَبْنِي على عِدَّةِ أمةٍ إن كان طَلاقُها بائِنًا، أو كانت مُتَوَفَّى عنها، وإن كانت رَجْعِيَّةً، بَنَتْ على عِدَّةِ حُرَّةٍ، على ما ذكَرْناه، وإن بانَتْ مِن الزَّوْجِ قبلَ الدُّخولِ بطَلاقٍ، أو بانتْ بمَوْتِ زَوْجِها، أو طَلاقِه بعدَ الدُّخولِ، فأتَمَّتْ عِدَّتَها، [ثم مات سَيِّدُها، فعليها الاسْتِبْراءُ؛ لأنَّها عادتْ إلى فِراشِه. وقال أبو بكرٍ: لا يَلْزَمُها] (1) اسْتِبْراءٌ، إلَّا أن يَرُدَّها السَّيِّدُ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ فِراشَه قد زال بتَزْويجِها، ولم يتَجَدَّدْ لها ما يَرُدُّها إليه، فأشْبَهَتِ الأمَةَ التي لم يَطَأها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فلها». (¬3) في الأصل: «ولأنها».

3906 - مسألة: (وإن مات زوجها وسيدها، ولم يعلم السابق منهما، وبين موتهما أقل من شهرين وخمسة أيام، لزمها بعد موت الآخر منهما عدة حرة من الوفاة حسب)

وَإنْ مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا، وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَبَينَ مَوْتِهِمَا أقَلُّ مِنْ شَهْرَينِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، لَزِمَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخِرِ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ حَسْبُ، وَإنْ كَانَ بَينَهُمَا أكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، أوْ جُهِلَتِ الْمُدَّةُ، لَزِمَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخِرِ مِنْهُمَا أطْوَلُ الْأَمْرَينِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ أوْ الاسْتِبْرَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3906 - مسألة: (وإن مات زَوْجُها وسَيِّدُها، ولم يُعْلَمِ السَّابِقُ منهما، وبينَ مَوْتِهما أقَلُّ مِن شَهْرَين وخَمْسَةِ أيَّامٍ، لَزِمَها بعدَ مَوْتِ الآخِرِ منهما عِدَّةُ حُرَّةٍ مِن الوَفَاةِ حَسْبُ) وليس عليها اسْتِبْراءٌ؛ لأنَّ السَّيِّدَ إن كان مات أوَّلًا، فقد مات وهي زَوْجَةٌ، وإن كان مات آخِرًا فقد مات وهي مُعْتَدَّةٌ، وليس عليها اسْتِبْراءٌ في هاتَين الحالتَين، وعليها أن تَعْتَدَّ بعدَ مَوْتِ الآخِرِ منهما عِدَّةَ حُرَّةٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ سَيِّدَها مات أوَّلًا، ثم مات زَوْجُها وهي حُرَّةٌ، فلَزِمَتْها عِدَّةُ الحرائِرِ، لتَخْرُجَ مِن العِدَّةِ بيَقِينٍ. وكذلك على قولِ أبي بكرٍ؛ لأنَّه ليس عليها عِدَّةُ اسْتِبْراءٍ؛ لأنَّ فِراشَ سَيِّدِها قد زال عنها، ولم تَعُدْ إليه، فلَزِمَها عِدَّةُ حُرَّةٍ، لمَا ذكَرْنا. 3907 - مسألة: (وإن كان بينَهما أكْثَرُ مِن ذلك، أو جُهِلَتِ المُدَّةُ) فعليها (بعدَ مَوْتِ الآخِرِ منهما أطْوَلُ الأجَلَينِ) مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ، واسْتِبْراءٍ بِحَيضَةٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ السَّيِّدَ مات أوَّلًا، فيكونُ عليها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِدَّةُ الحُرَّةِ مِن الوَفاةِ، ويَحْتَمِلُ أنَّه مات آخِرًا بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها مِن الزَّوجِ، وعَوْدِها إلى فِراشِه، فوَجَبَ الجَمْعُ بينَهما، ليَسْقُطَ الفَرْضُ بيَقِينٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وعلى هذا جميعُ القائِلينَ مِن العلماءِ بأنَّ عِدَّةَ أمِّ الولَدِ مِن سَيِّدِها حَيضَةٌ، ومِن زَوْجِها شَهْران وخمسُ ليالٍ. وقولُ أصْحابِ الشافعيِّ في هذا الفَصْلِ كقَوْلِنا، وكذلك قولُ أبي حنيفةَ وأصْحابِه، إلَّا أنَّهم جَعَلُوا مكان الحَيضَةِ ثلاثَ حَيضاتٍ، بِناءً على أصْلِهِم في اسْتِبْراءِ أُمِّ الولَدِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): حُكْمُها حُكْمُ الإِماءِ، وعليها شَهْران وخمسةُ أيامٍ، ولا أنْقُلُها إلى حُكْمِ الحَرائِرِ إلَّا بإحاطَةِ أنَّ الزَّوجَ مات بعدَ المَوْلَى. وقيل: إنَّ هذا قولُ أبي بكرٍ عبدِ العزيزِ أَيضًا. والذي ذَكَرْناه أحْوَطُ. فصل: فأمَّا المِيراثُ، فإنَّها لا تَرِثُ مِن زَوْجِها شَيئًا؛ لأنَّ الأصْلَ الرِّقُّ، والحُرِّيَّةُ مَشْكُوكٌ فيها، فلم تَرِثْ مع الشَّكِّ، والفَرْقُ بينَ العِدَّةِ والإرْثِ أنَّ إيجابَ العِدَّةِ عليها اسْتِظْهارٌ لا ضَرَرَ فيه على غيرِها، وإيجابَ ¬

(¬1) انظر: الإشراف لابن المنذر 1/ 265، 266، حيث نقل هذا الكلام عن أبي ثور، وليس من كلام ابن المنذر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإرْثِ إسْقاطٌ لحَقِّ غيرِها, ولأنَّ الأصْلَ تَحْرِيمُ النِّكاحِ عليها، فلا يزولُ إلَّا بيَقِينٍ، والأصْلُ عَدَمُ المِيراثِ لها، فلا يَزولُ إلَّا بيَقِينٍ. فإن قيل: ألَيسَ زوجَةُ المَفْقُودِ لو [ماتت حَقَّقَ ميراثَها] (¬1) مع الشَّكِّ في إرْثِه؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما أنَّ الأصْلَ ههُنا الرِّقُّ، والشَّكُّ في زَوالِه وحُدُوثِ الحالِ التي تَرِثُ فيها، والمفْقُودُ الأصْلُ حياتُه، والشَّكُّ في مَوْتِه وخُرُوجِه عن كَوْنِه وارِثًا (¬2)، فافْتَرقا. فصل: فإن أعْتَقَ أُمَّ ولَدِه، أو أمَتَه التي كان يُصِيبُها، أو غيرَها (¬3) ممَّن تَحِلُّ له إصابَتُها، ثم أَرادَ أن يتَزَوَّجَها، فله ذلك في الحالِ مِن غيرِ اسْتِبْراءٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْتَقَ صَفِيَّةَ، وتزَوَّجَها، وجَعَل عِتْقَها صَداقَها (¬4). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَينِ؛ رَجُلٌ كانَتْ له أمَةٌ، فأدَّبَهَا فأحْسَنَ تَأْدِيبَها، وعَلَّمَها فَأحْسَنَ تَعْلِيمَها، ثم أعْتَقَها وتَزَوَّجَها» (¬5). ولم يذْكرِ اسْتِبْراءً، ولأنَّ الاسْتِبراءَ لصيانةِ مائِه، وحِفْظِه (¬6) عن ¬

(¬1) في م: «مات وقف ميراثه». (¬2) في الأصل: «ولدها». (¬3) في م: «غيرهما». (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 66، وانظر 20/ 236. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 243. (¬6) في م: «حفظ نسبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاخْتِلاطِ بماءِ غيرِه، ولا يُصانُ ماؤُه عن مائِه، ولهذا كان له أن يتَزَوَّجَ مُخْتَلِعَتَه في عِدَّتِها. وقد رُوِيَ عن أَحْمد، في الأمَةِ التي لا يَطَؤُها: إذا أعْتَقَها لا يتَزَوَّجُها بغيرِ اسْتِبْراءٍ؛ لأنَّه لو با عَها لم تَحِلَّ للمُشْتَرِي بغيرِ اسْتِبْراءٍ. والصَّحيحُ أنَّها تَحِلُّ (¬1) له؛ لأنّه يَحِلُّ له (¬2) وَطْؤُها بمِلْكِ اليَمِينِ، فكذلك بالنِّكاحِ، كالتي كان يُصِيبُها, ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْتقَ صَفِيَّةَ وتَزَوَّجَها، ولم يُنْقَلْ (¬3) أنَّه كان قد أصابَها، والحديثُ الآخرُ يَدُلُّ على حِلِّها له بظاهِرِه، لدُخُولِها في العُمُومِ، ولأنَّها تَحِلُّ لمَن يتزَوَّجُها سواه، فله أوْلَى، ولأنَّه لو اسْتَبْرأها، ثم أعْتَقَها ثم تزوَّجها في الحالِ، كان جائِزًا حسنًا، فكذلك هذه، فإنَّه تارِكٌ لوَطْئِها, ولأنَّ وُجُوبَ الاسْتِبْراءِ في حَقِّ غيرِه، إنَّما كان لِصيانةِ مائِه عن الاخْتِلاطِ بغيرِه، ولا يُوجَدُ ذلك ههُنا. وكلامُ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، محْمولٌ على مَن اشْتَراها (¬4)، ثم تزوَّجَها قبلَ اسْتِبْرائِها. فصل: إذا كانت له أمَةٌ يطَؤُها، فاسْتَبْرأها، ثم أعْتَقَها, لم يَلْزَمْها اسْتِبْراءٌ؛ لأنَّها خَرَجَتْ عن كَوْنِها فِراشًا باسْتِبْرائِها. وإن باعَها، فأعْتَقَها ¬

(¬1) في م: «لا تحل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «يقل». (¬4) في م: «استبرأها».

3908 - مسألة: (وإن اشترك رجلان في وطء أمة، لزمها استبراءان)

وَإنِ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ أَمَةٍ، لَزِمَهَا اسْتِبْرَاءَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِي قبلَ وَطْئِها, لم تَحْتَجْ إلى اسْتِبْراءٍ لذلك. وإن باعَها قبلَ اسْتِبْرائِها، فأعْتَقَها المُشتَرِي قبلَ وَطْئِها واسْتِبْرائِها، فعليها اسْتِبْراءُ نَفْسِها. فإن مَضَى بعضُ (¬1) الاسْتِبْراءِ في مِلْكِ المُشْتَرِي، لَزِمَها إتْمامُه بعدَ عِتْقِها, ولا يَنْقَطِعُ بانْتِقالِ المِلْكِ فيها؛ لأنَّها لم تَصِرْ فِراشًا للمُشْتَرِي، ولم يَلْزَمْها اسْتِبْراءٌ بإعْتاقِه. 3908 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَكَ رَجُلان في وَطْءِ أمَةٍ، لَزِمَها اسْتِبْراءان) [إذا كانتِ الأمةُ بينَ شَرِيكَين فوَطِئاها, لَزِمَها اسْتِبْراءان] (¬2). وقال أصْحابُ الشافعيِّ، في أحدِ الوَجْهَين: يَلْزَمُها اسْتِبْراءٌ واحِدٌ؛ لأنَّ القَصْدَ مَعْرِفَةُ بَراءَةِ الرَّحِمِ، ولذلك لا يجبُ اسْتِبْراء بأكثرَ مِن حَيضَةٍ واحدةٍ، وبَراءَةُ الرَّحِمِ تُعْلَمُ باسْتِبْراءٍ واحدٍ. ولَنا، أنَّهما حَقَّان مَقْصُودان لآدَمِيَّين، فلم يتَداخَلا، كالعِدَّتَين، ولأنَّهما اسْتِبْراءان مِن رَجُلَين، فأشْبَها العِدَّتَين، وما ذكَرُوه يَبْطُلُ بالعِدَّتَين مِن رَجُلَين. ¬

(¬1) في الأصل: «بعد». (¬2) سقط من: م.

3909 - مسألة: (أو بحيضة إن كانت ممن تحيض)

فَصْلٌ: وَالاسْتِبْرَاءُ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، أَوْ بِحَيضَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال شيخُنا، رَحِمَه اللهُ: (والاسْتِبْراءُ يَحْصُلُ بوَضْعِ الحملِ إن كانت حامِلًا) ولا خِلافَ في ذلك بحمدِ اللهِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا» (¬2). ولأنَّ عِدَّةَ الحُرَّةِ والأمَةِ والمُتَوَفَّى عنها والمُطَلَّقةِ واسْتَبراءَ كلِّ أمةٍ إذا كانتْ حامِلًا بوَضْعِ حَمْلِها, ولأنَّ المَقْصُودَ مِن العِدَّةِ والاسْتِبْراءِ معرفةُ بَراءةِ الرَّحِمِ مِن الحَمْلِ (¬3)، وهذا يَحْصُلُ بوَضْعِه، ومتى كانت حامِلًا بأكْثَرَ مِن واحدٍ، فلا يَنْقَضِي اسْتِبْراؤُها حتَّى تَضَعَ آخِرَ حَمْلِها، على ما ذكَرْناه في المُعْتَدَّةِ. 3909 - مسألة: (أو بحَيضَةٍ إن كانت مِمَّن تَحِيضُ) وقد اخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في أُمِّ الولَدِ إذا مات عنها سَيِّدُها ولم تكنْ حامِلًا، فالمَشْهورُ ¬

(¬1) سورة الطلاق 4. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 390. (¬3) في م: «الوضع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أحمدَ أنَّ اسْتِبْراءَها يَحْصُلُ بحَيضَةٍ. رُوِيَ ذلك عن [ابنِ عمرَ] (¬1)، وعثمانَ، وعائشةَ، والحسنِ، والشَّعْبِيِّ، والقاسمِ بنِ محمدٍ، وأبي قِلابةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي ثَوْرٍ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّها تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوَفاةِ أرْبعةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وابنِ سِيرِينَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ومُجاهِدٍ، وخِلاسِ بنِ عمرٍو، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والزُّهْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وإسْحاقَ؛ لِما رُوِيَ عن عمرِو بنِ العاصِ، أنَّه قال: لا تُفْسِدُوا علينا سُنَّةَ نَبِيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، عِدَّةُ أمِّ الولَدِ إذا تُوُفِّيَ عنها سَيِّدُها أرْبَعةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ. روَاه أبو داودَ (¬2). ولأنَّها حُرَّة تَعْتَدُّ للوَفاةِ، فكانت عِدَّتُها أرْبَعةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، كالزَّوْجةِ الحُرَّةِ. وحَكَى أبو الخَطَّابِ رِوايةً ثالثةً، أنَّها تَعْتَدُّ شَهْرَين وخَمْسةَ أيَّامٍ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «عمر». وانظر ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر، في: المصنف 5/ 164. والبيهقي في: السنن الكبرى 7/ 447. (¬2) في: باب في عدة أم الولد، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 539. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب عدة أم الولد، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 673. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 203. وابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 162. والدارقطني، في: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطني 3/ 309. والبيهقي، في: باب استبراء أم الولد، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 447، 448.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): ولم أجِدْ هذه الرِّوايةَ عن أحمدَ في «الجامِعِ»، ولا أظُنُّها صحيحةً عن أحمدَ. ورُوِيَ ذلك عن عطاءٍ، وطاوُسٍ، وقَتادةَ؛ لأنَّها حينَ الموتِ أَمَةٌ، فكانتْ عِدَّتُها عِدَّةَ الأمَةِ، كما لو مات رَجُلٌ عن زَوْجَتِه الأَمةِ، فعَتَقَتْ بعدَ مَوْتِه. ويُرْوَى عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وعطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي، أنَّ عِدَّتَها ثَلاثُ حِيَضٍ؛ لأنَّها حُرَّةٌ تَسْتَبْرِئُ، فكان اسْتِبْراؤُها بثلاثِ حِيَضٍ، كالحُرَّةِ المُطَلَّقَةِ. ولَنا، أنَّه اسْتِبْراءٌ لزَوالِ المِلْكِ عن الرَّقَبَةِ، فكان حَيضَةً في حَقِّ مَن تَحِيضُ، كسائرِ اسْتِبْراءِ المُعْتَقاتِ والمَمْلُوكاتِ، ولأنَّه اسْتِبْراءٌ لغيرِ الزَّوْجاتِ والمَوْطُوءاتِ بشُبْهةٍ (¬2) فأشْبَهَ ما ذكَرْنا. قال القاسِمُ بنُ محمدٍ: سُبْحانَ اللهِ، يقولُ اللهُ تعالى في كتابِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (¬3). ما هُنَّ بأزْواجٍ. وأمَّا حديثُ عمرِو بنِ العاصِ فضَعِيفٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): ضَعَّفَ أحمدُ، وأبو عُبَيدٍ حَدِيثَ عمرِو بنِ العاصِ. وقال محمدُ بنُ موسى: سأَلتُ أَبا عبدِ اللهِ عن حديثِ عمرِو بنِ العاصِ، فقال: لا يَصِحُّ. وقال المَيمُونِيُّ: رأيتُ أَبا عبدِ الله يِعْجَبُ مِن حديثِ عمرِو بنِ العاصِ هذا، [ثم قال] (¬5): أينَ سُنَّةُ النبيِّ ¬

(¬1) في: المغني 11/ 263. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 234. (¬4) في: الإشراف 1/ 264. (¬5) في الأصل: «في المقال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ وقال: أرْبَعةُ أشْهُرٍ وعشرٌ إنَّما هي عِدَّةُ الحُرَّةِ مِن النِّكاحِ، وإنَّما هذه أمَةٌ خَرَجَتْ مِن الرِّقِّ إلى الحُرِّيَّةِ. ويَلْزَمُ مَن قال بهذا أن يُوَرِّثَها. وليس لقول مَن قال: تَعْتَدُّ بثلاثِ حِيَضٍ. وَجْهٌ، وإنَّما تَعْتَدُّ بذلك المُطَلَّقَةُ، وليست هذه مُطَلَّقةً، ولا في مَعْنى المُطَلَّقةِ. وأمَّا قِياسُهم إيَّاها على الزَّوْجاتِ، فلَا يَصِحُّ؛ فإنَّها ليست زَوْجَةً، ولا في حُكْمِ الزَّوْجَةِ، ولا مُطَلَّقَةً، ولا في حُكْمِ المُطَلَّقَةِ. فصل: ولا يَكْفِي في الاسْتِبْراءِ طُهْرٌ، ولا بعضُ حَيضَةٍ. وهو قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال بعضُ أصْحابِ مالكٍ: متى طَعَنَتْ في الحَيضَةِ، فقد تَمَّ اسْتِبْراؤُها. وزَعَمَ أنَّه مذهبُ مالكٍ. وقال الشافعيُّ، في أحدِ قولَيه: يَكْفِي طُهْرٌ واحِدٌ إذا [كان كامِلًا] (¬1)، وهو أن يموتَ في حَيضِها، فإذا رأتِ الدَّمَ مِن الحَيضَةِ الثانيةِ، حَلَّتْ، وتَمَّ اسْتِبْراؤُها. وهكذا الخلافُ في الاسْتِبْراء كلِّه، وبَنَوْا هذا على أنَّ القُرُوءَ الأطْهارُ، وهذا يَرُدُّه قولُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيضَةٍ» (¬2). وقال رُوَيفِعُ بنُ ثابتٍ: سمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ يومَ خَيبَرَ: «مَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي ¬

(¬1) في الأصل: «كانت حاملًا». (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 390، وهو عند أبي داود في 1/ 497.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيضَةٍ». رَواه الأثْرَمُ (¬1). وهذا صَريحٌ فلا يُعَوّلُ على ما خالفَه. ولأنَّ الواجِبَ الذي يَدُلُّ على البَراءَةِ هو الحَيضُ؛ لأنَّ الحامِلَ لا تَحِيضُ. فأمَّا الطُّهْرُ فلا دَلالةَ فيه على البَراءَةِ، فلا يجوزُ أن يُعَوَّلَ في الاسْتِبْراء على ما لا دَلالةَ فيه (¬2) دون ما يدُلُّ عليه. وبِناؤُهم قولَهم هذا على أنَّ القُروءَ الأطْهارُ، بِناءٌ للخِلافِ على الخِلَافِ، وليس ذلك بحُجَّةٍ، ثم لم يُمْكِنْهُم [بناءُ هذا على ذاك] (¬3) حتَّى خالفُوه، فجعَلُوا الطُّهْرَ الذي طَلَّقَهَا فيه قَرْءًا, ولم يجعَلُوا الطُّهْرَ الذي مات فيه سَيِّدُ أمِّ الولَدِ قَرْءًا، فخالفُوا الحَدِيثَ والمعنى. فإن قالوا: إنَّ بعضَ الحَيضَةِ المُقْتَرِنَ بالطَّهْرِ يَدُلُّ على البَراءَةِ. قُلْنا: فيكونُ الاعتمادُ حينَئِذٍ (¬4) على بعضِ الحَيضَةِ، وليس ذلك قَرْءًا (¬5) عندَ أحَدٍ (¬6). إذا تَقَرَّرَ هذا، فمات عنها وهي طاهِرٌ، فإذا طَهُرَتْ [مِن الحَيضَةِ المُسْتَقْبَلَةِ، حَلَّتْ، فإن كانت حائِضًا، لم تَعْتَدَّ ببَقِيَّةِ تِلك (¬7) الحَيضَةِ، ولكن متى طَهُرَتْ مِن الحَيضَةِ الثانيةِ] (¬8)، حَلَّتْ؛ لأنَّ اسْتِبْراءَ هذه بحَيضَةٍ، فلا بُدَّ مِن حَيضَةٍ كاملةٍ. ¬

(¬1) وأخرجه بنحوه الدَّارمي عن رويفع في يوم خيبر، في: باب استبراء الأمة، من كتاب السير. سنن الدَّارمي 2/ 227. وليس عنده: «بحيضة». وانظر ما تقدم في صفحة 172. (¬2) بعده في م: «عليه». (¬3) في الأصل: «شاهدا على ذلك». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «فرقًا». (¬6) في تش: «أَحْمد». (¬7) في م: «ملك». (¬8) سقط من الأصل.

3910 - مسألة: (أو بمضي شهر إن كانت آيسة أو صغيرة. وعنه، بثلاثة أشهر. اختارها الخرقي)

أوْ بِمُضِيِّ شَهْرٍ إِنْ كَانَتْ آيِسَةً أوْ صَغِيرَةً. وَعَنْهُ، بِثَلَاثةِ أشْهُرٍ. اخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3910 - مسألة: (أو بمُضِيِّ شَهْرٍ إن كانَتْ آيِسَةً أو صَغِيرَةً. وعنه، بثَلَاثةِ أشْهُرٍ. اخْتارَها الخِرَقِيُّ) يُرْوَى عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في ذلك ثلاثُ رِواياتٍ؛ أحَدُها، ثلاثةُ أشْهُرٍ. وهو قولُ الحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ، وأبي قِلابَةَ. وهو (¬1) أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وسأل عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ أهلَ المدينةِ والقوابلَ، فقالوا: لا تُسْتَبْرأُ الحُبْلَى في أقَلَّ مِن ثلاثةِ أشْهُرٍ. فأعْجَبَه قولُهم. والثانيةُ، أنَّها تُسْتَبْرأُ بشَهْرٍ. وهو قولٌ ثانٍ للشافعيِّ؛ لأنَّ الشَّهْرَ قائِمٌ مَقامَ القَرْءِ في حَقِّ الحُرَّةِ والأمَةِ المُطَلَّقَةِ، فكذلك في الاسْتِبْراءِ. وذكَر القاضي رِوايةً ثالثةً، أنَّها تُسْتَبْرأُ بشَهْرَين، كعِدَّةِ الأمَةِ المُطَلَّقةِ. قال شيخُنا (¬2): ولم أرَ لذلك وَجْهًا، ولو كان اسْتِبْراؤُها بشَهْرَين، لَكان اسْتِبْراءُ ذاتِ القَرْءِ بقَرأينِ، ولم نَعْلَمْ به قائِلًا. وقال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والضَّحَّاكُ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغني 11/ 265، 266.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَكَمُ، في الأَمةِ التي لا تَحِيضُ: تُسْتَبْرأُ بشَهْرٍ ونِصْفٍ. ورَواه حَنْبَلٌ عن أحمدَ، أنَّه قال: قال عَطاءٌ: إن كانت لا تَحِيضُ، فخمسٌ وأرْبَعونَ ليلةً. قال عَمِّي: كذلك أذْهَب؛ لأنَّ عِدَّةَ الأمةِ المُطَلَّقةِ الآيسَةِ كذلك. والمشهورُ عن أحمدَ الأوَّلُ. قال أحمدُ بنُ القاسمِ: قلتُ لأَبي عبدِ الله: كيف جَعَلْتَ ثلاثةَ أشْهُرٍ مكانَ حَيضَةٍ، وإنَّما جَعَلَ الله في القُرآنِ مكانَ كلِّ حَيضَةٍ شهرًا؟ فقال: إنَّما قُلْنا: ثَلاثَةُ (¬1) أشْهُرٍ مِن أجلِ الحَمْلِ، فإنَّه لا يَبِينُ في أقَلَّ مِن ذلك، فإنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ سأل عن ذلك، وجَمَعَ أهْلَ العلمِ والقَوابِلَ، فأخْبَرُوا أنَّ الحَمْلَ لا يَتَبَيَّنُ في أقَلَّ مِن ثَلاثةِ أشْهُرٍ، فأعْجَبَه ذلك. ثم قال: ألا تَسْمَعُ قولَ ابنِ مسعودٍ: إنَّ النُّطْفةَ أرْبَعِينَ يومًا، ثم علقةً أرْبَعِينَ يومًا، ثم مُضْغةً بعدَ ذلك (¬2). قال أبو عبدِ الله: فإذا خَرَجَتِ الثَّمانُونَ، صار بعدَها مُضْغَةً، وهي لَحْمٌ، فتبَيَّنَ حينَئِذٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه مرفوعًا في صفحة 26.

3911 - مسألة: (وإن ارتفع حيضها ما تدري ما رفعه)

وَإنِ ارْتَفَعَ حَيضُهَا ما تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، فَبِعَشَرَةِ أشْهُرٍ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال لي: هذا معروفٌ عندَ النِّساءِ. فأمَّا شَهْرٌ، فلا معنى فيه، ولا نعلمُ به قائلًا. ووَجْهُ اسْتِبْرائِها بشَهْرٍ، أنَّ الله تعالى جَعَلَ الشهرَ مكانَ الحَيضَةِ، ولذلك اخْتلَفتِ الشُّهورُ باخْتلافِ الحَيضاتِ، فكانت عِدَّةُ الحُرَّةِ الآيسَةِ ثلاثةَ أشْهُرٍ، مكانَ ثلاثةِ (¬1) قُروءٍ، وعدةُ الأمَةِ شَهْرَين، مكان قَرْأين، وللأمَةِ المُستَبْرأةِ التي ارْتَفَعَ حَيضُها, لا تَدْرِي ما رَفَعَه، عَشَرةُ أشْهُرٍ؛ تِسْعَةٌ للحَمْلِ، وشهرٌ مكانَ الحَيضَةِ، فيجِبُ أن يكونَ مكانَ الحَيضَةِ ههُنا شهرٌ، كما في حَقِّ مَن ارْتَفَعَ حَيضُها. فإن قيل: فقد وُجِدَ ثَمَّ ما دَلَّ على البَراءةِ، وهو تِسْعةُ أشْهُرٍ. قُلْنا: وههُنا ما يَدُلُّ على البَراءةِ، وهو الإياسُ، فاسْتَوَيا. 3911 - مسألة: (وإنِ ارْتَفَعَ حَيضُها ما تَدْرِي ما رَفَعَه) اعْتَدَّتْ بتِسْعَةِ أشْهُرٍ للحَمْلِ، وشَهْرٍ مكانَ الحَيضَةِ. وفي هذه المسألةِ رِوايتان؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ في أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا، اعْتَدّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما، أنَّها تُسْتَبْرأُ بعشَرةِ أشْهُرٍ. والثانيةُ، بسَنةٍ، تِسعةُ أشْهُرٍ للحَمْلِ؛ لأنَّه غالبُ عاداتِ النِّساءِ في الحَمْلِ، وثلاثةُ أشْهُرٍ مكانَ الثلاثةِ التي تُسْتَبْرأُ بها الآيِسَاتُ. وقد ذكرْنا أنَّ المُخْتارَ عندَ أحمدَ في الآيِسَةِ اسْتِبْراؤُها بثلاثةِ أشْهُرٍ، واخْتارَ ههُنا أن جَعَل مكانَ الحَيضَةِ شَهْرًا؛ لأنَّ اعْتِبارَ تَكْرارِها في الآيِسَةِ، لتُعْلَمَ براءَتُها مِن الحَمْلِ، وقد عُلِمَتْ بَراءَتُها منه ههُنا بمُضِيِّ غالبِ مُدَّتِه، فجَعَلَ الشَّهْرَ مكانَ الحَيضَةِ على وَفْقِ القِياسِ. فأما إن عَلِمَتْ ما رَفَعَ حَيضَها، مِن مَرَضٍ أو غيرِه، فإنَّها لا تَزالُ في الاسْتِبْراءِ حتَّى يَعُودَ الحَيضُ، فتَسْتَبْرِئَ نَفْسَها بحَيضَةٍ، إلَّا أن تَصِيرَ آيِسَةً فتَسْتَبْرِئُ نَفْسَها اسْتِبْراءَ الآيِساتِ. فإنِ ارْتابَتْ بنَفْسِها، فهي كالحُرَّةِ المُسْتَرِيبةِ (¬1). وقد ذكَرْنا حُكْمَها في كتاب العِدَدِ. والله أعْلَمُ. [وعن أحمدَ (في أمِّ الولدِ إذا مات سَيِّدُها، اعْتَدَّتْ أَربعةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. والأوَّلُ أَصَحُّ) وقد ذكرناه] (¬2). ¬

(¬1) في م: «المستبرئة». (¬2) سقط من: م.

كتاب الرضاع

كتابُ الرَّضاعِ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الرَّضاعِ الأصلُ في التَّحْريمِ بالرَّضاعِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ، فقولُ اللهِ سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1). ذَكَرَهما اللهُ سبحانه في جُمْلَةِ المُحَرَّماتِ. وأمّا السُّنَّةُ، فما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الرَّضاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الولَادَةُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وفي لَفْظٍ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». رواه النَّسَائِيُّ. وعن ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بِنْتِ حَمْزَةَ: «لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ». مُتَّفقٌ عليه (¬3). في ¬

(¬1) سورة النساء 23. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 279. (¬3) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض. . . .، من كتاب الشهادات، وفي: باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} من كتاب النكاح. صحيح البُخَارِيّ 3/ 222، 7/ 12. ومسلم، في: باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1071، 1072. كما أخرجه النسائي، في: باب تحريم بنت الأخ من الرضاع، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 82، 83. وابن ماجه، في: باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 623. والإمام أَحْمد، في: المسند 1/ 223، 275، 290، 329، 339، 346.

3912 - مسألة: (إذا حملت المرأة من رجل يثبت نسسب ولدها منه، فثاب لها لبن، فأرضعت به طفلا، صار ولدا لهما في تحريم النكاح، وإباحة النظر والخلوة، وثبوت المحرمية، وأولاده وإن سفلوا

وَإِذَا حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ رَجُلٍ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا، صَارَ وَلَدًا لَهُمَا في تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَإبَاحَةِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ، وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَأَوْلَادُهُ وَإنْ سَفَلُوا ـــــــــــــــــــــــــــــ أخبارٍ كثيرةٍ، نَذْكُرُ أكْثَرَها في تَضاعيفِ البابِ، إن شاءَ اللهُ تَعالى. وأجْمَعَ عُلماءُ الأُمَّةِ (¬1) على التَّحْريمِ بالرَّضَاعِ. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّ تَحْريمَ الأُمِّ والأُخْتِ ثَبَتَ بنَصِّ الكتابِ، وتحريمَ البِنْتِ بالتنبيهِ (¬2)، فإنَّه إذا حَرُمَتِ الأخْتُ فالبِنْتُ أوْلَى، وسائِرُ المُحَرَّماتِ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بالسُّنَّةِ. وتَثْبُت المَحْرَمِيَّةُ؛ لأنَّها فرْعٌ على التَّحْريمِ إذا كان بسَببٍ مباحٍ، وأمَّا بَقِيَّةُ أحْكامِ النَّسَبِ، مِن النَّفَقَةِ، والإرْثِ والعِتْقِ، ورَدِّ الشهادةِ، وغيرِ ذلك، فلا يَتَعَلَّقُ به؛ لأنَّ النَّسَبَ أقْوَى منه، فلا يُقاسُ عليه في جميعِ أحْكامِه، وإنَّما يُشَبَّهُ به فيما نُصَّ عليه فيه. 3912 - مسألة: (إذا حَمَلَتِ المَرْأةُ مِن رَجُلٍ يَثْبُتُ نَسَسبُ وَلَدِها منه، فثابَ لَها لَبَنٌ، فأرْضَعَتْ به طِفْلًا، صار وَلَدًا لهما في تَحْرِيم النِّكاحِ، وإبَاحةِ النَّظَرِ والخَلْوَةِ، وثُبُوتِ المَحْرَمِيَّةِ، وأوْلادُه وإن سفَلُوا ¬

(¬1) في تش: «الأمصار». (¬2) في م: «بالبينة».

أَوْلَادَ وَلَدِهِمَا، وَصَارَا أَبَوَيهِ. وَآبَاوهُمُا أَجْدَادَهُ وَجَدَّاتِهِ، وَإخْوَةُ الْمَرأَةِ وَأَخوَاتُهَا أَخوَالهُ وَخَالاتِهِ، وَإخْوَةُ الرَّجُلِ وَأَخَوَاتُهُ أَعمَامَهُ وَعَمَّاتِهِ. وَتَنْتَشِرُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ مِنَ الْمُرْتَضِعِ إِلَى أَوْلَادِهِ وَأَولَادِ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، فَيَصِيرُونَ أَوْلَادًا لَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلادَ وَلَدِهما، وصارا أبَوَيه، وآباؤُهما أجْدادَه وجَدَّاتِه، وإخوَةُ المَرْأةِ وأخَواتُها أخْواله وخالاتِه، وإخْوَةُ الرجلِ وأخَواتُه أعْمامَه وعَمَّاتِه، وتَنْتَشِرُ حُرْمَةُ الرَّضاعِ مِن المُرْتَضِعِ إلى أوْلَادِه وأوْلادِ أوْلادِه وإن سفَلُوا، فيَصِيرُون أوْلادًا لهما) وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا حَمَلَتْ مِن رَجُلٍ يَثْبُت نَسَبُ ولَدِها منه، وثابَ لها منه لَبَنٌ، فأرْضَعَتْ به طِفْلًا رَضَاعًا مُحَرِّمًا، صار الطِّفْلُ المُرْتَضِعُ ابْنًا للمُرْضِعَةِ، بغيرِ خِلافٍ، وصار أَيضًا ابْنًا لمَن يُنْسَبُ الحَمْلُ إليه، فصار في التحريمِ وإباحةِ النَّظَرِ والخَلْوةِ ولدًا لهما، وأوْلادُه مِن البَنِينَ والبَناتِ أولادَ أوْلادِهما، وإن نزلتْ دَرَجَتُهم، وجميعُ أوْلادِ المرأةِ المُرْضِعَةِ مِن زَوْجِها ومِن غيرِه، وجميعُ أوْلادِ الرَّجُلِ الذي انْتَسَبَ الحَمْلُ إليه مِن المُرْضِعَةِ وغيرِها، إخْوَةَ المُرْتَضِعِ وأخَواتِه، وأوْلادُ أوْلادِهما أوْلادَ إخْوَتِه وأخَواتِه، وإن نَزَلَتْ دَرَجَتُهم، وأُمُّ المُرْضِعَةِ جَدَّتَه، وأبُوها جَدَّه، وإخْوَتُها أخْواله، وأخَواتُها خَالاتِه، وأبو الرجلِ جَدَّه، وأمُّه جَدَّتَه، وإخْوَتُه أعْمامَه، وأخَواتُه عَمَّاتِه، وجميعُ أقارِبِهما يُنْسَبُون إلى المُرْتَضِعِ كما يُنْسَبُون إلى وَلَدِهما مِن النَّسَبِ؛ لأنَّ اللَّبَنَ الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثابَ للمرأةِ مخلوقٌ مِن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، فنَشَرَ التَّحْرِيمَ إليهما، ونَشَرَ الحُرْمَةَ إلى الرَّجُلِ وإلى أقارِبِه، وهو الذي يُسَمَّى لَبَنَ الفَحْلِ. وفي التَّحْريمِ به اخْتِلافٌ، ذُكِرَ في بابِ المُحَرَّماتِ في النِّكاحِ. والحُجَّةُ فيه ما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ أفْلَحَ أخَا أبي القُعَيسِ، اسْتأْذَنَ عليَّ بعدَ ما أُنزِلَ الحِجابُ، فقلتُ: واللهِ لا آذَنُ له حتَّى أَسْتأْذِنَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، [فإنَّ أخاه أَبا القُعَيسِ ليس هو أرْضَعَنِي ولكن أرْضَعَتْنِي امْرَأةُ أبي القُعَيسِ، فدَخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1)، فقلتُ: يَا رسولَ اللهِ، إنَّ الرجلَ ليس هو أرْضَعَنِي، ولكن أرْضَعَتْنِي امْرَأتُه (¬2). فقال: «ائْذَنِي لَه، فَإنَّه عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ». قال عُرْوَةُ: فبذلك كانتْ عائشةُ تأْخُذ تَقُولُ (¬3): حَرِّمُوا مِن الرَّضاعَةِ ما تُحَرِّمُوا (¬4) مِن النَّسَبِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وسُئِل ابنُ عباسٍ، عن رَجُلٍ تزَوَّجَ امْرأتَين، فأرْضَعَتْ إحْداهما جاريةً، والأخْرَى غُلَامًا، هل يتَزَوَّجُ الغلامُ الجارِيةَ؟ فقال: لا، اللِّقاحُ واحِدٌ (¬6). قال مالِكٌ: اخْتُلِفَ قَديمًا في الرَّضاعَةِ مِن قِبَلِ الأبِ، ونَزلَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م. (¬2) في م: «المرأة». (¬3) في م: «بقول». (¬4) في الأصل، تش: «يحرم». (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 37. (¬6) أخرجه التِّرْمِذِي، في: باب ما جاء في لبن الفحل، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 89، 90. والإمام مالك، في: باب رضاعة الصغير، من كتاب الرضاع. الموطإ 2/ 602، 603. وعبد الرزاق، في: باب لبن الفحل، من كتاب الطلاق. المصنف 473/ 7، 474. وسعيد بن منصور، في: باب ما =

3913 - مسألة: (ولا تنتشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته، ولا من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع، ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على أبيه من الرضاع ولا أخيه)

وَلَا تَنْتَشِرُ إلَى مَنْ في دَرَجَتِهِ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأخَوَاتِهِ، وَلَا مَنْ هُوَ أعْلَى مِنْهُ مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَأعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَأخْوَالِهِ وَخَالاتِهِ، فَلَا تَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى أبِي الْمُرْتَضِعِ وَلَا أَخِيهِ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمُرْتَضِع وَلَا أُخْتُهُ عَلَى أُبِيهِ مِنَ الرَّضَاعَ وَلَا أخِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ برجالٍ مِن أهلِ المدينةِ في أزْواجِهِم؛ منهم محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ، وابنُ أبي حَبِيبةَ، فاسْتَفْتَوْا في ذلك، فاخْتُلِف عليهم، ففارَقُوا زَوْجاتِهم. فأمَّا الوَلَدُ المُرْتَضِعُ، فإنَّ الحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ إليه، وإلى أولادِه وإن نزلوا. 3913 - مسألة: (ولا تَنْتَشِرُ إلى مَن في دَرَجَتِه مِن إخْوَتِه وأخَواتِه، ولا مَن هو أعلى منه مِن آبائِه وأمَّهاتِه وأعْمامِه وعَمَّاتِه وأخْوالِه وخالاتِه، فلا تَحْرُمُ المُرْضِعَةُ على أبي المُرْتَضِعِ، ولا أخِيهِ، ولا تَحْرُمُ أمُّ المُرْتَضِع ولا أُخْتُه على أَبِيه مِن الرَّضاعِ ولا أخِيه) [فيَجُوزُ للمُرْضِعةِ نِكاحُ أبي الطِّفْل المُرْتَضِعِ] (¬1) وأخِيه وعَمِّه وخالِه، ولا يَحْرُمُ على زَوْجِ المُرْضِعةِ نِكاحُ أمِّ الطِّفْلِ المُرْتَضِعِ، ولا أُخْتِه، ولا عَمَّتِه، ولا خالتِه، ولا بَأْسَ ¬

= جاء في ابنة الأخ من الرضاعة. السنن 1/ 240. والبيهقي، في: باب يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. . . .، من كتاب الرضاع. السنن الكبرى 7/ 453. (¬1) سقط من: الأصل.

3914 - مسألة: (وإن أرضعت بلبن ولدها من الزنى طفلا، صار ولدا لها، وحرم على الزاني تحريم المصاهرة، ولم تثبت حرمة الرضاع في حقه، في ظاهر قول الخرقي. وقال أبو بكر: تثبت. قال أبو الخطاب: وكذلك الولد المنفي باللعان)

وَإنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ وَلَدِهَا مِنَ الزِّنَى طِفْلًا، صَارَ وَلَدًا لَهَا، وَحَرُمَ عَلَى الزَّانِي تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ في حَقِّهِ، في ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: تَثْبُتُ. قَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يتَزَوَّجَ أوْلادُ المُرْضِعَةِ وأوْلادُ زَوْجها إخْوَةَ الطِّفْلِ المُرْتَضِعِ وأخَواتِه. قال أحمدُ: لا بَأْسَ أن يتَزَوَّجَ الرجلُ أَخْتَ أخِيه مِن الرَّضاعِ، ليس بينَهما رَضاعٌ ولا نَسَبٌ، وإنَّما الرَّضاعُ بينَ الجاريةِ وأخِيه. 3914 - مسألة: (وإن أرْضَعَتْ بِلَبَنِ وَلَدِها مِن الزِّنَى طِفْلًا، صار وَلَدًا لها، وحَرُمَ على الزَّانِي تَحْرِيمَ المُصاهَرَةِ، ولم تَثْبُتْ حُرْمَة الرَّضاعِ في حَقِّهِ، في ظاهرِ قَوْلِ الخِرَقِيِّ. وقال أبو بَكْرٍ: تَثْبُت. قال أبو الخَطَّابِ: وكذلك الولَدُ المَنْفِيُّ باللِّعانِ) الذي ذكَرَه شَيخُنا في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكتابِ المَشْروحِ، أنَّ مِن شَرْطِ ثُبُوتِ الحُرْمَةِ بينَ المُرْتَضِعِ وبينَ الرَّجُلِ الذي ثابَ اللَّبَنُ بوَطْئِه، أن يكونَ لَبَنَ حَمْلٍ يُنْسَبُ إلى الوَاطِئِ؛ كالوَطْءِ في نِكاحٍ، أو وَطْءٍ بمِلْكِ (¬1) يَمينٍ، أو شُبْهَةٍ، فأمَّا لَبَنُ الزَّانِي [والنّافي للولدِ] (¬2) باللِّعانِ، فلا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ بينَهما في مَفْهومِ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ [أبي عبدِ الله] (¬3) ابنِ حامدٍ، ومذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: يَنْشُرُ الحُرْمَةَ بينَهما؛ لأنَّه مَعْنًى يَنْشُرُ الحُرْمَةَ، فاسْتَوى فيه مُباحُه ومَحْظُورُه، كالوَطْءِ، يُحَقِّقُه أنَّ الوَطْءَ حَصَلَ منه لَبَنٌ ووَلَدٌ، ثم إنَّ الوَلَدَ يَنْشُرُ الحُرْمَةَ بينَه وبينَ الواطِئِ، كذلك اللَّبَنُ، ولأنَّه رَضاعٌ يَنْشُرُ الحُرْمَةَ إلى المُرْضِعةِ، فيَنْشُرُها إلى الواطِئِ، كصُورَةِ الإِجْماعِ. ووَجْهُ القولِ الأوَّلِ، أنَّ التَّحْرِيمَ بينَهما فَرْعٌ لحُرْمَةِ الأبُوَّةِ، فلمَّا لم تثْبُتْ حُرْمَةُ الأبُوَّةِ، لم يَثْبُتْ ما هو فَرْعٌ لها. ويُفارِقُ تَحْرِيمَ ابْنَتِه مِن الزِّنَى؛ لأنَّها مِن نُطْفَتِه حقيقةً، بخِلافِ مَسْألتِنا (¬4). ويُفارِقُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «للولد المنفى». وفي م: «والولد المنفى». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «مسألته».

وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُ الرَّضَاعِ في حَقِّ الْمُلَاعِنِ بِحَالٍ؛ لأَنَّهُ لَيسَ بِلَبَنِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْريمَ المُصاهَرَةِ؛ فإنَّ التَّحْريمَ ثَمَّ لا يَقِفُ على ثُبُوتِ النَّسَبِ، ولهذا تَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَتِه وابْنَتُها مِن غيرِ نَسَبٍ، وتَحْرِيمُ الرَّضاعِ مَبْنِيٌّ على النَّسَبِ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». وقال أبو الخَطَّابِ في الوَلَدِ المَنْفِيِّ باللِّعانِ: إنَّه في تَحْريم الرَّضاعِ على المُلاعِنِ، كتَحْريمِ وَلَدِ الزِّنَى على الزَّانِي. قال شيخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن لا يَثْبُتَ حكمُ الرَّضاعِ في حَقِّ المُلاعِنِ بحالٍ؛ لأنَّه ليس بلَبَنِه حقيقةً ولا حُكْمًا) فأمَّا المُرْضِعةُ، فإنَّ الطِّفْلَ المُرْتَضِعَ مُحَرَّمٌ عليها، ومَنْسُوبٌ إليها عندَ الجميعِ، ولذلك (¬1) يَحْرُمُ جميعُ أولادِها وأقارِبِها ¬

(¬1) في م: «كذلك».

3915 - مسألة (وإن وطئ رجلان امرأة بشبهة، فأتت بولد، فأرضعت بلبنه طفلا، صار ابنا لمن ثبت نسب المولود منه)

وَإنْ وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأةً بِشُبْهَةٍ، فَأتَتْ بِوَلَدٍ، فَأرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ طِفْلًا، صَارَ ابْنًا لِمَنْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْهُ، وَإنْ أُلْحِقَ بِهِمَا، كَانَ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ في حَقِّهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذين يَحْرُمُونَ على أولادِها، على هذا المُرْتَضِع، كما في الرَّضاعِ باللَّبَنِ المُباحِ: وإن كان المُرْتَضِعُ جارِيةً، حرُمَت على الِمُلاعِنِ، بغيرِ خِلافٍ أَيضًا؛ لأنَّها رَبِيبَتُه، فإنَّها بنتُ امْرَأتِه مِنِ الرَّضاعِ، وتَحْرُمُ على الزَّانِي عندَ مَن يَرَى تَحْريمَ المُصاهَرَةِ، وكذلك تحْرُمُ بَناتُها وبناتُ المرضَعِ من الغِلْمانِ (¬1) لذلك. 3915 - مسألة (وإن وَطِئَ رَجُلان امْرَأةً بِشُبْهَةٍ، فأتَتْ بوَلَدٍ، فأرْضَعت بلَبَنِه طِفْلًا، صار ابْنًا لمَن ثَبَتَ نَسَبُ المَوْلُودِ منه) سَواءٌ ثَبَتَ بالقافَةِ أو بغَيرِها؛ لأنَّ تَحْريمَ الرَّضاعِ فَرْعٌ على ثُبُوتِ النَّسَبِ (وإن أُلحِقَ بهما، كان المُرْتَضِعُ ابْنًا لهما) [لأنَّ المُرْتَضِعَ في كل مَوْضِع تَبَعٌ للمُناسبِ، فمتى لَحِقَ المُناسبُ بشَخْصٍ، فالمُرْتَضِعُ مثلُه] (¬2) (وإن لم يُلْحَقْ بواحدٍ منهما، ثَبَتَ التَّحْريمُ بالرَّضاعِ في حَقِّهِما) إذا لم يَثْبُت نَسَبُه ¬

(¬1) في م: «العلماء». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما؛ لتَعَذُّرِ القافَةِ، أو لاشْتِباهِه عليهم، أو نحو ذلك، حَرُمَ عليهما، تَغْلِيبًا للحَظْرِ، فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ منهما، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ ابنَ أحدِهما، فيحْرُمَ عليه أقارِبُه [دُونَ أقارِبِ] (¬1) الآخَرِ، فقد اخْتَلَطَتْ أخْتُه بغيرِها، فحَرُمَ. الجَميعُ، كما لو عَلِمَ أخْتَه بعَينِها ثم اخْتَلَطَتْ بأجْنَبِيَّاتٍ. وإنِ انْتَفَى عنهما جميعًا، بأن تأْتِيَ به لدُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ مِن وَطْئِهما، أو لأكْثَرَ مِن أرْبعِ سِنينٍ مِن وَطْءِ الآخَرِ، انْتَفَى المُرْتَضِعُ عنهما أَيضًا. فإن كان المُرْتَضِعُ جارِيةً، حَرُمَتْ عليهما تحريمَ المُصاهَرَةِ، ويَحْرُمُ أوْلادُها عليهما أَيضًا؛ لأنَّها ابْنَةُ مَوْطُوءَتِهِما، فهي رَبِيبَةٌ (¬2) لهما. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ابنة».

3916 - مسألة: (وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم، لم ينشر الحرمة. نص عليه في لبن البكر. وعنه، ينشرها. ذكرها ابن أبي موسى)

فَإِنْ ثَابَ لِامْرأَةٍ لَبَنٌ مِنْ غَيرِ حَمْلٍ تَقَدَّمَ، لَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ. نَصَّ عَلَيهِ في لَبَنِ الْبِكْرِ. وَعَنْهُ، يَنْشُرُهَا. ذَكَرَهَا ابْنُ أبي مُوسَى. وَالظَّاهِرُ أنَّهُ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3916 - مسألة: (وإن ثابَ لامْرَأةٍ لَبَنٌ مِن غيرِ حَمْلٍ تَقَدَّمَ، لم يَنْشُرِ الحُرْمَةَ. نَصَّ عليه في لَبَنِ البكْرِ. وعنه، يَنْشُرُها. ذَكَرَها ابنُ أبِي موسى) قال شيخُنا: (والظاهِرُ أَنَّه قولُ ابنِ حامدٍ) [إذا ثابَ لامْرَأةٍ لَبَنٌ مِن غيرِ وَطْءٍ فأرْضَعَتْ به طِفْلًا، نَشَرَ الحُرْمَةَ في أظْهَرِ الرِّوايَتَين. وهو قولُ ابنِ حامدٍ] (¬1)، ومذهبُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشَّافِعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْي، وابن المُنْذِرِ؛ لقول اللهِ تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬2). ولأنَّهَ لَبَنُ امْرأةٍ، فتَعَلَّقَ به التَّحْريمُ، كما لو ثابَ بوَطْءٍ، ولأنَّ ألْبانَ النِّساءِ خُلِقَتْ لغِذاءِ الأطْفالِ، وإن كان هذا نادِرًا، فجِنْسُه مُعْتادٌ. والرِّوايةُ الثانيةُ، لا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ؛ لأنَّه نادِرٌ، لم تَجْرِ العادَةُ به لِتَغْذِيَةِ الأطْفالِ، فأشْبَهَ لَبَنَ الرِّجالِ. والأوَّلُ أَصَحُّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 23.

3917 - مسألة: (ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة، فلو ارتضع طفلان بن رجل أو بهيمة أو خنثى مشكل، لم ينشر الحرمة. وقال ابن حامد: يوقف أمر الخنثى حتى يتبين أمره)

وَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ غَيرُ لَبَنِ الْمَرأَةِ، فَلَو ارْتَضَعَ طِفْلَانِ مِنْ رَجُلٍ أوْ بَهِيمَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ، لَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يُوقَفُ أمْرُ الْخُنْثَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ أمْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3917 - مسألة: (ولا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ غَيرُ لَبَنِ المَرْأةِ، فلو ارْتَضَعَ طِفْلان بِن رَجُلٍ أو بَهِيمَةٍ أو خُنْثَى مُشْكِلٍ، لم يَنْشُرِ الحُرْمَةَ. وقال ابنُ حامِدٍ: يُوقَفُ أمْرُ الخُنْثَى حتَّى يَتَبَيَّنَ أمْرُه) وجملةُ ذلك، أنَّ ابْنَين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو ارْتَضَعا مِن بَهِيمةٍ، لم يَصِيرا أخَوَين، في قولِ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ؛ منهم الشافعيُّ، وابنُ القاسمِ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. وكذلك لو ارْتَضَعا مِن رَجُلٍ، لم يَصِيرا أخَوَين، ولم يَنْشُرِ الحُرْمَةَ بينَه وبينَهما، في قولِ عامَّتِهم. وقال الكَرابِيسِيُّ (¬1): يتَعَلَّقُ به التَّحْريمُ؛ لأنَّه لَبَنُ آدَمِيٍّ، أشْبَهَ لَبَنَ المرْأةِ. وحُكِيَ عن بعضِ السَّلَفِ أنّهما إذا ارْتَضَعا مِن لَبَنِ بَهِيمةٍ صارا أخَوَين. وليس ذلك صحيحًا؛ لأنَّ هذا لا يَتَعَلَّقُ به تَحْريمُ الأُمومَةِ، فلا يَثْبُتُ به تَحْريمُ الأخُوَّةِ؛ لأنَّ الأخُوةَ فَرْعٌ على الأمُومَةِ، وكذلك لا يتَعَلَّقُ به تَحْريمُ الأبُوَّةِ لذلك (¬2)، ولأنَّ هذا اللَّبَنَ لم يُخْلَقْ ¬

(¬1) الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الشَّافعي أبو علي الكرابيسي، العلامة، فقيه بغداد، كان من بحور العلم، ذكيا فطنا فصيحا لَسِنًا، تصانيفه في الفروع والأصول تدل على تبحره، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين. وقيل: سنة خمس وأربعين. سير أعلام النبلاء 12/ 79 - 82. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِغذاءِ المَوْلُودِ الآدَمِيِّ، فلم يتَعَلَّقْ به التَّحْريمُ، كسائِرِ الطَّعامِ. فإن ثابَ لخُنْثَى مُشْكِلٍ لَبَنٌ، لم يَثْبُتْ به التَّحْريمُ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ كَوْنُه امْرأةً، فلا يَثْبُتُ التَّحْريمُ مع الشَّكِّ. وقال ابنُ حامدٍ: يَقِفُ الأمْرُ حتَّى ينْكَشِفَ أمرُ الخُنْثَى. فعلى هذا، يَثْبُتُ التَّحْريمُ إلى أن يتَبَيَّنَ (¬1) كوْنُه رَجُلًا؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ كَوْنه مُحَرِّمًا. ¬

(¬1) في ق، م: «يتيقن».

فَصْلٌ: وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ إلا بِشَرْطَينِ؛ أَحَدُهُمَا، أنْ يَرْتَضِعَ في الْعَامَينِ، فَلَو ارْتَضَعَ بَعْدَهُمَا بِلَحْظَةٍ، لَمْ تَثْبُتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه الله: (ولا تَثْبُتُ الحُرْمةُ بالرَّضاعِ إلَّا بشَرْطَين؛ أحَدُهما، أن يَرْضَعَ في الحَوْلَين، فلو ارْتَضَعَ بعدَهما بلحْظَةٍ، لم تَثْبُتْ) هذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العلمِ، رُوِيَ نحوُ ذلك عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وأبي هُرَيرَةَ، وأزْواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَوَى عائِشَةَ. وإليه ذهبَ الشَّعْبِيُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والأوْزاعِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ، ورِوَايةٌ عن مالكٍ. ورُوِيَ عنه، إن زادَ شَهْرًا جازَ. ورُوِيَ شَهْران. [وقال أبو حنيفةَ: يُحَرِّمُ الرَّضاعُ في ثلاثينَ شَهْرًا؛ لقولِه سبحانه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}] (¬1). ولم يُرِدْ بالحَمْلِ حَمْلَ الأحْشاءِ؛ لأنَّه يكونُ سنَتَين، فعُلِمَ أنَّه أَرادَ الحَمْلَ في الفِصالِ. وقال زُفَرُ: مُدَّةُ الرَّضاعِ ثَلاثُ سِنِين. وكانتْ عائشةُ، رَضِيَ اللهُ عنها، تَرَى رَضاعَةَ الكَبِيرِ (¬2) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. والآية رقم 15 من سورة الأحقاف. (¬2) في الأصل: «اللبن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُحَرِّمُ. ويُرْوَى هذا عن عَطاءٍ، واللَّيثِ، وداودَ؛ لِما رُوِيَ أنَّ سَهْلَةَ بنتَ سُهَيلٍ قالتْ: يَا رسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سالِمًا ولَدًا، فكان يَأْوي معي ومع أبي حذيفةَ في بيتٍ واحدٍ، ويَرانِي فُضُلًا، وقد أنْزَلَ الله فيهم ما قد عَلِمْتَ، فكيف تَرَى فيه؟ فقال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أرْضِعِيه». فأرْضَعَتْه خَمْسَ رَضَعاتٍ، فكان بمَنْزِلَةِ وَلَدِها، فبذلك كانتْ عائشةُ تأْخُذُ، تَأْمُرُ بناتِ [أخَواتِها، وبَناتِ] (¬1) إخْوَتِها يُرْضِعْنَ مَن أحَبَّتْ عائشةُ أن يَراها، ويَدْخُلَ عليها، وإن كان كَبِيرًا، وأبَتْ ذلك أُمُّ سَلَمَةَ، وسائرُ أزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَدْخُلَ عليهنَّ بتلك الرَّضاعَةِ أحدٌ مِن النَّاسِ، حتَّى يَرْضَعَ في المَهْدِ، وقُلْنَ لعائشةَ: واللهِ ما نَدْرِي، لعَلَّها رُخْصةٌ مِن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسالمٍ دُونَ النَّاسِ. رواه. النَّسائِيُّ، وأبو داودَ، وغيرُهما (¬2). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬3). فجعلَ تمامَ الرَّضاعةِ حَوْلَين كامِلَين (¬4)، فيَدُلُّ على أنَّه لا حُكْمَ لها بعدَهما. وعن عائشةَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 35. (¬3) سورة البقرة 233. (¬4) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عليها وعندَها رَجُلٌ، فتَغَيَّرَ وَجْهُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالتْ: يَا رسولَ اللهِ، إنَّه أخِي مِن الرَّضاعَةِ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فَإنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ». مُتَّفّقٌ عليه (¬1). وعنِ أمِّ سَلَمَةَ، قالتْ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ، إلَّا مَا فَتَقَ الأمْعَاءَ، وكانَ قَبْلَ الفِطَامِ». أخْرَجَه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعندَ هذا يتَعَيَّنُ حَمْلُ (¬3) خَبَرِ أبي حُذَيفَةَ على أنَّه خاصٌّ له دُونَ الناسِ، كما قال سائِرُ أزْواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقولُ أبي حنيفةَ، تَحَكُّمٌ يُخالِفُ ظاهِرَ الكِتابِ [والسُّنةِ] (¬4) وقولَ الصَّحابةِ، فقد رَوَينا عن ابنِ عباسٍ أنَّ المُرادَ بالحَمْلِ حَمْلُ البَطْنِ. وبه اسْتَدَلَّ على أن أقَلَّ الحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ. وقد دَلَّ على هذا قولُ الله تعالى: ¬

(¬1) أخرجه البُخَارِيّ، في: باب الشهادة على الأنساب، من كتاب الشهادات، وفي: باب من قال: لا رضاع بعد حولين، من كتاب النكاح. صحيح البُخَارِيّ 3/ 222، 7/ 12. ومسلم، في: باب إنما الرضاعة من المجاعة، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1078. كما أخرجه النسائي، في: باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 84. والدارمي، في: باب في رضاعة الكبير، من كتاب النكاح. سنن الدَّارمى 2/ 158. والإمام أَحْمد، في. المسند 6/ 94، 174، 214. (¬2) في: باب ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلَّا في الصغر. . . .، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 97، 98. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب لا رضاع إلَّا بعد فصال، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 626. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

3918 - مسألة: (فلو ارتضع بعدهما بلحظة، لم يثبت)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ} (¬1). فلو حُمِلَ على ما قاله أبو حنيفةَ، لَكان مُخالِفًا لهذه الآيةِ. إذا ثَبَتَ هذا، فالاعْتِبارُ بالعامَينِ لا بالفِطامِ، فلو فُطِمَ قبلَ الحوْلَينِ، ثم ارْتَضَعَ فيهما، حَصَلَ التَّحْريمُ، ولو لم يُفْطَمْ حتَّى تَجاوَزَ الحوْلَين، ثم ارْتَضَع بعدَهما قبل الفِطَامِ، لم يَثْبُتِ التَّحْريمُ. وقال ابنُ القاسمِ صاحبُ مالكٍ: لو ارْتَضَعَ بعدَ الفِطامِ في الحوْلَينِ، لم يُحَرِّمْ؛ لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وَكَانَ قَبْلَ الفِطَامِ». ولَنا، قولُه سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَينِ}. ورُوِيَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ في الحَوْلَينِ» (¬2). والفِطَامُ مُعْتَبَرٌ بمُدَّتِه لا بِنَفْسِه. 3918 - مسألة: (فلو ارْتَضَعَ بعدَهما بلَحْظَةٍ، لم يَثْبُتِ) التَّحْرِيمُ. وقال أبو الخَطَّابِ: لو ارْتَضَعَ بَعْدَ الحَوْلَين بِساعَةٍ، لم يُحَرِّمْ. وقال القَاضي: لو شَرَعَ في الخامِسَةِ، فحَال الحَوْلُ قبلَ كَمالِها, لم يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ. ولا يَصِحُّ هذا؛ لأنَّ ما وُجِدَ مِن الرَّضْعَةِ في الحَوْلَين كافٍ في التَّحْريمِ، بدَلِيلِ ما لو [انْفَصَلَ ممَّا] (¬3) بعدَه، فلا يَنْبَغِي أن يَسْقُطَ حُكْمُه ¬

(¬1) سورة لقمان 14. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الرضاع. سنن الدارقطني 4/ 174. وابن عدي، في: الكامل 7/ 2562. (¬3) في تش: «اتصل بما».

الثَّانِي، أنْ يَرْتَضِعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، ثَلَاثٌ يُحَرِّمْنَ. وَعَنْهُ وَاحِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باتِّصالِ ما لا أثَرَ له به (¬1). (الثاني، أن يَرْتَضِعَ خَمْسَ رَضَعاتٍ. [وعنه، ثلاثٌ يُحَرِّمْنَ. وعنه، واحِدَةٌ) الصحيحُ مِن المذهبِ أنَّ الذي يتَعَلَّقُ به التَّحريمُ خمْسُ رَضَعاتٍ] (¬2) فصاعِدًا. رُوِيَ هذا عن عائشةَ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ الزُّبَيرِ، وعطاءٍ، وطاوسٍ. وهو قولُ الشافعيِّ. وعن أحمدَ روايةٌ ثانيةٌ، أنَّ قَلِيلَ الرَّضاعِ يُحَرمُ، كما يُحَرِّمُ كَثِيرُه. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ومَكْحُولٌ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ، وحَمَّاد، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، واللَّيثُ، وأصْحابُ الرَّأْيَ. وزَعَمَ اللَّيثُ أنَّ المُسْلِمِين أجْمَعُوا على أنَّ قَلِيلَ الرَّضاعِ وكثيرَه يُحَرِّمُ في المَهْدِ، ما يُفْطِرُ به الصَّائِمُ، واحْتَجُّوا بقولِ اللهِ تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬3). وقولِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ». وعن عُقْبةَ بنِ الحارثِ، أنَّه تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنتَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة النساء 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي إهابٍ، فجاءتْ أمَةٌ سَوْداءُ، فقالت: قد أرْضَعْتُكُما. فذكَرْتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «وكَيفَ، وقَدْ زَعَمَتْ أنْ قَدْ أرْضَعَتْكُمَا!». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه فِعْلٌ يتَعَلَّقُ به تَحْريمٌ مُؤبَّدٌ، فلم يُعْتَبَرْ فيه العَدَدُ، كَتَحْرِيمِ أُمَّهاتِ النِّساءِ، ولا يَلْزَمُ اللِّعانُ؛ لأنَّه قولٌ. والرِّوايةُ الثالثةُ، لا يُحَرِّمُ إلَّا ثلاثُ رَضَعاتٍ. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيدٍ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولَا المَصَّتَانِ». وعن أمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحارثِ، قالتْ: قال نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُحَرِّمُ الإمْلَاجَةُ (¬2) ولا الإملَاجَتَانِ». رواهما مسلمٌ (¬3). ولأنَّ ما يُعْتَبَرُ فيه العَدَدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 347. وعقبة بن الحارث من أفراد البُخَارِيّ، ولم يخرج له مسلم. انظر: الجمع بين رجال الصحيحين 1/ 381، والإرواء 7/ 225. (¬2) الإملاجة: المصة. (¬3) في: باب في المصة والمصتان، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1073 - 1075. كما أخرجهما النَّسائي، في: باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 83. والدارمي، في: باب كم رضعة تحرم، من كتاب النكاح. سنن الدَّارمى 2/ 157. وأخرج الأول أبو داود، في: باب هل يحرم ما دون خمس رضعات، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 476. والتِّرمذي، في: باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 90 - 92. وابن ماجه، في: باب لا تحرم المصة ولا المصتان، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 624. والإمام أَحْمد، في: المسند 6/ 31، 96، 216، 247. وأخرج الثاني الإِمام أَحْمد، في: المسند 6/ 339، 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتَّكْرارُ، يُعْتَبَرُ فيه الثَّلاث. ورُوِيَ عن حَفْصةَ: لا يُحَرِّمُ دُونَ عَشْرِ رَضَعاتٍ (¬1). ورُوِيَ ذلك عن عائِشَةَ؛ لأنَّ عُرْوَةَ روَى في حَدِيثِ سَهْلَةَ [بِنْتِ سُهَيلٍ] (¬2): فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيما بَلَغَنا: «أرْضِعِيه عَشْرَ رَضَعاتٍ، فيَحْرُمُ بلَبَنِهَا» (¬3). ولَنا، ما رُوِيَ عن عائشةَ، رَضِيَ الله عنها، أنَّها قالت: أُنْزِلَ في القُرْآنِ: (عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ) فنُسِخَ مِن ذلك خَمْسٌ، وصارَ إلى خمْسِ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ، فتُوُفِّيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والأمْرُ على ذلك. رواه مُسْلِمٌ (¬4). وروَى مالِكٌ (¬5)، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عائشةَ، عن سَهْلَةَ بنتِ سُهَيلٍ: «أرْضِعِي سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا». والآيةُ مُجْمَلةٌ (¬6) فسَّرَتْها السُّنَّةُ، وبَينَّتَ الرَّضاعةَ المُحَرِّمةَ، وصَرِيحُ ما رَوَيناه ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 470. والبيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 457. (¬2) سقط من: م. (¬3) عند الإِمام أَحْمد في المسند 6/ 269 عن عائشة بلفظ: «فأرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك». وأخرجه عبد الرَّزّاق في المصنف 7/ 460 من قول الزُّهْرِي بلفظ: «أرضعيه خمس رضعات فتحرم بلبنها». (¬4) في: باب التحريم بخمس رضعات، من كتاب الرضاع. صحيح مسلم 2/ 1075. كما أخرجه أبو داود، في: باب هل تحرم ما دون خمس رضعات، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 476. والتِّرمذي، في: باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، من أبواب الرضاع. عارضة الأحوذي 5/ 92. والنسائي، في: باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 83. وابن ماجه، في: باب لا تحرم المصة ولا المصتان، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 625. والدارمي، في: باب كم رضعة تحرم، من كتاب النكاح. سنن الدَّارمي 2/ 157. والإمام مالك، في: باب جامع ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 608. (¬5) في: باب ما جاء في رضاعة الكبير، من كتاب الرضاع. الموطأ 2/ 605. (¬6) زيادة من: تش.

3919 - مسألة: (ومتى أخذ الثدي، فامتص منه ثم تركه، أو قطع عليه، فهي رضعة، فإن عاد)

وَمَتَى أخَذَ الثَّدْيَ، فَامْتَصَّ مِنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، أوْ قُطِعَ عَلَيهِ، فَهِيَ رَضْعَةٌ، فَمَتَى عَادَ فَهِيَ رَضْعَةٌ أُخْرَى، بَعُدَمَا بَينَهُمَا أَوْ قَرُبَ، وَسَوَاءٌ تَرَكَهُ شِبَعًا، أَوْ لأمْرٍ يُلْهِيهِ، أو لِانْتِقَالِهِ مِنْ ثَدْيٍ إِلَى غَيرِهِ، أوْ مِنَ امْرأةٍ إِلَى غَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخُصُّ مَفْهُومَ ما رَوَوْه، فيُجْمَعُ بينَ الأخْبارِ بحَمْلِها على الصَّرِيحِ الذي رَوَيناه. 3919 - مسألة: (ومتى أخَذَ الثَّدْيَ، فَامْتَصَّ منه ثم تَرَكَه، أو قُطِعَ عليه، فهي رَضْعَةٌ، فإن عادَ) فأخَذَه (فهي رَضْعَةٌ أُخْرَى، بَعُدَ ما بَينَهما أو قَرُبَ) يُشْترَطُ أن تكونَ الرَّضَعَاتُ مُتَفَرِّقاتٍ. وبه قال الشافعيُّ. والمَرْجِعُ في مَعْرِفَةِ الرَّضْعةِ إلى العُرْفِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ ورَدَ بها (¬1) مُطْلَقًا، ولم يَحُدَّها بزَمَنٍ ولا مِقْدارٍ، فدَلَّ على أنَّه رَدَّهُم إلى العُرْفِ، فإذا ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ، وقَطَعَ قَطْعًا بَيِّنًّا باخْتِيارِه، كان ذلك رَضْعَةً، فإذا عادَ، كانت رَضْعَةً أُخْرَى. فأمَّا إن قَطَعَ لضِيقِ نَفَسٍ أو للانْتِقالِ مِن ثَدْيٍ إلى ثَدْيٍ، أو لشيءٍ يُلْهِيه، أو قطَعَتْ عليه المُرْضِعَةُ؛ فإن لم يَعُدْ قَرِيبًا ¬

(¬1) في م: «به».

وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: إِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِاخْتِيَارِهِ، فَهُمَا رَضْعَةٌ، إلا أنْ يَطُولَ الفَصْلُ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهي رَضْعَةٌ، وإن عادَ في الحالِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، أنَّ الأوَّلَ رَضْعَةٌ، فإذا عادَ فهي رَضْعَةٌ أخْرَى. وهذا اخْتِيارُ أبي بكرٍ، وظاهرُ كلام أحمدَ في روايةِ حَنْبَلٍ؛ فإنَّه قال: أما تَرَى الصَّبِيَّ يَرضَعُ مِن الثَّدْيِ، فإذا أدرَكه النَّفَسُ أمْسَكَ عن الثَّدْيِ ليَتَنَفَّسَ ويَسْتَرِيحَ؟ فإذا فَعَلَ ذلك فهي رَضْعَةٌ. وذلك لأنَّ الأولَى رَضْعَةٌ لو لم يَعُدْ، فكانتْ رَضْعةً وإن عادَ، كما لو قَطَعَ باخْتِيارِه. والوَجْهُ الآخرُ، أنَّ جَمِيعَ ذلك رَضْعةٌ. وهو مذهبُ الشافعيِّ، إلَّا فيما إذا قَطَعَتْ عليه المُرْضِعةُ، ففيه وَجْهان؛ لأنَّه لو حَلَفَ: لا أكَلْتُ اليومَ إلَّا أكلَةً واحِدَةً. فاسْتَدامَ الأكْلَ زَمَنًا، أو قطع لشُربِ ماءٍ أو انْتِقالٍ مِن لَوْنٍ إلى لَوْنٍ، أو انْتِظارٍ لِمَا يُحْمَلُ إليه مِن الطَّعامِ، لم يُعَدَّ إلَّا أكلَةً واحدةً، فكذا ههُنا. والأوَّلُ أَولَى؛ لأنَّ اليَسِيرَ مِن السَّعُوطِ والوَجُورِ رَضْعةٌ، فكذا هذا. وقال ابنُ حامدٍ: إن قَطعَ لعارِضٍ وعادَ في الحالِ فهي رَضْعةٌ، وإن تباعَدَ أو انْتَقَل مِن امرأةٍ إلى أُخرَى فهما رَضْعتانِ. كما ذكَرْنا في الأكْلِ.

3920 - مسألة: (والسعوط والوجور كالرضاع، في إحدى الروايتين)

وَالسَّعُوطُ وَالْوَجُورُ كَالرّضَاعِ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3920 - مسألة: (والسَّعُوطُ والوَجُورُ كالرَّضاعِ، في إحْدَى الرِّوايَتَين) السَّعُوطُ؛ أن يُصَبَّ في أنْفِه اللَّبَنُ مِن إناءٍ أو غيرِه، فيَدْخُلَ حَلْقَه. والوَجُورُ؛ أن يُصَبَّ في حَلْقِه مِن غيرِ الثَّدْيِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ في التَّحْريمِ بهما، فأصَحُّ الرِّوايتَين أنَّ التَّحْريمَ يَثْبُتُ بهما، كما يَثْبُت بالرَّضاعِ. وهو قولُ الشَّعْبِيِّ، والثّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأي. وبه قال مالكٌ في الوَجُورِ. والثانيةُ، لا يَثْبُتُ التَّحْريمُ بهما. وهو اخْتِيارُ أبي بكرٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومذهبُ داودَ، وقولُ (¬1) عطاءٍ الخُراسانِيِّ في السَّعُوطِ؛ لأنَّ هذا ليس برَضاعٍ، وإنَّما حَرَّمَ الله تعالى ورسولُه بالرَّضاعِ، ولأنَّه حَصَلَ مِن [غيرِ ارْتِضاعٍ] (¬2)، فأشْبَهَ ما لو حَصَلَ مِن جُرْحٍ في بَدَنِه (¬3). ولَنا، ما روَى ابنُ مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا رَضَاعَ إلَّا ما أنْشَزَ العَظْمَ، وأنْبَتَ اللَّحْمَ». رواه أبو داودَ (¬4). ولأنَّ هذا يَصِلُ إليه اللَّبَنُ، كما يَصِلُ بالارْتِضاعِ، ويحْصُلُ به مِن إنْباتِ اللَّحْمِ وإنْشازِ العَظْمِ ما يحْصُلُ بالرَّضاعِ، فيجبُ أن يُساويَه في التَّحْريمِ، والأنفُ (¬5) سَبِيلٌ لفِطْرِ الصائِمِ، فكان سَبِيلًا للتَّحْريمِ، كالرَّضاعِ بالفَمِ. فصل: وإنَّما يُحَرِّمُ مِن ذلك كالذي يُحَرِّمُ بالرَّضاعِ، وهو خَمْسٌ في الرِّوايةِ المَشْهُورة، فإنَّه فَرْعٌ على الرَّضاعِ، فيأخُذُ حُكْمَه، فإنِ ارْتَضَعَ دُونَ الخَمْسِ، وكَمَّلَ الخَمْسَ بسَعُوطٍ ووَجُورٍ، أو أُسْعِطَ وأُوجِرَ، وكَمَّلَ الخَمْسَ برَضاعٍ، ثَبَتَ التَّحْريمُ؛ لأنَّا جعلْناه كالرَّضاعِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «غيره». (¬3) في الأصل: «ثديه». (¬4) في: باب في رضاعة الكبير، من كتاب النكاح. سنن أبي داود 1/ 475. كما أخرجه الإِمام أَحْمد، في: المسند 1/ 432. وضعفه في الإرواء 7/ 223، 224. (¬5) في الأصل، تش: «للأنف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في أصْلِ التَّحْريمِ، فكذلك في إكمالِ العَدَدِ، ولو حُلِبَ في إناءٍ لَبَنٌ دَفْعةً واحدةً، ثم سُقِيَ الغُلامُ في خَمْسةِ أوْقاتٍ، فهو خَمْسُ رَضَعاتٍ، فإنَّه لو أكَلَ مِن طَعامٍ خَمْسَ دَفَعاتٍ مُتَفَرِّقاتٍ، لَكان قد أكَلَ خَمْسَ أكَلاتٍ. وإن حُلِبَ في إناءٍ خَمْسُ حَلَباتٍ في خَمْسةِ أوْقاتٍ، ثم سُقِيَ دَفْعةً واحِدَةً، كان رَضْعةً واحدةً، كما لو جَعَلَ الطَّعامَ في إِناءٍ واحدٍ في خمسةِ أوْقاتٍ، ثم أكَلَه دَفْعة واحدةً، كان أكلةً واحدَةً. وحُكِيَ عن الشافعيِّ في الصُّورتَين عكسُ ما قُلْناه، اعْتِبارًا بخُرُوجِه مِن المرأةِ؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بالرَّضاعِ، والوَجُورُ فَرْعُه. ولَنا، أنَّ الاعْتِبارَ بِشُرْبِ الصبيِّ له؛ لأنَّه المُحَرِّمُ، ولهذا يَثْبُتُ التَّحْريمُ به مِن غيرِ رَضاعٍ، ولو ارْتَضَعَ بحيثُ يَصِلُ إلى فِيهِ، ثم مَجَّه، لم يَثْبُتِ التَّحْريمُ، فكان الاعْتِبارُ به، وما وُجِدَ منه إلَّا دَفْعةٌ واحدَةٌ، فكان رَضْعةً واحدةً. وإن سَقَتْه (¬1) في أوْقاتٍ، فقد وُجِدَ في خَمْسةِ أوْقاتٍ، فكان خمْسٍ رَضَعاتٍ. فأمَّا إن سَقَتْه (1) اللَّبَنَ المَجْمُوعَ جُرْعةً [بعدَ جُرْعَةٍ] (2) مُتَتابعة، فظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ أنَّه رَضْعةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ المُعْتَبَرَ في الرَّضْعَةِ العُرْفُ، وهم لا يَعُدُّونَ هذا رَضَعاتٍ، فأشْبَهَ ما لو أكَلَ الطَّعامَ لُقْمَةً [بعد لُقْمَةٍ] (¬2)، فإنَّه لا يُعَدُّ أكَلاتٍ. ¬

(¬1) في م: «سقاه». (¬2) سقط من: الأصل.

3921 - مسألة: (ويحرم لبن الميتة واللبن المشوب. ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: لا يثبت التحريم بهما)

وَيُحَرِّمُ لَبَنُ الْمَيِّتَةَ وَاللَّبَنُ الْمَشُوبُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ. وَقَال أَبُو بَكرٍ: لَا يَثْبُت التّحْرِيمُ بِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن يُخَرَّجَ على ما إذا قطَعَتْ عليه المُرْضِعَةُ الرَّضاعَ، على ما قَدَّمْناه. فصل: فإن عَمِلَ اللّبَنَ جُبْنًا ثم أطْعَمَه الصَّبِيَّ، ثَبَتَ به التّحْريمُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُحَرَّمُ به؛ لزَوالِ الاسْمِ. وكذلك على الرِّوايةِ التي تقولُ: لا يَثْبُتُ التَّحْريمُ بالوَجُورِ. لا يَثْبُتُ ههُنا بطَرِيقِ الأولَى. ولَنا، أنَّه واصِلٌ مِن الحَلْقِ، يَحْصُلُ به إنْباتُ اللَّحْمِ، وإنْشازُ العَظْمِ، فحَصَلَ به التَّحْريمُ، كما لو شَرِبَه. 3921 - مسألة: (ويُحَرِّمُ لَبَنُ المَيِّتةِ واللّبَنُ المَشُوبُ. ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وقال أَبُو بَكْرٍ: لا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بهما) المنصوصُ عن أحمدَ، في رِوايةِ إبراهيمَ الحَرْبِيِّ في لَبَنِ المَيِّتةِ، أنَّه يَنْشُرُ الحُرْمةَ. وهو اخْتِيارُ أبي بكرٍ. وقولُ أبي ثَوْرٍ، والأوْزاعِيِّ، وابنِ القاسمِ، وأصْحابِ الرَّأْي، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو بكرٍ الخَلَّالُ: لا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ. وتَوَقَّفَ عنه أحمدُ في رِوايَةِ مُهَنَّا. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لَبَنٌ ممَّن ليس هو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمَحَلٍّ للولادةِ، فلم يتَعَلَّقْ به التَّحْريمُ، كلَبَنِ الرَّجُلِ. ولَنا، أنَّه وُجِدَ الرَّضاعُ على وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ ويُنْشِزُ العَظْمَ مِن امْرأةٍ، فأثْبَتَ التَّحْريمَ، كحالِ الحياةِ، ولأنه لا فارِقَ بينَ شُرْبِه في حَياتِها ومَوْتِها إلَّا الحياةُ والمَوْتُ أو النّجاسَةُ، وهذا لا أثَرَ له، فإنَّ اللَّبَنَ لا يَمُوتُ، والنَّجاسَةُ لا تُؤثِّرُ، كما لو حُلِبَ في وَعاءٍ (¬1) نَجِسٍ، ولأنَّه لو حُلِبَ منها في حَياتِها، فشَرِبَه (¬2) بعدَ مَوْتِها, لنَشَرَ الحُرْمَةَ، فبَقاؤُه في ثَدْيِها لا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الحُرْمَةِ؛ لأنَّ ثَدْيَها لا يَزِيدُ على الإناءِ في عَدَمِ الحياةِ، وهي لا تزِيدُ على عَظْمِ المَيتَةِ في ثُبُوتِ النَّجاسةِ. فصل: ولو حَلَبَتِ المرْأةُ لَبَنَها في إناءٍ، ثم ماتَتْ، فشَرِبَه صَبِيٌّ، نَشَرَ الحُرْمَةَ، في قولِ كلِّ مَن جَعَلَ الوَجُورَ مُحَرِّمًا. وبه قال أبو ثَوْرٍ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ وذلك لأنَّه لَبَنُ امْرأةٍ حُلِبَ في حَياتِها، فأشْبَهَ ما لو شَرِبَه وهي في الحياةِ. ¬

(¬1) في م: «إناء». (¬2) في تش: «ثم شربه».

3922 - مسألة: (ويحرم اللبن المشوب)

وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: إنْ غَلَبَ اللَّبَنُ حَرَّمَ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3922 - مسألة: (ويُحَرِّمُ اللَّبَنُ المَشُوبُ) ذكَرَه الخِرَقِيُّ. والمَشُوبُ؛ المُخْتَلِطُ بغيرِه. وسَواءٌ اخْتَلَطَ بطَعامٍ أو شَرابٍ أو غيرِه، في قولِ الخِرَقِيِّ. وبه قال الشَّافعيُّ. وقال أبو بكرٍ: قِياسُ قولِ أحمدَ، أنَّه لا يُحَرِّمُ؛ لأنَّه وَجُورٌ (وقال ابنُ حامدٍ: إن غَلَبَ اللَّبَنُ حَرَّمَ، وإلَّا فلا) وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، والمُزَنِيِّ؛ لأنَّ الحُكْمَ للأغْلَبِ، ولأنَّه يَزُولُ بذلك الاسْمُ والمعْنَى [المرادُ به] (¬1). ونحوُه قولُ أصْحابِ الرَّأْي، وزادوا فقالوا: إن كانتِ النَّارُ مَسَّتِ اللَّبنَ حتَّى أنْضَجَتِ الطعامَ، أو (¬2) حتَّى تَغَيَّرَ، فليس برَضاعٍ. ووَجْهُ الأوَّل، أنَّ اللَّبَنَ متى كان ظاهِرًا، فقد حَصَلَ شُرْبُه، ويَحْصُلُ به إنْباتُ اللَّحْمِ وإنْشازُ العَظْمِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَرَّمَ، كما لو كان غَالِبًا، وهذا فيما إذا كانتْ صِفاتُ اللَّبَنِ باقِيَةً، فأمَّا إن صُبَّ في ماءٍ كثيرٍ لم يتَغَيَّرْ به، لم يَثْبُتْ به التَّحْرِيمُ؛ لأنَّ هذا ليس بمَشُوبٍ، ولا يَحْصُلُ به التَّغَذِّي، ولا إنْباتُ اللَّحْمِ وإنْشازُ العَظْمِ. وحُكِيَ عن القاضي أنَّ التَّحْريمَ يَثْبُتُ به. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ أجْزاءَ اللَّبَنِ حَصَلَتْ في بَطْنِه، أشْبَهَ ما لو كان لَوْنُه ظاهِرًا. ولَنا، أنَّ هذا ليس برَضاعٍ، ولا في مَعْناه، فوَجَبَ أن لا يَثْبُتَ حُكْمُه فيه. فصل: فإن حُلِبَ مِن نِسْوَةٍ، وسُقِيَ الصَّبِيُّ، فهو كما لو ارْتَضَعَ مِن

3923 - مسألة: (والحقنة لا تنشر الحرمة. نص عليه. وقال ابن حامد: تنشرها)

وَالْحُقْنَةُ لَا تَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تَنْشُرُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلِّ واحدةٍ منهنَّ؛ لأنَّه لو شِيبَ بماءٍ أو عَسَلٍ، لم يَخْرُجْ عن كَوْنِه رَضاعًا مُحَرِّمًا، فكذلك إذا شِيبَ بلَبَنٍ آخَرَ. 3923 - مسألة: (والحُقْنَةُ لَا تَنْشُرُ الحُرْمَةَ. نَصَّ عليه. وقال ابنُ حامِدٍ: تَنْشُرُها) المنصوصُ عن أحمدَ، أنَّ الحُقْنَةَ لا تُحَرِّمُ. قاله أبو الخَطَّابِ. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. وقال ابنُ حامدٍ، وابنُ أبي موسى تُحَرِّمُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه سَبِيلٌ يحْصُلُ بالواصِلِ منه الفِطْرُ، فتَعَلَّقَ به التَّحْريمُ، كالرَّضاعِ. ولَنا، أنَّ هذا ليس برَضَاعٍ، ولا يَحْصُلُ به التَّغَذِّي، فلم يَنْشُرِ الحُرْمَةَ، كما لو قَطَّرَ في إحْلِيلِه، ولأنَّه ليس برَضاعٍ، ولا في مَعْناه، فلم يَجُزْ إثْباتُ حُكْمِه فيه (¬1)، ويُفارِقُ ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْلٌ: وَإذَا تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَثَلَاثَ صَغَائِرَ، فَأرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ إحْدَاهُنَّ في الْحَوْلَينِ، حَرُمَتِ الْكَبِيرَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَثَبَتَ نِكَاحُ الصُّغْرَى. وَعَنْهُ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِطْرَ الصائِمِ، فإنَّه لا (¬1) يُعْتَبَرُ فيه إنْباتُ (¬2) اللَّحْمِ، ولا إنْشازُ العَظْمِ، وهذا لا يُحَرِّمُ فيه إلَّا ما أنْبَتَ اللَّحْمَ و (¬3) أنْشَزَ العَظْمَ، ولأنَّه وَصَلَ اللَّبَنُ إلى الباطِنِ مِن غيرِ الحَلْقِ، أشْبَهَ ما لو وَصَلَ مِن جُرْحٍ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإذا تزَوَّجَ كبيرةً ولم يَدْخُلْ بها، وثَلاثَ صَغائِرَ، فأرْضَعَتِ الكَبِيرَةُ إحْداهُنَّ في الحَوْلَين، حَرُمَتِ الكَبِيرَةُ على التَّأبِيدِ، وثَبَتَ نِكاحُ الصَّغِيرَةِ. وعنه، يَنْفَسِخُ نِكاحُها) متى تزَوَّجَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «إثبات». (¬3) في تش: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كبيرةً وصَغِيرةً، فأرْضَعَتِ الكبيرةُ الصَّغيرةَ قبلَ دُخُولِه بها، فَسَدَ نِكاحُ الكبيرةِ في الحالِ، وحَرُمَتْ على التَّأبِيدِ. وبهذا قال الثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرأْي. وقال الأوْزاعِيُّ: نكاحُ الكبيرةِ ثابتٌ، وتُنْزَعُ منه الصغيرةُ. ولا يَصِحُّ ذلك، فإنَّ الكبيرةَ صارتْ مِن أُمَّهاتِ النِّساءِ، فتَحْرُمُ أبَدًا؛ لقولِ اللهِ سبحانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (¬1). ولم يَشْتَرِطْ دُخُولَه بها. فأمَّا الصَّغيرةُ، ففيها رِوَايتان؛ إحداهما، نِكاحُها ثابت؛ لأنَّها رَبِيبَةٌ، [ولم يَدْخُلْ بأُمِّها (¬2)، فلا تَحْرُمُ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ} (1). والرِّوايةُ] (¬3) الثانيةُ، يَنْفسِخُ نِكاحُها. وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ؛ لأنهما صارَتا أُمًّا (¬4) وبِنْتًا، واجْتَمَعَتا في نِكاحِه، والجمعُ بينَهما مُحَرَّمٌ، فانْفَسَخَ نِكاحُهما، ¬

(¬1) سورة النساء 23. (¬2) في تش: «بها». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «إماء».

3924 - مسألة: (وإن أرضعت اثنتين منفردتين، انفسخ نكاحهما، على الرواية الأولى، وعلى الثانية، ينفسخ نكاح الأولى، ويثبت نكاح الثانية)

وَإنْ أرْضَعَتِ اثْنَتَينِ مُنْفَرِدَتَينِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، عَلَى الرِّوَايَةِ الأولَى، وَعَلَى الثَّانِيَةِ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الأُولَى، وَيَثْبُتُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو صارَتا أُخْتَين، وكما لو عَقَدَ عليهما بعدَ الرَّضاعِ عقدًا واحدًا. ولَنا، أنَّه أمكَنَ إزالةُ الجَمْعِ بانْفِساخِ نِكاحِ الكبيرةِ، وهي أوْلَى به؛ لأنَّ نِكاحَها مُحَرَّمٌ على التَّأْبيدِ، فلم يَبْطُلْ نِكاحُهما به، كما لو ابْتَدأ العَقْدَ على أُخْتِه وأجْنَبِيَّةٍ، ولأنَّ الجَمْعَ طَرَأ على نِكاحِ الأُمِّ والبنْتِ، فاخْتصَّ الفَسْخُ بنكاحِ الأُمِّ, كما لو أسْلَمَ وتَحْتَه امرأةٌ وبِنْتُها. وفارَقَ الأخْتَين؛ لأنَّه ليستْ إحْداهُما أوْلَى بالفَسْخِ مِن الأُخرَى، وفارَقَ ما لو ابْتَدأَ العَقْدَ عليهما؛ لأنَّ الدَّوامَ أقْوَى مِن الابْتِداءِ. 3924 - مسألة: (وإن أرْضَعَتِ اثْنَتَين مُنْفَرِدَتَين، انْفَسَخَ نِكاحُهما، على الرِّوايَةِ الأولَى، وعلى الثَّانِيَةِ، يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأولَى، ويَثْبُتُ نِكاحُ الثانيةِ) أمَّا انْفِساخُ نِكاحِ الصَّغيرتَينِ، فلأنَّهما صارَتا أُختَين، واجْتَمَعَتا في الزَّوْجِيَّةِ، فيَنْفَسِخُ نِكاحُهما، كما لو أرْضَعَتْهما (¬1) معًا، وهذا على الرِّوايةِ الأُولَى التي تقولُ: يَنْفَسِخُ نِكاحُ الكبيرةِ وحدَها. ¬

(¬1) في م: «أرضعتها».

3925 - مسألة: (وإن أرضعت الثلاث متفرقات، انفسخ نكاح

وَإنْ أرْضَعَتِ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقَاتٍ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُولَيَينِ، وَثَبَتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا على الرِّوايةِ التي تقولُ: يَنْفَسِخُ نِكاحُهما معًا. فإنَّه يَثْبُتُ نِكاحُ الأخِيرةِ مِن الصَّغِيرتَين؛ لأنَّ الكَبيرَةَ لمَّا أرْضَعَتِ الصَّغيرةَ أوَّلًا، انْفَسَخَ نِكاحُهما، ثم أرْضَعَتِ الأُخْرَى، فلم تَجْتَمِعْ مَعَهما في النِّكاحِ، فلم يَنْفَسِخْ نِكاحُها. فصل: إذا أرْضَعَتِ الصغيرتَين (¬1) أجْنبِيَّةٌ، انْفَسَخَ نِكاحُهما أَيضًا. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والمُزَنِيِّ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافِعِيِّ. وقال في الآخَرِ: يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأخِيرةِ وحدَها؛ لأنَّ سبَبَ البُطْلانِ (¬2) حَصَلَ بها (¬3)، وهو الجَمْعُ، فأشْبَهَ ما لو تَزَوَّجَ إحْدَى الأُخْتَين بعدَ الأُخْرَى. ولَنا، أنَّه جَامِعٌ بينَ الأخْتَين في النِّكاحِ، فانْفَسَخَ نِكاحُهما، كما لو أرْضَعَتْهما معًا، وفارَقَ ما لو عَقَدَ على واحدةٍ بعدَ أُخْرَى، فإنَّ عَقْدَ الثانيةِ لم يَصِحَّ، فلم يَصِرْ به جامِعًا بينَهما، وههُنا حَصَلَ الجَمْعُ برَضاعِ الثانيةِ، ولا يُمْكِنُ القولُ بأنَّه لم يَصِحَّ، فحَصَلَتا معًا في نِكاحِه وهما أُخْتان لا مَحالةَ. 3925 - مسألة: (وإن أرْضَعَتِ الثَّلاثَ مُتَفَرقاتٍ، انْفَسَخَ نِكاحُ ¬

(¬1) في م: «الصغيرة». (¬2) في تش: «الطلاق». (¬3) في الأصل: «لها».

3926 - مسألة: (وإن أرضعت إحداهن منفردة، واثنتين بعدها، انفسخ نكاح الجميع، على الروايتين)

نِكَاحُ الثَّالِثَةِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الأولَى، وَعَلَى الثَّانِيَةِ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْجَمِيعِ. وَإنْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ مُنْفَرِدَةً، وَاثْنَتَينِ بَعْدَ ذَلِكَ، انْفَسَخَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ، عَلَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَيَين، وثَبَت نِكاحُ الثَّالِثَةِ، على الرِّوايَةِ الأولَى، وعلى الثَّانِيةِ، يَنْفَسِخُ نِكاحُ الجَمِيعِ) لأنَّهما صارَتا أُخْتَين في نِكاحِه، وثَبَتَ نِكاحُ الثَّالِثَةِ؛ لأنَّ رَضاعَها بعدَ انْفِساخِ نِكاحِ الكَبِيرَةِ والصّغِيرَتَين اللَّتَين قَبْلَها، فلم تُصادِفْ أُخُوّتُها جَمْعًا في النِّكاحِ. [وعلى الروايةِ الثانيةِ، يَنْفَسِخُ نِكاحُ الجميعِ] (¬1). 3926 - مسألة: (وإن أرْضَعَتْ إحداهُنَّ مُنْفَرِدَةً، واثْنَتَين بعدَها، انْفَسَخَ نِكاحُ الجميعِ، على الرِّوايَتَين) [إذا أرْضَعَتْ إحْداهُنَّ اثْنَتَين بعدَها] (¬2) معًا، بأن تُلْقِمَ (¬3) كلَّ واحِدَةٍ منهما ثَدْيًا، فمَصَّتَا معًا، أو ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: الأصل.

3927 - مسألة: (وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر)

وَلَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ مِنَ الأصَاغِرِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكُبْرَى، حَرُمَ الْكُلُّ عَلَيهِ عَلَى الْأَبَدِ. وَكُلُّ امْرأةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُهَا عَلَيهِ؛ كَأُمِّهِ، وَجَدَّتِهِ، وَأُخْتِهِ، وَرَبِيبَتِهِ، إِذَا أرْضَعَتْ طِفْلَةً، حَرَّمَتْهَا عَلَيهِ. وَكُلُّ رَجُلٍ تَحْرُمُ عَلَيهِ ابْنَتُهُ، كَأخِيهِ وَأبِيهِ وابْنِهِ، إِذَا أرْضَعَتِ امْرَأَتُهُ بِلَبَنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْلِبَ مِن لَبَنِها في إناءٍ فتَسْقِيَهما معًا، انْفَسَخَ نِكاحُ الجَمِيعِ؛ لأنَّهُنَّ صِرْنَ أخَواتٍ في نِكاحِه, لأنَّها إذا أرْضَعَتْ إحْداهُنَّ مُنْفَرِدَةً، لم يَنْفَسِخْ نِكاحُها؛ لأنَّها مُنْفَرِدَةٌ، ثم إذا أرْضَعَتِ اثْنَتَين بعدَ ذلك مُجْتَمِعاتٍ، انْفَسَخَ نِكاحُ الجميعِ؛ لأنَّهُنَّ أخَواتٌ في النِّكاحِ. هذا على الرِّوايةِ الأُولَى. وعلى الثانيةِ، يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأمِّ والأُولَى بالاجْتِماعِ، ثم يَنْفَسِخُ نِكاحُ الاثْنَتَين؛ لِكَوْنِهما صارَتا أُختَين معًا. 3927 - مسألة: (وله أن يَتَزَوَّجَ مَن شاء مِن الأصَاغِرِ) لأنَّ تَحْريمَهُنَّ تَحْريمُ جَمْع لا تَحْريمُ تَأْبِيدٍ، فإنَّهُنَّ رَبائِبُ لم يَدْخُلْ بأُمِّهِنَّ (وإن كان دَخَلَ بالأمِّ، حَرُمَ الكُلُّ عليه على الأبدِ) لأنهُنَّ رَبائِبُ مَدْخُولٌ بأُمِّهِنَّ. 3928 - مسألة: (وكلُّ امْرَأةٍ تَحْرُمُ ابْنَتُها عليه؛ كأُمِّه، وأُخْتِه، وجَدَّتِه، ورَبِيبَتِه، إذا أرْضَعَتْ طِفْلَةً، حَرَّمَتْهَا عليه) لأنَّها تَصِيرُ ابْنَتَها (وكُلُّ رَجُلٍ تَحْرُمُ ابْنَتُه، كأخِيه وابْنِه وأبِيه، إذا

طِفْلَةً، حَرَّمَتْهَا عَلَيهِ وَفَسَخَتْ نِكَاحَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ. فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرأَةٍ بِرَضَاعٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ عَلَيهِ بِنِصْفِ مَهْرِهَا الَّذِي يَلْزَمُهُ لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أرْضَعَتِ امرأتُه بلَبَنِه طِفْلَةً، حَرَّمَتْها عليه وفَسَخَتْ نِكاحَها) لأنَّها صارتْ ابْنَةَ مَن تَحْرُمُ ابْنَتُه عليه. وإن أرْضَعَتْها امرأةُ أحَدِ هؤلاءِ بلَبَنِ غيرِه، لم تَحْرُمْ عليه؛ لأنَّها صارتْ رَبِيبَةَ زَوْجِها. وإن أرْضَعَتْها مَن لا تَحْرُمُ بِنْتُها، كعَمَّتِه وخالتِه، لم تُحَرِّمْها عليه. ولو تزَوَّجَ بنتَ عمِّه، فأرْضَعَتْ جَدَّتُهما أحَدَهما صَغيرًا، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّها إن أرْضَعَتِ الزَّوْجَ صارَ عَمَّ زَوْجَتِه، وإِن أرْضَعَتِ الزَّوْجَةَ صارَتْ عَمَّتَه، وإن أرْضَعَتْهما جَمِيعًا صار عَمَّها وصارَتْ عَمَّتَه. وإن تزَوَّجَ بِنْتَ عَمَّتِه، فأرْضَعَتْ جَدَّتُهما أحَدَهما صغيرًا، انْفَسَخَ النِّكاحُ؛ لأنَّها إن أرْضَعَتِ الزَّوْجَ صارَ خالها، وإن أرْضَعَتِ الزَّوْجَةَ صارتْ عمَّتَه. وإن تزَوَّجَ بنتَ خالِه، فأرْضَعَتْ جَدَّتُهما الزَّوْجَ صارَ عَمَّ زَوْجَتِه، وإن أرْضَعَتْها (1) صارتْ خَالتَه. وإنْ تزَوَّجَ ابنةَ خالتِه، فأرْضَعَتِ الزَّوْجَ، صارَ خال زَوْجَتِه، وإن أرْضَعَتْها (¬1)، صارتْ خالةَ زَوْجِها. فصل: قال، رَضِيَ الله عنه: (وكلُّ مَن أفْسَدَ نِكاحَ امرأةٍ برَضاعٍ قبلَ الدُّخُولِ، فإنَّ الزَّوْجَ يرْجِعُ عليه بنِصْفِ مَهْرِها الذي يَلْزَمُه لها) لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «أرضعتهما».

3929 - مسألة: (وإن أفسدت نكاحها)

وَإِنْ أَفْسَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا، سَقَطَ مَهْرُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ قرَّرَه عليه بعدَ أن كان بعَرَضِ السُّقُوطِ، وفرَّقَ بينَه وبينَ زَوْجَتِه، فلَزِمَه ذلك، كشُهُودِ الطَّلاقِ إذا رَجَعُوا، وإنَّما لَزِمَه نِصْفُ مَهْرِ الصَّغيرةِ؛ لأنَّ نِكاحَها انْفَسَخَ قبلَ دُخُولِه بها مِن غيرِ جِهَتِها، والفَسْخُ إذا جاء مِن أجْنَبِيٍّ كان كطَلاقِ الزَّوْجِ في وُجُوبِ الصَّداقَ عليه. 3929 - مسألة: (وإن أفْسَدَتْ نِكاحَها) قَبْلَ الدُّخُولِ (فلا مَهْرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها) لأنَّ فَسْخَ نِكاحِها بسبَبٍ مِن جِهَتِها، فسَقَطَ صَداقُها، كما لو ارْتَدَّتْ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، فعلى هذا، إذا أرْضَعَتِ امرأتُه الكُبْرى الصُّغْرى، فانْفسَخَ نِكاحُ الصُّغْرَى، فعلى الزَّوْجِ نِصْفُ مَهْرِ الصُّغْرَى، ويَرْجِعُ به على الكُبْرى؛ لِمَا ذكَرْنا. وبهذا قال الشافعيُّ. وحُكِيَ عن بعضِ أصْحابِه، أنَّه يَرْجِعُ بجميعِ صَداقِها؛ لأنَّها أتْلَفَتِ البُضْعَ، فوَجَبَ ضَمانُه. وقال أصْحابُ الرَّأْي: إن كانَتِ المُرْضِعةُ أرادَتِ الفَسادَ، رَجَعَ عليها بنِصْفِ الصَّداقِ، وإلَّا فلا يَرْجِعُ بشيءٍ. وقال مالكٌ: لا يَرْجِعُ بشيءٍ. ولَنا، على أنَّه يَرْجِعُ عليها بالنِّصْفِ، أنَّها قَرَّرَتْه عليه وألْزَمَتْه إيَّاه، وأتْلَفَتْ عليه ما في مُقابَلَتِه، فوَجَبَ عليها الضَّمانُ، كما لو أتْلَفَتْ عليه المَبِيعَ. ولَنا، على أبي حنيفةَ، أنَّ ما ضُمِنَ في العَمْدِ ضُمِنَ في الخَطأ، كالمالِ، ولأنَّها أفْسَدَت نِكاحَه، وقَرَّرَتْ عليه نِصْفَ الصَّداقِ، فأشْبَهَ ما لو قَصَدَتِ الإفْسادَ. ولَنا، على أنَّ الزَّوْجَ إنَّما يَرْجِعُ بالنِّصْفِ، أنَّه لم يَغْرَمْ إلَّا (¬1) النِّصْفَ، فلم يَجِبْ له أكْثَرُ ممَّا غَرِمَ، ولأنَّه بالفَسْخِ رَجَعَ إليه بَدَلُ (¬2) النِّصْفِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «بذلك».

3930 - مسألة: وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول

وَإنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَجَبَ لَهَا مَهْرُهَا، وَلَمْ يَرْجِع بِهِ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ، فلم يَجِبْ له بَدَلُ ما أخَذَ بَدَلَه مَرَّةً أُخْرَى. ولأنَّ خُرُوجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ لا قِيمَةَ له، وإنَّما ضَمِنَتِ المُرضِعةُ ههُنا لمَّا ألْزَمَتِ الزَّوْجَ ما كان مُعَرَّضًا للسُّقُوطِ بسَبَبٍ يُوجَدُ مِن الزَّوْجَةِ، [فلم يَرْجِعْ ها هنا بأكثرَ ممَّا ألْزَمَتْه] (¬1). فصل: والواجبُ نِصْفُ المُسَمَّى، لا نِصْفُ مَهْرِ المِثلِ؛ لأنَّه إنَّما يَرْجِعُ بما غَرِمَ، والذي غَرِمَ نِصْفُ ما فَرَضَ لها، فرَجَعَ به. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يَرْجِعُ بنِصْفِ مَهْرِ المِثلِ؛ لأنه ضَمانُ مُتْلَفٍ، فكان الاعْتِبارُ بقِيمَتِه، دون ما مَلَكَه به، كسائرِ الأعْيانِ. ولَنا، أنَّ خُرُوجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ لا قِيمَةَ له، بدليلِ ما لو قَتَلَتْ نَفْسَها، أو ارْتَدَّتْ، أو أرْضَعَتْ مَن يَنْفَسِخُ نِكاحُها بإرْضاعِه، فإنَّها لا تَغْرَمُ له (¬2) شيئًا، وإنَّما الرُّجُوعُ ها هنا بما غَرِمَ، فلا يَرْجِعُ بغيرِه، ولأنَّه لو رَجَعَ بقِيمَةِ المُتْلَفِ، لرَجَعَ بمَهْرِ المِثْلِ كلِّه، ولم يَخْتَصَّ بالنِّصْفِ، ولأنَّ شُهودَ الطَّلاقِ قبلَ الدُّخولِ إذا رَجَعُوا، لَزِمَهُم نِصْفُ المسَمَّى، كذلك ها هنا. 3930 - مسألة: وإن أفْسَدَتْ نِكاحَ نَفْسِهَا بعدَ الدُّخُولِ، لَمْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

أَحَدٍ. وَذكرَ القاضِي أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ أَيضًا. وَرَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْقُطْ مَهْرُها، ويَجبُ على زَوْجها. وإن أفْسَدَه غيرُه، وَجَبَ مَهْرُها (ولم يَرْجِعْ به على أَحدٍ) ونَصَّ أحمدُ على أنَّه يَرْجِعُ بالمَهْرِ كله. قاله القاضي. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ المرأةَ تَسْتَحِقُّ المَهْرَ كلَّه على زَوْجِها، فيَرْجِعُ بما لَزِمَه، كنِصْف المَهْرِ في غيرِ المَدْخُول بها. قال شيخُنا (¬1): والصَّحيحُ إن شاءُ اللهُ تعالى، أنَّه لا يَرْجِعُ على مَن أَفْسَدَه بعدَ الدُّخولِ بشيءٍ؛ لأنَّه لم يُقَرِّرْ على الزَّوْجِ شيئًا، ولم يُلزِمْه إيَّاه، فلم يَرْجِعْ عليه بشيءٍ، كما لو أفْسَدَتِ المرأةُ نِكاحَ نَفْسِها, ولأنَّه لو مَلَكَ الرُّجوعَ بالصَّداقِ بعدَ الدُّخولِ، لسَقَطَ إذا كانتِ المرأةُ هي المُفْسِدَةَ للنِّكاحَ، كما قبلَ الدُّخولِ، ولأنَّ خُروجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ غيرُ مُتَقَوَّمٍ، على ما ذَكَرْناه فيما مَضَى، [ولذلك] (¬2) لا يجبُ مَهْرُ المِثْلِ، وإنَّما رَجَعَ الزَّوْجُ بنِصْفِ المُسَمَّى قبلَ الدُّخولِ؛ لأنَّها قَرَّرَتْه عليه، ولذلك (¬3) يسْقُطُ إذا كانت هي المُفْسِدَةَ لنِكاحِها قبلَ الدُّخولِ، ولم يُوجَدْ ذلك ¬

(¬1) انظر المغني 11/ 332 , 333. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «كذلك».

3931 - مسألة: (وإن أفسدت نكاح نفسها)

وَلَوْ أَفْسَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا، بِغَيرِ خِلَافٍ في الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا. وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ. ولأنَّه لو رَجَعَ بالمَهْرِ بعدَ الدُّخولِ، لم يَخْلُ إمَّا أن يكونَ رُجُوعُه ببَدَلِ البُضْعِ الذي فَوَّتَتْه، أو بالمَهْرِ الذي أدَّاه، لا يجوزُ أن يكونَ ببَدَلِ البُضْعِ؛ لأنَّه لو وَجَبَ بَدَلُه، لوَجَبَ له على الزَّوْجَةِ إذا فاتَ بفِعْلِها أو بقَتْلِها, ولَكان الواجبُ لها مَهْرَ مِثْلِها، ولا يجوزُ أن يَجِبَ لها بَدَلُ ما أدَّاه إليها لذلك، ولأنَّها ما أوْجَبَتْه، ولا لها أثَرٌ في إيجابِه ولا تَقْرِيرِه. 3931 - مسألة: (وإن أفْسَدَتْ نِكاحَ نَفْسِها) بعدَ الدُّخُولِ (لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُها) قال شيخُنا (¬1): لا نَعْلَمُ بينهم خِلافًا في ذلك، وأنَّ الزَّوْجَ لا يَرْجِعُ عليها بشيءٍ إذا كان أدَّاه إليها, ولا في أنَّها إذا أفْسَدَتْه قبلَ الدُّخولِ أنَّه يَسْقُطُ، وأنَّه يَرْجِعُ عليها بما أعْطَاها. ¬

(¬1) انظر المغني 11/ 333.

3932 - مسألة: (فإذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى، فانفسخ نكاحهما، فعليه نصف مهر الصغرى، يرجع به على الكبرى، ولا مهر للكبرى إن كان قبل الدخول)

فَإِذَا أَرْضَعَتِ امْرَأَتُهُ الْكُبْرَى الصُّغْرَى، فَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا، فَعَلَيهِ نِصْفُ مَهْرِ الصُّغْرَى، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكُبْرَى، وَلَا مَهْرَ لِلْكُبْرَى إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وإن كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيهِ صَدَاقُهَا، وَإنْ كَانَتِ الصُّغْرَى هِيَ الَّتِي دَبَّتْ إِلَى الْكُبْرَى وَهِيَ نَائِمَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3932 - مسألة: (فإذا أرْضَعَتِ امْرَأتُه الكُبْرَى الصُّغْرَى، فَانْفَسَخَ نِكاحُهما، فعليه نِصْفُ مَهْرِ الصُّغْرَى، يَرْجِعُ به على الكُبْرى، ولا مَهْرَ للكبرَى إن كان قبلَ الدُّخولِ) لأنَّها أفْسَدَت نِكاحَ نَفْسِها. وقد ذكَرْنا وَجْهَ ذلك إن كان [المُفْسِدُ غَيرَها] (¬1). 3933 - مسألة: فلو دَبَّتِ الصُّغْرَى إلى الكُبْرَى وهي نائِمَةٌ، ¬

(¬1) في م: «المفسدة غيرهما».

فَارْتَضَعَتْ مِنْهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَيَرْجِعُ عَلَيهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الْكُبْرَى إِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ بِجَمِيعِهِ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي. وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ، لَا يَرْجِعُ بَعْدَ الدُّخولِ بِشَيْءٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فارْتَضَعَتْ مِنها خَمْسَ رَضَعاتٍ، انْفَسَخَ نِكاحُ الكُبْرى، وحَرُمَتْ على التّأْبِيدِ، فإن كان دَخَلَ بالكَبِيرَةِ، حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ، وانْفَسَخَ نِكاحُها، ولَا مَهْرَ لِلصَّغِيرَةِ؛ لأنَّها فَسَخَتْ نِكاحَ نَفسِها، وعليه مَهْرُ الكَبِيرةِ، يرْجعُ به على الصَّغيرةِ عندَ أصْحابِنا، ولا يرْجِعُ به على ما اخْتَرْناه. وإن لم يَكن دَخلَ بالكَبيرةِ، فعلَيه نِصْفُ صَداقِها، يَرْجِعُ به في مالِ الصَّغيرةِ؛ لأنَّها فسَخَتْ نِكاحَها (¬1). وإنِ ارْتَضَعَتِ الصَّغيرةُ منها رَضْعَتَين وهي نائمةٌ، ثم انْتَبَهَتِ الكبيرةُ، فأتَمَّتْ لها ثلاثَ رَضَعاتٍ، فقد حَصَلَ الفسادُ بفِعْلِهما، فيَتَقَسّطُ (¬2) الواجبُ عليهما، وعليه مَهْرُ الكبيرةِ، وثلاثةُ أعْشارِ مَهْرِ الصغيرةِ، ويَرْجِعُ به على الكبيرةِ. وإن لِم يكنْ دَخَلَ بالكبيرةِ، فعليه خُمْسُ مَهْرِها، يَرْجِعُ به على الصغيرةِ. وهل يَنْفسِخُ نِكاحُ الصغيرةِ؟ على رِوايتَين. ¬

(¬1) في الأصل: «نكاح نفسها». (¬2) في الأصل، تش «فيسقط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أرْضَعَتْ بنتُ الكبيرةِ الصغيرةَ، فالحكمُ في التَّحْريم والفَسْخِ حُكْمُ ما لو أرْضَعَتْها الكبيرةُ؛ لأنَّها صارتْ جَدَّتَها، والرُّجوعُ بالصَّداقِ على المُرْضِعَةِ التي أفْسَدَتِ النِّكَاحَ. وإن أرْضَعَتْها أُمُّ الكبيرةِ، انْفَسَخَ نِكاحُهما معًا، لأنَّهما صارَتا أُخْتَين. فإن كان (¬1) لم يَدْخُلْ بالكبيرةِ، فله أن يَنْكِحَ مَن شاءَ منهما، ويَرْجِعُ على المُرْضِعةِ بنِصْفِ صَداقِها. وإن كان دَخَلَ بالكبيرةِ، فله نِكاحُها؛ لأنَّ الصَّغيرةَ لا عِدَّةَ عليها، [وليس له نِكاحُ الصَّغيرةِ حتَّى] (¬2) تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الكبيرةِ؛ لأنَّها قد صارتْ أُخْتَها، فلا يَنْكِحُها في عِدَّتِها. وكذلك الحكمُ إن أرْضَعَتْها جَدَّةُ الكبيرةِ؛ لأنَّها تَصِيرُ (¬3) عَمَّةَ الكَبيرةِ أو خالتها، والجمعُ بينَهما مُحَرَّم. وكذلك إن أرْضَعَتْها أُخْتَها أو زَوْجَةُ أخِيها بِلَبَنِه؛ لأنَّها صارتْ بِنتَ أُخْتَ الكبيرةِ، أو بنتَ أخِيه. وكذلك إن أرْضَعَتْها بنتُ (¬4) أُخْتَها أو بنت أخِيها (¬5)، ولا يَحْرُمُ في شيءٍ مِن هذا واحدةٌ منهنَّ على التَّأْبِيدِ؛ لأنَّه تَحْريمُ جَمْعٍ، إلَّا إذا أرْضَعَتْها بنتُ الكبيرةِ وقد دَخَلَ بأُمِّها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يرجع على المرضعة». (¬3) في الأصل: «لا تصير». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «أختها».

3934 - مسألة: (وإذا كان لرجل خمس أمهات أولاد، لهن منه لبن، فأرضعن امرأة له صغرى. كل واحدة منهن رضعة، حرمت عليه، في أحد الوجهين)

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ أُمَّهَاتِ أوْلَادٍ، لَهُنَّ لَبَنٌ مِنْهُ، فَأَرضَعْنَ امْرَأةً لَهُ صُغْرَى. كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً، حَرُمَتْ عَلَيهِ، في أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَلَمْ تَحْرُمْ أُمَّهَاتُ الأوْلَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3934 - مسألة: (وإذا كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ أُمَّهَاتِ أوْلَادٍ، لَهُنَّ مِنْهُ لَبَنٌ، فَأَرضَعْنَ امْرَأةً لَهُ صُغْرَى. كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً، حَرُمَتْ عَلَيهِ، في أحَدِ الْوَجْهَينِ) لأنَّها ارْتَضَعَتْ مِن لَبَنِه خَمْسَ رَضَعاتٍ، فكَمَلَ رَضاعُها مِن لَبَنِه، فصارَ أبًا لها، كما لو أرْضَعَتْها واحدة منهنَّ. والوَجْهُ الثانِي، لا يَصِيرُ أبًا لها؛ لأنَّه رَضاعٌ لم تَثْبُتْ به الأُمُومَةُ، فلم تَثْبُتْ به الأُبُوَّةُ، كلَبَنِ البَهِيمةِ (ولا تَحْرُمُ أُمَّهَاتُ الأوْلادِ) لأنَّه لم يُثْبِتْ لهنَّ أُمُومَةً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أرْضَعْنَ طِفْلًا كذلك، لم يَصِرْنَ أُمَّهاتٍ له، وصار المَوْلَى أبًا له. وهذا قولُ ابنِ حامدٍ؛ لأنَّه ارْتَضَعَ مِن لَبَنِه خَمْسَ رَضَعاتٍ. وفيه وَجْه آخَرُ، لا تَثْبُتُ الأبُوَّةُ؛ لأنَّه رَضاعٌ لم يُثْبِتِ الأُمُومةَ، فلم يُثْبِتُ الأُبُوَّةَ، كالارْتِضاعِ بِلبَنِ الرَّجُلِ. والأوَّلُ أصَحُّ، لأنَّ الأُبُوَّةَ إنَّما تَثْبُتُ لكَوْنِه رَضَعَ مِن لَبَنِه، لا لكُونِ المُرضِعَةِ أمًّا له. ولأصْحابِ الشَّافعيِّ وَجْهان كهذَين. وإذا قُلْنا بثُبُوتِ الأُبُوَّةِ، حَرُمَت عليه المُرْضِعاتُ؛ لأنَّه رَبِيبُهُنَّ، وهُنَّ مَوْطُوءاتُ أبِيه. فصل: وإن كان لرَجُلٍ خَمْسُ بناتٍ، فأرْضَعْنَ طِفْلًا، كلُّ واحدةٍ رَضْعةً، لم يَصِرْنَ أُمَّهاتٍ له. وهل يَصِيرُ الرَّجُل جَدًّا له، وأوْلادُه أخْوالًا له وخالاتٍ؟ على وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَصِيرُ جَدًّا، وأخُوهُنَّ خَالًا، لأنَّه قد كَمَلَ للمُرْتَضِعِ خَمْسُ رَضَعاتٍ مِن لَبَنٍ بَناتِه، فأشْبَهَ ما لو كان مِن واحدةٍ. والآخَرُ، لا يَثْبُتُ ذلك؛ لأنَّ كَوْنه جَدًّا فَرْعُ كَوْنِ ابْنَتِه أُمًّا، وكَوْنَه خالًا فَرْعُ كَوْنِ أُخْتِه امًّا، ولم يَثْبُتْ، فلا يَثْبُتُ ذلك الفرْعُ. وهذا الوَجْهُ يتَرَجَّحُ في هذه المَسْأَلةِ؛ لأنَّ الفَرْعِيَّةَ مُتَحَقِّقَة، بخِلافِ التي قبلَها. فإن قُلْنا: يَصِيرُ أَخُوهُنَّ خَالًا. لم تَثْبُتِ الخُئُولَةُ في حَقِّ واحدةٍ منهنَّ؛ لأنَّه لم يَرْتَضِعْ مِن لَبَنِ أخَواتِها خَمْسَ رَضَعاتٍ، ولكنْ يَحْتَمِلُ التَّحريمُ؛ لأنَّه قد اجْتَمَعَ مِن اللبنِ (¬1) المُحَرِّمِ خَمْسُ رَضَعاتٍ. ولو كَمَلَ للطِّفْلِ ¬

(¬1) في م: «بنت».

3935 - مسألة: (ولو كان له ثلاث نسوة، لهن لبن منه، فأرضعن امرأة له صغرى، كل واحدة رضعتين، لم تحرم المرضعات)

وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، لَهُنَّ لَبَنٌ مِنْهُ، فَأَرْضَعْنَ امْرَأَةً لَهُ صُغْرَى، كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَتَينِ، لَمْ تَحْرُمِ الْمُرْضِعَاتُ. وَهَلْ تَحْرُمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسُ رَضَعاتٍ مِن أُمِّه وأُخْتِه [وابْنَتِه وزَوْجَتِه] (¬1) وزَوْجَةِ أبِيه، مِن كلِّ واحدةٍ رَضْعَةٌ، خُرِّجَ على الوَجْهَين. فصل: إذا كان لامرأةٍ لَبَنٌ مِن زَوْجٍ، فأرْضَعَتْ به طِفْلًا ثلاثَ رَضَعاتٍ، وانْقَطَعَ لَبَنُها، فتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فصارَ لها منه لَبَنٌ، فأرْضَعَتْ منه الصَّبِيَّ رَضْعَتَين، صارَتْ أُمًّا له، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه عندَ القائِلين بأنَّ الخَمْسَ مُحَرماتٌ، ولم يَصِرْ واحِدٌ مِن الزَّوْجَين أبًا له؛ لأنَّه لم يَكْمُلْ عَدَدُ الرَّضاعِ مِن لَبَنِه، ويَحْرُمُ على الرَّجُلَين؛ لكَوْنِه رَبِيبَهما، لا لكَوْنِه وَلَدَهما. 3935 - مسألة: (وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، لَهُنَّ لَبَنٌ مِنْهُ، فَأَرْضَعْنَ امْرَأَةً لَهُ صُغْرَى، كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَتَينِ، لَمْ تَحْرُمِ الْمُرْضِعَاتُ) لأنَّه لم يَكْمُلْ عَدَدُ الرَّضَعاتِ لكلِّ واحدةٍ منهنَّ (وهل تَحْرُمُ الصُّغْرَى؟ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

الصُّغْرَى؟ عَلَى وَجْهَينِ؛ أَصَحُّهُمَا، تَحْرُمُ عَلَيهِ، وَعَلَيهِ نِصْفُ مَهْرِهَا، يَرْجِعُ بِهِ عَلَيهِنَّ عَلَى قَدْرِ رَضَاعِهِنَّ، يُقْسَمُ بَينَهُنَّ أخْمَاسًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على وَجْهَين؛ أصَحُّهما، تَحْرُمُ) لأنَّها ارْتَضَعَتْ مِن لَبَنِه خَمْسَ رَضَعاتٍ (وعليه نِصْفُ مَهْرِها، يَرْجِعُ به عليهنَّ على قَدْرِ رَضاعِهِنَّ، يُقْسَمُ بَينَهنَّ أخْماسًا) [لأنَّ الرَّضَعاتِ الخمسَ مُحَرِّمَةٌ، وقد وُجِدَ مِن الأُولَى رَضْعتان، ومِن الثانيةِ رَضْعتان، والخامسةُ وُجِدَتْ مِن الثالثةِ، فيَجِبُ على الأُولَى خُمْسُ مَهْرِها] (¬1)، وعلى الثانيةِ خُمْسٌ، وعلى الثالثةِ عُشْرٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3936 - مسألة: (فإن كان لرجل ثلاث بنات امرأة لهن لبن، فأرضعن ثلاث نسوة له صغارا، حرمت الكبيرة)

فَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ امْرَأَةٍ لَهُنَّ لَبَنٌ، فَأَرْضَعْنَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ لَهُ صِغَارًا، حَرُمَتِ الْكُبْرَى، وَإنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، حَرُمَ الصِّغَارُ أَيضًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَهَلْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ مَنْ كَمَلَ رَضَاعُهَا أَوْلًا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3936 - مسألة: (فَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ امْرَأَةٍ لَهُنَّ لَبَنٌ، فَأَرْضَعْنَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ لَهُ صِغَارًا، حَرُمَتِ الْكُبْيرَةُ) لأَنَّها من جدَّاتِ النِّساءِ، وجَدَّةُ الزَّوْجَةِ مُحَرَّمَةٌ، ولم يَنْفَسِخْ نِكاحُ الصِّغارِ؛ لأنَّهُنَّ لَسْنَ أخَواتٍ، وإنَّما هُنَّ بَناتُ خَالاتٍ، ولَبَنُ الرَّبِيبَةِ لا يُحَرِّمُ إلَّا بالدُّخولِ بالأُمِّ (وإن كان دَخَلَ بالأُمِّ، حَرُمَ الصِّغارُ أيضًا) لأنَّهُنَّ رَبائِبُ (¬1) مَدْخُولٌ بأُمِّهِنَّ (وإن لم يكنْ دَخَلَ بها، فهل يَنْفَسِخُ نِكاحُ مَن كَمَلَ رَضاعُها أو لا؟ على رِوايتَين) بِناءً على ما إذا أرْضَعَتْ زوْجَتُه الكُبرى زوْجَتَه ¬

(¬1) في تش: «بنات».

3937 - مسألة: (وإن أرضعن واحدة، كل واحدة منهن رضعتين، فهل تحرم الكبرى بذلك؟ على وجهين)

وَإنْ أرْضَعْنَ وَاحِدَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَتَينِ، فَهَلْ تَحْرُمُ الْكُبْرَى بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصُّغْرَى، فإنَّ الكُبْرى تَحْرُمُ. وهل يَنْفَسِخُ نِكاحُ الصُّغْرَى؟ على رِوايتَين، ذكَرْنا تَوْجِيهَهما فيما مَضَى. 3937 - مسألة: (وإن أَرْضَعْنَ واحِدَةً، كلُّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَتَين، فهَل تَحْرُمُ الكُبْرَى بذلك؟ على وَجْهَين) أحَدُهما، تَحْرُمُ؛ لأنَّها صارتْ جَدَّةً بكَوْنِ الصَّغيرةِ قد كَمَلَ لها خَمْسُ رَضَعاتٍ مِن لَبَن بَناتِها. والثاني، لا تَصِيرُ جدَّةً، ولا يَنْفَسِخُ نِكاحُها؛ لأنَّ كَوْنَها جَدَّةً فَرْع على كَوْنِ ابْنَتِها أُمًّا، ولم تَثْبُتِ الأُمُومَةُ، فما هو فَرْعٌ عليها أَوْلَى أن لا يَثْبُتَ. وهذا الوَجْهُ (¬1) أَوْلَى. واللهُ أعلمُ. فصل: إذا تزَوَّجَ كبيرةً، ثم طَلَّقَها، فأرْضَعَتْ صغيرةً بلَبَنِه، صارتْ بِنْتًا له، وإن أرْضَعَتْها بلَبَنِ غيره صارتْ رَبِيبَتَه، فإن كان قد دَخَلَ بالكبيرةِ، حَرُمَتِ الصغيرةُ على التَّأْبِيدِ، وإن كان لم يَدْخُلْ بها، لم تَحْرُمْ؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها رَبِيبَةٌ لم يَدْخُلْ بأُمِّها. وإن تزَوَّجَ صغيرةً، ثم طَلَّقَها، فأرْضَعَتْها (¬1) امرأةٌ له، حَرُمَتِ المُرْضِعةُ على التَّأْبِيدِ؛ لأنَّها مِن أُمَّهاتِ نِسائِه. وإن تزَوَّجَ كبيرةً وصغيرةً، ثم طَلَّقَ الصغيرةَ، فأرْضَعَتْها الكبيرةُ، حَرُمَتِ الكبيرةُ، وانْفَسَخَ نِكاحُها، فإن كان (¬2) لم يَدْخُلْ بها، فلا مَهْرَ لها، وله نِكاحُ الصغيرةِ، وإن كان دَخَلَ بها، فلها مَهْرُها، وتَحْرُمُ هي والصَّغيرةُ على التَّأْبِيدِ، وإن طَلَّقَ الكبيرةَ وحدَها قبلَ الرَّضاعِ، فأرْضَعَتِ الصغيرةَ ولم يكنْ دَخَلَ بالكبيرةِ، ثَبَتَ نِكاجُ الصَّغيرةِ، وإن كان دَخَلَ بها، حَرُمَتِ الصغيرةُ، وانْفَسَخَ نِكاحُها، ويَرْجعُ على الكبيرةِ بنِصْفِ صَداقِها. وإن طَلقَهُما جميعًا، فالحُكمُ في التَّحْريمِ على ما مَضَى. فصل: ولو تزَوَّجَ رَجُلٌ كبيرةً، وآخَرُ صغيرةً، ثم طَلَّقاهما، ونَكَحَ [كل واحدٍ] (¬3) منهما زَوْجَةَ الآخَرِ، ثم أرْضَعَتِ الكبيرةُ (¬4) الصغيرةَ، حَرُمَتِ الكبيرةُ عليهما، وانْفَسَخَ نِكاحُها، وإن كان زَوْجُ الصَّغيرةِ دَخَلَ بالكبيرةِ، حَرُمَتْ عليه، وانْفَسَخَ نِكاحُها، وإلَّا فلا. ¬

(¬1) في م: «فأرضعت». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «واحدة». (¬4) في تش: «الكبرى».

3938 - مسألة: (ولو تزوجت الصبي أولا، ثم فسخت نكاحه لعيب، ثم تزوجت كبيرا، فصار لها منه لبن، فأرضعت به الصبي، حرمت عليهما علي الأبد)

فَصْلٌ: إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَلَهَا مِنْهُ لَبَنٌ، فَتَزَوَّجَتْ بِصَبِيٍّ، فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ، وَحَرُمَتْ عَلَيهِ، وَعَلَى الأوَّلِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا صَارَت مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ، وَلوْ تزَوَّجَتِ الصَّبِيَّ أَوَّلًا، ثُمَّ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ لِعَيبٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كَبِيرًا، فَصَارَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ، فَأَرضَعَتْ بِهِ الصَّبِيَّ، حَرُمَتْ عَلَيهِمَا عَلَى الأَبَدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَهُ اللهُ: (إذا طَلَّقَ امرأتَه، ولها منه لَبَنٌ، فتَزَوَّجَتْ بصَبِيٍّ، فأرْضَعَتْه بلَبَنِه، انْفَسَخَ نِكاحُها منه) لأنَّها صارتْ أمَّه مِن الرَّضاعِ (وحَرُمَتْ عليه) لأنَّها صارتْ أُمَّه مِن الرَّضاعِ، وإن تزَوَّجَتْ بآخرَ، ودَخَلَ بها ثم مات عنها، لم يَجُزْ أن يتَزَوَّجَها الأوَّل (لأنَّها صارت مِن حَلائلِ الأبْناءِ) لمَّا أرْضَعَتِ الصَّبِيَّ الَّذي تزَوَّجَت به. 3938 - مسألة: (ولو تَزَوَّجَتِ الصَّبِيَّ أوَّلًا، ثم فَسَخَتْ نِكاحَه لِعَيب، ثم تَزَوَّجَتْ كَبِيرًا، فصار لها منه لَبَنٌ، فأرْضَعَتْ به الصَّبِيَّ، حَرُمَتْ عليهما علي الأبَدِ) على الزَّوْج الثَّانِي؛ لأنَّها صَارَتْ مِن حَلائلِ أَبْنَائِه، وعلى الصَّبِيِّ؛ لأنَّها صارَتْ أُمَّه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: ولو زَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ ولَدِه أو أمَتَه بِصَبِيٍّ مَمْلوكٍ، فأرْضَعَتْه بلَبَنِ سَيِّدِها خمْسَ رَضَعاتٍ، انْفَسَخَ نِكاحُه، وحَرُمَتْ على سَيِّدِها على التَّأْبيدِ، لأنَّها صارتْ مِن حلائِلِ أَبْنَائِه، فإن كان الصَّبِيُّ حُرًّا، لم يُتَصَوَّرْ هذا الفَرْعُ عندَنا، لأنَّه لا يَصِحُّ نِكاحُه، لأنَّ مِن شَرْطِ نِكاحِ الحُرِّ للأمَةِ خَوْفَ العَنَتِ، ولا يُوجَدُ ذلك في الطِّفْلِ، فإن تزَوَّجَ بها كان النِّكاحُ فاسِدًا، وإن أرْضَعَتْه لم تَحْرُمْ على سَيِّدِها، لأنَّه ليس بزَوْجٍ في الحَقِيقةِ. فصل: فإن أفْسَدَ النِّكاحٍ جماعةٌ، تَقَسَّطَ (¬1) المَهْرُ عليهمْ، فلو جاء خَمْسٌ، فسَقَينَ زَوْجَةً صغيرةً مِن لَبَنِ أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، انْفَسَخَ نِكاحُها، ولَزِمَهُنَّ نِصْفُ مَهْرِها بَينَهُنَّ. فإن سَقَتْها واحدَةٌ شَرْبَتَين (¬2)، ¬

(¬1) في م: «يسقط». (¬2) في الأصل: «شربه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأُخرَى ثَلاثًا، فعلى الأُولَى الخُمْسُ، وعلى الثانيةِ خُمْسٌ وعُشْرٌ. وإن سَقَتها (¬1) واحدَةٌ شَرْبَتَين، وسَقاها ثلاثٌ ثَلاثَ شَرَباتٍ، فعلى الأُولَى الخُمْسُ (¬2)، وعلى كلِّ واحدةٍ مِن الثَّلاثِ عُشْرٌ. وإن كان له ثَلاث نِسْوَةٍ كِبار، وواحدةٌ صغيرةٌ، فأرْضَعَتْ كلُّ واحدةٍ مِن الثَّلاثِ الصَّغيرةَ أرْبَعَ رَضَعاتٍ، ثم حَلَبْنَ في إناءٍ، وسَقَينَه الصَّغيرةَ، حَرُمَ الكِبارُ، وانْفَسَخَ نِكاحُهُنَّ، فإن لم يكنْ دَخَلَ بهِنَّ، فنِكاحُ الصَّغيرةِ ثابت، على إحْدَى الرِّوايتَين، وعليه لكلِّ واحدةٍ منهنَّ ثُلُثُ صَداقِها، يَرْجِعُ (¬3) به على ضَرَّتَيها؛ لأنَّ فسادَ نِكاحِها حَصَلَ بفِعْلِها وفِعْلِهِما، فسَقَطَ ما قابَلَ فِعْلَها، وهو سُدْسُ الصَّداقِ، وبَقِيَ عليه الثُّلُثُ، فرَجَعَ به على ضَرَّتَيها، فإن كان صَداقُهُنَّ مُتَسَاويًا، سَقَطَ، ولم يجبْ شيءٌ؛ لأنَّه يَتقاصُّ ما لَها على الزَّوْجِ بما يَرجِعُ به عليها، إذ لا فائِدَةَ في أن يَجِبَ لها عليه ما يَرْجِعُ به عليها، وإن كان مُخْتَلِفًا، وهو مِن جِنْس واحدٍ، تَقاصَّ منه بقَدْرِ أقَلِّهما (¬4)، ووَجَبَتِ الفَضْلَةُ لصاحِبِها، وإن كان مِن أجْناسٍ، ثَبَتَ التَّراجُعُ، على ما ذكَرْنا، وإن كان قد دَخَلَ بإحْدَى الكِبارِ، حَرُمَتِ الصَّغيرةُ أيضًا، وانْفَسَخَ نِكاحُها، ووَجَبَ لها نِصْفُ صَداقِها، يَرْجِعُ (3) به عليهنَّ أثْلاثًا، ¬

(¬1) في م: «سقاها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «ترجع». (¬4) في تش: «أقلها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللتي دَخَلَ بها المَهْرُ كامِلًا، وفي الرُّجُوعِ به مما أسْلَفْناه مِن الخِلافِ. وإن حَلَبْنَ في إناءٍ، فسَقَتْه إحْداهُنَّ الصغيرةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، كان صَداقُ ضَرَّاتِها يَرْجِعُ به عليها، إن كان قبلَ الدُّخُولِ بهِنَّ؛ لأنَّها أفْسَدَتْ نِكاحَهُنَّ، ويسْقُطُ مَهْرُها إن لم يكنْ دَخَلَ بها، وإن كان دَخَلَ بها، فلها مَهْرُها، لا يَرْجِعُ به على أحدٍ. وإن كانت كلُّ واحدةٍ مِن الكِبارِ أرْضَعَتِ الصغيرةَ خَمْسَ رَضَعاتٍ، حَرُمَ الثَّلاثُ، فإن كان لم يَدْخُلْ بهنَّ، فلا مَهْرَ لهنَّ عليه، وإن كان دَخَلَ بهنَّ، فعليه لكلِّ واحدةٍ مَهْرُها، لا يَرْجِعُ به على أحدٍ، وتَحْرُمُ الصَّغيرةُ، ويَرْجِعُ بما لَزِمَه مِن صَداقِها على المُرْضِعَةِ الأُولَى؛ لأنَّها التي حَرَّمَتْها عليه، وفسَخَتْ نِكاحَها. ولو أرْضَعَ الثَّلاثُ الصغيرةَ بلَبَنِ الزَّوْجِ، فأرْضَعَتْها كلُّ واحدةٍ رَضْعَتَين، صارتْ بِنْتًا لزَوْجِها، في الصَّحيحِ، ويَنْفَسِخُ نِكاحُها، ويَرْجِعُ (¬1) بنِصْفِ صَداقِها عليهنَّ؛ على المُرْضِعَتَين الأُولَيَين أرْبعَةُ أخْماسِه، وعلى الثالثةِ خُمْسُه؛ لأنَّ رَضعَتَها الأُولَى هي التي حَصَلَ بها التَّحْريمُ، والثاني لا أثَرَ لها، ولا يَنْفَسِخُ نِكاحُ الأَكَابِرِ؛ لأنَّهُنَّ لم يَصِرْنَ أُمَّهاتٍ لها. فإن قِيلَ: فلِمَ لا يَرْجِعُ (¬2) به عليهنَّ على عَدَدِهِنَّ؛ لكَوْنِ الرَّضاعِ مُفْسِدًا، فيسْتَوي قليلُه وكثيرُه، كما لو طَرَحَ الجماعةُ نجاسةً في مائع في حالةٍ واحدةٍ؟ قُلْنا: ¬

(¬1) في الأصل، م: «ترجع». (¬2) في م: «ترجع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ التَّحْريمَ يتَعَلَّقُ بعَدَدِ الرَّضَعاتِ، فكان الضَّمانُ مُتَعَلِّقًا بالعَدَدِ، بخِلافِ النَّجاسةِ، فإنَّ التَّنْجِيسَ لا يتَعَلَّقُ بقَدْرٍ، فيَسْتَوي قليلُه وكثيرُه، لكَوْنِ الكثيرِ والقليلِ سَواءً في الإفْسادِ، فَنَظِيرُ ذلك أن تَشْرَبَ في الرَّضْعَةِ مِن إحْداهُما أكثرَ مِمَّا تَشْرَبُ مِن الأُخْرَى. فصل: وإن كانت [له زوجةٌ] (¬1) أمَة، فأرْضَعَتِ امرأتَه الصَّغيرةَ فحَرَّمَتْها عليه وفَسَخَتْ نِكاحَها، كان (¬2) ما لَزِمَه مِن صَداقِ الصَّغيرةِ له في رَقَبَةِ الأمَةِ؛ لأنَّ ذلك مِن جِنايَتِها. وإن أرْضَعَتْها أُمُّ ولَدِه، أفْسَدَتْ نِكاحَها، وحَرَّمَتْها عليه، لأنَّها رَبيبَتُه دَخَلَ بأُمِّها، وتَحْرُمُ أُمُّ الوَلَدِ عليه أَبَدًا، لأنَّها مِن أُمَّهاتِ نِسائِه، ولا غَرامَةَ عليها، لأنَّها أفْسَدَتْ على سَيِّدِها. وإن كانت مُكاتَبَتَه، رَجَعَ عليها، لأنَّ المُكاتَبَةَ يَلْزَمُها أَرْشُ جِنايَتِها. وإن أرْضَعَتْ أُمُّ ولَدِه امرأةَ ابْنِه بلَبَنِه، فسَخَتْ نِكاحَها، وحَرَّمَتْها عليه؛ لأنَّها صارتْ أُخْتَه. وإن أرْضَعَتْ زوجةَ ابنِه (¬3) بلَبَنِه، حَرَّمَتْها عليه، لأنَّها صارتْ بِنْتَ ابْنِه، ويَرْجِعُ الأبُ على ابْنِه بأقَلِّ الأمْرَين ممَّا غَرِمَه لِزَوْجَتِه [أو قِيمَتِها، لأنَّ ذلك مِن جِنايَةِ أُمٍّ ولَدِه. وإن أرْضَعَت واحدةً منهما بغيرِ لَبَنِ سَيِّدِها، لم تُحَرِّمْها، لأنَّ كلَّ] (¬4) واحدةٍ منهما صارتْ بِنْتَ أُمِّ ولَدِه. ¬

(¬1) في الأصل: «لزوجته». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «أبيه». (¬4) سقط من: الأصل.

3939 - مسألة: (وإن شهد به امرأة مرضية، ثبت بشهادتها. وعنه، أنها إن كانت مرضية استحلفت، فإن كانت كاذبة، لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس)

فَصْلٌ: وَإذَا شَكَّ في الرَّضَاعِ أَوْ عَدَدِهِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَإن شَهِدَ بِهِ امْرَأَةٌ مَرْضِيَّةٌ، ثَبَتَ بِشَهَادَتِهَا. وَعَنْهُ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَرْضِيَّة اسْتُحْلِفَتْ، فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا، وَذَهَبَ في ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَضِيَ اللهُ عنه: (وإِذا شَكَّ في الرَّضاعِ أو عَدَدِه، بَنَى على اليَقِينِ) فلم يُحَرمْ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الرَّضاعِ في المَسْأَلَةِ الأُولَى، وعَدَمُ وُجُودِ الرَّضاعِ المُحَرِّمِ في الثانيةِ، فهو كما لو شَكَّ في وُجُودِ الطَّلاقِ أو عَدَدِه. 3939 - مسألة: (وَإن شَهِدَ بِهِ امْرَأَةٌ مَرْضِيَّةٌ، ثَبَتَ بِشَهَادَتِهَا. وَعَنْهُ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَرْضِيَّة اسْتُحْلِفَتْ، فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا، وَذَهَبَ في ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّضاعَ إذا شَهِدَتْ به امرأةٌ مَرْضِيَّة، حَرُمَ النِّكَاحُ، وثَبَتَ الرَّضاعُ بشَهادَتِها. وعنه رواية أُخرَى، كالتي ذكَرْناها عن ابنِ عباسٍ، [أنَّها تُسْتَحْلَفُ، وتُقْبَلُ شَهادَتُها. وهو قولُ ابنِ عباس، وإسحاقَ] (¬1)، فإنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنَ عباسٍ، قال في امرأةٍ زَعَمَتْ أنَّها أرْضَعَتْ رَجُلًا وأهْلَه، قال: إن كانت مَرْضِيَّةً، اسْتُحْلِفَتْ، وفارَقَ أهْلَه. وقال: إن كانت كاذِبَةً، لم يَحُلِ الحَوْلُ حتَّى يَبْيَضَّ ثَدْياها (¬1). أي يُصِيبَها فيهما بَرَصٌ، عُقُوبَةً على كَذِبِها. وهذا لا يَقْتَضِيه القِياسُ، ولا يَهْتَدِي إليه رَأيٌ، فالظاهِرُ أنَّه لا يَقُولُه إلَّا تَوقِيفًا. وممَّن ذهبَ إلى أنَّ شهادةَ المرأةِ الواحدةِ مَقْبُولَةٌ في الرَّضاعِ، إذا كانتْ مَرْضِيَّةً؛ طاوسٌ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وابنُ أبي ذِئْبٍ، وسعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخرَى، لا تُقْبَلُ إلَّا شهادةُ امْرَأتَين. وهو قولُ الحَكَمِ؛ لأنَّ الرِّجال أكْمَلُ مِن النِّساءِ، ولا تُقْبَلُ إلَّا شهادةُ رَجُلَين، فالنِّساءُ أَولَى. وقال عطاءٌ، والشافعيُّ: لا يُقْبَلُ مِن النِّساءِ أقَلُّ مِن أرْبَع؛ لأنَّ كلَّ امْرأتَين كرَجُل. وقال أصْحابُ الرَّأْي: لا يُقْبَلُ فيه إلَّا رَجُلانِ، أو رَجُلٌ وامْرَأتان. [ورُوِيَ ذلك عن عمرَ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَّمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ (¬2)}] (¬3). ولَنا، ما روَى عُقْبَةُ بنُ الحارثِ، قال: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يحيى بنتَ أبي إِهابٍ، فجاءتْ أَمَةٌ سوداءُ، فقالتْ: قد أرْضَعْتُكُما. فأتَينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرْتُ ذْلك له، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب شهادة امرأة على الرضاع، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 482، 483. (¬2) سورة البقرة 282. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «وَكَيفَ، وقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ!». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وفي لَفْظٍ رواه النَّسَائِيُّ، قال: فأتَيتُه مِن قِبَلِ وَجْهِه، فقلتُ: إنَّها كاذِبةٌ. فقال: «وَكَيفَ، وَقَدْ زعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُما؟ خَلِّ سَبِيلَهَا». وهذا يَدُلُّ على الاكْتِفاءٍ بالمَرْأةِ الواحدةِ. وقال الزُّهْرِيُّ: فُرِّقَ بينَ أهْلِ أبياتٍ في زَمَنِ عُثْمان بشَهادةِ امْرَأةٍ في الرَّضاعِ (¬2). وقال الشَّعْبِيُّ: كانتِ القُضاةُ يُفَرِّقُونَ بينَ الرَّجُلِ والمرأةِ بشَهادَةِ امْرأَةٍ واحدةٍ في الرَّضاعِ (¬3). ولأنَّ هذه شَهادَة على عَوْرَةٍ، فتُقْبَلُ فيه شَهادَةُ [المُنْفَرِداتِ، كالولادَةِ. وعلى الشافعيِّ، أنَّه مَعْنًى يُقْبَلُ فيه قولُ النِّساءِ المُنْفَرداتِ، فيُقْبَلُ فيه] (¬4) شهادةُ (¬5) امْرأَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، كالخَبَرِ. فصل: وتُقْبَلُ فيه شَهادةُ المرْضِعَةِ على فِعْلِ نَفْسِها؛ لِما ذكَرْنا مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ، مِن أنَّ الأمَةَ السَّوْداءَ قالت: قد أرْضَعْتُكُما. فقَبِلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَهادَتَها. ولأنَّه فِعْلٌ لا يَحْصُلُ لها به نَفْعٌ مَقْصُودٌ، ولا تَدْفعُ عنها به ضَرَرًا، فقُبِلَتْ شَهادَتُها به (¬6)، كفِعْلِ غيرِها. فإن قِيلَ: فإنَّها تَسْتَبِيحُ الخَلْوَةَ به، والسَّفَرَ معه، وتَصِيرُ مَحْرَمًا له. قُلْنا: ليس هذا مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 347. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب شهادة امرأة على الرضاع، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 482. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 484. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: الأصل، م. (¬6) سقط من: م.

3940 - مسألة: (وإن تزوج امرأة، ثم قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاع. انفسخ النكاح، فإن صدقته، فلا مهر)

وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرأةً، ثُمَّ قَال قَبْلَ الدُّخُولِ: هِيَ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعِ. انْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ، فَلَا مَهْرَ، وَإنْ أَكْذَبَتْهُ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُمُورِ المَقْصُوَدَةِ التي تُرَدُّ بها الشَّهادَةُ، ألَا تَرَى أنَّ رَجُلَين لو شَهِدا أنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَه، أو أعْتَقَ أمَتَه، قُبِلَتْ شَهادَتُهما، وإن حَلَّ لهما نِكاحُها بذلك. 3940 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ امْرَأةً، ثم قال قبلَ الدُّخُولِ: هي أُخْتِي مِن الرَّضاعِ. انْفَسَخَ النِّكَاحُ، فإن صَدَّقَتْه، فلا مَهْرَ) لها (وإن كَذَّبَتْه، فلها نِصْفُ المَهْرِ) وجملتُه، أنَّ الزَّوْجَ إذا أقَرَّ أنَّ زَوْجَتَه أُخْتُه مِن الرَّضاعَةِ (¬1)، انْفَسَخَ نِكاحُهْ، ويُفَرِّقُ بينَهما. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال: وَهِمْتُ. أو أخْطَأتُ. قُبِلَ قَوْلُه؛ لأنَّ قَوْلَه ذلك يتَضَمَّنُ أنَّه لم يكنْ بينَهما نِكاحٌ، ولو جَحَدَ النِّكاحَ ثم أقَرَّ به، قُبِلَ، كذلك ههُنا. ولَنا، أنَّه أقَرَّ بما يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَها عليه، فلم يُقْبَلْ رُجُوعُه عنه، كما لو أقَرَّ بالطَّلاقِ ثم رَجَعَ، أو أقَرَّ أنَّ أَمَتَه أخْتُه مِن النَّسَبِ، وما قاسُوا عليه مَمْنُوعٌ. وهذا الكلامُ في الحُكْمِ، فأمَّا فيما بَينَه وبينَ اللهِ تعالى، فيَنْبَنِي ذلك على عِلْمِه بصِدْقِه، فإن عَلِمَ أنَّ الأَمْرَ كما قال، فهي ¬

(¬1) في تش: «الرضاع».

3941 - مسألة: (وإن قال ذلك بعد الدخول، انفسخ النكاح)

وَإِنْ قَال ذَلِكُ بَعْدَ الدُّخُولِ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَلَهَا الْمَهْرُ بِكُل حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَرَّمَة عليه، ولا نِكاحَ بينَهما، وإن عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِه، فالنِّكاحُ باقٍ بحالِه، وقولُه كَذِبٌ لا يُحَرِّمُها عليه؛ لأنّ المُحَرِّمَ حَقِيقَةُ الرَّضاعِ، لا القَوْلُ. وإن شَكَّ في ذلك، لم يَزُلْ عن اليَقينِ بالشَّكِّ. وقِيلَ: في حِلِّها له إذا عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِه رِوايَتان والصَّحِيحُ ما قُلْناه؛ لأنَّ قوْلَه ذلك إذا كان كَذِبًا، لم يُثْبِتِ التَّحْريمَ، كما لو قال لها وهي أكْبَرُ منه: هي ابْنَتِي مِن الرَّضاعَةِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إن كان قبلَ الدُّخولِ، وصَدَّقَتْه المرأةُ، فلا شيءَ لها؛ لأنَّهما اتَّفَقا على أنَّ النِّكاحَ باطِلٌ مِن أصْلِه، لا تَسْتَحِقُّ فيه مَهْرًا، فأشْبَهَ ما لو ثَبَتَ ذلك بِبَيِّنَةٍ، وإن أكْذَبَتْه، فالقولُ قَوْلُها؛ لأنَّ قَوْلَه غيرُ مَقْبُولٍ عليها في إسْقاطِ حُقُوقِها، فلَزِمَه إقْرارُه فيما هو حَقٌّ له، وهو تَحْريمُها (¬1) عليه، وفَسْخُ نِكاحِه، ولم يُقْبَلْ قَوْلُه فيما عليه مِن المَهْرِ. 3941 - مسألة: (وإن قال ذلك بعدَ الدُّخولِ، انْفَسَخَ النِّكاحُ) لِمَا ذكَرْنا (ولها المَهْرُ بكُلِّ حالٍ) لأنَّ المَهْرَ يَسْتَقِرُّ بالدُّخُولِ. ¬

(¬1) في م: «يحرمها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: هي عَمَّتِي. أو: خالتِي. أو: ابْنَةُ أخِي. أو: أُخْتِي. أو: أمِّي مِن الرضاع. وأمْكَنَ صِدْقُه، فالحكمُ فيه كما لو قال: هي أُخْتِي. وإن لم يُمْكِنْ صِدْقه، مثلَ أن يقولَ لمَن هي مِثْلُه: هذه أُمِّي. أو لأكْبَرَ منه أو لمِثْلِه: هذه ابْنَتِي. لم تَحْرُمْ عليه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: تَحْرُمُ عليه؛ لأنَّه أقَرَّ بما يُحَرِّمُها عليه (1)، فقُبِلَ، كما لو أمْكَنَ. ولَنا، أنَّه أقَرَّ بما يتَحَقَّقُ كَذِبُه فيه (1)، فأشْبَهَ ما لو قال: أرْضَعَتْنِي وإيَّاها حَوَّاءُ. أو كما لو (¬1) قال: هذه حَوَّاءُ. وما ذكَرُوه مُنْتَقِضٌ بهذه الصُّوَرِ، ويُفارِقُ ما إذا أمْكَنَ، فإنَّه لا يتَحَقَّقُ كَذِبُه. والحُكمُ في الإِقْرارِ بقَرابَةٍ مِنَ النَّسَبِ تُحَرِّمُها عليه، كالحُكْمِ في الإِقْرارِ بالرَّضاعِ؛ لأنَّه في مَعْناه. فصل: إذا ادَّعَى أنَّ زَوْجَتَه أَخْتُه مِن الرَّضاع، فأنْكَرَتْه، فشَهِدَتْ بذلك أُمُّه أو ابْنَتُه (¬2)، لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما (¬3)؛ لأنَّ شَهادةَ الوالدِ لوَلَدِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «بينة». (¬3) في تش: «منها دونهما».

3942 - مسألة: (وإن كانت هي التي قالت: هو أخي من الرضاع. فأكذبها، فهي زوجته في الحكم)

وَإنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي قَالتْ: هُوَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعِ. فَأَكْذَبَهَا، فَهِيَ زَوْجَتُهُ في الْحُكْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَلَدِ لوالِدِه، لا تُقْبَلُ. وإن شَهِدَتْ بذلك (¬1) أُمُّها أو ابْنَتُها، قُبِلَتْ. وعنه، لا تُقْبَلُ؛ بِناءً على شَهادةِ الوالدِ على وَلَدِه والولدِ على والدِه، وهي مَقْبولَةٌ في أصَحِّ الرِّوايتَينِ. وإنِ ادَّعَتْ ذلك المرأةُ، وأنْكَرَ الزَّوْجُ، فشَهِدَتْ لها أُمُّها أو ابْنَتُها، لم تُقْبَلْ، وإن شَهِدَتْ لها أُمُّ الزَّوْجِ أو ابْنَتُه، قُبِلَ في أصَحِّ الرِّوايتَين. 3942 - مسألة: (وإن كانت هي التي قالت: هو أخِي مِن الرَّضاعِ. فأكْذَبَهَا، فهي زَوْجَتُه في الحُكْمِ) [وجملُة ذلك، أنَّ المرأةَ إذا أقَرَّتْ أنَّ زَوْجَها أخوها مِن الرَّضاعةِ، فأكْذَبَها، لم يُقْبَلْ قولُها في فسْخِ النكاحِ] (¬2)؛ لأنَّهْ حَقٌّ عليها، فإن كان قبلَ الدُّخولِ، فلا مَهْرَ لها؛ لأنَّها تُقِرُّ بأنها لا تَسْتَحِقُّه، وإن كانت قد (1) قَبَضَتْه، لم يَكُنْ للزَّوْجِ أخْذُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، ق، م: «لأنَّه لا يقبل قولها في فسخ النِّكَاح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منها؛ لأنَّه يُقِرُّ بأنَّه حَقٌّ لها، وإن كان بعدَ الدُّخول، فأقَرَّتْ أنَّها كانت عالِمةً بأنَّها أُختُه، وبتَحْرِيمِها عليه، وطاوَعَتْه في الوَطءِ، فلا مَهْرَ لها عليه (1) أيضًا؛ لإقرارِها بأنَّها زانِيَةٌ مُطاوعَةٌ، وإن أنكَرَت شيئًا مِن ذلك، فلها المَهْرُ؛ لأنَّه وَطْءٌ بشُبْهَةٍ، وهي زَوْجَتُه في ظاهِرِ الحُكْمِ؛ لأنَّ قَوْلَها غيرُ مَقْبُولٍ عليه (¬1)، فأمَّا فيما بينَها وبينَ اللهِ تعالى، فإن عَلِمَتْ صِحَّةَ ما أقَرَّتْ به، لم يَحِلَّ لها مُساكَنَتُه وتَمْكِينُه مِن وَطْئِها، وعليها أن تَفِرَّ منه، وتَفْتَدِيَ نَفْسَها بما أمْكَنَها؛ لأنَّ وَطْأَة لها زنًى، فعليها التَّخَلُّصُ منه مَهْما أمْكَنَها، كما قُلْنا في التي عَلِمَتْ أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها ثلاثًا، وأنْكَرَ. ويَنْبَغِي أن يكونَ الواجِبُ لها مِن المَهْرِ بعدَ الدُّخولِ أقَلَّ الأمْرَين؛ مِن المُسَمَّى أو مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه إن كان المُسَمَّى أقَلَّ، فلا يُقْبَلُ قَوْلُها في وُجُوبِ زائِدٍ عليه، وإن كان الأقَلُّ (¬2) مَهْرَ المِثْلِ، لم تَسْتَحِقَّ (¬3) أكثرَ منه؛ لاعْتِرافِها بأنَّ اسْتِحْقاقَها له بِوَطْئِها لا بالعَقْدِ، فلا تَسْتَحِقُّ أكْثَرَ منه. وإن كان إقْرارُها بأُخُوَّتِه قبلَ النِّكَاحِ، لم يَجُزْ لها نِكاحُه، ولا يُقْبَلُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعد في تش: «عليه».

3943 - مسألة: (ولو قال الزوج: هي ابنتي من الرضاع. وهي في سنه أو أكبر منه، لم تحرم؛ لتحققنا كذبه)

وَلَوْ قَال الزَّوْجُ: هِيَ ابْنَتِي مِنَ الرَّضَاعِ. وَهِيَ في سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرُ مِنْهُ، لَمْ تَحْرُمْ؛ لِتَحَقُّقِنَا كَذِبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ رُجُوعُها عن إقْرارِها في ظاهِرِ الحُكْمِ؛ لأنَّ إقْرارَها لم يُصادِفْ زَوْجِيَّةً عليها يُبْطِلُها، فقُبِلَ إقْرارُها على نَفْسِها (¬1) [بتَحْريمِه عليها] (¬2). وكذلك لو أقَرَّ الرَّجُلُ أنَّ هذه أُخْتُه مِن الرَّضاعِ، أو مُحَرَّمَةٌ عليه برَضاع أو غيرِه، وأمْكَنَ صِدْقُه، لم يَحِلَّ له تَزَوُّجُها فيما (¬3) بعدَ ذلك في ظاهِرِ الحُكْمِ، وأمَّا فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فيَنْبَنِي على عِلْمِه بحَقِيقَةِ الحالِ، على ما ذكَرناه. 3943 - مسألة: (ولو قال الزَّوْجُ: هي ابْنَتِي مِن الرَّضاعِ. وهي في سِنِّه أو أكْبَرُ منه، لم تَحْرُمْ؛ لِتَحَقُّقِنا كَذِبَه) وقد [ذكَرْنا ذلك] (¬4). ¬

(¬1) في م: «نفسه». (¬2) في تش: «بتحريمها عليه». (¬3) زيادة من: ق، م. (¬4) في ق، م: «ذكرناه».

3944 - مسألة: (ولو تزوج رجل امرأة لها لبن من زوج قبله، فحملت منه ولم يزد لبنها، فهو للأول، وإن زاد لبنها فأرضعت به طفلا، صار ابنا لهما. وإن انقطع لبن الأول، ثم ثاب بحملها من الثاني، فكذلك عند أبي بكر. وعند أبي الخطاب، هو ابن الثاني وحده)

وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَهَا لَبَنٌ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدْ لَبَنُهَا، فهُوَ لِلأَوَّلِ، وَإنْ زَادَ لَبَنُهَا فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا، صَارَ ابْنًا لَهُمَا. وَإنِ انْقَطَعَ لَبَنُ الْأوَّلِ، ثُمَّ ثَابَ بِحَمْلِهَا مِنَ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ، هُوَ ابْنُ الثَّانِي وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3944 - مسألة: (وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً لَهَا لَبَنٌ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدْ لَبَنُهَا، فهُوَ لِلأَوَّلِ، وَإنْ زَادَ لَبَنُهَا فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا، صَارَ ابْنًا لَهُمَا. وَإِنِ انْقَطَعَ لَبَنُ الْأوَّلِ، ثُمَّ ثَابَ بِحَمْلِهَا مِنَ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ. وَعِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ، هُوَ ابْنُ الثَّانِي وَحْدَهُ) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجُلَ إذا طَلَّقَ زَوْجَتَه، ولها منه لَبَنٌ، فتَزَوَّجَتْ آخَرَ، لم يَخْلُ مِن خَمْسَةِ أحْوالٍ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُها، أن يَبْقَى لَبَنُ (¬1) الأوَّلِ بحالِه، لم يَزِدْ ولم يَنْقُصْ، ولم تَلِدْ مِن الثانِي، فهو للأوَّلِ، سَواءٌ حَمَلَتْ مِن الثاني أو لم تَحْمِلْ. لا نعلمُ فيه خِلافًا، لأنَّ [اللَّبَنَ كان] (¬2) للأوَّلِ، ولم يتَجَدَّدْ ما يَجْعَلُه مِن الثاني، فبَقِيَ للأوَّلِ. الثاني، أن لا تَحْمِلَ مِن الثاني، فهو للأوَّلِ، سواءٌ زادَ أو لم يَزِدْ، أو انْقَطَعَ ثم عاد أو لم يَنْقَطِعْ. الثالثُ، أن تَلِدَ مِن الثاني، فاللَّبَنُ له خاصَّةً. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن أحْفَظُ عنه [مِن أهْلِ العِلْمِ] (¬3)، وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. سَواءٌ زادَ أو [لم يَزِدْ] (¬4)، انْقَطَعَ أو لم يَنْقَطِعْ، لأنَّ لَبَنَ الأوَّلِ يَنْقَطِعُ بالولادَةِ مِن الثاني، فإنَّ حاجةَ الموْلودِ تَمْنَعُ كَوْنَه لغيرِه. الرابعُ، أن يكونَ لَبَنُ الأوَّلِ باقِيًا، وزادَ بالحَمْلِ مِن الثاني، فاللَّبَنُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «النكاح». (¬3) زيادة من: تش. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما جميعًا، في قولِ أصْحابِنا. وقال أبو حنيفةَ: هو للأوَّلِ، ما لم تَلِدْ مِن الثاني. وقال الشافعيُّ: إن لم يَنتَهِ الحَمْلُ إلى حالٍ يَنْزِلُ (¬1) منه (¬2) اللَّبنُ، فهو للأوَّلِ، وإن بَلَغَ إلى حالٍ يَنْزِلُ به اللَّبَنُ، فزادَ به، ففيه قَوْلان؛ أحَدُهما، هو للأوَّلِ. والثاني، هو لهما. ولَنا، أنَّ زِيادَتَه عندَ حُدوثِ الحَمْلِ ظاهِرٌ في أنَّها (¬3) منه، وبَقاءُ لَبَنِ الأوَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَ أصْلِه منه، فيَجِبُ أن يُضافَ إليهما، كما لو كان الوَلَدُ منهما. الحالُ الخامسُ، انْقَطَعَ مِن الأولِ، ثم ثَابَ بالحَمْلِ مِن الثاني. فقال أبو بكرٍ: هو منهما. وهو أحَدُ أقْوالِ الشافعيِّ، إذا انْتَهَى الحَمْلُ إلى حالٍ يَنْزِلُ به اللَّبَنُ؛ وذلك لأنَّ اللَّبَنَ كان للأوَّلِ، فلمَّا عادَ بحُدُوثِ الحَمْلِ، فالظاهِرُ أنَّ لَبَنَ الأوَّلِ ثابَ بسَبَبِ الحَمْلِ الثاني، فكان مُضافًا إليهما، كما لو لم يَنْقَطِعْ. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه مِن الثاني. وهو القولُ الثاني للشافعيِّ (¬4)؛ لأنَّ لَبَنَ الأولِ انْقَطَع، فزال حُكْمُه بانِقْطاعِه، وحَدَثَ بالحَمْلِ مِن الثاني، فكان له، كما لو لم يكنْ لها لَبَنٌ مِن الأوَّلِ. وقال أبو حنيفةَ: هو للأوَّلِ ما لم تَلِدْ مِن الثانِي. وهو القولُ الثالثُ للشافعيِّ؛ لأنَّ الحَمْلَ لا (4) يَقْتَضِي اللَّبَنَ، وإنَّما يَخْلُقُه اللهُ تعالى للوَلَدِ عندَ وُجُودِه ¬

(¬1) في ق: «يترك». (¬2) في م: «به». (¬3) في الأصل: «لبنها». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لحاجَتِه إليه. وقد سَبَقَ الكلامُ عليه. فصل: وإذا ادَّعَى أحَدُ الزَّوْجَين على الآخَرِ، أنَّه أقَرَّ أنَّه أخُو صاحِبِه مِن الرَّضاعِ، فأنْكَرَ، لم يُقْبَلْ في ذلك شَهادَةُ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ؛ لأنَّها شَهادَةٌ على الإِقْرارِ، والإِقْرارُ ممَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ، فلم يحْتَج فيه إلى شَهادَةِ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ، فلم يُقْبَلْ ذلك، بخِلافِ الرَّضاعِ نفْسِه. فصل: كَرِهَ أبو عبدِ الله الارْتِضاعَ بلَبَنِ الفُجُورِ والمُشرِكاتِ. وقال عمرُ بنُ الخطابِ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، رَضِيَ اللهُ عنهما: اللَّبَنُ يُشْبِهُ (¬1)، فلا تَسْقِ (¬2) مِن يَهُودِيَّةٍ ولا نَصْرانِيَّةٍ ولا زانِيَةٍ، ولا يَقْبَلُ (¬3) أهْلُ الذِّمَّةِ المُسْلِمَةَ، ولا يَرَى شُعُورَهُنَّ (¬4). ولأنَّ لَبَنَ الفَاجِرَةِ رُبَّما أفْضَى إلى شَبَهِ المُرْضِعةِ في الفُجُورِ، ويَجْعَلُها أُمًّا لِوَلَدِه، [فيَتَعَيَّرُ بها، ويتَضَرَّرُ] (¬5) طَبْعًا وتَعَيُّرًا، والارْتِضاعُ مِن المُشْرِكَةِ يجْعَلُها أُمًّا، لها حُرْمَةُ ¬

(¬1) في م: «يشتبه». وأخرج هذا الجزء عنهما البيهقي، في: السنن الكبرى 7/ 464 قولهما: اللبن يشبه. وأخرجه عن عمر بن الخطاب سعيد بن منصور، في: سننه 2/ 116. (¬2) في م: «تستق». (¬3) من القبالة، وهي استقبال الولد عند الولادة. (¬4) في الأصل: «سوقهن». (¬5) في تش: «فيتضرر بها». وفي ق: «فيتضرر بها ويتضرر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُمِّ مع شِرْكِها، ورُبَّما مال إليها في مَحَبَّةِ دِينِها. ويُكْرَهُ الارْتِضاعُ بلَبَنِ الحَمْقاءِ؛ كيلا يُشْبِهَها الوَلَدُ في الحُمْقِ، فإنَّه يُقالُ: إنَّ الرَّضاعَ يُغَيِّرُ الطِّباعَ.

كتاب النفقات

كِتَابُ النَّفَقَاتِ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ مَا لَا غِنىً لَهَا عَنْهُ، وَكُسْوَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَمَسْكَنُهَا بِمَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ النَّفَقاتِ (يَجِبُ على الرَّجُلِ نَفَقَةُ زَوْجَتِه ما لا غِنىً لها عنه، وكُسْوَتُها، ومَسْكَنُها بما يَصْلُحُ لمِثْلِها) نَفَقةُ الزَّوْجةِ واجبةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمَّا الكتابُ، فقولُ اللهِ سبحانه وتعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا} (¬1). ومعنى: {قُدِرَ}. ضُيِّقَ. وقال سُبْحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} (¬2). وأمَّا السُّنَّةُ، فما روَى جابِرٌ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ الناسَ، فقال: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ، فَإنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ، أخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ، ولَهُنَّ عَلَيكُمْ نَفَقَتُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ». ¬

(¬1) سورة الطلاق 7. (¬2) سورة الأحزاب 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه مُسْلِمٌ (¬1)، ورواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، بإسْنادِه عن عمرو بنِ الأحْوَصِ، قال: «ألَا إنَّ لَكُمْ على نِسائِكُمْ حَقًّا، ولِنِسَائِكُمْ عَلَيكُمْ حَقًّا؛ فأمَّا حَقُّكُمْ على نِسائِكُمْ، فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، ولَا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لمَنْ تَكْرَهُونَ، ألَا (¬3) وحَقُّهُنَّ عَلَيكُمْ أنْ تُحْسِنُوا إلَيهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وطَعِامِهِنَّ». وقال: هذا (¬4) حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وجاءتْ هِنْدٌ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وليس يُعْطِينِي مِن النَّفَقَةِ ما يَكْفِينِي ووَلَدِي. فقال: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وفيه دَلالةٌ على وُجُوبِ النَّفَقَةِ لها على زَوْجِها، وأنَّ ذلك مُقَدَّرٌ بكِفايَتِها، وأنَّ نَفَقةَ وَلَدِه عليه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 363، من حديث جابر الطويل. (¬2) في: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، من أبواب الرضاع، وفي: باب ومن سورة التوبة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 5/ 111، 11/ 227 - 230. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب حق المرأة على الزوج، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 1/ 594. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون. . .، من كتاب البيوع، وفي: باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، من كتاب النفقات. صحيح البخاري 3/ 103، 7/ 85. ومسلم، في: باب قضية هند، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1338، 1339. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 259، 260. والنسائيُّ، في: باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 216. وابن ماجه، في: باب ما للمرأة من مال زوجها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 769. والدارمي، في: باب في وجوب نفقة الرجل على أهله، من كتاب النكاح. سنن الدارمي 2/ 159. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 39، 50، 206.

3945 - مسألة: (وليس ذلك مقدرا، لكنه معتبر بحال الزوجين)

وَلَيسَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا، لَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزَّوْجَينِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَها مُقَدَّرٌ بكِفايَتِهِم، وأنَّ ذلك بالمَعْرُوفِ، وأنَّ لها أن تأْخُذَ ذلك بنَفْسِها مِن غيرِ عِلْمِه إذا لم يُعْطِها إيَّاه. واتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ على وُجُوبِ نَفَقاتِ الزَّوجاتِ على أزْواجِهِنَّ، إذا كانوا بالِغِين، إلَّا النَّاشِزَ مِنْهُنَّ. ذكَرَه ابنُ المُنْذِرِ (¬1)، وغيرُه. [وفيه] (¬2) ضَرْبٌ مِن العِبْرَةِ، وهو أنَّ المرْأةَ مَحْبُوسَةٌ على الزَّوْجِ، يَمْنَعُها مِن التَّصَرُّفِ والاكْتِسابِ، فلابُدَّ مِن أن يُنْفِقَ عليها، كالعَبْدِ مع سَيِّدِه، فمتى سَلَّمَتْ نَفْسَها إلى الزَّوْجِ على الوَجْهِ الواجِبِ عليها، فلَها عليه جميعُ حاجَتِها مِن مأْكُولٍ [ومَشْروبٍ] (3) ومَلْبُوسٍ ومَسْكَنٍ. 3945 - مسألة: (وليس ذلك مُقَدَّرًا، لَكِنَّه مُعْتَبَرٌ بِحالِ الزَّوْجَين) جَمِيعًا. هكذا ذكَرَه أصْحابُنا؛ فإن كانا مُوسِرَين، فعليه لها نَفَقةُ المُوسِرِين، وإن كانا مُعْسِرَين، فعليه نَفَقةُ [المُعْسِرِين، وإن كانا مُتَوَسِّطَين، فلها نَفَقَةُ] (¬3) المُتَوَسِّطِين، وإن كان أحَدُهما مُوسِرًا، والآخَرُ مُعْسِرًا، فعليه نفقةُ المُتَوَسِّطِينَ، أيُّهما كان المُوسِرَ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: تُعْتَبَرُ حالُ المرأةِ على قَدْرِ كِفايَتِها؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4). والمَعْرُوفُ الكِفايَةُ، ¬

(¬1) انظر: الإشراف 1/ 119. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة البقرة 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه سَوَّى بينَ النَّفَقةِ والكُسْوَةِ على قَدْرِ حالِها، فكذلك النَّفَقةُ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بالْمَعْرُوفِ». فاعْتَبَرَ كِفايَتَها دُونَ حالِ زَوْجِها، ولأنَّ نَفَقَتَها واجِبَةٌ لدَفْعِ حاجَتِها، فكان الاعْتِبارُ بما تَنْدَفِعُ به حاجَتُها، دُونَ حالِ مَنْ وجَبَتْ عليه، كنَفَقَةِ المَمالِيكِ، ولأنَّه واجِبٌ للمرأةِ على زَوْجِها بحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ لم يُقَدَّرْ، فكان مُعْتَبَرًا بها، كَمَهْرِها. وقال الشافعيُّ: الاعْتِبارُ بحالِ الزَّوْجِ وحدَه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. ولَنا، أنَّ فيما ذكَرْناه جَمْعًا بينَ الدَّلِيلَين، وعَمَلًا بكِلا النَّصَّين، ورِعايَةً لِكِلا الجَانِبَين، فكان أَوْلَى. فصل: والنَّفَقةُ مُقَدَّرَةٌ بالكِفايَةِ، وتَخْتَلِفُ باخْتِلافِ مَن تَجِبُ له النَّفَقةُ في مِقْدارِها. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ. وقال القاضي: هي مُقَدَّرَةٌ بمِقْدارٍ لا يَخْتَلِفُ في الكَثْرَةِ والقِلَّةِ، والواجِبُ رَطْلان مِن الخُبْزِ في كلِّ يَوْمٍ، في حَقِّ المُوسِرِ والمُعْسِرِ، اعْتِبارًا بالكَفَّاراتِ، وإنَّما يَخْتَلِفانِ في صِفَتِه وجَوْدَتِه؛ لأنَّ المُوسِرَ والمُعْسِرَ سَواءٌ في قَدْرِ المأْكُولِ، ومَا تَقُومُ به البِنْيَةُ، وإنَّما يَخْتَلِفانِ في جَوْدَتِه، فكذلك النَّفَقةُ الواجِبَةُ. وقال الشافعيُّ: نَفَقةُ المُقْتِرِ مُدٌّ بمُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ أقَلَّ ما يُدْفَعُ في الكَفَّارَةِ مُدٌّ، واللهُ سُبْحانه اعْتَبَرَ الكَفَّارَةَ بالنَّفَقةِ على الأهْلِ، فقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سبحانه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬1). وعلى المُوسِرِ مُدَّان؛ لأنَّ أكثرَ ما أوْجَبَ اللهُ سبحانه للواحدِ مُدَّينِ في فِدْيَةِ الأذَى، وعلى المُتَوَسِّطِ مُدٌّ ونِصْفٌ، نِصْفُ نَفَقةِ الفَقِيرِ ونِصْفُ نَفَقةِ المُوسِرِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». فأمَرَها بأَخْذِ ما يَكْفِيها مِن غيرِ تَقْدِيرٍ، ورَدَّ الاجْتِهادَ في ذلك إليها، ومِن المَعْلُومِ أنَّ قَدْرَ كِفايَتِها لا يَنْحَصِرُ في المُدَّين، بحيثُ لا يَزِيدُ عنهما (¬2) ولا يَنْقُصُ، ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَهُنَّ عَلَيكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ». وإيجابُ أقَلَّ مِن الكِفايَةِ مِن الرِّزْقِ تَرْكٌ للمَعْرُوفِ، وإيجابُ قَدْرِ الكِفايَةِ، وإن كان أقَلَّ مِن مُدٍّ أو رَطْلَيْ خُبْزٍ، إنْفاقٌ بالمَعْرُوفِ، فيكونُ ذلك واجِبًا بالكِتابِ والسُّنَّةِ. واعْتِبارُ النَّفَقةِ بالكَفَّارَةِ في القَدْرِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الكفَّارَةَ لا تَخْتَلِفُ باليَسارِ والإِعْسارِ، ولا هي مُقَدَّرَةٌ بالكِفايَةِ، وإنَّما اعْتَبَرَها الشَّرْعُ بها (¬3) في الجنْسِ دُونَ القَدْرِ، ولهذا لا يَجِبُ فيها الأُدْمُ (¬4). فصل: ولا يجبُ فيها الحَبُّ. وقال الشافعيُّ: يجبُ فيها الحَبُّ، اعْتِبارًا بالإِيجابِ في الكَفَّارَةِ حتى لو دَفَعَ إليها دَقِيقًا أو سَويقًا أو خُبْزًا، لم ¬

(¬1) سورة المائدة 89. (¬2) في الأصل: «عليهما»، وفي ق: «عنها». (¬3) في تش: «لها». (¬4) الأدم: ما يستمرأ به الطعام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمْها قَبُولُه، كما لا يَلْزَمُ المِسْكِينَ في الكَفَّارَةِ. وقال بعْضُهم: يَجِئُ على قولِ أصْحابِنا؛ أنَّه لا يجوزُ وإن تَراضَيا عليه؛ لأنَّه بَيعُ حِنْطَةٍ بجِنْسِها مُتَفاضِلًا. ولَنا، قولُ ابنِ عباسٍ، في قولِ اللهِ تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]. قال: الخُبْزُ والزَّيتُ. وعن ابنِ عمرَ: الخُبْزُ والسَّمْنُ، والخُبْزُ والزَّيتُ، والخُبْزُ والتَّمْرُ، وأفْضَلُ ما تُطْعِمُونَهُنَّ الخبزُ واللَّحْمُ (¬1). ففَسَّرَ إطْعامَ [الأهْلِ بالخُبْزِ مع غيرِه] (¬2) مِن الأُدْمِ. ولأنَّ الشَّرْعَ ورَدَ بالإِيجابِ مُطْلَقًا مِن غيرِ تَقْدِيرٍ ولا تَقْيِيدٍ، فوَجَبَ أنْ يُرَدَّ إلى العُرْفِ، كما في القَبْضِ والإِحْرازِ، وأهْلُ العُرْفِ إنَّما يتَعارَفُونَ فيما بينَهم في الإِنْفاق على أهْلِيهم الخبزَ والأُدْمَ، دونَ الحَبِّ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحابَتُه إنَّما كانوا يُنْفِقُونَ ذلك، دُونَ ما ذكَرُوه، فكانَ ذلك هو الواجبَ، ولأنَّها نَفَقَةٌ قَدَّرَها الشَّرْعُ بالكِفايَةِ، فكان الواجِبُ الخُبْزَ، كنَفَقةِ العَبِيدِ، ولأنَّ الحَبَّ تَحْتاجُ فيه إلى طَحْنِه وخَبْزِه، فمتى احْتاجَتْ إلى تَكَلُّفِ ذلك مِن مالِها لم تَحْصُلِ الكفايةُ بنَفَقَتِه، وفارَقَ الإِطعامَ [في الكَفَّارةِ] (¬3)، فإنَّها لا تَتَقَدَّرُ بالكِفايَةِ، ولا يجبُ فيها الأُدْمُ. فعلى هذا، لو طَلَبَتْ مكانَ الخُبْزِ حَبًّا، أو دَراهِمَ، أو دَقِيقًا، أو غيرَ ذلك، لم يَلْزَمْه بَذْلُه، ولو عَرَضَ عليها بَدَلَ (¬4) الواجِبِ لها، لم يَلْزَمْها قَبُولُه؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ، فلا ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير، في: تفسيره 7/ 18. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في تش: «بذل غير».

3946 - مسألة: (فإن تنازعا فيها، رجع الأمر إلى الحاكم)

فَإِذا تَنازَعا فِيها، رَجَعَ الْأمْرُ إلَى الْحاكِمِ، فَيَفْرِضُ لِلْمُوسِرَةِ تَحتَ الْمُوسِرِ قَذرَ كِفايَتها مِنْ أرفَعِ خُبْزِ الْبَلَدِ وأُدْمِهِ الَّذِي جَرَتْ عادَةُ أمْثالِها بِأكْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْبَرُ واحِدٌ منهما على قَبُولِها، كالبَيعِ. وإن تَراضَيا على ذلك، جازَ؛ لأنَّه طَعامٌ وجَبَ في الذِّمَّةِ لآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فجازَتِ المُعاوَضَةُ عنه، كالطَّعامِ في القَرْضِ، ويُفارِقُ الطَّعامَ في الكَفَّارَةِ؛ فإنَّه حَقٌّ للهِ تَعالى، وليس هو لآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ (¬1)، فيَرْضَى بالعِوَضِ عنه. وإن أعْطَاها مكانَ الخُبْزِ حَبًّا، أو دَقِيقًا، جازَ إذا تَراضَيا عليه؛ لأنَّ هذا ليس بمُعاوَضَةٍ حَقِيقَةً، فإنَّ الشَّارِعَ لم يُعَيِّنِ الواجِبَ بأكثرَ مِن الكِفايَةِ، فبأيِّ شيءٍ حَصَلَتِ الكِفايَةُ، كان ذلك هو الواجبَ، وإنَّما صِرْنَا إلى إيجابِ الخُبْزِ عندَ الاخْتِلافِ لِتَرَجُّحِه بكَوْنِه القُوتَ المُعْتادَ. 3946 - مسألة: (فإن تَنازَعَا فيها، رَجَعَ الأمْرُ إلى الحاكَمِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الأمْرَ يَرْجِعُ في تَقْدِيرِ الواجِبِ للزَّوْجَةِ إلى اجْتِهادِ الحاكمِ أو نائِبِه، إن (¬2) لم يَتَراضَيا على شيءٍ، فيَفْرِضُ للمرأةِ قَدْرَ كِفايَتِها مِن الخُبْزِ والأُدْمِ (فيَفْرِضُ للمُوسِرَةِ تحت المُوسِرِ قَدْرَ حاجَتِها، مِن أرْفَعِ خُبْزِ البلدِ الذي يأْكُلُه أمْثالُها) وللمُعْسِرَةِ تحت المُعْسِرِ قَدْرَ كِفايَتِها مِن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في تش: «كان».

وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيهِ مِنَ الدُّهْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أدْنَى خُبْزِ البَلَدِ، وللمُتَوَسِّطَةِ تحت المُتَوَسِّطِ مِن أوْسَطِه، لكلِّ أحَدٍ على حَسَبِ حالِه، على ما جَرَتِ العادَةُ في حَقِّ أمْثالِه، وكذلك الأُدْمُ، للمُوسِرَةِ تحت المُوسِرِ قَدْرُ كِفايَتِها مِن أرْفَعِ الأُدْمِ، مِن الأُرْزِ واللَّحْمِ واللَّبَنِ، وما يُطْبَخُ به اللَّحْمُ، والدُّهْنُ على اخْتِلافِ أنْواعِه في بُلْدانِه؛ السَّمْنُ في مَوْضِعٍ، والزَّيتُ [في آخَرَ] (¬1)، والشَّحْمُ في آخَرَ، والشَّيرَجُ في آخَرَ. وللمُعْسِرَةِ تحتَ المُعْسِرِ مِن الأُدْمِ أدْوَنُه؛ كالباقِلَّاءِ، والخَلِّ، والبَقْلِ، والكامَخِ (¬2)، وما جَرَتْ به عادَةُ أمْثالِهم (وما تَحْتاجُ إليه مِن الدُّهْنِ) وللمُتَوَسِّطَةِ تحت المتَوَسِّطِ أوْسَطُ ذلك، مِن الخُبْزِ والأُدْمِ، على حَسبِ عادَتِه. وقال الشافعيُّ: الواجبُ مِن جِنْسِ قُوتِ البَلَدِ، لا يَخْتَلِفُ باليَسارِ والإِعْسارِ سِوَى المِقْدارِ، والأُدْمُ هو الدُّهْنُ خاصَّةً؛ لأنَّه أصْلَحُ للأبْدانِ، وأجْوَدُ في المُؤْنةِ؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى طَبْخٍ وكُلْفَةٍ، ويُعْتَبَرُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) الكامخ: المخللات المشهية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُدْمُ بغالِبِ عادَةِ أهْلِ البَلَدِ، كالزَّيتِ بالشَّامِ، والشَّيرَجِ بالعِراقِ، والسَّمْنِ بخُرَاسانَ، ويُعْتَبَرُ قَدْرُ الأُدْمِ بالقُوتِ، فإذا قِيلَ: إنَّ الرَّطْلَ يَكْفِيه الأُوقِيَّةُ مِن الدُّهْنِ. فُرِضَ ذلك. وفي كُلِّ يومِ جُمُعةٍ رَطْلُ لَحْمٍ، فإن كان في مَوْضِعٍ يَرْخُصُ فيه (¬1) اللَّحْمُ، زادها على الرَّطْلِ شيئًا. وذَكَرَ القاضي مثلَ هذا في الأُدْمِ. وهذا مُخالِفٌ لقولِ اللهِ تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. ولقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَهُنَّ عَلَيكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» (¬2). ومتى أنْفَقَ المُوسِرُ نَفَقَةَ المُعْسِرِ، فما أنْفَقَ مِن سَعَتِه، ولا رَزَقَها بالمَعْرُوفِ، وقد فَرَّقَ اللهُ تَعالى بينَ المُوسِرِ والمُعْسِرِ في الإِنْفاقِ، وفي هذا جَمْعٌ بينَ ما فَرَّقَه اللهُ تَعالى، وتَقْدِيرُ الأُدْمِ بما ذكَرُوه تَحَكُّمٌ (¬3) لا دَلِيلَ عليه، وخِلافُ العادةِ والعُرْفِ بينَ الناسِ في إنْفاقِهِم، فلا يُعَرَّجُ على مِثْلِ هذا. وقد قال ابنُ عمرَ: مِن أفْضَلِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ، الخُبْزُ واللَّحْمُ. والصَّحيحُ ما ذكَرْناه مِن رَدِّ النَّفَقةِ المُطْلَقَةِ في الشَّرْعِ إلى العُرْفِ فيما بينَ الناسِ في نَفَقاتِهم، في حَقِّ المُوسِرِ والمُعْسِرِ والمُتَوَسِّطِ، كما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 363، من حديث جابر الطويل. (¬3) في م: «تحكيم».

3947 - مسألة: ويجب عليه كسوتها، بإجماع أهل العلم

وَمَا يَكْتَسِي مِثْلُهَا مِنْ جَيِّدِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالْخَزِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ رَدَدْناهُم في الكُسْوَةِ إلى ذلك، ولأنَّ النَّفَقةِ مِن مُؤْنَةِ المرأةِ على الزَّوْجِ، فاخْتَلَفَ جِنْسُها باليَسارِ والإِعْسارِ، كالكُسْوَةِ. وحُكْمُ المُكاتَبِ والعَبْدِ [حُكْمُ المُعْسِرِ] (¬1)؛ لأنَّهما ليسا بأحْسَنَ حالًا منه. ومَن نِصْفُه حُرٌّ، إن كان مُوسِرًا، فحُكْمُه حُكْمُ المُتَوَسِّطِ؛ لأنَّه مُتَوَسِّطٌ، نِصْفُه مُوسِرٌ، ونِصْفُه مُعْسِرٌ. 3947 - مسألة: ويَجِبُ عليه كُسْوَتُها، بإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ (¬2)؛ لِما ذكَرْنا مِن النُّصوصِ، ولأنَّها لابُدَّ لها منها على الدَّوامِ، فلَزِمَتْه، كالنَّفَقَةِ، وهي مُعْتَبَرَةٌ بكِفايَتِها، وليستْ مُقَدَّرَةً بالشَّرْعِ، كما قُلْنا في النَّفَقَةِ. وهو قولُ أصْحابِ الشافعيِّ. ويُرْجَعُ في ذلك إلى اجْتِهادِ الحاكمِ، فيَفْرِضُ لها قَدْرَ كِفايَتِها، على قَدْرِ (¬3) يُسْرِهما وعُسْرِهما، وما جَرَتْ عادَةُ أمْثالِهما به مِن الكُسْوَةِ، فيَجْتَهِدُ الحاكمُ في ذلك نحوَ اجْتِهادِه في المُتْعَةِ للمُطَلَّقَةِ، كما قُلْنا في النَّفَقةِ، فيَفْرِضُ للمُوسِرَةِ تحتَ المُوسِرِ مِن أرْفَعِ ثِيابِ البَلَدِ، مِن الكَتَّانِ والقُطْنِ والخَزِّ والإِبْرِيسَمِ، وللمُعْسِرَةِ تحتَ المُعْسِرِ، غَلِيظَ القُطْنِ والكَتَّانِ، وللمُتَوَسِّطَةِ تحتَ المُتَوَسِّطِ، ¬

(¬1) في م: «كالمعسر». (¬2) انظر: الإشراف 1/ 121. (¬3) سقط من: الأصل.

وَالْإِبْرِيسَمِ؛ وَأَقَلُّهُ قَمِيصٌ، وَسَرَاويلُ، وَوقَايَةٌ، وَمِقْنَعَةٌ، وَمَدَاسٌ، وَجُبَّةٌ فِي الشِّتَاءِ، وَلِلنَّوْمِ الْفِرَاشُ وَاللِّحَافُ والْمِخَدَّةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ [مِن بينِ] (¬1) ذلك، وأقَلُّ ما يجبُ [مِن ذلك] (¬2) (قَمِيصٌ، وسَراويلُ، ومِقْنَعَةٌ (¬3)، ومَداسٌ، وجُبَّةٌ للشِّتاءِ) ويَزِيدُ مِن عَدَدِ الثِّيابِ ما جَرَتِ العادةُ بِلُبْسِه، ممَّا لا غِنىً (¬4) عنه، دُونَ ما للتَّجَمُّلِ والزِّينَةِ، وذلك لقولِ اللهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. والكُسْوَةُ بالمعْرُوفِ هي الكُسْوَةُ التي جَرَتْ عادَةُ أمْثالِها بلُبْسِه. وعليه (¬5) ما تَحْتاجُ إليه للنَّوْمِ، مِن الفِرَاشِ واللِّحافِ والوسَادَةِ، كلٌّ على حَسَبِ عادَتِه؛ فإن كانتْ ممَّن عادَتُه النَّوْمُ في الأكْسِيَةِ والبُسُطِ، فعليه لها لنَوْمِها ما جَرَتْ عادَتُهم به، ولجُلُوسِها بالنَّهارِ البِساطُ ¬

(¬1) في م: «المتوسط من». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) المقنعة: ما تقنع به المرأة رأسها. (¬4) في م: «غناء». (¬5) في الأصل: «جملة».

وَالزِّلِّيُّ لِلْجُلُوسِ، وَرَفِيعُ الحُصْرِ. وَلِلْفَقِيرَةِ تَحْتَ الْفَقِيرِ قَدْرُ كِفَايَتِهَا مِنْ أَدْنَى خُبْزِ الْبَلَدِ وَأُدْمِهِ وَدُهْنِهِ، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيهِ مِنَ الْكُسْوَةِ بِمَا يَلْبَسُهُ أَمْثَالُهَا، وَيَنَامُونَ فِيهِ، وَيَجْلِسُونَ عَلَيهِ. وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ، أَوْ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، مَا بَينَ ذَلِكَ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والزِّلِّيُّ (¬1)، والحَصِيرُ الرَّفِيعُ أو الخَشِنُ، المُوسِرُ على حَسَبِ يَسارِه، والمعسِرُ على قَدْرِ إعْسارِه، والمُتَوَسِّطُ بينَ ذلك، على حَسَبِ العَوائِدِ. ¬

(¬1) الزلى: نوع من البسط.

3948 - مسألة: (وعليه ما يعود بنظافة المرأة، من الدهن، والسدر، وثمن الماء)

وَعَلَيهِ مَا يَعُودُ بِنَظَافَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدُّهْنِ، وَالسِّدْرِ، وَثَمَنِ الْمَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3948 - مسألة: (وعليه ما يَعُودُ بِنَظافَةِ المَرْأةِ، مِن الدُّهْنِ، والسِّدْرِ، وثَمَنِ الماءِ) ممَّا تَغْسِلُ به رَأْسَها، وما يَعُودُ بِنَظافَتِها؛ لأنَّ ذلك يُرادُ للتَّنْظِيفِ، فكانَ عليه، كما أنَّ على المُسْتَأْجِرِ كَنْسَ الدَّارِ

3949 - مسألة: (فأما الطيب والخضاب والحناء ونحوه، فلا يلزمه، إلا أن يريد منها التزين به)

وَلَا تَجِبُ الْأَدْويَةُ وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ. فَأَمَّا الطِّيبُ وَالْحِنَّاءُ وَالْخِضَابُ وَنَحْوُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ، إلا أَنْ يُرِيدَ مِنْهَا التَّزَيُّنَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَنْظِيفَها (ولا تَجِبُ) عليه (الأدْويَةُ وأُجْرَةُ الطَّبِيبِ) لأنَّه يُرادُ لإِصْلاحِ الجِسْمِ، فلا يَلْزَمُه، كما لا يَلْزَمُ المُسْتَأْجِرَ بِناءُ ما يَقَعُ مِن الدَّارِ، وحِفْظُ أُصُولِها، وكذلك أُجْرَةُ الحَجَّامِ والفاصِدِ. 3949 - مسألة: (فأمَّا الطِّيبُ والخِضابُ والحِنَّاءُ ونَحْوُه، فلا يَلْزَمُه، إلَّا أن يُرِيدَ منها التَّزَيُّنَ به) أمَّا الخِضَابُ، فإنَّه إن لم يَطْلُبْه الزَّوْجُ منها، لم يَلْزَمْه، وإن طَلَبَه منها، فهو عليه. وأمَّا الطِّيبُ، فما يُرادُ منه (¬1) ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقَطْعِ السهُوكَةِ (¬1)، كدَواءِ العَرَقِ، يَلْزَمُه؛ لأنَّه يُرادُ للتَّنْظِيفِ، وما يُرادُ للتَّلَذُّذِ أو الاسْتِمْتاعِ، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ الاسْتِمْتاعَ حَقٌّ له، فلا يَجِبُ عليه ما يَدْعُوه إليه. فصل: ويجبُ لها مَسْكَنٌ، بدَليلِ قولِه تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬2). فإذا وَجَبَتِ السُّكْنَى للمُطَلَّقةِ، فللَّتِي في صُلْبِ النِّكاحِ أَوْلَى، [فإنَّ اللهَ تعالى قال] (¬3): {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4). ومِن المعْرُوفِ أن يُسْكِنَها في مَسْكَنٍ، ولأنَّها لا تَسْتَغْنِي عن المَسْكَنِ للسُّتْرَةِ عن العُيونِ في التَّصَرُّفِ والاسْتِمْتاعِ، وحِفْظِ المَتاعِ، ويكونُ المَسْكَنُ على قَدْرِ يَسارِهِما وإعْسارِهما؛ لقولِ ¬

(¬1) في الأصل: «الشهوة». وسهِك فلان، سهَكا: عرق فانتشرت منه رائحة كريهة. (¬2) سورة الطلاق 6. (¬3) في م: «قال الله تعالى». (¬4) سورة النساء 19.

3950 - مسألة: (وإن احتاجت إلى من يخدمها؛ لكون مثلها لا تخدم نفسها، أو لمرضها، لزمه ذلك)

وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهَا؛ لِكَوْنِ مِثْلِهَا لَا تَخْدِمُ نَفْسَهَا، أَوْ لِمَرَضِهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ، وَإِلَّا أَقَامَ لَهَا خَادِمًا، إِمَّا بِشِرَاءٍ، أَوْ كِرَاءٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. ولأنَّه واجبٌ لها لمَصْلَحَتِها في الدَّوامِ، فجَرَى مَجْرَى النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ. 3950 - مسألة: (وإنِ احْتاجَتْ إلى مَن يَخْدِمُها؛ لِكَوْنِ مِثْلِها لا تَخْدِمُ نَفْسَها، أو لمَرَضِها، لَزِمَه ذلك) لقولِ اللهِ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. ومِنَ المعاشَرَةِ (¬1) بالمَعْرُوفِ أن يُقِيمَ لها خَادِمًا؛ لأنَّه ممَّا يُحْتاجُ إليه في الدَّوامِ، فأشْبَهَ النَّفَقةَ. 3951 - مسألة: (فإن كان لها خادِمٌ، وإلَّا أقامَ لها خادِمًا، إمَّا بشِراءٍ أو كِراءٍ أو عارِيَّةٍ) ولا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أن يُمَلِّكَها خادِمًا؛ لأنَّ المقْصُودَ ¬

(¬1) في ق، م: «العشرة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِدْمَةُ، فإذا حَصَلَتْ مِن غيرِ تَمْلِيكٍ، جازَ، كما أنَّه إذا أسْكَنَها دارًا بأُجْرَةٍ، جازَ، ولا يَلْزَمُه تَمْلِيكُها مَسْكَنًا، فإن مَلَّكَها الخادِمَ، فقد زادَ خَيرًا، وإن أخْدَمَها مَن يُلازِمُ خِدْمَتَها مِن غيرِ تَمْليكٍ، جازَ، سَواءٌ كان له أو اسْتأْجَرَه، حُرًّا كان أو عَبْدًا. فإن كان الخادِمُ لها فرَضِيَتْ بخِدْمَتِه لها، ونَفَقَتُه على الزَّوْجِ، جازَ، وإن طَلَبَتْ منه أجْرَ خَادِمِها فوافَقَها، جازَ، وإن أبَى، وقال: أنا آتِيكِ بخادِمٍ سِواه. فله ذلك إذا أتاها بِمَن يَصْلُحُ لها. ولا يكونُ الخادِمُ إلَّا ممَّن يَحِلُّ له النَّظَرُ إليها، إمَّا امرأةٌ، وإمَّا ذو رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ لأنَّ الخادِمَ يَلْزَمُ المَخْدُومَ في غالِبِ أحْوالِه، فلا يَسْلَمُ مِن النَّظَرِ. وهل يجوزُ أن يكونَ خادِمُ المُسْلِمَةِ مِن أَهلِ الكتابِ؟ فيه وَجْهانِ، أصَحُّهما جَوازُه؛ لأنَّ اسْتِخْدامَهُم مُبَاحٌ، ولأنَّ الصَّحيحَ إباحَةُ

3952 - مسألة: (وعليه نفقته بقدر نفقة الفقيرين، إلا في النظافة)

وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ بِقَدْرِ نَفَقَةِ الْفَقِيرَينِ، إلا فِي النَّظَافَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّظَرِ لهم. والثاني، لا يجوزُ؛ لأنَّ في إباحَةِ نَظَرِهم اخْتِلافًا، وتَعافُهُم النَّفْسُ، ولا يَتَنَظَّفُونَ مِن النَّجاسَةِ. 3952 - مسألة: (وعليه نَفَقَتُه بقَدْرِ نَفَقَةِ الفَقِيرَينِ، إلَّا في النَّظافَةِ) يجبُ على الزَّوْجِ نَفَقةُ الخادِمِ وكُسْوَتُه، مثلَ ما لامْرأةِ المُعْسِرِ، إلَّا أنَّه لا يجبُ لها المُشْطُ، والدُّهْنُ والسِّدْرُ لرأْسِها؛ لأنَّ ذلك مما (¬1) يُرادُ للزِّينَةِ والتَّنْظِيفِ، ولا يُرادُ ذلك مِن الخادِمِ. فإنِ احْتاجَتْ إلى خُفٍّ لتَخْرُجَ إلى شِراءِ الحَوائِجِ، لَزِمَه ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3953 - مسألة: (ولا يلزمه أكثر من نفقة خادم واحد)

وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفَقَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3953 - مسألة: (ولا يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن نَفَقَةِ خادِمٍ واحِدٍ) لأنَّ المُسْتَحَقَّ خِدْمَتُها في (¬1) نَفْسِها، ويَحْصُلُ ذلك بواحِدٍ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي. وقال مالِكٌ: إن كان لا يُصْلِحُ المرأةَ إلَّا أكثرُ مِن خادِمٍ، فعليه أن يُنْفِقَ على أكثرَ مِن (¬2) واحدٍ. ونحوَه قال أبو ثَوْرٍ، إذا احْتَمَلَ الزَّوْجُ ذلك، فَرَضَ لخادِمَين. ولَنا، أنَّ الخادِمَ الواحِدَ يَكْفِيها لنَفْسِها، والزِّيادَةُ تُرادُ لحِفْظِ مِلْكِها، وللتَّجَمُّلِ، وليس عليه ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «خادم».

3954 - مسألة: (فإن قالت: أنا أخدم نفسى، وآخذ ما يلزمك لخادمى. لم يكن لها ذلك)

فَإِنْ قالَتْ: أَنَا أَخْدِمُ نَفْسِى، وَآخُذُ ما يَلْزَمُكَ لِخَادِمِى. لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا أَخْدِمُكِ. فَهَلْ يَلْزَمُها قَبُولُ ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3954 - مسألة: (فإن قالت: أنا أخْدِمُ نَفْسِى، وآخُذُ ما يَلْزَمُكَ لخادِمِى. لم يَكُنْ لها ذلك) ولم يَلْزَمْه؛ لأَنَّ الأجْرَ عليه، فتَعْيِينُ الخادِمِ إليه، ولأَنَّ في خِدْمَةِ غيرِها إيَّاها تَوْفِيرَها على حُقُوقِه، وتَرْفِيهَها، ورَفْعَ قَدْرِها، وذلك يَفُوتُ بخِدْمَتِها لنَفْسِها. 3955 - مسألة: (وإن قال) الزَّوْجُ: (أنا أخْدِمُكِ) بنَفْسِى. لم يَلْزَمْها؛ لأنَّها تَحْتَشِمُه، وفيه غَضاضَةٌ عليها، لكَوْنِ زَوْجِها خَادِمًا. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَلْزَمُها الرِّضَا به؛ لأَنَّ الكِفايَةَ تَحْصُلُ به.

فصل

فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَكُسْوَتُهَا، وَمَسْكَنُهَا، كَالزَّوْجَةِ سَوَاءً. وَأَمَّا الْبَائِنُ بِفَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَلَهَا النَّفَقَةُ والسُّكْنَى، وَإِلَّا فَلَا شَىْءَ لَهَا. وَعَنْهُ، لَهَا السُّكْنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ويَلْزَمُه نَفَقةُ المُطَلَّقةِ الرَّجْعِيَّةِ، وكُسْوَتُها، ومَسْكَنُها، كالزَّوْجَةِ سَواءً) لأنَّها زَوْجَةٌ، بدَلِيلِ قولِه تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (¬1). ولأنَّها يَلْحَقُها طَلاقُه وظِهارُه [وإيلاؤُه] (¬2)، فأشْبَهَ ما قبلَ الطَّلاقِ، وللأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وُجُوبِ نَفَقةِ الزَّوْجَةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ. 3956 - مسألة: (وأمَّا البائِنُ بِفَسْخٍ أو طَلاقٍ، فإن كانَتْ حامِلًا، فلها النَّفَقَةُ والسُّكْنَى، وإلَّا فلا شَىْءَ لها. وعنه، لها السُّكْنَى) ¬

(¬1) سورة البقرة 228. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجُلَ إذا طَلَّقَ امرأتَه طَلاقًا بائِنًا، إمَّا أن يكونَ ثَلاثًا، أو بخُلْعٍ، أو بانَتْ بفَسْخٍ وكانت حامِلًا، فلها النَّفَقةُ والسُّكْنَى، بإجْماعِ أَهْلِ العلمِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). وفى بعضِ أخْبارِ (¬2) حَدِيثِ فاطمةَ ¬

(¬1) سورة الطلاق 6. (¬2) في ق، م: «ألفاظ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنتِ قيسٍ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، إلَّا أن تَكُونِى حامِلًا» (¬1). ولأَنَّ الحَمْلَ ولَدُه، فيَلْزَمُه الإِنْفاقُ عليه، ولا يُمْكِنُه النَّفَقةُ عليه إلَّا بالإِنْفاقِ عليها، فوَجَبَ، كما وَجَبَتْ أُجْرَةُ الرَّضاعِ. وإن كانت حائِلًا، فلا نَفَقةَ لها. وفى السُّكْنَى رِوَايتان؛ إحداهما، لا يجبُ لها (¬2) ذلك. وهو قولُ علىٍّ، وابنِ عباسٍ، وجابرٍ. وبه قال عطاءٌ، وطاوسٌ، والحسنُ، وعمرُو (¬3) ابنُ مَيْمُونٍ، وعِكْرِمَةُ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ. والثانيةُ، يجبُ لها. وهو قولُ عمرَ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وعائشةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والقاسمِ، وسالمٍ، والفُقَهاءِ السَّبْعَةِ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. فأوْجَبَ لهُنَّ السُّكْنَى مُطْلَقًا، ثمَّ (2) خَصَّ الحامِلَ ¬

(¬1) حديث فاطمة بنت قيس تقدم تخريجه في 11/ 181 والحديث لم يخرجه البخارى انظر 20/ 53. وهذا اللفظ أخرجه مسلم، في: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1117. وأبو داود، في: باب في نفقة المبتوتة، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 533. والنسائى، في: باب تزوج المولى العربية، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 52. وهو عنده أيضا دون هذا اللفظ في 6/ 117، 122. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 414، 415. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عمر». وفى المغنى 11/ 403: «ميمون بن مهران» مكان: «عمرو بن ميمون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالإِنْفاقِ عليها. وقال أكثرُ فُقَهاءِ العِراقِ: لها السُّكْنَى والنَّفَقةُ. وبه قال ابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ أبى لَيْلَى، والثَّوْرِىُّ، والحسَنُ بنُ صالحٍ، وأبو حنيفةَ، وأصْحابُه، والبَتِّىُّ، والعَنْبَرِىُّ. ويُرْوَى ذلك عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ؛ لأنَّها مُطَلَّقَةٌ، فوَجَبَتْ لها النَّفَقةُ والسُّكْنَى، كالرَّجْعِيَّةِ. ورَدُّوا خَبَرَ فاطمةَ بنتِ قيسٍ بما رُوِى عن عمرَ، أنَّه قال: لا نَدَعُ كِتابَ رَبِّنا، وسُنَّةَ نَبِيِّنا، لقولِ امرأةٍ (¬1). وأنْكَرَتْه عائشةُ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وتأوَّلُوه. قال عُرْوَةُ: لقد عابَتْ عائشةُ ذلك أشَدَّ العَيْبِ، وقالت: إنَّها كانت في مكانٍ وحشٍ، فخِيفَ على ناحِيَتِها (¬2). وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: تلك امرأةٌ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1119. وأبو داود، في: باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 534. وعبد الرزاق، في: باب عدة الحبلى ونفقتها، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 24. وابن أبى شيبة، في: باب من قال في المطلقة ثلاثًا: لها النفقة، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 147، 148، والبيهقى، في: باب من قال: لها النفقة، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 7/ 475. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قصة فاطمة بنت قيس، وباب المطلقة إذا خشى عليها. . .، من كتاب الطلاق. صحيح البخارى 7/ 75. ومسلم، في: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1116. وأبو داود، في: باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 534. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَنَتِ الناسَ بلِسانِها، كانت لَسِنَةً، فوُضِعَتْ على يَدَىِ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمَى (¬1). ولَنا، ما رَوَتْ فاطمةُ بنتُ قيسٍ، أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها البَتَّةَ وهو غائبٌ، فأرْسَلَ إليها وَكِيلَه بشَعِيرٍ، فسَخِطَتْه (¬2)، فقال: واللَّهِ مالكِ علينا مِن شئٍ. فجاءت رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرتْ ذلك له، فقال: «لَيْسَ لَكِ عليه نَفَقَةٌ ولا سُكْنَى». فأَمَرَها أن تَعْتَدَّ في بَيْتِ أُمِّ شريكٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفى لفظٍ: فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «انْظُرِى يَا ابْنَةَ قَيْسٍ، إنَّما النَّفَقةُ للمَرْأةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كانَتْ له عليها الرَّجْعَةُ، فإذا لم يَكُنْ له عليها الرَّجْعَةُ، فلا نَفَقَةَ ولا سُكْنَى». روَاه الإِمامُ أحمدُ، والأَثْرَمُ، والحُمَيْدِىُّ (¬4). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): مِن طَرِيقِ الحُجَّةِ وما يَلْزَمُ منها، قولُ أحمدَ ابنِ حَنْبلٍ ومَن تابَعَه أصَحُّ [وأحَجُّ] (¬6). لأنَّه ثَبَتَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَصًّا صَرِيحًا، فأىُّ شئٍ يُعارِضُ هذا إلَّا بمثلِه (¬7) عن النبىِّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: الموضع السابق 1/ 535. وعبد الرزاق، في: باب الكفيل في نفقة المرأة. المصنف 7/ 26. (¬2) في م: «فتسخطته». (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 181 وليس عند البخارى، وانظر 20/ 53. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 6/ 373. والحميدى في مسنده 1/ 176. (¬5) في التمهيد: 19/ 151. (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في م: «مثله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-، الذى هو المُبَيِّنُ عن اللَّه تعالى مُرادَه، ولا شئَ يَدْفَعُ ذلك، ومَعْلومٌ أنَّه أعْلَمُ بتأْويلِ قولِ اللَّهِ تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}. وأمَّا قولُ عمرَ (¬1) ومَن وافَقَه، فقد خالَفَه علىٌّ وابنُ عباسٍ وجابرٌ ومَن وافَقَهُم، والحُجَّةُ معهم، ولو لم يُخالِفْه أحَدٌ منهم، لَمَا قُبِلَ قولُه المُخالِفُ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ قولَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَّةٌ على عمرَ وغيرِه، ولم يَصِحَّ عن عمرَ أنَّه قال: لا نَدَعُ كتابَ رَبِّنا، وسُنَّةَ نَبِيِّنَا لقولِ امرأةٍ. فإنَّ أحمدَ أنْكَرَه، وقال: أمَّا هذا فلا، فإنَّه قال: لا نَقْبَلُ في دِينِنا قولَ امرأةٍ. وهذا يَرُدُّه الإِجْماعُ على قبولِ قَولِ المرأةِ في الرِّوايةِ، فقد أُخِذَ بقَولِ فُرَيْعَةَ، وهى امرأةٌ، وبِخَبَرِ عائشةَ، وأزْواجِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصارَ خَبَرُ فاطمةَ إذا لم تكنْ حامِلًا، مثلَ نظرِ المرأةِ إلى الرِّجالِ، وخِطْبةِ الرجُلِ على خِطْبَةِ أخِيه، إذا لم تكنْ سَكَنَتْ إلى الأَوَّلِ، وأمَّا تأْوِيلُ مَن تأوَّلَ حَدِيثَها، فليس بشئٍ؛ فإنَّها تخالِفُهم في ذلك، وهى أعْلَمُ بحالِها، ولم يَتَّفِقِ المُتأوِّلُون على شئٍ، وقد رُدَّ على مَن رَدَّ عليها، فقال مَيْمونُ بنُ مِهْرانَ لسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، لمَّا قال: تلك امرأةٌ فَتَنَتِ النَّاسَ بلِسانِها: لَئِنْ كانت إنَّما أخَذَتْ بما أفْتاها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما فَتَنَتِ الناسَ، وإنَّ لنا في رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُسْوَةً حَسَنةً، مع أنَّها أحْرَمُ ¬

(¬1) في الأصل: «ابن عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الناسِ عليه، ليس [له عليها] (¬1) رَجْعَةٌ، ولا بينَهما ميراثٌ (¬2). وقولُ عائشةَ: إنَّها كانت في مكانٍ وَحْشٍ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّلَ بغيرِ ذلك، فقال: «يا ابْنَةَ آلِ قيسٍ، إنَّما النَّفَقةُ والسُّكْنَى ما كان لِزَوْجِكِ عَلَيْكِ الرَّجْعَةُ». هكذا رواه الحُمَيْدِىُّ، والأَثْرَمُ. ولو صَحَّ ما قالَتْه عائشةُ لما احْتاجَ عمرُ في رَدِّه إلى أن يَعْتَذِرَ بأنَّه قولُ امرأةٍ، وهى أعْرَفُ بنَفْسِها وبِحالِها. وأمَّا قولُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا نَدَعُ كِتابَ رَبِّنا. فقد قال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: نحنُ نَعْلَمُ أنَّ عمرَ لا يَقُولُ: لا نَدَعُ كِتابَ رَبِّنا. إلَّا لِما هو مَوْجودٌ في كِتابِ اللَّهِ تعالى، والذي في الكِتابِ أنَّ لها النَّفَقَةَ إذا كانت حامِلًا، بقَوْلِه سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). وأمَّا غيرُ ذواتِ الحَمْلِ، فلا يَدُلُّ الكِتابُ إلَّا على أنَّهُنَّ لا نَفَقةَ لَهُنَّ؛ لاشْتِراطِه الحَمْلَ في الأمْرِ بالإِنْفاقِ. وقد روَى أبو داودَ وغيرُه، بإسْنادِهم، عن ابنِ عباسٍ، في حَدِيثِ المُتَلاعِنَيْن، قال: ففَرَّقَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَهما، وقَضَى أن لا بَيْتَ لها ولا قُوتَ (¬4). ولأَنَّ هذه مُحَرَّمَةٌ عليه تَحْريمًا لا تُزِيلُه الرَّجْعَةُ، فلم يَكُنْ لها سُكْنَى ولا نفقةٌ، كالمُلاعِنَةِ، وتُفارِقُ الرَّجْعِيَّةَ، فإنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «لها عليه». (¬2) أخرجه ابن عبد البر، في: التمهيد 19/ 146، 147. (¬3) سورة الطلاق 6. (¬4) تقدم تخريجه في 23/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوْجَتُه (¬1) يلْحَقُها طَلاقُه وظِهارُه وإيلاؤُه، بخِلافِ البائِنِ. فصل: ولا سُكْنَى للملاعِنَةِ، ولا نَفَقةَ، إن كانتْ حائِلًا، للخَبَرِ. وكذلك إن كانتْ حامِلًا فنَفَى حَمْلَها، وقُلْنا: إنَّه يَنْتَفِى عنه. أو قُلْنا: إنَّه يَنْتَفِى بزَوالِ الفِراشِ. وإن قُلْنا: لا يَنْتَفِى بنَفْيِه. أو لم يَنْفِه. وقُلْنا: إنَّه يَلْحَقُه نَسَبُه. فلها السُّكْنَى والنَّفَقةُ؛ لأَنَّ ذلك للحَمْلِ، أو لها بسَبَبِه، وهو مَوْجُودٌ، فأشْبَهَتِ المُطَلَّقَةَ البائِنَ. فإن نَفَى الحَمْلَ، فأنْفَقَتْ أُمُّه، وسَكَنَتْ مِن غيرِ الزَّوْجِ، وأرْضَعَتْ، ثمَّ اسْتَلْحَقَه المُلاعِنُ، لَحِقَه، ولَزِمَتْه النَّفَقةُ وأجْرُ المَسْكَنِ والرَّضاعِ؛ لأنَّها فعَلَتْ ذلك على أنَّه لا أبَ له، فإذا ثَبَتَ له أبٌ، لَزِمَه ذلك، ورُجِعَ به عليه. فإن قيلَ: النَّفقةُ لأجْلِ الحَمْلِ نَفَقةُ الأقارِبِ، وهى تَسْقُطُ بمُضِىِّ الزَّمانِ، فكيفَ يُرْجَعُ عليه بما يَسْقُطُ عنه؟ قُلْنا: بل النَّفقةُ للحامِلِ [مِن أجْلِ] (¬2) الحَمْلِ، فلا تَسْقُطُ، كنَفَقَتِها في الحياةِ، وإن سَلَّمْنا أنَّها للحَمْلِ، [إلَّا أنَّها] (¬3) مصْرُوفَةٌ إليها، ويتَعَلَّقُ بها حَقُّها، فلا تَسْقُطُ بمُضِىِّ الزَّمانِ، كنَفَقَتِها (¬4). ¬

(¬1) في م: «زوجة». (¬2) في م: «لأجل». (¬3) في تش: «لأنها». (¬4) سقط من: الأصل.

3957 - مسألة: (فإن)

فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا يَظُنُّهَا حَائِلًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ مَا مَضَى، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا يَظُنُّهَا حَامِلًا فَبَانَتْ حَائِلًا، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالنَّفَقَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3957 - مسألة: (فإن) طَلَّقَ زَوْجَتَه و (لم يُنْفِقْ عليها، يَظُنُّها حائِلًا، ثمَّ تَبَيَّنَ أنَّها) كانت (حاملًا، فعليه نَفَقَةُ ما مَضَى) لأنَّنا تَبَيَّنَّا اسْتِحْقاقَها له، فرَجَعَتْ به عليه، كالدَّيْنِ. 3958 - مسألة: (وإن أنْفَقَ عليها يَظُنُّها حامِلًا وبانَتْ حائِلًا) مثلَ مَنِ ادَّعَتِ الحَمْلَ لِتَكُونَ لها النَّفَقَةُ، أَنْفَقَ عليها ثَلَاثةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أُرِيَت القَوابِلَ بَعْدَ ذلك؛ لأَنَّ الحَمْلَ يَبِينُ (¬1) بعدَ ثلاثةِ أشْهُرٍ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ بَراءَتُها مِن الحَمْلِ بالحَيْضِ أو بغيرِه، فتَنْقَطِعُ نفقَتُها، كما تَنْقَطِعُ إذا قال القَوابِلُ: ليستْ حامِلًا. رَجعَ عليها بما أنْفَقَ؛ لأنَّها أخَذَتْ منه ما لا ¬

(¬1) في م: «يتبين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْتَحِقُّهُ، فرَجَعَ عليها، كما لو ادَّعَتْ عليه دَيْنًا وأخَذَتْه منه، ثمَّ تَبَيَّنَ كَذِبُها. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، لا يَرْجِعُ بشئٍ؛ لأنَّه أنْفَقَ عليها بحُكْمِ آثارِ (¬1) النِّكاحِ، فلم يَرْجِعْ به، كالنَّفَقةِ في النِّكاحِ الفاسِدِ إذا تَبَيَّنَ فَسادُه. وإن عَلِمَتْ بَراءَتَها مِن الحملِ بالحَيْضِ، فكَتَمَتْه، فيَنْبَغِى أن يَرْجِعَ عليها، قَوْلًا واحدًا؛ لأنَّها أَخَذَتِ النَّفَقةَ مع عِلْمِها ببَراءَتِه منها، كما لو أخَذَتْها مِن مالِه بغيرِ عِلْمِه. وإنِ ادَّعَتِ الرَّجْعِيَّةُ الحَمْلَ، فأنْفَقَ عليها أكْثَرَ مِن مُدَّةِ عِدَّتِها، رَجَعَ عليها بالزِّيادَةِ، ويُرْجَعُ في مُدَّةِ العِدَّةِ إليها؛ لأنَّها أعْلَمُ بها، فالقولُ قوْلُها فيها مع يَمِينِها. فإن قالت: قد ارْتَفَعَ حَيْضِى، ولم أدْرِ ما رَفَعَه. فعِدَّتُها سَنَةٌ، إن كانت حُرَّةً. وإن قالت: قد انْقَضَتْ بثلاثةِ قُروءٍ. وذكرتْ آخِرَها، فلها النَّفقَةُ إلى ذلك، ¬

(¬1) في الأصل: «أبان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَرْجِعُ عليها بالزَّائدِ. وإن قالتْ: لا أدْرِى متى آخِرُها. رَجَعْنا إلى عادَتِها، فحَسَبْنا لها بها. وإن قالتْ: عادَتِى تَخْتَلِفُ فتَطُولُ وتَقْصُرُ. انْقَضَتِ العِدَّةُ بالأقْصَرِ؛ لأنَّه اليَقِينُ. وإن قالتْ: عادَتِى تَخْتَلِفُ، ولا أعْلَمُ. رَدَدْنَاها إلى غالِبِ عاداتِ النِّساءِ، في كلِّ شَهْرٍ قَرْءٌ، كما رَدَدْنا المُتَحَيِّرَةَ إلى ذلك في أحْكامِها، كذلك هذه، فإن بانَ أنَّها حامِلٌ مِن غيرِه، مثلَ أن تَلِدَه لأكثرَ مِن أرْبَعِ سِنِينَ، فلا نَفَقةَ عليه لمُدَّةِ (¬1) حَمْلِها؛ لأنَّه مِن غيرِه. وإن كانتْ رَجْعِيَّةً، فلها النَّفَقةُ في مُدَّةِ عِدَّتِها، فإن كانتِ انْقَضَتْ قبلَ حَمْلِها، فلها النَّفَقةُ إلى انْقِضائِها. وإن حَمَلَتْ في أثْناءِ عِدَّتِها، فلها النَّفَقةُ إلى الوَطْءِ الذى حَمَلَتْ منه، ثمَّ لا نَفَقةَ لها ¬

(¬1) في م: «كمدة».

3959 - مسألة: (وهل تجب النفقة للحامل لحملها، أو لها من أجله؟ على روايتين)

وَهَلْ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْحَامِلِ لِحَمْلِهَا، أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا، أَنَّهَا لَهَا، فَتَجِبُ لَهَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ رَقِيقًا. وَلَا تَجِبُ لِلنَّاشِزِ، وَلَا لِلْحَامِلِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا لِلْحَمْلِ، فَتَجِبُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى تَضَعَ حَمْلَها، ثمَّ تكونُ لها النَّفَقةُ في تَمامِ عِدَّتِها. وإن وَطِئَها زَوْجُها في العِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، حَصَلَتِ الرَّجْعَةُ. وإن قُلْنا: لا تَحْصُلُ. فالنَّسَبُ لاحِقٌ به، وعليه النَّفَقةُ لمُدَّةِ حَمْلِها. وإن وَطِئَها بعدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، أو وَطِئَ البائِنَ عالِمًا بذلك وبتَحْرِيمِه، فهو زِنًى، لا يَلْحَقُه نَسَبُ الوَلَدِ، ولا نَفَقَةَ (¬1) عليه مِن أجْلِه. وإن جَهِلَ بَيْنُونَتَها، أو (¬2) انْقِضاءَ عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، أو بتَحْرِيمِ ذلك، وهو ممَّن يَجْهَلُه، لَحِقَه النَّسَبُ. وفى وُجُوبِ النَّفَقةِ عليه (¬3) رِوايتان. 3959 - مسألة: (وهل تَجِبُ النَّفَقَةُ للحامِلِ لِحَمْلِها، أو لها مِن أجْلِه؟ على رِوايَتَيْن) إحداهما تجبُ للحَمْلِ. اخْتارَها أبو بكرٍ؛ لأنَّها تجبُ (¬4) بوُجُودِه، وتَسْقُطُ عندَ انْقِضائِه، فدَلَّ على أنَّها له. والثانيةُ، تجبُ لها مِن أجْلِه؛ لأنَّها تجبُ مع اليَسارِ والإِعْسارِ، فكانتْ لها، كنَفَقةِ ¬

(¬1) بعده في م: «له». (¬2) في تش: «و». (¬3) زيادة من: ق، م. (¬4) بعده في الأصل: «النفقة».

وَلَا تَجِبُ لَهَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّوْجاتِ، ولأنَّها لا تَسْقُطُ بمُضِىِّ الزَّمانِ، فأشْبَهَتْ نَفَقَتَها في حَياتِه. وللشَّافعىِّ قَوْلان كالرِّوايتَيْن. ويَنْبَنِى على هذا الاخْتِلافِ فُرُوعٌ؛ منها، أنَّها إذا كانتِ المُطَلَّقةُ الحامِلُ أمَةً، وقُلْنا: النَّفقةُ للحَمْلِ. فنَفَقَتُها على سَيِّدِها؛ لأنَّه مِلْكُه. وإن قُلْنا: لها. فعلى الزَّوْجِ؛ لأَنَّ نَفَقَتَها عليه. وإن كان الزَّوْجُ عَبْدًا، وقُلْنا: هى للحَمْلِ. فليس عليه نَفَقَةٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه نَفَقةُ وَلَدِه. وإن قُلْنا: لها. فالنَّفقةُ عليه؛ لِمَا ذكَرْنا. وإن كانت حامِلًا مِن نِكاحٍ فاسدٍ، أو وَطْءِ شُبْهَةٍ، وقُلْنا: النَّفقةُ للحَمْلِ. فعلى الزَّوْجِ والوَاطِئِ؛ لأنَّه ولَدُه، فلَزِمَتْه نفقَتُه كما بعدَ الوَضْعِ. وإن قُلْنا: للحامِلِ. فلا نَفَقةَ عليه؛ لأنَّها ليستْ زَوْجةً يَجِبُ الإِنْفاق عليها. وإن نَشَزَتِ امرأةُ إنْسانٍ وهى حامِلٌ، وقُلْنا: النَّفقةُ للحَمْلِ. لم تَسْقُطْ نَفَقَتُها؛ لأَنَّ نَفقةَ ولَدِه لا تَسْقُطُ بنُشُوزِ أُمِّه. وإن قُلْنا: لها. فلا نَفَقةَ لها؛ لأنَّها ناشِزٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَلْزَمُ الزَّوْجَ دَفْعُ نَفَقةِ الحاملِ المُطَلَّقةِ إليها يومًا فيومًا، كما يَلْزَمُه دَفْعُ نَفَقةِ الرَّجْعِيَّةِ. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا يَلْزَمُه دَفْعُها إليها حتى تَضَعَ؛ لأَنَّ الحَمْلَ غيرُ مُتَحَقِّقٍ، ولهذا أوْقَفْنا المِيراثَ. وهذا خِلافُ قولِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. ولأنَّها مَحْكُومٌ لها بالنَّفَقةِ، فوَجَبَ دَفْعُها إليها، كالرَّجْعِيَّةِ. وما ذكَرَه (¬1) لا يَصِحُّ؛ فإنَّ الحَمْلَ يَثْبُتُ بالأماراتِ، وتَثْبُتُ أحكامُه في مَنْعِ النِّكاحِ، والحَدِّ، والقِصاصِ، وفَسْخِ البَيْعِ في الجاريةِ المَبِيعَةِ، والمَنْعِ مِن الأخْذِ في الزَّكاةِ، ووُجُوبِ الدَّفْعِ في الدِّيَةِ، فهو كالمُتَحَقِّقِ، ولا يُشْبِهُ هذا المِيراثَ؛ فإنَّ الميراثَ [لا يَثْبُتُ] (¬2) بمُجَرَّدِ الحَمْلِ، فإنَّه يُشْتَرطُ له الوَضْعُ والاسْتِهْلالُ بعدَ الوَضْعِ، ولا يُوجَدُ دلك قبلَه، ولأنَّنا لا نَعْلَمُ صِفَةَ الحَمْلِ ووُجُودَ شَرْطِ تَوْرِيثِه، بخِلافِ مَسْأَلَتِنا، فإنَّ النَّفقةَ تَجِبُ بمُجَرَّدِ الحَمْلِ، ولا تَخْتَلِفُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ذكروه». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باخْتِلافِه. وإذا ثَبَتَ هذا، فمتى ادَّعَتِ الحَمْلَ فصَدَّقَها، دَفَعَ إليها، فإنْ [كانت حامِلًا] (¬1)، فقد اسْتَوْفَتْ حَقَّها، وإن بانَ أنَّها ليستْ حامِلًا، رَجَعَ عليها، سَواءٌ دَفَعَ إليها بحُكْمِ الحاكِمِ أو بغيرِه، وسَواءٌ شَرَطَ أنَّها نَفقَةٌ أو لم يَشْتَرِطْ. وعنه، لا يَرْجِعُ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّه دَفَعَه على أنَّه واجِبٌ، فإذا بانَ أنَّه ليس بواجبٍ، اسْتَرْجَعَه، كما لو قَضاها دَيْنًا فبانَ أنَّه لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ. وإن أنْكَرَ حَمْلَها، نَظَرَ النِّساءُ الثِّقاتُ، فَرُجِعَ إلى قَوْلِهِنَّ، ويُقْبَلُ قولُ المرأةِ الواحدةِ إذا كانتْ مِن أَهْلِ الخِبْرَةِ والعَدالةِ؛ ¬

(¬1) في الأصل، ق، م: «كان حملا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها شهادَةٌ على ما لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ غالِبًا، أشْبَهَ الرَّضاعَ، وقد ثَبَتَ الأصْلُ بالخَبَرِ المذْكورِ.

3960 - مسألة: (وأما المتوفى عنها)

وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا، فَهَلْ لَهَا ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3960 - مسألة: (وأمَّا المُتَوَفَّى عنها) زَوْجُها (فإن كانت حَائِلًا، فلا سُكْنَى لها ولا نَفَقةَ) في مُدَّةِ العِدَّةِ؛ لأَنَّ النِّكاحَ قد زالَ بالمَوْتِ (وإن كَانت حامِلًا) ففيها رِوَايتان؛ إحداهما، لها السُّكْنَى والنَّفقةُ؛ لأنَّها حامِلٌ مِن زَوْجِها، فكانتْ لها السُّكْنَى والنَّفقَةُ، كالمُفارِقَةِ في الحياةِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانيةُ، لا سُكْنَى لها ولا نَفَقةَ؛ لأنَّه قد صارَ للوَرَثَةِ، ونَفَقةُ الحامِلِ وسُكْناها إنَّما هو للحَمْلِ، أو مِن أجْلِه، ولا يَلْزَمُ ذلك الوَرَثَةَ؛ لأنَّه إن كان للمَيِّتِ مِيراثٌ، فنَفَقةُ الحَمْلِ مِن نَصِيبِه، وإن لم يكنْ له مِيراثٌ، لم يَلْزَمْ وارِثَ المَيِّتِ الإِنْفاقُ على حَمْلِ امرأتِه، كما بعدَ الوِلادَةِ. قال القاضى: وهذه الرِّوايةُ أصَحُّ. فصل: ولا تَجِبُ النَّفَقةُ على الزَّوْجِ في النِّكاحِ الفاسدِ؛ لأنَّه ليس بينَهما نِكاحٌ صحيحٌ، فإن طَلَّقَها أو فُرِّقَ بينَهما قبلَ الوَطْءِ، فلا عِدَّةَ عليها، وإن كان بعدَه، فعليها العِدَّةُ، ولا نَفَقةَ لها ولا سُكْنَى إن كانت حائِلًا؛ لأنَّه إذا لم يَجِبْ ذلك قبلَ التَّفْرِيقِ فبعدَه أَوْلَى، وإن كانت حامِلًا، فعلى ما ذكَرْنا؛ فإن قُلْنا: لها النَّفَقةُ إذا كانتْ حامِلًا. فلها ذلك قبلَ التَّفْريقِ؛ لأنَّه إذا وَجَبَ بعدَ التَّفْريقِ فقَبْلَه أَوْلَى. ومتى أنْفقَ عليها قبلَ مُفارَقَتِها أو بعدَها، لم يَرْجِعْ عليها بشئٍ؛ لأنَّه إن كان عالِمًا بعدَمِ الوُجُوبِ، فهو مُتَطَوِّعٌ به، وإن لم يَكُنْ عالِمًا، فهو مُفَرِّطٌ، فلم يَرْجِعْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به (¬1)، كما لو أنْفَقَ على أجْنَبِيَّةٍ. وكلُّ مُعْتَدَّةٍ مِن وَطْءٍ في (¬2) غيرِ نِكاحٍ صَحيحٍ، كالمَوْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ وغيرِها، إن كان يَلْحَقُ الواطِئَ نَسَبُ وَلَدِها، فهى كالمَوْطُوءَةِ في النِّكاحِ الفاسدِ، وإن كان لا يَلْحَقُه نَسَبُ وَلَدِها، كالزَّانِى، فليس عليه نَفَقَتُها، حامِلًا كانت أَوْ لا؛ لأنَّه لا نِكاحَ بيْنَهما، ولا بينَهما وَلَدٌ يُنْسَبُ إليه (¬3). فصل: ولا تجبُ على الزَّوْجِ نَفَقةُ النَّاشِزِ، فإن كان لها منه وَلَدٌ، أعْطاها نَفَقةَ وَلَدِها. والنُّشُوزُ مَعْصِيَتُها إيَّاه فيما يجبُ عليها، ممَّا أوْجَبَه الشَّرْعُ بسَبَبِ النِّكاحِ، فمتى امْتَنَعَتْ مِن فِراشِه، أو مِن الانْتِقالِ معه إلى مَسْكَنِ مِثْلِها، أو خَرَجَتْ مِن مَنْزِلِه بغيرِ إذْنِه، أو أبَتِ السَّفَرَ معه إذا لم تَشْتَرِطْ بَلَدَها، فلا نَفَقَةَ لها ولا سُكْنَى، في قَوْلِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «من». (¬3) بعده في الأصل: «فصل: وعليه دفع النفقة إليها في صدر نهار كل يوم». ويأتى في متن المقنع في صفحة 332.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم الشَّعْبِىُّ، وحَمَّادٌ، ومالِكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى، وأبو ثَوْرٍ. وقال الحَكَمُ: لها النَّفَقةُ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): ولا أعْلَمُ أحدًا خالَفَ هؤلاءِ إلَّا الحَكَمَ. ولعَلَّه يَحْتَجُّ بأنَّ نُشُوزَها لا يُسْقِطُ مَهْرَها، فكذلك نَفَقَتُها. ولَنا، أنَّ النَّفَقَةَ إنَّما تجبُ في مُقابَلَةِ تَمْكِينِها، بدَلِيلِ أنَّها لا تجبُ قبلَ تَسْلِيمِها إليه، ولأنَّه إذا مَنَعَها النَّفَقةَ كان لها مَنْعُه التَّمْكِينَ، فكذلك إذا مَنَعَتْه التَّمْكِينَ كان له مَنْعُها النَّفَقةَ، كما قبلَ الدُّخولِ. ويُخالِفُ المَهْرَ؛ فإنَّه يجبُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، ولذلك (¬2) لو مات أحَدُهما قبلَ الدُّخُولِ، وجَبَ المَهْرُ دُونَ النَّفَقةِ. فأمَّا نَفَقَةُ وَلَدِها منه، فهى واجِبَةٌ عليه، فلا يَسْقُطُ حَقُّه بمَعْصِيَتِها، كالكَبِيرِ. وعليه دَفْعُها إليها إذا كانتْ هى الحاضِنَةَ له (¬3)، أو المُرْضِعَةَ، وكذلك أجْرُ رَضاعِها، يَلْزَمُه تَسْلِيمُه إليها؛ لأنَّه أجْرٌ مَلَكَتْه عليه بالإِرْضاعِ (¬4)، لا في مُقابَلَةِ الاسْتِمْتاعِ، فلا يَزُولُ بزَوالِه. فصل: وإذا سَقَطَتْ نَفَقَتُها بالنُّشُوزِ، فعادت عن النُّشُوزِ والزَّوْجُ ¬

(¬1) انظر الإشراف 1/ 123. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، تش: «بالارتضاع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حاضِرٌ، عادتْ نَفَقَتُها؛ لزَوالِ المُسْقِطِ لها، ووُجُودِ التَّمْكِينِ المُقْتَضِى لها. وإن كان غائِبًا، لم تَعُدْ نَفَقَتُها حتى يَعُودَ التَّسْلِيمُ بحُضُورِه، أو حُضُورِ وَكِيلِه، أو حُكْمِ الحاكمِ بالوُجُوبِ إذا مَضَى زَمَنُ الإِمْكانِ. ولو ارْتَدَّتْ، سَقَطَتْ نَفَقَتُها، [فإن عادت إلى الإِسلامِ، عادت نَفَقَتُها (¬1) بمُجَرَّدِ عَوْدِها؛ لأَنَّ المُرْتَدَّةَ إنَّما سَقَطَتْ نَفَقَتُها] (¬2) لخُرُوجِها عن الإِسلامِ، فإذا عادت إليه، زالَ المَعْنى المُسْقِطُ، فعادتِ النَّفَقةُ، وفى النُّشُوزِ سَقَطَتِ النَّفقةُ بخُرُوجِها عن يَدِه، أو مَنْعِها له مِن التَّمْكِينِ المُسْتَحَقِّ عليها، ولا يَزُولُ ذلك إلَّا بعَوْدِها إلى يَدِه، وتَمْكِينِه منها، ولا يَحْصُلُ ذلك في غَيْبَتِه، ولذلك (¬3) لو بذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِها قبلَ دُخُولِه بها وهو غائِبٌ، لم تَسْتَحِقَّ النَّفقةَ بمُجَرَّدِ البَذْلِ، كذا ههُنا. فصل: إذا خالَعَتِ المرأةُ زَوْجَها وهى حامِلٌ، ولم تُبْرِئْه مِن حَمْلِها، فلها النَّفقةُ، كالمُطَلَّقَةِ ثلاثًا وهى حامِلٌ؛ لأَنَّ الحَمْلَ وَلَدُه، فعليه نَفَقَتُه، وإن أبْرأتْه من الحَمْلِ عِوَضًا في الخُلْعِ، صَحَّ، سواءٌ كان العِوَضُ كلَّه أو بعضَه، وقد ذكَرْناه في الخُلْعِ، وذكَرْنا الخِلافَ فيه. ولا يَبْرأُ (¬4) حتى تَفْطِمَه، إذا كانت قد أبْرأتْه مِن نَفَقَةِ الحَمْلِ وكفالَةِ ¬

(¬1) زيادة من: «تش». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «كذلك». (¬4) في م: «تبرأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَلَدِ إلى ذلك، أو أطْلَقَتِ البَراءَةَ مِن نَفَقةِ الحَمْلِ وكَفالتِه؛ لأَنَّ البَراءَةَ المُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلى المُدَّةِ التى تَسْتَحِقُّ المرأةُ العِوَضَ عليه فيها، وهى مُدَّةُ الحَمْلِ والرَّضاعِ؛ لأَنَّ المُطْلَقَ إذا كان له عُرْفٌ، انْصَرَفَ [إلى العُرْفِ] (¬1)، وإنِ اخْتَلَفا في مُدَّةِ الرَّضاعِ، انْصَرَف إلى حَوْلَيْن؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (¬2). وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3). ثمَّ قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (¬3). فدَلَّ على أنَّه لا يجوزُ فِصالُه قبلَ الحَوْلَيْن [إلَّا بتَراضٍ] (¬4) منهما وتَشاوُرٍ. ¬

(¬1) في م: «إليه». (¬2) سورة لقمان 14. (¬3) سورة البقرة 233. (¬4) في تش: «لأن التراضى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قَدَّرا مُدَّةَ البَراءَةِ بزَمَنِ الحَمْلِ، أو بعامٍ، أو نحوِ ذلك، فهو على ما قَدَّراه، وهو أَوْلَى؛ لأنَّه أقْطَعُ للنِّزاعِ، وأبْعَدُ مِن اللَّبْسِ والاشْتِباهِ. ولو أبْرأتْه مِن نَفَقةِ الحَمْلِ، انْصَرَفَ ذلك إلى زَمَن (¬1) الحَمْلِ قبلَ وَضْعِه. قال القاضى: إنَّما صَحَّ مُخالَعَتُها على نَفَقةِ الوَلَدِ وهى للوَلَدِ دُونَها؛ لأنَّها في حُكْمِ المالِكَةِ لها، لأنَّها التى تَقْبِضُها، وتَسْتَحِقُّها، وتَتَصَرَّفُ فيها، فإنَّها في مُدَّةِ الحملِ هى الآكِلَةُ لها، المُنْتَفِعَةُ بها، وبعدَ الوِلادَةِ هى أجْرُ رَضاعِها إيَّاه، وهى الآخِذَةُ لها، المُتَصَرِّفَةُ فيها، فصارت كمِلْكٍ مِن أمْلاكِها، [فصَحَّ جَعْلُها] (¬2) عِوَضًا. فأمَّا النَّفَقةُ الزائدةُ على هذا، مِن كُسْوَةِ الطِّفلِ ودُهْنِه، ونحوِ ذلك، فلا يَصِحُّ أن تُعاوِضَ به في (¬3) الخُلْعِ؛ لأنَّه ليس هو لها، ولا في حُكْمِ ما هو لها. ¬

(¬1) في تش: «نفقة». (¬2) في الأصل، تش: «فيصح خلعها». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

فصل

فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ دَفْعُ النَّفَقَةِ إِلَيْهَا فِي صَدْرِ نَهَارِ كُلِّ يَوْمٍ، إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَأْخِيرِهَا أَوْ تَعْجِيلِهَا لِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ كَثِيرَةٍ، فَيَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ويجبُ دَفْعُ النَّفقةِ إليها في صَدْرِ نَهارِ كلِّ يَوْمٍ) وذلك إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ؛ لأنَّه أوَّلُ وقتِ الحاجةِ، فإنِ اتَّفَقا على تأْخِيرِها أو تَعْجِيلِها لمُدَّةٍ قَليلَةٍ أو كَثِيرَةٍ، جازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما، فجازَ مِن تَعْجِيلِه وتَأْخيرِه ما اتَّفَقَا عليه، كالدَّيْنِ، ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في هذا فيما عَلِمْناه. فصل (¬1): فإن سَلَّمَ إليها نَفَقَةَ يَوْمٍ، ثمَّ ماتت، لم يَرْجِعْ عليها بها؛ لأنَّه دَفَعَ إليها ما وَجَبَ عليه دَفْعُه إليها. وإن أبانها بعدَ وُجوبِ الدفْعِ إليها، ¬

(¬1) هذا الفصل سقط من: تش، ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَسْقُطْ نَفَقَتُها فيه، ولها مُطالَبَتُه بها؛ لأنَّها قد وَجَبَت، فلم تَسْقُطْ بالطلاقِ، كالدَّيْنِ. فإن عَجَّلَ لها نَفَقَةَ شَهْرٍ أو عامٍ، ثمَّ طَلَّقَها، أو ماتت قبل انقِضائِه، أو بانت بفَسْخٍ، أو إسلامِ أحَدِهما، أو رِدَّتِه، فله أن يَسْتَرْجِعَ نَفَقَةَ سائرِ الشَّهرِ. وبه قال الشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: لا يَسْتَرجِعُها؛ لأنَّها صِلَةٌ، فإذا قَبَضَتْها، لم يَكُنْ له الرجوعُ فيها، كصَدَقةِ التَّطوعِ. ولَنا، أنَّه سَلَّمَ إليها النَّفَقَةَ سَلَفًا عما يَجِبُ، فإذا وُجِدَ ما يَمْنَعُ الوجوبَ، ثَبَتَ الرجوعُ، كما لو أسْلَفَها إيَّاها فنَشَزَت، أو عَجَّلَ الزَّكَاةَ إلى الساعِى، فتَلِفَ مالُه قبلَ الحَوْلِ. وقولُهم: إنَّها صِلَةٌ. قلنا: بل هى عِوَضٌ عن التمكينِ، وقد فات التمكينُ. وذكر القاضى أنَّ زوجَ الوثنيةِ والمجوسيةِ إذا دَفَعَ إليها نَفَقةَ سَنَتَيْن ثمَّ بانَتْ بإسلامِه، فإن لم يكنْ أعْلَمَها أنَّها نَفَقةٌ عَجَّلَها لها، لم يَرْجِعْ عليها؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه تَطَوَّعَ بها، وإن أعْلَمَها ذلك انْبَنَى على مُعَجِّلِ الزَّكاةِ إذا عَلَّمَ الفَقِيرَ أنَّها زكاةٌ مُعَجَّلَةٌ ثمَّ تَلِفَ المالُ، وفى الرجوعِ بها وجهان، كذا ههُنا. وكذلك يَنْبَغِى أن يكونَ في سائرِ الصُّورِ مثلُ هذا؛ لأنَّه تَبَرَّعَ بدَفْعِ ما لا يلْزَمُه مِن غيرِ إعلامِ الآخِذِ بتَعْجِيلِه، فلم يَرْجِعْ به كمُعَجِّلِ الزَّكاةِ. ولو سَلَّمَ إليها نفقةَ اليومِ، فتَلِفَتْ أو سُرِقَتْ، لم يَلْزَمْه عِوَضُهَا؛ لأنَّه بَرِئَ مِن الواجبِ بدَفْعِه، فأشْبَهَ ما لو تَلِفَتِ الزكاةُ بعدَ قَبْضِ الساعِى لها، أو الدينُ بعدَ أخْذِ صاحبِه له. واللَّهُ أعلمُ.

3961 - مسألة: (فإن طلب أحدهما دفع القيمة، لم يلزم الآخر)

وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا دَفْعَ الْقِيمَةِ، لَمْ يَلْزَمِ الْآخَرَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ كُسْوَتُهَا فِي كُلِّ عَامٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3961 - مسألة: (فإن طَلَبَ أحَدُهما دَفْعَ القِيمَةِ، لم يَلْزَمِ الآخَرَ) لأنَّه طَلَبَ غيرَ الواجبِ، فلم يَلْزَمِ الآخَرَ؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ، فلا يُجْبَرُ [واحِدٌ على قَبُولِها منهما] (¬1)، كالبَيْعِ، وإن تراضَيا على ذلك جازَ؛ لأنَّه طَعامٌ وجَبَ في الذِّمَّةِ لآدَمِىٍّ مُعَيَّنٍ، فجازَتِ المُعاوَضَةُ عنه، كالطَّعامِ في القَرْضِ. 3962 - مسألة: (وعليه كُسْوَتُها في كلِّ عامٍ) مَرَّةً؛ لأنَّه العادةُ، ويكونُ الدَّفْعُ إليها في أوَّلِه، لأنَّه أوَّلُ وقتِ الوُجُوبِ. ¬

(¬1) في ق، م: «عليها واحد منهما».

3963 - مسألة: (فإذا قبضتها فسرقت أو تلفت، لم يلزمه عوضها)

فَإِذَا قَبَضَتْهَا فَسُرِقَتْ أَوْ تَلِفَتْ، لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3963 - مسألة: (فإذا قَبَضَتْها فسُرِقَتْ أو تَلِفَتْ، لم يَلْزَمْه عِوَضُها) إذا تَلِفَتِ الكُسْوَةُ، أو سُرِقَتْ بعدَ قَبْضِها، لم يَلْزَمْه عِوَضُها؛ لأنَّها قَبَضَتْ حَقَّها، فلم يَلْزَمْه غيرُه، كالدَّيْنِ إذا وَفَّاها إيَّاه، ثمَّ ضاعَ منها.

3964 - مسألة: (وإن انقضت السنة وهى صحيحة، فعليه كسوة السنة الأخرى، ويحتمل أن لا يلزمه)

وَإِنِ انْقَضَتِ السَّنَةُ وَهِىَ صَحِيحَةٌ، فَعَلَيْهِ كُسْوَةُ السَّنَةِ الْأُخْرَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3964 - مسألة: (وإنِ انْقَضَتِ السَّنَةُ وهى صَحِيحَةٌ، فعليه كُسْوَةُ السَّنَةِ الأُخْرَى، ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا دَفَعَ إليها كُسْوَةَ العامِ بَرِئَ منها، كما إذا دَفَعَ إليها نَفَقةَ اليومِ، فإن بَلِيَتْ (¬1) قبلَ ذلك، لكثرةِ خُرُوجِها ودُخُولِها أو اسْتِعْمالِها، لم يَلْزَمْه إبْدالُها؛ لأنَّه ليس بوقتِ الحاجةِ إلى الكُسْوَةِ في العُرْفِ. وإن مَضَى الزَّمانُ الذى يَبْلَى في مثلِه بالاسْتِعْمالِ المُعْتادِ (¬2) ولم تَبْلَ، فهل يَلْزَمُه بَدَلُها؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهُما، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّها غيرُ مُحتاجةٍ إلى الكُسْوَةِ. والثانى، يَلْزَمُه؛ ¬

(¬1) في تش: «تلفت». (¬2) سقط من: م.

3965 - مسألة: (وإن ماتت أو طلقها قبل مضى السنة، فهل يرجع عليها بقسط بقية السنة؟ على وجهين)

وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ مُضِىِّ السَّنَةِ، فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِقِسْطِ بَقِيَّةِ السَّنَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ الاعْتِبَارَ بمُضِىِّ الزَّمانِ دُونَ حَقِيقَةِ الحاجةِ، بدَلِيلِ أنَّها لو بَلِيَتْ قبلَ ذلك لم يَلْزَمْه بَدَلُها. ولو أُهْدِىَ إليها كُسْوَةٌ، لم تَسْقُطْ كُسْوَتُها، وكذلك لو أُهْدِىَ إليها طَعامٌ فأكَلَتْه، وبَقِىَ قُوتُها إلى الغدِ، لم يَسْقُطْ قُوتُها فيه. 3965 - مسألة: (وإن ماتَتْ أو طَلَّقَها قَبْلَ مُضِىِّ السَّنَةِ، فهل يَرْجِعُ عليها بقِسْطِ بَقِيَّةِ السَّنَةِ؟ على وَجْهَيْن) أحَدُهما، له الرُّجُوعُ؛ لأنَّه دَفَعها للزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ، فإذا طَلَّقَها قبلَ مُضِيِّهِ، كان له اسْتِرْجاعُها، كما لو دَفَعَ إليها نَفَقَةَ مُدَّةٍ، ثمَّ طَلَّقَها قبلَ انْقِضائِها. والثانى، ليس له

3966 - مسألة: (وإذا قبضت النفقة، فلها التصرف فيها على وجه لا يضر بها، ولا ينهك بدنها)

وَإِذَا قَبَضَتِ النَّفَقَةَ، فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يَنْهَكُ بَدَنَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِرْجاعُ؛ لأنَّه دَفَعَ إليها الكُسْوَةَ بعدَ وُجُوبِها عليه، فلم يكنْ له الرُّجُوعُ فيها، كما لو دَفَعَ إليها النَّفقةَ بعدَ وُجُوبِها ثمَّ طَلَّقَها قبلَ أكْلِها، بخِلافِ النَّفَقةِ المُسْتَقْبَلَةِ. 3966 - مسألة: (وإذا قَبَضَتِ النَّفَقَةَ، فلها التَّصَرُّفُ فيها على وَجْهٍ لا يَضُرُّ بها، ولا يَنْهَكُ بَدَنَها) فيَجُوزُ لها بَيْعُها، وهِبَتُها، والصَّدَقَةُ

3967 - مسألة: (وإن غاب مدة ولم ينفق، فعليه نفقة ما مضى)

وَإِنْ غَابَ مُدَّةً وَلَمْ يُنْفِقْ، فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ مَا مَضَى. وَعَنْهُ، لَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بها، وغيرُ ذلك؛ لأنَّها حَقُّها، فمَلَكَتِ التَّصَرُّفَ فيه (¬1)، كسائرِ مالِها، فإن عادَ ذلك عليها بضَرَرٍ في بَدَنِها، ونَقْصٍ في اسْتِمْتاعِها، فلا تَمْلِكُه؛ لأنَّها تُفَوِّتُ حَقَّه بذلك، وكذلك الحكمُ في الكُسْوَةِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن، قِياسًا على النَّفَقةِ، واحْتَمَلَ المَنْعُ؛ لأَنَّ له اسْتِرْجاعَها لو طَلَّقَها في أحَدِ الوَجْهَيْن، بخِلافِ النَّفقَةِ. 3967 - مسألة: (وإن غابَ مُدَّةً ولم يُنْفِقْ، فعليه نَفَقَةُ ما مَضَى) [إذا تَرَكَ الإِنْفاقَ الواجبَ لامرأتِه مدةً، لم يَسْقُطْ بذلك، وكانتِ النَّفَقةُ دَيْنًا في ذِمَّتِه] (¬2)، سَواءٌ تَرَكَها لِعُذْرٍ أو غَيْرِ عُذْرٍ، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن. وبه قال الحسنُ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، تَسْقُطُ ما لم يكنِ الحاكمُ قد (¬3) فَرَضَها لها. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ؛ ¬

(¬1) في تش: «فيها». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها نَفَقَةٌ تَجِبُ يومًا فيومًا، فتَسْقُطُ بتأْخِيرِها إذا لم يَفْرِضْها الحاكمُ، كنَفَقةِ الأقارِبِ، ولأَنَّ نَفَقةَ الماضِى قد اسْتُغْنِىَ عنها بمُضِىِّ وَقْتِها، أشْبَهَتْ نَفَقةَ الأقارِبِ. ولَنا، أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَبَ إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، في رِجالٍ غابُوا عن نِسائِهم، يأْمُرُهُم بأن يُنْفِقُوا أو يُطَلِّقوا، فإن طَلَّقُوا بَعَثُوا بنَفَقةِ ما مَضَى (¬1). ولأنَّها حَقٌّ يجبُ مع اليَسارِ والإِعْسارِ، فلم يَسْقُطْ بمُضِىِّ الزَّمانِ، كأُجْرَةِ العَقارِ والدُّيونِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): هذه نفقةٌ وجَبَتْ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْماعِ، ولا يَزُولُ ما وَجَبَ [بهذه الحُجَجِ إلَّا بمِثْلِها] (¬3). [ولأنَّها عِوَضٌ وَاجِبٌ، فأشْبَهَتِ الأُجْرَةَ] (¬4)، وفارَقَ نَفَقةَ الأقارِبِ، فإنَّها صِلَةٌ يُعْتَبَرُ فيها اليَسارُ مِن المُنْفِقِ والإِعْسارُ ممَّن تَجِبُ له، وَجَبَتْ لِتَزْجِيَةِ الحالِ، فإذا مَضَى (¬5) زَمَنُها اسْتَغْنَى عنها، فأشْبَهَ ما لو اسْتَغْنَى عنها بِيَسارِه، وهذا بخِلافِ ذلك. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إن تَرَكَ النَّفقةَ عليها مع يَسارِه، فعليه النَّفقةُ بكَمالِها، وإن تَرَكَها لإِعْسارِه، لم يَلْزَمْه إلَّا نَفَقةُ المُعْسِرِ؛ لأَنَّ الزَّائِدَ سَقَطَ بالإِعْسارِ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام الشافعى، انظر: الباب التاسع في النفقات، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 65. وعبد الرزاق، في: باب الرجل يغيب عن امرأته فلا ينفق عليها، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 93، 94. وابن أبى شيبة، في: باب من قال: على الغائب نفقة. . .، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 214. والبيهقى، في: باب الرجل لا يجد نفقة امرأته، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 7/ 469. (¬2) انظر: الإشراف 1/ 124. (¬3) في الأصل: «فهذه الحجة لا يمثلها». (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: الأصل.

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا بَذَلَتِ الْمَرْأَةُ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، وَهِىَ مِمَّنْ يُوطَأُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والذِّمِّيَّةُ كالمُسْلِمَةِ في النَّفقةِ والمَسْكَنِ والكُسْوَةِ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ مالِكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ لعُمُومِ النُّصوصِ والمَعْنى. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإذا بَذَلَتِ المرأةُ تَسْلِيمَ نَفْسِها إليه،

مِثْلُهَا، أَوْ يَتَعَذَّرُ وَطْؤُهَا لِمَرَضٍ، أَوْ حَيْضٍ، أَوْ رَتْقٍ، وَنَحْوِهِ، لَزِمَ زَوْجَهَا نَفَقَتُهَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، كَالْعِنِّينِ، وَالْمَجْبُوبِ، وَالْمَرِيضِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهى ممَّن يُوطَأُ مِثْلُها، أو يَتَعَذَّرُ وَطْؤُها لمرَضٍ، أو حَيْضٍ، أو رَتْقٍ، أو نحوِه، لَزِمَ زَوْجَها نَفَقَتُها، سواءٌ كان الزَّوْجُ صَغِيرًا أو كَبِيرًا، يُمْكِنُه الوَطْءُ أو لا يُمْكِنُه، كالمَجْبُوبِ والعِنِّينِ والمَريضِ) [وجُملةُ ذلك] (¬1)، أنَّ المرأةَ إذا بذَلَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِها، وهى ممَّن يُوطَأُ مِثْلُها، لَزِمَ زَوْجَها نَفَقَتُها؛ لِمَا روَى جابرٌ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «اتَّقُوا اللَّهَ في النِّساءِ، فإنَّهُنَّ عَوانٍ عِنْدَكُمْ، أخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانةِ اللَّهِ، واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللَّهِ، ولَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ». رواه مُسْلِمٌ (¬2). ¬

(¬1) في م: «وجملته». (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 363 من حديث جابر الطويل.

3968 - مسألة: وإن سلمت نفسها، وهى ممن يتعذر وطؤها، لرتق، أو حيض، أو نفاس، أو لكونها نضوة الخلق لا يمكنه وطؤها لذلك، أو لمرضها، لزمته نفقتها أيضا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3968 - مسألة: وإن سَلَّمَتْ نَفْسَها، وهى ممَّن يَتَعَذَّرُ وَطْؤُها، لرَتْقٍ، أو حَيْضٍ، أو نِفاسٍ، أو لِكَوْنِها نِضْوَةَ الخَلْقِ لَا يُمْكِنُه وَطْؤُها لذلك، أو لمَرَضِها، لَزِمَتْه نَفَقَتُها أيضًا، وإن حَدَثَ بها شَىْءٌ مِن ذلك، لم تَسْقُطْ نَفَقَتُها؛ لأَنَّ الاسْتِمْتاعَ مُمْكِنٌ، ولا تَفْريطَ مِن جِهَتِها وإن مَنَعَ مِن الوَطْءِ. فإن قِيلَ: فالصَّغِيرةُ التى لا يُمْكِنُ وَطْؤُها إذا سَلَّمَتْ نَفْسَها لا تَجِبُ نَفَقَتُها. قُلْنا: الصَّغِيرةُ لها حالٌ يَتَمَكَّنُ مِن الاسْتِمْتاعِ بها فيها (¬1) اسْتِمْتاعًا تامًّا، والظَّاهِرُ أنَّه تزَوَّجَها انْتِظارًا لتلك الحالِ، بخِلافِ هؤلاءِ، ولذلك (¬2) لو طَلَبَ تَسْلِيمَ هؤلاءِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُنَّ، ولا يَجِبُ تَسْلِيمُ الصَّغِيرةِ إذا طَلَبَها. فإن قِيلَ: فلو بذَلَتِ الصَّحِيحَةُ (¬3) الاسْتِمْتاعَ بما دُونَ الوَطْءِ، لم تَجِبْ نَفَقَتُها، فكذلك هؤلاءِ. قُلْنا: تلك مَنَعَتْه (¬4) ممَّا يَجِبُ عليها، وهؤلاءِ لا يجبُ عليهنَّ التَّمْكِينُ ممَّا فيه ضَرَرٌ. فإنِ ادَّعَتْ أنَّ. عليها ضَرَرًا في وَطْئِه (¬5)؛ لِضِيقِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في تش: «الصغيرة». (¬4) في م: «متعة». (¬5) في تش: «وطئها».

3969 - مسألة: وإن أسلمت نفسها [وهو صغير]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرْجِها، أو قُرُوحٍ به، أو نحوِ ذلك، وأنْكَرَه، أُرِيَتِ امرأةً ثِقَةً، وعُمِلَ بقَوْلِها. وإنِ ادَّعَتْ عَبالةَ ذَكَرِه وعِظَمَه، جازَ أن تَنْظُرَ المرأةُ إليهما حالَ اجْتِماعِهِما؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجةٍ، ويجوزُ النَّظَرُ إلى العَوْرَةِ للحاجةِ والشَّهادةِ. 3969 - مسألة: وإن أسْلَمَتْ نَفْسَها [وهو صَغِيرٌ] (¬1)، وجَبَتْ عليه نَفَقَتُها إذا كانَتْ كَبِيرَةً يُمْكِنُ وَطْؤُها. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومحمدُ ابنُ الحسنِ، والشافعىُّ في أحدِ قَوْلَيْه. وقال في الآخَرِ: لا نَفَقةَ لها. وهو قولُ مالكٍ؛ لأَنَّ الزَّوْجَ لا يتَمَكَّنُ مِن الاسْتِمْتاعِ بها، فلم تَلْزَمْه نَفَقَتُها، كما لو كانت صَغِيرةً. ولَنا، أنَّها سَلَّمَتْ نَفْسَها تَسْلِيمًا صَحِيحًا، فوجَبَتْ لها النَّفَقةُ، كما لو كان الزَّوْجُ كَبِيرًا؛ ولأَنَّ الاسْتِمْتاعَ بها مُمْكِنٌ، وإنَّما تَعَذَّرَ مِن جِهَةِ الزَّوْجِ، فهو كما لو تَعَذَّرَ لغَيْبَتِه، بخِلافِ ما إذا كانت صَغِيرَةً، فإنَّها لم تُسَلِّمْ نَفْسَها (¬2) تَسْلِيمًا صَحِيحًا، ولم تَبْذُلْ ذلك، وكذلك إذا كان يَتَعَذَّرُ عليه الوَطْءُ؛ لكونِه (¬3) مَريضًا أو مَجْبُوبًا أو عِنِّينًا؛ لأَنَّ التَّمْكِينَ وُجِدَ مِن جِهَتِها، وإنَّما تَعَذَّرَ مِن جِهَتِه، فوجَبَتِ النَّفقَةُ، كما لو سَلَّمَتْ إليه نَفْسَها وهو كَبيرٌ فهَرَبَ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الوَلِىَّ يُجْبَرُ ¬

(¬1) في م: «وهى صغيرة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «إذا كان».

3970 - مسألة: (فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها، لم تجب نفقتها، ولا تسليمها إليه إذا طلبها)

وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا، وَلَا تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ إِذَا طَلَبَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ على نَفَقَتِها مِن مالِ الصَّبِىِّ؛ لأَنَّ النَّفقَةَ عليه، وإنَّما الوَلِىُّ يَنُوبُ عنه في أداءِ الواجِباتِ عليه، كما يُؤَدِّى أُرُوشَ جِناياتِه وزَكَواتِه. 3970 - مسألة: (فإن كانَتْ صَغِيرَةً لا يُمْكِنُ وَطْؤُها، لم تَجِبْ نَفَقَتُها، ولَا تَسْليمُها إليه إذا طَلَبَها) وبهذا قال الحسنُ، وبكرُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُزَنِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. وهو نَصُّ الشافعىِّ. وقال في مَوْضِعٍ: لو قِيلَ: لها النَّفَقةُ. كان مَذْهَبًا. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ؛ لأَنَّ تَعَذُّرَ الوَطْءِ لم يَكُنْ بفِعْلِها، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَ النَّفقَةِ، كالمرضِ. ولَنا، أنَّ النَّفقةَ تجبُ بالتَّمْكِينِ مِن الاسْتِمْتاعِ، ولا يُتَصَوَّرُ

3971 - مسألة: (فإن بذلته والزوج غائب، لم يفرض لها حتى يراسله الحاكم، ويمضى زمن يمكن أن يقدم فى مثله)

فَإِنْ بَذَلَتْهُ وَالزَّوْجُ غَائِبٌ، لَمْ يُفْرَضْ لَهَا حَتَّى يُرَاسِلَهُ الْحَاكِمُ، وَيَمْضِىَ زَمَنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدَمَ فِى مِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك مع تَعَذُّرِ الاسْتِمْتاعِ، فلم تَجِبْ نَفَقَتُها، كما لو مَنَعَه أوْلِياؤُها مِن تَسْلِيمِ نَفْسِها. وبهذا يَبْطُلُ ما ذكَرُوه، [وتُفارِقُ المَريضَةَ] (¬1)؛ فإنَّ الاسْتِمْتاعَ بها مُمْكِنٌ، وإنَّما نَقَصَ بالمرضِ، ولأَنَّ مَن لا (¬2) تُمَكِّنُ الزَّوْجَ مِن نَفْسِها، لا تَلْزَمُه نَفَقَتُها، فهذه أَوْلَى؛ لأَنَّ تلك يمكِنُ الزَّوجَ قَهْرُها ووطؤُها كَرْهًا، وهذه لا يُمْكِنُ فيها ذلك بحالٍ. وعلى هذا، لا يجبُ على الزَّوْجِ [تَسَلُّمُها ولا تَسْلِيمُها] (¬3) إليه إذا طَلَبَها؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه اسْتِيفَاءُ حَقِّه منها. 3971 - مسألة: (فإن بَذَلَتْه والزَّوْجُ غَائِبٌ، لم يُفْرَضْ لها حتى يُراسِلَه الحاكِمُ، ويَمْضِىَ زَمَنٌ يُمْكِنُ أن يَقْدَمَ في مِثْلِه) وجملةُ ذلك، أنَّ المرأةَ إذا بَذَلَتِ التَّسْلِيمَ والزَّوْجُ غائبٌ، لم تَسْتَحِقَّ النَّفقةَ؛ لأنَّها بَذَلَتْه في حالٍ لا يُمْكِنُه التَّسْلِيمُ فيه، فإن مَضَتْ إلى الحاكمِ، فبَذَلَتِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ويفارق المريض». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «تسليمها ولا مسكنها».

3972 - مسألة: (وإن منعت نفسها، أو منعها أهلها، فلا نفقة

وَإِنْ مَنَعَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا، أَوْ مَنَعَهَا أَهْلُهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّسْليمَ، كَتَبَ الحاكمُ إلى حاكمِ البلدِ الذى هو فيه، ليَسْتَدْعِيَه [ويُعْلِمَه ذلك] (¬1)، فإن سارَ إليها، أو وَكَّلَ مَن يُسَلِّمُها إليه فوَصَلَ وتَسَلَّمَها هو أو نائِبُه، وجَبَتِ النَّفقةُ حينَئذٍ، وإن لم يَفْعَلْ، فَرَضَ الحاكمُ عليه نَفَقَتَها مِن الوقتِ الذى كان يُمْكِنُ الوُصُولُ إليها وتَسَلُّمُها فيه؛ لأَنَّ الزَّوْجَ امْتَنَعَ مِن تَسَلُّمِها [وإمكانِ] (¬2) ذلك وبَذْلِها إيَّاه له، فلَزِمَتْه نَفَقَتُها، كما لو كان حاضِرًا. فأمَّا إن غابَ الزّوْجُ بعدَ تَمْكِينِها، ووُجُوبِ نَفَقَتِها عليه، لم تَسْقُطْ عنه، بل تَجِبُ عليه في زَمَنِ غَيْبَتِه؛ لأنَّها اسْتَحَقَّتِ النَّفقةَ بالتَّمْكِينِ، ولم يُوجَدْ منها ما يُسْقِطُها. فصل: فإن سَلَّمَتِ الصَّغيرةُ التى يُمْكِنُ وَطْؤُها نَفْسَها، أو المَجْنُونَةُ، فتَسَلَّمَها، لَزِمَتْه نَفَقَتُها، كالكَبيرةِ، وإن لم يَتَسَلَّمْها لمَنْعِها نَفْسَها، أو لمنْعِ أوْلِيائِها، فلا نَفقةَ لها عليه، كالكبيرةِ، وإن غابَ الزَّوجُ، فبَذَلَ وَلِيُّها تَسْلِيمَها، فهو كما لو بَذَلَتِ المُكَلَّفةُ نفسها (¬3) التَّسْلِيمَ؛ لأَنَّ وَلِيَّها يقُومُ مَقامَها، وإن بذَلَتْ هى دُونَ وَلِيِّها، لم يَفْرِضِ الحاكمُ لها نفقةً؛ لأنَّه لا حُكْمَ لِكلامِها. 3972 - مسألة: (وإن مَنَعَتْ نَفْسَها، أو مَنَعَها أهْلُها، فلا نَفَقةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «لإمكان». وفى المغنى 11/ 398: «مع إمكان». (¬3) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها) وإن تَسَاكنا بعدَ العَقْدِ، فلم تَبْذُلْ، ولم يَطْلُبْ، فلا نَفَقةَ لها وإن طالَ مُقامُها على ذلك؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تزَوَّجَ عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، ودَخَلَتْ عليه بعد سَنَتَيْن، (¬1) ولم يُنْفِقْ إلَّا بعدَ دُخُولِه، ولم يَلْتَزِمْ نَفَقَتَها لِمَا مَضَى. ولأَنَّ النَّفقةَ تجبُ في مُقابلَةِ التَّمْكِينِ المُسْتَحَقِّ بعَقْدِ النِّكاحِ، فإذا وُجِدَ اسْتَحَقَّتْ، وإذا فُقِدَ (¬2) لم تَسْتَحِقَّ شيئًا. فصل: ولو بذَلَتْ تَسْلِيمًا (¬3) غيرَ تَامٍّ، بأن تقولَ: أُسَلِّمُ إليك نَفْسِى في مَنْزِلى دُونَ غيرِه. أو: في المَنْزِلِ الفُلانِىِّ دُونَ غيرِه. لم تَسْتَحِقَّ شيئًا، إلَّا أن تكونَ قد اشْتَرَطَتْ ذلك في العَقْدِ؛ لأنَّها لم تَبْذُلِ التَّسْليمَ الواجِبَ بالعَقْدِ، فلم تَسْتَحِقَّ النَّفقةَ، كما لو قال البائعُ: أُسَلِّمُ إليك السِّلْعَةَ على أن تَتْرُكَها في مَوْضِعِها. أو: في مكانٍ بعَيْنِه (¬4). فإن شَرَطَتْ دارَها أو بَلَدَها، فسلَّمَتْ نَفْسَها في ذلك، اسْتَحَقَّتِ النَّفقةَ؛ لأنَّها فَعَلَتِ الواجبَ عليها، ولذلك لو سَلَّمَ السَّيِّدُ أمَتَه المُزَوَّجَةَ في اللَّيْلِ دُونَ النَّهارِ، اسْتَحَقَّتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 132، 20/ 120. وأخرجه النسائى، في: باب إنكاح الرجل ابنته الصغيرة، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 67. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 280. والذى في هذه المصادر غير أبى داود والنسائى، أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها وهى بنت ست ودخل بها وهى بنت تسع. وعند أبى داود بالشك بين ست وسبع، وعند النسائى الروايتان. (¬2) في الأصل: «لم تعذر». خطأ. (¬3) في م: «تسليمها». (¬4) في م: «يعينه».

3973 - مسألة: (إلا أن تمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض صداقها الحال، فلها ذلك، وتجب نفقتها)

إِلَّا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا الْحَالَّ، فَلَهَا ذَلِكَ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفقةَ، بخِلافِ الحُرَّةِ (¬1)، فإنَّها لو بذَلَتْ نَفْسَها في بعضِ الزَّمانِ، لم تَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لأنَّها لم تُسَلِّمِ التَّسْلِيمَ الواجِبَ بالعَقْدِ. وكذلك إن مَكَّنَتْه (¬2) مِن اسْتِمْتاعٍ، ومَنَعَتْه اسْتِمْتاعًا، لم تَسْتَحِقَّ شيئًا؛ لذلك (¬3). 3973 - مسألة: (إلَّا أن تَمْنَعَ نَفْسَهَا قبلَ الدُّخُولِ حتى تَقْبِضَ صَداقَها الحالَّ، فلها ذلك، وتَجِبُ نَفَقتُها) وجملةُ ذلك، أنَّ [المرأةَ لها] (¬4) أن تَمْنَعَ نَفْسَها حتى تَتَسَلَّمَ صَداقَها؛ لأَنَّ تَسْليمَ نَفْسِها قبلَ تَسْليمِ صَداقِها يُفْضِى إلى أن يَتَسَلَّمَ مَنْفَعَتَها المَعْقُودَ عليها بالوَطْءِ، ثم لا يُسَلِّمَ صَداقَها، فلا يُمْكِنُها الرُّجُوعُ فيما اسْتَوْفَى منها، بخِلافِ المَبِيعِ إذا تَسَلَّمَه (¬5) المُشْتَرِى ثم أعْسَرَ بالثَّمَنِ، فإنَّه يُمْكِنُه الرُّجوعُ ¬

(¬1) في تش: «المرأة». (¬2) في م: «أمكنته». (¬3) في م: «كذلك». (¬4) في تش، ق، م: «للمرأة». (¬5) في م: «سلمه».

3974 - مسألة: (وإن كان بعد الدخول)

وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فلهذا ألْزَمْناه تَسْليمَ صَداقِها أوَّلًا، وجَعَلْنا لها أن تَمْتَنِعَ مِن تَسْليمِ نَفْسِها حتى تَقْبِضَ صَداقَها؛ لأنَّه إذا سَلَّمَ إليها الصَّداقَ ثم امْتَنَعَتْ مِن التَّسْلِيمِ، أمْكَنَ الرُّجوعُ فيه. إذا ثَبَتَ هذا، فمتى امْتَنَعَتْ مِن تَسْلِيمِ نَفْسِها لتَقْبِضَ صَداقَها، فلها نَفَقَتُها؛ لأنَّها امْتَنَعَتْ لحَقٍّ. فإن قيل: فلو امْتَنَعَتْ لصِغَرٍ أو مَرَضٍ، لم يَلْزَمْه نَفَقَتُها. قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما أنَّ (¬1) امْتِناعَها لمَرَضٍ لمَعْنًى مِن جِهَتِها، وكذلك الامْتِناعُ للصِّغَرِ، وههُنا الامْتِناعُ لمَعْنًى مِن جِهَةِ الزَّوْجِ، وهو مَنْعُه لِمَا وجَبَ عليه، فأشْبَهَ ما لو تَعَذَّرَ الاسْتِمْتاعُ لصِغَرِ الزَّوْجِ، فإنَّه لا يُسْقِطُ نَفَقَتَها عنه، ولو تَعَذَّرَ لصِغَرِها، لم يَلْزَمْه نَفَقَتُها. 3974 - مسألة: (وإن كان بعدَ الدُّخُولِ) فكذلك، في أحَدِ الوَجْهَيْن، قِيَاسًا على ما قبلَ الدُّخُولِ. والثَّانِى، ليس لها ذلك، كما لو سَلَّمَ المَبِيعَ إلى المُشْتَرِى، ثم أرادَ مَنْعَه بعدَ ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

3975 - مسألة: فأما الصداق الآجل (1)

بِخِلَافَ الْآجِلِ. وَإِنْ سَلَّمَتِ الْأَمَةُ نَفْسَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَهِىَ كَالْحُرَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3975 - مسألة: فأمَّا الصَّدَاقُ الآجِلُ (1)، فليسَ لها مَنْعُ نَفْسِها حتى تَقْبِضَه، كالثَّمَنِ الآجِلِ (¬1) في البَيْعِ، وقد ذَكَرْنا هذه المَسائِلَ في كتابِ الصَّداقِ بأبْسَطَ مِن هذا، وذَكَرْنا الخِلافَ فيها (¬2)، فاخْتَصَرْنا هَهُنا. 3976 - مسألة: (وإن سَلَّمَتِ الأمَةُ نَفْسَها لَيْلًا ونَهَارًا، فهى ¬

(¬1) في م: «المؤجل». (¬2) انظر ما تقدم في 21/ 126.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحُرَّةِ) في وُجُوبِ النَّفَقَةِ. وجملةُ ذلك، أنَّ زَوْجَ الأمَةِ لا يَخْلُو إمَّا أن يكونَ حُرًّا أو عَبْدًا، أو بَعْضُه (¬1) حُرًّا وبعضُه عَبْدًا؛ فإن كان حُرًّا، فنَفَقَتُها عليه، للنَّصِّ، ولاتِّفاقِ أَهْلِ العلمِ على وُجُوب نَفَقةِ الزَّوْجاتِ على أزْواجِهِنَّ البالِغينَ، والأمَةُ داخِلَةٌ في عُمُومِهِنَّ، ولأنَّها زَوْجَةٌ مُمَكِّنَةٌ مِن نَفْسِها، فوَجَبَ على زَوْجِها نَفَقَتُها، كالحُرَّةِ، وإن كان زَوْجُها مَمْلوكًا، فالنَّفَقةُ واجِبةٌ لزَوْجَتِه كذلك (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ (¬3): أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ (¬4) عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ على العَبْدِ نَفقةَ زَوْجَتِه، هذا قولُ الشَّعْبِىِّ، والحَكَمِ، والشافعىِّ. وبه قال أصْحابُ الرَّأْى إذا بَوَّأها بَيْتًا. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّه قال: ليس عليه نَفَقَتُها؛ لأَنَّ النَّفقةَ مُواساةٌ، وليس هو مِن أهْلِها، ولذلك (¬5) لا يجبُ عليه نَفقةُ أقارِبِه، ولا زَكاةُ مالِه. ولَنا، أنَّه عِوَضٌ واجِبٌ في النِّكاحِ، فوَجَبَ على العَبْدِ، كالمَهْرِ، والدَّليلُ على أنَّها عِوَضٌ، أنَّها تَجبُ في مُقابلةِ التَّمْكِينِ، ولهذا تَسْقُطُ عن الحُرِّ بفَواتِ التَّمْكِينِ، وبذلكَ فارَقَتْ نَفقةَ الأقارِبِ. إذا ثَبَتَ وُجُوبُها على العَبْدِ، فإنَّها تَلْزَمُ سَيِّدَهُ؛ لأَنَّ السَّيِّدَ أذِنَ في النِّكاحِ المُفْضِى ¬

(¬1) في الأصل: «نصفه». (¬2) في الأصل، تش: «لذلك». (¬3) انظر: الإشراف 1/ 127. وفيه: «مالك». مكان: «الحكم». (¬4) في الأصل: «أحفظ». (¬5) في م: «كذلك».

3977 - مسألة: (وإن كانت تأوى إليه ليلا، وعند السيد نهارا، فعلى كل واحد منهما النفقة بقدر مقامها عنده)

وَإِنْ كَانَتْ تَأْوِى إِلَيْهِ لَيْلًا، وَعِنْدَ السَّيِّدِ نَهَارًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ مُقَامِهَا عِنْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى إيجابِها. وقال ابنُ أبى مُوسى: فيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّها تَجِبُ في كَسْبِ العَبْدِ. وهو قولُ أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه لم يُمْكِنْ إيجابُها في ذِمَّتِه، ولا رَقَبَتِه، ولا ذِمَّةِ سَيِّدِه، ولا إسْقاطُها، فلم يَبْقَ إلَّا أن تَتَعَلَّقَ بكَسْبِه. وقال القاضى: تَتَعَلَّقُ برَقَبَتِه؛ لأَنَّ الوَطْءَ في النِّكاحِ بمَنْزِلَةِ الجِنايَةِ، وأَرْشُ جِنايَةِ العَبْدِ يتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، يُباعُ فيها، أو يَفْدِيه سَيِّدُه. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْى. ولَنا، أنَّه دَيْنٌ أذِنَ السَّيِّدُ فيه، فلَزِمَ ذِمتَّهَ، كالذى اسْتَدانَه وَكِيلُه. وقولُهم: إنَّه في مُقابَلةِ الوَطْءِ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّه يَجِبُ مِن غيرِ وَطْءٍ، ويجبُ للرَّتْقاءِ، والحائضِ، والنُّفَساءِ، وزوجَةِ المَجْبُوبِ والصَّغيرِ، وإنَّما يَجِبُ بالتَّمْكِينِ، وليس ذلك بجِنايَةٍ ولا قائمٍ مَقامَها. وقولُ مَن قال: إنَّه تَعَذَّرَ إيجابُها في ذِمَّةِ السَّيِّدِ. غيرُ صَحِيحٍ؛ فإنَّه لا مانِعَ مِن إيجابِهِ (¬1)، وقد ذكَرْنا وُجُودَ مُقْتَضِيه، فلا مَعْنى لدَعْوَى التَّعَذُّرِ. 3977 - مسألة: (وإن كانَتْ تأْوِى إليه ليلًا، وعندَ السَّيِّدِ نَهارًا، فعلى كلِّ واحِدٍ منهما النَّفَقَةُ بقَدْرِ مُقامِها عندَه) قد تَقَدَّمَ ذِكرُ هذه المسألةِ، وقد ذكَرْنا أنَّ النَّفقةَ تجبُ في مُقابلةِ التَّمْكِينِ، وقد وُجِدَ منها في اللَّيْلِ، ¬

(¬1) في ق، م: «إيجابها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيجبُ على الزَّوْجِ النَّفقةُ فيه، والباقِى منها على السَّيِّدِ، بحُكْمِ أنَّها مَمْلُوكَتُه لم تجبْ نَفَقَتُها على غيرِه في هذا الزمنِ. فعلى هذا، علىِ كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ النَّفَقةِ. وهذا أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: لا نَفَقةَ لها على الزَّوْجِ؛ لأنَّها لم تُمَكِّنْ مِن نَفْسِها في جَمِيعِ الزَّمانِ، فلم يَجِبْ لها شئٌ مِن النَّفَقةِ، كالحُرَّةِ إذا بذَلَتْ نَفْسَها في زَمَنٍ دُونَ غيرِه. ولَنا، أنَّه وُجِدَ التَّمْكِينُ الواجِبُ بعَقْدِ النِّكاحِ، فاسْتَحَقَّتِ النَّفقةَ، كالحُرَّةِ إذا مَكَّنَتْ مِن نَفْسِها في غيرِ أوْقاتِ الصَّلواتِ المَفْرُوضاتِ، والصَّوْمِ الواجِبِ، والحجِّ المَفْرُوضِ. وفارَقَ الحُرَّةَ إذا امْتَنَعَتْ في أحَدِ الزَّمانَيْنٍ، فإنَّها لم تَبْذُلِ الوَاجِبَ، فتكونُ ناشِزًا، وهذه ليست ناشزًا ولا عاصِيَةً. فصل: وإذَا طَلَّقَ الأمَةَ طَلاقًا رَجْعِيًّا، فلها النَّفقةُ في العِدَّةِ؛ لأنَّها زَوْجَةٌ. فإن أبانَها وهى حائِلٌ، فلا نَفقةَ لها؛ لأنَّها لو كانت حُرَّةً، لم تَجِبْ لها نَفَقةٌ، فالأمَةُ أَوْلَى. وإن كانت حامِلًا، فلها النَّفقةُ؛ لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). نَصَّ على هذا أحمدُ. وبه قال إسْحاقُ. وقد ذكَرْنا في ¬

(¬1) سورة الطلاق 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفَقَةِ الحامِلِ، هل هى للحَمْلِ أو للحامِلِ؟ على رِوايتَيْن عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ؛ إحْداهُما، أنَّها للحَمْلِ. فعلى هذا، لا تَجِبُ للمَمْلُوكَةِ الحامِلِ البائِنِ؛ لأَنَّ الحَمْلَ مَمْلُوكٌ لسَيِّدِها، فنفَقَتُه عليه. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، تَجِبُ. وللشافعىِّ في هذا قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. فصل: فإن كان المُطَلِّقُ عَبْدًا، فطَلَّقَها طَلاقًا بائِنًا (¬1) وهى حامِلٌ، انْبَنَى وُجُوبُ النَّفقةِ على الرِّوايتَيْن في النَّفَقةِ، هل هى للحَمْلِ أو للحامِلِ؟ فإن قُلْنا: هى للحَمْلِ. فلا نَفَقةَ على العَبْدِ. وبه قال مالِكٌ. ورُوِىَ ذلك عن الشَّعْبِىِّ؛ لأنَّه لا يجبُ عليه نَفَقةُ وَلَدِه. وإن قُلْنا: هى للحامِلِ بسَبَبِه. وجَبَتْ لها النَّفقةُ. وهذا قولُ الأوْزاعِىِّ؛ للآيةِ، ولأنَّها حامِلٌ، فوَجَبَتْ لها النَّفقةُ، كما لو كان زَوْجُها حُرًّا. فصل: والمُعْتَقُ بَعْضُه، عليه مِن نَفَقةِ امْرَأتِه بقَدْرِ ما فيه مِن الحُرِّيَّةِ، وباقِيها على سَيِّدِه، أو في ضَرِيبَتِه، أو في رَقَبَتِه، على ما ذكَرْنا في العَبْدِ القِنِّ. والقَدْرُ الذى يجبُ [عليه بالحُرِّيَّةِ] (¬2)، يُعْتَبَرُ فيه حالُه؛ إن كان مُوسِرًا فنَفَقةُ المُوسِرينَ، وإن كان مُعْسِرًا فنَفَقةُ المُعْسِرينَ. والباقِى يجبُ فيه نَفقةُ المُعْسِرينَ؛ لأَنَّ النَّفقةَ ممَّا يتَبَعَّضُ، وما يَتَبَعَّضُ بَعَّضْناه في حَقِّ ¬

(¬1) في م: «ثانيا». (¬2) في الأصل: «الحرية».

3978 - مسألة: (وإذا نشزت المرأة، أو سافرت بغير إذنه، أو تطوعت بحج أو صوم، أو أحرمت بحج منذور فى الذمة)

وَإِذَا نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ، أَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ، أَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ مَنْذُورٍ فِى الذِّمَّةِ، فَلَا نَفَقَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــ المُعْتَقِ بعضُه، كالميراثِ والدِّيَاتِ، وما لا يَتَبَعَّضُ، فهو فيه كالعَبْدِ؛ لأَنَّ الحُرِّيَّةَ إمّا شَرْطٌ فيه، أو سَبَبٌ [له، و] (¬1) لم يَكْمُلْ. وهذا اخْتِيارُ المُزَنِىِّ. وقال الشافعىُّ: حُكْمُه حكمُ القِنِّ في الجَميعِ، إِلْحاقًا لأحَدِ الحُكْمَيْن بالآخَرِ. ولَنا، أنَّه يَمْلِكُ بنِصْفِه الحُرِّ مِلْكًا تَامًّا، ولهذا يُورَثُ عنه، ويُكَفِّرُ بالإِطْعامِ، ويجبُ فيه نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ، فوَجَب أن تَتَبَعَّضَ نَفَقَتُه؛ لأنَّها مِن جُمْلَةِ الأحْكامِ القابِلَةِ للتَّبعِيضِ. فصل: وحُكْمُ المُكاتَبِ في نَفَقةِ الزَّوْجاتِ حُكْمُ العَبْدِ القِنِّ؛ لأنَّه عَبْدٌ ما بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ، ويجبُ عليه نَفقةُ زَوْجَتِه مِن كَسْبِه؛ لأَنَّ نَفقةَ الزَّوْجَةِ واجِبَةٌ بحُكْمِ المُعاوَضَةِ مع اليَسارِ والإِعْسارِ، ولذلك وجَبَتْ على العَبْدِ، فعلى المُكاتَبِ أَوْلَى، ولأَنَّ نَفقةَ المرأةِ لا تَسْقُطُ عن أحَدٍ مِن الناسِ، إذا لم يُوجَدْ منها ما يُسْقِطُ نَفَقَتَها، ولا يُمْكِنُ إيجابُها على سَيِّدِه؛ لأَنَّ نَفقةَ المُكاتَبِ لا تجبُ على سَيِّدِه، فنَفقةُ امرأتِه أوْلَى. 3978 - مسألة: (وإذا نَشَزَتِ المَرْأةُ، أو سافَرَتْ بغَيْرِ إذْنِه، أو تَطَوَّعَتْ بحَجٍّ أو صَوْمٍ، أو أحْرَمَتْ بحَجٍّ مَنْذُورٍ فِى الذِّمَّةِ) بِغَيْرِ إذْنِه ¬

(¬1) في تش: «أو».

لَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ (فلا نَفَقَةَ لها) لا تجبُ نَفقةُ النَّاشِزِ في قولِ عامَّةِ أَهْلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): لا نَعْلَمُ أحدًا خالَفَ فيه إلَّا الحَكَمَ. ولعَلَّه قاسَه على المَهْرِ، ولا يَصِحُّ القِياسُ؛ لأَنَّ النَّفقةَ وجبَتْ في مُقابلَةِ التَّمْكِينِ مِن نَفْسِها، فإذا لم يُوجَدْ منها التَّمْكِينُ، لا تَسْتَحِقُّها، بخِلافِ المَهْرِ؛ فإنَّه يجبُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، ولذلك (¬2) لو مات أحَدُهما قبلَ الدُّخُولِ وجَبَ المَهْرُ دُونَ النَّفقةِ، وقد ذكَرْناه. فأمَّا إذا سافَرَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ زَوْجِها، فإنَّ نَفَقَتَها تَسْقُطُ؛ لأنَّها ناشِزٌ. وكذلك إنِ انْتَقَلَتْ مِن مَنْزِلِه بغيرِ إذْنِه. وإن سافَرَتْ في حاجَةِ نَفْسِها بإذْنِه، سَقَطَتْ نَفَقَتُها. ذكَرَه الخِرَقِىُّ؛ لأنَّها فوَّتَتِ التَّمْكِينَ لحَظِّ (¬3) نَفْسِها، وقَضاءِ أَرَبِها، فأشْبَهَ ما لو اسْتَنْظَرَتْه قبلَ الدُّخولِ مُدَّةً فأنْظَرَها، إلَّا أن يكونَ مُسافِرًا معها، مُتَمَكِّنًا مِن اسْتِمْتاعِها، فلا تَسْقُطُ نَفَقَتُها؛ لأنَّها لم تُفَوِّتِ التَّمْكِينَ، فأشْبَهَتْ غيرَ المُسافِرَةِ. ¬

(¬1) انظر: الإشراف 1/ 123. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في الأصل، تش: «بحظ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ نفقَتُها وإن لم يكنْ معها؛ لأنَّها (1) مُسافِرَةٌ بإذْنِه، أشْبَهَ ما لو سافَرَتْ في حاجَتِه. وسواءٌ كان سَفَرُها لتِجارَةٍ، أو حَجِّ تَطَوُّعٍ، أو زِيارةٍ، أو (¬1) أحْرَمَتْ بحَجِّ تَطَوُّعٍ بغيرِ إذْنِه، سَقَطَتْ نفقَتُها؛ لأنَّها في مَعْنى المُسافِرَةِ. فإن أحْرَمَتْ به بإذْنِه، فقال القاضى: لها النَّفقةُ. والصَّحِيحُ أنَّها كالمُسافِرَةِ؛ لأنَّها بإحْرامِها مانعَةٌ له من التَّمْكِينِ. ¬

(¬1) في م: «وإن».

3979 - مسألة: (وإن بعثها فى حاجته)

وَإِنْ بَعَثَهَا فِى حَاجَةٍ، أَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَهَا النَّفَقَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3979 - مسألة: (وإن بَعَثَها في حاجَتِه) فهى على نَفَقَتِها؛ لأنَّها سافَرَتْ في شُغْلِه ومُرادِه. وإن أحْرَمَتْ بالحجِّ الواجبِ، أو العُمْرةِ الواجبةِ، في الوقتِ الواجبِ، مِن المِيقَاتِ، فلها النَّفقةُ، لأنَّها فَعَلَتِ الواجِبَ عليها بأصْلِ الشَّرْعِ في وَقْتِه، فلم تَسْقُطْ نَفَقَتُها، كَصِيامِ شَهْرِ (¬1) رمضانَ. وإن قَدَّمَتِ الإِحْرامَ على المِيقاتِ، أو قبلَ الوَقْتِ، خُرِّجَ فيها مِن القَوْلِ مثلُ ما في المُحْرِمةِ بحَجِّ التَّطَوُّع؛ لأنَّها فَوَّتَتْ عليه التَّمْكِينَ بشئٍ تَسْتَغْنِى عنه. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش.

3980 - مسألة: (وإن أحرمت بمنذور معين فى وقته، فعلى وجهين)

وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِمَنْذُورٍ مُعَيَّنٍ فِى وَقْتِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِ اعْتَكَفَتْ، فالقِياسُ أنَّه كَسَفَرِها، إن كان بغيرِ إذْنِه فهى ناشِزٌ؛ لخُرُوجِها مِن مَنْزِلِ زَوْجِها بغيرِ إذْنِه فيما ليس واجبًا بأصْلِ الشَّرْعِ، وإن كان بإذْنِه، فلا نَفَقةَ لها على قَوْلِ الخِرَقِىِّ. وعندَ القاضى، لها النَّفقَةُ. وإن صامت رَمضانَ، لم تَسْقُطْ نَفَقَتُها؛ لأنَّه واجِبٌ مُضَيَّقٌ بأصْلِ الشَّرْعِ، لا يَمْلِكُ مَنْعَها منه، فهو كالصَّلاةِ، ولأنَّه يكونُ صائِمًا معها، فيَمْتَنِعُ الاسْتِمْتاعُ لمعنًى وُجِدَ فيه، وإن كان تَطَوُّعًا، لم تَسْقُطْ نَفقَتُها؛ لأنَّها لم تَأْتِ بما (¬1) يَمْنَعُه مِن اسْتِمْتاعِها، فإنَّه يُمْكِنُه تَفْطِيرُها ووَطْؤُها، إلَّا أن يُرِيدَ ذلك منها فتَمْنَعَه، فتَسْقُطُ نَفقَتُها بامْتِناعِها مِن التَّمْكِينِ الواجبِ. 3980 - مسألة: (وإن أحْرَمَتْ بمَنْذُورٍ مُعَيَّنٍ في وَقْتِه، فعلى وَجْهَيْن) أحَدُهما، لها النَّفقَةُ. ذكره القاضى؛ لأَنَّ أحمدَ نصَّ على أنَّه ليس له مَنْعُها. والثانى، أنَّه إن كان نَذْرُها قبلَ النِّكاحِ، أو كان النَّذْرُ بإذْنِه، ¬

(¬1) في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَسْقُطْ [نَفقَتُها؛ لأنَّه] (¬1) كان واجِبًا عليها بحَقٍّ سابِقٍ على نكاحِه، أو واجِبٌ أذِنَ في سَبَبه. وإن كان النَّذْرُ في نِكاحِه بغيرِ إذْنِه، فلا نَفَقةَ لها؛ لأنَّها فَوَّتَتْ عليه حَقَّه مِن الاسْتِمْتاعِ باخْتِيارِها بالنَّذْرِ الذى لم يُوجِبْه الشَّرْعُ عليها، ولا نَدَبَها إليه. وإن كان النَّذْرُ مُطْلَقًا، أو كان صَوْمَ كَفَّارَةٍ، فصامَتْ بإذْنِه، [فلها النَّفقةُ؛ لأنَّها أدَّتِ الواجِبَ بإذْنِه، فأشْبَهَ ما لو صامَتِ المُعَيَّنَ بإذْنِه في وَقْتِه. وإن صامَتْ بغيرِ إذْنِه] (¬2)، فقال القاضى: لا نَفَقةَ لها؛ لأنَّها يُمْكِنُها تَأْخِيرُه، فإنَّه على التَّراخِى، وحَقُّ الزَّوْج على الفَوْرِ. وإن كان قَضاءُ رَمضانَ قبلَ ضِيقِ وَقتِه، فكذلك، وإن كان وَقْتُه مُضَيَّقًا، مثلَ أن قَرُبَ رَمضانُ آخَرُ، فعليه نَفَقَتُها؛ لأنَّه واجِبٌ مُضَيَّقٌ بأصْلِ الشَّرْعِ، أشْبَهَ أداءَ رَمضانَ. ¬

(¬1) في تش: «لأن النذر». (¬2) سقط من: الأصل.

3981 - مسألة: (وإن اختلفا فى نشوزها)

وَإِنْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا. ذَكَرَهُ الْخِرَقِىُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى نُشُوزِهَا، أَوْ تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ إِلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِى بَذْلِ التَّسْلِيمِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3981 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في نُشُوزِها) فادَّعَى أنَّهَا نَشَزَتْ، وأنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ (فالقَوْلُ قَوْلُها مع يَمِينِها) لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ النُّشُوزِ. 3982 - مسألة: وكذلك إنِ ادَّعَى (تَسْلِيمَ النَّفَقَةِ إليها) فأنْكَرَتْهُ (فالقَوْلُ قَوْلُها) لذلك (¬1). 3983 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في بَذْلِ التَّسْلِيمِ) فقَالَتْ: بَذَلْتُ لك تَسْلِيمَ نَفْسِى. فأنْكَرَها (فالقَوْلُ قَوْلُه) لأنَّه مُنْكِرٌ، والأَصْلُ عَدَمُ ¬

(¬1) في م: «كذلك».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، أَوْ بِالْكُسْوَةِ، خُيِّرَتْ بَيْنَ فَسْخِ النِّكَاحِ وَالْمُقَامِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِى ذِمَّتِهِ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّسْلِيمِ. [وكذلك إنِ اخْتَلَفا في وَقْتِه، فقالت: كان ذلك مِن شهرٍ. قال: بل مِن يومٍ. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثورٍ، وأصحابُ الرَّأْىِ] (¬1). فصل: (وإن أعْسَرَ الزَّوْجُ بنَفقَتِها أو بَعضِها، أو بالْكُسْوَةِ، خُيِّرَتْ بينَ فَسْخِ النِّكاحِ والمُقامِ، وتَكونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا في ذِمَّتِه. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّهَا لا تَمْلِكُ الفَسْخَ بإعْسارِه. والأَوَّلُ المَذْهَبُ) إذا مَنَعَ الرَّجُلُ نَفَقةَ امرأتِه لعُسْرَتِه، وعَدَمِ ما يُنْفِقُه، خُيِّرَت بينَ الصَّبْرِ ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه وبينَ فِراقِه. رُوِى نحوُ ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، وأبى هُرَيْرَةَ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ورَبِيعةُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىٍّ، والشَّافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وعن أحمدَ، أنَّها لا تَمْلِكُ الفَسْخَ بالإِعْسارِ. والأَوَّلُ المذْهَبُ. وذهبَ عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو حنيفة، وصاحِباه، إلى أنَّها لا تَمْلِكُ فِراقَه بذلك، ولكن يَرْفَعُ يَدَه عنها لتَكْتَسِبَ؛ لأنَّه حَقٌّ لها عليه، فلا يُفْسَخُ النِّكاحُ لعَجْزِه عنه، كالدَّيْنِ. وقال العَنْبَرِىُّ: يُحْبَسُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى أن يُنْفِقَ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وليس (¬2) الإِمْساكُ مع تَرْكِ الإِنْفاقِ إمْساكًا بمَعْرُوفٍ، فتَعَيَّنَ التَّسْريحُ. وروَى سعيدٌ (¬3)، عن سُفْيانَ، عن أبى الزِّنادِ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ، عن الرَّجُلِ لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ على امْرَأتِه، أيُفَرَّقُ بينَهما؟ قال: نعم. قلتُ: سُنَّةٌ؟ قال: سُنَّةٌ. وهذا يَنْصَرِفُ إلى سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): ثَبَتَ أن عمرَ بنَ الخَطَّابِ كتَبَ إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، في رِجالٍ غابُوا عن نِسائِهِم، فأمَرَهم بأن يُنْفِقُوا أو يُطَلِّقُوا، فإن طَلَّقُوا بعَثُوا بنَفَقَةِ ما مَضَى (¬5). ولأنَّه إذا ثَبَتَ الفَسْخُ بالعَجْزِ عن الوَطْءِ، والضَّرَرُ فيه أقَلُّ (¬6)، لأنَّه إنَّما هو فَقْدُ (¬7) لَذَّةٍ وشَهْوَةٍ يقُومُ البَدَنُ بدُونِه (¬8)، فلأَنْ يَثْبُتَ بالعَجْزِ عن النَّفقةِ التى لا يَقُومُ البَدَنُ إلَّا ¬

(¬1) سورة البقرة 229. (¬2) في الأصل: «لأن». (¬3) في: باب ما جاء في الرجل إذا لم يجد ما ينفق على امرأته، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 55. كما أخرجه الإمام الشافعى، انظر: الباب التاسع في النفقات، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 65. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يعجز عن نفقة امرأته، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 213. والبيهقى، في: باب الرجل لا يجد نفقة امرأته، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 7/ 469. (¬4) انظر: الإشراف 1/ 123. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 340. (¬6) في الأصل: «أولى». (¬7) سقط من: الأصل. (¬8) في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها أَوْلَى. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه متى ثَبَتَ الإِعْسارُ بالنَّفقةِ على الإِطْلاقِ، فللمرأةِ المُطالَبَةُ بالفَسْخِ، مِن غيرِ إنْظارٍ (¬1). وهذا أحَدُ قَوْلَى الشَّافِعِىِّ. وقال حَمَّادُ بنُ أبى سليمانَ: يُؤَجَّلُ سنةً قِياسًا على العِنِّينِ. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: اضْرِبُوا له (¬2) شَهْرًا أو شَهْرَيْن (¬3). وقال مالِكٌ: الشَّهْر ونحوُه. وقال الشافعىُّ في القولِ الآخَرِ: يُؤَجَّلُ ثَلاثًا؛ لأنَّه قَرِيبٌ. ولَنا، ظاهِرُ حديثِ عمرَ، رَضِىَ اللَّه عَنه، ولأنَّه مَعْنًى يُثْبِتُ الفَسْخَ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ بالإِنْظارِ (¬4) فيه، فأثْبَتَ الفَسْخَ في الحالِ، كالعَيْبِ، ولأَنَّ سبَبَ الفَسْخِ الإِعْسارُ، وقد وُجِدَ، فلا يَلْزَمُ التَّأْخِيرُ. فصل: فإن لم يَجِدْ إلَّا نَفَقةَ يَوْمٍ بيَوْمٍ، فليس ذلك إعْسارًا يَثْبُتُ به الفَسْخُ؛ لأَنَّ ذلك هو الواجِبُ عليه، وقد قَدَرَ عليه. وإن وَجَدَ في أوَّلِ النَّهارِ (¬5) ما يُغَدِّيها، وفى آخِرِه ما يُعَشِّيها، لم يَكُنْ لها الفَسْخُ؛ لأنَّها تَصِلُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «انتظار». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) انظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 96. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يعجز عن نفقة امرأته. . .، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 213، 214. (¬4) في الأصل: «بالانتظار». (¬5) في تش: «الزمان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى كِفايَتِها وما يقُومُ به بَدَنُها. وإن كان صانِعًا يَعْمَلُ في الأُسْبُوعِ ما يَبيعُه في يومٍ بقَدْرِ كِفايَتِها في الأُسْبُوعِ كلِّه، لم يَثْبُتِ الفَسْخُ؛ لأَنَّ هذا يُحَصِّلُ الكِفايَةَ في جَميعِ زَمانِه. وإن تَعَذَّرَ عليه الكَسْبُ في بعْضِ زَمانِه، أو تَعَذَّرَ عليه (¬1) البَيْعُ، لم يَثْبُتِ الفَسْخُ؛ لأنَّه يُمْكِنُ الاقْتِراضُ إلى زَوالِ العارِضِ، وحُصُولِ الاكْتِسابِ، وكذلك إن عَجَزَ عن الاقْتِراضِ أيَّامًا يَسِيرَةً؛ لأَنَّ ذلك يَزُولُ عن قَرِيبٍ، ولا يَكادُ يَسْلَمُ منه كثيرٌ مِن الناسِ. وإن مَرِضَ مَرَضًا يُرْجَى زَوالُه (¬2) في أيَّامٍ يَسِيرَةٍ، لم يُفْسَخْ؛ لما ذكَرْناه. وإن كان ذلك يَطُولُ، فلها الفَسْخُ، لأَنَّ الضَّرَرَ الغالِبَ يَلْحَقُها، ولا يُمْكِنُها الصَّبْرُ. وكذلك إن كان لا يَجِدُ مِن النَّفقةِ إلَّا يَوْمًا دُونَ يومٍ، لأنَّها لا يُمْكِنُها الصَّبْرُ على هذا، فهو كمَن لا يَجِدُ إلَّا بعضَ القُوتِ. وإن أعْسَرَ ببَعْضِ نَفقةِ المُعْسِرِ، ثَبَتَ لها الخِيَارُ، لأَنَّ البَدَنَ لا يقومُ بما دُونَها. فإن أعْسَرَ بما زادَ على نَفَقةِ المُعْسِرِ، فلا خِيارَ لها؛ لأَنَّ تلك الزِّيادَةَ تَسْقُطُ بإعْسارِه، ويُمْكِنُ الصَّبْرُ عنها. ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) في ق، م: «برؤه».

3984 - مسألة: وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته، وترك المطالبة، جاز؛ لأن الحق لها، وتكون النفقة دينا فى ذمته (ثم)

فَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ، ثُمَّ بَدَا لَهَا الْفَسْخُ، فَلَهَا ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3984 - مسألة: وإن رَضِيَتْ بِالمُقامِ معه مَعَ عُسْرَتِه، وتَرْكِ المُطالَبَةِ، جازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لها، وتكونُ النَّفقةُ دَيْنًا في ذِمَّتِه (ثم) إن (بَدا لها الفَسْخُ) أو تزَوَّجَتْ مُعْسِرًا عالِمَةً بحالِه، راضِيَةً بعُسْرَتِه، وتَرْكِ إنْفاقِه، أو شَرَطَ عليها أن لا يُنْفِقَ عليها، ثم عَنَّ لها الفَسْخُ (فلها ذلك) وبهذا قال الشافعىُّ. وقال القاضى: ظاهِرُ (¬1) كلامِ أحمدَ، أنَّه ليس لها الفَسْخُ، ويَبْطُلُ خِيارُها في المَوْضِعَيْن. وهو قولُ مالِكٍ؛ لأنَّها رَضِيَتْ بعَيْبِه، ودخَلَتْ في العَقْدِ عالمةً به، فلم تَمْلِكِ الفَسْخَ، كما لو تَزَوَّجَتْ عِنِّينًا عالمةً ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِعُنَّتِه (¬1)، أو قالت بعدَ العَقْدِ: قد رَضِيتُ به عِنِّينًا. ولَنا، أنَّ وُجُوبَ النَّفقةِ يتَجَدَّدُ في (¬2) كلِّ يومٍ، فيَتَجَدَّدُ لها الفَسْخُ، ولا يَصِحُّ إسْقاطُ حَقِّها فيما لم يَجِبْ لها، كإسْقاطِ شُفْعَتِها قبلَ البَيْعِ، ولذلك (¬3) لو أسْقَطَتِ النَّفقةَ المُسْتَقْبَلَةَ لم تَسْقُطْ، ولو أسْقَطَتْها (¬4) أو أسْقَطَتِ المَهْرَ قبلَ النِّكاحِ لم يَسْقُطْ، وإذا لم يَسْقُطْ وُجُوبُها، لم يَسْقُطِ الفَسْخُ الثَّابِتُ به. وإن أعْسَرَ بالمَهْرِ، وقُلْنا: لها الفَسْخُ [لإِعْسارِه به] (¬5). فرَضِيَتْ بالمُقامِ، لم يكنْ لها الفَسْخُ؛ لأَنَّ وُجُوبَه لم يتَجَدَّدْ، بخِلافِ النَّفقَةِ، فإن تزَوَّجَتْه عالمةً بإعْسارِه بالمَهْرِ، رَاضِيَةً بذلك، فيَنْبَغِى أن لا تَمْلِكَ الفَسْخَ بإعْسارِه؛ لأنَّها رَضِيَتْ بذلك في وَقْتٍ لو أسْقَطَتْه فيه سَقَطَ. فصل: وإذا رَضِيَتْ بالمُقَامِ مع ذلك، لم يَلْزَمْها التَّمْكِينُ مِن الاسْتِمْتاعِ؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْ إليهِا عِوَضَه، فلم يَلْزَمْها تَسْلِيمُه، كما لو أعْسَرَ ¬

(¬1) في م: «بعيبه». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، تش، م: «كذلك». (¬4) في م: «أسقطها». (¬5) في الأصل: «بالإعسار به»، وفى تش: «بالإعسار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرِى بثَمَنِ المَبِيعِ، لم يجبْ تَسْلِيمُه إليه، وعليه تَخْلِيةُ سَبِيلِها لتَكْتَسِبَ لها، وتُحَصِّلَ ما تُنْفِقُه عليها؛ لأَنَّ في حَبْسِها بغيرِ نَفَقةٍ إضْرَارًا بها. وإن كانت مُوسِرَةً، لم يكنْ له حَبْسُها؛ [لأنَّه إنَّما] (¬1) يَمْلِكُ حَبْسَها إذا كَفاها المُؤْنةَ، وأغْناهَا عمَّا لابدَّ لها منه، ولحاجَتِه إلى الاسْتِمْتاعِ الواجبِ له (¬2) عليها، فإذا انْتَفَى الأمْران، لم يَمْلِكْ حَبْسَها. ¬

(¬1) في الأصل: «إلا بما». (¬2) سقط من: الأصل.

3985 - مسألة: (وإن أعسر بنفقة الخادم، أو النفقة الماضية،

وَإِنْ أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، أَوْ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، أَوِ الْمُتَوَسِّطِ، أَوِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 3985 - مسألة: (وإن أعْسَرَ بِنَفَقَةِ الخادِمِ، أو النَّفَقَةِ الماضِيَةِ،

الْأُدْمَ، أَوْ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، فَلَا فَسْخَ لَهَا، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِى ذِمَّتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: تَسْقُطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو نَفَقَةِ المُوسِرِ، أو المُتَوَسِّطِ، أو الاُّدْمِ، فلا فَسْخَ لها، وتَكُونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِى ذِمَّتِهِ. وقال القاضى: تَسْقُطُ) إذا أعْسَرَ بالنَّفقةِ الماضِيَةِ، لم يكنْ لها الفَسْخُ؛ لأنَّها دَيْنٌ يقومُ (¬1) البَدَنُ بدُونِها (¬2)، فأشْبَهَتْ سائِرَ الدُّيونِ، وكذلك إن أعْسَرَ بنَفَقةِ المُوسِرِ أو المُتَوَسِّطِ، فلا فَسْخَ لها (¬3)؛ لأَنَّ الزِّيادَةَ تَسْقُطُ بإعْسارِه، ويُمْكِنُ الصَّبْرُ عنها، وكذلك إن أعْسَرَ بنَفَقةِ الخادِمَ أو الأُدْمَ؛ لذلك (¬4). ¬

(¬1) في الأصل، تش: «لا يقوم». (¬2) في تش: «إلا بها». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «كذلك».

3986 - مسألة: ويثبت ذلك

وَإِنْ أَعْسَرَ بِالسُّكْنَى أَوِ الْمَهْرِ، فَهَلْ لَهَا الْفَسْخُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3986 - مسألة: ويَثْبُتُ ذلك (¬1) فِى ذِمَّتِهِ، وكذلك إن أعْسَرَ بالمَسْكَنِ، وقلنا: لا يَثْبُتُ لها الفَسْخُ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال القاضى: لا يَثْبُتُ؛ لأنَّه مِن الزَّوائِدِ، فلم يَثْبُتْ في ذِمَّتِه، كالزَّائِدِ (¬2) عن الواجبِ عليه. ولَنا، أنَّها نَفَقةٌ تَجِبُ على سَبِيلِ العِوَضِ، فتَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، كالنَّفَقةِ الواجبَةِ للمرأةِ قُوتًا، وهذا فيما عَدا الزَّائِدَ على نَفَقةِ المُعْسِرِ، فإنَّ ذلك يَسْقُطُ بالإِعْسارِ. 3987 - مسألة: (وإن أعْسَرَ بالسُّكْنَى أو المَهْرِ، فهل لها الفَسْخُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن) إذا أعْسَرَ بأُجْرَةِ المَسْكَنِ، فلها الخِيارُ في ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كالزوائد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدِ الوجْهَيْن؛ لأنَّه ممَّا لا بُدَّ منه، أشْبَهَ النَّفقةَ والكُسْوَةَ. والثانى، لا خِيارَ لها؛ لأَنَّ البِنْيَةَ (¬1) تقُومُ بدُونِه. وهذا الوَجْهُ الذى ذكَرَه القاضى. وإن أعْسَرَ بالصَّداقِ ففيه ثَلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، ليس لها الفَسْخُ. اخْتارَه ابن حامِدٍ. والثانى، لها الفَسْخُ. اخْتارَه أبو بكرٍ، لأنَّه أعْسَرَ بالعِوَضِ، فكان لها الرُّجُوعُ في المُعَوَّضِ، كما لو أعْسَرَ بثَمَنِ مَبِيعِها. والثالثُ، إن أعْسَرَ قبلَ الدُّخُولِ، فلها الفَسْخُ، كما لو أفْلَسَ المُشْتَرِى والمَبِيعُ بحالِه، وإن كان بعدَ الدُّخُولِ، لم تَمْلِكِ الفَسْخَ؛ لأَنَّ المَعْقُودَ عليه قد اسْتُوفِىَ، فأشْبَهَ ما لو أفْلَسَ المُشْتَرِى بعدَ [تَلَفِ المَبِيعِ] (¬2) أو بَعْضِه. وهذا المَشْهُورُ في المذهَبِ. واخْتارَ شَيْخُنا (¬3) الرِّوايةَ الأُولَى؛ لأنَّه دَيْنٌ، فلم يُفْسَخِ النِّكاحُ للإِعْسارِ به، كالنَّفَقةِ الماضِيَةِ، ولأَنَّ تأْخِيرَه ليس فيه ضَرَرٌ مُجْحِفٌ، فأشْبَهَ نَفَقةَ الخادِمِ، ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على ¬

(¬1) في م: «البينة». (¬2) في الأصل: «البيع». (¬3) انظر: المغنى 11/ 368، 369.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمنِ في المَبِيعِ (¬1)؛ لأَنَّ الثَّمنَ كلُّ مَقْصُودِ البائِعِ، والعادَةُ تَعْجِيلُه، والصَّداقُ فَضْلَةٌ ونِحْلَةٌ، ليس هو المَقْصُودَ في النِّكاحِ، ولذلك (¬2) لا يَفْسُدُ النِّكاحُ بفَسادِه، ولا بتَرْكِ ذِكْرِه، والعادَةُ تأخِيرُه، ولأَنَّ أكثرَ مَن يَشْتَرِى بثَمَنٍ حالٍّ يكونُ مُوسِرًا به، وليس الأكْثَرُ أنَّ مَن يتَزَوَّجُ بمَهْرٍ يكونُ مُوسِرًا به، ولا يَصِحُّ قِياسُه على النَّفقةِ؛ لأَنَّ الضَّرُورَةَ لا تَنْدَفِعُ إلَّا بها، بخِلافِ الصَّداقِ، فأشْبَهُ شئٍ به النَّفقةُ الماضِيَةُ. وللشافعىِّ نحوُ هذه الوُجُوهِ. وإذا قُلْنا: لها الفَسْخُ للإِعْسارِ به. فتَزَوَّجَتْه عالِمَةً بعُسْرَتِه، فلا خِيارَ لها، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّها رَضِيَتْ به كذلك. وكذا إن عَلِمَتْ عُسْرَتَه فرَضِيَتْ بالمُقَامِ (¬3)، سَقَطَ حَقُّها مِن الفَسْخِ؛ لأنَّها رَضِيَتْ بإسْقاطِ حَقَّها بعدَ وُجُوبِه، فسَقَطَ، كما لو رَضِيَت بعُنَّتِه. ¬

(¬1) في الأصل: «البيع». (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في الأصل: «بالقيام».

3988 - مسألة: (وإن أعسر زوج الأمة فرضيت، لم يكن)

وَإِنْ أَعْسَرَ زَوْجُ الْأَمَةِ، فَرَضِيَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3988 - مسألة: (وإن أعْسَرَ زَوْجُ الأمَةِ فرَضِيَتْ، لم يَكُنْ) لِسَيِّدِها (الفَسْخُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لَهُ ذلك) وجملةُ ذلك، أنَّ نَفقةَ الأمَةِ المُزَوَّجَةِ حَقٌّ لها [ولسَيِّدِها] (¬1)؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما ينْتَفِعُ بها، ولكُلِّ واحدٍ منهما طَلَبُها إذا امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِن أدائِها، ولا يَمْلِكُ واحدٌ منهما إسْقاطَها؛ لأَنَّ في سُقُوطِها بإسْقاطِ أحَدِهِما ضَرَرًا بالآخَرِ. فعلى هذا، إن أعْسَرَ الزَّوجُ بها (¬2)، فلها الفَسْخُ؛ لأنَّه عَجَزَ عن نَفَقَتِها، فمَلَكَتِ الفَسْخَ، كالحُرَّةِ. وإن لم تَفْسَخْ، فقال القاضى: لسَيِّدِها الفَسْخُ؛ لأَنَّ عليه ضَرَرًا في عَدَمِها (¬3)، لِما يتَعَلَّقُ بفَواتِها مِن فَواتِ مِلْكِه وتَلَفِه (¬4)، فإن أنْفَقَ عليها سَيِّدُها مُحْتَسِبًا بالرُّجوعِ، فله الرُّجُوعُ بها على الزَّوجِ، رَضِيَتْ بذلك أو كَرِهَتْ؛ لأَنَّ الدَّيْنَ خالِصُ حَقِّه، لا حَقَّ لها ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، تش: «عدتها». (¬4) في الأصل: «يلحقه»

3989 - مسألة: وإن أعسر (زوج الصغيرة أو المجنونة)

أَوْ زَوْجُ الصَّغِيرَةِ، أَوِ الْمَجْنُونَةِ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِنَّ الْفَسْخُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وإنَّما (¬1) تَعَلَّقَ حَقُّها بالنَّفقةِ الحاضِرَةِ، لوُجُوبِ صَرْفِها إليها، وقِوامِ بَدَنِها به، بخِلافِ الماضِيَةِ. وقال أبو الخَطَّابِ، وأصْحابُ الشافعىِّ: ليس لسَيِّدِها الفَسْخُ لعُسْرَةِ زَوْجِها بالنَّفَقَةِ؛ لأنَّها حَقٌّ لها، فلم يَمْلِكْ سَيِّدُها الفَسْخَ دُونَها، كالفَسْخِ للعَيْبِ (¬2). فإن كانت مَعْتُوهَةً، أنْفَقَ المَوْلَى، وتكونُ النَّفقةُ دَيْنًا له (¬3) في ذِمَّةِ الزَّوجِ. وإنْ كانت عاقِلَةً قال لها السَّيِّدُ: إن أرَدْتِ النَّفَقةَ، فافْسَخِى النِّكاحَ، وإلَّا فلا نَفَقَةَ لكِ عندِى. 3989 - مسألة: وإن أعْسَرَ (زَوْجُ الصَّغِيرَةِ أو المَجْنُونَةِ) لم يَكُنْ لِوَلِيِّهِما الفَسْخُ؛ لأنَّه فَسْخٌ لنِكاحِها، فلم يكنْ له ذلك، كالفَسْخِ بالعَيْبِ. ويَحْتَمِلُ أن يَمْلِكَ الفَسْخَ؛ لأنَّه فَسْخٌ لِفَواتِ العِوَضِ، فمَلَكَه، كفَسْخِ البَيْعِ (¬4) لتَعَذُّرِ الثَّمنِ. فصل: وإنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجان في الإِنْفاقِ عليها، أو في تَقْبِيضِها نَفَقَتَها، ¬

(¬1) في م: «إن». (¬2) في م: «للعنة». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. وفى الأصل: «المبيع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالقولُ قولُ المرأةِ؛ لأنَّها مُنْكِرَةٌ، والأصلُ معها. وإنِ اخْتَلَفا في يَسارِه، فادَّعَتْه المرأةُ لِيَفْرِضَ لها نَفَقةَ المُوسِرينَ (¬1)، أو قالت: كُنْتَ مُوسِرًا. وأنْكَرَ ذلك، فإن عُرِفَ له مالٌ، فالقولُ قَوْلُها، وإلَّا فالقولُ قولُه. وبهذا كلِّه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. وإنِ اخْتَلفا في فَرْضِ الحاكمِ للنَّفقةِ، أو في وَقْتِها، فقال: فَرَضَها منذُ شَهْرٍ (¬2). قالت: بل منذُ عام. فالقولُ قولُه. وبهذا قال الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال مالِكٌ: إن كان مُقِيمًا معها، فالقولُ قولُه، وإن كان غائِبًا عنها، فالقولُ قولُ المرأةِ مِن يومِ رَفَعَتْ أمْرَها إلى الحاكمِ. ولَنا، أنَّ قولَه يُوافِقُ الأَصْلَ، فقُدِّمَ، كما لو كان مُقِيمًا معها. وكُلُّ مَن قُلْنا: القولُ قولُه. فَلِخَصْمِه عليه اليَمِينُ؛ لأنَّها دَعَاوٍ في المالِ، فأشْبَهَتْ دَعْوَى الدَّيْنِ، ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ولكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬3). وإن دَفَعَ الزَّوجُ إلى امْرأتِه نَفقةً وكُسْوَةً، أو بَعَثَ بها إليها، فقالتْ: إنَّما فَعَلْتَ ذلك تبَرُّعًا وهِبَةً. قال: بل وفاءً للواجِبِ علىَّ. فالقولُ قولُه؛ لأنَّه أعْلَمُ بنِيَّتِه، أشْبَهَ ما لو قَضَى دَيْنَه فاخْتَلَفَ هو وغَرِيمُه في نِيَّتِه. وإن طَلَّقَ امرأتَه، وكانت حامِلًا فوَضَعَتْ، فقال: طَلَّقْتُكِ حامِلًا، فانْقَضَتْ عِدَّتُكِ بوَضْعِ الحَمْلِ، وانْقَطَعَتْ نَفَقَتُكِ ورَجْعَتُكِ. قالت: بل بعدَ الوَضْعِ، فَلِىَ ¬

(¬1) في تش: «الموسرة». (¬2) في م: «شهرين». (¬3) تقدم تخريجه في 12/ 478.

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ مَنَعَ النَّفَقَةَ أَوْ بَعْضَهَا مَعَ الْيَسَارِ، وَقَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ، أَخَذَتْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِى وَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفقةُ، ولكَ الرَّجْعَةُ. فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَقاءُ النَّفقةِ، وعَدَمُ المُسْقِطِ لها، وعليها العِدَّةُ، ولا رَجْعَةَ للزَّوْجِ؛ لإِقْرارِه بعَدَمِها (¬1). وإن رَجَعَ فصَدَّقَها، فله الرَّجْعَةُ؛ لأنَّها مُقِرَّةٌ [له بها] (¬2). ولو قال: طَلَّقْتُكِ بعدَ الوَضْعِ، فَلِىَ الرَّجْعَةُ، ولكِ النَّفقةُ. قالت: بل وأنا حامِلٌ. فالقولُ [قولُه؛ لأَنَّ [الأَصْلَ] (¬3) بقاءُ الرَّجْعةِ، ولا نَفَقةَ لها، ولا عِدَّةَ عليها؛ لأنَّها حَقٌّ للَّه تعالى، فالقول] (¬4) قولُها (¬5) فيها، فإن عادَ فصَدَّقَها، سَقَطَتْ رَجْعَتُه، ووَجَبَتْ لها النَّفقةُ، هذا في ظاهِرِ الحُكْمِ، فأمَّا فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى، فيَنْبَنِى على ما [يَعْلَمُه مِن] (¬6) حقيقَةِ الأَمْرِ دُونَ ما قالَه. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإن مَنَعَها النَّفقةَ أو بعْضَها مع اليَسارِ، وقَدَرَتْ له على مالٍ، أخَذَتْ منه ما يَكْفِيها ويَكْفِى وَلَدَها ¬

(¬1) في الأصل: «بعدتها». (¬2) سقط من: الأصل. وفى م: «لديها». (¬3) سقط من النسخ. والمثبت من المغنى 11/ 371. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «قولنا». (¬6) في تش: «تعلم».

لِقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِهِنْدٍ، حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى. قَالَ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالْمَعْرُوفِ». ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَعْروفِ بغيرِ إذْنِه؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِهِنْدٍ حِينَ قالت له: إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وليس يُعْطِينِى مِن النَّفقةِ ما يَكْفِينِى ووَلَدِى. قال: «خُذِى ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ») (¬1) وجملةُ ذلك، أنَّ الزَّوجَ إذا لم يَدْفَعْ إلى زَوْجَتِه ما يجبُ لها عليه مِن النَّفقةِ والكُسْوَةِ، أو دَفَعَ إليها أقَلَّ مِن كِفايَتِها، فلها أن تَأْخُذَ مِن مالِه [الواجِبَ أو تمامَه، بإذْنِه و (¬2) بغيرِ إذْنِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ هِنْدٍ، وهو إذْنٌ لها في الأخْذِ مِن مالِه] (¬3) بغيرِ إذْنِه، ورَدٌّ لها إلى اجْتِهادِها في قَدْرِ كِفايَتِها وكِفايَةِ وَلَدِها، وهو مُتَناوِلٌ لأخْذِ تَمامِ الكِفايَةِ، فإنَّ ظاهِرَ الحديثِ دَلَّ على أنَّه كان يُعْطِيها بعضَ الكِفايَةِ، ولا يُتَمِّمُها لها، فرَخَّصَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لها في أخْذِ تَمامِ الكِفايةِ بغيرِ عِلْمِه؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ، فإنَّ النَّفقةَ لا غِنَى عنها، ولا قِوَامَ إلَّا بها، فإذا لم يَدْفَعْها الزَّوجُ ولم تأْخُذْها، أفْضَى إلى ضَياعِها وهَلاكِها، فرَخَّصَ لها في أخْذِ قَدْرِ نَفَقَتِها، دَفْعًا لحاجَتِها، ولأَنَّ النَّفقةَ تتَجَدَّدُ (¬4) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 288. (¬2) في تش: «أو». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

3990 - مسألة: (فإن لم تقدر، أجبره الحاكم وحبسه)

وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ وَحَبَسَهُ، فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ، دَفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَجَدُّدِ الزَّمانِ شيئًا فشيئًا، فتَشُقُّ المُرافَعَةُ إلى الحاكمِ، والمُطالَبَةُ بها في كلِّ الأوْقاتِ، فلذلك رَخَّصَ لها في أخْذِها بغيرِ إذْنِ مَن هى عليه. وذكر القاضى بينَها وبينَ الدَّيْنِ فَرْقًا آخَرَ، وهو أنَّ نَفقةَ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بفَواتِ وَقْتِها عندَ بعضِ أَهْلِ العلمِ، ما لم يكُنِ الحاكمُ فَرَضَها لها، فلو لم تَأْخُذْ حَقَّها، أفْضَى إلى سُقُوطِها، والإِضْرارِ بها، بخِلافِ الدَّيْنِ، فإنَّه لا يَسْقُطُ عندَ أحَدٍ بتَرْكِ المُطالَبَةِ، فلا يُؤَدِّى تَرْكُ الأخْذِ إلى الإِسْقاطِ. 3990 - مسألة: (فإن لم تَقْدِرْ، أجْبَرَه الحاكِمُ وحَبَسَه) [إذا لم تَقْدِرْ على الأخْذِ مِن مالِه، رافَعَتْه إلى الحاكمِ، فيأْمرُه بالإِنفاقِ، ويُجْبِرُه عليه، فإن أبَى حَبَسَه] (¬1)، فإن صبَر على الحَبْسِ ولم يُنْفِقْ، أخَذَ الحاكِمُ النَّفَقَةَ مِن مالِه فدَفَعَها إلى المَرْأةِ، فإن لم يَجِدْ إلَّا عُروضًا أو عَقارًا، باعَه في ذلك. وبهذا قال مالِكٌ، والشافعىُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ؛ النَّفقةُ في مالِه مِن الدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ، ولا يَبِيعُ عَرْضًا؛ لأَنَّ بَيْعَ مالٍ الإِنْسانِ لا يَنْفُذُ إلَّا بإذْنِه، أو إذْنِ وَلِيِّه، ولا وِلايَةَ على الرَّشِيدِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهِنْدٍ: «خُذِى ما يَكْفِيكِ». ولم يُفَرِّقْ، ولأَنَّ ذلك مالٌ له، فتُؤْخَذُ منه النَّفَقةُ، كالدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ، وللحاكمِ ولايَةٌ عليه إذا امْتَنَعَ، بدليلِ وِلاِيَتِه على دَراهِمِه ودَنانِيرِه. وإن تَعَذَّرَتِ النَّفَقةُ ¬

(¬1) سقط من: م.

3991 - مسألة: (فإن غيب ماله، وصبر على الحبس، فلها الفسخ)

فَإِنْ غَيَّبَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ، فَلَهَا الْفَسْخُ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في حالِ غَيْبَتِه، وله وَكِيلٌ، فَحُكْمُ وَكِيلِه حُكْمُه في المُطالَبَةِ والأخْذِ مِن المالِ عندَ امْتِناعِه، وإن لم يكُنْ له وَكِيلٌ ولم تَقْدِرِ المرأةُ على الأخْذِ، أخَذَ لها الحاكمُ مِن مالِه، ويجوزُ بَيْعُ عَقارِه وعُروضِه في ذلك، إذا لم يَجِدْ (¬1) ما يُنْفِقُ سواه. ويُنْفِقُ على المرأةِ يومًا بيَوْمٍ. وبهذا (¬2) قال الشافعىُّ، ويحيى بنُ آدمَ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: يَفْرِضُ لها في كُلِّ شَهْرٍ. ولَنا، أنَّ هذا تَعْجِيلٌ للنَّفَقةِ قبلَ وُجُوبِها، فلم يَجُزْ، كما لو عَجَّلَ لها أكْثَرَ مِن شَهْرٍ. 3991 - مسألة: (فإن غَيَّبَ مالَه، وصَبَرَ على الحَبْسِ، فلها الفَسْخُ) إذا لم يَقْدِرِ الحاكمُ له على مالٍ يأْخُذُه، أو لم يَقْدِرْ على النَّفَقةِ مِن مالِ الغائِبِ، فِى ظاهِرِ قَوْلِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيارِ أَبى الخَطَّاب. واخْتارَ القاضى أنَّها لا تَمْلِكُ الفَسْخَ. وهو ظاهِرُ مذهب الشافعىِّ؛ لَأنَّ الفَسْخَ في المُعْسِرِ لِعَيْبِ الإِعْسارِ، ولم يُوجَدْ ههُنا، ولأَنَّ المُوسِرَ في مَظِنَّةِ الأخْذِ مِن مالِه، وإذا امْتَنَعَ فرُبَّما لا يَمْتَنِعُ في غَدِه، بخِلافِ المُعْسِرِ. ولَنا، ¬

(¬1) في الأصل: «يتحدد». (¬2) في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَبَ في رِجالٍ غابُوا عن نِسائِهم، فأمَرَهُم بأن يُنْفِقُوا أو يُطَلِّقُوا (¬1). وهذا إجْبارٌ على الطَّلاقِ عندَ الامْتِناعِ مِن الإِنْفاقِ، ولأَنَّ الإِنْفاقَ عليها مِن مالِه مُتَعَذِّرٌ، فكان لها الخِيارُ، كحالِ الإِعْسارِ، بل هذا أَوْلَى بالفَسْخِ؛ فإنَّه إذا جازَ الفَسْخُ على المَعْذُورِ، فعلى غيرِه أَوْلَى، ولأَنَّ في الصَّبْرِ ضَرَرًا أمْكَنَ إزالَتُه بالفَسْخِ، فوَجَبَتْ إزالَتُه دَفْعًا للضَّرَرِ، [ولأنَّه نَوْعُ تَعَذُّرٍ] (¬2) يُجَوِّزُ الفَسْخِ، فلم يَفْتَرِقِ الحالُ بينَ المُعْسِرِ والمُوسِرِ، كأداءِ ثَمَنِ المَبِيعِ، فإنَّه لا فَرْقَ في جَوازِ الفَسْخِ بينَ أن يكونَ المُشْتَرِى مُعْسِرًا، وبينَ أن يَهْرُبَ قبلَ أداءِ الثَّمنِ، ولأَنَّ عَيْبَ الإِعْسارِ إنَّما جَوَّزَ الفَسْخَ لتَعَذُّرِ الإِنْفاقِ، بدليلِ أنَّه لو اقْتَرَضَ ما يُنْفِقُ عليها، أو تَبَرَّعَ له إنْسانٌ بدَفْعِ ما يُنْفِقُه، لم تَمْلِكِ الفَسْخَ. وقولُهم: إنَّه يَحْتَمِلُ أن يُنْفِقَ فيما بعدَ هذا. قُلْنا: وكذلك المُعْسِرُ، يَحْتَمِلُ أن يُعِينَه اللَّهُ تعالى، وأن يَقْتَرِضَ، أو يُعْطَى ما يُنْفِقُه، فاسْتَوَيا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 340. (¬2) في الأصل: «ولا يرجع بعذر».

3992 - مسألة: (وإن غاب)

وَإِنْ غَابَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً، وَلَمْ تَقْدِرْ لَهُ عَلَى مَالٍ، وَلَا الاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، فَلَهَا الْفَسْخُ، إِلَّا عِنْدَ الْقَاضِى، فِيمَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3992 - مسألة: (وإن غاب) زَوْجُها (ولم يَتْرُكْ لها نَفَقَةً) فإن قَدَرَتْ له على مالٍ، أخَذَتْ بِقَدْرِ حاجَتِها؛ لحَدِيثِ هِنْدٍ (و) إن (لم تَقْدِرْ، ولا) قَدَرَتْ (على الاسْتِدانَةِ عليه، فلها الفَسْخُ، إلَّا عِنْدَ القاضِى، فيما إذا لم يَثْبُتْ إعْسارُه) وهذا ظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ الفَسْخَ ثَبَتَ لِعَيْبِ الإِعْسارِ، ولم يَثْبُتِ الإِعْسارُ ههُنا. وقد دَلَّلْنا على جَوازِ الفَسْخِ في المَسْأَلَةِ التى قبلَها، وهذه مِثْلُها، بلِ هى أَوْلَى؛ لأَنَّ الحاضِرَ رُبَّما إذا طالَ عليه الحَبْسُ أنْفَقَ، وهذا قد تكونُ غيْبَتُه بحيثُ لا يُعْلَمُ خَبَرُه، فيكونُ الضَّرَرُ فيه (¬1) أكْثَرَ. فصل: ومَن وَجَبَتْ عليه نَفَقةُ زَوْجَتِه، وكان له عليها دَيْنٌ، [فأرادَ أن يَحْتَسِبَ عليها بدَيْنِه مكانَ نَفَقَتِها، فله ذلك إن كانَتْ مُوسِرَةً؛ لأَنَّ مَن (¬2) عليه حَقٌّ] (¬3)، فله أن يَقْضِيَه (¬4) مِن أىِّ أمْوالِه شاءَ، وهذا مِن مالِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «له». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، ق: «يقبضه». وفى م: «يقتضيه».

3993 - مسألة: (ولا يجوز الفسخ فى ذلك كله إلا بحكم

وَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ فِى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانت مُعْسِرَةً، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأَنَّ قَضاءَ الدَّيْنِ إنَّما يجبُ في الفاضِلِ مِن قُوتِه، وهذا لا يفْضُلُ عنها، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى أمَرَ بإنْظارِ المُعْسِرِ، بقولِه سُبْحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). فيجبُ إنْظارُها بما عليها. فصل: وإذا أنْفَقَتِ المرأةُ على نَفْسِها مِن مالِ زَوْجِها الغائِبِ، ثم بانَ أنَّه قد ماتَ قبلَ إنْفاقِها، حُسِبَ عليها ما أنْفَقَتْه مِن مِيراثِها، سَواءٌ أنْفَقَتْه بنَفْسِها، أو بأمْرِ الحاكمِ. وبهذا قال أبو العالِيَةِ، ومحمَدُ بنُ سِيرِينَ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نَعْلَمُ عن غيرِهم خِلافَهُم؛ لأَنَّها أنْفَقَتْ ما لا تَسْتَحِقُّ. وإن فَضَلَ لها شئٌ، أخَذَتْه، وإن فَضل عليها شئٌ، وكان لها صَداقٌ أو دَيْنٌ على زَوْجها، حُسِبَ منه، وإن لم يكُنْ لها شئٌ، كان الفَضْلُ دَيْنًا عليها. واللَّهُ أَعلمُ. 3993 - مسألة: (ولا يَجُوزُ الفَسْخُ في ذلك كلِّه إلَّا بِحُكْمِ ¬

(¬1) سورة البقرة 280.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاكِمِ) كلُّ مَوْضِعٍ وجبَ لها الفَسْخُ لأجْلِ النَّفقةِ، لم يَجُزْ إلَّا بحُكْمِ حاكمٍ؛ لأنَّه فَسْخٌ مُخْتَلَفٌ فيه، فافْتَقَرَ إلى الحاكمِ، كالفَسْخِ بالعُنَّةِ، [ولا يجوزُ له الفَسْخُ إلَّا أن تَطْلُبَ المرأةُ ذلك؛ لأنَّه لحَقِّها، فلم يَجُزْ مِن غيرِ طَلَبِها، كالفَسْخِ للعُنَّةِ] (¬1). فإذا فَرَّقَ الحاكمُ بينَهما، فهو فَسْخٌ لا رَجْعَةَ له فيه. وبهذا قال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ: هو تَطْلِيقَةٌ، وهو أحَقُّ بها إن أيْسَرَ في عِدَّتِها؛ لأنَّه تَفْرِيقٌ لامْتِناعِه مِن الواجِبِ عليه لها، فأشْبَهَ تَفْرِيقَه بينَ المُولِى وامرأتِه إذا امْتَنَعَ مِن الفَيْئَةِ (¬2) والطَّلاقِ. ولَنا، أنَّها فرْقَةٌ لعَجْزِه عن الواجِبِ عليه (¬3)، أشْبَهَتْ فرْقَةَ العُنَّةِ. فأمَّا إن أجْبَرَه الحاكمُ على الطَّلاقِ، فطَلَّقَ أقَلَّ مِن ثلاثٍ، فله الرَّجْعَةُ عليها ما دامَتْ في العِدَّةِ. فإن راجَعَها وهو مُعْسِرٌ، أو امْتَنَعَ مِن الإِنْفاقِ عليها، ولم يُمْكِنِ الأخْذُ مِن مالِه، فطَلَبَتِ المرأةُ الفَسْخَ، فللحاكِمِ الفَسْخُ؛ لبَقاءِ المُقْتَضِى له، أشْبَهَ ما قبلَ الطَّلاقِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «النفقة». وفى م: «العنة». (¬3) سقط من: الأصل.

باب نفقة الأقارب والمماليك

بَابُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ نَفَقةِ الأقاربِ والمماليكِ (يجبُ على الإِنْسانِ نفقةُ والدَيْه ووَلَدِه بالمَعْروفِ، إذا كانوا فُقَراءَ، وله ما يُنْفِقُ عليهم فاضِلًا عن نَفَقَةِ نَفْسِه وامْرأتِه) الأصْلُ في وُجُوبِ نَفَقةِ الوالدَيْن والموْلُودِين الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ، فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وقال سُبْحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2). ومِن الإِحْسانِ الإِنْفاقُ عليهما عندَ حاجَتِهما. وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِهِنْدٍ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ورَوَتْ عائشةُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ مِنْ (¬4) أَطْيَبِ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». رواه أبو داودَ (¬5). وأَمَّا الإِجْماعُ، فحَكَى (¬6) ابنُ ¬

(¬1) سورة البقرة 233. (¬2) سورة الإسراء 23. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 288. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 17/ 87. (¬6) في م: «فحكاه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُنْذِرِ (¬1)، قال. أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ نَفقةَ الوالِدَيْن الفَقِيرَيْن الَّذَيْن لا كَسْبَ لهما ولا مالَ، واجِبَةٌ في مالِ الوَلَدِ، وأجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ، على أنَّ على المرءِ نَفَقةَ أوْلَادِه الأطْفالِ الذِين لا مالَ لهم. ولأَنَّ وَلَدَ الإِنْسانِ بعْضُه، وهو بَعْضُ والِدِه، فكما يَجِبُ عليه أن يُنْفِقَ على نَفْسِه وأهْلِه، كذلك على بَعْضِه وأصْلِه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الأُمَّ تَجِبُ نَفَقَتُها، ويَجِبُ عليها نَفَقةُ وَلَدِها إذا لم يكُنْ له أبٌ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّه لا نَفَقةَ لها ولا عليها؛ لأنَّها ليستْ عَصَبةً لوَلَدِها. ولَنا، قولُه سُبْحانَه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لرَجُلٍ سألَه: مَن أبَرُّ؟ قال: «أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَكَ، ثُمَّ أُمَكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ (¬2) الأقْرَبَ فالأقْرَبَ». رواه أبو داودَ (¬3). ولأنَّها أحَدُ الوالِدَيْن، فأشْبَهَتِ الأبَ، ولأَنَّ بينَهما قَرابَةً تُوجِبُ رَدَّ الشهادةِ، ووُجُوبَ العِتْقِ (¬4)، فأشْبَهَتِ الأبَ. فإِنْ أعْسَرَ الأبُ، وجَبَتِ النَّفقةُ على الأُمِّ، ولم تَرْجِعْ بها عليه إن أيْسَرَ، وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: تَرْجِعُ عليه. ولَنا، أنَّ مَن وَجَبَ عليه الإِنْفاقُ بالقَرابَةِ، لم يَرْجِعْ به، كالأبِ. ¬

(¬1) انظر: الإشراف 1/ 128، 129. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في: 7/ 94. (¬4) في م: «العفو».

3994 - مسألة: (ويلزمه نفقة سائر آبائه وإن علوا، وأولاده وإن سفلوا)

وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ سَائِرِ آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3994 - مسألة: (ويَلْزَمُه نَفَقَةُ سائِرِ آبائِه وإن عَلَوْا، وأوْلادِه وإن سَفَلُوا) وبذلك قال الشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال مالِكٌ: لا تَجِبُ النَّفَقةُ عليهم ولا لهم؛ لأَنَّ الجَدَّ ليس بأبٍ حَقِيقِىٍّ. ولَنا، قولُه سُبْحانَه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬1). ولأنَّه يَدْخُلُ في مُطْلَقِ اسْمِ الوَلَدِ والوالِدِ، بدليلِ أنَّ اللَّهَ تعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2). فيَدْخُلُ فيهم وَلَدُ البَنِينَ. وقال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (2). وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬3). ولأَنَّ بينَهما قَرابَةً تُوجِبُ العِتْقَ ورَدَّ الشهادةِ، فأشْبَهَ الوَلَدَ والوالِدَينِ القَرِيبَيْنِ (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة 233. (¬2) سورة النساء 11. (¬3) سورة الحج 78. (¬4) في الأصل: «والقريبين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ لوُجُوبِ الإِنْفاقِ ثَلاثَةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أن يكونُوا فُقَراءَ لا مالَ لهم، ولا كَسْبَ يَسْتَغنُونَ (¬1) به عن إنْفَاقِ غيرِهم، فإن كانُوا مُوسِرِينَ بِمَالٍ أو كَسْبٍ يَكْفِيهِم، فلا نَفَقةَ لهم؛ لأنَّها تَجِبُ على سبِيلِ المُواساةِ، والمُوسِرُ مُسْتَغْنٍ عن المُواساةِ. الثانى، أن يكونَ لِمَن ¬

(¬1) في الأصل: «يستعينوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجِبُ عليه النَّفقةُ ما يُنْفِقُ عليهم، فاضِلًا عن نَفَقةِ نَفْسِه، إمَّا مِن مالِه، وإمَّا مِن كَسْبِه. فأمَّا مَن لا يَفْضُلُ عنه شئٌ، فليس (¬1) عليه شئٌ؛ لِما روَى جابِرٌ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا كان أحَدُكُمْ فَقِيرًا، فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإن فَضَلَ، فعَلَى عِيالِهِ، فإنْ كان فَضْلٌ، فَعَلَى قَرابَتِهِ» (¬2). وفى لَفْظٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ». حَدِيثٌ صَحِيحٌ (¬3) وروَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، عندِى دِينارٌ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ». قال. عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ». قال: عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ». قال: عندِى آخَرُ. قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ». قال: عندى آخَرُ. قال: «أنْتَ أبْصَرُ». روأه أبو داودَ (¬4). ولأنَّها مُواساةٌ، فلا تَجبُ على المُحْتاجِ، كالزَّكاةِ. الثالثُ، أن يكونَ المُنْفقُ وارِثًا، لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. ولأَنَّ بينَ المُتَوارِثين قَرابَةً تَقْتَضِى كَوْنَ الوارِثِ أحَقَّ بمالِ المَوْرُوثِ مِن سائِرِ الناسِ، فيَنْبَغِى أن ¬

(¬1) في ق، م: «فلا يجب». (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 340، حاشية 3. (¬3) قال الحافظ: لم أجده هكذا. تلخيص الحبير 2/ 184. وانظر ما تقدم في التخريج السابق. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْتَصَّ بوُجُوبِ صِلَتِه بالنَّفَقةِ دُونَهم، فإن لم يكُنْ وَارِثًا لعَدَمِ القَرابَةِ، لم تَجِبْ عليه النَّفقةُ لذلك (¬1). فصل: ولا يُشْتَرَطُ في نَفَقةِ الوَالِدَيْن والمَوْلُودِين نَقْصُ الخِلْقَةِ، ولا نَقْصُ الأحْكامِ، في ظاهرِ الذَّهَبِ، وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وقال القاضى: لا يُشْتَرَطُ ذلك في الوَالِدَيْن. وهل يُشتَرَطُ ذلك في الوَلَدِ؟ فكلامُ أحمدَ يَقْتَضِى رِوايتَيْن؛ إحْداهما، تَلْزَمُ نَفَقَتُه؛ لأنَّه فَقِيرٌ. والثانيةُ، أنَّه إن كان يَكْتَسِبُ فيُنْفِقُ على نَفْسِه، لم تَلْزَمْ نَفَقَتُه. وهذا القولُ يَرْجِعُ إلى (¬2) الذى لا يَقْدِرُ على الكَسْبِ بما (¬3) يَقُومُ به تَلْزَمُ نَفَقَتُه، رِوايةً واحِدَةً، سواءٌ كان ناقِصَ الأَحْكامِ، كالصَّغِيرِ والمَجْنونِ، أو ناقِصَ الخِلْقَةِ، كالزَّمِنِ. وإنَّما الرِّوايتانَ في مَن لا حِرْفَةَ له ممَّن يَقدِرُ على الكَسْبِ ببَدَنِه (¬4). وقال الشافعىُّ: يُشْتَرَطُ نُقْصانُه، إمَّا مِن طَريقِ الحُكْمِ، أو مِن طَريقِ الخِلْقَةِ. وِقال أبو حنيفةَ: يُنْفَقُ على الغُلامِ حتى يَبْلُغَ، فإذا بَلَغَ صَحِيحًا انْقَطَعَتْ نفَقَتُه، ولا تَسْقُطُ نَفَقةُ الجارِيَةِ حتى تَتَزَوَّجَ. ونحوَه قال مالِكٌ، إلَّا أنَّه قال: يُنْفَقُ على النِّساءِ حتى يتَزَوَّجْنَ ويَدْخُلَ بهِنَّ الأزْواجُ، ثم لا نَفقةَ لَهُنَّ، وإن طُلِّقْنَ قبل البِناءِ بِهِنَّ، فهُنَّ على نَفَقَتِهِنَّ. ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) بعده في م: «أن». (¬3) في م: «ما». (¬4) في م: «بيديه».

3995 - مسألة: (وتلزمه نفقة كل من يرثه بفرض أو تعصيب ممن سواهم، سواء ورثه الآخر أو لا، كعمته، وعتيقه. وحكى عنه، إن لم يرثه الآخر، فلا نفقة له)

وَتَلْزَمُهُ نَفَقَةُ كُلِّ مَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ مِمَّنْ سِوَاهُمْ؛ سَواءٌ وَرِثَهُ الْآخَرُ أَوْ لَا، كَعَمَّتِهِ، وَعَتِيقِهِ، وَحُكِىَ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَرِثْهُ الْآخَرُ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهِنْدٍ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ» (¬1). ولم يَسْتَثْنِ منهم بالغًا ولا صحيحًا، ولأنَّه وَالِدٌ أو وَلَدٌ فَقِيرٌ، فاسْتَحَقَّ النَّفقةَ على والِدِه أو وَلَدِه الغَنِىِّ، كما لو كان زَمِنًا. ووافَقَ أبو حنيفةَ على وُجُوبِ نَفَقَةِ الوالِدِ وإن كان صَحِيحًا، إذا لم يكنْ ذا كَسْبٍ. وللشافعىِّ في ذلك قَوْلان، ولَنا، أنَّه والِدٌ مُحْتاجٌ، فأشْبَهَ الزَّمِنَ. 3995 - مسألة: (وتَلْزَمُه نَفَقةُ كلِّ مَن يَرِثُه بِفَرْضٍ أو تَعْصِيبٍ مِمَّن سِواهُم، سَواءٌ وَرِثَه الآخَرُ أَوْ لا، كعَمَّتِهِ، وعَتِيقِه. وحُكِىَ عنه، إن لم يَرِثْه الآخَرُ، فلا نَفَقَةَ لَهُ) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ النَّفقةَ تجبُ على كلِّ وارثٍ لمَوْرُوثِه، إذا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ التى تَقَدَّمَ ذِكْرُها. وهو الذى ذكَرَه الخِرَقِىُّ. وبه قال الحسنُ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ، والحسنُ بنُ صالحٍ، وابنُ أبى لَيْلَى، وأبو ثَوْرٍ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ، في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّبِىِّ المُرْضَعِ لا أبَ له (¬1)، نَفَقَتُه وأجْرُ رَضاعِه على الرِّجالِ دُونَ النِّساءِ. وكذلك روَى [بكرُ بنُ محمدٍ] (¬2) عن أبِيه، عن أحمدَ، النَّفقةُ على العَصَباتِ. وبه قال الأوْزاعِىُّ، وإسْحاقُ. وذلك لِما رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى على بَنِى عَمِّ مَنْفُوسٍ بنَفَقَتِه (¬3). احْتَجَّ به أحمدُ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): ورُوِىَ عن عمرَ، أنَّه حَبَسَ عَصَبَةً يُنْفِقُونَ على صَبِىٍّ، الرجالَ دُونَ النِّساءِ (¬5). ولأنَّها مُواساةٌ ومَعُونَةٌ تَخْتَصُّ القَرابَةَ (¬6)، فاخْتَصَّتْ بالعَصَباتِ، كالعَقْلِ (¬7). وقال أصْحابُ الرَّأْى: تجبُ النَّفَقةُ على كلِّ ذِى رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ولا تجبُ على غيرِهم، لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬8). ¬

(¬1) بعده في المغنى 11/ 381: «ولا جد». (¬2) تكملة من المغنى 11/ 381، وانظر ترجمة محمد بن بكر في: طبقات الحنابلة 1/ 119، 120. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 59. وابن أبى شيبة في: المصنف 5/ 246، 247. وابن جرير، في: التفسير 2/ 500. (¬4) انظر: الإشراف 1/ 130. (¬5) أخرجه سعيد، في: سننه 12/ 113. والبيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 478. (¬6) في الأصل: «الولاية». (¬7) في الأصل: «كالعقد». وفى تش: «كالفقراء». (¬8) سورة الأنفال 75، وسورة الأحزاب 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالِكٌ، والشَّافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا نَفَقةَ إلَّا على المَوْلُودِين والوالدين؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لِرَجُلٍ سألَه: عندى دِينارٌ؟ قال: «أنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ». قال: عندى آخَرُ. قال: «أنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ». قال: عندى آخَرُ. قال: «أنْفِقْهُ عَلَى زَوْجِكَ». قال: عندى آخَرُ. قال: «أنْفِقْهُ عَلَى خَادمِكَ». قال: عندى آخَرُ. قال: «أنْتَ أبْصَرُ». رواه أبو داودَ (¬1). ولم يأْمُرْه بإنْفاقِه على غيرِ هؤلاءِ، ولأَنَّ الشَّرْعَ إنَّما ورَدَ بنَفَقَةِ الوالدين والمَوْلُودِين، ومَن سِوَاهُم لا يَلْحَقُ بهم في الوِلادَةِ وأحْكامِها، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليهم. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. فَأوْجَبَ على الأَبِ نَفَقةَ الرَّضاعِ، ثم عَطَفَ الوَارِثَ عليه، فأوْجَبَ على الوَارِثِ مِثْلَ ما أوْجَبَ على الوالِدِ. ورُوِىَ أنَّ رَجُلًا سألَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 95.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَن أبَرُّ؟ قال: «أُمَّكَ وأباكَ، وأُخْتَكَ وأخَاكَ» (1). وفى لَفْظٍ: «ومَوْلَاكَ الذى هو أدْنَاكَ، حَقًّا وَاجبًا، ورَحِمًا مَوْصُولًا». رواه أبو داودَ (¬1). وهذا نَصٌّ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلْزَمَه الصِّلَةَ والبِرَّ، والنَّفَقةُ مِن الصِّلَةِ، جَعَلَها حَقًّا واجِبًا، وما احْتَجَّ به أبو حنيفةَ حُجَّةٌ عليه، فإنَّ اللَّفْظَ عامٌّ في كُلِّ ذِى رَحِمٍ (¬2). فيكونُ حُجَّةً عليه في مَن عَدا الرَّحِمِ المَحْرَمِ (¬3)، وقد اخْتَصَّتْ بالوارِثِ في الإِرْثِ، فكذلك في الإِنْفاقِ. وأمَّا خَبَرُ أصْحابِ الشافعىِّ، فقَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، يَحْتَمِلُ أنَّه لم يكُنْ له غيرُ مَن أُمِرَ بالإِنْفاقِ عليه، ولهذا لم يَذْكُرِ الوالِدَ والأجْدادَ وأوْلادَ الأوْلادِ. وقولُهم: لا يَصِحُّ القِياسُ. قُلْنا: إنَّما أثْبَتْناه بالنَّصِّ، ثم إنَّهم قد ألْحَقُوا أوْلادَ الأوْلادِ بالأوْلادِ (4)، مع التَّفاوُتِ، فبَطَلَ ما قالوه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَخْتَصُّ بالوارِثِ بفَرْضٍ أو تَعْصِيبٍ؛ لعُمُومِ الآيةِ، ولا يَتَناولُ ذَوِى الأرْحامِ، على ما نَذْكُرُه. ¬

(¬1) هما حديث واحد أخرجهما في: باب في بر الوالدين، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 629. (¬2) بعده في م: «محرم». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان اثْنانِ يَرِثُ أحَدُهما قَرِيبَه ولا يَرِثُه الآخَرُ، كالرَّجُلِ مع عَمَّتِه أو ابْنَةِ عَمِّه وابْنَةِ أخِيه (¬1)، والمرأةِ مع ابْنَةِ بِنْتِها وابْنِ بِنْتِها، فالنَّفقَةُ على الوارِثِ دُوِنَ المَوْرُوثِ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ ابنِ زِيادٍ، فقال: يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفقةُ بنتِ عمِّه، ولا يَلْزَمُه نَفَقةُ بنتِ أُخْتِه. وذكَرَ أصْحابُنا رِوايَةً أُخْرَى، لا تَجِبُ النَّفقةُ على الوارِثِ ههُنا؛ لأنَّها قَرابَةٌ ضَعِيفَةٌ، لِكَوْنِها لا تُثْبتُ التَّوارُثَ مِن الجِهَتَيْن (¬2)؛ لقولِ أحمدَ: العَمَّةُ والخالَةُ لا نَفَقةَ لهما. إلَّا أنَّ القاضِىَ قال: هذه الرِّوايةُ محمولةٌ على العَمَّةِ مِن الأُمِّ، فإنَّه لا يَرِثُها؛ لِكَوْنِه ابْنَ أخِيها مِن أُمِّها. وذكَرَ الخِرَقِىُّ، أنَّ على الرَّجُلٍ نَفَقةَ مُعْتَقِه؛ لأنَّه وارِثٌ. ومَعْلُومٌ أنَّ المُعْتَقَ لَا يَرِثُ مُعْتِقَه، ولا يَلْزَمُه نفَقَتُه. فعلى هذا، يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقةُ عَمَّتِه لأبَوَيْه أو لأبِيه وابْنةِ عَمِّه وابْنَةِ أخيه (¬3) كذلك، ولا يَلْزَمُهُنَّ نَفَقَتُه. وهذا هو الصَّحِيحُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى؛ لقولِ اللَّهِ سبحانَه وتعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. وكلُّ واحدٍ مِن هؤلاءِ وارِثٌ. ¬

(¬1) في تش: «أخته». (¬2) في تش: «الطرفين». (¬3) في الأصل: «أخته».

3996 - مسألة: (فأما ذوو الأرحام، فلا نفقة عليهم، رواية واحدة. ذكره القاضى. وقال أبو الخطاب، يخرج فى وجوبها عليهم روايتان)

فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ذَكَرَهُ الْقَاضِى. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُخَرَّجُ فِى وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 3996 - مسألة: (فأمَّا ذَوُو الأرْحامِ، فلا نَفَقَةَ عليهم، رِوايَةً واحِدَةً. ذَكَرَه القاضِى. وقال أبو الخَطَّابِ، يُخَرَّجُ فِى وُجُوبِها عليهم رِوايَتان) أمَّا ذَوُو الأرْحامِ الذِين لا يَرِثُونَ بفَرْضٍ ولا تَعْصِيبٍ، فإن كانُوا مِن غيرِ عَمُوِدَىِ النَّسَبَ، فلا نَفَقةَ عليهم. نَصَّ عليه أحمدُ، فقال: الخالَةُ والعَمَّةُ لا نفقةَ عليهما. قال القاضى: لا نَفَقةَ لهم رِوايَةً واحدَةً؛ لأَنَّ قَرابَتَهم ضَعِيفَةٌ، وإنَّما يَأْخُذونَ مالَه عندَ عَدَمِ الوارِثِ، فهم كسائرِ المُسْلِمِين، فإنَّ المالَ يُصرَفُ إليهم إذا لم يكُنْ للمَيِّتِ وارِثٌ، وذلك الذى يَأْخُذُه بَيْتُ المالِ، ولذلك يُقَدَّمُ الرَّدُّ عليهم. وقال أبو الخَطَّابِ: يُخَرَّجُ في وُجُوبِها عليهم رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ النَّفقةَ تَلْزَمُهم عندَ عَدَمِ العَصَباتِ وذَوِى الفُرُوضَ؛ لأنَّهم وارِثُونَ في تلك الحالِ. قال ابنُ أبى موسى: هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يتَوَجَّهُ على مَعْنى قولِه، والأَوَّلُ هو المَنْصُوصُ عنه. فأمَّا عَمُودَا (¬1) النَّسَبِ، فذكَرَ القاضى ما يَدُلُّ على أنَّه يجبُ الإِنْفاقُ عليهم، سَواءٌ كانوا مِن ذَوِى الأرْحام، كأبِى الأُمِّ وابنِ البِنْتِ، أو مِن غيرِهم، وسواءٌ كانوا مَحْجُوبِين أو وَارِثِين. وهذا مذهبُ الشَّافعىِّ؛ وذلك لأَنَّ قَرابَتَهم قَرابَةٌ جُزْئِيَّةٌ وبَعْضِيَّةٌ (¬2)، تَقْتَضِى رَدَّ الشَّهادةِ، وتَمْنَعُ جَرَيانَ القِصاصِ على الوالدِ بقَتْلِ الوَلَدِ وإن سَفَلَ، فأوْجَبَتِ النَّفَقةَ على كلِّ حالٍ، كقَرابَةِ الأبِ الأَدْنَى. ¬

(¬1) في تش، م: «عمود». (¬2) في الأصل: «عصبية»، وفى تش: «تعصيب».

3997 - مسألة: (وإن كان للفقير وراث، فنفقته عليهم على قدر إرثهم منه)

وَإِنْ كَانَ لِلْفَقِيرِ وُرَّاثٌ، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ، فَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِى عَلَى الْجَدِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 3997 - مسألة: (وإن كان للفَقيرِ وُرَّاثٌ، فنَفَقَتُه عليهم على قَدْرِ إِرْثِهم منه) لأَنَّ اللَّهَ تعالى رَتَّبَ النَّفَقَةَ عَلَى الإِرْثِ، بقَوْلِه سُبْحانَهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. فيَجِبُ أن يَتَرَتَّبَ فِى المِقْدارِ عليه. وجملةُ ذلك، أنَّ الصَّبِىَّ إذا لم يكُنْ له أبٌ، فالنَّفقةُ على وارِثِه، لِمَا ذكَرْنا. فإن كان له وارِثان، فالنَّفَقةُ عليهما، على قَدْرِ إرْثِهِما منه، وإن كانوا ثَلاثةً أو أكثرَ، فالنَّفَقةُ عليهم على قَدْرِ إرْثِهِم منه. 3998 - مسألة: (فإذا كان له أُمٌّ وجَدٌّ، فعلى الأُمِّ الثُّلُثُ، والبَاقِى على الجَدِّ) لأنَّهما يَرِثانِه كذلك. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: النَّفقةُ كلها على الجَدِّ؛ لأنَّه يَنْفَرِدُ بالتَّعْصِيبِ، فأشْبَهَ الأبَ. وقد ذكَرْنا عن أحمدَ رِوايةً أُخْرَى، أنَّ النَّفقةَ على العَصَباتِ خاصَّةً. ووَجْهُ الأَوَّلِ ما ذكَرْنا مِن الآيةِ، والأُمُّ وارثَةٌ، فكان عليها بالنَّصِّ، ولأنَّه مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بالنَّسَبِ، فلم يَخْتَصَّ به العَصَبَةُ دُونَ الأُمِّ كالورَاثَةِ (¬1). فصل: فإنِ اجْتَمَعَ ابْنٌ وبنتٌ، فالنَّفقَةُ بينَهما أثْلاثًا، كالمِيراثِ. ¬

(¬1) في الأصل: «كالوارثة».

3999 - مسألة: (وإن)

وَإِنْ كَانَتْ جَدَّةٌ وَأَخٌ، فَعَلَى الْجَدَّةِ السُّدْسُ، وَالْبَاقِى عَلَى الْأَخِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو حنيفةَ: النَّفقةُ (¬1) عليهما سَواءٌ؛ لاسْتِوائِهما في القُرْبِ. وإن كانت أُمٌّ وابنٌ، فعلى الأُمِّ السُّدْسُ، والباقِى على الابنِ. وإن كانت بنتٌ وابنُ ابنٍ، فالنَّفقَةُ عليهما نِصْفان (¬2). وعندَ أبى حنيفةَ، هى على البنتِ؛ لأنَّها أقْرَبُ. وقال الشافعىُّ في المسائلِ الثَّلاثَةِ: النَّفقةُ على الابنِ؛ لأنَّه العَصَبةُ. فإن كانت له أُمٌّ وبِنْتٌ، فالنَّفَقةُ عليهما أرْباعًا، كمِيراثِهما منه. وبه قال أبو حنيفةَ. وعندَ الشافعىِّ، النَّفقةُ على البِنْتِ؛ لأنَّها تكونُ عَصَبةً مع أخيها (¬3). فإن كان له [بِنْتٌ و] (¬4) ابنُ بِنْتٍ، فالنَّفَقةُ على البِنْتِ. وقال أصْحابُ الشَّافعىِّ: النَّفَقةُ على الابنِ، في أحَدِ الوجْهَيْن؛ لأنَّه ذَكَرٌ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. فرَتَّبَ النَّفَقةَ على الإِرْثِ، فيجبُ أن تَتَرَتَّبَ في المِقْدارِ عليه، وإيجابُها على ابنِ البِنْتِ يُخالِفُ النَّصَّ والمَعْنَى، فإنَّه ليس بعَصَبَةٍ ولا وارِثٍ، فلا معنى لإِيجابِها عليه دُونَ البِنْتِ الوارثةِ. 3999 - مسألة: (وإنِ) اجْتَمَعَ (جَدَّةٌ وأخٌ، فعلى الجَدَّةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «نصفين». (¬3) في تش: «أختها». (¬4) سقط من: الأصل.

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حِسَابُ النَّفَقَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّدْسُ، والباقى على الأخِ) لِأَنَّ مِيراثَهُما منه كذلك (وعلى هذا المَعْنَى حِسَابُ النَّفَقاتِ) يعنى أنَّ تَرْتِيبَ النَّفقاتِ على تَرْتِيبِ المِيراثِ، فكما أنَّ للجَدَّةِ السُّدْسَ مِن الميراثِ، فكذلك عليها سُدْسُ النَّفقةِ، والباقِى على الأخِ؛ لأَنَّ باقىَ المِيراثِ له. وعندَ مَن لا يَرَى النَّفقةَ على غيرِ عَمُودَىِ النَّسَبِ، يَجْعَلُ (¬1) النَّفقةَ كلَّها على الجَدَّةِ. وهذا أصْلٌ قد سَبَقَ الكلامُ فيه. فإنِ اجْتَمَعَ بِنْتٌ وأُخْتٌ، أو بِنْتٌ وأَخٌ، أو بِنْتٌ وعَصَبَةٌ، أو أُخْتٌ وعَصَبَةٌ، أو أُخْتٌ وأُمٌّ، أو بِنْتٌ وبِنْتُ ابنٍ، [أَو أُخْتٌ لأبَوَيْن وأختٌ لأبٍ] (¬2)، أو ثَلاثُ أخواتٍ مُفْتَرِقاتٍ، فالنَّفَقةُ بينهم على قَدْرِ المِيراثِ في ذلك، سَواءٌ كان في المسألةِ رَدٌّ أو عَوْلٌ أو لم يكُنْ. [وعلى] (2) هذا تَحْسِبُ ما أتاكَ مِن المسائلِ. فإنِ اجْتَمَعَ أمُّ أُمٍّ وأمُّ أبٍ، فهما سَواءٌ في النَّفَقَةِ؛ لاسْتِوائِهما في المِيراثِ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «تحصل». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اجْتَمَعَ معها أبوا (¬1) أُمٍّ، فالنَّفقةُ على أُمِّ الأُمِّ، لأنَّها الوَارِثَةُ. وإنِ اجْتَمَعَ أُمُّ أبٍ وأبَوانِ، فعلى أُمِّ (¬2) الأبِ السُّدْسُ، والباقى على الجَدِّ. وإنِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وأخٌ، فهما سَواءٌ. وإنِ اجْتَمَعَتْ أُمٌّ وجَدٌّ وأخٌ، فالنَّفقةُ عليهم أثْلاثًا. وعندَ الشافعىِّ، النَّفقةُ على الجَدِّ في هذه المسائلِ كلِّها، إلَّا المسألةَ الأُولَى، فالنَّفقةُ عليهما بالسَّوِيَّةِ، وقد مَضَى الكَلامُ في هذا. فصل: فإن كان في مَن عليه النَّفَقةُ خُنْثَى مُشْكِلٌ، فالنَّفَقةُ عليه على قَدْرِ مِيراثِه، فإنِ انْكَشَفَ بعدَ ذلك حالُه، فبانَ أنَّه أنْفقَ أكثرَ مِن الواجِبِ عليه، رَجَعَ بالزِّيادَةِ على شَرِيكِه في الإِنْفاقِ. وإن بانَ أنَّه أنْفقَ أقَلَّ، رَجَعَ عليه، فلو كان للرجلِ ابنٌ ووَلَدٌ خُنْثَى، عليهما نَفَقتُه، فأنْفَقا عليه، ثم بانَ أنَّ (¬3) الخُنْثَى ابنٌ، رَجَعَ عليه أخُوه بالزِّيادَةِ، وإن بانَ بِنْتًا، رَجَعَتْ على أخِيها بفَضْلِ نَفَقَتِها؛ لأَنَّ مَن له الفَضْلُ أدَّى ما لا يجبُ عليه أداؤُه، مُعْتَقِدًا وُجُوبَه، فإذا تَبَيَّنَ خِلافُه، رَجَعَ بذلك، كما لو أدَّى ما يَعْتَقِدُه دَيْنًا فبَانَ خِلافُه. ¬

(¬1) في النسخ: «أبو»، وانظر المغنى 11/ 385. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

4000 - مسألة: (إلا أن يكون له أب، فتكون النفقة عليه وحده)

إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ، فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4000 - مسألة: (إلَّا أن يَكُونَ له أبٌ، فتَكُونُ النَّفَقَةُ عليه وَحْدَه) لأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1). وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (¬2). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهندٍ (¬3): «خُذِى ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالْمَعْرُوفِ» (¬4). فجعَلَ النَّفقةَ عليه دُونَها، ولا خِلافَ في هذا نَعْلَمُه، إَلَّا أنَّ لأصْحابِ الشافعىِّ، فيما إذا اجْتَمَعَ للفَقيرِ أبٌ وابْنٌ مُوسِران، وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ النَّفقةَ على الأبِ وحدَه. والثانى، عليهما؛ لأنَّهما ¬

(¬1) سورة الطلاق 6. (¬2) سورة البقرة 233. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 288.

4001 - مسألة: (ومن له ابن فقير وأخ موسر، فلا نفقة له عليهما)

وَمَنْ لَهُ ابْنٌ فَقِيرٌ وَأَخٌ مُوسِرٌ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا. وَمَنْ لَهُ أُمٌّ فَقِيرَةٌ وَجَدَّةٌ مُوسِرَةٌ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ في القُرْبِ. ولَنا، أنَّ النَّفقةَ على الأبِ مَنْصوصٌ عليها، فيَجِبُ اتِّباعُ النَّصِّ، وتَرْكُ ما عَداه. 4001 - مسألة: (ومَن له ابنٌ فَقِيرٌ وأَخٌ مُوسِرٌ، فلا نَفَقَةَ له عليهما) وهكذا ذَكَرَه القاضِى، وأبو الخَطَّابِ؛ لأَنَّ الابنَ لا نَفَقةَ عليه لعُسْرَتِه، والأخَ لا نَفَقةَ عليه لعَدَمِ إرْثِه، ولأَنَّ قَرابَتَه ضَعِيفَةٌ لا تَمْنَعُ شَهادَتَه له، فإذا لم يكُن وارِثًا، لم تَجِبْ عليه النَّفقةُ، كذَوِى الرَّحِمِ. قال شيْخُنا (¬1): ويتَخرَّجُ في كلِّ وارِثٍ، لولا الحجْبُ، إذا كان مَن يَحْجُبُه مُعْسِرًا، وجْهان؛ أحَدُهما، لا نَفَقةَ عليه؛ لأنَّه غيرُ وارثٍ، أشْبَهَ الأجْنَبِىَّ. والثانى، عليه النَّفقَةُ؛ لوُجُودِ القَرابَةِ المُقْتَضِيَةِ للإِرْثِ والإِنْفاقِ، والمانِعُ مِن الإِرْثِ لا يَمْنَعُ مِن الإِنْفاقِ؛ لأنَّه مُعْسِرٌ لا يُمْكِنُه الإِنْفاقُ، فوُجُودُه بالنِّسبةِ إلى الإِنْفاقِ كعَدَمِه. 4002 - مسألة: (ومَن له أُمٌّ فَقِيرَةٌ وَجَدَّةٌ مُوسِرَةٌ، فالنَّفَقَةُ عليها) ¬

(¬1) في المغنى 11/ 377.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْنِى على الجَدَّةِ. وجملةُ ذلك، أنَّ الوارِثَ القَريبَ إذا كان مُعْسِرًا، وكان البَعِيدُ المُوسِرُ مِن عَمُودَىِ النَّسَبِ كهذِه المسألةِ، وجَبَتْ نَفَقَتُه على المُوسِرِ. ذكَرَ القاضى، في أبٍ مُعْسِرٍ وجَدٍّ مُوسِرٍ، أنَّ النَّفقَةَ على الجَدِّ. وقال في أُمٍّ مُعْسِرَةٍ وجَدَّةٍ مُوسِرَةٍ: النَّفَقةُ على الجَدَّةِ. وقد قال أحمدُ: لا يَدْفَعُ الزَّكاةَ إلى وَلَدِ ابْنَتِه؛ لِقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للحَسَنِ: «إنَّ ابْنِى هذا سَيِّدٌ» (¬1). فَسمَّاه ابْنَه، وهو ابْنُ بنْتِه، وإذا مُنِعَ مِن دَفْعِ الزَّكاةِ إليهم لقَرابَتِهم، يَجِبُ أن تَلْزَمَه نفَقَتُهم مع حاجَتِهِم. وهذا مذهبُ الشَّافعىِّ. فصل: فإن كان له قَرابتانِ مُوسِران، وأحَدُهما مَحْجُوبٌ عن مِيراثِه بفَقِيرٍ، فقد ذكَرْنا أنَّ المَحْجُوبَ إذا كان مِن عَمُودَىِ النَّسَبِ، فالظَّاهِرُ أنَّ الحَجْبَ لا يُسْقِطُ النَّفقَةَ عنه، في المسألةِ قبلَ هذا الفصلِ. وإن كان مِن غيرِهما، فلا نَفَقةَ عليه في الظاهرِ. فعلى هذا، إذا كان له أبوان وجَدٌّ، والأبُ مُعْسِرٌ، فالأبُ كالمعْدومِ، فيكونُ على الأُمِّ ثُلُثُ النَّفقةِ، والباقِى على الجَدِّ. وإن كان معهم زَوْجَةٌ فكذلك. وإن قُلْنا: لا نَفَقةَ على المَحْجُوبِ. فليس على الأُمِّ ههُنا إلَّا رُبْعُ النَّفقَةِ، ولا شئَ على الجَدِّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 288.

4003 - مسألة: (ومن كان صحيحا مكلفا لا حرفة له سوى

وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُكَلَّفًا لَا حِرْفَةَ لَهُ سِوَى الْوَالِدَيْنِ، فَهَلْ تَجِبُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان أبوان وأخوان وجَدٌّ، والأبُ مُعْسِرٌ، فلا شئَ على الأخَوَيْن؛ لأنَّهما مَحْجُوبان وليسا مِن عَمُودَىِ النَّسَبِ، ويكون على الأُمِّ الثُّلُثُ، والباقى على الجَدِّ، كما لو لم يكُنْ أحَدٌ غيرَهما. ويَحْتَمِلُ أن لا يجبَ على الأُمِّ إلَّا السُّدْسُ؛ لأنَّه لو كان الأبُ مَعْدُومًا، لم تَرِثْ إلَّا السُّدْسَ. وإن قُلْنا: إنَّ كلَّ مَحْجُوبٍ لا نَفَقةَ عليه. فعلى الأمِّ السُّدْسُ حَسْبُ، ولا شئَ على غيرِها. وإن لم يكُنْ في المسألةِ جَدٌّ، فالنَّفَقةُ كلُّها على الأمِّ، على القَوْلِ الأَوَّلِ. وعلى الثانى، ليس عليها إلَّا السُّدْسُ. وإن قُلْنا: إنَّ على المَحْجُوبِ بالمُعْسِرِ (¬1) النَّفَقةَ، وإن كان مِن غيرِ عَمُودَىِ النَّسَبِ. فعلى الأُمِّ السُّدْسُ، والباقى على الجَدِّ والأخوَيْن أثْلاثًا، كما يَرِثُونَ إذا كان الأبُ مَعْدُومًا. فإن كان [بعْضُ مَنْ] (¬2) عليه النَّفَقةُ غائِبًا، وله مالٌ حاضِرٌ، أنْفقَ الحاكمُ منه حِصَّتَه، وإن لم يُوجَدْ له مالٌ حاضِرٌ، فأمْكَنَ الحاكمَ الاقْتِراضُ عليه، اقتَرَضَ، فإذا قَدِمَ، فعليه وَفاؤُه. 4003 - مسألة: (ومَنْ كان صَحِيحًا مُكَلَّفًا لا حِرْفَةَ له سوى ¬

(¬1) في م: «بالمسر». (¬2) في الأصل: «بعضهم».

نَفَقَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوالِدَيْنِ، فهل تَجِبُ نَفَقَتُه؟ على روايَتَيْن) إحداهما، تجبُ إذا كان فَقِيرًا عاجِزًا عن الكَسْبِ؛ لعُمومِ قَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهِنْدٍ: «خُذِى ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ» (¬1). ولم يَسْتَثْنِ منهم بالِغًا ولا صَحِيحًا، ولأنَّه وَلَا فَقِيرٌ، فاسْتَحَقَّ النَّفَقةَ على والدِه الغَنِىِّ، كالزَّمِنِ. والثانيةُ، لا تَجبُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 288.

4004 - مسألة: (ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحد، بدأ

وَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ عِنْدَهُ إلَّا نَفَقَةُ وَاحِدٍ، بَدَأَ بِالْأقْرَبِ فَالأقْرَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال أبو حنيفةَ، والشَّافعىُّ، في الولَدِ الذَّكَرِ. فأمَّا الجارِيَةُ، فقال أبو حنيفةَ: لا تَسْقُطُ نَفَقَتُها حتى تتَزَوَّجَ. ونحوُه قولُ مالكٍ؛ لأنَّه في مَظِنَّةِ الكَسْبِ، يَقْدِرُ عليه غالِبًا، أشْبَهَ الغَنِىَّ. والأَوَّلُ أَوْلَى. 4004 - مسألة: (ومَن لم يَفْضُلْ عِنْدَه إلَّا نَفَقَةُ واحِدٍ، بَدَأ

4005 - مسألة: (فإن كان له أبوان، فهو بينهما)

وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالأقْرَبِ فالأقْرَبِ، فإن كان له أبَوان، جَعَلَه بينَهما) إذا لم يَفْضُلْ عندَ الرَّجُلِ إلَّا نَفَقَةُ شَخْصٍ واحدٍ، وله امرأةٌ، فالنَّفقَةُ لها دُونَ الأقارِبِ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَدِيثِ جابِرٍ: «إذاكان أحَدُكُمْ فَقِيرًا، فَلْيَبْدَأْ نَفْسِه، فإن كان له فَضْلٌ، فعلى عِيَالِه، فإن كان له فَضْلٌ، فعلى قَرَابَتِه» (¬1). ولأَنَّ نَفَقَةَ القَريبِ مُواساةٌ، ونَفَقةَ المرأةِ تجب على سبيلِ المُعاوَضَةِ، فقُدِّمَتْ على مُجَرَّدِ المُواساةِ، ولذلك (¬2) وجَبَت مع [يَسارِهما وإعْسارِهما] (¬3)، بخِلافِ نَفَقةِ القَريبِ، ثم مِن بعدِها نَفَقةُ الرَّقِيقِ؛ لأنَّها تجث مع اليَسارِ والإِعْسارِ، فقُدِّمَتْ على مُجَرَّدِ المُواساةِ، ثم مِن بعدِ ذلك الأقْرَبُ فالأقْرَبُ. 4005 - مسألة: (فإن كان له أبوان، فهو بينَهما) هذا أحدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 340. (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في م: «يساره وإعساره».

4006 - مسألة: (وإن كان معهما ابن)

فَإِنْ كَانَ مَعَهُما ابْنٌ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوجُهٍ؛ أَحَدُهَا، يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ. وَالثَّانِى، يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِمَا. وَالثَّالِثُ، يُقَدِّمُهُمَا عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُجُوهِ؛ لِتَساوِيهِما في القُرْبِ. والثانى، تُقَدَّمُ الأمُّ؛ لأنَّهَا أحَقُّ بالبِرِّ، ولها فَضِيلَةُ الحَمْلِ والرَّضاعِ والتَّرْبِيَةِ، وزِيادَةِ الشَّفَقَةِ، وهى أضْعَفُ وأعْجَزُ. والثالثُ، يُقَدَّمُ الأبُ؛ لفَضِيلَتِه وانْفِرادِه بالوِلايَةِ على وَلَدِه، واسْتِحْقاقِ الأخْذِ مِن مالِه، وإضافَةِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الولدَ ومالَه إليه بقَوْلِه: «أنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ» (¬1). والأَوَّلُ أَوْلَى. 4006 - مسألة: (وإن كان معهما ابنٌ) فقال القَاضِى: إن كان الإبْنُ صَغِيرًا (¬2) أو مَجْنُونًا، قُدِّمَ؛ لأَنَّ نَفَقَتَه وجَبَتْ بالنَّصِّ، مع أنَّه عاجِزٌ عن الكَسْبِ، والكَبِيرُ في مَظِنَّةِ الكَسْبِ، وإن كان الابنُ كَبِيرًا، و (¬3) الأبُ زَمِنٌ، فهو أحَقُّ؛ لأَنَّ حُرْمَتَه آكَدُ، وحاجَتَه أشَدُّ. ويَحْتَمِلُ تَقْديمَ الابنِ؛ لأَنَّ نَفَقَتَه وجَبَتْ بالنَّصِّ. وإن كانا صَحِيحَيْن فَقِيرَيْن، ففيه ثلَاثةُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 94، وانظر 17/ 106. (¬2) في الأصل: «معسرًا». (¬3) في الأصل: «أو».

4007 - مسألة: (وإن كان له أب وجد، أو ابن وابن ابن، فالأب والابن أحق)

وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَجَدٌّ، أَوِ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ،، فَالأَبُ وَالِابْنُ أَحَقُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، التَّسْوِيَةُ؛ لتَساوِيهِما في القُرْبِ. والثانى، تَقْديمُ الابنِ؛ لوُجُوبِ نَفَقَتِه بالنَّصِّ. والثالثُ، تَقْديمُ الوالدِ؛ لتأَكُّدِ حُرْمَتِه. 4007 - مسألة: (وإن كان له أبٌ وجَدٌّ، أو ابنٌ وابنُ ابنٍ، فالأبُ والابنُ أحَقُّ) وقال أصْحابُ الشافعىِّ: يَسْتَوِى الأبُ والجَدُّ، في أحَدِ الوَجْهَيْن، وكذلك الابنُ وابنُه؛ لتَساوِيهم في الوِلادَةِ والتَّعْصِيبِ. ولَنا، أنَّ الابنَ والأبَ أقْرَبُ وأحَقُّ بمِيراثِه، فكانا أحَقَّ، كالأبِ مع الأَخِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اجْتَمَعَ ابنٌ وجَدٌّ، أو أبٌ وابنُ ابنٍ، احْتَمَلَ وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، تَقْديمُ الابنِ والأبِ؛ لأنَّهما أقْرَبُ، فإنَّهما يَلِيانِه بغيرِ واسِطَةٍ، ولا يَسْقُطُ إرْثُهما بحالٍ، والجَدُّ وابنُ الابْنِ بخِلافِهما، ويَحْتَمِلُ التَّسْوِيَةَ

4008 - مسألة: (ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين. وقيل

وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الأَقَارِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّين. وَقِيلَ: فِى عَمُودَىِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما؛ لأنَّهما سواءٌ في الإِرْثِ والتَّعْصِيبِ والوِلادَة. والأوَّل أوْلى. فإنِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وابنُ ابنٍ، فهما سَواءٌ؛ لتَساوِيهِما في القُرْبِ والإِرْثِ والوِلادَةِ والتَّعْصِيبِ. ويَحْتَمِلُ تَقْديمَ الابْنِ؛ لأَنَّ نفقَتَه ثَبَتَتْ بالنَّصِّ، ولأنَّه يُسْقِطُ تَعْصِيبَ الجَدِّ. ويَحْتَمِلُ تَقْديمَ (¬1) الجَدِّ؛ لِتأكُّدِ حُرْمَتِه بالأبُوَّةِ. وإنِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وأخٌ، احْتَمَلَ التَّسْوِيَةَ بينَهما؛ لتَساوِيهِما في اسْتِحْقاقِ المِيراثِ. والصَّحيحُ تَقْديمُ الجَدِّ؛ لأَنَّ له مَزِيَّةَ الولادَة والأُبُوَّةِ، ولأَنَّ ابنَ ابنِه يَرِثُه مِيراثَ ابنٍ، والأخُ مِيراثَ أخٍ، ومِيراثُ الابَنِ آكَدُ، فالنَّفَقةُ الواجِبَةُ به تكونُ آكَدَ. وإن كان مكانَ الأخِ [ابْنُ أخٍ أو عَمٌّ] (¬2)، فالجَدُّ أحَقُّ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه يُقَدَّمُ عليهما في المِيراثِ. 4008 - مسألة: (ولا تَجِبُ النَّفَقَةُ مع اخْتِلافِ الدِّينِ. وقِيل: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ابن وعم».

النَّسَبِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في عَمُودَىِ النَّسَبِ روايتان) [إذا كان دِينُ القَرِيبَيْن مُخْتلِفًا، فلا نَفَقةَ لأحدِهما على الآخرِ. وذكر القاضى في عمودَىِ النَّسَبِ رِوايَتَيْن؛ إحداهما، تجبُ النَّفَقةُ] (¬1) مع اخْتِلافِ الدِّينِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّها نَفقةٌ مع اتِّفاقِ الدِّينِ، فتجبُ مع اخْتِلافِه، كنَفقةِ الزَّوجةِ [والمَمْلوكِ] (¬2)، ولأنَّه يَعْتِقُ عليه، فيَجِبُ عليه الإنْفاقُ عليه، كما لو اتَّفقَ دِينُهما. ولَنا، أنَّها مُواساة على سَبيلِ البِرِّ والصِّلَةِ، فلم تجبْ مع اخْتِلافِ الدِّينِ، كنَفقةِ غيرِ عَمُودَىِ النَّسَبِ، ولأنَّهما لا يتَوَارَثان، فلم يجبْ لأحدِهما على الآخَرِ نَفقَة بالقَرابةِ، كما لو كان أحَدُهما رَقِيقًا، ويُفارِقُ نَفقةَ الزَّوْجاتِ؛ لأنَّها عِوَضٌ (¬3) تجبُ مع الإِعْسارِ، فلم يُنافِها (¬4) اخْتِلافُ الدِّينِ، كالصَّداقِ والأُجْرَةِ، وكذلك تجبُ مع الرِّقِّ فيهما أو في أحَدِهما، وكذلك نَفقةُ المَماليكِ، ولأَنَّ هذه النَّفقةَ صِلَةٌ ومُواساةٌ، فلا تجِبُ مع اخْتِلافِ الدِّينِ، كأداءِ زَكاتِه إليه، وعَقْلِه عنه، وإرْثِه منه. ¬

(¬1) في م: «ذكرهما القاضى، إحداهما تجب». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فرض». (¬4) بعده في الأصل: «مع».

4009 - مسألة: (وإن ترك الإنفاق الواجب مدة، لم يلزمه عوضه)

وَإِنْ تَرَكَ الإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ مُدَّةً، لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4009 - مسألة: (وإن تَرَكَ الإِنْفاقَ الواجِبَ مُدَّةً، لم يَلْزَمْه عِوَضُه) لأَنَّ نَفقةَ القَريبِ وجَبَتْ لِدَفْعِ الحاجَةِ، وإحْياءِ النَّفْسِ، وتَزْجِيَةِ الحالِ (¬1)، وقد حَصَلَ له (¬2) ذلك في الماضِى بدُونِها، فإن كان الحاكمُ قد فَرَضَها، فيَنْبَغِى أن تَلْزَمَه؛ لأنَّها تأكَّدَت بفَرْضِ الحاكمِ، فلَزِمَتْه، كنَفقةِ الزَّوْجَةِ. ¬

(¬1) تزجية الحال: تيسيره. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَلْزَمُ الرَّجُلَ إعْفافُ أبِيه (¬1) إذا احْتاجَ إلى النِّكاحِ. وهذا ظاهرُ مذهبِ الشافعىِّ. ولهم في إعْفافِ الأبِ الصَّحيحِ وَجْهٌ، أنَّه لا يجبُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُ الرَّجُلَ إعْفافُ أبيه، سواءٌ وجَبَتْ نَفَقَتُه أو لم تَجِبْ؛ لأَنَّ ذلك مِن المَلاذِّ، فلم تَجِبْ للأَبِ، كالحَلْوَاءِ، ولأنَّه أحَدُ الأبَوَيْن، فلم يَجِبْ ذلك له، كالأُمِّ. ولَنا، أنَّ ذلك مِمَّا تَدْعو حاجتُه إليه، ويَسْتَضِرُّ بفَقْدِه، فلَزِمَ ابْنَه له، كالنَّفَقةِ، ولا يُشْبهُ الحَلْوَاءَ؛ فإنَّه لا يَسْتَضِرُّ بفَقْدِها، وإنَّما يُشْبِهُ الطَّعامَ والأُدْمَ. وأمَّا الأُمُّ فإنَّ إعْفافَها إنَّما هو بتَزْوِيجِها إذا طَلَبَتْ ذلك، [وخَطبَها كُفْءٌ لها] (¬2)، ونحنُ نقولُ بوُجُوبِه عليه، وهم يُوافِقُونَنا في ذلك. إذا ثَبَتَ ذلك، فإنَّه يجبُ إعْفافُ مَن وجَبَتْ نَفَقَتُه مِن الآباءِ والأجْدادِ، فإنِ اجْتَمَعَ جَدَّان، ولم يُمْكِنْ إلَّا (¬3) إعْفافُ أحَدِهما، قُدِّمَ الأقْرَبُ، إلَّا أن يكونَ أحَدُهما مِن جهَةِ الأبِ والآخرُ مِن جِهَةِ الأُمِّ، فيُقَدَّمُ الذى مِن جِهَةِ الأبِ وإن بَعُدَ؛ لأنَّه عَصَبَةٌ، والشَّرْعُ قد اعْتَبَرَ جِهَتَه في التَّوْرِيثِ والتَّعْصِيبِ، فكذلك ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق: «ابنه». (¬2) في الأصل: «وجبت نفقته كفؤها». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الإِنْفاقِ والاسْتِحْقاقِ. فصل: وإذا وجَبَ عليه إعْفافُ أبيه (¬1)، فهو مُخَيَّرٌ، إن شاءَ زَوَّجَه، وإن شاءَ مَلكه أمَةً، أو دَفَعَ إليه ما يتَزَوَّجُ به حُرَّةً أو يَشْتَرِى به أمَةً، وليس للأبِ التَّخْيِيرُ عليه، إلَّا أنَّ الأبَ إذا عَيَّنَ امْرأةً، وعيَّنَ الابنُ أُخْرَى، وصَداقُهما واحدٌ، قُدِّمَ تَعْيِينُ الأبِ؛ لأَنَّ النِّكاحَ له، والمُؤْنَةَ واحدَةٌ، فقُدِّمَ قولُه، كما لو عَيَّنَتَ البنتُ كُفْئًا والأبُ غيرَه، قُدِّمَ تَعْيِينُها (¬2). فإنِ اخْتَلَفا في الصَّداقِ، لم يَلزَمْ الابنَ الأكْثَرُ؛ لأنَّه إنَّما يَلزَمُه أقَلُّ ما (¬3) تَحْصُلُ به الكِفايةُ. وليس له أَنْ يزَوِّجَه قَبيحَةً، ولا يُمَلِّكَه إيّاها، ولا كَبِيرةً [لا اسْتِمْتَاعَ] (¬4) فيها، ولا أن يُزَوِّجَه أمَةً؛ لأَنَّ فيه ضَرَرًا بإرْقاقِ ولَدِه، والنَّقْصِ في اسْتِمْتاعِه. فإن رَضِىَ الأبُ بذلك لم يَجُزْ؛ لأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بغيرِه، وهو الوَلَدُ، ولذلك (¬5) لم يكُنْ للمُوسِرِ أن يتَزَوَّجَ أمَةً. ومتى أيْسَرَ الأبُ، لم يكُنْ للوَلدِ اسْتِرْجاعُ ما دَفَعَه إليه، ولا عِوَضُ ما زَوَّجَه به؛ لأنَّه دَفَعَه إليه في حالِ وُجُوبِه عليه، فلم يَمْلِكِ اسْتِرْجَاعَه، كالزَّكاةِ. فإن زَوَّجَه أو مَلَّكَه أمَةً (¬6)، فطَلَّقَ الزَّوْجَةَ أو أعْتَقَ الأمَةَ، لم يكُنْ عليه أن يُزَوِّجَه أو يُمَلِّكَه ثانِيًا؛ لأنَّه فَوَّتَ ذلك على نَفسِه. فإن ماتتا، فعليه إعْفافُه ثانيًا؛ لأنَّه لا صُنْعَ له في ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «ابنه». (¬2) في م: «تعينها». (¬3) في الأصل: «مما». (¬4) في الأصل: «الاستمتاع». (¬5) في م: «كذلك». (¬6) سقط من: الأصل.

4010 - مسألة: (ومن لزمته نفقة رجل، فهل تلزمه نفقة امرأته؟ على روايتين)

وَمَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ رَجُلٍ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الأبِ إعْفافُ ابْنِه إذا كانت عليه نَفَقَتُه، وكان مُحْتاجًا إلى الإعْفافِ. ذكَرَه أصْحابُنا. وهو قولُ بعْضِ أصْحابِ الشافعىِّ. وقال بعْضُهم: لا يجبُ ذلك. ولَنا، أنَّه مِن عَمُودَىْ نَسَبِه، وتَلْزَمُه نَفَقَتُه، فيَلْزَمُه إعْفافُه عندَ حاجَتِه إليه، كأبِيه (¬1). قال القاضى: وكذلك يجئُ في كلِّ مَن لَزِمَتْه نَفَقَتُه؛ مِن أخٍ، وعَمٍّ، وغيرِهم؛ لأَنَّ أحمدَ نَصَّ في العَبْدِ: يَلْزَمُه أن يُزَوِّجَه إذا طَلَبَ ذلك، وإلَّا بِيعَ عليه. 4010 - مسألة: (ومَن لَزِمَتْه نَفَقةُ رَجُلٍ، فهل تَلْزَمُه نَفَقَةُ امرأتِه؟ على روايتَيْنِ) كُلُّ مَن لَزِمَه إعفافُ رَجُلٍ لَزِمَتْيه نَفَقَةُ امرأتِه؛ لأنَّه لا يَتَمَكَّنُ مِن الإعْفافِ إلَّا بذلك. [وقد رُوِى] (¬2) عن أحمدَ، أنَّه لا (¬3) يَلْزَمُ الأبَ نَفَقةُ زَوْجَةِ الابْنِ. وهذا مَحْمُولٌ على أنَّ الابْنَ كان يَجِدُ نَفَقَتَها. ¬

(¬1) في الأصل: «كابنه». (¬2) في الأصل، تش: «فروى». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والواجبُ في نَفَقةِ القَريبِ قَدْرُ الكِفايةِ؛ مِن الخُبْز والأُدْمِ والكُسْوَةِ بقَدْرِ (¬1) العادةِ، كما ذكَرْنا في الزَّوْجَةِ؛ لأنَّها وجَبَت للحاجةِ، [فتَقَدَّرَتْ بما تَنْدَفِعُ به الحاجةُ] (¬2)، وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهِنْدٍ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» (¬3). فقَدَّرَ نَفَقَتَها ونَفَقَةَ وَلَدِها بالكِفايةِ، فإنِ احْتاجَ إلى خادِمٍ، فعليه إخْدَامُه، كقَوْلِنا في الزَّوْجَةِ؛ لأَنَّ ذلك مِن تَمامِ الكِفايَةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «بقدره و». (¬2) في تش: «فقدرت بما يندفع به». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجبُ على المُعْتِقِ نَفقةُ عَتِيقِه، على قَوْلِنا: إنَّ النَّفقةَ تجبُ على الوارِثِ على ما قَرَّرْناه. والمُعْتِقُ وارثُ عَتِيقِه، فوجَبَتْ [عليه نَفَقتُه إذا كان فَقِيرًا، ولمَوْلاهُ يَسارٌ يُنْفِقُ عليه منه. وقال مالِكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى: لا تجبُ عليه نَفَقتُه] (¬1). بِناءً على أُصُولِهم المذْكُورَةِ. ولَنا، عُمُومُ (¬2) قولِه تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬3). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- «أُمَّكَ وأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ، وِمَوْلَاكَ الَّذِى يَلِى ذَاكَ، حَقًّا وَاجِبًا، ورَحِمًا مَوْصُولًا» (¬4). ولأنَّه يَرِثُه بالتَّعْصِيبِ، فكانتْ عليه نفقتُه كالأبِ. ويُشْتَرطُ في (¬5) وُجوبِ الإِنْفاقِ عليه الشُّرُوطُ المذْكُورةُ في غيرِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) زيادة من: الأصل، تش. (¬3) سورة البقرة 233. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 396. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن مات مَوْلاه، فالنَّفقةُ على الوَرَثَةِ مِن عَصَباتِه، على ما [ذُكِرَ في بابِ] (¬1) الوَلاءِ. ويجبُ على السيِّدِ نَفَقةُ أوْلادِ عَتِيقِه، إذا كان له عليهم وَلاءٌ؛ لأنَّه عَصَبَتُهم ووارِثُهم، وعليه نَفَقةُ أولادِ مُعْتَقَتِه إذا كان أبُوهم عَبْدًا؛ لذلك (¬2)، فإن أُعْتِقَ أبُوهم فانْجَرَّ الوَلاءُ إلى مُعْتِقِه، صارَ وَلاؤُهم لمُعْتِقِ أبِيهم، ونَفَقتُهم عليه، إذا كَمَلَتِ الشُّروط، وليس على العَتِيقِ (¬3) نَفَقةُ مُعْتِقِه وإن كان فَقِيرًا؛ لأنَّه لا يَرِثُه، فإن كان (¬4) كلُّ (¬5) واحِدٍ منهما مَوْلى الآخرِ، فعلى كُلِّ واحدٍ منهما نَفَقةُ الآخَرِ؛ لأنَّه يَرِثُه. فصل: وليس على العَبْدِ نَفَقةُ ولَدِه (¬6)، حُرَّةً كانتِ الزَّوْجَةُ أو أمَةً؛ لأَنَّ الحُرَّةَ ولَدُها أحْرارٌ، وليس على العَبْدِ نَفَقةُ أقارِبِه الأحْرارِ؛ لأَنَّ نَفَقَتَهم تجبُ على سَبِيلِ المُواساةِ، وليس هو مِن أهْلِها. وإن كانتْ زَوْجَتُه مَمْلوكَةً، فوَلَدُها عَبِيدٌ لسَيِّدِها؛ لأنَّهم يَتْبَعُونَها، فتكونُ نَفَقتُهم على مالِكِهم. فصل: ونَفَقةُ أوْلادِ المُكاتَبِ الأحْرارِ وأقارِبِه لا تجبُ عليه؛ لأنَّها ¬

(¬1) في ق، م: «ذكرناه في». (¬2) في الأصل، م: «كذلك». (¬3) في الأصل: «المعتق». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «والد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تجبُ على سَبِيلِ المُواساةِ، وليس هو مِن أهْلِها، ولذلك (¬1) لا تجبُ عليه الزَّكاةُ في مالِه، فإن كانتْ زَوْجَتُه حُرَّةً، فنَفقةُ أوْلادِها عليها؛ لأنَّهم يتبَعُونَها في الحُرِّيَّةِ. وإن كان لهم أقارِبُ أحْرارٌ، كجَدٍّ حُرٍّ (¬2)، وأخٍ حُرٍّ مع الأُمِّ، أنْفَقَ كلُّ واحدٍ منهم بحَسَبِ مِيراثِه، والمُكاتَبُ كالمَعْدُومِ بالنِّسْبَةِ إلى النَّفقةِ، فأمَّا ولَدُ المُكاتَبِ مِن أمَتِه، فنَفَقَتُهم عليه؛ لأَنَّ ولَدَه مِن أمَتِه تَاِبعٌ له، يَعْتِقُ بعِتْقِه، فجَرَى مَجْرَى نَفْسِه في النَّفَقةِ، فكما أنَّه يُنْفِقُ على نفْسِه، فكذلك على وَلَدِه الذى هذا حالُه، ولأَنَّ هذا الولدَ ليس له مَن يُنْفِقُ عبيه سِوى أبِيه، فإنَّ أمَّه أَمَةٌ (¬3) للمُكاتَبِ، وليس له مِن الأحْرارِ أقارِبُ، فيَتَعَيَّنُ على المُكاتَبِ الإنْفاقُ عليه، كأُمِّه، ولأنَّه لا ضَرَرَ على السَّيِّدِ في إنْفاقِ المُكاتَبِ على وَلَدِه مِن أمَتِه، لأنَّه إن أدَّى وعَتَقَ، فَقَد وَفَّى مالَ الكتابةِ، وليس للسيِّدِ أكثرُ منه، وإن عَجَزَ ورَقَّ، عادَ إليه المُكاتَبُ ووَلَدُه الذى أنْفقَ عليه، فكأنَّه إنَّما أنْفَقَ على عَبْدِه، وتَصِيرُ نَفَقَتُه عليه كنَفَقَتِه على سائرِ رَقِيقِه. فصل: فأمَّا ولَدُ المُكاتَبِ إذا كان مِن زَوْجَتِه المُكاتَبَةِ، فإنَّهم يَتْبَعُونَها في الكِتابةِ، ويكوِنُ حُكْمُهم حُكْمَها؛ إن رَقَّتْ رَقُّوا، وإن عَتَقَتْ بالأداءِ عَتَقُوا، فتكونُ نَفقَتُهم عليها ممَّا في يَدِها (¬4)؛ لأنَّهم في حُكْمِ ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «يديها».

فصل

فَصْلٌ: وَتَجِبُ نَفَقَةُ ظِئْرِ الصَّبِىِّ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مَنْعُ الْمَرأَةِ مِنْ وَضَاعِ وَلَدِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسِها، ونَفَقَتُها على نَفْسِها ممَّا في يَدِها، فكذلك نَفَقةُ ولَدِها. وأمَّا زَوْجُها المُكاتَبُ، فليس عليه نَفَقَتُهم؛ لأنَّهم عَبِيدٌ لسَيِّدِ المُكاتَبةِ، فإن أرادَ المُكاَتَبُ التَّبَرُّعَ بالنَّفَقةِ على ولَدِه، مِن أمَةٍ أو مُكاتَبَةٍ لغيرِ سَيِّدِه أو حُرَّةٍ، فليس له ذلك؛ لأَنَّ فيه تَغْرِيرًا بمالِ سَيِّدِه. وإن كان مِن أمَةٍ لسَيِّدِه، جازَ؛ لأنَّه مَمْلُوكٌ لسَيِّدِه، فهو يُنْفِقُ عليه مِن المالِ الذى تَعَلَّقَ به حَقُّ سَيِّدِه، وإن كان مِن مُكاتَبَةٍ لسَيِّدِه، احْتَمَلَ الجَوازَ؛ لأنَّه في الحالِ بمَنْزِلةِ أُمِّه (¬1)، وأُمُّه مَمْلُوكَةٌ لسَيِّدِها. واحْتَمَلَ أن لا يجوزَ؛ لأَنَّ فيه تَغْرِيرًا، ويَحْتَمِلُ أن يَعْجِزَ هو، وتُؤَدِّىَ المُكاتَبَة، فيَعْتِقُ وَلَدُها، فيَحْصُلُ الإِنْفاقُ عليه من مالِ سَيِّدِه، ويَصِيرُ حُرًّا. فصل: (وتجبُ نَفَقَةُ ظِئْرِ (¬2) الصَّبِىِّ على مَن تَلْزَمُه نَفَقَتُه) لأَنَّ نَفَقةَ ظِئْرِ الصَّبِىِّ (¬3) الصَّغيرِ كنَفَقةِ الكَبيرِ، ويَخْتَصُّ وجُوبُ النَّفقةِ بالأبِ وحدَه، كالكَبِيرِ. 4011 - مسألة: (وليس له مَنْعُ المرْأةِ مِن رَضاعِ وَلَدِها إذا طَلَبَتْ ¬

(¬1) في الأصل: «أمته». (¬2) الظئر: المرضعة غير ولدها. (¬3) زيادة من: تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك) إذا طلبتِ الأُمُّ رَضاعَ ولَدِها بأجْرِ مِثْلِها، فهى أحَقُّ به، سواءٌ كانت في حالِ الزَّوْجِيَّةِ أو بعدَها، وسواءٌ وَجَدَ الأبُ مُرْضِعَةً مُتَبَرِّعَةً أو لم يجدْ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: إن كانت في حِبالِ الزَّوْجِ، فلِزَوْجِها مَنْعُها مِن رَضاعِه، لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّ الاسْتِمْتاعِ بها في بعضِ الأحْيانِ، وإنِ اسْتَأْجرَها على رَضاعِه، لم يَجُزْ؛ لأَنَّ المنافِعَ حَقٌّ له، فلا يَجوزُ أن يَسْتأْجِرَ منها (¬1) ما هو أو بعضُه حَقٌّ له. وإن أرْضَعَتِ الولَدَ، فهل لها أجْرُ المِثْلِ؟ على وَجْهَيْن. وإن كانت مُطلَّقَةً، فطَلَبَتْ أجْرَ المِثْلِ، فأرادَ انْتِزاعَه منها ليُسَلِّمَه إلى مَن يُرضِعُه بأجْرِ المِثْلِ أو أكثرَ، لم يكُنْ له ذلك. وإن وجَدَ مُتَبَرِّعَةً أو مُرْضِعَةً [بدونِ أجْرِ] (¬2) المِثْلِ، فله انتِزاعُه منها، في ظاهرِ المذْهَبِ، لأنَّه لا يَلْزَمُه الْتِزامُ المُؤْنَةِ مع دَفعَ حاجةِ الولَدِ بدُونِها. وقال أبو حنيفةَ: إن طَلَبَتِ الأُجْرَةَ، لم يَلْزَمِ الأبَ بَذْلُها، ولا يَسْقُطُ حَقُّها مِن الحَضانَةِ، وتأْتِى المُرْضِعَةُ تُرْضِعُه عندَها، لأنَّه أمْكَنَ الجَمْعُ بينَ الحَقَّيْن، فلم يَجُزِ الإِخْلالُ بأحَدِهما. ولَنا، قولُه سُبْحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬3). فقَدَّمَهُنَّ على غيرِهنَّ، وهذا خبرٌ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بأجر». (¬3) سورة البقرة 233.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرادُ به الأمْرُ، وهو عامٌّ في حَقِّ (¬1) كُلِّ والدةٍ. وقولُه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬2). ولَنا، على جوازِ الاسْتِئْجارِ، أنَّه عَقْدُ إجارَةٍ يَجُوزُ مع غيرِ الزَّوْجِ إذا أذِنَ فيه، فجازَ مع الزَّوْجِ، كإجارَةِ نَفْسِها للخِياطَةِ. وقَوْلُهم: إنَّ المنافعَ مَمْلُوكَةٌ له (¬3). لا يَصِحُّ؛ فإنَّه لو مَلَكَ مَنْفَعَةَ الحضانَةِ، لمَلَكَ إجْبارَها عليها، ولم يَجُزْ إجارةُ نَفْسِها لغيرِه بإذْنِه، [ولَكانتِ] (¬4) الأُجْرةُ له، وإنَّما امْتَنَعَ إجارةُ نَفْسِها لأجْنَبِى بغيرِ إذْنِه، لِما فيه مِن تَفْوِيتِ الاسْتِمْتاعِ في بعضِ الزَّمانِ، ولهذا جازتْ بإذْنِه، وإذا اسْتأْجَرَها، فقد أذِنَ لها في إجارةِ نَفْسِها، فصَحَّ، كما يَصِحُّ مِن الأجْنَبِىِّ. وأمَّا الدَّليلُ على وُجُوبِ تَقْديم الأُمِّ، إذا طَلَبَتْ أجْرَ مِثْلِها، على المُتَبَرِّعَةِ، فما ذكَرْنا مِن الآيتَيْن. ولأَنَّ الأمَّ أحْنَى وأشْفَقُ، ولَبَنَها أمْرَأُ مِن لَبَنِ غيرِها، فكانت أحَقَّ به مِن غيرِها، كما لو طَلَبَتِ الأجْنَبِيَّةُ رَضاعَه بأجْرِ مِثْلِها، ولأَنَّ في رَضاعِ غيرِها تَفْوِيتًا لحَقِّ الأمِّ مِن الحَضانَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة الطلاق 6. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «أو كانت».

وَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةَ مِثْلِهَا، وَوُجِدَ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِرَضَاعِهِ، فَهِىَ أَحَقُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإضْرارًا بالوَلَدِ، ولا يَجوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الحضانَةِ الواجبِ، والإِضْرارُ بالولَدِ لغَرَضِ إسْقاطِ حَقٍّ أوْجَبَه اللَّهُ تَعالى على الأبِ. وقولُ أبى حنيفةَ يُفْضِى إلى تَفْوِيتِ حَقِّ [الولدِ مِن] (¬1) لَبَنِ أُمِّه، وتَفْويتِ الأُمِّ في إرْضاعِه لَبَنَها، فلم يَجُزْ ذلك، كما لو تَبَرَّعَتْ برَضاعِه. فأمَّا إن طَلَبَتِ الأُمُّ أكثرَ مِن أجْرِ مِثْلِها، ووَجَدَ الأبُ مَن يُرْضِعُه بأجْرِ مِثْلِها، أو (¬2) مُتَبَرِّعَةً، جازَ انْتِزاعُه منها؛ لأنَّها أسْقَطَتْ حَقَّها [باشْتِطاطِها، وطَلَبِها] (¬3) ما ليس لها، فدَخَلَتْ في قولِه تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (¬4). وإن لم يجدْ مُرْضِعَةً إلَّا بتلك الأُجْرَةِ، فالأُمُّ أحَقُّ؛ لأنَّهُما تساوتا في الأجْرِ، فقُدِّمَتِ الأُمُّ، كما لو طَلَبَتْ كلُّ واحدَةٍ منهما أَجْرَ مِثْلِها. فصل: وإن طَلَبَتِ المُزَوَّجَةُ بأجْنَبِىٍّ إرْضاعَ ولَدِها بأجْر مِثْلِها، بإذْنِ زَوْجِها، ثَبَتَ حَقُّها، وكانت أحَقَّ به مِن غيرِها؛ لأَنَّ الأمَّ إنَّما مُنِعَتْ مِن الإِرْضاعِ لحَقِّ (¬5) الزَّوْجِ، فإذا أذِنَ فيه، زالَ المانِعُ، فصارَتْ كغيرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «بإسقاطها وطيها». (¬4) سورة الطلاق 6. (¬5) في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذاتِ الزَّوْجِ، وإن مَنَعَها الزَّوْجُ، سَقَطَ حَقُّها، لتَعَذُّرِ وُصُولِها إليه. فصل: وإن أرْضَعَتِ المرأةُ ولَدَها، وهى في حِبالِ والدِه، فاحْتاجَتْ إلى زِيادَةِ نَفَقَةٍ، لَزِمَهُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ولأنَّها تَسْتَحِقُّ عليه قَدْرَ كِفايَتِها، فإذا

4012 - مسألة: (وإن امتنعت من رضاعه لم تجبر، إلا أن يضطر إليها، ويخشى عليه)

وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ رَضَاعِهِ، لَمْ تُجْبَرْ، إِلَّا ان يُضْطرَّ إِلَيْهَا، وَيَخْشَى عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زادَتْ (¬1) حاجَتُها، زادَتْ كِفايَتُها. 4012 - مسألة: (وإنِ امْتَنَعَتْ مِن رَضاعِه لم تُجْبَرْ، إلَّا أن يُضْطرَّ إليها، ويَخْشَى عليه) ليس للزَّوجِ إجْبارُ أمِّ الولدِ على إرْضاعِه، دَنِيَّةً كانت أو شَرِيفَةً، وسواءٌ كانت في حِبالِ الزَّوْجِ أو مُطَلَّقَةً. قال شيْخُنا (¬2): ولا نعلمُ في عَدَمِ إجْبارِها على ذلك إذا كانتْ مُفارقَةً خِلافًا، وكذلك إن كانت مع الزَّوْجِ عندَنا. وبه يقول الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال ابنُ أبى لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالحٍ: له إجْبارُها على ذلك. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ، ورِوايَةٌ عن مالكٍ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. ¬

(¬1) في الأصل: «أرادت». (¬2) في المغنى 11/ 430.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمشْهورُ عن مالكٍ، أنَّها إن كانت شَرِيفَةً لم تَجْرِ عادةُ مِثْلِها بالرَّضاعِ (¬1) لوَلَدِها، لم تُجْبَرْ عليه، وإن كانتْ ممَّن تُرْضِعُ (¬2) في العادةِ، أُجْبِرَتْ عليه. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. وإذا اخْتَلَفا فقد تَعاسَرا، ولأَنَّ الإِجْبارَ على الرَّضاعِ [لا يَخْلو] (¬3)، إمَّا أن يكونَ لحَقِّ الولَدِ، أو لحَقِّ الزَّوْجِ، أو لهما، لا يَجوزُ أن يكونَ لحَقِّ الزَّوْجِ؛ فإنَّه لا يَمْلِكُ إجْبارَها على رَضَاعِ ولَدِه مِن غيرِها، ولا على خِدْمَتِه فيما يَخْتَصُّ به. ولا يَجوزُ أن يكونَ لحَقِّ الولَدِ؛ لأنَّه لو كانَ له، لَلَزِمَها بعدَ الفُرْقَةِ، ولأنَّه ممَّا [يَلْزَمُ الوالِدَ] (¬4) لولَدِه، فلَزِمَ الأبَ على الخُصُوصِ، كالنَّفقَةِ، أو كما بعدَ الفُرْقَةِ. ولا يَجوزُ أن يكونَ لهما؛ لأَنَّ ما لا مُناسَبَةَ فيه، لا يَثْبُتُ الحُكْمُ بانْضِمامِ بعضِه إلى بَعْضٍ، ولأنَّه لو كان لهما لَثَبَتَ الحُكْمُ به بعدَ الفُرْقَةِ، والآيةُ مَحْمُولَة على حالَةِ الإِنْفاقِ وعَدَمِ التَّعاسُرِ. فأمَّا إنِ اضْطُرَّ الولدُ إليها، بأن لا تُوجَدَ مُرْضِعَةٌ سواها، أو لا يَقْبَلَ الوَلَدُ الارْتِضاعَ مِن غيرِها، وجَبَ عليها التَّمْكِينُ مِن إرْضاعِه؛ لأنَّها حالُ ضَرُورَةٍ وحِفْظٍ لنَفْسِ ولَدِها، كما لو لم يكُنْ له (¬5) أحَدٌ غيرَها. ¬

(¬1) في الأصل: «بالرضاعة». (¬2) في الأصل، تش، ق: «يجبر». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «يلزمه الوالدة». (¬5) سقط من: م.

4013 - مسألة: (ولا تجب عليه أجرة الظئر لما زاد على الحولين)

وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الظِّئْرِ لِمَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ. وَإِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ، فَلِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا إِلَّا ان يُضْطرَّ إِلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4013 - مسألة: (ولا تَجبُ عليه أُجْرَةُ الظِّئْرِ لِمَا زاد على الحَوْلَيْن) لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. 4014 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَتِ المَرْأةُ، فلزَوْجِها مَنْعُها مِن رَضاعَ وَلَدِها، إلَّا أن يُضْطَر إلَيْها) وجملةُ ذلك، أنَّ للزَّوْجِ مَنْعَ امْرأتِه مِن رَضاعِ ولَدِها مِن غيرِه، ومِن رَضاعِ ولَدِ غيرِها، إلَّا أن يُضْطَرَّ إليها؛ لأَنَّ عَقْدَ النِّكاحِ يَقْتَضِى تَمْلِيكَ الزَّوْجِ الاسْتِمْتاعَ في كلِّ الزَّمانِ، مِن كلِّ الجِهاتِ، سِوَى أوْقاتِ الصَّلَواتِ، والرَّضاعُ يُفَوِّتُ عليه الاسْتِمْتاعَ في بعْضِ الأوْقاتِ، فكان له مَنْعُها، كالخُرُوجِ مِن مَنْزِلِه. فأمَّا إنِ اضْطُرَّ إليها (¬1)، بأن لا توجَدَ مَن تُرْضِعُه غيرَها، أو لا يَقْبَل الارْتِضاعَ مِن غيرِها، وجَبَ التَّمْكِينُ مِن إرْضاعِه؛ لأنَّها حالُ ضَرُورَةٍ وحِفْظٍ لنَفْسِ ولَدِها، فقُدِّمَ على حَقِّ الزَّوْجِ، كتَقْديمِ المُضْطرِّ على المالِكِ، إذا لم يكُنْ بالمالِكِ (¬2) مثلُ ضَرُورَتِه. ¬

(¬1) في م: «إليه». (¬2) في الأصل: «ما للمالك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أرادَتْ إرْضاعَ ولَدِها منه (¬1)، [فكلامُ الخِرَقِىِّ] (¬2) يَحْتَمِلُ وجْهَين؛ أحَدُهما، له مَنْعُها؛ لعُمُومِ لفْظِه في هذه المَسْألَةِ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه يُخِلُّ بالاسْتِمْتاعِ منها، فأشبَهَ وَلَدَ غيرِهِ (¬3). والثانى، ليس له مَنْعُها؛ فإنَّه قال: إلَّا أن تَشاءَ الأُمُّ أن تُرْضِعَه بأجْرِ مِثْلِها، فتكونُ أحَقَّ به مِن غيرِها، سواءٌ كانت في حِبالِ الزَّوْجِ أو مُطَلَّقَةً. وذلك لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}. وهو خَبَرٌ يُرادُ به الأمْرُ، وهو عامٌّ في كلِّ (¬4) والدةٍ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: يُحْمَلُ على المُطَلَّقاتِ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّه جَعَلَ لَهُنَّ رِزْقَهُنَّ وكُسْوَتَهُنَّ، وهم لا يُجِيزونَ جَعْلَ ذلك أجْرَ الرَّضاعِ ولا غيرَه. وقولُنا في الوَجْهِ الأَوَّلِ: إنَّه يُخِلُّ باسْتِمْتاعِه. قُلْنا: ولكن لإِيفاءِ حَقٍّ عليه، وليس ذلك مُمْتَنِعًا، كما أنَّ قَضاءَ دَيْنِه بدَفْعِ مالِه فيه واجِبٌ، لا ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق، م. (¬2) في تش: «فهل له منعها». (¬3) في م: «غيرها». (¬4) بعده في الأصل: «أحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيَّما إذا تَعَلَّقَ به حَقُّ الولَدِ، مع كوْنِه مع أُمِّه، وحَقُّ الأُمِّ في [الجَمْعِ بينها] (¬1) وبينَ وَلَدِها. وهذا الوَجْهُ ظاهِرُ كلامِ ابنِ (¬2) أبى موسى، والأَوَّلُ ظاهِرُ كلامِ القاضِى أبى يَعْلَى. فصل: فإن أجَرَتِ المرأةُ نَفْسَها للرَّضاعِ، ثم تزَوَّجَت، صَحَّ النِّكاحُ، ولم يَمْلِد الزَّوْجُ فَسْخَ الإِجارَةِ، ولا مَنْعَها مِن الرَّضاعِ حتى تَمْضِىَ المُدَّةُ؛ لأَنَّ مَنافِعَها مُلِكَتْ بعَقْدٍ سابقٍ على نكاحِه، أشْبَهَ ما لو اشْتَرَى أمَةً مُسْتأْجَرَةً (¬3). وإن نامَ الصَّبِىُّ أو (¬4) اشْتَغَلَ بغيرِها، فللزَّوْجِ الاسْتِمْتاعُ، وليس لِوَلِىِّ الصَّبِىِّ مَنْعُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالِكٌ: ليس له وَطْؤُها إلَّا بِرِضَا الوَلِىِّ، لأَنَّ ذلك يَنْقُصُ اللَّبَنَ. ولَنا، أنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ بالعَقْدِ، فلا يَسْقُطُ بأمْرٍ مَشْكُوكٍ فيه، كما لو أَذِنَ فيه الوَلِىُّ، ولأنَّه يَجوزُ له الوَطْءُ مع إذْنِ الوَلِىِّ، فجازَ مع عَدَمِه؛ لأنَّه ليس ¬

(¬1) في م: «الجميع بينهما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في تش: «مزوجة». (¬4) في الأصل: «و».

فصل

فَصْلٌ: وَعَلَى السَّيِّدِ الإِنْفَاقُ عَلَى رَقِيقِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ، وَكُسْوَتُهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ للوَلِىِّ الإذْنُ فيما يَضُرُّ بالصَّبِىِّ، ويُسْقِطُ حَقَّه. فصل: فإن أجَرَتِ المرأةُ المُزَوَّجَةُ نَفْسَها للرَّضاعِ بإذْنِ زَوْجِها، جازَ، ولَزِمَ العَقْدُ؛ لأَنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما. وإن أجَرَتْها بغيرِ إذْنِه، لم يَصِحَّ؛ لتَضَمُّنِه تَفْوِيتَ حَقِّ زَوْجها. وهذا أحَدُ الوجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ. والآخرُ، يَصِحُّ (¬1)؛ لأَنَّه تَناوَلَ (¬2) مَحَلًّا غيرَ مَحَلِّ النِّكاحِ، لكنْ للزَّوْجِ فَسْخُه؛ لأنَّه يَفُوتُ به الاسْتِمْتاعُ ويَخْتَلُّ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ يَفُوتُ به حَقُّ مَن ثَبَتَ له الحَقُّ بعَقْدٍ سابقٍ، فلم يَصِحَّ، كإجارَةِ المُسْتأْجَرِ (¬3). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وعلى السيِّدِ الإنْفاقُ على رَقِيقِه قَدْرَ كِفايَتِهم، وكُسْوَتُهم) بالمَعْروفِ. نَفَقةُ المَمْلوكِين على مُلَّاكِهِم ثابِتَةٌ بالسُّنَّةِ والإِجْماعِ؛ أمَّا السُّنَّةُ؛ فروَى أبو ذَرٍّ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فَمَنْ كان أخُوهُ تَحْتَ ¬

(¬1) في تش: «لا يصح». (¬2) في م: «يتأول». (¬3) في الأصل: «المستأجرة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدِه، فَلْيُطْعِمْه مِمَّا يَأْكلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ عليه». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وروَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لِلمَمْلُوكِ طَعامُهُ وكِسْوَتُهُ بالمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ ما لا يُطِيقُ». رواه الشَّافعىُّ في «مُسْنَدِهِ» (¬2). وأجْمَعَ العُلَماءُ على وُجُوبِ نَفَقةِ المَمْلُوكِ على سَيِّدِه، ولأنَّه لا بُدَّ له (¬3) مِن نَفَقةٍ، ومَنافِعُه لسَيِّدِه، وهو أخَصُّ الناسِ به، فوجَبَتْ نَفَقَتُه عليه، كبَهِيمَتِه. فصل: والواجبُ مِن ذلك قَدْرُ كِفايَتِهم (¬4) مِن غالِبِ قُوتِ البَلَدِ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب المعاصى من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، من كتاب الإيمان. وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون»، من كتاب العتق، وفى: باب ما ينهى من السباب واللعن، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 1/ 14، 3/ 195، 8/ 19. ومسلم، في: باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1283. كما أخرجه أبو داود، في: باب في حق المملوك، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 632. والترمذى، في: باب ما جاء في الاحسان الى الخدم، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 126. وابن ماجه، في: باب الإحسان إلى المماليك، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1216، 1217. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 158، 161، 173. (¬2) انظر: الباب الأول فيما جاء في العتق وحق المملوك، من كتاب العتق. ترتيب المسند 2/ 66. كما أخرجه مسلم، في: باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1284. والإمام مالك، في: باب الأمر بالرفق بالمملوك، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 980. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 247، 342. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في ق، م: «كفايته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سواءٌ كان قُوتَ سَيِّدِه، أو دُونَه، أو فَوْقَه، وأُدْم مِثْلِه بالمْعروفِ؛ لحديثِ أبى هُرَيْرَةَ. والمُسْتَحَبُّ أن يُطْعِمَه مِن جِنْسِ (¬1) طَعامِه؛ لقَوْلِه: «فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ». فجَمعْنا بينَ الخَبَرَين، فحمَلْنَا خَبَرَ أبى هُرَيْرَةَ على الإِجْزاءِ، وحَدِيثَ أبى ذَرٍّ على الاسْتِحْبابِ. والسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بينَ أن يَجْعَلَ نَفقَتَه مِن كَسْبِه، إن كان له كَسْبٌ، وأن يُنْفِقَ عليه مِن مالِه ويأْخُذَ كَسْبَه، أو يَجْعَلَه برَسْمِ (¬2) خِدْمَتِه، ويُنْفِقَ عليه مِن مالِه؛ لأَنَّ الكلَّ مالُه، فإن جَعَلَ نَفَقَتَه في كَسْبِه، فكانت وَفْقَ الكَسْب، [صَرَفَها إليه] (¬3)، وإن فَضَلَ مِن الكَسْبِ شئٌ، فهو لسَيِّدِه، وإن أعْوَزَ، فعليه تَمامُها (¬4). وأمَّا الكُسْوَةُ فبالمعْروفِ مِن غالِبِ الكُسْوَةِ لأمْثالِ العَبْدِ في ذلك البَلَدِ الذى هو به، والمُسْتَحَبُّ أن يُلْبِسَه مِن لِباسِه؛ لحدِيثِ أبى ذَرٍّ. ويُسْتَحَبُّ أن يُسَوِّىَ بينَ عَبِيدِه الذُّكُورِ في الكُسْوَةِ والإِطْعامِ، وبينَ إمائِه إن كُنَّ للخِدْمَةِ أو الاسْتِمْتاعِ، وإن كان فيهنَّ مَن هو للخِدْمَةِ، ومَن هو للاسْتِمْتاعِ، فلا بأْسَ بزِيادَة مَن هى للاسْتِمْتاعِ في الكُسْوَةِ؛ لأنَّه المَعْرُوفُ (¬5)، ولأَنَّ غَرَضَه تَجْمِيَلُ مَن يَسْتَمْتِعُ بها، بخِلافِ الخادِمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعدها في م: «نفقة». (¬3) في الأصل: «صرفه إليها». (¬4) في م: «تمامه». (¬5) في ق: «العرف». وفى م: «للعرف».

4015 - مسألة: (و)

وَتَزْوِيجُهُمْ إِذَا طَلَبُوا ذَلِك، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4015 - مسألة: (و) عليه (تَزْوِيجُهم إذا طَلَبُوا ذلك) وهذا أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ: لا يُجْبَرُ عليه؛ لأن فيه ضَرَرًا عليه، وليس ممَّا تقومُ به البِنْيَةُ، فلم يَلْزَمْه، [كإطْعام الحَلْواءِ] (¬1). ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2). والأمْرُ يَقْتَضِى الوُجوبَ، ولا يجبُ إلَّا عندَ الطَّلَب. وروَى عِكْرِمَةُ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، قال: مَن كانت له جارِيَةٌ، فلم يُزَوِّجْها، ولم يُصِبْها، أو عَبْدٌ فلم يُزَوِّجْه، فما صَنَعا مِن شئٍ كان على السَّيِّدِ. ولولا وُجُوبُ إعْفافِهما لَما لَحِقَ السيِّدَ الإِثْمُ بفِعْلِهما، ولأنَّه مُكَلَّفٌ محْجُورٌ عليه، دَعَا إلى تَزْوِيجِه، فلَزِمَتْ إجابَتُه، كالمَحْجُورِ عليه للسَّفَهِ، ولأَنَّ النِّكاحَ ممَّا تَدْعُو الحاجةُ إليه غالِبًا، ويتَضَرَّرُ [بفَواتِه، فأُجْبِرَ عليه، كالنَّفَقةِ، ولأنَّه يُخافُ مِن تَرْكِ إعْفافِه الوقوعُ في المَحْظُورِ، بخِلافِ الحَلْواءِ] (¬3). إذا ثَبَتَ هذا، فالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بينَ تَزْوِيجِه، أو تَمْلِيكِه أمَةً [يتَسَرَّاها] (¬4). وله أن يُزَوِّجَه أمَةً؛ لأَنَّ نِكاحَ الأمَةِ مُباحٌ للعَبْدِ مِن غيرِ شَرْطٍ. ولا يجبُ عليه تَزْوِيجُه إلَّا عندَ طَلَبِه؛ لأَنَّ هذا ممَّا يَخْتَلِفُ الناسُ فيه وفى الحاجةِ إليه، ولا نَعْلَمُ حاجَتَه إلَّا بطَلَبِه. ¬

(¬1) في الأصل: «كالطعام والحلواء». (¬2) سورة النور 32. (¬3) في الأصل: «به». (¬4) في الأصل، تش: «يتسرى بها».

4016 - مسألة: (إلا الأمة إذا كان يستمتع بها)

إِلَّا الأَمَةَ إذَا كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، وَلَا يُكَلِّفُهُم مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَيُرِيحُهُمْ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ وَالنَّوْمِ وَأَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يجوزُ تَزْوِيجُه إلَّا باخْتِيارِه، إذا كان عَبْدًا كبيرًا. [وإذا كان للعَبْدِ زَوْجةٌ، فعلى سَيِّدِه تَمْكِينُه مِن الاسْتِمْتاع بها لَيْلًا؛ لأَنَّ إذنه في النِّكاحِ إذْنٌ في الاسْتِمْتاعِ المُعْتادِ، والعادَةُ جاريةٌ بذلك ليلًا، وعليه نَفَقةُ زَوْجَتِه على ما قَدَّمْناه] (¬1). 4016 - مسألة: (إلَّا الأمَةَ إذا كان يَسْتَمْتِعُ بها) وجملَتُه، أنَّ السَّيِّدَ مُخَيَّرٌ في الأمَةِ بينَ تَزْوِيجِها إذا طَلَبَتْ ذلك، وبينَ الاسْتِمْتاعِ بها، فيُغْنِيها باسْتِمْتاعِه عن غيرِه؛ لأنَّ المَقْصُودَ قضاءُ الحاجةِ، وإزالَةُ ضَرَرِ (¬2) الشَّهْوَةِ، وذلك يَحْصلُ بأحَدِهما، فلم يتَعَيَّنِ الآخَرُ. 4017 - مسألة: (ولا يُكَلِّفُهم مِن العَمَلِ ما لا يُطِيقُون) وهو ما يَشُقُّ عليه (¬3)، ويُعرفُ (¬4) مِن العَجْزِ عنه؛ لحديثِ أبى ذَرٍّ، ولأن ذلك يَضُرُّ به ويُؤْذِيه، وهو مَمْنُوعٌ مِن ذلك. 4018 - مسألة: (ويُرِيحُهم وَقْتَ القَيْلُولَةِ والنَّوْمِ وأوْقاتَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل، تش: «عليهم». (¬4) في م: «يقرب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلَواتِ) لأَنَّ العادَةَ جاريةٌ بذلك، ولأَنَّ عليهم في تَرْكِ ذلك ضَرَرًا، ولا يَحِلُّ الإِضْرارُ بهم.

4019 - مسألة: (ويداويهم إذا مرضوا)

وَيُدَاوِيهِمْ إِذَا مَرِضُوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4019 - مسألة: (ويُداوِيهم إذا مَرِضُوا) إذا مَرِضَ المَمْلوكُ، أو زَمِنَ، أو عَمِىَ، أو انْقَطَعَ كَسْبُه، فعلى سَيِّدِه القِيامُ به، والإِنْفاقُ عليه؛ لأَنَّ نَفقَتَه تَجِبُ بالمِلْكِ، ولهذا تَجِبُ مع الصِّغَرِ، والمِلْكُ باقٍ مع المَرَضِ والعَمَى والزَّمانةِ، فتَجِبُ نَفَقَتُه معهما؛ لعُمُومِ النُّصوصِ المذْكُورَةِ.

4020 - [مسألة: (ويركبهم عقبة إذا سافر بهم) لئلا يكلفهم ما لا يطيقون]

وَيُرْكِبُهُمْ عُقْبَةً إِذَا سَافَرَ بِهِمْ، وَإِذَا وَلِىَ أَحَدُهُمْ طَعَامَهُ، أَطْعَمَهُ مَعَهُ، فَإِنْ أَبَى، أَطْعَمَهُ مِنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4020 - [مسألة: (ويُرْكِبُهم عُقْبَةً إذا سافَرَ بهم) لئلا يُكَلِّفَهم ما لا يُطِيقُون] (¬1). 4021 - مسألة: (وإذا وَلِىَ أحَدُهم طَعامَه، أطْعَمَه معه، فإن أبى، أطْعَمَه منه) لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا كَفَى أحَدَكُمْ خادِمُهُ طَعَامَهُ، حَرَّهُ ودُخَانَه، فَلْيَدْعُه، ولْيُجْلِسْه معه، فإنْ أبَى، فَلْيُرَوِّغْ له اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ». رواه البُخارِىُّ (¬2). ومَعْنى تَرْويغِ اللُّقْمَةِ، غَمْسُها في المَرَقِ والدَّسَمِ، وتَرْوِيَتُها بذلك، ودَفْعُها إليه. ولأنَّه يَشْتَهِيه لحُضُورِه فيه، وتَوَلِّيه إيَّاه، وقد قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (¬3). ولأَنَّ نَفْسَ الحاضِرِ تَتُوقُ ما لا تَتَوقُ نَفْسُ الغائِبِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في: باب الأكل مع الخادم، من كتاب الأطعمة. صحيح البخارى 7/ 106. كما أخرجه مسلم، في: باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1284. وأبو داود، في: باب في الخادم يأكل مع المولى، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 328، 329. والترمذى، في: باب ما جاء في الأكل مع المملوك والعيال، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذى 8/ 44. وابن ماجه، في: باب إذا أتاه خادمه بطعامه فليناوله منه، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1094. والدارمى، في: باب في إكرام الخادم عند الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمى 2/ 107. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 245، 259، 277، 283، 299، 316، 406، 409، 430، 464، 473. (¬3) سورة النساء 8.

4022 - مسألة: (ولا يسترضع الأمة لغير ولدها، إلا أن يكون فيها فضل عن ريه)

وَلَا يَسْتَرْضِعُ الْأَمَةَ لِغَيْرِ وَلَدِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ رَيِّهِ. وَلَاَ يُجْبِرُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُخَارَجَةِ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4022 - مسألة: (ولا يَسْتَرْضِعُ الأمَةَ لِغَيْرِ وَلَدِها، إلَّا أن يَكُونَ فيها فَضْلٌ عن رَيِّه) [أمَّا إذا أراد اسْتِرْضاعَ أمَتِه لغيرِ ولدِها مع كونِه لا يَفْضُلُ عنه، فليس له ذلك] (¬1)؛ لأَنَّ فيه إضْرارًا بوَلَدِها، لنَقْصِه من كِفايَتِه (¬2)، وصَرْفِ اللَّبَنِ المخْلُوقِ له إلى غيرِه، مع حاجَتِه إليه، فلم يَجُزْ، كما لو أرادَ أن يَنْقُصَ الكَبيرَ عن كِفايَتِه ومُؤْنَتِه، فإن كان فيها فَضْلٌ عن رَىِّ ولَدِها، جازَ؛ لأنَّه مِلْكُه، [وقد] (¬3) اسْتَغْنَى عنه الوَلَدُ، فكان له اسْتِيفاؤُه، كالفاضِلِ مِن كَسْبِها (¬4)، أو كما لو مات وَلَدُها وبَقِىَ لَبَنُها. 4023 - مسألة: (ولا يُجْبِرُ العَبْدَ على المُخارَجَةِ، وإنِ اتَّفَقَا عليها، جاز) معنى المُخارَجَةِ، أن يَضْرِبَ عليه خَراجًا مَعْلُومًا يُؤدِّيهْ إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «كفايتها». (¬3) زيادة من: ق، م. (¬4) في م: «كسبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَيِّدِه، وما فَضَلَ للعَبْدِ؛ لأَنَّ ذلك عَقْدٌ بينَهما، فلا يُجْبَرُ عليه، كالكِتابَةِ. وإن طَلَبَ العَبْدُ ذلك، وأباه السَّيِّدُ، لم يُجْبَرْ عليه؛ لِمَا ذكَرْنا. فإنِ اتَّفَقَا على ذلك، جازَ؛ لِما رُوِى أنَّ أبا طَيْبَةَ حَجَمَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعْطاه أَجْرَه، وأمَرَ مَوالِيَه أن يُخَفِّفُوا عنه مِن خَراجِه (¬1). وكان كثيرٌ مِن الصَّحابةِ يَضْرِبُونَ على رَقِيقِهم خَراجًا، فرُوِىَ أنَّ الزُّبَيْرَ كان له ألْفُ مَمْلُوكٍ، على كلِّ واحدٍ منهم كلَّ يَوْم دِرْهَمٌ (¬2). وجاءَ أبو لُؤْلُؤَةَ إلى أميرِ المُؤْمِنينَ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فسأله أن يَسْألَ المُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ يُخفِّفُ عنه مِن خَراجِه (¬3). ثم يُنْظَرُ، فإن كان ذا كَسْبٍ، فجُعِلَ عليه بقَدْرِ (¬4) ما يَفْضُلُ مِن (¬5) كَسْبِه عن نفَقَتِه وخَراجِه شئٌ، جازَ، فإن لهما به نَفْعًا، فإنَّ العَبْدَ يَحْرِصُ على الكَسْب، ورُبَّما فَضَلَ معه شئٌ يزِيدُه في النَّفقَةِ، ويَتَّسِعُ به. وإن وَضَعَ عليه أكثرَ مِن كَسْبِه بعدَ نفقتِه، لم يَجُزْ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 14/ 315. (¬2) انظر ما أخرجه أبو نعيم، في: حلية الأولياء 1/ 90. (¬3) انظر ما أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 3/ 345، 347. (¬4) في م: «عن». (¬5) سقط من: الأصل.

4024 - مسألة

وَمَتَى امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ الْعَبْدُ الْبَيْعَ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن كَلَّفَ مَن لا كَسْبَ له المُخارَجَةَ؛ لِما رُوِى عن عُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: لا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الكَسْبَ، فإنَّكم متى كَلَّفْتُموه الكَسْبَ سَرَقَ، ولا تُكَلِّفُوا المرأةَ غيرَ ذاتِ الصَّنْعَةِ الكَسْبَ، فإنَّكم متى كَلَّفْتُموها الكَسْبَ كَسَبَتْ بفَرْجِها (¬1). ولأنَّه متى كَلَّفَ غيرَ ذِى الكَسْبِ خَراجًا، كَلَّفَه (¬2) ما يَغْلِبُه، وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا تُكَلِّفُوهُم ما يَغْلِبُهُم» (¬3). ورُبَّما حَمَلَه ذلك على أن يأْتِىَ به مِن غيرِ وَجْهِه، فلم يَكُنْ للسَّيِّدِ أخْذُه. 4024 - مسألة (¬4): (ومتى امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِن الواجِبِ عليه، فطَلَبَ العَبْدُ البَيْعَ، لزِمَه بَيْعُه) وجملةُ ذلك، أنَّ السَّيِّدَ إذا امْتَنعَ ممَّا يجبُ للعَبْدِ عليه، مِن نَفَقةٍ أو كُسْوَةٍ أو تَزْوِيجٍ، فطَلَبَ العَبْدُ البَيْعَ، أُجْبِرَ سَيِّدُه عليه، سواءٌ كان امْتِناعُ السَّيِّدِ مِن ذلك لعَجْزِه عنه أو مع قدْرَتِه عليه؛ ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب الأمر بالرفق بالمملوك، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 981. والبيهقى، في: باب ما جاء في النهى عن كسب الأمة إذا لم تكن في عمل واصب، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 8/ 9. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 435. (¬4) من هنا يبدأ الجزء الثامن من نسخة جامعة الرياض والمشار إليها بـ «ر 3».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ بقاءَ مِلْكِه عليه مع الإِخْلالِ بسَدِّ خَلَّاتِه إضْرارٌ به، وإزالَةُ الضَّرَرِ واجِبَةٌ، فوَجَبَتْ إزالَتُه، ولذلك (¬1) أبَحْنا للمرأةِ فَسْخَ النِّكاحِ عندَ عَجْزِ زَوْجِها عن الإِنْفاقِ عليها، وقد رُوِى في بَعْضِ الحديثِ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «عَبْدُكَ يَقُولُ: أطْعِمْنِى وإلَّا فبِعْنِى. وامْرَأتُكَ تَقُولُ: أطْعِمْنِى أو (¬2) طَلِّقْنِى» (¬3). وهذا يدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّ السَّيِّدَ متى وَفَّى بحُقُوقِ عَبْدِه، وطَلَب العَبْدُ بَيْعَه، لم يُجْبَرِ السَّيِّدُ عليه. وقد روَى أبو داودَ عن أحمدَ أنَّه قِيلَ له: اسْتَباعَتِ المَمْلُوكَةُ، وهو يَكْسُوها ممَّا يَلْبَسُ (¬4)، ويُطْعِمُها ممَّا يأْكُلُ؟ قال: لا تُباعُ وإن أكْثَرَتْ مِن ذلك، إلَّا أن تَحْتاجَ إلى زَوْجٍ، فتَقولَ: زَوِّجْنِى. وقال عطاءٌ، وإسْحاقُ، في العَبْدِ يُحْسِنُ إليه سَيِّدُه، وهو يَسْتَبِيعُ: لا يَبِعْه؛ لأَنَّ المِلْكَ للسَّيِّدِ، والحَقَّ له، فلا يُجْبَرُ على إزالَتِه مِن غيرِ ضَرَرٍ بالعَبْدِ، كما لا يُجْبَرُ على طَلاقِ زَوْجَتِه مع القِيامِ بما يَجِبُ لها، ولا على بَيْعِ بَهِيمَتِه مع الإِنْفاقِ عليها. ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) في تش: «وإلا». (¬3) أخرجه البخارى، في: باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، من كتاب النفقات. صحيح البخارى 7/ 81. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 252، 524، 527. (¬4) في ق، م: «يكتسى».

4025 - مسألة: (وله تأديب رقيقه بما يؤدب به ولده وامرأته)

وَلَهُ تَأْدِيبُ رَقِيقِهِ بِمَا يُؤَدِّبُ بِهِ وَلَدَهُ وَامْرأَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4025 - مسألة: (وله تأْدِيبُ رَقِيقِه بما يُؤَدِّبُ به وَلَدَه وَامْرَأتَه) له تَأْدِيبُ عَبْدِه وأمَتِه إذا أذْنَبا، بالتَّوْبِيخِ والضَّرْبِ الخَفِيفِ، كما يُؤَدِّبُ ولَدَه، وامرأتَه في النُّشُوزِ، وليس له ضَرْبُه على غيرِ ذَنْبٍ، ولا أن يَضْرِبَه ضَرْبًا مُبَرِّحًا وإن أذْنَبَ، ولا لَطْمُه في وَجْهِه، وقد رُوِى عن ابنِ مُقَرِّنٍ المُزَنِىِّ (¬1)، قال: لقد رَأْيْتُنِى سابعَ سَبْعَةٍ، ما لنا إلّا خادِمٌ واحِدٌ، فلَطَمَها أحَدُنا، فأمَرَنا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بإعْتاقِها (¬2). ورُوِىَ عن أبى مَسْعُودٍ، ¬

(¬1) في ر 3: «الراقى». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1280. وأبو داود، في: باب في حق المملوك، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 634. والترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يلطم خادمه، من أبواب النذور. عارضة الأحوذى 7/ 27. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 447، 5/ 444.

4026 - مسألة: (وللعبد التسرى بإذن سيده، ولو ملكه سيده

وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ يَنْبَنِى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: كنتُ أضْرِبُ غُلامًا لى، وإذا رَجُلٌ مِن خَلْفِى يقولُ: «اعْلَمْ أبا مَسْعُودٍ، [اعْلَمْ أبا مَسْعُودٍ»] (¬1). فالْتَفَتُّ إليه (¬2)، فإذا النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «اعْلَمْ أبا مَسْعُودٍ [أنَّ اللَّهَ] (¬3) أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ على هذا الغُلَامَ» (¬4). 4026 - مسألة: (وللعَبْدِ التَّسَرِّى بإذْنِ سَيِّدِه، ولو مَلَّكَه سَيِّدُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «للَّه». (¬4) أخرجه مسلم، في: باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1280، 1281. وأبو داود، في: باب في حق المملوك، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 633. والترمذى، في: باب النهى عن ضرب الخدم، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 129. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 120.

فِى مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ سَيِّدُهُ أَمَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّسَرِّى بِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جارِيَةً، لم يَكُنْ له التَّسَرِّى بها إلَّا بإذْنِه) هذا هو المَنْصُوصُ عن أحمدَ، في روايةِ الجماعةِ. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والأوْزَاعِىِّ، وأبى ثَوْرٍ. وكَرِهَ ذلك ابنُ سِيرِينَ، وحَمَّادُ ابنُ أبى سُليمانَ (¬1)، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وللشافعىِّ فيه قوْلان مَبْنِيّان على أنَّ العَبْدَ هل يملكُ بتَمْلِيكِ سَيِّدِه أو لا؟ وقال القاضى: يجبُ أن يكونَ في مذهبِ أحمدَ في تَسَرِّى العَبْدِ، وَجْهان مَبْنِيّان على الرِّوايتَيْن في ثُبُوتِ المِلْكِ له (¬2) بتَمْليكِ سَيِّدِه. واحْتَجَّ مَن مَنَعَ ذلك بأنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ المالَ، ولا يجوزُ الوَطْءُ إلَّا في نِكاحٍ أو ملكِ يَمِينِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬3). ولَنا، قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، ولانَعْرِفُ لهما في الصَّحابةِ مُخالِفًا. ¬

(¬1) في الأصل: «سلمة». (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة المؤمنون 6، 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَوى الأَثْرَمُ عن ابنِ عمرَ بإسْنادِه، أنَّه كان لا يَرَى بأْسًا أن يَتَسَرَّى العَبْدُ. ونحوَه عن ابنِ عباسٍ (¬1). ولأَنَّ العَبْدَ يملكُ في النِّكاحِ، فملكَ التَّسَرِّىَ، كالحُرِّ. وقولُهم. إنَّ العَبْدَ لا يملِكُ المالَ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ باعَ عَبْدًا وله مَالٌ» (¬2). فجعَلَ المالَ له، ولأنَّه آدَمِىٌّ، فيَمْلِكُ المالَ، كالحُرِّ، وذلك لأنَّه بآدَمِيَّتِه يتَمَهَّدُ لأهْلِيَّةِ المِلْكِ، إذ (¬3) كان اللَّهُ تعالى خَلَقَ الأمْوالَ للآدَمِيِّينَ ليَسْتَعِينُوا بها على القِيامِ بوظائِفِ التَّكالِيفِ، وأداءِ العِباداتِ، قال اللَّهُ تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬4). والعَبْدُ داخِلٌ في العُمُومِ، ومِن أَهْلِ التَّكاليفِ والعِباداتِ، فيكونُ أهْلًا للمِلْكِ، ولذلك (¬5) مَلَك في النِّكاحِ، وإذا ثَبَتَ المِلْكُ للجَنِينِ مع كَوْنِه نُطْقَةً لا حَياةَ فيها، باعْتِبارِ مآلِه إلى الآدَمِيَّةِ، ¬

(¬1) وأخرجه عن ابن عمر وابن عباس عبد الرزاق، في: باب استسرار العبد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 214، 215. وسعيد بن منصور، في: باب المرأة تلد لستة أشهر، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 69، 70. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في العبد يتسرى. . .، من كتاب النكاح. المصنف 4/ 174. والبيهقى، في: باب ما جاء في تسرى العبد، من كتاب النكاح. السنن الكبرى 7/ 152. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 303. (¬3) في الأصل: «إذا». (¬4) سورة البقرة 29. (¬5) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالعَبْدُ الذى هوَ آدَمِىٌّ مُكَلَّفٌ أَوْلَى. ولا يَجوزُ له التَّسَرِّى إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، ولو مَلَّكَه سَيِّدُه جاريةً، لم يَكُنْ له وَطْؤُها حتىِ يأْذَنَ له (¬1) فيه؛ لأَنَّ مِلْكَه ناقِصٌ، ولِسَيِّدِه نَزْعُه منه متى شاءَ مِن غيرِ فسْخِ عَقْدٍ، فلم يَكُنْ له التَّصَرُّفُ فيه إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، فإن أذِنَ له فقال: تَسَرَّاها. أو: أذِنْتُ لك في وَطْئِها. أو ما دَلَّ عليه، أُبِيحَ له، وما وُلِدَ له مِن التَّسَرِّى فحُكْمُه حُكْمُ مِلْكِه؛ لأَنَّ الجارِيَةَ مَمْلُوكَةٌ له، فكذلك وَلَدُها، وإن تَسَرَّى بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، فالوَلَدُ مِلْكٌ لسَيِّدِه. فصل: وإذا أذِنَ له السيِّدُ في أكْثَرَ مِن واحدَةٍ، فله التَّسَرِّى بما شاءَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأَنَّ مَن جازَ له التَّسَرِّى، جازَ له بغيرِ حَصْرٍ، كالحُرِّ. وإن أذِنَ له وأطْلَقَ، فله التَّسَرِّى بواحدَةٍ، وكذلك إذا أذِنَ له في التَّزْوِيجِ، لم (¬1) يَجُزْ أن يتَزَوَّجَ أكْثَرَ مِن واحدةٍ. وبهذا قال أصْحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا أذِنَ له في التَّزْوِيجِ، فعَقَدَ على اثْنَتَيْن في عَقْدٍ، جازَ. ولَنا، أنَّ الإِذْنَ المُطْلَقَ يتَناولُ أقَلَّ ما يقعُ عليه الاسْمُ يَقِينًا، وما زادَ مَشْكُوكٌ فيه، فيَبْقَى على الأَصْلِ، كما لو أذِنَ له في طَلاقِ امْرأتِه، لم يَكُنْ له أن يُطَلِّقَ أكْثَرَ مِن طَلْقَةٍ، ولأَنَّ الزَّائِدَ على (¬2) الواحدةِ يَحْتَمِل أن يكونَ غيرَ مُرادٍ، فيَبْقَى على أصْلِ التَّحْريمِ، كما لو شَكَّ في أصْلِ الإذْنِ. فصل: نقلَ محمدُ بنُ مَاهَان عن أحمدَ: لا بأْسَ للعَبْدِ أن يَتَسَرَّى إذا أذِنَ له سَيِّدُه، فإن رَجَعَ السَّيِّدُ، فليس له أن يَرْجِعَ إذا أذِنَ له مَرَّةً [وتَسَرَّى] (¬3). وكذلك نَقَلَ عنه إبْراهيمُ بنُ هانِئٍ، ويَعْقوبُ ابنُ بَخْتانَ، ولم أرَ عنه خِلافَ هذا، فظاهِرُه أنُّه إذا تَسَرُّى بإذْنِ السُّيِّدِ، لم يَمْلِكِ السَّيِّدُ ¬

(¬1) في م: «ولم». (¬2) في ق، م: «عن». (¬3) سقط من: الأصل.

فصل

فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ إِطْعَامُ بَهَائِمِهِ وَسَقْيُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجُوعَ؛ لأنَّه يَمْلِكُ به (¬1) البُضْعَ، فلم يَمْلِكْ سَيِّدُه فَسْخَه، قِياسًا على النِّكاحِ. وقال القاضِى: يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بالتَّسَرِّى ههُنا التَّزْوِيجَ، وسَمَّاه تَسَرِّيًا مَجازًا، ويكونُ للسَّيِّدِ الرُّجُوعُ فيما مَلَّكَ عبدَه. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ خِلافُ هذا، وذلك لأنَّه مَلَّكَه بُضْعًا أُبيحَ له وَطْؤُه، فلم يَمْلِكِ الرُجُوعَ فيه، كما لو زَوَّجَه. فصل: (وعليه إطْعامُ بَهائِمِه وسَقْيُها) و [مَن مَلَكَ بَهِيمَةً، لَزِمَه] (¬2) القِيامُ بها، والإِنْفاقُ عليها، وما تحتاجُ إليه، مِن عَلْفِها وسَقْيِها، أو إقامَةُ مَن يَرْعاها؛ لِمَا روَى ابنُ عمرَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «عُذِّبَتِ امْرأةٌ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حتى ماتَتْ جُوعًا، فلا هى أطْعَمَتْها، ولا هى أَرْسَلَتْها تأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ (¬3)». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) خشاش الأرض: هوامها وحشراتها. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، من كتاب الأنبياء. صحيح البخارى 4/ 215. ومسلم، في: باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذى لا يؤذى، من كتاب البر والصلة والآداب. صحيح مسلم 4/ 2022، 2023. كما أخرجه الدارمى، في: باب دخلت امرأة النار في هرة، من كتاب الرقاق. سنن الدارمى 2/ 330، 331. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 159، 188.

4027 - مسألة: (ولا يحملها ما لا تطيق)

وَأنْ لَا يُحَمِّلَهَا مَا لَا تُطِيقُ، وَلَا يَحْلِبَ مِنْ لَبَنِهَا مَا يَضُرُّ بِوَلَدِهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإنْفَاقِ عَلَيْهَا، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا أَوْ إِجَارَتِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4027 - مسألة: (ولا يُحَمِّلُها ما لا تُطِيقُ) لأنَّها في مَعْنَى العَبْدِ، وقد مَنَعَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَكْلِيفَ العَبْدِ ما لا يُطيقُ، ولأَنَّ فيه تَعْذِيبًا للحيَوانِ الذى له حُرْمَة في نَفْسِه (ولا يَحْلِبُ مِن لَبنِها ما يَضُرُّ بوَلَدِها) لأَنَّ كِفايَتَه واجِبَة على مالِكِه، [ولَبَنُ أُمِّه] (¬1) مَخْلُوقٌ له، فأشْبَهَ ولَدَ الأمَةِ. فإنِ امْتَنَعَ مِن (¬2) الإِنْفاقِ عليها، أُجْبِرَ على ذلك، فإن أبَى أو عَجَز، أُجْبِرَ على ¬

(¬1) في الأصل، تش، ر 3: «ولأن لبنه». (¬2) في م: «عن».

أَوْ ذَبْحِهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُبَاحُ أَكْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعِها (أو ذَبْحِها، إن كانت ممَّا) يُذْبَحُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُجْبرُه السُّلْطانُ، بل يأْمُرُه (¬1)، كما يَأْمُرُه بالمعْرُوفِ ويَنْهاه عن المُنْكَرِ؛ لأنَّ البَهِيمَةَ لا يَثْبُتُ لها حَقٌّ مِن جِهَةِ الحُكْمِ، ألَا تَرَى أنَّه لا (¬2) يَصِحُّ منها الدَّعْوَى، ولا يُنْصَبُ عنها خَصْمٌ، فصارَتْ كالزَّرْعِ والشَّجَرِ. ولَنا، أنَّها نَفقةُ حَيوانٍ واجِبَةٌ عليه، فكان للسُّلْطانِ إجْبارُه عليها، كنَفَقةِ العَبِيدِ. فإن عَجَزَ عن الإنْفاقِ، وامْتَنَعَ مِن البَيْعِ، بِيعَتْ عليه، كما يُباعُ العَبْدُ إذا طَلَبَ البَيْعَ عندَ إعْسارِ سَيِّدِه بنَفَقَتِه، وكما يُفْسَخُ نِكاحُه إذا أعْسَرَ بنَفَقَةِ امرأتِه. فإن عَطِبَتِ البَهِيمَةُ فلم يَنْتَفِعْ بها؛ فإن كانت ممَّا لا يُؤْكَلُ، أُجْبِرَ على الإِنْفاقِ عليها، كالعَبْدِ الزَّمِنِ، وإن كانتْ ممَّا يُؤْكَلُ، خُيِّرَ بينَ ذَبْحِها والإنْفاقِ عليها، على ما ذكَرْناه. واللَّهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) بعده في م: «به». (¬2) سقط من: الأصل.

باب الحضانة

بَابُ الْحَضَانَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الحَضانةِ [كفالةُ الطِّفْلِ] (¬1) وحَضانَتُه واجبةٌ؛ لأنَّه يَهْلِكُ بتَرْكِه، فيَجِبُ حِفْظُه عن الهلاكِ، كما يجبُ الإِنفاقُ عليه، وِإنْجاؤُه مِن المَهالِكِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الحضانة كفالة الطفل».

4028 - مسألة: و (أحق الناس بحضانة الطفل والمعتوه أمه، ثم أمهاتها الأقرب فالأقرب)

أَحَقُّ النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ أُمُّهُ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقرَبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4028 - مسألة: و (أحقُّ النَّاسِ بحَضانةِ الطِّفْلِ والمَعْتُوهِ أُمُّه، ثم أُمَّهاتُها الأقْربُ فالأقْربُ) إذا افتَرَقَ الزَّوْجانِ، ولهما ولدٌ طفلٌ أو مَعْتُوهٌ، فأمُّه أَوْلى الناسِ بكَفالَتِه إذا كَمَلَتِ الشَّرائِطُ فيها، ذكَرًا كان أو أُنْثَى. هذا قولُ يحيى الأنْصارِىِّ، والزُّهْرِىِّ، والثَّوْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْى، ولا نَعْلَمُ أحدًا خالَفَهُم؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بن عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ اللَّه، إنَّ ابْنِى هذا كان بَطْنِى له وِعاءً، وثَدْيِى له سِقاءً، وحِجْرِى له حِواءً، وإنَّ أباه طَلَّقَنِى، وأراد أن يَنْتَزِعَه (¬1) مِنِّى. فقال [رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2): «أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحِى». رواه أبو داودَ (¬3). ويُرْوَى أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، حَكَمَ على عمرَ بنِ الخَطَّابِ، ¬

(¬1) في الأصل، تش، م: «ينزعه». والمثبت لفظ أبى داود. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: باب من أحق بالولد، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 529. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 182. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 153. والدارقطنى، في: سننه 3/ 305. والحاكم، في: المستدرك 2/ 207. والبيهقى 8/ 4، 5. وحسنه في الإرواء 7/ 244.

4029 - مسألة: وأولى الناس بعد الأم أمها (ثم أمهاتها الأقرب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنه، بعاصمٍ لأُمِّه أُمِّ عاصِمٍ، وقال: رِيحُها وشمُّها ولُطْفُها خيْر له منك. رواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬1). ولأنَّها أشْفَقُ عليه وأقْرَبُ، ولا يُشارِكُها في القُرْبِ إلَّا الأبُ، وليس له مثلُ شَفَقَتِها، ولا يَتَولَّى الحَضانةَ بنَفْسِه، وإنَّما يَدْفَعُه إلى امرأتِه، وأُمُّه أوْلَى مِن امْرأةِ أبِيه. فصل: فإن لم تكُنِ الأمُّ مِن أَهْلِ الحَضانةِ، لِفُقْدانِ الشُّروطِ، انْتَقَلَ إلى مَن يَلِيها في الاسْتِحْقاقِ؛ لأنَّها صارت كالمَعْدُومَةِ. 4029 - مسألة: وأوْلَى الناسِ بعدَ الأُمِّ أُمُّها (ثم أُمَّهاتُها الأقْربُ ¬

(¬1) في: باب الغلام بين الأبوين أيهما أحق به، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 109، 110. كما أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد، من كتاب الوصية. الموطأ 2/ 767، 768. وعبد الرزاق، في: باب أى الأبوين أحق بالولد، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 154. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يطلق امرأته ولها ولد صغير، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 236 - 238.

4030 - مسألة: (ثم الأخت للأبوين، ثم الأخت للأب، ثم الأخت للأم، ثم الخالة، ثم العمة، فى الصحيح عنه)

ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ، ثُمَّ الْأُخْتُ لِلأَبَوَيْنِ، ثُمَّ الْأَخْتُ لِلْأَب، ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأمِّ، ثُمَّ الْخَالَةُ، ثُمَّ الْعَمَّةُ، فِى الصَّحِيحِ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالأَقْربُ ثم الأبُ) يُقَدَّمْنَ على سائرِ الأقاربِ مِن النِّساءِ والرجال؛ لأنَّهنَّ نساءٌ وِلادتُهنَّ مُتَحقِّقَةٌ، فهُنَّ في معنى الأُمِّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنُّ أُمَّ الأبِ مُقَدَّمةٌ على أُمِّ الأُمِّ؛ لأنَّها تُدْلِى بعَصَبةٍ. فعلى هذه الروايةِ، يكونُ الأبُ أَولَى بالتَّقديمِ؛ لأنَّهنَّ يُدْلِينَ به، فيكونُ الأبُ بعدَ الأمِّ (ثم أُمَّهاتُه) وإن عَلَوْنَ، ثم أبو الأبِ (ثم أمَّهاتُه) ثم جَدُّ الأبِ، ثم أمَّهاتُه وإن لم يَكُنَّ وارثاتٍ (¬1)؛ لأنَّهنَّ يُدْلِينَ بعَصَبةٍ مِن أهلِ الحَضانةِ، بخلافِ أمِّ أبى الأمِّ. 4030 - مسألة: (ثم الأُخْتُ للأبَويْن، ثم الأخْتُ للأبِ، ثم الأخْتُ للأُمِّ، ثم الخالةُ، ثم العَمَّةُ، في الصَّحيح عنه) وإذا عُدِمَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الحضانةَ، مِن الآباءِ، والأُمَّهاتِ وإن عَلَوْنَ، انْتقَلتْ إلى الأخَواتِ، وقُدِّمْنَ على سائرِ القراباتِ، مِن الخالاتِ [والعَمَّاتِ] (¬2) وغيرِهِنَّ؛ لأنَّهُنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «وارثًا». (¬2) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ، الْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ وَالْخَالَةُ أَحَقُّ مِنَ الْأَبِ، فَتَكُونُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَحَقَّ، وَيَكُونُ هَؤلَاءِ أَحَقَّ مِنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ، وَمِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ شارَكْنَ في النَّسَبِ وقدِّمْنَ في الميراثِ. وأَولْى الأخَواتِ مَنِ كانتْ لأبَويْن؛ لقُوَّةِ قَرابَتِها، ثم مَن كانت لأبٍ، ثم مَن كانت لأُمٍّ. نَصَّ عليه أحمدُ، وهو ظاهرُ مذهبِ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: الأُخْتُ مِن الأُمِّ أَوْلَى مِن الأُخْتِ مِن الأبِ. وهو قولُ الْمُزَنِىِّ، وابنِ سُرَيْجٍ (¬1)؛ لأنَّها أدْلَتْ بالأُمِّ، فقُدِّمَتْ على المُدْلِيةِ بالأبِ، كأُمِّ الأُمِّ مع أُمِّ الأبِ. وقال ابنُ سُرَيْجٍ (1): تُقَدَّمُ الخالةُ على الأُخْتِ مِن الأبِ، لذلك (¬2). ولأبى حنيفةَ فيه روايتان. ولَنا، أنَّ الأُخْتَ لِلْأَبِ أقْوى في الميراثِ، فقُدِّمَتْ، كالأُخْتِ مِن الأبَوَيْن، ودليلُ قُوَّتِها أنَّها أُقِيمَتْ مُقامَ الأخْتِ مِن الأبوين عندَ عدمِها (¬3)، وتكونُ عَصَبةً مع البناتِ، وتُقاسِمُ الجَدَّ، وما ذَكَروه مِن الإِدْلَاءِ (¬4) لا يَلْزَمُ؛ لأَنَّ الأُخت تُدْلِى بنفْسِها، لكونِهما خُلِقا مِن ماءٍ واحدٍ، ولها (¬5) تَعْصِيبٌ، فكانت أَوْلَى (و) حُكِىَ (عن أحمدَ) رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ (الأختَ مِن الأمِّ والخالةَ أحَقُّ مِن الأبِ، فتكونُ الأختُ مِن الأبَوَيْن أحَقَّ) منه ومنهما (ومِن جميعِ العَصَباتِ) وَجْهُ هذه الرِّوايةِ أنَّ ¬

(¬1) في م: «شريح». (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في الأصل: «عدمهما». (¬4) في م: «الأدلة». (¬5) في الأصل، م: «لهما».

جَمِيعَ الْعَصَبَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هؤلاءِ نساءٌ يُدْلِين بالأمِّ، فكُنَّ أَوْلَى مِن الأب كالجَدَّاتِ. والرِّوايةُ الأُولَى هى المشهورةُ في المذهبِ. فإنِ اجْتَمع أَخٌ وأختٌ [مِن الأبَوَيْن] (¬1)، قُدِّمَتِ الأُختُ في الحضانةِ؛ لأنَّها امرأةٌ مِن أهلِ الحضانةِ، فقُدِّمَتْ على مَن في دَرَجَتِها مِن الرجالِ، كتَقْديمِ الأمِّ على الأبِ، وأمِّ الأبِ على أبى الأبِ؛ لأنَّها تَلِى الحضانةَ بنَفْسِها، والرجلَ لا يَلِيها بنَفْسِه. فإذا انْقَرضَ الإِخوةُ والأخواتُ، صارتِ الحضانةُ للخالاتِ، وتُقَدَّمُ على العَمَّةِ؛ لأنَّها تُدْلِى بالأمِّ، وبعدَهُنَّ العَمَّاتُ، في الصَّحيحِ عنه؛ لأنَّهُنَّ أخواتُ الأبِ، فتُقَدَّمُ العَمَّةُ مِن الأبَوَيْن، [ثم العَمَّةُ مِن الأبِ] (¬2)، ثم العَمَّةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الأمِّ، كالأخَواتِ، ويُقَدَّمْنَ على الأعْمامِ؛ لأنهُنَّ نِساءٌ مِن أهلِ الحضانةِ، فيُقَدَّمْنَ على مَن في دَرَجتِهِنَّ مِن الرجالِ، كتَقْديمِ الأُمِّ على الأبِ، والجَدَّةِ على الجَدِّ، والأختِ على الأخِ.

4031 - مسألة: (قال الخرقى: وخالة الأب أحق من خالة الأم)

قالَ الْخِرَقِىُّ: وَخَالَةُ الْأَبِ أَحَقُّ مِنْ خَالَةِ الْأُمِّ. ثُمَّ تَكُونُ لِلْعَصَبَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4031 - مسألة: (قال الخِرَقِىُّ: وخالةُ الأبِ أحَقُّ مِن خالَةِ الأُمِّ) قد ذَكَرْنا أنَّه إذِا عُدِمَتِ الأمَّهاتُ والآباءُ والأخوِاتُ، انْتَقَلتِ الحضانةُ إلى الخالاتِ، ويُقَدَّمْنَ على العَمَّاتِ؛ لِمَا ذَكَرْنا. نَصَّ عليه أحمدُ. ويَحْتَمِلُ كَلامُ الخِرَقِىِّ تَقْدِيمَ العَمَّاتِ؛ لأنَّه قَدَّمَ خالةَ الأبِ على خالةِ الأمِّ، فدَلَّ على تَقْدِيم قَرابَةِ الأبِ على قَرابَةِ الأمِّ، ولأنَّهُنَّ يُدْلِين بعَصَبَةٍ، فقُدِّمْنَ، كتَقْديمِ الأُخْتِ مِن الأبِ على الأُخْتِ مِن الأُمِّ. وقال القاضِى: مُرادُ الخِرَقِىِّ بقولِه: خالةُ الأبِ. أى الخالةُ مِن الأبِ تُقَدَّمُ على الخالةِ مِن الأمِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتَقْدِيمِ (¬1) الأختِ مِن الأبِ على الأختِ مِن الأمِّ؛ لأَنَّ الخالاتِ أخواتُ الأُمِّ، فيَجْرِينَ في الاسْتِحقاقِ والتَقْديمِ فيما بَينهُنَّ مَجرى الأخواتِ المُفْتَرِقاتِ، وكذلك الحُكْمُ في العَمَّاتِ المُفْتَرِقاتِ. فإذا قُلْنا بتَقْدِيمِ الخالاتِ، فإذا انْقَرضْنَ فبَعْدَهُن العمَّاتُ، وإن قلنا بتَقْديمِ العَمَّاتِ، فالخالاتُ بَعْدَهُنَّ، فإذا عُدِمْنَ، انْتَقَلَتْ إلى خالاتِ الأبِ، على قولِ الخِرَقِىِّ، وعلى القرلِ الآخرِ، إلى خالاتِ الأمِّ. وهل تُقَدَّمُ خالاتُ الأبِ على عَمّاتِه؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على ما ذَكَرْنا في الخالاتِ والعَمَّاتِ، وأمَّا عَمَّاتُ الأمِّ، فلا حضانةَ لهنَّ؛ لأنَّهُنَّ يُدْلِين بأبى الأمِّ، وهو رجلٌ مِن ذَوِى الأرْحامِ، ولا حضانهَ له، ولا لمَن يُدْلِى به. وفيه وَجْهٌ آخَرُ (¬2)، أنَّ لهم حَضانةً، سوف نَذْكُرُه، إن شاء اللَّهُ تعالى. فصل: وللرجالِ مِن العصباتِ مَدْخَلٌ في الحضانةِ، وأوْلاهُم الأبُ، ¬

(¬1) في م: «لتقديم». (¬2) زيادة من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم الجَدُّ أبو الأبِ وإن علا، ثم الأخُ مِن الأبَوَيْن، ثم الأخُ مِن الأبِ، [ثم بَنُوهم] (¬1) وإن سَفَلوا، على ترتيبِ الميراثِ، ثم العُمومَة، ثم بَنُوهم كذلك، ثم عُمومةُ الأبِ، ثم بَنُوهم. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال بعضُ أصحابِه (¬2): لا حضانةَ لغيرِ الآباءِ (¬3) والأجدادِ؛ لأنَّهم لا معرفةَ لهم بالحضانةِ، ولا لهم وِلايةٌ بأنْفُسِهم، فلم تكنْ لهم حضانةٌ، كالأجانبِ. ولَنا أنَّ عليًّا وجعفرًا اخْتَصَما في حضانةِ بنتِ حَمْزةَ، فلم يُنْكِرْ عليهما (¬4) النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ادِّعاءَ الحضانةِ (¬5). ولأَنَّ لهم وِلايةً وتعصيبًا بالقَرابةِ، فثَبَتَتْ لهم الحضانةُ، كالأبِ والجَدِّ، وفارَقَ الأجانِبَ، فإنَّهم ليست لهم قرابةٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في تش: «أصحاب الشافعى». (¬3) في م: «الأب». (¬4) في الأصل، تش: «عليهم». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب كيف يكتب: هذا مما صالح فلان وفلان بن فلان. . .، من كتاب الصلح وفى: باب عمرة القضاء، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 3/ 242، 5/ 180. وأبو داود، في: باب من أحق بالولد، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 530.

4032 - مسألة: (إلا أن الجارية ليس لابن عمها حضانتها)

إلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَ لِابنِ عَمِّهَا حَضَانَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَارِمِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا شَفَقةٌ، ولأنَّهم تَساوَوْا في عَدَمِ القَرابةِ، فليس واحدٌ منهم أَوْلَى بالتَّقْديمِ مِن الآخَرِ، والعَصَباتُ لهم قَرابةٌ يَمْتازون بها، وأحَقُّهم بالحضانةِ أحَقُّهم بالميراثِ بعدَ الآباءِ والأجدادِ، ويَقُومون مَقامَ الأبِ في التخيِيرِ للصبىِّ بينَه وبينَ الأمِّ، أو غيرِها مِمَّن له الحضانةُ مِن النِّساءِ، ويَكُونون أحَقَّ بالجاريةِ إذا بَلَغَتْ سَبْعًا، على ما نَذْكُرُه. 4032 - مسألة: (إلَّا أنَّ الجاريةَ ليس لابنِ عَمِّها حضانتُها) فإذا بَلَغتْ سبعًا لم تُسَلَّمْ إليه (لأنَّه ليس مَحْرَمًا لها).

4033 - مسألة: (فإن امتنعت الأم من حضانتها)

وَإِذَا امْتَنَعَتِ الأُمُّ مِنْ حَضَانَتِهَا، انْتَلَقَتْ إلَى أُمِّهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى الْأَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4033 - مسألة: (فإنِ امْتَنَعَتِ الأمُّ مِن حضانتِها) مع اسْتِحْقاقِها (انْتَقَلَتْ إلى أُمِّها) في أظْهَرِ الوَجْهَيْن. والوَجْهُ الآخرُ (تَنْتَقِلُ إلى الأبِ) لأَنَّ أمَّهاتِها فَرْعٌ عليها في الاسْتِحْقاقِ، فإذا أسْقَطَتْ حَقَّها، سَقَطَتْ فرُوعُها. ولَنا، أنَّ الأبَ أبْعَدُ، فلا تَنْتقِلُ الحضانةُ إليه مع وجودِ أقربَ منه، كما لا تَنْتَقِلُ إلى الأختِ، [وكونُهنَّ] (¬1) فروعًا لها، لا يُوجبُ سُقوطَ حُقوقِهِنَّ (¬2) بسُقوطِ حَقِّها، [كما لو سَقَط حَقُّها] (¬3) لكونِها ليست مِن أهلِ الحضانةِ، أو لتَزوُّجِها. وهكذا (¬4) الحُكْمُ في الأبِ إذا سقط حَقُّه، هل ¬

(¬1) في الأصل: «لكونها». (¬2) في ر 3: «حقهم». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «هذا».

4034 - مسألة: (فإن عدم هؤلاء كلهم، فهل للرجال من ذوى الأرحام حضانة؟ على وجهين؛ أحدهما، لهم)

فَإنْ عُدِمَ هَولَاءِ كُلُّهُم، فَهَلْ لِلرِّجَالِ مِنْ ذَوِى الْأَرْحَامِ حَضَانَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهُمَا؛ لَهُمْ ذَلِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْقُطُ حَقُّ أمهاتِه؟ على وَجْهَيْن. فإن كانت أختٌ مِن أُبوَين، وأختٌ مِن أبٍ، فأسْقَطَتِ الأختُ مِن الأبوين حَقَّها، لم يَسْقُطْ حَقُّ الأختِ مِن الأبِ، وَجْهًا واحدًا؛ لأن اسْتِحقاقَها مِن غيرِ جِهَتِها، وليست فرعًا عليها. 4034 - مسألة: (فإن عُدِمَ هؤلاءِ كلُّهم، فهل للرجالِ مِن ذَوِى الأرْحامِ حضانةٌ؟ على وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، لهم) حضانةٌ؛ لأنَّ لهم رَحِمًا وقرابةً يَرِثون بها عندَ عدمِ مَن هو أولَى منهم، فأشْبَهُوا البعيدَ مِن العَصَباتِ. والثانى، لا حَقَّ لهم في الحضانةِ، ويَنْتقِلُ الأمرُ إلى الحاكمِ؛

فَيَكُونُ أَبُو الأُمِّ وَأُمَّهَاتُهُ أَحَقَّ مِنَ الْخَالِ، وَفِى تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الأَخِ مِنَ الأُمِّ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّهم ليسوا مِمَّن يَحْضُنُ بنَفْسِه، ولا لهم وِلايةٌ؛ لعدمِ تَعْصِيبِهم، فأشبَهُوا الأجانِبَ. فعلى الوجهِ الأوَّلِ (يكونُ أبو الأمِّ وأمَّهاتُه أحَقَّ مِن الخالِ) لأنَّه يَسْقُطُ في الميراثِ (وفى تَقْدِيمِهم على الأخ مِن الأمِّ وَجْهان) أحَدُهما، يُقَدَّمُ الأخُ؛ لأنَّه يَرِثُ بالفَرْضِ، ويُسْقِطُ ذَوِى الأرْحامِ كلَّهم، فيُقَدَّمُ عليهم في الحضانةِ. والثانى، أبو الأمِّ وأمَّهاتُه أوْلَى منه؛ لأنَّ أبا الأمِّ يُدْلِى إليها بالأبُوَّةِ، والأخَ يُدْلِى بالبُنوةِ، والأبُ يُقَدَّمُ في الوِلايةِ على الابنِ، فقُدِّمَ في الحضانةِ؛ لأنَّها ولايةٌ.

4035 - مسألة: (ولا حضانة لرقيق ولا فاسق، ولا كافر على مسلم)

وَلَا حَضَانَةَ لِرَقِيقٍ وَلَا فَاسِقٍ، وَلَا كَافِر عَلَى مُسْلِمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4035 - مسألة: (ولا حضانَةَ لرقيقٍ ولا فاسقٍ، ولا كافرٍ على مسلمٍ) لا تَثْبُتُ الحضانةُ لطِفْلٍ ولا مَعْتُوهٍ؛ لأنَّه لا يَقدِرُ عليها، وهو مُحْتاجٌ إلى مَن يَكْفُلُه، فكيف يَكْفُلُ غيرَه! ولا لفاسقٍ؛ لأنَّه لا يُوثَقُ به في أداءِ الواجبِ مِن الحضانةِ، ولا حَظَّ للولدِ في حضانتِه؛ لأنَّه يَنْشأُ على طَرِيقتِه. ولا لرقيقٍ. وبهذا قال عطاءٌ، والثورىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ، في حُرٍّ له وَلَد حُرٌّ مِن أمَةٍ: الأُمُّ أحقُّ به، إلَّا أن تُباعَ فيُنْقَلَ، فيكونُ الأبُ أحَقَّ به؛ لأنَّها أمٌّ مُشْفِقَةٌ، أشْبَهَتِ الحُرَّةَ. ولَنا، أنَّها لا تَمْلِكُ مَنافِعَها التى تَحْصُلُ الكَفالةُ بها؛ لكونِها مملوكةً لسيدِها، فلم تَكُنْ لها حَضانةٌ، كما لو بِيعتْ ونُقِلَتْ. ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَثْبُتُ لكافرٍ على مسلمٍ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، وسَوَّارٌ (¬1) العَنْبَرِىُّ. وقال ابنُ القاسمِ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى: تَثْبُتُ؛ لِما رُوِىَ عن (¬2) عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفَرٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رافعِ بنِ سِنانٍ (¬3)، أنَّه أسْلَم، وأبَتِ امْرَأتُه أن تُسْلِمَ، فأتَتِ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: ابْنَتِى، وهى فطيمٌ، أو شِبْهُه. [وقال رافع: ابْنَتِى] (¬4). فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اقْعُدْ ناحِيَةً». وقال لها: «اقعُدِى ناحِيَةً». وقال: «ادْعُواها». فمالَتِ الصَّبِيَّةُ إلى أمِّها. فقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اهْدِها». فمالتِ الصَّبِيَّةُ (¬5) [إلى أبيها] (¬6)، فأخَذَها. رواه أبو داودَ (¬7). ¬

(¬1) بعده في م: «و». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) في الأصل، تش، ر 3: «يسار». وفى ق، م: «سيار». والمثبت من مصادر التخريج. (¬4) تكملة من مصادر التخريج. (¬5) زيادة من: ر 3، وهى موافقة لما في سنن أبى داود. (¬6) في م: «لأبيها». (¬7) في: باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 520. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّها وِلايةٌ، فلا تَثْبُتُ لكافرٍ على مسلمٍ، كوِلايةِ النِّكاحَ والمالِ، ولأنَّها إذا لم تَثْبُتْ للفاسقِ، فالكافرُ أوْلَى؛ لأنَّ ضَرَرَه أكثرُ، فإنَّه مُجْتَهِدٌ في إخْراجِه عن دِينه، ويُخْرِجُه عن الإسلامِ بِتَعْلِيمِه الكُفْرَ، وتَزْيِينِه (¬1) له، وهذا أعْظَمُ الضَّرَرِ، والحضانةُ إنَّما تَثْبُتُ لحظِّ الولدِ، فلا تُشرَعُ على وَجْهٍ يَكُونُ فيه هَلاكُه وهَلاكُ دِينه. فأمَّا الحديثُ، فقد رُوِى على غيرِ هذا الوجهِ، ولا يُثْبتُه أهلُ النَّقْلِ، وفى إسنادِه مَقالٌ. قاله ابنُ المُنْذِرِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِمَ أنَّها تَخْتارُ أباها بدَعْوتِه، فكان ذلك خاصًّا (¬2) في حَقِّه. فصل: فأمَّا مَن بَعْضُه حُرٌّ، فإن لم تَكُنْ بينَه وبينَ سَيِّدِه مُهايأَةٌ، فهو كالقِنِّ؛ لكونِ منافعِه مُشْتركَةً بينَه وبينَ سيدِه. وإن كان بينَهما مُهايأةٌ، فقياسُ قولِ أحمدَ أنَّ له الحضانةَ في أيامِه (¬3)؛ لأنَّه قال: كلُّ ما يَتَجَزَّأُ (¬4)، فعليه النِّصفُ مِن كلِّ شَىْءٍ. وهذا اختيارُ أبى بكرٍ. وعندَ الشافعىِّ، لا ¬

(¬1) في م: «تربيته». (¬2) في الأصل، تش: «حاصل». (¬3) في الأصل: «أمانه». (¬4) في الأصل، تش، ق، م: «يجزئُ».

4036 - مسألة: (ولا)

وَلَا لِامْرَأَةٍ مُزَوجَةٍ لأَجْنَبِىٍّ مِنَ الطِّفْلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حضانةَ له؛ لأنَّه كالقِنِّ عندَه. وهو أصْلٌ قد تَقَدَّمَ. 4036 - مسألة: (ولا) حضانةَ (لامْرَأةٍ مُزَوَّجةٍ لأجْنَبِىٍّ مِن الطِّفْلِ) إذا تَزَوَّجَتِ الأم، سَقَطتْ حضانتُها. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ. قضى به شُرَيحٌ. وهو قولُ مالِكٍ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. وعن الحسنِ أنَّها لا تَسْقُطُ بالتزْويجِ. ونَقَلَ مُهَنَّا عن أحمدَ: إذا تَزَوَّجَتِ الأُمُّ وابنُها صَغِيرٌ، أخِذَ منها. قيل له: فالجاريةُ مِثْلُ الصبىِّ؟ قال: لا، الجاريةُ [معها تكونُ] (¬2) إلى سبعِ سِنِين. فظاهِرُ هذا أنَّه لم يُزِلِ الحضانَةَ عن الجاريةِ لتَزْويجِ أمِّها، وأزالها عن الغلامِ. ووَجْهُ ذلك ما رُوِى أنَّ عليًّا وجعفرًا وزيدَ بنَ حارثةَ تنازعوا في حضانةِ ابنةِ حَمْزةَ، فقال على: ابنةُ عَمِّى. وقال زيدٌ: بنتُ أخى -لأنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بين زيدٍ وحمزةَ. وقال جعفرٌ: بنتُ عَمِّى، وعندِى خالتُها. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الخالةُ أُمٌّ». وسَلَّمَها إلى ¬

(¬1) انظر: الإشراف 1/ 132. (¬2) في م: «تكون معها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جعفرٍ. رواه أبو داودَ (¬1) بنحوِه. فجعل لها الحضانةَ وهى مُزوَّجَةٌ. والأُولَى هى الصحيحةُ. قال ابنُ أبى موسى: وعليها العملُ؛ لقولِ رسولِ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحى» (¬2). ولأنَّها تَشْتَغِلُ [عن الحضانةِ] (¬3) بحُقوق الزوجِ، فكان الأبُ أحظَّ له، ولأنَّ مَنافِعَها مَمْلوكةٌ لغيرِها، أشْبَهَتِ الأمَةَ (¬4). فأمَّا بِنْتُها، فإنَّما قضى بها لخالتِها؛ لأَنَّ زَوْجَها مِن أهلِ الحضانةِ، ولأنَّه لا يُساوِيه في الاسْتِحقاقِ إلا علىٌّ، وقد تَرَجَّحَ (¬5) جعفر بأنَّ امرأتَه مِن أَهْلِ الحضانةِ. وعلى هذا، متى كانتِ المرْأةُ مزَوَّجَةً برجلٍ مِن أهلِ الحضانةِ، كالجَدَّةِ المُزَوَّجةِ للجَدِّ، لم تَسْقُطْ حضانتُها؛ لأنَّه (¬6) يُشَارِكُها في الولادةِ والشَّفَقَةِ على الولدِ، فأشْبَهَ الأُمَّ إذا كانت زوجةَ الأبِ. ولو تَنازَعَ العَمَّان في الحضانةِ، وأحَدُهما مُتَزوِّج للأمِّ أو للخالةِ، فهو أَحَقُّ؛ لحديثِ بنت حمزةَ، وكذلك كلُّ عَصَبتَيْن تساوتا، وأحَدُهما مُتَزوِّج مِمَّن هى مِن أهلِ الحضانةِ، قُدِّمَ بذلك. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 464. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 456. (¬3) في الأصل: «بالحضانة». (¬4) في الأصل: «الأم». (¬5) في م: «رجح» (¬6) بعده في ر 3: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وظاهِرُ هذا، أنَّ التَّزْويجَ بالأجْنَبِىِّ يُسْقِطُ الحضانةَ (¬1). وهو ظاهِرُ قولِ الخِرَقِىِّ، وإن عَرِىَ عن الدُّخولِ. وهو قولُ الشافعىِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا تَسْقُطَ إلَّا بالدُّخولِ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأن به تَشْتَغِلُ عن الحضانةِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحِى». وقد وجِدَ النِّكاحُ، ولأن بالعَقْدِ تُمْلَك مَنافِعُها، ويَسْتَحِقُّ زَوْجُها مَنْعَها (1) مِن حضانَتِه، فزال حَقها، كما لو دَخَل بها. فصل: إذا عدِمَتِ الأمُّ أو تَزَوَّجَتْ، أو لم تَكُنْ مِن أهلِ الحضانةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فأمُّ الأبِ] (¬1) أوْلَى مِن الخالةِ إذا اجتمعتا. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ في الجديدِ. وحُكِىَ عن مالك. وعن (¬2) أحمدَ أنَّ الأختَ والخالةَ أحَقُّ مِن الأبِ. وقد ذكرناه. فعلى هذا، يَحْتَمِلُ أن تَكُونَ الخالةُ أحَقَّ مِن أمِّ الأبِ. وهو قديمُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لأنَّها تُدْلِى بأُمِّ، وأمُّ الأبِ تُدْلِى به، فقُدِّمَ مَن يُدْلِى بالأمِّ، كتَقْدِيمِ أمِّ الأمِّ على أمِّ الأبِ، ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى ببنتِ حمزةَ لخالتِها، وقال: «الخالةُ أُمٌّ». ولَنا، أنَّ أمَّ الأبِ جَدَّةٌ وارِثَةٌ، فقُدِّمَتْ على الخالَةِ، كأمِّ الأمِّ، ولأَنَّ لها وِلادةً، فأشْبَهتْ أم الأمِّ، فأمَّا الحديث، فيَدُلُّ على أنَّ للخالةِ حقًّا في الجُمْلَةِ، وليس النِّزاعُ فيه، إنَّما النِّزاعُ في التَّرْجيحِ عندَ الاجْتِماعِ. وقولُهم: تُدْلِى بأمٍّ. قلناْ: لكن لا وِلادةَ لها، فيُقَدَّمُ عليها مَن له ليِ لادة، كتَقْدِيمِ أمِّ الأمِّ على الخالةِ. فعلى هذا، متى وُجِدَتْ جَدة وارِثَة، فهى أوْلَى مِمَّن ليس مِن عَمُودَىِ النَّسَبِ بكلِّ حالٍ، وإن عَلَتْ دَرَجتُها؛ لفَضِيلةِ الولادةِ والوِراثةِ. فصل: فإنِ اجْتَمَعَتْ أمُّ أمٍّ وأمُّ أبٍ، فأمُّ الأمِّ أوْلَى وإن علت دَرَجتُها، لأنَّ لها وِلادةً، وهى تُدْلِى بالأمِّ التى تُقَدمُ على الأبِ، فوَجَبَ تَقْدِيمُها ¬

(¬1) في الأصل: «فالأب». (¬2) سقط من: الأصل.

4037 - مسألة: (ومتى زالت الموانع منهم)

فَإِنْ زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنْهُمْ، رَجَعُوا إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، كتَقْدِيمِ الأمِّ على الأب. وعن أحمدَ أنَّ أمَّ الأبِ أحَقُّ. وهو قياسُ قولِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه قَدَّمَ خالةَ الأَبِ على خالةِ الأمِّ، وخالةُ الأبِ أختُ أمِّه، وخالةُ الأمِّ أختُ أمِّها، فإذا قَدَّمَ أختَ أمِّ الأبِ، دَلَّ على تَقْديمِها؛ وذلك لأنَّها تُدْلِى بعَصَبةٍ مع مُساواتِها للأُخْرى في الولادةِ، فوَجَبَ تَقْديمُها، كتَقْدِيمِ الأختِ مِن الأبِ على الأختِ مِن الأمِّ، وإنَّما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأبِ؛ لأنَّها أنْثَى تَلِى الحضانةَ بنَفْسِها، فكذلك أمُّه، فإنَّها أُنْثَى تَلِى الحضانةَ (¬1) بنَفْسِها، فقُدِّمَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنا. 4037 - مسألة: (ومتى زالتِ المَوانِعُ منهم) مثلَ أن عَتَق الرَّقِيقُ، وأسْلَمَ الكافرُ، وعَدَلَ الفاسِقُ، وعَقَل المَجْنُونُ، عاد حَقُّهم مِن الحضانةِ؛ لأَنَّ سَبَبَها قائمٌ، وإنَّما امْتَنَعَتْ لمانع، فإذا زال المانعُ، عاد الحقُّ بالسببِ السابقِ المُلازِمِ، كالزوجةِ إذا طُلِّقَتْ، فإنَّه يَعُودُ حَقُّها مِن الحضانةِ، كذلك هذا. [وهذا] (¬2) مَذْهَبُ الشافعىِّ، وأصحابِ ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّأْى، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ والمُزنىَّ قالا: إن كان رَجْعيًّا، لم يَعُدْ حَقُّها؛ لأنَّ الزَّوْجِيَّةَ قائمة، فأشْبَهَ ما لو كانت في صُلْبِ النِّكاحِ. ولنا، أنَّها مُطَلَّقةٌ، فعاد حَقُّها مِن الحضانةِ، كالبائنِ. قولُهم: هى زوجةٌ. قلنا: إلَّا أنَّه قد عَزَلَها عن فِراشِه، ولم يَبْقَ لها عليه قَسْمٌ، ولا لها به شُغلٌ، فأشْبَهَتِ البائِنَ. ويُخَرَّجُ لنا مِثلُ قولِهما (¬1)؛ لكونِ النِّكاحِ قبلَ الدُّخولِ مُزِيلًا لحَقِّ الحضانةِ مع عدمِ القَسْمِ والشُّغْلِ بالزَّوجِ. ¬

(¬1) في الأصل: «قولهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَثْبُتُ الحضانةُ إلَّا على الطِّفْلِ و (¬1) المَعْتُوهِ، فأمَّا البالِغُ الرَّشِيدُ، فلا حضانةَ عليه، وإليه الخِيَرَةُ في الإِقامةِ عندَ مَن شاء مِن أبويه، فإن كان رَجُلًا فله الانْفِرادُ بنَفْسِه، [لاسْتِغْنائِه عنهما. ويُسْتَحَبُّ أن لا يَنْفَرِدَ عنهما، ولا يَقْطَعَ بِرَّه لهما، فأمَّا الجاريةُ، فليس لها الانْفِرادُ] (¬2)، ولأبيها مَنْعُها منه؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ أن يَدْخُلَ عليها مَن يُفْسِدُها، ويُلْحقُ العارَ بها وبأهلِها، فإن لم يَكُنْ لها أبٌ، قام أوْلِياؤُها مَقامَه. ¬

(¬1) في الأصل، ر 3: «أو». (¬2) سقط من: الأصل.

4038 - مسألة: (ومتى أراد أحد الأبوين النقلة إلى بلد بعيد آمن ليسكنه، فالأب أحق. وعنه، الأم أحق. فإن اختل شرط منها، فالمقيم منهما أحق)

وَمَتَى أَرَادَ أَحَدُ الْأَبوَيْنِ النُّقْلَةَ إلَى بَلَدٍ بَعِيد آمِن لِيَسْكُنَهُ، فَالْأَبُ أحَقُّ بِالْحَضَانَةِ. وَعَنْهُ، الأُمُّ أَحَقُّ. فَإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ منْ ذَلِكَ، فَالْمُقِيمُ مِنْهُمَا أَحَقُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4038 - مسألة: (ومتى أراد أحَدُ الأبَوَيْن النُّقْلةَ إلى بلدٍ بعيدٍ آمنٍ ليَسْكُنَه، فالأبُ أحَقُّ. وعنه، الأمُّ أحَقُّ. فإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ منها، فالمُقِيمُ منهما أحَقُّ) وجُمْلةُ ذلك، أن أحَدَ الأبَوَيْن إذا أراد السَّفَرَ لحاجَةٍ ثم يَعُودُ، والآخرُ مُقِيم، فالمقيمُ أوْلَى بالحضانةِ؛ لأنَّ في (¬1) المُسافَرةِ بالوَلَدِ إضْرارًا به، وإن كان مُنتقِلًا إلى بلدٍ ليُقِيمَ به، وكان الطريقُ مَخُوفًا أو البلدُ الذى يَنْتَقِلُ إليه مَخُوفًا، فالمُقِيمُ أحَقُّ به؛ لأَنَّ في السَّفَرِ به خَطَرًا. [ولو] (¬2) اختار الولدُ السفرَ في هذه الحالَةِ، لم يُجَبْ إليه؛ لأَنَّ فيه تَغْرِيرًا به، وإن كان البلدُ الذى يَنْتَقِلُ إليه آمنًا، وطريقُه آمِنًا، فالأبُ أحَقُّ به، سَواءٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان هو المُقِيمَ أو المُنْتَقِلَ، فإن كان بينَ البلدين قَرِيبٌ (¬1)، بحيثُ يراهم الأبُ كلَّ يوم ويَرَوْنَه، فتَكُونُ الأمُّ على حضانَتِها. وقال القاضى: إذا كان السَّفَرُ دُون مسافةِ القَصرِ، فهو في حُكْمِ الإِقامَةِ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ ذلك في حُكْمِ (¬2) الإِقامةِ في غيرِ هذا الحُكْمِ، فكذلك في هذا، ولأنَّ مُراعاةَ الأبِ له مُمْكِنةٌ. والمَنْصوصُ عن أحمدَ ما ذَكَرْناه. قال شيخُنا (¬3): وهو أوْلَى؛ لأَنَّ البُعْدَ (¬4) الذى يَمْنعُه مِن رُؤيته، يَمْنَعُه مِن تأْدِيبِه وتَعلِيمِه ومُراعاةِ حالِه، فأشْبَهَ مسافةَ القَصْرِ. وبما ذَكَرْناه مِن تَقْدِيمِ الأبِ عندَ افْتِراقِ الدارِ بهما، قال شُرَيْحٌ، ¬

(¬1) في م: «قرب». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في المغنى 11/ 420. (¬4) في الأصل، تش: «البعيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرى، أنَّ الأمَّ أحَقٌّ؛ لأنَّها أتَمُّ شَفَقَةً، أشْبَهَ ما لو لم يُسافِرْ واحِدٌ منهما. وقال أصْحابُ الرَّأْى: إنِ انْتَقَلَ الأبُ، فالأمُّ [أحَقُّ به] (¬1)، وكذلك (¬2) إنِ انْتَقَلتِ الأمُّ (¬3) إلى البلدِ الذى كان فيه أصْلُ النِّكاحِ، فهى أحَقُّ به (¬4)، وإنِ انْتَقَلَتْ إلى غيرِه، فالأبُ أحقُّ به (4). وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، إنِ انْتَقَلَتْ مِن بَلَدٍ إلى قَرْيةٍ، فالأبُ أحَقُّ به (4)، وإنِ انْتَقَلَتْ إلى بَلَدٍ آخَرَ، فهى أحَقُّ؛ لأنَّ [في البلدِ] (¬5) يُمْكِنُ تَعْلِيمُه وتَخْريجُه. ولَنا، أنه اخْتَلَفَ مَسْكَنُ الأبَوَيْن، فكان الأبُ أحَقَّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لذلك». (¬3) في الأصل: «من بلد». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «الولد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو انْتَقَلَتْ مِن بَلدٍ إلى قَرْيةٍ، أو إلى بَلَدٍ لم يَكُنْ فيه أصْلُ النِّكاحِ، وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الأبَ في العادةِ هو الذى يَقُومُ بتأْدِيبِ ابنِه وتَخْريجِه وحِفْظِ نَسَبِه، فإذا لم يَكُنْ في بَلَدِه ضاع، فأشبَهَ ما لو كان في قَرْيةٍ. وإنِ انْتَقَلا جميعًا إلى بلدٍ واحدٍ، فالأمُّ باقيةٌ على حضانَتِها، وكذلك إن أخَذَه الأبُ لافْتِراقِ البَلَدَيْن ثم اجتمعا، عادت إلى الأمِّ حضانَتُها، وغيرُ الأمِّ مِمَّن له الحضانةُ مِن النِّساءِ يَقُومُ مَقامَها، وغيرُ الأبِ مِن عصباتِ الولدِ يَقُومُ مَقامَه عندَ عدمِهما (¬1)، أو كونِهما (¬2) مِن غيرِ أهلِ الحضانةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «عدمها». (¬2) في الأصل: «كونها».

فصل

فَصْلٌ: وإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ مَعَ مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وإذا بلغ الغلامُ سَبْعَ سِنِين خُيِّرَ بينَ أَبَوَيْه، فكان مع مَن اخْتارَ منهما) إذا لم يَكُنْ مَعْتُوهًا وتنازعا فيه، فمَن اختاره منهما فهو أوْلَى به. قضى بذلك عمرُ، وعلىٌّ، وشُرَيْحٌ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يُخَيَّرُ. قال أبو حنيفةَ: إذا اسْتَقَلَّ بنَفْسِه [وأكَلَ بنَفْسِه] (¬1)، ولبِس بنَفْسِه، واسْتَنْجَى بنَفْسِه، فالأبُ أحَقُّ به. وقال مالكٌ: الأمُّ أحَقُّ به حتى يُثْغِرَ (¬2)، وأمَّا التَّخْيِيرُ، فلا يَصِحُّ؛ فإنَّ الغُلامَ لا قولَ له ولا يَعْرِفُ حَظَّه، ورُبَّما اختار مَن يَلْعَبُ عندَه، ويَتْرُكُ تأْدِيبَه، ويُمَكِّنُه مِن شَهَواتِه (¬3)، فيُؤدِّى إلى إفْسادِه، ولأنَّه دُونَ البُلوغِ، فلم ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) يثغر: أى ينبت ثغره، وهو ما تقدم من الأسنان. (¬3) في الأصل: «شهوته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُخَيَّرْ، كمَن دُونَ السَّبْعِ. ولَنا، ما روَى أبو هريرةَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيَّرَ غلامًا بينَ أبِيه وأمِّه. رواه سعيدٌ، والشافعىُّ (¬1). وفى لَفْظٍ عن أبى هريرةَ، قال: جاءتِ امْرَأةٌ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ زَوْجِى يُرِيدُ أن يَذْهبَ بابْنِى، وقد سقانى مِن بِئْرِ أبى عِنَبَةَ (¬2)، وقد نَفَعنِى. فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هذا أبُوك وهذه أَمُّك فخُذْ بيدِ أيِّهما شِئْتَ». فأخَذَ بيدِ أمه، فانْطَلَقَتْ به. رواه أبو داود (¬3). ولأنَّه إجماعُ الصحابةِ، فرُوِىَ عن عمرَ أنه خَيَّرَ غلامًا بينَ أبيه وأمِّه. رواه سعيدٌ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الإمام الشافعى، انظر: الباب السابع في الحضانة، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 62، 63. وسعيد بن منصور، في: باب الغلام بين الأبوين أيهما أحق به، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 110. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 109. وابن ماجه، في: باب تخيير الصبى بين أبويه، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 788. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 246. وصححه في الإرواء 7/ 250، 251. (¬2) في الأصل: «عتبة». وبئر أبى عنبة: على بعد ميل من المدينة. معجم البلدان 1/ 434. (¬3) في: باب من أحق بالولد، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 530. كما أخرجه النسائى، في: كتاب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، من كتاب الطلاق. السنن الكبرى 3/ 381، 382. والدارمى، في: باب في تخيير الصبى بين أبويه، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 170. والحاكم، في: المستدرك 4/ 97. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 3. (¬4) في: باب الغلام بين الأيوين أيهما أحق به، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 110، 111. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل طلق امرأته ولها ولد صغير، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 236. والبيهقى، في: باب الأبوين إذا افترقا. . .، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 8/ 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِى عن عُمارةَ الجَرْمِىِّ أنَّه قال: خَيرَنِى علىٌّ بينَ عَمِّى وأمِّى، وكنتُ ابنَ سَبْعٍ أو ثَمانٍ (¬1). ورُوِىَ نحوُ ذلك عن أبى هريرةَ. وهذه قصَصٌ في مَظِنَّةِ الشُّهْرةِ، ولم تُنْكَرْ، فكانَتْ إجماعًا، ولأنَّ التَّقْديمَ في الحضانةِ لِحَقِّ (¬2) الوَلدِ، فيُقَدَّمُ مَن هو أشْفَقُ؛ لأَنَّ حَظ الولدِ عندَه أكْثَرُ (¬3)، واعْتَبَرْنا الشَّفَقةَ بمَظِنّتِها إذ لم يمكنِ اعْتِبارُها بنَفْسِها. فإذا بَلَغ الغلامُ حدًّا يُعْرِبُ (¬4) عن نَفْسِه، ويُمَيِّزُ بينَ الإِكرامِ وضِدِّه، فمال إلى أحَدِ الأبَوَيْن، دَلَّ على أنَّه أرْفَقُ به، وأشْفَقُ عليه، فقُدِّمَ بذلك، وقَيِّدْناه بالسَّبْعِ؛ لأنَّها أوَّلُ حالٍ أمَرَ (¬5) الشَّرْعُ (¬6) فيها بمُخاطَبَتِه بالأَمْرِ بالصَّلاةِ، ¬

(¬1) أخرجه الشافعى، في: الباب السابع في الحضانة، من كتاب الطلاق. ترتيب المسند 2/ 63. وسعيد، في: باب الغلام بين الأبوين أيهما أحق به، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 111. وابن أبى شيبة، في: باب ما قالوا في الأولياء والأعمام أيهم أحق بالولد، من كتاب الطلاق. المصنف 5/ 239، 240. والبيهقى، في: باب الأبوين إذا افترقا، من كتاب النفقات. السنن الكبرى 8/ 4. (¬2) في الأصل: «يلحق». (¬3) في م: «أكبر». (¬4) في الأصل: «يعرف». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في م: «الشارع».

4039 - مسألة: (فإن اختار أباه، كان عنده ليلا ونهارا، وإن اختار أمه، كان عندها ليلا، وعند أبيه نهارا؛ ليعلمه الصناعة والكتابة ويؤدبه)

فَإِنِ اخْتَارَ أَبَاهُ، كَانَ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ، وَلَا تُمْنَعُ هِىَ تَمْرِيضَهُ، وَإِنِ اخْتَارَ أمّهَ، كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا، وَعِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا؛ لِيعَلِّمَهُ الصِّنَاعَةَ وَالْكِتَابَةَ وَيُؤَدِّبَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ الأمَّ قُدِّمَتْ في حالِ الصِّغَرِ لحاجَتِه إلى حَمْلِه ومُباشَرَةِ خِدْمَتِه، ولأنَّها أعرَفُ بذلك وأَقْوَمُ به، فإذا اسْتَغْنَى عن ذلك تَساوَى والداه، لقُرْبِهما منه، فرُجِّحَ باخْتِيارِه. 4039 - مسألة: (فإنِ اخْتار أباه، كان عندَه ليلًا ونهارًا، وإنِ اختار أمَّه، كان عندَها ليلًا، وعندَ أبيه نهارًا؛ ليُعَلمَه الصِّناعَةَ والكِتابةَ ويُؤَدِّبَه) إذا اختار الغلامُ أباه، كان عنده ليلًا ونهارًا (ولا يُمْنَعُ) مِن (زِيارَةِ أمِّه) لأَنَّ مَنْعَه مِن (¬1) ذلك إغْراء بالعُقوقِ وقَطِيعةِ الرَّحِمَ. وإن مَرِضَ كانتِ الأمُّ أحَقَّ بتَمْرِيضِه في بَيْتها؛ لأنَّه صار بالمَرَضِ كالصَّغيرِ في الحاجةِ إلى مَن يَقُومُ بأمْرِه، فكانتِ الأمُّ أحَقَّ به كالصَّغيرِ، وإنِ (¬2) اختار الأمَّ، كان عندَها ليلًا، ويأْخُذُه الأبُ نهارًا؛ ليُسَلِّمَه في مَكْتَبٍ أو في صِناعَةٍ، لأَنَّ القَصْدَ حَظُّ الغُلامِ، وحَظُّه فيما ذَكَرْناه. فصل: وإن مَرِضَ أحَدُ الأبَوَيْنِ والولدُ عندَ الآخَرِ، لم يُمْنَعْ مِن عيادتِه ¬

(¬1) زيادة من: ر 3. (¬2) بعد في تش، ر 3: «كان».

4040 - مسألة: (فإن عاد فاختار الآخر، نقل إليه، فإن عاد فاختار الأول، رد إليه)

وَإِنْ عَادَ فاخْتَارَ الآخَرَ، نُقِلَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاخْتَارَ الأوَّلَ، رُدَّ إِليْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُضُورِه عندَ موتِه، سَواء كان ذكرًا أو أُنْثَى؛ لأَنَّ المَرَضَ يَمْنَعُ المَرِيضَ مِن المَشىِ إلى ولدِه، فمَشْىُ ولدِه إليه أوْلَى، فأمَّا في حالِ الصِّحَّةِ، فإنَّ الغُلامَ يَزُورُ أمَّه؛ لأنَّها عَوْرَةٌ، فسَتْرُها أوْلَى، والأمُّ تَزُورُ ابْنَتَها؛ لأَنَّ كلَّ واحدةٍ منهما عَوْرة تَحْتاجُ إلى صِيانةٍ، وسَتْرُ الجارِيةِ أوْلَى؛ لأَنَّ الأمَّ قد تَخَرَّجَتْ وعَقَلَتْ، بخِلافِ الجاريةِ. 4040 - مسألة: (فإن عاد فاختار الآخَرَ، نُقِلَ إليه، فإن عاد فاخْتارَ الأوَّلَ، رُدَّ إليه) هكذا [أبدًا، كُلَّما] (¬1) اختار أحَدَهما رُدَّ (¬2) إليه؛ لأنَّه اخْتِيارُ شَهْوةٍ لحَظِّ نَفْسِه، فاتُّبعَ ما يَشْتَهِيه، [كما يُتبَّعَ ما يَشْتَهِيه] (3) في المأْكُولِ والمَشْروبِ، وقد يَشْتَهِى المُقامَ عندَ أحَدِهما في وَقتٍ، وعندَ الآخَرِ في وَقْتٍ، [وقد] (¬3) يَشْتَهِى التَّسْويةَ بَيْنَهما، وأن لا يَنْقَطِعَ عنهما. ¬

(¬1) في الأصل: «كما». (¬2) في الأصل، م: «صار». (¬3) سقط من: الأصل.

4041 - مسألة: (وإن لم يختر أحدهما، أقرع بينهما)

وَإِنْ لَم يَخْتَرْ أَحَدَهُمَا، أُقْرِع بَيْنَهُمَا. وَإِنِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِى الْحَضَانةِ، كَالأخْتَيْنِ، قُدِّمَ أحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4041 - مسألة: (وإن لم يَخْتَرْ أحَدَهما، أُقْرِعَ بينَهما) لأنَّه لا مَزِيَّةَ لأحَدِهما على صاحبه، ولا يُمْكِنُ اجْتِماعُهما على حضانَتِه، فيُقَدَّمُ أحَدُهما بالقُرْعَةِ، فإذا قُدِّمَ بها ثم اخْتارَ الآخَرَ، نُقِلَ إليه؛ لأنَّنا قَدَّمْنا اخْتيارَه الثانِىَ على الأَوَّلِ، فعلى القُرْعَةِ التى هى بَدَلٌ (¬1) أوْلَى. 4042 - مسألة: (وإذا اسْتَوَى اثنان في الحضانةِ، كالأُخْتَيْن، قُدِّمَ أحَدُهما بالقُرْعَةِ) لِمَا ذَكَرْنا. فصل: فإن كان الأبُ مَعْدُومًا أو مِن غيرِ أهلِ الحضانةِ، وحَضَر غيرُه مِن العَصَباتِ، كالأخِ والعَمِّ وابنِه، قامَ مَقامَ الأبِ، فَيُخَيَّرُ ¬

(¬1) في الأصل: «تدل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغُلامُ (¬1) بينَه وبينَ أمِّه؛ لأَنَّ عليًّا، رَضِىَ اللَّه عَنه، خَيَّرَ عُمارةَ الجَرْمِىَّ (¬2) بينَ أمِّه [وعَمِّه] (¬3). ولأنَّه عَصَبةٌ، فأشْبَهَ الأبَ، وكذلك (¬4) إن كانتِ الأمُّ مَعْدومةً أو مِن غيرِ أهلِ الحضانةِ، فحَضَنَتْه الجَدّةُ، خُيِّرَ الغُلامُ بينَها وبينَ أبيه، أو مَن يَقُومُ مَقامَه مِن العَصَباتِ. فإن كان الأبوان مَعدُومَيْن، أو مِن غيرِ أَهْلِ الحضانةِ، فسُلِّمِ إلى امْرَأةٍ (¬5)، كأُختِه أو عَمَّتِه أو خالتِه، قامتْ مَقامَ أمِّه في التَّخْيِيرِ بينَها وبينَ عصباتِه؛ للمَعْنى المذكورِ في الأبوين. فإن كان الأبوان رَقِيقَيْن، وليس له أحَدٌ مِن أقارِبِه سواهما، فقال القاضى: لا حضانةَ لهما عليه، ولا نَفَقةَ له عليهما، ونَفَقتُه في بيتِ المالِ، ويُسَلَّمُ إلى مَن يَحْضُنُه مِن المسلمين. فصل: وإنَّما يُخَيَّرُ الغُلامُ بشرطَين؛ أحَدُهما، أن يكونا جميعًا مِن أهلِ الحضانةِ، فإن كان أحَدُهما مِن غيرِ أهلِ الحضانةِ، كان كالمَعْدومِ، وتَعَيَّنَ الآخَرُ. الثانى، أن لا يكونَ الغُلامُ مَعْتُوهًا، فإن كان مَعْتوهًا كان عندَ الأمِّ، ولم يُخَيَّرْ؛ لأنَّ المَعْتُوهَ بمَنْزِلَةِ الطِّفْلِ وإن كان كبيرًا، ولذلك كانتِ الأمُّ أحَقَّ [بكَفالَةِ ولدِها المَعْتُوهِ] (¬6) بعدَ بُلوغِه. ولو خُيِّرَ الصَّبِىُّ ¬

(¬1) في م: «الإمام». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «وبين عمه». وتقدم تخريجه في صفحة 485. (¬4) في الأصل: «كذلك الأم». (¬5) في الأصل: «امرأة أجنبية». (¬6) في الأصل: «بكفالته».

4043 - مسألة: (وإذا بلغت الجارية سبع)

وَإِنْ بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ سَبْعًا، كَانَتْ عِنْدَ أَبِيهَا، وَلَا تُمْنَعُ الأُمُّ مِنْ زِيَارَتِهَا وَتَمْرِيضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فاختار (¬1) أباه ثم زال عَقْلُه، رُدَّ إلى الأمِّ، وبَطَل اخْتِيارُه؛ لأنَّه إنَّما خُيِّرَ حينَ اسْتَقَلَّ بنَفْسِه، فإذا زال اسْتِقْلالُه بنَفْسِه، كانتِ الأمُّ أوْلَى؛ لأنَّها أشْفَقُ عليه، وأقْومُ بمصالِحه، كما في حالِ طُفولِيَّته. 4043 - مسألة: (وإذا بَلَغَتِ الجاريةُ سبعَ) سنين (كانتْ عندَ أبِيها، ولا تُمْنَعُ الأمُّ مِن زيارتها وتَمْرِيضِها) وقال الشافعىُّ: تُخَيَّرُ كما يُخَيَّرُ الغُلامُ؛ لأَنَّ كلَّ سِنٍّ خُيِّرَ فيه الغُلامُ، خُيِّرتْ فيه الجاريةُ، كالبُلوغِ. وقال أبو حنيفةَ: الأمُّ أحَقُّ بها حتى تَتَزَوَّجَ أو تَحِيضَ. وذكر ابنُ أبى موسى في «الإِرْشادِ» رِوايةً، أنَّ الأمَّ أحَقُّ بها حتى تَحِيضَ. وقال مالكٌ: الأمُّ أحقُّ بها حتى تَتَزوَّجَ ويَدْخُلَ بها الزَّوجُ؛ لأنَّها لا حُكْمَ لاخْتِيارِها، ولا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُ انْفِرادُها، فكانتِ الأمُّ (¬1) أحَقَّ بها، كما قبلَ (¬2) السبعِ. ولَنا، أنَّ الغَرَضَ بالحضانةِ الحَظُّ، والحَظُّ للجاريةِ بعدَ السبعِ في الكَوْنِ عندَ أبِيها؛ لأنَّها تَحْتاجُ إلى حِفْظٍ، والأبُ أولَى (¬3) بذلك، فإنَّ الأمَّ تَحْتاجُ إلى مَن يَحْفَظُها ويَصُونُها، ولأنَّها إذا بَلَغَتِ السبعَ، قارَبَتِ الصَّلاحِيَّةَ للتَّزْويجِ، وقد تَزوَّجَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشةَ وهى بنتُ سبعٍ (¬4). وإنَّما تُخْطَبُ الجاريةُ مِن أبِيها؛ لأنَّه وَليُّها، والمالِكُ لتَزْوِيجِها، وهو أعْلَمُ بالكفاءةِ، وأقْدَرُ على البحثِ، فيَنْبَغِى أن يُقَدَّمَ على غيرِه، ولا يُصارُ إلى تَخْييرِها؛ لأَنَّ الشَّرْعَ لم [يَرِدْ به فيهاْ] (¬5)، ولا يَصِحُّ قياسُها على الغُلامِ؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى الحِفْظِ والتَّزْويجِ كحاجتِها إليه، ولا على سِنِّ البُلوغِ؛ لأَنَّ قولَها حينئذٍ مُعْتَبَرٌ في إذْنِها وتوكيلها وإقْرارِها واختيارِها (¬6)، بخِلافِ مَسْألَتِنا، ولا يَصِحُّ قياسُ ما (¬7) قبلَ السبعِ على ما بعدَها؛ لِما ذَكَرْنا في دليلِنا. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «لو قبل». (¬3) في م: «أحق». (¬4) انظر ما تقدم في صفحة 348. (¬5) في الأصل: «يرده». (¬6) في م: «وإجبارها». (¬7) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا كانتِ الجاريةُ عندَ الأمِّ أو عندَ الأبِ، فإنَّها تكونُ عندَه ليلًا ونهارًا، فإنَّ تأْدِيبَها وتَخْريجَها في جَوْفِ البيتِ، مِن (¬1) تَعْليمِها الغَزْلَ والطَّبْخَ وغيرَهما، ولا حاجَةَ بها (¬2) إلى الإِخْراجِ منه، ولا يُمْنَعُ أحَدُهما مِن زيارتِها عندَ الآخرِ، مِن غيرِ أن يَخْلُوَ الزوجُ بأُمِّها، ولا يُطِيلُ، ولا يَنْبَسِطُ؛ لأَنَّ الفُرْقَةَ بينَهما تَمْنَعُ تَبَسُّطَ (2) أحَدِهما في منزلِ الآخرِ. وإن مَرِضَتْ، فالأمُّ أحَقُّ بتَمْريضِها في بيتِها. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «في». (¬2) سقط من: الأصل.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

كتاب الجنايات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الجِنَايَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الجِناياتِ الجِناياتُ كلُّ فِعْل عُدْوانٍ على نَفْسٍ أو مالٍ. لكنَّها في العُرْفِ مَخْصُوصَةٌ بما يَحْصُلُ فيه التَّعَدِّى على الأبْدانِ، وسَمَّوُا الجِناياتِ على الأمْوالِ غَصْبًا، ونَهْبًا (¬1)، وسَرِقَة، وخِيانَةً (¬2)، وإِتْلافًا. وأجْمَعَ المسلمون على تَحْرِيمِ القَتْلِ بغيرِ حَقٍّ، والأَصْلُ فيه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أما الكتابُ فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬3). وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (¬4). وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬5). الآية. وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ، قال: ¬

(¬1) في م: «نهبها». (¬2) في تش: «جناية». (¬3) سورة الإسراء 33. (¬4) سورة النساء 92. (¬5) سورة النساء 93.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئً مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنِّى رسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِى، والنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينه المُفَارِقُ (¬1) لِلْجَماعَةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى عُثْمانُ وعائشةُ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِثْلَه (¬3). في آىٍ وأخْبارٍ كثيرةٍ. ولا خِلافَ بينَ الأُمَّةِ فِى تَحْرِيمِه. فإن فَعَلَه إنسانٌ مُتَعَمِّدًا، فسَقَ، وأمْرُه ¬

(¬1) في ر 3، ق، م: «والمفارق». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. . .} من كتاب الديات. صحيح البخارى 6/ 9. ومسلم، في: باب ما يباح به دم المسلم، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1302، 1303. كما أخرجه أبو داو د، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 440. والنسائى، في: باب ذكر ما يحل به دم المسلم، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 83. وابن ماجه، في: باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 847. والدارمى، في: باب لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا اللَه، من كتاب السير. سنن الدارمى 8/ 212. والإمام أحمد، في المسند 1/ 382، (¬3) حديث عثمان أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 479. والترمذى، في: باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذى 9/ 2. والنسائى، في: باب ذكر ما يحل به دم المسلم، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 84. وابن ماجه، في: باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 847. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 61، 62، 65، 70. وحديث عائشة أخرجه مسلم، في: باب ما يباح به دم المسلم، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1303. وأبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 440. والنسائى، في: باب ذكر ما يحل به دم المسلم، من كتاب تحريم القتل. المجتبى 7/ 83، 84. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 181، 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى اللَّهِ، إن شاء عَذَّبَه، وإن شاء غَفَر له، وتَوْبَتُه مَقْبُولَةٌ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال ابنُ عباسٍ: لا تُقْبَلُ تَوْبَتُه (¬1). للآيةِ التى ذَكَرْناها، وهى (¬2) مِن آخِرِ ما نَزَلَ [ولم يَنْسَخْها] (¬3) شئٌ. ولأَنَّ لَفْظَ الآيةِ لَفْظُ (¬4) الخَبَرِ، والأخبارُ لا يَدْخُلُها نسْخٌ ولا تَغْييرٌ؛ لأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعالى لا يكونُ إلَّا صِدْقًا. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬5). فجعَلَه داخِلًا في المَشِيئَةِ. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬6). وفى الحديثِ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ رَجُلًا قَتَلَ مائَةَ رَجُلٍ (¬7) ظُلْمًا، ثُمَّ سَألَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَسَألَهُ، فقالَ: ومَن يَحُولُ بَيْنَكَ وبَيْنَ التَّوْبَةِ، ولَكِنِ اخْرُجْ مِنْ قَرْيَةِ السُّوءِ إلَى القَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فاعْبُدِ اللَّه فِيهَا. فخَرَجَ تَائِبًا، فَأدْرَكَهُ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ آخَرَ. . .}، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 6/ 138. ومسلم، في: كتاب التفسير. صحيح مسلم 4/ 2318. وأبو داود، في: باب في تعظيم قتل المؤمن، من كتاب الفتن. سنن أبى داود 2/ 419، 420. والنسائى، في: باب تعظيم الدم، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 78 - 80. وابن ماجه، في: باب هل لقاتل مؤمن توبة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 874. (¬2) سقط من: الأصل، تش، ر 3. (¬3) في الأصل: «بنسخها». (¬4) في الأصل، تش: «لحفظ». (¬5) سورة النساء 48، 116. (¬6) سورة الزمر 53. (¬7) سقط من: الأصل، تش.

4043 - مسألة: و (القتل على أربعة أضرب؛ عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما أجرى مجرى الخطأ)

الْقَتْلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ عَمْدٌ، وَشِبهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِىَ مُجْرَى الْخَطَأَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَوْتُ في الطَّرِيقِ، فاخْتَصَمَتْ فِيه مَلائكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاِئكَةُ العَذَابِ، فبَعَثَ اللَّه مَلَكًا، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ القَرْيَتَيْنِ، فإلَى أيِّهِمَا كان (¬1) أقْرَبَ، فَاجْعَلُوه مِنْ أهْلِهَا. فوَجَدُوه أقْرَبَ إلَى القَرْيَةِ الصَّالِحَةِ بشِبْرٍ، فَجَعَلُوهُ مِنْ أهْلِهَا. أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). ولأَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِن الكُفْرِ، فمِن القَتْلِ أولَى. والآية مَحْمولَةٌ على مَن (¬3) قَتَلَه مُسْتَحِلًّا ولم يَتُبْ، أو على أنَّ هذا جَزاؤه إن جازَاه اللَّهُ، وله العَفْوُ إن شاء. وقولُه: لا (¬4) يَدْخُلُها النَّسْخُ. قُلْنا: يَدْخُلُها التَّخْصِيصُ والتَّأْوِيلُ. 4043 - (*) مسألة: و (القَتْلُ على أربعةِ أضْرُبٍ؛ عَمْدٌ، وشِبْهُ عمدٍ، وخَطَأٌ، وما أجْرِىَ مُجْرَى الخَطَأ) أكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ القَتْلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2118، 2119. كما أخرجه البخارى، في: باب حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، من كتاب الأنبياء. صحيح البخارى 4/ 211، 212. وابن ماجه، في: باب هل لقاتل مؤمن توبة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 875. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 72. (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) سقط من: الأصل. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: تكرر الترقيم 4043 هكذا في المطبوع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُنْقَسِمًا إلى عمدٍ، وشِبْهِ عمدٍ، وخَطَأً. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ، وحَمَّادٌ، وأهلُ العراقِ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وأنْكَرَ مالِكٌ شِبْهَ العمدِ، وقال: ليس في كِتابِ اللَّه إِلَّا العمدُ والخَطَأُ، فأمَّا شِبْهُ العمدِ، فلا يُعْمَلُ به عندَنا (¬1). وجَعَلَه مِنْ قِسْمِ العمدِ. وحُكِىَ عنه مِثْلُ قول الجماعةِ. وهو الصَّوابُ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، [أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2)، قال: «أَلَا إنَّ دَيَةَ (¬3) الخَطَأَ شِبْهِ العَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالعَصَا، مائَةٌ مِنَ الإبِلِ، مِنْهَا أرْبَعُونَ فِى بُطُونِهَا أوْلَادُهَا». رَواه أبو داودَ (¬4). وفى لفْظٍ: «قَتِيلِ خَطَأَ الْعَمْدِ» (¬5). وهذا نَصٌّ يُقَدَّمُ على ما ذَكَره. وقَسَّمَه شيخُنا في هذا الكتابِ أربعةَ أقْسام، فزاد ما أجْرِىَ مُجْرَى الخَطَأَ على ما ذَكَرْناه، وكذلك قَسَّمَه [أبو الخَطَّابِ] (¬6)، وهو أن يَنْقَلِبَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) زيادة من: ق، م. (¬3) في م: «في دية». (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 209. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 36، 164، 166. (¬5) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 410. (¬6) في ر 3: «أبو طالب».

4044 - مسألة: (فالعمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به، عالما بكونه آدميا معصوما، وهو تسعة أقسام؛ أحدها، أن يجرحه بما له مور

فَالْعَمْدُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ، عَالِمًا بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، وَهُوَ تسْعَةُ أَقْسَامٍ، أحَدُهَا، أَنْ يَجْرَحَهُ بِمَا لَهُ مَوْرٌ فِى الْبَدَنِ، مِنْ حَدِيدٍ أو غَيْرِهِ، مِثْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ بِسِكِّينٍ، أَوْ يَغْرِزَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ النائِمُ على شَخْصٍ فيَقتُلَه، ومَن يَقْتُلُ بالسَّبَب، كحَفرِ البِئرِ ونحوِه، وكذلك قَتْلُ غيرِ المُكَلَّفِ. وهذه الصُّوَرُ عندَ الأكثَرِين مِن قِسْمِ الخَطَأ، أعْطَوْه حُكْمَه. 4044 - مسألة: (فالعمدُ أن يَقْتُلَه بما يَغْلِبُ على الظَّنِّ موتُه به، عالِمًا بكونِهِ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، وهو تِسْعَةُ أقْسَامٍ؛ أحدُها، أن يَجْرَحَهُ بما له مَوْرٌ (¬1) في البَدَنِ، مِن حَدِيدٍ أو غيرِه، مِثْلَ أن يَجْرَحَه بسِكِّينٍ، أو ¬

(¬1) مور: نفوذ.

بِمِسَلَّةٍ، فَيَمُوتَ، إِلَّا أَنْ يَغْرِزَه بِإبْرَةٍ، أَوْ شَوْكَةٍ، وَنَحْوِهِمَا فِى غيْرِ مَقْتَلٍ، فيَمُوتَ فِى الْحَالِ، فَفِى كَوْنِهِ عَمْدًا وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَغْرِزَه بمِسَلَّةٍ، أو ما في مَعْناه) ممّا يُحَدِّدُ ويَجْرَحُ؛ مِن الحَدِيدِ، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ، والذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والزُّجاجِ، والحَجَرِ، والخشبِ، والقَصَبِ، والعَظْمِ، فهذا كلُّه إذا جَرَح به جُرْحًا كَبيرًا، فمات، فهو قَتْلٌ عَمْدٌ، لا اخْتِلافَ فيه بينَ العُلَماءِ فيما عَلِمْناه. فأَمّا إن جَرَحَه جُرْحًا صَغِيرًا، كشَرْطَةِ الحَجّامِ (أو غَرَزَه بإبْرَةٍ، أو شَوْكةٍ) أو جَرَحَه جُرْحًا صَغِيرًا (في غيرِ مَقْتَلٍ، فمات في الحالِ، ففى كونِه عَمْدًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَهْان) أحَدُهما، لا قِصاصَ فيه. قاله ابنُ حامِدٍ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه لم يَمُتْ منه، ولأنَّه لا يَقْتُلُ غالِبًا، أشْبَهَ العَصا والسَّوْطَ. والثانى، فيه القِصاصُ؛ لأنَّ المُحَدَّدَ (¬1) لا يُعْتَبَرُ فيه غَلَبَةُ الظَّنِّ في حُصُولِ القَتْلِ به، بدليلِ ما لو قَطَع شَحْمَةَ (¬2) أُذُنِه، أو أنْمُلَتَه، ولأنَّه لمَّا لم يُمْكِنْ إدارَةُ الحُكْمِ وضَبْطُه بغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَجَب رَبْطُه بكوْنِه مُحَدَّدًا، ولا يُعْتَبَرُ ظُهُورُ الحُكْمِ (3) في آحادِ صُوَرِ المَظنةِ، بل يَكْفِى احْتِمالُ الحُكْمِ (¬3)، ولذلك ثَبَت الحُكْمُ به فيما إذا بَقِىَ ضَمِنًا (¬4)، مع أنَّ العَمْدَ لا يَخْتَلِفُ مع اتِّحادِ الآلَةِ والفِعْلِ، بسُرْعَةِ الإِفْضاءِ وإبْطائِه، ولأَنَّ في البَدَنِ مَقاتِلَ خَفِيَّةً، وهذا له سِرايَة ومَوْرٌ، فأشْبَهَ الجُرْحَ الكَبِيرَ. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ فإنَّه لم يُفَرِّقْ بينَ الصغيرِ والكبيرِ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الحدود». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ق، م: «الحكمة». (¬4) الضمن: المريض إذا طال به المرض.

4045 - مسألة: (فإن بقى من ذلك ضمنا حتى مات، أو كان الغرز بها فى مقتل، كالفؤاد والخصيتين فهو عمد محض)

وَإِنْ بَقِىَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنًا حَتَّى مَاتَ، أَوْ كَانَ الْغَرْزُ بِهَا فِى مَقْتَلٍ؛ كَالْفُؤَادِ وَالْخُصْيَتَيْنِ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشافعىِّ مِن التَّفْصِيلِ نحوٌ ممّا ذَكَرْنا. 4045 - مسألة: (فإن بَقِىَ مِن ذلك ضَمِنًا حتى مات، أَوْ كان الغَرْزُ بها في مَقْتَل، كالفُؤادِ وَالخُصْيَتَيْن فهو عمدٌ مَحْضٌ) أمّا إذا كان الجُرْحُ في مَقْتَلٍ؛ كالعَيْنِ، والفُؤادِ، والخاصِرَةِ، والصُّدْغِ، أو أصْلِ الأُذُنِ، فمات، فهو عمدٌ محضٌ يَجِبُ به القِصاصُ. وكذلك إن بالَغَ في إدْخالِ الإِبْرَةِ ونحوِها في البَدَنِ؛ لأنَّه يَشْتَدُّ ألمُه ويُفْضِى إلى القَتْلِ، كالكَبِيرِ. وإن بَقِىَ مِن ذلك ضَمِنًا حتى مات، ففيه القَوَدُ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه مات به. قاله أصحابُنا. وقِيلَ: لا يَجِبُ به القِصاصُ؛ لأنَّه لمَّا احْتَمَلَ حُصُولُ الموتِ بغيرِه ظاهِرًا، كان شُبْهَةً في دَرْءِ القِصاصِ، ولو كانتِ العِلَّة أنَّ القَتْلَ لا يَحْصُلُ به غالِبًا، لمَا فُرِّقَ (¬1) بينَ موتِه في ¬

(¬1) في ر 3، ق، م: «افترق».

4046 - مسألة: (وإن قطع سلعة

وَإِنْ قَطَعَ سِلْعَةً مِنْ أَجْنَبِىٍّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَمَاتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَطَعَهَا حَاكِمٌ مِنْ صَغِيرِ أَوْ وَلِيُّهُ، فَمَاتَ، فَلَا قَوَدَ. الثَّانِى، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ فَوْق عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، أَوْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالِ، وموتِه مُتَراخِيًا، [كسائرِ ما] (¬1) لا يَجِبُ به القِصاصُ. 4046 - مسألة: (وإن قَطَع سِلْعَةً (¬2) مِن أجْنَبِىٍّ بغيرِ إذْنِه، فمات، فعليه القَوَدُ) لأنَّه جَرَحَه بغيرِ إذْنِهِ جُرْحًا لا يَجُوزُ له، فَكَانَ عليه القَودُ إذا تَعَمدَه، كغيرِه (وإن قَطَعَها حاكمٌ مِن صغيرٍ، أو وَلِيُّه، فمات، فلا قَوَدَ) لأَنَّ له فِعْلَ ذلك، وقد فَعَلَه لمَصْلَحَتِه (¬3)، فأشْبَهَ ما لو خَتَنَه. (الثانى، أن يَضْرِبَه بمُثَقَّلٍ فوقَ عَمُودِ الفُسْطاطِ، أو بما يَغْلِبُ على الظَّنِّ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «كسائرها». (¬2) السِّلْعة: ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه، وله غلاف، ويقبل الزيادة لأنه خارج عن اللحم. (¬3) في الأصل، تش: «المصلحة».

أنَّهُ يَمُوت بِهِ، كَاللُّتِّ، وَالْكُوذَيْنِ، وَالسَّنْدَانِ، أَوْ حَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ يُلْقِىَ عَلَيْهِ حَائِطًا أَوْ سَقْفًا، أَوْ يُلْقِيَه مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ يُعِيدَ الضَّرْبَ بِصَغِيرِ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِهِ فِى مَقْتَلٍ، أَوْ فِى حَالِ ضَعْفِ قُوَّةٍ؛ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كِبَرٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ نَحْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْتُه به، كاللُّتِّ (¬1)، والكُوذَيْنِ (¬2)، والسَّنْدانِ (¬3)، أو حَجَرٍ كبيرٍ، أو يُلْقِىَ عليه حائِطًا أو سقفًا، أو يُلْقِيَهُ مِن شاهِقٍ، أو يُكَرِّرَ الضَّرْبَ بصغيرٍ، أو يَضْرِبَه به في مَقْتَلٍ، أو في حالِ ضَعْفِ قُوَّةٍ؛ مِن مَرَضٍ، أو صِغَرٍ، أو كِبَرٍ، أو حَرٍّ، أو بَرْدٍ، أو نحوِه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا قَتَلَه بغيرِ مُحَدَّدٍ يَغْلِبُ على الظَّنِّ حُصُولُ الزُّهُوقِ به عندَ اسْتِعْمالِه، فهو عمدٌ مُوجِبٌ للقِصاصِ. وبه قال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وابنُ سِيرِينَ، وحَمّاد، وعمرُو بنُ دِينارٍ، وابنُ أبى لَيْلَى، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ (¬4). وقال ¬

(¬1) اللت.: نوع من آلة السلاح، وهو لفظ مولد ليس من كلام العرب. انظر المبدع 8/ 243. (¬2) الكوذين: لفظ مولد، وهو عبارة عن الخشبة الثقيلة التى يدق بها الدقاق الثياب. (¬3) السندان: ما يطرق الحداد عليه الحديد. (¬4) في م: «أبو محمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسنُ: لا قَوَدَ في ذلك. ورُوِىَ ذلك عن الشَّعْبِىِّ. وقال ابنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ: العَمْدُ ما كان بالسِّلاحِ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَوَدَ إلَّا أن يكونَ قَتَلَه بالنّارِ. وعنه في مُثَقَّلِ الحَدِيدِ روايتان. واحْتَجَّ بقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ألَا إنَّ فِى قَتِيلِ عَمْدِ الخَطَأَ، قَتِيلِ السَّوْطِ والعَصَا والحَجَرِ، مائَةً مِنَ الإِبلِ» (¬1). فسَمّاه عمدَ الخَطَأَ، وأوْجَبَ فيه الدِّيَةَ دُونَ القِصاصِ، ولأَنَّ العَمْدَ لا يُمْكِنُ اعْتِبارُه بنَفْسِهِ، فيَجِبُ ضَبْطُه بمَظِنَّتِه، ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه بما يَقْتُلُ غالِبًا؛ لحُصُولِ العَمْدِ بدُونِه في الجُرْحِ الصغيرِ، فوَجَبَ ضَبْطُه بالجُرْحِ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬2). وهذا مَقْتُولٌ ظُلْمًا. وقولُه سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬3). وروَى أنَسٌ أنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جارِيَةً على أوْضَاحٍ (¬4) لها بحَجَرٍ، فقتلَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ حَجَرَيْن. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وروَى أبو هُرَيْرَةَ قال: قامَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) هذا اللفظ تقدم تخريحه في صفحة 9. وانظر 11/ 209. (¬2) سورة الإسراء 33. (¬3) سورة البقرة 178. (¬4) الأوضاح: حلى الفضة. انظر غريب الحديث 3/ 188. (¬5) تقدم تخريجه في 10/ 446.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا (¬1) يُودَى، وإمَّا (¬2) يُقَادُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولأنَّه يَقْتُلُ غالِبًا، أشْبَهَ المحَدَّدَ. وأمّا الحَدِيثُ، فمَحْمُولٌ على المُثَقَّلِ الصَّغِير؛ لأنَّه ذَكَر العَصَا والسَّوْطَ، وقَرَنَ به الحَجَرَ، فدَلَّ على أنَّه أراد ما يُشْبِهُهما. وقولُهم: لا يُمْكِنُ ضَبْطُه. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّا نُوجبُ القِصاصَ بما نَتَيَقَّنُ حُصُولَ الغَلَبَةِ به، وإذا شَكَكْنا لم نُوجِبْه مع الشَّكِّ، والجُرْحُ الصَّغِيرُ قد سَبَق القولُ فيه، ولأنَّه لا يَصِحُّ ضَبْطُه بالجُرْحِ (¬4)، بدليلِ ما لو قَتَلَه بالنَّارِ. والمُرادُ بعَمُودِ الفُسْطاطِ الذى ذَكَرَه ههُنا العُمُدُ التى تَتَّخِذُها العَرَبُ لبُيُوتِها، وفيها دِقَّةٌ. وإنَّما حَدَّ المُوجِبَ للقِصاصِ بفوقِ عَمُودِ الفُسْطاطِ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا سُئِل ¬

(¬1) بعده في تش، ق، م: «أن». (¬2) بعده في م: «أن». (¬3) أحرجه البخارى، في: باب كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب كيف تعرف لقطة مكة، من كتاب اللقطة، وفى: باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، من كتاب الديات. صحيح البخارى 1/ 39، 3/ 165، 9/ 6. ومسلم، في: باب تحريم مكة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989. كما أخرجه أبو داود، في: باب ولى العمد يرضى بالدية، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 481. والترمذى، في: باب ما جاء في حكم ولى القتيل في القصاص والعفو، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 177. والنسائى، في: باب هل تؤخذ من قاتل العمد الدية، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 34. (¬4) في الأصل، تش: «بالحجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المرأةِ التى ضَرَبَتْ ضَرَّتَها (¬1) بعَمُودِ فُسْطاطٍ فقَتَلَتْها وجَنِينَها، قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجَنِينِ بغُرَّةٍ، وقَضَى بالدِّيَةِ على عاقِلَتِها (¬2). والعاقِلَةُ لا تَحْمِلُ العَمْدَ، فدَل على أنَّ القَتْلَ بعَمُودِ الفُسْطاطِ ليس بعَمْدٍ. وإن كان أعْظَمَ منه، كعُمُدِ الخِيامِ، فهو كبيرٌ يَقْتُلُ غالِبًا، فيَجبُ فيه القِصَاصُ. ومِن هذا النَّوْعِ أن يُلْقِىَ عليه جِدَارًا، أو صَخْرَةً، أو خشبةً عظيمةً، أو يُلْقِيَه مِن شاهِقٍ فيُهْلِكَه، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّه (¬3) يَقْتُلُ غالِبًا. ومِن ذلك أن يَضْرِبَه بمُثَقَّلٍ صغيرٍ، أو حَجَرٍ صغيرٍ، أو يَلْكُزَه بيدِه في مَقْتَلٍ، أو في حالِ ضَعْفِ المَضْرُوبِ؛ لمرضٍ أو صِغَرٍ، أو في حَرٍّ مُفْرِطٍ، أو بَرْدٍ شديدٍ، بحَيْثُ يَقْتُلُه بتلك الضَرْبَةِ، أو كَرَّرَ الضَّرْبَ حتى قَتَلَه بما يَقْتُلُ غالبًا، فقَتَلَه، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّه قَتَلَه بما يَقْتُلُ غالِبًا، أشْبَهَ المُثَقَّلَ ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق: «جارتها»، وفى م: «جاريتها». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب جنين المرأة، من كتاب الديات. صحيح البخارى 9/ 14. ومسلم، في: باب دية الجنين. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1310، 1311. وأبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 498. والترمذى، في: باب ما جاء في دية الجنين، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 180. والنسائى، في: باب صفة شبه العمد، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 44. وابن ماجه، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 882. والدارمى، في: باب في دية الجنين، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 196. والإمام مالك، في: باب عقل الجنين، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 855. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 245، 246، 249. (¬3) في الأصل: «لا».

الثَّالِثُ، أَلْقَاهُ فِى زُبْيَةِ أَسَدٍ، أَوْ أَنْهَشَهُ كَلْبًا أَوْ سَبُعًا أَوْ حَيَّةً، أَوْ أَلْسَعَهُ عَقْرَبًا مِنَ الْقَوَاتِلِ، ونَحْوَ ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبيرَ. وإن لم يكنْ كذلك ففِيه الدوريةُ؛ لأنَّه عَمْدُ الخَطَأ، إلَّا أن يَصْغُرَ جِدًّا، كالضَّرْبَةِ بالقَلَمِ والإِصْبَعِ في غَيْرِ مَقْتَلٍ، ونحوِ هذا ممَّا لا يُتَوَهَّمُ القَتْلُ به، فلا قَوَدَ فيه ولا دِيَةَ؛ لأنَّه لم يَمُتْ به. وكذلك إن مَسَّه بالكبيرِ ولم يَضْرِبْه به؛ لأَنَّ الدِّيَةَ إنَّما تَجِبُ بالقَتْلِ، وليس هذا قَتْلًا (¬1). النوعُ (الثالثُ، ألْقاه في زُبْيَةِ (¬2) أسَدٍ، أو أنْهَشَه كَلْبًا أو سَبُعًا أو حَيَّةً، أو ألْسَعَه عَقْرَبًا مِن القَواتِلِ، ونحوَ ذلك، فقتَلَه) فيَجِبُ به القِصاصُ. إذا جَمَعَ بينَه وبينَ أسَدٍ أو نمِرٍ في مكانٍ ضَيِّقٍ، كزُبْيَةٍ أو نحوِها، فقتلَه، فهو عمدٌ فيه القِصاصُ، إذا فَعَل به السَّبُعُ فِعْلًا يقتُلُ مثلُه، وإن فَعَلَ به فِعْلًا لو فَعَلَه الآدَمِىُّ لم يكُنْ عمدًا، لم يَجِبِ القِصاصُ به؛ لأَنَّ السَّبُعَ صار آلةً للآدَمِىِّ، فكان فِعْلُه كفِعْلِه. فإن أَلْقَاه مَكْتُوفًا بينَ يَدَىِ الأسَدِ، أو النَّمِرِ في فَضاءٍ فقَتَلَه، فعليه القَوَدُ. وكذلك إن جَمَع بينَه وبينَ حَيَّةٍ في مكانٍ ضَيِّقٍ فنَهَشَتْه فقَتَلَتْه، فعليه القَوَدُ. وقال القاضى: ¬

(¬1) في الأصل، تش: «قتيلا». (¬2) الزبية: حفرة في موضع عال تغطى فوهتها، فإذا وطئها الأسد وقع فيها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا ضَمانَ عليه في الصُّورَتَيْن. وهو قولُ أصْحابِ (¬1) الشافعىِّ؛ لأَنَّ الأسَدَ والحَيَّةَ يَهْرُبان مِن الآدَمِىِّ، ولأَنَّ هذا سَبَبٌ غيرُ مُلْجئ. ولَنا، أنَّ هذا يَقْتُلُ غالِبًا، فكان عمدًا مَحْضًا، كسائرِ الصُّوَرِ. وقولُهم: إنَّهما يَهْرُبان. لا يَصِحُّ، فإنَّ الأسَدَ يَأْخُذُ الآدَمِىَّ المُطْلَقَ، فكيف يَهْرُبُ مِن مَكْتُوفٍ أُلْقِىَ له ليَأْكُلَه! والحَيَّةُ إنَّما تَهْرُبُ في مكانٍ واسِعٍ، أمَّا إذا ضاق المكانُ، فالغالِبُ أنَّها تَدْفَعُ عن نَفْسِها بالنَّهْشِ، على ما هو العادةُ. وقد ذَكَر القاضى في مَن أُلْقِىَ مكتوفًا في أرْضٍ مَسْبَعَةٍ، أو ذَاتِ حَيَّاتٍ، فقتَلَتْه؛ أنَّ في وُجُوبِ القِصاصِ رِوايَتَيْن، وهذا تَناقُضٌ شَدِيدٌ، فإنَّه نَفَى الضَّمانَ بالكُلِّيَّةِ في صُورَةٍ كان القتلُ فيها أغْلَبَ، وأوْجَبَ القِصاصَ في صُورَةٍ كان فيها أنْدَرَ. والصَّحيحُ أنَّه لا قِصاصَ ههُنا، ويَجبُ الضَّمانُ؛ لأنَّه فَعَل به فِعْلًا مُتَعَمَّدًا تَلِف به، لا (¬2) يَقْتُلُ مِثْلُه غالبًا. وإن ¬

(¬1) في تش: «بعض أصحاب». (¬2) في م: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْهَشَه حَيَّةً أو سَبُعًا فقَتَلَه، فعليه القَوَدُ، إذا كان ذلك ممَّا يَقْتُلُ غالِبًا. فإن كان ممَّا لا يَقْتُلُ غالبًا؛ كثُعبانِ الحِجازِ، أو سَبُعٍ صَغيرٍ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، فيه القَوَدُ؛ لأَنَّ الجُرْحَ لا يُعْتَبَرُ فيه غلبةُ (¬1) حُصُولِ القَتْلِ به، وهذا جُرْحٌ، ولأَنَّ الحَيَّةَ مِن جِنْسِ ما يَقْتُلُ غالِبًا (¬2). والثانى، هو شِبْهُ عمدٍ؛ لأنَّه لا يَقْتُلُ غالبًا، أشْبَهَ الضَّرْبَ بالسَّوْطِ والعَصَا والحَجَرِ الصَّغِيرِ. وإن ألْسَعَه عَقْرَبًا مِن القَواتِل، فقَتَلَتْه، فهو كما لو أنْهَشَه حَيَّةً، يُوجِبُ القِصاصَ؛ لأنَّه يَقْتُلُ غالبًا. فإن كَتَّفَه وألقاه في أرْضٍ غيرِ مَسْبَعَةٍ، فأكَلَه سَبُعٌ، أو نَهَشَتْه حَيَّةٌ، فمات، فهو شِبْهُ عمدٍ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: هو خَطَأٌ مَحْضٌ. ولَنا، أنَّه فَعَل به فِعْلًا لا (¬3) يَقْتُلُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في تش: «به». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

الرَّابع، أَلْقَاهُ فِى مَاءٍ يُغْرِقُهُ، أَوْ نَارٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَمَاتَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلُه غالبًا، فأفْضَى إلى إهْلاكِه، أشْبَهَ ما لو ضَرَبَه بعَصًا فمات. وكذلك إن ألقاه مَشْدُودًا في مَوْضِع لم يُعْهَدْ وُصُولُ زِيادَةِ الماءِ إليه. فإن كان في مَوْضِعٍ يُعْلَمُ وُصُولُ زِيادَةِ الماءِ إليه في ذلك الوقتِ، فمات به، فهو عَمدٌ مَحْضٌ. وإن كانْتِ الزِّيادَةُ غيرَ مَعْلُومَةٍ؛ إمّا لكَوْنِها تَحْتَمِلُ الوُجُودَ وعَدَمَه، أو لا تُعْهَدُ أصْلًا، فهو شِبْهُ عمدٍ. النوعُ (الرابعُ، ألقاه في ماء يُغْرِقُه، أو نارٍ لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منْها) إمّا لكثرةِ الماءِ والنَّارِ، وإمَّا لعَجْزِه عن التَّخَلُّصِ؛ لمرضٍ، أو ضَعْفٍ، أو صِغَرٍ، [أو كونِه مَرْبُوطًا، أو مَنَعَه الخُرُوجَ] (¬1)، أو كونِه في حُفْرَة لا يَقْدِرُ على الصُّعُودِ منها، ونحو هذا، أو ألْقاه في بئرٍ ذاتِ نَفَسٍ (¬2)، فمات به (¬3)، عالِمًا بذلك، فهو كلُّه عمدٌ؛ لأنَّه يَقْتُلُ غالِبًا. وإن ألقاه في ماءٍ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) ذات نفس: أى رائحة متغيرة. (¬3) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يسيرٍ، فقَدَرَ على الخُرُوجِ منه، فلَبِثَ فيه اخْتِيارًا حتى مات، فلا شئَ فيه؛ لأَنَّ هذا الفِعْلَ لم يَقْتُلْه، وإنَّما حَصَلَ مَوْتُه بلُبْثِه فيه، وهو فِعْلُ نَفْسِه، فلم يَضْمَنْه غيرُه. فإن تَرَكَه في نارٍ يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منها لقِلَّتِها، أو كونِه في طَرَفٍ منها يُمْكِنُه الخُرُوجُ بأدْنَى حَرَكَةٍ، فلم يَخرُجْ حتى مات، فلا قَوَدَ؛ لأَنَّ هذا لا يَقْتُلُ غالِبًا. وهل يَضْمَنُه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه مُهْلِكٌ لنَفْسِه بإقامَتِه، فلم يَضْمَنْه، كما لو ألقَاه في ماءٍ يسيرٍ، لكنْ يَضْمَنُ ما أصابَتِ النّارُ منه. والثانى، يَضْمَنُه؛ لأنَّه جانٍ بالإِلقاءِ المُفْضِى إلى الهَلاكِ، وتَرْكُ التَّخَلُّصِ لا يُسْقِطُ الضَّمانَ، كما لو فصَدَه فتَرَكَ شَدَّ فِصادِه مع إمْكانِه، أو جَرَحَه فتَرَكَ مُداوَاةَ جُرْحِه. وفارَقَ الماءَ اليَسِيرَ، لأنَّه لا يُهْلِكُ بنَفْسِه، ولهذا يَدْخُلُه الناسُ للغُسْلِ والسِّباحَةِ. وأمّا النارُ فيَسِيرُها يُهْلِكُ. وإنَّما تُعْلَمُ قُدْرَتُه على التَّخَلُّصِ بقولِه: أنا قادِر على التَّخَلُّصِ. ونحو (¬1) هذا؛ ¬

(¬1) في ق، م: «أو».

الْخَامِسُ، خَنَقَهُ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ سَدَّ فَمَهُ وَأَنْفَهُ، أَوْ عَصَرَ خُصْيَتَيْهِ حَتَّى مَاتَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ النّارَ لها حَرارَة شديدةٌ، فرُبَّما أزْعَجَتْه حَرارَتُها عن مَعْرِفَةِ ما يتَخَلَّصُ به، أو (¬1) أذْهَبَتْ عَقْلَه بألَمِها ورَوْعَتِها. (الخامسُ، خَنَقَه بحَبْلٍ أوِ غيرِه، أو سَدَّ فَمَه وأنْفَه، أو عَصَر خُصْيَتَيْه حتى مات) إذا مَنَع خُرُوجَ نفَسِه، بأن يَخْنُقَه بحبلٍ أو غيرِه، وهو نوعان؛ أحَدُهما، أن يَخْنُقَه بأن يَجْعَلَ في عُنُقِه خِرَاطَةً (¬2)، ثم يُعَلِّقَه في خشبةٍ أو شئٍ، بحيث يَرْتَفِعُ عن الأرْضِ، فيَخْتَنِقُ ويموتُ، فهذا عمدٌ، سواءٌ مات في الحالِ أو بَقِىَ زَمَنًا؛ لأَنَّ هذا أوْحَى (¬3) أنْواعِ الخَنْقِ، وهو الذى جَرَتِ العادةُ بفِعْلِه في اللُّصُوصِ وأشْباهِهم مِن المُفْسِدِين. الثانى، ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق: «و». (¬2) الخراطة: ما يعرف اليوم بالمشنقة. (¬3) في الأصل: «أرجى». وأوحى: أسرع.

السَّادِسُ، حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ حَتَّى مَاتَ جُوْعًا أَوْ عَطَشًا فِى مُدَّةٍ يَمُوتُ فِى مِثْلِهَا غَالِبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَخْنُقَه وهو على الأرْضِ بيَدَيْه، أو حبلٍ، أو يَغُمَّه بوِسادَةٍ، أو شئٍ يَضَعُه على فِيهِ و (¬1) أنْفِه، أو يَضَعَ يَدَيْه عليهما فيموتَ، فهذا إن فَعَل به ذلك (¬2) في مُدَّةٍ يموتُ في مِثْلِها غالِبًا فمات، فهو عَمدٌ فبه القِصاصُ. وبه قال عُمَرُ بنُ عبد العزيزِ، والنَّخَعِىُّ، الشافعىُّ. وإن كان في مُدَّةٍ لا يموتُ في مِثْلِها غالِبًا، فهو عمدُ الخَطَأَ. ويَلْتَحِقُ بذلك ما لو عَصَر خُصْيَتَيه (¬3) عَصْرًا شديدًا، فقَتَلَه بعَصْرٍ يَقْتُلُ مثلُه غالِبًا. وإن لم يكنْ كذلك فهو شِبْهُ عمدٍ، إلَّا أن يكونَ ذلك يَسِيرًا في الغايةِ، بحيث لا يُتَوَهَّمُ الموتُ منه، فلا يُوجِبُ ضَمانًا؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ لَمْسِه. ومتى خَنَقَه وتَرَكَه مُتَألِّمًا حتى مات، ففيه القَوَدُ، لأنَّه مات مِن سرايَةِ جِنايَتِه، فهو كسِرايَةِ الجُرْحِ، وإن تَنَفَّسَ وصَحَّ ثم مات، فلا قَوَدَ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه لم يَمُتْ منه، فأشْبَهَ ما لو انْدَمَلَ الجُرْحُ ثم مات. (السادسُ، حَبَسَه ومَنَعَه الطَّعامَ أو الشَّرابَ حتى مات جُوعًا أو عَطَشًا في مُدَّةٍ يموتُ في مثلِها غالِبًا) فعليه القَوَدُ، لأَنَّ هذا يَقْتُلُ غالِبًا. وهذا ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أو». (¬2) في الأصل: «كذلك». (¬3) في تش، م: «خصيته».

السَّابع، سَقَاهُ سُمًّا لَا يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ خَلَطَ سُمًّا بِطَعَامٍ فَأَطْعَمَهُ، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِهِ فَأَكَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، فَمَاتَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ النّاسِ والزَّمانِ والأحْوالِ، فإذا عَطَّشَه في شِدَّةِ (¬1) الحَرِّ، مات في الزَّمَنِ القليلِ، وإن كان رَيَّانَ، والزمنُ بارِدٌ أو مُعْتَدِلٌ، لم يَمُتْ إلَّا في زَمَنٍ طويلٍ، فيُعْتَبَرُ هذا فيه. وإن كان في مُدَّةٍ يموتُ [في مثلِها] (¬2) غالِبًا، ففيه القَوَدُ. وإن كان في مدَّةٍ لا يموتُ في مثلِها غالِبًا (¬3)، فهو عمدُ الخَطَأ. وإن شَكَكْنا فيها، لم يَجِبِ القَوَدُ؛ لأنَّنا شَكَكْنا في السَّبَبِ، ولا يَثْبُتُ الحُكْمُ مع الشَّكِّ في سَبَبِه، سِيّما القِصاصُ الذى يَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ. (السابعُ، سَقاه سُمًّا لا يَعْلَمُ به، أو خَلَطَه بطَعامٍ، فأطْعَمَه، أو خَلَطَه بطعامِه، فأكَلَه وهو لا يَعْلَمُ به، فمات) فعليه القَوَدُ إذا كان مثلُه يَقْتُلُ غالِبًا. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه أكَلَه مُخْتارًا، ¬

(¬1) في تش: «مدة». (¬2) في الأصل، تش: «فيها». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ ما لو قَدَّمَ إليه سِكِّينًا فطَعَنَ بها نَفْسَه، ولأَنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ روَى أنَّ يَهُودِيةً أتَتِ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بشاةٍ مَسْمُومَةٍ، فأكَلَ منها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبِشْرُ ابنُ البَراءِ، فلم يَقْتُلْها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). قال: وهل تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فيه قَوْلان. قُلْنا: حديثُ اليهُودِيةِ حُجَّة لَنا؛ فإنَّ أبا سَلَمَةَ قال فيه: فمات بِشْرٌ، فأمَرَ بها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقُتِلَتْ. أخْرَجَه أبو داودَ (¬2). ولأَنَّ هذا يَقْتُلُ غالِبًا، ويُتَّخَذُ طَرِيقًا إلى القَتْلِ كثيرًا، فأوْجَبَ القِصاصَ، كما لو أكْرَهَه على شُرْبِه. فأمَّا حديثُ أنَسٍ، فلم يَذْكُرْ فيه أنَّ أحدًا مات منه، ولا يجبُ القِصاصُ إلَّا أن يُقْتَلَ به، ويجوزُ أن يكونَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَقْتُلْها قبلَ أن يموتَ بِشْرٌ، فلَمّا مات، أرْسَلَ إليها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاعْتَرَفَتْ، فقَتَلَها، فنقَل أَنَسٌ صَدْرَ القِصَّةِ دُونَ آخِرِها. ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه عليه، جمعًا بينَ الخَبَرَيْن، ويجوزُ أن يَتْرُكَ قَتْلَها؛ لكونِها ما قَصَدَتْ قَتْلَ بِشْرٍ، إنَّما قَصَدَتْ قَتْلَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاخْتَلَّ العَمدُ بالنِّسْبَةِ إلى بِشْر. وفارَقَ تَقْدِيمَ السِّكِّينِ؛ فإنَّها لا تُقَدَّمُ إلى الإنسانِ ليَقْتُلَ بها نَفْسَه، إنَّما تُقَدَّمُ إليه ليَنْتَفِعَ بها، وهو عالِمٌ بمَضَرَّتِها ونَفْعِها (¬3)، فأشْبَهَ ما لو قُدِّمَ إليه السُّمُّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قبول الهدية من المشركين، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 3/ 214. ومسلم، في: باب السُّم، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1721. وأبو داود، في: باب في من سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد منه، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 481. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 218. (¬2) في: باب في من سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد منه، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 482، 483. (¬3) زيادة من: ق، م.

4047 - مسألة: (فإن خلط السم بطعام نفسه، فدخل إنسان منزله فأكله، فلا ضمان عليه)

فَإِنْ عَلِمَ آكِلُهُ بِهِ وَهُوَ عَاقِلٌ بَالِغٌ، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِ نَفْسِهِ، فَأَكَلَهُ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَإِنِ ادَّعَى الْقَاتِلُ بِالسُّمِّ: إِنَّنِى ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو عالِمٌ به. فأمّا إن أكَلَه عالِمًا (¬1) به، وهو بالِغٌ عاقِلٌ، فلا ضَمانَ عليه، كما لو قَدَّمَ إليه سِكِّينًا فوَجَأَ بها نَفْسَه. 4047 - مسألة: (فإن خَلَط السُّمَّ بطعامِ نفسِه، فدَخَلَ إنْسانٌ مَنْزِلَه فأكَلَه، فلا ضَمانَ عليه) لأنَّه لم يَفْعَلْه (¬2)، وإنَّما الدّاخِلُ قَتَل نفسَه، فأشْبَهَ ما لو حَفَر في دارِه بئرًا، فدَخَلَ رجل فوَقَعَ فيها. وسواء قَصَد بذلك قَتْلَ الدّاخِلِ، مثلَ أن يَعْلَمَ أنَّ ظالِمًا يُرِيدُ هُجُومَ دارِه، فتَرَكَ السُّمَّ في الطَّعامِ ليَقْتُلَه، فهو كما لو حَفَر بئرًا في دارِه ليَقَعَ فيها اللِّصُّ إذا دَخَل ليَسْرِقَ منها. ولو دَخَل رجلٌ بإذْنِه، فأكَلَ الطَّعامَ المَسْمُومَ بغيرِ إذْنِه، لم يَضْمَنْه لذلك. 4048 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى القاتِلُ بِالسُّمِّ: إنَّنِى لم أعْلَمْ أنَّه سُمٌّ ¬

(¬1) في ق، م: «وهو عالم». (¬2) في الأصل، تش: «يدخل».

لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُه، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُقْبَلُ فِى الآخَرِ، وَتَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قاتِلٌ. لم يُقْبَلْ قولُه في أحَدِ الوَجْهَيْن) لأَنَّ السُّمَّ مِن جِنْسِ ما يَقْتُلُ غالِبًا، فأشْبَهَ ما لو جَرَحَه وقال: لم أعْلَمْ أنَّه يموتُ منه. والثانى، لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه يجوزُ (¬1) أن يَخْفى عليه أنَّه قاتِلٌ، وهذا شُبْهَةٌ يَسْقُطُ بها (¬2) القَوَدُ، فيكونُ شِبْهَ عمدٍ. فصل: فإن سَقَى إنْسانًا سُمًّا، أو خَلَطَه بطَعَامِه، فأكَلَ وهو لا يَعْلَمُ به، وكان (¬3) ممّا (¬4) لا يَقْتُلُ مثلُه غالِبًا، فهو شِبْهُ عمدٍ. فإنِ اخْتُلِفَ فيه، هل يَقْتُلُ غالِبًا أو لا؟ [وثَمَّ] (¬5) بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ، عُمِل بها. وإن قالت (¬6): تَقْتُلُ ¬

(¬1) في م: «لا يجوز». (¬2) في ق، م: «به». (¬3) في م: «هو». (¬4) في الأصل: «ممن». (¬5) سقط من: الأصل، تش. (¬6) أى البينة. وانظر المغنى 11/ 454.

الثَّامِنُ، أَنْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّضْوَ الضَّعِيفَ دُونَ القَوِىِّ. أو غيرَ ذلك، عُمِل على حَسَبِ ذلك. فإن لم يكُنْ مع أحَدِهما بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُ السَّاقِى؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ القِصاصِ، فلا يَثْبُتُ بالشَّكِّ، ولأنَّه أعْلَمُ بصِفَةِ ما يَسْقِى. فإن ثَبَت أنَّه قاتِلٌ فقال: لم أعْلَمْ به. ففيه الوَجْهان المَذْكُوران. (الثامنُ، أن يَقْتُلَه بسِحْرٍ يَقْتُلُ غالِبًا) فيَلْزَمُه القَوَدُ؛ لأنَّه قَتَلَه بما يَقْتُلُ غالِبًا، فأشْبَهَ قَتْلَه بالسِّكِّينِ. وإن كان ممَّا لا يَقْتُلُ غالِبًا، أو كان ممّا يَقْتُلُ ولا يَقْتُلُ، ففيه الدِّيَةُ دُونَ القِصاصِ؛ لأنَّه عمدُ الخَطَأ، فأشْبَهَ ضَرْبَ العَصَا.

التَّاسِعُ، أَنْ يَشْهَدَا عَلَى رَجُل بِقَتْل عَمْدٍ، أَوْ زِنًى، أَوْ رِدَّةٍ فَيُقْتَلَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعَا وَيَقُولَا: عَمَدْنَا قَتْلَهُ. أَوْ يَقُولَ الْحَاكِمُ: عَلِمْتُ كَذِبَهُمَا، وَعَمَدْتُ قَتْلَهُ. أَوْ يَقُولَ ذَلِكَ الْوَلِى. فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ مُوجبٌ لِلْقِصَاصِ إِذَا كَمَلَتْ شُرُوطُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (التاسعُ، أن يَشْهَدا على رجلٍ بقَتْلٍ عَمْدٍ، أو زِنًى، أو رِدَّةٍ، فيُقْتَلَ بذلك، ثم يَرْجِعا ويقولا: عَمَدْنا قَتْلَه. أو يقولَ الحاكمُ: عَلِمْتُ كَذِبَهما، وعَمَدْتُ قَتْلَه. أو يقولَ ذلك الوَلِىُّ، فهذا كلُّه عما مَحْضٌ مُوجِبٌ للقِصاصِ إذا كَمَلَتْ شُرُوطُه) وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا قِصاصَ عليهما؛ لأنَّه بسَبَبٍ غيرِ مُلْجِئٍ، فلا يُوجِبُ القِصاصَ، كحَفْرِ البئْرِ. ولَنا، ما روَى القاسمُ بنُ عبدِ الرحمنِ، أنَّ رَجُلَيْن شَهِدا عندَ على، كَرَّمَ اللَّه وَجْهَه، على رجلٍ أنَّه سَرَق، فقَطَعَه، ثُمَّ رَجَعا عن شَهادَتِهِما، فقال علىٌّ: لو أعْلَمُ أنَّكما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَعَمَّدْتُما، لقَطَعْتُ أيْدِيَكما. وغَرَّمَهما دِيَةَ يَدِهْ (¬1). ولأنَّهما تَوَصَّلا إلى قَتْلِه بسَبَبٍ يَقْتُلُ غالِبًا، فوَجَبَ عليهما القِصاصُ، كالمُكْرَهِ (¬2). وكذلك الحاكمُ إذا حَكَم على رجل بالقَتْلِ عالِمًا بذلك مُتَعَمِّدًا، فقَتَلَه، و (¬3) اعْتَرَفَ بذلك، وجَبَ القِصاصُ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الشّاهِدَيْن، ولو أنَّ الوَلِىَّ الذى باشَرَ قَتْلَه أقَرَّ بعِلْمِه بكَذِبِ الشُّهُودِ وتَعَمُّدِ قَتْلِه، فعليه القِصاصُ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فإن أقَرِّ الشّاهِدان والحاكمُ والوَلِىُّ جميعًا بذلك، فعلى الوَلِىِّ القِصاصُ؛ لأنَّه باشَرَ القَتْلَ عمدًا عُدْوانًا (¬4). ويَنْبَغِى أن لا يَجِبَ على غيرِه شئٌ؛ لأنَّهم مُتَسَبِّبُون، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب إذا أصاب قوم من رجل. . .، من كتاب الديات. صحيح البخارى 9/ 10 معلقا. ووصله ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 408، 409. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 182. والبيهقى، في: باب الاثنين أو أكثر يقطعان يد رجل معا، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 41. كلهم عن الشعبى. (¬2) في الأصل: «كالكره». (¬3) في الأصل، تق: «أو». (¬4) في م: «وعدوانا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُباشَرَةُ تُبْطِلُ حكمَ المُتَسَبِّبِ، كالدّافِعِ مع الحافِرِ. ويُفارِقُ هذا ما إذا (¬1) لم يُقِرَّ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ حُكْمُ مُباشَرَةِ القَتْلِ في حَقِّه ظُلْمًا، فكان وُجُودُه كعَدَمِه. ويكونُ القِصاصُ على الشَّاهِدَيْن والحاكِمِ؛ لأَنَّ الجميعَ مُتَسَبِّبُون. وإن صار الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، فهى عليهم أثْلاثًا. ويَحْتَمِلُ أن يتَعَلَّقَ الحكمُ بالحاكم وحدَه؛ لأَنَّ سَبَبَه أخَصُّ مِن سَبَبِهم، فإنَّ حُكْمَه واسِطَةٌ بينَ شَهادَتِهم وقَتْلِه، فأشْبَه المُباشِرَ مع المُتَسَبِّبِ. فإن كان الوَلِىُّ المُقِرُّ بالتَّعَمُّدِ لم يُباشِرِ القَتْلَ، وإنَّما وَكَّلَ فيه، فأقَرَّ الوَكِيلُ بالعِلْمِ وتَعَمُّدِ القَتْلِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ظُلْمًا، فهو القاتِلُ وحدَه؛ لأنَّه مُباشِرٌ للقَتْلِ عَمدًا ظُلْمًا مِن غيرِ إكرْاهٍ، فتَعَلَّقَ الحكمُ به، كما لو قَتَل في غيرِ هذه الصُّورَةِ، وإن لم يَعْتَرِفْ بذلك، فالحكمُ مُتَعَلِّقٌ بالوَلِىِّ، كما لو باشَرَه.

فصل

فَصْلٌ: وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَقْصِدَ الْجِنَايَةَ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَيَقْتُلَ؛ إِمَّا لِقَصْدِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقَصْدِ التَّأْديِبِ لَهُ، فَيُسْرِفَ فِيهِ، نَحْوَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا، أو حَجَر صَغَيرٍ، أَوْ يَلْكُزَهُ، أَوْ يُلْقِيَهُ فِى مَاءٍ قَلِيلٍ، أَوْ يَقْتُلَهُ بِسِحْر لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَسَائِرِ مَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، أَوْ يَصِيحَ بِصَبِىٍّ أو مَعْتُوهٍ وَهُمَا عَلَى سَطْحٍ فَيَسْقُطَا، أَوْ يَغْتَفِلَ عَاقِلًا فَيَصِيحَ بِهِ فَيَسْقُطَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَضِىَ اللَّهُ عنه: (وشِبْهُ العمدِ أن يَقْصِدَ الجِنايةَ بما لا يَقْتُلُ غالِبًا فيقْتُلَ؛ إمَّا لقَصْدِ العُدْوانِ عليه، أو لقَصْدِ التَّأْديبِ له، فيُسْرِفَ فيه، كالضَّرْبِ بالسَّوْطِ، والعَصا، والحَجَرِ الصَّغيرِ، أو يَلْكُزَه بيَدِه، أو يُلْقِيَه في ماءٍ يَسِير، أو يَقْتُلَه بسِحْرٍ لا يقْتُلُ غالِبًا، وسائرِ ما لا يَقْتُلُ غالِبًا، أو يَصِيحَ بصَبِىٍّ أو مَعْتُوهٍ وهما على سَطْحٍ فيَسْقُطا، أو يَغْتَفِلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عاقِلًا فيَصِيحَ به فيَسْقُطَ) فهو شِبْهُ عَمْدٍ إذا قَتَل؛ لأنَّه قَصَدَ الضَّرْبَ دُونَ القَتْلِ، ويُسَمَّى خَطَأَ العمدِ، وعمدَ الخَطَأَ؛ لاجْتِماعِ العَمْدِ والخَطَأَ فيه، فإنَّه عَمَد الفِعْلَ، وأخْطَأَ في القَتْلِ، فهذا لا قَوَدَ فيه. والدِّيَةُ على العاقِلَةِ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وجَعَلَه مالكٌ عمدًا في بعضِ ما حُكِىَ عنه مُوجِبًا للقِصاصِ؛ لأنَّه ليس في كتابِ اللَّه إلَّا العمدُ والخطأُ، فمَن زاد قِسْمًا ثالثًا، زاد على النَّصِّ، ولأنَّه قَتَلَه بفِعْلٍ عَمَدَه، فكان عمدًا، كما لو غَرَزَه بإبْرَةٍ. وحُكِىَ عنه مثلُ قولِ الجماعةِ. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: تجبُ الدِّيَةُ في مالِ القاتلِ. وهو قول ابنِ شبْرُمَة؛ لأنَّه مُوجَبُ فِعْلٍ عَمْدٍ، فكان في مالِ القاتِلِ، كسائِرِ جِناياتِ العَمدِ. ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: اقْتَتَلَتِ امْرأتانِ مِن هُذَيْلٍ، فرَمَتْ إحْداهُما الأُخرى بحَجَرٍ، فقَتَلَتْها وما في بَطْنِها، فقَضَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ دِيَةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَنِينِها عَبْدٌ أو وَلِيدَةٌ، وقَضَى بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأوْجَبَ دِيَتَها على العاقلةِ، والعاقلةُ لا تَحْمِلُ العمدَ. وأيضًا قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ألَا إنَّ في قَتِيلِ خَطَأُ العَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ والعَصَا والحَجَرِ، مِائةً مِنَ الإبِلِ» (¬2). وفى لَفْظٍ أنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «عَقْلُ شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ، ولَا يُقْتَلُ صَاحِبُه». رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا نَصٌّ. وقولُه: هذا قِسْمٌ ثالث. قلنا: نعم، هذا ثَبَتَ بالسُّنَّةِ، والقِسْمان الأوَّلان ثَبَتا بالكِتابِ، ولأنَّه قَتْلٌ لا يُوجِبُ القَوَدَ، فكانت دِيَتُه على العاقِلةِ، كقتلِ الخَطَأَ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الكهانة، من كتاب الطب، وفى: باب جنين المرأة، وباب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد، من كتاب الديات. صحيح البخارى 7/ 175، 9/ 14، 15. ومسلم، في: باب دية الجنين. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1309، 1310. كما أخرجه أبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 498، 499. والنسائى، في: باب دية جنين المرأة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 42، 43. وابن ماجه، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 882. والدارمى، في: باب دية الخطأ على من هى، من كتاب الديات. سنن الدارمى 12/ 97. والإمام مالك، في: باب عقل الجنين، من كتاب الحقول. الموطأ 2/ 855. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 274، 535. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 9، وانظر 11/ 209. (¬3) في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. كما أخرجه لإمام أحمد، في: المسند 2/ 183، 224.

فصل

فَصْلٌ: وَالْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُما، أَنْ يَرْمِىَ الصَّيْدَ، أَوْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، فَيَقْتُلَ إِنْسَانًا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (والخَطَأُ على ضَرْبَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ يَرْمِىَ الصَّيْدَ، أو يفعلَ ما له فِعْلُه) فيَئُولَ إلى إتْلافِ إنسانٍ مَعْصُوم (فعليه الكَفَّارَةُ، والدِّيَةُ على العاقِلةِ) بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ كلُّ مَن أحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ القتلَ الخَطَأَ، أنَّ يَرْمِىَ الرَّامِى شيئًا، فيُصِيبَ غيرَه، لا أعْلَمُهم يَخْتَلِفُون فيه، هذا قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وقَتادَةَ، والنَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، وابنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. والأَصْلُ في وُجُوب الدِّيَةِ والكفَّارةِ قولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2). وسواءٌ كان المَقْتُولُ مسلمًا أو كافِرًا له عهدٌ؛ لقول اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬2). ولا قِصاصَ في شئٍ مِن هذا؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى ¬

(¬1) انظر: الإشراف 7/ 3. (¬2) سورة النساء 92.

الثَّانِى، أَنْ يَقْتُلَ فِى دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، وَيَكُونُ مُسْلِمًا، أَو يَرْمِىَ إلَى صَفِّ الْكُفَّارِ، فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أو يَتَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بمُسْلِمٍ، وَيَخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَرْمِهِمْ، فَيَرْمِيَهُمْ، فَيَقْتُلَ الْمُسْلِمَ. فَهذَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَفِى وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْجَبَ به الدِّيَةَ، ولم يَذْكُرْ قِصاصًا، وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رُفِعَ عَنْ أُمُّتِى الخَطَأُ، والنِّسْيانُ، وما اسْتُكْرِهُوا عليه» (¬1). ولأنَّه لم يُوجِبِ القِصاصَ في عَمْدِ الخَطَأ، ففى الخَطَأُ أَوْلَى. الضَّرْبُ (الثانى، أن يَقْتُلَ في دارِ الحربِ مَن يَظُنُّه حَرْبِيًّا، ويكونُ مسلمًا، أو يَرْمِىَ إلى صَفِّ الكُفَّارِ، فيُصِيبَ مسلمًا، أو يَتَتَرَّسَ الكفَّارُ بمسلمٍ، ويَخافُ على المسلمين إن لم يَرْمِهم، فيَرْمِيَهم فيَقْتُلَ المسلمَ، فهذا تجِبُ به الكفَّارَةُ) رُوِى ذلك عن ابنِ عباسٍ. وبه قال عطاءٌ، ومجاهِدٌ، وعَكْرِمَةُ، وقَتادَةُ، والأوْزاعِىُّ، وأبو حنيفةَ (وفى وُجُوبِ الدِّيَةِ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276، 2/ 381.

رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العاقِلةِ رِوايتان) إحْداهما، تجِبُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}. وقال عليه السلامُ: «ألَا إنَّ في قَتِيلِ خَطَأَ العَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ والعَصَا، مائَةً مِنَ الإِبِلِ». ولأنَّه قَتَل مسلمًا خَطَأً، فوَجَبَتْ دِيَتُه، كما لو كان في دارِ الإِسلام. والثانيةُ، لا تجِبُ الدِّيَةُ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

4049 - مسألة: (والذى أجرى مجرى الخطأ، كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله، أو يقتل بالسبب، مثل أن يحفر بئرا، أو ينصب سكينا أو حجرا، فيئول إلى إتلاف إنسان، وعمد الصبى والمجنون، فهذا كله لا قصاص فيه، والدية على العاقلة، وعليه الكفارة فى ماله)

وَالَّذِى أُجْرِىَ مُجْرَى الْخَطَأَ، كَالنَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى إِنْسَانٍ، فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْتُلُ بِالسَّبَبِ، مِثْلَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا، أَوْ يَنْصِبَ سِكِّينًا أَوْ حَجَرًا فَيَئُولَ إِلَى إِتْلَافِ إِنْسَانٍ، وَعَمْدِ الصَّبِىِّ وَالْمَجْنُونِ، فَهَذَا كُلُّه لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِى مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَذْكُرْ دِيَةً، وتَرْكُه ذِكْرَها في هذا القِسْمِ مع ذِكْرِها في الذى قبلَه وبعدَه، ظاهِرٌ في أنَّها غيرُ واجِبَةٍ، وذِكْرُه لهذا قِسْمًا مُفْرَدًا يَدُلُّ على أنَّه لم يَدْخُلْ في عُمُومِ الآيةِ التى احْتَجُّوا بها، ويُخَصُّ بها عُمُومُ الخَبَرِ الذى رَوَوْه. وهذه ظاهِرُ المذهبِ. 4049 - مسألة: (والذى أُجْرِىَ مُجْرَى الخَطَأَ، كالنَّائِمِ يَنْقَلِبُ على إنْسَانٍ فيَقْتُلُه، أو يَقْتُلُ بالسَّبَبِ، مِثْلَ أنَّ يَحْفِرَ بِئْرًا، أو يَنْصِبَ سِكِّينًا أو حَجَرًا، فيَئُولَ إلى إتْلافِ إنْسانٍ، وعمدِ الصَّبِىِّ والمجْنُونِ، فهذا كلُّه لا قِصاصَ فيه، والدِّيَةُ على العاقِلةِ، وعليه الكَفَّارةُ في مالِه) لأنَّه خَطَأٌ، فيكونُ هذا حُكْمَه؛ لِما ذكَرْنا.

فصل

فَصْلٌ: وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ. وَعَنْهُ، لَا يُقْتَلُونَ. وَالْمَذْهَبُ الأَوَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللَّهُ: (وتُقْتَلُ الجماعةُ بالواحدِ) إذا كان فِعْلُ كلِّ واحدٍ منهم لو انْفَرَدَ أوْجَبَ القِصاصَ عليه. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، والمُغِيرَةِ بنِ شعْبَةَ، وابنِ عَباسٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبُ، والحسنُ، وأبو سَلَمَةَ، وعطاءٌ، وقَتادَةُ. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، [وإسحاقَ] (¬1)، أبى ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْى. وعن أحمدَ رواية أُخْرَى، لا يُقْتَلُونَ، وتجِبُ عليهم الدِّيَةُ. والمَذْهَبُ الأَوَّلُ. يُرْوَى ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ (¬2)، والزُّهْرِىِّ، وابنِ سِيرِينَ، وحَبِيبِ بنِ أبى ثابِتٍ، وعبدِ الملكِ، ورَبِيعةَ، وداودَ، وابنِ المُنْذِرِ. وحكاه ابنُ أبى مُوسى عن ابنِ عباسٍ. ورُوِىَ (¬3) عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، والزُّهْرِىِّ، أنَّه يَقْتُلُ منهم واحِدًا، ويَأْخُذُ مِن الباقِين ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «البتى». والكلام عائد على الرواية الثانية لا الأولى. انظر المغنى 11/ 490. (¬3) بعده في م: «ذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حِصَصَهم مِن الدِّيَةِ؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم مكافِئٌ له، فلا يَسْتَوفِى [أبْدالًا بمُبْدَلٍ] (¬1) واحدٍ، كما لا تجبُ دِياتٌ لمَقْتُولٍ واحدٍ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬2). وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬3). ومُقْتَضاه أنَّه لا يُؤْخَذُ بالنَّفْسِ أكثرُ مِن نفسٍ واحدةٍ، ولأَنَّ التَّفاوُتَ في الأوْصافِ يَمْنَعُ، بدليلِ أنَّ الحُرَّ لا يُؤْخَذُ بالعَبْدِ، فالتَّفاوُتُ في العَدَدِ أَوْلَى. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): لا حُجَّةَ مع مَن أوْجَبَ قَتْلَ الجماعةِ بواحدٍ. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فرَوَى سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، أنَّ عمرَ بنَ الخَطَّابِ، قَتَلَ سَبْعَةً مِن أهلِ صَنْعاءَ قَتَلُوا رجلًا، وقال: لو تَمَالأَ عليه أهلُ صَنْعاءَ لقَتَلْتُهم جميعًا (¬5). وعن ¬

(¬1) في م: «أبدا إلا ببدل». (¬2) سورة البقرة 178. (¬3) سورة المائدة 45. (¬4) انظر: الإشراف 3/ 69. (¬5) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الغيلة والسحر، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 871. وعبد الرزاق، في: المصنف 9/ 479. والدارقطنى، في: سننه 3/ 202. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 40، 41. كما أخرجه البخارى من طريق نافع عن ابن عمر، في: باب إذا أصاب قوم من رجلٍ. . .، من كتاب الديات. صحيح البخارى 9/ 10. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 347، 348. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 41. وانظر: الإرواء 7/ 260، 261.

4050 - مسألة: (وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة، فهما

وَإِنْ جَرَحَهُ أحَدُهُمَا جُرْحًا وَالْآخَرُ مِائَةً، فَهُمَا سَوَاءٌ فِى الْقِصَاصَ وَالدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَتَل ثلاثةً قَتَلُوا رجلًا (¬1). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّه قَتَل جماعةً بواحدٍ (¬2). ولم يُعْرَفْ لهم في عَصْرِهم مُخَالِفٌ، فكان إجْماعًا، ولأنَّها عُقُوبَةٌ تجِبُ للواحدِ على الواحدِ، فوَجَبَتْ للواحدِ على الجماعةِ، كحَدِّ القَذْفِ. ويُفارِقُ الدِّيَةَ؛ فإنَّها تَتَبَعَّضُ، والقِصاصُ لا يَتَبَعَّضُ، ولأَنَّ القِصاصَ لو سَقَط بالاشْتِراكِ، أدَّى إلى التَّسارُعِ إلى القَتْلِ به، فيُؤَدِّى إلى إسْقاطِ حِكْمةِ الرَّدْعِ والزَّجْرِ. 4050 - مسألة: (وإن جَرَحَه أحَدُهما جُرْحًا والآخَرُ مائَةً، فهما ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 348. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 41. (¬2) انظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 479.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سواءٌ في القِصاصِ والدِّيَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه لا يُعْتَبَرُ في وُجُوب القِصاصِ على المُشْتَرِكِين التَّساوِى في سَبَبه، فلو جَرَحَه أحَدُهما جُرْحًا والآخَرُ مِائَةً، أو أوْضَحَه أحَدُهما وشَجَّه الآخَرُ آمَّةً، أو أحَدُهما جائِفَةً والآخَرُ غيرَ جائِفَةٍ، فمات، كانا سواءً في القِصاصِ والدِّيَةِ؛ لأَنَّ اعْتِبارَ التَّساوِى يُفْضِى إلى سُقُوطِ القِصاصِ عن المُشْترِكِين، إذ لا يكادُ جُرْحان يَتَساوَيان مِن كلِّ وَجْهٍ، ولو احْتَمَلَ التَّساوِى لم يَثْبُتِ الحُكْمُ؛ لأَنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ العِلْمُ بوُجُودِه، ولا يُكْتَفَى باحْتِمالِ الوُجُودِ، بل الجَهْلُ بوُجُودِه كالعِلْمِ بعَدَمِه في انْتفاءِ (¬1) الحُكْمِ، ولأَنَّ الجُرْحَ الواحِدَ يَحْتَمِلُ أنَّ يموتَ منه دُونَ المائةِ، كما يَحْتَمِلُ أن يموتَ مِن المُوضِحَةِ دُونَ الآمَّةِ، ومِن غيرِ الجائِفَةِ دُونَ الجائِفَةِ، ولأَنَّ الجِراحَ إذا صارت نَفْسًا (¬2) سَقَط اعْتِبارُها، فكان حُكْمُ الجماعةِ كحُكْمِ الواحِدِ، ألا تَرَى أنَّه لو قَطَع أطْرافَه كلَّها فمات، وَجَبَتْ دِيَةٌ واحدةٌ، كما لو قَطَع طَرَفَه فمات. فصل: إذا اشْتَرَكَ ثلاثةٌ في قَتْلِ رجلٍ، فقَطَعَ أحَدُهم يَدَه، والآخَرُ رِجْلَه، وأوْضَحَه ثالثٌ، فمات، فللوَلِىِّ قَتْلُ (¬3) جميعِهم، والعفوُ عنهمِ إلى الدِّيَةِ، فيَأْخُذُ مِن كلِّ واحدٍ ثُلُثَها، وله أن يَعْفُوَ عن واحدٍ، فيأخذ منه ثُلُثَ الدِّيَةِ، ويَقْتُلَ الآخرَيْن، وأن يَعْفُوَ عن اثْنَيْن، فيَأْخُذَ منهما ثُلُثَى ¬

(¬1) في م: «إسقاط». (¬2) في الأصل: «يقينا». (¬3) في الأصل، تش: «قتلهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّيَةِ، ويَقْتُلَ الثالثَ. فإن بَرَأتْ جراحَةُ أحَدِهم، ومات مِن الجُرْحَيْن الآخَرَيْن، فله أن يَقْتَصَّ مِن الذى بَرَأ جُرْحُه بمثلِ جُرْحِه، ويَقْتُلَ الآَخرَيْن أو يَأْخُذَ منهما دِيَةً كاملةً، أو يَقْتُلَ أحَدَهما ويَأْخُذ مِن الآخرِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وله أنَّ يَعْفُوَ عن الذى بَرَأَ جُرْحُه ويَأْخُذَ منه دِيَةَ جُرْحِه. فإنِ ادَّعَى المُوضِحُ أنَّ جُرْحَه بَرَأ قبلَ موتِه، وكَذَّبَه شَرِيكاه، نَظَرْتَ في الوَلِىِّ؛ فإن صَدَّقَه ثَبَت حكمُ البُوْءِ بالنِّسْبَةِ إليه، فلا يَمْلِكُ قَتْلَه، ولا مُطالَبَتَه بثُلُثِ الدِّيَةِ، وله أن يَقْتَصَّ منه مُوضِحَةً أو يَأْخُذَ منه أرْشَها، ولم يُقْبَلْ قولُه في حَقِّ شَرِيكَيْه (¬1)؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ البُرْء فيها، لكنْ إنِ اخْتارَ الوَلِىُّ القِصاصَ، فلا فائدةَ لهما في إنْكارِ ذلك؛ لأَنَّ له أنَّ يَقْتُلَهُما، سواءٌ بَرَأتْ أو لم تَبْرَأْ. وإنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ، لم يَلْزَمْهما أكْثَرُ مِن ثُلُثَيْها. وإن كَذَّبَه الوَلِى، حَلَف، وله الاقْتِصاصُ (¬2) منه، أو مُطالَبَتُه بثُلُثِ الدِّيَةِ، ولم يكنْ له مُطالَبَةُ شَرِيكَيْه (¬3) بأكثرَ مِن ثُلُثَيْها. وإن شَهِد له شَرِيكاه ببُرْئِها، لَزِمَهما الدِّيَةُ كاملةً؛ لإِقْرارِهما بوُجُوبِها، وللوَلِىِّ أخْذُها منهما إن صَدَّقَهما، وإن لم يُصَدِّقْهما وعَفا إلى الدِّيَةِ، لم يكنْ له أكثرُ مِن ثُلُثَيْها (¬4)؛ لأنَّه لا (¬5) يَدَّعِى أكثرَ مِن ذلك. وتُقْبَلُ شَهادَتُهما إن كانا قد تابا و (¬6) عُدِّلا؛ لأنَّهما لا ¬

(¬1) في الأصل: «شريكه». (¬2) في الأصل: «القصاص». (¬3) في تش، م: «شريكه». (¬4) في م: «ثلثها». (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «أو».

4051 - مسألة: (وإن قطع أحدهما)

وَإِنْ قَطَعَ أحَدُهُمَا مِنَ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهُ الْآخَرُ مِنَ الْمِرْفَقِ، فَهُمَا قَاتِلَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجُرَّان إلى أنْفُسِهما بذلك نَفْعًا، فيَسْقُطُ القِصاصُ، ولا يَلْزَمُه أكثرُ مِن أرْشِ مُوضِحَةٍ. 4051 - مسألة: (وإن قَطَع أحَدُهما) يَدَه (مِن الكُوِعِ، والآخَرُ مِن المِرْفَقِ، فهما قاتلان) أمَّا إذا بَرَأتْ جراحَةُ الأَوَّلِ قبلَ قَطْعِ الثانى، فالقاتلُ الثانى وحدَه، وعليه القَوَدُ، أو الدِّيَةُ كاملةً إن عَفَا عن قَتْلِه، وله قَطْعُ يَدِ الأَوَّلِ، أو (¬1) نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن لم تَبْرَأْ، فهما قاتلان، وعليهما القِصاصُ في النَّفْسِ، أو الدِّيَةُ إن عَفَا عنهما. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: القاتِلُ هو الثانى وحدَه، ولا قِصاصَ على الأَوَّلِ في النَّفْسِ؛ لأَنَّ قَطْعَ الثانى قَطْعُ سِرايةٍ، قَطَعَه ومات بعدَ زَوالِ جِنايَتِه، فأشْبَهَ ما لو انْدَمَلَ جُرْحُه. وقال مالكٌ: إن قَطَعَه الثانى عَقِيبَ قَطْعِ الأَوَّلِ، قُتِلا جميعًا، وإن عاش بعدَ قَطْعِ الأَوَّلِ حتى أكَلَ وشرِبَ، ومات عَقِيبَ قَطْعِ الثانى، فالقاتلُ هو الثانى وحدَه، وإن عاش بعدَهما حتى أكَلَ وَشَرِب، فللأولِياءِ أنَّ يُقْسِمُوا على أيِّهما شَاءُوا (¬2) ويَقْتُلُوه. ولَنا، أنَّهما ¬

(¬1) في الأصل، تش: «و». (¬2) في ق، م: «شاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعان لو مات بعدَ كلِّ واحدٍ منهما وحدَه، لوَجَبَ عليه القِصاصُ، فإذا مات بعدَهما، وَجَب عليهما القِصاصُ، كما لو كانا في يَدَيْنِ، ولأَنَّ القَطْعَ الثَّانىَ لا يَمْنَعُ حَياتَه بعدَه، فلا يَسْقُطُ حُكْمُ ما قبلَه، كما لو كانا في يَدَيْن. ولا نُسَلِّمُ زَوالَ جِنايَتِه، ولا قَطْعَ سِرايَتِه، فإنَّ الألَمَ الحاصلَ بالقَطْعِ الأَوَّلِ لم يَزُلْ، وإنَّما انْضَمَّ إليه الألمُ الثانى، فضَعُفَتِ النَّفْسُ عنِ احْتِمالِهما، فزَهَقَتْ بهما، فكان القَتْلُ بهما. ويُخالِفُ الانْدِمالَ، فإنَّه لا يَبْقَى معه الألمُ الذى حَصَل في الأعْضاءِ الشَّرِيفَةِ، فافْتَرَقا. وإنِ ادَّعَى الأَوَّلُ أنَّ جُرْحَه انْدَمَلَ، فصَدَّقَه الوَلِىُّ، سَقَط عنه القَتْلُ، ولَزِمَه القِصاصُ في اليَدِ أو نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن كَذَّبَه شَرِيكُه واخْتارَ الوَلِىُّ القِصاصَ، فلا فائدةَ له في تَكْذِيبِه؛ لأَنَّ قَتْلَه واجِبٌ. وإن عَفا عنه إلى الدِّيَةِ، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، ولا يَلْزَمُه أكثرُ مِن نِصْفِ الدِّيَةِ. وإن كَذَّبَ الوَلِىُّ الأوَّلَ، حَلَف، وكان له قَتْلُه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ ما ادَّعاه. وإنِ ادَّعَى الثانى انْدِمالَ جُرْحِه، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في الأَوَّلِ إذا ادَّعَى ذلك.

4052 - مسألة: (وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى معه الحياة، كقطع حشوته، أو مريئه، أو ودجيه، ثم ضرب عنقه آخر، فالقاتل

وَإِنْ فَعَلَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، كَقَطْعِ حُشْوَتِهِ، أَوْ مَرِيئِهِ، أَوْ وَدَجَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4052 - مسألة: (وإن فَعَل أحَدُهما فِعْلًا لا تَبْقَى معه الحَياةُ، كقَطْعِ حُشْوَتِه، أو مَرِيِئِه، أو وَدَجَيْه، ثم ضَرَب عُنُقَه آخَرُ، فالقاتِلُ

وَيُعَزَّرُ الثَّانِى، وَإِنْ شَقَّ الْأَوَّلُ بَطْنَهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِى عُنُقَهُ، فَالثَّانِى هُوَ الْقَاتِلُ، وَعَلَى الأَوَّلِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الأَوَّلُ، ويُعَزَّرُ الثانى، وإن شَقَّ الأَوَّلُ بَطْنَه، أو قَطَع يَدَه، ثم ضَرَب الثانى عُنُقَه، فالثَّانى هو القاتلُ، وعلى الأَوَّلِ ضَمانُ ما أتلَفَ بالقِصاصِ أو الدِّيَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا جَنَى عليه اثْنان جِنايَتَيْن، نَظَرْنا؛ فإن كانتِ الأُولَى أَخْرَجَتْه مِن حُكْمِ الحياةِ، مثلَ قَطْعِ حُشْوَتِه وإبانَتِها منه، أو ودَجَيْه (¬1)، ثم ضَرَب عُنُقَه الثانى، فالأوَّلُ هو القاتلُ؛ لأنَّه لا يَبْقَى مع جِنايَتِه حياةٌ، والقَوَدُ عليه خاصَّةً، ويُعَزَّرُ الثانى، كما لو جَنَى على مَيِّتٍ. وإن عَفَا الوَلِىُّ إلى الدِّيَةِ، فهى على الأَوَّلِ وحدَه. وإن كان جُرْحُ الأَوَّلِ تَبْقَى الحياةُ معه، مثلَ شَقِّ البَطْنِ مِن غيرِ إبانَةِ الحُشْوَةِ، أو قَطْعِ طَرَفٍ، ¬

(¬1) في تش، ق، م: «ذبحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم ضَرَب عُنُقَه آخَرُ، فالثانى هو القاتلُ؛ لأنَّه لم يَخْرُجْ بجُرْحِ الأَوَّلِ مِن (¬1) حُكْمِ الحياةِ، فيكونُ الثانى هو المُفَوِّتَ لها، فعليه القِصاصُ في النَّفْسِ، والدِّيَةُ كاملةً إن عَفا عنه. ثم نَنْظُرُ في جُرْحِ الأَوَّلِ، فإن كان مُوجِبًا للقِصاصِ، كقَطْعِ الطَّرَفِ، فالوَلِىّ مُخَيَّرٌ بينَ قَطْعِ طَرَفِه والعَفْوِ على دِيَتِه، أو العَفْوِ مُطْلَقًا، وإن كان لا يُوجِبُ القِصاصَ، كالجائِفَةِ ونحوِها، فعليه الأَرْشُ. وإنَّما جَعَلْنا عليه القِصاصَ؛ لأَنَّ الثانىَ بفِعْلِه قَطَع سِرايَةَ الأَوَّلِ، فصار كالمُنْدَمِلِ الذى لا يَسْرِى. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. ولا أعْلَمُ فيه مُخالِفًا. ولو كان جُرْحُ الأَوَّلِ يُفْضِى إلى المَوْتِ لا مَحالةَ، إلَّا أنَّه لا يَخْرُجُ به مِن حُكْمِ الحياةِ، وتَبْقَى معه الحياةُ المُسْتَقِرَّةُ، مثلَ خَرْقِ المِعَى، أو أُمِّ الدِّماغِ، فضَرَبَ الثانى عُنُقَه، فالقاتلُ هو الثانى؛ لأنَّه فَوَّتَ حياةً مُسْتَقِرَّةً، وقَتَل مَن هو في حُكْمِ الحياةِ، بدليلِ أنَّ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لَمَّا جُرِح دَخَل عليه الطَّبِيبُ فسَقَاه لَبَنًا، فخَرَجَ يَصْلِدُ (¬2)، فعَلِمَ الطَّبِيبُ أنَّه مَيِّت، فقال: اعْهَدْ إلى الناسِ. ¬

(¬1) في ق، م: «عن». (¬2) يصلد: يبرق. النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعَهِدَ إليهم وأوْصَى، وجَعَل الخِلافَةَ إلى أهلِ الشُّورَى، فقَبِلَ الصحابةُ عَهْدَه، وأجْمَعُوا على قَبُولِ وَصَاياه (¬1). لمَّا كان حُكْمُ الحياةِ باقِيًا، كان الثَّانى مُفَوِّتًا لها، فكان هو القاتلَ، كما لو قَتَل عَلِيلًا لا يُرْجَى بُرْءُ عِلَّتِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 122.

4053 - مسألة: (فإن رماه من شاهق، فتلقاه آخر بسيف فقده)

وَإِنْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفٍ فَقَدَّهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِى. وَإِنْ رَمَاهُ فِى لُجَّةٍ، فَتَلَقَّاهُ حُوتٌ فَابْتَلَعَهُ، فَالْقَوَدُ عَلَى الرَّامِى فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4053 - مسألة: (فإن رَماه مِن شاهِقٍ، فتَلَقّاه آخَرُ بسَيْفٍ فقَدَّه) فالقِصاصُ على الثَّانى؛ لأنَّه فَوَّتَ حَياتَه قبلَ المَصِيرِ إلى حالٍ (¬1) يُيْئَسُ فيها مِن حَياتِه، فأشْبَهَ ما لو رَماه إنسان بسَهْمٍ قاتلٍ، فقَطَعَ آخَرُ عُنُقَه قبلَ وُقُوعِ السَّهْمِ به، أو ألْقَى عليه صَخْرَةً، فأطار آخَرُ رَأْسَه بالسَّيْفِ قبلَ وُقُوعِها عليه. وبهذا قال الشافعىُّ، إن رَماه مِن مكانٍ يجوزُ أن يَسْلَمَ منه، وإن رَماه مِن شاهِقٍ لا يَسْلَمُ منه الواقعُ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، كقولِنا. والثانى، الضَّمانُ عليهما بالقِصاص، والدِّيَةِ عندَ سُقُوطِه؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما سَبَبٌ للإِتْلافِ. ولَنا، أنَّ الرَّمْىَ (¬2) سَبَبٌ، والقَتْلَ مُباشَرَة، فانْقَطَعَ حكمُ السَّبَبِ، كالدّافِعِ مع الحافِرِ، والجارحِ مع الذّابحِ، وكالصُّوَرِ التى ذكَرْناها. وما ذكَرُوه باطِلٌ بالأُصُولِ المَذْكورَةِ. 4054 - مسألة: (وإن ألْقاه في لُجَّةٍ، فالْتَقَمَه حُوتٌ، فالقَوَدُ على الرّامِى في أحَدِ الوَجْهَيْن) إذا كانتِ اللُّجَّةُ لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منها، فالقَوَدُ ¬

(¬1) في م: «حياة». (¬2) في الأصل، تش: «الرامى».

4055 - مسألة: (وإن أكره إنسانا على القتل فقتل، فالقصاص عليهما)

وَإِنْ أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى الْقَتْلِ فَقَتَلَ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على الرَّامِى؛ لأنَّه ألْقاه (¬1) في مَهْلَكَةٍ هَلَك بها مِن غيرِ واسِطَةٍ يُمْكِنُ إحالةُ الحُكْمِ عليها، أشْبَهَ ما لو مات بالغَرَقِ، أو هَلَك بوُقُوعِه على صَخْرَةٍ. والثانى، لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه لم يَهْلِكْ بها، أشْبَهَ ما لو قَتَلَه آدَمِىٌّ آخَرُ. فأمّا إن أَلْقاه في ماءٍ يَسِيرٍ، فأكَلَه سَبُع، أو الْتَقَمَه حُوتٌ أوِ تِمْساحٌ، فلا قَوَدَ عليه؛ لأَنَّ الذى فَعَلَه لا يَقْتُلُ غالِبًا، وعليه ضَمانُه؛ لأنَّه هَلَك بفِعْلِه. 4055 - مسألة: (وإن أكْرَهَ إنسانًا على القَتْلِ فقَتَلَ، فالقِصاصُ عليهما) وقال أبو حنيفةَ: إنَّما (¬2) يجبُ القِصاصُ على الآمِرِ دُون المَأْمُورِ؛ لأَنَّ المَأْمُورَ صار بالإِكْراهِ بمَنْزِلَةِ الآلةِ، والقِصاصُ إنَّما يجبُ على مُسْتَعْمِلِ الآلةِ لا على الآلةِ. وقال أبو يُوسُفَ: لا يجبُ على واحدٍ منهما؛ لأَنَّ الآمِرَ غيرُ مُباشِرٍ، إنَّما هو مُتَسَبِّبٌ، والقِصاصُ لا يجِبُ على ¬

(¬1) في تش: «رماه». (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَسُبِّبِ مع المُباشِرِ، دليلُه الدَّافِعُ مع الحافرِ، [والمَأْمُورُ مَسْلُوبُ الاخْتِيارِ. وقال زُفَرُ: يجِبُ على المَأْمُورِ ولا يجِبُ على الآمِرِ؛ لأَنَّ المَأْمُورَ مُباشِرٌ، فيَجِبُ عليه وحدَه، كالدّافعِ مع الحافِرِ] (¬1). ولَنا، على أبى حنيفةَ، أنَّ المَأْمُورَ قاتِل، فوجَبَ عليه القِصاصُ، كما لو لم يُؤْمَرْ، والدليلُ على أنَّه قاتلٌ، أنَّه ضَرَب بالسَّيْفِ، ولأَنَّ القَتْلَ جَرْحٌ أو فِعْلٌ يَتَعَقَّبُه الزُّهُوقُ، وهذا كذلك، ولأنَّه يأْثَمُ إثْمَ القاتلِ. قولُهم: إنَّه بمَنْزِلةِ الآلةِ. لا يَصِحُّ، فإنَّه يأْثَمُ والآلةُ لا تَأْثَمُ. قو لُهم: إنَّه مَسْلُوبُ الاخْتِيارِ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّه قَصَدَ اسْتِبْقاءَ (¬2) نَفْسِه بقَتْلِ هذا، وهذا يَدُلُّ على قَصْدِه واخْتِيارِ نَفْسِه، ولا خِلافَ في أنَّه يَأْثَمُ، ولو سُلِّمَ الاخْتِيارُ لم يَأْثَمْ، كالمجْنُونِ. والدليلُ على أنَّ الآمِرَ قاتِل، أنَّه تَسَبَّبَ إلى قَتْلِه بما يُفْضِى إليه غالِبًا، فوَجَبَ عليه القِصاصُ، كما لو أنْهَشَه [كَلْبًا أو] (¬3) حَيَّةً أو أسَدًا، أو رَماه بسَهْمٍ، ولأنَّه ألْجَأهُ إلى الهلاكِ، أشْبَهَ ما لو ألْقاه عليه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «استيفاء». (¬3) زيادة من: تش.

4056 - مسألة: (وإن أمر من لا يميز، أو مجنونا، أو عبده الذى لا يعلم أن القتل محرم، بالقتل، فقتل، فالقصاص على الآمر)

وَإِنْ أَمَرَ مَنْ لَا يُمَيِّزُ، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ عَبْدَهُ الَّذِى لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مُحَرَّمٌ، بِالقَتْلِ، فَقَتَلَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4056 - مسألة: (وإن أَمَرَ مَن لا يُمَيِّزُ، أو مَجْنُونًا، أو عَبْدَه الذى لا يَعْلَمُ أنَّ القَتْلَ مُحَرَّم، بالقَتْلِ، فقَتَلَ، فالقِصاصُ على الآمِرِ) إذا أمَرَ [السَّيدُ عبدَه أنَّ يَقْتُلَ رَجُلًا] (¬1)، وكان العبدُ ممَّن لا يَعْلَمُ تَحْرِيمَ القَتْلِ، ¬

(¬1) في ق، م: «عبده بقتل رجلٍ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كمَن نَشَأَ في غيرِ بلادِ الإِسْلامِ، وَجَب القِصاصُ على الآمِرِ. فأمَّا مَن (¬1) أقام في بلادِ الإسلامِ بينَ أهلِه، فلا يَخْفَى عليه تَحْرِيمُ القَتْلِ، ولا يُعْذَرُ في فِعْلِه، ومتى كان عالِمًا بذلك، فالقِصاصُ على العَبْدِ، ويُؤَدَّبُ سَيِّدُه -لأمْرِه بما أفْضَى إلى القَتْلِ- بما يَراه الإِمامُ مِن الحَبْسِ والتَّعْزِيرِ. وإذا لم يكنْ عالِمًا، أُدِّبَ العبدُ. ونَقَلَ [أبو طالبٍ] (¬2) عن أحمدَ قال: يُقْتَلُ المَوْلَى، ويُحْبَسُ العبدُ حتى يموتَ؛ لأَنَّ العبدَ سَوْطُ المَوْلَى وسَيْفُه. كذا قال علىٌّ، وأبو هُرَيْرَةَ. قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ. وممَّن قال بهذه الجُملةِ الشافعىُّ. وممَّن قال: إنَّ السَّيِّدَ يُقْتَلُ. علىٌّ، وأبو هُرَيْرَةَ. وقال قَتادَةُ: يُقْتلان جميعًا. وقال سليمان بنُ مُوسى (¬3): ¬

(¬1) في ق، م: «إن». (¬2) في الأصل، تش: «أبو الخطاب». (¬3) في تش: «أبى موسى». والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 425.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُقْتَلُ الآمِرُ، ولكنْ يَدِيه، ويُعاقَبُ ويُحْبَسُ؛ لأنَّه لم يُباشِرِ القَتْلَ، ولا ألْجَأَ إليه، فلم يجبْ عليه قِصاصٌ، كما لو عَلِم العبدُ حَظْرَ القَتْلِ. ولَنا، أنَّ العبدَ إذا لم يكنْ عالِمًا بحَظْرِ القَتْلِ، فهو مُعْتَقِدٌ إباحَتَه، وذلك شُبْهَةٌ تَمْنَعُ القِصاصَ، كما لو اعْتَقَدَه صَيْدًا فرَماه، فقَتَلَ إنسانًا، ولأَنَّ حِكْمَةَ القِصاصَ الرَّدْعُ والزَّجْرُ، ولا يَحْصُلُ ذلك في مُعْتَقِدِ الإِباحَةِ، وإذا لم يَجِبْ عليه، وَجَب على السَّيِّدِ؛ لأنَّه آلةٌ لا يُمْكِنُ إيجابُ القِصاصِ عليه، فوَجَبَ على [المُتَسَبِّبِ به] (¬1)، كما لو أنْهَشَه حَيَّةً فَقَتَلَتْه، أو أَلْقاه في زُبْيَةِ أسَدٍ فأكَلَه. ويُفارِقُ هذا ما إذا عَلِم حَظْرَ القَتْلِ، [فإنَّ القِصاصَ] (¬2) على العبدِ؛ لإمْكانِ إيجابِه عليه، وهو مُباشِرٌ له، فانْقَطَعَ حُكْمُ الآمِرِ، كالدّافعِ مع الحافرِ. ولو أمَرَ صَبِيًّا لا يُمَيِّزُ، أو مَجْنُونًا، أو أعْجَمِيًّا لا يعلمُ حَظْرَ القَتْلِ، فقَتَلَ، فالحُكْمُ فيه كالحكمِ في العبدِ (¬3)، يُقْتَلُ الآمِرُ دُونَ المُباشِرِ. فأمّا إن أمَرَه بزِنًى أو سرقةٍ، ففَعَلَ، لم يَجِبِ الحَدُّ على الآمِرِ؛ لأَنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ إلًّا على المُباشِرِ، والقِصاصُ يجِبُ بالتَّسَبُّبِ، ولذلك وَجَب على المُكْرَهِ والشُّهُودِ في القِصاصِ. ¬

(¬1) في الأصل: «المقتتل». (¬2) في م: «فالقصاص». (¬3) في تش: «القتل».

4057 - مسألة: (وإن أمر كبيرا عاقلا عالما بتحريم القتل به، فقتل، فالقصاص على القاتل)

وَإِنْ أَمَرَ كَبِيرًا عَاقِلًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِهِ، فَقَتَلَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ. وَإِنْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِ إِنْسَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى الْآمِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4057 - مسألة: (وإن أَمَرَ كَبِيرًا عاقِلًا عالِمًا بتَحْريمِ القَتْلِ به، فقَتَلَ، فالقِصاصُ على القاتِلِ) لا (¬1) نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنُّه قاتِلٌ ظُلْمًا، فوَجَبَ عليه القِصاصُ، كما لو لم يُؤْمَرْ. 4058 - مسألة: (وإن أَمَرَ السُّلْطانُ بقَتْلِ إنسانٍ بغيرِ حَقٍّ مَن يَعْلَمُ ذلك، فالقِصاصُ على القاتِلِ، وإن لم يَعْلَمْ فعلى الآمِرِ) إذا كان المَأْمُورُ ¬

(¬1) في الأصل: «حتى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْلَمُ أنَّ المَأْمُورَ بقَتْلِه لا يَسْتَحِقُّ القَتْلَ، فالقِصاصُ عليه؛ لأنَّه غيرُ مَعذُورٍ في فِعْلِه، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا طَاعَةَ لمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» (¬1). وعنه عليه السَّلامُ أنَّه قال: «مَن أمَرَكُمْ مِنَ الوُلَاةِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا تُطيعُوهُ» (¬2). فلَزِمَه القِصاصُ، كما لو أمَرَه غيرُ السلطانِ. وإن لم يَعْلَمْ ذلك، فالقِصاصُ على الآمِرِ (¬3) دُونَ المَأمُورِ؛ لأَنَّ المَأْمُورَ مَعْذُورٌ؛ لوُجُوبِ طاعةِ الإِمامِ في غيرِ المَعْصِيَةِ، والظَّاهِرُ أنَّه لا يَأْمُرُ إلَّا بالحَقِّ. وإن كان الآمِرُ غيرَ السلطانِ، فالقِصاصُ على القاتلِ بكلِّ حالٍ، عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه طاعَتُه، وليس له القَتْلُ بحالٍ، بخِلافِ السلطانِ فإنَّ إليه القَتْلَ في الرِّدَّةِ والزِّنَى، وقَطْعِ الطَّريقِ -إذا قَتَل القاطِعُ- ويَسْتَوْفِى القِصاصَ للناسِ، وهذا ليس إليه شئٌ مِن ذلك. فصل: وإن أكْرَهَه السُّلْطانُ على قَتْلِ أحَدٍ، أو جَلْدِه بغيرِ حَقٍّ، فمات، فالقِصاصُ عليهما، وقد ذَكَرْناه. وإن وَجَبَتِ الدِّيَةُ، كانت عليهما. فإن كان الإِمامُ يَعْتَقِدُ جَوازَ القَتْلِ دُونَ المَأْمُورِ، كمسلمٍ قَتَل ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم، في: تاريخ أصبهان 1/ 133. والخطب البغدادى، في: تاريخ بغداد 10/ 22. كلاهما من حديث أنس. والطبرانى، في: المعجم الكبير 18/ 170 عن عمران بن حصين. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 12/ 546. عن الحسن مرسلا. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في: باب لا طاعة في معصية اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 956. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 67. (¬3) في الأصل: «القاتل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِمِّيًّا، أو حُرٌّ قَتَل عبدًا، فقَتَلَه، فقال القاضى: الضَّمانُ عليه دُونَ الإِمامِ؛ لأَنَّ الإِمامَ أمَرَه بما أدَّى اجْتِهادُه إليه، والمَأْمُورُ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَه، فلم يكَنْ له أن يَقْبَلَ أمْرَه، فإذا قَبِلَه لَزِمَه الضَّمانُ؛ لأنَّه قَتَل مَن (¬1) لا يَحِلُّ له (¬2) قَتْلُه. قال شيخُنا (¬3): ويَنْبَغِى أنَّ يُفَرَّقَ بينَ العَامِّىِّ والمُجْتَهِدِ؛ فإن كان مُجْتَهِدًا، فالحُكْمُ فيه على ما ذَكَرَه القاضى، وإن كان مُقَلِّدًا، فلا ضَمانَ عليه؛ لأَنَّ له تَقْلِيدَ الإمام فيما رَآه، وإن كان الإِمامُ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَه، والقاتِلُ يَعْتَقِدُ حِلَّه، فالضَّمَانُ على الآمِرِ، كما لو أَمَرَ السَّيِّدُ عبدَه الذى لا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ القَتْلِ به. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: المغنى 11/ 599.

4059 - مسألة: (وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله، فقتله، قتل القاتل، وحبس الممسك حتى يموت، فى إحدى الروايتين)

وَإِنْ أَمْسَكَ إِنْسَانًا لِآخَرَ لِيَقْتُلَهُ، فَقَتَلَهُ، قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَحُبِسَ الْمُمْسِكُ حَتَّى يَمُوتَ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالأُخْرَى، يُقْتَلُ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4059 - مسألة: (وإن أمْسَكَ إنسانًا لآخَرَ ليَقْتُلَه، فقَتَلَه، قُتِل القاتِلُ، وحُبِس المُمْسِكُ حتى يموتَ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن) أمَّا وُجُوبُ القِصاصِ على القاتلِ، فلا خِلافَ فيه؛ لأنَّه قَتَل مَن يُكافِئُه عَمْدًا بغيرِ حَقٍّ. وأمَّا المُمْسِكُ، فإن لم يَعْلَمْ أنَّ القاتِلَ يَقْتُلُه، فلا شئَ عليه؛ لأنَّه مُتَسَبِّبٌ، والقاتِلُ مُباشِرٌ، فيسْقُط (¬1) حكمُ المُتَسَبِّبِ. وإن أمْسَكَه له ليَقْتُلَه، مثلَ أنَّ أمْسَكَه له (¬2) حتى ذَبَحَه، فاخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ فيه عن أحمدَ، فرُوِىَ عنه، أنَّه يُحْبَسُ حتى يموتَ. وهذا قولُ عَطاءٍ، ورَبِيعَةَ. ورُوِىَ ذلك عن علىٍّ ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه يُقْتَلُ أيضًا. وهو قولُ مالكٍ. قال ¬

(¬1) في الأصل: «فينقطع». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سُلَيْمانُ بنُ مُوسَى: الاجْتِماعُ (¬1) فينا أن يُقْتَلا؛ لأنَّه لو لم يُمْسِكْه، ما قَدَر على قَتْلِه، وبإمْساكِه تَمَكَّنَ مِن قَتْلِه، فالقَتْلُ حاصِلٌ بفِعْلِهما، فيكونان (¬2) شَرِيكَيْن فيه، فيَجِبُ عليهما القِصاصُ، كما لو ¬

(¬1) في ر 3: «الإجماع». والأثر أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 373. (¬2) في الأصل: «فيكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَرَحاه. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، [وابنُ المُنْذِرِ] (¬1): يُعاقَبُ، ويَأْثَمُ، ولا يُقْتَلُ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ أعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ، مَنْ قَتَل غَيْرَ قَاتِلِهِ» (¬2). والمُمْسِكُ غيرُ قاتِل، ولأَنَّ الإِمْساكَ سَبَبٌ غيرُ مُلْجِئٍ، فإذا اجْتَمَعَتْ معه المُباشَرَةُ، كان الضَّمانُ على المُباشِرِ، كما لو لم يَعْلَمِ المُمْسِكُ أنَّه يَقْتُلُه. ولَنا، ما رَوى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3) بإسْنادِهِ عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا أمْسَكَ الرَّجُل (¬4)، وقَتَلَه الآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِى قَتَلَ، ويُحْبَسُ الَّذِى أمْسَكَ». ولأنَّه حَبَسَه إلى الموتِ، فيُحْبَسُ الآخَرُ إلى المَوْتِ، كما لو حَبَسَه عن الطَّعامِ والشَّرابِ حتى مات، فإنَّا نَفْعَلُ به ذلك حتى يموتَ. فصل: فإنِ اتَّبَعَ رجلًا ليَقْتُلَه، فهَرَبَ منه، فأدْرَكَه آخَرُ، فقَطَعَ رِجْلَه، ثم أدْرَكَه الثَّانى فقَتَلَه، فإن كان الأَوَّلُ حَبَسَه بالقَطْعِ ليَقْتُلَه الثَّانى، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه بنحوه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 32. والإمام الشافعى، انظر: كتاب الديات. ترتيب المسند 2/ 97. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 26. (¬3) في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 140. (¬4) كذا في النسخ، وعزاه اليه بنفس اللفظ في: كنز العمال 15/ 10، وعند الدارقطنى: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ».

4060 - مسألة: (وإن كتفه وطرحه فى أرض مسبعة، أو ذات

وَإِنْ كَتَّفَ إِنْسَانًا، وَطَرَحَهُ فِى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ، أَوْ ذَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فعليه القِصاصُ في القَطْعِ، وحُكْمُه في القِصاصِ في النَّفْسِ حُكْمُ المُمْسِكِ؛ لأنَّه حَبَسَه على القَتْلِ، وإن لم يَقْصِدْ حَبْسَه، فعليه القَطْعُ دُونَ القَتْلِ، كالذى أمْسَكَه غيرَ عالم. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، ليس عليه إلَّا القَطْعُ (¬1) بكلِّ حالٍ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه الحابِسُ له بفِعْلِه، فأشْبَهَ الحابِسَ بإمْساكِه. فإن قِيلَ: فلِمَ اعْتَبَرْتُم قصْدَ الإمْساكِ ههُنا، وأنْتُم لا تَعْتَبِرُون إرادةَ القتلِ في الجارحِ؟ قلنا: إذا مات مِن الجُرْحِ، فقد مات مِن سِرايَتِه وأثَرِه، فيُعْتَبَرُ قَصْدُ الجُرْحِ الذى هو السَّبَبُ دُونَ قَصْدِ الأثَرِ (¬2)، وفى مَسْألتِنا، إنَّما كان موتُه بأمْرٍ غيرِ السِّرايَةِ، والفِعْلُ مُمَكِّنٌ له (¬3)، فاعْتُبِرَ قَصْدُه لذلك الفِعْلِ، كما لو أمْسَكَه. 4060 - مسألة: (وإن كَتَّفَه وطَرَحَه في أرضٍ مَسْبَعَةٍ، أو ذاتِ ¬

(¬1) بعده في تش: «دون القتل». (¬2) في الأصل، تش: «الأمر». (¬3) سقط من: الأصل.

فصل

حَيَّاتٍ فَقَتَلَتْهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُمْسِكِ. فَصْلٌ: وَإِنِ اشْتَرَكَ فِى الْقَتْلِ اثْنَانِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدِهِمَا، كَالْأَبِ وَأَجْنَبِىٍّ فِى قَتْلِ الْوَلَدِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِى قَتْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــ حَيَّاتٍ فقَتَلَتْه، فحُكْمُه حُكْمُ المُمْسِكِ) ذَكَرَه القاضى، وقد مَضَىِ الكلامُ فيه (¬1). قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّه لا قِصاصَ فيه؛ لأنَّه ممَّا لا يَقْتُلُ غالِبًا. وتجبُ فيه الدِّيَةُ؛ لأنَّه فَعَل به فِعْلًا مُتَعَمَّدًا لا يَقْتُلُ غالِبًا، فتَلِفَ به، فهو شِبْهُ عَمْدٍ. وهكذا ذَكَرَه في كتابِه «الكافى» (¬3). فصل: (وإنِ اشْتَرَكَ في القَتْلِ اثْنان لا يجبُ القِصاصُ على أحَدِهما، كالأبِ والأجْنَبِىِّ في قَتْلِ الولَدِ، والحُرِّ والعَبْدِ في قَتْلِ العبدِ، والخَاطِئَ ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 20، 21. (¬2) في: المغنى 11/ 452. (¬3) في: 4/ 14، 15.

الْعَبْدِ، وَالْخَاطِئِ وَالْعَامِدِ، فَفِى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشَّرِيكِ رِوَايَتَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا، وُجُوبُهُ عَلَى شَرِيكِ الْأَب وَالْعَبْدِ، وَسُقُوطُهُ عَنْ شَرِيكِ الْخَاطِئِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعامِدِ، ففى وُجُوبِ القِصاصِ على الشَّرِيكِ رِوايَتان؛ أظْهَرُهما، وُجُوبُه على شَرِيكِ الأبِ والعَبْدِ، وسُقُوطُه عن شَرِيكِ الخاطِئ) ظاهِرُ المَذْهَبِ وُجُوبُ القِصاصِ على شَرِيكِ الأبِ. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، لا قصاصَ على واحدٍ منهما. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى؛ لأنَّه قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِن مُوجِبٍ وغيرِ مُوجِبٍ، فلم [يُوجِبْ، كقَتْلِ] (¬1) العامِدِ والخاطِئ، والصَّبِىِّ والبالِغِ، والمَجْنُونِ والعاقِلِ. ولَنا، أنَّه شارَكَ في القَتْلِ العَمْدِ العُدْوانِ (¬2) في مَن يُقْتَلُ به لو انْفَرَدَ بقَتْلِه، فوَصا عليه القِصاصُ، ¬

(¬1) في الأصل: «يجب كقتيل». (¬2) في الأصل: «والعدوان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كشريكِ الأجْنَبِىِّ. وقوئهمِ: إنَّ فِعْلَ الأبِ غير مُوجِبٍ. مَمْنُوعٌ، فإنَّه يَقْتَضِى الإِيجابَ؛ لكونِه تمَحَّضَ عمدًا عُدْوانًا، والجِنايَة به (¬1) أعْظَمُ إثْمًا، وأكْبَرُ جُرْمًا؛ ولذلك خَصَّه اللَّه تَعالى بالنَّهىِ، فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ}. ثُمَّ قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬2). ولمَّا سُئِل النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أعْظَمِ الذَّنْبِ، قال: «أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، ثمَّ أنَّ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» (¬3). فجَعَلَه أعْظَمَ الذُّنُوبِ بعدَ الشِّرْكِ، ولأنَّه قَطَع الرَّحِمَ التى أَمَرَ اللَّهُ بَوَصْلِها، ووَضَعَ الإِساءَةَ مَوْضِعَ الإِحْسانِ، فهو أَوْلَى بإيجابِ العُقُوبَةِ والزَّجْرِ عنه، وإنَّما امْتَنَعَ الوُجُوبُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة الإسراء 31. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وباب: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. . .}، من كتاب التفسير، وفى: باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، من كتاب الأدب، وفى: باب إثم الزناة، من كتاب الحدود، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، من كتاب الديات، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 6/ 22، 137، 138، 8/ 9، 204، 9/ 2، 186. ومسلم، في: باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 90، 91. وأبو داود، في: باب في تعظيم الزنى، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 539، 540. والترمذى، في: باب ومن سورة الفرقان، من أبواب التفسير، عارضة الأحوذى 12/ 57. والنسائى، في: باب ذكر أعظم الذنب، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 82، 83. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 380، 431، 434، 462.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حَقِّ الأبِ لمَعْنًى مُخْتَصٍّ بالمَحَلِّ، لا لقُصُورٍ في السَّبَبِ المُوجِبِ، فلا يَمْنَعُ عَمَلَه (¬1) في المَحَلِّ الذى لا مانِعَ فيه. وأمَّا شَرِيكُ الخاطِئ، ففيه رِوايتان؛ إحْدَاهما، يَجِبُ القِصاصُ، فهو كمَسألَتِنا، ومع التَّسْلِيمِ فامْتِناعُ (¬2) الوُجُوبِ فيه لقُصُورِ السَّبَبِ عن الإِيجابِ، فإنَّ فِعْلَ الخَاطئِ غيرُ مُوجِبٍ للقِصاصِ، ولا صالحٍ له، والقَتْلُ منه ومِن شَرِيكِه غيرُ مُتَمَحِّضٍ عَمْدًا، لوُقُوع اِلخَطَأ في الفِعْلِ الذى حَصَل به زُهُوقُ الرُّوحِ، بخِلافِ مسألتِنا. وكذلك كلُّ شَريكَيْن امْتَنَعَ القِصاصُ في حَقِّ أحَدِهما لمَعْنًى فيه مِن غيرِ قُصُورٍ في السَّبَبِ، فهو في وُجُوبِ القِصاصِ على شَرِيكِه كالأبِ وشَرِيكِه، كالمُسْلِمِ والذِّمِّىِّ في قَتْلِ ذِمِّىٍّ، والحُرِّ والعبدِ في قَتْلِ العبدِ، إذا كان القَتْلُ عمدًا (¬3) عُدْوانًا، فإنَّ القِصاصَ لا يجبُ على المُسْلِمِ ولا على الحُرِّ، ويجبُ على الذِّمِّىِّ والعبدِ، إذا قُلْنا بوُجُوبِه على شَرِيكِ الأبِ، لأَنَّ امْتِناعَ القِصاصِ عن المُسْلِمِ لإسلامِه، وعن الحُرِّ لحُرِّيَّتِه، وانْتِفاءِ مُكافأةِ المَقْتُولِ له، وهذا المَعْنَى لا يَتَعَدَّى إلى فِعْل شَرِيكِه، فلم يَسْقُطِ القِصاصُ عنه. وقد رُوِى عن أبى عبدِ اللَّه، أنَّه سُئِل عن حُرٌّ وعبدٍ قَتَلا عَبْدًا عمدًا، فقال: أمَّا الحُرُّ فلا يُقْتَلُ بالعبدِ، والعبدُ ¬

(¬1) في الأصل: «علمه». (¬2) في الأصل: «بامتناع». (¬3) سقط من: تش، ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن شاء سَيِّدُه أسْلَمَه، وإلَّا فَداه بِنصْفِ قِيمَةِ العبدِ. وظاهِرُ هذا أنَّه لا قِصاصَ على العبدِ، فيُخَرَّجُ مثلُ (¬1) هذا في كلِّ قَتْلٍ شارَكَ فيه مَن لا يجِبُ عليه القِصاصُ. فصل: فإنِ اشْتَرَكَ في القتْلِ صَبِىٌّ ومَجْنُونٌ وبالِغٌ، فالصَّحِيحُ في (¬2) المَذْهَبِ أنَّه لا قِصاصَ على البالغِ. وبهذا قال الحسنُ، والأوْزاعِىُّ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القَوَدَ يجبُ على البالغِ العاقلِ. حَكاها ابنُ المُنْذِرِ (¬3) عن أحمدَ. وحُكِىَ ذلك عن مالكٍ. وهو القولُ الثَّانى للشافعىِّ. ورُوِىَ عن قَتادَةَ، والزُّهْرِىِّ، وحَمَّادٍ؛ لأَنَّ القِصاصَ عُقُوبَةٌ يَجِبُ عليه جَزاءً لفِعْلِه، فمتى كان فِعْلُه عَمْدًا (¬4) عُدْوانًا، وَجَب عليه القِصاصُ، ولا نَظَرَ إلى فِعْلِ شَريكِه بحالٍ، ولأنَّه شارَكَ في القَتْلِ عَمْدًا عُدْوانًا، فوَجَبَ عليه القِصاصُ، [كشَرِيكِ الأجْنَبِىِّ، وذلك لأَنَّ الإنسانَ إنَّما يُؤاخَذُ (¬5) بفِعْلِ نَفْسِه لا بفِعْلِ غيرِه. فعلى هذا، يُعْتَبَرُ فِعْلُ الشرِيك مُنْفَرِدًا، فمتى تَمَخَّضَ عَمْدًا عُدْوانًا، وكان المَقْتُولُ مُكافِئًا له] (¬6)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في ق، م: «من». (¬3) انظر: الإشراف 3/ 70. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «يؤخذ». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [وَجَب عليه القِصاصُ] (¬1). وبَنَى الشافعىُّ قولَه على أنَّ عَمْدَ الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ إذا تَعَمدَاه عمدٌ؛ لأنَّهما يَقْصِدان القَتْلَ، وإنَّما سُقُوطُ القِصاصِ عنهما لمعنًى فيهما، وهو عَدَمُ التَّكْلِيفِ، فلم يَقْتَضِ [سُقُوطَه عن] (¬2) شَرِيكِهما، كالأُبُوَّةِ. ولَنا، أنَّه شارَكَ مَن لا إثْمَ عليه في فِعْلِه، فلم يَلْزَمْه قِصاصٌ، كشَرِيكِ الخاطِئِ، ولأَنَّ الصَّبِىَّ والمَجْنُونَ ليس لهما قَصْدٌ صَحِيحٌ، ولهذا لا يَصِحُّ إقْرارُهما، فكان حُكْمُ فِعْلِهما (¬3) حُكْمَ الخَطَأ، ولهذا تَحْمِلُه العاقِلَةُ، فيكونُ الأُوْلَى عَدَمَ وُجُوبِ القِصاصِ. فصل: ولا يَجِبُ القِصاصُ على شَرِيكِ الخاطِئ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وبه قال الشَّافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وعن أحمدَ أنَّ عليه القِصاصَ. وحُكِىَ عن مالكٍ؛ لأنَّه شارَكَ في القَتْلِ عَمدًا عُدْوانًا، فأشْبَهَ شَرِيكَ العامِدِ، ولأَنَّ مُؤاخَذَتَه بفِعْلِه، وفِعْلُه عمدٌ عُدْوانٌ. ولَنا، أنَّه قَتْلٌ لم يَتَمَحَّضْ عمدًا، فلم يَجِبْ به القِصاصُ، كشبْه العمدِ، وكما لو قَتَلَه واحِدٌ بجُرْحَيْن عمدًا وخَطَأً، ولأَنَّ كلّ واحدٍ مِن الشَّرِيكيْنِ مُباشِرٌ ومُتَسَبِّبٌ، فإذا كانا عامِدَيْن، فكلُّ واحِدٍ مُتَسَبِّبٌ إلى فِعْلٍ مُوجبٍ للقِصاصِ، فقام فِعْلُ شَرِيكِه مَقامَ فِعْلِه (¬4) لتَسَبُّبِه إليه، وههُنا إذا أَقَمْنا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «سقوط غير». (¬3) في م: «فعلها». (¬4) في تش: «فعل نفسه».

4061 - مسألة: (وفى شريك السبع وشريك نفسه وجهان)

وَفِى شَرِيكِ السَّبُعِ وَشَرِيكِ نَفْسِهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِعْلَ الخاطِئ مُقامَ فِعْلِ العامِدِ، صارَ كأنَّه [قَتَله بعَمْدٍ] (¬1) وخَطَأٌ، وهذا غيرُ مُوجِبٍ. واللَّهُ أعلمُ. 4061 - مسألة: (وفى شَرِيكِ السَّبُعِ وشَرِيك نَفْسِه وَجْهان) وصورةُ ذلك أنَّ يَجْرَحَه أسَدٌ أو نَمِرٌ، أو جرَحَه (¬2) إنسانٌ، ثم جَرَح هو (2) نفسَه مُتَعَمِّدًا، فهل يجِبُ علىِ شَرِيكِه قِصاصٌ؟ فيه وَجْهان، ذَكَرهما أبو عبدِ اللَّه اِبنُ حامدٍ. واخْتُلِف فيه عن الشافعىِّ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا قِصاصَ عليه، لأنَّه شارَك: مَن لا يَجِبُ (¬3) القِصاصُ عليه، فلم يَلْزَمْه قِصاصٌ، تحَرِيكِ الخاطِئِ، ولأنَّه قَتْل تَرَكَّبَ مِن مُوجِبٍ وغيرِ مُوجِبٍ، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «فعله تعمدًا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: تش، ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُوجِبْ، كالقَتْلِ الحاصِلِ مِن عَمْدٍ وخَطَأ، ولأنَّه إذا لم يَجِبْ على شَرِيكِ الخاطِئِ وفِعْلُه مَضْمُونٌ، فلَأن لا يَجِبَ على شَرِيكِ مَن لا يُضْمَنُ فِعْلُه أوْلَى. والوَجْهُ الثانى، عليه القِصاصُ. وهو قولُ أبى بكرٍ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه قال: إذا جَرَحَه رجُل، ثم جَرَح الرجُلُ نفسَه، فمات، فعلى شَرِيكِه القِصاصُ؛ لأنَّه قَتْلٌ عمدٌ مُتَمَحِّضٌ، فوَجَبَ القِصاصُ على الشَّريكِ فيه، كشَريكِ الأب. فأمَّا إن جَرَح الرجُلُ نفسَه خَطأً، كأنَّه (¬1) أراد ضرْبَ غيرِه فأصاب نفسَه، فلا قِصاصَ على شَرِيكِه في أصَحِّ الوَجْهَيْن. وفيه وَجْهٌ اخَرُ أنَّ عليه القِصاصَ، بِناءً على الرِّوايَتَيْن في شَرِيكِ الخاطِئِ. ¬

(¬1) في م: «منه كأن».

4062 - مسألة: (ولو جرحه إنشان عمدا، فداوى جرحه بسم، أو خاطه فى اللحم، أو فعل ذلك وليه، أو الإمام، فمات، ففى وجوب القصاص على الجارح وجهان)

وَلَوْ جَرَحَهُ إِنْسَانٌ عَمْدًا، فَدَاوَى جُرْحَهُ بِسُمٍّ، أو خَاطَهُ فِى اللَّحْمِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلِيُّهُ، أَوِ الإِمَامُ، فَمَاتَ، فَفِى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَارِحِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4062 - مسألة: (ولو جَرَحَه إنشان عمدًا، فداوَى جُرْحَه بسُمٍّ، أو خاطه في اللَّحْمِ، أو فَعَل ذلك وَلِيُّه، أو الإِمامُ، فمات، ففى وُجُوب القِصاصِ على الجارِحِ وَجْهان) إذا جَرَحَه إنسانٌ، فتَداوَى (¬1) بسُمٍّ وكان سُمَّ ساعةٍ يَقْتُلُ في الحالِ، فقد قَتَل نفْسَه وقَطَعَ سِرايَةَ الجُرْحِ، وجَرَى مَجْرَى مَن ذَبَحَ نفْسَه بعدَ أنَّ جُرِح، ويُنْظرُ في الجُرْحِ؛ فإن كان مُوجِبًا للقِصاصِ، فلوَلِيِّه اسْتِيفاؤُه، وإن لم يكنْ مُوجِبًا، فلِوَلِيِّه الأَرْشُ. وإن كان السُّمُّ لا يَقْتُلُ غالِبًا وقد يَقْتُلُ، ففِعْلُ الرجُلِ في نفْسِه عمدُ خَطَأ، والحُكْمُ في شَرِيكِه كالحُكْمِ في شَرِيكِ الخاطِئ، وإذا لم يَجِبِ القِصاصُ، ¬

(¬1) في الأصل، ر 3: «فداوى جرحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الجارِحِ نِصْفُ (¬1) الدِّيَةِ. وإن كان السُّمُّ يَقْتُلُ غالِبًا بعدَ مُدَّةٍ، احْتَمَلَ أنَّ يكونَ عَمْدَ الخَطَأ أيضًا؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ القَتْلَ، إنَّما قَصَد التَّداوِىَ، فيكونُ كالذى قبلَه، واحْتَمَلَ أنَّ يكونَ في حُكْمِ العَمْدِ، فيكونَ في شَرِيكِه الوَجْهان المَذْكُوران في المسألَةِ قبلَها. وإن جَرَحَ رجُلًا، فخاط جُرْحَه [في اللَّحْمِ] (¬2)، أو أَمَرَ غيرَه فخاطَه له، وكان ذلك ممَّا يجوزُ أن يَقْتُلَ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو شَرِب سُمًّا يجوزُ أن يَقْتُلَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على ما مَضَى فيه. وإن خاطَه غيرُه بغيرِ إذْنِه كُرْهًا، فهما قاتِلانِ عليهما القَوَدُ. وإن خاطَه وَلِيُّه، أو (¬1) الإِمامُ، وهو ممَّن لا وِلايَةَ عليه، فهما كالأجْنَبِىِّ. فإن كان لهما عليه وِلايَةٌ، فلا قَوَدَ عليهما؛ لأَنَّ فِعْلَهما جائِزٌ، إذ لهما مُداواتُه، فيكونُ ذلك خَطَأً. وهل على الجارِحِ القَوَدُ؟ فيه وَجْهان. ¬

(¬1) في ق، م: «و».

باب شروط القصاص

بَابُ شرُوطِ الْقِصَاصِ وَهِىَ أرْبَعَةٌ؛ أحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْجَانِى مُكَلَّفًا، فَأَمَّا الصَّبِىُّ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ شُرُوطِ القِصاصِ (وهى أربعةٌ؛ أحَدُها، أنَّ يكونَ الجانِى مُكَلَّفًّا، فأمَّا الصَّبِىُّ والمَجْنُونُ فلا قِصاصَ عليهما) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّه لا قِصاصَ على صَبِىٍّ ولا مَجْنُونٍ، وكذلك كلُّ زائلِ العَقْلِ بسَبَب يُعْذَرُ فيه، كالنَّائِمِ، والمُغْمَى عليه، ونحوِهما؛ لِما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ (¬1)؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، [وعَنِ الصَّبِى حَتَّى يَبْلُغَ] (¬2)، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» (¬3). ولأَنَّ القِصاصَ عُقُوبةٌ مُغَلَّظَةٌ، فلم تَجِبْ على الصَّبِىِّ وزائلِ العَقْلِ، كالحُدُودِ، ولأنَّهم ليس لهم قَصْدٌ صحيحٌ، فهم كالقاتلِ خَطَأً. فصل: فإنِ اخْتَلَفَ الجانِى ووَلِىُّ الجِنايةِ، فقال الجانِى: كنتُ صَبِيًّا ¬

(¬1) بعده في الأصل: «عن الصبى وزائل العقل». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 15.

4063 - مسألة: (وفى السكران وشبهه روايتان؛ أصحهما،

وَفِى السَّكْرَانِ وَشِبْهِهِ رِوَايَتَانِ؛ أَصَحُّهُمَا، وُجُوبُهُ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حالَ الجِنايةِ. وقال وَلِىُّ الجِنايةِ: كنتَ بالِغًا. فالقولُ قولُ الجانِى مع يَمينِه، إذا احْتَمَلَ الصِّدْقَ؛ لأَنَّ الأَصْلَ الصِّغَرُ، وبَراءَةُ ذمَّتِه مِن القَصاصِ. وإن قال: قَتَلْتُه وأنا مَجْنُونٌ. وأنْكَرَ الوَلِى جُنُونَه، فإن عُرِفَ له حالُ جُنُونٍ، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه أيضًا لذلك، وإن لم يُعْرَفْ له حالُ جُنُونٍ، فالقولُ قولُ الوَلِىِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ السَّلامَةُ، وكذلك إن عُرِفَ له (¬1) جُنُونٌ، ثُمَّ عُرِفَ زَوالُه قبلَ القَتْلِ، وإن ثَبَت لأحَدِهما بما ادَّعاه بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له. وإن أقاما بَيِّنتَيْن تَعارَضَتا، فإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ أنَّه كان زائِلَ العَقْلِ، فقال الوَلِىُّ: كنتَ سَكْرانَ. وقال القاتِلُ: كنتُ مَجْنُونًا. فالقولُ قَوْلُ القاتِلِ مع يَمِينِه؛ لأنَّه أعْرَفُ بنفسِه، ولأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه، واجْتِنابُ المسلِمِ فِعْلَ ما يَحْرُمُ عليه. فأمّا إن قَتَلَه وهو عاقِلٌ ثم جُنَّ، لم يَسْقُطْ عنه، سَواء ثَبَتَ ذلك ببيِّنَةٍ أو إقْرارٍ؛ لأَنَّ رُجُوعَه غيرُ مَقْبُولٍ، ويُقْتَصُّ منه في حالِ جُنُونِه. ولو ثَبَت عليه الحَدُّ (¬2) بإقْرارِه، ثم جُنَّ، لم يُقَمْ عليه حالَ جُنُونِه؛ لأَنَّ رُجُوعَه يُقْبَلُ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لو كان صحيحًا رَجَع. 4063 - مسألة: (وفى السَّكْرانِ وشِبْهِهِ رِوايَتان؛ أصَحُّهما، ¬

(¬1) بعده في ق، م: «حال». (¬2) في حاشية ق: «كحد زنى ونحوه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُوبُه عليه) إذا قتَلَ السَّكْرانُ وَجَب عليه القِصاصُ. ذَكَره القاضى. وذَكَر أبو الخَطَّابِ، أنَّ وُجُوبَ القِصاصِ عليه مَبْنِىٌّ على طَلاقِه، وفيه رِوايَتان، فيكونُ في وُجُوبِ القِصاصِ عليه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجِبُ عليه؛ لأنَّه زائِلُ العَقْلِ، أشْبَهَ المَجْنُونَ، ولأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فأشْبَهَ الصَّبِىَّ. ولَنا، أنَّ الصحابةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أقاموا سُكْرَه مُقامَ قَذْفِه، فأوْجَبُوا عليه حَدَّ القاذِفِ، فلولا أنَّ قَذْفَه مُوجب للحَدِّ عليه لَما وَجَب الحَدُّ بمَظِنَّتِه، وإذا وَجَب الحَدُّ، فالقِصاصُ المُتَمَحِّضُ حَقَّ آدَمِىٍّ أوْلَى، ولأنَّه حُكْمٌ لو لم يُوجِبْ (¬1) عليه القِصاصَ والحَدَّ، لأفْضَى إلى أنَّ مَن أراد أنَّ يَعْصِىَ اللَّهَ تعالى، شَرِب ما يُسْكِرُه، ثم يَقْتُلُ ويَزْنِى ويَسْرِقُ، ولا تَلْزَمُه عُقُوبَة، ولا يَأْثَمُ (¬2)، ويَصِيرُ عِصْيانُه سَبَبًا لسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ عنه، ولا وَجْهَ لهذا. وفارَقَ الطَّلاقَ؛ لأنَّه قولٌ يُمْكِنُ إلْغاؤُه، بخِلافِ القَتْلِ. فإن شَرِب أو أكَلَ ما يُزِيلُ عَقْلَه غيرَ الخَمْرِ على وَجْهٍ مُحَرَّمٍ (¬3)، فإن زال عَقْلُه بالكُلِّيَّةِ بحيث صار مَجْنُونًا، ¬

(¬1) في الأصل، تش، ر 3: «يجب». (¬2) في ق، م: «مأثم». (¬3) في الأصل: «يحرم».

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِ حَرْبِىٍّ، وَلَا مُرْتَدٍّ، وَلَا زَانٍ مُحْصَنٍ، وَإِنْ كَانَ الْقاتِلُ ذِمِّيًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا قِصاصَ عليه، وإن كان يزولُ قَرِيبًا ويعودُ مِن غيرِ تداوٍ، فهو كالسَّكْرانِ، على ما فُصِّلَ فيه. فصل: (الثَّانى، أنَّ يكونَ المَقْتُولُ مَعْصومًا، فلا يجِبُ القصاصُ بقَتْلِ حَرْبِىٍّ) لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، ولا تَجِبُ بقَتْلِه دِيَةٌ ولا كَفارَةٌ؛ لأنَّه مُباحُ الدَّمِ (¬1) على الإِطْلاقِ، أشْبَهَ الخِنْزِيرَ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى أَمَرَ بقَتْلِه، فقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2). وسواءٌ كان القاتِلُ مسلمًا أو ذِمِّيًّا؛ لِما ذَكَرْنا. 4064 - مسألة: وكذلك المُرْتَدُّ لا يجبُ بقَتْلِه قِصاصٌ ولا دِيَةٌ ولا كَفَّارَةٌ، وإن قَتَلَه ذِمِّىٌّ. وهذا قولُ بعضِ أصحاب الشافعىِّ. وقال ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الذمة». (¬2) سورة التوبة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضُهم: يجبُ القصاصُ على الذِّمِّىِّ بقَتْلِه، والدِّيَةُ إذا عَفَا عنه؛ لأنَّه لا وِلايةَ له في قَتْلِه. وقال بعضُهم: يجبُ القِصاصُ دُونَ الدِّيَةِ؛ لأنَّه لا قِيمَةَ له. ولَنا، أنَّه مُباحُ الدَّمِ (¬1)، أشْبَهَ الحَرْبِىَّ، ولأنَّ مَن لا يَضْمَنُه المسلمُ لا يَضْمَنُه الذِّمِّىُّ، كالحَرْبِىِّ. وليس على قاتلِ الزّانِى المُحْصَنِ قِصاصٌ ولا دِيَةٌ ولا كَفَّارَةٌ. وهذا ظاهرُ مَذْهَبِ الشافعىِّ. وحَكَى بعضُهم وَجْهًا، أنَّ على قاتِلِه القَوَدَ؛ لأَنَّ قَتْلَه إلى الإِمامِ، فيَجبُ القَوَدُ (¬2) على مَن قَتَلَه سِواه، كمَن عليه القِصاصُ إذا قَتَلَه غيرُ مُسْتَحِقِّه. ولَنا، أنَّه مُباحُ الدَّمِ (1)، قَتْلُه مُتَحَتِّمٌ، فلم يُضْمَنْ، كالحَرْبِىِّ، ويَبْطُلُ ما قالَه بالمُرْتدِّ، وفارَقَ القاتِلَ؛ فإنَّ قَتْلَه غيرُ مُتَحَتِّمٍ، وهو مُسْتَحَقٌّ على طريقِ المُعاوَضَةِ، فاخْتَصَّ بمُسْتَحِقِّه، وههُنا يجبُ قَتْلُه للَّهِ تعالى، فأشْبَهَ المُرْتَدَّ، وكذلك الحُكْمُ [في المُحارِبِ الذى] (¬3) تَحَتَّمَ قَتْلُه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الذمة». (¬2) في ق، م: «القتل». (¬3) في الأصل: «المواريث التى».

4065 - مسألة: (وإن قطع مسلم أو ذمى يد مرتد أو حربى، فأسلم، ثم مات)

وَلَوْ قَطَعَ مُسْلِمٌ أَوْ ذمِّىٌّ يَدَ مُرْتَدٍّ أَوْ حَرْبِىٍّ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ رَمَى حَرْبِيًّا، فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِهِ السَّهْمُ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4065 - مسألة: (وإن قَطَع مسلمٌ أو ذِمِّىٌّ يَدَ مُرْتَدٍّ أو حَرْبِىٍّ، فأسْلَمَ، ثُمَّ مات) فلا شئَ على القاطِعِ؛ لأنَّه لم يَجْنِ على مَعْصُومٍ. 4066 - مسألة: (وإن رَمَى حَرْبِيًّا، فأسْلَمَ قبلَ أنَّ يَقَعَ به السَّهْمُ،

وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا، فَأَسْلَمَ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ، فَلَا قِصَاصَ، وَفِى الدِّيَةِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا شئَ عليه) لأنَّه رَمَى رَمْيًا مَأْمُورًا به (وإن رَمَى مُرْتَدًّا فأسْلَمَ قبلَ وُقُوعِ السَّهْمِ به، فلا قِصاصَ) لأنَّه رَمَى مَن ليس بمَعْصُومٍ، أشبَهَ الحَرْبِىَّ (وفِى) وُجُوبِ (الدِّيَةِ وَجْهان) أحَدُهما، لا تجبُ، قِياسًا على

4067 - مسألة: (ولو قطع يد مسلم، فارتد، ثم مات، فلا شئ على القاطع، فى أحد الوجهين)

وَإِنْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ، فَارْتَدَّ، وَمَاتَ، فَلَا شَىْءَ عَلَى الْقَاطِعِ، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، يَجِبُ الْقِصَاصُ فِى الطَّرَفِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرْبِىِّ. والثانى، تجبُ؛ لأَنَّ الرمْىَ (¬1) ههُنا مُحَرَّمٌ؛ لِما فيه مِن الافْتِياتِ على الإِمامِ. 4067 - مسألةَ: (ولو قَطَع يَدَ مسلِمٍ، فارْتَدَّ، ثم مات، فلا شئَ على القاطِعِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن) لأنَّها نفْسُ مُرْتَدٍّ غيرِ مَعْصُومٍ ولا مَضْمُونٍ (¬2)، وكذلك لو قَطَع يَدَ ذِمِّىٍّ فصار حَرْبِيًّا، ثم مات مِن جِراحِه. وأمَّا اليدُ، فالصحيحُ أنَّه لا قِصاصَ فيها. وذَكَر القاضى وَجْهًا في وُجُوبِ القِصاصِ فيها؛ لأَنَّ القَطْعَ اسْتَقَرَّ حُكْمُه بانْقِطاء حُكْمِ (¬3) ¬

(¬1) في م: «الذمى». (¬2) في الأصل: «مصون». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِرايَتِه، فأشْبَهَ ما لو قَطَع طَرَفَه ثم قَتَلَه، أو جاء آخَرُ فقَتَلَه. وللشافعىِّ في وُجُوبِ القِصاصِ قَوْلان. ولَنا، أنَّه قَطْعٌ صار قَتْلًا لِم يجبْ به القَتْلُ، فلم يجبْ به القَطْعُ، كما لو قَطَعِ مِن غيرِ مَفْصِلٍ، وفارَق ما قاسُوا عليه، فإن القَطْعِ لم يَصِرْ قَتْلًا. وهل تجِبُ دِيَةُ الطَّرَفِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا ضَمان فيه؛ لأنَّه قَتْل لغيرِ مَعْصُومٍ. والثانى، تَجِبُ؛ لأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ سِرايةِ الجُرْحِ لا يُسْقِطُ ضَمانَه، كما لو قَطَع طَرَفَ رَجُلٍ، ثم قَتَلَه آخَرُ. فعلى هذا، هل يَجِبُ ضَمانُه بدِيَةِ المَقْطُوعِ (¬1)، أو بأقَلِّ الأَمْرَيْن مِن دِيَتِه أو دِيَةِ النَّفْسِ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تجبُ دِيَة المَقْطُوعِ (¬2)، فلو قَطَع يَدَيْه ورِجْلَيْه، ثم ارْتَدَّ ومات، ففيه دِيَتان؛ لأَنَّ ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «أو قاتل». (¬2) في الأصل، تش: «القطع».

4068 - مسألة: (وإن عاد إلى الإسلام، ثم مات، وجب القصاص)

وَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلَامِ، ثُمَّ مَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِى النَّفْسِ، فِى ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: إنْ كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ مِمَّا تَسْرِى فِيهِ الْجنَايَةُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّدَّةَ قَطَعَتْ حُكْمَ السِّرايَةِ، فأشْبَهَ انْقِطاعَ حُكْمِها بانْدِمالِها، أو بقَتْلِ الآخَرِ له. والثانى، يَجِبُ أقَلُّ الأَمْرَيْن؛ لأنَّه لو لم يَرْتَدَّ، لم يجبْ أكْثَرُ مِن دِيَةِ النَّفْسِ، فمع الرِّدَّةِ أوْلَى، ولأنَّه قَطْعٌ صار قَتْلًا، فلم يَجِبْ (¬1) أكْثَرُ مِن دِيَةٍ، كما لو لم يَرْتَدَّ، وفارَقَ [أصْلَ الوَجْهِ] (¬2) الأَوَّلِ، فإنَّه لم يَصِرْ قتلًا، ولأَنَّ الانْدِمالَ والقَتْلَ مَنَع وُجُودَ السِّرايَةِ، والرِّدَّةُ مَنَعَت ضَمانَها ولم تَمْنَعْ جَعْلَها قَتْلًا. وللشافعىِّ مِن التَّفْصيلِ نحوُ ما قُلْنا. 4068 - مسألة: (وإن عاد إلى الإسلامِ، ثُمَّ مات، وَجَب القِصاصُ) على قاتِلِهِ. نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ محمدِ بنِ الحَكَمِ (وقال القاضى): يَتَوَجَّهُ عندِى أنَّ (زَمَنَ الرِّدَّةِ إن كان ممّا تَسْرِى فيه الجِنايَةُ) ¬

(¬1) في ق، م: «يوجب». (¬2) في الأصل، تش: «الأصل». وفى ق، م: «الوجه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَجِبِ القِصاصُ في النَّفْسِ. وهل يجبُ في الطَّرَفِ الذى قُطِع في إسْلامِه؟ على وَجْهَيْن. وهذا (¬1) مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ القِصاصَ يجبُ بالجِنايَةِ والسِّرايَةِ كلِّها، فإذا لم يُوجَدْ جَمِيعُها في الإِسلامِ، لم يجبِ القِصاصُ (¬2)، كما لو جَرَحَه أحَدُهما في الإِسْلامِ، والآخرُ في الرِّدَّةِ، فمات مِهْما. ولَنا، أنَّه مسلمٌ حالَ الجِنايَةِ والموَتِ، فوَجَبَ القِصاصُ بقَتْلِه، كما لو لم يَرْتَدَّ، واحْتِمالُ [السِّرايَةِ حالَ الرِّدَّةِ لا يَمْنَعُ؛ لأنَّها غيرُ مَعْلُومَةٍ، فلا يجوزُ تَرْكُ السبَبِ المَعْلُومِ باحْتِمالِ] (¬3) المَانِعِ، كما لو لم يَرْتَدَّ، فإنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ يموتَ بمرضٍ أو سَبَبٍ آخَرَ، أو بالجُرْحِ مع شئٍ آخَرَ يُؤَثِّرُ في الموتِ. فأمَّا الدِّيَةُ، فتَجِبُ كامِلَةً. ويَحْتَمِلُ وُجُوبُ نِصْفِها (¬4)؛ لأنَّه ماتَ مِن جُرْحٍ مَضْمُونٍ وسِرايَةٍ غيرِ مَضْمُونَةٍ، ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «نحو». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «بعضها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَبَ (¬1) نِصْفُ الدِّيَةِ، كما لو جَرَحَه إنسان وجَرَح نفسَه، فمات منهما. فأمَّا إن كان زَمَنُ الرِّدَّةِ لا تَسْرِى في مِثْلِه الجِنايَةُ، ففيه الدِّيَةُ أو (¬2) القِصاصُ. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: لا قِصاصَ فيه؛ لأنَّه انْتَهَى (¬3) إلى حالٍ لو مات لم يَجِبِ القِصاصُ. ولَنا؛ أنَّهما مُتكافِئانِ في حالِ الجِنايَةِ والسِّرايَةِ والموتِ، فأشْبَهَ ما لو لم يَرْتَدَّ. وإن كان الجُرْحُ خَطَأً وَجَبَتِ الكَفَّارَةُ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّه فَوَّتَ نفسًا مَعْصُومَةً. فصل: وإن جَرَحَه وهو مسلمٌ فارْتَدَّ، ثم جَرَحَه جُرْحًا آخَرَ، ثم أسْلَمَ ومات مِنهما، فلا قِصاصَ فيه؛ لأنَّه مات مِن جُرْحَيْن مَضْمُونٍ وغيرِ مَضْمُونٍ، ويجبُ فيه نِصْفُ الدِّيَةِ لذلك. وسواءٌ تَساوَى الجُرْحان أو زاد أحَدُهما، مثلَ أنَّ قَطَع يَدَيْه وهو مسلمٌ، فارْتَدَّ، فقَطَعَ رِجْلَه، أو كان بالعكسِ؛ لأَنَّ الجُرْحَ في الحالَيْن كجُرْحِ رِجْلَيْن. وهل يجبُ القِصاصُ في الطَّرَفِ الذى قَطَعَه في حالِ إسلامِه؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن، بِناءً على مَن ¬

(¬1) في م: «فيوجب». (¬2) في م: «و». (¬3) في الأصل: «يرى».

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِىُّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِى، وَهُوَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِى الدِّينِ، وَالْحُرِّيَّةِ أوِ الرِّقِّ، فَيُقْتَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــ قُطِع طَرَفُه وهو مسلمٌ، فارْتَدَّ ومات في رِدَّتِه. ولو قَطَع طَرَفَه في رِدَّتِه أوَّلًا، فأسْلَمَ، ثم قَطَع طَرَفَه الآخَرَ، ومات مِنهما، فالحكمُ فيه كالتى قبلَها. فصل: وإن قَطَع مسلمٌ يَدَ نَصْرَانِىٍّ فتَمَجَّسَ، وقُلْنا: لا يُقَرُّ. فهو كما لو جَنَى على مسلمٍ فارْتَدَّ. وإن قُلْنا: يُقَرُّ عليه. وَجَبَت دِيَةُ مَجُوسِىٍّ. وإن قَطَع يَدَ مَجُوسِىٍّ، فتَنَصَّرَ، ثم يات، وقُلْنا: يُقَرُّ. وَجَبَت دِيَةُ نَصْرَانِىٍّ. ويَجِئُ على قولِ أبى بكرٍ والقاضى، أنَّ تجِبَ دِيَة نَصْرانِىٍّ في الأُولَى، ودِيَةُ مَجُوسِىٍّ في الثَّانيةِ، كقولِهم في مَن جَنَى على عبدٍ ذِمِّىٍّ فأسْلَمَ وعَتَقَ، ثم مات مِن الجِنايَةِ، ضَمِنَه بقِيمَةِ عبدٍ ذِمِّىٍّ، اعْتِبارًا بحالِ الجِنايَةِ. وسنَذْكُرُ ذلك إن شاء اللَّهُ تعالى. فصل: (الثالثُ، أن يكونَ المَجْنِى عليه مُكافِئًا للجانِى، وهو أن

4069 - مسألة: ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم، تساوت قيمتهما أو اختلفت. هذا قول أكثر أهل العلم. روى ذلك عن عمر ابن عبد العزيز، وسالم، والنخعى، والشعبى، والزهرى، وقتادة، والثورى، ومالك، والشافعى، وأبى حنيفة. وعن أحمد رواية أخرى، أن من شرط القصاص تساوى قيمتهم، وإن اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص. وينبغى أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر، فإن كانت أقل فلا. وهذا قول عطاء. وقال ابن عباس: ليس فى

كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ أوِ الْعَبْدِ، وَالذِّمِّىِّ الْحُرِّ أوِ العَبْدِ بِمِثْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُساوِيَه في الدِّينِ، والحُرِّيَّةِ أو الرِّقِّ، فيُقْتَلُ) الحُرُّ المسلمُ بالحُرِّ المسلمِ، ذَكَرًا كان أو أُنْثَى؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬1). 4069 - مسألة: ويُقْتَلُ العبدُ المسلمُ بالعبدِ المسلمِ، تَساوَتْ قِيمَتُهما أو اخْتَلَفَتْ. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. رُوِى ذلك عن عُمَرَ ابنِ عبدِ العزيزِ، وسالمٍ، والنَّخَعِىِّ، والشَّعْبِىِّ، والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِىِّ، ومالِكٍ، والشافعىِّ، وأبى حنيفةَ. وعن أحمدَ رِوايَة أُخْرَى، أنَّ مِن شَرْطِ القِصاصِ تَساوِىَ قِيمَتِهم، وإنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهم لم يَجْرِ بينَهم قِصاصٌ. ويَنْبَغِى أنَّ يَخْتَصَّ هذا بما إذا كانت قِيمَةُ القاتِلِ أكْثَرَ، فإن كانت أقَلَّ فلا. وهذا قولُ عطاءٍ. وقال ابنُ عباسٍ: ليس في (¬2) العبيدِ (¬3) قِصاصٌ في نَفْسٍ ولا جُرْحٍ؛ لأنَّهم أمْوالٌ. ولَنا، قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}. وهذا نَصُّ الكِتابِ، فلا يجوزُ خِلافُه، ولأَنَّ تَفاوُتَ القِيمَةِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «الآية». والآية من سورة البقرة 178. (¬2) كذا في النسخ، وفى المغنى 11/ 476: «بين». وأخرج ابن جرير عنه خلاف ذلك. انظر: تفسير ابن جرير 6/ 259. (¬3) في الأصل: «العبد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتَفاوُتِ الدِّيَةِ والفَضائِلِ (¬1)، فلا يَمْنَعُ القِصاصَ، كالعلمِ والشَّرَفِ، والذُّكُورِيَّةِ والأُنُوثِيَّةِ. فصل: ويَجْرِى القِصاصُ بينَهم (¬2) فيما دُونَ النَّفْسِ. وبه قال عمرُ ابنُ عبدِ العزيزِ، وسالِمٌ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادَةُ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ رِوايَة أُخْرَى، لا يَجْرِى القِصاصُ بينَهم (2) فيما دُونَ النَّفْسِ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، لأنّ الأطْرافَ مالٌ، فلا يَجْرِى القِصاصُ فيها، كالبَهائِمِ، ولأن التساوِىَ في الأطْرافِ مُعْتَبَرٌ في جَرَيانِ (¬3) القِصاصِ، بدليلِ أنّا لا نَأْخُذُ الصحيحةَ بالشَّلاءِ، ولا كامِلَةَ الأصابِعِ بالنّاقِصَةِ، وأطْرَافُ العَبيدِ لا تَتَساوَى. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (¬4). الآية. ولأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ (¬5) القِصاصِ، فجرَى بينَ العَبِيدِ، كالقِصاصِ في النَّفْسِ. ¬

(¬1) في الأصل: «التفاضل». (¬2) في الأصل، تش: «منهم». (¬3) في الأصل: «حرمان». (¬4) سورة المائدة 45. (¬5) في م: «أنواع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا وَجَب القِصاصُ في طَرَفِ العبيدِ، فللعبدِ (¬1) اسْتِيفاؤُه والعَفْوُ عنه دُونَ السَّيِّدِ فصل: ويُقْتَلُ العبْدُ (¬2) القِنُّ بالمُكاتَبِ، والمُكاتَبُ به، ويُقْتَلُ كلُّ واحدٍ مِنهما بالمُدَبَّرِ وأُمِّ الوَلَدِ، ويُقْتَلُ المُدَبَّرُ وأُمُّ الوَلَدِ بكلِّ واحدٍ مِنهما؛ لأَنَّ الكلَّ عبيدٌ، فيَدْخُلون في قولِه تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}. وقد دَلَّ على (¬3) كَونِ المُكاتَبِ عبدًا قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» (¬4). وسَواءٌ كان قد أدَّى مِن كِتابَتِه شيئًا أو لم يُؤَدِّ، وسَواءٌ مَلَك ما يُؤَدِّى أو لم يَمْلِكْ، إلَّا إذا قُلْنا: إنَّه إذا مَلَك ما يُؤَدِّى صارَ حُرًّا. فلا يُقْتَلُ بالعبدِ (¬5)؛ لأَنَّ الحُرَّ لا يُقْتَلُ بالعَبْدِ. وإن أدَّى ثلاثةَ أرْباعِ الكِتابَةِ، لم يُقْتَلْ أيضًا، إذا قُلْنا: إنَّه يصيرُ حُرًّا. ومَن لم يَحْكُمْ بحُرِّيِتَّه ¬

(¬1) في الأصل: «فللعبيد». (¬2) زيادة من: ر 3، ق، م. (¬3) بعده في الأصل: «أن». (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 300. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بأداءِ جميعِ الكِتابَةِ، قال: يُقْتَلُ به. وقال أبو حنيفةَ: إذا قَتَل العبدُ مُكاتَبًا له وَفاءٌ ووارِثٌ سِوى مَوْلاه، لم يُقْتَلْ به؛ لأنَّه حينَ الجَرْحِ كان المُسْتَحِقُّ (¬1) المَوْلَى، وحينَ الموتِ الوارثَ، ولا يجبُ القِصاصُ إلَّا (¬2) لمَن يَثْبُتُ حَقُّه في الطَّرَفَيْن. ولَنا، قولُه تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. وقولُه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}. ولأنَّه لو كان قِنًّا، لوَجَبَ بِقَتْلِه القِصاصُ، فإذا كان مكاتَبًا كان أوْلَى، كما لو لم [يُخَلِّفْ وارِثًا] (¬3)، وما ذَكَرُوه فشئٌ بَنَوْه على أُصُولِهم، ولا نُسَلِّمُه. ¬

(¬1) في الأصل: «أولى». (¬2) في الأصل، تش: «ولا». (¬3) في الأصل، تش: «يختلف».

4070 - مسألة: (ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر)

وَيُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، فِى الصَّحِيحِ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قَتَل الكافرُ الحُرُّ عبدًا مسلمًا، لم يُقْتَلْ؛ لأَنَّ الحُرَّ لا يُقْتَلُ بالعبدِ، لعَدَمِ التَّكافُؤِ، ولأنَّه لا يُحَدُّ بقَذْفِه، فلا يُقْتَلُ به، كالأبِ مع الابنِ، وعليه قِيمَتُه، ويُقْتَلُ لنَقْضِ العَهْدِ، إن قُلْنا: يَنْتَقِضُ عَهْدُه. وفيه رِوايَتان ذَكَرناهما في مَوْضِعَ ذلك (¬1). وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، لا يُقْتَلُ، وعليه قِيمَتُه، ويُؤَدَّبُ بما وَرَاه الإِمامُ أو نائِبُه. فصل: وإن قتَل عبدٌ مسلمٌ حُرًّا كافرًا، لم يُقْتَلْ به؛ لأَنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالكافرِ. وإن قَتَل مَن نِصْفُه (¬2) حُرٌّ عبدًا، لم يُقْتَلْ به؛ لأنَّا لا نَقْتُلُ نِصْفَ الحُرِّ بعبدٍ. وإن قَتَلَه حُرٌّ، لم يُقْتَلْ به؛ لأَنَّ النِّصْفَ الرَّقِيقَ لا يُقْتَلُ به الحُرُّ. وإن قَتَل مَن نِصْفُه حُرٌّ مِثْلَه، قُتِل به؛ لأَنَّ القِصاصَ يقَعُ بينَ (¬3) الجُمْلَتَيْن مِن غيرِ تَفْصِيلٍ، وهما مُتَساوِيان. 4070 - مسألة: (ويُقْتَلُ الذَّكَرُ بالأُنْثَى، والأُنْثَى بالذَّكَرِ) هذا ¬

(¬1) انظر 10/ 503 - 506. (¬2) في الأصل، تش: «بعضه». (¬3) في الأصل: «من».

وَعَنْهُ، يُعْطَى الذَّكَرُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِذَا قُتِلَ بِالْأُنْثَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم النَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالِكٌ، وأهلُ المدينةِ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى، وغيرُهم. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: يُقْتَلُ (¬1) الرجلُ بالمرأةِ، ويُعْطَى أوْلِياؤُه نِصْفَ الدِّيَةِ. رَواه سعيدٌ (¬2). ورُوِىَ نحوُه عن أحمدَ. وحُكِىَ ذلك عن الحسنِ، وعطاءٍ. وحُكِىَ عنهما مثلُ قولِ الجماعةِ. ولَعَلَّ مَن ذهَب إلى القولِ الثانى يَحْتَجُّ بقولِ علىِّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ولَنا، قولُه تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. وقولُه: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}. مع عُمُومِ سائِرِ النُّصُوصِ، وقد ثَبَت أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَل يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جارِيَةٍ (¬3) مِن الأنْصارِ (¬4). وروَى أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ عمرِو ابنِ حَزْمٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَب إلى أَهْلِ اليَمَنِ بكتابٍ فيه الفرائضُ والأسْنانُ (¬5)، وأنَّ الرجلَ يُقْتَلُ بالمرأةِ (¬6). وهو كتابٌ مَشْهُورٌ عندَ أَهْلِ العلمِ، مُتَلَقًّى بالقَبُولِ عندَهم. ولأنَّهما ¬

(¬1) في تش: «لا يقتل». (¬2) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 297. وابن جرير، في: تفسيره 2/ 105. (¬3) في الأصل: «امرأة». (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 446. (¬5) في ق، م: «السنن». (¬6) أخرجه النسائى، في: باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 51، 52. والدارمى، في: باب القود بين الرجال والنساء، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 189، 190.

4071 - مسألة: (وعن أحمد، لا يقتل العبد بالعبد إلا أن تستوى قيمتهما. ولا عمل عليه)

وَعَنْهُ، لَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إِلَّا أَن تَسْتَوِىَ قِيمَتُهُمَا. وَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ. وَيُقْتَلُ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَالْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّىِّ وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَخْصانِ يُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما بقَذْفِ صاحِبِه، فيُقْتَلُ كلُّ واحِدٍ منهما بالآخَرِ، كالرَّجُلَيْن. ولا يجبُ مع القِصاصِ شئٌ؛ لأنَّه قِصاصٌ واجِبٌ، فلم يَجِبْ معه شئٌ على المُقْتَصِّ (¬1)، كسائِرِ القِصاصِ، واخْتِلافُ الأبْدالِ (¬2) لا عِبْرَةَ به في القِصاصِ، بدليلِ أنَّ الجماعَةَ يُقْتَلُونَ بالواحدِ، والنَّصْرَانِىُّ يُؤْخَذُ بالمَجُوسِىِّ، مع اخْتِلافِ دِينِهما، ويُؤْخَذ العبدُ بالعبدِ، مع اخْتِلافِ قِيمَتِهما. ويُقْتَلُ كلُّ واحدٍ مِن الرجلِ والمرأةِ بالخُنْثَى، ويُقْتَلُ بهما؛ لأنَّه لا يَخْلُو إمَّا أن يكونَ رجلًا أو امرأةً. 4071 - مسألة: (وعَن أحمدَ، لا يُقْتَلُ العَبْدُ بالعبدِ إلَّا أن تَسْتَوِىَ قِيمَتُهما. ولَا عَمَلَ عليه) وقد ذَكَرْناه. 4072 - مسألة: (ويُقْتَلُ الكافِر بالمسلمِ) لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَلِ اليَهودِىَّ الذى رَضَخَ (¬3) رَأْسَ جاريةٍ مِن الأنْصارِ على أوْضَاحٍ لها. ولأنَّه إذا قُتِل بمِثْلِه فبِمن هو فوقَه أوْلَى (و) كذلك يُقْتَلُ (العبدُ بالحُرِّ، والمُرْتَدُّ ¬

(¬1) في الأصل: «القبض». (¬2) في الأصل: «الأديان». (¬3) في م: «رضى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالذِّمِّىِّ وإن عاد إلى الإِسلامِ. نَصَّ عليه) أحمدُ (¬1)، لذلك. فصل: ويُقْتَلُ المُرْتَدُّ بالذِّمِّىِّ، ويُقَدَّمُ القِصاصُ على القَتْلِ بالرِّدَّةِ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ. وإن عَفا عنه وَلِىُّ القِصاصِ، فله دِيَةُ المَقْتُولِ، فإن أسْلَمَ المُرْتَدُّ فهو (¬2) في ذِمَّتِه. وإن قُتِل بالرِّدَّةِ أو مات، تَعَلَّقَتْ بمالِه. وإن قَطَع طَرَفًا مِن مسلم أو ذِمِّىٍّ، فعليه القِصاصُ فيه أيضًا. وقال بعضُ أصحابِ الشافعىِّ: لا يُقْتَلُ المُرْتَدُّ بالذِّمِّىِّ، ولا يُقْطَعُ طَرَفُه بطَرَفِه؛ لأَنَّ أحْكامَ الإِسلامِ في حَقِّه باقِيَةٌ، بدليلِ وُجُوبِ العِباداتِ عليه، ومُطالبتِه بالإِسلامِ. ولَنا، أنَّه كافِرٌ، فيُقْتَلُ بالذِّمِّىِّ، كالأصْلِىِّ (¬3). وقولُهم: إنَّ أحْكامَ الإِسلامِ باقِيَةٌ. غيرُ صحيحٍ، فإنَّه قد زالت عِصْمَتُه وحُرْمَتُه، وحِلُّ [نكاحِ المسلماتِ] (¬4)، وشِراءُ العبيدِ المسلمين، وصِحَّةُ العباداتِ وغيرِها (¬5)، وأمَّا مُطالَبَتُه بالإِسْلام، فهو حُجَّةٌ عليهم؛ لأنَّه يَدُلُّ على تَغْلِيظِ كُفْرِه، وأنَّه لا يُقَرُّ على رِدَّتِه (¬6)، لسُوءِ حالِه، فإذا قُتِل بالذِّمِّىِّ مثلُه، فمَن هو دُونَه أَوْلَى. ولا يَمْنَعُ إسْلامُه وُجُوبَ القِصاصِ عليه؛ لأنَّه بعدَ اسْتِقْرارِ وُجُوبِ القِصاصِ عليه، والأَصْلُ في كلِّ واجبٍ بَقاؤُه، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه وهو عاقِلٌ، ثم جُنَّ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، تش. (¬2) كذا في النسخ، وفى المغنى 11/ 472: «فهى». أى الدية. (¬3) في م: «الأصلى». (¬4) في الأصل: «نكاحه المسلمات». (¬5) في م: «غيرهما». (¬6) في الأصل: «دينه».

4073 - مسألة: (ولا يقتل مسلم بكافر)

وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4073 - مسألة: (ولا يُقْتَلُ مسلمٌ بكافِرٍ) أىَّ كافِرٍ كان. هذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. رُوِى ذلك عن عُمَرَ، وعُثْمانَ، وعلىٍّ، وزيدِ ابنِ ثابتٍ، ومُعاوِيَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعَطاءٌ، والحسنُ، وعِكْرِمَةُ، والزُّهْرِىُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، ومالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال النَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى: يُقْتَلُ المسلمُ بالذِّمِّىِّ خاصَّةً. قال أحمدُ: الشَّعْبِىُّ والنَّخَعِىُّ قالا: دِيَةُ المَجُوسِىِّ والنَّصْرانِىِّ مثلُ دِيَةِ المسلمِ، وإن قَتَلَه يُقْتَلُ به. سبحانَ اللَّهِ! هذا عَجَبٌ، يصيرُ المَجُوسِىُّ مثلَ المسلمِ، ما هذا القول! واسْتَبْشَعَه. وقال: النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ» (¬1). وهو يقولُ: يُقْتَلُ بكافرٍ. فأىُّ شئٍ أشَدُّ مِن هذا! واحْتَجُّوا بالعُمُوماتِ التى ذَكَرْناها، كقولِه تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. وقولِه: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}. وبما روَى ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب فكاك الأسير، من كتاب الجهاد والسير، وفى: باب العاقلة، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، من كتاب الديات. صحيح البخارى 1/ 38، 4/ 84، 9/ 13، 14. والترمذى، في: باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 181. والدارمى، في: باب لا يقتل مسلم بكافر، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 190. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 79.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ البَيْلَمانِىِّ (¬1)، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقاد مسلمًا بِذِمِّىِّ، وقال: «أنا أحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» (¬2). ولأنَّه مَعْصُومٌ عِصْمَةً مُؤَبَّدَةً، فيُقْتَلُ به قاتِلُه، كالمسلمِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤْهُمْ، ويَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ، لا يُقْتَلُ مُؤْمِنُ (¬3) بِكَافِرٍ». رَواه أحمدُ، وأبو داودَ (¬4). وفى لَفْظٍ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ». رَواه البُخارِىُّ، وأبو داودَ (¬5). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: مِن السُّنَّةِ أن لا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بكافِرٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «السلمانى». (¬2) أخرجه الإمام الشافعى، انظر: كتاب الديات. ترتيب المسند 2/ 105. وعبد الرزاق، في: باب قود المسلم بالذمى، من كتاب العقول. المصنف 10/ 101. والدارقطنى: في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 135. والبيهقى، في: باب بيان ضعف الخبر الذى روى في قتل المؤمن بالكافر. . .، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 30، 31. (¬3) في الأصل، تش: «مسلم». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب في السرية ترد على أهل العسكر، من كتاب الجهاد، وفى: باب أيقاد المسلم بالكافر؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 73، 488. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 119، 2/ 192 - 194، 211، 215. كما أخرجه النسائى، في: باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، وباب سقوط القود من المسلم للكافر، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 18، 21، 22. وابن ماجه مختصرًا في: باب المسلمون تتكافأ دماؤُهم، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 895. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب في كتابة العلم، من كتاب العلم، وفى: باب العاقلة، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، من كتاب الديات. صحيح البخارى 1/ 38، 4/ 84، 13/ 9، 14، 16. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب لا يقتل مسلم بكافر، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 887. والدارمى، في: باب لا يقتل مسلم بكافر، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 190. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 79، 122، 2/ 178، 180. وليس هذا اللفظ عند أبى داود. انظر الإرواء 7/ 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). ولأنَّه مَنْقُوصٌ (¬2) بالكُفْرِ، فلا يُقْتَلُ به المسلمُ، كالمُسْتَأمِنِ، والعُمُوماتُ مَخْصُوصاتٌ بحدِيثِنا، وحديثُهم ليس له إسْنادٌ. قالَه أحمدُ. وقال الدّارَقُطْنِىُّ (¬3): يَرْوِيه ابنُ البَيْلَمانِىِّ، وهو ضعيفٌ إذا أسْنَدَ، فكيف إذا أرْسَلَ؟ والمَعْنَى في المسلمِ أنَّه مُكافِئٌ للمسلمِ، بخِلافِ الذِّمِّىِّ. ووافَقَ أبو حنيفةَ الجماعةَ في المسْتَأْمِنِ أنَّ المسلمَ لا يُقادُ به. وهو المشهورُ عن أبى يُوسُفَ. وعنه، يُقْتَلُ به؛ لِما سَبَق في الذِّمِّىِّ. ولَنا، أنَّه ليس بمَحْقُونِ الدَّمِ على التَّأْبِيدِ، فأشْبَهَ الحَرْبِىَّ، مع ما ذَكَرْنا مِن الأدِلَّةِ في التى قبلَها. فصل. ويُقْتَلُ الذِّمِّىُّ بالذِّمِّىِّ، سواءٌ اتَّفَقَتْ أدْيانُهم أو اخْتَلَفْ، فيُقْتَلُ النَّصْرانِىُّ باليَهُودِىِّ والمَجُوسِىِّ. نَصَّ عليه أحمدُ في النَّصْرَانِىِّ يُقْتَلُ بالمَجُوسِىِّ إذا قَتَلَه. قِيلَ (¬4): فكَيْفَ يُقْتَلُ به وأدْيانُهما مُخْتَلِفَةٌ؟ قال: أذْهَبُ إلى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَل رَجُلًا بالمرأةِ (¬5). يَعْنِى أنَّه قَتَلَه بها مع اخْتِلافِ دِينِهما. ولأنَّهما تَكافَآ في العِصْمَةِ بالذِّمَّةِ (¬6) ونَقِيصةِ الكُفْرِ، فجَرَى (¬7) ¬

(¬1) لم نجده في المسند. وأخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال: لا يقتل مسلم بكافر، من كتاب الديات. المصنف 9/ 295. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 134. وهو ضعيف جدا. انظر: الإرواء 7/ 267. (¬2) في الأصل: «منقوض». (¬3) انظر: سنن الدارقطنى 3/ 135. (¬4) سقط من: الأصل. وفى م: «قتل». (¬5) تقدم تخريجه في 10/ 446. (¬6) في الأصل: «بالدية». (¬7) بعده في ق، م: «مجرى».

4074 - مسألة: (ولا)

ولا حُرٌّ بِعَبْدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصُ بينَهما، كما لو تَساوَى دِينُهما. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. 4074 - مسألة: (ولا) يُقْتَلُ (حُرٌّ بعبدٍ) رُوِى هذا عن [أبى بكرٍ] (¬1)، وعُمَرَ، وعلىٍّ، وزيدٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعِكْرِمَةُ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. ورُوِىَ ذلك عن الشَّعْبِىِّ. ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِىِّ، وقَتادَةَ، والثوْرِىِّ، وأصحاب الرَّأْى، أنَّه يُقْتَلُ به؛ لعُمُوم الآياتِ والأخْبارِ، ولقولِ (¬2) النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ». ولأنَّه آدَمِىٌّ مَعْصُومٌ، فأشْبَهَ الحُرَّ. ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: مِن السُّنَّةِ أن لا يُقْتَلَ حُرٌّ بعبدٍ (¬3). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ». رَواه الدّارَقُطنِىُّ (¬4). ولأنَّه لا يُقْطَعُ طَرَفُه بطَرَفِه مع التَّساوِى في السَّلامَةِ، فلا يُقْتَلُ به، كالأبِ مع ابْنِه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أبى». (¬2) في الأصل: «كقول». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 102 حاشية 9. وهو جزء من الحديث المتقدم. كما أخرج هذا الجزء من قول على أيضا البيهقى، في: باب لا يقتل حر بعبد، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 34. (¬4) في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 133. وضعف إسناده في: تلخيص الحبير 4/ 16. وانظر: الإرواء 7/ 269، 270.

4075 - مسألة: (إلا أن يجرحه وهو مثله، أو يقتله ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق فيموت المجروح، فإنه يقتل به)

إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ وَهُوَ مِثْلُهُ، أَوْ يَجْرَحَهُ، ثُمَّ يُسْلِمَ الْقَاتِلُ أَوِ الْجَارِحُ، أَوْ يَعْتِقَ وَيَمُوتَ الْمَجْرُوحُ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ العَبْدَ مَنْقُوصٌ بالرِّقِّ، فلم يُقْتَلْ به الحرُّ (¬1)، كالمُكاتَبِ إذا مَلَك ما يُؤَدِّى، والعُمُوماتُ مَخْصُوصَةٌ بهذا، فنَقِيسُ عليه. 4075 - مسألة: (إلَّا أن يَجْرَحَه وهو مِثْلُه، أو يَقْتُلَه ثم يُسْلِمَ القاتِلُ أو الجَارِحُ، أو يَعْتِقَ فيَمُوتَ المَجْرُوحُ، فإنَّه يُقْتَلُ به) وجملةُ ذلك، أنَّ الاعْتِبارَ في التَّكافُؤِ بحالةِ الوُجُوبِ كالحَدِّ. فعلى هذا، إذا قَتَل ذِمِّىِّ ذِمِّيًّا أو جَرَحَه، ثم أسْلَمَ الجارِحُ، و (¬2) مات المَجْرُوحُ، أو قَتَل عبدٌ عبدًا أو جَرَحَه، ثُمَّ عَتَقَ القاتِلُ أو الجارِحُ، ومات المَجْرُوحُ، وَجَب القِصاصُ؛ لأنَّهما مُتكافِئان حالَ الجِنايَةِ، ولأَنَّ القِصاصَ قد وَجَب، فلا يَسْقُطُ بما طَرَأ، كما لو جُنَّ. [كذا ذَكَره أصحابُنا. وهو قولُ الشافعىِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْتَلَ به. وهو قولُ الأوْزاعِىِّ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بكافِرٍ». ولأنَّه مُؤْمِنٌ، فلا يُقْتَلُ بكافِرٍ، كما لو كان مُؤْمِنًا حالَ قَتْلِه. ولأَنَّ إسْلامَه لو قارَنَ السَّبَبَ مع عِلْمِه، فإذا طَرَأ أسْقَطَ حُكْمَه. والأَوَّلُ أقْيَسُ] (¬3). ¬

(¬1) سقط من: تش، م. (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فصل: ولو جَرَح ذِمِّىٌّ حُرٌّ (¬1) عبدًا ثم لَحِق بدارِ الحرب، فأُسِرَ واسْتُرِقَّ، لم يُقْتَلْ بالعبدِ؛ لأنَّه حينَ وُجوبِ القِصاصِ حُرٌّ] (¬2). فصل: ولا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بعبدِه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن النَّخَعِىِّ، وداودَ، أنَّه يُقْتَلُ به؛ لِما رَوَى قَتادَةُ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، قال: إنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ». رَواه سعيدٌ، والإِمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. مع العُمُوماتِ والمَعْنَى في التى قبلَها. ولَنا، ما ذَكَرْناه في التى قبلَها. وعن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: لو لم أسْمَعْ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا يُقَادُ المَمْلُوكُ مِنْ مَوْلَاهُ، والوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ» لأقَدْتُه مِنْكَ. رَواه النَّسائِىُّ (¬4). وعن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ رجلًا قَتَل ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يقتل عبده، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 183. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 10 - 12، 18، 19. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 484. والنسائى، في: باب القود من السَّيِّد للمولى، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 19. وابن ماجه، في: باب هل يقتل الحر بالعبد، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 888. والدارمى، في: باب القود بين العبد وبين سيده، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 191. (¬4) وأخرجه الحاكم، في: المستدرك 2/ 216، 4/ 368. والبيهقى، في: السنن لكبرى 8/ 36. ولم يعزه إلى النسائى في: نصب الراية 4/ 339. وانظر: الإرواء 7/ 269، 270.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدَه، فجَلَدَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مائةً، ونَفاهُ عامًا، ومَحا سَهْمَه (¬1) مِن المسلمين. رَواه سعيدٌ، والخَلَّالُ (¬2). قال أحمدُ: ليس بشئٍ مِن قِبَلِ إسحاقَ بنِ أبى فَرْوَةَ. ورَوَاه عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن أبى بكرٍ وعمرَ (¬3)، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قالا: مَن قَتَل عبدَه، جُلِد مائةً، وحُرِمَ سَهْمَه مع المسلمين (¬4). فأَمّا حديثُ سَمُرَةَ، فلم يَثْبُتْ. قال أحمدُ: الحسنُ لم يَسْمَعْ مِن سَمُرَةَ، إنَّما هى صَحِيفَةٌ. وقال غيرُه: إنَّما سَمِعَ الحسنُ مِن سَمُرَةَ ثلاثةَ أحاديثَ، ليس هذا منها. ولأَنَّ الحسنَ أفْتَى بخِلافِه، فإنَّه (¬5) يقولُ: لا يُقْتَلُ الحُرُّ بالعبدِ. وقال: إذا قَتَل السَّيِّدُ عبدَه يُضْرَبُ. ومخالَفَتُه له تَدُلُّ على ضَعْفِه. ¬

(¬1) في تش، ق، م: «اسمه». (¬2) وأخرجه ابن ماجه، في: باب هل يقتل الحر بالعبد، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 888. والبيهقى، في: باب ما روى في من قتل عبده أو مثل به، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 36. والحديث ضعف إسناده في الزوائد. (¬3) بعده في الأصل، تش: «وعلى». وانظر المصادر الآتية. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب ما روى في من قتل عبده أو مثل به، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 37. وبنحوه أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 491. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 305. (¬5) في الأصل: «فيما به». وأخرجه أبو داود، في: باب من كل عبده أو مثل به أيقاد به؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 484. وعبد الرزاق، في: المصنف 9/ 490.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُقْطَعُ طَرَفُ الحُرِّ بطَرَفِ العبدِ، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه بينَهم. ويُقْتَلُ العبدُ بالحُرِّ، وبسَيِّدِه؛ لأنَّه إذا قُتِل بمِثْلِه، فبمَن هو أكْمَلُ منه. (¬1) أَوْلَى، مع عُمُومِ النُّصُوصِ الوارِدَةِ في ذلك. ومتى وَجَب القِصاصُ على العبدِ، فعَفا وَلِىُّ الجِنايَةِ إلى المالِ، فله ذلك، ويَتَعَلَّقُ أرْشُها برَقَبَتِه؛ لأنَّه مُوجَبُ جِنايَتِه، فتَعَلَّقَ برَقَبَتِه (¬2)، كالقِصاصِ. فإن شاء سَيِّدُه أن يُسَلِّمَه إلى وَلِىِّ الجِنايةِ، لم يَلْزَمْه أكثرُ مِن ذلك؛ لأنَّه سَلَّمَ إليه ما تَعَلَّقَ حَقُّه به. وإن قال وَلِىُّ الجِنايةِ: بِعْه، وادْفَعْ إلَىَّ ثَمَنَه. لم يَلزَمْه ذلك؛ لأنَّه لم يتَعَلَّقْ بذِمَّتِه شئٌ، وإنَّما تَعَلَّقَ بالرَّقَبَةِ التى سَلَّمَها، فبَرِئَ منها. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يَلْزَمُه ذلك، كما يَلْزَمُه بَيْعُ الرَّهْنِ. وإنِ امْتَنَعَ مِن تَسْلِيمِه، واخْتارَ فِداءَه، فهل تَلْزَمُه قِيمَتُه أو أَرْشُ الجِنايةِ؟ على رِوايَتَيْن، تُذْكرُ (¬3) في غيرِ هذا المَوْضِعِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «فيه». (¬3) في م: «تذكران».

4076 - مسألة: وإن جرح مسلم كافرا، فأسلم المجروح، ثم مات مسلما بسراية الجرح

وَلَوْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوْ حُرٌّ عَبْدًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ، أَوْ عَتَقَ وَمَاتَ، فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ. فِى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4076 - مسألة: وإن جَرَح مسلمٌ كافِرًا، فأسْلَمَ المَجْرُوحُ، ثم مات مسلمًا بسِرايَةِ الجُرْحِ (¬1)، لم يُقْتَلْ به قاتِلُه؛ لعَدَم التَّكافُؤِ حالَ الجِنايَةِ (وعليه دِيَةُ مُسْلِمٍ) لأَنَّ اعْتِبارَ الأَرْشِ بحالِ اسْتِقَرارِ الجِنايةِ. وهذا (قولُ ابنِ حامِدٍ) بدليلِ ما لو قَطَع يَدَىْ رَجُل ورِجْلَيْه، فسَرَى إلى نفسِه، ففيه دِيَةٌ واحدةٌ، ولو اعْتُبِرَ حال الجِنايَةِ، وَجَب دِيَتانِ. ولو قَطَج حُرٌّ يَدَ عبدٍ، ثم عَتَق ومات، لم يَجِبِ القَوَدُ؛ لعَدَم التَّكافُؤِ (¬2) حالَ الجِنايَةِ، وعلى الجانِى دِيَةُ حُرٍّ، اعْتِبارًا بحالِ الاسْتِقْرارِ. وهو قولُ ابنِ حامدٍ، كالمسألةِ قبلَها، ومَذهَبُ الشافعىِّ. وللسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَيْن، مِن نِصْفِ قِيمَتِه، أو نِصْفِ دِيَةِ حُرٍّ، والباقى لوَرَثَتِه؛ لأَنَّ نِصْفَ قِيمَتِه إن كانت أقَلَّ، فهى التى وُجِدَتْ في مِلْكِه، فلا يكونُ له أكْثَرُ منها؛ لأَنَّ الزَّائِدَ حَصَل بحُرِّيَّتِه، ولا حَقَّ له فيما حَصَل بها. وإن كان الأقَلُّ الدِّيَةَ، لم يَسْتَحِقَّ أكْثَرَ منها؛ لأَنَّ نَقْصَ (¬3) القِيمَةِ حَصَل بسَبَبٍ مِن جِهَةِ السَّيِّدِ، ¬

(¬1) في الأصل: «الجراح». (¬2) بعده في الأصل: «في». (¬3) في الأصل: «بعض».

وَفِى قَوْلِ أَبِى بَكْرٍ: عَلَيْهِ فِى الذِّمِّىِّ دِيَةُ ذِمِّىِّ، وَفِى الْعَبْدِ قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو العِتْقُ. وذَكَر القاضى أنَّ أحمدَ نَصَّ في رِوَايةِ حَنْبَلٍ، في مَن فَقَأ عَيْنَىْ عبدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ (¬1) ومات، أنَّ على الجانِى قِيمَتَه للسَّيِّدِ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ الاعْتِبارَ بحال الجِنايةِ. وهو اختِيارُ أبى بكرٍ، والقاضى، وأبى الخَطَّابِ. قال أبو الخَطَّابِ: مَن قَطَعَ يَدَ ذِمِّىِّ، ثم أسْلَمَ ومات، ضَمِنَه بدِيَةِ ذِمِّىٍّ، ولو قَطَع يَدَ عبدٍ، فأعْتَقَه سَيِّدُه ومات، فعلى الجانِى قِيمَتُه للسَّيِّدِ؛ لأَنَّ حُكْمَ القِصاصَ مُعْتَبَرٌ بحالِ الجِنايةِ، دُونَ حالِ السِّرايَةِ، فكذلك الدِّيَةُ. والأَوَّلُ أصَحُّ، إن شاء اللَّهُ تعالى. قاله (¬2) شيخُنا؛ لأَنَّ سِرايَةَ الجُرْحِ مَضْمُونَةٌ (¬3)، فإذا أتْلَفَتْ حُرًّا مسلمًا، وَجَب ضَمانُه بدِيَةٍ كاملةٍ، كما لو قَتَلَه بجُرْحٍ ثانٍ. وقولُ أحمدَ في مَن فَقَأ عَيْنَىْ عبدٍ: عليه قِيمَتُه للسَّيِّدِ. ¬

(¬1) في ق، م: «عتق». (¬2) في الأصل، تش: «قال». وانظر: المغنى 11/ 468. (¬3) بعده في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا خِلافَ فيه، وإنَّما الخِلافُ في وُجُوبِ الزَّائِدِ على القِيمَةِ مِن دِيَةِ الحُرِّ للوَرَثَةِ، ولم يَذْكُرْه أحمدُ. ولأَنَّ الواجِبَ مُقَدَّرٌ بما تُفْضِى (¬1) إليه السِّرايَةُ، دُونَ ما تُتْلِفُه (¬2) الجِنايةُ، بدليلِ أنَّ مَن قُطِعَتْ يَدَاهُ ورِجْلاه، فسَرَى القَطْعُ إلى نَفْسِه، لم يَلْزَم الجانِىَ أكْثَرُ مِن دِيَةٍ، ولو قَطَع إصْبَعًا، فسَرى إلى نفْسِه، لو جَبَتِ الدِّيَةُ كامِلةً، فكذلك إذا سَرَتْ إلى نفسِ حُرٍّ مسلم، تَجِبُ دِيَةٌ كامِلَةٌ. فأمَّا إن قَطَع يَدَ مُرْتَدٍّ، أو (¬3) حَرْبِىٍّ، فسَرَى ذلك إلى نفسِه، لم يَجِبْ قِصاصٌ ولا دِيَةٌ ولا كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ أسْلَمَ قبلَ السِّرايةِ أو لم يُسْلِمْ؛ لأَنَّ الجُرْحَ غيرُ مَضْمُونٍ، فلم تُضْمَنْ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «مضى». (¬2) في الأصل، تش: «تنقله». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

4077 - مسألة: (وإن رمى مسلم ذميا عبدا، فلم يقع السهم به حتى عتق وأسلم، فلا قود، وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية)

وَإِنْ رَمَى مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا عَبْدًا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ، فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ ديَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ إِذَا مَاتَ مِنَ الرَّمْيَةِ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِىُّ. وَقَالَ أَبَو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سِرايَتُه، بخِلافِ التى قبلَها. 4077 - مسألة: (وإن رَمَى مسلمٌ ذِمِّيًّا عبدًا، فلمْ يَقَعِ السَّهْمُ به حتى عَتَقَ وأسْلَمَ، فلا قَوَدَ، وعليه دِيَةُ حُرٍّ مسلمٍ إذا مات مِن الرَّمْيَةِ) هذا قولُ ابنِ حامدٍ، ومَذْهَبُ الشافعىِّ (وقال أبو بكرٍ: يجبُ القِصاصُ) لأنَّه قَتَل مُكافِئًا له عمدًا عُدْوانًا، فوَجَبَ القِصاصُ، كما لو كان حُرًّا مسلمًا كذلك حالَ الرَّمْى، يُحَقِّقُه أنَّ الاعْتِبارَ بحالِ (¬1) الإِصابةِ، بدليلِ ما لو رَمَى فلم يُصِبْه حتىِ ارْتَدَّ أو مات، لم يَلْزَمْه شئٌ، ولو رَمَى عبدًا كافرًا، فعَتَقَ و (¬2) أسْلَمَ، غرِمَه بدِيَةِ حُرٍّ مسلمٍ. ولَنا، على دَرْءِ (¬3) القِصاصِ، ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «الرمى». (¬2) في م: «أو». (¬3) في تش: «دية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لم يَقْصِدْ إلى نَفْسٍ مُكافِئَةٍ، فلم يَجِبْ عليه قِصاصٌ، كما لو رَمَى حَرْبِيًّا (¬1) أو مُرْتَدًّا فأسْلَمَ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه في العَبْدِ [دِيَةُ عبدٍ لمَوْلاه؛ لأَنَّ الإِصابَةَ ناشِئَةٌ] (¬2) عن إرْسالِ السَّهْم، فكان الاعْتِبارُ بها، كحالَةِ الجُرْحِ. ولَنا، أنَّ الإِصابَةَ حَصَلَتْ في حُرٍّ، فكان ضَمانُه ضمانَ الأحْرارِ، كما لو قَصَد هَدَفًا أو طائِرًا، فأصاب حُرًّا، ثم يَبْطُلُ [ما ذَكَرَه] (¬3) بما إذا رَمَي حَيًّا فأصابه مَيِّتًا، أو عبدًا صحيحًا فأصابه بعدَ قَطْعِ يَدَيْه، لم تَجِبْ دِيَتُه لوَرَثَتِه، وعندَه تَجِبُ لمَوْلاه. ولو رَمَى كافِرًا فأصابه السَّهْمُ بعدَ أن أسْلَمَ، كانت دِيَتُه لوَرَثَتِه المسلمين، وعندَ أبى حنيفةَ لوَرَثَتِه الكُفَّارِ. ولَنا، أنَّه مات مسلِمًا حُرًّا، فكانت دِيَتُه للمسلمين، كما لو كان مسلمًا حالَ الرَّمْى، فوُجُوبُ المالِ مُعْتَبَرٌ بحالِ الإِصابَةِ؛ لأنَّه [بَدَلٌ عن] (¬4) المَحَلِّ، فيُعْتَبَرُ عن المَحَلِّ الذى فات بها، فيَجِبُ بقَدْرِه، وقد فات بها نَفْسُ مسلمٍ حُرٍّ، والقِصاصُ جَزاءُ (¬5) الفِعْلِ، فيُعْتَبَرُ الفِعْلُ فيه والإِصابةُ معًا؛ لأنَّهما طَرَفَاه، فلذلك لم (¬6) يَجِبِ القِصاصُ بقَتْلِه. ¬

(¬1) في تش: «ذميا». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) زيادة من: تش، ر 3. (¬4) في م: «يدل على». (¬5) في م: «جزء». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فُصُولٌ تتعلقُ بهذه المسألةِ: فصل (¬1): ولو قَطَع يَدَ عبدٍ، ثم عَتَق ومات، أو يَدَ ذِمِّىِّ، ثم أسْلَمَ ومات، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الواجِبُ دِيَةُ حُرٍّ مسلمٍ، لوَرَثَتِه ولسَيِّدِه منها أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن دِيَتِه أو أرْشِ جِنايَتِه، اعْتِبارًا بحالِ اسْتِقْرارِ الجِنايَةِ. وقال القاضى، وأبو بكرٍ: تجبُ قِيمَةُ العبدِ بالِغَةً ما بَلَغَتْ، مَصْرُوفَةً إلى السَّيِّدِ، اعْتِبارًا بحالِ الجِنايةِ؛ لأنَّها المُوجبُ للضَّمانِ، فاعْتُبِرَت حالَ وُجُودِها. ومُقْتَضَى قَوْلِهما ضَمانُ الذِّمِّىِّ الذى أسْلَمَ بدِيَةِ ذِمِّىِّ، ويَلْزَمُهما على هذا أن يَصْرِفاها إلى وَرَثَتِه مِن أهلِ الذِّمَّةِ، وهو غيرُ صحيحٍ؛ لأَنَّ الدِّيَةَ لا تَخْلُو مِن أن تكونَ مُسْتَحَقَّةً للمَجْنِىِّ عليه، أو لوَرَثَتِه؛ فإن كانت له، وَجَب أن تكونَ لوَرَثَتِه المسلمين، كسائِرِ أمْوالِه وأمْلاكِه، و (¬2) كالذى كَسَبَه بعدَ جُرْحِه. وإن كانت تَحْدُثُ على مِلْكِ وَرَثَتِه، فوَرَثَتُه هم المسلمون دُونَ الكُفَّارِ. فصل: وإن قَطَع أنْفَ عَبْدٍ قِيمَتُه ألفُ (¬3) دِينارٍ، فانْدَمَلَ، ثم أعْتَقَه السَّيِّدُ، وَجَبَتْ قِيمَتُه بكَمالِها للسَّيِّدِ. وإن أعْتَقَه ثم انْدَمَلَ، فكذلك؛ لأنَّه إنَّما اسْتَقَرَّ بالانْدِمالِ ما وَجَب بالجِنايةِ، والجِنايةُ كانت في مِلْكِ سَيِّدِه. وإن مات مِن سِرايةِ الجُرْحِ، فكذلك في قولِ أبى بكرٍ والقاضى. ¬

(¬1) هذا الفصل زيادة من المطبوعة، وهو في المغنى 11/ 521، 522. (¬2) زيادة من: المغنى. (¬3) في الأصل، ر 3: «ألفا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ المُزَنِىِّ؛ لأَنَّ الجِنايةَ يُراعَى فيها حالُ وُجُودِها. وذَكَر القاضى أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه في رِوايةِ حَنْبَلٍ، في مَن فَقَأ عَيْنَىْ عَبدٍ، ثم أُعْتِقَ ومات، ففيه قِيمَتُه لا الدِّيَةُ. ومُقْتَضَى قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّ الواجِبَ فيه دِيَةُ حُرٍّ (¬1). وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ اعْتِبارَ الجِنايةِ بحالةِ الاسْتِقْرارِ، وقد ذَكَرْناه. [ويُصْرَفُ إلى سَيِّدِه؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ أقَلَّ الأَمْرَيْن مِن دِيَتِه أو أرْشِ الجُرْحِ، والدِّيَةُ ههُنا أقَلُّ الأَمْرَيْن. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بما إذا قَطَع يَدَيْه ورِجْلَيْه فمات بسِرايَةِ الجُرْحِ، فإنَّ الواجِبَ دِيَةُ النَّفْسِ لا دِيَةُ الجُرْحِ] (¬2). فصل: فإن قَطَع يَدَ عبدٍ، فأُعْتِقَ، ثم عاد فقَطَعَ رِجْلَه، وانْدَمَلَ القَطْعان، فلا قِصاصَ في اليَدِ؛ لأنَّها قُطِعَتْ في حالِ رقِّه، ويَجِبُ فيها نِصْفُ قِيمَتِه، أو ما نَقَصَه القَطْعُ (¬3) لسَيِّدِه، إذا قُلْنا: إنَّ العبدَ يُضْمَنُ بما نَقَصَه. ويجبُ القِصاصُ في الرِّجْلِ التى قَطَعها حالَ حُرِّيَّتِه، أو نِصْفُ الدِّيَةِ إن عَفا عن القِصاصِ لوَرَثَتِه. وإنِ انْدَمَلَ قَطْعُ اليَدِ، وسَرَى قَطْعُ الرِّجْلِ إلى نَفْسِه، ففى اليَدِ نِصْفُ القِيمَةِ لسَيِّدِه، وعلى القاطِعِ القِصاصُ في النفسِ، أو الدِّيَةُ كامِلَةً لوَرَثَتِه. وإنِ انْدَمَلَ قَطْعُ الرِّجْلِ، وسَرَى قَطْعُ اليَدِ، ففى الرِّجْلِ القِصاصُ بِقَطْعِها، أو نِصْفُ الدِّيَةِ لوَرَثَتِه، ولا قِصاصَ في اليَدِ، ولا في سِرايَتِها، وعلى الجانِى دِيَةُ حُرٍّ، لسَيِّدِه منها أقَلُّ الأَمْرَيْن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «العبد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أرْشِ القَطْعِ أو ديَةِ الحُرِّ، على قولِ ابنِ حامدٍ. وعلى قولِ أبى بكرٍ والقاضى، تَجِبُ قِيَمَةُ العبدِ لسَيِّدِه، اعْتِبارًا بحالِ جنايَتِه. وإن سَرَى الجُرْحان، لم يَجِبِ القِصاصُ في النَّفْسِ ولا اليَدِ؛ لأنَّه مات مِن جُرْحَيْن مُوجِبٍ وغيرِ مُوجِبٍ، فلم يجبِ القِصاصُ، كما لو جَرَحَه جُرْحَيْن خَطَأً وعمدًا، ولكنْ يجبُ القِصاصُ في الرِّجْلِ؛ لأنَّه قَطَعَها مِن حُرٍّ، فإنِ اقْتَصَّ منه، وَجَب نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه مات مِن جِنايَتِه، وقد اسْتَوْفَى منه ما يُقابِلُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وللسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن نِصْفِ القِيمَةِ أو نصفِ الدِّيَةِ، فإن زاد نِصْفُ الدِّيَةِ على نِصْفِ القِيمَةِ، كان الزّائِدُ للوَرَثَةِ، وإن عَفَا وَرَثَتُه عن القِصاصِ، فلهم أيضًا نِصْفُ الدِّيَةِ. فإن كان قاطِعُ الرِّجْلِ غيرَ قاطِعِ اليَدِ، واندَمَلَ الجُرْحان، فعلى قاطِعِ اليَدِ نِصْفُ القِيمَةِ لسَيِّدِه، وعلى قاطِعِ الرِّجْلِ القِصاصُ فيها أو (¬1) نِصْفُ الدِّيَةِ. وان سَرَى الجُرْحان إلى نفسِه، فلا قِصاصَ على الأَوَّلِ؛ لأنَّه قَطَع يَدَ عبدٍ، وعليه نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ؛ لأَنَّ المَجْنِىَّ عليه حُرٌّ في حالِ اسْتِقْرارِ الجِنايةِ، وعلى الثانى القِصاصُ في النَّفْسِ إذا كانا عَمَدَا القَطْعَ؛ لأنَّه شارَكَ في القَتْلِ عمدًا عُدْوانًا، فهو كشريكِ الأبِ. ويَتَخَرَّجُ أن لا قِصاصَ عليه في النَّفْسِ؛ لأَنَّ الرُّوحَ خَرَجَتْ مِن سِرايَةِ قَطْعَيْن، مُوجِبٍ وغيرِ مُوجِب، بِناءً على شريكِ الأبِ. وإن عَفا عنه إلى الدِّيَةِ، فعليه نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ. وإن قُلْنا بوُجُوبِ القِصاصِ في النَّفْسِ، خُرِّجَ في وُجُوبِه في الطَّرَفِ رِوايتان. وإن قُلْنا: ¬

(¬1) في تش: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجبُ في النَّفْسِ. وَجَب في الرِّجْلِ. فصل: وإن قَلَع عَيْنَ عبدٍ، ثم أُعْتِقَ (¬1)، ثُمَّ قَطَع آخَرُ يَدَه، ثم قَطَع آخَرُ رِجْلَه، فلا قَوَدَ على الأَوَّلِ، سواءٌ انْدَمَلَ جُرْحُه أو سَرَى، وأمَّا الآخرَان، فعليهما القِصاصُ في الطَّرَفَيْن إن (¬2) وَقَف قَطْعُهما، أو دِيَتُهما إن عَفا عنهما. وإن سَرَتِ الجِراحاتُ كلُّها، فعليهما القِصاصُ في النَّفْسِ؛ لأَنَّ جِنايَتَهما صارتْ نَفْسًا. وفى ذلك وفى القِصاصِ في الطَّرَفِ اخْتِلافٌ قد (¬3) ذَكَرْناه. وإن عَفا عنهما، فعليهم (¬4) الدِّيَةُ أثْلاثًا. وفيما يَسْتَحِقُّه السَّيِّدُ وَجْهان؛ أحَدُهما، أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن نِصْفِ القِيمَةِ أو ثُلُثِ الدِّيَةِ، على قِياسِ قولِ أبى بكرٍ؛ لأنَّه بالقَطْعِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ القِيمَةِ، فإذا صارت نَفْسًا، وَجَب فيها ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ فكان له أقَلُّ الأَمْرَيْن. والثانى، له أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن ثُلُثِ القِيمَةِ أو ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ الجِنايةَ إذا صارت نَفْسًا، كان الاعْتِبارُ بما آلَتْ إليه، ألا تَرَى أنَّه لو جَنَى الجانِيان الآخَرَان قبلَ العِتْقِ أيضًا، لم يكنْ على الأَوَّلِ إلَّا ثُلُثُ القِيمَةِ، ولا يَزِيدُ حَقُّه بالعِتْقِ، كما لو قَلَع رَجُلٌ عَيْنَه، ثم باعَه سَيِّدُه، ثم قَطَع آخَرُ يَدَه، وآخَرُ رِجْلَه، ثم مات، فإنَّه يكونُ للأوَّلِ ثُلُثُ القِيمَةِ. وإن كان أَرْشُ ¬

(¬1) في ق، م: «عتق». (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل، تش، ر 3، م: «فعليهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنايةِ نِصفَ القِيمَةِ، فإذا قُلْنا بالوَجْهِ الأَوَّلِ، [فلو كان الأَوَّلُ] (¬1) قَطَع إصْبَعَه، أو هَشَمَه، و (¬2) الجانِيان (¬3) في الحُرِّيَّةِ قَطَعا يَدَيْه، فالدِّيَةُ عليهم أثْلَاثًا، للسَّيِّدِ منها أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن أرْشِ الإِصْبَعِ، وهو عُشْرُ القِيمَةِ، أو ثُلُثِ الدِّيَةِ. ولو كان الجانِى في حالِ الرِّقِّ قَطَع يَدَيْه، والجانِيان (3) في الحُرِّيَّةِ قَطَعا رِجْلَيْه، وَجَبَتِ الدِّيَةُ أثْلَاثًا، وكان للسَّيِّدِ منها أقَلُّ الأمْرَيْنِ مِن جميعِ قِيمَتِه (¬4) أو ثُلُثِ الدِّيَةِ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يكونُ له في الفَرْعَيْن أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن ثُلُثِ القِيمَةِ أو ثُلُثِ الدِّيَةِ. فصل: فإن كان الجانِيانِ في حالِ الرِّقِّ، والواحِدُ في حالِ الحُرِّيَّةِ، فمات، فعليهم الدِّيَةُ، وللسَّيِّدِ مِن ذلك، في أحدِ الوَجْهَيْن، أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن أرْشِ الجنايَتَيْن أو ثُلُثَى الدِّيَةِ، وعلى الآخَرِ أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن ثُلُثَى القِيمَةِ أو ثُلُثَى الدِّيَةِ. فصل: وإن كان الجُناةُ أرْبَعَةً؛ واحِدٌ في الرِّقِّ، وثَلاثَةٌ في الحُرِّيَّةِ، ومات، كان للسَّيِّدِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن، الأَقَلُّ مِن أرْشِ الجِنايةِ أو رُبْعِ الدِّيَةِ (¬5). وإن كان الثَّلاثَةِ في الرِّقِّ، والواحِدُ في الحُرِّيَّةِ، كان للسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَين من أرْشِ الجناياتِ أو ثَلَاثَةِ أرْباعِ الدِّيَةِ، في أحدِ الوَجْهَيْن، وفى ¬

(¬1) تكملة من: المغنى 11/ 524. (¬2) في م: «أو». (¬3) في الأصل، تش: «الجنايتان». (¬4) في الأصل: «القيمة». (¬5) بعده في المغنى 11/ 525: «وعلى الآخر الأقل من ربع القيمة أو ربع الدية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ، الأقَلُّ مِن ثلاثةِ أرْباعِ القِيمَةِ أو ثلَاثةِ أرْباعِ الدِّيَةِ. ولو كانوا (¬1) عَشَرَةً؛ واحِدٌ في الرِّقِّ، وتسعةٌ في الحُرِّيَّةِ، فالدِّيَةُ عليهم، وللسَّيِّدِ فيها بحِسابِ ما ذَكَرْنا، على اخْتِلافِ الوَجْهَيْن. فصل: وإن قَطَع يَدَه، ثم أُعْتِقَ، فقَطَعَ آخَرُ رِجْلَه، ثم عاد الأَوَّلُ فقَتَلَه بعدَ الانْدِمالِ، فعليه القِصاصُ للوَرَثَةِ، ونِصْفُ القِيمَةِ للسَّيِّدِ، وعلى الآخَرِ القِصاصُ للورثةِ في الرِّجْلِ أو (¬2) نِصْفُ الدِّيَةِ. فإن كان قبلَ الانْدِمالِ، فعلى الجانِى الأَوَّلِ القِصاصُ في النَّفْسِ دُونَ اليَدِ؛ لأنَّه قَطَعَها في رِقِّه. فإنِ اخْتارَ الورثةُ القِصاصَ في النَّفْسِ، سَقَط حَقُّ السَّيِّدِ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّ عليه النفسُ وأرْشُ الطَّرَفِ قبلَ الانْدِمالِ، فإنَّ الطَّرَفَ داخِلٌ في النَّفْسِ في الأَرْشِ. فإنِ اخْتارُوا (¬3) العَفْوَ، فعليه الدِّيَةُ دُونَ أرْشِ الطَّرَفِ؛ لأَنَّ أرْشَ الطَّرفِ يَدْخُلُ في النَّفْسِ، وللسَّيِّدِ أقَلُّ الأَمْرَيْن مِن نِصْفِ القِيمَةِ أو أرْشِ الطَّرَفِ، والباقى للورثةِ. وأمَّا الثانى، فعليه القِصاصُ في الرِّجْلِ؛ لأَنَّ القَتْلَ قَطَع سِرايَتَها، فصار كما لو انْدَمَلَتْ. فإن عَفا عنه، فعليه نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن كان الثانى هو الذى قَتَلَه قبلَ الانْدِمالِ، فعليه القِصاصُ في النفسِ. وهل يُقْطَعُ طَرَفُه؟ على رِوايَتَيْن. فإن عَفا الورثةُ، فعليهْ دِيَةٌ واحدةٌ. وأمّا الأَوَّلُ، فعليه نِصْف ¬

(¬1) في الأصل: «كان». (¬2) في الأصل، ق: «و». (¬3) في الأصل، تش: «اختار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِيمَةِ للسَّيِّدِ، ولا قِصاصَ عليه. وإن كان القاتِلُ ثالثًا، فقد اسْتَقَرَّ القَطْعانِ، ويكونُ على الأَوَّلِ نِصْفُ القِيمَةِ لسَيِّدِه، وعلى الثانى القِصاصُ في الرِّجْلِ، أو نِصْفُ الدِّيَةِ لورثَتِه، وعلى الثالثِ القِصاصُ في النَّفْسِ أو الدِّيَةُ. فصل: وإذا قَطَع رجلٌ يَدَ عبدِه (¬1)، ثم أعْتَقَه، ثم اندَمَلَ جُرْحُه، فلا قِصاصَ عليه ولا ضَمانَ؛ لأنَّه إنَّما قَطَع يَدَ عَبْدِه، وإنَّما اسْتَقَرَّ بالانْدِمالِ ما وَجَب بالجِراحِ. وإن مات بعدَ العِتْقِ بسِرايَةِ الجُرْحِ، فلا قِصاصَ فيه؛ لأَنَّ الجِنايةَ كانت على مَمْلُوكِه. وفى وُجُوبِ الضَّمانِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجبُ شئٌ؛ لأنَّه مات بسِرايَةِ جُرْحٍ غيرِ مَضْمُونٍ، أشْبَهَ ما لو مات بسِرايَةِ القَطْعِ في الحَدِّ وسِرايَةِ القَوَدِ. ولأنَّنا تَبَيَّنْا أنَّ القَطْعَ كان قَتْلًا، فيكونُ قاتِلًا لعَبْدِه، فلا يَلْزَمُه ضَمانُه، كما لو لم يُعْتِقْه. وهذا مُقْتَضَى قولِ أبى بكرٍ. والثانى، يَضْمَنُه بما زاد على أرْشِ القَطْعِ مِن الدِّيَةِ؛ لأنَّه مات وهو حُرٌّ بسِرايَةِ قَطْع عُدْوانٍ، فيَضْمَنُ، كما لو كان القاطِعُ أجْنَبِيًّا، لكن يَسْقُطُ أَرْشُ القَطْعِ؛ لأنَّه في مِلْكِه، ويجبُ الزّائِدُ لورثتِه، فإن لم يكنْ له (¬2) وارِثٌ سِواه، وَجَب لبيتِ المالِ، ولا يَرِثُ السَّيِّدُ شيئًا؛ لأَنَّ القاتِلَ لا يَرِثُ. ¬

(¬1) في ق، م: «عبد». (¬2) زيادة من: تش.

4078 - مسألة: (ولو قتل من يعرفه ذميا عبدا، فبان أنه قد عتق وأسلم، فعليه القصاص)

وَلَوْ قَتَلَ مَنْ يَعْرِفُهُ ذِمِّيًّا عَبْدًا، فَبَانَ أنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَعَتَقَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ مُرْتَدًّا، فَكَذَلِكَ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا الدِّيَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4078 - مسألة: (ولو قَتَل مَن يَعْرِفه ذِمِّيًّا عبدًا، فبان أَنَّه قد عَتَقَ وأَسْلَمَ، فعليه القِصاصُ) لأنَّه قَتَل مَن يُكافِئُه بغيرِ حَقٍّ، أشْبَهَ ما لو عَلِم حالَه. 4079 - مسألة: (وإن كان يَعْرِفُه مُرْتَدًّا، فكذلك عندَ أبى بكرٍ) لِما ذَكَرْنا (قال: ويَحْتَمِلُ أن لا يَلْزَمَه إلَّا الدِّيَةُ) لأنَّه لم يَقْصِدْ قَتْلَ مَعْصُومٍ، فلم يَلْزَمْه قِصاصٌ، كما لو قَتَل في دارِ الحربِ مَن يَعْتَقِدُه (¬1) حَرْبِيًّا، فبانَ أنَّه بعدَ أن أسْلَمَ. ¬

(¬1) في م: «يظنه».

فصل

فَصْلٌ: الرَّابعُ، أَنْ لَا يَكُونَ أَبًا لِلْمَقْتُولِ، فَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَبُ وَالْأُمُّ فِى ذَلِكَ سَواءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (الرّابعُ، أن لا يكونَ أبًا للمَقتُولِ، فلا يُقْتَلُ الوالِدُ بوَلَدِه وإن سَفَل، والأبُ والأُمُّ في ذلك سَواءٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ الأبَ لا يُقْتَلُ بوَلَدِه، ولا بوَلَدِ وَلَدِه، وإن نَزَلَتْ دَرَجَتُه، وسَواءٌ في ذلك وَلَدُ البَنِينَ ووَلَدُ البَناتِ. وممَّن نُقِلَ عنه أنَّ الوالدَ لا يُقْتَلُ بوَلَدِه (¬1)، عمرُ بنُ الخَطّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال رَبِيعَةُ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال ابنُ نافِعٍ، وابنُ عبدِ الحَكَمِ، وابنُ المُنْذِرِ (¬2): يُقْتَلُ به؛ لظاهِرِ آىِ الكِتابِ، والأخْبارِ المُوجِبَةِ للقِصاصِ. ولأنَّهما حُرَّان مسلمان مِن أهلِ القِصاصِ، فوَجَبَ أن يُقْتَلَ كلُّ واحِدٍ منهما بصاحِبِه؛ كالأجْنَبِيَّيْنِ. وقال ابنُ المُنْذِرِ (2): ¬

(¬1) بعده في م: «ولا بولد ولده». (¬2) انظر: الإشراف 3/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد رُوِى (¬1) في هذا البابِ أخْبارٌ. وقال مالِكٌ: إن قَتَلَه حَذْفًا بالسَّيْفِ ونحوِه، لم يُقْتَلْ به، وإن ذَبَحَه، أو قَتَلَه قَتْلًا لا يُشَكُّ في أنَّه عَمَد إلى قَتْلِه دُونَ تَأْدِيبِه، أُقِيدَ به. ولَنا، ما روَى عمرُ بنُ الخَطَّابِ، وابنُ عباسٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ». أخْرَجَ النَّسَائِىُّ حديثَ عمرَ (¬2)، ورَواهما ابنُ ماجه (¬3). وذَكَرَهما ابنُ عبدِ البَرِّ (4)، وقال (¬4): هو حديثٌ مَشْهُورٌ عندَ أهلِ العلمِ بالحِجازِ والعِراقِ، مُسْتَفِيضٌ عندَهم، يُسْتَغْنَى بشُهْرَتِه وقَبُولِه والعَمَلِ به عن الإِسْنادِ فيه، حتى يكونَ الإِسْنادُ في مِثْلِه مع شُهْرَتِه تَكَلُّفًا. ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ» (¬5). وقَضِيَّةُ هذه الإِضافَةِ تمْلِيكُه إيّاه، فإذا لم تَثْبُتْ حقيقةُ المِلْكِيَّةِ، ثَبَتَتْ هذه (¬6) الإِضافَةُ شُبْهَةً في دَرْءِ ¬

(¬1) في م: «رووا»، وفى تش: «ورد». (¬2) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 49. وانظر ما تقدم في صفحة 105. (¬3) في: باب لا يقتل الوالد بولده، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 888. كما أخرج حديث ابن عباس الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أو لا، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 175. والدارمى، في: باب القود بين الوالد والولد، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 190. (¬4) في التمهيد 23/ 437. (¬5) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106. (¬6) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصِ؛ لأنَّه يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَّه سَبَبُ إيجادِه، فلا يَنْبَغِى أن يَتَسَلَّطَ بسَبَبِه على إعْدامِه. وما ذكَرْناه يَخُصُّ العُمُوماتِ، ويُفارِقُ الأبُ سائِرَ الناسِ، فإنَّهم لو قَتَلُوا بالحَذْفِ بالسَّيْفِ، وَجَب عليهم القِصاصُ، والأبُ بخِلافِه. فصل: والجَدُّ وإن عَلا كالأبِ في هذا، وسَواءٌ كان مِن قِبَلِ الأبِ أو مِن قِبَلِ الأُمِّ، في قولِ أكثَرِ مُسْقِطِى القِصاصِ عن الأبِ. وقال الحسنُ ابنُ حَىٍّ: يُقْتَلُ به. ولَنا، أنَّه والِدٌ، فيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّصِّ. ولأَنَّ ذلك حُكْمٌ يتَعَلَّقُ بالوِلادَةِ، فاسْتَوَى فيه القَرِيبُ والبَعِيدُ، كالمَحْرَمِيَّةِ، والعِتْقِ إذا مَلَكَه. والجَدُّ مِن قِبَلِ الأُمِّ كالذى مِن قِبَلِ الأبِ، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-[في الحَسَنِ] (¬1): «إنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ» (¬2). فصل: ويَسْتَوِى في ذلك الأبُ والأمُّ، في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ، وعليه العَمَلُ عندَ مُسْقِطِى القِصاص عِن الأب. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يَسْقُطُ عن الأُمِّ، فإنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عنه، في أُمِّ ولدٍ قَتَلَتْ سَيِّدَها عمدًا، تُقْتَلُ. قال: مَن يَقْتُلُها؟ قال: وَلَدُها. وخَرَّجَها أبو بكرٍ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، أنَّ الأُمَّ تُقْتَلُ بوَلَدِها؛ لأنَّها لا وِلايَةَ لها عليه، أشْبَهَ الأخَ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل، ر 3. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بوَلَدِه». ولأنَّها أحَدُ الأبَوَيْن، فأشْبَهَتِ الأبَ. ولأنَّها أوْلَى بالبِرِّ، فكانت أوْلَى بنَفْىِ القِصاصِ عنها، والوِلايَةُ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ، بدليلِ انْتِفاءِ القِصاصِ عن الأبِ بقَتْلِ وَلَدِه الكبيرِ الذى لا وِلايةَ له عليه، وعن الأبِ المُخالِفِ في الدِّينِ، أو الرَّقِيقِ. والجَدَّةُ وإن عَلَتْ في ذلك كالأُمِّ، وسَواءٌ في ذلك مِن قِبَلِ الأبِ، أو مِن قِبَلِ الأُمِّ؛ لِما ذَكَرْنا في الجَدِّ. فصل: وسواءٌ في ذلك اتِّفاقُهما في الدِّينِ والحُرِّيَّةِ واخْتِلافُهما فيه؛ لأَنَّ انْتِفاءَ (¬1) القِصاصِ لشَرَفِ الأُبُوَّةِ، وهو مَوْجُودٌ في كلِّ حالٍ، فلو قَتَل الكافرُ وَلَدَه (¬2) المسلمَ، أو قَتَل المسلمُ أباه الكافرَ، أو قَتَل العبدُ وَلَدَه الحُرَّ، أو قَتَل الحُرُّ وَالِدَه (¬3) العبدَ، لم يَجِبِ القِصاصُ لشَرَفِ الأُبُوَّةِ فيما إذا قَتَل وَلَدَه، وانْتِفاءِ المُكافَأةِ فيما إذا قَتَل والِدَه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «والده». (¬3) في م: «ولده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَداعَى نَفْسان نَسَبَ صغيرٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، ثم قَتَلاه قبلَ إلْحاقِه بواحدٍ منهما، فلا قِصاصَ عليهما؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ ابنَ كلِّ واحدٍ منهما أو ابنَهما. وإن ألْحَقَتْه القافَةُ بأحَدِهما، ثم قَتَلاه، لم يُقْتَلْ أبوه، وقُتِل الآخَرُ؛ لأنَّه شَرِيكُ الأبِ في قَتْلِ الابنِ. وإن رَجَعا جميعًا عن الدَّعْوَى، لم يُقْبَلْ رُجُوعُهما؛ لأَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ للوَلَدِ، فلم يُقْبَلْ رُجُوعُهما عن إقْرارِهما به، كما لو أقَرّا له بحَقٍّ سِواه، أو كما لو ادَّعاه واحدٌ، فأُلْحِقَ به، ثم جَحَدَه. وإن رَجَع أحَدُهما، صَحَّ رُجُوعُه، وثَبَت نَسَبُه مِن الآخَرِ؛ لأَنَّ رُجُوعَه لا يُبْطِلُ نَسَبَه، ويَسْقُطُ القِصاصُ عن الذى لم يَرْجِعْ، ويَجبُ على الرَّاجِعِ؛ لأنَّه شارَكَ الأبَ، وإن عُفِىَ (¬1) عنه، فعليه نِصْفُ الدِّيَةِ. ولو اشْتَرَكَ رَجُلان في وَطْءِ امرأةٍ في طُهْرٍ واحدٍ، وأتَتْ بوَلَدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ منهما، فقَتَلاه قبلَ إلحاقِه بأحَدِهما، لم يَجِبِ القِصاصُ. وإن نَفَيَا نَسَبَه، لم يَنْتَفِ [بقَوْلِهما، وإن نَفاه أحَدُهما، لم يَنْتَفِ] (¬2) بقَوْلِه؛ لأنَّه لَحِقَه (¬3) بالفِراشِ، فلا يَنْتَفِى إلَّا باللِّعانِ. وفارَقَ التىِ قبلَها مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ أحَدَهما إذا رَجَع عن دَعْواه، لَحِق الآخرَ، وههُنا لا يَلْحَقُ بذلك. والثانى، أنَّ ثُبُوتَ نَسَبِه ثَمَّ (¬4) ¬

(¬1) في م: «عفا». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «لحق». (¬4) في الأصل، م: «تم».

4080 - مسألة: (ويقتل الولد بكل واحد منهما، فى أظهر الروايتين)

وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فِى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاعْتِرافِ، فيَسْقُطُ بالجَحْدِ، وههُنا ثَبَت بالاشْتِراكِ، فلا يَنْتَفِى بالجَحْدِ. ومَذْهَبُ الشافعىِّ في هذا الفَصْلِ كما قُلْنا سَواءً. 4080 - مسألة: (ويُقْتَلُ الوَلَدُ بكُلِّ واحِدٍ منهما، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن) هذا قولُ جماعةِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالِكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى. وحَكَى (¬1) بعضُ أصحابِنا عن أحمدَ، أنَّ الابنَ لا يُقْتَلُ بأبيه؛ لأنَّه ممَّن (¬2) لا (¬3) تُقْبَلُ شَهادَتُه له بحَقِّ النَّسَبِ، فلا يُقْتَلُ به، كالأبِ مع ابنِه. والصَّحيحُ أنَّه يُقْتَلُ به؛ للآياتِ (¬4) والأخْبارِ، ومُوافَقَةِ القِياسِ. ولأَنَّ الأبَ أعْظَمُ حُرْمَةً وحَقًّا مِن الأجْنَبِىِّ، فإذا قُتِل بالأجْنَبِىِّ، فبالأبِ أوْلَى، ولأنَّه يُحَدُّ بقَذْفِه، فيُقْتَلُ به، كالأجْنَبِىِّ. [ولا يَصِحُّ] (¬5) قياسُ الابنِ على الأبِ؛ لأَنَّ حُرْمَةَ الوالدِ على الوَلَدِ آكَدُ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «عن». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في تش: «للآثار». (¬5) في الأصل، تش: «والأصح».

4081 - مسألة: (متى ورث ولده القصاص أو شيئا منه، أو ورث القاتل شيئا من دمه، سقط القصاص)

وَمَتَى وَرِثَ وَلَدُهُ الْقِصَاصَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ وَرِثَ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِنْ دَمِهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَلَوْ قَتَلَ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والابنُ مُضافٌ إلى أبيه بلامِ التَّمْلِيكِ، بخِلافِ الولدِ مع الوالدِ. وقد ذَكَر أصحابُنا حَدِيثَيْنِ مُتَعارِضَيْنِ عن سُراقةَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَا يُقَادُ الأبُ مِن ابِنه، وَلَا الابْنُ مِن أبِيه» (¬1). والثانى: أنَّه كان يُقِيدُ الأبَ مِن ابنِه، ولا يُقِيدُ الابنَ مِن أبيه (¬2). [وهذا الحديثُ] (¬3) لا نَعْرِفُه، ولم نَجِدْه في كُتُبِ (¬4) السُّنَنِ المَشْهُورَةِ، ولا أظُنُّ له أصْلًا، [وإن كان له أصلٌ] (¬5)، فهما مُتَعارِضان مُتَدافِعان، يجبُ اطِّراحُهما، والعَمَلُ بالنُّصُوصِ الواضِحَةِ الثّابِتَةِ، والإِجْماعِ الذى لا تجوزُ مُخالَفَتُه. 4081 - مسألة: (متى وَرِثَ وَلَدُهُ القِصاصَ أو شيئًا منه، أو وَرِثَ القاتِلُ شيئًا مِن دَمِه، سَقَط القِصاصُ) فلو قَتَل أحَدُ الزَّوْجَيْنِ صاحِبَه، ولهما ولدٌ، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لأنَّه لو وَجَب لوَجَبَ لولدِه، ¬

(¬1) لم نجده. (¬2) أخرجه الترمذى، من حديث سراقة بن مالك، في: باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 174. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 142. وقد ضعفه الترمذى. وانظر نصب الراية 4/ 340. (¬3) في تش: «وهذان الحديثان». (¬4) في م: «كتاب». (¬5) سقط من: ق، م.

4082 - مسألة: (ولو قتل رجل أخا زوجته، فورثته، ثم ماتت، فورثها ولده، سقط عنه القصاص)

أَوْ قَتَلَ أَخَاهَا، فَوَرِثَتْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ، فَوَرِثَهَا وَلَدُهُ، سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَجِبُ للولدِ قِصاصٌ على أبيه؛ لأنَّه إذا لم يجبْ بالجِنايةِ عليه، فلأن لا يجبَ له بالجِنايةِ على غيرِه أوْلَى. وسَواءٌ كان الولدُ ذكرًا أو أُنْثَى، أو كان للمَقْتُولِ ولدٌ سِواه، أو مَن يُشارِكُه في المِيراثِ، أو لم يكنْ؛ لأنَّه لو ثَبَت القِصاصُ، لوَجَب له جُزْءٌ منه، ولا يُمْكِنُ وُجُوبُه، وإذا لم يَثْبُتْ بعضُه، سَقَط كلُّه؛ لأنَّه لا يَتَبَعَّضُ، وصار كما لو عَفا بعضُ مُسْتَحِقِّى القِصاصِ عن نَصِيبِه منه. فإن لم يكنْ للمَقْتُولِ ولدٌ منهما، وَجَب القِصاصُ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الزُّهْرِىُّ: لا يُقْتَلُ الزَّوْجُ بامْرأتِه؛ لأنَّه مَلَكَها بعقدِ النِّكاحِ، أشْبَهَ الأمَةَ. ولَنا، عُمُومُ النُّصُوصِ. ولأنَّهما شَخْصان مُتَكافِئانِ، يُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما بقَذْفِ صاحِبِه، فيُقْتَلُ به، كالأجْنَبِيَّيْن. قولُه: [إنَّه مَلَكَها] (¬1). غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّها حُرَّةٌ، وإنَّما مَلَك مَنْفَعَةَ الاسْتِمْتاعِ، فأشْبَهَ المُسْتَأْجَرَةَ، ولهذا تجبُ عليه دِيَتُها، ويَرِثُها وَرَثَتُها، ولا يَرِثُ منها إلَّا قَدْرَ مِيراثِه، ولو قَتَلَها غيرُه، كانت دِيَتُها أو القِصاصُ لوَرَثَتِها، بخِلافِ الأمَةِ. 4082 - مسألة: (ولو قَتَل رجلٌ أخْا زَوْجَتِه، فوَرِثَتْه، ثم ماتت، فوَرِثَها ولدُه، سَقَط عنه القِصاصُ) وسَواءٌ كان لها ولدٌ مِن غيرِهِ أو لا؛ ¬

(¬1) في ق، م: «إنما ملكه».

4083 - مسألة: (ولو قتل أباه أو أخاه، فورثه أخواه، ثم قتل أحدهما صاحبه، سقط القصاص عن الأول؛ لأنه ورث بعض دم نفسه)

وَلَوْ قَتَلَ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ، فَوَرِثَهُ أَخَوَاهُ، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ بَعْضَ دَمِ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الابْنَيْنَ أَبَاهُ، وَالْآخَرُ أُمَّهُ، وَهِىَ زَوْجَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ القِصاصَ فيما وَرِثَه وَلَدُه منهما (¬1)، فيَسْقُطُ جميعُه؛ لأَنَّ القِصاصَ لا يَتَبَعَّضُ، فأشْبَهَ ما لو عَفا أحَدُ الشَّرِيكَيْنِ. وكذلك لو قَتَلَتِ المرأةُ أخا زَوْجِها، فصار القِصاصُ أو جزءٌ منه لابنِها، سَقَط القِصاصُ، سَواءٌ صار إليه ابْتِداءً أو انْتَقَلَ إليه مِن أبِيه أو مِن غيرِه؛ لِما ذكَرْناه. فصل: ولو قَتَلَ رجُلٌ أخاه، فوَرِثَه ابنُ القاتِلِ، أو أحَدًا (¬2) يَرِثُ ابْنُه منه شَيْئًا، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: وإذا قَتَل أحَدُ أبَوَىِ المُكاتَبُ المُكاتَبَ، أو عبدًا له، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لأَنَّ الوالِدَ لا يُقْتَلُ بوَلَدِه، ولا يَثْبُتُ للوَلَدِ على والدِه قِصاصٌ. وإنِ اشْتَرَى المُكاتَبِ أحدَ أبَوَيْه؛ ثم قَتَلَه، لم يَجِبْ عليه (1) القِصاصُ؛ لأَنَّ السَّيِّدَ لا يُقْتَلُ بعبدِه. 4083 - مسألة: (ولو قَتَل أبَاه أو أخاه، فوَرِثَه أخواه، ثم قَتَل أحَدُهما صاحِبَه، سَقَط القِصاصُ عن الأَوَّلِ؛ لأنَّه وَرِث بعضَ دَم نفسِه). 4084 - مسألة: (وإن قَتَل أحَدُ الابْنَيْن أباه، والآخَرُ أُمَّه، وهى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ق، م: «أحد».

الْأَبِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الأَوَّلِ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَخِيهِ وَيَرِثَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ زَوْجَةُ الأب، سَقَط القِصاصُ عَنِ الأَوَّلِ لذلك، وله أن يَقْتَصَّ مِن أخيه ويَرِثَه) لأَنَّ القَتْلَ بحَقٍّ لا يَمْنَعُ المِيراثَ. إذا قَتَل أحَدُ الابْنَيْن أباه، والآخَرُ أُمَّه، والزَّوْجِيَّةُ بينَهما مَوْجُودَةٌ حالَ قَتْلِ الأَوَّلِ، فالقِصاصُ على القاتلِ الثانى دُونَ الأوَّل؛ لأَنَّ القَتِيلَ (¬1) الثانىَ وَرِثَ جُزْءًا مِن دَم الأَوَّلِ، فلَمّا قُتِل وَرِثَه قاتِلُ الَأوَّلِ، فصار له جزءٌ مِن دَمِ نفسِه، فسَقَطَ القِصاصُ، ووَجَبَ له القِصاصُ على أخيه، فإن قَتَلَه، وَرِثَه إن لم يكنْ له وارِثٌ سِواه؛ لأنَّه قَتْلٌ بحَقٍّ، وإن عَفا عنه إلى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ، وتقَاصَّا بما بينَهما، وما فَضَل (¬2) لأحَدِهما فهو على أخِيه. فصل: وإن لم تكنْ زَوْجَةَ الأبِ، فعلى كلِّ واحدٍ مِنهما القِصاصُ لأخيه؛ لأنَّه وَرِثَ الذى قَتَلَه أخوه وحدَه دُونَ قاتِلِه. فإنْ بادَرَ أحَدُهما فقَتَلَ أخاه، فقد اسْتَوْفَى حَقَّه، وسَقَط القِصاصُ عنه؛ لأنَّه يَرِثُ أخاه، لكونِه قَتْلًا بحَقٍّ، فلا يَمْنَعُ المِيراثَ، إلَّا أن يكونَ للمَقْتُولِ ابنٌ، أو ابنُ ابنٍ يَحْجُبُ القاتِلَ، فيكونُ له قَتْلُ عَمِّه، ويَرِثُه إن لم يكُنْ له وارِثٌ سِواهُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل، تش: «حصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تَشاحَّا في المُبْتَدِئ مِنهما بالقَتْلِ، احْتَمَلَ أن يُبْدَأَ بقَتْلِ القاتِلِ الأَوَّلِ؛ لأنَّه أسْبَقُ، واحْتَمَلَ أن يُقْرَعَ بينَهما. وهو قولُ القاضى، ومَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّهما تَساويا في الاسْتِحْقاقِ، فصِرْنا إلى القُرْعَةِ. وأيُّهما قَتَل صاحِبَه أوَّلًا، إمّا بمُبادَرَةٍ أو قُرْعَةٍ، وَرِثَه، في قِياسِ المَذْهَبِ، إن لم يكنْ له وارِثٌ سِواه، وسَقَط عنه القِصاصُ، وإن كان مَحْجُوبًا عن مِيراثِه كلِّه، فلِوَارثِ القَتِيلِ قَتْلُ الآخَرِ. وإن عَفا أحَدُهما عن الآخَرِ، ثم قَتَل المَعْفُوُّ عنه العافِىَ، وَرِثَه أيضًا، وسَقَط عنه ما وَجَب عليه مِن الدِّيَةِ. فإن تَعافَيا جميعًا (¬1). على الدِّيَةِ، تَقاصّا بما اسْتَوَيا فيه، ووَجَب لقاتِلِ الأُمِّ الفَضْلُ (¬2) على قاتِلِ الأبِ؛ لأَنَّ عَقْلَها نِصْفُ عَقْلِ الأبِ. ويَتَخرَّجُ أن يَسْقُطَ القِصاصُ عنهما في اسْتِحْقاقِه، كسُقُوطِ الدِّيَتَيْن إذا تَساوَتا، ولأنَّه لا سَبِيلَ إلى اسْتِيفائِهما (¬3) معًا، واسْتِيقاءُ أحَدِهما دُونَ الآخَرِ حَيْفٌ لا يجوزُ، فتَعَيَّنَ السُّقُوطُ. وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما ابْنٌ يَحْجُبُ عَمَّه عن مِيراثِ أبِيه، فإذا قَتَل أحَدُهما صاحِبَه، وَرِثَه ابنُه، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «له». (¬2) في الأصل، تش: «القصاص». (¬3) في الأصل: «استوائهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وللابنِ أن يَقْتُلَ عَمَّه، ويَرِثه ابنُه، ويَرِثُ كلُّ واحدٍ مِن الابْنَيْن مالَ أبيه، ومالَ جَدِّه الذى (¬1) قَتَلَه عَمُّه دُونَ الذى قَتَلَه أبُوه. وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بِنْتٌ، فقَتَلِ أحَدُهما صاحِبَه، سَقَط القِصاصُ عنه؛ لأنَّه وَرِثَ نِصْفَ مالِ أخِيه ونِصْف قِصاصِ نفسِه، فسَقَطَ عنه (¬2) القِصاصُ، ووَرِثَ مالَ أبيه الذى قَتَلَه أخُوه، ونِصْفَ مالِ أخِيه (¬3)، ونِصْفَ مالِ أبيه الذى قَتَلَه هو، ووَرِثَتِ البنتُ التى قُتِلَ أبُوها نِصْفَ مالِ أبِيها، ونِصْفَ مالِ جَدِّها الذى قَتَلَه عَمُّها، ولها على عَمِّها نِصْفُ دِيَةِ قَتِيِله (¬4). فصل: أرْبَعَةُ إخْوَةٍ، قَتَل الأَوَّلُ الثانى، والثالثُ الرابعَ، فالقِصاصُ على الثالثِ؛ لأنَّه لَمَّا قَتَل الرابعَ، لم يَرِثْه، ووَرِثَه الأوَّلُ وحدَه، وقد على الثالثِ؛ لأنَّه لَمّا قَتَل الرابعَ، لم يَرِثْه، ووَرِثَه الأَوَّلُ وحدَه، وقد كان للرابعِ نِصْفُ قِصاصِ الأَوَّلِ، فرَجَعَ نِصْف قِصاصِه إليه، فسَقَطَ، ووَجَب للثالثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وكان للأوَّلِ قَتْلُ الثالثِ؛ لأنَّه لم يَرِثْ مِن دَمِ نفسِه شيئًا، فإن قَتَلَه، وَرِثَه في ظاهرِ المَذْهَبِ، ويَرِثُ ما يَرِثُه عن أخيه الثانى، فإن عَفا عنه إلى الدِّيَةِ، وجَبَتْ عليه بكَمالِها يُقاصُّه بنِصْفِها. وإن كان لهما وَرثةٌ، كان فيها مِن التَّفْصيلِ مثلُ الذى في التى قبلَها. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «والذى». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ر 3، م: «أخته». (¬4) في الأصل، تش: «قتله».

4085 - مسألة: (وإن قتل من لا يعرف، وادعى كفره)

وَإِنْ قَتَلَ مَنْ لَا يَعْرِفُ، وَادَّعَى كُفْرَهُ، أَوْ رِقَّهُ، أَوْ ضَرَبَ مَلْفُوفًا فَقَدَّهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ، أَوْ قَتَلَ رَجُلًا فِى دَارِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4085 - مسألة: (وإن قَتَل مَن لا يَعْرِفُ، وادَّعَى كُفْرَه) لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه مَحْكُومٌ بإسْلامِه بالدارِ، ولهذا يُحْكَمُ بإسْلامِ اللَّقِيطِ، ويكونُ القولُ قولَ الوَلِىِّ، وكذلك (إنِ ادَّعَى رِقَّه) لأَنَّ الأَصْلَ الحُرِّيَّةُ، والرِّقُّ طارِئٌ. وكذلك لو (ضَرَبَ مَلْفُوفًا، فقَدَّهْ، وادَّعَى أنَّه كان مَيِّتًا) لم يُقْبَلْ قولُه (¬1)؛ لأَنَّ الأَصْلَ الحَياةُ. وإن قَطَع طَرَفَ إنْسانٍ وادَّعَى شَلَلَه، لم يُقْبَلْ؛ لأَنَّ الأَصْلَ السَّلامَةُ. 4086 - مسألة: (وإن قَتَل رجلًا في دارِه، وادَّعَى أنَّهُ دَخَل ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

وَادَّعَى أنَّهُ دَخَلَ يُكَابِرُهُ عَلَى أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُكابِرُه (¬1) على أهْلِه أو مالِه، فقَتَلَه دَفْعًا عن نفسِه، وأنْكَرَ وَلِيُّه) فالقولُ قولُ الوَلِىِّ. وجملةُ ذلك، أنَّه إذا قَتَل رجلًا، وادَّعَى أنَّه وَجَدَه مع امرأتِه، أو أنَّه قَتَلَه دَفْعًا عن نفسِه، أو أنَّه دَخَل مَنْزِلَه يُكابِرُه على مالِه، فلم يَقْدِرْ على دَفْعِه إلَّا بقَتْلِه، لم يُقْبَلْ قولُه إلَّا ببَيِّنَةٍ، ولَزِمَه القِصاصُ إذا أنْكَرَ وَلِيُّه. رُوِى نحوُ ذلك عن علىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا أعْلَمُ فيه (¬2) مخالِفًا. وسواءٌ وُجِد في دارِ القاتِلِ أو في غيرِها، وُجِد معه سِلاحٌ أو لم يُوجَدْ؛ لِما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه سُئِل عمَّن وَجَد مع امرأتِه رجلًا فقَتَله، فقال: إن لم يَأْتِ بأرْبعةِ شُهَداءَ، فلْيُعْطَ برُمَّتِه (¬3). ولأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ ما يَدَّعِيه، فلا يَثْبُتُ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. فأمّا إنِ اعْتَرَفَ الوَلِىُّ بذلك، فلا قِصاصَ عليه ¬

(¬1) كابره: جاحده وغالبه على حقه. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) أخرجه الإمام مالك، في: باب القضاء في من وجد مع امرأته رجلا، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 737، 738. وعبد الرزاق، في: باب الرجل يجد على امرأته رجلا، من كتاب العقول. المصنف 9/ 433، 434. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يجد مع امرأته رجلا فيقتله، من كتاب الديات. المصنف 9/ 403. وأعطى برمته: الرمة، بالضم: قطعة حبل يشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القصاص، أى يسلم إليهم بالحبل الذى شد به تمكينا منه لئلا يهرب. النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 267.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا دِيَةَ؛ لِما رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يومًا يتَغَدَّى، إذ جاء رجلٌ يَعْدُو، وفى يَدِه سَيْفٌ مُلَطَّخٌ بالدَّمِ، ووَراءَه قومٌ يَعْدُونَ خلفَه، فجاء حتى جَلَس مع عُمَرَ، فجاء الآخَرُون، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ هذا قَتَل صاحِبَنا. فقال له عُمَرُ: ما يقولون؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنِّى ضَرَبْتُ فَخِذَىِ امرأتِى، فإن كان بينَهما أحَدٌ فقد قَتَلْتُه. فقال عُمَرُ: ما يقولُ؟ قالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنَّه ضَرَب بالسَّيْفِ، فوَقَعَ في وَسَطِ الرَّجُلِ وفَخِذَىِ المرأةِ. فأخَذَ عُمَرُ سَيْفَه فهَزَّه، ثم دَفَعَه إليه، وقال:

4087 - مسألة: (وإن تجارح اثنان، وادعى كل واحد)

أَوْ تَجَارَحَ اثْنَانِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن عادُوا فعُدْ. رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬1). [ورُوِىَ عن الزُّبَيْرِ، أنَّه كان يومًا قد تخَلَّفَ عن الجَيْشِ، ومعه جارِيَةٌ له، فأتاه رَجُلان فقالا: أعْطِنا شيئًا] (¬2). فأعْطاهما طعامًا كان معه، فقالا: خَلِّ عن الجاريةِ. فضَرَبَهما بسَيْفِه، فقَطَعَهما بضَرْبَةٍ واحدةٍ (¬3). ولأَنَّ الخَصْمَ اعْتَرَفَ بما يُبِيحُ قَتْلَه، فسَقَطَ حَقُّه، كما لو أقَرَّ بقَتْلِه قِصاصًا، أو في حَدٍّ يُوجِبُ قَتْلَه. وإن ثَبَت ببَيِّنَةٍ، فكذلك. 4087 - مسألة: (وإن تَجارَحَ اثْنان، وادَّعَى كلُّ وَاحِدٍ) منهما (أنَّه جَرَح) صاحِبَه (دَفْعًا عن نفسِه) وأنْكَرَ الآخَرُ (وَجَب القِصاصُ، والقولُ قولُ المُنْكِرِ) لأَنَّ سَبَبَ القِصاصِ قد وُجِد وهو الجُرْحُ، والأَصْلُ ¬

(¬1) وانظر ما أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 404، 405. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه الزبير بن بكار، في الأخبار الموفّقيات 382.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَدَمُ ما يدَّعِيه الآخَرُ. وقال شيخُنا (¬1): يجبُ الضَّمانُ لذلك، والقولُ قولُ كلِّ واحدٍ منهما مع يَمِينِه في نَفْىِ القِصاصِ؛ لأنَّه ما يَدَّعِيه مُحْتَمِلٌ، فيَنْدَرِئُ به القِصاصُ، لأنَّه يَنْدَرِئُ (¬2) بالشُّبُهاتِ. هذا الذى ذَكَره في كتَابِ «الكافِى». والأَوَّلُ أقْيَسُ؛ لأنَّه لو كان دَعْوَى ما يَمْنَعُ القِصاصَ، إذا احْتَمَلَ مانِعٌ منه، لَما وَجَب القِصاصُ في المسائلِ المُتَقَدِّمَةِ، والحُكْمُ بخِلافِه. واللَّهُ أعلمُ. فصل: أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ القَوَدَ لا يجبُ إلَّا بالعَمْدِ، ولا نَعْلَمُ في وُجُوبِه بقَتْلِ العَمْدِ إذا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُه وانْتَفَتِ المَوانِعُ خِلافًا، وقد دَلَّت عليه الآياتُ والأخْبارُ بعُمُومِها، فقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬3). وقال تعالى: ¬

(¬1) في: الكافى 4/ 70. (¬2) في الأصل: «يدرأ». (¬3) سورة الإسراء 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬1). وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬2). يُرِيدُ -واللَّه أعلمُ- أنَّ وُجُوبَ القِصاصِ يَمْنَعُ الإِقْدامَ على القَتْلِ، خَوْفًا على نَفْسِه مِن القَتْل، فتَبْقَى الحياةُ في مَن أُرِيدَ قَتْلُه. وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬3). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وإمَّا أَنْ يُفْدَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وروَى أبو شُرَيْحٍ الخُزاعِىُّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أُصِيبَ بدَمٍ، فَهُوَ بِالخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ؛ فإنْ أرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ أنَ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ». رَواه أبو داودَ (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة 178. (¬2) سورة البقرة 179. (¬3) سورة المائدة 45. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 17. (¬5) في: باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 478. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من قتل له قتيل فهر بالخيار بين إحدى ثلاث، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 876. والدارمى، في: باب الدية في قتل العمد، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 188. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الحُرَّ المسلمَ يُقادُ به قاتِلُه، وإن كان مُجَدَّعَ الأطْرافِ، مَعْدُومَ الحَواسِّ، والقاتلُ صحيحٌ سَوِىُّ الخَلْقِ، أو (¬1) كان بالعَكْسِ. وكذلك إن تَفاوَتا في العلمِ والشَّرَفِ، والغِنَى والفَقْرِ، والصِّحَّةِ والمَرَضِ، والقُوَّةِ والضَّعْفِ، والكِبَرِ والصِّغَرِ، ونحو ذلك، لا يَمْنَعُ القِصاصَ بالاتِّفاقِ، وقد دَلَّتْ عليه العُمُوماتُ التى تَلَوْناها، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «المُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» (¬2). [ولأَنَّ] (¬3) اعْتِبارَ التَّسَاوِى في الصِّفاتِ والفَضائِلِ، يُفْضِى إلى إسْقاطِ القِصاصِ بالكُلِّيَّةِ، وفَواتِ حِكْمَةِ (¬4) الرَّدْعِ والزَّجْرِ، فوَجَبَ أن يَسْقُطَ اعْتِبارُه، كالطُّولِ والقِصَرِ، والسَّوادِ والبَياضِ. فصل: ويَجْرِى القِصاصُ بينَ الوُلاةِ والعُمَّالِ وبينَ رَعِيَّتِهم؛ لعُمُومِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «إن». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 101. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، تش: «حكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآياتِ والأخْبارِ التى ذَكَرْناها. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. وثَبَت عن أبى بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال لرجلٍ شَكا إليه عامِلًا (¬1) أنَّه قَطَع يَدَه ظُلْمًا: لَئِنْ كنتَ صادِقًا لأُقِيدَنَّك منه (¬2). وثَبَت أنَّ عمرَ كان يُقِيدُ مِن نَفْسِه. وروَى أبو داودَ (¬3)، قال: خَطَب عُمَرُ فقال: إنِّى لم أبْعَثْ عُمَّالِى ليَضْرِبُوا أبْشارَكم، ولا ليَأْخُذُوا أمْوالَكم، فمَن فُعِل به ذلك فلْيَرْفَعْه إلىَّ، أقُصُّه (¬4) منه. فقال عمرُو بنُ العاصِ: لو أنَّ رجلًا أدَّبَ بعضَ رَعِيَّتِه، أتَقُصُّه منه؟ قال: إى والذى نَفْسِى بيَدِه، أقَصُّه، وقد رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقَصَّ مِن نَفْسِه. ولأَنَّ المُؤمنين تَتَكافَأُ دِماؤُهم، وهذان حُرَّانِ مسلمان، ليس بينَهما إيلادٌ، فيَجْرِى (¬5) القِصاصُ بينَهما، كسائرِ الرَّعِيَّةِ. فصل: ولا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِ القِصاصِ كونُ القَتْلِ في دارِ الإِسْلامِ، بل متى قَتَل في دارِ الحَرْبِ مسلمًا عالِمًا بإسلامِه عامِدًا، فعليه القَوَدُ، سَواءٌ كان قد هاجَرَ أو لم يُهاجِرْ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو ¬

(¬1) في الأصل، تش: «غلاما». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: «المصنف 10/ 188. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 184. (¬3) في: باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 490. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 41. والنسائى مختصرا، في: باب القصاص من السلاطين، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 31. (¬4) في الأصل: «أقصيه». (¬5) في الأصل، تش: «فيجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ: لا يجبُ القِصاصُ بالقَتْلِ في غيرِ دارِ الإِسلامِ، فإن لم يكنِ المَقْتُولُ هاجَرَ، لم يَضْمَنْه بقِصاصٍ ولا دِيَةٍ، عمدًا قَتَلَه أو خَطَأ، وإن كان قد هاجَرَ، ثم عاد إلى دارِ الحَرْبِ، كرَجُلَيْن مُسْلِمَيْن دَخَلا دارَ الحَرْبِ بأمانٍ، فقَتَلَ أحَدُهما صاحِبَه، ضَمِنَه بالدِّيَةِ، ولم يَجِبِ القَوَدُ. وحُكِىَ عن أحمدَ رِوايةٌ كقَوْلِه. ولو قَتَل رجلٌ أسِيرًا مسلمًا في دارِ الحَرْبِ، لم يَضْمَنْه إلَّا بالدِّيَةِ [ولم يَجِبِ القودُ] (¬1)، عمدًا قَتَلَه أو خَطَأً. ولَنا، ما ذَكَرْنا مِن الآياتِ والأخْبارِ، ولأنَّه قَتَل مَن يُكافِئُه عمدًا ظُلْمًا، فوَجَبَ عليه القَوَدُ، كما لو قَتَلَه في دارِ الإِسلامِ، ولأَنَّ كلَّ دارٍ يَجِبُ فيها القِصاصُ إذا كان فيها إمامٌ، يَجِبُ وإن لم يكنْ فيها إمامٌ، كدارِ الإِسْلامِ. فصل: وقَتْلُ الغِيلَةِ وغيرُه سَواءٌ في القِصاصِ والعَفْوِ، وذلك للوَلِىِّ دُونَ السُّلْطانِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ: الأمْرُ عندَنا أن يُقْتَلَ به، وليس لوَلِىِّ الدَّمِ أن يَعْفُوَ عنه، وذلك إلى السُّلْطانِ. والغِيلَةُ عندَه، أن يُخْدَعَ الإِنْسانُ، فيُدْخَلَ بَيْتًا أو نحوَه، فيُقْتَلَ أو يُؤْخَذَ مالُه. ولَعَلَّه يَحْتَجُّ بقولِ (¬2) عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عنه، في الذى قُتِل غِيلَةً: لو تَمالَأَ عليه أهلُ صَنْعاءَ [لأقَدْتُهم به] (¬3). ¬

(¬1) زيادة من: ق، م. (¬2) في ق، م: «بحديث». (¬3) في الأصل: «لأنحلتهم بها». وتقدم تخريجه في صفحة 44.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبقِياسِه على المُحارِبِ. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬1). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَأهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» (¬2). ولأنَّه قَتِيلٌ في غيرِ المُحارَبَةِ، فكان أمْرُه إلى وَلِيِّه، كسائرِ القَتْلَى. وقولُ عُمَرَ: [لأقَدْتُهم به] (¬3). أى أمْكَنْتُ الوَلِىَّ مِن استِيفاءِ القَوَدِ منهم. ¬

(¬1) سورة الإسراء 33. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ولى العمد يرضى بالدية، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 480. والترمذى، في: باب ما جاء في حكم ولى القتيل في القصاص والعفو، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 177، 178. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 385. (¬3) في الأصل، تش، ق: «لأقيدنهم بها».

باب استيفاء القصاص

بَابُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَيُشْتَرَطُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مُكَلَّفًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، لَمْ يَجُزِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَيُحْبَسُ الْقَاتِلُ حَتَّى يَبْلُغ الصَّبِىُّ وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَبٌ، فَهَلْ لَهُ اسْتِيفَاؤهُ لَهُمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اسْتِيفاءِ القِصاصِ (ويُشْتَرطُ له ثلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أن يكونَ مَن يَسْتَحِقُّه مُكَلَّفًا، فإن كان صَبِيًّا أو مَجْنُونًا، لم يَجُزِ اسْتِيفاؤُه، ويُحْبَسُ القاتِلُ حتى يَبْلُغَ الصَّبِىُّ ويَعْقِلَ المَجْنونُ) إذا كان مَن يَسْتَحِقُّ القِصاصَ واحِدًا غيرَ مُكَلَّفٍ، صَغِيرًا أو مَجْنُونًا، كصَبِىٍّ قُتِلَتْ أُمُّه، وليست زوجةً لأبِيه، فالقِصاصُ له، وليس لأبِيه ولا لغيرِه اسْتِيفاؤُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، له اسْتِيفاؤُه. وكذلك الحُكْمُ في الوَصِىِّ والحاكمِ في الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ. وذَكَر أبو الخَطّابِ في مَوْضِعٍ في الأبِ رِوايَتَيْن،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى مَوْضِعٍ وَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، كقَوْلِهما (¬1)؛ لأَنَّ القِصاصَ أحَدُ بَدَلَى النَّفْسِ، فكان للأبِ اسْتِيفاؤُه، كالدِّيَةِ. ولَنا، أنَّه لا يَمْلِكُ إيقاعَ الطَّلاقِ بزَوْجَتِه، فلا يَمْلِكُ اسْتِيفاءَ القِصاصِ له، كالوَصِىِّ. ولأَنَّ القَصْدَ التَّشَفِّى ودَرْكُ الغَيْظِ، ولا يَحْصُلُ ذلك باسْتِيفاءِ الوَلِىِّ. ويُخالِفُ الدِّيَةَ، فإنَّ الغَرَضَ يَحْصُلُ باسْتِيفاءِ الأبِ، فافْتَرَقا، ولأَنَّ الدِّيَةَ إنَّما يَمْلِكُ اسْتِيفاءَها إذا تَعَيَّنَتْ، والقِصاصُ لا يَتَعَيَّنُ، فإنَّه يجوزُ العَفْوُ إلى الدِّيَةِ، والصُّلْحُ على (¬2) مالٍ أكْثَرَ منها و (¬3) أقَلَّ، والدِّيَةُ بخِلافِ ذلك. فصل: وكلُّ مَوْضِعٍ يجبُ تَأْخِيرُ الاسْتِيفاءِ، فإنَّ القاتِلَ يُحْبَسُ حتى يَبْلُغَ الصَّبِىُّ، ويَعْقِلَ المَجْنُونُ، ويَقْدَمَ الغائِبُ، وقد حَبَس مُعاوِيَةُ هُدْبَةَ ابنَ خَشْرَمٍ في قِصاصٍ حتى بَلَغ ابنُ القَتِيلِ، في عَصْرِ الصحابةِ، فلم يُنْكَرْ ذلك، وبَذَل الحسنُ والحسينُ وسعيدُ بنُ العاصِ لابنِ القَتِيلِ سَبْعَ دِيَاتٍ، فلم يَقْبَلْها (¬4). فإن قِيلَ: فلِمَ لا يُخَلَّى سَبِيلُه كالمُعْسِرِ (¬5) ¬

(¬1) في تش: «هو لهما». (¬2) في م: «إلى». (¬3) في م: «أو». (¬4) انظر: الكامل للمبرد 4/ 84، 85. (¬5) في م: «كالعسر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالدَّيْنِ؟ قُلْنا: لأَنَّ في (¬1) تَخْلِيَتِه تَضْيِيعًا للحَقِّ؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ هَرَبُه، والفَرْقُ بينَه وبينَ المُعْسِرِ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ قَضاءَ الدَّيْنِ لا يَجِبُ مع الإِعْسارِ، فلا يُحْبَسُ بما لا يجبُ، والقِصاصُ ههُنا وأجِبٌ، وإنَّما تَعَذَّرَ المُسْتَوْفِى. الثانى، أنَّ المُعْسِرَ إذا حَبَسْناه تَعَذَّرَ الكَسْبُ لقَضاءِ الدَّيْنِ، فلا يُفِيدُ، بل يَضُرُّ مِن الجانِبَيْن، وههُنا الحَقُّ نفسُه يفُوتُ بالتَّخْلِيَةِ لا بالحَبْسِ. الثالثُ، أنَّه قد اسْتُحِقَّ قَتَلُه، وفيه تَفْوِيتُ نفسِه ونَفْعِه، فإذا تَعَذَّرَ تَفْوِيتُ نَفْسِه، جاز تَفْوِيتُ نَفعِه لإِمْكانِه. فإن قِيلَ: فلِمَ يُحْبَسُ مِن أجلِ الغائبِ، وليس للحاكِمِ عليه وِلايَةٌ إذا كان مُكَلَّفًا رَشِيدًا، ولذلك لو وَجَد بعضَ مالِه مَغْصُوبًا لم يَمْلِكِ انْتِزاعَه؟ قُلْنا: لأَنَّ في القِصاصِ حَقًّا للمَيِّتِ، وللحاكِمِ عليه وِلايَةٌ، ولهذا يُنْفِذُ وَصايَاه مِن الدِّيَةِ، ويَقْضِى دُيُونَه. منها، فنَظِيرُه أن يَجدَ الحاكمُ مِن تَرِكَةِ المَيِّتِ في يَدِ إنسانٍ شيئًا غَصْبًا، والوارِثُ غائبٌ، فإنَّه يَأْخُذُه. ولو كان القِصاصُ لِحَىٍّ في طَرَفِه، لم يَتَعَرَّضْ لِمَن هو عليه. فإن أقام القاتلُ كَفِيلًا بنفسِه ليُخَلَّى سَبِيلُه (¬2)، لم يَجُزْ؛ لأَنَّ الكَفالَةَ لا تَصِحُّ في القِصاصِ، فإنَّ فائِدَتَها اسْتِيفاءُ الحَقِّ مِن الكَفِيلِ إن تَعَذَّرَ إحْضارُ المَكْفُولِ به (¬3)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) بعده في م: «له». (¬3) زيادة من: ق، م.

4088 - مسألة: (فإن كانا محتاجين إلى النفقة، فهل لوليهما العفو إلى الدية؟ يحتمل وجهين)

فَإِنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى النَّفَقَةِ، فَهَلْ لِوَلِيِّهِمَا الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُه مِن غيرِ القاتلِ، فلم تَصِحَّ الكَفالَةُ به، كالحَدِّ. ولأَنَّ فيه تَغْرِيرًا بحَقِّ المُوَلَّى عليه، فإنَّه رُبَّما خَلَّى سَبِيلَه فهَرَبَ، فضاع الحَقُّ. 4088 - مسألة: (فإن كانا مُحْتاجَيْن إلى النَّفَقَةِ، فهل لوَلِيِّهما العَفْوُ إلَى الدِّيَةِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن) إذا وَجَب القِصاصُ لصغيرٍ أو مَجْنُونٍ، فليس لوَلِيِّه العَفْوُ عن القِصاصِ إلى غيرِ مالٍ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ إسْقاطَ حَقِّه، وكذلك إن عَفا إلى مالٍ، وكان الصَّبِىُّ في كِفايَةٍ، وقد ذَكَرْناه. فإن كان فَقِيرًا مُحْتاجًا إلى النَّفَقَةِ، جاز ذلك في أحَدِ الوَجْهَيْن. قال القاضى: وهو الصَّحيحُ. والثانى، لا يَجُوزُ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ إسْقاطَ قِصاصِه، ونَفَقَتُه في بيتِ المالِ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ، فإنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ في بيتِ المالِ لا تُغْنِيه

4089 - مسألة: (فإن قتلا قاتل أبيهما، أو قطعا قاطعهما قهرا، احتمل أن يسقط حقهما، واحتمل أن تجب دية أبيهما لهما فى مال الجانى)

وَإِنْ قَتَلَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا، أَو قَطَعَا قَاطِعَهُمَا قَهْرًا، احْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَجِبَ لَهُمَا دِيَةُ أَبِيهِمَا فِى مَالِ الْجَانِى، وَتَجِبَ دِيَةُ الْجَانِى عَلَى عَاقِلَتِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا لم يَحْصُلْ. وأمَّا إذا كان مُسْتَحِقُّ القِصاصِ مَجْنُونًا فَقِيرًا، فلوَلِيِّه العَفْوُ على (¬1) المالِ؛ لأنَّه ليست له حالَةٌ مُعْتادَةٌ يَنْتَظِرُ فيها إفاقَتَه ورُجُوعَ عَقْلِه، بخِلافِ الصَّبِىِّ. 4089 - مسألة: (فإن قَتَلا قاتِلَ أبيهما، أو قَطَعا قاطِعَهما قَهْرًا، احْتَمَلَ أن يَسْقُطَ حَقُّهما، واحْتَمَلَ أن تَجِبَ دِيَةُ أبيهما لهما في مالِ الجانى) ويَرْجِعُ وَرَثَةُ الجانى على عاقِلَتِهما إذا وَثَب الصَّبِىُّ أو المَجْنُونُ على القاتِلِ فقَتَلَه، أو على القاطِعِ فقَطَعَه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لحَقِّه؛ لأنَّه عَيْنُ (¬2) حَقِّه أتْلَفَه، فأشْبَهَ ما لو كانت ودِيعَةٌ عندَ رجلٍ. ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) في الأصل: «غير».

فصل

وَإِنِ اقْتَصَّا مِمَّنْ لَا تَحْمِلُ دِيَتَهُ الْعَاقِلَةُ، سَقَطَ حَقُّهُمَا، وَجْهًا وَاحِدًا. فَصْلٌ: الثَّانِى، اتِّفَاقُ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمُ اسْتِيفَاؤُهُ دُونَ بَعْضٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، لا يصيرُ مُسْتَوْفِيًا لحَقِّه؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ الاسْتِيفاءِ، فتَجِبُ له دِيَةُ أبيه في مالِ الجانِى؛ لأَنَّ عمدَ الصَّبِىِّ خَطَأٌ، وعلى عاقِلَتِه دِيَةُ القاتلِ، كما لو أتْلَفَ أجْنَبِيًّا، بخِلافِ الوَدِيعَةِ، فإنَّها لو تَلِفَتْ مِن غيرِ تَعَدٍّ، بَرِئَ منها المُودَعُ، ولو هَلَك الجانى (¬1) مِن غيرِ فِعْلٍ، لم يَبْرأْ مِن الجِنايةِ. 4090 - مسألة: (وإنِ اقْتَصَّا ممَّن لا تَحْمِلُ دِيَتَه العاقِلَةُ) كَالعبدِ (سَقَط حَقُّهما، وَجْهًا واحِدًا) لأنَّه لا يُمْكِنُ إيجابُ دِيَتِه على العاقِلَةِ، فلم يكنْ إلَّا سُقُوطُه. فصل: (الثانى، اتِّفاقُ جميعِ الأوْلِياءِ على اسْتِيفائِه، وليس لبعضِهم الاسْتِيفاءُ دُونَ بعضٍ) لأنَّه يكونُ مُسْتَوْفِيًا لحَقِّ غيرِه بغيرِ ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

4091 - مسألة: (فإن فعل، فلا قصاص عليه)

فَإِنْ فَعَلَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ لِشُرَكَائِهِ حَقُّهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَتَسْقُطُ عَنِ الْجَانِى، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، لَهُمْ ذَلِكَ فِى تَرِكَةِ الْجَانِى، وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْجَانِى عَلَى قَاتِلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذْنِه ولا وِلايَةٍ عليه، فأشْبَهَ الدَّيْنَ. 4091 - مسِألة: (فإن فَعَل، فلا قِصاصَ عليه) وبه قال أبو حنيفةَ. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. والقولُ الآخَرُ، عليه القِصاصُ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن قَتْلِه، وبعضُه غيرُ مُسْتَحَقٍّ له، وقد يجبُ القِصاصُ بإتْلافِ بعضِ النَّفْسِ، بدليلِ ما لو اشْتَرَكَ الجماعةُ في قَتْلِ واحدٍ. ولَنا، أنَّه مُشارِك اسْتِحْقاقِ القَتْلِ، فلم يَجِبْ عليه القِصاصُ، كما لو كان مُشارِكًا في مِلْكِ الجارِيةِ ووَطْئِها. ولأنَّه مَحَلٌّ يَمْلِكُ بعضَه، فلم تجبِ العُقُوبَةُ المُقَدَّرةُ باسْتِيفائِه كالأصْلِ (¬1). ويُفارِقُ إذا قَتَل الجماعةُ واحدًا، فإنَّا لم نُوجِبِ القِصاصَ بقَتْلِ بعضِ النَّفْسِ، وإنَّما نَجْعَلُ كلَّ واحدٍ منهم قاتِلًا لجميعِها، وإن سَلَّمْنا وُجُوبَه عليه لقَتْلِ بعضِ النَّفْسِ، فمِن شَرْطِه المُشارَكَةُ لمَن فَعَلَه، كفِعْلِه في العمدِ والعُدْوانِ، ولا يتَحَقَّقُ ذلك ههُنا. 4092 - مسألة: (وعليه لشُرَكائِهِ حَقُّهم مِن الدِّيَةِ، وتَسْقُطُ عن الجانى في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفى الآخَرِ، لهم ذلك في تَرِكَةِ الجانى، ويَرْجِعُ ورثةُ الجانى على قاتِلِه) وجملةُ ذلك، أنَّه يجبُ للوَلِىِّ الذى لم يَقْتُلْ قِسْطه ¬

(¬1) في الأصل «كالأجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الدِّيَةِ؛ لأنَّ حَقَّه مِن القِصاصِ سَقَط بغيرِ اخْتِيارِه، فأشْبَهَ ما لو مات القاتِلُ أو عَفا بعضُ الأوْلِياءِ. وهل يَجِبُ ذلك على قاتِلِ الجانى، أو في تَرِكَةِ الجانى؟ فيه وَجْهان. وللشافعىِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، يَرْجِعُ على قاتِلِ الجانى؛ لأنَّه أتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّه، فكان الرُّجُوعُ عليه بعِوَضِ نصِيبِه، كما لو كانت له وَدِيعَةٌ فأتْلَفَها. والثانى، يَرْجِعُ في تَرِكَةِ الجانى، كما لو أتْلَفَه أجْنَبِىٌّ، أو عَفا شَرِيكُه عن القِصاصِ. وقَوْلُنا: أتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّه. يَبْطُلُ بما إذا أتْلَفَ مُسْتَأْجِرَه أو غَرِيمَه أو امرأتَه، أو كان المُتْلَفُ أجْنَبِيًّا. ويُفارِقُ الوَدِيعَةَ، فإنَّها مَمْلُوكَة لهما، فوَجَبَ عِوَضُ مِلْكِه، أمَّا الجانِى، فليس بمَمْلُوكٍ للمَجْنِىِّ عليه، [وإنَّما له عليه] (¬1) حَقٌّ، فأشْبَهَ ما لو أتْلَفَ غَرِيمَه. فعلى هذا، يَرْجِعُ وَرَثَة الجانى على قاتِلِه بدِيَةِ مَوْرُوثِهم (¬2) إلَّا قَدْرَ حَقِّه منها. فعلى هذا، لو كان الجانِى أقَلَّ دِيَةً مِن قاتِلِه، مِثْلَ امرأةٍ قَتَلَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في م: «مورثهم».

4093 - مسألة: (وإن عفا بعضهم، سقط القصاص وإن كان

وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ الْعَافِى زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلًا له ابْنان، قَتَلَها أحَدُهما بغيرِ إذْنِ الآخَرِ، فللآخَرِ نِصْفُ دِيَةِ أبِيه في تَرِكَةِ المرأةِ التى قَتَلَتْه، ويَرْجِعُ وَرَثَتُها بنِصْفِ دِيَتِها على قَاتِلِها، وهو رُبْعُ دِيَةِ الرجلِ. وعلى الوَجْهِ الأَوَّلِ، يَرْجِعُ الابنُ الذى لم يَقْتُلْ على أخِيه بنِصْفِ دِيَةِ المرأةِ؛ لأنَّه لم يُفَوِّتْ على أخيه إلَّا نِصْفَ (¬1) المرأةِ، ولا يُمْكِنُ أن يَرْجِعَ على ورثةِ المرأةِ (¬2) بشئٍ؛ لأَنَّ أخاه الذى قَتَلَها أتْلَفَ جميعَ الحَقِّ. وهذا يَدُلُّ على ضَعْفِ هذا الوَجْهِ. ومِن فوائِدِه أيضًا، صِحَّةُ إبْراءِ مَن حَكَمْنا بالرُّجُوعِ عليه، ومِلْكُ مُطالَبَتِه. وإن قُلْنا: يَرْجِعُ على وَرَثَةِ الجانِى. صَحَّ إبْراؤُهم، ومَلَكُوا الرُّجُوعَ على قاتِلِ مَوْرُوثِهم بقِسْطِ أخيه العافِى. وإن قُلْنا: يَرْجِعُ على شَرِيكِه. مَلَك مُطالَبَتَه، وصَحَّ إبْراؤُه، ولم يكنْ لورثةِ الجانى مُطالَبَتُه بشئٍ. ومنها، أنَّا إذا قُلْنا: يَرْجِعُ على تَرِكَةِ الجانى. وله تَرِكَةٌ، فله الأخْذُ منها، سواءٌ [أمْكَنَ وَرَثَتَه أن يَسْتَوْفُوا مِن الشَّرِيكِ أو لم يُمْكِنْهم. وإن قُلْنا: يَرْجِعُ على شَرِيكِه. لم يكنْ له مُطالَبَةُ وَرَثَةِ الجانى، سواءٌ] (¬3) كان شَرِيكُه مُوسِرًا أو مُعْسِرًا. 4093 - مسألة: (وإن عَفا بعضُهم، سَقَط القِصاصُ وإن كان ¬

(¬1) في الأصل: «بنصف». (¬2) بعده في الأصل: «له». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العافى زوجًا أو زوجةً) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على إجازةِ العفوِ عن القِصاصِ، وأنَّه أفْضَلُ؛ لِما نَذْكُرُه (¬1). والقِصاصُ حَقٌّ لجميعِ الورثةِ مِن ذوى الأنْسابِ والأسْبابِ، الرجالِ والنِّساءِ، والصِّغارِ والكبارِ، فمَن عَفا منهم صَحَّ عَفْوُه، وسَقَط القِصاصُ، ولم يكنْ لأحَدٍ إليه (¬2) سَبِيلٌ. هذا قولُ أكْثَرِ أَهْلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، وحَمادٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ. ورُوِىَ مَعْنَى ذلك عن عُمَرَ، وطاوُسٍ، والشَّعْبِىِّ. وقال الحسنُ، وقَتادَةُ، والزُّهْرِىُّ، وابن شُبْرُمَةَ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ: ليس للنِّساءِ عَفْوٌ. والمَشْهُورُ عن مالكٍ، أنَّه مَوْرُوثٌ للعَصباتِ خَاصَّةً. وهو وَجْهٌ لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه ثَبَتَ لدَفْعِ العارِ، فاخْتَصَّ به العَصباتُ، كوِلايةِ النِّكاحِ. ولهم وَجْهٌ ثالثٌ، أنَّه لذوى الأنْسابِ دُونَ الزَّوْجَيْن؛ [لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ؛ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا العَقْلَ» (¬4). وأهلُه ذوو رَحِمِه، وذَهَب بعضُ أهلِ المدينةِ إلى أنَّ القِصاصَ لا يَسْقُطُ بعَفْوِ بعضِ الشُّرَكاءِ. وقيل: هو رِوايةٌ عن مالكٍ؛ لأَنَّ حَقَّ غيرِ العافى لم يَرْضَ بإسْقاطِه، وقد تُؤْخَذُ النَّفْسُ ببعضِ النَّفْسِ، بدليلِ قَتْلِ الجماعةِ بالواحدِ. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه السَّلامُ: «فَأَهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ». وهذا ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ذكره». (¬2) في ق، م: «عليه». (¬3) في ق، م: «لأن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 142.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عامٌّ في جميعِ أهلِه، والمرأةُ مِن أهْلِه؛ بدليلِ قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ يَعْذِرُنى مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِى (¬1) أذَاهُ فِى أهْلِى، ومَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِى إلَّا خَيْرًا، ولَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا، ومَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أهْلِى إلَّا مَعِى». يُرِيدُ عائشةَ. وقال له (¬2) أُساْمةُ [بنُ زيدٍ] (¬3): يا رسولَ اللَّهِ، أهْلُكَ (¬4) ولا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا (¬5). ورَوَى زيدُ بنُ وَهْبٍ، أنَّ عُمَرَ أُتِى برجلٍ قَتَل قَتِيلًا، فجاء ورثةُ المَقْتُولِ ليَقْتُلُوه، فقالتِ امرأةُ المَقْتُولِ، وهى أخْتُ القاتلِ: قد عَفَوْتُ عن حَقِّى. فقال عمرُ: اللَّه أكبرُ، عَتَقَ القَتِيلُ. رَواه أبو داودَ (¬6). وفى رِوايةٍ عن زيدٍ، قال: دَخَل رجلٌ على امرأتِه، فوَجَدَ عندَها رجلًا، فقَتَلَها، فقال بعضُ إخْوَتِها: قد تَصَدَّقْتُ. فقَضَى لسائِرِهِم بالدِّيَةِ (¬7). ورَوَى قَتادَةُ، أنَّ عُمَرَ رُفِعَ إليه رجلٌ قَتَل ¬

(¬1) في ق، م: «بلغ». وهو لفظ مسلم. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سقط من: الأصل، تش. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب إذا عدل رجل أحدا. . .، وباب تعديل النساء بعضهن بعضا، من كتاب الشهادات، وفى: باب حديث الإفك، من كتاب المغازى، وفى: باب قوله: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ. . .}. من كتاب التفسير. صحيح البخارى 3/ 219، 220، 229، 5/ 151، 6/ 130. ومسلم، في: باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2133، 2134. والنسائى، في: باب قرعة الرجل بين نسائه. . .، من كتاب عشرة النساء. السنن الكبرى 5/ 295 - 300. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 196. (¬6) ليس في سنن أبى داود، وانظر: تلخيص الحبير 4/ 20، إرواء الغليل 7/ 279، وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 13. (¬7) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العفو، من كتاب العقول. المصنف 13/ 10. وابن أبى شيبة، في: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلًا، فجاءَ أوْلادُ المَقْتُولِ وقد عَفا بعضُهم، فقال عُمَرُ لابنِ مسعودٍ: ما تقولُ؟ فقال: إنَّه قد أحْرِزَ مِن القَتْلِ. فضَرَبَ على كَتِفِه (¬1)، فقال: كُنَيْفٌ (¬2) مُلِئَ عِلْمًا (¬3). والدَّلِيلُ على أن القِصاصَ لجميعِ الوَرَثَةِ، ما ذكَرْناه في مسألَةِ القِصاصِ بينَ (¬4) الصَّغيرِ والكبيرِ. ولأَنَّ مَن وَرِث الدِّيةَ وَرِث القِصاصَ، كالعَصَبَةِ، وإذا عَفا بعضُهم، صَحَّ عَفْوُه، كعَفْوِه عن سائرِ حُقُوقِه، وزَوالُ الزَّوْجِيَّةِ لا يَمْنَعُ اسْتِحْقاقَ القِصاصِ، كما لم (¬5) يَمْنَعِ اسْتِحْقاقَ الدِّيَةِ، وسائرِ حُقُوقِه المَوْرُوثَةِ. ومتى ثَبَت أنَّه حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بينَ جَمِيعِهم، سَقَط بإسْقاطِ مَن كان مِن أَهْلِ الإسْقاطِ منهم؛ لأَنَّ حَقَّه منه له، فيَنْفُذُ تَصَرُّفُه فيه (¬6)، فإذا سَقَط سَقَط جَمِيعُه؛ لأنَّه مِمَّا لا يَتَبَعَّضُ، كالطَّلاق والعَتاق. ولأَنَّ القِصاصَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بينَهم لا يَتَبَعَّضُ، مبْنَاه على الدَّرْءِ (¬7) والإِسقاطِ، فإذا أسْقَطَ بعضُهم، سَرَى ¬

= باب الرجل يقتل فيعفو بعض الأولياء، من كتاب الديات. المصنف 9/ 317. والبيهقى، في: باب عفو بعض الأولياء عن القصاص دون بعض، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 59. وصححه في الإرواء 7/ 281. (¬1) في الأصل: «كتفيه». (¬2) الكنيف: تصغير الكِنْف، وهو وعاء طويل يكون فيه متاع التجار، شبهه بأنه وعاء للعلم، بمنزلة الوعاء الذى يضع الرجل فيه أداته، وإنما صغره على وجه المدح. انظر غريب الحديث لأبى عبيد 1/ 169. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العغو، من كتاب العقول. المصنف 10/ 13. وأخرجه الحاكم، في: المستدرك 3/ 318. عن زيد بن وهب. (¬4) في الأصل: «من». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في الأصل: «منه». (¬7) في م: «الدور».

4094 - مسألة: (وإن قتله الباقون عالمين بالعفو وسقوط القصاص به، فعليهم القود، وإلا فلا قود، وعليهم ديته)

وَلِلْبَاقِينَ حَقُّهُمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِى، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاقُونَ عَالِمِينَ بِالْعَفْوِ وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ، فَعَلَيْهِمُ الْقَوَدُ، وَإلَّا فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِمْ دِيَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الباقى، كالعِتْقِ، والمرأةُ أحَدُ المُستحِقِّين، فسَقَطَ بإسْقاطِها، كالرجلِ. [ومتى] (¬1) عَفا أحَدُهم (فللباقين حَقُّهم مِن الآيةِ) سواء عَفا مُطْلَقًا أو (¬2) إلى الدِّيةِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ لهم مُخالِفًا ممَّن قال بسُقُوطِ القِصاصِ؛ وذلك لأَنَّ حَقِّه كان القصاصِ سَقَط بغيرِ رِضاه، فيَثْبُتُ له البَدَلُ، كما لو وَرِث القاتِلُ بعضَ دَمِه أو مات، ولِما ذكَرْنا مِن خَبَرِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. 4094 - مسألة: (وإن قَتَلَه الباقون عالِمِين بالعَفْوِ وسُقُوطِ القِصاصِ به، فعليهم القَوَدُ، وإلَّا فلا قَوَدَ، وعليهم دِيَتُه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا قَتَلَه الشَّرِيكُ الذى لم يَعْفُ عالِمًا بعَفْوِ شَرِيكِه، وسُقوطِ القِصاص به، فعليه القِصاصُ، سواء حَكَم به الحاكمُ أو لم يَحْكُمْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ. وهو الظَّاهِرُ مِن مَذْهَبِ الشَّافعىِّ. وقيل: له قولٌ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أو هو متى». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آخَر، لا يجبُ القِصاصُ؛ لأَنَّ له (¬1) فيه شبْهَة، لوقوعِ الخِلافِ فيه. ولَنا، أَنَّه قَتَل مَعْصومًا مكافئًا له عمدًا، يعلم أنَّه (¬2) لا حَقَّ له فيه، فوَجَبَ عليه القِصاصُ، كما لو حَكَم بالعَفْوِ حاكمٌ، والاخْتِلافُ لا يُسْقِطُ القِصاصَ؛ فإنَّه لو قتل مسلمًا بكافر، قَتَلْناه به، مع الاخْتِلافِ في قَتْلِه. فأمَّا إن قَتَلَه قبلَ العِلْمِ بالعَفْوِ، فلا قِصاصَ عليه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشَّافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: عليه القِصاصُ؛ لأنَّه قَتْل عَمْدٌ عدْوانٌ لمَن لا حَقَّ له في قَتْلِه. ولَنا، أنَّه مُعْتَقِدٌ ثُبوتَ حَقِّه فيه، مع أنَّ الأَصْلَ بقَاؤه، فلم يَلْزَمْه قِصاصٌ، كالوَكِيلِ إذا قَتَل بعدَ عَفْوِ الموَكِّلِ قبلَ عِلْمِه بعَفْوِه. ولا فَرْقَ بينَ أن يكونَ الحاكمُ قد حَكَم بالعَفْوِ أو لم يَحْكمْ به؛ لأَنَّ الشُّبْهَةَ مَوْجُودَة مع انْتِفاءِ العِلْمِ، مَعْدُومَة عندَ وجُودِه. وقال الشَّافعىُّ: متى قَتَلَه بعدَ حُكْمِ الحاكمِ، لَزِمَه القِصاص، عَلِنم بالعَقْوِ أو لم يَعْلَمْ. وقد بَينا الفَرْقَ بينَهما. ومتى حَكَمْنا عليه بوُجوبِ الدِّيةِ؛ إمَّا لكوِنِه مَعْذُورًا، وإمَّا للعَفْوِ عن القِصاصِ، فإنَّه يَسْقُطُ عنه منها ما قابَلَ حَقِّه على القاتِلِ قِصاصًا، ويجبُ عليه الباقى. فإن كان الوَلِى عَفا إلى غيرِ مالٍ، فالواجِبُ لورثةِ القاتِلِ، ولا شئَ عليهم (¬3). وإن كأن عَفا إلى الدِّيةِ، فالواجِبُ لورثةِ القاتِلِ، وعليهم نَصِيبٌ العافى مِن الدِّيةِ. وقيل فيه: إنَّ حَقَّ العافى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أن». (¬3) في الأصل، م: «على».

4095 - مسألة: (وسواء كان الجميع حاضرين أو بعضهم غائبا)

وسَوَاءٌ كَانَ الْجَمِيعُ حَاضِرِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الدِّيةِ على القاتِلِ. ولا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الحَقَّ لم يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بعينِه، وإنَّما الدِّيَةُ واجِبَة في ذِمَّتِه، فلم تَنْتَقِلْ (¬1) إلى القاتِلِ، كما لو قَتَل غَرِيمَه. 4095 - مسألة: (وسَواءٌ كان الجَمِيعُ حاضِرِين أو بعضُهم غَاِئبًا) لِما ذَكَرْناه. فصل: فإن كان القاتِلُ هو العافِىَ، فعليه القِصاصُ، سواءٌ عَفا مُطْلَقًا أَوْ (¬2) إلى مالٍ. وبهذا قال عِكْرِمَة، والثَّوْرِىُّ، ومالِكٌ، والشَّافعىُّ؛ وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عن الحسن، تُؤخَذُ منه الدِّيةُ، ولا يُقْتَلُ. وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: الحُكْمُ فيه إلى السُّلطانِ. ولَنا، قولُه تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). قال ابنُ عباسٍ، وعطاءٌ (¬4)، والحسنُ، وقَتادَةُ في تَفْسِيرِها: أي بعدَ أخْذِه الدِّيةَ (¬5). وعن الحسنِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا أُعْفِى مَنْ قَتَلَ ¬

(¬1) في م: «تنقل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة البقرة 178. (¬4) بعده في تش: «وطاوس». (¬5) انظر: تفسير ابن جرير 2/ 112.

4096 - مسألة: (وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا، فليس للبالغ العاقل الاستيفاء حتى يصيرا مكلفين، فى المشهور. وعنه، له ذلك)

وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَلَيْسَ لِلْبَالِغِ الْعَاقِلِ الِاسْتِيفَاءُ حَتَّى يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ، فِى الْمَشهُورِ عَنْهُ. وَعَنْهُ، لَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْدَ أخْذِه الدِّيَة» (¬1). ولأنَّه قَتَل مَعْصُومًا مُكافئًا، فوَجَبَ عليه القِصاصُ، كما لو لم يكنْ قَتَلَ. فصل: وإذا عَفا عن القاتِلِ مُطْلَقًا، صَحَّ، ولم يَلْزَمْه عُقُوبَةٌ. وبهذا قال الشَّافعىُّ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالِكٌ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ: يُضْرَبُ ويُحْبَسُ سنةً. ولَنا، أَنَّه إنَّما كان عليه [حَقٌّ واحدٌ] (¬2)، وقد أسْقَطَه مُسْتَحِقُّه، فلم يجبْ عليه شئ آخَرُ، كما لو أسْقَطَ الدِّيةَ عن القاتِلِ خَطَأً. 4096 - مسألة: (وإن كان بعضُهم صَغِيرًا أو مَجْنُونًا، فليس للبالِغِ العاقِلِ الاسْتِيفاءُ حتَّى يَصِيرا مُكَلفَيْن، في المَشْهُورِ. وعنه، له ذلك) وجملةُ ذلك، أن ورَثَةَ القَتِيلِ إذا كانوا أكْثَرَ مِن واحدٍ، لم يَجُزْ لبعضِهم اسْتِيفاءُ القَوَدِ إلَّا بإذْنِ الباقين، فإن كان بعضُهم غائِبًا، انْتُظِرَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من قتل بعد أخذ الدية، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 481. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 363. (¬2) في الأصل: «واحد» وفى تش: «واحدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قُدُومُه، ولم يَجُزْ [للحاضرِ الاستِقْلالُ بالاسْتِيفاءِ] (¬1)، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه. وإن كان بعضُهم صغيرًا أو مَجْنُونًا، فظاهِرُ مَذْهَبِ أحمدَ، أنَّه ليس لغيرِهما الاسْتِيفاءُ حتَّى يبلُغَ الصَّغِيرُ ويُفِيقَ المَجْنُونُ. وبه قال ابنُ شُبْرُمَةَ، وابنُ أبى لَيْلَى، والشّافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، وإسحاقُ. ويُرْوَى ذلك عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، رَحِمَه اللَّهُ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى: للكِبارِ العُقَلاءِ (¬2) اسْتِيفاؤه. وبه قال حَمَّادٌ، ومالِكٌ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ، وأبو حنيفةَ؛ لأَنَّ الحسنَ بنَ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قَتَل ابنَ مُلْجَم قِصاصًا، وفى الورثةِ صِغارٌ، فلم يُنْكَرْ ذلك (¬3). ولأَنَّ وِلايَةَ القِصاصِ هى اسْتِحْقاقُ اسْتِيفائِه، وليس للصغيرِ هذه الوِلايةُ. ولَنا، أنَّه قِصاصٌ غيرُ مُتَحَتِّمٍ (¬4)، ثَبَت لجماعةٍ مُعَنيَّين، فلم يَجُزْ لأحَدِهم اسْتِيفاؤه اسْتِقْلالًا، كما لو كان لحاضر وغائب. ولأنَّه أحَدُ بَدَلَىِ النَّفْسِ، ¬

(¬1) في الأصل: «للحاضرين الاستيفاء». (¬2) في م: «والعقلاء». (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل يقتل وله ولد صغار، من كتاب الديات. المصنف 9/ 368. والبيهقى، في: باب من زعم أن للكبار أن يقتصوا قبل بلوغ الصغار، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 58. (¬4) في الأصل: «محتم».

4097 - مسألة: (وكل من ورث المال ورث القصاص، على

وَكُلُّ مَنْ وَرِثَ الْمَالَ وَرِثَ الْقِصَاصَ، عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنَ الْمَالِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَنْفَرِدْ به بعضُهم، كالدِّيَةِ، والدَّلِيلُ على أنَّ للصَّغِيرِ والمَجْنُونِ فيه حَقًّا أربعةُ أمُورٍ؛ أحَدُها، أنَّه لو كان مُنْفَرِدًا لاسْتَحَقَّه، ولو نافاه الصِّغَرُ مع غيرِه، لنافَاه مُنْفَرِدًا، كوِلايةِ النِّكاحِ. الثَّانى، أَنَّه لو بَلَغ لاسْتَحَقَّ، ولو لم يكنْ مُسْتَحِقًّا عندَ (¬1) المَوْتِ لم يكنْ مُسْتَحِقًّا بعدَه، كالرَّقيقِ إذا عَتَقَ بعدَ موتِ أبيه. الثَّالثُ، أنَّه لو صار الأمْرُ إلى المالِ، لاسْتَحَقَّ، ولو لم يكنْ مُسْتَحِقًّا للقِصاصِ لَما اسْتَحَقَّ بَدَلَه، كالأجْنَبِىِّ. الرابعُ، أنَّه لو مات الصَّغِيرُ لَاستَحَقَّه (¬2) ورَثَتُه، ولو لم يكنْ حَقًّا له لم يَرِثْه، كسائرِ ما لا يَسْتَحِقه. وأمَّا ابنُ مُلْجَم، فقد قيل: إنَّه قَتَلَه لكُفْره؛ لأنَّه قَتَل عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا لدَمِه، مُعْتَقِدًا كُفْرَه، مُتَقَرِّبًا إلى اللَّهِ تعالى بذلك. وقيل: قَتَلَه لسَعْيِه في الأرْض بالفَسادِ، وإظْهارِ السِّلاحِ. فيكونُ كقاطِعِ الطَّرِيقِ إذا قَتَلَ (¬3)، وقتْلُه مُتَحَتِّمٌ، وهو إلى الإِمامِ، والحسنُ هو الإِمامُ، ولذلك لم يَنْتَظِرِ الغائِبِين مِن الورثةِ. ولا خِلافَ بينَنا في وُجُوبِ انْتِظارِهم، وإن قَدَّرْنا أنَّه قَتَلَه قِصاصًا، فقد اتَّفَقْنا على خِلافِه، فكيف يَحْتَجُّ به بعضُنا على بعضٍ! 4097 - مسألة: (وكلُّ مَن وَرِث المالَ وَرِث القِصاصَ، على ¬

(¬1) في الأصل: «قبل». (¬2) في الأصل، تش: «لا يستحقه». (¬3) في م: «قتله».

4098 - مسألة: (ومن لا وارث له وليه الإمام، إن شاء اقتص، وإن شاء عفا)

حتَّى الزَوْجَيْنَ وَذَوِى الْأَرْحَامِ. وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَلِيُّهُ الإِمَامُ، إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَسَبِ مِيراثِه مِن المالِ، حتَّى الزَّوْجَيْن وذوى الأرْحامِ) لأنَّه حَقٌّ يَسْتَحِقُّه الوارِثُ مِن جِهَةِ مَوْرُوثِه (¬1)، فأشْبَهَ المالَ. 4098 - مسألة: (ومَن لا وارِثَ له وَلِيُّه الإِمامُ، إن شاء اقْتَصَّ، وإن شاء عَفا) فله أن يَفْعَلَ مِن ذلك ما يَرَى فيه المَصْلَحَةَ للمسلمينَ، فإن أحَبَّ القِصاصَ فله ذلك، وإن أحَبَّ العَفْوَ إلى مالٍ فله ذلك، وإن أحَبَّ العَفْوَ إلى غيرِ مالٍ لم يَمْلِكْه؛ لأَنَّ ذلك للمسلمين، ولا حَظَّ لهم ¬

(¬1) في ق، م: «مورثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْى، [إلَّا أنَّهم] (¬1) لا يَرَوْنَ العَفْوَ على (¬2) مالٍ إلّا برِضا الجانى. فصل: وإذا اشْتَرَكَ جماعةٌ في قَتْلِ واحدٍ، فعُفِىَ عنهم إلى الدِّيةِ، فعليهم دِيَةٌ واحدةٌ. وإن عُفِىَ عن بعضِهم، فعلى المَعْفُوِّ عنه قِسْطُه مِن الدِّيةِ؛ لأَنَّ الدِّيةَ بَدَلُ المَحَلِّ، وهو واحِد، فتكونُ دِيَتُه واحدةً، سواءٌ أتْلَفَه واحدٌ أو جماعةٌ. وقال ابنُ أبى موسى: فيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ على كلِّ واحدٍ دِيَةً كاملةً؛ لأَنَّ له قَتْلَ كل واحدٍ منهم، فكان على كلِّ واحدٍ منهم دِيَةُ نَفْسٍ ¬

(¬1) في م: «لأنهم». (¬2) في ق، م: «إلى».

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يُؤْمَنَ فِى الِاستِيفَاءِ التَّعَدِّى إِلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى حَامِلٍ، أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَ وُجُوبِهِ، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ وَتَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كاملةٌ، كما لو قَلَع الأعْوَرُ عينَ صحيحٍ، فإنَّه يجبُ عليه دِيَةُ عَيْنِه، وهو دِيَةٌ كامِلَةٌ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ الواجِبَ بَدَلُ المُتْلَفِ، ولا يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ المُتْلَفِ، ولذلك لو قَتَل عبد قِيمَتُه ألْفان حُرًّا، لم يَمْلِكِ العَفْوَ على أكْثَرَ مِن الدِّيَةِ. وأمَّا القصاصُ، فهو عُقُوبَة على الفِعْلِ، فيَتَعَدَّدُ (¬1) بتعَدُّدِه (¬2). فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (الثَّالثُ، أن يُؤْمَنَ في الاسْتِيفاءِ التَّعَدِّى إلى غيرِ القاتِلِ، فلو وَجَب القِصاصُ على حاملٍ، أو حَمَلَتْ بعدَ وُجُوبِه، لم تُقْتَلْ حتَّى تَضَعَ الولَدَ وتَسْقِيَه اللِّبَأَ) (¬3) لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، وسَواءٌ كان القِصاصُ في النَّفْسِ أو في الطَّرَفِ، أمَّا في النَّفْس فلِقَولِ اللَّهِ تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬4). وقَتْلُ الحامِلِ قَتْلٌ لغيرِ الحامِلِ، فيكونُ إسْرافًا. ورَوَى ابنُ ماجه (¬5) بإسنادِه عن عبدِ الرحمنِ ¬

(¬1) في الأصل: «فيعد». (¬2) في م: «بعدده». (¬3) اللبأ: أول اللبن. (¬4) سورة الإسراء 33. (¬5) في: باب الحامل يجب عليها القود، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 898، 899.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ غَنْمٍ، قال: حَدَّثَنا مُعاذُ بنُ جَبَلٍ، وأبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرّاحِ، وعُبادَةُ ابنُ الصامِتِ، وشَدَّادُ بنُ أوْس، قالوا: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا قَتَلتِ المَرْأةُ عَمْدًا، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِى بَطنهَا إنْ كَانَت حَامِلًا، وحَتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا، وإن زَنَتْ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِى بَطْنِهَا؛ وحَتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا». وهذا نَصٌّ. ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للغامِدِيَّةِ المُقِرَّةِ بالزِّنَى: «ارْجِعِى حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ». ثم قال لها: «ارْجِعِى حَتَّى تُرْضعِيهِ» (¬1). ولأنَّ هذا إجْماعٌ مِن أَهْلِ العلمِ لا نَعْلَمُ بينَهم (¬2) فيه اخْتِلافًا. وأمَّا الاقْتِصاصُ في الطَّرَفِ؛ فلأنَّنا مَنعْنا الاستِيفاءَ فيه خَشْيَةَ السِّرايَةِ إلى الجانى، أو (¬3) إلى زِيادَةٍ في حَقِّه، [فلأن نَمْنَعَ] (¬4) منه خَشْيَة السِّرَايةِ (¬5) إلى غيرِ الجانى، وتَفْويتِ نَفْس مَعْصُومةٍ أوْلَى وأحْرَى. ولأن في القِصاصِ منها قَتْلًا لغيرِ الجانى، وهو حَرامٌ. وإذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1322 - 1324. وأبو داود، في: باب في المرأة التى أمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- برجمها من جهينة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 462. والترمذى، في: باب تربص الرجم بالحبلى حتى تضع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 211، 212. والنسائى، في: باب الصلاة على المرجوم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 51. والدارمى، في: باب العامل إذا اعترفت بالزنى، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 179، 180. والإمام مالك، مرسلًا، في: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 821، 822. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 430، 435 - 437، 440، 5/ 348. (¬2) سقط من: في، م. (¬3) في م: «و». (¬4) في الأصل، تش: «فلا يمنع». (¬5) في الأصل: «الزيادة».

ثُمَّ إِنْ وُجِدَ مَنْ يُرْضِعُهُ، وَإلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا فِى الطَّرَفِ حَالَ حَمْلِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَضَعَتْ، لم تُقْتَلْ حتَّى تَسْقِىَ الولدَ اللِّبَأَ؛ لأَنَّ الوَلَدَ يَتَضَرَّرُ بتَرْكِه ضَرَرًا كثيرًا (¬1). ثم إن لم يكُنْ للولدِ مَن يُرْضِعُه، لم يَجُزْ قَتْلُها حتَّى يَجِيئَ أوانُ فِطامِه؛ لِما ذكَرْنا مِن الخَبَرَيْن. ولأنَّه لَمَّا أخِّرَ الاسْتِيفاءُ لحِفظِه وهو حَمْل، فلأن يُؤَخَّرَ لحفظِه بعدَ وَضْعِه أوْلَى، إلَّا أن يكونَ القِصاصُ فيما دُونَ النَّفْسِ، ويكونَ الغالِبَ بقاؤها، وعَدَمُ ضَرَرِ الاسْتِيفاءِ منها، فيُسْتَوْفَى. وإن وُجِد له مُرْضِعَة راتِبَة (¬2)، جازَ الاسْتِيفاءُ منها؛ لأنَّه يَسْتَغْنِى عنها بلَبَنِ المُرْضِعَةِ، وكذلك إن كانت مُتَرَدِّدَةً، أو نِساءً يتَنَاوَبْنَه ¬

(¬1) في م: «كبيرًا». (¬2) في الأصل: «زانية».

4099 - مسألة: (وحكم الحد فى ذلك حكم القصاص)

وَحُكْمُ الْحَدِّ فِى ذَلِكَ حُكْمُ الْقِصَاصِ، وَإِنِ ادَّعَتِ الْحَمْلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرْضِعْنَه، أَوْ أمْكَنَ أن يُسْقَى مِن لَبَنِ شاةٍ أو نحوِها. ويُسْتَحَبُّ للوَلِىِّ تَأْخِيرُها؛ لِما على الوَلَدِ مِن الضَّرَرِ في اخْتِلافِ اللَّبَنِ عليه، وشُرْبِ لَبَن البَهِيمَةَ. 4099 - مسألة: (وحُكْمُ الحَدِّ في ذلك حُكْمُ القِصاصِ) لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، ولأنَّه في مَعْنَى القِصاصِ. 4100 - مسألة: (وإنِ ادَّعَتِ الحَمْلَ) ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما،

4101 - مسألة: (وإن اقتص من حامل، وجب ضمان جنينها

احْتَمَلَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا، فَتُحْبَسَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِلَّا بِبَيِّنةٍ. وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ، وَجَبَ ضَمَانُ جَنِينِهَا عَلَى قَاتِلِهَا. وَقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ (تُحْبَسُ حتَّى يَتَبينَ حَمْلُها) لأَنَّ للحَمْلِ أماراتٍ خَفِيَّةً، تَعْلَمُها مِن نَفْسِها، ولا يَعْلَمُها غيرُها، فوَجَبَ أن يُحْتاطَ للحَمْلِ حتَّى يَتَبَيَّنَ انْتِفاءُ ما ادَّعَتْه. ولأنَّه أمْر يَخْتَصُّها، فقُبِلَ قوْلُها فيه (¬1)، كالحَيْضِ. والثَّانى، أنَّها تُرَى أهْلَ الخِبْرَةِ. ذَكَرَه القاضى، فإن شَهِدْنَ (2) بحَمْلِها أخِّرَتْ. وإن شَهِدْنَ (¬2) ببَراءَتِها لم تُؤَخَّرْ؛ لأَنَّ الحَّقَّ حالٌّ عليها، فلا يُؤخَّرُ بمُجَرَّدِ دعْواها. فإن أشْكَلَ على القَوابِلِ، أو لم يُوجَدْ مَن يَعْرِفُ ذلك، أُخِّرَت حتَّى يَتبَيَّنَ؛ لأنَّنا إذا أسْقَطْنا القِصاصَ مِن خوْفِ الزِّيادَةِ، فتَأْخِيرُه أوْلَى. 4101 - مسألة: (وإنِ اقْتَصَّ مِن حامِلٍ، وَجَب ضَمانُ جَنِينهَا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، توفى: «شهدت».

أَبُو الْخَطَّابِ: يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِى مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على قاتِلِها. وقال أبو الخطَّابِ: يجبُ على السُّلْطانِ الذى مَكَّنَه مِن [ذلك) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا اقْتَصَّ مِن حاملٍ فقد فَعَل مُحَرَّمًا، وأخْطَأ السُّلْطانُ الذى أمْكَنَه مِن] (¬1) الاسْتِيفاءِ، وعليهما الإِثْمُ إن كانا عالِمَيْن، أو كان منهما تَفْرِيطٌ. وإن عَلِم أحَدُهما أو فَرَّطَ، فالإثُم عليه، فإن لم تُلْقِ الولَدَ، فلا ضَمانَ فيه؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ وُجُودَه وحَياتَه، وإنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا أو حَيًّا لوَقتٍ لا يَعِيشُ في (¬2) مثلِه، ففيه غُرَّةٌ، وإنِ انْفَصَلَ حَيًّا لوقتٍ يَعِيشُ مثلُه فيه، ثم مات مِن الجِنايةِ، وَجَبَتْ دِيَتُه، ويُنْظَرُ؛ فإن كان الإِمامُ والوَلِىُّ (¬3) عالِمَيْن بالحَمْلِ وتَحْرِيمِ الاسْتِيفاءِ، أو جاهِلَيْن بالأمْرَيْن، أو بأحَدِهما، أو كان الوَلِىُّ (¬4) عالِمًا بذلك دُونَ المُمَكِّنِ له مِن الاسْتِيفاءِ، فالضَّمانُ عليه وحدَه؛ لأنَّه مُباشِر، والحاكمُ الذى مَكَّنَه صاحِبُ (¬5) ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «فيه». (¬3) في الأصل: «الموالى». (¬4) في الأصل: «المولى». وكذا ما يأتى بعد ذلك. (¬5) في الأصل: «صاحبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَبٍ، فكان الضَّمانُ على المُباشِرِ دُونَ المُتَسَبِّبِ، كالحافِرِ مع الدَّافِعِ. وإن عَلِم الحاكمُ دُود الوَلِىِّ، فالضَّمانُ على الحاكِمِ وحدَه؛ لأَنَّ المُباشِرَ مَعْذُورٌ، فكان الضَّمانُ على المُتَسَبِّبِ، كالسَّيِّدِ إذا أَمَرَ عَبْدَه الأعْجَمِىَّ الذى لا يَعْرِفُ تَحْرِيمَ القَتْلِ به، وكشُهُودِ القِصاصِ إذا رَجَعُوا عن الشَّهادَةِ بعدَ الاسْتِيفاءِ. وقال القاضى: إن كان أحَدُهما عالِمًا وحدَه، فالضَّمانُ عليه وحدَه، وإن كانا (¬1) عالِمَيْن، فالضَّمانُ على الحاكمِ؛ لأنَّه الذى يَعْرِف الأحْكامَ، والوَلِى إنَّما يَرْجِعُ إلى حُكْمِه واجْتِهادِه، وإن كانَا جاهِلَيْن، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، الضَّمانُ على الإِمامِ، كما لو كانا عالِمَيْن. والثَّانى، على الوَلِىِّ. وهو مَذْهَب الشَّافعىِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: الضَّمانُ على الحاكِمِ. ولم يُفَرِّقْ. وقال المُزَنِىُّ: الضَّمانُ ¬

(¬1) بعده في م: «غير».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ على الوَلِىِّ في كلِّ حالٍ؛ لأنَّه المُباشِرُ، والسَّبَبُ غيرُ مُلْجِئٍ، فكان الضَّمانُ عليه، كالحافِرِ مع الدَّافِعِ، وكما لو أَمَرَ مَن يَعْلَمُ تَحْرِيمَ القَتْلِ به فقَتَلَ. وقد ذَكَرْنا ما يَقْتَضِى التَّفْرِيقَ. وهو اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ولا يُسْتَوْفَى القِصاصُ إلَّا بحَضْرَةِ السُّلْطانِ) وحَكاه عن أبى بكرٍ (¬2). وهو مَذْهَبُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه أمْر ¬

(¬1) انظر: المغنى 11/ 568. (¬2) ذكر في المغنى 11/ 515 أن القاضى هو الذى حكاه عن أبى بكر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْتَقِرُ إلى الاجْتِهادِ، ويَحْرُمُ الحَيْفُ فيه، فلا يُؤْمَنُ الحَيْفُ مع قَصْدِ التَّشَفِّى. فإنِ اسْتَوْفاه مِن غيرِ حَضْرَةِ السُّلْطانِ، وَقَع المَوْقِعَ، ويُعَزَّرُ؛ لافْتِياتِه بفِعْل ما مُنِع فِعْله. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ الاسْتِيفاءُ بغيرِ حُضُورِ السُّلْطانِ، إذا كان القِصاصُ في النَّفْسِ؛ لأَنَّ رجلًا أتَى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- برجلٍ يَقُودُه بنِسْعَةٍ (¬1)، فقال: إنَّ هذا قَتَلَ أخى. فاعْتَرَفَ بقَتْلِه. فقال النَّبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اذْهَبْ، فَاقْتُلْهُ». رَواه مسلمٌ بمعناه (¬2). ولأَنَّ اشْتِراطَ حُضُورِ السُّلْطانِ لا يَثْبُتُ إلَّا بنَصٍّ أو إجْماعٍ أو قِياسٍ، ولم يَثْبُتْ ذلك. ويُسْتَحَبُّ ¬

(¬1) النسعة: القطعة من السير الذى تشد به الرحال. (¬2) في: باب صحة الإقرار بالقتل. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1307، 1308. كما أخرجه أبو داود، في: باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 478، 479. والترمذى، في: باب ما جاء في حكم ولى القتيل في القصاص والعفو، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 178. والنسائى، في: باب القود، من كتاب القسامة، وفى: باب إشارة الحاكم على الخصم بالعفو، من كتاب آداب القضاة. المجتبى 8/ 13 - 16، 214. وابن ماجه، في: باب العفو عن القاتل، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 897. والدارمى، في: باب لمن يعفو عن قاتله، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 191.

4102 - مسألة: (وعليه تفقد الآلة، فإن كانت كالة

وَعَلَيْهِ تَفَقُّدُ الْآلةِ الَّتِى يُسْتَوْفَى بِهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَت كَالَّةً، مَنَعَهُ الاسْتِيفَاءَ بِهَا، وَيَنْظُرُ فِى الْوَلِىِّ، إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَمْكَنَهُ مِنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يُحْضِرَ شاهِدَيْن؛ لِئَلَّا يَجْحَدَ المجْنِىُّ عليه الاسْتِيفاءَ. 4102 - مسألة: (وعليه تَفَقَّدُ الآلةِ، فإن كانت كالَّةً (¬1) مَنَعَه الاسْتِيفاءَ بها) لئلَّا يُعَذِّبَ المَقْتُولَ. وقد روَى شَدَّادُ بنُ أوْس أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْء، فإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ (¬2)، وليُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». [رَواه مسلمٌ] (¬3). ويَمْنَعُه مِن الاسْتِيفاءِ بآلةٍ مَسْمُومَةٍ؛ لأنَّها تُفْسِدُ البَدَنَ، ورُبَّما مَنَعَت غُسْلَه. وإن عَجَّلَ فاسْتَوْفَى بآلةٍ كالَّة أو مَسْمُومَةٍ، عُزِّرَ لفِعْلِه ما لا يجوزُ. 4103 - مسألة: (ويَنْظُرُ) السُّلْطانُ (في الوَلِىِّ، فإن كان يُحْسِنُ الاسْتِيفاءَ ويَقْدِرُ عليه) بالقوةِ والمعرفةِ (مَكَّنَه منه) لقولِ اللَّهِ تعالى: ¬

(¬1) أي لا تقطع. (¬2) في الأصل: «الذبيحة». (¬3) سقط من: الأصل، تش. والحديث تقدم تخريجه في 3/ 33.

4104 - مسألة: (وإن)

وإلَّا أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬1). وقال عليه السَّلامُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، إنْ أحَبُّوا قَتَلُوا، وإنْ أحَبُّوا أخَذُوا الدِّية» (¬2). ولأنَّه حَقٌّ له مُتَمَيِّزٌ، فكان له اسْتِيفاؤه بنَفْسِه إذا أمْكَنَه، كسائرِ الحُقُوقِ. ولأَنَّ المَقْصُودَ التَّشَفِّى، وتَمْكِينُه منه أبلَغُ في ذلك. 4104 - مسألة: (وإن) كان الوَلِىُّ (لا) يُحْسِنُ الاسْتِيفاءَ (أمَرَه بالتَّوْكِيلِ) لأنَّه عاجِزٌ عن اسْتِيفاءِ حَقِّه، فيُوَكِّلُ مَن يُحْسنُ الاستيفاءَ (¬3). فإنِ ادَّعَى الوَلِىُّ المَعْرِفَةَ بالاسْتِيفاءِ، فأمْكَنَه السُّلْطانُ مِن ضَرْبِ عُنُقِه، فضَرَبَ عُنُقَه فأبانَه (¬4)، فقد اسْتَوْفَى حَقِّه. وإن أصاب غيرَه، وأقَرَّ بتَعَمُّدِ ذلك، عُزِّرَ. فإن قال: أخْطَأْتُ. وكانت الضَّرْبَةُ [في مَوضعٍ قريبٍ] (¬5) مِن العُنُقِ، كالرَّأسِ والمَنْكِبِ، قُبِل قولُه مع يَمِينِه؛ لأَنَّ هذا ممَّا يجوزُ الخَطَأ في مِثْلِه، وإن كان بعيدًا كالوَسَطِ والرِّجْلَيْن، لم يُقْبَلْ قولُه؛ لأَنَّ مِثْلَ هذا لا يقعُ الخَطَأُ فيه. ثم إن أراد العَوْدَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُمَكَّنُ منه؛ لأنَّه ظَهَر منه أَنَّه لا يُحْسِنُ ¬

(¬1) سورة الإسراء 33. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 142. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «فأماته». (¬5) في ق، م: «قريبا».

4105 - مسألة: (فإن احتاج)

وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أجْرَةٍ، فَمِنْ مَالِ الْجَانِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِيفاءَ، ويَحْتَمِلُ أن يعودَ إلى مِثْلِ فِعْلِه. [والثَّانى، يُمَكَّنُ منه] (¬1) قاله القاضى؛ لأَنَّ الظاهِرَ تَحَرُّزُه عَن مثلِ ذلك ثانيًا. 4105 - مسألة: (فإنِ احْتاجَ) الوَكِيلُ (إلى أُجْرَةٍ، فمِن مالِ الجانى) فقد قِيلَ: يُؤْخَذُ العِوَضُ مِن بَيْتِ المال. قال بعضُ أصْحابِنا: يُرْزَقُ مِن بيتِ المالِ رجلٌ يَسْتَوْفِى الحُدُودَ والقِصاصَ؛ لأَنَّ هذا مِن المَصالحِ العامَّةِ، فإن لم يَحْصُلْ ذلك، فالأجْرَةُ على الجانى؛ لأنَّها أُجْرَةٌ لإيفاءِ الحَقِّ الذى عليه، فكانت (¬2) عليه، كأُجْرَةِ الكَيَّالِ في بَيْعِ المَكِيل. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ على المُقْتَصِّ؛ لأنَّه وَكِيلُه، فكانتِ الأُجْرَةُ على مُوَكِّلِه، كسائرِ المواضِعِ، والذى على الجانى التَّمْكِينُ دُونَ الفِعْلِ، ولهذا لو أراد أن يَقْتَصَّ مِن نَفْسِه، لم يُمَكَّنْ منه، ولأنَّه لو كانت عليه أُجْرَةُ الوَكِيلِ لَلَزِمَتْه أُجْرَةُ الوَلِىِّ إذا اسْتَوْفَى بنَفْسِه. وإن قال الجانى: أنا أقْتَصُّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «الأجرة».

4106 - مسألة: (والولى مخير بين الاستيفاء بنفسه إن كان يحسن، وبين التوكيل)

وَالْوَلِىُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ، وَبَيْنَ التَّوْكِيلِ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِىَ فِى الطَّرَفِ بِنَفْسِهِ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لك مِن نَفْسِى. لم يَلْزَمْ تَمْكِينُه، ولم يَجُزْ له ذلك، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1). ولأَنَّ مَعْنَى القِصاصِ أن (¬2) يُفْعَلَ به كما فَعَل، ولأَنَّ القِصاصَ حَقٌّ عليه لغيرِه، فلم يكنْ هو المُسْتَوْفِىَ له، كالبائعِ لا يَسْتَوْفِى مِن نَفْسِه. 4106 - مسألة: (والولِىُّ مُخَيَّر بينَ الاستِيفاءِ بنَفْسِه إن كان يُحْسِنُ، وبينَ التَّوْكِيلِ) لأَنَّ الحَقَّ له، فيَتَصَرَّفُ فيه على حَسَبِ اخْتِيارِه، كسائِرِ الحُقُوقِ (وقيل: ليس له أن يَسْتَوْفِىَ في الطَّرَفِ بنَفْسِه بحالٍ) لأنَّه لا يُؤمَنُ أن يَجْنِىَ عليه بما لا يُمْكِنُ تَلافِيه. وقال القاضى: ¬

(¬1) سورة النساء 29. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

4107 - مسألة: (وإن تشاح أولياء المقتول فى الاستيفاء، قدم أحدهم بالقرعة)

وَإِنْ تَشَاحَّ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ فِى الِاسْتِيفَاءِ، قُدِّمَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه يُمَكَّنُ من؛ لأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ القِصاصِ، فيُمَكَّنُ منه، كالقِصاصَ في النَّفْسِ. 4107 - مسألة: (وإن تَشَاحَّ أوْلِياءُ المَقْتُولِ في الاسْتِيفاءِ، قُدِّمَ أحَدُهم بِالقُرْعَةِ) إذا [كان القِصاصُ لجماعةٍ مِن الأولياءِ، وتَشاحُّوا في المُوَلَّى منهم] (¬1) للاسْتِيفاءِ، أُمِرُوا بتَوْكِيلِ واحدٍ منهم أو مِن غيرِهم، ولم يَجُزْ أن يتَولَّاه جميعُهم؛ لِما فيه مِن تَغذِيب الجانى، وتعَدُّدِ أفْعالِهم. فإن لم يَتَّفِقُوا على أحدٍ، وتَشاحُّوا، وكان كلُّ واحدٍ منهم يُحْسِنُ الاسْتِيفاء، أُقْرِعَ بينَهم؛ لأَنَّ الحُقُوقَ إذا تَساوَتْ، وعُدِمَ التَّرْجِيحُ، صِرْنا إلى القُرْعَةِ، كما لو (¬2) تَشاحُّوا في تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهم، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، ¬

(¬1) في ق، م: «تشاح الأولياء في المتولى». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمِر الباقون بتَوْكِيلِه، ولا يجوزُ له الاستِيفاءُ بغيرِ إذْنِهم؛ [لأَنَّ الحقَّ لهم، فلا يَجُوزُ استِيفاؤُه بغيرِ إذْنِهم] (¬1). فإن لم يتَّفِقُوا على [توكيلِ واحدٍ] (¬2)، مُنِعُوا الاستِيفاءَ حتى يُوَكِّلُوا. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ق، م: «التوكيل».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِى النَّفْسِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِى الأُخْرَى، يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ، فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِحَجَرِ، أَوْ غَرَّقَهُ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ، فُعِلَ بِهِ مِثْلُ فِعْلِهِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْضَحَهُ فَمَاتَ، فُعِلَ بِهِ كَفِعْلِهِ، فَإِنْ مَاتَ، وَإلَّا ضُرِبت عُنُقُهُ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُقْتَلُ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ. رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (ولا يُسْتَوْفَى القِصاصُ في النَّفْسِ إلَّا بالسَّيْفِ، في إحْدَى الرِّوايتَيْن. والأخْرَى، يُفْعَلُ به كما فَعَل. فلو قَطَع يَدَيْه ثم قَتَلَه، فُعِل به كذلك. وإن قَتَلَه بحَجَر، أو غرَّقَه، أو غير ذلك، فُعِل به مثلُ فِعْلِه. وإن قَطَع يدَه مِن مَفْصِل أو غيرِه، أو أوْضَحَه فمات، فُعِل به كفِعْلِه، فإن مات، وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُه. وقال القاضى: يُقْتَلُ، ولا يُزادُ على ذلك، رِوايةً واحِدةً) وجملةُ ذلك، أنَّ الرجلَ إذا جَرَح رَجلًا ثم ضَرَب عُنُقَه، فالكلامُ في المسألةِ في حالَيْن؛ أحَدُهما، أن يَخْتارَ الوَلِىُّ القِصاصَ، فاخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في كَيْفِيَّةِ الاسْتِيفاءِ؛ فرُوِىَ عنه، لا يُسْتَوْفَى إلَّا بالسَّيْفِ في العُنُقِ. وبه قال عَطاءٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ؛ لِما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولأَنَّ القِصاصَ أحَدُ بَدَلَى النَّفْسِ، فدَخَلَ الطَّرَفُ في حُكْمِ الجملةِ، كالدِّيَةِ، فإنَّه لو صار الأمْرُ إلى الدِّيةِ لم تَجِبْ إلَّا دِيَةُ (¬2) النَّفْسِ، ولأَنَّ القَصْدَ مِن القِصاصِ في النَّفْسِ تَعْطِيل وإتْلاف الجملةِ، وقد أمْكَنَ هذا بضَرْبِ العُنُقِ، فلا يجوزُ تَعْذِيبُه بإتْلافِ أطْرافِه، كما لو قَتَلَه بسَيْفٍ كالٍّ، فإنَّه لا يُقْتَلُ بمِثْلِه. والرِّوايةُ الثَّانيةُ عن أحمدَ، أنَّه قال: إنَّه لأهْل أن يُفْعَلَ به كما فَعَل. يَعْنِى أنَّ للمُسْتَوْفِى أن يَقْطَعَ أطْرافَه، ثم يَقْتُلَه. وهذا مَذْهَبُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، ومالكٍ، والشَّافعىِّ، وأبى حنيفةَ، وأبى ثَوْرٍ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬3). وقولِه سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬4). ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضَخ (¬5) رَأْسَ يَهُودِىٍّ لرضْخِه (¬6) رَأْسَ جارِيَةٍ مِن ¬

(¬1) في: باب لا قود إلا بالسيف، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 889. كما أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 87، 88، 106. والبيهقى، في: باب ما روى أن لا قود إلا بحديدة، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 62، 63. وهو ضعيف. انظر: تلخيص الحبير 4/ 19، إرواء الغليل 7/ 285 - 289. (¬2) بعده في الأصل، تش: «واحدة». (¬3) سورة النحل 126. (¬4) سورة البقرة 194. (¬5) في م: «رض». (¬6) في: «لرضه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنْصارِ بينَ حَجَرَيْنِ (¬1). ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (¬2). وهذا قد قَلَع عَيْنَه، فيَجِبُ أن تُقْلَعَ عيْنُه، للآيةِ. ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «مَن حَرقَ حَرَّقنَاه، ومَن غَرقَ غَرَّقْنَاه» (¬3). ولأَنَّ القِصاصَ مَوْضُوعٌ على المُماثَلَةِ، ولَفْظُه مُشعِرٌ به، فيَجِبُ أن يُسْتَوْفَى منه مثلُ ما فَعَل، كما لو ضَرَب العُنُقَ آخَرُ غيرُه. فأمَّا حديثُ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ». فقال أحمدُ: ليس إسْنادُه بجَيِّدٍ. الحالُ الثَّانى، أن يصيرَ الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، إمَّا بعَفْو الوَلِىِّ، أو كونِ الفِعْلِ خَطَأً، أو شِبْهَ عمدٍ، أو غيرَ ذلك، فالواجِبُ دِيَةٌ واحدةٌ. وهو ظاهرُ مَذهَبِ الشَّافعىِّ. وقال بعضُهم: تَجِبُ دِيَةُ الأطْرافِ المَقْطُوعَةِ، ودِيَةُ النَّفْسِ؛ لأنَّه لَمّا قُطِع سِرايَةُ الجُرْحِ بقَتْلِه صار كالمُسْتَقِرِّ، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه غيرُه. ولَنا، أنَّه قاتِلٌ قبلَ اسْتِقْرارِ الجُرْحِ، فدَخَلَ أَرْشُ الجِراحةِ في أرْشِ النَّفس، كما لو سَرَتْ إلى نَفْسِه، والقِصاصُ في الأطْرافِ لا يَجبُ على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ، وإن وَجَب فإنَّ القِصاصَ لا يُشْبِهُ الدِّيَةَ؛ لأَنَّ سِرايَةَ الجُرْحِ لا تُسْقِطُ القِصاصَ (¬4) فيه، وتُسْقِطُ دِيَتَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 446. (¬2) سورة المائدة 45. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب عمد القتل بالحجر. . .، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 43. وضعفه الزيلعى في: نصب الراية 4/ 344، والحافظ في: التلخيص 4/ 19. (¬4) في الأصل، تش: «سراية الجرح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا قُلْنا: إنَّ (¬1) للوَلِىِّ أن يَسْتَوْفِىَ مثلَ ما فُعِل بوَلِيِّه. فأحَبَّ أن يقْتَصِرَ على ضَرْبِ عُنُقِه، فله ذلك، وهو أفْضَلُ. وإن قَطَع أطْرافَه التى قَطَعَها الجانِى، أو بعضَها، ثم عَفا عن قَتْلِه، جاز؛ لأنَّه تارِكٌ بعضَ حَقِّه. وإن قَطَع بعضَ أطْرافِه، ثم عَفا إلى الدِّيَةِ، لم يكنْ له ذلك؛ لأَنَّ جميعَ ما فُعِل بوليِّه (¬2) لم يَجبْ به إلَّا دِيَةٌ واحِدَة، فلا يجوزُ أن يَسْتَوْفِىَ بعضَه ويَسْتَحِقَّ كَمالَ الدِّيةِ، فإن فَعَل فله ما بَقِىَ مِن الدِّيَةِ، فإن لم يَبْقَ منها شئٌ، فلا شئَ له. وإن قُلْنا: ليس له أن يَسْتَوْفِىَ إلَّا بضَرْبِ العُنُق. فاسْتَوْفَى بمثلِ ما فَعَل، فقد أساء، ولا شئَ عليه سِوَى المَأْثَمِ؛ لأَنَّ فِعْلَ الجانى في الأطْرافِ لم يُوجِبْ شيئًا يختَصُّ بها، فكذلك فِعْلُ المُسْتَوْفِى، وإن قَطَع طَرَفًا واحدًا، ثم عَفا إلى الدِّيَةِ، لم يكنْ له (¬3) إلَّا تَمامُها، وإن قَطَع ما يجبُ به أكثَرُ مِن الدِّيَةِ، ثم عَفا، احْتَمَلَ أن يَلْزَمَه ما زاد على الدِّيَةِ؛ لأنَّه [لا يَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِن الدِّيَةِ، وقد فَعَل ما يُوجِبُ أكْثَرَ منها، فكانتِ الزِّيادَةُ عليه. واحْتَمَلَ أن لا يَلْزَمَه شئٌ؛ [لأنَّه] (¬4) لو قَتَلَه لم يَلْزَمْه شئٌ] (¬5)، فإذا تَرَك قَتْلَه، وعَفا عنه، فأوْلَى أن لا يَلْزَمَه ¬

(¬1) سقط من: في، م. (¬2) في ق، م: «به». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) جاء هذا في م بعد قوله: «فلم يلزمه شئ». الآتى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شئٌ، ولأنَّه فَعَل بعضَ ما فُعِل بوَلِيِّه (¬1)، فلم يَلْزَمْه شئٌ، كما لو قُلْنا: إنَّ له أن يَسْتَوْفِىَ مثلَ ما فُعِلَ به. فصل: فإن قَطع يَدَيْه أو رِجْلَيْه، أو جَرَحَه جُرْحًا يُوجِبُ القِصاصَ إذا انْفَرَدَ، فسَرَى إلى النَّفْسِ، فله القِصاصُ في النَّفْسِ. وهل له أن يَسْتَوْفِىَ القَطْعَ قبلَ القَتْلِ؟ على رِوايتَيْن، ذَكَرَهما القاضى، وبَناهما على الرِّوايَتَيْن ¬

(¬1) في م: «بموليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَذْكُورَتَيْن في المسألةِ؛ وإحْداهما، ليس له قَطْعُ الطَّرَفِ. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ ذلك يُفْضِى إلى الزِّيادَةِ على جِنايةِ الأَوَّلِ، والقِصاصُ يَعْتَمِدُ المُماثَلَةَ، فمتى خِيفَ فيه الزِّيادةُ سَقَط، كما لو قَطَع يَدَه مِن نِصْفِ الذِّراعِ. والثَّانيةُ، يَجِبُ القِصاصُ في الطَّرَفِ، فإن مات، وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُه. وهذا مَذْهَبُ الشَّافعىِّ؛ لِما ذَكَرْناه في أوَّلِ المسألةِ. وذَكَر أبو الخَطَّابِ، أنَّه لا يَقْتَصُّ منه في الطَّرَفِ، رِوايةً واحِدَةً، وأنَّه لا يَصِحُّ تَخْرِيجُه على الرِّوايَتَيْن في المسألةِ؛ لإِفْضاءِ هذا إلى الزِّيادَةِ، بخِلافِ المسألةِ. قال شيخُنا (¬1): والصَّحيحُ تَخْرِيجُه على الرِّوايَتَيْن، وليس هذا بزِيادةٍ؛ لأَنَّ (¬2) فواتَ النَّفْسِ بسِرايَةِ فِعْلِه، وسِرايَةُ فِعْلِه كفِعْلِه، فأشْبَهَ ما لو قَطَعَه ثم قَتَلَه، ولأَنَّ زِيادةَ الفِعْلِ في الصُّورَةِ مُحْتَمِلٌ في الاسْتِيفاءِ، كما لو قَتَلَه بضَرْبَةٍ فلم يُمْكِنْ قَتْلُه في الاسْتِيفاءِ إلَّا بضَرْبَتَيْن. ¬

(¬1) في: المغنى 11/ 511. (¬2) في تش: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جَرَحَه جُرْحًا لا قِصاصَ فيه، ولا يَلْزَمُ (¬1) فواتُ الحياةِ به، كالجائِفةِ، أو قَطْعِ اليَدِ مِن نِصْفِ الذِّراعِ، أو الرِّجْلِ مِن نِصْفِ السَّاقِ، فمات منه، أو قَطَع يدًا ناقِصَةَ الأصابع، أو شَلَّاءَ، أو زائِدَةً، ويَدُ القاطِع أصلِيَّةٌ صحيحةٌ، فالصحيحُ في المَذْهَبِ أنَّه ليس له فِعْلُ ما فَعَل، ولا يَقْتَصُّ إلَّا بالسَّيْفِ في العُنُقِ. ذَكَرَه أبو بكرٍ، والقاضى. وقال غيرُهما: فيه روايَةٌ أُخْرَى، أنَّ له أن يَقْتَصَّ بمِثلَ فِعْلِه؛ لأنَّه صار قَتْلًا (¬2)، فكان له القِصاصُ بمثلِ فِعْلِه، كما لو رَضَّ رَأسَه بحَجَر فقَتَلَه به. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ هذا لو انْفَرَدَ لم يكنْ فيه قِصاصٌ، فلم يَجُزِ القِصاصُ فيه مع القَتْلِ، كما لو قَطَع يَمِينَه ولم يكنْ للقاطعِ يَمِينٌ، لم يكنْ له أن يَقْطَعَ يَسارَه. وفارَقَ ما إذا رَضَّ رَأْسَه فمات؛ لأَنَّ ذلك الفِعْلَ قَتْلٌ مُفْرَدٌ، وههُنا قَطْعٌ وقتْلٌ، والقَطْعُ لا يُوجِبُ قِصاصًا، فبَقِىَ مُجَردُ القَتْلِ، فإذا جَمَع ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يلزمه». (¬2) في الأصل، تش: «قتيلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَوفِى بينَهما، فقد زاد قَطْعًا لم يَرِدِ الشَّرْعُ باسْتِيفائِه، فيكونُ حرامًا. وسواءٌ في هذا ما إذا قَطَع ثم قتَلَ عَقِيبَه (¬1)، وبينَ ما إذا قَطَع فسَرَى إلى النَّفْسِ. فصل: فأمَّا إن قَطَع اليُمْنَى ولا يُمْنَى للقاطعِ، أو اليَدَ ولا يَدَ له، أو قَلَع (¬2) العَيْنَ ولا عَيْنَ له، فمات المَجْنِىُّ عليه، فإنَّه يُقْتَلُ بالسَّيْفِ في العُنُقِ، ولا قِصاصَ في طَرَفِه. لا أعلمُ فيه خِلافًا؛ لأَنَّ القِصاصَ إنَّما يكونُ في مِثلِ العُضْو المُتْلَفِ، وهو ههُنا مَعْدُومٌ، ولأَنَّ القِصاصَ فِعْلُ مِثْلِ ما فَعَل الجانِى، ولا سَبِيلَ إليه، ولأنَّه لو قَطَع ثم عَفا عن القَتْلِ، لصار مُسْتَوْفِيًا رِجْلًا ممَّن لم يَقْطَعْ له مثْلَها، وهذا غيرُ جائزٍ. فصل: وإن قَتَلَه بغيرِ السَّيْفِ، مِثلَ أن قَتَلَه بحَجَرٍ، أو هَدْمٍ، أو تَغْرِيقٍ، أو خنْقٍ، فهل يَسْتَوْفِى القِصاصَ بمثلِ فِعْلِه (¬3)؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، [له ذلك] (¬4). وهو قولُ مالكٍ، والشَّافعىِّ. والثَّانيةُ، لا يَسْتَوْفِى إلَّا بالسَّيْفِ في العُنُقِ. [وبه قال أبو] (¬5) حنيفةَ، فيما إذا قَتَلَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في م: «قطع». (¬3) في م: «ما فعله». (¬4) في ق، م: «يستوفى». (¬5) في ق، م: «وهو مذهب أبى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِمُثَقَّلِ الحَدِيدِ، على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ عندَه، أو جَرَحَه فمات. ووَجْهُ الرِّوايَتَيْن ما تقَدَّمَ في أولِ المسألةِ، ولأَنَّ هذا لا يُؤمَنُ معه الزِّيادةُ على ما فَعَلَه القاتِلُ، فلا يَجِبُ القِصاصُ بمثْلِ آلتِه، كما لو قَطَع الطَّرَفَ بآلةٍ كالَّةٍ، أو مَسْمُومَةٍ، أو بالسَّيْفِ، فإنَّه لا يَسْتَوْفِى بمثلِه، ولأَنَّ هذا لا يُقْتَلُ به المُرْتَدُّ، فلا يُسْتَوْفَى به القِصاصُ، كما لو قَتَلَه بتَجْرِيعِ الخَمْرِ، أو بالسِّحْرِ. ولا تَفْرِيعَ على هذه الرِّوايةِ. فأمَّا على الرِّوايةِ الأُخْرَى، فإنَّه إذا فَعَل به مثْلَ فِعْلِه فلم يَمُتْ، قَتَلَه بالسَّيْفِ. وهذا أحَدُ قَوْلَى الشَّافعىِّ. والقولُ الثَّانى، أنَّه يُكَرِّرُ عليه ذلك الفِعْلَ حتَّى يَمُوتَ به؛ لأنَّه قَتَلَه بذلك، فله قَتْلُه بمثْلِه. ولَنا، أنَّه قد فَعَل به مثْلَ فِعْلِه، فلم يَزِدْ عليه، كما لو جَرَحَه جُرْحًا، أو قَطَع منه طَرَفًا، فاسْتَوْفَى منه الوَلِىُّ مثلَه فلم يَمُتْ به، فإنَّه لا يُكَرِّرُ عليه الجُرْحَ، بغيرِ خِلافٍ، ويَعْدِلُ إلى ضَرْبِ عُنُقِه.

4108 - مسألة: (فإن قتله بمحرم فى نفسه؛ كتجريع الخمر، واللواط، ونحوه، قتل بالسيف، رواية واحدة)

وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ؛ كَتَجْرِيع الْخَمْرِ، وَاللِّوَاطِ، وَنحْوِهِ، قُتِلَ بِالسَّيْفِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4108 - مسألة: (فإن قَتَلَه بمُحَرَّم في نَفْسِه؛ كتَجْرِيعِ الخَمْرِ، واللِّواطِ، ونَحْوِه، قتل بالسَّيْفِ، رِوايَةً واحِدَةً) إذا قَتَلَه بما يَحْرُمُ لعينِه، كتَجْرِيعِ الخَمْرِ واللِّوَاطِ، أو سَحَرَه، لم يُقْتَلْ بمثلِه اتِّفاقًا، ويُقْتَلُ بالسَّيْفِ. وحَكَى أصْحابُ الشَّافعىِّ، في مَن قَتَلَه باللِّواطِ وتَجْرِيعِ الخَمْرِ وَجْهًا، أنَّه يُدْخِلُ في دُبُرِه خَشَبَةً يَقْتُلُه بها، ويُجَرعُه الماءَ حتَّى يَمُوتَ. ولَنا، أنَّ هذا مُحَرم لعينه، فوَجَبَ العُدُولُ عنه إلى القَتْلِ بالسَّيْفِ، كما لو قَتَلَه بالسِّحْرِ. وإن حَرَّقَه، فقال بعضُ أصْحابنا: لا يُحَرَّقُ؛ لأَنَّ التَّحْرِيقَ مُحَرَّمٌ لحقِّ اللَّهِ تعالى، لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» (¬1). وهذا داخِلٌ في عُمُومِ الخَبَرِ. وهذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ. وقال القاضى: الصَّحيحُ أنَّ فيه رِوايَتَيْن كالتَّغْرِيقِ؛ إحْداهما، يُحَرَّقُ. وهو مَذْهَبُ الشَّافعىِّ؛ لِما روَى البَرَاءُ بنُ عازِبٍ، قال: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، ومَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاه» (¬2). وحَمَلُوا الحديثَ الأوَّلَ على غيرِ القِصاصَ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية حرق العدو بالنار، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 50. وانظر ما تقدم في 10/ 65. ويضاف إلى تخريج البخارى: والدارمى، في: باب في النهى عن التعذيب بعذاب اللَّه، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 222. (¬2) تقدم تخريجه مرفوعًا في صفحة 180.

4109 - مسألة: (ولا تجوز الزيادة على ما أتى به، رواية واحدة، ولا قطع شئ من أطرافه، فإن فعل، فلا قصاص فيه، وتجب فيه ديته، سواء عفا عنه أو قتله)

وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلَا قَطْعُ شَىْءٍ مِنْ أطْرَافِهِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَتَجِبُ فِيهِ دِيَتُهُ، سَوَاءٌ عَفَا عَنْهُ أو قَتَلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4109 - مسألة: (وَلَا تَجُوزُ الزِّيادَةُ على ما أتَى به، رِوايَةً واحِدَةً، ولا قَطْعُ شئٍ مِن أطْرَافِه، فإن فَعَل، فلا قِصاصَ فِيهِ، وتَجِبُ فِيه دِيَتُه، سَواءٌ عَفا عنه أو قَتَلَه) إذا زادَ (¬1) مُسْتَوْفِى القِصاصِ في النَّفْسِ على حَقِّه، مثْلَ أن يُقْتَلَ وَلِيُّه، فيَقْطَعَ المُقْتَصُّ (¬2) أطْرَافَه أو بعضَها، نَظَرْنا؛ فإن عَفا عنه بعدَ قَطْعِ طَرَفِه، فعليه ضَمانُ ما أتْلَفَ بدِيَتِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال مالِكٌ، والشّافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: لا ضَمانَ عليه، ولكنْ قد أساء، ويُعَزَّرُ، وسَواءٌ عَفا عن القاتِلِ أو قَتَلَه؛ لأنَّه قَطَعَ طَرَفًا مِن جُمْلَةٍ اسْتُحِقَّ إتْلافُها، فلم يَضْمَنْه، كما لو قَطَعَ إصْبَعًا مِن يَدٍ اسْتُحِقَّ قَطْعُها. ولَنا، أنَّه قَطَع طَرَفًا له قِيمَةٌ حالَ القَطْعِ بغيرِ حَقٍّ، فوَجَبَ عليه ضَمانُه، كما لو عَفا عنه ثم قَطَعَه، أو كما لو قَطَعَه ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أراد». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجْنَبِىٌّ. فأمَّا إن قَطَعَه ثم قَتَلَه، احْتَمَلَ أن يَضْمَنَه أيضًا؛ لأنَّه يَضْمَنُه إذا عَفا عنه، فكذلك إذا لم يَعْفُ عنه (¬1)، لأَنَّ العَفْوَ إحْسان، فلا يكونُ مُوجِبًا للضَّمانِ. واحْتَمَلَ أن لا يَضْمَنَه. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لو قَطَع مُتَعَدِّيًّا ثم قَتَلَه، لم يَضْمَنِ الطَّرَفَ، فلَأن لا يَضْمَنَه إذا كان القَتْلُ مُسْتَحَقًّا أوْلَى. فأمَّا القِصاصُ، فلا يَجبُ في الطَّرَفِ بحالٍ. ولا نعْلمُ فيه خِلافًا؛ لأَنَّ القِصاصَ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، والشُّبْهَةُ ههُنا مُتَحَقِّقَةٌ؛ لأنَّه مُسْتَحِقٌّ لإتْلافِ هذا الطَّرَفِ ضِمْنًا لاسْتِحْقاتِه إتلافَ الجُمْلَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن سُقُوطِ القِصاصِ أن لا تَجِبَ الدِّيَةُ، بدليلِ امْتِناعِه لعدمِ المُكافَأةِ. فأمَّا إن كان الجانى قَطَع طَرَفَه ثم قَتَلَه، فاسْتَوْفَى منه بمثْلِ فِعْلِه، فقد ذكَرْناه فيما مضى. وإن قَطَع طَرَفًا غيرَ الذى قَطعه الجانى، كان الجانى قَطَعَ يَدَه، فقَطَعَ المُسْتَوْفِى رِجْلَه، احْتَمَلَ أن يكونَ بِمَنْزِلَةِ ما لو قَطَع يَدَه؛ لاسْتِواء دِيَتهما (¬2). واحْتَمَلَ أن تَلْزَمَه دِيَةُ الرِّجْلِ؛ لأَنَّ الجانِىَ لم يَقْطَعها، فأشْبَهَ ما لو لم يَقْطَعْ يَدَه. فصل: فأمَّا إن كانتِ الزِّيادَةُ في الاسْتِيفاءِ مِن الطَّرَفِ، مثلَ أنِ اسْتَحَقَّ قَطْعَ إصْبَعٍ، فقَطَعَ اثْنَتَيْن، فحُكْمُه حُكْمُ القاطع ابْتداءً، إن كان عمدًا مِن مَفْصِلٍ، أو شَجَّة يَجِبُ في مِثْلِها القِصاصُ، فعليه القِصاصُ في الزِّيادَةَ، وإن كان خَطَأً أو جُرْحًا لا يوجِبُ القِصاصَ، مثْلَ مَن يَسْتَحِقُّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش: «ذمتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوضِحَةً فاسْتَوْفَى هاشِمَةً، فعليه أرْشُ الزِّيادةِ، إلَّا أن يكونَ ذلك بسبَبٍ مِن الجانى، كاضْطِرابِه حالَ الاسْتِيفاءِ، فلا شئَ على المُقْتَصِّ؛ لأنَّه حَصَل بفِعْلِ الجانى. فإنِ اخْتَلَفا هل فَعَلَه عمدًا أو خَطَأً؟ فالقولُ قَوْلُ المُقْتَصِّ مع يَمِينِه؛ لأَنَّ هذا ممّا يُمْكِنُ الخَطأُ فيه، وهو أعْلَمُ بقَصْدِه (¬1). وإن قال المُقْتَصُّ: حَصَل هذا باضْرابِك. أو: فِعْلٍ مِن جِهَتِك. فالقولُ قولُ المُقْتَصِّ منه؛ لأنَّه مُنْكِر. فإن سَرَى الاسْتِيفاءُ الذى حَصَلَتْ فيه الزِّيادةُ إلى نَفْسِ المُقْتَصِّ منه، أو إلى بعضِ أعْضائِه، مثلَ أن قَطَع إصْبَعَيْه (¬2) فسَرَى إلى جميعِ يَدِه، أو اقْتَصَّ منه بآلةٍ كالَّةٍ أو مَسْمُومَةٍ، أو في حالِ حَرٍّ مُفْرِطٍ، أو بَرْدٍ شديدٍ، فسَرَى، فقال القاضى: على المُقْتَصِّ نِصْفُ الآيةِ؛ لأنَّه تَلِفَ بفِعْلَيْن؛ جائِزٍ ومُحَرَّمٍ، ومَضْمُونٍ وغيرِ مَضْمُونٍ، فانْقَسَم الواجِبُ عليهما (¬3) نِصْفَيْن، كما لو جَرَحَه جُرْحًا في رِدَّتِه وجُرْحًا بعدَ إسْلامِه، فمات منهما. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشَّافعىِّ. قال شيخُنا (¬4): ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه ضَمانُ السِّرايَةِ كلِّها، فيما إذا اقْتَصَّ بآلةٍ مَسْمُومَةٍ أو كالَّةٍ؛ لأَنَّ الفِعْلَ كلَّه مُحَرَّمٌ، بخِلافِ قَطْعِ الإصْبَعَيْن. ¬

(¬1) في م: «بمقصده». (¬2) في ق، م: «إصبعه». (¬3) في م: «عليها». (¬4) في: المغنى 11/ 515.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا إن قَطَع بعضَ أعْضائِه، ثم قَتَلَه بعدَ أن بَرَأتِ الجِراحُ، مثْلَ مَن قَطَع يَدَيْه ورِجْلَيْه فبَرَأتْ جِراحَتُه، ثم قَتَلَه، فقد اسْتَقَرَّ حُكْمُ القَطْعِ، ولِوَلِىِّ القَتِيل الخِيارُ، إن شاء عَفا وأخَذَ ثَلاثَ دِياتٍ؛ لنَفْسِه، ويَدَيْه، ورِجْلَيْه، لكلِّ واحِدٍ دِيَة، وإن شاء قَتَلَه قِصاصًا بالقَتْلِ، وأخَذَ دِيَتَيْن لأطْرافِه. وإن أحَبَّ قَطَع أطْرافَه الأربعةَ، وأخَذَ دِيَةً لنفسِه. وإن أحَبَّ قَطَع يَدَيْه، وأخَذَ دِيَتَيْن لنَفْسِه ورِجْلَيْه. وإن أحَبَّ قَطَع طَرَفًا واحِدًا، وأخَذَ دِيَةَ الباقى. وكذلك سائرُ فُرُوعِها؛ لأَنَّ حُكْمَ (¬1) القَطْعِ اسْتَقَرَّ (¬2) قبْلَ القَتْلِ. بالانْدِمالِ، فلم يَتَغَيَّرْ حُكْمُه بالقَتْلِ الحادِثِ بعدَه، كما لو قَتَلَه أجْنَبِىٌّ. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في هذا. فصل: فإنِ اخْتَلَفَ الجانى والوَلِىُّ في انْدِمالِ الجُرْحِ قبْلَ القَتْلِ، وكانتِ المُدَّةُ بينَهما يَسِيرَةً، لا يَحْتَمِلُ انْدِمالُه في مثلِها، فالقولُ قولُ الجانى بغيرِ يَمِين. وإنِ اخْتَلَفَا في مُضِىِّ المُدّةِ، فالقولُ قولُ الجانى مع يمينه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ مُضِيِّها. وإن كانتِ المُدَّةُ ممّا يَحْتَمِلُ البُرْءُ فيها، فالقولُ قولُ الوَلِىِّ مع يَمِينِه؛ لأنَّه قد وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ دِيَةِ اليَدَيْن بقَطْعِهما، والجاني يَدَّعِى سُقُوطَ دِيتهما بالقَتْلِ، والأَصْلُ عَدمُ ذلكْ. فإن كانت ¬

(¬1) في الأصل: «حكمه». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للجانِى بَيِّنةٌ ببَقاءِ المجْنِىِّ عليه ضَمِنًا حتَّى قَتَلَهُ، حُكِمَ له بِبَيِّنتِه، وإن كانت للولِيِّ بِبُرْئِهَ، حُكِمَ له أيضًا، فإن تَعارَضَتا، قُدِّمَتْ بَيِّنةُ الوَلِىِّ؛ لأنَّها مُثْبِتَةٌ (¬1) للبُرْءِ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ القولُ قولَ الجانى، إذا لم يكنْ لهما بَيِّنَةٌ؛ لأنَّ الأَصْلَ بَقاءُ الجِراحةِ، وعَدَمُ انْدِمالِها. وإن قَطَع أطْرافَه فمات، واخْتَلَفا، هل بَرَأ قبْلَ المَوْتِ، أو مات بسِرِايةِ الجُرْحِ؟ أو قال الوَلِى: إنَّه مات بسَبَبٍ آخَرَ. كأنَّه (¬2) لُدِغَ، أو ذبَح نَفْسَه، أو ذَبَحَه غيرُه، فالحكمُ فيما إذا مات بغيرِ سَبَبٍ، كالحُكْمِ فيما إذا قَتَلَه سَواءً. وأمّا إذا مات بقَتْلٍ أو سَبَبٍ آخَرَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تقديمُ قولِ الجانى؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ بَقاءُ الجِنايةِ، والأصْل عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ، فيكونُ الظّاهِرُ معه. والثَّانى، القولُ قولُ وَلِىِّ الجِنايةِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَقاءُ الدِّيّتيْن اللَّتَيْن وُجِد سَبَبُهما، حتَّى يُوجَدَ ما يُزِيلُهما. فإن كانت دَعْواهما بالعَكْسِ، فقال الوَلِىُّ: مات مِن سِرايةِ قَطْعِك، فعليك القِصاصُ في النَّفْسِ. فقال الجانى: بل انْدَمَلَتْ جِراحَتُه قبلَ مَوْتِه. أو ادَّعَى مَوْتَه بسببٍ آخَرَ، فالقولُ قولُ الوَلِىِّ مع يمينه؛ لأَنَّ الجُرْحَ سَبَبٌ للموتِ، وقد تَحَقَّقَ، والأَصْلُ عَدَمُ الانْدِمالِ، وعَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ يَحْصُلُ الزُّهُوقُ به. وسَواءٌ كان الجُرْحُ ممّا يَجِبُ به القِصاصُ في الطَّرَفِ، كقَطْعِ اليَدِ مِن مَفْصِل، أو لا يُوجِبُه، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «مبنية». (¬2) في م: «كأن».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً، فَرَضُوا بِقَتْلِهِ، قُتِلَ لَهُمْ، وَلَا شَىْءَ لَهُمْ سِوَاهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالجائِفَةِ والقَطْعِ مِن غيرِ مَفْصِلٍ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشَّافعىِّ. فصل: (فإن قَتَل واحِدٌ جماعةً، فرَضُوا بقَتْلِه، قُتِل لهمِ، ولا شئَ لهم سِواه) وجملةُ ذلك، أَنَّه إذا قتَل واحِدٌ اثْنَيْن أو أكثرَ، فاتَّفقَ أوْلِياؤُهم على قَتْلِه بهم، قُتِل لهم؛ لأَنَّ الحقَّ لهم، وقد رَضُوا به، ولا شئَ لهم سواه، لأَنَّ الحقَّ لا يَتَّسِعُ لأكْثرَ مِن واحدٍ. فإن أراد أحَدُهم القَوَدَ، والآخَرُون الدِّيَةَ، قُتِل لمَن اخْتارَ القَوَدَ، وأُعْطِىَ الباقون دِيَةَ قَتْلاهم مِن مالِ القاتلِ، سواءٌ كان المُخْتارُ للقَوَدِ الأوَّلَ أو الثَّانِى، أو مَن بعدَه، وسواءٌ قَتَلَهم دَفْعَةً واحدةً، أو دَفْعَتَيْن، أو دَفَعات. فإن بادَرَ أحَدُهم فَقَتَلَه، وَجَبَ للباقين دِيَةُ قَتْلاهم في مالِه، أيُّهم كان. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يُقْتَلُ بالجماعةِ، وليس لهم إلَّا ذلك، وإن طَلَب بعضُهم الدِّيَةَ، فليس له، وإن بادَرَ أحَدُهم فَقَتَلَه، سَقَط حَقُّ الباقين؛ لأَنَّ الجماعةَ لو قَتَلُوا واحدًا قُتِلُوا به، فكذلك إذا قَتَلَهم واحدٌ قُتِل بهم، كالواحدِ بالواحدِ. وقال الشَّافعىُّ: لا يُقْتَلُ إلَّا بواحدٍ، سواءٌ اتَّفَقُوا على الطَلَبِ للقِصاصِ، أو لم يَتَّفِقُوا؛ لأنَّه إذا كان لكلِّ واحدٍ اسْتِيفاءُ القِصاصِ، فاشْتِراكُهم في المُطالَبةِ لا يُوجِبُ تَداخُلَ حُقُوقِهم، كسائرِ الحُقُوقِ. ولَنا، على أبى حنيفةَ، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ؛ إنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وإنْ أحَبُّوا أخَذُوا العَقْلَ» (¬1). [فظاهرُ هذا أنَّ أهلَ كلِّ قَتِيل يَسْتَحِقُّون ما اخْتارُوه مِن القَتْلِ أو الدِّيَةِ، فإذا اتَّفَقُوا] (¬2) على القَتْلِ وَجَب لهم، وإنِ اخْتارَ بعضُهم الدِّيَةَ، وجَبَتْ له (¬3) بظاهرِ الخَبَرِ، ولأنَّهما جِنايَتان لا تَتداخَلان إذا كانتا خَطَأ أو إحْداهما، فلم تَتَداخَلْ في العمدِ، كالجِنايةِ على الأطْرَافِ، وقد سَلَّمُوها. ولَنا، على الشَّافعىِّ، أنَّه مَحَلٌّ تَعَلَّقَتْ به حُقُوقٌ لا يَتَّسِعُ لها [معًا، رَضِىَ المُسْتَحِقُّون] (¬4) به عنها، فيُكْتَفَى به، كما لو قَتَل عَبْدٌ عبيدًا خَطَأً فرَضِىَ سيِّدُهم بأخْذِه عنهم، ولأنَّهم رَضُوا بدُونِ حَقِّهم، فجاز، كما لو رَضِىَ صاحبُ الصحيحةِ بالشَّلَّاءِ، ووَلِىُّ الحُرِّ بالعبدِ، والمسلمُ بالكافرِ. وفارَقَ ما إذا كان القَتْلُ خَطَأً، فإنَّ أرْش الجِنايةِ يجِبُ في الذِّمَّةِ، والذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لحُقُوقٍ كثيرةٍ. وما ذَكَرَه أبو حنيفةَ ومالكٌ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الجماعةَ إنَّما قُتِلُوا بالواحدِ، لئَلَّا يُؤَدِّى الاشْتِراكُ إلى إسْقاطِ القِصاصِ، تَغْلِيظًا للقِصاصِ، ومُبالغَةً في الزَّجْرِ، وفى مسألَتِنا يَنْعَكِسُ هذا، فإنَّه إذا عَلِم أنَّ القِصاصَ واجِبٌ عليه بقَتْلِ واحدٍ، ولا يَزْدادُ بقَتْلِ الثَّانى والثَّالثِ، بادَرَ إلى قَتْلِ مَن يُرِيدُ قَتْلَه، فيصيرُ هذا كإسْقاطِ القِصاصِ عنه ابتداءً مع الدِّيَةِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 142. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «مع رضا المستحقين».

4110 - مسألة: (وإن تشاحوا فى من يقتله منهم على الكمال، أقيد للأول)

وَإِنْ تَشَاحُّوا فِى مَنْ يَقْتُلُهُ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ، أُقِيدَ لِلأوَّلِ، وَلِلْبَاقِينَ دِيَةُ قَتِيلهِمْ، وَإِنْ رَضىَ الأَوَّلُ بِالدِّيَةِ، أُعْطِيَهَا، وَقُتِلَ لِلثَّانِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4110 - مسألة: (وإن تَشاحُّوا في مَن يَقْتُلُه منهم على الكَمالِ، أقِيدَ للأوَّلِ) لأَنَّ حَقَّه أسبَقُ، ولأَنَّ المَحَلَّ صار مُسْتَحَقًّا له بالقَتْلِ الأَوَّلِ. فإن عَفا وَلِىُّ الأَوَّلِ، فلوَلِىِّ الثَّانى قَتْلُه. وإن طالَبَ وَلِىُّ الثَّانى قبْلَ طَلَبِ الأَوَّلِ، بَعَث الحاكمُ إلى وَلِىِّ الأَوَّلِ فأعْلَمَه. وإن بادَرَ الثَّانى فقتَلَه، فقد أساء، وسَقَط حَقُّ الأَوَّلِ إلى الدِّيَةِ. فإن كان وَلِى الأَوَّلِ غائِبًا أو صغيرًا أو مَجْنُونًا، انْتُظِرَ. وإن عَفا أوْلِياءُ الجميعِ إلى الدِّياتِ، فلهم ذلك. فإن قَتَلَهم دَفْعَةً واحدةً، وتَشاحُّوا في المُسْتَوْفِى، أُقْرِعَ بينَهم، فيُقَدَّمُ مَن تَقَعُ

4111 - مسألة: (وإن قتل وقطع طرفا، قطع طرفه)

وَإِنْ قَتَلَ وَقَطَعَ طَرَفًا، قُطِعَ طَرَفُهُ، ثُمَّ قُتِلَ لِوَلِىِّ الْمَقْتُولِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ له القُرْعَةُ؛ لتَساوِى حُقُوقِهم. فإن بادَرَ غيرُه فقَتَلَه، اسْتَوْفَى حَقَّه، وسَقَط حَقُّ الباقين إلى الدِّيَةِ. فإن قَتَلَهم مُتَفَرِّقًا، وأشْكَلَ الأَوَّلُ، وادَّعَى وَلِىُّ كلِّ واحدٍ أنَّه الأَوَّلُ، ولا بَيِّنةَ لهم، فأقَرَّ القَاتِلُ لأحَدِهم، قُدِّمَ بإقْرارِه، وإلَّا أقْرَعْنا بينَهم؛ لِاسْتِواءِ حُقُوقِهم (¬1). 4111 - مسألة: (وإنْ قَتَل وقَطَع طَرَفًا، قُطِع طَرَفُه) أوَّلًا (ثم قُتِل لوَلِىِّ المَقْتُولِ) سَواءٌ تَقَدَّمَ القَتْلُ أو تَأخَّرَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشّافعىُّ. وقال مالكٍ: يُقْتَلُ ولا يُقْطَعُ؛ لأنَّه إذا قُتِل تَلِف الطَّرَفُ، فلا فائِدَةَ في القَطْعِ، فأشْبَهَ ما لو كانا (¬2) لواحدٍ. ولَنا، أنَّهما جِنايتانِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «حقهم». (¬2) في م: «كان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على رَجُلَيْن، فلم تَتَداخَلا، كقَطْعِ يَدَىْ رَجُلَيْن. وما ذكَرَهَ مِنَ القِياسِ لا يَصِحُّ، فإنَّه قد قال: لو قَطَع يَدَ رجلٍ ثم قَتَلَه، يَقْصدُ المُثْلَةَ به، قُطِع وقُتِل. ونحن نُوافِقُه على هذا في روايةٍ، فقد حَصَل الإِجماعُ مِنّا ومنه على انْتِفاءِ التَّداخُلِ في الأَصْلِ، فكيف يَقِيسُ (¬1) عليه! ولكنَّه يَنْقَلِبُ دليلًا عليه (¬2)، فنقولُ: قَطَع وقَتَل، فيُسْتَوْفَى منه مثلُ ما فَعَل، كما لو فَعَلَه برجُلٍ واحدٍ يَقْصِدُ المُثْلَةَ، ويَثْبُتُ الحُكْمُ في مَحَلِّ النِّزاعِ بطَريقِ التَّنبِيهِ، فإنَّه إذا لم يتَداخَلْ حَقُّ الواحدِ، فحقُّ الاثْنَيْنِ أوْلَى، ويَبْطُلُ بهذا ما قالَه مِن المَعْنَى. فصل: فأمَّا إن قَطَع يَدَ رجُلٍ، ثم قَتَل آخَرَ، ثم سَرَى القَطْعُ إلى نَفْسِ المَقْطُوعِ فمات، فهو قاتِلٌ لهما، فإذا تَشاحّا في المُسْتَوْفِى للقَتْلِ، قُتِل بالذى قَتَلَه؛ لأَنَّ وُجُوبَ القَتْلِ عليه به أسْبَقُ، فإنَّ القَتْلَ بالذى قَطَعَه إنَّما وَجَب عندَ السِّرايَةِ، وهى مُتَأخِّرَةٌ عن قَتْلِ الآخَرِ. وأمَّا القَطْعُ، فإن قُلْنا: إنَّه يُسْتَوْفَى منه مثْلُ ما فَعَل. فإنَّه يُقْطَعُ له أوَّلًا، ثم يُقْتَلُ للذى قَتَلَه، ويَجِبُ للأوَّلِ نِصْف الدِّيَةِ. وإن قُلْنا: لا يُسْتَوْفَى القَطْعُ. وَجَبَت له الدِّية كاملةً، ولم يُقْطَعْ طَرَفُه. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ له القَطْعُ على كلِّ حالٍ؛ لأَنَّ القَطْعَ إنَّما يَدْخُلُ في القَتْلِ عندَ اسْتِيفاءِ القَتْلِ، فإذا تَعَذّرَ ¬

(¬1) في م: «نقيس». (¬2) في الأصل، تش: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِيفاءُ القَتْلِ، وَجَبَ اسْتِيفاءُ الطَّرَفِ لوُجُودِ مُقْتَضِيه، وعَدَمِ المانعِ مِن اسْتِيفائِه، كما لو لم يَسْرِ (¬1). فصل: وإن قَطَع إصْبَعًا مِن يمينٍ لرجُلٍ، ويمينًا لآخَرَ، وكان قَطْعُ الإِصْبَعِ أسْبَقَ، قُطعَتْ إصْبَعُه قِصاصًا، وخُيِّرَ الأخِيرُ بينَ العَفْوِ إلى الدِّيَةِ، وبينَ القِصاصِ وأخْذِ دِيَةِ الإصْبَعِ. ذَكَره القاضى. وهو اختيارُ ابنِ حامدٍ، ومَذْهَبُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه وَجَد بعضَ حَقِّه، فكان له اسْتِيفاءُ المَوْجُودِ (¬2)، وأخْذُ بَدَلِ المَفْقُودٍ، كمَن أتْلَفَ مِثْلِيًّا لرجُلٍ، فوَجَدَ بعضَ المِثْلِ. وقال أبو بكر: يَتَخيَّرُ بينَ القِصاصِ ولا شئَ له معه، وبينَ الدِّيَةِ، هذا قياسُ قوله. وهو مَذْهَبُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه لا يُجْمَعُ في عُضْوٍ واحدٍ بينَ قِصاص ودِيَةٍ، كالنَّفْسِ. وإن كان قَطْعُ اليَدِ سابِقًا على قَطْعِ الإِصْبَعِ، قُطِعَتْ يمينُه قِصاصًا، ولصاحب الإصْبَعِ أَرْشُها. ويُفارقُ هذا ما إذا قَتَل رجُلًا، ثم قَطَع يَدَ آخَرَ، حيث قدَّمْنا اسْتِيفاءَ القَطْعِ مع تَأَخُّرِه؛ لأَنَّ قَطْعَ اليَدِ لا يَمْنَعُ التَّكافُؤَ في النَّفْسِ، بدليلِ أنَّنا نَأخُذُ كامِلَ الأطْرافِ بناقِصِها، وأنَّ دِيَتَهما واحدة، ونَقْصُ (¬3) الإصْبَعِ يَمْنَعُ التَّكَافُؤ في اليَدِ، بدليلِ أنَّا لا نَأخُذُ الكامِلةَ بالنَّاقِصةِ، واخْتِلافِ دِيَتِهما. وإن عَفا صاحبُ اليَدِ، قُطِعَتِ الإصْبَعُ لصاحِبِها، إنِ اخْتارَ قَطْعَها ¬

(¬1) في م: «يسرف». (¬2) بعده في الأصل: «به». (¬3) في م: «بعض».

4112 - مسألة: (وإن قطع أيدى جماعة، فحكمه حكم القتل)

وَإِنْ قَطَعَ أيْدِى جَمَاعَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَتْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4112 - مسألة: (وإنْ قَطَع أيدِى جَماعَةٍ، فحُكْمُه حُكْمُ القَتْلِ) على ما ذَكَرْنا مِن التَّفْصِيلَ والاخْتِلافِ، إلَّا أنَّ أصْحابَ الرَّأْى قالوا: إذا قَطَع يَمِينَى رَجُلَيْن، يُقادُ لهما جميعًا، ويَغْرَمُ لهما دِيَةَ اليَدِ في مالِه نِصْفَيْن. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى إيجابِ القَوَدِ في بعضِ العُضْوِ، والدِّيَةِ في بَعْضِه، والجمعِ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ في مَحَلٍّ واحدٍ، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ به، ولا له نَظِيرٌ يُقاسُ عليه.

باب العفو عن القصاص

بَابُ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ العَفْو عن القِصاصِ أجْمَعَ أهلُ العلمِ على إجازةِ العَفْوِ عن القِصاصِ، وأنَّه أفْضَلُ. والأَصْلُ في ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكتابُ، فقولُه تعالى -في سِيَاقِ قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. الآية إلى قولِه: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (¬2). قيل في تَفْسيرِه: فهو كَفّارَة للجاني بعَفْو صاحبِ الحَقِّ عنه. وقيل: فهو كَفّارَة للعافى بصَدَقَتِه. وأمَّا السُّنَّةُ، فإنَّ أنَسَ بنَ مالكٍ، قال: ما رَأْيتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رُفِع إليه شئٌ فيه قِصاصٌ، إلَّا أَمَرَ فيه بالعَفْوِ. رَواه أبو داودَ (¬3). وفى حَدِيثه في قِصَّةِ ¬

(¬1) سورة البقرة 178. (¬2) سورة المائدة 45. (¬3) في: باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 478. كما أخرجه النسائى، في: باب الأمر بالعفو عن القصاص، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 33، 34. وابن ماجه، في: باب العفو في القصاص، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 898. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 213، 252.

4113 - مسألة: (والواجب بقتل العمد أحد شيئين؛ القصاص أو الآية، فى ظاهر المذهب، والخيرة فى ذلك إلى الولى، إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا إلى غير شئ، والعفو أفضل)

وَالْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ أحَدُ شَيْئَيْنِ؛ الْقِصَاصُ أوِ الدِّيَةُ، فِى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَالْخِيَرَةُ فِيهِ إِلَى الْوَلِىِّ، إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا إِلَى غَيْرِ شَىْءٍ، وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّبَيِّعِ بنتِ النَّضْرِ حينَ كَسَرَتْ سِنَّ جارِيَةٍ، فأمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقِصاصِ، فعَفا القَوْم (¬1). 4113 - مسألة: (والواجِبُ بقَتْلِ العمدِ أحَدُ شَيْئَيْن؛ القِصاصُ أو الآيةُ، في ظاهِرِ المَذْهَبِ، والخِيَرَةُ في ذلك إلى الوَلِىِّ، إن شاء اقْتَصَّ، وإن شاء أخَذَ الدِّيَةَ، وإن شاء عَفا إلى غيرِ شئٍ، والعَفْوُ أفْضَلُ) لِما ذَكَرْنا. اخْتلفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في مُوجَبِ (¬2) العمدِ، فرُوِىَ عنه، أنَّ مُوجَبَه القِصاصُ عَيْنًا؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب الصلح في الدية، من كتاب الصلح، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. . .}، من كتاب الجهاد، وفى: باب قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا}، وباب قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، من كتاب التفسير، وفى: باب السن بالسن، من كتاب الديات. صحيح البخارى 3/ 243، 4/ 23، 6/ 29، 65، 66، 9/ 10. ومسلم، في: باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1302. وأبو داود، في: باب القصاص من السنن، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 503. والنسائى، في: باب القصاص من الثنية، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 24، 25. وابن ماجه، في: باب القصاص في السن، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 884، 885. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 128، 167، 284. (¬2) في الأصل، تش: «وجوب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَهُوَ قَوَدٌ» (¬1). ولقولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}. والمَكْتُوبُ لا يُتَخَيَّرُ فيه، ولأنَّه مُتْلَفٌ يَجِبُ به البَدَلُ، فكان مُعَيَّنًا، كسائرِ أبْدالِ المُتْلَفَاتِ. وبه قال النَّخَعِىُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ، قالوا: ليس للأوْلِياءِ إلَّا القَتْلُ، إلَّا أن يَصْطَلِحا على الدِّيَةِ برِضَا الجانى. والمَشْهُورُ في المَذْهَبِ، أنَّ الواجِبَ أحَدُ شَيْئَيْن، وأنَّ الخِيَرَةَ في ذلك إلى الوَلِىِّ، إن شاء اقْتَصَّ، وإن شاء أخَذَ الدِّيَةَ، وإن شاء قَتَل البعضَ إذا كان القاتِلُون جماعةً؛ لأَنَّ كل مَن لهم قَتْلُه، فلهم العَفْوُ عنه، كالمُنْفَرِدِ، ولا يَسْقُطُ القِصاصُ عن البعضِ بعَفْوِ البعضِ؛ لأنَّهما شَخْصان، فلا يَسْقُطُ القِصاصُ من أحَدِهما بإسْقاطِه عن الآخَرِ، كما لو قَتَل كلُّ واحدٍ رجلًا. ومتى اخْتارَ الأوْلِياءُ أخْذَ الدِّيَةِ مِن القاتلِ، أو مِن بعضِ القَتَلَةِ، فإنَّ لهم هذا [منِ غيرِ] (¬2) رِضَا الجانِى. وبهذا قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وابنُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود مرسلًا ومرفوعًا، في: باب من قتل في عِمِّيًّا بين قوم، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 490، 502. والنسائى، في: باب الحكم في المرتد، من كتاب تحريم القتل، وفى: باب من قتل بحجر أو سوط، من كتاب القسامة. المجتبى 7/ 95، 8/ 35. وابن ماجه، في: باب من حال بين ولى المقتول وبين القود أو الدية، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 880. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 63. (¬2) في م: «متى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والشَّافعىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابن المنْذِرِ. وهى رِواية عن مالكٍ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. قال ابن عباسٍ: كان في بَنِى إسْرائِيلَ القصاصُ ولم تكنْ فيهم الدِّيةُ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}. الآية، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. فالعَفْو أن يَقْبَلَ في العمدِ الدِّيَةَ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}. يتَّبعُ الطَّالِب بمَعْروفٍ، ويُؤدِّى إليه المَطْلُوب بإحْسانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}. ممّا كتِب على مَن قبلَكم رَواه البُخارِى (¬1). وروَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: قام رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: «مَنْ قتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أن يُودَى، وإمَّا أن يُقَادَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى أبو شُرَيْحٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ثُمَّ أنْتُم (¬3) يَا خُزَاعَة، قَدْ قَتَلْتم هَذَا القَتِيلَ، وأنَا وَاللَّه عِاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا فَأهْلُه بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ؛ إن أَحَبُّوا ¬

(¬1) في: باب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . .}، من كتاب التفسير، وفى: باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، من كتاب الديات. صحيح البخارى 6/ 28، 29، 9/ 7. كما أخرجه النسائى، في: باب تأويل قوله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. . .}، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 33. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 17. (¬3) سقط من: الأصل.

فَإِنِ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، فَلَهُ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قَتَلُوا، وإنْ أحَبُّوا أخَذُوا الدِّيَةَ». رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬1). ولأَنَّ القَتْلَ المَضْمُونَ إذا سَقَط فيه القِصاصُ مِن غيرِ إبْراء، ثَبَت المالُ، كما لو عَفا بعْضُ الوَرَثَةِ، ويُخالِفُ سائِرَ المُتْلفاتِ؛ لأَنَّ بَدَلَها يَجِبُ مِن جِنْسِها، وهَهُنا يَجِبُ في الخَطَأ وعَمْدِ الخَطَأ مِن غيرِ الجِنْسِ، فإذا رَضِىَ في العمدِ ببَدَلِ الخَطَأَ، كان له ذلك؛ لأنَّه أسْقَطَ بعضَ حَقِّه، ولأَنَّ القاتِلَ أمْكَنَه إحْياءُ نفسِه ببَذْلِ الدِّيَةِ، فلَزِمَه. ويَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه بما إذا كان رَأْسُ (¬2) الشّاجِّ أصْغَرَ، أو يَدُ القاطِعِ أنْقَصَ (¬3)، فإنَّهم سَلَّموا فيهما. وأمَّا الخَبَرُ الذى ذَكَرُوه، فالمُرادُ به وُجُوبُ القَوَدِ، ونحن نقولُ به. وللشَّافعىِّ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. فإذا قُلْنا: مُوجَبُه القِصاصُ. فله العَفْوُ إلى الدِّيَةِ، والعَفْوُ مُطْلَقًا، فإذا عَفا مُطْلَقًا، لم يَجبْ شئٌ. وهذا ظاهرُ مَذهَبِ الشَّافعىِّ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 142. (¬2) في الأصل، تش: «أرش». (¬3) في الأصل، تش: «انفصل».

وَإِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَمْلِكْ طَلَبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال بعضهم: تَجِبُ الدِّيَة؛ لئلَّا يُطَلَّ (¬1) الدَّم. وليس بشئٍ؛ لأنَّه لو عَفا عن الدِّيَةِ بعدَ وجوبِها، صَحَّ عَفْوه. ومتى عَفا عن القِصاصِ مُطْلَقًا إلى غيرِ مالٍ، لم يَجِبْ شئٌ، إذا قلْنا: الواجِبُ القِصاصُ عَيْنًا. فإن عَفا عن (¬2) الدِّيَةِ، لم يَصِحَّ عَفْوُه؛ لأنَّها لم (¬3) تَجِبْ. وإن قلْنا: الواجِبُ أحَدُ شَيْئينِ لا بعينِه. فعَفا عن القِصاصِ مُطْلَقًا، أو إلى الدِّيَةِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ الواجِبَ غيرُ مُعَيَّنٍ، فإذا تَرَك أحَدَهما تَعَيَّنَ الآخَرُ (فإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، سَقَط القِصاصُ، ولم يَمْلِكْ طَلَبَه) لأَنَّ الواجِبَ أحَدُ شَيْئَيْن، [فإذا تَعَيَّنَ أحَدُهما سَقَط الآخَرُ. فإنِ اخْتارَ القِصاصَ تَعَيَّنَ لذلك (¬4). فإنِ اخْتارَ بعدَ ذلك العَفْوَ إلى الدِّيَةِ، فله ذلك] (¬5). ذَكَرَه القاضى؛ لأَنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «يبطل». وطلّ دمه: هدر. (¬2) في الأصل: «إلى». (¬3) في الأصل: «لا». (¬4) في ر 3: «ذلك». (¬5) سقط من: الأصل.

وَعَنْهُ، أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ عَينًا، وَلَهُ الْعَفْوُ الَى الدِّيَةِ وَإِنْ سَخِطَ الْجَانِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصَ أعْلَى، فكان له الانْتِقالُ إلى الأدْنَى، ويكونُ بَدَلًا عن القِصاصِ، وليستِ التى وَجَبَتْ بالقَتْلِ، كما قُلْنا في الرِّوايةِ الأُولَى: إنَّ الواجبَ القِصاصُ عَيْنًا، وله العَفْوُ إلى الدِّيَةِ. ويَحْتَمِلُ أَنَّه ليس له ذلك؛ لأنَّه أَسْقَطَها باخْتِيارِه القَوَدَ، فلم يَعُدْ إليها (وعنه، أنَّ الواجِبَ القِصاصُ عَيْنًا، وله العَفْوُ إلى الدِّيَةِ وإن سَخِط الجانِى) لِما ذَكَرْنا. فصل: إذا جَنَى عبدٌ على حُرٍّ جِنايةً مُوجِبَةً للقِصاصِ، فاشْتَراه المَجْنِىُّ عليه بأَرْشِ الجِنايةِ، سَقَط القِصاصُ؛ لأَنَّ عُدُولَه إلى الشِّراءِ اختيارٌ للمالِ، ولا يَصِحُّ الشِّراءُ؛ لأنَّهما إن لم يَعْرِفا قَدْرَ الأَرْشِ فالثَّمَنُ مَجْهُولٌ، وإن عَرَفا عَدَدَ الإبِلِ وأسْنانَها فصِفَتُها مَجْهُولةٌ، والجَهْلُ بالصِّفَةِ كالجَهْلِ بالذَّاتِ في فَسادِ البَيْعِ، ولذلك لو باعَه شيئًا

فَإِنْ عَفَا مُطلَقًا، وَقُلْنَا: الْوَاجِبُ أحَدُ شَيْئَيْنِ فَلَهُ الدِّيَةُ. وإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا. فَلَا شَىْءَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بحِمْلِ جَذَعٍ غيرِ مَعْرُوفِ الصِّفَةِ، لم يَصِحَّ، فإن قَدَّرَ الأَرْشَ بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ فباعَه به، صَحَّ. فصل: ومتى كان القِصاصُ لمَجْنُونٍ أو لصغيرٍ، لم يَجُزِ العَفْوُ إلى غيرِ مالٍ للوَلِىِّ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ إسْقاطَ حَقِّه. وقد ذَكَرْناه. فصل: ويَصِحُّ عَفْوُ المُفْلِسِ والمَحْجُورِ عليه لسَفَهٍ عن القِصاصِ؛ لأنَّه ليس بمالٍ. وإن أراد المُفْلِسُ القِصاصَ، لم يكنْ لغُرَمائِه إجْبارُه على تَرْكِه. وإن أحَبَّ العَفْوَ عنه إلى مالٍ، فله ذلك؛ لأَنَّ فيه حَظًّا للغُرَماءِ. وإن أراد العَفْوَ إلى غيرِ مالٍ، انْبَنَى على الرِّوايتَيْنِ (وإن قُلْنا: الواجب القِصاصُ عَيْنًا) فله ذلك؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له مالٌ يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الغُرَماءِ (وإن قُلْنا: الواجِبُ أحَدُ شَيْئَيْن) لم يَمْلِكه؛ لأَنَّ المالَ يَجِبُ بقَوْلِه: عَفوْت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن القِصاصِ. فقَوْلُه: على غيرِ مالٍ. إسْقاطٌ له بعدَ وُجُوبِه وتَعَيُّنِه، ولا يَمْلِكُ ذلك. وهكذا الحكمُ في السَّفِيهِ ووارِثِ المُفلِسِ. وإن عَفا المَرِيضُ على غيرِ مالٍ، فذَكَرَ القاضى في مَوْضِع، أنَّه يَصِحُّ، سواءٌ خَرَج من الثُّلُثِ أو لم يَخْرُجْ. وذكَر أنَّ أحمدَ نَصَّ على ذلك. وقال في مَوْضِعٍ: يُعْتَبَرُ خُرُوجُه مِن ثُلُثِه. ولَعَلَّه يَنْبَنِى على الرِّوايَتَيْن في مُوجَبِ العَمْدِ، على ما مَضَى.

4114 - مسألة: (وإن مات القاتل، وجبت الدية فى تركته)

وَإِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِى تَرِكَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4114 - مسألة: (وإن مات القاتِلُ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ في تَرِكَتِه) لأنَّه تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ القِصاصِ مِن غيرِ إسْقاطٍ، فوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كقَتْلِ غيرِ المُكافِئ. وإن لم يُخَلِّفْ تَرِكَةً، سَقَط الحقُّ؛ لتَعَذُّر اسْتِيفائِه.

4115 - مسألة: (وإن قطع إصبعا عمدا، فعفا عنه، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على مال، فله تمام الدية، وإن عفا على غير مال، فلا شئ له، على ظاهر كلامه. ويحتمل أن له تمام الدية. وإن عفا مطلقا، انبنى على الروايتين فى موجب العمد)

وَإِذَا قَطَعَ إِصْبَعًا عَمْدًا، فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْكَفِّ أَوِ النَّفْسِ، وَكَانَ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ، فَلَهُ تَمَامُ الدِّيَةِ، وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَلَا شَىْءَ لَهُ، عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَيَحْتَمِلُ أنَّ لَهُ تَمَامَ الدِّيَةِ، وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِى مُوجَبِ الْعَمْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4115 - مسألة: (وإن قَطَع إصْبَعًا عمدًا، فعَفا عنه، ثم سَرَتْ إلى الكَفِّ أو النَّفْسِ، وكان العفْوُ على مالٍ، فله تَمامُ الدِّيَةِ، وإن عَفا على غيرِ مالٍ، فلا شئَ له، على ظاهِرِ كَلامِه. ويَحْتَمِلُ أنَّ له تَمامَ الدِّيَةِ. وإن عَفا مُطْلَقًا، انْبَنَى على الرِّوايَتَيْن في مُوجَبِ العمدِ) وجملةُ ذلك، أَنَّه إذا جَنَى على إنْسانٍ فيما دُونَ النَّفْسِ جِنايةً تُوجِبُ القِصاصَ، كالإِصْبَعِ، فعَفا عن القِصاصِ، ثم سَرَتِ الجِنايةُ إلى نفسِه، فمات، لم يَجِبِ القِصاصُ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّ القِصاصَ يَجِبُ؛ لأَنَّ الجِنايةَ صارَتْ نَفْسًا، [ولم يَعْفُ عنها] (¬1). ولَنا، ¬

(¬1) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يَتَعَذَّر اسْتِيفاءُ القِصاصِ في النَّفْسِ دُونَ ما عَفا عنه، فسَقَطَ في النَّفْسِ، كما لو عَفا بعضُ الأوْلِياءِ، ولأَنَّ الجِنايةَ إذا لم يكنْ فيها قِصاصٌ مع إمْكانِه، لم يَجِبْ في سِرايَتها، كما لو قَطَع يَدَ مُرْتَدٍّ فأسْلَمَ ثم مات منها، ثم يُنْظرُ؛ فإن كان عَفا على مالٍ، فله الدِّيَةُ كاملةً، وإن عَفا على غيرِ مالٍ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ إلَّا (¬1) أرْشَ الجُرْحِ الذى عَفا عنه. وبهذا قال الشَّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَجِبُ الدِّيَةُ كاملةً؛ لأَنَّ الجِنايةَ صارَتْ نَفْسًا، وحَقُّه في النَّفْسِ لا فيما عَفا عنه، وإنَّما سَقَط القِصاصُ للشُّبْهَةِ. وإن قال: عَفَوْتُ عن الجِنايةِ. لم يَجِبْ شئٌ؛ لأَنَّ الجِنايةَ لا تَخْتَصُّ القَطْعَ. وقال القاضى، فيما إذا عَفا عن القَطْعِ: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ أَنَّه لا يَجِبُ شئٌ. وبه قال أبو يُوسُفَ ومحمدٌ؛ لأنَّه قَطْعٌ غيرُ مَضْمُونٍ، فكذلك سِرايَتُه. ¬

(¬1) في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّها سِرايَةُ جِنايةٍ أوْجَبَتِ الضَّمانَ، فكانت مَضْمُونَةً، كما لو لم يَعْفُ، وإنَّما سَقَطَتْ دِيَتها بعَفْوِه عنها، فيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بما عَفا عنه دُون غيرِه، والمَعْفُوُّ عنه عُشْرُ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ الجِنايَةَ أوْجَبَتْه، فإذا عَفا، سَقَط ما وَجَب دُونَ ما لم يَجِبْ، فإذا صارَتْ نَفْسًا، وَجَب بالسِّرايَةِ ما لم يَعْفُ عنه، ولم يَسْقُطْ أَرْشُ الجُرْحِ إذا لم يَعْفُ، وإنَّما تَكَمَّلَتِ الدِّيَةُ بالسِّرايةِ. فصل: فإن كان الجُرْحُ لا قِصاصَ فيه، كالجائفةِ ونحوِها، فعَفا عن القِصاصِ فيه، فسَرَى إلى النَّفْسِ، فلوَلِيِّه القِصاصُ؛ لأَنَّ القِصاصَ لم يَجِبْ في الجُرْحِ، فلم يَصِحَّ العَفْوُ عنه، وإنَّما وَجَب القِصاصُ بعدَ عَفْوِه، وله العَفْوُ عن القِصاصِ، [وله كمالُ الدِّيَةِ. وإن عَفا عن دِيَةِ الجُرْحِ، صَحَّ، وله بعدَ السِّرَايةِ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا أَرْشَ الجُرْحِ. ولا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ القِصاصِ] (¬1) في النَّفْسِ، مع أنَّه لا يَجِبُ كمالُ الدِّيَةِ بالعَفْوِ عنه، كما لو قَطَع يَدًا، فانْدَمَلَتْ واقْتَصَّ منها، ثم انْتَقَضَتْ وسَرَتْ إلى النَّفْسِ، فله القِصاصُ في النَّفْسِ، وليس له العَفْوُ إلَّا على نِصْفِ الدِّيَةِ. فإن قَطَع يَدَه مِن نِصْفِ السّاعِدِ، فعَفا عن القِصاصِ، ثم سَرَى، فعلى قولِ أبى بكرٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَسْقُطُ القِصاصُ في النَّفْسِ؛ لأَنَّ القِصاصَ لم يَجِبْ، فهو كالجائِفَةِ. ومَن جَوَّزَ له (¬1) القِصاصَ مِن الكُوعِ، أسْقَطَ القِصاصَ في النَّفْسِ، كما لو كان القَطْعُ مِن الكُوعِ. وقال المُزَنِىُّ: لا يَصِحُّ العَفْوُ عن دِيَةِ الجُرْحِ قبلَ انْدِمالِه، فلو قَطَع يَدًا، فعَفا عن ديَتِها وقِصاصِها، ثم انْدَمَلَتْ، لم تَسْقُطْ دِيَتُها، وسَقَط قِصاصُها؛ لأَنَّ القِصاصَ قد وجَبَ فيها، فصَحَّ العَفْوُ عنه، بخِلافِ الدِّيَةِ. ولا يَصِحُّ؛ لأَنَّ دِيَةَ الجُرْحِ إنَّما وَجَبَتْ بالجِنايةِ، إذ هى السَّبَبُ، ولهذا لو جَنَى على طَرَفِ عبدٍ ثم باعَه قبلَ بُرْئِه، كان أَرْشُ الطَّرَفِ لبائِعِه لا لمُشْتَرِيه، وتَأْخِيرُ المُطالَبَةِ به لا يَلْزَمُ منه عَدَمُ الوُجُوب وامْتِناعُ صِحَّةِ العَفْوِ، كالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ لا يَمْلِكُ المُطالَبَةَ به، ويَصِحُّ إسْقاطُه، كذا ههُنا. فصل: وإن قَطَع إصْبَعًا، فعَفا المَجْنِىُّ عليه عن القِصاصِ، ثم سَرَتْ إلى الكَفِّ، ثم انْدَمَلَ، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لِما ذَكَرْنا في النَّفْسِ، ولأَنَّ القِصاصَ سَقَط في الإِصْبَعِ بالعَفْوِ، فصارتِ اليَدُ ناقِصَةً لا تُؤْخَذُ بها الكاملةُ. ثم إن كان العَفْوُ إلى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ دِيَةُ اليَدِ كلِّها (¬2)، وإن كان على غيرِ مالٍ، خُرِّجَ فيه مِن الخِلافِ (¬3) ما ذَكَرْنا فيما إذا سَرَتْ إلى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «كاملة». (¬3) بعده في الأصل: «على».

4116 - مسألة: (وإن قال الجانى: عفوت مطلقا. أو: عفوت عنها وعن سرايتها. قال: بل عفوت إلى مال. أو: عفوت عنها دون سرايتها. فالقول قول المجنى عليه)

وَإِنْ قَالَ الْجَانِى: عَفَوْتَ مُطْلَقًا. أَوْ: عَفَوْتَ عَنْهَا وَعَنْ سِرَايَتِهَا. قَالَ: بَلْ عَفَوْتُ إِلَى مَالٍ. أَوْ: عَفَوْتُ عَنْهَا دُونَ سِرَايَتِهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفْسِ. فعلى هذا، تَجِبُ ههُنا دِيَةُ الكَفِّ إلَّا دِيَةَ الإِصْبَعِ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال القاضى: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يَجِبُ شئٌ. وهو قولُ أبى يُوسُفَ، ومحمدٍ؛ لأَنَّ العَفْوَ عن الجنايةِ عَفْوٌ عمّا يَحْدُثُ منها. وقد قال القاضى: إنَّ القِياسَ فيما إذا قَطَع اليَدَ، ثم سَرَى إلى النَّفْسِ، أن يَجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ. فيَلْزَمُه أن يقولَ مِثْلَ ذلك ههُنا. فصل: فإن قال: عَفَوْتُ عن الجِنايةِ وما يَحْدُثُ منها. صَحَّ، ولم يكنْ له في سِرايَتِها قِصاصٌ ولا دِيَةٌ، في كلامِ أحمدَ. 4116 - مسألة: (وإن قال الجانى: عَفَوْتَ مُطْلَقًا. أو: عَفَوْتَ عنها وعن سِرايَتِها. قال: بل عَفَوْتُ إلى مالٍ. أو: عَفَوْتُ عنها دُونَ سِرايَتِها. فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه) أو وَلِيِّه [وإن] (¬1) كان الخِلافُ معه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ العَفْوِ عن الجميعِ، وقد ثَبَت العَفْوُ عن البعضِ بإقْرارِه، فيكونُ [عَدَمُ العفوِ في سواه] (¬2) قولَه (¬3). ¬

(¬1) في ق، م: «إن». (¬2) في م: «القول في عدم سواه». (¬3) سقط من: الأصل.

4117 - مسألة: (وإن قتل الجانى العافى)

وَإِنْ قَتَلَ الْجَانِى الْعَافِىَ، فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَقَالَ الْقَاضِى: لَهُ الْقِصَاصُ أَوْ تَمَامُ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4117 - مسألة: (وإن قَتَل الجانى العافِىَ) عمدًا (فلوَلِيِّهِ القِصاصُ أو الدِّيَةُ كامِلَةً. وقال القاضى: له القِصاصُ أو تَمامُ الدِّيَةِ) إذا قَطَع يَدَه، فعَفا عنه، ثم عاد الجانى فقَتَل العافِىَ، فلوَلِيِّه القِصاصُ. وهو ظاهِرُ (¬1) مَذْهَبِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: لا قِصاصَ؛ لأن العَفْوَ حَصَل عن بعضِه، فلا يُقْتَلُ به، كما لو سَرَى القَطْعُ إلى نَفْسِه. ولَنا، أنَّ القَتْلَ انْفَرَدَ عن القَطْعِ، فعَفْوُه (¬2) عن القَطْعِ لا يَمْنَعُ ما وَجَب بالقَتْلِ، كما لو كان القاطِعُ غيرَه. وإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، فقال القاضى: إن كان العَفْوُ عن الطَّرَفِ إلى غيرِ دِيَةٍ، فله بالقَتْلِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وهو ظاهرُ مَذهَبِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ القَتْلَ إذا تَعَقَّبَ الجِنايةَ قبلَ الانْدِمالِ، كان كالسِّرايَةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «بعفوه».

4118 - مسألة: (وإذا وكل رجلا فى القصاص ثم عفا، ولم يعلم الوكيل حتى اقتص، فلا شئ عليه. وهل يضمن العافى؟ يحتمل وجهين. ويتخرج أن يضمن الوكيل، ويرجع به على الموكل فى أحد

وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِى الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا، وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ حَتَّى اقْتَصَّ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَضْمَنُ الْعَافِى؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَيَتَخرَّجُ أَنْ يَضْمَنَ الْوَكِيلُ، وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِى ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك لو لم يَعْفُ، لم يَجِبْ أكثرُ مِن دِيَةٍ، والقَطْعُ يَدْخُلُ في القَتْلِ في الدِّيَةِ دُونَ القِصاصِ، ولذلك لو أراد القِصاصَ كان له أن يَقْطَعَ ثم يَقْتُلَ، ولو صار الأمرُ إلى الدِّيَةِ لم يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ واحدةٌ. وقال أبو الخَطَّابِ: له العَفْوُ إلى دِيَةٍ كاملةٍ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ القَطْعَ مُنْفَردٌ عن القَتْلِ، فلم يَدْخُلْ حكمُ أحَدِهما في الآخَرِ، كما لو انْدَمَلَ. ولأَنَّ القَتْلَ مُوجِبٌ للقَتْلِ، فأوْجَبَ الدِّيَةَ كاملةً، كما لو لم يَتَقَدَّمْه عَفوٌ. وفارَقَ السِّرايةَ، فإنَّها لم تُوجِبْ قَتْلًا، ولأَنَّ السِّرايةَ عُفِىَ عن سَبَبِها، والقَتْلُ لم يُعْفَ عن شئٍ منه، ولا عن سَبَبِه. وسَواءٌ فيما ذَكَرْنا كان العافى عن الجُرْحِ أخَذَ ديَةَ طَرَفِه أو لم يَأْخُذْها. 4118 - مسَألة: (وإذا وَكَّلَ رجلًا في القِصاصِ ثم عَفا، ولم يَعْلَمِ الوَكِيلُ حتى اقْتَصَّ، فلا شئَ عليه. وهل يَضْمَنُ العافى؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن. ويَتَخَرَّجُ أن يَضْمَنَ الوَكِيلُ، ويَرْجِعَ به على المُوَكِّلِ فِى أحَدِ

أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَالْآخَرُ، لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ حَالًّا فِى مَالِهِ. وَقَاَل أَبُو الْخَطَّابِ: يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَيْن؛ لأنَّه غَرَّه. والآخَرُ، لا يَرْجِعُ به، ويكونُ الواجِبُ حالًّا في مالِه. وقال أبو الخَطّابِ: يكونُ على عاقِلَتِه) إذا وَكَّلَ مَن يَسْتَوْفِى القِصاصَ، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ. فإن وَكَّلَه، ثم غاب، وعفا المُوَكِّلُ عن القِصاصِ، واسْتَوْفَى الوَكِيلُ، نَظَرْنا؛ فإن كان عَفْوُه بعدَ القَتْلِ، لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ حَقَّه قد اسْتُوفِىَ. وإن كان قبلَه وقد عَلِم الوَكِيلُ به، فقد قَتَلَه ظُلْمًا، فعليه القَوَدُ، كما لو قَتَلَه ابْتِداءً. وإن كان قَتَلَه قبلَ العِلْمِ بعَفْوِ المُوَكِّلِ، فقال أبو بكرٍ: لا ضَمانَ على الوكيلِ؛ لأنَّه لا تَفْرِيطَ منه، فإنَّ العَفْوَ حَصَل على وَجْهٍ لا يُمْكِنُ الوَكِيلَ اسْتِدْراكُه، فلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمْه ضَمانٌ، كما لو عَفا بعدَ ما رَمَاه. وهل يَلْزَمُ المُوَكِّلَ الضَّمانُ؟ فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، لا ضَمانَ عليه؛ لأَنَّ عَفْوَه لم يَصِحَّ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حُصُولِه في حالٍ لا يُمْكِنُه اسْتِدْراكُ الفِعْلِ، فوَقَعَ القَتْلُ مُسْتَحَقًّا له، فلم يَلْزَمْه ضَمانٌ، ولأَنَّ العَفْوَ إحْسانٌ، فلا يَقْتَضِى وُجُوبَ الضَّمانِ. والثانى، عليه الضَّمانُ؛ لأَنَّ قَتْلَ المَعْفُوِّ عنه حَصَل بأمْرِه وتَسْلِيطِه، على وَجْهٍ لا ذَنْبَ للمُباشِرِ فيه، فكان الضَّمانُ على الآمِرِ، كما لو أَمَرَ عبدَه الأعْجَمِىَّ بقَتْلِ مَعْصُومٍ. وقال غيرُ أبى بكرٍ: يُخَرجُ. في صِحَّةِ العَفْوِ وَجْهان؛ بِناءً على الرِّوايتَيْن [في الوَكِيلِ] (¬1) هل يَنْعَزِلُ بعَزْلِ المُوَكِّلِ قبلَ عِلْمِه أو لا (¬2)؟ وللشافعىِّ قَوْلان كالوَجْهَيْن. فإن قُلْنا: لا يَصِحُّ العَفْوُ. فلا ضَمانَ على أحدٍ؛ لأنَّه قَتَل مَن يجبُ قَتْلُه بأمْرِ مُسْتَحِقِّه. وإن قُلْنا: يَصِحُّ العَفْوُ. فلا قِصاصَ فيه؛ لأَنَّ الوَكِيلَ قَتَل مَن يَعْتَقِدُ إباحَةَ قَتْلِه بسَبَبٍ هو مَعْذُورٌ فيه، فأشْبَهَ ما لو قَتَل في دارِ الحَرْبِ مَن يَعْتَقِدُه حَرْبِيًّا [فبان مسلمًا] (¬3). وتَجِبُ الدِّيَةُ على الوَكِيلِ؛ لأنَّه لو عَلِم لوَجَبَ عليه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر ما تقدم في 13/ 477 - 479. (¬3) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصُ، فإذا لم يَعْلَمْ، تَعَلَّقَ به الضَّمانُ، كما لو قَتَل مُرْتَدًّا قبلَ عِلْمِه بإِسْلامِه. ويَرْجِعُ بها على المُوَكِّلِ؛ لأنَّه غَرَّه بتَسْلِيطِه على القَتْلِ وتَفْرِيطِه في تَرْكِ إعْلامِه بالعَفْوِ، فيَرْجِعُ عليه، كالغارِّ في النِّكاحِ بحُرِّيَّةِ أمَةٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَرْجِعَ عليه؛ لأَنَّ العَفْوَ إحْسانٌ منه، فلا يَقْتَضِى الرُّجُوعَ عليه، بخِلافِ الغارِّ بالحُرِّيَّةِ. فعلى هذا، تكونُ الدِّيَةُ في مالِ الوَكِيلِ. اخْتارَه القاضى. وتكونُ حالَّةً؛ لأنَّه مُتَعَمِّدٌ للقَتْلِ، لكونِه قَصَدَه، وإنَّما سَقَط عنه القِصاصُ لمعنًى آخَرَ، فهو كقَتْلِ الأبِ. وقال أبو الخَطَّابِ: تكونُ على عاقِلَتِه؛ لأنَّه أُجْرِىَ مُجْرَى الخَطَأ، فأشْبَهَ ما لوِ قَتَل في دارِ الحَرْبِ مسلمًا يَعْتَقِدُه حَرْبِيًّا. وهذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه ليس بعَمْدٍ مَحْضٍ، ولهذا لم يَجِبْ به القِصاصُ، فيكونَ عَمْدَ الخَطَأَ، فتَحْمِلَه العاقِلَةُ. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬1). وقد دَلَّ على ذلك خَبَرُ المرأةِ التى قَتَلَتْ جارَتَها وجَنِينَها بمِسْطَحٍ (¬2)، فقَضَى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدِّيَةِ على عاقِلَتِها (¬3). فعلى قولِ القاضى، إن كان المُوَكِّلُ عَفا إلى الدِّيَةِ، فله الدِّيَةُ في تَرِكَةِ الجانى، ولوَرَثَةِ الجانى مُطالَبَةُ الوَكِيلِ بدِيَتِه، وليس للمُوَكِّلِ مُطالَبَةُ الوَكِيلِ بشئٍ. فإن قيل: فلِمَ قُلْتُم فيما إذا كان القِصاصُ لأخَوَيْن فقَتَلَه ¬

(¬1) انظر: المغنى 11/ 585. (¬2) مسطح: عمود من أعمدة الخباء. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، فعليه نِصْفُ الدِّيَةِ، ولأخيه مُطالَبَتُه به في وَجْهٍ؟ قُلْنا: ثَمَّ أتْلَفَ حَقَّه، فرَجَعَ ببَدَلِه عليه، وههُنا أتْلَفَه بعدَ سُقُوطِ حَقِّ المُوَكِّلِ عنه، فافْتَرَقَا. وإن قُلْنا: إنَّ الوَكِيلَ يَرْجِعُ على المُوَكِّلِ. احْتَمَلَ أن تَسْقُطَ الدِّيَتان، لأنَّه لا فائدةَ في أن يَأْخُذَها الورثةُ مِن الوكيلِ، ثم يَدْفَعُوها إلى المُوَكِّلِ، ثم يَرُدَّها المُوَكِّلُ إلى الوَكِيلِ، فيكونُ تَكْلِيفًا لكلِّ واحدٍ منهم بغيرِ فائدةٍ. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ ذلك؛ لأَنَّ الدِّيَةَ الواجِبَةَ في ذِمَّةِ الوَكِيلِ لغيرِ مَن للوكيلِ الرُّجُوعُ عليه، وإنَّما تَتَساقَطُ الدِّيتَان إذا كان لكلِّ واحدٍ مِن الغَرِيمَيْن على صاحِبِه مِثْلُ ما له عليه. ولأنَّه قد تكونُ الدِّيتَان مُخْتَلِفَتَيْن، بأن يكون أحَدُ المَقْتُولَيْن رجلًا والآخَرُ امرأةً. فعلى هذا، يَأْخُذُ ورثةُ الجانِى دِيَتَه مِن الوكيلِ، ويَدْفَعُون إلى المُوَكِّلِ دِيَةَ وَلِيِّه، ثم يَرُدُّ المُوَكِّلُ إلى الوَكِيلِ قَدْرَ ما غَرِمَه. وإن أحال وَرَثَةُ الجانِى على الوَكِيلِ، صَحَّ. فإن كان الجانى أقَلَّ دِيَةً مِثْلَ أن تكونَ امرأةٌ قَتَلَتْ رجلًا، فقَتَلَها الوكيلُ، فلوَرَثَتِها إحالةُ (¬1) المُوَكِّلِ بدِيَتِها؛ لأنَّه القَدْرُ الواجِبُ لهم على الوكيلِ، فيَسْقُطُ عن الوكيلِ والمُوَكِّلِ جميعًا، ويَرْجِعُ المُوَكِّلُ على وَرَثَتِها بِنصْفِ دِيَةِ وَلِيِّه. وإن كان الجانى رجلًا قَتَل امرأةً، فقَتَلَه الوَكِيلُ، فلوَرَثَةِ الجانى إحالةُ المُوَكِّلِ بدِيَةِ المرأةِ؛ لأَنَّ المُوَكِّلَ لا يَسْتَحِقُّ عليهم أكثرَ مِن دِيَتِها، ويُطالِبُون الوكيلَ بنِصْفِ دِيَةِ الجانى، ثم يَرْجِعُ به على المُوَكِّلِ. ¬

(¬1) بعده في تش: «ورثة».

4119 - مسألة: (وإن عفا عن قاتله بعد الجرح، صح)

وَإِذَا عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الجُرْحِ، صَحّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4119 - مسألة: (وإن عَفا عن قاتِلِه بعدَ الجُرْحِ، صَحَّ) وسَواءٌ عَفا بلَفْظِ العَفْوِ أو الوَصِيَّةِ؛ لأَنَّ الحَقَّ له، فصَحَّ (¬1) العَفْوُ عنه، كمالِه. وممَّن قال بصِحَّةِ عَفْوِ المَجْرُوحِ عن دَمِه (¬2)؛ مالكٌ، وطاوُسٌ، والحسنُ، وقَتادَةُ، والأوْزاعِىُّ. فإن قال: عَفَوْتُ عن الجِنايةِ، وما يَحْدُثُ منها (¬3). ولم يكنْ له في سِرايَتِها قِصاصٌ ولا دِيَةٌ في كلامِ أحمدَ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: إذا قال: عَقَوْتُ عن الجِنايةِ، وما يَحْدُثُ منها. ففيه قَوْلان؛ أحَدُهما، أنَّه وصيةٌ، فيَنْبَنِى على الوصيةِ للقاتلِ، وفيها قَوْلان؛ أحَدُهما، لا يَصِحُّ، فتَجِبُ دِيَةُ النَّفْس إلَّا دِيَةَ الجُرْحِ. والثانى، يَصِحُّ، فإن خَرَج مِن الثُّلُثِ، سَقَطَتْ، وإلَّا سَقَط منها بقَدْرِ الثُّلُثِ، ووَجَب الباقى. والقولُ الثانى، ليس بوصيةٍ؛ لأنَّه إسْقاطٌ في الحياةِ، فلم يَصِحَّ، ويَلْزَمُه دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الجُرْحِ. ولَنا، أنَّه أسْقَطَ حَقَّه بعدَ انْعِقادِ سَبَبِه، فسَقَطَ، كما لو أسْقَطَ الشُّفعَةَ بعدَ البيعِ. إذا ثَبَت هذا، ¬

(¬1) في الأصل: «صحيح». (¬2) في الأصل: «دية». (¬3) جوابه: «صح». وانظر صفحة 215، والمغنى 11/ 589.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا فَرْقَ بينَ أن يَخْرُجَ مِن الثُّلُثِ أو لم يَخْرُجْ؛ لأَنَّ مُوجَبَ العمدِ القَوَدُ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن، أو أحَدُ شَيْئَيْن، في الرِّوايةِ الأُخْرَى، فما تَعَيَّنَتَ الدِّيَةُ، ولا تَعَيَّنَتَ الوصيةُ بمالٍ، ولذلك صَحَّ العَفْوُ (¬1) مِن المُفْلِسِ إلى غيرِ مالٍ. وأمّا جِنايةُ الخَطَأَ، فإذا عَفا عنها وعمّا يَحْدُثُ منها، اعْتُبِرَ خُرُوجُها مِنِ الثُّلُثِ، سواءٌ عفا بلَفْظِ العَفْوِ أو الوصِيةِ أو الإِبْراءِ أو غيرِ ذلك، فإن خرَجَتْ مِن الثُّلُثِ، صَحَّ عَفْوُه عن الجميعِ، وإن لم تَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ، سَقَط عنه مِن دِيَتِها ما احْتَمَلَه الثُّلُثُ. وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. ونحوَه قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والأوْزاعِىُّ، وإسحاقُ؛ لأَنَّ الوصيةَ ههُنا بمالٍ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «القود».

4120 - مسألة: (وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها، فهى وصية لقاتل، هل تصح؟ على روايتين؛ إحداهما، تصح)

وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا، فَهِىَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، هَلْ تَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا، تَصِحُّ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ، وَلَا وَصِيَّتُهُ بِهِ لِقَاتِلٍ وَلَا غَيْرِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4120 - مسألة: (وإن أَبْرَأَه مِن الدِّيَةِ أو وَصَّى له بها، فهىَ وصيةٌ لقاتِلٍ، هل تَصِحُّ؟ على رِوايَتَيْن؛ إحْداهما، تَصِحُّ) لكونِها له؛ لأنَّها بَدَلٌ عنه (وتُعْتَبَرُ منِ الثُّلُثِ) كبَقِيَّةِ أمْوالِه. هكذا ذَكَرَه في كِتابِ «المُقْنِعِ»، ولم يُفرِّقْ بينَ العَمْدِ والخَطَأ. والذى ذَكَرَه في كتابِ «المُغْنِى» (¬1) ما ذَكَر في التى قبلَ هذه المسألةِ. 4121 - مسألة: (ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ عَفْوُه عن المالِ، ولَا وَصِيَّتُه ¬

(¬1) في: 11/ 590.

4122 - مسألة: (وإن أبرأ القاتل من الدية الواجبة على عاقلته، أو العبد من الجناية المتعلق أرشها برقبته، لم يصح)

إِذَا قُلْنا: إِنَّهُ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ أَبْرَأَ الْقَاتِلَ مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَوِ الْعَبْدَ مِنْ جِنَايَتِهِ الَّتِى يَتَعَلَّقُ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ به لقاتِلٍ ولا غيرِه، إذا قُلْنا: إنَّه يَحْدُثُ على مِلْكِ الورثةِ) لأنَّه يكونُ مالَ غيرِه، فلم يكنْ له التَّصَرُّفُ فيه، كَسائِرِ أمْوالِ الورثةِ. 4122 - مسألة: (وإن أبْرَأ القاتِلَ مِن الدِّيَةِ الواجِبَةِ على عاقِلَتِه، أو العبدَ مِن الجِنايَةِ المُتَعَلِّقِ أرْشُها برَقَبَتِه، لم يَصِحَّ) لأنَّه أَبْرَأَه

4123 - مسألة: (وإن وجب لعبد قصاص)

لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ أَوِ السَّيِّدَ، صَحَّ. وَإِنْ وَجَبَ لِعَبْدٍ قِصَاصٌ، أَوْ تَعْزِيرُ قَذْفٍ، فَلَهُ طَلَبُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حَقٍّ على غيرِه، أشْبَهَ ماْ لو أبْرَأ زيدًا مِن دَيْنٍ على عمرو (وإن أبْرَأ العاقِلَةَ أو السَّيِّدَ، صَحَّ) لأنَّه ابرَأهما مِن حَقٍّ عليهما، فصَحَّ، كالدَّيْن الواجِبِ عليهما. 4123 - مسألة: (وإن وَجَب لعبدٍ قِصاصٌ) في الطَّرَفِ، أو جُرْحٍ (أو تَعْزِيرُ قَذْفٍ، فله طَلَبُه والعَفْوُ عنه) لأنَّه مُخْتَصٌّ به (وليس ذلك لسَيِّدِه) لأنَّه ليس بحَقٍّ له (إلَّا أن يموتَ العبدُ) فإذا مات العبدُ، انْتَقَلَ عنه إلى السَّيِّدِ، وصَحَّ عَفْوُه عنه.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ مَنْ أُقِيدَ بِغَيْرِهِ في النَّفْسِ، أُقِيدَ بِهِ فِيما دُونهَا، وَمَنْ لَا فَلَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ما يُوجِبُ القِصاصَ فيما دُونَ النَّفسِ (كلُّ مَن أُقِيدَ بغيرِه في النَّفْسِ، أُقِيدَ به فيما دُوِنَها، ومَن لا فلا) لأَنَّ النَّفْسَ أعْلَى، فإذا أُقِيدَ في الأعْلَى، ففى الأدْنَى بطريقِ الأَوْلَى. وعنه، لا قِصاصَ بينَ العبيدِ في الأطْرافِ؛ لأنَّها أمْوالٌ. وقد ذَكَرْناه. والمَذْهَبُ الأَوَّلُ. ومَن لا يَجْرِى القِصاصُ بينَهما في النَّفْسِ، لا يَجْرِى بينَهما في الأطْرافِ (¬1)، كالأبِ مع ابنِه، والحُرِّ مع العبدِ، والمسلمِ مع الكافرِ، فلا يُقْطَعُ طَرَفُه بطرَفِه؛ لعَدَم المُكافأةِ، فيُقْطَعُ الحُرُّ المسلمُ بالحُرِّ المسلمِ، والعبدُ بالعبدِ، والذِّمىُّ بالذِّمِّىِّ، والذَّكَرُ بالأُنْثَى، ¬

(¬1) في م، ق: «الطرف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُنْثَى بالذَّكَرِ، ويُقْطَعُ النّاقِصُ بالكاملِ، كالعبدِ بالحُرِّ، والكافرِ بالمسلمِ. وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وإسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: لا قِصاصَ في الطَّرَفِ بينَ مُخْتَلِفِى البَدَلِ، فلا يُقْطَعُ الكامِلُ بالنَّاقِصِ، ولا النّاقِصُ بالكامِلِ، ولا الرجلُ بالمرأةِ، ولا المرأةُ بالرجلِ، ولا الحُرُّ بالعبدِ، ولا العَبْدُ بالحُرِّ، ولا العَبْدُ بالعَبْدِ، ويُقْطَعُ المُسْلِمُ بالكافِرِ، والكافرُ بالمُسْلِمِ؛ لأَنَّ التَّكافُؤَ مُعْتَبَرٌ في الأطْرافِ، بدليلِ أنَّ الصَّحيحةَ لا تُؤْخَذُ بالشَّلَّاءِ، ولا الكاملةَ بالناقِصَةِ، فكذا (¬1) لا يُؤْخَذُ طَرَفُ الرجلِ بطرَفِ المرأةِ، ولا طَرَفُها بطَرَفِه، كما لا تُؤْخَذُ اليُسْرَى باليُمْنَى. ولَنا، أنَّ مَن جَرَى القِصاصُ بينَهما في النَّفْسِ، جَرَى في الطَّرَفِ، كالحُرَّيْنِ، وما ذكَروه يَبْطُلُ بالقِصاصِ في النَّفْسِ، فإنَّ التَّكافُؤَ مُعْتَبَرٌ، بدليلِ أنَّ المُسْلِمَ لا يُقْتَلُ بمُسْتَأْمِنٍ، ثم يَلْزَمُه أن يأخُذَ الناقِصَةَ بالكاملَةِ؛ لأَنَّ المُماثَلَةَ قد وُجِدَتْ وزِيادَةً، فوَجَبَ أخْذُها بها إذا رَضِىَ المُسْتَحِقُّ، كما تُؤْخَذُ ناقِصَةُ الأصابعِ بكاملةِ الأصابعِ، وأمَّا اليَسارُ واليُمْنَى فيَجْرِيان مجْرَى النَّفْسَيْنِ؛ لاخْتِلافِ محَلَّيْهما، ولهذا يَسْتَوِى بدَلُهما، فعُلِمَ أنَّها ليست بناقصةٍ عنها شَرْعًا، ولا العلَّةُ فيهما ذلك. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «هكذا»، وفى م: «فلذا».

4124 - مسألة: (ولا يجب إلا بمثل الموجب فى النفس، وهو العمد المحض)

وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِمِثْلِ الْمُوجِبِ فِى النَّفْسِ، وَهُوَ الْعَمْدُ الْمَحْضُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4124 - مسألة: (ولا يَجِبُ إلَّا بمِثْلِ المُوجِبِ في النَّفْسِ، وهو العَمْدُ المَحْضُ) كما لا يَجِبُ في النَّفْسِ إلَّا بذلك، ووُجوبُ القِصاصِ فيما دونَ النَّفْسِ والأطرافِ إذا أمْكَنَ ثَابِتٌ بالنَّصِّ والإِجْماعِ؛ أمّا النَّصُّ فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1). وقولُه تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (1). الآية. وروَى أنسُ ابنُ مالكٍ، أنَّ الرُّبَيِّعَ بنتَ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جارِيَةٍ، فعرَضُوا عليهم الأَرْشَ، فأَبَوْا إلَّا القِصاصَ، فجاء أخوها أنَسُ بنُ النَّضْرِ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، تُكسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ! والذى بعَثَكَ بالحَقِّ لا تُكسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يا أنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ». قال: فعَفا القَوْمُ، فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لو أقسَمَ على اللَّهِ لأبَرَّهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وأجْمَعَ المُسْلِمونَ على جَرَيانِ القِصاصِ فيما دُونَ النَّفْسِ إذا أمْكَنَ، ولأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ كالنَّفْسِ في الحاجةِ إلى حِفْظِه بالقِصاصِ، فكان كالنَّفْسِ في وُجُوبِه. ¬

(¬1) سورة المائدة 45. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 202.

4125 - مسألة: (وهو نوعان؛ أحدهما، الأطراف، فتؤخذ العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجفن بالجفن، والشفة بالشفة، واليد باليد، والرجل بالرجل)

وَهُوَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، فِى الأَطْرَافِ، فَتُؤْخَذُ الْعَيْنُ بالْعَيْنِ، وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، والأُذُنُ بِالأُذُنِ، وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ، والْجَفْنُ بِالْجَفْنِ، وَالشَّفَةُ بِالشَّفَةِ، وَالْيَدُ بِالْيَدِ، والرِّجْلُ بالرِّجْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الخَطَأُ فلا قِصاصَ فيه إجْماعًا؛ لأنَّه لا يُوجِبُ القِصاصَ في النَّفْسِ وهى الأصْلُ، ففيما دُونَها أوْلَى. ولا يَجِبُ في شِبْهِ العَمْدِ، وهو أن يَقْصِدَ ضَرْبَه بما لا يُفْضِى إلى ذلك غالِبًا، مثلَ أن يَضْرِبَه بحَصاةٍ لا يُوضِح مِثْلُها، فتوضِحَه، فلا يَجِبُ به القِصاصُ؛ لأنَّه شِبْهُ عَمْدٍ، ولا يجبُ القِصاصُ إلَّا بالعَمْدِ المَحْضِ. وقال أبو بكرٍ: يَجبُ به القِصاصُ، ولا يُراعَى فيه ذلك؛ لعُمُوم الآيةِ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ، والآيةُ مخْصُوصَةٌ بالخَطَأ، فكذلك هذا، ولأنَّه لا يَجِبُ بة القِصاصُ في النَّفْسِ، فكذلك الجِراحُ. 4125 - مسألة: (وهو نوعانِ؛ أحدُهما، الأطْرَافُ، فَتُؤْخَذُ العَيْنُ بِالعَيْنَ، والأنْفُ بِالأنْفِ، والأذُنُ بالأذُنِ، وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ، والجَفْنُ بالْجَفْنِ، والشَّفَةُ بِالشَّفَةِ، واليَدُ بِالْيَدِ، والرِّجْلُ بِالرِّجْلِ) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على جَرَيانِ (¬1) القِصاصِ في الأطْرَافِ، وقد ثبَت ذلك بالآيةِ، وبخَبَرِ الرُّبَيِّعِ بنتِ النَّضْرِ الذى ذكَرْناه. 4126 - مسألة: وَتُقْلَعُ الْعَيْنُ بالْعَيْنِ. أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على القِصاصِ في العَيْنَيْنِ. يُرْوَى ذلك عن مَسْرُوقٍ، والحسنِ، وابنِ ¬

(¬1) في تش: «جواز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِيرِينَ، والشَّعْبِىِّ، [والنَّخَعِىِّ] (¬1) [والزُّهْرِىِّ] (¬2)، والثَّوْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْى. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه.؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (¬3). ولأنَّها تَنْتَهِى إلى مَفْصِلٍ، فجَرَى القِصاصُ فيها كاليَدِ. وتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بعَيْنِ الشَّيْخِ المَرِيضَةِ، وعيْنُ الكبيرِ بعينِ الصَّغيرِ والأعْمَشِ، ولا تُؤْخَذُ الصَّحِيحةُ بالقَائِمَةِ؛ لأنَّه يأْخُذُ أكثرَ مِن حَقِّه، وتُؤْخَذُ القائِمَةُ بالصَّحِيحةِ؛ لأنَّها دُونَ حَقِّه، كما تُؤْخَذُ الشلَّاءُ بالصَّحِيحَةِ، [ولا أَرْشِ] (¬4) له معها؛ لأَنَّ التَّفاوُتَ في الصِّفَةِ. فصل: فإن قلَع عَيْنَه بإصْبَعِه، لم يَجُزْ أن يَقْتَصَّ بإصْبَعِه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ المُماثَلَةُ فيه. فإن لَطَمَه فأذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِه، لم يَجُزْ أن يَقْتَصَّ منه باللَّطْمَةِ؛ لأَنَّ المُماثَلَةَ فيها غيرُ مُمْكِنَةٍ، ولهذا لو انْفَرَدَتْ مِن إذْهابِ الضَّوْءِ، لم يَجِبْ فيها قِصاصٌ، ويجبُ القِصاصُ في البَصَرِ، فيُعالِجُه بما يُذْهِبُ بصَرَه مِن غيرِ أن يَقْلَعَ عَيْنَه. وسنَذْكُرُ ذلك. وذكَرَ القاضى أنَّه يَقْتَصُّ منه باللَّطْمَةِ، فيَلْطُمُه المَجْنِىُّ عليه مثلَ لَطْمَتِه، فإن ذهَب ضَوْءُ عَيْنِه، وإلَّا كان له أن يُذْهِبَه بما نذْكُرُه. وهو مذهبُ الشافعىِّ. ولا يَصِحُّ هذا؛ فإنَّ اللَّطْمَةَ لا يُقْتَصُّ منها مُنْفَرِدَةً، فلا يُقْتَصُّ منها إذا سَرَتْ إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة المائدة 45. (¬4) في الأصل، تش: «والأرش».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَيْنِ، كالشَّجَّةِ دُونَ المُوضِحَةِ، ولأَنَّ اللَّطْمَةَ إذا لم تَكُنْ في العَيْنِ، لا يُقْتَصُّ منها بمثْلِها مع الأمْنِ مِن إفْسادِ العُضْوِ (¬1)، ففى العَيْنِ مع وُجُودِ ذلك أوْلَى، ولأنَّه قِصاصٌ فيما دُونِ النَّفْسِ، فلم يَجُزْ بغيرِ الآلَةِ المُعَدَّةِ له، كالمُوضِحَةِ. وقال القاضى: لا يجبُ القِصاصُ، إلَّا أن تكونَ اللَّطْمَةُ تَذْهَبُ بذلك غَالِبًا، فإن كانت لا تَذْهَبُ بالبَصَرِ غالِبًا، فذَهَبَ (¬2) بها، فهو شِبْهُ عَمْدٍ لا قِصاصَ فيه. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه فِعْلٌ لا يُفْضِى إلى الفَواتِ غالِبًا، فلم يَجِبْ به القِصاصُ، [كَشِبْهِ العَمْدِ في النفْسِ. وقال أبو بكرٍ: يَجِبُ القِصاصُ] (¬3) بكلِّ حالٍ؛ لعُمُومِ قولِه تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}. ولأَنَّ اللَّطْمَةَ إذا أَسَالَتِ العَيْنَ، كانت بمَنْزِلةِ الجُرْحِ، ولا يُعْتَبَرُ فيه الإِفْضاءُ إلى التَّلَفِ غالِبًا. فصل: فإن لَطَمَ عَيْنَه فذَهَبَ بَصَرُها، و (¬4) ابْيَضَّتْ، وشَخَصَتْ، فإن أمْكَنَ مُعالجةُ عَيْنِ الجانِى حتى يَذْهَبَ بَصَرُها وتَبْيَضَّ وتَشْخَصَ، [مِن غيرِ جِنايَةٍ على الحَدَقَةِ] (¬5)، فُعِلَ ذلك، وإن لم يُمْكِنْ إلَّا ذَهابُ بعضِ ذلك، مثلَ ذَهابِ البَصَرِ دُونَ أن تَبْيَضَّ وتَشْخَصَ، فعليه حُكومةٌ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الضوء». (¬2) في م: «فذهبت». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أو». (¬5) سقط من: الأصل.

4127 - مسألة: (و)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للذى لم يُمْكِنِ القِصاصُ فيه (¬1)، كما لو جَرَحَه هاشِمةً، فإنَّه يَقْتَصُّ مُوضِحَةً، ويَأْخُذُ أَرْشَ باقِى جُرْحِه. وعلى قولِ أبى بكرٍ، لا يُسْتَحَقُّ مع القِصاصِ أَرْشٌ. وقال القاضىِ: إذا لَطَمَه مثلَ لَطْمَتِه، فذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِه، ولم تَبْيَضَّ، ولم تَشْخصْ، فإن أمْكَنَ مُعالَجَتُها حتى تَبْيَضَّ وتَشْخَصَ، مِن غيرِ ذَهابِ الحَدَقَةِ، فَعَلَه، فإن تَعَذَّرَ ذلك، فلا شئَ عليه، كما لو انْدَمَلَتْ مُوضِحَةُ المَجْنِىِّ عليه وَحِشةً قَبِيحَةً، ومُوضِحَةُ الجانِى حَسَنَةً جَمِيلَةً، لم يجبْ شئٌ، كذلك ههُنا. وبَنَى (¬2) هذا على أنَّ اللَّطْمَةَ حصلَ بها القِصاصُ كما حصَل بجُرْحِ المُوضِحَةِ، وقد بَيَّنَّا فَسادَ هذا. 4127 - مسألة: (و) يُؤْخَذُ (السِّنُّ بِالسِّنِّ) وهو إجْماعُ أَهْلِ العلمِ؛ للآيةِ وحَدِيثِ الرُّبَيِّعِ (¬3)، ولأَنَّ القِصاصَ فيها مُمْكِنٌ؛ لأنَّها مَحْدودَةٌ في نَفْسِها. وتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بالصَّحِيحةِ، والمَكْسُورَةُ بالصَّحيحةِ؛ لأنَّه يأْخُذُ بعضَ حَقِّه. وهل له أَرْشُ الباقِى؟ فيه وَجْهان، ذكَرْناهُما. فصل: ولا يُقْتَصُّ إلَّا مِن سِنِّ مَن أثْغَرَ؛ أى سقَطَتْ رَواضِعُه ثم نَبَتَتْ. يقالُ لمن سقَطَتْ رَواضِعُهُ: ثُغِرَ، فهو مَثْغُورٌ. فإذا نبَتَتْ قيل: أثْغَرَ واثَّغَرَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «منه». (¬2) في م: «بناء». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لُغَتان. وإن قُلِعَ سِنُّ مَن لم يُثْغِرْ، لم يُقْتَصَّ مِنَ الجانِى في الحالِ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأَصْحابِ الرَّأْى، لأنَّها تَعُودُ بحُكْمِ العادةِ، فلا يُقْتَصُّ منها، كالشَّعَرِ. فإن عادَ (¬1) بَدَلُ السِّنِّ في مَحَلِّها مثْلُها على صِفَتِها، فلا شئَ على الجانِى، كما لو قلَع شَعَرَهُ ثم نبَت. وإن عادَتْ مائِلَةً عن مَحَلِّها، أو مُتَغَيِّرَةً عن صِفَتِها، كان عليه حُكُومَةٌ؛ لأنَّها لو لم تَعُدْ ضَمِنَ السِّنَّ، فإذا عادتْ ناقِصةً ضَمِنَ ما نقص. وإن عادت قَصِيرةً، ضَمِنَ ما نقَص بالحسابِ، ففى ثُلُثِها ثُلثُ دِيَتِها، وعلى هذا الحسابُ. وإن عادتْ والدَّمُ يَسِيلُ، ففيها حُكومةٌ، لأنَّه نَقْصٌ حصلَ بفِعْلِه. وإن مَضَى زَمَنُ عَوْدِها ولم تَعُدْ، سُئِلَ أهلُ العلمِ بالطِّبِّ، فإن قالوا: قد يُئِسَ مِن عَوْدِها. فالمَجْنِىُّ عليه مُخَيَّرٌ بينَ القِصاصِ و (¬2) الدِّيَةِ. فإن مات المَجْنِىُّ عليه قبلَ الإِياسِ مِن عَودِها، فلا قِصاصَ؛ لأَنَّ الاسْتِحْقاقَ له غيرُ مُتَحَقِّقٍ، فيكونُ ذلك شُبْهَة في دَرْئِه، وتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ القَلْعَ مَوْجُودٌ، والعَوْدُ، مَشْكُوكٌ فيه. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا مات قبلَ مَجِئِ وَقْتِ عَوْدِها، أَنْ لا يَجِبَ شئٌ؛ لأَنَّ العادةَ عَوْدُها، فأَشْبَهَ ما لو حلَق شَعَرَه فماتَ قبلَ نباتِه. فأمّا إن قلَع سِنَّ مَن قد أثْغَرَ، وجَب القِصاصُ له في الحالِ؛ لأَنَّ الظاهِرَ عَدَمُ عَوْدِها. وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعىِّ. وقال القاضى: يُسْئَلُ أهلُ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: لا تَعُودُ. فله ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «في». (¬2) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصُ في الحالِ، وإن قالوا: يُرْجَى عَوْدُها، إلى وقتٍ ذكَرُوه، لم يُقْتَصَّ حتى يَأْتِىَ ذلك الوقْتُ. وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّها تَحْتَمِلُ العَوْدَ، فأشْبَهَتْ سِنَّ مَن لم يُثْغِرْ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّها إن لم تَعُدْ، فلا كلامَ، وإن عادتْ، لم يجبْ قِصاصٌ ولا دِيَةٌ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: لا يَسْقُطُ الأَرْشُ؛ لأَنَّ هذه السِّنَّ لا تُسْتَخْلَفُ عادةً، فإذا عادتْ كانت هِبَةً مُجَدَّدةً، ولذلك لا يُنْتَظَرُ عَوْدُها في الضَّمانِ. ولَنا، أنَّها سِنٌّ عادتْ، فسَقَطَ الأَرْشُ، كسِنِّ مَن لم يُثْغِرْ، ونُدْرَةُ وُجُودِها لا يَمْنَعُ ثُبوتَ حُكْمِها إذا وُجِدَت. فعلَى هذا، إن كان أخَذَ (¬1) الأَرْشَ رَدَّه، وإن كان اسْتَوْفَى القِصاصَ، لم يَجُزْ قَلْعُ هذه قِصاصًا؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ العُدْوانَ. وإن عادتْ سِنُّ الجانِى دُونَ سِنِّ المَجْنِىِّ عليه، لم تُقْلَعْ، في أحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لئَلَّا يَأْخُذَ سِنَّيْنِ بسِنٍّ، وإنَّما قال اللَّهُ تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (¬2). والثانى، تُقلَعُ وإن عادتْ مَرَّاتٍ؛ لأنَّه أعْدَمَ (¬3) سِنَّه بالقَلْعِ، فكان له إعْدامُ سِنِّه. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهان كهذَيْنِ. فصل: فإن قلَع سِنًّا، فاقْتُصَّ منه، ثم عادتْ سِنُّ المَجْنِىِّ عليه، فقَلَعَها الجانِى ثانيةً، فلا شئَ عليه؛ لأَنَّ سِنَّ المَجْنِىِّ عليه لمَّا عادتْ، وجَب للْجانِى عليه دِيَةُ سِنِّه، فلما قَلَعَها، وجَب على الجانِى دِيَتُها للمَجْنِىِّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المائدة 45. (¬3) في الأصل: «عدم».

4128 - مسألة: (و)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فقد وَجَبَ لكلِّ واحدٍ منهما دِيَةُ سِنٍّ، فيتَقاصَّانِ. 4128 - مسألة: (و) يُؤْخَذُ (الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ) لقولِه تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. ولأنَّه يُمْكِنُ الاقْتِصاصُ فيه، لانْتِهائِه إلى مَفْصِل. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ويُؤْخَذُ جَفْنُ البَصِيرِ بمثْلِه، وبِجَفْنِ الضَّرِيرِ، ويُؤْخَذُ جَفْنُ الضَّريرِ بمثْلِه، وبجَفْنِ البَصِيرِ؛ لأنَّهما تَساوَيا في السَّلامَةِ مِن النَّقْصِ، وعَدَمُ البَصَرِ نَقْصٌ في غيرِه لا يَمْنَعُ أخْذَ أحَدِهما بالآخَرِ، كأُذُنِ الأصَمِّ. 4129 - مسألة: (و) تُؤْخَذُ (الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ) وهى ما جاوَزَ الذَّقَنَ والخَدَّيْنِ عُلْوًا وسُفْلًا؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. ولأَنَّ لها حَدًّا تَنْتَهِى إليه، يُمْكِنُ القِصاصُ منه، فوَجَبَ، كاليَدَيْنِ. فصل: ويُؤْخَذُ اللِّسانُ باللِّسانِ؛ للآيةِ، ولأَنَّ له حَدًّا يَنْتَهِى إليه، فاقْتُصَّ منه، كالعَيْنِ. ولا نعلمُ في هذا خِلافًا. ولا يُؤْخَذُ لِسانُ ناطِقٍ بأخْرَسَ؛ لأنَّه أفْضَلُ منه. ويُؤْخَذُ الأخْرَسُ بالنَّاطقِ؛ لأنَّه دُونَ حَقِّه. ويُؤْخَذُ بعضُ اللِّسانِ بالبَعْضِ؛ لأنَّه أمْكَنَ القِصاصُ في جَمِيعِه، فأمْكَنَ في بعضِه، كالسِّنِّ، ويُقَدَّرُ ذلك بالأجْزاءِ، ويُؤْخَذُ منه بالحِسابِ. 4130 - مسألة: (و) تُؤْخَذُ (اليَدُ باليَدِ) لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. وقد أجْمَعَ أهلُ العلمِ على جَرَيانِ القِصاصِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأطْرافِ؛ للآيةِ ولحَدِيثِ الرُّبَيِّعِ (¬1). ويُشْتَرَطُ لذلك ثَلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحدُها، الأمْنُ من الحَيْفِ، وهو أن يكونَ القَطْعُ مِن مَفْصِلٍ، فإن كان مِن غيرِ مَفْصِلٍ، فلا قِصاصَ فيه مِن مَوْضِعِ القَطْعِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لِما رَوَى [نِمْرانُ بنُ جَاريةَ] (¬2)، عن أبِيه، أنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا على ساعِدِه بالسَّيْفِ، فقَطَعَها مِن غيرِ مَفْصِلٍ، فاسْتَعْدَى عليه النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَرَ له بالدِّيَةِ، فقال: إنِّى أُرِيدُ القِصاصَ. فقال: «خُذِ الدِّيَةَ، بَارَكَ اللَّه لَك فيها». ولم يَقْضِ له بالقِصاصِ. رَوَاه ابنُ ماجَه (¬3). وفى قَطْعِ اليَدِ ثمانِ مسائلَ؛ أحدُها، قَطعُ الأصابعِ مِن مَفاصِلِها، فالقِصاصُ واجِبٌ فيها؛ لأَنَّ لها (¬4) مَفاصِلَ يُمْكِنُ القِصاصُ فيها مِن غيرِ حَيْفٍ، وإنِ اختارَ الدِّيَةَ فله نِصْفُها؛ لأَنَّ في كلِّ إصْبَعٍ عُشْرَ الدِّيَةِ. الثَّانيةُ، قَطعُها مِن نِصْفِ الكَفِّ، فليس له القِصاصُ مِن مَوْضِعِ القَطْعِ؛ لأنَّه ليس بمَفْصِلٍ، فلا يُؤْمَنُ الحَيْفُ فيه. وإن أرادَ قَطْعَ الأصابعِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، ليس له ذلك. اخْتارَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه يَقْتَصُّ مِن غيرِ مَوْضِعِ الجِنايةِ، فلم يَجُزْ، كما لو كان القَطْعُ مِن الكُوعِ، يُحَقِّقُه أنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 202. (¬2) في الأصل، تش، ر، ق: «نمران بن جابر». وفى م: «نمر بن جابر». والتصويب من سنن ابن ماجه. وانظر تهذيب التهذيب 10/ 475. (¬3) في: باب ما لا قود فيه، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 880. (¬4) في الأصل: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ امْتِناعَ قَطْعِ الأصابعِ إذا قطَع مِن الكُوعِ، إنَّما كان لعَدَمِ المُقْتَضِى، أو وُجُودِ مانعٍ، وأيُّهما كان فهو مُتَحَقِّقٌ إذا كان القَطْعُ من نِصْفِ الكَفِّ. والثانى، له قَطْعُ الأصابعِ. ذكَره أصْحابُنا. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه يأْخُذُ دُونَ حَقِّه لعَجْزِه عن اسْتِيفاءِ حَقِّه، فأَشْبَهَ ما لو شَجَّه هاشِمَةً فاسْتَوْفَى مُوضِحَةً. ويُفارِقُ ما إذا قطَع مِن الكُوعِ؛ لأنَّه أمْكَنَه اسْتِيفاءُ حَقِّه، فلم يَجُزِ العُدولُ إلى غيرِه. وهل له حُكومَةٌ في نِضفِ الكَفِّ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّه يَجْمَعُ بينَ القِصاصِ والأَرْشِ في عُضْوٍ واحدٍ، فلم يَجُزْ، كما لو قطَع مِن الكُوعِ. والثانى، له أَرْشُ نِصْفِ الكَفِّ؛ لأنَّه حَقٌّ له تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُه، فوَجَبَ أرْشُه، كسائرِ ما هذا حالُه. وإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، فله نِصْفُها؛ لأَنَّ قَطْعَ اليَدِ مِنَ الكُوعِ لا يُوجِبُ أكثرَ مِن نِصْفِ الدِّيَةِ، فما دُونَه أوْلَى. الثَّالثةُ، قَطَع مِن الكُوعِ، فله قَطْعُ يَدِه مِنَ الكُوعِ؛ لأنَّه مَفْصِلٌ، وليس له قَطْعُ الأصابعِ؛ لأنَّه غيرُ مَحَلِّ الجِنايةِ فلا يُسْتَوْفَى منه مع إمْكانِ الاسْتِيفاءِ مِن مَحَلِّها. الرابعةُ، قَطَع مِن نِصْفِ الذِّراعِ، فليس له أن يَقْطَعَ مِن ذلك المَوْضِعِ (¬1)؛ لأنَّه ليس بمَفْصِلٍ، وقد ذكَرْنا الخبَرَ الوارِدَ فيه، وله نِصْفُ الدِّيَةِ وحُكومةٌ في المَقْطُوعِ مِنَ الذِّراعِ. وهل له القَطْعُ مِنَ الكُوعِ؟ فيه وَجْهان، كما ذكَرْنا في من قَطَع مِن نِصْفِ الكَفِّ. ومن جَوَّزَ القَطْعَ مِنَ الكُوعِ، فعندَه في وُجوبِ الحُكومةِ لِما قُطِعَ مِنَ الذِّراعِ وَجْهان. ويَتَخرجُ أيضًا في جَوازِ ¬

(¬1) في م: «الوضع».

وَيَقْتَصُّ مِنَ الْمَنْكِبِ إِذَا لَمْ يَخَفْ جَائِفَةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعِ الأصابعِ وَجْهان. فإن قطَع منها (¬1)، لم يَكُنْ له حُكومةٌ في الكَفِّ؛ لأنَّه أمْكَنَه أخْذُه قِصاصًا، فلم يكُنْ له طَلَبُ أَرْشِه، كما لو كانتِ الجِنايةُ مِنَ الكُوعِ. الخامسةُ، قَطَع مِن المَرْفِقِ، فله القِصاصُ منه؛ لأنَّه مَفْصِلٌ، وليس له القَطْعُ من الكُوعِ؛ لأنَّه أمْكَنَه اسْتِيفاءُ حَقِّه بكَمَالِه، والاقْتصاصُ مِن مَحَلِّ الجِنايةِ عليه، فلم يَجُزْ له (¬2) العُدولُ إلى غيرِه. وإن عَفا إلى الدِّيَةِ، فله دِيَةُ اليَدِ، وحُكومةٌ للسَّاعِدِ. السادسةُ، قَطعُها مِن العَضُدِ، فلا قِصاصَ فيها، في أحَدِ الوَجْهينِ، وله دِيَةُ اليَدِ، وحُكومةٌ للسَّاعِدِ وبعضِ العَضُدِ. والثانى، له القِصاصُ مِنَ المَرْفِقِ. وهل له حُكومةٌ في الزَّائدِ؟ على وَجْهين. وهل له القَطْعُ من الكُوعِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهينِ. السابعةُ، قَطَع (مِن المَنْكِبِ) فالواجِبُ القِصاصُ؛ لأنَّه مَفْصِلٌ (إذا لم يَخَفْ جائِفةً) وإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، فله دِيَةُ اليَدِ، وحُكومةٌ لِما زادَ. الثامنةُ، خَلع عَظْم المَنْكِبِ، ويقالُ له: مِشْطُ الكَتِفِ. فيَرْجِعُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ما». (¬2) سقط من: م.

4131 - مسألة: (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين بمثله)

ويُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصَابِعِ، والْكَفِّ، وَالْمَرْفِقِ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ بِمِثْلِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه إلى اثْنَيْن مِن ثِقَاتِ أَهْلِ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: يُمْكِنُ الاسْتِيفاءُ مِن غيرِ أن تَصِيرَ جائِفَةً. اسْتَوْفَى، وإلَّا صارَ الأمْرُ إلى الدِّيَةِ. وفى جَوازِ الاسْتِيفاءِ مِن المَرْفِقِ أو ما دُونَه مثلُ ما ذكَرْنا في نظائِرِه. ومثلُ هذه المسائلِ في الرِّجْلِ؛ فالسَّاقُ كالذِّراعِ، والفَخِذُ كالعَضُدِ، والوَرِكُ كعَظْمِ الكَتِفِ، والقَدَمُ كالكَفِّ، فتُقاسُ عليها للنَّصِّ والمَعْنَى. 4131 - مسألة: (ويُؤْخَذُ كُلُّ واحدٍ مِن الأصابعِ والكَفِّ والمَرْفِقِ والذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ بمِثْلِه) لقولِه تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. ولما ذكَرْنا في اليَدِ باليَدِ. ولا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في أنَّ القِصاصَ يَجْرِى في الذَّكَرِ، ولأَنَّ له حَدًّا يَنْتَهِى إليه، ويُمْكِنُ القِصاصُ فيه مِن غيرِ حَيْفٍ، فوَجَبَ فيه القِصاصُ، كالأنْفِ. ويَسْتَوِى في ذلك ذَكَرُ الصَّغِيرِ والكبيرِ، والشَّيْخِ والشابِّ، والذَّكَرُ الكبيرُ والصغيرُ، والصَّحيحُ والمريضُ؛ لأَنَّ ما وجَب فيه القِصاصُ مِن الأطْرَافِ لم يَخْتَلِفْ بهذه المعانِى، كذلك الذَّكَرُ. ويُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ مِنَ المَخْتُونِ (¬1) والأغْلَفِ بصاحِبِه؛ لأَنَّ الغُلْفَةَ زِيادةٌ تَستَحِقُّ إزالَتها، فهى ¬

(¬1) في الأصل، تش، ر 3، م: «المجبوب».

4132 - مسألة: ويجرى القصاص فى الأنثيين

وَهَلْ يَجْرِى الْقِصَاصُ في الْأَلْيَةِ وَالشَّفْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَعْدُومةِ ويُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ مِنَ الخَصِىِّ والعِنِّينِ بمثلِه؛ لتَساوِيهِما، كما يُؤْخَذُ العَبْدُ بالعَبْدِ، والذِّمِّىُّ بالذِّمِّىِّ، ويُؤْخَذُ بعضُه ببعضٍ، ويُعْتَبَرُ بالأجْزاءِ دُونَ المِساحةِ، فيُؤْخَذُ النِّصْفُ بالنِّصْفِ، وما زادَ أو نَقَصَ فبِحسابِ ذلك، كالأنْفِ والأُذُنِ، على ما ذكَرْناه. 4132 - مسألة: ويَجْرِى القِصاصُ في الأُنْثَيَيْنِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن النَصِّ والمَعْنَى، ولا نعلمُ فيه خِلافًا، فإن قطَع إحْدَاهما وقال أهْلُ الخِبْرَةِ: إنَّه يُمْكِنُ أخْذُها مع سلامه الأُخْرَى. جاز. وإن قالوا: لا يُؤْمَنُ تَلَفُ الأُخْرَى، لم يُقْتَصَّ منها خَشْيَةَ الحَيْفِ، ويجبُ فيها نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن أُمِنَ تَلَفُ الأُخْرَى، أُخِذَتِ اليُمْنَى باليُمْنَى، واليُسْرَى باليُسْرَى، كاليَدَيْنَ. 4133 - مسألة: (وهل يَجْرِى القِصاصُ في الأَلْيَةِ والشَّفْرِ؟ على وَجْهَيْنِ) يجبُ القِصاصُ في الأَلْيَتَيْن الناتِئَتَيْنِ بينَ الفَخِذِ والظَّهْرِ بجانِبَى الدُّبُرِ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ. والوَجْهُ الثانى، لا يجبُ. وهو قولُ المُزَنِىِّ؛ لأنَّهما لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بلَحْمٍ، أَشْبَهَ لَحْمَ الفَخِذِ، ووَجْهُ الأَوَّلِ قولُى تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.

4134 - مسألة: وفى القصاص فى شفرى المرأة وجهان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ لهما حَدًّا يَنْتَهِيانِ إليه، فجَرَى القِصاصُ فيهما، كالذَّكَرِ. 4134 - مسألة: وفى القِصاصِ في شَفْرَىِ المَرْأَةِ وجهان؛ أحدُهما، لا قِصاصَ فيهما؟ لأنَّه لَحْمٌ لا مَفْصِلَ له يَنْتَهِى إليه، فأشْبَهَ لَحْمَ الفَخِذَيْنِ. وهو قولُ القاضى. والثانى، فيهما القِصاصُ؛ لأَنَّ انْتِهاءَهما مَعْرُوفٌ، فأشْبَها الشَّفَتَيْنِ وجَفْنَىِ العَيْنَيْنِ. وهو قولُ أبى الخَطَّابِ. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهان كهذَيْن. فصل: فإن قَطَع ذكرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أو أُنْثَيَيْه، أو شَفْرَيْه، فطَلَبَ القِصاصَ، لم يُجَبْ إليه في الحالِ، ويَقِفُ الأمْرُ حتى يَتَبَيَّنَ حالُه؛ لأنَّنَا لا نعلمُ أنَّ المَقْطُوعَ عُضْوٌ أصْلِىٌّ، وإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، وكان يُرْجَى انْكِشافُ حالِه، أعْطَيْناه اليَقِينَ، فيكونُ له حُكومةٌ [في المَقْطُوعِ. وإن كان قد قطَع جَمِيعَها، فله دِيَةُ امرأةٍ في الشَّفْرَيْنِ، وحُكومةٌ في الذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ. وإن يُئسَ مِن] (¬1) انْكِشافِ حالِه، أُعْطِىَ نِصْفَ دِيَةِ الذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ، ونِصْفَ دِيَةِ الشَّفْرَيْنِ، وحُكومةً في نِصْفِ ذلك كلِّه. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ في الطَّرَفِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، الْأَمْنُ مِنَ الْحَيْفِ، بأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، أَوْ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِى إِلَيْهِ، كَمَارِنِ الْأَنْفِ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ، فَإِنْ قَطَعَ الْقَصَبَةَ، أَو قَطَعَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أوِ السَّاقِ، فَلَا قِصَاصَ في أَحدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِى الْآخَرِ، يَقْتَصُّ حَدِّ الْمَارِنِ، وَمِنَ الْكُوعِ وَالْكَعْبِ. وَهَلْ يَجِبُ لَهُ أَرْشُ الْبَاقِى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4135 - مسألة: (ويُشْتَرَطُ للقِصاصِ في الطَّرَفِ ثَلاثةُ شُروطٍ؛ أحدُها، أن يكونَ القَطْعُ مِن مَفْصِلٍ، أو له حَدٌّ يَنْتَهِى إليه، كَمارِنِ الأنْفِ، وهو ما لَانَ منه، فإن قطَع القَصَبَةَ، أو قطَعِ مِن نِصْفِ السَّاعدِ أو السّاقِ، فلا قِصاصَ في أحَدِ الوَجْهَيْن، وفى الآخرِ، يَقْتَصُّ مِن حَدِّ المَارِنِ، ومِنَ الكُوعِ والكَعْبِ. وهَل يَجِبُ له أَرْشُ البَاقِى؟ على وَجْهَيْنِ) أجْمَعُوا على جَرَيانِ القِصاصِ في الأنْفِ؛ للآيةِ والمَعنَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُؤخَذُ الكبيرُ بالصَّغيرِ، والأقْنَى (¬1) بالأَفْطَسِ (¬2)، وأنْفُ الأشَمِّ بأَنْفِ الأخْشَمِ الذى لا شَمَّ له؛ لأَنَّ ذلك لعِلَّةٍ في الدِّماغِ والأنْفُ صَحِيحٌ. كما تُؤْخَذُ أُذُنُ السَّمِيعِ بأُذُنِ الأصَمِّ. فإن كان بأَنْفِه جُذامٌ، أُخِذَ به الأنْفُ الصَّحِيحُ ما لم يَسْقُطْ منه شئٌ؛ لأَنَّ ذلك مَرَضٌ، فإن سقَط منه شئٌ، لم يُؤْخَذْ به الصَّحِيحُ، إلَّا أن يكونَ مِن أحَدِ جانِبَيْه، فيَأْخُذُ مِن الصَّحِيحِ مثلَ ما بَقِىَ منه، أو يَأْخُذُ أَرْشَ ذلك. والذى يَجبُ فيه القِصاصُ أو الدِّيَةُ هو المارِنُ، وهو ما لَان منه، دُونَ القَصَبَةِ؛ لأَنَّ ذلك حَدٌّ يَنْتَهِى إليه، فهو كاليَدِ، يَجِبُ القِصاصُ فيما انْتَهَى إلى الكُوعِ. فإن قطَع الأنْفَ كلَّه مع القَصَبةِ، فعليه القِصاصُ في المَارِنِ، وحُكومَةٌ للقَصَبَةِ. هذا قولُ ابنِ حامِدٍ، ومذهبُ الشافعىِّ. وفيه وجْهٌ آخرُ، أنَّه لا يَجِبُ مع القِصاصِ حُكومَةٌ، كَيْلَا يُجْمَعَ في عُضْوٍ واحدٍ بينَ قِصاصٍ ودِيَةٍ. وقِياسُ قولِ ¬

(¬1) القنا في الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب في وسطه. النهاية 4/ 116. (¬2) الفطس: انخفاض قصبة الأنف وانفراشها. النهاية 3/ 458.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى بكرٍ، أنَّه لا يجبُ القِصاصُ ههُنا؛ لأنَّه (¬1) يضَعُ الحَدِيدَةَ في غيرِ المَوْضِعِ الذى وَضَعَها الجانِى فيه، فلم يَمْلِكْ ذلك، كقولِه (¬2) في مَن قطَع اليَدَ مِن نِصْفِ الذِّراعِ أو الكَفِّ. وذكَر القاضى ههُنا كقولِ أبى بكرٍ، وفى نظائرِهِ مثلَ قولِ ابنِ حامدٍ. ولا يَصِحُّ التَّفْريقُ مع التَّساوِى. وإن قطَع بعضَ الأنْفِ، قُدِّرَ بالأجْزاءِ، وأُخِذَ منه بقَدْرِ ذلك، ولا يُؤْخَذُ بالمِساحَةِ، لئلَّا يُفْضِىَ إلى قَطعِ جَميعِ أنْفِ الجانِى لصِغَرِه ببعضِ أنْفِ المَجْنِىِّ عليه لكِبَرِه (¬3)، ويُؤْخَذُ المَنْخِرُ الأيْمَنُ بالأيْمَنِ، والأيْسَرُ بمثلِه، ويُؤْخَذُ الحاجِزُ بالحاجِزِ، لأنَّه يُمْكِنُ القِصاصُ فيه، لِانْتِهائِه إلى حَدٍّ. فصل: وتُؤْخَذُ (¬4) العَيْنُ بِالعَيْنِ؛ للآيَةِ. ولا يُشْتَرَطُ التَّساوِى في الصِّغَرِ والكِبَرِ، والصِّحَّةِ والمَرَضِ؛ لأَنَّ اعْتِبارَ ذلك يُفْضِى إلى سُقوطِ القِصاصِ بالكُلِّيَّةِ. ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في النسخ: «لقوله». والمثبت كما في المغنى 11/ 544. (¬3) في الأصل: «لكثره». (¬4) في الأصل، تش: «يأخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُؤْخَذُ الأُذُنُ بالأُذُنِ. أجْمَع أهْلُ العلمِ على أنَّ الأُذُنَ تُؤْخَذُ بالأُذُنِ، وقد دَلَّتِ الآيةُ على ذلك، ولأنَّها تَنْتَهِى إلى حَدٍّ فاصِلٍ، فأَشْبَهَتِ اليَدَ. وتُؤْخَذُ الكبيرةُ بالصَّغيرةِ، وتُؤْخَذُ أُذُنُ السَّميعِ بمثلِها وبأُذُنِ الأصَمِّ، وتُؤْخَذُ أُذُنُ الأصَمِّ بكلِّ واحدٍ منهما؛ لتَساوِيهما، فإنَّ ذَهابَ السَّمْعِ نَقْصٌ في الرَّأْسِ؛ لأنَّه مَحَلُّه، وليس بنَقْصٍ فيهما. وتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بالمَثْقوبَةِ؛ لأَنَّ الثَّقْبَ ليس بعَيْبٍ، وإنَّما يُفْعَل في العادةِ للقُرْطِ والتَّزَيُّنِ به، فإن كان الثَّقْبَ في غيرِ مَحَلِّه، أو كانت مَخْرُومةً، أُخذَتْ بالصَّحِيحَةِ، ولم تُؤْخَذِ الصَّحِيحَةُ بها؛ لأَنَّ الثَّقْبَ إذا انْخَرَمَ صار نَقْصًا فيها، والثَّقْبُ في غيرِ مَحَلِّه عَيْبٌ، ويُخَيَّر المَجْنِىُّ عليه بينَ أخْذِ الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ النَّقْصِ، وبينَ أن يَقْتَصَّ فيما سِوَى المَعِيبِ ويَتْرُكَه مِن أُذُنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِى (¬1). وفى وُجُوب الحُكومةِ له في قَدْرِ النَّقْصِ وَجْهان. وإن قُطِعَتْ بعضُ أُذُنِه، فله أَن يَقْتَصَّ مِن أُذُنِ الجانِى بقَدْرِ ما قُطِع مِن أُذُنِه، ويُقَدَّرُ ذلك بالأجْزاءِ، فيُؤْخَذُ النِّصْفُ بالنِّصْفِ، وعلى حسابِ (¬2) ذلك. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: لا يَجْرِى القِصاصُ في البَعْضِ؛ لأنَّه لا يَنْتَهِى إلى حَدٍّ. ولَنا، أنَّه يُمْكِنُ تَقْدِيرُ المَقْطُوعِ، وليس فيها كَسْرُ عَظْمٍ، فجَرَى القِصاصُ في بعْضِها، كالذَّكَرِ، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذكَرُوه. فصل: وتُؤْخَذُ الأُذُنُ المُسْتَحْشِفَةُ (¬3) بالصَّحِيحةِ. وهل تُؤْخَذُ الصَّحِيحةُ بها؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا تُؤْخَذُ بها؛ لأنَّها ناقِصَةٌ مَعِيبةٌ، فلم تُؤْخَذْ بها الصَّحِيحَةُ، كاليَدِ الشَّلَّاءِ وسائرِ الأعْضاءِ. والثانى، تُؤْخَذُ بها؛ لأَنَّ المَقْصُودَ منها جَمْعُ الصَّوْتِ، وحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ، والجمالُ (¬4)، وهذا يَحْصُلُ بها كحُصُولِه بالصَّحِيحةِ، بخِلافِ سائرِ الأعْضاءِ. ¬

(¬1) بعده في تش: «قدر ما قطع من أذنه». (¬2) ف م: «حسب». (¬3) استحشفت الأذن: يبست وتقلصت. (¬4) في الأصل، تش: «الكمال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قطَع أُذُنَه فأَبانَها، فأَلْصَقَها صاحِبُها فالْتَصَقَتْ وثَبَتَتْ، فقال القاضى: يجبُ القِصاصُ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ؛ لأنَّه وَجَبَ بالإِبَانَةِ، وقد وُجِدَتْ. وقال أبو بكرٍ: لا قِصاصَ فيها. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّها لم تَبِنْ على الدَّوامِ، فلم يَسْتَحِقَّ إبانَةَ أُذُنِ الجانِى دَوامًا. فإن سَقَطَتْ بعدَ ذلك قَرِيبًا أو بَعِيدًا، فله القِصاصُ، ويَرُدُّ ما أخَذَ. وعلى قولِ أبى بكرٍ، إذا لم تَسْقُطْ، له دِيَةُ الأُذُنِ. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى. وكذلك قولُ الأوَّلِينَ إذا اخْتارَ الدِّيَةَ. وقال مالكٌ: لا عَقْلَ لها إذا عادَتْ مَكانَها. فأمَّا إن قطَع بعضَ أُذُنِه فالْتَصَقَ، فله أَرْشُ الجُرْحِ، ولا قِصاصَ فيه. وإن قطَع أُذُنَ إنسانٍ، فاسْتَوْفَى منه، فألْصَقَ الجانِى أُذُنَه فالْتَصَقَتْ، فطَلَبَ المَجْنِىُّ عليه إبانَتَها، لم يَكُنْ له ذلك؛ لأَنَّ الإِبانَةَ قد حَصَلَتْ، والقِصاصَ قد اسْتُوفِىَ، فلم يَبْقَ له (¬1) ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِبَلَه حَقٌّ. فأمَّا إن كان المَجْنِىُّ عليه لم يَقْطَعْ جميعَ الأُذُنِ، إنَّما قطَع بعْضَها فالْتَصَقَ، كان للمَجْنِىِّ عليه قَطْعُ جَمِيعِها؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ إبانَةَ جَمِيعِها، ولم يَكُنْ إِبَانَةٌ، والحُكْمُ في السِّنِّ كالحُكْمِ في الأُذُنِ (¬1). فصل: ومَن ألْصَقَ أُذُنَه بعدَ إبانَتِها، أو سِنَّهُ، فهل تَلْزَمُه (¬2) إبَانتها؟ فيه وَجْهان مَبْنِيّانِ على الرِّوايتَيْنِ فيما بانَ مِن الآدَمِىِّ، هل هو نَجِسٌ أو طاهِرٌ؟ إن قُلْنا: هو نَجِسٌ. لَزِمَتْه إزالتها، ما لم يَخْفِ الضَّرَرَ بذلك، كما لو جبَر عَظْمَه (¬3) بعَظْم نجِسٌ. وإن قُلْنا بطَهارَتِها. لم تَلْزَمْه إزالَتُها. اخْتارَه أبو بكرٍ. وهو قولُ عَطاءِ بنِ أبى رباحٍ، وعَطاءٍ الخُراسانىِّ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه جُزْءُ آدَمِىٍّ طاهِرٌ في حَياتِه ومَوْتِه، فكان طاهِرًا (¬4) كحالةِ اتِّصالِه (¬5). فأمَّا إن قطَع بعضَ أُذُنِه فالْتَصَقَتْ، لم يَلْزَمْه إبَانَتُها، على ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الأنف». (¬2) في م: «تلزم». (¬3) في م، ق: «ساقه». (¬4) بعده في الأصل: «في». (¬5) في الأصل، تش: «انفصاله».

4136 - مسألة: (وإذا أوضح إنسانا، فذهب ضوء عينه، أو سمعه، أو شمه، فإنه يوضحه)

فَإِذَا أَوْضَحَ إِنْسَانًا، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، أَوْ سَمْعُهُ، أَوْ شَمُّهُ، فَإِنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوايتَيْن جميعًا؛ لأنَّها لم تَصِرْ مَيْتَةً، لعَدَمِ إِبَانَتِها. ولا قِصاصَ فيها. قاله القاضى. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ المُماثَلَةُ في المَقْطُوعِ منها. 4136 - مسألة: (وإذا أوْضَحَ إنْسانًا، فذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، أو سَمْعُه، أو شَمُّه، فإنَّه يُوضِحُه) فإنَّه جُرْحٌ يُمْكِنُ الاقْتِصاصُ منه مِن

يُوضِحُه، فَإِنْ ذَهَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَا يُذْهِبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِىَ عَلَى حَدَقَتهِ، أَوْ أُذُنِهِ، أَوْ أَنْفِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرِ حَيْفٍ؛ لأَنَّ له حَدًّا يَنْتَهِى إليه (ثم إن ذهبَ ذلك، وإلَّا اسْتَعْمَلَ فيه ما يُذْهِبُه مِن غيرِ أن يَجْنِىَ على حَدَقَتِه، أو أُذُنِه، أو أنْفِه) لأنَّه يَسْتَوْفِى حَقَّه مِن غيرِ زِيادةٍ، فيُعالَجُ بما يُذْهِبُ بصَرَه مِن غيرِ أن يَقلَعَ عَيْنَه، كما روَى يحيى بنُ جَعْدَةَ، أنَّ أعْرابِيًّا قَدِمَ بحَلُوبَةٍ له إلى المَدِينةِ، فساوَمَهُ فيها مَوْلًى لعثمانَ بنِ عفَّان، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فنازَعَه، فلَطَمَه ففَقَأَ عَيْنَه، فقال له عثمانُ: هل لك أن أُضَعِّفَ لك الدِّيَةَ وتَعْفُوَ عنه؟ فأَبَى، فرَفَعَهُما إلى علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فدَعا علىٌّ بمِرآةٍ فأحْماها، ثم وضَع القُطْنَ على عَيْنِه الأُخْرَى، ثم أخَذَ المِرْآةَ بكَلْبَتَيْنِ، فأَدْناها [مِن عَيْنِه] (¬1) حتى سالَ إنسانُ عَيْنِه. وإن وضَع فيها كافُورًا يَذْهَبُ بضَوْئِها مِن غيرِ أن يَجْنِىَ على الحَدَقَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، سَقَطَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جازَ. وكذلك السَّمْعُ والشَّمُّ (فإن لم يُمْكِنْ إلَّا بالجِنايةِ على هذه الأعْضاءِ، سقَط) القِصاصُ؛ لتَعَذُّرِ المُماثَلَةِ، ولأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيادةِ يُسْقِطُ القَوَدَ، فحَقِيقَتُه أوْلَى. فصل: وإن شَجَّه دُونَ المُوضِحَةِ، فأذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِه، لم يَقْتَصَّ منه مثلَ شَجَّتِه، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّها لا قِصاصَ فيها إذا لم يَذْهَبْ ضَوْءُ العَيْنِ، فكذلك إذا ذهَب، ويُعالَجُ ضَوْءُ العَيْنِ بمثلِ ما ذكَرْنا. فإن كانتِ الشَّجَّةُ فوقَ المُوضِحَةِ، فله أن يَقْتَصَّ مُوضِحَةً. فإن ذهَب ضَوْءُ العَيْنِ، وإلَّا اسْتَعْمَلَ فيه ما يُزِيلُه من غيرِ أَنْ يَجْنِىَ على الحَدَقَةِ. واخْتَلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ في القِصاصِ في البَصَرِ في هذه المواضِعِ كُلِّها (¬1)، فقال بعضُهم: لا قِصاصَ فيه؛ لأنَّه لا يَجبُ بالسِّرَايةِ عندَهم، كما لو قطَع إصْبَعَه، فسَرَى القَطْعُ إلى التى تَلِيها، فأَذهَبَها. وقال بعضُهم: يجبُ القِصاصُ ههُنا، قولًا واحدًا؛ لأَنَّ ضَوْءَ العَيْنِ لا تُمْكِنُ مُباشَرَتُه بالجِنايةِ، فيَقْتَصُّ منه بالسِّرَايةِ، كالنَّفْسِ، فيَقْتَصُّ مِن البَصَرِ بما ذكَرْنا في مثلِ هذا. ¬

(¬1) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، الْمُمَاثَلَةُ فِى الْمَوْضِعِ، فَتُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، والْعُلْيَا والسُّفْلَى، مِنَ الشَّفَتَيْنِ والأَجْفَانِ بِمِثْلِهَا. والْإِصْبَعُ والسِّنُّ والأُنْمَلةُ بِمِثْلِهَا فِى المَوْضِعِ وَالاسْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الشَّرطُ (الثانى، المُمَاثلةُ في الموْضِع، فتُؤْخَذُ كلُّ واحدةٍ مِن اليُمْنَى واليُسْرَى، والعُلْيا والسُّفْلَى، مِن الشَّفَتَيْنِ والأجْفانِ بمِثْلِها) لأَنَّ القِصاصَ يَعْتَمِدُ المُمَاثَلَةَ. هذا قولُ أكثرِ أَهْلِ العلمِ، منهم مالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وحُكِى عن ابنِ سِيرِينَ، وشَريكٍ، أنَّ إحْدَاهما تُؤْخَذُ بالأُخْرَى، لاسْتِوائِهما في الخِلْقَةِ والمَنْفَعَةِ. ولَنا، أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما تَخْتَصُّ باسْم، فلا تُؤْخَذُ إحْدَاهما بالأُخْرَى، كاليَدِ مع الرِّجْلِ. وِكذلك كلُّ ما انْقَسَمَ إلى يَمِينٍ ويَسارٍ، كاليَدَيْنِ، والرِّجْلَيْنِ، والأُذُنيْنِ، والمَنْخَرَيْن، والثَّدْيَيْنِ، والألْيَتَيْنِ، والأُنْثَيَيْن (1)، لا تُؤْخَذُ إحْدَاهما بالأُخْرَى، وكذلك كلُّ (¬1) ما انْقَسَمَ إلى أعْلَى وأسفَلَ، كالجَفْنَيْن والشَّفَتَيْن، لا يُؤْخَذُ الأعْلَى بالأسْفَلِ، ولا الأسْفَلُ بالأعْلَى، لذلك. 4137 - مسألة: (و) تُؤْخَذُ (الإصْبَعُ والسِّنُّ والأُنْمُلَةُ بمِثْلِهَا فِى المَوْضِعِ والِاسْمِ) ولَا تُؤْخَذُ أُنْمُلَةٌ بِأْنْمُلَةٍ إلَّا أن يَتَّفِقَا فِى المَوْضِعِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4138 - مسألة: (فلو قطع أنملة رجل العليا، وقطع الوسطى من آخر ليس له عليا، فصاحب الوسطى مخير بين أخذ عقل أنملته، وبين أن يصبر حتى يقطع العليا، ثم يقتص من الوسطى)

وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، وَقَطَعَ الْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الإِصْبَعِ مِنْ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُلْيَا، فَصَاحِبُ الُوسْطَى مُخَيَّرٌ بَيْنُ أَخْذِ عَقْلِ أُنْمُلَتِهِ، وبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَقْطَعَ الْعُلْيَا، ثُمَّ يَقْتَصَّ مِنَ الْوُسْطى، ـــــــــــــــــــــــــــــ والِاسْمِ، ولا تُؤْخَذُ عُلْيَا بسُفْلَى ولا وُسْطَى، والوُسْطىَ والسُّفْلَى لا تُؤْخَذانِ بغيرِهما. 4138 - مسألة: (فلو قطَع أُنْمُلَةَ رَجُلٍ العُلْيَا، وقطَع الوُسْطَى مِن آخَرَ ليس له عُلْيَا، فصاحِبُ الوُسْطَى مُخَيَّرٌ بينَ أخْذِ عَقْلِ أُنْمُلَتِه، وبينَ أن يَصْبِرَ حَتَّى يَقْطَعَ العُلْيَا، ثُمَّ يَقْتَصَّ مِنَ الوُسْطى) لأنَّه يَسْتَوْفِى حَقَّه بذلك. فصل: فإن قطَع مِن ثالثٍ السُّفْلَى، فللأوَّلِ أن يَقْتَصَّ مِن العُلْيَا، ثم للثانِى أن يَقْتَصَّ مِن الوُسْطَى، ثم للثالثِ أن يَقْتَصَّ مِن السُّفْلَى، سواءٌ (¬1) جاءُوا جميعًا أو واحِدًا بعدَ واحدٍ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا قِصاصَ إلَّا في العُلْيا؛ لأنَّه لم يَجِبْ في غيرِها حالَ الجِنايةِ، لتَعَذُّرِ اسْتِيفائِه، فلم يَجِبْ بعدَ ذلك، كما لو كان غيرَ مُكافِئٍ حالَ الجِنايةِ، ثم صارَ مُكافِئًا بعدَه. ولَنا، أنَّ تَعَذُّرَ القِصاصِ لاتِّصالِ مَحَلِّه بغيرِه لا يَمْنَعُه إذا زالَ الاتِّصالُ، كالحاملِ إذا جَنَتْ ثم وَضَعَتْ. ويُفارِقُ عَدَمَ التَّكافُؤ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ لمَعْنًى فيه، وههُنا تَعَذَّرَ لاتِّصالِ غيرِه به (¬2)، فأمَّا إن جاءَ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «إن». (¬2) سقط من: الأصل.

وَلَا يُؤْخَذُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يُخَالِفُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبُ الوُسْطَى أو السُّفْلَى يَطْلُبُ القِصاصَ قبلَ صاحِبِ العُلْيا، لم يُجَبْ إليه؛ لأَنَّ في اسْتِيفائِه إتْلَافَ أُنْمُلَةٍ لا يَسْتَحِقُّها، وقيل لهما: إمَّا أن تَصْبِرَا حتى تَعْلَمَا ما يكونُ مِن الأَوَّلِ، فإنِ اقْتَصَّ فلكما القِصاصُ، وإن عَفا فلا قِصاصَ لكما، وإمَّا أن تَرْضَيَا بالعَقْلِ، فإن جاءَ صاحِبُ العُلْيا فاقْتَصَّ، فللثانى الاقْتِصاصُ، وحُكمُ الثالثِ مع الثانى كحُكْمِ (¬1) الثانى مع الأَوَّلِ، فإن عَفا فلكما العَقْلُ. وإن قالا: نحن نَصْبِرُ ونَنْتَظِرُ بالقِصَاصِ أن تَسْقُطَ العُلْيَا بمَرَضٍ أو نحوِه، ثم نَقْتَصُّ. لم يُمْنَعا مِن ذلك. فإن قطَع صاحِبُ الوُسْطَى الوُسْطَى والعُلْيَا، فعليه دِيَةُ العُلْيَا، تُدْفَعُ إلى صاحبِ العُلْيَا. وإن قطَع الإِصْبَعَ كلَّها، فعليه القِصاصُ في الأُنْمُلَةِ الثالثةِ، وعليه أَرْشُ العُلْيَا للأوَّلِ، وأرْشُ السُّفْلَى على الجانِى لصاحِبِها، وإن عَفا الجانِى عن قِصاصِها، وجَب أرْشُها، يَدْفَعُه إليه، ليَدْفَعَه إلى المَجْنِىِّ عليه. فصل: فإن قطَع أُنْمُلَةَ رَجُلٍ العُلْيَا، ثم قطَع أُنْمُلَتَىْ آخَرَ العُلْيَا والوُسْطىَ مِن تلك الإِصْبعِ، فللأوَّلِ قَطْعُ العُلْيَا؛ لأَنَّ حَقَّه أسْبَقُ، ثم يَقْطَعُ الثانى الوُسْطَى، ويأْخُذُ أَرْشَ العُلْيا مِن الجانِى. فإن بادَرَ الثَّانِى فقَطعَ الأُنْمُلَتَيْنِ، فقد اسْتَوْفَى حَقَّه، وتَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ القِصاصِ للأوَّلِ، وله الأَرْشُ على الجانِى. وإن كان قطَع الأُنْمُلَتَيْنِ أوَّلًا، قَدَّمْنا صاحِبَهُما في القِصاصِ، ووَجَبَ لصاحبِ العُلْيَا أَرشُها، وإن بادرَ صاحِبُها ¬

(¬1) في م: «حكم».

4139 - مسألة: (ولا تؤخذ أصلية بزائدة، ولا زائدة بأصلية)

وَلا تُؤْخَذُ أَصْلِيَّة بِزَائِدَةٍ، وَلَا زَائِدَةٌ بِأَصْلِيَّةٍ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقَطَعَها، فقد اسْتَوْفَى حَقَّه، وتُقطَعُ الوُسْطى للأوَّلِ، ويأْخذُ الأَرْشَ للعُلْيَا. ولو قطَع أُنْمُلَةَ رَجُلٍ العُلْيَا، ولم يَكُنْ للقاطعِ عُلْيَا، فاسْتَوْفَى الجانِى مِن الوُسْطَى، فإن عَفا إلى الدِّيَةِ، تَقَاصَّا وتساقَطا؛ لأَنَّ دِيَتَهُما واحدةٌ، وإنِ اخْتارَ الجانِى القِصاصَ، فله ذلك، ويَدْفَعُ أَرْشَ العُلْيَا. ويَجِئُ على قولِ أبى بكرٍ، أن لا يَجِبَ القِصاصُ؛ لأَنَّ دِيَتَهُما واحدةٌ، واسمُ الأُنْمُلَةِ يشْمَلُهما، فتَساقَطَا، كقولِه في إحْدَى اليَدَيْنِ بَدَلًا عن الأُخْرَى. واللَّهُ أعلمُ. 4139 - مسألة: (ولا تُؤْخَذُ أصْلِيَّةٌ بِزائِدَةٍ، ولا زائِدَةٌ بأَصلِيَّةٍ) ولا زائِدَةٌ بزائِدَةٍ في غيرِ مَحَلِّهَا؛ لعدمِ التَّمَاثُلِ (وإن تَراضَيا عليه لم يَجُزْ)

4140 - مسألة: فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلا عن الأخرى، فقطعها المقتص، سقط القود، لأن القود سقط فى الأولى بإسقاط صاحبها، وفى الثانية بإذن صاحبها فى قطعها، وديتهما

فَإِنْ فَعَلَا، أَوْ قَطَعَهَا تَعَدِّيًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنَّ ما لا يجوزُ أخْذُه قِصاصًا، لا يجوزُ بتراضِيهِما؛ لأَنَّ الدِّماءَ لا تُسْتَباحُ بالإِباحةِ والبَذْلِ، ولذلك لو بَذَلَها ابْتِداءً، لم يَحِلَّ له أخْذُها، ولا يَحِلُّ لأحَدٍ قَتْلُ نَفْسِه، ولا قَطْعُ طَرَفِه، فلا يَحِلُّ لغيرِه بِبَذْلِه. 4140 - مسألة: فلو تَراضَيا على قَطْعِ إحْدَى اليَدَيْنِ بَدَلًا عن الأُخْرَى، فَقَطَعَها المُقْتَصُّ، سقَط القَوَدُ، لأَنَّ القَوَدَ سقَط في الأُولَى بإسْقاطِ صاحِبِها، وفى الثَّانيةِ بإذْنِ صاحِبِها في قَطعِها، ودِيَتُهما (¬1) مُتَساوِيَةٌ. وهذا قولُ أبى بكرٍ. وكذلك لو قَطَعَها تَعَدِّيًا، سقَط القِصاصُ، لأنَّهما تَساوَيا في الدِّيَةِ والأَلَمِ والاسمِ، فتَقَاصَّا وتَساقَطا، ولأَنَّ إيجابَ القِصاصِ يُفْضِى إلى قَطْعِ يَدَىْ كلِّ واحدٍ منهما، وإذْهابِ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ، وإلْحاقِ الضَّرَرِ العظيمِ بهما جميعًا. ولا تَفْرِيعَ على هذا القولِ لوُضُوحِه. وكلُّ واحدٍ مِن القَطْعَيْنِ مَضْمُونٌ بسِرَايَتِه، لأنَّه عُدْوَانٌ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان أخَذَها (¬2) عُدْوانًا، فلكلِّ واحدٍ منهما القِصاصُ على صاحِبِه، وإن أخَذَها بتَراضِيِهما، فلا قِصاصَ في الثَّانيةِ؛ لرِضَا صاحِبِها ببَذْلِها، وإذْنِه في قَطْعِها. وفى وُجُوبِه في الأُولَى وَجْهان، أحدُهما، يَسْقُطُ، لِما ذكَرْناه. والثانى، لا يَسْقُطُ؛ لأنَّه رَضِىَ بتَرْكِه بعِوَضٍ لم يَثْبُتْ له، فكان له الرُّجُوعُ إلى حَقِّه، كما لو باعَه سِلْعَةً بخمْرٍ وقَبَّضَه إيَّاه. فعلى هذا، له القِصاصُ بعدَ انْدِمالِ الأُخْرَى، وللجانِى دِيَةُ ¬

(¬1) في الأصل: «وديتها». (¬2) في م: «أحدهما».

4141 - مسألة: وإن (قال)

أَوْ قَالَ: أَخرِجْ يَمِينَكَ. فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، أجْزَأَتْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ أخْرَجَهَا عَمْدًا، لَمْ يُجْزِ، ويُسْتَوْفَى مِنْ يَمِينِهِ بَعْدَ انْدِمَالِ الْيَسَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدِه. فإذا وجَبَ للمَجْنِىِّ عليه دِيَةُ يَدِه وكانتِ الدِّيَتانِ واحدةً، تقَاصَّا، وإن كانت إحْداهما أكثرَ (¬1) مِن الأُخْرَى، كالرَّجُلِ مع المرأةِ، وجَب الفَضْلُ لصاحِبِه. 4141 - مسألة: وإن (قال) له: (أخْرِجْ يَمِينَكَ. فَأخْرَجَ يَسارَه، فَقَطَعَها، أجْزَأَتْ) على قولِ أبى بَكْرٍ، سَوَاءٌ قَطعها عَالِمًا بها أو جاهِلًا. وعلى قولِ ابنِ حامِدٍ، إن أخْرَجَها عَمْدًا عالِمًا أَنَّها يَسارُه وأنَّها لا تُجْزِئُ، فلا ضَمانَ على قَاطِعِها ولا قَوَدَ؛ لأنَّه بذَلَها بإخْراجِه لها لا علىِ سَبِيلِ العِوَضِ، وقد يقومُ الفِعْلُ في ذلك مَقامَ النُّطْقِ، بدليلِ أنَّه لا فَرْق بينَ قَوْلِه: خُذْ هذا فكُلْه. وبينَ اسْتِدْعاءِ ذلك منه، فيُعْطِيه إيَّاه. ويُفارِقُ هذا ما إذا قطَع يَدَ إنسانٍ وهو ساكِتٌ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه البَذْلُ. ويُنْظَرُ في المُقْتَصِّ؛ فإن فَعَلَ ذلك عالِمًا بالحالِ، عُزِّرَ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ منه لحَقِّ اللَّهِ تعالى. وهل يَسْقُطُ القِصاصُ في اليُمْنَى؟ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، ¬

(¬1) في الأصل: «أكبر».

4142 - مسألة: (وإن أخرجها دهشة، أو ظنا)

وَإِنْ أخْرَجَهَا دَهْشَةً، أَوْ ظَنًّا أَنَّهَا تُجْزِئُ، فَعَلَى الْقَاطِعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْقُطُ؛ لأنَّ قاطِعَ اليَسارِ تَعَدَّى بقَطْعِها، فلم يَمْلِكْ قَطْعَ اليَدِ الأُخْرَى، كما لو قطَع يَدَ السَّارِقِ اليُسْرى مكان يَمِيِنِه، فإنَّه لا يَمْلِكُ قَطْعَ يَمِينِه. والوجهُ الثانى، لا يَسْقُطُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وفرَّقُوا بينَ القِصاصِ وقَطْعِ السَّارِقِ مِن وُجُوهٍ ثَلاثةٍ؛ أحدُها، أنَّ الحَدَّ مَبْنِىٌّ على الإِسْقاطِ، بخِلافِ القِصاصِ. الثانى، أن اليَسارَ لا تُقْطَعُ في السَّرِقَةِ وإن عُدِمَتْ يمينُه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الجِنْسِ، بخِلافِ القِصاصِ. والثالثُ، أنَّ اليَدَ لو سَقَطَتْ بأكِلَةٍ (¬1) أو قِصاصٍ، سقَط القَطْعُ في السَّرِقَةِ، فجازَ أن يَسْقُطَ بقَطْعِ اليَسارِ، بخِلافِ القِصاصِ، فإنَّه لا يَسْقُطُ، ويَنْتَقِلُ إلى البَدَلِ. ولكنْ لا تُقْطَعُ يَمِينُه حتى تَنْدَمِلَ يَسارُه؛ لئَلَّا يُؤدِّىَ إلى ذَهابِ نَفْسِهْ. فإن قيلِ: أليس لو قطَع يَمِينَ رَجُلٍ ويَسارَ آخَرَ، لم يُؤَخَّرْ أحَدُهما إلى انْدِمالِ الآخرِ؟ قُلْنا: الفرقُ بينَهما أنَّ القَطْعَيْنِ مُسْتَحقَّانِ قِصاصًا، فلهذا جَمَعْنا بينَهما، وفى مَسْأَلتِنا أحَدُهما غيرُ مُسْتَحَقٍّ، فلا نَجْمَعُ بينَهما، فإذا انْدَمَلَتِ اليَسارُ قَطَعْنا اليَمِينَ، فإن سَرَى قَطْعُ اليَسارِ إلى نَفْسِه، كانتْ هَدْرًا، ويَجِبُ (¬2) في تَرِكَتِه دِيَةُ اليُمْنَى؛ لتَعَذُّر الاسْتِيفاءِ فيها بمَوْتِه. 4142 - مسألة: (وإن أخْرَجَها دَهْشَةً، أو ظَنًّا) منه (أنَّها ¬

(¬1) الأكِلة، كفَرِحَة: داء في العضوية يأتكل منه. (¬2) سقط من: الأصل.

دِيَتُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ تُجْزِئُ، فعلى القاطِعِ دِيَتُها) إن علِمَ أَنَّها يَسارٌ وِأنَّها لا تُجْزِئُ، [ويُعَزَّرُ] (¬1). وقال بعضُ الشَّافِعِيَّةِ: عليه القِصاصُ؛ لأنَّه قَطَعها مع العلمِ بأنَّه ليس له قَطعُها. ولَنا، أنَّه قَطَعَها ببَذْلِ صاحِبِها، فلم يجِبْ عليه القِصاصُ، كما لو عَلِمَ باذِلُها. وإن كان جاهِلًا، فلا تَعْزِيرَ عليه، وعليه الضَّمانُ بالدِّيَةِ؛ لأنَّه بذَلَها له على وَجْهِ البَدَلِ (¬2)، فكانتْ مَضْمُونَةً عليه؛ لأنَّه لو كان عالِمًا بها كانت مَضمُونَةً عليه، وما وجَب ضَمانُه في العَمْدِ، وجَبَ في الخَطَأ، كإتْلافِ المالِ، والقِصاصُ باقٍ له في اليَمِينِ، ولا يَقْتَصُّ حتى تَنْدَمِلَ اليَسارُ، فإن عَفا وجَب بدَلُها، ويَتَقاصَّان، وإن سَرَتِ اليَسارُ إلى نَفْسِه، كانت مَضْمُونَة بدِيَةٍ كاملةٍ، وقد تَعَذَّرَ قَطْعُ اليُمْنَى، ووَجَبَ له نِصْفُ الدِّيَةِ. فيتَقاصَّان به، ويَبْقَى نِصْفُ الدِّيَةِ لوَرَثَةِ الجانِى. فإنِ اخْتَلَفا في بذْلِها، فقال الجانِى: إنَّما بَذَلْتُها (¬3) بدَلًا عن اليَمِينِ. وقال المَجْنِى عليه: بَذَلْتَها بغيرِ عِوَضٍ. أو قال: أخْرَجْتُها ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في م: «البذل». (¬3) في م: «بذلها».

4143 - مسألة: (وإن كان من عليه القصاص مجنونا)

وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَجْنُونًا، فَعَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، وإنْ جَهِلَ أحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وإنْ كَانَ الْمُقْتَصُّ مَجْنُونًا، وَالْآخَرُ غَاقِلًا، ذَهَبَتْ هَدْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَهْشَةً. قال: بل عالِمًا. فالقولُ قولُ الجانِى؛ لأنَّه أعْلَمُ بنِيَّتِه، ولأَنَّ الظاهِرَ أنَّ الإِنْسانَ لا يَبْذُلُ طَرَفَه للقَطْعِ تَبَرُّعًا، مع أنَّ عليه قَطْعًا مُسْتَحَقًّا. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. 4143 - مسألة: (وإن كان مَن عليهِ القِصاصُ مَجْنُونًا) مِثْلَ مَن يُجَنُّ بعدَ وُجُوبِ القِصاصِ عليه، فعلَى قَاطِعِها القَوَدُ (إن كان عالِمًا بها، وأنَّها لا تُجْزِئُ) لأنَّه قَطَعَها تَعَدِّيًا بغيرِ حَقٌّ (وإن جَهِلَ أحَدَهُما فعليه الدِّيَةُ) لأَنَّ بَذْلَ المَجْنُونِ ليس بشُبْهَةٍ. 4144 - مسألة: وإن كان مَن لهُ القِصاصُ مَجْنُونًا، ومَن عليه القِصاصُ عاقِلًا، فأخْرَجَ إليه يَسارَه أَوْ يَمِينَهُ فَقَطَعَها، ذَهَبَت هَدْرًا؛ لأنَّه لا يَصِحُّ منه الاسْتِيفاءُ، ولا يجوزُ البَذْلُ له، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أتْلَفَها ببَذْل صاحِبِها، لكنْ إن كان المقْطوعُ اليُمْنَى، فقد تَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ القِصاصِ فيها لتَلَفِها، فتكونُ للمَجْنونِ دِيَتُها. فصل: فإن وثَب المجْنُونُ عليه فقَطَعَ يَدَه التى لا قِصاصَ

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، اسْتِوَاؤُهُمَا فِى الصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، فَلَا تُؤْخَذُ صَحِيحَةٌ بِشلَّاءَ، وَلَا كَامِلَةُ الأَصَابِعِ بِنَاقِصَةٍ، وَلَا عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ، وَلَا لِسَانٌ نَاطِقٌ بِأَخْرَسَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، فعلى عاقِلَتِه دِيَتُها، وله القِصاصُ في الأُخْرَى، وإن قطَع الأُخْرَى، فهو مُسْتَوْفٍ حَقَّه، في أحَدِ الوَجْهينِ؛ لأَنَّ حَقَّه مُتَعَيِّنٌ فيها، فإذا أخَذَها قَهْرًا، سقَط حَقُّه، كما لو أتْلَفَ ودِيعَتَه. والثانى، لا يَسْقُطُ حَقُّه، وله عَقْلُ يَدِه، وعَقْلُ يَدِ الجانِى على عاقِلَتِه؛ لأَنَّ المَجْنُونَ لا يَصِحُّ منه الاسْتِيفاءُ. ويُفارِقُ الوَدِيعَةَ إذا أتْلَفَها؛ لأنَّها تَلِفَتْ بغيرِ تَفْرِيطٍ، وليس لها بَدَلٌ إذا تَلِفَتْ بذلك، واليَدُ بخِلافِه، فإنَّها لو تَلِفَتْ بغيرِ تَفْريطٍ، كانتْ عليه دِيَتُها، وكذلك الحُكْمُ في الصَّغيرِ. فإنِ اقْتَصَّا ممَّا لا تَحْمِلُه العاقِلَةُ، سقَط حَقُّهما، وَجْهًا واحدًا، وقد ذكَرْناه. فصل: (الثالثُ، اسْتِواؤُهما في الصِّحَّةِ والكَمالِ) لأَنَّ القِصاصَ يَعْتَمِدُ المُماثَلَةَ (فلا تُؤْخَذُ صَحِيحَةٌ بشَلَّاءَ، ولا كاملةُ الأصابعِ بناقِصَةٍ) ولا ذاتُ أظْفارٍ بما لا أظْفارَ لها (¬1) (ولا عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بقائمَةٍ (¬2)، ولا لسانٌ ناطِقٌ بأخْرَسَ) لا نعلمُ أحدًا مِن أهْل العلم قال بوُجُوب قَطْعِ يَدٍ أو رِجْلٍ أو لِسانٍ صَحِيحٍ بأشَلَّ، إلَّا ما حُكِىَ عن (¬3) داودَ، أنَّه أوْجَبَ ¬

(¬1) في تش: «فيها». (¬2) أى ذهب بصرها وضوؤها ولم تنخسف بل الحدَقة على حالها. (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك؛ لاشْتِراكِهما في الاسمِ، فأُخِذَ به كالأُذُنَيْنِ. وِلَنا، أنَّ الشَّلَّاءَ [لا نَفْعَ] (¬1) فيها سِوَى الجَمالِ (¬2)، فلا تُؤْخَذُ بما فيه نفْعُه، كالعَيْنِ الصَّحِيحَةِ لا تُؤْخَذُ بالقائمةِ، وما ذُكِرَ له قِياسٌ، وهو لا يقولُ بالقِياسِ، وإذا لم يُوجبِ القِصاصَ في العَيْنَيْنِ مع قوْلِه تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (¬3). لأجْل تَفاوُتِهِما في الصِّحَّةِ والعَمَى، فلَأن لا يُوجِبَ ذلك فيما لا نَصَّ فيه أَوْلَى. فصل: ولا تُؤْخَذُ يَدٌ كاملةُ الأصابعِ بناقِصَةِ الأصابعِ، فلو قطَع مَن له خَمْسُ أصابِعَ يَدَ مَن له أرْبَعٌ أو ثَلاثٌ، أو قطَع مَن له أرْبَعُ أصابعَ يَدَ مَن له ثَلاثٌ، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لأنَّها (¬4) فوقَ حَقِّه. وهل له أن يَقْطَعَ نِصْفِ الكَفِّ. وإن قطَع ذُو اليَدِ الكاملةِ يَدًا فيها إصْبَعٌ شَلَّاءُ وباقِيها مِن أصابعِ الجانِى بعَدَدِ أصابِعِه؟ فيه وَجْهان، ذكَرْناهما فيما إذا قطَع مِن صِحاحٌ، لم يَجُزْ أخْذُ الصَّحِيحةِ بها؛ لأنَّه أخْذُ كامِلٍ بناقِصٍ. وفى الاقْتِصاصِ مِن الأصابعِ الصِّحاحِ وَجْهان؟ فإن قُلْنا: له أن يَقْتَصَّ. فله الحُكومةُ في الشَّلَّاءِ، وأَرْشُ ما تَحْتَها مِن الكَفِّ. وهل يَدْخُلُ ما تحتَ ¬

(¬1) في الأصل: «لا يقطع». (¬2) في الأصل: «الكمال». (¬3) سورة المائدة 45. (¬4) في الأصل: «لأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصابعِ الصِّحاحِ في قِصاصِها، أو تجِبُ فيه (¬1) حُكومةٌ؟ [على وجْهَيْن] (¬2). فصل: وإن قَطَع (¬3) اليَدَ الكاملةَ [ذُو يَدٍ] (¬4) فيها إصْبَعٌ زائدَةٌ، وجَب القِصاصُ [فيها. ذكَرَه أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامدٍ؛ لأَنَّ الزَّائدةَ عَيْبٌ ونَقْصٌ في المَعْنَى، فلم يَمْنَعْ وُجُودُها القِصاصَ] (¬5) منها، كالسِّلْعةِ فيها والخُرَاجِ (¬6). واخْتارَ القاضى أنَّها لا تُقْطَعُ بها. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّها زِيادةٌ. فعلى هذا إن كان للمَجْنِىِّ عليه أيضا إصْبَعٌ زائدةٌ في مَحَلِّ الزَّائدةِ مِن الجانِى، وجَب القِصاصُ؛ لاسْتِوائِهِما، وإن كانتْ في غيرِ مَحَلِّها، أو (¬7) لم يَكُنْ للمَجْنِىِّ عليه إصْبَعٌ زائدةٌ، لم تُؤْخَذْ يَدُ الجانِى. وهل يَمْلِكُ قَطْعَ الأصابعِ؟ يُنْظَرُ؛ فإن كانتِ الزَّائِدَةُ مُلْصَقَةً بإحْدى الأصابعِ، فليس له قَطْعُ تلك الإِصْبَعِ؛ لأَنَّ في قَطْعِها إضْرارًا بالزَّائِدَةِ. وهل له قَطْعُ الأصابعِ الأرْبعِ؟ على وَجْهَين. وإن لم تكُنْ ملصقةً بواحدةٍ منهنَّ، فهل له قطْعُ الخَمْسِ؟ على وَجْهين. وإن كانتِ الزَّائدةُ نابتةً في إصْبعٍ في أُنْمُلَتِها ¬

(¬1) في م: «به». (¬2) في م: «فيه وجهان». (¬3) بعده في الأصل، تش، ر 3: «ذو». (¬4) في الأصل، تش، ر 3: «يدًا». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في م: «الجراح». (¬7) في م: «و».

4145 - مسألة: (ولا)

وَلَا ذَكَرٌ صَحِيحٌ بِأَشَلَّ، وَلَا ذَكَرُ فَحْلٍ بِذَكَرِ خَصِىٍّ وَلَا عِنِّينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العُلْيا، لم يَجُزْ قَطْعُها، وإن كانت نابِتَةً في السُّفْلى أو الوُسْطَى، فله قطْعُ ما فَوْقَها مِن الأنامِلِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن. ويأْخُذُ أَرْشَ الأُنْمُلَةِ التى تَعَذَّرَ قَطْعُها، في أحَدِ الوَجْهَيْن، ويَتْبَعُ ذلك خُمْسُ الكَفِّ. فصل: وإن قطَع ذُو يَدٍ لها أظْفارٌ يَدَ مَن لا أظْفارَ له، لم يَجُزِ القِصاصُ؛ لأَنَّ الكاملةَ لا تُؤْخَذُ بالنَّاقصةِ. وإن كانتِ المقطوعةُ ذاتَ أظْفارٍ، إلَّا أنَّها خَضْرَاءُ أو مُسْتَحْشِفَةٌ، أُخِذَتْ بها السَّلِيمةُ؛ لأَنَّ ذلك عِلَّةٌ ومَرَضٌ، والمَرَضُ لا يَمْنَعُ القِصاصَ، بدليلِ أنَّا نأْخُذُ الصَّحِيحَ بالمسَّقِيمِ. 4145 - مسألة: (ولا) تُؤْخَذُ (عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بقائِمَةٍ، ولا لسانٌ ناطِقٌ بأَخْرَسَ، ولا ذَكَرٌ صَحِيحٌ بأشَلَّ) لأنَّها ليست مُماثِلَةٍ لها، ولأنَّه يأْخُذُ أكثرَ مِن حَقِّه، فأشْبَهَتِ اليَدَ الصَّحِيحةَ بالشَّلَّاءِ، لا تُؤْخَذُ بها (1). 4146 - مسألة: (ولا) يُؤْخَذُ (ذَكَرُ فَحْلٍ بذَكَرِ خَصِىٍّ ولَا عِنِّينٍ) ذكَرَه الشَّرِيفُ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه لا مَنْفعَةَ فيهما، فإنَّ ذكَرَ العِنِّينِ لا يُوجَدُ منه وَطْءٌ ولا إنْزَالٌ، والخَصِىُّ لا يُولَدُ له، ولا يَكادُ يَقْدِرُ على الوَطْءِ ولا يُنْزِلُ، فهما (¬1) كالأشَلِّ، ولأَنَّ كلَّ وأحدٍ منهما ناقِصٌ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِما، ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يُؤْخَذُ به الكامِلُ، كاليَدِ الناقصةِ بالكاملةِ (ويَحْتَمِلُ أن يُؤْخَذَ بهما) قال أبو الخَطَّابِ: يُؤْخَذُ غيرُهما بهما، في أحَدِ الوَجْهَيْن. وهو مذْهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّهما عُضْوان صَحِيحان، يَنْقَبِضان ويَنْبَسِطانِ، فيؤْخَذُ بهما غيرُهما، كذَكَرِ الفَحْلِ غيرِ العِنِّينِ، وإنَّما عَدَمُ الإنْزالِ لذَهابِ الخُصْيَةِ، والعُنَّةُ لعِلَّةٍ في الظَّهْرِ، فلم يَمْنَعْ ذلك مِن القِصاصِ بهما، كأُذُنِ الأصمِّ وأنْفِ الأخْشَمِ. وقال القاضى: لا يُؤْخَذُ ذكَرُ الفَحْلِ بالخَصِىِّ؛ لتَحَقُّقِ نَقْصِه، والإِياسِ مِن بُرْئِه. وفى أخْذِه بذَكَرِ العِنِّينِ وَجْهان؛ أحدُهما، يُؤْخَذُ به الصَّحِيحُ؛ لأنَّه غيرُ مَأْيُوسٍ من زَوالِ عُنَّتِه، ولذلك يُؤجَّلُ سَنةً، بخِلافِ الخَصِىِّ (¬1). والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّه إذا ترَدَّدَتِ الحالُ بينَ كَوْنِه مُساوِيًا للآخَرِ وعَدَمِه، لم يَجبِ القِصاصُ؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُه، فلا يجِبُ بالشَّكِّ، سِيَّما وقد حَكَمْنا بانْتِفاءِ التَّساوِى، لقِيامِ الدليلِ على عُنَّتِه، وثُبُوتِ عُنَّتِه. ويُؤْخَذُ كل واحدٍ مِنَ الخَصِىِّ والعِنِّينِ بمثلِه؛ لتَساوِيهما، كما يُؤْخَذُ العَبْدُ بالعَبْدِ، والذِّمِّى بالذِّمِّىِّ. ¬

(¬1) في م: «الخطأ».

4147 - مسألة: (إلا مارن الأشم الصحيح)

إِلَّا مَارِنَ الْأَشَمِّ الصَّحِيحِ، يُؤْخَذُ بِمَارِنِ الْأَخْشَمِ وَالْمَخْرُومِ وَالْمُسْتَحْشِفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4147 - مسألة: (إلَّا مارِنَ الأشَمِّ الصَّحِيحِ) فإنَّه (يُؤْخَذُ بمارنِ الأخْشَمِ) الَّذِى لَا [شَمَّ له] (¬1)؛ لأَنَّ ذلك لعِلَّةٍ في الدِّماغِ والأنفُ صَحيحٌ، كما تُؤْخَذُ أُذُنُ السَّمِيعِ بأُذُنِ الأصَمِّ، لكَوْنِ ذَهابِ السَّمْعِ نَقْصًا في الرَّأْسِ؛ لأنَّهْ مَحَلُّه، وليس بنَقْصٍ في الأُذنِ (و) يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ (بالمَخْرُوم والمُسْتَحْشِفِ) لأَنَّ كوْنَه مُسْتَحْشِفًا مَرَضٌ، فلا يَمْنَعُ من أخْذِه به؛ لأَنَّه يقُومُ مَقامَ الصَّحِيحِ [وفيه وجه آخرُ، أنَّ الصَّحيحَ لا يُؤْخَذُ به؛ لأَنَّه مَعِيبٌ، فلم يُؤْخَذْ به الصَّحِيحُ، كاليدِ الشَّلَّاءِ. ذكرَه شَيْخُنا في الكافِى] (¬2). ¬

(¬1) في ر 3، ق، م: «يشم». (¬2) سقط من: م. وانظر الكافى 4/ 24.

4148 - مسألة: (وأذن السميع بأذن الأصم)

وَأُذُنَ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ الشَّلَّاءِ في أحَدِ الْوَجْهَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4148 - مسألة: (وأُذُنُ السَّمِيعِ بأُذُنِ الأصمِّ) لِمَا ذَكَرْنا. وتُؤْخَذُ الأُذُنُ المُسْتَحْشِفَةُ بالصَّحِيحةِ. وهل تُؤْخَذُ بها الصَّحِيحةُ. [فيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا تُؤخَذُ بها؛ لأَنَّها ناقِصَةٌ مَعِيبَةٌ، فلم تُؤْخَذْ بها الصَّحِيحةُ] (¬1)، كاليَدِ الشَّلَّاءِ وسائرِ الأعْضاءِ. والثانى، تُؤْخَذُ بها، لأَنَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

4149 - مسألة: (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله، إذا أمن من قطع الشلاء التلف)

وَيُؤْخَذُ الْمَعِيبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصَّحِيحِ، وَبِمِثْلِهِ إِذَا أُمِنَ مِنْ قَطْعِ الشَّلَّاءِ التَّلَفُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَقْصُودَ جَمْعُ الصَّوْتِ، وحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ، والْجمالُ (¬1)، وهذا يَحْصُلُ بها كحُصُولِه بالصَّحِيحةِ، بخِلافِ سائرِ الأعْضاءِ. 4149 - مسألة: (ويُؤْخَذُ المَعِيبُ مِن ذلِكَ كُلِّهِ بِالصَّحِيحِ وبمثْلِه، إذا أُمِنَ مِنْ قَطْعِ الشَّلَّاءِ التَّلَفُ) إذا كان القاطعُ أشَلَّ، والمَقْطُوعةُ سالِمةً، فإن شاءَ المَجْنِىُّ عليه أخْذَ الدِّيَةِ، فله أخْذُ دِيَةِ يَدِه (¬2)، لا نعلمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه عَجَز عن اسْتِيفاءِ حَقِّه على الكَمالِ بالقِصاصِ، فكانت له الدِّيَةُ، كما لو لم يَكُنْ للقاطعِ يَدٌ. وهذا قولُ أبِى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وإنِ اخْتارَ القِصاصَ، سُئِلَ أهْلُ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: إنَّه إذا قُطِعَ لم تَنْسَدَّ العُرُوقُ، ويَدْخُلُ الهواءُ إلى البَدَنِ فيُفْسِدُه. سقَط القِصاصُ؛ لأنَّه لا يجوزُ أخْذُ نَفْسٍ بطَرفٍ. وإن أُمِنَ هذا، فله القِصاصُ؛ لأنَّه رَضِىَ بدُونِ حَقِّه، فكان له ذلك، كما لو رَضِىَ المُسْلِمُ ¬

(¬1) في الأصل: «الكمال». (¬2) سقط من: ق، م.

وَلَا يَجِبُ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ، في أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِى الْآخَرِ، لَهُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ النَّاقِصَةِ، وَلَا شَىْءَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الشَّلَلِ. وَاخْتَارَ أبو الْخَطَّابِ أنَّ لَهُ أَرْشَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقِصاصِ مِن الذِّمِّىِّ، والحُرُّ مِن العَبْدِ (ولا يجبُ له مع القِصاصِ أَرْشٌ) لأَنَّ الشَّلَّاءَ كالصَّحِيحةِ في الخِلْقَةِ، وإنَّما نَقَصَتْ في الصِّفَةِ، فلم يَكُنْ له أَرْشٌ، كالصُّورَتَيْنِ المذْكُورَتَيْنِ (واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّ له الأَرْشَ) مع القِصاصِ، على قِياسِ قَوْلِه في عَيْنِ الأعْوَرِ إذا قُلِعَتْ؛ لأنَّه أخَذَ النَّاقِصَ بالزَّائدِ. والأَوَّلُ أصَحُّ، وهو اختِيارُ الخِرَقِىِّ، فإنَّ إلْحاقَ هذا الفَرْعِ بالأصُولِ المُتَّفَقِ عليها أوْلَى مِن إلْحاقِه بفَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فيه، خارجٍ عن الأُصُولِ، مُخالِفٍ للقِياسَ. فصل: وتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بالشَّلَّاءِ، إذا امِنَ في الاسْتِيفاء الزِّيادةُ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: لا تُؤْخَذُ بها. في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، والعِلَلُ يَخْتَلِفُ تأْثِيرُها في البَدَنِ، فلا تَتَحَقَّقُ المُماثَلَةُ بينَهما. ولَنا، أنَّهما مُماثِلانِ (¬1) في ذاتِ العُضْوِ وصِفَتِه، فجاز أَخْذُ إحْداهما بالأُخْرَى، كالصَّحِيحةِ بالصَّحِيحَةِ. ¬

(¬1) في ر 3: «مماثلتان». وفى ق، م: «متماثلان».

4150 - مسألة: وتؤخذ الناقصة بالناقصة، إذا تساوتا فيه، بأن يكون المقطوع من يد الجانى كالمقطوع من يد المجنى عليه؛ لأنهما تساوتا فى الذات والصفة. فإن اختلفا، فكان المقطوع من يد أحدهما الإبهام، ومن الأخرى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4150 - مسألة: وتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بالنَّاقِصَةِ، إذا تَساوَتا فيه، بأن يَكُونَ المَقْطُوعُ مِن يَدِ الجَانِى كالمَقْطُوعِ مِن يَدِ المَجْنِىِّ عليه؛ لأنَّهما تَساوَتا في الذَّاتِ والصِّفَةِ. فإنِ اخْتَلَفا، فكان المَقْطُوعُ مِن يَدِ أحَدِهما الإِبهامَ، ومِن الأُخْرَى (¬1) إصْبَعٌ غيرُها، لم يَجِبِ القِصاصُ؛ لأَنَّ فيه أخْذَ إصْبَعٍ بغيرِها. وإن كانت إحْدَاهما ناقِصَةً إصْبَعًا، والأُخْرَى ناقِصَةً تلك الإِصْبَعَ وغيرَها، جازَ أخْذُ النَّاقِصةِ إصْبَعَيْنِ بالنَّاقِصةِ إصْبَعًا. وهل له أخْذُ إصْبَعِه الزَّائدةِ؟ فيه وَجْهان. ولا يجوزُ أخْذُ الأُخْرَى بها؛ لأَنَّ الكاملةَ لا تُؤْخَذ بالنَّاقصةِ. 4151 - مسألة: وتؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بالكامِلَةِ؛ لأنَّهَا دُونَ حَقِّهِ. وهل له أخْذُ دِيَةِ الأصابِعِ النَّاقِصةِ؟ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، له ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الشافعىِّ، واختِيارُ ابنِ حامدٍ. والثانى، ليس له مع القِصاصِ أَرْشٌ. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ، وقِياسُ قولِ أبى بكرٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِىَ إلى الجَمْعِ بينَ قِصاصٍ ودِيَةٍ في عُضْوٍ واحدٍ. وقال القاضى: قِياسُ قَوْلِه سُقُوطُ القِصاصِ، كقولِه في مَن قُطِعَتْ يَدُه مِن نِصْفِ الذِّراعِ. وليس هذا كذلك؛ لأنَّه (¬1) يَقْتَصُّ مِن مَوْضِعِ الجِنايةِ، ويَضَعُ الحَدِيدَةَ في مَوْضِعِ وضَعَها الجانِى، فمَلَكَ ذلك، كما لو جَنَى عليه فوقَ المُوضِحَةِ، أو كان رَأْسُ الشَّاجِّ أصْغَرَ، أو أخَذَ الشَّلَّاءَ بالصَّحِيحةِ. ويُفارِقُ القاطِعَ مِن نصْفِ الذِّراعِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه القِصاصُ مِن مَوْضِعِ الجِنايةِ. هكذا حَكاه الشَّرِيفُ عن أبى بكرٍ. فصل: وإن كانت يَدُ القاطعِ والمَجْنِىِّ عليه كامِلَتَيْنِ، وفى يَدِ المَجْنِىِّ عليه إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، فعلى قَوْلِ ابنِ حامدٍ، لا عِبْرَةَ بالزَّائدَةِ؛ لأنَّها بمنزلةِ الخُرَاجِ (¬2) والسِّلْعةِ. وعلى قولِ غيرِه، له قَطْعُ يَدِ الجانِى. وهل له حُكومةٌ في الزَّائدةِ؟ على وَجْهَيْن. وإن قطَع مَن له خَمْسُ أصابعَ أصْليَّةٍ كَفَّ مَن له أرْبَعُ أصابعَ أصْليَّةٍ وإصْبَعٌ زائدةٌ، أو قطَع مَنْ له أرْبَعُ أصابعَ أصْلِيَّةٍ وإصْبَعٌ زائدةٌ كَفَّ مَن له خَمْس أصابعَ أصْليَّةٍ، فلا قِصاصَ في الصُّورَةِ الأُولَى؛ لأَنَّ الأصْلِيَّةَ لا تُؤْخَذُ بالزَّائدةِ. وله القِصاصُ في الصُّورَةِ الثَّانيةِ، في قولِ ابنِ حامدٍ؛ لأَنَّ الزَّائدةَ لا عِبْرةَ بها. وقال غيرُه: ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في الأصل: «الجراح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إن لم تَكُنِ الزَّائدةُ في مَحَلِّ الأصْلِيَّةِ، فلا قِصاصَ أيضًا؛ لأَنَّ الإصْبَعَيْنِ مُخْتلفانِ. وإن كانت في مَحَلِّ الأصْلِيَّةِ، فقال القاضى: يَجْرِى القِصاصُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، ولا شئَ له؛ لنَقْصِ الزَّائدةِ. قال شَيْخُنا (¬1): وهذا فيه نَظَرٌ؛ لأنَّها متى كانت في مَحَلِّ الأصْلِيَّةِ، كانت أصْليَّةً؛ لأَنَّ الزَّائدةَ هى التى زادَتْ عن عَدَدِ الأصابعِ، أو كانت في غيرِ مَحَلِّ الأصابعِ، وهذا له خَمْسُ أصابعَ في مَحَلِّها، فكانت كلُّها أصْلِيَّةً. فإن قالوا: معنى كَوْنِها زَائدةً، أنَّها ضَعِيفةٌ مائلةٌ عن سَمْتِ الأصابعِ. قُلْنا: ضَعْفُها لا يُوجِبُ كَوْنَها زَائدةً، كذَكَرِ العِنِّينِ، وأمَّا مَيْلُها عن سَمْتِ الأصابعِ، فإنَّها إن لم تَكُنْ نابِتَةً في (¬2) مَحَلِّ الإصْبَعِ (¬3) المَعْدومةِ، فسَد قَوْلُهم: إنَّها في مَحَلِّها. وإن كانت نابِتةً في مَوْضِعِها، وإنَّما مالَ رأْسُها أو اعْوَجَّتْ، فهو مَرَضٌ لا يُخْرِجُها عن كَوْنِها أصْلِيَّةً. فصل: إذا قطَع إصْبَعَه، فأصابَه مِن (4) جُرْحِها أكِلَةٌ في يَدِه، وسَقَطَتْ مِن مَفْصِلٍ، ففيها القِصاصُ على ما نذْكُرُه في (¬4) سِرايَةِ الجِنايةِ. وإن بادَرَ صاحِبُها فقَطَعَها مِن الكُوعِ، لِئَلَّا تَسْرِىَ إلى سائرِ جَسَدِه، ثم انْدَمَلَ جُرْحُه، فعلى الجانِى القِصاصُ في الإصْبَعِ، والحُكومة ¬

(¬1) في: المغنى 11/ 573. (¬2) في م: «من». (¬3) في الأصل: «الأصابع». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما تأكَّلَ مِن الكَفِّ، ولا شئَ عليه فيما قَطَعَه المَجْنِىُّ عليه؛ لأنَّه تَلِفَ بفعْلِه. وإن لم ينْدَمِلْ، ومات مِن ذلك، فالجانِى شَرِيكُ نَفْسِه، فيَحْتَمِلُ وُجُوبُ القِصاصِ عليه، ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ بحالٍ؛ لأَنَّ فِعْلَ المَجْنِىِّ عليه إنَّما قصَد به المَصْلَحَةَ، فهو عَمْدُ الخَطَأَ، وشَرِيكُ الخَاطِئِ لا قِصاصَ عليه، ويكونُ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن قطَع المَجْنِىُّ عليه مَوْضِعَ الأكِلَةِ، نَظَرْتَ؛ فإنْ قَطَع لَحْمًا مَيِّتًا، ثم سَرَتِ الجِنايةُ، فالقِصاصُ على الجانِى؛ لأنَّه سِرايَةُ جُرْحِه خاصَّةً، وإن كان في لَحْمٍ حَىٍّ فمات، فهو كما لو قَطَعَها خَوْفًا مِن سِرايَتِها، وقد ذكَرْناه. فصل: إذا قَطَع أُنْمُلَةً لها طَرَفانِ، إحْدَاهما زائدةٌ والأُخْرَى أصْلِيَّةٌ، فإن كانت أُنْمُلَةُ القاطعِ ذاتَ طَرَفَيْن أيضًا، أُخِذَتْ بها، وإن لم تَكُنْ ذاتَ طَرَفَيْنِ، قُطِعَتْ، وعليه حُكومةٌ في الزَّائدةِ. وإن كانتِ المَقْطُوعُةُ ذاتَ طَرَفٍ واحدٍ، وأُنْمُلَةُ القاطِعِ ذاتَ طَرَفَيْنِ، أُخِذَتْ بها، في قَوْلِ ابنِ حامدٍ. وعلى قَوْلِ غيرِه، لا قِصاصَ فيها، وله دِيَةُ أُنْمُلَتِهِ (¬1)، وإن ذهب الطَّرَفُ الزَّائدُ، فله الاسْتِيفاءُ. وإن قال: أنا أصْبِرُ حتى يَذْهَبَ الزَّائدُ (¬2) ثم أقْتَصُّ. فله ذلك؛ لأَنَّ القِصاصَ حَقُّه، فلا يُجْبَرُ على تعْجِيلِ اسْتِيفائِه. ¬

(¬1) في م: «أنملة». (¬2) سقط من: الأصل.

فصل

وَإِنِ اخْتَلَفَا في شَلَلِ الْعُضْوِ وَصِحَّتِهِ، فَأَيُّهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ، أَوْ مَارِنِهِ، أَوْ شَفَتِهِ، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4152 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في شَلَلِ العُضْوِ وصِحَّتِه) فالقولُ قَوْلُ المَجْنِىِّ عليه، في أحدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ الظاهرَ مِن النَّاسِ سلامةُ الأعْضاء، وخَلْقُ اللَّهِ تعالى لهم بصِفَةِ الكمالِ. والثانى، القَوْلُ قولُ الجانِى؛ لأَنَّ الأَصْلَ براءةُ ذِمَّتِه مِن دِيَةِ عُضْوٍ سالمٍ، ولأنَّه لو كان سالِمًا لم يَخْفَ؛ لأنَّه يَظْهرُ فيَراه الناسُ. فصل: قال، رَحِمَه اللَّهُ: (وإن قطَع بعْضَ لِسانِه، أو مارِنِه، أو

4153 - مسألة: (وإن كسر بعض سنه، برد من سن الجانى متله، إذا أمن قلعها)

حَشَفَتِهِ، أَوْ أُذُنِهِ، أُخِذَ مِثْلُهُ، يُقَدَّرُ بِالْأَجْزَاءِ، كَالنِّصْفِ والثُّلُثِ والرُّبْعِ. وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ، بُرِدَ مِنْ سِنِّ الْجَانِى مِثْلُهُ، إِذَا أُمِنَ قَلْعُهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ شَفَتِه، أو حَشَفَتِه، أو أُذُنِه، أُخِذَ مثلُه، يُقَدَّرُ بالأجْزاءِ، كالنِّصْفِ والثُّلُثِ والرُّبْعِ) لقوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1). وقال أبو الخَطَّابِ: لا يُؤْخَذُ بعضُ اللِّسانِ بالبعْضِ. ذكَرَه صاحبُ «المُحَرَّرِ». ولَنا، أنَّه يُؤْخَذُ [جَمِيعُه بجَمِيعِه، فأُخِذَ بعْضُه ببَعْضِه، كالأنْفِ والأُذُنِ (¬2). ولا يُؤْخَذُ بالمِساحَةِ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى أَخْذِ لِسانِ الجانِى] (¬3) جَمِيعِه ببعْضِ لِسانِ المَجْنِىِّ عليه. 4153 - مسألة: (وإن كسَر بعضَ سِنِّهِ، بُرِدَ مِن سِنِّ الجانِى مِتلُه، إذا أُمِنَ قَلعُها) يجْرِى القِصاصُ في بعْضِ السِّنِّ؛ لحديثِ الرُّبَيِّعِ [بِنْتِ النَّضْرِ] (¬4) حينَ كَسَرَتْ سِنَّ جاريةٍ، فأمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقصاصِ. ¬

(¬1) سورة المائدة 45. (¬2) سقط من: الأصل، م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. وتقدم تخريجه في صفحة 202.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُقَدَّرُ ذلك بالأجْزاءِ؛ النِّصْفُ بالنِّصْفِ، وكلُّ جُزْءٍ بمثلِه، ولا يُؤْخَذُ بالمِساحَةِ؛ لئَلَّا يُفْضِىَ إلى أخْذِ جميعِ سنِّ الجانِى ببعضِ سِنِّ المَجْنِىِّ عليه، ويكونُ القِصاصُ بالمِبْرَدِ، لتُؤْمَنَ الزِّيادَةُ، فإنَّا لو أخَذْناها بالكَسْرِ، لم نَأْمَنْ أن يَنْصَدِعَ، أو يَنْقَلِعَ، أو يَنْكَسِرَ مِن غيرِ مَوضعِ القِصاصِ. ولا يُقْتَصُّ حتى يقولَ أهْلُ الخِبْرَةِ: إنَّه يُؤْمَنُ (¬1) انْقِلاعُها، أو السَّوادُ فيها؛ لأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيادةِ يَمْنَعُ القِصاصَ في الأعْضاءِ، كما لو قُطِعَتْ يَدُه مِن غيرِ مَفْصِلٍ. فإن قيل: فقد أجَزْتُم (¬2) القِصاصَ في الأطْرَافِ مع تَوَهُّمِ سِرايَتِها إلى النَّفْسِ، فَلِمَ مَنَعْتُم منه (¬3) لتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ منه إلى بَعْضِ العُضْوِ؟ قُلْنا: وَهْمُ السِّرايةِ إلى النَّفْسِ لا سبيلَ إلى التَّحَرُّزِ منه، فلو اعْتَبَرْناهُ في المَنْعِ، أفْضَى إلى سُقُوطِ القِصاصِ في الأطْرافِ بالكُلِّيَّةِ، فسَقَطَ اعْتِبارُه، أمَّا السِّرايَةُ إلى بعضِ العُضْوِ، فتارةً نقولُ: إنَّما يَمْنَعُ القِصاصَ فيها احْتِمالُ الزِّيادةِ في الفِعْلِ، لا في السِّرايةِ، مثلَ مَن يَسْتَوْفِى مِن بعضِ الذِّراعِ، فإنَّه يَحْتَمِلُ [أن يَفْعَلَ] (¬4) أكثرَ ممَّا فُعِلَ به، وكذلك مَن كسَر سِنًّا ولم يَصْدَعْها، فكَسَرَ المُسْتَوْفِى سِنَّهُ وصَدَعَها، أو قَلَعَها (¬5)، أو كسَر أكثرَ ممَّا كُسِرَ مِن سِنِّه، فقد زادَ على المِثْلِ، ¬

(¬1) بعده في تش: «من». (¬2) في الأصل: «اخترتم». (¬3) في م: «منها». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «قطعها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقِصاصُ يَعْتَمِدُ المُماثلةَ. وتارةً نقولُ: إنَّ السِّرايةَ في بعضِ العُضْوِ إنَّما تَمْنَعُ إْذا كانت ظاهرةً، ومثلُ هذا يَمْنَعُ في النَّفْسِ، ولهذا مَنَعْناه مِن الاسْتِيفاءِ بآلةٍ كالَّةٍ، أو مَسْمُومةٍ، وفى وَقْتِ إفْراطِ الحَرِّ والبَرْدِ، تحَرُّزًا مِن السِّرَايةِ. فصل: وإن قَلَعَ سِنًّا زائدةً، وهى التى تَنْبُتُ فَضْلةً في غيرِ سَمْتِ الأسْنانِ، خارِجةً عنها إلى داخلِ الفَمِ، أو إلى الشَّفَةِ، وكانت للجانِى مِثْلُها في موْضِعِها، فللمَجْنِىِّ عليه القِصاصُ، أو حُكومةٌ في سِنِّه. وإن لم يَكُنْ له مِثْلُها في محَلِّها، فليس له إلَّا الحُكومةُ. وإن كانت إحْدى الزَّائدَتَيْنِ أكبرَ مِن الأُخْرَى، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا تُؤْخَذُ بها؛ لأَنَّ الحُكومةَ فيها أكثرُ، فلا يُقْلَعُ بها ما هو أقَلُّ قِيمةً منها. والثانى، تُؤْخَذُ بها؛ لأنَّهما سِنَّانِ مُتَساويان في الموْضِعِ، فتُؤْخَذُ كلُّ واحدةٍ منهما بالأُخْرَى، كالأصْلِيتَّيْنِ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (¬1). وهو عامٌّ، فيَدْخُلُ فيه مَحَلُّ النِّزاعِ. وإن قُلْنا: يَثْبُتُ القِياسُ في الزّائدتَيْنِ بالاجْتِهادِ. فالثابتُ بالاجْتِهادِ مُعْتَبَرٌ بما ثَبَتَ بالنَّصِّ، واخْتِلافُ القِيمةِ لا يمْنَعُ القِصاصَ، بدليلِ جَرَيانِه بينَ العَبيدِ (¬2)، وبينَ الذكرِ والأُنْثَى، في النَّفسِ والأطْرَافِ، على أنَّ كِبَرَ السِّنِّ لا يُوجِبُ كَثْرةَ (¬3) قِيمَتِها، فإنَّ السِّنَّ الزَّائدةَ نَقْصٌ وعَيْبٌ، وكثرةُ ¬

(¬1) سورة المائدة 45. (¬2) في م: «العبد». (¬3) في م: «كبر».

4154 - مسألة: (ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها)

وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ السِّنِّ حَتَّى يُيْأَس مِنْ عَوْدِهَا، فَإنِ اخْتَلَفَا فِى ذَلِكَ، رُجِعَ إِلَى قَوْلِ أَهْلَ الْخِبْرَةِ. فَإنْ مَاتَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ عَوْدِهَا، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، وَلَا قِصَاصَ فِيها. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَيْبِ زِيادةٌ في النَّقْصِ، لا في القِيمَةِ، ولأَنَّ كِبَرَ السِّنِّ الأصْلِيَّةِ لا يَزِيدُ في قِيمَتِها، فالزائدةُ كذلك. 4154 - مسألة: (ولا يُقْتَصُّ مِنَ السِّنِّ حَتَّى يُيْأَسَ مِن عَوْدِها) وهِى سِنُّ مَن قَد أثْغَرَ، أى سَقَطَتْ رَوَاضِعُه ثُمَّ نَبَتَت. فإن قلَع سِنَّ مَن لمْ يُثْغِرْ، لم يُقتَصَّ مِن الجانِى في الحالِ؛ لأنَّها تعودُ بحُكمِ العادةِ، فلم يَجِبْ ضَمانُها، كالشَّعَرِ. 4155 - مسألة: فَإن عاد بَدَلُ السِّنِّ على صِفَتِها في مَوْضِعِها، فلا شَىْءَ على الجانِى، وإن مَضَى زَمَنُ عَوْدِها ولم تَعُدْ، سُئِلَ أهلُ الخِبْرَةِ، فَإن قالوا: قَدْ يُئِسَ مِن عَوْدِها. خَيِّرَ المَجْنِىُّ عليه بينَ القِصاصِ وبينَ ديَةِ السِّنِّ. 4156 - مسألة: (فإن مات) المَجْنِىُّ عليه (قبلَ الإِيَاسِ مِن

4157 - مسألة: فإن قلع

وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْ سِنٍّ فَعَادَتْ، غَرِمَ سِنَّ الْجَانِى، ـــــــــــــــــــــــــــــ عَوْدِها، فلا قِصاصَ) لأَنَّ الاسْتِحْقاقَ غيرُ مُتَحَقِّقٍ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ القِصاصِ، وتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ القَلْعَ (¬1) مَوْجُودٌ، والعَوْدَ مَشْكُوكٌ فيه. 4157 - مسألة: فإن قلَع (¬2) سِنَّ كَبِيرٍ، فقال القاضى: يُسْأَلُ أهْلُ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: لا تعودُ. فله القِصاصُ في الحالِ، وإن قالوا: يُرْجَى عَوْدُها إلى وَقْتٍ مَعْلُومٍ. لم يُقْتَصَّ حتى يَأْتِىَ ذلك الوَقْتُ، فإن لم تَعُدْ وجَب القِصاصُ. 4158 - مسألة: (وإنِ اقْتَصَّ مِن سِنٍّ فعادَتْ، غَرِمَ سِنَّ الجانِى) ¬

(¬1) في م: «القطع». (¬2) في م: «قطع».

4159 - مسألة: (وإن عادت سن المجنى عليه قصيرة أو معيبة، فعلى الجانى أرش نقصها)

ثُمَّ إِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِى، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَإِنْ عَادَتْ سِنُّ الْمَجْنِىِّ عَلَيْهِ قَصِيرَةً أَوْ مَعِيبَةً، فَعَلَى الْجَانِى أَرْشُ نَقْصِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه قد تَبَيَّنَ أنَّ القِصاصَ لم يَكُنْ يجبُ، ويَضْمَنُها بِالدِّيَةِ دُونَ القِصاصِ؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ التَّعَدِّىَ (وإن عادَتْ سِنُّ الجَانِى، رَدَّ ما أخَذ) إذا لم تَعُدْ سِنُّ المَجْنِىِّ عليه. 4159 - مسألة: (وإن عَادَتْ سِنُّ المَجْنِىِّ عليهِ قَصِيرَةً أو مَعِيبَةً، فعلى الجانِى أَرْشُ نَقْصِها) بالحِساب، ففى نِصْفِها نِصْف دِيَتِها، ونحو ذلك. وإن عادتْ والدَّمُ يَسِيلُ منها، أَو مائلةً عن مَحَلِّها، ففيها حُكومةٌ؛ لأنَّه نَقْصٌ حصَل بفِعْلِه، وقد ذكَرْنا هذه المسائل [مِن قولِه (¬1): ولا يُقْتَصُّ مِن سِنٍّ حتى يُيْأَسَ مِن عَوْدِها. بأبْسَطَ مِن هذا، وذَكَرْنا الخِلافَ فيه] (¬2) في مسْألةِ: ويُؤْخذ السِّنُّ بالسِّنِّ. واللَّه أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «فعله». (¬2) سقط من: ق، م.

فصل

فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِى، الْجُرُوحُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ في كُلِّ جُرْحٍ يَنْتَهِى إِلَى عَظْمٍ؛ كَالْمُوضِحَةِ، وَجُرْحِ الْعَضُدِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ، وَالْقَدَمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَحِمَه اللَّهُ: (النَّوعُ الثانى، الجُروحُ، فيجبُ القِصاصُ في كلِّ جُرْحٍ يَنْتَهِى إلى عَظْمٍ؛ كالمُوضِحَةِ، وجُرحِ العَضُدِ، والفَخِذِ، والسَّاقِ، والقَدَمِ) لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. [ولحديثِ الرُّبَيِّعِ (¬1) الذى ذَكَرْناه. إذا ثبَت هذا، فإنَّ القِصاصَ] (¬2) يجبُ في كلِّ جُرْحٍ يَنْتَهِى إلى عَظْمٍ يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُه مِن غيرِ زِيادةٍ، كالمُوضِحَةِ في الرَّأْسِ والوَجْهٍ، [ولا نَعْلَمُ في جوازِ القِصاصِ في المُوضِحَةِ خِلافًا، وهى كلُّ جُرحٍ يَنْتَهِى إلى عَظْمٍ في الرأْسِ والوجْهِ] (¬3)؛ وذلك أنَّ اللَّه تعالى نَصَّ على القِصاصِ في الجُرُوحِ، فلو لم يَجِبْ ههنُا لسَقَطَ حُكمُ الآيةِ، وفى معْنى المُوضِحَةِ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِى إلى عَظْمٍ فيما سِوَى الرَّأْسِ والوَجْهِ؛ كالسَّاعِدِ، والعَضُدِ، والفَخِذِ، والسَّاقِ، يجبُ فيه القِصاصُ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وهو مَنْصُوصُ الشافعىِّ. وقال بعضُ أصْحابِه: لا قِصاصَ فيها؛ لأنَّه لا مُقَدَّرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 202. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها. وهو غيرُ صَحِيحٍ؛ لمُخالَفَتِه قولَه تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. ولأنَّه أمْكَنَ اسْتِيفاؤُه بغيرِ حَيْفٍ ولا زِيادةٍ، لكَوْنِه يَنْتَهِى إلى عَظْمٍ، فأَشْبَهَ المُوضِحَةَ، والتَّقْديرُ في المُوضِحَةِ ليس هو المُقْتَضِىَ للقِصاصِ، ولا عَدَمُه مانِعًا، وإنَّما كان التَّقْديرُ في المُوضِحَةِ لِكثرةِ شَيْنِها (¬1)، وشَرَفِ مَحَلِّها، ولهذا قُدِّرَ ما فوْقَها مِن شجاجِ الرَّأْسِ والوَجْهِ، ولا قِصاصَ فيه. فصل: ولا يُسْتَوْفَى القِصاصُ فيما دُونَ النَّفْسِ بالسَّيْفِ، ولا بآلةٍ يُخْشَى منها الزِّيادةُ، سواءٌ كان الجُرْحُ بها أو بغيرِها؛ لأَنَّ القَتْلَ إنَّما اسْتُوفِىَ بالسَّيْفِ لأنَّه آلتُه، وليس ثَمَّ شئٌ يُخْشَى التَّعَدِّى إليه، فيَجِبُ أن يُسْتَوْفَى فيما دُونَ النَّفْسِ بآلتِه، ويُتَوَقَّى ما يُخْشَى منه الزِّيادةُ إلى مَحَلِّ لا يجوزُ اسْتِيفاؤُه، ولأنَّا منَعْنا القِصاصَ بالكُلِّيَّةِ فيما تُخْشَى الزِّيادةُ في اسْتِيفائِه، فَلأَنْ نَمْنَعَ الآلةَ التى يُخْشَى منها ذلك أوْلَى. فإن كان الجُرْحُ مُوضِحَةً أو ما أشْبَهَها، فبِالمُوسَى أو حَدِيدةٍ ماضِيةٍ مُعَدَّةٍ لذلك، ولا يَسْتَوْفِى إلَّا مَن له عِلْمٌ بذلك، كالجَرائِحِى ومَن أَشْبَهَه، فإن لم يكن للوَلِىِّ عِلْمٌ بذلك، أُمِرَ بالاسْتِنابةِ، وإن كان له عِلْمٌ، فقال القاضى: ظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه يُمَكنُ منه؛ لأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ القِصاصِ، فيُمَكَّنُ مِن اسْتِيفائِه إذا كان يُحْسِنُ، كالقَتْلِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُمَكَّنَ مِن اسْتِيفائِه بنَفْسِه، ولا ¬

(¬1) في الأصل، تش: «شبهها».

4160 - مسألة: (ولا يجب)

وَلَا يَجِبُ فِى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلِيَه إلَّا نائبُ الإِمامِ، أو مَن يَسْتَنِيبُه وَلِىُّ الجِنايةِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ مع لعَداوَةِ وقَصْدِ التَّشَفِّى أن يَحِيفَ في الاسْتِيفاءِ بما لا يُمْكِنُ تَلافِيه، ورُبَّما أَفْضَى إلى النِّزاعِ والاخْتِلافِ، بأن يَدَّعِىَ الجانِى الزِّيادةَ ويُنْكِرَها المُسْتَوْفِى. 4160 - مسألة: (ولا يَجِبُ) القِصاصُ (فيما سِوَى ذلِك مِن الشِّجاجِ والجُرُوحِ) كما دُونَ المُوضِحَةِ أو أعْظَمَ مِنْها. وممَّن رُوِى عنه منعُ القِصاصِ فيما دُونَ المُوضِحَةِ؛ الحسنُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. ومَنَعَه فيما فوقَها عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، والحَكَمُ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى، ولا نعلمُ أحدًا أوْجَبَ القِصاصَ فيما فوقَ المُوضِحَةِ، إلَّا ما رُوِى عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه أقادَ من المُنَقِّلَةِ، وليس بثابتٍ عنه. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): ولا أعلمُ أحدًا خالفَ ذلك. [ولأنَّها جِراحاتٌ] (¬2) لا تُؤْمَنُ الزِّيادةُ فيها، فأَشْبهَ (¬3) الجائِفَةَ. وأمَّا ما دُونَ المُوضِحَةِ، فقد رُوِى عن مالكٍ، أنَّ القِصاصَ يجبُ في الدَّامِيَةِ والباضِعَةِ والسِّمْحاقِ. ورُوِىَ نحوُه عن أصْحابِ الرَّأْى. ولَنا، أنَّها جِراحَةٌ لا تَنْتَهِى إلى عَظْمٍ، فلم يجبْ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 97. (¬2) في الأصل، تش: «وأنهما جراحتان». (¬3) في الأصل، تش: «فأشبها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها قِصاصٌ، كالجائِفَةِ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ فيها الزِّيادةُ، فأَشْبَهَ كَسْرَ العِظامِ، وبيانُ ذلك، أنَّه إنِ اقْتَصَّ مِن غيرِ تَقْدِيرٍ، أفْضَى إلى أن يأْخُذَ أكثرَ مِن حَقِّه، وإنِ اعْتَبَرَ مِقْدارَ العُمْقِ، أفْضَى إلى أن يَقْتَصَّ مِنَ الباضِعَةِ والسِّمْحاقِ مُوضِحَةً، ومِنَ الباضِعَةِ سِمْحاقًا؛ لأنَّه قد يكونُ لَحْمُ المَشْجُوجِ كثيرًا (¬1)، بحيثُ يكون عُمْقُ باضِعَتِه كعُمْقِ مُوضِحَةِ الشَّاجِّ أو سِمْحاقِه، ولأنَّنا لم نعْتَبرْ في المُوضِحَةِ قَدرَ عُمْقِها، فكذلك في غيرِها. فصل: ولا قِصاصَ في المأْمُومَةِ مِن شِجاجِ الرَّأْسِ، ولا في الجائِفَةِ. والمأْمُومَةُ هى التى تَصِلُ إلى جِلْدَةِ الدماغِ. والجائِفَةُ هى التى تَصِلُ إلى الجَوْفِ. وليس فيهما قِصاصٌ عندَ أحَدٍ مِن أهلِ العلمِ نعْلَمُه، إلَّا ما رُوِى عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه أقَصَّ (2) مِنَ المأْمُومَةِ، فأنْكَرَ الناسُ عليه، وقالوا: ما سَمِعْنا أحدًا أقَصَّ (¬2) منها قبلَ ابنِ الزُّبَيْرِ (¬3). ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لا قِصاصَ في المأمُومَةِ (¬4). وهو قولُ مَكْحُوِلٍ، والزُّهْرِىِّ، والشَّعْبِىِّ. وقال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ: لا قِصاصَ في الجائِفةِ. وروَى ابنُ ماجَه، في «سُنَنِه» (¬5)، عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، عن ¬

(¬1) في الأصل: «كبيرًا». (¬2) في الأصل، تش: «اقتص». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما لا يستقاد، من كتاب العقول. المصنف 9/ 459. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال: لا يقاد من جائفة ولا مأمومة ولا منقلة، من كتاب الديات. المصنف 9/ 255. (¬5) في: باب ما لا قود فيه، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 881. كما أخرجه البيهقى، في: باب ما لا قصاص فيه، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 65.

4161 - مسألة: (إلا أن يكون أعظم من الموضحة، كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة)

إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْمُوضِحَةِ، كَالْهَاشِمَةِ والْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً، وَلَا شَىْءَ لَهُ، عَلَى قَوْلِ أَبِى بَكْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَا قَوَدَ (¬1) فِى المأْمُومَةِ، ولَا فِى الجَائِفَةِ، ولا في المُنَقِّلَةِ». ولأنَّهما جُرْحانِ لا تُؤْمَنُ الزِّيادةُ فيهما، فلم يَجِبْ فيهما قِصاصٌ، ككَسْرِ العِظامِ. 4161 - مسألة: (إلَّا أن يَكُونَ أعْظَمَ مِن المُوضِحَةِ، كالهاشِمَةِ والمُنَقِّلَةِ والمَأْمُومَةِ، فلهْ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً) بغيرِ خِلافٍ بينَ أصْحابِنا. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه يَقْتَصِرُ على بعضِ حَقِّه، ويَقْتَصُّ مِن مَحَلِّ جِنايتِه، فإنَّه إنَّما وضَعَ السِّكِّينَ في مَوْضِعِ وضَعَها الجانِى؛ لأَنَّ سِكِّينَ الجانِى وصَلَتْ إلى العَظْمِ ثم تجاوَزَتْه، بخِلافِ قاطعِ السَّاعِدِ، فإنَّه لم يَضَعْ سِكِّينَه في الكُوعِ. 4162 - مسألة: (ولا شئَ له) مع القِصاصَ (كل قول أبى بَكْرٍ) لأنَّه جُرْحٌ واحدٌ، فلا يُجْمَعُ فيه بينَ قِصاصٍ ودِيَةٍ، كما لو قطَع الشَّلاءَ بالصَّحِيحةِ، وكما في الأنْفُسِ إذا قُتِل الكافِرُ بالمُسْلِمِ، والعَبْدُ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «إلا».

4163 - مسألة: (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة، فلو أوضح إنسانا فى بعض رأسه، مقدار ذلك البعض جميع رأس الشاج وزيادة، كان له أن يوضحه فى جميع رأسه، وفى الأرش للزائد وجهان)

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَهُ مَا بَيْنَ دِيَةِ مُوضِحَةٍ وَدِيَةِ تِلْكَ الشَّجَّةِ. فَيأْخُذُ فِى الْهَاشِمَةِ خَمْسًا مِنَ الإبلِ، وَفِى الْمُنَقِّلَةِ عَشْرًا، وَيُعْتَبَرُ قَدْرُ الْجُرْحِ بِالْمِسَاحَةِ، فَلَوْ أَوْضَحَ إِنْسَانًا في بَعْضِ رَأْسِهِ، مِقْدَارُ ذَلِكَ الْبَعْضِ جَمِيعُ رَأْسِ الشَّاجِّ وَزِيَادَةٌ، كَانَ لَهُ أَنْ يُوضِحَهُ في جَمِيعِ رَأْسِهِ، وفى الْأَرْشِ لِلْزَّائِدِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحُرِّ. (وقال ابنُ حامدٍ: له ما بينَ دِيَةِ مُوضِحَةٍ ودِيَةِ تلكَ الشَّجَّةِ) وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ القِصاصُ فيه، فانْتَقَلَ إلى البَدَلِ، كما لو قطَع إصْبَعَيْه، فلم يُمْكِنْ الاسْتِيفاءُ إلَّا من واحدةٍ، وفارَقَ الشَّلَّاءَ بالصَّحِيحَةِ؛ فإنَّ الزِّيادةَ ثَمَّ مِن حيثُ المعنى، وليست مُتَمَيِّزَةً، بخِلافِ مسْأَلتِنا (فيأخُذُ في الهاشِمةِ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ، وفى المُنَقِّلَةِ عَشْرًا). 4163 - مسألة: (ويُعْتَبَرُ قَدْرُ الجُرْحِ بالمِساحَةِ، فلو أَوْضَحَ إنْسَانًا في بَعْضِ رَأْسِهِ، مِقْدارُ ذَلِكَ البَعْضِ جَمِيعُ رَأْسِ الشَّاجِّ وَزِيادَةٌ، كان لهُ أن يُوضِحَهُ في جميعِ رَأْسِه، وفى الأَرْشِ للزَّائِدِ وَجهان) وجملةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّه إذا أرادَ الاستِيفاءَ مِن مُوضِحَةٍ وشِبْهِها، فإن كان على مَوْضِعِها شَعَرٌ أزَالَه، ويَعْمِدُ إلى مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِن رَأْسِ المَشْجُوجِ، فيَعْلَمُ طُولَها وعَرْضَها بخَشَبَةٍ أو خَيْطٍ، ويضَعُها على رأسِ الشَّاجِّ، ويُعْلِمُ طَرَفَيْه بسَوادٍ أو غيرِه، ويأْخُذُ حَدِيدةً عَرْضُها كعَرْضِ الشَّجَّةِ، فيَضَعُها في أوَّلِ الشَّجَّةِ، ويَجُرُّها إلى آخِرِها، فيَأْخُذُ مثلَ الشَّجَّةِ طُولًا وعَرْضًا، ولا يُراعِى العُمْقَ؛ لأَنَّ حَدَّه العَظْمُ، ولو رُوعِىَ لَتَعَذَّرَ الاسْتِيفاءُ؛ لأَنَّ الناسَ يخْتَلِفونَ في قِلَّةِ اللَّحْمِ وكَثْرَتِه، وهذا كما يُسْتَوْفَى الطَّرَفُ بمثلِه. وإنِ اخْتَلَفا في الصِّغَرِ والكِبَرِ، والدِّقَّةِ والغِلَظِ، فإن كان رَأْسُ الشَّاجِّ والمَشْجُوجِ سواءً، اسْتَوْفَى قَدْرَ الشَّجَّةِ، وإن كان (¬1) رَأْسُ الشَّاجِّ أصْغَرَ، لكنَّه يتَّسِعُ للشَّجَّةِ، اسْتُوفِيَتْ وإنِ اسْتَوْعَبَتْ رَأْسَ الشَّاجِّ كلَّه؛ لأنَّه اسْتَوْفاها بالمساحَةِ، ولا يَمْنَعُ الاسْتِيفاءَ زِيادَتُها على مثلِ مَوْضِعِها مِن رَأْسِ الجانِى؛ لأَنَّ الجَمِيعَ رَأْسٌ. وإن كان قَدْرُ الشَّجَّةِ يَزِيدُ على رَأْسِ الجانِى، فإنَّه يَسْتَوْفِى الشَّجَّةَ في جَمِيعِ رأْسِ الشَّاجِّ، ولا يجوزُ أن يَنْزِلَ إلى جَبْهَتِه (¬2)؛ لأنَّه يَقْتَصُّ في عُضْو آخرَ غيرِ العُضْوِ المَجْنِىِّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «جهته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، ولا يَنْزِلَ إلى قَفَاه؛ لِما ذكَرْنا. ولا يَسْتَوْفِى بَقِيَّةَ الشَّجَّةِ في موضعٍ آخَرَ مِن رَأْسِه؛ لأنَّه يكونُ مُسْتَوْفِيًا مُوضِحَتَيْنِ، وواضِعًا للحَدِيدَةِ في غيرِ الموْضِعِ الذى وضَعَها فيه الجانِى. واخْتَلَفَ أصْحابُنا في (¬1) ماذا يَصْنَعُ؟ فذكَر القاضى أنَّ ظاهِرَ كلامِ أبى بكر، أنَّه لا أَرْشَ له فيما بَقِىَ؛ [لِئلَّا يَجْتَمِعَ] (¬2) قِصاصٌ ودِيَةٌ في جُرْحٍ واحدٍ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. فعلى هذا، يتَخَيَّرُ بينَ الاسْتِيفاءِ في جميعِ رَأْسِ الشَّاجِّ ولا أَرْشَ له، وبينَ العَفْوِ إلى دِيَةِ مُوضِحَةٍ. وقال أبو عبدِ اللَّهِ ابنُ حامدٍ، وبعْضُ أصْحابِنا: له أَرْشُ ما بَقِىَ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأن القِصاصَ تَعَذَّرَ فيما جَنَى عليه، فكل له أَرْشُه، كما لو تعَذرَ في الجميعِ. فعلى هذا، تُقَدَّرُ شَجَّةُ الجانِى مِنَ الشَّجَّةِ في رَأْسِ (¬3) المَجْنِىِّ عليه، ويَسْتَوْفِى أَرْشَ الباقِى، فإن كانتْ بقَدْرِ ثُلُثَيْها (¬4) فلَه أَرْشُ ثُلُثِ مُوضِحَةٍ، وإن زادتْ على هذا أو نقَصَتْ، فبالحِساب مِن أَرْشِ المُوضِحَةِ. [ولا يَجِبُ له أَرْشُ مُوضِحَةٍ] (¬5) كاملةٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِىَ إلى إيجابِ القِصاصِ ودِيَةِ مُوضِحَةٍ [في مُوضِحَةٍ واحدةٍ] (¬6)، فإن أوْضَحَه في جميعِ رَأْسِه، ورَأْسُ الجانِى أكبرُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كيلا يجمع بين». (¬3) في الأصل: «أرش». (¬4) في ر 3: «ثلثها». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فللمَجْنِىِّ عليه أن يُوضِحَ منه بقَدْرِ مِساحَةِ مُوضِحَةٍ مِن أىِّ الطَّرَفَيْنِ شاءَ؛ لأنَّه جَنَى عليه في ذلك الموْضِعِ كلِّه، وإنِ اسْتَوْفَى قَدْرَ مُوضِحَتِه، ثم تجاوَزَها واعْتَرَفَ أنَّه عَمَدَ ذلك، فعليه القِصاصُ في ذلك القَدْرِ، فإذا انْدَمَلَتْ مُوضِحَتُه، اسْتُوفِىَ منه القِصاصُ في مَوْضِعِ الانْدِمال؛ لأنَّه مَوْضِعُ الجِنايةِ، وإنِ ادَّعَى الخَطَأَ، فالقولُ قولُه؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ، وهو أعْلَمُ بقَصْدِه، وعليه أَرْشُ مُوضِحَةٍ. فإن قيل: فهذه المُوضِحَةُ كلُّها (¬1) لو كانت عُدْوانًا لم يَجِبْ فيها إلَّا دِيَةُ مُوضِحَةٍ، فكيف يَجِبُ في بعْضِها دِيَةُ مُوضِحَةٍ؟ قُلنا: لأَنَّ المُسْتَوْفَى لم يَكُنْ جِنايةً، إنَّما الجِنايةُ الزَّائدُ، والزَّائدُ لو انْفَرَدَ لَكانَ مُوضِحَةً، فكذلك إذا كان معه ما ليس بجِنايةٍ، بخِلافِ ما إذا كانتْ كلُّها عُدْوانًا، فإنَّ الجميعَ جِناية واحدةٌ. فصل: إذا أوْضَحَه في جميعِ رَأْسِه، ورأسُ الجانِى أكْبَرُ، فأَحبَّ (¬2) أن يَسْتَوْفىَ القِصاصَ بعضَه مِن مُقَدَّمِ الرّأْسِ وبعضَه مِن مُؤَخَّرِه، مُنِعَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فأراد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ذلك؛ لأنَّه يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بواحدةٍ، ودِيَتُهما مُخْتَلِفَةٌ. ويَحْتَمِلُ الجوازُ؛ لأنَّه لا يُجاوِزُ مَوْضِعَ الجِنايةِ ولا قَدْرَها. فإنْ قال أهلُ الخِبْرَةِ: إنَّ في ذلك زِيادةَ ضَرَرٍ أو شَيْنٍ. لم يَجُزْ. ولأصحابِ الشافعىِّ كَهذيْن القوْلَيْنِ. فإن كان رأسُ المَجْنِىِّ عليه أَنْ بَرَ، فأوْضَحَه الجانِى في مُقَدَّمِه ومُؤَخَّرِه مُوضِحَتَيْنِ، قَدرُهما جميعُ رأسِ الجانِى، فله الخِيارُ بينَ أن يُوضِحَه مُوضِحة واحدةً في جميعِ راسِه، أو (¬1) يُوضِحَه مُوضِحَتَيْنِ يَقْتَصِرُ في كلِّ واحدةٍ منهما على قَدرِ مُوضِحَتِه، ولا أَرْشَ لذلك، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّه تَرَكَ الاسْتِيفاءَ مع إمكانِه. وإن عَفا إلى الأَرْشِ، فله أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، وإن شاءَ اقْتَصَّ من إحدَاهما، وأخَذَ أَرْشَ الأُخْرَى. فصل: فإن كانتِ الجِنايةُ في غيرِ الرَّأْسِ والوَجْهِ، فكانتْ في ساعِدٍ، فزادَتْ على ساعدِ الجانِى، لم يَنْزِلْ إلى الكَفِّ، ولم يصعد إلى العَضُدِ، وإن كانتْ في السَّاقِ، لم ينزلْ إلى القَدَمِ، ولم يَصْعَدْ إلى الفَخِذِ؛ لأنَّه عُضْو آخَرُ، فلا يَقْتَصُّ منه، كما لم ينْزِلْ من الرَّأْسِ إلى الوَجْهِ، ولم يصْعد من الوَجْهِ إلى الرَّأْسَ. فصل: إذا شُجَّ في مُقَدَّمِ رَأسِه أو مُؤخَّرِه عَرْضًا شَجَّةً لا يَتَّسِعُ لها مثلُ مَوْضِعِها مِن رَأسِ الشَّاجِّ، فأرادَ أن يَسْتَوْفِىَ مِن وَسَطِ الرَّأْسِ، فيما بينَ الأُذُنَيْنِ، لكَوْنِه يَتَّسِعُ لمثلِ تلك الشَّجَّةِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا ¬

(¬1) في الأصل: «و».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِى قَطعِ طَرَفٍ، أَوْ جُرجٍ مُوجاٍ لِلْقِصَاصِ وَتَسَاوتْ أفْعَالُهُم، مِثْلَ أَنْ يَضَعُوا الْحَدِيدَةَ عَلَى يَدِهِ وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْها جَمِيعًا حَتَّى تَبِينَ، فَعَلَى جَمِيعِهِمُ الْقِصَاصُ، في إحدَى الرِّوَايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوزُ، لأنَّه غيرُ الموْضِعِ الذىَ شَجَّه فيه، فلم يَجُزْ له الاسْتِيفاءُ منه، كما لو أمكَنَه اسْتِيفاءُ حَقِّه مِن مَحَلِّ الشَّجَّةِ. واحتَمَلَ الجوازُ، لأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ واحدٌ، فإذا لم يُمكِنْه اسْتِيفاءُ حَقِّه مِن مَحَلِّ شَجَّتِه، جازَ مِن غيرِه، كما لو شَجَّه في مُقَدَّم رَأْسِه شجةً قَدرها جَمِيعُ رَأسِ الشَّاجِّ، جازَ إتْمامُ اسْتِيفائِها مِن مُؤَخَّرِ رأسِ الجانِى. وهذا مَنْصُوصُ الشافعىِّ. وهكذا يُخَرَّجُ فيما إذا كان الجرحُ في مَوْضِعٍ مِن السَّاقِ والقَدَمِ والذِّراعِ والعَضُدِ. وإن أَمْكَنَ الاسْتِيفاءُ مِن مَحَل الجِنايةِ، لم يَجُزِ العُدُولُ عنه، وَجْهًا واحدًا. فصل: قال: (وإذا اشْتَرَكَ جماعةٌ في قَطْعِ طَرَفٍ، أو جُرحٍ مُوجِبٍ للقِصاصِ وتَساوَتْ أفْعالُهم، مثلَ أن يضَعُوا الحَدِيدةَ على يَدِه ويتَحامَلُوا عليها جميعًا حتى تَبِينَ، فعلى جَمِيعِهم القِصاصُ، في أشْهرِ الرِّوايتَيْن) وهى التى ذكَرها الخِرَقِىُّ. وبذلك قال مالكٍ، والشافعى (¬1)، وأبو ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَوْرٍ. وقال الحسنُ، والزُّهْرِىُّ، والثَّوْرىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ: لا تُقْطَعُ يَدانِ بيَدٍ واحدةٍ. وهى الروايةُ الأُخْرَى؛ لأَنَّه رُوِى عنه أنَّ الجماعةَ لا يُقْتَلون بالواحدِ. وهذا تَنْبيهٌ على أنَّ الأطْرَافَ لا تُؤْخَذُ بطَرَفٍ واحدٍ؛ لأَنَّ الأَطْرَافَ يُعتَبَرُ التَّساوِى فيها، بدليلِ أنَّا لا نَأخُذُ الصَّحِيحةَ بالشَّلَّاءِ، ولا كامِلَةَ الأصابعِ بناقِصَتِها (¬1)، ولا أصْلِيَّةً بزائدةٍ، ولا يَمِينًا بيَسارٍ، ولا يَسارًا بيَمين، ولا تَساوِىَ بينَ الطَّرَفِ والأطْرَافِ، فوَجَبَ امْتِناعُ القِصاصِ بينَهما، ولا يُعتَبَرُ التَّساوِى في النَّفْسِ، فإنَّا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بالمريضِ، وصَحِيحَ الأطْرَافِ بمقْطُوعِها وأشَلِّها، ولأنَّه يُعتَبَرُ في القِصاصِ في الأطْرَافِ التَّساوِى (¬2) في نَفْسِ القَطْعِ، بحيث لو قطَع كُل واحدٍ مِن جانبٍ (¬3)، لم يَجِبِ القِصاصُ، بخِلافِ النَّفْسِ، ولأَنَّ الاشْتِراكَ المُوجِبَ للقِصاصِ في النَّفْسِ يَقَعُ كثيرًا، فوَجَبَ القِصاصُ زَجْرًا عنه، كَيْلا يُتَّخَذَ وسِيلةً إلى كَثْرَةِ القَتْلِ، والاشْتِراكُ المُخْتَلَفُ فيه لا يَقَعُ إلَّا في غايةِ النُّدرَةِ، فلا حاجةَ إلى الزَّجْرِ عنه، ولأَنَّ إيجابَ القِصاصِ على المُشْتَرِكينَ في النَّفْسِ يحْصُلُ به الزَّجْرُ عن كُلِّ اشْتِراكٍ، أو عن الاشْتِراكِ المُعتادِ، وإيجابُه على المُشْترِكينَ في ¬

(¬1) في ق، م: «بناقصة». (¬2) في الأصل، تش: «تساوى». (¬3) بعده في م: «الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّرَفِ لا يَحْصُلُ به الزَّجْرُ عن الاشْتِراكِ المُعتادِ، ولا عن شئٍ مِنَ الاشْتِراكِ، إلَّا عن صُورَةٍ نادرةِ الوُقوعِ، بَعِيدةِ الوُجُودِ، يُحْتاجُ في وُجُودِها إلى تَكَلُّفٍ، فإيجابُ القِصاصِ للزَّجْرِ عنها يكون مَنْعًا لشئٍ لا يَكادُ يَقَعُ لصُعُوبَتِه، وإطْلاقًا في القَطْع السَّهْلِ المُعْتادِ بِنَفْى القِصاصِ عن فاعِلِه، وهذا لا فائدَةَ فيه، بخلافِ الاشْتِراكِ في النَّفْسِ، يُحَقِّقُه أنَّ وُجُوبَ القِصاصِ في الطَّرَفِ والنَّفْسِ على الجماعةِ بواحدٍ على خِلافِ الأصْلِ، لكَوْنِه يأخُذُ في الاسْتِيفاءِ زِيادَةً على ما فوَّتَ عليه، ويُخِلُّ بالتَّماثُلِ المَنْصُوصِ على النَّهْى عمَّا عَداه، وإنَّما خُولِفَ هذا الأصلُ زَجْرًا عن الاشْتِراكِ الذى يَقَعُ القَتْلُ به غالِبًا، ففيما عَدَاه يَجِب البَقاءُ على أصْلِ التَّحْريمِ، ولأَنَّ النَّفْسَ أشْرَفُ مِنَ الطَّرَفِ، ولا يَلْزَمُ مِن المُحافظةِ عليها بأَخْذِ الجماعةِ بالواحدِ، المُحافظَةُ على ما دُونَها بذلك. ولَنا، ما رُوِى أنَّ شاهِدَينِ شَهِدا عندَ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، على رَجُل بالسَّرِقَةِ، فقَطَعَ يَدَه، ثم جاءَا بآخَرَ، فقالا: هو السَّارِقُ، وأخْطَأْنا في الأَوَّلِ. فرَدَّ شَهادَتَهُما على الثانى، وغَرَّمَهُما دِيَةَ يَدِ الأَوَّلِ، وقال: لو عَلِمتُ أنَّكُما تَعَمَّدْتُما لمَطَعتُكُما (¬1). فأخْبَرَ أنَّ القِصاصَ على كلِّ واحدٍ منهما لو تَعَمَّدَا قَطْعَ يَدٍ واحدةٍ. ولأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ القِصاصِ، فيُؤْخَذُ فيه الجماعةُ بالواحدِ، كالأنْفُس (¬2)، وأمَّا اعتِبارُ التَّساوِى، فمِثْلُه في الأنْفُسِ (¬3)؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 32. (¬2) في الأصل: «كالنفس». (¬3) في الأصل: «النفس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّا نَعتَبِرُ التَّساوِىَ فيها فلا نأْخُذُ مُسْلِمًا بكافِر، ولا حُرًّا بعَبْدٍ، وأمَّا أَخْذُ صَحيحِ الأَطْرَافِ بمقْطُوعِها، فلأنَّ الطَّرَفَ ليس هو مِنَ النَّفْسِ المُقْتَصِّ منها، وإنَّما يُؤْخَذُ تَبَعًا، ولذلك (¬1) كانتْ دِيَتُهُما واحدةً، بخِلافِ اليَدِ النَّاقِصَةِ والشَّلَّاءِ مع الصَّحِيحةِ، فإنَّ دِيَتَهُما مُخْتلِفة. وأمَّا اعتِبارُ التَّساوِى في الفِعْلِ، فإنَّما اعتُبِرَ في اليَدِ؛ لأنَّه يُمْكِنُ مُباشَرَتُها بالقَطْعِ، فإذا قطَع كلُّ واحدٍ منهما مِن جانبٍ، كان (¬2) فِعْلُ كلِّ واحدٍ منهما مُتَمَيِّزًا عن فِعْلِ الآخرِ، فلا يَجِبُ على إنْسانٍ قَطْعُ مَحَلٍّ لم يُقْطَعْ مثلُه، وأمَّا النَّفْسُ، فلا يُمكِنُ مُباشَرَتُها بالفِعلِ، وإنَّما أفْعالُهم في البَدَنِ، فَيُفْضِى (¬3) أَلَمُه إليها فتَزْهَقُ، ولا يتَمَيَّزُ أَلَمُ فِعْلِ أحَدِهما مِن ألَمِ فِعْلِ (¬4) الآخَرِ، فكانا كالقاطِعَيْنِ في مَحَل واحدٍ، ولذلك لا يُسْتَوْفَى مِن الطَّرَفِ إلَّا في المَفْصِلِ الذى قطَع الجانِى منه (¬5)، ولا يجوزُ تَجاوُزُه، وفى النَّفْسِ لو قَتَلَه بجُرْحٍ في جَنْبِه أو بَطْنِه أو غيرِ ذلك، كان الاسْتِيفاءُ مِنَ العُنُقِ دونَ المَحَلِّ الذى وقَعَتِ الجِنايةُ فيه. إذا ثبَت هذا، فإنَّ الجِنايةَ إنَّما تَجِبُ على المُشْتَرِكينَ في الطَّرَفِ، إذا اشْتَرَكُوا فيه على وَجْهٍ لا يتَمَيَّزُ فِعلُ أحَدِهم ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «لو». (¬2) في ق، م: «فإن». (¬3) في الأصل: «فيقتضى». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «به».

4164 - مسألة: (وإن تفرقت أفعالهم، أو قطع كل واحد من جانب، فلا قصاص)

وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَفْعَالُهُم، أَوْ قَطَعَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ جَانِبٍ، فَلَا قِصَاصَ، رِوايةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن فِعْلِ الآخَرِ؛ إمَّا بأنْ يَشْهدُوا عليه بما يُوجِبُ قَطْعَه، فيُقْطَعَ، ثم يرجِعُوا عن الشَّهادةِ، أو (¬1) يُكْرِهُوا إنْسانًا على قَطْعِ طَرَفٍ، فيَجِبُ قَطْعُ المُكْرِهِينَ والمُكْرَهِ، أو يُلْقُوا صَخْرَةً على طَرَفِ إنْسانٍ، فيَقْطَعَه، أو يَقْطَعُوا يدًا، أو يَقْلَعُوا (¬2) عَيْنًا بضَربَةٍ واحدةٍ، أو يَضَعُوا حَدِيدةً على مَفْصِلٍ وَيَتَحامَلُوا عليها جَمِيعًا، أو يَمُدُّوها فتَبِينَ، ونحو ذلك. 4164 - مسألة: (وإن تَفَرَّقَتْ أفْعَالُهم، أو قطَع كُلُّ وَاحِدٍ مِن جَانِبٍ، فلا قِصاصَ) عليهم (روايَةً واحِدَةً) لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم لم يَقْطَعِ اليَدَ، ولم يُشارِكْ في قَطْعِ جَمِيعِها، وإن كان فِعلُ كل واحدٍ منهم يُمكِنُ الاقْتِصاصُ (¬3) بمُفْرَدِه، اقْتُصَّ منه. وهذا مذهبُ الشافِعىِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «أن». (¬2) في الأصل، تش: «يفقئوا». (¬3) في الأصل: «القصاص».

4165 - مسألة: (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص أو الدية)

وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَة بِالْقِصَاصِ أوِ الدِّيَةِ، فَلَوْ قَطَعَ إصبَعًا فَتَآكَلَتْ أُخْرَى إلى جَانِبها وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِل، أَوْ تَآكَلَتِ الْيَدُ وَسَقَطَتْ مِنَ الْكُوعِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِى ذَلِكَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4165 - مسألة: (وسِرايَةُ الجِنايَةِ مَضْمُونَة بالْقِصاصِ أو الدِّيَةِ) سِرايةُ الجِنايةِ مضْمُونةٌ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّها أثَرُ جِنايَةٍ، والجِنايةُ مضْمُونةٌ، فكذلك أَثَرُها، ثم إن سَرَت إلى النَّفْسِ، و (¬1) ما لا يُمكِنُ مُباشَرَتُه بالإِتْلافِ، مثلَ أن يَهْشِمَه في رَاسِه فيَذْهبَ ضَوْءُ عيْنَيْه (¬2)، وجَبَ القِصاصُ فيه، ولا خِلافَ في ذلك في النَّفْسِ، وفى ضَوْءِ العَيْنِ خِلاف ذكَرْناه فيما مَضَى. وإن سَرَتْ إلى ما يُمكِنُ مُباشَرَتُه بالإِتْلافِ، مثلَ أن قطَع إصبَعًا فتآكَلَت أُخْرَى وسَقَطَتْ، ففيه القِصاصُ أيضًا، في قوْلِ إمامِنا، وأبى حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وقال أكثرُ الفُقَهاءِ: لا قِصاصَ في الثَّانيةِ، وتَجِبُ دِيَتُها؛ لأَنَّ ما أمكَنَ مُباشَرَتُه بالجِنايةِ لا يَجِبُ القَوَدُ فيه بالسِّرايةِ، كما لو رَمَى سَهْمًا إلى شَخْصٍ، فمَرَقَ منه إلى آخَرَ. ولَنا، أنَّ ما وَجَبَ فيه القَوَدُ بالجِنايةِ، وجَبَ بالسِّرايةِ، ¬

(¬1) في م: «أو». (¬2) في ق، م: «عينه».

4166 - مسألة: (وإن شل، ففيه ديته)

وَإِنْ شَلَّ، فَفِيهِ دِيَتُهُ دُونَ الْقِصَاصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالنَّفْسِ، ولأنَّه أحَدُ نَوْعَىِ القِصاصِ، فأَشْبَهَ ما ذكَرنا. وفارَقَ ما ذكَرُوه؛ فإنَّ ذلك (¬1) فِعْلٌ وليس بسِرَايةٍ، ولأنَّه لو قَصَدَ ضَربَ رَجُلٍ فأصابَ آخَرَ، لم يَجِبِ القِصاصُ، ولو قَصَدَ قَطْعَ إبْهامِه فقَطَعَ سَبَّابَتَه، وجَبَ القِصاصُ. ولو ضَرَبَ إبْهامَه فمَرَقَ إلى سَبَّابَتِه، وجَبَ القِصاصُ فيها، فافْتَرَقا. ولأَنَّ الثَّانيةَ تَلِفَتْ بفِغل أوْجَبَ القِصاصَ، فوَجَبَ القِصاصُ فيها، كما لو رَمَى إحدَاهما فمَرَقَ إلى الأُخْرَى. 4166 - مسألة: (وإن شَلَّ، ففيهِ دِيَتُه) وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، قالوا: يجبُ الأَرْشُ في الثَّانيةِ التى شَلَّتْ، والقِصاصُ في الأُولَى. وقال أبو حنيفةَ: لا يجبُ القِصاصُ فيهما (¬2)، ويَجِبُ أَرْشُهُما جميعًا؛ لأَنَّ حُكْمَ السِّرايةِ لا يَنْفَرِدُ عن الجِنايةِ، بدليلِ ما لو سَرتْ إلى النَّفْسِ، فإذا لم يَجِبِ القِصاصُ في إحداهما، لم يَجبْ في الأُخْرَى. ولَنا (¬3)، أنَّها جِنايةٌ مُوجِبة للقِصاصِ لو لم تَسْرِ، [فأَوْجَبَتْه إذا سَرَت، كالتى تَسْرِى] (¬4) إلى سُقُوطِ أُخْرَى، وكا لو قطَع يدَ حُبْلَى فسَرَى إلى ¬

(¬1) في الأصل: «كان». (¬2) في م: «فيها». (¬3) في الأصل: «وقلنا». (¬4) سقط من: الأصل.

4167 - مسألة: (وسراية القود غير مضمونة، فلو قطع اليد

وَسِرَايةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَلَوْ قَطَعَ الْيَدَ قِصَاصًا، فَسَرَى إِلَى النَّفْسِ، فَلَا شَىْءَ عَلَى الْقَاطِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَنِينِها. وبهذا يَبْطُلُ ما ذكَرَه (¬1). وفارَقَ الأصلَ؛ لأَنَّ السِّرايةَ مُقْتَضِيَةٌ للقِصاصِ، كاقْتِضاءِ الفِعْلِ له، فاسْتَوَى حُكْمُهما، وههُنا بخِلافِه (¬2)، ولأَنَّ ما ذكَره غيرُ صَحِيح، فإنَّ القَطْعَ إذا سَرَى إلى النَّفْسِ، وجَب القِصاصُ في النَّفْسِ، وسقَط في القَطْعِ، فخالفَ حُكْمُ الجِنايةِ حُكْمَ السِّرايةِ، فسَقَطَ ما قالَه. إذا ثبَت ذلك، فإنَّ الأَرْشَ يَجِبُ في مالِه، فلا تَحمِلُه العاقِلَةُ؛ لأنَّه جِنايَةُ عمدٍ، وإنَّما لم يَجبِ القِصاصُ فيه لعَدَمِ المُماثَلَةِ في القَطْعِ، فإذا قطَع إصبَعَه فشَلَّتْ أَصابِعُه الباقِية وكَفُّه، فعَفَا عن القِصاصِ، وجَب له [نِصْفُ الدِّيَةِ] (¬3)، وإنِ اقتَصَّ مِنَ الإِصْبَعِ، فله في الأصابعِ الباقيةِ أرْبعونَ مِنَ الإِبِلِ، ويَتْبَعُها ما حاذاها مِنَ الكَفِّ، وهو أربَعةُ أخْماسِه. فيَدْخُلُ أَرْشُه فيها، ويَبْقَى خُمسُ الكَفِّ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَتْبَعُها في الأَرْشِ، فلا شئَ له (2) فيه. والثانى، فيه الحُكومةُ؛ لأَنَّ ما يُقابِلُ الأَرْبَعَ يَتْبَعُها في الأَرْشِ، لاسْتِوائِهِما في الحُكْمِ، وحُكْمُ التى اقْتصَّ منها مُخالِفٌ لحُكْمِ الأَرْشِ، فلم يَتْبَعْها. 4167 - مسألة: (وَسِرايَةُ القَوَدِ غيرُ مَضْمُونَةٍ، فلو قطَع اليدَ ¬

(¬1) في الأصل: «ذكروه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «الدية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِصاصًا، فسَرَى إلى النَّفْسِ، فلا شئَ على القاطعِ) وبهذا قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ (¬1)، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وابنُ المُنْذِرِ. ورُوِى ذلك عن أبى بكرٍ، وعمرَ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وقال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، والحارِثُ العُكْلِىُّ، والشَّعبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: عليه الضَّمانُ. قال أبو حنيفةَ: عليه كمالُ الدِّيَةِ في مالِه. وقال غيرُه: هى على عاقِلَتِه؛ لأنَّه فَوَّتَ نَفْسَه، ولا يَسْتَحِقُّ إلَّا طَرَفَه، فلَزِمَتْه دِيَتُه، كما لو ضَرَبَ عُنُقَه، ولأنَّها سِرَايةُ قَطعٍ مَضْمُونٍ، فكانت مَضْمُونةً كسِرايةِ الجِنايةِ، والدَّليلُ على أنَّه مَضْمُونٌ، أنَّه مَضْمون بالقَطْعِ الأَوَّلِ؛ لأنَّه في مُقابَلَتِه. ولَنا، أنَّ عمرَ وعَلِيًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قال (¬2): مَن مات مِن حَدٍّ أو قِصاصٍ لا دِيَةَ له، الحَقُّ (¬3) قَتَلَه. روَاه سَعِيدٌ بمعناه (¬4). ولأنَّه قَطْعٌ ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «والليث». (¬2) في الأصل، م: «قال». (¬3) بعده في الأصل، تش: «له». (¬4) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الانتظار بالقود أن يبرأ، من كتاب العقول. المصنف 9/ 457، 458. وابن أبى شيبة، في: باب من قال: ليس عليه دية إذا مات في قصاص، من كتاب الديات. المصنف 9/ 343. والبيهقى، في: باب الرجل يموت في قصاص الجرح، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 68.

4168 - مسألة: (ولا يقتص من الطرف إلا بعد برئه)

وَلا يَقْتَصُّ مِنَ الطَّرَفِ إلَّا بَعدَ بُرْئِهِ، فإنِ اقْتَصَّ قَبْلَ ذَلِكَ، بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ سِرَايَةِ جُرْحِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُسْتَحَق مُقَدَّر، فلا تُضْمَنُ سِرايَتُه، كقَطْعِ السَّارِقِ. وفارَقَ ما قَاسُوا عليه، فإنَّه ليس ما فَعَلَه مُسْتَحَقًّا. إذا ثبَت هذا، فلا فَرقَ بينَ سِرايته إلى النَّفْس، بأن يَمُوتَ منها، أو إلى ما دُونَها، مثلَ أن يَقْطَعَ إصبَعًا فتَسْرِىَ إلى كَفِّه. 4168 - مسألة: (ولَا يُقْتَصُّ مِن الطَّرَفِ إلَّا بعدَ بُرْئِه) في قولِ أكثرِ أَهْلِ العلمِ؛ منهم النَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. ورُوِىَ ذلك عن عَطاءٍ، والحسنِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): كلُّ مَن نحْفَظُ عنه مِن أهلِ العِلْمِ يَرَى الانْتِظارَ بالجُرحِ حتى يَبْرَأَ. ويتَخَرَّجُ لنا أنَّه يجوزُ الاقْتِصاصُ قبلَ البُرْءِ، بِناءً على قَوْلِنا: إنَّه إذا سَرَى إلى النَّفْسِ، يُفْعَلُ به كما (¬2) فعَل. وهذا قولُ الشافعىِّ. قال: ¬

(¬1) بعده في الأصل: «أجمع». وانظر: الإشراف 3/ 82. والإجماع 72. (¬2) بعده في م: «لو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو سألَ القَوَدَ ساعةَ قُطِعَتْ إصْبَعُه، أقَدْتُه؛ لما رَوَى جابرٌ، أنَّ رَجُلًا طعَن رجلًا بقَرْنٍ في رُكْبَتِه، فقال: يا رسولَ اللَّهِ أقِدْنِى. قال: «حَتَّى تَبْرَأَ». فأبَى، وعَجَّلَ، فاسْتَقادَ له رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعِيبَتْ رِجْلُ المُسْتَقِيدِ، وبَرأَتْ رِجلُ المُسْتَقادِ منه. فقال له (¬1) النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ لك شَىْءٌ، إنَّكَ عَجِلْتَ». رواه سعيدٌ مُرْسلًا (¬2). ولأَنَّ القِصاصَ في الطرًّفِ لا يَسْقُطُ بالسِّرايةِ، فوَجَبَ أن يَمْلِكَه في الحالِ، كما لو بَرَأَ. ولَنا، ما رَوَى جابرٌ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهى أن يُسْتَقادَ مِن الجُرْحِ (¬3) حتى يَبْرأَ المَجْرُوحُ. وروَاه الدَّارَقُطنِىُّ (¬4)، عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولأَنَّ الجُرْحَ لا يُدْرَى أقَتْلٌ هو أو لا، فيَنْبَغِى أن يُنْتَظَرَ (¬5) ليُعْلَمَ ما حُكْمُه؟ فقد روَاه (¬6)، وفى سِياقِه، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، عَرَجْتُ. فقال: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِى، فأَبْعَدَكَ اللَّه»، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) وأخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 88، 89. والبيهقى، في: باب ما جاء في الاستثناء بالقصاص من الجرح والقطع، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 67. (¬3) كذا في النسخ، وعند الدارقطنى والبيهقى: «الجارح». (¬4) أخرج الدارقطنى حديثى جابر وعمرو بن شعيب، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 88، وحديث جابر أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في الاستثناء بالقصاص من الجرح والقطع، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 67. وأخرج الإمام أحمد حديث عمرو بن شعيب، في: المسند 2/ 217. وانظر الكلام على طرق الحديث في: الإرواء 7/ 298، 299. (¬5) في الأصل: «يثبط»، وفى ق: «يشط». (¬6) أى الدارقطنى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، انظر: سنن الدارقطنى 3/ 88.

4169 - مسألة: فإن فعل ذلك، سقط حقه من سرايته (فلو سرى إلى نفسه، كان هدرا، ولو سرى القصاص إلى نفس الجانى، كان هدرا أيضا)

فَلَو سَرَى إِلَى نَفْسِهِ، كَانَ هَدْرًا، وَإِنْ سَرَى الْقِصَاصُ إِلَى نَفْسِ الْجَانِى، كَانَ هَدْرًا أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبَطَل عَرَجُكَ». ثم نَهَى أن يُقْتَصَّ مِن جُرْحٍ حتى يَبْرَأَ صاحِبُه. وهذه زِيادةٌ يجبُ قَبُولُها، وهى مُتَأخِّرَة عن الاقْتِصاصِ، فتكونُ ناسِخَةً له. وفى نفسِ الحديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ اسْتِقادَتَه قبلَ البُرْءِ مَعْصِيَةٌ؛ لقَوْلِه: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِى». وما ذكَرُوه مَمْنُوعٌ، وهو مَبْنَى الخِلافِ. 4169 - مسألة: فإن فعَل ذلك، سقَط حقُّه مِن سِرايَتِه (فلو سرَى إلى نَفْسِه، كان هَدْرًا، ولو سَرَى القِصاصُ إلى نَفْسِ الجانى، كان هَدْرًا أيضًا) وقال الشافعىُّ: هى مَضْمُونَةٌ؛ لأنَّها سِرايَة جنَايَةٍ، فكانت مَضْمُونَة، كما لو لم يَقْتَصَّ. ولَنا، الخَبَرُ المذْكورُ، ولأنَّه اسْتَعْجَلَ (¬1) ما لم يكُنْ له اسْتِعْجالُه، فبَطَلَ حَقُّه، كقاتِلِ مَوْرُوثِه، وبهذا فارَقَ مَن لم يَقْتَصَّ. فعلى هذا، لو سَرَى القَطْعانِ جميعًا، فمات الجانِى والمُسْتَوْفِى، فهما هَدْرٌ. وقال أبو حنيفةَ: يجبُ ضَمانُ كُلِّ واحدٍ منهما؛ لأَنَّ سِرايةَ كُلِّ واحدٍ منهما مَضْمُونَةٌ، ثم يتَقاصَّان. وقال الشافعىُّ: إن ماتَ المَجْنِىُّ عليه أوَّلًا، ثم مات الجانِى، كان قِصاصًا به؛ لأنَّه مات مِن سِرايَةِ القَطْعِ، فقد مات بفِعْلِ المَجْنِىِّ عليه. وإن مات ¬

(¬1) في الأصل: «استعمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِى (¬1)، فكذلك في أحَدِ الوَجْهَيْنِ، وفى الآخَرِ، يكونُ مَوْتُ الجانِى هَدْرًا، ولوَلِىِّ المَجْنِىِّ عليه نِصْف الدِّيَةِ. فأمَّا إن سَرَى أحَدُ القَطْعَيْنِ دونَ صاحبِه، فعندَنا هو هَدْرٌ، لا ضَمانَ فيه. وعندَ أبى حنيفةَ، يجبُ ضَمانُ سِرايَتِه. وعندَ الشافِعىِّ، إن سَرَتِ الجِنايَةُ فهى مَضْمُونَةٌ، وإن سَرَى الاسْتِيفاءُ، لم يَجِبْ ضَمانُه. ومَبْنَى ذلك على ما تَقَدَّمَ مِنَ الخِلافِ. فصل: وإنِ انْدَمَلَ جُرْحُ الجِنايةِ، فاقْتَصَّ منه، ثم انْتَقَضَ (¬2) فَسَرَى، فسِرايَتُه مَضْمُونةٌ، وسِرايَةُ الاسْتِيفاءِ غيرُ مَضْمُونةٍ؛ لأنَّه اقْتَصَّ بعدَ جوازِ القِصاصِ. فعلى هذا، لو قطَع يَدَىْ رَجُلٍ فَبَرأَ، فاقْتَصَّ، ثم انْتَقَضَ جُرْحُ المَجْنِىِّ عليه، فمات، فلِوَلِيِّه قَتْلُ الجانِى؛ لأنَّه مات مِن جِنايَتِه. وقال ابنُ أبى موسى: إذا جَرَحَه، فبَرَأَ، ثم انْتَقَضَ، فماتَ، فلا قَوَدَ فيه؛ ولَنا، أنَّ الجِنايةَ لو سَرَتْ إلى النَّفْسِ قبلَ الانْدِمالِ وجَب القِصاصُ، فكذلك بعدَه، وإن عَفا إلى الدِّيَةِ، فلا شئَ له (¬3)، لأنَّه اسْتَوْفَى بالقَطْعِ ما قِيمَتُه دِيَةٌ وهو يَداه، وإن سَرَى الاسْتِيفاءُ، لم يَجِبْ أيضًا شئٌ؛ لأَنَّ القِصاصَ قد سقَط بمَوْتِه، والدِّيَةُ لا يُمْكِنُ إيجابُها؛ لِما ذَكَرْنا. وإن كان المقْطُوعُ بالجِنايةِ يَدًا، فوَلِيُّه بالخِيارِ بينَ القِصاصِ في ¬

(¬1) في تش: «المجنى عليه». (¬2) في الأصل: «اقتص». (¬3) في الأصل: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّفْسِ وبينَ العَفْوِ (¬1) إلى نِصْفِ الدِّيَةِ. ومتى سقَط القِصاصُ بمَوْتِ الجانِى أو غيرِه، وجَب نِصْفُ الدِّيَةِ في تَرِكَةِ الجانِى، أو مالهِ إن كان حَيًّا. فصل: ولو قطَع كِتَابِىٌّ يَدَ مُسْلِمٍ، [فبَرأَ و] (¬2) اقْتَصَّ، ثم انْتَقَضَ جُرْحُ المُسْلِمِ ومات، فلِوَلِيِّه قَتْلُ الكِتابِىِّ والعَفْوُ إلى أَرْشِ الجُرْحِ، وفى قَدْرِه وَجْهان؛ أحدُهما، نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه قد اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدِه بالقِصاصِ، وبَدَلُها نِصْفُ دِيَتِه، فبَقِىَ له نِصْفُها، كما لو كان القاطِعُ مُسْلِمًا. والثانى، له ثَلاثَةُ أرْباعِها؛ لأَنَّ يَدَ اليَهودِىِّ تَعْدِلُ نِصْفَ دِيَتِه، وذلك رُبْعُ دِيَةِ المُسْلِمِ، فقد اسْتَوْفَى رُبْعَ دِيَتِه، وبَقِىَ له ثَلاثةُ أرْباعِها. وإن كان قَطَع يَدَىِ المُسْلِمِ، فاقْتَصَّ منه، ثم مات المسلمُ، فعَفا وَلِيُّه إلى مالٍ، انْبَنَى على الوَجْهَيْنِ. وإن قُلْنا: تُعْتَبَرُ قِيمةُ يَدِ اليَهُودِىِّ. فله ههُنا نِصْفُ الدِّيَةِ. وإن قُلْنا: الاعْتِبارُ بقِيمَةِ يَدِ المسلمِ. فلا شئَ له ههُنا؛ لأنَّه قد اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدَيْه (¬3)، وهما جَمِيعُ دِيَتِه. ولو كان القَطْعُ في يَدَيْه ورِجْلَيْه، فعَفَا إلى الدِّيَةِ، لم يكُنْ له شئٌ، وجْهًا واحدًا؛ لأَنَّ دِيَةَ ذلك دِيَةُ المُسْلِمِ. ولو كان الجانِى امرأةً، فالحُكْمُ على ما ذكَرْنا سَواءً؛ لأَنَّ دِيَتَها نِصْفُ دِيَةِ (¬4) الرَّجُلِ. ¬

(¬1) في الأصل: «القود». (¬2) في الأصل: «فسرى أو». (¬3) في الأصل: «يده». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قطَع يدَ رَجُلٍ [مِن الكُوعِ] (¬1)، ثم قَطَعَها آخَرُ مِن المَرْفِقِ، فمات بسِرايَتِهما، فلِلْوَلِىِّ قَتْلُ القاطِعَيْنِ، وليس له أن يَقْطَعَ طَرَفَيْهِما، في أحدِ الوَجْهَيْنِ. وفى (¬2) الآخَرِ، له قَطْعُ يَدِ القاطِعِ مِنَ الكُوعِ. فإن قَطَعَها، ثم عَفا عنه، فله نِصْفُ الدِّيَةِ، وأمَّا الآخَرُ، فإن كانتْ يَدُه مقْطُوعَة مِن الكُوعِ، فقَطَعَها من المَرْفِقِ، ثم عَفا، فله دِيَةٌ إلَّا قَدْرَ الحُكومةِ في الذِّراعِ. ولو كانت يَدُ القاطعِ مِن المَرْفِقِ صَحِيحةً، لم يَجُزْ قَطْعُها، رِواية واحدةً؛ لأنَّه يأْخُذُ صَحِيحَةً بمَقْطُوعةٍ. وإن قطَع أيْدِيَهما وهما صَحيحَتانِ، أو قطَع رَجُلانِ يَدُيْهِ، فقَطَع أيْدِيَهما، ثم سَرَتِ الجِنايةُ، فمات مِن قَطْعِهما، فليس لوَلِيِّهما العَفْوُ إلى الدِّيَةِ؛ لأنَّه قد اسْتَوْفَى ما قِيمَتُه دِيَةٌ. وإنِ اخْتارَ قَتْلَهما، فله ذلك. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

كتاب الديات

كِتَابُ الدِّيَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الدِّياتِ الأَصْلُ في وُجُوبِ الدِّيَةِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجْماع؛ أمَّا الكتابُ فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬1) الآية. وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى أبو بكرِ بنُ محمدِ ابنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَبَ لعمرِو بنِ حَزْمٍ كِتابًا إلى أَهْلِ اليَمَنِ، فيه الفَرائِضُ والسُّنَنُ والدِّيَاتُ، وقال فيه: «وفى النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ». رَوَاه النَّسَائِىُّ في «سُنَنِه»، ومالكٌ في «مُوَطَّئِهِ» (¬2). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3): وهو كتابٌ مَشْهورٌ عندَ أَهْلِ السِّيَرِ، مَعْروفٌ عندَ أَهْلِ العِلْمِ مَعْرِفَةً يُسْتَغْنَى بشُهْرَتِها عن الإِسْنادِ؛ لأنَّه أشْبَهَ التَّواتُرَ (¬4) في مَجِيئِه في أحاديثَ كثيرةٍ. تأْتِى (¬5) في مواضِعِها مِن البابِ، إن شاءَ اللَّهُ ¬

(¬1) سورة النساء 92. (¬2) أخرجه النسائى، في: باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول. . .، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 52 - 54. والإمام مالك، في: باب ذكر العقول، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 849. كما أخرجه الدارمى، في: باب كم الدية من الإبل، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 193. والحاكم، في: كتاب الزكاة. المستدرك 1/ 397. والبيهقى، في: باب دية النفس، وباب دية أهل الذمة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 73، 100. (¬3) في: التمهيد 17/ 338، 339. (¬4) في تش، ق، م: «المتواتر». (¬5) في تش: «يأتى ذكرها».

4170 - مسألة: (كل من أتلف إنسانا أو جزءا منه، بمباشرة أو سبب، فعليه ديته)

كُلُّ مَنْ أَتْلفَ إِنْسَانًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ سَبَبٍ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا، فَهِىَ في مَالِ الْجَانِى حَالَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى. وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على وُجُوب الدِّيَةِ في الجُمْلَةِ. [وسيَأْتِى ذلك مُفَصَّلًا في مواضِعِه مُبَيَّنًا، إن شاءَ اللَّهُ تعالى] (¬1). 4170 - مسألة: (كُلُّ مَن أَتْلَفَ إنْسَانًا أو جُزءًا منه، بمُباشَرَةٍ أو سَبَبٍ، فعليه دِيَتُه) سَواءٌ كان مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا، أو مُسْتَأْمِنًا أو مُهَادِنًا؛ لِما ذكَرْنا مِن الآيةِ، وفيها: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}. وعَبَّرَ عن الذِّمَّةِ بالمِيثاقِ، وحديثِ أبى بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْم، حينَ كَتَبَ له النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتابًا إلى أَهْلِ اليَمَنِ، ذكرَ فيه الدِّياتِ، وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على ذلك في الجملةِ. 4171 - مسألة: (فَإنْ كان) القَتْلُ (عَمْدًا مَحْضًا، فهى في مالِ الجانى حَالَّةً) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ دِيَةَ العَمْدِ تَجِبُ في مالِ القاتلِ، لا تَحْمِلُها العاقِلةُ. وهذا يَقْتَضِيه الأصْلُ، وهو أنَّ بَدَلَ المُتْلَفِ يَجِبُ على المُتْلِفِ، وأَرْشَ الجِنايةِ على الجانِى، قال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَجْنِى جَانٍ إلَّا على نَفْسِه» (¬2). وقال لبعضِ أصْحابِه، حينَ رأى معَه ولَدَه: «ابْنُكَ ¬

(¬1) زيادة من: تش، ر 3. (¬2) تقدم تخريجه في 19/ 314.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذَا؟». قال: نعم. قال: «أمَا إنَّهُ لا يَجْنِى عليك، ولا تَجْنِى عليه» (¬1). ولأَنَّ مُوجَبَ الجنايةِ أَثَرُ فِعْلِ الجانى، فيجِبُ أن يَخْتَصَّ بضَرَرِها، كما يَخْتَصُّ بنَفْعِها، فإنَّه لو كَسَب كان كَسْبُه لغيرِه، وقد ثَبَت حُكمُ ذلك في سائرِ الجِناياتِ والأكْسابِ، وإنَّما خُولِفَ هذا الأصْلُ في قَتْلِ الحُرِّ المَعْذُورِ فيه، لكَثْرةِ الواجِبِ، وعَجْزِ الجانِى في الغالِبِ عن تَحَمُّلِه، مع وُجُوبِ الكَفّارَةِ عليه، وقِيامِ عُذْرِه، تَخْفِيفًا عنه (¬2)، ورِفْقًا به، والعامِدُ لا عُذْرَ له، فلا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، ولا يُوجَدُ فيه المعنى المُقْتَضِى للمُواساةِ في الخَطَأ. إذا ثبَت هذا، فإنَّها تَجِبُ حالَّةً. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَجِبُ في ثَلاثِ سِنِينَ؛ لأنَّها دِيَةُ آدَمِىٍّ، فكانتْ مُؤَجَّلَةً، كدِيَةِ شِبْهِ العَمْدِ. ولَنا، أنَّ ما وجَب بالعَمْدِ المَحْضِ كان حالًّا، كالقِصاصِ وأَرْشِ أطْرافِ العَبْدِ، ولا يُشْبِهُ شِبْهَ (¬3) العَمْدِ؛ لأَنَّ القاتِلَ مَعْذُورٌ، لكَوْنِه لم يَقْصِدِ القَتْلَ، وإنَّما أفْضَى إليه مِن غيرِ اخْتِيارٍ منه، فأشْبَهَ الخَطَأ، ولهذا تَحْمِلُه العاقِلَةُ، ولأَنَّ القَصْدَ (¬4) التَّخْفِيفُ عن العاقلةِ الذين لم يَصْدُرْ منهم جِنايةٌ، وحَمَلُوا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الخضاب، من كتاب الترجل، وفى: باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 403، 477. والنسائى، في: باب هل يؤخذ أحد بجريرة غيره، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 47. والدارمى، في: باب لا يؤخذ أحد بجناية غيره، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 199. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 226 - 228. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «القصاص».

4172 - مسألة: (وإن كان شبه عمد، أو خطأ، أو ما جرى مجراه، فعلى عاقلته)

وَإِنْ كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ، أو خَطَأً، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أداءَ مالٍ مُواساةً، فَلاقَ بحالِهم التَّخْفِيفُ عنهم، وهذا مَوْجُودٌ في الخَطَأ وشِبْهِ العَمْدِ على السَّواءِ، وأمَّا العَمْدُ، فإنَّما يَحْمِلُه الجانِى في غيرِ حالِ العُذْرِ، نرَجَبَ أن [يكونَ مُلْحَقًا ببَدَلِ] (¬1) سائرِ المُتْلَفاتِ، ويُتَصَوَّرُ الخِلافُ معه، فيما إذا قَتَلَ ابْنَه، أو قَتَلَ أجْنَبِيًّا، وتَعَذَّرَ اسْتِيفاءُ القِصاصِ لعَفْوِ بعْضِهم، أو غيرِ ذلك. 4172 - مسألة: (وإن كان شِبْهَ عَمْدٍ، أو خَطَأً، أو ما جَرَى مَجْراهُ، فعلى عاقِلَتِه) دِيَة شِبْهِ العَمْدِ على العاقلةِ، في ظاهرِ المذهبِ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ سِيرِينَ، والزُّهْرىُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وقَتادةُ، وأبو ثَوْرٍ: هى على القاتِلِ في مالِه. واخْتارَه أبو بكرٍ عبدُ العَزيزِ؛ لأنَّها مُوحبُ فِعْلٍ قَصَدَه، فلم تَحْمِلْه العاقِلَةُ، كالعَمْدِ المَحْضِ، ولأنَّها دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فأشْبَهَتْ دِيةَ العَمْدِ. وهكذا يجبُ أن يكونَ مذهبُ مالكٍ؛ لأَنَّ شِبْهَ العَمْدِ عندَه مِن بابِ العَمْدِ. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: اقْتَتَلَتِ امْرأتانِ مِن هُذَيْلٍ، فرَمَتْ إحْداهُما الأُخرَى بحَجَرٍ، فقَتَلَتْها وما في بَطْنِها، فقَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّه نَوْعُ قَتْلٍ لا يُوجِبُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِصاصًا، فوَجَبَتْ دِيَتُه على العاقِلَةِ، كالخَطَأُ، ويُخالِفُ العَمْدَ المَحْضَ (¬1)؛ لأنَّه يُغَلَّظُ مِن كلِّ وَجْهٍ، لقَصْدِه الفِعْلَ، وإرادَتِه القَتْلَ، وعَمْدُ الخَطَأُ يُغلَّظُ مِن وَجْهٍ، وهو قَصْدُه الفِعْلَ، [ويُخَفَّفُ] (¬2) مِن وَجْهٍ، وهو كَوْنُه لم يُرِدِ القَتْلَ، فاقْتَضَى تَغْلِيظَها مِن وَجْهٍ وهو الأسْنانُ، وتَخْفِيفَها مِن وَجْهٍ وهو حَمْلُ العاقِلَةِ لها وتَأْجِيلُها. ولا نعلمُ في (¬3) أنَّها تَجِبُ مُؤجَّلَةً خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعَلىٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادةُ، وأبو هاشمٍ، وعُبَيْدُ اللَّه بِنُ عمرَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقد حُكِى عن قَوْم مِن الخَوارِجِ، أنَّهم قالوا: الدِّيَةُ حالَّةٌ؛ لأنَّها بَدَلُ مُتْلَفٍ. ولم يُنْقَلْ إلينا ذلك عمَّن يُعَدُّ خِلافُه خِلافًا. وتُخالِفُ الدِّيَةُ سائرَ المُتْلَفاتِ؛ لأنَّها تَجِبُ على غيرِ الجانِى على سبيلِ المُواساةِ له، فاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ تَخْفِيفَها عليهم، وقد رُوِى عن عمرَ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهما قَضَيا بالدِّيَةِ على العاقِلَةِ في ثلاثِ سِنِينَ (¬4). ولا مُخالِفَ لهما في عَصْرِهما، فكان إجْماعًا. وأمَّا دِيَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ويجب». وفى تش: «ويحف». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البيهقى عن عمر وعلى، في: باب تنجيم الدية على العاقلة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 109، 110. وأخرجه عبد الرزاق عن عمر، في: باب في كم تؤخذ الدية، من كتاب العقول. المصنف 9/ 420. وابن أبى شيبة، في: باب الدية في كم تؤدى، من كتاب الديات. المصنف 9/ 284.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَطَأَ، فلا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّها على العاقِلَةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ على هذا كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه بِن أهلِ العلمِ، وقد ثَبَتَتِ الأخْبارُ عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قَضَى بدِيَةِ الخَطأُ على العاقِلَةِ، وأَجْمَعَ أهْلُ العلمِ على القولِ به. ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَلَ دِيَةَ عَمْدِ الخَطأُ على العاقِلَةِ، بما قد رَوَينا من الحدِيثِ، وفيه تَنْبِيهٌ على أنَّ العاقِلَةَ تَحْمِلُ دِيَةَ (¬2) الخَطَأُ. والحِكْمَةُ في ذلك أنَّ جِناياتِ الخَطأَ تَكْثُرُ، ودِيةَ الآدَمِىِّ كثيرةٌ، فإيجابُها على الجانِى في مالِه يُجْحِفُ به، فاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ إيجابَها على العاقِلَةِ، على سبيلِ المُواساةِ للقاتلِ، والإعانةِ له، تَخْفِيفًا عنه، إذ (¬3) كان مَعْذُورًا في فِعْلِه. فصل: فأمَّا الكَفَّارةُ، ففى مالِ القاتلِ لا يَدْخُلُها تَحَمُّلٌ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: تكونُ في بَيْتِ المالِ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّها تَكْثرُ، فإيجابُها عليه يُجْحِفُ به. ولَنا، أنَّها كَفَّارة، فاخْتَصَّتْ بمَن وُجِدَ منه سَبَبُها، كسائِرِ الكَفَّاراتِ، وكما لو كانت صَوْمًا. ولأَنَّ الكَفَّارةَ شُرِعَتْ للتَّكْفِيرِ عن الجانِى، ولا يُكَفَّرُ عنه بفِعْلِ غيرِه، وتُفارِقُ الدِّيَةَ، فإنَّها إنَّما شُرِعَتْ لجَبْرِ المَحَلِّ، وذلك يحْصُلُ بها كيْفما كان. ولأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا قَضَى بالدِّيَةِ على العاقِلَةِ، لم يُكَفِّرْ عن القاتِلَةِ (¬4). وما ذكَرُوه ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 127، الإجماع 74. (¬2) بعده في تش: «عمد». (¬3) في م: «إذا». (¬4) في تش: «العاقلة» وانظر ما تقدم تخريجه في صفحة 38.

4173 - مسألة: (ولو ألقى على إنسان أفعى، أو ألقاه عليها،

وَلَوْ أَلْقَى عَلَى إِنْسَانٍ أَفْعًى، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَيْها، فَقَتَلَتْهُ، أَوْ طَلَبَ إِنْسَانًا ـــــــــــــــــــــــــــــ لا أصْلَ له، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الدِّيَةِ لوُجُوهٍ؛ أحدُها، أنَّ الدِّيَةَ لم تجبْ في بيتِ المالِ، إنَّما وجَبَتْ على العاقِلَةِ، ولا يَجُوزُ أن يَثْبُتَ حُكْمُ الفَرْعِ مُخالِفًا لحُكْمِ الأَصْلِ. الثانى، أنَّ الدِّيَةَ كثيرةٌ، فإيجابُها على القاتل يُجْحِفُ به، والكَفَّارةُ بخِلافِها. الثالثُ، أنَّ الدِّيَةَ وجَبَتْ مُواساةً للقاتلِ، وجُعِلَ حَظُّ القاتلِ مِن الواجِبِ الكَفَّارةَ، فإيجابُها على غيرِه يقْطَعُ المُواساةَ، ويُوجِبُ على غيرِ (¬1) الجانِى أكْثَرَ ممَّا وجَبَ عليه، وهذا لا يجوزُ. فصل: ولا يَلْزَمُ القاتِلَ شئٌ مِن دِيَةِ الخَطَأْ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: هو كواحدٍ مِن العاقِلَةِ؛ لأنَّها وجَبَتْ عليهم إعانةً له، فلا يَزِيدُونَ عليه فيها. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها. مُتَّفقٌ عليه (¬2). وهذا يَقْتَضِى أنَّه قَضَى عليهم بجمِيعِها، ولأنَّه قاتِلٌ لم تَلْزَمْه الدِّيَةُ، فلم يَلْزَمْه بعْضُها، كما لو أمَرَه الإِمامُ بقَتْلِ رَجُلٍ، فقَتَلَه يَعْتَقِدُ أنَّه بحَقٍّ، فبان مَظْلُومًا. ولأَنَّ الكَفَّارةَ تَلْزَمُ القاتِلَ في مالِه، وذلك يَعْدِلُ قِسْطَه مِن الدِّيَةِ وأكثرَ منه، فلا حاجَةَ إلى إيجابِ شئٍ مِن الدِّيَةِ عليه. 4173 - مسألة: (ولو ألْقَى على إنْسَانٍ أَفْعًى، أو أَلْقاه عليها، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 38.

4174 - مسألة: فإن طلب إنسانا بسيف مشهور

بِسَيْفٍ مُجَرَّدٍ فَهَرَبَ، فَوَقَعَ فِى شَىْءٍ تَلِفَ به، بَصِيرًا كَانَ أَوْ ضَرِيرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا في فِنَائِهِ، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا، أَوْ صَبَّ مَاءً فِى طَرِيقٍ، أَوْ بَالَتْ فِيها دَابَّتُهُ وَيَدُهُ عَلَيْهَا، أَوْ رَمَى قِشْرَ بِطِّيخٍ فِيها، فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقَتَلَتْهُ، أو طلَب إنسانًا بسيْفٍ مُجَرَّدٍ، فَهَرَبَ، فَوَقَعَ في شَىْءٍ تَلِفَ به، بَصِيرًا كان أو ضَرِيرًا، أو حفرَ بِئْرًا في فنائِه، أو وضَع حَجَرًا، أو صَبَّ ماءً في طَرِيقٍ، أو بالَتْ فيها دَابَّتُهُ ويدُه عليها، أو رَمَى قِشْرَ بِطِّيخٍ فيها فَتَلِفَ به إنْسانٌ، وَجَبَتْ عليه دِيَتُه) يجبُ الضَّمانُ بالسَّبَبِ كما يجبُ بالمُباشَرَةِ، فإذا ألْقَى إنْسانًا على أفْعَى، أو ألْقاها عليه، فقَتَلَتْه، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه تَلِفَ بعُدْوانِه، فأشْبَهَ ما لو جَنَى عليه. 4174 - مسألة: فإن طلَب إنسانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ، فَهَرَبَ منه، فَتَلِفَ في هَرَبِه، ضَمِنَه، سواءٌ سقَط مِن شاهِقٍ، أو انْخَسَفَ به سَقْفٌ، أو خَرَّ في بِئْرٍ، أو لَقِيَه سَبُعٌ فافْتَرَسَه، أو غَرِقَ في ماءٍ، أو احْتَرَقَ بنارٍ، وسواءٌ كان المطْلُوبُ صَغِيرًا أو كبيرًا، أعْمَى أو بَصِيرًا، عاقِلًا أو مجْنُونًا. وقال الشافعىُّ: لا يَضْمَنُ البالِغَ العاقِلَ البَصِيرَ. إلَّا أن ينْخَسِفَ به سَقْفٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ (¬1) فيه وفى الصَّغِيرِ والمجْنُونِ والأعْمَى قوليْن؛ لأنَّه هلَك بفِعْلِ نَفْسِه، فلم يَضْمَنْه الطالِبُ، كما لو لم يَطْلُبْه. ولَنا، أنَّه هلَك بسَبَبِ عُدْوانِه، فضَمِنَه، كما لو حفَر له بِئْرًا، أو نصَب له سِكِّينًا، أو سَمَّ طَعامَه ووَضَعَه. وما ذكَرَه (¬2) يَبْطُلُ بهذه الأصُولِ. وإن طَلَبَه بشئٍ يُخِيفه به، كاللُّتِّ (¬3) ونحوِه، فهو كما لو طَلَبَه بسَيْف مَشْهُورٍ؛ لأنَّه في مَعْناه. فصل: ولو شَهَرَ سَيْفًا في وَجْهِ إنْسانٍ، أو دَلَّاهُ مِن شاهِقٍ، فمات مِن رَوْعَتِه، أو ذهب عَقْلُه، فعليه دِيَتُه. فإن صاحَ بصَبِىٍّ أو مَجْنُونٍ صَيْحةً شديدةً، فخَرَّ مِن سَطْحٍ أو نحوِه، فمات، أو ذهب عَقْلُه، أو تَغَفَّلَ عاقِلًا فصاحَ به، فأصَابَه ذلك، فعليه دِيَتُه، تَحْمِلُها العاقِلَةُ. فإن تَعَمَّدَ ذلك، فهو شِبْهُ عَمْدٍ، وإلَّا فهو خَطَأٌ. ووافَقَ الشافعىُّ في الصَّبِىِّ، وله في البالِغِ قَوْلانِ. ولَنا، أنَّه تَسَبَّبَ إلى إتْلافِه، فضَمِنَه، كالصَّبِىِّ (¬4). فصل: وإن قَدَّمَ إنْسانًا إلى هَدَفٍ يَرْمِيه الناسُ، فأصَابَه سَهْمٌ مِن غيرِ تَعَمُّدٍ، فضَمانُه على عاقلةِ الذى قدَّمه؛ لأَنَّ الرَّامِىَ كالحافرِ، والذى قَدَّمَه كالدَّافِعِ، فكان الضَّمانُ على عاقلَتِه. وإن عَمَدَ الرَّامِى رَمْيَه، فالضَّمانُ ¬

(¬1) في الأصل: «قال». (¬2) في م: «ذكروه». (¬3) في م: «كالكلب». (¬4) سقط من: الأصل، تش.

4175 - مسألة: وإن حفر فى فنائه بئرا لنفسه، أو فى طريق لغير مصلحة المسلمين، أو فى ملك غيره بغير إذنه، أو وضع فى ذلك حجرا، أو صب فيه ماء، أو رمى قشر بطيخ فهلك به إنسان، ضمنه؛ لأنه تلف بعدوانه. وروى عن شريح أنه ضمن رجلا حفر بئرا، فوقع فيها رجل فمات. وروى ذلك (1)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه؛ لأنَّه باشَرَ، وذاك مُتَسَبِّبٌ، فأَشْبَهَ المُمْسِكَ والقاتِلَ. وإن لم يُقَدِّمْه أحَدٌ، فالضَّمانُ على الرَّامِى، وتَحْمِلُه عاقِلته إن كان خَطَأً؛ لأنَّه قَتَلَه. 4175 - مسألة: وإن حفَر في فِنائِه بِئْرًا لنفسِه، أو في طَرِيقٍ لغيرِ مَصْلَحَةِ المُسْلِمِينَ، أو في مِلْكِ غيرِه بغيرِ إذْنِه، أو وضَع فِى ذَلِكَ حَجَرًا، أو صَبَّ فيه مَاءً، أو رَمَى قِشْرَ بِطِّيخٍ فَهَلَكَ به إنسانٌ، ضَمِنَه؛ لأنَّه تَلِفَ بِعُدْوَانِه. ورُوِىَ عن شُرَيْحٍ أنَّه ضَمَّنَ رَجُلًا حَفَر بِئْرًا، فوقَعَ فيها رَجُلٌ فمات. ورُوِىَ ذلك (1) عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. 4176 - مسألة: وإن بالتْ فيها دَابَّتُه، فَزَلَقَ به حَيوانٌ، فماتَ

4177 - مسألة: (وإن حفر بئرا، ووضع آخر حجرا)

وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا، وَوَضَعَ آخَرُ حَجَرًا، فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ، فَوَقَعَ في الْبِئْرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ به، فقال أَصْحابُنا: على صاحبِ الدَّابَّةِ الضَّمَانُ، إذا كان راكِبًا، أو قَائِدًا، أو سائِقًا؛ لأنَّه تَلَفٌ حصَل مِن جِهةِ دَابَّتِه التى يَدُه عليها، فأَشْبَهَ ما لو جَنَتْ بيَدِها أو فَمِها. وقِياسُ المذهبِ، أنَّه لا يَضْمَنُ ما تَلِفَ بذلك؛ لأنَّه لا يدَ له على ذلك، ولا (1) يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، فهو كما لو أتْلَفَتْ برِجْلِها، ويُفارِقُ ما إذا أَتْلَفَت بِيَدِها أو فَمِها؛ لأنَّه يُمْكِنُه حِفْظُهُما. 4177 - مسألة: (وإن حفَر بِئْرًا، وَوَضَعَ آخَرُ حَجَرًا) أو نصَب سِكِّينًا، فَعَثَرَ بِالْحَجَرِ (فوَقَعَ في البِئْرِ) أو عَلَى (¬1) السِّكِّينِ (فَالضَّمَانُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على واضعِ الحَجَرِ) ونَاصِبِ السِّكِّينِ دُونَ الحَافِرِ؛ لأَنَّ الحَجَرَ كالدَّافِعِ له، وإذا اجْتَمَعَ الحافرُ والدَّافِعُ، فالضَّمَانُ على الدَّافِعِ وحدَه. وبهذا قال الشافعىُّ. ولو وَضعَ رَجُلٌ حَجَرًا، ثم حَفَرَ آخَرُ عندَه (¬1) بِئْرًا، أو نصَب سِكِّينًا، فعَثَرَ بالحَجَرِ، فسَقَطَ عليهما، فهَلَكَ، احْتَمَلَ أن يكونَ الحُكمُ كذلك؛ لِما ذكَرْنا. واحْتَمَلَ أن يضْمَنَ الحافِرُ وناصبُ السِّكِّينِ؛ لأَنَّ فِعْلَهُما مُتَأَخِّرٌ عن فِعْلِه، فأَشْبَهَ ما لو كان زِقٌّ فيه مائِعٌ وهو واقِفٌ، فحَلَّ وِكاءَه إنْسانٌ وأمالَه آخَرُ، فسألَ ما فيه، كان الضَّمانُ على الآخِرِ منهما. وإن وضَع إنْسانٌ حَجَرًا أو حَدِيدةً في مِلْكِه، أو حَفَرَ فيه بئْرًا، فدَخَلَ إنْسانٌ بغيرِ إذْنِه، فهَلَكَ به، فلا ضَمانَ على المالِكِ؛ لأَنَّه لم يتَعَدَّ (¬2)، وإنَّما الدَّاخِلُ هلَكَ بعُدْوانِ نَفْسِه، وإن وضَع حَجَرًا في مِلْكِه، ونصَب أجْنَبِىٌّ فيه سِكِّينًا، أو حفَر بِئْرًا بغيرِ إذْنِه، فعَثَرَ رَجُلٌ بالحَجَرِ، فوَقَعَ على السِّكِّينِ أو في البِئرِ، فالضَّمانُ على الحافرِ وناصِبِ السِّكِّينِ لتَعَدِّيهِا، إذ لم يتَعَلَّقِ الضَّمانُ بواضِعِ الحَجَرٍ؛ لانْتِفاءِ عُدْوانِه. وإنِ اشْتَرَكَ جماعةٌ في عُدْوانٍ تَلِفَ به شئٌ، فالضَّمانُ عليهم، فلو وضَع اثْنانِ ¬

(¬1) في الأصل: «غير». (¬2) في الأصل، تش: «يتعمد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَجَرًا، وواحِدٌ حَجَرًا، فعَثَرَ بهما إنْسانٌ، فهَلَكَ، فالدِّيَةُ كل عَواقِلِهم أثْلَاثًا، في قِياسِ المذهبِ. وهو قولُ أبى يوسفَ؛ لأَنَّ السَّبَبَ حصَل مِن الثَّلاثةِ أثْلاثًا، فوَجَبَ الضَّمانُ عليهم سواءً وإنِ اختَلَفَتْ أفْعالُهم، كما لو جَرَحَه واحدٌ جُرْحَيْنِ، وجَرَحَه اثْنانِ جُرْحَيْنِ، فمات بها (¬1). وقال زُفَرُ: على الاثْنَين النِّصْفُ، وعلى واضِعِ الحجَرِ وحدَه النِّصْفُ؛ لأَنَّ فِعْلَه مُساوٍ لفِعْلِهما. وإن حفَر إنْسانٌ بِئرًا، ونصَب آخَرُ فيها سِكِّينًا، فوَقَع إنسانٌ في البئرِ على السِّكِّينِ، فماتَ، فقال ابنُ حامدٍ: الضَّمانُ على الحافرِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ الدَّافعِ. وهذا قِياس المسائِلِ التى قَبلَها. ونَصَّ أحمدُ على أنَّ الضَّمانَ عليهما. قال أبو بكرٍ: لأنَّهما في مَعْنىِ المُمْسِكِ والقاتلِ، الحافرُ كالمُمْسكِ، وناصِبُ السِّكِّينِ كالقاتلِ. فيُخرَّجُ مِن هذا أَنْ يَجِبَ الضَّمانُ كل جميعِ المُتَسَبِّبِينَ في المسائلِ السَّابقةِ. فصل: وإن حفَر بِئرًا في مِلْكِ نَفْسِه، أو في ملكِ غيرِه بإذْنِه، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه غيرُ مُتَعَدٍّ. وكذلك إن حَفَرَها في مَواتٍ، أو وضَع حَجَرًا، أو نصبَ شَرَكًا، أو شَبَكَةً، أو مِنْجَلًا، ليَصِيدَ بها؛ لأنَّه لم يَتَعَدَّ بذلك. وإن فَعَلَ شيئًا مِن ذلك في طَريقٍ ضَيِّقٍ، فعليه ضَمانُ ما تلف به؛ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «بهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مُتَعَدٍّ. وسَواءٌ أذِنَ له الإِمامُ أو لم يَأْذَنْ؛ لأنَّه ليس للإمامِ أن يَأْذَنَ فيما يَضُرُّ بالمُسلمينَ، ولو فَعَلَ ذلك الإِمامُ لَضَمِنَ ما يَتْلَفُ به. فإن كان الطَّريقُ واسِعًا، فحَفَرَ في مكانٍ منها يَضُرُّ بالمُسْلِمينَ، ضَمِنَ. وإن حفَر في مكانٍ لا يَضُرُّ بالمسلمينَ، وكان حَفَرَها لنَفْسِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ بها، سواءٌ حَفَرَ بها بإذْنِ الإِمامِ أو بغيرِ إذْنِه. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: إن حَفَرَها بإذْنِ الإمام، لم يَضْمَنْ؛ لأَنَّ للإمام أن يَأْذَنَ في الانْتِفاعِ بما لا ضَرَرَ فيه، بدَليلِ أنَّه يجوزُ أن يأْذَنَ في القُعُودِ فَيه، ويُقْطِعَه لمن يَبِيعُ (¬1) فيه. ولَنا، أنَّه تَلِفَ بحَفْرٍ حَفَرَه في حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، بغيرِ إذْنِ أهْلِه، لغيرِ مَصْلَحَتِهم، فضَمِنَ، كما لو لم يَأْذَنِ الإِمامُ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ للإِمام أن يَأْذَنَ في هذا، وإنَّما يَأْذَن في القُعُودِ؛ لأَنَّ ذلك لا يَدُومُ، ويُمْكِنُ إِزالَتُه في الحالِ، فأَشْبَهَ القُعُودَ في المَسْجِدِ، ولأَنَّ القُعُودَ جائزٌ مِن غيرِ إذْنِ الإِمامِ، بخِلافِ (¬2) الحَفْرِ. فصل: وإن حفَر بِئرًا في مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بينَه وبينَ غيرِه، بغيرِ إذْنِه، ضَمِنَ ما تَلِفَ به جَمِيعَه. وهذا قِياسُ مذهبِ الشافعىِّ. وقال [أبو حنيفةَ] (¬3): يَضْمَنُ ما قابَلَ نَصِيبَ شَرِيكِه، فلو كان له شَرِيكان، ضَمِنَ ¬

(¬1) في م: «يبتاع». (¬2) في النسخ: «فكذلك». والمثبت كما في المغنى 12/ 90. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثُلُثَى التَّالِفِ؛ لأنَّه تَعَدَّى في نَصِيبِ شَرِيكَيْه (¬1). وقال أبو يوسفَ: عليه نِصْفُ الضَّمانِ؛ لأنَّه تَلِفَ بجِهَتَيْنِ، فكان الضَّمانُ نِصْفَيْنِ، كما لو جَرَحَه أحَدُهما جُرْحًا، وجَرَحَه الآخَرُ جُرْحَيْنِ. ولَنا، أنَّه مُتَعَدٍّ بالحَفْرِ، فضَمِنَ الواقعَ فيها (¬2)، كما لو كان في ملْكِ غيرِه، والشَّرِكَةُ أوْجَبَ تَعَدِّيَهُ لجميعِ الحَفْرِ، فكان مُوجِبًا لجميعِ الضَّمانِ. ويَبْطُلُ ما ذكَرَه أبو يوسفَ بما لو حَفَرَه في طرِيقٍ مُشْتَرَكٍ، فإنَّ له فيها حَقًّا، ومع ذلك يَضْمَنُ الجميعَ. والحُكمُ فيما إذا أذِنَ له بعْضُ الشُّرَكاءِ في الحَفْرِ دُونَ بعْضٍ، كالحُكْمِ فيما إذا حفَر في مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بينَه وبينَ غيرِه؛ لكَوْنِه لا يُباحُ الحَفْرُ ولا التَّصَرُّفُ حتى يَأْذَنَ الجميعُ. فصل: وإن حفَر إنْسانٌ في مِلْكِه بِئرًا، فوَقِعَ فيها إنسانٌ أو دابةٌ، فهَلَكَ به، وكان الدَّاخِلُ دخَل بغيرِ إذْنِه، فلا ضَمان على الحافرِ؛ لأنَّه لا عُدْوانَ منه. وإن دخَل بإذْنِه، والبِئْرُ ظاهِرَةٌ مَكْشُوفَةٌ، والدَّاخِلُ بَصِيرٌ يُبْصِرُها، فلا ضَمانَ أيضًا؛ لأَنَّ الواقِعَ هو الذى أهْلَكَ نفسَه، فأشبَة ما لو قدَّم إليه سِكِّينًا، فقَتَلَ بها نفسَه، وإن كان الدَّاخِلُ أعْمَى، أو كانت في ظُلْمَةٍ لا يُبْصِرُها الدَّاخِلُ، أو غَطَّى رَأْسَها، فلم يَعْلَمِ الدَّاخِلُ حتى وقَع فيها، ضَمِنَه. وبهذا قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ. وهو أحَدُ الوَجْهينِ لأصْحابِ الشافعىِّ. وقالوا في الآخَرِ: لا (¬3) ¬

(¬1) في الأصل، م: «شريكه». (¬2) في الأصل: «فهما». (¬3) سقط من: الأصل.

4178 - مسألة: (وإن غصب صغيرا، فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، ففيه الدية)

وَإِنْ غَصَبَ صَغِيرًا، فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ مَاتَ بِمَرَضٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يضْمَنُه؛ لأنَّه هلَك بفِعْلِ نفسِه. ولَنا، أنَّه تَلِفَ بسَبَبِه، فضَمِنَه، كما لو قدَّم له طَعامًا مَسْمُومًا فأكَلَه، وبهذا يَنْتَقِضُ ما ذكَرُوه. وإنِ اخْتْلَفَا، فقال صاحبُ الدَّارِ: ما أذِنْتُ لك في الدُّخولِ. وادَّعَى ولِىُّ الهالِكِ أنَّه أَذِنَ له، فالقَوْلُ قولُ المالكِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. وإن قال: كانت مَكْشُوفَةً. وقال الآخَرُ: كانت مُغَطَّاةً. فالقولُ قولُ وَلِىِّ الواقعِ؛ لأَنَّ الظّاهِرَ معه، فإنَّ الظّاهرَ أنَّها لو كانت مَكْشُوفَةً لم يَسْقُطْ فيها. ويَحْتَمِلُ أنَّ القولَ قولُ المالكِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ ذمَّتِه، فلا تَشْتَغِلُ بالشَّكِّ. 4178 - مسألة: (وإن غصَب صًغِيرًا، فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أو أصابَتْه صاعِقَةٌ، ففيه الدِّيَةُ) لأنَّه تَلِفَ في يَدِه العادِيَةِ (وإن مات بمَرَضٍ، فعلِى وَجْهَيْنِ) أحدُهما، يَضْمَنُه، كالعَبْدِ الصغيرِ. والثانى، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه

4179 - مسألة: (وإن اصطدم نفسان، فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر)

وَإِنِ اصْطَدَمَ نَفْسَانِ، فَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حُرٌّ، لا تَثْبُتُ اليَدُ عليه في الغَصْبِ، أشْبَهَ الكبيرَ. 4179 - مسألة: (وإنِ اصْطَدَمَ نَفْسانِ، فَماتَا، فعلى عاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهما دِيَةُ الآخَرِ) رُوِى هذا عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ولا يجبُ القِصاصُ، سواءٌ كان اصْطِدامُهما عمْدًا أو خَطأً؛ لأَنَّ الصَّدْمَةَ لا تَقْتُلُ غالِبًا، فالقَتْلُ الحاصِلُ بها مع العَمْدِ عَمْدُ الخَطَأ. ولا فَرْقَ بينَ البَصيرَيْنِ،

4180 - مسألة: (وإن كانا راكبين، فماتت الدابتان، فعلى كل

وَإِنْ كَانَا رَاكِبَيْنِ، فَمَاتَتِ الدَّابَّتَانِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةُ دَابَّةِ الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعْمَيَيْنِ، والبَصِيرِ والأعْمَى، فإن كانا (¬1) امرأتَيْنِ حامِلَتَيْنِ، فهما كالرَّجُلَيْنِ. فإن أسْقَطَتْ كلُّ واحدةٍ منهما جَنِينًا، فعلى كُلِّ واحدةٍ نِصْفُ ضَمانِ جَنِيِنها ونِصْفُ ضَمانِ جَنِينِ (¬2) صاحِبَتِها؛ لأنَّهما اشْتَرَكَتا في قَتْلِه، وعلى كلِّ واحدةٍ منهما عِتْقُ ثلاثِ رِقَابٍ؛ واحِدَةٌ لقَتْلِ صاحِبَتِها، واثْنَتانِ لمُشَارَكَتِها في الجَنِينَيْن. فإن أسْقَطَتْ إحداهُما دُونَ الأُخْرَى، اشْتَرَكَتا في ضَمانِه، وعلى كلِّ واحدةٍ منهما عِتْقُ رقَبَتَيْنِ. وإنِ اصْطَدَمَ راكبٌ وماشٍ، فهو كما لو كانا ماشِيَيْنِ. وإنِ اصْطَدَمَ راكبانِ فماتا، فهو كما لو كانا ماشِيَيْنِ. 4180 - مسألة: (وإن كانا رَاكِبَيْنِ، فماتتِ الدَّابَّتانِ، فعلى كُلِّ ¬

(¬1) في م: «كان». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدٍ مِنهما قِيمَةُ دابَّةِ الآخَرِ) وجملةُ ذلك، أنَّ على كلِّ واحدٍ مِن المُصْطَدِمَيْن. ضَمانَ ما تلِف مِن الآخَرِ، مِن نَفْسٍ أو دَابَّةٍ أو مالٍ. سواءٌ كانتِ الدَّابَّتانِ فَرَسَيْنِ، أو بَغْلَيْنِ، أو حِمارَيْنِ، أو جَمَلَيْنِ، أو كان أحَدُهما فَرَسًا والآخرُ غيرَه، مُقْبِلَيْنِ كانا أو مُدْبِرَيْنِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وصاحِباه، وإسْحاقُ. وِقال مالِكٌ، والشافِعِىُّ: على كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ قِيمَةِ ما تَلِفَ مِن الآخرِ؛ لأَنَّ التَّلَفَ حصَل بفِعْلِهِما، فكان الضَّمانُ منْقَسِمًا عليهما، كما لو جَرَحَ إنْسانٌ نفسَه، وجَرَحَه غيرُه، فماتَ منهما. ولَنا، أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مات مِن صَدْمَةِ صاحبِه، وإنَّما هو قَرَّبَها إلى مَحَلِّ الجِنايَةِ، فلَزِمَ الآخَرَ ضَمَانُها، كما لو كانت [واقِفَة، بخِلافِ الجِراحَةِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ قِيمَةَ الدَّابَّتَيْنِ إن تَساوَتا، تَقَاصَّتَا وَسَقَطَتَا، وإن كانت] (¬1) إحداهُما أكثرَ (¬2) مِنَ الأُخْرَى، فلِصاحبِها الزِّيادَةُ، وإن ماتتْ إحدى الدَّابَّتَيْنِ، فعلى الآخَرِ قِيمَتُها، وإن نَقَصَتْ، فعليه نَقْصُها. فإن كان أحَدُهما يَسِيرُ بينَ يَدَىِ الآخَرِ، فأدْرَكَه الثانى فصَدَمَه، فماتتِ الدَّابَّتانِ أو إحْداهما، فالضَّمانُ على اللَّاحِقِ، لأنَّه الصَّادِمُ والآخَرُ مَصْدُومٌ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «أكبر».

4181 - مسألة: (إلا أن يكون أحدهما يسير، والآخر واقفا، فعلى السائر ضمان الواقف ودابته)

وَإِنْ كَانَ أحَدُهُمَا يَسِيرُ، وَالْآخَرُ واقِفًا، فَعَلَى السَّائِرِ ضَمَانُ الْوَاقِفِ وَدَابَّتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِى طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، قَاعِدًا أَوْ وَاقِفًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4181 - مسألة: (إلَّا أن يَكُونَ أحدُهما يَسِيرُ، والآخَرُ وَاقِفًا، فعلى السَّائرِ ضَمانُ الواقفِ ودابَّتِهِ) [نصَّ أحمدُ على هذا] (¬1)؛ لأَنَّ السَّائرَ هو الصَّادِمُ المُتْلِفُ، فكانَ الضَّمانُ عليه. فإن مات هو أو دابَّتُه، فهو هَدْرٌ؛ لأنَّه أتْلَف نفسَه ودابَّتَه. وإنِ انْحَرَفَ الواقِفُ، فصادَفَتِ (¬2) الصَّدْمَةُ انْحِرافَه، فهما كالسَّائِرَيْنِ؛ لأَنَّ التَّلَفَ حصَل مِن فِعْلِهِما. 4182 - مسألة: (إلَّا أن يَكُونَ في طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، قاعِدًا أو واقِفًا، فلا ضَمَانَ فيه، وعليه ضَمَانُ ما تَلِفَ به) إذا كان الواقِفُ مُتَعَدِّيًا بوُقوفِه، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «نص عليه أحمد». (¬2) في الأصل: «فصادفته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ أن يَقِفَ في طريقٍ ضَيِّقٍ، فالضَّمانُ عليه دُونَ السَّائِرِ؛ لأَنَّ التَّلَفَ حصَل بتَعَدِّيه، فكان الضَّمانُ عليه، كما لو وضَع حَجَرًا في الطَّريقِ، أو جلَس في طريقٍ ضَيِّقٍ، فعَثَرَ به إنْسانٌ.

4183 - مسألة: (وإن أركب صبيين لا ولاية له عليهما، فاصطدما، فماتا، فعلى عاقلته ديتهما)

وَإِنْ أَرْكَبَ صَبِيَّيْنِ لَا وِلَايةَ لَهُ عَلَيْهِمَا، فَاصْطَدَمَا، فَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4183 - مسألة: (وإن أرْكَبَ صَبِيَّيْنِ لا وِلايَةَ له عليهما، فاصْطَدَمَا، فماتا، فعلى عاقِلَتِه دِيَتُهما) لأنَّه مُتَعَدٍّ بذلك، وتَلَفَهُما بسَبَبِ جِنايَتِه.

4184 - مسألة: (وإن رمى ثلاثة بمنجنيق، فقتل الحجر

وَإِنْ رَمَى ثَلَاثَةٌ بِمَنْجَنِيقٍ، فَقَتَلَ الْحَجَرُ إنْسَانًا، فعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4184 - مسألة: (وإن رَمَى ثلاثَةٌ بمَنْجَنِيقٍ، فقَتَلَ الحَجَرُ

وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ دِيَتِهِ، وَإِنْ قُتِلَ أَحَدُهُمْ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا؛ يُلْغَى فِعْلُ نَفْسِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْسَانًا، فعلى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهم ثُلُثُ دِيَتهِ) لا يَخْلُو ذلك مِن حالَيْنِ؛ أحدُهما، أن يكونَ المقْتُولُ واحِدًا منهم. والثانى، أن يكونَ مِن غيرِهم. فإن كان مِن غيرِهم، فالدِّيَة على عَواقِلِهِم أثْلَاثًا؛ لأَنَّ العاقلةَ تَحْمِلُ الثُّلُثَ فما زاد، وسواءٌ قَصَدُوا رَمْىَ واحدٍ بعَيْنِه، أو قَصَدُوا رَمْىَ جَماعةٍ، أو لم يَقْصِدُوا ذلك، [إلَّا أنَّهم] (¬1) إن لم يَقْصِدُوا قَتْلَ آدَمِىٍّ مَعْصُومٍ، فهو خَطَأٌ، دِيَتُه دِيَةُ الخَطأُ. وإن قَصَدُوا رَمْىَ جَماعةٍ أو واحدٍ بعَيْنِه، فهو شِبْهُ عَمْدٍ؛ لأَنَّ قصْدَ الواحدِ بالمَنْجَنِيقِ لا يكادُ يُفْضِى إلى إتْلافِه، فيكون شِبْهَ عَمْدٍ تَحْمِلُه العاقلةُ في ثَلاثِ سِنِينَ. وعلى قولِ أبى بكرٍ، لا تَحْمِلُ العاقلةُ شِبْهَ العَمْدِ، فلا تَحْمِلُه ههُنا. الحالُ الثانى، أن يُصِيبَ واحدًا منهم، فعلى كلِّ واحدٍ كفَّارة، ولا تَسْقُطُ عمَّن أصَابَه الحَجَرُ؛ لأنَّه شارَك ¬

(¬1) في م: «لأنهم».

والثَّانِى، عَلَيْهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ. والثَّالِثُ، عَلَى عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ، وَثُلُثَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، والكفَّارةُ إنَّما تَجِبُ لحقِّ اللَّهِ تعالى، فوَجَبَتْ عليه بالمُشارَكَةِ في نَفْسِه، كوُجوبِها بالمُشارَكَةِ في قَتْلِ غيرِه. وأمَّا الدَّيَةُ ففيها ثَلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّ على عاقلةِ كلِّ واحدٍ منهم ثُلُثَ دِيَةِ المقْتُولِ لوَرَثَتِه؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم مُشاركٌ في قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ خَطأً، فلَزِمَتْه دِيَتُها، كالأجانِبِ. وهذا يَنْبَنِى على أنَّ جِنايةَ المَرْءِ على نَفْسِه أو (¬1) أهْلِه خَطَأً يَتَحَمَّلُ عقْلَها عاقِلَتُه. الوَجْهُ الثانى، أنَّ ما قابَلَ فِعْلَ المقْتُولِ ساقِطٌ، لا يَضْمَنُه أحدٌ؛ لأنَّه شارَك في إتْلافِ حَقِّه، فلم يَضْمَنْ ما قابَل فِعْلَه، كما لو شارَك في قَتْلِ بَهيمَتِه أو عَبْدِه. وهذا الذى ذكَرَه القاضى في «المُجَرَّدِ». ولم يَذْكُرْ غيرَه. وهو مذهبُ الشافعىِّ. الثالثُ، أن يُلْغَى فِعْلُ المقْتُولِ في نَفْسِه، وتَجِبَ دِيَتُه بكَمالِها على عاقلةِ الآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ. ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو الخَطَّابِ: هذا قِياسُ المذهب، بِناءً على مَسْألةِ المُتَصادِمَيْنِ. قال شيْخُنا (¬1): والذى ذكَرَه القاضى أَحْسَنُ وأصَحُّ في النَّظَرِ، وقد رُوِى نحوُه عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في مَسْألةِ القارِصَةِ (¬2) والقامِصَةِ (¬3) والواقِصَةِ (¬4). قال الشَّعْبِىُّ: وذلك أنَّ ثَلاثَ جَوَارٍ اجْتَمَعْنَ فأَرِنَّ (¬5)، فرَكِبَتْ إحْداهُنَّ على عُنُقِ أُخْرَى، وقَرَصَتِ الثَّالثةُ المَرْكُوبَةَ، فقَمَصَتْ، فسَقَطَتِ الرَّاكِبَةُ، فوُقِصَتْ عُنُقُها، فماتَتْ، فرُفِعَ ذلك إلى علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فقَضَى بالدِّيَةِ أثْلاثًا على عَوَاقِلِهِنَّ، وألْغَى الثُّلُثَ الذى قابَلَ فِعْلَ الواقِصَةِ؛ لأنَّها أعانَتْ على قَتْلِ نَفْسِها (¬6). وهذه شَبِيهَةٌ بمَسْأَلتِنا. ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 83. (¬2) في م: «القارضة». (¬3) في م: «القابضة». والقمص: الضرب بالرجل. (¬4) في الأصل: «الرامضة». (¬5) فأَرِنَّ: أى نَشِطْنَ. (¬6) أخرجه البيهقى، في: باب ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ المقْتُولَ شارَك في القَتْلِ، فلم تكْمُلِ الدِّيَةُ على شَرِيكَيْه، كما لو قَتَلُوا واحدًا مِن غيرِهم. فإن رجَع الحَجَرُ، فقَتَلَ اثْنَيْنِ مِن الرُّماةِ، فعلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ، تَجِبُ دِيَتُهما على عَواقِلِهِم أثْلَاثًا، وعلى كلِّ واحدٍ منهم كفَّارَتانِ. وعلى الوَجْهِ الثَّانى، يَجِبُ على عاقلةِ الحَىِّ منهم، لكُلِّ مَيِّتٍ ثُلُثُ دِيَتِه، وعلى عاقلةِ كلِّ واحدٍ مِن المَيِّتيْنِ ثُلُثُ دِيَةِ صاحبِه، ويُلْغَى فِعْلُ نَفْسِه. وعلى الوَجْهِ الثالثِ، على عاقلةِ الحَىِّ لكلِّ واحدٍ نهم نِصْفُ الدِّيَةِ، ويَجِبُ على عاقلةِ كلِّ واحدٍ مِن المَيِّتيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لصاحبِه.

4185 - مسألة: (وإن كانوا أكثر من ثلاثة، فالدية حالة فى أموالهم)

وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَالدِّيَةُ حَالَّة في أَمْوَالِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4185 - مسألة: (وإن كَانُوا أكْثرَ مِن ثلَاثَةٍ، فَالدِّيَةُ حَالَّةٌ في أمْوَالِهم) في الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ، إلَّا على الوَجْهِ الذى اختاره أبو الخَطَّابِ، فإنَّهم إذا كانوا أرْبعةً، فقَتَلَ الحَجَرُ أحَدَهم، فإنَّه يجبُ على عاقلةِ كُلِّ واحدٍ مِنَ الثَّلاثةِ الباقِينَ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لأنَّهم يَحْمِلُونَها كلَّها. فأمَّا إن كانوا أكثرَ مِن أرْبعةٍ، أو كان المقْتُولُ مِن غيرِهم وهم أرْبعةٌ، فإنَّ الدِّيَةَ حَالَّةٌ في أمْوالِهم؛ [إلَّا أنَّ] (¬1) المقْتُولَ يُلْغَى فِعْلُه في نفْسِه، ويكونُ هَدْرًا؛ لأنَّه لا يجبُ عليه لنفْسِه شئٌ، ويكونُ باقى الدِّيَةِ في أمْوالِ شُرَكائِه حَالًّا؛ لأن التَّأْجِيلَ في الدِّيَاتِ إنَّما يكونُ فيما تَحْمِلُه العاقِلةُ، وهذا دُونَ ¬

(¬1) في ق، م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثُّلُثِ، والعاقلةُ لا تَحْمِلُ ما دونَ الثُّلُثِ. وذكَر أبو بكرٍ فيها (¬1) رِوايةً أُخْرَى، أنَّ العاقِلَةَ تَحْمِلُها؛ لأَنَّ الجِنايةَ فِعْلٌ واحدٌ، أوْجَبَ دِيَةً تَزِيدُ على الثُّلُثِ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم يخْتَصُّ بمُوجَبِ فِعْلِه دُونَ فِعْلِ شُرَكائِه، وحَمْلُ العاقلةِ إنَّما شُرِعَ للتَّخْفِيفِ على الجانِى فيما يَشُقُّ ويَثْقُلُ، وما دُونَ الثُّلُثِ يسِيرٌ، على ما نذْكُرُه، والذى يَلْزَمُ كُلَّ واحدٍ أقَلُّ مِن الثُّلُثِ. وقولُه: إنَّه فِعْلٌ واحدٌ. قُلْنا: بل هى أفْعالٌ، فإنَّ فِعْلَ كلِّ واحدٍ غيرُ فِعْلِ الآخَرِ، وإنَّما مُوجَبُ الجميعِ واحدٌ، فأشْبَهَ ما لو جَرَحَه [كلُّ واحدٍ] (¬2) جُرْحًا فاتَتِ (¬3) النَّفْسُ بجَمِيعِها. إذا ثبَت هذا، فالضَّمانُ يَتَعَلَّقُ بمَن مَدَّ الحِبالَ، ورَمَى الحَجَرَ، دُونَ مَن وَضَعَه في الكِفَّةِ، وأمْسَكَ الخَشَبَ، اعْتبارًا بالمُباشِرِ، كمَن وضَع سَهْمًا في قَوْسِ إنْسانٍ، ورَماهُ صاحِبُ القَوْسِ، فالضَّمانُ على الرَّامِى دُونَ الواضِعِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «فماتت».

4186 - مسألة: (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه خطأ، فلا شئ له. وعنه، على عاقلته ديته لورثته، ودية طرفه لنفسه)

وَإِنْ جَنَى إنْسَانٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ طَرَفِهِ خَطَأً، فَلَا دِيَةَ لَهُ. وَعَنْهُ، عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَدِيَةُ طَرَفِهِ لِنَفْسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4186 - مسألة: (وإن جَنَى إنسانٌ على نفسِه أو طَرَفِه خَطَأً، فلا شئَ له. وعنه، على عاقِلَتِه دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَدِيَةُ طَرَفِه لِنَفْسِهِ) أمّا إذا كانتِ الجنايةُ عَمْدًا، فلا شئَ له إجْماعًا. وإن كانت خَطأً فكذلك، في إحدى الرِّوايتيْنِ، قِياسًا على العَمْدِ، ولِما رُوِى أنَّ عامِرَ بنَ الأَكْوَع يومَ خَيْبَرَ، رجَع سَيْفُه عليه، فقَتَلَه (¬1). ولم يُنْقَلْ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى فيه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازى، وفى: باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، من كتاب الأدب، وفى: باب إذا قتل نفسه خطأً فلا دية له، من كتاب الديات. صحيح البخارى 5/ 166، 167، 8/ 42 - 44، 9/ 9. ومسلم، في: باب غزوة خيبر، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1427 - 1430. وأبو داود، في: باب في الرجل يموت بسلاحه، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 19، 20. والنسائى، في: باب من قاتل في سبيل اللَّه فارتد عليه سيفه فقتله، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 26، 27. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 46 - 48، 50 - 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدِيَةٍ ولا غيرِها، ولو كانت واجِبَةً لَبَينَّه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولنُقِلَ ظاهِرًا. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّ دِيَتَه على عاقِلَتِه لوَرَثَتِه، ودِيَةَ طَرَفِه لنَفْسِه. [وهو قولُ الأَوْزَاعِىِّ، وِإسْحَاقَ] (¬1). وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، ذكَره فيما إذا رَمَىْ ثَلاثةٌ بالمَنْجَنِيقِ، فرَجَعَ الحَجَرُ، فقَتَلَ أحَدَهم؛ لِما رُوِى أنَّ رَجُلًا ساقَ حِمارًا فضَرَبَه بعَصًا كانت معه، فطارَتْ منها شَظِيَّةٌ، فأصابَتْ عيْنَه ففَقَأَتْها، فجَعَلَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عَنه، دِيَتَه على عاقِلَتِه، وقال: هى يَدٌ مِن أيْدِى المسلمينَ، لم يُصِبْها اعْتِداءٌ على أحدٍ (¬2). ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ. ولأنَّه قُتِلَ خَطَأً، فكانت دِيَتُه على عاقِلَتِه، كما لو قَتَل غيرَه. والأَوَّلُ أصَحُّ في القِياسِ؛ لأَنَّ وُجوبَ الدِّيَةِ على العاقلةِ على خِلافِ الأَصْلِ، مُواساةً للجانى وتَخْفِيفًا عنه، وليس على الجانى ههنا شئٌ يُخَفَّفُ عنه، ولا يَقْتَضِى النَّظَرُ أن تكونَ جِنايتُه على نفسِه على غيرِه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم رَبِيعَةُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل يصيب نفسه بالجرح، من كتاب الديات. المصنف 9/ 349، 350. وبنحوه مختصرًا أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يصيب نفسه، وباب الرجل يقتل ابنه خطأ، والعبد يقتل ابنه حرا، من كتاب العقول. المصنف 9/ 412، 415، 416.

4187 - مسألة: (وإن نزل رجل فى بئر، فخر عليه آخر، فمات الأول من سقطته، فعلى عاقلته ديته)

وَإِنْ نَزَلَ رَجُلٌ بِئْرًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ آخَرُ، فَمَاتَ الْأَوَّلُ مِن سَقْطَتِهِ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأْى؛ لِما ذكَرْنا مِن حديثِ عامِرِ ابنِ الأكْوَعِ، حينَ رجَع سيْفُه عليه يَوْمَ خَيْبَرَ فمات. [ويُفارِقُ هذا ما إذا كانتِ الجِنايةُ على غيرِه، فإنَّه لو لَمْ تَحْمِلْه العاقلةُ، لأجْحَفَ به وُجُوبُ الدِّيَةِ لكَثْرَتِها] (¬1). وقال القاضى: الرِّوايةُ الثَّانيةُ أظهرُ عنه. فعلى هذه الرِّوايةِ، إن كانتِ العاقلةُ هى الوارِثَةَ، لم يجبْ شئٌ؛ لأنَّه لا يجبُ للانسانِ شئٌ على نفسِه، فإن كان بعضُهم وارِثًا، سقَط عن الوارِثِ ما يقابِلُ مِيراثَه. فإن كانت جِنايَتُه على نَفْسِه شِبْهَ عَمْدٍ، فهو كالخَطَأَ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ، وفى الآخَرِ، لا تَحْمِلُه العاقلةُ بحالٍ. 4187 - مسألة: (وِإن نزَل رَجُلٌ في بِئْرٍ، فَخَرَّ عليهِ آخَرُ، فمات الأَوَّلُ مِن سَقْطَتِه، فعلى عاقِلتِه دِيَتُه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا نَزَلَ رَجُلٌ في بئرٍ، فسقَط عليه آخرُ، فقَتَلَه، فعليه ضَمانُه، كما لو رَمَى عليه حَجَرًا. ثم يُنْظَرُ؛ فإن كان عَمَدَ رَمْىَ نَفْسِه عليه (¬2)، وهو ممَّا يَقْتُلُ غالبًا، فعليه القِصاصُ، وإن كان ممَّا لا يَقْتُلُ غالبًا، فهو شِبْهُ عَمْدٍ، وإن وقَع خَطأً، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالدِّيَةُ على عاقِلَتِه مُخفَّفَةً، وإن مات الثانى بوُقُوعِه على الأوَّل، فدَمُه (¬1) هَدْرٌ؛ لأنَّه مات بفِعْلِه. وقد رَوَى عَلِىُّ بنُ رَباحٍ اللَّخْمِىُّ، أنَّ رَجُلًا كان يَقودُ أعْمَى، فوَقَعا في بِئْرٍ؛ خَرَّ البَصِيرُ، فوَقَعَ الأعْمَى فوقَ البَصِيرِ، فقَتَلَه، فقَضَى عمرُ بعَقْلِ البَصِيرِ على الأعْمَى، فكان الأعْمَى يُنْشِدُ في المَوْسِمِ: يَا أيُّها الناسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا هل يَعْقِلُ الأعْمَى الصَّحِيجَ المُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلَاهُما تَكَسَّرَا (¬2) وهذا قولُ ابنِ الزُّبَيْرِ، وشرَيْحٍ، والنَّخَعِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ. قال شيْخُنا (¬3): ولو قال قائل: ليسمى على الأعْمَى ضَمانُ البَصِيرِ؛ لأنَّه الذى قادَه إلى المكانِ الذى وَقَعا فيه، وكان سَبَبَ وُقُوعِه عليه، ولذلك لو فَعَلَه قَصْدًا لم يَضْمَنْه، بغيرِ خِلافٍ، وكان عليه ضَمانُ الأعْمَى (¬4)، إلَّا أن يكونَ مُجْمَعًا عليه، فلا تجوزُ مُخالَفَةُ الإجْماعِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه إنَّما لم يَجِبِ الضَّمانُ على القائدِ لوَجْهَيْنِ؛ أحدُهما، أنَّه مَأْذُونٌ فيه مِن جِهَةِ ¬

(¬1) في تش: «فديته». (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب القوم يدفع بعضهم بعضًا في البئر أو الماء، من كتاب الديات. المصنف 9/ 402. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 98، 99. والبيهقى، في: باب ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 112. وقال الحافظ: وفيه انقطاع. تلخيص الحبير 3/ 37. (¬3) في: المغنى 12/ 85. (¬4) بعده في المغنى: «ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده. لكان له وجه». عزاه صاحب المبدع كما في الشرح للمغنى. المبدع 8/ 336.

4188 - مسألة: (وإن وقع)

وَإِنْ سَقَطَ ثَالِثٌ، فَمَاتَ الثَّانِى بِهِ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ سَقْطَتِهِمَا، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأعْمَى، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، كما لو حَفَر له بِئْرًا في دارِه بإذْنِه، فتَلِفَ بها. الثانى، أنَّه فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إليه مَأْمُورٌ به، فَأَشبَهَ ما لو حفَر بِئْرًا في سابِلَةٍ يَنْتَفِعُ بها المسلمونَ، فإنَّه لا يَضْمَنُ ما تَلِفَ بها. وإن مات الثَّانى فدَمُه هَدْرٌ؛ لأنَّه لا صُنْعَ لغيرِه في هلاكِه. 4188 - مسألة: (وإن وقَع) عليهما (ثَالِثٌ، فمات الثَّانى به، فعلى عاقِلَةِ الثّالِثِ دِيَتُهُ) لأنَّه تَلِفَ مِن سَقْطَتِه (وإن مات الأَوَّلُ مِن سَقْطَتِهما، فدِيَتُه على عاقِلَتهما) لأنَّه مات بوُقوعِهما عليه، ودِيَةُ الثانى على الثَّالثِ؛ لأنَّه انْفَرَدَ بالوُقُوعِ عليه، فانْفَرَدَ بدِيَتِه، ودَمُ الثالثِ هَدْرٌ؛ لأنَّه لا صُنْعَ لغيرِه في هلاكِه. هذا إذا كان الوُقوعُ هو الذى قَتَلَه، فإن كان البئرُ عَمِيقًا يموتُ الواقِعُ بمُجَرَّدِ وُقُوعِه، لم يَجِبْ ضَمانٌ على أحدٍ؛ لأَنَّ كُل واحدٍ منهم مات بوَقْعَتِه، لا بفِعْلِ غيرِه، وإنِ احْتَمَلَ الأمْرَيْنِ فكذلك؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الضَّمانِ.

4189 - مسألة: (وإن كان الأول جذب الثانى، وجذب الثانى الثالث، فلا شئ على الثالث)

وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ جَذَبَ الثَّانِىَ، وَجَذَبَ الثَّانِى الثَّالِثَ، فَلَا شَىْءَ عَلَى الثَّالِثِ، وَدِيَتُهُ عَلَى الثَّانِى في أحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِى الثَّانِى، عَلَى الأَوَّلِ وَالثَّانِى نِصْفيْنِ، وَدِيَةُ الثَّانِى عَلَى الْأوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ هَلَكَ مِنْ وَقْعَةِ الثَّالِثِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانهُ عَلَى الثَّانِى، واحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِى، وفى نِصْفِهَا الْآخَرِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4189 - مسألة: (وإن كان الأَوَّلُ جذَب الثَّانِىَ، وجذَب الثَّانِى الثَّالثَ، فلا شئَ على الثَّالِثِ) لأنَّه لا فِعْلَ له (و) وَجَبَت (دِيَتُه على الثَّانِى في أحدِ الوَجْهَيْنِ) لأنَّه هو جَذَبَه وباشَرَه بذلك، والمُباشَرَةُ تَقْطَعُ حُكْمَ المُتَسَبِّبِ، كالحافرِ مع الدَّافعِ، والثَّانى دِيَتُه على الأَوَّلِ والثانِى نِصْفيْنِ؛ لأَنَّ الأوَّلَ جذَب الثانِىَ الجاذِبَ للثالثِ، فصار مُشارِكًا للثانى في إتْلافِه، ودِيَةُ الثَّانى على عاقلةِ الأَوَّلِ، في أحدِ الوَجْهَيْنَ؛ لأنَّه هلَك بجَذبَتِه. وإن هلَك بسُقُوطِ الثالثِ عليه، فقد هلَك بجَذْبةِ الأَوَّلِ وجَذْبةِ نَفسِه للثالثِ، فسقَط فِعْلُ نَفْسِه، كالمُصْطَدِمَيْنِ، وتَجبُ دِيَتُه بكَمالِها على الأَوَّلِ. ذكَره القاضى. والوجهُ الثانى، يَجِب على الأَوَّلِ نِصْفُ دِيَتِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُهْدَرُ نِصْفُها في مُقابلةِ فِعْلِ نَفْسِه. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ويتَخَرَّجُ وجْهٌ ثالثٌ، وهو وُجوبُ نِصْفِ دِيَتِه على عاقِلَتِه لوَرَثَتِه، كما قُلْنا فيما إذا رَمَى ثَلاثةٌ بالمَنْجَنِيقِ، فقَتَلَ الحَجَرُ أحَدَهم. وأمَّا الأَوَّلُ إذا مات بوقُوعِهما عليه، ففيه الأوْجُهُ الثَّلاثةُ؛ لأنَّه مات مِن جَذْبَتِه وجَذْبَةِ الثَّانى للثالثِ، فتَجِبُ دِيَتُه كلُّها على عاقلةِ الثَّانى، ويُلْغَى فِعْلُ نَفْسِه، على الوَجْهِ الأَوَّلِ. وعلى الثَّانى، يُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِه المُقابِلُ لفِعْلِ نَفْسِه، ويَجِبُ نِصْفُها على الثانى. وعلى الثالثِ، يَجِبُ نِصْفُها على عاقِلَتِه لوَرَثَتِه. فصل: فإن جَذَبَ الثالثُ رابعًا، فمات جميعُهمِ بوُقوعِ بعضِهم على بعضٍ، فلا شئَ على الرَّابعِ؛ لأَنَّه لم يَفْعَلْ شيئًا في نفسِه ولا غيرِه. وفى دِيَتِه وَجْهانِ؛ أحدُهما، أنَّها على عاقلةِ الثالثِ المُباشِرِ لجَذْبِه. والثانى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على عاقلةِ الأَوَّلِ والثانِى والثالثِ؛ لأنَّه مات مِن جَذْبِ الثَّلاثةِ، فكانت دِيَتُه على عَواقِلِهم. وأما الأولُ فقد مات بجَذْبَتِه وجَذْبَةِ الثانى وجذبةِ الثالِثِ، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها؛ أنَّه يُلْغَى فِعْلُ نَفْسِه، وتَجِبُ دِيَتُه على عاقلةِ الثَّانى والثالثِ نِصْفَيْنِ. والثَّانى، يَجِبُ على عاقِلَتِهما ثُلُثاها، ويَسْقُطُ ما (¬1) قابَلَ فِعْلَ نَفْسِه. والثالثُ، يجبُ ثُلُثُها على عاقِلَتِه لوَرَثَتِه. وأمَّا الجاذبُ الثانى فقد مات بالأفْعالِ الثَّلاثة، وفيه هذه الأوْجُهُ الثَّلاثةُ المذْكُورةُ في الأَوَّلِ سواءً. وأمَّا الثالثُ، ففيه مثلُ هذه الأوْجُهِ الثَّلاثةِ، ووَجْهانِ آخَرانِ؛ أحدُهما، أنَّ دِيَتَه بكَمالِها على الثانى؛ لأنَّه المُباشِرُ لجَذْبِه، فسقَط فِعْلُ غيرِه بفِعْلِه. والثانى، أنَّ على عاقِلَتِهِ نِصْفَها، ويَسْقُطُ النِّصْفُ الثانى في مُقَابلَةِ فِعْلِه في نَفسِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وقَع بعضُهم على بعضٍ، فماتُوا، نَظَرْتَ؛ فإن كان مَوْتُهم بغيرِ وُقُوعِ بعضِهم على بعض، مثلَ أن يكونَ البئرُ عَمِيقًا يموتُ الواقعُ فيه بنَفْسِ الوُقوعِ، أو كأن فيه ماءٌ يُغْرِقُ الواقِع فيَقْتُلُه، أو أسَدٌ يَأْكُلُهم، فليس على بعضِهم (¬1) ضَمانُ بعضٍ؛ لعَدَمِ تَأْثِيرِ فِعْلِ بعضِهم في هلاكِ بعضٍ، وإن شَكَكْنا في ذلك، لم يَضْمَنْ بعضُهم بعضًا؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ فلا نَشْغَلُها بالشَّكِّ. وإن كان مَوْتُهم بوُقوعِ بعضِهم على بعضٍ، فدَمُ الرَّابعِ هَدْرٌ؛ لأَنَّ غيرَه لم يَفْعَلْ فيه شيئًا، وإنَّما هلَك بفِعْلِه، وعليه دِيَةُ الثالثِ؛ لأنَّه قَتَلَه بوُقُوعِه عليه، ودِيَةُ الثانى عليه وعلى الثالثِ نِصْفَيْنِ، ودِيَةُ الأَوَّلِ على الثَّلاثةِ أثْلاثًا. ¬

(¬1) في الأصل، تش، ر 3: «بعض».

4190 - مسألة: (وإن خر رجل فى زبية أسد، فجذب آخر،

وَإِنْ خَرَّ رَجُلٌ في زُبْيَةِ أَسَدٍ فَجَذَبَ آخَرَ، وَجَذَبَ الثَّانِى ـــــــــــــــــــــــــــــ 4190 - مسألة: (وإن خَرَّ رَجُلٌ في زُبْيَةِ أسَدٍ، فجَذَبَ آخَرَ،

ثَالِثًا، وَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا، فَقَتَلَهُمُ الأَسَدُ، فَالْقِيَاسُ أنَّ دَمَ الأَوَّلِ هَدْرٌ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الثَّانِى، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِى دِيَةُ الثَّالِثِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ دِيَةُ الرَّابعِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ دِيَةَ الثَّالِثِ عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَالثَّانِى نِصْفيْنَ، وَدِيَةَ الرَّابعِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّلَاثَةِ أثْلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَذَبَ الثَّانِى ثَالِثًا، وجذَب الثَّالِثُ رابعًا، فَقَتَلَهُم الأسَدُ، فَالقِياسُ أنَّ دَمَ الأَوَّلِ هَدْرٌ، وعلى عاقِلَتِه دِيَةُ الثَّانِى، وعلى عاقِلَةِ الثَّانى دِيَةُ الثَّالثِ، وعلى عاقِلَةِ الثَّالثِ دِيَةُ الرَّابعِ. وفيَه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّ دِيَةَ الثّالثِ على عاقِلَةِ الأَوَّلِ والثَّانِى نِصْفَيْنِ، ودِيَةَ الرَّابعِ على عاقِلَةِ الثَّلَاثَةِ أثلاثًا) الحُكمُ في هذه المسْأَلةِ أنَّه لا شئَ على الرَّابعِ؛ لأنَّه لم يَفْعَل شيئًا، ودِيَتُه على عاقلةِ الثالثِ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ. وفى الثانى، على عَواقِلِ الثَّلاثة أثْلَاثًا. ودَمُ الأَوَّلِ هَدْرٌ، وعلى عاقِلَتِه دِيَةُ الثَّانى. وأمَّا دِيَةُ الثالثِ، فعلى الثَّانى، في

وَرُوِىَ عَنْ عَلِىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّهُ قضَى لِلْأَوَّلِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِى بِثُلُثِهَا، وَلِلثَّالِثِ بِنِصْفِهَا، وَلِلرَّابعِ بِكَمَالِهَا، عَلَى مَنْ حَضَرَهُمْ، ثمَّ رُفِعَ إلَى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَجَازَ قَضَاءَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدِ الوَجْهَيْنِ، وفى الآخَرِ، على الأَوَّلِ والثَّانى نِصْفَيْنِ. وهذه تُسَمَّى مَسْألةَ الزُّبْيَةِ، وقد روَى حَنَشٌ الصَّنْعَانِىُّ، أنَّ قَوْمًا مِن أَهْلِ اليَمَنِ حَفَرُوا زُبْيَةً للأسَدِ، فاجْتَمَعَ الناسُ على رَأْسِها، فهَوَى فيها واحِدٌ، فجَذَبَ ثانِيًا، وجذَب الثَّانى ثالِثًا، ثم جذَب الثالثُ رابِعًا، فقَتَلَهُم الأَسَدُ، فرُفِعَ ذلك إلى علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فقال: للأوَّلِ (¬1) رُبْعُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه هلَك فوْقَه ثَلَاثَةٌ، وللثانى ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه هلَك فوقَه اثْنانِ، وللثالثِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه هلَك فوقَه واحِدٌ، وللرَّابعِ كَمالُ الدِّيَةِ. وقال: فإنِّى أجْعَلُ الدِّيَةَ على مَن حضَر (¬2) رَأْسَ البِئْرِ. فرُفِعَ ذلك إلى النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: «هو كما ¬

(¬1) في تش: «على الأول». (¬2) في تش: «حفر».

فَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَيْهِ تَوْقِيفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال» (¬1). روَاه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، ثنا أبو عَوانةَ [وأبو الأحْوَصِ] (¬2)، عن سِماكِ بنِ حَرْبٍ، عن أنَسٍ، بنَحْوِ هذا المعنى. قال أبو الخَطَّابِ: (فذَهَبَ أحمدُ إلى ذلك تَوْقِيفًا) على خِلافِ القِياسِ. وقد ذكَرَ بعْضُ أَهْلِ العلمِ أنَّ هذا الحديثَ لا يُثْبِتُه أهْلُ النَّقْلِ، وأنَّه ضَعِيفٌ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 77، 128، 152. وابن أبى شيبة، في: باب القوم يدفع بعضهم بعضًا في البئر أو الماء، من كتاب الديات. المصنف 9/ 400. والبيهقى، في: باب ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 111. (¬2) في الأصل: «وأبو داود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقِياسُ ما قُلْناه، فلا يُنْتَقَلُ عنه إلى ما لا يُدْرَى ثُبُوتُه ولا مَعْناه.

4191 - مسألة: (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه، وليس به مثل ضرورته، فمنعه حتى مات، ضمنه. نص عليه)

وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى طَعَامِ إِنْسَانٍ أَوْ شَرَابِهِ، وَلَيْسَ بِهِ مِثْلُ ضَرُورَتِهِ، فَمَنَعَهُ حَتَّى مَاتَ، ضَمِنَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4191 - مسألة: (ومَن اضْطُرَّ إلى طَعامِ إنْسانٍ أو شَرابِه، وليس به مِثْلُ ضَرُورَتِه، فمنَعَهُ حتَّى مات، ضَمِنَهُ. نصَّ عليه) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن أخَذَ طعامَ إنْسانٍ أو شَرابَه في بَرِّيَّةٍ، أو مكانٍ لا يَقْدِرُ فيه على طَعامٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَرابٍ، فهَلَكَ بذلك (¬1)، أو هَلَكَتْ بَهِيمَتُه، فعليه ضَمانُ ما تَلِفَ به؛ لأنَّه سَبَبُ هَلاكِه. وكذلك إنِ اضْطُرَّ إلى طَعامٍ وشَرابٍ لغيرِه، فطَلَبَه منه، فمَنَعَه إيَّاه مع غِناه عنه في تلك الحالِ، فماتَ بذلك، ضَمِنَه المَطْلُوبُ منه؛ لِما رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى بذلك. ولأنَّه إذا اضْطُرَّ [إليه، صار] (¬2) أحَقَّ به ممَّن هو في يَدِه، وله أخْذُه قَهْرًا، فإذا مَنَعَه إيَّاه، تَسَبَّبَ إلى هَلاكِه بمَنْعِه ما يَسْتَحِقُّه، فلَزِمَه ضَمانُه، كما لو أخَذَ طَعَامَه وشَرَابَه فهَلَكَ بذلك. وظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ الدِّيَةَ في مالِه؛ لأنَّه تَعَمَّدَ هذا الفِعْلَ الذى يَقْتُلُ مثلُه غالِبًا. وقال القاضى: يكونُ على عاقِلَتِه؛ لأَنَّ هذا لا يُوجِبُ القِصاصَ، فيكونُ شِبْهَ عَمْدٍ. وإن لم يَطْلُبْه منه، لم يَضْمَنْه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في م: «فصار».

وَخَرَّجَ عَلَيْهِ أَبُو الْخَطَّابِ كُلَّ مَنْ أمْكَنَهُ إِنْجَاءُ إِنْسَانٍ مِنْ هَلَكَةٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لم يَمْنَعْه، ولم يُوجَدْ منه فِعْلٌ تَسَبَّبَ به إلى هَلاكِه (وخَرَّجَ عليه أبو الخَطَّابِ كُلَّ مَن أمْكَنَه إنْجاءُ إنْسانٍ مِن هَلَكَةٍ) فلم يُنْجِه مها مع قُدْرَتِه على ذلك، أنَّه يجبُ عليه ضَمانُه، قِياسًا على ما إذا طلَب الطعامَ فمَنَعَه إيَّاه مع غِنَاه عنه حتى هلَك. ولَنا، أنَّ هذا لم يُهْلِكْه، ولم يَكُنْ سَبَبًا في هَلاكِه، [فلا يَضْمَنُه] (¬1)، كما لو لم يَعْلَمْ بحالِه، وقِياسُ هذا على المسْألةِ التى ذكَرَها غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنَّه في الأُولَى مَنَعَه مَنْعًا كان سَبَبًا في هَلاكِه، فيَضْمَنُه بفِعْلِه الذى تَعَدَّى به، وههُنا لم يَفْعَلْ شيئًا يكونُ سَبَبًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ر 3.

4192 - مسألة: (وإن أفزع إنسانا، فأحدث بغائط، فعليه ثلث ديته. وعنه، لا شئ عليه)

وَمَنْ أَفْزَعَ إِنْسَانًا، فَأحْدَثَ بِغَائِطٍ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَتِهِ. وَعَنْهُ، لَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4192 - مسألة: (وإن أفْزَعَ إنْسَانًا، فأحْدَثَ بغائِطٍ، فعليه ثُلُثُ دِيَتِهِ. وعنه، لا شَىْءَ عليه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا ضرَب إنْسانًا حتى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحْدَث، فإنَّ عُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قَضَى فيه بثُلُثِ الدِّيَةِ (¬1). وقال أحمدُ: لا أعْرِفُ شيئًا يدْفَعُه. وبه قال إسْحاقُ. وعنه، لا شئَ عليه. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لأَنَّ الدِّيَةَ إنَّما تَجِبُ لإِتْلافِ مَنْفَعَةٍ أو عُضْوٍ، أو إزالَةِ جَمَالٍ (¬2)، وليس ههُنا شئٌ مِن ذلك. وهذا ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب هل يضمن الرجل من عنت في منزله، من كتاب العقول. المصنف 10/ 24. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يضرب الرجل حتى يحدث، من كتاب الديات. المصنف 9/ 338. (¬2) في الأصل: «كمال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو القِياسُ، وإنَّما ذهَب مَن ذهَب إلى إيجابِ الثُّلُثِ؛ لقَضِيَّةِ عُثمانَ؛ لأنَّها في مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، ولم يُنْقَلْ خِلافُها، فيكونُ إجْماعًا، ولأَنَّ قَضاءَ الصَّحابِىِّ فيما يُخالِفُ القِياسَ يدُلُّ على أنَّه تَوْقِيفٌ. وسواءٌ كان الحَدَثُ ببَوْلٍ أو غائِطٍ أو ريحٍ. قالَه (¬1) القاضى. وكذلك الحُكْمُ فيما إذا أفْزَعَه حتى أحْدَثَ. والأُولَى إن شاءَ اللَّهُ التَّفْرِيقُ بينَ الرِّيحِ وغيرِها، إن كان قَضاءُ عُثمانَ في الغائطِ والبَوْلِ؛ لأَنَّ ذلك أفْحَشُ، فلا يُقاسُ عليه. فصل: إذا أكْرَهَ رَجُلًا على قَتْلِ إنسانٍ فقَتَلَه، فصارَ الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، فهى عليهما؛ لأنَّهما كالشَّرِيكَيْنِ. ولو أَكْرَهَ رَجُلٌ امرأةً على الزِّنَى، فحمَلَتْ، وماتتْ مِن الولادةِ، ضَمِنَها؛ لأنَّها ماتت بسَبَبِ فِعْلِه، وتَحْمِلُه العاقِلَةُ، إلَّا أن لا يَثْبُتَ ذلك إلَّا باعْتِرافِه، فتكونُ الدِّيَةُ عليه؛ لأَنَّ العاقِلَةَ لا تحْمِلُ اعْتِرافًا، ولذلك إن شهِد شاهِدانِ على رَجُلٍ بقَتْلٍ عَمْدٍ، فقُتِلَ، ثم رَجَعَا عنِ الشَّهادةِ، لَزِمَهُما الضَّمانُ، كالشَّريكَيْنِ في الفِعْلِ، ويكونُ الضَّمانُ في مالِهِما، لا تَحْمِلُه العاقِلَةُ؛ لأنَّها لا تَحْمِلُ الاعْتِرافَ، وهذا ثبَت باعْتِرافِهِما. ¬

(¬1) في الأصل: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قتَل رَجُلًا وادَّعَى أنَّه كان عَبْدًا، أو ألْقَى عليه حائِطًا وادَّعَى أنَّه كان مَيِّتًا، وأنْكَرَ وَلِيُّه، فالقولُ قولُ الوَلِىِّ مع يَمِينِه. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: القولُ قولُ، الجانِى؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ ذِمَّتِه، وما ادَّعاه مُحْتَمِلٌ، فلا يَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ. ولَنا، أنَّ الأَصْلَ حياةُ المَجْنِىِّ عليه وحُريَّتُه، فيَجِبُ الحُكْمُ ببَقائِه، كما لو قتَل مُسْلِمًا وادَّعَى أنَّه ارْتَدَّ قبلَ قَتْلِه، وبهذا يَبْطُلُ ما ذكَرَه. وإن قطَع عُضْوًا وادَّعَى شَلَلَه، أو قلَع عَيْنًا وادَّعَى عَماهَا، وأنْكَرَ المَجْنِىُّ عليه، فالقولُ قولُه؛ لأَنَّ الأَصْلَ السَّلامةُ. وهكذا لو قطًع ساعِدًا وادَّعَى أنَّه لم يَكُنْ عليه كَفٌّ، أو ساقًا وادَّعَى أنَّه لم يَكُنْ لها قَدَمٌ. وقال القاضى: إنِ اتَّفَقَا على أنَّه كان بَصِيرًا، فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه، وإلَّا فالقولُ قولُ الجانِى. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ هذا [ممَّا لا] (¬1) يَتَعَذَّرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عليه، فإنَّه لا يَخْفَى على أهْلِه وجِيرانِه ومُعامِلِيه، وصِفَةُ أدَاءِ الشَّهادةِ عليه، أنَّه كان يُتْبعُ الشَّخْصَ بَصَرَه، ويَتَوَقَّى ما يتَوَقَّاه البَصِيرُ، ويتَجَنَّبُ البئْرَ وأشْباهَهُ في طَرِيقِه، ويَعْدِلُ في العَطَفاتِ خَلْفَ مَن يَطْلُبُه. ولَنا، أنَّ الأَصْلَ السَّلامةُ، فكان القولُ قولَ مَن يَدَّعِيها، كما لو اخْتَلَفا في إسْلامِ المَقْتُولِ في دارِ الإِسْلامِ وفى حياتِه. قولُهم: لا يَتَعَذَّرُ إقامةُ البَيِّنَةِ عليه. قُلْنا: وكذلك لا يتَعَذَّرُ ¬

(¬1) في م: «مما».

فصل

فَصْلٌ: وَمَنْ أَدَّبَ وَلَدَهُ، أوِ امْرَأتَهُ في النُّشُوزِ، أوِ الْمُعَلِّمُ صَبِيَّةُ، أَوِ السُّلْطَان رَعِيَّتَهُ، وَلَمْ يُسْرِفْ، فأَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَيَتَخَرَّجُ وجُوبُ الضَّمَانِ، عَلَى مَا قَالَهُ فِيمَا إِذَا أرْسَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ إقامةُ البَيِّنَةِ على ما يَدَّعِيه الجانِى، فإيجابُها عليه أوْلَى مِن إيجابِها على مَن يَشْهَدُ له الأصْلُ، ثم يبطلُ بسائرِ المواضِعِ التى سَلَّمُوها. فإن قالوا: ههنا ما ثَبَت أنَّ الأَصْلَ وُجُودُ البَصَرِ. قُلْنا: الظاهرُ يَقُومُ مَقامَ الأَصْلِ، ولهذا رَجَّحْنا قولَ مَن يَدَّعِى حَرِّيَّتَه وإسْلامَه. فصل: (ومَن أدَّبَ ولَدَه، أو امرأتَه في النُّشُوزِ، أو المُعَلِّمُ صَبيَّه، أو السُّلْطانُ رَعِيَتّهَ، ولم يُسْرِفْ، فأفْضَى إلى تَلَفِه، لم يَضْمَنْه) لأنَّه أَدَبٌ مَأْذُونٌ فيه شَرْعًا، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، كالحَدِّ والتَّعْزِيرِ. 4193 - مسألة: (وَيَتَخَرَّجُ وُجُوبُ الضَّمَانِ، على ما قَالَه فيما

السُّلْطَانُ إِلَى امْرَأةٍ لِيُحْضِرَهَا، فَأجْهَضَت جَنِينَهَا، أَوْ مَاتَتْ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أرْسَلَ السُّلْطَانُ إلى امْرَأَةٍ ليُحْضِرَها، فأَجهَضَتْ جَنِينًا، أو مَاتَتْ، فعلى عاقِلَتِه الدِّيَةُ) وجملةُ ذلك، أنَّ السُّلْطانَ إذا بعَث إلى امرأةٍ ليُحْضِرَها، فأسْقَطَتْ جَنِينًا فمات، ضَمِنَه؛ لِما رُوِى أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بعَث إلى امرأةٍ مُغِيبَةٍ (¬1)، كان يُدْخَلُ عليها، فقالت: يا وَيْلَها، ما لَها ولعمرَ. فبَيْنَا هى في الطريقِ إذ فَزِعَتْ، فضَرَبَها الطَّلْقُ، فألْقَتْ ولَدًا، فصاحَ الصَّبِىُّ (¬2) صَيْحَتَيْن، ثم مات، فاسْتَشارَ عمرُ أصْحاب النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأشَارَ بعْضُهم أن ليس عليك شئٌ، إنَّما أنتَ والٍ ومُؤَدِّبٌ، وصمَت علىٌّ، فأقْبَلَ عليه عمرُ، فقال: ما تقُولُ يا أبا الحَسَنِ؟ فقال: إن كانوا قالوا برَأْيِهم فقد أخْطأَ (¬3) رَأْيُهم، وإن كانوا قالوا في هَواكَ فلم يَنْصَحُوا لك، إنَّ دِيَتَه عليك؛ لأنَّك أفْزَعْتَها فأَلْقَتْه. فقال عمرُ: أقْسَمْتُ عليك أن لا تَبْرَحَ حتى تَقْسِمَها على قَوْمِكَ (¬4). ولو فُزِّعَتِ المرأةُ فماتَت، ¬

(¬1) أى غاب عنها زوجها. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م، ق: «أخطأوا». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من أفزعه السلطان، من كتاب العقول. المصنف 9/ 458، 459.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجَبَتْ دِيَتُها أيضًا. ووافَقَ الشافعىُّ في ضَمانِ الجَنِينِ، وقال: لا تُضْمَنُ المرأةُ؛ لأَنَّ ذلك ليس بسَبَبٍ لهَلَاكِها في العادَةِ. ولَنا، أنَّها نَفْسٌ هَلَكَتْ بإرْسالِه إليها، فضَمِنَها كجَنِينها، أو نَفْسٌ هَلَكَتْ بسَبَبِه، فَغَرِمَها، كما لو ضَرَبَها فماتَتْ. قولُه: إنَّه ليس بسَبَبٍ عادةً. قُلْنا: إذا كانت حامِلًا، فهو سَبَبٌ للإِسْقاطِ، والإِسْقاطُ سَبَبٌ للهَلاكِ، ثم لا يُعْتَبَرُ في الضَّمانِ كونُه سَبَبًا مُعْتادًا، فإنَّ الضَّرْبَةَ والضَّرْبَتَيْن بالسَّوْطِ ليست سَبَبًا للهَلاكِ في العادةِ، ومتى أفْضَتْ إليه وجَب الضَّمانُ. وإنِ اسْتَعْدَى إنْسانٌ على امرأةٍ، فألْقَتْ جَنِينَها (¬1)، أو ماتتْ فَزَعًا، فعلى عاقِلَةِ المُسْتَعْدِى الضَّمانُ إن كان ظالِمًا لها، وإن كانت هى الظَّالمةَ، فأحْضَرَها عندَ الحاكمِ، فيَنْبَغِى أن لا يَضْمَنَها؛ لأنَّها سَبَبُ إحْضارِها بظُلْمِها، فلا ¬

(¬1) في الأصل: «جنينًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضْمَنُها غيرُها، ولأنَّه اسْتَوْفَى حَقَّه، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، كالقِصاصِ، ولكنْ يَضْمَنُ جَنِينَها؛ لأنَّه تَلِفَ بفِعْلِه، فأشْبَهَ ما لو اقْتَصَّ منها.

4194 - مسألة: (وإن سلم ولده إلى السابح ليعلمه، فغرق، لم يضمنه. ويحتمل أن تضمنه العاقلة)

وَإِنْ سَلَّمَ وَلَدَهُ إِلَى السَّابِحِ؛ لِيُعَلِّمَهُ، فَغَرِقَ، لَمْ يَضْمَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَضْمَنَهُ الْعَاقِلَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4194 - مسألة: (وإن سَلَّمَ وَلَدَهُ إلى السَّابِحِ لِيُعَلِّمَهُ، فغَرِقَ، لم يَضْمَنْه. ويَحْتَمِلُ أن تَضْمَنَه العاقِلَةُ) أمَّا إذا سَلَّمَ ولدَه الصَّغيرَ إلى السَّابِح ليُعَلِّمَه السِّباحَةَ، فغَرِقَ، فالضَّمانُ على عاقلةِ السَّابحِ؛ لأنَّه سَلَّمَه إليه ليَحْتاطَ في حِفْظِه، فإذا غَرِقَ، نُسِبَ (¬1) إلى التَّفْرِيطِ في حِفْظِه. وقال القاضى: قِياسُ المذهبِ أنَّه لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه فَعَل ما جَرَتِ العادةُ به لمَصْلَحَتِه، فلم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، كما إذا ضرَب المُعَلِّمُ الصَّبِىَّ ضَرْبًا مُعْتادًا، فتَلِفَ به. فأمَّا الكبيرُ إذا غَرِقَ، فليس على السَّابحِ شئٌ إذا لم ¬

(¬1) في الأصل: «تسبب».

4195 - مسألة: (وإن أمر إنسانا)

وَإِنْ أَمَرَ عَاقِلًا يَنْزِلُ بِئْرًا، أَوْ يَصْعَدُ شَجَرَةً، فَهَلَكَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ السُّلْطَانَ فَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفَرِّطْ؛ لأَنَّ الكبيرَ في يَدِ نَفْسِه، لا يُنْسَبُ التَّفْرِيطُ في هَلاكِه إلى غيرِه. 4195 - مسألة: (وإن أَمَرَ إنْسَانًا) أن (يَنْزِلَ بِئْرًا، أو يَصْعَدَ شَجَرَةً، فهَلَكَ) بذلك (لم يَضْمَنْه) لأنَّه لم يَجْنِ، ولم يَتَعَدَّ، فأشْبَهَ ما لو أذِنَ له ولم يأْمُرْه (إلَّا أن يكونَ الآمِرُ السُّلطانَ، فهل يَضْمَنُه؟ على وَجْهَيْنِ) أحدُهما، لا يَضْمَنُه، كغيرِه. والثَّانى، يَضْمَنُه؛ لأنَّه يخاف منه إذا خالفَه، وهو مأْمُورٌ بطاعَتِه، إلَّا أن يكونَ المأْمُورُ صَغِيرًا لا يُمَيِّزُ، فيَضْمَنُه؛ لأنَّه تَسَبَّبَ إلى إتْلافِه.

4196 - مسألة: (وإن وضع جرة على سطحه)

وَإِنْ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى سَطْحِهِ، فَرَمَتْهَا الرِّيحُ عَلَى إِنْسَانٍ، فَتَلِفَ، لَمْ يَضْمَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4196 - مسألة: (وإن وضَع جَرَّةً على سَطْحِهِ) أو حائطِه، أو حَجَرًا (فَرَمَتْه الرِّيحُ على إنسانٍ، فقَتَلَه) أو شئٍ أتْلَفَه (لم يَضْمَنْه) لأَنَّ ذلك بغيرِ فِعْلِه، ووَضْعُه ذلك كان في مِلْكِه. ويَحْتَمِلُ أن يَضْمَنَ إذا وَضَعَها مُتَطَرِّفَةً؛ لأنَّه تَسَبَّبَ إلى إلْقائِها، وتَعَدَّى بوَضْعِها،، فأَشْبَهَ ما لو بَنَى حائِطًا مائِلًا. 4197 - مسألة: وإن أخْرَجَ جَناحًا إلى الطَّرِيقِ أو مِيزَابًا، فسقَط على إنسانٍ فأتْلَفَهُ، ضَمِنَه؛ لأَنَّ إخراجَ الجَناحِ إلى الطَّريقِ غيرُ جائزٍ؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ في غيرِ مِلْكِه، إذا كان الطريقُ نافِذًا، أو غيرَ نافذٍ ولم يَأْذَنْ فيه أصْحابُه. إذا سقَط على شئٍ فَأتْلَفَه، ضَمِنَه؛ لأنَّه تَلِفَ بعُدْوانِه، فضَمِنَه، كما لو وضَع البِناءَ على أرْضِ الطريقِ. وكذلك الحُكْمُ في المِيزَابِ. وفى ذلك اخْتِلافٌ وتَفْصِيل ذكَرْناه في الغَصْبِ (¬1). واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 15/ 321 - 323.

باب مقادير ديات النفس

بَابُ مَقَادِير دِيَاتِ النَّفْسِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، أَوْ مِائَتَا بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفَا شَاةٍ، أَوْ أَلْفُ مِثْقَالٍ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَهَذِهِ الْخَمْسُ أُصُولٌ في الدِّيَةِ، إِذَا أحْضَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ شَيْئًا مِنْهَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ مقادير دِياتِ النَّفْسِ (دِيَةُ الحُرِّ المسلمِ مِائَةٌ من الإِبِلِ، أو مِائَتا بقَرَةٍ، أو ألْفَا شاةٍ، أو ألْفُ مِثْقالٍ، أو اثْنَا عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ، فهذه الخَمْسُ أُصُولٌ في الدِّيَةِ، إذا أحْضَرَ مَن عليه الدِّيَةُ شيئًا منها، لَزِمَه قَبُولُه) [وجملةُ ذلك، أنَّا إذا قُلْنا: إنَّ هذه الخمسَ أصُولٌ في الدِّيَةِ، إذا أحْضَرَ مَن عليه الدِّيَةُ مِنَ القاتلِ] (¬1) ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أو العاقلةِ شيئًا منها، لَزِمَ الوَلِىَّ أخْذُه، ولم يَكُنْ له المُطالَبَةُ بغيرِه، سواءٌ كان مِن أَهْلِ ذلك النَّوْعِ أو لم يكُنْ؛ لأنَّها أصُولٌ في قَضاءِ الواجِبِ، يُجْزِئُ واحدٌ منها، فكانتِ الخِيَرَةُ إلى مَن وجَبَتْ عليه، كخِصالِ الكفَّارَةِ وشَاتَىِ الجُبْرانِ في الزَّكاةِ مع الدَّراهمِ، وكذلك الحكمُ في الحُلَلِ إذا قُلْنا: إنَّها أصْلٌ. فصل] (¬1): [لا خِلافَ] (¬2) بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ الإِبِلَ أصْل (¬3) في الدِّيَةِ، وأنَّ دِيَةَ الحُرِّ المُسلمِ مَائَةٌ مِن الإبلِ. وقد دَلَّتْ عليه الأحاديثُ الواردةُ، منها حديثُ عمرِو بنِ حَزْمٍ، وحديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو (¬4) في دِيَةِ خَطَأ العَمْدِ، وحديثُ ابنِ مَسْعُودٍ في دِيَةِ الخَطَأَ، وسَنَذْكُرُها إن شاءَ اللَّهُ تعالى. قال القاضى: لا يخْتَلِفُ المذهبُ أنَّ أصولَ الدِّيَةِ الإِبِلُ والذَّهَبُ والوَرِقُ والبَقَرُ والغَنَمُ، فهذه خَمْسَةٌ لا يخْتَلِفُ المذهبُ فيها. وهذا قولُ عمرَ، وعطاءٍ، وطاوُسٍ، والفُقَهاء السَّبْعَةِ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وابنُ أبى لَيْلَى، وأبو يوسف، ومحمدٌ؛ لأَنَّ عمرَو بنَ حَزْمٍ رَوَى في كتابِه أنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ش. (¬2) في م: «ولا نعلم خلافًا». (¬3) في م: «أصول». (¬4) في الأصل، تش: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَب إلى أَهْلِ اليَمَنِ: «وأنَّ في النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَةً مِنَ الإِبِلَ، وعلى أهْلَ الوَرِقِ ألْفَ دِينارٍ». روَاه النَّسَائِىُّ (¬1). ورَوَى ابنُ عَبَّاسٍ أنَّ رَجُلًا مِن بَنِى عَدِىٍّ قُتِلَ، فجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِيَتَه اثْنَىْ عَشَرَ ألْفًا. روَاه أبو داوُدَ، وابنُ ماجَه (¬2). ورَوَى الشَّعْبِىُّ أنَّ عمرَ جعَل على أَهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ (¬3). وعن عمرٍو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ عمرَ قام خَطِيبًا، فقال: ألا إنَّ الإِبلَ قد غَلَتْ. قال: فقَوَّمَ على أهْلَ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ، وعلى أهْلَ الوَرِقِ اثْنَىْ عشرَ ألْفًا، وعلى أَهْلِ البَقَرِ مائَتَى بَقَرَةٍ، وعلى أَهْلِ الشَّاءِ ألْفَىْ شاةٍ، وعلى أَهْلِ الحُلَلِ مائتَى حُلَّةٍ. رواه أبو داودَ (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند النسائى والحاكم في صفحة 309، وعندهما: «أهل الذهب» وليس: «أهل الورق». وهو كذلك عند الدارمى، في: باب كم الدية من الورق والذهب، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 192. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الدية كم هى؛ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 492. وابن ماجه، في: باب دية الخطأ، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 878، 879. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الدية كم هى من الدراهم، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 162. والنسائى، في. باب ذكر الدية من الورق، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 39. والدارمى، في: باب كم الدية من الورق والذهب، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 192. وضعفه في الإرواء 7/ 304، 305. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 292. (¬4) في: باب الدية كم هى؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 491. كما أخرجه البيهقى، في: باب إعواز الإبل، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 77. وحسنه في الإرواء 7/ 305.

4198 - مسألة: (وفى الحلل روايتان، إحداهما، ليست أصلا)

وَفِى الْحُلَلِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، لَيْسَتْ أصْلًا في الدِّيَةِ. وَفِى الْأُخْرَى، أنَّها أَصْلٌ. وَقَدْرُهَا مِائَتَا حُلّةٍ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنَ، كُلُّ حُلَّةٍ بُرْدَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4198 - مسألة: (وفى الحُلَلِ رِوايَتانِ، إحْداهما، ليستْ أصْلًا) لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ألَا إنَّ في قَتِيلِ (1) عَمْدِ الخَطَأِ، قَتِيلِ (¬1) السَّوْطِ والعَصَا، مِائَةً مِن الإبِلِ» (¬2). والثانيةُ أنَّها أصْلٌ؛ لِما ذكَرْنا مِن قولِ عمرَ حينَ قام خَطِيبًا، فجَعَلَ على أَهْلِ الحُلَلِ مائتَىْ حُلَّةٍ. روَاه أبو ¬

(¬1) في الأصل، تش: «قتل». (¬2) انظر صفحة 9، وانظر 11/ 209.

4199 - مسألة: (وعن أحمد)

وَعَنْهُ، أَنَّ الإبِلَ هِىَ الأصْلُ خَاصَّةً، وَهَذِهِ أَبْدَالٌ عَنْهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الإِبِلِ، وَإِلَّا انْتَقَلَ إلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ. وهذا كان بمَحْضَرٍ (¬1) مِن الصَّحابَةِ، فكان إجْماعًا. وكلُّ حُلَّةٍ بُرْدانِ. 4199 - مسألة: (وعَن أحمدَ)، رَحِمَه اللَّهُ (أنَّ الإِبِلَ هى الأصْلُ خاصَّةً) وهذا ظاهرُ كلام الخِرَقِىِّ، وذكَرَه أبو الخَطَّاب عن أحمدَ. وهو قولُ طاوُسٍ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقولِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ألَا إنَّ في قَتِيلِ عَمْدِ الخَطَأ، قَتِيلِ السَّوْطِ، مِائَةً مِنَ الإِبِلِ». ولأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَّقَ بينَ دِيَةِ العَمْدِ والخَطَأ، فغَلَّظَ بعْضَها، وخفَّفَ بَعْضَها، ولا يتَحَقَّقُ هذا في غيرِ الإِبِلِ. ولأنَّه بَدَكُ مُتْلَفٍ حَقًّا لآدَمِىِّ، فكان مُتَعَيِّنًا، كعِوَضِ الأمْوالِ. وحديثُ ابنِ عباسٍ يَحْتَمِلُ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْجَبَ الوَرِقَ بَدَلًا عن الإِبلِ، وإنَّما الخِلافُ في كوْنِها أصْلًا. وحديثُ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ يَدُلُّ على أنَّ الأَصْلَ الإبِلُ، فإنَّ إيجابَه لهذه المذْكُوراتِ على سَبِيلِ التَّقْوِيمِ، لغَلاءِ الإِبِلِ، ولو كانت أُصولًا بنَفْسِها، لم يكنْ إيجابُها تَقْوِيمًا للإِبِلِ، ولا كان لغَلاءِ الإِبِلِ أثَر في ذلك، ولا لذِكْرِه مَعْنًى. وقد رُوِىَ أنَّه كان يُقَوِّمُ الإِبلَ قبلَ أن تَغْلُوَ بثَمانِيةِ آلافِ ¬

(¬1) في الأصل: «بحضرة جماعة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِرْهَمٍ (¬1). ولذلك قيل: إن دِيَةَ الذِّمِّىِّ أرْبَعَةُ آلافٍ. ودِيَتُه نِصْفُ الدِّيَةِ، فكان ذلك أرْبعةَ آلافٍ حينَ كانتِ الدِّيَةُ ثَمانيةَ آلافٍ. فصل: فإذا قُلْنا: إنَّ الأصُولَ خَمْسَةٌ. فإنَّ قَدْرَهَا ما ذكَرْنا في المسْأَلةِ في أوَّلِ البابِ، ولم يَخْتَلِفِ القائِلُونَ بهذه الأُصولِ في قَدْرِها مِن الذَّهَبِ، ولا مِن سائِرِها، إلَّا الوَرِقَ، فإنَّ الثَّوْرِىَّ وأبا حنيفةَ قالوا: قَدْرُها مِنَ الوَرِقِ عَشَرَةُ آلافٍ. وحُكِىَ ذلك عن ابنِ شبْرُمَةَ؛ لِما رَوَى الشَّعْبِىُّ، أنَّ عمرَ جعَل على أَهْلِ الوَرِقِ عَشَرةَ آلافٍ (¬2). ولأَنَّ الدِّينارَ مَعْدُولٌ في الشَّرْعِ بعَشْرةِ دَراهِمَ، بدليلِ أنَّ نِصابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقالًا، ونِصابَ الفِضَّةِ مائتَا دِرْهَمٍ. وبما ذكَرْناه قال الحسنُ، وعُرْوَةُ، ومالكٌ، والشافعىُّ في قولٍ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، وابنِ عبَّاسٍ؛ لِما ذكَرْنا مِن حديثِ ابنِ عباسٍ، وحديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن عمرَ. ولأَنَّ الدِّينارَ مَعْدُولٌ باثْنَى عَشَرَ دِرْهَمًا، بدليلِ أنَّ عمرَ فرَض الجِزْيَةَ على الغَنِىِّ أرْبعةَ دَنانِيرَ أو ثمانيةً وأرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وعلى المُتَوَسِّطِ دِينارَيْنِ، أو أرْبعة وعِشْرين دِرْهمًا، وعلى الفَقِيرِ دِينارًا (¬3) أو اثْنَىْ عشرَ دِرْهَمًا (¬4). وهذا أَولَى ممَّا ذكَرُوه في نِصابِ الزَّكاةِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ أن يكونَ نِصابُ أحَدِهما مَعْدُولًا بنِصابِ الآخَرِ، كما أنَّ السَّائِمَةَ مِن ¬

(¬1) انظر ما أخرجه البيهقى، في: باب إعراز الإبل، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 77. (¬2) تقدم تخريجه عند عبد الرزاق في صفحة 369. (¬3) في م: «دينارين». (¬4) انظر ما تقدم في 10/ 420.

4200 - مسألة: وإذا قلنا: إن الإبل هى الأصل خاصة. فعلى من عليه الدية تسليمها إلى مستحقها سليمة من العيوب، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها، فللآخر منعه، لأن الحق متعين فيها، فاستحقت، كالمثل فى المثليات

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَهِيمةِ الأنْعامِ ليس نِصابُ شئٍ منها مَعْدُولًا بنِصابِ غيرِه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): ليس [مع مَن] (¬2) جَعَلَ الدِّيَةَ عَشَرةَ آلافٍ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدِيثٌ مُرْسَلٌ ولا مُسْنَدٌ، وحَدِيثُ الشعبىِّ عن عمرَ يخالِفُه حديث عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبِيه عن جَدِّه عنه. 4200 - مسألة: وإذا قلنا: إنَّ الإِبِلَ هى الأصْلُ خَاصَّةً. فعلى مَن عليه الدِّيَةُ تَسْلِيمُها إلى مُسْتَحِقِّها سَلِيمَةً مِن العُيُوب، وأَيُّهما أرَادَ العُدُولَ عنها إلى غيرِها، فللآخَرِ مَنْعُه، لأَنَّ الحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فيها، فاسْتُحِقَّتْ، كالمِثْلِ في المِثْلِيَّاتِ (¬3) المُتْلَفَةِ. وإن أعْوَزَتِ الإِبِلُ، أو لم تُوجَدْ إلَّا بأكثرَ مِن ثَمَنِ المِثْلِ، فله العُدولُ إلى ألْفِ دِينارٍ أو اثْنَىْ عشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ. وهذا قولُ الشافعىِّ (¬4) القديمُ. وقال في الجَدِيدِ: تَجِبُ قِيمَةُ الإِبلِ بالِغَةً ما بَلَغَتْ؛ لحدِيثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن عمرَ في تَقْوِيم الإِبلِ، ولأَنَّ ما ضُمِنَ بنَوْعٍ مِن المالِ، وجَبَتْ قِيمَتُه عندَ تَعَذُّرِه، كذَواتِ الأمْثالِ، ولأَنَّ الإِبِلَ إذا أَجْزَأَتْ إذا قَلَّتْ قِيمَتُها، يَنْبَغِى أن تَجِبَ وإن كَثُرَتْ قِيمَتُها، كالدَّنانيرِ إذا غَلَتْ أو رَخُصَتْ. وهكذا يَنْبَغِى أن يقُولَ إذا غَلَتِ الإِبِلُ كلّها، فأمَّا إن كانتِ الإِبلُ مَوْجُودةً بثَمَنِ مِثْلِها، إلَّا أنَّ هذا لم يَجِدْها، لكَوْنِها في غيرِ بلَدِه، فإنَّ عمرَ قَوَّمَ الدِّيَةَ مِن الدَّراهمِ ¬

(¬1) في: التمهيد 17/ 347. (¬2) في الأصل، تش: «على من»، وفى م: «في». (¬3) في م: «المتلفات». (¬4) بعده في م: «في».

4201 - مسألة: (فإن كان القتل عمدا، أو شبه عمد، وجبت أرباعا؛ خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وعنه، أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة فى بطونها أولادها)

فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَجَبَتْ أرْبَاعًا؛ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَعَنْهُ، أنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِهَا أوْلَادُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ باثْنَىْ عَشَرَ ألْفًا، ومن الذَّهَبِ ألْفِ دِينارٍ. 4201 - مسألة: (فإن كان القَتْلُ عَمْدًا، أو شِبْهَ عَمْدٍ، وَجَبَتْ أرْبَاعًا؛ خَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بنتَ لبُونٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ حِقَّة، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ جَذَعَةً. وعنه، أنَّها ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِها أوْلادُها) اخْتلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في مِقْدارِها، فرَوَى جماعةٌ عن أحمدَ أنَّها أرْباعٌ. وكذلك ذكَرَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الزُّهْرِىِّ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، وسليمانَ بنِ يَسارٍ، وأبى حنيفةَ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ مَسْعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ورَوَى جماعةٌ عن أحمدَ، أنَّها ثلاثونَ حِقَّةً، وثَلاثونَ جَذَعَةً، وأرْبعونَ خَلِفَةً في بُطونِها أوْلادُها. وبهذا قال عطاءٌ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، والشافعىُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وزَيْدٍ، وأبى مُوسَى، والمُغِيرَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم؛ لِما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا (¬1) مُتَعَمِّدًا، دُفِعَ إلَى أوْلِياء المَقْتُولِ، فإن شَاءُوا قَتَلُوا، وإن شَاءُوا أخَذُوا الدِّيَةَ، وهى ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعُونَ خَلِفَةً، وما صُولِحُوا عليه فهو لهم». وذلك لتَشْدِيدِ العَقْلِ (¬2). رواه التِّرْمِذِىُّ (¬3)، وقال: هو حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ. وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ألَا إنَّ في قَتِيلِ عَمْدِ الخَطَأ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالعَصَا، مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، مِنْها أرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِهَا أوْلادُها». روَاه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬4). وعن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، أنَّ رَجُلًا يُقال له: قَتادَةُ، حَذَفَ ابْنَه بالسَّيْفِ، فقَتَلَه، فأخَذَ عمرُ منه الدِّيَةَ؛ ثلاثينَ حِقَّةً، وثلاثينَ جَذَعةً، وأرْبعينَ خَلِفَةٍ. روَاه مالِكٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ق. (¬2) في النسخ: «القتل». والمثبت من المصادر. (¬3) في: باب ما جاء في الدية كم هى من الإبل، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 159، 160. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من قتل عمدًا فرضوا بالدية. من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 877. والإمام أحمد، ق: المسند 2/ 183. (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 209، وانظر صفحة 9.

وَهَلْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهَا ثَنَايَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في «المُوَطَّأ» (¬1). ووَجْهُ الأَوَّلِ ما روَى الزُّهْرِىُّ، عن السَّائِبِ [بنِ يَزِيدَ] (¬2)، قال: كانتِ الدِّيَةُ على عَهْدِ رٍ سولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْباعًا؛ خَمْسًا وعِشرينَ جَذَعَةً، وخَمْسًا وعشرينَ حِقَّة، وخَمْسًا وعِشرينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وخمسًا وعِشرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ (¬3). ولأنَّه حَقٌّ يتَعَلَّقُ بجنسِ الحَيوانِ، فلا يُعْتَبَرُ فيه الحَمْلُ، كالزَّكاةِ والأُضْحِيَةِ. والخَلِفَةُ الحامِل. وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في بُطونِهَا أوْلَادُها». تأْكِيدٌ (وهل يُعتبرُ) في الخَلِفاتِ (كَوْنُها ثَنَايَا؟ على وَجْهَيْنِ) أحدُهما، لا يُعْتَبَرُ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أطْلَقَ الخَلِفَاتِ ولم يُقَيِّدْها، فأىُّ ناقةٍ حَمَلَتْ فهى خَلِفَةٌ، تُجْزِئُ في الدِّيَةِ، واعْتِبارُ السِّنِّ تَقْيِيدٌ لا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 867. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: كتاب الديات. المصنف 9/ 129. والبيهقى، في: باب الرجل يقتل ابنه، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 38. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) أخرجه الطبرانى في: الكبير 7/ 179. والحارث ابن أبى أسامة. انظر زوائد مسنده 183. وضعف إسناده في المطالب الحالة 2/ 134، ومجمع الزوائد 6/ 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّانى، يُشْتَرَطُ؛ لأَنَّ في بعْضِ ألْفَاظِ الحديثِ: «أرْبَعُونَ (¬1) خَلِفَةً، ما بينَ ثَنِيَّةِ عَامِهَا إلَى بَازِلٍ (¬2)» (¬3). ولأَنَّ سائِرَ أنْواعِ الإبِل مُقَدَّرَةُ السِّنِّ، فِكذلك الخَلِفَةُ. الذى ذكَره القاضِى هو الأَوَّلُ. والثَّنِيَّةُ التى لها خَمْسُ سِنِينَ ودَخَلَتْ في (¬4) السَّادِسَةِ، وقلَّما تَحْمِلُ إلَّا ثَنِيَّةٌ. ولو أحْضرَها خَلِفَةً، فأَسقَطتْ قبلَ قَبْضِها، فعليه بَدَلُها. فصل: فإنِ اخْتَلَفا في حَمْلِها، رُجِعَ إلى أهْل الخِبْرَةِ، كما يُرْجَعُ في حَمْلِ المرأةِ إلى القَوابِل. وإن تَسَلَّمَها الوَلِىُّ، ثم قال: لم تكُنْ حَوامِلَ، وقد ضَمَرَتْ أجْوَافُها. فقال الجانِى: بل قد وَلَدَتْ عندَك. نَظَرْتَ؛ فإن قَبَضَها بقَوْلِ أهلِ الخِبْرَةِ، فالقولُ قولُ الجانِى؛ لأَنَّ الظاهرَ إصَابَتُهم، وإن قَبَضَها بغيرِ قَوْلِهم، فالقولُ قولُ الوَلِىِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الحَمْلِ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أربعين». (¬2) البازل: بزل ناب البعير، بزلا وبزولا، طلع وذلك في ابتداء السنة التاسعة، وليس بعده سن يسمى. (¬3) بنحوه أخرجه النسائى، في: باب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء، من كتاب الديات. المجتبى 8/ 36. كما أخرجه أبو داود موقوفا على عمر، في: باب في دية الخطأ شبه العمد، من كتات الديات. سنن أبى داود 2/ 493. وقال المنذرى: مجاهد لم يسمع من عمر، فهو منقطع. عون المعبود 4/ 311. (¬4) سقط من: م.

4202 - مسألة: (وإن كان)

وَإِنْ كَانَ خَطَأً، وَجَبَتْ أخْمَاسًا؛ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4202 - مسألة: (وإن كان) القَتْلُ (خَطَأً، وَجَبَتْ أخْماسًا؛ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ ابْنَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً) لا يخْتلِفُ المذهبُ أنَّ دِيَةَ الخَطَأ أخْماسٌ، كما ذكَرْنا. وهذا قولُ ابنِ مَسْعُودٍ، والنَّخَعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى، وابنِ المُنْذِرِ: وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ، والزُّهْرِىُّ، واللَّيْثُ، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ، والشافعىُّ: هى أخْماسٌ. إلَّا أنَّهم جَعَلُوا مكانَ بَنِى مَخاضٍ بَنِى لَبُونٍ. وهكذا روَاه سعيدٌ (¬1)، في «سُنَنِه»، عن النَّخَعِىِّ عن ابنِ مَسْعُودٍ. قال الخَطَّابِىُّ (¬2): رُوِى أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَى الذى قُتِلَ بخَيْبَرَ بمائةٍ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ (¬3). وليس في ¬

(¬1) وأخرجه الدارقطنى، في: سننه 3/ 172، عن أبى عبيدة عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 134، والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 74. من طريق علقمة عن ابن مسعود خلاف ذلك. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 21، 22. (¬2) في: معالم السنن 4/ 9، 10. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب القسامة، من كتاب الديات، وفى: باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضى إلى أمنائه، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 9/ 11، 12، 93، 94. ومسلم، في: باب القسامة، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1292 - 1295. وأبو داود، في: باب القتل بالقسامة، وباب في ترك القود بالقسامة، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 484 - 487. والنسائى، في: باب تبدئة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْنانِ الصَّدَقَةِ ابنُ مَخَاض. ورُوِىَ عن علىٍّ، والحسنِ، والشَّعْبِىِّ، والحارثِ العُكْلِىِّ، وإسْحاقَ، أنَّها أرْباعٌ، كدِ يَةِ العَمْدِ سواءً. وعن زَيْدٍ، أنَّها ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرونَ ابنَ لَبُونٍ، وعِشْرونَ بِنْتَ مَخاضٍ (¬1). وقال طاوسٌ: ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وثلاثونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعَشْرُ بَنِى لَبُونٍ ذُكورٌ (¬2)؛ لِما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّهِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى أنَّ مَن قُتِلَ خَطَأً، فدِيَتُه مِن الإِبِلِ ثَلاثون بنْتَ مَخاضٍ، وثلاثونَ بِنْتَ لبُونٍ، وثلاثون حِقَّةً، وعَشْرُ بَنِى لبونٍ ذُكورٌ. روَاه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬3). وقال أبو ثَوْرٍ: الدِّيات كلُّها أخْماسٌ، كَدِيَةِ الخَطَأَ؛ لأنَّها بَدَلُ مُتْلَفٍ، فلا يخْتلِفُ بالعَمْدِ والخَطَأَ، كسائرِ المُتْلَفاتِ. وحُكِىَ عنه أنَّ دِيَةَ العَمْدِ مُغَلّظَةٌ، ودِيَةَ شِبْهِ العَمْدِ والخَطَأ أخْماسٌ؛ لأَنَّ شِبْهَ العَمْدِ تَحْمِلُه العاقلةُ، فكان أخْماسًا، كدِيَةِ الخَطَأَ. ولَنا، ما رَوَى عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ، قال: ¬

= أهل الدم بالقسامة، وباب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 6 - 12. وابن ماجه، في: باب القسامة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 892، 893. والدارمى، في: باب في القسامة، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 189. والإمام مالك، في: باب تبدئة أهل الدم في القسامة، من كتاب القسامة. الموطأ 2/ 877، 878. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 2، 3، 142. (¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 135. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 74. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 286. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب الدية كم هى؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 491. وابن ماجه، في: باب دية الخطأ، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 878. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 224.

4203 - مسألة: (ويؤخذ فى البقر النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفى الغنم النصف ثنايا، والنصف أجذعة)

وَيُؤْخَذُ في الْبَقَرِ النِّصْفُ مُسِنَّاتٍ، وَالنِّصْفُ أتْبِعَةً، وَفِى الْغَنَمِ النِّصْفُ ثَنَايَا، وَالنِّصْفُ أَجْذِعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في دِيَةِ الخَطَأَ عِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذًعَةً، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بَنِى مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ». روَاه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ، وابنُ ماجَه (¬1). ولأَنَّ ابنَ لَبُونٍ يَجِبُ على طريقِ البَدَلِ عن ابْنَةِ مَخاض في الزَّكاةِ إذا لم يَجِدْها، فلا يُجْمَعُ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ في واجِبٍ، ولأَنَّ مُوجبَهُما واحدٌ، فيَصِيرُ كأنَّه أوْجَبَ أرْبعينَ ابْنَةَ مَخاضٍ، ولأَنَّ ما قُلْناه الأقَلُّ، والزِّيادَةُ عليه لا تَثْبُتُ إلَّا بتَوْقِيفٍ، على مَن ادَّعاهُ الدَّلِيلُ، فأمَّا قَتِيلُ خيْبَرَ، فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ لأنَّهم لم يدَّعُوا القَتْلَ إلَّا عَمْدًا، فتكونُ دِيَتُه دِيَةَ العَمْدِ، وهى مِن أسْنانِ الصَّدَقَةِ، والخِلافُ في دِيَةِ الخَطَأَ. وقول أبى ثَوْرٍ يُخالِفُ الآثارَ المَرْوِيَّةَ التى ذكَرْناها، فلا يُعَوَّلُ عليه. 4203 - مسألة: (ويُؤْخَذُ في البَقَرِ النِّصْفُ مُسِنَّاتٍ، والنِّصْفُ أتْبعَة، وفى الغَنَمِ النِّصْفُ ثَنَايا، والنِّصْفُ أجْذِعَةً) إذا كانتِ الغَنَمُ ضَأْنًا؛ لأَنَّ دِيَةَ الإِبِلِ مِن الأسْنانِ المُقَدَّرةِ (¬2) في الزَّكاةِ، فكذلك البَقَرُ والغَنَمُ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الدية كم هى؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 491. والنسائى، في: باب ذكر أسنان دية الخطأ، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 39. وابن ماجه، في: باب دية الخطأ، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 879. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 450. وانظر ضعيف سنن أبى داود 456. (¬2) في الأصل، تش: «المقدمة».

4204 - مسألة: (ولا تعتبر القيمة فى شئ من ذلك إذا كان سليما من العيوب. وقال أبو الخطاب: يعتبر أن يكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهما. فظاهر هذا أنه يعتبر فى الأصول كلها أن تبلغ

وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ في شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أن يَكُونَ سَلِيمًا مِنٍ الْعُيُوبِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. فَظَاهِرُ هَذَا أنَّهُ يُعْتَبَرُ في الأُصُولِ كُلِّهَا أن تَبْلُغَ دِيَةً مِنَ الْأَثْمَانِ. وَالأوَّلُ أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4204 - مسألة: (ولا تُعْتَبَرُ القِيمَة في شَىْءٍ مِن ذلك إذا كان سَلِيمًا مِنَ العُيُوبِ. وقال أَبُو الخَطَّابِ: يُعْتَبَرُ أن يَكُونَ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِائَةً وعِشْرِينَ دِرْهَمًا. فظاهِرُ هذا أنَّه يُعْتَبَرُ في الأُصُولِ كُلِّهَا أَنْ تَبْلُغَ دِيَةً مِنَ الأثْمانِ. والأَوَّلُ أوْلَى) الصَّحِيحُ أنَّه لا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الإبلِ، بل متى وُجِدَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الصِّفَةِ المَشْرُوطةِ وجَبَ أخْذُها. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وسواءٌ قَلَّتْ قِيمَتها أو كَثُرَتْ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ. وذكَرَ أصْحابُنا أنَّ مذهبَ أحمدَ أن تُؤْخَذَ مِائَة مِنَ الإِبلِ، قِيمَةُ (¬1) كُلِّ بَعِيرٍ منها مِائَةٌ وعِشْرُونَ دِرْهمًا، فإن لم يَقْدِرْ على ذلك، أدَّى اثْنَىْ عَشَرَ ألْف دِرْهَمٍ، أو ألْفَ دِينارٍ؛ لأَنَّ عمرَ قَوَّمَ الإِبلَ على أهْلَ الذَّهَبِ ألْفَ مِثْقالٍ، وعلى أَهْلِ الوَرِقِ اثْنَىْ عشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ (¬2). فدَلَّ على أنَّ ذلك قِيمَتُها، ولأَنَّ هذه أبْدَالُ مَحَلٍّ واحدٍ، فيَجِبُ أن تَتَساوَى في القِيمَةِ، كالمِثْلِ والقِيمَةِ في بَدَلِ القَرْضِ، والمُتْلَفِ في المِثْلِيَّاتِ (¬3). ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَة مِنَ الإِبِلِ» (¬4). وهذا مُطْلَقٌ، فتَقْيِيدُه يُخالِفُ إطْلاقَه، فلم يَجِبْ إلَّا بدليلٍ، ولأنَّها كانتْ تُؤْخَذُ على عَهْدِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقِيمَتها ثمانِيةُ آلافٍ. وقولُ عمرَ في حديثِه: إنَّ الإِبلَ قد غَلَتْ. فقَوَّمَها ¬

(¬1) في الأصل: «ثمن». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 369. (¬3) في الأصل، تش: «المتلفات». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 309.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على أَهْلِ الوَرِقِ اثْنَىْ عَشَرَ ألْفًا. دَلِيلٌ على أنَّها في حالِ رُخْصِها أقَلُّ قِيمَةً مِن ذلك، وقد كانتْ تُؤْخَذُ في زَمَنِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبى بكرٍ، وصدْرًا مِن خِلافَةِ عمرَ، مع رُخْصِها وقِلَّةِ قِيمَتِها ونَقْصِها عن مائةٍ وعِشرِينَ، فإيجابُ ذلك فيها خِلافُ سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرقَ بينَ دِيَةِ الخَطَأ والعَمْدِ، فغَلَّظَ دِيَةَ العَمْدِ، وخَفَّفَ دِيَةَ الخَطَأْ، وأجْمَعَ عليه أهلُ العلمِ، واعْتِبارُها بقِيمَةٍ واحدةٍ تَسْوِيَة بينَهما، وجَمْعٌ بينَ ما فَرَّقَه (¬1) الشَّارِع، وإزَالَةُ التَّخفِيفِ والتَّغْلِيظِ جَمِيعًا، بل هو تَغْلِيظٌ لدِيَةِ (¬2) الخَطَأَ؛ لأَنَّ اعْتِبارَ ابْنَةِ مَخاضٍ بقِيمَةِ ثَنِيَّةٍ أو جَذَعَةٍ، يَشُقُّ جدًّا، فيكونُ تَغْلِيظًا لدِيَةِ (2) الخَطَأ، وتَخْفِيفًا لدِيَةِ (2) العَمْدِ، وهذا خِلافُ ما قَصَدَه الشَّارِعُ، ووَرَدَ به، ولأَنَّ العادةَ نَقْصُ قِيمَةِ بَناتِ المَخَاضِ عق قِيمَةِ الحِقَاقِ والجَذَعَاتِ، فلو كانتْ تُؤَدَّى على عَهْدِ رسولِ ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «فرق به». (¬2) في الأصل: «كدية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقِيمَةٍ واحدةٍ، ويُعْتَبَرُ فيها ذلك، لنُقِلَ، ولم يَجُزِ الإخْلالُ به؛ لأَنَّ ما ورَد الشَّرْعُ به مُطْلقًا إنَّما يُحْمَلُ على العُرْفِ والعادةِ، فإذا أُرِيدَ به ما يُخالِفُ العادةَ، وَجَبَ بَيانُه وإيضاحُه، لِئَلَّا يكونَ تَلْبِيسًا في الشَّرِيعةِ، وإيهامَهُم أنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِلافُ ما هو حُكْمُه على الحَقِيقةِ (¬1)، والنبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُعِثَ للبَيانِ، قال اللَّهُ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2). فكيف يُحْمَلُ قَوْلُه (¬3) على الإِلْباسِ والإِلْغازِ! هذا ما (¬4) لا يَحِلُّ. ثم لو حُمِلَ الأمْرُ على ذلك لَكانَ ذِكْرُ الأسْنانِ عَبَثًا غيرَ مُفِيدٍ، فإنَّ فائدةَ ذلك إنَّما هو لكونِ اخْتِلافِ أسْنانِها مَظِنَّةً لاخْتِلافِ القِيَمِ (¬5)، فأُقِيمَ مُقامَه، ولأَنَّ الإِبلَ الأصْلُ في الدِّيَةِ، فلا تُعْتَبَرُ قِيمَتُها بغيرِها، كالذَّهَبِ والوَرِقِ، ولأنّها أصْلٌ في الوُجوبِ، فلا تُعْتَبَرُ قِيمَتُها، كالإِبلِ في السَّلَم وشاةِ الجُبْرانِ، وحَدِيثُ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ حُجَّة لنا، فإنَّ الإِبلَ كانتْ تُؤْخَذُ -قبلَ أن تَغْلُوَ ويُقَوِّمَها عمرُ- وقِيمَتُها [أقَلُّ (¬6) مِن] (¬7) اثْنَىْ عَشَرَ ألْفًا. وقد قيل: إنَّ قِيمَتَها كانت ثمانيةَ آلافٍ. ولذلك قال عمرُ: ¬

(¬1) في الأصل، تش: «التخفيف». (¬2) سورة النحل 44. (¬3) في م: «قولهم». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل، تش: «الغنم». (¬6) في تش، ق، م: «أكثر»، وفى ر 3: «قبل». والمثبت كما في المغنى 12/ 10. (¬7) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِيَةُ الكِتَابِىِّ أرْبعةُ آلافٍ (¬1). وقولُهم: إنَّها أبْدَالُ مَحَلٍّ واحدٍ. فلَنا أن نَمْنَعَ، ونقُولَ: البَدَلُ إنَّما هو الإِبلُ، وغيرُها مُعْتَبَرٌ بها. وإن سَلَّمْنا، فهو مُنْتَقِضٌ بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فإنَّه لا يُعْتَبَرُ تَساوِيهما، ويَنْتَقِضُ أيضًا بشاةِ الجُبْرانِ مع الدَّراهِمِ. وأمَّا بَدَلُ القَرْضِ والمُتْلَفِ، فإنَّما هو المِثْلُ خاصَّةً، والقِيمَةُ بَدَلٌ عنه، ولذلك لا تَجِبُ إلَّا عندَ العَجْزِ عنه، بخِلافِ مَسْألَتِنا. فإن قيل: فهذا حُجَّةٌ عليكم؛ لِقَوْلِكم: إنَّ الإِبِلَ هى الأصْلُ، وغيرَها بَدَلٌ عنها. فيَجبُ أن يُساوِيَها، كالمِثْلِ والقِيمةِ. قُلْنا: إذا ثبَت لنا هذا، يَنْبَغِى أن يُقَوَّمَ غيرُها بها، ولا تُقَوَّمَ هى بغيرِها؛ لأَنَّ البَدَلَ (¬2) يتْبَعُ الأَصْلَ، ولا يَتْبَعُ الأصْلُ البَدَلَ، على أنَّا نقولُ: إنَّما صِيرَ إلى التَّقْدِيرِ بهذا؛ لأَنَّ عمرَ، رَضىَ اللَّهُ عنه، قوَّمَها في وَقْتِه بذلك، فوَجَبَ المَصِيرُ إليه، كيْلا يُؤَدِّىَ إلى التَّنازُعِ والاخْتِلافِ في قِيمَةِ الإِبلِ الواجبةِ، كما قُدِّرَ لَبَنُ المُصَرَّاةِ بصاعٍ مِنَ التَّمْرِ، نَفْيًا للتَّنازُعِ [في قِيمَتِه، فلا يُوجِبُ هذا أن يُرَدَّ الأصْلُ إلى التَّقْوِيمِ، فيُفْضِى إلى عَكْسِ حِكْمَةِ الشَّرْعِ] (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 93. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 288. والدارقطنى، في: سننه 3/ 130، 131، 146. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 100. وانظر ما تقدم في صفحة 369. (¬2) في الأصل: «المبدل». (¬3) سقط من: الأصل.

4205 - مسألة: (ويؤخذ فى الحلل المتعارف)

وَيُؤْخَذُ في الْحُلَلِ الْمُتَعارَفُ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيهَا، جُعِلَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ووُقُوعِ التَّنازُعِ في قِيمَةِ الإِبِلِ مع وُجُودِها بعَيْنِها، على أنَّ المُعْتَبَرَ في بَدَلَى القَرْضِ مُساواةُ المُقْرَضِ، فاعْتُبِرَ كُلُّ واحدٍ من بَدَلَيْه به (¬1). والدِّيَةُ غيرُ مُعْتَبَرَةٍ بقِيمَةِ المُتْلَفِ، ولهذا لا تُعْتَبَرُ صِفاتُه. وهكذا قولُ أصْحابنا في تَقْوِيمِ البَقَرِ والشاءِ والحُلَلِ، يجبُ أن يكونَ مَبْلَغُ الواجبِ مِن كلِّ صِنْفٍ (¬2) منها اثْنَىْ عَشَرَ ألْفًا، فتكونُ قِيمَةُ كلِّ بَقَرَةٍ أو حُلَّةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا، وقِيمَةُ كلِّ شاةٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لتَتَساوَى الأبْدَالُ كلُّها. 4205 - مسألة: (ويُؤْخَذُ في الحُلَلِ المُتَعارَفُ) مِن ذلك باليَمَنِ، وهى مِائتا حُلَّةٍ؛ كلُّ حُلَّةٍ بُرْدانِ، فتكونُ أرْبَعَمائةِ بُرْدَةٍ (فإن تَنازَعا، جُعِلَتْ قِيمَةُ كلِّ حُلَّةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا) لَتَبلُغَ قيمةُ الجميعِ اثْنَىْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «له». (¬2) في الأصل، تش: «صفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُقْبَلُ في الإِبلِ مَعِيبٌ، ولا أعْجَفُ (¬1)، ولا يُعْتَبَرُ فيها أن تكونَ من جِنْسِ إبِلِه، ولا إبلِ بَلَدِه. وقال القاضى، وأصْحابُ الشافعىِّ: الواجبُ عليه مِن جِنْسِ إبلِه، سواءٌ كان القاتِلَ أو العاقِلَةَ؛ لأَنَّ وجُوبَها على سَبِيلِ المُواساةِ، فيَجِبُ كَوْنُها مِن جِنْسِ مالِهم، كالزَّكاةِ، فإذا كان عندَ بَعْضِ العاقلةِ عِرَابٌ، وعندَ بعْضِهم بخَاتِىٌّ (¬2)، أُخِذَ من كلِّ واحدٍ مِن جِنْسِ ما عندَه. وإن كان عندَ واحدٍ صِنْفانِ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يؤْخَذُ من كلِّ صِنْفٍ بقِسْطِه. والثَّانى، يُؤْخَذُ مِن الأكْثرَ، فإنِ اسْتَوَيا، دَفَع مِن أيِّهما شاءَ، فإن دَفعَ مِن غيرِ إبلِه خَيْرًا مِن إبِلِه أو مِثْلَها، جازَ، كما لو أخْرَجَ في الزَّكاةِ خيرًا مِنَ الواجِبِ، وإن كان أدْوَنَ لم يُقْبَلْ، إلَّا أن يَرْضَى المُسْتَحِقُّ. وإن لم يَكُنْ له إبِلٌ، فمِن غالِبِ إبلِ البَلَدِ، فإن لم يَكُنْ في البلدِ إبِلٌ، وجَبَتْ مِن غالبِ إبلِ أقْرَبِ البِلادِ إليه. فإن كانت إبِلُه عِجافًا أو مِراضًا، كُلِّفَ تَحْصِيلَ صِحَاحٍ مِن صِنْفِ ما عندَه؛ لأنَّه بَدَلُ مُتْلَفٍ، فلا يُؤْخَذُ فيه مَعِيبٌ، كقِيمَةِ الثَّوْب المُتْلَفِ. ونحوَ هذا قال أصْحابُنا في البَقَرِ والغَنَمِ. ولَنا، قولُ النّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ» (¬3). أطْلَقَ الإِبلَ، فمَن قَيَّدَها احْتاجَ إلى ¬

(¬1) أى ضعيف. (¬2) جمع بُخْت، وهى الإبل الخراسانية. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 309.

فصل

فَصْلٌ: وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ دلِيلٍ، ولأنَّها بَدَلُ مُتْلَفٍ، فلم يَخْتَصَّ بجِنْسِ مالِه، كبَدَلِ سائرِ المُتْلَفاتِ، ولأنَّها حَقٌّ ليس سَبَبُه المالَ، فلم يُعْتَبَرْ فيه كوْنُه مِن جِنْسِ مالِه، كالمُسْلَمِ فيه والقَرْض، ولأَنَّ المَقْصُودَ بالدِّيَةِ جَبْرُ المَفُوتِ، والجَبْرُ لا يَخْتَصُّ بجِنْسِ مالِ مَن وَجَبَ عليه. وفارَقَ الزَّكاةَ، فإنَّها وجَبَتْ على سَبِيلِ المُواساةِ، ليُشارِكَ الفُقَراءُ (¬1) الأغْنِياءَ فيما أنْعَمَ اللَّهُ عليهم به، فاقْتَضَى كَوْنَه مِن جنْسِ أمْوالِهم، وهذا بَدَلُ مُتْلَفٍ، فلا وَجْهَ لتَخْصِيصِه بمالِه. وقوَلُهم: إنَّها مُواسَاة. لا يَصحُّ، وإنَّما وجَبَتْ جَبْرًا للفائِتِ، كبَدَلِ المالِ المُتْلَفِ، وإنَّما العاقلةُ تُواسِى القاتِلَ فيما وَجَب بجِنايَتِه، ولهذا لا تَجِبُ مِن جِنْسِ أمْوالِهم إذا لم يكُونُوا ذَوِى إبلٍ، والواجبُ بجِنايَتِه إبلٌ مُطْلَقَةٌ، فتُواسِيهِ في تَحَمُّلِها، ولأنَّها لو وجَبَتْ مِن جِنْسِ مالِهم، لوَجَبَتِ المَرِيضَةُ مِن المِرَاضِ، والصَّغِيرةُ مِن الصِّغار، كالزَّكاةِ. فصل: (ودِيَةُ المرأةِ نِصْفُ ديَةِ الرَّجُلِ) إذا كانتِ المرأةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فدِيَتُها نِصْفُ دِيَةِ الحُر المُسلِمِ. أجْمَعَ على ذلك أهلُ العلمِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الفقير».

4206 - مسألة: (ويساوى جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت، صارت على النصف)

وَيُسَاوِى جِرَاحُهَا جِرَاحَهُ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَتْ، صَارَتْ عَلَى النِّصْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكرَه ابن المُنْذِرِ (¬1)، وابنُ عبدِ البَرِّ (¬2). وحَكى غيرُهما عن ابنِ عُلَيَّةَ، والأصَمِّ، أنَّهما قالَا؛ دِيَتُها كدِيَةِ الرَّجُلِ؛ لقوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «فِى النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَة مِنَ الإِبِلِ». وهذا قولٌ شاذٌّ يُخالِفُ إجْماعَ الصَّحابةِ وسُنَّةَ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ في كتابِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «دِيَةُ المَرْأةِ على النِّصْفِ مِن ديَةِ الرَّجُلِ» (¬3). وهو أخَصُّ ممَّا ذكَرُوه، وهما في كتابٍ واحدٍ، فيكَونُ ما ذكَرنا مُفَسِّرًا لما ذكَرُوه، مُخَصِّصًا له. 4206 - مسألة: (ويُساوِى جِراحُ المرأةِ جِراحَ الرَّجُلِ إلى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فإذا زادَتْ، صارَت على النِّصْفِ) رُوِى هذا عن عمرَ، وابْنِه، وزيدِ بنِ ثابتٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، وعُرْوَةُ بن الزُّبَيْرِ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادةُ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ. قال ابنُ عبدِ ¬

(¬1) انظر: الإجماع 72، والإشراف 3/ 92. (¬2) انظر: الاستذكار 25/ 63، والتمهيد 17/ 358. (¬3) ليس في كتاب عمرو بن حزم. انظر تلخيص الحبير 4/ 24، الإرواء 7/ 306، 307. وقد أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 95. عن معاذ بن جبل مرفوعا، وضعف إسناده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَرِّ (¬1): وهو قولُ فُقَهاءِ المَدِينَةِ السَّبْعةِ، وجُمْهورِ أهلِ المدِينةِ. وحُكِىَ عن الشافعىِّ في القَديمِ. وقال الحسنُ: يَسْتَوِيانِ إلى النِّصْفِ (¬2). ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّها على النِّصْفِ فيما قَلَّ أو كَثرُ (¬3). ورُوِىَ ذلك عن ابنَ سِيرِينَ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، وابنُ أبى لَيْلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو حَنِيفةَ وأصْحابُه، [وأبو ثَوْرٍ] (¬4)، والشافعىُّ في ظاهرِ مَذْهَبِه. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ (¬5)؛ لأنَّهما شَخْصانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهما، فاخْتَلَفَ أَرْشُ أطْرافِهِما، كالمُسلمِ والكافرِ، ولأنَّها جِنايةٌ لها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ (¬6)، فكان من المرأةِ على النِّصْفِ مِن الرَّجُلِ، كاليَدِ. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: تُعاقِلُ المرأةُ الرَّجُلَ إلى نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، فإذا زادَ على ذلك، فهى على النِّصْفِ؛ لأنَّها (¬7) تُساوِيه في ¬

(¬1) انظر: التمهيد 17/ 358. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 301. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في: باب متى يعاقل الرجل المرأة، من كتاب العقول. المصنف 9/ 397. والبيهقى في: باب ما جاء في جراح المرأة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 96. (¬4) سقط من: م. (¬5) الإشراف 3/ 92. (¬6) سقط من: م. (¬7) في النسخ: «كأنها». وانظر المغنى 12/ 57. وانظر قول ابن مسعود بنحوه في مصنف عبد الرزاق 9/ 397، ومصنف ابن أبى شيبة 9/ 299، 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُوضِحَةِ. ورَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عَقْلُ المَرأةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغ الثُّلُثَ مِن دِيَتِهَا». أخْرَجه النَّسائِىُّ (¬1). وهو نَصٌّ يُقَدَّمُ على ما سِواه. وقال رَبِيعَةُ: قلتُ لسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ: كم في إصْبَعِ المرأةِ؟ قال: عَشْرٌ. قلتُ: ففى إصْبَعَيْنِ؟ قال: عِشْرُونَ. قلتُ: ففى ثَلاثِ أصابعَ؟ قال: ثلاثُونَ. قلتُ: ففى أرْبَعٍ؟ قال: عِشْرُون. قال: قلتُ: لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُها قلَّ عَقْلُها؟ قال: هكذا السُّنَّةُ يا ابْنَ أخِى (¬2). وهذا يَقْتَضِى سُنَّةَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. روَاه سعيدُ بنُ مَنْصورٍ. ولأنَّه إجْماعُ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، إذ لم يُنْقَلْ عنهم خِلافُ ذلك، إلَّا عن علىٍّ، ولا نَعْلَمُ ثبوتَ ذلك عنه، ولأنّ ما دُونَ الثُّلُثِ يَسْتَوِى فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، بدليلِ الجَنِينِ، فإنَّه يَسْتَوِى فيه دِيَةُ (¬3) الذَّكَرِ والأُنْثَى. فأمَّا الثُّلُثُ نَفْسُه، ففيه رِوايتان؛ إحداهما، يَسْتَوِيان فيه؛ لأنَّه لم يَعْبُرْ (¬4) حَدَّ القِلَّةِ، ولهذا ¬

(¬1) في: باب عقل المرأة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 40. وضعفه في الإرواء 7/ 309. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في عقل الأصابع، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 860. وعبد الرزاق، في: باب متى يعاقل الرجل المرأة، من كتاب العقول. المصنف 9/ 394، 395. وابن أبى شيبة، في: باب في جراحات الرجال والنساء، من كتاب الديات. المصنف 9/ 302. والبيهقى، في: باب ما جاء في جراح المرأة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 96. وصححه في الإرواء 7/ 309. (¬3) سقط من: تش. (¬4) في تش، م: «يعتبر».

4207 - مسألة: (ودية الخنثى المشكل نصف دية ذكر

وَدِيَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِل نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى، وَكَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحَّتِ الوَصِيَّةُ به. والثانيةُ، يخْتَلِفان فيه. وهو الصَّحِيحُ؛ لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ». و «حتى» للغايةِ. فيَجبُ أن تكونَ مُخالِفَةً لِما قَبْلَها؛ لقوْلِ اللَّهِ تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬1). ولأَنَّ الثُّلُثَ في حَدِّ الكَثْرَةِ؛ لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «والثُّلُثُ كَثِيرٌ» (¬2). ولأَنَّ العاقلةَ تَحْمِلُه، فدَلَّ على أنَّه مُخالِفٌ لِما دُونَه. فأمَّا دِيَةُ نِساءِ سائرِ أهلِ الأدْيانِ (¬3)، فقال أصْحابُنا: تُساوِى دِياتُهُنَّ دِياتِ رِجالِهم إلى الثُّلُثِ؛ لعُمُومِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «عَقْلُ المَرْأةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِن دِيَتِها». ولأَنَّ الواجِبَ دِيَةُ امرأةٍ، فساوَتْ دِيَةَ الرَّجُلِ من أهلِ دِينِها (¬4)، كالمسلمِين. ويَحْتَمِلُ أن تُساوِىَ المرأةُ الرَّجُلَ إلى ثُلُثِ دِيَةِ الرجلِ المسلمِ؛ لأنَّه القَدْرُ الكثيرُ (¬5) الذى ثبَت له التَّنْصِيفُ في الأَصْلِ، وهو دِيَةُ المسلِمِين (¬6). [وهكذا أَرْشُ جِراحةِ المسلمين] (¬7). 4207 - مسألة: (ودِيَةُ الخُنْثَى المُشْكِلِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ ¬

(¬1) سورة التوبة 29. (¬2) تقدم تخريجه في 11/ 343. (¬3) في الأصل: «الديات». (¬4) في الأصل: «ديتها». (¬5) في الأصل: «الكبير». (¬6) سقط من: م. (¬7) زيادة من: م.

فصل

أَرْشُ جِرَاحِهِ. فَصْلٌ: وَدِيَةُ الْكِتَابِىِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَعَنْهُ، ثُلُثُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ونِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى) وذلك ثَلاثةُ أرْباعِ دِيَةِ (¬1) الذَّكَرِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ الذُّكورِيَّةَ والأُنُوثِيَّةَ. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْى. وعندَ الشافعىِّ، الواجِبُ دِيَةُ أُنْثَى؛ لأنَّها اليَقِينُ، فلا يجبُ الزَّائِدُ بالشَّكِّ. ولَنا، أنَّه يَحْتَمِلُ الذُّكُورِيَّةَ والأُنوثِيَّةَ احْتِمالًا واحدًا، وقد يَئِسْنا مِن انْكِشافِ حالِه، فيجبُ التَّوَسُّطُ بينَهما، والعملُ بكِلا الاحْتِماليْنِ. فصل: ويُقادُ به الذَّكَرُ والأُنْثَى؛ لأنَّهما لا يَخْتَلِفانِ في القَوَدِ، ويُقَادُ هو بكلِّ واحدٍ منهما، فأمَّا جِراحُه؛ فإن كانت دُونَ الثُّلُثِ، اسْتَوَى الذَّكرُ والأُنْثَى؛ لأَنَّ أدْنَى حالَيْه (¬2) أن يكونَ امرأةً، وهى تُساوِى الذَّكرَ على ما بيَّنَّا، وفيما زادَ ثَلاثةُ أرباعَ جُرحِ (¬3) ذَكَرٍ. فصل: (ودِيَةُ الكِتابِىِّ نِصْفُ دِيَةِ المسْلِمِ) إذا كان حُرًّا (ونِساؤُهم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «حالته». (¬3) في م: «حر».

دِيَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على النِّصْفِ من دِياتِهِم) هذا ظاهِر المذهبِ. وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وعُرْوَةَ، ومالكٍ، وعمرِو بنِ شُعَيْبٍ. وعنه أنَّها ثُلُثُ. دِيَةِ المسلمِ، إلَّا أنَّه رجَع عنها، فرَوَى عنه صالِحٌ، أنَّه قال: كنتُ أقولُ: دِيَةُ اليَهُودِىِّ والنصْرانِىِّ أرْبَعةُ آلافٍ، وأنا اليومَ أذْهَبُ إلى نِصْفِ دِيَةِ المُسْلِمِ، حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، وحديثِ عثمانَ الذى يَرْوِيه الزُّهْرِىُّ عن سالم عن أَبِيه (¬1). وهذا صَرِيح في الرُّجُوعِ عنه. ورُوِىَ عن عمرَ، وعُثمانَ، أنَّ دِيَتَه أرْبَعةُ آلافِ دِرْهَم (¬2). وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاء، وعِكْرِمَةُ، وعَمْرُو بنُ دِينارٍ، والشافعى، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ؛ لِما رَوَى عُبادَةُ بن الصَّامِت أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «دِيَةُ اليَهُودِىِّ والنَّصْرانِىِّ، أرْبَعَةُ آلافٍ أرْبَعَةُ آلافٍ» (¬3). ورُوِىَ أنَّ ¬

(¬1) حديث عمرو بن شعيب يأتى قريبا. وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق، في: باب دية المجوسى، من كتاب العقول. المصنف 10/ 96. والبيهقى, في: باب الروايات فيه عن عثمان، رضي اللَّه عنه، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 33. (¬2) حديث عمر تقدم تخريجه في صفحة 385. وحديث عثمان أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال: الذمى على النصف أو أقل، من كتاب الديات. المصنف 9/ 289. والبيهقى، في: باب دية أهل الذمة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 100. (¬3) ذكر ابن حجر، في: تلخيص الحبير 4/ 25 أن أَبا إسحاق الإسفراينى عزاه كتاب أدب الجدل لموسى ابن عقبة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، رَضِىَ اللَّه عنه، جعَل دِيَةَ اليَهُودِى والنَّصْرانِىِّ أرْبَعَةَ آلافٍ، ودِيَةَ المَجُوسِىِّ ثمانمائةِ دِرْهَم. وقال عَلْقَمَةُ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: دِيَتُه كدِيَةِ المُسلمِ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعُثمانَ، وابنِ مسعودٍ، ومُعاوِيةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): هو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِىِّ؛ لِما رَوَى عمرُو ابنُ شُعَيْب، عن أَبِيه، عن جَدِّه، أنَّه قال: دِيَةُ اليَهُودِىِّ والنَّصْرَانِىِّ مِثْلُ دِيَةِ المُسْلِمِ (¬2). ولأَنَّ اللَّه سبحانه ذكَر في كتابِه دِيَةَ المسلمِ، وِقال: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬3). وقال في الذِّمِّىِّ مثلَ ذلك، ولم يُفَرِّقْ، فدَلَّ على أنَّ دِيَتَهُما واحدة، ولأنَّه حُرٌّ ذَكَرٌ مَعْصُومٌ، فتَكْمُلُ دِيَتُه كالمُسْلِمِ. ولَنا، ما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أَبِيه، عن جَدِّه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «دِيَةُ المُعَاهَدِ نِصْف دِيَةِ المُسْلِمِ» (¬4). وفى لفظٍ أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى أنَّ عَقْلَ أَهْلِ الكِتابِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمينَ. روَه الإِمامُ ¬

(¬1) في: التمهيد 17/ 360. (¬2) كذا ذكر المصنف ههنا موقوفًا، وذكره في المغنى 10/ 52 مرفوعًا إلى النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولم نجده عن عمرو ابن شعيب عن أَبيه عن جده لا مرفوعًا ولا موقوفًا. وأخرجه الإمام أبو حنيفة مرفوعا من حديث أبى هريرة، في: كتاب الجنايات. مسند أبى حنيفة 217. (¬3) سورة النساء 92. (¬4) عزاه الهيثمي في: مجمع الزوائد 6/ 299. إلى الطبرانى في الأوسط من حديث ابن عمر، وقال: وفيه جماعة لم أعرفهم. وأخرجه الدارقطنى موقوفًا على ابن مسعود، في: سننه 3/ 149.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدُ (¬1). وفى لفظٍ: «دِيَةُ المُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ» (¬2). قال الخَطَّابِىُّ (¬3): ليس في دِيَةِ أَهْلِ الكِتابِ شئٌ أبْيَنُ مِن هذا, ولا بَأْسَ بإسْنادِه، وقد قال به أحمدُ، وقولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى. فأمَّا حَدِيثُ عُبادَةَ، فلم يذْكُرْه أصْحابُ السُّنَنِ، والظاهرُ أنَّه ليس بصَحِيحٍ. وحديثُ عمرَ، إنَّما كان ذلك حينَ كانتِ الدِّيَةُ ثمانيةَ آلافٍ، فأوْجَبَ فيه نِصْفَها أرْبعةَ آلافٍ، ودليلُ ذلك ما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أَبِيه، عن جَدِّه، قال: كانت قِيمَةُ الدِّيَةِ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانمائةِ دِينارٍ، أو (¬4) ثمانيةَ آلافِ دِرْهَمٍ، ودِيَةُ أَهْلِ الكتابِ يَوْمَئذٍ النِّصْفُ (¬5). فهذا بَيانٌ وشَرْحٌ يُزِيلُ الإِشْكالَ، وفيه جَمْعٌ للأحادِيثِ، فيكونُ دَلِيلًا لنا، ولو لم يَكُنْ كذلك، لَكانَ قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُقَدَّمًا على قولِ عمرَ وغيرِه بغيرِ إشْكالٍ، فقدكان عمرُ، رَضِىَ اللَّه عنه، إذا بَلَغَه عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُنَّةٌ، ترَك قولَه وعَمِلَ بها، فكيف يَسُوغُ لأحَدٍ أن يَحْتَجَّ بقَوْلِه في تَرْكِ قوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-! وأمَّا ما احْتَجَّ به الآخَرُونَ، فإنَّ الصَّحِيحَ من حديثِ عمرِو ¬

(¬1) في: المسند 2/ 183، 224. كما أخرجه أبو داود، في: باب الدية كم هى؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 491. والنسائى، في: باب كم دية الكافر؟ من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 40. والترمذى، في: باب ما جاء في دية الكفار، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 182. وابن ماجه، في: باب دية الكافر، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 883. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في دية الذمى، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 500. (¬3) في: معالم السنن 4/ 37، 38. (¬4) في النسخ: «و». والمثبت كما في سنن أبى داود. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 369.

4208 - مسألة: (وجراحاتهم)

وَكَذَلِكَ جِرَاحُهُمْ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ شُعَيْبٍ ما رَوَيْناه، أخْرَجَه الأئِمَّةُ في كُتُبِهم دُونَ ما رَوَوْه، وأمَّا [ما رَوَوْه مِن] (¬1) قوْلِ الصَّحابةِ، فقد رُوِىَ عنهم خِلافُه، فيُحْمَلُ قولُهم في إيجابِ الدِّيَةِ كاملةً على سَبِيلِ التَّغْلِيظِ. قال أحمدُ: إنَّما غَلَّظَ عُثمان الدِّيَةَ عليه؛ لأنَّه كان عَمْدًا، فلمَّا ترَك القَوَدَ غَلَّظَ عليه. وكذلك حديثُ مُعاوِيةَ (¬2)، ومثلُ هذا ما رُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، حينَ انْتَحَر رَقِيقُ حاطبٍ ناقَةً لرَجُلٍ مُزَنِىٍّ، فقال عمرُ لحاطِبٍ: إنِّى (¬3) أراكَ تُجِيعُهم، لأُغْرِمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عليك. فأَغْرَمَه مِثْلَىْ قِيمَتِها (¬4). 4208 - مسألة: (وجِراحاتُهم) (¬5) مِن (¬6) دِيَاتِهم كجِراحاتِ المُسْلِمِينَ مِن دِيَاتِهم، قِياسًا عليهم. قال الأَثْرَمُ: قيل لأبى عبدِ اللَّهِ: جَنَى على مَجُوسِىٍّ في عَيْنه وفى يَدِه؟ قال: يكون بحِسابِ دِيته، كما أنَّ المسلمَ يُؤْخَذُ بالحِسابِ، فكذلك هذا. قيل. قطَع يَدَه؟ قال بالنِّصْفِ من دِيَتِه. 4209 - مسألة: (ونِساؤُهم على النِّصْفِ مِن دِيَاتِهم) لا نعلمُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 96. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10/ 238، 239. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 278. (¬5) بعده في م: «على النصف». (¬6) في الأصل: «مثل».

4210 - مسألة: (ودية المجوسى والوثنى ثمانمائة درهم)

وَدِيَةُ المَجُوسِىِّ وَالْوَثَنِىِّ ثَمَانُمِائةِ دِرْهَمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في هذا خِلافًا. قال ابن المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ دِيَةَ المرأةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. ولأنَّه لَمَّا كان دِيَةُ نِساءِ المسْلِمِينَ على النِّصْفِ من دِياتِهم، كذلك نِساءُ أَهْلِ الكِتابِ، قِياسًا عليهم. 4210 - مسألة: (ودِيَةُ المَجُوسِىِّ والوَثَنِىِّ ثَمانمائةِ دِرْهَمٍ) ذهبَ أكْثَرُ أهلِ العلمِ إلى هذا في دِيَةِ المَجُوسِىِّ. قال أحمدُ: ما أقَلَّ مَن اخْتَلَفَ في دِيَةِ المَجُوسِىِّ. وممَّن قال ذلك عمرُ، وعُثمانُ، وابنُ مسعودٍ، وسعيدُ بن المُسَيَّبِ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، والحسنُ، ومالكٌ، والشافعىٌ، وإسحاقُ. ويُرْوَى عن عمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ أنَّه قال: دِيَتُه نِصْفُ دِيَةِ المسلمِ، كدِيَةِ الكِتابِىِّ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «سُنُّوا بِهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتابِ» (¬2). وقال النَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، ¬

(¬1) انظر: الإجماع 72، الإشراف 3/ 92. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 127.

4211 - مسألة: فأما عبدة الأوثان، وسائر من ليس له كتاب، كالترك، ومن عبد ما استحسن، فلا ذمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأْى: دِيَتُه كدِيَةِ المسلمِ؛ لأنَّه آدَمِىٌّ حُر مَعْصُوم، فأشْبَهَ المسلمَ (¬1). ولَنا، قولُ مَن سَميْنَا مِن الصحابةِ، ولم نَعْرِف لهم في عَصْرِهم مُخالِفًا، فكان إجْماعًا. وقَوْلُه عليه السلامُ: «سُنُّوا بِهم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ». يعْنى في أخْذِ جِزْيَتهم، وحَقْنِ دِمائهم، بدليلِ أنَّ ذَبائحَهم ونِساءَهم لا تَحِلُّ لنا, ولا يجوزُ اعْتِبارُه بالمسلمِ ولا بالكِتابِىِّ؛ لنُقْصانِ دِينهِ (¬2) وأحكامِه عنهما، فيَنْبَغِى أن تَنْقُصَ دِيَتُه، كنَقْصِ المرأةِ عن دِيَةِ الرجلِ. وسَواء كان المجُوسِىُّ ذِميًّا أو مُسْتَأمِنًا؛ لأنَّه مَحْقُونُ الدَّمِ. ونِساؤُهم على النِّصْفِ من دِيَاتِهم. وجِراحُ كلِّ واحدٍ مُعْتَبَرَة من دِيته كالمسْلِمِ. 4211 - مسألة: فأمَّا عَبَدَةُ الأوْثانِ، وسائِرُ مَن ليس له كِتابٌ، كَالتُّرْكِ، ومَن عبَد ما اسْتَحْسن، فلا ذِمَّةَ (¬3) لهم، وإنَّما تُحْقَنُ دِمَاؤُهم بِالأمانِ، فإذا قُتِلَ مَن له أمَانٌ منهم، فدِيَتُه دِيَةُ مَجُوسِىٍّ؛ لأنَّها أقَلُّ الدِّيَاتِ، فلا يَنْقُصُ عنها, ولأنَّه كافرٌ ذو عَهْدٍ لا تَحِلُّ مُناكَحَتُه، فأَشْبَهَ ¬

(¬1) في تش: «المعصوم». (¬2) في ر 3، م: «ديته». (¬3) في ق: «دية».

4212 - مسألة: (ومن لم تبلغه الدعوة، فلا ضمان فيه)

وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، فَلا ضمَانَ فِيهِ. وَعِنْدَ أبى الْخَطَّابِ، إِنْ كَانَ ذَا دِينٍ، فَفِيهِ دِيَةُ أَهْلَ دِينهِ، وَإِلَّا فَلا شَىْءَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المجُوسِىِّ. 4212 - مسألة: (ومَن لم تَبْلُغْه الدَّعْوَةُ، فلا ضَمانَ فيه) مَن لم تَبْلُغْه الدَّعوةُ مِن الكُفَّارِ، إن وُجِدَ، لم يَجُزْ قَتْلُه حتَّى يُدْعَى، فإن قُتِلَ (¬1) قبلَ الدَّعْوةِ مِن غيرِ أن يُعْطَى أمانًا، فلا ضَمانَ فيه؛ لأنَّه لا عَهْدَ له ولا أيْمانَ، فأشْبَهَ امرأةَ الحَرْبِىِّ وابنَه الصَّغِيرَ، وإنَّما حَرُمَ قتْلُه لتَبْلُغَه الدَّعْوةُ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ وقال أبو الخَطَّابِ: إن كان ذَا دِينٍ، فدِيَتُه دِيَةُ أَهْلِ دِينِه. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه مَحْقونُ الدَّمِ، أشْبَهَ مَن له أمانٌ. والأوَّل أولَى؛ فإنَّ هذا ينْتَقِضُ بصِبْيانِ أهلِ الحَرْبِ ومَجانِينهم، ولأنَّه كافرٌ لا عهدَ له، فلم يُضْمَنْ، كالصِّبْيانِ. فأمَّا إن كان له عَهْدٌ، ففيه دِيَةُ أهلِ دِينه، فإن لم يُعْرَفْ دِينُه، ففيه دِيَةُ المجُوسِىِّ؛ لأنَّه اليَقِينُ، والزِّيادةُ مَشْكُوكٌ فيها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

فصل

فَصْلٌ: وَدِيَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ قِيمَتُهُمَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وَعَنْهُ، لا يُبْلَغُ بِهَا دِيَةُ الْحُرِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ودِيَةُ العَبْدِ والأمَة قِيمَتُهما بالِغَةً ما بَلَغَتْ. وعنه، لا يُبْلَغُ بها دِيَةُ الحُرِّ) أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ في (¬1) العَبْدِ الذى لا تَبْلُغُ قِيمَتُه دِيَةَ الحُرِّ، قِيمَتَه. فإن بَلَغَتْ قِيمَتُه دِيَةَ الحُرِّ أو (¬2) زادَتْ عليها، فذهبَ أحمدُ، رَحِمَهُ اللَّه، في المشْهُورِ عنه، إلى أنَّ فيه قِيمَتَه بالِغَةً ما بَلَغَتْ، عَمْدًا كان القَتْلُ أو خَطَأً، سواء ضمنَ باليَدِ أو بالجِنايةِ. وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، وإيَاسِ ابنِ مُعاوِيةَ، والزُّهْرِىِّ، ومَكْحُولٍ، ومالكٍ، والأوْزاعِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأبى يوسفَ. وقال النَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ: لا يُبْلَغُ به دِيَةُ الحُرِّ. وحَكَاها أبو الخَطَّابِ رِوايةً عن أحمدَ. وقال أبو حنيفةَ: يَنْقُصُ عن دِيَةِ الحُرِّ دِينارًا، أو عَشَرَةَ دَراهِمَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل، تش، ق، م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَدْرَ الذى يُقْطَعُ به السَّارِقُ، هذا إذا ضمِنَ بالجِنايةِ، وإن ضمِنَ باليَدِ، مثلَ أن يغْصِبَ عبْدًا فيَمُوتَ في يَدِه، فإنَّ قِيمَتَه تَجبُ وإن زادتْ على دِيَةِ الحُرِّ. واحْتَجوا بأنه ضَمان آدَمِىٍّ، فلم يَزِدْ على دِيَةِ الحُرِّ، كضَمانِ الحرِّ، وذلك لأَنَّ اللَّه تعالى لَمَّا أوْجَبَ في الحُرِّ دِيَة لا تَزِيدُ، وهو أشْرَفُ لخُلُوِّه من (¬1) نَقْصِ الرِّقِّ، كان تَنْبِيهًا على أنَّ العَبْدَ المنْقُوصَ لا يُزادُ عليها، فتُجْعَلُ مالِيَّةُ العَبْدِ مِعْيارًا للقَدْرِ الواجِبِ فيه، ما لم يَزِدْ على الدِّيَةِ، فإن زادَ، عَلِمْنا خَطَأَ ذلك، فنَرُدُّه إلى دِيَةِ الحُرِّ، كأَرْشِ ما دُونَ المُوضِحَةِ، يجبُ فيه ما تُخْرِجُه الحُكُومةُ، ما لم يَزِدْ على أَرْشِ المُوضِحَةِ، فنَرُدُّه إليها. ولَنا، أنَّه مالٌ مُتَقَوَّمٌ، فيُضْمَنُ بكَمالِ قِيمَتِه بالغةً ما بَلَغَتْ، كالفَرَسِ، أو مَضْمُونٌ بقِيمَتِه، فكانتْ جميعَ القِيمَةِ (¬2). كما لو ضمِنَه باليَدِ، ويُخالِفُ الحُرَّ، فإنَّه ليس مَضْمُونًا بالقِيمَةِ، [وإنَّما ضُمِنَ بما قَدَّرَه الشَّرْعُ، فلم يتَجاوَزْه، ولأَنَّ ضَمانَ الحُرِّ ليس بضَمانِ مالٍ، ولذلك لم يختلِفْ باخْتِلافِ صِفَاتِه] (¬3)، وهذا ضَمانُ مالٍ، يَزِيدُ بزِيادةِ المالِيَّةِ، ويَنْقُصُ بنُقْصانِها، فاخْتَلَفا. ¬

(¬1) في ق، م: «عن». (¬2) بعده في م: «مضمونة». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ في هذا الحكمِ بينَ القِنِّ مِن العَبِيدِ والمُدَبَّرِ والمُكاتَبِ وأُمِّ الوَلَدِ. قال الخَطَّابِىُّ (¬1): أجْمَعَ عَوامُّ الفُقَهاء، على أنَّ المُكاتَبَ عَبْد ما بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ في جِنايَتِه، والجنايَةِ عليه، إلّا إبْراهيمَ النَّخَعِىَّ، فإنَّه قال في المُكاتَبِ: يُودَى بقَدْرِ ما أدَّى مِن كِتابَتِه دِيَةَ الحُرِّ، وما بَقِىَ دِيَةَ العَبْدِ. ورُوِىَ في ذلك شئٌ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه (¬2). وقد رَوَى أبو داودَ، في «سُنَنِه»، والإمامُ أحمدُ في «مُسْنَدِه» (¬3): حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، ثنا هشامُ بنُ أبى عبدِ اللَّهِ، قال: حدَّثَنِى يَحْيَى بنُ أبى كثيرِ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، قال: قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المُكاتَبِ يُقْتَلُ، أنَّه يُودَى ما أدَّى مِن كِتابَتِه دِيَةَ الحُرِّ، وما بَقِىَ دِيَةَ العَبْدِ. قال الخَطَّابِىُّ (1): إذا صَحَّ الحديثُ، وجَب القولُ به، إذا لم يَكُنْ مَنْسُوخًا أو مُعارَضًا بما هو أوْلَى منه. ¬

(¬1) في: معالم السنن 4/ 37 (¬2) انظر: سنن أبى داود 1/ 500. (¬3) تقدم تخريجه في 18/ 381. وهذا إسناد الإمام أحمد.

4213 - مسألة: (وفى جراحه إن لم يكن مقدرا فى الحر، ما نقصه)

وَفِي جِرَاحِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا مِنَ الْحُرِّ، مَا نَقَصَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا في الْحُرِّ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ في الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَفِي يَدِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا نَقَصَ. اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4213 - مسألة: (وفى جِراحِهِ إن لم يَكُنْ مُقَدَّرًا في الحُرِّ، ما نَقَصَه) بعدَ الْتِئامِ الجُرْحِ، كسائرِ الأمْوَالِ (وإن كانَ مُقَدَّرًا في الحُرِّ، فهو مُقَدَّرٌ في العبدِ مِن قِيمَتِه، ففى يدِه نِصْفُ قِيمَتِهِ، وفى مُوضِحَتِه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، نَقَصَتْهُ الجِنايَةُ أقَلَّ مِن ذلك أو أكْثَرَ. وعنه، أنَّه يُضْمَنُ بما نقَص. اخْتارَه الخَلَّالُ) وجملةُ ذلك، أنَّ الجِنايةَ على العَبْدِ يجبُ ضَمانُها بما نقصَ مِن قِيمَتِه؛ لأَنَّ الواجِبَ إنَّما وجَب جَبْرًا لِما فاتَ بالجِنايةِ، ولا تُجْبَرُ إلَّا بإيجابِ ما نقَص مِن القِيمَةِ، فيَجِبُ ذلك، كما لو كانتِ الجنايةُ على غيرِه مِن الحَيواناتِ وسائرِ المالِ، ولا يجبُ زيادة على ذلك؛ لأَنَّ حَقَّ المَجْنِىِّ عليه قد انْجَبَرَ، فلا تجبُ له زيادةٌ على ما فَوَّتَه الجانِى عليه، هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الأَصْلُ، ولا نعلمُ فيه خِلافًا فيما ليس فيه مُقَدَّرٌ شَرْعِىٌّ. فإن كان الفائتُ بالجِنايةِ مُوَقَّتًا في الحُرِّ، كيَدِه ومُوضِحَتِه، ففيه عن أحمدَ رِوَايتانِ؛ إحداهما، أنَّ فيه أَيضًا [ما نَقَصَه، بالغًا ما بَلَغَ. وذكرَ أبو الخَطَّابِ أنَّه اخْتِيار الخَلَّالِ. ورَوَى المَيْمُونِىُّ عن أحمدَ أنَّه قال: إنَّما يَأْخُذُ قِيمَةَ] (¬1) ما نقَص منه على قولِ ابنِ عَبَّاسٍ. ورُوِىَ هذا عنِ مالكٍ، فيما عَدا مُوضِحَتَه، ومُنَقِّلَتَه وهَاشِمَتَه، وجائفَتَه؛ لأَنَّ ضَمانه ضَمان الأمْوالِ، فيجبُ فيه ما نقَص، كالْبهائمِ، ولأَنَّ ما ضُمِنَ بالقِيمَةِ بالغًا ما بَلَغَ، ضُمِنَ بَعْضُه (¬2) بما نقَص، كسائرِ الأمْوالِ، ولأَنَّ مُقْتَضى الدَّليلِ ضَمان الفائتِ بما نَقَصَ، خالَفْناه فيما وُقِّتَ في الحُرِّ، كما خالَفْناه في ضَمانِ نَفْسِه بالدِّيَةِ المُوَقَّتَةِ، ففى العبدِ (¬3) يَبْقَى فيهما على مُقْتَضَى الدَّليلِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، أنَّ ما كان مُوَقَّتًا في الحُرِّ، فهو مُوَقَّت في العَبْدِ مِن قِيمَتِه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «نقصه». (¬3) في النسخ: «الوقت». والمثبت كما في المغنى 12/ 183.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففِى يَدِه، أو عَيْنِه، [أو أُذُنِه] (1)، أو شَفَتِه، نِصْفُ قِيمَتِه، وفى مُوضِحَتِه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِه، وما أوْجَبَ الدِّيَةَ في الحُرِّ، كالأَنْفِ، واللِّسانِ، واليَدَيْنِ، والرِّجْلَيْنِ، والعَيْنَيْنِ، والأُذُنَيْنِ، أوْجَبَ قِيمَةَ العَبْدِ، مع بَقاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ عليه. ورُوِىَ هذا عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. ورُوِىَ نحوُه عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ. وبه قالَ ابنُ سِيرِينَ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ. [وبه قال أبو حنيفةَ. و] (¬1) قال أحمدُ: هذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وقال آخَرُون: ما أُصِيبَ به العبدُ فهو على ما نَقَصَ مِن قِيمَتِه. والظَّاهرُ أنَّ هذا لو كان قولَ علىٍّ لَما احْتَجَّ أحمدُ فيه (¬2) إلَّا به دُونَ غيرِه. إلَّا أنَّ أَبا حنيفةَ والثَّوْرِىّ قالا: ما أوْجَبَ الدِّيَةَ مِن الحُرِّ، يَتَخَيَّرُ سَيِّد العَبْدِ فيه بينَ أن يُغْرِمَه قِيمَتَه ويَصِيرَ مِلْكًا للجانِى، وبينَ أن لا يُضَمِّنَه شيئًا؛ لئلَّا يُؤَدِّىَ إلى اجْتِماعِ البَدَلِ والمُبْدَلِ لرَجُل واحد. وروِيَ عن إياسِ بنِ مُعاوِيَةَ، في مَن قطَع يَدَ عَبْدٍ عَمْدًا، أو قلَع عَيْنَه: هو له، وعليه ثَمَنُه (¬3). ووَجْهُ هذه الرِّوايةِ، قولُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب العبد تفقأ عيناه جميعا، من كتاب الديات. المصنف 9/ 241.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم نَعْرِفْ له مِن الصَّحابةِ مُخالِفُ, ولأنَّه آدَمِىٌّ يُضْمَنُ بالقِصاصِ والكَفَّارَةِ، فكان في أطْرَافِه مُقَدَّرٌ، كالحُرِّ، ولأَنَّ أطْرَافَه فيها مُقَدَّرٌ مِن الحُرِّ، فكان فيها مُقَدَّرٌ مِن العَبْدِ، كالشِّجاجِ الأرْبعِ عندَ مالكٍ، وما وجبَ في شِجاجِه مُقَدَّرٌ، وجَبَ في أطْرَافِه كالحُرِّ. وعلى أبى حنيفةَ، قولُ علىٍّ، وأنَّ هذه الأعْضاءَ فيها مُقَدَّرٌ، فوجبَ ذلك فيها (¬1) مع بَقاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ في العَبْدِ، كاليَدِ الواحدةِ وسائرِ الأعْضاءِ. وقوْلُهم: إنَّه اجْتَمَعَ البَدَلُ والمُبْدَلُ لواحدٍ. لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ القِيمَةَ ههُنا بَدَلُ العُضْوِ وحدَه (¬2). والرِّوايةُ الأُولَى أقْيَسُ وأوْلَى، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. ولم يَثْبُتْ ما رُوِىَ عن علىٍّ، وإن ثَبَتَ فقد رُوِىَ عن ابنِ عَبَّاس خِلافُه، فلا يَبْقَى حُجَّةً، والقياسُ على الحُرِّ لا يَصِحُّ؛ لأنَّهم لم يُسَوُّوا بينَه وبينَ الحُرِّ فيما ليس فيه (¬3) مُقَدَّرٌ شَرْعِىٌّ (¬4)، فإنَّهم أوْجَبُوا فيه ما نَقَصَه، وإن كان في عُضْوٍ فيه وَمقدَّرٌ، كالجِنايةِ على الإِصْبَعِ مِن غيرِ قَطْعٍ، إذا نَقَصَتْ قِيمته، العُشْر أو أكثر، بخِلافِ الحُرِّ، وقد ذكَرْنا دليلَ ذلك في صَدْرِ المسْألةِ. فصل: والأمَةُ مِثْلُ العَبْدِ فيما ذكَرْنا، وفيها مِن الخِلافِ ما فيه، إلَّا أنَّها تُشَبَّهُ بالحُرَّةِ، ولا تَفْرِيعَ على الرِّوايةِ الأُولَى، فأمَّا على الثَّانيةِ، فإن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «واحدة». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «شرعًا».

4214 - مسألة: (ومن نصفه حر، ففيه نصف دية حر ونصف قيمته، وكذلك فى جراحه)

مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ، وَهَكَذَا فِى جِرَاحِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَلَغَتْ ثُلُثَ (¬1) قِيمَتِها، احْتَمَلَ أن تُرَدَّ إلى النِّصْفِ، فيكونَ في ثلاثةِ أصابعَ ثلاثةُ أعْشارِ قِيمَتِها، وفى أرْبعةِ أصابعَ خُمْسُها، كما أنَّ المرأةَ تُساوِى الرَّجُلَ في الجِراحِ إلى ثُلُثِ دِيتها، فإذا بَلَغَتِ الثُّلُثَ، رُدَّتْ إلى النِّصْفِ، والأمَة امرأةٌ، فيكونُ أرْشُها مِن قِيمَتِها، كأَرْشِ الحُرَّةِ، ويَحْتَمِلُ أن لا تُرَدَّ إلى النِّصْفِ؛ لأَنَّ ذلك في الحُرَّةِ على خِلافِ الأَصْلِ، لكونِ الأَصْلِ زِيادةَ الأَرْشِ بزِيادة الجِنايةِ، وأنَّ كلَّ ما زادَ نَقْضَها وضَرَرَها، زادَ في ضَمانِها، فإذا خُولِفُ في الحُرَّةِ، بَقِينا في الأمَةِ على وَفْقِ الأَصْلِ. 4214 - مسألة: (ومَن نِصْفُهُ حُرٌّ، فَفِيه نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ ونِصْفُ قِيمَتِه، وكذلك في جِراحِهِ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن نِصْفُه حُرٌّ، إذا جَنَى عليه الحُرُّ فلا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه ناقصٌ بالرِّقِّ، فأشْبَهَ ما لو كان كلّه رَقِيقًا. وإن كان قاتِلُه عَبْدًا، أُقِيدَ منه؛ لأنَّه أكْمَلُ مِن الجانِى. وإن كان نِصْفُ القاتلِ حُرًّا، وجَبَ القَوَدُ، لتَساوِيهما، وإن كانتِ الحُرِّيَّةُ في القاتلِ أكثرَ، لم يَجِبِ القَوَدُ؛ لعَدَمِ المُساواةِ بينَهما. وفى ذلك كلِّه إذا لم يَكُن القاتِلُ عَبْدًا فعليه نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ، ونِصْفُ قِيمَتِه إذا كان عَمْدًا، وإن كان ¬

(¬1) سقط من: م.

4215 - مسألة: (وإذا قطع خصيتى عبد، أو أنفه، أو أذنيه، لزمته قيمته للسيد، ولم يزل ملك السيد عنه، وإن قطع ذكره، ثم خصاه، لزمته قيمته لقطع الذكر، وقيمته مقطوع الذكر، وملك سيده باق عليه)

وَإِذَا قَطَعَ خُصْيَتَىْ عَبْدٍ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ أذُنَيْهِ، لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَإِنْ قَطَع ذَكَرَهُ، ثُمَّ خَصَاهُ، لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ لِقَطْعِ الذَّكَرِ، وَقِيمَتُهُ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ، وَمِلْكُ سَيِّدِهِ بَاقٍ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَطَأً ففى مالِه نِصْفُ قِيمَتِه؛ لأَنَّ العاقلةَ لا تَحْمِلُ العَبْدَ (¬1)، والنِّصْفُ على العاقلَةِ؛ لأنَّها دِيَةُ حُرٍّ في الخَطَأ. وهكذا الحكمُ في جِراحِه، إذا كان قَدْر الدِّيَةِ مِن أَرْشِها يَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، مثلَ أن يقْطَعَ أنْفَه أو يَدَيْه. وإن قطَع إحْدَى يدَيْه، فالجميعُ على الجانِى؛ لأَنَّ نِصْف دِيَةِ اليَدِ رُبْعُ دِيَتِه، فلا تَحْمِلُها العاقلةُ، لنَقْصِها عن الثُّلُثِ. 4215 - مسألة: (وإذا قطَع خُصْيَتَىْ عبدٍ، أو أنْفَه، أو أُذُنَيْه، لزِمَتْه قيمتُه لِلسَّيِّدِ، ولم يَزُلْ مِلكُ السَّيِّدِ عنه، وإن قطَع ذَكَره، ثم خَصاه، لَزِمَتْه قِيمَتُه لقَطْعِ الذَّكَرِ، وقِيمَتُه مَقْطُوعَ الذَّكَرِ، ومِلْكُ سَيِّدِه بَاقٍ عليه) وفى ذلك اخْتِلافٌ ذكَرْناه، وعلى الرِّوايةِ الأخرَى، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «العمد».

فصل

فَصْلٌ: وَدِيَةُ الجَنِينِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، قِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُه ما نقَص مِن (¬1) قِيمَتِه، ودَلِيلُهما ما سَبَقَ. فصل: (ودِيَةُ الجَنِينِ الحُرِّ المُسْلِم إذا سِقَط مَيِّتًا غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أو أَمَةٌ، قِيمَتُها خَمْسٌ مِن الإِبلِ، مَوْروثَةٌ عنه، كأنَّه سقَط حَيًّا، ذَكرًا كان أو أُنْثَى) وهو نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. يقال: غُرَّةٌ عَبْدٌ. بالصِّفَةِ. وغُرَّةُ عَبْدٍ بالإِضافةِ. والصِّفَةُ أحْسَنُ؛ لأَنَّ الغُرَّةَ اسْمٌ للعَبْدِ نفْسِه، قال مُهَلْهِلٌ (¬2): كُلُّ قَتِيلٍ في كُلَيْبٍ غُرَّهْ حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ مُرَّهْ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «عن». (¬2) الرجز في: الأغانى 5/ 47، ومقاييس اللغة 4/ 381، واللسان والتاج (غ ر ر).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنَّ في جَنِينِ الحُرَّةِ المُسلمةِ غُرَّةً. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عمرُ بن الخطابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وعَطاءٌ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقد رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه اسْتَشارَ النَّاسَ في إمْلاصِ المرأةِ (¬1)، فقال المُغيرَةُ بنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى فيه بغُرَّةٍ عَبدٍ أو أمَةٍ. قال: لتَأْتِيَنَّ بمَن يَشْهَدُ معك. فشَهِدَ له محمدُ ابنُ مَسْلَمَةَ (¬2). وعن أبى هُرَيْرَةَ، رضى اللَّه عنه، قال: اقْتَتَلَتِ امرأتانِ مِن هُذَيْلٍ، فرَمَتْ إحْداهُما الأُخْرَى بحَجَرٍ، فقَتَلَتْها وما في بَطْنِها، فاخْتَصَمُوا إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ دِيَةَ جَنِينِها عَبْدٌ أو أمَةٌ، وقَضَى بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، ووَرَّثَها (¬3) ولَدَها ومَن مَعَهُم. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). والغُرَّةُ عَبْدٌ أو أمَةٌ، سُمِّيَا بذلك لأنَّهُما مِن أنْفَسِ ¬

(¬1) إملاص المرأة: إلقاء ولدها ميتًا. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب جنين المرأة، من كتاب الديات، وباب ما جاء في اجتهاد القضاة. . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخارى 9/ 14، 126. ومسلم، في: باب دية الجنين ووجوب الدية. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1311. وأبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 497. وابن ماجه، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 882. (¬3) في الأصل، تش، م: «ورثها». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَمْوالِ، والأَصْلُ في الغُرَّةِ الخِيارُ. فإن قيل: فقد رُوِىَ في هذا الخبرِ: أو فَرَسٍ أو بَغْلٍ (¬1). قُلْنا: هذا لم يَثْبُتْ، روَاه عيسى بنُ يُونُسَ، ووَهِمَ فيه. قالَه أهْلُ النَّقْلِ. والحديثُ الصَّحِيحُ إنَّما (¬2) فيه: عَبْدٍ أو أمَةٍ. فصل: وإنَّما تَجِبُ الغُرَّةُ إذا سقَط مِن الضَّرْبَةِ, ويُعْلَمُ ذلك بأن يَسْقُطَ عَقِيبَ الضَّرْبِ، أو تَبْقَى منها المَرْأةُ (¬3) مُتَألِّمَةً إلى أن يَسْقُطَ. ولو قتَل حامِلًا، ولم يَسْقُطْ جَنِينُها، أو ضرَب مَن في جَوْفِها حركةٌ أبى انْتِفاخٌ، فسكَّنَ الحَرَكَةَ وأذْهَبَها, لم يَضْمَنِ الجَنِينَ. وبهذا قال مالكٌ، وقَتادةُ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وابن المُنْذِرِ. وحُكِىَ عن الزُّهْرِىِّ أنَّ عليه غرَّةً؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه قتَل الجَنِينَ، فوَجَبَتِ الغُرَّةُ، كما لو أسْقَطَتْ. ولَنا، أنَّه لا يَثْبُتُ حكم الوَلَدِ إلَّا بخُروجِه، ولذلك لا يَصِحُّ له وَصِيَّةٌ ولا مِيرَاثٌ، ولأَنَّ الحَرَكَةَ يجوزُ أن تكونَ لرِيحٍ في البَطْنِ سكَنَتْ، فلا يَجِبُ الضَّمانُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب دية الجنين، من باب الديات. سنن أبى داود 2/ 499. (¬2) بعده في الأصل: «هو». (¬3) زيادة من: الأصل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالشَّكِّ. وأمَّا إذا ألْقَتْه مَيِّتًا، فقد تَحَقَّقَ، والظَّاهِرُ تَلَفُه مِن الضَّرْبَةِ، فيَجِبُ ضَمانُه، سَواءٌ ألْقَتْه في حَياتِها أو بعدَ مَوْتِها. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: إن ألْقَتْه بعدَ مَوْتِها لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه يَجْرِى مَجْرَى أعْضائِها، وبمَوْتِها سقَط حُكْمُ أعْضائها. ولَنا، أنَّه جَنِينٌ تَلِفَ بجنايَتِه، وعُلِمَ ذلك بخروجِه، كما لو سقَط في حَياتِها, ولأنَّه لو سقَط حَيًّا ضَمِنَه، فكذلك إذا سقَط مَيِّتًا، كما لو أسْقَطَتْه في حَياتِها، وما ذكَرُوه غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنَّه لو كان كذلك، لَكان إذا سقَط مَيِّتًا ثم ماتَتْ، لم يَضْمَنْه كأعْضَائها, ولأنَّه آدَمِىٌّ مَوْرُوثٌ، فلا يدخلُ في ضَمانِ أُمِّه، كما لو خرَج حَيًّا. فإن ظهَر بعْضُه مِن بَطْنِ أُمِّه، ولم يَخْرُجْ باقِيه، ففِيه الغُرَّةُ. وبه قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ، وابن المُنْذِرِ: لا تَجِبُ الغُرَّةُ (¬1) حتَّى تُلْقِيَه؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما أوْجَبَ الغُرةَ في الجَنِينِ الذى ألْقَتْه المرأةُ، وهذه لم تُلْقِ شيئًا، فأَشْبَهَ ما لو لم يَظْهَرْ منه شئٌ. ولَنا، أنَّه قاتلٌ لجَنِينِها، فلَزِمَتْه الغُرَّةُ، كما لو ظهَر جَمِيعُه، ويُفارِقُ ما لو لم يَظْهَرْ منه شئٌ، فإنَّه لم (¬2) يُتَيَقَّنْ قَتْلُه ولا وُجودُه. وكذلك إن ألْقَت يَدًا، أو رِجْلًا، أو رَأْسًا، أو جُزْءًا مِن أجْزاءِ الآدَمِىِّ تَجِبُ الغُرَّةُ؛ لأنَّا تَيَقَّنَّا أنَّه مِن جَنِينٍ. وإن ألْقَتْ رَأْسَيْنِ، أو أَرْبعَ أَيْدٍ، لم يَجِبْ أَكْثَرُ مِن غُرَّةٍ؛ لأَنَّ ذلك يجوزُ أن يكونَ مِن جَنِينٍ واحدٍ، ويجوزُ أن يكونَ مِن جَنِينَيْنِ، فلم تَجِبِ الزِّيادَةُ مع ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّكِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، ولذلك لم يَجِبْ ضَمانُه إذا لم يَظْهَرْ، فإن أسْقَطَتْ ما ليس فيه صُورَةُ آدَمِىٍّ، فلا شئَ فيه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ أنَّه جَنِينٌ. وإن ألْقَتْ مُضْغَة، فَشَهِدَ ثِقات مِن القَوابِلِ أنَّ فيه صُورَةً خفِيَّةً، ففيه غُرَّةٌ، وإن شَهِدْنَ أنَّه مُبْتَدأُ خَلْقِ آدَمِىٍّ لو بَقِىَ تَصَوَّرَ، ففِيه وَجْهان؛ أصَحُّهما، لا شئَ فيه؛ لأنَّه لم يَتَصَوَّرْ، فلم يَجِبْ فيه شئٌ، كالعَلَقَةِ، ولأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، فلا نَشْغَلُها بالشَّكِّ. والثانى، فيه غُرَّة؛ لأنَّه مُبْتَدأُ خَلْقِ آدَمِىٍّ، أَشْبَهَ ما لو تَصَوَّرَ. وهذا يَبْطُلُ بالنُّطْفَةِ (¬1) والعَلَقَةِ. فصل: والغُرَّةُ عَبْدٌ أو أمَةٌ. وهو قوِلُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال عُرْوَةُ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ: عَبْدٌ أو أمَةٌ أو فَرَسٌ؛ لأَنَّ الغُرَّةَ اسْمٌ لذلك، وقد جاءَ في حديثِ أبى هُرَيْرَةَ، قال: قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجَنِينِ بغُرَّةٍ عَبْدٍ (¬2) أو أمَةٍ أو فَرَسٍ أو بَغْلٍ (¬3). وجعَل ابنُ سِيرِينَ مكانَ الفَرَسِ مِائةَ شاةٍ، ونحوه قال الشَّعْبِىُّ؛ لأنَّه رُوِىَ في حديثِ النَّبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه جعَل في ولَدِها مائةَ شاةٍ. روَاه أبو داودَ (¬4). ورُوِىَ عن عبدِ الملكِ بن مَرْوانَ، أنَّه قَضَى في الجَنِينِ إذا أُمْلِصَ بعِشْرِينَ دِينارًا، فإذا كان مُضْغَةً فأرْبَعِينَ، فإذا كان عَظْمًا فسِتِّينَ، فإذا كان العَظْمُ قد كُسِىَ لَحْمًا فثَمانِينَ، فإن ¬

(¬1) في م: «بالمضغة». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه بهذا اللفظ عند أبى داود في صفحة 412. (¬4) في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 499. وفى الرواية: «خمسمائة» مكان: «مائة». قال أبو داود: والصواب: «مائة». =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَمَّ خَلْقُه وكُسِىَ شَعَرُهُ فمِائة دِينارٍ (1). وقال قَتادةُ: إذا كان عَلَقَةً فثُلُث غُرَّةٍ، وإذا كان مُضْغَةً فثُلُثَىْ غُرَّةٍ (¬1). ولَنا، قَضاءُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في إمْلاصِ المرأةِ بعَبْدٍ أو أمَةٍ، وسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قاضِيَةٌ على ما خالَفَها. وذِكْر الفَرَسِ والبَغْلِ وَهَمٌ انْفَرَدَ به عيسى بنُ يُونُسَ عن سائرِ الرُّواةِ، وهو مَتْرُوكٌ في البَغْلِ بغيرِ خِلافٍ، فكذلك في الفَرَسِ، والحديثُ الذى ذكَرْناه أَصَحُّ ما رُوِىَ فيه، وهو مُتَّفَقٌ عليه، وقد قال به أكثرُ أهلِ العلمِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى ما خالَفَه. وقولُ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ تحَكُّمٌ بتَقْديرٍ لم يَرِدْ به الشَّرْعُ، وكذلك قَتادةُ، وقولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحَقُّ بالاتِّباعِ مِن قولِهما. إذا ثبَت هذا، فإنَّه تَلْزَمه الغُرَّةُ، فإن أَرادَ دَفْعَ بَدَلِها، ورَضِىَ المدْفُوعُ إليه، جازَ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ، فجازَ ما تَراضَيَا عليه، وأيُّهُما امْتَنَعَ مِن قَبُولِ البَدَلِ، فله ذلك؛ لأَنَّ الحَقَّ فيها (¬2)، فلا يُقْبَلُ بَدَلُها إلَّا برِضاهُما. فصل: وقِيمَةُ الغُرَّةِ خَمْسٌ مِن الإِبلِ، وذلك نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. ¬

= كما أخرجه النسائى، في: باب دية جنين المرأة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 41، 42، وقال النسائى: هذا وهم، وينبغي أن يكون أراد مائة من الغُرِّ. (¬1) أخرجهما عبد الرزاق، في: باب نذر الجنين، من كتاب العقول. المصنف 10/ 55, 56. (¬2) في م: «لهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُوِىَ ذلك عن عمرَ، وزَيْدٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال النَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، ورَبيعَةُ، ومالِك، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى. ولأَنَّ ذلك أقَلُّ ما قَدَّرَه الشَّرْعُ في الجِناياتِ، وهو أَرْشُ مُوضِحَةٍ ودِيَةُ السِّنِّ، فرَدَدْناه إليه. فإن قيل: فقد وَجَبَ في الأُنْمُلَةِ ثلاثَةُ أبعِرَةٍ وثُلُثٌ، [وذلك] (¬1) دُونَ ما ذَكَرُوِه. قُلْنا: الذى نَصَّ عليه صاحِبُ الشَّريعَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْشُ المُوضِحَةِ، وهو خَمْسٌ مِن الإِبلِ. وإذا كان أبَوَا الْجَنِينِ كِتابِيَّيْنِ، ففِيه غُرَّةٌ قِيمَتُها نِصْفُ قِيمَةِ الغُرَّةِ الواجبةِ في المُسْلِمِ. وفى جَنِينِ المَجُوسِيَّة غُرَّة قِيمَتُها أرْبَعون دِرْهَمًا، فإذا تعَذَّرَ وُجودُ غُرَّةٍ بهذه الدَّراهِمِ، وجَبَتِ الدَّراهِمُ؛ لأنَّه مَوْضِعُ حاجَةٍ. وإذا اتَّفَقَ نِصْف عُشْرِ الدِّيَةِ مِن الأُصولِ كلِّها، بأن تكونَ قِيمَتُها خَمْسًا مِن الإِبِلِ وخَمْسِينَ دِينارًا أو سِتَّمائةِ دِرْهَمٍ، فلا كَلامَ، وإنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الإِبلِ، ونِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ مِن غيرِها، مثلَ أن كانت قِيمَةُ الإِبلِ أرْبعينَ دِينارًا أو أربعَمائةِ دِرْهَمٍ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّها تُقَوَّمُ بالإِبلِ؛ لأنَّها الأصْلُ. وعلى قولِ غيرِه مِن أَصْحابِنا، تُقَوَّمُ بالذَّهَبِ أو الوَرِقِ، فتُجْعَلُ قِيمَتُها خَمْسينَ دِينارًا أو سِتَّمائةِ دِرْهَمٍ. فإنِ اخْتَلَفا، قُوِّمَتْ على أَهْلِ الذَّهَبِ به، وعلى ¬

(¬1) في الأصل: «ذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَهْلِ الوَرِقِ به، فإن كان مِن أَهْلِ الذَّهَبِ والوَرِقِ جَميعًا، قَوَّمَها مَن هى عليه بما شاءَ منهما؛ لأَنَّ الخِيَرَةَ إلى الجانِى في دَفْعِ ما شاءَ مِن سائرِ الأُصُولِ. ويَحْتَمِلُ أن تُقَوَّمَ بأدْنَاهما على كلِّ حالٍ؛ لذلك. وإذا لم يَجِدِ الغُرَّةَ، انْتَقَلَ إلى خَمْسٍ مِن الإِبلِ. على قَوْلِ الخِرَقِىِّ. وعلى قولِ غيرِه، يَنْتَقِلُ إلى خَمْسِينَ دِينارًا أو سِتِّمائةِ دِرْهَمٍ. فصل: والغُرَّةُ مَوْرُوثَةٌ عنه، كأنَّه سقَط حَيًّا؛ لأنَّها دِيَةٌ له، وبَدَلٌ عنه، فيَرِثُها وَرَثَتُه، كما لو قُتِلَ بعدَ الوِلادَةِ. وبهذا قال مالكٌ، وأصْحابُ الرَّأْى. وقال اللَّيْثُ: لا تُورَثُ، بل تكونُ بدَلَه (¬1) لأُمِّه، [لأنَّه] (¬2) كعُضْوٍ مِن أعْضائِها، فأَشْبَهَ يدَها. ولَنا، أنَّها دِيَةُ آدَمِىٍّ حُرٍّ، فوَجَبَ أن تكونَ مَورُوثَةً عنه، كما لو ولَدَتْه حَيًّا ثم مات. وقولُه: إنَّه كعُضْوٍ مِن أعْضائِها. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو كان عُضْوًا لَدَخَلَ بَدَلُه في دِيَةِ أُمِّه، كيَدِها، ولَما مُنِعَ مِن القِصاصِ مِن أُمِّه، وإقَامَةِ الحَدِّ عليها مِن أجْلِه، ولَما وجَبَتِ الكَفَّارَةُ مِن أجْلِه بقَتْلِه، ولَما صَحَّ عِتْقُه دُونَها, ولا عِتْقُها دُونَه، ولأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ تُضْمَنُ بالدِّيَةِ تُورَثُ، كدِيَةِ الحَىِّ. فعلى هذا، إذا أسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، ثم ماتتْ، فإنَّها تَرِثُ نَصِيبَها مِن الغُرَّةِ، ثم يَرِثُها ¬

(¬1) في الأصل: «تركه». (¬2) تكملة من المغنى 12/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَثتُها. [وإن أسْقَطَتْه حَيًّا، ثم مات قَبْلَها، ثم ماتتْ، فإنَّها تَرِثُ نَصِيبَها من دِيَتِه، ثم يَرِثُها وَرَثَتُها] (¬1). وإن ماتتْ قبلَه، ثم ألْقَتْه مَيِّتًّا، لم يَرِث أحَدُهما صاحِبَه، وإن خرَج حَيًّا، ثم ماتَتْ قبلَه ثم مات، أو ماتت ثم خرَج حَيًّا ثم مات، وَرِثَها، ثم يَرِثُه وَرَثَتُه. وإنِ اخْتَلَفَ وُرَّاثُهما (¬2) في أوَّلِهما مَوْتًا، فحُكْمُهُما حُكْم الغَرْقَى، على ما ذُكِرَ في مَوْضِعِه (¬3). ويَجِيءُ على قَوْلِ الخِرَقِىِّ في المسْألَةِ التى ذَكَرَها، إذا ماتتِ امرأةٌ وابْنُها، أن يَحْلِفَ ورَثَةُ كُلِّ واحدٍ منهما ويَخْتَصُّوا بمِيراثِه. وإِن ألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا أو حَيًّا، ثم مات، ثم ألْقَتْ آخَرَ حَيًّا، ففى المَيِّتِ غُرَّةٌ، وفى الحَىِّ الأَوَّلِ دِيَةٌ، إذا كان سُقُوطُه لوقتٍ يَعِيشُ مثْلُه، ويَرِثُهُما الآخَرُ، ثم يَرِثه ورَثَتُه إن مات. وإن كانتِ الأمُّ قد ماتتْ بعدَ الأَوَّلِ وقبلَ الثانى، فإنَّ دِيَةَ الأَوَّلِ تَرِثُ منها الأُمُّ والجنينُ الثانى، ثم إذا ماتتِ الأُمُّ، وَرِثَها الثانِى، ثم يَصِيرُ مِيراثُه لوَرَثَتِه. فإن ماتتِ الأُمُّ بعدَهُما، وَرِثَتْهما جميعًا. فصل (¬4): إذا ضرَب بَطْنَ امرأةٍ، فأَلْقَتْ أجِنَّةً، ففى كُلِّ واحدٍ غُرَّةٌ. وبهذا قال الزُّهْرِىُّ، ومالك، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ، قال (¬5): ولا أحْفَظُ عن غيرِهم خِلافَهم. وذلك لأنَّه ضَمانُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ر 3، ق. (¬2) في الأصل، تش: «وارثهما». (¬3) انظر 18/ 255 وما بعدها. (¬4) سقط هذا الفصل من: الأصل. (¬5) انظر: الإشراف 3/ 136.

4216 - مسألة: (ولا يقبل فى الغرة خنثى، ولا معيب، ولا من له دون سبع سنين)

وَلا يُقْبَلُ في الْغُرَّةِ خُنْثَى، وَلا مَعِيبٌ، وَلا مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ آدَمِىٍّ، فتَعَدَّدَ بتَعَدُّدِه، كالدِّيَاتِ. وإن ألْقَتْهُم أحْياءً لوَقْتٍ يَعِيشُونَ في مثلِه ثم ماتوا، ففى كُلِّ واحدٍ منهم دِيَةٌ كاملةٌ. وإن كان بعْضُهم حَيًّا فمات، وبعضُهم مَيِّتًا، ففى الحَىِّ دِيَةٌ، وفى المَيِّتِ غُرَّةٌ. فصل (¬1): وَيَسْتَوِى في ذلك الذَّكَرُ والأُنْثَى، في أنَّه يَجِبُ في كلِّ واحدٍ غُرَّةٌ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى في الجَنِينَ بغُرَّةٍ، وهو يُطْلَقُ على الذَّكرِ والأُنْثَى، ولأَنَّ المرأةَ تُساوِى الذَّكَرَ فيما دُونَ الثُّلُثِ. 4216 - مسألة: (ولا يُقْبَلُ في الغُرَّةِ خُنْثَى، ولا مَعِيبٌ، ولا مَن له دونَ سَبْعِ سِنِينَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الغُرَّةَ تَجِبُ سَلِيمةً مِن العُيوبِ وإن قَلَّ العَيْبُ؛ لأنَّه حَيَوانٌ يجبُ بالشَّرْعِ، فلم يُقْبَلْ فيه المَعِيبُ، كالشَّاةِ في الزَّكاةِ، ولأَنَّ الغُرَّةَ الخِيارُ، والمَعِيبُ ليس مِن الخِيارِ. ولا يُقْبَلُ فيها هَرِمَةٌ، ولا مَعِيبَةٌ، ولا خُنْثَى، ولا خَصِىٌّ، وإن كَثُرَتْ قِيمَتُه؛ لأَنَّ ذلك عَيْبٌ (ولا مَن له دُونَ سَبْعِ سِنِينَ) قالَه [القاضى، و] (¬2) أبو الخَطَّابِ، ¬

(¬1) سقط هذا الفصل من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه مُحْتاجٌ إلى مَن يَكْفُلُه ويَحْضُنُه، وليس مِن الخِيارِ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّ سِنَّها غيرُ مُقَدَّرٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وذكَرَ بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ أنَّه لا يُقْبَلُ فيها غُلامٌ بَلَغَ خَمس عَشرةَ سَنَةً؛ لأنَّه لا يَدْخُلُ على النِّساءِ، ولا ابْنَةُ عِشْرِينَ سنةً (¬1)؛ لأنَّها تَتَغَيَّرُ. وهذا تَحَكُّمٌ لم يَرِدِ الشَّرْعُ به، فيجبُ أن لا يُقْبَلَ. وما ذكَرُوه مِن الحاجَةِ إلى الكفالهِ باطِلٌ بمَن له فَوْقَ السَّبْعِ، ولأَنَّ بُلُوغَه قِيمَةَ الكَبِيرِ مع صِغَرِه، يَدُلُّ على أنَّه خِيارٌ، ولم يشْهَدْ لِما ذكَرُوه نَصٌّ، ولا له أصْلٌ يُقاسُ عليه، والشَّابُّ البالِغُ أكْمَلُ مِن الصَّبِىِّ عَقْلًا وبِنْيَةً، وأقْدَرُ منه (¬2) على التَّصَرُّفِ، وأنْفَعُ في الخِدْمَةِ، وأقْضَى للحاجَةِ، وكَوْنُه لا يَدْخُلُ على النِّساءِ، إن أُرِيدَ به النِّساءُ الأجْنَبِيَّاتُ، فلا حاجَةَ إلى دُخُولِه عليهِنَّ، وإن أُرِيدَ به سَيِّدَتُه، فليس بصَحِيحٍ، فإنَّ اللَّه تعالى قال: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} إلى قولِه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬3). ثم لو لم يَدْخُلْ على النِّساءِ، لحَصَلَ مِن مَنْعِه أضْعافُ ما يَحْصُلُ مِن دُخُولِه، وفَوَاتُ شئٍ إلى ما هو أنْفَعُ منه [لا يُعَدُّ] (¬4) فواتًا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: تش. (¬3) سورة النور 85. (¬4) في الأصل: «ولا يدفعوا».

4217 - مسألة: (وإن كان الجنين مملوكا، ففيه عشر قيمة أمه، ذكرا كان أو أنثى)

وَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ مَمْلُوكًا، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ كمن اشْتَرَى بدِرْهَمٍ ما يُساوِي دِرْهَمَيْنِ، لا يُعَدُّ فَواتًا ولا خُسْرانًا. فصل: ولا يُعْتَبَرُ لون الغُرَّةِ، وذُكِرَ عن أبى عمرِو بنِ العَلاءِ (¬1) أنَّ الغُرَّةَ لا تَكونُ إلَّا بَيْضاءَ، ولا يُقْبَلُ عَبْدٌ أَسْودُ، ولا جارِيَةٌ سَوْداءُ. ولَنا، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بعَبْدٍ أو أمَةٍ، وأطْلَقَ، والسَّوَادُ غالِبٌ على عَبيدِهم وإمائهِم، ولأنَّه حَيَوانٌ تَجِبُ دِيَتُه، فلم يُعْتَبَرْ لَوْنُه، كالإِبلِ في الدِّيَةِ. 4217 - مسألة: (وإن كان الجَنِينُ مَمْلُوكًا، ففيه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، ذَكَرًا كان أو أُنْثَى) وجملته، أنَّه إذا كان جَنِينُ الأمَةِ مَمْلُوكًا، فَسَقَطَ ¬

(¬1) أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان التميمى، ثم المازنى البصرى، شيخ القراء، والعربية، اختلف في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الضَّرْبَةِ مَيِّتًا، ففيه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه. هذا قولُ الحسنِ، وقَتادةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وبنحوِه قال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ. وقال زَيْدُ بنُ أسْلَمَ: يَجِبُ فيه عُشْرُ قِيمَةِ غُرَّةٍ، وهو خمسةُ دنانِيرَ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وأَصْحابُه: يجبُ فيه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِه إن كان ذَكَرًا، أو عُشْرُ قِيمَتِه إن كان أُنْثَى؛ لأَنَّ الغُرَّةَ الواجِبَةَ في جَنِينِ الحُرَّةِ هى نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وعُشْرُ دِيَةِ الأُنْثَى، وهذا مُتْلَفٌ، فاعْتِبارُه بنَفْسِه أَوْلَى مِن اعْتِبارِه بأُمِّه، ولأنَّه جَنِين مَضْمُونٌ، تَلِفَ بالضَّرْبَةِ، فكان فيه نِصْفُ عُشْرِ (¬1) الواجب فيه (¬2) إذا كان ذَكَرًا كبيرًا، أو عُشْرُ الواجب إذا كان أُنْثَى، كجَنِينِ الحُرَّةِ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: مذهبُ أَهْلِ المدينةِ يُفْضِى إلى أن يَجِبَ في الجَنِينِ المَيِّتِ أكْثَرُ مِن قِيمَتِه إذا كان حَيًّا. ولَنا، أنَّه جَنِينٌ مات بالجِنايةِ في بَطْنِ أُمِّه، فلم يخْتَلِفْ ضَمانُه بالذُّكُورِيَّةِ والأُنُوثِيَّةِ، كجَنِينِ الحُرَّةِ، ودَلِيلُهم نَقْلِبُه عليهم، ¬

= اسمه على أقوال، فأشهرها، زبَّان، وقيل العريان، مولده في نحو سنة سبعين، برَّز في الحروف والنحو، أشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم، توفى سنة سبع وخمسين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 407 - 410، تهذيب التهذيب 12/ 178 - 180. وانظر ما ذكر عنه: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 352. (¬1) سقط من: الأصل، تش, ق, م. (¬2) سقط من: الأصل، وفى تش: «منه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فنقولُ: جَنِينٌ مَضْمُونٌ، تَلِفَ بالجِنايةِ، فكانَ الواجبُ فيه عُشْرَ ما يَجِبُ في أُمِّه، كجَنِينِ الحُرَّةِ. وما ذكَرُوه مِن مُخالَفَةِ الأَصْلِ، مُعارَضٌ بأنَّ مَذْهَبَهم يُفْضِى إلى تَفْضِيلِ الأُنْثَى على الذَّكَرِ، وهو خِلافُ الأُصولِ (¬1)، ولأنَّه لو اعْتُبِرَ بنَفْسِه، لوَجَبَت قِيمَتُه كلُّها، كسائرِ المَضْمُوناتِ بالقِيمَةِ، ومُخالَفَتُهم أشَدُّ مِن مُخالَفَتِنا؛ لأنَّنَا اعْتَبَرْناه إذا كان مَيِّتًا بأُمِّه، وإذا كان حَيًّا بنَفْسِه، فجاز أن تَزِيدَ قِيمَةُ المَيِّتِ على الحَىِّ مع اخْتِلافِ الجِهَتَيْنِ، كما جازَ أن يَزِيدَ البعْضُ على الكُلِّ في أنَّ مَن قطَع أطْرَافَ إنْسانٍ الأرْبَعةَ، كان الواجِبُ عليه أكْثَرَ مِن دِيَةِ النَّفْسِ كلِّها، وهم فَضَّلُوا الأُنْثَى كل الذَّكَرِ مع اتِّحادِ الجِهَةِ، وأوْجَبُوا فيما يُضْمَنُ بالقِيمَةِ عُشْرَ قيمتِه (¬2) تارةً، ونِصْفَ عُشْرِها أُخْرَى، وهذا لا نَظِيرَ له. إذا ثبَت هذا، فإنَّ قِيمَةَ أُمِّه مُعْتَبَرَةٌ يومَ الجِنايةِ عليها. وهذا مَنْصُوصُ الشَّافعىِّ. وقال بعضُ أصْحابِه: يُقَوَّمُ حينَ أسْقَطَتْ؛ لأَنَّ الاعْتِبارَ في ضَمانِ الجِنايةِ بالاسْتِقْرارِ. ويتَخَرَّجُ لنا وَجْه مثلُ ذلك. ولَنا، أنَّه لم يتَخَلَّلْ بينَ الجِنايةِ ¬

(¬1) في الأصل: «الأصل». (¬2) في م: «قيمة أمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحالِ الاسْتِقْرارِ ما يُوجِبُ تَغْييرَ بَدَلِ النَّفْسِ، فكان الاعْتِبارُ بحالِ الجنايةِ، كما لو جرَح عَبْدًا، ثم نَقَصَتِ السُّوقُ لكَثْرَةِ الجَلَبِ، ثم مات، فإنَّ الاعْتِبارَ بقِيمَتِه يومَ (¬1) الجِنايةِ، ولأَنَّ قِيمَتَها تَتَغَيَّرُ بالجِنايةِ وتَنْقُصُ، فلم تُقَوَّمْ في حالِ نَقْصِها الحاصلِ بالجِنايةِ، كما لو قطَع يدَها فماتتْ مِن سِرايَتها، أو قطَع يدَها فمَرِضَتْ بذلك، ثم انْدَمَلَتْ جِراحَتُها. فصل: ووَلَدُ المُدَبَّرَةِ والمُكاتَبَةِ والمُعْتَقَةِ بصِفَةٍ، وأُمِّ الوَلَدِ إذا حَمَلَتْ مِن غيرِ مَوْلاها، حُكْمُه حُكْمُ ولَدِ الأمَةِ؛ لأنَّه مَمْلُوكٌ، فأمَّا جَنِينُ المُعْتَقِ بعضُها، فهو مثْلُها، فيه مِن الحُرِّيَّةِ مثلُ ما فيها، فإذا كان نِصْفُها حُرًّا، فنِصْفُه حُرٌّ، فيه نِصْفُ غُرَّةٍ لوَرَثَتِه، وفى النِّصْفِ الباقِى نِصْف عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه لسَيِّدِه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أيام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن وَطِئَ أَمَةً بشُبْهَةٍ، أو غُرَّ بأمَةٍ فتَزَوَّجَها وأحْبَلَها، فضَرَبَها ضارِبٌ (¬1)، فألْقَتْ جَنِينًا، فهو حُرٌّ، وفيه غُرَّةٌ مَؤروثَةٌ عنه لوَرَثَتِه، وعلى الواطِئ عُشْرُ قِيمَتِها لسَيِّدِهَا؛ لأنَّه لولا اعْتِقاد الحُرِّيَّةِ، لَكانَ هذا الجَنِينُ مَمْلُوكًا لسَيِّدِه، على ضارِبِه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه، فلما انْعَتَقَ (¬2) بسَبَبِ الوَطْءِ، فقد حالَ بينَ سَيِّدِها وبينَ هذا القَدْرِ، فألْزَمْناه ذلك للسَّيِّدِ، سواءٌ كان بقَدْرِ الغُرَّةِ أو أكثرَ منها أو أقَلَّ. فصل: إذا أسْقَطَ جَنِينَ ذِمِّيَّةٍ، قد وَطِئَها مُسْلِمٌ وذِمِّىٌّ في طُهْرٍ واحدٍ، وجَبَ فيه اليَقِينُ، وهو ما في الجَنِينِ الذِّمِّىِّ، فإن أُلْحِقَ بعدَ ذلك بالذِّمِّىِّ، فقد وَفَّى ما عليه، وإن أُلْحِقَ بمسلمٍ، فعليه تَمامُ الغُرَّةِ. وإن ضرَب بَطْنَ نَصْرانِيَّةٍ، فأَسْقَطَتْ، فادَّعَتْ أو ادَّعَى ورَثَتُه أنَّه مِن مسلمٍ حَمَلَتْ به مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ أو زِنًى، فاعْتَرَفَ الجانِى، فعليه غُرَّةٌ كاملةٌ. وإن كان ممَّا تحملُه العاقلةُ، فاعْتَرَفَتْ أَيضًا، فالغُرَّةُ (¬3) عليها، وإن أنْكَرَتْ، حَلَفَتْ، وعليها ما في جَنِينِ الذِّمِّيِّيْنِ، والباقي على الجانِى؛ لأنَّه ثبَت باعْتِرافِه، والعاقلةُ [لا تَحْمِلُ اعْتِرافًا. وإنِ اعْتَرَفَتِ العاقلةُ دونَ الجانِى، فالغُرَّةُ عليها مع دِيَةِ أُمِّه. وإن أنْكَرَ الجانِى والعاقلةُ] (¬4)، فالقولُ قولُهم، مع ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «أعتقا». (¬3) في الأصل، تش: «فالغرم». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيمانِهِم أنَّا لا نَعلَمُ أنَّ هذا الجَنِينَ مِن مسلمٍ. ولا تَلْزَمُهما اليَمِينُ مع (¬1) البَتِّ؛ لأنَّها يَمِينٌ على النَّفْى في فِعْلِ الغَيْرِ، فإذا اخْتَلَفُوا، وجَبَتْ دِيَةُ ذِمِّىٍّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ أنّ ولدَها تابعٌ لها, ولأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ. وإن كان ممَّا لا تَحْمِلُه العاقلةُ، فالقولُ قولُ الجانِى وحدَه مع يَمِينِه. ولو كانتِ النَّصْرانِيَّةُ امرأةَ مُسْلمٍ، فادَّعَى الجانِى أنَّ (¬2) الجَنِينَ مِن ذِمِّىٍّ بوطءِ شُبْهَةٍ أو زنِىً، فالقولُ قولُ وَرَثَةِ الجَنِينِ؛ لأَنَّ الجَنِينَ مَحْكُومٌ بإِسْلامِه، فإنَّ الوَلَدَ للفِراشَ. فصل: إذا كانتِ الأمَةُ بينَ شَريكَيْنِ، فحَمَلَتْ بمَمْلُوكٍ، فضَرَبَها أحَدُهما، فأسْقَطَتْ، فعليه كَفَّارة؛ لأنَّه أتْلَفَ آدَمِيًّا، ويَضْمَنُ لشَرِيكِه نِصْفَ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه، ويَسْقُطُ ضمانُ نَصِيبِه؛ لأنَّه مِلْكُه. وإن أعْتَقَها الضَّارِبُ بعدَ ضَرْبِها، وكان مُعْسِرًا، ثم أسْقَطَتْ، عَتَقَ نَصيبُه منها (¬3) ومِن وَلَدِها، وعليه لشَرِيكِه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الأُمِّ، وعليه نِصْفُ غُرَّةٍ (¬4) مِن أجْل النِّصْفِ الذى صارَ حُرًّا، يُورَثُ عنه بمَنْزِلَةِ مالِ الجَنِينِ، تَرِثُ أُمُّه منه بِقَدْرِ ما فيها مِن الحُرِّيَّةِ، والباقي لوَرَثَتِه. هذا قولُ القاضى، وقياسُ قَوْلِ ابنِ حامدٍ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وقِياسُ قولِ أبى بكرٍ وأبى الخَطَّابِ، لا يَجِبُ على الضَّارِبِ ضَمانُ ما أَعْتَقَه؛ ¬

(¬1) في المغنى 12/ 71: «على». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «منه». (¬4) في الأصل: «عشره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه حينَ الجِنايةِ لم يكُنْ مَضْمُونًا عليه، والاعْتِبارُ في الضَّمانِ بحالِ الجِنايةِ، وهى الضَّرْبُ، ولهذا اعْتَبَرْنا قِيمَةَ الأمِّ حالَ الضَّرْبِ. وهذا قولُ بعْضِ أصْحابِ الشافعىِّ. وهو أَصَحُّ إن شاءَ اللَّه تعالى؛ لأَنَّ الإِتْلافَ حصلَ بفِعلٍ غيرِ مَضْمُونٍ، فأَشْبَه ما لو جرَح حَرْبِيًّا فأَسْلَمَ، ثم مات بالسِّرايَةِ، ولأَنَّ موْتَه يَحْتَمِلُ أن يكونَ قد حصَل بالضَّرْبِ، فلا يتَجَدَّدُ ضَمانُه بعدَ مَوْتِه، والأَصْلُ براءَةُ ذِمَّتِه. وإن كان المُعْتِقُ مُوسِرًا، سَرَى العِتْقُ إليها وإلى جَنِينِها، وفى الضَّمانِ الوَجْهانِ؛ فعلى قوْلِ القاضى، في الجَنِينِ غُرَّةٌ مَوْروثَةٌ عنه. وعلى قِياسِ قَوْلِ أبى بكرٍ، عليه ضَمانُ نصِيبِ شَرِيكِه مِن الجَنِينِ بنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه، ولا يَضْمَنُ أُمَّه؛ لأنَّه قد ضَمِنَها بإعْتاقِها، فلا يَضْمَنُها بتَلَفِها. وإن كان المُعْتِق الشَّرِيكَ الذى لم يَضْرِبْ، وكان مُعْسِرًا، فلا ضَمانَ على الشَّرِيكِ في نَصِيبِه؛ لأَنَّ العِتْقَ لم يَسْرِ إليه، وعليه في نَصِيبِ شَرِيكِه مِن الْجَنِينِ نِصْفُ غُرَّةٍ يَرِثُها وَرَثَتُه، على قولِ القاضى. وعلى قِياسِ قَوْلِ أبى بكرٍ، يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِه بنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه، ويكونُ لِسَيِّدِه، اعْتِبارًا بحالِ الجِنايةِ. وكذلك الحكمُ في ضَمانِ الأُمِّ إذا ماتت مِن الضَّرْبَةِ. وإن كان المُعْتِقُ مُوسِرًا، سَرَى العِتْقُ إليهما، وصارَا حُرَّيْنِ، وعلى المُعْتِقِ ضَمانُ نصف الأُمِّ، ولا يَضْمَنُ نِصْفَ الجَنِينِ؛ لأنَّه يدْخُلُ في ضَمانِ الأُمِّ، كما يَدْخُلُ في بَيْعِها، وعلى الضَّاربِ ضَمان الجَنِينِ بغُرَّةٍ مَوْرُوثَةٍ عنه، على قَوْلِ القاضى. وعلى قِياسِ قَوْلِ أبى بكرٍ، يَضْمَنُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه، وليس عليه

4218 - مسألة: (وإن ضرب بطن أمة، فعتقت، ثم أسقطت الجنين، ففيه غرة)

وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ، فَعَتَقَتْ، ثُمَّ أَسْقَطَتِ الْجَنِينَ، فَفِيهِ غُرَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمانُ نَصِيبِه؛ لأنَّه مِلْكُه حالَ الجِنايةِ عليه. وأمَّا ضَمان الأُمِّ، ففى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، فيها دِيَةُ حُرَّةٍ، لسَيِّدِها منها أقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِن دِيَتِها أو قِيمَتِها. وعلى الآخَرِ، يَضْمَنها بقِيمَتِها لسَيِّدِها، كما تَقَدَّمَ، مَن قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ ثم أُعْتِقَ وماتَ. فصل: ولو ضرَب بطنَ أَمَتِه، ثم أعْتَقَها، ثم أسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، لم يَضْمَنْه، في قِياسِ قولِ أبى بكرٍ؛ لأَنَّ جِنايَتَه لم تَكُنْ مَضْمُونَةً في ابْتِدائِها، فلم يَضْمَنْ سِرايَتَها، كما لو جرَح مُرْتَدًّا، فأسْلَمَ ثم مات، ولأَنَّ مَوْتَ الجَنِينِ يَحْتَمِلُ أنَّه حصَل بالضَّرْبَةِ في مَمْلُوكِه، ولم يتَجَدَّدْ بعدَ العِتْقِ ما يُوجِبُ الضَّمانَ. وعلى قَوْلِ ابنِ حامِدٍ، عليه غُرّة، لا يَرِثُ منها شيئًا؛ لأَنَّ اعْتِبارَ الجِنايةِ بحالِ اسْتِقْرارِها. 4218 - مسألة: (وإن ضرَب بطنَ أَمَةٍ، فَعَتَقَتْ، ثم أسْقَطَتِ الجَنِينَ، فَفِيهِ غُرَّةٌ) على قوْلِ ابنِ حامدٍ والقاضى؛ لأنَّه كان حُرًّا، اعْتِبارًا بحالِ الاسْتِقْرارِ. وعلى قوْلِ أبى بكرٍ وأبى الخَطَّابِ، فيه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه، اعْتِبارًا بحالِ الجنايةِ؛ لأنَّها كانتْ في حالِ كَوْنِه عَبْدًا، ويُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِه صارَ حُرًّا؛ لأَنَّ الظاهرَ تَلَفُه بالجِنايةِ، وبعدَ تَلَفِه لا يُمكِنُ تحْرِيرُه. فعلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولِ هذيْن، يكونُ الواجِبُ فيه لسَيِّدِه. وعلى قولِ ابنِ حامدٍ، يكونُ الواجبُ فيه أقَلَّ الأمْرَيْنِ مِن الغُرَّةِ أو (¬1) عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه؛ لأَنَّ الغُرَّةَ إن كانت أكْثَرَ، لم يَسْتَحِقَّ الزِّيادةَ؛ لأنَّها زادَتْ بالحُرِّيَّةِ الحاصِلَةِ لزَوالِ مِلْكِه، وإن كانت أقَلَّ، لم يَكُنْ له أكْثَرُ منها؛ لأَنَّ النَّقْصَ حصَل بإعْتاقِه، فلا يضْمَنُ له، كما لو قطَع (¬2) يَدَ عَبْدٍ، فأعْتَقَه سَيِّدُه، ثم ماتَ بسِرايةِ الجِنايةِ، كان له أقَلُّ الأمْرَيْنِ مِن دِيَةِ حُرٍّ أو نِصْفِ قِيمَتِه، وما فَضَلَ عن (¬3) حَقِّ السَّيِّدِ لوَرَثَةِ الجَنِينِ. فأمَّا إن ضرَب بَطْنَ الأمَةِ، فأعْتَقَ السَّيِّدُ جَنِينَها وحدَه، نَظَرْتَ؛ فإن أسْقَطَتْه حَيًّا لوَقْتٍ يَعِيشُ مثلُه، ففيه دِيَةُ حُرٍّ. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن كان لوَقْتٍ لا يَعِيشُ مثلُه، ففيه غُرَّةٌ؛ لأنَّه حُرٌّ، على قَوْلِ ابنِ حامدٍ. وعلى قولِ أبى بكرٍ، عليه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه. وإن أسْقَطَتْه مَيِّتًا، ففيه عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّه؛ لأنَّنا لا نعلمُ كَوْنَه (¬4) حَيًّا حالَ إعْتاقِه. ويَحْتَمِل أن تجبَ عليه الغُرَّةُ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بقَاءُ حياتِه، فأشْبَهَ ما لو أعْتَقَ أُمَّه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «و». (¬2) في م: «قلع». (¬3) في الأصل: «من». (¬4) بعده في الأصل، تش: «يجئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كانتِ الأمَةُ لشَرِيكَيْنِ، فضَرَبَاها، ثم أعْتَقاها معًا، فولَدَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فعلى قَوْلِ أبى بكر، على كُلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّه لشَرِيكِه؛ لأَنَّ كُلًّا منهما جَنَى على الجَنِينِ، ونِصْفُه لشَرِيكِه، فسَقَطَ عنه ضَمانُه، ولَزِمَه ضَمانُ نِصْفِه الذى لشَرِيكِه بنِصْفِ عُشْرِ قيمَةِ أُمِّه، اعْتِبارًا بحال الجِنايةِ. وعلى قوْلِ ابنِ حامدٍ، على كلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ الغُرَّةِ، للأُمِّ منها الثُّلُثُ، وباقِيها للوَرَثَةِ، ولا يَرِثُ القاتِلُ منها شيئًا. فصل: إذا ضرَب ابن المُعْتَقَةِ الذى أبُوه عبدٌ بَطْنَ امرأةٍ، ثم أُعْتِقَ (¬1) أَبُوه (¬2)، ثم أسقَطَتْ جَنِينًا وماتَتْ، احْتَمَلَ أن تكونَ دِيَتُهُما في مالِ الجانِى، على ما تَقَدَّمَ ذِكْرُه. واحْتَمَلَ أن تكونَ الدِّيَةُ على مَوْلَى الأُمِّ وعَصَباتِه، في قياسِ قَوْلِ أبى بكرٍ، اعْتِبارًا بحالِ الجِنايةِ. وعلى قِياسِ قوْلِ ابنِ حامدٍ، على مَوْلَى الأب وأقاربِه، اعْتِبارًا بحالِ الإِسْقاطِ. وإن ضرَب ذِمِّىٌّ بطنَ امْرأتِه الذمِّيَّةِ، ثم أَسْلَمَ، ثم أسْقَطَتْ، لمِ تَحْمِلْه عاقِلَتُه، وإن ماتتْ معه فكذلك؛ لأَنَّ عاقِلَتَه المسلمين لا يَعْقِلون عنه؛ لأنَّه كان حينَ الجِنايةِ ذِمِّيًّا، وأهْلُ الذِّمَّةِ لا يَعْقِلُونَ عنه؛ لأنَّه حينَ الإِسْقاطِ مُسْلِمٌ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ عَقْلُه على عاقِلَتِه مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ، في قِياسِ قَوْلِ أبى بكرٍ، اعْتِبارًا بحالِ الجِنايةِ، ويكونَ في الجَنِينِ ما يجبُ في الجَنِينِ الكافرِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في م: «عتق». (¬2) سقط من: الأصل.

4219 - مسألة: (وإن كان الجنين محكوما بكفره، ففيه عشر دية أمه)

وَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، اعْتُبِرَ أَكْثَرُهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَ الجِنايةِ مَحْكُومٌ بكُفْرِه. وعلى قياسِ قوْلِ ابنِ حامدٍ، يجبُ فيه غُرَّةٌ كاملةٌ، ويكونُ عَقْلُه وعَقْلُ أُمِّه على عاقِلَتِه المسلمينَ، اعْتِبارًا بحالِ الاسْتِقْرارِ. 4219 - مسألة: (وإن كان الجَنِينُ مَحْكُومًا بكُفْرِه، ففيه عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ) وبهذا قال الشَّافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): لم أحْفَظْ عن غيرِهم خِلافَهُم. لأَنَّ جَنِينَ الحُرَّةِ المسلمةِ مَضْمُونٌ بعُشْرِ دِيَةِ أُمِّه، فكذلك (¬2) جَنِينُ الكافِرَةِ، إلَّا أنَّ أصْحابَ الرَّأْى يَروْنَ دِيَةَ الكافِرَةِ كدِيَةِ المُسْلمةِ، فلا يتَحَقَّقُ عندَهم بينَهما (¬3) اخْتِلافٌ. 4220 - مسألة: (وإن كان أحدُ أبَويه كِتابِيًّا، والآخَرُ مَجُوسِيًّا، اعْتُبِرَ أكْثَرُهما) دِيَةً، فيَجِبُ عُشْرُ دِيَةِ كِتابِيَّةٍ على كُلِّ حَالٍ؛ لأَنَّ ولدَ المسلمِ من الكافرَةِ يُعْتَبَرُ بأكْثَرِهما دِيَةً، كذا ههُنا، ولأَنَّ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 135، والإجماع 75. (¬2) في الأصل: «ولذلك». (¬3) في الأصل، تش: «بينهم».

4221 - مسألة: (وإن سقط الجنين حيا، ثم مات، ففيه دية حر إن كان حرا، أو قيمته إن كان مملوكا، إذا كان سقوطه لوقت يعيش

وَإِنْ سَقَطَ الْجَنِينُ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ، فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ إِنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، إِذَا كَانَ سُقُوطُهُ لِوَقْتٍ يَعِيشُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الضَّمانَ إذا وُجِدَ في أحَدِ أبوَيْه ما يُوجِبُ، وفى الآخَرِ ما يُسْقِطُ، غَلبَ الإِيجابُ، بدليلِ ما لو قتَل المُحْرمُ صَيْدًا مُتَوَلِّدًا مِن مأْكُولٍ وغيرِه. ولا فَرْقَ فيما ذكَرْنا بينَ الذَّكَرِ والأُنْثَى؛ لأَنَّ السُّنَّةَ لم تُفَرِّقْ بينَهما. وبه يقولُ الشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى، وعامَّةُ أَهْلِ العِلْمَ. فصل: ولو ضرَب بَطْنَ كِتابِيَّةٍ حاملٍ مِن كِتابِىٍّ، فأسْلَمَ أحدُ أبَوَيْه، ثم أسْقَطَتْه، ففيه الغُرَّةُ، في قولِ ابن حامدٍ والقاضى، وهو ظاهرُ كلامِ أحمدَ، ومذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ الضَّمانَ مُعْتَبَرٌ (¬1) بحالِ اسْتِقْرَارِ الجنايةِ، والجَنِينُ محْكُومٌ بإسْلامِه عندَ اسْتِقْرارِها. وفى قولِ أبى بكُرٍ وأبى الخَطَّابِ، فيه عُشرُ دِيَةِ كِتابِيَّةٍ؛ لأَنَّ الجِنايةَ عليه في حالِ كُفْرِه. 4221 - مسألة: (وإن سقَط الجَنِينُ حَيًّا، ثم مات، ففيه دِيَةُ حُرٍّ إن كان حُرًّا، أو قِيمَتُه إن كان مَمْلُوكًا، إذا كان سُقُوطُه لوَقْتٍ يَعِيشُ ¬

(¬1) سقط من: م.

مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرِ فَصَاعِدًا، وَإِلَّا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَيِّتِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلُه، وهو أن تَضَعَه لسِتَّةِ أشْهُرٍ فصاعِدًا، وإلَّا فحُكْمُه حُكْم المَيِّتِ) هذا قَوْلُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابن المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ في الجَنِينِ يَسْقُطُ حَيًّا مِن الضَّرْبِ، دِيَةً كاملةً؛ منهم زيدُ بنُ ثابتٍ، وعُرْوَةُ، والزُّهْرِىُّ، والشَّعْبِىُّ، وقَتادَةُ، وابنُ شُبْرُمَةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْى؛ وذلك لأنَّه مات مِن جِنايَته بعدَ وِلادَتِه، في وَقْتٍ يَعِيشُ لمثلِه، فأشْبَهَ قَتْلَه بعدَ وَضْعِه. وفى هذه المسألةِ ثلاثةُ فُصولٍ؛ أحدُها، أنَّه إنَّما يُضْمَنُ بالدِّيَةِ إذا وَضَعَتْه حَيًّا، فمتَى (¬2) عُلِمَتْ حَياتُه، ثبَت له (¬3) هذا الحُكْمُ، سواءٌ ثبَت باستهلالِه، أو ارتضاعه، أو بنَفَسِه (¬4)، أو عُطاسِه، أو غيرِ ذلك مما تُعْلَمُ به حياتُه. هذا ظاهرُ قولِ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 135، والإجماع 75. (¬2) في م: «فمن». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) في م: «تنفسه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِىِّ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه (¬1) لا يَثْبُتُ له (¬2) حُكْمُ الحياةِ إلَّا بأنْ يَسْتَهِلَّ. وهذا قولُ الزُّهْرِىِّ، وقَتادةَ، ومالكٍ، وإسْحاقَ. ورُوِىَ مَعْنَى ذلك عن عمرَ، وابنِ عبَّاسٍ، والحسنِ بنِ علىٍّ، وجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، رَضِى اللَّهُ عنهم؛ لقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إذَا اسْتَهَلَّ المَوْلُودُ، وَرِثَ ووُرِثَ» (¬3). مَفْهُومُه أنَّه لا يَرِثُ إذا لم يَسْتَهِلَّ. والاسْتِهْلالُ: الصِّياحُ. قاله ابنُ عباسٍ، والقاسِمُ، والنَّخَعِىُّ؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «ما مِن مَوْلُودٍ (¬4) يُولَدُ إلَّا مَسَّهُ الشَّيْطانُ، فيَسْتَهِلُّ صارِخًا، إلَّا مَرْيَمَ وابْنَها» (¬5). فلا يجوزُ غيرُ ما قالَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. والأَصْلُ في تَسْمِيَةِ الصِّياحِ اسْتِهْلالًا، أنَّ مِن عادةِ الناسِ أنَّهم (¬6) إذا رَأَوا الهِلالَ صاحُوا، وأرَاهُ بعْضُهم بعضًا، فَسُمِّىَ صِياح المَوْلُودِ استِهْلالًا؛ لأنَّه في ظُهُورِه بعدَ خَفائه كالهِلالِ، وصِياحُه كصِياحِ مَن يَتَراءاهُ. ولَنا، أنَّه ¬

(¬1) بعده في الأصل: «قال». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 18/ 210، 211. (¬4) بعده في الأصل: «إلا». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} من كتاب التفسير. صحيح البخارى 4/ 151، 6/ 42. ومسلم، في: باب فضائل عيسى عليه السلام، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1838. والإمام أحمد, في: المسند 2/ 233، 274، 275، 288، 292، 319. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد عُلِمَتْ حياتُه، فأشْبَهَ المُسْتَهِلَّ، والخَبَرُ يدُلُّ بمَعْناه وتَنْبِيهِه على ثُبُوتِ الحُكْمِ في سائرِ الصُّوَرِ، فإنَّ شُرْبَه اللَّبَنَ أدَلُّ على حَياتِه مِن صِياحِه، وعُطاسَه ضَرْبٌ منه، فهو كصِياحِه. وأمَّا الحَرَكَةُ والاخْتِلاجُ المُنْفَرِدُ، فلا يَثْبت به حُكْم الحياةِ؛ لأنَّه قد يتَحَرَّكُ بالاخْتِلاجِ وبسَبَبٍ آخَرَ، وهو خُروجُه مِن مَضِيقٍ، فإنَّ اللَّحْمَ يخْتَلِجُ، سِيَّما إذا عُصِرَ ثم تُرِكَ، فلم تَثْبت بذلك حَياتُه. الفصل الثانى: أنَّه إنَّما يَجِبُ ضَمانُه إذا عُلِمَ مَوْتُه بسبَب الضَّرْبَةِ، ويَحْصُلُ ذلك بسُقوطِه في الحالِ أو مَوْتِه، أو بَقائه مُتَأَلِّمًا إلى أنَ يَمُوتَ، أو بقاءِ أُمِّه مُتَأَلِّمةً إلى أن تُسْقِطَه، فيُعْلَمُ بذلك مَوْتُه بالجِنايةِ، كما لو ضرَب رَجُلًا فمات عَقِيبَ ضَرْبِه، أو بَقِىَ ضَمِنًا حتى مات. وإن ألْقَتْه حَيًّا، فجاء آخَرُ فقَتَلَه، وكانت فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فعلى الثانى القِصاصُ إذا كان عَمْدًا، أو الدِّيَةُ كاملةً، وإن لم تَكُنْ فيه حياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، بل كانت حَرَكَتُه كحرَكَةِ المَذْبُوحِ، فالقاتلُ هو الأَوَّلُ، وعليه الدِّيَةُ كاملةً، ويُؤَدَّبُ الثانِى. وإن بَقِىَ الجَنِينُ حَيًّا، وبَقِيَ زَمَنًا سالمًا لا ألَمَ به، لم يَضْمَنْه الضَّارِبُ؛ لأَنَّ الظاهرَ أنَّه لم يَمُت مِن جِنايَتِه. الفصل الثالث: أنَّ الدِّيَةَ إنَّما تجبُ فيه إذا كان سُقوطُه لسِتَّةِ أشْهُرٍ فصاعِدًا، فإن كان لدُونِ ذلك، ففيه غُرَّةٌ، كما لو سقَط مَيِّتًا. وبهذا قال المُزَنِىُّ. وقال الشافعىُّ: فيه دِيَةٌ كاملةٌ؛ لأنَّنا عَلِمْنا حَياتَه، وقد تَلِفَ

4222 - مسألة: (وإن اختلفا فى حياته، ولا بينة)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في حَيَاتِهِ وَلا بَيِّنَةَ، فَفِى أيِّهِمَا يُقَدَّمُ قَوْلُهُ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن جِنايَتِه. ولَنا، أنَّه لم تُعْلَمْ فيه حياةٌ يُتَصَوَّرُ بقَاؤُه بها، فلم تَجِبْ فيه دِيَةٌ، كما لو ألْقَتْه مَيِّتًا، وكالمذْبُوحِ. وقولُهم: إنَّا عَلِمْنا حياتَه. قُلْنا: وإذا سقَط مَيِّتًا وله سِتَّةُ أشْهُرٍ، فقد عَلِمْنا حياتَه أَيضًا. 4222 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في حَياتِه، ولا بَيِّنَةَ) لهما (ففى أيِّهِما يُقَدَّمُ قولُه وَجْهانِ) أحدُهما، يُقدَّمُ قولُ الوَلِىِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ حَياتُه، فإنَّ الجَنِينَ إذا بلَغ أرْبعةَ أشْهُرٍ، نُفِخَ فيه الرُّوحُ. والثانى، قولُ الجانِى؛ لأَنَّ الأَصْلَ براءَةُ ذِمَّتِه مِن الدِّيَةِ الكاملةِ. فصل: إذا ادَّعَتِ امرأةٌ على إنسانٍ (¬1) أنَّه ضَرَبَها، فأسْقَطَ جَنِينَها، فأنْكَرَ الضَّرْبَ، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَم الضَّرْبِ. وإن أقَرَّ بالضَّرْبِ أو قامَتْ به بَيِّنَةٌ، وأنْكَرَ أن تكونَ أسْقَطَتْ، فالقولُ قولُه أَيضًا مع يَمِينِه أنَّه (¬2) لا يَعْلَمُ أنَّها أسقَطَتْ، ولا تَلْزَمُه اليمِينُ على البَتِّ؛ لأنَّها يَمِينٌ على نَفْىِ فِعْلِ الغَيْرِ، والأَصْلُ عَدَمُه. وإن ثبَت الإِسْقاطُ والضَّرْبُ ببَيِّنَةٍ أو إقْرارٍ، فادَّعَى أنَّها أسْقَطته مِن غيرِ ضَرْبِه؛ فإن كانت أسْقَطَتْه عَقِيبَ ضَرْبِها (¬3)، فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الظاهرَ أنَّه منه، لوُجودِه ¬

(¬1) في م: «رجل». (¬2) في م: «لأنه». (¬3) في م: «ضربه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَقِيبَ شئٍ يَصْلُحُ أن يكونَ سَبَبًا له. وإنِ ادَّعَى أنَّها ضَرَبَتْ نَفْسَها، أو شَرِبَتْ دواءً، أو فَعَلَ ذلك غيرُها، فحَصَلَ الإِسْقاطُ، فأنْكَرَتْه، فالقولُ قولُها مع يَمينها؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ ذلك. وإن أسْقَطَتْه بعدَ الضَّرْبِ بأيَّامٍ، وكانت مُتَأَلِّمةً إلى حينِ الإسْقاطِ، فالقولُ قولُها، وإن لم تَكُنْ مُتَأَلِّمةً، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، كما لو ضرَب إنْسانًا فلم يَبْقَ مُتَأَلِّمًا ولا ضَمِنًا، ومات بعدَ أيَّامٍ. وإنِ اخْتَلَفا في وُجودِ التَّأَلُّمِ، فالقولُ قولُه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُه. وإن كانتْ مُتَأَلِّمةً في بعْضِ المُدَّةِ، فادَّعَى أنَّها بَرَأَتْ وزَالَ أَلَمُها، وأنْكَرَتْ ذلك، فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الأَصْلَ بقاؤُه. وإن ثبَت إسْقاطُها مِن الضَّرْبَةِ، فادَّعَتْ سُقُوطَه حَيًّا، وأنْكَرَها، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، إلَّا أن تَقُومَ لها بَيِّنَةٌ باسْتِهْلالِه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ ذلك. وإن ثَبَتَتْ حَياتُه، فادَّعَتْ أنَّه لوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُه، فأنْكَرَها، فالقولُ قولُها مع يَمِينِها؛ لأَنَّ ذلك لا يُعْلَمُ إلَّا مِن جِهَتِها , ولا يُمْكِنُ إقامةُ البَيِّنَةِ عليه، فقُبِلَ قولُها فيه، كانْقِضاء عِدَّتِها، ووُجودِ حَيْضِها وطُهْرِها. وإن أقامَتْ بَيِّنةً باسْتِهْلالِه، وَأقامَ الجانِى بَيِّنَةً بخِلافِها، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُها؛ لأنَّها مُثْبِتَة، فقُدِّمَتْ على النَّافيةِ؛ لأَنَّ المُثْبِتةَ معها زِيادَةُ عِلْمٍ. وإنِ ادَّعَتْ أنَّه مات عَقِيبَ إسْقاطِه، وادَّعَى أنَّه عاش مُدَّةً، فالقولُ قولُها؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ حَياتِه. وإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعْواه، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الجانِى؛ لأَنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معَها زِيادةَ عِلْمٍ. وإن ثبَت أنَّه عاش مُدَّةً، فادَّعَتْ أنَّه بَقِىَ مُتَأَلِّمًا حتَّى مات، فأنْكَرَ، فالقولُ قولُه؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَم التَّأَلُّمِ، فإن أقامَا بَيِّنتَيْنِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُها؛ لأَنَّ معها زِيادةَ عِلْمٍ (¬1). ويُقْبَلُ في اسْتِهلالِ الجَنِينِ، وسُقُوطِه، وبَقائه مُتَأَلِّمًا، وبقاء أُمِّه مُتَأَلِّمةً، قولُ امرأةٍ واحدةٍ؛ لأنَّه ممَّا لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ غالِبًا، لأَنَّ الغالِبَ أنَّه لا يَشْهَد الوِلادةَ إلَّا النِّساءُ، والاسْتِهْلالُ يتَّصِلُ بها، وهُنَّ يَشْهَدْنَ حالَ المرأةِ ووِلادَتَها، وحالَ الطِّفْلِ، ويَعْرِفْنَ عِلَلَه وأمْراضَه، وقُوَّتَه وضَعْفَه، دُونَ الرِّجالِ. وإنِ اعْتَرَفَ الجانِى باسْتِهْلالِه، أو ما يُوجِبُ فيه دِيَةً كاملةً، فالديةُ في مالِ الجانِى لا تَحْمِلُه العاقلةُ؛ لأنَّها لا تَحْمِلُ اعْتِرافًا. وإن كانتْ ممَّا تَحْمِلُ العاقلةُ فيه الغُرَّةَ، فهى على العاقلةِ، وباقى الدِّيَةِ في مالِ القاتلِ. فصل: وإنِ انْفَصَلَ منها جَنِينانِ، ذَكَرٌ وأُنْثَى، فاسْتَهَلَّ أحَدُهما، واتَّفَقُوا على ذلك، واخْتَلَفُوا في المُسْتَهِلِّ، فقال الجانِى: هو الأُنْثَى. وقال وارِثُ الجَنِينِ: هو الذَّكَرُ. فالقولُ قول الجانِى مع يَمِينِه؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ ذِمَّتِه مِن الزَّائدِ على دِيَةِ الأُنْثَى، فإن كان لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ بها، وإن كان لهما بَيِّنَتانِ، وجَبَتْ دِيَةُ الذَّكَرِ؛ لأَنَّ البَيِّنةَ قد قامتْ باسْتِهلالِه، والبَيِّنَةُ المُعارِضَةُ لها نافية له، والإِثْباتُ مُقَدَّمٌ على النَّفْى. فإن ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وإن ثبت أنه عاش مدة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: فيَنْبَغِى أن تَجِبَ دِيَتُهما. قُلْنا: لا تَجِبُ دِيَةُ الأُنْثَى؛ لأن المُسْتَحِقَّ لها لم يَدَّعِها، وهو مُكَذِّبٌ للبَيِّنةِ الشاهِدَةِ بها. فإنِ ادَّعَى الاسْتِهلالَ منها، ثبَت ذلك بالبَيِّنَتَيْنِ. وإن لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فاعْتَرَفَ الجانِى باسْتِهْلالِ الذَّكَرِ، فأنْكَرَتِ العاقلةُ، فالقولُ قولُهم مع أيْمانِهِم، فإذا حَلَفُوا، كان عليهم دِيَةُ الأُنْثَى وغُرَّةٌ، إن كانت تَحْمِلُ الغُرَّةَ، وعلى الضَّارِبِ تَمامُ دِيَةِ الذَّكَرِ، وهو نِصْفُ الدِّيَةِ، لا تَحْمِلُه العاقلةُ؛ لأنَّه ثبَت باعْتِرافِه. وإنِ اتَّفَقُوا على أن أحَدَهُما اسْتَهَلَّ، ولم يُعْرَفْ بعَيْنِه، لَزِمَ العاقلةَ دِيَةُ أُنْثَى؛ لأنَّها مُتَيَقَّنَةٌ، وتَمامُ دِيَةِ الذَّكَرِ مَشْكُوك فيه. والأَصْلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ منه، فلم يَجب بالشَّكِّ، وتَجِبُ الغُرَّةُ في الذى لم يَسْتَهِلَّ. فصل: إذا ضَرَبَها فأَلْقَتْ يَدًا، ثم ألْقَتْ جَنِينًا، فإن كان إلْقاؤُهما مُتَقارِبًا، أو بَقِيَتِ المرأةُ مُتَأَلِّمةً إلى أن ألْقَتْه، دَخَلَتِ اليَدُ في ضَمانِ الجَنِينِ؛ لأن الظاهِرَ أنَّ الضَّرْبَ قطَعِ يَدَه، فسَرَى إلى نَفْسِه، فأَشْبَهَ ما لو قطَع يَدَ رَجُلٍ، فسَرَى القَطْعُ إلى نفْسِه، ثم إن كان الجَنِينُ سقَط مَيِّتًا، أو حَيًّا لوَقْتٍ لا يَعِيشُ لمِثْلِه (¬1)، ففيه غُرَّةٌ، وإن ألْقَتْه حَيًّا لوَقْتٍ يَعِيشُ لمِثْلِه، ففيه دِيَةٌ كاملةٌ، وإن بَقِىَ حَيًّا فلم يَمُتْ، فعلى الضَّارِبِ ضَمانُ اليَدِ بدِيَتِها، بمَنْزِلَةِ مَن قطَع يدَ رَجُلٍ فانْدَمَلَتْ. وقال القاضى، وبعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: يُسْأَلُ القَوابِلُ، فإن قُلْنَ: إنَّها يَدُ مَن لم تُخْلَقْ فيه ¬

(¬1) في م: «مثله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحياةُ. ففيها نِصْفُ الغُرَّةِ. وإنْ قُلْنَ: يَدُ مَن خُلِقَتْ فيه الحياةُ. ففيها نِصْفُ الدِّيَةِ. ولَنا، أنَّ الجَنِينَ إنَّما يُتَصَوَّرُ بقَاءُ الحياةِ فيه إذا كان حَيًّا قبلَ وِلادَتِه بمُدَّةٍ طويلةٍ، أقَلُّها شَهْرانِ، على ما دَلَّ عليه حديثُ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ، في أنَّه يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ بعدَ أرْبعةِ أشْهُرٍ (¬1)، وأقَلُّ ما يَبْقَى بعدَ ذلك شَهْرانِ؛ لأنَّه لا يَحْيَى إذا وَضَعَتْه لأَقَلَّ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ، والكلامُ مَفْروضٌ (¬2) فيما إذا لم يَتَخَلَّلْ بينَ الضَّرْبَةِ والإِسْقاطِ مُدَّةٌ (¬3) تُزيلُ ظَنَّ سُقُوطِه بها، فيُعْلَمُ حِينَئِذٍ أنَّها كانت بعدَ وُجُودِ الحياةِ فيه. وأمَّا إن ألْقَتِ اليَدَ، وزالَ الألَمُ، ثم ألْقَتِ الجَنِينَ، ضَمِنَ اليَدَ وحدَها، بمَنْزِلةِ مَن قطَع يَدًا فانْدَمَلتْ، ثم مات صاحِبُها، ثم يُنْظَرُ؛ فإن ألْقَتْه مَيتا، أو لوَقْتٍ لا يَعِيشُ لمِثْلِه، ففى اليَدِ نِصْفُ غُرَّةٍ؛ لأَنَّ في جَمِيعِه غُرَّةً، ففى يَدِه نِصْفُ دِيَتِه، وإن ألْقَتْه حَيًّا [لوَقْتٍ يَعِيشُ لمِثْلِه، ثم مات، أو عاشَ، وكان بينَ إلْقاءِ اليَدِ وبينَ [إلْقائه مُدَّةٌ] (¬4) يَحْتَمِلُ أن تكونَ الحياةُ] (¬5) لم تُخْلَقْ فيه قبلَها، أُرِىَ القَوابِلَ ههُنا، فإن قُلْنَ: إنَّها يَدُ مَن لم تُخْلَقْ فيه الحياةُ. وجَبَ نِصْفُ غُرَّةٍ، وإن قُلْنَ: إنَّها يَدُ مَن خُلِقَتْ فيه الحياةُ. ولم يَمْضِ له سِتَّةُ أشْهُرٍ، وجَب فيه نِصْفُ الغُرَّةِ؛ لأنَّها يَدُ مَن لا (¬6) يَجِبُ فيه أكْثَرُ مِن غُرَّةٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 24/ 26. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «طويلة». (¬4) في تش: «إلقاء يده». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأَشْبَهَتْ يَدَ مَن لم تُنْفَخْ فيه الرُّوحُ، وإن أشْكَلَ الأمْرُ علَيْهِنَّ، وجَب نِصْفُ الغُرَّةِ؛ لأنَّه اليَقِينُ، وما زادَ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ. فصل: وإذا شَرِبَتِ الحَامِلُ دَواءً، فأَلْقت جَنِينًا، فعليها غُرَّةٌ، لا تَرِثُ منها شيئًا، لا نَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في ذلك؛ لأنَّها أسْقَطَتِ الجَنِينَ بفِعْلِها وجِنايَتِها، فلَزمَها ضَمانُه بالغُرَّةِ، كما لو جَنَى عليه غيرُها , ولا تَرِثُ مِن الغُرَّةِ شيئًا؛ لأَنَّ القاتِلَ لا يَرِثُ [مِن ديةِ] (¬1) المقْتُولِ، ويَرِثُها سائِرُ وَرَثَتِه، فإن كان الجانِى المُسْقِطُ للجَنِينِ أباهُ أو غيرَه، فعليه غُرَّة، لا يرَثُ منها شيئًا؛ لِما ذكَرْنا. فصل: وإن جَنَى على بَهِيمَةٍ، فألْقَتْ جَنِينَها، ففيه ما نَقَصَها، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن أبى بكرٍ أنَّ فيه عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لأنَّها جِنايَة على حَيوانٍ يَمْلِكُ بَيْعَه، أسْقَطَتْ جَنِينَه، أشْبَهَ جَنِينَ الأمَةِ. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ الجِنايةَ على الأمَةِ تُقَدَّرُ مِن قِيمَتِها في ظاهرِ المذهبِ، ففى يَدِها نِصْفُ قِيمَتِها، وفى مُوضِحَتِها نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِها، وقد وافَقَ أبو بكرٍ على ذلك، فقُدِّرَ جَنِينُها مِن قِيمَتِها، كبَعْضِ أعْضائها، والبَهِيمَةُ إنَّما يَجِبُ بالجِنايةِ عليها قَدْرُ نَقْصِها، فكذلك في جَنِينها, ولأَنَّ الأمَةَ آدَمِيَّةٌ، الحِقَتْ بالأحْرارِ في تَقْدِيرِ أعْضائها مِن قِيمَتِها، بخِلافِ البَهِيمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وَدِيَةُ الأعْضاءِ كدِيَةِ النَّفْسِ، فإن كان الواجِبُ مِن الذَّهَبِ والوَرِقِ، لم يَختلفْ بعَمْدٍ ولا خَطَأ، وإن كان مِن الإِبِلِ، وجَبَ في العَمْدِ أرْباعًا، على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ، وفى الأُخْرَى يَجِبُ خُمْسٌ [وعُشْرٌ منها حِقاقٌ] (¬1)، وخُمسٌ [وعُشْرٌ جِذَاعٌ] (¬2)، وخُمْساها خَلِفاتٌ، وفى الخطأ يَجِبُ أخْماسًا، فإن لم يُمْكِنْ قسْمتُه (¬3)، مثلَ أن يُوضِحَه عَمْدًا، فإنَّه يَجِبُ أربعةٌ أرْباعًا، والخامسُ مِن أحَدِ الأجْناسِ الأرْبعةِ، قِيمَتُه رُبْعُ قِيمَةِ الأرْبعِ. وإن قُلْنا بالرِّوايةِ الأُخْرَى، وجَبَ خَلِفَتانِ، وحِقَّةٌ، وجَذَعَةٌ، وبَعِيرٌ (¬4) قِيمَتُه نِصْفُ قِيمَةِ حِقَّةٍ ونصفُ قِيمَةِ جَذَعَةٍ. وإن كانتْ خَطَأً، وجَبَ الخَمْسُ مِن الأجْناسِ الخَمْسَةِ، مِن كلِّ جنْسٍ (¬5) بَعيرٌ. وإن كان الواجِبُ دِيَةَ أُنْمُلَةٍ، وقُلْنا: تَجِبُ مِن ثَلاثةِ أَجْناسٍ. وجَب بَعِيرٌ وثُلُثٌ مِن الخَلِفاتِ، وحِقَّةٌ، وجَذَعَةٌ. وإن قُلْنا: أرْباعًا. وجَب ثَلاثةٌ وثُلُثٌ، قِيمَتُها نِصْفُ قِيمَةِ الأرْبعةِ وثُلُثِها. وإن كان خَطَأً، فقِيمَتُها ثُلُثا قِيمَةِ الخَمْسِ. وعندَ أَصْحابِنا، أنَّ قِيمَةَ كُلِّ بَعِيرٍ مائةٌ وعشرونَ دِرْهَمًا، أو عَشَرةُ دنَانيرَ، فلا فائدةَ في تَعْيِينِ ¬

(¬1) في م: «وعشرون حقة». (¬2) في م: «وعشرون جذعة». (¬3) في م: «قيمته». (¬4) في م، ق: «يعتبر». (¬5) في تش: «جنسين».

فصل

فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْقَتْلَ تُغَلَّظُ دِيَتُهُ بِالْحَرَمِ، وَالإِحْرَامِ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَيُزَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحُرُمَاتُ الْأَرْبَعُ، وَجَبَ دِيَتَانِ وَثُلُثٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْنَانِها. وإنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الدَّنانيرِ والدَّراهِمِ، مثلَ أن كانَتِ العشَرةُ الدَّنانيرِ تُساوِى مائةَ درهم، فقِياسُ قَوْلِهم أنَّه (¬1) إذا جاءَ بما قِيمَتُه عشرةُ دنانِيرَ، لَزِمَ المَجْنِىَّ عليه قَبولُه؛ لأنَّه لو جاءَه بالدَّنانيرِ، لَزِمَه قَبُولُها، فلَزِمَه قَبولُ ما يُساوِيها. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وذكَر أصْحابُنا أنَّ القَتْلَ تُغَلَّظُ دِيَتُه بالحَرَمِ، والإِحْرامِ، والأشْهُرِ الحُرُمِ، والرَّحِمِ المَحْرَمِ، فيُزادُ لكلِّ واحدٍ ثلُثُ الدِّيَةِ، فإذا اجْتَمَعَتِ الحُرُماتُ الأرْبَعُ، وجَب دِيتانِ وثُلُثٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ بثلاثةِ أشياءَ؛ إذا قتَل في الحَرَمِ، والأشْهُرِ الحُرُمِ، وإذا قتَل مُحْرِمًا. ونَصَّ أحمدُ على التَّغْلِيظِ فيما إذا قتَل مُحْرِمًا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحَرَم وفى الشَّهْرِ الحَرامِ. فأمَّا إن قتَل ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فقال أبو بكرٍ: تُغَلَّظُ دِيَتُه. وقال القاضى: ظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّها لا تُغَلَّظُ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: تُغَلَّظُ بالحَرَمِ، والأَشْهُرِ الحُرُمِ، وذِى (¬1) الرَّحِمِ، وفى التغليظِ بالإِحْرامِ وَجْهان. وممَّن رُوِىَ عنه التَّغْليظُ؛ عُثمانُ، وابنُ عباسٍ، والسَّعِيدانِ (¬2)، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، ومُجاهِدٌ، وسليمانُ بنُ يَسَارٍ، وجابرُ بنُ زَيْدٍ، وقَتادةُ، والأوْزَاعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. واخْتَلَفَ القائلونَ بالتَّغْلِيظِ في صِفَتِه، فقال أصْحابُنا: يُغَلَّظُ لكلِّ واحدٍ مِن الحُرُماتِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فإذا اجْتَمَعَتِ الحُرُماتُ الأرْبعُ، وجَبَتْ دِيتَانِ وثُلُث. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ، في مَن قتَل مُحْرِمًا في الحَرَمِ في الشَّهْرِ الحَرامِ: فعليه أرْبَعةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا. وهذا قولُ التَّابِعينَ القائِلينَ بالتَّغْليظِ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: صِفَةُ التَّغْلِيظِ، إيجابُ دِيَةِ العَمْدِ في الخَطَأ، ولا يُتَصَوَّر التَّغْلِيظُ في غيرِ الخَطَأ، ¬

(¬1) في تش: «ذوى». (¬2) السعيدان: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير. وانظر ما أخرجه ابن أبى شيبة عنهما، في: باب الرجل يقتل في الحرم، من كتاب الديات. المصنف 9/ 326، 327. وعن سعيد بن المسيب ما أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يكون فيه التغليظ، من كتاب العقول. المصنف 9/ 300. والبيهقى، في: باب ما جاء في تغليظ الدية. . .، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُجْمَعُ بينَ تَغْلِيظَيْنِ. وهذا قولُ مالكٍ، إلَّا أنَّه يُغَلِّظُ في العَمْدِ، فإذا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَمْدًا، فعليه ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ جَذَعَةً، وأرْبعونَ خَلِفَةً، وتَغْلِيظُها في الذَّهَبِ والفِضَّةِ أن يَنْظُرَ (¬1) قِيمَةَ أسْنانِ الإِبِلِ غيرَ مُغَلَّظَةٍ، وقِيمَتَها مُغَلَّظَةً، ثم يَحْكُمَ بزِيادةِ ما بينَهما، كَأنَّ (¬2) قِيمَتَها مُخَفَّفَةً سِتُّمائةٍ، وفى العَمْدِ ثَمانمائةٍ، وذلك ثُلُثُ الدِّيَةِ المُخَفَّفَةِ. وعندَ مالكٍ تُغَلَّظُ في الأبِ والأُمِّ والجَدِّ، دُونَ غيرِهم. واحْتَجَّا على صِفَةِ التَّغْلِيظِ بما رُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه أخَذَ مِن قَتادَةَ المُدْلِجىِّ دِيَةَ ابْنِه حينَ حَذَفَه بالسَّيْفِ ثلاثينَ حِقَّةً، وثلاثينَ جَذَعَةً، وأربعين خلِفَةً (¬3)، ولم يَزِدْ عليه في العَدَدِ شيئًا (¬4). وهذه قِصَّة اشْتَهَرَتْ فلمِ تُنْكَرْ، فكانتْ إجْماعًا, ولأَنَّ ما أوْجَبَ التَّغْلِيظَ أوْجَبَه في الأسْنانِ دُون القَدْرِ، كالضَّمانِ، ولا يُجْمَعُ بينَ تَغْلِيظَيْنِ؛ لأَنَّ ما أوْجَبَ التَّغْلِيظَ بالضَّمانِ إذا اجْتَمَعَ سَببانِ تَداخلا، كالحَرَمِ والإِحْرَامِ في قَتْلِ الصَّيْدِ، وعلى أنَّه لا يُغَلَّظُ بالإِحْرامِ؛ لأَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بتَغْلِيظِه. واحْتَجَّ أصْحابُنا ¬

(¬1) بعده في م: «كم». (¬2) في م: «كانت». (¬3) بعده في تش: «في بطونها أولادها». (¬4) تقدم تخريجه في 18/ 370.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بما رَوَى ابنُ أبى نَجيحٍ [عن أَبيه] (¬1)، أنَّ امرأةً وُطِئتْ (¬2) في الطَّوَافِ، فقَضَى عثمانُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فيها بسِتَّةِ آلافٍ وألْفَيْنِ تَغْلِيظًا للحَرَمِ (¬3). وعن ابنِ عمرَ، أنَّه قال: مَن قتَل في الحَرَمِ، أو ذَا رَحِمٍ، أو في الشَّهْرِ الحَرامِ، فعليه دِيَةٌ وثُلُثٌ (¬4). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ رَجُلًا قتَل رَجُلًا في الشَّهْرِ الحَرامِ، في البَلَدِ الحرامِ، فقال: دِيَتُه اثْنَا عَشَرَ ألْفًا، وللشَّهْرِ الحرامِ أرْبَعَةُ آلافٍ، وللبَلَدِ الحرامِ أرْبَعةُ آلافٍ (¬5). وهذا ممَّا ¬

(¬1) تكملة من مصادر التخريج. وانظر: الإرواء 7/ 310. (¬2) أى: وطئت بالأقدام فماتت. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يكون فيه التغليظ، من كتاب العقول. المصنف 9/ 298. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يقتل في الحرم، من كتاب الديات. المصنف 9/ 326. والبيهقى، في: باب ما جاء في تغليظ الدية. . .، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 71. (¬4) أخرجه البيهقى عن عمر، في: باب ما جاء في تغليظ الدية. . .، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 71. وانظر: الإشراف 3/ 91. وهو ضعيف، انظر: تلخيص الحبير 4/ 33، والإرواء 7/ 310، 311. (¬5) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 325. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 71. وضعفه في الإرواء 7/ 311.

4223 - مسألة: (وظاهر كلام الخرقى أن الدية لا تغلظ لشئ من ذلك)

وَظَاهِرُ كَلامِ الْخِرَقِىِّ، أَنَّهَا لَا تُغَلَّظُ بِذَلِكَ. وَهُوَ ظَاهِرُ الآيَةِ وَالْأَخْبَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَظْهَرُ ويَنْتَشِرُ، ولم يُنْكَرْ، فثَبَتَ إجْماعًا. وهذا فيه الجَمْعُ بينَ تَغْلِيظاتٍ ثلاثٍ، ولأنَّهُ قولُ التابِعينَ القائلِينَ بالتَّغْلِيظِ. واحْتَجُّوا على التَّغْليظِ في العَمْدِ، أنَّه إذا غُلِّظَ الخَطَأُ مع العُذْرِ فيه، ففى العَمْدِ مع عَدَمِ العُذْرِ أَوْلَى. وكلُّ مَن غَلَّظَ الدِّيَةَ، أوْجَبَ التَّغْلِيظَ في بَدَلِ الطَّرَفِ بهذه الأسْبابِ؛ لأَنَّ ما أوْجَبَ تَغْلِيظَ دِيَةِ النَّفْسِ، أوْجَبَ تغْلِيظَ دِيَةِ الطَّرَفِ، كالعَمْدِ (¬1). 4223 - مسألة: (وظاهرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ أنَّ الدِّيَةَ لا تُغَلَّظُ لشئٍ مِن ذلك) وهو قولُ الحَسَنِ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وأبى حَنيفَةَ، وابْن المُنْذِرِ. ورُوِىَ ذلك عن الفُقَهاءِ السَّبْعَةِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزِيزِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرِهم؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «في النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائةٌ مِنَ الإِبِلِ» (¬1). لم يَزِدْ على ذلك. «وعلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفُ مِثْقَالٍ» (¬2). وفى حديثِ أبى شُرَيْحٍ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وَأَنْتُمْ يَا خُزاعَةُ قدْ قَتَلْتُمْ هذا القَتِيلَ مِن هُذَيْلٍ، وأنا واللَّهِ عَاقِلُه، فمَن قُتِلَ له قَتِيل بعدَ ذلِكَ، فأهْلُه بينَ خِيَرَتَيْنِ؛ إن أحَبُّوا قَتَلُوا، وإن أحَبُّوا أخَذُوا الدِّيَةَ» (¬3). وهذا القَتِيلُ كان بمَكَّةَ في حَرَمِ اللَّهِ تعالى، ولم يَزِدِ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على الدِّيَةِ، ولم يُفَرِّق بينَ الحَرَمِ وغيرِه. وقال اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬4). وهذا يقْتَضِي أن تكونَ الدِّيَةُ واحدةً في كلِّ مكانٍ، وكلِّ حالٍ، ولأَنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أخَذ مِن قَتادَةَ المُدْلِجِىِّ دِيَةَ ابْنِه، لم يَزِدْ على مائةٍ. ورَوَى الجُوزْجَانِىُّ، بإسْنادِه، عن أبى الزِّنادِ، أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، كان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) انظر تخريج الحديث السابق، وما تقدم في صفحة 369. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 142. (¬4) سورة النساء 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجْمَعُ الفُقَهاءَ، فكان ممَّا أحْيَى مِن تلك السُّنَنِ بقولِ فُقَهاءِ المدينةِ السَّبْعَةِ ونُظَرائهم، أنَّ نَاسًا كانوا يقولون: إنَّ الدِّيَةَ تُغَلَّظُ في الشَّهْرِ الحَرامِ أرْبَعةَ آلافٍ، فتكونُ سِتَّةَ عشرَ ألْفًا. فألْغَى عمرُ ذلك بقَوْلِ الفُقَهاءِ، وأثْبَتَها اثْنَى عَشَرَ ألْفَ دِرْهمٍ في الشَّهْرِ الحرامِ، والبَلَدِ الحَرامِ، وغيرِهما. قال ابن المُنْذِرِ (¬1): وليس بثابِتٍ ما رُوِىَ عن الصَّحابةِ في هذا. ولو صَحَّ، ففِعْلُ عمرَ في حديثِ قَتادةَ أَوْلَى، وهو مُخالِفٌ لغيرِه، فيُقَدَّمُ على قولِ مَن خالَفَه، وهو أَصَحُّ في الرِّوايةِ، مع مُوافَقَتِه الكِتابَ والسُّنَّةَ والقِياسَ. فصل: ولا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بموضِع غيرِ حَرَمِ مَكَّةَ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: تُغَلَّظُ الدِّيَةُ بالقَتْلِ في المدينةِ. على قولِه القَديم؛ لأنَّها مكان يَحْرُمُ صَيْدُه، فأشْبَهَتْ حَرَمَ مَكَّةَ. ولا يَصِحُّ القِياسُ؛ لأنَّها ليست مَحَلًّا للمَناسِكِ، فأشْبَهَت سائرَ البُلْدانِ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على الحَرَمِ؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أىُّ بَلَدٍ هذَا؟ أَلَيْسَتِ البَلْدَةَ؟». قال: «فَإنَّ دِمَاءَكُم وأمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرام، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذَا، في ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 92.

4224 - مسألة: (وإن قتل المسلم كافرا عمدا، أضعفت الدية)

وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا عَمْدًا، أُضْعِفَتِ الدِّيَةُ؛ لإِزَالَةِ القَوَدِ، كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ بَلَدِكُمْ هذَا» (¬1). وهذا يَدُلُّ على أنَّه أعْظَم البِلادِ حُرْمَةً. وقال النَّبىّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ أعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ، رَجُلٌ قتَل في الحَرَمِ، ورَجُلٌ قتَل غيرَ قاتِلِه، ورَجُل قتَل بِذَحْلٍ (¬2) في الجاهِلِيَّةِ» (¬3). وتَحْرِيم الصَّيْدِ ليس هو العِلَّةَ في التَّغْلِيظِ، وإن كان مِن جُمْلَةِ المُؤثِّرِ، فقد خالَفَ تَحْرِيمُه تَحْرِيمَ الحَرَمِ، فإنَّه لا يَجِبُ الجَزاءُ على مَن قتَل فيه صَيْدًا, ولا يَحْرُم الرَّعْىُ فيه، ولا الاحْتِشاشُ منه، ولا ما يُحْتاجُ إليه مِن الرَّحْلِ والعارِضَةِ والقائمةِ وشِبْهِه. 4224 - مسألة: (وإن قتَل المسْلِمُ كَافِرًا عَمْدًا، أُضْعِفَتِ الدِّيَةُ) ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: رب مبلغ أوعى عن سامع، عن كتاب العلم، وفى: باب من قال: الأضحى يوم النحر، من كتاب الأضاحى، وفى: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا ترجعوا بعدي كفارًا. . .، من كتاب الفتن، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} من كتاب التوحيد. صحيح البخارى 1/ 26، 7/ 129، 130، 9/ 63، 163. ومسلم، في: باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1305 - 1307. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 37، 39 - 41، 49. كلهم من حديث أبى بكرة. (¬2) الذحل: «الثأر». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 65.

حَكَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [على قاتِلِه] (¬1) (لإِزالَةِ القَوَدَ، كما حكَم عُثْمَانُ بنُ عفَّانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه) روَى أحمدُ، عن عبدِ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِىِّ، عن سالم، عن أَبِيه، أنَّ رَجُلًا قتَل رَجُلًا مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَرفِعَ إلى عُثمانَ، فلم يَقْتُله، وغَلَّظَ عليه ألْفَ دِينارٍ (¬2). فذهبَ إليه أَحْمد، رَحِمَه اللَّهُ. وله نَظائر في مَذْهَبِه، فإنَّه أوْجَبَ على الأَعْوَرِ إذا قلَع عَيْنَ صَحِيحٍ مماثِلَةً لعَيْنه دِيَةً كاملةً، لَمَّا دَرَأ عنه القِصاصَ، وأوْجَبَ على سارِقِ التَّمْرِ المعَلَّق مِثْلَىْ قِيمَتِه، لَمَّا دَرَأَ عنه القَطْعَ. وذهبَ جُمهورُ العُلماءِ إلى أنَّ ديةَ الذِّمِّىِّ في العَمْدِ والخَطَأ واحدٌ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ فيها، وكما لو قتَل حُرٌّ عَبْدًا عَمْدًا (¬3)، فإنَّه لا تُضَعَّفُ القِيمَةُ عليه، ولأنَّه بَدَلُ مُتْلَفٍ، فلم يتَضاعَفْ بالعَمْدِ، كسائرِ الأبْدَالِ. ¬

(¬1) زيادة من: ق، م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 394. (¬3) سقط من: الأصل.

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ خَطَأً، فَسَيِّدُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فِدَائهِ بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أو أَرْشِ جِنَايَتِه، أَوْ تَسْلِيمِهِ ليُبَاعَ في الْجِنَايَةِ. وَعَنْهُ، إِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ، فَعَلَيْهِ فِدَاؤُهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وإن جَنَى العَبْدُ خَطَأً، فسَيِّدُه بالخِيارِ بينَ فِدائه بالأقَلِّ مِن قِيمتِه أو أَرْشِ جِنايتُه، أو تَسْلِيمِه ليُباعَ في الجِنايةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ جِنايةَ العَبْدِ إذا كانت مُوجِبةً للمالِ، أو كانت مُوجِبةً للقِصاصِ، فعَفا عنها إلى المالِ، تتَعَلَّقُ برَقَبَتِه؛ لأنَّه لا يَخْلُو مِن أن تَتَعَلَّقَ برَقَبَتِه، أو ذِمَّتِه، أو ذِمَّةِ سَيِّدِه، أو لا يَجِبَ شئٌ، ولا يُمْكِنُ إلْغاؤها؛ لأنَّها جِنايةُ آدَمِىٍّ، فوَجَبَ اعْتِبارُها كجنايةِ الحُرِّ، ولأَنَّ جِنايةَ الصَّغيرِ والمجْنونِ غيرُ مُلْغاةٍ، مع عُذْرِه وعَدَمِ تَكْلِيفِه، فالعَبْدُ أَوْلَى، ولا يُمْكِنُ تَعْلِيقُها بذِمَّتِه؛ لأنَّه يُفْضِى إلى إلْغائِها، أو تَأخِيرِ حَقِّ المَجْنِىِّ عليه إلى غيرِ غايةٍ، ولا بذِمَّةِ السَّيِّدِ؛ لأنَّه لم يَجْنِ، فتَعَيَّنَ تَعَلُّقُها برَقبَةِ العَبْدِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ الضَّمانَ مُوجَبُ جِنايَتِه، فتَعَلَّقَ برَقَبَتِه، كالقِصاصِ. ثم لا يَخْلُو أَرْشُ الجِنايةِ مِن أن يكونَ بقَدْرِ قِيمَتِه أو أقَلَّ أو أكْثَرَ؛ فإنْ كان بقَدْرِها فما دُونَ، فالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بينَ أن يَفْدِيَه بأَرْشِ جِنايَتِه أو يُسَلِّمَه إلى وَلِىِّ الجِنايةِ فيَمْلِكَه. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، ومحمدُ بن الحسنِ، وإسْحاقُ. ورُوِىَ ذلك عن الشَّعْبىِّ، وعَطاء ومُجاهِدٍ، وعُرْوَةَ، والحسنِ، والزُّهْرِىِّ، وحَمَّادٍ؛ لأنَّه إن دَفعَ أَرْشَ الجِنايةِ، فهو الذى وجَب للمَجْنِىِّ عليه، فلم يَمْلِك المُطالَبَةَ بأكْثَرَ منه، وإن سلَّمَ العَبْدَ، فقد أدَّى المَحَلَّ الذى تعَلَّقَ الحَقُّ به، ولأَنَّ حَقَّ المَجْنِىِّ عليه لا يتَعَلقُ بأكْثَرَ مِن الرَّقَبَةِ، وقد أدَّاها. وإن طالبَ المَجْنِىُّ عليه السَّيِّدَ بتَسْلِيمِه إليه، لم يُجْبَرْ عليه السَّيِّدُ؛ لِما ذكَرْنا.

4225 - مسألة: وان كانت الجناية أكثر من قيمته

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4225 - مسألة: وان كانتِ الجِنايَةُ أكثرَ مِن قِيمَتِهِ، فَفِيهِ رِوايتانِ؛ إحْداهما، هى كالتى قبلَها، يُخَيَّرُ بينَ تَسْلِيمِه، أو أن يَفْدِيَه بقِيمَتِه أو أَرْشِ جِنايَتِه؛ لأنَّه إذا أدَّى قِيمَتَه، فقد أدَّى قَدْرَ الواجِبِ عليه، فلم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن ذلك، كما لو كانتِ الجِنايةُ بقَدْرِ قِيمَتِه. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، يَلْزَمُه تَسْلِيمُه، أو أن يَفْدِيَه بأَرْشِ الجنايَةِ بالِغَةً ما بَلَغَتْ. وهذا قولُ مالكٍ؛ لأنَّه إذا عُرِضَ للبَيْعِ رُبَّما رَغِبَ فيه راغِبٌ بأكثرَ مِن قِيمَتِه، فإذا أمْسَكَه فقد فَوَّتَ تلك الزِّيادةَ على المَجْنِىِّ عليه. وللشافعىِّ قَوْلانِ كالرِّوايتَيْنِ. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى، أنَّ الشَّرْعَ قد جعَل له فِداءَه، فكان

4226 - مسألة: (وإن سلمه)

فَإِنْ سَلَّمَهُ وَأَبَى وَلِىُّ الْجِنَايَةِ قَبُولَهُ، وَقَالَ: بِعْهُ أَنْتَ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الواجبُ قَدْرَ قِيمَتِه، كسائرِ المُتْلَفاتِ. 4226 - مسألة: (وإن سَلَّمَه) إليه (¬1) السَّيِّدُ (فَأبَى وَلِىُّ الجِنايَةِ قَبُولَه، وقال: بِعْه أنت) وادْفَعْ ثَمَنَه إلَىَّ (فهلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ ذلك؟ على رِوايَتَيْنِ) إحْداهما، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه إذا سَلَّمَ العَبْدَ، فقد أدَّى المَحَلَّ الذى تَعَلَّقَ الحَقُّ به، ولأَنَّ حَقَّ المَجْنِىِّ عليه لا يتَعَلَّقُ بأكْثَرَ مِن الرَّقَبَةِ، وقد أدَّاها. والثانيةُ، يَلْزَمُه؛ لأَنَّ الجِنايةَ تَقْتَضِى (¬2) وُجُوبَ أَرْشِها، وأَرْشُها هو قِيمَةُ العَبْدِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «تفضى إلى».

4227 - مسألة: (وإن جنى عمدا، فعفا الولى عن القصاص على رقبته، فهل يملكه بغير رضا السيد؟ على روايتين)

وَإِنْ جَنَى عَمْدًا، فَعَفَا الْوَلِىُّ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا السَّيِّدِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4227 - مسألة: (وإن جَنَى عَمْدًا، فَعَفا الوَلِىُّ عن القِصاصِ على رَقَبَتِه، فَهلْ يَمْلِكُه بغيرِ رِضَا السَّيِّدِ؟ على رِوايَتَيْنِ) إحداهما، لا يَمْلِكُه؛ لأنَّه إذا لم يَمْلِكْه بالجنايةِ، فلَأن لا يَمْلِكَه بالعَفْوِ أَوْلَى، ولأنَّه أحَدُ مَن عليه قِصاصٌ، فلا يَمْلِكُ بالعَفْوِ، كالحُرِّ، ولأنَّه إذا عَفَا عن القِصاصِ، انْتَقَلَ حَقُّه إلى المالِ، فصارَ كالجانِى جنايةً مُوجِبَةً للمالِ. والثانيةُ، أنَّه يَمْلِكُه؛ لأنَّه مملوكٌ اسْتَحَقَّ إتْلافَه، فاسْتَحَقَّ إبْقاءَه على مِلْكِه، كعَبْدِه الجانِى عليه. فصل: قال أبو طالبٍ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقولُ: إذا أَمَرَ غُلامَه فجَنَى، فعليه ما جَنَى، وإن كان أكْثَرَ مِن ثَمَنِه، وإن قطَع يدَحُرٍّ، فعليه

4228 - مسألة: (وإن جنى على اثنين خطأ، اشتركا فيه بالحصص)

وَإِنْ جَنَى عَلَى اثْنَيْنِ خَطَأً، اشْتَرَكَا فِيهِ بِالْحِصَصِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ دِيةُ (¬1) يَدِ الحُرِّ، وإن كان ثَمَنُه أقَلَّ، وإن أمَرَه سَيِّدُه أن يَجْرَحَ رَجُلًا، فما جَنَى فعليه قِيمَةُ جنايَتِه، وإن كانت أكثرَ مِن ثَمَنِه؛ لأنَّه بأَمْرِه. وكان علىٌّ وأبو هُرَيْرَةَ يقولَان: إذا أَمَرَ عَبْدَه أن يَقتُلَ، فإنَّما هو سَوْطُه، يُقْتَلُ المَوْلَى، ويُحْبَسُ العَبْدُ (¬2). وقال أحمدُ: ثنا بَهْزٌ، ثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، ثنا قتادةُ، عن خِلاسٍ، أنَّ عَلِيًّا قال: إذا أَمَرَ الرجلُ عَبْدَه فَقَتلَ، إنَّما هو كَسَوْطِه، أو كسَيْفِه، يقْتَلُ المَوْلَى، والعَبْدُ يسْتَوْدَعُ السِّجْنَ (¬3). ولأنَّه فَوَّتَ شيئًا بأمْرِه، فكان على السَّيِّدِ ضَمانُه, كما لو اسْتَدانَ بأمْرِه. 4228 - مسألة: (وَإن جَنَى على اثْنَيْنِ خَطَأً، اشْتَرَكا فيه بالحِصَصِ) وإن كان بعضها بعدَ بعضٍ. وبهذا قال الحسنُ، وحَمَّادٌ، ورَبِيعَةُ، وأصْحَابُ الرَّأْى، والشافعىُّ. وعن شُرَيْحٍ أنَّه قال: يُقضَى لآخِرِهم. وبه قال الشَّعْبِىُّ، وقَتادةُ؛ لأنَّها جِنايةٌ ورَدَتْ على مَحَلٍّ مُسْتَحَقٍّ، فقُدِّمَ صاحِبُها على المُسْتَحِقِّ قبلَه، كجِنايةِ المَمْلُوكِ الذى لم يَجْنِ. وقال شُرَيْحٌ في عَبْدٍ شَجَّ رَجُلًا، ثم آخَرَ، ثم آخَرَ، فقال شُرَيْحٌ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عنهما ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 371. وانظر لأثر على ما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 50. ولأثر أبى هريرة ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 425، 426. (¬3) انظر التخريج السابق.

4229 - مسألة: (فإن عفا أحدهما، أو مات المجنى عليه، فعفا بعض ورثته، فهل يتعلق حق الباقين بجميع العبد أو بحصتهم منه؟ على وجهين)

فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا، أَو مَاتَ الْمَجْنِىُّ عَلَيْهِ، فَعَفَا بَعْضُ وَرَثَتِهِ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْبَاقِينَ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ أَو بِحِصَّتِهِمْ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُدْفَعُ إلى الأَوَّلِ، إلَّا أن يَفْدِيَه مَوْلاه، ثم يُدْفَعُ إلى الثَّانى، ثم يُدْفَعُ إلى الثالثِ. ولَنا، أنَّهم تَساوَوْا في سَبَبِ تعَلُّقِ الحَقِّ به (¬1)، فتَساوَوْا في الاسْتِحْقاقِ، كماَ لو جَنَى عليهم دَفْعةً واحدةً، بل لو قُدِّمَ بعضُهم، كان الأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأَنَّ حَقَّه أسْبَقُ. 4229 - مسألة: (فإن عَفَا أحدُهما، أو مات المَجْنِىُّ عليه، فَعَفَا بَعْضُ وَرَثَتِه، فهلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الباقِينَ بجميعِ العبدِ أو بحِصَّتِهم منه؟ على وَجْهَيْنِ) أحَدُهما، يَسْتَحِقُّ جميعَ العَبْدِ؛ لأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقاقِه مَوْجُودٌ، وإنَّما امْتَنَعَ ذلك لمُزاحَمةِ الآخَرِ له، وقد زالَ المُزاحِمُ، فثَبَتَ له الحَقُّ جميعُه؛ لوُجودِ المُقْتَضِى وزَوالِ المانِعِ، فهو كما لو جَنَى على إنْسانٍ فَفَداه سَيِّدُه، ثم جَنَى على آخَرَ. والثانى، لا يَسْتَحِقُّ إلَّا حِصَّتَه؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له قَبلَ العَفْوِ إلَّا حِصَّتُه، فكذلك [بعدَه؛ لأَنَّ] (¬2) العَفْوَ عمّا يَلْزَمُ السيدَ (¬3)، عَفْوٌ عنه لا عن غيرِه. فصل: فإن أعْتَقَ السَّيِّدُ عبدَه الجانِىَ، عَتَقَ، وضَمِنَ ما تَعَلَّقَ به مِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بعد». (¬3) في تش: «للسيد».

4230 - مسألة: (وإن جرح)

وَإِنْ جَرَحَ حُرًّا، فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجِرَاحَةِ وَلَا مَالَ لَهُ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عُشْرُ دِيَتهِ، وَاخْتَارَ السَّيِّدُ فِدَاءَهُ، وَقُلْنَا: يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَرْشِ؛ لأنَّه أتْلَفَ مَحَلَّ الجِنايةِ على مَن تَعَلَّقَ حَقُّه به، فلَزِمَه غَرامَتُه، كما لو قَتَلَه. ويَنْبَنِى قَدْرُ الضَّمانِ على الرِّوايتَيْن فيمَا إذا اخْتارَ إمْساكَه بعدَ الجِنايةِ؛ لأنَّه مَنَع مِن تَسْلِيمِه بإعْتاقِه، فهو بمنزلةِ امْتِناعِه مِن تَسْلِيمِه باخْتِيارِ فِدائِه. ونَقَلَ ابنُ مَنْصورٍ عن أحمدَ، أنَّه إن أعْتَقَه عالِمًا بجنايَتِه، فعليه دِيَةُ المَقْتُولِ، وإن لم يَكُنْ عالِمًا بها، فعليه قِيمَةُ العبدِ؛ لأنَّه إذا أعْتَقَه مع العِلْمِ، كان مُخْتارًا لفِدائِه، بخِلافِ ما إذا لم يَعْلَمْ، فإنَّه لم يَخْتَرِ الفداءَ؛ لعَدَمِ عِلْمِه به، فلم يَلْزَمْه أكثرُ مِن قِيمَةِ ما فَوَّتَه. فصل: وإن باعَه، أو وَهَبَه (¬1)، صَحَّ؛ لِمَا ذكَرْنا في البَيْعِ، ولم يَزُلْ تَعَلُّقُ الجِنايةِ عن رَقَبَتِه، فإن كان المُشْتَرِى عالِمًا بحالِه، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ، ويَنْتَقِلُ الخِيارُ في فِدائِه وتَسْلِيمِه إليه، كالسَّيِّدِ الأَوَّلِ، وإن لم يَعْلَمْ، فله الخِيارُ بينَ إمْساكِه ورَدِّه، كسائرِ المَعِيباتِ. 4230 - مسألة: (وإن جَرَحَ) العَبْدُ (حُرًّا، فَعَفا عنه، ثم مات مِن الجِراحَةِ ولا مالَ له، وقِيمَةُ العَبْدِ عُشْرُ دِيَةِ الحُرِّ، واخْتَارَ السَّيِّدُ ¬

(¬1) في الأصل: «أرهنه».

صَحَّ الْعَفْوُ في ثُلُثِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَفْدِيهِ بالدِّيَةِ. صَحَّ الْعَفْوُ في خَمْسَةِ أسْدَاسِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ سُدْسُهُ؛ لأَنَّ الْعَفْوَ صَحَّ في شَئٍ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَهُ بِزِيَادَةِ الْفِدَاءِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ، بَقِىَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفٌ إِلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ، تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، اجْبُرْ وَقَابِلْ، يَخْرُجِ الشَّىْءُ نِصْفَ سُدْس الدِّيَةِ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَتَعْدِلُ السُّدْسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فِداءَه، وقُلْنَا: يَفْدِيه بقِيمَتِه. صَحَّ العَفْوُ في ثُلُثِه) لأنَّه ثُلُثُ ما ماتَ عنه، ويَبْقَى الثُّلُثان للوَرَثَةِ (وإن قُلْنا: يفْدِيه بدِيَتِه. صَحَّ العَفْوُ في خَمْسَةِ أَسْداسِه، وللوَرَثَةِ سُدْسُه؛ لأَنَّ العَفْوَ صَحَّ في شئٍ مِن قِيمَتِه، وله بزِيادةِ الفِداءِ تِسْعةُ أشْياءَ، بَقِىَ للورثَةِ ألْفٌ إلَّا عَشَرةَ أشْياءَ، تَعْدِلُ شيْئَيْن، اجْبُرْ وقابِلْ) يَصِرْ ألْفٌ، يَعْدِلُ اثْنَىْ عَشَرَ شيئًا، فالشئُ إذًا يَعْدِلُ (نِصْفَ سُدْسِ الدِّيَةِ، وللوَرَثَةِ شيْئان، فتَعْدِلُ السُّدْسَ) واللَّهُ أعلمُ. فصل في الجِنايةِ على العَبْدِ: إذا قَتَلَ عَبْدٌ مِثْلَه عَمْدًا، فسَيِّدُ المقْتُولِ مُخَيَّرٌ بينَ القِصاصِ والعَفْوِ، فإن عَفَا إلى مالٍ، تعَلَّقَ المالُ برَقَبَةِ القاتلِ؛ لأنَّه وجَبَ بجنايَتِه، وسَيِّدُه مُخَيَّرُ بينَ فِدائِه وتَسْلِيمِه؛ فإنِ اخْتارَ فِداءَه (¬1) فَدَاه بأَقَلِّ الأَمْرَيْن مِن قِيمَتِه أو قِيمَةِ المقْتُولِ؛ لأنَّه إن كان الأقَلُّ قيمَتَه، لم يَلْزَمْه أكْثَرُ منها؛ لأنَّها بَدَلٌ عنه، وإن كان الأقَلُّ قيمةَ المقْتُولِ، فليس لسَيِّدِه أكْثَرُ منها؛ لأنَّها بَدَلُ عَبْدِه. وعنه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ سَيِّدَه إنِ اخْتارَ فِداءَه، فَدَاه بأَرْشِ الجِنايةِ بالِغًا ما بَلَغَ، وقد ذكَرْناه. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَتَلَ عَشَرةُ أعْبُدٍ عَبْدًا عَمْدًا، فعليهم القِصاصُ، فإنِ اخْتارَ السَّيِّدُ قَتْلَهُم، فله ذلك، وإن عَفَا إلى مالٍ، تعَلَّقَتْ قِيمَةُ عَبْدِه برِقابِهِم، على كُلِّ واحدٍ منهم عُشْرُها، يُباعُ منه بقَدْرِها، أو يَفْدِيه سَيِّدُه، وإنِ اخْتارَ قَتْلَ بعْضِهم والعَفْوَ عن البعضِ، فله ذلك؛ لأَنَّ له قَتْلَ الجميعِ والعَفْوَ عنهم. وإن قَتَلَ عَبْدٌ عبْدَيْن لرَجُلٍ واحدٍ، فله قَتْلُه والعَفْوُ عنه، فإن قَتَلَه، سَقَطَ حَقُّه، وإن عَفَا إلى مالٍ، تعَلَّقَتْ قِيمَةُ العَبْدَيْنِ برقَبَتِه، فإن كانا لرَجُلَيْنِ فكذلك، إلَّا أنَّ القاتلَ يُقْتَلُ بالأوَّلِ منهم؛ لأَنَّ حَقَّه أسْبَقُ، فإن عَفَا عنه الأَوَّلُ، قُتِلَ بالثانِى، وإن قَتَلَهُما دَفْعَةً واحدةً، أُقْرِعَ بينَ السَّيِّدَيْن، فمَن وقَعَتْ له القُرْعَةُ، اقْتَصَّ، وسَقَطَ حَقُّ الآخَرِ، وإن عَفَا عن القِصاصِ، أو عَفَا سَيِّدُ القَتِيلِ الأَوَّلِ إلى مالٍ، تَعَلَّقَ برَقَبَةِ العَبْدِ، وللثانى أن يَقْتَصَّ؛ لأَنَّ تَعَلُّقَ المالِ بالرَّقَبَةِ لا يُسْقِطُ حَقَّ القِصاصِ, كما لو جَنَى العَبْدُ المَرْهُونُ، فإن قَتَلَه الآخَرُ، سَقَطَ حَقُّ الأَوَّلِ مِن القِيمَةِ؛ لأنَّه لم يَبْقَ مَحَلٌّ يَتَعَلَّقُ به، وإن عَفَا الثَّانِى، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ القتيلِ الثَّانِى برَقَبَتِه أيضًا، ويُباعُ فيهما، ويُقْسَمُ ثَمَنُه على قَدْرِ القِيمَتَيْن، ولم يُقَدَّمِ الأَوَّلُ بالقِيمَةِ كما قَدَّمْناه بالقِصاصِ؛ لأَنَّ القِصاصَ لا يَتَبَعَّضُ بينَهما، والقِيمَةُ يُمْكِنُ تَبْعِيضُها. فإن قيل: فحَقُّ الأَوَّلِ أسْبَقُ. قُلْنا: لا يُراعَى السَّبْقُ, كما لو أتْلَفَ أمْوالًا لجَماعةٍ، واحِدًا بعدَ واحدٍ. فصل: فإن قتَلَ العَبْدُ عَبْدًا بينَ شَرِيكَيْن، كان لهما القِصاصُ والعَفْوُ، فإن عَفَا أحَدُهما، سَقَطَ القِصاصُ، ويَنْتَقِلُ حَقُّهما إلى القِيمةِ؛ لأَنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصَ لا يَتَبَعَّضُ. وإن قَتَلَ عَبْدَيْن لرَجُلٍ واحدٍ، فله أن يَقْتَصَّ منه لأحَدِهما، أيِّهما كان، ويسْقُطُ حَقُّه مِن الآخرِ، وله أن يَعْفُوَ عنه إلى مالٍ، وتَتَعَلَّقُ قِيمَتُهما جميعًا برَقَبَتِه.

باب ديات الأعضاء ومنافعها

بَابُ دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا وَمَنْ أَتْلَفَ مَا في الإِنْسَانِ مِنْهُ شَىْءٌ وَاحِدٌ، فَفِيهِ الدِّيَةُ؛ وَهُوَ الذَّكَرُ، وَالْأَنْفُ، وَاللِّسَانُ النَّاطِقُ، وَلِسَانُ الصَّبِىِّ الَّذِى يُحَرِّكُهُ بِالْبُكَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (¬1) بابُ دِياتِ الأعضاءِ ومنافِعِها وهى نوعان؛ أحَدُهما، الشِّجاجُ، وهى ما كان في الرَّأْسِ والوَجْهِ، وسنَذْكُرُها في بابِها. الثَّانى، ما كان في سائرِ البَدَنِ، وينْقَسِمُ قِسْمَيْن؛ أحَدُهما، قَطْعُ عُضْوٍ. والثانى، قَطْعُ لَحْمٍ. والمضْمُونُ في الآدَمِىِّ ضَرْبان؛ أحَدُهما، ما ذكَرْنا. والثانى، تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، كإذْهابِ السَّمْعِ والبَصَرِ والشَّمِّ والذَّوْقِ والعَقْلِ ونحوِ ذلك. (مَن أتْلَفَ ما في الإِنْسانِ منه شئٌ واحدٌ، ففيه الدِّيَةُ؛ وهو الذَّكَرُ، والأنْفُ، واللِّسانُ النَّاطِقُ، ولِسانُ الصَّبِىِّ الذى يُحَرِّكُه بالبُكاءِ) وجملةُ ذلك، أنَّ كُلَّ عُضْوٍ لم يَخْلُقِ اللَّهُ سُبْحانه منه إلَّا واحدًا، كالأنْفِ، واللِّسانِ، [والذَّكَرِ] (¬2) ففيه دِيَةٌ كاملةٌ؛ لأَنَّ في إتْلافِه إذْهابَ مَنْفَعَةِ ¬

(¬1) من هنا يبدأ الجزء العاشر من نسخة محمد بن فيصل والمشار إليها بـ (ص). (¬2) سقط من: م.

4231 - مسألة: (وما فيه منه شيئان، ففيهما الدية، وفى أحدهما نصفها؛ كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين، وثديى المرأة، وثندوتى الرجل، واليدين، والرجلين، والخصيتين، والأليتين)

وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِى أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا؛ كَالْعَيْنَيْنِ، وَالأُذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَاللَّحْيَيْنِ، وَثَدْيَىِ الْمَرْأَةِ, وَثَنْدُوَتَىِ الرَّجُلِ, وَالْيَدَيْنِ, وَالرِّجْلَيْنِ, وَالْأَلْيَتَيْنِ, وَالأُنْثَيَيْنِ، وَإِسْكَتَى الْمَرْأَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنْسِ، وإذْهابُها [كإتلافِ النَّفْسِ] (¬1). 4231 - مسألة: (وما فيه منه شَيْئان، ففيهما الدِّيَةُ، وفى أحَدِهما نِصْفُها؛ كالعَينيْنِ، والأُذُنَيْنِ، والشَّفَتَيْنِ، واللَّحْيَيْنِ، وثَدْيَىِ المَرْأَةِ، وثَنْدُوَتَىِ الرَّجُلِ، واليَدَيْنِ، والرِّجْلَيْنِ، والخُصْيَتَيْنِ، والألْيَتَيْنِ) لأَنَّ في إتْلافِهما إذْهابَ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ، فكان فِيهما الدِّيَةُ، وفى أحَدِهما نِصْفُها. وهذه الجملةُ مذهبُ الشافعىِّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. وقد روَى الزُّهْرِىُّ، عن أبى بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ، عن ¬

(¬1) في م: «كالنفس».

وَعَنْهُ، في الشَّفَةِ السُّفْلَى ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَفِى الْعُلْيَا ثُلُثُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَب له، وكان في كِتابِه: «وفِى الأَنْفِ إذا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَة، وفى اللِّسانِ الدِّيَةُ، وفى الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِى البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وفِى الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وفى الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وفى العَيْنَيْن الدِّيَةُ، وفى الرِّجْلِ الواحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ». رواه النَّسَائِىُّ [وغيرُه] (¬1). ورواه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2)، وقال: كِتابُ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عندَ العُلَماءِ، وما فيه مُتَّفَقٌ عليه إلَّا قليلًا (وعن أحمدَ، في الشَّفَةِ السُّفْلَى ثُلُثَا الدِّيَةِ، وفى العُلْيا ثُلُثُها) يُرْوَى هذا عن زَيْدِ بنِ ثابتٍ؛ لأَنَّ النَّفْعَ بالسُّفْلَى أعْظَمُ، لأنَّها تَدورُ وتَتَحَرَّكُ، وتَحْفَظُ الرِّيقَ والطَّعامَ. والأُولَى أصَحُّ؛ [لأنَّه قولُ] (¬3) أبى بكرٍ الصِّديقِ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، ولأَنَّ كلَّ شَيْئَيْنِ وجَبَتِ الدِّيَةُ فيهما، وَجَبَ نِصْفُها في أحَدِهما، كاليَدَيْن، ولا عِبْرَةَ بزيادةِ النَّفْعِ، كاليُمْنَى مع اليُسْرَى. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والحديث تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) في التمهيد 17/ 339 - 341. (¬3) في م: «لقول».

4232 - مسألة: وفى الثديين الدية. ولا نعلم خلافا فى أن فى ثديى المرأة الدية، وفى الواحد منهما نصف الدية. قال ابن المنذر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4232 - مسألة: وفى الثَّدْيَيْن الدِّيَةُ. ولا نعلمُ خِلافًا في أنَّ في ثَدْيَىِ المرأةِ الدِّيَةَ، وفى الواحدِ منهما نِصْفَ الدِّيَةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أَهْلِ العلمِ على أنَّ في ثَدْىِ المرأةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وفى الثَّدْيَيْن الدِّيَةَ، وممَّن حَفِظْنا عنه ذلك؛ الحسنُ، والشَّعْبِىُّ، والزُّهْرِىُّ، ومَكْحُولٌ، وقَتادةُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. لأَنَّ فيهما جَمالًا ونَفْعًا، فأشْبَها اليدَيْن والرِّجْلَيْن. 4233 - مسألة: وفى قَطْعِ حَلَمَتَىِ الثَّدْيَيْنِ دِيَتُهُما. نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِىَ نَحْوُ هذا عن الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والشافعىِّ. وقال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ: إن ذَهَبَ اللَّبَنُ، وَجَبَتْ دِيَتُهما، وإلَّا وجَبَتْ حُكومةٌ بقَدْرِ شَيْنِه. ونحوَه قال قَتادةُ: إذا ذهبَ الرَّضاعُ بقَطْعِهما، ففيهما الدِّيَةُ. ولَنا، أنَّه ذهبَ منهما ما تذْهَبُ المَنْفَعَةُ بذهابِه، فوجَبَتْ دِيَتُهما، كالأصابعِ مع الكَفِّ، وحَشَفَةِ الذَّكَرِ، وبيانُ ذَهابِ المَنْفَعَةِ أنَّ بهما يشْرَبُ الصَّبِىُّ ويرْتَضِعُ، فهما كالأصابعِ في الكَفِّ. وإن قَطَعَ الثَّدْيَيْن كِلَيْهما، فليس فيهما إلَّا دِيَةٌ, كما لو قَطَعَ الذَّكَر كُلَّه. وإنْ حَصَلَ مع قَطْعِهما جائِفَةٌ، وجَبَ فيها ثُلُثُ الدِّيَةِ مع دِيَتِهما. وإن ضَرَبَهُما فأَشَلَّهما، ففيهما الدِّيَةُ, كما لو أشَلَّ يَدَيْه. وإن جَنَى عليهما مِن صغيرةٍ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 113، والإجماع 73.

4234 - مسألة: وفى ثديى الرجل -وهما الثندوتان- الدية. وبه قال إسحاق. وحكى ذلك قولا للشافعى. [وقال النخعى، ومالك، وأصحاب الرأى، وابن المنذر: فيهما حكومة. وهو ظاهر مذهب الشافعى]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم وَلَدَتْ، فلم يَنْزِلْ لها لَبَنٌ، سُئِلَ أهلُ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: إنَّ الجِنايةَ سَبَبُ قَطْعِ اللَّبَنِ. فعليه ما على مَن ذهَبَ باللَّبَنِ بعدَ وُجُودِه. وإن قالوا: يَنْقَطِعُ بغيرِ (¬1) الجنايةِ. لم يجبْ عليه. أَرْشُه؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ ذِمَّتِه، فلا يجبُ فيها شئٌ بالشَّكِّ. وإن جَنَى عليهما فنَقَصَ لبَنُهما، أو جَنَى على ثَدْيَيْن ناهِدَيْنِ فكسَرَهما، أو صارَ بهما مَرَضٌ، ففيه حُكومةٌ لنَقْصِه الذى نَقَصَهما. 4234 - مسألة: وفى ثَدْيَىِ الرَّجُلِ -وهما الثَّنْدُوَتان- الدِّيَةُ. وبه قال إسْحاقُ. وحَكَى ذلك قَوْلًا للشافعىِّ. [وقال النَّخَعِىُّ، ومالكٌ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ: فيهما حُكُومةٌ. وهو ظاهرُ مَذْهَبِ الشافعىِّ] (¬2)؛ لأنَّه ذَهَبَ بالجَمال مِن غيرِ (¬3) مَنْفَعَةٍ، فلم تَجبْ دِيَةٌ, كما لو أتْلَفَ العَيْنَ القائمةَ واليَدَ الشَّلَّاءَ. وقال الزُّهْرِىُّ: في حَلَمةِ (¬4) الرَّجُلِ خمسٌ مِن الإِبلِ (¬5). وعن زيدِ بنِ ثابتٍ: فيه ثُمْنُ الدِّيَةِ (¬6). ولَنا، أنَّ ما وجبَ فيه الدِّيَةُ مِن المرأةِ، وجبَ فيه مِن الرَّجُلِ، كسائرِ الأعْضاءِ، ولأنَّهما عُضْوان في البَدَنِ، يحْصُلُ بهما الجَمالُ، ¬

(¬1) في الأصل: «بعد». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «جملة». (¬5) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ثدى الرجل والمرأة، من كتاب العقول. المصنف 9/ 363. (¬6) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الثديان ما فيهما، من كتاب الديات. المصنف 9/ 231.

4235 - مسألة: وفى العينين الدية. أجمع أهل العلم على ذلك، وعلى أن فى العين الواحدة نصفها؛ لقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: «وفى العينين الدية»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس في البَدَنِ غيرُهما مِن جِنْسِهما، فوَجَبَتْ فيهما الدِّيَةُ، كاليَدَيْن، ولأنَّه أذْهَبَ الجَمالَ على الكمالِ، فوجَبَتْ فيهما الدِّيَةُ، كالشُّعورِ الأرْبَعةِ عندَ أبى حنيفةَ، وكأُذُنَىِ الأصَمِّ وأنْفِ الأخْشَمِ عندَ الجميعِ، ويُفارِقُ العَيْنَ القائمةَ؛ لأنَّه ليس فيها جمالٌ كاملٌ، ولأنَّهما عُضْوٌ قد ذهبَ منه ما تجِبُ فيه الدِّيَةُ، فلم تَكْمُلْ دِيَتُه، كاليَدَيْنِ إذا شَلَّتا، بخلافِ مَسْأَلَتِنا. 4235 - مسألة: وفى العَيْنَيْنِ الدِّيَةُ. أجْمعَ أهلُ العلمِ على ذلك، وعلى أنَّ في العَيْنِ الواحدةِ نِصْفَها؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وفِى العَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» (¬1). ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «وفِى العَيْنِ الواحِدَةِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ». رواه مالكٌ في «المُوَطَّأَ» (¬2). ولأَنَّ العَيْنَيْن مِن أعْظَمِ الجَوارِحِ نَفْعًا، فكانتْ فيهما الدِّيَةُ، وفى إحداهما نِصْفُها كاليَدَيْن. إذا ثَبَتَ هذا، فيَسْتَوِى في ذلك الصَّغِيرَتان والكَبِيرَتان، والمَلِيحَتان والقَبِيحَتان، والصَّحِيحَتان والمَرِيضَتان، والحَوْلاءُ وِالرَّمْضَاءُ. فإن كان فيهما بَياضٌ لا يَنْقُصُ البَصَرَ، لم تَنْقُصِ الدِّيَةُ، وإن نقَصَ مِن البَصَرِ، نقَصَ مِن الدِّيَةِ بقَدْرِه. فصل: وفى أجْفانِ العَيْنَيْن الدِّيَةُ، وفى أحدِها (¬3) رُبْعُ الدِّيَةِ، لأَنَّ كلَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) في: باب ذكر العقول، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 849. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 53، 54. (¬3) في الأصل، تش، ص، م: «أحدهما».

4236 - مسألة: وفى الأذنين الدية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَدَدٍ تجبُ في جمِيعِه الدِّيَةُ، يجبُ في الواحدِ منها بحِصَّتِه، كالأصابعِ. وهذا قولُ الثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. وعن مالكٍ، أنَّه لا مُقَدَّرَ (¬1) فيها، بلِ يُرجعُ فيه إلى اجْتِهادِ الحاكمِ. ولَنا، أنَّها أعْضاءٌ فيها جَمالٌ ظاهرٌ، ونفْعٌ كاملٌ، فإنَّها تُكِنُّ العَيْنَ وتَقِيها، وتَحْفَظُها مِن الحَرِّ والبَرْدِ، ولولاها لقَبُحَ مَنْظَرُها، فوجَبَتْ فيها الدِّيَةُ كاليَدَيْن. وعن الشَّعْبِىِّ، أنَّه يجبُ في الأعْلَى ثُلُثا الدِّيَةِ، وفى الأسْفَلِ ثُلُثُها؛ لأنَّه أكْثَرُ نَفْعًا. ولَنا، أنَّ كُلَّ ذى (¬2) عَدَدٍ تَجِبُ الدِّيَة في جَميعِه، تجبُ بالحِصَّةِ في الواحدِ منه، كالأصابعِ. فإن قَلَعَ العَيْنَيْنِ بأشْفارِهما، وجَبَتْ دِيَتان؛ لأنَّهُما جِنْسان تجبُ الدِّيَةُ (¬3) بكلِّ واحدٍ منهما مُنْفَرِدًا، فوجبَتْ بإتْلافِهِما جُمْلَةً دِيَتان، كاليدَيْن والرِّجْلَيْن. وتجبُ الدِّيَةُ في أشْفارِ عَيْنِ الأعْمَى، وهى الأجْفانُ؛ لأَنَّ ذَهابَ بصَرِه عَيْبٌ في غيرِ الأجْفانِ، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَ الدِّيَةِ فيهما، كذَهابِ الشَّمِّ، لا يَمْنَعُ وُجوبَ الدِّيَةِ في الأنْفِ. 4236 - مسألة: وفى الأُذُنَيْن الدِّيَةُ. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ. وبه قال عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والحسنُ، وقَتادةُ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى، ومالكٌ في إحْدَى الرِّوايتَيْن عنه. وقال في ¬

(¬1) في الأصل: «يقدر». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُخْرَى: فيهما حُكومةٌ؛ لأَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ فيهما بتَقْديرٍ، ولا يَثْبُتُ التَّقْدِيرُ بالقِياسِ. ولَنا، أنَّ في كتاب النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وفى الأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ» (¬1). ولأَنَّ عُمرَ وعَلِيًّا قَضَيَا فيهما بالدِّيَةِ. فإن قيل: فقد رُوِى عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، أنَّه قَضَى في الأُذُنِ بخَمْسةَ عَشَرَ بَعيرًا (¬2). قُلْنا: لم يَثْبُتْ ذلك. قالَه ابنُ المُنْذِرِ (¬3). ولأَنَّ ما كان في البَدَنِ منه عُضْوان، كان فيهما [الدِّيَةُ، وفى أحَدِهما نِصْفُ الدِّيَةِ، بغيرِ خِلافٍ بينَ القائلينَ بوُجُوبِ الدِّيَةِ فيهما] (¬4). ¬

(¬1) بلفظ: «وفى الأذن خمسون». أخرجه الدارقطنى، في: سننه 3/ 209. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 85. وانظر حاشية السنن الكبرى 8/ 81. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الأذن، من كتاب العقول. المصنف 9/ 323، 324. وابن أبى شيبة، في: باب الأذن ما فيها من الدية، من كتاب الديات. المصنف 9/ 153. (¬3) لم نجد هذا النقل عنه، انظر: الإشراف 3/ 99. (¬4) سقط من: الأصل.

4237 - مسألة: وفى اللحيين الدية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4237 - مسألة: وفى اللَّحْيَيْن الدِّيَةُ. وهما العَظْمان اللَّذانِ فيهما الأسْنانُ السُّفلى؛ لأَنَّ فيهما نَفْعًا وجَمالًا، وليس في البَدَنِ مِثْلُهما، فكانت فيهما الدِّيَةُ، كسائرِ ما في البَدَنِ منه شَيْئان، وفى أحَدِهما نِصْفُها، كإحْدَى اليَدَيْن والرِّجْلَيْن، ونحوِهما ممَّا في البَدَنِ منه شَيْئانِ. 4238 - مسألة: وفى الألْيَتَيْن الدِّيَةُ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): كلُّ مَن نَحْفظُ عنه مِن أهلِ العلمِ يقولون: في الألْيَتَيْنِ الدِّيَةُ، وفى كُلِّ واحدةٍ منهما نِصْفُها؛ منهم عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، والنَّخَعِىُّ، والشَّافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. ولأنَّهما عُضْوانِ مِن جِنْسٍ، فيهما جَمالٌ ظاهِرٌ، ومَنْفَعَةٌ كاملةٌ، فإنَّه يُجْلَسُ عليهما كالوِسادَتَيْن، فوجَبَتْ فيهما الدِّيَةُ، وفى إحْداهُما نِصْفُها، كاليَدَيْن. والألْيَتانِ: هما ما عَلَا وأشْرَفَ عن الظَّهْرِ وعن اسْتِواءِ الفَخِذَيْن. وفيهما الدِّيَةُ إذا أُخِذَتا إلى العَظْمِ الذى تحتَهما، وفى ذَهابِ بَعْضِها (¬2) بقَدْرِه؛ لأَنَّ ما [وَجَبَتِ الدِّيَةُ في جميعِه وَجَبَتْ] (¬3) في بعْضِه بقَدْرِه، فإن جُهِلَ المِقْدارُ، وجَبَتْ حُكومةٌ؛ لأنَّه نَقْصٌ لم يُعْرَفْ قَدْرُه. ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 117، والإجماع 74. (¬2) في م: «بعضهما». (¬3) في ق، ص، م: «وجب فيه الدية وجب».

4239 - مسألة: وفى الأنثيين الدية. لا نعلم فى هذا خلافا. وفى كتاب النبى -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم: «وفى البيضتين الدية»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4239 - مسألة: وفِى الأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ. لا نعْلَمُ في هذا خِلافًا. وفِى كِتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وفِى البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ» (¬1). ولأَنَّ فيهما الجَمالَ والمنْفَعَةَ، فإنَّ النَّسْلَ يكونُ بهما (¬2)، فأشْبَها اليَدَيْن. وروَى الزُّهْرِىُّ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، أنَّه قال: مَضَتِ السُّنَّةُ أنَّ في الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وفى الأُنْثَيَيْن الدِّيَةَ (¬3). وفى إحْداهما نِصْفُ الدِّيَةِ في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّب، أنَّ في اليُسْرَى ثُلُثَى الدِّيَةِ, وفى اليُمْنَى ثُلُثَها؛ لأَنَّ نَفْعَ اليُسْرَى أكْثَرُ؛ لأَنَّ النَّسْلَ يكونُ بها (¬4). ولَنا، أنَّ ما وجَبَتِ الدِّيَةُ في شَيْئَيْن منه، وَجَبَ في أحَدِهما نِصْفُها، كاليَدَيْن، وسائرِ الأعْضاءِ، ولأنَّهما ذُو عَدَدٍ تجبُ فيه الدِّيَةُ، فاسْتَوَتْ دِيَتهما، كالأصابِعِ، وما ذَكَروه يَنْتَقِضُ بالأصابعِ، وكذلك الأجْفانُ تسْتَوِى دِيَتُها (¬5) مع اخْتِلافِ نَفْعِها (¬6)، ثم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) في الأصل: «بينهما»، وفى تش: «منهما». (¬3) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 97. (¬4) في م: «منها». والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 374. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 226. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 97. (¬5) في الأصل، تش، م: «ديتهما». (¬6) في م: «نفعهما».

4240 - مسألة: (وفى إسكتى المرأة)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يحْتاجُ إلى إثْباتِ الذى ذكَرَه. وإن رَضَّ أُنْثَيَيْه، أو أشَلَّهما (¬1)، كَمَلَتْ دِيَتُهما كما لو أشَلَّ يَدَيْه أو ذكَرَه. [وإن] (¬2) قَطَعَ أُنْثَيَيْه، فذهبَ نَسْلُه، لم يجبْ أكثرُ مِن دِيَةٍ؛ لأَنَّ ذلك نَفْعُهما، فلم تَزْدَدِ الدِّيَةُ بذَهَابِه معهما، كالبَصَرِ مع ذهابِ العَيْنَيْن، وإن قَطَعَ إحْداهُما، فذهبَ النَّسْلُ، لم يجبْ أكثرُ مِن نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ ذهابَه غيرُ مُتَحَقِّقٍ. 4240 - مسألة: (وفى إسْكَتَىِ المَرْأَةِ) الدِّيَةُ. والإِسْكتَان؛ هما اللَّحْمُ المُحِيطُ (¬3) بالفَرْجِ مِن جَانِبَيْه، إحاطةَ الشَّفَتَيْن بالفَمِ. وأهلُ اللُّغةِ يقولُونَ: الشَّفْران حاشِيَتا الإِسْكَتَين, كما أنَّ أشْفارَ العَينيْن أهْدابُهما. وفيهما دِيَةُ المرأَةِ إذا قُطِعا. وبهذا قال الشافعىُّ. وقاله الثَّوْرِىُّ، إذا لم يَقْدِرْ على جِماعِها. وقَضَى به محمدُ ابنُ سُفْيانَ (¬4) إذا بَلَغا العَظْمَ؛ وذلك لأَنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «سلهما». (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) في الأصل: «المختلط». (¬4) محمد بن الحارث بن سفيان بن عبد الأسد القرشى المخزومى المكى، روى عن عروة بن عياض وعلى الأزدى، روى عنه السائب بن عمر المخزومى وسفيان بن عيينة وعبد الملك بن جريج، روى له البخارى في «الأدب المفرد» حديث: «من الكبائر عند اللَّه تعالى أن يستسبَّ الرجل لوالده. . .». وذكره ابن حبان في «الثقات». التاريخ الكبير 1/ 65، الثقات 7/ 407، تهذيب الكمال 25/ 32، 33. والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 377.

4241 - مسألة: وفى اللسان الدية إذا كان ناطقا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيهما جَمالًا ومَنْفَعَةً، وليس في البَدَنِ غيرُهما مِن جِنْسِهِما، فوجَبَتْ فيهما الدِّيَةُ، كسائرِ ما في البَدَنِ منه شيئان. وفى إحْداهما نِصْفُ الدِّيَةِ، كما ذكَرْنا في غيرِهما. وإن جَنَى عليهما فأشَلَّهما، وجَبَتْ دِيَتُهما، كما لو جَنَى على شَفَتَيْه فأشَلَّهما. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِهما غَلِيظَتَيْن أو دَقِيقَتَيْن، قصيرتَيْن أو طَوِيلتَيْن، مِن بكرٍ أو ثَيِّبٍ، أو صغيرةٍ أو كبيرةٍ (¬1)، مَخْفُوضةٍ (2) أو غيرِ مَخْفُوضةٍ (¬2)؛ لأنُّهما عُضْوان فيهما الدِّيَةُ، فاسْتَوى فيه جميعُ ما ذكَرْنا، كسائرِ أعْضائِها. ولا فَرْقَ بينَ الرَّتْقاءِ وغيرِها؛ لأَنَّ الرَّتْقَ عَيْبٌ في غيرِهِما، فلم يَنْقُصْ ذلك مِن دِيَتِهما, كما أنَّ الصَّمَمَ لم يَنْقُصْ دِيَةَ الأُذُنَيْنِ. والخَفْضُ (¬3)؛ هو الخِتانُ في حَقِّ المرأةِ. فصل: وفى رَكَبِ المَرْأَةِ حُكُومَةٌ، وهو عانَةُ المَرْأةِ، وكذلكَ في (¬4) عانَةِ الرَّجُلِ؛ لأنَّه لا مُقَدَّرَ فيه، ولا هو نَظِيرٌ لِمَا قُدِّرَ فيه. فإن أُخِذَ منه شئٌ مع فَرْجِ المرأةِ وذكرِ الرَّجُلِ، ففِيه الحُكومةُ مع الدِّيَةِ, كما لو أُخِذَ مع الأنْفِ أو الشَّفَتَيْن مِن اللَّحْمِ الذى حَوْلَهما. 4241 - مسألة: وفى اللِّسانِ الدِّيَةُ إذا كان ناطِقًا. أجْمعَ أهلُ العلمِ على وُجُوبِ الدِّيَةَ في لسانِ النَّاطِقِ. ورُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ، وعمرَ، ¬

(¬1) بعده في تش، ر 3، ق، م: «أو». (¬2) في الأصل، م: «محفوظة». (¬3) في م: «الحفظ». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلىٍّ، وابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال أهلُ المدينةِ، وأهلُ الكوفةِ، وأصْحابُ الرَّأْى، وأهلُ الحديثِ، وغيرُهم. وفى كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنَ حَزْمٍ: «وفِى اللِّسَانِ الدِّيَةُ» (¬1). ولأَنَّ فيه جَمالًا ومَنْفَعةً، فأشْبَهَ الأنْفَ؛ فأمَّا الجَمالُ، فقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه (¬2) سُئِلَ عن الجمالِ، فقال: «في اللِّسَانِ» (¬3). ويُقال: جَمالُ الرَّجُلِ في لسانِه، والمرءُ بأصْغَرَيْه قلبِه ولسانِه. ويُقال: ما الإِنْسانُ لولا اللِّسانُ إلَّا صورةٌ مُمَثَّلَةٌ، أو بَهيمةٌ مُهْمَلَةٌ. وأمَّا النَّفْعُ، فإنَّ به تُبْلَغُ الأغْراضُ، وتُسْتَخْلَصُ الحُقوقُ، وتُدْفَعُ الآفاتُ، وتُقْضَى الحاجاتُ، وتَتِمُّ العِباداتُ؛ في القراءةِ والذِّكْرِ، والشُّكْرِ، والأمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْىِ عن المُنْكَرِ، والتَّعْلِيمِ، والدَّلالةِ على الحقِّ المُبِينِ والصِّراطِ المُسْتقيمِ، وبه يَذوقُ الطَّعامَ، ويَسْتَعِينُ في مَضْغِه وتَقْلِيبِه، وتَنْقِيَةِ الفَمِ، وتنْظِيفِه، فهو أعْظَمُ الأعْضاءِ نَفْعًا، وأتَمُّها جَمالًا، فإيجابُ الدِّيَةِ في غيرِه تَنْبِيهٌ على إيجابِها فيه. وإنَّما تجِبُ الدِّيَةُ في اللِّسانِ النَّاطِقِ، فأمَّا الأخْرَسُ، فسنَذْكُرُه في مَوْضِعِه، إن شاء اللَّهُ تعالى. فصل: فإن قطَعَ لِسانَ صغيرٍ لم يتكَلَّمْ لطُفولِيَّتِه، وجَبَتْ دِيَتُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجبُ؛ لأنَّه لِسانٌ لا كلامَ فيه، فأشْبَهَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) سقط من: الأصل، م. (¬3) أخرجه الحاكم، في: باب ذكر مناقب العباس. . .، من كتاب معرفة الصحابة. المستدرك 3/ 330. عن على بن الحسين مرسلا. وانظر طرق الحديث والكلام عليها، في: تلخيص الحبير 4/ 28.

4242 - مسألة: (وفى المنخرين ثلثا الدية، وفى الحاجز ثلثها. وعنه، فى المنخرين الدية، وفى الحاجز حكومة)

وَفِى الْمَنْخَرَيْنِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَفِى الْحَاجِزِ ثُلُثُهَا. وَعَنْهُ، في الْمَنْخَرَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِى الْحَاجِزِ حُكُومَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخْرَسَ. ولَنا، أنَّ ظاهرَه السَّلامةُ، وإنَّما لم يتكَلَّمْ لأنَّه لا يُحْسِنُ الكلامَ، فوجَبَتْ به الدِّيَةُ كالكبيرِ، ويُخالفُ الأخْرَسَ، فإنَّه عُلِمَ أنَّ لِسانَه أَشَلُّ، أَلَّا تَرى أنَّ أعْضَاءَه لا يَبْطِشُ بها، وتَجِبُ فيها الدِّيَةُ. فإن بَلَغَ حدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُه، فلم يَتَكَلَّمْ، فقَطَعَ لِسانَه، لم تَجِبْ فيه الدِّيَةُ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه لا يَقْدِرُ على الكَلامِ، فهو كلسانِ الأخْرَسِ. وإن كَبرَ فنَطَقَ ببعضِ الحُروفِ، وجَبَتْ فيه بقَدْرِ ما ذهبَ مِن الحُروفِ؛ لأَنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّه كان ناطِقًا. وإن كان قد بَلَغَ إلى حدٍّ يتَحَرَّكُ بالبُكاءِ وغيرِه، فلم يتحرَّكْ، فقَطَعَه قاطِعٌ، فلا دِيَةَ فيه؛ لأَنَّ الظاهرَ أنَّه لو كان صَحِيحًا لتحرَّكَ. وإن لم يَبْلُغْ إلى حَدٍّ يتحرَّكُ، ففيه الدِّيَةُ؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ سَلامتُه. وإن قَطَعَ لِسانَ كبيرٍ، وادَّعَى أنَّه كان أخْرَسَ، ففيه ما ذكَرْنا فيما إذا اخْتلَفا في شَلَلِ العُضْوِ بعدَ قَطْعِه مِن الخِلافِ. 4242 - مسألة: (وفى المَنْخَرَيْنِ ثُلُثا الدِّيَةِ، وفى الحَاجِزِ ثُلُثُها. وعنه، في المَنْخَرَيْنِ الدِّيَةُ، وفى الحاجِزِ حُكُومَةٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في البَدَنِ منه ثَلاثةٌ، ففيها الدِّيَةُ، وفى كلِّ واحدٍ ثُلُثُها، وذلك المَنْخَرانِ والحاجزُ بينَهما. وبهذا قال إسْحاقُ. وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ المارِنَ يَشْتَمِلُ على ثَلاثةِ أشْياءَ مِن جِنْسٍ، فتَوَزَّعَتِ الدِّيَةُ على عدَدِها، كسائرِ ما فيه عَدَدٌ مِن الأصابعِ والأجْفانِ. وعنه، في المَنْخَرَيْنِ الدِّيَةُ، وفى الحاجِزِ حُكُومَةٌ. حكَاها أبو الخَطَّابِ. قال أحمدُ: في كلِّ زَوْجَيْن مِن الإِنْسانِ الدِّيَةُ. وهو الوَجْهُ الثَّانِى لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ المَنْخَرَيْنِ ليس في البدَنِ لهما ثالثٌ، فأشْبَهَ اليدَيْن، ولأنَّه بقَطْعِ المَنْخَرَيْنِ أذْهَبَ الجمالَ كلَّه والمنفعةَ، فأَشْبَهَ قَطْعَ اليدَيْن. فعلى هذا الوَجْهِ، في قَطْعِ أحَدِ المَنْخَرَين نِصْفُ الدِّيَةِ، وإن قَطَعَ معه الحاجِزَ، ففيه حُكومةٌ، وإن قَطَعَ نِصْفَ الحاجِزِ أو أقَلَّ أو أكثرَ، لم يَزِدْ على حُكومةٍ. وعلى الأَوَّلِ، في قَطْعِ أحَدِ المَنْخَرَيْنِ ونِصْفِ الحاجِزِ نِصْف الدِّيَةِ، وفى قَطْعِ جَميعِه مع المَنْخَرِ ثُلُثا الدِّيَةِ، وفى قَطْعِ جُزْءٍ مِن الحاجِزِ أو أحدِ المَنْخَرَيْن بقَدْرِه مِن ثُلُثِ الدِّيَةِ، يُقَدَّرُ بالمساحةِ، وإن شَقَّ الحاجِزَ، ففيه حُكومةٌ، وإن بَقِىَ مُنْفَرِجًا، فالحُكومةُ فيه أكثرُ. والأَوَّلُ أظْهَرُ؛ لأَنَّ ما كان فيه ثَلاثةُ أشْياءَ، ينْبَغِى أن [تُوزَّعَ الدِّيَةُ] (¬1) على جَميعِها، كما وُزِّعَتِ الدِّيَةُ أرْباعًا على ما هو أرْبعةُ أشياءَ، كأجْفانِ العَيْنَيْنِ، وأنْصافًا على ما هو اثْنان، كاليَدَيْن. ¬

(¬1) في ق، م: «يوزع».

4243 - مسألة: (وفى الأجفان الأربعة الدية، وفى كل واحد ربعها)

وَفِى الْأَجْفَانِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَفِى كُلِّ وَاحِدٍ رُبْعُهَا، وَفِى أَصَابعِ الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِى أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِى كُلِّ إِصْبَعٍ عُشْرُهَا، وَفِى كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4243 - مسألة: (وفى الأجْفانِ الأرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وفى كلِّ واحِدٍ رُبْعُها) كما ذكَرْنا فيما فيه منه اثْنان. 4244 - مسألة: (وفى أصابِعِ اليَدَيْن الدِّيَةُ، وكذلك أصابِعُ الرِّجْلَيْن، وفى كلِّ إِصْبَعٍ عُشرُها) لأنَّها [عَشَرَةٌ، فَقُسِمَتِ] (¬1) الدِّيَةُ على عدَدِها, كما قُسِمَتْ على عدَدِ الأجْفانِ، ولِما رَوَى ابنُ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «دِيَةُ أصاجِ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْن عَشْرٌ مِن الإِبِلِ لِكُلِّ إصْبَعٍ». قال التِّرْمِذِىُّ (¬2): هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وفى لَفْظٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هذه وهذه سَوَاءٌ». يعنى الإِبْهامَ والخِنْصَرَ. أخْرَجَه البُخَارِىُّ (¬3). 4245 - مسألة: (وفى كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِها) لأَنَّ في كلِّ إِصْبَعٍ ¬

(¬1) في م: «عشر». (¬2) في: باب ما جاء في دية الأصابع، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 166. (¬3) في: باب دية الأصابع، من كتاب الديات. صحيح البخارى 9/ 10. كما أخرجه أبو داود، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 494. والترمذى، في: باب ما جاء في دية الأصابع، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 167. والنسائى، في: باب عقل. الأصابع، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 50. وابن ماجه، في: باب دية الأسنان ودية الأصابع، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 885. والدارمى، في: باب في دية الأصابع، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 194. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 227، 345.

4246 - مسألة: (وفى الظفر خمس دية الإصبع)

إِلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّهَا مَفْصِلَانِ، فَفِى كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ عَقْلِهَا، وَفِى الظُّفْرِ خُمْسُ دِيَةِ الإِصْبَعِ، وَفِى كُلِّ سِنٍّ خمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، إِذَا قُلِعَتْ مِمَّنْ قَدْ ثُغِرَ، وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ كَالْأَسْنَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ في جَمِيعِهَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثَ أنامِلَ، فتُقْسَمُ دِيَةُ الإِصْبَعِ عليها, كما قُسِمَتْ دِيَةُ اليَدِ على الأصابعِ بالسَّوِيَّةِ (إِلَّا الإِبْهامَ، فإنَّها مَفْصِلان، ففى كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ عَقْلِها) وهو خَمْسٌ مِن الإِبِلِ. 4246 - مسألة: (وفى الظُّفْرِ خُمْسُ دِيَةِ الإِصْبَعِ) وهكذا ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. يعنى إذا قلَعَه ولم يَعُدْ، والتَّقْدِيراتُ يُرْجَعُ فيها إلى التَّوْقيفِ، فإن لم يَكُنْ فيها تَوْقِيفٌ، فالقِياسُ أنَّ فيه حُكومةً، كسائرِ الجِراحِ التى ليس فيها مُقَدَّرٌ. 4247 - مسألة: (وفى كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِن الإِبِلِ، إذاْ قُلِعَتْ مِمَّن قد أثْغَرَ) يَعْنِى ألْقَى أسْنانَه ثم عادت (والأضْراسُ وَالأنْيَابُ كالأسنانِ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ فيها دِيَةٌ واحِدَةٌ) لا نعلمُ بينَ أَهْلِ العلمِ خِلافًا في أنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِيَةَ الأسْنانِ خَمْسٌ (¬1) خَمْسٌ في كلِّ سِنٍّ. وقد رُوِى ذلك عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، وابنِ عباسٍ، ومُعاوِيَةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةَ، وعَطاءٍ، [وطاوُسٍ] (¬2)، وقَتادَةَ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأبى حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وفى كتابِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ». رواه النَّسَائِىّ (¬3). وعن عمرو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «في الأَسْنانِ خَمْسٌ خَمْسٌ». رواه أبو داودَ (¬4). فأمَّا الأضْراسُ، فأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّها مِثْلُ الأسْنانِ؛ منهم عُرْوَةُ، وطاوسٌ، وقَتادةُ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬4) في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 495. كما أخرجه النسائى، في: باب عقل الأسنان، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 49. والدارمى، في: باب دية الأسنان، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 195. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباسٍ، ومُعاوِيةَ. ورُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى في الأضْراسِ ببَعِيرٍ بَعِيرٍ. ورُوِىَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّب، أنَّه قال: لو كنتُ أنا، لجَعَلْتُ في الأضْراسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْن، فتلك الدِّيَةُ سَواء. روَى ذلك في «مُوَطَّئِه» (¬1). وعن عطاءٍ نحوُه. وحُكِىَ عن أحمدَ، أنَّ فيها ديَةً واحدةً. فيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هذه الرِّوايةِ على مِثْلِ قوْلِ سعيدٍ؛ للإِجْماعِ عَلى أنَّ في كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِن الإِبِلِ، ووُرُودِ الحديثِ به، فيكونُ في الأسْنانِ والأنْيابِ سِتُّونَ بَعِيرًا؛ لأَنَّ فيه أرْبعَ ثَنايا، وأرْبعَ رَباعِيَّاتٍ، وأرْبعَةَ أَنْيابٍ، فيها خَمْسٌ خَمْسٌ، وفيه عِشرون ضِرْسًا، في كلِّ جانبٍ عَشَرةٌ، خمسةٌ مِن فوْقٍ، وخمْسَةٌ مِن أسْفل، فيكونُ فيها أرْبعونَ بَعِيرًا، في كلِّ ضِرْسٍ بَعِيران، فتَكْمُلُ الدِّيَةُ. وحُجَّةُ مَن قال هذا، أنَّه ذُو عَدَدٍ تجبُ فيه الدِّيَةُ، فلم تزِدْ دِيَتُه على دِيَةِ الأسْنانِ (¬2)، كالأصابعِ، والأجْفانِ، ¬

(¬1) في: باب جامع عقل الأسنان، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 861. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب الأسنان، من كتاب العقول. المصنف 9/ 347. وابن أبى شيبة، في: باب من قال: تفضل بعض الأسنان على بعض، من كتاب الديات. المصنف 9/ 190. والبيهقى، في: باب الأسنان كلها سواء، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 90. (¬2) في ر 3، ق، م: «الإنسان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسائرِ ما في البدَنِ، ولأنَّها تشْتَمِلُ على منْفَعَةِ جِنْسٍ، فلم تَزِدْ دِيَتُها علىِ الدِّيَةِ، كسائرِ منافعِ الجِنْسِ، ولأَنَّ الأضْراسَ تَخْتَصُّ بالمَنْفَعَةِ دُون الجَمالِ، والأسْنانُ فيها مَنْفَعَةٌ وجَمالٌ، فاخْتلَفا في الأَرْشِ. ولَنا، ما رَوَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «الأصَابعُ سَواءٌ، والأسْنانُ سَواءٌ، الثَّنِيَّةُ والضِّرْسُ سَواءٌ، هذه وهذه سَواءٌ». وهذا نَصُّ. وقولُه في الأحاديثِ المُتَقَدِّمَةِ: «في الأسْنانِ خَمْسٌ خَمْسٌ». ولم يُفَصِّلْ، يدْخُلُ في عُمُومِها الأضْراسُ؛ لأنَّها أسْنانٌ. ولأَنَّ كلَّ دِيَةٍ وجَبَتْ في جُمْلةٍ، كانت مَقْسُومةً على العَدَدِ دُونَ المنافعِ، كالأصابعِ، والأجْفانِ، وقد أَوْمَأَ ابنُ عبَّاسٍ إلى هذا، فقال: ألَا (¬2) أعْتَبِرُها بالأصابعِ (¬3). فأمَّا ما ذكَرُوه مِن المعنى، فلا بُدَّ مِن مُخالَفَةِ القِياسِ فيه، فمَن ذهبَ إلى قَوْلِنا، خالفَ المعْنى الذى ذكَرُوه، ومَن ذهبَ إلى قَوْلِهم خالفَ التَّسْوِيَةَ الثّابِتَةَ (¬4)، بقِياسِ سائرِ الأعْضاءِ مِن جِنْسٍ واحدٍ، فكان ما ذكَرْناه مع مُوافَقَةِ الأخْبارِ (¬5) وقولِ أكثرِ أهلِ العلمِ ¬

(¬1) في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 494. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب دية الأسنان ودية الأصابع، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 885. (¬2) في تش، ص، م: «لا». (¬3) أخرجه الإِمام مالك، في: باب العمل في عقل الأسنان، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 862. وعبد الرزاق، في: باب الأسنان، من كتاب العقول. المصنف 9/ 345. والبيهقى، في: باب الأسنان كلها سواء، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 90. (¬4) في الأصل، م: «الثانية». (¬5) في الأصل: «الأجناس».

4248 - مسألة: (إذا قلعت ممن قد ثغر)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْلَى. وأمَّا على (¬1) قوْلِ عمرَ، أنَّ في كلِّ ضِرْسٍ بَعِيرًا، فيُخالِفُ [القِياسَيْن جميعًا والأخْبارَ] (¬2)، فإنَّه لا يُوجِبُ الدِّيَةَ الكاملةَ، وإنَّما يُوجِبُ ثمانينَ بعيرًا، ويُخالِفُ بينَ الأعْضاءِ المُتَجانِسَةِ. واللَّهُ أعلمُ. 4248 - مسألة: (إذا قُلِعَتْ مِمَّن قد ثُغِرَ) وهو الذى أبْدَلَ أسْنانَه، وبَلَغَ حَدًّا إذا قُلِعَت سِنُّه لم يَعُدْ بَدَلُها. يُقالُ: ثُغِرَ، وأثْغَرَ، [واثَّغَرَ] (¬3)، إذا كان كذلك. فأمَّا سِنُّ الصَّبِىِّ الذى لم يُثْغِرْ، فلا يجبُ بقَلْعِها في الحالِ شئٌ. هذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. ولا أعلمُ فيه مُخالِفًا؛ وذلك لأَنَّ العادةَ عَوْدُ سِنِّه، فلم يجِبْ فيها في الحالِ شئٌ، كنَتْفِ شَعَرِه، لكِنْ يُنْتَظَرُ عوْدُها؛ فإن مَضَتْ مُدَّة يُئِسَ مِن عَوْدِها، وجبَتْ دِيَتُها. قال أحمدُ: يتوقَّفُ سَنَةً؛ لأنَّه الغالبُ في نَباتِهِا. وقال القاضى: إذا سقَطَتْ أخَواتُها ولم تَعُدْ هى، أُخِذَتِ الدِّيَةُ. وإن نبَتَ مكَانَها أُخْرَى، لم تَجِبْ دِيَتُها, كما لو نُتِف شَعَرُه فعادَ مثلُه. لكنْ إن عادتْ قَصِيرةً أو مُشوَّهةً، ففيها حُكومةٌ؛ لأَنَّ الظاهرَ أنَّ ذلك بسَبَبِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ص. (¬2) في م: «القياس والأخبار جميعًا». (¬3) زيادة من: ر 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِنايةِ عليها. فإن أمْكَنَ تقْدِيرُ نَقْصِها عن نَظيرتِها، ففِيها مِن دِيَتِها بقَدْرِ ما نَقَصَ. وكذلك إن كانتْ فيها ثُلْمَةٌ أمْكَنَ تقْدِيرُها، ففيه بقَدْرِ ما ذهبَ منها, كما لو كُسِرَ مِن سِنِّه ذلك القَدْرُ. وإن نبَتَتْ أطْوَلَ مِن أخَواتِها، ففيها حُكومةٌ؛ لأَنَّ ذلك عَيْبٌ. وقيل: لا شئَ فيها؛ لأَنَّ هذا زِيادةٌ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ ذلك شَيْنٌ حَصَلَ بسَبَبِ الجِنايةِ، فأشْبَهَ نَقْصَها. وإن نبَتَتْ مائِلَةً عن صَفِّ (¬1) الأسْنانِ، بحيثُ لا يُنْتَفَعُ بها، ففيها دِيَتُها؛ لأنَّ ذلك كذَهابِها، وإن كانتْ يُنْتَفَعُ بها، ففيها حُكومةٌ للشَّيْنِ الحاصلِ بها ونَقْصِ نَفْعِها. وإن نبَتَتْ صَفْراءَ أو حمراءَ أو مُتَغَيِّرَةً، ففيها حُكومةٌ لنَقْصِ جَمالِها. وإن نبَتَتْ سَوْداءَ أو خضراءَ، ففيها رِوايَتان، حكاهما القاضى؛ إحداهُما، فيها دِيَةٌ. والثانيةُ، حُكومَةٌ, كما لو سَوَّدَها مِن غيرِ قَلْعِها. وإن مات الصَّبِىُّ قبلَ اليَأْسِ مِن عَوْدِها، فعلى وَجْهين؛ أحَدُهما، لا شئَ له؛ لأَنَّ الظاهرَ أنَّه لو عاشَ عادتْ، فلم يجبْ فيها شئٌ, كما لو نُتِفَ شَعَرُه. والثانى، فيها (¬2) الدِّيَةُ؛ لأنَّه قَلَعَ سِنًّا يُئِسَ مِن عَوْدِها، فوَجَبَتْ دِيَتُها, كما لو مَضَى زَمَنٌ تَعودُ في مِثْلِه فلم تَعُدْ. وإن قَلَعَ سِنَّ مَن قد ثُغِرَ، وجَبَتْ دِيَتُها في الحالِ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّها لا تعودُ، فإن عادتْ، لم تَجِبِ الدِّيَةُ، وإن كان قد أخَذَها رَدَّها. وبهذا قال أصْحابُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «صفة». (¬2) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّأْى. وقال مالكٍ: لا (¬1) يَرُدُّ شيئًا؛ لأَنَّ العادةَ أنَّها لا تعودُ، فمتى عادتْ كانت (¬2) هِبَةً مِن اللَّهِ مُجَدَّدَةً، فلا يَسْقُطُ بذلك ما وَجَبَ له بقَلْعِ سِنِّه. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْنِ. ولَنا، أنَّه عادَ له في مكانِها مِثْلُ التى قُلِعَتْ، فلم يَجبْ له شئٌ، كالذى لم يُثْغِرْ، وإن عادتْ ناقِصَةً أو مُشوَّهَةً، فحُكْمُها حُكَمُ سِنِّ الصَّغيرِ إذا عادتْ، على ما ذكَرْنا. ولو قَلَعَ سِنَّ مَن لم يُثْغِرْ، فمَضَتْ مُدَّةٌ يُئِسَ مِن عَوْدِها، وحُكِمَ بوُجُوبِ الدِّيَةِ، فعادت بعدَ ذلك، فهى كَسِنِّ الكبيرِ إذا عادَتْ. فصل: وإن قَلَعَ سِنًّا مُضْطَرِبَةً لكبَرٍ أو مرَضٍ، فكانت منافِعُها باقيةً؛ مِن المَضْغِ، وحِفْظِ الطَّعامِ والرِّيقِ، وجبَتْ دِيَتُها. وكذلك إن ذهبَ بعضُ منافِعِها، وبَقِىَ بعْضُها؛ لأَنَّ جَمالَها وبعضَ منافعِها باقٍ، فكَمَلَتْ دِيَتُها، كاليَدِ المريضةِ، ويَدِ الكبيرِ. وإن ذهبَتْ منافِعُها كلُّها، فهى كاليَدِ الشَّلَّاءِ. على ما نذْكُرُه إن شاء اللَّهُ تعالى. وإن قَلَعَ سِنًّا فيها داءٌ أو آكِلةٌ، فإن لم يذهبْ شئٌ مِن أجْزائِها، ففيها دِيَةُ السِّنِّ الصَّحيحةِ؛ لأنَّها كاليَدِ المرِيضَةِ، وإن سَقَطَ مِن أجْزائِها شئٌ، سقَطَ مِن دِيَتِها بقَدْرِ الذَّاهِبِ منها، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

4249 - مسألة: (وتجب دية اليد والرجل فى قطعهما من

وَتَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ والرِّجْلِ في قَطْعِهِمَا مِنَ الْكُوعِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ووجَبَ الباقِى. وإن كانت إحدى ثَنِيَّتَيْه قصيرةً، نَقَصَ مِن دِيَتِها بقَدْرِ نَقْصِها, كما لو نَقَصَتْ بِكَسْرِها. فصل: وإن جَنَى على سِنِّه جانٍ، فاضْطَرَبَتْ، وطالَتْ عن الأسْنانِ، وقيل: إنَّها تعودُ إلى مُدَّةٍ إلى ما كانتْ عليه. انتُظِرَتْ إليها، فإنْ ذهَبَتْ وسقَطَتْ، وجَبَتْ دِيَتُها، وإن عادتْ كما كانتْ، فلا شئَ عليه (¬1) فيها، كما لو جَنَى على يَدِه فمَرِضَتْ ثم بَرَأَتْ. وإن بَقِىَ فيها اضْطِرابٌ ففيها حُكومةٌ. وإن قَلَعَها قالِعٌ، فعليه دِيَتُها كاملةً, كما ذكَرْنا في الفَصْلِ الذى قبلَ هذا، وعلى الأَوَّلِ حُكومةٌ لجِنايَتِه، وإن مَضَتِ المُدَّةُ ولم تَعُدْ إلى ما كانتْ عليه، ففيها حُكومةٌ، وإن قَلَعَها قالِعٌ، فعليه دِيَتُها, كما ذكَرْنا. وإن قالواَ: يُرْجَى عَوْدُها. مِن غيرِ تَقْديرِ مُدَّةٍ، وجَبَتِ الحُكومةُ فيها؛ لِئلا يُفْضِىَ إلى إهْدارِ الجِنايةِ. وإن عادتْ سقَطَتِ الحُكومةُ, كما ذكَرْنا في غيرِها. 4249 - مسألة: (وتجِبُ دِيَةُ اليَدِ والرِّجْلِ في قَطْعِهما مِن ¬

(¬1) زيادة من: تش.

وَالْكَعْبِ، فَإِنْ قَطَعَهُمَا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى الدِّيَةِ في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَقَاَل الْقَاضِى: في الزَّائِدِ حُكُومَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُوعِ والكَعْبِ، فإن قَطَعَهما مِن فَوْقِ ذلك، لم يَزِدْ على الدِّيَةِ. وقال القاضِى: في الزَّائِدِ حُكُومَةٌ) أجْمعَ أهلُ العلمِ على وُجوبِ الدِّيَةِ في اليَدَيْن والرِّجْلَيْن، ووُجُوبِ نِصْفِها في إحداهما. وقد رُوِى عن معاذِ بنِ جبلٍ، أنَّ النَّبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وفِى اليَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِى الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ» (¬1). وفى كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وفِى اليَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ» (¬2). واليَدُ التى تَجِبُ فيها الدِّيَةُ مِن الكُوعِ؛ لأَنَّ اسْمَ اليَدِ عندَ الإِطْلاقِ يَنْصَرِفُ إليها؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا أَمَرَ بقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ [والسارقةِ] (¬3)، كان الواجِبُ قَطْعَها مِن الكُوعِ، فإن قَطَعَ يَدَه مِن فوقِ الكُوعِ، فقَطَعَها مِن المَرْفِقِ، أو نصفِ السَّاعدِ، فليس عليه إلَّا دِيَةٌ واحدةٌ. نَصَّ عليه في رِوايةِ أبى طالبٍ. وهذا قولُ عطاءٍ، وقَتادةَ، وابنِ أبى لَيْلَى، [ومالكٍ] (¬4). وهو قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعىِّ. ¬

(¬1) قال الحافظ في: تلخيص الحبير 4/ 28: لم أجده من حديث معاذ. وذكره في نصب الراية 4/ 371 عن سعيد بن المسيب مرسلا، وقال: لم أجده. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وظاهرُ مذْهَبِه عندَ أصْحابِه، أنَّه يَجِبُ مع دِيَةِ اليَدِ حُكومةٌ لِمَا زادَ؛ لأَنَّ اسْمَ اليَدِ لها إلى الكُوعِ، ولأَنَّ المَنْفَعَةَ المَقْصُودَةَ في اليَدِ، مِن البَطْشِ والأخْذِ والدَّفْعِ بالكَفِّ وماْ زادَ، تابعٌ للكَفِّ، والدِّيَةُ تَجِبُ في قَطْعِها مِن الكُوعِ، فيَجبُ في الزَّائدِ حُكومةٌ. قال أبو الخَطَّابِ: وهو قولُ القاضِى. ولَنا، أَنَّ اليَدَ اسْمٌ للجَمِيعِ إلى المَنْكِبِ، بدليلِ قولِه تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬1). ولمَّا نَزَلَتْ آيةُ التَّيَمُّمِ مسَحَ الصَّحابَةُ إلى المناكبِ. وقال ثعلبٌ: اليَدُ إلى المَنْكِبِ. وفى عُرْفِ النَّاسِ أنَّ جميعَ ذلك يُسمَّى يَدًا، فإذا قَطَعَها مِن فوقِ الكُوعِ، فما قَطَعَ إلَّا يَدًا، فلا يَلْزَمُه أكثرُ مِن دِيَتِها، فأمَّا قَطْعُها في السَّرِقَةِ؛ فلأنَّ المقْصودَ يَحْصُلُ به، وقَطْعُ بعضِ الشَّئِ يُسَمَّى قَطْعًا له, كما يُقالُ: قَطَعَ ثَوْبَه. إذا قَطَعَ جانِبًا منه. وقولُهم: إنَّ الدِّيَةَ تجبُ في قَطْعِها مِن الكُوعِ. قُلْنا: وكذلك (¬2) تجبُ بقَطْعِ الأصابعِ مُنْفَرِدَةً، ولا يجبُ بقَطْعِها مِن الكُوعِ أكثرُ ممَّا يجبُ في قَطْعِ الأصابعِ، والذَّكَرُ يجبُ في قَطْعِه مِن أصْلِه مثلُ ما يجبُ في قَطْعِ حَشَفَتِه. وأمَّا إذا قَطَعَ يَدَه مِن الكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَها مِن المَرْفِقِ، وجَبَ في المقْطوعِ ثانيًا حُكومةٌ؛ لأنَّه وجبَتْ عليه دِيَةُ اليَدِ بالقَطْعِ الأَوَّلِ, فوَجَبَ بالثانى حُكومةٌ, كما لو قَطَعَ الأصابعَ ثم قَطَعَ الكَفَّ، أو كما لو فَعَلَ ذلك اثْنانَ. ¬

(¬1) سورة المائدة 6. (¬2) في م: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن كان له كفَّان في ذِراعٍ، أو يَدانِ على عَضُدٍ، وإحداهما باطِشةٌ دُونَ الأُخْرَى، أو إحْداهما أكثرُ بَطْشًا، أو في سَمْتِ الذِّراعِ والأُخْرَى مُنْحَرِفةٌ عنه، أو إحْدَاهما تامَّةٌ والأُخْرَى ناقِصةٌ، فالأُولَى هى الأصْلِيَّةُ، والأُخْرَى زائِدَةٌ، ففى الأصْلِيَّةِ دِيَتُها، والقِصاصُ بقَطْعِها عَمْدًا، وفى الزَّائدَةِ حُكومةٌ، سواءٌ قَطَعَها مُفْرَدَةً أو قَطَعَها (¬1) مع الأصْلِيَّةِ. وعلى قوْلِ ابنِ حامِدٍ، لا شئَ فيها؛ لأنَّهَا عَيْبٌ، فهى كالسِّلْعَةِ في اليَدِ. وإنِ اسْتَوَيا مِن كلِّ الوُجُوهِ، وكانَتا غيرَ باطِشَتَيْن، ففيهما ثُلُثُ دِيَةِ اليَدِ أو حُكومةٌ، ولا تَجبُ دِيَّةُ كاملةً؛ لأنَّهما لا نَفْعَ فيهما، فهما كاليَدِ الشَّلَّاءِ. وإن كانتا باطِشَتَيْن، ففيهما جميعًا دِيَةُ اليَدِ. وهل تجبُ حكُومةٌ مع ذلك؟ على وَجْهين، بِناءً على أنَّ الزَّائدةَ هل فيها حُكومةٌ أَوْ لا؟ وإن قَطَعَ إحداهما، فلا قَوَدَ؛ لاحْتِمالِ أن تكونَ هى الزَّائدةَ، فلا تُقْطَعُ الأصْلِيَّةُ بها، وفيها نِصْفُ ما فيهما؛ لتَساوِيهما، وإن قَطَعَ إِصْبَعًا مِن إحْداهما، وجَبَ أَرْشُ نِصْفِ إِصْبَعٍ، وفى الحُكومةِ وَجْهان. وإن قَطَعَ ذو اليَدِ التى لها طَرَفان، وجَبَ القِصاصُ فيهما، على قَوْلِ ابنِ حامِدٍ؛ لأَنَّ هذا نَقْصٌ لا يَمْنَعُ القِصاصَ، كالسِّلْعةِ في اليَدِ. وعلى قولِ غيرِه، لا يجبُ؛ لئِلَّا يأْخُذَ [يَدَيْن بيَدٍ] (¬2) واحدةٍ، ولا نَقْطَعُ إحْدَاهما؛ لأنَّنا لا نعرِفُ الأصْلِيَّةَ فأْخُذها، ولا نأخذُ زائدةً بأصْلِيَّةٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بيده».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفى الرِّجْلَيْن الدِّيَةُ، بغيرِ خِلافٍ، وفى إحداهما نِصْفُها؛ لِمَا ذكَرْنا مِن الحديثِ والمعْنى في اليدَيْنِ، وفى تَفْصِيلِها كما ذكَرْنا مِن (¬1) التَّفْصيلِ في اليَدَيْن، ومَفْصِلُ الكَعْبَيْنِ ههُنا مثلُ مَفْصِلِ الكُوعَيْن في اليدَيْنِ. وفى قَدَمِ (¬2) الأعْرَجِ ويَدِ الأعْسَمِ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ العَرَجَ لمعنًى في غيرِ القَدَمِ (¬3)، والعَسَمُ: اعْوِجاجٌ في الرُّسْغِ. وليس ذلك عيْبًا في قَدَمٍ ولا كَفٍّ، فلم يَمْنَعْ كمالَ الدِّيَةِ فيهما. وذكرَ أبو بكرٍ أنَّ في كلِّ واحِدةٍ (¬4) ثُلُثَ الدِّيَةِ، كاليَدِ الشَّلَّاءِ. ولا يَصِحُّ، لأنَّهما لم تَبْطُلْ مَنْفَعَتُهما، فلم تَنْقُصْ دِيَتُهما، بخِلافِ اليَدِ الشَّلَّاءِ. فإن كان له قدَمان في رِجْلٍ واحدةٍ، فالحكمُ على ما ذكَرْنا في اليَدَيْن، وإن كان إحْدَى القَدَمَيْنِ أطْولَ مِن الأُخْرَى، وكان الطويلُ مُساوِيًا للرِّجْلِ الأُخْرَى فهو الأصْلِىُّ، وإن كان زائدًا عنها، والآخَرُ مُساوٍ للرِّجْلِ الأُخْرَى، فهو الأصْلِىُّ، وإن كان له في كلِّ رِجْلٍ قدَمانِ، يُمْكِنُه المَشْىُ على الطَّويلَتَيْن مَشْيًا مُسْتَقِيمًا، فهما الأصْلِيَّان، وإن لم يُمْكِنْه، فقُطِعا (¬5)، وأمْكَنَه المَشْىُ على القَصِيريْنِ، فهما الأصْلِيَّان، والآخَران زائِدان. فإن أشَلَّ الطَّويلَيْن، ففِيهما الدِّيَةُ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّهما الأصْلِيّان، فإن قَطَعَهُما قاطعٌ، فأمْكَنَه المَشْىُ على القَصِيرَيْن، تبَيَّنَ أنَّهما الأصْلِيَّان، وإن لم يُمْكِنْه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «مقدم». (¬3) في الأصل: «المقدم». (¬4) في م: «واحد منهما». (¬5) في م: «فقطع».

4250 - مسألة: (وفى مارن الأنف، وحشفة الذكر، وحلمتى الثديين، دية العضو كاملة)

وَفِى مَارِنِ الأَنْفِ، وَحَشَفَةِ الذَّكَرِ، وَحَلَمَتَىِ الثَّدْيَيْن، وَكَسْرِ ظَاهِرِ السِّنِّ، دِيَةُ الْعُضْوِ كَامِلَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالطَّويلان هما الأصْلِيَّان. 4250 - مسألة: (وفى مارِنِ الأنْفِ، وحَشَفَةِ الذَّكَرِ، وحَلَمَتَىِ الثَّدْيَيْنِ، دِيَةُ العُضْوِ كامِلَةً) في الأنْفِ الدِّيَةُ إذا قُطِعَ مارِنُه، بغيرِ خِلافٍ بينَهم. حكاه ابنُ المُنْذِرِ (¬1)، وابنُ عبدِ البَرِّ (¬2)، عمَّن [يَحْفَظُ منهم] (¬3) مِن أهلِ العلمِ. وفى كتابِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «وفى الأنْفِ إذا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَة» (¬4). وفى رِوايةِ مالكٍ في «المُوَطَّأَ»: «إذا أُوعىَ جَدْعًا». يَعْنِى اسْتُوعِبَ واسْتُؤْصِلَ. ولأنَّه عُضْوٌ فيه جَمالٌ ومَنْفَعَةٌ، ليس في البَدَنِ منه إلَّا شئٌ واحدٌ، فأشْبَهَ اللِّسانَ. فصل: وإنَّما الدِّيَةُ في مارِنِه؛ وهو ما لان منه، هكذا قال الخَلِيلُ وغيرُه؛ ولأنَّه يُرْوَى عن طاوُسٍ أنَّه قال: كان (¬5) في كتابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «في الأنْفِ إذا أُوعِبَ مارِنُه جَدْعًا الدِّيَةُ» (¬6). وفى بعْضِه إذا قُطِعَ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 103، والإجماع 73. (¬2) انظر: التمهيد 17/ 362. (¬3) في تش: «نحفظ عنهم»، وفى م: «يحفظه». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) ذكره الإمام الشافعى تعليقا، في: باب دية الأنف، من كتاب الديات. الأم 6/ 104. وأخرجه عبد الرزاق عن ابن طاوس، في: باب الأنف، من كتاب العقول. المصنف 9/ 339. وعن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 154. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 88. =

4251 - مسألة: وفى الذكر الدية. أجمع أهل العلم على ذلك؛ لأن فى كتاب النبى -صلى الله عليه وسلم- فى لعمرو بن حزم: «وفى الذكر الدية»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَدْرِه مِن الدِّيَةِ، يُمْسَحُ ويُعْرَفُ قَدْرُ ذلك. يُرْوَى هذا عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والشَّعْبِىِّ، والشافعىِّ. 4251 - مسألة: وفى الذَّكَرِ الدِّيَةُ. أجْمعَ أهلُ العلمِ على ذلك؛ لأَنَّ في كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في لِعَمْرِو بنِ حَزْم: «وفى الذَّكَرِ الدِّيَةُ» (¬1). وذَكرُ الصَّغيرِ والكبيرِ والشَّيخِ والشَّابِّ سواءٌ في الدِّيَةِ؛ لعُمُومِ الحديثِ، وسواءٌ قَدَرَ على الجِماعِ أو لم يَقْدِرْ. وفى حَشَفَةِ الذَّكَرِ الدِّيَةُ. وهو قولُ جماعةٍ مِن (¬2) أهلِ العلمِ، ولا نعلمُ فيه مُخالِفًا؛ لأَنَّ منْفَعَتَه تَكْمُلُ بالحَشَفَةِ, كما تَكْمُلُ منافِعُ اليَدِ بالأصابعِ، فكَمَلَتِ الدِّيَةُ بقَطْعِها، كالأصابعِ. وإن قَطَعَ الذَّكَرَ كلَّه، أو الحَشَفَةَ وبعضَ القصبةِ (¬3)، لم يجبْ أكثرُ مِن الدِّيَةِ, كما لو قَطَعَ الأصابعُ وبعضَ الكَفِّ. [4252 - مسألة: (وفى كَسْرِ ظاهرِ السِّنِّ دِيَتُها) وهو ما ظَهَر مِن اللِّثَةِ؛ لأَنَّ ذلك هو المُسَمَّى سِنًّا، فيَدْخُلُ في عُمومِ النَّصِّ] (¬4). وما في اللِّثَةِ منها يُسَمَّى سِنْخًا، فإذا كسِرَ السِّنُّ، ثم جاءَ آخَرُ فَقَلَعَ السِّنْخَ، ¬

= كما أخرجه ابن أبى شيبة في الموضع السابق عن رجل من آل عمر مرفوعا. (¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) في م: «العصبة». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففى السِّنِّ دِيَتُها، وفى السِّنْخِ حُكومةٌ, كما لو قطعَ إنْسانٌ أصابعَ رجلٍ، ثم قطَعَ آخَرُ كَفَّه. وإن قَلَعَها (¬1) الأَوَّلُ بسِنْخِها، لمِ يجبْ فيها أكثرُ مِن دِيَتِها، كما لو قطَعَ اليَدَ مِن كُوعِها. وإن فَعَل ذلك في مَرَّتيْن، فكَسَرَ السِّنَّ، ثم عادَ فقَلَعَ السِّنْخَ، ففيه دِيَتُها وحُكومةٌ؛ لأَنَّ دِيَتَها وجبَت بالأوَّلِ، ثم وجَبَ عليه بالثانى حُكُومةٌ, كما لو فعَلَه غيرُه. وكذلك لو قَطَعَ الأصابعَ، ثم قطَعَ الكَفَّ. وإن كسَرَ بعضَ الظاهرِ، ففِيه مِن دِيَةِ السِّنِّ بقَدْرِه؛ إن كان ذهبَ النِّصْفُ، وجبَ نِصْفُ الأَرْشِ، وإن كان الذَّاهبُ الثُّلُثَ، وجبَ الثُّلُثُ. وإن جاءَ آخَرُ، فكَسَرَ بقِيتَّهَا، فعليه بقِيَّةُ الأَرْشِ. فإن قَلَعَ الثَّانى سِنْخَها، نَظَرْنا؛ فإن كان الأَوَّلُ كَسَرَها عَرْضًا، فليس على الثَّانى للسِّنْخِ شئٌ؛ لأنَّه تابعٌ لِمَا قلَعَه مِن ظاهرِ السِّنِّ، فصار كما لو قطعَ الأَوَّلُ مِن كلِّ إِصْبَعٍ مِن أصابِعِه أُنْمُلَةً، ثم قَطَعَ الثَّانى يَدَه مِن الكُوعِ. وإن كان الأَوَّلُ كَسَرَ نِصْفَ السِّنِّ طُولًا دُونَ سِنْخِه، فجاء الثَّانى فقَلَعَ الباقىَ بالسِّنْخِ كلِّه، فعليه دِيَةُ النِّصْفِ الباقى، وحُكومةٌ لنِصْفِ السِّنْخِ الذى بَقِىَ مِن كَسْرِ الأَوَّلِ, كما لو قَطَعَ الأَوَّلُ إِصْبَعَيْنِ مِن يَدٍ، ثم جاء الثَّانى فقَطَعَ الكَفَّ كلَّه. فإنِ اخْتَلَفَ الثَّانى والمَجْنِىُّ عليه فيما قلَعه الأَوَّلُ، فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه؛ لأَنَّ الأَصْلَ سَلامَةُ السِّنِّ. وإنِ انْكَشَفَتِ اللِّثَةُ عن بعْضِ السِّنِّ، فالدِّيَةُ في قَدْرِ الظاهرِ عادةً، دُونَ ما انْكَشَفَ على خلافِ العادةِ. وإنِ اخْتَلَفا في قَدْرِ الظَّاهرِ، اعْتُبِرَ ذلك بأخَواتِها، فإن لم يَكُنْ ¬

(¬1) في الأصل: «قطعها».

4253 - مسألة: (ويحتمل أن يلزم من استوعب الأنف جدعا دية، وحكومة فى القصبة)

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَ مَنِ اسْتَوْعَبَ الأَنْفَ جَدْعًا دِيَةٌ، وَحُكُومَةٌ في الْقَصَبَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لها شئٌ تُعْتَبَرُ به، ولم يُمْكِنْ أن يُعْرَفَ ذلك مِن أهلِ الخِبْرَةِ، فالقولُ قولُ الجانِى؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءةُ ذِمَّتِه. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ على مَن اسْتَوْعَبَ جَدْعًا دِيَةٌ وحُكومةٌ في القَصَبَةِ. [وهذا] (¬1) مذهبُ الشافعىِّ، وقد ذُكِرَ، كقَطْعِ اليَدِ مِن نِصْفِ السَّاعدِ. 4253 - مسألة: (ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَ مَن اسْتَوْعَبَ الأنْفَ جَدْعًا دِيَةٌ، وحُكُومَةٌ في القَصَبَةِ) [إذا قَطَعَ المارِنَ مع القَصَبَةِ، ففيه الدِّيَةُ، في قِياسِ المذْهَبِ، ويَحْتَمِلُ أن يجبَ في المارِنِ الدِّيَةُ، وحُكومةٌ في القَصَبةِ] (¬2). وهذا مذْهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ المارِنَ وحدَه مُوجِبٌ للدِّيَةِ، فوَجَبَتِ الحُكومةُ في الزَّائدِ, كما لو قَطَع القَصبةَ وحدَها مع قَطْعِ لِسانِه. ولَنا، قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «في الأنْفِ إذا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ». ولأنَّه عُضْوٌ واحدٌ، فلم يجبْ فيه أكثرُ مِن دِيَةٍ واحدةٍ، كالذَّكَرِ إذا قُطِعَ مِن أصْلِه. وبهذا يَبْطُلُ ما ذكَرُوه، ويُفارِقُ إذا قُطِعَ لِسانُه وقَصبَتُه؛ لأنَّهُما عُضْوان، فلا تَدْخُلُ دِيَةُ أحَدِهما في الآخَرِ. أمَّا العُضْوُ الواحدُ، فلا يَبْعُدُ أن يجبَ في جميعِه ما يجبُ في بعْضِه، كالذَّكَرِ تجبُ في حَشَفَتِه ¬

(¬1) في الأصل، تش: «على». (¬2) سقط من: الأصل.

4254 - مسألة: (وفى قطع بعض المارن، والأذن، والحلمة، واللسان، والشفة، والحشفة، والأنملة، وشق الحشفة طولا، بالحساب من ديته، يقدر بالأجزاء)

وَفِى قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ، وَالْأُذُنِ، وَالْحَلَمَةِ، وَاللِّسَانِ، وَالشَّفَةِ، وَالْحَشَفَةِ، وَالأُنْمُلَةِ، وَالسِّنِّ، وَشَقِّ الْحَشَفَةِ طُولًا، بالْحِسَابِ مِنْ دِيَتِهِ، يُقَدَّرُ بِالْأَجْزَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّيَةُ التى تجبُ في جميعِه، وفى الثَّدْىِ كلِّه ما في حَلَمَتِه (¬1). فأمَّا إن قَلَعَ الأنْفَ وما تحْتَه مِن اللَّحْمِ، ففى اللَّحْمِ حُكومةٌ؛ لأنَّه ليس مِن الأنْفِ، فأشْبَهَ ما لو قَطَعَ الذَّكَرَ واللَّحْمَ الذى تحتَه. 4254 - مسألة: (وفى قَطْعِ بَعْضِ المارِنِ، والأُذُنِ، والحَلَمَةِ، واللِّسانِ، والشَّفَةِ، والحَشَفَةِ، والأُنمُلَةِ، وَشَقِّ الحَشَفَةِ طُولًا، بِالحِسابِ مِن دِيَتِه، يُقَدَّرُ بالأجْزاءِ) كَالثُّلُثِ والرُّبْعِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِثْلُه مِن الدِّيَةِ؛ لأَنَّ ما وجَبَتِ الدِّيَةُ في جَميعِه، وجَبَتْ في بعْضِه، فإن كان الذَّاهِبُ النِّصْفَ، وجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، وإن كان الثُّلُثَ، وجَبَ ثُلُثُها، وإن كان أقَلَّ أو أكثرَ، وجَبَتْ بحِسابِ ذلك, كما تُقَسَّطُ دِيَةُ اليَدِ على الأصابعِ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «جملته».

4255 - مسألة: (وفى شلل العضو وإذهاب نفعه، والجناية على الشفتين، بحيث لا ينطبقان على الأسنان)

وَفِى شَلَلِ الْعُضْوِ، أَوْ إِذْهَابِ نَفْعِهِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى الشَّفْتَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَبِقَانِ عَلَى الْأَسْنَانِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ 4255 - مسألة: (وفى شَلَلِ العُضْوِ وإذْهابِ نَفْعِه، والجِنايَةِ على الشَّفَتَيْن، بحَيْثُ لا يَنْطَبِقان على الأَسْنانِ) الدِّيَةُ؛ لأنَّه عَطَّلَ نفْعَهما، فأشْبَهَ ما لو أشَلَّ يَدَه، وكذلك إنِ اسْتَرْخَتا، فصارَتا لا يَنْفَصِلان عن الأسْنانِ؛ لأنَّه عَطَّلَ جَمالَهما. فصل: وإن جَنَى على يَدَيْه فأشَلَّهُما، وجَبَتْ دِيَتُهما؛ لأنَّه فَوَّتَ مَنْفَعَتَهما، فهو كما لو أعمى عيْنَيْه، أو أخْرَسَ لِسانَه، وإن أشَلَّ الذَّكَرَ، ففيه دِيَتُه؛ لأنَّه ذهبَ بنَفْعِه، أشْبَهَ ما لو أشَلَّ لِسانَه، وكذلك إن أشَلَّ أُنْثَيَيْه, كما لو أشَلَّ يَدَيْه، وكذلك إن جَنَى على الإِسْكَتَيْن فأشَلَّهما، ففيهما الدِّيَةُ، كما لو جَنَى على الشَّفتَيْن فأشَلَّهما (¬1)، وكذلك الأصابعُ إذا أَشَلَّها؛ لِمَا ذكَرْنا، وسائرُ الأعْضاءِ إلَّا (¬2) الأُذنَ والأنْفَ، وسنَذْكُرُهما إن شاء اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) بعده في م: «ففيهما الدية». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

4256 - مسألة: (و)

وَتَسْوِيدِ السِّنِّ، وَالظُّفْرِ، بِحَيْثُ لَا يَزُولُ دِيَتُهُ. وَعَنْهُ في تَسْوِيدِ السِّنِّ، ثُلُثُ دِيَيهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهَا حُكُومَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4256 - مسألة: (و) في (تَسْوِيدِ السِّنِّ وَالظُّفْرِ، بحيث لَا يَزُولُ دِيَتُه. وعنه في تَسْوِيدِ السِّنِّ، ثُلُثُ دِيَتِها. وقال أبو بَكْرٍ: فيها حُكُومَةٌ) إذا جَنَى على سِنِّه فسَوَّدَها، فحُكِىَ عن أحمدَ في ذلك رِوايتان؛ إحداهما، تجبُ دِيَتُها (¬1) كاملةً. وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. ويُرْوَى عن زيدِ بنِ ثابتٍ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وشُرَيْحٌ، والزُّهْرِىُّ، وعبدُ الملكِ بنُ مَرْوانَ، والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، واللَّيْثُ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ عن أحمدَ، أنَّه إن أذْهَبَ مَنْفَعَتَها مِن المَضْغِ عليها ونحوه، ففيها دِيَتُها، وإن لم يُذْهِبْ نَفْعَها، ففيها حُكومةٌ. وهذا قولُ القاضى. والقولُ الثانى للشافعىِّ، وهو المختارُ عندَ أصْحابِه، وهو أقْيَسُ؛ لأنَّه لم يُذْهِبْها بمَنْفَعَتِها، فلم تَكْمُلْ دِيَتُها, كما لو اصْفَرَّتْ. وهذا قولُ أبى بكرٍ. ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق، م: «ديتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ مِن الصَّحابَةِ، فكان إجْماعًا، ولأنَّه أذْهَبَ الجَمالَ على الكَمالِ، فكَمَلَتْ ديَتُها, كما لو قَطَعَ أُذُنَ الأصَمِّ وأنْفَ الأخْشَمِ. والظُّفْرُ كذلك قِياسًا على السِّنِّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّ في تَسْوِيدِ السِّنِّ ثُلُثَ دِيَتِها. والتَّقْدِيرُ لا يَثْبُتُ إلَّا (¬1) بالتَّوْقِيفِ. فصل: فأمَّا إنِ اصْفَرَّتْ أو احْمَرَّتْ، لم تكْمُلْ دِيَتُها؛ لأنَّه لم يُذْهِبِ الجمالَ على الكَمالِ، وفيها حُكومةٌ. وإنِ اخْضَرَّتْ، احْتَمَلَ أن يكونَ كتَسْوِيدِها؛ لأنَّه ذهَبَ بجَمالِها، واحْتَمَلَ أن لِا يكونَ فيها (¬2) إلَّا حُكومةٌ؛ لأَنَّ ذَهابَ جَمالِها بتَسْويدِها أكْثَرُ، فلم يَلْحَقْ به غيرُه, كما لو حَمَّرَها. فعلى قولِ مَن أوْجَبَ دِيَتَها، متى قُلِعَتْ بعدَ تَسْويدِها، ففيها ثُلُثُ دِيَتِها أو حُكومةٌ، على ما نذْكُرُه إن شاء اللَّه تعالى. وعلى قولِ مَن لم يُوجِبْ فيها إلَّا حُكومةً، يجبُ في قَلْعِها دِيَتُها, كما لو صَفَّرَها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فيه».

4257 - مسألة: (وفى العضو الأشل من اليد، والرجل، والذكر، والثدى، ولسان الأخرس، والعين القائمة،

وَفِى الْعُضْوِ الْأَشَلِّ مِنَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَالذَّكَرِ، وَالثَّدْىِ، وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ، وَشَحْمَةِ الأُذُنِ، وَذَكَرِ الْخَصِىِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن جَنَى على سِنِّه، فذهَبَتْ حِدَّتُها وكَلَّتْ، ففى ذلك حُكومةٌ، وعلى قالِعِها بعدَ ذلك دِيَةٌ كاملةٌ؛ لأنَّها سِنٌّ صحيحةٌ كاملةٌ (¬1)، فكَمَلَتْ دِيَتُها، كالمُضْطَرِبَةِ. وإن ذَهَب منها جُزْءٌ، ففى الذَّاهِبِ بقَدْرِه، وإن قَلَعَها قالِعٌ، نَقَصَ مِن دِيَتِها بقَدْرِ ما ذهبَ, كما لو كُسِرَ منها جُزْءٌ. 4257 - مسألة: (وفى العُضْوِ الأشَلِّ مِن اليَدِ، والرِّجْلِ، والذَّكَرِ، والثَّدْىِ، ولِسانِ الأخْرَسِ، والعَيْنِ القائِمَةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَالْعِنِّينِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ، وَالثَّدْى دُونَ حَلَمَتِهِ، وَالذَّكَرِ دُونَ حَشَفَتِهِ، وَقَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَالْيَدِ وَالإِصْبَعِ الزَّائِدَتَيْنِ، حُكُومَةٌ. وَعَنْهُ، ثُلُثُ دِيَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَحْمَةِ الأُذُنِ، وذَكَرِ الخَصِىٍّ والعِنِّينِ، والسِّنِّ السَّوْداءِ، والثَّدْىِ دُونَ حَلَمَتِه، والذَّكَرِ دُونَ حَشَفتِه، وَقَصَبَةِ الأنْفِ، واليَدِ والإِصْبَعِ الزَّائِدَتَيْنِ، حُكُومَةٌ. وعنه، ثُلُثُ دِيَتِه) أمَّا اليَدُ الشَّلاءُ، وهى اليابِسَةُ التى ذهبَتْ منها منْفَعَةُ البَطْشِ، وكذلك الرِّجْلُ مثلُها في الحُكمِ، قِياسًا عليها، والعَيْنُ القائمةُ التى ذهبَ بصَرُها، وصُورَتُها باقيةٌ، كصُورَةِ الصَّحيحةِ، والسِّنُّ السَّوْداءُ، فعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، فيهِنَّ حكُومةٌ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ إيجابُ دِيَةٍ كاملةٍ، لكَوْنِها قد ذهَبَتْ مَنْفَعَتُها، ولا مُقَدَّرَ فيها، فتَجِبُ الحُكومةُ، كاليّدِ الزَّائدةِ. وعنه، فيهِنَّ ثُلثُ الدِّيَةِ؛ لِما (¬1) روَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّة، قال: قَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في العَيْنِ القائمةِ السَّادَّةِ لمَكاَنِها بثُلُثِ الدِّيَةِ، وفى اليَدِ الشَّلَّاءِ إذا قُطِعَتْ ثُلُث دِيَتِها، وفى السِّنِّ السَّوْداءِ إذا قُلِعَتْ بثُلُثِ دِيَتِها. رواه النَّسائِىُّ (¬2). ¬

(¬1) في م: «كما». (¬2) في: باب العين العوراء، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 49.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخْرَجَه أبو داودَ (¬1) في العَيْنِ وحدَها. وهو قولُ عمرَ. وروَى قَتادةُ، [عن خِلاسٍ] (¬2)، عن عبدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عن يحْيى بنِ يَعْمُرَ (¬3)، عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قَضَى في العَيْنِ القائِمَةِ إذا قُلِعَتْ، واليَدِ الشَّلَّاءِ إذا قُطِعَتْ، والسِّنِّ السَّوْداءِ إذا كُسِرَتْ، بثُلُثِ دِيَةِ كلِّ واحدةٍ منهنَّ (¬4). ولأنَّها كاملةُ الصُّورَةِ، فكان فيها مُقَدَّرٌ كالصَّحيحةِ. وقولُهم: لا يُمْكِنُ إيجابُ مُقَدَّرٍ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّنا قد ذكَرْنا التَّقْدِيرَ وبَيَّنَّاه. فصل: قال القاضى: قولُ أحمدَ: في السِّنِّ السَّوْداءِ ثُلُثُ دِيَتِها. مَحْمُولٌ على سِنٍّ ذهَبَتْ مَنْفَعَتُها، بحيثُ لا يُمْكِنُه أَنْ يَعَضَّ بها شيئًا، أو (¬5) كانت تَتَفَتَّتُ، فأمَّا إن كانت منْفَعَتُها باقيةً، ولم يذْهَبْ منها إلَّا لَوْنُها، ففيها كمالُ دِيَتِها، [سواءٌ قَلَّتْ منْفَعَتُها، بأن يعْجِزَ عن عَضِّ الأشْياءِ الصُّلْبَةِ، أو لم يَعْجِزْ؛ لأنَّها باقيةُ المَنْفَعَةِ، فكَمَلَتْ دِيَتُها] (¬6)، ¬

(¬1) في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. (¬2) كذا في النسخ، وليست في مصادر التخرج، وقتادة وروى عن خلاس، أما عبد اللَّه بن بريدة فذكره في «تهذيب الكمال» في من وروى عنهم قتادة، وقال البخارى: ولا يعرف سماع قتادة من ابن بريدة. انظر: التاريخ الكبير 4/ 12، تهذيب الكمال 23/ 501. (¬3) بعده في م: «عن أبيه». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العين القائمة، من كتاب العقول. المصنف 9/ 334. وابن أبى شيبة، في: باب في العين القائمة تنخس، من كتاب الديات. المصنف 9/ 208. والبيهقى، في: باب ما جاء في العين القائمة واليد الشلاء، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 98. (¬5) في الأصل: «إذا». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائرِ الأَعْضاءِ، وليس على مَن سَوَّدَها إلَّا حُكومةٌ. وهذا مذْهَبُ الشافعىِّ. قال شَيْخُنا (¬1): والصَّحِيحُ مِن مذهبِ أحمدَ ما يُوافِقُ ظاهِرَ كلامِه؛ لظاهرِ الأخْبارِ، وقضاءِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، وقولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، ولأنَّه ذَهَبَ جَمالُها بتَسْويدِها، فكَمَلَتْ دِيَتُها على مَن سَوَّدَها، كتَسْويدِ الوَجْهِ، ولم يجبْ على مُتْلِفِها أكثرُ مِن ثُلُثِ دِيَتِها، كاليَدِ الشَّلاءِ، وكالسِّنِّ البَيْضاءِ إذا انْقَلَعَتْ، ونَبَتَتْ مكانَها سَوداءُ لمرضٍ فيها، فإنَّ القاضِىَ وأصْحابَ الشافعىِّ سَلَّموا أنَّها لا تكْمُلُ دِيَتُها. فصل: فإن نَبَتَتْ أسْنانُ صَبِىٍّ سَوْداءَ، ثم ثُغِرَ، ثم عادَتْ سَوْداءَ، فدِيَتُها تامَّةٌ؛ لأَنَّ هذا جِنْسٌ خُلِقَ على هذه الصُّورَةِ، أشْبَهَ مَن خُلِقَ أَسْوَدَ الجِسْمِ والوَجْهِ جَميعًا. وإن نَبَتَتْ أوَّلًا بَيْضاءَ، ثم ثُغِرَ، ثم عادتْ سَوْداءَ، سُئِلَ أهْلُ الخِبْرَةِ، فإن قالُوا: ليس السَّوادُ لِعِلَّةٍ ولا مَرَضٍ. ففِيها كَمالُ دِيَتِها. وإن قالوا: ذلك لمرَضٍ فيها (¬2). فعلى قالِعِها ثُلُثُ دِيَتِها أو حُكومةٌ. وقد سَلَّمَ القاضى وأصْحابُ الشافعىِّ الحُكْمَ في هذه الصُّورةِ، وهو حُجَّةٌ عليهم فيما خالَفُوا فيه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ الحُكْمُ فيما إذا (¬3) كانت سَوْداءَ مِن ابْتداءِ الخِلْقَةِ هكذا؛ لأَنَّ المرَضَ قد يكونُ في ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 156. (¬2) سقط من: الأصل، ق، م. (¬3) زيادة من: ص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِيه مِن ابْتداءِ خِلْقَتِه، فيثْبُتُ حُكمُه في نَقْصِ دِيَتِها, كما لو كان طارِئًا. فصل: وفى لِسانِ الأخْرَسِ رِوايتان أيضًا، كاليَدِ الشَّلَّاءِ. وكذلك كلُّ عُضْوٍ ذهبَتْ منْفَعَتُه، وبَقِيَتْ صُورَتُه, كالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ، والإِصْبَعِ والذَّكَرِ إذا شُلَّا، وذَكَرِ الخَصِىِّ والعِنِّين إذا قُلْنا: لا تَكْمُلُ دِيَتُهما. وأشْباهِ هذا كلِّه يتَخَرَّجُ على رِوايتَيْن؛ إحداهما، فيه ثُلُثُ الدِّيَةِ. والأُخْرَى، حُكومةٌ. فصل: فأمَّا اليَدُ والرِّجْلُ والإِصْبَعُ والسِّنُّ الزَّوائدُ، ونحوُ ذلك، فليس فيه إلَّا حُكومةٌ. وقال القاضى: هو في مَعْنى اليَدِ الشَّلَّاءِ، فيُخَرَّجُ على الرِّوايتَيْن. والذى ذكَرَه شيْخُنا أصَحُّ؛ لأنَّه لا تَقْديرَ في هذا، ولا هو في معْنَى المُقَدَّر، ولا يصِحُّ قِياسُ هذا على العُضْوِ الذى ذَهَبَتْ منْفَعَتُه وبَقِىَ جَمالُه؛ لأَنَّ هذه الزَّوائدَ لا جَمالَ فيها، إنَّما هى شَيْنٌ في الخِلْقَةِ، وعَيْبٌ يُرَدُّ به المَبِيعُ، وتَنْقُصُ [به القِيمَةُ] (¬1)، فكيف يَصِحُ قِياسُه على ما يحْصُلُ به الجَمالُ؟ ثم لو حَصَلَ به جَمالٌ ما، لكنَّه يُخالِفُ جَمالَ العُضْوِ الذى ¬

(¬1) في م: «بالقيمة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يحْصُلُ به تَمامُ الخِلْقَةِ، ويخْتَلِفُ في نَفْسِه اخْتلافًا كثيرًا، فوجبَتْ فيه الحُكومةُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجبَ فيه شئٌ؛ لِمَا ذكَرْنا. فصل: قد ذكَرْنا أنَّ في الإِصْبَعِ الزَّائدةِ (¬1) حُكومةً. وبه قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وعن زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّ فيها ثُلُثَ دِيَةِ الإِصْبَعِ. وذكَر القاضى أنَّه قِياسُ المذْهبِ، على رِوايةِ إيجاب ثُلُثِ دِيَةِ اليَدِ [في اليَدِ] (¬2) الشَّلَّاءِ. والأَوَّلُ أصَحُّ على ما ذكَرْنا. ولا يَصِحُّ قِياسُها على اليَدِ الشَّلَّاءِ؛ لِمَا ذكَرْنا مِن الفَرْقِ بينَهما. واللَّهُ أعلمُ. فصل: واخْتلفَتِ الرِّوايةُ في قَطْعِ الذَّكَرِ دُونَ حَشَفَتِه، وعلى قِياسِه الثَّدْىُ دُونَ حَلَمَتِه، وقَطْعُ الكَفِّ دُونَ (¬3) أصابِعِه، فروَى أبو طالبٍ عن أحمدَ، فيه ثُلُثُ دِيَتِه، وكذلك شَحْمَةُ الأُذُنِ. وعن أحمدَ في ذلك كلِّه حُكومةٌ. وهذا هو الصَّحيحُ؛ لعَدَمِ التَّقْديرِ فيه، وامْتِناعِ قِياسِه على ما فيَه تَقْديرٌ، لأَنَّ الأشَلَّ بقِيَتْ صُورَتُه، وهذا لم تَبْقَ صُورَتُه، إنَّما بَقِىَ بعْضُ ما فيه الدِّيَةُ، أو أصْلُ ما فيه الدِّيَةُ. فأمَّا قَطْعُ الذِّراعِ بعدَ قَطْعِ الكَفِّ، والسَّاقِ بعدَ قَطْعِ القَدَمِ، فينْبَغِى أن تجبَ الحُكومةُ فيه، وجْهًا ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش، ر 3: «فيها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ر 3، ق، ص، م: «بعد».

4258 - مسألة: (وعنه فى ذكر الخصى والعنين كمال ديته)

وَعَنْهُ في ذَكَرِ الْخَصِىِّ وَالْعِنِّينِ، كَمَالُ دِيَتِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدًا؛ لأَنَّ إيجابَ ثُلُثِ دِيَةِ اليَدِ فيه يُفْضِى إلى أن يكونَ الواجبُ فيه مع بَقاءِ الكَفِّ والقَدَمِ وذَهابِهما واحدًا، مع تَفاوُتِهما وعَدَمِ النَّصِّ فيهما. 4258 - مسألة: (وعنه في ذَكَرِ الخَصِىِّ والعِنِّينِ كَمالُ دِيَتِه) أمَّا ذَكَرُ العِنِّينِ فأكثرُ أهلِ العلمِ على وُجوبِ الدِّيَةِ فيه؛ لأَنَّ في كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وفِى الذَّكَرِ الدِّيَةُ» (¬1). ولأنَّه غيرُ مأْيُوسٍ مِن جِماعِه، وهو عُضْوٌ سَليمٌ في نفْسِه، فكَمَلَتْ دِيَتُه، كذَكَرِ الشَّيْخِ. وذَكَرَ القاضى فيه في أحمدَ رِوايتَيْن؛ إحداهما، تجبُ فيه الدِّيَةُ؛ لذلك. والثانيةُ، لا، تَكْمُلُ دِيَتُه. وهو قولُ قَتادةَ؛ لأَنَّ منْفَعَتَه الإِنْزالُ والإِحْبالُ والجِماعُ، وقد عُدِمَ ذلك منه في حالِ الكَمالِ، فلم تكْمُلْ دِيَتُه، كالأشَلِّ، وبهذا فَارَقَ ذَكَرَ الصَّبِىِّ والشَّيْخِ. واخْتلفَتِ الرِّوايةُ في ذَكَرِ الخَصِىِّ، فعنه، فيه دِيَةٌ كاملةٌ. وهو قولُ سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، والشافعىِّ، وابنِ المُنْذِرِ؛ للخبرِ، ولأَنَّ منْفَعةَ الذَّكرِ الجِماعُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309.

4259 - مسألة: فإذا قلنا: لا تكمل الدية فى قطع ذكر الخصى. (إن قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة، أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين، لزمته ديتان، وإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر، لزمته دية واحدة للأنثيين،

فَلَوْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَ مَعًا، أَوِ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ، لَزِمَهُ دِيَتَانِ. وَلَوْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ قَطَعَ الذَّكَرَ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِى الذَّكَرِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، دِيَةٌ. وَالْأُخْرَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو باقٍ فيه. والثانيةُ، لا تجبُ فيه. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى، وقَتادةَ، وإسْحاقَ؛ لِمَا ذكَرْنا في ذَكَرِ العِنِّينِ، ولأَنَّ المَقْصُودَ منه تَحْصِيلُ النَّسْلِ، ولا يُوجَدُ ذلك منه، فلم تَكْمُلْ دِيَتُه، كالأشَلِّ، والجِماعُ يذْهَبُ في الغالبِ؛ بدليلِ أنَّ البَهائِمَ يذهبُ جِماعُها بخِصائِها، والفرقُ بينَ ذَكَرِ العِنِّينِ وذَكَرِ الخَصِىِّ، أنَّ الجِماعَ في ذكَرِ العِنِّينِ أبْعَدُ منه في ذَكَرِ الخَصِىِّ، واليَأْسَ مِن الإِنْزالِ مُتَحَقِّقٌ في ذكَرِ الخَصِىِّ دُونَ ذَكَرِ العِنِّينِ. 4259 - مسألة: فإذا قلنا: لا تَكْمُلُ الدِّيَةُ في قَطْعِ ذَكَرِ الخَصِىِّ. (إن قَطَعَ الذَّكَرَ والأُنْثَيَيْن دَفْعَةً واحِدَةً، أو قَطَعَ الذَّكَر ثم قَطَعَ الأُنْثَيَيْن، لَزِمَتْه دِيَتان، وإن قَطَعَ الأُنْثَيَيْن ثم قَطَعَ الذَّكَرَ، لَزِمَتْه دِيَةٌ واحِدَةٌ للأُنْثَيَيْن،

4260 - مسألة: (وإن أشل الأنف، أو الأذن، أو عوجهما، ففيه حكومة. وفى قطع الأشل منهما كمال الدية)

حُكُومَةٌ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَإِنْ أَشَلَّ الْأَنْفَ، أَوِ الْأُذُنَ، أَوْ عَوَّجَهُمَا، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَفِى قَطْعِ الْأَشَلِّ مِنْهُمَا كَمَالُ دِيَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى الذَّكَرِ حُكُومَةٌ أو ثُلُثُ الدِّيَةِ) قال القاضى: ونَصَّ أحمدُ على هذا. وإن قَطَعَ نِصْفَ الذَّكَرِ بالطُّولِ، فقال أصْحابُنا: فيه نِصْفُ الدِّيَةِ. والأَوْلَى أن تجبَ الدِّيَةُ كاملةً؛ لأنَّه ذهَبَ بمَنْفَعَةِ الجِماعِ به، فوجَبَتِ الدِّيَةُ كاملةً, كما لو أشَلَّه، أو كسَرَ صُلْبَه فذَهَبَ جِماعُه. وإن قَطَعَ قِطْعَةً منه ممَّا دُونَ الحَشَفَةِ، وكان البَوْلُ يخْرُجُ على ما كان عليه، وجَبَ بقَدْرِ القِطْعةِ مِن جَميعِ الذَّكَرِ مِن الدِّيَةِ. وإن خرَجَ البَوْلُ مِن مَوْضِعِ القَطْعِ، وجَبَ الأكْثَرُ مِن حِصَّةِ القِطْعَةِ مِن الدِّيَةِ أو الحُكومةِ. وإن ثَقَبَ ذَكرَه فيما دُونَ الحَشَفَةِ، فصارَ البَوْلُ يخْرُجُ مِن الثُّقْبِ، ففيه حُكومةٌ؛ لذلك. 4260 - مسألة: (وإن أشَلَّ الأنْفَ، أو الأُذُنَ، أو عَوَّجَهما، ففيه حُكومَةٌ. وفى قطعِ الأشَلِّ منهما كمالُ الدِّيَةِ) إذا ضَرَبَ أنْفَه فأشَلَّه، ففيه حُكومةٌ. وإن قَطَعَه قاطِعٌ بعدَ ذلك، ففيه دِيَتُه. وكذلك الأُذُنُ إذا جنى عليها فاسْتَحْشَفَتْ، واسْتِحْشافُها كشَلَلِ سائرِ الأعضاءِ، ففيها حُكومةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ: في ذلك دِيَتُها. وكذلك قولُه في الأنْفِ إذا أشَلَّه؛ لأَنَّ ما وَجَبَتْ دِيَتُه بقَطْعِه وَجَبَت بشَلَلِه، كاليَدِ والرِّجْلِ. ولَنا، أنَّ نَفْعَ الأُذُنِ باقٍ بعدَ اسْتِحْشافِها وجَمالَها، فإنَّ نَفْعَها جَمْعُ الصَّوْتِ ومَنْعُ دُخولِ الماءِ والهوامِّ في صِماخِه، وهذا باقٍ بعدَ شَلَلِها، فإن قَطَعها قاطِعٌ بعدَ شَلَلِها ففيها دِيَتُها؛ لأنَّه قَطَع أُذُنًا فيها جَمالُها ونَفْعُها، فوَجَبَتْ دِيَتُها كالصَّحِيحَةِ، وكما لو قَلَع عَيْنًا عَمْشاءَ (¬1) أو حَوْلاءَ. وكذلك الأنْفُ نَفْعُه جَمْعُ الرَّائِحَةِ ومَنْعُ وُصولِ الهَوامِّ إلى دِماغِه، وهذا باقٍ بعدَ الشَّلَلِ، بخِلافِ سائرِ الأعْضاءِ. فإن جَنَى على الأنْفِ، فعَوَّجَه أو غَيَّرَ لَوْنَه، ففيه حُكومةٌ، في قولِهم جميعًا. وكذلك الأُذُنُ إذا عَوَّجَها أو غَيَّرَ لَوْنَها، ففيها حُكومةٌ، كالأنْفِ. فصل: فإن قَطَعَ الأنْفَ إلَّا جِلْدةً بَقِىَ مُعَلَّقًا بها، فلم يَلْتَحِمْ، واحْتِيجَ ¬

(¬1) في م: «عمياء».

4261 - مسألة: (وتجب الدية فى أنف الأخشم والمخزوم)

وَتَجِبُ الدِّيَةُ في أَنْفِ الْأَخْشَمِ وَالْمَخْزُومِ وَأُذُنَىِ الْأَصَمِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى قَطْعِ الجِلْدَةِ، ففيه دِيَتُه؛ لأنَّه قَطَعَ جميعَه (¬1)؛ بعضَه بالمُباشَرَةِ، وبعْضَه بالسَّبَبِ، فأشْبَهَ ما لو سَرَى قَطْعُ بعْضِه إلى قَطْعِ جَميعِه. وإن رَدَّه فالْتَحَمَ، ففيه حُكومةٌ؛ لأنَّه لم يَبِنْ. وإن أبانَه فردَّة فالْتَحَمَ، فقال أبو بكرٍ: ليس فيه إلَّا حُكومةٌ. كالتى قبلَها. وقال القاضى: فيه دِيَتُه. وهو مذهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه أبانَ أنْفَه (¬2)، فلَزِمَتْه دِيَتُه, كما لو لم يَلْتَحِمْ، ولأَنَّ ما أُبِينَ قد نَجُسَ، فيلْزَمُه أن يُبِينَه بعدَ الْتِحامِه. ومَن قال بقَوْلِ أبى بكرٍ، منَعَ نَجاسَتَه، ووُجُوبَ إبانَتِه؛ لأَنَّ أجْزاءَ الآدَمِىِّ كجُمْلَتِه، بدليلِ سائرِ الحيواناتِ، وجُمْلتُه طاهِرَةٌ، فكذلك أجْزاؤُه. 4261 - مسألة: (وتَجِبُ الدِّيَةُ في أنْفِ الأخْشَمِ والمَخْزُومِ) لأَنَّ أنْفَ الأخْشَمِ لا عَيْبَ فيه، وإنَّما العَيْبُ في غيرِه، فوجَبَتْ دِيَتُه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «نفسه».

4262 - مسألة: (وإن قطع أنفه، فذهب شمه، وجبت ديتان)

وَإِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ، فَذَهَبَ شَمُّهُ، أَوْ أُذُنَيْهِ، مذهَبَ سَمْعُهُ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ. وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ إِذَا أذْهَبَهَا بِنَفْعِهَا، لَمْ تَجِبْ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كأنْفِ غيرِ (¬1) الأخْشَمِ. وأمَّا المَخْزُومُ فأنْفُه كامِلٌ غيرَ أنَّه مَعِيبٌ، فأشْبَهَ العُضْوَ المرِيضَ. وكذلك (¬2) تجبُ في أُذُنِ الأصَمِّ؛ لأَنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ في غيرِ الأُذُنِ، فلم يُؤثِّرْ في دِيَتِها، كالعَمَى لا يُؤثِّرُ في دِيَةِ الأجْفانِ. وهذا قولُ الشافعىِّ. ولا نعلمُ فيه مُخالفًا. 4262 - مسألة: (وإن قَطَعَ أنْفَه، فذَهَبَ شَمُّه، وَجَبَتْ دِيَتان) لأَنَّ الشَّمَّ في غيرِ الأنْفِ، فلا تَدْخُلُ دِيَةُ أحَدِهما في الآخَرِ. وكذلك إذا قَطَعَ أُذُنَه فذَهَبَ سَمْعُه تَجبُ دِيَتان؛ لأَنَّ السَّمْعَ في غَيْرِ الأُذُنِ، فَهُوَ كالبَصَرِ مع الأجْفانِ، والنُّطْقِ مع الشَّفَتَيْن. 4263 - مسألة: (وسائِرُ الأعْضاءِ إذا أذْهَبَها بمَنْفَعَتِها، لم تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) كالعَيْنِ إذا قُلِعَتْ فذَهَبَ ضَوْؤُها، لم يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحِدَةٌ؛ لأَنَّ الضَّوْءَ فيها. ومثلُ ذلك سائرُ الأعْضاءِ إذا أذْهَبَها بنَفْعِها، لم تَجبْ إلَّا دِيَةٌ واحدةٌ؛ لأَنَّ نَفْعَها [فيها، فدَخَلَتْ] (¬1) دِيَتُه في دِيَتِها، ولأَنَّ [مَنافِعَها تابِعَةٌ] (¬2) لها، تَذْهَبُ بذَهابِها، فوَجَبَتْ دِيَةُ العُضْوِ دُونَ المَنْفَعَةِ, كما لو قَتَلَه، لم تجبْ إلَّا دِيَتُه. ¬

(¬1) في الأصل: «قد حصلت». (¬2) في الأصل: «نفعها مانع».

فصل فى دية المنافع

فَصْلٌ في دِيَةِ الْمَنَافِعِ: وَفِى كُلِّ حَاسَّةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ وَهِىَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، والذَّوْقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في دِيَةِ المنافعِ: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وفى كلِّ حاسَّةٍ دِيَةٌ كاملةٌ؛ وهى السَّمْعُ، والبَصَرُ، والشَّمُّ، والذَّوْقُ) لا خِلافَ في وُجوبِ الدِّيَةِ بذَهابِ السَّمْعِ، قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ عَوامُّ أَهْلِ العلمِ على أنَّ في السَّمْعِ الدِّيَةَ. رُوِى ذلك عن عمرَ. وبه قال مُجاهِدٌ، وقَتادةُ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأهْلُ الشَّامِ، وأهلُ العِراقِ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ، ولا أعلمُ عن غيرِهم خِلافهم. وقد رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وفى السَّمْعِ الدِّيَةُ» (¬2). وروَى أبو المُهَلَّبِ، عمُّ (¬3) ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 99. (¬2) عزاه البيهقى لأبى يحيى الساجى من حديث معاذ بن جبل بإسناد ضعيف، ثم أخرجه البيهقى بإسناده عن معاذ بن جبل، كلاهما بلفظ: «وفى السمع مائة من الإبل». انظر: السنن الكبرى 8/ 58، 86. وانظر: الإرواء 7/ 321. (¬3) في النسخ: «عن». والتصويب من مصادر التخريج، وأبو المهلب الجرمى البصرى عم أبى قلابة، اختلف في اسمه فقيل: عمرو بن معاوية، وقيل غير ذلك، يروى عن عمر وعثمان، روى عنه محمد بن سيرين وسعيد الجريرى، وهو تابعى ثقة قليل الحديث. تهذيب التهذيب 12/ 250.

4264 - مسألة: وفى البصر الدية؛ لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما، وجبت بذهاب نفعهما، كاليدين إذا أشلهما، وفى ذهاب بصر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى قِلابَةَ، أنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بحَجَرٍ في رأسِه، فذهَبَ سَمْعُه وعَقْلُه ولِسانُه ونِكاحُه، فقَضَى فيه عمرُ بأرْبعِ دِيَاتٍ والرَّجُلُ حَىٌّ (¬1). ولأنَّها حاسَّةٌ تخْتَصُّ بنَفْعٍ، فكان فيها الدِّيَةُ، كالبَصَرِ. وإن ذهَبَ السَّمْعُ مِن إحْدَى الأُذُنيْن، وجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، كما لو ذهبَ البَصَرُ مِن إحْدَى العَيْنَيْن. 4264 - مسألة: وفِى البَصَرِ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ كلَّ عُضْوَيْن وجَبَتِ الدِّيَةُ بذَهابِهما، وجَبَتْ بذَهابِ نَفْعِهما، كاليَدَيْن إذا أشَلَّهُما، وفى ذَهابِ بَصَرِ (¬2) إحداهما نِصْفُ الدِّيَةِ, كما لو أشَلَّ يدًا واحدةً، وليس في إذْهابِهما بنَفْعِهما أكْثَرُ مِن دِيَةٍ واحدةٍ، كاليدَيْن. وإن جَنَى على رأسِه جِنايةً، ذهبَ بها بَصَرُه، فعليه دِيَتُه؛ لأنَّه ذهبَ بسَبَب جِنايَتِه، وإن لم يذهَبْ بها فداواها، فذهَبَ بالمُداواةِ، فعليه الدِّيَةُ؛ لأَنَّه ذهبَ بسَبَبِ فِعْلِه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من أصيب من أطرافه. . .، من كتاب العقول. المصنف 10/ 12. وابن أبى شيبة، في: باب في العقل، من كتاب الديات. المصنف 9/ 266. والبيهقى، في: باب ذهاب العقل من الجناية، وباب اجتماع الجراحات، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 86، 98. وحسن إسناده في: الإرواء 7/ 322. (¬2) سقط من: الأصل.

4265 - مسألة: وفى الشم الدية؛ لأنه حاسة تختص بمنفعة، فكان فى ذهابها الدية، كسائر الحواس، ولا نعلم فى هذا خلافا. قال القاضى: فى كتاب عمرو بن حزم عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وفى المشام الدية»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4265 - مسألة: وفى الشَّمِّ الدِّيَةُ؛ لأنَّه حاسَّةٌ تخْتَصُّ بِمَنْفعَةٍ، فكان في ذَهابِها الدِّيَةُ، كسائرِ الحَواسِّ، ولا نعلمُ في هذا خِلافًا. قال القاضى: في كتابِ عمرِو بنِ حَزْم عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: «وفى المَشَامِّ الدِّيَةُ» (¬1). فصل: وفى الذَّوْقِ الدِّيَةُ، وكذلك قال أبو الخَطَّابِ؛ لأَنَّ الذُّوْقَ حَاسَّةٌ، فأشْبَهَ الشَّمَّ. وقِياسُ المذهبِ أنَّه لا دِيَةَ فيه، فإنَّه لا يُخْتَلَفُ في أنَّ لسانَ الأخْرَسِ لا دِيَةَ فيه، وقد نَصَّ أحمدُ على أن فيه ثُلُثَ الدِّيَةِ، ولو وَجَبَ في الذَّوْقِ دِيَةٌ، لوجبَتْ في ذَهابِه مع ذَهابِ اللِّسانِ بطَريقِ الأَوْلَى. واخْتَلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ؛ فمنهم مَن قال: قد نَصَّ الشافعىُّ على وُجوبِ الدِّيَةِ فيه. ومنهم مَن قال: لا نَصَّ له فيه. ومنهمِ مَن قال: قد نصَّ على أنَّ في لسانِ الأخْرَسِ حُكومةً وإن ذهبَ الذَّوْقُ بذهابِه. قال شيْخُنا (¬2): والصَّحيحُ، إن شاءَ اللَّهُ، أنَّه لا دِيَةَ فيه؛ لأَنَّ في إجْماعِهِم على أنَّ لِسانَ الأخْرَسِ لا تكْمُلُ الدِّيَةُ فيه، إجْماعًا على أنَّها لا تكْمُلُ في ذَهابِ الذَّوْقِ بمُفْرَدِه؛ لأَنَّ كلَّ عُضْوٍ لا تكْمُلُ الدِّيَةُ فيه بمَنْفَعَتِه، لا تكْمُلُ في مَنْفَعَتِه دُونَه، كسائرِ الأعْضاءِ. ولا تَفرِيعَ على هذا القَوْلِ. ¬

(¬1) لم نجد هذا اللفظ. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 29. (¬2) في: المغنى 12/ 125.

4266 - مسألة: (وكذلك تجب فى الكلام، والعقل، والمشى، والأكل، والنكاح)

وَكَذَلِكَ تَجِبُ في الْكَلَامِ، وَالْعَقْلِ، وَالْمَشْىِ، وَالأَكْلِ، وَالنِّكَاحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4266 - مسألة: (وكذلكْ تَجِبُ في الكَلامِ، والعَقْلِ، والمَشْى، والأكْلِ، والنِّكاحِ) إذا جَنَى عليه فخَرِسَ، وجبَتْ دِيَتُه؛ لأَنَّ [كلَّ ما] (¬1) تعَلَّقَتِ الدِّيَةُ بإتْلافِه، تَعَلقَتْ بإتْلافِ مَنْفَعَتِه، كاليَدِ. 4267 - مسألة: وفى ذَهابِ العَقْلِ الدِّيَةُ. ولا نعلمُ فيه خِلافًا. رُوِى ذلك (¬2) عن عمرَ، وزيدٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وإليه ذهبَ مَن بَلَغَنا قوْلُه مِن الفُقَهاء. وفى كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وفى العَقْلِ الدِّيَةُ» (¬3). ولَأَّنه أكبرُ المعانى قَدْرًا، وأعْظَمُ الحواسِّ نَفْعًا؛ [فإنَّ به] (¬4) يتمَيَّزُ مِن البَهِيمةِ، ويعْرِفُ به حَقائِقَ المعلوماتِ، ويَهْتَدِى إلى مَصالِحِه، ويتَّقِى ما يَضُرُّه، ويدْخُلُ به في التَّكْليفِ، وهو شَرْطٌ في ثُبوتِ الولاياتِ، وصِحَّةِ التَّصَرُّفاتِ، وأداءِ العباداتِ، فكان بإيجابِ الدِّيَةِ أحَقَّ مِن بَقِيَّةِ الحواسِّ. فإن نَقَصَ عَقْلُه نَقْصًا معْلُومًا، وجَبَ بقَدْرِه. فصل: فإن ذهَبَ عَقْلُه بجنايةٍ لا تُوجِبُ أَرْشًا، كاللَّطْمَةِ، والتَّخْوِيفِ، ونحوِ ذلك، ففيه الدِّيَةُ لا غيرُ. وإن أذْهَبَه بجِنايةٍ تُوجِبُ ¬

(¬1) في الأصل: «كما». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) ليس هذا في نسخة عمرو بن حزم. لكن أخرجه البيهقى من حديث معاذ بن جبل في: باب السمع، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 85، 86. وإسناده ضعيف، انظر: تلخيص الحبير 4/ 29، الإرواء 7/ 322، 323. (¬4) في م: «فإنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَرْشًا، كالجِراحِ، أو قَطْعِ عُضْوٍ، وجَبَتِ الدِّيَةُ وأَرْشُ الجُرْحِ. وبهذا قال مالكٍ، والشافعىُّ في الجديدِ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ في القَديمِ: يدْخُلُ (¬1) الأقَلُّ منهما في الأكْثَرِ (¬2)، فإن كانتِ الدِّيَةُ أكثرَ مِن أَرْشِ الجُرْحِ، وجَبَتْ وحدَها، وإن كان أَرْشُ الجُرْحِ أكْثَرَ (¬3)، كأنْ قَطَعَ يدَيْه ورِجْلَيْه، فذهبَ عَقْلُه، وجبَتْ دِيَةُ الجُرْحِ، ودخَلَتْ دِيَةُ العَقْلِ فيه؛ لأَنَّ ذَهابَ (¬4) العَقْلِ تَخْتَلُّ معه مَنافِعُ الأعْضاءِ، فدَخَلَ أَرْشُها فيه، كالموتِ. ولَنا، أنَّ هذه جِناية أذْهبَتْ منْفعَةً مِن غيرِ مَحَلِّها مع بَقاءِ النَّفْسِ، فلم يتَداخَلِ الأَرْشانِ، كما لو أَوضَحَه فذهبَ بَصَرُه أو سَمْعُه، ولأنَّه لو جَنَى على أنْفِه أو أُذُنِه، فذهبَ شَمُّه [أو سَمْعُه] (¬5)، لم يدْخُلْ أَرْشُهما في دِيَةِ الأنْفِ والأذُنِ، مع قُرْبِهما منهما، فههُنا أوْلَى. وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو دخَلَ أَرْشُ الجُرْحِ في ديَةِ العَقْلِ، لم يجبْ أَرْشُه إذا زادَ على دِيَةِ العَقْلِ، كما أنَّ دِيَةَ الأعْضاء كلِّها مع القتلِ لا يجبُ بها (¬6) أكثرُ مِن دِيَةِ النَّفْسِ. ولا يَصِحُّ قولُهم: إنَّ منافعَ الأعْضاءِ تبْطُلُ بذَهابِ العَقْلِ. فإنَّ المَجْنُونَ تُضْمَنُ مَنافِعُه وأعْضاؤُه بعدَ ذَهابِ عَقْلِه بما تُضْمَنُ به مَنافِعُ الصَّحيحِ وأعضاؤُه، ولو ذهبت مَنافعُه ¬

(¬1) في الأصل: «يأخذ». (¬2) في الأصل: «الأكبر». (¬3) في الأصل: «أكبر». (¬4) في الأصل، تش، ر 3، ق، ص: «منافع». (¬5) سقط من: م. (¬6) تكملة من المغنى 12/ 153.

4268 - مسألة: وفى ذهاب المشى الدية؛ لأنها منفعة مقصودة، فوجبت فيها الدية، كالكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأعْضاؤُه، لم تُضْمَنْ، كما لا تُضْمَنُ مَنافِعُ المَيِّتِ وأعْضاؤُه، وإذا جازَ أن تُضْمَنَ بالجِنايةِ عليها بعدَ الجِنايَةِ عليه، جازَ ضَمانُها مع الجِنايةِ عليه، كما لو جَنَى عليه فأذْهَبَ سَمْعَه وبصَرَه بجِرَاحةٍ في غيرِ مَحَلِّهما (¬1). فصل: فإن جَنَى عليه فأذْهَبَ عقْلَه وشمَّه وبصَرَه وكَلامَه، وجَبَ أرْبَعُ دِياتٍ مع أَرْشِ الجُرْحِ. قال أبو قِلَابَةَ (¬2): رَمَى رَجُلٌ رَجُلًا بحَجَرٍ، فذهبَ عقلُه وسمْعُه وبصرُه ولسانُه (¬3)، فقَضَى عليه عمرُ بأرْبَعِ دِياتٍ وهو حَىٌّ. ولأنه أذْهَبَ مَنافِعَ في كلِّ واحدٍ منها (¬4) دِيَةٌ، فوجَبَتْ عليه دِياتُها، كما لو أذْهَبَها بجِناياتٍ. فإن مات مِن الجِنايةِ، لم تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ واحدَةٌ؛ لأن دياتِ المنافعِ كلُّها تدْخُلُ في دِيَةِ النَّفْسِ، كدِيَاتِ الأعْضاءِ. 4268 - مسألة: وفى ذَهابِ المَشْى الدِّيَةُ؛ لأنُّها منْفَعَةٌ مقْصُودَةٌ، فوجَبَتْ فيها الدِّيَةُ، كالكلامِ. فصل: وفى كسرِ الصُّلْبِ الدِّيَةُ إذا لم ينْجَبِرْ؛ لِما رُوِى في كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرِو بنِ حَزْمٍ: «وفى الصُّلْبِ الدِّيَةُ» (¬5). وعن سعيدِ بنِ ¬

(¬1) في الأصل، تش، م: «محلها». (¬2) تقدم التنبيه أنه عن أبى المهلب عم أبى قلابة، وليس عن أبى قلابة. (¬3) في مصادر التخريج: «وذكره». وجاء مكان هذا في صفحة 513: «نكاحه». (¬4) في م: «منهما». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 309.

4269 - مسألة: وفى ذهاب الأكل الدية؛ لأنها منفعة مقصودة، فوجبت فيها الدية، كالشم والنكاح

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ، قال: مضتِ السُّنَّةُ أنّ في الصُّلْبِ الدِّيَةَ (¬1). وهذا ينْصَرِفُ إلى سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وبه قال زيدُ بنُ ثابتٍ، وعَطاءٌ، والحسنُ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ. وقال القاضى، وأصْحابُ الشافعىِّ: ليس في كَسْرِ الصُّلْبِ دِيَة، إلَّا أن يذْهَبَ مَشْيُه (2) أو جِماعُه، فتجبُ الدِّيَةُ لتلك المَنْفَعَةِ؛ لأنَّه عُضْوٌ لم تَذْهَبْ منْفَعَتُه، فلم يجبْ فيه دِيَة كاملةٌ، كسائر الأعْضاءِ. ولَنا، الخَبَرُ، ولأنَّه عُضْوٌ ليس في البَدَنِ مثلُه، فيه جَمالٌ ومنْفَعَةٌ، فوجَبَتْ فيه الدِّيَةُ بمُفْرَدِه، كالأنْفِ. وإن ذهبَ مَشْيُه (¬2) بكسر صُلْبِه، ففِيه الدِّيَةُ في قولِ الجميعِ. ولا يَجِبُ أكثرُ مِن دِيَةٍ؛ لأنَّها منْفَعَةٌ تَلْزَمُ كَسْرَ الصُّلْبِ غالِبًا، فأشبَهَ ما لو قطَعَ رِجْلَيْهِ. 4269 - مسألة: وفى ذَهابِ الأكلِ الدِّيَةُ؛ لأنَّها مَنْفَعَة مَقْصُودَةٌ، فوجَبَتْ فيها الدِّيَةُ، كالشَّمِّ والنِّكاحِ. 4270 - مسألة: فإن كَسَرَ صُلْبَه، فذَهَبَ نِكاحُه، ففيه الدِّيَةُ أيضًا (¬3). رُوِى ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه؛ لأنَّه نَفْعٌ مقْصُودٌ، فأشْبَهَ ذَهابَ المَشْى. وإن ذهبَ جماعُه ومَشْيُه، وجبَتْ دِيَتان في ظاهرِ كلامِ أحمدَ، في رِوايةِ ابْنِه عبدِ اللَّهِ؛ لأنَّهُما منْفعَتانِ تجِبُ الدِّيَةُ بذَهابِ كلِّ واحدةٍ منهما مُنْفَرِدَةً، فإذا اجْتَمَعَتا وجَبتْ دِيَتان، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في كسر الصلب، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 95. وإسناده صحيح. الإرواء 7/ 323. (¬2) في تش: «منيه». (¬3) سقط من: م.

4271 - مسألة: (وتجب فى الحدب، والصعر، وهو أن

وَتَجِبُ في الْحَدَبِ، وَالصَّعَرِ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهُ فَيَصِيرَ الْوَجْهُ في ـــــــــــــــــــــــــــــ كالسَّمْعِ والبَصَرِ. وعن أحمدَ، فيهما دِيَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّهما نَفعُ عُضْوٍ واحدٍ، فلم يجبْ فيهما أكثرُ مِن دِيَةٍ واحدةٍ، كما لو قَطَعَ لسانه فذهبَ كَلامُه وذَوْقُه. وإن جَبَرَ صُلْبُه، فعادتْ إحْدَى المَنْفَعَتَيْن دُونَ الأُخْرَى، لم تجبْ إلَّا دِيَةٌ، إلَّا أن تَنْقُصَ الأُخْرَى، فتجبُ حُكومةٌ لنَقْصِها، أو تَنْقُصَ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، فيكونُ فيه حُكومة لنَقْصِها لذلك. وإنِ ادَّعَى ذَهابَ جِماعِه، فقال رَجُلان مِن أَهْلِ الخِبْرَةِ: إنَّ مثْلَ هذه الجِنايَةِ تُذْهِبُ الجِماعَ. فالقَوْلُ قولُ المَجْنِىِّ عليه مع يَمِينِه؛ لأنَّه لا (¬1) يُتَوَصَّلُ إلى مَعْرِفَةِ ذلك إلَّا مِن جِهَتِه. وإن كَسَرَ صُلْبَه، فشَلَّ ذكَرُه، اقْتَضَى كلامُ أحمدَ وُجوبَ دِيَتَيْن؛ لكَسْرِ الصُّلْبِ [واحدة، وللذَّكر أُخْرَى. وفى قولِ القاضى ومذهبِ الشافعىِّ، يَجِبُ (¬2) في الذَّكَرِ دِيَةٌ، وحكُومةٌ لكَسْرِ الصُّلْبِ] (¬3). وإن أذْهَبَ ماءَه دُونَ جِماعِه. احْتَمَلَ وجُوبُ الدِّيَةِ. ويُرْوَى هذا عن مُجاهدٍ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: هو الذى يَقْتَضِيه مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه ذَهَبَ بمنْفَعَةٍ مقْصُودةٍ، فوجَبَتِ الدِّيَةُ، كما لو ذهَبَ بجماعِه أو كما لو قَطَعَ أنْثَيَيْه أو رَضَّهُما. واحْتَمَلَ أن لا تجبَ الدِّيَةُ كاملةً؛ لأَنَّه لم يَذْهبْ بالمنْفَعةِ كلِّها. 4271 - مسألة: (وتَجِبُ في الحَدَبِ، والصَّعَرِ، وهو أن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: تش، م. (¬3) سقط من: الأصل.

4272 - مسألة: وفى الصعر الدية، وهو أن يضربه فيصير الوجه إلى جانب. وأصل الصعر داء يأخذ البعير [فى عنقه]

جَانِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضْرِبَه فيَصيرَ الوَجْهُ في جانبٍ) تجبُ الدِّيَةُ في الحَدَبِ؛ لأَنَّ في كتابِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرِو بنَ حَزْمٍ: «وَفِي الصُّلب الدِّيَةُ» (¬1). ولأنَّه أبْطَلَ عليه منْفَعَةً مقْصُودةً وجَمالًا، أشْبَهَ ما لو أذْهَبَ مَشْيَه. 4272 - مسألة: وفى الصَّعَرِ الدِّيَةَ، وهو أن يَضْرِبَهُ فيَصِيرَ الوَجْهُ إلى جانِبٍ. وأصْلُ الصَّعَرِ داءٌ يأخذُ البَعِيرَ [في عُنُقِه] (¬2)، فيَلْتَوِى منه عُنُقُه، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} (¬3). أى: لا تُعْرِضْ عنهم بوَجْهِكَ تَكَبرًا، كإمالةِ وَجْهِ البعيرِ الذى به الصَّعَرُ. فمَن جَنَى على إنْسانٍ جِنايةً، فعوَّجَ عُنُقَه، حتى صارَ وَجْهُه في جانبٍ، فعليه دِيَةٌ كاملةٌ. رُوِى ذلك عن زيدِ بنِ ثابتٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقال الشافعىُّ: ليس فيه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 301. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة لقمان 18.

4273 - مسألة: (وفى تسويد الوجه إذا لم يزل)

وَفِي تَسْوِيدِ الْوَجْهِ إِذَا لَمْ يَزلْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا حُكومةٌ؛ لأنَّه إذْهابُ جَمالٍ مِن غيرِ منْفَعَةٍ. ولَنا، ما روَى مَكْحُولٌ عن زَيدِ بنِ ثابتٍ أنَّه قال: وفى الصَّعَرِ الدِّيَةُ (¬1). ولم يُعْرَفْ له في الصَّحابةِ مُخالِفٌ، فكان إجْماعًا. ولأنَّه أذْهبَ الجَمالَ والمَنْفَعَةَ، فوجَبَتْ فيه دِيَةٌ، كسائرِ المَنافِعِ. وقولُهم: لم يُذْهِبْ منْفَعَةً. لا يَصِحُّ؛ فإنَّه لا يقْدِرُ على النَّظَرِ أمامَه، واتِّقاءِ ما يحْذَرُه إذا مَشَى، وإذا نابَه أمْرٌ، أو دَهَمَه عَدُوٌّ, لم يُمْكِنْه العِلْمُ (¬2) به، ولا اتِّقاؤُه، ولا يُمْكِنُه لَىُّ عُنُقِه ليَعْرِفَ (¬3) ما يُرِيدُ نَظَرَه، ويَعْرِفَ (¬4) ما يَضُرُّه ممَّا ينْفَعُه. فصل: فإن جَنَى عليه، فصارَ الالتِفاتُ أو ابْتِلاعُ الماءِ عليه شاقًّا، ففيه حُكومةٌ؛ لأنَّه لم يَذْهَبْ بالمَنْفَعَةِ كلِّها, ولا يُمْكِنُ تَقْدِيرُها. وإن صار بحيثُ لا يُمْكِنُه ازْدِرادُ رِيقِه، فهذا لا يَكادُ يَبْقَى، وإن بَقِىَ مع ذلك، ففيه الدِّيَةُ؛ لأنه تَفْويتُ مَنْفَعَةٍ ليس لها مِثْلٌ في البَدَنِ. 4273 - مسألة: (وفى تَسْوِيدِ الوَجْهِ إذا لم يَزُلِ) الدِّيَةُ. وقال ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصعر، من كتاب العقول. المصنف 9/ 359. وابن أبى شيبة، في: باب إذا أصابه صعر ما فيه، من كتاب الديات. المصنف 9/ 171. (¬2) في الأصل: «العمل». (¬3) في م: «ليتعرف». (¬4) في م: «يتعرف».

4274 - مسألة: (وإذا لم يستمسك الغائط أو البول، ففى كل واحد من ذلك دية كاملة)

وَإِذَا لَمْ يَسْتَمْسِكِ الْغَائِطُ أوِ الْبَوْلُ، فَفِى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافِعِىُّ: فيه حُكومةٌ؛ لأنَّه لا مُقَدَّرَ فيه، ولا هو نَظِيرٌ لمُقَدَّرٍ. ولَنا، أنّه فَوَّتَ الجَمالَ على الكَمالِ، فضَمِنَه بدِيته، كما لو قَطَعَ أُذُنَىِ الأصَمِّ، أو أنْفَ الأخْشَمِ. وقولُه: ليس بنَظيرٍ لمُقَدَّرٍ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّه [نَظِيرٌ لقَطْعِ] (¬1) الأُذُنَيْن في ذَهابِ الجَمالِ، بل هو أعْظَمُ في ذلك، فيكون بإيجابِ الدِّيةِ أوْلَى. فإن زالَ السوادُ رَدَّ ما أخَذَه لسَوادِه (¬2)؛ لزَوالِ سَبَبِ الضَّمانِ. فأمَّا إنْ صَفَّرَ وَجْهَه أو حَمَّرَه، ففِيه حُكومة؛ لأنَّه لم يَذْهَبْ بالجمالِ على الكَمالِ. 4274 - مسألة: (وإذا لم يَسْتَمْسِك الغائِطُ أو البَوْلُ، ففى كلِّ واحدٍ مِن ذلك دِيَة كامِلَةٌ) وجُمْلَةُ ذلك، أنّه إذا ضَرَبَ بَطْنَه فلم يَسْتَمْسِكِ الغائِطُ، أو المَثانَةَ فلم يَسْتَمْسِكِ البَوْلُ [وجَبَ فيه] (¬3) الدِّيَةُ. وبهذا قال ابنُ جُرَيْجٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو حَنِيفَةَ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، إلَّا أنَّ ابنَ أبى مُوْسى ذَكَر ¬

(¬1) في الأصل: «يقطع». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في المثانَةِ رِوايةً أُخْرَى أنَّ فيها ثُلُثَ الدِّيَةِ؛ لأنَّها باطِنَةٌ، فهى كإفضاءِ المَرْأةِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ مِن هذين المَحَلَّين عُضْوٌ فيه مَنْفَعةٌ كَبِيرةٌ، ليس في البَدَنِ مِثْلُه، فوَجَبَ في (¬1) تَفْوِيتِ مَنْفَعتِه دِيَةٌ كامِلَةٌ، كسائرِ الأعضاءِ المَذْكُورَةِ، فإنّ نَفْعَ المثَانَةِ حَبْسُ البَوْلِ، وحَبْسُ البَطْنِ الغائِطَ مَنْفَعَةٌ مِثْلُها، والنَّفْعُ بهما كثِيرٌ، والضَّرَرُ بفَواتِهما عَظِيمٌ، فكان في كلِّ واحدٍ منهما الدِّيَةُ، كالسَّمْعِ والبَصَرِ. وإن فاتتِ المَنْفَعتان بجِنايَةٍ واحدةٍ، وَجَب على الجانِى دِيَتان، كما لو ذَهَب سَمْعُه وبَصَرُه بجِنايَةٍ واحدةٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «فيه».

4275 - مسألة: (وفى نقص شئ من ذلك إن علم بقدره، مثل نقص العقل، بأن يجن يوما ويفيق يوما، أو ذهاب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الأذنين)

وَفِي نَقْصِ شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِنْ عُلِمَ، بِقَدْرِهِ، مِثْلَ نَقْصِ الْعَقْلِ، بِأَنْ يُجَنَّ يَوْمًا وَيُفِيقَ يَوْمًا، أَوْ ذَهَابَ بَصَرِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، أَوْ سَمْعِ إِحْدَى الأُذُنَيْنِ. وَفِي بَعْضِ الْكَلَامِ بِالْحِسَابِ، يُقْسَمُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4275 - مسألة: (وفى نَقْصِ شَىْءٍ مِن ذلك إن عُلِمَ بقَدْرِه، مِثْلَ نَقْصِ العَقْلِ، بِأنْ يُجَنَّ يَوْمًا ويُفِيقَ يَوْمًا، أَوْ ذَهاب بَصَرِ إحْدَى العَيْنَيْن، أَوْ سَمْعِ إحْدَى الأُذُنَيْن) لأَنَّ ما وجَبَت فيه الدِّيَةُ، وجبَ بعْضُها في بعْضِه، كالأصابعِ واليدَيْن. فصل: وإن نَقَصَ الذَّوْقُ نَقْصًا يَتَقَدَّرُ بأَن لا يُدْرِكَ أحَدَ المَذاقِ الخَمْسِ، وهى الحلاوةُ، والحُموضةُ، والمرارَةُ، والمُلوحةُ، والعُذوبة، فإذا لم يُدْرِكْ أحَدَها، وأدْرَكَ الباقِىَ، ففيه خُمْسُ الدِّيَةِ، وفى اثْنَيْن خُمْساها، وفى ثلاثٍ ثلاثةُ أخْماسِها. وإن لم يُدْرِكْ واحدةً، فعليه الدِّيَةُ إذا قُلْنا: تجبُ الدِّيَةُ في ذَهابِ الذَّوْقِ. وإلَّا ففيه حُكومةٌ. 4276 - مسألة: (وفى بَعْضِ الكَلامِ بِالحِسابِ، يُقْسَمُ على ثَمانِيَةٍ وعِشْرِين حَرْفًا) يُعْتَبَرُ ذلك بحُرُوفِ المُعْجَمِ، وهى ثمانيةٌ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ علَى الْحُرُوفِ الَّتِى لِلِّسَانِ فِيهَا عَمَلٌ دُونَ الشَّفَوِيَّةِ؛ كَالْبَاءِ، وَالْفَاءِ، والْمِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وِعشرون حرفًا سِوَى «لا»، فإنَّ مخرجَها مَخْرَجُ اللامِ والألفِ، فمهما نقَصَ مِن الحُرُوفِ، نَقَصَ مِن الدِّيَةِ بقَدْرِه؛ لأَنَّ الكلامَ يُتِمُّ بجَمِيعِها، فالذاهبُ يجبُ أن يكونَ عِوَضُه مِن الدِّيَةِ كقَدْرِه مِن الكلامِ، ففى الحَرْفِ الواحدِ رُبْعُ سُبْعِ الدِّيَةِ، وفى الحرْفَيْنِ نِصْفُ سُبْعِها، وفى الأرْبَعَةِ سُبْعُها, ولا فَرْقَ بينَ ما خَفَّ على اللِّسانِ مِن الحرُوفِ أو ثَقُلَ؛ لأن كل ما وجَبَ فيه المُقَدَّرُ لم يخْتلِفْ لاخْتِلافِ قَدْرِه؛ كالأصابعِ. (ويَحْتَمِلُ أن تُقْسَمَ الدِّيَةُ على الحرُوفِ التى لِلِّسانِ فيها عَمَل دُونَ الشَّفَوِيَّةِ؛ وهى الباءُ، والميمُ، والفاءُ) والواوُ. ودُونَ حُروفِ الحَلْقِ السِّتَّةِ؛ [وهى] (¬1) الهَمْزَةُ، والهاءُ، والحاءُ، والخاءُ، والعَيْنُ، والغَيْنُ. فهذه عشَرةٌ، بقِى ثمانيةَ عشَرَ حَرْفًا للِّسانِ، تُقْسَمُ دِيَتُه عليها؛ لأَنَّ الدِّيَةَ تجبُ بقَطْعِ اللِّسانِ، وذَهابِ هذه الحروفِ وحْدَها مع بقائِه، فإذا وجَبَتِ الدِّيَةُ فيها بمُفْرَدِها، وجَبَ في بَعْضِها بقِسْطِه منها، ففى الواحدِ نِصْفُ تُسْعِ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّيَةِ، وفى الاثْنَيْن تُسْعُها، وفى الثلاثةِ سُدْسُها. وهذا قولُ بعضِ (¬1) أصْحابِ الشافعىِّ. وإن جَنَى على شَفَتِه (¬2)، فذَهَبَ بعضُ الحروفِ، وجَبَ فيه بقَدْرِه، وكذلك إن ذهبَ بعضُ حروف الحَلْقِ بجنايته. وينْبَغِى أن يجبَ بقَدْرِه مِن ثَمانيةٍ وعشرين، وجْهًا واحدًا. وإن ذهبَ حرف فعَجزَ عن كَلمةٍ، لم يجبْ فيه (¬3) غيرُ أَرْشِ الحرفِ؛ لأَنَّ الضَّمانَ إنَّما يجبُ لِمَا تَلِفَ. وإن ذهبَ حرفٌ (¬4)، فأبدَلَ مكانَه حرفًا آخرَ، كأن كان يقولُ: دِرْهَمٌ. فصار يقول: دِلْهم. أو دِعْهم (¬5). أو دِيْهَم. فعليه ضَمانُ الحرفِ الذَّاهبِ؛ لأَنَّ ما تَبَدَّلَ لا يقومُ مَقامَ الذَّاهبِ في القراءةِ ولا غيرِها. فإن جَنَى عليه فذهبَ البدلُ، وجَبَتْ دِيَتُه أيضًا؛ لأنَّه أصْلٌ. وإن جَنَى عليه جانٍ، فأذْهَبَ بعضَ الحروفِ، وجَنَى عليه آخَرُ، فأذْهبَ بقِيَّةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «نفسه». (¬3) زيادة من: تش. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في النسخ بالعين المهملة، وفى المغنى 12/ 126 بالغين المعجمة.

4277 - مسألة: (وإن لم يعلم قدره، مثل أن صار مدهوشا)

وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ، مِثْلَ أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ نَقَصَ سَمْعُهُ، أَوْ بَصَرُهُ، أو شَمُّهُ، أو حَصَلَ في كَلَامِهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ عَجَلَةٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلامِ، فعلى كلِّ واحدٍ منهما بقِسْطِه، كما لو ذهبَ الأَوَّلُ ببَصرِ إحْدَى العَيْنَيْن، وذهبَ الآخرُ ببَصرِ الأُخْرَى. وإن كان ألْثَغَ مِن غيرِ جنايةٍ عليه، فذهبَ إنْسانٌ بكلامِه كلِّه، فإن كان مَأْيُوسًا مِن ذَهابِ لُثْغَتِه، ففيه بقِسْطِ ما ذهبَ مِن الحروفِ، وإن كان غيرَ مَأْيُوس مِن زَوالِها، كالصَّبِىِّ، ففيه الدِّيَةُ الكاملةُ؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ زَوالُها. وكذلك الكبيرُ إذا أمْكَنَ إزالَةُ لُثْغَتِه بالتَّعْليمَ. 4277 - مسألة: (وإن لم يُعْلَمْ قَدْرُه، مِثْلَ أن صار مَدْهُوشًا) يَفْزَعُ مِمَّا لا يُفْزَعُ منه (¬1)، ويَسْتَوْحِشُ إذا خلا، فهذا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُه، فيجبُ فيه ما تُخْرِجُه الحُكومةُ؛ لأنَّه لا تَقْدِيرَ فيه. 4278 - مسألة: (فإن نَقَصَ سَمْعُه، أو بَصَرُه، أو شَمُّه، أو حَصَلَ في كلامِه تَمْتَمَةٌ أو عَجَلةٌ) أو فَأْفَأَةٌ، ففيه حُكومةٌ لِما حَصَلَ مِن النَّقْصِ والشَّيْنِ، ولم تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لأَنَّ المَنْفَعَةَ باقيةٌ. فإن جَنَى عليه جانٍ آخَرُ، فأذْهَبَ كلامَه، ففيه الدِّيَةُ كاملةً، كما لوِ جَنَى على عَيْنِه جانٍ فعَمِشَتْ، ثم جَنَى عليه آخَرُ فأذْهَبَ بَصَرَها. فإن نقَصَ ذَوْقُه نَقْصًا غَيْرَ مُقَدرٍ، بأن يُحِسَّ المَذاقَ كلَّه إلَّا أنَّه لا يُدْرِكُه على الكمالِ، ففيه حُكومةٌ، كما لو نَقَصَ بَصَرُه أو سَمْعُه نَقْصًا لا يَتَقَدَّرُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

4279 - مسألة: (وإن نقص مشيه أو انحنى قليلا، أو تقلصت شفته بعض التقلص، أو تحركت سنه، أو ذهب اللبن من ثدى المرأة، ونحو ذلك، ففيه حكومة)

أَوْ نَقَصَ مَشْيُهُ، أَوِ انْحَنَى قَلِيلًا، أَوْ تَقَلَّصَتْ شَفَتُهُ بَعْضَ التَّقَلُّصِ، أَوْ تَحَرَّكَتْ سِنُّهُ، أَوْ ذَهَبَ اللَّبَنُ مِنْ ثَدْىِ المَرأةِ، ونَحْوُ ذَلِكَ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4279 - مسألة: (وإن نَقَص مَشْيُه أو انْحَنَى قليلًا، أو تَقَلَّصَتْ شَفَتُه بعضَ التَّقَلُّصِ، أو تَحَركَتْ سِنُّه، أو ذَهَبَ اللبنُ مِن ثَدْىِ المرْأةِ، ونحوُ ذلك، ففيه حُكومةٌ) لِمَا ذكرْنا.

4280 - مسألة: (وإن قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام، اعتبر أكثرهما؛ فلو ذهب ربع اللسان ونصف الكلام، أو ربع الكلام ونصف اللسان، وجب نصف الدية)

وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ فَذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ، اعْتُبرَ أكْثَرُهُمَا؛ فَلَوْ ذَهَبَ رُبْعُ اللِّسَانِ وَنِصْفُ الْكَلَامِ، أَوْ رُبْعُ الْكَلَامِ وَنِصْفُ اللِّسَانِ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4280 - مسألة: (وإن قَطَع بَعْضَ اللِّسانِ فَذَهَبَ بَعْضُ الكلامِ، اعْتُبِرَ أكْثَرُهما؛ فلو ذَهَب رُبْعُ اللِّسانِ ونِصْفُ الكَلامِ، أو رُبْعُ الْكَلامِ ونِصْفُ اللِّسانِ، وجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ) إذا قَطَع بعض لِسانِه، فذهبَ بعض كلامِه، فإنِ اسْتَوَيا، مثلَ أن يَقْطَعَ رُبْعَ لِسانِه، فيَذْهَبَ رُبْعُ كلامِه، وجبَ رُبْعُ الدِّيَةِ بقَدْرِ الذَّاهبِ منهما، كما لو قَلَع (¬1) إحْدَى عيْنَيْه فذهَبَ بَصرُها. وإن ذهبَ مِن أحَدِهما أكثرُ مِن الآخَرِ، كأن قَطَعَ رُبْعَ لِسانِه فذهبَ نِصْفُ كلامِه، أو قَطَع نِصْف لِسانِه فذهبَ رُبْعُ كلامِه، وجبَ بقَدْرِ الأكْثَرِ، وهو نِصْفُ الدِّيَةِ في الحالَيْن؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ مِن اللِّسانِ والكلامِ مَضْمُونٌ بالدِّيةِ مُنْفَرِدًا، فإذا انْفَرَدَ نِصْفُه بالذَّهابِ، وجَبَ النِّصْفُ، ألَا تَرَى أنه لو ذهبَ نِصْفُ الكلام ولم يذهبْ مِن اللِّسانِ شئٌ، وجبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، ولو ذهبَ نِصْفُ اللِّسانِ ولم يذهبْ مِن الكلامِ ¬

(¬1) في م: «قطع».

4281 - مسألة: (وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام، ثم قطع الآخر بقيته)

فَإِنْ قَطَعَ رُبْعَ اللِّسَانِ فَذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ بَقِيَّتَهُ، فَعَلَى الأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى الثَّانِى نِصْفُهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَحُكومَةٌ لِرُبْعِ اللِّسَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شئٌ، وجبَ نِصْفُ الدِّيَةِ. 4281 - مسألة: (وإن قَطَع رُبْعَ اللِّسانِ فذَهَبَ نِصْفُ الكَلامِ، ثمُّ قَطَع الآخَرُ بَقِيَّتَه) فَذَهَبَ بَقِيَّةُ الكَلامِ (فَعَلَى الأوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وعلى الثَّانِى نِصْفُها. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ، وحُكُومَةٌ لِرُبْعِ اللِّسانِ) في هذه المسألةِ ثَلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، على الثانى نِصْف الدِّيَةِ. وهذا قولُ القاضى. وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ السُّالمَ نِصْفُ اللِّسانِ، وباقِيَه أشَلُّ، بدليلِ ذَهاب نِصْفِ الكلامِ. والثانى (¬1)، عليه نِصْفُ الدِّيَةِ، وحُكومةٌ للرُّبْعِ الأشَلِّ؛ لأنَّه لو كان جَمِيعُه أشَلَّ، لَكانت فيه حُكومةٌ أو ثُلُثُ الدِّيَةِ، فإذا كان بعْضُه أشَلَّ، ففى ذلك البعضِ ¬

(¬1) في حاشية ق: «لم يحك القاضى في المجرد سوى الوجه الثانى خاصة، وهو وجوب نصف الدية، وحكومة للربع. واللَّه أعلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكُومةٌ أيضًا. والثالثُ، عليه ثَلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ. وهذا الوَجْهُ الثانى لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه قَطَع ثلاثةَ أرْباعِ لِسانِه فذهبَ نِصْفُ كلامِه، فوجَبَ عليه ثلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ، كما لو قَطَعَه أوَّلًا. ولا يَصِحُّ القولُ بأنَّ بعْضَه أشَلُّ؛ لأنَّ العُضْوَ متى كان فيه بعْضُ النَّفْعِ، لم يَكُنْ بعْضُه أشَلَّ، كالعَيْنِ إذا كان بَصَرُها ضَعِيفًا، واليَدِ إذا كان بَطْشُها ضَعِيفًا. فصل: وإِن قَطَع نِصْفَ لِسانِه، فذهبَ رُبْعُ كلامِه، فعليه نِصْف دِيَتِه، وإن قَطَع الآخَرُ بقِيَّتَه (¬1)، فعليه ثلاثةُ أرْبَاعِ الدِّيَةِ. وهذا أحَدُ الوَجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ. والآخَرُ، عليه نِصْفُ الدِّيَةِ (¬2)؛ لأنَّه لم يقْطَعْ إلَّا نِصْفَ لِسانِه. ولَنا، أنَّه ذهبَ بثلاثةِ أرْباعِ الكلامِ، فلَزِمَتْه ثلاثةُ أرْباعِ دِيَتِه، كما لو ذهبَ ثلاثةُ أرْباعِ الكلامِ بقَطْعِ نِصْفِ اللِّسانِ في الأَوَّلِ، ولأنَّه لو ذهبَ ثلاثةُ أرْباعِ الكلامِ مع بَقاءِ اللِّسانِ لَزِمَتْه ثلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ، فَلأَنْ يجبَ بقَطْعِ نِصْفِ اللِّسانِ أوْلَى. ولو لمْ يَقْطَعِ الثانى نصفَ اللِّسانِ، لكنْ جَنَى عليه جنايةً أذهَبَ بَقِيَّةَ كلامِه مع بَقاءِ لِسانِه، لَكانَ عليه ثلاثةُ أرْباعِ دِيَتِه؛ لأنَّه ذهبَ بثلاثةِ أرْباعِ ما فيه الدِّيَةُ، فكان عليه ¬

(¬1) في الأصل: «نفسه». (¬2) في حاشية ق: «القول بوجوب نصف الدية في المجرد للقاضى، ولم يحك غيره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ، كما لو جَنَى على صَحيحٍ فذهبَ ثلاثةُ أرْباعِ كلامِه، مع بَقاءِ لِسانِه. فصل: إذا قَطَعَ بعضَ لِسانِه عَمْدًا، فاقْتَصَّ المَجْنِىُّ عليه مِن مِثْلِ ما جَنَى عليه، فذهبَ مِنِ كلامَ الجانِى مثلُ ما ذهبَ مِن كلامَ المَجْنِىِّ عليه أو أكثرُ، فقد اسْتَوْفى حَقَّه، ولا شئَ في الزَّائدِ؛ لأنَّه (¬1) مِن سِرايةِ القَوَدِ، وهى غيرُ مَضْمُونةٍ، وإن ذهبَ أقَلُّ [مِن جنايته] (¬2)، فللمُقْتَصِّ ديَةُ ما بَقِىَ؛ لأنَّه لم يَسْتَوْفِ بَدَلَه. فصل: إذا كان لِلسانِه طَرَفان، فقَطَع أحَدَهما، فذهبَ كلامُه، ففيه الدِّيَةُ؛ لأَنَّ ذَهابَ الكلامِ بمُفْرَدِه يُوجِبُ الدِّيَةَ. وإن ذهبَ بعضُ الكلامِ، نَظَرْتَ، فإن كان الطَّرَفان مُتَساوِيَيْن، وكان ما قَطَعَه بقَدْرِ ما ذهبَ من الكلام، وجبَ، وإن كان أحَدُهما أكبرَ (¬3)، وجَبَ الأكْثَرُ (¬4)، على ما مضَى، وإن لم يَذْهَبْ مِن الكلامِ شئٌ، وجبَ بِقَدْرِ ما ذهبَ مِن اللِّسانِ مِن الدِّيَةِ. وإن كان أحَدُهما مُنْحَرِفًا عن سَمْتِ اللِّسانِ، فهو خِلْقَةٌ زائدةٌ، وفيه حُكومةٌ. وإن قَطَع جميعَ اللِّسانِ، وجبَتِ الدِّيَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) زيادة من: تش. (¬3) في م: «أكثر». (¬4) في الأصل: «أكبر».

4282 - مسألة: (وإن قطع لسانه، فذهب نطقه وذوقه، لم يجب إلا دية، وإن ذهبا مع بقاء اللسان، وجبت ديتان)

وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ نُطْقُهُ وَذَوْقُهُ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا دِيَةٌ، وَإِنْ ذَهَبَا مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ، فَفِيهِ دِيَتانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ زِيادةٍ، سواءٌ كان الطَّرَفانِ مُتَساوِيَيْن أو مُخْتَلِفَيْن. وقال القاضى: إن كانا مُتَساوِيَيْن، ففيهما الدِّيَةُ، وإن كان أحَدُهما مُنْحَرِفًا عن سَمْتِ اللِّسانِ، وجَبَتِ الدِّيَةُ، وحُكومةٌ في الخِلْقَةِ الزَّائدةِ. ولَنا، أنَّ هذه الزِّيادةَ عَيْبٌ ونَقْصٌ يُرَدُّ بها المَبِيعُ، وتَنْقُصُ مِن ثَمَنِه، فلم يجبْ فيها (¬1) شئٌ، كالسِّلْعَةِ في اليَدِ. وربَّما عادَ القوْلان إلى شئٍ واحدٍ؛ لأَنَّ الحُكومةَ لا يَخْرُجُ بها شئٌ إذا كانتِ الزِّيَادةُ عَيْبًا. 4282 - مسألة: (وإن قَطَع لِسانَه، فذَهَبَ نُطْقُه وذَوْقُه، لم يَجِبْ إلَّا ديَةٌ، وإن ذَهَبا مع بَقاءِ اللِّسانِ، وجَبَتْ ديَتان) إذا جَنَى على لسانٍ ناطِقٍ، فأذْهبَ كلامَه وذَوْقَه، ففيه دِيَتانِ. وَإن قَطَع لِسانَه فذهبَا معًا، لم يجبْ إلَّا دِيَة واحدةٌ؛ لأنَّهما يذْهَبانِ تَبَعًا لذَهابِه، فوجَبَتْ دِيَتُه دُونَ دِيَتِهما (¬2)، كما لو قَتَلَ إنْسانًا، لم يجبْ إلَّا دِيَةٌ واحدةٌ. ولو ذهَبَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنافِعُه مع بَقائِه، ففى كلِّ مَنْفَعَةٍ دِيَةٌ. فصل: فإن جَنَى على لِسانِه، فذهبَ كلامُه أو ذَوْقُه، ثم عادَ، لم تجبِ الدِّيَةُ؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنَّه لمِ يَذْهَبْ، ولو ذهبَ لم يَعُدْ، وإن كان قد قَبَضَ الدِّيَةَ ردَّها. وإن قَطَع لِسانه، فعادَ، لم تجبِ الدِّيَةُ، وإن كان قد أخَذَها رَدَّها. قاله أبو بكرٍ. وظاهرُ مذهبِ الشافعىِّ، أنَّه لا يَرُدُّ؛ لأَنَّ العادةَ لم تَجْرِ بعَوْدِه، واخْتِصاصُ هذا بعَوْدِه يدُلُّ على أنَّها هِبَةٌ مُجَدَّدَةٌ (¬1). ولَنا، أنَّه عاد ما وجبَتْ فيه الدِّيَةُ، فوجبَ رَدُّ الدِّيَةِ، كالأسْنانِ وسائرِ ما يَعُودُ. وإن قَطَع إنْسانٌ نِصْفَ لِسانِه، فذهبَ كلامُه كلُّه، ثم قَطَعَ آخَرُ (¬2) بقِيَّتَه فعادَ كلامُه، لم يجبْ رَدُّ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ الكلامَ الذى كان باللِّسانِ قد ذهبَ، ولم يَعُدْ إلى اللِّسانِ، وإنَّما عادَ في مَحَلٍّ آخَرَ، بخِلافِ التى قبلَها. وإن قَطَع لِسانَه فذهبَ كلامُه، ثم عادَ اللِّسانُ دُونَ الكلامِ، لم يَرُدَّ الدِّيَةَ؛ لأنَّه قد ذهبَ ما تجبُ الدِّيَةُ فيه بانْفِرادِه. وإن عادَ كلامُه دُونَ لِسانِه، لم يَرُدَّها أيضًا؛ لذلك. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «مجردة». (¬2) سقط من: الأصل.

4283 - مسألة: (وإن كسر صلبه فذهب مشيه ونكاحه، ففيه ديتان)

وَإِنْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَذَهَبَ مَشْيُهُ وَنِكَاحُهُ، فَفِيهِ دِيَتَانِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنِ اخْتَلَفَا في نَقْصِ بَصَرِهِ، أَوْ سَمْعِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمجَنِىِّ عَلَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4283 - مسألة: (وإن كَسَرَ صُلْبَه فذَهَبَ مَشْيُه ونِكاحُه، ففيه دِيَتان) لأجْلِ ذَهابِ المَشْى والجِماعِ. وعن أحمدَ، فيهما دِيَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّهما نَفْعُ عُضْو واحدٍ، فلم يجبْ فيهما أكثرُ مِن دِيَةٍ واحدةٍ، كما لو قَطَع لِسانَه فذهبَ نُطْقُه وذَوْقُه. 4284 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في نَقْصِ سَمْعِه وبَصَرِه، فالقَوْلُ قَوْلُ المَجْنِىِّ عليه) مع يَمِينِه؛ لأَنَّ ذلك لا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِه، فيُحَلِّفُه الحاكمُ، ويُوجِبُ حُكومةً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ ادَّعَى أنَّ إحْدَى عيْنَيْه نَقَصَ ضَوْؤُها، عُصِبَتِ المريضَةُ، وأُطْلِقَتِ الصَّحِيحَةُ، ونُصِبَ له شَخْصٌ وتَباعَدَ عنه، فكُلَّما قال: قد رأيْتُه. ووصَفَ لَوْنَه، عُلِمَ صِدْقُه، حتى يَنْتَهِىَ، فإذا انْتَهَتْ رُؤْيَتُه، عُلِّمَ مَوْضِعُها، ثم تُشَدُّ الصَّحِيحةُ، وتُطْلَقُ المريضَةُ، ويُنْصَبُ له شَخْصٌ، ثم يذْهَبُ حتى تَنْتَهِىَ رُؤْيَتُه، ثم يُدارُ الشَّخْصُ إلى جانبٍ آخَرَ، فَيُصْنَعُ به مِثْلُ ذلك، ثم يُعَلَّمُ عندَ المَسافَتَيْنِ، وتُذْرَعان، ويُقابَلُ بينَهما، فإن كانتا سَواءً، فقد صَدَقَ، ويُنْظَرُ كم بينَ مَسافةِ رُؤْيَةِ العَلِيلَةِ والصَّحِيحَةِ، ويُحْكَمُ له مِن الدِّيَةِ بقَدْرِ ما بينَهما، وإنِ اخْتَلَفَتِ المسافَتانِ، فقد كذَبَ، وعُلِمَ أنَّه قَصَّرَ مسافةَ رُؤْيةِ (¬1) المريضةِ ليُكَثِّرَ الواجبَ له، فيُرَدَّدُ حتى تَسْتَوِىَ المسافةُ بينَ الجانِبَيْن. والأَصْلُ في هذا، ما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أحْسَنُ ما قِيلَ في ذلك، ما قاله علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أَمَرَ بعَيْنِه فعُصِبَتْ، وأعْطىَ رَجُلًا بَيْضَةً، فانْطَلَقَ بها وهو ينْظُرُ، حتى انْتَهى بَصَرُه، ثم أمَر فخطَّ عندَ ذلك، ثم أمَر بعَيْنِه الأُخْرَى فعُصِبَتْ، وفُتِحَتِ الصَّحيحةُ، وأعْطى رَجُلًا بَيْضَةً، فانْطَلَقَ بها، [وهو ينْظُرُ] (¬3) حتى انْتَهَى بَصَرُه، ثم خَطَّ عندَ ذلك، ثم حَوَّلَ إلى مكانٍ آخَرَ، ففعلَ مثلَ ذلك، فوجدُوه سواءً، فأعْطاه بقَدْرِ ما نَقَصَ مِن بَصَرِه مِن مالِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: الإشراف 3/ 102. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخَرِ (¬1). قال القاضى: وإذا زَعَمَ أهْلُ الطِّبِّ أنَّ بصَرَه يَقِلُّ إذا بَعُدَتِ المسافَةُ، ويَكْثُرُ إذا قَرُبَتْ، وأمْكَنَ هذا في المُذارَعَةِ، عُمل عليه. وبَيانُه أنَّهم إذا قالوا: إنَّ الرَّجُلَ إذا كان يُبْصِرُ إلى مائةِ ذراع. ثم أرادَ أن يُبْصِرَ إلى مِائَتَىْ ذِراعٍ، احْتاجَ للمائةِ الثَّانيةِ إلى ضِعْفَىْ ما يحْتاجُ إليه للمائةِ الأُولَى مِن البَصَرِ (¬2). فعلى هذا، إذا أْبصَرَ بالصَّحيحةِ إلى مائتيْن، وأبْصرَ بالعَلِيلةِ إلى مائةٍ، علِمْنا أنَّه قد نَقَصَ ثُلُثا [بَصَرِ عَيْنِه] (¬3)، فيَجبُ له ثُلُثا دِيَتِها. قال شيْخُنا (¬4): وهذا لا يَكادُ ينْضَبِطُ في الغالبِ، وكلُّ ما لا ينْضَبِطُ فيه حُكومةٌ. وإن جَنَى على عَيْنَيْه، فنَدَرَتا (¬5)، أو احْوَلَّتا، أو عَمِشَتا، ففى ذلك حُكومةٌ، كما لو ضربَ يَدَه فاعْوَجَّتْ. والجنايةُ على الصَّبِىِّ والمَجْنونِ كالجِنايةِ على البالغِ والعاقلِ، لكنْ يفْتَرِقان في أنَّ البالغَ العاقلَ خصْمٌ لنفْسِه، والخَصْمُ للصَّبِىِّ والمَجْنُونِ وَلِيُّهما، فإذا توَجَّهَتِ اليَمِينُ عليهما لم يَحْلِفا, ولم يَحْلِفِ الوَلِىُّ عنهما، فإن بَلَغَ الصَّبِىُّ وأفاقَ المجنونُ، حَلَفا حينَئذٍ. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا الفصلِ كلِّه كمذْهَبِنا. فصل: فإنِ ادَّعَى المَجْنِىُّ عليه نَقْصًا في سَمْعِ إحْدَى أذُنَيْه، سَدَدْنا ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل يضرب عينه فيذهب بعض بصره، من كتاب الديات. المصنف 9/ 171، 172. والبيهقى، في: باب ما جاء في نقص البصر، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 87. (¬2) في الأصل: «النظر». (¬3) في الأصل: «بصره». (¬4) في المغنى 12/ 109. (¬5) أى: سقطتا.

4285 - مسألة: (وإن اختلفا فى ذهاب بصره، أرى أهل الخبرة)

وَإِذَا اخْتَلَفَا في ذَهَابِ بَصَرِهِ، أُرِى أَهْلَ الْخِبْرَةِ، وَقُرِّبَ الشَّىْءُ إِلَى عَيْنهِ في وَقْتِ غَفْلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَلِيلةَ، وأطْلَقْنا الصَّحيحةَ، وأقَمْنا مَن (¬1) يُحَدِّثُه وهو يَتَباعَدُ إلى حَيْثُ (¬2) يقولُ: إنِّى لا أسمعُ. فإذا قال ذلك، غَيَّرَ عليه, الصَّوْتَ والكلامَ، فإن بانَ أنَّه يسْمَعُ، وإلَّا فقد كَذَبَ، فإذا انْتَهَى إلى آخِرِ سَماعِه (¬3)، قَدَّرَ المَسافَةَ، وسَدَّ الصَّحيحةَ، وأُطْلِقَتِ المَريضَةُ، وحَدَّثَه وهو يتَباعَدُ، حتى يقولَ: إنِّى لا أسْمَعُ. فإذا قال ذلك، غَيَّرَ عليه, الكلامَ، فإن تغَيَّرَتْ صِفتُه، لم يُقْبَلْ قولُه، وإن لم تَتَغَيَّرْ صِفَتُه، حَلَفَ، وقُبِلَ قولُه، وتُمسَحُ المسافتان، ويُنْظَرُ ما تَنْقُصُ العليلةُ، فيجبُ بقَدْرِه. فإن قال: إنِّى أسْمَعُ العالِىَ، ولا أسْمَعُ الخَفِىَّ. فهذا لا يُمْكِنُ تَقْديرُه، فيَجِبُ فيه حُكومةٌ. فصل: فإن قال أهْلُ الخِبْرَةِ: إنَّه يُرْجَى عَوْدُ سَمْعِه إلى مُدَّةٍ. انْتُظِرَ إليها، وإن لم يَكُنْ لذلك غايةٌ، لم يُنْتظَرْ. 4285 - مسألة: (وَإِنِ اخْتَلَفا في ذَهابِ بَصَرِه، أُرِىَ أهْلَ الخِبْرَةِ) فيُرْجَعُ في ذلك إلى قوْلِ مسلمَيْن عَدْلَيْن منهم (¬4)؛ لأَنَّ لهما (¬5) طَرِيقًا إلى مَعْرِفَةِ ذلك، لمُشاهَدَتِهما العَيْنَ التى هى مَحَلُّ البَصَرِ، بخِلافِ ¬

(¬1) بعده في م: «يصيح». (¬2) في م: «جنب». (¬3) في الأصل: «ساعة». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل، تش: «لنا».

4286 - مسألة: (وإن اختلفا فى ذهاب سمعه)

وإنِ اخْتَلَفَا في ذَهَابِ سَمْعِهِ، أَوْ شَمِّهِ, ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّمْعِ. فإن لم يُوجَدْ أهْلُ الخِبْرَةِ، أو تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ ذلك، اعْتُبِرَ بأن يُوقَفَ في عَيْنِ الشَّمْسِ، ويُقَرَّبَ الشئُ إلى عَيْنِه في أوْقاتِ غَفْلَتِه، فإنْ طَرَفَ عَيْنَه، وخافَ مِن الذى يُخَوَّفُ به، فهو كاذِبٌ، وإلَّا حُكِمَ له. وإذا عُلِمَ ذَهابُ بصَرِه، وقال أهْلُ الخِبْرَةِ: لا يُرْجَى عَوْدُه. وَجَبَتِ الدِّيَة. وإن قالوا: يُرْجَى عَوْدُه إلى مُدَّةٍ. عَيَّنُوها، انْتُظِرَ إليها، ولم يُعْطَ الدِّيَةَ حتى تَنْقَضِىَ المُدَّةُ، فإن لم يَعُدِ اسْتَقَرَّتْ على الجانِى الدِّيَة. فإن مات المَجْنِىُّ عليه قَبْلَ العَوْدِ، اسْتَقَرَّتِ الدِّيَةُ، سواءٌ مات في المُدَّةِ أو بَعْدَها. فإن جاءَ أجْنَبِىٌّ، فقَلَعَ (¬1) عَيْنَه في المُدَّةِ، اسْتَقَرَّتْ على الأوَّل الدِّيَةُ أو القِصاصُ؛ لأنَّه أذْهَبَ البَصَرَ فلم يَعُدْ، وعلى الثانى حُكومةٌ؛ لأَنَّه أذْهَبَ عَيْنًا لا ضَوْءَ لها، يُرْجَى عَوْدُ ضَوْئِها. وإن قال الأَوَّلُ: عادَ ضَوْؤُها. وأنْكَرَ الثانى، فالقولُ قولُ المُنْكِرِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ معه، وإن صَدَّقَ المَجْنِىُّ عليه الأوَّلَ، سَقَطَ حَقُّه عنه، ولم يُقْبَلْ قولُه على الثانى. فأمَّا إن قال أهْلُ الخِبْرَةِ: يُرْجَى عَوْدُه، لكن لا يُعْرَفُ له مُدَّةٌ. وجَبَتِ الدِّيَةُ أو القِصاصُ؛ لأَنَّ انْتِظارَ ذلك إلى غيرِ غَايةٍ يُفْضِى إلى إسْقاطِ مُوجَبِ الجِنايةِ، والظَّاهرُ في البَصَرِ عَدَمُ العَوْدِ، والأَصْلُ يُؤيِّدُه، فإن عادَ قبْلَ اسْتِيفاء الواجبِ، سقطَ، وإن عادَ بعدَ الاسْتِيفاءِ، وجَبَ رَدُّ ما أخذَ منه؛ لأنَّنَا تبَينا أنَّه لم يَكُنْ واجبًا. 4286 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في ذَهابِ سَمْعِه) فإنَّه يُتَغَفَّلُ ¬

(¬1) في الأصل: «فقطع».

4287 - مسألة: وإن ادعى ذهاب شمه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُصاحُ به ويُنتظَرُ اضْطِرَابُه، ويُتأمَّلُ عِنْدَ صَوْتِ الرَّعْدِ والأصْواتِ المُزْعِجَةِ، فإن ظَهَرَ منه انْزِعاجٌ، أو الْتِفاتٌ، أو ما يَدُلُّ على السَّمْعِ، فالقَوْلُ قَوْلُ الجانِى مع يَمِينِه؛ لأَنَّ ظُهورَ الأماراتِ يدُلُّ على أنَّه سَمِيعٌ (¬1)، فغلَبَتْ جَنبةُ المُدَّعِى، وحَلَفَ؛ لجَوازِ أن يكونَ ما ظهرَ منه اتِّفاقًا، وإن لم يوجدْ شئٌ مِن ذلك، فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه مع يَمينه؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ السَّمْعِ، وحَلَفَ؛ لجَوازِ أن يكونَ احْتَرَزَ وتصَبَّرَ. وإِنِ ادَّعى ذلك في إحداهما، سُدَّتِ الأُخْرَى، وتُغُفِّلَ (¬2) على ما ذكَرْنا. 4287 - مسألة: وإنِ ادَّعَى ذَهابَ شَمِّه، جَرَّبْناه بِالرَّوائِحِ الطَّيِّبةِ والمُنْتِنَةِ، فإن هَشَّ لِلطَّيبِ، وتَنَكَّرَ للمُنْتِنِ، فالقَوْلُ قَوْلُ الجانِى مع يَمِينِه، وإن لم يبنْ منه ذلك، فالقَوْلُ قَوْلُ المَجْنِىٍّ عليه، كقَوْلِنا في اخْتِلافِهم في السَّمْعِ والبَصَرِ. وإنِ ادعَىِ المَجْنِىُّ عليه نقْصَ شَمِّه، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأنَّه لا يُتَوَصَّلُ إلى معْرِفةِ ذلك إلَّا مِن جِهَتِه، فقُبِلَ قولُه فيه، كما يُقْبَلُ قولُ المرأةِ في انْقِضاءِ عِدَّتِها بالأقْراءِ، ويجبُ له مِن الدِّيَةِ ما تُخْرِجُه الحُكومةُ. وإن ذهبَ شَمُّه ثم عادَ قَبْلَ أخْذِ الدِّيَةِ، سقَطَتْ، وإن كان بعدَ أخْذِها، رَدَّها؛ لاننا تبَينا أنَّه لم يَكُنْ ذهبَ. وإن رُجِىَ عَوْدُ شَمِّه إلى مُدَّةٍ، انْتُظِرَ إليها. وإن ذهبَ شَمُّه مِن أحَدِ مَنْخَرَيْه، ففيه نِصْفُ ¬

(¬1) في الأصل: «سمع». (¬2) في الأصل: «يفعل».

فصل

أَوْ ذَوْقِهِ، صِيحَ بِهِ في أَوْقَاتِ غَفْلَتِهِ، وَتُتُبِّعَ بِالرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ، وَأُطْعِمَ الْأَشْيَاءَ الْمُرَّةَ، فَإِنْ فَزِعَ فَمَّا يَدْنُو مِنْ بَصَرِهِ، أَوِ انْزَعَجَ لِلصَّوْتِ، أَوْ عَبَسَ لِلرَّائِحَةِ، أَوِ الطَّعْمِ الْمُرِّ، سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ دِيَةُ الْجُرْحِ حَتَّى يَنْدَمِلَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّيَةِ، كما لو ذهبَ بصَرُه مِن إحْدَى عيْنَيْه. 4288 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفا في ذَهابِ ذَوْقِه، أُطْعِمَ الأشْياءَ المُرَّةَ) فإن عَبَس للطَّعْمِ المُرِّ (سَقَطَتْ دَعْواه) لظُهورِ ما يَدُلُّ على خِلافِ ما ادَّعاه (وإلَّا فالقولُ قولُه مع يَمِينِه) لأنَّه لا يُعْلَمُ إلَّا مِن جِهَتِه، فقُبِلَ قولُه فيه، كالمسْألَةِ التى قَبْلَها. فصل: (ولا تجبُ دِيَةُ الجُرْحِ حتى يَنْدَمِلَ) لأنَّه لا يُدْرَى أقَتْلٌ هو أم ليس بقَتْلٍ، فيَنْبَغِى أن يُنْتَظَرَ ليُعْلَمَ (¬1) حُكْمُه, وما الواجبُ فيه، ولهذا لا يجوزُ الاسْتِيفاءُ في العَمْدِ قبلَ الانْدِمالِ، فكذلك لا يجوزُ أخْذُ الدِّيَةِ قبلَه، فنقولُ: أحَدُ (¬2) مُوجَبَى الجِنايةِ. فلا يجوزُ قبلَ الانْدِمالِ كالآخَرِ (¬3). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أخذ». (¬3) في الأصل: «الأخذ».

4289 - مسألة: (ولا)

وَلَا دِيَةُ سِنٍّ، وَلَا ظُفْرِ، وَلَا مَنْفَعَةٍ، حَتَّى يُيْأَسَ مِنْ عَوْدِهَا. وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ كَبِيرٍ أَوْ ظُفْرَهُ ثُمَّ نَبَتَ، أَوْ رَدَّهُ فَالْتَحَمَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4289 - مسألة: (ولا) تَجبُ (دِيَةُ سِنٍّ، ولا ظُفْرٍ، ولا مَنْفَعَةٍ، حتى يُيْأَسَ مِن عَوْدِها) لأَنَّ ذلك مما يَعُودُ، فلا يجبُ شئٌ مع احْتِمالِ العَوْدِ، كالشَّعَرِ، وإنَّما يُعْرَفُ ذلك بقَوْلِ عدْلَيْن مِن أَهْلِ الخِبْرَةِ: إنَّها لا تَعُودُ أبدًا. 4290 - مسألة: (فلو قَلَع سِنَّ كَبِير أو ظُفْرًا ثُمَّ نَبَتَ، أو رَدَّه فالْتَحَمَ) لم تَجِبِ الدِّيَةُ. نَصَّ أحمدُ في السِّنِّ على ذلك، في رِوايةِ جعفرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ محمدٍ. وهو قولُ أبى بكرٍ. والظُّفْرُ في مَعْناها. وقال القاضى: تَجبُ دِيَتُها. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وقد ذكَرْنا تَوْجيهَهما فيما إذا قَطَعَ أَنْفَه فرَدَّه فالْتَحَمَ. فعِلى قولِ أبى بكرٍ، تجبُ عليه حكَومةٌ لنَقْصِها إن نَقَصَتْ، وضَعْفِها إن ضَعُفَتْ. وإن قَلَعَها قالعٌ بعدَ ذلك، وجَبَتْ دِيَتُها؛ لأنَّها سِنٌّ (¬1) ذاتُ جَمالٍ ومَنْفَعَةٍ، فوَجَبَت دِيَتُها، كما لو لم تَنْقَلِعْ. وعلى قولِ القاضى، ينْبنِى حُكْمُها على وُجوبِ قَلْعِها، فإن قُلْنا: يجبُ. فلا شئَ على قالِعِها (¬2)؛ لأنَّه قد أحْسَنَ بقَلْعِ ما يجبُ قَلْعُه. وإن قُلْنا: لا يجبُ قَلْعُها. احْتَمَلَ أن تُؤْخَذَ دِيَتُها؛ لِمَا ذكَرْنا، واحْتَمَلَ أن لا تُؤْخَذَ دِيَتُها؛ لأنَّه قد وجَبَتْ له دِيَتُها مَرَّةً، فلا تجبُ ثانيةً، ولكنْ فيها حُكومةٌ. فأمَّا إن جَعَلَ مكانَها سِنًّا أُخْرَى، أو سِنَّ حَيوانٍ، أو عَظْمًا، فثَبَتَ (¬3)، وجبَتْ دِيَتُها، وَجْهًا واحدًا؛ لأَنَّ سِنَّه ذهبتْ بالكُلِّيَّةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فاعلها». (¬3) في م: «فثبتت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوجَبَتْ دِيَتُها، كما لو لم يجْعَلْ مكانَها شيئًا. وإن قُلِعَتْ هذه الثَّانيةُ، لم تجِبْ دِيَتُها؛ لأنَّها ليستْ سِنًّا له، ولا هى مِن بَدَنِه، ولكنْ يجبُ فيها حُكومةٌ؛ لأنَّها جِناية أزالتْ جَمالَه ومَنْفَعَتَه، فأشْبَهَ ما لو خاطَ جُرْحَه بخَيْطٍ، فالتَحَمَ، فقَلَعَه إنْسانٌ، فانْفَتَحَ الجُرْحُ، وزال التِحامُه. ويَحْتَمِلُ أن لا يجبَ شئٌ؛ لأنَّه أزالَ ما ليس مِن بَدَنِه، فأَشْبَهَ ما لو قَلَعَ أنْفَ الذَّهَبِ الذى جعلَه المَجْدُوعُ مكانَ أنْفِه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ هذا كان قد الْتَحَمَ، بخِلافِ أنْفِ الذَّهَبِ، فإنَّه يُمْكِن إعادَتُه كما كان, وهذا إذا أعادَه قد لا

4291 - مسألة: (وإن ذهب سمعه، أو بصره، أو شمه، أو ذوقه، أو عقله، ثم عاد، سقطت ديته)

أَوْ ذَهَبَ سَمْعُهُ، أَوْ بَصَرُهُ، أَوْ شَمُّهُ، أَوْ ذَوْقُهُ، أَوْ عَقْلُهُ، ثُمَّ عَادَ، سَقَطَتْ دِيَتُهُ, وَإِنْ كَانَ قَدْ أخَذَهَا رَدَّهَا، وَإِنْ عَادَ نَاقِصًا، أَوْ عَادَتِ السِّنُّ أَوِ الظُّفْرُ قَصِيرًا أَوْ مُتَغَيِّرًا، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْتَحِمُ. 4291 - مسألة: (وإن ذَهَبَ سَمْعُه، أو بَصَرُه، أو شَمُّه، أو ذَوْقُه، أو عَقْلُه، ثم عاد، سَقَطَتْ دِيَتُه) لزَوالِ سَبَبِها (وإن كان قد أخَذَها رَدَّها) لأنَّا تبَيَّنَّا أنَّه أخَذَها بغيرِ حَقٍّ. 4292 - مسألة: (وإن عاد ناقِصًا، أو عادَتِ السِّنُّ أو الظُّفْرُ قَصِيرًا

4293 - مسألة: (وعنه فى الظفر إذا نبت على صفته، خمسة دنانير، وإن نبت أسود)

وَعَنْهُ في قَطْعِ الظُّفْرِ إِذَا نَبَتَ عَلَى صِفَتِهِ، خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ نَبَتَ أَسْوَدَ، فَفِيهِ عَشَرَةٌ. وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ وَيُئسَ مِنْ عَوْدِهَا، وَجَبَتْ دِيَتُهَا. وَقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ أو مُتَغَيِّرًا، فعليه أَرْشُ نَقْصِه) [لأنَّه نَقْصٌ] (¬1) حصلَ بجِنايَتِه، أشْبَهَ ما لو نَقَصَه مع بقَائِه. 4293 - مسألة: (وعنه في الظُّفْرِ إذا نَبَتَ على صِفَتِه، خَمْسَةُ دَنانِيرَ، وإن نَبَتَ أَسْوَدَ) مُتَغَيِّرًا (عَشَرَةٌ) والتَّقْدِيراتُ بابُها التَّوْقِيفُ، ولا نَعلمُ فيه تَوْقِيفًا، والقِياسُ أنَّه لا شئَ فيه إذا عاد على صِفَتِه. وإن نَبَتَ مُتَغَيِّرًا ففيه حُكومةٌ. 4294 - مسألة: (وإن قَلَعَ سِنَّ صَغيرٍ ويئسَ مِنْ عَوْدِها، وَجَبتْ دِيَتُها) لأنَّه أذْهَبَها بجِنايَته إذْهابًا مُسْتَمِرًّا، فوجَبَت دِيَتُها، كسِنِّ الكبيرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4295 - مسألة: (وإن مات المجنى عليه وادعى الجانى عود ما أذهبه، فأنكر الولى، فالقول قوله)

الْقَاضِى: فِيهَا حُكُومَةٌ. وَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِىُّ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْجَانِى عَوْدَ مَا أذْهَبَهُ، فَأنْكَرَ الْوَلِىُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِىِّ. وَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ اثْنَانِ وَاخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِىِّ عَلَيْهِ في قَدْرِ مَا أَتْلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقال القاضى: فيها حُكومةٌ) لأَنَّ العادةَ عوْدُها، فلم تَكْمُلْ دِيَتُها كالشَّعَرِ. والصَّحيحُ الأوَّل؛ لأَنَّ الشَّعَرَ لو لم يَعُدْ، وجَبَتْ دِيَتُه، مع أنَّ العادةَ عَوْدُه. 4295 - مسألة: (وإن مات المَجْنِىُّ عليه وادَّعَى الجانِى عَوْدَ ما أذْهَبَه، فأنْكَرَ الوَلِى، فالقَوْلُ قَوْلُه) وإن الأَصْلَ عَدَمُ العَوْدِ (وإن جَنَى على سِنِّه اثْنان واخْتَلَفا، فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه في قَدْرِ ما أتْلَفَ كل واحدٍ منهما) لأَنَّ ذلك لا يُعْرَفُ إلَّا مِن جِهَتِه، فأشْبَهَ ما لو ادَّعَى نَقْصَ سَمْعِه أو بَصَرِه.

فصل

فَصْلٌ: وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعُورِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ؛ وَهِىَ، شَعَرُ الرَّأْسِ، واللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وفى كلِّ واحدٍ مِن الشُّعُورِ الأرْبعةِ الدِّيَةُ؛ وهى شَعَرُ الرَّأْسِ، واللِّحْيَةِ، والحاجِبَيْن، وأهْدابُ العَيْنَيْن) وبهذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ (¬1). وممَّن أوْجَبَ في الحاجِبَيْن الدِّيَةَ؛ سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وشُرَيْحٌ، والحسنُ، وقَتادةُ. ورُوِىَ عن علىٍّ، وزيدِ ابنِ ثابتٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهما قالا: في الشَّعَرِ الدِّيَةُ. وقال مالكٍ، والشافعىُّ: فيه حُكومةٌ. واخْتارَه ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه إتْلافُ جمالٍ مِن غيرِ مَنْفَعَةٍ، فلم تجِبْ فيه الدِّيَةُ، كاليَدِ الشَّلَّاءِ، والعَيْنِ القائمةِ. ولَنا، أنَّه أذْهبَ الجمالَ على الكَمالِ، فوجبَ فيه دِيَةٌ كاملةٌ، كأُذُنِ ¬

(¬1) في الأصل: «الشافعى».

4296 - مسألة: (وفى كل حاجب نصفها، وفى كل هدب ربعها)

وَفِى كُلِّ حَاجِبٍ نِصْفُهَا، وَفِى كُلِّ هُدْبٍ رُبْعُهَا، وَفِى بَعْضِ ذَلِكَ بِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصَمِّ، وأنْفِ الأخْشَمِ. وقولُهم: لا منْفَعةَ فيه. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ الحاجِبَ يَرُدُّ العَرَقَ عن العَيْنِ ويُفرِّقُه، وهُدْبَ العَيْنِ يَرُدُّ عنها ويَصُونُها، فجَرَى مَجْرَى أجْفانِها. وما ذكَرُوه يَنْتَقِضُ بالأصْلِ الذى قِسْنا عليه، واليَدُ الشَّلَّاءُ ليس جَمالُها كامِلًا. 4296 - مسألة: (وفى كلِّ حاجِبٍ نِصْفُها، وفى كلِّ هُدْبٍ رُبْعُها) وجلةُ ذلك، أنَّ في إحْدَى الحاجِبَيْن نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأنَّ كلَّ شَيْئَيْن فيهما الدِّيَةُ، في أحدِهما نِصْفُها، كاليَديْن. وفى كلِّ هُدْبٍ رُبْعُها؛ لأَنَّ الدِّيَةَ إذا وجَبَتْ في أرْبَعَةِ أشْياءَ، وجَبَ في كلِّ واحدٍ رُبْعُها، كالأجْفانِ. 4297 - مسألة: (وفى بَعْضِ ذلك بقِسْطِه مِن الدِّيَةِ) يُقَدَّرُ بالمِسَاحَةِ، كالأُذُنَيْن ومارِنِ الأنْفِ، ولا فَرْقَ في هذه الشُّعُورِ بينَ كوْنِها كَثِيفَةً أو خَفِيفَةً، جَمِيلَةً (¬1) أو قَبِيحَةً، أو كونِها مِن صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ؛ لأنَّ سائرَ ما فيه الدِّيَةُ مِن الأعْضاءِ لا تَفْتَرِقُ الحالُ فيه بذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4298 - مسألة: (وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه لا يعود)

وَإِنَّما تَجِبُ دِيَتُهُ إِذَا أزَالَهُ عَلَى وَجْه لَا يَعُودُ، فَإِنْ عَادَ، سَقَطَتِ الدِّيَةُ، وَإِنْ أَبقَى مِنْ لِحْيَتِه مَا لَا جَمَالَ فِيهِ، احْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِقِسْطِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4298 - مسألة: (وإنَّما تَجبُ دِيَتُه إذا أزاله على وَجْهٍ لا يَعُودُ) مثلَ أن يقْلِبَ على رأسِه ماءً (¬1) حارًّا، فيَتْلَفَ مَنْبَتُ الشَّعَرِ، فيَنْقَلِعَ (¬2) بالكُلِّيَّةِ بحيثُ لا يعودُ. وإن رُجِىَ عَوْدُه إلى مُدَّةٍ، انْتُظِرَ إليها. 4299 - مسألة: (فإن عاد، سَقَطَتِ الدِّيَةُ) إذا عادَ قبلَ أخْذِ الدِّيَةِ، لم تجبْ، فإن عادَ بعدَ أخْذِها رَدَّها، والحُكمُ فيه كالحُكمِ في ذَهابِ السَّمْعِ والبَصَرِ فيما يُرْجى عَوْدُه وما لا يُرْجَى. 4300 - مسألة: (وإن بَقِىَ مِن لِحْيَته ما لا جَمالَ فيه) أو مِنِ غيرِها (¬3) مِن الشُّعُورِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُؤْخَذُ بالقِسْطِ؛ لأنَّه مَحَلٌّ يجبُ في بعْضِه بحِصَّتِه، فأشْبَهَ الأُذُنَ ومارِنَ الأنْفِ. والثانى، تجبُ الدِّيَةُ كاملةً؛ لأنَّه أذْهبَ المقْصُودَ كلَّه، فأشْبَهَ ما لو أذْهَب ضَوْءَ العَيْنَيْن، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فيقطع». (¬3) في م: «غيره».

4301 - مسألة: (وإن قلع الجفن بهدبه، لم يجب إلا دية الجفن)

وَإِنْ قَلَعَ الْجَفْنَ بِهدْبِهِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا دِيَة الْجَفْنِ، وَإِنْ قَلَعَ اللَّحْيَيْنِ بِمَا عَلَيْهِمَا مِنَ الأسْنَانِ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُمَا وَدِيَة الأَسْنَانِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ جنايتَه ربَّما أحْوجَتْ إلى إذْهابِ الباقى لزِيادَتِه في القُبْحِ على ذَهابِ الكلِّ، فتكون جِنايتُه سَبَبًا لذَهابِ الكلِّ، فأوْجَبَتْ دِيَتَه، كما لو ذَهبَ بسِرايَةِ الفِعْلِ، أو كما لو احْتاجَ في دَواءِ شَجَّةِ الرَّأْسِ إلى ما أذْهبَ ضَوْءَ عَيْنَيْه. فصل: ولا قِصاصَ في شَىْءٍ مِن هذه الشُّعُورِ؛ لأن إتْلافَها إنَّما يكونُ بالجِنايةِ على مَحَلِّها، وهو غيرُ معلومِ المِقْدارِ، ولا تُمْكِنُ المُساواةُ فيه، فلا يجبُ القِصاصُ فيه. 4301 - مسألة: (وإن قَلَعَ الجَفْنَ بِهُدْبِه، لم يَجِبْ إلَّا دِيَةُ الجَفْنِ) لأَنَّ الشَّعَرَ يَزولُ تَبَعًا لِزَوالِ الأجْفانِ، فلم يجبْ فيه شئٌ، كالأصابعِ إذا قُطِعَ الكَفُّ وهى عليه. 4302 - مسألة: (وإن قَلَعَ اللَّحْيَيْن بما عليهما مِن الأسْنانِ، وَجَبَتْ دِيَتُهما ودِيَةُ الأسْنانِ) ولم تَدْخُلْ دِيَةُ الأسْنانِ في اللَّحْيَيْنِ، كما تدْخُلُ دِيَةُ الأصابعِ في اليَدِ؛ لوُجُوهٍ ثلاثةٍ (¬1)؛ أحَدُها، أنَّ الأسْنانَ ليست مُتَّصِلَةً ¬

(¬1) سقط من: م.

4303 - مسألة: (وإن قطع كفا بأصابعه، لم يجب إلا دية الأصابع)

وَإِنْ قَطَعَ كَفًّا بِأَصَابِعِهِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا دِيَةُ الْأَصَابعِ. وَإِنْ قَطَعَ كَفًّا عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصَابعِ، دَخَلَ مَا حَاذَى الْأَصَابعَ في دِيَتِهَا، وَعَلَيْهِ أَرْشُ بَاقِى الْكَفِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باللَّحْيَيْنِ، وإنَّما هى مُغْرَزَة فيها، بخِلافِ الأَصابعِ. الثانى، أنَّ أحَدَهما يَنْفَرِدُ باسْمِه عن الآخرِ، بخِلافِ الأصابعِ مع الكَفِّ، فإنَّ اسمَ اليَدِ يشْمَلُهما. الثالثُ، أن اللَّحْيَيْن يُوجَدان مُنْفَرِدَيْن عن الأسْنانِ، فإنَّهما يُوجَدان قبلَ وُجودِ الأسْنانِ، ويَبْقَيان بعدَ قَلْعِهما، بخِلافِ الكَفِّ مع الأصابعِ. 4303 - مسألة: (وإن قَطَع كَفًّا بأصابِعِه، لم يَجِبْ إلَّا دِيَةُ الأصابعِ) لدُخولِ الجميعِ في مُسَمَّى اليَدِ، وكما لو قَطَع ذَكَرًا بحَشَفَتِه، لم يجبْ إلَّا دِيَةُ الحَشَفَةِ؛ لدُخُولِها في مُسَمى الذَّكَرِ. 4304 - مسألة: (وإن قَطَعَ كَفًّا عليه بَعْضُ الأصابعِ، دَخَلَ مَا حاذَى الأصابعَ في دِيتها، وعليه أَرْشُ باقِى الكَفِّ) لأَنَّ الأصابعَ لو كانت

فصل

وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةً بِظُفْرِهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَتُهَا. فَصْلٌ: وَفِى عَيْنِ الْأَعْوَرِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سالمةً كلّها لدَخَلَ أَرْشُ الكَفِّ كلِّه في دِيَةِ الأصابعِ، فكذلك ما حَاذَى الأصابعَ السالمةَ يدْخُلُ في دِيَتِها، وما حَاذَى المقْطُوعاتِ ليس له ما يدْخُلُ في دِيَتِه، فوجَبَ أَرْشُه، كما لو كانتِ الأصابعُ كلُّها مقْطوعةً. 4305 - مسألة: (وإن قَطَعَ أُنْمُلَةً بِظُفْرِها، فليس عليه إلَّا دِيَتُها) كما لو قطعَ كَفًّا بأصابِعِها، أو قَطَعَ جَفْنًا بهُدْبِه. فصل: (وفى عَيْنِ الأعْورِ دِيَةٌ كاملةٌ. نَصَّ عليه) وبذلك قال الزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، واللَّيْثُ، وقَتادةُ، وإسْحاقُ. وقال مَسْرُوقٌ، وعبدُ اللَّهِ بنُ مُغَفَّل، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ: فيها نِصْفُ الدِّيَةِ، لقوْلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وفى العَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ» (¬1). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وفى العَيْنَيْنَ الدِّيَةُ» (¬2). يقْتَضِى أن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 468. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 309.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يجبَ فيها أكثرُ مِن ذلك، سَواءٌ قَلَعَهُما (¬1) واحِدٌ أو اثْنانِ، في وقتٍ واحدٍ أو في وَقْتَيْن، وقالعُ الثَّانيةِ قالِعُ عَيْنِ أعْوَرَ، فلو وجَبَ عليه دِيَةٌ، لوَجبَ فيهما دِيَةٌ ونِصْفٌ، ولأَنَّ ما يُضْمَنُ بنِصْفِ الدِّيَةِ مع نَظِيرِه، يُضْمَنُ به مع ذَهابِه، كالأُذُنِ. ويَحْتَمِلُ هذا (¬2) كلامُ الخِرَقِىِّ، لقوْلِه: وفى العيْنِ الواحدةِ نِصْفُ الدِّيَةِ. ولم يُفَرِّقْ. ولَنا، أنَّ عمرَ، وعُمانَ، وعَلِيًّا، وابنَ عمرَ، قَضَوْا في عَيْنِ الأعْوَرِ بالدِّيَةِ. ولا نعلمُ لهم في الصَّحابةِ مُخالِفًا، فيكونُ إجْماعًا, ولأَنَّ قَلْعَ عَيْنِ الأعْوَرِ يتَضَمَّنُ إذهابَ البصرِ كلِّه، فوجَبَتِ الدِّيَةُ، كما لو أذْهَبَه من العيْنَيْن. ودليلُ ذلك أنَّه يحْصُلُ بها ما يحْصُلُ بالعينَيْن، فإنَّه يَرَى الأشْياءَ البعيدةَ، ويُدْرِكُ الأشْياءَ اللَّطيفةَ، ويعْمَلُ أعْمالَ البُصَراءِ، ويجوزُ أن يكونَ قاضِيًا، ويُجْزِئُ في الكفَّارَةِ، وفى الأُضْحِيَةِ إذا لم تَكُنِ العينُ مَخْسُوفَةً، فوجبَ في بَصَرِه دِيَة كاملةٌ، كذِى العَيْنَيْن. فإن قِيل: فعلى هذا ينْبَغِى أن لا يجبَ في ذَهابِ إحْدَى العَيْنَيْن نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه لم يَنْقُصْ. قُلْنا: لا (¬3) يَلْزَمُ مِن وُجوبِ شئٍ مِن دِيَةِ العَيْنَيْن نَقْصُ دِيَةِ الباقى، بدليلِ ما لو جَنَى عليهما فاحْوَلَّتا، أو عَمِشَتا، أو نَقَصَ ضَوْؤهما، فإنَّه يجبُ أَرْشُ النَّقْصِ، ولا تَنْقُصُ دِيَتُهما بذلك، ¬

(¬1) في الأصل: «قلعها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «لأنه لا».

4306 - مسألة: (وإن قلع الأعور عين صحيح مماثلة لعينه الصحيحة عمدا، فلا قصاص، وعليه دية كاملة)

وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ مُمَاثِلَةً لِعَيْنهِ الصَّحِيحَةِ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَا قِصَاصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأَنَّ النَّقْصَ الحاصلَ لم يُؤثِّرْ في تَنْقِيصِ أحْكامِه، ولا هو مَضْبُوطٌ في تَفْويتِ النَّفْعِ، فلم يُؤثِّرْ في تَنْقِيصِ الدِّيَةِ. قلتُ: ولولا ما رُوِى عن الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، لكان القولُ الآخَرُ أوْلَى؛ لظاهرِ النَّصِّ، والقِياسِ على ذَهابِ سَمْعِ إحْدَى الأُذُنيْنِ، وما ذُكِرَ مِن المعانى، فهو موٍ جودٌ فيما إذا أذْهَبَ سَمْعَ (¬1) إحْدَى الأُذُنيْن، ولم يُوجِبُوا في الباقيةِ (¬2) دِيَة كاملةً. واللَّهُ أعلمُ. 4306 - مسألة: (وإن قَلَعَ الأعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ مُماثِلَةً لعَيْنِه الصَّحِيحَةِ عَمْدًا، فلا قِصاصَ، وعليه دِيَةٌ كامِلَةٌ) إذا قَلَعَ الأعْوَرُ عينَ صَحِيحٍ، نَظَرْنا؛ فإن قلَعَ العَيْنَ التى لا تُماثِلُ عيْنَه الصَّحيحةَ، أو قلعَ المُماثِلَةَ خَطأً، فليس عليه إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، لا نعلمُ فيه خِلافًا؛ لأَنَّ ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الباقى».

وَيَحْتَمِل أَنْ تقْلَعَ عَيْنُهُ وَيُعْطَى نِصْفَ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الأصْلُ، وإن قلَعَ المُماثِلَةَ لعَيْنِه الصَّحِيحَةِ عَمْدًا، فلا قِصاصَ، وعليه دِيَةٌ كاملةٌ. وبهذا قال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، ومالكٌ في إحْدَى رِوايتَيْه. وقال في الأُخْرَى: عليه نِصْفُ الدِّيَةِ، ولا قِصاصَ. وقال المُخالِفُون في المسألَةِ الأُولَى: له القِصاصُ؛ لقَوْلِه تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (¬1). وإنِ اخْتارَ الدِّيَةَ، فله نِصْفُها؛ للخَبَرِ، ولأنَّه لو قَلَعَها غيرُه لم يجبْ فيها إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، فلم يجبْ فيه إلَّا نِصْفُها، كالعَيْنِ الأُخْرَى. ولَنا، أنَّ عمرَ، وعُثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، قَضَيَا بمثْلِ مذْهَبِنا، ولا نَعْرِفُ لهما مُخالِفًا في الصَّحابةِ، فكان إجْماعًا, ولأنَّنا مَنَعْناه مِن إتْلافِ ضَوْءٍ يُضْمَنُ بدِيَةٍ كاملةٍ، فوجَبَتْ عليه دِيَةٌ كاملةٌ، كما لو قَلَعَ عَيْنَىْ سَليمٍ، ثم عَمِىَ الجانِى (ويَحْتَمِلُ أن تُقْلَعَ عيْنُه، ويُعْطَى نِصْفَ الدِّيَةِ) لأَنَّ ذلك يُرْوَى فيه أثَرٌ (¬2)، وقد رُوِى عن (¬3) علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في الرَّجُلِ إذا قَتَلَ امرأةً، أنَّه (¬4) يُقْتَلُ بها، ويُعْطَى نِصْفَ الدِّيَةِ (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة 45. (¬2) الأثر في ذلك رواه قتادة عن خلاس عن على، وأخرجه عبد الرزاق، في: باب عين الأعور، من كتاب العقول. المصنف 9/ 331. وابن أبى شيبة، في: باب الأعور تفقأ عينه، من كتاب الديات. المصنف 9/ 197. وذكره البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 94. وصحح إسناده في الإرواء 7/ 316. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 97.

4307 - مسألة: (وإن قلع عينى صحيح عمدا، خير بين قلع عينه ولا شئ له غيرها، وبين الدية)

وَإِنْ قَلَعَ عَيْنَىْ صَحِيحٍ عَمْدًا، خُيِّرَ بَيْنَ قَلْعِ عَيْنهِ وَلَا شَىْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وبَيْنَ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4307 - مسألة: (وإن قَلَعَ عَيْنَىْ صَحِيحٍ عَمْدًا، خُيِّرَ بينَ قَلْعِ عَيْنه ولا شَىْءَ له غَيْرُها، وبينَ الدِّيَةِ) إذا قَلَعَ الأعْور عَيْنَىْ صَحِيحٍ عَمْدًا، فإن شاءَ قَلَع عَيْنَه ولا شئَ له؛ لأَنَّ عيْنَه فيها دِيَةٌ كاملةٌ؛ لِما ذكَرْنا مِن قضاءِ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فيها بالدِّيَةِ، ولأنَّه أذْهَبَ بَصَرَه كلَّه، فلم يَكُنْ له أكثرُ مِن إذْهابِ بَصَرِه، وهو مَبْنِىٌّ على قَضاءِ الصَّحابةِ، وأنَّ عَيْنَ الأَعْوَرِ تَقومُ مَقامَ العيْنَيْنِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّ له القِصاصَ ونِصْفَ الدِّيَةِ للعَيْنِ الأُخْرَى، وهو مُقْتَضَى الدليلِ. واللَّهُ أعلمُ [(وبينَ) أخْذِ (الدِّيَةِ)] (¬1) فأمَّا إن قَلَعَهما خَطأً، فليس له إلَّا الدِّيَةُ، كما لو قَلَعَهما صَحِيحُ العيْنَيْن. وذكرَ القاضى فيما إذا قَلَعَهُما عَمْدًا أنَّ قِياسَ المذهبِ وجُوبُ دِيَتَيْن؛ إحداهما في العَيْنِ التى اسْتَحَقَّ بها قَلْعَ عَيْنِ الأَعْوَرِ، والأُخْرَى في الأُخْرَى؛ لأنَّها عَيْنُ أعْوَرَ (¬2). ولَنا، قولُ النبىِّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش، ق، م: «الأعور».

4308 - مسألة: (وفى يد الأقطع نصف الدية، وكذلك فى رجله. وعنه، فيها دية كاملة)

وَفِى يَدِ الأَقْطَعِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ في رِجْلِهِ. وَعَنْهُ، فِيهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى اللَّه عليه وسلم-: «وفى الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» (¬1). ولأنَّه قَلَع عَيْنَيْن، فلم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن الدِّيَةِ، كما لو كان القالِعُ صَحِيحًا, ولأنَّه لم يَزِدْ على تَفْوِيتِ منْفَعةِ الجِنْسِ، فلم يَزِدْ على الدِّيَةِ، كما لو قَطَع أذُنَيْه. وما ذَكَره القاضى لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ وجُوبَ الدِّيَةِ في إحْدَى عيْنَيْهِ لا يجْعَلُ الأُخْرَى عَيْنَ أعْوَرَ، على أنَّ (¬2) وُجوبَ الدِّيَةِ بقَلْعِ إحْدَى العَيْنَيْن، قَضِيَّةٌ مُخالِفةٌ للخَبَرِ والقِياسِ، صِرْنا إليها لإِجْماعِ الصَّحابةِ عليها، ففيما عَدا مَوْضِعَ الإِجْماعِ يجبُ العملُ بهما والبقاءُ عليهما. 4308 - مسألة: (وفى يدِ الأقْطَعِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وكذلك في رِجْلِه. وعنه، فيها دِيَةٌ كامِلَةٌ) وإنِ اخْتارَ القِصاصَ فله ذلك؛ لأنَّه عُضْوٌ أمْكَنَ القِصاصُ في مِثْلِه، فكان الواجبُ فيه القِصاصَ أو دِيَةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 309. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِه، كما لو قَطَعَ أُذُنَ مَن له أُذُنٌ واحدةٌ. وعن أحمدَ روايةٌ أُخْرَى، أنَّ الأُولَى إن كانت قطِعَتْ ظُلْمًا وأخَذَ دِيَتَها، أو قُطِعَتْ قِصاصًا، ففيها نِصْفُ دِيَتِها، وإن قُطِعَتْ في سَبيلِ اللَّهِ، ففى الباقيةِ دِيَةٌ كاملةٌ؛ لأنَّه عَطَّلَ منافِعَه مِن العُضْوَيْن جُمْلَةً، فأشْبَهَ قَلْعَ عَيْنِ الأعْوَرِ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ هذا أحَدُ العُضْويْن اللَّذَيْنِ تحْصُلُ بهما مَنْفَعةُ الجِنْسِ، لا يقُومُ مَقامَ العُضْويْن، فلم يَجِبْ فيه دِيَةٌ كاملةٌ، كسائرِ الأعْضاء، وكما لو كانتِ الأُولَى أُخِذَتْ قِصاصًا، أو في غيرِ سبيلِ اللَّهِ، ولا يَصِحُّ القِياسُ على عيْنِ الأعْوَرِ؛ لثلاثةِ وُجُوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ عَيْنَ الأعْوَرِ حصَلَ بها (¬1) ما يحصُلُ بالعَيْنَيْن، ولم يَخْتَلِفا في الحقيقةِ والأحْكامْ إلَّا اخْتِلافًا يَسِيرًا، بخِلافِ أقْطَعِ اليَدِ والرِّجْلِ. والثانى، أنَّ عَيْنَ الأعْورِ لم يخْتلفِ الحُكْمُ فيها باخْتِلافِ صِفَةِ (¬2) ذَهابِ الأُولَى، وههُنا اخْتلَفَ. الثالثُ، أنَّ هذا التَّقْديرَ والتَّعْيِينَ على هذا الوَجْهِ أمرٌ لا يُصارُ إليه بمُجَرَّدِ الرَّأْى، ولا تَوْقِيفَ فيه فيُصارَ إليه، ولا نَظِيرَ له فيُقاسَ عليه، فالمصيرُ إليه تحَكُّمٌ بغيرِ دليلٍ، فيجبُ اطِّراحُه. فأمَّا إن قُطِعَتْ أُذُنُ مَن قُطِعَتْ أُذُنُه، أو مَنْخَرُ مَنِ قُطِعَ مَنْخَرُه، لم يجبْ فيه أكثرُ مِن نِصْفِ الدِّيَةِ، رِوايةً واحدةً؛ لأَنَّ مَنْفعةَ كلِّ أُذُنٍ لا تتعلَّقُ بالأُخْرَى، بخِلافِ العَيْنَيْن. ¬

(¬1) في م: «فيها». (¬2) سقط من: الأصل.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل اللَّه مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب الشجاج وكسر العظام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الشِّجَاجِ وَكسْرِ الْعِظَامِ الشَّجَّةُ اسْمٌ لِجُرْحِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً؛ وَهِىَ عَشْرٌ؛ خَمْسٌ لَا مُقَدَّرَ فِيهَا؛ أَوَّلُهَا، الْحَارِصَةُ الَّتِى تَحْرِصُ الْجِلْدَ، أَىْ تَشُقُّهُ قَلِيلًا ولا تُدْمِيهِ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ الَّتِى يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ الَّتِى تَبْضِعُ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ الَّتِى أَخَذَتْ في اللَّحْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشِّجاجِ وكَسْرِ العِظامِ (الشَّجَّةُ اسْمٌ لجُرْحِ الرَّأْسِ والوَجْهِ خاصَّةً، وهى عَشْرٌ، خَمسٌ لا مُقَدَّرَ فيها، أوَّلُها الحارِصَةُ) وهى (التى تَحْرِصُ الجِلْدَ، أى تَشُقُّه قَلِيلًا ولا تُدْمِيه، ثم البازِلَةُ) وهى الدّامِيَةُ التى يَخرُجُ منها دَمٌ يَسِيرٌ (ثم

ثُمَّ السِّمْحَاقُ الَّتِى بَيْنَهَا وَبَينَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ. فَهَذِهِ الْخَمْسُ فِيهَا حُكومَةٌ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، في الْبَازِلَةِ بَعِيرٌ، وَفِى ـــــــــــــــــــــــــــــ الباضِعَةُ) وهى التى تَشُقُّ اللَّحْمَ بعدَ الجِلْدِ (ثم المُتَلاحِمَةُ) وهى التى تَنْزِلُ فيها اللَّحْمِ (ثم السِّمْحاقُ التى بينَها وبينَ العَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ. فهذه الخَمْسُ فيها حُكومةٌ في ظاهرِ المَذْهَبِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الشِّجاجَ عَشْرٌ؛ خَمسٌ لا تَوْقِيتَ فيها، أوَّلُها الحارِصَةُ -قالَه الأصْمَعِىُّ- وهى التى تَشُقُّ الجِلْدَ قليلًا. يَعْنِى (¬1) تَقْشِرُ شيئًا يَسِيرًا مِن الجِلْدِ، لا يَظْهَرُ منه دَمٌ، ومنه: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ. إذا شَقَّه قليلًا. وقال بعْضُهم: هى الحَرْصَةُ. ثم البازِلَةُ وهى التى يَنْزِلُ منها الدَّمُ، أى يَسِيلُ. وتُسَمَّى الدَّامِيَة أيضًا، والدَّامِعةَ، لقِلَّةِ سَيَلانِ دَمِها، تَشْبِيهًا له بخرُوجِ الدَّمْعِ من العَيْنِ. ثم الباضِعَةُ وهى التى تَشُقُّ اللَّحْمَ بعدَ الجِلْدِ. ثم المُتَلاحِمَةُ وهى التى أخَذَتْ في اللَّحْمِ، يعنى دَخَلَتْ فيه دُخُولًا كثِيرًا، تَزِيد على الباضِعَةِ ولم تَبْلُغِ السِّمْحاقَ. ثم السِّمْحاقُ وهى التى تَصِلُ إلى قِشرَةٍ رَقِيقَةٍ فوقَ العَظْمِ، تُسَمَّى تلك القِشْرَةُ سِمْحَاقًا، وسُمِّيتِ الجِراحُ الواصِلَةُ إليها بها، ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

الْبَاضِعَةِ بَعِيرَانِ، وَفِى الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَة، وَفِى السِّمْحَاقِ أربَعَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُسَمِّيها أهلُ المدينةِ المِلْطى والمِلْطَاةَ، وهى تأخُذُ اللَّحْمَ كلَّه حتى تَخْلُصَ منه. وهذه الشِّجاجُ الخمسُ لا تَوْقِيتَ فيها في ظاهِرِ المَذْهَبِ. وهو قَوْلُ أَكْثَرِ الفُقَهاءِ. يُرْوَى ذلك عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، ومالِكٍ، والأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. ورُوِىَ عن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى أنَّ (في الدَّامِيَةِ بَعِيرًا، وفى الباضِعَةِ بغِيرَيْنِ، وفى المُتَلاحِمَةِ ثلاثةَ أبعِرَةٍ (¬1)، وفى السِّمْحاقِ أرْبَعَةَ أبعِرَةٍ) لأَنَّ ذلك يُرْوَى عن زَيْدِ بنِ ثابتٍ. ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في السِّمْحاقِ مثلُ ذلك. روَاه سعيدٌ عتهما (¬2). لى عن عمرَ، وعُثمانَ، فيها نِصْفُ أَرْشِ المُوضِحَةِ (¬3). والصَّحِيحُ الأَوَّلُ، فإنَّها جِراحاتٌ لم يَرِدْ فيها تَوْقِيت في الشَّرْع، فكان الواجِبُ فيها حُكومةً، كجِرِاحاتِ البَدَنِ. رُوِى عن مَكْحُولٍ قال: قَضَى النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: في المُوضِحَةِ بخمْسٍ من الإِبلِ، ولم يَقْضِ فيما دُونَها (¬4). ولأنَّه لم يَثْبُتْ فيها مُقَدَّرٌ (¬5) بتَوْقِيفٍ، ولا له (1) قِياسٌ يَصِحُّ، فوجَب ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرجه عهما عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 312، 313. كما أخرجه عن زيد بن ثابت البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 84. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 313. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 83. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الموضحة كم فيها، من كتاب الديات. المصنف 9/ 141، 142. وهو ضعيف. انظر: الإرواء 7/ 324، 325. (¬5) بعده في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّجوعُ إلى الحُكُومَةِ، كالحَارِصَةِ. وذكرَ القاضى أنَّه متى (¬1) أمْكَنَ اعْتِبارُ [هذه الجِراحاتِ مِن المُوضِحَةِ، مثلَ أن يكونَ في رأسِ المَجْنِىِّ عليه مُوضحَة إلى جانِبِها، قُدِّرَتْ] (¬2) هذه الجِراحةُ منها، فإنْ كانتْ بقَدْرِ النِّصْفِ، وجَب نِصْفُ أَرْشِ المُوضِحَةِ، وإنْ كانتْ بقَدْرِ الثُّلُثِ، وجبَ ثُلُثُ الأَرْشِ. وعلى هذا إلَّا أَنْ تَزِيدَ الحُكُومَةُ على قَدْرِ ذلك، فتُوجِبُ (¬3) ما تُخْرِجُه الحُكُومَةُ، فإذا كانتِ الجراحَة قَدْرَ نِصْفِ المُوضِحَةِ، وشَيْنُها يَنْقُصُ قَدْرَ ثُلُثَيْها، فيُوجِبُ ثُلُثَى أَرْشِ المُوضِحَةِ، وإنْ نَقَصتِ الحُكُومَةُ أقَلَّ مِن النِّصْفِ، أوجبَ النِّصْفَ، فيُوجِبُ الأكْثَرَ ممَّا تُخْرِجُه الحُكومةُ أو قَدْرِها من المُوضِحَةِ؛ لأنَّه اجْتَمَعَ سَببانِ (¬4) مُوجِبانِ؛ الشَّيْنُ وقَدْرُها مِن المُوضِحَةِ، فوجَبَ فيها، والدَّلِيلُ على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل، تش: «فوجب». (¬4) في الأصل: «شيئان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إيجابِ (¬1) المِقْدارِ، أنَّ هذا اللَّحْمَ فيه مُقَدَّرٌ، فكان في بَعْضِه بقَدْرِه مِن دِيَتِه، كالمارِن، الحَشَفَة، الشَّفَة، والجَفْنِ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. قالَ شَيْخُنا (¬2): وَهذا لا نَعلَمُه مَذْهَبًا لأحمدَ ولا يقْتَضِيه مَذْهَبُه، ولا يَصِحُّ؛ لأَنَّ هذه جِراحَةٌ تَجِبُ فيها الحُكُومَةُ، فلا يجبُ فيها مُقَدَّرٌ، كجراحاتِ البَدَنِ، ولا يَصِحُّ قِياسُ هذا على ما ذكَرُوه، فإنَّه لا تجبُ فيه الحُكُومةُ، ولا نَعْلَمُ لِما ذَكَرُوه نَظيرًا، وما لم يَكُنْ فيه مِن الجِراحِ تَوْقِيتٌ، ولم يَكُنْ نَظِيرًا لِمَا وُقِّتَتْ دِيَتُه، ففيه حُكُومَةٌ. أمَّا الذى فيه تَوْقِيتٌ، فهو الذى نَصَّ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه, وبَيَّنَ قَدْرَ دِيَتِه، كقَوْلِه: «في الأنْفِ الدِّيَةُ (¬3)، وفى اللِّسَانِ الدِّيَةُ» (¬4). [وقد ذَكَرْناه] (¬5). وأمَّا نَظِيرُه، ¬

(¬1) بعده في م: «هذا». (¬2) في: المغنى 12/ 177. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 25/ 309. (¬5) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: وَخَمْسٌ فِيهَا مُقَدَّرٌ؛ أَوَّلُهَا، الْمُوضِحَةُ الَّتِى تُوضِحُ الْعَظْمَ، أَىْ تُبْرِزُهُ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أبْعِرَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو ما كان في مَعْناه، ومَقِيسًا عليه، كالأَلْيَتَيْنِ (¬1)، والثَّدْيَيْنِ، والحاجِبَيْنِ، وقد ذكَرْناه أيْضًا (2)، فما لم يَكُنْ مِن المُوَقَّتِ، ولا ممَّا يُمْكِنُ قِياسُه عليه (¬2)، كالشِّجاجِ التى دُونَ المُوضِحَةِ، وجِراحِ البَدَنِ سِوَى الجائِفَةِ، وقَطْعِ الأعْضاءِ، وكَسْرِ العِظامِ، فليس فيه إلَّا الحُكُومَةُ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: (وخَمْسٌ فيها مُقَدَّرٌ، أوَّلُها، المُوضِحَةُ) وهى (التى تُوضِحُ العَظْمَ، أى تُبْرِزُه) والوَضَحُ البَيَاضُ، يَعْنِى أنَّها أبدَتْ وَضَحَ العَظْمِ، أىْ بَياضَه. وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ أرشَها مُقَدَّرٌ. قالَه ابنُ المُنْذِرِ (¬3). وفى كتابِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وَفِى المُوضِحَةِ خَمْسٌ مِن الإِبِلِ» (¬4). ورَوَى ¬

(¬1) في الأصل: «كالأنثيين». (¬2) سقط من: م. (¬3) انظر: الإشراف 3/ 96، والإجماع 72. (¬4) تقدم تخريجه في 25/ 309. وهذا اللفظ عند الدارمى في 2/ 195.

وَعَنْهُ، في مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشَرَةٌ. وَالأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرُو بنُ شُعَيْبٍ عن أبِيه عن جَدِّه، عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «في المَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ». رواه أبو داودَ، والنَّسَائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وإنَّما يجِبُ ذلك في مُوضِحَةِ الحُرِّ، فأمَّا مُوضِحَةُ العَبْدِ فقد ذكَرْنا الخِلافَ فيها. ومُوضِحَةُ المَرْأةِ كمُوضِحَةِ الرَّجُلِ، فيما يَجِبُ فيها عندَ أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأن المرأةَ تُساوِى (¬2) جِراحُها جِراحَ الرَّجُلِ إلى ثُلُثِ الدِّيَةِ. وعندَ الشَّافعىِّ أنَّ مُوضِحَةَ المرأةِ إنَّما يَجِبُ فيها نِصْفُ ما وجَبَ في مُوضِحَةِ الرَّجلِ، بِناءً على مذْهَبِه في أنَّ جِراحَ المَرْأةِ على النِّصْفِ مِن جِراحِ الرَّجُلِ في القَلِيلِ والكَثِيرِ. والحديثُ الذى ذكرْناه حُجَّةٌ عليه، وفيه كِفايَة. وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّ المُوضِحَةَ في الرَّأْسِ والوَجْهِ سَواءٌ. وهو ظاهِرُ المَذْهَبِ. رُوِى ذلك عن أبى بكْرٍ، وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال شُرَيْحٌ، ومَكْحُولٌ، [والشَّعْبِىُّ] (¬3)، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، ورَبِيعَةُ، وأبو حَنِيفةَ، والشَّافعىُّ، وإسْحاقُ. (وعن أحمدَ أنَّ في مُوضِحَةِ الوَجْهِ عَشَرَةَ أبعِرَةٍ) رُوِى ذلك عن سعيدِ بنِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. والترمذى، في: باب ما جاء في الموضحة، من أبواب الديات. عارضة الأحوذى 6/ 164. والنسائى، في: باب المواضح، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 51. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الموضحة، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 886. والدارمى، في: باب في الموضحة، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 194. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 189، 207, 215. (¬2) في الأصل: «يتساوى». (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ؛ لأَنَّ شَيْنَها أكْثَرُ، ومُوضِحَةُ الرَّأْسِ يسْتُرُها الشَّعَرُ والعِمامَةُ. وقال مالكٌ: إذا كانت في أنْفٍ أو في اللَّحْىِ الأسْفَلِ، ففيها حُكومةٌ؛ لأنَّها تَبْعُدُ عن الدِّماغِ، فأَشْبَهَتْ مُوضِحَةَ (¬1) سائرِ البَدَنِ. ولَنا، عُمُومُ الأحاديثِ، وقولُ أبى بكرٍ وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: المُوضِحَةُ في الرَّأْسِ والوَجْهِ سَوَاءٌ (¬2). ولأنَّها مُوضِحَةٌ، فكانَ أرْشُها خَمْسًا من الإِبلِ، كغَيرِها ممَّا سَلَّمُوه، ولا عِبْرَةَ بكَثْرَةِ الشَّيْنِ، بدليلِ التَّسْوِيَةِ بينَ الكَبيرَةِ والصَّغِيرَةِ. [وما ذَكَرَه مالِكٌ] (¬3) لا يَصِحُّ، فإنَّ المُوضِحَةَ في الصَّدْرِ أكثرُ ضَرَرًا، وأقْرَبُ إلى القَلْبِ، ولا مُقَدَّرَ فيها, ولأَنَّ ما قالَه مُخالِفٌ لظاهِرِ النَّصِّ. وقد رُوِى عن أحمدَ أنَّه قال: مُوضِحَةُ الوَجْهِ أحْرَى أَنْ يُزادَ في دِيَتها. وليس مَعْنَى هذا أنَّه يَجبُ فيها أكْثَرُ، إنَّما مَعْناه، واللَّهُ أعلمُ، أنَّها أوْلَى بإِيجابِ الدِّيَةِ، فإنَّها إذا وجَبَتْ في مُوضحَةِ الرَّأْسِ، مع قِلَّةِ شَيْنها واسْتِتَارِها بالشَّعَرِ وغِطاءِ الرَّأْسِ، خَمْسٌ مِن الإِبِلِ، فلَأنْ يَجِبَ ذلك في الوَجْهِ الظاهِرِ الذى هو مَجْمَعُ المَحاسِنِ وعُنوانُ الجَمالِ أوْلى. وحَمْلُ كلام أحمدَ على (¬4) هذا أوْلَى مِن حَمْلِه على ما يُخالِفُ الخَبَرَ والأَثَرَ وقَوْلَ أكْثَرِ أَهْلِ العلمِ، بغيرِ تَوْقِيفٍ ولا قِياسٍ صَحِيحٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 150. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 82. (¬3) في الأصل: «وما ذكروه لمالك»، وفى تش: «وما ذكروه». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَجِبُ أَرْشُ المُوضِحَةِ في الصَّغيرةِ والكبيرةِ، والبارِزَةِ والمسْتُورةِ بالشَّعَرِ؛ لأَنَّ اسْمَ المُوضِحَةِ يَشْمَلُ الجَمِيعَ. وحَدُّ المُوضِحَةِ ما أفْضَى إلى العَظْمِ ولو بقدرِ إبْرةٍ. ذكَره ابنُ القاسِمِ، والقاضى. فصل: وليس في مُوضِحَةِ غيرِ الرَّأْسِ والوَجْهِ مُقَدَّرٌ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم إمامُنا، ومالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): ولا تَكُونُ في البَدَنِ مُوضِحَةٌ. يَعْنِى ليس فها مُقَدَّرٌ. [وقال] (¬2): على ذلك جَماعةُ العُلَماءِ إلَّا اللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ، قال: المُوضِحَةُ تَكُونُ في الجَسَدِ أيضًا. وقال الأوْزاعِىُّ في جِراحَةِ الجَسَدِ: على النِّصْفِ من جِراحةِ الرَّأْسِ. وحُكِىَ نحوُ ذلك عن عَطاءٍ الخُرَاسانِىِّ، قال: في (¬3) المُوضِحَةِ في سائرِ الجَسَدِ خَمْسَةٌ وعِشْرون دِينارًا. ولَنا، أنَّ اسْمَ المُوضِحَةِ إنَّما يُطْلَقُ على الجِراحَةِ المَخْصُوصَةِ في الوَجْهِ والرَّأسِ، وقَوْلُ الخَلِيفَتَيْن الرَّاشِدَيْن: المُوضِحَةُ ¬

(¬1) في: التمهيد 17/ 366، 367. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

4309 - مسألة: (فإن عمت الرأس ونزلت إلى الوجه، فهل هى موضحة أو موضحتان؟ على وجهين)

فَإِنْ عَمَّتِ الرَّأْسَ وَنَزَلَتْ إِلَى الْوَجْهِ، فَهَلْ هِىَ مُوضِحَةٌ أَوْ مُوضِحَتَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الرَّأْسِ والوجهِ سواءٌ. يَدُلُّ على أنَّ باقِىَ الجسدِ بخلافِه، ولأَنَّ الشَّيْنَ فيما في الرَّأْسِ والوجهِ أكثرُ وأخْطَرُ ممَّا في سائِرِ البَدَنِ، فلا يَلْحَقُ به، ثُمَّ إيجابُ ذلك في سائِرِ البَدَنِ يُفْضِى إلى أَنْ يَجِبَ في مُوضِحَةِ العُضْوِ أكثرُ من دِيَتِه، مثلَ أن يُوضِحَ أُنْمُلَةً دِيَتُها ثلاثةٌ وثُلُثٌ، ودِيَةُ المُوضِحَةِ خَمْسٌ. وأمَّا قولُ الأَوْزاعِىِّ وعَطاء الخُرَاسانِىِّ، فتَحَكُّمٌ لا نَصَّ فيه، ولا يَقْتَضِيه القِياسُ، فيَجِبُ اطِّرَاحُه. 4309 - مسألة: (فَإنْ عَمَّتِ الرَّأْسَ ونَزَلَتْ إلى الوَجْهِ، فهل هى مُوضِحَةٌ أو مُوضِحَتَان؟ على وَجْهَيْن) إذا أوْضَحَه في رَأسِه، ومَدَّها إلى وَجْهِه، فعلى وَجْهَيْن؛ أحدُهما، هى مُوضِحَةٌ واحدةٌ؛ لأَنَّ الوَجْهَ والرَّأسَ سَواءٌ في المُوضِحَةِ، فصارا كالعُضْوِ الواحِدِ. والثانى، هما مُوضِحَتانِ؛

4310 - مسألة: (وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، فعليه

وَإِنْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ، فَإِنْ خَرَقَ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه أَوْضَحَه في عُضْوَيْن، فكان لكلِّ واحدٍ منهما حُكْمُ نفْسِه، كما لو أوْضَحَه في رَأْسِه ونزل إلى القَفَا. ذكر شيخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ، قال: إذا عَمَّتِ الرَّأْسَ. ولم يذْكُرْه في كتابَيْهِ «المُغْنِى» و «الكافِى» بل (¬1) أطْلَقَ القَوْلَ فيما إذا كان بعْضُها في الرَّأْسِ، وبعْضُها في الوَجْهِ (¬2). وإن لم تَعُمَّ الرَّأْسَ، ففيها الوَجْهان، وهو الذى يَقْتَضِيه الدَّلِيلُ المَذْكُورُ. واللَّهُ أعلمُ. 4310 - مسألة: (وإن أوْضَحَه مُوضحَتَيْنِ بينهما حاجِزٌ، فعليه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: المغنى 12/ 161، والكافى 4/ 90.

4311 - مسألة: فإن خرقه أجنبى

مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ ذَهَبَ بالسِّرَايةِ، صَارَا مُوضِحَةً وَاحِدَةً. وَإِنْ خَرَقَهُ الْمَجْنِىُّ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبِىٌّ، فَهِىَ ثَلَاثُ مَوَاضِحَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَشَرَةٌ) مِن الإِبِلِ، أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ؛ لأنَّهما مُوضِحَتانِ (فإن خرَقَ ما بينَهما، أو ذهب بالسِّرَايَةِ، صارا مُوضِحَةً واحِدَةً) فيَجِبُ أَرْشُ مُوضِحَةٍ، فصار كما لو أوْضَحَ الكَلَّ مِن غيرِ حاجِز. فإنِ انْدَمَلَتا، ثم أزالَ الحاجِزَ بينَهما، فعليه أَرْشُ (¬1) ثَلاثِ مَواضِحَ؛ لأنَّه اسْتَقَرَّ عليه أَرْشُ المُوضِحَتَيْن (¬2) الأُولَيَيْن بالانْدِمالِ، ثم لَزِمَتْه دِيَةُ الثَّالِثَةِ. وإنِ انْدَمَلَتْ إحْداهُما، وزالَ الحاجِزُ بفِعْلِه أو سِرَايَةِ الأُخْرَى، فعليه أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ. 4311 - مسألة: فإنْ خَرَقه أجْنَبِىٌّ، فعلى الأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، وعلِى الثَّانِى أَرْشُ مُوضِحَةٍ؛ لأَنَّ فِعْلَ أحَدِهما لا يَنْبَنِى على فِعْلِ الآخرِ، فانْفرَدَ كلُّ واحدٍ منهما بحُكْمِ جِنايَتِه. وإنْ أَزالَه المَجْنِىُّ عليه، وجَب على الأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ؛ لأَنَّ ما وجَب بجِنايَتِه لا يَسْقُطُ بفِعْلِ غيرِه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «الحاجز». (¬2) زيادة من: تش.

4312 - مسألة: (وإن اختلفا فى من خرقه، فالقول قول المجنى عليه)

وَإِنِ اخْتَلَفَا في مَنْ خَرَقَهُ، فَالْقولُ قَوْلُ الْمَجْنِىِّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَطَعَ ثَلَاثَ أصَابعِ امْرَأَةٍ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنَ الإبِلِ، فَإِنْ قَطَعَ الرَّابِعَةَ، عَادَ إِلَى عِشْرِينَ، فَإِنِ اخْتَلَفَا في قَاطِعِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِىِّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4312 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَا في مَن خَرَقَه، فالقولُ قولُ المَجْنِىِّ عليه) إذا قال الجانى: أنا شَقَقْتُ ما بينَهما. وقال المَجْنِىُّ عليه: بل أنا. أو: أزَالها آخَرُ سِواكَ. كان القولُ قولَ المَجْنِىِّ عليه؛ لأَنَّ سبَبَ أَرْشِ مُوضِحَتَيْن قد وُجدَ، والجانِى يدَّعِى زَوالَه، والمَجْنِىُّ عليه يُنْكِرُه، والقولُ قولُ المُنْكِرَ؛ لأَنَّ الأَصْلَ معه (ومثلُه لو قطَع ثَلاثَ أَصابعِ امْرَأةٍ، فعليْه ثَلاثونَ مِن الإِبِلِ، فإن قَطَع الرّابِعَةَ، عادَ إلى عِشرِين، فإنِ اخْتَلَفا في قاطِعِها، فالقَوْلُ قَوْلُ المَجْنِىِّ عليه) لِما ذَكَرْنا. وهذا على مَذْهَبِنا؛

4313 - مسألة: (وإن خرق ما بينهما فى الباطن)

وَإِنْ خَرَقَ مَا بَيْنَ المُوضِحَتَيْنِ في الْبَاطِن، فَهَلْ هِىَ مُوضِحَةٌ أَوْ مُوضِحَتَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ عندَنا أنَّ جِراحَ المَرْأَة تُساوِى جِراحَ الرَّجُلِ إلى الثُّلُثِ، فإذا زادَتْ صارَتْ على (¬1) النِّصْفِ. 4313 - مسألة: (وَإِنْ خَرَق ما بينَهما في الباطِنِ) بأنْ قَطَع اللَّحْمَ الذى بينَهما، وتَرَك الجِلْدَ الذى فوقَهما، ففيها وَجْهَان، أحَدُهما، يَلْزَمُه أَرْشُ مُوضِحَتَيْن؛ لانْفِصالِهما في الظَّاهِرِ. والثانى، أَرْشُ مُوضِحَةٍ؛ لاتصالِهما في الباطِنِ. وإن جَرَحه جِرَاحًا واحدةً، أوْضَحَه في طَرَفَيْها (¬2)، وباقِيها دُونَ المُوضِحَةِ، ففيه أَرش مُوضِحَتَيْن، لأَنَّ ما بينَهما ليس بمُوضِحَةٍ. ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) في الأصل، م: «طرفها».

4314 - مسألة: (وإن شج جميع رأسه سمحاقا إلا موضعا منه أوضحه، فعليه أرش موضحة)

وَإِنْ شَجَّ جَمِيعَ رَأْسِهِ سِمْحَاقًا إِلَّا مَوْضِعًا مِنْهُ أَوْضَحَهُ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ. ثُمَّ الْهَاشِمَةُ؛ وَهِىَ الَّتِى تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ، فَفِيهَا عَشْرٌ مِنَ الإِبِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4314 - مسألة: (وإن شَجَّ جَمِيعَ رَأْسِه سمْحاقًا إلَّا مَوْضِعًا مِنْه أوْضَحَه، فعليه أْرشُ مُوضِحَةٍ) إذا شَجَّه في رَأْسِه شَجَّةً، بَعْضُها مُوضِحَةٌ، وبَعْضُها دونَ المُوضِحَةِ، لم يَلْزَمْه أكثرُ مِن أَرْشِ مُوضِحَةٍ؛ لأنَّه لو أوْضَحَ الجَمِيعَ، لم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن ذلك، فَلأَن لا يَلْزَمَه في الإِيضاحِ في البَعْضِ أكثرُ مِن ذلك أوْلَى. وهكذا لو شَجَّه شَجَّةً بعضُها هَاشِمَةٌ، وباقِيها دُونَها، لم يَلْزَمه أكثرُ مِن أَرْشُ هَاشِمَةٍ. وإن كانتْ مُنَقِّلَةً وما دُونَها، أو مَأْمُومَةً وما دُونَها، فعليه أَرْشُ مُنَقِّلَةٍ أو مَأْمُومَةٍ؛ لِما ذَكَرْنا. 4315 - مسألة: (ثم الهاشِمَةُ؛ وهىِ التى تُوضِحُ العَظْمَ وتَهْشِمُه، ففيها عَشْر مِن الإِبِلِ) سَمِّيَتْ هاشِمَةَ لهشْمِها العَظمَ. ولم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَبْلُغْنا عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها تَقْدِيرٌ، وأكثرُ مَن بَلَغَنا قولُه مِن أهلِ العلمِ، على أنَّ أَرشَها مُقَدَّرٌ بعَشْرٍ مِن الإِبلِ. رَوَى ذلك (¬1) قَبيصَةُ بنُ ذُؤَيْبٍ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ (¬2). وبه قال قَتادَةُ، والشافعىُّ، والعَنْبَرِىُّ. ونحوُه قولُ الثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْىِ، إلَّا أنَّهم قَدَّرُوها بعُشْرِ (¬3) الدِّيَةِ مِن الدَّراهمِ، وذلك على قولِهم: ألفُ دِرْهَم. وكان الحسنُ لا يُوَقِّتُ فيها شيئًا. وحُكِىَ عن مالِكٍ أنَّه قال: لا أعْرِفُ الهاشِمَةَ، لكن في الإِيضاحِ خَمْسٌ، وفى الهَشْمِ حُكومةٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): النَّظَرُ يدُلُّ على قولِ الحسنِ، إذْ لا سُنَّةَ فيها ولَا إجْماعَ، ولم يُنْقَلْ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها تَقْدِيرٌ، فوجبَتْ فيها الحُكومةُ، دُونَ المُوضِحَةِ. ولَنا، قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، ومثل ذلك الظَّاهِرُ أنَّه تَوْقِيفٌ، ولأنَّه لا يُعْرَفُ له مُخافٌ في عَصْرِه، ولأنَّها شَجَّةٌ فوقَ المُوضِحَةِ تَخْتَصُّ باسْمٍ، فكان فيها مُقَدَّرٌ، كالمَأْمُومَةِ. فصل: والهاشِمَةُ في الوَجْهِ والرَّأْسِ خاصَّةً، كما ذَكَرْنا في المُوضِحَةِ. فإنْ هشَمَه هاشِمَتَيْنِ، بينَهما حاجِزٌ، ففيهما عِشرون مِن الإِبلِ، على ما ذَكَرْنا مِن التَّفْصِيلِ في المُوضِحَةِ. وتَسْتَوِى الهاشِمَةُ الصغيرةُ والكبيرةُ، كالمُوضِحَةِ. وإن شَجَّه شَجَّة، بَعْضُها مُوضِحَةٌ، وبَعْضُها ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «عن». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الهاشمة، من كتاب العقول. المصنف 9/ 314. والبيهقى، في: باب الهاشمة، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 82. (¬3) في الأصل: «نفس». (¬4) انظر: الإشراف 3/ 97.

4316 - مسألة: (فإن ضربه بمثقل فهشمه من غير أن يوضحه، ففيه حكومة)

فَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ فَهَشَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوضِحَهُ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هاشِمَةٌ، وبعضُها سِمْحَاقٌ، وبعضُها مُتَلاحِمَةٌ، وجب أَرْشُ الهاشِمَةِ؛ لأنَّه لو كان جَمِيعُها هاشِمَةً، أجْزَأ أرْشُها، ولو انْفَرَدَ [القَدْرُ المَهْشُومُ] (¬1)، وجب أرْشُها، فلا يَنْتَقِضُ ذلك بما زادَ مِن الأَرْشِ في غيرِها. 4316 - مسألة: (فإن ضَرَبه بمُثَقَّلٍ فَهَشَمَهُ مِن غيرِ أن يُوضِحَهُ، ففيه حُكُومَةٌ) ولَا تَجِبُ دِيَةُ الهاشِمَةِ، بغيرِ خِلافٍ؛ لأَنَّ الأَرْشَ المُقَدَّرَ وجب في هاشِمَةٍ معها مُوضِحَةٌ. وفى الواجبِ فيها وَجْهانِ؛ أحدُهما، حُكُومَةٌ؛ لأنَّه كَسْرُ عَظْمٍ لا جُرْحَ معه، فأشْبَهَ كَسْرَ قَصَبَةِ الأَنْفِ. والثانى، فيها خمْسٌ مِن الإِبِل؛ لأنَّه لو أَوْضَحَ وهَشَم، لوَجَب عَشْرٌ؛ خَمْسٌ في الإِيضاحِ، وخمْسٌ في الهَشْمِ، فإذا وُجِدَ أحَدُهما، وجَب خَمْسٌ، كالإِيضاحِ وحدَه. فصل: فإنْ أَوْضَحَه مُوضِحَتَيْن، هَشَم العَظْمَ في كلِّ واحدةٍ منهما، ¬

(¬1) في الأصل: «للهشوم».

4317 - مسألة: (ثم المنقلة؛ وهى التى توضح وتهشم وتنقل عظامها، ففيها خمس عشرة من الإبل)

ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ؛ وَهِىَ الَّتِى تُوضِحُ وَتَهْشِمُ وَتَنْقُلُ عِظَامَهَا، فَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِبِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ واتَّصَلَ الهَشْمُ في الباطنِ، فهما (¬1) هاشِمَتان؛ [لأَنَّ الهَشْمَ إنَّما يكونُ تَبَعًا للإِيضاحِ، فإذا كانَتا مُوضِحَتَيْنِ، كان الهَشْمُ هاشِمَتَيْنِ، بخِلافِ المُوضِحَةِ، فإنَّها ليست] (¬2) تَبَعًا لغيرِها، فَافْتَرقا. 4317 - مسألة: (ثُمَّ المُنَقِّلَةُ؛ وهى التى تُوضِحُ وتَهْشِمُ وتَنْقُلُ عِظامَها، ففيها خَمْسَ عَشْرَةَ مِن الإبلِ) المُنَقِّلَةُ زَائِدَةٌ على الهاشِمَةِ، وهى التى تَكْسِرُ العِظامَ وتُزِيلُها عن مَواضِعِها، فيَحْتاجُ إلى نَقْلِ العَظْمِ ليَلْتَئِمَ. وفيها خَمْسَ عَشْرَةَ مِن الإِبلِ، بإِجْماعٍ مِن أهلِ العلمِ. حكاه ابنُ المُنْذِرِ (¬3). وفى كتابِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرِو بنِ حَزْم: «وَفِى المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِن الإِبِلِ» (¬4). وفى تَفْصِيلِها ما في تَفْصِيلِ المُوضِحَةِ والهاشِمَةِ، على ما [ذَكَرْنا فيما] (¬5) مَضَى. ¬

(¬1) في الأصل: «فيهما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) انظر: الإشراف 3/ 97، والإجماع 72. (¬4) أخرجه النسائى، في: باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول. . .، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 52 - 54. والدارمى، في: باب كم الدية من الإبل، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 193. والحاكم، في: المستدرك 1/ 397. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 81. (¬5) زيادة من: تش.

4318 - مسألة: (ثم المأمومة؛ وهى التى تصل إلى جلدة الدماغ، وتسمى أم الدماغ. وتسمى المأمومة آمة)

ثُمَّ الْمَأْمُومَةُ؛ وَهِىَ الَّتِى تَصِلُ إِلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى أُمَّ الدِّماغِ. وَتُسَمَّى الْمَأْمُومَةُ آمَّةَ، فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4318 - مسألة: (ثُمَّ المَأْمُومَةُ؛ وهى التى تَصِلُ إلى جِلْدَةِ الدِّماغِ، وتُسَمَّى أُمَّ الدِّماغِ. وتُسَمَّى المَأْمُومَةُ آمَّةً) قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): أهلُ العِراقِ يَقُولُونَ لها (¬2): الآمَّةُ. وأهلُ الحِجازِ: المَأْمُومَةُ. وهى الجِراحَةُ الوَاصِلةُ إلى أُمِّ الدِّماغِ؛ وهى جِلْدَةٌ فيها الدِّماغُ، سُمِّيَتْ أُمَّ الدِّماغِ؛ لأنَّها تحُوطُه وتَجْمَعُه، فإذا وَصَلَتِ الجِراحَةُ إليها، سُمِّيَت آمَّةً ومَأْمُومَةً، [يُقالُ: أَمَّ الرَّجُلَ آمَّةً ومَأْمُومَةً] (¬3). وأَرشُها ثُلُثُ الدِّيَةِ في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا مَكْحُولًا، فإنَّه قال: إن كانت عَمْدًا، ففيها ثُلُثا الدِّيَةِ، وإن كانتْ خَطَأً، ففيها ثُلُثُها. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ: «وَفِى المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» (¬4). وعن ابنِ عَمْرٍو (¬5) عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلُ ذلك. ورُوِىَ نحوُه عن علىِّ (¬6). ولأنَّها شَجَّةٌ فلم ¬

(¬1) في: التمهيد 17/ 365. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 25/ 309. وهو عند البيهقى في 8/ 82، 85. (¬5) في النسخ: «ابن عمر». ولم نجده من حديثه. ومن حديث ابن عمرو أخرجه أبو داود، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 217. وصححه في الإرواء 7/ 327. (¬6) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 316. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 145.

فصل

ثُمَّ الدَّامِغَةُ؛ وَهِىَ الَّتِى تَخْرِقُ الْجِلْدَةَ، فَفِيهَا مَا في الْمَأْمُومَةِ. فَصْلٌ: وَفِى الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ وَهِىَ الَّتِى تَصِلُ إِلَى بَاطِنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْتَلِفْ أَرشُها بالعَمْدِ والخَطَأَ في المِقْدارِ، كسائِرِ الشِّجاجِ. (ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وهى التى تَخْرِق الجِلْدَ، ففيها ما في المَأْمُومَةِ) قال القاضى: لم يَذْكُرْ أصْحابُنا الدَّامِغَةَ؛ لمُساوَاتِها المَأْمُومَةَ في أَرْشِها. وقيل: فيها مع ذلك حُكُومَةٌ لخَرْقِ جِلْدَةِ الدِّماغِ. ويَحْتَمِلُ أنَّهم تَركُوا ذِكْرَها؛ لكَوْنِها لا يَسْلَمُ صاحِبُها في الغالبِ. فصل: فإن أوْضَحَه رَجُلٌ، ثم هَشَمَه الثَّانِى، ثم جعَلها الثالثُ مُنَقِّلَةً، ثم جعَلها الرَّابعُ مَأْمُومَةً، فعلى الأَوَّلِ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، وعلى الثَّانِى خَمْسٌ، تمامُ أَرْشِ الهاشِمَةِ، وعلى الثالثِ خَمْسٌ، تَمامُ أَرْشِ المُنَقِّلَةِ، وعلى الرَّابعِ ثمانيةَ عَشَرَ وثُلُثٌ، تَمامُ أَرْشِ المَأْمُومَةِ. فصل: (وفى الجائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ وهى التى تَصِلُ إلى باطِنِ الجَوْفِ

الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ، أَوْ ظَهْرِ، أَوْ صَدْرٍ، أَوْ نَحْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن بَطْنٍ، أو ظَهْرٍ، أو صَدْرٍ، أو نَحْرٍ) وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم أهلُ المدينةِ، وأهلُ الكوفةِ، وأهلُ الحديثِ، وأصْحابُ الرَّأْى، إلَّا مَكْحولًا، قال فيها: في العَمْدِ ثُلُثا الدِّيَةِ ولنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتابِ عمرِو بنِ حَزْمٍ: «وفى الجائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» (¬1). وعن ابنِ عمرَ عن النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلُ ذلك (¬2). ولأنَّها جِراحةٌ فيها مُقَدَّرٌ، فلم يخْتَلِفْ قَدْرُ أَرْشِها بالعَمْدِ والخَطَأ، كالمُوضِحَةِ. ولا نعلمُ في جِراحِ البَدَنِ الخاليةِ عن قَطْعِ الأعْضاءِ وكسْرِ العِظامِ مُقَدَّرًا (¬3) غيرَ الجائفةِ. وذكرَ ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4)، أنَّ مالكًا، وأبا حنيفةَ، والشَّافعىَّ، [والبَتِّىَّ] (¬5)، وأصْحابَهم، اتَّفَقُوا على أنَّ الجائفة لا تكونُ إلَّا (¬6) في الجَوْفِ. وقال ابنُ القاسِمِ: الجائِفَةُ ما أفْضَى إلى الجَوْفِ ولو بمَغْرِزِ إبْرَةٍ. فصل: وإن أجافَه جائِفَتَيْنِ بينَهما حاجِزٌ، فعليه ثُلُثا الدِّيَةِ، وإن خرَق ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 309. وهو عند البيهقى في 8/ 81، 85. (¬2) كذا في النسخ، وأخرجه البزار عن عمر مرفوعا، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. كشف الأستار 2/ 207. ومن حديث ابن عمرو أخرجه أبو داود، في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 217. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 26، والإرواء 7/ 329، 330. (¬3) بعده في الأصل: «في». (¬4) في: التمهيد 17/ 367. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في م: «إلى».

4319 - مسألة: (فإن خرقه من جانب فخرج من الجانب الآخر، فهى جائفتان)

فَإِنْ خَرَقَهُ مِنْ جَانِبٍ فَخَرَجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَهِىَ جَائِفَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِى ما بينَهما، أو (¬1) ذهَب بالسِّرايَةِ، صارا جائفةً واحدةً، فيها ثُلُثُ الدِّيَةِ لا غيرُه، وإن خرَق ما بينَهما أجْنَبِىٌّ، أو المَجْنِىُّ عليه، فعلى الأَوَّلِ ثُلُثا الدِّيَةِ، وعلىِ الأجْنَبِىِّ الثانى ثُلُثُها، ويسْقُطُ ما قابلَ فِعْلَ المَجْنِىِّ عليه. وإنِ احْتاجَ إلى خرْقِ ما بينَهما للمُداواةِ، فخَرَقَها المَجْنِىُّ عليه أو غيرُه بأَمرِه، أو خرَقَها وَلِىُّ المَجْنِىِّ عليه لذلك، أو الطَّبِيبُ بأَمْرِه، فلا شئَ (¬2) في خَرْقِ الحاجِزِ، وعلى الأَوَّلِ ثُلُثا (¬3) الدِّيَةِ. 4319 - مسألة: (فإن خَرَقَه مِن جانبٍ فخَرَجَ مِن الجَانبِ الآخَرِ، فهى جائِفَتانِ) هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، وقَتادةُ، ومُجاهِدٌ، ومالكٌ، والشَّافعىُّ وأصْحابُ الرَّأْى. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): لا أعلمُهم يخْتلِفون في ذلك. وحُكِىَ عن بعضِ أصْحابِ الشَّافعىِّ أنَّه قال: هى جَائفةٌ واحدةٌ. وحُكِىَ أيضًا عن أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ الجائفةَ هى التى تَنْفُذُ مِن ظاهرِ البَدَنِ إلى الجَوْفِ، وهذه الثَّانيةُ إنَّما نفَذَتْ مِن الباطنٍ إلى الظاهرِ. ولَنا، ما روَى سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، أنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلَا ¬

(¬1) في، الأصل: «و». (¬2) بعده في ق، م: «عليه». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) في: التمهيد 17/ 365، 366.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بسَهْمٍ، فأنْفَذَه، فقَضَى أبو بكرٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بثُلُثَىِ الدِّيَةِ. ولا مُخالِفَ له، فيكون إجْماعًا. أخْرجَه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، في «سُنَنِه» (¬1). ورُوِىَ عن (¬2) عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قَضى في الجائفةِ إذا نفذَتِ (¬3) الجَوْفَ بأَرْشِ جائِفَتَيْنِ (¬4). ولأنَّه أنْفذَه مِن مَوْضِعَيْن، فكانَ جائِفَتَيْنِ، كما لو أنْفَذَه بضَرْبَتَيْنِ. وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ، فإنَّ الاعْتِبارَ بوُصولِ الجُرْحِ إلى الجَوْفِ، لا بكَيْفِيَّةِ إيصالِه، إذْ لا أثَرَ لصورَةِ الفِعْل مع التَّساوِى في المعنَى، ولأَنَّ ما ذكَرُوه مِن الكَيْفِيَّةِ ليس بمَذْكورٍ في خبَرٍ، وإنَّما الغالبُ والعادةُ وُقوعُ الجائفةِ. هكذا، فلا يُعْتَبَرُ، كما أنَّ العادةَ والغالبَ حُصولُها (¬5) بالحديدِ، ولو حصَلَتْ بغيرِه لكانت جائفةً، ثم ينْتَقِضُ ما ذكَروه بما لو أدْخَلَ يدَهُ في جائفةِ إنْسانٍ، فخَرَقَ بَطْنَه مِن مَوْضِعٍ آخرَ، فإنَّه (¬6) يَلْزَمُه أَرْشُ جائفةٍ بغيرِ خِلافٍ نعْلَمُه. وكذلك (¬7) يُخرَّجُ في مَن ¬

(¬1) أخرجه البيهقى من طريق سعيد بن منصور، في: السنن الكبرى 8/ 85. ومن طرق أخرى أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 369، 370. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 211. وقال في تلخيص الحبير: وهو منقطع؛ لأن سعيدًا لم يدرك أبا بكر. تلخيص الحبير 4/ 35. (¬2) بعده في م: «إلى». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) لم نجده، وانظر: الإرواء 7/ 331. (¬5) في الأصل: «وصولها». (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في الأصل، م: «لذلك».

4320 - مسألة: (وإن طعنه فى خده فوصل إلى فيه، ففيه حكومة)

وَإِنْ طَعَنَهُ في خَدِّه فَوَصَلَ إِلَى فَمِهِ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جَائِفَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْضَحَ إنْسانًا في رَأْسِه، ثم أخْرَجِ رَأْسَ السِّكِّينِ مِن مَوْضِعٍ آخَرَ، فهى مُوضِحَتان. وإن هَشَمه هاشِمَةً لها مَخْرَجان، فهى هاشِمَتانِ. وكذلك ما أشْبَهَه. فصل: فإن أدْخَلَ إصْبَعَه (¬1) في فَرْجِ بِكْرٍ، فأَذْهَبَ بَكارَتَها، فليس بجائِفَةٍ؛ لأَنَّ ذلك ليس بجَوْفٍ. 4320 - مسألة: (وإن طَعَنَهُ في خَدِّهِ فَوَصَلَ إلى فيهِ، ففيه حُكومَةٌ) لأَنَّ باطِنَ الفَمِ حُكمُه حُكْمُ الظَّاهرِ لا حُكْمُ الباطنِ (ويَحْتَمِلُ أن تكونَ جائفةً) لأنَّه جُرْحٌ وصَل إلى جَوْفٍ مُجَوَّفٍ، فأَشْبَهَ ما لو وصَلَ إلى البَطْنَ. فصل: فإن طَعَنه في وَجْنَتِه، فكسرَ العَظْمَ، ووصَلَ إلى فِيهِ، فليس بجائفةٍ؛ لِما ذكَرْنا. وقال الشَّافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: هو جائفةٌ؛ لأنَّه قد وصَل إلى جَوْفٍ. وقد ذكَرْنا أنَّ باطِنَ الفَمِ في حُكْمِ الظَّاهرِ، بخِلافِ الجَوْفِ. فعلى هذا، يكونُ عليه دِيَةٌ هاشِمَةٍ لكَسْرِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «يده».

4321 - مسألة: (وإن جرحه فى وركه فوصل الجرح إلى جوفه، أو أوضحه فوصل الجرح إلى قفاه، فعليه دية جائفة وموضحة، وحكومة لجرح القفا والورك)

فَإِنْ جَرَحَهُ في وَرِكِهِ فَوَصَلَ الْجُرْحُ إِلَى جَوْفِهِ، أَوْ أَوْضَحَهُ فَوَصَلَ الْجُرْحُ إِلَى قَفَاهُ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ جَائِفَةٍ وَمُوضِحَةٍ، وَحُكُومَةٌ لِجُرْحِ الْقَفَا وَالْوَرِكِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العظمِ، وفيما زادَ حُكومَةٌ. وإن جَرَحَه في أنْفِه فأنْفَذَه، فهو كما لو جَرَحَه في وَجْنَتِه فأنْفَذَه إلى فِيه (¬1)، في الحُكْمِ والخلافِ. وإن جَرَحَه في ذَكَرِه، فوصلَ إلى مَجْرَى البَوْلِ مِن الذَّكَرِ، فليس بجائِفةٍ؛ لأنَّه ليس بجَوْفٍ يُخافُ التَّلَفُ مِن الوُصولِ إليه، بخِلافِ غيرِه. 4321 - مسألة: (وإن جَرَحَهُ في وَرِكِهِ فَوَصَلَ الجُرْحُ إلى جَوْفِه، أو أوْضَحَهُ فَوَصَلَ الجُرْحُ إلى قَفاهُ، فعليهِ دِيَةُ جَائِفَةٍ ومُوضِحَةٍ، وحُكومَةٌ لِجُرْحِ القَفَا والوَرِكِ) إذا جَرَحَه في فَخِذِه، ومَدَّ السِّكِّينَ حتى بلَغ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أنفه».

4322 - مسألة: (وإن أجافه، ووسع آخر الجرح، فهى جائفتان)

وَإِنْ أَجَافَهُ وَوَسَّعَ آخَرُ الْجُرْحَ، فَهِىَ جَائِفَتَانِ، وَإِنْ وَسَّعَ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، أَوْ بَاطِنَهُ دُونَ ظَاهِرِهِ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرِكَ، فأجَافَه (¬1) فيه، أو جرَح الكَتِفَ، وجَرَّ (¬2) السِّكِّينَ حتى بلَغِ الصَّدْرَ، فأجَافَه فيه، فعليْه أَرْشُ الجائفةِ، وحُكومَةٌ في الجُرْحِ؛ لأَنَّ الجِراحَ (¬3) في غيرِ مَوْضِعِ الجائفةِ، فانْفَرَدَتْ بالضَّمانِ، كما لو لم يكنْ معها جائفةٌ، وإن أوْضَحَه فوصَلَ إلى قَفاهُ، فعليه دِيَةُ مُوضِحَةٍ؛ لأنَّه أوْضَحَه، وعليه حُكومةٌ لجُرْحِ القَفا، كما لو انْفَرَدَ. 4322 - مسألة: (وَإن أجَافَهُ، وَوَسَّعَ آخَرُ الجُرْحَ، فهى جائِفَتانِ) وعلى كُلِّ واحدٍ مِنهما أَرْشُ جائِفَةٍ؛ لأَنَّ فِعْلَ كُلِّ واحدٍ مِنهما لو انْفَرَدَ كان جائفةً، فلا يَسْقُطُ حُكْمُه بانْضِمامِه إلى فِعْلِ غيرِه؛ لأَنَّ فِعْلَ الإِنْسانِ لا يَنْبَنِى على فعلِ غيرِه. وإن وَسَّعَها الطَّبِيبُ بإذْنِه، أو إذْنِ وَلِيِّه لمصلحتِه، فلا شئَ عليه. 4323 - مسألة: (وَإن وَسَّعَ ظاهِرَه دُونَ باطِنِهِ، أو باطِنَه دُونَ ظَاهِرِه، فعليه حُكومَةٌ) لأَنَّ جِنايتَه (¬4) لم تبْلُغِ الجائفه. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «فأجاف». (¬2) في م: «مد». (¬3) في. م: «الجرح». (¬4) في الأصل: «جانبه».

4324 - مسألة: (وإن التحمت الجائفة ففتحها آخر، فهى جائفة أخرى)

وَإِنِ الْتَحَمَتِ الْجَائِفَةُ فَفَتَحَهَا آخَرُ، فَهِىَ جَائِفَةٌ أُخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإْن أدْخَلَ السِّكِّينَ في الجائفةِ ثم أخْرَجَها، عُزِّرَ، ولا شئَ عليه. وإن خاطَها، فجاءَ آخرُ فقَطَعَ الخَيْطَ، وأدْخَلَ السِّكِّينَ فيها قبلَ أن تَلْتَحِمَ، عُزِّرَ أشَدَّ مِن التَّعْزِيرِ الذى قبلَه، وغرِم ثمنَ الخُيوطِ وأُجْرَةَ الخَيَّاطِ، ولم يَلْزَمْه أَرْشُ جائفةٍ؛ لأنَّه لم يُجِفْهُ. 4324 - مسألة: (وإنِ الْتَحَمَتِ الجَائِفَةُ فَفَتَحَها آخرُ، فهى جائِفَةٌ أُخْرَى) عليه أرْشُهَا؛ لأنَّه عادَ إلى الصِّحَّةِ، فصار كالذى لم يُجْرَحْ. وإنِ الْتَحَمَ بعضُها دونَ بعضٍ، ففَتَقَ ما الْتَحَمَ، فعليه أَرْشُ جائفةٍ؛ لِما ذكَرْنا (¬1). وإن فتَق غيرَ ما الْتَحَمَ، فليس عليه أرْيقُ الجائفةِ، وحُكْمُه حُكْمُ مَن فعلَ مثلَ فِعْلِه قبلَ أن يَلْتَحِمَ منها شئٌ. وإن فتَق بعضَ ما الْتَحَم في الظَّاهرِ دونَ الباطنِ، أو الباطنِ دونَ الظاهرِ، فعليه حُكومَةٌ، كما لو وَسَّعَ جُرْحَه كذلك. فصل: ومِن وَطِئَ زَوْجَتَه وهى صغيرَةٌ، فَقتَقَها، لَزِمَه ثُلُثُ الدِّيَةِ. ومَعْنى الفَتْقِ خرْقُ ما بينَ مَسْلَكِ البَوْلِ والمَنِىِّ. وقيل: بل مَعْناه خَرْقُ ¬

(¬1) في حاشية ق: «وحكى في الكافى عن القاضى أنه ليس عليه إلا حكومة». وانظر الكافى 4/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما بينَ القُبُلِ والدُّبُرِ. إلَّا أنَّ هذا بعيدٌ، لأنَّه يَبْعُدُ أن يَذْهَبَ بالوَطْءِ ما بينَهما مِن الحاجزِ، فإنَّه حاجِز غليظٌ قوِىٌّ. والكلامُ في ذلك في أمْرَيْن؛ أحدُهما، في أصْلِ وجُوبِ الضَّمانِ. والثانى، في قَدْرِه: أمَّا الأَوَّلُ: فإنَّ الضَّمانَ إنَّما يَجِبُ بوَطْءِ الصغيرةِ أو النَّحيفةِ التى لا تَحْتَمِلُ (¬1) الوَطْءَ، دُونَ الكبيرةِ المُحْتَمِلَةِ له (¬2). وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: يجبُ الضَّمانُ في الجميعِ؛ لأنَّه جنايةٌ، فيجبُ الضَّمانُ به، كما لو كان في أجْنَبِيَّةٍ. ولنا، أنَّه وَطْءٌ مُسْتَحَق، فلم يَجبْ ضَمانُ ما تَلِفَ به، كالبَكارةِ (¬3)، ولأنَّه فِعْل مأْذونٌ فيه ممَّن يَصِحُّ إذْنُه، فلم يُضْمَنْ ما تَلِفَ بسِرايَتِه، كما لو أذِنت في مُداواتِها بما يُفْضِى إلى ذلك، ¬

(¬1) في تش، م: «تحمل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ق: «كأرش البكارة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكقَطْعِ السَّارقِ، واسْتِيفاء القِصاصِ، وعَكْسُه الصغيرةُ والمُكْرَهَةُ على الزِّنَى. إذا ثبتَ هذا، فإنَّه يَلْزَمُه المَهْرُ المُسَمَّى في النِّكاحِ، مع أَرْشِ الجِنايةِ، ويكونُ أَرْشُ الجِنايةِ في مالِه، إن كان عَمْدًا مَحْضًا، وهو أن يَعْلَمَ أنَّها لا تُطيقُه، وأنَّ وَطْأَه يُفْضِيها، فأمَّا إنْ عَلِمَ ذلك، وكان مما يَحْتَمِلُ أن لا يُفْضِىَ إليه، فهو عمْدُ الخَطَأ، فيكونُ على عاقلتِه، إلّا على قولِ مَن قال: إنَّ العاقِلةَ لا تَحْمِل عَمْدَ الخَطَأ، فيكونُ في مالِه. الثانى: في قَدْرِ الواجبِ، وهو ثُلُثُ الدِّيَةِ. وبه قال قَتادةُ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ كاملةً. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ بن عبدٍ العزيزِ؛ لأنَّه أتْلَفَ منْفَعةَ الوَطْءِ، فلَزِمَتْه الدِّيَةُ، كما لو قطَع إسْكَتَيْها. ولَنا، ما رُوِى عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى في الإِفْضاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بثُلُثِ الدِّيَةِ (¬1). [ولم نَعْرِفْ له في الصَّحابةِ مُخالِفًا. ولأَنَّ هذه جِنايةٌ تَخْرِقُ الحاجِزَ بينَ مَسْلَكِ البَوْلِ والذَّكَرِ، فكانَ مُوجَبُها ثُلُثَ الدِّيَةِ] (¬2)، كالجائفةِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّها تَمْنَعُ الوَطْءَ، وأمَّا قَطْعُ الإِسْكَتَيْنِ، فإنَّما أوْجَبَ الدِّيَةَ؛ لأنَّه قطْعُ عُضْوَيْنِ فيهما نَفْعٌ وجَمالٌ، فأشْبَهَ قَطْعَ (¬3) الشَّفَتَيْنِ. فصل: فإنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُها مع ذلك، لَزِمَتْه دِيَةٌ مِن غيرِ زِيادةٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: تجبُ دِيَةٌ وحُكومَةٌ؛ لأنَّه فَوَّتَ مَنْفعَتَيْنِ، فلزِمَه أرْشُهُما، كما لو فَوَّتَ كلامَه وذَوْقَه. ولَنا، أنَّه إتْلافُ عُضْوٍ واحدٍ لم يَفُتْ غيرُ مَنافِعِه، فلم يَضْمَنْه بأكثرَ مِن دِيَةٍ واحدةٍ، كما لو قطَع لِسانَه فذهبَ ذَوْقُه وكلامُه. وما قالَه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لو أوْجبَ دِيَةَ المَنْفَعَتَيْنِ، لأوْجبَ دِيَتَيْنِ؛ لأَنَّ اسْتِطْلاقَ البَوْلِ مُوجِبٌ لدِيَةٍ، والإِفْضاءَ عندَه مُوجِبٌ للدِّيَةِ مُنْفَرِدًا، ولم يَقُلْ به، وإنَّما أوْجبَ الحُكومةَ، ولم يُوجَدْ مُقْتَضِيها، فإنَّا لا نَعلمُ أحدًا أوْجبَ في الإِفْضاءِ حُكومةً. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الإفضاء، من كتاب العقول. المصنف 9/ 377، 378. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يستكره المرأة فيفضيها، من كتاب الديات. المصنف 9/ 411. وضعفه في: الإرواء 7/ 331. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِ انْدمَلَ الحاجزُ وانْسَدَّ، وزالَ الإِفْضاءُ، لم يجبْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، ووَجبتْ حُكومةٌ، لجَبْرِ ما حصَل مِن النَّقْصِ. فصل: وإن أكْرَه امرأةً على الزِّنَى فأفْضاها، لَزِمَه ثُلُثُ دِيَتها ومَهْرُ مِثْلِها؛ لأنَّه حصَل بوَطْءٍ غيرِ مُسْتَحَقٍّ، ولا مَأْذونٍ فيه، فلَزِمَه ضَمانُ ما تَلِفَ به، كسائرِ الجِناياتِ. وهل يَلْزَمُه أَرْشُ البَكارةِ مع ذلك؟ فيه رِوَايتان؛ إحداهما، لا يَلْزَمُه؛ لأَنَّ أَرْشَ البَكارةِ داخِلٌ في مَهْرِ المِثْلِ، فإنَّ مَهْرَ البكْرِ أكثرُ مِن مَهْرِ الثَّيِّبِ، فالتَّفاوُت بينَهما هو عِوَضُ أَرشِ البَكارةِ، فلم يَضْمَنْه مَرَّتَيْنِ، كما في حَقِّ الزَّوْجَةِ. والثانيةُ، يَضْمَنُهُ؛ لأنَّه مَحَلٌّ أتْلَفَه بعُدْوانِه، فلَزِمَه أَرْشُه، كما لو أتْلَفَه بإصْبَعِه. فأمَّا المُطاوِعةُ على الزِّنَى إذا كانت كبيرةً ففتَقَها، فلا ضَمانَ عليه في فَتْقِها. وقال الشافعىُّ: يَضْمَنُ؛ لأَنَّ المأْذونَ فيه الوَطْءُ دُونَ الفَتْقِ، فأشْبَهَ ما لو قطَع يدَها. ولَنا، أنَّه ضَرَرٌ حصَل مِن فِعْلٍ مأْذُونٍ فيه، فلم يضْمَنْه، كأَرْشِ بَكارَتِها ومَهْرِ مِثْلِها، وكما لو أذِنَتْ في قَطْعِ يدِها، فسَرَى القَطْعُ إلى نفْسِها. وفارَقَ ما إذا أذِنَتْ في وَطْئِها فقَطَعَ يدَها؛ لأَنَّ ذلك ليس مِن المأْذونِ فيه، ولا مِن ضَرورَتِه. فصل: وإن وَطِئَ امرأةً بشُبْهَةٍ، فأفضَاها، فعليه أَرْشُ إفْضائِها مع مَهْرِ مِثْلِها؛ لأَنَّ الفِعْلَ إنَّما أُذِنَ فيه اعْتِقادًا أنَّ المُسْتَوْفِىَ له هو المُسْتَحِقُّ، فإذا كان (¬1) غيرَه، ثبَت في حَقِّه وُجوبُ الضَّمانِ لِما أتْلَفَ، كما لو أذِنَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

فصل

فَصْلٌ: وَفِى الضِّلَعِ بَعِيرٌ، وَفِى التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيرَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أخْذِ الدَّيْنِ لمَن يعْتَقِدُ أنَّه مُسْتَحِقُّه، فبانَ أنَّه غيرُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يجبُ لها أكثرُ الأمْرَيْنِ مِن مَهْرِ مِثْلِها أو أَرْشِ إفْضائِها؛ لأَنَّ الأَرْشَ لإِتْلافِ العُضْوِ، فلا يُجْمَعُ بينَ ضَمانِه وضَمانِ منْفَعتِه، كما لو قلَع عَيْنًا. ولَنا، أنَّ هذه جِنايَةٌ تَنْفَكُّ عن الوَطْءِ، فلم يدْخُلْ بدَلُه فيها، كما لو كسَر صَدْرَها. وما ذَكَرَه (¬1) غيرُ صَحيحٍ، فإنَّ المَهْرَ يجبُ لاسْتِيفاءِ منْفَعةِ البُضْعِ، والأرْشَ يجبُ لإِتْلافِ الحاجزِ، فلا تدْخُلُ المنْفَعةُ فيه. فصل: وإنِ اسْتَطلَقَ بَوْلُ المُكْرَهةِ على الزِّنَى والمَوْطُوءَةِ بشُبْهَةٍ مع إفْضائِهما، فعليه دِيَتُهما والمهرُ. وقال أبو حنيفةَ في المَوْطُوءةِ بشُبْهَةٍ: لا يُجْمَعُ بينَهما، ويجبُ أكثرُهما. وقد سبقَ الكلامُ معه في ذلك. فصل: (وفى الضِّلَعِ بعيرٌ، وفى التَّرْقُوتَيْنِ بعِيرانِ) رَوَى سعيدٌ (¬2)، عن مطرٍ، عن قَتادةَ، عن سليمانَ، عن (¬3) عمرَ، وسُفيانَ، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ذكروه». (¬2) وأخرجه الإمام مالك في: باب جامع عقل الأسنان، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 861. والشافعى، في: كتاب الديات. ترتيب المسند 2/ 111. والبيهقى، في: باب ما جاء في الترقوة والضلع، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 99. وفى هذه المصادر يرويه زيد بن أسلم عن مسلم بن جندب عن أسلم. (¬3) في الأصل، ر 3، ق، ص، م: «بن». ولعله سليمان بن يسار، فهو يروى مرسلا عن عمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن زيدِ بنِ أسْلَمَ، عن أسْلَمَ، عن عمرَ، في الضِّلَعِ جَمَلٌ، والتَّرْقُوَةِ جَمَلٌ. وقال الخِرَقِىُّ: في التَّرْقُوَةِ بعِيرانِ. فظاهرُ قولِه أنَّ في كُلِّ تَرْقوَةٍ بَعيرَيْنِ، فيكونُ في التَّرْقُوَتَيْنِ أرْبعةُ أبعِرَةٍ. وهذا قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ. والتَّرْقُوَةُ: العَظْمُ المُسْتَدِيرُ حولَ العُنُقِ مِن النَّحْرِ إلى الكَتِفِ. ولكُلِّ واحدٍ تَرْقُوَتانِ، [فيهما أَربَعةُ أَبعِرَةٍ، في ظاهرِ قولِ الخِرَقِىِّ] (¬1). وقال القاضى: المرادُ بقول الخِرَقِىِّ التَّرْقُوَتانِ معًا، وإنَّما اكْتَفَى بلَفْظِ الواحدِ لإِدْخالِ الألفِ واللَّامِ المُقْتَضِيَةِ للاسْتِغْراقِ، فيكونُ في كلِّ تَرْقُوَةٍ بعيرٌ. وهذا قولُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهدٌ، وعبدُ الملكِ بنُ مَرْوانَ، وسعيدُ بنُ جُبَيْر، وقَتادةُ، وإسْحاقُ، وهو قولٌ للشافعىِّ (¬2). والمَشْهُورُ مِن قولِه عندَ أصْحابِه، أنَّ في كل واحدٍ مما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «الشافعى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكَرْنا حُكوِمةً. وهو قولُ مَسْروقٍ، وأبى حنيفةَ، ومالكٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه عَظْمٌ باطنٌ، لا يخْتَصُّ بجمالٍ ومنْفَعةٍ، فلم يجبْ فيه أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كسائرِ أعْضاءِ البدَنِ، ولأَنَّ التَّقْديرَ إنَّما يكونُ بتَوْقيفٍ أو (¬1) قِياسٍ صَحيحٍ، وليس في هذا تَوْقِيفٌ ولا قِياسٌ. ورُوِىَ عن الشَّعْبِىِّ أنَّ في التَّرْقُوَةِ أرْبعينَ دِينارًا. وقال عمرُو بنُ شُعَيْبٍ: في التَّرْقُوَتَيْنِ الدِّيَةُ، وفى إحْداهما نِصْفُها؛ لأنَّهما عُضْوانِ فيهما جَمالٌ (¬2) ومنْفَعةٌ، وليس في البدَنِ غيرُهما مِن جِنْسِهما، فكَمَلَتْ فيهما الدِّيَةُ، كاليَدَيْنِ. ولَنا، قولُ عمرَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وما ذكَرُوه ينْتَقِض بالهاشِمَةِ، ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) سقط من: م.

4325 - مسألة: (وفى كل واحد من الذراع، والزند، والعضد، والساق، بعيران)

وَفِى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الذِّرَاعَ، والزَّنْدِ، وَالْعَضُدِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ، بَعِيرَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّها كَسْرُ عِظامٍ باطنةٍ، وفيها مُقَدَّرٌ. ولا يَصِحُّ قولُهم: إنَّها لا تَخْتَصُّ بجمالٍ ومَنْفعةٍ. فإنَّ جمالَ هذه العظام ونَفْعَها لا يُوجَدُ في غيرِها، ولا مُشارِكَ لها فيه. وأمَّا قولُ عمرِو بنِ شَعَيْبٍ، فمخالفِ للإِجْماعِ، فإنَّا لا نعلمُ أحدًا قبلَه ولا بعدَه وَافقَه فيه. 4325 - مسألة: (وفى كلِّ واحدٍ مِنَ الذِّراعِ، والزَّنْدِ، والعَضُدِ، والسَّاقِ، بَعِيرانِ) قال القاضى: في الزَّنْدَيْنِ (¬1) أرْبعة أبعِرَةٍ، لأَنَّ فيهما أرْبعةَ عِظامٍ، ففى كلِّ عَظْمٍ بَعيرٌ. وهذا يُرْوى عن عمرَ بنِ الخطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: فيه حُكومَةٌ، لِما تَقَدَّمَ. ولَنا، ما رَوَى سعيدٌ، ثنا هُشَيمٌ، أنا يحيى بنُ سعيدٍ، ¬

(¬1) في م: «الزند».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، أنَّ عمرَو بنَ العاصِ كتبَ إلى عمرَ في أحَدِ الزَّنْدَيْن إذا كُسِرَ، فكتبَ إليه عمرُ: إنَّ فيه بَعِيرَيْنِ، وإذا كسَر الزَّنْدَيْنِ ففِيهما أرْبعةٌ مِن الإِبلِ (¬1). ورَواه أيضًا من طريقٍ آخرَ مثلَ ذلك. وهذا لم يظْهَرْ له مُخالِفٌ في الصَّحابةِ، فكان إجْماعًا. فصل: ولا مُقَدَّرَ في غيرِ هذه العِظامِ، في ظاهرِ قولِ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال القاضى: في عَظْمِ السَّاقِ بَعِيرانِ، وفى عَظْمِ (3) السَّاقَيْنِ أرْبعةُ أبعِرَةٍ. وفى الفَخِذِ بَعِيرانِ، وفى الفَخِذَيْنِ أرْبعةُ أبْعِرَةٍ، فهده تِسْعةُ عِظامٍ فيها مُقَدَّرٌ، الضِّلَعُ، والتَّرْقُوَتانِ، والزَّنْدانِ والسَّاقانِ، والفَخِذانِ، وما عَدَاها لا مُقَدَّرَ فيه. وقال ابنُ عَقِيلٍ، وأبو الخَطَّابِ، وجماعةٌ مِن أصْحابِ القاضى: في كُلِّ واحدٍ مِن الذِّراعِ والعَضُدِ بَعِيرانِ. وزادَ أبو الخَطَّابِ عَظْمَ القَدَمِ، لِما روَى سليمانُ بنُ يَسارٍ، أنَّ عمرَ قَضى في الذِّراعِ والعَضُدِ (¬2) والفَخِذِ والسَّاقِ والزَّنْدِ، إذا كُسرَ واحدٌ منها فجَبَرَ، ولم يكُنْ به دُحورٌ -يعنى عِوَجًا- بعيرٌ (¬3)، ¬

(¬1) وأخرج نحوه ابن أبى شيبة عن نافع بن عبد الحارث عن عمر، في: باب الزند يكسر، من كتاب الديات. المصنف 9/ 368. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «بعيران».

4326 - مسألة: (وما عدا ما ذكرنا من الجروح وكسر

وَمَا عَدَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجُرُوحِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ، مِثْلَ خَرَزَةِ الصُّلْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان فيها دُحورٌ، فبحِسابِ ذلك. وهذا الخبرُ إن صَحَّ، فهو مُخالفٌ لِما ذهَبوا إليه، فلا يَصْلُحُ دَليلًا عليه. قال شيْخُنا (¬1): والصَّحِيحُ، إنْ شاءَ اللَّهُ، أنَّه لا تَقْديرَ في غيرِ الخَمْسةِ؛ الضِّلَعِ، والتَّرْقوَتيْنِ، والزَّنْدَيْنِ؛ لأَنَّ التَّقْديرَ إنَّما يَثْبُتُ بالتَّوْقيفِ، ومُقْتضى الدَّليلِ وُجوبُ الحُكومةِ في هذه العِظَامِ الباطنةِ كلِّها، وإنَّما خالَفْناه في هذه العِظامِ لقَضاءِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ففيما عدَاها يَبْقَى على مُقْتَضَى الدَّليلِ. 4326 - مسألة: (وما عدا ما ذَكَرْنا مِن الجُرُوحِ وكَسْرِ ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 174، 175.

4327 - مسألة: (والحكومة أن يقوم المجنى عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهى به قد برأت، فما نقص، فله مثله من الدية، فإن كان قيمته وهو صحيح عشرين، وقيمته وبه الجناية تسعة عشر، ففيه نصف عشر ديته)

وَالْعُصْعُص، فَفِيه حُكُومَةٌ؛ وَالْحُكُومَةُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِىُّ عَلَيْهِ كَأنَّهُ عَبْدٌ لَا جِنَايَةَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِىَ بِهِ قَدْ بَرَأَتْ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ، فَلَهُ مِثْلُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ عِشْرِينَ، وَقِيمَتُهُ وَبِهِ الْجِنَايَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَفِيهِ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العِظامِ، مثلَ خَرَزَةِ الصُّلْبِ (¬1)، والْعُصْعُصِ (¬2)، ففيه الحُكومَةُ) ولا نعلمُ فيها مُخالِفًا، وإن خالفَ فيها أحدٌ، فهو قولٌ شاذٌّ لا يَسْتَنِدُ إلى دَليلٍ يُعْتَمَدُ عليه، ولا يُصارُ إليه. وخَرَزَةُ الصُّلْبِ إن [أُرِيدَ بها] (¬3) كَسْرُ الصُّلْبِ (¬4)، ففيه الدِّيَةُ. وقال القاضى: فيه حُكومةٌ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وقد ذكَرْناه. 4327 - مسألة: (والحُكُومَةُ أن يُقَوَّمَ المَجْنِىُّ عليه كأنَّه عبدٌ لَا جِنايةَ به، ثم يُقَوَّمَ وهى به قد بَرَأتْ، فَمَا نقَص، فله مثلُه مِنَ الدِّيَةِ، فإن كان قِيمَتُه وهو صَحِيحٌ عِشْرِين، وَقِيمَتُه وبه الجِنَايَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ، ففيه نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِه) وهذا الذى ذكَره في تَفْسِيرِ الحُكومةِ قولُ أهلِ ¬

(¬1) خرزة الصلب: فقاره. (¬2) العصعص -بضم الأول، وأما الثالث فيضم ويفتح تخفيفًا: عظم عَجْب الذنَب. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العلمِ، لا نعلمُ بينَهم فيه خِلافًا. وبه قال الشافعىُّ، والعَنْبَرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى وغيرُهم. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): كلّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ يرَى أنَّ معنى قولِهم: حُكومةٌ. أن يُقالَ إذا أُصِيبَ الإِنسانُ بجُرْحٍ لا عقْلَ له معلومٌ: كم قيمةُ هذا الجُرْحِ لو كان عَبْدًا لم يُجْرَحْ هذا الجُرْحَ؟ فإذا قِيلَ: مائةَ دينارٍ. قيلِ: وكم قِيمَتُه وقد أصابَه هذا الجُرْحُ وانتَهى بُرْؤُه؟ قيل: خمسةٌ وتِسعُونَ. فالذى يجبُ على الجانِى نِص عُشْرِ الدِّيَةِ. وإن قالوا: تِسْعونَ. فعُشْرُ الدِّيَةِ. وإن زادَ أو نقَص، فعلى هذا المِثالِ. وإنَّما كان كذلك، لأَنَّ جُمْلتَه مَضْمونةٌ بالدِّيَةِ، فأجْزاؤُه مَضْمونَةٌ منها، كما أنَّ المبِيعَ لمَّا كان مضْمُونًا على البائعِ بالثَّمَنِ، كان أَرْشُ عَيْبِه مُقَدَّرًا مِن الثَّمنِ، فيُقالُ: كم قِيمَتُه لا عيبَ فيه؟ فإن قالُوا: عشَرةٌ. فيقالُ: كم قِيمتُه وفيه العَيْبُ؟ فإذا قيل: تسعةٌ. عُلِمَ أنَّه نقَص عُشْرُ قِيمَتِه، فيجبُ أن (¬2) يُرَدَّ مِن الثَّمنِ عُشْرُه، أىَّ [قَدْرٍ كان] (¬3)، ونُقَدِّرَه عَبْدًا ليُمْكِنَ تقْويمُه، ويُجْعَلَ العَبْدُ أصْلًا للحُرِّ فيما لا مُوَقَّتَ فيه، والحرُّ أصْلًا للعَبْدِ فيما فيه تَوْقِيتٌ، في المشْهُورِ مِن المذْهبِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «أجمع». وانظر: الإشراف 3/ 119، والإجماع 74. (¬2) بعده في الأصل، تش: «لا». (¬3) في الأصل: «كان قدره».

4328 - مسألة: (إلا أن تكون فى شئ فيه مقدر، فلا يبلغ به أرش المقدر، فإن كانت فى الشجاج التى دون الموضحة، لم يبلغ بها أرش الموضحة)

إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ في شَىْءٍ فِيهِ مُقَدَّرٌ، فَلَا يُبْلَغُ بِهِ أَرْشُ الْمُقَدَّرِ، فَإِذَا كَانَتْ في الشِّجَاجِ الَّتِى دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَمْ يُبْلَغْ بِهَا أَرْشُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4328 - مسألة: (إلَّا أن تَكونَ في شئٍ فيه مُقَدَّرٌ، فلا يُبْلَغُ به أَرْشُ المُقَدَّرِ، فإن كانتْ في الشِّجاجِ الَّتى دونَ المُوضِحَةِ، لم يُبْلَغْ بها أَرْشُ المُوضِحَةِ) فلو جَرَحَهُ في وَجْهِه سِمْحَاقًا، فنَقَصَتْه عُشْرَ قِيمَتِه، فمُقْتَضَى الحُكومَةِ وجُوبُ عَشْر مِن الإِبِلِ، ودِيَةُ المُوضِحَةِ خَمْسٌ، فههُنا يُعْلَمُ غلطُ المُقَوِّمِ؛ لأَنَّ الجِراحةَ لو كانت مُوضِحَةً، لم تَزِدْ على خَمْسٍ، مع أنَّها سِمْحاقٌ وزيادةٌ عليها، فلَأن لا يجبَ في بعضِها زيادةٌ على خَمسٍ أوْلَى. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّه يجبُ ما تُخْرِجُه الحُكومَةُ، كائنًا ما كانَ؛ لأنَّها جِراحَةٌ لا مُقَدَّرَ فيها، فوجب فيها ما نقَص، كما لو كانت في سائرِ البدَنِ. ولَنا، أنَّها [بعضُ المُوضِحَةِ] (¬1)، لأنَّه لو أوْضَحَه لقَطَعَ ما قطَعَتْه هذه الجِراحَةُ، ولا يجوزُ أن يجبَ في بعضِ الشئِ أكثرُ ممَّا يجبُ فيه، ولأَنَّ الضَّرَرَ في المُوضِحَةِ أكبرُ (¬2)، والشَّيْنَ أعْظَمُ، والمَحَلَّ واحدٌ، فإذا لم يَزِدْ أَرْشُ المُوضِحَةِ على خَمْسٍ، كان ذلك تَنْبِيهًا على أَنْ لا يَزيدَ ما دُونَها عليها. وأمَّا سائرُ البدَنِ، فما كان فيه مُوَقَّتٌ، ¬

(¬1) في تش: «نقص موضحة». (¬2) في الأصل: «أكثر».

الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانت فِى إِصْبَعٍ، لَمْ يَبْلُغْ بِهَا دِيَةَ الإِصْبَعِ، وَإِنْ كَانَتْ في أُنْمُلَةٍ، لَمْ يَبْلُغْ بِهَا دِيَتَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالأعْضاءِ، والعِظَامِ المعْلُومَةِ، والجائِفَةِ، فلا يُزادُ جُرْحُ عَظْمٍ على دِيَتِه، مثالُه، جَرَحَ أُنْمُلَةً، فبلَغ أَرشُها بالحُكومةِ خَمْسًا مِن الإِبِلِ، فإنَّه يُرَدُّ إلى [دِيَةِ الأُنْمُلَةِ] (¬1). وإن كان في إصْبَعٍ، فبلَغ ما زادَ على العَشْرِ بالحُكومةِ، رُدَّ إلى العَشْرِ. وإن جَنَى عليه في جَوْفِه دُون الجائفَةِ، لم يَزِدْ على أَرْشِ الجائفَةِ، وما لم يَكُنْ كذلك، وجبَ ما أخْرَجَتْه الحُكومةُ؛ لأَنَّ المَحَلَّ مُخْتَلِفٌ. فإن قِيلَ: فقد وجَب في بعضِ البَدَنِ أكثرُ ممَّا وجَب في جَميعِه، وَوجبَ في منافعِ اللِّسانِ أكثرُ مِن الواجبِ فيه. قُلْنا: إنَّما وجبَتْ دِيَةُ النَّفْسِ دِيَةً عن الرُّوحِ، وليستِ الأطْرافُ بعضَها، بخِلافِ مَسْألَتِنا. هذا ذكَره القاضى. ويَحْتَمِلُ كلامُ الخِرَقِىِّ أن يَختَصَّ امْتِناعُ الزِّيادة بالرَّأْس والوَجْهِ؛ لقولِه: إلَّا أن تكونَ الجِنايةُ في وَجْهٍ أو رَأْسٍ، فلا يُجَاوَزُ به أَرْشُ المُوَقَّتِ. ¬

(¬1) في الأصل: «أنملة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا أَخْرَجَتِ الحُكومةُ في شِجاجِ الرَّأْسِ التى دُونَ المُوضِحَةِ قَدْرَ أَرش المُوضِحَةِ أو زيادةً عليه، فظاهرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه يجبُ أَرْشُ المُوضِحَةِ. وقال القاضى: يجبُ أن يَنْقُصَ عنها شيئًا على حَسَبِ ما يُؤدِّى إليه الاجْتِهادُ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وهو الذى ذكَرَه شيْخُنا في كتابِ «الكَافِى» (¬1) و «المُقْنِعِ»؛ لئَلَّا يجبَ في بعْضِها ما يجبُ في جَميعِها. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّ مُقْتَضَى الدَّليلِ وُجوبُ ما أخْرَجَتْه الحُكومةُ، وإنَّما سقَطَ الزَّائِدُ على أَرْشِ المُوضِحَةِ؛ لمُخالَفَتِه النَّصَّ [أو تَنْبِيهَ النَّصِّ] (¬2)، ففيما لم يَزِدْ، يَجِبُ البَقاءُ على الأَصْلِ، ولأَنَّ ما ثبَت بالتَّنْبِيهِ، يجوزُ أن يُساوِىَ المَنْصُوصَ عليه في الحُكْمِ، ولا يَلْزَمُ أن يَزِيدَ عليه، أنَّه لمَّا نَصَّ على وُجوبِ [فِدْيَةِ الأذى (¬3) في حَقِّ المَعْذُورِ، لم يَلْزَمْ زِيادَتُها في حَقِّ مَن لا عُذْرَ له، ولا يَمْتَنِعُ أن يجبَ في البعْضِ ما يجبُ في الكُلِّ، بدليلِ وُجوبِ] (¬4) دِيَةِ الأصابعِ مثلَ دِيَةِ اليَدِ كلِّها، ¬

(¬1) 4/ 94. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) في م: «الأدنى». (¬4) سقط من: الأصل.

4329 - مسألة: (فإت كانت)

وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تَنْقُصُ شَيْئًا بَعْدَ الِانْدِمَالِ، قُوِّمَتْ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى حَشَفَةِ الذَّكَرِ مثل ما في جَميعِه. فإن قِيل: هذا وجَب بالتَّقْدِيرِ الشَّرْعِىِّ لا بالتَّقْويمِ. قُلْنا: إذا ثبَت الحُكْمُ بنَصِّ الشَّارِعِ، لم يَمْتَنِعْ ثُبوتُ مثْلِه بالقِياسِ عليه، والاجتهادِ المُؤَدِّى إليه. وفى الجملةِ، فالحُكومةُ دليلُ (¬1) تَرْكِ العملِ بها في الزَّائدِ لمعنًى مَفْقُودٍ (¬2) في المُساوِى، فيجبُ العملُ فيه (¬3) بها؛ لعَدَمِ المُعارِضِ ثَمَّ، وإن صَحَّ ما ذكَرُوه، فيَنْبَغِى أن يَنْقُصَ أدْنَى ما تَزولُ به المُساواةُ المَحْذُورةُ (¬4).، ويجبُ الباقى، عَمَلًا بالدَّليلِ المُوجِبِ له. فصل: ولا يكونُ التَّقويمُ إلَّا بعدَ بُرْءِ الجُرْحِ؛ لأَنَّ أَرْشَ الجُرْحِ المُقَدَّرَ إنَّما يسْتَقِرُّ بعدَ بُرْئِه. 4329 - مسألة: (فإت كانتِ) الجِراحَةُ (مِمَّا لَا تَنْقُصُ شَيْئًا بعدَ الانْدِمالِ) مثلَ أن قطَع إصْبَعًا زائِدَةً أو يَدًا، أو قلَع (¬5) لِحْيَةَ امْرَأةٍ، فلم ¬

(¬1) بعده في م: «على». (¬2) في الأصل، ق، م: «مقصود». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل، ق، ص، م: «المحدودة». (¬5) في الأصل، م: «قطع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ينْقُصْه ذلك، بل زادَه حُسْنًا، [فلا شئَ على الجانِى؛ لأَنَّ الحُكومَةَ لأجْلِ جَبْرِ النَّقْصِ، ولا نَقْصَ ههُنا، فأَشبَهَ ما لو لطَم وَجْهَه فلم يُؤَثِّرْ، وإن زادتْه الجِنايةُ حُسْنًا] (¬1)، فالجانِى مُحْسِنٌ (¬2) بجِنايتِه، فلم يَضْمَنْ، كما لو قطَع سِلْعَةً، أو ثُؤْلُولًا (¬3)، أو بَطَّ خُرَاجًا. ويَحْتَمِلُ أن يَضْمَنَ. قال القاضى: نَصَّ أحمدُ على هذا، لأَنَّ هذا جُزْءٌ مِن مَضْمُونٍ، فلم يَعْرَ عن ضَمانٍ، كما لو أتْلَفَ مُقَدَّرَ الأَرْشِ فازدادَ به جَمالًا، أو لم يَنْقُصْه شيئًا. فعلى هذا، يُقَوَّمُ في أقْرَبِ الأحْوالِ إلى البُرْءِ، لأنَّه لمَّا سقَط اعْتِبارُ قِيمَتِه بعدَ بُرْئِه، قُوِّمَ في أقْرَبِ الأحْوال إليه، كولدِ المَغْرُورِ لمَّا تَعَذَّرَ تَقْويمُه في البطنِ، قُوِّمَ عندَ الوَضْعِ، لأَنَّه أقْرَبُ الأحْوالِ التى أمْكَنَ تَقْويمُه إلى ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «مخير». (¬3) الثؤلول؛ واحد الثآليل، وهو بَثر صغير صلب مستدير، يظهر على الجلد كالحِمّصة أو دونها.

4330 - مسألة: (فإن لم ينقص فى تلك الحال)

فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ شَيْئًا بِحَالٍ أَوْ زَادَتْهُ حُسْنًا، فَلا شَىْءَ فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَوْنِه في البَطْنَ. 4330 - مسألة: (فإن لم يَنْقُصْ في تلك الحالِ) قُوِّمَ حالَ جَرَيانِ الدَّمِ، لأنَّه لا بُدَّ مِن نَقْصٍ للخَوْفِ عليه. ذكَره القاضى. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهان كما ذكَرْنا. وتُقَوَّمُ لِحْيةُ المرأةِ كأنَّها لحْيَةُ رَجُلٍ في حال يَنْقُصُه ذَهابُ لِحْيَته. وإنْ أتْلَفَ سِنًّا زائدةً، قُوِّمَ وليست له سِنٌّ زائدةٌ، ولا خَلفَها أصْلِيَّةٌ، ثم يُقَوَّمُ وقد ذهبَتِ الزَّائدةُ. فإن كانتِ المرأةُ إذا قدَّرْنَاها ابنَ عشرين نَقَصَها ذَهابُ لِحْيَتها يَسِيرًا، وإن قدَّرْناها ابنَ أرْبعينَ نَقَصها كثيرًا، قدَّرْناها ابنَ عشرين؛ لأنَّه أقْرَبُ الأحْوالِ إلى حالِ المَجْنِىِّ عليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ تَقْويمَ الجُرحِ الذى لا يَنْقُصُ بعدَ الانْدِمالِ، [فإنَّنا نُقَوِّمُه] (¬1) في أقْرَبِ أحْوالِ النَّقْصِ إلى حالِ الانْدِمالِ. والأَوَّلُ أصَحُّ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، فإنَّ هذا لا مُقَدَّرَ فيه، ولم يَنْقُصْ شيئًا، فأشْبَهَ الضَّرْبَ، وتَضْمِينُ النَّقْصِ الحاصلِ حالَ جَرَيانِ الدَّمِ، إنَّما هو تَضْمِينُ الخَوْفِ عليه، وقد زالَ، فأَشْبَهَ ما لو لَطَمَه فاصْفَرَّ وَجْهُه [حالةَ اللَّطْمَةِ] (¬2) أو احْمَرَّ، ثم زالَ. وتَقْديرُ المرأةِ رَجُلًا لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ اللِّحْيَةَ زَيْنٌ للرَّجُلِ، وعَيْبٌ في المرأةِ، وتقْديرُ ما يَعيبُ بما يَزِينُ لا يَصِحُّ. وكذلك تَقْديرُ السِّنِّ في حالةٍ يُرادُ زَوالُها بحالةٍ تُكْرَهُ، لا يجوزُ؛ فإنَّ الشئَ يُقَدَّرُ بنَظيرِه، ويُقاسُ على مِثْلِه، لا على ضِدِّه، ومن قال بهذا الوَجْهِ، فإنَّما يُوجِبُ أدْنَى ما يُمْكِنُ إيجابُه (¬3)، وهو أقَلُّ نَقْصٍ يُمْكنُ تَقْديرُه. فصل: فإن لطَمَه على وَجْهِه فلم يُؤَثِّرْ في وَجْهِه، فلا ضَمانَ؛ لأنَّه لم يَنْقُصْ به جمالٌ ولا مَنفَعَةٌ، ولم يكنْ له حالٌ يَنْقُصُ فيها، فلما يَضْمَنْه، كما لو شَتَمَه. ¬

(¬1) في الأصل: «فأما تقويمه». (¬2) في الأصل، تش: «للطمة». (¬3) في الأصل: «الجناية».

باب العاقلة وما تحمله

بَابُ الْعَاقِلَةِ وَمَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَةُ الإِنْسَانِ عَصَبَاتُهُ كُلّهُمْ؛ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، إِلَّا عَمُودَىْ نَسَبِهِ، آبَاؤُهُ وَأبنَاؤُهُ. وَعَنْهُ، أَنَّهُمْ مِنَ الْعَاقِلَةِ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ العاقِلَةِ وما تحْمِلُه (عاقِلَةُ الإِنْسانِ عَصَباتُه كلُّهم، قَريبُهم وبعيدُهم مِن النَّسَبِ والوَلاءِ، إلَّا عَمُودَىْ نَسَبِه، آباؤُه وأبْناؤُه. وعنه، أنَّهم مِن العاقِلَةِ أيضًا) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمه اللَّهُ، في العاقلةِ، فرُوِىَ عنه أنَّهم جَمِيعُ العَصَباتِ مِن النَّسَبِ والوَلاءِ، يَدْخُلُ فيهم الآباءُ، والأبْناءُ، والإِخْوةُ، وسائِرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَصَباتِ مِن العُمُومةِ وأبْنائِهم. اخْتارَه أبو بكرٍ، والشَّريفُ أبو جعفرٍ. وهو مذهبُ مالكٍ وأبى حنيفة؛ لِما روَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: قَضَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ عَقْلَ المرأةِ بينَ عَصَبَتِها مَن كانوا لا يَرِثُون منها شيئًا إلَّا ما فضَلَ عن وَرَثَتِها، [وإن قُتِلَتْ فعَقْلُها بينَ ورَثَتِها] (¬1). رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّهم عَصَبةٌ، فأشْبَهُوا سائِرَ العَصَباتِ، يُحَقِّقُه أنَّ العَقْل موضوعٌ على التَّناصُرِ، وهم مِن أهْلِه، ولأَنَّ العَصَبةَ في تَحَمُّلِ العَقْلِ كهم في المِيراثِ، في تقْديمِ الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، وآباؤُه وأبناؤُه أحَقُّ العَصَباتِ بمِيراثِه، فكانوا أوْلَى بتَحَمُّلِ عَقْلِه. وفيه رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّ الآباءَ والأبْناءَ ليسوا مِن العاقلةِ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لِمَا روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: اقْتَتَلَتِ امْرأتانِ من هُذَيْلٍ، فرَمَتْ إحْداهما الأُخْرَى بحَجَرٍ، فقَتَلَتْها، فاختَصَمُوا إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، ووَرَّثَها ولَدَها [ومَنْ] (1) معهم. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب ديات الأعضاء، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 496. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 38. وابن ماجه، في: باب عقل المرأة على عصبتها وميراثها لولدها، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 884. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 224. وحسنه في الإرواء 7/ 332. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى روايةٍ: ثم ماتَتِ القاتِلَةُ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِيراثَها لبَنِيها، والعَقْلَ على العَصَبةِ (¬1). وفى رِوايةٍ عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: فجعلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِيَةَ المَقْتُولَةِ على عاقِلَتِها، وبَرَّأَ زَوْجَها ووَلَدَها. قال: فقالت عاقلةُ المَقْتُولَةِ: مِيراثُها لنا. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مِيراثُهَا لِزَوْجِهَا ووَلَدِهَا». رواه أبو داودَ (¬2). إذا ثبَتَ هذا في الأوْلادِ، قِسْنا عليه الوالدَ، لأنَّه في معْناه، ولأَنَّ مالَ ولَدِه ووَالِدِه كمالِه، ولهذا لم تُقْبَلْ شَهادَتُهِم له، ولا شَهادَتُه لهما (¬3)، ووجَبَ على كلِّ واحدٍ منهما الإِنْفاقُ على الآخَرِ إذا كان مُحْتاجًا والآخَرُ مُوسِرًا، فلا يجبُ في مالِه دِيَةٌ، كما لم تَجِبْ في مالِ القاتلِ. وفيه رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّ الإِخْوَةَ ليسوا مِن العاقلةِ، كالوالدِ والوَلَدِ. وهى ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ، وغيرُه مِن أصْحابِنا يَجْعَلُونهم مِن العاقلةِ بكلِّ حالٍ، ولا نعلمُ عن غيرِهم خِلافَهم. ¬

(¬1) هذه الرواية أخرجها البخارى، في: باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد. . .، من كتاب الديات. صحيح البخارى 9/ 14. ومسلم، في: باب دية الجنين. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1309. وأبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 499. والنسائى، في: باب دية جنين المرأة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 42. (¬2) في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 498. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب عقل المرأة على عصبتها وميراثها لولدها، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 884. (¬3) في م: «لهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الوَلَدُ ابنَ ابنِ عَمٍّ، أو كان الوالِدُ أو الوَلَدُ مَوْلًى أو عَصَبةَ مَوْلًى، فإنَّه يَعْقِلُ في ظاهرِ كلام أحمدَ. قاله القاضى. وقال أصْحابُ الشَّافعىِّ: لا يَعْقِلُ؛ لأنَّه والِدٌ ووَلَدٌ، فلم يَعْقِلْ، كما لو لم يَكُنْ كذلك. ولَنا، أنَّه ابنُ ابنِ عَمٍّ، أو مَوْلًى، فيَعْقِلُ، كما لو لم يكُنْ وَلَدًا؛ وذلك لأَنَّ هذه القَرابَةَ أو الوَلاءَ سَبَبٌ يَسْتَقِلُّ بالحُكْمِ مُنْفَرِدًا، فإذا وُجِدَ مع ما لا يُثْبِتُ الحُكْمَ أثْبَتَه، كما لو وُجِدَ مع الرَّحِمِ المُجَرَّدِ (¬1)، ولأنَّه يَثْبُتُ حُكْمُه في (2) القَرابةِ الأُخْرَى، بدليلِ أنَّه يَلى نِكاحَها، مع أنَّ الابنَ لا (¬2) يَلى النِّكاحَ عندَهم. فصل: وسائرُ العَصَباتِ مِن العاقلةِ، بَعُدوا أو قَرُبوا مِن النَّسَبِ، والمَوْلَى وعَصَبَتُه. وبهذا قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والنَّخَعِىّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشَّافعىُّ. ولا أعلمُ عن غيرِهم خِلافَهم؛ وذلك لأنَّهم عَصَبةٌ يَرِثُونَ المالَ إذا لم يَكُنْ وَارِثٌ أقْرَب منهم، فيَدْخُلونَ في العَقْلِ، كالقَريبِ، ولا يُعْتَبَرُ أن يكونوا وارِثِين في الحالِ، بل متى كانوا يَرِثُونَ لولا الحَجْبُ عَقَلُوا؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بالدِّيَةِ بينَ عَصَبةِ المرأةِ، مَن كانوا لا يَرِثُون منها إلا ما فَضَلَ عن وَرَثَتِها. ولأَنَّ المَوالِىَ مِن العَصَباتِ، فأشْبَهوا المُناسِبينَ. ¬

(¬1) في تش: «المحرم». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: العاقِلَةُ مَن تَحْمِلُ العَقْلَ. والعَقْلُ: الدِّيَةُ. سُمِّيَتْ عَقْلًا (¬1)؛ لأنَّها تَعْقِلُ لِسانَ وَلِىِّ المَقْتُولِ. وقيل: إنَّما سُمِّيَتِ العاقلةَ؛ لأنَّهم يَمْنَعُونَ عن القاتلِ، والعَقْلُ المَنْعُ، ولهذا سُمِّىَ بعضُ العُلُومِ عَقْلًا؛ لأنَّه يَمْنَعُ من الإِقْدامِ مِن المَضارِّ. ولا خِلافَ بين أهلِ العلمِ في أنَّ العاقِلَةَ العَصَباتُ، وأنَّ غَيْرَهم مِن الإِخْوَةِ مِن الأُمِّ، وسائر ذَوِى الأرْحامِ، والزَّوْجِ، وكلِّ من عدَا العَصباتِ، ليسوا مِن العاقلةِ. ولا يَعْقِلُ المَوْلَى من أسْفَلَ. وبه قال أبو حنيفةَ، وأصْحابُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: يَعْقِل؛ لأنَّهما شَخْصان يَعْقِل أحَدُهما صاحِبَه، فيَعْقِلُ الآخَرُ عنه، كالأخَوَين (¬2). ولَنا، أنَّه ليس بعَصَبةٍ له، ولا وَارِثٍ، فلها يَعْقِلْ عنه (¬3)، كالأجْنَبِىِّ، وما ذكَرُوه يَبْطُل بالذَّكَرِ مع الأُنْثَى، والصَّغيرِ مع الكبيرِ، والعاقلِ مع المَجْنُونِ. فصل: ولا يَعْقِل مَوْلى المُوالاةِ، وهو الذى يُوالى رَجُلًا يَجْعَلُ له ¬

(¬1) في م: «عاقلة». (¬2) في م: «كالآخرين». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلاءَه ونُصْرَتَه، ولا الحَليفُ، وهو الرجلُ يُحالِفُ آخَرَ على أن يَتَناصَرا على دَفْعِ الظُّلْمِ، وَيَتَضافَرا على مَن قَصَدَهُما أو قَصَدَ أحَدَهُما، ولا العَدِيدُ، وهو الذى لا عَشِيرةَ له، يَنْضَمُّ إلى العَشيرَةِ، فيَعُدُّ نَفْسَه منهم. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَعْقِلُ مَوْلَى المُوالاةِ ويَرِثُ. وقال مالكٌ: إذا كان الرجلُ في غيرِ عَشِيرَتِه، فعَقْلُه على القَوْمِ الذين هو معهم. ولَنا، أنَّه مَعْنًى يتَعَلَّقُ بالتَّعْصِيبِ، فلا يُسْتَحَقُّ بذلك، كوِلايةِ النِّكاحِ. فصل: ولا مَدْخَلَ لأهْلِ الدِّيوانِ في المُعاقَلَةِ (¬1). وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يتَحَمَّلُونَ جَمِيعَ الدِّيَةِ، فإن عُدِمُوا، فالأقارِبُ حِينئِذٍ يَعْقِلُونَ؛ لأَنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَعَلَ الدِّيَةَ على أهلِ (¬2) الدِّيوانِ في الأَعْطِيَةِ إلى ثلاثِ سِنِينَ (¬3). ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

(¬1) في الأصل، تش، م: «العاقلة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 313.

4331 - مسألة: (وليس على فقير، ولا صبى، ولا زائل العقل، ولا امرأة، ولا خنثى مشكل، ولا رقيق، ولا مخالف لدين الجانى، حمل شئ)

وَلَيْسَ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا صَبِىٍّ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٍ، وَلَا رَقِيقٍ، وَلَا مُخَالفٍ لِدِينِ الْجَانِى، حَمْلُ شَىْءٍ. وَعَنْهُ، أَنَّ الْفَقِيرَ يَحْمِلُ مِنَ الْعَقْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَضَى بالدِّيَةِ على عَصَبةِ القاتلةِ. ولأنَّه مَعْنًى لا يُسْتَحَقُّ به المِيراثُ، فلم يُحْمَلْ به العَقْلُ، كالجوارِ واتِّفاقِ المَذاهبِ، وقَضاءُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْلَى مِن قَضَاءِ عمرَ، على أَنَّه إن صَحَّ ما ذُكِرَ عنه، فيَحْتَمِلُ أنَّهم كانوا عَشِيرةَ القاتلِ. 4331 - مسألة: (وليس على فَقِيرٍ، ولا صَبِىٍّ، ولا زائِلِ العَقْلِ، ولا امْرأةٍ، ولَا خُنْثَى مُشْكِلٍ، ولا رَقِيقٍ، ولا مُخالِفٍ لدِين الجانِى، حَمْلُ شَىْء) مِن الدِّيَةِ (وعنه، أنَّ الفَقِيرَ يَحْمِلُ مِن العَقْلِ) أكثرُ أَهْلِ العلمِ على أنَّه لا مَدْخَلَ لأحدٍ مِن هؤلاء في تَحَمُّلِ العَقْلِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَع كلُّ من نَحْفَظُ عنه مِن أَهلِ العلمِ، على أنَّ المرأةَ، والصَّبِىَّ الذى [لم يَبْلُغْ] (¬2)، لا يَعْقِلانِ مع العاقلةِ، وأجْمَعُوا على أنَّ الفَقِيرَ لا يَلْزَمُه شئٌ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 127، والإجماع 74. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَكَى بعضُ أصْحابِنا عن مالكٍ وأبى حنيفةَ، أنَّ للفقيرِ مَدْخَلًا في التَّحَمُّلِ. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. وحكاها أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه مِن أهلِ النُّصْرَةِ، فكان مِن العاقلةِ كالغَنِىِّ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ تَحَمُّلَ العَقْلِ مُواساةٌ، فلا تَلْزَمُ الفقيرَ كالزَّكاةِ، ولأنَّها وجَبَتْ على العاقلةِ تَخْفِيفًا على القاتلِ، فلا يجوزُ التَّثقِيلُ بها على مَن لا جِنايةَ منه، وفى إيجابِها على الفقيرِ تَثْقِيلٌ عليه، وتَكْلِيفٌ له ما لا يَقْدِرُ عليه، ولأنَّنا أجْمَعْنا على أنَّه لا يُكَلَّفُ أحَدٌ مِن العاقلةِ ما يَثْقُلُ عليه، ويُجْحِفُ به، وتَحْمِيلُ الفَقِيرِ شيئًا منها يَثْقُلُ (¬1) عليه، ويُجْحِفُ بمالِه، وربَّما كان الواجبُ عليه جَمِيعَ مالِه، أو أكثرَ منه، أو لا يكونُ له شئٌ أصْلًا. وأمَّا الصَّبِىُّ والمجنونُ والمرأةُ، فلا يَحْمِلُونَ منها؛ لأَنَّ فيها مَعْنَى التَّناصُرِ، وليس هم مِن أَهْلِ النُّصْرَةِ. وكذلك المُخالِف في الدِّينِ، ليس هو مِن أَهْلِ النُّصْرَةِ أيضًا. ¬

(¬1) في الأصل: «مثقلة».

4332 - مسألة: (ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر)

وَيَحْمِلُ الْغَائِبُ كَمَا يَحْمِلُ الْحَاضِرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4332 - مسألة: (ويَحْمِلُ الغائِبُ كما يَحْمِلُ الحاضِرُ) وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال مالكٌ: يخْتَصُّ به الحاضِرُ؛ لأَنَّ التَّحَمُّلِ بالنُّصْرَةِ، وإنَّما هى مِن الحاضِرِينَ، ولأَنَّ في قَسْمِه على الجَميعِ مَشَقَّةً. وعن الشَّافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، الخَبَرُ، [وأَنَّهم] (¬1) اسْتَووا في التَّعْصِيبِ والإِرْثِ، فاسْتَوَوْا في تَحَمُّلِ العَقْلِ، كالحاضِرِينَ، ولأنَّه مَعْنًى يتَعَلَّقُ بالتَّعْصِيبِ، فاسْتَوَى فيه الحاضِرُ والغائِبُ، كالمِيراثِ والولَايةِ. فصل: ويَعْقِلُ المريضُ إذا لم يَبْلُغْ حَدَّ الزَّمانةِ، والشَّيْخُ إذا لم يَبْلُغْ حَدَّ الهَرَمِ؛ لأنَّهما مِن أهلِ النُّصْرَةِ والمُواساةِ. وفى الزَّمِنِ والشَّيْخِ الفانِى وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَعْقِلَانِ؛ لأنَّهما ليسا مِن أَهْلِ النُّصْرَةِ، ولهذا لا يجبُ عليهما الجِهادُ، ولا يُقْتَلانِ إذا كانا مِن أَهْلِ الحَرْبِ. وكذلك يُخَرَّجُ في الأعْمَى، لأنَّه مِثْلُهما في هذا المَعْنَى. والثانى، يَعْقِلُونَ؛ لأنَّهم مِن أهلِ المُواساةِ، ولهذا تجبُ عليهم الزَّكاةُ. وهذا مُنْتَقِضٌ بالصَّبِىِّ والمَجْنُونِ. ومذهبُ الشافعىِّ [في هذا] (¬2) كمَذْهَبِنَا. ¬

(¬1) في الأصل: «فإنهم». (¬2) سقط من: م.

4333 - مسألة: (وخطأ الإمام والحاكم فى أحكامه فى بيت المال. وعنه، على عاقلته)

وَخَطَأُ الإِمَامِ وَالْحَاكِمِ في أَحكَامِهِ في بَيْتِ الْمَالِ. وَعَنْهُ، عَلَى عَاقِلَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4333 - مسألة: (وخَطأُ الإمام والحاكِمِ في أحْكامِه في بَيْتِ المَالِ. وعنه، على عاقِلَتِه) لأَنَّ خَطَأَه يَكثُرُ في أحْكامِه، فإيجابُ ما يجبُ به (¬1) على عاقِلَتِه يُجْحِفُ بهم. وبه قال الأوزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وإسْحاقُ، لأَنَّ الإِمامَ والحاكم نائِبٌ عن اللَّهِ تعالى في أحْكامِه وأفْعالِه، فكان أَرْشُ جِنايَتِه في مال اللَّهِ سبحانَه. وللشافعىِّ قَوْلان كالرِّوايتَيْن. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يجبُ على عاقِلَتِه؛ لما رُوِى أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بَعَثَ إلى امرأةٍ مُغِيبَةٍ، كان يُدْخَل عليها، فقالت: يا وَيْلَها، مالها ولعمرَ. فأسْقَطَتْ ولدًا، فصاح الصَّبِىُّ صَيْحَتَيْن ثم مات، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4334 - مسألة: (وهل يتعاقل أهل الذمة؟ على روايتين)

وَهَلْ يَتَعَاقَلُ أَهْلُ الذِّمَّةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فاسْتَشارَ عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أصْحابَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأشارَ بعضُهم أن ليس عليك شئٌ، إنَّما أنت والٍ ومُؤَدِّبٌ. فقال علىٌّ: إن كانوا قالوا (¬1) برأْيِهم، فقد أخْطَأَ (¬2) رأْيُهم، وإن كانوا في هَواكَ، فلم يَنْصَحُوا لك، إنَّ دِيَتَه عليك؛ لأنَّك أفْزَعْتَها فألْقَتْه. فقال عمرُ: أقْسَمْتُ عليك أن لا تَبْرَحَ حتى تَقْسِمَها على قَوْمِكَ (¬3). 4334 - مسألة: (وهل يَتَعاقَلُ أهْلُ الذِّمَّةِ؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، يَتَعاقَلون، قِياسًا على المسلمِين؛ لأَنَّ قَرابَتَهم تَقْتَضِى التَّوْرِيثَ، فاقْتَضتِ التَّعاقُل (¬4)، كالمُسلِمِين، ولأَنَّ دِياتِهم دِياتُ أحْرارٍ معْصُومِينَ، فأشْبَهَتْ دِياتِ المُسْلِمين. والثانيةُ، لا يتَعاقَلُون؛ لأَنَّ حَمْلَ العاقِلَةِ ثَبَتَ على خِلافِ الأَصْلِ لحُرْمَةِ قَرابةِ المُسْلِمِين، فلا يُقاسُ عليهم غيرُهم؛ لأنَّهم لا يُساوُونَهم في الحُرْمَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أخطأوا». (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 360. (¬4) في الأصل: «فاقضت العاقلة».

4335 - مسألة: (ولا يعقل حربى عن ذمى، ولا ذمى عن حربى)

وَلَا يَعْقِلُ ذِمِّىٌّ عَنْ حَرْبِىٍّ، وَلَا حَرْبِىٌّ عَنْ ذِمِّىٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4335 - مسألة: (ولا يَعْقِلُ حَرْبِىٌّ عن ذمِّىٍّ، ولَا ذمِّىٌّ عن حَرْبِىٍّ) لأنَّه لا يَرِثُ بعضُهم مِن بعضٍ، فلا يَعْقِلُ بَعضُهم عن بَعضٍ، كغيرِ العَصباتِ. وفى الميراثِ احْتِمالٌ أنَّهما يتَوارثان، فيُخَرَّجُ في التَّعاقُل مثلُ ذلك. ولا يَعْقِلُ يَهُودِىٌّ عن نَصْرانِىٍّ، ولا نَصْرَانِىٌّ عن يَهُوىٍّ؛ لأنَّه لا مُوالَاةَ بينَهم. [وهم أهْلُ مِلَّتَيْن مُخْتَلِفَتَيْن] (¬1). ويَحْتَمِلُ أن يَتَعاقَلا، بِناءً على الرِّوايتَيْن في توارُثِهما. فإن تَهَوَّدَ نَصْرانِىٌّ، أو تَنَصَّرَ يَهُودِىٌّ، وقُلْنا: إنَّه يُقَرُّ. عَقَلَ عنه عَصَبَتُه مِن أهلِ الدِّينِ الذى انْتَقَلَ إليه. وهل يَعْقِلُ عنه الذين انْتَقَلَ عن دِينهِم؟ على وَجْهَيْنِ. وإن قُلْنا: لا يُقَرُّ. لم يَعْقِلْ عنه أحَدٌ؛ لأنَّه كالمُرْتَدِّ، والمُرْتَدُّ لا يَعْقِلُ عنه أحَدٌ؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

4336 - مسألة: (ومن لا عاقلة له، أو لم تكن له عاقلة تحمل الجميع، فالدية أو باقيها عليه إن كان ذميا)

وَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَحْمِلُ الْجَمِيعَ، فَالدِّيَةُ أَوْ بَاقِيهَا كَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه ليس بمُسْلِمٍ فيَعْقِلَ عنه المسلمون، ولا ذِمِّىٍّ فيَعْقِلَ عنه أهلُ الذِّمَّةِ، فتكون جِنايَتُه في مالِه. وكذلك كلُّ مَن لا تَحْمِلُ عاقِلَتُه جِنايَتَه، يكونُ مُوجَبُها في مالِه، كسائرِ الجِناياتِ التى لا (¬1) تَحْمِلُها العاقِلَةُ. 4336 - مسألة: (ومَن لا عاقِلَةَ له، أو لم تَكُنْ له عاقِلَةٌ تَحْمِلُ الجَمِيعَ، فالدِّيَةُ أو باقِيها عليه إن كان ذِمِّيًّا) لأَنَّ بيتَ المالِ لا يَعْقِلُ عنه (وإن كان مُسْلِمًا) ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، يُؤَدَّى عنه مِن بَيْتِ المالِ. وهو مذهَبُ الزُّهْرِىِّ، والشافعىِّ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَى الأنْصارِىَّ الذى قُتِلَ بخَيْبَرَ مِن بيتِ المالِ (¬2). ورُوِىَ أنَّ رَجُلًا قُتِلَ في زِحام في زَمَنِ عمرَ، فلم يُعْرَفْ قاتِلُه، فقال علىٌّ لعمرَ: يا أميرَ المؤمنين، لا يُطَلُّ (¬3) دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. فأدَّى دِيَتَه مِن بَيْتِ المالِ (¬4). ولأَنَّ المُسْلمين يَرِثُونَ مَن لا وارِثَ له، فيَعقِلُونَ عنه عندَ عَدَمِ عاقِلَتِه، كعَصَباتِه ومَوالِيه. والثانيةُ، لا يجبُ ذلك؛ لأَنَّ بَيْتَ المالِ فيه حَقٌّ للنِّساءِ والصِّبْيانِ والمَجانِين ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 378. (¬3) في الأصل: «تبطل». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من قتل في زحام، من كتاب العقول. المصنف 10/ 51. وابن أبى شيبة، في: باب الرجل يقتل في الزحام، من كتاب الديات. المصنف 9/ 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والفُقَراءِ ومَن لا عَقْلَ عليه، فلا يَجُوز (¬1) صَرْفُه فيما لا يجبُ عليهم، ولأَنَّ العَقْلَ على العَصَباتِ، وليس بيتُ المالِ عَصبةً، ولا هو كعَصَبَةٍ، هذا فأمَّا قَتِيلُ الأنْصارِ، فغيرُ لازِم، لأَنَّ ذلك [قَتِيلُ اليَهُودِ] (¬2)، وبَيْتُ المالِ لا يَعْقِلُ عن الكُفَّارِ بحالٍ، وإنَّما النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَفَضَّلَ بذلك عليهم. وقولُهم: إنَّهم يَرِثُونه. قُلْنا: ليس صَرْفُه إلى بَيْتِ المالِ مِيراثًا، بل هو (¬3) فَىْءٌ، ولهذا يُؤْخَذُ مالُ مَن لا وارِثَ له مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ إلى بَيْتِ المالِ، ولا يَرِثُه المسلمون، ثم إنَّ العَقْلَ لا يجبُ على الوارِثِ إذا لم يَكُنْ عَصبَةٌ، ويجبُ على (¬4) العَصَبةِ وإن لم يَكُنْ وارِثًا. فعلى الرِّوايةِ الأُولَى، إذا لم يَكُنْ له عاقلةٌ، أُديتِ الدِّيَةُ كلُّها عنه مِن بيتِ المالِ، وإن كان له عاقلةٌ لا تَحْمِلُ الجَميعَ، أُخِذَ الباقى مِن بَيْتِ المالِ. وهل يُؤدَّى مِن بيتِ المالِ دَفْعَةً واحدةً، أو [في ثلاثِ سِنِينَ؟ على وَجْهَيْن، أحَدُهما] (¬5)، في ثلاثِ سِنِينَ، كما ¬

(¬1) في م: «يجب». (¬2) في الأصل: «قتل يهودى». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في تش: «أهل». (¬5) سقط من: الأصل.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، فَلَا شَىْءَ عَلَى الْقَاتِلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُؤْخَذُ مِن العاقلةِ. والثانى، يُؤدَّى دَفْعَةً وِاحدة. وهو الصَّحِيحُ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أدَّى دِيَةَ الأنْصارِىِّ دَفْعَةً واحدةَ، وكذلك عمرُ، ولأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ مُتْلَفٍ لا تُؤدِّيه العاقلةُ، فيَجبُ كلُّه في الحالِ، كسائرِ أبْدالِ المُتْلَفاتِ، وإنَّما أُجِّلَ على العاقلةِ تَخْفِيفًا عنهما، ولا حاجَةَ إلى ذلك في بيتِ المالِ، ولهذا يُؤدِّى الجَمِيعَ. فصل: (فإن لم يُمْكنِ) الأخذُ من بيتِ المال (فليس على القاتل شئٌ) وهذا أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ ولأَنَّ الدِّيَةَ لَزِمَتِ العاقلةَ ابْتِداءً، بدليلِ أنَّها لا يُطالَبُ بها غيرُهم، ولا يُعْتَبَرُ تَحَمُّلُهم ولا رِضَاهما بها (¬1)، ولا تَجِبُ على غيرِ مَن وجَبَتْ عليه، كما لو عُدِمَ القاتِل، فإنَّ الدِّيَةَ لا تَجِبُ على أحَدٍ، ¬

(¬1) سقط من: م.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ في مَالِ الْقَاتِلِ. وَهُوَ أَوْلَى، كَمَا قَالُوا في ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا ههُنا. فعلى هذا، إن وُجِدَ بعضُ العاقلةِ، حُمِّلُوا بقِسْطِهم، وسَقَطَ الباقى، فلا يَجِبُ على أحدٍ. قال شيْخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ في مالِ القاتلِ) إذا تَعَذَّرَ حَمْلُها عنه. وهذا القولُ الثانى للشافعىِّ؛ لعُمومِ قولِه تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬1). ولأَنَّ قَضِيَّةَ الدليلِ وُجُوبُها على الجانِى (¬2) جَبْرًا للمَحَلِّ الذى فَوَّتَه، وإنَّما سَقَط عن القاتلِ؛ لقِيامِ العاقلةِ مَقامَه في جَبْرِ المَحَلِّ، فإذا لم يُوجَدْ ذلك، بَقِىَ واجِبًا عليه بمُقْتَضَى ¬

(¬1) سورة النساء 92. (¬2) في الأصل: «الثانى».

الْمُرْتَدِّ: يجبُ أَرْشُ خَطَئِهِ في مَالِهِ. وَلَوْ رَمَى وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّليلِ، ولأَنَّ الأمْرَ دائرٌ بينَ أن يُطَلَّ (¬1) دَمُ المَقْتُولِ وبينَ إيجابِ دِيَتِه على المُتْلِفِ، لا يجوزُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ فيه مُخالَفَةَ الكتابِ والسُّنَّة وقِياسِ أُصُولِ الشَّريعةِ، فتَعَيَّنَ الثانى، ولأَنَّ إهْدارَ الدَّمِ المَضْمُونِ لا نظِيرَ له، وإيجابُ الدِّيَةِ على قاتلِ الخَطَأ له نَظائِرُ، وقد قالُوا في المُرْتَدِّ: تَجِبُ الدِّيَة في مالِه لَمَّا لم يَكُنْ له (¬2) عاقلةٌ، والذِّمِّىُّ الذى لا عاقِلَةَ له، تَلْزَمُه الدِّيَةُ، ومَن رَمَى سَهْمًا ثم أسْلَم، أو كان مُسْلِمًا فارْتَدَّ، أو كان عليه الوَلاءُ لمَوالِى ¬

(¬1) في الأصل: «يبطل». (¬2) سقط من: م.

يُصِبِ السَّهْمُ حَتَّى ارْتَدَّ، كَانَ عَلَيْهِ في مَالِهِ. ولَوْ رَمَى الْكَافِرُ سَهْمًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ قَتَلَ السَّهْمُ إِنْسَانًا، فَدِيَتُهُ في مَالِهِ، وَلَوْ جَنَى ابْنُ الْمُعْتَقَةِ ثُمَّ انْجَرَّ وَلَاؤُهُ ثُمَّ سَرَتْ جِنَايَتُهُ، فَأرْشُ الْجِنَايَةِ في مَالِهِ؛ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ الْعَاقِلَةِ. فَكَذا هَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمِّه فانْجَرَّ إلى مَوالِى أبيه، ثم أصابَ سهمُه إنْسانًا، فنقولُ: قَتِيلٌ (¬1) في دارِ (¬2) الإِسْلامِ مَعْصَومٌ، تَعَذَّرَ حَمْلُ عاقِلَتِه عَقْلَه، [فوجب على قاتِلِه، كهذه الصُّوَرِ] (¬3). وهذا أوْلَى مِن إهْدارِ دِماءِ الأحْرارِ في أغْلَبِ الأحْوالِ، فإنَّه لا يَكادُ يُوجَدُ عاقلةٌ تَحْمِلُ الدِّيَةَ كلَّها، ولا سبِيلَ إلى الأخْذِ مِن بيتِ المالِ، فتَضيعُ الدِّماءُ، وتَفُوتُ حِكْمَةُ إيجابِ الدِّيَةِ. قولُهم: إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ على العاقلةِ (¬4) ابْتِداءً. مَمْنُوعٌ، وإنَّما تجبُ على القاتِلِ، ثم تَتَحَمَّلُها العاقلةُ عنه (¬5)، وإن سَلَّمْنا وُجُوبَها عليهم ابْتِداءً، لكنْ مع ¬

(¬1) في الأصل: «قتل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فوجبت على هذه الصورة». (¬4) بعده في م: «عنه». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وُجُودِهم، أمَّا مع عَدَمِهم، فلا يُمْكِنُ القَوْلُ بوُجُوبِها عليهم. ثم ما ذكَرُوه مَنْقُوضٌ بما أبدَيْنَاه (¬1) مِن الصُّوَرِ. فعلى هذا، تَجِبُ الدِّيَةُ على القاتلِ إن تَعَذَّرَ حَمْلُ جَمِيعِها، أو باقِيها إن حَمَلَتِ العاقلةُ بعضَها. واللَّهُ أعلمُ. فصل: ولو رَمَى ذِمِّىٌّ (¬2) صَيْدًا، ثم أسْلَمَ، ثم أصابَ السَّهْمُ آدَمِيًّا (¬3) فقَتَلَه، لمِ يَعْقِلْه المسلمون؛ لأنَّه لم يَكُنْ مُسْلِمًا حالَ رَمْيِه، ولا المُعاهِدُون، لأنَّه قَتَلَ مُسْلِمًا، فتكونُ الدِّيَةُ في مالِ الجانِى. وهكذا لو رَمَى وهو مُسْلِمٌ، ثم ارْتَدَّ، ثم قَتَلَ السَّهْمُ إنْسانًا، لم يَعْقِلْه أحدٌ. ولو جَرَحَ ذِمىٌّ ذِمِّيًّا، ثم أسْلَم الجارِحُ، ومات المجروحُ، وكان أَرْشُ جِراحِه يَزِيدُ على الثُّلُثِ، فعَقْلُه على عَصَبَتِه مِن أهلِ الذِّمَّةِ، وما زادَ على أَرْشِ الجُرْحِ لا يَحْمِلُه أحدٌ، ويكونُ في مالِ الجانِى؛ لِمَا ذكَرْنا. فإن لم يَكُنْ أَرْشُ الجُرْحِ ممَّا تَحْمِلُه العاقلةُ، فجميعُ الدِّيَةِ على الجانِى. وكذلك الحُكمُ إذا جَرَح مُسْلِمٌ ثم ارْتَدَّ. ويَحْتَمِلُ أن تَحْمِلَ العاقلةُ الدِّيَةَ كلَّها في المَسْألتَيْن؛ لأَنَّ الجِنايةَ وُجِدَتْ وهو ممَّن تَحْمِلُ العاقلةُ جِنايَتَه، ولهذا وجَب القِصاصُ في المَسْألَةِ الأُولَى إذا قَتَلَه عَمْدًا. ويَحْتَمِلُ أن لا تَحْمِلَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أثبتناه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل، تش: «ذميا».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا صُلْحًا، وَلَا اعْتِرَافًا، وَلَا مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ في مَالِ الْجَانِى ـــــــــــــــــــــــــــــ العاقلةُ شيئًا؛ لأَنَّ الأَرْشَ إنَّما يسْتَقِرُّ بانْدِمالِ الجُرْحِ وسِرايَتِه. فصل: إذا تزَوَّجَ عَبْدٌ مُعْتَقَةً، فأوْلَدَها أوْلادًا، فوَلاؤُهم لمَوْلَى أُمِّهِم (¬1)، فإن جَنَى أحَدُهم، فالعَقلُ على مَوْلَى أُمِّه، لأنَّه عَصَبَتُه ووارِثُه، فإن عَتَق أبُوه، ثم سَرَتِ الجِنايةُ، أو رَمَى بسَهْمٍ فلم يَقَحِ السَّهْمُ حتى عَتَق أبُوه، لم يَحْمِلْ عَقْلَه أحَدٌ، لأَنَّ مَوالِى الأُمِّ قد زالَ وَلاؤُهم عنه قبلَ قَتْلِه، ومَوالِىَ الأدب لم يَكُنْ لهم عليه وَلاءٌ حالَ جِنايَتِه، فتكونُ الدِّيَةُ عليه في مالِه، إلَّا أن يكونَ أَرْش الجُرْحِ ممَّا تَحْمِلُه العاقلةُ مُنْفَرِدًا، فيُخَرَّجُ فيه مِثْلُ ما قُلْناه في المسألةِ التى قبلَها. 4337 - مسألة: (ولَا تَحْمِلُ العاقِلَةُ عَمْدًا، ولا عَبْدًا، ولا صُلْحًا، ولا اعْتِرافًا، ولَا مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، ويَكُونُ ذلك في مالِ ¬

(¬1) في الأصل: «أبيهم».

حَالًّا، إِلَّا غُرَّةَ الْجَنِينِ إِذَا مَاتَ مَعَ أُمِّهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُهَا مَعَ دِيَةِ أُمِّهِ، وَإِنْ مَاتَا مُنْفَرِدَيْنِ، لَمْ تَحْمِلْهَا الْعَاقِلَةُ؛ لِنَقْصِهَا عَنِ الثُّلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِى حالًّا، إلَّا غُرَّةَ الجَنِينِ إذا مات مع أُمِّهِ، فَإنَّ العاقِلَةَ تَحْمِلُها مع دِيَةِ أُمِّهِ، وإن ماتا مُنْفَرِدَيْن، لم تَحْمِلْهَا العاقِلَةُ، لنَقْصِها عن الثُّلُثِ) وجملةُ ذلك، أنَّ العاقلةَ لا تَحْمِلُ العَمْدَ، سواءٌ كان ممَّا يَجِبُ القِصاصُ فيه أو لا يجبُ، ولا خِلافَ في أنَّها لا تَحْمِلُ دِيَةَ ما يَجِبُ فيه القِصاصُ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّها لا تَحْمِلُ العَمْدَ بحالٍ. وحُكِىَ عن مالكٍ أنَّها تَحْمِلُ الجِناياتِ التى لا قِصاصَ فيها، كالمأْمُومَةِ والجَائِفةِ. وهذا قولُ قَتادةَ؛ لأنَّها جِنايةٌ لا قِصاصَ فيها، فأشْبَهَتْ جِنايةَ الخَطَأ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لا تَحْمِلُ العَاقِلَةُ عَمْدًا، ولا عَبْدًا، ولَا صُلْحًا، ولَا اعْتِرافًا» (¬1). ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ مَوْقُوفًا، ولم نَعْرِفْ له في الصَّحابةِ مُخالِفًا، فيكونُ إجْماعًا، ولأنَّها جِنايةُ عَمْدٍ، فلا تَحْمِلُها العاقلةُ، كالمُوجِبَةِ للقِصاصِ، وجِنايةِ الأبِ على ابْنِه، ولأَنَّ حَمْلَ العاقلةِ إنَّما يثْبُتُ في الخَطأ، لكَوْنِ الجانِى مَعْذُورًا، ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من قال: لا تحمل العاقلة عمدًا. . .، من كتاب الديات. السنن الكبرى 8/ 104. موقوفا على ابن عباس بسند حسن. وأخرج الدارقطنى في: سننه 4/ 178 من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا». وإسناده واه. انظر: تلخيص الحبير 4/ 31، 32، وإرواء الغليل 7/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَخْفِيفًا عنه، ومُواساةً له، والعامِدُ غيرُ مَعْذُورٍ، فلا يَسْتَحِقُّ المُواساةَ ولا التَّخْفِيفَ، فلم يُوجَدْ فيه المُقْتَضى. وبهذا فارَقَ العَمْدُ الخَطَأ، ثم يَبْطُلُ ما ذكَرُوه بقَتْلِ الأبِ ابْنَه، فإنَّه لا قِصاصَ فيه، ولا تَحْمِلُه العاقلةُ. فصل: فإنِ اقْتَصَّ بحَدِيدةٍ مَسْمُومةٍ، فسَرَى إلى النَّفْسِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَحْمِلُه العاقلةُ؛ لأنَّه ليس بعَمْدٍ مَحْضٍ، أشْبَهَ عَمْدَ الخَطَأ. والثانى، لا تَحْمِلُه؛ لأنَّه [قَتَلَ بآلةٍ] (¬1) يَقْتُلُ مِثْلُها غالِبًا، فأشْبَهَ مَن له القِصاصُ. ولو وَكَّلَ في اسْتِيفاءِ القِصاصِ، ثم عَفَا عنه، فقَتَلَه الوَكِيلُ مِن غيرِ عِلْم بعَفْوِه، فقال القاضى: لا تَحْمِلُه العاقلةُ؛ لأنَّه عَمَد قَتْلَه. وقال أبو الخَطَّابِ: تَحْمِلُه؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ الجِنايةَ، وِمثلُ هذا يُعَدُّ خَطَأً، بدليلِ ما لو قَتَل في دارِ الحَرْبِ مُسْلِمًا يَظُنُّه حَرْبِيًّا، فإنه عَمَد قَتْلَه، وهو أحَدُ نَوْعَىِ الخَطَأ. وهذا أصَحُّ. ولأصْحابِ الشَّافعىِّ وَجْهان كهذين. فصل: ولا تَحْمِلُ العاقلة العَبْدَ. يَعْنِى إذا قَتَلٍ العَبْدَ قاتِلٌ، وجَبَتْ قِيمَتُه في مالِ القاتلِ، ولا شئ على عاقِلَتِه، خَطَأ كان أو عَمْدًا. وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، والشَّعْبِىِّ، والثَّوْرِىِّ، ومَكْحُولٍ، والنَّخَعِىِّ، والبَتِّىِّ، ومالكٍ، واللَّيْثِ، وابنِ أبِى لَيْلَى، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وقال عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، وأبو حنيفةَ: تَحْمِلُه العاقلةُ؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه آدمِىٌّ يَجِبُ بقَتْلِه القِصَاصُ والكفَّارةُ، فحمَلَتِ العاقلةُ بَدَلَه، كالحُرِّ. وعن الشَّافعىِّ كالمَذْهبَيْن. ووافَقَنا أبو حنيفةَ في دِيَةِ أطْرافِه. ولَنا، حديثُ ابنِ عباسٍ، ولأَنَّ الواجِبَ فيه قِيمَة تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ صِفاتِه، فلم تَحْمِلْه العاقلةُ، كسائرِ القيَمِ، ولأنَّه حَيوان لا تَحْمِل العاقلةُ قيمةَ (¬1) أطرَافِه، فلم تَحْمِلِ الواجِبَ في نفْسِه، كالفَرَسِ. فصل: ولا تَحْمِلُ الصُّلْحَ. ومَعْناه أن يَدَّعِىَ عليه القَتْلَ، فيُنْكِرَه ويُصالِحَ (¬2) المُدَّعِىَ على مالٍ، فلا تَحْمِلُه العاقِلَةُ؛ لأنَّه مالٌ ثَبَتَ بمُصالَحَتِه واخْتِيارِه، فلم تَحْمِلْه العاقلةُ، كالذى ثَبَتَ باعْتِرافِه. وقال القاضى: معناه أَنْ يُصالِحَ الأوْلِياءَ عن دَمِ العَمْدِ إلى الدِّيَةِ. والتَّفْسِيرُ الأَوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ هذا عَمْدٌ يُسْتَغْنَى عنه بذِكْرِ العَمْدِ. وممَّن قال: لا تَحْمِلُ العاقلةُ الصُّلْحَ ابنُ عَبّاسٍ، والزُّهْرِىُّ، والشَّعْبِىُّ، والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، والشَّافعىُّ. وقد ذكَرْنا حديثَ ابنِ عباسٍ فيه، ولأنَّه لو حَمَلَتْه العاقلةُ، أدَّى إلى أن يُصالِحَ بمالِ غيرِه، ويُوجِبَ عليه حَقًّا بقَوْلِه. فصل: ولا تَحْمِلُ الاعْتِرافَ. وهو أن يُقِرَّ الإِنْسانُ على نفْسِه بقَتْلٍ خَطَأ، أو شِبْهِ عَمْدٍ، فتَجِبُ الدِّيَةُ عليه، فلا تَحْمِلُه العاقلةُ. ¬

(¬1) في ق، م: «دية». (¬2) في الأصل، تش: «يصالحه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وبه قال ابنُ عباسٍ، والشَّعْبِىُّ، والحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزِيزِ، والزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى، وقد ذكرْنا حديثَ ابنِ عباسٍ فيه، ولأنَّه لو وَجَبَ عليهم، لوَجَبَ بإقْرارِ (¬1) غيرِهم، ولا يُقْبَلُ إقْرارُ شخْصٍ على غيرِه، ولأنَّه مُتَّهَمٌ في أن يُواطِئَ مَنْ يُقِرُّ له بذلك ليأخُذَ الدِّيَةَ مِن عاقِلَتِه، فيُقاسِمَه إيَّاها. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَلْزَمُه ما اعْتَرَفَ به، وتَجِبُ الدِّيَةُ عليه حالَّةً في مالِه، في قولِ الأكْثَرِين. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ عبدِ الحَكَمَ: لا يَلْزَمُه شئٌ، ولا يَصِحُّ إقْرارُه؛ لأنَّه مُقِرٌّ على غيرِه لا (¬2) على نَفْسِه، ولأنَّه لم يَثْبُتْ مُوجَبُ إقْرارِه، فكان باطِلًا، كما لو أقَرَّ على غيرِه بالقَتْلِ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ ¬

(¬1) في الأصل: «بإقراره»، وفى تش: «بأقراره على». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إِلَى أَهْلِهِ}. ولأنَّه مُقِرٌّ على نفْسِه بالجِنايةِ المُوجِبَةِ للمالِ، فصَحَّ إقْرارُه، كما لو أقَرَّ بإتْلافِ مالٍ، أو بما لا (¬1) تَحْمِلُ دِيَتَه العاقلةُ، ولأنَّه مَحَلٌّ مَضْمَونٌ، فيُضْمَنُ إذا اعْتَرَفَ به، كسائرِ المَحالِّ، وإنَّما سقَطَتْ عنه الدِّيَةُ في مَحَلِّ الوِفَاقِ، لتَحَمُّلِ العاقِلَةِ لها، فإذا لم تَحْمِلْها، وجَبَتْ عليه، كجِنايةِ المُرْتَدِّ. فصل: ولا تَحْمِلُ العاقلةُ ما دُونَ الثُّلُثِ. وبهذا قالَ سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، ومالكٌ، وإسْحاقُ، وعبدُ العزيزِ بنُ أبى سَلَمَةَ. وقال الزُّهْرِىُّ: لا تَحْمِلُ الثُّلُثَ أيضًا. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ. تَحْمِلُ السِّنَّ (¬2) والمُوضِحَةَ وما فَوْقَهما؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَلَ الغُرَّةَ التى في الجَنِينِ على العاقِلَةِ (¬3)، وقِيمَتُها نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، ولا تَحْمِلُ ما دُونَ ذلك؛ لأنَّه ليس فيه أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. والصَّحِيحُ عن الشَّافعىِّ أنَّها تَحْمِلُ القَلِيلَ والكثيرَ؛ لأَنَّ مَن حَمَلَ الكثيرَ حَمَلَ القليلَ، كالجانِى في العَمْدِ. ولَنا، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الشين». (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 411.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قَضَى في الدِّيَةِ أن لا يُحْمَلَ منها شئٌ حتى تَبْلُغَ عَقْلَ المأْمُومَةِ. ولأَنَّ مُقْتَضَى الأَصْلِ وُجُوبُ الضَّمانِ على الجانِى؛ لأنَّه مُو جَبُ جِنايَتِه، وبَدَلُ مُتْلَفِه، فكانَ عليه، كسائرِ الجِناياتِ والمُتْلَفاتِ، وإنَّما خُولِفَ في الثُّلُثِ تَخْفِيفًا عن الجانِى، لكَوْنِه كثيرًا يُجْحِفُ به، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ» (¬1). ففِيما دُونَه يَبْقَى على قَضِيَّةِ الأَصْلِ ومُقْتَضَى الدَّليلِ، وهذا حُجَّةٌ على الزُّهْرِىِّ؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَلَ الثُّلُثَ كثيرًا، فأمَّا دِيَةُ الجَنِينِ، فلا تَحْمِلُها العاقلةُ إلَّا إذا ماتَ مع اُّمِّه مِن الضَّرْبةِ؛ لكَوْنِ دِيَتِهما جميعًا مُوجَبَ جِنايةٍ تَزِيدُ على الثُّلُثِ، وإن سَلَّمْنا وُجُوبَها على العاقِلَةِ، فلأنَّها دِيةُ آدَمِى كاملةٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 343. ويضاف اليه: وأبو داود، في: باب ما جاء فيما يجوز للموصى في ماله، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 101، 102. والترمذى، في: باب ما جاء في الوصية بالثلث، من أبواب الوصايا. عارضة الأحوذى 8/ 268 - 270.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَحْمِلُ العاقلةُ دِيَةَ الطَّرَفِ إذا بَلَغَ الثُّلُثَ. وهو قولُ مَن سَمَّيْنا في الفَصْلِ الذى قبلَ هذا. وحُكِىَ عن الشَّافعىِّ أنَّه قال في القديمِ: لا تَحْمِلُ ما دُونَ الدِّيَةِ، لأَنَّ ذلك يَجْرِى مَجْرَى ضَمانِ الأمْوالِ، بدليلِ أنَّه لا يَجِبُ فيه كَفَّارَةٌ. ولَنا، قولُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولأَنَّ الواجِبَ دِيَةُ جِنايةٍ على حُرٍّ تَزِيدُ على الثُّلُثِ، فحَمَلَتْها العاقِلَةُ، كدِيَةِ النَّفْسِ، ولأنَّه كثيرٌ يَجِبُ ضَمانًا لحُرِّ، أشْبَهَ ما ذكَرْنا. وما ذكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا جَنَى على الأطْرافِ بما يُوجِبُ الدِّيَةَ، أو زِيادةً عليها. فصل: وتَحْمِلُ العاقلةُ دِيَةَ المرأةِ بغيرِ خِلافٍ بينَهم فيها. وتَحْمِلُ مِن جِراحِها ما يَبْلُغُ أرْشُه ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ، كدِيَةِ أنْفِها، فأمَّا ما دُونَ ذلك، كدِيَةِ يَدِها، فلا تَحْمِلُه العاقلةُ. وكذلك الحُكْمُ في دِيَةِ الكِتابِىِّ. ولا تَحْمِلُ دِيَةَ المَجُوسِىِّ؛ لأنَّها دُونَ الثُّلُثِ.

4338 - مسألة: وتحمل غرة الجنين إذا مات مع أمه، فإن العاملة تحملها مع دية أمه. نص عليه؛ لأن ديتهما

وَتَحْمِلُ جِنَايَةَ الْخَطَأَ عَلَى الْحُرِّ إِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا تَحْمِلُ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَتَكُونُ فِى مَالِ الْقَاتِلِ فِى ثَلَاثِ سِنِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4338 - مسألة: وتَحْمِلُ غُرَّةَ الجَنِينِ إذا مات مع أُمِّه، فإنَّ العاملةَ تَحْمِلُها مع دِيَةِ أُمِّه. نَصَّ عليه؛ لأَنَّ دِيَتَهما (¬1) وجَبَت في حالٍ واحدةٍ بجِنايةٍ واحدةٍ مع زِيادَتِهما على الثُّلُثِ، فحَمَلَتْهُما العاقلةُ، كالدِّيَةِ الواحدةِ. ولا تَحْمِلُها إن مات مُنْفَرِدًا، أو مات قبلَ مَوْتِ أُمِّه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه دُونَ الثُّلُثِ. 4339 - مسألة: (وتَحْمِلُ جِنايَةَ الخَطَأ عن الحُرِّ إذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ) وحُكِىَ عن الشَّافعىِّ، لا تَحْمِلُ ما (¬2) دُونَ الدِّيَةِ. وقد ذكَرْناه، وذكَرْنا دَلِيلَه. 4340 - مسألة: (قَال أَبُو بَكْرٍ: ولا تَحْمِلُ) العاقِلَةُ (شِبْهَ ¬

(¬1) في الأصل: «ديتها». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العَمْدِ، وتَكُونُ في مالِ القاتِلِ في ثَلاثِ سِنِينَ) وهى رِوايةٌ عن أحمدَ. وبه قال ابنُ سِيرِينَ، والزُّهْرِىُّ، والحارِثُ العُكْلىُّ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وقَتادةُ، وأبو ثَوْرٍ. وهى على القاتلِ في مالِه؛ لأنَّها مُوجَبُ فِعْل قَصَدَه، فلم تَحْمِلْه العاقلةُ، كالعَمْدِ المَحْضِ، ولأنَّها دِيَةٌ مَغَلَّظَةٌ، فأشْبَهَتْ دِيَةَ العَمْدِ. وهكذا يجبُ أن يكونَ مذْهَبُ مالكٍ؛ لأَنَّ شِبْهَ العَمْدِ عندَه مِن بابِ العَمْدِ. والثانيةُ، تَحْمِلُها العاقلةُ. ذكَرَفا الخِرَقِىُّ. وهى ظاهرُ المذْهَبِ. وبه قال الشَّعْبِى، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِمَا روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: اقْتَتَلَتِ امْرأتانِ مِن هُذَيْل، فرَمَتْ إحْداهُما الأُخرَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحَجَرٍ، فقَتَلَتْها وما في بَطْنِها، فقَضَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه نَوْعُ قَتْلٍ لا يُوجِبُ القِصاصَ، فوَجَبَت دِيَتُه على العاقلةِ، كالخَطَأ، ويُخالِفُ العَمْدَ المَحْضَ؛ فإنَّه يُغَلَّظُ مِن كلِّ وَجْهٍ، لقَصْدِه الفِعْلَ، [وإرادَتِه] (¬2) القَتْلَ، وعَمْدُ الخَطَأ يُغَلَّظُ مِن وَجْهٍ، وهو الأسنانُ، وهو قَصدُه (¬3) الفِعْلَ، ويَخِفُّ مِن وَجْهٍ، وهو كوْنُه لم يُرِدِ القَتْلَ، فاقْتَضَى تَغْلِيظَها مِن وَجْهٍ، وهو الأسْنانُ، وتَخْفِيفَها من وَجْهٍ، وهو حَمْلُ العاقلةِ لها وتَأْجِيلُها. ولا نعلمُ خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ في أنَّها تَجِبُ مُؤجَّلَةً. رُوِى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، وابنِ عباسٍ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادةُ، [وعُبَيْدُ اللَّهِ] (¬4) بنُ عمرَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقد حُكِىَ عن قَوْمٍ مِن الخَوارِجِ، أنَّهم قالوا: الدِّيَةُ حالَّةٌ؛ لأنَّها بَدَلُ مُتْلَفٍ. ولم يُنْقَلْ إلينا ذلك عمَّن يُعَدُّ خِلافُه خِلافًا. والدِّيَةُ تُخالِفُ سائرَ المُتْلَفاتِ؛ لأنَّها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 38. (¬2) في الأصل، تش، ص: «وأراد به». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في تش: «وعبد اللَّه». وتقدم على الصواب في 25/ 313، وانظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 9/ 421. وانظر التعليق عليه.

4341 - مسألة: (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر، لكن يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، فيحمل كل إنسان منهم ما يسهل ولا يشق)

وَمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، لَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيُحَمِّلُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا يَسْهُلُ وَلَا يَشُقُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجبُ على غيرِ الجانِى على سبيلِ المُواساةِ له، فاقْتَضَتِ الحَكْمةُ تَخْفِيفَها عليهم، وقد رُوِى عن عمرَ، وعَلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهما قَضَيَا بالدِّيَةِ على العاقلةِ في ثَلاثِ سِنِينَ (¬1). ولا مُخالِفَ لهما في عَصْرِهما، فكان إجْماعًا. 4341 - مسألة: (وما يَحْمِلُه كلُّ واحِدٍ مِن العاقِلَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، لكنْ يُرْجَعُ فِيهِ إلى اجْتِهادِ الحاكِمِ، فيُحَملُ كلَّ إنْسانٍ مِنْهم ما يَسْهُلُ ولا يَشُقُّ) وحملةُ ذلك، أنَّه لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ العاقلةَ لا تُكَلَّفُ مِن العَقْلِ ما يُجْحِفُ بها، ويَشُقُّ عليها؛ لأنَّه لازِمٌ لها (¬2) مِن غيرِ جِنايَتِها على سبيلِ المُواسَاةِ للقاتلِ، والتَّخْفِيفِ عنه، فلا يُخَفَّف عن الجانِى بما يَثْقُلُ على غيرِه، ويُجْحِفُ به، كالزَّكاةِ، ولأنَّه لو كان الإجْحافُ مَشْروعًا، كان الجاى أحَقَّ به؛ لأنَّه مُوجَبُ جِنايَتِه، وجَزاءُ فِعْلِه، فإذا لم يُشْرَعْ في حَقِّه، ففى حَقِّ غيرِه أوْلَى. واخْتَلفَ أهْلُ العلمِ فيما يَحْمِلُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 313. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجْعَلُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعًا. وَهَلْ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ في الأحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلُّ واحدٍ منهم؛ فقال أحمدُ: يَحْمِلُونَ على قَدْرِ ما يُطِيقُونَ. فعلى هذا، لا يتَقَدَّرُ شَرْعًا، وإنَّما يُرْجَعُ فيه إلى اجْتِهادِ الحاكمِ، فيَفْرِضُ على كلِّ واحدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ ولا يُؤْذِى. وهذا مذْهَبُ مالكٍ؛ لأَنَّ التَّقْدِيرَ لا يَثْبُت إلَّا بتَوْقِيفٍ، ولا يَثْبُتُ بالرَّأْىِ والتَّحَكُّمِ، ولا نَصَّ في هذه المسألةِ، فوَجَبَ الرُّجُوعُ فيها إلى اجْتِهادِ الحاكمِ، كمَقادِيرِ النَّفَقاتِ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يَفْرِضُ على المُوسِرِ نِصْفَ مِثْقالٍ؛ لأنَّه أقَلُّ مالٍ (¬1) يتَقَدَّرُ في الزَّكاةِ، فكان مُعْتَبَرًا بها، ويَجِبُ على المُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثقالٍ؛ لأَنَّ ما دُونَ ذلك تافِهٌ، لكَوْنِ اليَدِ لا تُقْطَعُ فيه، بدليلِ قولِ عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها: لا يُقْطَعُ في الشئِ التَّافِهِ، وما دُونَ رُبْعِ دِينارٍ لا قَطْعَ فيه (¬2). وهذا اخْتِيارُ ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) أخرج ابن أبى شيبة لفظ: لم يكن القطع على عهد النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الشئ التافه. انظر: المصنف 9/ 476، 477. وأخرج النسائى الشطر الثانى بنحوه، في باب ذكر الاختلاف على الزهرى، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 71، 72. وعبد الرزاق، في: المصنف 10/ 235. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 470.

4342 - مسألة: واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبى بكرٍ، ومذْهَبُ الشَّافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: أكثرُ ما يُجْعَلُ على الواحدِ أرْبَعةُ دَراهِمَ، وليس لأقَلِّه حَدُّ؛ لأَنَّ ذلك يَجِبُ على سبيلِ المُواساةِ للقَرابةِ، فلم يتَقَدَّرْ أقَلُّه، كالنَّفَقَةِ. قال: ويُسَوَّى بينَ الغَنِىِّ وْالمُتَوَسِّطِ لذلك. والصَّحِيح الأَوَّلُ بم لِمَا ذكَرْنا مِن أنَّ التَّقْدِيرَ إنَّما يُصارُ إليه بتَوْقيفٍ، [ولا تَوْقيفَ] (¬1) فيه، وإنَّما يَخْتَلِفُ بالغِنَى والتَّوَسُّطِ، كالزَّكاةِ والنَّفَقَةِ، ولا يخْتلِفُ بالبُعْدِ والقُرْبِ لذلك. 4342 - مسألة: واخْتَلَفَ القائِلُونَ بِالتَّقْدِيرِ بنِصْفِ دِينارٍ ورُبْعِه؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال بَعْضُهم: يَتَكَرَّرُ الوَاجِبُ فِى الأحْوالِ الثَّلاثَةِ، فَيَكُونُ الوَاجبُ على الغَنِىِّ فيها دِينارًا ونِصْفًا، وعلى المُتَوَسِّطِ ثَلاثَةَ أرْبَاعِ دِينارٍ؛ لَأنَّه حَقٌّ يتَعَلَّقُ بالحَوْلِ على سبيلِ المُواساةِ، فيتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ الحَوْلِ، كالزَّكاةِ. وقال بعضُهم: لا يتَكَرَّرُ؛ لأَنَّ في إيجابِ زِيادةٍ على النِّصْفِ إيجابَ الزِّيادةِ على أقَلِّ الزَّكاةِ، فيكون مُضِرًّا. ويُعْتَبَرُ الغِنَى والتَّوَسُّطُ عندَ رَأْسِ الحَوْلِ؛ لأنَّه حالُ الوُجُوبِ، فاعْتُبِرَ الحالُ (¬1) عندَه، كالزَّكاةِ. وإنِ اجْتمعَ مِن العاقلةِ في دَرَجَةٍ واحدةٍ عَدَدٌ كثيرٌ، قُسِمَ الواجِبُ على جَمِيعِهم، فيُلْزِمُ الحاكمُ كلَّ إنْسانٍ علىِ حَسَبِ ما يَراه وإن قَلَّ. وعلى الوَجْهِ الآخَرِ، يَجْعَلُ على المُتَوَسِّطِ نِصْفَ ما على الغَنِىِّ، وِيَعُمُّ بذلك جَمِيعَهم. وهو أحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخرِ: يَخُصُّ الحاكمُ مَن شاءَ منهم، فيَفْرِضُ عليهم هذا القَدْرَ الواجِبَ؛ لِئَلَّا يَنْقصَ عن القَدْرِ الواجِبِ، ويَصِيرَ إلى الشئِ التَّافِه، ولأنَّه يَشُقُّ، فربَّما أصابَ كلَّ واحدٍ قِيراطٌ، فيَشُقُّ جَمْعُه. ولَنا، أنَّهم اسْتَوَوْا في القَرابةِ، فكانوا سواءً، كما لو قَلُّوا، وكالمِيراثِ. وأمَّا التَّعَلُّقُ بمَشَقَّةِ الجَمْعِ فلا يَصِحُّ؛ لأَنَّ مَشَقَّةَ زِيادَةِ الواجِبِ أعْظَمُ مِن مَشَقَّةِ (¬2) الجَمْعِ، ثم هذا تَعَلُّق بالحِكْمَةِ مِن غيرِ أصْل يَشْهَدُ لها، فلا يُتْرَكُ لها الدَّلِيلُ، ثم هى مُعارَضَةٌ بحَقِّه الواجبِ على كلِّ واحدٍ منهم، وسُهُولةِ الواجبِ عليهمِ، ثم لا يَخْلُو مِن أن يَخُصَّ الحاكمُ بعضَهم بالاجْتِهادِ أو بغيرِ اجْتِهادٍ، فإن خصَّه بالاجْتِهادِ ففِيه مَشَقَّةٌ عليه، ¬

(¬1) في م: «الحول». (¬2) سقط من: م.

4343 - مسألة: (ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فمتى اتسعت أموال الأقربين لها، لم يتجاوزهم، وإلا انتقل إلى من يليهم)

وَيَبْدأُ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَمَتَى اتَّسَعَتْ أمْوَالُ الْأَقْرَبِينَ لَهَا، لَمْ يَتَجَاوَزْهُمْ، وَإِلَّا انْتَقَلَ إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وربَّما لا يَحْصُلُ له مَعْرِفةُ الأَوْلَى منهم بذلك، فيتَعَذَّرُ الإِيجابُ، وإن خَصَّه بالتَّحَكُّمِ أفْضَى إلى أنَّه يَتَخَيَّرُ بين أن يُوجِبَ على إنْسانٍ شيئًا بشَهْوَتِه مِن غيرِ دَلِيلٍ، وبينَ أن لا يُوجِبَ عليه، ولا نَظِيرَ له، وربَّما ارْتَشَى مِن بعضِهم واتُّهِمَ، وربَّما امْتَنَعَ مَنْ فُرِضَ عليه شئٌ (¬1) مِن أدائِه؛ لكَوْنِه يَرَى مثلَه لا يُؤَدِّى شيئًا مع التَّساوِى مِن كلِّ الوُجُوهِ. 4343 - مسألة: (ويَبْدأُ بالأقْرَبِ فالأقْرَبِ، فمتى اتَّسَعَتْ أمْوالُ الأقْرَبِين لها، لم يَتَجاوَزْهُمْ، وإلَّا انْتَقَلَ إلى مَن يليهم) وجملةُ ذلك، أنَّه يَبْدَأُ في قِسْمَةِ الدِّيَةِ بينَ العاقلةِ بالأقْرَبِ فالأقرَبِ، فيَقسِمُ على الإِخْوَةِ وبَنِيهم، والأعْمامِ وبَنِيهم، ثم أعْمامِ الأَبِ، ثم بَنِيهم، ثم أعْمامِ الجَدِّ، ثم بَنِيهم، كذلك أبدًا، حتى إذا انْقَرَضَ المُناسِبُونَ، فعلى المَوْلَى المُعْتِقِ، ثم على عَصَباتِه، ثم على مَوْلَى المَوْلَى، ثم على عَصَباتِه، الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمِيراثِ سواءً. وإن قُلْنا: الآباءُ والأَبْناءُ مِن العاقلةِ. بُدِئَ بهم؛ لأنَّهم أقْرَبُ. ومتى اتَّسَعَتْ أمْوالُ قَوْمٍ للعَقْلِ، لم يَعْدُهم إلى مَن بَعْدَهم؛ لأنَّه حَقٌّ يُسْتَحَقُّ بالتَّعْصِيبِ، فقُدِّمَ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، كالمِيراثِ وَوِلايةِ النِّكاحِ. وهل يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِى بالأبَوَيْن على مَن يُدْلِى بالأبِ؟ على وَجْهين؛ أحَدُهما، يُقَدَّمُ، كالمِيراثِ، وكتَقْديمِ الأخِ على ابْنِه. والثانى، يَسْتَويانِ؛ لأَنَّ ذلك يُسْتَفادُ بالتَّعْصِيبِ، ولا أثَرَ لقَرابةِ الأُمِّ في التَّعْصيبِ. والأَوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ اللَّهُ تعالى؛ لأَنَّ قَرابةَ الأُمِّ تُؤثِّرُ في التَّرْجيحِ والتَّقْديم وقُوَّةِ التَّعْصِيبِ؛ لاجْتِماعِ القَرابَتَيْنِ على وَجْهٍ لا تَنْفَرِدُ كلُّ واحدةٍ بحُكْمٍ، وذلك لأَنَّ القَرابَتَيْن تَنْقَسِمُ إلى ما يَنْفَرِدُ كلُّ واحدةٍ منهما بحُكْمٍ، كابنِ العَمِّ إذا كان أخًا لأُمٍّ، فإنَّه يَرِثُ بكلِّ واحدةٍ مِن القَرابَتَيْن مِيراثًا مُنْفَرِدًا، يَرِثُ السُّدْسَ بالأُخُوَّةِ، ويَرِثُ بالتَّعْصِيبِ بِبُنُوَّةِ العَمِّ، وحَجْبُ إحْدَى القَرابَتَيْن لا يُؤَثِّرُ (¬1) في حَجْبِ الأُخْرَى، فهذا لا يُؤثِّرُ في قُوَّةٍ ولا تَرْجِيحٍ، ولذلك لا يُقَدَّمُ ابنُ العَمِّ الذى هو أخٌ لأُمٍّ على غيرِه، وإلى ما لا يَنْفرِدُ كلُّ واحدَةٍ منهما بحُكْمٍ، كابْنِ العَمِّ مِن أبَوَيْن ¬

(¬1) في الأصل: «يرث».

4344 - مسألة: (وإن تساوى جماعة فى القرب، وزع القدر الذى يلزمهم بينهم)

فَإِنْ تَسَاوَى جَمَاعَةٌ فِى الْقُرْبِ، وَزَّعَ الْقَدْرَ الَّذِى يَلْزَمُهُمْ بَيْنَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مع (¬1) ابْنِ عَمٍّ مِن أبٍ، لا تَنْفَرِدُ إحْدى القَرابَتَيْن بميراثٍ عن الأُخْرَى، فتُؤَثِّرُ في التَّرْجيحِ وقُوَّةِ التَّعْصِيبِ، ولذلك أَثَّرَتْ في التَّقْديم في المِيراثِ، فكذلك في غيرِه. وبما ذكَرْنا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُسَوَّى بينَ القَريبِ والبَعِيدِ، ويُقْسَمُ على جَمِيعِهم؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَلَ دِيَةَ المَقْتُولَةِ على عَصَبةِ القاتلةِ (¬2). ولَنا، أنَّه حُكْمٌ تعَلَّقَ بالتَّعْصِيبِ، فوَجَبَ أن يُقَدَّمَ فيه الأقْرَبُ فالأقْرَبُ كالمِيراثِ، والخَبَرُ لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّنا نَقْسِمُه على الجماعةِ إذا لم يَفِ به الأقْرَبُ، فنَحْمِلُه على ذلك. 4344 - مسألة: (وإن تَساوَى جَماعَةٌ في القُرْبِ، وَزَّعَ القَدْرَ الذى يَلْزَمُهم بينَهم) لأنَّهم اسْتَوَوْا في القَرابةِ المُقتَضِيةِ للعَقْلِ عنه، فتَساوَوْا في حُكْمِه، كسائرِ الأحْكامِ، [وكالميراثِ] (¬3). وقد ذكَرْنا ذلك في مسألةِ: وما يَحْمِلُه كلُّ واحدٍ مِن العاقلةِ غيرُ مُقَدَّرٍ. فصل: ولا يَحْمِلُ العَقْلَ مَن لا يُعْرَفُ نَسَبُه مِن القاتلِ، إلَّا أن يُعْلَمَ أنَّهم مِن قَوْم يَدْخُلونَ كلُّهم في العَقْلِ، ومَن لا يُعْرَفُ ذلك منه لا يَحْمِلُ، وإن كان مِن قَبِيلَتِه، فلو كان القاتلُ قُرَشِيًّا، لم يَلْزَمْ قُرَيْشًا كلَّهم التَّحَمُّلُ، ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 38. وانظر ما تقدم في صفحة 52. (¬3) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: وَمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ يَجِبُ مُؤَجَّلًا في ثَلَاثِ سِنِينَ، فِى كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهُ إنْ كَانَ دِيَةً كَامِلَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ قُرَيْشًا وإن كانوا كلُّهم يَرْجِعُونَ إلى أبٍ واحدٍ، إلَّا أنَّ قَبائِلَهُم تَفَرَّقَتْ، وصار كلُّ قَوْم يَنْتَسِبُون إلى أبٍ يتَمَيَّزُون به، فيَعْقِلُ عنهم مَن يُشارِكُهم في نِسْبَتِهم إلى الأبِ الأدْنَى، ألَا تَرَى أنَّ النَّاسَ كلَّهم بَنُو آدَمَ، فهم راجِعُون إلى أبٍ واحدٍ، لكنْ إن كان مِن فَخِذٍ يُعْلَمُ أنَّ جَمِيعَهم يتَحَمَّلُونَ، وجَبَ أن يتَحَمَّلَ جَمِيعُهم، سواءٌ عُرِفَ أحَدُهم أو لم يُعْرَفْ؛ للعِلْمِ بأنَّه مُتَحَمِّلٌ على أىِّ وَجْهٍ كان. وإن لم يَثْبُتْ نَسَبُ القاتلِ مِن أحَدٍ، فالدِّيَةُ في بَيْتِ المالِ؛ لأَنَّ المُسلمينَ يَرِثُونَه إذا لم يَكُنْ وارِثٌ، بمَعْنَى أنَّه يُؤْخَذُ مِيراثُه لبَيْتِ المالِ، فكذلك (¬1) يَعْقِلُونَه على هذا الوَجْهِ. فإن وُجِدَ له مَن يَحْمِلُ بعضَ العَقْلِ، فالباقى في بيتِ المالِ لذلك. فإن قِيلَ: فهذا ينْتَقِضُ بالذِّمِّىِّ الذى لا وارِثَ له، فإنَّ مِيراثَه لبيتِ المالِ، ولا يَعْقِلُونَ عنه. قُلْنا: إنَّما لم يَعْقِلوا عنه؛ لوجُودِ [المانعِ، وهو] (¬2) اخْتِلافُ الدِّينِ، ولذلك لا يَعْقِلُه عَصَباتُه المسلمون. 4345 - مسألة: (وما تَحْمِلُه العاقِلَةُ يَجِبُ مُؤَجَّلًا فِى ثَلاثِ سنينَ، في كلِّ سنةٍ ثُلُثُه إن كان دِيَةً كامِلَةً) لا خِلافَ بينَ أهلِ العِلْمِ ¬

(¬1) في م: «فلذلك». (¬2) سقط من: الأصل.

4346 - مسألة: (وإن كان الواجب ثلث الدية، وجب فى رأس

وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، كَأَرْشِ الْجَائِفَةِ، وَجَبَ فِى رَأْسِ ـــــــــــــــــــــــــــــ في أنَّ دِيَةَ الخَطَأ على العاقلةِ. حكاهُ ابنُ المُنْذِرِ (¬1). وأنَّها مُؤَجَّلَةٌ في ثلاثِ سنين، فإنَّ عمرَ، وعليًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، جَعَلَا دِيَةَ الخَطَأ على العاقلةِ في ثلاثِ سِنِين (¬2). ولا نَعْرِفُ لهم في الصَّحابةِ مُخالِفًا، واتَّبَعَهم أهْلُ العلمِ على ذلك، لأنَّه مالٌ يَجِبُ على سبيلِ المُواساةِ، فلم يَجِبْ حالًّا، كالزَّكاةِ. ويَجِبُ في آخِرِ كلِّ حَوْلٍ ثُلُثُها، ويُعْتَبَرُ ابْتِداءُ السَّنَةِ مِن حينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: ابْتِداؤُها مِن حينِ حُكْمِ الحاكمِ، لأنَّها مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فيها، [فكان ابْتِداؤُها مِن حينِ حُكْمِ الحاكمِ، كمُدَّةِ العُنَّةِ. ولَنا، أنَّه مالٌ مُؤَجَّلٌ، فكان ابْتِداءُ أجَلِه مِن حينِ وُجُوبِه] (¬3)، كالدَّيْنِ المُؤْجَّلِ والسَّلَمِ، ولا نُسَلِّمُ الخِلافَ فيها، فإنَّ الخَوارِجَ لا يُعْتَدُّ بخِلافِهِم. 4346 - مسألة: (وإن كان الواجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَجَبَ في رَأْسِ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 127، الإجماع 74. (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 313. (¬3) سقط من: الأصل.

الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفَهَا، كَدِيَةِ الْيَدِ، وَجَبَ فِى رَأْسِ الْحَوْلِ الأَوَّلِ الثُّلُثُ، وَبَاقِيهِ في رَأْسِ الْحَوْلِ الثَّانى، وَإِنْ كَانَ دِيَةَ امْرَأَةٍ أَوْ كِتَابِىٍّ، فَكَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسَمَ فِى ثَلَاثِ سِنِينَ وإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، لَمْ يَزِدْ فِى كُلِّ حَوْلٍ عَلَى الثُّلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَوْلِ) الأَوَّلِ (وإن كان نِصْفَها، كدِيَةِ اليَدِ، وَجَبَ في رَأْسِ الحَوْلِ الأَوَّلِ الثُّلُثُ، وباقِيه في رَأْسِ الحَوْلِ الثَّانِى، وإن كان دِيَةَ امْرَأةٍ أو كِتابِىٍّ، فكذلكَ. ويَحْتَمِلُ أن يُقسَمَ فِى ثَلاثِ سنين وإن كان أكْثَرَ مِن دِيَةٍ، كما لو جَنَى عليه فأذْهَبَ سَمْعَه وبَصَرَه، لم يَزِدْ في كلِّ حَوْلٍ على الثُّلُثِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الواجِبَ إذا كان دِيَةً كاملةً، فإنَّها تُقْسَمُ في ثلاثِ سنين،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في كلِّ سَنَةٍ ثُلُثُها، سواءٌ كانت دِيَةَ النَّفْسِ أو دِيَةَ الطَّرَفِ، كدِيَةِ جَدْعِ الأنْفِ، أو (¬1) الأُذُنَيْن. وإن كان دُونَ الدِّيَةِ نَظَرْنا؛ فإن كان الثُّلُثَ، كدِيَةِ المأْمُومَةِ، وجَبَ في آخِرِ السَّنَةِ الأُولَى، ولم يَجِبْ منه شئٌ حالٌّ؛ لأَنَّ العاقِلَةَ لا تَحْمِلُ حالًّا. وإن كان نِصْفَ الدِّيَةِ أو ثُلُثَيْها، كدِيَةِ اليَدِ أو دِيَةِ المَنْخَرَيْن، وجَبَ الثُّلُثُ في آخرِ السَّنَةِ الأُولَى، والباقى في آخرِ السَّنَةِ (¬2) الثَّانيةِ. وإن كان أكثرَ من [الثُّلُثَيْن؛ كدِيَةِ ثمانيةِ أصابعَ، وَجَب الثُّلُثانِ في السنتين، والباقِى في آخرِ الثالثةِ، وإن كان أكثرَ مِن] (¬3) دِيَةٍ، مثلَ أن ذهَبَ سَمْعُ إنْسانٍ وبَصَرُه، ففى كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثٌ، لأن الواجِبَ لو كان دُونَ الدِّيَةِ، لم يَنْقُصْ في السَّنَةِ عن الثُّلُثِ، فكذلك لا يَزِيدُ عليه إذا زادَ على الثُّلُثِ. وإن كان الواجبُ بالجِنايةِ على اثْنَيْن، وجَبَ لكُلِّ واحدٍ ثُلُثٌ في كلِّ سَنَةٍ، لأَنَّ كلَّ واحدٍ له دِيَةٌ، فيَسْتَحِقُّ ثُلُثَها، كما لو ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سقط من: م.

4347 - مسألة: فإن كانت الدية ناقصة، كدية المرأة والكتابى، ففيها وجهان؛ أحدهما، تقسم فى ثلاث سنين؛ لأنه بدل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْفَرَدَ حَقُّه. وإن كان الواجِبُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، كدِيَةِ الإِصْبَعِ، لم تَحْمِلْه العاقِلَةُ؛ لأنَّها لا تَحْمِلُ ما دُونَ الثُّلُثِ، ويَجِبُ حالًّا؛ لأنَّه مُتْلَفٌ لا تَحْمِلُه العاقلةُ (¬1)، فكان حالًّا، كالجِنايةِ على المالِ. 4347 - مسألة: فإن كانتِ الدِّيَةُ ناقِصَةً، كدِيَةِ المَرْأةِ والكِتابِىِّ، ففيها وَجْهان؛ أحَدُهما، تُقْسَمُ في ثلاثِ سنين؛ لأنَّه بَدَلُ (¬2) النَّفْسِ، فأشْبَهَتِ الدِّيَةَ الكاملةَ. والثانى، يَجبُ منها في العامِ الأَوَّلِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ الكاملةِ، وباقِيها في العامِ الثانى، لأَنَّ هذه تَنْقُصُ عن الدِّيَةِ، فلم تُقْسَمْ في ثلاثِ سنين، كأَرْشِ الطَّرفِ. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ. وللشَّافعىِّ كالوَجْهَيْن. فإن كانتِ الدِّيَةُ لا تَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ الكاملةِ، كدِيَةِ المَجُوسِىِّ، وهى [ثمانِمائةِ دِرْهَمٍ] (¬3)، ودِيَةِ الجَنِينِ، [وهى خَمْسٌ مِن الإِبلِ، لم تَحْمِلْه العاقِلَةُ؛ لأنَّه يَنْقُصُ عن الثُّلُثِ، فأشْبَهَ دِيَةَ السِّنِّ والمُوضِحَةِ، إلَّا أن يُقْتَلَ الجَنِينُ] (4) مع أُمِّه، فتَحْمِلُه العاقِلَةُ؛ لأنَّها جِنايَةٌ واحدةٌ، وتكونُ دِيَةُ الأُمِّ على الوَجْهَيْن؛ فإن قُلْنا: هى في عامَيْن. كانت ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أبدل». (¬3) في الأصل: «ثمانية دراهم».

4348 - مسألة: (وابتداء الحول فى الجرح من حين الاندمال، وفى القتل من حين الموت. وقال القاضى: إن لم يسر الجرح إلى شئ، فحوله من حين القطع)

وَابْتِدَاءُ الْحَوْلِ فِى الْجُرْحِ مِنْ حِينِ الانْدِمَالِ، وَفِى الْقَتْلِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْقَاضِى: إِنْ لَمْ يَسْرِ الْجُرْحُ. إِلَى شَىْءٍ، فَحَوْلُهُ مِنْ حِينِ الْقَطْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دِيَةُ الجَنِينِ واجِبَةً مع ثلُثِ دِيَةِ الأُمِّ في العامِ الأَوَّلِ؛ لأنَّها دِيَةٌ أُخْرَى. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ مع باقِى دِيَةِ الأُمِّ في العامِ الثانى. وإن قُلْنا: دِيَةُ الأُمِّ في ثلاثِ سنين. فهل تَجِبُ دِيَةُ الجَنِينِ في ثَلاثةِ أعْوَامٍ أَوْ لا؟ على وَجْهين؛ فإذا قُلْنا بوُجُوبِها في ثلاثِ سنين، وجَبَتْ في السِّنِينَ التى وجَبَت فيها دِيَةُ الأُمِّ؛ لأنَّهُما دِيَتان لمُسْتَحِقَيْنِ، فيَجبُ في كلِّ سنةٍ ثُلُثُ دِيَتِها وثُلُثُ دِيَتِه. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ في ثلاثِ سنين أُخْرَى؛ لأَنَّ تَلَفَهما مُوجَبُ جِنايةٍ واحدةٍ. 4348 - مسألة: (وابْتِداءُ الحَوْلِ في الجُرْحِ مِن حِينِ الانْدِمالِ، وفى القَتْلِ مِن حِينِ المَوْتِ. وقال القاضِى: إن لم يَسْرِ الجُرْحُ إلى شَئٍ، فحَوْلُه مِن حِينِ القَطْعِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا كان الواجبُ دِيَةَ نفْسٍ، فابْتِداءُ حَوْلِها مِن حينِ المَوْتِ، سواءٌ كان قَتْلًا مُوجِبًا أو عن سِرايةِ جُرْحٍ. وإن كان الواجِبُ ديَةَ جُرْحٍ، نَظرتَ، فإن كان عن جُرْح انْدَمَلَ مِن غيرِ سِرايَةٍ، مثلَ أفي قَطَع يَدَه فبَرَأتْ بعدَ مُدَّةٍ،

4349 - مسألة: (ومن مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر، سقط ما عليه، وإن مات بعد الحول، لم يسقط ما عليه)

وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوِ افْتَقَرَ، سَقَطَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ، لَمْ يَسْقُطْ مَا عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فابْتداءُ المُدَّةِ مِن حينِ القَطْعِ؛ لأَنَّ تلك حالةُ الوُجُوبِ، ولهذا لو قَطَع يَدَه وهو ذِمِّىٌّ، فأسْلَمَ، ثم انْدَمَلَتْ، وجَب نِصْفُ دِيَةِ يَهُودِىٍّ. وأمَّا إن كان الجُرْحُ سَارِيًا، مثلَ أن قَطَع إصْبَعَه فسَرَى ذلك إلى كَفِّه، ثم انْدَمَلَ، فابْتِداءُ المُدَّةِ مِن حينِ الانْدِمالِ؛ لأنَّها إذا سَرَتْ، فما اسْتَقَرَّ الأَرْشُ إلَّا مِن حينِ الانْدِمالِ. هكذا ذَكَره القاضى، وأصْحابُ الشافعىِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: تُعْتَبَرُ المُدَّةُ مِن حينِ الانْدِمالِ فيهما، لأَنَّ الأَرْشَ لا يَسْتَقِرُّ إلَّا بالانْدِمالِ فيهما. 4349 - مسألة: (ومَن مات مِن العاقِلَةِ قبلَ الحَوْلِ أو افْتَقَرَ، سَقَطَ مَا عليه، وإن مات بعدَ الحَوْلِ، لم يَسْقُطْ ما عليْه) مَن ماتَ مِن العاقِلَةِ، أو إفْتَقَرَ، أو جُنَّ قبلَ الحَوْلِ، لم يَلْزَمْه شئٌ، لا نعلمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّه مالٌ يَجِبُ في آخِرِ الحَوْلِ على سَبِيلِ المُواساةِ، فأشْبَهَ الزَّكاةَ. وإن كان ذلك بعدَ الحَوْلِ، لم يَسْقُطِ الواجِبُ. وبهذا قال الشَّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ بالمَوْتِ، لأنَّه خَرَج عن أهْلِيَّةِ

4350 - مسألة: (وعمد الصبى والمجنون خطأ تحمله العاقلة)

وَعَمْدُ الصَّبِىِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَعَنْهُ فِى الصَّبِىِّ الْعَاقِلِ، أنَّ عَمْدَهُ فِى مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوُجُوبِ، فأشْبَهَ ما لو مات قبلَ الحَوْلِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ تَدْخُلُه النِّيابةُ، لا يَمْلِكُ إسْقاطَه في حَياتِه، فأشْبَهَ الدُّيُونَ، وفارَقَ ما قبلَ الحَوْلِ؛ لأنَّه لم يَجِبْ، ولم يَسْتَمِرَّ الشَّرْطُ إلى حينِ الوُجُوبِ. فأمَّا إن كان فَقِيرًا عندَ القَتْلِ، فاسْتَغْنَى عندَ الحَوْلِ، فقال القاضى: يَجِبُ عليه؛ لأنَّه وُجِدَ وَقْتَ الوُجُوبِ، وهو مِن أهْلِه. ويُخَرَّجُ على هذا مَن كان صَبِيًّا فبَلَغ، أو مَجْنُونًا فأفاق عندَ الحَوْلِ، وجَبَ عليه؛ لذلك. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ؛ لأنَّه لم يَكُنْ مِن أَهْلِ الوُجُوبِ حالَةَ السَّبَبِ، فلم يَثْبُتِ الحُكْمُ فيه حالَةَ الشَّرْطِ، كالكافِرِ إذا مَلَكَ مالًا ثم أسْلَمَ عندَ الحَوْلِ، لم تَلْزَمْه الزَّكاةُ فيه. 4350 - مسألة: (وعَمْدُ الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُه العاقِلَةُ) لأنَّه لم يتَحَقَّقْ منه كمالُ القَصْدِ، فتَحْمِلُه العاقلةُ، كشِبْهِ العَمْدِ، ولأنَّه قَتْلٌ لا يُوجبُ القِصاصَ، لأجْلِ العُذْرِ، فأشْبَهَ الخَطَأ (وعنه في الصَّبِىِّ العاقلِ، أَنَّ عَمْدَه في مالِه) وهو أحَدُ قَوْلَى الشَّافعىِّ؛ لأنَّه عَمْدٌ يجوزُ تأْدِيبُه (¬1) عليه، فأشْبَهَ القَتْلَ مِن البالغِ. والأَوَّلُ أوْلَى. وما ذكَرُوه ¬

(¬1) في الأصل: «تأديته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْتَقِضُ بشِبْهِ العَمْدِ. واللَّهُ أعلمُ.

باب كفارة القتل

بَابُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً خَطَأً، أَوْ مَا أُجْرِىَ مُجْرَاهُ، أَوْ شَارَكَ فِيهَا، أَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرأةٍ فَألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، أَوْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ كفَّارةِ القتْلِ (مَن قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمةً خَطأً، أو ما أُجْرِى مُجْراه، أو شارَكَ فيها، أو ضَرَبَ بَطْنَ امرأةٍ، فألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، أو حَيًّا ثم مات، فعليه الكفَّارةُ) الأصْلُ في كفَّارةِ القَتْلِ قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬1). الآية. وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ على القاتِلِ خَطَأً كفَّارَةً، سواءٌ كان المقْتُولُ ذَكَرًا أو أُنْثَى، ويجبُ في قَتْلِ الصَّغِيرِ [والكبيرِ] (¬2)، سواءٌ باشَرَه بالقَتْلِ، أو تَسَبَّبَ إلى قَتْلِه بسَبَبٍ تُضْمَنُ به النَّفْسُ، كحَفْرِ البِئْرِ، ونَصْبِ السِّكِّينِ، وشهادةِ الزُّورِ. ¬

(¬1) سورة النساء 92. (¬2) سقط من: الأصل.

4351 - مسألة: ومن شارك فى قتل يوجب الكفارة، لزمته كفارة، ويلزم كل واحد من شركائه كفاره. هذا قول أكثر أهل العلم؛ منهم الحسن، وعكرمة، والنخعى، والثورى، ومالك، والشافعى، وأصحاب الرأى. (وعن أحمد، أن على المشتركين كفارة واحدة)

وَعَنْهُ، أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال مالكٌ، والشّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجِبُ بالتَّسَبُّبِ؛ لأنَّه ليس بقتْلٍ، ولأنَّه ضَمِنَ بَدَلَه بغيرِ مُباشَرَةٍ للقَتْلِ، فلم تَلْزَمْه الكفَّارةُ كالعاقِلَةِ. ولَنا، أنَّه كالمباشَرَةِ في الضَّمانِ، فكان كالمُباشَرَةِ في الكفَّارةِ، ولأنَّه سَبَبٌ لإِتْلافِ الآدَمِىِّ، يتَعَلَّقُ به ضَمان، فتَعَلَّقَتْ به الكفَّارَةُ، كما لو كان راكِبًا فأَوطأَ دابَّتَه إنْسانًا. وقِياسُهم ينْتَقِضُ بالأبِ إذا أكْرَهَ إنْسانًا على قَتْلِ ابْنِه، فإنَّ الكفَّارَةَ تَجِبُ عليه مِن غيرِ مُباشَرَةٍ، وفارَقَ العاقِلَةَ، فإنَّها تتحَمَّلُ عن غيرِها، ولم يَصْدُرْ منها قَتْل ولا سَبَبٌ إليه. وقولُهم: ليس بقتلٍ. مَمْنُوعٌ. قال القاضى: ويَلْزَمُ الشُّهُودَ الكفَّارةُ، سواءٌ قالوا: أخْطَأْنا. أو: تَعَمَّدْنا. وهذا يَدُلُّ على أنَّ القَتْلَ بالسَّبَبِ تجبُ به الكفَّارَةُ بكُلِّ حالٍ، ولا يُعْتَبَرُ فيه الخَطَأُ والعَمْدُ؛ لأنَّه وإن قصَد القَتْلَ، فهو جارٍ مَجْرَى الخَطَأ، في أنَّه لا يَجِبُ به القِصاصُ. 4351 - مسألة: ومَن شارَكَ في قَتْلٍ يُوجِبُ الكَفَّارَةَ، لَزِمَتْه كَفَّارَةٌ، ويَلْزَمُ كلَّ وَاحِدٍ مِن شُرَكائِه كَفَّارَهٌ. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسنُ، وعِكْرِمَةُ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى. (وعن أحمدَ، أنَّ على المُشْتَرِكينَ كَفَّارَةً واحدةً)

4352 - مسألة: (ولو ضرب بطن امرأة، فألقت جنينا ميتا، أو حيا ثم مات، فعليه الكفارة)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حكاها أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ. وحُكِىَ عن الأوْزاعِىِّ. وحَكاه أبو علىٍّ الطَّبَرِىُّ (¬1) عن الشَّافعىِّ، وأنْكرَه سائرُ أصْحابِه. واحْتَجَّ لمَن أوْجَبَ كفَّارَةً واحدةً بقولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. و «مَن» تَتَناوَلُ الواحدَ والجماعةَ، ولم يُوجِبْ إلَّا كفَّارَةً واحدةً ودِيَةً، والدِّيَةُ لا تَتَعَدَّدُ، فكذلك الكفَّارَةُ، ولأنَّها كفَّارَةُ قَتْلٍ، فلم تَتَعَدَّدْ بتَعَدُّدِ القاتلِينَ إذا كان المَقْتُولُ واحدًا، ككَفَّارَةِ الصَّيْدِ الحَرَمِىِّ. ولَنا، أنَّها لا (¬2) تَتَبَعَّضُ، وهى مِن مُوجَبِ قَتْلِ الآدَمِىِّ، فكَمَلَتْ في حَقِّ كُلِّ واحدٍ مِن المُشْتَرِكين، كالقِصاصِ. وتُخالِفُ كفَّارَةَ الصَّيْدِ؛ فإنَّها تجبُ بَدَلًا، ولهذا تجبُ في أبْعاضِه، وكذلك الدِّيَةُ. 4352 - مسألة: (ولو ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأةٍ، فألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، أَوْ حَيًّا ثم مات، فعليه الكَفَّارَةُ) تجبُ الكفَّارَةُ بإلْقاءِ الجَنِينِ المَيِّتِ، إذا ¬

(¬1) الحسن بن القاسم، ويقال: الحسين، أبو على الطبرى الإِمام الجليل شيخ الشافعية، له الوجوه المشهورة في المذهب، وصنف في أصول الفقه وفى الجدل، له كتاب «المحرر في النظر» وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد، تفقه على أبى على بن أبى هريرة، ودرس ببغداد بعد شيخه أبى على، مات كهلا في سنة خمسين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 62، 63، طبقات الشافعية 3/ 280، 281. وانظر حاشيته. (¬2) سقط من: م.

4353 - مسألة: (مسلما كان المقتول أو كافرا، حرا أو عبدا)

مُسْلِمًا كَانَ الْمَقْتُولُ أَوْ كَافِرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان مِن ضَرْبِ بَطْنِها. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجبُ. وقد مضَتْ هذه المسألةُ في دِيَةِ الجَنِينِ (¬1). 4353 - مسألة: (مُسْلِمًا كان المَقْتُولُ أو كافِرًا، حُرًّا أو عَبْدًا) تجبُ الكفَّارَةُ بقَتْلِ الكافرِ المَضْمُونِ، سواءٌ كان ذِمِّيًّا أو مُسْتَأْمِنًا. وبهذا قال أكثرُ أهلِ العلمِ. وقال الحسنُ، ومالكٌ: لا كفَّارَةَ فيه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}. فمفْهومُه أنَّه لا كفَّارَةَ في غيرِ المؤمن (¬2). ولَنا، قوْلُه تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬3). والذِّمِّىُّ له مِيثاقٌ. وهذا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ على دليلِ الخِطابِ، ولأنَّه آدَمِىٌّ مقْتُولٌ ظُلْمًا، فوجَبَتِ الكَفَّارَةُ بقَتْلِه، كالمسلمِ. 4354 - مسألة: وتَجِبُ الكَفَّارَةُ بقَتْلِ العَبْدِ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا تَجِبُ؛ لأنَّه مَضْمُون بالقِيمَةِ، أشْبَهَ البَهِيمَةَ. ¬

(¬1) انظر مسألة دية الجنين في 25/ 410 وما بعدها. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة النساء 92.

4355 - مسألة: (وسواء كان القاتل كبيرا عاقلا، أو صبيا أو مجنونا، حرا أو عبدا)

وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ كَبِيرًا عَاقِلًا، أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، عُمومُ قولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. ولأنَّه يجبُ القِصاصُ بقَتْلِه، فتجبُ الكفَّارةُ به، كالحُرِّ، ولأنَّه مُؤْمِنٌ، فأشْبَهَ الحُرَّ، ويُفارِقُ البَهائِمَ بذلك. 4355 - مسألة: (وسَواءٌ كان القاتِلُ كَبِيرًا عاقِلًا، أو صَبِيًّا أو مَجْنونًا، حُرًّا أو عَبْدًا) إذا كان القاتلُ صَبِيَّا أو مَجْنُونًا، وجَبَتِ الكفَّارَةُ في أمْوالِهما، وكذلك الكافِرُ، تجبُ عليه الكفَّارَةُ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا كَفَّارَةَ على واحِدٍ منهم؛ لأنَّها عِبادَة مَحْضَةٌ، تَجِبُ بالشَّرْعِ، فلا تَجِبُ على الصَّبِىِّ والمَجْنُونِ والكافرِ، كالصَّوْمِ والصلاةِ، وقِياسًا (¬1) على كفَّارَةِ اليَمِينِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ مالِىٌّ، يتَعَلَّقُ بالقَتلِ، فتعلَّقَتْ بهم، كالدِّيَةِ. وتُفارِقُ الصَّوْمَ والصَّلاةَ، فإنَّهما عِبادَتان بدَنِيَّتان، وهذه ماليَّةٌ، أشْبَهَتْ نفَقَةَ الأقارِبِ. وأمَّا كفَّارةُ اليَمِينِ، فلا تجِبُ على الصَّبِىِّ والمجْنُونِ؛ لأنَّها تتَعَلَّقُ بالقَوْلِ، ولا قَوْلَ لهما، وهذه تتعلَّقُ بالفعْلِ، وفِعْلُهما مُتَحَقِّق قد أوجبَ الضَّمانَ عليهما، ويتعلَّقُ بالفِعْلِ ما لا يتعَلَّقُ بالقَوْلِ، بدليلِ أنَّ العِتْقَ يتعلَّقُ بإحْبالِهما دُونَ إعْتاقِهما بقَوْلِهما. وأمَّا الكافِرُ فتجبُ عليه، وتكونُ عُقُوبَةً له، كالحُدُودِ. والحُرُّ ¬

(¬1) في الأصل: «قياسهم».

4356 - مسألة: (ويكفر العبد بالصيام)

وَيُكَفِّرُ الْعَبْدُ بِالصِّيَامِ. فَأَمَّا الْقَتْلُ الْمُبَاحُ، كَالْقِصَاصِ، وَالْحَدِّ، وَقَتْلِ الْبَاغِى وَالصَّائِلِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَبْدُ سواءٌ؛ لدُخُولِهما في عُمُومِ الآيةِ. 4356 - مسألة: (ويُكَفِّرُ العَبْدُ بِالصِّيامِ) لأنَّهُ لا مالَ له. وقد ذكَرْنا كَفَّارةَ العَبْدِ فيما مَضَى. فصل: ومن قَتَلَ في دارِ الحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُه كافِرًا، أو رَمَى إلى صَفِّ الكُفَّارِ، فأصابَ فيهم مُسْلِمًا فقَتَلَه، فعليه كَفَّارَةٌ؛ لقولِه تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬1). 4357 - مسألة: (فأمَّا القَتْلُ المُباحُ، كالقِصاصِ، والحَدِّ، وقَتْلِ الباغِى والصَّائِلِ، فلا كَفَّارَةَ فِيهِ) وجملةُ ذلك، أنَّ كلَّ قَتْلٍ مُباحٍ لا كَفَّارَةَ فيه، كقَتْلِ الحَرْبِىِّ، والباغِى، والزَّانِى المُحْصَنِ، والقتلِ ¬

(¬1) سورة النساء 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِصاصًا أو حَدًّا؛ لأنَّه قَتْلٌ مأْمُورٌ به، والكفارَةُ لا تَجِبُ لمَحْوِ (¬1) المأْمُورِ به. وأمَّا الخَطَأُ، فلا يُوصَفُ بتَحْرِيمٍ ولا إباحَةٍ؛ لأنَّه كقَتْلِ المجْنُونِ والبَهِيمةِ، لكنَّ النَّفْسَ الذَّاهِبَةَ به معْصُومةٌ محرُّمةٌ، فلذلك وجَبَتِ الكفَّارَةُ فيها. وقال قومٌ: الخَطَأُ مُحَرَّمٌ ولا إثْمَ فيه. وقِيلِ: ليس بمُحَرُّمٍ؛ لأَنَّ المُحَرَّمَ ما أثِمَ فاعِلُه، وقولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}. هذا اسْتِثْناء مُنْقَطِع. و «إلَّا» في مَوْضِعِ «لكنْ». والتَّقْديرُ: لَكِنْ قد يقتلُه خَطَأً. وقِيلَ: «إلَّا» بمعنى «ولا»، أى ولا خَطَأً. وهذا يَبْعُدُ؛ لأَنَّ الخَطَأ لا (¬2) يتَوَجَّهُ إليه النَّهْىُ؛ لعَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه، وكَوْنِه لا يَدْخُلُ تحتَ الوُسْعِ، ولأنَّها لو كانت بمعنى «ولا» لَكانت عاطِفَةً للخَطَأ على ما قبلَه، وليس قبلَه ما يَصْلُحُ عَطْفُه عليه. فأمَّا قَتْل نِساءِ أهلِ الحَرْبِ وصِبْيانِهم، فلا كَفَّارَةَ فيه؛ لأنَّهم ليس لهم أيْمانٌ ولا أمانٌ، وإنَّما مُنِعَ مِن قَتْلِهم، لانْتِفاعِ المسلمين بهم، لكَوْنِهم يَصِيرونَ بالسَّبْى رقيقًا يُنْتَفعُ بهم. وكذلك قَتْلُ مَن لم تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لا كفَّارَةَ فيه؛ لذلك، ولذلك لم يُضْمَنُوا بشئٍ، فأشْبَهُوا مَن قَتْلُه مُباحٌ. فصل: وَمَن قَتَلَ نَفْسَه خَطأً، وجَبَتِ الكفَّارَةُ في مالِه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجبُ؛ لأَنَّ ضَمانَ نَفْسِه لا يَجِبُ، فلم تَجِبِ الكَفَّارَةُ به، كقَتْلِ نِساءِ أهلِ الحَرْبِ وصِبْيانِهم. ووجْهُ الأَوَّلِ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «لحق». (¬2) سقط من: الأصل.

4358 - مسألة: (وفى العمد وشبه العمد روايتان؛ إحداهما، لا كفارة فيه. اختارها أبو بكر والقاضى. والأخرى، فيه الكفارة)

وَفِى قَتْلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ العَمْدِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. اخْتَارَهَا أبو بَكْرٍ وَالْقَاضِى. وَالأُخْرَى، فِيهِ الْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمُومُ قولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. ولأنَّه آدَمِىٌّ مُؤْمِنٌ مقْتولٌ خَطأً، فوَجَبَتِ الكفَّارَةُ على قاتِله، كما لو قتَلَه غيرُه. قال شيْخُنا (¬1): وقولُ أبى حنيفةَ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، فإنَّ عامِرَ بنَ الأكْوَعِ، قَتَلَ نفْسَه خَطأً، فلم يَأْمُرِ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه بكَفَّارَةٍ (¬2). فأمَّا قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}. فإنَّما أُرِيدَ بها إذا قَتَلَ غيرَه، بدَليلِ قولِه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}. وقاتلُ نفْسِه لا تجِبُ فيه دِيَةٌ، بدَليلِ قَتْلِ عامِر بنِ الأكْوَعِ. 4358 - مسألة: (وفى العَمْدِ وشِبْهِ العَمْدِ رِوايَتان؛ إحْداهما، لَا كَفَّارَةَ فيه. اخْتارَها أبو بَكْرٍ والقاضِى. والأُخْرَى، فيه الكَفَّارَةُ) المشْهورُ في المذْهَبِ أنَّه لا كَفَّارَةَ في قَتْلِ العَمْدِ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصْحابُ الرَّأْى. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، ¬

(¬1) انظر: المغنى 12/ 225. (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تجبُ فيه الكَفَّارَةُ. وحُكِىَ ذلك عن الزُّهْرِىِّ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لِما روَى واثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ قال: أتَيْنا النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصاحِبٍ لنا قد أوْجَبَ بالقَتْلِ. فقال: «أُعتِقُوا عنه رَقَبَةً، يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا منه مِنَ النَّارِ» (¬1). ولأنَّها إذا وجَبَتْ في قَتْلِ الخَطَأ، ففى العَمْدِ أوْلَى؛ لأنَّه أعْظَمُ جُرْمًا، وحاجتَه إلى تَكْفِيرِ ذَنْبِه أعْظَمُ. ولَنا، مَفْهومُ قولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. ثم ذكرَ قَتْلَ العَمْدِ، فلم يُوجِبْ فيه (¬2) كَفَارَةً، وجَعَلَ جَزاءَه جَهَنَّمَ، فمَفْهومُه أنَّه لا كفَّارةَ فيه. ورُوِىَ أنَّ [الحارثَ بنَ] (¬3) سُوَيْدِ بنِ الصَّامتِ قتلَ رَجُلًا، فأوْجَبَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- القَوَدَ، ولم يُوجبْ كفَّارَةً. وعمرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ قتلَ رَجُلَيْن كانا في عَهْد النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوَداهما النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يأْمُرْه بكَفَّارَةٍ (¬4). ولأنَّه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في ثواب العتق، من كتاب العتق. سنن أبى داود 2/ 354. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 490، 491. وهو ضعيف. انظر: الإرواء 7/ 339. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تكملة لازمة. وانظر القصة، في: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 552، 553. والسيرة لابن هشام 3/ 89. (¬4) انظر: السيرة لابن هشام 3/ 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِعْلٌ يُوجبُ القتلَ، فلا يُوجِبُ كَفَّارَةً، كزنَى المُحْصَنِ، وحديثُ واثِلَةَ يَحْتَمِلُ أَنَّه كان خَطأً، وسَمَّاه مُوجبًا، أى فوَّتَ النَّفْسَ بالقَتْلِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه كان شِبْهَ عَمْدٍ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أمَرَهم بالإِعْتاقِ تَبَرُّعًا، ولذلك أمرَ غيرَ القاتلِ بالإِعْتاقِ. وما ذكَرُوه مِن المعنى لا يَصِحُّ، لأنَّها وجَبَتْ في الخَطَأ، لتَمْحُوَ (¬1) إثْمَه، لكَوْنِه لا يَخْلُو بن تَفْرِيطٍ، فلا يَلْزَمُ مِن ذلك إيجابُها في مَوْضِع عَظُمَ الإِثْمُ فيه، بحيثُ لا يَرْتَفِعُ بها. إذا ثَبَتَ هذا، فلا فَرْقَ بينَ العَمْدِ المُوجِبِ للقِصاصِ، وما لا قِصاصَ فيه، كقَتْلِ الوالدِ ولدَه، والسَّيِّدِ عبْدَه، والحُرِّ العَبْدَ، والمُسلمِ الكافِرَ؛ لأَنَّ هذا مِن أنْواعِ العمْدِ. فصل: فأمَّا شِبْهُ العَمْدِ، فقال شَيْخُنا (¬2): تجبُ فيه الكفَّارةُ، ولم ¬

(¬1) في الأصل: «لتحقق». (¬2) في المغنى 12/ 227.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أعلمْ لأصْحابنا فيه قَوْلًا، لكنَّ مُقْتَضَى الدَّليلِ ما ذكَرْناه؛ لأنَّه أُجْرِىَ مُجْرَى الخَطأَ في نَفْىِ القِصاصِ، وحَمْلِ العاقلةِ دِيَتَه، وتأْجِيلِها في ثلاثِ سِنِينَ، فجَرَى مَجْراه في وُجُوب الكفَّارَةِ، ولأَنَّ القاتِلَ إنَّما لم يَحْمِلْ شيئًا مِن الدِّيَةِ لتَحَمُّلِه الكَفَّارَةَ، فلو لم تجِبْ عليه الكَفَّارَةُ، لَحَمَلَ مِن الدِّيَةِ؛ لئلَّا يَخْلُوَ القاتلُ عن وُجوبِ شئٍ أصْلًا، ولم يَرِدِ الشَّرْعُ بهذا. وقد ذَكَرَ في الكِتابِ المَشْرُوحِ رِوايةً أنَّه كالعَمْدِ؛ لأَنَّ دِيَتَه مُغَلَّظَةٌ. وهى اخْتيارُ أبى بكرٍ؛ لأَنَّ عندَه أنَّ الدِّيَةَ فيه يَحْمِلُهاْ القاتلُ، فقد أشْبَهَ العَمْدَ في ذلك، فكان حُكْمُه حُكْمَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكَفَّارَةُ القَتْلِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُومِنَةٍ بنَصِّ القُرآنِ، سَواءٌ كان القاتلُ أو المقْتولُ مُسْلِمًا أو كافِرًا، فإن لم يَجِدْها في مِلْكِه فاضِلةً عن حاجَتِه، أو يَجِدْ ثَمَنَها فاضِلًا عن كفايَتِه، فصيامُ شَهْرَيْن مُتَتابِعَيْن تَوْبَةً مِن اللَّهِ، وهذا ثابتٌ بالنَّصِّ أيضًا. فإن لم يَسْتَطِعْ، ففيه رِوايتان؛ إحداهما، يَثْبُتُ الصِّيامُ في ذِمَّتِه، ولا يجبُ شئٌ آخَرُ، لأَنَّ اللَّهَ تعالى لم يذْكُرْه، ولو وَجَبَ لذَكَرَه. والثانيةُ، يجبُ إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عندَ العَجْزِ عن (¬1) الصَّوْمِ، ككَفَّارَةِ الظِّهارِ والفِطْرِ في رمضانَ، وإن لم يَكُنْ مذْكُورًا في نَصِّ القُرآنِ، فقد ذُكِرَ ذلك في نَظِيرِه، فيُقاسُ عليه. فعلى هذه الرِّوايةِ، إن عجزَ عن الإِطْعامِ، ثبتَ في ذِمَّتِه حتى يَقْدِرَ عليه. وللشافعىِّ في هذا قَوْلان كالرِّوايتَيْن. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

باب القسامة

بَابُ الْقَسَامَةِ وَهِىَ الأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِى دَعْوَى الْقَتْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب القَسامَةِ (وهى الأيْمانُ المُكَرَّرَةُ في دعْوَى القَتْلِ) والقَسامةُ مصدرُ أَقْسَمَ قَسامَةً. ومعناه حَلَفَ حَلِفًا. والمرادُ بالقَسامَةِ ههنا الأيْمانُ المُكَرَّرَةُ في دعْوَى القَتْلِ. وقال القاضى: هى الأيْمانُ إذا كَثُرَتْ على وَجْهِ المُبالَغَةِ. قال: وأهلُ اللُّغَةِ يذْهبون إلى أنَّها القومُ الذين يحْلِفون، سُمُّوا باسْمِ المَصْدَرِ، كما يقالُ: رَجلٌ عَدْلٌ ورِضًا. وأىُّ الأمْرَيْنِ كان، فهو مِن القَسَمِ الذى هو الحَلِفُ. والأَصْلُ في القَسامةِ ما رَوَى أبو (¬1) سعيدٍ الأنصارىُّ، عن بُشَيْرِ بنِ يَسارٍ، عن سَهْلٍ بنِ أبى حَثْمَةَ، ورَافِعِ بنِ خَدِيجٍ، أنَّ مُحَيِّصَةَ بنَ مسعودٍ وعبدَ اللَّهِ بنَ سَهْلٍ انْطلَقا إلى خَيْبَرَ، فتَفَرَّقَا في النَّخِيلِ، فقُتِلَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَهْلٍ، فاتَّهَمُوا اليَهُودَ، فجاءَ أخُوه عبدُ ¬

(¬1) في تش، ر 3، ص: «ابن». وهو يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصارى، أبو سعيد المدنى القاضى. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 221 - 224.

4359 - مسألة: (ولا تثبت إلا بشروط أربعة؛ أحدها، دعوى القتل، ذكرا كان المقتول أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا. وأما الجراح فلا قسامة فيه)

وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ؛ أحَدُهَا، دَعْوَى الْقَتْلِ، ذَكَرًا كَانَ الْمَقْتُولُ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرحمنِ، وأبْناءُ عَمِّه حُوَيَّصَةُ ومُحَيِّصَةُ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَكَلَّمَ عبدُ الرحمنِ في أمْرِ أَخِيه، وهو أصْغَرُهم، فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كَبِّرِ الكُبْرَ (¬1)». أو (¬2) قال: «لِيَبْدَأ الأَكْبَرُ». فتَكَلَّما في أمْرِ صاحِبِهما، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فيُدْفَعُ إلَيْكُمْ برُمَّتِه». فقَالُوا: أمْرٌ لم نشْهَدْه، كيف نَحْلِفُ؟ قال: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قومٌ كُفَّارٌ ضُلَّالٌ. قال: فوَداهُ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قِبَلِه. قال سهلٌ: فدخلْتُ مِرْبَدًا لهم، فرَكَضَتْنِى نَاقةٌ مِن تلك الإِبلِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). 4359 - مسألة: (ولَا تَثْبُتُ إلَّا بشُرُوطٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدُها، دَعْوَى القَتْلِ، ذَكَرًا كان المَقْتُولُ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أو عَبْدًا، مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا. وأمَّا الجِرَاحُ فَلَا قَسامَةَ فيه) دعْوَى القَتْلِ شرْطٌ في القَسامةِ، ولا تُسْمَعُ ¬

(¬1) في الأصل: «الكبير». (¬2) في الأصل: «و». (¬3) تقدم تخريجه في 20/ 213، 25/ 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً، بأنْ يقول: أدَّعِى أنَّ هذا قَتَل وَلِيِّى فلانَ ابنَ فلانٍ، عَمْدًا، أو: خَطَأً -أو: شِبْهَ عمدٍ. ويَصِفُ القَتْلَ، فإن كان [عَمْدًا، قال] (¬1): قَصَد إليه بسَيْفٍ. أو بما يَقْتُلُ مثْلُه غالِبًا. فإن كانتِ الدَّعْوَى على واحدٍ، فأقَرَّ، ثَبَت القَتْلُ، وإن أنْكَر وثَمَّ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها، وإلَّا صارَ الأمْرُ إلى الأيْمانِ. وإن كانتِ الدَّعْوَى على أكثرَ مِن واحدٍ، لم يَخْلُ مِن أرْبعةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يقولَ: قتلَه هذا، و (¬2) هذا [قَتَلَه عَمْدًا] (¬3). ويَصِفُ العمدَ بصِفَتِه، فيقالُ له: عَيِّنْ واحِدًا. فإنَّ القَسامَةَ المُوجِبَةَ للقَوَدِ لا تكونُ على أكثرَ مِن واحدٍ. الحالُ الثانى، أن يقولَ: تَعَمَّد هذا، وهذا كان خاطِئًا. فهو يَدَّعِى قَتْلًا غيرَ مُوجِبٍ للقَوَدِ، فيُقْسِمُ عليهما، ويَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ مِن مالِ العامِدِ، ونِصفَها من مالِ (¬4) المُخْطِئَ. الحالُ الثالثُ، أن يقولَ: عَمَد هذا، ولا أدْرِى أَكان قتلُ الثانى عَمْدًا أو خَطَأً؟ فقيل: لا تَسُوغُ القَسامَةُ ههُنا؛ [لأنَّه يحْتَمِلُ أن يكونَ الآخَرُ مُخْطِئًا، فيكونُ مُوجَبُها الدِّيَةَ عليهما. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ عامِدًا، فلا تَسُوغُ القسامةُ (¬5) ههنا] (1)، ويجبُ تَعْيِينُ واحدٍ، والقَسامةُ عليه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ر 3: «أو». (¬3) في ر 3، ص، م: «تعمد قتله»، وفى ق: «تعمدا قتله». (¬4) في المغنى 12/ 220: «عاقلة». (¬5) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ مُوجَبُها القَوَدَ، فلم تَجُزِ القَسامَةُ مع هذا. فإن عادَ فقال: عَلِمْتُ أنَّ الآخَرَ كان عامِدًا. فله أَنْ يُعَيِّنَ واحِدًا، ويُقْسِمَ عليه. وإن قال: كان مُخْطِئًا. ثبَتَتِ القَسامَةُ حينئذٍ، ويُسْأَلُ الآخَرُ، فإن أنْكَرَ، ثبَتَتِ القَسامَةُ، وإن أقَرَّ ثَبَتَ عليه القتلُ، ويكونُ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ في مالِه؛ لأنَّه ثَبَت بإقْرارِه لا بالقَسامَةِ. وقال القاضى: يكونُ على عاقِلَتِه. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأَنَّ العاقِلَةَ لا تَحْمِلُ اعْتِرافًا. الحالُ الرِابعُ. أن يقولَ: قَتَلاهُ خَطَأً، أو: شِبْهَ عَمْدٍ، أو: أحَدُهما خاطِئًا، والآخرُ شِبْهَ العَمْدِ. فله أن يُقْسِمَ عليهما. فإنِ ادَّعَى أنَّه قَتَلَ وَلِيَّه عَمْدًا، فسُئِلَ عنِ تفْسِيرِ العَمْدِ، ففَسَّرَه بعَمْدِ الخَطَأ، قُبِلَ تفْسِيرُه، [وأقْسَمَ] (¬1) على ما فسَّرَه به؛ لأنَّه أخْطَأَ في وَصْفِ القَتْلِ بالعَمْدِيَّةِ. ونقَل المُزَنِىُّ عن الشّافعىِّ: لا يَحْلِفُ عليه؛ لأنَّه بدَعْوى العَمْدِ بَرَّأَ العاقِلَةَ، فلم تُسْمَعْ دعْوَاه بعدَ ذلك ما يُوجِبُ عليهم المالَ. ولَنا، أنَّ دَعْوَاه قد تَحَرَّرَتْ، وإنَّما غَلِطَ في تَسْمِيَةِ شِبْهِ العَمْدِ عَمْدًا، وهذا مما يَشْتَبِهُ، فلا يُؤاخَذُ به. ولو أحْلَفَه الحاكمُ قبلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وتَبَيُّنِ نَوْعِ القَتْلِ، لم يُعْتَدَّ باليَمِينِ؛ لأَنَّ الدَّعْوَى لا تُسْمَعُ غيرَ مُحَرَّرَةٍ (¬2)، فكأَنَّه أحْلَفَه قبلَ الدَّعْوَى، ولأنَّه إنَّما يُحلِّفُه ليُوجِبَ له ما يَسْتَحِقُّه، فإذِا لم يَعْلَمْ ما يستحِقُّه بدَعْوَاه، لم يَحْصُلِ المَقْصُودُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «مجردة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باليَمِينِ، فلم يَصِحَّ. فصل: قال القاضى: يجوزُ للأوْلِياءِ أن يُقْسِمُوا على القاتلِ، إذا غَلَب [على ظَنِّهِم] (¬1) أنَّه قَتَلَه، وإن كانُوا غائِبِينَ عن مكانِ القَتْلِ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للأنْصارِ: «تَحْلِفُونَ، وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ». وكانوا بالمدينةِ، والقتلُ بخَيْبَرَ، ولأَنَّ للإِنْسانِ أن يَحْلِفَ على غالِبِ ظَنِّه، كما أنَّ مَن اشْتَرَى مِن إنْسانٍ شيئًا، فجاءَ آخَرُ يدَّعِيه، جازَ أن يَحْلِفَ أنَّه لا يَسْتَحِقه؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه مِلْكُ الذى باعَه، وكذلك إذا وَجَد شيئًا بخَطهِ أو بخَطِّ أبيه ودَفْتَرِه، جازَ أَنْ يَحْلِفَ، وكذلك إذا باعَ شيئًا لم يعلمْ فيه عَيْبًا، فادَّعَى عليه المُشْتَرِى أنَّه مَعِيبٌ، وأرادَ رَدَّهُ، كان له أَنْ يَحْلِفَ أنَّه باعَه (¬2) بَرِيئًا مِن العَيْبِ. ولا يَنْبَغِى أن يَحْلِفَ المُدَّعِى إلَّا بعدَ الاسْتِثْباتِ، وغَلَبَةِ ظَنٍّ تُقارِبُ اليَقِينَ، ويَنْبَغِى للحاكمِ أن يقولَ لهم: اتَّقُوا اللَّهَ، واسْتَثْبِتُوا. ويَعِظَهم، ويُحَذِّرَهُم، ويَقْرأ عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬3). ويُعَرِّفَهُم ما في اليَمِينِ الكاذبةِ، وظُلمِ البَرِئِ، وقَتْلِ النَّفْسِ بغيرِ الحَقِّ، ويُعَرِّفَهم أنَّ عَذابَ الدُّنْيا أهْونُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ. وهذا كلُّه مذهبُ الشَّافِعِىِّ. ¬

(¬1) في الأصل، تش: «عليهم». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سورة آل عمران 77.

4360 - مسألة: (وسواء كان المقتول ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4360 - مسألة: (وسَواءٌ كان المَقْتُولُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا) أمّا إذا كان المقْتولُ مُسْلِمًا حُرُّا، فليس فيه خِلافٌ، سواءٌ كان المُدَّعَى عليه مُسْلِمًا أو كافِرًا، فإنَّ الأَصْلَ في القَسامَةِ قِصَّةُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَهْلٍ، حينَ قُتِلَ بخَيْبَرَ، فاتهِمَ اليَهودُ بقَتْلِه، فأمَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقَسامَةِ. وأمَّا إنْ كان المقْتولُ كافِرًا أو عَبْدًا، وكان قاتلُه ممَّن يجبُ عليه القِصاصُ بقَتْلِه، وهو المُماثِلُ له في حالِه أو دُونَه، ففيه القَسامَةُ. وهذا قولُ الشَّافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى. وقال الزُّهْرِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ: لا قَسامَةَ في العَبْدِ؛ لأنَّه مالٌ، فلم تَجِبِ القَسامَةُ فيه، كالبَهِيمَةِ. ولَنا، أنَّه قَتْلٌ مُوجبٌ للقِصاصِ، فأوْجبَ القَسامَةَ، كقَتْلِ الحُرِّ، بخِلافِ البَهِيمَةِ، فإنَّه لا قِصاصَ فيها. ويُقْسِمُ على العَبْدِ سَيِّدُه؛ لأنَّه المُسْتَحِقُّ لدَمِه، وأُمُّ الوَلَدِ والمُدَبَّرُ والمكاتَبُ والمُعَلَّقُ عِتْقُه بصِفَةٍ، كالقِنِّ؛ لأَنَّ الرِّقَّ ثابتٌ فيهم. فإن كان القاتلُ ممَّن (¬1) لا قِصاصَ عليه، كالمُسْلمِ يقْتُلُ كافِرًا، والحُرِّ يقْتُلُ عَبْدًا، فلا قَسامَةَ فيه، في ظاهرِ قَوْلِ الخِرَقِىِّ، وهو قولُ مالكٍ؛ لأَنَّ القَسامَةَ إنَّما تكونُ فيما يُوجِبُ القَوَدَ. وقال القاضى: فيهما القَسامَةُ. [وهو قولُ الشافعىِّ، وأصْحابِ الرَّأْى؛ لأنَّه قتْلُ آدَمِىٍّ يُوجبُ الكفَّارَةَ، فشُرِعَتِ القَسامَةُ فيه] (¬2)، كقَتْلِ الحُرِّ المُسْلمِ، ولأَنَّ ما كان حُجَّةً في قَتْلِ الحرِّ ¬

(¬1) في الأصل: «من». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمِ (¬1)، كان حُجَّةً في قتْلِ العَبْدِ والكافرِ، كالبَيِّنَةِ. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّه قَتْل لا يُوجِبُ القِصاصَ، فأَشْبَهَ قتلَ البَهِيمَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن شَرْعِها فيما يُوجِبُ القِصاصَ، شَرْعُها مع عَدَمِه، بدَليلِ أنَّ العَبْدَ لو اتُّهِمَ بقَتْلِ سَيِّدِه، وجَبَتِ القَسامَةُ إذا كان القتلُ مُوجِبًا للقِصاصِ. ذكَره القاضى؛ لأنَّه لا يجوزُ قَتْلُه قبلَ ذلك، ولو لم يكُنْ مُوجِبًا للقِصاصِ لم تُشْرَعِ القَسامَةُ. فصل: وإن قُتِلَ عبدُ المُكاتَبِ، فللمكاتَبِ أن يُقْسِمَ على الجانِى؛ لأنَّه مالكُ العَبْدِ، يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه وفى بَدَلِه (¬2)، وليس لسَيِّدِه انْتِزاعُه منه، وله شِراؤُه منه. ولو اشْتَرى المأذونُ له في التِّجارةِ عَبْدًا، فقُتِلَ، فالقَسامَةُ لسَيِّدِه دُونَه؛ لأَنَّ ما اشْتراه الأذونُ يَمْلِكُه سَيِّدُه دُونَه، ولهذا يَمْلِكُ انْتِزاعَه منه. وإن عجزَ المكاتَبُ قبلَ أَنْ يُقْسِمَ، فلسَيِّدِه أن يُقْسِمَ؛ لأنَّه صارَ المُسْتَحِقَّ لبَدَلِ المقْتولِ، بمَنْزِلَةِ وَرَثَةِ الحُرِّ إذا ماتَ قبلَ أن يُقْسِمَ، ولو ملَّكَ السَّيِّدُ عبدَه أو أمَّ ولَدِه عَبْدًا فقُتِلَ، فالقَسامَةُ للسَّيِّدِ، سواءٌ قُلْنا: يَمْلِكُ العبدُ بالتَّمْلِيكِ -أو- لا يَمْلِكُ؛ لأنَّه إن لم يَمْلِكْ، فالمِلْكُ لسَيِّدِه، وإن [مَلَك، فهو مِلْكٌ] (¬3) غيرُ ثابتٍ، ولهذا يَمْلِكُ سَيِّدُه انْتزاعَه منه، ولا يجوزُ له التَّصَرُّفُ بغيرِ إذْنِ سَيِّدِه، بخِلافِ المُكاتَبِ. وإن أوْصَى لأمِّ ولَدِه ببَدَلِ العَبْدِ، صَحَّتِ الوَصِيَّةُ، وإن كان لم يَجِبْ بعدُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ملكه». (¬3) في الأصل، تش: «ملكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما تَصِحُّ الوصيةُ بثَمَرَةٍ لم تُخْلَقْ. والقَسامَةُ للوَرَثَةِ؛ لأنَّهم القائمون مَقامَ المُوصِى في إثْباتِ حُقوقِه، فإذا حَلَفُوا، ثبَت لها البَدَلُ بالوَصِيَّةِ، فإن لم يَحْلِفُوا لم يكُنْ لها أن تَحْلِفَ، كما (¬1) إذا امْتَنَع الوَرَثَةُ باليَمِينِ مع الشَّاهدِ، لم يكُنْ للغُرَماءِ أن يَحْلِفُوا معه. فصل: والمَحْجورُ عليه لسَفَهٍ أو فَلَسٍ، كغيرِ المَحْجورِ عليه، في دَعْوَى القتلِ، والدَّعْوَى عليه، [إلَّا أنَّه] (¬2) إذا أقَرَّ بمالٍ، أو لَزِمَتْه الدِّيَةُ بالنُّكولِ عن اليَمِينِ، لم تَلْزَمْه في حالِ حَجْرِه؛ لأَنَّ إقْرارَه بالمالِ [في الحالِ] (¬3) غيرُ مَقْبولٍ بالنِّسْبَةِ إلى أخْذِ شئٍ مِن مالِه في الحالِ، على ما عُرِفَ في مَوْضِعِه. فصل: ولو جُرِحَ مُسْلمٌ فارْتَدَّ، ومات على الرِّدَّةِ، فلا قَسامَةَ فيه؛ لأَنَّ نفْسَه غيرُ مَضْمُونةٍ، ولا قَسامَةَ فيما دُونَ النَّفْسِ، ولأَنَّ مالَه يصيرُ فَيْئًا، والفَىْءُ ليس له مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّن فتَئْبُت القَسامَةُ له. وإن مات (¬4) مُسْلِمًا، فارْتَدَّ وارِثُه قبلَ (¬5) القَسامَةِ، فقال أبو بكرٍ: ليس له أن يُقْسِمَ، وإن أقْسَمَ لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ مِلْكَه يزُولُ عن مالِه وحقُوقِه، فلا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا للقَسامَةِ. وهذا قولُ المُزَنِىِّ. ولأَنَّ المُرْتَدَّ قد أقْدَمَ على الكُفْرِ الذى لا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «لأنه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «كان». (¬5) في الأصل: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَنْبَ أعْظَمُ منه، فلا يَسْتَحِقُّ بيَمِينِه دَمَ مسلمٍ، ولا يَثْبُتُ بها قَتْلٌ. وقال القاضى: الأوْلَى أن تُعْرَضَ عليه القَسامَةُ، فإنْ أقْسَمَ، وجَبَتِ الدِّيَةُ. وهذا قولُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ اسْتِحْقاقَ المالِ بالقَسامَةِ حَقٌّ له، فلا يَبْطُلُ برِدَّتِه، كاكْتِسابِ المالِ، يُوجِبُ الاكتِسابَ، وكُفْرُه لا يَمْنَعُ يَمِينَه؛ لأَنَّ الكافِرَ تَصِحُّ يَمِينُه، وتُعْرَضُ عليه في الدَّعاوَى، فإن حَلَفَ، ثبَت القِصاصُ أو الدِّيَةُ، فإن عادَ إلى الإِسْلام، كان له، وإن ماتَ، كان فَيْئًا. والصَّحِيحُ، إن شاءَ اللَّهُ، ما قاله أبو بكَرٍ؛ لأَنَّ مالَ المُرْتَدِّ إمَّا أن يكونَ مِلْكُه قد زالَ عنه، وإمّا مَوْقُوفٌ، وحُقوقُ المالِ حُكْمُها حُكْمُه؛ فإن قُلْنا: يزُولُ (¬1) مِلْكُه. فلا حَقَّ له. وإن قُلْنا: هو مَوْقوفٌ. فهو قبلَ انْكِشافِ حالِه مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَثْبُتُ الحُكمُ بشئٍ مَشْكوكٍ فيه، كيف وقَتْلُ المُسْلِمِ أمْرٌ كبيرٌ لا يَثْبُتُ مع الشُّبُهاتِ، ولا يُسْتَوْفَى مع الشَّكِّ. فأمَّا إنِ ارْتَدَّ قبلَ مَوْتِ مَوْرُوثِه، لم يكُنْ وارِثًا، ولا حَقَّ له، وتكونُ القَسامَةُ لغيرِه مِن الوُرَّاثِ (¬2). فإن لم يكُنْ للمَيِّتِ وارِثٌ سِواهُ، فلا قسامةَ فيه؛ لِما ذكَرْنا. فإن عادَ إلى الإِسْلامِ قبلَ قَسامَةِ غيرِه، فقِياسُ المذهبِ أنَّه يَدْخُلُ في القَسامَةِ؛ لأنَّه متى رجَع قبلَ قَسْمِ المِيراثِ، قُسِمَ له. وقال القاضى: لا تَعودُ القَسامَةُ إليه؛ لأنَّها اسْتُحِقَّتْ على غيرِه. وإنِ ارْتَدَّ رَجُل، فقُتِلَ عبْدُه، أو قتِلَ عبدُه ثم ارْتَدَّ، فهل له أن يُقْسِمَ؟ ¬

(¬1) في الأصل: «بزوال». (¬2) في الأصل: «الوارث».

4361 - مسألة: (فأما الجراح فلا قسامة فيه)

الثَّانِى، اللَّوْثُ؛ وَهُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ، كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الأَنْصَارِ وَأَهْلِ خَيْبَرَ، وَكَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ الَّتِى يَطْلُبُ بَعْضُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ على وَجْهَينَ، بِناءً على الاخْتِلافِ المُتَقَدِّمَ. فإن عادَ إلى الإِسْلامَ، عادَتِ القَسامَةُ؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّ بَدَلَ العَبْدِ. 4361 - مسألة: (فَأمَّا الجِراحُ فلا قَسامَةَ فيه) لا قَسامَةَ فيما دُونَ النَّفْسِ مِن الأطْرافِ والجِرَاحِ. لانَعلمُ فيه خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ؛ لأَنَّ القَسامَةَ تثْبُتُ في النَّفْسِ لحُرْمَتِها، فاخْتَصَّتْ بها دونَ الأطْرافِ، كالكَفَّارَةِ، ولأنَّها تثْبُتُ حيثُ كان المَجْنِىُّ عليه لا يُمْكِنُه التَّعْبِيرُ عن نفْسِه، وتَعْيِينُ قاتِلِه، ومَن قُطِعَ طَرَفُه، يُمْكِنُه ذلك. وحُكْمُ الدَّعْوَى فيه حُكْمُ الدَّعْوَى في سائرِ الحُقوقِ؛ البَيِّنَةُ على المُدَّعِى، واليَمِينُ على المُنْكِرِ يَمِينًا واحدةً؛ لأنَّها دَعْوَى لا قَسامَةَ فيها، فلا تُغَلَّظُ بالعَدَدِ، كالدَّعْوَى [في المالِ] (¬1). (الثانى، اللَّوثُ؛ وهو العَداوَةُ الظَّاهِرَةُ، كنحوِ ما كان بينَ الأنْصارِ وأهلِ خَيْبَرَ، وكما بينَ القبائلِ التى يطْلُبُ بعضُها بعضًا بثَأْرٍ، في ظاهرِ المذهبِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في اللَّوثِ، فرُوِىَ عنه ¬

(¬1) في الأصل، تش: «بالمال».

بَعْضًا بِثَأْرٍ، فِى ظَاهِرِ المَذْهَبِ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلى أَنَّهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّةُ الدَّعْوَى بِهِ، كَتَفَرُّقِ جَمَاعَةٍ عَنْ قَتِيلٍ، وَوُجُودِ قَتِيلٍ عِنْدَ مَنْ مَعَهُ سَيْفٌ مُلَطَّخٌ بِدَمٍ، وَشَهَادَةِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمْ، كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، ونَحْوِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه العَدَاوَةُ الظَّاهرةُ بينَ المقْتولِ والمُدَّعَى عليه، كَنَحْوِ ما كان بينَ الأنْصارِ ويَهُودِ خيْبَرَ، وما (¬1) بينَ القبائلِ والأحْياءِ وأهْلِ القُرَى الذين بيْنَهم الدِّماءُ والحُروبُ، وما بينَ البُغَاةِ وأهْلِ العَدْلِ، وما بينَ الشُّرَطَةِ واللُّصُوصِ، وكُلِّ مَن بيْنَه وبينَ المقْتُولِ ضِغْنٌ يَغْلِبُ على الظَّن أنَّه قَتَلَه. نقل مُهَنَّا عن أحمدَ، في مَن وُجِدَ قَتِيلًا في المَسْجدِ الحرامِ، يُنْظَرُ مَن بينَه وبينَه في حياتِه شئٌ -يعنى ضِغْنًا- يُؤْخَذُون به. ولم يَذْكُرِ القاضى في اللَّوْثِ غيرَ العَداوَةِ، إلَّا أنَّه قد قال في الفَريقَيْنِ يقْتَتِلانِ فينْكَشِفُونَ عن قَتِيل: فاللَّوْثُ على الطَّائِفَةِ التى القَتِيلُ مِن غيرِها، سواءٌ كان القِتالُ بالْتِحَامٍ، أو مُراماةٍ بالسِّهامِ، وإن لم تَبْلُغِ السِّهامُ، فاللَّوْثُ على طائِفَةِ القَتِيلِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُشْتَرَطُ مع العَداوَةِ أن لا يكونَ في الموْضِعِ الذى به القَتِيلُ غيرُ العَدُوِّ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ مُهَنَّا التى ¬

(¬1) في الأصل: «ما كان»، وفى م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكَرْناها. وكلامُ الْخِرَقِىِّ يَدُلُّ عليه أيضًا. واشْتَرطَ القاضى أن يُوجَدَ القَتِيلُ في مَوْضِعِ عَدُوٍّ لا يَخْتَلِطُ بهم غيرُهم. وهذا مذْهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ الأنْصارِىَّ قُتِلَ في خيْبَرَ ولم يكُنْ بها إلَّا اليهودُ، وجميعُهم أعداءٌ. ولأنَّه متى اخْتَلَطَ بهم غيرُهم، احْتمَلَ أن يكونَ القاتِلُ ذلك الغَيْرَ. ثم ناقَضَ قولَه، فقال في قَوْم ازْدَحَمُوا في مَضِيقٍ، فافْتَرَقوا عن قَتِيلٍ، فقال: إن كان في القَوْمِ مَن بيْنَه وبينَه عَداوَةٌ، وأمْكَنَ أن يكونَ هو قَتَلَه؛ لكَوْنِه بقُرْبِه، فهو لَوْثٌ. فجعلَ العَداوَةَ لَوْثًا مِع وُجُودِ غيرِ العَدُوِّ. ولَنا، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَسْأَل الأنْصارَ: هل كان بخيْبَرَ غيرُ اليَهودِ أم لا؟ مع أنَّ الظَّاهِرَ وُجودُ غيرِهم فيها؛ لأنَّها كانتْ أمْلاكًا للمسلمين، يقْصِدُونها لأخْذِ غَلَّاتِ أمْلاكِهم منها، وعمارَتِها، والاطِّلاعِ عليها، والامْتِيارِ (¬1) منها، ويَبْعُدُ أن تكونَ مدينَة على جَادَّةٍ تخْلُو مِن غيرِ أهْلِها. وقولُ الأنْصارِ: ليس لنا بخَيْبَرَ عَدُوٌّ إلَّا يَهُودُ (¬2). يَدُلُّ على أنَّها قد كان بها غيرُهم ممَّن ليس بعَدُوٍّ، ولأَنَّ اشْتِراكَهم في العَداوَةِ لا يَمْنَعُ مِن وُجودِ اللَّوْثِ في حَقِّ واحدٍ، وتخْصيصِه بالدَّعْوَى مع مُشارَكَةِ غيرِه في احْتِمالِ قَتْلِه، فَلأَنْ لا يَمْنَعَ ذلك وُجودُ مَن يَبْعُدُ منه القَتْلُ أوْلَى. وما ذكَرُوه مِن الاحْتِمالِ لا يَنْفِى اللَّوْثَ، فإنَّ اللَّوْثَ لا يُشْتَرطُ فيه يَقِينُ (¬3) القَتْلِ مِن المُدَّعَى عليه، فلا يُنافِيه الاحْتِمالُ، ولو تُيُقِّنَ القَتْلُ مِن المُدَّعَى عليه، لَما احْتِيجَ إلى الأيْمانِ، ¬

(¬1) الامتيار: جلب الطعام. (¬2) هذا اللفظ عند الإمام أحمد، في: المسند 4/ 3. (¬3) في الأصل: «تعيين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو اشْتُرِطَ نَفْىُ الاحْتِمالِ، لَما صَحَّتِ الدَّعْوَى على واحدٍ مِن جماعةٍ؛ لاحْتِمالِ أنَّ القاتلَ غيرُه، ولا على الجماعةِ كلِّهم؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن لا يَشْتَرِكَ الجميعُ في قَتْلِه. والرِّوايةُ الثَّانيةُ عن أحمدَ، أنَّ اللَّوْثَ ما يُغَلِّبُ على الظَّنِّ صِدْقَ المُدَّعِى، وذلك مِن وُجُوهٍ؛ أحدُها، العداوةُ المذْكورَةُ. الثانى، أن يتَفَرَّقَ جَماعةٌ عن قتيل، فيكونُ ذلك لَوْثًا في حَقِّ كُلِّ واحدٍ منهم، فإنِ ادَّعَى الوَلِى على واحدٍ فأنْكَرَ كَوْنَه مع الجماعةِ، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه. ذكَره القاضى. وهو مذْهبُ الشَّافعىِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ ذلك، إلَّا أن يَثْبُتَ ببَيِّنَةٍ. الثالثُ، أن يَزْدَحِمَ النَّاسُ في مَضِيقٍ، فيوجدَ بينَهم قتيلٌ، فظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ هذا ليس بلَوْثٍ، فإنَّه قال في مَن مات في (¬1) الزِّحامِ يومَ الجُمُعةِ: فَدِيَتُه في بَيْتِ المالِ. وهذا قولُ إسْحاقَ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ؛ فإنَّ سعيدًا رَوَى في «سُنَنِه» (¬2)، عن إبراهيمَ، قال: قُتِلَ رجل في زِحامِ النَّاسِ بعَرَفَةَ، فجاءَ أهلُه إلى عمرَ، فقال: بَيِّنَتُكم على مَن قتلَه. فقالَ علىٌّ: يا أميرَ المؤمنين، لا يُطَلُّ (¬3) دَمُ امْرئٍ مسلمٍ، إن عَلِمْتَ قاتلَه، وإلَّا فأعْطِ (¬4) دِيَتَه مِن بيتِ المالِ. وقال أحمدُ في مَن وُجِدَ مَقْتُولًا في المسجدِ الحرامِ: يُنْظَرُ مَن كان ¬

(¬1) في ق، م: «من». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 63. وهو عند عبد الرزاق عن إبراهيم عن الأسود. (¬3) في الأصل: «تبطل». (¬4) في الأصل: «فأعطه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بيْنَه وبينَه شئٌ في حياتِه -يَعْنِى عداوةً. فلم يَجْعَلِ الحضورَ لَوْثًا، وإنَّما جعلَ اللَّوْثَ العداوةَ. وقال الحسنُ، والزُّهْرِىُّ، في مَن مات في الزِّحامِ: دِيَتُه على مَن حضَرَ؛ لأَنَّ قتلَه حَصلَ منهم. وقال مالكٌ: دَمُه هَدْرٌ؛ لأنَّه (¬1) لا يُعْلَمُ له قاتلٌ، ولا وُجِد لَوْثٌ، فيُحْكَمَ بالقَسامَةِ فيه. وقد رُوِى عن عمرَ بنِ عبدِ العزيز، أنَّه كُتِب إليه في رجلٍ وُجِدَ قَتِيلًا، لم يُعْرَفْ قاتِلُه، فكَتَب إليهم: إنَّ مِن القَضايَا قضَايَا لا [يُحْكَمُ فيها] (¬2) إلَّا في الدَّارِ الآخِرَةِ، وهذا منها. الرابعُ، أن يُوجَدَ قَتِيل لا يُوجَدُ بقُرْبِه إلَّا رجلٌ معه سَيْفٌ أو سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بدَمٍ، ولا يُوجَدُ غيرُه ممَّن يَغْلِبُ على الظَّنِّ قتلُه، مثلَ أن يَرَى رجلًا هاربًا يَحْتَمِلُ أنَّه القاتلُ، أو سَبُعًا يَحْتَمِلُ ذلك فيه. الخامسُ، أن تَقْتَتِلَ فِئَتانِ، فيَفْتَرِقُونَ عن قَتِيلٍ مِن إحْداهما، فاللَّوْث على الأُخْرَى. ذكَرَه القاضى. فإن كانوا بحيثُ لا تَصِلُ سِهامُ بعْضِهم بعضًا، فاللَّوْثُ على طائِفَةِ القَتِيلِ. وهذا قولُ الشَّافعىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّ عَقْلَ القَتيلِ على الذين نازَعُوهم، فيما إذا اقْتَتَلتِ الفِئَتانِ، إلَّا أن يَدَّعُوا ¬

(¬1) في الأصل: «إلا أنه». (¬2) في الأصل، تش، ق، ص: «تحكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على واحدٍ بعَيْنِه. وهذا قولُ مالكٍ. وقال ابنُ أبى لَيْلَى: عَقْلُه على الفَريقَيْن جميعًا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه مات مِن فِعْلِ أصْحابِه، فاسْتَوى الجميعُ فيه. وعن أحمدَ في قوم اقْتَتَلوا، فقُتِلَ بعْضُهم وجُرِحَ بعضُهم: فدِيَةُ المَقْتُولِين على المَجْرُوحِين، يَسْقُطُ منها دِيَةُ الجِراحِ. وإن كان فيهم مَن لا جُرْحَ فيه، فهل عليه مِن الدِّياتِ شئٌ؟ على وَجْهَين، ذكَرَهما ابنُ حامدٍ. السادسُ، أن يَشْهَدَ بالقَتْلِ عَبِيدٌ ونِساءٌ، ففيه عن أحمدَ روايَتانِ؛ إحْداهُما، أنَّه لَوْثٌ؛ لأنَّه يَغْلِبُ على الظَّنِّ صِدْقُ المُدَّعِى، فأَشْبَهَ العَداوَةَ. والثانيةُ، ليس بلَوْثٍ؛ لأنَّها شهادةٌ مَرْدُودةٌ، فلم تكُنْ لَوْثًا، كما لو شَهِدَ به كُفَّارٌ. وإن شَهِد به فُسَّاقٌ أو صِبْيانٌ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، ليس بلَوْثٍ؛ لأنَّه لا يتَعَلَّقُ بشَهادَتِهم حكم، فلا يَثْبُتُ اللَّوْثُ بها، كشَهادَةِ الأطْفالِ والمَجانِينِ. والثانى، يثْبُتُ بها اللَّوْثُ؛ لأنَّها شهادة تُغَلِّبُ على الظَّنِّ صِدْقَ المُدَّعِى، فأَشْبَهَ شهادةَ النِّساءِ والعَبِيدِ، وقولُ الصبْيانِ مُعْتَبَرٌ في الإِذْنِ (¬1) في دُخولِ الدَّارِ، وقَبولِ الهدِيَّةِ، ونحوِها. وهذا مذهبُ الشَّافعىِّ. ويُعْتَبَرُ أن يَجِئَ الصِّبْيانُ مُتَفَرِّقينَ؛ لئلَّا يتطَرَّقَ إليهم التَّوَاطُؤُ على الكذبِ. فهذه الوُجُوهُ قد ذُكِرَ عن أحمدَ أنَّها لَوْثٌ؛ لأنَّها تُغَلِّبُ على الظَنِّ صِدْقَ المُدَّعِى، أشْبَهَتِ العَداوَةَ. ورُوِىَ أنَّ هذا ليس ¬

(¬1) في م: «الأدب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بلَوْثٍ، وهو ظاهرُ كلامِه في الذى قُتِلِ في الزِّحامِ؛ لأَنَّ اللَّوْثَ إنَّما يثْبُتُ بالعَداوَةِ بقَضِيَّةِ الأنْصارِىِّ القَتيلِ بخيْبَرَ، ولا يجوزُ القِياسُ عليها؛ لأَنَّ الحُكْمَ ثَبَت بالمَظِنَّةِ، ولا يجوزُ القِياسُ في (¬1) المَظَانِّ؛ لأَنَّ الحُكمَ إنَّما يتَعَدَّى بتعَدِّى (¬2) سَبَبِه، والقِياسُ [في المَظَانِّ] (¬3) جمعٌ بمُجَرَّدِ الحِكْمَةِ وغَلَبَةِ الظنُونِ، [والحِكَمُ والظُّنونُ] (¬4) تَختَلِفُ ولا تَأْتَلِفُ، وتَنْخَبِطُ ولا تَنْضَبِطُ، وتخْتَلِفُ باخْتلافِ القرائنِ والأحْوالِ والأشْخاصِ، فلا يُمْكِنُ رَبْطُ الحُكْمِ بها، ولا تَعْدِيَتُه بتَعَدِّيها، ولأنَّه يُعْتَبَرُ في التَّعْدِيَةِ والقِياسِ التَّساوِى بينَ الأَصْلِ والفَرْعِ في (¬5) المُقْتَضِى، ولا سبيلَ إلى يَقِينِ التَّساوِى بينَ الظَّنَّيْنِ مع كثرةِ الاحْتِمالاتِ وترَدُّدِها. فعلى هذه الرِّوايةِ، حكمُ هذه الصُّوَرِ حكمُ غيرِها ممَّا لا لَوْثَ فيه. فصل: وإن شَهِدَ رَجُلانِ على رجلٍ أنَّه قَتَل أحدَ هذيْن القتِيلَيْن، لم تثْبُتْ هذه الشَّهادةُ، ولم يكُنْ لَوْثًا عندَ أحدٍ عَلِمْنَا قوْلَه. وإن شَهِدَا أنَّ ¬

(¬1) في م: «على». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «بالمظان». (¬4) في الأصل: «والحكم بالظنون». (¬5) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا القَتيلَ قَتَلَه أحدُ هذيْن الرَّجُلَيْن، أو شَهِدَ أحدُهما أنَّ هذا قتلَه، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه أقَرَّ بقَتْلِه، أو شَهِدَ أحدُهما أنَّه قَتَلَه بسَيْفٍ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه قَتَلَه بسِكِّينٍ، لم تَكْمُلِ الشَّهادةُ، ولم يكُنْ لَوْثًا. هذا قولُ القاضى واختِيارُه. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، فيما إذا شَهِدَ أحدُهما بقَتْلِه، والآخَرُ بالإِقْرارِ بقَتْلِه، أنَّه يثْبُتُ القتلُ. واختارَ أبو بكرٍ ثُبوتَ القتلِ ههُنا، وفيما إذا شَهِدَ أحدُهما أنَّه قَتلَه بسيفٍ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه قَتلَه بسِكِّين؛ لأنَّهما اتَّفَقا على القَتْلِ، واخْتلفَا في صِفَتِه. وقال الشافعىُّ: هو لَوْثٌ في هذه الصُّورَةِ، في أحَدِ القَوْلَيْن، وفى الصُّورَتَيْن اللَّتَيْن قبلَها هو لَوْثٌ، لأنَّها شَهادةٌ تُغَلِّبُ على الظَّنِّ صِدْقَ المُدَّعِى، أشْبَهَتْ شَهادةَ النِّساءِ والعَبيدِ. ولَنا، أنَّها شهادةٌ مَرْدُودةٌ؛ للاخْتلافِ فيها، فلم تَكُنْ لَوْثًا، كالصُّورةِ الأُولى. فصل: وليس مِن شَرْطِ اللَّوْثِ أن يكونَ بالقَتِيلِ أثَرٌ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ أنَّه شَرْطٌ. وهذا قولُ حمادٍ، وأبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ، لأنَّه إذا لم يكُنْ به أثَرٌ، احْتَمَلَ أنَّه ماتَ حَتْفَ أنْفِه. [ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسْألِ الأنْصارَ، هل كان بقَتيِلِهم أثَر أو لا؟ ولأَنَّ القَتْلَ يحْصُلُ بما لا أثرَ له، كغَمِّ الوَجْهِ، والخَنْقِ، وعَصْرِ الخُصْيَتَيْن، وضرْبةِ الفُؤادِ، فأشْبَهَ مَن به أثَرٌ، ومَن به أثَرٌ قد يموتُ حَتْفَ أنْفِه] (¬1)؛ لسَقْطَتِه، أو صَرْعَتِه، أو يقتُلُ نفْسَه. فعلى قولِ مَن اعْتَبَرَ الأثَرَ، إن خَرَج الدَّمُ مِن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4362 - مسألة: (فأما قول القتيل: فلان قتلنى. فليس بلوث)

فَأمَّا قَوْلُ الْقَتِيلِ: فُلَانٌ قَتَلَنِى. فَلَيْسَ بِلَوْثٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُذُنِه، فهو لَوْثٌ؛ لأنَّه لا يكونُ إلَّا لِخَنْقٍ، أو أمرٍ أُصِيبَ به، وإن خَرج مِن أنْفِه، فهل يكونُ لَوْثًا؟ على وَجْهَيْن. 4362 - مسألة: (فأمَّا قولُ القَتِيلِ: فُلانٌ قَتَلَنِى. فليس بِلَوْثٍ) هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الثَّورىُّ، والأوْزاعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ، واللَّيْثُ: هو لَوْثٌ؛ لأَنَّ قَتِيلَ بنى إسْراْئيلَ قال: قتَلَنِى فُلانٌ (¬1). فكان حُجَّةً. ويُرْوَى هذا القولُ عن عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وأمْوَالَهُمْ» (¬2). ولأنَّه يَدَّعِى حَقًّا لنَفْسِه، فلم يُقْبَلْ قولُه، كما لو لم يَمُتْ، ولأنَّه خَصْمٌ، فلم تَكُنْ دَعْواه لَوْثًا، كالوَلِىِّ، فأمَّا قَتِيلُ بَنِى إسْرائيلَ فلا حُجَّةَ فيه، فإنَّه لا قَسامةَ فيه، فإنَّ ذلك كان مِن آياتِ اللَّهِ ومُعْجِزاتِ نَبِيِّه مُوسى، عليه السَّلامُ، حيثُ أحْياه اللَّهُ تعالى بعدَ مَوْتِه، وأنْطَقَه بقُدْرَتِه بما اخْتَلَفُوا فيه، ولم يَكُنِ اللَّهُ تعالى لِيُنْطِقَه ¬

(¬1) انظر ما أخرجه الطبرى، في: تفسيره 1/ 338، 339. (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478. ويضاف اليه: والإمام أحمد، في: المسند 1/ 342، 343، 351، 363. كما أخرجه مختصرا أبو داود، في: باب اليمين على المدعى عليه، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 379. والترمذى، في: باب ما جاء في أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 88.

4363 - مسألة: (ومتى ادعى القتل مع عدم اللوث عمدا، فقال الخرقى: لا يحكم له بيمين ولا غيرها. وعن أحمد، أنه يحلف يمينا واحدة. وهى الأولى. وإن كان خطأ حلف يمينا واحدة)

وَمَتَى ادَّعَى الْقَتْلَ مَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ عَمْدًا، فَقَالَ الْخِرَقِىُّ: لَا يُحْكَمُ لَهُ بيَمِينٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ أنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَهِىَ الْأَولَى. وَإِنْ كَانَ خَطَأً، حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكَذِبِ (¬1)، بخِلافِ الحَىِّ، ولا سَبِيلَ إلى مثلِ هذا اليومَ، ثم ذاك في تَبْرِئةِ المُتَّهَمِينَ، فلا يجوزُ تَعْدِيَتُه إلى تُهْمَةِ البَرِيئِين. 4363 - مسألة: (ومتى ادَّعَى القَتْلَ مع عَدَمِ اللَّوْثِ عَمْدًا، فقال الخِرَقِىُّ: لَا يُحْكَمُ له بيَمِينٍ ولا غَيْرِها. وعن أحمدَ، أنَّه يَحْلِفُ يَمِينًا واحِدَةً. وهى الأَوْلَى. وإن كان خَطأً حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً) إذا ادَّعَى القتلَ مع عَدَمِ اللَّوْثِ، لم يَخْلُ مِن حالَيْن، أحَدُهما، إذا وُجِدَ قَتيلٌ في مَوْضِعٍ، فادَّعَى أوْلِياؤُه قَتْلَه على رجلٍ، أو جماعةٍ، ولم يكُنْ بيْنَهم عَداوَةٌ ولا لَوْثٌ، فهى كسائرِ الدَّعاوَى، إن كانت لهم بَيِّنَة، حُكِمَ لهم بها، وإلَّا فالقولُ قولُ المُنْكِرِ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، [وابنُ المُنْذِرِ] (2). وقال أبو حنيفةَ وأصْحابُه: إذا ادَّعَى أوْلِياؤُه قَتْلَه [على أَهْلِ المَحَلَّةِ، أو على مُعَيَّنٍ، فلِلْوَلِىِّ أن يخْتارَ مِن الموْضِمعِ خَمْسينَ رَجلًا، يحْلِفونُ خمسينَ يَمِينًا: واللَّهِ ما قَتَلْناه] (¬2)، ولا عَلِمْنا قاتِلَه. فإذا نَقَصُوا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الخَمْسينَ، كُرِّرَتِ الأيْمانُ عليهم حتى تَتِمَّ، فإذا حَلَفُوا، وجَبَتِ الدِّيَةُ على باقى الخِطَّةِ، فإن لم يَكُنْ، وجَبتْ على سُكَّانِ الموْضِعِ، فإن لم يَحْلِفُوا، حُبِسُوا حتى يَحْلِفُوا أو يُقِرُّوا؛ لِمَا رُوِى أنَّ رَجُلًا وُجِدَ قَتِيلًا بينَ حَيَّيْنِ، فحلَّفَهم عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، خمسينَ يَمِينًا، وقَضَى بالدِّيَةِ على أقْرَبِهما -يعْنى أقْربَ (¬1) الحَيِّيْن- فقالوا: واللَّهِ ما وَقَتْ أيْمانُنا أمْوالَنا، ولا أمْوالُنا أيْمانَنا. فقال عمرُ: حَقَنْتُم بأمْوالِكم دِماءَكم (¬2). ولَنا، حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَهْلٍ، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى (¬3) النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْم وأمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». رواه مُسْلِمٍ. وقولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ» (¬4). ولأَنَّ المُدَّعَى عليه الأصْلُ براءَةُ ذِمَّتِه، ولم يَظْهَرْ كَذِبُه، فكان القولُ قولَه، كسائرِ الدَّعاوَى، ولأنَّه مُدَّعًى عليه، فلم تَلْزَمْه اليَمِينُ والغُرْمُ، كسائرِ الدَّعاوَى، وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى مِن قَوْلِ عمرَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القسامة، من كتاب العقول. المصنف 10/ 35. وابن أبى شيبة، في: باب القتيل بين الحيين، من كتاب الديات. المصنف 9/ 392. والبيهقى، في: باب أصل القسامة. . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 124. وانظر الأثر والكلام عليه في: تلخيص الحبير 4/ 39، 40. (¬3) في تش، ق: «أعطى». وهى رواية المسند 1/ 363. (¬4) تقدم تخريجه في 16/ 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحَقُّ بالاتِّباعِ، ثم قَضِيَّةُ عمرَ يَحْتَمِلُ أنَّهم اعْترفُوا بالقَتْلِ خَطَأً، وأنْكَروا [العَمْدَ، فاحْلِفُوا] (¬1) على العَمْدِ، ثم إنَّهم لا يَعْمَلون (¬2) بخَبَرِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُخالِفِ للأُصُولِ، وقد صارُوا ههُنا إلى ظاهرِ قولِ عمرَ المُخالِفِ للأُصولِ، وهو إيجابُ الأيمانِ على غيرِ المُدَّعَى عليه، وإلْزَامُهم الغُرْمَ مع عَدَمِ الدَّعْوَى عليهم، والجمعُ بينَ تَحْلِيفِهم وتَغْريمِهم وحَبْسِهم على الأيمانِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬3): سَنَّ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَيِّنَةَ على المُدَّعِى، واليَمِينَ على المُدَّعَى عليه، وسَنَّ القَسامةَ في القَتيلِ الذى وُجِدَ بخَيْبَرَ، وقولُ أصْحابِ الرَّأْى خارِجٌ عن هذه السُّنَنِ. فصل: ولا تُسْمَعُ الدَّعْوَى على غيرِ مُعَيَّنٍ، فلو كانتِ الدَّعْوَى على أهلِ مدينةٍ أو مَحَلَّةٍ، أو واحدٍ غيرِ مُعَيَّن، أو جماعةٍ منهم بغيرِ أعْيانِهم، لم تُسمَعْ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أصْحابُ الرَّأْى: تُسْمَعُ، ويُسْتَحْلَف خمْسونَ منهم؛ لأَنَّ الأنْصارَ ادَّعَوُا القَتْلَ على يَهودِ خَيْبَرَ، ولم يُعَيِّنُوا القاتِلَ، فسَمِعَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعْواهم. ولَنا، أنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «العهد فاحتلفوا». (¬2) في الأصل، م: «يعلمون». (¬3) انظر: الإشراف 3/ 150.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعْوَى في حَقٍّ، فلم تُسْمَعْ على غيرِ مُعَيَّنٍ، كسائرِ الدَّعاوَى. فأمَّا الخَبَرُ، فإنَّ دَعْوَى الأنْصارِ التى سَمِعَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم تَكُنِ الدَّعْوَى التى بينَ الخَصْمَيْن المُخْتَلَفِ فيها، فإنَّ تلك مِن شَرْطِها حُضورُ المُدَّعَى عليه عندَهم، أو تَعَذُّرُ حُضُورِه عندَنا، وقد بَيَّنَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ الدَّعْوَى لا تَصِحُّ إلَّا على واحدٍ بقولِه: «تُقْسِمُونَ على رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ». وفى هذا بَيانٌ أنَّ الدَّعْوَى لا تَصِحُّ على غيرِ مُعَيَّنٍ. فصل: فأمَّا إنِ ادَّعَى القَتْلَ مِن غيرِ وُجُودِ قَتيلٍ (¬1) ولا عَداوةٍ، فهى كسائرِ الدَّعاوَى، في اشْتِراطِ تَعْيِينِ المُدَّعَى عليه، وأنَّ القولَ قولُه. لا نعلمُ فيه خِلافًا. الحالُ الثانى، أنَّه إذا ادَّعَى القَتْلَ، ولم تَكُنْ عَداوَةٌ ولا لَوْثٌ، فإنَّه لا يُحْكَمُ على المُدَّعَى عليه بيَمِينٍ ولا بشئٍ، في إحْدى الرِّوايتَيْن، ويُخَلَّى سَبِيلُه. هذا الذى ذكَره الخِرَقِىُّ. وسواءٌ كانتِ الدَّعْوَى خَطَأً أو عَمْدًا؛ لأنَّها دَعْوَى فيما لا يجوزُ بَذْلُه، فلم يُسْتَحْلَفْ فيها، كالحُدُودِ، ولأنَّه لا يُقْضَى في هذه الدَّعْوَى بالنُّكُولِ، فلم يُحَلَّفْ فيها، كالحُدُودِ. والثانيةُ، يُسْتَحْلَفُ. وبه قال الشافعىُّ. وهو الصَّحِيحُ؛ لعُموم قولِه عليه السَّلامُ: «اليَمِينُ على المُدَّعَى عَلَيْهِ». وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى ¬

(¬1) في م: «قتل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وأمْوَالَهُمْ، ولَكِنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه». رواه مُسْلِمٌ. ظاهِرٌ في إيجاب اليَمِينِ ههُنا لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، عُمومُ اللَّفْظِ فيه. والثانى، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكَرَه في صَدْرِ الخَبَرِ بقولِه: «لادَّعَى قَوْمٌ دِماءَ رِجالٍ وأمْوالَهُمْ». ثم عقَّبَه بقولِه: «ولَكِنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه». فيعودُ إلى المُدَّعَى عليه المذكُورِ في الحديثِ، ولا يجوزُ إخْراجُه منه إلَّا بدليلٍ أقْوَى منه، ولأنَّها دَعْوَى في حَقِّ آدَمِىٍّ، فيُسْتَحْلَفُ فيها (¬1)، كدَعْوَى المالِ، ولأنَّها دَعْوَى لو أقَرَّ بها لم يُقْبَلْ رُجُوعُه عنها، فيَجِبُ اليَمِينُ فيها، كالأصْلِ المذْكُورِ. إذا ثَبَت هذا، فالمَشروعُ يَمِينٌ واحدةٌ. وعن أحمدَ، أنَّه يُشْرَعُ خَمْسونَ يَمِينًا؛ لأنَّها دَعْوَى في القَتْلِ، فيُشْرَعُ فيها خَمْسونَ يَمِينًا، كما لو كان بينَهم لَوْثٌ. وللشافعىِّ فيها كالرِّوايتَيْن. ولَنا، أنَّ قولَه عليه الصلاةُ والسلامُ: «ولَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». ظاهرٌ في أنَّها يَمِينٌ واحدةٌ لوَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّه وَحَّدَ اليَمِينَ، فيَنْصَرِفُ إلى واحدةٍ. الثانى، أنَّه لم يُفَرِّقْ في اليَمِينِ المَشْرُوعةِ في الدَّمِ والمالِ، ولأنَّها يَمِينٌ يَعْضُدُها الظاهرُ والأصلُ، فنم تُغَلَّظْ، كسائرِ الأيْمانِ، ولأنَّها يَمِينٌ مَشْروعةٌ في جَنَبَةِ المُنْكِرِ ابْتِداءً، فلم تُغَلَّظْ بالتَّكْريرِ (¬2)، كسائرِ الأيْمانِ، وبهذا فارَقَ ما ذكَرُوه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن نَكَلَ المُدَّعَى عليه عن اليَمِينِ، لم يجبِ القِصاصُ، بغيرِ خِلافٍ في المذْهبِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: إن نَكَلَ المُدَّعَى عليه، رُدَّتِ اليَمِينُ على المُدَّعِى فحلَفَ خَمْسينَ يَمِينًا، واسْتَحَقَّ القِصاصَ أو الدِّيَةَ إن كانتِ الدَّعْوَى عَمْدًا مُوجِبًا للقَتْلِ؛ لأَنَّ يمِينَ المُدَّعِى مع نُكُولِ المُدَّعَى عليه كالبَيِّنَةِ أو (¬1) الإِقْرارِ، والقِصاصُ يجبُ بكُلِّ واحدٍ منهما. ولَنا، أنَّ القَتْلَ لم يثْبُتْ ببَيِّنَةٍ ولا إقْرارٍ، ولم يَعْضُدْه (¬2) لَوْثٌ، فلم يَجِب القِصاصُ، كما لو لم يَنْكُلْ، ولا يَصِحُّ إلْحاقُ الأيْمانِ مع النُّكُولِ ببَيِّنَةٍ ولا إقْرارٍ؛ لأنَّها أضْعَفُ منها، بدَليلِ أنَّها لا تُشْرَعُ إلَّا عندَ عَدَمِهما، فتكونُ بَدَلًا عنهما، والبَدَلُ أضْعَفُ مِن المُبْدَلِ، ولا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ الحُكْمِ بالأقْوَى ثُبُوتُه بالأضْعَفِ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُوبِ الدِّيَةِ، وُجوبُ القِصاصِ؛ لأنَّه لا يثْبُتُ بشَهادةِ النِّساءِ مع الرِّجالِ، ولا بالشَّاهِدِ مع (¬3) ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في الأصل: «يقصده». (¬3) في م: «و».

الثَّالِثُ، اتِّفَاقُ الأَوْلِيَاءِ فِى الدَّعْوَى. فَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَ بَعْضٌ، لَمْ تَثْبُتِ الْقَسَامَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَمِينِ، ويُحْتاطُ له، ويُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، والدِّيَةُ بخِلافِه. فأمَّا الدِّيَةُ فتَثْبُتُ بالنُّكُولِ عندَ مَن يُثْبِتُ المالَ به، أو تُرَدُّ اليَمِينُ على المُدَّعِى، فيَحْلِفُ يَمِينًا واحدةً، ويَسْتَحِقُّها، كما لو كانتِ الدَّعْوَى في مالٍ. وسواءٌ كانتِ الدَّعْوَى عَمْدًا أو خَطأً، فإنَّ العَمْدَ متى تَعَذَّرَ إيجابُ القِصاصِ فيه، وجَبَ به المالُ، وتكونُ الدَّعْوَى ههُنا كسائرِ الدَّعاوَى. واللَّهُ أعلمُ. (الثالثُ، اتِّفاقُ الأوْلياءِ في الدَّعْوَى، فإنِ ادَّعَى بعْضُهم وأنْكَرَ بعضٌ، لم تَثْبُتِ القَسامَةُ) مِن شَرْطِ ثُبوتِ القَسامةِ اتِّفاقُ الأوْلياءِ على الدَّعْوَى، فإن كَذَّبَ بعضُهم بعضًا، فقال أحدُهم: قتَلَه هذا. وقال الآخَرُ: لم يقْتُلْه هذا. أو قال: بلْ قَتَلَه هذا الآخَرُ. لم تثْبُتِ القَسامةُ. نصَّ عليه أحمدُ. وسواءٌ كان المُكَذِّبُ عَدْلًا أو فاسقًا. وعن الشافعىِّ، أنَّ القَسامةَ لا تبْطُلُ بتكْذيبِ الفاسِقِ؛ لأَنَّ قولَه غيرُ مَقْبولٍ. ولَنا، أنَّه مُقِرٌّ على نفْسِه بتَبْرِئَةِ مَن ادَّعَى عليه أخُوه، فقُيِلَ، كما لو ادَّعَيا دَيْنًا لهما، وإنَّما لا يُقْبَلُ قولُه على غيرِه، وأمَّا على نفْسِه، فهو كالعَدْلِ؛ لأنَّه لا يُتَّهمُ في حَقِّها. فأمَّا إن لم يُكذِّبْه، ولم يُوافِقْه في الدَّعْوَى، مثلَ أن قال أحدُهما: قتَلَه هذا. وقال الآخَرُ: لا نعلمُ قاتِلَه. فظاهِرُ قولِه ههُنا، أنَّ القَسامةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تثْبُتُ. وهو ظاهرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لاشْتِراطِ (¬1) ادِّعاءِ الأوْلياءِ على واحدٍ. وهذا قولُ مالكٍ. وكذلك إن كان أحدُ الوَلِيَّيْن غائبًا، فادَّعَى الحاضرُ دُونَ الغائبِ، أو ادَّعَيا جميعًا على واحدٍ، ونَكَلَ أحدُهما عن الأيْمانِ، لم يثْبُتِ القتلُ، في قياسِ قولِ الخِرَقِىِّ. ومُقْتَضَى قولِ أبى بكرٍ والقاضى ثُبوتُ القَسامةِ. وكذلك مذْهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ أحدَهما لم يُكذِّبِ الآخَرَ، فلم تبْطُلِ القَسامةُ، كما لو كان أحدُ الوارثَيْن امرأةً أو صَغِيرًا. فعلى قَوْلِهم، يَحْلِفُ المُدَّعِى خَمْسِينَ يَمِينًا، ويَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ الأيْمانَ ههُنا بمنزلةِ البَيِّنَةِ، ولا يثْبُتُ شئٌ مِن الحَقِّ إلَّا بعدَ كمالِ البَيِّنَةَ، فأشْبَهَ ما لو ادَّعَى أحدُهما دَيْنًا لأبِيهما، فإنَّه لا يسْتَحِقُّ نَصِيبَه (¬2) مِن الدَّيْنِ إلَّا أن يُقِيمَ بَينّةً كاملةً. ولَنا، أنَّهما لم يَتَّفِقا في الدَّعْوَى، فلم تثْبُتِ القَسامةُ، كما لو كَذَّبَه، ولأَنَّ الحَقَّ في مَحَلِّ الوِفاقِ إنَّما ثَبَتَ بأيْمانِهما التى أُقِيمَتْ مُقامَ البَيِّنَةَ، ولا يجوزُ أن يَقومَ أحدُهما مَقامَ الآخَرِ في الأيْمانِ، كما في سائرِ الدَّعاوَى. فعلى هذا، إن قَدِمَ الغائبُ، فوافَقَ أخاه، أو عادَ مَن لم يَعْلَمْ، فقال: قد عَرَفتُه، هو الذى عَيِّنَه أخِى. أقْسَما حينئذٍ. وإن قال أحدُهما: قَتَلَه هذا. وقال الآخَرُ: قَتَلَه هذا وفلانٌ. فعلَى قَوْلِ الخِرَقِىِّ، لا تثْبُتُ القَسامةُ؛ لأنَّها لا تكونُ إلَّا [على واحدٍ] (¬3). وعلى قولِ غيرِه، يحْلِفان على مَنِ اتَّفَقا عليه، ويَسْتحِقَّان ¬

(¬1) كذا في النسخ، وفى المغنى 12/ 199: «لاشتراطه» وانظر نص الخرقى في 12/ 199. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «واحدًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفَ الدِّيَةِ، ولا يجبُ القَوَدُ؛ لأنَّه إنَّما يجبُ (¬1) في الدَّعوَى على واحدٍ، ويَحْلِفان جميعًا على هذا الذى (¬2) اتَّفَقا عليه على حَسَبِ دَعْواهما، ويَسْتَحِقَّان نِصْفَ الدِّيَةِ، ولا يجبُ أكثرُ مِن نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ أحدَهما يُكَذِّبُ الآخَرَ في النِّصْفِ الآخَرِ، فبَقِىَ اللَّوْثُ في حَقِّه في نِصْفِ الدَّمِ (¬3) الذى اتَّفَقا عليه، ولم يثْبُتْ في النِّصْفِ الذى كَذَّبه أخُوه فيه، ولا يَحْلِفُ الآخَرُ على الآخَرِ؛ لأَنَّ أخاه كَذَّبَه في دعواه عليه. كان قال أحدُهما: قَتَلَ أبى زيدٌ وآخرُ لا أعْرِفُه. وقال الآخَرُ: قتَلَه عمرٌو وآخَرُ لا أعْرِفُه. لم تثْبُتِ القَسامةُ، في ظاهرِ قَوْلِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّها لا تكونُ إلَّا على واحدٍ، ولأنَّهما ما اتَّفَقا في الدَّعْوَى على أحدٍ، ولا يُمكِنُ أن يحْلِفا على مَن لم يَتَّفِقا على الدَّعوَى عليه، والحقُّ إنَّما يثْبُتُ في مَحَلِّ الوِفاقِ بأيْمانِ الجميعِ، فكيف يثْبُتُ في الفَزعِ بأيْمانِ البعضِ! وقال أبو بكرٍ والقاضى: تثْبُتُ القَسامةُ. وهذا مذْهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه ليس ههُنا تكْذِيبٌ، فإنَّه يجوزُ أن يكونَ الذى جَهِلَه كلُّ واحدٍ منهما، هو الذى عَرَفَه أخُوه، فيَحْلِفُ كلُّ واحدٍ منهما على الذى عَيَّنَه خمسينَ يَمِينًا، ويسْتَحِقُّ رُبْعَ الدِّيَةِ، وإن عادَ كُلُّ واحدٍ منهما، فقال: قد عَرَفْتُ الذى جَهِلْتُه، وهو الذى عَيَّنَه أخِى. حَلَفَ أيضًا على الذى حَلَفَ عليه أخُوه، وأخَذَ منه رُبْعَ الدِّيَةِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «من». (¬3) في الأصل، ق: «الدية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحلِفُ خَمسًا وعشْرين يَمِينًا؛ لأنَّها يَبْنِى على أيْمانِ أخيه، فلم يَلْزَمْه أكثرُ مِن خمسٍ وعِشْرين يَمِينًا (¬1)، كما لو عَرَفه ابْتِداءً. وفيه وَجْهٌ آخرُ، يحلِفُ خَمْسينَ يمينًا (¬2)؛ لأَنَّ أخاه حَلَف خَمْسين يَمِينًا. وللشافعىِّ [في هذا] (¬3) قَوْلان كالوَجهيْن. ويجِئُ في المسألةِ وَجْهٌ آخَرُ، [وهو] (¬4) أنَّ الأوَّل لا يَحْلِفُ أكثرَ مِن خمسٍ وعشرين يَمِينًا؛ لأنَّه إنَّما يَخلِفُ على ما يسْتَحِقُّه، والذى يسْتَحِقُّه النِّصْفُ، فيكونُ عليه نِصْفُ الأيْمانِ، كما لو حَلَف أخُوه معه. وإن قال كلُّ واحدٍ منهما: الذى كنتُ جَهِلْتُه غيرُ الذى عَيَّنَه أخِى. بَطَلَتِ القَسامةُ التى أقْسَماها؛ لأَنَّ التَّكْذيبَ يَقْدَحُ في اللَّوْثِ، فيَرُدُّ كلُّ واحدٍ منهما ما أخَذَ مِن الدِّيَةِ. وإن كَذَّبَ أحدُهما أخاه، ولم يُكذِّبْه الآخَرُ، بطَلَتْ قَسامةُ المُكَذِّبِ دونَ الذى لم يُكَذِّبْ. فصل: إذا قال الوَلِىُّ (¬5) بعدَ القَسامةِ: غَلِطْتُ، ما هذا الذى قَتَلَه. أو: ظَلَمتُه بدَغواىَ القَتْلَ عليه. أو قال: كان هذا المُدَّعَى عليه في بَلَدٍ آخَرَ يومَ قَتْلِ وَلِيِّى. وكان بيْنَهما بُعْدٌ [لا يُمكِنُ] (¬6) أن يَقْتُلَه إذا كان فيه، بطَلَتِ القَسامةُ، ولَزِمَه رَدُّ ما أخَذَه؛ لأنَّه مُقِرٌّ على نَفْسِه، فقُبِلَ إقْرارُه. ¬

(¬1) زيادة من: تش. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «المولى». (¬6) في م: «ولا يمكنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: ما أخَذْتُه حَرامٌ. سُئِلَ عن ذلك؛ فإن قال: أرَدتُ أنَّنِى كَذَبْتُ في دَعْواىَ عليه. بطَلَتْ قَسامَتُه أيضًا. فإن قال: أرَدْتُ أنَّ الأيْمانَ تكونُ في جَنَبةِ المُدَّعَى عليه، كمذهبِ أبى حنيفةَ. لم تَبْطُلِ القَسامةُ؛ لأنَّها ثَبَتَتْ باجْتِهادِ الحَاكمِ، فيُقَدَّمُ على اجْتِهادِه. وإن قال: هذا مَغْصُوبٌ. وأقَرَّ بمَن غصَبَه منه، لَزِمَه رَدُّه عليه (¬1)، ولا يُقْبَلُ قولُه على مَن أخَذَه منه؛ لأَنَّ الإنسانَ لا يُقْبَلُ إقْرارُه على غيرِه. وإِن لم يُقِرَّ به لأحَدٍ، لم تُرفع يدُه عنه، لأَنَّه لم يتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّه. وإنِ اخْتلَفا في مُرادِه بقَوْلِه (¬2)، فالقول قولُه؛ لأنَّه أعْرَفُ بقَصْدِه. فصل: وإن أقامَ المُدَّعَى عليه بَيِّنةً أنَّه كان يومَ القتلِ في بلدٍ بعيدٍ مِن بلدِ المقْتُولِ، لا يمكِنُ مَجيئُه منه إليه في يومٍ واحدٍ، بَطَلَتِ الدَّعْوَى. وإن قالتِ البَيِّنَةُ: نَشْهدُ أنَّ فلانًا لم يقْتُلْه. لم تُسْمَع هذه الشهادةُ؛ لأنَّه نَفْىٌ مجرَّدٌ. فإن قال: ما قتَلَه فلان، بل قتلَه فلانٌ. سُمِعَت؛ لأنَّها شَهِدَتْ بإثْباتٍ تَضَمَّنَ (¬3) النَّفْىَ، فسُمِعَت، كما لو قالت: ما قتَلَه فلانٌ؛ لأنَّه كان يومَ القتلِ في بلدٍ بعيدٍ. فصل: فإن جاءَ إنْسانٌ، فقال: ما قَتلَه هذا (2) المُدَّعَى عليه، بل أنا قَتَلْتُه. فكَذَّبَه الوَلِىُّ، لم تَبْطُلْ دَعواه، وله القَسامةُ، ولا يَلْزَمُه رَدُّ الدِّيَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، تش: «بعض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان أخَذَها؛ لأنَّه قولُ واحدٍ، ولا يَلْزَمُ المُقِرَّ شئٌ؛ لأنَّه أقَرَّ لمَن يُكَذِّبُه. وإن صَدَّقَه الوَلِىُّ، أو طالبَه بمُوجَبِ القَتْلِ، لَزِمَه رَدُّ ما أخَذ، وبَطَلَتْ دَعواه على الأَوَّلِ؛ لأَنَّ ذلك جَرَى مَجْرَى الإِقْرارِ ببُطْلانِ الدَّعْوَى. وهل له مُطالَبَةُ المُقِرِّ؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له مُطالبَتُه؛ لأنَّه أقَرَّ له بحَقٍّ، فملَكَ مُطالَبَتَه به، كسائرِ الحُقوقِ. والثانى، ليس له مُطالَبَتُه؛ لأَنَّ دعواه على الأَوَّلِ انْفِرادَه بالقَتْلِ إبْراءٌ لغيرِه، فلا يَملِكُ مُطالبَةُ مَن أبْرَأه. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّه يَسْقُطُ القَوَدُ عنهما، وله مُطالبةُ الثانى بالدِّيَةِ، فإنَّه قال في رَجُلٍ شَهِدَ عليه شاهِدان بالقَتْلِ، فأُخِذَ ليُقادَ منه، فقامَ (¬1) رَجُلٌ، فقال (¬2): ما قَتَلَه هذا، بل (¬3) أنا قَتَلْتُه: فالقَوَدُ يَسْقُطُ عنهما، والدِّيَةُ على الثانى. ووَجْهُ ذلك، ما رُوِى أنَّ رَجُلًا ذبَحَ رَجُلًا في خَرِبَةٍ، وتَرَكَه وهرَب، وكان قَصَّابٌ [قد ذَبَحَ] (¬4) شاةً، وأرادَ ذَبْحَ أُخْرَى، فهرَبَتْ منه إلى الخَرِبَةِ، فتَبِعَها حتى وقفىَ على القَتِيلِ، والسِّكِّينُ بيَدِه عليها الدَّمُ، فأُخِذَ على تلك الحالِ، وجئَ به إلى عمرَ، فأمَرَ بقَتْلِه، فقال القاتلُ في نفْسِه: يا وَيْلَه، قتلْتُ نفْسا، ويُقْتَلُ بسَبَبِى آخَرُ. فقام، فقال: أنا قتَلْتُه، لم يقْتُلْه هذا. فقال عمرُ: إن كان قد قتل نفْسًا فقد أَحيا نفْسًا. ودَرَأ عنه القِصاصَ. ولأَنَّ الدّعوَى على الأَوَّلِ شُبْهةٌ ¬

(¬1) في الأصل: «فقال». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) زيادة من: الأصل، تش. (¬4) في م: «يذبح».

الرَّابِعُ، أن يَكُونَ فِى الْمُدَّعِينَ رِجَالٌ عُقَلَاءُ. وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فِى الْقَسَامَةِ، عَمدًا كَانَ الْقَتْلُ أو خَطَأً. ـــــــــــــــــــــــــــــ في دَرْءِ القِصاصِ عن الثانى، وتجبُ الدِّيَةُ عليه؛ لإِقْرارِه بالقَتْلِ المُوجِبِ لها. وهذا القولُ أصَحُّ وأعْدلُ، مع شَهادةِ الأثَرِ بصِحَّتِه. (الرابعُ، ان يكونَ في المُدَّعِين رِجال عُقَلاءُ، ولا مَدخَلَ للنِّساءِ والصِّبْيان والمَجانينِ في القَسامةِ، عَمدًا كان القتلُ أو خَطأً) أمَّا الصِّبْيانُ فلا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ أنَّهم لا يُقْسِمُون، سواءٌ كانوا مِن الأوْلياءِ أو مُدَّعًى عليهم؛ لأَنَّ الأيْمانَ حُجَّةٌ على الحالف، والصَّبِىُّ لا يثْبُت بقولِه حُجَّةٌ، ولو أقَرَّ على نفْسِه، لم يُقْبَلْ، فلأَن لا يُقْبَلَ قولُه في حَقِّ غيرِه أوْلَى. والمَجْنُونُ في مَعْناه؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فلا حُكْمَ لقوْلِه. وأمَّا النِّساءُ فإذا كُنَّ مِن أَهْلِ القَتِيلِ لم يُسْتَخلَفْنَ. وبهذا قال ربيعةُ، والثَّوْرِىُّ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ. وقال مالكٌ: لهنَّ مَدخَلٌ في قَسامةِ الخَطأ دُونَ العَمدِ. قال ابنُ القاسمِ: ولا يُقْسِمُ في العَمْدِ إلَّا اثْنان فصاعِدًا، كما أنَّه لا يُقْتَلُ إلَّا بشاهِدَيْن، وقال الشَّافعىُّ: يُقْسِمُ كلُّ وارِثٍ بالغٍ؛ لأنَّها يَمِينٌ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعوَى، فتُشْرَعُ في حَقِّ النِّساءِ، كسائرِ الأيْمانِ. ولَنا، قولُ النَّبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ، وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» (¬1). ولأنَّها حُجَّة يثْبُتُ بها قَتْلُ العَمدِ، فلا تُسْمَعُ مِن النِّساءِ، كالشَّهادةِ، ولأَنَّ الجِنايةَ المُدَّعاةَ التى تَجِبُ القَسامةُ عليها هى القتلُ، ولا مَدْخَلَ للنِّساءِ في إثْباتِه، وإنَّما يثْبُتُ المالُ ضمنًا، فجَرَى ذلك مَجْرَى رَجُل ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امرأةٍ بعدَ مَوْتِها لِيَرِثَها، فإنَّ ذلك لا يثْبُتُ بشاهدٍ ويَمِين، ولا بشهادةِ رَجُلٍ وامْرأتَيْنِ، وإن كان مَقْصودُها المالَ. فأمَّا إن كانتِ المرأةُ مُدَّعًى عليها القتلُ، فإن قُلْنا: إنَّه يُقْسِمُ مِن العَصَبَةِ رِجالٌ. لم تُقْسِمِ المرأةُ أيضًا؛ لأَنَّ ذلك مُخْتَصٌّ بالرِّجالِ. وإن قُلْنا: يُقْسِمُ المُدَّعَى عليه. فيَنْبَغِى أن تُسْتَحْلَفَ؛ لأنَّها لا (¬2) تُثْبِتُ بقَوْلِها حَقًّا ولا قتلًا، وإنَّما هى لتَبْرِئَتِها منه، فَتُشْرَعُ في حَقِّها اليَمِينُ، كما لو لم يكُنْ لَوْث. فعلى هذا، إذا كان في الأوْلياءِ [نِساءٌ و] (¬3) رِجالٌ، أقْسَمَ الرِّجالُ، وسَقَط حُكمُ (¬4) النِّساءِ، وإن كان منهم صِبْيانٌ ورِجالٌ بالِغُونَ، أو كان منهم حاضِرون وغائِبون، ¬

(¬1) بلفظ: «يحلف منكم خمسون رجلًا» أخرجه أبو داود، في: باب في ترك القود بالقسامة، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 487. والبيهقى، في: باب أصل القسامة. . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 121، 122. وهو مرسل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل، تش.

فَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائب أَوْ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلِلْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَخلِفَ وَيَسْتَحِقَّ نَصيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ. وهلْ يَحْلِفُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ القَسامةَ لا تَثْبُتُ حتى يَحضُرَ الغائِبُ، ويَبْلُغَ الصَّبِىُّ؛ لأَنَّ الحَقَّ لا يثْبُتُ إلَّا بالبَيَنةِ الكاملةِ، والبَيِّنَةُ أيمانُ الأوْلياءِ كلِّهمِ، والأيمانُ لا تَدخُلُها النِّيابَةُ، ولأَنَّ الحَقَّ إن كان قِصاصًا، فلا يُمكِنُ تبْعِيضُه، فلا فائدةَ في قَسامَةِ الحاضرِ والبالغِ، وإن كان غيرَه، فلا يثْبُتُ إلَّا بواسِطَةِ ثُبُوتِ القتلِ، وهو لا يتبَعَّضُ أيضًا. وقال القاضى: إن كان القتلُ (¬1) عَمْدًا، لم يُقْسِمِ الكبيرُ حتى يَبْلُغَ الصغيرُ، ولا الحاضرُ حتى يَقْدَمَ الغائِبُ؛ لأَنَّ حَلِفَ الكبيرِ الحَاضرِ لا يُفِيدُ شيئًا في الحالِ. وإن كان مُوجِبًا للمالِ، كالخَطَأ وشِبْهِ العَمدِ، فللحاضِرِ المُكَلَّفِ أن يَحلِفَ، ويَسْتَحِقَّ قِسْطَه مِن الدِّيَةِ. وهذا قولُ أبى بكرٍ، ومذْهبُ الشافعىِّ. واخْتَلفوا في كم يُقْسِمُ الحاضِرُ؟ فقال ابنُ حامدٍ: يُقْسِمُ بقِسْطِه مِن الأيْمانِ، فإن كان الأوْلِياءُ اثْنَيْن، أقْسَمَ الحاضِرُ خَمسًا وعِشْرين يَمِينًا، وإن كانوا ثلاثةً، أقْسَمَ سَبْعَ عَشْرةَ يَمِينًا، وإن كانوا أربعةً، أقسَمَ ثلاثَ عَشْرةَ يَمِينًا، وكلَّما ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ؛ عَلَى وَجْهيْنِ. وَإِذَا قَدِمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ قَدِمَ غائبٌ أقسمَ بقَدر ما عليه، واستَوْفَى (¬1) حَقَّه؛ لأنَّه لو كان الجميعُ حاضِرين، لم يَلْزَمه أكَثرُ مِن قِسْطِه، فكذلك إذا غاب بعضُهم، كما في سائرِ الحُقوقِ، ولأنَّه لا يَسْتَحِقُّ أكثرَ مِن قِسْطِه [مِن الدِّيَةِ، فلا يَلْزَمُه أكثرُ مِن قِسْطِه مِن الأيمانِ] (¬2). وقال أبو بكرٍ: يَخلِف الأَوَّلُ خمسين يَمِينًا. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ الحُكْمَ لا يثْبُتُ إلَّا بالبَيِّنةِ الكاملةِ، والبَيِّنةُ هى الأيمانُ كلُّها، ولذلك (¬3) لو ادَّعَى أحَدُهما دَيْنًا لأبيهِما، لم يَسْتَحِقَّ نَصِيبَه منه إلَّا بالبَيِّنةِ المُثْبِتَةِ لجميعِه، ولأَنَّ الخمسين في القَسامَةِ كاليَمِينِ الواحدةِ في سائرِ الحُقوقِ، ولو ادَّعَى مالًا له فيه شَرِكَةٌ، له به شاهِدٌ، لحَلَفَ يَمِينًا كاملةً، [كذا هذا] (¬4). فإذا قَدِمَ الثانى، أقْسَمَ خمسًا وعشرين ¬

(¬1) في الأصل: «استوى». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «كذلك». (¬4) سقط من: م.

الْغَائِبُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِىُّ، حَلَفَ خَمسًا وَعِشْرِينَ، وَلَهُ بَقِيَّتُهَا. وَالْأوْلَى عِنْدِى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا حَتَّى يَخلِفَ الآخَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينًا، وجهًا واحدًا عندَ أبى بكرٍ؛ لأنَّه يَبْنِى على أيْمانِ أخِيه المُتَقَدِّمةِ. وقال الشافعىُّ: فيه قولٌ آخرُ أنَّه (¬1) يَخلِفُ خمسين يَمِينًا أيضًا؛ لأَنَّ أخاه إنَّما اسْتَحَقَّ بخَمسين، فكذلك هو. وحُكِىَ نَحوُ ذلك عن أبى بكرٍ والقاضى أيضًا. فإذا قَدِمَ ثالث، أو (¬2) بَلَغَ، فعلى قولِ أبى بكرٍ، يَحلِف سبعَ عَشْرَةَ يَمِينًا؛ لأنَّه يَبْنِى على أيمانِ أخَوَيْه (¬3)، وكذلك على أحدِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «و». (¬3) في الأصل: «أخيه».

4364 - مسألة: (وذكر الخرقى من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا، توجب القصاص إذا ثبت القتل، وأن تكون الدعوى على واحد)

وَذَكَرَ الْخِرَقِىُّ مِنْ شُرُوطِ الْقَسَامَةِ، أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَمدًا تُوجِبُ الْقِصَاصَ إِذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلَى الشافعىِّ، وعلى الثانى، يُقْسِمُ خمسين يَمِينًا. وإن قَدِمَ رابعٌ، فهل يَحلِفُ [ثلاثَ عَشْرةَ] (¬1) يَمِينًا أو خمسين؟ فيه قَوْلان. فصل: والخُنْثَى المُشْكِلُ يَحتَمِلُ أن يُقْسِمَ؛ لأَنَّ سبَبَ القَسامةِ وُجِدَ في حَقِّه، وهو الاسْتِحقاقُ مِن الدِّيَةِ، ولم يتَحَقَّقِ المانِعُ مِن يَمِينِه. ويَحتَمِلُ أَنْ لا يُقْسِمَ؛ لأنَّه لا يَحمِلُ مِن العَقْلِ، فلا يثْبُتُ القتلُ بيَمِينِه، كالمرأةِ. 4364 - مسألة: (وذَكَرَ الخِرَقِىُّ مِن شُروطِ القَسامَةِ أن تَكُونَ الدَّعْوَى عَمدًا، تُوجِبُ القِصاصَ إذا ثَبَت القَتْلُ، وأن تَكُونَ الدَّعْوَى على واحِدٍ) لا يخْتلِف المذهبُ أنَّه لا يُسْتَحَقُّ بالقَسامةِ أكثرُ مِن قَتْلِ واحدٍ. وبهذا قال الزُّهْرِىُّ، ومالك، وبعضُ أصحابِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق، م: «ثلاثة عشر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَحَقُّ بها قتلُ الجماعةِ؛ لأنَّها بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ للقَوَدِ، فاسْتَوَى فيها الواحدُ والجماعةُ، كالبَينةِ. وقولُ أبى ثَوْرٍ نحوُ هذا. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُم على رجُل مِنْهُمْ، فَيُدفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِه» (¬1). فخَصَّ بها الواحدَ. ولأنَّها بَيِّنَةٌ ضَعِيفَة، خُولِفَ بها الأصْلُ (¬2) في قَتْل الواحدِ، فيُقْتَصَرُ عليه، ويَبْقَى على الأصلِ فيما عَداه. وبَيانُ مُخالفةِ الأصلِ بها، أنَّها تَثْبُتُ باللَّوْثِ، واللَّوْثُ شُبْهةٌ مُغَلِّبَةٌ على الظَّنِّ صِدْقَ المُدَّعِى، والقَوَدُ يَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ، فكيفَ يثْبُتُ بها! ولأَنَّ الأيْمانَ ثَبَتتِ ابْتِداءً في سائرِ الدَّعاوَى في جانبِ المُدَّعَى عليه، وهذه بخِلافِه (¬3). وبيانُ ضَعْفِها، أنَّها تَثْبُتُ بقولِ المُدَّعِى ويَمِينه، مع التُّهْمَةِ في حَقِّه، والشَّكِّ في صِدْقِه، وقيامِ العَداوَةِ المانِعَةِ مِن صِحَّةِ الشَّهادَةِ عليه في إثْباتِ حَقٍّ لغيرِه، فلأَنْ تَمْنَعَ مِن قَبُولِ قولِه وحدَه في إثْباتِ حَقٍّ له أوْلَى وأحْرَى. وفارقَ البَيِّنَةَ، فإنَّها قَوِيَتْ بالعَدَدِ، وعَدالةِ الشُّهُودِ، وانْتِفاءِ التُّهْمَةِ في حَقِّهم مِن الجِهَتَيْن، في كَوْنِهم لا يُثْبِتُونَ لأنْفُسِهِم حَقًّا ولا نَفْعًا، ولا يَدْفَعُونَ عنها ضُرًّا، ولا عَداوَةَ بينَهم وبينَ المَشْهُودِ عليه، ولهذا يَثْبُتُ بها سائِرُ الحُقُوقِ والحُدودِ التى تَنْتَفِى بالشُّبُهاتِ. إذا ثَبَتَ هذا، فلا قَسامةَ فيما لا قَوَدَ فيه، في قولِ الخِرَقِىِّ، فيَطَّردَ قولُه في أنَّ القَسامةَ لا تَسُوغُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 212، 25/ 378. (¬2) في م: «الأصول». (¬3) في الأصل: «مخالفة».

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ بِشَرْطٍ. لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَمْدًا مَحْضًا، لَمْ يُقْسِمُوا إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَلَهُمُ الْقَسَامَةُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا في حَقِّ واحدٍ. وعندَ غيرِه مِن أصْحابِنا أنَّ القَسامةَ تَجْرِى فيما لا قَوَدَ فيه، فيجوزُ أن يُقْسِمُوا على جَماعةٍ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ. فعلى هذا، إذا ادَّعَى على رَجُلَيْن، على أحَدِهما لَوْثٌ دُونَ الآخَرِ، حَلَفَ على مَن عليه اللَّوْثُ خمسين يَمِينًا، واسْتَحَقَّ الدِّيَةَ عليه، وحَلَفَ (¬1) الآخَرُ يَمِينًا واحدةً، وبَرِئَ. وإن نَكَلَ عن اليَمِينِ، فعليه نِصْفُ الدِّيَةِ. وإنِ ادَّعَى على (¬2) ثلاثةٍ عليهم لَوْثٌ، ولم يَحْضُرْ إلَّا أحَدُهم، حَلَفَ على الحاضِرِ منهم خَمْسين يَمِينًا، واسْتَحَقَّ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فإذا حَضَرَ الثانى، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَحْلِفُ عليه خمسين يَمِينًا أيضًا، ويَسْتَحِقُّ ثُلثَ ¬

(¬1) بعده في م: «على». (¬2) في الأصل، تش «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدِّيَةِ؛ لأَنَّ الحَقَّ لا يَثْبُتُ على أحدِ (¬1) الرَّجُلَيْن إلَّا بما يَثْبُتُ على صاحِبِه، كالبَيِّنَةِ، فإنَّه يَحْتاجُ إلى إقامةِ البَيِّنَةِ الكاملةِ على الثانى كإقامَتِها على الأَوَّلِ. والثانى، يَحْلِفُ عليه خَمْسًا وعشرين يَمِينًا؛ لأنَّهُما لو حَضَرا معًا، لحَلَفَ عليهما خَمْسِين يمينًا، حِصَّةُ كلِّ واحدٍ منهما خمسٌ وعشرون. وهذا الوَجْهُ ضَعِيفٌ؛ فإنَّ اليَمِينَ لا تُقْسَمُ عليهم إذا حَضَرُوا، ولو حَلَفَ على (1) كلِّ واحدٍ مُنْفَرِدًا (¬2) حِصَّتَه مِن الأيْمانِ لم يَصِحَّ، ولم يَثْبُتْ له حَقٌّ، وإنَّما الأيْمانُ عليهم جميعِهم، وتتَناولُهم تَناوُلًا واحدًا، ولأنَّها لو قُسِمَتْ عليهم بالحِصَصِ، لَوَجَبَ أن لا يُقْسَمَ على الأَوَّلِ أكثرُ مِن سبعَ عشْرَةَ يَمِينًا. وإن قِيلَ: إنَّما حَلَفَ بقَدْرِ حِصَّتِه وحِصَّةِ الثالثِ. فيَنْبَغِى أن يَحْلِفَ أربعًا وثلاثين يَمِينًا. وإذا قَدِمَ الثالثُ، ففيه وَجْهان؛ أصَحُّهما، يَحْلِفُ عليه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «على».

فصل

فَصْلٌ: وَيُبْدَأُ فِى الْقَسَامَةِ بأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــ خمسين يَمِينًا، ويَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الدِّيَةِ. والآخرُ، يَحْلِفُ سَبْعَ عشْرةَ يَمِينًا. وإن حَضَرُوا جميعًا، حَلَف عليهم خَمْسين يَمِينًا، واسْتَحَقَّ الدِّيَةَ عليهم أثْلَاثًا. وهذا التَّفْرِيعُ يَدُلُّ على اشْتِراطِ حُضُورِ المُدَّعَى عليه وقْتَ الأيْمانِ؛ وذلك لأنَّها أُقِيمَتْ مُقامَ البَيِّنَةِ، فاشْتُرِطَ (¬1) حُضُورُ مَن أُقِيمَتْ عليه، كالبَيِّنَةِ. وكذلك إن رُدَّتِ الأيْمانُ على المُدَّعَى عليهم، اشْتُرِطَ حُضُورُ المُدَّعِينَ وَقْتَ خَلِفِ المُدَّعَى عليهم؛ لأَنَّ الأيْمانَ له عليهم، فيُعْتَبَرُ رِضاه بها وحُضُورُه، إلَّا أن يُوَكِّلَ وَكِيلًا، فيقومُ مَقامَ المُوَكِّلِ (¬2). فصل: (ويُبْدأُ في القَسامةِ بأيْمانِ المُدَّعِينَ، فيَحْلِفُون خَمْسينَ ¬

(¬1) في الأصل: «واشتراط». (¬2) في الأصل، تش: «الوكيل».

يَميِنًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينًا) الكلامُ في هذا الفصلِ في أمْرَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ الأيْمانَ تُشْرَعُ في حَقِّ المُدَّعِين أوَّلًا، فيَحْلِفُون خَمسين يَمِينًا على المُدَّعَى عليه، أنَّه قَتَلَه (¬1)، ويَثْبُتُ حَقُّهم قِبَلَه (¬2)، فإن لم يَحْلِفوا، حَلَفَ المُدَّعَى عليه خمسينَ يَمِينًا، [وبَرِئَ] (¬3). وهذا قولُ يحيى بنِ سعيدٍ، ورَبيعةَ، وأبى الزِّنادِ، واللَّيْثِ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقال الحسنُ: يُسْتَخلَف المُدَّعَى عليهم أوَّلًا خمسين يَمِينًا، ويَبْرَأون، فإن أبَوْا أن يَحْلِفُوا، اسْتُحْلِفَ خَمْسون مِن المُدَّعِينَ أنَّ حَقَّنا قِبَلَكُم، ثُمَّ يُعْطَون الدِّيَةَ؛ لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ولَكِن اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه». رواه مُسْلِم (¬4). وفى لَفْظٍ: «البينةُ على المُدَّعِى، واليَمِينُ على المُدَّعَى عليه». رواه الشَّافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬5). ورَوَى أبو داودَ (¬6) بإسْنادِه، عن سليمانَ بنِ يَسارٍ، عن رِجالٍ مِن الأنْصارِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ليَهودَ، وبَدأ بهم: «يَحْلِفُ مِنْكُم خَمْسُونَ رَجُلًا». فأبَوْا، فقال للأنْصارِ: «اسْتَحِقُّوا». قالوا: نَحْلِفُ على الغَيْبِ يارسولَ اللَّهِ! فجعَلَها رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على اليَهودِ ابْتِداءً؛ لأنَّه وُجِدَ بينَ أظْهُرِهم. ولأنَّها يَمِينٌ في دَعْوَى، فوَجَبَتْ في جانِبِ ¬

(¬1) في م: «قتلهم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في 12/ 478، وصفحة 126. (¬5) انظر: ترتيب مسند الشافعى 2/ 181. وانظر 16/ 252. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُدَّعَى عليه ابْتِداءً، كسائِرِ الدَّعاوَى. وقال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْى: يُسْتَخلَفُ خَمْسون رَجُلًا مِن أهلِ المَحَلَّةِ التى وُجِدَ فيها القَتِيلُ: باللَّهِ ما قَتَلْناه، ولا عَلِمْنا قاتِلًا. ويُغَرَّمونَ الدِّيَةَ؛ لقَضاءِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، بذلك (¬1). ولم نَعْرِفْ له في الصَّحابةِ مُخالِفًا، فكان إجْماعًا. وتكَلَّمُوا في حديثِ سَهْلٍ بما رَوَى أبو داودَ (¬2)، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ التَيْمِىِّ، عن عبدِ الرحمنِ ابنِ بُجَيْدِ ابنِ قَيْظِىٍّ، أحدِ بنى حارثةَ، قال محمدُ (¬3) بنُ إبراهيمَ: وايْمُ اللَّهِ، ما كان سَهْلٌ بأعْلَمَ منه، ولكنَّه كان أسَنَّ منه. قال: واللَّهِ ما قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «احْلِفُوا على ما لا عِلْمَ لَكُمْ به». ولكنَّه كتبَ إلى يهودَ حينَ كلَّمتْه الأنْصارُ: «إنَّه وُجِدَ بَيْنَ أبْياتِكم (¬4) قَتِيلٌ فَدُوهُ». فكتبوا يَحْلِفُون باللَّهِ ما قتَلُوه، ولا يَعلَمُون له قاتلًا، فَوَداه رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن عندِه. ولَنا، حديثُ سَهْلٍ (¬5)، وهو صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عليه، ورَواه مالِكٌ في «مُوَطَّئِه»، وعمِلَ به. وما عارَضَه مِن الحديثِ لا يَصِحُّ لوُجوهٍ؛ أحدُها، أنَّه نفْىٌ، فلا يُرَدُّ به قولُ المُثْبِتِ. والثانى، أنَّ سَهْلًا مِن أصْحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، شاهدَ القِصَّةَ، وعَرَفَها، حتى إنَّه قال: رَكَضَتْنِى ناقةٌ ¬

(¬1) تقدم تخريجة في صفحة 128. (¬2) في: باب في ترك القود بالقسامة، من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 486، 487. كما أخرجه البيهقى، في: باب أصل القسامة. . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 121. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أبنائكم». (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 212، 25/ 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من تلك (¬1) الإِبلِ. والآخَرُ يقولُ برأْيه وظَنِّه، مِن غيرِ أن يَرْوِيَه عن أحدٍ، ولا حَضَر القِصَّةَ. والثالثُ، أنَّ حديثَنا مُخَرَّجٌ في الصَّحِيحَيْن، وحدِيثَهم بخِلافِه. الرابعُ، أنَّهم لا يَعمَلُونَ (¬2) بحدِيثهم، ولا (¬3) حَديثِنا، فكيفَ يَحْتَجُّونَ بما هو حُجَّةٌ عليهم فيما خالَفُوه فيه! وحديثُ سليمانَ ابنِ يسارٍ، عن رجالٍ مِن الأنْصارِ، لم يذْكُرْ لهم صُحبَةً، فهو أدْنَى حالًا مِن حديثِ محمدِ بنِ إبراهيمَ، وقد خالفَ الحديثَيْن جميعًا، فكيفَ يجوزُ أن يُعْتَمَدَ عليه! وحديثُ: «اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». لم يُرَدْ به هذه القَضِيَّةُ؛ لأنَّه يَدُلُّ على أنَّ الناسَ لا يُعْطَوْن بدَعْواهم، وههُنا قد أُعْطُوا بدَعْواهم، على أنَّ حَدِيثَنا أخَصُّ منه، فيجبُ تَقْديمُه، وهو حُجَّةٌ عليهم، لكَوْنِ المُدَّعِينَ أُعْطُوا بمُجَرَّدِ دَعْواهم مِن غيرِ بَيِّنَةٍ ولا يَمِينٍ منهم. وقد رَواه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4)، بإسْنادِه، عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، واليَمِينُ عَلَى مَن أنْكَرَ، إلَّا فِى القَسامَةِ». وهذه الزيادةُ يتَعَيَّنُ العملُ بها؛ لأَنَّ الزِّيادةَ مِن الثِّقَةِ مقْبولَةٌ، ولأنَّها أيْمانٌ مُكَرَّرَةٌ، فيُبْدأُ فيها بأيْمانِ المُدَّعِين، كاللِّعانِ. إذا ثبتَ هذا، فإنَّ أيْمانَ القَسامةِ خَمْسونَ على ما جاءتْ به ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش، م: «يعلمون». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) في: التمهيد 23/ 204، 205. كما أخرجه الدارقطنى، في: سننه 4/ 218. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 123.

وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَارِثِ، فَتُقْسَمُ الأَيْمَانُ بَيْنَ الرِّجَالِ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، حَلَفَهَا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، قُسِمَتْ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدرِ مِيرَاثِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِيها كَسْرٌ، جُبِرَ عَلَيْهِمْ، مِثْلَ زَوْجٍ وَابْنٍ، يَحْلِف الزَّوْجُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَمِينًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحاديثُ الصَّحِيحةُ، [وأجْمَعَ عليه] (¬1) أهْلُ العلمِ، لا نعلمُ أحدًا خالفَ فيه الأمرُ الثانى، أنَّ الأيْمانَ تَخْتَصُّ بالوُرَّاثِ دُونَ غيرِهم. هذا ظاهرُ المذهَبِ، وظاهرُ قولِ الخِرَقِىِّ، واخْتِيارُ ابنِ حامدٍ، وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّها يَمِينٌ في دَعوَى حَقٍّ، فلا تُشْرَعُ في حَقِّ غيرِ المُتَداعِيَيْن (¬2)، كسائرِ الأيْمانِ. فعلى هذه الرِّوايةِ، تُقْسَمُ بينَ الوَرَثَةِ (¬3) مِنٍ الرِّجالِ مِن ذَوِى الفُروضِ والعَصَباتِ على قَدْرِ إرْثِهم، إن كانوا جماعةً، وإن كان واحدًا حَلَفَها، فإنِ انْقَسَمَتْ مِن غيرِ كسْرٍ، مثلَ أن يُخَلِّفَ المقْتولُ ابْنَيْن، أو أخًا وزَوْجًا، حلفَ كلُّ واحدٍ منهم خمسًا وعشرين يَمِينًا (وإن كان فيها كسْرٌ، جُبِرٍ عليهم، مثلَ زَوْجٍ وابنٍ، يحلِفُ الزَّوْجُ ثلاثَ عَشْرةَ يَمِينًا، والابنُ ثمانيةً وثلاثينَ) يَمِينًا؛ لأَنَّ تَكْمِيلَ الخَمْسينَ واجبٌ، ولا يُمْكِنُ ¬

(¬1) في الأصل: «وإجماع». (¬2) في الأصل: «المدعين». (¬3) في الأصل: «الوارث».

وَالِابْنُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثينَ. وَإِنْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبْعِيضُ اليَمينِ، ولا حَمْلُ بعضِهم لها عن بعضٍ، فوجبَ تكْميلُ اليَمِينِ المُنْكَسِرةِ في حَقّ كلِّ واحدٍ منهم. وإن كانوا ثلاثةَ بَنِينَ، أو جَدًّا وأخَوَيْن، جُبِرَ الكَسْرُ، فحَلَفَ كلُّ واحدٍ سَبْعَ عَشْرةَ يَمِينًا. وإن خَلَّفَ أخًا مِن أبٍ، وأخًا مِن أُمٍّ، فعلَى الأخِ مِن الأُمِّ سُدْسُ الأيْمانِ، ثم يُجْبَرُ الكَسْرُ، فيكونُ عليه تِسعُ أيْمانٍ، وعلِى الأخِ من الأبِ اثْنتانِ وأربعون. وهذا أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وقال في الآخرِ: يَحْلِفُ كلُّ واحدٍ مِن المُدَّعِين خمسينَ يَمِينًا، سواءٌ تَساوَوْا في المِيراثِ أو اختَلفُوا فيه؛ لأَنَّ ما حَلَفَه الواحدُ إذا انْفَرَدَ، حَلَفَه كلُّ واحدٍ مِن الجماعةِ، كاليَمِينِ الواحدةِ في سائرِ الدَّعاوَى. وعن مالكٍ أنَّه قال: يُنْظَرُ إلى مَن عليه أكثرُ اليَمِينَ، فيُجْبَرُ عليه، ويسْقُطُ عن الآخَرِ. ولَنا على أنَّ الخمسين تُقْسَمُ بينَهم، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنْصارِيين: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ». وأكثرُ ما رُوِىَ عنه (¬1) في الأيْمانِ خمسون، ولو حَلَف كلُّ واحدٍ خمسين، لَكانَتْ مائةً ومائتين، وهذا خِلاف النَّصُّ، ولأنَّها حُجَّةٌ للمُدَّعِين، فلم تَزِدْ على ما يُشْرَعُ في حَقِّ الواحدِ، كالبَيِّنَةِ، وتُفارِقُ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه، فإنها ليستْ حُجَّةً للمُدَّعِى، ولأنَّها لم يُمكِنْ قِسْمَتُها، فكَمَلَتْ في حَقِّ كلِّ واحدٍ، كاليَمِينِ المُنْكَسِرَةِ في القَسامةِ، فإنَّها تُجْبَرُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَكْمُلُ في حَقِّ كلِّ واحدٍ، لكَوْنِها لا تتَبَعَّضُ، وما لا يتَبعَّضُ يَكْمُلُ، كالطَّلاقِ والعَتاقِ. وما ذكَرَه مالكٌ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه إسْقاطٌ لليَمِينِ عمَّن عليه بعضُها، فلم يَجُزْ، كما لو تَساوَى الكَسْران، بأن يكونَ على كلِّ واحدٍ نِصْفُها، أو ثُلُثُها إن كانوا ثلاثةً، وبالقِياسِ على مَن عليه أكْثَرُها، ولأَنَّ اليَمِينَ في سائرِ الدَّعاوَى تَكْمُلُ في حَقِّ كلِّ واحدٍ، ويَسْتَوِى مَن له في المُدَّعَى قليلٌ وكثيرٌ، كذا ههُنا، ولأنَّه يُفْضِى إلى أن يتَحَمَّلَ اليَمِينَ غيرُ مَن وجَبَتْ عليه [عمَّن وجَبَتْ عليه] (¬1)، فلم يَجُزْ ذلك، كاليَمِينِ الكاملةِ، وكالجُزْءِ الأكْبَرِ. فصل: فإن كان فيهم مَن لا قَسامةَ عليه بحالٍ، وهو النَّساءُ، سَقَط حُكْمُه. فإذا كان ابنٌ وبِنْتٌ، حَلَف الابْنُ الخمسين كلَّها. وإن كان أخٌ وأختٌ لأُمٍّ [وأخٌ] (¬2) وأختٌ لأبٍ، قُسِمَتِ الأيْمانُ بينَ الأخَوَيْن، على أحدَ عَشَرَ؛ على الأخِ مِن الأمِّ ثلاثةٌ، وعلى الآخَرِ ثمانيةٌ، ثم يُجْبَرُ الكَسْرُ عليهما، فيَحْلِفُ الأخُ مِن الأبِ سبعًا وثلاثين يَمِينًا، والأخُ مِن الأُمِّ أرْبعَ عَشْرةَ يَمِينًا. فصل: فإن مات المُسْتَحِقُّ، انْتَقَلَ إلى وَارثِه ما عليه مِن الأيْمانِ، وكانتِ الأيْمانُ بينَهم على حَسَبِ مَوارِيثِهم، ويُجْبَرُ الكَسْرُ فيها عليهم، كما يُجْبَرُ في حَقِّ وَرَثَةِ القَتِيلِ. فإن مات بعْضُهم، قُسِمَ نَصِيبُه مِن الأيْمانِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَ وَرَثَتِه، فلو كان للقتِيلِ ثلاثةُ بَنِينَ، كان على كُلِّ واحدٍ سبعَ عَشْرةَ يَمِينًا، فإن مات بعضُهم (¬1) قبلَ أن يُقْسِمَ، وخَلفَ ثلاثةَ بَنِينَ، قُسِمَتْ أيْمانُه بينَهم، فكان على كُلِّ واحدٍ منهم ستُّ أيْمانٍ. وإن خَلَّف ابْنَيْن (¬2)، حَلَف كلُّ واحدٍ (¬3) تِسْعَ أيْمانٍ. وإنَّما قُلْنا هذا؛ لأَنَّ الوارِثَ يقومُ مَقامَ المَوْرُوثِ في (¬4) إثْباتِ حُجَجِه، كما يَقومُ مَقامَه في اسْتِحْقاقِ مالِه، وهذا مِن حُجَجِه، ولذلك يَملِكُ إقامَةَ البَيِّنَةِ والحَلِفَ في الإِنْكارِ، ومع الشَّاهدِ الواحدِ في دَعْوَى المالِ. فإن كان مَوْتُه بعدَ شُرُوعِه في الأيْمانِ، فحَلَف بعْضَها، فإنَّ ورَثتَه يَسْتأْنِفُون الأيْمانَ، ولا يَبْنُونَ على أيْمانِه؛ لأَنَّ الخمسين جَرَتْ مَجْرَى اليَمِينِ الواحدةِ، ولأنَّه لا يجوزُ أن يَسْتَحِقَّ أحَدٌ شيئًا بيَمِينِ غيرِه، ولا يَبْطُلُ هذا بما إذا حَلَف جميعَ الأيْمانِ ثم مات؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّ (¬5) المالَ إرْثًا عنه، لا بيَمِينِه، ولا بما إذا حَلَفَ الوارِثان، كلُّ واحدٍ منهما (5) خمسًا وعشرين يَمِينًا، فإنَّ الدِّيَةَ تُسْتَحَقُّ بيَمِينِهما؛ لأنَّهما يَشْتَرِكان في الأيْمانِ، ويَسْتَحِقُّ كلُّ واحدٍ بقَدْرِ أيْمانِه، ولا يَسْتَحِقُّ بأيمانِ غيرِه وإن كان اجْتِماعُ العَدَدِ شَرطًا في اسْتِحقاقِها. فصل: ولو حَلَف بعضَ الأيْمانِ، ثم جُنَّ، ثم أفاقَ، فإنَّه يُتَمِّمُ، ولا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «اثنين». (¬3) بعده في تش: «منهم». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «لا يستحق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُه الاسْتِئْنافُ؛ لأنّ أيْمانَه وقَعتْ مَوْقِعَها، بخِلافِ الموْتِ، فإنَّ الموتَ يتعَذَّرُ معه إتْمامُ الأيْمانِ منه، وغيرُه لا يَبْنِى على يَمِينِه، وههُنا يُمكِنُه أن يُتِمَّها إذا أفاقَ، ولا يَبْطُلُ بالتَّفْرِيقِ، بدليلِ أنَّ الحاكمَ إذا أحْلَفَه بعضَ الأيْمانِ، ثم تشاغَلَ عنه، لم يَبْطُلْ، ويُتِمُّها، وما لا يُبْطِلُه التَّفْريقُ لا يُبْطِلُه تخلُّلُ الجنونِ، كالسَّعْىِ بينَ الصَّفا والمرْوَةِ. وإن حَلَف بعضَ الأيْمانِ، ثم عُزِلَ الحاكمُ ووَلِىَ غيرُه، أتَمَّها عندَ الثانى، ولم يَلْزَمْه اسْتِئنافُها؛ [لأنَّ الأيْمانَ وقَعتْ مَوْقِعَها. وكذلك لو حَلَف] (¬1) بعْضَها، ثم سأل الحاكمَ إنْظارَه، فأنْظَرَه، بنَى على ما مَضَى، ولم يَلْزَمه الاسْتِئْنافُ؛ لِما ذكَرْنا. فصل: وإذا حَلَف الأوْلِياءُ اسْتَحَقُّوا القَوَدَ، إذا كانتِ الدَّعْوَى عَمْدًا، إلَّا أن يَمْنَعَ منه مانِعٌ. رُوِى ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وبه قال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن مُعاويةَ، وابنِ عباسٍ، والحسنِ، وإسْحاقَ: لا يجبُ بها إلَّا الدِّيَةُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لليَهودِ: «إمَّا أن يَدُوا صاحِبَكُمْ، وإمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِه» (¬2). ولأَنَّ أيْمانَ المُدَّعِين إنَّما هى لغَلَبَةِ الظَّنِّ، وحُكْمِ الظَّاهرِ، فلا يجوزُ إشاطَةُ الدَّمِ بها؛ لقِيامِ الشُّبْهَةِ المُتَمَكِّنَةِ، ولأنَّها حُجَّةٌ لا يثْبُتُ بها النِّكاحُ، فلا يجبُ بها القِصاصُ، كالشَّاهدِ واليَمِينِ. وللشافعىِّ قَوْلان كالمذْهبَيْن. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ على رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدفَعُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 212، 25/ 378.

4365 - مسألة: (وعن أحمد، يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث، خمسون رجلا، كل واحد يمينا)

وَعَنْهُ، يَحْلِفُ مِنَ الْعَصَبَةِ الْوَارِثُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْوَارِثِ، خَمْسُونَ رَجُلًا، كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَيْكُم بِرُمَّتِهِ». وفى رِوايةِ مُسْلِمٍ (¬1): «ويُسَلَّمُ إلَيْكُمْ». وفى لَفْظٍ: «وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صاحِبِكُمْ». وأرادَ دَمَ القاتلِ؛ لأَنَّ دَمَ القَتيلِ ثابتٌ لهم قبلَ اليَمِينِ. والرُّمَّةُ: الحبلُ الذى يُرْبَطُ به مَن عليه القَوَدُ. ولأنَّها حُجَّةٌ يَثْبُتُ بها العَمْدُ، فيجبُ بها القَوَدُ، كالبَيِّنَةِ. وقد روَى الأَثْرَمُ، بإسْنادِه، عن عامرٍ الأحْولِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقادَ بالقَسامةِ بالطَّائِفِ (¬2). وهذا نصٌّ. ولأَنَّ الشَّارِعَ جَعلَ القَوْلَ (¬3) قولَ المُدَّعِى مع يَمِينِه، احْتِياطًا للدَّمِ، فإن لم يَجِبِ القَوَدُ، سقَط هذا المعْنى. 4365 - مسألة: (وعن أحمدَ، يَحْلِفُ مِن العَصَبَةِ الوارِثُ منهم وغيرُ الوارِثِ، خَمْسون رَجُلًا، كلُّ واحِدٍ يَمِينًا) اخْتلَفتِ الروايةُ عن ¬

(¬1) لم نجد هذا اللفظ عند مسلم، وعند الإمام أحمد، في: المسند 4/ 3: «ثم نسلمه». (¬2) أخرجه أبو داود، في: المراسيل 160، 161. عن قتادة وعامر الأحول عن أبى المغيرة. (¬3) في الأصل: «القود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ في مَن تجبُ عليه أيْمانُ القَسامةِ؛ فرُوِىَ أنَّها تَخْتَصُّ بالذُّكورِ مِن الوُرَّاثِ. وهو ظاهرُ المذهَبِ، وقد ذكَرناه. ورُوِىَ عنه رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّه يَحْلِفُ مِن العَصَبةِ الوارِثُ (¬1) وغيرُ الوارثِ خمسون رَجُلًا، كلُّ واحدٍ يَمِينًا واحِدةً. وهذا قولٌ لمالكٍ. فعلَى هذا، يَحْلِفُ الوُرَّاثُ منهم الذين يَسْتَحِقُّونَ دَمَه، فإن لم يبْلُغُوا خَمسين، تُمِّمُوا مِن سائرِ العَصَبةِ، يُؤْخَذُ الأقْرَبُ منهم فالأقْرَبُ مِن قَبِيلَتِه التى يَنْتَسِبُ إليها، ويُعرَفُ كيْفِيَّةُ نَسَبِه مِن المقْتُولِ، فأمَّا مَن عُرِفَ أنَّه مِن القَبِيلةِ، ولم يُعرَفْ وَجْهُ النَّسَبِ، لم يُقْسِمْ، مثلَ أن يكونَ الرَّجُلُ قُرَشِيًّا، والمقْتولُ قُرَشِىٌّ، ولا يعرَفُ كيْفِيَّةُ نَسَبِه منه، فلا يُقْسِمُ؛ لأنَّنا نعْلَمُ أنَّ الناسَ كلَّهمِ مِن آدمَ ونُوحٍ، وكلُّهم يَرْجِعون إلى أبٍ واحدٍ، ولو قُتِلَ مَن لا يُعْرَفُ نَسَبُه، لم يُقْسِمْ عنه سائِرُ الناسِ، فإن لم يُوجَدْ مِن نَسَبِه خَمسون، رُدِّدَتِ الأيْمانُ عليهم، وقُسِمَتْ بينَهم (¬2)، فإنِ انْكَسَرَتْ (¬3) عليهم، جُبِرَ كَسْرُها عليهم حتى تبْلُغَ خَمْسين؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنْصارِ: «يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ، وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» (¬4). وقد عَلِمَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه لم يكُنْ لعبدِ اللَّهِ بنِ سَهْلٍ خَمْسون رَجُلًا وارِثًا، فإنَّه لا يَرِثُه إلَّا أخُوه، أو مَن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «عليهم». (¬3) بعده في م: «بينهم». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو في دَرَجَتِه، أو أقْرَبُ منه نَسَبًا، ولأنَّه خاطَبَ بهذا [ابْنَىْ عَمِّه، وهما] (¬1) غيرُ وارِثَيْن. فصل: ويُسْتَحَب أن يَسْتَظْهِرَ في ألْفاظِ اليَمِينِ في القَسامةِ تأْكيدًا، فيقولَ: واللَّهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو عالمِ خائِنَةِ الأعْيُنِ وما تُخْفِى الصُّدُورُ. فإنِ اقْتَصَرَ على لَفْظةِ: واللَّهِ. كَفَى، ويقُولُ: واللَّهِ، أو باللَّهِ، أو تاللَّهِ. بالجَرِّ كما تقْتَضِيه العربيَّةُ. فإن قاله مَضْمُومًا، أو منصوبًا، فقد لَحَنَ. قال القاضى: ويُجْزِئُه، تَعَمَّدَه أو لم يتَعَمَّدْه؛ لأنَّه لَحْنٌ لا يُحِيلُ المَعْنَى. وهو قولُ الشافعىِّ. وما زادَ على هذا تَأْكِيدٌ. ويقولُ: لقد قَتَلَ فلان بنُ فلانٍ الفُلانىُّ -ويُشِيرُ إليه- فُلانًا ابْنِى، أو أخِى، مُنْفَرِدًا بقَتْلِه، ما شَرَكَه غيرُه. وإن كانا اثْنَيْن قال: مُنْفَرِ دَيْن بقَتْلِه، ما شَرَكَهُما غيرُهما. ثم يقولُ: عَمْدًا، أو خَطأً. وبأىِّ اسْمٍ مِن أسماءِ اللَّهِ سُبحانه وتعالى أو صِفَةٍ من [صِفَاتِ ذَاتِه] (¬2) حَلَفَ، أجْزَأَ، إذا كان إطْلاقُه يَنْصَرِفُ إلى اللَّهِ تعالى. ويقولُ المُدَّعَى عليه في اليَمِينِ: واللَّهِ ما قَتَلْتُه، ولا شارَكْتُ في قَتْلِه، ولا فَعَلْتُ شيئًا (¬3) ماتَ منه، ولا كان سَببًا في مَوْتِه، ولا مُعِينًا على مَوْتِه. ¬

(¬1) في الأصل: «بنى عمه وهم». (¬2) في الأصل، تش: «صفاته». (¬3) في م: «سببًا».

4366 - مسألة: (فإن لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينا، وبرئ)

فَإنْ لَمْ يَحْلِفُوا، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4366 - مسألة: (فإن لم يَحْلِفِ المُدَّعُون، حَلَف المُدَّعَى عليه خَمْسِين يَمِينًا، وبَرِئَ) هذا ظاهرُ المذهبِ. وهو الذى ذكَرَه الخِرَقِىُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال يحيى الأنْصارِىُّ، ورَبيعةُ، وأبو الزِّنادِ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وحكى أبو الخَطَّابِ (¬1) رِوايةً أُخْرَى عن أحمدَ، أنَّهم يَحْلِفُونَ، ويُغَرَّمُون الدِّيَةَ؛ لقَضِيَّةِ عمرَ (¬2)، وخبرِ سليمانَ بنِ يَسارٍ (¬3). وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْى. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بأيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ» (¬4). أى يَبْرأُونَ منكم. وفى لَفْظٍ قال: «فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ويَبْرأُونَ مِنْ دَمِهِ». وقد ثَبَت أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُغَرِّمِ اليهودَ، وأنَّه أدَّاها مِن عندِه، ولأنَّها أيْمانٌ مَشْروعةٌ في حَقِّ المُدَّعَى عليه، فيَبْرأُ بها، كسائرِ الأيْمانِ، ولأَنَّ ذلك إعْطاءٌ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فلم يَجُزْ؛ للخَبَرِ، ومُخالفةِ مُقْتَضَى الدَّليلِ، فإنَّ قولَ الإِنْسانِ لا يُقْبَلُ على غيرِه بمُجَرَّدِه، كدَعْوَى المالِ، وسائرِ الحُقوقِ، ولأَنَّ في ذلك جَمْعًا بينَ اليَمِينِ والغُرْمِ، فلم يُشْرَعْ، كغيرِه مِن الحُقوقِ. فصل: وإذا رُدَّتِ الأيْمانُ على المُدَّعَى عليهم، وكان عَمْدًا، لم تَجُزْ على أكثرَ مِن واحدٍ، فيَحْلِفُ خمسين يَمِينًا، وإن كانت على غيرِ (¬5) ¬

(¬1) في الأصل، تش: «طالب». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 128. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 140. (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 213، 25/ 278. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَمْدٍ، كالخَطأ وشِبْهِ العَمْدِ، فلا قَسامةَ، في ظاهرِ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأَنَّ القَسامةَ مِن شَرْطِها اللَّوْثُ والعداوةُ، وهى إنَّما تؤثرُ في تَعَمُّدِ القَتْلِ، لا في خَطَئِه، فإنَّ احتِمالَ الخَطأ في العَدُوِّ (¬1) وغيرِه سواءٌ. وقال غيرُه مِن أصْحابِنا: فيه قَسامةٌ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ اللَّوْثَ لا (¬2) يَخْتَصُّ العَداوَةَ عندَهم. فعلَى هذا، تجوزُ الدَّعْوَى على جماعةٍ، فإذا ادُّعِىَ على جماعةٍ، حَلَف كلُّ واحدٍ منهم خمسين يَمِينًا. وقال بعضُ أصْحابِنا: تُقْسَمُ الأيْمانُ بينَهم بالحِصَصِ، كقَسْمِها بينَ المُدَّعِينَ، إلَّا أنَّها ههُنا تُقْسَمُ بالسَّوِيةِ؛ لأَنَّ المُدَّعَى عليهم مُتَساوُون فيها، فهم كبَنِى المَيِّتِ. وللشافعىِّ قَوْلان كالوَجْهيْن. والحُجَّةُ لهذا القولِ، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «تُبْرِئُكُم يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا». وفى لَفْظٍ قال: «فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، ويَبْرأُونَ مِنْ دَمِهِ». ولأنَّهم أحَدُ المُتَداعِيَيْن في القَسامةِ، فتُقَسَّطُ (¬3) الأيْمانُ على عَدَدِهم، كالمُدَّعِينَ. وقال مالكٌ: يَحْلِفُ مِن المُدَّعَى عليهم خَمْسون رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، فإن لم يَبْلُغُوا خَمْسين رَجُلًا، رُدِّدَتْ على مَن حَلَف منهم حتى تَكْمُلَ خَمسين يَمِينًا، فإن لم يَجِدْ أحدًا يَحْلِفُ إلَّا الذى ادُّعِىَ عليه، حَلَف وحدَه خَمْسين يَمِينًا. ولَنا، ¬

(¬1) في الأصل: «العداوة»، وفى تش: «العمد». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، تش: «فتسقط».

4367 - مسألة: (فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال)

وَإِنْ لَمْ يَحْلِف الْمُدَّعُونَ وَلَم يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَدَاهُ الإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ هذه أيْمانٌ يُبْرِئُ بها كلُّ واحدٍ نفْسَه [مِن القتلِ] (¬1)، فكان على كلِّ واحدٍ خَمْسون، كما لو ادُّعِىَ على كلِّ واحدٍ وحدَه قتيلٌ، ولأنَّه لا يُبْرِئَ المُدَّعَى عليه حالَ الاشْتِراكِ إلَّا ما يُبْرِئُه حالةَ الانْفِرادِ، ولأَنَّ كلَّ واحدٍ منهم يَحْلِفُ على غيرِ ما حَلَف عليه صاحِبُه، بخلافِ المُدَّعِين، فإنَّ أيْمانَهم على شئٍ واحدٍ، فلا يَلْزَمُ مِن تَلْفِيقِها تَلْفِيقُ ما يخْتلِفُ مدلُولُه ومقْصُودُه. 4367 - مسألة: (فإن لم يَحْلِفِ المُدَّعُون، ولم يَرْضَوْا بيَمِينِ المُدَّعَى عليه، فَدَاه الإِمَامُ مِن بَيْتِ المالِ) يعنى أدَّى دِيَتَه؛ لقَضِيَّةِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَهْلٍ حينَ قُتِلَ بخَيْبَرَ، فأبَى الأنْصارُ أن يَحْلِفُوا، وقالوا: كيف نَقْبَلُ أيْمانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فوَداه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِن عندِه، كَرَاهِيَةَ أن يُطَلَّ (¬2) دَمُه. فإن تَعَذَّرَ فِداؤُه مِن بيتِ المالِ، لم يجبْ على المُدَّعَى عليهم شئٌ؛ لأَنَّ الذى تَوَجَّهَ (¬3) عليهم اليَمِينُ، وقد امْتَنَعَ مُسْتَحِقُّوها مِن اسْتِيفائِها، فلم يجبْ لهم شئٌ، كدَعْوَى المالِ. ¬

(¬1) في الأصل: «عن القتيل». (¬2) في الأصل: «يبطل». (¬3) في الأصل: «توجب».

4368 - مسألة: (وإن طلبو أيمانهم فنكلوا، لم يحبسوا. وهل تلزمهم الدية أو تكون فى بيت المال؟ على روايتين)

وَإِنْ طَلَبُوا أَيْمَانَهُم فَنَكَلُوا، لَمْ يُحْبَسُوا. وَهَلْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ أَوْ تَكُونُ فِى بَيْتِ الْمَالِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4368 - مسألة: (وإن طَلَبو أيمانَهُم فنَكَلُوا، لم يُحْبَسوا. وهل تَلْزَمُهم الدِّيَةُ أو تَكُونُ في بَيْتِ المالِ؟ على رِوايَتَيْن) إذا امتَنَعَ المُدَّعَى عليهم مِن اليَمِينِ، لم يحبَسُوا حتى يَحْلِفُوا. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّهم يُحبَسُون حتى يَحلِفُوا. وهو قولُ أبى حنيفةَ. ولَنا، أنَّها يَمِين مشْروعةٌ في حَقِّ المُدَّعَى عليه، فلم يُحْبَس عليها، كسائرِ الأيْمانِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يجبُ القِصاصُ بالنُّكُولِ؛ لأنَّه حُجَّةٌ ضعيفةٌ، فلا يُشاطُ (¬1) بها الدَّمُ، كالشَّاهدِ واليَمِينِ. قال القاضى: ويَدِيه الإِمامُ مِن بيتِ المالِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وروَى عنه حربُ بنُ إسماعيلَ، أنَّ الدِّيَةَ تجبُ عليهم. وهذا هو الصَّحِيحُ، وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ؛ لأنَّه حكمٌ يثْبُتُ بالنُّكُولِ، فيثْبُتُ في حَقِّهِم ههُنا، كسائرِ الدَّعاوَى، ولأَنَّ وُجُوبَها في بيتِ المالِ يُفْضِى إلى إهْدارِ الدَّم، وإسْقاطِ حَقِّ المُدَّعِين، مع إمكانِ جَبْرِه، فلم يَجُزْ، كما في سائرِ الدّعاوَى، وههُنا لو لم يَجِبْ على المُدَّعَى عليه مالٌ بنُكُولِه، ولم يُجْبَر على اليَمِينِ، [لخَلَا مِن وُجُوبِ شئٍ عليه] (¬2) ¬

(¬1) في م: «يناط». (¬2) في الأصل: «بخلاف من وجب عليه شئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكُلِّيَّةِ. وقال أصْحابُ الشافعىِّ: إذا نَكَل المُدَّعَى عليهم رُدَّتِ الأيْمانُ على المُدَّعِين، إن قُلْنا: مُوجَبُها المالُ. فإن حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا، وإن نَكَلُوا فلا شئَ لهم، وإن قُلْنا: مُوجَبُها القِصاصُ. فهل تُرَدُّ على المُدَّعِين؟ فيه قولان. وهذا القولُ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ اليَمِينَ إنَّما شُرِعَتْ في حَقِّ المُدَّعَى عليه إذا نَكَل عنها المُدَّعِى، فلا تُرَدُّ عليه، كما لا تُرَدُّ على المُدَّعَى عليه إذا نَكَل المُدَّعِى عنها بعدَ رَدِّها عليه في سائرِ الدَّعاوَى، ولأنَّها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينٌ مَرْدُودةٌ على أحَدِ المُتَداعِيَيْن، فلا تُرَدُّ على مَن رَدَّها، كدَعْوَى المالِ.

كتاب الحدود

كِتَابُ الْحُدُودِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابُ الحُدُودِ 4369 - مسألة: (ولَا يَجِبُ الحَدُّ إلَّا على بالِغٍ عاقِلٍ عالِمٍ بالتَّحْرِيمِ) [أمَّا البُلوغُ والعَقلُ، فلا خِلافَ في اعْتِبارِهما في وُجوبِ الحَدِّ، وصِحّةِ الإِقْرار] (¬1). [ولا يجبُ على صَبِىٍّ ولا مَجْنونٍ] (¬2)؛ [لأنَّهما قد رُفِعَ القَلَمُ عنهما] (1)؛ [لقَوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): «رُفِعَ القَلَمُ [عَنْ ثَلَاثٍ] (¬4)؛ عَن الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتُّى يُفِيقَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ». رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ (¬5)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وفى حديثِ ابنِ عباسٍ، في قِصَّةِ ماعِزٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سأل قَوْمَه: «أَمَجْنُونٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «قال عليه الصلاة والسلام». (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 3/ 15. وانظر طرق الحديث في الإرواء 2/ 4 - 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هُوَ؟». قالوا: ليس به بَأْسٌ (¬1). ورُوِىَ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له حينَ أقَرَّ عندَه: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» (¬2). ورَوَى أبو داودَ (¬3) بإسْنادِه، قال (¬4): أُتِى عمرُ بمَجْنُونَةٍ قد زَنَتْ، فاسْتَشَارَ فيها أُناسًا، فأمَرَ بها عمرُ أن تُرْجَمَ، فمَرَّ بها علىُّ بنُ أبى طالبٍ، فقال: ما شأْنُ هذه؟ قالوا: مَجْنونَةُ آلِ فُلانٍ زَنَتْ، فأمَرَ بها عمرُ أن تُرْجَمَ. فقال: ارْجِعُوا بها. ثم أتَاه، فقال: يا أمِيرَ المُؤْمِنِين، أمَا عَلِمْتَ أنَّ القَلَمَ قد رُفِعَ عن ثلاثةٍ؛ عن المجْنونِ حتى يَبْرَأَ، وعن النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ، وعن الصَّبِىِّ حتى يَعْقِلَ؟ قال: بَلَى. قال: فما بالُ هذه؟ قال: لا شئَ. قال: فأَرْسِلْها. فأَرْسَلَها. قال: فجعَلَ عمرُ يُكَبِّرُ. ولأنَّه إذا سَقَط عنه التَّكْلِيفُ في العِباداتِ، والإِثْمُ في المعَاصِى، فالحَدُّ المَبْنِىُّ على الدَّرْءِ بالشُّبُهاتِ أوْلَى بالإِسْقاطِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 457. (¬2) من حديث أبى هريرة أخرجه البخارى، في: باب سؤال المقر هل أحصنت، من كتاب الحدود، وباب من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد. . .، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 8/ 207، 9/ 85، 86. ومسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1318. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 453. من حديث جابر بن عبد اللَّه أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 459. والترمذى، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 202. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 323. (¬3) في: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 452. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 140، 154، 155. (¬4) سقط من: الأصل.

4370 - مسألة: ولا يجب الحد إلا على عالم بالتحريم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَجِبُ على النَّائِمِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ، فلو زَنَى بنائِمَةٍ، أو اسْتَدْخَلَتِ المرأةُ (¬1) ذَكَرَ نائِمٍ، أو (¬2) وُجدَ منه الزِّنَى حالَ نَوْمِه، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه مَرْفُوعٌ عنه القَلَمُ. ولو أقَرَّ (¬3) حالَ نَوْمِه، لم يُلْتَفَتْ إلى إقْرارِه، لأَنَّ كلامَه ليس بمُعْتَبَرٍ، ولا يَدُلُّ على صِحَّةِ مَدْلُولِه. فصل: فإنْ كان يُجَنُّ مَرِّةً ويُفِيقُ أُخْرَى، فأقَرَّ في إفاقَتِه أنَّه زَنَى وهو مُفِيقٌ، أو قامَتْ عليه بَيِّنَةٌ أنَّه زَنى في إفاقَتِه، فعليه الحَدُّ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأَنَّ الزِّنَى المُوجِبَ للحَدِّ وُجِدَ منه [في حالِ] (¬4) إفاقَتِه وهو مُكَلَّفٌ، والقَلَمُ غيرُ مَرْفُوعٍ عنه، وإقْرارُه وُجِدَ في حالِ اعْتِبارِ كَلامِه. فإن أقَرَّ في إفاقَتِه، ولم يُضِفْه إلى حالٍ، أو شَهِدَت عليه البَيِّنَةُ بالزِّنَى، ولم تُضِفْه إلى حالِ إفاقَتِه، لم يَجِبِ الحَدُّ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه وُجِدَ في حالِ جُنُونِه، فلم يَجِبِ الحَدُّ مع الاحْتِمالِ. وقد رَوَى أبو داودَ، في حديثِ المجْنونَةِ التى أُتِى بها عُمَرُ، أنَّ عَليًّا قال: هذه مَعْتُوهَةُ بنى فلانٍ، لعَلَّ الذى أتاها أتاها في بَلائِها. فقال عمرُ: لا أدْرِى. فقال علىٌّ: وأنا لا أدْرِى. 4370 - مسألة: ولا يَجِبُ الحَدُّ إلَّا على عالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ. قال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إن». (¬3) سقط من: الأصل، تش. (¬4) في الأصل، تش: «جال».

4371 - مسألة: (ولا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه)

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ، وعلىٌّ، وعُثمانُ: لا حَدَّ إلَّا على مَن عَلِمَه (¬1). وبهذا قال عامَّةُ أهلٍ العلمِ. وقد رَوَى سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، قال: ذُكِرَ الزِّنَى بالشَّامِ، فقال رَجُلٌ: زَنَيْتُ البارِحَةَ. قالوا: ما تقولُ؟ قال: ما عَلِمْتُ أنَّ اللَّه حَرَّمَه. فكُتِبَ بها إلى عُمَرَ، فكَتَب: إن كان يَعْلَمُ أنَّ اللَّه حَرَّمَه فحُدُّوه، وإن لم يَكُنْ عَلِمَ فأعْلِمُوه، فإن عادَ فارْجُموه (¬2). وسَواءٌ جَهِلَ تَحْريمَ الزِّنَى أو تحْريمَ عينِ المرأةِ، مثلَ أن تُزَفَّ (¬3) إليه غيرُ (¬4) امرأتِه، فيَظُنَّها زَوْجَتَه، أو تُدْفَعَ إليه جارِيةٌ، فيَظُنَّها جارِيَتَه، فيَطَأَها، فلا حَدَّ عليه. 4371 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أن يُقِيمَ الحَدَّ إلَّا الإِمامُ أو نائِبُه) لأنَّه حَقٌّ للَّه تعالى، ويَفْتَقِرُ إلى الاجْتِهادِ، ولا يُؤْمَنُ مِن اسْتِيفائِه الحَيْفُ، ¬

(¬1) انظر لأثر عمر وعثمان ما أخرجه الإمام الشافعى، في: الباب الأول في الزنى، من كتاب الحدود. ترتيب المسند 2/ 77، 78. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 402 - 405. والبيهقى، في: باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 238، 239. ولأثر على ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 405. وهو ضعيف عن عمر وعثمان. انظر الإرواء 7/ 342. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 403. ومن طريق بكر بن عبد اللَّه عن عمر أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 239. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 61، الإرواء 7/ 343. (¬3) في الأصل، تش: «تعرف». (¬4) سقط من: الأصل، تش.

4372 - مسألة: (إلا السيد، فإن له إقامة الحد بالجلد خاصة على رقيقه القن. وهل له القتل فى الردة، والقطع فى السرقة؟ على روايتين)

إلَّا السَّيِّدَ، فَإِنَّ لَهُ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ خَاصَّةً عَلَى رَقِيقِهِ الْقِنِّ. وَهَلْ لَهُ الْقَتْلُ فِى الرِّدَّةِ، وَالْقَطْعُ فِى السَّرِقَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَب تَفْوِيضُه إلى نائبِ اللَّهِ تعالى في خَلْقِه، ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُقِيمُ الحَدَّ في حَياتِه، وخُلَفاؤُه بعدَه. ولا يَلْزَمُ حُضُورُ الإِمامِ إقامَتَه؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرأَةِ هذَا، فَإن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬1). وأمَرَ برَجْمِ ماعزٍ، ولم يَحْضُرْ. وأُتِىَ بسارِقٍ، فقال: «اذْهبُوا بِهِ (¬2) فَاقْطَعُوهُ» (¬3). وجميعُ الحُدُودِ في هذا سَواءٌ، حَدُّ القَذْفِ وغيرُه؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ فيه مِن (¬4) الحَيْفِ (¬5) والزِّيادَةِ على الواجِبِ، ويَفْتَقِرُ إلى الاجْتِهادِ، فأشْبَهَ سائِرَ الحُدُودِ. 4372 - مسألة: (إلَّا السَّيِّدَ، فإنَّ له إقامَةَ الحَدِّ بالجَلْدِ خاصَّةً على رَقِيقِه القِنِّ. وهل له القَتْلُ في الرِّدَّةِ، والقَطْعُ في السَّرِقَةِ؟ على رِوايَتَيْن) وجملةُ ذلك، أنَّ للسَّيِّدِ إقامَةَ الحَدِّ بالجَلْدِ على رَقِيقِه القِنِّ، في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه الحاكم، في: المستدرك 4/ 381. والدارقطنى، في: سننه 3/ 102. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 271. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «الجنف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولِ أكثرِ العُلَماءِ (¬1). رُوِى نحوُ ذلك عن علىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وأبى حُمَيْدٍ (¬2) وأبى أُسَيْدٍ (¬3) السَّاعِدِيَّيْن، وفاطمةَ بِنْتِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَلْقَمَةَ، والأسْوَدِ، والحسنِ، والزُّهْرِىِّ، وهُبَيْرَةَ بنِ يَرِيمَ (¬4)، وأبى مَيْسَرَةَ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال ابنُ أبى لَيْلَى: أدْرَكْتُ بَقايا الأنْصارِ يَجْلِدُونَ وَلائِدَهم في مَجالِسِهم الحُدودَ إذا زَنَوْا (¬5). وعن الحسنِ بنِ محمدٍ، أنَّ فاطمةَ حَدَّتْ جارِيَةً لها زَنَتْ (¬6). وعن إبراهيمَ، أنَّ عَلْقَمَةَ والأسْوَدَ كانا يُقِيمانِ الحُدُودَ على مَنْ زَنَى مِن خَدَمِ عشائِرِهم (¬7). روَى ذلك سعيدٌ، في «سُنَنِهِ». وقال أصحابُ الرَّأْى: ليس له ذلك؛ لأَنَّ الحُدُودَ إلى ¬

(¬1) في الأصل: «أهل العلم». (¬2) أبو حميد الساعدى الصحابى الأنصارى المدنى اسمه عبد الرحمن بن سعد، وقيل غير ذلك، من فقهاء الصحابة، شهد أحدا ومابعده، توفى سنة ستين، وقيل: سنة بضع وخمسين. الاستيعاب 4/ 1633، سير أعلام النبلاء 2/ 481. (¬3) مالك بن ربيعة بن البَدَن، أبو أسيد الساعدى، من كبراء الأنصار، شهد بدرا والمشاهد، ذهب بصره في أواخر عمره، توفى سنة أربعين. الاستيعاب 3/ 1351، 1352، سير أعلام النبلاء 2/ 538 - 540. (¬4) في الأصل، تش، ر 3: «مريم»، وفى م: «وهبيرة والحسن بن أبى مريم». وهو هبيرة بن يريم الشيبانى الكوفى أبو الحارث، روى عن على وطلحة، وعنه أبو إسحاق السبيعى وأبو فاختة، توفى سنة ست وستين. تهذيب التهذيب 11/ 23، 24. (¬5) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 245. (¬6) أخرجه الإمام الشافعى، انظر: ترتيب المسند 2/ 79. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 394. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 245. (¬7) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 394.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّلْطانِ، ولأَنَّ مَن لا يَمْلِكُ إقامَةَ [الحَدِّ على] (¬1) الحُرِّ لا يَمْلِكُهُ على العَبْدِ، كالصَّبِىِّ، ولأَنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ إلَّا ببيِّنَةٍ أو إقْرارٍ، وتُعْتَبَرُ لذلك شُرُوطٌ؛ مِن عَدالَةِ الشُّهُودِ، ومَجِيئِهم مُجْتَمِعِينَ، أو في مَجْلِسٍ واحدٍ، وذِكْرِ حَقِيقَةِ الزِّنى، وغيرِ ذلك مِن الشُّرُوطِ التى تَحْتاجُ إلى فَقِيهٍ يَعْرِفُها، ويَعْرِفُ الخِلافَ فيها، [والصَّوابَ منها] (¬2)، وكذلك الإقْرارُ، فيَنْبَغِى أن يُفَوَّضَ ذلك إلى الإمام أو نائِبِه، كحَدِّ الأحْرارِ، ولأنَّه حَدُّ هو حَقٌّ للَّهِ تعالى، فَيُفَوَّضُ إلى الإمام، كالقَتْلِ والقَطْعِ. ولَنا، ما روَى سعيدٌ (¬3)، ثَنا سُفيانُ، عنَ أيُّوبَ بنِ موسى، عن سعيدِ بنِ أبى (¬4) سعيدٍ، عن أبى هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أحَدِكُمْ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) وأخرجه البخارى، في: باب بيع العبد الزانى، من كتاب البيوع، وفى: باب إذا زنت الأمة، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 3/ 93، 8/ 213. ومسلم، في: باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1328، 1329. وأبو داود، في: باب في الأمة تزنى ولم تحصن، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 470. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 249، 376، 422، 494. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَتَبَيَّنَ زِناهَا، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ (¬1) بِهَا، فإنْ عَادَتْ، فَلْيَجْلدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا، فإنْ عَادَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلَا يُثَرِّبْ بِها، فإنْ عَادَتِ الرَّابِعَةَ، فَلْيَجْلِدْهَا، وليَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ (¬2)». وقال: حدَّثَنا أبو الأحْوَصِ، ثَنا عبدُ الأعْلَى، عن أبى جَمِيلَةَ، [عن علىٍّ] (¬3)، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «وأَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (¬4). ورَواه الدَّارَقُطْنِىُّ (¬5). ولأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ أمَتِه وتَزْوِيجَها، فَمَلَكَ إقامَةَ ¬

(¬1) ثَرَّبَ فلانا وعليه: لامه وعيره بذنبه. (¬2) ضفير: حبل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) وأخرجه أبو داود، في: باب في إقامة الحد على المريض، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 471. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 95، 145. (¬5) في: سننه 3/ 158.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدِّ عليها، كالسُّلْطانِ. وبهذا فارَقَ الصَّبِىَّ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّما يَمْلِكُ إقامَةَ (¬1) الحَدِّ بشُرُوطٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدُها، أن يكونَ جَلْدًا (¬2)، كحَدِّ الزِّنَى، والشُّرْبِ، وحَدِّ القَذْفِ، فأمَّا القَتْلُ في الرِّدَّةِ، والقَطْعُ في السَّرِقَةِ، فلا يَمْلِكُهما (¬3) إلَّا الإِمامُ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ. وفيهما (¬4) رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُهُما. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعىِّ؛ لعُموم قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ». ورُوِىَ أنَّ ابنَ عُمَرَ قَطَع عبدًا سَرَقَ (¬5). وكذلك عائشةُ (¬6). وعن حَفْصَةَ أنَّها قَتَلَتْ أمَةً لها سَحَرَتْها (¬7). ولأَنَّ ذلك حَدٌّ، أَشْبَه الجَلْدَ. ولَنا، أنَّ الأَصْلَ تَفْوِيضُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش: «حدا». (¬3) في الأصل: «يملكها». (¬4) في م: «فيها». (¬5) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في قطع الآبق والسارق. من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 833. والإمام الشافعى، انظر: الباب الثانى في حد السرقة. ترتيب المسند 2/ 83. وعبد الرزاق، في: المصنف 10/ 239. (¬6) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما يجب فيه القطع، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 832، 833. والإمام الشافعى في: الباب السابق. ترتيب المسند 2/ 84، 85. (¬7) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الغيلة والسحر، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 871. وعبد الرزاق، في: المصنف 10/ 180، 181. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 416، 10/ 136. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 136.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدِّ إلى الإِمامِ؛ لأنَّه حَقٌّ للَّهِ تعالى، فَيُفَوَّضُ إلى نائِبِه، كما في حَقِّ الأحْرارِ، ولِما ذَكَرَه أصحابُ أبى حنيفةَ، وإنَّما فُوِّضَ إلى السَّيِّدِ الجَلْدُ خاصَّةً؛ لأنَّه تأْدِيبٌ (¬1)، والسَّيِّدُ يَمْلِكُ تأديبَ عبدِه وضَرْبَه على الذَّنْبِ، وهذا مِن جِنْسِه، وإنَّما افْتَرَقا في أنَّ هذا مُقَدَّرٌ، والتأديبُ غيرُ مُقَدَّرٍ، وهذا لا أثَرَ له في مَنْعِ السَّيِّدِ منه، بخِلافِ القَطْعِ والقَتْلِ، فإنَّهما إتْلافٌ لجُمْلَتِه أو بعضِه الصَّحيحِ، ولا يَمْلِكُ السَّيِّدُ هذا مِن عبدِه، وِلا شيئًا مِن جِنْسِه، والخبرُ الوارِدُ في حَدِّ السَّيِّدِ عبدَه، إنَّما جاء في الزِّنَى خاصَّةً، وإنَّما قِسْنا عليه ما يُشْبِهُه مِن الجَلْدِ. وقولُه: «أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ». إنَّما جاء في سِياقِ الحَدِّ في الزِّنَى، فإنَّ أوَّلَ الحديثِ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: أُخْبِرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمَةٍ لهم (¬2) فَجَرَتْ، فأرْسَلَنِى إليها، فقال: «اجْلدْهَا الحَدَّ». قال: فانطلَقْتُ فوَجَدْتُها لم تَجِفَّ مِن دَمِها، فرَجَعْتُ إليه، فقال: «أَفَرَغْتَ؟» فقلتُ: وَجَدْتُها لم تَجِفَّ مِن دَمِها. قال: «إذا جَفَّتْ مِنْ دَمِهَا، فَاجْلدْهَا الحَدَّ، وَأَقيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ» (¬3). فالظَّاهِرُ أنَّه إنَّما أرادَ ذلك الحَدَّ وشِبْهَه. وأمَّا فِعْلُ حَفْصَةَ، فقد أنْكَرَه عُثمانُ عليها، وشَقَّ عليه. ¬

(¬1) في تش: «نائب». (¬2) في م: «له». (¬3) بنحوه أخرجه الطحاوى عن أبى حميد عن على، في: باب حد البكر في الزنى، من كتاب الحدود. شرح معانى الآثار 3/ 136. =

4373 - مسألة: (ولا)

وَلَا يَمْلِكُ إِقَامَتَهُ عَلَى مُكَاتَبِهِ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، وَلَا أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وما رُوِى عن ابنِ عمرَ، فلا نَعْلَمُ ثُبُوتَه عنه. 4373 - مسألة: (ولا) يَمْلِكُ إقامَتَه (على مَن بعضُه حُرٌّ، ولا أمَتِه المُزَوَّجَةِ) وقال مالكٌ، والشافعىُّ: [يَمْلِكُ السَّيِّدُ] (¬1) إقامَةَ الحَدِّ على الأمَةِ المُزَوَّجَةِ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّه مُخْتَصٌّ بمِلْكِهَا، وإنَّما يَمْلِكُ الزَّوْجُ بعضَ نَفْعِها، فأشْبَهَتِ المُسْتَأْجَرَةَ. ولَنا، ما رُوِى عن ابنِ عمرَ، أنَّه قال: إذا كانتِ الأمَةُ ذاتَ زَوجٍ، رُفِعَتْ إلى السُّلْطانِ، وإن لم يَكُنْ لها زَوْجٌ، جلَدَها سَيِّدُها نِصْفَ ما على المُحْصَنَ (¬2). ولا نَعْرِفُ له مُخالِفًا في عَصْرِه. ولأَنَّ نَفْعَها مملوكٌ لغيرِه مُطْلَقًا، أشْبَهَتِ ¬

= ومن حديث عبد الرحمن السلمى موقوفا على علىٍّ بلفظ: «يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد. . .». أخرجه مسلم، في: باب تأخير الحد على النفساء، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1330. والترمذى، في: باب ما جاء في إقامة الحد على الإماء، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 220. وانظر الكلام على الحديث في: الإرواء 7/ 359، 360. (¬1) في الأصل: «للسيد». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 395.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُشْتَرَكَةَ، ولأَنَّ المُشْتَرَكَ إنَّما مُنِعَ مِن إقامَةِ الحَدِّ عليه؛ لأنَّه يُقِيمُه في غيرِ مِلْكِه، لأَنَّ الجُزْءَ الحُرَّ أو المملوكَ لغيرِه، ليس بمَمْلوكٍ له، وهذا يُشْبِهُه؛ لأَنَّ مَحَلَّ الحَدِّ هو (¬1) مَحَلُّ اسْتِمْتاعِ الزَّوْجِ، وهو بَدَنُها، فلا يَمْلِكُه، والخبرُ مخْصوصٌ بالمُشْتَرَكِ، فنَقِيسُ عليه، والمُسْتأْجَرَةُ إجارَتُها مُؤَقَّتَةٌ تَنْقَضِى. ويَحْتَمِلُ أن نقولَ: لا يَمْلِكُ إقامَةَ الحَدِّ عليها في حالِ إجارَتها؛ لأنَّه رُبَّما أفْضَى إلى تَفْوِيتِ حَقِّ المُسْتأْجِرِ، وكذلك الأمَةُ المَرْهُونَةُ، يُخَرَّجُ فيها وَجْهانِ. فصل: ويُشْتَرَطُ أن يكونَ السَّيِّدُ بالِغًا عاقِلًا عالِمًا بالحُدُودِ وكَيْفِيَّةِ إقامَتِها؛ لأَنَّ الصَّبِىَّ والمَجْنُونَ ليسَا مِن أهلِ الولاياتِ، والجاهلَ بالحَدِّ لا يُمْكِنُه إقامَتُه على الوَجْهِ الشَّرْعِىِّ، فلا يُفوَّضُ إليه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش.

4374 - مسألة: (وإن كان السيد فاسقا أو امرأة، فله إقامته فى ظاهر كلامه. ويحتمل أن لا يملكه)

وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ فَاسِقًا أَوْ امرأَةً، فَلَهُ إِقَامَتُهُ فِى ظَاهِرِ كَلَامِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4374 - مسألة: (وإن كان السَّيِّدُ فاسِقًا أو امرأةً، فله إقامَتُه في ظاهِرِ كلامِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَه) في الفاسقِ وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا يَمْلِكُه؛ لأَنَّ هذه وِلايَةٌ، فنَفاها الفِسْقُ، كوِلايةِ التَّزْويجِ. والثانى، يَمْلِكُه؛ لأنَّها وِلايةٌ اسْتَفادَها بالمِلْكِ، فلم يُنَافِها الفِسْقُ، كبَيْعِ العبدِ. وفى المرأةِ أيضًا وَجْهانِ؛ أحدُهما، لا تَملِكُه؛ لأنَّها ليست مِن أهلِ الوِلاياتِ. والثانى، تَمْلِكُهُ؛ لأَنَّ فاطِمَةَ جَلَدَتْ أمَةً لها، وعائِشَةَ قَطَعَتْ أمَةً لَها سَرَقَتْ، وحَفْصَةَ قَتَلَتْ أمَةً لَها سَحَرَتْها. ولأنَّها مالِكَة تامَّةُ المِلْكِ مِن أهلِ التَّصَرُّفاتِ، أشْبهتِ الرجلَ. وفيه وَجْهٌ ثالث، أنَّ الحَدَّ يُفَوَّضُ إلى وَلِيِّها؛ لأنَّه يُزَوِّجُ أمَتَها.

4375 - مسألة: (ولا يملكه المكاتب)

وَلَا يملِكُهُ الْمُكَاتَبُ. وَيَحتَمِلُ أَنْ يملِكَهُ. وَسَوَاءٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4375 - مسألة: (ولا يَملِكُه المُكاتَبُ) لأنَّه ليس مِن أَهْلِ الوِلايةِ. وفيه وَجْهٌ أنَّه يَملِكُه؛ لأنَّه يُسْتَفادُ بالمِلْكِ، فأَشْبَهَ سائِرَ تَصَرُّفاتِه. 4376 - مسألة: (وسَواء ثَبَت ببيِّنَةٍ أو إقْرارٍ) إذا ثَبَتَ باعْتِرافٍ، فللسَّيِّدِ إقامَتُه، إن كان يَعتَرِف الاعتِرافَ الذى يَثْبُتُ به الحَدُّ وشُرُوطُه، وإن ثَبَت ببَيِّنَةٍ، اعتُبِرَ أن تَثْبُتَ عندَ الحاكمِ؛ لأَنَّ البَيِّنَةَ تَحْتاجُ إلى البَحْثِ

4377 - مسألة: (وإن ثبت بعلمه، فله إقامته. نص عليه.

وَإِنْ ثَبَتَ بِعِلْمِهِ، فَلَهُ إِقَامَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَملِكَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عن العَدالةِ، ومَعْرفَةِ (¬1) شُرُوطِ سَماعِها ولَفْظِها، ولا يقومُ بذلك إلَّا الحاكِمُ. وقال القاضى يعقوبُ (¬2): إن كان السَّيِّدُ يُحْسِنُ سَماعَ البَيِّنَةِ، ويَعرِفُ شُرُوطَ العَدالَةِ، جازَ أن يَسْمَعَها، ويُقِيمَ الحَدَّ بها، كما يُقِيمُه بالإِقْرارِ. وهذا ظاهِرُ نَصِّ الشافعىِّ؛ لأنَّها أحَدُ ما يَثْبُتُ به الحَدُّ، فأشْبَهتِ الإِقْرارَ. 4377 - مسألة: (وإن ثَبَت بعِلْمِه، فله إقامَتُه. نَصَّ عليه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) يعقوب بن إبراهبم بن سطور البَرْزبينى -قرية من قرى عكبرا- أبو على القاضى، صنف كتبا في الأصول والفروع، قرأ الفقه وبرع فيه، ولى القضاء بباب الأزج، كان ذا معرفة ثاقبة بأحكام القضاء وإنفاذ السجلات، كان متشددا في السنة، متعففا في القضاء، ومات وهو على القضاء بباب الأزج في شوال من سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان عمره سبعا وسبعين سنة. طبقات الحنابلة 2/ 245 - 247.

4378 - مسألة: (ولا يقيم الإمام الحد بعلمه)

كَالإِمَامِ. وَلَا يُقِيمُ الإِمَامُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أن لا يملِكَه، كالإِمامِ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في ذلك، فرُوِىَ عنه أن السَّيِّدَ لا يُقِيمُه بعِلْمِه. وهذا قولُ مالكٍ؛ لأَنَّ الإِمامَ لا يُقِيمُه بعِلْمِه، فالسَّيِّدُ أوْلَى، ولأَنَّ وِلايةَ الإِمامِ للحَدِّ أقْوَى مِن وِلايَةِ السَّيِّدِ؛ لكَوْنِها مُتَّفَقًا عليها، وثابتةً بالإِجْماعِ، فإذا لم يَثْبُتِ الحَدُّ في حَقِّه بالعِلْمِ، فههُنا أوْلَى. وعن أحمدَ رِوايَة أُخْرَى، أنَّه يُقِيمُه بعِلْمِه؛ لأنَّه قد ثَبَت عندَه، فمَلَكَ إقامَتَه، كما لو أقَرَّ به، ولأنَّه يملِكُ تأْدِيبَ عبدِه بعِلْمِه، وهذا يَجْرِى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، ويفارِقُ الحاكِمَ؛ لأَنَّ الحاكِمَ مُتَّهَمٌ لا يَملِكُ مَحلَّ إقامَتِه، وهذا بخِلافِه. وهذا ظاهِرُ المذْهبِ. 4378 - مسألة: (ولا يُقِيمُ الإِمامُ الحَدَّ بعِلْمِه) هذا ظاهِرُ المذهبِ. رُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال مالكٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وهو أحَدُ قولَىِ الشافعىِّ. وقال في الآخَرِ:

4379 - مسألة: (ولا تقام الحدود فى المساجد)

وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِى الْمَسَاجِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له إقامَتُه بعِلْمِه. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، نحوُ ذلك؛ لأنَّه إذا جازَتْ له إقامَتُه بالبَيِّنَةِ والاعتِرافِ الذى لا يُفِيدُ [إلَّا الظنَّ] (¬1)، فبما (¬2) يُفِيدُ العلمَ أوْلَى. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬3). وقال سُبحانَه: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬4). وقال عُمرُ: أو كان الحَبَلُ أو الاعتِرافُ (¬5). ولأنَّه لا يجوزُ له أن يَتَكَلَّمَ به، ولو رَماه بما عَلِمَه منه لَكانَ قاذِفًا، يَلْزَمُه حَدُّ القَذْفِ، فلم تَجُزْ إقامَةُ الحَدِّ به (¬6)، كقولِ (¬7) غيرِه، ولأنَّه إذا حَرُمَ النُّطْقُ به، فالعملُ به أوْلَى. 4379 - مسألة: (ولا تُقامُ الحُدُودُ في المساجِدِ) لِما روَى حَكِيمُ ابنُ حِزام، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهى أن يُسْتَقادَ في المسجدِ، وأن تُنْشَدَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في تش: «ففيما». (¬3) سورة النساء 15. (¬4) سورة النور 13. (¬5) تقدم تخريجه في 23/ 158. (¬6) سقط من: م. (¬7) في م: «لقول».

4380 - مسألة: (ويضرب الرجل قائما)

وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِى الْحَدِّ قَائِمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه الأشْعارُ، وأن تُقامَ فيه الحُدُودُ (¬1). ولأنَّه لا يُؤْمَنُ أن يَحْدُثَ مِن المَحْدودِ شئٌ يَتَلَوَّثُ به المسجدُ. فإن أُقِيمَ فيه، سَقَط الفرضُ؛ لحُصُولِ المقْصُودِ وهو الزَّجْرُ، ولأَنَّ المُرتَكِبَ للنَّهْى غيرُ المَحْدُودِ، فلم يَمْنَعْ ذلك سُقُوطَ الفَرضِ عنه، كما لو اقْتَصَّ في المسْجدِ. 4380 - مسألة: (ويُضْرَبُ الرجلُ قائِمًا) [وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ] (¬2). وقال مالكٍ: يُضْرَبُ جالِسًا. قال أبو الخَطَّاب: وقد روَى حَنْبَلٌ أنّه يُضْرَبُ قاعِدًا؛ لأنَّ اللَّه تعالى لم يَأْمُرْ بالقِيام، ولأَنّه مَجْلُودٌ في حَدٍّ، أشْبَهَ المرأةَ. ولَنا، قولُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لكلِّ مَوْضِعٍ مِن الجَسَدِ (¬3) حَظٌّ إلَّا الوَجْه والفَرْجَ. وقال للجَلَّادِ: اضْرِبْ، وأوْجِعْ، واتَّقِ الرَّأْسَ والوَجْهَ (¬4). ولأنَّ قِيامَه وَسِيلةٌ إلى إعْطاءِ كلِّ عُضْوٍ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إقامة الحد في المسجد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 476. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 434. والحاكم، في: المستدرك 4/ 378. والدارقطنى، في: سننه 3/ 85، 86. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 328. وحسنه في: الإرواء 7/ 361 - 363. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «الحد». (¬4) أخرج نحوهما عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 370. وابن أبى شيبة، في: المصنف 10/ 49. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 327. وضعف إسناده في الإرواء 7/ 365.

بِسَوْطٍ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلَقٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَظَّه مِن الضَّرْبِ. وقولُه: إنَّ اللَّه لم يَأْمُرْ بالقِيامِ. قُلْنا: ولم يَأْمُرْ بالجُلُوسِ، ولم يَذْكُرِ الكيْفِيَّةَ، فعَلمناها مِن دَلِيلٍ آخَرَ، ولا يَصِحُّ قِياسُ الرجُلِ على المرأةِ في هذا؛ لأَنَّ المرأةَ يُقْصَدُ سَتْرُها، ويُخْشَى هَتْكُها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُضْرَبُ بسَوطٍ. وحُكِىَ عن بعضِهم أن حَدَّ الشُّربِ يُقامُ بالأيْدِى، والنِّعالِ، وأطْرافِ الثِّيابِ؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتِىَ برجلٍ قد (¬1) شَرِبَ، فقال: «اضْرِبُوهُ». قال أبو هُرَيْرَةَ: فمِنّا الضَّارِبُ بيَدِه، والضَّارِبُ بنَعْلِه، والضَّارِبُ بثَوْبِه. رَواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذا شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدوهُ» (¬3). والجَلدُ إنَّما يُفْهمُ مِن إطْلاقِه الضربُ بالسَّوْطِ، والخُلَفاءُ الرّاشِدون ضَرَبوا فيه بالسِّياطِ، وكذلك غيرُهم، فصار إجْماعًا، ولأنَّه جَلْدٌ في حَدٍّ، فكان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب في الحد في الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 472. كما أخرجه البخارى، في: باب الضرب بالجريد والنعال، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 196. والإمام أحمد، في: المسند: 2/ 300. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب إذا تتابع في شرب الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 474. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 519، 4/ 96، 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسَّوْطِ كغيرِه. فأمَّا حديثُ أبى هُرَيْرَةَ، فكان في بَدْءِ الإِسلامِ، ثم جَلَد النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واسْتَقَرَّتِ الأمُورُ، فقد صَحَّ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَلَد أرْبَعِين، وجَلَد أبو بكرٍ أربعِين، وجَلَد عمر ثمانين (¬1). وفى حديثِ عمرَ (¬2) قال: أئْتُونِى بسَوْطٍ. فجاءَة أسْلَمُ مَوْلاه بسَوْطٍ دَقِيقٍ، فأخذَه عمرُ، فمَسَحَه بيَدِه، ثم قال لأسْلَمَ: ائْتِنِى بسَوْطٍ غيرِ هذا. فأتاه به تامًّا، فأمرَ عُمرُ بقُدامَةَ (¬3) فجُلِدَ (¬4) إذا ثَبَت هذا، فإنَّ السَّوْطَ يكون وَسَطًا لا جديدًا فيَجْرَحَ، ولا خَلَقًا فلا يُؤْلِمَ؛ لِما رُوِىَ أنَّ رجلًا اعتَرَفَ عندَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأُتِىَ بسَوْطٍ مكْسورٍ، فقال: «فَوْقَ هذا». فأتِىَ بسَوْطٍ جَدِيدٍ لم تُكْسَرْ ثَمَرتُه، فقال: «بَينَ هذَيْن». رَواه مالكٌ (¬5)، عن زيدِ بنِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب حد الخمر، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1331، 1332. وأبو داود، في: باب في الحد في الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 473. وابن ماجه، في: باب حد السكران، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 858. والدارمى، في: باب في حد الخمر، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 82، 140، 144، 145. (¬2) في النسخ: «ابن عمر». والتصويب من المصادر. (¬3) في الأصل: «فقدمه». وفى تش: «بضربه». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب من حد من أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأشربة. المصنف 9/ 240 - 242. وابن أبى شيبة، في: باب من قاء الخمر، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 39. والبيهقى، في: باب من وجد منه ريح شراب. . .، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 316. (¬5) في: باب ما جاء في من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 825. كما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 326.

4381 - مسألة: (ولا يمد، ولا يربط، ولا يجرد)

وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُجَرَّدُ، بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَمِيصُ والْقَمِيصَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْلَمَ مُرْسَلًا. ورُوِىَ عن أبى هرَيْرَةَ مُسْنَدًا (¬1). وقد رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنه قال: ضَربٌ بينَ ضَرْبَيْن، وسَوْطٌ بينَ سَوْطَيْن (¬2). يَعْنى وسَطًا، لا شَدِيدًا فيَقْتُلَ، ولا ضَعِيفًا فلا يَرْدَعَ. 4381 - مسألة: (ولا يُمَدُّ، ولا يُرْبَطُ، ولا يُجَرَّدُ) قال ابنُ مسعودٍ: ليس في دِيينا مَدٌّ، ولا قَيْدٌ، ولا تَجْرِيدٌ (¬3). وجَلَد أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يُنْقَلْ عن أحدٍ منهم مَدٌّ ولِا قيدٌ ولا تَجْرِيدٌ (بل يكونُ عليه القَمِيصُ والقَميصانِ) وإن كان عليه فرْوٌ، أو جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ، نُزِعَتْ، لأنَّه لو تُرِكَ عليه ذلك لم يُبالِ بالضَّرْبِ. قال أحمدُ: لو تُرِكَتْ عليه ثِيابُ الشِّتاءِ ما بالَى بالضَّرْبِ. وقال مالكٌ: يُجَرَّدُ، لأَنَّ الأمْرَ بجَلْدِه يَقْتَضِى (¬4) مُباشَرَةَ جِسْمِه (¬5). ولَنا، قولُ ابنِ مسعودٍ، ولم نَعْلَمْ عن ¬

(¬1) عزاه ابن عبد البر في: التمهيد 5/ 322، والاستذكار 24/ 86، لابن وهب في موطئه بنحوه عن ابن عباس، وساقه بإسناده. (¬2) قال الحافظ في: تلخيص الحبير 4/ 78: لم أره عنه هكذا. وانظر: الإرواء 7/ 364. (¬3) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في صفة السوط والضرب، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 326. وهو ضعيف. الإرواء 7/ 364، 365. (¬4) سقط من: الأصل، تش. (¬5) في الأصل: «جنبه».

4382 - مسألة: (ولا يبالغ فى ضربه بحيث يشق الجلد)

وَلَا يُبَالَغُ فِى ضَرْبِهِ بِحَيْثُ يُشَقُّ الْجِلْدُ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أعضَائِهِ، إِلَّا الرّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وَمَوْضِعَ الْمَقْتَلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدٍ مِن الصَّحابةِ خِلافَه، واللَّهُ تعالى لم يَأمُرْ بتَجْرِيدِه، وإنَّما أمَر بجَلْدِه، ومَن جُلِدَ مِن فَوْقِ الثَّوْبِ فقد جُلِدَ. 4382 - مسألة: (ولا يُبالَغُ في ضَرْبِه بحيثُ يُشَقُّ الجِلْدُ) لأَنَّ المقْصودَ أدَبُه لا هَلاكُه (ويُفَرَّقُ الضَّرْبُ على أعْضائِه) وجَسَدِه، فيَأْخُذُ كلُّ عُضْوٍ منه حِصَّتَه، ويُكْثِرُ منه في مَواضِعِ اللَّحمِ، كالألْيَتَيْن والفَخِذَيْنِ، ويَتَّقِى المَقاتِلَ، وهى (¬1) الرَّأْسُ والوَجْهُ والفَرْجُ مِن الرجلِ والمرأةِ جميعًا؛ لقولِ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: لكلِّ مَوْضِعٍ مِن الجَسَدِ حَظٌّ، ¬

(¬1) في الأصل، م: «هو».

4383 - مسألة: (والمرأة كذلك)

وَالْمَرأةُ كَذَلِكَ، إِلَّا أنَّها تُضْرَبُ جَالِسَةً، وَتُشَدُّ عَلَيْها ثِيَابُهَا، وَتُمسَكُ يَدَاها لِئَلَّا تَنْكَشِفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا الوَجْهَ والفَرْجَ، ولأَنَّ ما عَدا الأعْضاءَ الثلاثةَ ليس بمَقْتَلٍ، فأَشْبَهَ الظَّهْرَ، ولأَنَّ الرَّأْسَ مَقْتَلٌ، فأَشْبَهَ الوَجْهَ، ولأنه رُبَّما أدَّى ضَرْبُه (5) في رَأْسِه إلى ذَهابِ سَمعِه أو بَصَرِه أو عَقْلِه، أو قَتْلِه، والمقصودُ أدَبُه لا قَتْلُه. 4383 - مسألة: (والمرأةُ كذلك) أى (¬1) فيما ذَكَرنا مِن صِفَةِ الجَلْدِ (إلَّا أنَّها تُضْرَبُ جالِسَةً، وتُشَدُّ عليها ثِيابُها، وتُمسَكُ يَداها، لئَلَّا تَنْكَشِفَ) (¬2). وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، ومالكٌ. وقال أبو ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في الأصل، تش، ر 3: «ولنا، قول على، رضى اللَّه عنه: لكل موضع من الجسد حظه إلا الوجه والفرج».

4384 - مسألة: (والجلد فى الزنى أشد الجلد، ثم جلد القذف، ثم الشرب، ثم التعزير)

وَالْجَلْدُ في الزِّنَى أَشَدُّ الْجَلْدِ، ثُمَّ جَلْدُ الْقَذْفِ، ثُمَّ الشُّرْبِ، ثُمَّ التَّعْزِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يوسفَ: تُحَدُّ المرأةُ قائمةً، [كما تُلاعنُ] (¬1). ولَنا، قولُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّه عنه: تُضْرَبُ المرأةُ جالسةً، والرجلُ قائمًا (¬2). ويُفارِقُ اللِّعانَ (¬3)، فإنَّه لا يُؤَدِّى إلى كَشْفِ العَوْرَةِ، ولأَنَّ المرأةَ عَوْرَةٌ، وجُلُوسُها أسْتَرُ لها. 4384 - مسألة: (والجَلْدُ في الزِّنَى أشَدُّ الجَلْدِ، ثم جَلْدُ القَذْفِ، ثم الشُّرْبِ، ثم التَّعْزِيرِ) كذلك قال أصحابُنا. وقال مالكٌ: كلُّها واحدٌ؛ لأَنَّ اللَّه تعالى أمَر بجَلْدِ الزَّانِى والقاذِفِ أمْرًا واحدًا، ومقصودُ جَمِيعِها واحِدٌ، وهو الزَّجْرُ، فيجبُ تَساويها في الصِّفَةِ. وعن أبى حنيفةَ: التَّعْزِيرُ أشَدُّها، ثم حَدُّ (¬4) الزَّانِى، ثم الشُّرْبِ، ثم (4) حَدُّ القَذْفِ. ولَنا، أنَّ اللَّه تعالى خَصَّ الزِّنَى بمَزِيدِ تأكيدٍ، بقولِه تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬5). فاقْتَضَى مَزيدَ تأكيدٍ، ولا يُمْكِنُ ¬

(¬1) في م: «كاللعان». (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في صفة السوط والضرب، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 327. وضعفه في الإرواء 7/ 365، 366. (¬3) في الأصل، تش: «المكان». (¬4) بعده في الأصل: «جلد». (¬5) سورة النور 2.

4385 - مسألة: (وإن رأى الإمام الجلد فى حد الخمر بالجريد والنعال، فله ذلك)

وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ الضَّرْبَ فِى حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، فَلَهُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك في العَدَدِ، فجُعِلَ في الصِّفَةِ، ولأَنَّ ما دُونَه أخَفُّ منه في العَدَدِ، فلا يجوزُ أن يَزِيدَ عليه في إيلامِه (¬1) ووَجَعِه. وهذا دَليلٌ على أنَّ ما خَفَّ في عَدَدِه كان أخَفَّ في صِفَتِه؛ لأنَّه يُفْضِى إلى التَّسْوِيةِ، أو زِيادةِ القَليلِ على ألَمِ الكثيرِ. 4385 - مسألة: (وإن رأى الإِمامُ الجَلْدَ في حَدِّ الخَمْرِ بالجَرِيدِ والنِّعالِ، فله ذلك) لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبى هُرَيْرَةَ، قال: أُتِى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- برجلٍ قد شَرِبَ، فقال: «اضْرِبُوهُ». قال أبو هُرَيْرَةَ: فمِنّا ¬

(¬1) في الأصل، تش: «إتلافها».

4386 - مسألة: (قال أصحابنا: ولا يؤخر الحد للمرض، فإن كان جلدا، وخشى عليه من السوط، أقيم بأطراف الثياب والعثكول

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُؤَخَّرُ الْحَدُّ لِلْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا، وَخُشِىَ عَلَيْهِ مِنَ السَّوْطِ، أُقِيمَ بِأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَالْعُثْكُولِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَخَّرَ في الْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ زَوَالُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضّارِبُ بيَدِه، والضَّارِبُ بنَعْلِه (¬1)، والضّارِبُ بثَوْبِه. رَواه أبو داودَ (¬2). 4386 - مسألة: (قال أصحابُنا: ولا يُؤَخَّرُ الحَدُّ للمَرَضِ، فإن كان جَلْدًا، وخُشِىَ عليه مِن السَّوْطِ، أُقِيمَ بأطْرافِ الثِّيابِ والعُثْكُولِ (¬3). ويَحْتَمِلُ أن يُؤَخَّرَ للمَرَضِ المرْجُوِّ زَوالُه) أمّا إذا كان الحدُّ رَجْمًا، لم يُؤَخَّرْ؛ لأنَّه لا فائدةَ فيه إذا كان قَتْلُه مُتَحَتِّمًا، وإذا كان جَلْدًا، ¬

(¬1) في م: «بنعلين». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 185. (¬3) العثكول: العذق من أعذاق النخل الذى يكون فيه الرطب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمريضُ على ضَرْبَيْن؛ أحدُهما، يُرْجَى بُرْؤُه، فقال أصحابُنا: يُقامُ عليه الحَدُّ، ولا يُؤَخَّرُ، فإن خُشِىَ عليه مِن السَّوْطِ، ضُرِبَ بسَوْطٍ يُؤْمَنُ معه التَّلَفُ، فإن خِيفَ مِن السَّوْطِ، أُقِيمَ بالعُثْكُولِ. وهذا قولُ أبى بكرٍ. وبه قال إسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ؛ لأَنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أقامَ الحَدَّ على قُدامَةَ بنِ مَظْعُونٍ في مَرَضِه، ولم يُؤَخِّرْه (¬1)، وانْتَشَرَ ذلك في الصَّحابةِ، ولم يُنْكِروه، فكان إجْماعًا. ولأَنَّ الحَدَّ واجبٌ على الفَوْرِ فلا يُؤَخَّرُ ما أوْجَبَه اللَّهُ تعالى بغيرِ حُجَّةٍ. قال القاضى: ظاهِرُ قول الخِرَقِىِّ تأخيرُه؛ لقولِه في (¬2) مَن يجبُ عليه الحَدُّ: وهو صَحِيحٌ عاقلٌ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لحديثِ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، في التى هى حَدِيثَةُ عَهْدٍ بنِفاسٍ (¬3)، ولأَنَّ في تأْخِيرِه إقامةَ الحَدِّ على الكَمالِ مِن غيرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬2) تكملة من المغنى 12/ 329، وانظر متن الخرقى بالمغنى 12/ 357. (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في صفحة 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إتْلافٍ، فكان أوْلَى. وأمّا حديثُ عمرَ في جَلْدِ قُدامةَ، فإنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه كان مَرَضًا خَفِيفًا، لا يَمْنَعُ مِن إقامةِ الحَدِّ على الكَمالِ، ولهذا لم يُنْقَلْ عنه أنَّه خَفَّفَ عنه في السَّوْطِ، وإنَّما اخْتارَ له سَوْطًا وَسَطًا، كالذى يُضْرَبُ به الصَّحِيحُ، ثم إنَّ فِعْلَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَدَّمُ على فِعْلِ عمرَ، مع أنَّه اخْتِيارُ علىٍّ وفِعْلُه، وكذلك الحكمُ في تأْخِيرِه في الحَرِّ والبَرْدِ المُفْرِطِ. الضَّرْبُ الثَّانِى، المريضُ الذى لا (¬1) يُرْجَى بُرْؤُه. فهذا يُقامُ عليه الحَدُّ في الحالِ، ولا يؤَخَّرُ، بسَوْطٍ يُؤْمَنُ معه التَّلَفُ، كالقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وشِمْراخٍ النَّخْلِ، فإن خِيفَ عليه مِن ذلك، جُمِعَ ضِغْثٌ فيه مائةُ شِمْراخٍ [فضُرِبَ به] (¬2) ضَرْبَةً واحدةً. وبهذا قال الشافعىُّ. وأنْكَرَ مالكٌ هذا، وقال: قد قال اللَّه تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3). وهذا جَلْدَةٌ واحدةٌ. ولَنا، ما روَى أبو أُمامةَ بنُ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ، عن بعضِ أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّ رجلًا اشْتَكَى حتى ضَنِىَ، فدخَلَتْ عليه امرأةٌ، فهَشَّ لها، فوقَعَ بها (4)، فسُئِلَ له (¬4) رسولُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في م: «فضربه». (¬3) سورة النور 2. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَرَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأْخُذوا مائةَ شِمْراخٍ فيَضْرِبُوه ضَرْبةً واحدةً. رَواه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬1). وقال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): في إسْنادِه مَقالٌ. ولأنَّه لا يَخْلُو مِن أن يُقامَ عليه الحَدُّ على ما ذَكَرْنا, أو لا يُقامَ أصْلًا، أو يُضْرَبَ ضَرْبًا كامِلًا، لا يجوزُ تَرْكُه بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّه يُخالِفُ الكتابَ والسُّنَّةَ، ولا أن يُجْلَدَ جَلْدًا تامًّا؛ لأنَّه يُفْضِى إلى إتْلافِه، فتَعَيَّنَ ما ذَكَرْناه. وقولُهم: هذا جَلْدَةٌ واحدةٌ. قُلْنا: يجوزُ أن يُقامَ ذلك في حالِ العُذْرِ، كما قال اللَّهُ تعالى في حَقِّ أيوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (¬3). وهذا أوْلَى مِن تَرْكِ حَدِّه بالكُلِّيَّةِ، أو قَتْلِه بما لا يُوجِبُ القَتْلَ. فصل: وإذا وَجب الحَدُّ على حامِلٍ، لم يُقَمْ عليها حتى تَضَعَ، سَواءٌ كان الحمْلُ مِن زِنًى أو غيرِه. [لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا] (¬4). قال ابنُ المُنْذِرِ (¬5): أجْمَعَ أهْلُ العلمِ على أنَّ الحامِلَ لا تُرْجَمُ حتى تَضَعَ. وروَى ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في إقامة الحد على المريض، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 470، 471. والنسائى، في: باب توجيه الحاكم إلى من أخبر أنه زنى، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 212، 213. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الكبير والمريض يجب عليه الحد، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 859. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 222. (¬2) انظر: الإشراف 3/ 21. (¬3) سورة ص 44. (¬4) سقط من: م. (¬5) انظر: الإشراف 3/ 12، الإجماع 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بُرَيْدَةُ، أنَّ امرأةً مِن بَنِى غامِدٍ قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِى. قال: «وَمَا ذَاكَ؟». قالتْ: إنَّها حُبْلَى مِن زِنًى. قال: «آنْتِ؟». قالت: نعم. فقال لها: «ارْجِعِى حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ». قال: فَكَفَلَها رَجُلٌ مِن الأنْصارِ حتى وَضَعَت، قال: فأتَى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: قد وضَعَتِ الغامِدِيَّةُ. فقال: «إِذًا لَا [نَرْجُمُهَا، وَنَدَعَ] (¬1) وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ». فقامَ رجلٌ مِن الأنْصارِ، فقال: إلىَّ رَضاعُه يا نَبِىَّ اللَّهِ. قال: فَرَجَمَها. رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬2). ورُوِىَ أنَّ امرأةً زَنتْ في أيَّامِ عُمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فهَمَّ عمرُ برَجْمِها وهى حامِلٌ، فقال له (¬3) مُعاذٌ: إن كان لك سَبِيلٌ عليها، فليس لك سَبِيلٌ على حَمْلِها. فقال: عَجَزَ (¬4) النِّساءُ أن يَلِدْنَ مِثْلَك. ولم يَرْجُمْها. وعن علىٍّ مِثْلُه (¬5). ولأَنَّ في إقامةِ الحَدِّ عليها في حالِ حَمْلِها إتْلافًا لمَعْصُومٍ، ولا سَبيلَ إليه. وسَواءٌ كان ¬

(¬1) في م: «ترجمها وتدع». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1322 - 1324. وأبو داود، في: باب في المرأة التى أمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- برجمها من جهينة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 462. كما أخرجه الدارمى، في: باب الحامل إذا اعترفت بالزنى، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 179، 180. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 348. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «عجل». (¬5) أخرجهما ابن أبى شيبة، في: باب من قال: إذا فجرت وهى حامل انتظر. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 88، 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدُّ رَجْمًا أو غيرَه؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ تَلَفُ الوَلَدِ مِن سِرايَةِ الضَّرْبِ، ورُبَّما سَرَى إلى نَفْسِ المَضْرُوبِ، فيَفُوتُ الولدُ بفَواتِه. فإذا وَضَعَتِ الوَلَدَ، فإن كان الحَدُّ رَجْمًا، لم تُرْجَمْ حتى تَسْقِيَه اللِّبَأَ؛ لأَنَّ الولدَ لا يَكادُ يَعِيشُ إلَّا به، ثم إن كان له مَن يُرْضِعُه، أو تَكَفَّلَ أحَدٌ برَضَاعِه، رُجِمَتْ، وإلَّا تُرِكَتْ حتى تَفْطِمَه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ الغامِدِيَّةِ، ولِما روَى أبو داودَ (¬1) بإسْنادِه، عن بُرَيْدَةَ، أنَّ امرأةً أتَتِ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: إنِّى فَجَرْتُ، فواللَّهِ إنِّى لَحُبْلَى. فقال لها: «ارْجِعِى حَتَّى تَلِدِى». فَرَجَعَتْ، فلمَّا وَلَدَتْ، أتَتْ بالصَّبِىِّ، فقال: «ارْجِعِى فَأرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ». فجاءَتْ به وقد فَطَمَتْه، وفى يَدِه شئٌ يَأْكُلُه، فأمَرَ بالصَّبِىِّ فدُفِعَ إلى رجلٍ مِن المسلمين، وأمَرَ بها فحُفِرَ لها، وأمَرَ بها فَرُجِمَت، وأمَرَ بها فصُلِّىَ عليها ودُفِنَتْ. وإن لم يَظْهَر حَمْلُها، لم تُؤَخَّرْ، لاحْتِمالِ أن تكونَ حَمَلَتْ مِن الزِّنَى؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَم اليَهُودِيَّةَ (¬2) والجُهَنِيَّةَ، ولم يَسْألْ عن اسْتِبْرائِهِما. وقال لأُنَيْسٍ: «اذْهَبْ إلى امْرَأةِ هذَا، فإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬3). ولم يأْمُرْه بسُؤالِها عن اسْتِبْرائِها. ورَجَم علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، شُراحَةَ (¬4)، ولم يَسْتَبْرِئْها. وإنِ ادَّعَتِ ¬

(¬1) انظر تخريجه عند أبى داود والإمام أحمد في حاشية 1 في الصفحة السابقة. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 446، 447. ويضاف إليه: والترمذى، في: باب ما جاء في رجم أهل الكتاب، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 214. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 7، 62، 63، 76. (¬3) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب رجم المحصن، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 204. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 107، 116، 121، 141، 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمْلَ قُبِلَ قَوْلُها، كما قُبِلَ قَوْلُ الغامِدِيَّةِ. فإن كان الحَدُّ جَلْدًا، فإذا وَضَعَتِ الوَلَدَ، وانْقَطَعَ النِّفاسُ، وكانت قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُها، أُقِيمَ عليها الحَدُّ، وإن كانت في نِفاسِها، أو ضَعِيفَةً يُخافُ تَلَفُها، لم يُقَمْ عليها الحَدُّ حتى تَطْهُرَ وتَقْوَى. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبى حنيفةَ. وذَكَر القاضى أنَّه ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وقال أبو بكرٍ: يُقامُ عليها الحَدُّ في الحالِ، بسَوْطٍ يُؤْمَنُ معه التَّلَفُ، فإن خِيفَ عليها مِن السَّوْطِ، أُقِيمَ بالعُثْكُولِ، وأطْرَافِ الثِّيابِ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر بضَرْبِ المريضِ الذى زَنَى، فقال: «خُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْراخٍ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً» (¬1). ولَنا، ما روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: إنَّ أمَةً لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَنَتْ، فأمَرَنِى أن أجْلِدَها، فإذا هى حَدِيثَةُ عَهْدٍ بنِفاسٍ، فخَشِيتُ إن أنا جَلَدْتُها أن أقْتُلَها، فذَكرْتُ ذلك لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «أحْسَنْتَ». رَواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬2)، ولَفْظُه، قال: فَأتيْتُه، فقال: «يا عَلِىُّ، أفَرَغْتَ؟» فقُلْتُ: أتَيْتُها ودَمُها يَسِيلُ. فقال: «دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ أقِمْ عَلَيْها الحَدَّ». وفى حديثِ [أبى بَكْرَةَ] (¬3)، أنَّ المرأةَ انْطَلَقَتْ، فوَلَدَتْ غُلامًا، فجاءَتْ به النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-, فقال لها: «انْطَلِقِى فَتَطَهَّرِى مِنَ الدَّمِ». رَواه أبو داودَ (¬4). ولأنَّه لو تَوالَى عليه حَدَّان، فاسْتُوفِىَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 195. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 176، 177. (¬3) في الأصل: «أبى بكر». (¬4) في: باب في المرأة التى أمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- برجمها من جهينة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 462، =

4387 - مسألة: (وإذا مات المحدود فى الجلد، فالحق قتله)

وَإِذَا مَاتَ الْمَحْدُودُ فِى الْجَلْدِ، فَالْحَقُّ قَتَلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، لم يُسْتَوْفَ الثانى حتى يَبْرَأ مِن الأَوَّلِ. 4387 - مسألة: (وإذا مات المَحْدُودُ فِى الجَلْدِ، فالحَقُّ قَتَلَه) ولا يَجِبُ على أحَدٍ ضَمَانُه، [جَلْدًا كان أو غيرَه؛ لأنَّه حَدٌّ وَجَب للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فلم يُودَ مَن ماتَ به، كالقَطْعِ في السَّرِقَةِ] (¬1). وهذا قولُ مالكٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وبه قال الشافعىُّ إذا لم يَزِدْ في حَدِّ الخَمْرِ على الأربعين، وإن زاد على الأربعين فماتَ، فعليه الضَّمانُ؛ لأَنَّ ذلك تَعْزِيرٌ، إنَّما يفعلُه الإِمامُ برَأْيِه، وفى قَدْرِ الضَّمانِ قَوْلان؛ أحدُهما، نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه تَلِف مِن فِعْلَيْن؛ مَضْمُونٍ، وغيرِ مَضْمُونٍ، فكان عليه (¬2) نِصْفُ الضَّمانِ. والثانى، تُقَسَّطُ الدِّيَةُ على عَدَدِ الضَّرَباتِ كُلِّها، فيَجِبُ مِن الدِّيَةِ بقَدْرِ زِيادَته على الأرْبَعِين. رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: ما كنتُ لأُقِيمَ حَدًّا على أحَدٍ فيَمُوتَ فأجِدَ في نَفْسِى، إلَّا صاحبَ الخمرِ، لو مات وَدَيْتُه؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَسُنَّه لنا (¬3). ولَنا، أنَّه حَدٌّ وَجَب للَّهِ تعالى، ¬

= 463. مختصرا. كما أخرجه بتمامه النسائى، في: باب الحفرة للمرأة إلى ثندوتها، من كتاب الرجم. السنن الكبرى 4/ 287. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 43. (¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. =

4388 - مسألة: (وإن زاد)

وَإِنْ زَادَ سَوْطًا أَوْ أَكْثَرَ، فَتَلِفَ بِهِ، ضَمِنَهُ. وَهَلْ يَضْمَنُ جَمِيعَهُ أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجِبْ ضَمانُ مَن ماتَ به، كسائِرِ الحدودِ، وما زادَ على الأرْبَعين فهو مِن الحَدِّ على ما نَذْكُرُه، وإن كان تَعْزِيرًا، فالتَّعْزِيرُ يجبُ، فهو بمَنْزِلَةِ الحدِّ. وأمَّا حديثُ علىٍّ، فقد صَحَّ عنه أنَّه قال: جَلَد رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْبَعين، وأبو بكرٍ أرْبَعِين (¬1). وثَبَت الحَدُّ بالإِجْماعِ، فلم يَبْقَ فيه شُبْهَةٌ. فصل: ولا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في سائرِ الحُدودِ، أنَّه إذا أتَى بها على الوَجْهِ المَشْرُوعِ، مِن غيرِ زِيادةٍ، أنَّه لا يَضْمَنُ مَن تَلِف بها؛ لأنَّه فَعَلها بأمْرِ اللَّهِ وأمْرِ رسولِه، فلا يُؤَاخَذُ به، ولأنَّه نائِبٌ عن اللَّهِ تعالى، فكان التَّلَفُ مَنْسوبًا إلى اللَّهِ سُبحانَه. 4388 - مسألة: (وإن زادَ) على الحَدِّ (سَوْطًا أو أكثرَ، فتَلِفَ به ضَمِنَهُ. وهل يَضْمَنُ جَمِيعَ الدِّيَةِ أو نِصْفَها؟ على وَجْهَيْن) إذا زاد ¬

= والحديث أخرجه البخارى، في: باب الضرب بالجريد والنعال، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 197. ومسلم، في: باب حد الخمر، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1332. وأبو داود، في: باب إذا تتابع في شرب الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 474. وابن ماجه، في: باب حد السكران، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 858. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 130. (¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الحَدِّ فتَلِفَ المحْدُودُ، وَجَب الضَّمانُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه تَلِفَ بعُدْوانِه، فأشْبَهَ ما لو ضَرَبَه في غيرِ الحَدِّ. قال أبو بكرٍ: وفى قَدْرِ الضَّمانِ وَجْهانِ؛ أحدُهما، كَمالُ الدِّيَةِ؛ لأنَّه قَتْلٌ حَصَل مِن جِهَةِ اللَّهِ تعالى وعُدْوانِ الضَّاربِ، فكان الضَّمانُ على العادِى، كما لو ضَرَب مَرِيضًا سَوْطًا فماتَ به، ولأنَّه تَلِف بعُدْوانٍ وغيرِه، فأشْبَهَ ما لو ألْقَى على سَفِينةٍ مُوقَرَةٍ حَجرًا فغَرَّقَها. والثانى، عليه نصف الضَّمانِ؛ لأنَّه تَلِف بفِعْل مَضْمُونٍ وغيرِ مَضْمونٍ، فوَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ حَسْبُ، كما لو جَرَح نَفْسَه وجَرَحَه غيرُه فماتَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ في أحَدِ قَوْلَيْه. وقال في الآخَرِ: يَجِبُ مِن الدِّيَةِ بقَدْرِ ما تَعَدَّى به، تُقَسَّطُ الدِّيَةُ على الأسْواطِ كلِّها، وسَواءٌ زاد خَطأً أو عَمْدًا؛ لأَنَّ الضَّمانَ يجبُ في الخَطأِ والعَمْدِ، ثم يُنْظَرُ؛ فإن كان الجَلَّادُ زادَه مِن عندِ نَفْسِه بغيرِ أمْرٍ، فالضَّمانُ على عاقِلَتِه؛ لأَنَّ العُدْوانَ منه، وكذلك إن قال له الإِمامُ: اضْربْ ما شِئْتَ. وإن كان له مَن يَعُدُّ عليه، فزادَ في العَدَدِ، ولم يُخْبِرْه، فالضَّمانُ على مَن يَعُدُّ، سَواءٌ تَعَمَّدَ ذلك أو أخْطأَ في العَدَدِ؛ لأَنَّ الخَطَأ منه. وإن أمَرَه الإِمامُ بالزِّيادَةِ على الحَدِّ فزادَ، فقال القاضى: الضَّمانُ على الإِمامِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقِياسُ المذهبِ أنَّه إنِ اعْتَقَدَ وُجوبَ طاعةِ الإِمامِ، وجَهِل تَحْرِيمَ الزِّيادَةِ، فالضَّمانُ على الإِمامِ، وإن كان عالِمًا بذلك، فالضَّمانُ عليه، كما لو أمَرَه الإِمامُ بقَتْلِ رجلٍ ظُلْمًا فقتَلَه. وكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: يَضْمَنُ الإِمامُ. فهل يَلْزَمُ عاقِلَتَه أو بيتَ المالِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحداهما، هو في بيتِ المالِ؛ لأن خَطأَه يَكْثُرُ، فلو وَجَب ضَمانُه على عاقِلتِه، أجْحَفَ بهم. قال القاضى: هذا أصَحُّ. والثانى، هو على عاقِلَتِه؛ لأنَّها وَجَبَتْ بخَطئِه، فكانت على عاقِلَتِه، كما لو رَمَى صَيْدًا فقَتَلَ آدَمِيًا. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الرِّوايَتان فيما

4389 - مسألة: (وإذا كان الحد رجما، لم يحفر له، رجلا كان أو امرأة، فى أحد الوجهين)

وَإِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، لَمْ يُحْفَرْ لَهُ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا وَقَعَتِ الزِّيادَةُ منه خَطأً، أمَّا إذا تَعَمَّدَها، فهذا ظُلْمٌ قَصَدَه، فلا وَجْهَ لتَعَلُّقِ ضَمانِه ببيتِ المالِ بحالٍ، كما لو تَعَمَّدَ جَلْدَ مَن لا حَدَّ عليه. وأمَّا الكَفَّارَةُ التى تَلْزَمُ الإِمامَ، فلا يَحْمِلُها عنه غيرُه؛ لأنَّها عِبادَةٌ، فلا تَتَعَلَّقُ بغيرِ مَن وُجِدَ منه سَبَبُها، ولأنَّها كَفَّارَةٌ لفِعْلِه، فلا تَحْصُلُ إلَّا بتَحَمُّلِه إيَّاها، ولهذا لا يَدْخُلُها التَّحَمُّلُ بحالٍ. 4389 - مسألة: (وإذا كان الحَدُّ رَجْمًا، لم يُحْفَرْ له، رجلًا كان أو امرَأةً، في أحدِ الوَجْهَيْن) سَوِاءٌ ثَبَت ببَيِّنَةٍ أو إِقْرارٍ، أمّا إذا كان الزّانِى رجلًا، لم يُوثَقْ بشئٍ، ولم يُحْفَرْ له، سَواءٌ ثَبَتَ الزِّنَى ببَيِّنةٍ أو إقْرارٍ. لا نعلمُ فيه خلافًا؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَحْفِرْ لماعِزٍ. قال أبو سعيدٍ: لمّا أمرَ رسولُ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- برَجْمِ ماعِزٍ، خرَجْنا به (¬1) إلى البَقِيعَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4390 - مسألة: (وأما المرأة، فإن كان ثبت بإقرارها، لم يحفر لها، وإن ثبت ببينة، حفر لها إلى الصدر)

وفِى الآخَرِ، إِنْ ثَبَتَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِإِقْرَارِهَا، لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ حُفِرَ لَهَا إِلَى الصَّدْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فواللَّهِ ما حَفَرْنا له، ولا أوْثَقْناه، ولكنَّه قام لنا. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأَنَّ الحَفْرَ له ودَفْنَ بعضِه عُقُوبَةٌ لم يَرِدْ بها الشَّرْعُ في حَقِّه، فوَجب أن لا يَثْبُتَ. 4390 - مسألة: (وأما المرأةُ، فإن كان ثَبَت بإِقْرَارِها، لم يُحْفَرْ لها، وإن ثَبَت ببَيِّنَةٍ، حُفِرَ لها إلى الصَّدْرِ) ظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ المرأةَ لا يُحْفَر لها أيضًا. وهو الذى ذَكَرَه القاضى في «الخِلافِ»، وذَكَر في «المُجَرَّدِ» أنَّه إن ثَبَت الحَدُّ بإقْرارِها، لم يُحْفَرْ لها، وإن ثَبَت بالبَيِّنةِ، حُفِر لها إلى الصَّدْرِ. قال أبو الخَطَّاب: وهذا أصَحُّ عندِى. وهو قولُ أصحابِ الشافعىِّ؛ لِما روَى [أبو بَكْرَةَ] (¬2) وبُرَيْدَةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَم ¬

(¬1) في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 460. كما أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود، صحيح مسلم 3/ 1320. والدارمى، في: باب الحفر لمن يراد رجمه، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 178. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 62. (¬2) في الأصل: «أبو بكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ امرأةً، فحَفَرَ لها إلى الثَّنْدُوَةِ. رَواه أبو داودَ (¬1). ولا حاجةَ إلى تَمْكِينِها مِن الهرَبِ؛ لكَوْنِ الحَدِّ ثَبَت بالبَيِّنَةِ، فلا يَسْقُطُ بفعلٍ مِن جِهَتِها، بخِلافِ الثابتِ بالإِقْرارِ، فإنَّها تُتْرَكُ على حالٍ لو أرادتِ الهَرَبَ تَمَكَّنَتْ منه؛ لأَنَّ رُجُوعَها عن إقْرارِها مَقْبُولٌ. ولَنا، أنَّ أكثرَ الأحاديثِ على تَرْكِ الحَفْرِ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَحْفِرْ للجُهَنِيَّةِ، ولا لليَهُودِيَّيْنِ، والحديثُ الذى احْتَجُّوا به غيرُ مَعْمُولٍ به، ولا يقولون به، فإنَّ التى نُقِلَ عنه الحَفْرُ لها، ثَبَت حَدُّها بإقْرارِها؛ ولا خِلافَ بينَنا فيها، فلا يَسُوغُ لهم الاحْتِجاجُ به مع مُخالَفَتِهم إيّاه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ ثِيابَ المرأةِ تُشَدُّ عليها، لئَلَّا تَنْكَشِفَ. وقد روَى أبو داودَ (¬2) بإِسْنادِه عن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث أبى بكرة في صفحة 198، 199. وحديث بريدة تقدم في صفحة 196. (¬2) في: باب المرأة التى أمر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- برجمها من جهينة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 462. كما أخرجه مسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1324. والترمذى، في: باب تربص الرجل بالحبلى، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 211، 212. والنسائى، في: باب الصلاة على المرجوم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 51. والدارمى، في: باب الحامل إذا اعترفت بالزنى، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 180، 181. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 430، 435، 436، 437، 440.

4391 - مسألة: (ويستحب أن يبدأ الشهود بالرجم. وإن ثبت بالإقرار، استحب أن يبدأ الإمام)

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ. وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَبْدَأَ الإِمَامُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: فأمَرَ بها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فشُدَّتْ عليها ثِيابُها. ولأَنَّ ذلك أسْتَرُ لها. 4391 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن يَبْدَأ الشهُودُ بالرَّجْمِ. وإن ثَبَت بالإِقْرارِ، اسْتُحِبَّ أن يَبْدَأ الإِمامُ) السُّنَّةُ أن يدُورَ النَّاسُ حولَ المَرْجُومِ، فإن كان الزِّنَى ثَبَت ببَيِّنَةٍ، اسْتُحِبَّ أن يَبْدَأَ الشُّهُودُ بالرَّجْمِ، وإن كان ثَبَت بإِقْرارٍ، بَدَأ به الإِمامُ أو الحاكِمُ، إن كان ثَبَت عندَه، ثم يَرْجُمُ الناسُ بعدَه. وقد روَى سعيدٌ (¬1)، بإسنادِه، عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: الرَّجْمُ رَجْمانِ؛ فما كان منه بإقرارٍ، فأوَّلُ مَن يَرْجُمُ الإِمامُ، ثم النَّاس، وما كان (¬2) ببَيِّنَةٍ، فأوَّلُ مَن يَرْجُمُ البَيِّنَةُ، ثم النَّاسُ. ولأنَّ فِعْلَ ¬

(¬1) وأخرجه بنحوه عبد الرزاق، في: باب الرجم والإحصان، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 327. وابن أبى شيبة، في: باب في من يبدأ بالرجم، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 90، 91. والبيهقى، في: باب من اعتبر حضور الإمام. . .، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 220. (¬2) بعده في الأصل، تش: «ثبت».

4392 - مسألة: (ومتى رجع المقر بالحد عن إقراره، قبل منه،

وَمَتَى رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالْحَدِّ عَنْ إِقْرَارِهِ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ فِى أَثْنَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك أْبعَدُ لهم مِن التُّهْمَةِ في الكَذِبِ عليه. 4392 - مسألة: (ومتى رَجَع المُقِرُّ بالحَدِّ عن إقْرارِه، قُبِل منه،

الْحَدِّ، لَمْ يُتَمَّمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن رَجَع في أثْناءِ الحَدِّ، لم يُتَمَّمْ) وجملةُ ذلك، أنَّ مِن شَرْطِ إِقامَةِ الحَدِّ بالإِقْرارِ البَقاءَ عليه إلى تَمامِ الحَدِّ، فإن رَجَع عن إقْرارِه، كُفَّ عنه. وبهذا قال عَطاءٌ، ويَحيى بنُ يَعْمُرَ، والزُّهْرِىُّ، وحَمَّاد، ومالكٌ، والثَّورِىُّ، وإسْحاقُ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ. وقال الحسنُ، وسعيدُ ابنُ جُبَيْرٍ، وابنُ أبى لَيْلَى: يُقامُ عليه الحَدُّ ولا يُتْرَكُ، لأن ماعِزًا هَرَب فقَتلُوه. ورُوِىَ أنَّه قال: رُدُّونِى إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإِنَّ قَوْمِى هم غَرُّونِى مِن نَفْسِى، وأخْبَرُونِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غيرُ قاتِلى. فلم يَنْزِعُوا عنه حتى قَتَلُوه. رَواه أبو داودَ (¬1). ولو قُبِلَ رُجُوعُه، للَزِمَتْهُم دِيَتُه، ولأنَّه حَقٌّ وَجَب بإقْرارِه، فلم يُقْبَلْ رُجُوعُه، كسائرِ الحُقوقِ. وحُكِىَ عن الأوْزاعِىِّ، أنَّه إن رَجَع حُدَّ للفِرْيَةِ على نَفْسِه، وإن رَجَع عن السَّرِقَةِ والشُّرْبِ، ضُرِب دُونَ الحَدِّ. ولَنا، أنَّ ماعِزًا هَرَب، فذُكِرَ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- , ¬

(¬1) في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 457، 459. كما أخرجه البخارى، في باب الرجم بالمصلى، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 206. ومسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1318. والترمذى، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 202. والنسائى، في: باب ترك الصلاة على المرجوم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 50، 51. والدارمى، في: باب الاعتراف بالزنى، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 176. والإمام أحمد في: المسند 3/ 323، 381.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (¬1). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): ثَبَت مِن حديثِ أبى هُرَيْرَةَ، وجابرٍ، ونُعَيْمِ بنِ هَزَّالٍ، ونَصْرِ بنِ دَهْرٍ (¬3)، وغيرِهم، أنَّ ماعِزًا لمّا هَرَب، فقال لهم: رُدُّونِى إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: «فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ». ففى هذا أوْضَحُ الدَّلائِلِ على أنَّه يُقْبَلُ رُجُوعُه. وعن بُرَيْدَةَ، قال: كنّا أصحابَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَتَحَدَّثُ أنَّ الغامِدِيَّةَ وماعزَ بنَ مالكٍ، لو رَجَعا بعدَ اعْتِرافِهما. أو قال: لو لم يَرْجِعا بعدَ اعْتِرافِهما، لم يَطْلُبْهما، وإنَّما رَجَمَهما عندَ الرّابعةِ. رَواه أبو داودَ (¬4). ولأَنَّ رُجوعَه شُبْهَةٌ، والحَدُّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ولأَنَّ الإِقْرارَ أحَدُ بَيِّنَتَى الحَدِّ، فيَسْقُطُ بالرُّجوعِ عنه، كالبَيِّنَةِ إذا رَجَعَتْ قبلَ إقامَةِ الحَدِّ، وفارَقَ سائِرَ الحُقوقِ، فإنَّها لا تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. وإنَّما لم يَجِبْ ضَمانُ ماعِزٍ على الذين قَتَلُوه بعدَ هَرَبِه؛ لأنَّه ليس بصَرِيحٍ في الرُّجوعِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 457. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 217. كلاهما من حديث نعيم بن هزال. (¬2) في: التمهيد 12/ 113. (¬3) في النسخ: «داهر». وهو نصر بن دهر بن الأخرم بن مالك الأسلمى، حجازى له صحبة، روى قصة ماعز بن مالك، وعنه أبو الهيثم. تهذيب التهذيب 10/ 426. وحديثه أخرجه النسائى، في: باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه، من كتاب الرجم. السنن الكبرى 4/ 291، 292. وابن أبى شيبة، في: المصنف 1/ 77، 78. وابن عبد البر، في: التمهيد 12/ 114. (¬4) في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 460.

4393 - مسألة: (وإن رجم ببينة فهرب، لم يترك، وإن كان بإقرار، ترك)

وَإِنْ رُجِمَ بِبَيِّنَةٍ فَهَرَبَ، لَمْ يُتْرَكْ، وَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارٍ، تُرِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4393 - مسألة: (وإن رُجِم ببَيِّنَةٍ فهَرَب، لم يُتْرَكْ، وإن كان بإقْرارٍ، تُرِكَ) إذا ثَبَت الحَدُّ عليه بإقْرارِه فهَرَب، لم يُتْبَعْ؛ لقول رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ». وإن لم يُتْرَكْ وقُتِلَ، لم يُضْمَنْ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُضَمِّنْ ماعِزًا مَن قَتَلَه، ولأَنَّ هَرَبَه ليس بصَرِيحٍ في رجُوعِه. فإن قال: رُدُّونِى إلى الحاكِمِ. وَجَب رَدُّه، ولم يَجُزْ إتْمامُ الحَدِّ، فإن أُتِمَّ، فلا ضَمانَ على مَن أتَمَّه؛ لِما ذَكَرْنا في هَرَبِه. وإن رَجَع عن إقْرارِه، وقال: كَذَبْتُ في إقْرارِى. أو: رَجَعْت عنه. أو: لم أفْعَلْ ما أقْرَرْتُ به. وَجَب تَرْكُه، فإن قَتَلَه قاتِلٌ بعدَ ذلك، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه قد زال إقْرارُه بالرُّجوع عنه، فصارَ كمَن لم يُقِرَّ، ولا قِصاصَ على قاتِلِه؛ لأَنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفوا في صِحَّةِ رُجُوعِه، فكان اخْتِلافُهم شُبْهَةً [دارِئَةً للقصاصِ] (¬1)، ولأَنَّ ¬

(¬1) في م: «درئ به القصاص».

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حُدُودٌ للَّهِ فِيهَا قَتْلٌ، اسْتُوفِىَ وَسَقَطَ سَائِرُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ صِحَّةَ الرُّجوعِ ممَّا يَخْفَى، فيكونُ ذلك عُذْرًا مانِعًا مِن وُجوبِ القِصاصِ. فأمَّا إن رُجِمَ ببَيِّنَةٍ فهَرَبَ، لم يُتْرَكْ؛ لأَنَّ زِناه ثَبَت على وَجْهٍ لا يَبْطُلُ برُجوعِه، فلم يُؤثِّرْ فيه هَرَبُه، كسائرِ الأحْكامِ. واللَّهُ أعلمُ. فصل: (وإذا اجْتَمَعَتْ حُدودٌ للَّهِ) تعالى (فيها قَتْلٌ، اسْتُوفِىَ، وسَقَط سائِرُها) إذا اجْتَمَعَتِ الحُدودُ، لم تَخْلُ مِن ثلاثةِ أقسامٍ؛

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فيها قَتْلٌ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ مِثْلَ أَنْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ مِرَارًا، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُها، أن تكونَ خالِصَةً للَّهِ تعالى، فهى نَوْعان؛ أحدُهما، أن يكونَ فيها قتلٌ، مثلَ أن يَسْرِقَ ويَزْنِىَ وهو مُحْصَنٌ، ويَشْرَبَ ويَقْتُلَ في المُحارَبَةِ، فهذا يُقْتَلُ، ويَسْقُطُ سائِرُها. وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ، وعطاءٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والأوْزَاعِىِّ، ومالكٍ، وحَمّادٍ، وأبى حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: تُسْتَوفَى جميعُها؛ لأَنَّ ما وَجَب مع غيرِ القَتْلِ، وَجَب مع القتلِ، كقَطْعِ اليَدِ قِصاصًا. ولَنا، قولُ ابنِ مسعودٍ، قال سعيدٌ: ثَنا حَسَّانُ بنُ منصورٍ، ثنا مُجالِدٌ، عن عامِرٍ، عن مَسْرُوقٍ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: إذا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أحدُهما القتلُ، أحاطَ القتلُ بذلك (¬1). وقال إبراهيمُ: يَكْفِيه القتلُ. وقال: ثنا هُشَيْمٌ، أنا حَجَّاجٌ، عن إبراهيمَ، والشَّعْبِىِّ، وعَطاءٍ، أنَّهم قالوا مثلَ ذلك (¬2). وهذه أقْوالٌ انْتَشَرَتْ في عَصْرِ (¬3) الصَّحابةِ والتابعِين، ولم يَظْهَرْ لها ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يسرق ويشرب الخمر ويقتل، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 479. وبنحوه أخرجه عبد الرزاق، في: باب الذى يأتى الحدود ثم يقتل، من كتاب العقول. المصنف 10/ 19, 20. وضعفه في الإرواء 7/ 368. (¬2) انظر لهذه الآثار ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 19، 20. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 479، 480. (¬3) في م: «عهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُخالِفٌ، فكانت إجْماعًا، ولأنَّها حُدودٌ للَّهِ فيها قَتْلٌ، فسَقَط ما دُونَه، كالمُحارِبِ إذا قَتلَ وأخذَ المالَ، فإنَّه يُكْتَفَى بقَتْلِه، ولأَنَّ هذه الحُدودَ تُرادُ (¬1) لمُجَرَّدِ الزَّجْرِ (¬2)، ومع القَتْلِ لا حاجةَ إلى زَجْرِه؛ لأنَّه لا فائدةَ فيه (¬3)، فلا يُشْرَعُ (¬4)، ويُفارِقُ القِصاصَ؛ فإنَّ فيه غَرَضَ التَّشَفِّى والانْتِقامِ، ولا يُقصَدُ فيه مُجَرَّدُ الزَّجْرِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا وُجِدَ ما يُوجِبُ الرَّجْمَ والقتلَ للمُحارَبَةِ، أو القتلَ للرِّدَّةِ، أو لتَرْكِ الصَّلاةِ، فيَنْبَغِى أن يُقْتَلَ للمُحارَبَةِ ويَسْقُطَ الرَّجْمُ؛ لأَنَّ في القَتْلِ للمُحارَبَةِ حَقَّ آدَمِىٍّ في القِصاصِ، وإنَّما آثرَتِ المُحارَبَةُ تَحَتُّمَه، وحَقُّ الآدَمِىِّ يَجِبُ تَقْدِيمُه. النوعُ الثانى، أن لا يكونَ فيها قتلٌ، فإن كانت مِن جِنْسٍ، مثلَ أن زَنَى، أو سَرَق، أو شَرِب مِرارًا قَبلَ إقامَةِ الحَدِّ عليه، أجْزَأَ حَدٌّ واحدٌ، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الرجم». (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في م: «فيه».

وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَجْنَاسٍ، اسْتُوفِيَتْ كُلُّهَا، وَيُبْدَأُ بِالْأَخَفِّ فَالأَخَفِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو يوسفَ، وأبو ثَوْرٍ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. فإن أُقِيمِ عليه الحَدُّ، ثم حدَثَتْ منه جنايَةٌ أُخْرَى، ففيها حَدُّها، لا نعلمُ فيه خِلافًا. وقد سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأمَةِ تَزْنِى قبلَ أن تُحْصِنَ (¬1)، فقال: «إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا, ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا» (¬2). ولأَنَّ تَداخُلَ الحُدودِ إنَّما يكونُ مع اجْتماعِها، والحدُّ الثَّانِى وَجَب بعدَ سُقوطِ الحَدِّ الأَوَّلِ باسْتِيفائِه (وإن كانت مِن أجْناسٍ، اسْتُوفِيَتْ كلُّها) بغَيْرِ (¬3) خِلافٍ نعلَمُه (¬4) (ويُبْدَأُ بالأخَفِّ فالأخَفِّ) فإذا شَرِب وزَنَى [وسَرَق] (¬5)، حُدَّ للشُّرْبِ أوَّلًا، ثم حُدَّ للزِّنَى، ثم قُطِعَ للسَّرِقَةِ. وإن أخَذَ المالَ في المُحارَبَةِ، قُطِعَ لذلك، ويدخلُ فيه القَطْعُ للسَّرِقَةِ؛ لأَنَّ مَحَلَّ القَطْعَيْن واحدٌ، فتَداخَلا، كالقَتْلَيْن. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يتَخيَّرُ بينَ البَداءَةِ بحَدِّ الزِّنَى وقَطْعِ السَّرِقَةِ؛ ¬

(¬1) في الأصل، م: «تحيض». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 173. (¬3) في م: «من غير». (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: الأصل.

4394 - مسألة: (وأما حقوق الآدميين، فتستوفى كلها، سواء كان فيها قتل أو لم يكن. ويبدأ بغير القتل)

وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَتُسْتَوْفَى كُلُّهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا قَتْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَيُبْدَأُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما ثَبَت بنَصِّ القُرْآنِ، ثم يُحَدُّ للشُّرْبِ. ولَنا، أنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَخَفُّ، فيُقَدَّمُ، كحَدِّ القَذْفِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ حَدَّ الشُّرْبِ غيرُ منْصوصٍ عليه، فإنَّه مَنْصُوصٌ عليه في السُّنَّةِ، ومُجْمَعٌ على وُجُوبِه، وهذا التَّقْدِيمُ (¬1) على سَبِيلِ الاسْتِحْباب. ولو بَدَأ بغيرِه جازَ ووَقَع المَوْقِعَ. ولا يُوالِى بينَ هذه الحُدودِ، لأنَّه رُبَّما أفْضَى إلى تَلَفِه، بل متى بَرَأ مِن حَدٍّ أُقِيمَ عليه الذى يَلِيه. 4394 - مسألة: (وأمَّا حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ، فتُسْتَوْفَى كلُّهَا، سَواءٌ كان فيها قَتْلٌ أوِ لم يَكُنْ. ويُبْدَأُ بغيرِ القَتْلِ) وهى القِصاصُ، وحَدُّ القَذْفِ، فهذه تُسْتَوْفى كلُّها، ويُبْدَأُ بأخَفِّها، فيُحَدُّ للقَذْفِ، ثم يُقْطَعُ، ثم يُقْتَلُ، لأنَّها حُقوق لآدَمِيِّينَ أمْكَنَ اسْتِيفاؤُها، فوَجَب، كسائِرِ حُقوقِهم. وهذا قولُ الأوْزَاعِىِّ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَدْخُلُ ما دُونَ القَتْلِ فيه؛ لِما رُوِى عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ أنَّه قال: إذا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أحَدُهما القَتْلُ، أحاطَ القَتْلُ بذلك. رَواه سعيدٌ في «سُنَنِه» (¬2). ¬

(¬1) في النسخ: «التقدير». وانظر المغنى 12/ 489. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 212.

4395 - مسألة: (فإن اجتمعت مع حدود الله تعالى، بدئ بها)

وَإِنِ اجْتَمَعَتْ مَعَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، بُدِئَ بِهَا، فَإِذَا زَنَى وَشَرِبَ وَقَذَفَ وَقَطَعَ يَدًا، قُطِعَتْ يَدُهُ أوَّلًا، ثُمَّ حُدَّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ لِلشُّرْبِ، ثُمَّ لِلزِّنَى. وَلَا يُسْتَوْفَى حَدٌّ حَتَّى يَبْرَأَ مِنَ الَّذِى قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقِياسًا على الحُدودِ الخالِصَةِ للَّهِ تعالى. ولَنا، أنَّ ما دُونَ القَتْلِ حَقٌّ لآدَمِىٍّ، فلم يَسْقُطْ به، كدُيُونِهِم، وفارَقَ حَقَّ اللَّهِ تعالى، فإنَّه مَبْنِىٌّ على المُسامَحَةِ. 4395 - مسألة: (فإنِ اجْتَمَعَتْ مع حُدُودِ اللَّهِ تعالى، بُدِئَ بِها) إذا اجتمعت حُدودُ اللَّهِ تعالى وحُدودُ الآدَمِيِّين، فهذه ثلاثةُ أنْواع؛ أحدُها، أن لا يكونَ فيها قتلٌ، فهذه تُسْتَوْفَى كلُّها. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وعن (¬1) مالكٍ أنَّ حَدَّ الشُّرْبِ والقَذْفِ يَتَداخلانِ؛ لاسْتوائِهما، فهما كالقَتْلَيْن والقَطْعَيْن. ولَنا، أنَّهما حَدَّان مِن جنْسَيْن، لا يَفُوتُ بهما المَحَلُّ، فلم يَتَداخَلَا، كحَدِّ الزِّنى والشُّرْبِ، ولا نُسَلِّمُ اسْتواءَهما، فإنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أربعون، وحَدَّ القَذْفِ ثمانون، وإن سُلِّمَ اسْتِواؤهما، لم يَلْزَمْ تَداخُلُهما؛ لأَنَّ ذلك لو اقْتَضَى تَداخُلَهما، لَوجَبَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُخُولُهما في حَدِّ الزِّنَى؛ لأَنَّ الأقَلَّ ممّا يَتَداخَلُ يَدْخُلُ في الأكْثَرِ، وفارَقَ القَتْلَيْن والقَطْعَيْن؛ لأَنَّ المَحَلَّ يَفوتُ بالأوَّلِ، فيَتَعَذَّرُ اسْتِيفاءُ الثانى، فهذا بخِلافِه. فعلى هذا، يُبْدأُ بحَدِّ القَذْفِ؛ لأنَّه اجْتَمَعَ فيه معنيان؛ خِفَّتُه، وكَوْنُه حَقًّا لآدَمِىٍّ شحيحٍ (¬1)، إلَّا إذا قُلْنا: حَدُّ الشُّرْبِ أربعون. فإنَّه يُبْدأُ به؛ لخِفَّتِه، ثمِ بحَدِّ القَذْفِ، وأيُّهما قُدِّمَ، فالآخَرُ يلِيه، ثم بحَدِّ الزِّنى؛ لأنَّه لا إتْلاف فيه، ثم بالقَطْعِ. هكذا ذَكَرَه القاضى. وقال أبو الخَطَّابِ: يُبْدَأُ بالقَطْعِ قصاصًا؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ مُتَمَحِّضٌ، فإذا بَرَأِ حُدَّ للقَذْفِ، إذا قُلْنا: هو حَقُّ آدَمىٍّ. ثم بحَدِّ الشُّرْبِ، فإذا بَرَأ حُدَّ للزِّنى؛ لأَنَّ حَقَّ الآدَمِىِّ يَجِبُ تَقْدِيمُه لتَأكُّدِه. النَّوعُ الثانى، أن تَجْتَمِعَ حُدودٌ للَّهِ تعالى وحُدودٌ لآدمِىٍّ، وفيها قَتْلٌ، فإنَّ حُدودَ اللَّهِ تعالى تَدْخُلُ في القتلِ، سواءٌ كان مِن حُدودِ اللَّهِ تعالى، كالرَّجْمِ في الزِّنى، والقَتْلِ في المُحارَبةِ أو الرِّدَّةِ، أو لحَقِّ آدَمِىٍّ، ¬

(¬1) في م: «صحيح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالقِصاصِ؛ لِما قَدَّمْنا. وأمَّا حُقوقُ الآدَمِىِّ، فتُسْتَوْفَى كلُّها. ثم إن كان القَتْلُ حَقًّا للَّهِ تعالى، اسْتُوفِيَتِ الحُقوقُ كلُّها مُتَوالِيَةً؛ لأنَّه لا بُدَّ مِن فَواتِ نفْسِه، فلا فائِدَةَ في التَّأخِيرِ، وإن كان القَتْلُ حَقًّا لآدَمِىٍّ، انْتُظِرَ باسْتِيفاءِ الثانى بُرْؤُه مِن الأَوَّلِ؛ لوَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّ المُوالاةَ بينَهما يَحْتَمِلُ أن تُفَوِّتَ نفسَه قبلَ القِصاصِ، فيَفُوتَ حَقُّ الآدَمِىِّ. والثانى، أنَّ العَفْوَ جائِزٌ، فتَأْخِيرُه يَحْتَملُ أن يَعْفُوَ الوَلِىُّ فيَحْيَا، بخِلافِ القَتْلِ حَقًّا للَّهِ سبحانَه. النَّوْعُ الثالثُ، أن يَتَّفِقَ الحَقَّانِ في مَحَلٍ واحدٍ، كالقَتْلِ والقَطْعِ قِصاصًا وحَدًّا؛ فأمَّا القَتْلُ، فإن كان فيه ما هو خالصٌ لحَقِّ اللَّه تعالى، كالرَّجْمِ في الزِّنَى، وما هو حَقٌّ لآدَمِىٍّ، كالقِصاصِ، قُدِّمَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِصاصُ، لتَأَكُّدِ حَقِّ الآدَمِىِّ. وإنِ اجْتَمَعَ القَتْلُ للقتلِ (¬1) في المُحارَبَةِ والقِصاصُ، بُدِئَ بأسْبَقِهما (¬2)؛ لأَنَّ القَتْلَ في المُحارَبةِ فيه حَقٌّ لآدَمِىٍّ أيضًا، فقُدِّمَ أسْبَقُهُما، فإن سَبَق القَتْلُ في المُحارَبَةِ اسْتُوفِىَ، ووَجَبَ لولِىِّ المَقْتُولِ الآخرِ دِيَتُه في مالِ الجانِى، وإن سَبَق القِصاصُ، قُتِلَ قِصاصًا، ولم يُصْلَبْ؛ لأَنَّ الصَّلْبَ مِن تَمامِ الحَدِّ، وقد سَقَط الحَدُّ بالقِصاصِ، فسَقَط الصَّلْبُ، كما لو مات. ويجبُ لوَلِىِّ المَقْتُولِ في المحارَبةِ دِيَتُه؛ لأَنَّ القَتْلَ تَعَذَّرَ اسْتِيفاؤه وهو قِصاصٌ، فصار الوجوبُ إلى الدِّيَةِ. وهكذا لو مات القاتِلُ في المُحارَبَةِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ في تَرِكَتِه، لتَعَذُّرِ اسْتِيفاءِ القَتْلِ مِن القاتلِ. ولو كان القِصاصُ سابِقًا، فعَفَا وَلِىُّ المقْتُولِ، اسْتُوفِىَ القَتْلُ للمُحارَبَةِ، سَواءٌ عفا مُطْلَقًا أو إلى الدِّيَةِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وأمَّا القَطْعُ، فإذا اجْتَمَعَ وُجوبُ القَطْعِ في يَدٍ أو رِجْلٍ قِصاصًا وحَدًّا، قُدِّمَ القِصاصُ على الحَدِّ المُتَمَحِّضِ للَّهِ تعالى، لِما ذَكَرْناه. وسَواءٌ تَقَدَّمَ سَبَبُه أو تَأَخَّرَ. وإن عَفا وَلِىُّ الجِنايةِ، اسْتُوفِىَ الحَدُّ، فإذا قَطَع يَدًا وأخَذَ المالَ في المُحارَبَةِ، قُطِعَتْ يَدُه قِصاصًا، ويُنْتَظَرُ بُرْؤُه، فإذا بَرَأ قُطِعَتْ ¬

(¬1) سقط من: م، وفى الأصل: «المقتل». (¬2) في الأصل: «استيفائهما»، وفى تش: «باستيفاء أسبقهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِجْلُه للمُحارَبةِ؛ لأنَّهما (¬1) حَدَّانِ. وإنَّما قُدِّمَ القِصاصُ في القَطْعِ [دُونَ القتلِ؛ لأَنَّ القَطْعَ في المُحارَبةِ حَدٌّ مَحْضٌ، وليس بقِصاصٍ، القتلُ فيهما يَتَضَمَّنُ القِصاصَ] (¬2)، ولهذا لو فات القَتْلُ في المُحارَبةِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، ولو فات القَطْعُ، لم يَجِبْ له بَدَلٌ. وإذا ثَبَت أنَّه يُقَدَّمُ القِصاصُ على القَطْعِ في المُحارَبةِ، فقَطَع اليَدَ قِصاصًا، فإنَّ رِجْلَه تُقْطَعُ، وهل تُقْطَعُ يَدُه الأُخْرَى؟ نَظَرْنا؛ فإن كان المَقْطُوعُ بالقِصاصِ قد كان مُسْتَحِقَّ القَطْعِ بالمُحارَبَةِ قبلَ الجِنايةِ المُوجِبَةِ للقِصاصِ فيه، لم يُقْطَعْ أكثرُ مِن العُضْوِ الباقِى فِي العُضْوَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتُحِقَّ قَطْعُهما؛ لأَنَّ مَحَلَّ القَطْعِ ذَهَب بعارِضٍ حادثٍ، فلم يَجِبْ قَطْعُ بَدَلِه، كما لو ذَهَب بعُدْوانٍ أو بمَرَضٍ. وعلى هذا لو ذَهَب العُضْوان جميعًا، سَقَط القَطْعُ عنه بالكُلِّيَّةِ. وإن كان سَبَبُ القَطْعِ قِصاصًا سابِقًا على مُحارَبَتِه، أو كان المَقْطُوعُ غيرَ العُضْوِ الذى وَجَب قَطْعُه في المُحارَبةِ، مثلَ أن وَجَب عليه القِصاصُ في يَسارِه بعدَ وُجُوبِ قَطْعِ يُمْناه في المُحارَبةِ، فهل تُقْطَعُ اليَدُ الأُخْرَى للمُحارَبةِ؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على الرِّوايَتَيْن في قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ بعدَ ¬

(¬1) في الأصل: «لأنها». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

فصل

فَصْلٌ: وَمَنْ قَتَلَ أَوْ أتَى حَدًّا خَارِجَ الْحرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعِ يَمِينِه، إن قُلْنا: تُقْطَعُ ثَمَّ. قُطِعَتْ ههُنا، وإلَّا فلا. وإن سَرَق وأخَذَ المالَ في المُحارَبةِ، قُطِعَتْ يَدُه اليُمْنَى لأسْبَقِهما، فإن كانتِ المُحارَبةُ سابقةً، قُطِعَتْ يَدُه اليُمْنَى ورِجْلُه اليُسْرَى في مَقامٍ واحدٍ، وحُسِمتا. وهل تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْه للسَّرِقَةِ؟ على الرِّوايَتَيْن؛ فإن قُلْنا: تُقْطَعُ. انْتُظِرَ بُرْؤه مِن القَطْعِ للمُحارَبةِ؛ لأنَّهما حَدَّان. وإن كانتِ السَّرقَةُ سابقةً، قُطِعَتْ يُمْناه للسَّرِقَةِ، ولا تُقْطَعُ رِجْلُه للمُحارَبَةِ حتى تَبْرَأَ يَدُه. وهل تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْه للمُحارَبةِ؟ على وَجْهَيْن. فصل: وإن سَرَق وقَتَل في المُحارَبَةِ، ولم يَأْخُذِ المالَ، قُتِلَ حَتْمًا، ولم يُصْلَبْ، ولم تُقْطَعْ يَدُه؛ لأنَّهما حَدَّان فيهما قَتْل، فدَخَل ما دونَ القَتْل فيه، ولم يُصْلَبْ؛ لأَنَّ الصَّلْبَ مِن تَمامِ حَدِّ قاطِعِ الطَّريقِ إذا أخَذ المالَ مع القتلِ، ولم يُوجَدْ، وهذان حَدَّان كلُّ واحدٍ منهما مُنْفَصِلٌ عن صاحِبِه، فإذا اجْتَمَعا تَداخَلا. وإن قَتَل في المُحارَبةِ جماعةً، قُتِلَ بالأوَّلِ حَتْمًا، وللباقِينَ دِيَاتُ أوْلِيائِهم؛ لأَنَّ قَتْلَه اسْتُحِقَّ بقَتْلِ الأَوَّلِ، وتَحَتَّمَ بحيثُ لا يسْقُطُ، فتَعَيَّنتْ حُقوقُ الباقِين في الدِّيَةِ، كما لو مات (¬1). فصل (¬2): (ومَن قَتَل، أو أتَى حَدًّا خارِجَ الحَرَمِ، ثم لَجَأ ¬

(¬1) إلى هنا ينتهى الجزء السابع من نسخة أحمد الثالث. (¬2) بداية الجزء الثامن من نسخة أحمد الثالث والتى هى الأصل.

لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى حَتَّى يَخْرُجَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه، لم يُسْتَوْفَ منه فيه، ولكن لا يُبايَعُ ولا يُشارَى حتى يَخْرُجَ فيُقامَ عليه الحَدُّ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن قَتَل خارِجَ الحرمِ، ثم لَجَأ إليه، لم يُسْتَوْفَ منه فيه. هذا قولُ ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ، والزُّهْرِىِّ، ومُجاهِدٍ، وإسْحاقَ، والشَّعْبِىِّ، وأبى حنيفةَ وأصحابه. وأمَّا غيرُ القَتْلِ مِن الحُدودِ كلِّها والقِصاصِ فيما دُونَ النَّفْسِ، فعن أحمدَ فيه رِوِايَتان، إحْداهما، لا يُسْتَوْفَى مِن المُلْتَجِئ إلى الحَرَمِ فيه. والثانيةُ، يُسْتَوْفَى. وهذا مذهبُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ المَرْوِىَّ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّهْىُ عن القتلِ بقَوْلِه عليه السلامُ: «فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ» (¬1). وحُرْمَةُ النَّفْسِ أعْظَمُ، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، ولأَنَّ الحَدَّ بالجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فلم يُمْنَعْ منه، كتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عبدَه. والأُولَى ظاهِرُ المذْهبِ، وظاهِرُ قَوْل الخِرَقِىِّ. قال أبو بكرٍ: هذه مسألةٌ وَجَدْتُها لحَنْبَلٍ عن عَمِّه، أنَّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، من كتاب العلم، وفى: باب حدثنى محمد ابن بشار. . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 1/ 37، 5/ 190. ومسلم، في: باب تحريم مكة وصيدها وخلاها. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 987. والترمذى، في: باب ما جاء في حرمة مكة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذى 4/ 23. والنسائى، في: باب تحريم القتال فيه، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 161. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 31، 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُدودَ كلَّها تُقامُ في الحَرَمِ، إلَّا القَتلَ، والعملُ على أنَّ (¬1) كلَّ جانٍ دَخَل الحَرَمَ، لم يُقَمْ عليه الحَدُّ حتى يَخْرُجَ منه. وقال مالكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى منه؛ لعُمُومِ الأمْرِ بجَلْدِ الزَّانِى، وقَطْعِ السَّارِقِ، واسْتِيفاء القِصاصِ مِن غيرِ تَخْصِيص بمكانٍ دونَ مكانٍ، وقد رُوىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: إنَّ الحَرَمَ لَا يُعِيذُ عاصِيًا، وَلَا فَارًّا بخَرْبَةٍ (¬2) وَلَا دَمٍ (¬3). وقد أمَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَتْلِ ابنَ خَطَلٍ وهو مُتَعَلِّقٌ بأسْتارِ الكَعْبَةِ (¬4). حديثٌ حسنٌ (¬5) صحيحٌ. ولأنَّه حَيَوانٌ أُبِيحَ قَتْلُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بجزية». والخربة، بفتح الخاء على المشهور، ويقال: بالضم، وأصلها سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة. وفسرها البخارى بأنها البلية. وأما الجزية فحكاها في الفتح عن الكرمانى واستغربها. فتح البارى 4/ 45. (¬3) هذا من كلام عمرو بن سعيد الأشدق كما سيذكر الشارح. وهو موجود في المصادر السابقة إلا النسائى. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب قتل الأسير، من كتاب الجهاد، وفى: باب أين ركز النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 82، 5/ 188. ومسلم، في: باب جواز دخول مكة بغير إحرام، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 989، 990. وأبو داود، في: باب قتل الأسير. . .، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 54، 55. والترمذى، في: باب ما جاء في المغفر، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 186. والنسائى، في: باب دخول مكة بغر إحرام، من كتاب مناسك الحج، وفى: باب الحكم في المرتد، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 5/ 158، 7/ 97. والدارمى، في: باب في دخول مكة بغير إحرام. . .، من كتاب المناسك، وفى: باب كيف دخل النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة. . .، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 73، 221. والإمام مالك، في: باب جامع الحج، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 423. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 164، 186، 231، 233، 240. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعصْيانِه، فأشْبَهَ الكَلْبَ العَقُورَ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬1). يعنى الحرم، بدليلِ قولِه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} (1). والخبرُ أُرِيدَ به الأمْرُ؛ لأنَّه (¬2) لو أُرِيدَ به (¬3) الخبرُ، لأفْضَى إلى وُقُوعِ الخبرِ خِلافَ المُخْبرِ. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليومِ الآخِرِ، أَنْ يَسْفِكَ فيها دَمًا، ولا يَعْضِدَ بها شَجَرةً، فإنْ أحدٌ تَرَخَّصَ لقِتالِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُولوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لرَسُولِه، ولمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإنَّما أذِنَ لى سَاعَةً مِن نَهَارٍ، وقد عادتْ حُرمَتُها اليوْمَ كحُرْمَتِها بالأمسِ، فليُبَلِّغِ الشَّاهدُ (¬4) الغَائبَ». . وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ، وَإنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةَّ مَنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا، فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ». مُتَّفقٌ عليهما (¬5). والحُجَّةُ فيه مِن ¬

(¬1) سورة آل عمران 97. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في الأصل: «منكم». وهو في المسند 4/ 32. (¬5) الأول تقدم تخريجه في صفحة 222. والثانى أخرجه دون آخره البخارى، في: باب لا يعضد شجر الحرم، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البخارى 3/ 18. ومسلم، في: باب تحريم مكة وصيدها. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 986، 987. كما أخرجه النسائى، في: باب حرم مكة، وباب تحريم القتال فيه، من كتاب مناسك الحج. المجتبى 5/ 160، 161. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 253, 259، 315، 316. كلهم من حديث ابن عباس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّه حَرَّمَ سَفْكَ الدَّم بها على الإِطْلاقِ، وتَخْصِيصُ مَكَّةَ بهذا يَدُلُّ على أنَّه أرادَ العُمُومَ، فإنَّه لو أرادَ سَفْكَ الدَّمِ الحرامِ، لم تَخْتَصَّ به مكةُ، فلا يكونُ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا. والثانى، قولُه: «إِنَّما أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا». ومَعْلُومٌ أنَّه إنَّما أُحِلَّ له سفْكُ دَمٍ حَلالٍ في غيرِ الحَرَمِ، فحَرَّمَها الحَرَمُ، ثم أُحِلَّتْ له ساعةً، ثم عادتِ الحُرْمَةُ، ثم أكَّدَ هذا بمنْعِه قياسَ غيرِه عليه. والاقْتِداءُ به بقولِه: «فَإن أحَدٌ تَرَخَّصَ بقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لِرَسُولِه، وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ». وهذا يَدْفَعُ ما احْتَجُّوا به مِن قَتْلِ ابنِ خَطَلٍ، فإنَّه مِن رُخْصَةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، التى مَنَعَ النَّاسَ أن يَقْتَدُوا به فيها، وبَيَّنَ أنَّها له على الخُصوصِ، وما رَوَوْه مِن الحديثِ، فهو مِن كلامِ عمرِو ابنِ سعيدٍ الأشْدَقِ، يَرُدُّ به قولَ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ روَى له أبو شُرَيحٍ هذا الحديثَ، وقولُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحَقُّ أن يُتَّبَعَ. وأمَّا جَلْدُ الزَّانِى، وقطعُ السَّارِقِ، والأمْرُ بالقِصاصِ، فإنَّما هو مُطْلَقٌ في الأمْكِنَةِ والأزْمِنَةِ، فإنَّه يَتَناوَلُ مَكانًا غيرَ مُعَيَّنٍ، ضَرُورَةَ أنَّه لا بُدَّ مِن مكانٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُمْكِنُ إقامَتُه في مكانٍ غيرِ الحَرَمِ، ثم لو كان عامًّا، فإنَّ ما رَوَيْناه خاصًّا يُخَصُّ به، مع أنَّه قد خُصَّ ممَّا ذكرُوه الحامِلُ، والمريضُ المرْجُوُّ بُرْؤُه، فتأخَّر الحدُّ عنه، وتأخَّرَ (¬1) قتلُ الحامِلِ، فجازَ أن يُخَصَّ أيضًا بما ذَكَرْناه. والقِياسُ على الكلبِ العَقورِ لا يَصِحُّ، فإنَّ ذلك طبعُه الأَذَى، فلم يُحَرِّمْه الحَرَمُ ليُدْفَعَ أذاه عن أهلِه، وأمَّا الآدَمِىُّ، فالأصْلُ فيه الحُرْمَة، وحُرْمَتُه عَظِيمَة، وإنَّما أُبِيحَ (¬2) لعارضٍ، فأشْبَهَ الصائِلَ مِن الحيواناتِ المُباحَةِ مِن المَأكُولاتِ، فإنَّ الحَرَمَ يَعْصِمُها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُبايَعُ، ولا يُشارَى، ولا يُطْعَمُ، ولا يُؤْوَى، ويُقالُ له: اتَّقِ اللَّهَ واخْرُجْ إلى الحِلِّ؛ ليُسْتَوْفَى منك الحَقُّ الذى قِبَلَكَ. فإذا خَرَج اسْتُوفِىَ حَقُّ اللَّهِ منه. وهذا قولُ جميعِ مَن ذَكَرْناه. وإنَّما كان كذلك، لأنَّه لو أُطْعِمَ أو أُوِىَ، لتَمَكَّنَ مِن الإِقامَةِ دائِمًا، فيضِيعُ الحَقُّ الذى عليه، وإذا مُنِعَ مِن ذلك، كان وسيلةً إلى خُرُوجِه فيُقامُ فيه حَقُّ اللَّهِ تعالى. وليس علينا إطْعامُه، كما أنَّ الصَّيْدَ لا يُصادُ في الحَرَمِ، وليس علينا القيامُ به. قال ابنُ عباسٍ، رَحِمَه اللَّهُ: مَن أصابَ حَدًّا، فلَجَأ إلى الحَرَمِ، فإنَّه لا يُجَالَسُ، ولا يُبايَعُ، ولا يُؤْوَى، ويَأتِيه الذى. يَطْلُبُه، فيقولُ: أىْ فلانُ، اتَّقِ اللَّهَ. فإذا خَرَج مِن الحَرَمِ، أُقِيمَ عليه الحَدُّ. رَواه الأثرَمُ (¬3). فإن قَتَل مَن له ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «صح». (¬3) وأخرجه ابن جرير، في تفسيره 4/ 12، 13.

4396 - مسألة: (وإن فعل ذلك فى الحرم، استوفى منه فيه)

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِى الْحَرَمِ، اسْتُوفِىَ مِنْهُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه قِصاصٌ في الحَرَمِ، أو أقامَ حَدًّا بجَلْدٍ أو قَتْلٍ أو قَطْعِ طَرَفٍ، أساءَ، ولا شئَ عليه؛ لأنَّه اسْتَوْفَى حَقَّه (¬1) في حالٍ لم يَكُنْ له اسْتِيفاؤه فيه، فأشْبَهَ ما لو اقْتَصَّ في حَرٍّ شَدِيدٍ أو بَرْدٍ مُفْرِطٍ. 4396 - مسألة: (وإن فَعَل ذلكَ في الحَرَمِ، اسْتُوفِىَ منه فيه) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن انْتَهَكَ حُرْمَةَ الحَرَمِ (¬2)، بجِنايَةٍ فيه تُوجِبُ حدًّا أو قِصاصًا، فإنَّه يُقامُ عليه [الحَدُّ فيه] (¬3)، لا نعلمُ فيه خِلافًا. وقد روَى الأَثْرَمُ بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: مَن أحْدَثَ حَدَثًا في الحَرَمِ، أُقِيمَ عليه ما أحْدَثَ فيه مِن شئٍ (¬4). وقد أَمَرَ اللَّهُ تعالى بقتالِ (2) مَن قاتَلَ في الحَرَمِ، فقال تَعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (¬5). فأباحَ قَتْلَهم عندَ قِتالِهم ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «حدها». (¬4) انظر ما أخرجه ابن جرير، في تفسيره 4/ 13. (¬5) سورة البقرة 191.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحَرَمِ، ولأَنَّ أهلَ الحَرَم يَحْتاجُون إلى الزَّجْرِ عن ارْتِكابِ المعاصِى كغيرِهم، حِفْظًا لأنْفُسِهم وأمَوالِهم وأعْراضِهم، فلو لم يُشْرَعِ الحَدُّ في حَقِّ مَن ارْتَكَبَ الحَدَّ في الحَرَمِ، لتَعَطَّلَتْ حُدودُ اللَّهِ تعالى في حَقِّهم، وفاتَتْ هذه المصالحُ التى لا بُدَّ منها، ولا يجوزُ الإِخْلالُ بها، ولأَنَّ الجانِىَ في الحَرَمِ هاتِكٌ لحُرْمَتِه، فلا تَنْتَهِضُ الحُرْمَةُ لتَحْريمِ دَمِه وصِيانَتِه، بمَنْزِلَةِ الجانِى في دارِ المَلِكِ، لا يُعْصَمُ لحُرْمَةِ المَلِكِ، بخِلافِ المُلْتَجِئَ إليها لجِنايةٍ صَدَرَت منه في غيرِها. فصل: فأمَّا حَرَمُ مَدينَةِ النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا يَمْنَعُ إقامَةَ حَدٍّ ولا قِصاصٍ؛ لأَنَّ النَّصَّ إنَّما وَرَد في حَرَمِ اللَّهِ تعالى، وحَرَمُ المدينةِ دُونَه في الحُرْمَةِ، فلا يَصِحُّ قِياسُه عليه. وكذلك سائِرُ البِقاعِ، لا تَمْنَعُ مِن اسْتِيفاءِ حَقٍّ، ولا إقامَةِ حَدٍّ؛ لأَنَّ أمْرَ اللَّهِ تعالى باسْتِيفاءِ الحُقوقِ وإقامَةِ الحَدِّ مُطْلَق في الأمْكِنَةِ والأزْمِنَةِ، خَرَج منها الحَرَمُ لمَعْنًى لا يَكْفِى (¬1) في غيرِه؛ لأنَّه مَحَلُّ الأنْساكِ وقِبْلَةُ المسلمين، وفيه بَيْتُ اللَّه المَحْجُوجُ، وأوَّلُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ، ومَقامُ إبراهيمَ، وآياتٌ بَيِّناتٌ، فلا يُلْحَقُ به سِواهُ، ولا يُقاسُ عليه؛ لأنَّه [لا شئَ] (¬2) في مَعْناه. واللَّهُ سُبحانه أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «يلقى». (¬2) في م: «ليس».

4397 - مسألة: (وإن أتى حدا فى الغزو، لم يستوف منه فى أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام، فيقام عليه)

وَإِنْ أَتَى حَدًّا فِى الْغَزْوِ، لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ في أرضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4397 - مسألة: (وإن أتَى حَدًّا في الغَزْوِ، لم يُسْتَوْفَ منه في أرضِ العَدُوِّ حتى يَرْجِعَ إلى دارِ الإِسلامِ، فيُقامَ عليه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ مَن أتَى حَدًّا مِن الغُزاةِ، أو ما يُوجبُ قِصاصًا، في أرضِ الحَرْبِ، لم يُقَمْ عليه حتى يَقْفُلَ، فيُقامَ عليه حَدُّه. وبهذا قال الأوْزَاعِىُّ، وإسْحاقُ. وقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يُقامُ الحَدُّ في كلِّ مَوْضِعٍ؛ لأنُّ أمْرَ اللَّهِ تعالى بإقامَتِه مُطْلَقٌ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ. إلَّا أنَّ الشافعىَّ قال: إذا لم يَكُنْ أميرُ الجيشِ الإِمامَ، أو أميرَ إقْليمٍ، فليس له إقامَتُه، ويُؤَخَّرُ حتى يأْتىَ الإِمامَ؛ لأَنَّ إقامةَ الحُدُودِ إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجَةٌ إلى المَحْدُودِ، أو قُوَّةٌ به، أو شُغْلٌ عنه، أُخِّرَ. وقال أبو حنيفةَ: لا حَدَّ ولا قِصاصَ في دارِ الحَرْب، ولا إذا رَجع. ولَنا، على وُجُوبِ الحَدِّ، أمْرُ اللَّهِ تعالى ورسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- به، وعلى تَأْخيرِه، ما روَى بُسْرُ بنُ أبى (¬1) أرْطاةَ، أنَّه أُتِى برجلٍ في الغَزاةِ قد سَرَق بُخْتِيَّةً (¬2)، فقال: لولا أنِّى سَمِعْتُ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لا تُقْطَعُ الأيدِى في الْغَزَاةِ». لقَطَعْتُكَ. أخْرَجَه أبو داودَ وغيرُه (¬3). ولأنَّه إجْماعُ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فروَى سعيدٌ (¬4) بإسْنادِه عن الأحْوَصِ بنِ حَكيمٍ، عن أبِيه، أنَّ ¬

(¬1) في ص: «بن أرطاة». وهو بسر بن أرطاة، ويقال: أبى أرطاة عمير بن عويمر القرشى، مختلف في صحبته. توفى سنة 86 هـ. تهذيب التهذيب 1/ 435، 436. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب الرجل يسرق في الغزو، أيقطع؟، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 453. والترمذى، في: باب ما جاء أنه لا تقطع الأيدى في الغزو، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 231. والدارمى، في: باب في أن لا يقطع الأيدى في الغزو، سنن الدارمى 2/ 231. (¬3) في: باب كراهية إقامة الحدود في أرض العدو، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 196. (¬4) كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب إقامة الحد على الرجل في أرض العدو، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 102, 103.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ كَتَب إلى النَّاسِ، أن لا يَجْلِدَنَّ أمِيرُ جَيْشٍ ولا سَرِيَّةٍ ولا رجلًا مِن المسلمين حَدًّا، وهو غازٍ، حتى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قافِلًا؛ لِئَلَّا تَلْحَقَه حَمِيَّةُ الشَّيْطانِ، فيَلْحَقَ بالكُفَّارِ. وعن أبى الدَّرْداءِ مثلُ ذلك (¬1). وعن علْقَمَةَ، قال: كنَّا في جيش في أرضِ الرُّومِ، ومعنا حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ، [وعلى القومِ] (¬2) الوليدُ بنُ عُقْبَةَ، فشَرِبَ الخمرَ، فأرَدْنا أن نَحُدَّه، فقال حُذَيْفَةُ: أتَحُدُّونَ أمِيرَكم وقد دَنَوْتُمْ مِن عَدُوِّكم، فيَطْمَعُوا فيكم (¬3)؟ وأُتِى سعدٌ بأبى مِحْجَنٍ يومَ القادِسِيَّةِ، وقد شَرِب الخمرَ، فأمَرَ به إلى القَيْدِ، فلمّا الْتَقَى الناسُ قال أبو مِحْجَنٍ: كَفَى حَزَنًا أَنْ تُطْرَدَ الخيلُ بِالْقَنا … وأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَىَّ وَثَاقِيَا (¬4) وقال لابْنَةِ خَصَفَةَ (¬5) امْرأةِ سعدٍ: أطْلِقِينى، ولَكِ اللَّهُ علَىَّ إن سَلَّمَنِى اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه سعيد، في: سننه 2/ 196. وابن أبى شيبة، في: المصنف 10/ 103. (¬2) في الأصل: «على و»، وفى م: «وعلينا». (¬3) أخرجه سعيد، في: الباب السابق، السنن 2/ 197. وعبد الرزاق، في: الباب السابق. المصنف 5/ 198. (¬4) البيت في: طبقات فحول الشعراء 1/ 268، والشعر والشعراء 1/ 423. (¬5) في الأصل، تش، ص، م، والإصابة 7/ 705: «حفصة». وفى سنن سعيد: «حصفة». والمثبت، في ق، وطبقات ابن سعد 3/ 138، 5/ 168، 169، ومصنف ابن أبى شيبة، وتاريخ الطبرى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن أرْجِعَ حتى أضَعَ رِجْلِى في القيدِ، وإن قُتِلْتُ، اسْتَرَحْتُم منِّى. قال: فحَلَّتْه حينَ (¬1) الْتَقَى الناسُ، وكانتْ بسعدٍ جِراحَةٌ، فلم يَخرُجْ يومَئِذٍ إلى الناسِ، قال: وصَعِدُوا به فوقَ العُذَيْبِ (¬2) يَنْظُرُ إلى الناسِ، واسْتَعْمَلَ على الخيلِ خالدَ بنَ عُرْفُطَةَ، فوَثَبَ أبو مِحْجَنٍ على فَرسٍ لسعدٍ يُقالُ لها البَلْقَاءُ، ثم أخَذ رُمْحًا، فجعَلَ لا يَحْمِلُ على ناحِيَةٍ مِن العَدُوِّ إلَّا هَزَمَهم، وجَعَل الناسُ يقُولُون: هذا مَلَكٌ؛ لِما يَرَوْنَه يَصْنَعُ، وجَعَل سعدٌ يقولُ: [الضَّبْرُ ضَبْرُ] (¬3) البَلْقاءِ، والطَّعْنُ طَعْنُ أبى مِحْجَنٍ، وأبو مِحْجَنٍ في القَيْدِ. فلَمّا هُزِمَ العَدُوُّ، رَجَع أبو مِحْجَنٍ حتى وَضَع رِجْلَه في القَيْدِ، فأخْبَرَت ابنةُ خَصَفَةَ (¬4) سعدًا بما كان مِن أمْرِه، فقال سعدٌ: لا واللَّهِ لا أضْرِبُ اليومَ رَجلًا أبْلَى اللَّهُ المسلمين على يَدَيْه (¬5) ما أبْلاهُم. فَخَلَّى سَبيلَه. فقال أبو مِحْجَنٍ: قد كنتُ أشْرَبُها إذْ يُقامُ علىَّ الحَدُّ وأُطَهَّرُ منها، فأمَّا إذْ بَهْرَجْتَنِى (¬6)، فواللَّهِ لا أشْرَبُها أبدًا (¬7). وهذا اتِّفاقٌ لم يظْهَرْ ¬

(¬1) في تش، م: «حتى». (¬2) العذيب: ماء بين القادسية والمغيثة. معجم البلدان 3/ 626. (¬3) في م: «الصبر صبر» بالصاد المهملة. والضبر، بالضاد المعجمة: أن يجمع الفرس قوائمه ويثب. النهاية لابن الأثير 3/ 72. (¬4) في الأصل، تش: «حفصة»، وفى م: «حصفة». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) بهرجتنى: أهْدَرْتَنى بإسقاط الحد عنى. النهاية لابن الأثير 1/ 166. (¬7) أخرجه سعيد، في: باب كراهية إقامة الحدود في أرض العدو، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 197، 198. وابن أبى شيبة، في: المصنف 12/ 560 - 562. وانظر القصة، في: تاريخ الطبرى 3/ 575، والاستيعاب 4/ 1746، 1747، والإصابة 7/ 361، 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافُه. فأمَّا إذا رَجَع، فإنَّه يُقامُ عليه الحَدُّ؛ لعُمُومِ الآياتِ والأخْبارِ، وإنَّما أُخِّرَ لعارِضٍ، كما يُؤَخَّرُ لمَرَضٍ أو شُغْل، فإذا زال العارِضُ، أُقِيمَ الحَدُّ، لوُجودِ مُقْتَضِيه، وانْتِفاءِ مُعارِضِه، ولهذا قال عمرُ: حتى يقْطَعَ الدَّرْبَ قافِلًا. فصل: وتُقامُ الحُدودُ في الثُّغورِ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه، لأنَّها مِن بلادِ الإِسْلامِ، والحاجَةُ داعِيَةٌ إلى زَجْرِ أهْلِها، كالحاجَةِ إلى زَجْرِ غيرِهم، وقد كَتَب عمرُ إلى أبى عُبَيْدَةَ، أن يَجْلِدَ مَن شَرِب الخمرَ ثمانين، وهو بالشَّامِ (¬1). وهو مِن الثُّغورِ. ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من زعم لا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 105.

باب حد الزنى

بَابُ حَدِّ الزِّنَى ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ حدِّ الزِّنى الزِّنَى حَرامٌ، وهو مِنِ الكبائِرِ العِظامِ، بدَليلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬1). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (¬2). وعن عبدِ اللَّه بنِ مسعودٍ، قال: سألتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أىُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال: «أن تَجْعَلَ للَّه نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قال: قلتُ: ثُمَّ أىٌّ؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قال: قلتُ: ثُمَّ أىٌّ؟ قال: «أَنْ تُزانِىَ حلِيلَةَ جَارِكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وكان حَدُّ الزَّانِى في صَدْرِ الإِسْلامِ الحَبْسَ في البَيْتِ، والأذَى بالكَلامِ مِن التَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ للبِكْرِ؛ لقولِه سبحانَه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ¬

(¬1) سورة الإسراء 32. (¬2) سورة الفرقان 68، 69. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬1). قال بعضُ أهلِ العلمِ: المرادُ بقولِه: {مِنْ نِسَائِكُمْ} الثَّيِّبُ؛ لأَنَّ قَوْلَه: {مِنْ نِسَائِكُمْ}. [إضَافةٌ زَوْجِيَّةٍ] (¬2)، كقولِه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬3). ولا فائدةَ في إضَافَتِه ههُنا نعْلَمُها إلَّا اعْتِبارُ الثيُوبَةِ، ولأنَّه قد ذَكَرَ عُقُوبَتَيْن إحْداهما أغْلَظُ (¬4) مِن الأُخْرَى، فكانتِ الأغْلَظُ للثيِّبِ، والأُخْرَى للبِكْرِ، كالرَّجْمِ والجَلْدِ، ثم نُسِخَ هذا بما روَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «خُذُوا عَنِّى، خُذُوا عَنِّى، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ والرَّجْمُ». رَواه مسلمٌ (¬5). فإن قِيلَ: فكيفَ يُنْسَخُ القُرْآَنُ بالسُّنَّةِ؟ قُلْنا: قد ذَهَب أصحابُنا إلى جَوازِه؛ لأَنَّ الكلَّ مِن عندِ اللَّهِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ طَرِيقُه، ومن مَنَع ذلك قال: ليس هذا نَسْخًا، إنَّما هو تَفْسِيرٌ للقُرْآنِ وتَبْيينٌ له؛ لأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ حُكْمٍ ظاهِرُه الإِطْلاقُ، فأمَّا ما كان مَشْرُوطًا بشَرْطٍ، وزال الشَّرْطُ، لا يكونُ نَسْخًا، وههُنا شَرَط اللَّهُ تعالى حَبْسَهُنَّ إلى أن يَجعَلَ ¬

(¬1) سورة النساء 15، 16. (¬2) في م: «إضافة إلى زوجية». (¬3) سورة البقرة 226. (¬4) في الأصل، تش: «أعظم». (¬5) في: باب حد الزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1316، 1317. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجم، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 455. والترمذى، في: باب ما جاء في الرجم على الثيب، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 209، 210. وابن ماجه، في: باب حد الزنى، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 852. والدارمى، في باب تفسير قول اللَّه تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 181. والإمام أحمد في: المسند 5/ 313، 317، 318، 320، 327.

4398 - مسألة: (إذا زنى الحر المحصن، فحده الرجم حتى يموت. وهل يجلد قبل الرجم؟ على روايتين)

إِذَا زَنَى الْحُرُّ الْمُحْصَنُ، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ. وَهَلْ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمَ؟ عَلَى رِوَايَتَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا، فبَيَّنَتِ السُّنَّةُ السَّبِيلَ، فكان بَيانًا لا نَسْخًا. ويُمْكِنُ أن يُقالَ: إنَّ نَسْخَه حَصَل بالقُرآنِ، فإنَّ الجَلْدَ (¬1) في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، والرَّجْمَ كان فيه، فنُسِخَ رَسْمُه، وبَقِىَ حُكْمُه. 4398 - مسألة: (إذا زَنَى الحُرُّ المُحْصَنُ، فحَدُّه الرَّجْمُ حتى يَمُوتَ. وهل يُجْلَدُ قَبلَ الرَّجْمِ؟ على رِوايَتَيْن) الكلامُ في هذه المسألةِ في فصولٍ ثلاثةٍ: أحدُها، في وُجوبِ الرَّجْمِ على الزَّانِى المُحْصَنِ، رجلًا كان أو امرأةً. هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ مِن الصَّحابةِ، والتَّابعِين، ومَن بَعْدَهم مِن عُلَماءِ الأمْصارِ في جميعِ الأعْصارِ، ولا نَعلمُ أحدًا خالفَ فيه إلَّا الخَوارِجَ، فإنَّهم قالُوا: الجَلْدُ للبِكْرِ والثيبِ، لقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2). وقالوا (¬3): لا يجوزُ تَرْكُ كتابِ اللَّهِ تعالى الثابتَ بالقَطْعِ واليَقِينِ، لأخْبارِ آحادٍ يجوزُ (¬4) ¬

(¬1) بعده في م: «كان». (¬2) سورة النور 2. (¬3) في م: «قال». (¬4) في الأصل: «لا يجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَذِبُ فيها، ولأَنَّ هذا يُفْضِى إلى نَسْخِ الكِتابِ بالسُّنَّةِ، وهو غيرُ جائِزٍ. ولَنا، أنَّه قد ثَبَت الرَّجْمُ عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَوْلِه وفِعْلِه، في أخْبارٍ تُشْبِهُ المُتَواتِرَ، وأجْمَعَ عليه أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما نَذْكُرُه في أثْناءِ البابِ في مَواضِعِه، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، وقد أنزَلَه اللَّهُ تَعالى في كتابِه، وإنَّما نُسِخَ رَسْمُه دُونَ حُكْمِه، فرُوِىَ عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: إنَّ اللَّهَ تعالى بَعَث محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحَقِّ، وأنْزَلَ عليه الكِتابَ، فكان فيما أنْزَلَ عليه آيةُ الرَّجْمِ، فقَرَأتها وعَقَلْتُها ووَعَيْتُها، ورَجَم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَجَمْنا بعدَه. فأخْشَى إن طال بالنَّاسِ زَمانٌ، يقولُ قائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجْمَ في كتابِ اللَّهِ. فيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ تعالى، فالرَّجْمُ حَقٌّ على مَن زَنَى إذا أحْصَنَ، مِن الرِّجال والنِّساءِ، إذا قامَت به البَيِّنَةُ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعْتِرافُ، وقد قَرَأْتُها: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّه وَاللَّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ). مُتَّفقٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه (¬1). وأمَّا آيَةُ الجَلْدِ، فنقولُ بها، فإنَّ الزَّانِىَ يجبُ جَلْدُه، فإن كان ثَيِّبًا رُجِمَ مع الجلدِ، والآيةُ لم تَتَعَرَّضْ لنَفْيِه (¬2). وإلى هذا أشارَ علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، حينَ جَلَد شُرَاحَةَ (¬3)، ثم رَجَمَها، [وقال] (¬4): جَلَدْتُها بكتابِ اللَّهِ، ثم رَجَمْتُها بسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ثم لو قُلْنا: إنَّ الثَّيِّبَ لا يُجْلَدُ. لكان هذا تَخْصِيصًا للآيَةِ العامَّةِ، وهذا سائِغٌ بغيرِ خِلافٍ، فإنَّ عُمُوماتِ القُرْآنِ في الإِثْباتِ كلَّها مُخَصَّصَةٌ. وقولُهم: إنَّ هذا نَسْخٌ. ليس بصَحِيحٍ، وإنَّما هو تَخْصِيصٌ، ثم لو كان نَسْخًا، [لكان نَسْخًا] (¬6) بالآيَةِ التى ذَكَرَها عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقد رَوَيْنا أنَّ رُسُلَ الخَوارِجِ جاءوا عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، رَحِمَه اللَّهُ، فكانَ مِن جُمْلَةِ ما عابُوا عليه الرَّجْمُ، وقالوا: ليس في كتابِ اللَّهِ إلَّا الجَلْدُ. وقالوا: الحائِضُ أوْجَبْتُم عليها قَضاءَ الصَّوْمِ دونَ الصَّلاةِ، والصلاةُ أوْكَدُ. فقال لهم عمرُ: وأنتُم لا تَأخُذونَ إلَّا بما في كتابِ اللَّهِ؟ قالوا: نعم. قال: فأخْبِرُونِى عن عَدَدِ الصَّلَواتِ المفْرُوضاتِ، وعَدَدِ رَكَعاتِها وأرْكَانِها وواجِباتِها، أين تَجِدُونَه في كتابِ اللَّهِ؟ وأخْبِرُونِى عمَّا تجبُ الزَّكاةُ فيه، ونُصُبِها، ومَقادِيرِها؟ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: 23/ 158. (¬2) في م: «إلى كيفية». (¬3) سقط من: تش، م. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 197. (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: أنْظِرْنا. فرَجَعُوا يَوْمَهم ذلك، فلم يَجِدوا شيئًا ممَّا سَألهم عنه في القُرْآنِ. فقالوا لم نَجِدْه في القُرْآنِ. قال: فكيفَ ذَهَبْتُم إليه؟ قالوا: لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، وفَعَلَه المسلمون بعدَه. فقال لهم: فكذلك الرَّجْمُ، وقَضاءُ الصَّوْم، [فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَم، ورَجَم خُلَفاؤُه بعدَه والمسلمون، وأَمَر النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَضاءِ الصَّوْمِ] (¬1) دُونَ الصَّلاةِ، وفَعَل ذلك نِساؤُه ونِساءُ أصحابِه. إذا ثَبَت هذا، فمعْنَى الرَّجْمِ أن يُرْمَى بالحِجارَةِ وغيرِها حتى يَمُوتَ بذلك. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ المَرْجُومَ يُدَامُ عليه الرَّجْمُ حتى يَمُوتَ. ولأَنَّ إطلاقَ الرَّجْمِ يَقْتَضِى القَتْلَ به؛ لقَوْلِه تعالى: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} (¬3). وقد رَجَم رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليَهُودِيَّين اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وماعِزًا، والغامِدِيَّةَ، حتى ماتوا (¬4). الفصلُ الثانى: أنَّه يُجْلَدُ، ثم يُرْجَمُ، في إحْدَى الرِّوايَتَيْن. فَعَل ذلك علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال ابنُ عباسٍ، وأُبَى بنُ كَعْبٍ، وأبو ذَرٍّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر: الإجماع 69. (¬3) سورة الشعراء 116. (¬4) تقدم تخريج حديث اليهوديين في 10/ 446، 447، وصفحة 197، وحديث ماعز والغامدية في صفحة 196, 204.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِىَ اللَّهُ عنهم. واخْتارَه [وذَكَر ذلك أبو بَكرٍ عبدُ العزيزِ عنهم] (¬1). وبه قال الحسنُ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ. والرِّوايةُ الثَّانِيَةُ، يُرْجَمُ ولا يُجْلَدُ. رُوِى عن عمرَ وعثمانَ، أنَّهما رَجَما ولم يَجْلِدا. ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: إذا اجْتَمَعَ حَدَّانِ للَّهِ، فيهما القَتْلُ، أحاطَ القَتْلُ بذلك (¬2). وبهذا قال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. واخْتارَه أبو إسحاقَ الجُوزْجَانِىُّ و [أبو بكرٍ] (¬3) الأَثْرَمُ، ونَصَراه في «سُنَنِهما»، لأَنَّ جابرًا روَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَم ماعِزًا ولم يَجْلِدْه (¬4)، ورَجَمَ الغامِدِيَّةَ ولم يَجْلِدْها. وقال: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلى امْرَأةِ هذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ولم يَأمُرْه بجَلْدِها، وكان هذا آخِرَ الأَمْرَيْن مِن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيَجِبُ تَقْدِيمُه. قال الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقولُ في حديثِ عُبادَةَ: إنَّه أوَّلُ حَدٍّ (¬6) نَزَلَ، وإنَّ حديثَ ماعِزٍ بعدَه، رَجَمَه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يَجْلِدْه، وعمرُ رَجَم ولم يَجْلِدْ. ونَقَل عنه إسماعيلُ بنُ سعيدٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ر 3، ص. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 212. (¬3) سقط من: م. (¬4) انظر ما أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 10/ 83. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 212. كلاهما عن جابر بن سمرة. (¬5) تقدم تخريجه في: 13/ 450. (¬6) في الأصل، تش، م: «حديث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نحوَ هذا. ولأنَّه حَدٌّ فيه قَتْلٌ، فلم يَجْتَمِعْ معه جَلْدٌ، كالرِّدَّةِ، ولأَنَّ الحُدُودَ إذا اجْتَمَعَتْ وفيها قَتْلٌ، سَقَط ما سِواهُ، فالحَدُّ الواحِدُ أَوْلَى. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى قولُه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬1). وهذا عامٌّ، ثم جاءتِ السُّنَّةُ بالرَّجْمِ في حَقِّ الثَّيِّبِ، والتَّغْرِيبِ (¬2) في حَقِّ البِكْرِ، فوَجَبَ الجمعُ بينَهما. وإلى هذا أشارَ علىٌّ بقولِه: جَلَدْتُها بكتابِ اللَّهِ، ورَجَمْتُها بسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ. وقد صَرَّحَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوْلِه في حديثِ عُبادَةَ: «والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، الْجَلْدُ والرَّجْمُ» (¬3). وهذا الصَّريحُ الثابِتُ بيَقِينٍ لا يُتْرَكُ إلَّا بمِثْلِه، والأحادِيثُ الباقِيَة ليست صَرِيحةً، فإنَّه ذَكَر الرَّجْمَ ولم يَذْكُرِ الجَلْدَ، فلا يُعارَضُ به الصَّرِيحُ، بدليلِ أنَّ التَّغْرِيبَ يجبُ بذِكْرِه في هذا الحديثِ، وليس بمَذْكُورٍ في الآيَةِ، ولأنَّه زانٍ، فَيُجْلَدُ كالبِكْرِ، ولأنَّه قد شُرِعَ في حَقِّ البِكرِ عُقوبَتانِ؛ الجَلْدُ، والتَّغْرِيبُ، فيكونُ الرجمُ (¬4) مكانَ التَّغْرِيبِ. فعلى هذه الرِّوايةِ، يَبْدأُ بالجَلْدِ أوَّلًا، ثم يَرْجُمُ، فإن وَالَى بينَهما جاز؛ لأَنَّ إتْلافَه مقصودٌ، فلا تَضُرُّ المُوالاةُ بينَهما، وإن جَلَدَه يومًا ثم رَجَمَه في آخَرَ، جاز، كما فَعَل علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَلَد شُراحَةَ يومَ الخميسِ، ثم رَجَمَها يومَ الجُمُعةِ. ¬

(¬1) سورة النور 2. (¬2) في الأصل: «التعزير». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 236 (¬4) في م: «الجلد في».

4399 - مسألة: (والمحصن من وطئ امرأته فى قبلها، فى نكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط منها، فلا إحصان لواحد منهما. ولا يثبت الإحصان بالوطء بملك اليمين، ولا فى نكاح فاسد)

وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِى قُبُلِهَا، فِى نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُمَا بَالِغَانِ عَاقِلَانِ حُرَّانِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فِى أحَدِهِمَا، فَلَا إِحْصَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَا يَثْبُتُ الإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَا فِى نِكَاحٍ فَاسِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثالثُ: أنَّ الرَّجْمَ لا يَجِبُ إلَّا على المُحْصَنِ، بإجْماعِ أهلِ العلمِ. وفى حديثِ عمرَ: إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ (¬1) على مَن زَنَى وقد أحْصَنَ (¬2): وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ». ذكَرَ منها: «أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ» (¬3). 4399 - مسألة: (والمُحْصَنُ مَن وَطِئَ امرأتَه في قُبُلِها، في نِكاحٍ صَحِيحٍ، وهُما بالِغان عاقِلان حُرَّانِ، فإنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ منها، فلا إحْصانَ لواحِدٍ منهما. ولا يَثْبُتُ الإِحْصانُ بالوَطْءِ بمِلْكِ اليَمِينِ، ولا في نِكاحٍ فاسِدٍ) يُشْتَرَطُ للإِحْصانِ شُروطٌ سبعةٌ؛ أحدُها، الوَطْءُ في القُبُلِ، ولا خلافَ في اشْتِراطِه؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، الجَلْدُ والرَّجْمُ». والثِّيابَةُ تَحْصُلُ بالوَطْءِ في القُبُلِ، فوَجَب ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 158. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اعْتِبارُه. ولا خِلافَ في أنَّ النِّكاحَ الخالِىَ عن الوَطْءِ، لا يَحْصُلُ به إحْصانٌ، سَواءٌ حَصَلَتْ فيه خَلْوَةٌ، أو وَطْءٌ فيما دُون الفَرْجِ، أو في الدُّبُرِ، أو لم يَحْصُلْ شئٌ مِن ذلك، لأَنَّ هذا لا تَصِيرُ به المرأةُ ثَيِّبًا، ولا تَخْرُجُ به عن حَدِّ الأبْكارِ، الذينَ حَدُّهم جَلْدُ مائةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، بمُقْتَضَى الخَبَرِ، ولا بُدَّ أن يكونَ وَطْئًا حَصَل به تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ في الفَرْجِ؛ لأَنَّ ذلك الوَطْءُ الذى تَتَعَلَّقُ به أحْكامُه. الثانى، أن يكونَ في نِكاحٍ، لأَنَّ النِّكاحَ يُسَمَّى إحْصانًا، بدَليلِ قولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1). يعنى المُتَزَوِّجاتِ. ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ وَطْءَ الزِّنى، ووَطْءَ الشُّبْهَةِ، لا يَصِيرُ به الوَاطِئُ (¬2) مُحْصَنًا. ولا نَعْلَمُ خِلافًا في أنَّ التَّسَرِّىَ لا يَحْصُلُ به الإِحْصانُ لواحدٍ منهما، لكَوْنِه ليس بنِكاحٍ، ولا تَثْبُتُ فيه أحْكامُه. الثالثُ، أن يكونَ ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) في الأصل: «الوطء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّكاحُ صَحِيحًا. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، وقَتادَةُ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: يَحْصُلُ الإِحْصانُ بالوَطْءِ في نِكاحٍ فاسِدٍ. وحُكِىَ ذلك عن اللَّيْثِ، والأوْزَاعِىِّ؛ لأَنَّ الصَّحِيحَ والفاسِدَ سَواءٌ في أكثرِ الأحْكام، مِن وُجُوبِ المَهْرِ والعِدَّةِ، وتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ وأُمِّ المرأةِ، ولَحاقِ الوَلَدِ، فكذلك في الإِحْصانِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ، فلم يَحْصُلْ به الإِحْصانُ، كوَطْءِ الشُّبْهَةِ، ولا نُسَلِّمُ ثُبوتَ ما ذَكَرُوه مِن الأحْكامِ، وإنَّما ثَبَت بالوَطْءِ فيه، وهذه ثَبَتَتْ في كلِّ وَطءٍ، وليست مُخْتَصَّةً بالنِّكاحِ، إلَّا أنَّ النِّكاحَ ههُنا صارَ شُبْهَةً، فصارَ الوَطْءُ فيه كوَطْءِ الشُّبْهَةِ سَواءً. الرابعُ، الحُرِّيَّةُ، وهى شَرْطٌ في قولِ جميعِ أَهْلِ العلمِ، إلَّا أبا ثَوْرٍ، قال: العَبْدُ والأمَةُ هما مُحْصَنان، يُرْجَمانِ إذا زَنَيا، إلَّا أن يكونَ الإِجْماعُ يخالِفُ ذلك. وحُكِىَ عن الأوْزَاعِىِّ في العبدِ تحتَه حُرَّةٌ: هو مُحْصَنٌ، يُرْجَمُ إذا زَنَى، وإن كان تحتَه أمَةٌ، لم يُرْجَمْ. وهذه أقْوالٌ تخالفُ النَّصَّ والإِجْماعَ، فإنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1). والرَّجْمُ لا يَتَنَصَّفُ، وإيجابُه كلُّه يُخالِفُ النَّصَّ مع ¬

(¬1) سورة النساء 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُخالَفةِ الإجْماعِ المُنْعَقِدِ قبلَه، إلَّا أن يكونَ إذا عَتَقا (¬1) بعدَ الإِصابةِ، فهذا فيه اخْتِلافٌ سنَذْكُرُه إن شاءَ اللَّهُ. وقد وافَقَ الأوْزَاعِىُّ على أنَّ العَبْدَ إذا وَطِئَ الأمَةَ، ثم عَتَقَا (1)، لم يَصِيرا مُحْصَنَيْن، وهو قولُ الجُمهورِ، وزاد فقال في المَمْلوكَيْن إذا عَتَقا وهما مُتَزَوِّجان، ثم وَطِئَها الزَّوْجُ: لا يَصِيران مُحْصنَيْن بذلك الوَطْءِ (¬2). وهذا أيضًا قولٌ شاذٌّ، خالفَ أهلَ العلمِ به، فإنَّ الوَطْءَ وُجِدَ منهما حالَ كَمالِهما، فحصَّنَهما، كالصَّبِيَّين (¬3) إذا بَلَغا. الشَّرْطُ الخامسُ والسادِسُ، البُلُوغُ والعقلُ، فلو وَطِئَ وهو صَبِىٌّ أو مجنونٌ، ثم بَلَغ أو عَقَل، لم يَكُنْ مُحْصَنًا. هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، وقولُ الشافعىِّ. ومِن أصحابِه مَن قال: يَصِيرُ مُحْصَنًا، وكذلك العَبْدُ إذا وَطِئَ، ثم عَتَقَ، يصيرُ مُحْصَنًا؛ لأَنَّ هذا وَطْءٌ يَحْصُلُ به الإحْلالُ للمُطَلِّقِ ثلاثًا، فحصلَ به الإِحْصانُ، كالموجودِ حالَ الكَمالِ. ولَنا، قولُه، عليه السلامُ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». فاعْتَبَرَ الثُّيُوبَةَ خاصَّةً، ولو كانت تَحْصُلُ قبلَ ذلك، لَكان يجبُ عليه الرَّجْمُ قبلَ بُلُوغِه وعَقْلِه، وهو خِلافُ الإِجْماعِ، ويُفارِقُ ¬

(¬1) في الأصل: «عتقها». وفى تش: «أعتقها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، تش: «كالمحصنين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِحْصانُ الإِحْلالَ؛ لأَنَّ اعْتِبارَ الوَطْءِ في حَقِّ المُطَلِّقِ، يَحْتَمِلُ أن يكونَ عُقُوبَةً له، بتَحْرِيمِها عليه حتى يَطَأَها غيرُه، لأَنَّ هذا ممّا تَأْباه الطِّباعُ ويَشُقُّ على النُّفُوسِ، فاعْتَبَرَه الشارِعُ زَجْرًا عن الطَّلاقِ الثَّلاثِ، وهذا يَسْتَوِى فيه العاقِلُ والمجْنونُ، بخِلافِ الإِحْصانِ، فإنَّه اعْتُبِرَ لكَمالِ النِّعْمَةِ، فإنَّ مَن كَمَلَتِ النِّعْمَةُ في حَقِّه، كانت جِنايتُه أفْحَشَ وأحَقَّ بزيادَةِ العُقُوبةِ، والنِّعْمَةُ في العاقِلِ البالِغِ أكمَلُ. الشَّرْطُ السابعُ، أن يُوجَدَ الكَمالُ فيهما جميعًا حالَ الوَطْءِ، فيَطَأُ الرجلُ العاقِلُ الحُرُّ امرأةً عاقِلةً حُرَّةً. وهذا قولُ أبى حنيفةَ وأصحابِه. ونحوُه قولُ عَطاءٍ، والحسنِ، وابنِ سِيرِينَ، والنَّخَعِىِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِىِّ، وإسْحاق. قالُوه في الرَّقيقِ. وقال مالكٌ: إذا كان أحدُهما كامِلًا صار مُحْصَنًا، إلَّا الصَّبِىَّ إذا وَطِئَ الكبيرةَ، لم يُحْصِنْها. ونحوُه عن الأوْزَاعِىِّ. واخْتُلِفَ عن الشافعىِّ، فقِيلَ: له قَوْلان؛ أحدُهما، كقَوْلِنا. والثانى، أنَّ الكامِلَ يَصِيرُ مُحْصَنًا. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ. وذَكَرَ ابنُ أبى موسى نحوَ ذلك في «الإِرْشَادِ» فقال: إذا وَطِئَ الحُرُّ البالغُ حُرَّةً صغيرةً في نِكاحٍ صحيحٍ، صار مُحْصَنًا دُونَها، وإذا وَطِئَ الصَّبِىُّ الحُرُّ الصَّغيرُ الكبيرةَ، صارَتْ مُحْصَنَةً دُونَه، كما أنَّه لا (¬1) يجبُ على الصَّغيرِ الحَدُّ، ويجبُ على الكبيرِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ لم يُحْصِنْ أحَدَ المُتَواطِئَيْن، فلم يُحْصنِ الآخَرَ، كالتَّسَرِّى، ولأنَّه متى ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4400 - مسألة: (ويثبت الإحصان للذميين. وهل تحصن الذمية مسلما؟ على روايتين)

وَيَثْبُتُ الإحْصَانُ لِلذِّمِّيِّيَّن. وَهَلْ تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أحدُهما ناقِصًا، لم يَكْمُلِ الوَطْءُ (¬1)، فلا يَحْصُلُ به الإِحْصانُ، كما لو كانا غيرَ كامِلَيْن، وبهذا فارَق ما قاسُوا عليه. 4400 - مسألة: (ويَثْبُتُ الإِحْصانُ للذِّمِّيَّيْن. وهل تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مسلمًا؟ على رِوايَتَيْن) لا يُشْتَرَطُ الإِسْلامُ في الإِحْصانِ. وبه قال الزُّهْرِىُّ، والشافعىُّ. فعلى هذا، يكونُ الذِّمِّيّان مُحْصَنَيْن، فإن تَزَوَّجَ المسلمُ ذِمِّيَّةً فوَطِئَها، صارا مُحْصَنَيْن. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّ الذِّمِّيَّةَ لا تُحْصِنُ المسلمَ. وقال عَطاءٌ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، ومُجاهِدٌ، والثَّوْرِىُّ: هو شَرْطٌ في الإحْصانِ، فلا (¬2) يكونُ الكافِرُ مُحْصَنًا، ولا تُحْصِنُ الذِّميَّةُ مسلمًا؛ لأَنَّ ابنَ عمرَ رَوَى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «مَنْ أشْرَكَ بِاللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» (¬3). ولأنَّه إحْصانٌ مِن شَرْطِه (¬4) الحُرِّيَّةُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «إلا أن». (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 147. ورجح وقفه. (¬4) في م: «شروطه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فكان الإِسلامُ شَرْطًا فيه، كإِحْصانِ القَذْفِ. وقال مالكٌ كقولِهِم، إلَّا أنَّ الذِّمِّيَّةَ تُحْصِنُ المسلمَ، يِناءً على أصْلِه في أنَّه لا يَعْتَبِرُ الكمالَ في الزَّوْجَيْن، ويَنْبَغِى أن يكونَ ذلك قولًا للشافعىِّ. ولَنا، ما رَوَى [مالِكٌ، عن] (¬1) نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، أنَّه قال: جاء اليهودُ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذَكَرُوا له أنَّ رجلًا وامرأةً زَنَيا. وذَكَر الحديثَ، فأمَرَ بهما رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فرُجِما. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأَنَّ الجِنايَةَ بالزِّنَى اسْتَوَتْ مِنِ المسلمِ والذِّمِّىِّ، فيَجِبُ أن يَسْتَويا في الحَدِّ. وحديثُهم لم يَصِحَّ، ولا نعْرفُه في مُسْنَدٍ (¬3). وقِيلَ: هو مَوْقُوفٌ على ابنِ عمرَ. ثم يَتَعَيَّنُ حَمْلُه على إحْصانِ القَذْفِ، جَمْعًا بينَ الحَدِيثَيْن، فإنَّ راوِيَهما واحِدٌ، وحديثُنا صريحٌ في الرَّجْمِ، فيَتَعَيَّنُ حَمْلُ خَبَرِهم على الإِحْصانِ الآخَرِ. فإن قالوا (¬4): إنَّما رَجَم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اليَهودِيَّين بحُكْمِ التَّوْراةِ، بدليلِ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 446، 447، وصفحة 197. (¬3) في الأصل، تش: «مسنده». (¬4) بعده في الأصل: «نعم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راجَعَها، فلمَّا تَبَيَّنَ له أنَّ ذلك حكمُ اللَّهِ تعالى عليهم، أقامَه فيهم، وفيها أنزلَ اللَّهُ سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} (¬1). قلنا: إنَّما حَكَم عليهم بما أنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليه، بدليلِ قولِه تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2). ولأنَّه لا يَسُوغُ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحُكْمُ بغيرِ شَرِيعَتِه، ولو ساغ ذلك له ساغ لغيرِه، وإنَّما راجَعَ التَّوْراةَ لتَعْرِيفِهم أنَّ حُكْمَ التَّوْراةِ مُوافِقٌ لِما يَحْكُمُ به عليهم، وأنَّهم تارِكُونَ شَرِيعَتَهم، مُخالِفُون لحُكْمِهِم. ثم هذا حُجَّةٌ لنا، فإنَّ حكمَ اللَّهِ في وُجوبِ الرَّجْمِ إن كان ثابتًا في حَقِّهم يجبُ أن يُحْكَمَ به عليهم، فقد ثَبَت وُجودُ الإِحْصانِ فيهم، فإنَّه لا مَعْنى له سِوَى وُجوبِ الرَّجْمِ على مَن زَنَى منهم بعدَ وُجودِ شُروطِ الإحْصانِ فيه، وإن مَنَعُوا ثُبوت الحكمِ في حَقِّهم، [فَلِمَ حَكَم] (¬3) به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ولا يَصِحُّ القِياسُ على إحْصانِ القَذْفِ؛ لأَنَّ مِن شَرْطِه العِفَّةَ، وليست شَرْطًا ههُنا. ¬

(¬1) سورة المائدة 44. (¬2) سورة المائدة 48. (¬3) في الأصل: «فحكم».

4401 - مسألة: (وإن كان لرجل ولد من امرأته فقال: ما وطئتها. لم يثبت إحصانه)

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ مِنَ امْرأتِهِ فَقَالَ: مَا وَطِئْتُهَا. لَمْ يَثْبُتْ إِحْصَانُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4401 - مسألة: (وإن كان لرجلٍ وَلَدٌ مِن امرأتِه فقال: مَا وَطِئتُها. لم يَثْبُتْ إحْصَانُه) ولا يُرْجَمُ إذا زَنَى. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُرْجَمُ؛ لأَنَّ الوَلَدَ لا يكونُ إلَّا مِن وَطْءٍ. فقد حَكَم بالوَطْءِ ضَرُورةَ الحُكْمِ بالوَلَدِ. ولَنا، أنَّ الوَلدَ يُلْحَقُ بإمْكانِ الوَطْءِ واحْتِمالِه، والإِحْصانُ لا يَثْبُتُ إلَّا بحَقِيقَةِ الوَطْءِ (¬1)، فلا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ ما يُكْتَفَى فيه بالإِمْكانِ وُجُودُ ما تُعْتَبَرُ فيه الحَقِيقةُ. وهو أحقُّ الناسِ بهذا، فإنه قال: لو تَزَوَّجَ امرأةً بحَضرَةِ الحاكمِ في مجلِسِه، ثم طَلَّقَها فيه، فأتَتْ بوَلَدٍ، لَحِقَه. مع العلمِ بأنَّه لم يَطَأها في الزَّوْجيَّةِ، فكيفَ يُحْكَمُ بحَقِيقةِ الوَطْءِ مع تحَقُّقِ انْتِفائِه! وهكذا لو كان لامرأَةٍ وَلَدٌ من زَوْجٍ، فأنْكَرَتْ أن يكون وَطِئها، لم يَثْبُتْ إحْصانُها لذلك. فصل: ولو شَهِدَتْ بَيِّنةُ الإِحْصانِ أنَّه دَخَل بزَوْجَتِه، فقال أصحابُنا: يَثْبتُ الإِحْصانُ به؛ لأَنَّ المَفْهومَ مِن لفظِ الدُّخُولِ كالمَفْهومِ من لَفْظِ المُجامَعَةِ. وقال محمد بنُ الحسنِ: لا يُكْتَفَى به حتى [تقولَ: جامَعَها. أو: باضَعَها] (¬2). أو نحوَها؛ لأَنَّ الدُّخولَ يُطْلَقُ على الخَلْوَةِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يقول جامعتها أو باضعتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها، ولهذا تثْبُتُ بها أحكامُه. قال شيخُنا (¬1): وهذا أصَحُّ القَوْلَيْن، إن شاء اللَّه تعالى. أمَّا إذا قالت: جامَعَها. أو: باضَعَها. أو نحوَه. فلا نعلمُ خِلافًا في ثُبُوتِ الإِحْصانِ، وكذلك يَنْبَغِى إذا قالتْ: وَطِئَها. وإن قالتْ: باشَرَها. أو: مَسَّها. أو: أصابَها. أو: أتاها. فيَنْبَغِى أن لا يَثْبُتَ به الإِحْصانُ؛ لأَنَّ هذا يُسْتَعْمَلُ فيما دُونَ الجماعِ في الفَرْجِ كثيرًا، فلا يَثْبُتُ به الإِحْصانُ الذى يَنْدَرِئُ بالاحْتِمالِ. فصل: وإذا جُلِدَ الزَّانِى على أنَّه بكْرٌ، ثم بان مُحْصَنًا، رُجِمَ؛ لِما رَوَى جابرٌ، أنَّ رجلًا زَنَى بامرأةٍ، فأمَرَ به رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فجُلِدَ الحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أنَّه مُحْصَنٌ، فرُجِمَ. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّه إن وَجَب الجمعُ بينَهما، فقد أتَى ببعضِ الواجبِ، فيجبُ إتْمامُه، وإن لم يجبِ الجمعُ بينَهما، تَبَيَّنَ أنَّه لم يَأْتِ بالحدِّ الواجِبِ. فصل: وإذا رُجِمَ الزَّانِيان، غُسِّلا، وصُلِّى عليهما، ودُفِنا إذا كانا مسلمَيْن. أمَّا غَسْلُهما ودَفْنُهما، فلا خِلافَ فيه بين أهلِ العلمِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ الصلاةَ عليهما. قال الإِمامُ أحمدُ: سُئِلَ علىٌّ عن شُراحَةَ، وكانَ رَجَمَها، فقال: اصْنَعُوا بها ما تَصْنَعُونَ بمَوْتاكم. وصلَّى علىٌّ ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 320. (¬2) في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 461. كما أخرجه البيهقى، في: باب من جلد في الزنى ثم علم بإحصانه، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 217.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها (¬1). وقال مالكٌ: مَن قَتَله الإِمامُ في حَدٍّ، فلا يُصَلَّى عليه؛ لأَنَّ جابِرًا قال في حديثِ ماعِز: فرُجِمَ حتى ماتَ، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خيرًا، ولم يُصَلِّ عليه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ووَجْهُ الأَوَّلِ ما رَوَى أبو داودَ (3)، بإسْنادِه، عن عِمْرانَ بنِ الحُصَيْنِ، في حديثِ الجُهَنِيَّةِ: فأمرَ بها النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فرُجِمَتْ، ثم أمَرَهم فصَلَّوا عليها، فقال عمَرُ: يا رسولَ اللَّهِ تُصَلِّى عليها وقد زَنَتْ؟ فقال: «والَّذِى نَفْسِى بيَدِه، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَت بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وهَلْ وَجَدْتَ أفْضَلَ مِن أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا؟». ورَواه التِّرْمِذِىُّ، وفيه: فرُجمَتْ، وصَلَّى عليها. وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬3). وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» (¬4). ولأنَّه مسلم لو فاتَ قبلَ الحَدِّ صُلِّىَ عليه، فيُصَلَّى عليه ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجم والإحصان، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 328. وابن أبى شيبة، في: باب المرجومة تغسل أم لا، من كتاب الجنائز. المصنف 3/ 254. والبيهقى، في: باب من اعتبر حضور الإمام. . .، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 220. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب الرجم بالمصلى، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 206. ومسلم، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1318. كما أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 459. والترمذى، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 202. والنسائى، في: باب ترك الصلاة على المرجوم، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 50، 51. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 323، 381. وقوله: ولم يصل عليه. ليس عند البخارى ولا مسلم ولا الدارمى، وعند البخارى أنه صلى عليه. وهى رواية شاذة تفرد بها محمود بن غيلان. انظر: عون المعبود 3/ 181، وفتح البارى 12/ 115, 116. (¬3) تقدم تخريجه، في صفحة 205. (¬4) تقدم تخريجه في 3/ 39.

4402 - مسألة: (وإن زنى الحر غير المحصن، جلد مائة، وغرب عاما إلى مسافة القصر)

وَإِنْ زَنَى الْحُرُّ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَغُرِّبَ عَامًا إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَه، كالسَّارِقِ. وأمَّا حديثُ ماعِزٍ، فيَحْتَمِلُ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحْضُرْه، أو اشْتَغَلَ عنه بأمْرٍ، أو غيرِ ذلك، فلا يُعارِضُ ما رَوَيْناه. 4402 - مسألة: (وإن زَنَى الحُرُّ غيرُ المُحْصَنِ، جُلِدَ مِائَةً، وغُرِّبَ عامًا إلى مَسافَةِ القَصْرِ) [وإن كان ثَيِّبًا] (¬1). ولا خِلافَ في وُجُوبِ الجَلْدِ على الزَّانِى إذا لم يَكُنْ مُحْصَنًا، وقد جاء بَيانُ ذلك في كتابِ اللَّهِ تعالى، بقولِه سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2). وجاءتِ الأحاديثُ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُوافِقَةً لِما جاء به الكتابُ. ويجبُ مع الجَلْدِ تَغْرِيبُه عامًا، في قولِ الجُمْهورِ. رُوِىَ ذلك عن الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، وعن أُبَىٍّ، وأبى ذَرٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وإليه ذَهَب عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وابنُ أبى لَيْلى، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ: يُغَرَّبُ الرَّجلُ دونَ المرأةِ؛ لأَنَّ المرأةَ تَحْتاجُ إلى حِفْظٍ وصِيانةٍ، ولأنَّها لا تَخْلُو مِن التَّغْرِيبِ بمَحْرَمٍ أو بغيرِ مَحْرَمٍ، لا يجوزُ بغيرِ محْرَمٍ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ر 3. (¬2) سورة النور 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَيْلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» (¬1). ولأَنَّ تَغْرِيبَها بغيرِ مَحْرَم إغْراءٌ لها بالفُجُورِ، وتضْيِيعٌ لها، وإن غُرِّبَتْ بمَحْرَمٍ، أفْضَى إلى تَغْرِيبِ مَن ليس بزانٍ، ونَفْىِ مَن لا ذَنْبَ له، وإن كُلِّفَتْ أُجْرَتَه، ففى ذلك زيادةٌ على عقوبَتِها بما لم يَرِدِ الشَّرْعُ به، كما لو زادَ ذلك على الرجلِ، والخبرُ الخاصُّ في (¬2) التَّغْرِيبِ إنَّما هو في حَقِّ الرجلِ، وكذلك فَعَل الصحابةُ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، والعامُّ يجوزُ تخْصِيصُه؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن العملِ بعُمُومِه مُخالفةُ مَفْهُومِه، فإنَّه دَلَّ بمَفْهُومِه على أنَّه ليس على الزَّانِى أكثرُ من العُقُوبَةِ المَذْكُورَةِ فيه، وإيجابُ التَّغْرِيبِ على المرأةِ، يَلْزَمُ منه الزِّيادةُ على ذلك، وفَواتُ حِكْمَتِه (¬3)؛ لأَنَّ الحَدَّ وَجَب زَجْرًا عن الزِّنَى (¬4)، وفى تَغْريبِها إغْراءٌ به، وتَمْكِينٌ منه، مع أنَّه قد يُخَصَّصُ في حَقِّ الثَّيِّبِ بإسْقاطِ الجَلْدِ (¬5) في قولِ الأَكْثَرِين، فتَخْصِيصُه ههُنا أوْلَى. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: لا يَجِبُ التَّغْرِيبُ؛ لأَنَّ عليًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: حَسْبُهما مِن الفِتْنَةِ أن يُنْفيا (¬6). وعنِ ابنِ المُسَيَّبِ، أنَّ عمرَ غَرَّبَ رَبِيعةَ ابنَ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ في الخمرِ إلى خيْبَرَ (¬7)، فلَحِقَ بهِرَقْلَ فتَنَصَّرَ، فقال ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 41. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «حكمه». (¬4) في م: «الزيادة». (¬5) في الأصل: «الحد». (¬6) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 312، 315. (¬7) في الأصل: «حنين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ: لا أُغَرِّبُ مسلمًا بعدَ هذا أبدًا (¬1). ولأَنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ، فإيجابُ التَّغْرِيبِ زيادةٌ على النَّصِّ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عَامٍ» (¬2). ورَوَى أبو هُرَيْرَةَ، وزيدُ ابنُ خالدٍ، أنَّ رجلَيْن اخْتَصَما إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال أحدُهما: إنَّ ابنى كان عَسِيفًا على هذا، فَزنَى بامْرأتِه، وإنَّنِى افْتَدَيْتُ منه بمائةِ شاةٍ ووَلِيدَةٍ، فسألتُ رِجالًا مِن أهلِ العلمِ، فقالوا: إنَّما على ابْنِكَ جلدُ مائةٍ وتَغْرِيبُ عام، والرَّجْمُ على امْرَأةِ هذا. فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَابِ اللَّهِ، عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عَامٍ». وجَلَد ابنَه مِائَةً (¬3)، وغرَّبَه عامًا، وأمَر أُنَيْسًا الأَسْلَمِىَّ يأتِى امْرَأةَ الآخَرِ، فإنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَها، فاعْتَرَفَتْ، فرَجَمَها. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وفى الحديثِ: فسألْتُ رجالًا مِن أهلِ العلمِ، فقالُوا: إنَّما على ابْنِكَ جَلْدُ مِائةٍ وتَغْرِيبُ عام. وهذا يَدُلُّ على أنَّ هذا كان مَشْهُورًا عندَهم، مِن حُكْمِ اللَّهِ، وقَضاءِ رسولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد قِيلَ: إنَّ الَّذى قال له (¬5) هذا أبو بكرٍ وعُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. ولأَنَّ التَّغْرِيبَ فَعَله الخلفاءُ الراشدون، ولا نعْرفُ لهم في الصَّحابةِ مُخالِفًا، فكان إجْماعًا، ولأَنَّ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 314. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 236. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬5) في م: «لهم».

4403 - مسألة: (وعنه، أن المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر)

وَعَنْهُ، أنَّ الْمَراة تُنْفَى إِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخبَرَ يَدُلُّ على عُقوبَتَين في حَقِّ الثَّيِّبِ، فكذلك في حَقِّ البِكْرِ، وما رَوَوْه عن علىٍّ لا يَثْبُتُ؛ لضَعْفِ رُواتِه (¬1) وإرْسالِه. وقولُ عمرَ: لا أُغَرِّبُ بعدَه (¬2) مسلمًا. فلَعَلَّه أرادَ تَغْرِيبَه في الخمرِ الَّذى أصابَتِ الفِتْنَةُ رَبيعةَ فيه. قال شيخُنا (¬3): وقولُ مالكٍ يُخالِفُ عُمُومَ الخبرِ والقِياسَ؛ لأَنَّ ما كان حَدًّا في الرجلِ، يكونُ حَدًّا في المرْأةِ، كسائِرِ الحُدودِ، وقولُ مالكٍ فيما يَقَعُ لى، أصَحُّ الأقْوالِ وأعْدَلُها، وعُمومُ الخبرِ مَخْصُوصٌ بخبرِ النَّهْى عن سَفَرِ المرأةِ بغيرِ مَحْرَمٍ، والقياسُ على سائِرِ الحُدُودِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَسْتَوى الرجلُ والمرأةُ في الضَّرَرِ الحاصلِ بها، بخِلافِ هذا الحَدِّ، ويُمْكِنُ قَلْبُ هذا القياسِ، بأنَّه حَدٌّ، فلا تُزادُ فيه المرأةُ على ما على الرجلِ، كسائرِ الحُدودِ. فصل: ويُغَرَّبُ البِكْرُ الزَّانِى حَوْلًا، فإن عاد قبلَ مُضِىِّ الحَوْلِ، أُعِيدَ تَغْرِيبُه حتَّى يُكْمِلَ الحَوْلَ مُسافِرًا، ويَبْنِى على ما مَضَى. ويُغَرَّبُ الرجلُ إلى مَسافَةِ القَصْرِ؛ لأَنَّ ما دُونَها في حُكْمِ الحَضَرِ، بدليلِ أنَّه لا يَثْبُبُ في حَقِّه أحْكامُ المُسافِرِين، ولا يَسْتَبِيحُ شيئًا من رُخَصِهم. 4403 - مسألة: (وعنه، أنَّ المرأةَ تُنْفَى إلى دونِ مَسافَةِ القَصْرِ) ¬

(¬1) في م: «راويه». (¬2) في الأصل، تش: «بعد هذ». (¬3) في: المغنى 12/ 324.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقِيلَ عنه: إن خَرَج معها مَحْرَمُها، نُفِيَتْ إلى مَسافَةِ القَصْرِ. وإن لم يَخْرُجْ معها مَحْرَمُها، فنُقِلَ عن أحمدَ، أنَّ المرأةَ تُغَرَّبُ إلى مَسافَةِ القَصرِ، كالرجلِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ورُوِىَ عنه، أنَّها تُغَرَّبُ إلى دُونِ مَسافَةِ القَصْرِ؛ لتَقْرُبَ مِن أهْلِها، فيَحْفَظُوها. ويَحْتَمِلُ كلامُ أحمدَ أن لا يُشْتَرَطَ في التَّغْرِيبِ مَسافةُ القَصْرِ فيهما، فإنَّه قال، في رِوايةِ الأَثْرَمِ: يُنْفَى مِن عملِه إلى عمل غيرِه. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لو نفِىَ [مِن قَرْيَةٍ] (¬1) إلى قريةٍ أُخْرى، بينَهما مِيلٌ أو أقَلُّ، جاز. وقال إسحاقُ: يجوزُ [أن يُنْفَى] (¬2) مِن مِصْرٍ إلى مِصْرٍ. ونحوَه قال ابنُ أبى ليلى؛ لأَنَّ النَّفْىَ وَرَد مُطْلَقًا غيرَ مُقَيَّدٍ (¬3)، فيَتَناوَلُ أقَلَّ ما يَقَعُ عليه الاسمُ، والقَصْرُ يُسَمَّى سَفَرًا، تجوزُ فيه صلاةُ النَّافِيَةِ على الرَّاحِلةِ. ولا يُحْبَسُ في البلدِ الَّذى نُفِىَ (¬4) إليه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: يُحْبَسُ. ولَنا، أنَّها زِيادةٌ لم يَرِدْ بها الشَّرْعُ، [فلم تُشْرَعْ] (1)، كالزِّيادَةِ على العامِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: تش، م. (¬3) في م: «مقدر». (¬4) بعده في الأصل، تش: «منه».

4404 - مسألة: (ويخرج مع المرأة محرمها)

وَيَخْرُجُ مَعَهَا مَحْرَمُهَا، فَإِنْ أَرَادَ أُجْرَةً، بُذِلَتْ مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل (¬1): وإن زَنَى الغَرِيبُ، غُرِّبَ إلى بَلَدٍ غيرِ وَطَنِه. وإن زَنَى في البَلَدِ الَّذى غُرِّبَ إليه، غُرِّبَ منه إلى غيرِ البلدِ الَّذِى غُرِّبَ منه؛ لأَنَّ الأمْرَ بالتَّغْرِيبِ يَتَناولُه (¬2) حيثُ كان، ولأنَّه قد أنِسَ بالبَلَدِ الَّذى يَسْكُنُه، فيُبْعَدُ عنه. 4404 - مسألة: (ويَخْرُجُ مع المرأةِ مَحْرَمُها) ليُسْكِنَها في مَوْضِعٍ، ثم إن شاء رَجَع إذا أمِنَ عليها، وإن شاء أقامَ معها حتَّى يَكْمُلَ حَوْلُها، وإن أبَي الخُرُوجَ معها، بَذَلَتْ له الأُجْرَةَ. قال أصحابُنا: وتَبْذُلُ مِن مالِها؛ لأد هذا مِن مُؤْنَةِ سَفَرِها. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ ذلك عليها؛ ¬

(¬1) سقط هذا الفصل من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

تَعَذَّرَ، فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أبَى الْخُرُوجَ مَعَهَا، اسْتُؤْجِرَتِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، نُفِيَتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ الواجِبَ عليها التَّغْرِيبُ بنَفْسِها، فلم يَلْزَمْها زِيادةٌ عليه كالرَّجُلِ، ولأَنَّ هذا مِن مُؤْنَةِ إقامةِ الحَدِّ، فلم يَلْزَمْها، كأُجْرَةِ الجَلَّادِ. فعلى هذا، تُبْذلُ الأُجْرَةُ مِن بيتِ المالِ. وعلى قولِ أصحابِنا، إن لم يَكُنْ لها مالٌ، بُذِلَتْ مِن بَيْتِ المالِ. فإن أربى مَحْرَمُها الخُروجَ معها، لم يُجْبَرْ، وإن لم يَكُنْ لها مَحْرَمٌ، غُرِّبَتْ مع نِساءٍ ثِقاتٍ. والقولُ في أُجْرَةِ مَن يُسافِرُ معها منهُنَّ، كالقولِ في أُجْرَةِ المَحْرَم، فإن أعْوَزَ، فقال أحمدُ: تُنْفَى بغيرِ مَحْرَمٍ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّهَ لا سَبِيلَ إلى تَأْخِيرِهِ، فأشْبَهَ سَفرَ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ النَّفْىُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهِجْرَةِ، والحَجِّ إذا ماتَ المَحْرَمُ في الطَّريقِ (ويَحْتَمِلُ أن يَسْقُطَ النَّفْىُ) إذا لم تَجِدْ مَحْرَمًا، كما يَسْقُطُ سَفَرُ الحَجِّ، إذا لم يَكُنْ لها مَحْرَمٌ (¬1)، فإنَّ تَغْرِيبَها على هذه الحالِ إغْراءٌ لها بالفُجُورِ، وتَعْريضٌ لها للفِتْنَةِ، وعُمُومُ الحديثِ مَخصُوصٌ بعُمُومِ النَّهْى عن سَفَرِها بغيرِ مَحْرَمٍ. فصل: ويَجِبُ أن يَحْضُرَ الحَدَّ (¬2) طائِفةٌ مِن المؤمنين؛ لقولِ اللَّهِ. تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). قال أصحابُنا: والطَّائِفَةُ واحدٌ فما فوقَه. وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، ومُجاهِدٍ. والظّاهِرُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل، ر 3، ق. (¬3) سورة النور 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهم أرادُوا واحدًا مع الَّذى يُقِيمُ الحَدَّ؛ لأَنَّ الَّذى يُقِيمُ الحدَّ حاصِلٌ ضَرُورَةً، فيَتَعَيَّنُ صَرْفُ الأَمْرِ إلى غيرِه. وقال عَطاءٌ، وإسحاقُ: اثْنان. فإن [أرادا به] (¬1) واحدًا مع الَّذى يُقِيمُ الحَدَّ، فهو كالقَوْلِ الأَوَّلِ، وإن أرادا (¬2) اثنينِ غيرَه، فوَجْهُه أنَّ الطّائِفَةَ اسْمٌ لِما زاد على الواحِدِ، وأقَلُّه اثْنانِ. وقاك الزُّهْرِىُّ: ثلاثةٌ؛ لأَنَّ الطّائِفَةَ جماعةٌ، وأقَلُّ الجمعِ ثلاثةٌ. وقال مالكٌ: أرْبَعَةٌ؛ لأنَّه العَدَدُ الَّذى يَثْبُتُ به الزِّنَى. وللشافعىِّ قَوْلان، كَقَوْلِ (¬3) الزُّهْرِىِّ ومالكٍ. وقال رَبِيعَةُ: خمسةٌ. وقال الحسنُ: عَشَرَةٌ. وقال قَتادَةُ: نَفَرٌ. واحْتَجَّ أصحابُنا بقولِ ابنِ عباسٍ، فإنَّ اسْمَ الطّائِفَةِ يَقَعُ على الواحدِ، بدليلِ قولِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}. ثم قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬4). وقِيلَ في قولِه تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} (¬5). إنَّه مَخْشِىُّ (¬6) بنُ حُمَيِّرٍ وحدَه (¬7). ولا يَجِبُ أن يَحْضُرَ الإِمامُ، ولا الشُّهُودُ. وبهذا قال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفة: إن ثَبَت الحَدُّ بِبَيِّنَةٍ، فعليها ¬

(¬1) في الأصل، تش: «أراد أنه». وفى م: «أراد به». (¬2) في الأصل، م: «أراد». (¬3) في م: «كقولى». (¬4) سورة الحجرات 9، 10. (¬5) سورة التوبة 66. (¬6) في الأصل، تش: «مخش»، وفى م: «محش». وانظر الإصابة 6/ 53. والإكمال 7/ 228. (¬7) أخرجه ابن جرير، في: تفسيره 10/ 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُضُورُ، والبَداءَةُ بالرَّجْمِ، وإن ثَبَت باعْتِرافٍ، وَجَب على الإِمامِ الحُضُورُ، والبَدَاءَةُ بالرَّجْمِ؛ لِما رُوِى عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: الرَّجْمُ رَجْمان؛ فما كان منه بإقْرارٍ، فأوَّلُ مَن يَرْجُمُ الإِمامُ، ثم النَّاسُ، وما كان ببَيِّنَةٍ، فأوَّلُ مَن يَرْجُمُ البَيِّنَةُ، ثم الناسُ. رَواه سعيدٌ بإسْنادِه (¬1). ولأنَّه إذا لم تَحْضُرِ البَيِّنَةُ ولا الإِمامُ، كان في ذلك شُبْهَةٌ، والحَدُّ يَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ. ولَنا، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَر برَجْمِ ماعِزٍ والغامِدِيَّةِ، ولم يَحْضُرْهُما، وِالحَدُّ ثَبَت باعْتِرافِهما. وقال: «يَا أُنَيْسُ، اغْدُ إِلى امْرَأَة هذَا، فَإِنِ اعْتَرَفتْ فَارْجُمْهَا» (¬2). ولم يَحْضُرْها. ولأنَّه حَدٌّ، فلم يَلْزَمْ أن يَحْضُرَه الإِمامُ ولا البَيِّنَةُ، كسائِرِ الحُدودِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ تَخَلُّفَهم عن الحُضُورِ، ولا امْتِناعَهم مِن البَداءَةِ بالرَّجْمِ شُبْهَةٌ. وأمَّا قولُ على، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فهو على سَبِيلِ الاسْتِحْبابِ والفَضِيلَةِ. قال أحمدُ: سُنَّةُ الاعْتِرافِ أن يَرْجُمَ الإِمامُ، ثم النَّاسُ. ولا نعلمُ خِلافًا في اسْتِحْبابِ ذلك، والأَصْلُ فيه قولُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وقد رُوِى في حديثٍ، رَواه أبو بَكْرَةَ (¬3)، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه رَجَم امرأةً، فحَفَر لها إلى الثَّنْدُوَةِ، ثم رَماهَا بحَصاةٍ مثلِ الحِمَّصَةِ، ثم قال: «ارْمُوا، واتَّقُوا الوَجْهَ». أخرَجَه أبو داودَ (¬4). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 206. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬3) في م: «بكر». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 198، 199

4405 - مسألة: (وإن كان الزانى رقيقا، فحده خمسون جلدة بكل حال، ولا يغرب)

وإِنْ كَانَ الزَّانِى رَقِيقًا، فَحَدُّهُ خَمْسُونَ جَلْدَةً بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُغَرَّبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4405 - مسألة: (وإن كان الزَّانِى رَقِيقًا، فحَدُّه خَمْسُونَ جَلْدَةً بكلِّ حالٍ، ولا يُغَرَّبُ) حَدُّ العبدِ والأمَةِ خمْسون جَلْدَةً، بِكْرَيْن كانا أو وثَيِّبَيْن. في قولِ أكثرِ العُلَماءِ؛ منهم عمرُ، وعلىٌّ، وابنُ مسعودٍ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، [ومالكٌ] (¬1)، والأوْزاعِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، والبَتِّىُّ، والعَنْبَرِىُّ. وقال ابنُ عباسٍ، وأبو عُبَيْدٍ: إن كانا مُزَوَّجَيْن فعليهما نِصْفُ الحَدِّ، ولا حَدَّ على غيرِهما؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬2). فيدُلُّ بخِطابِه على أنَّه لا حَدَّ على غيرِ المُحْصناتِ. وقال داودُ: على الأمَةِ نِصْفُ الحَدِّ إذا زَنَتْ بعدَ ما زُوِّجَتْ، وعلى العبدِ جَلْدُ مِائَةٍ بكُلِّ حالٍ. وفى الأمَةِ إذا لم تُزَوَّجْ رِوايتان؛ إحداهما، لا حَدَّ عليها. والأُخْرَى، تُجْلَدُ مِائَةً؛ لأَنَّ قولَ اللَّهِ تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3). عام، خَرَجَتْ منْه الأمَةُ المُحْصَنَةُ بقولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. فيَبْقَى العبدُ والأمَةُ التى لم تُحْصَنْ على مُقْتَضَى العُمُومِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النساء 25. (¬3) سورة النور 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ دَلِيلُ الأمَةِ (¬1) في الخِطابِ أن لا حَدَّ عليها، كقولِ ابنِ عباسٍ. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا لم يخْصَنا بالتَّزْويجِ، فعليهِما نصفُ الحدِّ، وإن أُحْصِنَا فعليهما الرَّجْمُ؛ لعُمُومِ الأخْبارِ فيه، ولأنَّه حَدٌّ لا (¬2) يَتَبَعَّضُ، فوَجَب تَكْمِيلُه، كالقَطْعِ في السَّرِقَةِ. ولَنا، ما روَى ابنُ شِهابٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ ابنِ عبدِ اللَّهِ، [عن أبى هُرَيْرَةَ] (¬3) وزَيدِ بنِ حالدٍ (¬4)، قالوا: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأمَةِ إذا زَنَتْ ولم تُحْصَنْ، فقال: «إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَت فَبِيعُوهَا ولَوْ بِضَفِيرٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). قال ابنُ شِهابٍ: [لا أدْرِى أبعدَ الثالثةِ أو الرابعةِ] (¬6). وهذا نَصٌّ جَلْدِ الأمَةِ إذا لم تُحْصَنْ، وهو حُجَّة على ابنِ عباسٍ ومُوافِقِيه وداودَ. وجَعْلُ داودَ عليها مِائَةً إذا لم تُحْصَنْ، وخمسين إذا كانت مُحْصَنةً، خِلافُ ما شَرَع اللَّهُ تعالى، فإنَّ اللَّهَ تعالى ضاعَفَ عُقوبَةَ المُحْصَنَةِ على غيرِها، فجَحَل الرَّجْمَ على المُحْصَنَةِ، ¬

(¬1) في م: «الأمر». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من النسخ واستدركناه من مصادر التخريج. (¬4) بعده في الأصل، تش، ر 3، ق، ص: «وشِبْل». وهذه الزيادة عند الترمذى وابن ماجه والإمام أحمد في: المسند 4/ 116. وقال الترمذى: وهم فيه سفيان بن عيينة أدخل حديثا في حديث. . . وشبل بن خالد لم يدرك النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما روى شبل عن عبد اللَّه بن مالك الأوسى عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر عارضة الأحوذى 6/ 208، 209. وانظر فتح الباري 12/ 137. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 173. (¬6) سقط من النسخ، والمثبت كما عند البخارى ومسلم والإمام مالك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجَلْدَ على البِكْرِ، وداودُ ضاعَفَ عُقوبَةَ البِكْرِ على المُحْصَنَةِ، واتِّباعُ شَرْعِ اللَّهِ تعالى أوْلَى. وأمَّا دَليلُ الخِطابِ، فقد رُوِى عن ابنِ مسعودٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: إحْصانُها إسْلامُها (¬1). وقَرَأَهَا بفَتْحِ الألفِ. ثم دليلُ الخِطابِ إنَّما يكونُ دَلِيلًا إذا لم يَكُنْ للتَّخْصِيصِ بالذِّكْرِ فائِدَةٌ سِوَى اخْتِصاصِه بالحُكْمِ، ومتى كانت له فائِدَةٌ أُخرَى (¬2)، لم يَكُنْ دليلًا، مثلَ أن يَخْرُجَ مَخْرَجَ الغالبِ، أو للتَّنْبِيهِ، أو لمَعْنًى مِن المعانِى، ولهذا قال اللَّهُ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ الَّتِى فِي حُجُورِكُمْ} (3). ولم يَختَصَّ التَّحْرِيمُ باللَّائى في حُجُورِهم. ؤقال: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (¬3). وحَرُمَ حلائلُ الأبناءِ مِن الرَّضاعَ، وأَبْناء الأبناءِ. وقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4). وأُبِيحَ القَصْرُ بدونِ الخَوْفِ. وأمَّا العَبْدُ فلا فَرْق بينَه وبينَ الأمَةِ، فالتَّنْصِيصُ على أحَدِهما يَثْبُتُ حُكْمُه في حَقِّ الآخَرِ، كما أنَّ قولَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ» (¬5). ثَبَتَ حُكْمُه في حَقِّ الأمَةِ. ثم المَنْطُوقُ أوْلَى منه على كلِّ حالٍ. وأمَّا أبو ثَوْرٍ، فخالَفَ نَصَّ قولِه تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 394. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 243. وابن جرير، في: تفسيره 5/ 22، 23. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) سورة النساء 23. (¬4) سورة النساء 101. (¬5) تقدم تخريجه في 15/ 258.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. وعَمِلَ به فيما لم يَتَناوَلْه النَّصُّ، وخَرَق الإِجْماعَ في إيجابِ الرَّجمِ على المُحْصَناتِ، كما خَرَق داودُ الإِجْماعَ في تَكْمِيلِ الجَلْدِ على العَبِيدِ (¬1)، وتَضْعيفِ حَدِّ الأبكارِ على المُحْصَناتِ. فصل: ولا تَغْرِيبَ على عَبْدٍ ولا أمَةٍ. وبهذا قال الحسنُ، وحمادٌ، ومالكٌ، وإسحاقُ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ: يُغَرَّبُ نِصْفَ عام؛ لقولِه تعالى: {فَعَلَيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. وجَلَد [ابنُ عُمَرَ] (¬2) مملوكًا له ونَفاهُ إلى فَدَكَ (¬3). وعن الشافعىِّ قَوْلان كالمذهَبَيْن (¬4). واحْتَجَّ مَن أوْجَبَه بعُمُومِ قولِه عليه السَّلامُ: «البِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام» (¬5). ولَنا، الحديثُ المذكورُ في حُجَّتِنا، ولم يَذْكُرْ فيه تَغريبًا، ولو كان واجِبًا لذَكَرَه؛ لأنَّه لا يجوزُ تَأْخيرُ البَيانِ عن وَقْتِ الحاجَةِ، وحديثُ علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: يا أَيُّها الناسُ، أَقِيمُوا على أرِقَّائِكُمُ الحَدَّ، مَن أحْصَن منهم (¬6)، ومَن لم يُحْصِنْ، فإنَّ أمَةً لرسولِ اللَّهِ ووفي زَنَتْ، فأمَرَنى أن أجْلِدَها. وذكرَ ¬

(¬1) في الأصل، م: «العبد». (¬2) في الأصل: «عمر». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 317. وعنده: مملوكة له. وانظر: التلخيص 4/ 60. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه، في صفحة 236. (¬6) زيادة من: ص. وهى عند مسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديثَ. رَواه أبو داودَ (¬1). ولم يَذْكُرْ أنَّه غَرَّبَها. وأمَّا الآيَةُ، فإنَّها حُجَّةٌ لنا؛ فإنَّ العَذابَ المذْكورَ في القُرْآنِ مِائَةُ جَلْدَةٍ لا غيرُ، فيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إليه دُونَ غيرِه، بدليلِ أنَّه لم يَنْصَرِفْ إلى (¬2) تَنْصِيفِ الرَّجمِ، ولأَنَّ التَّغْرِيبَ في حَقِّ العَبْدِ عُقُوبَةٌ لسَيِّدِه دونَه، فلم يَجِبْ في الزِّنى، كالتَّغْرِيمِ، ثم بَيانُ ذلك، أنَّ العَبْدَ لا ضَرَرَ عليه في تَغْرِيبِه؛ لأنَّه غَرِيبٌ في مَوْضِعِه، وَيَتَرَفَّهُ بتَغْرِيبِه مِن الخِدْمَةِ، ويَتَضَرَّرُ سَيِّدُه بتَفْوِيتِ خِدْمَتِه، والخَطَرِ بخُروجِه مِن تحتِ يَدِه، والكُلْفَةِ في حِفْظِه، والإِنْفاقِ عليه مع بُعْدِه عنه، فيَصيرُ الحَدُّ مَشْرُوعًا في حَقِّ غيرِ الزَّانِى، والضَّررُ على غيرِ الجانِى، وما فَعَل ابنُ عمرَ، ففى حقِّ نفسِه وإسْقاطِ حَقِّه، وله فِعْلُ ذلك مِن غيرِ زنى ولا جِنايَةٍ، فلا يكونُ حُجَّةً في حَقِّ غيرِه. فصل: إذا زَنَى العبدُ، ثم عَتَقَ، فعليه حَدُّ الرَّقِيقِ؛ لأنَّه إنَّما يُقامُ عليه الحَدُّ الَّذى وَجَب عليه. ولو زَنَى حُرٌّ ذِمِّىٌّ، ثم لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ، ثم سُبِىَ فاسْتُرِقَّ، حُدَّ حَدَّ الأحْرارِ؛ لأنَّه وَجَب عليه وهو حُرٌّ. ولو كان أحَدُ الزّانِيَيْن رَقِيقًا، والآخَرُ حُرًّا، فعلى كلِّ وِاحدٍ منهما حَدُّهُ؛ لأنّ كلَّ واحدٍ منهما إنَّما تَلْزَمُه عُقُوبَةُ جِنايَتِه. ولو زَنَى بعدَ العِتْقِ، وقبلَ العِلْمِ به، فعليه حَدُّ الأحْرارِ؛ لأنَّه زَنَى وهو حُرٌّ. وإن أقِيمَ عليه حَدُّ الرَّقِيقِ قبلَ العِلْمِ بحُرِّيّتِه، ثم عُلِمَتْ بعدُ، تُمِّمَ عليه حَدُّ الأحْرارِ. وإن عَفَا السَّيِّدُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 176، 177. وهذا اللفظ لمسلم. (¬2) سقط من: الأصل.

4406 - مسألة: (وإن كان نصفه حرا، فحده خمس وسبعون جلدة، وتغريب نصف عام. ويحتمل أن لا يغرب)

وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَحَدُّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ جَلْدَةً، وَتَغْرِيبُ نِصْفِ عَامٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُغَرَّبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عَبْدِه، لم يَسْقُطْ عنه الحَدُّ، في قولِ عامَّةِ أهل العلمِ، إلَّا الحسنَ، فإنَّه قال. يَصِحُّ عَفْوُه. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّه حَقٌّ للَّهِ تَعالى، فلا يَسْقُطُ بإسْقاطِ سَيِّدِه، كالعِباداتِ، وكالحُرِّ إذا عَفا عنه الإِمامُ. فصل: فإن فَجَر بأمَةٍ، ثُمَّ قَتَلَها، فعليه الحَدُّ وقِيمَتُها. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو يوسفَ: إذا أوْجَبْتُ (¬1) عليه قِيمَتَها، أسْقَطْتُ الحَدَّ عنه؛ لأنَّه يَمْلِكُها بغَرامَتِه إيَّاها، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في سُقُوطِ الحَدِّ. ولَنا، أنَّ الحَدَّ وَجَب عليه، فلم يَسْقُطْ بقَتْلِ المَزْنِىِّ بها، كما لو كانت حُرَّةً فغَرِمَ دِيَتَها. وقولُه: إنَّه يَمْلِكُها. غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه إنَّما غَرِمَها بعدَ قَتْلِها، ولم تَبْقَ مَحَلًّا للمِلْكِ، ثم لو ثَبَت أنَّه (¬2) مَلَكَها، [فإنَّما مَلَكَها] (¬3)، بعدَ وُجُوبِ الحَدِّ، فلم يَسْقُطْ عنه، كما لو اشْتَراها. 4406 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا، فَحَدُّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ جَلْدَةً، وَتَغْرِيبُ نِصْفِ عَامٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُغَرَّبَ) أمَّا الرَّجْمُ، فلا ¬

(¬1) في م: «وجبت». (¬2) في الأصل، تش: «لها». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَجِبُ عليه وإن كان مُحْصَنًا؛ لأَنَّ الحُرِّيَّةَ لم تَكْمُل فيه، وعليه نِصْفُ حَدِّ الحُرِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً، ونِصْفُ حَدِّ العَبْدِ خمسٌ وعشرون، فيكونُ عليه خَمسٌ وسبعونَ جَلْدَةً، ويُغَرَّبُ نِصْفَ عامٍ. نَصَّ عليه أحمدُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُغَرَّبَ؛ لأَنَّ حَقَّ السيِّدِ في جميعِه في كلِّ الزَّمانِ، ونَصِيبُه مِن العبدِ لا تَغْرِيبَ عليه، فلا يَلْزَمُه تَرْكُ حَقِّه في بعضِ الزَّمانِ بما لا يَلْزَمُه، ولا تأخِيرُ حَقِّه بالمُهايَأَةِ مِن غيرِ رِضاه. وإن قُلْنا بِوُجُوبِ تَغْرِيبِه، فيَنْبَغِى أن يكونَ زَمَنُ التَّغْرِيبِ مَحْسُوبًا على العَبْدِ مِن نَصِيبِه الحُرِّ، وللسَّيِّدِ نِصْف عام بَدَلًا عنه، وما زاد عن الحُرِّيَّةِ أو نَقَصَ عنها، فبِحِسابِ ذلك، فإن كان فيها كَسْرٌ، مثلَ أن يكونَ ثُلُثُه حرًّا، فمُقْتَضَى (¬1) ما ذكَرْنا أن يَلْزَمَه ثُلثَا حَدِّ الحُرِّ، وهو ستٌّ وستُّون جَلْدَةً وثُلُثان، فيَنْبَغِى أن يَسْقُطَ الكسرُ؛ لأَنَّ الحَدَّ متى دار بينَ الوُجُوبِ والإِسْقاطِ، سَقَط. والمُدَبَّرُ والمُكاتَبُ وأمُّ الولَدِ بمَنْزِلَةِ القِنِّ في الحَدِّ؛ لأنَّه رَقِيقٌ كلّه، وقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «المُكاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» (¬2). ¬

(¬1) في م: «بمقتضى». (¬2) تقدم تخريجه في 18/ 379.

4407 - مسألة: (وحد اللوطى كحد الزانى سواء. وعنه، حده الرجم بكل حال)

وَحَدُّ اللُّوطِىِّ كَحَدِّ الزَّانِى سَوَاءً. وَعَنْهُ، حَدُّهُ الرَّجْمُ بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4407 - مسألة: (وَحَدُّ اللُّوطِىِّ كَحَدِّ الزَّانِى سَوَاءً. وَعَنْهُ، حَدُّهُ الرَّجْمُ بِكُلِّ حَالٍ) أجْمَعَ أهلُ العلمٍ على تَحْرِيمِ اللِّواطِ، وقد ذمَّه اللَّهُ تعالى في كتابِه، وعاب مَن فَعَلَه، وذمَّه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال اللَّهُ تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (¬1). ورُوِىَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، [لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْم لُوطٍ] (¬2)، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» (¬3). واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أَحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في حَدِّه؛ ¬

(¬1) سورة الأعراف 80، 81. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 309، 317. والطبرانى، في: المعجم الكبير 11/ 218. والحاكم في: المستدرك 4/ 356. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 231.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرُوِىَ عنه، أنَّ حَدَّه الرَّجْمُ، بِكْرًا كان أو ثَيِّبًا. وهذا قولُ علىٍّ، وابنِ عباسٍ، وجابِرِ بنِ زيدٍ، وعُبَيْدِ اللَّهِ بنِ مَعْمَرٍ (¬1)، والزُّهْرِىِّ، وأبى حَبِيبٍ (¬2)، ورَبِيعةَ، ومالكٍ، وإسحاقَ، وهو أحدُ قَوْلَى الشافعىِّ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، أنّ حَدَّه حَدُّ الزِّنَى. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادَةُ، والأوْزَاعِىُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وهو المَشْهُورُ مِن قَوْلَى (¬3) الشافعىِّ؛ لأَنَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرّجُلَ، فَهُمَا زَانِيَانِ» (¬4). ولأنَّه إيلاجٌ في فَرْج من آدَمِىٍّ، لا مِلْكَ له فيه، ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فكانَ زِنًى، كالإِيلاجِ في فَرْجِ المرأةِ. وإذا ثَبَت كَوْنُه زِنًى، دَخَلَ في عُموم الآيةِ والأخْبارِ فيه، ولأنه فاحِشَةٌ، فكان زِنًى، كالفاحِشَةِ بينَ الَرجُلِ ¬

(¬1) عبيد اللَّه بن معمر بن عثمان بن عمرو القرشى التيمى، اختلف في صحبته، استشهد بإصطخر مع عبد اللَّه بن عامر بن كريز، وهو ابن أربعين سنة، وكان على مقدمة الجيش يومئذ. الاستيعاب 3/ 1013، 1014. الإصابة 4/ 402 - 404. (¬2) لعله أبو حبيب بن يعلى بن مُنْيَة التميمى، سمع ابن عباس، وروى عنه مصعب بن شيبة. التاريخ الكبير 9/ 24. الجرح والتعديل 9/ 359. تهذيب التهذيب 12/ 68. (¬3) في الأصل: «قول». (¬4) أخرجه البيهقى، في باب: ما جاء في حد اللوطى، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 233. وهو ضعيف. انظر: تلخيص الحبير 4/ 55، إرواء الغليل 8/ 16.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمرأةِ. ورُوِىَ عن أبى بكرٍ الصِّديقِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه أمَر بتَحْرِيقِ اللُّوطِىِّ. وهو قولُ ابنِ الزُّبَيْرِ؛ لِما روَى صَفْوانُ بنُ سُلَيْمٍ، عن خالدِ ابنِ الوليدِ، أنَّه وَجَد في بعضِ ضَواحِى العربِ رجُلًا يُنْكَحُ كما تُنْكَحُ المرأةُ، فكَتَب إلى أبى بكرٍ، فاسْتَشارَ أبو بكرٍ الصحابةَ فيه، فكان علىٌّ أشَدَّهم قَوْلًا فيه، فقال: ما فَعَل هذا إلَّا أُمَّةٌ مِن الأُممِ واحدةٌ، وقد عَلِمْتُم ما فَعَل اللَّهُ بها، أَرىَ أن يُحَرَّقَ بالنَّارِ. فكَتَب أبو بكرٍ إلى خالدٍ، فحَرَقَه (¬1). وقال الحكمُ، وأبو حنيفةَ: لا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ ليس بمَحَلٍّ للوَطْءِ، أشْبَهَ غيرَ الفَرْجِ. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأُولَى، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ والمَفْعُولَ بهِ». رَواه أبو داودَ (¬2). وفى لَفْظٍ: «فَارْجُمُوا الأعلَى وَالأَسْفَلَ» (¬3). ولأنَّه ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: الباب السابق. السنن الكبرى 8/ 232. وأعله بالإرسال. (¬2) في: باب في من عمل عمل قوم لوط، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 468. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في حد اللوطى، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 240. وابن ماجه، في: باب من عمل عمل قوم لوط، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 856. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 300. وانظر: التلخيص 4/ 54، 55، الإرواء 8/ 16 - 18. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في الموضع السابق، من حديث أبى هريرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْماعُ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فإنَّهم أجْمَعُوا على قَتْلِه، وإنَّما اخْتَلَفوِا في صِفتِه. واحْتَجَّ أحمدُ بعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهَ عنه، أنَّه كان يَرَى رَجْمَه. ولأَنَّ اللَّهَ تعالى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بالرَّجْمِ، فيَنْبَغِى أن يُعاقَبَ مَن فَعَل فِعْلَهم بمثْلِ عُقُوبَتِهم. وقولُ مَن أسْقَطَ الحَدَّ عنه يُخالِفُ النَّصَّ والإِجْماعَ، وقِياسُ الفَرْجِ على غيرِه لا يَصِحُّ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ. إذا ثَبَت هذا، فلا فَرْقَ بينَ أن يكونَ في مَمْلُوكٍ له أو أجْنَبِىٍّ، لأَنَّ الذَّكَرَ ليسَ بمَحَل لوَطْءِ الذَّكَرِ، فلا يوثِّرُ مِلْكهُ له. ولو وَطِئَ زَوْجَتَه أو مَمْلُوكَتَه في دُبُرِها، كان مُحَرَّمًا، ولا حَدَّ فيه؛ لأَنَّ المرأةَ مَحَلٌّ لِلوَطْءِ في الجُمْلَةِ، وقد ذَهَب بعضُ العُلَماءِ إلى حِلِّه، فكان ذلك شُبْهَةَ مانِعَةً مِن الحَدِّ، بخِلافِ التَّلَوُّطِ.

4408 - مسألة: (ومن أتى بهيمة، فعليه حد اللوطى عند القاضى. واختار الخرقى وأبو بكر، أنه يعزر. وتقتل البهيمة)

وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً، فَعَلَيْهِ حَدُّ اللُّوطِىِّ عِنْدَ الْقَاضِى. وَاخْتَارَ الْخِرَقِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ يُعَزَّرُ. وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4408 - مسألة: (وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً، فَعَلَيْهِ حَدُّ اللُّوطِىِّ عِنْدَ الْقَاضِى. وَاخْتَارَ الْخِرَقِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ يُعَزَّرُ. وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ) اخْتَلَفَت الرِّوايَةُ عن أحمدَ، في الَّذى يَأْتِى البَهِيمَةَ، فرُوِىَ عنه، أنَّه يُعَزَّرُ، ولا حَدَّ عليه. اخْتارَه الخِرَقِى، وأبو بكرٍ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وعَطاءٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والحَكَمِ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، وإسْحاقَ. وهو قولٌ للشافعىِّ. والرِّوايَةُ الثَّانيةُ، حُكْمُه حُكمُ اللَّائِطِ سَواءً. وقال الحسنُ: حَدُّه حَدُّ الزَّانِى. وعن أبى سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ: يُقْتَلُ هو والبهيمةُ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً، فَاقْتُلُوهُ، واقْتُلُوهَا مَعَهُ». رَواه أبو داودَ (¬1). ووَجْهُ الرِّوايَةِ ¬

(¬1) في: باب في من أتى بهيمة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 468. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في من يقع على البهيمة، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 238. وابن ماجه، في: باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 856. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 269، 300. وانظر الكلام على الحديث في: تلخيص الحبير 4/ 55، الإرواء 8/ 13 - 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُولَى (¬1)، أنَّه لم يَصِحَّ فيه نَصٌّ، ولا يُمْكِنُ قِياسُه على الوَطْءِ في فَرْجِ الآدَمِىِّ؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ لها، وليس بمَقْصودٍ يُحْتاجُ في الزَّجْرِ عنه إلى الحَدِّ، فإنَّ النُّفُوسَ تَعافُه، وعامَّتُها (1) تَنْفِرُ منه، فيَبْقَى على الأَصْلِ في انْتِفاءِ الحَدِّ، والحديثُ يَرْوِيه عمرُو بنُ أبى عَمْرٍو، ولم يُثْبِتْه أحمدُ. وقال الطَّحاوِىُّ: هو ضَعِيفٌ. ومذهبُ ابنِ عباسٍ خِلافُه، وهو الَّذى رُوِى عنه. قال أبو داودَ: هذا يُضْعِفُ الحديثَ عنه. قال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ: سألتُ أحمدَ عن الرجلِ يَأْتِى البَهِيمَةَ، فوَقَف عندَها، ولم يُثْبِت حديثَ عمرِو بن أبى (1) عمرٍو في ذلك. ولأَنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فلا يجوزُ أن يَثْبُتَ بحديثٍ فيه هذه الشُّبْهَةُ والضَّعْفُ، لكنَّه يُعَزَّرُ ويُبالَغُ في تَعْزِيرِه؛ لأنَّه وَطْءٌ في فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، لا شُبْهَةَ له فيه، لم يُوجِبِ الحَدَّ، فأوْجَبَ التَّعْزِيرَ، كوَطْءِ المَيِّتَةِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُقْتَلُ البَهِيمَةُ. وهذا قولُ أبى سَلمَةَ بن عبدِ الرحمنِ، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ. وسَواءٌ كانتْ مملوكةً له أو لغيرِه، مَأْكُولَةً أو غيرَ مأكولةٍ. وذَكَر ابنُ أبى موسى في «الإِرْشَادِ» في وُجُوبِ قَتْلِها رِوايَتَيْن. وقال أبو بكرٍ: الاخْتِيارُ قَتْلُها، وإن تُرِكَتْ فلا بَأْسَ. وقال الطَّحاوِىُّ: إن كانت مأكولةً ذُبِحَتْ، وإلَّا لم تُقْتَلْ. وهذا القولُ الثانى للشافعىِّ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن ذَبْحِ الحيوانِ لغيرِ مَأْكَلَةٍ (¬1). ووَجْهُ الأَوَّلِ؛ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود عن القاسم مولى عبد الرحمن بلفظ: «. . . ولا تقتل بهيمة ليست لك بها حاجة». المراسيل 177. وتقدم تخريجه في 10/ 61، بلفظ الأصل، وهو موقوف على أبى بكر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديثُ المَذْكُورُ، وفيه الأمْرُ بقَتْلِ البَهِيمَةِ، فلم يُفَرِّقْ بينَ كَوْنِها مَأْكُولةً أو غيرَ مَأْكُولَةٍ، ولا بينَ مِلْكِه وملكِ غيرِه. فإن قِيلَ: الحديثُ ضَعِيفٌ، ولم تَعْمَلُوا به في قَتْلِ الفاعِلِ الجانِى، ففى حَقِّ حَيوانٍ لا جِنايَةَ منه أوْلَى. قُلْنا: إنَّما لم يُعْمَلْ به في قَتْلِ الفاعِلِ على إحْدَى الرِّوايَتَيْن، لوَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّه (¬1) حَدٌّ، والحُدودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وهذا إتْلافُ مالٍ، فلا تُؤَثِّرُ الشُّبْهَةُ فيه. الثانى، أنَّه إتْلافُ آدَمِىٍّ، وهو أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ حُرْمَةً، فلم يَجُزِ التَّهَجُّمُ (¬2) على إتْلافِه إلَّا بدَليلٍ في غايَةِ القُوَّةِ، ولا يَلْزَمُ مثلُ هذا ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) في الأصل: «التحريم».

4409 - مسألة: (وكره احمد أكل لحمها. وهل يحرم؟ على وجهين)

وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَكْلَ لَحْمِهَا. وَهَلْ يَحْرُمُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في إتْلافِ مالٍ ولا حَيوانٍ سِواهُ. فعلى هذا، إن كان الحَيوانُ للفاعِلِ، ذَهَبَ هَدْرًا، وإن كان لغيرِه، فعلى الفاعلِ غَرامَتُه؛ لأنَّه سَبَبُ إتْلافِه، فيَضْمَنُه، كما لو نَصَب له شَبَكَةً فتَلِفَ بها. 4409 - مسألة: (وَكَرِهَ احْمَدُ أَكْلَ لَحْمِهَا. وَهَلْ يَحْرُمُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ) وللشافعىِّ أيضًا في ذلك وَجْهان؛ أحدُهما، يَحِلُّ أكلُها؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (¬1). ولأنَّه حَيوانٌ ذَبَحَه مَن هو مِن أَهْلِ الذَّكاةِ، يجوزُ أكْلُه، فأشْبَهَ ما لو لم يُفْعَلْ به هذا الفعلُ، ولكن يُكْرَهُ أكلُه؛ لشُبْهَةِ التَّحْريمِ. والثانى، لا يَحِلُّ أكْلُها؛ لِما رُوِى عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قِيلَ له: ما شأْنُ البَهيمةِ؟ قال: ما أُراه قال ذلك إلَّا ¬

(¬1) سورة المائدة 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه كَرِه أكْلَها، وقد فُعِلَ بها هذا الفِعْلُ (¬1). ولأنَّه حَيوانٌ يَجِبُ قَتْلُه لحَقِّ اللَّهِ تعالى، فلم يَجُزْ أكلُه، كسائِرِ المقْتُولاتِ. واخْتُلِف [في عِلَّةِ] (¬2) قتْلِها، فقِيلَ: إنَّما قُتِلَتْ لِئَلَّا يُعَيَّرَ (¬3) فاعِلُها (¬4)، ويُذَكَّرَ برُؤْيَتِها. وقد روَى ابنُ بَطَّةَ، بإسْنادِه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «مَنْ وَجَدْتموهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ، واقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ما بالُ البَهِيمةِ؟ قال: «لا يُقَالُ هَذِهِ وَهَذِه». وقيل: لِئَلَّا تَلِدَ خَلْقًا مُشَوَّهًا. وقيلِ: لِئَلَّا تُؤْكَلَ. وإليه أشارَ ابنُ عباس في تَعْلِيلِه. ولا يَجِبُ قَتْلُها حتَّى يَثْبُت هذا العَمَلُ بها ببَيِّنَةٍ، فأمَّا إن أقَرَّ الفاعِلُ، فإن كانتِ البَهِيمَةُ له، ثَبَت بإقْرارِه، وإن كانت لغيرِه، لم يَجُزْ قَتْلُها بقَوْلِه؛ لأنَّه إقْرارٌ على مِلْكِ غيرِه، فلم يُقْبَلْ، كما لو أقَرَّ بها لغيرِ مالكِها. وهل يَثْبُت هذا بشاهِدَين عَدْلَيْن، وإقْرارٍ مَرَّةً، ويُعْتَبَرُ فيه (3) ما يُعْتَبَرُ في الزِّنَى؟ على وَجْهَيْن، نَذْكُرُهما في مَوْضِعِهما، إن شاء اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) انظر تخريجه عند أبى داود والترمذى في صفحة 275، كما أخرج هذا الحديث بهذه الزيادة النسائى، في: باب من وقع على بهيمة، من أبواب التعزيرات والشهود. السنن الكبرى 4/ 322. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 127. والبيهقى، في: باب من أتى بهيمة، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 233. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «قاتلها».

فصل

فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُهَا، أَنْ يَطَأَ فِى الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ ثَلاثَةٍ؛ أحَدُهَا، أَنْ يَطَأَ فِى الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ، في أنَّ مَن وَطِئَ امرأةً في قُبُلِها حَرامًا لا شُبْهَةَ له في وَطْئِها، أنَّه زانٍ (¬1) يجبُ عليه حَدُّ الزِّنَى، إذا كَمَلَتْ شُرُوطُه. والوَطْءُ في الدُّبُرِ مثلُه في كَوْنِه زِنًى؛ لأنَّه وَطْءٌ في فَرْجِ امرأةٍ، لا مِلْكَ له فيه (¬2) ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ، فكان زِنًى، كالوَطْءِ في القُبُلِ، ولأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {وَالَّتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} (¬3): الآية، ثم بَيَّنَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قد جَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا: «البِكْر بالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عَامٍ» (¬4). والوَطْءُ في الدُّبُرِ فاحِشَةٌ، لقولِ اللَّهِ تعالى في قومِ لُوطٍ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} (¬5). يعنى الوَطْءَ في أدْبارِ الرِّجالِ. ويُقالُ: أوَّلُ ما بَدَأ قومُ لُوطٍ بوَطْءِ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ، ثم صارُوا إلى ذلك في الرِّجالِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 15. (¬3) زيادة من: ص. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 236. (¬5) سورة الأعراف 80، وسورة النمل 54.

4410 - مسألة: (وأقل ذلك تغييب الحشفة فى الفرج)

وَأَقَلُّ ذَلِكَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ في الْفَرْجِ، فَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4410 - مسألة: (وَأَقَلُّ ذَلِكَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ في الفَرْجِ) لأَنَّ أحْكامَ الوَطْءِ تَتَعَلَّقُ به، ولا تَتَعَلَّقُ بما دُونَه. 4411 - مسألة: (فإنْ وَطِئَ دُونَ الفَرْجِ) فلا حَدَّ عليه؛ لِما روَى ابنُ مسعودٍ أنَّ رَجُلًا جاء إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إنِّى وَجَدْتُ امْرأةً في البُسْتانِ، فأصَبْتُ منها كلَّ شئٍ، غيرَ أنِّى لم أنْكِحْها، فافْعَلْ بى ما شِئْتَ. فَقَرَأَ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية (¬1). رَواه النَّسائِىُّ (¬2). وعليه التَّعْزِيرُ؛ لأنَّه مَعْصِيَةٌ ليس فيها حَدٌّ ولا كَفَّارَةٌ، فأشْبَهَ ضَرْبَ النَّاسِ والتَّعَدِّىَ عليهم. وظاهِرُ الحديثِ يَدُلُّ على أنَّه لا تَعْزِيرَ عليه إذا جاء تائِبًا؛ ¬

(¬1) سورة هود 114. (¬2) في: باب من اعترف بما لا تجب فيه الحدود. . .، من كتاب الرجم. السنن الكبرى 4/ 316. كما أخرجه البخارى، في: باب قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ. . .}، من كتاب التفسير -سورة هود- صحيح البخارى 6/ 94. ومسلم، في: باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2115 - 2117 وأبو داود، في: باب في الرجل يصيب من المرأة ما دون الجماع. . .، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 469. والترمذى، في: باب ومن سورة هود، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 276 - 280. وابن ماجه، في: باب ذكر التوبة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1421. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 445، 449.

4412 - مسألة: (وإن أتت المرأة المرأة، فلا حد عليهما)

أَوْ أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْعَلْه، ويفارِقُ ضَرْبَ الناسِ والتَّعَدِّىَ عليهم، لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ. 4412 - مسألة: (وإنْ أَتَتِ الْمَرْأةُ الْمَرْأةَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا) إذا تَدالَكَتِ امرأتانِ، فهما مَلْعُونَتان؛ لِما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إِذَا أَتَتِ المَرْأةُ المَرْأةَ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ» (¬1). ولا حَدَّ عليهما؛ لأنَّه لا يتَضَمَّنُ إيلاجًا، فأشْبَهَ المُباشَرَةَ دُونَ الفَرْجِ، وعليهما التَّعْزِيرُ، لأنَّه زِنًى لا حَدَّ فيه، فأشْبَهَ مُباشَرَةَ الرجلِ المرأةَ مِن غيرِ جِماعٍ. فصل: ولو وُجدَ رجلٌ مع امرأةٍ، يُقَبِّلُ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، ولم يُعْلَمْ هل وَطِئَها أو لا؟ فلا حَدَّ عليهما، فإنْ قالا: نحنُ زَوْجانِ. واتَّفَقا على ذلك، فالقولُ قَوْلُهما. وبه قال الحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. فإن شُهِدَ عليهما بالزِّنَى، فقالا: نحن زَوْجانِ. فقِيلَ: عليهما الحَدُّ إن لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ بالنِّكاحِ. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأَنَّ الشَّهادَةَ بالزِّنَى تَنْفِى كَوْنَهما زَوْجَيْن، فلا تَبْطُلُ بمُجَرَّدِ قولِهما. ويَحْتَمِلُ أن لا يجبَ الحَدُّ إذا لم يُعْلَمْ كَوْنُها أجْنَبِيَّةً منه؛ لأَنَّ ما ادَّعَياهُ مُحْتَمِلٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً، كما لو شُهِدَ عليه بالسَّرِقَةِ، فادَّعَى ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش: «رواه مسلم». والحديث لم يروه مسلم. وتقدم تخريجه عند البيهقى في صفحة 272. في حديث: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان».

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ، أَوْ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ أَوْ لِوَلَدِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ المَسْرُوقَ مِلْكُه. فصل: (الثَّانِى، انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ، أَوْ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ أَوْ لِوَلَدِهِ) [أُدِّبَ ولم يُبْلَغْ به الحَدُّ] (¬1). وجملةُ ذلك، أنَّ مَن وَطِئَ جارِيةَ وَلَدِه، فإنَّه لا حَدَّ عليه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، وأهلُ المَدينةِ، والأوْزَاعِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يجبُ (¬2) عليه الحَدُّ، إلَّا أن يَمْنَعَ منه إجْماعٌ؛ لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ، أشْبَهَ وَطْءَ جارِيَةِ أبِيه. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ منه، فلا يجبُ به الحَدُّ، كوَطْءِ الأمَةِ المُشْتَرَكَةِ، والدَّلِيلُ على تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» (¬3). ¬

(¬1) في م: «فلا حد عليه». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106.

4413 - مسألة: (أو وجد امرأة)

أَوْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ، ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ، أَوْ دَعَا الضَّرِيرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فأضافَ مالَ ولدِه إليه، وجَعَلَه له، فإذا لم تَثْبُتْ حَقِيقَةُ المِلْكِ، فلا أقلَّ مِن جَعْلِه شُبْهَةً دارِئَةً للحَدِّ الَّذى يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأَنَّ القائِلِين بانْتِفاءِ الحَدِّ في عَصْرِ مالكٍ، والأوْزَاعِىِّ، ومَن وافَقَهُما، قد اشْتَهَرَ قولُهم، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ، فكان ذلك إجْماعًا. وكذلك إن كان لوَلَدِه فيها شِرْكٌ؛ لِما ذَكَرْنا. ولا حَدَّ على الجارِيَةِ؛ لأَنَّ الحَدَّ انْتَفَى عن الواطِئَ لشُبْهَةِ المِلْكِ، فيَنْتَفِى عن المَوْطُوءَةِ، كوَطْءِ الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ، ولأَنَّ المِلْكَ مِن قَبِيلِ المُتَضَايِفاتِ، إذا ثَبَت في أحَدِ المُتَضَايِفَينِ ثَبَت في الآخَرِ، فكذلك شُبْهَتُه، ولا يَصِحُّ القِياسُ على وَطْءِ جارِيَةِ الأبِ؛ لأنَّه لا مِلكَ للولدِ فيها، ولا شُبْهَةَ مِلْكٍ، بخِلافِ مسألَتِنا. وحَكَى (¬1) ابنُ أبى موسى قولًا في وَطْء جارِيَةِ الأبِ [والأُمِّ] (¬2)، أنَّه لا يُحَدُّ؛ لأنَّه لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِه، أشْبَهَ الأَبَ. والأَوَّلُ أصَحُّ، وعليه عامَّةُ أهلِ العلمِ فيما عَلِمْنا. فصل: ولا يجبُ الحَدُّ بوَطْءِ جاريَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بينَه وبينَ غيرِه. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأَىِ. وقال أبو ثَوْرٍ: يجبُ. ولَنا، أنَّه فَرْجٌ له فيه مِلْكٌ، فلا يُحَدُّ بوَطْئِه، كالمُكاتَبَةِ والمَرْهُونَةِ. 4413 - مسألة: (أو وَجَد امرأةً) نائِمَةً (على فِراشِه، ظَنَّها امرأتَه ¬

(¬1) بعده في م: «عن». (¬2) في الأصل: «وأم ولده».

امْرَأتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ، فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا، فَوَطِئَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو جَارِيَتَه، أو دَعا الضَّرِيرُ امْرَأتَه أو جَارِيَتَه، فأجابَه غيرُها، فوَطِئَها) فلا حَدَّ عليه. وجملةُ ذلك، أنَّ مَن زُفَّتْ إليه غيرُ زَوْجَتِه، وقيل له: هذه زَوْجَتُك. فَوَطِئَها يَعْتَقِدُها زَوْجَتَه، فلا حَدَّ عليه. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وإن لم يُقَلْ له: هذه زوجتُك. أو وَجَد على فِراشِه امرأةً ظَنَّها امرأتَه أو جارِيَتَه، فوَطِئَها، أو دعا زوْجَتَه [أو جارِيَتَه] (¬1) فجاءَتْه غيرُها، فوَطِئَها يَظُنُّها المَدْعُوَّةَ، أو اشْتَبَهَ عليه ذلك؛ لعَماهُ (¬2)، فلا حَدَّ عليه. وبه قال الشافعىُّ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ أنَّ عليه الحَدَّ؛ لأنَّه وَطْءٌ في مَحَلٍّ [لا مِلْكَ] (¬3) له فيه. ولَنا، أنَّه وَطْء اعْتَقَدَ إباحَتَه بما يُعْذَرُ مثْلُه فيه، فأشْبَهَ ما لَو قِيل له: هذه زَوْجَتُك. ولأَنَّ الحُدودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وهذه مِن أعْظَمِها. فأمَّا إن دَعَا مُحَرَّمَةً عليه، فأجابَه غيرُها فوَطِئها يَظُنُّها المَدْعُوَّةَ، فعليه الحَدُّ، سَواءٌ كانتِ المَدْعُوَّةُ ممَّن له فيها (¬4) شُبْهَةٌ، كالجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ، أولم يَكُنْ؛ لأنَّه لا يُعْذَرُ بهذا، فأشْبَهَ ما لو قَتَل رَجلًا يَظُنُّهُ ابنَه، فبانَ أجْنَبِيًّا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «يعتقدها زوجته». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

4414 - مسألة: (أو وطئ فى نكاح مختلف فى صحته، أو وطئ امرأته فى دبرها، أو حيضها، أو نفاسها)

أَوْ وَطِئَ فِى نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ في صِحَّتِهِ، أو وَطِئَ امْرَأَتَهُ في دُبُرِهَا، أَوْ حَيْضِهَا، أَوْ نِفَاسِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4414 - مسألة: (أَوْ وَطِئَ فِى نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ في صِحَّتِهِ، أو وَطِئَ امْرَأَتَهُ في دُبُرِهَا، أَوْ حَيْضِهَا، أَوْ نِفَاسِهَا) لا يجبُ الحَدُّ بالوَطْءِ (¬1) في نِكاحٍ مُخْتَلَفٍ في صِحَّتِه، كنِكاحِ المُتْعَةِ، والشِّغَارِ، والنِّكاحِ بلا وَلِىٍّ، والتَّحْلِيلِ، والنِّكاحِ بغيرِ شُهُودٍ، ونكاحِ الأُخْتِ في عِدَّةِ أُخْتِها، والخامِسَةِ في عِدَّةِ الرَّابعةِ البائنِ، ونِكاحِ المَجُوسِيَّةِ. وهذا قولُ أكثر أهلِ العلمِ؛ لأَنَّ الاخْتِلافَ في إباحةِ الوَطْءِ فيه شُبْهَةٌ، والحُدُودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. وحُكِىَ عن ابنِ حامدٍ وُجُوبُ الحَدِّ بالوَطْء في النِّكاحِ بِلا وَلِىٍّ. والمذهبُ الأَوَّلِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ ¬

(¬1) سقط م: الأصل. (¬2) انظر الإشراف 3/ 29، الإجماع 69.

4415 - مسألة: ولا حد على من لم يعلم بتحريم الزنى. قال عمر، وعلى، وعثمان: لا حد إلا على من علمه

أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالإِسْلَامِ، أَوْ نُشُوئِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه مِن أهلِ العلمِ، أنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. وكذلك إن وَطِئَ امرأتَه في دُبُرِها، أو جارِيَتَه، فهو مُحَرَّمٌ، ولا يَجِبُ به الحَدُّ؛ لأَنَّ المرأةَ مَحَلٌّ للوَطْءِ في الجُمْلَةِ، وقد ذَهَب بعضُ العُلَماءِ إلى حِلِّه، فكان ذلك شُبْهَةً مانِعَةً مِن الحَدِّ، والوَطْءُ في الحَيْضِ والنِّفاسِ صادَفَ مِلْكًا، فكان شُبْهَةً. 4415 - مسألة: ولا حَدَّ على مَن لم يَعْلَمْ بتَحْرِيمِ الزِّنَى. قال عمرُ، وعلىٌّ، وعثمانُ: لا حَدَّ إلَّا على مَن عَلِمَه (¬1). وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. فإنِ ادَّعَى الجانِى (¬2) الجَهْلَ بالتَّحْرِيمِ، وكان يَحْتَمِلُ أن يَجْهَلَه، كحديثِ العَهْدِ بالإِسلامِ، والنَّاشِئَ بِبَادِيَةٍ، قُبِلَ منه؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ صادِقًا. وإن كان ممَّن لا يَخْفى عليه ذلك، كالمسلمِ النَّاشِئ بينَ المسلمين وأهلِ العلمِ، لم يُقْبَلْ؛ لأَنَّ تَحْريمَ الزِّنَى لا يَخْفَى على مَن هو كذلك، فقد عُلِمَ كذِبُه. فإنِ ادَّعَى الجَهْلَ بفَسادِ نِكاحٍ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عنهم في صفحة 170. (¬2) سقط من: م.

4416 - مسألة: (أو أكره على الزنى، فلا حد فيه. وقال أصحابنا: إن أكره الرجل فزنى، حد)

أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى، فَلَا حَدَّ فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَزَنَى، حُدَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باطِلٍ، قُبِلَ قولُه؛ لأَنَّ عمرَ قَبِلَ قولَ المُدَّعِى الجَهْلَ بتَحْرِيمِ النِّكَاحِ في العِدَّةِ (¬1)، ولأَنَّ مثلَ هذا يُجْهَلُ كثيرًا، ويَخْفى على غيرِ أهلِ العلمِ. 4416 - مسألة: (أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى، فَلَا حَدَّ فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَزَنَى، حُدَّ) لا يجبُ الحَدُّ على مُكْرَهَةٍ على الزِّنَى في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. رُوِى ذلك عن عمرَ، والزُّهْرِىِّ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى. ولا نعلمُ فيه مُخالفًا؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «عُفِىَ لأُمَّتِى عَنِ الخَطَأ، والنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬2). وعن عبدِ الجَبَّارِ بن وائلٍ، عن أبِيه، أنَّ امرأةً اسْتُكْرِهَت على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَرَأَ عنها الحَدَّ. رَواه الأَثْرَمُ (¬3). قال: وأُتِىَ ¬

(¬1) انظر ما تقدم تخريجه في 24/ 114. وانظر ما أخرجه سعيد، في: سننه 1/ 188، 189. وابن أبى شيبة، في: المصنف 10/ 18. (¬2) بعده في الأصل، تش، ر 3، ق، م: «رواه النسائى». والحديث تقدم تخريجه في 1/ 276. ولم يعزه إلى النسائى في: نصب الراية 2/ 64 - 66، ولا الإرواء 1/ 123، 124. (¬3) وأخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنى، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 234. وابن ماجه، في: باب المستكره، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 866. والإمام أحمد في: المسند 4/ 318. وقال الترمذى: وليس إسناده بمتصل. وانظر: الإرواء 7/ 341.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرُ بإمَاءٍ مِن إمَاءِ الإِمارةِ، اسْتَكْرَهَهُنَّ غِلْمانٌ مِن غِلْمانِ الإِمارةِ، فضَرَب الغِلْمانَ، ولم يَضْرِب الإِماءَ (¬1). وروَى سعيدٌ (¬2)، بإسْنادِه، عن طارقِ بنِ شِهابٍ، قال: أُتِى عمرُ بامرأةٍ قد زَنَتْ، فقالَتْ: إنِّى كُنْتُ نائمةً، فلم أسْتَيْقِظْ إلَّا برجلٍ قد جَثَم علىَّ. فخَلَّى سَبِيلَها، ولم يَضْرِبْها. ولأَنَّ هذه شُبْهَةٌ، والحُدودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. ولا فَرْقَ بينَ الإِكْراهِ بالإِلْجاءِ، وهو أَنْ يَغْلِبَها على نفسِها، وبينَ الإِكْراهِ بالتَّهْدِيدِ بالقَتْلِ ونحوِه. نَصَّ عليه أحمدُ، في راعٍ جاءَتْه امرأةٌ، قد عَطِشَتْ، فسألَتْه أن يَسْقِيَها، فقال لها: أمْكنِينى مِن نَفْسِكِ. قال: هذه مُضْطَرَّةٌ. وقد رُوِى عن عمرَ بنِ الخَطَّاب، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ امرأةً اسْتَسْقَتْ راعِيًا، فأَبَى أَنْ يَسْقِيهَا إلَّا أن تُمَكِّنِه مِن نَفْسِها، ففعَلَتْ، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ، فقال لعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: ما تَرَى فيها؟ قال (¬3): إنَّها مُضْطَرَّةٌ. فأعْطاهَا عمرُ شيئًا، وتَرَكَها (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في المستكرهة، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 550. وانظر ما أخرجه الإمام مالك، في: باب جامع ما جاء في حد الزنى، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 827. والبيهقى، في: باب من زفى بامرأة مستكرهة، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 236. (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 409. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 567. والبيهقى، في السنن الكبرى 8/ 235، 236. وصححه في الإرواء 7/ 340. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 407. وسعيد بن منصور، في: باب المرأة تلد لستة أشهر، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 69. والبيهقى، في: باب من زنى بامرأة مستكرهة، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 236.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أُكْرِهَ الرجل فزَنَى، فقال أصحابُنا: عليه الحَدُّ. وبه قال محمدُ ابنُ الحسنِ، وأبو ثَوْرٍ؛ لأَنَّ الوَطْءَ لا يكونُ إلَّا بالانْتِشارِ، والإِكْراهُ يُنافِيه، فإذا وُجِدَ الانْتِشَارُ انْتَفَى الإِكْراهُ، فيَلْزَمُه الحَدُّ، كما لو أُكْرِهَ على غيرِ الزِّنَى فَزَنى. وقال أبو حنيفةَ: إن أَكْرَهَه السُّلْطانُ، فلا حَدَّ عليه، وإن أكْرَهَه غيرُه، حُدَّ اسْتِحْسانًا. وقال الشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا حَدَّ عليه؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأَنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، والإِكْراهُ شُبْهَةٌ، فيَمْنَعُ الحَدَّ، كما لو كانتِ امرأةً. يُحَقِّقُه أنَّ الإِكْراهِ إذا كان بالتَّخْوِيفِ، أو بمنعِ ما تَفُوتُ حَياتُه بمَنْعِه، كان الرجلُ فيه كالمرأةِ، فإذا لم يجبْ عليها الحَدُّ، لم يجبْ علية. وقولُهم: إنَّ التَّخْوِيفَ يُنافِى الانْتِشارَ. لا يَصحُّ؛ لأَنَّ التَّخْوِيفَ بتَرْكِ الفعلِ، والفعلُ لا يُخافُ (¬1) منه، فلا يَمْنَعُ ذلك. وهذا أصَحُّ الأقْوالِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «يجاب».

4417 - مسألة: (وإن وطئ ميتة، أو ملك أمه أو أخته من الرضاع، فوطئها، فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين)

وَإِنْ وَطِئَ مَيِّتَةً، أو مَلَكَ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، فَوَطِئَهَا، فَهَلْ يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4417 - مسألة: (وَإِنْ وَطِئَ مَيِّتَةً، أو مَلَكَ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، فَوَطِئَهَا، فَهَلْ يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ) إذا وَطِئَ مَيِّتَةً، فعليْه الحَدُّ، في أحدِ الوَجْهَيْنِ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ؛ لأنَّه وَطْءٌ في فَرْجِ آدَمِيَّةٍ، أشْبَهَ وَطْءَ الحَيَّةِ، ولأنَّه أعْظَمُ ذَنْبًا، وأكثرُ إثْمًا؛ لأنَّه انْضَمَّ إلى فاحِشَتِه هَتْكُ حُرْمَةِ المَيِّتَةِ. والثانى، لا حَدَّ عليه. وهو قولُ الحسنِ. قال أبو بكرٍ: وبهذا أقولُ؛ لأَنَّ الوَطْءَ في المَيِّتَةِ [كَلا وَطْءٍ] (¬1)؛ لأنَّه عُضْوٌ (¬2) مُسْتَهْلَكٌ، ولأنَّها لا يُشْتَهَى مثلُها، وتَعافُها النَّفْسُ، فلا حاجَةَ إلى شَرْعِ الزَّاجِرِ عنها. وأمَّا إذا مَلَكَ أُمَّه أو أُخْتَه مِن الرَّضاعِ، ¬

(¬1) في الأصل: «كالوطء». (¬2) في م: «عوض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَطِئَها (¬1)، فَذَكَر القاضى عن أصحابِنا، أنَّ عليه الحَدَّ؛ لأنَّه فَرْجٌ لا يُسْتَبَاحُ بحالٍ، فوَجَبَ الحَدُّ بالوَطْءِ فيه، كفَرْجِ الغُلامِ. وقال بعضُ أصحابِنا: لا حَدَّ عليه (¬2). وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى، والشافعىِّ؛ لأنَّه وَطْءٌ [في فَرْجٍ] (¬3) مَمْلُوكٍ له، يَمْلِكُ المُعاوَضَةَ عنه، وأخْذَ صَداقِه، فلم يجبِ الحَدُّ عليه (¬4)، كالوَطْءِ في الجارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ. فأمَّا إنِ اشْتَرَى ذاتَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «فوطئهما». (¬2) في م: «فيه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

4418 - مسألة: (وإن وطئ فى نكاح مجمع على بطلانه، كنكاح المزوجة، والمعتدة، والخامسة، وذوات المحارم من النسب والرضاع)

وَإِنْ وَطِئَ فِى نِكَاحٍ مُجْمَعٍ عَلَى بُطلانِهِ، كَنِكَاحِ الْمُزَوَّجَةِ، وَالْمُعْتَدَّةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَذَوَاتِ الْمَحارِمِ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحْرَمِه مِن النَّسَبِ، ممَّن يَعْتِقُ عليه، ووَطِئَها، فعليه الحَدُّ. لا نَعلَمُ فيه خِلافًا؛ لأَنَّ المِلْكَ لا يَثْبُتُ فيها، فلم تُوجَدِ الشُّبْهَةُ. 4418 - مسألة: (وَإِنْ وَطِئَ فِى نِكَاحٍ مُجْمَعٍ عَلَى بُطْلانِهِ، كَنِكَاحِ الْمُزَوَّجَةِ، والْمُعْتَدَّةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَذَوَاتِ الْمَحارِمِ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعَ) فعليه الحَدُّ. إذا تَزَوَّجَ ذاتَ مَحْرَمِه، فالنِّكاحُ باطِلٌ بالإِجْماعِ. فإن وَطِئَها، فعليه الحَدُّ. في قولِ أكثرِ أهلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العلمِ؛ منهم الحسنُ، وجابرُ بنُ زيدٍ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ، وإسحاقُ. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: لا حَدَّ عليه؛ لأنَّه وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ منه، فلم يُوجِبِ الحَدَّ، كما لو اشْتَرَى أُخْتَه مِن الرَّضاعِ ثُمَّ وَطِئَها، وبَيانُ الشُّبْهَةِ أنَّه قد وُجِدَتْ صُورةُ المُبِيحِ، وهو عَقْدُ النِّكاحِ الَّذى هو سَبَبٌ للإِباحَةِ، فإذا لم يَثْبُتْ حُكْمُه وهو الإِبَاحَةُ، بَقِيَتْ صُورَتُه دَارِئَةً للحَدِّ الَّذى يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ فِى فَرْجِ امرأةٍ، مُجْمَعٌ على تَحْرِيمِه مِن غيرِ مِلْكٍ ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، والواطِئُ مِن أَهلِ الحَدِّ، عالمٌ بالتَّحْرِيمِ، فلَزِمَه الحَدُّ، كما لو لم يُوجَدِ العَقْدُ، وصُورَة المُبِيحِ إنَّما تكونُ شُبْهَةً إذا كانت صَحِيحَةً، وِالعَقْدُ ههُنا باطِلٌ مُحَرَّمٌ، وفِعْلُه جِنايَةٌ تَقْتَضِى العُقُوِبَةَ، انْضَمَّتْ إلى الزِّنى، فلم تَكُنْ شُبْهَةً، كما لو أكْرَهَها وعاقَبَها، ثُمَّ زَنى بها، ثُمَّ يَبْطُلُ بالاسْتِيلاءِ عليها، فإنَّ الاسْتِيلاءَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَبٌ؛ للمِلْكِ في المُباحاتِ، وليس بشُبْهَةٍ. وأمَّا إذا اشْتَرَى أُخْتَه مِن الرَّضَاعِ، فهو مَمْنُوعٌ، وإن سَلَّمْناه، فإنَّ المِلْكَ المُقْتَضِىَ للإِباحَةِ صَحِيحٌ ثابتٌ، وإنَّما تخَلَّفَتِ الإِباحَةُ لمُعَارِضٍ، بخِلافِ مَسْألتِنا، فإنَّ المُبِيحَ غيرُ موجودٍ، فإنَّ عَقْدَ النِّكاحِ باطِلٌ، والملكَ به غيرُ ثابتٍ، فالمُقْتَضِى معدومٌ، فهو كما لو (1) اشْتَرَى خمرًا فشَرِبَه. إذا ثَبَت هذا، فاخْتُلِفَ (¬1) في الحَدِّ، فرُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه يُقْتَلُ على كل حالٍ. وبهذا قال جابِرُ بنُ زيدٍ، وإسحاقُ، وأبو أَيُّوبَ (¬2)، وابنُ أبى خَيْثَمَةَ (¬3). ورَوَى إسماعيلُ بنُ سعيدٍ، عن أحمدَ، في رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةَ أبِيه، فقال: يُقْتَلُ ويُؤْخَذُ مالُه إلى بيتِ المالِ. والرِّوايةُ الثانية، حَدُّه حَدُّ الزِّنَى. وبه قال الحسنُ، ومالكٌ، والشافعىُّ؛ لعُمُومِ الدِّيَةِ والخَبَرِ. ووَجْهُ الأُولَى، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ثور». (¬3) أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب بن شداد أبو بكر، نسائى الأصل، صاحب «التاريخ الكبير» الكثير الفائدة، كان ثقة عالما حافظا بصيرا بأيام الناس، راوية للأدب، أكثر الناس عنه السماع، توفى في جمادى الأولى سنة تسع وسبعين ومائتين. تاريخ بغداد 4/ 162 - 164. من أعلام النبلاء 11/ 492 - 495.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما رَوَى البَرَاءُ، قال: لَقِيتُ عَمِّى ومعه الرَّايَةُ، فقلْتُ: إلى أينَ تُرِيدُ؟ فقال: بَعَثَنِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى رجلٍ نَكَح (¬1) امرأةَ أبيه مِن بَعْدِه أن أضْرِبَ عُنُقَه، وآخُذَ مالَه. رَواه أبو داودَ، والجُوزْجَانِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسنٌ. وسَمَّى الجُوزْجَانِىُّ عمَّه الحارِثَ ابنَ عمرو. وروَى الجُوزْجَانِىُّ، وابنُ ماجَه (¬3)، بإسْنادِهِما إلى ابنِ عباس، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَن وَقَع عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ، فَاقْتُلُوه». ورُفِعَ إلى الحَجَّاجِ رجلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَه على نَفْسِها، فقال: احْبِسُوه، وسَلُوا مَن ههُنا مِن أصحابِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسأَلُوا عبدَ اللَّهِ بنَ أبى مُطَرِّفٍ، فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «مَنْ تَخَطَّى المُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَه (¬4) بالسَّيْفِ» (¬5). وهذه الأحاديث ¬

(¬1) في م: «تزوج». (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 281، 282. (¬3) أخرجه ابن ماجه، في: باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 856. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في من يقول لآخر: يا مخنث، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 249. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 300. وضعفه في الإرواء 8/ 22، 23. (¬4) في م: «رأسه». (¬5) أخرج هذا الحديث بلفظ: «من تخطى الحرمتين الاثنين فخطوا وسطه بالسيف». ابن عدى في الكامل 3/ 1036، 4/ 1536. وعزاه إلى الطبرانى في: مجمع الزوائد 6/ 269. وبلفظ: «من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف». أخرجه العقيلى في: الضعفاء الكبير 2/ 202. وهو ضعيف، انظر الكلام عليه في: فتح الباري 12/ 181. وانظر: الإصابة 4/ 238، 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [أخَصُّ] (¬1) ممَّا وَرَد في الزِّنَى، فتُقَدَّمُ. والقَوْلُ في مَن زَنَى بذاتِ مَحْرَمِه مِن غيرِ عَقْدٍ، كالقولِ في مَن وَطِئَها بعدَ العَقْدِ. فصل: وكلُّ عَقْدٍ أُجْمِعَ على بُطْلانِه، كنِكاحِ الخَامسةِ، أو مُزَوَّجَةٍ، أو مُعْتَدَّةٍ، أو نِكاحِ المُطَلَّقَةِ ثلاثًا، إذا وَطِئَ فيه عالمًا بالتَّحْريمِ، فهو زِنًى، مُوجِبٌ للحَدِّ المشْرُوعِ فيه قبلَ العَقْدِ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، وصاحِباه: لا حَدَّ فيه؛ لِما ذَكَرُوه فيما إذا عَقَد على ذَواتِ مَحارِمِه. وقال النَّخَعِىُّ: يُجْلَدُ مِائَةً، ولا يُنْفَى. ولَنا، ما ذَكَرْناه فيما مَضَى، ورَوَى أبو نَصْرٍ المَرُّوذِىُّ، [بإسْنادِه، عن عُبَيْدِ] (¬2) بنِ نُضَيْلَةَ (¬3)، قال: رُفِعَ إلى عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، امرأةٌ تَزَوَّجَتْ في عِدَّتِها، فقال: هل عَلِمْتُمَا؟ قالا: لا. قال: لو عَلِمْتُما لَرَجَمْتُكُمَا. فجَلَدَه أسْواطًا، ثم فرَّقَ بينَهما (¬4). ورَوَى أبو بكرٍ بإسْنادِه قال: رُفِعَ إلى علىٍّ، عليه السلامُ، امرأةٌ تَزَوَّجَتْ ولها زَوْجٌ كَتَمَتْه، فرَجَمَها، وجَلَد زَوْجَها الآخرَ مِائَةَ جَلْدَةٍ (¬5). فإن لم يَعْلَمْ ¬

(¬1) تكملة من المغنى 12/ 343. (¬2) في الأصل: «عن عبد». (¬3) في ص: «نضلة». ويقال: نضْلة ونضيلة. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 75، 76. (¬4) انظر ما تقدم في 24/ 67، وصفحة 289. (¬5) انظر ما تقدم في 24/ 67.

4419 - مسألة: (أو استأجر امرأة للزنى، أو لغيره، وزنى بها، أو زنى بامرأة له عليها القصاص، أو بصغيرة، أو مجنونة، أو زنى بامرأة ثم تزوجها، أو بأمة ثم اشتراها، أو أمكنت العاقلة)

أَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِلزِّنَى، أَوْ لِغَيْرِهِ وَزَنَى بِهَا، أَوْ زَنَى بِامْرأَةٍ لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ، أَوْ بِصَغِيرَةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، أَوْ زَنى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، أَوْ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَوْ أَمْكَنَتِ الْعَاقِلَةُ مِنْ نَفْسِهَا مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَوَطِئَهَا، فَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْريِمَ ذلك، فلا حَدَّ عليه؛ لعُذْرِ الجَهْلِ، ولذلك دَرَأَ عمرُ عنهما الحَدَّ؛ لجَهْلِهِما. 4419 - مسألة: (أَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِلزِّنَى، أَوْ لِغَيْرِهِ، وَزَنَى بِهَا، أَوْ زَنَى بِامْرأَةٍ لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ، أَوْ بِصَغِيرَةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، أَوْ زَنى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، أَوْ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَوْ أمْكَنَتِ الْعَاقِلَةُ) البالِغَةُ (مِن نَفْسِها مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فوَطِئَها، فعليهم الحَدُّ) إذا اسْتَأْجَرَ امرأةً لعملِ شئٍ، فزَنَى بها، أَوْ اسْتَأْجَرَها ليَزْنِىَ بِها، وفَعَلَ ذلك، أَوْ زَنَى بامرأةٍ ثم تَزَوَّجَها، أَوْ بأمَةٍ ثم اشْتَرَاها، فعليهما الحَدُّ. وبه قال أكثرُ أهلِ العلمِ. وقال أبو حنيفةَ: لا حَدَّ عليهما في هذه المواضِعِ إلَّا إذا اسْتَأْجَرَها لعملِ شئٍ؛ لأَنَّ مِلْكَه لمَنْفَعَتِها شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ للحَدِّ، ولا يُحَدُّ بوَطْءِ امرأةٍ هو مالكٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها (¬1). ولَنا، عُمُومُ الآيَةِ والأخْبارِ، ووجودُ المَعْنى المُقْتَضِى لوُجوبِ الحَدِّ. وقولُه: إنَّ مِلْكَه لمَنْفَعتِها شُبْهَةٌ. لا يَصِحُّ، فإنَّه إذا لم يَسْقُطْ عنه الحَدُّ ببَذْلِها نَفْسَها له، ومُطاوَعَتِها إيَّاه، فَلأنْ لا يَسْقُطَ بمِلْك مَحَلٍّ آخَرَ أَوْلَى. وأمَّا إذا اسْتَأْجَرَ امرأةً للزِّنَى، لم تَصِحَّ الإِجارَةُ، فوُجودُ ذلك كعدمِه، فأشبَهَ وَطْءَ مَن لم يَسْتَأْجِرها. وأمَّا إذا زَنَى بامرأةٍ له عليها قِصاصٌ، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه وَطْءٌ في غير مِلْكٍ ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، أشْبَهَ ما لو لم يَكُنْ له عليها قِصاصٌ، وكما لو كان له عليها دَيْنٌ. وأمَّا إذا زَنىَ بامرأةٍ ثم تزَوَّجَها، أَوْ بأمةٍ ثم اشْتَرَاها، فإنَّه ما وَجَب عليه الحَدُّ بوَطْءِ مَمْلوكَتِه ولا زَوْجَتِه، وإنَّما وَجَب بوَطْءِ أجْنَبِيَّةٍ، فتَغَيُّرُ حالِها لا يُسْقِطُه، كما لو ماتَتْ. وأمَّا إذا أمْكَنَتِ المُكَلَّفَةُ مِن نَفْسِها صغيرًا أَوْ مَجْنُونًا فوَطِئَها أَوْ ¬

(¬1) قال صاحب «الدر المختار» تعليقا على القول بسقوط الحد على من استأجر امرأة ليزنى بها: والحق وجوب الحد، كالمستأجرة للخدمة. وقال ابن عابدين في «حاشيته» 4/ 29، تعليقا على قوله: والحق وجوب الحد. أى كما هو قولهما. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 377، في التحيل لإسقاط حد الزنى، قال: ولا يخفى أمر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الإسلام، وهل هى نسبة موافقة، أو هى نسبة مناقضة!. وبهذا يظهر بطلان القول بسقوط الحد، وأن ذلك من الحيل الباطلة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ نائمٍ، فعليها الحَدُّ دُونَه. وقال أبو حنيفةَ: لا حَدَّ عليها، لأَنَّ فِعْلَ الصَّبِىِّ والمجنونِ ليس بزِنًى، فلم يجبْ عليها الحَدُّ إذا أمْكَنَتْه منه (¬1)، كما لو أمْكَنَتْه من إدْخالِ إصْبَعِه في فَرْجِها. ولَنا، أنَّ سُقُوطَ الحَدِّ عن أحدِ الواطِئَيْن لمَعْنًى يَخُصُّه، لا يُوجبُ سُقُوطَه عن الآخَرِ، كما لو زَنَى المُسْتَأْمِنُ بمسلمةٍ، أَوْ زَنَى بمَجْنُونَةٍ أَو نائمةٍ. وقولُهم: ليس بِزِنًى. لا يَصِحُّ، لأنَّه لا يَلْحَقُ به النَّسَبُ، وإنَّما لم يَجِبِ الحَدُّ عليه لعُذْرِه، وزَوالِ تَكْلِيفِه. وكذلك الحُكْمُ في الرجُلِ يَظُنُّ أنَّ المرأةَ زَوْجَتُه، فيَطَؤُها، وهى تعلمُ أنَّه أجْنَبِىٌّ، وفى المرأةِ تَظُنُّه زَوْجَها، وهو يعلمُ أنَّها أجْنَبِيَّةٌ. فصل: فأمَّا وطءُ (¬2) الصَّغيرةِ، فإن كانت ممَّن يُمكِنُ وَطْؤُها، فهو زِنًى يُوجِبُ الحَدَّ، لأنَّها كالكبيرةِ في ذلك، وإن كانت ممَّن لا تَصْلُحُ للوَطْءِ، ففيها وَجْهان كالمَيِّتَةِ، على ما ذَكَرْنا. وقال القاضى: لا حَدَّ على مَن وَطِئَ صغيرةً لم تَبْلُغْ تِسْعًا، لأنَّها لا يُشْتَهَى مثْلُها، أشْبَهَ ما لو أدْخَلَ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «من نفسها لأنه ليس بزنى فلم يجب الحد عليها». (¬2) سقط من: م.

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يَثْبُتَ الزِّنَى، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ إصْبَعَه في فَرْجِها، وكذلك لو اسْتَدْخَلَتِ المرأةُ ذَكَرَ صَبِىٍّ لم يَبْلُغْ عشْرًا، فلا حَدَّ عليها. قال شيخُنا (¬1): والصَّحِيحُ أنَّه متى وَطِئَ مَن أمْكَنَ وَطْؤُها، أَوْ أمْكَنَتِ المرأةُ مَن يُمْكِنُه الوَطْءُ، فوَطِئَها، أنَّ الحَدَّ يَجِبُ على المُكَلَّفِ منهما (¬2)، ولا يَصِحُّ تَحْديدُ ذلك بتِسْعٍ ولا عشْرٍ؛ لأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّما يكونُ بالتَّوْقيفِ، ولا تَوْقِيفَ في هذا، وكونُ التسعِ وَقْتًا لإِمْكانِ الاسْتِمْتاعِ غالبًا، لا يَمْنَعُ وُجودَه قبلَه (2)، كما أنَّ البُلوغ يوجَدُ في خمسةَ عشَرَ عامًا غالبًا، ولا يَمْنَعُ مِن وُجودِه قبلَه. فَصْلٌ: (الثَّالِثُ، أَنْ يَثْبُتَ الزِّنَى، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بأحدِ شَيْئَيْنِ؛ ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 341. (¬2) سقط من: الأصل.

أحَدُهمَا، أَنْ يُقِرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، في مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، وَيُصَرِّحَ بِذِكْرِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ، وَلَا يَنْزِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ حَتَّى يَتِمَّ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، أن يُقِرَّ أرْبَعَ مرَّاتٍ، في مَجْلِس أَوْ مَجالِسَ، وهو بالِغٌ عاقِلٌ، ويُصَرِّحَ بذِكْرِ حَقيقةِ الوَطْءِ، ولا يَنْزِعَ عن إقْرارِه حتَّى يَتِمَّ الحَدُّ) لا يَثْبُتُ الزِّنَى إلَّا بإقْرارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فإن ثَبَت بإقْرارٍ، اعْتُبرَ إقْرارُ أرْبَعِ مَرَّاتٍ. وبهذا قال الحَكَمُ، وابنُ أبى ليلى، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الحسنُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يُحَدُّ بإقْرارِه مَرَّةً؛ لقولِ رسوْلِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلى امْرَأةِ هذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬1). واعْتِرافُ مَرَّةٍ اعْترافٌ، وقد أوْجَبَ عليها الرَّجْمَ به. ورَجَم الجُهَنِيَّةَ، وإنَّما اعْتَرَفَتْ مَرَّةً (¬2). وقال عمرُ: إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ واجبٌ على مَن زَنَى وقد أَحْصَنَ، إذا قامتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كان الحَبَلُ، أَوْ الاعْترافُ (¬3). ولأنَّه حَقٌّ، فثَبَتَ باعْتِرافِ مَرَّةٍ، كالإِقْرارِ بالقَتْلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 205. (¬3) تقدم تخريجه في: 23/ 158.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أتى رجل مِنِ الأسْلَمِيِّين رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في المسجدِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّىِ زَنيْتُ. فأعْرَضَ عنه، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِه، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّى زَنيْتُ. فأعْرَضَ عنه، حتَّى ثَنَى ذلك أربعَ مَرَّاتٍ، فلمَّا شَهِد على نَفْسِه أرْبَعَ شَهاداتٍ، دَعاهُ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «أبِكَ جُنُونٌ؟». قال: لا. قال: «هَلْ (¬1) أَحْصَنْتَ؟». قال: نعم. فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ارْجُمُوهُ». مُتَّفقٌ عليه (¬2). ولو وجَبَ الحَدُّ بمَرَّةٍ، لم يُعْرِضْ عنه رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لأنَّه لا يجوزُ تَرْكُ حَدٍّ وَجَب للَّهِ تعالى. ورَوَى نُعَيْمُ بنُ هَزَّالٍ حديثَه، وفيه: حتَّى قالَها أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أربعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟». قال: بفُلانَةَ. رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا تَعْلِيلٌ منه يَدُلُّ على أنَّ إقْرارَ الأرْبعِ [هى المُوجِبةُ] (¬4). ورَوَى أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِىُّ، أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال له عندَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن أقْرَرْتَ أرْبَعًا، رَجَمَكَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وهذا يَدُلُّ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 168. كما أخرج هذه القصة الترمذى، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 201، 202. وابن ماجه، في: باب الرجم، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 854. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 208. (¬4) في م: «هو الموجب». (¬5) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 8. وأبو يعلى، في: مسنده 1/ 42، 43. والبزار، انظر كشف الأستار 2/ 217. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أقَرَّه على هذا، ولم يُنْكِرْه، فكانَ بمَنْزِلَةِ قولِه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ على الخَطَأ. الثانى، أنَّه قد عَلِم هذا مِن حُكْمِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لولا ذلك ما تَجاسَرَ على قولِه بينَ يَدَيْه. فأمَّا أحادِيثُهمِ، فإنَّ الاعْتِرافَ لفظٌ للمَصْدَرِ، يَقَعُ على القليلِ والكثيرِ، وحدِيثُنا يُفَسِّرُه، ويُبَيِّنُ أنَّ الاعْتِرافَ الَّذى يَثْبُتُ به كان أرْبعًا. فصل: وسَواءٌ كان في مجلسٍ واحدٍ، أَوْ مجالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ. قال الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّه يُسْألُ عن الزَّانِى، يُرَدَّدُ أرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ قال: نعم، على حديثِ ماعِزٍ، هو أحْوَطُ. قلتُ له: في مجلس واحدٍ، أَوْ في مجالِسَ شَتَّى؟ قال: أمَّا الأحاديثُ، فليستْ تَدُلُّ إلَّا على مجلسٍ واحدٍ، إلَّا عن (¬1) ذلك الشَّيخِ بَشِيرِ بنِ المُهاجِرِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيه (¬2)، وذلك عندِى مُنْكَرُ الحديثِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَثْبُتُ إلَّا بأَرْبَعِ إقْراراتٍ، في أرْبَعَةِ مجالسَ؛ لأَنَّ ماعِزًا أقَرَّ في أرْبَعةِ مجالسَ. ولَنا، أنَّ الحديثَ الصَّحِيحَ إنَّما يَدُلُّ أنَّه أقَرَّ أرْبعًا في مجلس واحدٍ، وقد ذَكَرْنا الحديثَ، ولأنَّه أحَدُ حُجَّتَىِ الزِّنَى، فاكْتُفِىَ به في مجلسٍ واحدٍ، كالبَيِّنَةِ. ¬

= وقد رووه كلهم عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبى بكر. وقال الهيثمى: وفى أسانيدهم كلها جابر بن يزيد الجعفى وهو ضعيف. مجمع الزوائد 6/ 266. وانظر: الإرواء 8/ 26، 27. (¬1) في م: «على». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 209 حاشية 4 عند أبى داود مختصرًا، وأخرجه بتمامه الطحاوى، في: باب الاعتراف بالزنى، من كتاب الحدود. شرح معانى الآثار 3/ 143، 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويعْتَبَرُ في صِحَّةِ الإِقْرارِ أن يَذْكُرَ حقيقةَ الفعلِ، لتَزُولَ الشُّبْهَةُ؛ لأَنَّ الزِّنَى يُعَبَّرُ به عمّا ليسَ بمُوجِبٍ للحَدِّ. وقد رَوى ابنُ عباس، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لماعِزٍ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أو غَمَزْتَ؟». قال: لا. قال: «أفَنِكْتَهَا؟». [لا يَكْنِى. قال: نعم. قال: فعندَ ذلك أَمَرَ برَجْمِه. رَواه البُخارِىُّ (¬1). وفى روايةٍ عن أبى هريرةَ، قال: «أفنكتها».] (¬2) قال: نعم. قال: «حَتَّى غَابَ ذَاكَ مِنْكَ في ذَاكَ مِنْهَا؟». قال: نعم. قال: «كَمَا يَغِيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشَاءُ في البِئْرِ؟». قال: نعم. قال: «أَتدْرِى مَا الزِّنَى؟». قال: نعم، أتَيْتُ منها حَرَامًا ما يَأْتِى الرجلُ مِن امرأتِه حَلالًا. وذكرَ الحديثَ. رَواه أبو داودَ (¬3). فصل: فإنْ أقَرَّ أنَّه زَنَى بامرأةٍ فكَذَّبَتْه، فعليه الحَدُّ دُونَها. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: لا حَدَّ عليه؛ لأنَّا صَدَّقْناها ¬

(¬1) في: باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 207. كما أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 458. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 238، 270، 289. والطبرانى، في: المعجم الكبير 11/ 338. والحاكم، في: المستدرك 4/ 361. والدارقطنى، في: سننه 3/ 121. (¬2) تكملة لازمة من المغنى 12/ 356. (¬3) في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 459. كما أخرجه ابن الجارود في: المنتقى 307، 308. والدارقطنى، في: سننه 3/ 196، 197. وابن حبان، انظر: الإحسان 90/ 244، 245. وضعفه في: الإرواء 8/ 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في إنْكارِها، فصارَ مَحْكُومًا يكَذِبِه. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬1)، بإسْنادِه، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّ رجُلًا أتاه، فأقَرَّ عندَه أنَّه زَنَى بامرأةٍ، فسَمَّاها له، فبَعَثَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المرأةِ، فسَأَلَها عن ذلك، فأنْكَرَتْ أن تكونَ زَنَتْ، فجَلَدَه الحَدَّ وتَرَكَها. ولأَنَّ انْتِفاءَ ثُبُوتِه في حَقِّها لا يُبْطِلُ إقْرارَه، كما لو سَكَتَتْ، أَوْ كما لو لم (¬2) تُسْأَلْ. ولأَنَّ عُمومَ الخبرِ يَقْتَضِى وُجوبَ الحَدِّ عليه باعْتِرافِه، وهو قولُ عمرَ: إذا كان الحَبَلُ أَوْ الاعْتِرافُ (¬3). وقولُهم: إنَّا صَدَّقْناهَا في إنْكارِها. غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّا لم نَحْكُمْ بصِدْقِها، وانْتِفاءُ الحَدِّ إنَّما كان لعَدَمِ المُقْتَضِى، وهو الإِقْرارُ أَوْ (¬4) البَيِّنَةُ، لا لوُجودِ التَّصْدِيقِ، بدَليلِ ما لو سَكَتَتْ، أَوْ لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الحُرَّ والعبدَ، والبكْرَ والثَّيِّبَ، في الإِقْرارِ سَواءٌ؛ لأنَّه أحَدُ حُجَّتَى الزِّنَى، فاسْتَوَى الكلُّ فيه، كالْبَيِّنَةِ. فصل: ويُشْتَرَطُ أن يكونَ المُقِرُّ بالِغًا عاقِلًا، ولا خِلافَ في اعْتِبارِ ذلك في وُجُوبِ الحَدِّ، وصِحَّةِ الإِقْرارِ؛ لأَنَّ الصَّبِىَّ والمجنونَ قد رُفِعَ القَلمُ عنهما، ولا حُكْمَ لكلامِهما؛ لِما روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ¬

(¬1) في: باب إذا أقر الرجل بالزنى ولم تقر المرأة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 469. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 339، 340. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 23/ 158. (¬4) في الأصل: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ». رَواه أبو داودَ، والتَّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حسنٌ. فصل: والنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عنه [القلمُ، فلو زُنِىَ بنَائِمَةٍ، أَوْ اسْتَدْخَلَتِ امرأةٌ ذَكَرَ نائِمٍ، أَوْ وُجدَ منه الزِّنَى حالَ نَوْمِه، فلا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ القَلمَ مَرْفوعٌ عنه] (¬2)، ولو أقَرَّ في حالِ نوْمِه، لم يُلْتَفَتْ إلى إقْرارِه؛ لأَنَّ كلامَه غيرُ معْتَبَرٍ، ولا [يَدُلُّ على] (¬3) صِحَّةِ مَدْلُولِه. وأمَّا السَّكْرانُ ونحوُه، فعليه حَدُّ الزِّنى والسَّرِقَةِ والشُّرْبِ والقَذْفِ، إذا فعله في حالِ سُكْرِه؛ لأَنَّ الصحابةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أوْجَبُوا عليه حَدَّ (¬4) الفِرْيَةِ؛ لكَوْنِ السُّكْرِ مَظِنَّةً لها، ولأنَّه تَسَبَّبَ إلى هذه المُحَرَّماتِ بسَبَبٍ لا يُعْذَرُ فيه، فأشْبَهَ مَن لا عُذْرَ له. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه (¬5) لا يَجِبُ عليه الحَدُّ؛ لأنَّه غيرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15، وانظر طرق الحديث في: الإرواء 2/ 4 - 7. (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) في الأصل: «يصح». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عاقِلٍ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْء ما يَنْدِرئُ بالشُّبُهاتِ، ولأَنَّ طَلاقَه لا يَقَعُ في رِوايَةٍ، فأشْبَهَ النائِمَ. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأَنَّ إسْقاطَ الحَدِّ عنه يُفْضِى إلى أنَّ مَن أرادَ فِعْلَ هذه المُحَرَّماتِ، شَرِبَ الخمرَ، وفَعَل ما أحَبَّ، فلا يَلْزَمُه شئٌ، ولأَنَّ السُّكْرَ (¬1) مَظِنَّةٌ لفِعْلِ المحارِمِ، وسَبَبٌ إليه، فقد تَسَبَّبَ إلى فِعْلِها حالَ صَحْوِه. فأمَّا إن أقَرَّ بالزِّنَى وهو سَكْرِانُ، لم يُعْتَبَرْ إقْرارُه؛ لأنَّه لا يَدْرِى ما يقولُ، ولا يَدُلُّ قولُه على صِحَّةِ خبَرِه، فأشْبَهَ قولَ النَّائِمِ والمجْنونِ. وقد روَى بُرَيْدَةُ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَنْكَهَ ماعِزًا. رَواه أبو داودَ (¬2). وإنَّما فعلَ ذلك، ليَعْلَمَ هل هو سَكْرانُ أَوْ لا، ولو كان السَّكْرانُ مَقْبُولَ الإِقْرارِ، لَما احْتِيجَ إلى تَعَرُّفِ بَرَاءَتِه منه. فصل: وأمَّا الأخْرَسُ؛ فإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه، فلا يُتَصَوَّرُ منه إقْرارٌ، وإن فُهِمَتْ إشارَتُه، فقالَ القاضى: عليه الحَدُّ. وهو قولُ الشافعىِّ، وابنِ القاسمِ [صاحِبِ مالِكٍ، وأبى ثَوْرٍ] (¬3)؛ وابنِ المُنْذِرِ؛ لأَنَّ مَن صَحَّ إقْرارُه بغيرِ الزِّنَى، صَحَّ إقْرارُه به، كالنَّاطِقِ. وقال أصحابُ أبى ¬

(¬1) في الأصل: «السكران». (¬2) في: باب رجم ماعز بن مالكٌ، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 460. كما أخرجه مسلم مطولا، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1322. وعنده: فقام رجل فاستنكهه. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ: لا يُحَدُّ بإقْرارٍ ولا بَيِّنَةٍ؛ لأَنَّ الإِشارَةَ تَحْتَمِلُ ما فُهِمَ منها وغيرَه، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ، لكَوْنِه ممَّا يَنْدَرئُ بالشُّبُهاتِ، ولا يَجِبُ بالبَيِّنَةِ؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ له شُبْهَة لم يُمْكِنْه التَّعْبِيرُ عنها، ولم يَعْرِفْ كَوْنَها شُبْهَةً. ويَحْتَمِلُ كَلامُ الخِرَقِىِّ أن لا يَلْزَمَه الحَدُّ بإقْرارِه؛ لأنَّه شَرَط أن يكونَ صَحِيحًا، وهذا غيرُ صَحِيحٍ، ولأَنَّ الحَدَّ لا يجبُ بالشُّبْهَةِ، فأمَّا الإِشارَةُ فلا تَنْتَفِى (¬1) معها الشُّبُهاتُ. وأمَّا البَيِّنَةُ، فيَجِبُ عليه بها الحَدُّ؛ لأَنَّ قولَه معها غيرُ مُعْتَبَرٍ. فصل: ولا يَصِحُّ الإِقْرارُ مِن المُكْرَهِ، فلو ضُرِبَ الرجلُ ليُقِرَّ بالزِّنَى، لم يجبْ عليه الحَدُّ، ولم يَثْبُتْ عليه الزِّنى. ولا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في أنَّ إقْرارَ المُكْرَهِ لا يجبُ به حَدٌّ. ورُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: ليس (¬2) الرجلُ مَأْمُونًا على نَفْسِه إذا جَوَّعْتَه، أَوْ ضَرَبْتَه، أَوْ ¬

(¬1) في الأصل: «ينبغى». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوْثَقْتَه. رَواه سعيدٌ (¬1). وقال ابنُ شِهَابٍ، في رجلٍ اعْتَرَفَ بعدَ جَلْدِه: ليس عليه حَدٌّ. ولأَنَّ الإِقْرارَ إنَّما يَثْبُتُ به المُقَرُّ به، لوُجُودِ الدَّاعِى إلى الصِّدْقِ، وانْتِفاءِ التُّهْمَةِ عنه، فإنَّ العاقِلَ لا يُتَّهمُ بقَصدِ الإِضْرارِ (¬2) بنَفْسِه، ومع الإِكْراهِ يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ إقْرارَه لدَفْعِ ضَرَرِ الإِكْراهِ، فانْتَفَى ظَنُّ (¬3) الصِّدْقِ عنه، فلم يُقْبَلْ. فصل: وإن أقَرَّ بوَطْءِ امرأةٍ، وادَّعَى أنَّها امرأتُه، فأنْكَرتِ المرأِةُ الزَّوْجِيَّةَ (¬4)، نَظَرْنا، فإن لم تُقِرَّ المرأةُ بوَطْئِه إيَّاها، فلا حَدَّ عليه، لأنَّه لم يُقِرَّ بالزِّنَى، وِلا مَهرَ لها، لأنَّها لا تَدَّعِيه، وإنِ اعْتَرَفَتْ بوَطْئِه، إيَّاها، واعْتَرفت بأنَّه زَنَى بها مُطاوِعَةً، فلا مَهْرَ عليه أيضًا، ولا حَدَّ على واحدٍ منهما، إلَّا أن يُقِرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، لأَنَّ الحَدَّ لا يجبُ بدُونِ إقْرارِ أرْبَعٍ، وإنِ ادَّعَتْ أنَّه أكْرَهَها عليه، أَوْ اشْتَبَهَ عليه، فعليه المَهْرُ، لأنَّه أقَرَّ بسَبَبِه. وقد روَى مُهَنَّا، عن أحمدَ، أنَّه سَألَه عن رجلٍ وَطِئَ امرأةً، وزَعَمَ أنَّها زَوْجَتُه، وأنْكَرَتْ هى أن يكونَ زَوْجَها، وأقَرَّتْ بالوَطْءِ، فقال: هذه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 152. (¬2) في الأصل: «الإقرار». (¬3) في الأصل: «ضمن» (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد أقَرَّتْ على نَفْسِها بالزِّنَى، ولكن يُدْرَأُ عنه الحَدُّ بقَوْلِه: إنَّها امرأتُه. ولا مَهْرَ عليه، وأدْرَأُ عنها الحَدَّ حتَّى تَعْتَرِفَ مِرارًا. قال أحمدُ: وأهلُ المدينةِ يَرَوْنَ عليها (¬1) الحَدَّ، يذْهَبُونَ إلى قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬2). وقد تَقَدَّمَ الجَوابُ عن قولِهم. فصل: (ولا يَنْزِعُ عن إقْرارِه حتَّى يَتِمَّ الحَدُّ) لأَنَّ مِن شروطِ إقامةِ الحدِّ بالإِقرارِ البقاءَ عليه إلى (¬3) تمام الحَدِّ، فإن رَجَع عن إقرارِه أَوْ هرَب، كُفَّ عنه. وبهذا قال عَطاءٌ، ويحيى بنُ يَعْمُرَ، والزُّهْرِىُّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 450. (¬3) في م: «على».

4420 - مسألة: ومتى رجع المقر بالحد عن إقراره قبل منه، وقد ذكرنا الخلاف فيه

الثَّانِى، أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ يَصِفُونَ الزِّنَى، وَيَجِيئُونَ في مَجْلسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وابنُ أبى ليلى: يُقامُ عليه (¬1) الحَدُّ، ولا يُتْرَكُ؛ لأَنَّ ماعِزًا هَرَب فقَتَلُوه. وَرُوِىَ أنَّه قال: رُدُّونى إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ قَوْمِى هم غَرُّونِى مِن نفسِى، وأخْبَرونى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غيرُ قاتِلى. فلم يَنْزِعُوا عنه حتَّى قَتَلُوه. أخْرَجَه أبو داودَ (¬2). وقد ذَكَرْنا ذلك في كتابِ الحُدُودِ. 4420 - مسألة: ومتى رَجَع المُقِرُّ بالحَدِّ عن إقْرارِه قُبِلَ منه، وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيه. واللَّهُ أعلمُ. (الثَّانِى، أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ يَصِفُونَ الزِّنَى، وَيَجِيئُونَ في مَجْلسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ) يُشْتَرَطُ في شهودِ الزِّنَى سبعةُ شُروطٍ، ذَكَرها الخرَقِىُّ؛ أحدُها، أن يكونوا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أربعةً، وهذا إجْماعٌ، ليس فيه اخْتلافٌ بينَ أهلِ العلمِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1). وقال تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬2). وقال سعدُ بنُ عُبادَةَ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أرأْيتَ لو وَجَدْتُ مع امرأتِى رجُلًا، أُمْهِلُه حتَّى آتِىَ بأَرْبَعَةِ شُهداءَ؟ فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «نَعَمْ». رَواه مالكٌ، في «المُوَطَّأ»، وأبو داودَ (¬3). الشرطُ الثانى، أن يكونُوا رجالًا كلُّهم، ولا تُقْبَلُ فيه شهادةُ النِّساءِ بحالٍ. ولا نعلمُ فيه خِلافًا، إلَّا شيئًا يُرْوَى عن عَطاءٍ، وحَمَّادٍ، أنَّه يُقْبَلُ فيه ثلاثةُ رِجالٍ وامْرأتان. وهو قولٌ شاذٌّ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأَنَّ لَفْظَ الأرْبعة اسمٌ لعَدَدِ المُذَكَّرِينَ (¬4)، ويَقْتَضِى أن يُكْتَفَى فيه بأربعةٍ، ولا خِلافَ في أنَّ الأربعةَ إذا كان بعضُهم نِساءً أنَّه ¬

(¬1) سورة النور 4. (¬2) سورة النور 13. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في من وجد مع أهله رجلا أيقتله؟ من كتاب الديات. سنن أبى داود 2/ 488. ومالك، في: باب القضاء في من وجد مع امرأته رجلا، من كتاب الأقضية، وفى: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 737، 823. كما أخرجه مسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1135، 1136. (¬4) في الأصل، تش، م: «المذكورين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُكْتَفَى بهم، وأنَّ أقَلَّ ما يُجْزِئُ خمسةٌ، [وهذا خِلافُ النَّصِّ] (¬1)، ولأَنَّ في شَهادَتِهِنَّ شُبْهَةً؛ لتَطَرُّقِ الضَّلالِ إليهنَّ، قال اللَّهُ تعالى، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬2). والحُدُودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. الشَّرطُ الثالثُ، الحُرِّيَّةُ، فلا تُقْبَلُ شَهادَةُ العَبِيدِ. ولا نَعلمُ في ذلك خِلافًا، إلَّا رِوايةً حُكِيَتْ عن أحمدَ، وهو قولُ أبى ثَوْرٍ؛ لعُمومِ النُّصوصِ فيه، ولأنَّه عَدْل مسلمٌ ذَكَرٌ، فتُقْبَلُ شَهادَتُه، كالحُرِّ. ولَنا، أنَّه مُخْتَلَفٌ في شَهادَتِه في سائِرِ الحُقُوقِ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً تَمْنَعُ مِن قَبولِ شَهادتِه في الحَدِّ؛ لأنَّه يَنْدَرئُ بالشُّبُهاتِ. الشَّرطُ الرابعُ، العَدالَةُ، ولا خِلافَ في اشْتراطِها، فإنَّها تُشْتَرَطُ. في سائرِ الشَّهاداتِ، فههُنا مع مَزِيدِ الاحْتِياطِ فيها أوْلَى، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ الفاسِقِ، ولا مَسْتُورِ الحالِ الذى لا تُعْلَمُ عَدَالته؛ لجَوازِ أن يكونَ فاسِقًا. الشرطُ الخامسُ، أن يكونُوا مسلِمين، فلا تُقْبَلُ شهادةُ أهلِ الذِّمَّةِ فيه، سواءٌ كانتِ الشَّهادَةُ على مسلمٍ أو ذِمِّىٍّ؛ لأَنَّ أهْلَ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ، لا تَتَحَقَّقُ العَدالَةُ فيهم، فلا تُقْبَلُ رِوايَتُهم ولا أخْبارُهم الدِّينِيَّةُ، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُهم، كعَبَدَةِ الأوْثانِ. الشرطُ السادسُ، أن يَصِفُوا الزِّنَى، فيقُولوا: رَاينا ذَكَرَه في فَرْجِها، كالمِرْوَدِ في المُكْحُلَةِ، والرِّشَاءِ في البِئْرِ. وهذا قولُ مُعاويةَ بنِ أبى سفيانَ، والزُّهْرِىِّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة البقرة 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لِما رَوَينا في قِصَّةِ ماعِزٍ، أنَّه لمَّا أقَرَّ عندَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالزِّنَى، فقال: «أَنِكْتَهَا؟». فقال: نعم. قال: «حَتَّى غَابَ ذَاكَ مِنْكَ فِى ذَاكَ مِنْهَا، كما يَغِيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشَاءُ فِى البِئْرِ؟». قال: نعم (¬1). وإذا اعْتُبِرَ التَّصرِيحُ في الإِقْرارِ، كان اعْتِبارُه في الشَّهادة أوْلَى. وروَى أبو داودَ (¬2) بإسْنادِه، عن جابرٍ، قال: جاءتِ اليهودُ برجُلٍ منهم وامرأةٍ زَنَيَا، فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ائْتُونِى بأعْلَمٍ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ». فأتَوْه بابْنَى صُوريا، فنَشَدَهما: «كَيْفَ تَجِدَانِ أمْرَ هذيْنِ فِى التَّوْرَاةِ؟». [قالوا: نَجِدُ في التوراةِ] (¬3) إذا شَهِدَ أرْبعةٌ أنَّهم رَاوا ذَكَرَه في فَرْجِها، مثلَ المِيلِ في المُكْحُلَةِ، رُجِما. قال: «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟» قالا: ذهَبَ سُلْطَانُنا، وكَرِهْنا القتْلَ. فدَعا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشُّهودِ، فجاءَ أربعة، فشَهِدُوا أنَّهم رَأَوْا ذَكَرَه في فَرْجِها مثلَ المِيلِ في المُكْحُلَةِ، فأمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- برَجْمِهِما. ولأنَّهم إذا لم يَصِفُوا الزِّنَى، احْتَملَ أن يكونَ المَشْهُودُ به لا يُوجِبُ الحَدَّ فاعْتُبرَ كَشْفُه. قال بعضُ أهلِ العلمِ: يجوزُ للشُّهودِ أن يَنْظُرُوا إلى ذلك منهما، لإِقامةِ الشَّهادَةِ عليهما ليَحصُلَ الرَّدْعُ بالحَدِّ، فإن شَهِدُوا أنَّهم رَأَوْا ذَكَرَه قد غَيَبّهَ في فَرْجِها كَفَى، والتَّشْبِيهُ تَأْكيدٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 306. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في رجم اليهوديين، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 466. (¬3) في م: «قالا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا تَعْيِينُ المَزْنِىِّ بها، إن كانتِ الشَّهادة على رجُلٍ، أو الزَّانِى إن كانتِ الشهادةُ على امرأةٍ، ومكانِ الزِّنَى، فذَكَر القاضى أنَّه يُشْتَرَطُ، لئلَّا تكونَ المرأةُ ممَّن اخْتلِفَ في إباحَتِها، ويُعْتَبَر ذِكْرُ المكانِ، لئلَّا تكونَ شهادة أحدِهم على غيرِ (¬1) الفِعْلِ الذى شَهِدَ به الآخَر، ولهذا سَألَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال (¬2): «إِنَّكَ أَقْرَرْتَ أربَعًا، فَبِمَنْ؟» (¬3). وقال ابنُ حامِدٍ: لا (¬4) يُعْتَبَر ذِكْر هذيْن؛ لأنَّه لا يعْتَبَر ذكرهما في الإِقْرارِ، ولم يَأْتِ ذِكْرهما في الحديثِ الصَّحيحِ، وليس في حَديثِ الشهادةِ في رَجْمِ اليَهُودَيَّيْن ذِكْر المكانِ، ولأَنَّ ما لا يُشْتَرَطُ فيه ذِكْر الزَّمانِ، لا يُشْتَرَطُ فيه ذكْر المكانِ، كالنِّكاحِ، ويَبْطُلُ ما ذكَرُوه بالزَّمانِ. الشرطُ (2) السابعُ، مَجِئُ الشُّهودِ كُلِّهم في مجلسٍ واحدٍ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ، فقال: وإن جَاء أربعةٌ متفرِّقِين، والحاكم جالسٌ في مجلسِ حُكْمِه، لم يَقمْ قبلَ شهادَتِهم، وإن جاءَ بعضهم بعدَ أن قامَ الحاكمُ، كانوا قَذَفَةً، وعليهم الحَدُّ. وبهذا قال، مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ، والبَتِّىُّ، وابن المُنْذِرِ: لا يُشْتَرَطُ ذلك؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬5). ولم يَذْكرِ المجلس. وقال تعالى: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 307. (¬4) سقط من: الأصل، تش. (¬5) سورة النور 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} (¬1). ولأَنَّ كلَّ شهادةٍ مَقْبولةٌ إذا اتَّفَقَتْ، مَقْبُولةٌ إذا افْتَرَقَتْ في مَجالِسَ، كسائرِ الشَّهاداتِ. ولَنا، أنَّ أبا بَكْرَةَ، ونافِعًا، وشِبْلَ (¬2) ابنَ مَعْبدٍ، شَهِدُوا عندَ عمرَ، على المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ بالزِّنَى، ولم يَشهَدْ زِيادٌ، فحَدَّ الثلاثةَ (¬3). ولو كان المجلسُ غيرَ مُشْتَرَطٍ، لم يَجُزْ أن فحَدَّهم، لِجوازِ أن يَكْمُلُوا برابع في مجلس آخَرَ، ولأنَّه لو شَهِد ثلاثةٌ، فحَدَّهم، ثم جاءَ رابعٌ فشَهِدَ، لمِ تُقْبَلْ شَهادَتُه، ولولا اشْتراطُ المجلسِ، لَكَمَلَتْ شَهادَتُهم. وبهذا فارَق سائِرَ الشَّهاداتِ. وأمَّا الآيةُ فإنَّها لم تَتَعَرَّضْ للشُّروطِ، ولهذا لم تَذْكُرِ (¬4) العَدالَةَ، وصِفَةَ الزِّنى، ولأَنَّ قَوْلَه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} (¬5). لا يَخْلُو مِن أن يكونَ مُطْلَقًا في الزَّمانِ كلِّه، أو مُقَيَّدًا، لا يجوزُ أن يكونَ مُطْلقًا، لأنَّه يَمْنَعُ مِن جَوازِ جَلْدِهم، لأنَّه ما مِن زَمَن إلَّا (¬6) يجوزُ أن يَأْتِىَ فيه بأَرْبَعةِ شُهداءَ، أو بكَمالِهم إن كان قد شَهِد بعضُهم، فيَمْتَنِعُ جَلْدُهم المأمورُ به، فيكونُ ¬

(¬1) سورة النساء 15. (¬2) في م: «سهل». (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب الرجل يقذف الرجل. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 535. والبيهقى، في: باب شهود الزنى إذا لم يكملوا أربعة، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 234، 235. وصححه في الإرواء 8/ 28 - 30. (¬4) في م: «يذكروا». (¬5) سورة النور 4. (¬6) في الأصل: «لا».

4421 - مسألة: (فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم، أو شهد

فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ، أَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَناقِضًا، وإذا ثَبَت أنَّه مُقَيَّدٌ بالمجلسِ؛ لأَنَّ المجلسَ كلَّه بمَنْزِلَةِ الحالةِ الواحدةِ، ولهذا ثَبَت فيه خِيارُ المجلس، واكْتُفِىَ فيه بالقَبْضِ فيما يُعْتَبَرُ القَبْضُ فيه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لا يُشْتَرَطُ اجْتماعُهم حالَ مجِيئِهم، ولو جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ واحدًا بعدَ واحدٍ، في مجلسٍ واحدٍ، قَبِلَ شَهادَتَهم. وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ: إن جاءوا مُتَفَرِّقِينَ، فهم قَذَفَة؛ لأنَّهم لم يَجْتَمِعُوا في مجِيئهم، فلم تُقْبَلْ شَهادَتُهم، كالذين لم يَشهَدُوا في مجلسٍ واحدٍ. ولَنا، قِصَّةُ المُغيرَةِ، فإنَّ الشُّهُودَ جاءوا واحدًا بعدَ واحدٍ، وسُمِعَتْ شَهادَتُهم، وإنَّما حُدُّوا لعَدَمِ كَمالِها في المجلسِ. وفى حديثِه، أنَّ أبا بَكْرَةَ قال: أرأيتَ لو جاءَ آخَرُ يَشْهَدُ، أكنتَ تَرْجُمُه؛ قال عمرُ (¬1): إىْ، والذى نفسِى بيدِه. ولأنَّهم اجْتَمَعُوا في مجلسٍ واحدٍ، أشْبَهَ ما لو جاءوا مُجْتَمِعِين، ولأَنَّ المجلسَ كلَّه بمَنْزِلَةِ ابْتِدائِه؛ لِما ذَكَرْنا. وإذا تَفَرَّقُوا في مجالسَ، فعليهم الحَدُّ؛ لأَنَّ مَن شَهِدَ بالزِّنَى، ولم تَكْمُلِ الشَّهادةُ، يَلْزَمُه الحَدُّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬2). 4421 - مسألة: (فإن جاء بعضُهم بعد أن قام الحاكمُ، أو شَهِد ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النور 4.

الرَّابعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، أَوْ لَمْ يُكْمِلْهَا، فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِم الْحَدُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثةٌ وامْتَنَعَ الرَّابعُ مِن الشَّهادَةِ، أو لم يُكْمِلْهَا، فهم قَذَفَةُ، وعليهم الحَدُّ) إذا لم (¬1) يَكْمُلْ شهودُ الزِّنَى، فعليهم الحَدُّ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وذَكَرَ أبو الخَطابِ فيهم رِوايَتَيْن. وحُكِىَ عن الشافعىِّ فيهم قَوْلان؛ أحَدُهما، لا حَدَّ عليهم؛ لأنَّهم شُهودٌ، فلم يجبْ عليهم الحَدُّ، كما لو كانوا أربعةً أحدُهم فاسِقٌ. ولَنا، قَولُ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. وهذا يُوجِبُ الحَد (¬2) على كلّ رامٍ لم يَشْهَدْ بما قال أرْبَعةٌ، ولأنَّه إجْماعُ الصَّحابةِ، [فإنَّ عمرَ جَلَدَ أبا بَكْرَةَ وأصحابَه حينَ لم يُكْمِلِ الرَّابعُ شهادَتَه، بمَحْضرٍ مِن الصَّحابَةِ] (¬3)، فلم يُنْكِرْه أحَدٌ. وروَى صالِحٌ (¬4) بإسْنادِه، عن أبى عثمانَ النَّهْدِىِّ، قال: جاءَ رجلٌ إلى عمرَ، فشَهِدَ على المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ، فتَغَيَّرَ لونُ عمرَ، ثم جاءَ آخَرُ فشَهِدَ، فتَغَيَّرَ لونُ عمرَ، ثم جاءَ آخَرُ فشَهِدَ، فاسْتَنْكَرَ ذلك عمرُ، ثم جاءَ شابٌّ يَخْطُرُ بيَدَيْه، فقال عمرُ: ما عندَكَ يا سَلْحَ العُقابِ؟ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الجلد». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) وأخرجه الطحاوى، في: شرح معانى الآثار 4/ 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاحَ به عمرُ صَيْحَةً، فقال أبو عثمانَ: واللَّهِ لقد كِدْتُ يُغْشَى علىَّ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، رَأْيتُ أمْرًا قَبِيحًا. فقال: الحمدُ للَّه الذى لم يُشْمِتِ الشَّيْطانَ بأصحابِ محمدٍ. قال: فأمَرَ بأولئِك النَّفَرِ، فجُلِدُوا. وفى رِوايةٍ، أنَّ عمرَ لَمَّا شُهِدَ عندَه على المُغيرةِ، شَهِد ثلاثة، وبَقِىَ زِيادٌ، فقال عمرُ: أرى شابًّا حَسنًا، وأرْجُو ألَّا يَفْضَحَ اللَّهُ على لِسانِه رجُلًا مِن أصحابِ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فقال: يا أميرَ المؤمنين، رأيتُ اسْتًا تَنْبُو، ونَفَسًا يَعْلُو، ورأيتُ رِجْلَيْها فوقَ عُنُقِه، كأنَّهما أُذُنا حِمارٍ، ولا أدْرِى ما وراءَ ذلك؟ فقال عمرُ: اللَّه أكبرُ، وأمَرَ بالثَّلاثةِ فضُرِبُوا. قولُ عمرَ: يا سَلْحَ العُقابِ. معناه أنَّه يُشْبِهُ سَلْحَ العُقابِ (¬1)، الذى يَحْرِقُ كلَّ شئٍ أصابَه، كذلك هو، يُوقِعُ العُقوبَةَ بأحَدِ الفَرِيقَيْن لا مَحَالَةَ، إن كَمَلَتْ شَهادَتُه حُدَّ المَشْهُودُ عليه، وإن لم (1) تَكْمُلْ، حُدَّ أصحابُه. فإن قيلَ: فقد خالَفَهم أبو بَكْرَةَ (¬2) وأصحابُه الذين شَهِدُوا. قُلْنا: لم يُخالِفُوا في وُجوِبِ الحَدِّ عليهم، إنَّما خَالَفُوهم في صِحَّةِ ما شَهِدُوا به. ولأنَّه رامٍ بالزِّنى لم يَأْتِ بأربَعةِ شُهَداءَ، فيجبُ عليه الحَدُّ، كما لو لم يَأْتِ بأحَدٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «بكر».

4422 - مسألة: (وإن كانوا فساقا، أو عميانا، أو بعضهم، فعليهم الحد. وعنه، لا حد عليهم)

وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقًا، أَوْ عُمْيَانًا، أَوْ بَعْضُهُمْ، فَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ. وَعَنْهُ، لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4422 - مسألة: (وإن كانُوا فُسَّاقًا، أو عُمْيَانًا، أو بعضُهم، فعليهم الحَدُّ. وعَنه، لا حَدَّ عليهم) إذا كانُوا أربعةً غيرَ مَرْضِيِّينَ، كالعَبِيدِ والفُسَّاقِ والعُمْيانِ، ففيهم ثلاثُ رِواياتٍ؛ إحْداهُنَّ، عليهم الحَدُّ. وهو قولُ مالكٍ. قال القاضى: هذا الصَّحِيحُ؛ لأنَّها شهادة لم تَكْمُلْ، فوَجَبَ الحَدُّ على الشُّهودِ، كما لو لم يَكْمُلِ العَدَدُ. والثانيةُ، لا حَدَّ عليهم. وهو قولُ الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، وأبى حنيفةَ، ومحمدٍ؛ لأَنَّ هؤلاءِ قد جاءوا بأربعةِ شُهَدَاءَ، فَدَخَلُوا في عُمُومِ الآيةِ، ولأنَّ عَدَدَهم قد كَمَل، ورَدُّ الشَّهادَةِ لمَعْنًى غيرِ تَفْرِيطِهم، فأشْبَهَ ما لو شَهِدَ أرْبَعَةٌ مَسْتُورون (¬1)، ولم تَثْبُتْ عَدالَتُهم ولا فِسْقُهم. الثَّالثةُ، إن كانوا عُمْيَانًا أو بعضُهم، جُلِدُوا، وإن كانوا عَبِيدًا أو فُسَّاقًا، فلا حَدَّ عليهم. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ، وإسحاقَ؛ لأَنَّ العُمْيانَ مَعْلُوم كَذِبُهم؛ لكَوْنِهم شَهِدُوا بما لم يَرَوْه يَقِينًا، والآخَرُونَ يَجوزُ صِدْقُهم، وقد كَمَل عدَدُهم (¬2)، ¬

(¬1) في الأصل: «مستورو الحال». (¬2) سقط من: الأصل.

4423 - مسألة: (وإن كان أحدهم زوجا، حد الثلاثة، ولاعن الزوج إن شاء)

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ زَوْجًا، حُدَّ الثَّلاثَةُ، وَلَاعَنَ الزَّوجُ إِنْ شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهُوا مَسْتُورِى الحالِ. وقال أصحابُ. الشافعىِّ: إن كان رَدُّ الشَّهادَةِ لمَعْنًى ظاهرٍ، كالعَمَى، والرِّقِّ، والفِسْقِ الظاهِرِ، ففِيهم قَوْلان، وإن كان لمَعْنًى خفِىٍّ، فلا حَدَّ عليهم؛ لأَنَّ ما يَخْفَى يَخْفَى على الشُّهودِ، فلا يكونُ ذلك تَفْرِيطًا منهم، بخِلافِ ما يَظْهَرُ. فإن شَهِدَ ثلاثةُ رجالٍ وامْرأتان، حُدَّ الجميعُ؛ لأَنَّ شهادةَ النِّساءِ في هذا البابِ كعَدَمِها. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وهذا يُقَوِّى رِوايةَ إيجابِ الحَدِّ على الأوَّلِينَ، ويُنَبِّهُ على إيجابِ الحَدِّ فيما إذا كانوا عُمْيانًا أو بعضُهم؛ لأن المرأتَيْنِ يَحْتَمِلُ صِدْقُهما، وهما مِن أهلِ الشهادَةِ في الجُمْلَةِ، والأعْمَى كاذِبٌ يَقِينًا، وليس مِن أهلِ الشَّهادةِ على الأفْعالِ، فوُجوبُ (¬1) الحَدِّ عليهم وعلى مَن معهم أوْلَى. 4423 - مسألة: (وإن كان أحَدُهم زَوْجًا، حُدَّ الثَّلَاثَةُ، ولَاعَنَ الزَّوْجُ إن شاء) لأَنَّ الزَّوْجَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه على امرأتِه؛ لأنَّه بشهادَتِه مُقِرٌّ ¬

(¬1) في الأصل: «فوجب».

4424 - مسألة: (وإن شهد اثنان أنه زنى بها فى بيت أو بلد، واثنان أنه زنى بها فى بيت أو بلد آخر، فهم قذفة، وعليهم الحد. وعنه،

وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أنَّهُ زَنَى بِهَا في بَيْتٍ أَوْ بَلَدٍ، وَاثنَانِ أنَّه زَنى بِهَا في بَيْتٍ أَوْ بَلَدٍ آخَرَ، فَهُمْ قَذَفَةٌ عَلَيْهِمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ بعُدوَانِه لها، فلا تُقْبَلُ شهادتُه عليها (¬1)، فيَبْقَى الشُّهودُ ثلاثةً، فيُحَدُّون، كما حُدَّ (¬2) شهُودُ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ، ولأَنَّ اللَّهَ سبحانَه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. 4424 - مسألة: (وإن شَهِدَ اثْنَانِ أنَّه زَنَى بها في بَيْتٍ أو بَلَدٍ، واثْنَان أنَّه زَنَى بها فِى بَيْتٍ أو بَلَدٍ آخَرَ، فهم قَذَفَةٌ، وعليهم الحَدُّ. وعنه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يحد».

الْحَدُّ. وَعَنْهُ، يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَعِيدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحَدُّ المَشْهُودُ عليه. وهو بَعِيدٌ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا شَهِد اثْنان أنَّه زَنَى بها في هذا البيتِ، واثنان أنَّه زَنَى بها في بيتٍ آخَرَ، أو شَهِد كلُّ اثْنَيْن عليه بالزِّنَى في بلدٍ غيرِ البلدِ الذى شَهِدَ به (¬1) صاحِبَاهُما، أو اخْتَلَفُوا في اليومِ، فالجميعُ قَذَفَةٌ، وعليهم الحَدُّ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. واخْتارَ أبو بكرٍ، أنَّه لا حَدَّ عليهم. وبه قال النَّخَعِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأنَّهم كَمَلُوا أربعةً. ولَنا، أنَّه لم يَكْمُلْ أربعةٌ على زِنًى واحدٍ، فوَجَبَ عليهم الحَدُّ، كما لو انْفَرَدَ بالشَّهادةِ اثْنان. وأمَّا المَشْهُودُ عليه، فلا حَدَّ عليه في قولِهم جميعًا. وقال أبو بكر: عليه الحَدُّ. وحَكاه قوْلًا لأحمدَ. وهو بَعِيدٌ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ زِنَى واحدٍ بشَهادَةِ أرْبَعةٍ، فلم يجبِ الحَدُّ، ولأَنَّ جميعَ ما يُعْتَبَرُ له البَيِّنَةُ يُعْتَبَرُ كَمالُهَا في حَقِّ واحدٍ، فالمُوجِبُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للحَدِّ أوْلَى؛ لأنَّه (¬1) ممَّا يُحْتَاطُ له، ويُدْرأُ بالشُّبُهاتِ. وقد قال أبو بكرٍ: إنَّه لو شَهِدَ اثنان أنَّه زَنَى بامرأةٍ بَيْضاءَ، وشهدَ اثْنانِ أنَّه زَنَى [بامرأةٍ سوداءَ] (¬2)، فهم قَذَفَةٌ. ذَكَرَه القاضى، وهذا يَنْقُضُ قولَه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «بسوداء».

4425 - مسألة: (وإن شهد اثنان أنه زنى بها فى زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها فى زاوية أخرى)

وَإِنْ شَهِدَا أَنَّه زَنَى بِهَا في زَاوِيةِ بَيْتٍ، وَشَهِدَ الآخَرَانِ أنَّه زَنَى بهَا في زَاوِيَتِهِ الأُخْرَى، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4425 - مسألة: (وإن شَهِد اثْنان أنَّه زَنَى بِها في زاوِيَةِ بَيْتٍ، وشَهِد اثْنانِ أنَّه زَنَى بها في زَاوِيةٍ أُخْرَى) كَمَلَتْ شَهَادَتُهُم، إن كانَتِ الزَّاوِيَتَان مُتَقَارِبَتَيْن، وحُدَّ المَشْهُودُ عليه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: لا حَدَّ عليه، لأَنَّ شَهادَتَهم لم تَكْمُلْ، ولأنَّهم اخْتَلَفُوا في المَكانِ، أشْبَهَ ما لو اخْتَلَفُوا (¬1) في البَيْتَيْن. فأمَّا إن كانتِ الزَّاوِيتان مُتَباعِدَتيْن، فالقولُ فيهما كالقولِ في البَيْتَيْن. وعلى قولِ أبى بَكرٍ تَكْمُلُ الشَّهادَةُ، سَواءٌ تَقارَبَتِ الزَّاوِيَتان أو تَباعَدَتا. ولَنا، أنَّهما إذا تَقارَبَتا، أمْكَنَ صِدْقُ الشُّهودِ، بأن يكونَ ابْتِداءُ الفِعْلِ في إحْداهما، وتَمامُه في الأُخْرَى، أو يَنْسِبَه كلُّ اثْنَيْن إلى إحْدَى الزَّاوِيَتَيْن لقُرْبِه منها، فيجبُ قَبولُ شَهادَتِهم، كما لو اتَّفَقُوا، بخِلافِ ما إذا كانَتَا مُتَباعِدَتَيْن، فإنَّه لا يُمْكِنُ كَوْنُ المَشْهودِ به فِعْلًا واحدًا. فإن قِيلَ: فقد يُمْكِنُ أن يكونَ المَشْهُودُ ¬

(¬1) في م: «اختلفا».

4426 - مسألة: (وإن شهدا أنه زنى بها فى قميص أبيض، وشهد آخران أنه زنى بها فى قميص أحمر، كملت شهادتهم. ويحتمل أن لا تكمل)

أَوْ شَهِدَا أنَّه زَنَى بهَا في قَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَشَهِدَ الآخرَانِ أنَّه زَنَى بِهَا في قَمِيصٍ أَحْمَرَ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَكْمُلَ، كَالَّتى قَبْلَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ به فِعْلَيْنِ، فلِمَ (¬1) أوْجَبْتُم الحَدَّ مع الاحْتِمالِ، والحَدُّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ؟ قُلْنا: ليس هذا شُبْهَةً، بدليلِ ما لو اتَّفَقُوا على مَوْضِعٍ واحدٍ، فإنَّ هذا يَحْتَمِلُ فيه والحَدُّ واجِبٌ. والقولُ في الزَّمانِ كالقولِ في هذا، متى كان بينَهما زَمَنٌ مُتَباعِدٌ لا يُمْكِنُ وُجُودُ الفِعْلِ الواحدِ في جميعِه، كطَرَفىِ النَّهارِ، لم تَكْمُلْ شَهادَتُهم، ومتى تَقارَبَا كَمَلَتْ شَهادَتُهم. 4426 - مسألة: (وإن شَهِدا أنَّه زَنَى بِها في قَمِيصٍ أبْيَضَ، وشَهِد آخَرَان أنَّه زَنَى بِها في قَمِيص أَحْمَرَ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهم. ويَحْتَمِلُ أن لا تَكْمُلَ) كما لو شَهِد كلُّ اثْنَين (¬2) أنَّه زَنَى بِها في بَيْتٍ غيرِ الذى شَهِد ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «اثنان».

4427 - مسألة: (وإن شهدا أنه زنى بها مطاوعة، وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة)

وَإِنْ شَهِدَا أنَّه زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً، وَشَهِدَ الآخَرَانِ أنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً، لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به صَاحِباهُما، وكذلك إن شَهِد اثْنان أنَّه زَنَى بها في قميصٍ كَتَّانٍ، وشَهِدَ اثنان أنَّه زَنَى بها في قَميصٍ خزٍّ، تَكْمُلُ الشَّهادَةُ. وقال الشافعىُّ: لا تَكْمُلُ؛ لتَنافِى الشَّهادَتَيْن. ولَنا، أنَّه لا تَنافِىَ بينَهما، فإنَّه يُمْكِنُ أن يكونَ عليه قميصان، فذَكَر كلُّ اثْنَيْن واحدًا، وتَرَكَا ذِكْرَ الآخَرِ، ويُمْكِنُ أن يكونَ عليه قميصٌ أبيضُ، وعليها قميصٌ أحمرُ، وإذا أمْكَنَ التَّصْدِيقُ، لم يَجُزِ التَّكْذِيبُ. 4427 - مسألة: (وإن شَهِدا أنَّه زَنَى بها مُطاوِعَةً، وشَهِد آخران أنَّه زَنَى بِها مُكْرَهَةً) فلا حَدَّ عليها إجْمَاعًا؛ لأَنَّ الشَّهَادَةَ لم تَكْمُلْ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فِعْل مُوجِبٍ للحَدِّ. وفى الرجُلِ وَجْهان؛ أحدُهما، لا حَدَّ عليه. وهو قولُ أبى بكرٍ، والقاضى، وأكثَرِ الأصحابِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ البَيِّنَةَ لا تَكْمُلُ على فِعْلٍ واحدٍ، فإنَّ فِعْلَ المُطَاوِعَةِ غيرُ فِعلِ المُكْرَهَةِ، ولم يَتِمَّ العَدَدُ على كلِّ واحدٍ مِن الفِعْلَيْن، ولأَنَّ كلَّ شاهِدَيْن منهما [يُكَذِّبان الآخَرَيْن] (¬1)، وذلك يَمْنَعُ قَبولَ الشَّهادةِ، أو يكونُ شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ، ولا يَخْرُجُ عن أن يكون كلُّ واحدٍ منهما مُكَذِّبًا للآخَرِ، إلَّا بتَقْدِيرِ فِعْلَيْن تكونُ مُطاوِعَةً في أحَدِهما، ومُكْرَهَةً في الآخَرِ، وهذا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهادَةِ كامِلةً على فِعْلٍ واحدٍ، ولأَنَّ شَاهِدَىِ المطَاوِعَةِ قاذِفَانِ لها، ولم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ عليها، فلا تُقْبَلُ شَهادَتُهم على غيرِها. والوَجْهُ الثانى، يَجِبُ الحَدُّ على الرجُلِ. اخْتارَه أبو الخَطَّابِ، وهو قولُ أبى يوسفَ، ومحمدٍ، ووَجْهٌ ثانٍ للشافعىِّ؛ لأَنَّ الشَّهادَةَ كَمَلَتْ على وُجودِ الزِّنَى منه، واخْتلافُهما إنَّما هو في فِعْلِها، لا في فِعْلِه، فلا يَمْنَعُ كَمالَ الشَّهادَةِ عليه (¬2). ¬

(¬1) في الأصل، تش: «مكذبان للآخرين». (¬2) سقط من: الأصل.

4428 - مسألة: (وهل يحد الجميع أو شاهدا المطاوعة؟ على وجهين)

وَهَلْ يُحَدُّ الْجَمِيعُ أَوْ شَاهِدَا الْمُطَاوِعَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4428 - مسألة: (وهل يُحَدُّ الجَمِيعُ أو شَاهِدا المُطاوِعَةِ؟ على وَجْهَيْن) في الشُّهودِ ثلاثةُ أوْجهٍ؛ أحدُها، لا حَدَّ عليهم. وهو قولُ مَن أوْجَبَ الحَدَّ على الرجُلِ بشَهادتِهم. والثانى، عليهم الحَدُّ؛ لأنَّهم شَهِدُوا بالزِّنَى فلم تَكْمُلْ شَهادَتُهم، فلَزِمَهم الحَدُّ، كما لو لم يَكْمُلْ عَدَدُهم. والثالثُ، يجب الحَدُّ على شَاهِدَى المُطَاوِعَةِ؛ لأنَّهما قَذَفَا المرأةَ بالزِّنَى، فلم تَكْمُلْ [شَهادتُهما عليها] (¬1)، ولا يجبُ على شاهِدَى الإكراهِ؛ لأنَّهما لم يَقْذِفَا المرأةَ، وقد كَمَلَتْ شَهادتُهم على الرجلِ، وإنَّما انْتَفَى عنه الحَدُّ ¬

(¬1) في الأصل: «شهادتهم عليهما».

وَعِنْدَ أَبى الْخَطَّاب، يُحَدُّ الزَّانى المَشْهُودُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَرْأَةِ والشُّهُودُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ للشُّبْهَةِ (وعندَ أبى الخَطَّابِ، يُحَدُّ الزَّانِى المَشْهودُ عليه دُونَ المرأةِ والشُّهودِ) وقد ذَكَرْناه.

4429 - مسألة: (وإن شهد أربعة فرجع أحدهم، فلا شئ على الراجع، ويحد الثلاثة، وإن كان رجوعه بعد الحد، فلا حد على الثلاثة، ويغرم الراجع ربع ما أتلفوه)

وَإِنْ شَهِدَ أَربَعَةٌ فَرَجَعَ أَحدُهُم قَبْلَ الْحَدِّ، فَلَا شَىْءَ عَلَى الرَّاجِعِ، وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْحَدِّ فَلَا حَدَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، ويَغْرَمُ الرَّاجِعُ رُبْعَ مَا أَتْلَفُوهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4429 - مسألة: (وإن شَهِد أربعةٌ فرَجَعَ أحَدُهُم، فلا شئَ على الرَّاجِعِ، ويُحَدُّ الثلاثةُ، وإن كان رُجُوعُه بعد الحَدِّ، فلا حَدَّ على الثلاثةِ، ويَغْرَمُ الرَّاجِعُ رُبْعَ ما أتْلَفُوه) وجملةُ ذلك، أنَّ الشُّهودَ إذا رَجَعُوا عن الشَّهادَةِ، أوِ واحدٌ نهم، ففيهم رِوايَتان؛ إحدَاهما، يجبُ الحَدُّ على الجميعِ؛ [لأنَّه نقَص عَدَدُ الشُّهودِ، فلَزِمَهم الحَدُّ، كما لو كانُوا ثلاثةً، وإن رَجَعُوا كلُّهم، فعليهم الحَدُّ] (¬1)؛ لأنَّهم يُقِرُّونَ أنَّهم قَذَفَةٌ. وهو قولُ أبى حنيفةَ. والثانيةُ، يُحَدُّ الثلاثةُ دُونَ الرَّاجِعِ. اخْتارَها أبو بكرٍ، وابنُ حامدٍ؛ لأنَّه إذا رَجَع قبلَ الحَدِّ، فهو كالتَّائِبِ قبلَ تَنْفِيذِ الحُكْمِ بقولِه، فيَسْقُطُ عنه الحَدُّ؛ لأَنَّ في دَرْءِ الحَدِّ عنه تَمْكِينًا له مِن الرُّجوعِ الذى يَحْصُلُ به مصلحةُ [المَشْهُودِ عليه] (¬2)، وفى إيجابِ الحَدِّ عليه زَجْرٌ له عن الرُّجُوعِ، خَوْفًا مِن الحَدِّ، فتَفُوتُ تلك المصلحةُ، وتَتَحَقَّقُ المَفْسَدَةُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «الشهود».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فناسَبَ ذلك نَفْىَ الحَدِّ عنه. وقال الشافعىُّ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثلاثةِ؛ لأنَّه أقَرَّ على نَفْسِه بالكَذِبِ في قَذْفِه، وأمَّا الثلاثةُ فقد وَجَب الحَدُّ بشَهادَتِهم، وإنَّما سَقَط بعدَ وُجوبِه برُجوعِ الرَّابعِ، ومَن وجَب الحَدُّ بشَهادَتِه، لم يَكُنْ قاذِفًا، فلم يُحَدَّ، كما لو لم يَرْجِعْ أحدٌ. ولَنا، أنَّه نَقَص العَدَدُ بالرُّجوعِ قبلَ إقامةِ الحَدِّ، فلَزِمَهم الحَدُّ، كما لو شَهِد ثلاثةٌ وامْتَنَعَ الرّابعُ مِن الشَّهادَةِ. وقولُهم: وَجَب الحَدُّ بشَهادَتِهم. يَبْطلُ بما إذا رَجَعُوا كلُّهم، وبالرَّاجعِ وحدَه، فإنَّ الحَدَّ وَجَب ثم سَقَط، ووَجَب الحَدُّ بسُقُوطِه، ولأَنَّ الحَدَّ إذا وَجَب على الرَّاجِعِ مع المصلحةِ في رُجُوعِه، بإسْقاطِ الحَدِّ عن المَشْهودِ عليه بعدَ وُجوبِه، وإحيائِه المشهودَ عليه بعدَ إشْرافِه على التَّلَف، فعلى غيرِه أوْلَى. فأمَّا إن كان رُجوعُه بعدَ الحَدِّ، فلا حَدَّ على الثلاثةِ؛ لأَنَّ إقامَةَ الحَدِّ كحُكْمِ الحاكِمِ، لا تَسْقُطُ برُجوعِ الشاهِدِ بعدَه، وعلى الرَّاجعِ رُبْعُ ما تَلِفَ بشَهادَتِهم، ويُذكَرُ ذلك في الرُّجوعُ عن الشَّهادةِ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا ثَبَتَتِ الشَّهادَةُ بالزِّنَى، فصَدَّقَهم المَشْهودُ عليه، لم يَسْقُطِ الحَدُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ؛ لأَنَّ صِحَّةَ البَيِّنَةِ يُشْتَرَطُ لها الإنْكارُ، وما كَمَل الإِقْرارُ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1). وبَيَّنَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّبِيلَ بالحَدِّ، فتجبُ إقامَتُه، ولأَنَّ البَيِّنَةَ تَمَّتْ عليه، فوَجَب الحَدُّ، كما لو لم يَعْتَرِفْ، ولأَنَّ البَيِّنَةَ إحْدى حُجَّتىِ الزِّنَى، فلم تَبْطُلْ بوُجودِ الحُجَّةِ الأُخْرَى أو بَعْضِها، كالإِقْرارِ، يُحَقِّقُه أنَّ وُجودَ الإِقرارِ يُؤَكِّدُ البَيِّنَةَ ويوافِقُها، ولا يُنافِيها، فلا يَقْدَحُ فيها، كتَزْكِيَةِ الشُّهودِ، والثَّناءِ عليهم، ولا نُسَلِّمُ اشْتِراطَ الإِنْكارِ، وإنَّما يُكْتَفَى بالإِقْرارِ في غيرِ الحَدِّ إذا وُجِدَ بكَمالِه، وههُنا لم يَكْمُلْ، فلم يَجِبْ الاكتِفاءُ به، ووَجَب سَماعُ البَيِّنَةِ والعملُ بها. وعلى هذا، لو أقَرَّ مَرَّةً، أو دونَ الأرْبعِ، لم يَمْنَعْ ذلك سَماعَ البَيِّنَةِ عليه، ولو تَمَّتِ البَيِّنَةُ، وأقَرَّ على نَفْسِه إقْرارًا تامًّا، ثم رَجَع عن إقْرارِه، لم يَسْقُطْ عنه الحَدُّ برُجوعِه، وقولُه يَقْتَضِى خِلافَ ذلك. ¬

(¬1) سورة النساء 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَهِد شاهدان، واعْتَرَفَ هو مَرَّتَيْن، لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ، ولم يَجِبِ الحَدُّ. لا نَعلمُ في ذلك خِلافًا بينَ مَن اعْتَبَرَ إقْرارَ أرْبَعِ مَرَّاتٍ، وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ إحْدَى الحُجَّتَيْنِ لم تَكْمُلْ، ولا تُلَفَّقُ إحْدَاهما بالأُخْرَى، كإقْرارِ بعضَ مَرَّةٍ. فصل: فإن كَمَلَتِ البَيِّنَةُ، ثم ماتَ الشُّهودُ أو غابُوا، جازَ الحُكمُ بها، وإقامةُ الحَدِّ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقامُ الحَدُّ؛ لجَوازِ أن يكونُوا رَجَعُوا، وهذه شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الحَدَّ. ولَنا، أنَّ كلَّ شَهادةٍ جازَ الحُكْمُ بها مع حُضُورِ الشُّهودِ، جازَ الحكمُ مع غَيْبَتِهم، كسائرِ الشَّهاداتِ، واحْتمالُ رُجُوعِهم ليس بشُبْهَةٍ، كما لو حُكِمَ بشَهادتِهم. فصل؛ وإن شَهِدُوا بزِنًى قديمٍ، أو أقَرَّ به، وَجَب الحَدُّ. وبهذا قال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا أقْبَلُ بَيِّنَةً على زِنًى قديمٍ، وأحُدُّه بالإِقْرارِ به. وهذا قولُ ابنِ حامدٍ: وذَكَرَه ابنُ أبى (¬1) موسى مذهبًا لأحمدَ؛ لِما رُوِى عن عمرَ، أنَّه قال: أيُّما شُهودٍ شَهِدُوا بحَدٍّ لم يَشْهَدُوا بحَضْرَتِه، فإنَّما هم شُهودُ ضِغْنٍ (¬2). ولأَنَّ تأْخِيرَه للشَّهادةِ إلى هذا الوَقْتِ، يدُلُّ على التُّهْمَةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 432. عن أبى عون عن عمر، رضى اللَّه عنه.

4430 - مسألة: (وإن شهد أربعة بالزنى بامرأة، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد عليها ولا على الشهود. نص عليه)

وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى بِامرَأة، فَشَهدَ ثِقَاتٌ مِنَ النِّسَاءِ أنَّها عَذْرَاءُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى الشُّهُودِ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَدْرَأُ ذلك الحَدَّ. ولَنا، عُمُومُ الآيةِ، وأنَّه حَقٌّ ثَبَتَ على الفَوْرِ، فيَثْبُتُ بالبَيِّنَةِ بعدَ تَطاوُلِ الزَّمانِ، كسائِرِ الحُقُوقِ. والحديثُ مُرْسَلٌ رَواه الحسنُ، ومَراسِيلُ الحسنِ ليستْ بالقَوِيَّةِ، والتَّأْخِيرُ يجوزُ أن يكونَ لعُذْرٍ أو غَيْبَةٍ، والحَدُّ لا يَسْقُطُ بمُجَرَّدِ الاحْتِمالِ، فإنَّه لو سَقَط بكُلِّ احْتِمالٍ، لم يَجِبْ حَدٌّ أصْلًا. فصل: وتجوزُ الشَّهادةُ بالحَدِّ مِن غيرِ مُدَّعٍ. لا نَعلمُ فيه اخْتِلافًا، ونَصَّ عليه أحمدُ، واحْتَجَّ بقِصَّةِ أبى بَكْرَةَ، حيثُ شَهِدَ هو وأصحابُه على المُغيرةِ مِن غيرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى (¬1)، وشَهِدَ الجَارُودُ وصاحِبُه على قُدامَةَ بنِ مَظْعُونٍ بشُرْبِ الخمرِ، ولم يَتَقَدَّمْه دَعْوَى (¬2). ولأن الحَدَّ حَقٌّ للَّه تعالى، فلم تَفْتَقِرِ الشَّهادةُ به إلى تَقَدُّم دَعْوَى، كسائرِ العِباداتِ، يُبَيِّنُه أنَّ الدَّعْوَى في سائرِ الحُقوقِ إنَّما تكونُ مِن المُسْتَحِقِّينَ، وهذا لا حَقَّ فيه لأحَدٍ مِن الآدَمِيِّينَ فيَدَّعِيَه، فلو وَقَفَتِ الشَّهادةُ به على الدَّعْوَى لامْتَنَعَ إقامَتُها. 4430 - مسألة: (وإن شَهِد أربعةٌ بالزِّنَى بامرأةٍ، فشَهِدَ ثِقَاتٌ مِن النِّساءِ أنَّها عَذْرَاءُ، فلا حَدَّ عليها ولا على الشُّهُودِ. نَصَّ عليه) وبهذا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 318. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186.

4431 - مسألة: (وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة، فشهد أربعة آخرون أنهم هم الزناة بها، لم يحد المشهود عليه. وهل يحد الشهود

وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامرَأَةٍ، فَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ آخَرُونَ عَلَى الشُّهُودِ أنَّهُمْ هُمُ الزُّنَاةُ بِهَا، لَمْ يُحَدَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشَّعْبِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ: عليها الحَدُّ؛ لأَنَّ شَهادةَ النِّساءِ لا مَدْخَلَ لها في الحُدُودِ، فلا يَسْقُطُ بشَهادَتِهِنَّ. ولَنا، أنَّ البَكارَةَ تَثْبُتُ بشَهادَةِ النِّساءِ، ووُجُودُها يَمْنَعُ مِن الزِّنَى ظاهِرًا؛ لأَنَّ الزِّنَى لا يَحْصُلُ بدُونِ الإِيلاجِ في الفَرْجِ، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك مع بَقاءِ البَكارَةِ؛ لأَنَّ البِكْرَ هى التى لم تُوطَأْ في قُبُلِها، وإذا انْتَفَى الزِّنَى، لم يجبِ الحَدُّ، كما لو قامَتِ البَيِّنَةُ بأنَّ المَشْهودَ عليه بالزِّنَى مَجْبُوبٌ، وإنَّما لم يَجِبِ الحَدُّ على الشُّهودِ؛ لِكمالِ عِدَّتِهم، مع احْتِمالِ صِدْقِهم، فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ وَطِئَها ثم عادَتْ عُذْرَتُها، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ عنهم، غيرَ مُوجِبٍ له عليها، فإنَّ الحَدَّ لا يجبُ بالشُّبُهاتِ. ويُكْتَفَى بشَهادةِ امرأةٍ واحدةٍ؛ لأَنَّ شَهادَتَها مَقْبُولةٌ فيما لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ. فأمَّا إن شَهِدْنَ بأنَّها رَتْقاءُ، أو ثَبَتَ أنَّ الرجُلَ المشْهُودَ عليه مَجْبوبٌ، فيَنْبَغِى أن يجبَ الحَدُّ على الشُّهُودِ، لأنَّه يُتَيَقَّنُ كَذِبُهم في شَهادَتِهم بأمْرٍ لايعْلَمُه كثيرٌ مِن النَّاسِ، فوَجَبَ عليهم الحَدُّ. 4431 - مسألة: (وإن شَهِد أرْبعةٌ أنَّه زَنَى بِامْرأةٍ، فَشَهِدَ أربعةٌ آخَرُونَ أنَّهم هم الزُّنَاةُ بِها، لم يُحَدَّ المَشْهُودُ عليه. وهل يُحَدُّ الشُّهُودُ

الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. وَهَلْ يُحَدُّ الشُّهُودُ الأَوَّلُونَ حَدَّ الزِّنَى؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوَّلُونَ حَدَّ الزِّنَى؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، لا يجبُ الحَدُّ على واحدٍ منهم. وهذا قولُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ الأوَّلِينَ قد جَرَّحَهم الآخِرُون بشَهادَتِهم عليهم، والآخِرون تَتَطَرَّقُ إليهم (¬1) التُّهْمَةُ. والثانيةُ، يَجِبُ الحَدُّ على الشُّهودِ الأوَّلِين. اخْتارَها أبو الخَطَّابِ؛ لأَنَّ شهادةَ الآخِرين صَحِيحَةٌ، فيجبُ الحكمُ بها. وهذا قولُ أبى يوسفَ. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ في صَدْرِ المَسْألةِ كَلامًا مَعْناه، لا يُحَدُّ أحَد منهم حَدَّ الزِّنَى. وهل يُحَدُّ الأوَّلون حَدَّ القَذْفِ؟ على وَجْهَيْن، بِناءً على القاذفِ إذا جاءَ مَجِئَ الشَّاهدِ، هل يُحَدُّ؟ على رِوَايَتَيْن. فصل: وكلُّ زِنًى أوْجَبَ الحَدَّ، لا يُقْبَلُ فيه إلَّا أربعةُ شُهودٍ، باتِّفاقِ العُلَماءِ؛ لتَناوُلِ النَّصِّ له، بقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬2). ويَدْخُلُ فيه اللِّواطُ، ووَطْءُ المرأةِ في دُبُرِها؛ لأنَّه زِنًى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النور 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعندَ أبى حنيفةَ، يَثْبُتُ بشَاهِدَيْن، بِناءً على أصْلِه بأنَّه لا يُوجِبُ الحَدَّ. وقد بَيَّنَّا وُجوبَ الحَدِّ به، ويُخَصُّ هذا بأنَّ الوَطْءَ في الدُّبُرِ فاحِشَةٌ، بدليلِ قولِه تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬1). وقال اللَّهُ تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬2). فإذا وُطِئَت في الدُّبُرِ، دَخَلَتْ في عُمومِ الآيةِ. وأمَّا وَطْءُ البَهيمةِ إن قُلْنا بوُجُوبِ الحَدِّ به، لم يَثْبُتْ إلَّا بشُهودٍ أربعةٍ. وإن قُلْنا: لا يُوجِبُ إلا التَّعْزِيرَ. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَثْبُتُ بشاهِدَيْن؛ لأنَّه لا يُوجِبُ الحَدَّ، فيَثْبُتُ بشاهِدَيْن، كسائرِ الحُقُوقِ. والثانى، لا يَثْبُتُ إلَّا بأربعةٍ. وِهو قولُ القاضِى؛ لأنَّه فاحِشَةٌ، ولأنَّه إيلاجٌ في فَرْج مُحَرَّمٍ، فأشْبَهَ الزِّنَى. وعلى قِياسِ هذا كلُّ وَطءٍ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ولا يُوجِبُ الحَدَّ، كوَطْءِ الأمَةِ المُشْتَرَكَةِ، وأمَتِه المُزَوَّجَةِ. فإن لم يَكُنْ وَطْئًا، كالمُباشَرَةِ دُونَ الفَرْجِ ونحوِها، ثَبَت بشاهِدَيْن، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّه ليس بوَطْءٍ، أشْبَهَ سائِرَ الحُقُوقِ. ¬

(¬1) سورة الأعراف 80. (¬2) سورة النساء 15.

4432 - مسألة: (وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد، لم تحد بذلك بمجرده)

وَإِنْ حَمَلَتِ امْرأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلا سَيِّدَ، لَمْ تُحَدَّ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4432 - مسألة: (وإن حَمَلَتِ امرأةٌ لا زَوْجَ لها ولا سَيِّدَ، لم تُحَدَّ بذلكَ بمُجَرَّدِه) لَكِنَّها تُسْأَلُ، فإنِ ادَّعَتْ أنَّها اكْرِهَتْ، [أو وُطِئَتْ] (¬1) بشُبْهَةٍ، أو لم تَعْتَرِفْ بالزِّنَى، لم تُحَدَّ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. وقال مالكٌ: عليها الحَدُّ إذا كانت مُقِيمَةً غيرَ غَرِيبَةٍ، إلَّا أن تَظْهَرَ أماراتُ الإِكرَاهِ، بأن تَأْتِىَ مُسْتَغِيثَةً أوِ صارِخَةً؛ لقولِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: والرَّجْمُ واجِبٌ على كُلِّ مَن زَنَى مِن الرِّجالِ والنِّساءِ إذا كان مُحْصَنًا، إذا قامَتِ البَيِّنَةُ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعْتِرافُ (¬2). ورُوِىَ أنَّ عثمانَ أُتِىَ بامرأةٍ وَلَدَتْ لسِتَّةِ أشْهُر، فأمَرَ بها عثمانُ أن تُرْجَمَ، فقال علىٌّ: ليس لك عليها سَبِيلٌ، قال اللَّهُ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬3). وهذا يَدُلُّ على أنَّه كان يَرْجُمُها بحَمْلِها. وعن عمرَ نحوٌ مِن هذا (¬4). ¬

(¬1) في م: «ووطئت». (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 158. (¬3) سورة الأحقاف 15. والأثر أخرجه عبد الرزاق، في: باب التى تضع لستة أشهر، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 352. وسعيد بن منصور، في: باب المرأة تلد لستة أشهر، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 66. والبيهقى، في: باب ما جاء في أقل الحمل، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 442، 443. (¬4) تقدم تخريجه في 24/ 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: أيها النَّاسُ، إنَّ الزِّنَى زِناءانِ (¬1)، زِنَى سِرٍّ، وزِنَى عَلانِيَةٍ، فَزِنى السِّرِّ أن يَشْهَدَ الشُّهودُ، فيكونَ الشُّهودُ أوَّلَ مَن يَرْمِى، وزِنَى العَلانِيَةِ أن يَظْهَرَ الحَبَلُ أو الاعْتِرافُ، فيكونَ الإِمامُ أوَّلَ مَن يَرْمِى (¬2). وهذا قولُ سادَةِ الصَّحابةِ، ولم يَظْهَرْ لهم في عَصْرِهم مُخالِفٌ، فيكونُ إجْماعًا. ولَنا، أنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه مِن وَطْءِ إكْراهٍ أو شُبْهَةٍ، والحَدُّ يَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ، وقد قِيلَ: إنَّ المرأةَ تَحْمِلُ مِن غيرِ وَطْءٍ، بأن يَدْخُلَ ماءُ الرجُلِ في فَرْجِها، إمَّا بفِعْلِها أو فِعْلِ غيرِها. ولهذا تُصُوِّرَ حَمْلُ البِكْرِ، وقد وُجِدَ ذلك. وأمَّا قولُ الصَّحابةِ، فقد اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عنهم، فرَوَى سعيدٌ، ثَنا خَلَفُ ابنُ خَلِيفَةَ، ثَنا أبو هاشمٍ (¬3)، أنَّ امرأةً رُفِعَتْ إلى عمرَ ابنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ليس لها زَوْجٌ، وقد حَمَلَت، فسألها عمرُ، فقالت: إنِّى امرأةٌ ثَقِيلةُ الرَّأْسِ، وَقَع علىَّ رجلٌ وأنا نائمةٌ، فما اسْتَيْقَظْتُ حتى فَرَغ. فدَرَأَ عنها الحَدَّ (¬4). ورَوَى النَّزَّالُ بنُ سَبْرَةَ، عن عمرَ، أنَّه أُتِىَ بامرأةٍ حاملٍ، فادَّعَتْ أنَّها اكْرِهَتْ، فقال: خَلِّ سَبِيلَها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 206، حاشية 6. (¬3) في م: «أبو هشام». (¬4) انظر ما تقدم تخريجه صفحة 290.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكَتَب إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، أن لا يُقْتَلَ أحَدٌ إلَّا بإذْنِه (¬1). ورُوِىَ عن علىٍّ، وابن عباسٍ، أنَّهما قالا: إذا كان في الحَدِّ لَعَلَّ وعَسَى، فهو مُعَطَّلٌ (¬2). ورَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬3) بإسْنادِه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ، وعُقْبَةَ بنِ عامِرٍ، أنَّهم قالُوا: إذا اشْتَبَهَ عليك الحَدُّ، فادْرَأْ ما اسْتَطَعْتَ. ولا خِلافَ أنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وهى مُتَحَقِّقَةٌ ههُنا. فصل: ويُسْتَحَبُّ للإِمامِ أو الحاكمِ الذى يَثْبُتُ عندَه الحَدُّ بالإِقْرارِ، التَّعْرِيضُ له بالرُّجوعِ إذا تَمَّ، والوُقُوفُ عن إتْمامِه إذا لم يتِمَّ، كما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه أعْرَضَ عن ماعِزٍ حينَ أقَرَّ عندَه، ثم جاءَه مِن الناحيةِ الأُخْرَى، فأعْرَضَ عنه، حتى تَمَّمَ إقْرارَه أربعًا، ثم قال: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ» (¬4). ورُوِىَ أنَّه قال للَّذى أقَرَّ بالسَّرِقَةِ: «مَا إخَالُكَ فَعَلْتَ». رَواه سعيدٌ، عن سفيانَ، عن يَزِيدَ بنِ خَصِيفةَ (¬5)، عن محمدِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من زنى بامرأة مستكرهة، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 236. وابن أبى شيبة، في: باب في درء الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 569. (¬2) في الأصل، تش: «مطل». وأخرجه عبد الرزاق عن على، في: المصنف 7/ 425. (¬3) في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 120. كما أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في درء الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 567. والبيهقى، في: باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 238. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 306. (¬5) في الأصل، تش: «صفية»، وفى م: «خصفة». وهو يزيد بن عبد اللَّه بن خصيفة الكندى المدنى. انظر: تهذيب التهذيب 11/ 340.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ ثَوْبانَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وقال: ثَنا هُشَيْمٌ، عن الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ (¬2)، عن يَزِيدَ بنِ أبى كَبْشَةَ، عن أبى الدَّرْدَاءِ، أنَّه أُتِىَ بجاريةٍ سوداءَ سَرَقَتْ، فقال لها: أسَرَقْتِ؟ قولى: لا. فقالَتْ: لا. فخَلَّى سَبِيلَها (¬3). ولا بَأْسَ أن يُعَرِّض بعضُ الحاضِرِينَ بالرُّجوعِ أو بأن لا يُقِرَّ. وروينا عن الأحْنَفِ، أنَّه كان جالسًا عندَ مُعاويةَ، فأُتِىَ بسارقٍ، فقال له معاويةُ: أسَرَقْتَ؟ فقال له بعضُ الشُّرَطَةِ: اصْدُقِ الأميرَ. فقال الأحْنَفُ: الصِّدْقُ في كلِّ المَواطِنِ مَعْجَزَةٌ. فعَرَّضَ له بتَرْكِ الإِقْرارِ. [ورُوِىَ عن بعضَ السَّلَفِ، أنَّه قال: لا يُقْطَعُ ظَرِيفٌ. يعنى أنَّه إذا قامتْ عليه بَيِّنَةٌ، ادَّعَى شُبْهَةً، فدَفَعَ عنه القَطْعَ، فلا يُقْطَعُ. ويُكْرَهُ لمن عَلِم حالَه أن يَحُثَّه على الإِقْرارِ] (¬4)؛ لِما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال لهَزَّالٍ، وقد كان قال لماعِزٍ: بادِرْ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قبلَ أن يَنْزِلَ فيكَ قُرْآنٌ: «ألَا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ!». رَواه سعيدٌ (¬5). ورَوَى ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب في التلقين في الحد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 447. والنسائى، في: باب تلقين السارق، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 60. وابن ماجه، في: باب تلقين السارق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 866. والدارمى، في: باب المعترف بالسرقة، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 173. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 293. (¬2) في الأصل، تش: «عيينة»، وفى م: «عتبة». (¬3) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 225. وابن أبى شيبة، في: المصنف 10/ 23. والبيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 276. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) وأخرجه أبو داود، في: باب الستر على أهل الحدود، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 446. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 821. والإمام أحمد، في: المسند =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه أيضًا، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال جاءَ ماعِزُ بنُ مالكٍ إلى عمرَ ابنِ الخَطَّابِ، فقال له: إنَّه أصَابَ فاحِشَةً. فقال له: أخْبَرْتَ بهذا أحَدًا قَبْلِى؟ قال: لا. قال: [فاسْتَتِرْ بسِتْرِ] (¬1) اللَّهِ، وتُبْ إلى اللَّهِ، فإنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُونَ ولا يُغَيِّرُونَ، واللَّهُ يُغَيِّرُ ولا يُعَيِّرُ، فتُبْ إلى اللَّهِ، ولا تُخْبِرْ به أحدًا. فانْطَلَقَ إلى أبى بكرٍ، فقال له مثلَ ما قالَ عمرُ، فلم تُقِرَّه نَفْسُه حتى أتَى رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فذَكَرَ له ذلك (¬2). ¬

(¬1) في م: «فاستر يستر». (¬2) وأخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الرجم، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 820. والبيهقى، في: باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف. . .، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 228. وعبد الرزاق، المصنف 7/ 323.

باب حد القذف

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ الرَّمْىُ بِالزِّنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ القذْفِ (وهو الرَّمْىُ بالزِّنَى) وهو مُحَرَّمٌ بإجْماعِ الأُمَّةِ، والأَصْلُ في تَحْرِيمِه الكِتابُ والسُّنَّةُ [والإِجْماعُ] (¬1)؛ أمَّا الكِتابُ فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). وقال سبحانَه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ». قالوا: وما هُنَّ يا رسولَ اللَّهِ؛ قال: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ، وأكْلُ الرِّبَا، وأكْلُ مَالِ المَتِيمِ، والتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النور 4. (¬3) سورة النور 23. (¬4) تقدم تخريجه في 12/ 5.

4433 - مسألة: (ومن قذف حرا محصنا، فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حرا، أو أربعين إن كان عبدا. وقذف غير المحصن يوجب التعزير)

وَمَنْ قَذَفَ حُرًّا مُحْصَنًا، فَعَلَيْهِ جَلْدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا، أَو أَرْبَعِينَ إِنْ كَانَ عَبْدًا. وَهَلْ حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ للَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلآدَمِيِّينَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4433 - مسألة: (ومَن قَذَف حُرًّا مُحْصَنًا، فعليه جَلْدُ ثَمانِينَ جَلْدَةً إن كان القاذِفُ حُرًّا، أو أرْبَعِينَ إن كان عَبْدًا. وقَذْفُ غَيْرِ المُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ) المُحْصناتُ في القرآنِ جاءت بأربعةِ مَعانٍ؛ أحدُها، العَفائِفُ، وهو المُرادُ ههُنا. الثانى، بمعنى المُزَوَّجاتِ، كقولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1). وقولِه تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} (¬2). والثالثُ، بمعنى الحَرائرِ، كقولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (2). وقولِه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3). وقولِه: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2). والرابعُ، بمعنى الإِسْلامِ، كقولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} (2). قال ابنُ مسعودٍ: ¬

(¬1) سورة النساء 24. (¬2) سورة النساء 25. (¬3) سورة المائدة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْصانُها إسْلامُها (¬1). وأجْمَعَ العُلَماءُ على وُجوبِ الحَدِّ على مَن قَذَف مُحْصَنًا، إذا كان القاذِفُ مُكَلَّفًا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 266.

4434 - مسألة: (والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذى يجامع مثله. وهل يشترط البلوغ؟ على روايتين)

والْمُحْصَنُ؛ هُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْعَفِيفُ الَّذِى يُجَامِعُ مِثْلُهُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4434 - مسألة: (والمُحْصَنُ هو الحُرُّ المُسْلِمُ العاقِلُ العَفِيفُ الذِى يُجامِعُ مِثْلُه. وهَل يُشْتَرَطُ البُلُوغُ؟ على رِوايَتَيْن) فهذه الخمسةُ شُروط الإِحْصانِ. وبه يقولُ جماعةُ العُلماءِ (¬1) قَدِيمًا وحدِيثًا، سِوَى ما رُوِى عن داودَ، أنَّه أوْجَبَ الحَدَّ على قاذفِ العَبْدِ (¬2). وقال ابنُ أبى مُوسى: إذا قَذَف أمَّ ولدِ رجُلٍ، وله منها ولدٌ، حُدَّ. وعن ابنِ المُسَيَّبِ، وابنِ أبى ليلى، قالوا: إذا قَذَف ذِمِّيَّة لها ولدٌ مسلمٌ، يُحَدُّ. وقال ابنُ أبى موسى: إذا قَذَف مسلمٌ ذِمِّيَّةً تحتَ مسلم، أو لها منه ولدٌ، حُدَّ في ¬

(¬1) في م: «الفقهاء». (¬2) في حاشية ق: «واختار ابن عقيل في مفرداته مثل مذهب داود وانتصر له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْدَى الرِّوايَتَيْن. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأَنَّ ما لا يُحَدُّ قاذِفُه إذا لم يَكُنْ له ولدٌ، لا يُحَدُّ وله ولدٌ، كالمجنونةِ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في اشْتِراطِ البُلوغِ، فرُوِىَ عنه، أنَّه شَرْطٌ. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى؛ لأنَّه أحَدُ شَرْطَىِ التَّكْلِيفِ، فأشْبَهَ العقلَ، ولأن زِنَى الصَّبِىِّ لا يُوجِبُ عليه الحَدَّ، فلا يجبُ الحَدُّ بالقَذْفِ به، كزِنَى المجْنونِ. والثانيةُ، لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّه حُرٌّ عاقلٌ عفيفٌ يَتَعَيَّرُ بهذا القولِ المُمْكِنِ صِدْقُه، فأشْبَهَ الكبيرَ. وهذا قولُ مالكٍ، وإسحاقَ. فعلى هذه الرِّوايةِ، لا بدَّ أن يكونَ كبيرًا يُجامِعُ مثلُه، وأدْناه أن يكونَ للغلامِ عَشْرٌ، وللجاريةِ تِسْعٌ (¬1). ¬

(¬1) في م: «سبع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجبُ بقَذْفِ المُحْصَنِ ثمانونَ جَلْدَةً، إذا كان القاذِفُ حُرًّا، وأربعونَ إن كان عَبْدًا، كما ذَكَرَه. وقد أجمعَ العُلَماءُ على وُجوبِ الحَدِّ على مَن قَذَف مُحْصَنًا، وأن حَدَّه ثمانون إن كان حُرًّا، وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. وإن كان القاذِفُ عبدًا، فحدُّه أربعونَ جَلْدَةً، وأجمعوا على وُجوبِ الحَدِّ على العَبْدِ إذا قَذَف مُحْصَنًا؛ لدُخُولِه في عُمومِ الآيةِ، وحَدُّه أربعون، في قولِ أكثرِ العُلَماءِ، فرُوِىَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ أنَّه قال: أدْرَكْتُ أبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، ومَن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدَهم مِن الخلفاءِ، فلم أرَهُم يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ إذا قَذَف إلَّا أربعين (¬1). وروَى خِلاسٌ، أنَّ عليًّا قال في عبدٍ قَذَف حُرًّا: عليه نِصْفُ الحَدِّ (¬2). وجَلَد أبوْ بكرٍ بنُ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ عبدًا قَذَف حُرًّا ثمانين (¬3). وبه قال قَبِيصَةُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، عَمَلًا بعُموم الآيةِ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ للإِجْماعِ المَنْقُولِ عن الصَّحابةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، ولأنَّه حَدٌّ يَتَبَعَّضُ، فكان العبدُ فيه على النِّصْفِ مِن حَد الحُرِّ، كحَدِّ الزِّنَى، وهذا يَخُصُّ عُمومَ الآيةِ، وقد عِيبَ على أبى بكرِ بنِ محمدِ [بنِ عمرِو] (¬4) بنِ حَزْمٍ جَلْدُه العبدَ ثمانينَ. فقال عبدُ اللَّهِ بنُ عامرِ بنِ ربيعةَ: ما رَأيْتُ (¬5) ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 437، 438. وابن أبى شيبة، في: باب في العبد يقذف الحر. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 502. والبيهقى، في: باب العبد يقذف حرا، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 251. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب العبد يفترى على الحر، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 437. وابن أبى شيبة، في: باب في العبد يقذف الحر. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 502. والبيهقى، في: باب العبد يقذف حرا، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 251. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من قال: يضرب العبد في القذف ثمانين، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 503. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل، ر 3: «رأينا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدًا جَلَد العبدَ ثمانينَ قبلَه. وقال سعيدٌ: ثَنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبى الزِّنادِ (¬1)، عن أبِيه، قال: حَضَرْتُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، جَلَد عبدًا في فِرْيَةٍ ثمانين، فأنْكَرَ ذلك مَن حَضَرَه مِن النَّاسِ، وغيرُهم مِن الفُقَهاءِ، فقال لى عبدُ اللَّهِ بنُ عامرِ بنِ رَبيعةَ: إنِّى رأيتُ واللَّهِ عمرَ بنَ الخَطَّابِ، فما رأيتُ أحدًا جَلَد عبدًا في فِرْيةٍ فوقَ أربعينَ (¬2). قال الخِرَقِىُّ: ويكونُ بدُونِ السَّوْطِ الذى يُجْلَدُ به الحُرُّ؛ لأنَّه لمَّا خُفِّفَ في عَدَدِه، خُفِّفَ في سَوْطِه، كما أنَّ الحُدودَ في أنفسِها كلَّما قَلَّ منها، كان سَوْطُه أخَفَّ. وظاهرُ ما ذَكَرَه شيخُنا، أنَّه يكونُ بسَوْطِ الحُرِّ،، فَتَساوَوْا في الجَلْدِ ليَتَحَقَّقَ التَّنْصِيفُ (¬3)؛ لأنَّه إنَّما يَتَحَقَّقُ بذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «زياد». (¬2) هذا الأثر الذى تقدم تخريجه في أول المسألة. (¬3) في الأصل: «النصف».

4435 - مسألة: (وقذف غير المحصن يوجب التعزير)

وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4435 - مسألة: (وقَذْف غيرِ المُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ) فإذا قَذَف مُشْرِكًا، أو عَبْدًا، أو مسلمًا له دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، أو مسلمةً لها دُونَ تِسْعِ سِنِينَ (¬1)، أو مَن ليس بعَفِيفٍ، فعليه التَّعْزِيرُ؛ لأنَّه لَمَّا انْتَفَى وُجوبُ الحَدِّ عن القاذِفِ، وَجَب التَّأْدِيبُ رَدْعًا له عن أعْراضِ المَعْصُومِينَ، وكَفًّا له عن أذَاهم. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويجبُ الحَدُّ على قاذِفِ الخَصِىِّ، والمَجْبُوبِ، والمَرِيضِ المُدْنَفِ، والرَّتْقاءِ، والقَرْنَاءِ. وقال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى: لا حَدَّ على قاذِفِ مَجْبُوبٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): وكذلك الرَّتْقاءُ. وقال الحسنُ: لا حَدَّ على قاذِفِ الخَصِىِّ، لأَنَّ العارَ مُنْتَفٍ عن المَقْذُوفِ بدونِ الحَدِّ؛ للعِلْمِ بكَذِب القاذِفِ، والحَدُّ إنَّما يجبُ لنَفْىِ العارِ. ولَنا، عمُومُ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬2). والرَّتْقاءُ دَاخِلَةٌ في عُمومِ الآيةِ، ولأنَّه قاذِف مُحْصَنًا، فيَلْزَمُه الحَدُّ، كالقاذِفِ للقادرِ على الوَطْءِ، ولأَنَّ إمْكانَ الوَطْءِ أمْر خَفِىٌّ، لا يَعْلَمُه كثيرٌ مِن النَّاسِ، فلا يَنْتَفِى العارُ عندَ مَن لم يَعْلَمْه بدُونِ الحَدِّ، فيجبُ، كقَذْفِ المريضِ. فصل: ويجبُ الحَدُّ على القاذِفِ في غيرِ دارِ الإِسْلامِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا حَدَّ عليه؛ لأنَّه في دارٍ لا حَدَّ على أهْلِها. ولَنا، عُمُومُ الآيةِ، ولأنَّه مسلمٌ مُكَلَّفٌ حُرٌ، قَذَف مُحْصَنًا، فأشْبَهَ مَن في دارِ الإِسْلامِ. فصل: ويُشْتَرَطُ لإقامةِ الحَدِّ على القاذِفِ شَرْطانِ؛ أحدُهما، مُطالبَةُ المَقْذُوفِ؛ لأنَّه حَقٌّ له، فلا يُسْتَوْفَى قبلَ طَلَبِه، كسائرِ حُقوقِه. الثانى؛ ¬

(¬1) انظر: الإشراف 3/ 49. (¬2) سورة النور 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن لا يَأْتِىَ ببَيِّنَةٍ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}. الآية. ولذلك يُشْتَرَطُ عَدَمُ إقْرار المَقْذُوفِ؛ لأنَّه في معنى البَيِّنَةِ. وإن كان القاذِفُ زَوْجًا، اعْتُبِرَ شَرْط آخَرُ، وهو امْتِناعُه مِن اللِّعانِ. ولا نعلمُ في هذا كلِّه خِلافًا. ويُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إلى إقامةِ الحَدِّ، فلو طَلَب ثم عَفَا عن الحَدِّ، سَقَط. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الحسنُ، وأصحابُ الرَّأْى: لا يَسْقُطُ بعَفْوِه؛ لأنَّه حَد، فلم يَسْقُطْ بالعَفْوِ، كسائرِ الحُدودِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ (¬1) لا يُسْتَوْفَى إلَّا بعدَ مُطالَبَةِ الآدَمِىِّ باسْتِيفائِه، فسَقَط بعَفْوِه، كالقِصاصِ، وفارَقَ سائرَ الحُدُودِ، فإنَّه لا (¬2) يُعْتَبَرُ في إقامَتِها الطَّلَبُ باسْتيفائِها، فأمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ، فإنَّما يُعْتَبَرُ فيه المُطالبةُ بالمَسْرُوقِ، لا باسْتِيفاءِ الحَدِّ، ولأنَّهم قالوا: تَصِحُّ دَعْواه، ويُسْتَحْلَف فيه، ويَحْكُمُ الحاكمُ فيه بعِلْمِه، ولا يُقْبَلُ رُجوعُه عنه بعدَ الاعْترافِ. فدَلَّ على أنَّه حَقٌّ لآدَمِىٍّ. فصل: وإذا قُلْنا بوُجوبِ الحَدِّ بقَذْفِ مَن لم يَبْلُغْ، لم تَجُزْ إقامَتُهْ حتى يَبْلُغَ ويطالِبَ به بعدَ بُلوغِه؛ لأَنَّ مُطَالَبَتَه قبلَ البُلوغِ لا تُوجِبُ الحَدَّ؛ لعَدَمِ اعْتِبارِ كَلامِه، وليس لوَلِيِّه المُطالبَةُ عنه؛ لأنَّه حَقٌّ شُرِعَ للتَّشَفِّى، فلم يَقُمْ غيرُه مَقَامَه في اسْتِيفائِه، كالقِصاصِ، فإذا بلَغ وطالب، أُقِيمَ حينَئِذٍ. ولو قذَف غائبًا لم يُقَمْ عليه الحَدُّ (2) حتى يَقْدَمَ ويُطالِبَ، إلَّا أن ¬

(¬1) في م: «حد». (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتَ أنَّه طالَب في غَيْبَتِه. ويَحْتَمِلُ أن لا تجوزَ إقامتُه في غَيْبَتِه بحالٍ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَعْفُوَ بعدَ المُطالبةِ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ؛ لكَوْنِه يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ. ولو جُنَّ المَقْذُوفُ بعدَ قَذْفِه، وقبلَ طَلَبِه، لم تَجُزْ إقامتُه حتى يُفِيقَ ويُطالِبَ، وكذلك إن أُغْمِىَ عليه، فإن كان قد طالَب به قبلَ جُنونِه وإغْمائِه، جازت إقامَتُه، كما لو وَكَّلَ في اسْتِيفاءِ القِصاصِ، ثم جُنَّ أو أُغْمِىَ عليه قبلَ اسْتِيفائِه. فصل: وإذا قَذَف ولدَه، لم يَجبْ عليه الحَدُّ، وإن نَزَل، سَواءٌ كان القاذِفُ رجُلًا أو امرأةً. وبهذا قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيز، ومالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: عليه الحَدُّ؛ لعُمُومِ الآيةِ، ولأنَّه حَدٌ، فلا تَمْنَعُ مِن وُجُوبِه قَرابَةُ الوِلادَة، كالزِّنَى. ولَنا، أنَّه عُقوبة تجبُ حقًّا لآدَمِىٍّ، فلا تجبُ للوَلَدِ على الوالَدِ، كالقِصاصِ، أو نقولُ: إنَّه حَقٌّ لا يُسْتَوْفَى إلَّا بالمُطالَبَةِ باسْتِيفائِه، فأشْبَهَ القِصاصَ. ولأَنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يجبُ للابنِ على أبِيه، كالقِصاصِ، ولأَنَّ الأُبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ القِصاصَ، فمنَعَتِ الحَدَّ، [كالرِّقِّ والكُفْرِ] (¬1). وبهذا يُخَصُّ عُمُومُ الآيةِ. ثم ما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالسَّرِقَةِ، فإنَّ الأبَ لا يُقْطَعُ بالسرقةِ مِن مالِ ابْنِه، والفرقُ بينَ القَذْفِ والزِّنَى، أنَّ حَدَّ الزِّنَى خالِصٌ لحقِّ اللَّهِ تعالى، لا حَقَّ للآدَمِىِّ فيه، وحَدَّ القَذْفِ حَقٌّ لآدَمِىٍّ، فلا يَثْبُتُ للابنِ على أبِيه، كالقِصاصِ، وعلى أنَّه لو زَنَى بجاريةِ ابنِه، لم يَجِبْ عليه حَدٌّ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه لو قَذَف أُمَّ ابنِه، وهى أجْنَبِيَّةٌ منه، فماتَتْ قبلَ اسْتِيفائِه، لم يَكُنْ لابنِه المُطالَبَةُ؛ لأَنَّ ما مَنَع ثُبوتَه ابْتِداءً، أسْقَطَه طارِئًا، كالقِصاصِ. فإن كان لها ابنٌ آخرُ مِن غيرِه، كان له اسْتِيفاؤُه إذا ماتَت (¬2) بعدَ المُطالَبَةِ به؛ لأَنَّ الحَدَّ يَمْلِكُ بعضُ الوَرَثَةِ اسْتيفاءَه كلِّه، بخِلافِ القِصاصِ. وأمَّا قَذْفُ سائرِ الأقارِبِ، فيُوجِبُ الحَدَّ على القاذِفِ، في قَوْلِهم جميعًا. ¬

(¬1) في م: «كالكفر». (¬2) في الأصل: «ثبت».

4436 - مسألة: (وإن قال: زنيت وأنت صغيرة. وفسره بصغر عن تسع سنين، لم يحد، وإلا خرج على الروايتين)

وَإِنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ. وَفَسَّرَهُ بِصِغَرٍ عَنْ تِسْعِ سِنِينَ، لَمْ يُحَدَّ، وَإِلَّا خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4436 - مسألة: (وإن قال: زَنَيْتِ وأنتِ صَغِيرَةٌ. وفَسَّرَه بصِغَرٍ عن تِسْعِ سنينَ، لم يُحَدَّ، وإلَّا خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن) أمَّا إذا فَسَّرَه بصِغَرٍ عن تِسْعَ سنِينَ فإنَّه لا يُحَدُّ، فإنَّه لا يجبُ بقَذْفِها الحَدُّ، على ما ذَكَرْنا، وكذلك إن قَذَف صغيرًا له دُونَ عَشْرِ سنينَ، وإن لم يُفَسِّرْه بذلك، وفَسَّرَه بما زادَ عليه، خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن في اشْتِراطِ البُلوغِ، فإن قُلْنا: هو شَرْطٌ في الإِحْصانِ. لم يُحَدَّ، وعليه التَّعْزِيرُ. وإن قُلنا: ليس بشَرْطٍ. لَزِمَه الحَدُّ، كالبالغِ؛ لأنَّه قَذَف مُحْصَنًا. فصل: فإنِ اخْتَلَفَ القاذِفُ والمَقْذُوفُ، فقال القاذِفُ: كنتَ

4437 - مسألة: (وإن قال لحرة مسلمة: زنيت وأنت نصرانية. أو: أمة. ولم تكن كذلك، فعليه الحد)

وَإِنْ قَالَ لِحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ. أَوْ: أَمَةٌ. وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وِإنْ كَانتْ كَذَلِكَ، وَقَالَتْ: أَرَدْتَ قَذْفِى ـــــــــــــــــــــــــــــ صغيرًا حينَ قَذَفْتُكَ. وقال المَقْذُوفُ: كنتُ كبيرًا. فذَكَر القاضى، أنَّ القولَ قولُ القاذِفِ، لأَنَّ الأَصْلَ الصِّغَرُ وبَراءَةُ الذِّمَّةِ مِنِ الحَدِّ. فإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيَنةً بدَعْوَاه، وكانَتَا مُطْلَقَتَيْن، أو مُؤَرَّختَيْن تاريخَيْن مُخْتَلِفَيْن، فهما قَذْفان؛ مُوجَبُ أحَدِهما التَّعْزِيرُ، والآخَر الحَدُّ، وإن بَيَّنَتَا تارِيخًا واحدًا، وقالت إحْدَاهما: وهو صغيرٌ. وقالتِ الأُخْرَى: وهو كبيرٌ. تَعارَضَتَا وسَقَطَتا. وكذلك لو كان تاريخُ بَيِّنَةِ المَقْذُوفِ قبلَ تاريخِ بَيِّنَةِ القاذِفِ. 4437 - مسألة: (وإن قال لحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ: زَنَيْتِ وأنتِ نَصْرَانِيَّةٌ. أو: أمَةٌ. ولم تَكُنْ كذلك، فعليه الحَدُّ) إذا قال: زَنَيْتَ إذْ كنتَ مُشْرِكًا. أو: إذْ كنتَ رَقِيقًا. فقال المَقْذُوفُ: ما كنتُ مُشْرِكًا ولا رَقيقًا؛ [نَظرنا؛ فإن ثَبَتَ أنَّه كان مُشْرِكًا أو رَقِيقًا، فهى كالتى قبلَها. وإن] (¬1) ثبَت أنَّه لم يَكُنْ كذلك، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه يُعْلَمُ كَذِبُه في وَصْفِه بذلك، وإن لم يَثْبُتْ واحدٌ منهما، وَجَب عليه الحَدُّ، في ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش، ر 3.

في الْحَالِ. فَأَنْكَرَهَا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْدَى الرِّوايَتَيْن؛ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الشِّرْكِ والرِّقِّ، ولأَنَّ الأَصْلَ الحُرِّيَّةُ وإسْلامُ أهلِ دارِ الإِسْلامِ. والثانيةُ، لا يَجِبُ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه. وأمَّا إذا قال: زَنَيْتَ وأنت مُشْرِكٌ. فقال المَقْذُوفُ: أرَدْت قَذْفِى بالزِّنَى والشِّرْكِ معًا. وقال القاذِفُ: بل أرَدْتُ قَذْفَك بالزِّنَى إذ كنتَ مُشْرِكًا. فقال أبو الخَطَّابِ: القولُ قولُ القاذِفِ. وهو قولُ بعض الشافعيةِ؛ لأَنَّ الخِلافَ في نِيَّتِه، وهو أعلمُ بها، وقولُه: وأنت مُشْرِكٌ. مُبْتدأٌ وخَبَرٌ، وهو حالٌ لقولِه: زَنَيْتَ. كقولِه تعالى: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (¬1). وقال القاضى: يجبُ الحَدُّ. وهو قولُ بعضِ الشّافعيةِ؛ لأَنَّ قولَه: زَنَيْتَ. خِطَابٌ في الحالِ، فالظَّاهِرُ أنَّه أرادَ زِنَاه في الحالِ. ¬

(¬1) سورة الأنبياء 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا إن قال: زَنَيْتَ وأنتَ عبدٌ. فأمَّا إن قال: [زَنَيْتَ. وقال] (¬1): أردتُ أنَّه زَنَى وهو مُشْرِكٌ. فقال الخِرَقِىُّ: يجبُ عليه الحَدُّ، وكذلك إن كان عبدًا؛ لأنَّه قَذَفَه في حال كَوْنِه حُرًّا مُسلمًا مُحْصَنًا، وذلك يَقْتَضِى وُجُوبَ الحَدِّ عليه؛ لعُمومِ. الآيةِ، ووُجودِ المَعْنى، فإذا ادَّعَى ما يُسْقِطُ الحَدَّ عنه، لم يُقْبَلْ منه، كما لو قَذَف كبيرًا، ثم قال: أرَدْتُ أنَّه زَنَى وهو صغيرٌ. فأمَّا إن قال: زَنَيْتَ في شِرْكِكَ. أو: وأنتَ مُشْرِكٌ. ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا حَدَّ عليه. وهو قولُ الزُّهْرِىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى. وعن مالكٍ، أنَّه يُحَدُّ. وهو قولُ الثَّوْرِىِّ؛ لأَنَّ القَذْفَ وُجِدَ في حالِ كَوْنِه مُحْصَنًا. ووَجْهُ الأوَّل، أنَّه أضافَ القَذْفَ إلى حالٍ ناقِصَةٍ، أشْبَهَ ما لو قَذَفَه في حالِ الشِّرْكِ، ولأنَّه قَذَفَه بما لا يُوجِبُ الحَدَّ على المَقْذُوفِ، أشْبَهَ ما لو قَذَفَه بالوَطْءِ دُونَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفَرْجِ. وهكذا الحُكمُ لو قَذَف مَن كان رَقِيقًا. فإن قال: زَنَيْتَ وأنتَ صَبِىٌّ أو: صغيرٌ. سُئِلَ عن الصِّغَرِ، فإن فَسَّرَه بما لا يُجامِعُ في (¬1) مثلِه، ففيها الوَجْهان. وإن فَسَّرَه بصِغَرٍ يُجامِعُ في مثلِه، خُرِّجَ على الرِّوايَتَيْن في اشْتِراطِ البُلوغِ للإِحْصانِ. فصل: وإن قَذَف مَجْهُولًا، وادَّعَى أنَّه رَقِيقٌ أو مُشْرِكٌ. وقال المَقْذُوفُ: بل أنا حُرٌّ مسْلِمٌ. فالقولُ قولُه. وقال أبو بكرٍ: القولُ قولُ القاذِفِ في الرِّقِّ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه مِن الحَدِّ، وهو يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وما ادَّعاه محْتَمِلٌ، فيكونُ شُبْهَةً. وعن الشافعىِّ كالوَجْهَيْن. ولَنا، أنَّ الأَصْلَ الحرِّيَّةُ، وهو الظَّاهِرُ، فلم يُلْتَفَتْ إلى ما خالَفَه، كما لو فَسَّر صَرِيحَ القَذْفِ بما يُحِيلُه. ¬

(¬1) سقط من: م.

4438 - مسألة: (ومن قذف محصنا، فزال إحصانه قبل إقامة الحد)

وَمَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا، فَزَالَ إِحْصَانُهُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4438 - مسألة: (ومَن قَذَفَ مُحْصَنًا، فزالَ إحْصانُه قبلَ إقامَةِ الحَدِّ) عليه (لم يَسْقُطِ الحَدُّ عن القاذِفِ) وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، وأبو ثَوْرٍ، والمُزَنِىُّ، وداودُ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ الشُّرُوطَ تجبُ اسْتِدَامَتُها إلى حالِ إقامةِ الحَدِّ، بدَليلِ أنَّه لو ارْتَدَّ أو جُنَّ، لم يُقَمِ الحَدُّ، ولأَنَّ وُجُودَ الزِّنَى يُقَوِّى قولَ القاذِفِ، ويَدُلُّ على تَقَدُّمِ الفِسْقِ منه، فأشْبَهَ الشَّهادَةَ إذا طَرَا الفِسْقُ بعدَ أدَائِها قبلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُكْمِ بها. ولَنا، أنَّ الحَدَّ قد وَجَب وتَمَّ بشُروطِه، فلم يَسْقُطْ بزَوالِ شَرْطِ الوُجوبِ، كما لو زَنَى بأمَةٍ ثم اشْتَرَاها، أو سَرَق عَيْنًا، فنَقَصَتْ قِيمَتُها أو مَلَكَها، أو كما لو جُنَّ المَقْذُوفُ بعدَ المُطالَبَةِ. وقولُهم: إنَّ الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُها. قُلْنا: الشُّروطُ ههُنا للوُجُوبِ، فيُعْتَبَرُ وُجُودُها إلى حينِ الوُجوبِ، وقد وَجَب الحَدُّ، بدَليلِ أنَّه مَلَك المُطالبَةَ به، وتَبْطُلُ الأصُولُ التى ذَكَرُوها بالأُصُولِ التى قِسْنا عليها. وأمَّا إذا جُنَّ مَن وَجَب له الحَدُّ، فلا يَسْقُطُ الحَدُّ، وإنَّما يَتَأخرُ اسْتِيفاؤه، لتَعَذُّرِ المُطالَبَةِ به، فأشْبَهَ ما لو غابَ مَن له الحَدُّ. فإنِ ارْتَدَّ مَن وَجَب له الحَدُّ، لم يَمْلِكِ المُطالَبَةَ؛ لأَنَّ حُقُوقَه وأمْلاكَه تَزُولُ أو تكونُ مَوْقُوفَةً. وفارَقَ الشَّهادَةَ، فإنَّ العَدالَةَ شَرْطٌ للحُكْمِ بها، فيُعْتَبَرُ وُجُودُها إلى حينِ الحُكْمِ بها، بخلافِ مَسْألَتِنا، فإنَّ العِفَّةَ شَرْط للوُجُوبِ، فلا تُعْتَبَرُ إلَّا إلى حينِ الوُجُوبِ. فصل: ولو وَجَب الحَدُّ على ذِمِّىٍّ، أو مُرْتَدٍّ، فلَحِقَ بدارِ الحربِ، ثم عادَ، لم يَسْقُطْ عنه. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ. ولَنا، أنَّه حَدٌّ وَجَب، فلم يَسْقُطْ بدُخُولِ دارِ الحربِ، كما لو كان مُسْلِمًا دَخَل بأمانٍ. فصل: ويُحَدُّ مَن قَذف ابنَ المُلاعِنَةِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ ابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، والحسنِ، والشَّعْبِىِّ، [والنَّخَعِىِّ] (¬1)، ¬

(¬1) سقط من: تش، ر 3، ق، ص، م. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وطاوُسٍ، ومُجاهِدٍ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وجُمْهورِ العُلَماءِ. ولا نَعلمُ فيه خِلافًا. وقد روَى [ابنُ عباسٍ] (¬1) أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى في المُلاعِنَةِ، أن لا (¬2) تُرْمَى، ولا يُرْمَى وَلَدُها، ومَن رَمَاها أو رَمَى وَلَدَها، فعليه الحَدُّ. رَواه أبو داودَ (¬3). ولأَنَّ حَصانَتَها (¬4) لمِ تَسْقُصْا باللِّعانِ، ولا يَثْبُتُ الزِّنَى به، ولذلك لم يَلْزَمْها به حَدٌّ. ومَن قَذف ابنَ المُلاعِنَةِ، فقال: هو ولدُ زِنًى. فعليه الحَدُّ، للخَبَرِ والمَعْنَى، وكذلك إن قال: هو مِن الذى رُمِيَتْ به. فأمَّا إن قال: ليس هو ابنَ فُلانٍ. يعنى المُلاعِنَ، وأرادَ أنَّه مَنْفِىٌّ عنه شَرْعًا، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه صادِقٌ. فصل: فأمَّا إن ثَبَت زنَاه ببَيِّنَةٍ أو إقْرارٍ، أو حُدَّ للزِّنَى، فلا حَدَّ على قاذِفِه؛ لأنَّه صادِدق، ولأنّ إحْصانَ المَقْذُوفِ قد زالَ بالزِّنَى. ولو قال لمَن زَنَى في شِرْكِه، أو مَن كان مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بذاتِ مَحْرَمٍ بعدَ أن أسْلَمَ: يا زَانِى. فلا حَدَّ عليه إذا فَسَّرَه بذلك. وقال مالكٌ: عليه الحَدُّ؛ لأنَّه قَذَف مُسْلِمًا لم يَثْبُتْ زِنَاه في إسْلامِه. ولَنا، أنَّه قَذَف مَن ثَبَت زِنَاه، أشْبَهَ ما لو ثَبَت زِنَاه في الإِسْلام، ولأنَّه صادِق. ومُقْتَضَى كلام الخِرَقِىِّ، وُجوبُ الحَدِّ عليه؛ لقَولِه: ومَن قَذَف مَن كان مُشْرِكًا، ¬

= وأخرجه عنه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 122. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 361. (¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 23/ 370. (¬4) في الأصل، تش، ر 3، ص، م: «حضانتها». والمثبت كما في ق، وهو موافق لما في المغنى 12/ 401.

فصل

فَصْلٌ: وَالْقَذْفُ مُحَرَّمٌ، إلَّا في مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا، أَنْ يَرَى امْرأَتَهُ تَزْنِى في طُهْرِ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَيَعْتَزِلُهَا، وَتَأْتِى بوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّانِى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْىُ وَلَدِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: أرَدْتُ أنَّه زَنَى وهو مُشْرِكٌ. لم يُلْتَفَتْ إلى قولِه، وحُدَّ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (والقَذْفُ مُحَرَّم) لِما ذَكَرْنا مِن الآيَةِ والخَبَرِ والإِجْماعِ (إلَّا في مَوْضِعَيْن؛ أحدُهما، أن يَرَى امرأتَه تَزْنِى في طُهْو لم يُصِبْها فيه، فيعْتَزِلُها، وتَأتِى بولدٍ يُمْكِنُ أن يكونَ مِن الزَّانِى، فيَجِبُ عليه قَذْفها ونَفْيُه) لأَنَّ ذلك يَجْرِى مَجْرَى اليَقِينِ في أنَّ (1) الولدَ مِن الزَّانِى، لكَوْنِها أتَتْ به لسِتَّةِ أشْهُرٍ مِن حينِ الوَطْءِ، فإذا لم يَنْفِه، لَحِقَه الولدُ، ووَرِثَه، ووَرِثَ أقارِبَه، ووَرِثُوا منه، ونَظَر إلى بَناتِه وأخَواتِه، وليس ذلك بجائز، فيجبُ نَفْيُه لإِزالَةِ ذلك. وقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ (¬1) لَيْسَ مِنْهُمْ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

والثَّانِى، أَنْ لَا تَأْتِىَ بِوَلَدٍ يَجب نَفْيُهُ، أَوِ اسْتَفَاضَ زِنَاهَا في النَّاسِ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ ثِقَةٌ، وَرَأى رَجُلًا يُغرَفُ بِالْفُجُورِ يَدْخُلُ إِلَيْهَا، فَيُبَاحُ قَذْفُهَا، وَلَا يَجِبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِى شَئٍ، ولَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ، وفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ». رَواه أبو داودَ (¬1). وقولُه: «وهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْه». يَعْنى يَرَاه منه، فكما حَرُمَ على المرأةِ أن تُدْخِلَ على قَوْمٍ مَن ليس منهم، فالرجُلُ مثلُها، وكذا لو أقَرَّت بالزِّنَى، ووَقَع في نَفْسِه صِدْقُها، فهو كما لو رَآها. (الثانى أن لا تَأْتِىَ بولدٍ يَجِبُ نَفْيُه) مثلَ أن يَرَاها تَزْنِى، ولا تَأْتِىَ بولَدٍ يَلْحَقُه نَسَبُه، أو يكونَ ثَمَّ ولدٌ لكن لا يعلمُ أنَّه مِن الزِّنَى (أو اسْتَفاضَ زِنَاها في الناسِ، أو أخْبَرَه به ثِقَةٌ، ورَاى رجلًا يُعْرَفُ بالفُجُورِ يَدْخُلُ إليها، فيُبَاحُ قَذْفُها) لأنَّه يَغْلِبُ على ظَنِّه فُجورُها (ولا يجبُ) لأنَّه يُمْكِنُه ¬

(¬1) في: باب التغليظ في الانتفاء، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 525. كما أخرجه النسائى، في: باب التغليظ في الانتفاء من الولد. المجتبى 6/ 147. وابن ماجه، في: باب من أنكر ولده، من كتاب الفرائض. سنن ابن ماجه 2/ 916. والدارمى، في: باب من جحد ولده وهو يعرفه، من كتاب النكاح. سنن الدارمى 2/ 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُفارَقَتُها. وقد روَى عَلْقمَةُ، [عن عبدِ اللَّه] (¬1) أنَّ رجُلًا أتَى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال له: أرأيتَ رجُلًا وَجَد مع امرأتِه رجُلًا فتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوه، أو قَتَل قَتَلْتُمُوه، أو سَكَتَ سَكَتَ على غَيْظٍ (¬2). فذَكَرَ أنَّه يَتَكَلَّمُ أو يَسْكُتُ، فلم يُنْكِرْ عليه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والسكوتُ ههُنا أوْلَى إن شاء اللَّه تعالى، لأنَّه أسْتَرُ، ولأَنَّ قَذْفَها يَلْزَمُ منه أن يَحْلِفَ أحَدُهما كاذِبًا، أو يُقِرَّ فيَفْتَضِحَ (¬3). فصل: ولا يجوزُ قَذْفُها بخَبَرِ مَن لا يُوثَقُ بخَبَرِه، لأنَّه غيرُ مَأمُونٍ على الكذِبِ عليها، ولا برُؤيته رجلًا خارِجًا مِن عندِها، مِن غيرِ أن يَسْتَفِيضَ زِنَاها؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ دَخَل سارِقًا، أو هارِبًا، أو لحاجَةٍ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه مسلم، في: كتاب اللعان. صحيح مسلم 2/ 1133. وأبو داود، في: باب في اللعان، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 522. وابن ماجه، في: باب اللعان، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجه 1/ 669. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 421، 422، 448. (¬3) في الأصل: «فيتقبح».

4439 - مسألة: (وإن أتت بولد يخالف لونه لونهما، لم يبح نفيه بذلك. وقال أبو الخطاب: ظاهر كلامه إباحته)

وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُخَالف لَوْنُهُ لَوْنَهُمَا، لَمْ يُبَحْ نَفْيُهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ إِبَاحَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لغَرَضٍ فاسدٍ، فلم تُمَكِّنْه، ولا لاسْتِفاضَةِ ذلك في الناسِ مِن غيرِ قَرِينةٍ تدُلُّ على صِدْقِهِم؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ أعْداؤُها أشاعُوا ذلك عنها. وفيه وَجْهٌ، أنَّه يجوزُ؛ لأَنَّ الاسْتِفاضَةَ أقْوَى مِن خَبَرِ الثِّقَةِ. 4439 - مسألة: (وإن أتَتْ بوَلَدٍ يُخَالِفُ لَوْنُه لوْنَهما، لم يُبَحْ نَفْيُه بذلك. وقال أبو الخَطَّابِ: ظاهِرُ كَلَامِه إباحَتُه) إذا أتَتْ بولدٍ يُخالِفُ لوْنُه لوْنَهما، ويُشْبِهُ رجلًا غيرَ والدَيْه، لم يُبَحْ نَفْيُه بذلك؛ لِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: جاءَ رجلٌ [مِن بَنِى فَزارةَ] (¬1) إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إنَّ امْرأتِى جاءت بوَلَدٍ أَسْوَدَ. يُعَرِّضُ بنَفْيِه، فقال له النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «فَمَا أَلْوَانُها؟» قال: حُمْرٌ. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أوْرَقَ؟». قال: إنَّ فيهِا لوُرْقًا. قال: «فَأنَّى أتَاهَا ذلِكَ؟» قال: عسى أن يكونَ نزَعَه عِرْقٌ. قال: «وهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ». قال: ولم يُرَخِّصْ له في الانْتِفاءِ منه. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأَنَّ الناسَ كُلَّهم مِن آدَمَ وحَوَّاءَ، وألْوانُهم وخِلَقُهُم مُخْتَلِفَةٌ، ولَوْلَا مُخالَفَتُهُم شَبَهَ والِدَيْهِم، لَكانُوا على صِفَةٍ واحدةٍ، ولأَنَّ دَلَالَةَ الشَّبَهِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَعِيفَةٌ، ودلالةَ وِلادَتِه على الفِرَاشِ قَويةٌ، فلا يجوزُ تَرْكُ القَوِىِّ لمُعارَضَةِ الضعيفِ، ولذلك لَمَّا تَنازَعَ سعدُ بنُ أبى وَقَّاص، وعَبْدُ بنُ زَمْعَةَ، في ابنِ (¬1) وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، ورَأَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَبَهًا بَينا بعُتْبَةَ، ألْحَقَ الولدَ بالفِرَاشِ وتَرَكَ الشَّبَهَ (¬2). وهذا اخْتِيارُ أبى عبدِ اللَّهِ ابنِ حامدٍ، وأحدُ الوَجْهَيْن لأصْحابِ الشافعىِّ. وذَكَرَ القاضى، وأبو الخَطَّابِ، أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ جوازُ نَفْيِه. وهو الوَجْهُ الثانى لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لقوْلِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديثِ اللِّعَانِ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ أوْرَقَ جَعْدًا جُمَاليًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سابغ الألْيَتَيْن، فَهُو للَّذِى (¬3) رُمِيَتْ بِهِ». فأتَتْ به على النَّعْتِ المَكْرُوهِ، فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْلَا الأيْمَانُ، لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ» (¬4). فجَعَلَ الشَّبَهَ دَلِيلًا على نَفْيِه عنه. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ. وهذا الحديثُ إنَّما يَدُلُّ على نَفْيِه عنه، مع ما تَقَدَّمَ مِن لِعانِه ونَفْيِه إيّاهُ عن نَفْسِه، فجَعَلَ الشَّبَهَ مُرَجِّحًا (¬5) لقولِه ودليلًا على تَصْدِيقِه، وما تَقَدَّمَ مِن الأحادِيثِ يَدُلُّ على عَدَمِ اسْتِقْلالِ الشَّبَهِ (¬6) بالنَّفْى، ولأَنَّ هذا كان في موضِعِ زال الفِراشُ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الشبهة». والحديث تقدم تخريجه في 16/ 338. (¬3) في الأصل: «ولدى». (¬4) تقدم تخريجه في 16/ 338. (¬5) في الأصل: «حجة». (¬6) في الأصل: «الشبهة».

فصل

فَصْلٌ: وَأَلْفَاظُ الْقَذْفِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ: يَا زَانى، يَا عَاهِرُ، زَنَى فَرْجُكَ. وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمَا يُحِيلُهُ. وَإِنْ قَالَ يَالُوطِىُّ، أَوْ: يَا مَعْفُوجُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وانْقَطَعَ نَسَبُ الولدِ عن صاحِبِه، فلا يَثْبُتُ مع بَقاءِ الفِرَاشِ المُقْتَضِى لُحُوقَ النَّسَبِ بصاحِبِه. وإن كان يَعْزِلُ عن امرأتِه، لم يُبَحْ له نَفْيُه؛ لِما روَى أبو سعيدٍ أنَّه قال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نُصِيبُ النِّساءَ، ونُحِبُّ الأثْمانَ، أفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ فقال: «إِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى خَلْقَ نَسمَةٍ خَلَقَهَا» (¬1). ولأنَّه قد يَسْبِقُ مِن الماءِ ما لا يُحِسُّ به فيَعْلَقُ. فصل: قال رَحِمَه اللَّهُ: (وألْفاظُ القَذْفِ تَنْقَسِمُ إلى صَرِيحٍ وكِنايةٍ، فالصَّرِيحُ قولُه: يا زانِى، يا عاهِرُ، زَنَى فَرْجُك. ونحوُه ممَّا لا يَحْتَمِلُ غيرَ القَذْفِ، فلا يُقْبَلُ قولُه بما يُحِيلُه) لأنَّه صَرِيحٌ فيه، فأشْبَهَ التَّصْرِيحَ بالطَّلاقِ. 4440 - مسألة: (وإن قال: يَا لُوطِىُّ. أو: يا مَعْفُوجُ (¬2). فهو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 392. (¬2) عفج الجارية: جامعها.

فَهُوَ صَرِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ صَرِيحٌ) في المَنْصُوصِ عن أحمدَ، وعليه الحَدُّ إذا قَذَفَه بعملِ قومِ بُوطٍ، إمَّا فاعِلًا أو مَفْعولًا به، فعليه حَدُّ القَذْفِ. وبه قال الحسنُ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، ومالكٌ، وأبو يوسفَ، ومحمدُ [بنُ الحسنِ] (¬1)، وأبو ثَوْرٍ. وقال عَطاءٌ، وقَتادَةُ، وأبو حنيفةَ: لا حَدَّ عليه. لأنَّه قَذَف بما لا يُوجِبُ الحَدَّ عندَه، وعندَنا هو مُوجِبٌ للحَدِّ، وقد بَيَّنَّاه فيما مَضَى. وكذلك لو قَذَف امرأةً أنَّها وُطِئَتْ في دُبُرِها، أو قَذَف رجلًا بوَطْءِ امرأةٍ في دُبُرِها، فعليه الحَدُّ عندَنا، وعندَ أبى حنيفةَ، لا حَدَّ عليه، ومَبْنَى الخِلافِ ههنا على الخِلافِ في وُجوبِ حَدِّ الزِّنَى على فاعِلِ ذلك، وقد تَقَدَّمَ الكَلامُ فيه. فإن قَذَف رجلًا بإتْيَانِ بَهِيمةٍ، انْبَنَى ذلك على وُجوبِ الحَدِّ على فاعِلِه، فمَن أوْجَبَ عليه الحَدَّ، أوْجَبَ حَدَّ القَذفِ على قاذِفِه (¬2)، ومَن لا فلا. وكلُّ ما لا يَجِبُ الحَدُّ بفِعْلِه، لا يجبُ الحَدُّ على القاذِفِ به، كما لو قَذَف إنْسانًا بالمُباشَرَةِ فيما دُونَ الفَرْجِ (¬3)، أو بالوَطْءِ بالشُّبْهَةِ، أو قَذَف امرأةً بالمُساحَقَةِ، أو بالوَطْءِ مُسْتَكْرَهَةً، لم يَجِبِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش: «فاعله». وبعده في تش: «دونه». (¬3) سقط من: الأصل.

4441 - مسألة: (فإن قال: أردت)

وَقَالَ الْخِرَقِىُّ: إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ أنَّكَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ. فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدُّ على القاذِفِ؛ لأنَّه رَمَاه بما لا يُوجِبُ الحَدَّ، فأشْبَهَ ما لو قَذَفَه باللَّمْسِ والنَّظَرِ. وِكذلك لو قال: يا كافِرُ، يا فاسِقُ، يا سارِقُ، يا مُنافِقُ، يا فاجرُ، يا خبِيثُ، يا أعْوَرُ، يا أقْطَعُ، يا أعْمَى، يا مُقْعَدُ، يا ابنَ الزَّمِنِ الأَعْمَى الأعْرَجِ. فلا حَدَّ عليه (¬1) في ذلك كلِّه؛ لأنَّه قَذَفَه بما لا يُوجِبُ الحَدَّ، فهو كما لو قال: يا كاذِبُ، يا نَمَّامُ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ، ولكنَّه يُعَزَّرُ لسَبِّ النَّاسِ وأذَاهُم، فأشْبَهَ ما لو قَذَفَ مَن لا يُوجِبُ قَذْفُه الحَدَّ. 4441 - مسألة: (فإن قال: أرَدْتُ) بقَوْلِى: يا لُوطِىُّ (أنَّكَ مِن قَوْمِ لُوطٍ) فقال الخِرَقِىُّ: (لَا حَدَّ عليه. وهو بَعِيدٌ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في ذلك، فروَى عنَه جَماعةٌ، أنَّه يَجِبُ عليه الحَدُّ ¬

(¬1) سقط من: م.

4442 - مسألة: (فإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الرجال. احتمل وجهين)

وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ غَيْرَ إِتْيَانِ الرَّجُلِ. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقولِه: يا لُوطِىُّ. ولا يُسْمَعُ تَفْسِيرُه بما يُحِيلُ القَذْفَ. وهو اخْتِيارُ أبى بَكْرٍ. ونحوَه قال الزُّهْرِىُّ، ومالِكٌ. والثانيةُ، لا حَدَّ عليه. نَقَلَها المَرُّوذِىُّ. ونحوَ هذا قال الحسنُ، والنَّخَعِىُّ. قال الحسنُ: إذا قال: نَوَيْتُ أنَّ دِينَه دِينُ لُوطٍ. فلا حَدَّ عليه. وِإن قال: أردتُ أنَّه يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. فعليه الحَدُّ. ووَجْهُ ذلك، أنَّه فَسَّرَ كَلامَه بما لا يُوجِبُ الحَدَّ، فلم يَجِبْ عليه حَدٌّ، كما لو فَسَّرَه به مُتَّصِلًا بكَلامِه. وعن أحمدَ، رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّه إذا كان في غَضَبِه، قال: إنَّه لأهْلٌ أن يُقامَ عليه الحَدُّ؛ لأَنَّ قَرِينَةَ الغَضَبِ تَدُلُّ على إرادَةِ القَذْفِ، بخلافِ حالِ الرِّضا. والصَّحِيحُ في المذهبِ الرِّوايةُ الأُولَى؛ لأَنَّ هذه الكَلِمَةَ لا يُفْهَمُ منها إلَّا القَذْفُ بعَمَلِ قومِ لُوطٍ، فكانتْ صريحةً فيه، كقولِه: يا زَانِى. ولأَنَّ قومَ لُوطٍ لم يَبْقَ منهم أحَدٌ، فلا يَحْتَمِلُ أن يُنْسَبَ إليهم. 4442 - مسألة: (فإن قال: أرَدْتُ أنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ غيرَ إتْيَانِ الرِّجَالِ. احْتَمَلَ وَجْهَيْن) نحوَ أن يقولَ: أرَدْتُ أنَّك على دِينِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لُوطٍ، أو أنَّك تُحِبُّ الصِّبْيانَ وتُقَبِّلُهم، أو تَنْظُرُ إليهم، أو أنَّكَ تَتَخَلَّقُ بأخْلاقِ قَوْمِ لُوطٍ في أنْدِيَتِهم، غيرَ إتْيانِ الفاحِشَةِ، أو أنَّكَ تَنْهَى عن الفاحِشَةِ كنَهْىِ لُوطٍ عنها. أو نحوَ ذلك، خُرِّجَ في ذلك كلِّه وَجْهان؛ بناءً على الرِّوايَتَيْن المنْصُوصَتَيْن في المسألةِ المَذْكُورةِ؛ لأَنَّ هذا في مَعْناه. فصل: وإن قال: يا مَعْفُوجُ. فالمنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّ عليه الحَدَّ. وكَلامُ الخِرَقِىِّ يَقْتضى أنَّه يُرْجَعُ إلى تَفْسِيرِه، فإن فَسَّرَه بغيرِ الفاحِشَةِ، مثلَ أن قال: أرَدْتُ يا مَفْلُوجُ، أو: مُصابًا دُونَ الفَرْجِ. ونحوَ ذلك، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه فَسَّرَه بما لا حَدَّ فيه، وإن فسَّرَه بعَمَلِ قومِ لُوطٍ، فعليه الحَدُّ، كما لو صَرَّحَ به. ووَجْهُ القَوْلَيْن ما تَقَدَّمَ في التى قبلَها.

4443 - مسألة: (وإن قال: لست بولد فلان. فقد قذف أمه)

وَإِنْ قَالَ: لَسْتَ بِوَلَدِ فُلَانٍ. فَقَدْ قَذَفَ أُمَّهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4443 - مسألة: (وإن قال: لَسْتَ بوَلَدِ فُلانٍ. فقد قَذَف أُمَّه) إذا نَفَى رجلًا عن أبِيه، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه قَذَفَ أُمَّه. نَصَّ عليه أحمدُ. إلَّا أنَّه يُسْأَلُ عمَّا أرادَ، فإن فَسَّرَه بالقَذْفِ، فهو قاذِفٌ، وإن كان مَنْفِيًّا باللِّعانِ، ثم اسْتَلْحَقَه أبُوه، فهو قَذْفٌ أيضًا. نَصَّ عليه أحمدُ. وإن لم يَكُنِ اسْتَلْحَقَه، فلا حَدَّ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفَى الولدَ المَنْفِىَّ باللِّعانِ عن أبيه، إلَّا أن يُفَسِّرَه بأنَّ أُمَّه زَنَت، فيكونُ قاذِفًا، وإن لم يكُنْ كذلك، فهو قَذْفٌ في الظَّاهِرِ للأُمِّ؛ لأنَّه لا يكونُ لغيرِ أبيه إلا بزنَى أُمِّه. ويَحْتَمِلُ أن لا يكونَ قَذْفًا؛ لأنَّه يجوزُ أن يُرِيدَ أنَّك لا تُشْبِهُه في كَرَمِه وأخْلاقِه. وكذلك إنْ نَفاه عن قَبِيلَتِه. وبهذا قال النَّخْعىُّ، وإسْحاقُ. وبه قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، وحَمَّاد، إذا نَفاه عن أَبيه (¬1) وكانت أُمُّه مُسْلِمَةً حُرَّةً، وإن كانت ذِمِّيَّةً أو رَقِيقَةً، فلا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ القَذْفَ لها. ووَجْهُ الأَوَّلِ ما روَى الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يقولُ: لَا أُوتَى ¬

(¬1) في م: «أمه».

4444 - مسألة: (وإن قال: لست بولدى. فعلى وجهين)

وَإِنْ قَالَ: لَسْتَ بِوَلَدِى. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ برَجُلٍ يَقُولُ: إنَّ كِنَانَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُرَيْشٍ. إلَّا جَلَدْتُه (¬1). وعن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: لا جَلْدَ إلَّا في اثْنَتَيْن؛ رجلٌ قَذَف مُحْصَنَةً، أو نَفَى رجلًا عن أبِيه (¬2). وهذا لا يَقُولُه إلَّا تَوْقِيفًا. فأمَّا إن نَفاه عن أُمِّه، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه لم يَقْذِفْ أحَدًا بالزِّنَى، وكذلك إن قال: إن لم تَفْعَلْ كذا، فلسْتَ بابنِ فُلانٍ. لأَنَّ القَذْفَ لا يَتَعَلَّقُ بالشَّرْطِ. قال شيخُنا (¬3): والقِياسُ يَقْتَضِى أن لا يَجِبَ الحَدُّ بنَفْىِ الرجلِ عن قَبِيلَتِه؛ لأَنَّ ذلك لا يَتَعَيَّنُ فيه الرَّمْىُ بالزِّنَى، فأشْبَهَ ما لو قال للأعْجَمِىِّ: إنَّك (¬4) عَرَبِىٌّ. 4444 - مسألة: (وإن قال: لَسْتَ بوَلَدِى. فعلى وَجْهَيْن) أحدُهما، أنَّه يكونُ قَذْفًا لها؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ ولَدَه، كان لغيرِه، فأشْبَهَ ما لو قال لأجْنَبِىٍّ: لستَ بوَلدِ فُلانٍ. فإنَّه يكونُ قَذْفًا لأُمِّه، كذا ههُنا. ¬

(¬1) الحديث تقدم تخريجه في 16/ 465، حاشية 2 وهو في المسند 5/ 211، 212، وليس كما تقدم. وهذا القدر من الحديث موقوف على الأشعث بن قيس وليس مرفوعًا. وانظر: الإرواء 8/ 35، 36. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 423. والبيهقى، في: باب من قال: لا حد إلا في القذف الصريح، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 252. وضعفه في: الإرواء 8/ 36. (¬3) في: المغنى 12/ 394. (¬4) في الأصل، تش: «يا».

4445 - مسألة: (وإن قال: أنت أزنى الناس، أو أزنى من فلانة)

وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسَ. أَوْ: أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، لا يكونُ قاذِفًا. قاله القاضى؛ لأَنَّ للرجلِ أن يُغَلِّظَ لوَلدِه في القَوْلِ والفِعْلِ. 4445 - مسألة: (وإن قال: أنتَ أَزْنَى النَّاسِ، أو أزْنَى مِن فُلانَةَ) فهو قاذِفٌ له؛ لأنَّه أضَافَ إليه الزِّنَى بصِفَةِ المُبَالَغَةِ. وهذا قولُ أبى بَكْرٍ. وأمَّا الثانى، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يكونُ قاذِفًا له (¬1). اخْتارَه القاضى؛ لأنَّه أضافَ الزِّنَى إليهما، وجَعَل أحدَهما فيه أبْلَغَ مِن الآخَرِ، فإنَّ لَفْظَةَ أفعلِ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِى اشْتِراكَ المَذْكُورَيْن في أصلِ الفِعْلِ، وتَفْضِيلَ أحَدِهما على الآخَرِ فيه، كقولِه: أجْوَدُ مِن حاتمٍ. والثانى، يكونُ قاذفًا للمُخاطَبِ خاصَّةً؛ لأَنَّ لَفْظَةَ أفْعَلَ تُسْتَعْمَلُ للمُنْفَرِدِ بالفِعْلِ، كقولِه تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (¬2). وقال تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} (¬3). وقال لُوطٌ: {بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (¬4). أى مِن أدْبارِ ¬

(¬1) في تش: «لهما». (¬2) سورة يونس 35. (¬3) سورة الأنعام 81. (¬4) سورة هود 78.

4446 - مسألة: (وإن قال لرجل: يا زانية. أو لامرأة: يا زانى. أو قال: زنت يداك ورجلاك. فهو صريح فى القذف، فى قول أبى بكر، وليس بصريح عند ابن حامد)

أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ. أَوْ لِامْرأةٍ: يَا زَانِى. أَوْ قَالَ: زَنَتْ يَدَاكَ وَرِجْلَاكَ. فَهُوَ صَرِيحٌ في الْقَذْفِ في قَوْلِ أبى بَكْرٍ. وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عِنْدَ ابْنِ حَامَدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجالِ، ولا طَهارَةَ فيهم. وقال الشافعى، وأصحابُ الرَّأْى: ليس بقَذْفٍ للأوَّلِ ولا للثانى، إلَّا أن يُرِيدَ به القَذْفَ. وهو قولُ ابنِ حامِدٍ. ولَنا، أنَّ مَوْضوعَ اللَّفْظِ يَقْتَضِى ما ذَكَرْنا، فحُمِلَ عليه، كما لو قال: أنتَ زَانٍ. 4446 - مسألة: (وإن قال لرجلٍ: يا زَانِيَةُ. أو لامرأةٍ: يا زانِى. أو قال: زَنَت يَدَاكَ ورِجْلَاكَ. فهو صَرِيحٌ في القَذْفِ، في قولِ أبى بكرٍ، وليس بصَرِيحٍ عندَ ابنِ حامِدٍ) أمّا إذا قال لرجلٍ: يا زانِيَةُ. أو لامرأةٍ: يا زانِى. فاخْتارَ أبو بكرٍ، أنَّه صَرِيح في قَذْفِهما. وهو مذهبُ الشافعىِّ. واخْتارَ ابنُ حامدٍ أنَّه ليس بقَذْفٍ، إلَّا أن يُفَسِّرَه به. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يُريدَ بقولِه: يا زانِيَةُ. أى يا عَلَّامَةُ في الزِّنَى. كما يُقالُ للعالمِ: عَلَّامَةٌ. وللكَثِيرِ الرِّوايَةِ: رَاوِيَةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولكثيرِ الحِفْظ: حُفَظَةٌ. ولَنا، أنَّ ما كان قَذْفًا لأحَدِ الجِنْسَيْن، كان قَذْفًا للآخَرِ، كقولِه: زَنَيْت. بفَتْحِ التَّاءِ وبكسرِها لهما جميعًا، ولأَنَّ هذا اللَّفْظَ خِطابٌ لهما (¬1)، وإشارَة إليهما بلفظِ الزِّنى، وذلك يُغْنِى عن التَّمْييزِ بتاءِ التأنيثِ وحَذْفِها. ولذلك (¬2) لو قال للمرأةِ: يا شخصًا زانِيًا. وللرجلِ: يا نَسَمَةً زانِيَةً. كان قاذِفًا. وقولُهم: إنَّه يريدُ بذلك أنَّه عَلَّامَةٌ في الزِّنى. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ ما كان اسْمًا للفعلِ إذا دَخَلَتْه الهاءُ كانت للمُبالَغةِ، كقولِهم: حُفَظَة. [في الحِفْظِ] (¬3)، وراويَةٌ. للمُبالَغَةِ في الرِّوايةِ. كذلك هُمَزَةٌ ولُمَزَةٌ وصُرَعَةٌ. ولأَنَّ كثيرًا مِن الناسِ يُذَكِّرُ المُؤَنَّثَ، ويُؤَنِّثُ المُذَكَّرَ، ولا يَخْرُجُ بذلك عن كوْنِ المُخاطَبِ به مُرادًا بما يُرادُ باللَّفْظِ الصَّحيحِ. وإن قال: زَنَتْ يَداكَ. أو: رِجلاكَ. لم يَكُنْ قاذِفًا في ظاهرِ المذهبِ. وهو قولُ ابنِ حامدٍ؛ لأَنَّ زِنَى هذه الأعْضاءِ ¬

(¬1) في الأصل: «لها». (¬2) في م: «كذلك». (¬3) سقط من: م.

4447 - مسألة: (وإن قال: زنأت فى الجبل. مهموزا، فهو صريح عند أبى بكر. وقال ابن حامد: إن كان يعرف العربية، فليس

وَإِنْ قَالَ زَنَأْتَ في الْجَبَلِ. مَهْمُوزًا، فَهُوَ صَرِيحٌ عِنْدَ أبى بَكْرٍ. وَقَالَ ابَنُ حَامِدٍ: إِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا. وَإِنْ لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُوجب الحَدَّ، بدَليلِ قولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ وَزِنَاهُمَا البَطْشُ، والرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وزِنَاهُمَا المَشْىُ، ويُصَدِّقُ ذلِك (¬1) الفَرْجُ أو يُكَذِّبُه» (¬2). وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يكونُ قذفًا؛ لأنَّه أضافَ الزِّنَى إلى عُضْوٍ منه، فأشْبَهَ ما لو أضافَه إلى الفَرْجِ. والأَوْلَى أن يُرْجَعَ إلى تَفسِيرِه. 4447 - مسألة: (وإن قال: زَنَأْتَ فِى الجَبَلِ. مَهْمُوزًا، فهو صَرِيحٌ عندَ أبِى بكرٍ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان يَعْرِفُ العَرَبِيَّةَ، فليس ¬

(¬1) بعده في تش: «كله»، وهى رواية للبخارى. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب زنى الجوارح دون الفرج، من كتاب الاستئذان، وفى: باب: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. . .، من كتاب القدر. صحيح البخارى 8/ 67، 156. ومسلم، في: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى. . .، من كتاب القدر. صحيح مسلم 4/ 2046، 2047. وأبو داود، في: باب فيما يؤمر به من غض البصر، من كتاب النكاح. سنن أبى داود 1/ 496. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 276، 317، 343، 344، 411، 431.

يَقُلْ: في الْجَبَلِ. فَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أوْ كَالَّتِى قَبْلَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِصَرِيحٍ) إذا قال: زَنَأْتَ في الجبلِ. بالهَمْزِ، فهو صَرِيحٌ عندَ أبى بكرٍ، وأبى الخَطَّابِ؛ لأَنَّ عامَّةَ النَّاسِ لا يَفْهَمُون مِن ذلك إلَّا القَذْفَ، فكان قَذْفًا، كما لو قال: زَنَيْتَ. وقال ابنُ حامِدٍ: إن كان عامِّيًّا، فهو قَذْفٌ؛ لأنَّه لا يُريدُ به إلَّا القَذْفَ، وإن كان مِن أهلِ العربيَّةِ، لم يَكُنْ قَذْفًا؛ لأَنَّ مَعْناه في العربيَّةِ، طَلَعْتَ، كقولِ الشاعرِ (¬1): * وَارْقَ إلى الخيْرَاتِ زَنْأً في الجبل * فالظاهِرُ أنَّه يُرِيدُ مَوْضُوعَه. ولأصحابِ الشافعىِّ في كَوْنِه قَذْفًا وَجْهان. وإن قال: زَنَأْتَ. ولم يَقُلْ: في الجبلِ. فالحكمُ فيه كالتى قبلَها. وقال الشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: ليسن بقَذْفٍ. قال الشافعىُّ: ويُسْتَحْلَفُ على ذلك. ولَنا، أنَّه إذا كان عامِّيًّا لا يَعْرِفُ مَوْضُوعَه في اللغةِ، تَعَيَّنَ مُرادُه في القَذْفِ، ولم يُفْهَمْ منه سِوَاه، فوَجَبَ أن يكونَ قَذْفًا، كما لو فسَّرَه بالقَذْفِ، أو لحَن لَحْنًا غيرَ هذا. ¬

(¬1) هو قيس بن عاصم المنقرى، وصدره: * يصبح في مضجعه قد انجدل * انظر لسان العرب مادة (ز ن أ).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال لرجل: زَنَيْتَ بفلانةَ. كان قاذِفًا (¬1) لهما. وقد نُقِلَ عن أبى عبدِ اللَّهِ، أنَّه سُئِلَ عن رجل قال لرجل: يا ناكِحَ أُمِّه. ما عليه؟ قال: إن كانتْ أُمُّه حَيَّةً، فعليه للرجلِ حَدٌّ، ولأُمِّه حَدٌّ. وقال مُهَنَّا: سألتُ أبا عبدِ اللَّه إذا قال الرجلُ للرجلِ: يا زَانِىَ ابنَ الزَّانِى؟ قال: عليه حَدَّان. قلتُ: أبلَغَكَ في هذا شئٌ؟ قال: مَكْحُولٌ قال: فيه حَدَّان. وإن أقَرَّ إنْسانٌ أنَّه زَنَى بامرأةٍ، فهو قاذِفٌ لها، سَواءٌ لَزِمَه حَدُّ الزِّنَى بإقْرارِه أو لم يَلْزَمْه. وبهذا قال ابنُ المُنْذِرِ، وأبو ثَوْرٍ. ويُشْبهُ مذْهبَ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُه حَدُّ القَذْفِ؛ لأنَّه (¬2) يُتَصَوَّرُ منه الزِّنَى بغيرِ زِنَاها، لاحْتِمالِ أن تكونَ مُكْرَهَةً، أو مَوْطوءَةً بشُبْهَةٍ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، أنَّ رجلًا مِن بكرِ بنِ لَيْثٍ، أتَى النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقَرَّ أنَّه زَنى بامرأةٍ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فجلَدَه النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- مائةً، وكان بِكْرًا، ¬

(¬1) في م: «قذفا». (¬2) في الأصل زيادة: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم سألَه البَيِّنَةَ على المرأةِ، فقالت (¬1): كَذَبَ واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ. فجَلَدَه حَدَّ الفِرْيَةِ ثمانينَ (¬2). والاحْتِمالُ الذى ذَكَرَه لا يُنافِى الحَدَّ، بدليلِ ما لو قال: يا نايِكَ أُمِّه. فإنَّه يَلْزَمُه الحَدُّ، مع احْتِمالِ أن يكونَ فَعَل ذلك بشُبْهَةٍ. وقد رُوِى عن أبى هُرَيْرَةَ أنَّه جَلَد رجلًا قال لرجلٍ ذلك (¬3). ويَتَخرَّجُ لنا مثلُ (¬4) قولِ أبى حنيفةَ، بِناءً على ما إذا قال لامرأتِه: يا زانيةُ. فقالتْ: بك زَنيتُ. فإنَّ أصحابَنا قالوا: لا حَدَّ عليها في قولِها: بكَ زَنَيْتُ؛ لاحْتمالِ وُجودِ الزِّنَى منه (¬5) مع كَوْنِه واطِئًا بشُبْهَةٍ. ولا يجبُ الحَدُّ عليه؛ لتَصْدِيقِها إيَّاه. وقال الشافعىُّ: عليه الحَدُّ دُونَها، وليس هذا بإقْرارٍ صَحِيحٍ. ولَنا، أنَّها صَدَّقَتْه، فلم يَلْزَمْه حَدٌّ، كما لو [قالَتْ: صَدَقْتَ. ولو قال: يا زانيةُ. قالَتْ] (¬6): أنت أزْنَى مِنِّى. فقال أبو بكرٍ: هى كالتى قبلَها في سُقوطِ الحَدِّ، ويَلْزَمُها له ههُنا حَدُّ القَذْفِ، بخِلافِ التى قبلَها، فإنَّها أضافَتِ الزِّنَى إليه، وفى التى قبلَها أضافَتْه إلى نَفْسِها. ¬

(¬1) في م: «فقال». (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في حد قذف المحصنات، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 250. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يقول: يا فاعل بأمه، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 526. والبيهقى، في: باب ما جاء في قذف المحصنات، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 251. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «به». (¬6) في م: «قال يا زانية».

4448 - مسألة: (والكنايات نحو قوله لامرأته: قد فضحته، وغطيت، أو: نكست رأسه، وجعلت له قرونا، وعلقت عليه أولادا من غيره، وأفسدت فراشه. أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال، ما يعرفك الناس بالزنى يا عفيف، أو: يا فاجرة، يا قحبة، يا خبيثة. أو يقول لعربى: يا نبطى، يا فارسى، يا رومى. أو يسمع رجلا يقذف رجلا، فيقول: صدقت، أو: أخبرنى فلان أنك زنيت. وكذبه الآخر. فهذا كناية، إن فسره بما يحتمله غير القذف، قبل قوله فى أحد الوجهين. وفى الآخر، هذا كله صريح)

وَالْكِنَايَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ لِامْرأَتِهِ: قَدْ فَضَحْتِهِ، وَغَطَّيْتِ، أَوْ: نَكَسْتِ رَأْسَهُ، وَجَعَلْتِ لَهُ قُرُونًا، وَعَلَّقْتِ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَفْسَدْتِ فِرَاشَهُ. أَوْ يَقُولُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: يَا حَلَالُ ابنَ الْحَلَالِ، مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ بِالزِّنَى وَالفُجورِ يَا عَفيفُ، أَوْ: يَا فَاجِرَةُ، يَا قَحْبَةُ، يَا خَبِيثَةُ. أَوْ يَقَولُ لِعَرَبِىٍّ: يَا نَبَطِىُّ، يَا فَارِسِىُّ، يَا رُومِىُّ. أو يَسْمَعُ رَجُلًا يَقْذِفُ رَجُلًا فَيَقُولُ: صَدَقْتَ. أَوْ: أَخْبَرَنِى فُلَان أنَّكَ زَنَيْتَ. وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، فَهَذَا كِنَايَةٌ، إِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُ الْقَذْفِ، قُبِلَ قَوْلُهُ في أحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وفى الْآخَرِ، جَمِيعُهُ صَرِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4448 - مسألة: (والكنَايَاتُ نحوُ قولِه لامْرأتِه: قد فَضَحْتِه، وغَطَّيْتِ، أو: نَكَسْتِ رَأسَه، وجَعَلْتِ له قُرُونًا، وعَلَّقْتِ عَليه أوْلادًا مِن غيرِه، وأفْسَدْتِ فرَاشَه. أو يَقُولُ لمَن يُخَاصِمُه: يا حَلَالُ ابنَ الحَلَالِ، ما يَعْرِفُكَ النَّاسُ بالزِّنى يا عفيفُ، أو: يَا فاجِرَةُ، يا قَحْبَةُ، يا خَبِيثَةُ. أو يَقُولُ لعَرَبِىٍّ: يَا نَبَطِىُّ، يَا فَارِسِىُّ، يَا رُومِىُّ. أو يَسْمَعُ رجلًا يَقْذِفُ رجلًا، فيَقُولُ: صَدَقْتَ، أو: أخْبَرَنِى فُلَانٌ أنَّكَ زَنَيْتَ. وكَذَّبَه الآخَرُ. فهذا كِنايَةٌ، إنْ فَسَّرَه بما يَحْتَمِلُه غيرُ القَذْفِ، قُبِلَ قَوْلُه في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفى الآخَرِ، هذا كُلُّهُ صَرِيحٌ) ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ على القاذِفِ إلَّا باللَّفْظِ الصَّريحِ الذى لا يَحْتَمِلُ غيرَ القَذْفِ، وهو أن يقولَ: يا زَانى. أو يَنْطِقَ باللَّفْظِ الحَقِيقِىِّ في الجِماعِ، فأمَّا ما عَداه مِن الألْفاظِ، فيُرْجَعُ فيه إلى تَفْسِيرِه، كما ذَكَرَه في قولِه: يا لُوطِىُّ، يا مَعْقُوجُ. فلو قال لرجل: يا مُخَنَّثُ. أو لامرأةٍ: يا قَحْبَةُ. وفَسَّرَه بما ليس بقَذْفٍ، نحوَ أن يُرِيدَ بالمُخَنَّثِ أنَّ فيه طِباعَ التَّأْنيثِ والتَّشَبُّهَ بالنِّساءِ، وبالقَحْبَةِ أنَّها تَسْتَعِدُّ لذلك، فلا حَدَّ عليه، وكذلك إذا قال: يا فاجرَةُ، يا خَبِيثَةُ. وحَكَى أبو الخَطَّابِ في هذا [رِوايةً أُخْرَى] (¬1)، أنَّه كَلَّه صريحٌ، يجِبُ به الحَدُّ. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ. قال أحمدُ في رِوايةِ حَنْبَلٍ: لا أرَى الحَدَّ إلَّا على مَن صَرَّحَ بالقَذْفِ والشَّتِيمَةِ (¬2). وقال ابنُ المُنْذِرِ (¬3): الحَدُّ على مَن نَصَب الحَدَّ (¬4) نَصْبًا. ولأنَّه قولٌ يَحْتَمِلُ غيرَ الزِّنَى، فلم يَكُنْ صَرِيحًا في القَذْفِ، كقولِه: يا فاسِقُ. وكذلك [إن فَسَّر ذلك بما ليس بقَذْفٍ، مثلَ أن يقولَ] (¬5) أرَدْتُ بالنَبّطَىِّ نَبَطِىَّ اللِّسانِ، أو فارِسِىَّ الطبعِ، أو رُومِىَّ الخِلْقَةِ، فإنَّه لا حَدَّ عليه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «التسمية». (¬3) انظر الإشراف 3/ 54، من قول سعيد بن المسيب، وليس ابن المنذر. والأثر أخرجه عن سعيد، عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 422. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 536. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «إذا قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه في مَن قال: يا فارِسِىُّ. أنَّه يُحَدُّ، لأنَّه جَعَلَه لغيرِ أبِيه. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما ذَكَرْناه، فلا يكونُ قَذْفًا. وكذلك إن قال: أفْسَدْتِ عليه فِراشَه. أى خرَقْتِ فِراشَه، أو أتْلَفْتِه. وفى قولِه: عَلَّقْتِ عليه أوْلادًا مِن غيرِه. أى الْتَقَطْتِ ولدًا، وذَكَرْتِ أنَّه وَلَدُه، فإن فَسَّرَ شيئًا مِن ذلك بالزِّنَى، فلا شَكَّ في كَوْنِه قَذْفًا. ومِن صُوَرِ التَّعْرِيضِ أن يقولَ لزَوْجَةِ الآخرِ: قد فَضَحْتِه، وغَطَّيْتِ، أو: نَكَسْتِ رَأسَه، وجَعَلْتِ له قُرُونًا، وعَلَّقْتِ عليه أوْلادًا مِن غيرِه، وأفْسَدْتِ فِراشَه. فذَكَرَ أبو الخَطَّابِ في جميعِ ذلك رِوايَتَيْن. وذَكَر أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ، أنَّ أبا عبدِ اللَّهِ رَجَع عن القَوْلِ بوُجوب الحَدِّ في التَّعْريضِ. فصل: واخْتَلَفتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمه اللَّهُ، في التَّعْريضِ بالقَذْفِ، مثلَ أن يقولَ لمَن يُخاصِمُه: ما أنتَ بزَانٍ، ما يَعْرِفُكَ النَّاسُ بالزِّنَى، يا حَلالُ ابنَ الحلالِ. أو يقولَ: ما أنا بزَانٍ، ولا أُمِّى بزَانِيَةٍ. فرَوَى عنه حَنْبَلٌ، أنَّه لا حَدَّ عليه. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ، واخْتيارُ أبى بكرٍ. وبه قال عَطاءٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، وقَتادَةُ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ، لِما رُوِى أنَّ [رجلًا مِن بنى فَزارَةَ أتَى] (¬1) النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال (¬2): إنَّ امرأتِى وَلَدَتْ غُلامًا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «له رجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْودَ. يُعَرِّضُ بنَفْيِه (¬1). فلم يَلْزَمْه بذلك حَدٌ ولا غيرُه. وقد فَرَّقَ اللَّهُ تعالى بينَ التَّعْريضِ بالخِطْبَةِ والتَّصْريحِ بها، فأباحَ التَّعْريضَ، وحَرَّمَ التَّصريحَ، وكذلك في القَذفِ، ولأَنَّ كلَّ كلامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَييْن لم يَكُنْ قَذْفًا، كقولِه: يا فاسِقُ. وروَى الأَثْرَمُ وغيرُه، أنَّ عليه الحَدَّ. رُوِى ذلك عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال إسْحاقُ، لأَنَّ عمرَ حينَ شاوَرَهم في الذى قال لصاحِبِه: ما أبى بزَانٍ، ولا أُمِّى بزَانِيَةٍ. فقالوا: قد مَدَح أباه وأمَّه. فقال عمرُ: قد عَرَّضَ بصاحِبِه؛ فجَلَدَه الحَدَّ (¬2). وروَى الأَثْرَمُ (¬3)، أنَّ عثمانَ جَلَد رجلًا قال لآخَرَ: يا ابنَ شامَّةِ (¬4) الوَذْرِ. يُعَرِّضُ له بزِنَى أمِّه. والوَذْرُ: قِدْرُ اللَّحْمِ. يُعَرِّضُ بكَمَرِ (¬5) الرِّجالِ. ولأن الكِنايَةَ مع القَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إلى أحَدِ مُحْتَمِلاِئها، كالصَّريحِ (¬6) الذى لا يَحْتَمِلُ إلَّا ذلك المَعْنَى، ولذلك وَقَع الطَّلاقُ بها، فأمّا إن لم يَكُنْ في حالِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 336. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب الحد في القذف والنفى والتعريض، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 829، 830. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 425. وابن أبى شيبة، في: المصنف 9/ 538. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 209. والبيهقى، في: باب الحد في التعريض، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 252. (¬3) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: باب من كان يرى في التعريض عقوبة، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 538. (¬4) في م: «سافة». (¬5) في الأصل: «بكم». والكمر: جمع كمرة، وهى رأس الذكر. (¬6) في م: «كالتصريح».

4449 - مسألة: (أو يسمع رجلا يقذف رجلا، فيقول: صدقت. أو: أخبرنى فلان أنك زنيت. وكذبه الآخر، فهو كناية،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخُصُومَةِ، ولا وُجِدَتْ قَرِينةٌ تَصْرِفُ إلى القَذْفِ، فلا شَكَّ في أنَّه لا يكونُ قَذْفًا. فصل: [وإن] (¬1) قال لرجل: يا دَيُّوثُ، يا كَشْخَانُ (¬2). فقال أحمدُ: يُعَزَّرُ. قال إبراهيمُ الحَرْبِىُّ: الدَّيُّوثُ الذى يُدْخِلُ الرِّجالَ على امرأتِه. وقال ثعلبٌ: القَرْطَبَانُ الذى يَرْضَى أن يَدْخُلُ الرِّجالُ على نِسائِه. وقال: القَرْنَانُ والكَشْخَانُ، لم أرَهُما في كلامِ العربِ، ومَعْناه عندَ العامَّةِ مثلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ أو قريبًا منه. فعلى القاذِفِ به التَّعْزِيرُ، على قِياسِ قولِه في الدَّيُّوثِ، لأنَّه قَذَفَه بما لا حَدَّ فيه. وقال خالدُ بنُ يزيدَ، عن أبِيه، في الرجلَ يقولُ للرجلِ: يا قَرْنَانُ: إذا كان له أخَواتٌ أو بناتٌ في الإِسلامِ، ضُرِبَ الحَدَّ. يَعْنِى أنَّه قاذِفٌ لَهنَّ. وقال خالدٌ، عن أبِيه: القَرْنَانُ عندَ العامَّةِ مَن له بناتٌ، والكَشْخَانُ مَن له أخَوات. يَعنى -واللَّه، أعلمُ- إذا كان يُدْخِلُ الرِّجالَ عليهنَّ. والقَوَّادُ عندَ العامَّةِ السِّمْسارُ في الزِّنَى. والقَذْفُ بذلك كلِّه يُوجِبُ التَّعْزِيرَ؛ لأنَّه قَذْفٌ بما لا يُوجِبُ الحَدَّ. 4449 - مسألة: (أو يَسْمَعُ رجلًا يَقْذِفُ رجلًا، فيَقولُ: صَدَقْتَ. أو: أخْبَرَنِى فُلَانٌ أنَّكَ زَنيْتَ. وكَذَّبَه الآخَرُ، فهو كِنَايَة، ¬

(¬1) في م: «فأما إن». (¬2) في م، ق، تش: «كشحان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا فَسَّرَه بما يَحْتَمِلُهُ غيرُ القَذْفِ، قُبِلَ قَوْلُه في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفِى الآخَرِ، هو صَريحٌ) إذا سَمِع رجلًا يقْذِفُ رجلًا، فقال: صدَقْتَ. فالمُصدِّقُ قاذِفٌ في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأَنَّ تَصْدِيقَه ينْصَرِفُ إلى ما قالَه، بدليلِ ما لو قال: لى عليك ألفٌ. فقال: صَدَقْتَ. كان إقْرارًا بها. ولو قال: أعْطِنِى ثَوْبِى هذا. قال صَدَقْتَ. كان إقْرارًا. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا يكونُ قاذِفًا. وهو قولُ زُفَرَ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ أرادَ تَصْدِيقَه في غيرِ القَذْفِ. ولو قال: أخْبَرَنِى فلان أنَّكَ زَنَيْت. لم يَكُنْ قاذِفًا، سَواءٌ صَدَّقَه المُخْبَرُ عنه أو كَذَّبَه. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يكونُ قاذِفًا إذا كَذَّبَه الآخرُ. ذكَرَه أبو الخَطَّاب. وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ. ونحوُه عن الزُّهْرِىِّ؛ لأنَّه أخْبَرَ بزِنَاه. ولَنا، أَنَّه إنَّما أخْبَرَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قُذِف (¬1)، فلم يَكُنْ قَذْفًا، كما لو شَهِدَ على رجلٍ أنَّه قَذَف رجلًا. ¬

(¬1) في م: «مقذوف».

4450 - مسألة: (وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور الزنى من جميعهم، عزر، ولم يحد)

وإنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ أَوْ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ الزِّنَى مِنْ جَمِيعِهِمْ، عُزِّرَ، وَلَمْ يُحَدَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4450 - مسألة: (وإن قَذف أَهْلَ بَلَدٍ أو جَمَاعَةً لا يُتَصَوَّرُ الزِّنَى مِن جَمِيعِهم، عُزِّرَ، ولم يُحَدَّ) لأنَّه لا عارَ على المَقْذُوفِ بذلك، للقَطْعِ بكَذِبِ القاذِفِ، ويُعَزَّرُ على ما أتَى به مِن المَعْصِيَةِ والزُّورِ، فهو كما لو سَبَّهُم بغيرِ القَذْفِ.

4451 - مسألة: (وإن قال لرجل: اقذفنى. فقذفه. فهل يحد)

وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْذِفْنِى. فَقَذَفَهُ، فَهَلْ يُحَدَّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ قَالَ لِامْرأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ. قَالَتْ: بِكَ زَنَيْتُ. لَمْ تَكُنْ قَاذِفَةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِتَصْدِيقِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4451 - مسألة: (وإن قال لرجلٍ: اقْذِفْنِى. فقذَفَه. فهل يُحَدُّ) أو يُعَزَّرُ؟ (على وَجْهَيْن) وهذا مَبْنِىٌّ على الاخْتِلافِ في حَدِّ القَذْفِ، إن قُلْنا: هو حَقٌّ للَّه تعالى. وَجَب عليه، ولم يَسقُطْ بالإِذْنِ فيه، كالزِّنَى، وإن قُلْنا: هو حَقٌّ لآدَمِىٍّ. لم يجبْ عليه الحَدُّ، كما لو أذِنَ في إتْلافِ مالِه، ويُعَزَّرُ؛ لأنَّه فَعَل مُحَرَّمًا لا حَدَّ فيه. 4452 - مسألة: (وإن قال لامرأتِه: يَا زانِيَةُ. قالَتْ: بكَ زَنَيْتُ. لم تَكُنْ قاذِفَةً) (¬1) لأنَّها صَدَّقَتْه فيما قال، فلم يَجِبْ عليه ¬

(¬1) في حاشية تش: «قال صاحب المحرر: وقد نص أحمد في من قال لامرأته: زنى بك فلان. أنه يكون قاذفا لها، فيخرج فيها وفى هذه المسألة روايتان؛ لأن احتمال الشبهة فيهما واحد. واللَّه أعلم».

4453 - مسألة: (وإذا قذفت المرأة، لم يكن لولدها المطالبة، إذا كانت الأم فى الحياة، وإن قذفت وهى ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، حد القاذف إذا طالب الابن، وكان حرا مسلما. ذكره الخرقى. وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة)

وَإِذَا قُذِفَتِ الْمَرأةُ، لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ، إِذَا كَانَتِ الأُمُّ في الحياةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهىَ مَيِّتَةٌ؛ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الْابْنُ، وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا. ذَكَرَهُ الْخِرَقِىُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَدٌّ (¬1)، كما لو قالتْ: صَدَقْتَ. ولا يَجِبُ عليها [حَدُّ القَذْفِ؛ لأنَّه يُمْكِنُ الزِّنَى منها به مِن غيرِ أن يكونَ زَانِيًا، بأن يكونَ قد وَطِئَها بشُبْهَةٍ، ولا يَجِبُ عليها حَدُّ الزِّنَى] (¬2)؛ لأنَّها لم تُقِرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ. 4453 - مسألة: (وإذا قُذِفَتِ المرأةُ، لم يَكُنْ لوَلَدِها المُطالَبَةُ، إذا كانتِ الأمُّ في الحَياةِ، وإن قُذِفَتْ وهى مَيتةٌ، مُسْلِمَةً كانَتْ أو كافِرَةً، حُرَّةً أو أمَةً، حُدَّ القاذِفُ إذا طالَبَ الابنُ، وكان حُرًّا مُسْلِمًا. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وقال أبو بكرٍ: لا يَجِبُ الحَدُّ بقَذْفِ مَيِّتةٍ) أمَّا إذا قُذِفَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهى في الحياةِ، فليس لوَلَدِها المُطالبةُ؛ لأَنَّ الحَقَّ لها، فلا يُطالِبُ به غيرُها، ولا يقومُ غيرُها مَقامَها، سَواءٌ كان مَحْجُورًا عليها أو غيرَ مَحْجُورٍ عليها؛ لأنَّه حَقٌّ ثَبَتَ للتَّشَفِّى, فلا يقومُ فيه غيرُ المُسْتَحِقِّ مَقامَه، كالقِصاصِ، وتُعْتَبَرُ حَصانتها (1)؛ لأَنَّ الحَقَّ لها، فتُعْتَبَرُ حَصانَتُها (¬1)، كما لو لم يَكُنْ لها ولدٌ. وأمَّا إن قُذِفَتْ وهى مَيتة، فإن لوَلَدِها المُطالَبَةَ؛ لأنَّه قَدْحٌ في نَسَبِه، لأنَّه بقَذْفِ أمِّه يَنْسِبُه إلى أنَّه مِن زِنًى، ولا يَسْتَحِقُّ ذلك بطريقِ الإِرْثِ، فلذلك تُعْتَبَرُ الحَصانةُ فيه (¬2)، ولا تُعْتَبَرُ الحَصانَةُ في أُمِّه؛ لأَنَّ القَذْفَ له. وقال أبو بكرٍ: لا يَجِبُ الحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتةٍ بحالٍ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّه قَذْفٌ لمَن لا تَصِحُّ منه المُطالَبَةُ، فأشْبَهَ قَذْفَ المجْنونِ. وقال الشافعىُّ: إن كان المَيِّتُ مُحْصَنًا، فلوَلِيِّه المطالَبَةُ، ويَنْقَسِمُ انقِسامَ المِيراثِ، وإن لم يَكُنْ مُحْصَنًا، فلا حَدَّ على قاذِفِه؛ لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «حضانتها». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس بمُحْصَنٍ، فلا يَجِبُ الحَدُّ بقَذْفِه، كما لو كان حَيًّا. وأكثرُ أهلِ العلمِ لا يَرَوْنَ الحَدَّ [على مَن لم يَقْذِفْ مُحْصَنًا] (¬1) حَيًّا ولا مَيِّتًا؛ لأنَّه إذا لم يُحَدَّ بقَذْفِ غيرِ (¬2) المُحْصَن إذا كان حَيًّا، فلأنْ لا يُحَدَّ بقَذْفِه (¬3) بعدَ مَوْتِه أوْلَى. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ابنِ المُلاعِنَةِ: «مَنْ رَمَى وَلَدَهَا، فَعَليْهِ الحَدُّ» (¬4). يعنى مَن رَماه بأنَّه ولدُ زِنًى، وإذا وَجَب بقَذْفِ ابنِ المُلاعِنَةِ بذلك، فبقَذْفِ غيرِه أوْلَى، ولأَنَّ أصحابَ الرَّأْى أوْجَبُوا الحَدَّ على مَن نَفَى رجلًا عن أبِيه، إذا كان أبَوَاهُ حُرَّيْن مُسْلِمَيْن وإن كانا مَيِّتيْنِ، والحَدُّ إنَّما وَجَب للوَلدِ؛ لأَنَّ الحَدَّ لا يُورَث عندَهم. فأمَّا إن قُذِفتْ أمه بعدَ مَوْتِها وهو مُشْرِكٌ أو عبدٌ، فلا حَدَّ عليه في ظاهرِ كَلامِ الخِرَقِىِّ، سَواءٌ كانتِ الأمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أو لم تَكُنْ. وقال [أبو ثَوْرٍ، و] (¬5) وأصحابُ الرَّأْى: إذا قال لكافِرٍ أو عبدٍ: لستَ لأبِيكَ. وأبواه حُرَّان مُسْلِمَان، فعليه الحَدُّ. وإن قال لعبدٍ أمُّه حُرَّة وأبوه عبدٌ: لستَ لأبِيكَ. فعليه الحَدُّ. وإن كان العبدُ للقاذِفِ عندَ أبى ثَوْرٍ. وقال أصحابُ الرَّأْى: يُسْتَقْبَحُ أن ¬

(¬1) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: «على من يقذف من ليس محصنا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في الأصل: «وهو». (¬4) تقدم تخريجه في 23/ 370. (¬5) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُحَدَّ المَوْلَى لعَبْدِه. واحْتَجُّوا بأنَّ هذا قَذْفٌ لأُمِّه، فيُعْتَبَرُ إحْصَانُها دُونَ إحْصانِه؛ لأنَّها لو كانتْ حَيَّةً، كان القَذْفُ لها، فكذلك إذا كانتْ مَيِّتَةً، ولأَنَّ مَعْنَى هذا أنَّ أُمَّكَ زَنَتْ، فأتَتْ بِكَ مِن الزِّنَى، وإذا كان الزِّنَى مَنْسُوبًا إليها، كانتْ هى المَقْذُوفَةَ دون ولَدِها. ولَنا، ما ذَكَرْناه، ولأنَّه لو كان القَذْفُ لها، لم يَجب الحَدُّ؛ لأَنَّ الكافِر لا يَرِثُ المسلمَ، والعبدَ لا يَرِثُ الحُرَّ، ولأنَّهم لا يُوجِبُونَ (¬1) الحَدَّ بقَذْفِ مَيِّتةٍ بحالٍ، فثَبَتَ أنَّ القَذْفَ يَجِبُ (¬2) له، فيُعْتَبَرُ إحْصانُه دونَ إحْصَانِها. فصل: فإن [قُذِفَتْ جَدَّتُه] (¬3)، فقِياسُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّه كقَذْفِ أُمِّه، إن كانتْ حَيَّةً، فالحَقُّ لها، ويُعْتَبَرُ إحْصانُها، وليس لغيرِها المُطالَبَةُ عنها. وإن كانتْ مَيِّتةً، فلَه المُطالَبَةُ إذا كان مُحْصَنًا؛ لأنَّ ذلك قَدْحٌ في نَسَبِه. فأمَّا إن قَذَفَ أباه، أو جَدَّه، أو أحدًا مِن أقاربِه غيرَ ¬

(¬1) في الأصل: «يوجدون». (¬2) زيادة من: تش. (¬3) في الأصل: «قذف»، وفى تش: «قذف جدته لأمه».

4454 - مسألة: (وإن مات المقذوف سقط الحد)

وَإِنْ مَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّهاتِه بعدَ مَوْتِه، لم يَجِبِ الحَدُّ (¬1) بقَذْفِه، في (¬2) ظاهِرِ كلام الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه إنَّما أوْجَبَ الحَدَّ بقَذْفِ أُمِّه حَقًّا له، لنَفْى نَسَبِه، لا حَقًّا للمَيِّتِ، ولهذا لم يُعْتَبَرْ إحْصانُ المَقْذُوفَةِ، واعْتُبِرَ إحْصانُ الوَلَدِ، وإذا كان المَقْذُوفُ مِن غيرِ أُمَّهاتِه، لم يَتَضَمَّنْ نَفْىَ نَسَبِه، فلم يَجِبِ الحَدُّ. وهذا قولُ أبى بكرٍ، وأصحابِ الرَّأْى. وقال الشافعىُّ: إن كان المَيِّتُ مُحْصَنًا، فلوَلِيِّه المُطالَبَةُ به، ويَنْقَسِمُ انْقِسامَ الميراثِ؛ لأنَّه قَذَف مُحْصَنًا، فيَجِبُ الحَدُّ على قاذِفِه، كالحَىِّ. ولَنا، أنَّه قَذَفَ مَن لا يُتَصَوَّرُ منه المُطالَبَةُ، فلم يَجِبِ الحَدُّ بقَذْفِه، كالمجنونِ. أو نقولُ: قَذَف مَن لا يَجِبُ الحَدُّ له، فلم يَجِبْ، كقَذْفِ غيرِ المُحْصَنِ. وفارَقَ قَذْفَ الحَىِّ، فإنَّ الحَدَّ يجبُ له. 4454 - مسألة: (وإن مات المَقذُوفُ سَقَط الحَدُّ) عن القاذِفِ، إذا كان قبلَ المُطالَبَةِ بالحَدِّ، لم (¬3) يَجِبْ، وإن ماتَ بعدَ المُطالَبَةِ، قامَ وارِثُه (¬4) مَقامَه؛ لأنَّه حَقٌّ له، يَجِبُ بالمُطالَبَةِ، أشْبَهَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «قول». (¬3) في م: «ولم». (¬4) في الأصل: «ولديه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقَّ (¬1) رُجُوعِ الأبِ فيما وَهَب ولَدَه، وكالشُّفْعَةِ، تَسْقُطُ بمَوْتِ الشَّفيعِ قبلَ المُطالَبَةِ دُونَ ما بعدَها. ¬

(¬1) سقط من: م.

4455 - مسألة: (ومن قذف أم النبى -صلى الله عليه وسلم- قتل، مسلما كان أو كافرا)

وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُتِلَ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4455 - مسألة: (ومَن قَذَف أُمَّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُتِلَ، مُسْلِمًا كان أو كافِرًا) يَعْنِى أنَّ حَدَّه القَتْلُ، ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُه. نَصَّ عليه أحمدُ. وحَكَى أبو الخَطَّاب رِوايةً أُخْرَى، أنَّ تَوْبَتَه تُقْبَلُ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، مُسْلِمًا كان أَو كافِرًا؛ لأَنَّ هذا منه رِدَّةٌ، والمُرْتَدُّ يُسْتَتابُ، وتَصِحُّ تَوْبَتُه. ولَنا، أنَّ هذا حَدُّ قَذْفٍ، فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبَةِ، كقَذْفِ غيرِ أُمِّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولأنَّه لو قُبِلَتْ تَوْبَتُه، وسَقَط حَدُّه، لَكانَ أخَفَّ حُكْمًا مِن قَذْفِ آحادِ النَّاسِ؛ لأَنَّ قَذْفَ غيرِه لا يَسْقُطُ بالتَّوْبَةِ، ولا بُدَّ مِن إقامَتِه. واخْتَلَفتِ الرِّوايَةُ فيما إذا كان القاذِفُ كافِرًا فأسْلَمَ، فرُوِىَ أنَّه لا يَسْقُطُ بإسلامِه؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه حَدُّ قَذْفٍ، فلم يَسْقُطْ بالإِسْلامِ، كقَذْفِ غيرِها. ورُوِىَ أنَّه يَسْقُطُ؛ لأنَّه لو سَبَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى في كُفْرِه، ثم أسْلَمَ، سَقَطَ عنه القَتْلُ، فسَبُّ نَبيِّه أوْلَى، ولأَنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ ما قبلَه. والخِلافُ في سُقُوطِ القَتْلِ عنه، فأمًّا تَوْبَتُه فيما بينَه وبينَ اللَّهِ تعالى فمَقبُولَةٌ، فإنَّ اللَّهَ تعالى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِن الذُّنُوب كلِّها. والحُكْمُ في قَذْفِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كالحُكْمِ في قَذْفِ أُمِّه؛ لأَنَّ قَذْفَ أُمِّه إنَّما أوْجَبَ القتلَ؛ لكوْنِه قَذْفًا للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقَدْحًا في نَسَبِه. فصل: وقَذْفُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقذفُ أُمِّه رِدَّةٌ عن الإِسْلامِ، وخروجٌ

4456 - مسألة: (وإن قذف الجماعة بكلمة واحدة، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم. وعنه، إن طالبوا متفرقين، حد لكل واحد حدا)

وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدةٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إِذَا طَالَبوا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَعَنْهُ، إِنْ طَالَبوا مُتَفَرِّقِينَ، حُدَّ لكل وَاحِدٍ حدًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المِلَّةِ، وكذلك سَبُّه بغيرِ القذفِ، إلَّا أنَّ سَبَّه بغيرِ القَذْفِ يَسْقُطُ بالإِسْلامِ، لأَنَّ سبَّ اللَّهِ سبحانه وتعالى يَسْقُطُ بالإِسْلامِ، فسَبُّ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْلَى، وقد جاءَ في الأثَرِ، أنَّ اللَّهَ تعالى يقول: «شَتَمَنِى ابنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِى، أمَّا شَتْمُهُ إيَّاىَ فَقَوْلُه: إِنِّى اتَّخَذْتُ وَلَدًا. وَأَنَا الأحَدُ الصَّمَدُ، [لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ] (¬1)» (¬2). ولا خِلافَ في أنَّ إسلامَ النَّصْرَانِىِّ القائِلِ لهذا القولِ يَصِحُّ. 4456 - مسألة: (وإن قَذَف الجَماعَةَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، فحَدٌّ وَاحِدٌ إذا طالَبوا أو واحِدٌ منهم. وعنه، إن طالَبُوا مُتَفَرِّقِينَ، حُدَّ لكلِّ واحِدٍ حَدًّا) أمَّا إذا قَذَف الجماعةَ بكلمةٍ واحدةٍ، فالمَشْهُورُ في المذهبِ أنَّه لا يَلْزَمُه إلَّا حَدٌّ واحدٌ، إذا طالَبُوا أو واحدٌ منهم. وبهذا قال طاوُسٌ، والزُّهْرِىُّ، والشَّعْبِىُّ، [والنَّخَعِىُّ] (¬3)، وقَتادَةُ، [وحَمَّادٌ] (1)، ومالكٌ، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «الذى لم يلد ولم يولد». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، من كتاب بدء الخلق، وفى: باب {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} وباب حدثنا أبو اليمان. . .، من كتاب التفسير. صحيح البخارى 4/ 129، 6/ 24، 222. والنسائى، في: باب أرواح المؤمنين، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 317، 350، 351، 393، 394. (¬3) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وصاحِباه، وابنُ أبى لَيْلَى، وإسْحاقُ. وعنه رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّه يُحَدُّ لكلِّ واحدٍ حَدًّا كاملًا. وبه قال الحسنُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وللشافعىِّ قولان كالرِّوايَتَيْن. ووَجْهُ هذا أنَّه قَذَف كلَّ واحدٍ منهم، فلَزِمَه له حَدٌّ كاملٌ، كما لو قَذَفَهم بكَلِماتٍ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1). لم يُفَرِّقْ بينَ قَذْفِ واحدٍ أو جماعةٍ، ولأَنَّ الذين شَهِدُوا على المُغِيرَةِ قَذَفُوا امرأةً، فلم يَحُدَّهم عمرُ إلَّا حَدًّا واحدًا (¬2). ولأنَّه قَذْفٌ واحدٌ، فلم يَجِبْ إلَّا حَدٌّ واحدٌ، كما لو قَذَف واحِدًا، ولأَنَّ الحَدَّ إنَّما وَجَب بإدْخالِ المَعَرَّةِ على المَقْذُوفِ بقَذْفِه، وبحَدٍّ واحدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هذا القاذِفِ، وتَزُولُ المَعَرَّةُ، فوَجَبَ أن يُكْتَفَى به، بخِلافِ ما إذا قَذَف كلَّ واحدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا، فإنَّ كَذِبَه في قَذْفٍ لا يَلْزَمُ منه كَذِبُه في الآخَرٍ، ولا تَزُولُ المَعَرَّةُ عن أحَدِ المَقْذُوفَيْن بحَدِّه للآخرِ. إذا ثَبَت هذا، فإنهم إن طَلبوا جُمْلَةً، حُدَّ لهم، وإن طَلَبَه واحِدٌ، أُقِيمَ الحَدُّ؛ لأَنَّ الحَقَّ ثابِتٌ لهم على سَبِيلِ البَدَلِ، فأيُّهم طالَبَ به اسْتَوْفَى وسَقَط، فلم يَكُنْ لغيرِه الطلبُ به، كحَقِّ المرأةِ على أوْلِيَائِها في تَزْويجِها، إذا قام به واحدٌ سَقَط عن الباقِينَ. وإن أسْقَطَه أحَدُهم، فلغَيرِه المُطالَبَةُ به واسْتِيفاؤه؛ لأَنَّ ¬

(¬1) سورة النور 4. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 320.

4457 - مسألة: (وإن قذفهم بكلمات، حد لكل واحد حدا)

وإنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، حُدَّ لِكُلِّ واحِدٍ حدًّا، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَعَرَّةَ لم تَزُلْ عنه بعَفْوِ صاحِبِه، وليس للعافِى الطَّلبُ به؛ لأنَّه قد أسْقَطَ حَقَّه منه. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، رِوايةٌ ثالثةٌ، أنَّهم إن طَلبوه دَفْعَةً واحِدَةً، فحَدٌّ واحدٌ، وكذلك إن طَلبوه واحِدًا بعدَ واحدٍ، إلَّا أنَّه إن لم يُقَمْ حتى طَلَبَه الكلُّ، فحَدٌّ واحِدٌ، وإن طَلَبَه واحِدٌ (¬1)، فأُقِيمَ له، ثم طَلَبَه آخَرُ، أُقِيمَ له، وكذلك جميعُهم. وهذا قولُ عُرْوَةَ؛ لأنَّهم إذا اجْتَمَعُوا على طَلَبِه، وَقَع اسْتِيفاؤه لجَمِيعِهم، فإذا طَلَبَه واحِدٌ منهم، كان اسْتِيفاؤه له وحدَه، فلم يَسْقُطْ حَقُّ الباقِين بغيرِ اسْتِيفائِهم ولا إسْقاطِهم. 4457 - مسألة: (وإن قَذَفَهم بكَلِمَاتٍ، حُدَّ لكلِّ واحِدٍ حَدًّا) وبهذا قال عَطاءٌ، والشَّعْبِىُّ، وقَتادَةُ، وابنُ أبى لَيلى، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال حَمَّادٌ، ومالك: لا [يَجِبُ إلَّا حَدٌّ واحِدٌ] (¬2)؛ لأنَّها جِنايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا، فإذا تَكَرَّرَتْ كَفُى حَدٌّ واحِدٌ، كما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، تش: «يحد حدًّا واحدًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو سَرَق مِن جماعَةٍ، أو زَنَى بنساءٍ، أوِ شَرِب أنْواعًا مِن المُسْكِرِ. ولَنا، أنَّها (¬1) حقُوقٌ لآدَمِيِّينَ، فلم تَتَداخَلْ، كالدُّيونِ والقِصاصِ. وفارَقَ ما قاسُوا عليه، فإنَّه حَقٌّ للَّهِ تعالى. فصل: إذا قال لرجلٍ: يا ابنَ الزَّانِيَيْن. فهو قاذِفٌ لهما بكلِمةٍ واحِدَةٍ، فإن كانا مَيِّتيْن، ثَبَت الحَقُّ لولَدِهما، ولم يَجب إلَّا حَدٌّ واحدٌ، وَجْهًا واحِدًا. وإن قال: يا زَانِى [ابنَ الزَّانِى] (¬2). فهو قَذْفٌ لهما بكَلِمَتَيْن، فإن كان أبُوه حَيًّا، فلكلِّ واحدٍ حَدٌّ، وإن كان مَيِّتًا، فالظاهِرُ في المذْهبِ أنَّه لا يَجِبُ الحَدُّ بقَذْفِه. وإن قال يا زَانِى ابن الزَّانِيَةِ. وكانت أُمُّه في الحياةِ، فلكلٍّ واحدٍ منهما حَدٌّ، وإن كانت مَيِّتَةً، فالقَذْفانِ جميعًا له، وإن قال: زَنَيْتَ بفُلانَةَ. فهو قَذْفٌ لهما بكلمةٍ واحدةٍ. وكذلك إذا قال: يا ناكِحَ أُمِّه. ويُخَرَّجُ فيه الرِّواياتُ الثلاثُ. ¬

(¬1) في الأصل: «أنهما». (¬2) سقط من: الأصل.

4458 - مسألة: (وإن حد للقذف، فأعاده، لم يعد عليه الحد)

وِإنْ حُدَّ لِلْقَذْفِ، فَأَعَادَهُ، لم يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4458 - مسألة: (وإنْ حُدَّ للقَذْفِ، فأعَادَه، لم يُعَدْ عليه الحَدُّ) أمَّا إذا قَذَف رجلًا مَرَّاتٍ ولم يُحَدَّ، فحدٌّ واحِدٌ، رِوايةً واحِدَةً، سَواء قَذَفَه بزنًى واحدٍ، أو بزَنَياتٍ. وإن قَذَفَه فحُدَّ، ثم أعادَ قَذْفَه، وكان قَذْفُه بذلك الزِّنى الذى حُدَّ مِن أجْلِه، لم يُعَدْ عليه الحَدُّ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن ابنِ القاسمِ، أنَّه أوْجَبَ حَدًّا ثانيًا. وهذا يُخالِفُ إجْماعَ الصَّحابَةِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فإنَّ أبا بَكْرَةَ لمَّا حُدَّ بقَذْفِ المُغِيرَةِ، أعادَ قَذْفَه، فلم يَرَوْا (¬1) عليه حَدًّا ثانيًا، فرَوَى الأَثْرَمُ، بإسْنادِه، عن ظَبْيانَ بنِ عُمارَةَ، قال: شَهِدَ على المُغِيرَةِ [بنِ شُعْبَةَ] (¬2) ثلاثةُ نَفَرٍ أنَّه زانٍ، فبَلَغَ ذلك عمرَ، فكَبُرَ عليه، وقال: شاطَ ثلاثةُ أرْباعِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ. وجاءَ زِيادٌ، فقالَ: ما عندَك؟ فلم يُثْبِتْ، فأمَرَ بهم فَجُلِدُوا، ¬

(¬1) في الأصل: «ير». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: شُهودُ زُورٍ. فقال أبو بَكْرَةَ: أليسَ تَرْضَى إن أتاكَ رجلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ تَرْجُمُه (¬1)؟ قال: نعم، والذى نفسِى بيَدِه. قال أبو بَكْرَةَ: وأنا أشْهَدُ أنَّه زَانٍ. فأرادَ أن يُعِيدَ عليه الجَلْدَ (¬2)، فقال علىٌّ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّك إن أعَدْتَ عليه الجَلْدَ (2)، أوْجَبْتَ عليه الرَّجْمَ (¬3). وفى حديثٍ آخَرَ: فلا يُعادُ في فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْن. قال الأَثْرَمُ: قلتُ لأبى عبدِ اللَّهِ: قولُ علىٍّ: إن جَلَدْته فارْجُمْ صاحِبَكَ؟ قال: كأنَّه جَعَل شَهادَتَه شَهادَةَ رَجليْن. قال أبو عبدِ اللَّهِ: وكنتُ أنا أُفَسِّرُه على هذا، حتى رَأَيْتُه في الحديثِ، فأعْجَبَنِى. ثم قالَ: يقولُ: إذا جَلَدْتَه ثانيةً، فكأنَّكَ جَعَلْتَه شاهِدًا آخَرَ. فأمَّا إن حُدَّ له، ثم قَذَفَه بزنًى ثانٍ، نَظَرْتَ؛ فإن قَذَفَه بعدَ طُولِ الفَصْلِ، فحَدٌّ ثانٍ؛ لأنَّه لا تَسْقُطُ حُرْمَةُ المَقْذُوفِ بالنِّسْبَةِ إلى القاذِفِ أبَدًا، بحيثُ يَتَمَكَّنُ مِن قَذْفِه بكلِّ حالٍ. وإن قَذَفَه عَقِيب حَدِّه، ¬

(¬1) في م: «برجمه». (¬2) في الأصل: «الحد». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 320.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه رِوايَتَان؛ إحْداهما، يُحَدُّ أيضًا؛ لأنَّه قَذْفٌ لم يَظْهَرْ كَذِبُه فيه بحَدٍّ، فيَلْزَمُه فيه حَدٌّ، كما لو طالَ الفَصْلُ، ولأَنَّ سائِرَ أسْباب الحَدِّ إذا تَكَرَّرَتْ بعدَ أن حُدَّ للأوَّلِ، ثبت للثانى حُكْمُه، كالزِّنى (¬1) والسَّرِقَةِ، وغيرِهما مِن الأسْبابِ. والثانيةُ، لا يُحَدُّ؛ لأنَّه قد حُدَّ له مَرَّةً، فلم يُحَدَّ له بالقَذْفِ عَقِيبَه، كما لو قَذَفَه بالزِّنَى الأَوَّلِ. فصل: إذا قال: مَن رَمَانِى فهو ابنُ الزَّانِيَةِ. فرَمَاهُ رجلٌ، فلا حَدَّ عليه في قولِ أحَدٍ مِن أهلِ العلمِ. وكذلك إنِ اخْتَلَفَ رَجلان في شئٍ، فقال أحدُهما: الكاذبُ هو ابنُ الزَّانِيَةِ. فلا حَدَّ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه لم يُعَيِّنْ أحدًا بالقَذْفِ، وكذلك ما أشْبَهَ هذا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا ادَّعَى على رجلٍ أنَّه قَذَفَه، فأنْكَرَ، لم يُسْتَحْلَفْ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، أنَّه يُسْتَخلَفُ. حَكَاها ابنُ المُنْذِرِ. وهو قولُ الزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬1). ولأنَّه حَقٌّ لآدَمِىٍّ، فيُسْتَحْلَفُ فيه، كالدَّيْنِ. ووَجْهُ الأُولَى، أنَّه حَدٌّ، فلا يُسْتَحْلَفُ فيه، كالزِّنَى والسَّرِقَةِ. فإن نَكَل عن اليَمِينِ، لم يُقَمْ عليه الحَدُّ؛ لأَنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فلا يُقْضَى فيه بالنُّكُولِ، كسائِرِ الحُدودِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478.

باب حد المسكر

بَابُ حَدِّ المُسْكِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ حَدِّ المُسْكِرِ الخمرُ مُحَرَّمٌ بالكتاب والسُّنَّةِ والإِجْماعِ، أمَّا الكتابُ فقولُ اللَّهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1). والآيةُ التى بعدَها إلى قولِه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬1). وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ (¬2). ورَوَى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَعَنَ اللَّه الخَمْرَ، وَشَارِبَها، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، ومُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ». رَواه أبو داودَ (¬3). وثَبَت ¬

(¬1) سورة المائدة: 90، 91. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب النهى عن المسكر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 293. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 16، 29، 31. كما أخرجه مسلم، في: باب بيان أن كل مسكر خمر. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1588. والترمذى، في: باب ما جاء في شارب الخمر، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 48. والنسائى، في: باب إثبات اسم الخمر لكل مسكر من الأشربة، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 264. وابن ماجه، في: باب كل مسكر حرام، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1124. (¬3) في: باب في العنب يعصر للخمر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 292. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 97.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تحريمُ الخمرِ بأخْبارٍ تَبْلُغُ بمجمُوعِها رُتْبَةَ التَّواتُرِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ على تحْرِيمِه، وإنَّما حُكِىَ عن قُدامَةَ بنِ مَظْعُونٍ، وعمرِو بنِ مَعْدِيكَرِبَ، وأبى جَنْدَلِ بنِ سهَيل (¬1)، أنَّهم قالوا: هى حَلالٌ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (¬2). الآية. فبَيَّنَ لهم عُلماءُ الصَّحابةِ مَعْنَى هذه الآيةِ، وتحريمَ الخمرِ، وأقاموا عليهم الحَدَّ؛ لشُرْبِهم إيَّاه (¬3)، فرَجَعُوا إلى ذلك، فانْعَقَدَ الإِجْماعُ، فمَنِ اسْتَحَلَّها الآنَ، فقد كَذَّبَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنَّه قد عُلِمَ ضَرورةً مِن جِهَةِ النَّقْلِ تَحْرِيمُه، فيَكْفُرُ بذلك، ويُسْتَتابُ، فإن تابَ، وإلَّا قُتِلَ. رَوَى الجُوزْجَانِىُّ (¬4) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ قُدامَةَ بنَ مَظْعُونٍ شَربَ الخمرَ، فقال له عمرُ: ما حَمَلَكَ على ذلك؟ فقال: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يقولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. الآية. وإنِّى مِن المُهاجرِين الأوَّلينَ مِن أهلِ بدرٍ وأُحدٍ. فقال عمرُ للقومِ: أجِيبُوا الرجلَ. فسَكتُوا عنه، فقال لابنِ عباسٍ: أجِبْه. فقال: إنَّما أنْزَلها اللَّه عُذْرًا للماضِينَ، لِمَن شَرِبَها قبلَ ¬

(¬1) في الأصل، م: «سهل». وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامرى. انظر: العبر 1/ 22. (¬2) سورة المائدة 93. (¬3) حديث قدامة تقدم تخريجه في صفحة 186. وأخرج قصة أبى جندل ومن معه عبد الرزاق، في: باب من حد من أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأشربة. المصنف 9/ 244، 245. (¬4) وأخرجه النسائى، في: باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر قتادة عن أنس، وباب إقامة الحد على من شرب الخمر على التأويل، من كتاب الحد في الخمر. السنن الكبرى 3/ 252 - 254. والبيهقى، في: باب ما جاء في عدد حد الخمر، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 320، 321.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تُحَرَّمَ، وأنزَلَ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (¬1). حُجَّةً على النَّاسِ. ثم سألَ عمرُ عن الحَدِّ فيها، فقال علىُّ بنُ أبى طالبٍ: إذا شَرِبَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، فاجْلِدُوه ثمانينَ. فجَلَده عمرُ ثمانينَ. ورَوى الوَاقِدِىُّ، أنَّ عمرَ قال له: أخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يا قُدامَةُ، إذا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عليك. وروَى الخَلَّالُ (¬2) بإسْنادِه، عن مُحارِبِ بنِ دِثَارٍ، أنَّ أُناسًا شَرِبُوا بالشامِ الخمرَ (3)، فقال لهم يزيدُ بنُ أبى سفيانَ: شَرِبْتُمُ الخمرَ؟ قالوا: نعم، يقولُ اللَّهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. الآية. فكَتَب فيهم إلى عمرَ بنِ الخَطَّابِ، فكَتَبَ إليه: إن أتاكَ كتابِى هذا نهارًا، فلا تَنْتَظِرْ بهم (¬3) إِلى اللَّيْلِ، وإن أتاكَ لَيْلًا، فلا تَنْتَظِرْ بهم نَهارًا، حتى تَبْعَثَ بهم إلىَّ، لِئلَّا يَفْتِنُوا عبادَ اللَّهِ. فبَعَثَ بهم إلى عمرَ، فشاوَرَ فيهم النَّاسَ، فقال لعلىٍّ: ما تَرَى؟ فقال: أرَى أنَّهم قد شَرَّعُوا في دينِ اللَّهِ ما لم يَأذَنِ اللَّه فيه، فإن زَعَمُوا أنَّها حَلالٌ، فاقْتُلْهم، فقد أحَلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، وإن زَعَمُوا أنَّها حَرامٌ فاجْلِدْهم ثمانينَ ثمانينَ، فقد افْتَرَوْا على اللَّهِ، وقد أخْبَرَنا اللَّه بحَدِّ ما يَفْتَرِى بعضُنا على بعضٍ. قال: فَجَلَدَهم عمرُ ثمانينَ ثمانينَ. إذا ثَبَت هذا، فالمُجْمَعُ على تَحْرِيمِه عصيرُ العِنبِ، إذا اشْتَدَّ وقَذَف زَبَدَه، وما عَداه مِن الأشْرِبَةِ المُسْكِرَةِ، فهو مُحَرَّم، وفيه اخْتِلافٌ نَذْكُرُه إن شاءَ اللَّه ¬

(¬1) سورة المائدة 90. (¬2) وأخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 5/ 546. (¬3) سقط من: الأصل.

4459 - مسألة: (كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام، من أى شئ كان، ويسمى خمرا)

كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، مِنْ أَىِّ شَىْءٍ كَانَ، وَيُسَمَّى خَمْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى. 4459 - مسألة: (كلُّ شَرابٍ أسْكَرَ كَثِيرُه، فقَلِيلُه حَرامٌ، مِن أىِّ شئٍ كان، ويُسَمَّى خَمْرًا) حُكمُه حُكْمُ عَصِيرِ العِنَبِ في تَحْرِيمِه، ووُجُوبِ الحَدِّ على شارِبِه. رُوِى تحْرِيمُ ذلك عن عمرَ، وعلىِّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وأبى هُرَيْرَةَ، وسعدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ، وأُبىِّ بنِ كَعْبٍ، وأنَسٍ، وعائِشَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، والقاسِمُ، وقَتادَةُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو عُبَيْدٍ، وإسْحاقُ. وقال أبو حنيفةَ، في عصيرِ العنبِ إذا طُبِخَ وذَهَب ثُلُثاه، ونَقِيعِ التَّمْرِ والزَّبِيبِ إذا طُبِخَ وإن لم يَذْهَبْ ثُلُثَاه، ونَبِيذِ الحِنْطَةِ، والذُّرَةِ والشَّعِيرِ، ونحوِ ذلك نقيعًا كان أو مَطْبُوخًا: كلُّ ذلك حَلالٌ، إلَّا ما بَلَغ السُّكْرَ، فأمَّا عصيرُ العِنبِ إذا اشْتَدَّ، وقَذَف زَبَدَه، أو طُبِخَ فذَهَبَ أقَلُّ من ثُلُثَيْه، ونَقِيعُ التَّمْرِ والزَّبِيبِ إذا اشْتَدَّ بغيرِ طَبْخٍ، فهذا مُحَرَّمٌ، قَلِيلُه وكثيرُه؛ لِما رَوَى ابنُ عباسٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «حُرِّمَتِ الخَمْرَةُ لِعَيْنهَا، والسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» (¬1). ولَنا، مما رَوَى ابن عمرَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر، وكُل خَمْرٍ حَرَامٌ». وعن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَا أسْكَرَ كثِيرُهُ، فَقَلِيلُه حَرَامٌ». رَواهما أبو داودَ، والأثْرَمُ، وغيرُهما (¬2). وعن عائشةَ، قالت: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «كُلُّ مُسْكِر حَرَامٌ، وَمَا أسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ (¬3)، فَمِلْءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ». رَواه ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب ذكر الأخبار التى اعتل بها من أباح شراب المسكر، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 287. (¬2) تقدم تحريم الأول في صفحة 413. والثانى أخرجه أبو داود، في: باب النهى عن المسكر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 294. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 58. وابن ماجه، في: باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1225. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 343. (¬3) الفرق؛ بالتحريك: مكيلة تسع ستة عشر رطلا. والفرق؛ بالسكون: مائة وعشرون رطلا. والفرق وملء الكف عبارتان عن التكثير والتقليل، لا التحديد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ، وغيرُه (¬1). وقال عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: نَزلَ تَحْرِيمُ الخمرِ، وهىِ مِن العنبِ والتَّمْرِ والعسلِ، والبُرِّ والشَّعِيرِ، والخمرُ ما خامَرَ العَقْلَ. مُتَّفقٌ عليه (¬2). ولأنَّه مُسْكِر، فأشْبَهَ عصيرَ العِنَبِ. فأمَّا حديثُهم، فقال أحمدُ: ليس في الرُّخْصَةِ في المُسْكِرِ حديثٌ صَحِيحٌ. وحديثُ ابنِ عباسٍ رَواه شُعْبَةُ (¬3)، عن مِسْعَرٍ، عن أبى عَوْنٍ، عن ابنِ شَدَّادٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: والمُسْكِرُ مِن كلِّ شَرَابٍ. وقال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): جاءَ أهلُ الكوفةِ بأحاديثَ مَعْلُولَةٍ، ذَكَرْناها مع عِلَلِها. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في النهى عن المسكر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 295. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 59. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 71، 72، 131. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ. . .} الآية، من كتاب التفسير، وفى: باب الخمر من العنب، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 6/ 67، 7/ 136. ومسلم، في: باب في نزول تحريم الخمر، من كتاب التفسير. صحيح مسلم 4/ 2322. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تحريم الخمر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 291. والنسائى، في: باب ذكر أنواع الأشياء التى كانت منها الخمر. . .، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 262، 263. (¬3) في النسخ: «سعيد»، والتصويب من المجتبى 8/ 287. وانظر الحديث والكلام عليه في: نصب الراية 4/ 306، 307. (¬4) انظر الإشراف 3/ 249.

4460 - مسألة: (ولا يجوز شربه للذة، ولا للتداوى، ولا

وَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَذَّةٍ، وَلَا لِلتَّدَاوِى، وَلَا لِعَطَشٍ، وَلَا غَيْرِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر الأَثْرَمُ أحادِيثَهم التى يَحْتَجُّون بها عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- والصَّحابةِ، فضَعَّفَها كلَّها، وبَيَّنَ عِلَلَها. وقد قِيلَ: إنَّ خَبَرَ ابنِ عباسٍ مَوْقِوفٌ عليه، مع أنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ بالسُّكْرِ المُسْكِرَ مِن كلِّ شَرابٍ، فإنَّه يَرْوِى هو وغيرُه عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» (¬1). 4460 - مسألة: (ولا يَجُوزُ شُرْبُه للَذَّةٍ، ولا للتَّداوِى، ولا ¬

(¬1) حديث ابن عباس أخرجه أبو داود، في: باب النهى عن المسكر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 274، 289، 350.

إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ، لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غُصَّ بِهَا، فَيَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَطَشٍ، ولا غيرِه، إلَّا أن يُضْطَرَّ إليه، لدَفْعِ لُقْمَةٍ غُصَّ بها، فيَجُوزُ) لا يجوزُ شُرْبُه للَذَّةٍ؛ لِما ذَكَرْنا، ولا للتَّدَاوِى بها؛ لذلك، فإن فَعَل، فعليه الحَدُّ. وقال أبو حنيفةَ: يُباحُ شربُها للتَّدَاوِى. وللشافعىِّ (¬1) وَجْهان كالمَذْهَبَيْن. وله وَجْه ثالِث، يُباحُ للتَّدَاوِى دُونَ العَطَشِ؛ لأنَّها حالُ ضَرورَةٍ، فأُبِيحَ فيها، كدَفْعِ الغُصَّةِ وسائرِ ما يُضْطرُّ إليه. ولَنا، ما روَى الإِمامُ أحمدُ (¬2)، بإسْنادِه عن طارقِ بنِ سُوَيدٍ، أنَّه سألَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: إنَّما أصْنَعُها للدَّواء. فقال: «إنَّه لَيْس بدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ». وبإسْنادِه عن مُخارِقٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخل على أُمِّ سَلَمَةَ، وقد نَبَذَتْ نَبِيذًا في جَرَّةٍ، فخَرَجَ والنَّبِيذُ يَهْدِرُ، فقال: [«مَا هَذا؟». فقالَتْ:] (¬3) فلانةُ اشْتَكَتْ بَطْنَها، فَنَقَعْتُ لها. فدَفَعَه برِجْلِه فكسَرَه، وقال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ شِفَاءً» (¬4). ولأنَّه مُحَرَّمٌ ¬

(¬1) في المغنى 12/ 500: «للشافعية». (¬2) في: المسند 4/ 311، 317، 5/ 292، 293، 6/ 399. كما أخرجه مسلم، في: باب تحريم التداوى بالخمر، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1573. وأبو داود، في: باب في الأدوية المكروهة، من كتاب الطب. سنن أبى داود 2/ 334. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية التداوى بالمسكر، من أبواب الطب. عارضة الأحوذى 8/ 200 - 202. وابن ماجه، في: باب النهى أن يتداوى بالخمر، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1157. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) وأخرجه الطبرانى، في: المعجم الكبير 23/ 326، 327. وأبو يعلى في: مسنده 12/ 402. وابن حبان، انظر: الإحسان 4/ 233. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 5. وهو عند الإمام أحمد، في: كتاب الأشربة 159، كما ذكر في حاشية الطبرانى وابن حبان. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 74، 75.

4461 - مسألة: (ومن شربه مختارا عالما أن كثيره يسكر، قليلا

وَمَنْ شَرِبَهُ مُخْتَارًا عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَيْنِه، فلم يُبَحْ للتَّدَاوِى، كلَحْمِ الخِنْزيرِ. فإن شَرِبهَا للعَطَشِ، وكانت مَمْزُوجَةً بما يَرْوِى مِن العَطَشِ، أُبِيحَتْ لدَفْعِه عندَ الضَّرُورَةِ، كما تُبَاحُ المَيْتَةُ عندَ المَخْمَصَةِ، وكإباحَتِها لدَفْعِ الغُصَّةِ، وقد رَوَيْنا في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ حُذَافَةَ، أنَّه حَبَسَه طاغيَةُ الرُّومِ في بيتٍ فيه ماءٌ مَمْزُوجٌ بخَمْرٍ (¬1)، ولَحْمُ خِنْزيرٍ مَشْوِىٌّ، ليَأكُلَه ويَشرَبَ الخَمْرَ، وتَرَكَه ثلاثةَ أيامٍ، فلم يَفْعَلْ، ثم أخْرَجُوه حينَ خَشُوا مَوْتَه، فقال: واللَّهِ لقد كانَ اللَّهُ أحَلَّه لى، فإنِّى مُضْطَرٌّ، ولكن لم أكُنْ أُشْمِتُكُمْ بدِينِ الإِسلامِ (¬2). وإن كانت صِرْفًا، أو مَمْزُوجةً بشئٍ يَسِيرٍ لا يَرْوِى مِن العَطَشِ، لم تُبَحْ، وعليه الحَدُّ. وقال أبو حنيفةَ: تُبَاحُ. وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه حالُ ضَرُورَةٍ. ولَنا، أنَّ العَطَشَ لا يَنْدَفِعُ به، فلم يُبَحْ، كما لو تَدَاوَى بها فيما لا يَصْلُحُ له. فأمَّا شُرْبُها لدَفْعِ الغُصَّةِ فيجوزُ، كما يجوزُ أكْلُ المَيْتَةِ في حالِ المَخْمَصَةِ، ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. 4461 - مسألة: (ومَن شَرِبَه مُخْتَارًا عالِمًا أنَّ كَثِيرَه يُسْكِرُ، قَلِيلًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه ابن عساكر في: تاريخه 9/ 115، 116.

فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً. وَعَنْهُ، أَرْبَعُونَ إِنْ كَاْنَ حُرًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان أو كَثِيرًا، فعليه الحَدُّ ثَمَانُون جَلْدَةً. وعنه، أرْبَعُونَ) ولا نعلمُ بينَهم خِلافًا في عَصِيرِ العِنَبِ غيرِ المَطْبُوخِ، واخْتَلَفُوا في سائِرِها، فمذهبُ أحمدَ التَّسْوِيَةُ بينَ عصيرِ العنبِ وغيرِه من المُسْكِراتِ. وهو قولُ الحسنِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وقَتادَةَ، والأوْزاعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقالت طائِفَةٌ: لا يُحَدُّ، إلَّا أن يُسْكرَ؛ منهم [أبو وائلٍ] (¬1) , والنَّخَعِىُّ، وكثيرٌ مِن أهلِ الكُوفَةِ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: مَن شَرِبَه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه حُدَّ، ومَن شَرِبَه مُتَأوِّلًا (¬2)، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ فيه، فأشْبَهَ النِّكاحَ بلا وَلِىٍّ. ولَنا، ما رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-, أنَّه قال: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ». رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «وائل». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب إذا تتابع في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 474. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه. . .، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 223. والنسائى، في: باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 281. وابن ماجه، في: باب من شرب الخمر مرارا، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 859. والدارمى، في: باب العقوبة في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. سنن الدارمى 2/ 115. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 136، 191، 504، 519، 4/ 93، 95، 96، 101. وانظر صفحة 185.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ثَبَت أنَّ كلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فيَتَناوَلُ الحديثُ قليلَه وكثيرَه، ولأنَّه شَرابٌ فيه شِدَّة مُطْرِبَةٌ، فوَجَبَ الحَدُّ بقليله، كالخمرِ، والاخْتِلافُ فيها لا يَمْنَعُ وُجوبَ الحَدِّ فيها، بدليلِ ما لو اعْتَقَدَ تَحْرِيمَها. وبهذا فارَقَ النِّكاحَ بلا وَلِىٍّ وغيرَه من المُخْتَلَفِ فيه، وقد حَدَّ عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قُدامَةَ بنَ مَظْعُونٍ، وأصحابَه، مع اعْتِقادِهم حِلَّ ما شَرِبُوه. والفرقُ بينَ هذا وبينَ سائرِ المُخْتَلَفِ فيه من وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ فِعْلَ المُخْتَلَفِ فيه ههُنا دَاعِيةٌ إلى فِعْلِ ما أُجْمِعَ على تَحْرِيمِه، وفِعْلَ سائر المُخْتَلَفِ فيه يَصْرِفُ عن جِنْسِه من المُجْمَعِ على تَحْرِيمِه. الثانى، أن السُّنَّةَ عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد اسْتفاضَتْ بتَحْرِيمِ المُخْتَلَفِ فيه، فلم يَبْقَ فيه لأحَدٍ عُذْرٌ في اعْتقادِ إباحَتِه، بخِلافِ غيرِه من المُجْتَهَداتِ. قال أحمدُ بنُ القاسم: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ، يقولُ: في تحريمِ المُسْكِرِ عشرونَ وَجْهًا عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في بَعْضِها: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ». وفى بعضِها: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحَدُّه ثمانون، في إحْدى الرِّوايَتَيْن. وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومَن تَبِعَهم؛ لإجْماعِ الصَّحابةِ، فإنَّه رُوِى أنَّ عمرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ في حَدِّ الخمرِ، فقال عبدُ الرحمنِ: اجْعَلْه كأخَفِّ الحدودِ ثمانينَ. فضَرَبَ عمرُ ثمانين، وكَتَب به إلى خالدٍ، وأبى عُبَيْدَةَ بالشَّامِ (¬1). ورُوِىَ أنَّ عليًّا قال في المَشُورَةِ: إنَّه إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، فَحُدُّوه حَدَّ المُفْتَرِى. روَى ذلك الجُوزْجَانِىُّ، والدَّارَقُطْنِىُّ، وغيرُهما (¬2). والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّ الحَدَّ أربعون. وهو اخْتيارُ أبى بكرٍ، ومذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ عليًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَلَد الوليدَ ابنَ عُقْبَةَ أربعين، ثم قال: جَلَد النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرْبعين، وأبو بكرٍ أربعين، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب حد الخمر، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1330، 1331. وأبو داود، في: باب في الحد في الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 472. والترمذى، في: باب ما جاء في حد السكران، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 222. والدارمى، في: باب في حد الخمر، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 115، 176، 180، 272، 273. وليس عندهم: فكتب به. . . والحديث أخرجه البخارى، في: باب ما جاء في ضرب شارب الخمر، وباب الضرب بالجريد والنعال، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 196. مختصرا دون ذكر الاستشارة. (¬2) تقدم تخريجه في 22/ 141. ويضاف إليه: والإمام مالك، في: باب الحد في الخمر، من كتاب الأشربة. الموطأ 2/ 842. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 378.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعمرُ ثمانين، وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أحَبُّ إلىَّ. رَواه مسلمٌ (¬1). وعن أنَسٍ، قال: أُتِى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- برجلٍ قد شَرِب الخمرَ، فضَرَبَه بالنِّعالِ نحوًا مِن أربعين، ثم أُتِى به أبو بكرٍ، فصَنَعَ (¬2) مثلَ ذلك، ثم أُتِى به عمرُ، فاسْتَشَارَ النَّاسَ في الحُدُودِ، فقال ابنُ عوفٍ: أقَلُّ الحدودِ ثمانون. فضَرَبَه عمرُ. مُتَّفَقٌ عليه (1). وفعلُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَّةٌ لا يجوزُ تَرْكُه لفِعْلِ غيرِه، ولا يَنْعَقِدُ الإِجْماعُ على ما خالَفَ فعلَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكرٍ وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، فتُحْمَلُ الزِّيادَةُ على أنَّها تَعْزِيرٌ، يجوزُ فِعْلُها إذا رَآها الإِمامُ. فصل: وإنَّما يَلْزَمُ الحَدُّ مَن شَرِبَها مُخْتارًا لشُرْبِها، فإن شَرِبَها مُكْرَهًا، فلا حَدَّ عليه، ولا إثْمَ، سَواءٌ أُكْرِهَ بالوَعِيدِ أو الضَّرْبِ، أو أُلْجِئَ إلى شُرْبِها بأن يُفْتَحَ فُوه، وتُصَبَّ فيه، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: «عُفِىَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 186. (¬2) بعده في الأصل: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأُمَّتِى عَنِ الخَطَأ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬1). وكذلك مَن اضْطُرَّ إليها لدَفْعِ غُصَّةٍ (¬2) بها، إذا لمِ يَجِدْ مائِعًا سِوَاها، فإنَّ اللَّهَ تعالى قال في آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬3). وكذلك إن شَرِبَها لعَطَشٍ شديدٍ، وكانت مَمْزُوجَة بما يَرْوِى من العَطَشِ، فإنَّها تُباحُ بذلك عندَ الضَّرُورَةِ، كما تُبَاحُ المَيْتَةُ في المَخْمَصَةِ. فصل: فإن ثَرَدَ في الخمرِ، أو اصْطَبَغَ به، أو طَبَخ به لَحْمًا فأكَلَ من مَرَقِه، فعليه الحَدُّ؛ لأَنَّ عينَ الخمرِ مَوْجودة، وكذلك إن لَتَّ به سَوِيقًا فأكَلَه. فإن عَجَن به دَقِيقًا، فخَبَزَه وأكَلَه، لم يُحَدَّ؛ لأَنَّ النَّارَ أكَلَتْ أجْزاءَ الخمرِ، فلم يَبْقَ إلَّا أثَرُه، وإنِ احْتَقَنَ بالخمرِ، لم يُحَدَّ؛ لأنَّه ليس بشُرْبٍ ولا أكْلٍ، ولأنَّه لم يَصِلْ إلى حَلْقِه، فأشْبَهَ ما لو دَاوَى به جُرْحَه، فإنِ اسْتَعَطَ به، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى باطِنِه من حَلْقِه، ولذلك نَشَرَ الحُرْمَةَ في الرَّضاعِ دونَ الحُقْنَةِ. وحُكِىَ عن أحمدَ، أنَّ على مَن احْتَقَنَ به الحَدَّ؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى جَوْفِه. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) بعده في ق، م: «رواه النسائى». والحديث تقدم تخريجه عند ابن ماجه في 1/ 276. (¬2) في ر 3: «لقمة غص». (¬3) سورة البقرة 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ لوُجُوبِ الحَدِّ على مَن شَرِبَها أن يَعْلَمَ أنَّ كثيرَها يُسْكِرُ، فإن لم يَعْلَمْ، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه غيرُ عالم بالتَّحْرِيمِ، ولا قَصَد ارْتِكابَ المَعْصِيَةِ بها، فأشْبَهَ مَن زُفَّتْ إليه غيرُ امرأتِه. وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. فأمَّا مَن شَرِبَها غيرَ عالم بتَحْرِيمِها، فلا حَدَّ فيه أيضًا؛ لأَنَّ عمرَ وعثمانَ قالا: لا حَدَّ إلَّا على مَن عَلِمَه (¬1). ولأنَّه غيرُ عالمٍ بالتَّحْريمِ، أشْبَهَ مَن لم يَعْلَمْ أنَّها خَمْرٌ. ومتى ادَّعَى الجَهْلَ بتَحْرِيمِها، وكان ناشِئًا ببَلَدِ الإِسْلامِ بينَ المسلمين، لم تُقْبَلْ دَعْواهُ؛ لأَنَّ هذا لا يَكادُ يَخْفَى على مِثْلِه، فلم تُقْبَلْ دَعْوَاه فيه. وإن كان حديثَ عهدٍ بالإِسْلامِ، أو ناشِئًا بباديةٍ بعيدةٍ عن البُلدان (¬2) قُبلَ منه؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما قالَه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 170. (¬2) في ر 3، ق، م: «البلد».

4462 - مسألة: (والرقيق على النصف من ذلك)

وَالرَّقِيقُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا الذِّمِّىَّ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ بِشُرْبِهِ، في الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4462 - مسألة: (والرَّقِيقُ على النِّصْفِ مِن ذلك) أى على النِّصْفِ مِن حَدِّ الحُرِّ، وهو أربعون، إن قُلْنا: إنَّ الحَدَّ ثمانون. ويَسْتَوِى في ذلك العَبْدُ والأمَةُ. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى عشرون. فصلِ: ويُجْلَدُ العَبْدُ والأمَةُ بدُونِ سَوْطِ الحُرِّ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ؛ لأنَّه لَمَّا خُفِّف عنه في عَدَدِه، خُفِّفَ عنه في صِفَتِه، كالتَّعْزِيرِ مع الحَدِّ. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ سَوْطُه كسَوْطِ الحُرِّ؛ لأنَّه إنَّما يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ [إذا كان السَّوْطُ مثلَ السَّوطِ، أمَّا إذا كان نِصْفًا في عَدَدِه، وأخَفَّ منه في سَوْطِه، كان أقَلَّ من النِّصْفِ] (¬1)، واللَّهُ سبحانَه قد أوْجَبَ النِّصْفَ بقولِه: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬2). 4463 - مسألة: (والذِّمِّىُّ لا يُحَدُّ بشُرْبِه، في الصَّحِيحِ) عنه؛ لأنَّه يَعْتَقِدُ حِلّه، فلم يُحَدَّ بفِعْلِه، كنِكاحِ المجوسِ ذواتِ مَحارِمِهم. وعنه، يُحَدُّ، لأنَّه شَرِب مُسْكِرًا عالِمًا به مُخْتارًا، فأشْبَهَ شَارِبَ النَّبِيذِ إذا اعْتَقَدَ حِلَّه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النساء 25.

4464 - مسألة: (وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على

وَهَلْ يَجِبُ الْحَدُّ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يجبُ الحَدُّ حتى يَثْبُتَ شُرْبُه بأحَدِ شَيْئَيْن؛ الإقْرارِ أو البَيِّنَةِ. ويَكفِى في (¬1) الإقْرارِ مَرَّةٌ واحِدَةٌ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ لأنَّه لا يَتَضَمَّنُ إتْلافًا، فأشْبَهَ حَدَّ القَذْفِ. ومتى رَجَع عن إقْرارِه قُبِلَ رُجُوعُه؛ لأنَّه حَدٌّ للَّهِ سبحانَه، فقُبِلَ رُجُوعُه عنه (¬2)، كسائرِ الحُدُودِ. ولا يُعْتَبَرُ مع الإِقْرارِ وُجودُ الرَّائحةِ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ، لا حَدَّ عليه، إلَّا أن توجَدَ رائحة. ولنا، أنَّه أحَدُ بَيِّنتَىِ الشُّرْبِ، فلم يُعْتَبَرْ معه وجُودُ الرّائحةِ، كالشَّهادَةِ، ولأنَّه قد يُقِرُّ بعدَ زَوالِ الرائحةِ عنه، ولأنَّه إقْرارٌ بحَدٍّ، فاكْتُفِىَ به، كسائرِ الحُدودِ. 4464 - مسألة: (وهل يَجِبُ الحَدُّ بوُجُودِ الرّائحَةِ؟ على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايَتَيْن) لا يَجِبُ الحَدُّ [بوجودِ رائحةِ الخمرِ] (¬1) مِن فِيه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، أنَّه يُحَدُّ بذلك. روَاها عنه أبو طالبٍ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأَنَّ ابنَ مسعودٍ جَلَد رجلًا وَجَد منه رائحةَ الخمرِ (¬2). ورُوِىَ عن عمرَ، أنَّه قال: إنى وَجَدْتُ من عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرابٍ، فأقَرَّ أنَّه شَرِبَ الطِّلاءَ (¬3). فقال عمرُ: إنِّى سائِلٌ عنه، فإن كان يُسْكِرُ جَلَدْتُه (¬4). ولأَنَّ الرّائحةَ تَدُلُّ على شُرْبِه، فَجَرَى مَجْرَى الإِقْرارِ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأَنَّ الرَّائحةَ يَحْتَمِلُ أنَّه تَمَضْمَضَ بها، أو ظَنَّها ماءً، فلَمَّا صارتْ في فِيه مَجَّهَا، أو ظَنَّها لا تُسْكِرُ، أو كان مُكْرَهًا، أو أكَلَ نَبْقًا بالِغًا، أو شَرِب مِن (¬5) شَرابِ التُّفَّاحِ، فإنَّه يكونُ منه كرائحةِ الخمرِ، وإذا احْتَمَلَ ذلك، لم يجبِ الحَدُّ الذى يُدْرَأُ بالشُّبُهات. وحديثُ عمرَ حُجَّةٌ لنا، فإنَّه لم يَكْتَفِ بوُجودِ الرائحةِ، ولو وَجَب ذلك، لبادَرَ إليه عمرُ. ¬

(¬1) في الأصل: «بوجود الرائحة»، وفى م: «برائحة الخمر». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب القراء من أصحاب النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب فضائل القرآن. صحيح البخارى 6/ 230. ومسلم، في: باب فضل استماع القرآن، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 551، 552. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 378، 425. (¬3) الطلاء، بالكسر والمد: الشراب المطبوخ من عصير العنب. الآية 3/ 137. (¬4) أخرجه البخارى تعليقًا، في: باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 7/ 139. ووصله الإمام مالك، في: باب الحد في الخمر، من كتاب الأشربة. الموطأ 2/ 842. وعزاه للنسائى ولسعيد بن منصور، في: تغليق التعليق 5/ 26. (¬5) زيادة من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَجَدَه سَكْرانَ، أو تَقَيَّأَ الخمرَ، فعن أحمدَ، لا حَدَّ عليه؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ مُكْرَهًا، أو لم يَعْلَمْ أنَّها تُسْكِرُ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ورِوايةُ أبى طالبٍ عنه في الحَدِّ بالرَّائحةِ تَدُلُ على وُجوبِ الحَدِّ ههُنا بطرِيقِ الأُوْلَى؛ لأَنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا بعدَ شُرْبِها، فأَشْبَهَ ما لو قامَتِ البَيِّنةُ عليه (¬1) بشُرْبِها. وقد روَى سعيدٌ، حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنا المُغيرةُ، عن الشَّعْبِىِّ، قال: لمَّا كان من أمْرِ قُدامةَ ما كانَ، جاءَ عَلْقَمَةُ الخَصِىُّ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أشهدُ أنِّى رأيْتُه يَتَقَيَّؤُهَا. فقالَ عمرُ: من قاءَها فقد شَرِبَها. فضَرَبَه الحَدَّ (¬1). وروَى حُضَيْنُ بنُ المُنْذِرِ الرَّقاشِىُّ، قال: شَهِدْت عثمانَ، وأُتِىَ بالوليدِ بنِ عُقبَةَ، فشَهِدَ عليه حُمْرانُ ورجل آخَرُ، فشَهِدَ أحدُهما أنَّه رآه شَرِبَها، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه رآه يَتَقَيَّؤُها. فقال عثمانُ: إَّنه لم يَتَقَيَّأْها حتى شَرِبَها. فقال لعلىٍّ: أقِمْ عليه الحَدَّ. فأمَرَ على عبدَ اللَّهِ بنَ جَعْفَرٍ، فضَرَبَه. رَواه مسلمٌ (¬2). وفى رِوايةٍ، قال له عثمانُ: لقد تَنَطَّعْتَ في الشَّهادَةِ. وهذا بمَحْضَرٍ مِن عُلَماءِ الصحايةِ وسادَتِهم، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا. ولأنَّه يُكْتَفَى بالشَّهادَةِ عليه أنَّه شَرِبَها، ولا يَتَقَيَّؤُها أو لا يَسْكَرُ منها حتى يَشرَبَها. فصل: وأمَّا البَيِّنَةُ، فلا تكونُ إلَّا رجلَيْن عَدْلَيْن مسلمَين، يَشْهَدانِ أنَّه شَرِب مُسْكِرًا، ولا يَحْتاجان إلى بَيانِ نوْعِه؛ لأنَّه لا يَنْقَسِمُ إلى ما يُوجِبُ الحَدَّ وإلى ما لا يُوجِبُه، بخِلافِ الزِّنى، فإنَّه يُطْلَقُ على الصَّرِيحِ وعلى ¬

(¬1) تقدم تخريج حديث قدامة في صفحة 186. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186، في حديث: جلد النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعين. . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَواعِيه، ولهذا قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» (¬1). فلهذا احْتاجَ الشَّاهِدُ إلى تَفْسِيرِه، وفى مسْألَتِنا لا يُسَمَّى غيرُ المُسْكِرِ مُسْكِرًا، فلم يَفْتَقِرْ إلى ذِكْرِ نَوْعِه، ولا يَفْتَقِرُ في الشَّهادَةِ إلى ذِكْرِ عَدَمِ الإِكْراهِ، ولا ذِكْرِ عِلْمِه أنَّه مُسْكِرٌ؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ الاخْتِيارُ والعلمُ، وما عَداهما نادِرٌ، فلم يَحْتَجْ إلى إثْباتِه، ولذلك لم يُعْتَبَرْ في شئٍ مِن الشَّهاداتِ، ولم يَعْتَبِرْه عثمانُ في الشَّهادَةِ على الوليدِ بنِ عُقْبَةَ، ولا عمرُ في الشَّهادَةِ على قُدامَةَ بنِ مَظْعُونٍ، ولا في الشَّهادَةِ على المُغِيرةِ بنِ شُعْبَةَ، ولو شَهِدا (¬2) بعِتْقٍ أو طَلاقٍ، لم يَفْتَقِرْ إلى ذِكْرِ الاخْتِيارِ، كذا ههُنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 383. (¬2) في م: «شهد».

4465 - مسألة: (والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام، حرم، إلا أن يغلى قبل ذلك فيحرم، نص عليه)

وَالْعَصِيرُ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، حَرُمَ، إِلَّا أَنْ يَغْلِىَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَحْرُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4465 - مسألة: (وَالْعَصِيرُ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، حَرُمَ، إِلَّا أَنْ يَغْلِىَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَحْرُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ) أما إذا غَلَى العَصِيرُ كغَلَيإنِ القِدْرِ، وقَذَف بزَبَدِه، فلا خِلاف في تَحْرِيمِه. وإنْ أتَتْ عليه ثلاثةُ أَيَّام ولم يَغْلِ، فقال أصحابُنا: هو حَرَامٌ. وقال أحمدُ: اشْرَبْه ثلاثًا ما لم يَغْلِ، فإذا أتَتْ عليه أكثرُ من ثلاثةِ أَيَّامٍ، فلا تَشْرَبْه. وأكثرُ أهلِ العلمِ يَقُولُونَ: هو مُبَاحٌ ما لم يَغْلِ ويُسْكِرْ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اشْرَبُوا في كُلِّ وعَاءٍ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا». أخْرَجَه أبو داودَ (¬1). ولأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِه الشِّدَّةُ المُطْرِبَةُ، وإنَّما ذلك في المُسْكِرِ خاصَّةً. ووَجْه الأوَّل ما روَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُنْبَذُ له ¬

(¬1) في: باب في الأوعية، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 298. كما أخرجه مسلم، في: باب النهى عن الانتباذ في المزفت. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1585. والترمذى، في: باب ما جاء في الرخصة أن ينبذ في الظروف، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 63. والنسائى، في: باب الإذن في ذلك، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 207. وابن ماجه، في: باب ما رخص فيه من ذلك، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1127. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 355. (¬2) في: باب في صفة النبيذ، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 300. كما أخرجه مسلم، في: باب إباحة النبيذ الذى لم يشتد. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1589. والنسائى، في: باب ذكر ما يجوز شربه من الأنبذة وما لا يجوز، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 99. وابن ماجه، في: باب صفة النبيذ وضربه، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1126. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزَّبِيبُ، فيَشْرَبُه اليومَ والغَدَ وبعدَ الغَدِ، إلى مساءِ الثالثةِ، ثم يَأْمُرُ به فيُسْقَى الخَدَمَ، أو يُهَرَاقُ. وروَى الشَّالَنْجِىُّ، بإسْنادِه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «اشْرَبُوا العَصِيرَ ثَلاثًا، مَا لَمْ يَغْلِ» (¬1). وقال ابنُ عمرَ: اشْرَبْه ما لم يَأْخُذْه شَيْطانُه. قيل: وفى كمْ يَأْخُذُه شَيْطانه؟ قال: في ¬

(¬1) لم نجده.

4466 - مسألة: وقال أبو الخطاب: عندى أن كلام أحمد فى ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر فى ثلاثة أيام

وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَصِيرٍ يَتَخَمَّرُ في ثَلَاثٍ غَالِبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثٍ (¬1). ولأَنَّ الشِّدَّةَ تَحْصُلُ في الثَّلاثِ غالِبًا، وهى خَفِيَّةٌ، تَحْتاجُ إلى ضابطٍ، فجاز جَعْلُ الثَّلاثِ ضابِطًا لها. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يكونَ شُرْبُه بعدَ الثَّلاثِ إذا لم يَغْلِ مَكْرُوهًا غيرَ مُحَرَّم، فإنَّ أحمدَ لم يُصَرِّحْ بالتَّحْرِيمِ، وقال في مَوْضِعٍ: أكْرَهُه. وذلك لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُنْ يَشْرَبُه بعدَ ثلاثٍ. 4466 - مسألة: وقال أبو الخَطَّابِ: عِندى أنَّ كلامَ أحمدَ في ذلك مَحْمُولٌ عَلَى عصيرٍ الغالِبُ أنَّه يَتَخَمَّرُ في ثلاثةِ أَيَّامٍ. فصل: وكذلك النَّبيذُ مُباحٌ ما لم يَغْلِ، أو يَأْتِىَ عليه ثلاثةُ أَيَّامٍ. والنَّبِيذُ ما يُلْقَى فيه تمرٌ أَو زَبيبٌ أو نحوُهُما؛ ليَحْلوَ به الماءُ، وتَذهَبَ مُلُوحَتُه، فلا بَأْسَ به ما لم يَغْلِ، أو يَأْتِىَ عليه ثلاثةُ أَيَّامٍ؛ لِما رَوَيْنا عن ابنِ عباسٍ. وقال أبو هُرَيْرَةَ: عَلِمْتُ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَصُومُ، فتَحَيَّنْتُ فِطْرَه. بنَبِيذٍ صَنَعْتُه في دُبَّاءَ، ثم أتَيْتُه به، فإذا هو يَنِشُّ. فقال: «اضْرِبْ بِهَذَا الحَائِطَ، فَإنَّ هذَا شَرَابُ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب ما يجوز شربه من الطلاء. . .، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 295. وعبد الرزاق، في: باب العصير وبيعه، من كتاب الأشربة. المصنف 9/ 217. وابن أبى شيبة، في: باب في شرب العصير من كرهه إذا غلى، من كتاب الأشربة. المصنف 7/ 496. والبيهقى، في: باب ما جاء في صفة نبيذهم الذى كانوا يشربونه. . .، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 301. (¬2) في: المغنى 12/ 513.

4467 - مسألة: (ولا يكره أن يترك فى الماء تمرا أو زبيبا ونحوه؛ ليأخذ ملوحته، ما لم يشتد، أو يأتى عليه ثلاث)

وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتْرُكَ في الْمَاءِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا وَنَحْوَهُ، لِيَأَخُذَ مُلُوحَتَهُ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ، أَوْ يَأْتِىَ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ. وَلَا يُكْرَهُ الْانْتِبَاذُ في الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخِرِ». روَاه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه إذا بَلَغ ذلك صارَ مُسْكِرًا، وكلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ. 4467 - مسألة: (وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتْرُكَ في الْمَاءِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا وَنَحْوَهُ؛ لِيَأَخُذَ مُلُوحَتَهُ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ، أَوْ يَأْتِىَ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ) لِما ذَكَرْنا في الفصلِ الَّذى قبلَه 4468 - مسألة: (ولا يُكْرَهُ الانْتِباذُ في الدُّبَّاءِ، والحَنْتَمِ، ¬

(¬1) في: باب في النبيذ إذا غلى، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 301. كما أخرجه النسائى، في: باب ذكر الأخبار التى اعتل بها من أباح شراب السكر، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 292. وابن ماجه، في: باب نبيذ الجر، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1128.

وَعَنْهُ، يُكْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّقِيرِ، والمُزَفَّتِ) [يجوزُ الانْتِباذُ في الأوْعِيَةِ كلِّها. وعن أحمدَ، أنَّه يُكْرَهُ الانْتِباذُ في الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ والنَّقِيرِ والمُزَفَّتِ] (¬1)؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الانْتِباذِ فيها (¬2). والدُّبَّاءُ: اليَقْطِينُ (¬3). والحَنْتَمُ: الجِرارُ. والنَّقِيرُ: الخَشَبُ. والمُزَفَّتُ: الَّذى يُطْلَى بالزِّفْتِ. والصَّحِيحُ أَنَّه لا يُكْرَهُ؛ لِما روَى بُرَيْدَةُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «نَهَيْتُكُمْ عَن ثَلَاثٍ، وأنَا آمُرُكُمْ بِهِنَّ، نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأشْرِبَةِ [أن لا تَشْرَبُوا إلَّا] (¬4) في ظُرُوفِ الأَدَمِ، فَاشْرَبُوا في كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا». رَواه مسلمٌ (¬5). وهذا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب وفد عبد القيس، من كتاب المغازى، وفى: باب الخمر من العسل، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 3/ 215، 214، 7/ 137. ومسلم، في: باب النهى عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1579، 1580، 1583: أبو داود، في: باب في الأوعية، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 296، 297. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية أن ينبذ في الدباء. . .، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 61. والنسائى، في: باب النهى عن نبيذ الدباء والحنتم والنقير، وباب ذكر النهى عن نبيذ الدباء. . .، وباب تفسير الأوعية، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 273، 274، 275، 276، والإمام أحمد، في: المسند 1/ 228، 2/ 56، 4/ 87، 213. (¬3) أى القرع. (¬4) في الأصل: «إلا أن تشربوا». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 435.

4469 - مسألة: (ويكره الخليطان، وهو أن ينتبذ شيئين،

وَيُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَبِذَ شَيْئَيْنِ، كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَلِيلٌ على نَسْخِ النَّهْى، ولا حُكْمَ للمَنْسُوخِ. فصل: وما طُبِخَ مِن النَّبيذِ والعَصِيرِ قبلَ غَلَيَانِه، حتَّى صارَ غيرَ مُسْكِرٍ، كالدِّبْسِ (¬1)، ورُبِّ الخَرُّوبِ، وغيرِهما من المُرَبَّيَاتِ والسُّكَّرِ، فهو مُبَاحٌ، لأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّما ثَبَت في المُسْكِرِ، ففيما عَدَاه يَبْقَى على أصْلٍ الإِباحَةِ، وما أسْكَرَ كثيرُه فقلِيلُه حَرامٌ، سَواءٌ ذَهَب منه الثُّلُثان، أو أقَلُّ، أو أكثرُ. قال أبو داودَ: سألتُ أحمدَ عن شُرْبِ الطِّلَاءِ إذا ذهبَ ثُلُثاه (¬2)، وبَقِىَ ثُلُثه؟ قال: لا بَأْسَ به. قيل لأحمدَ: إنَّهم يقولونَ: إنَّه يُسْكِرُ. قال: لا يُسْكِرُ، لو كان يُسْكِرُ ما أحَلَّه عمرُ. 4469 - مسألة: (ويُكْرَهُ الخَلِيطَان، وهو أن يَنْتَبِذَ شَيْئَيْن، ¬

(¬1) الدبس: عسل التمر أو ما يسيل من الرطب. (¬2) في ر 3، تش، م، ق: «ثلثه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالتَّمْرِ والزَّبِيبِ) لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الخَلِيطَين (¬1). وقال أحمدُ: الخَلِيطان حَرامٌ. وقال في رجلٍ يَنْقعُ الزَّبِيبَ، والتَّمْرَ الهِنْدِىَّ، والعُنَّابَ ونحوَه، يَنْقَعُه غُدْوَةً، ويَشْرَبُه عَشِيَّةَ للدَّواءِ: أكْرَهُه؛ لأنَّه نَبِيذٌ، ولكن يَطْبُخُه ويَشْرَبُه على المَكانِ. وقد روَى أبو داودَ (¬2) بإسْنادِه، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه نَهَى أن يُنْبَذَ الرُّطَبُ والبُسْرُ جميعًا، ونَهَى أن يُنْبَذَ التمرُ والزَّبِيبُ جميعًا. وفى رِوايةٍ: «انْتَبذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ» (¬3). وعن أبى قَتادَةَ، قال: نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُجْمَعَ بينَ التَّمْرِ والزَّهْوِ (¬4)، والتَّمْرِ ¬

(¬1) انظر تخريج الأحاديث الآتية. (¬2) في: باب في الخليطين، من كتاب الأشربة، سنن أبى داود 2/ 298. كما أخرجه البخارى، في: باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا. . .، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 7/ 140. ومسلم، في: باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1574، 1577. والترمذى، في: باب ما جاء في خليط البسر والتمر، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 67، 68. والنسائى، في: باب خليط البسر والرطب، وباب خليط التمر والزبيب، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 257، 258. وابن ماجه، في: باب النهى عن الخليطين، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1125. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 71، 140، 157، 363، 6/ 18. (¬3) عند أبى داود، في: الباب السابق من حديث أبى قتادة. سنن أبى داود 2/ 299. وانظر التخرسج الآتى. (¬4) في الأصل: «الزهور». والزهو: هو البسر الملون، الذى بدا فيه حمرة أو صفرة وطاب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والزَّبِيبِ، ولْيُنْتَبَذْ كلُّ واحدٍ منهما على حِدَةٍ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال القاضى: يَعْنِى أحمدُ بقولِه: هو حَرامٌ. إذا اشْتَدَّ وأسْكَرَ، وإذا لم يُسْكِرْ لم يَحْرُمْ. وهذا هو الصَّحِيحُ، إن شاء اللَّهُ، وإنَّما نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلةِ إسْراعِه إلى السُّكْرِ المُحَرَّمِ، فإذا لم يُوجَدْ، لم يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ، كما أنَّه عليه السَّلامُ نَهَى عن الانْتِباذِ في الأوعِيَةِ المَذْكُورَةِ لهذه العِلَّةِ، ثم أمَرَهُم بالشُّرْبِ فيها، ما لم تُوجَدْ حقيقةُ الإِسْكارِ، وقد دَلَّ على صِحَّةِ هذا ما رُوِى عن عائشةَ، قالت: كنَّا نَنْبِذُ لرسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَأخُذُ قَبْضةً من تَمْرٍ، وقَبْضَةً من زبيبٍ، فنَطْرَحُها فيه، ثم نَصُبُّ عليه الماءَ، فَنَنْبِذُه غُدْوَةً، فيَشْرَبُه عَشِيَّةً، ونَنْبِذُه عَشِيَّة، فيَشْربُه غُدْوَةً. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬2). فلمَّا كانت مُدَّةُ الانْتِباذِ قريبةً، وهى يومٌ وليلةٌ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا، من كتاب الأشربة. صحيح البخارى 7/ 140. ومسلم، في: باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1575. كما أخرجه النسائى، في: باب خليط الزهو والرطب، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 256. والدارمى، في: باب النهى عن الخليطين، من كتاب الأشربة. سنن الدارمى 2/ 118. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الخليطين، وباب في صفة النبيذ، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 299، 300 وابن ماجه، في: باب صفة النبيذ وشربه، من كتاب الأشربة. سنن ابن ماجه 2/ 1126. كما أخرجه مسلم، في: باب إباحة النبيذ الذى لم يشتد. . .، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1590. والترمذى، في: باب ما جاء في الانتباذ في السقاء، من أبواب الأشربة. عارضة الأحوذى 8/ 63. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 124.

4470 - مسألة: (ولا بأس بالفقاع

وَلَا بَأْسَ بِالْفُقَّاعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُتَوَهَّمُ الإسْكارُ فيها، لم يُكْرَهْ، ولو كان مَكْرُوهًا لَمَا فُعِلَ هذا في بيتِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- له. فعلى هذا، لا يُكْرَهُ ما كان في المُدَّةِ اليَسِيرَةِ، ويُكْرَهُ ما كان في مُدَّةٍ يَحْتَمِلُ إفْضاؤُه إلى الإِسْكارِ، ولا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ ما لم يَغْلِ، أو تَمْضِىَ عليه ثلاثةُ أَيَّامٍ. 4470 - مسألة: (ولا بأْسَ بالفُقَّاعِ) (¬1) وبه قال إسحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. قال شيخُنا (¬2): ولا أعلمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لا يُسْكِرُ، وإذا تُرِكَ يَفْسُدُ، بخلافِ الخمرِ، والأشْياءُ على الإِباحةِ ما لم يَرِدْ بتَحْرِيمِها حُجَّةٌ. ¬

(¬1) الفقاع: شراب يتخذ من الشعير، يُخمر حتى تعلوه فقاعاته. (¬2) في: المغنى 12/ 514.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والخَمْرَةُ إذا أُفْسِدَتْ، فصُيِّرَتْ خَلًّا، لم تَحِلَّ، وإن قَلَب اللَّهُ عَيْنَها فصارَتْ خَلًّا، فهى حَلالٌ. رُوِى هذا عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال الزُّهْرِىُّ. ونحوُ؛ قولُ مالكٍ. وقال الشافعىُّ: إن أُلقِىَ فيها شئٌ يُفْسِدُها كالمِلْحِ، فتخلَّلَتْ، فهى على تَحْرِيمِها، وإن نُقِلَتْ مِن شمسٍ إلى ظِلٍّ، أو مِن ظِلٍّ إلى شمسٍ، فتَخَلَّلَتْ، ففى إباحَتِها قَوْلان. وقال أبو حنيفةَ: تَطْهُرُ في الحالَيْن؛ لأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِها زالَتْ بتَخْلِيلِها فطَهُرَتْ، كما لو تَخَلَّلَتْ بنَفْسِها، يُحَقِّقُه أنَّ التَّطهِيرَ لا فَرْقَ فيه بينَ ما حَصَل بفِعْلِ اللَّهِ تعالى، وفِعْلِ الآدَمِىِّ، كتَطْهيرِ الثَّوْبِ والبَدَنِ والأَرْضِ. ونحوُ هذا قولُ عَطاءٍ، وعمرو بنِ دِينارٍ، والحارِثِ العُكْلِىِّ. وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ وَجْهًا في مذهَبِنا. ولَنا، ما روَى أبو سعيدٍ، قال: كان عندَنا خَمْرٌ ليَتِيمٍ، فلمَّا نَزَلَتِ المائدةُ، سألتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّه لَيَتِيمٌ؟ قال: «أَهْرِيقُوهُ». رَواه التِّرْمِذِىُّ (¬1)، وقال: حديثٌ حَسَنٌ. وعن أنَس، قال: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتُتَّخَذُ الخمرُ خَلًّا؟ قال: «لَا». رَواه مسلمٌ، والتِّرْمِذِىُّ (¬2)، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في النهى للمسلم أن يدفع الى الذمى الخمر. . .، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 267. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب تحريم تخليل الخمر، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1573. والترمذى، في: باب النهى أن يتخذ الخمر خلا، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 294. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وعن أبى طَلْحَةَ، أنَّه سألَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أيْتامٍ وَرِثُوا خَمْرًا؟ فقال: «اهرِقْهَا». قال: أفَلا أُحَلِّلُها؟ قال: «لَا». رَواه أبو داودَ (¬1). وهذا نَهْىٌ يَقْتَضِى التَّحْرِيمَ، ولو كان إلى اسْتِصْلاحِها سَبِيلٌ، لم تَجُزْ إراقتُها، بل أرْشَدَهم إليه (¬2)، سِيّما وهى لأيْتامٍ يَحْرُمُ التَّفْرِيطُ في أمْوالِهم، ولأنَّه إجْماعُ الصَّحابةِ، فرُوِىَ أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، صَعِدَ المِنْبَرَ، فقال: لا يَحِلُّ خَلُّ خَمْرٍ أُفْسِدَت، حتَّى يكونَ اللَّهُ تعالى هو الَّذى تَوَلَّى إفْسادَها، ولا بَأْسَ على مسلمٍ ابْتاعَ مِن أَهْلِ الكتابِ خَلًّا، ما لم يَتَعَمَّدْ إفسادَها. رواه أبو عُبَيْدٍ في «الأَمْوالِ» بنَحْوٍ من هذا المعنى (¬3). وهذا قولٌ يَشْتَهِرُ؛ لأنَّه خَطَب به النَّاسَ على المِنْبَرِ، فلم يُنْكَرْ. فأمَّا إذا انْقَلَبَتْ بنَفْسِها، فإنَّها تَطْهُرُ وتَحِلُّ، في قولِ جميعِهم، فقد رُوِى عن جماعةٍ من الأوائِلِ، أنَّهمِ اصْطَبَغُوا بخَلِّ خمرٍ؛ منهم علىٌّ، وأبو الدَّرْدَاء. ورَخَّصَ فيه الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. وليس في شئٍ من أخْبارِهم أنَّهَم اتَّخَذُوه خَلًّا، [ولا أنَّه] (¬4) انْقَلَبَ بنَفْسِه، لكنْ قد بَيَنّهَ عمرُ بقولِه: لا يَحِلُّ خَلُّ خمرٍ افْسِدَتْ، حتَّى يكونَ اللَّهُ تعالى هو الَّذى يَتَوَلَّى إفْسادَها. ولأنَّها إذا انْقَلَبَتْ بنَفْسِها، فقد زالَتْ عِلَّةُ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في الخمر تخلل، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 292، 293. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 119، 180، 260. (¬2) في الأصل: «. . . إلى إصلاحها». (¬3) في: باب ما يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا. . .، من كتاب فتوح الأرضين صلحا وسننها وأحكامها. الأموال 104. (¬4) في م: «ولأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرِيمِها، من غيرِ عِلَّةٍ خَلَفَتْها، فطَهُرَتْ، كالماءِ إذا زالَ تَغَيُّره بمُكْثِه. وإذا أُلْقِىَ فيها شئٌ يَنْجُسُ بها، ثم انْقَلَبَتْ، بَقِىَ ما أُلْقِىَ فيها نَجِسًا، فنَجَّسَها وحَرَّمَها. فأمَّا إن نَقَلَها مِن مَوْضِعٍ إلى آخَرَ، فتَخَلَّلَتْ مِن غيرِ أن يُلْقِىَ فيها شيئًا، فإن لم يَكُنْ قَصَد تَخْلِيلَها، حَلَّتْ بذلك؛ لأنَّها تخلَّلَتْ بفِعْلٍ اللَّهِ تعالى فيها، وإن قَصَد بذلك تخْلِيلَها، احْتَمَلَ أن تَطْهُرَ، لأنَّه لا فَرْقَ بينَهما إلَّا القَصْدُ، فلا يَقْتَضِى تحْريمَها. ويَحْتَمِلُ أن لا تَطْهُرَ، لأنَّها خلَّلَت، فلم تَطْهُرْ، كما لو أُلْقِىَ فيها شئٌ.

باب التعزير

بَابُ التَّعْزِيرِ وَهُوَ التَّأْدِيبُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِى كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، كَالْاسْتِمْتَاعِ الَّذِى لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإتْيَانِ الْمَرأَةِ الْمَرأَةِ، وَسَرِقَةِ مَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَى وَنَحْوِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ التَّعْزِيرِ وَهُوَ التَّأْدِيبُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِى كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، كَالْاسْتِمْتَاعِ الَّذِى لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإتْيَانِ الْمَرأَةِ الْمَرأَةِ، وَسَرِقَةِ مَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَى وَنَحْوِهِ) والنَّهْبِ والغَصْبِ والاخْتِلاسِ. وسُمِّىَ تَعْزِيرًا، لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْنَعُ من الجِنايَةِ. والأَصْلُ في التَّعْزِيرِ المَنْعُ، ومنه التَّعْزِيرُ بمعنى النُّصْرَةِ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه مَنْعٌ لعَدُوِّه من أذاه.

4471 - مسألة: (ومن وطئ أمة امرأته، فعليه الحد، إلا أن تكون)

وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَيُجْلَدُ مِائَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4471 - مسألة: (وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ) قد (أحَلَّتْها له، فيُجْلَدُ مائَةً. وهل يَلْحَقُه نَسَبُ وَلَدِها؟ على رِوايَتَيْن) أمَّا إذا وَطِئَ جاريةَ امرأتِه بإذْنِها، فإنَّه يُجْلَدُ مائةً، ولا يُرْجَمُ إن كان ثَيِّبًا، وإن كان بِكرًا لم يُغَرَّبْ. وإن لم تَكُنْ أحَلَّتْها له، فهو زانٍ، حُكْمُه حُكْمُ الزَّانِى بجارِيَةِ الأجْنَبِىِّ. وحُكِىَ عن النُّخَعِىِّ، أنَّه يُعَزَّرُ، ولا حَدَّ عليه؛ لأنَّه يَمْلِكُ امرأتَه، فكانت له شُبْهَةٌ في مَمْلُوكَتِها. وعن عمرَ، وعَلىٍّ، وعَطاءٍ، وقَتادَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، أنَّه كوَطْءِ الأجْنَبِيَّةِ، سَواءٌ أحَلَّتْها له أو لم تُحِلَّها؛ لأنَّه لا شُبْهَةَ له فيها، فأشْبَهَ جاريةَ أُخْتِه، ولأنَّه إباحَةٌ لوَطْءِ مُحَرَّمَةٍ عليه، فلم يَكُنْ شُبْهَةً، كإباحةِ سائرِ المُلَّاكِ. وعن ابنِ مسعودٍ، والحسنِ، إن كان اسْتَكْرَهَها، فعليه غُرْمُ مِثْلِها، وتَعْتِقُ، وإن كانت طاوَعَتْه، فعليه غُرْمُ مِثْلِها، ويَمْلِكُها؛ لأَنَّ

4472 - مسألة: (وهل يلحقه نسب ولدها)

وَهَلْ يَلْحَقُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا يُرْوَى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد رَواه ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1)، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬2)، بإسْنادِه، عن حبيبِ بنِ سالمٍ، أنَّ رجلًا يُقالُ له: عبدُ الرحمنِ ابنُ حُنَيْنٍ، وَقَعِ على جارِيةِ امرأتِه، فرُفِعَ إلى النُّعْمانِ بنِ بشيرٍ، وهو أميرٌ على (¬3) الكُوفةِ، فقال: لأقْضِيَنَّ فيك بقَضِيَّةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إنْ كانت أحَلَّتْها لك جَلَدْتُكَ مائةً، وإن لم تَكُنْ أحَلَّتْها لك رَجَمْتُك بالحِجارَةِ. فوَجَدُوها أحَلَّتْها له، فجلَدَه مائةً. 4472 - مسألة: (وهل يَلْحَقُه نَسَبُ وَلَدِها) إذا حَمَلَتْ من هذا الوَطْءِ؟ (على رِوايَتَيْن) إحْدَاهما، يَلْحَقُ؛ لأنَّه وَطْءٌ لا يَجِبُ به الحَدُّ، ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يزنى بجارية امرأته، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 467. والبيهقى، في: باب ما جاء في من أتى جارية امرأته، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 240. (¬2) في: باب في الرجل يزنى بجارية امرأته، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 467. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الرجل يقع على جارية امرأته، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 232. والنسائى، في: باب إحلال الفرج، من كتاب النكاح. المجتبى 6/ 101. وابن ماجه، في: باب من وقع على جارية امرأته، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 853. والدارمى، في: باب في من يقع على جارية امرأته، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 181، 182. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 277. (¬3) سقط من: م.

4473 - مسألة: (ولا يسقط الحد بالإباحة فى غير هذا الموضع)

وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالإِبَاحَةِ في غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَحِقَ به النَّسَبُ، كوطءِ الجاريةِ المُشْتَرَكَةِ. والأُخْرَى، لا يَلْحَقُ به؛ لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ، ولا شُبْهَةِ مِلاكٍ، أشْبَهَ الزِّنَى المَحْضَ. 4473 - مسألة: (ولا يَسْقُطُ الحدُّ بالإِباحَةِ في غيرِ هذا المَوْضِعِ) لعُمومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ على وُجُوبِ الحَدِّ على الزَّانِى، وإنَّما سَقَط الحَدُّ في هذا المَوْضِعِ؛ لحديثِ النُّعْمانِ.

4474 - مسألة: (ولا يزاد فى التعزير على عشر جلدات، فى غير هذا الموضع. وعنه، ما كان سببه الوطء، كوطء جاريته المشتركة والمزوجة ونحوه، ضرب مائة، ويسقط عنه)

وَلَا يُزَادُ في التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، في عيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «ولَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ». وَعَنْهُ، مَا كَانَ سبَبُهُ الْوَطْءَ، كَوَطْءِ جَارِيَتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ والْمُزَوَّجَةِ وَنَحْوِهِ، ضَرْبُ مِائَةٍ، ويَسْقُطُ عَنْهُ النَّفْىُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4474 - مسألة: (ولا يُزادُ في التَّعْزِيرِ على عَشْرِ جَلَداتٍ، في غيْرِ هذا المَوْضِعٍ. وعنه، ما كان سببُه الوَطْءَ، كوَطْءِ جارِيَتِه المُشْتَرَكَةِ والمُزَوَّجَةِ ونحْوِه، ضُرِبَ مائةً، ويَسْقُطُ عنه) التَّغرِيبُ. اخْتلفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، في قَدْرِ التَّعْزيرِ، فرُوِىَ عنه أنَّه لا يُزادُ على عشْرِ جَلَداتٍ. نَصَّ عليه في مَواضِعَ. وهو قولُ إسحاقَ؛ لِما روَى أبو بُرْدَةَ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: «لَا يُجْلَدُ أحَدٌ فَوْقَ عَشْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَلَدَاتٍ، إلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لَا يَبْلُغُ به الحَدَّ. وهو الَّذى ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ لا يَبْلُغُ به أدْنَى حَدٍّ (¬2) مَشْرُوعٍ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، والشافعىِّ. فعلى هذا، لا يَبْلُغُ به أربعين سَوْطًا؛ لأنَّها حَدُّ العَبْدِ في الخَمْرِ والقذفِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وإن قُلْنا: إنَّ حَدَّ الخمرِ أربعون. لم يَبْلُغْ به عشرين سَوْطًا في حَقِّ العبدِ، وأربعين في حَقِّ الحُرِّ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. فلا يُزادُ العبدُ على تسعةَ عشَرَ سَوْطًا، ولا الحُرُّ على تسعةٍ وثلاثين. وقال ابنُ أبى ليلى، وأبو يوسفَ: أدْنَى الحُدودِ ثمانون، فلا يُزادُ في التَّعْزِيرِ على تسعةٍ وسَبْعين. ويَحْتَمِلُ كلامُ أحمدَ والخِرَقِىِّ، أن لا يَبْلُغَ بكلِّ جِنايةٍ حدًّا مشروعًا في جِنْسِها، ويجوزُ أن يَزِيدَ على حَدِّ غيرِ جِنْسِها. فعلى هذا، ما كان سَبَبُه (¬3) الوَطْءَ، جازَ أن يُجْلَدَ مائةً إلَّا سَوْطًا؛ ليَنْقُصَ عن حَدِّ الزِّنَى، وما كان ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب كم التعزير والأدب؟ من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 215. ومسلم، في: باب قدر أسواط التعزيز، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1332، 1333. كما أخرجه أبو داود، في: باب في التعزير، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 476. والترمذى، في: باب في التعزير، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 249، 250. وابن ماجه، في: باب التعزير، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 867. والدارمى، في: باب التعزير في الذنوب، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 176. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 45. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «يشبه».

وَكَذَلِكَ يَتَخَرَّجُ في مَن أَتَى بَهِيمَةً. وَغَيْرُ الْوَطْءِ لَا يُبْلَغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبَبُه غيرَ الوَطْءِ، لم يَبْلُغْ به أدْنَى الحُدودِ (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا من حديثِ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ، في الَّذى وَطِئَ جاريةَ امرأتِه بإذْنِها. أنَّه يُجْلَدُ مائةً. وهذا تَعْزِيرٌ؛ لأنَّه في حَقِّ المُحْصنِ إنَّما هو الرَّجْمُ. وعن سعيدِ بن المُسَيَّبِ، عن عمرَ، في أمَةٍ بينَ رجليْن، وَطِئَها أحدُهما: يُجْلَدُ الحَدَّ إلَّا سَوْطًا واحِدًا (¬2). رَواه الأثرَمُ، واحْتَجَّ به أحمدُ. قال القاضى: هذا عندى من نَصِّ أحمدَ لا يَقْتَضِى اخْتِلافًا في التَّعْزِيرِ، بل المذهبُ أنَّه لا يُزادُ على عَشْرِ جَلَداتٍ؛ اتِّبَاعًا للأثَرِ (¬3)، إلَّا في وَطْءِ جاريةِ امرأتِه؛ لحديثِ النُّعْمانِ، وفى الجارِيَةِ المُشتَرَكَةِ؛ لحديثِ عمرَ، وما عَدَاهما يَبْقَى على العُمومِ؛ لحديثِ أبى بُرْدَةَ. وهذا قولٌ حَسَنٌ (¬4). وإذا ثَبَت تَقْدِيرُ أكثَرِه، فليسَ أقَلُّه مُقَدَّرًا؛ لأنَّه لو تَقَدَّرَ لَكانَ حَدًّا، ولأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدَّرَ أكثرَه، ولم يُقَدِّرْ أقَلَّه، فيُرجَعُ فيه إلى اجْتِهادِ الإِمامِ أو الحاكِمِ فيما يَراه، ¬

(¬1) في الأصل: «الحد». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الأمة فيها شركاء يصيبها بعضهم، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 358. وسعيد بن منصور، في: باب الأمة تكون بين الرجلين يصيبها أحدهما، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 57. وابن أبى شيبة، في: باب في الجارية تكون بين رجلين. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 9. (¬3) في الأصل: «للآية». (¬4) في الأصل، تش: «الحسن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وما يَقْتَضِيه حالُ الشَّخْصِ. وقال مالكٌ: يجوزُ أن يُزادَ التَّعْزِيرُ على الحَدِّ، إذا رَأَى الإِمامُ؛ لِما رُوِى أنَّ مَعْنَ بنَ زَائِدَةَ، عَمِلَ خاتَمًا على نَقْشِ خاتَمِ بيتِ المالِ، ثم جاءَ به صاحبَ بيتِ المالِ، فأخَذَ منه مالًا، فبَلَغَ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فضَرَبَه مائةً، وحَبَسه، وكُلِّمَ فيه، فضَرَبَه مائةً أُخْرَى، فكُلِّمَ فيه من بعدُ، فضربَه مائةً ونَفاه (¬1). وروَى أحمدُ بإسْنادِه، أنَّ عليًّا أُتِى بالنَّجَاشِىِّ قد شَرِب خَمْرًا في رمضانَ، فجَلَدَه (¬2) ¬

(¬1) لم نجده فيما بين أيدينا. ومعن بن زائدة من أجواد العرب أدرك العصرين الأموى والعباسى، فكيف يدرك عمر رضى اللَّه عنه! انظر: وفيات الأعيان 5/ 244. (¬2) في م: «فضربه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثمانينَ الحَدَّ، وعشرينَ سَوْطًا لفِطْرِه في (¬1) رمضانَ (¬2). ورُوِىَ أنَّ أبا الأَسْوَدِ اسْتَخْلَفَه ابنُ عباسٍ على قضاءِ البصرةِ، فأُتِىَ بسارِقٍ قد كان جَمَعَ المَتاعَ في البيتِ، ولم يُخْرِجْه، فقال أبو الأسْوَدِ: أعْجَلْتُمُ المِسْكِينَ. فضَرَبَه خمسةً وعشرين سَوْطًا وخَلَّى سبيلَه (¬3). ولَنا، حديثُ أبى بُرْدَةَ، وهو صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عليه. وروَى الشَّالَنْجِىُّ (¬4) بإسْنادِه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا في غَيْرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنَ المُعْتَدِينَ». ولأَنَّ العُقوبَةَ على قَدْرِ الإِجْرامِ، والمَعاصِىَ المَنْصُوصَ على حُدُودِها أعْظَمُ من غيرِها، فلا يجوزُ أن يَبْلُغَ في أهْوَنِ الأَمْرَيْن عُقُوبَةَ أعْظَمِهما. وما قالُوه يُفْضِى إلى أنَّ مَن قَبَّلَ امرأةَ حَرامًا، يُضْرَبُ أكثرَ مِن حَدِّ الزِّنَى، وهذا غيرُ جائزٍ، لأَنَّ الزِّنَى مع عِظَمِه وفُحْشِه، لا يجوزُ أن يُزَادَ على حَدِّه، فما دُونَه أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الشراب في رمضان وحلق الرأس، من كتاب الأشربة. المصنف 9/ 231. والطحاوى، شرح معانى الآثار 3/ 153، ومشكل الآثار 3/ 168. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في السارق يؤخذ قبل أن يخرج من البيت بالمتاع، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 477. (¬4) وأخرجه البيهقى، في: باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 327. وقال: والمحفوظ هذا الحديث مرسل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا حديثُ مَعْنٍ، فَلعَلَّه كانت له ذُنُوبٌ كثيرةٌ، فأُدِّبَ على جميعِها، أو تَكَرَّرَ منه الأخْذُ، أو كان ذَنْبُه مُشْتَمِلًا على جِناياتٍ؛ أحدُها، تَزْوِيرُه، والثانى، أخْذُه لمالِ (¬1) بيتِ المالِ بغيرِ حَقِّه، والثالثُ، فَتْحُه بابَ هذه الحِيلَةِ لغيرِه، وغيرُ هذا، وأمَّا حديثُ النَّجَاشِىِّ، فإنَّ عليًّا ضَرَبَه الحَدَّ لشُرْبِهِ، [ثم عَزَّرَه عشرين لفِطْرِه، فلم يبلُغْ بتَعْزِيرِه حَدًّا. وقد ذَهَب أحمدُ إلى هذا، ورَأَى أنَّ مَن شَرِب] (¬2) الخمرَ في رمضانَ يُحَدُّ (1)، ثم يُعَزَّرُ؛ لجِنايَتِه من وَجْهَيْن. والذي يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذَكَرْناه، ما رُوِى أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، كَتَب إلى أبى موسى، أن لا يَبْلُغَ بنَكالٍ أكثرَ من عشرينَ سَوْطًا (¬3). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب لا يبلغ بالحدود العقوبات، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 413.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتَّعْزِيرُ يكونُ بالضَّرْبِ والحَبْسِ والتَّوْبِيخِ. ولا يجوزُ قَطْعُ شئٍ منه، ولا جَرْحُه، ولا أخْذُ مالِه؛ لأَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بشئٍ من ذلك عن أحَدٍ يُقْتَدَى به، ولأَنَّ الواجِبَ أدَبٌ، والتَّأْدِيبُ لا يكونُ بالإِتْلافِ، وإن رَأَى الإِمامُ العَفْوَ عنه، جازَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتَّعْزِيرُ فيما شُرِعَ فيه التَّعْزِيرُ واجِبٌ، إذا رَآه الإِمامُ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: ليس بواجِبٍ؛ لأَنَّ رجلًا جاءَ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنِّى لَقِيتُ امرأةً، فأصَبْتُ منها ما دونَ أن أطأَها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال «أصَلَّيْتَ مَعَنَا؟». قال: نعم. فَتَلا عليه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1). وقال في الأنْصارِ: «قْبَلُوا مِن مُحْسِنِهم، وتَجاوَزُوا عن مُسِيئِهم» (¬2). وقال رجلٌ للنبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حُكْمٍ حَكَم به للزُّبَيْرِ: أن كان ابنَ عَمَّتِكَ؟ فغَضِبَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يُعَزِّرْه على مَقالَتِه (¬3). وقال ¬

(¬1) سورة هود 114. والحديث تقدم تخريجه، في صفحة 282. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»، من كتاب مناقب الأنصار. صحيح البخارى 5/ 43. ومسلم، في: باب من فضائل الأنصار رضى اللَّه تعالى عنهم، من عناب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1949. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 289، 290، 3/ 162، 176، 187. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 1421.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له رجلٌ: إنَّ هذه لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بها وَجْهُ اللَّه (¬1). ولَنا، أنَّ ما كان من التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عليه، كوَطْءِ جاريةِ امرأتِه، أو (¬2) جاريةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فيَجِبُ امْتِثالُ الأمرِ فيه، وما لم يَكُنْ مَنْصُوصًا عليه، إذا رأى الإِمامُ المَصْلَحَةَ فيه، أو عَلِم أنَّه لا يَنْزَجِرُ إلَّا به، [وجَبَ؛ فإنَّه زَجْر] (¬3) مَشْرُوعٌ لحَقِّ اللَّهِ تعالى، فوَجَبَ، كالحَدِّ. وإن رأى الإِمامُ العَفْوَ عنه ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب حدثنى إسحاق بن نصر، من كتاب الأنبياء، وفى: باب الصبر على الأذى، من كتاب الأدب، وفى: باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة. . .، من كتاب الاستئذان. صحيح البخارى 4/ 191، 8/ 31، 80. ومسلم، في: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 739. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 380، 411، 441. (¬2) في م: «و». (¬3) في الأصل: «زاجر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جازَ؛ لِما ذَكَرْنا من النُّصُوصِ. واللَّهُ أعلمُ. وإن كان التَّعْزِيرُ لحَقِّ آدَمِىٍّ فطَلَبَه، لَزِمَه إجابَتُه، كسائرِ حُقُوقِ الآدَمِيِّينِ.

4475 - مسألة: (وإن استمنى بيده لغير حاجة عزر)

وَمَنِ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، عُزِّرَ، وَإِنْ فَعَلَهُ خَوْفًا مِنَ الزِّنَى، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4475 - مسألة: (وإنِ اسْتَمْنَى بيَدِه لغيرِ حاجَةٍ عُزِّرَ) لأنَّه مَعْصِيَةٌ (وإن فَعَلَه خَوْفًا مِن الزِّنَى، فلا شئَ عليه) لأنَّه لو فَعَل ذلك خَوْفًا على بَدَنِه، لم يَلْزَمْه شئٌ، ففِعْلُه خَوْفًا على دِينِه أَوْلَى.

باب القطع فى السرقة

بَابُ الْقَطْعِ في السَّرِقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ القَطْعِ في السَّرقَةِ الأصلُ فيه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ، فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1). وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَتْ عائشةُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «تُقْطَعُ اليَدُ في رُبْعِ (¬2) دِينارٍ فَصَاعِدًا» (¬3). وقال النَّبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، بِأنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإِذَا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). في أخْبارٍ سِوَى هذه، نَذْكُرُها إن شَاءَ اللَّهُ ¬

(¬1) سورة المائدة 38. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 199. ومسلم، في: باب حد السرقة ونصابها، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1312، 1313. وأبو داود، في: باب في ما يقطع السارق، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 448. والنسائى، في: باب ذكر الاختلاف على الزهرى، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 71، 72. وابن ماجه، في: باب حد السارق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 862. والدارمى، في: باب ما يقطع فيه اليد، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 172. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 36. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب وقال الليث. . .، من كتاب المغازى، وفى: باب إقامة الحدود على الشريف =

4476 - مسألة: (ولا يجب إلا بسبعة شروط؛ أحدها، السرقة؛ وهى أخذ المال على وجه الاختفاء)

وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا، السَّرِقَةُ؛ وَهِىَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ. وَلَا قَطْعَ عَلَى مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ، وَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى في مَواضِعِها، وأجْمَعَ المسلمون على وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ في الجملةِ. 4476 - مسألة: (وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، السَّرِقَةُ؛ وَهِىَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ) ومنه اسْتِراقُ السَّمْعِ، ومُسارَقَةُ النَّظرَ، إذا كان يَسْتَخفِى بذلك. 4477 - مسألة: (ولا قَطْعَ على مُنْتَهِبٍ، ولا مُخْتَلِسٍ، ولا ¬

_ = والوضيع، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 5/ 192، 193، 8/ 199. ومسلم، في: باب قطع السارق الشريف وغيره. . .، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1315. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الحد يشفع فيه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 445. والنسائى، في: باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين. . . في المخزومية التى سرقت، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 64 - 68. وابن ماجه، في: باب الشفاعة في الحدود، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 851. والدارمى، في: باب الشفاعة في الحدود، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 173. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 162.

غَاصِبٍ، وَلَا خَائِنٍ، وَلَا جَاحِدِ وَدِيعَةٍ وَلَا عَارِيَّةٍ. وَعَنْهُ، يُقْطَعُ جَاحِدُ الْعَارِيَّةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ غاصِبٍ، ولا خائِنٍ، ولا جاحِدِ وَدِيعَةٍ ولا عارِيَّةٍ. وعنه، يُقْطَعُ جاحِدُ العَارِيَّةِ) [لا يُقْطَعُ مُخْتَطِفٌ] (¬1) ولا مُخْتَلِسٌ عندَ أحدٍ عَلِمْناه، غيرَ إياسِ ابنِ مُعاويةَ (¬2)، قال: أقْطَعُ المُخْتَلِسَ؛ لأنَّه (¬3) يَسْتَخْفِى بأخْذِه، فيكونُ سَارِقًا. وأهلُ الفِقْهِ والفَتْوَى مِن عُلَماءِ الأمْصارِ على خِلافِه. وقد رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَيْسَ عَلَى الخَائِنِ وَلَا المُخْتَلِسِ قَطْعٌ». وعن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى المُنْتَهِبِ قَطْعٌ». وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «لَيْسَ عَلَى الخَائِنِ وَالمُخْتَلِسِ قَطْعٌ». روَاهما أبو داودَ [والتِّرْمِذىُّ (¬4)، وصَحَّحَه] (¬5). وقال (¬6): لم يَسْمَعْهُما ابنُ جُرَيْجٍ مِن ¬

(¬1) في الأصل، تش: «لأنه قطع مختلف فيه». (¬2) هو إياس بن معاوية بن قرة المزنى. قاضى البصرة، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة. انظر ترجمته مستوفاة في: تهذيب الكمال 3/ 407 - 440. (¬3) في م: «ولأنه». (¬4) أخرجهما أبو داود، في: بماب القطع في الخلسة والخيانة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 450. والترمذى، في: باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب، من أبواب السرقة. عارضة الأحوذى 6/ 228، 229. كما أخرجهما النسائى، في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 81، 82. وابن ماجه، في: باب الخائن والمنتهب والمختلس، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 864. والدارمى، في: باب ما لا يقطع من السراق، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 175. (¬5) سقط من: ق، م. (¬6) أى أبو داود.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَبِى الزُّبَيْرِ. ولأَنَّ الواجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وهذا غيرُ سارِقٍ، ولأَنَّ الاخْتِلاسَ نَوْعٌ مِن الخَطْفِ والنَّهْبِ، وإنَّما اسْتَخْفَى في ابْتِداءِ اخْتلاسِه، بخِلافِ السَّارِقِ. فصل: ولا يُقْطَعُ جاحِدُ الوَدِيعَةِ، ولا غيرِها مِن الأماناتِ، لا نعلمُ فيه خِلافًا، فأمَّا جاحِدُ العَارِيَّةِ، فقد اخْتُلِفَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، فيه، فعنه أنَّه يُقْطَعُ. وهو قولُ إسحاقَ؛ لِما [رُوِى عن] (¬1) عائشةَ، أنَّ (¬2) امرأةً كانت (¬3) تسْتَعِيرُ المَتاعَ وتَجْحَدُه، فأمَرَ النبىُّ بقَطْعِ يَدِها، فأتَى أهْلُها أُسامَةَ، فكَلَّمُوه، فكَلَّمَ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا (¬4) أرَاكَ تُكَلِّمُنِى في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟». ثم قامَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَطِيبًا، فقال: ¬

(¬1) في م: «روت». (¬2) في م: «قالت: كانت». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «إنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأنَّه إذَا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِه لو كانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا». قالَتْ: فقَطَعَ يَدَها. قال أحمدُ: لا أعرفُ شيئًا يَدْفَعُه. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن أحمدَ رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّه لا قَطْعَ عليه. وهو قولُ الخِرَقِىِّ، وأبى إسحاقَ بنِ شَاقْلَا، وأبى الخَطَّاب، وسائرِ الفُقَهاءِ. وهو الصَّحِيحُ، إن شَاءَ اللَّهُ تعالى؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ عَلَى الخَائِنِ». ولأَنَّ الواجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، والخائنُ ليس بسارِقٍ، فأَشْبَهَ جاحِدَ الوَدِيعَةِ، فأمَّا المرأةُ التى كانت تَسْتَعِيرُ المَتاعَ فإنَّما قُطِعَتْ لسَرِقَتِها، لا لجَحْدِها، ألا تَسْمَعُ قولَه: «إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ». وقولَه: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَده لَوْ كَانتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا». وفى بعضِ ألفاظِ رُواةِ (¬2) هذه القصَّةِ عن عائشةَ، أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُم شَأْنُ المَخْزُومِيَّةِ التى سَرَقَتْ، وذَكَر القِصَّةَ. رَواه البخارِىُّ. وفى حديثٍ أنَّها سَرَقَتْ قَطِيفَةً، فرَوَى الأَثْرَمُ بإسْنادِه، عن مسعودِ (¬3) [بنِ الأسْوَدِ] (¬4)، قال: لمَّا سَرَقَتِ المرأةُ تلك القَطِيفَةَ من بيتِ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أعْظَمْنَا ذلك، وكانتِ امرأةً مِن قُرَيْشٍ، فجِئْنَا إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْنا: نحنُ نَفْدِيها بأرْبَعِين أُوقِيَّةً. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 467. (¬2) في الأصل: «رواية». (¬3) في تش: «ابن مسعود». (¬4) سقط من: الأصل، تش.

4478 - مسألة: (ويقطع الطرار، وهو الذى يبط الجيب وغيره، ويأخذ منه. وعنه، لا يقطع)

وَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ، وَهُوَ الَّذِى يَبُطُّ الجَيْبَ وَغَيْرَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ. وَعَنْهُ، لَا يُقْطَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «تُطَهَّرُ خَيْرٌ لَها». فلمَّا سَمِعْنا لِينَ كلامِ رسولِ اللَّهِ، أتَيْنَا أُسامةَ، فقُلْنا: كَلِّمْ لَنا رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذَكَر الحديثَ بنحوِ سِياقِ حَديثِ عائشةَ (¬1). وهذا ظاهِرٌ في أنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ، وأنَّها سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ لسَرِقَتِها، وإنَّما عَرَّفَتْها عائشةُ بجَحْدِها للعارِيَّةِ؛ لكَوْنِها مَشْهُورَةً بذلك، ولا يَلْزَمُ أن يكونَ ذلك سببًا، كما لو عَرَّفَتْها بصِفَةٍ مِن صِفاتِها، وفيما ذَكَرْناه جَمْعٌ بينَ الأحاديثِ، ومُوافَقَة لظاهِرِ الأحاديثِ والقياسِ وفُقَهاءِ الأمْصارِ، فيكونُ أوْلَى. 4478 - مسألة: (وَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ، وَهُوَ الَّذِى يَبُطُّ الجَيْبَ وَغَيْرَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ. وَعَنْهُ، لَا يُقْطَعُ) قال أحمدُ: الطَّرَّارُ سِرًّا يُقْطَعُ، وإنِ اخْتَلَسَ لم يُقْطَعْ. ومَعْنَى الطَّرَّارِ: الَّذى يَسْرِقُ مِن جَيْبِ الرَّجُلِ أو كُمِّه أو صُفْنِه (¬2)، وسَواءٌ بَطَّ ما أخَذَ منه المسروقَ، أو قَطَع الصُّفْنَ ¬

(¬1) وانظر ما أخرجه أبو داود، في: باب في الحد يشفع فيه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 446. وابن ماجه، في: باب الشفاعة في الحدود، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 851. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 409، 6/ 329. (¬2) الصفن بالضم: وعاء من جلد كالسفرة يجعل فيه أهل البادية زادهم.

فصل

فَصْلٌ: الثَّانِى، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَالْفَاكِهَةِ، وَالْبِطِّيخِ أَوْ لَا، وَسَواءٌ كَانَ ثَمِينًا، كَالْمَتَاعِ وَالذَّهَبِ، أَوْ غَيْرَ ثَمِينٍ، كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأَخذَه، أو أدْخَلَ يَدَه في الجَيْبِ فأخَذَ ما فيه، فإنَّ عليه القَطْعَ. ورُوِىَ عن أحمدَ في الَّذى يَأْخُذُ مِن جَيْب الرجلِ وكُمِّه: لا قَطْعَ عليه. وفى ذلك رِوَايتان، إحْدَاهما، يُقْطَعُ، لأنَّه سَرَق مِن حِرْزٍ. والثانيةُ، لا يُقْطَعُ، كالمُخْتَلِسِ. فصل: (الثَّانِى، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُحْتَرَمًا، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَالْفَاكِهَةِ، وَالْبِطِّيخِ أَوْ لَا، وَسَواءٌ كَانَ ثَمِينًا، كَالْمَتَاعِ وَالذَّهَبِ، أَوْ غَيْرَ ثَمِينٍ، كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ) وكذلك يُقْطَعُ بسَرقَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحْجارِ، والصَّيْدِ، والنُّورَةِ (¬1)، والجِصِّ، والزِّرْنِيخِ، والتَّوَابِلِ، والفَخَّارِ، والزُّجاجِ، وغيرِه. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ على سارِقِ الطَّعامِ الرَّطْبِ الَّذى يَتَسارَعُ إليه الفَسادُ، كالفَواكِهِ، والطَّبَائِخِ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ في ثَمَرِ وَلَا كَثَر (¬2)». رَواه أبو داودَ (¬3). ولأَنَّ هذا مُعَرَّضٌ للهَلاكِ، أشْبَهَ ما لم يُحْرَزْ. ولا قَطْعَ فيما كان أصْلُه مُباحًا في دارِ الإِسْلامِ، كالصُّيودِ، والخَشَبِ، إلَّا في السَّاجِ، والآبِنُوسِ، والصَّنْدَلِ، والقَنَا، ¬

(¬1) النُّورة: حَجر الكِلْس. (¬2) الكثر: بالتسكين ويحرك: جُمَّار النخل أو طلعها. (¬3) في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 449. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر، من أبواب السرقة. عارضة الأحوذى 6/ 229، 230. والنسائى، في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب السارق. المجتبى 8/ 80، 81. وابن ماجه، في: باب لا يقطع في ثمر ولا كثر، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 865. والدارمى، في: باب ما لا يقطع فيه من الثمار، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 174. والإمام مالك، في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 839. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 464، 4/ 140، 142. وهو حديث صحيح. انظر الإرواء 8/ 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعمُولِ مِن الخشَبِ، فإنَّه يُقْطَعُ به. وما عَدا هذا لا يُقْطَعُ به؛ لأنَّه يُوجَدُ كثيرًا مُباحًا في دارِ الإِسْلامِ، فأشْبَهَ التُّرَابَ. ولا قَطْعَ في القُرُونِ، وإن كانت مَعْمُولةً؛ لأَنَّ الصَّنْعَةَ لا تكونُ غالبةً عليها، بل القِيمَةُ لها، بخِلافِ مَعْمُولِ الخَشَبِ. ولا قَطْعَ عندَه في التَّوَابِلِ، والنُّورَةِ، والجِصِّ، والزِّرْنِيخِ، والمِلْحِ، والحجارَةِ، واللَّبنِ، والزُّجَاجِ، والفَخَّارِ. وقال الثَّوْرِىُّ: ما يَفسُدُ في يَوْمِه، كالثَّرِيدِ واللَّحْمِ، لا قَطْعَ فيه. ولَنا، عُمُومُ قولِه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1). وروَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عن الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فَذَكَرَ الحديثَ، ثم قال: «وَمَنْ سَرَقَ مِنْ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ (¬2) الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ، فَفِيهِ القَطْعُ». رَواه أبو داودَ، وغيرُه (¬3). ورُوِىَ أنَّ عثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أُتِى برجلٍ قد سَرَق ¬

(¬1) سورة المائدة 38. (¬2) في الأصل، تش: «يعتريه». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 449. والنسائى، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 78، 79. وابن ماجه، باب من سرق من الحرز، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 865، 866. وهو حديث حسن. انظر الإرواء 8/ 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُتْرُجَّةً، فأمَرَ بها عثمانُ فأُقِيمَتْ، فبَلَغَتْ قِيمَتُها رُبْعَ دِينارٍ، فأمَرَ به عثمانُ فقُطِعَ. رَواه سعيدٌ (¬1). ولأَنَّ هذا مالٌ يُتَمَوَّلُ عادةً، ويُرْغَبُ فيه، ¬

(¬1) وأخرجه الإمام مالك، في: باب ما يحب فيه القطع، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 832. والبيهقى، في: باب ما جاء عن الصحابة رضى اللَّه عنهم فيما يجب به القطع، وباب القطع في الطعام الرطب، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 260، 262. وابن أبى شيبة، في: باب في السارق من قال: يقطع في أقل من عشرة دراهم، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 472، 473.

4479 - مسألة: (ويقطع بسرقة العبد الصغير)

وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيُقْطَعُ سارِقُه إذا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ، كالمُجَفَّفِ، ولأَنَّ ما وَجَب القَطْعُ في مَعْمُولِه، وَجَب فيه قبلَ العَمَلِ، كالذَّهَبِ، والفِضَّةِ. وحَدِيثُهم أرادَ به الثَّمَرَ المُعَلَّقَ؛ بدَليلِ حدِيثِنا، فإنَّه مُفَسِّرٌ له، وتَشْبِيهُه بغيرِ المُحْرَزِ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ غيرَ المُحْرَزِ مُضَيَّعٌ، وهذا مَحْفُوظٌ، ولهذا افْتَرَقَ سائِرُ الأموالِ بالحِرْزِ وعدَمِه. وقولُهم: يُوجَدُ مُباحًا في دارِ الإِسْلامِ. يَنْتَقِضُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والحَدِيدِ، والنُّحَاسِ، وسائرِ المعادِنِ. 4479 - مسألة: (ويُقْطَعُ بسَرِقَةِ العَبْدِ الصَّغِيرِ) في قَوْلِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ على هذا كُّل مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ؛ منهم الحسنُ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 294.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْى. والصَّغِيرُ الَّذى يُقْطَعُ بسَرِقَتِه، هو الَّذى لا يُمَيِّزُ، فإن كان كبيرًا لم يُقْطَعْ سارِقُه، إلَّا أن يكونَ نائمًا، أو مجْنونًا، أو أعْجَمِيًّا لا يُمَيِّزُ بينَ سَيِّدِه وغيرِه في الطَّاعَةِ، فيُقْطَعُ سارِقُه. وقال أبو يوسف: لا يُقْطَعُ سارِقُ العَبْدِ وإن كان صَغِيرًا؛ لأَنَّ مَن لَا يُقْطَعُ بسَرِقَتِه كَبيرًا، لا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِه صغيرًا، كالحُرِّ. ولَنا، أنَّه سَرَق مالًا مَمْلوكًا تَبْلُغُ قِيمَتُه نِصابًا، فوَجَب القَطْعُ عليه، كسائرِ الحيواناتِ. وفارَقَ الحُرَّ، فإنَّه ليس بمالٍ ولا مَمْلُوكٍ. وفارَقَ الكبيرَ؛ لأنَّه لا يُسْرَقُ، وإنَّما يُخْدَعُ بشئٍ. فإن كان المَسْرُوقُ في حالِ نَوْمِه أو جُنُونِهِ (¬1) أُمَّ ولدٍ، ففى قَطعِ سارِقِها وَجْهان؛ أحدُهما، لا يُقْطَعُ؛ لأنَّها لا يَحِلُّ بَيْعُها، ولا نَقْلُ المِلْكِ فيها، فأشْبَهَتِ الحُرَّةَ. والثانى، يُقْطَعُ؛ لأنَّها مَمْلُوكَةٌ تُضْمَنُ بالقِيمَةِ، فأشْبَهَتِ القِنَّ. وحُكْمْ المُدَبَّرِ حُكْمُ القِنِّ؛ لأنَّه يجوزُ بَيْعُه، ¬

(¬1) بعده في الأصل، تش، ر 3: «أو».

4480 - مسألة: (ولا يقطع بسرقة حر وإن كان صغيرا. وعنه،

وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ حُرٍّ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا. وَعَنْهُ، أنَّه يُقْطعُ بِسَرِقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُضْمَنُ بقِيمَتِه. فأمَّا المُكاتَبُ، فلا يُقْطَعُ سارِقُه؛ لأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِه ليس بتَامٍّ عليه؛ لكَوْنِه لا يَمْلِكُ مَنافِعَه، ولا اسْتِخْدامَه، ولا أخَذَ أَرْشِ الجِنايةِ عليه، ولو جَنَى السَّيِّدُ عليه، لَزِمَه له الأَرْشُ، ولو اسْتَوْفَى مَنافِعَه كَرْهًا، لَزِمَه عِوَضُها، ولو حَبَسَه لَزِمَه أُجْرَةُ مُدَّةِ حَبْسِه، [أو إنْظارُه] (¬1) مقدارَ تلك المُدَّةِ. ولا يَجبُ القَطْعُ لأجلِ مِلْكِ المُكاتَبِ في نفْسِه؛ لأَنَّ الإنْسانَ لا يَمْلِكُ نَفْسَه، فأَشْبَهَ الحُرَّ. فأمَّا إن سَرَق مالَ المُكاتَبِ، فعليه القَطْعُ؛ لأَنَّ مِلْكَ المكاتَبِ ثابِتٌ في مالِ نَفْسِه، إلَّا أن يكونَ السارِقُ سَيِّدَه، فلا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ له في مالِه حَقًّا وشُبْهَةً تَدْرَأُ الحَدَّ، ولذلك لو وَطِئَ جارِيَتَه لم يُحَدَّ. 4480 - مسألة: (ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ حُرٍّ وإن كان صَغِيرًا. وعنه، ¬

(¬1) في الأصل، تش: «وإنظاره».

4481 - مسألة: فإن كان عليه حلى أو ثياب تبلغ نصابا، لم يقطع

الصَّغِيرِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُقْطَعُ. فَسَرَقَهُ وَعَلَيْهِ حَلْىٌ، فَهَلْ يُقْطَعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يُقْطَعُ بسَرِقَةِ الصَّغِيرِ) ظاهِرُ المذهَبِ أَنَّه لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ الحُرِّ الصَّغيرِ. وبهذا قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ رِوايةٌ ثانيةٌ، أنَّه يُقْطَعُ بسَرِقَةِ الصَّغِيرِ. وذَكَرَها أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ الحسنِ، والشَّعْبِىِّ، ومالكٍ، وإسحاقَ؛ لأنَّه غيرُ مُمَيِّزٍ، أشْبَهَ العَبْدَ. ولَنا، أنَّه ليس بمالٍ، فلا يُقْطَعُ بسَرِقَتِه، كالكبيرِ النَّائمِ. 4481 - مسألة: فإن كان عليه حَلْىٌ أو ثِيابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا، لَمْ يُقْطَعْ. وبه قال أبو حنيفةَ، وأكثرُ أصحابِ الشافعىِّ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّه يُقْطَعُ. حَكاه أبو الخَطَّابِ. وبه قال أبو يوسفَ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لظاهرِ الكِتابِ، ولأنَّه سَرَقَ نِصابًا من المالِ، فأشْبَهَ ما لو سَرَقَه مُنْفَرِدًا. ولَنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه تابعٌ لِما لا قَطْعَ في سَرِقَتِه، فأشْبَهَ ثِيابَ الكبيرِ، ولأَنَّ يَدَ الصَّبِىِّ على ما عليه؛ بدليلِ أنَّ ما يُوجَدُ مع اللَّقيطِ يكونُ له. وهكذا لو كان الكبيرُ نائمًا على مَتاعٍ، فسَرَقَه وثِيابَه، لم يُقْطَعْ؛ لأَنَّ يَدَه عليه. فصل: وإن سَرَقَ ماءً، فلا قَطْعَ فيه. قالَه أبو بكرٍ، وأبو إسحاقَ ابنُ شَاقْلَا؛ لأنَّه لا يُتَمَوَّلُ عادةً. ولا نعْلَمُ فيه خِلافًا. فإن سَرَق كَلَأ أو مِلْحًا، فقال أبو بكرٍ: لا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه ممَّا ورَد الشَّرْعُ باشْتِراكِ [النَّاسِ فيه] (¬1)، فأشْبَهَ الماءَ (¬2). وقال أبو إسحاقَ: عليه القَطْعُ؛ لأنَّه يُتَمَوَّلُ عادَةً، فأشْبَهَ التِّبْنَ والشَّعِيرَ. وأمَّا الثَّلْجُ، فقال القاضى: هو كالماءِ؛ لأنَّه ماءٌ جامِدٌ، فأشْبَهَ الجَلِيدَ. قال شيخُنا (¬3): والأشْبَهُ أنَّه كالمِلْحِ؛ لأنَّه يُتَمَوَّلُ عادةً، فأشْبَهَ المِلْحَ المُنْعَقِدَ من الماءِ. وأمَّا التُّرابُ، فإن كان ممَّا تَقِلُّ الرَّغَباتُ فيه (¬4)، كالمُعَدِّ للتَّطْيِينِ والبِناءِ، فلا قَطْعَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في تش، م: «المال». (¬3) في: المغنى 12/ 423. (¬4) سقط من: الأصل، تش.

4482 - مسألة: (ولا يقطع بسرقة مصحف. وعند أبى الخطاب، يقطع)

وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مُصْحَفٍ. وَعِنْدَ أبِى الْخَطَّابِ، يُقْطَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه؛ لأنَّه لا يُتَمَوَّلُ، وإن كان مِمَّا له قِيمَةٌ كثيرةٌ، كالطِّينِ الأرْمَنِىِّ الَّذى يُعَدُّ للدَّواءِ، أو المُعَدِّ للغُسْلِ به، أو الصَّبْغِ كالمَغْرَةِ (¬1)، احْتَمَلَ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، لا قَطْعَ فيه؛ لأنَّه من جِنْسِ ما لا يُتَمَوَّلُ، أشْبَهَ الماءَ. والثانى، فيه القَطْعُ؛ لأنَّه يُتَمَوَّلُ عادةً، ويُحْمَلُ إلى البُلْدانِ للتِّجارَةِ فيه، فأشْبَهَ العُودَ الهِنْدِىَّ. ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ السِّرْجِينِ (¬2)؛ لأنَّه إن كان نَجِسًا فلا قِيمَةَ له، وإن كان طاهِرًا، فلا يُتَمَوَّلُ عادةً، ولا تَكْثُرُ الرَّغَباتُ فيه، أشْبَهَ التُّرابَ الَّذى للبِنَاءِ. وما عُمِلَ من التُّرابِ كاللَّبِنِ والفَخَّارِ، ففيه القَطْعُ؛ لأنَّه يُتَمَوَّلُ عادةً. 4482 - مسألة: (ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مُصْحَفٍ. وعندَ أبى الخَطَّابِ، يقْطَعُ) قال أبو بكرٍ، والقاضى: لا قَطْعَ فيه. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ المقْصودَ منه ما فيه من كَلامِ اللَّهِ تعالى، وهو ممَّا لا يَجُوزُ ¬

(¬1) المغرة: طين أحمر. (¬2) السرجين: الزِّبل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْذُ العِوَضِ عنه. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ وُجوبَ قَطْعِه، وقال: هو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ، فإنَّه سُئِلَ عمَّن سَرَق كِتابًا فيه عِلْمٌ ليَنْظُرَ فيه، فقال: كُلُّ ما بَلَغَتْ قِيمَتُه ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ. وهذا قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لعُمومِ الآيةِ في كلِّ سارِق، ولأنَّه مُتَقَوَّمٌ، تَبْلُغُ قِيمتُه نِصابًا، فوَجَبَ القَطْعُ بسَرِقَتِه، ككُتُبِ [العلمِ و] (¬1) الفِقْهِ. ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

4483 - مسألة: (ويقطع بسرقة سائر كتب العلم)

وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ سَائِرِ كُتُبِ الْعِلْمِ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ آلةِ لَهْوٍ، وَلَا مُحَرَّمٍ، كَالْخَمْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4483 - مسألة: (ويُقْطَعُ بسَرِقَةِ سائِرِ كُتُبِ العلمِ) ولا نعلمُ فيه خِلافًا بينَ أصحابِنا في القَطْعِ بسَرِقَةِ كُتُبِ الفِقْهِ، والحديثِ، وسَائرِ العُلومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لعُمومِ الأدِلَّةِ. فصل: فإن قُلْنا: لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ المُصْحَفِ. وكان عليه حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصابًا، خُرِّجَ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يُقْطَعُ. وهو قياسُ قولِ أبى إسحاقَ ابنِ شَاقْلَا، ومذهبُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ الحَلْىَ تابِعٌ لِما لا يُقْطَعُ بسَرِقَتِه، فأشْبَهَتْ ثِيابَ الحُرِّ. والثانى، يُقْطَعُ. وهو قولُ القاضِى؛ لأنَّه سَرَق نِصابًا مِن الحَلْى، فأشْبَهَ ما لو سَرَقَه مُنْفَرِدًا. وأصْلُ هذَيْن الوَجْهَيْن مَن سَرَقَ صَبِيًّا عليه حَلْىٌ. فصل: وإن سَرَقَ عَيْنًا مَوْقُوفَةً، وَجَب القَطْعُ؛ لأنَّها مَمْلُوكَةٌ للمَوْقُوفِ عليه. ويَحْتَمِلُ أن لا يُقطَعَ، بِناءً على الوَجْهِ الَّذى يقولُ: إنَّ المَوْقُوفَ لا يَمْلِكُه المَوْقُوفُ عليه. فعلى هذا، إن كان وَقْفًا على (¬1) غيرِ مُعَيَّنٍ، لم يُقْطَعْ بسَرِقَتِه. 4484 - مسألة: (ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ آلةِ لَهْوٍ، ولا مُحَرَّمٍ، كالخَمْرِ) لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ آلةِ لَهْوٍ؛ كالطُّنْبُورِ (¬2)، والمِزْمَارِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) الطبور: آلة من آلات اللهو والطرب ذات عنق وأوتار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشَّبَّابَةِ، وإن بَلَغَتْ قِيمتُه مُفَصَّلًا نِصابًا. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: إن كانت قِيمتُه بعدَ زَوالِ تَأْلِيفِه نِصابًا، ففيه القَطْعُ، وإلَّا فلا، لأنَّه سَرَق ما قِيمتُه نِصابًا، لا شُبْهَةَ له فيه، من حِرْزِ مِثْلِه، وهو من أهلِ القَطْعِ، فوَجَب قَطْعُه، كما لو كان ذَهَبًا مَكْسُورًا. ولَنا، أنَّه آلةٌ للمَعْصِيَةِ بالإِجْماعِ، فلم يُقْطعْ بسَرقَتِه، كالخَمْرِ، ولأَنَّ له حَقًّا في أخْذِها لكَسْرِها، فكان ذلك شُبْهَةً مانِعَةً من القَطْعِ، كاسْتِحْقَاقِه مالَ ولدِه. فإن كانتْ عليه حِلْيَة تَبْلُغُ نِصابًا، فلا قَطْعَ فيه أيضًا، في قِياسِ قولِ أبى بكرٍ، لأنَّه مُتَّصِل بما لا قَطْعَ فيه، أشْبَهَ الخَشَبَ والأوْتارَ. وقال القاضى: فيه القَطْعُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، لأنَّه سَرَق نِصابًا من حِرزِه، أشْبَهَ المُنْفَرِدَ. فصل: ولا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مُحَرَّمٍ؛ كالخمرِ، والخِنْزيرِ، والمَيْتَةِ، ونحوِها، سَواءٌ سَرَقَه من مسلمٍ أو كافرٍ. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وحُكِىَ عن عطاءٍ أنَّ سارِقَ خمرٍ الذِّمِّىِّ يُقْطَعُ، وإن

4485 - مسألة: (وإن سرق آنية فيها الخمر، أو صليبا، أو صنم ذهب، لم يقطع. وعند أبى الخطاب، يقطع)

وَإِنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا الْخَمْرُ، أَوْ صَلِيبًا، أَوْ صَنَمَ ذَهَبٍ، لَمْ يُقْطَعْ. وَعِنْدَ أبى الْخَطَّابِ، يُقْطَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان السَّارقُ (¬1) مسلمًا؛ لأنَّه مالٌ لهم، أشْبَهَ ما لو سَرَقَ دَراهِمَهم. ولَنا [أنَّها عينٌ مُحَرَّمَةٌ] (¬2)، فلا يُقْطَعُ بسَرِقَتِها، كالخِنْزِيرِ، ولأَنَّ ما لا يُقْطَعُ [بسَرِقَتِه من المسلمِ، لا يُقْطَعُ] (¬3) بسَرِقَتِه من الذِّمِّىِّ، كالمَيْتَةِ والدَّمِ. وما ذَكَرَه (¬4) يَنْتَقِضُ بالخِنْزِيرِ، ولا اعْتِبارَ به، [فإنَّ الاعْتِبارَ] (3) بحُكْمِ الإِسْلامِ، وهو يَجْرِى عليهم دونَ أحْكامِهم. 4485 - مسألة: (وإن سَرَقَ آنِيَةً فيها الخَمْرُ، أو صَلِيبًا، أو صَنَمَ ذَهَبٍ، لم يُقْطَعْ. وعندَ أبى الخَطَّابِ، يُقْطَعُ) إذا سَرَقَ إناءً فيه خمرٌ [فقال أبو الخَطَّابِ] (¬5): يُقْطَعُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، كما لو سَرَقَه [ولا شئَ] (¬6) فيه. وقال غيرُه من أصحابِنا: لا يُقْطَعُ؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ بما لا قَطْعَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أنه غير محرم». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «ذكروه». (¬5) سقط من: م، وفى الأصل: «وقال أبو الخطاب»، وفى تش: «قال أبو الخطاب». (¬6) في الأصل، تش: «وليس فيه شئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه، فأشْبَهَ [ما لو سَرَق شيئًا مُشْتَرَكًا بينَه وبينَ غيرِه، بحيثُ تَبْلُغُ قِيمتُه بالشَّرِكَةِ نِصابًا. وقال ابنُ شَاقْلَا: لو سَرَق إداوةً فيها ماءٌ، لم يُقطَعْ؛ لاتِّصالِها بما لا قَطْعَ فيه. ووَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه سَرَق نِصابًا من حِرْزٍ لا شبْهَةَ له فيه، أشْبَهَ] (¬1) ما لو سَرَقَه فارِغًا. وإن سَرَق صَلِيبًا، أو صَنَمًا من ذَهَب أو فِضَّةٍ، يبلغُ نِصابًا مُتَّصِلًا، فقال القاضى: لا قَطْعَ فيه. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وقال أبو الخَطَّابِ: يُقْطَعُ سارِقُه. وهو مذهبُ الشافعىِّ، ووَجْهُ الوَجْهَيْن ما تَقَدَّمَ فيما إذا سَرَقَ آلةَ لهوٍ مُحَلَّاةً. والفرقُ بين هذه المسألةِ والتى قبلَها، أنَّ التى قبلَها له كَسْرُه بحيثُ لا يَبْقَى له قِيمَةٌ تَبْلُغُ نِصابًا، وههُنا لو كُسِرَ الذَّهَبُ والفِضَّةُ بكلِّ وَجْهٍ لم تَنْقُصْ قِيمتُه عن النِّصابِ، ولأَنَّ الذهبَ والفِضَّةَ جَوْهَرُهما غالِبٌ على الصَّنْعَةِ المُحَرَّمَةِ، فكانتِ الصِّناعَةُ فيهما (¬2) مَغْمُورَةً بالنِّسْبَةِ إلى قِيمَةِ جَوْهَرِهِما، وغيرُهما بخِلافِهما، فتكونُ الصِّناعةُ غالِبَةً عليه، فيكونُ تابِعًا للصناعَةِ المُحَرَّمَةِ، فأشْبَهَ الأوْتارَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «فيها».

فصل

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يَسْرِقَ نِصَابًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ قِيمَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو سَرَق إناءً مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، قِيمتُه نِصابٌ إذا كان مُنْكَسِرًا، فعليه القَطعُ؛ لأنَّه غيرُ مُجْمَعٍ على تَحْرِيمِه، وقِيمَتُه بدُونِ الصِّناعَةِ المُخْتَلَفِ فيها نِصَابٌ. وإن سَرَق إناءً مُعَدًّا لحَمْلِ الخمرِ ووَضْعِه فيه، ففيه القَطْعُ، لأَنَّ الإِناءَ لا تَحْريمَ فيه، وإنَّما يَحْرُمُ عليه بنِيَّتِه (¬1) وقَصْدِه، فأشْبَهَ ما لو سَرَقَ سِكِّينًا معَدَّةً لذَبْحِ الخنازيرِ، أو سيْفًا يُعَدُّ لقَطْعِ الطَّرِيقِ. ولو سَرَق مِنْدِيلًا في طَرَفِه دِينار مَشْدُودٌ يَعْلَمُ به، فعليه القَطْعُ، وإن لم يَعْلَمْ به، فلا قَطْعَ فيه، لأنَّه لم يَقْصِدْ سَرِقَتَه، فأشْبَهَ ما لو تَعَلَّقَ بثَوْبِه. وقال الشافعىُّ: يُقْطَعُ، لأنَّه سَرَق نِصابًا، فأشْبَهَ ما لو سَرَقَ مالًا يَعْلَمُ أنَّ قِيمَتَه نِصابٌ، والفَرْقُ بينَهما أنَّه عَلِمَ بالمَسْرُوقِ ههُنا، وقَصَد سَرِقَتَه، بخِلافِ الدِّينارِ، فإنَّه لم يُرِدْه، ولم يَقصِدْ أخْذَه، فلا يُؤاخَذُ به بإيجابِ الحَدِّ عليه. فصل: (الثالثُ، أن يَسْرِقَ نِصابًا، وهو ثلاثةُ دَراهِمَ، أو قِيمةُ ذلك ¬

(¬1) في تش، ر 3، ق، م: «نيته».

ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْعُرُوضِ. وَعَنْهُ، أنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ رُبْعُ دِينَارٍ، أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا. وَعَنْهُ، لَا تُقَوَّمُ الْعُرُوضُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الذَّهَبِ والعُروضِ. وعنه، أنَّه ثلاثةُ دَرَاهِمَ، أو رُبْعُ دِينارٍ، أو ما يبلغُ قِيمةَ أحَدِهما مِن غيرِهما. وعنه، لا تُقَوَّمُ العُروضُ إلَّا بالدَّراهِمِ) فلا يَجِبُ القَطْعُ بسَرِقَةٍ أدونَ النِّصابِ، في قولِ الفُقَهاءِ كلِّهم، إلَّا الحسنَ، وداودَ، وابنَ بنتِ الشافعىِّ، والخَوارِجَ، فإنَّهم قالوا: يُقطَعُ في القَليلِ والكثيرِ، لعُمومِ الآيةِ، ولِما روَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ البَيْضَةَ فتُقْطَعُ يَدُهُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولأنَّه سارِقٌ من حِرْزٍ، فتُقْطَعُ يَدُه، كسارِقِ الكبيرِ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تُقْطَعُ اليَدُ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا». [مُتَّفَقٌ عليه] (¬2). وإجْماعُ الصَّحابةِ على ما سَنَذْكُرُه. وهذا يَخُصُّ عُمومَ الآيةِ. ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب لعن السارق إذا لم يُسمَّ، وباب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 198، 200، 201. ومسلم، في: باب حد السرقة ونصابها، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1314. كما أخرجه النسائى، في: باب تعظيم السرقة، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 59. وابن ماجه، في: باب حد السارق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 862. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 253. (¬2) في الأصل، تش: «رواه أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه». وتقدم تخريجه في صفحة 467.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والحَبْلُ يَحْتَمِلُ أن يُساوِى ذلك. وكذلك البَيْضَةُ، يَحْتَمِلُ أن يُرادَ بها بَيْضَةُ السِّلاحِ، وهى تُساوِى ذلك. واخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللَّهُ، في قَدْرِ النِّصابِ الَّذى يَجِبُ القَطْعُ بسَرِقَتِه، فروَى عنه أبو إسحاقَ الجُوزْجَانِىُّ، أنَّه رُبْعُ دِينَارٍ من الذَّهَبِ، أو ثَلاثةُ دَرَاهِمَ من الوَرِقِ، أو ما قِيمَتُه ثَلاثةُ دَراهِمَ مِن غيرِهما. وهذا قولُ مالكٍ، وإسحاقَ. وروَى عنه الأَثْرَمُ، أنَّه إن سَرَق مِن غيرِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ما قِيمتُه رُبْعُ دِينارٍ، أو ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ، قُطِعَ. وعنه، أنَّ الأَصْلَ الوَرِقُ، ويُقَوَّمُ الذَّهَبُ به، فإن نَقَص رُبْعُ دِينارٍ عن ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، لم يُقْطَعْ سارِقُه. وهذا يُحْكَى عن اللَّيْثِ، وأبى ثَوْرٍ. وقالت عائشةُ: لا قَطعَ إلَّا في رُبْعِ دِينارٍ فصاعِدًا (¬1)، ورُوِىَ هذا عن [عمرَ، و] (¬2) عثمان، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال الفُقَهاءُ السَّبْعَةُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والأوْزَاعِىُّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه موقوفا على عائشة، في صفحة 82. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لحديثِ عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «لَا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا». وقال عثمانُ البَتِّىُّ: تُقْطَعُ اليَدُ في دِرْهَمٍ، فما فَوْقَه. وعن أبى هُرَيْرَةَ، وأبى سَعِيدٍ، أنَّ اليَدَ تُقْطَعُ في أرْبَعةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا (¬1). وعن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ الخَمْسَ لا تُقْطَعُ إلَّا في الخَمْسِ (¬2). وبه قال سليمانُ بنُ يَسارٍ، وابنُ أبى ليلى، وابنُ شُبْرُمَةَ. ورُوِىَ ذلك عن الحسنِ. وقال أنَسٌ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: قَطَع أبو بكرٍ في مِجَنٍّ قِيمتُه خَمْسَةُ دَراهِمَ. رَواه الجُوزْجَانِىُّ بإسْنادِه (¬3). وقال عَطاءٌ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه (¬4): لا تُقْطَعُ اليَدُ إلَّا في دِينارٍ، أو عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِما روَى الحَجَّاجُ بنُ أرْطاةَ، عن عمرِو بنِ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في السارق من قال: يقطع في أقل. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 471. والبيهقى، في: باب ما جاء من الصحابة رضى اللَّه عنهم فيما يجب به القطع، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 262. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب في السارق من قال: يقطع في أقل. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 472. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 186. والبيهقى، في: باب ما جاء عن الصحابة رضى اللَّه عنهم فيما يجب به القطع، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 262. (¬3) وأخرجه النسائى، في: باب القدر الذى إذا سرقه السارق. . .، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 70. (¬4) أخرج أثر عطاء عبد الرزاق في المصنف 10/ 233. وابن أبى شيبة في المصنف 9/ 475. وبنحوه النسائى، في باب ذكر اختلاف أبى بكر بن محمد،. . .، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 77. وانظر الاستذكار 24/ 161.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَا قَطْعَ إلَّا فِى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ، قال: قَطَع رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَ رجلٍ في مِجَنٍّ قيمتُه دِينارٌ، أو عَشرَةُ دَرَاهِمَ (¬2). وعن النَّخَعِىِّ: لا تُقْطَعُ اليَدُ إلَّا في أرْبَعِينَ دِرْهَمًا ولَنا، ما روَى ابنُ عمرِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطَع في مِجَنٍّ ثَمَنُه (¬3) ثلاثةُ دَرَاهِمَ. مُتَّفقٌ عليه (¬4). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): هذا أصَحُّ حديثٍ يُرْوَى في هذا البابِ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 204. والدارقطنى، قى: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 192، 193. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في ما يقطع فيه السارق، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 449. (¬3) في م زيادة: «قيمته». (¬4) أخرجه البخارى، في: باب قول اللَّه نعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. . .}، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 200. ومسلم، في: باب حد السرقة ونصابها، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 13/ 1313، 1314. كما أخرجه أبو داود، في: باب في ما يقطع فيه السارق، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 448. والترمذى، في: باب ما جاء في كم تقطع يد السارق، من أبواب السرقة. عارضة الأحوذى 6/ 225. والنسائى، في: باب القدر الذى إذا سرق السارق. . .، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 69، 70. وابن ماجه، في: باب حد السارق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 862. والدارمى، في: باب ما يقطع فيه اليد، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 173. والإمام مالك، في: باب ما يجب فيه القطع، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 831. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 54، 64، 80، 82، 143. (¬5) في: التمهيد 14/ 375.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَخْتَلِفُ أهلُ العلمِ في ذلك. وحديثُ أبى حنيفةَ الأَوَّلُ يَرْوِيه الحجَّاجُ ابنُ أرْطاةَ، وهو ضَعِيفٌ، والذى روَى عن الحجَّاجِ ضَعِيفٌ أيضًا. والحديثُ الثانى لا دَلالَةَ فيه على أنَّه لا يُقْطَعُ بما دُونَه، فإنَّ مَن أوْجَبَ القَطْعَ بثلاثةِ دَرَاهِمَ، أوْجَبَه بعَشَرَةٍ، ويَدُلُّ هذا الحديثُ على أنَّ العَرْضَ (¬1) يُقَوَّمُ بالدَّراهِمِ؛ لأَنَّ المِجَنَّ قُوِّمَ بها (¬2)، ولأَنَّ ما كان الذَّهَبُ فيه أصلًا، كان الوَرِقُ فيه أصْلًا، كنُصُبِ (¬3) الزَّكواتِ، والدِّياتِ، وقِيَمِ المُتْلَفَاتِ. وقد روَى أنَسٌ، أنَّ سَارِقًا سَرَق مِجَنًّا ما يَسُرُّنِى أنَّه لى بثلاثَةِ دَرَاهِمَ، أو ما يُساوِى ثلاثةَ دَراهِمَ، فقَطَعَه أبو بكرٍ (¬4). وأُتِىَ عثمانُ برَجُلٍ قد سَرَق أُتْرُجَّةً، فأمَرَ بها عثمانُ فقُوِّمَتْ، فبلَغَتْ قِيمَتُهُا رُبْعَ دِينارٍ، فقُطِعَ (¬5). ¬

(¬1) في الأصل: «العوض». (¬2) في الأصل: «بهما». (¬3) في الأصل: «كنصيب». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب في كم تقطع يد السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 236. وابن أبى شيبة، في: باب في السارق من قال: يقطع في أقل. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 470. والبيهقى، في: باب ما جاء عن الصحابة رضى اللَّه عنهم فيما يجب به القطع، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 259. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 476.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا سَرَق رُبْعَ دِينارٍ من المَضْروبِ الخالِصِ، ففيه القَطْعُ. وإن كان فيه غِشٌّ أو تِبْرٌ يَحْتاجُ إلى تَصْفِيَةٍ، لم يَجِبِ القَطْعُ حتَّى يَبْلُغَ ما فيه من الذَّهَبِ رُبْعَ دِينَارٍ؛ لأَنَّ السَّبْكَ يَنْقُصُه. وإن سَرَق رُبْعَ دِينارٍ قُراضَةً، أو تِبْرًا خالِصًا، أو حَلْيًا، ففيه القَطْعُ. نَصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ الجُوزْجَانِىِّ، قال: قلتُ له: كيف يَسْرِقُ رُبْعَ دِينارٍ؟ فقال: قِطْعَةَ ذَهَبٍ، أو خاتَمًا، أو حَلْيًا. وهذا قولُ أكثرِ أصحابِ الشافعىِّ. وذَكَر القاضى في وُجُوبِ القَطْعِ احْتِمالَيْن، أحدُهما، لا قَطْعَ عليه. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعىِّ، لأَنَّ الدِّينارَ اسْمٌ للمَضْرُوبِ. ولَنا، أنَّ ذلك رُبْعُ دينارٍ، لأنَّه يُقالُ (¬1): دينارٌ قُراضَةٌ، ومُكَسَّرٌ (¬2)، أو: دِينارٌ خِلاصٌ (¬3). ولأنَّه لا يُمْكِنُه سَرِقَةُ رُبْعِ دِينارٍ مُفْرَدٍ في الغالِبَ إلَّا مَكْسُورًا. وقد أُوجِبَ عليه القَطْعُ بذلك، ولأنَّه حَقٌّ للَّهِ تعالى تَعَلَّقَ ¬

(¬1) بعده في م زيادة: «له». (¬2) في م: «مكسور». (¬3) الخلاص: ما أخلصته النار من الذهب والفضة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالمَضْرُوبِ، فتَعَلَّقَ بما ليس بمَضْرُوبٍ، كالزَّكاةِ، والخِلافُ فيما إذا سَرَق من المَكْسُورِ والتِّبْرِ (¬1) ما لا يُساوِى رُبْعَ دِينارٍ صَحِيحٍ، فإن بَلَغ ذلك، ففيه القَطْعُ، والدِّينارُ هو المِثْقالُ من مَثاقِيلِ النَّاسِ اليومَ، وهو الذى كلُّ سَبْعَةٍ منها عشَرةُ دَراهِمَ، وهو الذى كان على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبلَه ولم يَتَغَيَّرْ، وإنَّما كانتِ الدَّراهِمُ مُخْتَلِفَةً، فجُمِعَتْ وجُعِلَتْ كلُّ عَشَرَةٍ منها سَبْعَةَ مَثاقِيلَ، فهى التى يَتَعَلَّقُ القَطْعُ بثلاثةٍ منها، إذا كانتْ خالِصَةً، مَضْرُوبَةً كانت أو غيرَ مَضْرُوبَةٍ، على ما ذَكَرْناه في الذَّهَبِ. ¬

(¬1) في الأصل: «الكبير».

4486 - مسألة: (وإن سرق نصابا، ثم نقصت قيمته، أو ملكه ببيع أو هبة، أو غيرهما، لم يسقط القطع)

وَإِذَا سَرَقَ نِصَابًا، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ، أو مَلَكَهُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعندَ أبى حنيفةَ أنَّ النِّصابَ إنَّما يَتَعَلَّقُ بالمَضْرُوبِ منها، وقد ذَكَرَ (¬1) ما دَلَّ عليه، ويَحْتَمِلُ ما قالَه في الدَّراهِمِ؛ لأَنَّ إطْلاقَها يَتَناوَلُ الصِّحاحِ المَضْرُوبَةَ، بخِلافِ رُبْعِ الدِّينَارِ، على أنَّنا قد ذَكَرْنا فيها احْتِمالًا مُتقدِّمًا، فههُنا أَوْلَى. وما قُوِّمَ من غيرِهما بهما، فلا قَطْعَ فيه حتى يَبْلُغَ ثلاثةَ دَراهِمَ صِحاحًا؛ لأَنَّ إطْلاقَها يَنْصَرِفُ إلى المَضْرُوب دونَ المُكَسَّرِ. 4486 - مسألة: (وإن سَرَق نِصابًا، ثم نَقَصَتْ قِيمَتُه، أو مَلَكَه ببَيْعٍ أو هِبَةٍ، أو غيرِهما، لم يَسْقُطِ القَطْعُ) إذا نَقَصَتْ قِيمةُ العينِ عن النِّصابِ بعدَ إخْراجِها من الحِرْزِ، لم يَسْقُطِ القَطْعُ، وبهذا قال مالكٌ والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَسْقُطُ، لأَنَّ النِّصابَ شَرْطٌ، فتُعْتَبَرُ ¬

(¬1) في الأصل، تش: «ذكرنا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِدَامَتُه. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1). ولأنَّه نَقْصٌ حَدَث في العَيْنِ، فلم يَمْنَعِ القَطْعَ، كما لو حَدَث باسْتِعْمالِه، والنِّصابُ شَرْطٌ لوُجوبِ القَطْعِ، فلا تُعْتَبَرُ اسْتِدامَتُه، كالحِرْزِ. وما ذَكَرَه (¬2) يَبْطُلُ بالحِرْزِ؛ فإنَّه لو زالَ الحِرْزُ، لم يَسْقُطْ عنه القَطْعُ. وسَواءٌ نقَصَتْ قِيمَتُها بعدَ الحُكْمِ أو قبلَه؛ لأَنَّ سَبَبَ الوُجوبِ السَّرِقَةُ، فيُعْتَبَرُ النِّصابُ حِينَئِذٍ. فأمَّا إن نَقَص النِّصَابُ قبلَ الإِخْراجِ، لم يَجِبِ القَطْعُ؛ لعَدَمِ الشَّرْطِ قبلٍ تَمامِ السَّبَبِ، وسَواءٌ نَقَصَتْ بفِعْلِه أو بغيرِ فِعْلِه. فإن وُجِدَتْ ناقِصَةً، ولم يُدْرَ هل كانتْ ناقِصَةً حينَ (¬3) السَّرِقَةِ أو حَدَثَ (¬4) النَّقْصُ بعدَها؟ لم يَجِبِ القَطْعُ؛ لأَنَّ الوُجُوبَ لا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ في شَرْطِه، ولأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُه. ¬

(¬1) سورة المائدة 38. (¬2) في الأصل، تش: «ذكروه». (¬3) في الأصل: «قبل». (¬4) سقط من: الأصل.

4487 - مسألة: وإن ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غير ذلك من أسباب الملك، وكان ملكها قبل رفعه إلى الحاكم، والمطالبة بها عنده، لم يجب القطع. وبهذا قال مالك، والشافعى، وإسحاق، وأصحاب الرأى، ولا نعلم فيه خلافا. وإن ملكها بعده، لم يسقط القطع عند مالك، والشافعى، وإسحاق. وقال أصحاب الرأى: يسقط؛ لأنها صارت ملكه، فلا يقطع فى عين [هى ملكه، كما لو ملكها قبل المطالبة بها، ولأن المطالبة شرط، والشروط يعتبر دوامها، ولم يبق لهذه العين مطالب]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4487 - مسألة: وإن مَلَكَ العَيْنَ المَسْرُوقَةَ بهِبَةٍ أو بَيْعٍ أو غيرِ ذلك من أسْبابِ المِلْكِ، وكان مِلْكُها قبلَ رَفْعِه إلى الحاكِمِ، والمُطالَبَةِ بها عندَه، لم يَجِبِ القَطْعُ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى، ولا نعلمُ فيه خِلافًا. وإن مَلَكَها بعدَه، لم يَسْقُطِ القَطْعُ عندَ مالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ. وقال أصحابُ الرَّأْى: يَسْقُطُ؛ لأنَّها صارَتْ مِلْكَه، فلا يُقْطَعُ في عينٍ [هى مِلْكُه، كما لو مَلَكَها قبلَ المُطالَبَةِ بها، ولأَنَّ المُطالَبَةَ شَرْطٌ، والشُّرُوطُ يُعْتَبَرُ دَوامُها، ولم يَبْقَ لهذه العَيْنِ مُطالِبٌ] (¬1). ولَنا، ما روَى الزُّهْرِىُّ، عن ابنِ صَفْوانَ، عن [صَفْوانَ ابنِ أُمَيَّةَ] (¬2)، أنَّه نامَ في المسجدِ، وتَوَسَّدَ رِداءَه، فأُخِذَ من تحتِ رأسِه، فجاءَ بسَارِقِه (¬3) إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَرَ به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُقْطَعَ، فقال صفوانُ: يا رسولَ اللَّهِ، لم (¬4) أُرِدْ هذا، رِدَائِى عليه صَدَقَةٌ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِى بِهِ؟». رَواه ابنُ ماجه، والجُوزْجانِىُّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «أبيه». (¬3) في الأصل، تش: «سارقه». (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى لفظٍ، قال: فأتَيْتُه، فقُلْتُ: أتَقْطَعُه من أجْلِ ثلاثين دِرْهَمًا؟ أنا أبِيعُه وأُنْسِئُه ثمَنَها. قال: «فَهَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِى بِهِ؟». رَواه الأَثْرَمُ، وأبو داودَ (¬1). فهذا يَدُلُّ على أنَّه لو وُجِدَ قبلَ رَفْعِه إليه، لدَرَأَ القَطْعَ، وبعدَه [لا يُسْقِطُه] (¬2). وقولُهم: إنَّ المُطالَبَةَ شَرْطٌ. قُلْنا: هى شَرْطُ الحُكْمِ لا شَرْطُ القَطْعِ، بدليلِ أنَّه لو اسْتَرَدَّ العَيْنَ، لم يَسْقُطِ القَطْعُ، وقد زالَتِ المُطالَبَةُ. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب من سرق من الحرز، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 865. وأبو داود، في: باب في من سرق من حرز، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 450. كما أخرجه النسائى، في: باب ما يكون حرزًا وما لا يكون، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 61، 62. والدارمى، في: باب السارق يوهب منه السرقة بعد ما سرق، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 172. والإمام مالك، في: باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 834، 835. (¬2) في الأصل: «لم يسقط».

4488 - مسألة: (وإن دخل الحرز، فذبح شاة قيمتها نصاب، فنقصت عن النصاب، ثم أخرجها، لم يقطع)

وَإِنْ دَخَلَ الْحِرْزَ، فَذَبَحَ شَاةً قِيمَتُهَا نِصَابٌ، فَنَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ، ثُمَّ أَخرَجَهَا، لَمْ يُقْطَعْ. وَإِنْ سَرَقَ فَرْدَ خُفٍّ، قِيمَتُهُ مُنْفَرِدًا دِرْهَمَانِ، وَقِيمَتُهُ مَعَ الْآخَرِ أَرْبَعَةٌ، لَمْ يُقْطَعْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4488 - مسألة: (وإن دَخَل الحِرْزَ، فذَبَحَ شَاةً قِيمَتُها نِصابٌ، فنَقَصَتْ عن النِّصابِ، ثم أخْرَجَها، لم يُقْطَعْ) لأَنَّ من شَرْطِ وُجوبِ القَطْعِ أن يُخرِجَ من الحِرْزِ العَيْنَ وهى نِصابٌ، ولم يُوجَدِ الشَّرْطُ. 4489 - مسألة: (وإن سَرَق فَرْدَ خُفٍّ، قِيمَتُه مُنْفَرِدًا دِرْهَمَان، وقِيمَتُه مع الآخَرِ أرْبَعَةٌ، لم يُقْطَعْ) لأنَّه لم يَسْرِقْ نِصابًا، فلم يُوجدِ الشَّرْطُ.

4490 - مسألة: (وإن اشترك جماعة فى سرقة نصاب، قطعوا، سواء أخرجوه جملة، أو أخرج كل واحد جزءا)

وَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِى سَرِقَةِ نِصَابٍ، قُطِعُوا، سَواءٌ أَخْرَجُوهُ جُمْلَةً، أَوْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4490 - مسألة: (وإنِ اشْتَرَكَ جماعةٌ في سَرِقَةِ نِصابٍ، قُطِعُوا، سَواءٌ أخْرَجُوه جُمْلَةً، أو أخْرَجَ كلُّ واحِدٍ جُزْءًا) إذا اشْتَرَك جماعةٌ في سَرِقَةِ نِصابٍ، قُطِعُوا. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ أصحابِنا. وبه قال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وإسحاقُ: لا قَطْعَ عليهم، إلَّا أن تَبْلُغَ حِصَّةُ كلِّ واحدٍ منهم نِصابًا؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ لم يَسْرِقْ نِصابًا، فلم يَجِبْ عليه قَطْعٌ، كما لو انْفَرَدَ بدُوِنِ النِّصابِ. قال شَيخُنا (¬1): وهذا القولُ أحَبُّ إلىَّ؛ لأَنَّ القَطْعَ ههُنا لا نصَّ فيه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ والمُجْمَعِ عليه، فلا يجبُ، والاحْتِياطُ بإسْقاطِه أَوْلَى مِن الاحْتِياطِ بإيجابِه، ولأنَّه ممَّا يُدْرَأُ بالشَّبُهاتِ. واحْتَجَّ مَن أوْجَبَه بأنَّ النِّصابَ أحَدُ شَرْطَىِ القَطْعِ، فإذا اشْتَرَكَ الجماعةُ كانوا كالواحدِ، ¬

(¬1) في: المغنى 12/ 468.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قِياسًا على هَتْكِ الحِرْزِ، ولأَنَّ سَرِقَةَ النِّصابِ فِعْلٌ يُوجِبُ القَطْعَ، فاسْتَوَى في الواحِدُ والجماعةُ، كالقِصاصِ، ولم يُفرِّقْ أصحابُنا بينَ كَوْنِ المَسْرُوقِ ثَقِيلًا يَشْتَرِكُ الجماعةُ في حَمْلِه، وبينَ أن يُخرِجَ كلُّ واحدٍ منهم جُزْءًا، ونَصَّ أحمدُ على هذا. وقال مالكٌ: إنِ انْفَرَدَ كلُّ واحدٍ منهم بجُزْء، لم يُقْطَعْ واحِدٌ منهم، كما لو انْفَرَدَ كلُّ واحدٍ من قاطِعِى اليَدِ بقَطعِ جُزْءٍ منها، لم يَجِبِ القِصاصُ. ولَنا، أنَّهم اشْتَركُوا في هَتْكِ الحِرْزِ، وإخراجِ النِّصابِ، فلَزِمَهم القَطْعُ، كما لو كان ثَقِيلًا فحَمَلُوه، وفارَقَ القِصاصَ، فإنَّه يَعْتَمِدُ (¬1) المُماثَلَةَ، ولا تُوجَدُ المُماثَلَةُ إلَّا أن تُوجَدَ أفْعالُهم في جميعِ أجْزاءِ اليَدِ، وفى مسألتِنا القَصْدُ الزَّجْرُ (¬2) مِن غيرِ اعْتِبارِ مُماثَلَةٍ، والحاجَةُ إلى الزَّجْرِ عن إخْراجِ المالِ مَوْجودَةٌ، وسَواءٌ دَخَلا الحِرْزَ معًا، أو دَخَل أحَدُهما فأخْرَجَ بعضَ النِّصابِ، ثم دَخَل الآخَرُ فأخْرَجَ باقِيَه؛ لأنَّهما اشْتَرَكا في هَتْكِ الحِرْزِ وإخْراجِ النِّصابِ، فوَجَبَ عليهما القَطْعُ، كما لو حَمَلاه معًا. ¬

(¬1) في الأصل: «يحتمل»، وفى تش: «يعمل». (¬2) في الأصل: «الحرز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان أحدُ الشَّرِيكَيْن مما لا قَطْعَ عليه، كأبى المَسْروقِ منه، قُطِعَ شَرِيكُه، في أحَدِ الوَجْهَيْن، كما لو شَارَكَه في قَطْعِ يَدِ ابنِه. والثانى، لا يُقْطَعُ. وهو أصَحُّ؛ لأَنَّ سَرِقَتَهما جميعًا صارَتْ عِلَّةً لقَطْعِهما، وسَرِقَةُ الأبِ لا تَصْلُحُ مُوجِبَة للقَطْعِ؛ لأنَّه أخَذَ ما لَه أخْذُه (¬1)، بخِلافِ قَطْعِ يَدِ ابنِه، فإنَّ الفِعْلَ تَمَحَّضَ عُدْوانًا، وإنَّما سَقَطَ (1) القِصاصُ لفَضِيلةِ الأبِ، لا لمَعْنًى في فِعْلِه، [وههُنا فِعْلُه] (¬2) قد تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ منه، فوَجَبَ أن لا يَجِبَ القَطْعُ به، كاشْتِراكِ العامِدِ والخاطِئَ. فأمَّا إن أخْرَجَ كلُّ واحدٍ منهما نِصابًا، وَجَب القَطْعُ على شَرِيكِ الأب؛ لأنَّه انْفَرَدَ بما يُوجِبُ القَطْعَ. فإن أخْرَجَ الأبُ نِصابًا، وشَرِيكُه دونَ النِّصَابِ، ففيه الوَجْهان. وإنِ اعْتَرَفَ اثْنانِ بسَرِقَةِ نِصابٍ، ثم رَجَع أحَدُهما، فالقَطْعُ على الآخَرِ؛ لأنَّه اخْتَصَّ بالاسْقاطِ فيَخْتصُّ بالسُّقُوطِ. ويَحْتَمِلُ أن يَسْقُطَ عن شَرِيكِه؛ لأَنَّ السَّبَبَ السَّرِقَةُ مِنهما، وقد اخْتَلَّ أحَدُ جُزْأَيْها. وكذلك لو أقَرَّ بمُشاركَةِ آخَرَ في سَرِقَةِ نِصابٍ، ولم يُقِرَّ الآخرُ ففى القَطْعِ وَجْهان. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

4491 - مسألة: (وإن هتك اثنان حرزا، ودخلاه، فأخرج أحدهما نصابا وحده، أو دخل أحدهما فقدمه إلى باب النقب، وأدخل الآخر يده فأخرجه، قطعا)

وَإِنْ هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا، وَدَخَلَاهُ، فَأَخْرَجَ أحَدُهُمَا نِصَابًا وَحْدَهُ، أَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَقَدَّمَهُ إِلَى بَابِ النَّقْبِ، وَأَدْخَلَ الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، قُطِعَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4491 - مسألة: (وإن هَتَكَ اثْنَان حِرْزًا، ودَخَلَاه، فأخْرَجَ أحَدُهما نِصابًا وحدَه، أو دَخَلَ أحَدُهما فقَدَّمَه إلى بابِ النَّقْبِ، وأدْخَلَ الآخَرُ يَدَه فأخْرَجَه، قُطِعَا) أمَّا إذا هَتَك اثْنان حِرْزًا، ودَخَلاه، فأخْرَجَ أحَدُهما نِصابًا وحدَه، فقال أصحابُنا: القَطْعُ عليهما. وبه قال أبو حنيفةَ وصاحِباه، إذا أخْرَجَ نِصابَيْن. وقال مالكٌ، والشافعىُّ (¬1)، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يَخْتَصُّ القَطْعُ بالمُخْرِجِ؛ لأنَّه هو السَّارِقُ. وإن أخْرَجَ أحدُهما دُونَ النِّصابِ، والآخَرُ أكثرَ مِن نِصابٍ فتمَّا (¬2) نِصابَيْن، فعندَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، تش. (¬2) في الأصل: «فهما».

4492 - مسألة: فإن نقبا حرزا، فدخل أحدهما فقرب المتاع من النقب، وأدخل الخارج

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابِنا، وأبى حنيفةَ وصاحِبَيْه، يَجِبُ القَطْعُ عليهما. وعندَ الشافعىِّ ومُوافِقِيه، لا قَطْعَ على مَن لم يُخْرِجْ نِصابًا. وإن أخْرَجَ أحدُهما نِصابًا، والآخَر دُونَ النِّصابِ، فعندَ أصحابِنا، عليهما القَطْعُ. وعندَ الشافعىِّ، القَطْعُ على مُخْرِجِ النِّصابِ وَحْدَه. وعندَ أبى حنيفةَ، لا قَطْعَ على واحدٍ مِنهما؛ لأَنَّ المُخْرَجَ لم يَبْلُغْ نُصُبًا (¬1) بعدَدِ السَّارِقين. وقد ذَكَرْنا وَجْهَ ما قُلْنا فيما تَقَدَّمَ. 4492 - مسألة: فإن نَقَبَا حِرْزًا، فدَخَلَ أحَدُهما فقَرَّبَ المَتاعَ مِن النَّقْبِ، وأدْخَلَ الخارجُ (¬2) يَدَه فأخْرَجَه، فقال أصحابُنا: قياسُ قَوْلِ أحمدَ، أنَّ القَطْعَ عليهما. وقال الشافعىُّ: القَطْعُ على الخارِجِ؛ لأنَّه مُخْرِجُ المَتاعِ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ على واحدٍ منهما. ولَنا، أنَّهما اشْتَركا في هَتْكِ الحِرْزِ، وإخْراجِ المَتاعِ، فَلزمَهما القَطْعُ، كما لو حَملاه معًا فأخْرَجاه. وإن وَضَعَه في النَّقْبِ، فمَدَّ الآخَرُ يَدَه فأخْرَجَه فأخَذَه، فالقَطْعُ عليهما. ونُقِلَ عن (¬3) الشافعىِّ في هذه المسألةِ قَوْلان، كالمَذْهَبَيْن في الصُّورَةِ التى قبلَها. فصل: قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ، في رجلَين دَخَلا دارًا، أحدُهما في سُفْلِها جَمَع المَتاعَ وشَدَّه بحَبْلٍ، والآخَرُ في عُلْوِها مَدَّ الحَبْلَ فرَمَى به ¬

(¬1) في الأصل: «نصابا». (¬2) في الأصل: «الخراج». وفى ق، م: «الآخر». (¬3) سقط من: الأصل.

4493 - مسألة: (وإن رماه الداخل إلى خارج، فأخذه الآخر، فالقطع على الداخل وحده)

وَإِنْ رَمَاهُ الدَّاخِلُ إِلَى خَارِجٍ فَأَخَذَهُ آخَرُ، فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلَ وَحْدَهُ. وَإِنْ نَقَبَ أَحَدُهُمَا، وَدَخَلَ الْآخَرُ فَأَخْرَجَهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْطَعَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وَراءَ الدَّارِ، فالقَطْعُ عليهما؛ لأنَّهما اشْتَركا في إخْراجِه. 4493 - مسألة: (وإن رَماه الدَّاخِلُ إلى خارِجٍ، فأخَذَه الآخَرُ، فالقَطْعُ على الدَّاخِلِ وحدَه) وإنِ اشْتَرَكَا في النَّقْبِ؛ لأَنَّ الدَّاخِلَ أخْرَجَ المَتاعَ وحدَه، فاخْتَصَّ القَطْعُ به. 4494 - مسألة: (وإن نَقَب أحَدُهما، ودَخَل الآخَرُ فأخْرَجَه، فلا قَطْعَ عليهما. ويَحْتَمِلُ أن يُقْطَعَا) (¬1) وإنَّما لم يُقْطَعَا؛ لأَنَّ الأوَّلَ لم يَسْرِقْ، والثانَى لم يَهْتِكِ الحِرْزَ، وإنَّما سَرَق مِن حِرْزٍ هَتَكَه غيرُه، فأشْبَهَ ما لو نَقَب رجلٌ وانْصَرَفَ، وجاءَآخَرُ فصادَفَ الحِرْزَ مَهْتُوكًا فسَرَقَ منه. ويَحْتَمِلُ أن يُقْطَعَا؛ لأنَّهما اشْتَرَكا في سَرِقَةِ نِصابٍ، أشْبَهَ ¬

(¬1) بعده في كل النسخ ما عدا م: «إلا أن ينقب أحدهما ويذهب فيأتى الآخر من غير علم فيسرق فلا قطع». وسيأتى في المسألة التالية.

4495 - مسألة: (إلا أن ينقب)

إِلَّا أَنْ يَنْقُبَ وَيَذْهَبَ، فَيَأْتِىَ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، فَيَسْرِقَ، فَلَا قَطْعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما لو دَخَلا معًا، فأخْرَجَ أحدُهما المَتاعَ. 4495 - مسألة: (إلَّا أن يَنْقُبَ) أحَدُهما (ويَذْهبَ، فيَأْتِىَ الآخَرُ مِن غيرِ علمٍ، فيَسْرِقَ، فلا قَطْعَ) لأنَّه لم يَهْتِكِ الحِرْزَ، ومِن شَرْطِ وُجوبِ القَطْعِ هَتْكُه، وقد فاتَ الشَّرْطُ، فيَفُوتُ المَشْرُوطُ. فصل: فإنِ اشْتَرَكَ رجلان في النَّقْبِ، ودَخَل أحَدُهما، فأخْرَجَ المَتاعَ وحدَه، أو أخَذَه وناوَلَه الآخَرَ (¬1) خارِجًا مِن الحِرْزِ، فالقَطْعُ على الدَّاخِلِ وحدَه؛ لأنَّه أخْرَجَ المَتاعَ وحدَه مع مُشارَكَتِه في النَّقْبِ. وبهذا ¬

(¬1) في م: «لآخر».

فصل

فَصْلٌ: الرَّابِعُ، أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ عليهما؛ لأَنَّ الدَّاخِلَ لم يَنْفَصِلْ عن الحِرْز ويَدُه على السَّرِقَةِ، فلم يَلْزَمْه القَطْعُ، كما لو أتْلَفَه داخِلَ الحِرْزِ. ولَنا، أنَّ المَسْرُوقَ خَرَج مِن الحِرْزِ ويَدُه عليه، فوَجَبَ عليه القَطْعُ، كما لو خَرَج به، بخِلافِ ما لو أتْلَفَه، لأنَّه لم يُخْرِجْه مِن الحِرْزِ. فصل: (الرَّابعُ، أن يُخْرِجَه مِن الحِرْزِ) يُشْتَرَطُ أن يَسْرِقَ مِن حِرْزٍ ويُخْرِجَه منه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، والشَّعْبِىُّ، وأبو الأسْوَدِ الدُّؤَلِىُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزُّهْرِىُّ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. ولا نعلمُ عن أحَدٍ مِن أهلِ العلمِ خِلافَهم، إلَّا قَوْلًا حُكِىَ عن عائشةَ، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ، في مَن جَمَع المَتاعَ، فلم يَخْرُجْ به مِن الحِرْزِ، عليه القَطْعُ. وعن الحسنِ مثلُ قولِ الجماعَةِ، وحُكِلَ عن داودَ، أنَّه لا يَعْتَبِرُ الحِرْزَ؛ لأَنَّ الآيةَ لا تَفْصِيلَ فيها. وهذه أقوالٌ شاذَّةٌ، غيرُ ثابِتَةٍ عمَّن نُقِلَتْ عنه. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): ليس فيه (¬2) خبرٌ ثابتٌ، ولا مَقالٌ لأهلِ العلمِ، إلَّا ما ذَكَرْناه، فهو كالإِجْماعِ، والإِجْماعُ حُجَّةٌ على مَن خالَفَه. وروَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رجلًا مِن مُزَيْنَةَ سألَ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثِّمَارِ، فقال: «مَا أُخذَ مِن غيرِ أكْمامِهِ واحْتَمَلَ، فَفِيهِ ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 298. (¬2) في م: «في».

4496 - مسألة: (فإن سرق من غير حرز)

فَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. أَوْ دَخَلَ الْحِرْزَ فَأَتْلَفَهُ فِيهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْه، وَإِنِ ابْتَلَعَ جَوْهَرًا، أَوْ ذَهَبًا وَخَرَجَ بِهِ، أَوْ نَقَبَ وَدَخَلَ، فَتَرَكَ الْمَتَاعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، فَخَرَجَتْ بِهِ، أَوْ فِى مَاءٍ جَارٍ، فَأَخْرَجَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قِيمَتُه ومِثْلُه مَعَهُ، وَمَا كَانَ فِى الجِرانِ، فَفِيه القَطْعُ إذا بَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ». رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجه (¬1). وهذا الخبرُ يَخُصُّ الآيةَ، كما خَصَصْنَاها في اعْتِبارِ النِّصابِ. 4496 - مسألة: (فَإن سَرَقَ مِن غيرِ حِرْزٍ) فلا قَطْعَ عليه لفَواتِ شَرْطِه، مثلَ أن يَجِدَ حِرْزًا مَهْتُوكًا، أو بابًا مَفْتُوحًا، [فيَأْخُذَ منه] (¬2)، فلا قَطْعَ عليه؛ لذلك. 4497 - مسألة: (فإن دَخَلَ الحِرْزَ، فأتْلَفَ فيه) نِصَابًا ولم يُخْرجْه (فلا قَطْعَ عليه) لأنَّه لم يَسْرِق، لكن يَلْزَمُه ضَمانُه؛ لأنَّه أتْلَفَه، ولا يُقْطَعُ حتى يُخْرِجَه مِن الحِرْزِ، فمتى أخْرَجَه [مِن الحِرْزِ] (2)، فعليه القَطْعُ، سَواءٌ حَمَلَه إلى مَنْزِلِه، أو تَرَكَه خارِجًا مِن الحِرْزِ. 4498 - مسألة: (وإنِ ابْتَلَعَ جَوْهَرًا أو ذَهَبًا فخَرَجَ به، أو نَقَب ودَخَلَ، فتَرَكَ المَتاعَ على بَهِيمَةٍ، فخَرَجَتْ به، أو في ماءٍ جَارٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 475. (¬2) سقط من: الأصل.

أَو قَالَ لِصَغِيرِ أَوْ مَعْتُوهٍ: ادْخلْ فَأَخْرِجْهُ. فَفَعَلَ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخْرَجَه، أو قال لصَغِيرٍ أو مَعْتُوهٍ: ادْخُلْ فأخْرِجْه. ففَعَلَ، فعليه القَطْعُ) أمَّا إذا دَخَل الحِرْزَ فابْتَلَعَ جَوْهًرا، أو ذَهَبًا وخَرَج، فإن لم يَخْرُجْ ما ابْتَلَعَه، فلا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه أتْلَفَه في الحِرْزِ، وإن خَرَج، ففيه وَجْهان، أحدُهما، يَجِبُ؛ لأنَّه أخْرَجَها في وِعائِها، فأشْبَهَ إخْراجَها في كُمِّه. والثانى، لا يجبُ القَطْعُ؛ لَانّه ضَمِنَها بالبَلْعِ، فكان إتْلافًا لها، ولأنَّه مُلْجَأٌ إلى إخْراجِها؛ لأنَّه لا يمْكِنُه الخُروجُ بدُونِها. وإن تَرَك المَتاعَ على دابَّةٍ، فخَرَجَتْ بنَفْسِها مِن غيرِ سَوْقِها، أو تَرَك المَتاعَ في ماءٍ راكِدٍ فانْفَتَحَ، فخَرَجَ المَتاعُ، أو على حائطٍ [في الدَّارِ] (¬1)، فأطارَتْه الرِّيحُ، ففى ذلك وَجْهان؛ أحدُهما، عليه القَطْعُ؛ لأَنَّ فِعْلَه سَبَبُ (¬2) خُرُوجِه، فأشْبَهَ ما لو ساقَ البَهِيمَةَ، أو فَتَح الماءَ، وحَلَّقَ (¬3) الثوبَ في الهواءِ. والثانى، لا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، تش: «بسبب». (¬3) في تش، ر 3: «علق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ الماءَ لم يَكُنْ آلَةً للإِخْراجِ، وإنَّما خَرَج المَتاعُ بسَبَبٍ حادثٍ مِن غيرِ فِعْلِه، والبهِيمةُ لها اخْتِيارٌ لنَفْسِها، فأمَّا إن ساقَ الدَّابَّةَ فخَرَجَتْ بالمَسْرُوقِ، أو تَرَكَه في ماء جارٍ فخَرَجَ به، فعليه القَطْعُ؛ لأنَّه هو المُخْرِجُ، إمَّا بنَفْسِه، وإمَّا بآلَتِه، فوَجَبَ عليه القَطْعُ، كما لو حَمَلَه فأخْرَجَه. وكذلك لو أَمَرَ صَبِيًّا لا يُمَيِّزُ أو مَعْتُوهًا فأخْرَجَه (¬1)، فعليه القَطْعُ؛ لأنَّه آلةٌ له. فصل: وسَواءٌ دَخَلَ الحِرْزَ فأخْرَجَه، أو نَقَبَه ثم أدْخَلَ إليه يَدَه أو عَصًا لها شُجْنَةٌ (¬2) فاجْتَذَبَه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا حَدَّ (¬3) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) الشجنة: الشعبة. (¬3) في الأصل: «شئ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، إلَّا أن يكونَ البيتُ صَغِيرًا لا يُمْكِنُه دُخُولُه؛ لأنَّه لم يَهْتِكِ الحِرْزَ بما أمْكَنَه، فأشْبَهَ المُخْتَلِسَ. ولَنا، أنَّه سَرَقَ نِصابًا مِن حِرْزِ مِثْلِه، لا شُبْهَةَ له فيه، وهو مِن أهلِ القَطْعِ، فوَصا عليه، كما لو كان البيتُ ضَيِّقًا، ويُخالِفُ المُخْتَلِسَ؛ لأنَّه لم (¬1) يَهْتِكِ الحِرْزَ. وإن رَمَى المَتاعَ، فأطارَتْه الرِّيحُ فأخْرَجَتْه، فعليه القَطْعُ؛ لأنَّه متى كان ابْتِداءُ الفِعْلِ منه، لم يُؤثِّرْ فِعْلُ الرِّيحِ، كما لو رَمَى صَيْدًا، فأعانَتِ الرِّيحُ السَّهْمَ حتى قَتَل الصَّيْدَ، حَلَّ (¬2)، ولو رَمَى الجِمارَ فَأعانَتْها الرِّيحُ حتى وَقَعَت في المَرْمَى، احْتُسِبَ به، وصارَ هذا كما لو تَرَك المَتاعَ في الماءِ فَجَرَى به فأَخْرَجَه. فصل: إذا أخْرَجَ المَتاعَ مِن بيتٍ في الدَّارِ أو الخانِ إلى الصَّحْنِ، فإن كان بابُ البيتِ مُغْلَقًا، ففَتَحَه أو نَقَبَه، فقد أخْرَجَ المَتاعَ مِن الحِرْزِ، وإن لم يَكُنْ مُغْلَقًا، فما أخْرَجَه مِن الحِرْزِ. وقد قال أحمدُ: إذا أخْرَجَ المتاعَ مِن البيتِ إلى الدَّارِ، يُقْطَعُ. وهو مَحْمولٌ على الصُّورةِ الأُولَى. فصل: إذا دَخَل السَّارِقُ الحِرْزَ، فاحْتَلَبَ لَبَنًا مِن ماشِيَةٍ (¬3)، وأخْرَجَه، فعليه القَطْعُ. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ماشيته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه؛ لأنَّه مِن الأشْياءِ الرَّطْبَةِ. وقد مَضَى الكلامُ معه في هذا. وإن شَرِبَه في الحِرْزِ، أو شَرِب منه فانْتَقَصَ النِّصابُ، فلا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه لم يُخْرِجْ مِن الحِرْزِ نِصابًا. وإن ذَبَح الشَّاةَ في الحِرْزِ، أو شَقَّ الثَّوْبَ، ثم أخْرَجَهُما وقيمتُهما بعدَ الشَّقِّ والذَّبْحِ نِصَابٌ، فعليه القَطْعُ. وبه قال الشافعىُّ. وقال الثَّوْرِىُّ (¬1): لا قَطْعَ عليه في الشَّاةِ؛ لأَنَّ اللَّحْمَ لا يُقْطَعُ بسَرِقَتِه عندَه، والثَّوْبُ إن شُقَّ أكْثَرُه، فلا [قَطْعَ فيه] (¬2)؛ لأَنَّ صاحِبَه مُخَيَّرٌ بينَ أن يُضَمِّنَه قيمةَ جَميعِه، فيكونَ قد أخْرَجَه وهو مِلْكُه. وقد تَقَدَّمَ الكلامُ معه في هذه الأُصولِ. وإن تَطَيَّبَ، وخَرَج، ولم يَبْقَ عليه مِن الطِّيبِ ما إذا جُمِعَ كان نِصابًا، فلا قَطْعَ عليه، لأَنَّ ما لا يَجْتَمِعُ قد أتْلَفَه باسْتِعْمالِه، فأشْبَهَ ما لو أكَلَ الطَّعامَ، وإن كان يَبْلُغُ نِصابًا، فعليه القَطْعُ؛ لأنَّه أخْرَجَ نِصابًا، وذُكِرَ فيه وَجْهٌ آخَرُ، فيما إذا كان ما تَطَيَّبَ به يَبْلغُ نِصابًا، فعليه القَطْعُ وإن نَقَص ما يَجْتَمِعُ عن النِّصابِ؛ لأنَّه أخْرَجَ نِصابًا. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه حينَ الإِخْراجِ ناقِصٌ عن النِّصابِ. وإن جَرَّ خَشَبَةً فألقاها بعدَ أن خَرَج بعضُها مِن الحِرْزِ، فلا قَطْعَ عليه، سَواءٌ خَرَج منها ما يُساوِى نِصابًا أو لا؛ لأَنَّ بعضَها لا يَنْفَرِدُ عنِ بعضٍ (¬3). وكذلك لو أمْسَكَ الغاصِبُ طَرَفَ عِمامَتِه، والطَّرَفُ الآخرُ في يَدِ مالِكِها، لم ¬

(¬1) كذا بالنسخ. وفى المغنى 12/ 436: «أبو حنيفة». وانظر ما تقدم في صفحة 474. (¬2) في الأصل: «شئ عليه». (¬3) في تش، ق، م: «البعض».

4499 - مسألة: (والحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال، والبلدان، وعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه)

وَحِرْزُ الْمَالِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِحِفْظِهِ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ، وَالْبُلْدَانِ، وَعَدْلِ السُّلْطَانِ وَجَوْرِهِ، وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضْمَنْها. وكذلك لو سَرَقَ ثَوْبًا أو عِمامَةً، فأخْرَجَ بعْضَهما (¬1). فصل: فإن نَقَب الحِرْزَ، ثم دَخَل فأخْرَجَ ما دُونَ النِّصابِ، ثم دَخَل فأخْرَجَ ما بَقِىَ مِن النِّصابِ، وكان في وقتَيْن مُتَباعِدَيْن، أو لَيْلَتَيْن، لم يَجِبِ القَطْعُ؛ لأَنَّ كلَّ واحدةٍ منهما سَرِقَةٌ مُنْفَرِدَةٌ لا تَبْلُغُ نِصابًا. وكذلك إن كانا في لَيْلَةٍ واحدةٍ وبينَهما مُدَّة طَويلةٌ. وإن تَقَارَبا، وَجَب القَطْعُ؛ لأنَّها سَرِقَةٌ واحدةٌ، ولأنَّه إذا بُنِىَ فِعْلُ أحَدِ الشَّرِيكَيْن على فِعْلِ شَرِيكِه، إذا سَرَقَا نِصابًا، فبِنَاءُ فعلِ الواحدِ بعضِه على بعضٍ أَوْلَى. 4499 - مسألة: (والحِرْزُ ما جَرَتِ العادَةُ بحِفْظِ المالِ فيه، ويَخْتَلِفُ باخْتلافِ الأمْوالِ، والبُلْدَانِ، وعَدْلِ السُّلْطَانِ وجَوْرِه، وقُوَّتِه وضَعْفِه) الحِرْزُ ما عُدَّ حِرْزًا في العُرْفِ، فإنَّه لَمَّا ثَبَت اعْتبارُه في الشَّرْعِ من غيرِ تَنْصِيصٍ على بَيانِه، عُلِمَ أنَّه رُدَّ ذلك إلى أهلِ العُرْفِ؛ لأنَّه لا طريقَ إلى مَعْرِفَتِه إلَّا مِن جِهَتِه، فرُجِعَ إليه، كما رَجَعْنا إليه في مَعْرِفَةِ القَبْضِ والفُرْقَةِ في البَيْعِ، وأشْباهِ ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «بعضها».

4500 - مسألة: إذا ثبت ذلك (فخرز الأثمان والجواهر والقماش فى الدور، والدكاكين العمران، وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة)

فَحِرْزُ الْأَثْمَانِ وَالْجَوَاهِرِ والْقُمَاشِ فِى الدُّورِ، وَالدَّكَاكِينِ فِى الْعُمْرَانِ، وَرَاءَ الْأَبْوابِ وَالْأَغْلاقِ الْوَثِيقَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4500 - مسألة: إذا ثَبَت ذلك (فخِرْزُ الأثْمانِ والجَواهِرِ والقماشِ في الدُّورِ، والدَّكاكينِ العُمْرانِ، وراءَ الأبوابِ والأغْلاقِ الوَثِيقةِ) وحِرْزُ الثِّيابِ وما خفَّ من المتاعِ، كالصُّفْرِ والنُّحاسِ والرَّصاصِ، في الدَّكاكينِ، والبيوتِ المُقْفَلَةِ في العُمْرانِ، أو يكونُ فيها حافِظٌ، فيكونُ حِرْزًا، وإن كانت مَفْتُوحَةً. و (¬1) إن لم تَكُنْ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُغْلَقَةً ولا فيها حافِظٌ، فليستْ بحِرْزٍ. وإن كانتْ فيها خَزَائِنُ مُغْلَقَةٌ، فالخَزَائِنُ حِرْزٌ لِما فيها، وما خَرَج عنها فليس بحِرْزٍ. وقد رُوِى عن أحمدَ، في البيتِ الذى ليس عليه غَلْقٌ، فسُرِقَ منه: أرَاهُ سارِقًا. وهذا محمولٌ على أنَّ أهلَه فيه، فأمَّا البيوتُ التى في البساتينِ أو الطُّرُقِ أو الصَّحْراءِ، فإن لم يَكُنْ فيها أحَدٌ، فليستْ حِرْزًا، سَواءٌ كانت مُغْلَقَةً أو مَفْتُوحَةً؛ لأَنَّ مَن تَرَك مَتاعَه في مكانٍ خالٍ مِن الناسِ والعُمْرانِ، وانْصَرَفَ عنه، لا يُعَدُّ حافِظًا له، وإنْ أغْلَقَ عليه. وإن كان فيها أهْلُها أو حافظٌ (¬1)، فهى حِرْزٌ، سَواءٌ كانت مُغْلَقَةً أو مَفْتوحَةً. وإذا كان لابِسًا للثَّوْبِ، أو مُتَوَسِّدًا له (¬2)، نائمًا، أو مُسْتَيْقِظًا، أو مُفْتَرِشًا له، أو مُتَّكِئًا عليه، في أىِّ مَوْضِعٍ كان من البلدِ، أو بَرِّيَّةٍ، فهو مُحْرَزٌ؛ بدليلِ رِدَاءِ صَفْوانَ سُرِقَ وهو مُتَوَسِّدُه، فقَطَعَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سارِقَه (¬3). وإن تَدَحْرَجَ عن الثَّوْبِ، زالَ الحِرْزُ إن كان نائمًا، وإن كان الثَّوْبُ بينَ يَدَيْه، أو غيرُه من المتاعِ، كَبَزِّ (¬4) البَزَّازِين، وقُماشِ الباعَةِ، وخُبْزِ الخَبَّازِينَ، بحيثُ يُشاهِدُه، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل زيادة: «أو كان متوسدًا له أو». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 499. (¬4) البز: نوع من الثياب.

4501 - مسألة: (وحرز البقل، والباقلاء، ونحوه، وقدوره

وَحِرْزُ الْبَقْلِ، وَالْبَاقِلَّاءِ، وَنَحْوِهِ، وَقُدُورِهِ وَرَاءَ الشَّرَائِجِ، إِذَا كَانَ فِى السُّوقِ حَارِسٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَنْظُرُ إليه، فهو مُحْرَزٌ، وإن نامَ، أو كان غائِبًا عن مَوْضِعِ مُشاهَدَتِه، فليس بمُحْرَزٍ. وإن جَعَل المَتاعَ في الغَرائرِ (¬1)، وعَكَم (¬2) عليها، ومعها حافِطٌ يُشاهِدُها، فهى مُحْرَزَةٌ، وإلَّا فلا. فصل: والخَيْمَةُ والخَرْكاهُ (¬3) إن نُصِبَتْ، وكانه فيها أحَدٌ نائِمًا أو مُنْتَبِهًا، فهى مُحْرَزَةٌ وما فيها، لأنَّها هكذا تُحْرَزُ في العادَةِ، وإن لم يكُنْ فيها أحَدٌ، ولا عندَها حافِظٌ، فلا قَطْعَ على سارِقِها. وممَّن أوْجَبَ القَطْعَ في السَّرِقَةِ من الفُسْطاطِ؛ الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى، [إلَّا أنَّ أصحابَ الرَّأْى] (¬4) قالوا: يُقْطَعُ السَّارِقُ من الفُسْطاطِ، دُونَ سارِقِ الفُسْطاطِ. ولَنا، [أنَّه مُحْرَزٌ] (¬5) بما جَرَتْ به العادَةُ، أشْبَهَ ما فيه. 4501 - مسألة: (وحِرْزُ البَقْلِ، والبَاقِلَّاءِ، ونَحْوِه، وقُدُورِه ¬

(¬1) الغرائر: جمع الغِرارة، وهى وعاء من الخيش ونحود يوضع فيه القمح ونحوه وهو أكبر من الجُوالق. (¬2) عكم المتاع: شده. (¬3) الخركاه: الخيمة الكبيرة، وتطلق على سرادق الملوك والوزراء. الألفاظ الفارسية المعربة 53، 54. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «أنها محرزة».

4502 - مسألة: (وحرز الخشب والحطب الحظائر)

وَحِرْزُ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ الْحَظَائِرُ. وَحِرْزُ الْمَوَاشِى الصِّيَرُ، وَحِرْزُهَا فِى الْمَرْعَى بالرَّاعِى، وَنَظَرِهِ إِلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَراءَ الشَّرَائِجِ (¬1)، إذا كان في السُّوقِ حارِسٌ) والشَّرائِجُ تكونُ من القَصَبِ والخَشَبِ. 4502 - مسألة: (وحِرْزُ الخَشَبِ والحَطَبِ الحَظَائِرُ) وكذلك القَصَبُ، وتَعْبِئَةُ بعضِه على بعضٍ، وتَقْييدُه بقَيْدٍ، بحيثُ يَعْسُرُ أخْذُ شئٍ منه، على ما جَرَتِ العادَةُ، إلَّا أن يكونَ في فُنْدُقٍ مُغْلَقٍ عليه، فيكونُ مُحْرَزًا وإن لم يُقَيَّدْ. 4503 - مسألة: (وحِرْزُ المَوَاشِى الصِّيَرُ (¬2)، وحِرْزُها في المَرْعَى بالرَّاعِى، ونَظَرِه إليها) فما غابَ منها عن مُشاهَدَتِه، فقد خَرَج عن الحِرْزِ؛ لأَنَّ الرَّاعِيَةَ هكذا تُجْرَزُ. ¬

(¬1) الشرائج: جمع الشريجة، وهى العُرَى التى تشد بها هذه الأنواع. (¬2) جمع صيرة، وهى حظيرة الغنم.

4504 - مسألة: (وحرز حمولة الإبل بتقطيرها، وقائدها وسائقها، إذا كان يراها)

وَحِرْزُ حَمُولَةِ الإِبِلِ بِتَقْطِيرِهَا، وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، إِذَا كَانَ يَرَاهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4504 - مسألة: (وحِرْزُ حَمُولَةِ الإِبلِ بتَقْطِيرِها، وقائِدِها وسائِقِها، إذا كان يَرَاها) الإِبلُ على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ بارِكَةٌ، وراعِيَةٌ، وسائِرَةٌ، فأمَّا البارِكَةُ، فإن كان معها حافِظٌ لها، وهى معقولَةٌ، فهى مُحْرَزَةٌ، وإن لم (¬1) تَكُنْ معْقولَةً، وكان الحافِظُ ناظِرًا إليها، أو مُسْتَيْقِظًا بحيثُ يَراها، فهى مُحْرَزَةٌ، وإن كان نائِمًا، أو مَشْغُولًا عنها، فليستْ مُحْرَزَةً؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الرُّعَاةَ إذا أرادُوا النَّوْمَ عَقَلُوا إبلَهم؛ ولأَنَّ المعْقُولَةَ تُنَبِّهُ النَّائِمَ والمُشْتَغِلَ. وإن لم يَكُنْ معها أحَدٌ، فهى غيرُ مُحْرَزَةٍ، سواءٌ كانت معقولَةً أو لم تَكُنْ. وأمَّا الرَّاعِيَةُ فحِرْزُها بنَظَرِ الرَّاعِى إليها، فما غابَ عن نَظَرِه، أو نامَ عنه، فليس بمُحْرَزٍ؛ لأَنَّ الرَّاعِيَةَ إنَّما تُحْرَزُ بالرَّاعِى ونَظَرِه. وأمَّا السَّائِرَةُ، فإن كان معها مَن يُسوقُها، فحِرْزُها بنَظَرِه إليها، سَواءٌ كانتْ مُقَطَّرَةً أو غيرَ مُقَطَّرَةٍ، فما كان منها بحيثُ لا يَراه، فليس بمُحْرَزٍ. وإن كان معها قائِدٌ، فحِرْزُها أن يُكْثِرَ الالْتِفاتَ إليها، والمُراعاةَ لها، وتكونُ بحيثُ يَراها إذا الْتَفَتَ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُحْرِزُ القائِدُ إلَّا التى زِمَامُها بيَدِه؛ لأنَّه يُولِيها ظهرَه، ولا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَراها إلَّا نادِرًا، فيُمْكِنُ أخْذُها من حيثُ لا يَشْعُرُ. ولَنا، أنَّ العادَةَ في حِفْظِ الإِبلِ المُقَطَّرَةِ، بمُراعاتِها بالالْتِفاتِ، وإمْساكِ زِمام الأَوَّلِ، فكان ذلك حِرْزًا لها، كالتى زمامُها في يَدِه. فإن سَرَق من أَحْمالِ (¬1) الجمالِ السائِرَةِ المُحْرَزَةِ مَتاعًا قيمتُه نِصابٌ، قُطِعَ، وكذلك [إن سَرَقَ الحِمْلَ] (¬2)، وإن سَرَق الجملَ بما عليه، وصاحِبُه نائِمٌ عليه، لم يُقْطَعْ؛ لأنَّه في يَدِ صاحِبِه، وإن لم يَكُنْ صاحِبُه عليه، قُطِعَ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ عليه، لأَنَّ ما في الحِمْلِ مُحْرَزٌ به، فإذا أخَذَ جميعَه، لم يَهْتِكْ حِرْزَ المَتاعِ، فصارَ كما لو سَرَقَ أجْزاءَ الحِرْزِ. ولَنا، أنَّ الجملَ مُحْرَزٌ بصاحِبِه، ولهذا لو لم يَكُنْ معه، لم يَكُنْ مُحْرَزًا، فقد سَرَقَه من حِرْزِ مثلِه، فأشْبَهَ ما لو سَرَق المَتاعَ. ولا نُسَلِّمُ (¬3) أنَّ سَرِقَةَ الحِرْزِ من حِرْزِه لا تُوجِبُ القَطْعَ، فإنَّه لو سَرَق الصُّنْدُوقَ بما فيه من بَيْتٍ هو مُحْرَزٌ فيه، وَجَب قَطْعُه. وهذا التَّفْصِيلُ في الإِبلِ التى في الصحْراءِ، فأمَّا التى في البيوتِ والمكانِ المُحْصَنِ، على الوَجْهِ الذى ذَكَرْناه في الثِّيابِ، فهى مُحْرَزَةٌ. والحُكْمُ في سائرِ المَواشِى كالحُكْمِ في الإِبلِ، على ما ذَكَرْنا من التَّفصيلِ فيها. ¬

(¬1) في الأصل، ر 3: «جمال»، وفى ق: «حمال». (¬2) سقط من: الأصل، تش. (¬3) بعده في الأصل: «إلى».

4505 - مسألة: (وحرز الثياب فى الحمام بالحافظ)

وَحِرْزُ الثِّيَابِ فِى الْحَمَّامِ بِالْحَافِظِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4505 - مسألة: (وحِرْزُ الثِّيَابِ في الحَمَّامِ بالْحافِظِ) فإن سَرَق من الحَمَّامِ، ولا حافِظَ فيه، فلا قَطْعَ عليه، في قولِ عامَّتِهم. وإن كان ثَمَّ حافِظٌ، فقال أحمدُ: ليس على سارِقِ الحَمَّامِ قَطْعٌ. وقال في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ: [لا يُقْطَعُ] (¬1) سارِقُ الحَمَّامِ، إلَّا أن يكونَ على المَتاعِ قاعِدٌ، مثلَ ما صُنِعَ بصَفْوانَ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه مأْذُونٌ للنَّاسِ في دُخُولِه، فَجَرَى مَجْرَى سَرِقَةِ الضَّيْفِ من البيتِ المأْذُونِ له في دُخولَه، ولأَنَّ دُخولَ الناسِ إليه يَكْثُرُ، فلا يَتَمَكَّنُ الحافِظُ من حِفْظِ ما فيه. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، أنَّه يَجِبُ القَطْعُ إذا كان فيه حافِظٌ. حَكَاها القاضى. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وإسحاقَ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه مَتاعٌ له حافِظٌ، فيجِبُ قَطْعُ سارِقِه، كما لو كان في البيتِ. قال شيخُنا (¬2): والصحِيحُ الأَوَّلُ. وهذا يُفارِقُ [ما في] (¬3) البيتِ من ¬

(¬1) في الأصل، تش: «لا قطع على». (¬2) في: المغنى 12/ 430. (¬3) سقط من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَيْنَ اللَّذَيْن ذَكَرْناهما. فأمَّا إن كان صاحِبُ الثِّيابِ قاعِدًا عليها، أو مُتَوَسِّدًا لها، أو جالِسًا (¬1) وهى بينَ يَدَيْه يَحْفَظُها، قُطِعَ سارِقُها بكلِّ حالٍ، كما قُطِعَ سارِقُ رِداءِ صَفْوانَ من المسجدِ، وهو مُتَوَسِّدٌ له. وكذلك إن كان نائِبُ (¬2) صاحِبِ الثِّيابِ، إمَّا الحَمَّامِىُّ وإمَّا غيرُه، حافِظًا لها على هذا (¬3) الوَجْهِ، قُطِعَ سارِقُها؛ لأنَّها مُحْرَزَةٌ. وإن لم تَكُنْ كذلك، فقال القاضى: إن نَزَعَ (¬4) الدَّاخِلُ ثِيابَه، على ما جَرَتْ به العادَةُ، ولم يَسْتَحْفِظْها لأحَدٍ، فلا قَطْعَ على سارِقِها، ولا غُرْمَ على الحَمَّامِىِّ؛ لأنَّه غيرُ مُودَعٍ فيَضْمَنَ (¬5)، ولا هى مُحْرَزَةٌ فيُقْطَعَ سارِقُها، وإن اسْتَحْفَظَها الحَمَّامِىَّ، فهو مُودَعٌ تَلْزَمُه مُراعاتُها بالنَّظرَ والحِفْظِ، فإن تَشاغَلَ عنها، أو (¬6) تَرَك النَّظَرَ إليها، فسُرِقَتْ، فعليه الغُرْمُ؛ لتَفْرِيطِه، ولا قَطْعَ على السَّارِقِ؛ لأنَّه لم يَسْرِقْ من حِرْزٍ، وإن تَعاهَدَها الحَمَّامِىُّ بالحِفْظِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «عليها». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «يدع». (¬5) في الأصل، تش: «فلا يضمن». (¬6) في ق، م: «و».

4506 - مسألة: (وحرز الكفن فى القبر على الميت، فلو نبش

وَحِرْزُ الْكَفَنِ فِى الْقَبْرِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَلَوْ نَبَشَ قَبْرًا وَأَخَذَ الْكَفَنَ، قُطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّظَرِ، فسُرِقَتْ، فلا غُرْمَ عليه؛ لعَدَمِ تَفْرِيطِه، وعلى السَّارِقِ القَطْعُ؛ لأنَّها مُحْرَزَةٌ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وظاهِرُ مذهبِ أحمدَ، أنَّه لا قَطعَ عليه أيضًا في هذه الصُّورَةِ؛ لِما تَقَدَّمَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: قال أحمدُ: أرجو أن لا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه مَأْذُونٌ للنَّاسِ في دُخولِه. ولو اسْتَحْفَظَ رجلٌ آخَرَ مَتاعَه في المسجدِ، فسُرِقَ، فإن كان قد فَرَّطَ في مُراعاتِه ونَظَرِه إليه، فعليه الغُرْمُ إذا كان الْتَزَمَ حِفْظَه، وأجابَه إلى ما سألَه، وإن لم يُجِبْه، لكنْ سَكَت، لم يَلْزَمْه غُرْمٌ؛ لأنَّه ما قَبِلَ الاسْتِيداعَ، ولا قَبَض المَتاعَ، ولا قَطْعَ على السَّارِقِ في المَوْضِعَيْن؛ لأنَّه غيرُ مُحْرَزٍ. وإن حَفِظَ المَتاعَ بنَظَرِه إليه، وقُرْبِه منه، فسُرِقَ، فلا غُرْمَ عليه، وعلى السَّارِقِ القَطْعُ؛ لأنَّه سَرَق من حِرْزٍ. ويُفارِقُ المَتاعَ في الحَمَّامِ، فإنَّ الحِفْظَ فيه (¬1) غيرُ مُمْكِنٍ؛ لأَنَّ النَّاسَ يَضَعُ بعضُهم ثِيابَه عندَ ثِيابِ بعضٍ، ويَشْتَبِهُ على الحَمَّامِىِّ صاحبُ الثِّيابِ، فلا يُمْكِنُه مَنْعُ أخْذِها (¬2)؛ لعَدَمِ علْمِه بمالِكِها. 4506 - مسألة: (وحِرْزُ الكَفَنِ في القَبْرِ على المَيِّتِ، فلو نَبَش ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «أحدهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبْرًا، وأخَذَ الكَفَنَ، قُطِعَ) رُوِى عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه قَطَع نَبَّاشًا (¬1). وبه قال الحسنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وقَتادةُ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ: لا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ القَبْرَ ليس بحِرْزٍ، لأَنَّ الحِرْزَ ما يُوضَعُ فيه المَتاعُ للحِفْظِ، والكَفَنُ لا يُوضَعُ في القَبْرِ لذلك، ولأنَّه ليس بحِرْزٍ لغيرِه، فلا يكونُ حِرْزًا له (¬2)؛ ولأَنَّ الكَفَنَ لا مالكَ له، لأنَّه (¬3) لا يَخْلُو إمَّا أن يكونَ مِلْكًا للمَيِّتِ أو لوارِثِه، وليس ملكًا لواحدٍ منهما؛ لأَنَّ الميِّتَ لا يَمْلِكُ شيئًا، ولم يَبْقَ أهلًا للمِلْكِ، والوارِثُ إنَّما يَمْلِكُ ما فَضَل عن حاجةِ المَيِّتِ، ولأنَّه لا يجبُ القَطْعُ إلَّا بمُطالَبَةِ المالكِ أو نائِبه، ولم يُوجَدْ ذلك. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4). وهذا سارِقٌ؛ فإنَّ ¬

(¬1) أخرجه البخارى معلقًا في التاريخ الكبير 4/ 104. وانظر السنن الكبرى، للبيهقى 8/ 270. (¬2) في ق، م: «لغيره». (¬3) في م: «ولأنه». (¬4) سورة المائدة 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، قالت: سارِقُ أمْواتِنا كسارِقِ أحْيائِنَا (¬1). وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ، فإنَّ الكَفَنَ يُحْتاجُ إلى تَرْكِه في القَبْرِ دُونَ غيرِه، ويُكْتَفَى به في حِرْزِه، ألا تَرَى أنَّه لا يُتْرَكُ المَيِّتُ في غيرِ القبرِ من غيرِ أن يُحْفَظَ كَفَنُه، ويُتْرَكُ في القَبْرِ ويُنْصَرَفُ عنه. وقولُهم: إنَّه لا مالكَ له. مَمْنُوعٌ، بل هو مَمْلُوكٌ للمَيِّتِ؛ لأنَّه كان مالِكًا له في حَياتِه، ولا يَزُولُ مِلْكُه إلَّا عمَّا لا حاجَةَ به إليه، ووَلِيُّه يقومُ مَقامَه في المُطالَبَةِ، كقيامِ وَلِىِّ الصَّبِىِّ في الطَلَبِ بمالِه. إذا ثَبَت هذا، فلا بُدَّ من إخْراجِ الكَفَنِ من القَبْرِ؛ لأنَّه الحِرْزُ، فإن أخْرَجَه من اللَّحْدِ ووَضَعَه في القَبْرِ، فلا قَطْعَ عليه (¬2) فيه؛ لأنَّه لم يُخْرِجْه من الحِرْزِ، فأشْبَهَ ما لو نَقَل المَتاعَ في البيتِ من جانبٍ إلى جانبٍ، فإنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمَّى القَبْرَ بَيْتًا. ¬

(¬1) لم نجده. وأخرج نحوه من قول إبراهيم النخعى والشعبى عبد الرزاق في المصنف 10/ 214. وابن أبى شيبة. المصنف 10/ 34. والبيهقى في السنن الكبرى 8/ 269. وانظر الإرواء 8/ 74. (¬2) سقط من: الأصل، تش.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والكفَنُ الذى يُقْطَعُ بسَرِقَتِه ما كان مشروعًا، فإن كُفِّنَ الرجلُ في أكثرَ من ثلاثِ لفائِفَ، أو المرأةُ في أكثرَ من خمسٍ، فسُرِقَ الزَّائِدُ عن ذلك، أو تُرِكَ في تابُوتٍ، فسُرِقَ التَّابوتُ، أو تَرَك معه طِيبًا مَجْمُوعًا، أو ذَهبًا، أو فِضَّةً، أو جَوْهرًا، لم يُقْطَعْ بأخْذِ شئٍ من ذلك؛ لأنَّه ليس بكَفَنٍ مشروعٍ، فتَرْكُه فيه سَفَهٌ وتَضْييعٌ، فلا يكونُ مُحْرَزًا، ولا يُقْطَعُ سارِقُه. فصل: وهل يَفْتَقِرُ في قَطْعِ (¬1) النَّبَّاشِ إلى المُطالَبَةِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يَفْتَقِرُ إلى المُطالَبَةِ، كسائرِ المسروقاتِ. فعلى هذا المُطالِبُ الوارِثُ؛ لأنَّه يقومُ مَقامَ المَيِّتِ في حُقُوقِه، وهذا من حُقوقِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4507 - مسألة: (وحرز الباب تركيبه فى موضعه)

وَحِرْزُ الْبَابِ تَرْكِيبُهُ فِى مَوْضِعِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، لا يَفْتَقِرُ إلى طَلَبٍ؛ لأَنَّ الطَّلبَ في السَّرِقةِ من الأحْياءِ شَرْطٌ، لئلَّا يكونَ المسروقُ مملوكًا للسَّارِقِ. وقد يُئِسَ من ذلك ههُنا. فصل: وحِرْزُ جدارِ الدَّارِ كَوْنُه مَبْنِيًّا فيها، إذا كانت في العُمْرانِ، أو كانت في الصحراءِ وفيها حافِظٌ، فإن أخَذَ من أجْزاء الجدارِ، أو [خَشَبِه ما يَبْلُغُ] (¬1) نِصابًا في هذه الحالِ، وَجَب قَطْعُه؛ لأَنَّ الحائِطَ حِرْزٌ لغيرِه، فيكونُ حِرْزًا لنفْسِه. وإن هَدَم الحائِطَ ولم يَأْخُذْه، فلا قَطْعَ فيه، كما لو أتْلَفَ (¬2) المَتاعَ في الحِرْزِ ولم يَسْرِقْه. وإن كانتِ الدَّارُ بحيثُ لا تكونُ حِرْزًا لما فيها، كدارٍ في الصَّحْراءِ، لا حافِظَ (¬3) لها، فلا قَطْعَ على من أخَذَ مِن جدارِها شيئًا؛ لأنَّها إذا لم تَكُنْ حِرْزًا لِما فيها، فلنَفْسِها أوْلَى. 4507 - مسألة: (وحِرْزُ البابِ تَرْكِيبُه في مَوْضِعِه) سَواءٌ كان مُغْلَقًا أو مَفْتُوحًا؛ لأنَّه هكذا يُحْفَظُ، وعلى سارِقِه القَطْعُ، إذا ¬

(¬1) في ق، م: «خشبة تبلغ». (¬2) في م: «تلف». (¬3) في الأصل، تش: «حائط».

4508 - مسألة: (فلو سرق رتاج الكعبة، أو باب مسجد، أو تأزيره

فَلَوْ سَرَقَ رِتَاجَ الْكَعْبَةِ، أَوْ بَابَ مَسْجِدٍ، أَوْ تَأْزِيرَهُ، قُطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتِ الدَّارُ مُحْرَزَةً بما ذَكَرْناه. وأمَّا أبْوابُ الخَزائنِ في الدَّارٍ، فإن كان بابُ الدارِ مُغْلَقًا، فهى مُحْرَزَةٌ، سَواءٌ كانت مُغْلَقَةً أو مَفتُوحَةً، وإن كان مَفْتُوحًا، لم تَكُنْ مُحْرَزَةً، إلَّا أن تكونَ مُغْلَقَةً، أو (¬1) يكونَ في الدَّارِ حافِظٌ. والفَرْقُ بينَ بابِ (¬2) الدَّارِ وبابِ الخِزَانَةِ، أنَّ أَبْوابَ الخَزَائِنِ تُحْرَزُ ببابِ الدَّارِ، وبابَ الدَّارِ لا يُحْرَزُ إلَّا بنَصْبِه، ولا يُحْرَزُ بغيرِه. وأمَّا حَلْقَةُ البابِ، فإن كانتْ مَسْمُورَةً، فهى مُحْرَزَةٌ (¬3)، وإلَّا فلا؛ لأنَّها تُحْرَزُ بتَسْمِيرِها. 4508 - مسألة: (فلو سَرَق رِتاجَ الكَعْبَةِ، أو بابَ مَسْجِدٍ، أو تَأْزِيرَه (¬4)، قُطِعَ) إذا سَرَق بابَ مَسْجدٍ منصوبًا، أو بابَ الكعبةِ المَنْصُوبَ، أو سَرَق مِن سَقْفِه شيئًا، أو تَأَزِيرَه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، عليه القَطْعُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ، وابنِ القاسمِ صاحبِ مالكٍ، وأبى ¬

(¬1) في الأصل: «أن». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «كحرزه». (¬4) التأزير: التغطية والتقوية.

وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ سِتَارَتِهَا، وَقَالَ الْقَاضِى: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمَخِيطَةِ عَلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه سَرَق نِصابًا مُحْرَزًا يُحْرَزُ مثلُه، لا شُبْهَةَ له فيه، فلَزِمَه القَطْعُ، كبابِ بيتِ الآدَمِىِّ. والثانى، لا قَطْعَ عليه. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأنَّه لا مالكَ له مِن المخْلُوقين، فلا يُقْطَعُ، كحُصرِ المسجدِ وقَنَادِيلِه، فإنَّه لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ ذلك، وَجْهًا واحدًا، ولأنَّه ممَّا يَنْتَفِعُ به النَّاسُ، فيكونُ له فيه شُبْهَةٌ، فلم يُقْطَعْ به، كالسَّرِقَةِ مِن بيتِ المالِ. وقال أحمدُ: (لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ سِتارَةِ الكعبةِ) الخارجةِ منها. قال القاضى: هذا محمولٌ على ما ليستْ بمَخِيطَةٍ؛ لأنَّها إنَّما تُحْرَزُ بخِياطَتِها. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ فيها بحالٍ؛ لِما ذَكَرْنا في البابِ.

4509 - مسألة: (وإن سرق قناديل المسجد، أو حصره، فعلى وجهين)

وَإِنْ سَرَقَ قَنَادِيلَ الْمَسْجِدِ، أَوْ حُصُرَهُ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4509 - مسألة: (وإن سَرَق قَنادِيلَ المسجدِ، أو حُصُرَه، فعلى وَجَهَيْن) أحدُهما، يُقْطعُ؛ لأَنَّ المَسْجِدَ حِرْزٌ لها، فَقُطِعَ بسَرِقَتِها، كالبابِ. والثَّانى، لا يُقْطَعُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ له فيها (¬1) حَقًّا وشُبْهَةً، فأشْبَهَ السَّرِقَةَ مِن بيتِ المالِ، ولأنَّه لا مالكَ له مِن المخلُوقِين. وهذا أصَحُّ، إن شاء اللَّهُ تعالى. وذَكَر شيْخُنا (¬2) في كتاب «المُغْنِى»، أنَّه لا يُقْطَعُ بسَرِقَةِ ذلك، وَجْهًا واحدًا. ¬

(¬1) في تش، ق، م: «فيه». (¬2) في: المغنى 12/ 432.

4510 - مسألة: (وإن نام إنسان على ردائه فى المسجد، فسرقه سارق، قطع)

وَإِنْ نَامَ إِنْسَانٌ عَلَى رِدَائِهِ فِى الْمَسْجِدِ، فَسَرَقَهُ سَارِقٌ، قُطِعَ. وَإِنْ مَالَ رَأْسُهُ عَنْهُ، لَم يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ. وَإِنْ سَرَقَ مِنَ السُّوقِ غزْلًا، وَثَمَّ حَافِظٌ، قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4510 - مسألة: (وإن نامَ إنْسَانٌ على رِدائِه في المسجدِ، فسَرَقَه سارِقٌ، قُطِعَ) لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطَعَ سارِقَ رِداءِ صَفْوانَ (وإن مالَ رأسُه عنه) فسَرقَه (لم يُقْطَعْ) لأنَّه لم يَبْقَ مُحْرَزًا. 4511 - مسألة: (وإن سَرَق مِن السُّوقِ غَزْلًا، وثَمَّ حافِظٌ، قُطِعَ) لأَنَّ حِرْزَه بحافِظِه، فإذا سَرَقَه، قُطِعَ، كما يُقْطَعُ بسَرِقَةِ الثِّيابِ مِن الحَمَّامِ إذا كان ثَمَّ حافِظٌ.

4512 - مسألة: (ومن سرق من النخل أو الشجر من غير حرز، فلا قطع عليه، ويضمن عوضها مرتين)

وَمَنْ سَرَقَ مِنَ النَّخْلِ، أَوِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ عِوَضَهَا مَرَّتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4512 - مسألة: (ومَن سَرَقَ مِن النَّخْلِ أو الشَّجَرِ مِن غيرِ حِرْزٍ، فلا قَطْعَ عليه، ويَضْمَنُ عِوَضَها مَرَّتَيْن) يعنى بذلك الثَّمَرَ في البُسْتانِ قبلَ إدْخالِه الحِرْزَ. وهذا قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ. وكذلك جُمَّارُ النَّخْلِ، ويُسَمَّى الكَثَرَ، ورُوِىَ معنى هذا القولِ عن ابنِ عمرَ (¬1). وبه قال عَطاءٌ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: إن كان مِن بُسْتانٍ مُحْرَزٍ، ففيه القَطْعُ. وبه قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2) إذا لم يَصِحَّ خَبَرُ رافِعٍ. قال (¬3): ولا أحْسَبُه ثابِتًا. واحْتَجَّا بظاهِرِ الآيةِ، وبقياسِه على سائرِ المُحْرَزاتِ. ولَنا، ما روَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ، عنَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «لَا قَطْعَ فِى ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ». أخْرَجَه أبو داودَ، [وابنُ ماجَه] (¬4). وعن عمرِو بنِ شعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه سُئِلَ عن الثَّمرِ المُعَلَّقِ، فقال: «مَنْ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف 10/ 26. (¬2) في الإشراف: 2/ 296. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. وتقدم تخريجه في صفحة 474

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصَابَ بفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً (¬1)، فلا شَئَ عَلَيْهِ، ومَنْ خَرَجَ بشَىْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مثلَيْه (¬2) والْعُقُوبَةُ، ومَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أن يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ، فَعَلَيْهِ القَطْعُ» (¬3). وهذا يَخُصُّ عُمومَ الآيةِ، ولأَنَّ البُسْتانَ ليس بحِرْزٍ لغيرِ الثَّمَرِ، فلم يَكُنْ حِرْزًا له، كما لو لم يَكُنْ مَحُوطًا (¬4)، فأمَّا إن كانت شجرةٌ في دارٍ مُحْرَزَةٍ، فسَرَقَ منها نِصابًا، فعليه القَطْعُ. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) بالضم ما تحمله تحت إبطك. (¬2) في الأصل: «مثله». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 475. (¬4) في تش، ق، م: «محفوظا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا سَرَق مِن الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فعليه غَرامَةُ مِثْلَيْه. وبه قال إسْحاقُ؛ للخَبَرِ المَذْكُورِ. قال أحمدُ: لا أعلمُ شيئًا يَدْفَعُه. وقال أكثرُ الفقهاءِ: لا يَجِبُ أكثرُ مِن مِثْلِه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): لا أعلمُ أحدًا مِن الفُقَهاءِ قال بوُجُوبِ غَرامِةِ مِثْلَيْه. واعْتَذَرَ بعضُ أصحابِ الشافعىِّ عن هذا الخَبَرِ، بأنَّه كان حبنَ كانتِ العُقوبَةُ في الأمْوالِ، ثم نُسِخَ ذلك. ولَنا، أنَّ قولَ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَّةٌ لا تجوزُ مُخالَفَتُه، إلَّا بمُعارَضَةِ مِثْلِه أو أقْوَى منه، وهذا الذى اعْتَذَرَ به هذا القائِلُ دَعْوَى للنَّسْخِ بالاحْتِمالِ مِن غيرِ دليلٍ عليه، وهو فاسِدٌ بالإِجْماعَ، ثم هو فاسِدٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ؛ لقولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ، فَعَلَيْهِ القَطْعُ». فقد بَيَّنَ وُجوبَ القَطْعِ مع إيجابِ غَرَامَةِ مِثْلَيْه، وِهذا يُبْطِلُ ما قالَه. وقد احْتَجَّ أحمدُ بأنَّ عمرَ أغْرَمَ حاطِبَ بنَ أبى بَلْتعَةَ حينَ نحَرَ غلْمانُه ¬

(¬1) في: التمهيد 23/ 314.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ناقةَ رجلٍ مِن مُزَيْنَةَ مِثْلَىْ قِيمَتِها (¬1). وروَى الأَثْرَمُ الحديثَيْن في «سُنَنِه». قال أصحابُنا: وفى الماشيةِ تُسْرَقُ مِن المَرْعَى، من غيرِ أن تكونَ مُحْرَزَةً، مِثْلا قِيمَتِها؛ لأَنَّ في سِياقِ حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، أنَّ السائِلَ قال: الشَّاةُ الحَرِيسةُ (¬2) مِنْهُنَّ يا نَبِىَّ اللَّهِ؟ قال: «ثَمَنُهَا ومِثْلُهُ مَعَهُ، والنَّكالُ (¬3)، وَمَا كَانَ مِنَ المُرَاحِ (¬4)، ففِيهِ القَطْعُ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُ مِنْ ذلكَ ثَمَنَ المِجَنِّ». هذا لفظُ رِوايةِ ابنِ ماجَه. وما عَدَا هذَيْنِ لا يُضْمَنُ بأكثرَ من قِيمَتِه، أو مِثْلِه إن كان مِثْلِيًّا. هذا قولُ أصحابِنا وغيرِهم، إلَّا أبا بكرٍ، فإنَّه ذَهَب إلى [غَرامَةِ المسْرُوقِ] (¬5) من غيرِ حِرْزٍ بمثلَيْه (¬6) قياسًا على الثَّمَرِ المُعَلَّقِ وحَرِيسَةِ الجبلِ، واسْتدلالًا بحديثِ حاطِبٍ. ولَنا، أنَّ الأَصْلَ وُجوبُ غَرامَةِ المِثْلِىِّ بمِثْلِه، والمُتَقَوَّمِ بقِيمَتِه؛ بدليلِ المُتْلَفِ والمَغْصُوبِ، والمُنْتَهَبِ والمُخْتَلَسِ، وسائرِ ما تجبُ غَرامتُه، خُولِفَ في هذين الموْضِعَيْن؛ للأثَرِ، ففيما عَداهما (¬7) يَبْقَى على الأَصْلِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 397. (¬2) الحريسة: الشاة التى يدركها الليل قبل أن تصل إلى مراحها. (¬3) سقط من: تش. وفى م: «الفكاك». والنكال: العقوبة. (¬4) المراح: مأوى الماشية. (¬5) في الأصل: «غرامته»، وفى تش، ر 3، ق: «غرامة». (¬6) في م: «بمثيله». (¬7) في الأصل، تش، ر 3، ق: «عداه».

4513 - مسألة: (وقال أبو بكر: ما كان حرزا لمال، فهو حرز لمال آخر)

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ حِرْزًا لِمَالٍ، فَهُوَ حِرْزٌ لِمَالٍ آخَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4513 - مسألة: (وقال أبو بكرٍ: ما كان حِرْزًا لمالٍ، فهو حِرْزٌ لمالٍ آخَرَ) قياسًا لأحدِهما على الآخَرِ. والصَّحِيحُ خِلافُ ذلك؛ لأنَّا إنَّما رَجَعْنا في الحِرْزِ إلى العُرْفِ، والعادَة أنَّ الجَواهِرَ، والدَّراهِمَ، والدَّنانِيرَ لا تُحْرَزُ في الصِّيَرِ والحَظائِرِ، ومَن أحْرَزَها أو نحوَها في ذلك، عُدَّ مُفَرِّطًا، فكان العملُ بالمعروفِ أوْلَى. فصل: وإذا سَرَق الضَّيْفُ من مالِ مُضِيفِه شيئًا، نَظرتَ؛ فإن كان من الموْضِعِ الذى أنْزَلَه (¬1) فيه، أو مَوْضِعٍ لم يُحْرِزْه عنه، لم يُقْطَعْ؛ لأنَّه لم يَسْرِق من حِرْزٍ، وإن سَرَق من مَوْضِعٍ مُحْرَزٍ دُونَه، فإن كان مَنَعَه قِرَاه (¬2)، فسَرَقَ بقَدْرِه، فلا قَطْعَ عليه أيضًا، وإن لم يَمْنَعْه قِراه (2)، فعليه القَطْعُ. وقد رُوِى عن أحمدَ، أنَّه لا قَطْعَ على الضَّيْفِ. وهو محمولٌ على إحْدَى الحالَتَيْن الأولَيَيْن. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ عليه بحالٍ؛ لأَنَّ المُضِيفَ (¬3) بَسَطَه في بيتِه ومالِه، فأشْبَهَ ابنَه. ولَنا، أنَّه سَرَقَ مالًا مُحْرَزًا عنه، لا شُبْهَةَ له فيه، فلَزِمَه القَطْعُ، كالأجْنَبِىِّ. وقولُه: إنَّه بَسَطَه فيه. لا يَصِحُّ، فإنَّه أحْرَزَ عنه هذا المالَ، ولم يَبْسُطْه فيه، وبَسْطُه في غيرِه لا يُوجِبُ بَسْطَه فيه، كما لو تَصَدَّقَ على مِسْكِينٍ بصَدَقَةٍ، أو أهْدَى إلى صَدِيقِه هَدِيَّةً، فإنَّه لا يَسْقُطُ عنه القَطْعُ بالسَّرِقَةِ من غيرِ ما تَصَدَّقَ به ¬

(¬1) في م: «أنزل». (¬2) في تش، م: «فرآه». (¬3) في الأصل: «الضيف».

فصل

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ؛ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا الْوَلَدُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَبُ ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، أو أهْدَى إليه. فصل: وإذا أحْرَزَ المُضارِبُ مالَ المُضارَبَةِ، أو الوَدِيعَةِ أو العارِيَّةِ، أو المالَ الذى وُكِّلَ فيه، فسَرَقَه أجْنَبِىٌّ، فعليه القَطْعُ، لا نعلمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّه يَنُوبُ مَنابَ المالِكِ في حِفْظِ المالِ وإحْرازِه، ويَدُه كيَدِه. وإن غَصَب عَيْنًا وأحْرَزَها، أو سَرَقَها وأحْرَزَها، فسَرَقَها سارِقٌ، فلا قَطْعَ عليه. وقال مالكٌ: عليه القَطْعُ؛ لأنَّه سَرَقَ نِصابًا مِن حِرْزِ مِثْلِه، لا شُبْهَةَ له فيه. وللشافعىِّ قَوْلان، كالمَذْهَبَيْن. وقال أبو حنيفةَ كقَوْلِنا في السَّارِقِ، وكقَوْلِ مالكٍ في الغاصِبِ. ولَنا، أنَّه لم يَسْرِقِ المالَ من مالِكِه، ولا ممَّن يقومُ مَقامَه، فأشْبَهَ ما لو وَجَدَه ضائِعًا فأخَذَه، وفارَقَ السَّارِقَ من المالِكِ أو نائِبِه، فإنَّه أزالَ يَدَه الشَّرْعِيَّةَ، وسَرَق من حِرْزِه. فصل: فإن غَصَب بيتًا (¬1)، فأحْرَزَ فيه مالَه، فسَرَقَه منه أجْنَبِىٌّ، فلا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه لا حُكْمَ لحِرْزِه إذ (¬2) كان مُتَعَدِّيًا به ظالمًا فيه. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (الخامسُ، انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، فَلا يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ من مالِ ابنِه وإن سَفَلَ، ولا الولدُ من مالِ أبِيه وإن عَلا، ¬

(¬1) في م: «شيئا». (¬2) في تش، ق، م: «إذا».

وَالْأُمُّ في هَذَا سَوَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأبُ والأُمُّ في ذلك سَواءٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ الوالِدَ لا يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ من مال ولدِه وإن سَفَلَ، وسَواءٌ في ذلك الأبُ والأمُّ، والابنُ والبنتُ، والجَدُّ والجَدَّةُ، من قِبَلِ الأبِ والأُمِّ. هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ (¬1): القَطْعُ على كلِّ سارِقٍ، بظاهرِ الكِتابِ، إلَّا أن يُجْمِعُوا على شئٍ فيُسْتَثْنَى. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «أنْتَ وَمَالُكَ لأَبيكَ» (¬2). وقولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إِنَّ أَطيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» (¬3). وفى لفظٍ: «فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَولَادِكُمْ». ولا يجوزُ قَطْعُ الإِنْسانِ بأخْذِ (¬4) ما أَمَرَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأخْذِهِ، ولا أخْذِ ما جَعَلَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مالًا له مُضافًا إليه، ولأَنَّ الحُدودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وأعظمُ الشُّبُهاتِ أخْذُ الإِنْسانِ من مالٍ جَعَلَه الشَّرْعُ له، وأمَرَه بأخْذِه وأكْلِه. ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 302. (¬2) تقدم تخريجه في: 7/ 94. (¬3) تقدم تخريجه في: 17/ 87. (¬4) في ق، م: «بقطع».

4514 - مسألة: (ولا يقطع العبد بالسرقة من مال سيده)

وَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُقْطَعُ الابنُ وإن سَفَلَ، بسَرِقَةِ مالِ والدِه، وإن عَلَا. وبه قال الحسنُ، والشافعىُّ، وإسحاقُ، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وظاهرُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّه يُقْطَعُ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْه في مَن لا قَطْعَ عليه. وهو قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لظاهرِ الكِتابِ، ولأنَّه يُقادُ بقَتْلِه، ويُحَدُّ بالزِّنَى بجارِيَتِه، فيُقْطَعُ بسَرِقَتِه مالَه، كالأجْنَبِىِّ. ووَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّ بينَهما قَرابَةً، تَمْنَعُ قَبولَ شَهادةِ أحَدِهما لصاحِبِه، فلم يُقْطَعْ بسَرقَةِ مالِه، كالأبِ، ولأَنَّ نفَقَتَه (¬1) تجبُ في مالِ الأبِ لابْنِه حِفْظًا له، فلا يجوزُ إتْلافُه حِفْظًا للمالِ. وأمَّا الزِّنَى بجارَيَتِه، ففيه مَنْعٌ، وإن سُلِّمَ فإنَّما وَجَب عليه الحَدُّ؛ لأنَّه لا شُبْهَةَ له فيها. 4514 - مسألة: (ولا يُقْطَعُ العَبْدُ بالسَّرِقَةِ مِن مالِ سَيِّدِه) في قولِ الجميعِ، ووافَقَهم أبو ثَوْرٍ فيه. وحُكِىَ عن داودَ، أنَّه يُقْطَعُ؛ لعُمُومِ الآيَةِ. ولَنا، ما روَى السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ، قال: شَهِدْتُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ، قد جاءَه عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو الحَضْرَمِىُّ بغُلَامٍ له، فقال: إنَّ غُلَامِى هذا سَرَق، فاقْطَعْ يَدَه. فقال عمرُ: ما سَرَق؟ قال: سَرَقَ مِرآةَ ¬

(¬1) في م: «الفقة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ امْرَأتِى، ثمنُها ستُّون دِرْهمًا فقال: أرْسِلْه، لا قطْعَ عليه، خادِمُكم (¬1) أخَذَ مَتَاعَكم (¬2). ولكنَّه لو سَرَقَ من غيرِه قُطِعَ. وفى لَفظٍ قال: مالُكم سَرَقَ بعضُه بعضًا، لا قَطْعَ عليه. رَواه سعيدٌ. وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّ رجلًا جاءَه، فقال: عبدٌ لى سَرَق قَباءً لعبدٍ لى آخَرَ. فقال: لا قَطْعَ، مالُكَ سَرَقَ مالَكَ (¬3). وهذه قَضايا تُشْتَهَرُ، ولم يُخالِفْها أحَدٌ، فتكونُ إجْماعًا، وهذا يَخصُّ عُمومَ الآيةِ، ولأَنَّ هذا إجْماعٌ مِن أهلِ العلمِ؛ لأنَّه قولُ من سَمَّيْنا من الأئِمَّةِ، ولم يُخالِفْهم في عَصْرِهم أحَدٌ، فلا يجوزُ خِلافُه بقَوْلِ مَن بعدَهم، كما لا يجوزُ تَرْكُ إجْماعِ الصَّحابةِ بقولِ واحدٍ من التَّابِعِين. فصل: وأُمُّ الولَدِ، والمُدَبَّرُ، والمُكاَتبُ، كالقِنِّ في هذا. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْى. ولا يُقْطَعُ سَيِّدُ المُكاتَبِ بسرقةِ مالِه؛ لأنَّه عبدٌ ما بَقِىَ عليه دِرْهَمٌ. وكلُّ مَن لا يُقْطَعُ الإِنْسانُ بسرقَةِ مالِه، لا يُقْطَعُ عبْدُه بسرقةِ مالِه، كآبائِه، وأولادِه، ¬

(¬1) في الأصل: «خادمك». (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما لا قطع فيه، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 839، 840. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 188. والبيهقى، في: باب العبد يسرق من مال امرأة سيده، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 282. وهو حديث صحيح. انظر الإرواء 8/ 75. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الخيانة، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 211. وابن أبى شيبة، في: باب في العبد يسرق من مولاه. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 22. والبيهقى، في: باب العبد يسرق من متاع سيده، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 281.

4515 - مسألة: (ولا)

وَلَا مُسْلِمٌ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرِهم. وقال أبو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مَن عَدَا سَيِّدِه. ونحوُه قولُ مالكٍ، وابنِ المُنْذِرِ. ولَنا، حديثُ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولأَنَّ مالَهم يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مالِه في قَطْعِه، فكذلك في قَطْعِ عبدِه. 4515 - مسألة: (ولا) يُقْطَعُ (مُسْلِمٌ بالسَّرِقَةِ من بَيْتِ المالِ) يُرْوَى ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والحَكَمُ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال حَمَّادٌ، ومالكٌ، وابنُ المُنْذِرِ (¬1): يُقْطَعُ؛ لظاهرِ الكِتابِ. ولَنا، ما روَى ابنُ ماجَه (¬2) بإسْنادِه، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ عبدًا من رَقِيقِ الخُمْسِ، سَرَق من الخُمْسَ، فرُفِعَ ذلك إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يَقْطَعْه، وقال: «مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا». ويُرْوَى ذلك عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وسألَ ابنُ مسعودٍ عمرَ عمَّن سَرَق من بيتِ المالِ، فقال: أرْسِلْه، فما من أحَدٍ إلَّا وله في هذا المالِ حَقٌّ (¬3). وقال سعيدٌ: ثَنا هُشَيْمٌ، ثنا مُغِيرَةُ، عن الشَّعْبِىِّ (¬4)، عن علىٍّ، أنَّه كان يقولُ: ليس على مَن سَرَق من بيتِ المالِ ¬

(¬1) في: الإشراف 2/ 294، 295. (¬2) في: باب العبد يسرق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 864. وهو حديث ضعيف. انظر الإرواء 8/ 77، 78. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يسرق شيئا له فيه نصيب، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 212. (¬4) في الأصل: «المغيرة».

4516 - مسألة: (ولا)

وَلَا مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، أَو لِأَحَدٍ مِمَّنْ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَطْعٌ (¬1)، ولأَنَّ له في المالِ حَقًّا، فيكونُ شُبْهَةً تَمْنَعُ وُجوبَ القَطْعِ، كما لو سَرَقَ من مالٍ له فيه شَرِكَةٌ. 4516 - مسألة: (ولا) يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ (من مَالٍ له فيه شِرْكٌ، أو لأحَدٍ ممَّن لا يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ منه) كالأبِ لا يُقْطَعُ بسرقةِ مالِ ابْنِه، والعبدِ لا يُقْطَعُ بسرقةِ مالِ سَيِّدِه، فكذلك إذا سَرَق من مالٍ لإبْنِه فيه شَرِكَةٌ أو لسَيِّدِه، فلا قَطْعَ عليه لذلك. فصل: ومَنْ سَرَق مِن الوَقْفِ، أو من غَلَّتِه، وكان من المَوْقُوفِ عليهم، كالمِسْكِينِ يَسْرِقُ من (¬2) وَقْفِ المساكينِ، أو من قوم مُعَيِّنِين عليهم وَقْفٌ، لم يُقْطَعْ؛ لأنَّه شَرِيكٌ. وإن كان من غيرِهم، قُطِعَ؛ لأنَّه ¬

(¬1) أخرجه البيهقى، في: باب من سرق من بيت المال شيئًا، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 282. (¬2) بعده في ق، م: «مال».

4517 - مسألة: (ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده، أو لسيده، لم يقطع)

وَمَنْ سَرَقَ مِنَ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، أَو لِوَلَدِهِ، أَوْ لِسَيِّدِهِ، لَمْ يُقْطَعْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا حَقَّ له فيه. فإن قيل: فقد قلتُمِ: لا يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ منِ بيتِ المالِ من غيرِ تَفْريقٍ بينَ غَنِىٍّ وفقيرٍ، فَلِمَ فرَّقْتُمْ ههُنا؟ قُلْنا: لأَنَّ للغَنِىِّ في بيتِ المالِ حَقًّا، بدليلِ قولِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: ما من أحَدٍ إلَّا وله في هذا المالِ حَقٌّ. بخِلافِ وَقْفِ المساكينِ، فإنَّه لا حَقَّ للغَنِىِّ فيه. 4517 - مسألة: (ومَن سَرَق من الغَنِيمَةِ مِمَّن له فيها حَقٌّ، أو لوَلَدِه، أو لسَيِّدِه، لم يُقْطَعْ) لِما ذَكَرْنا من المسألةِ قبلَها. وحَكَى (¬1) ابنُ أبى موسى، أنَّه يُحَرَّقُ رَحْلُه، كالغَالِّ. وإن لم يَكُنْ من الغانِمِينَ، ¬

(¬1) بعده في م: «عن».

4518 - مسألة: (وهل يقطع أحد الزوجين بالسرقة من مال الآخر المحرز عنه؟ على روايتين)

وَهَلْ يُقْطَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ الْمُحْرَزِ عَنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أحدٍ ممَّن ذَكَرْنا، فسَرَقَ منها قبلَ إخْراجِ الخُمْسِ، لم يُقْطَعْ؛ لأَنَّ له في الخُمْسِ حَقًّا، وإن أُخْرِجَ الخُمْسُ، فسَرَق مِن أرْبَعَةِ الأخْماسِ، قُطِعَ. وإن سَرَق من الخُمْسِ، لم يُقْطَعْ؛ لأَنَّ له فيه شَرِكَةً، فإنْ قُسِّمَ الخُمْسُ خَمْسَةَ أقْسامٍ، فسَرَقَ من خُمْسِ اللَّهِ ورسولِه، لم يُقْطَعْ، وإن سَرَق من غيرِه، قُطِعَ إلَّا أن يكونَ مِن أَهْلِ ذلك الخمْسِ. 4518 - مسألة: (وهل يُقْطَعُ أحَدُ الزَّوْجَيْن بالسَّرِقَةِ من مالِ الآخَرِ المُحْرَزِ عنه؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، لا قَطْعَ عليه. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ، ومذهبُ أبى حنيفةَ؛ لقولِ عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، لعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو الحَضْرَمِىِّ، حينَ قال له: إنَّ غُلامِى سَرَق مِرآةَ امْرَأتِى: أرْسِلْه، لا قَطْعَ عليه، خادِمُكُمْ أخَذَ مَتاعَكم. وإذا لم يُقْطَعْ عبدُه بسرقَةِ مالِهَا،

4519 - مسألة: (ويقطع سائر الأقارب بالسرقة من مال أقاربهم)

وَيُقْطَعُ سَائِرُ الْأَقَارِبِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ أَقَارِبِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو أَوْلَى، ولأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَرِثُ صاحِبَه بغيرِ حَجْبٍ، ويَتَبَسَّطُ (¬1) في مالِ الآخَرِ عادَةً، فأشْبَهَ الوالِدَ والولَدَ. والثانيةُ، يُقْطَعُ. وهو مذهبُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لعُمومِ الآيةِ، ولأنَّه سَرَق مالًا مُحْرَزًا عنه، لا شُبْهَةَ له فيه، فأَشْبَهَ الأَجْنَبِىَّ. وللشّافعىِّ كالرِّوايَتَيْن. وقولٌ ثالثٌ، أنَّ الزَّوْجَ يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِ الزَّوْجَةِ؛ لأنَّه لا حَقَّ له فيه، ولا تُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِه؛ لأَنَّ لها النَّفَقَةَ فيه. فأمَّا إن لم يَكُنْ مالُ أحَدِهما مُحْرَزًا عن الآخَرِ، لم يُقْطَعْ رِوَايَةً واحدةً؛ لأنَّه لم يَسْرِق من حِرْزٍ. 4519 - مسألة: (ويُقْطَعُ سائِرُ الأقارِبِ بالسَّرِقَةِ من مالِ أقارِبِهمْ) كالإِخْوَةِ والأخَواتِ، ومَنْ عَدَاهم. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ من ذِى رَحِمٍ. وحَكَاه ابنُ أبى موسى في «الإِرْشَادِ» مذهبًا لأحمدَ؛ لأنَّها قَرَابَةٌ تَمْنَعُ النِّكاحَ، وتُبِيحُ النَّظَرَ، ¬

(¬1) في تش: «ويبسط». وفى م: «ويسقط».

4520 - مسألة: (ويقطع المسلم بالسرقة من مال الذمى والمستأمن، ويقطعان بسرقة ماله)

وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ الذِّمِّىِّ وَالْمُسْتَأْمِنِ، ويُقْطَعَانِ بِسَرِقَةِ مَالِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتُوجِبُ النَّفَقَةَ، أشْبَهَ قَرابةَ الوِلادَةِ. ولَنا، أنَّها قَرَابةٌ لا تَمْنَعُ الشَّهادَةَ، فلا تَمْنَعُ القَطْعَ كغيرِ (¬1) ذِى الرَّحِمِ، وبهذا فارَقَ قَرابةَ الوِلادةِ. 4520 - مسألة: (ويُقْطَعُ المُسْلِمُ بالسَّرِقَةِ من مالِ الذِّمِّىِّ والمُسْتَأْمِنِ، ويُقْطَعَان بسَرِقَةِ مالِه) أمَّا قَطْعُ المسلمِ بالسرقةِ من مالِ الذِّمِّىِّ، وقَطْعُ الذِّمِّىِّ بالسَّرقةِ من مالِ مسلمٍ، فلا نعلمُ فيه خِلافًا. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وأمَّا الحَرْبِىُّ إذا دَخَل إلينا مُسْتأمِنًا، فسَرَقَ، فإنَّه يُقْطَعُ أيضًا. وقال ابنُ حامِدٍ: لا يُقْطَعُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومحمدٍ؛ لأنَّه حَدٌّ للَّهِ تعالى، فلا يُقامُ [عليه، كحدِّ] (¬2) الزِّنى. ونَصَّ أحمدُ على أنَّه لا يُقامُ عليه حَدُّ الزِّنى. وللشافعىِّ قَوْلان، كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّه حَدٌّ يُطالَبُ به، فوَجَبَ عليه (¬3)، كحَدِّ القَذْفِ، يُحَقِّقُه أنَّ القَطْعَ يَجِبُ صِيانةً للأمْوالِ، وحَدُّ القَذْفِ يَجِبُ صِيانةً للأعْراضِ، فإذا ¬

(¬1) في ر 3، ق، م: «لغير». (¬2) في ق، م: «الحد عليه كالزنى». (¬3) سقط من: م.

4521 - مسألة: (ومن سرق عينا، وادعى أنها ملكه، لم يقطع. وعنه، يقطع. وعنه، لا يقطع، إلا أن يكون معروفا بالسرقة)

وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا، وَادَّعَى أَنَّهَا مِلْكُهُ، لَمْ يُقْطَعْ. وَعَنْهُ، يُقْطَعُ. وَعَنْهُ، لَا يُقْطَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَب في حَقِّه أحدُهما وَجَب الآخَرُ، فأمَّا حَدُّ (¬1) الزِّنَى فإنَّما لم يجبْ؛ لأنَّه يجبُ به قتلُه لنَقْضِ العهدِ، ولا يجبُ مع القتلِ حَدٌّ سِوَاه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ المسلمَ يُقْطَعُ بسَرِقَةِ مالِه. وعندَ أبى حنيفةَ: لا يجبُ. ولَنا، أنَّه سَرَقَ مالًا مَعْصومًا، لا شُبْهَةَ له فيه، من حِرْزِ (¬2) مِثْلِه، فوَجَبَ قَطْعُه، كسَرِقَةِ مالِ الذِّمِّىِّ، ويُقْطَعُ المُرْتَدُّ إذا سَرَق، فإنَّ أحْكامَ الإِسْلامِ جارِيَةٌ عليه. 4521 - مسألة: (ومَن سَرَق عَيْنًا، وادَّعَى أنَّها مِلْكُهُ، لم يُقْطَعْ. وعنه، يُقْطَعُ. وعنه، لا يُقْطَعُ، إلَّا أن يَكونَ مَعْرُوفًا بالسَّرِقَةِ) مَن ثَبَتَتْ عليه السرقةُ ببَيِّنَةٍ، فأنْكَرَ، لم يُسْمَعْ إنْكارُه. وإن قال: أحْلِفُوه لى أنِّى سَرَقْتُ منه. لم يُحْلَفْ؛ لأَنَّ السَّرِقَةَ قد ثَبَتَتْ بالبَيِّنَةِ، وفى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «حر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحْلافِه عليها قَدْحٌ في (¬1) الشَّهادَةِ. فإن قال: الذى أخَذْتُه مِلْكِى، كان لى عندَه وَدِيعَةً. أو: رَهْنًا. أو: ابْتَعْتُه منه. أو: وَهَبَه (¬2) لى. أو: أذِنَ لى في أخْذِه. أو: غَصَبَه منِّى. أو: مِن أبى. أو: بَعضُه لى. فالقولُ قولُ المَسْرُوقِ منه مع يَمِينِه؛ لأَنَّ اليَدَ ثَبَتَت له، فإن حَلَف سَقَطَتْ دَعْوَى السَّارِقِ، ولا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ صِدْقَه مُحْتَمَلٌ، ولهذا أحْلَفْنا المَسْروقَ منه، وإن نَكَل، قَضَيْنا عليه بنُكُولِه. وهذا إحْدَى الرِّواياتِ عن أحمدَ، وهو منْصُوصُ الشافعىِّ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يُقْطَعُ؛ لأَنَّ سُقُوطَ القَطْعِ بدَعْوَاه يُؤَدِّى إلى أن لا يجبَ قَطعُ سارِقٍ، فتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ. وعنه رِوايَةٌ ثالثةٌ، أنَّه إن كان معروفًا بالسَّرِقَةِ، قُطِعَ؛ لأنَّه يُعْلَمُ كَذِبُه، وإلَّا سَقَط عنه القَطْعُ. والأُولَى أوْلَى؛ لأَنَّ الحُدودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «قبضه».

4522 - مسألة: (وإذا سرق المسروق منه مال السارق، أو المغصوب منه مال الغاصب من الحرز الذى فيه العين المسروقة أو المغصوبة، لم يقطع، وإن سرق من غير ذلك، أو سرق من مال من له عليه دين، قطع، إلا أن يعجز عن أخذه منه، فيسرق قدر حقه، فلا

وَإِذَا سَرَقَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَال السَّارِقِ، أَو الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَالَ الْغَاصِبِ مِنَ الْحِرْزِ الَّذِى فِيهِ الْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ أَوِ الْمَغْصُوبَةُ، لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْحِرْزِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، قُطِعَ، إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ، فَيَسْرِقَ قَدْرَ حَقِّهِ، فَلَا يُقْطَعُ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُقْطَعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإفْضاؤُه إلى سُقُوطِ القَطْعِ لا يَمْنَعُ اعْتِبارَه، كما أنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ في شَهَادَةِ الزِّنَى شُرُوطًا لا يَكادُ يَقَعُ معها إقامَةُ حَدٍّ بَيَّيَنةٍ أبدًا، على أنَّه لا يُفْضِى إليه لازمًا، فإنَّ السُّرَّاقَ لا يعْلَمُونَ هذا (1)، ولا يَهْتَدُونَ إليه في الغالبِ، وإنَّما يَخْتَصُّ بعلمِ هذا الفُقَهاءُ الذين لا يَسْرِقُونَ غالِبًا. فإن لم يَحْلِفِ المسْرُوقُ منه، سَقَطَ القَطْعُ (¬1)، وجْهًا واحدًا؛ لأنَّه يُقْضَى عليه بالنُّكُولِ. 4522 - مسألة: (وإذا سَرَق المَسْرُوقُ منه مالَ السارِقِ، أو المَغْصُوبُ منه مالَ الغاصِبِ من الحِرْزِ الذى فيه العَيْنُ المَسْرُوقَةُ أو المَغْصُوبَةُ، لم يُقْطَعْ، وإن سَرَق من غيرِ ذلكَ، أو سَرَق مِن مالِ مَن له عليه دَيْنٌ، قُطِعَ، إلَّا أن يَعْجِزَ عن أخْذِه منه، فيَسْرِقَ قَدْرَ حَقِّه، فلا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْطَعُ. وقال القاضى: يُقْطَعُ) إذا سَرَق مِن (¬1) مالِ إنْسانٍ، أو غَصَبَه فأحْرَزَه، فجاءَ المالِكُ فَهَتَكَ الحِرْزَ، وأخَذَ مالَه، فلا قَطْعَ فيه عندَ أحدٍ، سَواءٌ أخَذَه سَرِقَةً أو غيرَها؛ لأنَّه أخَذَ مالَه. وإن سَرَق غيرَه، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ له شُبْهَةً في هَتْكِ الحِرْزِ، وأخْذِ مالِه، فصارَ كالسَّارِقِ من غيرِ حِرْزٍ، ولأَنَّ له شُبْهَةً في أخْذِ قَدْرِ مالِه؛ لذَهابِ بعضِ أهلِ العلمِ إلى جَوازِ أخْذِ الإِنْسانِ قَدْرَ دَيْنِه من مال مَن هو عليه: والثانى، عليه القَطْعُ؛ لأنَّه سَرَق نِصابًا من حِرْزِه، لا شُبْهَةَ له فيه، وإنَّما يجوزُ له أخْذُ قَدْرِ مالِه؛ إذا عَجَز عن أخْذِ مالِه، وهذا أمْكَنَه أخْذُ مالِه، فلم يَجُزْ له أخْذُ غيرِه. وكذلك الحكْمُ إذا أخَذَ مالَه، وأخَذَ نِصابًا مِن غيرِه مُتَمَيِّزًا عن مالِه، فإن كان مُخْتَلِطًا بمالِه غيرَ مُتَمَيِّزٍ منه، فلا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه أخَذَ مالَه الذى له أخْذُه، وحَصَّلَ غيرَه مَأْخُوذًا ضَرُورَةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْذِه، فيَجِبُ أن لا يُقْطَعَ (¬1) فيه، ولأَنَّ له في أخْذِه شُبْهَةً، والحَدُّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. فأمَّا إن سَرَق منه مالًا من غيرِ الحِرْزِ الذى فيه مالُه، أو كان له دَيْنٌ على إنْسانٍ، فسَرَقَ من مالِه قَدْرَ دَيْنِه من حِرْزِه، نَظَرْتَ؛ فإن كان الغاضِبُ أو الغَرِيمُ باذِلًا لِما عليه، غيرَ مُمْتَنِعٍ من أدائِه، أو قَدَرَ المالِكُ على أخْذِ مالِه فَتَرَكَه وسَرَق مالَ الغاصِبِ أو الغَرِيمِ، فعليه القَطْعُ؛ لأنَّه لا شُبْهَةَ له فيه، وإن عَجَز عن اسْتِيفاءِ دَيْنه، أو أَرْشِ جِنايَتِه، فسَرَق قَدْرَ دَيْنِه، أو حَقِّه، فلا قَطْعَ عليه. وقال القاضى: عليه القَطْعُ، بِناءً على أصْلِنا في أنَّه ليس له أخْذُ قَدْرِ دَيْنِه. ولَنا، أنَّ هذا مُخْتَلَفٌ في حِلِّه، فلم يَجِبِ الحَدُّ به كالوَطْءِ في نِكاحٍ مُخْتَلَفٍ فيه، وتَحْرِيمُ الأخْذِ لايَمْنَعُ الشُّبْهَةَ الناشِئَةَ عن الاخْتِلافِ، والحُدودُ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. فإن سَرَق أكثرَ من دَيْنِه، فهو كالمَغْصُوبِ منه إذا سَرَق أكثرَ من مَالِه (¬2)، على ما مَضَى. ¬

(¬1) في ق، م: «يضع». (¬2) في ق، م: «دينه».

وَمَنْ قُطِعَ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا، قُطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ومَن قُطِعَ بسَرِقَةِ عَيْنٍ، فعادَ فسَرَقَها، قُطِعَ) إذا سَرَق سارِقٌ، فقُطِعَ، ثم سَرَقَ ثانيًا، قُطِعَ ثانيًا، سَواءٌ سَرَق من الذى سَرَق منه، أو من غيرِه، وسَواءٌ سَرَق تلك العَيْنَ التى قُطِعَ بسَرِقَتِها أو غيرَها. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قُطِعَ بسَرِقَةِ عين مَرَّةً، لم يُقْطَعْ بسَرِقَتِها مَرَّةً ثانيةً، إلَّا أن يكونَ قد قُطِعَ بسَرِقَةِ غَزْلٍ، ثم سَرَقَه مَنْسُوجًا، أو قُطِعَ بسَرِقَةِ رُطَبٍ، ثم سَرَقَه تَمْرًا. واحْتَجَّ بأنَّ هذا يَتَعَلَّقُ اسْتِيفاؤُه بمُطالَبَةِ آدَمِىٍّ، فإذا تَكَرَّرَ سَبَبُه في العينِ الواحدةِ، لم يَتَكَرَّرْ، كحَدِّ القَذْفِ. ولَنا، أنَّه حَدٌّ يَجِبُ بفِعْلٍ في عينٍ، فتَكَرُّرُه في عينٍ واحدةٍ كتَكَرُّرِه في الأعْيانِ، كالزِّنَى، وما ذَكَرَه (¬1) يَبْطُلُ بالغَزْلِ إذا نُسِجَ، وبالرُّطَبِ إذا أتْمَرَ، ولا نُسَلِّمُ حَدَّ القَذْفِ؛ فإنَّه متى قَذَفَه بغيرِ ذلك الزِّنى حُدَّ (¬2)، وإن قَذَفَه بذلك الزِّنَى عَقِيبَ حَدِّه، لم يُحَدَّ؛ لأَنَّ الغَرَضَ إظْهارُ كَذِبِه وقد ظَهَر، وههُنا الغَرَضُ رَدْعُه عن السَّرِقَةِ، ولم يَرْتَدِعْ، فيُرْدَعُ بالثانى، كما لو سَرَق عينًا أُخْرَى. فصل: فإن سَرَقَ مرَّاتٍ قبلَ القَطْعِ، أجْزَأ حَدٌّ واحدٌ عن جميعِها، وتَداخَلَتْ حُدُودُها؛ لأنَّه حَدٌّ من حُدودِ اللَّهِ، فإذا اجتمعَتْ أسْبابُه تَداخَلَ، كحَدِّ الزِّنى، وذَكَرَ القاضى فيما إذا سَرَق من جماعةٍ، وجاءوا ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق، م: «ذكروه». (¬2) بعده في م: «وإن قذفه بذلك الزنى حد».

4523 - مسألة: (ومن أجر داره، أو أعارها، ثم سرق منها مال المستعير أو المستأجر، قطع)

وَمَنْ أَجَرَ دَارَهُ، أَوْ أَعَارَهَا، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهَا مَالَ الْمُسْتَعِيرِ أَوِ الْمُسْتأْجِرِ، قُطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَفَرِّقِينَ، رِوايةً أُخْرَى، أنَّها لا تَتَداخَلُ. ولعلَّه يَقِيسُ ذلكْ على حَدِّ القَذْفِ، والصَّحِيحُ أنَّها تَتَداخَلُ؛ لأَنَّ القَطْعَ خالِصُ حَقٍّ للَّهِ تعالى فيتَدَاخَلُ، كحَدِّ الزِّنى والشُّرْبِ، وفارَقَ حَدَّ القَذْفِ، فإنَّه لآدَمِىٍّ، ولهذا يَتَوَقَّفُ على المُطالَبَةِ باسْتِيفائِه، ويَسْقُطُ بالعَفْوِ عنه. 4523 - مسألة: (ومَن أجَرَ دارَه، أو أعارَها، ثم سَرَق منها مالَ المُسْتَعِيرِ أو المُسْتَأْجِرِ، قُطِعَ) إذا سَرَق المُؤْجِرُ (¬1) مالَ المُسْتَأْجِرِ من العينِ المُسْتَأْجَرَةِ، فعليه القَطْعُ. وبهذا قال الشافعىُّ، وأبو حنيفةَ. وقال صاحِباه: لا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ المَنْفَعَةَ تَحْدُثُ في مِلْكِ المُؤْجِرِ، ثم تَنْتَقِلُ إلى المُسْتَأْجِرِ. ولَنا، أنَّه هَتَك حِرْزًا، وسَرَق منه نِصابًا لا شبْهَةَ له فيه، فوَجَبَ القَطْعُ، كما لو سَرَق من مِلْكِ المُسْتَأْجِرِ. وما قالاه غيرُ مُسَلَّمٍ. 4524 - مسألة: وإنِ اسْتَعارَ دارًا فنَقَبَهَا المُعِيرُ، وسَرَق مالَ المُسْتَعِيرِ منها، قُطِعَ أيضًا. وبهذا قال الشافعىُّ في أحَدِ ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهَيْن. وقال أبو حنيفةَ: لا قَطْعَ عليه؛ لأَنَّ المَنْفَعَةَ مِلْكٌ له، فما هَتَك حِرْزَ غيرِه، ولأَنَّ له الرُّجوعَ متى شاءَ، وهذا يكونُ رُجُوعًا. ولَنا، ما تَقَدَّمَ في التى قبلَها، ولا يَصِحُّ ما ذَكَرُوه؛ لأَنَّ هذا قد صارَ حِرْزًا لمالِ غيرِه، فلا يجوزُ له الدُّخولُ إليه، وإنَّما يجوزُ له الرُّجوعُ في العارِيَّةِ والمُطالَبَةُ برَدِّه إليه. فصل: قال أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ: لا قَطْعَ في المَجَاعَةِ. يَعْنِى أنَّ المُحْتاجَ إذا سَرَق ما يَأْكُلُه، لا قَطْعَ عليه؛ لأنَّه كالمُضْطَرِّ، وروَى الجُوزْجَانِىُّ (¬1)، عن عمر، أنَّه قال: لا قَطْعَ في عَامِ سَنَةٍ. وقال: سألتُ أحمدَ عنه، فقلتُ: تقولُ به؟ فقال: إى لَعَمْرِى، إذا حَمَلَتْه الحاجَةُ، والنَّاسُ في شِدَّةٍ ومَجاعَةٍ. وعن الأوْزاعِىِّ مثلُ ذلك. وهذا محمولٌ على مَن لا يجدُ [ما يَشْتَرِيه، أو لا يَجِدُ ما يَشْتَرِى به، فإنَّ له شُبْهَةً في أخْذِ ما يَأْكُلُه، أو] (¬2) ما يَشْتَرِى به ما يَأْكُلُه. وقد رُوِى عن [عمرَ رَضِىَ اللَّهُ عنه] (¬3)، أنَّ غِلْمانَ حاطِبِ بنِ أبى بَلْتَعَةَ انْتَحَرُوا ناقَةً للمُزَنِىِّ، فأمَرَ عمرُ بقَطْعِهِم، ثم قال لحاطِبٍ: إنِّى أراكَ تُجِيعُهم (¬4). ¬

(¬1) ذكره الحافظ في التلخيص 4/ 70 وعزاه للجوزجانى في جامعه عن أحمد بن حنبل. وأخرجه عبد الرزاق، في: باب القطع في عام سنة، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 242. وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يسرق التمر والطعام، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 27. وهو أثر ضعيف. انظر الإرواء 8/ 80. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في الأصل: «أحمد رحمه اللَّه». (¬4) تقدم تخريجه في 25/ 397.

فصل

فَصْلٌ: السَّادِسُ، ثُبُوتُ السَّرِقَةِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، أَوْ إِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فدَرَأَ عنهم القَطْعَ (¬1) لَمَّا ظَنَّه يُجيعُهم. فأمَّا الواجِدُ لِما يَأْكُلُه، والواجدُ لِما يَشْتَرِى به [ما يَأْكُلُه] (¬2) فعليه القَطْعُ، وإن كان بالثَّمَنِ الغالِى. ذَكَرَه القاضى. وهو مذهبُ الشافعىِّ. فصل: ولا قَطْعَ على المرأةِ إذا مَنَعَها الزَّوْجُ قَدْرَ كِفايَتها، أو كِفايَةِ وَلَدِها، إذا أخَذَتْ من مالِه، سَواءٌ أخَذَتْ قَدْرَ ذلك أو أكثرَ منه، لأنَّها تَسْتَحِقُّ قَدْرَ ذلك، فالزّائِدُ يكونُ مُشْتَرَكًا بما تَسْتَحِقُّ أخْذَه [ولا على الضَّيْفِ إذا مُنِعَ قِراه، وأخَذَ من مالِ المُضِيفِ، لذلك] (¬3). فصل: قال رَحِمَه اللَّهُ: (السَّادسُ، ثُبوتُ السَّرِقَةِ بشَهادَةِ عَدْلَيْن، أو إقْرارٍ مَرَّتَيْن، ولا يَنْزِعُ عن إقْرارِه حتى يُقْطَعَ) وجملةُ ذلك، أنَّ القَطْعَ إنَّما يجبُ بأحَدِ شَيْئَيْن، بَيَنةٍ، أو إقْرارٍ، لا غيرُ، فأمَّا البَيِّنَةُ، فَيُشْتَرَطُ فيها أن يكونا (¬4) رجلَيْن مُسْلِمَيْن حُرَّيْن عَدْلَيْن، سَواءٌ كان السَّارِقُ مسلمًا ¬

(¬1) في ق، م: «الحد». (¬2) سقط من: تش، ق، م. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «يكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو ذِمِّيًّا. وقد ذَكَرْنا ذلك في شُهُودِ الزِّنَى بما يُغْنِى عن إعادَتِه ههُنا، ويُشْتَرَطُ أن يَصِفَا السَّرِقَةَ والحِرْزَ، وجِنْسَ النِّصَابِ، وقَدْرَه؛ ليَزُولَ الاخْتِلافُ فيه، فيقولانِ: نشْهَدُ أنَّ هذا سَرَق كَذا، قِيمَتُه كذا، من حِرْزٍ. ويَصِفَا الحِرْزَ. فإن كان المسروقُ منه غائِبًا، فحَضَرَ وكيلُه، وطالَبَ بالسَّرِقَةِ، احْتاجَ الشَّاهِدانِ أَنْ يَرْفَعَا في نَسَبِه، فيقولان: من حِرْزِ فُلانِ ابنِ فلانِ [ابنِ فلانٍ] (¬1). بحيثُ يَتَمَيَّزُ عن غيرِه، فإذا اجتَمَعَتْ هذه الشُّرُوطُ، وَجَب القَطْعُ في قولِ عامَّتِهم. وقال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه من أهلِ العلمِ، على أنَّ قَطْعَ السارِقِ يجبُ، إذا شَهِد بالسَّرِقَةِ شاهدان حُرَّان مُسْلِمان، ووَصَفا ما يُوجِبُ القَطْعَ. وإذا وَجَب القَطْعُ بشَهادَتِهما، لم يَسْقُطْ بغَيْبَتِهما، ولا مَوْتِهما، على ما مَضَى في الشَّهادَةِ بالزِّنَى. وإذا شَهِدا (¬3) بسَرِقَةِ مالِ غائبٍ، فإن كان له وكيلٌ حاضِرٌ، فطالَبَ به، قُطِعَ السَّارِقُ، وإلَّا قلا. وقال القاضى: يُحْبَسُ ولا يُقْطَعُ حتى يَحْضُرَ الغائِبُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الإشراف 2/ 304. والإجماع 68. (¬3) في الأصل: «قطع». وفى تش، ق، م: «شهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اخْتَلَفَ الشاهدان في المكانِ (¬1) أو الزَّمانِ، أو المَسْروقِ، فشَهِدَ أحدُهما أنَّه سَرَق يومَ الخميسِ، وشَهِد (¬2) الآخَرُ أنَّه سَرَق يومَ الجُمُعة، أو (¬3) شهِد أحدُهما أنَّه سَرَق من هذا البيتِ، والآخَرُ أنَّه سَرَق من هذا البيتِ الآخَرِ، أو قال أحدُهما: سَرَق ثَوْرًا. وقال الآخَرُ: سَرَق بَقَرَةً. أو قال الآخَرُ: سَرَق حمارًا. لم يُقْطَعْ. في قولِهم جميعًا. وبه قال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وإن قال أحدُهما: سَرَق ثَوْبًا أبْيَضَ. وقال الآخَرُ: أسودَ. أو قال أحدُهما: سَرَق هَرَوِيًّا. وقال الآخَرُ: سَرَقَ مَرْوِيًّا. لم يُقْطَعْ أيضًا. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّهما لم يَتَّفِقَا على الشَّهادةِ بشئٍ واحدٍ، فأشْبَهَ ما لو اخْتَلَفَا في الذُّكُورِيَّةِ والأُنُوثِيَّةِ. وقال أبو الخَطَّابِ: يُقْطَعُ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ الاخْتِلافَ لم يَرْجِعْ إلى نفسِ الشَّهادة، فيَحْتَمِلُ أنَّ أحدَهما غَلَب على ظَنِّه أنَّه هَرَوِىٌّ، والآخرَ أنَّه مَرْوِىٌّ، أوَ كان الثوبُ فيه سَوادٌ وبَياضٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): اللونُ أقربُ إلى الظُّهورِ من الذُّكُورِيَّةِ والأُنُوثِيَّة، فإذا كان اخْتِلافُهما (¬5) فيما يَخْفَى يُبْطِلُ شَهادَتَهما، ففيما ¬

(¬1) في ق، م: «الوقت». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في الأصل: «و». (¬4) في الإشراف 2/ 305. (¬5) في الأصل، ر 3، ق، م: «اختلافهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَظْهَرُ أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أنَّ أحدَهما ظَنَّ المسروقَ ذكَرًا، وظَنَّه الآخَرُ أُنْثَى، وقد أوْجَبَ هذا رَدَّ شهادَتِهما، فكذلك ههنا. الأمرُ الثانى، الاعْتِرافُ، ويُشْتَرَطُ فيه أن يَعْتَرِفَ مَرَّتَيْن. رُوِى ذلك عن علىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه. وبه قال ابن أبى ليلى، وأبو يوسفَ، وزُفَرُ، وابنُ شُبْرُمَةَ. وقال عَطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: يُقْطَعُ باعْتِرافِ مَرَّةٍ؛ لأنَّه حَقٌّ يَثْبُتُ بالإِقْرارِ، فلم يُعْتَبَرْ فيه التَّكْرَارُ، كحَقِّ الآدَمِىِّ. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (¬1)، بإسْنادِه، عن أبى أُمَيَّةَ المَخْزُومِىِّ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُتِىَ بلِصٍّ قد اعْتَرَفَ، فقال له: «ما إِحالُكَ سَرَقْتَ». قال: بلى. فأعادَ عليه مَرَّتَيْن أو ثلاثًا، فأمَرَ به، فقُطِعَ. ولو وَجَبَ القَطْعُ بأوَّلِ مَرَّةٍ، لَمَا أخَّرَه. وروَى سعيدٌ، عن هُشَيْمٍ، وسُفْيانَ، وأبى الأحْوَصِ، وأبى مُعاويةَ، عن الأعْمَشِ، عن [القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ] (¬2)، عن أبِيه، قال: شَهِدْتُ عليًّا، وأتاه رجلٌ، فأقَرَّ بالسَّرِقَةِ، فرَدَّه. وفى لفظٍ: فانْتَهرَه. وفى لفظٍ: فسَكَتَ عنه. وقال غيرُ هؤلاءِ: فطَرَدَه. ثم عادَ بعدَ ذلك، ¬

(¬1) في: باب في التلقين في الحد، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 447. كما أخرجه النسائى، في: باب تلقين السارق، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 60. وابن ماجه، في: باب تلقين السارق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 866. والدارمى، في: باب المعترف بالسرقة، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 173. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 293. وهو حديث ضعيف. انظر الإرواء 8/ 78، 79. (¬2) في النسخ والمغنى: «عبد الرحمن بن القاسم». والمثبت من مصادر التخريج. وانظر السير 5/ 195، 196. وقد أورده الشارح -في الصفحة التالية- من طريق الأعمش عن القاسم عن أبيه به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأقَرَّ، فقال له علىٌّ: شَهِدْتَ على نفْسِكَ مَرَّتَيْن. فأمَرَ به فقُطِعَ. وفى لفظٍ: قد أقْرَرْتَ على نَفْسِكَ مَرَّتَيْن (¬1). ومثلُ هذا يَشْتَهِرُ، فلم يُنْكَرْ. ولأنَّه يَتَضَمَّنُ إتْلافًا في حَدٍّ، فكان مِن شَرْطِه التَّكْرارُ، كحَدِّ الزِّنى. ولأنَّه أحدُ حُجَّتَى القَطْعِ، فيُعْتَبرُ فيه التَّكْرَارُ، كالشَّهادةِ، وقياسُهم يَنْتَقِضُ بالزِّنى، عندَ مَن اعْتَبَرَ التَّكْرَارَ، ويُفارِقُ حَقَّ الآدَمِىِّ؛ لأَنَّ حَقَّه مَبْنِىٌّ على الشِّحِّ، والضِّيقِ، ولا يُقْبَلُ رُجُوعُه عنه، بخِلافِ مَسْألتِنا. فصل: ويُعْتَبَرُ أن يَذْكُرَ في إقْرارِه شُروطَ السَّرِقَةِ، مِن النِّصابِ والحِرْزِ، وإخْراجِه منه. والحُرُّ والعبدُ في هذا سَواءٌ. نَصَّ عليه أحمدُ، لعُمومِ النَّصِّ فيهما، ولِما روَى الأعْمَشُ، عن القاسمِ، عن أبِيه، أنَّ عليًّا قَطع عبدًا أقَرَّ عندَه بالسَّرِقَةِ. وفى روايةٍ، قال: كان عبدًا. يعنى الذى قَطَعَه علىٌّ. ويُعْتَبَرُ أَنْ يُقِرَّ مَرَّتَيْن. وروَى مُهَنَّا، عن أحمدَ: إذا أقَرَّ العبدُ أنَّه سَرَق أرْبَعَ مَرَّاتٍ، قُطِعَ. فظاهِرُ هذا أنَّه اعْتَبَرَ إقْرارَه أربعَ مَرَّاتٍ؛ ليكونَ على النِّصْفِ مِن الحُرِّ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لخبَرِ على، ولأنه إقْرارٌ بحَدٍّ، فاسْتَوَى فيه الحُرُّ والعبدُ، كسائرِ الحُدودِ. ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب اعتراف السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 191. وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يقر بالسرقة كم يردد مرة، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 494. والبيهقى، في: باب ما جاء في تعليق اليد. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 275. وهذا أثر صحيح. انظر الإرواء 8/ 78.

4525 - مسألة: (ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع)

وَلَا يَنْزِعُ عَنْ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقْطَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4525 - مسألة: (ولا يَنْزِعُ عن إقْرارِه حتى يُقْطَعَ) هذا قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ. وقال ابنُ أبى ليلى، وداودُ: لا يُقْبَلُ رجوعُه؛ لأنَّه لو أقَرَّ لآدَمِىٍّ بحَدِّ قِصاصٍ، لم يُقْبَلْ رُجوعُه عنه. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للسَّارِقِ: «مَا إخَالُكَ سَرَقْتَ» (¬1). عَرَضَ له ليَرْجِعَ، [ولأنَّه حَدٌّ للَّهِ] (¬2)، ثَبَت بالاعْترافِ، فقُبِل رُجوعُه عنه، كحَدِّ الزِّنى، ولأَنَّ الحُدودَ تُدْرَأ بالشُّبُهاتِ، ورُجوعُه شُبْهَةٌ؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ كَذَب على نفْسِه في اعْتِرافِه، ولأنَّه أحَدُ حُجَّتَى القَطْعِ، فيَبْطُلُ بالرُّجوعِ عنه، كالشَّهادَةِ، ولأَنَّ حُجَّةَ القَطْعِ زالَتْ قبلَ اسْتِيفائِه، فسَقَط كما لو رَجَع الشُّهودُ. وفارَقَ حَقَّ الآدَمِىِّ؛ لأنَّه مَبْنِىٌّ على الشُّحِّ والضِّيقِ، ولو رَجَع الشُّهودُ عن الشَّهادَةِ بعدَ الحُكْمِ في حَقِّ الآدَمِىِّ، لم يَبْطُلْ برُجوعِهم، ولم يَمْنَعِ اسْتِيفاءَها. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا رَجَع قبلَ القَطْعِ، سَقَط القَطْعُ، ولم يَسْقُطْ غُرْمُ المسْرُوقِ، لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ، ولو أتر مَرَّة واحدةً، لَزِمَه غَرامة المسْروقِ دُونَ القَطْعِ. وإن كان رُجوعُه وقد قُطِعَ بعضُ المَفْصِلِ، لم يُتْمِمْه إن كان يُرْجَى بُرْؤه؛ لكَوْنِه قَطَع الأقَلَّ، وإن كان قَطَع الأكْثَرَ، فالمقطوعُ بالخِيارِ، إن شاءَ قَطَعَه، ليَسْتَريحَ (¬3) مِن تعْليقِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 558. (¬2) في م: «ولأن حديثه». (¬3) في ق، م: «ويستريح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفِّه، [وإن شاءَ تَرَكَه] (¬1)، ولا يَلْزَمُ القاطِعَ قَطْعُه؛ لأَنَّ قَطْعَه تَداوٍ، وليس بحَدٍّ. فصل: قال أحمدُ: لا بأْسَ بتَلْقِينِ السَّارِقِ ليَرْجِعَ عن إقْرارِه. وهذا قولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ. رُوِى عن عمرَ، أنَّه أتِىَ برجل (¬2)، فسألَه: أسَرَقْتَ؟ [قُلْ: لا] (1). فقال: لا. فَتَرَكَه (¬3). ورُوِىَ ذلك عن أبى بكرٍ الصِّدِّيقِ، وأبى هُرَيْرَةَ، وابنِ مسعودٍ، وأبى الدَّرْدَاءِ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم. وبه قال إسْحاقُ، وأيو ثَوْرٍ. وقد رَوَيْنا أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للسَّارِقِ: «ما إِخَالُكَ سَرَقْتَ». وقال لماعِزِ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أو لَمَسْتَ» (¬4). وعن علىٍّ، أنَّ رَجلًا أقَرَّ عندَه بالسَّرِقَةِ، فانْتَهَرَه (¬5). ولا بأْسَ بالشَّفَاعَةِ في السَّارِقِ إذا لم يَبْلُغِ الإِمامَ، فإنَّه رُوِى عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «تَعافَوُا الحُدُودَ (¬6) [فِيمَا بَيْنَكُمْ] (¬7)، فَمَا بَلَغَنِى مِنْ حَدِّ وَجَبَ» (¬8). وقال الزُّبيرُ بنُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «بسارق». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ستر المسلم، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 224. وابن أبى شيبة بمعناه، في: باب في الرجل يؤتى فيقال: أسرقت. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 25. وهو أثر ضعيف. انظر الإرواء 8/ 79. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 208. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 559. (¬6) أى: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إلى. (¬7) سقط من: الأصل، ق. (¬8) أخرجه أبو داود، في: باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 446. والنسائى، في: باب ما يكون حرزا، وما لا يكون، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 63. وهو حديث حسن. انظر شرح السنة، للبغوى 10/ 330. وفتح البارى 12/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العوَّامِ في الشَّفاعَةِ في الحَدِّ: يَفْعَلُ ذلكَ دونَ السُّلْطَانِ، فإذا بَلَغ الإِمامَ، فلا أعْفَاه اللَّهُ إنْ أعفاه (¬1). وممَّن رَأى ذلك عَمَّارٌ، وابنُ عباس، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والزُّهْرِىُّ، والأوْزَاعِىُّ. وقال مالكٌ: إن لم يُعْرَفْ بشَرٍّ، فلا بأْسَ أن يشْفَعَ له، ما لم يَبْلُغِ الإِمامَ، وأمَّا مَن عُرِفَ بشَرٍّ وفَسادٍ، فلا أحِبُّ أن يَشْفعَ له أحَدٌ (¬2)، ولكن يُتْرَكُ حتى يُقامَ عليه الحَدُّ. وأجمعُوا على أنَّه إذا بَلَغ الإِمامَ لم تَجُزِ الشَّفَاعَةُ فيه؛ لأَنَّ ذلك إسْقاطُ حَقٍّ وَجَب للَّه تِعالى، وقد غَضِب النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ شَفَع أُسامَةُ في المَخْزُومِيَّةِ التى سَرَقَتْ، وقال: «أتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تعالى!» (¬3). وقال ابنُ عمرَ: مَن حالَتْ شَفاعتُه دونَ حَدٍّ مِن حُدودِ اللَّهِ، فقد ضادَّ اللَّهَ في حُكْمِه (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك بمعناه، في: باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، من كتاب الحدود. الموطأ 2/ 834. وعبد الرزاق، في: باب ستر المسلم، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 226. وابن أبى شيبة، في: باب ما جاء في التشفع للسارق، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 465. والبيهقى، في: باب ما جاء في الشفاعة بالحدود، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 333. واللفظ له. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 467. (¬4) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب ما جاء في التشفع للسارق، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 466. كما أخرجه مرفوعًا، أبو داود، في: باب في من يعين على خصومة. . .، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 274. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 70، 82.

السَّابعُ، مُطَالَبَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِمَالِهِ. وَقَالَ أبو بَكْرٍ: لَيْس ذَلِكَ بِشَرْطٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَحِمَه اللَّهُ: (السابعُ، مُطالَبَةُ المَسْرُوقِ منه بمالِه. وقال أبو بكرٍ: ليس ذلك بشَرْطٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ السَّارِقَ لا يُقْطَعُ وإنِ اعْتَرَفَ أو قامَتْ بَيِّنَةٌ، حتى يَأتِىَ مالِكُ المسروقِ يَدَّعِيه. ويهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال أبو بكرٍ: لا يَفْتَقِرُ إلى دَعْوَى ولا مُطالَبَةٍ. وهذا قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لعُمومِ الآيةِ، ولأَنَّ مُوجِبَ القَطْعِ ثَبَت، فوَجَبَ مِن غيرِ مُطالَبَةٍ، كحَدِّ الزِّنى. ولَنا، أنَّ المالَ يُبَاحُ بالبَذْلِ والإِباحَةِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ مالِكَه أباحَه إيَّاه، أو وَقَفَه على المسلمين، أو على طائِفَةٍ السَّارِقُ منهم، أو أذِنَ له في دُخوِلِ حِرْزِه، فاعْتُبِرَتِ المُطالَبَةُ؛ لتَزُولَ هذه الشُّبْهَةُ، وعلى هذا يَخْرُجُ الزِّنَى، فإنَّه لا يُباحُ بالإِباحَةِ، ولأَنَّ القَطْعَ أوْسَعُ في الإِسْقاطِ، ألا تَرَى أنَّه إذا سَرَق مالَ أبِيه لم يُقْطَعْ، ولو زَنَى بجَارِيَتِه حُدَّ، ولأَنَّ القَطْعَ شُرِعَ لصِيانَةِ مالِ الآدَمِىِّ، فله به تَعَلُّقٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يُسْتَوْفَ مِن غيرِ حُضورِ مُطالِبٍ به، والزنَى حَقٌّ للَّهِ تعالى مَحْضٌ، فلم يَفْتَقِرْ إلى طَلَبٍ به. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ وَكِيلَ الغائبِ يقومُ مَقامَه في الطَّلَبِ. وقال القاضى: إذا أقَرَّ بسَرِقَةِ مالِ غائب، حُبسَ حتى يَحْضُرَ الغائِبُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ قد أباحَه، ولو أقَرَّ بحَقٍّ مُطْلَقٍ لغائبٍ لم يُحْبَسْ؛ لأنَّه لا حَقَّ عليه لغيرِ الغائبِ ولم يأمُرْ بحَبْسِه، فلم يُحْبَسْ. وفى مسألتِنا تَعَلَّقَ به حَقُّ اللَّهِ تعالى، وحَقُّ الآدَمِىِّ، فحُبِسَ؛ لِما عليه مِن حَقِّ اللَّهِ تعالى، فإن كانتِ العَيْنُ في يدِه، أخَذَها الحاكمُ، وحَفِظَها للغائبِ، وإن لم يَكُنْ في يدِه شئٌ، فإذا جاء الغائِبُ كان الخَصْمَ فيها. فصل: ولو أقَرَّ بسَرِقَةٍ لرجلٍ، فقال المالكُ: لم تَسْرِقْ مِنِّى، ولكنْ غَصَبْتَنِى. أو: كان لى قِبَلَك وَدِيعَةٌ فجَحَدْتَنِى. لم يُقْطَعْ؛ لأَنَّ إقْرارَه لم يُوافِقْ دَعْوَى المُدَّعِى. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وإن أقَرَّ أنَّه سَرَق نِصابًا مِن رجلَيْن، فصَدَّقَه أحدُهما دُونَ الآخَرِ، أو قال الآخرُ: بل غَصَبْتَنِيه أو جَحَدْتَنِيه. لم يُقْطَعْ. وبه قال أصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ. ولَنا، أنَّه لم يُوافِقْ على سَرِقَةِ نِصابٍ، فلم يُقْطَعْ،

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ، قُطعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ، وَحُسِمتْ؛ وَهُوَ أَنْ تُغْمَسَ في زَيْتٍ مَغْلِىٍّ، فَإِنْ عَاَد، ـــــــــــــــــــــــــــــ كالتى قَبلَها، وِإن وَافَقاه جميعًا، قُطِعَ. وإن حَضَر أحدُهما، فطالَبَ، ولم يَحْضُرِ الآخرُ، لم يُقْطَعْ؛ لأَنَّ ما حَصَلَتِ المُطالَبَةُ به لا يُوجِبُ القَطْعَ بمُفْرَدِه. وإن أقَرَّ أنَّه سَرَق مِن رجلٍ شيئًا، فقال الرجلُ: قد فَقدْتُه مِن مالِى. فيَنْبَغِى أن يُقْطَعَ؛ لِما رُوِى عن عبدِ الرحمنِ (¬1) بنِ ثَعْلَبَةَ الأنْصارِىِّ، عن أبيه، أنَّ عمرَو بنَ سَمُرَةَ بنِ حَبِيبِ (¬2) بنِ عَبْدِ شَمْسٍ، جاءَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسولَ اللَّه إنِّى سَرَقْتُ جَمَلًا لبَنِى فُلانٍ، فطَهِّرْنِى. فأرسَلَ إليهم النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: إنَّا افْتَقَدْنا جملًا لنا. فأمَرَ به النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقُطِعَتْ يَدُه. قال ثَعْلَبَةُ: أنا أنْظُرُ إليه حين وَقَعَتْ يدُه، وهو يقولُ: الحمدُ للَّه الذى طَهَّرَنِى منكِ، أردتِ أن تدْخِلِى جَسَدِىَ النَّارَ. رَواه ابنُ ماجَه (¬3). 4526 - مسألة: (وإذا وَجَب القَطْعُ، قُطِعَتْ يَدُه اليُمْنَى مِن مَفْصِلِ الكَفِّ، وحُسِمَتْ؛ وهو أن تُغْمَسَ فِى زَيْتٍ مَغْلِىٍّ، فإن عاد، ¬

(¬1) في الأصل، تش، ق: «عبد اللَّه». (¬2) في الأصل: «جندب». (¬3) في: باب السارق يعترف، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 863. وهو حديث ضعيف. انظر ضعيف سنن ابن ماجه 205.

قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ، وَحُسِمَتْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قُطِعَتْ رِجْلُه الْيُسْرَى مِن مَفْصِلِ الكَعْبِ، وحُسِمْت) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ السَّارِقَ أولُ ما يُقْطَعُ منه يدُه اليُمْنَى، مِن مَفْصِلِ الكَفِّ، وهو الكُوعُ. وفى قِراءةِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ: (فَاقْطَعُوَاْ أَيْمانَهُمَا) (¬1). وهذا إن كان قراءةً وإلَّا فهو تَفْسِيرٌ. وقد رُوِى عن أبى بكر، وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهما قالا: إذا سَرَقَ السَّارِقُ فاقْطَعُوا يَمِينَه مِن الكوعِ (¬2). ولا مُخالِفَ لهما في الصَّحابةِ، ولأَنَّ البَطْشَ بها أقْوَى، فكانتِ البَداءَةُ بها أرْدَعَ، ولأنَّها آلةُ السَّرِقَةِ غالبًا (¬3)، فناسَبَتْ عُقُوبَته بإعْدامِ آلَتِها. وإذا سَرَق ثانيًا، قُطِعَتْ رِجْلُه اليُسْرَى. وبذلك قال الجماعةُ إلَّا عطاءً، حُكِىَ عنه، أنَّه تُقْطَعُ يدُه اليُسْرَى؛ لقَوْلِه سبحانَه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4). ولأنَّها آلةُ السَّرقَةِ والبَطْشِ، فكانتِ العُقُوبةُ بقَطْعِها أوْلَى. ورُوِىَ ذلك عن رَبِيعَةَ، وداودَ. وهذا شُذُوذٌ يخالِفُ قولَ (¬5) جماعةِ [فُقَهاءِ الأمصارِ مِن أهلِ الفِقْهِ والأثَرِ] (¬6)، مِن الصَّحابةِ ¬

(¬1) أخرجه البيهقى: باب السارق يسرق أولا. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 270. (¬2) من قول عمر أخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 185 وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل تقطع. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 29. والبيهقى، في: باب السارق يسرق أولا. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 271. ولم نجده عن أبى بكر. وانظر تلخيص الحبير 4/ 71، والإرواء 8/ 81. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سورة المائدة 38. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في ق، م: «الفقهاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتابِعِين، ومَن بعدَهم، وقولَ أبى بكرٍ، وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وقد روَى أبو هُرَيْرَةَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال في السَّارِقِ: «إِذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَه، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَه» (¬1). ولأنَّه في المُحارَبَةِ المُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ، إنَّما تُقْطَعُ يَدُه ورِجْلُه، ولا تُقْطَعُ يَداه، فنقولُ: جنايةٌ أوْجَبَت قَطْعَ عُضْوَيْن، فكانا يَدًا ورِجْلًا، كالمُحارَبَةِ، ولأَنَّ قَطْعَ يَدَيْه يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الجِنْسِ، فلا تَبْقَى له يدٌ يَأْكُلُ بها، ولا يتوضَّأ، ولا يَسْتَطِيبُ، ولا يَدْفَعُ عن نفسِه، فيصيرُ كالهالِكِ، فكان قَطْعُ الرِّجْلِ الذى لا يَشْتَمِلُ على هذه المَفْسَدَةِ أوْلَى. وأمَّا الآيةُ، فالمُرادُ بها قَطْعُ يَدِ كل واحدٍ منهما؛ بدليلِ أنَّه لا تُقْطَعُ اليدَان في المَرَّةِ الأُولَى. وفى قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فَاقْطَعُوَا أَيْمانَهُمَا). وإنَّما ذُكِرَ بلفظِ الجمعِ، لأَنَّ المُثَنَّى إذا أضِيفَ إلى المُثَنَّى ذُكِرَ بلفظِ الجمع، كقولِه تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬2). إذا ثَبَت هذا، فإنَّه تُقْطَعُ رِجْلُه اليُسْرَى؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (¬3). ولأَنَّ قَطْعَ اليُسْرَى أرْفقُ به، لأنَّه يُمْكِنُه المَشْىُ على خَشَبَةٍ، ولو قُطِعَتْ رِجْلُه اليُمْنَى ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 181. وهو حديث صحيح بشواهده. انظر الإرواء 8/ 85 - 89. (¬2) سورة التحريم 4. (¬3) سورة المائدة 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُمْكِنْه المَشْىُ بحالٍ. وتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِن مَفْصِلِ الكَعْبِ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، وفَعَل ذلك عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه (¬1). وكان علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، يَقْطَعُ مِن نصفِ القَدَمِ مِن مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، ويَدَعُ له عَقِبًا يَمْشِى عليها (¬2). وهو قولُ أبى ثَوْرٍ. ولَنا، أنَّه أحَدُ العُضْوَيْن المَقْطُوعَيْن في السَّرِقَةِ، فيُقْطَعُ مِن المَفْصِلِ كاليَدِ، وإذا قُطِعَ حُسِمَ، وهو أن يُغْلَى الزَّيت، فإذا قُطِعَ غُمِسَ عُضْوُه في الزَّيت؛ لتَنْسَدَّ أفْواهُ العُروقِ؛ لئلا يَنْزِفَ الدمُ فيَمُوت. وقد رُوِى أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتِىَ بسارِقٍ سَرَق شَمْلَةً، فقال: «اقْطَعُوهُ، واحْسِمُوهُ» (¬3). وهو حديثٌ فيه (¬4) مَقالٌ. قالَه ابنُ المُنْذِرِ (¬5). وممَّن اسْتَحَبَّ ذلك الشافعىٌّ، وأبو ثَوْرٍ، وغيرُهما مِن أهلِ العلمَ. فصل: ويُقْطَعُ السارِقُ (4) بأسْهَلِ ما يُمْكِنُ، فيُجْلَس ويُضْبَطُ؛ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ فيَجْنِىَ على نَفْسِه، وتُشَدُّ يَدُه بحَبْلٍ، ويُجَرُّ حتى يَبِينَ مَفْصِلُ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 185. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 185. وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل تقطع. . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 29. والبيهقى، في: باب السارق يسرق أولًا. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 271. وهو حديث حسن. انظر الإرواء 8/ 89. (¬3) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 102، 103. والبيهقى، في باب السارق يسرق أولا. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 271. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الإشراف 2/ 306.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَفِّ مِن مَفْصِلِ الذِّراعِ، ثم تُوضَعُ بينَهما سِكِّينٌ حَادَّةٌ، ويُدَقُّ فوقَها بقُوَّةٍ ليُقْطَعَ في مَرَّةٍ واحدةٍ، أو تُوضَعُ (¬1) السِّكِّينُ على المَفْصِلِ وتُمَدُّ مدَّةً واحدةً. وإن عُلِمَ قَطْعٌ أوْحَى مِن هذا، قُطِعَ به. فصل: ويُسَنُّ تَعْلِيقُ اليَدِ في عُنُقِه؛ لِما روَى فَضَالَةُ بنُ عُبَيْدٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتِىَ بسارِقٍ، فقُطِعَتْ يدُه، ثم أَمَرَ بها فعُلِّقَتْ في عُنُقِه. رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه (¬2). وفَعَل ذلك علىٌّ (¬3)، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولأَنَّ فيه رَدْعًا وزَجْرًا. فصل: ولا يُقطَعُ في شِدَّةِ حَر، ولا بَرْدٍ؛ لأَنَّ الزَّمانَ رُبَّما أعانَ على قَتْلِه، والغَرَضُ الزَّجْرُ دُونَ القَتْلِ. ولا يُقْطَعُ مَرِيض في مَرَضِه؛ لِئلَّا يَأتِىَ ذلك على نَفْسِه. ولو سَرَق فقُطِعَتْ يدُه، ثم سَرَق قبلَ انْدِمالِ يدِه، لم يُقْطَعْ ثانِيًا حتى يَنْدَمِلَ القَطْعُ الأَوَّلُ. وكذلك لو قُطِعَتْ رِجْلُه قِصاصًا، لم تُقْطَعِ اليَدُ في السَّرِقَةِ حتى تَبْرَأ الرِّجْلُ. فإن قِيلَ: أليس لو وَجَب عليه قِصاصٌ في اليدِ الأُخْرَى لَقُطِعَتْ قبلَ الانْدِمالِ، والمُحارِبُ تُقْطَعُ يدُه ¬

(¬1) في الأصل: «تقطع». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في تعليق يد السارق في عنقه، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 454. وابن ماجه، في: باب تعليق اليد في العنق، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 863. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في تعليق يد السارق، من أبواب السرقة. عارضة الأحوذى 6/ 227، 228. والنسائى، في: باب تعليق يد السارق في عنقه، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 85. والإمام أحمد في: المسند 6/ 19. وهو حديث ضعيف. انظر تلخيص الحبير 4/ 69، والإرواء 8/ 84. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10/ 191. وابن أبى شيبة، في المصنف 10/ 134. وانظر الإرواء 8/ 85.

4527 - مسألة: (فإن عاد، حبس، ولم يقطع. وعنه، أنه تقطع يده اليسرى فى الثالثة والرجل اليمنى فى الرابعة)

فَإِنْ عَادَ، حُبِسَ، وَلَمْ يُقْطَعْ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى في الثَّالِثَةِ، وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى في الرَّابِعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورِجْلُه دَفْعَةً واحدةً، وقد قُلْتُمْ في المريضِ الذى وَجَب عليه الحَدُّ: لا يُنْتَظَرُ بُرْؤُه. فلِمَ خَالَفْتُمْ ذلك ههُنا؟ قُلْنا: القِصاصُ حَقُّ آدَمِىٍّ، يُخافُ فَوْتُه، وهو مَبْنِىٌّ على الضِّيقِ لحاجَتِه إليه، ولأَنَّ القِصاصَ قد يَجِبُ في يَدٍ، ويجب في يَدَيْن وأكثرَ في حالةٍ واحِدَةٍ، فلهذا جازَ أن يُوالَى بينَ قِصاصَيْن، بخِلافِ الحَدِّ، فإنَّ كلَّ مَعْصِيَةٍ لها حَدٌّ مقَدَّر، لا تجوز الزِّيادَةُ عليه، فإذا والَى بينَ حَدَّيْن، صارَ كالزِّيادَةِ على الحَدِّ، فلم يَجُزْ. فأمَّا قطَّاع الطَّريقِ، فإنَّ قَطْعَ اليَدِ والرِّجْلِ حَدٌّ واحِدٌ، بخِلافِ ما نحن فيه. وأمَّا تأخير الحَدِّ للمَرَضِ، فمَمْنوع، وإن سلِّمَ، فإنَّ الجَلْدَ يُمْكِنُ تَخْفِيفُه، فيَأتِى به في المرَضِ على وَجْهٍ يُؤْمَن معه التَّلَفُ، والقَطْع لا يُمْكِن تخْفِيفُه. 4527 - مسألة: (فإن عاد، حُبِسَ، ولم يقْطَعْ. وعنه، أنَّه تقْطَع يَده اليُسْرَى في الثالِثَةِ والرِّجل اليُمْنَى في الرّابِعَةِ) وجملة ذلك، أنَّه إذا سَرَق بعدَ قَطْعِ [يَدِه ورِجْلِه] (¬1)، لم يُقْطَعْ منه شئٌ آخَر وحُبِسَ. ¬

(¬1) في م: «يديه ورجليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، والحسنُ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والزُّهْرِى، وحَمَّادٌ، والثَّوْرِىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وعن أحمدَ، أنَّه تُقْطَعُ في الثالِثَةِ يَدُه اليُسْرَى، وفى الرّابعَةِ رِجْلُه اليُمْنَى، وفى الخامِسَةِ يُعَزَّرُ ويُحْبَسُ. ورُوِىَ عن أبى بكرٍ، وعمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، أنَّهما قَطَعا يَدَ أقْطَعِ اليَدِ والرِّجْلِ (¬1). وهو قولُ قَتادَةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عن عثمانَ، وعمرِو بنِ العاصِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنَّه تُقْطَعُ يدُه السرَى في الثالثةِ، والرِّجْلُ اليُمْنَى في الرَّابِعَةِ، ويُقْتَلُ في الخامِسَةِ؛ لأَنَّ جابِرًا قال: جئَ إلى النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسارِقٍ، فقال: «اقْتُلُوهُ». فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنما سَرَقَ. فقال: «اقْطَعُوهُ». قال: فَقُطِعَ، ثم جِئَ به الثَّانِيَةَ، فقال: «اقْتُلُوهُ». فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما سَرَق. فقال: «اقْطَعُوهُ». قال: فقُطِعَ، ثم جِئَ به الثالثَةَ، فقال: «اقْتُلُوهُ». فقالوا: يارَسولَ اللَّهِ، إنَّما سَرَق. قال: «اقْطَعُوهُ». قال: ثم أتِىَ به الرَّابِعَةَ، فقال: «اقْتُلُوهُ». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما سَرَق. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 187. وابن أبى شيبة، في: باب في السارق يسرق تقطع يده. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 511. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 181، 212. والبيهقى، في: باب السارق يعود فيسرق ثانيا، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 273، 274. وهو أثر صحيح. انظر الإرواء 8/ 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: «اقْطَعُوهُ». ثم أتِىَ به الخامِسَةَ، فقال: «اقْتُلُوهُ». قال: فانْطَلَقْنا به، فَقَتَلْناه، ثم اجْتَرَرْنَاه فألْقَيْناه في بئرٍ. رَواه أبو داودَ، والنَّسَائىُّ (¬1). وعن أبى هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في السَّارِقِ: «إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ (¬2)، [ثمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إن سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ] (¬3)» (¬4). ولأَنَّ اليَسارَ تُقْطَعُ قَوَدًا، فجازَ قَطْعُها في السَّرقَةِ، كاليُمْنَى، ولأنَّه فِعْلُ أبى بكرٍ، وعمرَ (¬5)، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وقد قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى، أبِى بَكْرٍ، وعُمَرَ» (¬6). ولَنا، ما روَى سعيدٌ، ثَنا أبو مَعْشَرٍ، عن سعيدِ بنِ أبى سعيدٍ المَقْبُرِىِّ، عن أبيه، قال: حضرتُ علىَّ بنَ أبى طالبٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أتِىَ بِرَجُل مَقْطُوعِ اليَدِ والرِّجْلِ قد سَرَق، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في السارق سرق مرارًا، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 454. والنسائى، في: باب قطع اليدين والرجلين من السارق، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 83، 84. وهو حديث منكر. انظر تلخيص الحبير 68/ 4، 69. (¬2) في الأصل: «رجله». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 567. (¬5) سقط من: م. (¬6) أخرجه الترمذى، في: باب في مناقب أبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما كليهما، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 3/ 129. وابن ماجه، في: باب في فضائل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 37. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 382، 385، 399، 402. وهو حديث صحيح. وانظر تلخيص الحبير 4/ 190. والإحسان 15/ 327، 328.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال لأصحابِه: ما تَرَوْنَ في هذا؟ قالوا: اقْطَعْهُ يا أميرَ المُؤْمِنين. قال: قَتَلْتُه إذًا، وما عليه القَتْلُ، بأىِّ شئٍ يَأْكُلُ الطَّعامَ؟ بأىِّ شئٍ يَتَوَضَّأُ للصلاةِ؟ بأىِّ شئٍ يَغْتَسِلُ مِن جَنابَتِه؟ بأىِّ شئٍ يقومُ على حاجَتِه؟ فرَدَّه إلى السِّجْنِ أيَّامًا، ثم أخْرَجَه فاسْتَشارَ أصحابَه، فقالوا مثلَ قولِهم الأَوَّلِ، وقال مثلَ ما قالَ أوَّلَ مَرَّةٍ (¬1)، فجَلَدَه جَلْدًا شديدًا، ثم أرْسَلَه (2). ورُوِىَ عنه، أنَّه قال: إنِّى لأسْتَحِى مِن اللَّه أِن لا أدَعَ له يَدًا يَبْطِشُ بها، ولا رِجْلًا يَمْشِى عليها (¬2). ولأَنَّ في قَطْعِ اليدَيْن تَفوِيتَ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ، فلم يُشْرَعْ في حَدٍّ، كالقَتْلِ، ولأنَّه لو جازَ قطعُ اليَدَيْن، لقُطِعَتِ اليُسْرَى في المرَّةِ الثَّانيةِ (¬3)، لأنَّها آلةُ البَطْشِ كاليُمْنَى، وإنَّما لم تُقْطَعْ للمَفْسَدَةِ في قَطْعِها، لأَنَّ ذلك بمَنْزِلَةِ الإِهْلاكِ، فإنَّه لا يُمْكِنُه أن يَتَوَضَّأ، ولا يَغْتَسِلِ، ولا يَسْتَنْجِى، ولا يَحْتَرِزَ مِن نَجاسةٍ، ولا يُزِيلَها عنه، ولا يَدْفَعَ عن نفْسِه، ولا يأكلَ، ولا يَبْطِشَ، وهذه المَفْسَدَةُ حاصِلَةٌ بقَطْعِها في المرَّةِ الثالِثَةِ. فأمَّا حديثُ جابرٍ، ففى حَقِّ رجل اسْتَحَقَّ القَتْلَ، ¬

(¬1) في الأصل: «أمره». (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 186. وابن أبى شيبة، في: باب في السارق يسرق فتقطع يده. . .، من كتاب الحدود. المصنف 9/ 512. والبيهقى، في: باب السارق يعود فيسرق ثانيا، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 275. وانظر الإرواء 8/ 90. (¬3) في الأصل، ر 3، ق، م: «الثالثة». وانظر المغنى 12/ 448.

4528 - مسألة: (ومن سرق وليس له يد يمنى، قطعت رجله

وَمَنْ سَرَقَ وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ يُمْنَى، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِنْ سَرَقَ ـــــــــــــــــــــــــــــ بدليلِ أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ به في أوَّلِ مَرِّةٍ، وفى كُلِّ مَرَّةٍ. وقال النَّسائِىُّ فيه: حديثٌ مُنْكَرٌ. وأمَّا الحديثُ الآخرُ، فلم يَذْكُرْه أصحابُ السُّنَنِ، ولم نَعْلَمْ صحَّتَه، وفعلُ أبى بكرٍ وعمرَ، قد عارَضَه قولُ علىٍّ. ورُوِىَ عن عمرَ أنَّه رَجَع إلى قَولِ علىٍّ، فرَوَى سعيدٌ، حدَّثنا أبو الأحْوَصِ، عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عائذٍ (¬1)، قال: أتِىَ عمرُ بِرجلٍ أقْطَعِ اليَدِ والرِّجْلِ قد سَرَق، فأمَرَ به عمرُ أن تُقْطَعَ رِجْلُه، فقال علىٌّ: إنَّما قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬2) -إلى آخرِ الآيةِ- وقد قَطَعْتَ يدَ هذا ورِجْلَه، فلا يَنْبَغِى أن تَقْطَعَ رِجْلَه فَتَدَعَه ليس له قائمةٌ يَمْشِى عليها، إمَّا أن تُعَزِّرَه، أو تَسْتَوْدِعَه السِّجْنَ. فاستوْدَعه السِّجْنَ (¬3). 4528 - مسألة: (ومَن سَرَق وليس له يَد يُمْنَى، قُطِعَتْ رِجْلُه ¬

(¬1) في الأصل، تش: «عابد». وانظر تهذيب التهذيب 6/ 203. (¬2) سورة المائدة 33. (¬3) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب قطع السارق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 186. والبيهقى، في: باب السارق يعود فيسرق. . .، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 274. وهو حديث حسن. انظر الإرواء 8/ 89.

وَلَهُ يُمْنَى فَذَهَبَتْ، سَقَطَ الْقَطْعُ، وَإِنْ ذَهَبَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، لَمْ تُقْطَعِ الْيُمْنَى، عَلَى الرِّوَايَةِ الأُولَى، وَتُقْطعُ عَلَى الأُخرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ اليُسْرَى، وإن سَرَق وله يُمْنَى، فذَهَبَتْ، سَقَط القَطْعُ، وإن ذَهَبَتْ يَدُه اليُسْرَى، لم تُقْطَعِ اليُمْنَى، على الرِّوايَةِ الأُولَى، وتُقْطَعُ على الأُخرَى) إذا سَرَق ولا يُمْنَى له، قُطِعَتْ رِجْلُه اليُسْرَى، كما تُقْطَعُ في السَّرِقَةِ الثَّانيةِ، فإن كانت يُمْناه شَلَّاءَ، ففيه رِوايَتان، إحداهما، تُقْطَعُ رِجْلُه اليُسْرَى، لأَنَّ الشَّلَّاءَ لا نَفْعَ فيها ولا جَمالَ، فأشْبَهَتْ كَفًّا لا أصابع عليه. قال إبراهيمُ الحَرْبِىُّ، عن أحمدَ، في مَن سَرَق ويُمْناه جافَّةٌ: تُقْطَعُ رِجْلُه. والثانيةُ، أنَّه يُسْألُ أهلُ الخِبْرَةِ، فإن قالوا: إنَّها إذا قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُها، وانْحَسَمَتْ عُرُوقُها. قُطِعَتْ؛ لأنَّه أمْكَنَ قَطْعُ يَمِينِه فوَجَب، كما لو كانت صحيحةً. وإن قالوا: لا يَرْقَأ دَمُها. لم تُقْطَعْ؛ لأنَّه يُخافُ (¬1) تَلَفُه، وتُقْطَعُ رِجْلُه. ¬

(¬1) في الأصل: «يخالف».

4529 - مسألة: (وإن سرق وله يمنى، فذهبت، سقط القطع)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا مذهبُ الشافعىِّ. فإن كانت أصابع اليُمْنَى كلُّها ذاهِبَةً، ففيها وَجْهان؛ أحدُهما، لا تُقْطَعُ، وتُقْطَعُ الرِّجْلُ؛ لأَنَّ الكَفَّ لا يجبُ فيه دِيَةُ اليَدِ، فأشْبَهَ الذِّرَاعَ. والثانى، تُقْطَعُ؛ لأَنَّ الرَّاحَةَ بعضُ ما يُقْطَعُ في السَّرِقَةِ، فإذا كان مَوْجُودًا قُطِعَ، كما لو ذَهَب الخِنْصَرُ أو (¬1) البِنْصَرُ. وإن ذَهَب بعضُ الأصابعِ، وكان الذَّاهِبُ الخِنْصَرَ أو البِنْصَرَ، أو واحدةً سِوَاهما، قُطِعَتْ؛ لأَنَّ مُعْظَمَ نَفْعِها باقٍ، وإن لم يَبْقَ إلَّا واحِدَة، فهى كالتى ذَهَب جميعُ أصابِعِها، وإن بَقِىَ اثْنَتان، فهل تُلْحَقُ بالصَّحِيحَةِ، أو بما قُطِعَ جميعُ أصابِعِها؟ على وَجْهَيْن. والأَوْلَى قَطْعُها؛ لأَنَّ نَفْعَها لم يَذْهَبْ بالكُلِّيَّةِ. 4529 - مسألة: (وإن سَرَق وله يُمْنَى، فذَهَبَتْ، سَقَط القَطْعُ) أمَّا إذا سَرَق وله يُمْنَى فقُطِعَتْ في قِصاصٍ، أو ذَهَبَتْ بأكِلَةٍ (¬2)، أو تَعَدَّى عليها مُتَعَدٍّ فقَطَعَها، سَقَط القَطْعُ، ولا شئَ على العادِى إلَّا الأدَبُ. ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في الأصل: «بالكلية». والأكلة والآكلة: داء يقع في العضو فيأتكل منه.

4530 - مسألة: (وإن ذهبت يده اليسرى)

وَإِنْ وَجَبَ قَطْعُ يُمْنَاهُ، فَقَطَعَ الْقَاطِعُ يُسْرَاهُ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال قَتادةُ: يُقْتَصُّ مِن القاطِعِ، وتُقْطَعُ رِجْلُ السارِقِ. وهذا غيرُ صحيحٍ، فإنَّ يَدَ السارِقِ ذَهَبَتْ، والقاطِعُ قَطَعَ (¬1) عُضْوًا غيرَ مَعْصُوم. وإن قَطَعَها قاطِعٌ بعدَ السَّرِقَةِ، وقبلَ ثُبُوتِها، والحُكْمِ بالقَطْعِ، ثم ثَبَت ذلك، فكذلك. ولو شَهِد بالسَّرِقَةِ، فحَبَسَه الحاكِمُ ليُعَدِّلَ الشُّهودَ، فقَطَعَه قاطِعٌ، ثم عُدِّلُوا، فكذلك، وإن لم يُعَدَّلُوا، وَجَب القِصاصُ على القاطِعِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أصحابُ الرَّأْى: لا قِصاصَ عليه؛ لأَنَّ صِدْقَهم مُحْتَمِلٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً. ولَنا، أنَّه قَطَع طَرَفًا ممَّن يُكافِئُه عَمْدًا بغيرِ حَقٍّ، فلَزِمَه القَطْعُ، كما لو قَطَعَه ولم تَقُمْ بَيِّنَةٌ. 4530 - مسألة: (وإن ذَهَبَتْ يدُه اليُسْرَى) أو كانت مَقْطُوعَةً، أو شَلَّاءَ، أو مَقْطُوعَةَ الأصابع، أو شُلَّتْ قبلَ قَطْعِ يُمْناهُ (لم تُقْطَعْ يُمْناه على الرِّوايَةِ الأُولَى، وتُقْطَعُ على) الثانِيَةِ. فصل: (وإن [وَجَب قَطْعُ يُمْناهُ، فقَطَعَ] (¬2) قاطِعٌ يُسْراه عَمْدًا، فعليه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «قطع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَوَدُ) لأنَّه قَطَع طَرَفًا مَعْصُومًا. وإن قَطَعَه غيرَ مُتَعَمِّدٍ، فعليه دِيَتُه، ولا تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ. وبه قال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها تُقْطَعُ؛ بِناءً على قَطْعِها في المرَّةِ الثالثةِ. وإن قُلْنا: لا تُقْطَعُ. فهل تُقْطَعُ رِجْلُه؟ فيه وَجْهان؛ أصَحُّهما، لا يجبُ، لأنَّه لم يجبْ بالسَّرِقَةِ، وسُقوطُ القطْعِ عن يمينه لا يَقْتَضِى قَطْعَ رِجْلِه (¬1)، كما لو كان المَقْطُوعُ يَمِينَه. والثانى، تُقْطَعُ رِجْله؛ لأنَّه تَعَذَّرَ قَطْعُ يَمِينِه، فقُطِعَتْ رِجْلُه، كما لو كانتِ اليُسْرَى مَقْطُوعَةً حالَ السَّرِقَةِ. وإن كانت يُمْناه صَحِيحَةً، ويُسْرَاه ناقِصَةً نَقْصًا يَذْهَبُ بمُعْظَم نَفْعِها، مثلَ أن تَذْهَبَ منها الوُسْطَى و (¬2) السَّبَّابَةُ أو الإِبهامُ، احْتَمَلَ أنَّه كقَطْعِها، ويَنْتَقِلُ إلى رِجْلِه. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْىِ. واحْتَمَلَ أن تُقْطَعَ يُمْناه؛ لأَنَّ له يَدًا يَنْتَفِعُ بها، أشْبَهَ ما لو قُطِعَتْ خِنْصَرُها. وإن كانت يَدَاه صَحِيحَتَيْن، ورِجْلُه اليُمْنَى شَلَّاءَ أو مقطوعَةً، فقال شيخُنا (¬3): لا أعلمُ فيها قولًا لأصحابِنا، ويَحْتَمِلُ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، تُقْطَعُ يَمِينُه. وهو مذهبُ ¬

(¬1) في م: «رجليه». (¬2) في تش، ر 3، ق، م: «أو». (¬3) في: المغنى 12/ 449.

4531 - مسألة: إن وجب قطع يمناه، فقطع القاطع يسراه، بدلا عن يمينه، أجزأت، ولا شئ على القاطع إلا الأدب. وهو قول الشعبى، وأصحاب الرأى؛ لأن قطع يمنى السارق يفضى إلى تفويت منفعة الجنس، وقطع يديه بسرقة واحدة، فلا يشرع، فإذا انتفى قطع يمينه، حصل قطع يساره مجزئا عن القطع الواجب، فلا يجب على فاعله قصاص. وقال أصحابنا: (فى)

وَإِنْ قَطَعَهَا خَطَأ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا. وَفِى قَطْعِ يَمِين السَّارِقِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعىِّ؛ لأنَّه سارِقٌ له يُمْنَى، فقُطِعَتْ عَمَلًا بالكتابِ والسُّنَّةِ، ولأنَّه سارِقٌ له يَدَان، فقُطِعَتْ يُمْناه، كما لو كانتِ المَقْطُوعَةُ رِجْلَه اليُسْرَى. والثانى، لا يُقْطَعُ منه شئ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ قَطْعَ يُمْناهُ يَذْهَبُ بمَنْفَعَةِ المَشْى مِن الرِّجْلَيْن. فأمَّا إن كانت رِجْلُه اليُسْرَى شَلَّاءَ، ويَداه صَحِيحَتان، قُطِعَتْ يدُه اليُمْنَى؛ لأنَّه لا يُخشَى تَعَذى ضَرَرِ القَطْعِ إلى غير المَقْطُوعِ. وعلى قِياسِ هذه المسألةِ، لو سَرَق ويدُه اليُسْرَى مَقْطُوعَةَ أو شَلَّاءُ، لم يُقْطَعْ منه شئٌ؛ لذلك. وأنْكَرَ هذا ابنُ المُنْذِرِ (¬1). وقال: أصحابُ الرَّأْى، بقوْلِهم هذا، خالَفُوا كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ رَسُولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-. 4531 - مسألة: إن وَجَب قَطْعُ يُمْناهُ، فقَطَع القاطِعُ يُسْرَاهُ، بَدَلًا عن يَمِينِه، أجْزَأت، ولا شئَ على القاطِعِ إلَّا الأدَبُ. وهو قولُ الشَّعْبِىِّ، وأصحابِ الرَّأْى؛ لأَنَّ قَطْعَ يُمْنَى السَّارِقِ يُفْضِى إلى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الجِنْسِ، وقَطْعِ يَدَيْه بسَرِقَةٍ واحدةٍ، فلا يُشْرَعُ، فإذا انْتَفَى قَطْعُ يَمِينِه، حَصَلَ قَطْعُ يَسارِه مُجْزِئًا عن القَطْعِ الواجِبِ، فلا يجبُ على فاعِلِه قِصَاصٌ. وقال أصحابُنا: (في) وُجُوبِ (قَطْعِ يُمْنَى السَّارِقِ وَجْهان) ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 306، 307. نحو هذا.

4532 - مسألة: (ويجتمع القطع والضمان، فترد العين

وَيَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ، فَتُرَدُّ الْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ إِلَى مَالِكِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وللشافعىِّ فيما إذا لم يَعلَم القاطِعُ كَوْنَها يَسارًا، وظَنَّ أنَّ قَطْعَها يُجْزِئُ قَوْلان؛ أحدُهما، لا تُقْطَعُ يَمِينُ السارِقِ؛ كيْلا تُقْطَعَ يَدَاه بسَرِقَةٍ واحدةٍ. والثانى، تُقْطَعُ، كما لو قُطِعَت يُسْرَاه قِصَاصًا. فأمَّا القاطِعُ، فاتَّفَقَ أصحابُنا، وأصحابُ الشافعىِّ على أنَّه إن قَطَعَها مِن غيرِ اخْتِيار مِن السارِقِ، أو كان السارِقُ أخْرَجَها دَهْشَةً أو ظَنًّا منه أنَّها تُجْزِئُ، وقَطَعَها القاطِعُ عالِمًا بأنَّها يُسْرَاه، وأنَّها لا تُجْزِئُ، فعليه القِصَاصُ، وإن لم يَعْلَمْ أنَّها يُسْرَاهُ، أو ظَنَّ أنَّها مُجْزِئَةٌ، فعليه دِيَتُها. وإن كان السارِق أخْرَجَها مُخْتارًا عالمًا بالأمْرَيْن، فلا شئَ على القاطِعِ؛ لأنَّه أذِنَ في قَطْعِها، فأشْبَهَ غيرَ السارِقِ. والذى اخْتارَه شيخُنا ما ذَكرْناه في أوَّلِ الفَصْلِ. واللَّهُ أعلمُ. 4532 - مسألة: (ويَجْتَمِعُ القَطْعُ والضَّمَانُ، فَتُرَدُّ العَيْنُ

وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، غَرِمَ قِيمَتَهَا وَقُطِعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْرُوقَةُ إلى مالِكِهَا، وإن كانت تالِفَةً، غَرِمَ قِيمَتَها وقُطِعَ) لا يخْتلِفُ أهلُ العلمِ في وُجوبِ رَدِّ العَيْنِ المَسْرُوقَةِ على مالِكِهَا إذا كانت بَاقِيةً، وإن كانت تالِفَةً، فعلى السارِقِ رَدُّ قِيمَتِها، أو مِثْلِها إن كانتْ مِثْلِيَّةً، قُطِعَ أو لم يُقْطَعْ، مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا. وهذا قولُ الحسنِ، والنَّخَعِىِّ، وحَمَّادٍ، والبتِّىِّ، واللَّيْثِ، والشافعىِّ، وإسْحاقَ، وأبى ثَوْرٍ. وقال الثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا يَجْتَمِعُ الغُرْمُ والقَطْعُ، إن غَرِمَها قبلَ القَطْعِ سَقَط القَطْعُ، وإن قُطِعَ قبلَ الغُرْمِ سَقَط الغُرْمُ. وقال عَطاءٌ، وابنُ سِيرِينَ، والشَّعْبِىُّ، ومَكْحُولٌ: لا غُرْمَ على السَّارِقِ إذا قُطِعَ. ووافَقَهم مالكٌ في المُعْسِرِ، ووَافَقَنا في المُوسِرِ. قال أبو حنيفةَ، في رِجلٍ سَرَق مَرَّاتٍ، ثم قُطِعَ: يَغْرَمُ الكلَّ، إلَّا الأخِيرَةَ. وقال أبو يوسف: لا يَغْرَمُ شيئًا، لأنَّه قُطِعَ بالكُلِّ، فلا يَغْرَمُ شيئًا منه، كالسَّرِقَةِ الأخيرَةِ. واحْتَجَّا بما رُوِى عن عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، عن رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: «إِذَا أَقَمْتُمُ الحَدَّ عَلَى السَّارِقِ، فَلا غُرْمَ عَلَيْهِ» (¬1). ولأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِى التَّمْلِيكَ، والمِلْكَ يَمْنَعُ القَطْعَ، فلا يُجْمَعُ بينَهما. ولَنا، أنَّها عَيْنٌ يجبُ ضَمانُها بالرَّدِّ لو كانت باقِيَةً، فيجبُ ضَمانُها إذا كانت ¬

(¬1) أخرجه النسائى، في: باب تعليق يد السارق في عنقه، من كتاب قطع السارق. المجتبى 8/ 85. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 182. والبيهقى، في: باب غرم السارق، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 277.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تالِفَةً، كما لو لم يُقْطَعْ، ولأَنَّ القَطْعَ والغُرْمَ حَقَّان يَجِبانِ لمُسْتَحِقَّيْن، فجازَ اجْتِماعُهما، كالجَزاءِ والقِيمَةِ في الصَّيْدِ الحَرَمِىِّ المَمْلوكِ. وحديثُهم يَرْوِيه سعدُ بنُ إبراهيمَ، عن منصورٍ (¬1)، وسعدُ بنُ إبراهيمَ مجهولٌ. قاله ابنُ المُنْذِرِ (¬2). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3): الحديثُ ليس بالقَوِىِّ. ويَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ، ليس عليه أُجْرَةُ القاطِعِ. وما ذَكَرُوه فهو بِناءٌ على أُصُولِهم، ولا نُسَلِّمُها لهم. فصل: إذا فَعَل في العينِ فِعْلًا نَقَصَها به، كقَطْعِ الثَّوْبِ ونحوِه، وَجَب رَدُّه ورَدُّ نَقْصِه، ووَجَب القَطْعُ. وقال أبو حنيفةَ: إن كانَ نَقْصًا لا يَقْطَعُ حَقَّ المَغْصوبِ منه إذا فَعَلَه الغِاصِبُ، رَدَّ العَيْنَ ولا ضَمانَ عليه، وإن كان يَقْطَعُ حَقَّ المالكِ، كقَطْعِ الثَّوبِ وخِياطَتِه، فلا ضَمانَ عليه، ويَسْقُطُ حَقُّ المَسْرُوقِ منه مِن العَيْنِ، وإن كان زيادةً في العَيْنِ، كصَبْغِه أَحْمَرَ أو أصفرَ، فلا يَرُدُّ العَيْنَ (¬4)، ولا يَحِلُّ له التَّصَرُّفُ فيها. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: يَرُدُّ العَيْنَ. وبَنَى هذا على أصْلِه في أنَّ الغُرْمَ يُسقِطُ عنه القَطْعَ. وأمَّا إذا صَبَغَه (¬5)، فقال: لا يَرُدُّه؛ لأنَّه لو رَدَّه لكان شريكًا فيه بصَبْغِه، ولا يجوزُ أن يُقْطَعَ فيما هو شَرِيكٌ فيه. وهذا ليس بصَحِيحٍ؛ لأَنَّ صَبْغَه كان قبلَ القَطْعِ، فلو كان شَرِيكًا بالصَّبْغِ لسَقَطَ القَطْعُ، وإن ¬

(¬1) في م: «ابن منصور». (¬2) في الإشراف 2/ 312. (¬3) في التمهيد 14/ 383. (¬4) في الأصل: «عليه». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يَصِيرُ شريكًا بالرَّدِّ، فالشَّرِكَةُ الطارِئَةُ بعدَ القَطْعِ لا تُؤَثِّرُ، كما لو اشْتَرَى نِصْفَه من مالِكِه بعدَ القَطْعِ. وقد سَلَّمَ أبو حنيفةَ، أنَّه لو سَرَق فِضَّةً، فضَرَبَها دَرَاهِمَ، قُطِعَ، ولَزِمَه رَدُّها. وقال صاحِباه: لا يُقْطَعُ (¬1)، ويَسْقُط حَقُّ صاحِبِها منها بضَرْبِها. وهذا شئٌ بَنَيَاهُ (¬2) على أصُولِهما في أنَّ تَغْييرَ اسْمِها يُزِيلُ مِلْكَ صاحِبِها، وأنَّ مِلْكَ السَّارِقِ لها يُسْقِطُ القَطْعَ عنه، وهوْ غيرُ مُسَلَّمٍ لهما. فصل: ويَسْتَوِى في وُجوبِ الحَدِّ على السَّارِقِ الحُرُّ والحُرَّةُ، والعَبْدُ والأمَةُ، ولا خِلافَ في وُجُوُبِ الحَدِّ على الحُرِّ (¬3) والحُرَّةِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4). ولأنَّهما اسْتَويَا في سائرِ الحُدُودِ، فكذلك في هذا، وقد قَطَع النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سارِقَ رِدَاءِ صَفْوانَ (¬5)، وقَطَعَ المُخْزُومِيَّةَ التى سَرَقَتِ القَطِيفَةَ (¬6). فأمَّا العَبْدُ والأمَةُ، فإنَّ جُمْهورَ الفُقَهاءِ وأهلَ الفَتوَى على وُجوبِ القَطْعِ عليهما (¬7) بالسَّرِقَةِ، إلَّا ما حكِىَ عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قال: لا قَطْعَ عليهما (¬8)؛ ¬

(¬1) في الأصل: «يسقط». (¬2) في تش، ق، م: «بنيناه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة المائدة 38. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 499. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 467. (¬7) في الأصل: «عليها». (¬8) أخرجه عبد الرزاق، في: باب سرقة الآبق، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 242. والدارقطنى، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطنى 3/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه حَدٌّ لا يُمْكِنُ تَنْصِيفُه، فلم يجبْ في حَقِّهِما، كالرَّجْمِ، ولأنَّه حَدٌّ فلا يُساوِى العَبْدُ فيه الحُرَّ كسائِرِ الحدُودِ. ولَنا، عمُومُ الآيةِ، ورَوَى الأَثْرَمُ، أنَّ رَقِيقًا لحاطِبِ بنِ أبى بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لرجلٍ من مُزَيْنَةَ، فانتَحَرُوها، فأمَرَ كَثِيرُ بنُ الصَّلْتِ أن تُقْطَعَ أيدِيهم، ثم قال عمرُ: واللَّهِ إنِّى لأراك (¬1) تُجِيعُهم، ولكنْ لأغْرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عليك. ثم قال للمُزَنِىِّ: كم ثمنُ ناقَتِكَ؟ قال: أربعُمائَةِ دِرْهَم. قال عمرُ (¬2): أعْطِه ثمانَمائةِ دِرْهمٍ (¬3). وروَى القاسِمُ، عن أبيه، أنَّ عبدًا أقَرَّ بالسَّرِقَةِ عندَ علىٍّ، فقَطَعَه (¬4). وفى رِوايةٍ قال: كان عبدًا. يعنى الذى قَطَعَه علىٌّ. رَواه الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه (¬5). وهذه قِصَصٌ تَنْتَشِرُ (¬6) ولم تُنْكَرْ، فتكونُ إجْماعًا. وقولُهم: لا يُمْكِنُ تَنْصِيفُه. قُلْنا: ولا يُمْكِنُ تَعْطِيلُه، فيَجِبُ تَكْمِيلُه، وقِياسُهم نَقْلِبُه عليهم، فنقولُ: حَدٌّ (¬7) فلا يُتَعَطَّلُ في حَقِّ العبْدِ والأمَةِ، كسائرِ الحدودِ. وفارَقَ الرَّجْمَ، فإنَّ حَدَّ الزِّنَى لا يَتَعَطَّلُ بِتَعْطِيلِه، بخِلافِ القَطْعِ، فإنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يَتَعَطَّلُ بتَعْطِيلِه. فصل: ويُقْطَعُ الآبِقُ بسَرِقَتِه. رُوِى ذلك عن ابنِ عمرَ، وعمرَ بنِ ¬

(¬1) في م: «لا أراك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 397. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 559. (¬5) في ق، م: «في مسنده». (¬6) بعده في م: «وتشهر». (¬7) في تش، ق، م: «حق».

4533 - مسألة: (وهل يجب الزيت الذى يحسم به من بيت المال أو من مال السارق؟ على وجهين)

وَهَلْ يَجِبُ الزَّيْتُ الَّذِى يُحْسَمُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالِ السَّارِقِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ العزيزِ، وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ. وقال مروانُ، وسعيدُ بنُ العاصِ (¬1)، وأبو حنيفةَ: لا يُقْطَعُ؛ لأَنَّ قَطْعَه قَضَاءٌ على سَيِّدِه، ولا يُقْضَى على الغائِبِ. ولَنا، عُمومُ الكتابِ والسُّنَّةِ، وأنَّه مُكَلَّفٌ سَرَق نِصابًا مِن حِرْزِ مثلِه، فيُقْطَعُ، كغيرِ الآبِقِ. وقولُهم: إنَّه قَضَاء على سَيِّدِه. مَمْنُوعٌ، فإنَّه لا يُعْتَبَرُ فيه إقرارُ السَّيِّدِ، ولا يَضُرُّ إنْكارُه. وإنَّما يُعْتَبَرُ ذلك مِن العَبْدِ، ثم القَضاءُ على الغائِبِ بالبَيِّنَةِ جائز، على ما ذُكِرَ في مَوْضِعِه. 4533 - مسألة: (وهل يَجِبُ الزَّيْتُ الذى يُحْسَمُ به من بَيْتِ المالِ أو مِن مالِ السَّارِقِ؟ على وَجْهَيْن) أحدُهما، من بيتِ المالِ؛ لأَنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ به القاطِعَ في حديثِ سارِقِ الشَّمْلَةِ، فقال: «اقْطَعُوهُ، وَاحْسِمُوهُ» (¬2). ولأنَّه مِن المصالحِ، وذلك يَقْتَضِى أن يكونَ مِن بيتِ ¬

(¬1) في الأصل: «القاضى». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 568.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المالِ، فإن لم يَحْسِمْ، فذَكَرَ القاضى أنَّه لا شئَ عليه؛ لأَنَّ عليه القَطْعَ، لا مُداوَاةَ المحْدُودِ. والثانى، مِن مالِ السَّارِقِ؛ لأنَّه مُداواةٌ له، فكان في مالِه كمُداواتِه في مَرَضِه. ويُسْتَحَبُّ للمَقْطُوعِ حَسْمُ نَفْسِه، فإن لم يَفْعَلْ لم يَأثَمْ؛ لأنَّه تَرَك التَّدَاوِىَ في المَرَضِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللَّه أعلمُ (¬1). ¬

(¬1) الى هنا ينتهى الجزء السابع من نسخة تشستربيتى. وكذلك الجزء السابع من نسخة مكتبة الشيخ عبد اللَّه ابن عبد العزيز العنقرى.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل اللَّه مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب حد المحاربين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ حَدِّ الْمُحَاربِينَ وَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ حَدِّ المُحارِبِين (وهم قُطَّاعُ الطريقِ) والأصْلُ في حُكْمِهم قولُ اللَّهِ تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). وهذه الآيةُ في قولِ ابنِ عباسٍ وكثيرٍ من العُلَماءِ، نَزَلت في قُطَّاعِ الطَّريقِ مِن المسلمين (¬2). وبه يقولُ مالك، والشافعى، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْى. وحُكِىَ عن ابنِ عمرَ، أنَّه قال: نزَلَتْ هذه الآيةُ في المُرْتَدِّين (¬3). وحُكِىَ ذلك عن الحسنَ، وعَطاءٍ، وعبدِ الكريمِ (¬4)؛ لأَنَّ سَبَبَ نُزُولِها قصةُ العُرَنِيِّين، وكانوا ارْتَدُّوا عن ¬

(¬1) سورة المائدة 33. (¬2) انظر الإرواء 8/ 92. (¬3) أخرج نحوه أبو داود، في: باب ما جاء في المحاربة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 444. والنسائى، في: باب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف و. . .، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 92. وانظر الإرواء 8/ 93. (¬4) عبد الكريم بن مالك الجزرى الحرانى الحافظ، من صغار التابعين، من الثقات، توفى سنة سبع وعشرين =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِسلامِ، وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ، واسْتاقُوا إبلَ الصَّدَقَةِ، فبَعَثَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَن جاءَ بهم، فقَطَعَ أيدِيَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعْيُنَهم، وألْقاهم في الحَرَّةِ حتى ماتُوا، قال أنَسٌ: فأنْزلَ اللَّهُ تعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. أخْرَجَه أبو داودَ، والنَّسائِىُّ (¬1). ولأَنَّ مُحارَبَةَ اللَّهِ ورسولِه إنَّما تكونُ مِن الكُفَّارِ لا مِن المسلمين. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬2). والكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهم بعدَ القُدْرَةِ، كما تُقْبَلُ قبلَها، ويَسْقُطُ عنهم القَتْلُ والقَطْعُ في كلِّ حالٍ، والمُحارَبَةُ قد تكونُ مِن المسلمين؛ بدليلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬3). ¬

= ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 80 - 83. (¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في المحاربة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 443، 444. والنسائى، في: باب تأويل قول اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .} الآية، وباب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حميد. . .، وباب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح. . .، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 86 - 92. كما أخرجه البخارى، في: باب قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .} الآية، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 201، 202. ومسلم، في: باب حكم المحاربين والمرتدين، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1296 - 1298. والترمذى، في: باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 94. وابن ماجه، في: باب من حارب وسعى في الأرض فسادا، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 861. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 163، 177، 198. (¬2) سورة المائدة 34. (¬3) سورة البقرة 278، 279.

4534 - مسألة: (وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح فى الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة، فأما من يأخذه على وجه السرقة فليس بمحارب)

وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاس بِالسِّلَاحِ فِى الصَّحْرَاءِ، فَيَغْصِبُونَهُمُ الْمَالَ مُجَاهَرَةً، فَأمَّا مَنْ يَأخُذُهُ سَرِقَةً، فَلَيْسَ بِمُحَارِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4534 - مسألة: (وهمُ الَّذِينَ يَعْرِضونَ للناسِ بالسِّلاحِ في الصحراءِ، فيَغْصِبُونَهم المالَ مُجَاهَرَةً، فأمَّا مَن يَأخُذُه على وَجْهِ السَّرِقَةِ فليس بمُحَارِبٍ) المحارِبُونَ الذين تَثْبُتُ لهم أحْكامُ المُحارَبَةِ التى نَذْكُرُها بعدُ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى، يُعْتَبَرُ لهم ثلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحدُها، أن (¬1) يكونَ ذلك في الصحراءِ. ¬

(¬1) في م: «لا».

4535 - مسألة: (وإن فعلوا ذلك فى البنيان، لم يكونوا محاربين فى قول الخرقى)

وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِى الْبُنْيَانِ، لَمْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ فِى قَوْلِ الْخِرَقِىِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حُكْمُهُمْ فِى الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4535 - مسألة: (وإن فَعَلُوا ذلك في البُنْيَانِ، لم يَكُونُوا مُحَارِبِينَ في قولِ الخِرَقِىِّ) وقد تَوَقَّفَ أحمدُ، رَحِمَه اللَّهُ فيهم. فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ (¬1) أنَّهم غيرُ مُحارِبينَ. وبه قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ (¬2)؛ لأَنَّ الواجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وقَطْعُ الطَّرِيقِ إنَّما هو في الصحراءِ، ولأَنَّ مَن في المِصْرِ يَلْحَقُ به الغَوْثُ غالبًا، فتذهبُ شَوْكَةُ المُعْتَدِينَ، ويكونون مُخْتَلِسِينَ، والمُخْتَلِسُ ليس بقاطِعٍ، ولا حَدَّ عليه. (وقال أبو بكرٍ): وكثير مِن أصحابِنا (حُكْمُهم في المِصْرِ والصحراءِ واحِدٌ) وبه قال الأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ؛ لتَناوُلِ الآيَةِ بعُمومِها كلَّ مُحارِبٍ، ولأَنَّ ذلك إذا وُجِدَ في المِصْرِ، كان أعْظمَ جَوْرًا وأكْثرَ ضَرَرًا، فكان بذلك أوْلَى. وذَكَرَ القاضى أنَّ هذا إن ¬

(¬1) في م: «أحمد». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كان في المِصْرِ، بحيثُ لو كَبَسُوا دارًا، فكان أهلُ الدَّارِ بحيثُ لو صاحُوا جاءَهُم الغَوْثُ، فليسَ هؤلاءِ قُطَّاعَ طَرِيقٍ؛ لأنَّهم في مَوْضِعٍ يَلْحَقُهمُ الغَوْثُ عادَةً، وإن حَصرُوا (¬1) قريةً أو بلدةً ففَتَحُوه، وغَلَبُوا على أهلِه، أو مَحَلَّةً مُفْرَدَةً، بحيثُ لا يَلْحَقُهم الغَوْثُ عادَةً، فهم مُحارِبون؛ لأنَّهم لا يَلْحَقُهم الغَوْثُ عادَةً (¬2)، فأشْبَهَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ في الصحراءِ. الشَّرْطُ الثانى، أن يكونَ معهم سِلاحٌ، فإن لم يكُنْ معهم (¬3) سلاحٌ، فليسوا مُحارِبِين؛ لأنَّهم لا يَمْنَعونَ مَن يَقْصِدُهم. ولا نعلمُ في هذا خِلافًا. فإن عَرَضوا بالعِصِىِّ والحِجَارَةِ، فهم مُحارِبُون. وبه قال الشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: ليسوا مُحارِبينَ؛ لأنَّهم لا سِلاحَ معهم. ولَنا، أنَّ ذلك مِن جمْلَةِ السلاحِ الذى يَأتِى على النَّفْسِ والطَّرَفِ، فأشْبَهَ الحَدَّ. الشرطُ الثالثُ، أن يَأْتُوا مُجاهَرَةً، ويأْخُذُوا المالَ قَهْرًا، فأمَّا إن أخَذُوه مُخْتَفِينَ، فهم سُرَّاقٌ، وإنِ اخْتَطَفُوه وهَرَبوا ¬

(¬1) في الأصل، م: «حضروا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

4536 - مسألة: (فإذا قدر عليهم، فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال، قتل حتما، وصلب حتى يشتهر. وقال أبو بكر: يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب. وعن أحمد، أنه يقطع مع ذلك)

وَإِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ حَتْمًا، وَصُلِبَ حَتَّى يُشْتَهَرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلْبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهم مُنْتَهِبونَ، لا قَطْعَ عليهم. وكذلك إن خَرَج الواحِدُ والاثنان على آخِرِ قَافلةٍ، فاسْتَلَبُوِا منها شيئًا، فليسوا بمُحارِبينَ؛ لأنَّهم لا يَرْجِعُون إلى مَنَعَةٍ وقُوَّةٍ، وإن خرَجُوا على عددٍ يَسِيرٍ فقَهَرُوهُم (¬1)، فهم قُطَّاعُ طريقٍ. 4536 - مسألة: (فإذا قُدِرَ عليهم، فمَن كان منهمْ قد قتَل مَن يُكافِئُه وأخذَ المالَ، قُتِلَ حَتْمًا، وصُلِبَ حَتى يُشْتَهَرَ. وقال أبو بَكرٍ: يُصْلَبُ قَدْرَ ما يَقَعُ عليه اسمُ الصَّلْبِ. وعن أحمدَ، أنَّه يُقْطَعُ مع ذلك) وجملةُ ذلك، أنَّ المُحارِبَ إذا قَتَل مَن يُكافِئُه، وأخَذَ المالَ، قتِلَ حَتْمًا، وصُلِبَ حتى يُشْتَهَرَ. رُوِى نحوُ هذا عن ابنِ عباسٍ (¬2). وبه قال قَتادَةُ، ¬

(¬1) في الأصل: «فهزموهم». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب المحاربة، من كتاب العقول. المصنف 10/ 109. والبيهقى، في: باب قطاع الطريق، من كتاب السرقة. السنن الكبرى 8/ 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو مِجْلَزٍ، وحَمَّاد، واللَّيْثُ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، أنَّه [إذا قَتَل وأخذ المالَ، قُتِلَ وقُطِعَ] (¬1)؛ لأَنَّ كلَّ واحدَةٍ مِن الجِنايَتَيْن تُوجِبُ حَدًّا مُنْفَرِدًا، فإذا اجْتَمَعَا، وَجب حَدُّهما معًا، كما لو زَنَى، وسَرَق (¬2). وذَهَبَتْ طائفةٌ إلى أنَّ الإِمامَ مُخَيَّر فيهم بينَ القتلِ والصَّلْبِ، والقَطْعِ والنَّفْىِ؛ لأَنَّ «أو» تَقْتَضِى التَّخْيِيرَ، كقولِه تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬3). وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ومُجاهدٍ، وعَطاءٍ، والحسنِ، والضَّحَّاكِ، والنَّخَعِىِّ، وأبى الزِّنَادِ، وأبى ثَوْرٍ، وداودَ. ورُوِىَ عن ابنِ عباس: ما كان في القرآنِ «أوْ» فصاحِبُه بالخِيارِ (¬4). وقال أصحابُ الرِّأىِ: إن قَتَل قُتِلَ، وإن أخَذَ المالَ قُطِعَ، وإن قَتَل وأخَذَ المالَ، فالإمامُ مُخيَّرٌ بينَ قَتْلِه وصَلْبِه، وبينَ قَتْلِه وقَطْعِه، وبينَ أن يَجْمَعَ له ¬

(¬1) في الأصل: «يقطع مع القتل والصلب». (¬2) في الأصل: «وشرب». (¬3) سورة المائدة 89. (¬4) أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك كلَّه؛ لأنَّه قد وُجِدَ منه ما يُوجِبُ القَتْلَ والقَطْعَ، فكان للإِمامِ فِعْلُهما، كما لو قَتَل وقَطَع في غيرِ قَطْعِ طريقٍ. وقال مالكٌ: إذا قَطَع الطَّرِيقَ، فرَآه الإِمامُ جَلْدًا ذا رَأْىٍ، قَتَلَه، وإن كان جَلْدًا لا رَأْىَ له، قَطَعَه، ولم يَعْتَبِرْ فِعْلَه. ولَنا، على أنَّه لا يُقْتَلُ إذا لم يَقْتُلْ، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ، كُفْر بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْس بغَيْرِ حَق» (¬1). فأمَّا «أو» فقد قال ابنُ عباسٍ مثلَ قَوْلِنا، فإمَّا أن يكونَ تَوْقِيفًا، أو لغةً، وأيُّهما كان، فهو حُجَّةٌ، يَدُلُّ عليه أنَّه بَدَأَ بالأغْلَظِ فالأغْلَظِ، وعُرِفَ من (¬2) القرآنِ فيما (¬3) أُرِيدَ به التَّخْييرُ البداءَةُ بالأَخَفِّ، ككَفَارَةِ اليَمِينِ، وما أُرِيدَ به التَّرْتِيبُ بَدَأ بالأَغْلَظِ، ككَفَّارَةِ الظِّهارِ والقَتْلِ، ويَدُلُّ عليه أيضًا، أنَّ العُقُوباتِ تخْتَلِفُ باخْتِلافِ الإِجْرامِ، ولذلك اخْتَلَفَ حُكْمُ الزَّانِى والقَاذِفِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: 3/ 31. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «إذا ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسَّارِقِ، وقد سَوَّوْا بينَهم ههُنا مع اخْتِلافِ جِناياتِهم، وهذا يَرُدُّ على مالكٍ، فإنَّه إنَّما اعْتَبَرَ الجَلْدَ والرَّأْىَ (¬1) دُونَ الجِناياتِ، وهو مُخالِفٌ للأُصُولِ التى ذَكَرْناها. وأمَّا قولُ أبى حنيفةَ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ القَتْلَ لو وَجَب لحَقِّ اللَّهِ تعالى، لم يُخَيرِ الإِمامُ فيه، كقَطْعِ السَّارِقِ، وكما لو انْفَرَدَ بأخْذِ المالِ، ولأَنَّ حُدودَ اللَّهِ تعالى إذا كَان فيها قَتْل، سَقَط سائِرُها، كما لو سرَق وزَنَى وهو مُحْصَنٌ. وقد رُوِى عن ابنِ عباسٍ، قال: وادَعَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا بَرْزَةَ الأسْلَمِىَّ (¬2)، فجاءَ ناسٌ يُريدونَ الإِسْلامَ، فقَطَعَ عليهم أصحابُه، فنَزَلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالحدِّ فيهم، أنَّ مَن قَتَل وأخَذَ المالَ قُتِلَ وصُلِبَ، ومَن قَتَل ولم يأْخُذِ المالَ، قُتِلَ، ومن أخذَ المالَ ولم يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يدُه ورِجْلُه من خلافٍ. وقيل: إنَّه رَواه أبو داودَ (¬3). وهذا كالمُسْنَدِ، وهو نَصٌّ. إذا ثَبَت هذا فإنَّ قاطِعَ الطريق لا ¬

(¬1) في الأصل: «والزانى». تحريف. (¬2) أبو برزة: هو نضلة بن عبيد. (¬3) أخرج نحوه الطبرى في تفسيره 6/ 216، من حديث أنس. وانظر الإرواء 8/ 94.

4537 - مسألة: (وإن قتل من لا يكافئه، فهل يقتل؟ على روايتين)

وَإِنْ قَتَلَ مَنْ لَا يُكَافِئُهُ، فَهَلْ يُقْتَلُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْلُو من أحوالٍ خمسٍ؛ الأُولى، إذا قَتَل وأخَذَ المالَ، فإنَّه يُقْتَلُ ويُصْلَبُ في ظاهرِ المذهبِ، وقَتْلُه مُتَحَتِّمٌ لا يَدْخُلُه عَفْو. أجْمَعَ على هذا كلُّ أهلِ العلمِ. حكاه ابنُ المُنْذِرِ (¬1). ورُوِىَ ذلك عن عمرَ (¬2). وبه قال سليمانُ ابنُ موسى، والزُّهْرِىُّ، ومالك، وأصحابُ الرَّأْى. ولأنَّه حَدٌّ من حدودِ اللَّهِ فلم يَسْقُطْ بالعَفْوِ، كسائرِ الحدودِ. 4537 - مسألة: (وإن قَتَلَ مَن لا يكافِئُه، فهل يُقْتَلُ؟ على رِوايَتَيْن) إحداهما، لا تُعْتَبَرُ المكافَأَةُ (¬3)، بل يُؤْخَذُ الحُرُّ بالعبدِ، والمسلمُ بالذِّمِّىِّ، والأبُ بالابنِ؛ لأَنَّ هذا القَتْلَ حَد (¬4) للَّهِ تعالى، فلا تُعْتَبَرُ فيه المُكافأةُ، كالزِّنى والسَّرِقَةِ. والثانيةُ تُعْتَبَرُ المُكافأةُ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ» (¬5). والحَدُّ فيه انْحتامُه، بدليل أنَّه لو تاب (¬6) ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 322. (¬2) في م: «ابن عمر». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «حق». (¬5) تقدم تخريجه في 25/ 100. (¬6) في م: «مات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَ القُدْرَةِ عليه، سَقَطَ عنه الانحِتَامُ، ولم يَسْقُطِ القِصاصُ. فعلى هذه الرِّوايةِ، إذا قَتَل المسلمُ ذِمِّيًّا، أو (¬1) الحُرُّ عبدًا، وأخَذَ مالَه، قُطِعَتْ يَدُه ورِجْلُه [مِن خِلافٍ] (¬2)؛ لأخْذِه المالَ، وغَرِمَ ديَةَ الذِّمِّىِّ وقِيمَةَ العبدِ، وإن قَتَلَه ولم يَأْخُذْ مالًا غَرِمَ دِيَتَه ونُفِىَ. وذَكَر القَاضى أنَّه إنَّما يَتَحَتَّمُ قَتْلُه إذا قَتَلَه ليَأْخُذَ المالَ، وإن قَتَلَه لغيرِ ذلك، مثلَ أن يَقْصِدَ قَتْلَه لعَداوَةٍ بينَهما، فالواجِبُ قِصاصٌ غيرُ مُتَحَتِّم. وإذا قَتَلَ صُلِبَ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ يُصَلَّبُوا}. والكَلامُ فيه في ثلاثةِ أُمورٍ؛ أحدُها، في وَقْتِه، وهو بعدَ القتلِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال الأوْزاعِىُّ، ومالك، واللَّيْثُ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: يُصْلَبُ حَيًا ثم يُقْتَلُ مَصْلُوبًا، يُطْعَنُ بالحَرْبَةِ؛ لأَنَّ الصَّلْبَ عُقوبَةٌ، وإنَّما يُعاقَبُ الحَىُّ لا المَيِّتُ، ولأنَّه جَزاءٌ على المُحارَبَةِ فيُشْرَعُ في الحَياةِ كسائرِ الأجْزِيَةِ، ولأَنَّ الصَّلْبَ بعدَ قتلِه يَمْنَعُ دَفنَه وتَكْفِينَه (¬3)، فلا يجوزُ. ولَنا، أنَّ اللَّهَ تعالى قَدَّمَ القتلَ على الصلبِ لَفْظًا، والتَّرْتِيبُ بينَهما ثابت بغيرِ خِلافٍ، فيَجبُ تَقْدِيمُ الأَوَّلِ في اللَّفْظِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬4). ولأنَّ القتلَ إذا أُطْلِقَ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة البقرة 158.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على لسانِ الشَّرْعِ، كان قَتْلًا بالسيفِ. ولهذا قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَان عَلَى كُلِّ شَئٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ» (¬1). وأحْسَنُ القتلِ هو القتلُ بالسيفِ. وفى صَلْبِه حَيًّا تَعْذِيبٌ له، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تعذيبِ الحَيَوانِ. وقولُهم: إنَّه جَزاءٌ على المُحارَبَةِ. قُلْنا: لو شُرِعَ لِردْعِه، لسَقَطَ بقتلِه، كما تَسْقُطُ سائرُ الحدودِ مع القتلِ، وإنَّما شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لغيرِه، ليَشْتَهِرَ أمْرُه، وهذا يَحْصُلُ بصلبِه بعدَ قتلِه. وقولُهم: يَمْنَعُ تَكْفِينَه ودَفْنَه. قُلْنا: هذا لازِمٌ لهم (¬2)؛ لأنَّهم يَتْرُكُونَه بعدَ قتلِه مَصْلُوبًا. الثانى، في قَدْرِه، ولا تَوْقِيتَ فيه إلَّا قَدْرَ ما يَشْتَهِرُ أمْرُه. هكذا ذَكَرَه الخِرَقِىُّ. وقال أبو بكرٍ: يُصْلَبُ قَدْرَ ما يَقَعُ عليه اسمُ الصَّلْبِ؛ لأَنَّ أحمدَ لم يُوقِّتْ في الصَّلبِ شيئًا. والصَّحيحُ تَوْقيتُه بما ذَكَرَه الخِرَقِىُّ من الشُّهْرَةٍ؛ لأَنَّ المقصودَ يَحْصُلُ به. وقال الشافعىُّ، وأبو حنيفة: يُصْلَبُ ثلاثًا. وهذا تَوْقِيتٌ بغيرِ توْقِيفٍ، فلا يجوزُ، مع أنَّه في الظاهرِ يُفْضى إلى تَغَيُّرِه، ونَتَنِه (¬3)، وأذى المسلمين برائِحَتِه ونَظَرِه، ويَمْنَعُ تَغْسِيلَه وتَكْفِينَه ودَفْنَه، فلا يجوزُ بغيرِ (¬4) دليلٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 170. (¬2) في الأصل: «بهم». (¬3) في الأصل: «بيته». (¬4) سقط من: الأصل.

4538 - مسألة: (وإن جنى جناية توجب القصاص فيما دون النفس، فهل يتحتم استيفاؤه؟ على روايتين)

وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْس، فَهَلْ يَتَحَتَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثُ، في وجوبِه، وهو واجِبٌ حَتْمٌ في حَقِّ مَن قَتَل وأخَذَ المالَ، لا يَسْقُطُ بعَفْو ولا غيرِه. وقال أصحابُ الرَّأْى: إن شاءَ الإِمامُ صَلَب، وإن شاءَ لم يَصْلِبْ. ولَنا، حديثُ ابنِ عباسٍ، أنَّ جبريلَ نَزَل بأنَّ مَن قَتَل وأخَذَ المالَ صُلِبَ (¬1). ولأنَّه شُرِعَ حَدًّا، فلم يُتَخَيَّرْ بينَ فِعْلِه وتَرْكِه، كالقَتْلِ وسائرِ الحدودِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا اشْتُهِرَ أنْزِلَ، ودُفِعَ إلى أهلِه، فيُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ، ويُصَلَّى عليه، ويُدْفَنُ. فصل: فإن ماتَ قبلَ قَتْلِه، لم يُصْلَبْ؛ لأَنَّ الصَّلْبَ من تَمامِ الحَد، وقد فاتَ الحَدُّ بمَوْتِه، فيَسْقُطُ ما هو من تَمامِه. وإن قَتَلَ في المُحارَبَةِ بمُثَقَّل، قُتِلَ، كما لو قَتَل بمُحَدَّدٍ؛ لاسْتِوائِهما في وُجُوبِ القِصَاصِ بهما. وإن قَتَل بآلةٍ لا يجبُ القِصاصُ بالقتلِ بها، كالسَّوْطِ والعَصا والحَجَرِ الصَّغِيرِ، فالظَّاهِرُ أنَّهم يُقْتَلُون أيضًا؛ لأنَّهم دَخَلُوا في العُمُومِ. 4538 - مسألة: (وإن جَنَى جِنايةً تُوجِبُ القِصاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فهل يَتَحَتَّمُ اسْتِيفَاؤه؟ على رِوايَتَيْن) إذا جَرَح المُحارِبُ جُرْحًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 10.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مثلِه القِصَاصُ، فهل يَتَحَتَّمُ فيه القِصاصُ؟ على رِوايَتَيْن؛ إحداهُما، لا يَتَحَتَّمُ؛ لأَنَّ الشَّرعَ لم يَرِدْ بشَرْعِ الحَدِّ في حَقِّه بالجِراحِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَر في حُدُودِ المُحارِبينَ القتلَ والصَّلْبَ والقَطْعَ والنَّفْىَ، فلم يَتَعَلَّقْ بالمُحاربَةِ غيرُها، فلا يَتَحَتَّمُ، بخِلافِ القتلِ، فإنَّه حَدٌّ، فتَحَتَّمَ، كسائرِ الحُدُودِ، فحينَئذٍ لا يجبُ فيه أكثرُ من القِصاصِ. والثانيةُ، يَتَحَتَّمُ؛ لأَنَّ [الجُرْحَ تابعٌ] (¬1) للقَتْلِ، فيَثْبُتُ فيه (¬2) مثلُ حكمِه، ولأنَّه نَوْعُ قَوَدٍ، أشْبَهَ القَوَدَ في النَّفْسِ. والأُولَى (¬3) أوْلَى. وإن جَرَحَه جُرْحًا لا قِصاصَ فيه، كالجائِفَةِ، فليس فيه إلَّا الدِّيَةُ، وإن جَرَح إنْسانًا وقَتَلَ آخَرَ، اقْتُصَّ منه للجِراحِ، وقُتِلَ للمُحارَبَةِ. وقال أبو حنيفةَ: تَسْقُطُ ¬

(¬1) في م: «الجراح نابعة». (¬2) في م: «فيها» (¬3) في الأصل: «الأول».

4539 - مسألة: (وحكم الردء

وَحُكْمُ الرِّدْءِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِراحُ؛ لأَنَّ الحُدودَ إذا اجْتَمَعَتْ وفيها قتلٌ، سَقَط ما سِوَى القَتْلِ. ولَنا، أنَّها جِنايَةٌ يجبُ بها القِصاصُ في غيرِ المحارَبَةِ، فيجبُ بها في المُحارَبَةِ، كالقَتْلِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ القِصاصَ في الجِراحِ حَدٌّ، إنَّما هو قِصاصٌ مُتَمَحِّضٌ، فأشْبَهَ ما لو كان الجُرْحُ في غيرِ المُحارَبَةِ، وإن سَلَّمْنا أنَّه حَدٌّ، فإنَّه مَشْرُوعٌ مع القتلِ، فلم يَسْقُطْ به، كالصَّلْبِ، وقَطْعِ اليَدِ والرِّجْلِ عندَهم. 4539 - مسألة: (وحُكْمُ الرِّدْءِ (¬1) حُكْمُ المُبَاشِرِ) وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: ليس على الرِّدْءِ إلَّا التَّعْزِيرُ؛ لأن (¬2) الحَدَّ يجبُ بارْتِكابِ المَعْصِيَةِ، فلا يَتَعَلَّقُ بالمُعِينِ، كسائرِ الحُدودِ. ولَنا، أنَّه حُكْم يتعلَّقُ بالمُحارَبَةِ، فاسْتَوَى فيه الرِّدْءُ والمُباشِرُ، ¬

(¬1) الردء: المعين والناصر. (¬2) في م: «ولأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كاسْتِحْقاقِ الغنيمةِ؛ وذلك (¬1) لأَنَّ المُحارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ على حُصولِ المَنَعَةِ (¬2) والمُعاضَدَةِ والمُناصَرَةِ، فلا يَتَمَكَّنُ المُباشِرُ من فِعْلِه إلَّا بقُوَّةِ الرِّدْءِ، بخِلافِ سائرِ الحُدُودِ. فعلى هذا، إذا قَتَل واحدٌ منهم، ثَبَت حُكْمُ القتْلِ في حَقِّ جميعِهم، فيجبُ قتلُ الكلِّ. وإن قَتَلَ بعضُهم، وأخذَ بعضُهم المالَ، جازَ قتلُهم وصَلْبُهم، كما لو فَعَل الأَمْرَيْن كلُّ واحدٍ منهم. فصل: وإن كان فيهم صَبِىٌّ، أو مجْنُونٌ، أو ذُو رَحِمٍ من المقْطُوعِ عليه، لم يَسْقُطِ الحَدُّ عن غيرِه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. وقال أبو حنيفة:. يَسْقُطُ عن جميعِهم، ويصيرُ القتلُ للأوْلياءِ، إن شاءوا قَتَلُوا، وإن شاعوا عَفَوْا؛ لأَنَّ حُكْمَ الجميعِ واحِد، فالشُّبْهَةُ في فعْلِ واحدٍ شُبْهَةٌ في حَقِّ الجميعِ. ولَنا، أنَّها شُبْهَةٌ اخْتَصَّ بها واحِدٌ، فلم يَسْقُطِ الحَدُّ عن الباقِين، كما لو اشْتَرَكُوا في وَطْءِ امرأةٍ. وما ذَكَرُوه لا أصْلَ له. فعلى هذا، لا حَدَّ على الصَّبِىِّ والمجْنونِ وإن باشَرَا (¬3) القتلَ وأخَذَا (4) المالَ؛ لأنَّهما ليسا من أهلِ الحدودِ، وعليهما ضَمانُ ما أَخَذَا (¬4) من المالِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «المنفعة». (¬3) في الأصل، ر 3: «باشر». (¬4) في الأصل، ر 3: «أخذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْوالِهما، ودِيَةُ قَتِيلهما (¬1) على عاقِلَتِهما، ولا شئَ على الرِّدْءِ لهما؛ لأنَّه إذا لم يَثْبُتْ [ذلك للمُباشِرِ، لم يَثْبُتْ لمَن هو تَبَعٌ له بطَرِيقِ الأُوْلَى. وإن كان المُباشِرُ غيرَهما، لم يَلْزَمْهُما شئٌ؛ لأنَّهما لم يَثْبُتْ] (¬2) في حَقِّهِما حكمُ المُحارَبَةِ، [وثُبوتُ الحُكمِ في حَقِّ الرِّدْءِ ثَبَت بالمُحارَبَةِ] (¬3). فصل: فإن كان فيهم امرأةٌ، ثَبَت لها حكمُ المُحارَبَةِ، فمتى قَتَلَتْ، أو أخَذَتِ المالَ، فحكْمُها حكمُ قُطّاعِ الطَّرِيقِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجبُ عليها الحَدُّ، ولا على مَن معها، لأنَّها ليستْ من أهلِ المُحارَبَةِ، فأشْبَهَتِ الصَّبِىَّ: المَجْنونَ. ولَنا، أنَّها تُحَدُّ في السَّرِقَةِ، فيَلْزَمُها [حُكمُ المُحارَبَةِ] (¬4)، كالرجلِ، [وتُخالِفُ الصَّبِىَّ والمجنونَ؛ لأنَّها مُكَلَّفَة يَلْزَمُها (¬5) القِصاصُ وسائِرُ الحدودِ، فيَلْزَمُها هذا الحَدُّ، كالرجلِ] (2). إذا ثَبَت هذا، فإنَّها إن باشَرَتِ القَتْلَ، أو (¬6) أخْذَ المالِ، ثَبَت حُكْمُ المُحارَبَةِ في حَقِّ مَن معها؛ لأنَّهم رِدْءٌ لها. وإن فَعَل ذلك غيرُها، ثَبَت حُكْمُه في حَقِّها؛ لأنَّها رِدْءٌ له، كالرجلِ سَواءً. وإن قَطَع أهلُ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ، أو كان مع المحاربين المسلمِين ذِمِّىٌّ، فهل يَنْتَقِضُ ¬

(¬1) في م: «قتلهما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «هذا الحد». (¬5) بعده في م: «سائر». (¬6) في الأصل: «و».

4540 - مسألة: (ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل. وهل يصلب؟ على روايتين)

وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، قُتِلَ. وَهَلْ يُصْلَبُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ عَهْدُهم بذلك؟ فيه رِوايَتان؛ فإن قُلْنا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهم. حَلَّتْ دِماؤُهم وأمْوالُهم بكلِّ حالٍ. وإن قُلْنا: لا يَنْتَقِضُ عَهْدُهم. حَكَمْنا عليهم بما يجبُ على المسلمِين. 4540 - مسألة: (ومَن قَتَل ولمْ يَأخُذِ المالَ، قُتِلَ. وهل يُصْلَبُ؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، يُصْلَبون؛ لأنَّهم مُحارِبونَ يجبُ قتْلُهم فيُصْلَبُون، كالَّذينَ أخذُوا المالَ. والثانيةُ، لا يُصْلَبُون. وهى أصَحُّ؛ لأَنَّ الخَبَرَ المَرْوِىَّ فيهم قال فيه: وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأخُذِ المَالَ، قُتِلَ (¬1). ولم يذْكُرْ صَلْبًا، ولأَنَّ جِنايَتهم بأخْذِ المالِ مع القتلِ تَزِيدُ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 10.

4541 - مسألة: (ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى فى مقام واحد، وحسمتا، وخلى)

وَمَنْ أخذَ المالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى فِى مَقَام وَاحِدٍ، وَحُسِمَتَا، وَخُلِّىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنايةِ بالقتلِ وحدَه، فيجبُ أن تكونَ عُقوبتُهم أغْلَظَ، ولو شُرِعَ الصَّلْبُ ههُنا لاسْتَويَا، والحُكْمُ في تَحَتُّمِ القتلِ وكَوْنِه حَدًّا ههُنا، كالحُكْمِ فيه إذا قَتَل وأخَذَ المالَ. 4541 - مسألة: (ومَن أخَذَ المالَ ولم يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُه اليُمْنَى ورِجْلُه اليُسْرَى في مَقام واحِدٍ، وحُسِمَتا، وخُلِّىَ) وهذا معنى قولِه سبحانَه: {مِنْ خِلَافٍ} (¬1) وإنَّما قَطَعْنا يَدَه اليُمْنَى للمعنى الذى قَطَعْنا به يمينَ السَّارِقِ، ثم قَطَعْنا رِجْلَه اليُسْرَى لتَتَحَقَّقَ المُخالَفَةُ، وليكونَ أرْفقَ (¬2) به في إمْكانِ مَشْيِه. ولا يُنْتَظَرُ انْدِمالُ اليدِ في قَطْعِ الرِّجْلِ، بل يُقْطَعان معًا، يُبْدَأ بيمينه فتُقْطَعُ وتُحْسَمُ، ثم برِجْلِه؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى بَدَأَ بذِكْرِ الأيْدِى. ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ، في أنَّه لا يُقْطَعُ منه غيرُ يدٍ ¬

(¬1) سورة المائدة 33. (¬2) في الأصل: «أوفق له».

4542 - مسألة: (ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق فى مثله)

وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ أَخَذَ مَا يُقْطَعُ السَّارِقُ فِى مِثْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورِجْلٍ، إذا كانتْ يَداهُ ورِجْلاه صحيحتَيْن. 4542 - مسألة: (ولا يُقْطَعُ منهم إلَّا مَن أَخَذَ ما يُقْطَعُ السَّارِقُ فِى مِثْلِه) وبهذا قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ (¬1): للإِمامِ أن يَحْكُمَ عليه حُكْمَ المُحارِبِ؛ لأنَّه مُحارِبٌ للَّهِ ورسولِه، سَاعٍ (¬2) في الأرْضِ بالفَسادِ، فيَدْخُلُ في عُموم الآيةِ، ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ الحِرْزُ، فكذلك النِّصابُ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ إلَّا فِى ربعِ دِينَارٍ فصَاعِدًا (¬3)» (¬4). ولم يُفَصِّلْ، ولأَنَّ هذه جِنايةٌ تَعَلَّقَتْ بها عقوبة في حَقِّ غيرِ المُحارِبِ، فلا تَتَغَلَّظُ في المُحاربِ بأكثرَ من وَجْهٍ واحدٍ، كالقتلِ يُغَلَّظُ بالانْحِتامِ، كذلك ههُنا يُغلَّظُ بقَطْعِ الرِّجْلِ معها، ولا يَتَغَلَّظُ بما دونَ النِّصابِ، وأمَّا الحِرْزُ فهو مُعْتَبَرٌ، فإنَّهم لو أخَذَوا مالًا مُضَيَّعًا لا حافِظَ له، لم يجبِ القَطْعُ. فإن أخَذُوا ¬

(¬1) في الإشراف 2/ 324. (¬2) في م: «يسارع». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تقدم تخريجه في 26/ 467.

4543 - مسألة: (فإن كانت يمينه مقطوعة، أو مستحقة فى قصاص، أو شلاء، قطعت رجله اليسرى، وهل تقطع يسرى يديه؟ ينبنى على الروايتين فى قطع يسرى السارق، فى المرة الثالثة)

فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ مَقْطُوعَةً، أَوْ مُسْتَحَقَّةً فِى قِصَاصٍ، أَوْ شَلَّاءَ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَهَلْ تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ؟ يَنْبَنِى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِى قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ، فِى المَرَّةِ الثَّالِثَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما (¬1) يَبْلُغُ نِصابًا ولا تَبْلُغُ حِصَّةُ كُلِّ واحدٍ منهم نِصابًا، قُطِعُوا، على قياسِ قوْلِنا في السَّرِقَةِ. وقياسُ قولِ الشافعىِّ، وأصحابِ الرَّأْى، أنَّه لا يجبُ القَطْعُ حتى تَبْلُغ حِصَّةُ كلِّ واحدٍ منهم نِصابًا، ويُشْتَرَطُ أيضًا أن لا تكونَ لهم شُبْهَةٌ فيما يَأْخُذُونَه من المالِ، على ما ذَكَرْنا في المَسْرُوقِ. 4543 - مسألة: (فإن كانت يَمينُه مَقْطُوعَةً، أو مُسْتَحَقَّةً في قِصاصٍ، أو شَلَّاءَ، قُطعَتْ رجْلُه اليُسْرَى، وهل تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ؟ يَنْبَنِى على الرِّوَايَتَيْن في قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ، في المَرَّةِ الثَّالِثةِ) إذا كان مَعْدومَ اليَدِ أو الرِّجْلِ، إما لكَوْنِه قد قُطِعَ في قَطْعِ طَرِيقٍ، أو سَرِقَةٍ، أو قِصَاصٍ، أو بمَرَضٍ، أو تكونُ مُسْتَحَقَّةً في قِصاصٍ، أو شَلَّاءَ، ¬

(¬1) في م: «ما لا».

4544 - مسألة: (ومن لم يقتل ولا أخذ المال، نفى وشرد، فلا

وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أخَذَ الْمَالَ، نُفِىَ وَشُرِّدَ، فَلَا يُتْرَكُ يَأْوِى إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ قُطِعَتْ رِجْلُه اليُسْرى، كما لو كانت يُمْناهُ مَوجُودَةً، وكذلك إن كانتْ يَدُه اليُمْنَى مَوْجُودَةً، ورِجْلُه اليُسْرَى مَعْدُومَةً، فإنَّا نَقْطَعُ الموْجُودَ منهما حَسْبُ، ويَسْقُطُ القطعُ (¬1) في المعْدُومِ؛ لأَنَّ ما تَعَلَّقَ به الغَرَضُ مَعْدُومٌ، فسَقَطَ كالغُسْلِ في الوُضوءِ، وهل تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْه؟ يَنْبَنِى على الروايَتَيْن في قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ في المرَّةِ الثالثةِ، فإن قُلْنا: تُقْطَعُ ثَمَّ. قُطِعَتْ ههنا، وإن قُلْنا: لا تُقْطَعُ. وهو المُخْتَارُ، سَقَط قَطْعُها؛ لأَنَّ قَطْعَهَا يُفْضِى إلى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ البَطْشِ. وإن كان ما وَجَب قَطْعُه أشَلَّ، فذَكَرَ أهلُ الطِّبِّ أنَّ قَطْعَه يُفْضِى إلى تَلَفِه، لم يُقْطَعْ، وكان حُكْمُه حُكْمَ المَعْدومِ. وإن قالوا: لا يُفْضِى إلى تَلَفِه. ففى قَطْعِه رِوايَتان، ذَكَرْناهما في قَطْعِ السَّارِقِ. 4544 - مسألة: (ومَن لم يَقْتُلْ ولا أخَذَ المالَ، نُفِىَ وشُرِّدَ، فلا ¬

(¬1) سقط من: م.

بَلَدٍ. وَعَنْهُ، أنَّ نَفْيَهُ تَعْزِيرُهُ بِمَا يَرْدَعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُتْرَكُ يَأْوِى إلى بَلَدٍ. وعنه، أنَّ نَفْيَه تَعْزِيرُه بما يَرْدَعُه) وجلتُه، أنَّ المُحارِبينَ إذا أخافُوا (¬1) السَّبِيلَ، ولم يَقْتُلُوا، ولا أخَذُوا المالَ، فإنَّهم يُنْفَوْنَ مِن الأرْضِ؟ لقولِه سُبحانَه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬2). يُرْوَى عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النَّفْىَ يكونُ في هذه الحالةِ، وهو قولُ النَّخَعِىُّ، وقَتادَةَ، وعَطَاءٍ الخُراسَانِىِّ. والنَّفْىُ هو تَشْرِيدُهم عن الأمْصارِ والبُلْدانِ، فلا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ بلدًا. يُرْوَى نحوُ هذا عن الحسنِ، والزُّهْرِىِّ. وفى ابنِ عباسٍ، أنَّه يُنْفَى من بلدِه إلى غيرِه، كنَفْىِ الزَّانِى. وبه قال طَائفةٌ من أهلِ العلمِ. قال أبو الزِّنادِ: كان مَنْفَى النَّاسِ إلى باضِعٍ (¬3)، من أرْضِ الحَبَشَةِ، ودَهْلك (¬4) أقْصَى تِهامَةِ اليَمَنِ. وقال مالكٌ: يُحْبَسُ في البلدِ الذى يُنْفَى (¬5) إليه، كقولِه في الزَّانِى. وقال أبو حنيفةَ: [نَفْيُه حَبْسُه] (¬6) حتى يُحْدِثَ تَوْبَةً. ونحوَ هذا قال الشافعىُّ، فإنَّه قال في هذه ¬

(¬1) في الأصل: «خافوا». (¬2) سورة المائدة 33. (¬3) باضع: جزيرة في بحر اليمن. معجم البلدان 1/ 471. (¬4) في الأصل، م: «وذلك». ودهلك: جزيرة في بحر اليمن، مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضقة حرجة حارة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها. معجم البلدان 2/ 634. (¬5) في م: «نفى». (¬6) في م: «يحبس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالِ: يُعَزِّرُهم الإِمامُ، وإن رأى أنَّ يحْبِسَهُم حَبَسَهم. وقيلَ عنه: النَّفْىُ طلبُ الإِمامِ لهم ليُقِيمَ فيهم حُدودَ اللَّهِ. ورُوِىَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وقال ابنُ شُرَيْحٍ: يَحْبِسُهمِ في غيرِ بلدِهم. وهذا مثلُ قولِ مالكٍ. [قالوا: وهذا أوْلَى] (¬1)؛ لأَنَّ تشْرِيدَهم إخْراجٌ لهم إلى مَكانٍ يَقْطَعُونَ فيه الطَّريقَ، ويُؤْذُونَ به النَّاسَ، فكان حَبْسُهم أوْلَى. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، حَكَاها أبو الخَطَّابِ، مَعْناها أنَّ نَفْيَهم طَلَبُ الإِمامِ لهم، فإذا ظَفَرَ بهم عَزَّرَهم بما يَرْدَعُهم. ولَنا، ظاهرُ الآيةِ، فإنَّ النَّفْىَ الطَّرْدُ ¬

(¬1) سقط من: م.

4545 - مسألة: (ومن تاب قبل القدرة عليه، سقطت عنه حدود الله تعالى؛ من الصلب والقطع والنفى وانحتام القتل، وأخذ بحقوق الآدميين؛ من الأنفس، والجراح، والأموال، إلا أن يعفى له عنها)

وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَتْ عَنْهُ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى؛ مِنَ الصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ، وَالنَّفْىِ، وَانْحِتَامِ الْقَتْلِ، وَأُخِذَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّيِنَ، مِنَ الْأَنْفُسِ، وَالْجِرَاحِ، وَالْأَمْوَالِ، إِلَّا أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِبْعادُ، والحَبْسُ إمْساكٌ، وهما يَتَنافَيان. فأمَّا نَفْيُهم إلى مكانٍ غيرِ مُعَيَّن؛ فلقولِه تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}. وهذا يَتَناوَلُ نَفْيَه مِن جميعِها. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بنَفْىِ الزَّانِى، فإنَّه يُنْفَى إلى مكانٍ يَحْتَمِلُ أنَّ يوجدَ فيه الزِّنَى. ولم يَذْكُرْ أصحابُنا قَدْرَ مُدَّةِ نَفْيهِم، فيَحْتَمِلُ أنَّ تَتَقَدَّرَ مُدَّتُه بما يَظْهَرُ فيه تَوْبَتُهُم، وتَحْسُنُ سِيرَتُهُم. ويَحْتَمِلُ أنَّ يُنْفَوْا عامًا، كنَفْىَ الزَّانِى (¬1). 4545 - مسألة: (ومَن تابَ قبلَ القُدْرَةِ عليه، سَقَطَتْ عنه حُدُودُ اللَّهِ تعالى؛ من الصَّلْبِ والقَطْعِ والنَّفْىِ وانْحِتامِ القَتْلِ، وأُخِذَ بحُقُوقِ الآدَمِيِّينَ؛ من الأنْفُسِ، والجِراحِ، والأمْوالِ، إلَّا أن يُعْفَى لَه عنها) لا نعلمُ في هذا خِلافًا. وبه قال مالكٌ، والشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْى، ¬

(¬1) في م: «الزنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأبو ثَوْرٍ. والأَصْلُ في هذا قولُ اللَّهِ تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). فأمَّا إن تابَ بعدَ القُدْرَةِ عليه، لم يَسْقُطْ عنه شئٌ من الحُدودِ؛ للآيةِ، فأوْجَبَ عليهم الحَدَّ، ثم اسْتَثْنَى التَّائِبينَ قبلَ (¬2) القُدْرَةِ.، فمَن عَدَاهم يَبْقَى على قَضِيَّةِ العُمومِ، و (¬3) لأنَّه إذا تابَ قبلَ القُدْرَةِ، فالظَّاهِرُ أنَّها تَوْبَةُ إخْلاصٍ، وبعدَها الظاهِرُ (¬4) أنَّها تَقِيَّةٌ من إقامَةِ الحَدِّ عليه، ولأَنَّ في قَبُولِ تَوْبَتِه، وإسْقاطِ الحَدِّ عنه قبلَ القُدْرَةِ، تَرْغيبًا في تَوْبَتِه، والرُّجُوعِ عن مُحارَبَتِه وإفْسادِه، فناسبَ ذلك الإِسْقاطُ عنه، وأمَّا بعدَها فلا حاجَةَ إلى تَرْغِيبِه؛ لأنَّه قد عَجَز عن الفَسادِ والمُحارَبَةِ. فصل: وإن فَعَلَ المُحارِبُ ما يُوجِبُ حَدًّا لا يَخْتَصُّ المُحارَبةَ؛ كالزِّنَىْ، والقَذْفِ، وشُرْبِ الخَمْرِ، والسَّرِقَةِ، فذَكَرَ القاضى أنَّها ¬

(¬1) سورة المائدة 34. (¬2) في م: «بعد». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

4546 - مسألة: (ومن وجب عليه حد لله تعالى سوى ذلك، فتاب قبل إقامته، لم يسقط)

وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ للَّه تِعَالَى سِوَى ذَلِكَ، فَتَابَ قَبْلَ إِقَامَتِهِ عليه، لم يَسْقُطْ. وَعَنْهُ، أنَّهُ يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ قَبْلَ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَسْقُطُ بالتَّوْبَةِ؛ لأنَّها حُدودٌ للَّهِ تعالى، فسَقَطَتْ بالتَّوْبَةِ (¬1)، كحَدِّ المُحاربَةِ، إلَّا حَدَّ القَذْفِ، فإنَّه لا يَسْقُطُ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِىٍّ، ولأَنَّ في إسْقاطِها تَرْغِيبًا في التَّوْبةِ. ويَحْتَمِل أن لا تَسْقُطَ؛ لأنَّها لا تَخْتَصُّ المُحارَبَةَ، فكانت في حَقِّه [كما هِىَ] (¬2) في حَقِّ غيرِه. فإن أتَى حَدًّا قبلَ المُحاربةِ، ثم حارَبَ وتابَ قبلَ القُدْرَةِ، لمِ يَسْقُطِ الحَدُّ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّما يَسْقُطُ بها الذَّنْبُ الذى تابَ منه دون غيرِه. 4546 - مسألة: (ومَن وَجَب عليه حَدٌّ للَّهِ تَعالَى سِوَى ذلك، فتابَ قبلَ إقامَتِه، لم يَسْقُطْ) عنه (وعنه، أنَّه يَسْقُطُ بمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ قبلَ إصْلاحِ العَمَلِ) من تابَ وعليه حَدٌّ مِن غيرِ (¬3) المُحارِبين، وأصْلَحَ، ¬

(¬1) في م: «التوبة». (¬2) في م: «كهى». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه رِوايَتان؛ إحداهما، يَسْقُطُ عنه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (¬1). وذَكَر حَدَّ (¬2) السَّارِقِ، ثم قال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (¬3). وقال النبىُّ -صلي اللَّه عليه وسلم-: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (¬4). ومن لا ذَنْبَ له لا حَدَّ عليه. وقال في ماعِز لَمَّا أُخْبِرَ بهَرَبه: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ (¬5) يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْه!» (¬6). ولأنَّه خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تعالى، فيَسْقُطُ بالتَّوْبَةِ، كحَدِّ المُحارِبِ. والثانيةُ، لا يَسْقُطُ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى حنيفة، وأحَدُ قَوْلَى الشافعىِّ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬7). وهو عامٌّ في التَّائِب وغيرِه، وقال اللَّهُ تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬8). ولأَنَّ النبىَّ -صلي اللَّه عليه وسلم- رَجَم ماعِزًا والغامِدِيَّةَ، وقَطَعَ الذى أقَرَّ ¬

(¬1) سورة النساء 16. (¬2) في م: «حديث». (¬3) سورة المائدة 39. (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 238. (¬5) بعده في م: «لعله». (¬6) تقدم تخريجه 26/ 209. مع حذف تخريج مسلم. (¬7) سورة النور 2. (¬8) سورة المائدة 38.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسَّرِقَةِ، وقد جاءُوا تائِبين يَطْلُبُون التَّطْهِيرَ بإقامَةِ الحَدِّ، وقد سَمَّى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِعْلَهم تَوْبَةً، فقال في حَقِّ المرأةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» (¬1). وجاءَ عمرُو بنُ سَمُرَةَ إلى النبىِّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 209.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: يا رسولَ اللَّهِ-صلي اللَّه عليه وسلم-، إنِّى سَرَقْتُ جَملًا لبنى فُلانٍ، فطَهِّرْنِى (¬1). وقد أقامَ رسولُ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- عليه الحَدَّ. ولأَنَّ الحَدَّ كَفارَةٌ، فلم يَسْقُطْ بالتَّوْبَةِ، ككفَّارَةِ اليَمينِ والقتلِ، ولأنَّه مَقْدُورٌ عليه، فلم يَسْقُطِ الحَدُّ عنه، كالمُحارِبِ بعدَ القُدْرَةِ عليه. فإن قُلْنا: بسُقوطِ (¬2) الحَدِّ بالتَّوْبَةِ. فهل يَسْقُطُ بمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، أو بها مع إصْلاحِ العملِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَسْقُطُ بمُجَرَّدِها. وهو ظاهِرُ قولِ أصحابِنا، لأنَّها تَوْبَةٌ مُسْقِطَةٌ للحَدِّ، فأشْبَهَتْ تَوْبَةَ المُحارِب قبلَ القُدْرَةِ عليه. والثانى، يُعْتَبَرُ إصْلاحُ العَمَلِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (¬3). وقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (¬4). فعلى هذا الوَجْهِ، يُعْتَبَرُ مُضِىُّ مُدَّةٍ يُعْلَمُ بها صِدْقُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 565. (¬2) في م: «يسقط». (¬3) سورة النساء 16. (¬4) سورة المائدة 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَوْبَتِه، وصَلاحُ نِيَّتِه، وليست مُقَدَّرَةً بمُدَّةٍ معلومةٍ. وقال بعضُ أصحابِ الشافعىِّ: مُدَّةُ ذلك سَنَةٌ. وهذا تَوْقِيتٌ بغيرِ تَوْقِيف، فلا يَجُوزُ.

فصل

وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَدٌّ، سَقَطَ عَنْهُ. فَصْلٌ: وَمَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ أَوْ حُرمَتُهُ أَوْ مَالُهُ، فَلَهُ الدَّفْعُ عِنْ ذَلِكَ بِأَسْهلِ مَا يَعْلَمُ دَفْعَهُ بهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصلْ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا. وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ عِنْ نَفْسِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّائِلُ آدَمِيًّا أَوْ بَهِيمَةً. وَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ مَنْزِلَهُ مُتَلَصِّصًا أَوْ صَائِلًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4547 - مسألة: (ومَن ماتَ وعليه حَدٌّ، سَقَط عنه) لفَواتِ مَحَلِّه، كما يَسْقُطُ غُسْلُ ما ذَهَب مِن أعْضاءِ الطَّهارةِ في الوُضوءِ والغُسْلِ. فصل: قال رَحِمَه اللَّهُ: (ومَن أُريدتْ نَفْسُه أو حُرمتُه أو مالُه، فله الدَّفْعُ عن ذلك بأسْهلِ ما يَعْلَمُ دَفْعَه به، فإن لم يَحْصُلْ إلَّا بالقَتْلِ، فله ذلك ولا شئَ عليه، وإن قُتِلَ كان شهيدًا، وهل يجبُ الدَّفْعُ عن نفسِه؟ على رِوايَتَيْن، وسَواءٌ كان الصائِلُ آدَمِيًّا أو) غيرَه (وإن دَخَل رجلٌ منزِلَه مُتَلَصَّصًا أو صائِلًا، فحُكْمُه حكمُ ما ذَكَرْنا) وجملةُ ذلك، أنَّ الرجُلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا دَخَل مَنْزِلَ غيرِه بغيرِ إذْنِه، فلِصاحِب المَنْزِلِ أمْرُه بالخُروجِ مِن مَنْزِلِه، سَواءٌ كان معه سِلاحٌ أو لم يَكُنْ؛ لأَنَّه مُتَعَدٍّ بدُخولِ مِلْكِ غيرِه، فكان لصاحِبِ المنزِلِ مُطالَبَتُه بتَرْكِ التَّعَدِّى، كما لو غَصَب منه شيئًا، فإن خَرَج بالأمْرِ، لم يَكُنْ له ضَرْبُه؛ لأَنَّ المَقْصُودَ إخْراجُه. وقد رُوِى عن ابنِ عمرَ، أنَّه رأى لِصًّا، فأصْلَتَ عليه السَّيْفَ، قال الرَّاوِى: فلو تَرَكْناه لَقَتَله (¬1). وجاءَ رجل إلى الحسنِ، فقال: لِصٌّ دَخَل بَيْتِى ومعه حَدِيدةٌ، أقْتُلُه؟ قال: نعم، بأىِّ قِتْلَةٍ قَدَرْتَ أن تَقْتُلَه. ولَنا، أنَّه أمْكَنَ إزالَةُ العُدْوانِ بغيرِ القَتْلِ، فلم يَجُزِ القَتْلُ، كما لو غَصَب منه (¬2) شيئًا، فأمْكَنَ أخْذُه بغيرِ القتلِ. وفعلُ ابنِ عمرَ يُحْمَلُ على قَصْدِ (¬3) التَّرْهِيبِ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب اللص، من كتاب العقول. المصنف 10/ 112. وابن أبى شيبة، في: باب في قتل اللص، من كتاب الديات. المصنف 9/ 454. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «غير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا على أنَّه قَصَد إيقاعَ الفِعْلِ. فإن لم يَخْرُجْ بالأمْرِ، فله ضَرْبُه بأسْهَلِ ما يَعْلَمُ أنَّه يَنْدَفِعُ به؛ لأنَّ المَقْصُودَ دَفْعُه، فإذا انْدَفَعَ بقليل، فلا حاجَةَ إلى أكثرَ منه، فإن عَلِمَ أنَّه يَخْرُجُ بالعَصا، لم يَكُنْ له ضَرْبُه بالحديدِ؛ لأنَّ الحديدَ آلةٌ للقَتْلِ، بخلافِ العَصا. وإن ذَهَب هارِبًا، لم يَكُنْ له قَتْلُه، ولا اتِّباعُه، كالبُغاةِ. وإن ضَرَبَه ضَرْبَةً عَطَّلَتْه، لم يَكُنْ له أن يُثَنِّيَ عليه؛ لأنَّه كُفِيَ شَرَّه. وإن ضَرَبَه فقَطَعَ يَمينَه، فوَلَّى مُدْبِرًا، فضَرَبَه فقَطَعَ رِجْلَه (¬1) فالرِّجْلُ مضمونةٌ بالقِصاصِ أو الدِّيَةِ؛ لأنَّه في حالٍ لا يَحِلُّ له ضَرْبُه، وقَطْعُ اليَدِ غيرُ مَضْمُونٍ، فإن ماتَ من سِرايَةِ القَطْعِ، فعليه نِصْفُ الدِّيةِ، كما لو ماتَ مِن جِراحَةِ اثْنَين. وإن عادَ إليه بعدَ قَطْعِ رِجْلِه، فقَطَعَ يَدَه الأخْرَى فاليَدَانِ غيرُ مَضْمُونَتَين. فإن ماتَ، فعليه ثُلُثُ الدِّيَةِ، كما لو ماتَ من جِراحَةِ ثَلاثةِ أنْفُس. وقِياسُ المذهبِ أنَّه يَضْمَنُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأنَّ الجُرْحَينِ قَطْعُ رجُل واحدٍ، فكان حُكْمُهما واحدًا، كما لو جَرَح رجلٌ رجُلًا جِراحاتٍ. وجَرَحَه آخرُ جُرْحًا واحِدًا، وماتَ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتْ دِيَتُه بينَهما نِصْفَين، ولا تُقْسَمُ الدِّيَةُ على عَدَدِ الجِراحاتِ، كذا هذا. فإن لم يُمْكِنْه دَفْعُه إلَّا بالقَتْلِ، أو خافَ أنَّ يَبْدُرَه بالقَتْلِ إن لم يُعاجِلْه بالدَّفْعِ، فله ضَرْبُه بما يَقتُلُه، ويَقْطَعُ طَرَفَه، وما أَتلَفَ منه فهو هَدْرٌ، لأنَّه تَلِفَ لدَفْعِ شَرِّه، فلم يَضْمَنْه، كالباغِي، ولأنَّه اضْطَرَّ صاحِبَ المنزلِ إلى قَتْلِه، فصارَ كالقاتِلِ لنفسِه. وإن قُتِلَ صاحبُ المنْزِلِ، فهو شهيدٌ، لِما روَى عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيرِ حَق، فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ». رَواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬1). ولأنَّه قُتِلَ لدَفْعِ ظالم، فكانَ شهيدًا، كالعادِلِ إذا قَتَلَه الباغِي. ¬

(¬1) وأخرجه البخاري، في: باب من قاتل دون ماله، من كتاب المظالم والغصب. صحيح البخاري 3/ 179. ومسلم، في: باب الدليل على أنَّ من قصد أخذ مال غيره بغير حق. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 125. وأبو داود، في: باب في قتال اللصوص، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 546. والترمذي، في: باب ما جاء في من قتل دون ماله فهو شهيد، من أبواب الديات. عارضة الأحوذي 6/ 190. والنسائي، في: باب من قتل دون ماله، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 105، 106. واللفظ لأبي داود والترمذي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكُلُّ مَن عَرَض لإِنْسانٍ يُرِيدُ ماله أو نفسَه، فحُكْمُه ما ذَكَرْنا في مَن دَخَل منزلَه، في دَفْعِهم بأسْهَلِ ما يُمْكِنُ دَفْعُه به، فإن كان بينَهما نهرٌ كبيرٌ، أو خَنْدَقٌ، [أو حِصْنٌ] (¬1) لا يَقْدِرونَ على اقْتِحامِه، فليس له رَمْيُهم، فإن لم يُمْكِنْ إلَّا بقِتالِهم، فله قِتالُهم وقَتْلُهم. قال أحمدُ، في اللُّصوصِ يُرِيدُونَ نفسَك ومالكَ: قاتِلْهم تَمْتَعْ نَفْسَك ومالكَ. وقال عَطاءٌ، في المُحْرِمِ يَلْقَى اللُّصُوصَ، قال (¬2): يقاتِلُهم أشَدَّ القتَالِ. وقال ابنُ سِيرِينَ: ما أعلمُ أحدًا تَرَك قِتال الحَرُورِيَّةِ واللصوص تَأَثُّمًا، إلَّا أنَّ يَجْبُنَ. وقال الصَّلْتُ بنُ طَرِيفٍ: قلتُ للحسنِ: إنِّي أُحْرَجُ في هذه الوُجُوهِ، أخوَفُ شىِءٍ عندِي يَلْقَانِي المُصَلُّونَ (¬3) يَعْرِضُونَ لي في مالِي، فإن كَفَفْتُ يَدِي ذهبُوا بمالِي، وإن قاتَلْتُ المُصَلِّيَ (¬4) ففيه ما قد علمتَ؟ قال: أي بُنَيَّ، مَن عَرَض لك في مالِك، فإن قَتَلْتَه فإلى النارِ، وإن قَتَلَكَ فَشَهِيدٌ. ونحوُ ذلك عن أنس، والنَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ. وقال أحمدُ، في امرأةٍ أرادَها رجلٌ على نَفْسِها، فقَتَلَتْه لِتُحْصِنَ نَفسَها، قال: إذا عَلِمَتْ أنَّه لا يُرِيدُ إلَّا نفسَها، فقَاتَلَتْه لتَدْفَعَ عن نفسِها، فلا شيءَ عليها. ¬

(¬1) في الأصل: «حصين». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل، م: «اللصوص». (¬4) في م: «اللص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَر حديثًا يَرْويه الزُّهْرِيُّ، عن القاسمِ بنِ محمدٍ، عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، أنَّ رجلًا ضَافَ (¬1) ناسًا مِن هُذَيلٍ، فأرادَ امرأةً على نفسِها، فرَمَتْه بحَجَر فَقَتَلَتْه، فقال عمرُ: واللهِ لا يُودَى أبدًا (¬2). ولأنَّه إذا جازَ الدَّفْعُ عن مالِه الذي يجوزُ له (¬3) بَذْلُه وإباحَتُه، فدَفْعُ المرأةِ عن نَفْسِها وصِيانتها عن الفاحِشَةِ، التي لا تُباحُ بحالٍ، أَولَى. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يجبُ عليها أنْ تَدْفَعَ عن نفسِها إن أمْكَنَها ذلك، لأنَّ التَّمْكِينَ منها مُحَرَّمٌ، وفي تَرْكِ الدَّفْعِ نوْعُ تَمْكِين. فأمَّا مَن أَرِيدَ مالُه، فلا يجبُ عليه الدَّفْعُ، لأنَّ بَذلَ المالِ مُباحٌ. ¬

(¬1) في م: «أضاف». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يحد على امرأته رجلًا، من كتاب العقول. المصنف 9/ 435. وابن أبي شيبة، في: باب الرجل يريد المرأة على نفسها، من كتاب الديات. المصنف 9/ 372. والبيهقي، في: باب الرجل يجد مع امرأته الرجل فيقتله، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 337. (¬3) سقط من: الأصل.

4548 - مسألة: فإن أردت نفسه، لم يلزمه الدفع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الفتنة: «اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغط وجهك»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4548 - مسألة: فإن أُرِدَتْ نَفْسُه، لم يَلْزَمْه الدَّفْعُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في الفِتْنَةِ: «اجْلِسْ فِي بَيتكَ فَإنْ خِفْتَ أنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيفِ، فَغَطِّ وَجْهَكَ» (¬1). وفي لفظٍ: «فَكُنْ عَبْدَ اللهِ المَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ القَاتِلَ» (¬2). وفي لفظٍ: «كُنْ كَخَيرِ ابْنَيْ آدَمَ» (¬3). ولأنَّ عثمانَ، رَضِيَ اللهُ عنه، لم يَدْفَعْ عن نفْسِه، وتَرَكَ القِتَال مع إمْكانِه. فإن قِيلَ: فلِمَ (¬4) قُلْتُم في المُضْطَرِّ، إذا وَجَد ما يَدْفَعُ به الضَّرُورَةَ: لَزِمَه الأكْلُ منه. في أحَدِ الوَجْهَين؟ قُلْنا: الأكْلُ تَحْيَى به ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في النهي عن السعي في الفتنة، من كتاب الفتن والملاحم. سنن أبي داود 2/ 417. وابن ماجه، في: باب التثبت في الفتنة، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1308. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 163. وهو حديث صحيح. انظر الإرواء 8/ 100 - 104. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 110، 292. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب النهي عن السعي في الفتنة، من كتاب الفتن والملاحم. سنن أبي داود 2/ 416. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَفْسُه، مِن غيرِ تَفْويتِ غيرِه، فَلَزِمَه، [كالأكْلِ في المَخْمَصَةِ. والثاني، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه دَفْعٌ عن نَفْسِه، فلم يَلْزَمْه، كالدَّفْعِ بالقِتالِ. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، يَلْزَمُه] (¬1) الدَّفْعُ عن نَفْسِه؛ لأنَّه لا يجوزُ إقرارُ المُنْكَرِ مع إمْكانِ دَفْعِه. والأوْلَى إن شاء اللهُ أنَّه يَلْزَمُه الدَّفْعُ عن حُرْمَتِه، ولا يَلْزَمُه الدَّفْعُ عن مالِه؛ لأنَّه يجوزُ له بَذْلُه، فإن أُرِيدَتْ نفْسُه فالأوْلَى في الفِتْنَةِ تَرْكُ الدَّفْعِ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الأحاديثِ والأثرِ في دَفْعِ اللُّصوصِ. وإذا صالتْ عليه بَهِيمَةٌ، ففيه رِوايَتان، أوْلاهُما، وُجُوبُ الدَّفْعِ إذا أمْكَنَه، كما لو خافَ مِن سَيل أو نارٍ، وأمْكَنَه أنَّ يَتَنَحَّى عن ذلك، [وإن أمْكَنَه الهَرَبُ، ففيه وَجْهان؛ أَولاهُما، يَلْزَمُه، كالأكْل في المَخْمَصَةِ. والثاني، لا يَلْزَمُه، كالدَّفْعِ بالقِتالِ] (1). فصل: وإذا صال على إنْسانٍ صائِلٌ، يُريدُ نفسَه أو ماله ظُلْمًا، أو ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يريدُ امرأةً ليَفْجُرَ بها، فلِغيرِ المَصُولِ عليه مَعُونَتُه في الدَّفْعِ. ولو عَرَض اللُّصوصُ لقافِلَةٍ، جازَ لغيرِ أهلِ القافِلَةِ الدَّفْعُ عنهم؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «انْصُرْ أخَاكَ ظَالِمًا، أوْ مَظْلُومًا» (¬1). وفي حديثٍ: «إِنَّ المُؤْمِنِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الفُتَّانِ» (¬2). ولأنَّه لولا التَّعاونُ لذَهَبَتْ أمْوالُ النَّاسِ وأنْفُسُهم؛ لأنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إذا انْفَرَدُوا بأخْذِ مالِ إنْسانٍ ولم يُعِنْه غيرُه، فإنَّهم يَأْخُذُونَ أمْوال الكلِّ، واحِدًا واحِدًا، وكذلك غيرُهم. فصل: إذا وَجَد رجلًا يَزْنِي بامرأتِه فقَتَلَه، فلا قِصاصَ عليه، [ولا دِيَةَ] (¬3)؛ لِما رُوِيَ أنَّ عمرَ، رَضِيَ الله عنه، بينَما هو يَتَغَدَّى يومًا، إذْ أقْبَلَ رجلٌ يَعْدُو، ومعه سَيفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بالدَّمِ، فجاءَ حتى قَعَد مع عمرَ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب أعن أخاك ظالما أو مظلومًا، من كتاب المظالم، وفي: باب يمين الرجل لصاحبه أنَّه أخوه، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 3/ 168، 9/ 28، 29. والترمذي، في: باب حدثنا محمد بن حاتم. . . .، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 112، 113. والدارمي، في: انصر أخاك. . . .، من كتاب الرقاق. سنن الدارمي 2/ 311. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 99، 201. (¬2) في الأصل، م: «القتال». والحديث أخرجه أبو داود بمعناه، في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الخراج والفئ والإمارة. سنن أبي داود 2/ 157. وإسناده ضعيف. انظر ضعيف سنن أبي داود 309. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَجَعَلَ يأكُلُ، وأقبلَ جماعَةٌ من النَّاسِ، فقالوا: يا أميرَ المؤمِنِين، إنَّ هذا قَتَل صاحِبَنَا مع امرأتِه. فقال عمرُ: ما يقولُ هؤلاء؟ قال: ضَرَب الآخَرُ فَخِذَي (¬1) امرأتِه بالسَّيفِ، فإن كان بينَهما أحَدٌ فقد قتَلَه (¬2). فقال لهم عمرُ: ما يقولُ؟ قالوا: ضَرَب بسَيفِه، فَقَطَعَ فَخِذَيِ امرأتِه، فأصابَ وَسَطَ الرَّجُلِ، فقَطَعَه اثْنَين. فقال عمرُ: إن عادُوا فَعُدْ (¬3). رَواه هُشَيمٌ، عن مُغِيرَةَ، عن إبراهيمَ. أخْرَجَه سعيدٌ (¬4). فإن كانتِ المرأةُ مُطاوعَةً، فلا ضَمانَ عليه فيها، وإن كانت مُكْرَهَةً، فعليه القِصاصُ. فأمَّا إن قَتَل رجلًا، وادَّعَى أنَّه وَجَدَه مع امرأتِه، فقَتَلَها أو قَتَلَه. فقال عليٌّ: إن جاءُوا بأرْبعهِ شُهَداءَ، وإلَّا فَلْيُعْطَ بُرمَّتِه (¬5). فعلى هذا، يَفْتَقِرُ إلى أربعةِ شُهُودٍ، لحديثِ عليٍّ. ورُوِيَ أنَّها يَكْفِي شاهدان؛ لأنَّ البَيَّنَةَ تَشْهَدُ على وُجُودِه مع المرأةِ، وهذا يَثْبُتُ بشاهِدَين، وإنَّما ¬

(¬1) في م: «فخذ». (¬2) في الأصل: «قتلته». (¬3) في الأصل: «فافعل». (¬4) تقدم تخريجه في 25/ 136. (¬5) في النسخ: «برقبته». والمثبت من مصادر التخريج. وتقدم تخريجه في 25/ 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي يَحْتاجُ إلى أربعةٍ الزِّنَى، وهذا لا يَحْتاجُ إلى إثْباتِ الزِّنَى. فإن قِيلَ: فحديثُ عمرَ في الذي وجَد مع امرأتِه رجلًا ليس فيه بَيِّنَةٌ، وكذلك رُوِيَ أنَّ رجلًا مِن المسلمين خرَج غازِيًا، وأوْصَى بأهْلِه رجلًا، فبَلَغَ الرجلَ أنَّ يَهُودِيًّا يَخْتَلِفُ إلى امرأتِه، فكَمَنَ له حتى جاءَ، فجعلَ يُنْشِدُ: وأشْعَثَ غَرَّهُ الإِسْلامُ مِنِّي … خَلَوْت بعِرْسِه ليلَ التَّمامِ أبِيتُ على تَرائِبِها ويُضْحِي … على جَرْداءَ لاحِقَةِ الْحِزَامِ كأنَّ مَواضِعَ الرَّبَلَاتِ منها … فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إلى فِئَامِ (¬1) فقام إليه الرجلُ (¬2) فقَتَلَه، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ، فأهْدَرَ دَمَه (¬3). فالجَوابُ أنَّ ذلك ثَبَت عندَه بإقْرارِ الوَلِيِّ. وإن لم تَكُنْ بَيَنة، فادَّعَى عِلْمَ الوَلِيِّ بذلك، فالقولُ قولُ الوَلِيِّ مع يَمِينه. ¬

(¬1) في م: «الرتلات». والربلة: باطن الفخذ. وامرأة ربلة وربلاء: عظيمة الربلات. والفئام: الجماعة. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الرجل يجد على امرأته رجلًا، من كتاب العقول. المصنف 9/ 435. وابن أبي شيبة، في: باب الرجل يجد مع امرأته رجلا فيقتله، من كتاب الديات. المصنف 9/ 404.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قَتَل رجلٌ رجلًا، وادَّعَى أنَّه قد هَجَم مَنْزِلَه، فلم يُمْكِنْه دَفْعُه إلَّا بالقَتْلِ، لم يُقْبَلْ قولُه إلَّا ببَيِّنَةٍ، وعليه القَوَدُ سَواءٌ كان المقتولُ يُعْرَفُ بسَوقةٍ، أو عِيَارَةٍ، أو لا يُعْرَفُ بذلك، فإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ أنَّهم رَأوْا هذا مُقْبلًا إلى هذا بسِلاحٍ مَشْهورٍ، فضَرَبَه هذا، فقد هَدَر دَمَه، وإن شَهِدُوا أَنَّهم رَأوْه داخِلًا دارَه، ولم يَذْكُرُوا سِلاحًا، أو ذَكَروا سِلاحًا غيرَ مَشْهُورٍ، لم يَسْقُطِ القَوَدُ بذلك؛ لأنَّه قد يَدْخُلُ لحاجَةٍ، ومُجَرَّدُ الدُّخُولِ المشْهودِ به لا يُوجِبُ إهْدارَ دَمِه.

4549 - مسألة: (وإن عض إنسان إنسانا، فانتزع يده من فيه، فسقطت ثناياه، ذهبت هدرا)

وَإنْ عَضَّ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَسَقَطَتْ ثَنَاياهُ، ذَهَبَتْ هَدْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4549 - مسألة: (وإنْ عَضَّ إنْسَان إنسانًا، فانْتَزَعَ يَدَه من فِيهِ، فسَقَطَتْ ثَنَايَاهُ، ذَهَبَتْ هَدْرًا) [إذا عُضَّ فله جَذْبُ يَدِه مِن فِيهِ، فإن جَذَبَها فوَقَعَتْ ثَنايا العاضِّ، فلا ضَمانَ فيها] (¬1). وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ورَوَى سعيدٌ، عن هُشَيم، عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّ رجلًا عَضَّ رجلًا، فانْتَزَعَ يَدَه من فِيهِ، فسَقَطَتْ بعضُ أسْنانِ العَاضِّ، فاخْتَصَما إلى شُرَيحٍ، فقال شُرَيحٌ: انْزَعْ يَدَكَ مِن فِي السَّبُعِ. وأَبْطَلَ أسْنانَه. وحُكِيَ عن مالكٍ، وابنِ أبي لَيلَى، أنَّ عليه الضَّمان؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ» (¬2). ولَنا، ما رَوَى يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ، قال: كان لي أجيرٌ، فقاتَلَ إنسانًا (¬3)، فعَضَّ أحَدُهما يَدَ الآخرِ، قال: فانتزَعَ المَعْضُوضُ يَدَه مِن فِي العاضِّ، فانْتَزَعَ إحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ، فأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأهْدَرَ ثَنِيَّتَه، فحَسِبْتُ أنَّه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفيَدَعُ يَدَهُ في فَمِكَ تَقْضَمُها قَضْمَ الفَحْلِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ولأنَّه عُضْوٌ تَلِف ضرُورَةَ دَفْع ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 480. (¬3) في م: «رجلا». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب الأجير في الغزو، من كتاب الإجارة، وفي: باب الأجير، من كتاب الجهاد والسير، وفي: باب إذا عض رجلًا فوقعت ثناياه، من كتاب الديات. صحيح البخاري 3/ 116، 117، 4/ 65، 9/ 9. ومسلم، في: باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه. . . .، من كتاب القسامة. صحيح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرِّ صاحِبِه، فلم يُضْمَنْ، كما لو صال عليه، فلم يُمْكِنْه دَفْعُه إلَّا بقَطْعِ عُضْوه. وحديثُهم يَدُلُّ على دِيَةِ السِّنِّ إذا قُلِعَتْ ظُلْمًا، وهذه لم تُقلَعْ ظُلْمًا، وسَواءٌ كان المَعْضُوضُ ظالِمًا أو مَظْلُومًا؛ لأنَّ العَضَّ مُحَرَّمٌ، إلَّا أنَّ يكونَ العَضُّ مُباحًا له، مثلَ أنَّ يُمْسِكَه في مَوْضِع يَتَضَرَّرُ بإمْساكِه، أو يَعَضَّ (¬1) يَدَه. [ونحوَ ذلك ممّا] (¬2) لا يَقْدِرُ على التَّخَلُّصِ من ضَرَرِه إلَّا بِعَضِّه، فيَعَضُّه، فما سَقَط مِن أسْنانِه ضَمِنَه؛ لأنَّه عادٍ. وكذلك لو عَضَّ أحَدُهما يَدَ الآخرِ، ولم يُمْكِنِ المَعْضُوضَ تخْليصُ يَدِه إلَّا بعَضِّه، فله عَضُّه، ويَضْمَنُ الظَّالِمُ منهما ما تَلِفَ من المَظْلُومِ، وما تَلِفَ من الظالمِ كان هَدْرًا. وكذلك الحكمُ فيما إذا عَضَّه في غيرِ يَدِه، أو عَمِلَ به عَمَلًا غيرَ العَضِّ أفْضَى إلى تَلَفِ شيءٍ من الفاعِلِ، لم يَضْمَنْه. وقد روَى محمدُ بنُ عُبَيدِ (¬3) اللهِ، أنَّ غُلَامًا أخَذَ قِمَعًا من أقْماعِ الزَّيَّاتِينَ، فأدْخَلَه بينَ رِجْلَيْ رَجُل، ونَفَخَ فيه، فذُعِرَ الرجلُ من ذلك، وخَبَطَ ¬

= مسلم 3/ 1301. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يقاتل الرجل. . . .، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 500. والنسائي، في: باب الرجل يدفع عن نفسه، وباب ذكر الاختلاف على عطاء. . . .، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 26، 27، 28. وابن ماجه، في: باب من عض رجلًا فنزع يده فندر ثناياه، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 886، 887. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 222، 224، 428، 430. (¬1) في م: «يعصر». (¬2) في م: «بما». (¬3) في الأصل: «عبد».

4550 - مسألة: (وإن نظر في بيته من خصاص الباب، أو نحوه،

وَإنْ نَظَرَ في بَيتِهِ مِنْ خَصاصِ الْبَابِ، أَوْ نَحْوهِ، فَحَذَفَ عَينَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ برِجْلِه، فوَقَعَ على الغُلام، فكَسَرَ بعضَ أسنانِه، فاخْتَصَمُوا إلى شُرَيح، فقال شُرَيحٌ: لا أعْقِلُ الكَلْبَ الهَرَّارَ. قال القاضي: يُخَلِّصُ المَعْضُوضُ يَدَه بأسْهَلِ ما يُمْكِنُه، فإن أمْكَنَه فَكُّ لَحْيَيه بيَدِه الأُخْرَى فَعَلَ، وإن لم يُمْكِنْه لَكَمَه في (¬1) فَكِّه، فإن لم يُمْكِنْه، فله أنَّ يَبْعَجَ بَطْنَه، وإن أتَى على نَفْسِه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّ هذا الترتيبَ غيرُ مُعْتَبَر، وله أنَّ يَجْذِبَ يَدَه أوَّلًا، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم (¬3) يَسْتَفْصلْ، ولأنَّه لا يَلْزَمُه تَرْكُ يَدِه في فَمِ العاضِّ حتى يَتَحَيَّلَ بهذه الأشياءِ المَذْكُورَةِ، ولأنَّ جَذبَ يَدِه مُجَرَّدُ (¬4) تَخْلِيصِ يَدِه (4)، وما حَصَل من سُقُوطِ الأسْنانِ حَصلَ ضرُورةَ التَّخْلِيصِ الجائزِ، ولَكْمُ فَكِّه جِنَايَةٌ غيرُ التَّخْلِيصِ، ورُبَّما تَضَمَّنَتِ التَّخْلِيصَ، وربَّما أتْلَفَتِ الأسْنانَ التي لم يَحْصُلِ العَضُ بها، فكانت البِداءَةُ بجَذْبِ يَدِه أوْلَى. ويَنْبَغِي أنَّه متى أمْكَنَه جَذْبُ يَدِه، فعَدَلَ إلى لَكْمِ فَكِّه، فأتْلَفَ سِنًّا، ضَمِنَه؛ لإِمْكانِ التَّخَلّصِ بما هو أوْلَى منه. 4550 - مسألة: (وإن نَظَر في بَيتِه من خَصاصِ البابِ، أو نحوه، ¬

(¬1) في م: «على». (¬2) في: المغني 12/ 538. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

فَفَقَأَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فحذَفَ عَينَه، ففَقَأهَا، فلا شيءَ عليه) وجملةُ ذلك، أنّ مَن اطَّلَعَ في بيتِ إنسانٍ من ثَقْبٍ، أو شَقِّ بابٍ، أو نحوه، فرَماهُ صاحِبُ الدَّارِ بحَصاةٍ، أو طَعَنَه بعُودٍ، فقَلَع عَينَه، لم يَكُنْ عليه جُناحٌ، ولا يَضْمَنُها. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَضْمَنُها؛ لأنَّه لو دَخَل مَنْزِلَه، ونَظَر فيه، أو نال من امرأتِه ما دُونَ الفَرْجِ، لم يَجُزْ قَلْعُ عَينِه فبمُجَرَّدِ النَّظَرِ أولَى. ولَنا، ما رَوَى أبو هُرَيرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أنَّ امْرَأَ اطَّلَعَ عَلَيكَ بِغَيرِ إذْنٍ، فحَذَفْتَه بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَينَه، لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ جُنَاحٌ». وعن سهلِ بنِ سعدٍ، أنَّ رجلًا اطَّلَعَ في جُحْر مِن بابِ النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، [ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) يَحكُّ رَأسَه بِمِدْرًى (¬2) في يَدِه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَنْظُرُنِي، لَطَمَسْتُ (¬3)، أو: لَطَعَنْتُ بِهَا فِي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) المدرى: عود يُدْخَلُ في الرأس ليضم بعض الشعر إلى بعض. (¬3) في م: «لطمت». ولم نجد الكلمة في مصادر التخريج.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَينِكَ». مُتَّفَقٌ عليهما (¬1). ويُفارِقُ ما قاسُوا عليه؛ لأنَّ مَن دَخَل المنزلَ يُعْلَمُ به، فيُسْتَتَرُ منه، بخِلافِ النَّاظِرِ من ثَقْبٍ، فإنَّه يَرَى من غيرِ عِلْم به، ثم الخبرُ أوْلَى من القِياسِ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يُعْتَبَرُ في هذا أنَّه لا يُمْكِنُه دَفْعُه إلَّا بذلك، لظاهِرِ الخبرِ. وقال ابنُ حامدٍ: يَدْفَعُه بأسْهَلِ ما يُمْكِنُه دَفْعُه به (¬2)، يقولُ له أوَّلًا: انْصَرِفْ. فإن لم يَفْعَلْ، أشارَ إليه أنَّه يَحْذِفُه، فإن لم يَنْصَرِفْ، فله حَذْفُه حينَئذٍ. واتِّباعُ السُّنَّةِ أوْلَى. فإن تَرَك الاطِّلاع ومَضَى، لم يَجُزْ رَمْيُه، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَطْعَنِ الذي اطَّلَع ثم انْصَرَف، ولأنَّه تَرَكَ الجنايَةَ، فأشْبَهَ مَن عَضَّ ثم تَرَكَ العَضَّ، لم يَجُزْ قَلْعُ أسْنانِه. وسَواءٌ كان المكانُ المُطَّلَعُ منه صغيرًا، ¬

(¬1) الأول، أخرجه البخاري، في: باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، وباب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه. . . .، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 8، 9، 13. ومسلم، في: باب تحريم النظر في بيت غيره، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1699. كما أخرجه النسائي، في: باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 55. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 243. والثاني، أخرجه البخاري، في: باب الامتشاط، من كتاب اللباس، وفي: باب الاستئذان من أجل البصر، من كتاب الاستئذان. صحيح البخاري 7/ 211، 8/ 66. ومسلم، في: باب تحريم النظر في بيت غيره، من كتاب الآداب. صحيح مسلم 3/ 1698. كما أخرجه الترمذي، في: باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذي 10/ 178. والنسائي، في: باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 54، 55. والدارمي، في: باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، من كتاب الديات. سنن الدارمي 2/ 197، 198. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 330، 334، 335. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كثَقْبٍ أوْ شَقٍّ، أو واسِعًا، كنَقْبٍ كبيرٍ. وذَكَر بعضُ أصحابِنا أنَّ البابَ المفتوحَ كذلك، والأوْلَى أنَّه لا يجوزُ حَذْف مَن نَظَرَ من بابٍ مفتوح؛ لأنَّ التَّفْرِيطَ من تارِكِ الباب مَفْتُوحًا، والظَّاهِرُ أنَّ من تَرَكَ بابَه (¬1) مفتوحًا، أنَّه يَسْتَتِرُ، لعِلْمِه أنَّ النَّاسَ يَنْظُرونَ منه، ويَعْلَمُ بالنَّاظِرِ فيه، والواقِفِ عليه، فلم يَجُزْ رَمْيُه، كدَاخِلِ الدَّارِ. وإن اطَّلَع، فرَماه صاحِبُ الدَّارِ، فقال المُطَّلِعُ: ما تَعَمَّدْتُه. لم يَضْمَنْه، على ظاهرِ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّ الاطِّلاعَ قد وُجِدَ، والرَّامِي لا يَعْلَمُ ما في قَلْبِه (¬2). وعلى قولِ ابنِ حامدٍ، يَضْمَنُه؛ لأنَّه لم يَدْفَعْه بما هو أسْهَلُ. وكذلك لو قال: لم أرَ شيئًا حينَ اطَّلَعْتُ. وإن كان المُطَّلِعُ أعْمَى، لم يَجُزْ رَمْيُه؛ لأنَّه لا يَرَى شَيئًا، ولو كان إنْسانٌ عُرْيانًا في طَرِيقٍ، لم يَكُنْ له رَمْيُ مَن نَظَر إليه؛ لأنَّه المُفَرِّطُ. وإن كان المُطَّلِعُ في الدَّارِ من مَحارِم النِّساءِ اللَّائي فيها، فقال بعضُ أصحابِنا: ليس لصاحِبِ الدَّارِ رَمْيُه، إلَّا أَن يَكُنَّ مُتَجَرِّدَاتٍ، ¬

(¬1) في م: «الباب». (¬2) في الأصل: «قتله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَصِرْنَ كالأجانِبِ. وظاهِرُ الخبرِ أنَّ لصاحِبِ الدَّارِ رَمْيَه، سَواءٌ كان فيها نِساءٌ أو لم يَكُنْ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْ أنَّه كان في الدَّارِ التي اطَّلَع فيها على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نِساءٌ. وقولُه: «لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيكَ بِغَيرِ إذْنٍ، فحَذَفْتَهُ [ففَقَأْتَ عَينَهُ] (¬1)». عامٌّ في الدَّارِ التي فيها نِساءٌ وغيرِها. فصل: وليس لصاحبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ بما يَقْتُلُه ابْتِداءً، فإن رَمَاهُ بحَجَرٍ يَقْتُلُه، أو حَدِيدَةٍ تَقْتُلُه، ضَمِنَه بالقِصَاصِ؛ لأنَّه إنَّما له ما يَقْلَعُ به (¬2) العَينَ المُبْصِرَةَ، التي حَصَل الأذَى منها، دُونَ ما يَتَعَدَّى إلى غيرِها، فإن لم يَنْدَفِعِ المُطَّلِعُ برَمْيِه بالشَّيءِ اليَسِيرِ، جازَ رَمْيُه بأكْبَرَ منه، حتى يَأْتِيَ ذلك على نفْسِه، وسَواءٌ كان النَّاظِرُ في الطرَّيقِ، أو مِلْكِ نَفسِه، أو غيرِ ذلك. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

باب قتال أهل البغي

بَابُ قِتَالِ أهْلِ الْبَغْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ قِتالِ أهْلِ البَغْي والأصلُ في هذا قولُ اللهِ تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى قولِه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُمْ} (¬1). ففيها خمسُ فَوائِدَ؛ أحدُها، أنَّهم لم يَخْرُجُوا بالبَغْي عن الإِيمانِ، فإنَّه سَمَّاهم مُؤْمِنين. الثَّانيةُ، أنَّه أوْجَبَ قِتالهم. الثالثةُ، أنَّه أسْقَطَ قِتالهم إذا فَاءُوا إلى أمْرِ اللهِ. الرَّابِعةُ، أنَّه أسْقَطَ عنهم التَّبِعَةَ فيما أتْلَفُوه في قِتالِهم [إذا فاءُوا إلى أمْرِ الله] (¬2). الخامِسَةُ، أنَّ الآيَةَ ¬

(¬1) سورة الحجرات 9، 10. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أفادَتْ جَوازَ قِتالِ كلِّ مَن مَنَع حَقًّا عليه. وروَى عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، قال: سَمِعْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ أعْطَى إمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ، وثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْه مَا اسْتَطَاعَ، فَإنْ جَاءَ أحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ» رَوَاه مسلمٌ (¬1). وروَى عَرْفَجَةُ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَكُونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ». ورَفَع صوتَه «ألَا مَن خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» (¬2). فكلُّ مَن ثَبَتَتْ إمامَتُه، وَجَبَتْ طاعَتُه، وحَرُمَ الخُرُوجُ عليه وقِتالُه، لقَوْلِ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3). ¬

(¬1) في: باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1472، 1473. كما أخرجه أبو داود، في: باب ذكر الفتن. . . .، من كتاب الفتن. سنن أبي داود 2/ 413. والنسائي، في: باب ما على من بايع الإمام. . . .، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 137، 138. وابن ماجه، في: باب ما يكون من الفتن، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1306، 1307. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 161، 191، 193. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب حكم من فرق أمر المسلمين. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1479. وأبو داود، في: باب في قتل الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 543. والنسائي، في: باب قتل من فارق الجماعة و. . . .، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 84، 85. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 261، 341. (¬3) سورة النساء 59.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وروَى عُبادةُ بنُ الصَّامِتِ، قال: بايَعْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على السَّمْعِ والطَّاعَةِ، في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وأنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَه (¬1). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وفَارَقَ الجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ». رَواه ابنُ عبدِ البَرِّ من حديثِ أبي هُرَيرَةَ وأبي ذَرٍّ وابنِ عباس، كلُّها بمعْنًى واحدٍ (¬2). وأجْمَعَتِ الصحابةُ، رَضِيَ اللهُ عنهم، على قِتالِ البُغَاةِ، فإنَّ أبا بكر، رَضِيَ اللهُ عنه، قاتلَ (¬3) مانِعِي الزَّكاةِ، وعليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه، قاتَلَ أهْلَ الجَمَلِ وأهلَ صِفِّينَ وأهلَ النَّهْرَوانِ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها»، من كتاب الفتن، وفي: باب كيف يبايع الإمام، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 59، 96. ومسلم، في: باب وجوب طاعة الأمراء. . . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1470. والنسائي، في: باب البيعة على السمع والطاعة، وباب البيعة على أن لا تنازع. . . .، وباب البيعة على القول بالحق، وباب البيعة. . . . بالعدل، وباب البيعة على الأثرة، من كتاب الجهاد. المجتبى 7/ 124 - 126. وابن ماجه، في: باب البيعة، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 957. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 441، 5/ 314، 318، 319، 321. (¬2) وأخرجه مسلم، في: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1476. والنسائي، في: باب التغليظ في من قاتل تحت راية عمية، من كتاب تحريم الدم. المجتبى 7/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 296، 488. وذكره عنهم ابن عبد البر، في الاستذكار 27/ 360. وانظر تلخيص الحبير 4/ 42. (¬3) في الأصل: «قتل».

4551 - مسألة: (وهم القوم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ، ولهم منعة وشوكة)

وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الإمَامِ بِتَأْويلٍ سَائِغٍ، وَلَهُمْ مَنَعَة وَشوْكة، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4551 - مسألة: (وهم القَوْمُ الذينَ يَخْرُجُونَ على الإِمامِ بتَأْويل سائِغٍ، ولهم مَنَعَةٌ وشَوْكَةٌ) الخارِجونَ عن قَبْضَةِ الإِمامِ، أصْنافٌ أرْبَعَةٌ، أحدُها، قَوْمٌ امْتَنَعُوا (¬1) من طاعَتِه، وخَرَجُوا عن قَبْضَتِه بِغيرِ تَأْويل، فهؤلاءِ قُطَّاعُ الطَّريق، ساعُونَ في الأرْضِ بالفَسادِ، وقد ذَكَرْنا حُكْمَهم. الثاني، قوْمٌ لهم تَأْويل، إلَّا أنَّهم نَفَر يَسِيرٌ، لا مَنَعَةَ لهم، كالعَشِيرةِ ونحوهم، فهؤلاءِ حُكْمُهم حُكْمُ الصِّنْفِ (¬2) الذي قبلَهم، في قولِ أكثرِ الأصحابِ، ومذهبِ الشافعيِّ؛ لأنَّ ابنَ مُلْجَم لَمَّا جَرَح عليًّا، ¬

(¬1) في الأصل: «منعوا». (¬2) في الأصل: «النصف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال للحسنِ: إنْ بَرِئْتُ رَأَيتُ رَأْييِ، وإنْ مِتُّ فَلا تُمَثِّلُوا به (¬1). فلم يُثْبِتْ لفِعْلِه حُكمَ البُغاةِ. ولأنَّنا لو أثْبَتْنا للعَدَدِ اليَسِيرِ حُكْمَ البُغاةِ، في سُقُوطِ ضَمانِ ما أتْلَفُوه، أفْضَى إلى إتْلافِ أمْوالِ النَّاسِ. وقال أبو بكرٍ: لا فَرْقَ بينَ الكثيرِ والقليلِ، وحُكْمُهم حُكْمُ البُغاةِ إذا خَرَجُوا عن قَبْضَةِ الإِمامِ. الثالثُ، الخوارجُ الذين يُكَفِّرُونَ بالذَّنْبِ، ويُكَفِّرُونَ عليًّا وعُثمانَ وطَلْحَةَ والزُّبَيرَ، وكثيرًا من الصحابةِ، ويَسْتَحِلُّونَ دِماءَ المسلِمينَ، وأمْوالهُم، إلَّا مَن خَرَج معهم، فظاهِر قولِ الفُقَهاءِ المُتَأخِّرينَ من أصحابِنا، أنَّهم بُغَاةٌ، لهم حُكْمُهُم. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وجُمْهورِ الفُقَهاءِ، وكثيرٍ من أهلِ الحديثِ. وأمَّا مالكٌ فيَرَى اسْتِتَابَتَهُم، فإن تابُوا، وإلَّا قُتِلُوا على إفْسادِهم، لا على كُفْرِهم. وذَهَبَتْ طائِفَةٌ من أهلِ الحديثِ إلى أنَّهم كفَّارٌ مُرْتَدُّونَ، حُكْمُهم حُكْمُ المُرْتَدِّينَ، تُباحُ دِماوهم وأمْوالُهم، فإن تَحَيَّزُوا في مكانٍ، وكانتْ لهم مَنَعَةٌ وشَوْكَةٌ، صارُوا أهْلَ حَرْبٍ، كسائرِ الكُفَّارِ، وإن كانوا في قَبْضَةِ الإِمامِ، ¬

(¬1) رواه ابن سعد بمعناه في: الطبقات الكبرى 3/ 35، 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَتابَهم، كاسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ، فإن تابُوا، وإلَّا قُتِلُوا، وكانت أمْوالُهم فَيئًا، لا يَرِثُهم ورَثَتُهم المسلمونَ؛ لِما روَى أبو سعيدٍ، قال: سَمِعْت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَكُمْ مَعَ صِيامِهِمْ، وأعْمَالكُمْ مَعَ أعْمَالِهِمْ، يَقْرأُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُر في النَّصْلِ فَلا يَرَى شَيئًا، [وَيَنْظُرُ فِي القِدْحِ فَلَا يَرَى شَيئًا] (¬1)، ويَنْظُرُ في الرَّيشِ فَلَا يَرَى شَيئًا، وَيَتمَارَى في الْفُوقِ (¬2)». وهو حديثٌ صحِيحٌ ثابتُ الإِسْنادِ، رَواه البخارِيُّ، ومالكٌ، في «المُوَطَّأ» (¬3). وفي لَفْظٍ قال: «يَخْرُجُ قَوْمٌ (¬4) فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهاءُ الأحْلَامِ، يَقولونَ مِن خَيرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرأُونَ القُرْآنَ لَا يُجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ، ¬

(¬1) سقط من: م. والقدح: خشب السهم، أو ما بين الريش والسهم. (¬2) الفوق: موضع الوتر من السهم. أي يشكك هل علق به شيء من الدم؟ (¬3) أخرجه البخاري، في: باب ما جاء في قول الرجل: ويلك، من كتاب الأدب، وفي: باب قتل الخوارج والملحدين، وباب من ترك قتال الخوارج، من كتاب استتابة المرتدين. صحيح البخاري 8/ 47، 9/ 21، 22. ومالك، في: باب ما جاء في القرآن، من كتاب القرآن. الموطأ 1/ 204، 205. كما أخرجه مسلم، في: باب ذكر الخوارج وصفاتهم، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 743، 744. وابن ماجه، في: باب ذكر الخوارج، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 60. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 33، 43. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَينَما [لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ] (¬1)، فَإنَّ في (¬2) قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ». رَواه البخارِيُّ (¬3). ورُوِيَ مَعْناه من وُجُوهٍ. يقولُ: فكما خَرَج هذا (4) السَّهْمُ نَقِيًّا خاليًا (¬4) من الدَّمِ والفَرْثِ، لم يَتَعَلَّقْ منهما بشَيْءٍ، كذلك خُرُوجُ هؤلاءِ من الدِّينِ، يَعْنِي الخَوارِجَ. وعن أبي أُمَامَةَ، أنَّه رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَة على دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فقال: «كِلَابُ النَّارِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أدِيمِ السَّماءِ، خيرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوه»، ثم قَرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬5) إلى آخِرِ الآيةِ. فقِيلَ له: أنتَ سَمِعْتَه من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: لو لم أسْمَعْه إلَّا مَرَّةً، أو مَرَّتَين، أو ثَلاثًا، أو أرْبَعًا -حتى عَدَّ ¬

(¬1) في م، ر 3: «لقيتهم فاقتلهم». (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب من رايا بقراءة القرآن. . . .، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب قتل الخوارج والملحدين. . . .، من كتاب استتابة المرتدين. صحيح البخاري 6/ 243، 244، 9/ 21. كما أخرجه مسلم، في: باب التحريض على قتل الخوارج، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 746، 747. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 544، 545. والترمذي، في: باب في صفة المارقة، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 37. وابن ماجه، في: باب في ذكر الخوارج، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 59. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 81، 131، 404. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سورة آل عمران 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَبْعًا- ما حَدَّثْتُكُمُوه (¬1). قال التِّرْمِذِيّ: هذا حديثٌ حسنٌ. ورَواه ابنُ ماجه (¬2)، عن سَهْل، [عن ابنَ] (¬3) عُيَينَةَ، عن أبي غالِبٍ، أنَّه سَمِع أبا أُمَامَةَ يقولُ: «شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا (4) تَحْتَ أَديمِ السَّماءِ، وخَيرُ قَتْلَى مَن قَتَلُوه، كِلَابُ أهْلِ النَّارِ، كِلابُ أهْلِ النَّارِ، كِلابُ أهْلِ النَّارِ، قد (¬4) كانُوا مُسْلِمينَ فَصارُوا كُفَّارًا» قلتُ: يا أبا أُمَامَةَ، هذا شيءٌ تقولُه؟ قال: بل سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وعن عليٍّ في قولِه تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬5). قال: هم أهْلُ النَّهْرَوانِ (¬6). وعن أبي سعيدٍ، في حديثٍ آخَرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ والخَلِيقَةِ، لَئِنْ أَدرَكْتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» (¬7). وقال (¬8): «لا يُجاوزُ إِيمانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» (¬9). وأكثرُ الفُقَهاءِ على أنَّهم بُغَاةٌ، ولا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهم. قال ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب تفسير سورة آل عمران، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 11/ 127. وابن ماجه، في: باب في ذكر الخوارج، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 62.كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 253، 256. (¬2) في النسخ: «مالك». والمثبت من المغني 12/ 240. (¬3) في الأصل: «بن أبي» خطأ. (¬4) سقط من: م. (¬5) سورة الكهف 103. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 413. وذكره ابن عبد البر، في التمهيد 23/ 336. وانظر فتح الباري 8/ 425. (¬7) أخرجه مسلم، في: باب ذكر الخوارج، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 741، 742. وأبو داود، في: باب في قتل الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 544. والنسائي، في: باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 109. (¬8) في م: «وقيل». (¬9) أخرجه البخاري، في: باب من رايا بقراءة القرآن. . . .، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب قتل الخوارج =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ المُنْذِرِ: لا أعلمُ أحدًا وافَقَ أهْلَ الحديثِ على تَكْفِيرِهم وجَعْلِهم كالمُرْتَدِّينَ. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1)، في الحديثِ الذي رَوَيناهُ: قولُه عليه السَّلامُ: «يَتَمارَى فِي الفُوقِ». يَدُلُّ على أنَّه لم يُكَفِّرْهُم؛ لأنَّهم عَلِقُوا مِن الإِسْلامِ بشيءٍ، بحيثُ يُشَكُّ في خُرُوجِهم منه ورُوِيَ أنَّ عليًّا لَمَّا قاتَلَ أهْلَ النَّهْرِ، قال لأصحابِه: لا تَبْدَأُوهُمْ بالقِتالِ. وبَعَث إليهم: أقيدُونَا بِعبدِ اللهِ بنِ خَبَّابٍ. قالوا: كلُّنا قَتَلَه (¬2). فحينَئذٍ اسْتَحَلَّ قِتَالهم؛ لإِقْرارِهم على أنْفُسِهم بما يُوجِبُ قَتْلَهم. وذَكَر ابنُ عبدِ البَرِّ (¬3)، عن علي، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سُئِلَ عن أهْلِ النَّهْرِ، أكفَّارٌ هم؟ قال: مِن الْكُفْرِ فَرُّوا. قِيل: فمُنافِقُونَ؟ قال: إنَّ المُنافِقينَ لا يَذْكُرونَ اللهَ إلَّا قَلِيلًا. قيل (¬4): فما هم؟ قال: هم قَوْمٌ أصَابَتْهُم فِتْنَةٌ، فعَمُوا فيها وصمُّوا، وبَغَوْا علينا، وقاتَلُونا فقَتَلْناهُم (¬5). ولما جَرَحَه ابنُ مُلْجَمٍ، ¬

= والملحدين، وباب من ترك قتال الخوارج، من كتاب استتابة المرتدين. صحيح البخاري 8/ 47، 9/ 21، 22. باب في قتال الخرارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 544، 545. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 81، 92، 113، 131. (¬1) انظر: التمهيد 23/ 326. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما ذكر في الخوارج، من كتاب الجمل. المصنف 15/ 309، 323، 324. والدارقطني، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطني 3/ 131، 132. والبيهقي، في: باب الخوارج يعتزلون. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 185. (¬3) في: التمهيد 23/ 335. (¬4) في م: «قال». (¬5) في م: «فقاتلناهم». وأخرجه عبد الرزاق، في: باب ما جاء في الحرورية، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 150. وابن أبي شيبة، في: باب ما ذكر في الخوارج، من كتاب الجمل. المصنف 15/ 256، 257، 332. والبيهقي في: باب الدليل على أنَّ الفئة الباغية. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 174.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال للحسنِ: أحْسِنُوا إسَارَه، وإن عِشْتُ فأنا وَلِيُّ دَمِي، وإن مِتُّ فضَرْبَةٌ كضَرْبَتِي. وهذا رَأْيُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فيهم، وكثير مِن العُلَماءِ. وقال شيخُنا (¬1)، رَحِمَه اللهُ: والصَّحيحُ، إن شاءَ اللهُ تعالى، أنَّ الخَوارِجَ يجوزُ قَتْلُهم [ابْتِداءً، والإِجازَةُ على جَرِيحِهم، لأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِهِم، ووَعْدِه بالثَّوابِ مَن قَتَلَهم] (¬2)؛ فإن عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: لولا أنَّ تَبْطَرُوا (¬3) لحَدَّثْتُكُمْ بما وَعَدَ اللهُ الذين يَقْتُلونهم على لسانِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ولأنَّ بدْعَتَهم، وسُوءَ فِعْلِهم، يَقْتَضِي حِلَّ دِمَائِهم؛ بدَليلِ ما أخْبَرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ عِظَمِ ذَنْبِهم، وأنَّهم شَرُّ الخَلْقِ والخَلِيقَةِ، وأنَّهم يَمْرُقونَ من الدِّينَ، وأنَّهم كِلابُ النَّارِ، وحَثِّه على قِتالِهم، وإخْبارِه بأنَّه لو أدْرَكَهم لقَتَلَهم قَتْلَ عادٍ، فلا يجوزُ إلْحاقُهم بمَن أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالكَفِّ عنهم، وتَوَرَّعَ كثيرٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن قِتالِهم، ولا بِدْعَةَ فيهم. الصِّنفُ الرابعُ: قَوْمٌ من أهلِ الحَقِّ يَخْرُجونَ عن قَبْضَةِ الإِمامِ، ويَرومُونَ خَلْعَه لَتَأْويل سائِغ، وفيهم مَنَعَةٌ يَحْتاجُ في كَفِّهم إلى جَمْعِ الجيشِ، فهؤلاءِ البُغَاةُ الذين نَذْكرُ في هذا البابِ حُكْمَهم. وجملةُ الأمْرِ، أنَّ مَن اتَّفَقَ المسلمونَ على إمامَتِه وبَيعَتِه، ثَبَتَتْ إمامَتُه، ووَجَبَتْ مَعُونَتُه؛ ¬

(¬1) في: المغني 12/ 242. (¬2) سقط من: م. (¬3) في النسخ: «تنظروا» تصحيف. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب التحريض على قتل الخوارج، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 747. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 543. وابن ماجه، في: باب ذكر الخوارج، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 59.

4552 - مسألة: (وعلى الإمام أن يراسلهم، ويسألهم ما ينقمون منه، ويزيل ما يذكرونه من مظلمة، ويكشف ما يدعونه من شبهة،

وَعَلَى الإمَامِ أَنْ يُرَاسِلَهُمْ، وَيَسْأَلَهُمْ مَا يَنْقِمُونَ مِنْهُ، وَيُزِيلَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَظْلِمَةٍ، وَيَكْشِفَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ شُبْهَةٍ، فَإِنْ فَاءُوا ـــــــــــــــــــــــــــــ لِما ذَكَرْنا مِن النَّصِّ في أوَّلِ الباب مع الإِجْماعِ على ذلك. وفي مَعْناه، مَن ثَبَتَتْ إمامَتُه بعَهْدٍ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو بعَهْدِ إمام قبلَه إليه، فإنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، ثَبَتَتْ إمامَتُه بإجْماعِ الصحابةِ على بَيعَتِه، وعِمرَ ثَبَتَت إمامَتُه بعَهْدِ أبي بكرٍ إليه، وإجْماعِ الصحابةِ على قَبولِه. ولو خرَج رجلٌ على إمام، فقَهَرَه، وغَلَب الناسَ بسَيفِه حتى أقَرُّوا له، وأذْعَنُوا بطاعَتِه، وبَايَعُوه صارَ إمامًا يَحْرُمُ قِتالُه، والخرُوجُ عليه؛ فإنَّ عبدَ الملكِ بنَ مَرْوانَ، خرَج على ابنِ الزُّبَيرِ، وقَتَلَه، واسْتَوْلَى على البلادِ وأهْلِها، حتى بايَعُوه طَوْعًا وكَرْهًا، وصارَ إمامًا يَحْرُمُ الخُرُوجُ عليه؛ وذلك لِما في الخُروجِ عليه من شَقِّ عَصَا المسلمين، وإراقَةِ دِمائِهم، وذَهابِ أمْوالِهم، ويَدْخل الخارجُ عليه في عُمُومِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، وهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بالسَّيفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» (¬1). فَمَن خَرَج على مَن ثَبَتَتْ إمامَتُه بأحدِ هذه الوُجُوهِ باغِيًا، وَجَبَ قِتالُه. 4552 - مسألة: (وعلى الإِمامِ أنَّ يُرَاسِلَهم، ويَسْأَلهُمْ ما يَنْقِمُون منه، ويُزِيلَ ما يَذْكُرُونَه من مَظْلِمَةٍ، ويَكْشِفَ ما يَدَّعُونَه مِنْ شُبْهَةٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 56.

وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن فَاءُوا وإلَّا قاتَلَهم) وجملةُ ذلك، أنَّ الإِمامَ لا يجوزُ له قِتالُهم حتى يَبْعَثَ إليهم مَن يَسْألهم، ويَكْشِفُ لهم الصَّوابَ، إلَّا أنَّ يَخافَ كَلَبَهم (¬1)، فلا يُمْكِنُ ذلك في حَقهم. فأمَّا إن أمْكَنَ تَعْرِيفُهم، عَرَّفَهم ذلك، وأزال ما يَذْكُرُونَه من المَظالِمِ، وأزال حُجَجَهم، فإنْ لَجُّوا، قَاتَلَهم حينَئذٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى بَدَأَ بالأَمرِ بالإِصلاحِ قبلَ القِتالِ، فقال سبحانَه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬2). ورُوِيَ أنَّ عليًّا، ¬

(¬1) الكلب، بالتحريك: الشدة. (¬2) سورة الحجرات 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَضِيَ اللهُ عنه، راسَلَ أهْلَ البَصْرَةِ قبلَ وَقْعَةِ الجملِ، ثم أمَرَ أصحابَه أنَّ لا يَبْدأُوهم بالقتالِ، ثم قال: إنَّ هذا يَوْمٌ مَن فَلَجَ (¬1) فيه فَلَجَ يَوْمَ القِيامةِ. ثم سَمِعَهم يقولون: اللهُ أكبرُ، يا ثَارَاتِ عُثمانَ. فقال: اللَّهُمَّ أكِبَّ قَتَلَةَ عُثمانَ لوُجُوهِهم (¬2). وروَى عبدُ اللهِ بنُ شَدَّادِ بنِ الهادِ (¬3)، أنَّ عليًّا لمَّا اعْتَزَلَتْه الحَرُورِيَّةُ (¬4)، بَعَث إليهم عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ، فواضَعُوه كتابَ اللهِ ثلاثةَ أيَّامٍ، فرَجَعَ منهم أرْبَعَةُ آلافٍ (¬5). ¬

(¬1) في الأصل: «فلح». وفلج بمعنى ظفر وفاز. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 180، 181. وهو ضعيف. انظر الإرواء 8/ 110. (¬3) في النسخ: «الهادي». والمثبت من مصادر التخريج. وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 5/ 251. (¬4) الحرورية: هم الخوارج، ينسبون إلى حروراء، موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، ثم أصبح لقبًا لفرقة منهم. الأنساب 4/ 418، وحاشيته. (¬5) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 86، 87. والبيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 179، 180. وهو صحيح. انظر الإرواء 8/ 111.

4553 - مسألة: (وعلى رعيته معونته على حربهم)

وَعَلَى رَعِيَّتِهِ مَعُونَتُهُ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِنِ اسْتَنْظَرُوهُ مُدَّةً، رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ فِيهَا، أَنْظَرَهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أبوُا الرُجُوعَ، وعَظَهُم، وخَوَّفَهم القِتال، وإنَّما كان ذلك؛ لأنَّ المَقْصُودَ كَفُّهم، ودَفْعُ شَرِّهم، لا قَتْلُهم، فإذا أمْكَنَ بمُجَرِّدِ القَوْلِ، كان أَولَى من القِتالِ؛ لِما فيه من الضَّرَرِ بالفَريقَين. فإن فاءُوا، وإلَّا قاتَلَهُم، لقوْلِه سُبحانَه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}. 4553 - مسألة: (وعلى رَعِيَّتِه مَعُونَتُه على حَربِهِم) للآيةِ. 4554 - مسألة: (فَإنِ اسْتَنْظرُوه مُدَّةً، رَجَاءَ رُجُوعِهم فيها،

4555 - مسألة: (وإن ظن أنها مكيدة، لم ينظرهم، وقاتلهم)

وَإنْ ظَنَّ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ وَقَاتَلَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْظَرَهم) ويَكْشِفُ عن حالِهم، ويَبْحَثُ عن أمْرِهِم، فإن بانَ له أنَّ قَصْدَهم الرُّجوعُ إلى الطَّاعةِ، ومَعْرِفَةُ الحَقِّ، أمْهَلَهُم. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه من أهلِ العلمِ. 4555 - مسألة: (وإن ظَنَّ أنَّهَا مَكِيدَة، لم يُنْظِرْهم، وقَاتَلَهم) إذا ظَهَر له أنَّ اسْتِنْظارَهم مَكِيدَةٌ؛ ليَجْتَمِعُوا على قِتالِه، وأنَّ لهم مَدَدًا يَنْتَظِرونَه، ليَتَقَوَّوْا به، أو خَدِيعةَ الإِمام؛ ليَأْخُذُوه على غِرَّةٍ، ويَفْتَرِقَ عَسْكَرُه، عاجَلَهم بالقِتالِ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ أَن يصيرَ هذا طَريقًا إلى قَهْرِ أهْلِ الحَقِّ والعَدْلِ، وهذا لا يجوزُ، وإن أعْطَوْه عليه مالًا؛ لأنَّه لا يجوزُ أنَّ يأخذَ المال على إقْرارِهم على ما لا يَحِلّ إقْرارُهم عليه. وإن بَذَلُوا له رَهائِنَ على إنْظارِهم، لم يَجُزْ أخْذُها لذلك، ولأنَّ الرَّهائِنَ لا يجوزُ قتْلُهم لغَدْرِ أهلِهم، فلا يُفِيدُ شيئًا. وإن كان في أيدِيهم أُسارَى من أهلِ العَدْلِ، وأعْطَوْا بذلك رَهائِنَ منهم، قَبِلَهم الإِمامُ، واسْتَظْهَرَ للمسلمينَ؛ فإن أطْلَقُوا [أسْرَى المسلمينَ] (¬2) الذين عندَهم، أُطْلِقَتْ رَهائِنُهم، وإن قَتَلُوا مَن عندَهم، لم يَجُزْ قَتْلُ رَهائِنِهم؛ لأنَّهم لا يُقْتَلونَ بقَتْلِ غيرِهم، وإذا انْقَضَتِ الحَرْبُ، خَلَّى الرَّهائِنَ، كما تُخَلَّى الأسَارَى منهم. وإن خافَ ¬

(¬1) في الإشراف: 3/ 262. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمام على الفِئَةِ العادِلَةِ الضَّعْفَ عنهم، أخَّرَ قِتالهم إلى أنَّ تُمْكِنَه القُوةُ عليهم؛ لأنَّه لا يُومَنُ الاصْطِلامُ والاسْتِئصالُ، فيُؤَخِّرُهم حتى تَقْوَى شَوْكَةُ أهلِ العَدْلِ، ثم يُقاتِلُهم. وإن سَأَلُوه أنَّ يُنْظِرَهم أبدًا، ويَدَعَهم وما هُمْ عليه، ويَكُفُّوا عن المسلمينَ، نَظَرْتَ، فإن لم تُعْلَمْ قُوَّتُه عليهم، وخافَ قَهْرَهم له إن قاتَلَهم، تَرَكَهم. وإن قَوىَ عليهم، لم يَجُزْ إقْرارُهم على ذلك؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يَتْرُكَ بعضُ المسلمينَ طاعةَ الإِمام، ولا يَأْمَنُ قُوَّةَ شَوْكَتِهِم، بحيثُ يُفْضِي إلى قَهْرِ الإِمام العادِلِ ومَن معَه. ثم إن أمْكَنَ دَفعُهُم بدونِ القَتْلِ، لم يَجُزْ قَتْلُهم؛ لأنَّ المَقْصودَ دَفْعُهم، ولأنَّ الدَّفعَ إذا حَصَل بغيرِ القَتْلِ، لم يَجُزِ القَتْلُ من غيرِ حاجةٍ. وإن حَضَر معهم مَن لا يُقاتِلُ، لم يَجُزْ قَتْلُه. وقال أصحابُ الشافعيِّ: فيه وَجْه آخَرُ، يجوزُ؛ لأنَّ عليًّا، رَضِيَ الله عنهْ، نَهَى أصحابَه عن قَتْلِ محمدِ بنِ طلحةَ السَّجَّادِ، وقال: إيَّاكم وصاحبَ البُرْنُسِ. فقتَلَه رجلٌ، وأنْشَأ يقولُ: وأشْعَثَ قَوَّامٍ بآياتِ رَبِّه [قليلِ الأذَى] (¬1) فيما تَرى العينُ مُسْلمِ هَتَكْتُ له بالرُّمْحِ جَيبَ قَمِيصِه فخَرَّ صَرِيعًا لليدَينِ وللْفَمِ على غيرِ ذنبٍ غيرَ أنْ ليس تابِعًا ¬

(¬1) في النسخ: «كثير التقى». والمثبت من مصادر التخريج، والمغني 12/ 245. وانظر سير أعلام النبلاء 4/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليًّا ومَنْ لا يَتْبَعِ الحقَّ يَظْلِم يُناشِدُني حم والرُّمْحُ شَاجِرٌ فهلَّا تَلَا حمَ قبلَ التَّقَدُّم (¬1) وكان السَّجَّادُ حامِلَ رايةِ أبيه (¬2)، ولم يَكُنْ يُقَاتِلُ، فلم يُنْكِرْ عليٌّ قَتْلَه، ولأنَّه صارَ رِدْءًا لهم. ولَنا، قولُه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (¬3). والأخْبارُ الواردةُ في تَحْريمِ قتْلِ المسلمِ، والإِجماعُ على تَحْريمِه، وإنَّما خُصَّ من ذلك ما حَصَل ضَرُورَةَ دَفعِ الباغِي والصائِلِ، ففيما عَداه يَبْقَى على العُمومِ والإِجْماعِ فيه؛ ولهذا حَرُمَ قَتلُ مُدْبرِهم وأسيرِهم، والإِجْهازُ على جَرِيحِهم، مع أنَّهم إنَّما تَرَكوا القِتال عَجْزًا عنه، ومتى ما قَدَروا (¬4) عليه، عادُوا إليه، فمَن لا يُقاتِلُ تَوَرُّعًا عنه مع قُدْرَتِه عليه، ولا يُخافُ منه القِتالُ بعدَ ذلك أَولَى، ولأنَّه مُسْلمٌ، لم يَحْتَجْ إلى دَفْعِه، ولا صَدَرَ منه أحَدُ الثلاثَةِ، فلم يَحِلَّ دَمُه؛ لقَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ» (¬5). فأمَّا حديثُ عليٍّ، في نَهْيِه عن قتلِ السَّجَّادِ، فهو حُجَّة عليهم، فإنَّ نَهْيَ ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، في: باب ذكر مناقب محمد بن طلحة بن عبيد الله السجاد. . . .، من كتاب معرفة الصحابة. المستدرك 3/ 375. وانظر تاريخ الطبري 3/ 214، 215، وتاريخ المسعودي 4/ 526. (¬2) في الأصل: «أميه». (¬3) سورة النساء 93. (¬4) في م: «قدر». (¬5) تقدم تخريجه في: 3/ 31.

4556 - مسألة: (ولا يقاتلهم بما يعم إتلافه، كالمنجنيق، والنار، إلا لضرورة)

وَلَا يُقَاتِلُهُمْ بِمَا يَعُمُّ إِتْلَافُهُ كَالْمَنْجَنِيقِ، وَالنَّارِ، إلا لِضَرُورَةٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ عليٍّ أَولَى مِن فِعْلِ مَن خالفَه، ولم يَمْتَثِلْ قولَ الله تعالى، ولا قولَ رسولِه، ولا قولَ إمامِه. وقولُهم: فلم يُنْكِرْ قَتْلَه. قُلْنا: لم يُنْقَل إلينا أنَّ عَلِيًّا عَلِمَ حَقِيقةَ الحالِ في قَتْلِه، ولا حَضَر قَتْلَه فيُنكِرَه، وقد جاءَ أنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، حينَ طافَ في القَتْلَى رآهُ، فقال: السَّجَّادُ، ورَبِّ الكَعْبَةِ، هذا الذي قَتَلَه (¬1) بِرُّه بأبِيه. وهذا يَدُلُّ على أنَّه لم يَشْعُرْ بقَتْلِه. ورأى كَعْبَ بنَ سُورٍ، فقال: يَزْعُمون أنَّما خَرَج إلينا الرِّعاعُ، وهذا الحَبْرُ بينَ أظْهُرِهم! ويجوزُ أنَّ يكونَ تَرْكُه الإِنْكارَ عليهم اجْتِزاءً بالنَّهْي المُتَقَدِّمِ، ولأنَّ القَصْدَ من قتالِهم كَفُّهم، وهذا كافٍ لنَفْسِه، فلم يَجُر قَتلُه كالمُنْهَزمِ. فصل: وإذا قاتَلَ معهم عَبِيدٌ ونِساءٌ وصِبْيانٌ، منهم كالرجلِ الحُرِّ البالغِ، يُقاتَلون مُقْبِلين، ويُتْرَكونَ مُدْبرينَ؛ لأنَّ قِتالهمِ للدَّفْعِ، ولو أرادَ أحدُ هؤلاءِ قتْلَ إنْسانٍ، جازَ دَفْعُه وقِتالُه، وإن أتَى على نفسِه؛ ولذلك قُلْنا في أهلِ الحَرْبِ إذا كان معهم النِّساءُ والصِّبْيانُ: قُوتِلُوا وقُتِلُوا. 4556 - مسألة: (ولا يُقَاتِلُهم بما يَعُمُّ إتْلافُه، كالمنْجَنِيقِ، والنَّارِ، إلَّا لضَرُورَةٍ) لأنَّه لا يجوزُ قَتْلُ مَن لا يُقاتِلُ، وما (¬2) يَعُمُّ إتْلافُه يَقَعُ على مَن لا يُقاتِلُ. فإن دَعَتْ إلى ذلك ضَرُورةٌ، مثلَ أنَّ يَحْتاطَ بهم البُغاةُ، ولا يُمْكِنُهم التَّخَلُّصُ إلَّا برَمْيِهم بما يَعُمُّ إتْلافُه، جازَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «لا».

4557 - مسألة: (ولا يستعين في حربهم بكافر)

وَلَا يَسْتَعِينُ في حَرْبِهِمْ بِكَافِرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو حنيفةَ: إذا تَحَصَّن الخوارجُ، فاحْتاجَ الإِمامُ إلى رَمْيِهم بالمَنْجَنيقِ، فَعَل ذلك ما كان لهم عَسْكَرٌ، وما لم يَنْهَزِمُوا، وإن رَماهم البُغاةُ بالمَنْجَنِيقِ والنَّارِ، جازَ رَمْيُهم بمثلِه. فصل: قال أبو بكرٍ: إذا اقْتَتَلَتْ طائفتان من أهلِ البَغْي، فَقَدَر الإِمامُ على قهرِهِما، لم يُعِنْ واحدةً منهما؛ لأنَّهما جميعًا على الخَطأَ، وإن عَجَز عن ذلك، وخافَ اجْتماعَهما على حَرْبِه، ضَمَّ إليه أقْرَبَهما إلى الحَقِّ، فإنِ اسْتَوَيا، اجْتَهَدَ برَأْيِه في ضَمِّ إحْدَاهُما، ولا يَقصِدُ بذلك مَعُونَةَ إحْداهُما، بل الاسْتعانةَ على الأخْرَى (¬1)، فإذا هَزَمَها، لم يُقاتِلْ مَن معه حتى يَدْعُوَهم إلى الطاعةِ؛ لأنَّهم قد حَصَلُوا في أمانِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. 4557 - مسألة: (ولا يَسْتَعِينُ في حَرْبِهم بكافِرٍ) ولا بمَن يَرَى قَتْلَهم مُدْبِرِينَ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا بَأْسَ أنَّ يَسْتَعِينَ عليهم بأهلِ الذِّمَّةِ والمُسْتَأْمِنِينَ وصِنْفٍ آخَرَ منهم، إذا كان أهْلُ العَدْلِ هم الظَّاهرين على مَن يَسْتَعينُونَ به. ولَنا، أنَّ القَصْدَ كَفُّهم، ورَدُّهم إلى الطَّاعةِ، لا قَتْلُهم، وهؤلاء يَقْصِدُونَ قَتْلَهم، فإن دَعَتِ الحاجةُ إلى الاسْتِعانةِ بهم، فإن كان يَقْدِرُ على كَفِّهم عن فِعْلِ ما لا يجوزُ، اسْتعانَ بهم، وإن لم يَقْدِرْ، لم يَجُزْ. ¬

(¬1) في م: «الآخر».

4558 - مسألة: (وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم، وكراعهم

وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَيهِمْ بِسِلَاحِهمْ وَكُرَاعِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4558 - مسألة: (وهل يَجُوزُ أنَّ يَسْتَعِينَ عليهم بسِلاحِهم، وكُرَاعِهم (¬1)؟ على وَجْهَين) أحدُهما، لا يجوزُ؛ لأنَّه لا يَحِلُّ أخْذُ مالِهم، لكَوْنِه مَعْصُومًا بالإِسْلامِ، وإنَّما أُبِيحَ قِتالُهُم لرَدِّهم إلى الطَّاعةِ، ويَبْقَى المالُ على العِصْمَةِ، كمالِ قاطعِ الطريقِ، إلَّا أنَّ تَدْعُوَ ضَرُورةٌ، فيجوزُ، كما يجوزُ أكْلُ مالِ الغيرِ في المَخْمَصَةِ. والوَجْهُ الثاني، يجوزُ قِياسًا على أسْلِحَةِ الكُفَّارِ. 4559 - مسألة: وذَكَر القَاضِي، أنَّ أحمد أوْمَأَ إلى جَوازِ الانْتِفاعِ به حال الْتِحامِ (¬2) الحَرْبِ. وهذا أحدُ الوَجْهين اللَّذَين ذَكَرْناهُما، ولا يجوزُ في غيرِ قِتالِهم. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ هذه الحال يجوزُ (¬3) فيها ¬

(¬1) الكراع: اسم يجمع الخيل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لا يجوز».

4560 - مسألة: (ولا يتبع لهم مدبر، ولا يجاز على جريح)

وَلَا يُتْبَعُ لَهُمْ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجَازُ عَلَى جَرِيحٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إتْلافُ نُفُوسِهِم وحَبْسُ سِلاحِهِم وكُراعِهم؛ فجازَ الانْتِفاعُ به، كسلاحِ أهْلِ الحَرْبِ. وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ ذلك إلَّا من ضَرُورةٍ إليه؛ لأنّه مالُ مسلم، فلم يَجُزْ الانْتِفاعُ به بغيرِ إذْنِه، كغيرِه من أمْوالِهم. ومتى انْقَضَتِ الحربُ، وَجَبَ رَدُّه إليهم، كما تُرَدُّ سَائرُ أمْوالِهمِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِم إلَّا عَنْ طِيبِ نفْس مِنْهُ» (¬1). واللهُ أعلمُ. 4560 - مسألة: (ولا يُتْبَعُ لهم مُدْبِرٌ، ولا يُجازُ على جَرِيحٍ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ أهْلَ البَغْي إذا تَرَكُوا القِتال؛ إمَّا بالرُّجوعِ إلى الطَّاعةِ، وإمَّا بإلْقاءِ السِّلاحِ، أو بالهَزِيمَةِ إلى فِئةٍ أو إلى غيرِ فِئَةٍ، وإمَّا بالعَجْزِ، لجِرَاح أو مَرَض أو أسْرٍ، فإنَّه يَحْرُمُ قِتالُهم، واتِّباعُ مُدْبِرِهم. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، إذا هُزِمُوا ولا فِئَةَ لهم، كقَوْلِنا، وإن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت لهم فِئَةٌ يَلْجئون إليها، جازَ قتلُ مُدْبِرِهم وأسِيرِهم (¬1)، والإِجازةُ على جَريحِهم، فأمَّا إذا لم تَكُنْ لهم فِئَةٌ، لا يُقْتلُونَ، ولكنْ يُضْربونَ ضَرْبًا وَجِيعًا، ويُحْبَسُونَ حتى يُقْلِعُوا عمَّا هم عليه، ويُحْدِثُوا تَوْبَة. ذَكَر (¬2) هذا في الخوارِجِ. ويُرْوَى عن ابنِ عباس نحوُ هذا. واخْتارَه بعضُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه متى لم يَقْتُلْهم، اجْتَمَعوا وعادُوا إلى المُحارَبَةِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال يومَ الجَمَلِ: لا يُذَفَّفُ (¬3) على جَرِيحٍ، ولا يُهْتَكُ سِتْرٌ، ولا يُفْتَحُ بابٌ، ومَن أغْلَقَ [بابًا أو] (¬4) بابَه فهو آمِنٌ، ولا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ. (¬5) ورُوِيَ نحوُ ذلك عن عَمَّارٍ (¬6). وعن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه وَدَى قَوْمًا من بيتِ مالِ المسلمين، قُتِلُوا مُدْبِرينَ. وعن أبي أُمامَةَ، قال: شَهِدتُ صِفِّينَ، فكانوا ¬

(¬1) في م: «وأسرهم». (¬2) في الأصل: «ذكروا». (¬3) لا يذفف: لا يجهز. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير، من كتاب الجمل. المصنف 15/ 263، 267، 280، 281. والبيهقي، في: باب أهل البغي إذا فاءوا. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 181. وهو ضعيف. انظر الإرواء 8/ 113. (¬6) أخرجه الحاكم، في: باب حكم البغاة من هذه الأمة، من كتاب قتال أهل البغي. المستدرك 2/ 155. وهو ضعيف. انظر الإرواء 8/ 113، 114.

4561 - مسألة: (ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية)

وَلَا يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ، وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُجِيزُونَ على جَرِيح، ولا يَقْتُلُونَ مُوَلِّيًا، ولا يَسْلُبونَ قتيلًا (¬1). ورَوَى القاضي، في «شَرْحِه»، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي؟» فقلتُ: الله ورسولُه أعْلَمُ. فقال: «لَا يُتْبَعُ مُدْبرُهُمْ، ولَا يُجَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أسِيرُهُمْ، وَلَا يُقْسَمُ فيئُهُمْ» (¬2). ولأنَّ المقصودَ دَفْعُهم وكَفُّهم، وقد حَصَل، فلم يَجُزْ قَتْلهم، كالصائلِ، ولا يُقْتَلُون لِما يُخاف في ثاني الحالِ، كما لو لم تَكُنْ لهم فِئَةٌ. فعلى هذا، إذا قَتَل إنْسانًا مُنِعَ من قَتْلِه، ضَمِنَه؛ لأنَّه قَتَل مَعْصُومًا، لم يُؤْمَرْ بقتلِه. ويجبُ عليه القِصاصُ في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه قَتَل مُكافِئًا مَعْصُومًا. والثاني، لا يجبُ؛ لأنَّ في قَتْلِهِم اخْتِلافًا بينَ الأئِمَّةِ، فكانَ ذلك شُبْهَةً دارِئَةً للقِصاصِ؛ لأنَّه ممَّا يَنْدَرِي بالشُّبُهاتِ. وأمَّا أسِيرُهم، فإن دَخَل في الطَّاعةِ، خُلِّيَ سَبِيلُه. 4561 - مسألة: (ولا يُغْنَمُ لهم مالٌ، ولا تُسْبَى لهم ذُريَّة) ولا نعلمُ في تَحْريمِه بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا؛ لِما ذَكَرْنا من حديثِ أبي أُمَامَةَ، وابنِ مسعودٍ، ولأنَّهم مَعْصُومون، وإنَّما أُبِيحَ مِن دِمائِهم وأمْوالِهم ما حَصَل من ضَرُورةِ دَفْعِهم وقِتالِهم، وما عَداه يَبْقَى (¬3) على أصْلِ ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، في: باب حكم البغاة من هذه الأمة، من كتاب قتال أهل البغي. المستدرك 2/ 155. والبيهقي، في: باب أهل البغي إذا فاءُوا. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبري 8/ 182. (¬2) أخرجه الحاكم، والبيهقي في الموضعين السابقين، وهو حديث ضعيف. انظر الإرواء 8/ 114. (¬3) في الأصل: «باقي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّحْريمِ. وقد رُوِيَ أنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، يومَ الجَملِ، قال: مَن عَرَفَ شيئًا مِن مالِه مع أحدٍ، فَلْيَأْخُذْه. وكان بعضُ أصحابِ عليٍّ قد أخَذَ قِدْرًا وهو يَطْبُخُ فيها، فجاءَ صاحِبُها ليأخُذَها، فسَأله الذي يَطْبُخُ فيها إمْهَاله حتى يَنْضَجَ الطَّبيخُ، فأبَى، وكَبَّه، وأخَذَها (¬1). وهذا من جُمْلَةِ ما نَقَم الخوارجُ من عليٍّ، فإنَّهم قالوا: إنَّه قاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغْنَمْ. فإن حَلَّتْ له دِماؤُهم، فقد حَلَّتْ له أمْوالُهم، وإن حَرُمَتْ عليه أموالُهم، فقد حَرُمَتْ عليه دِماؤُهم. فقال لهم ابنُ عباس: أفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أم تَسْتَحِلُّون منها ما تَسْتَحِلُّونَ من غيرِها؟ فإنْ قُلْتُمْ: ليست أُمَّكم. كَفَرْتُم، وإن قُلْتُمْ: إنَّها أُمُّكُم. واسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَها، فقد كَفَرْتُمْ (¬2). يَعْني بقَوْلِه: إنَّكُم إن جَحَدْتُم أنَّها أُمُّكُم، فقد قال اللهُ تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬3). فإن لم تَكُنْ أمًّا لكم، لم تَكُونوا مِن المُؤْمنِين. ولأنَّ قِتال البُغاةِ إنَّما هو كَدَفْعِهِم ورَدِّهم إلى الحَق، لا لكُفْرِهم، فلا يُسْتَباحُ منهم إلَّا ما حَصَل ضَرُورةَ الدَّفْعِ، كالصَّائلِ، وقاطِعِ الطَّرِيقِ، ويَبْقَى حُكْمُ المالِ والذُّرِّيَّةِ على أصْلِ العِصْمَةِ، وما أُخِذَ من سلاحِهِم، وكُراعِهِم، لم يُرَدَّ إليهم حال ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب في مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير، و: باب ما ذكر في الخوارج، من كتاب الجمل. المصنف 15/ 287، 332. والبيهقي بمعناه. السنن الكبرى 8/ 182، 183.انظر الإرواء 8/ 115. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 179. (¬3) سورة الأحزاب 6.

4562 - مسألة: (ومن أسر من رجالهم، حبس حتى تنقضي الحرب، ثم يرسل)

وَمَنْ أُسِرَ مِنْ رِجَالِهِمْ، حُبِسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ، ثُمَّ يُرْسَلُ. وَإنْ أُسِرَ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَة، فَهَلْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، أَوْ يُخَلَّى في الْحَالِ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَرْبِ، لئلَّا يُقاتِلُونا به. 4562 - مسألة: (ومَن أُسِرَ من رجالِهمْ، حُبِسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الحَرْبُ، ثم يُرْسَلُ) وجملةُ ذلك، أنَّ حُكْمَ مَن أْسِرَ منهم، أنَّه يُخَلَّى سَبِيلُه إن دَخَل في الطَّاعةِ، وإن أبى ذلك، وكان رجُلًا جَلَدًا من أهلِ القِتالِ، حُبِسَ ما دامَتِ الحربُ قائمة، فإذا انْقَضَتِ الحربُ خُلِّي سَبِيلُه، وشُرِطَ عليه أنَّ لا يعودَ إلى القِتالِ. 4563 - مسألة: (وإن أُسِرَ صَبِيٌّ أو امرأةٌ، فهل يُفْعَلُ به ذلك،

يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يُخَلَّى في الحالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين) [أمَّا إذا كان الأسيرُ ليس مِن أهلِ القِتالِ، كالنِّساءِ والصِّبْيانِ والشيوخِ الفانِينَ، خُلِّيَ سبيلُهم. ولم يُحْبَسُوا في أحدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ] (¬1)، يُحْبَسُون؛ لأنَّ فيه كسرَ قُلُوبِ البُغاةِ، والأوَّلُ أصَحُّ. فصل: فإن أسَرَ كلُّ واحدٍ مِن الفَرِيقَين أُسَارَى مِن الفَرِيقِ الآخَرِ، جازَ فِداءُ أُسَارَى أهلِ العَدْلِ بأُسارَى البُغاةِ. فإن قَتَل أهْلُ البَغْي أُسارَى أهلِ العَدْلِ، لم يَجُزْ لأهلِ العَدْلِ قَتْلُ أُسَاراهم؛ لأنَّهم لا يُقْتَلونَ بجِنايةِ غيرِهم، ولا يَزِرُونَ وزْرَ غيرِهم. فإن أبَى أهلُ البَغْي مُفاداةَ الأَسْرَى الذين معهم، وحَبَسُوهم، احْتَمَلَ أنَّ يجُوزَ (¬2) لأهْلِ العَدْلِ حَبْسُ مَن معهم، ليَتَوَصَّلُوا إلى تَخْليصِ أُسَارَاهم بحَبْسِ الأسارَى الذين معهم، واحْتَمَلَ أنَّ لا يجوزَ حَبْسُهم ويُطْلَقُون؛ لأنَّ الذَّنبَ في حَبْسِ أُسارَى أهْلِ العَدْلِ لغيرِهم. ¬

(¬1) في م: «أحدهما يخلى سبيلهم في الحال والثاني». (¬2) في م: «لا يجوز».

4564 - مسألة: (وإذا انقضى الحرب، فمن وجد منهم ماله في يد إنسان أخذه)

وَإذَا انْقَضَى الْحَرْبُ، فَمَن وَجَدَ مِنْهُمْ مَالهُ في يَدِ إِنْسَانٍ أَخَذَهُ، وَلَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا أتْلَفُوهُ عَلَيهِمْ حَال الْحَرْبِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ. وَهَلْ يَضْمَنُ الْبُغَاةُ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ في الْحَرْبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4564 - مسألة: (وإذا انْقَضَى الحَرْبُ، فمَن وَجَدَ مِنهم مالهُ في يَدِ إنسانٍ أخَذَه) لِما ذَكَرْنا مِن قولِ عليٍّ: مَن عَرَف شيئًا أخَذَه. ولأنَّه مالٌ معصومٌ بالإِسْلامِ، فأشْبَهَ مال غيرِ البُغاةِ. 4565 - مسألة: (ولا يَضْمَنُ أهْلُ العَدْلِ ما أتْلَفُوه عليهم حال الحَرْبِ، مِن نَفْس أو مالٍ. وهل يَضْمَنُ البُغَاةُ ما أتْلَفُوهُ على أهلِ العَدْلِ في الحربِ؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا لم يُمْكِنْ دَفْعُ أهلِ البَغْي إلَّا بقَتْلِهم، جازَ، ولا شيءَ على مَن قَتَلَهم؛ مِن إثْمٍ، ولا ضَمانٍ، ولا كَفَّارَةٍ؛ لأنَّه فَعَل ما أُمِرَ به، وقَتَل مَن أحَلَّ اللهُ قَتْلَه، وكذلك ما أتْلَفَه أهلُ العَدْلِ على أهْلِ البَغْي حال الحربِ مِن المالِ، لا ضَمانَ فيه؛ لأنَّهم إذا لم يَضْمَنُوا الأنْفُسَ، فالأمْوالُ أوْلَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قُتِل العادِلُ، كان شَهِيدًا؛ لأنَّه قُتِلَ في قِتالٍ أمَرَ اللهُ تعالى به بقَوْلِه سبحانَه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (¬1). وهل يُغَسَّلُ ويُصَلَّى عليه؟ فيه رِوايَتان؛ إحداهُما، لا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّه شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ أُمِرَ بالقِتالِ فيها، فأشْبَهَ شَهِيدَ معركةِ الكُفَّارِ. والأخْرَى، يُغَسَّلُ ويُصَلَّى عليه. وهو قولُ الأوْزاعِيِّ، وابنَ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بالصلاةِ على مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ (¬2). واسْتَثْنَى قتِيل (¬3) الكُفَّارِ في المَعْرَكةِ (¬4)، ففيما عَداهُ يَبْقَى على الأصْلِ، ولأنَّ شَهِيدَ مَعْركةِ الكُفَّارِ أجْرُه أعظمُ، وفَضْلُه أكثرُ، وقد جاءَ أنَّه يُشَفَّعُ في سبعينَ مِن أهل بيتِه (¬5)، وهذا لا يَلْحَقُ به في فضْلِه، فلا يَثْبُتُ فيه مثلُ حُكْمِه؛ لأن الشيءَ إنَّما يُقاسُ على مثلِه. ¬

(¬1) سورة الحجرات 9. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 39. (¬3) في م: «قتال». (¬4) تقدم تخريجه في 6/ 90. (¬5) أخرجه بلفظه أبو داود، في: باب في الشهد يشفع، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 15. وبمعناه الترمذي، في: باب في ثواب الشهيد، من أبواب فضائل الجهاد. عارضة الأحوذي 7/ 161. وابن ماجه، في: باب فضل الشهادة في سبيل الله، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 2/ 935. وهو حديث صحيح. انظر صحيح الجامع 5/ 40، 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وليس على أهلِ البَغْي أيضًا ضَمانُ ما أتْلَفُوه حال الحربِ؛ مِن نفس ولا مالٍ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، في أحدِ قَوْلَيه. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، رِوايَة ثانيةٌ، أنَّهم يَضْمَنونَ، وهو القولُ الثاني للشافعيِّ؛ لقولِ أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، لأهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانا، ولا نَدِي قَتْلاكُم (¬1). ولأنَّها نفوسٌ وأمْوالٌ مَعْصُومةٌ، أُتْلِفَتْ بغيرِ حَقٍّ ولا ضَرورةِ دَفْعِ مُباحٍ، فوَجَبَ ضَمانُه، كالذي تَلِف في غيرِ حالِ الحربِ. ولَنا، ما روَى الزُّهْرِيُّ، أنَّه قال: كانتِ الفِتْنَةُ العُظْمَى بينَ النَّاسِ، وفيهم البَدْرِيُّونَ، فأجْمَعُوا على أنَّ لا يُقامَ حَدٌّ على رجل ارْتَكَبَ فَرْجًا حَرامًا بتَأْويلِ القُرْآنِ، ولا يَغْرَمَ (¬2) مالًا أتْلَفَه بتَأْويلِ القُرْآنِ (¬3). ولأنَّها طائفةٌ مُمْتَنِعَةٌ بالحربِ، بتَأْويل سائغٍ، فلم تَضْمَنْ ما أتْلَفَتْ على الأخْرَى، كأهْلِ العَدْلِ، ولأنَّ تضْمِينَهم يُفْضِي إلى (¬4) تَنْفِيرِهم عن الرُّجوعِ إلى الطَّاعةِ، فلا يُشْرَعُ، كتَضْمِينِ أهلِ الحربِ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد. . . .، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 264. والبيهقي، في: باب من قال: يتبعون بالدم، من كتاب قتال أهل البغي، وفي: باب قتال أهل الردة وما أصيب في أيديهم من متاع المسلمين، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى 8/ 183، 184، 335. وانظر تلخيص الحبير 4/ 47. (¬2) في م: «يلزم». (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب من قال: لا تباعة في الجراح والدماء. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 174، 175. وانظر الإرواء 8/ 116. (¬4) سقط من: الأصل.

4566 - مسألة: (ومن أتلف في غير حال الحرب شيئا، ضمنه)

وَمَنْ أتْلَفَ في غَيرِ حَالِ الْحَرْبِ شَيئًا، ضَمِنَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمَّا قولُ أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، فقد رَجَع عنه، ولم يُمْضِه، فإنَّ عمرَ قال له: أمَّا أنَّ يَدُوا قَتْلانا فلا؛ فإنَّ قَتْلانا قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ، على ما أمَرَ اللهُ. فوَافَقَه أبو بكرٍ، ورَجَع إلى قولِه، فصارَ إجْمَاعًا حُجَّةً لنا (¬1)، ولم يُنْقَلْ أنَّه غَرَّمَ أحدًا شيئًا مِن ذلك. وقد قَتَل طُلَيحَةُ عُكَّاشَةَ بنَ مِحْصَن، وثابتَ بنَ أقْرَمَ (¬2)، ثم أسْلَمَ، فلم يُغَرَّمْ شيئًا (¬3). ثم لو وَجَب التَّغْرِيمُ في حَقِّ المُرْتَدِّين، لم يَلْزَمْ مثلُه ههُنا، فإنَّ أُولئك كُفَّارٌ، لا تأويلَ لهم، وهؤلاء طائفةٌ مِن المسلمين لهم تأويلٌ سائغٌ، فكيف يَصِحُّ إلْحاقُهم بهم (¬4)! 4566 - مسألة: (ومَن أتْلَفَ في غَيرِ حالِ الحَرْبِ شيئًا، ضَمِنَه) سَواءٌ كان قبلَ الحربِ أو بعدَه. وبهذا قال الشافعيُّ. ولذلك لمَّا قَتَل الخوارِجُ عبدَ اللهِ بنَ خَبَّابٍ، أرْسَل إليهم عليٌّ: أقِيدُونا مِن عبدِ اللهِ بنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أرقم». انظر الاستيعاب 1/ 265. (¬3) انظر: الكامل، لابن الأثير 2/ 347. (¬4) في م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَبَّاب (¬1). ولمَّا قَتَل ابنُ مُلْجَم عليًّا في غيرِ المعركةِ، أقِيد (¬2) به (¬3). وهل يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الباغِي إذا قَتَل أحدًا مِن أهلِ العدلِ في غيرِ المعركةِ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَتَحَتَّمُ؛ لأنَّه قَتَل بإشْهارِ السِّلاحِ والسَّعْي في الأرْضِ بالفَسادِ، فأشْبَهَ قُطَّاعَ الطريقِ. والثاني، لا يَتَحَتَّمُ. وهو الصَّحِيحُ؛ لقولِ علي، رَضِيَ اللهُ عنه: إن شِئتُ أعْفُو، وإن شِئتُ اسْتَقَدْتُ (3). فأمَّا الخوارجُ، فالصَّحِيحُ، على ما ذَكَرْنا، إباحةُ قَتْلِهم، فلا قِصاصَ على أحدٍ (¬4) منهم، ولا ضَمانَ عليه في مالِه. فصل: ومَن قُتِلَ مِن أهلِ البَغْي، غُسِّلَ، وصُلِّيَ عليه. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرَّأي: إن لم يَكُنْ لهم فِئَةٌ، صُلِّيَ عليهم، وإن كانتْ لهم فِئَةٌ، لم يُصَلَّ عليهم؛ لأنَّه يجوزُ قَتْلُهم في هذه الحالةِ، فلم يُصَلَّ عليهم، كالكُفَّارِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا علَى مَنْ قَال: لَا إِلهَ إلَّا اللهُ». رَواه الخَلَّالُ في «جَامِعِه» (¬5). ولأنَّهم مُسْلمون لم يَثْبُتْ لهم حُكْمُ الشَّهادةِ، فيُغَسَّلُونَ، ويُصَلَّى عليهم، كما لو لم تَكُنْ لهم فِئَةٌ. وما ذَكَرُوه يَنْتَقِضُ بالزَّانِي المُحْصَنِ، والمُقْتَصِّ منه، والقاتِلِ في المُحارَبَةِ. فصل: ولم يُفَرِّقْ أصحابُنا بينَ الخوارجِ وغيرِهم في هذا. وهو مذهبُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 63. (¬2) في م: «قتل». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 59. (¬4) في م: «واحد». (¬5) تقدم تخريجه في 3/ 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، رَحِمَهُ اللهُ، أنَّه لا يُصَلَّى على الخوارِجِ، فإنَّه قال (¬1): أهْلُ البِدَعِ إن مَرِضُوا فَلا تعُودُوهم، وإن ماتُوا فلا تُصَلُّوا عليهم. وقال أحمدُ، رَضِيَ اللهُ عنه: الجَهْمِيَّةُ والرَّافِضَةُ لا يُصَلَّى عليهم، قد تَرَك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ بأقَلَّ مِن هذا. وذَكَر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنَّ تُقاتَلَ خَيبَرُ مِن (¬2) ناحيةٍ مِن نَواحِيها، فقاتَلَ رجلٌ مِن تلك النَّاحيةِ، فقُتِلَ، فلم يُصَلِّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فقِيلَ له: فإن كان في قَرْيَةٍ أهلُها نَصارَى، ليس فيها مَن يُصَلِّي عليه. قال: أنا لا أشْهَدُه، يَشْهَدُه مَن شاءَ. وقال مالكٌ: لا يُصَلَّى على الإِباضِيَّةِ، ولا القَدَرِيَّةِ، وسائرِ أهلِ الأهْواء، ولا تُتْبَعُ جَنائِزُهم، ولا تُعادُ مَرْضَاهُم. والإِباضِيَّةُ صِنْفٌ من الخوارجِ، نُسِبُوا إلى عبدِ اللهِ بنِ إباض، صاحبِ مَقالتِهم (¬3). والأزارِقَةُ أصحابُ نافعِ بنِ الأزْرَقِ. والنَّجَدَاتُ أصحابُ نَجْدَةَ الحَرُورِيِّ. والبَيهسِيَّةُ أصحابُ [أبي بَيهَسٍ] (¬4). والصُّفْرِيَّةُ قيلَ: إنَّهم نُسِبُوا إلى صُفْرَةِ ألْوَانِهم، وأصْنافُهم كثيرةٌ. والحَرُورِيَّةُ نُسِبُوا إلى أرْضٍ يقالُ لها: حَرُورَاءُ. خَرَجُوا بها (¬5). قال أبو بكرٍ بنُ عَيَّاشٍ: لا أُصَلِّي على الرَّافِضِيِّ؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّ عمرَ كافِرٌ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «في». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «مقاتلهم». (¬4) في النسخ: «بيهس». والمثبت من المعارف لابن قتيبة 622، والملل والنحل للشهرستاني 1/ 219. (¬5) انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/ 195 - 256.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا على الحَرُورِيِّ؛ لأنَّه يَزْعُمُ أنَّ عليًّا كافِرٌ. وقال الفِرْيَابِيُّ: مَن سَبَّ أبا بكرٍ فهو كافرٌ، لا يُصَلَّى عليه. ووَجْهُ تَرْكِ الصلاةِ عليهم، أنَّهم يُكَفِّرونَ أهْلَ الإِسْلامِ، ولا يَرَوْنَ الصلاةَ عليهم، فلا يُصَلَّى عليهم، كالكُفَّارِ من أهلِ الذِّمَّةِ وغيرِهم، ولأنَّهم مَرَقُوا من الدِّين، فأشْبَهُوا المُرْتَدِّينَ. فصل: والبُغاةُ إذا لم يكُونوا من أهلِ البِدَعِ، ليسوا بفاسِقِين، وإنَّما هم مُخْطِئون في تأْويلِهم، والإِمامُ وأهلُ العَدْلِ مُصِيبُون في قِتالِهم، منهم جميعًا كالمُجْتَهِدين من الفُقهاءِ في الأحْكام، مَن شَهِدَ منهم قُبِلَتْ شَهادَتُه إذا كان عَدْلًا. وهذا مذهبُ الشافعي. ولا أعلمُ في قَبُولِ شَهادَتِهم خِلافًا. فأمَّا الخوارجُ، وأهلُ البِدَعِ إذا خَرَجُوا على الإِمامِ فلا تُقْبَلُ شَهادَتُهم؛ لأنَّهم فُسَّاقٌ. وقال أبو حنيفةَ: يُفَسَّقُونَ بالبَغْي، وخُرُوجِهم، ولكنْ تُقْبَلُ شَهادتُهم؛ لأنَّ فِسْقَهم من جِهَةِ الدِّينِ، فلا تُرَدُّ به الشَّهادَةُ، والاخْتِلافُ في ذلك يُذْكرُ في كتابِ الشَّهاداتِ (¬1) إن شاءَ اللهُ تعالى. فصل: ذَكَر القاضي أنَّه لا يُكْرَهُ للعادِلِ قَتْلُ ذَوي رَحِمِه الباغِين؛ لأنَّه قَتْلٌ بحَقٍّ، أشْبَهَ إقامَةَ الحَدِّ عليه. وكَرِهَتْ طائفةٌ مِن أهلِ العلمِ القَصْدَ إلى ذلك. قال شيخُنا (¬2): وهو أصَحُّ (¬3)، إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لقولِ الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ¬

(¬1) في م: «الشهادة». (¬2) في: المغني 12/ 257. (¬3) في م: «الصحيح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬1). وقال الشافعيُّ: كَفَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا حُذَيفَةَ بنَ عُتْبَةَ عن قتلِ أبيه (¬2). وقال بعضُهم: لا يَحِلُّ ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بمُصاحَبَتِه بالمَعْرُوفِ، وليس هذا من المعروفِ. فإن قَتَلَه، فهل يَرِثُه؟ على رِوايَتَين؛ إحداهما، يَرِثُه. اخْتارَها أبو بكرٍ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه قَتْلٌ بِحَقٍّ، فلم يَمْنَعِ المِيراثَ، كالقِصاصِ والقَتْلِ في الحَدِّ. والثانيةُ، لا يَرِثُه. وهو قولُ ابنِ حامدٍ، ومذهبُ الشافعيِّ؛ لعُمُومِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَيس لِقَاتِلٍ شَيءٌ» (¬3). فأمَّا الباغِي إذا قَتَل العادِلَ، فلا يَرِثُه. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَرِثُه؛ لأنَّه قَتْلٌ بتأْويلٍ، أشْبَهَ قَتْلَ العادِلِ الباغِيَ. ولَنا، أنَّه قَتَلَه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَرِثْه، كالقاتِلِ خَطأ، وفارَقَ ما إذا قَتَلَه العادِلُ؛ لأنَّه قَتَلَه بحَقِّ. وقال قَوْمٌ: إذا تَعَمَّدَ العادِلُ قَتْلَ قَرِيبِه، فقَتَلَه ابْتِداءً، لم يَرِثْه، وإن قَصَد ضَرْبَه، لِيَصِيرَ غيرَ مُمْتَنِعٍ، فجَرَحَه، وماتَ من هذا الضَّرْبِ، وَرِثَه؛ لأنَّه (¬4) قَتَلَه بحَقٍّ. وهذا قولُ ابنِ المُنْذِرِ (¬5)، وهو أقْرَبُ الأقاويلَ. ¬

(¬1) سورة لقمان 15. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب ما يكره لأهل العدل من أن يعمد قتل ذي رحمه. . . . من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 186. (¬3) تقدم تخريجه في: 18/ 370. (¬4) في م: «ولأنه». (¬5) في: الإشر اف 3/ 259.

4567 - مسألة: (وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة، أو خراج، أو جزية لم يعد عليهم، ولا على صاحبه)

وَمَا أَخَذُوا في حَالِ امْتِنَاعِهِمْ، مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ خَرَاجٍ، أَوْ جِزْيَةٍ، لَمْ يُعَدْ عَلَيهِمْ وَلَا عَلَى صَاحِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4567 - مسألة: (وما أخَذُوا فِي حالِ امْتِناعِهمْ مِن زَكَاةٍ، أو خَراجٍ، أو جِزْيَةٍ لم يُعَدْ عليهم، ولا على صاحبِه) إذا غَلَب أهلُ البَغْي على بلدٍ، فجبوُا الخَراجَ والزَّكاةَ والجِزْيَةَ، وأقَامُوا الحُدُودَ، وَقَعَ ذلك مَوْقِعَه، فإذا ظَهَر أهْلُ العَدْلِ بعدُ على البلدِ، وظَفِرُوا بأهْلِ البَغْي، لم يُطالبُوا بشيءٍ ممَّا جَبَوْهُ، ولم يُرْجَعْ به على مَن أُخِذَ منه. رُوِيَ نحوُ هذا عن ابنِ عمرَ، وسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ (¬1). وهو قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وسَواءٌ كان مِن الخَوارِجِ أو مِن غيرِهم. وقال أبو عُبَيدٍ (¬2): على مَن أَخذُوا منه الزَّكاةَ الإعادةُ؛ لأنَّ (¬3) أخْذَها مِمَّن لا ولايةَ له صَحِيحةٌ (¬4)، فأشْبَهَ ما لو أخَذَها آحَادُ الرَّعِيَّةِ. ولَنا، أنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، لَمَّا ظَهَر على أهلِ البَصْرَةِ، لم يُطالِبْهم بشيءٍ ممَّا جَبَوْهُ. ¬

(¬1) انظر: إرواء الغليل 8/ 116. (¬2) الأموال 687. (¬3) في الأصل: «وإن». (¬4) في الأصل: «صحيح».

4568 - مسألة: (ومن ادعى دفع زكاته إليهم، قبل بغير يمين)

وَمَنِ ادَّعَى دَفْعَ زَكَاتِهِ إِلَيهِمْ، قُبِلَ بِغَيرِ يَمِينٍ. وَإنِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتهِ إِلَيهِمْ، لَمْ يُقْبَلْ إلا بِبَيِّنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان ابنُ عمرَ إذا أتاه سَاعِي نَجْدَةَ الحَرُورِيِّ، دَفَع إليه الزَّكاةَ. وكذلك سلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ (¬1). ولأنَّ في تَرْكِ الاحْتِسابِ بها ضَرَرًا عَظِيمًا، ومَشَقَّةً كبيرةً، فإنَّهم قد يَغْلِبُونَ على البِلادِ السِّنينَ الكثيرَةَ، فلو لم يُحْتَسَبْ بما أخَذُوهُ، أدَّى إلى ثَنَى (¬2) الصَدَقاتِ في تلك المُدَّةِ كلِّها. 4568 - مسألة: (ومَن ادَّعَى دَفْعَ زَكاتِه إليهم، قُبِلَ بغيرِ يَمِينٍ) قال أحمدُ: لا يُسْتَحْلَفُ الناسُ على صَدَقاتِهِم. 4569 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفعَ جِزْيَتِه إليهم، لم يُقْبَلْ إلَّا ببَيَّنةٍ) لأنَّهم غيرُ مَأْمُونِينَ، ولأنَّ ما يَجِبُ عليهم (¬3) عِوَضٌ، وليس بمُواسَاةٍ، فلم يُقْبَلْ قولُهم فيه، كأجْرةِ الدَّارِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ قولُهم ¬

(¬1) انظر: الأموال. الموضع السابق. والإرواء: الموضع السابق. (¬2) الثَّنَى: الأمر يعاد مرتين. (¬3) سقط من: م.

4570 - مسألة: (وإن ادعى دفع خراجه إليهم، فهل يقبل بغير بينة؟ على وجهين)

وَإنِ ادَّعَى إِنْسَانٌ دَفْعَ خَرَاجِهِ إِلَيهِمْ، فَهَلْ يُقْبَلُ بِغَيرِ بَيَّنَةٍ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا مَضَى الحَوْلُ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ البُغاةَ لا يَدَعُونَ الجِزْيَةَ لهم، فكان القولُ قَوْلَهم؛ لأنَّ الظَّاهرَ معهم، ولأنَّه إذا مَضَى لذلك سِنُونَ كثيرةٌ، شَقَّ عليهم إقامَةُ البَيِّنةِ على كلِّ عامٍ، فيُؤَدِّي ذلك إلى تَغْرِيمِهم الجِزْيَةَ مَرَّتَين. 4570 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى دَفْعَ خَراجِه إليهم، فهل يُقْبَلُ بغيرِ بَيِّنَةٍ؟ على وَجْهَين) أحدُهما، يُقْبَلُ؛ لأنَّه حَقٌّ على مسلمٍ، فقُبِلَ قولُه فيه، كالزَّكاةِ. والثاني، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه عِوَضٌ، فأشْبَهَ الجِزْيَةَ.

4571 - مسألة: (وتجوز شهادتهم)

وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. وَلَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ، إلا ما يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4571 - مسألة: (وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ) لأنَّهم أخْطَأُوا في [فرعٍ مِن] (¬1) فُروعِ الإِسْلامِ باجْتِهادِهم، فأشْبَهَ المُجْتَهِدينَ (¬2) مِن الفُقَهاءِ في الأحْكامِ، وإذا لم يكُونوا مِن أهلِ البِدَعِ، قُبِلَتْ شَهادَتُهم، كأهلِ العَدْلِ. وهو قولُ الشافعيِّ، ولا نعلمُ فيه خِلافًا. 4572 - مسألة: (ولا يُنْقَضُ مِن حُكْمِ حَاكمِهمْ، إلَّا مَا يُنْقَضُ مِن حُكْمِ غيرِه) إذا نَصَب أهْلُ البَغْي قاضِيًا يَصْلُحُ للقَضاءِ، فهو كقاضِي أهْلِ العَدْلِ، (يَنْفُذُ مِن أحْكامِه ما يَنْفُذُ مِن أحكامِ قاضِي أهْلِ العَدْلِ) (¬3)، ويُرَدُّ منه ما يُرَدُّ. فإن كان (¬4) ممَّن يَسْتَحِلُّ دِماءَ أهلِ العَدْلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «المختلفين». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمْوالهم، لم يَجُزْ قَضاؤُه، لأنَّه ليس بعَدْلٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ قَضاؤُه بحالٍ، لأنَّ أهْلَ البَغْي يُفَسَّقُونَ بِبَغْيِهم، والفِسْقُ يُنافِي القَضاءَ. ولَنا، أنَّه اخْتِلافٌ في الفُروعِ بتَأْويلٍ سائغٍ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ القَضاءِ، ولم يُفَسَّقْ به، كاخْتِلافِ الفقَهاءِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إذا حَكَم بما لا يُخالِفُ نَصًّا ولا إجْماعًا، نَفَذ حُكْمُه، وإن خالفَ ذلك، نُقِضَ حُكْمُه، كقاضي أهْلِ العَدْلِ. فإن حَكَم بسُقُوطِ الضَّمانِ على أهْلِ البَغْي فيما أتْلَفُوه حال الحَرْبِ، جازَ حُكْمُه؛ لأنَّه مَوْضِعُ اجْتِهادٍ. وإن كان حُكْمُه فيما أتْلَفُوه قبلَ قيامِ الحَرْبِ، لم يَنْفُذْ؛ لأنَّه مُخالِفٌ للإِجْماعِ. وإن حَكَم على أهْلِ العَدْلِ بوُجُوبِ الضَّمانِ فيما أتْلَفُوه حال الحَرْبِ، لم يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لمخَالفَتِه الإِجْماعَ. وإن حَكَم بوُجُوبِ ضَمانِ ما أتْلَفُوه في غيرِ حالِ الحربِ، نَفَذ حُكْمُه. وإن كَتَب قاضِيهِم إلى قاضِي أهْلِ العَدْلِ، جازَ قَبُولُ كتابِه؛ لأنَّه قاضٍ ثابِتُ القَضايا، نافِذُ الأحْكامِ. والأوْلَى أنَّه لا يَقْبَلُه، كَسْرًا لقُلُوبِهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أصحابُ الرَّأْي: لا يجوزُ. وقد سَبَق الكَلامُ في هذا. فأمَّا الخَوارِجُ إذا وَلَّوا قَاضِيًا، لم يَجُزْ قَضاوه؛ لأنَّ أقَلَّ أحْوالِهم الفِسْقُ، وهو يَمْنَعُ القَضاءَ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ قَضاؤُه، وتَنْفُذ أحْكامُه؛ لأنَّ هذا ممَّا يَتَطاوَلُ، وفي القَضاءِ بفَسادِ قَضاياه وعقودِه الأنْكِحَةَ وغيرَها ضَرَرٌ كثيرٌ، فجازَ دَفْعًا للضَّرَرِ، كما لو أقامَ الحُدُود، وأخَذَ الجِزْيَةَ والخَراجَ والزَّكاةَ. فصل: وإنِ ارْتَكَبَ أهْلُ البَغْي في حالِ امْتِناعِهم ما يُوجِبُ الحَدَّ، ثم قُدِرَ عليهم، أُقِيمَتْ فيهم حُدُودُ الله تعالى، ولا تَسْقُطُ باخْتِلافِ الدَّارِ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: إذا امْتَنَعُوا بدَارٍ، لم يَجِبِ الحَدُّ على أحَدٍ منهم، ولا على مَن تاجَرَ أو أُسِرَ؛ لأنَّهم خارِجُون عن دارِ الإِمامِ، فأشْبَهُوا مَن في دارِ الحَرْبِ. ولَنا، عمُومُ الآياتِ والأخْبارِ؛ ولأنَّ كَلَّ مَوْضِع تَجِبُ فيه العِبادَاتُ في أوقاتِها، تجبُ الحُدُودُ فيه عندَ وُجُودِ أسْبابِها، كدارِ أهلِ العَدْلِ؛ ولأنَّه زَانٍ أو سارِقٌ، ولا شُبْهَةَ في زِنَاهُ وسَرِقَتِه، فوَجَبَ عليه الحَدُّ، كالذي في دارِ العَدْلِ. وهكذا نقولُ (¬1) في مَن أتَى حَدًّا في دارِ الحَرْبِ، فإنَّه يجبُ عليه، لكنْ لا يُقامُ إلَّا في دارِ الإسْلامِ، على ما ذَكَرْناه في مَوْضِعِه. ¬

(¬1) في م: «القول».

4573 - مسألة: (وإن استعانوا بأهل الذمة، فأعانوهم، انتقض عهدهم، إلا أن يدعوا أنهم ظنوا أنه يجب عليهم معونة من استعان بهم من المسلمين، ونحو ذلك، فلا ينتقض عهدهم)

وَإنِ اسْتَعَانُوا بِأهْلِ الذِّمَّةِ، فَأعَانُوهُمْ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، إلا أنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِمْ مَعُونَةُ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4573 - مسألة: (وإنِ اسْتَعَانُوا بأهْلِ الذِّمَّةِ، فأعانُوهُمْ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، إلَّا أن يَدَّعُوا أنَّهم ظَنُّوا أنَّه يَجِبُ عليهم مَعُونَةُ مَن اسْتَعَانَ بهم مِن المسلمين، ونحوَ ذلكَ، فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ) إذا اسْتعانَ البُغاةُ بأهلِ الذِّمَّةِ في قِتالِ أهلِ العَدْلِ، وقاتلُوا معهم، فقد ذَكَر أبو بكرٍ فيهم وَجْهَين؛ أحدُهما، يَنْتَقِضُ عَهْدُهم؛ لأنَّهم قاتَلُوا أهْلَ الحَقِّ، فانتَقَضَ عَهْدُهم، كما لو انْفَرَدُوا بقِتالِهمْ. والثاني، لا يَنْتَقِضُ؛ لأنَّ أهلَ الذِّمَّةِ لا يَعْرِفونَ المُحِقَّ مِن المُبْطِلِ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً لهم. وللشافعيِّ قَوْلان، كالوَجْهَين. فإن قُلْنا: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُم. صارُوا كأهْلِ الحَرْبِ فيما نذْكُرُه. وإن قُلْنا: لا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُم. فحُكْمُهُم حُكْمُ أهْلِ البَغْي

وَيُغَرَّمُونَ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في قَتْل مُقْبلِهم، والكَفِّ عن أسِيرِهم، ومُدْبِرِهم وجَرِيحِهم. وإن أكْرهَهُم البُغاةُ على مَعُونَتِهم، أو ادَّعَوا ذلك، قُبِلَ قولُهم (¬1)؛ لأنَّهم تحتَ أيدِيهم وقُدْرَتِهم. وكذلك إن قالوا: ظَنَنَّا أنَّ مَن اسْتَعانَ بنا مِن المسلمين لَزِمَتْنَا مَعُونَتُه. لأنَّ ما ادَّعَوه مُحْتَمَلٌ، فلا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُم مع الشُّبْهَةِ. فصل: (ويُغَرَّمونَ ما أتْلَفُوه، مِن نَفْس ومالٍ) حال القِتالِ وغيره، بخِلافِ أهْلِ البَغْي، فإنَّهم لا يَضْمَنُونَ ما أتْلَفُوه حال الحَرْبِ؛ لأنهم أتْلَفُوه بتأويلٍ سائغٍ، وهؤلاءِ لا تأْويلَ لهم، ولأنَّ سُقوطَ الضَّمانِ عن ¬

(¬1) في ص، م: «منهم».

4574 - مسألة: (وإن استعانوا بأهل الحرب وأمنوهم، لم يصح أمانهم، وأبيح قتلهم)

وَإنِ اسْتَعَانُوا بِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمَّنُوهُمْ، لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُم، وَأُبِيحَ قَتْلُهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين كيلا يُؤَدِّيَ إلى تَنْفِيرِهم عن الرُّجُوعِ إلى الطَّاعةِ، وأهلُ الذِّمَّةِ لا حاجةَ بنا إلى ذلك فيهم. 4574 - مسألة: (وإنِ اسْتَعَانُوا بأهلِ الحَرْبِ وأمَّنُوهُمْ، لم يَصِحَّ أمانُهُم، وأُبِيحَ قَتْلُهم) إذا اسْتَعانَ أهْلُ البَغي بالكُفَّارِ، لم يَخْلُ مِن ثلاثةِ أصْنافٍ؛ أحدُها، أهلُ الذِّمَّةِ. وقد ذَكَرْنا حُكْمَهم. الثاني، أهلُ الحَرْبِ، فإذا اسْتَعانُوا بهم، وأمَّنُوهم، أو (¬1) عَقَدُوا لهم ذِمَّةً، لم يَصِحَّ واحدٌ منهما؛ لأنَّ الأمانَ مِن شَرْطِ صِحَّتِه الْتِزامُ كَفِّهم عن المسلمين، ¬

(¬1) في م: «و».

4575 - مسألة: (وإن أظهر قوم رأي الخوارج، ولم يجتمعوا لحرب، لم يتعرض لهم)

وَإنْ أظْهَرَ قَوْمٌ رَأيَ الْخوَارِجِ، وَلَمْ يَجْتَمِعُوا لِحَرْبٍ، لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهؤلاءِ يَشْتَرِطُونَ عليهم قِتال المسلمينَ، فلا يَصِحُّ. ولأهلِ العَدْلِ قَتْلُهم، كمَن لم يُؤَمِّنُوه. سَواءً. وحُكْمُ أسِيرِهم حُكْمُ أسِيرِ سائرِ أهِلِ الحَرْبِ قبلَ الاسْتِعانةِ بهم، فأمَّا البُغاةُ، فلا يجوزُ لهم قَتْلُهم؛ لأنَّهم آمَنُوهم، فلا يجوزُ لهم الْغَدْرُ بهم. الثالثُ، المُسْتَأْمِنُونَ، فمتى اسْتَعانُوا بهم فأعانُوهُم، نَقَضُوا عَهْدَهم، وصاروا كأهْلِ الحَرْبِ؛ لأنَّهم تَرَكُوا الشَّرْطَ، وهو كَفُّهم عن المسلمين، فإن فَعَلُوا ذلك مُكْرَهِين، لم يَنْتَقِضْ أمَانُهم؛ لأنَّ لهم عُذْرًا، وإنِ ادَّعَوا الإِكْرَاهَ، لم يُقْبَلْ قولُهم (¬1) إلَّا ببَيَّنَةٍ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُه. فإنِ ادَّعَوا أنَّهم ظَنُّوا أنَّه يجبُ عليهم مَعُونةُ مَن اسْتَعانَ بهم مِن المسلمين، انْتَقَضَ عَهْدُهم، ولم يَكُنْ ذلك عُذْرًا لهم، والفَرْقُ بينَهم وبينَ أهلِ الذِّمَّةِ، أنَّ أهْلَ الذِّمَّةِ أقْوَى حُكْمًا؛ لأنَّ عَهْدَهم مُؤَبَّدٌ، ولا يجوزُ نَقْضُه بخَوْفِ الخِيانةِ منهم، ويَلْزَمُ الإِمامَ الدَّفْعُ عنهم، والمُسْتَأمِنُونَ بخِلافِ ذلك. 4575 - مسألة: (وإن أظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الخَوارِجِ، ولَم يَجْتَمِعُوا لحربٍ، لم يُتَعَرَّضْ لهم) مثلَ تكْفِيرِ مَن ارْتَكَبَ كبيرةً، وتَرْكِ الجماعةِ، واسْتِحْلالِ دِماءِ المسلمينَ وأمْوالِهم، إلَّا أنَّهم لم يَجْتَمِعُوا لحربٍ، ولم ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَخْرُجُوا عن قَبْضَةِ الإِمامِ، ولم يَسْفِكُوا الدَّمَ الحَرامَ، فحَكَى القاضِي عن أبي بكرٍ، أنَّه لا يَحِلُّ بذلك قَتْلُهم ولا قِتالُهم. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وجُمْهُورِ أهلِ الفِقْهِ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. فعلى هذا، حُكْمُهم في ضَمانِ النَّفْسِ [والمالِ حُكْمُ] (¬1) المسلمين. ¬

(¬1) سقط من: م.

4576 - مسألة: (فإن سبوا الإمام، عزرهم)

فَإِنْ سَبُّوا الإمَامَ عَزَّرَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4576 - مسألة: (فإن سَبُّوا الإِمامَ، عَزَّرَهُم) وكذلكَ إن سَبُّوا غَيرَهُ مِن أهلِ العَدْلِ، لأنَّهم ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لا حَدَّ فيه. وإن عَرَّضُوا بالسَّبِّ (¬1)، فهل يُعَزَّرُونَ؟ على وَجْهَين. وقال مالكٌ في الإِباضِيَّةِ، وسائرِ أهْلِ البِدَعِ: يُسْتَتابُونَ، فإن تابُوا، وإلَّا ضُرِبَتْ أعْناقُهُم. قال إسماعيلُ بنُ إسْحاقَ: رَأَى مالكٌ قَتْلَ الخَوارِجِ وأهلِ القَدَرِ، مِن أجْلِ الفَسادِ الدَّاخلِ في الدِّينِ، كقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فإن تابُوا، وإلَّا قُتِلُوا على إفْسادِهم، لا على كُفْرِهم. وأمَّا مَن رَأَى تَكْفِيرَهم، فمُقتَضَى قولِه، أنَّهم يُسْتَتابُونَ، فإن تابُوا، وإلَّا قُتِلُوا لكُفْرِهم، يُقتَلُ المُرْتَدُّ، وحُجَّتُهم قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[«فَأينَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» (¬2). وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَئِنْ أدْرَكْتُهُمْ لأقتُلَنَّهُمْ قَتلَ عَادٍ» (¬3). وقولُه - عليه السلام -] (¬4) في الذي أنْكَرَ عليه، وقال: إنَّها قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بها ¬

(¬1) في الأصل: «بالكسب». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 61. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 62. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهُ اللهِ. لأبي بكرِ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْه». ثم قال لعمرَ مثلَ ذلك (¬1)، فأمَرَ بقَتْلِه قبلَ قِتالِه. وهو الذي قال: «يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ (¬2) هَذَا قَوْمٌ» (¬3). يعْني الخَوارِجَ. وقولُ عمرَ لصَبِيغٍ: لو وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا، لَضَرَبْتُ الذي فيه عَيناكَ بالسَّيفِ (¬4). يَعْني لقَتَلْتُكَ. وإنَّما يَقْتُلُه لكَوْنِه مِن الخَوارِجِ؛ ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 15. (¬2) الضئضئ: الأصل، أو كثرة النسل. والمعنى أي من نسبه وعقبه. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب بعث علي، رضي الله عنه. . . .، من كتاب المغازي، وفي: باب تفسير سورة براءة، من كتاب التفسير، وفي: باب قراءة الفاجر، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 5/ 207، 6/ 84، 9/ 198. ومسلم، في: باب ذكر الخوارج، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 742، 743. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 543، 544. والنسائي، في: باب المؤلفة قلوبهم، من كتاب الزكاة، وفي: باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس، من كتاب التحريم، المجتبى 5/ 65، 66، 7/ 108، 109. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 68، 73. (¬4) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 23/ 412. واللفظ له. وأخرج أصل القصة دون اللفظ الدارمي، في: باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع، من المقدمة. سنن الدارمي 1/ 54 - 56.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سِيمَاهُمُ التَّسْبِيدُ» (¬1). يعْني حَلْقَ رُءُوسِهِم. واحْتَجَّ الأوَّلُونَ بفِعْلِ عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، فرُوِيَ عنه، أنَّه كان يَخْطُبُ يومًا، فقال رجلٌ ببابِ المسجدِ: لا حُكْمَ إلَّا للهِ. فقال عليٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ (¬2) أُرِيدَ بها باطِلٌ. ثم قال: لكم علينا ثلاثٌ؛ لا نَمْنَعُكُمْ مَساجِدَ اللهِ أن تَذْكُروا فيها اسمَ اللهِ، ولا نَمْنَعُكُم الْفَىْءَ ما دامَتْ أيدِيكم معنا، ولا نَبْدؤُكُمْ بقِتالٍ (¬3). وروَى أبو تِحْيَى (¬4)، قال: صَلَّى عليٌّ، رَضِيَ اللهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}. . . .، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 9/ 198. وأبو داود، في: باب في قتل الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 543، 544. (¬2) في الأصل: «حكم». (¬3) أخرجه الطبري، في حوادث سنة سبع وثلاثين من الهجرة، معلقا. تاريخ الطبري 5/ 73. والبيهقي موصولا، في: باب القوم يظهرون رأي الخوارج. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 184. والأثر ضعيف. انظر الإرواء 8/ 177. (¬4) في م، والمغني: «يحيى»، وفي الأصل، ر 3 غير منقوطة. والمثبت من سنن البيهقي. وأبو تحيى -بفتع المثناة الفوقية وكسرها- حُكيم بن سعد روى عن علي وغيره. انظر الإكمال لابن ماكولا 1/ 502.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، صلاةً، فناداهُ رجلٌ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). فأجابَه عليٌّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (¬2). وكَتَب عديُّ (¬3) بنُ أرْطاةَ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ: إنَّ الخوارجِ يسُبُّونَك. فكَتَبَ إليه: إن سَبُّونِي فسُبُّوهم، أو اعْفُوا عنهم، وإن شهَرُوا السِّلاحَ فاشْهِرُوا عليهم (¬4)، وإنْ ضَرَبُوا فَاضْرِبُوا (¬5) ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَتَعَرَّضْ للمنافقين الذين معه في المدينةِ، فلئلا (¬6) يُتَعَرَّضَ لغيرِهم أوْلَى. وقد رُوِيَ في خبرِ الخارِجِيِّ الذي أنْكَرَ ¬

(¬1) سورة الزمر 65. (¬2) سورة الروم 60. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما ذكر في الخوارج، من كتاب الجمل. المصنف 15/ 307. والبيهقي، في: باب ما يجوز من الدعاء في الصلاة، من جماع أبواب الكلام في الصلاة. السنن الكبرى 2/ 245. والطبرى في تاريخه 5/ 73، 74. والأثر صحيح. انظر الإرواء 8/ 118، 119. والأثر صحيح. انظر الإرواء 8/ 118، 119. (¬3) في م: «على». (¬4) سقط من: م. (¬5) أخرجه البيهقي، من حديث عبد الحميد بن عبد الرحمن، في: باب القوم يظهرون رأي الخوارج. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 184. مختصرًا. (¬6) في م: «فلأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، أنَّ خالدًا قال: يا رسولَ اللهِ، ألَا أضْرِبُ عُنُقَه؟ قال: «لَا، لعَلَّه يُصلِّي؟». قال: رُبَّ مُصَلٍّ لا خيرَ فيه. قال: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أنْ أُنَقِّبَ عَنْ قلُوبِ النَّاسِ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب بعث علي بن أبي طالب. . . .، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 5/ 207. ومسلم، في: باب ذكر الخوارج وصفاتهم، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 742. والإمام أحمد في المسند 3/ 4.

4577 - مسألة: (وإن جنوا جناية، أو أتوا حدا، أقامه عليهم)

وَإِنْ جَنَوْا جِنَايَةً، أوْ أتَوْا حَدًّا، أقامَهُ عَلَيهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4577 - مسألة: (وإن جَنَوْا جنَايَةً، أو أتَوْا حَدًّا، أقامَه عليهم) لأنَّ ابنَ مُلْجَمٍ جَرَح عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه فقال: أطْعِمُوه، واسْقُوه، واحْبِسُوه، فإن عِشْتُ فأنا وَلِيُّ دَمِي، أعْفُو إن شِئْتُ، وإن شِئْتُ اسْتَقَدْتُ، وإن مِتُّ فاقْتُلوه ولا تُمَثِّلُوا به (¬1). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 59.

4578 - مسألة: (وإن اقتتلت طائفتان لعصبية، أو طلب رياسة، فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة)

وَإنِ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِعَصَبِيَّةٍ، أوْ طَلَب رِيَاسَةٍ، فَهُمَا ظَالِمَتَانِ، وَتَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مَا أتْلَفَتْ عَلَى الأخْرَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4578 - مسألة: (وإنِ اقْتَتَلَتْ طائِفَتان لعَصَبِيَّةٍ، أو طَلَبِ رِياسَةٍ، فهما ظالِمَتَان، وتَضْمَنُ كلُّ واحِدَةٍ) منهما (ما أتْلَفَتْ غلى الأخْرَى) لأنَّها أتْلَفَتْ نفْسًا مَعْصومةً، أو مالًا معصومًا، هذا إذا لم تَكُنْ واحدَةٌ منهما في طاعةِ الإِمامِ، فإن كانت إحْداهما في طاعةِ الإِمامِ، تُقاتِلُ بأَمْرِه، فهي مُحِقَّةٌ، وحُكمُ الأخْرَى حُكْمُ مَن يُقاتِلُ الإِمامَ، لأنَّهم يُقاتِلونَ مَن أذِنَ له الإِمامُ في قِتالِهم، فأشْبَهَ المُقاتِلَ لجَيشِ الإمامِ، فيكونُ حُكْمُهم حُكْمَ البُغاةِ.

باب حكم المرتد

بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ، أَوْ جَحَدَ رُبُوبيَّتَهُ، أَوْ وَحْدَانِيَّتَهُ، أو صِفَةً مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ حكمَ المُرْتَدِّ المُرْتَدُّ (هو الذي يَكْفُرُ بعدَ إسْلامِه) قال اللهُ تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬2). وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على وُجُوبِ قَتْلِ المُرْتَدِّين. رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، ومُعاذٍ، وأبي موسى، [وعبدِ الله] (¬3) بنِ عباسٍ، وخالدٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم، وغيرهم، ولم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا. 4579 - مسألة: (فَمَن أشْرَكَ باللهِ تَعالى، أو جَحَد رُبُوبِيته، أو ¬

(¬1) سورة البقرة 217. (¬2) تقدم تخريجه في 21/ 42. (¬3) زيادة من الأصل.

صِفَاتِهِ، أو اتَّخَذَ للهِ صَاحِبَةً، أَوْ وَلَدًا، أَوْ جَحَدَ نَبِيًّا، أوْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الله تِعَالى، أَوْ شَيئًا مِنْهُ، أوْ سَبَّ اللهَ تعالى، أوْ رَسُولَهُ، كَفَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَحْدَانِيَّتَهُ، أو صِفَةً مِن صِفَاتِه، أو اتَّخَذَ للهِ صاحِبَةً، أو وَلَدًا، أو جَحَد نَبيًّا، أو كِتابًا مِن كُتُبِ اللهِ، أو شيئًا منه، أو سَبَّ اللهَ) سُبْحَانَهُ و (تَعالى، أوَ رسولَهُ، كَفَر) وجملةُ ذلك، أنَّ المُرْتَدَّ هو الرَّاجِعُ عن دينِ الإِسلامِ إلى الكُفْرِ، فمَن أقَرَّ بالإِسْلامِ، ثم أنْكَرَه وأنْكَرَ الشَّهَادَتَين، أو إحْدَاهما، كَفَر بغيرِ خِلافٍ.

4580 - مسألة: (فإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئا منها، أو أحل الزنى، أو الخمر، أو شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع)

وَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ أوْ شَيئًا مِنْهَا، أوْ أَحَلَّ الزِّنَى، أَو الْخَمْرَ، أو شَيئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيهَا لِجَهْلٍ، عُرِّفَ ذَلِكَ، وَإنْ كَانَ مِمَّن لَا يَجْهَلُ ذَلِكَ، كَفَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4580 - مسألة: (فإن جَحَد وُجُوبَ العِبادَاتِ الخَمْسِ، أو شَيئًا منها، أو أحَلَّ الزِّنَى، أو الخَمْرَ، أو شَيئًا مِن المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ المُجْمَعِ) على تَحْرِيمِها (لجَهْلٍ، عُرِّفَ ذلِكَ، فإن كان مِمَّن لا يَجْهَلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، كَفَر) وجملةُ ذلك، أنَّه قد مَضَى شَرْحُ حُكمِ جاحِدِ (¬1) وُجُوبِ الصلاةِ وغيرِها مِن العِباداتِ الخَمْسِ في كِتابِ الصلاةِ، ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في كُفْرِ مَن تَرَك الصلاةَ جاحِدًا لوُجُوبِها، إذا كان مِمَّن لا يَجْهَلُ مثلُه ذلك، فإن كان مِمَّن لا يَعْرِفُ الوُجُوبَ، كحديثِ الإِسْلامِ، والنَّاشِئ بغيرِ دارِ الإسْلامِ، أو بادِيَةٍ بعيدةٍ عن الأمْصارِ، وأهْلِ العلمِ، لم يُحْكَمْ بكُفْرِه، وعُرِّفَ ذلك، وثَبَتَتْ له أدِلَّةُ وُجُوبِها، فإن جَحَدَها بعدَ ذلك كَفَر. وأمَّا إذا كان الجاحِدُ لها ناشِئًا بينَ المُسْلِمِينَ في الأَمْصارِ، بينَ أهلِ العلمِ، فإنَّه يَكْفُرُ بمُجرَّدِ جَحْدِها، وكذلك الحكْمُ في مباني الإِسْلامِ كُلِّها، وهي الزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحَجُّ، لأنَّها مباني الإِسْلامٍ، وأدِلَّةُ وجُوبِهَا لا تَكادُ تَخْفَى إذ كان الكتابُ والسُّنَّةُ مَشْحُونين بأدِلَّتِها (¬2)، والإِجْماعُ مُنْعَقِدٌ عليها، فلا يَجْحَدُها إلَّا مُعانِدٌ للاسْلامِ، مُمْتَنِعٌ مِن الْتِزامِ الأحْكامِ، غيرُ قابلٍ لكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رسولِه، وإجْماعِ الأمَّةِ. وكذلك مَن اعْتَقَدَ حِلَّ شيءٍ أجْمَعَ المسلمونَ على تَحْرِيمِه، وظَهَرَ حُكْمُه بينَ المسلمينَ، وزَالتِ الشُّبْهَةُ فيه للنُّصوصِ الوارِدَةِ فيه، كلَحْمِ الخِنْزيرِ، والزَّنَى، والخَمْرِ، وأشْباهِ هذا ممَّا لا خِلافَ فيه، كَفَر إذا كان قد نَشَأ بينَ المسلمينَ، وهو ممَّن لا يَجْهَلُ مثلُه ذلك، وقد ذَكَرْناه في تاركِ الصلاةِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بأدلتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن سَبَّ اللهَ تعالى أو رسولَه، كَفَر، سَواءٌ كان جادًّا أو مازِحًا، وكذلك مَن اسْتَهْزَأ باللهِ سُبحانَه وتعالى، أو بآياتِه أو برُسُلِه أو كُتُبه؛ لقولِه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬1). ويَنْبَغِي أن لا يُكْتَفَى مِن الهازِئِ بذلك بمُجَرَّدِ الإِسْلامِ حتى يُؤَدَّبَ أدَبًا يَزْجُرُه عن ذلك؛ لأنَّه إذا لم يُكْتَفَ ممَّن سِبَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّوْبةِ، فهذا أوْلَى. فصل: فإنِ اسْتَحَلَّ قتلَ المَعْصُومِين، وأخْذَ أمْوالِهم، بغيرِ شُبْهَةٍ ولا تأْويلٍ، كَفَر؛ لِما ذَكَرْنا، وإن كان بتأويلٍ، كالخَوارِجِ، فقد ذَكَرْنا أنَّ كثيرًا مِن العُلَماءِ لم يَحْكُموا بكُفْرِهم مع اسْتِحْلالِهم دِماءَ المسلمِين وأمْوالهم، وفِعْلِهم ذلك مُتَقَرِّبِين به إلى اللهِ تعالى، وكذلك لم يُحْكَمْ بكُفْرِ ابنِ مُلْجَم مع قَتْلِه أفضلَ الخَلْقِ في زمنِه، ولا يَكْفُرُ المادِحُ له على ذلك أيضًا، المُتَمَنِّي مثلَ فِعْلِه، وهو عِمْرانُ بنُ حِطَّانَ، قال يَمْدَحُه لقَتْلَ عليٍّ (¬2): يا ضَرْبةً مِن تَقِيٍّ ما أرادَ بها … إلَّا لِيَبْلُغَ [مِن ذي العَرْشِ] (¬3) رِضوانًا إنِّي لأذْكُرُه يومًا فأحْسَبُه … أوْفَى البَرِيَّةِ عندَ اللهِ مِيزَانًا ¬

(¬1) سورة التوبة 65، 66. (¬2) الكامل، للمبرد 3/ 169. (¬3) في الأصل: «عند الله ذي العرش». وفي ر 3، ص، م: «عند الله». والمثبت من الكامل للمبرد. وانظر المغني 12/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد عُرِفَ مِن مذهبِ الخَوارجِ تَكْفِيرُ كثيرٍ مِن الصحابةِ، ومَن بعدَهم، واستِحْلالُ دِمائِهم وأمْوالِهم، واعتِقادُهم التَّقَرُّبَ إلى رَبِّهم بقَتْلِهم، ومع هذا لم يَحْكُمْ أكثرُ الفُقَهاءِ بِكُفْرِهم؛ لتأْويلهم. وكذلك يُخَرَّجُ في كُلِّ مُحَرَّم اسْتُحِلَّ بتَأْويلٍ مِثلِ هذا. فقد رُوِيَ أنَّ قُدامَةَ بنَ مَظْعُونٍ شَرِب الخَمْرَ مُسْتَحِلًّا، [فأقامَ عمرُ عليه الحَدَّ، ولم يُكَفِّرْه. وكذلك أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيل، وجماعةٌ، شَرِبُوا الخَمْرَ بالشَّامِ مُسْتَحِلِّينَ] (¬1) لها، مُسْتَدِلِّين بقولِ اللهِ تعالى: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (¬2) الآية (¬3). فلم يُكَفَّرُوا، وعُرِّفُوا تَحْريمَها، فتابُوا، وأُقِيمَ عليهم (¬4) الحَدُّ (¬5) فيُخَرَّجُ في مَن كان مثلَهم مثلُ حُكْمِهم. وكذلك كُلُّ جاهلٍ بشيءٍ يُمْكِنُ أن يَجْهَلَه، لا يُحْكَمُ بكُفْرِه حتى يَعْرِفَ ذلك، وتَزُولَ عَنه الشُّبْهَةُ، ويَسْتَحِلَّه بعدَ ذلك. وقد قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: مَن قال: الخمرُ حَلالٌ. فهو كافرٌ يُسْتَتَابُ، فإن تابَ، وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُه. وهذا مَحْمُولٌ على مَن لا يَخْفَى على مثلِه تحْريمُه؛ لِما ذَكَرْنا. فأمَّا إن أكَلَ لحمَ الخِنْزيرِ، أو مَيتَةً، أو شَرِب خَمْرًا، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه بمُجَرَّدِ ذلك، سَواءٌ فَعَلَه في دارِ الحربِ أو دارِ الإِسْلامِ؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ فَعَلَه مُعْتَقِدًا تَحْريمَه، يفعلُ غيرَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المائدة 93. (¬3) تقدم تخريجه في: 26/ 414. (¬4) في الأصل: «عليه». (¬5) في م: «حدها».

4581 - مسألة: (ومن ترك شيئا من العبادات الخمس تهاونا،

وَإنْ تَرَكَ شَيئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الخَمْسِ تَهَاوُنًا، لَمْ يَكْفُرْ. وَعَنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك مِن المُحَرَّماتِ. فصل: والإِسلامُ شهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصَّلَواتِ الخمسِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحَجُّ البيتِ، فمَن أقَرَّ بهذا فهو مسلمٌ وتَجْرِي عليه أحكامُ الإِسلامِ، ومَن أنْكَرَ هذا أو شيئًا منه كَفَر، لأنَّ الإِقْرارَ بالجميعِ واجبٌ بالاتِّفاقِ، ولا يكونُ مسلمًا إلَّا بذلك، فَمن أنْكرَ ذلك (¬1) لم يَكُنْ مسلمًا، ومَن أنكرَ البعضَ، كان كمَن أنكرَ الجميعَ، لأنَّه إذا أنكرَ البعضَ كان البعضُ الآخرُ كالمعْدومِ، والدليلُ على ذلك أنَّ مَن تَرَك رُكْنًا مِن أركانِ الصلاةِ عامدًا، بَطَلَتْ، وكان وجودُ باقي الأركانِ كالمعدومِ، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمسئِ في صلاتِه: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» (¬2). فجَعَلَ وجودَ صلاتِه كعدمِها حيثُ تَرَك بعضَ أركانِها. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ} (¬3). وإنَّما كَذَّبُوا نوحًا وحدَه، فكان تكذيبُهم إياه كتَكْذِيبِهم جميعَ المرسلِين. وعلى هذا لو جَحَد حُكْمًا مِن أحكامِ الإِسلامِ مُجْمَعًا عليه، كان كمَن جَحَدَه جميعَه. 4581 - مسألة: (ومَن ترَك شَيئًا مِن العِباداتِ الخَمْسِ تَهاوُنًا، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 408. (¬3) سورة الشعراء 105.

4582 - مسألة: (ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء،

يَكْفُرُ إلا الْحَجَّ لَا يَكْفُرُ بِتَأْخِيرِهِ بِحَالٍ. فَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَكْفُرْ. وعنه، يَكْفُرُ) وقد ذَكَرْنا تَوْجِيهَ الرِّوايَتَين في بابِ مَن ترَك الصلاةَ. فأمَّا (الحَجُّ، فلا يَكْفُرُ بتَأْخِيرِه بحالٍ) لأنَّ في وَجُوبِه على الفَوْرِ خِلافًا بينَ العلماءِ، على ما ذُكِر في مَوْضِعِه. 4582 - مسألة: (ومَن ارْتَدَّ عن الإِسلامِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ،

دُعِيَ إِلَيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَضُيِّقَ عَلَيهِ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ، قُتِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو بالِغٌ عاقِلٌ، دُعِيَ إليه ثَلاثَةَ أيَّامٍ، وضُيِّقَ عليه، فإن لم يتُبْ قُتِلَ) الكلامُ في هذه المسألةِ في خمسةِ فُصولٍ، أحدُها: أنَّه لا فَرْقَ بينَ الرِّجال والنِّساءِ في وُجوبِ القتلِ. رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ، وعليٍّ (¬1)، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال الحسنُ، والزُّهْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ، ومَكْحُولٌ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ. ورُوِيَ عن عليٍّ، والحسنِ، وقَتادَةَ، أنَّها تُسْتَرَقُّ ولا تُقْتَل؛ لأنَّ أبا بكرٍ اسْتَرَقَّ نِساءَ بني حنيفةَ، وذَرَارِيَّهم، وأعْطَى عليًّا امرأةً منهم، فوَلَدَت له محمدَ بنَ الحَنَفِيَّةِ (¬2)، وكان (¬3) هذا بمَحْضَرٍ من الصحابةِ، فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا. وقال أبو حنيفةَ: تُجْبَرُ على الإسْلامِ بالحَبْسِ والضَّرْبِ، ولا تُقتَلُ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً» (¬4). ولأنَّها لا تُقْتَلُ بالكُفْرِ الأصْلِيِّ، فلا تُقْتَلُ بالطَّارِئ، كالصَّبِيِّ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد 5/ 91. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: حديث الأوس والخزرج، من كتاب المغازي. المصنف 5/ 407 - 410. والبيهقي، في: باب ترك قتال من لا قتال فيه. . . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 90، 91. وانظر ما تقدم في: 10/ 70، 71.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه البخاريُّ، وأبو داودَ (¬1). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِيِنِهِ المُفَارِقُ للْجَمَاعَةِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وروَى الدَّارَقُطْنِيُّ (¬3)، أنَّ امرأةً يُقالُ لها: أُمُّ مَرْوانَ، ارْتَدَّتْ عن الإِسْلامِ، فبَلَغَ امْرُها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فأمَرَ أن تُسْتَتابَ، فإن تابَتْ، وإلَّا قُتِلَتْ. ولأنَّها شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الحَقِّ بالباطلِ، فتُقْتَلُ كالرجُلِ. وأمَّا نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْلِ المرأةِ، فالمُرادُ به الأصلِيَّةُ، فإنَّه (¬4) قال ذلك حينَ رَأى امرأةً مَقْتُولَةً، وكانت كافِرَةً أصْلِيَّةً، وكذلك نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذين بَعَثَهم إلى ابنِ أبي الحُقَيقِ (¬5) عن قتلِ النِّساءِ (¬6)، ولم يَكُنْ فيهم مُرْتَدٌّ. ويُخالِفُ الكُفْرُ الأصْلِيُّ الطارِئَ، بدليلِ أنَّ الرَّجُلَ يُقَرُّ عليه، ولا يُقْتَلُ الشُّيوخُ، ولا المَكافِيفُ، ولا تُجْبَرُ المرأةُ على تَرْكِه بضَرْبٍ ولا حَبْسٍ، والكُفْرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 42. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 25. (¬3) في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطني 3/ 118. كما أخرجه البيهقي، في: باب قتل من ارتد. . . .، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 203. وهو حديث ضعيف. انظر تلخيص الحبير 4/ 49، والإرواء 8/ 125، 126. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «الحقيقق». (¬6) أخرجه البيهقي، في: باب النهي عن قصد النساء والولدان بالقتل، من كتاب الجهاد. السنن الكبرى 9/ 77. وابن أبي شيبة، في: باب من ينهى عن قتله في دار الحرب، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 381، 382. وعبد الرزاق، في: باب البيات، من كتاب الجهاد. المصنف 5/ 202. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في قتل النساء والولدان، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 239.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطارئُ (¬1) بخِلافِه، والصَّبِيُّ غيرُ مُكَلَّفٍ، بخِلافِ المرأةِ. وأمَّا بنو حنيفةَ، فلم يَثْبُتْ أنَّ مَن اسْتُرِقَّ منهم تَقَدَّمَ له إسْلامٌ، ولم يَكُنْ بنو حنيفةَ أسْلَمُوا كلُّهم، وإنَّما أسْلَمَ بعضُهم، والظَّاهِرُ أنَّ الذين أسْلَمُوا كانوا رِجالًا، فمنهم مَن ثَبَت على إسْلامِه، منهم ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، ومنهم مَن ارْتَدَّ، منهم الدَّجَّالُ الحَنَفِيُّ. الفصلُ الثاني: أنَّ الرِّدَّةَ لا تَصِحُّ إلَّا من عاقلٍ، فأمَّا الطِّفْلُ الذي لا يَعْقِلُ، والمجْنونُ، ومَن زال عَقْلُه بنَوْمٍ، أو إغْماءٍ، أو شُرْبِ دَواءٍ مُباحٍ شُرْبُه، فلا تَصِحُّ رِدَّتُه، ولا حُكْمَ لكَلامِه، بغيرِ خِلافٍ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه من أهلِ العلمِ، على أنَّ المجنونَ إذا ارْتَدَّ في حالِ جُنونِه، أنَّه (¬3) مسلمٌ على ما كان عليه قبلَ ذلك، ولو قَتَلَه قاتِلٌ عَمْدًا، كان عليه القَوَدُ، إذا طَلَب أوْلِياؤُه. وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ». أخْرَجَه أبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬4)، وقال: حديثٌ حسنٌ. ولأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فلم يُؤاخَذْ بكَلامِه، كما لم يُؤاخَذْ به في إقرارِه، ولا طَلاقِه، ولا عَتاقِه. وأمَّا السَّكْرانُ، والصَّبِيُّ العاقلُ، فيُذْكَرُ حُكْمُهُمَا فيما بعدُ، إن شاءَ اللهُ تعالى. الفصلُ الثالثُ: أنَّه لا يُقْتَلُ حتى يُسْتَتابَ ثلاثًا. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ ¬

(¬1) في م: «الأصلي». (¬2) في: الإشراف 3/ 159، والإجماع 76. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في: 3/ 15. وانظر طرقه وألفاظه والإرواء 2/ 4 - 7.

وَعَنْهُ، لَا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ، وَيَجُوزُ قَتْلُهُ في الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ العلمِ؛ منهم عمرُ وعليٌّ (¬1) وعَطاءٌ، والنَّخَعِيّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. وهذا أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وعن أحمدَ، رِوايةٌ أُخْرَى (¬2) (لا تجبُ اسْتِتَابَتُه، بل تُسْتَحَبُّ) وهو القولُ الثاني للشافعيِّ. وبه قال عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ، وطاوُسٌ. ويُرْوَى ذلك (1) عن الحسنِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». ولم يَذْكُرِ اسْتِتابَةً. ورُوِيَ أنَّ مُعاذًا قَدِمَ على أبي موسى، فوَجَدَ عندَه رجلًا مُوثَقًا، فقال: ما هذا؟ قال: رجل كان يَهُودِيًّا فأسْلَمَ، ثم راجَعَ دِينَه دينَ السَّوْءِ فتَهَوَّد. فقال: لا أجْلِسُ حتى يُقْتَلَ، قَضاءُ اللهِ ورسولِه (¬3). ثلاثَ مَرَّاتٍ، [فأمَرَ به] (¬4) فقُتِلَ. مُتَّفَق عليه (¬5). ولم يَذْكُرِ اسْتِتابَةً؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ثانية». (¬3) بعده في الأصل، ر 3: «قال: اجلس. نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله». وهو لفظ مسلم وأبي داود. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) أخرجه البخاري، في: باب حكم المرتد والمرتدة، من كتاب استتابة المرتدين. . . . صحيح البخاري 9/ 19. ومسلم، في: باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1457. كما أخرجه أبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سنن أبي داود 2/ 441. والنسائي، في: باب الحكم في المرتد، من كتاب التحريم. المجتبى 7/ 97. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 409.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه يُقْتَلُ لكُفْرِه، فلم تَجِبِ اسْتِتابَتُه كالأصْلِيِّ، ولأنَّه لو قُتِلَ قبلَ الاسْتِتابَةِ، لم يُضْمَنْ، ولو حَرُمَ قَتْلُه قبلَه (¬1) ضُمِنَ. وقال عطاءٌ: إن كان مسلمًا أصْلِيًّا، لم يُسْتَتَبْ، وإن كان أسْلَمَ ثمَّ ارْتَدَّ اسْتُتِيبَ. ولَنا، حديثُ أُمِّ مَرْوانَ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أن تُسْتَتابَ. وروَى مالكٌ، في «المُوطَّأ» (¬2) عن عبدِ الرحمنِ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبدٍ القارِيِّ، عن أبِيه، أنَّه قَدِمَ على عمرَ رجلٌ من قِبَلِ أبي موسى، فقال له عمرُ: هل كان مِن مُغَرِّبةِ خَبَرٍ (¬3)؟ قال: نعم، رجلٌ كَفَر بعدَ إسْلامِه. فقال: ما فَعَلْتُم به؟ قال: قَرَّبْناه، فَضَرَبْنا عُنُقَه. فقال عمرُ: فَهَلَّا حَبَسْتُمُوه ثلاثًا، فأطْعَمْتُمُوه كلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، واسْتَتَبْتُمُوه، لعلَّه يَتُوبُ، أو (¬4) يُرَاجِعُ أمْرَ اللهِ؟ اللَّهُمَّ إنِّي (¬5) لم أحْضُرْ، ولم آمُرْ، ولم أرْضَ إذْ بَلَغَنِي. ولو لم تَجِبِ اسْتِتابَتُه لَمَا بَرِئَ من فِعْلِهم. ولأنَّه أمْكَنَ اسْتِصْلاحُه، فلم يَجُزْ إتْلافُه قبلَ اسْتِصْلاحِه، كالثَّوْبِ النَّجِسِ. وأمَّا الأمْرُ بقَتْلِه، فالمُرادُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب القضاء في من ارتد عن الإسلام، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 737. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 165. وسعيد بن منصور، في: باب ما جاء في الفتوح، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 226. وابن أبي شيبة، في: باب في المرتد عن الإسلام، من كتاب الحدود، وفي: باب ما قالوا في المرتد كم يستتاب، من كتاب الجهاد. المصنف 10/ 137، 12/ 273. وانظر الإرواء 8/ 130، 131. (¬3) أي هل من خبر جديد جاء من بلد بعيد. (¬4) في الموطأ: «و». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به بعدَ الاسْتِتابَةِ، بدَليلِ ما ذَكَرْناه. وأمَّا حديثُ مُعاذٍ فإنَّه قد جاءَ فيه: وكان قد اسْتُتِيبَ (¬1). ويُرْوَى أنَّ أبا موسى اسْتَتابَه شَهْرَين قَبْلَ قُدومِ مُعاذٍ عليه، وفي رِوايةٍ: فدَعاهُ عِشْرِينَ لَيلَةً أو قَرِيبًا من ذلك، فجاءَ مُعاذٌ، فدَعاه فأبَى، فضُرِبَتْ عُنُقُه. رواهنَّ أبو داودَ (1). ولا يَلْزَمُ من تحْريم القَتْلِ وُجُوبُ الضَّمانِ، بدليلِ نِساءِ أهلِ الحَرْبِ وصِبْيانِهِم. إذا ثَبَت وُجُوبُ الاسْتِتابَةِ، فمُدَّتُها ثلاثةُ أيَّامٍ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال مالكٌ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْي. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال في الآخَرِ: إن تابَ [في الحال] (2) وإلَّا قُتِلَ مَكانَه. وهذا أصَحُّ قَوْلَيه. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ؛ لحَدِيثِ أُمِّ مَرْوانَ [ومُعاذٍ] (¬2)؛ لأنَّه مُصِرٌّ على كُفْرِه، أشْبَهَ بعدَ الثَّلاثِ، وقال الزُّهْرِيُّ: يُدْعَى ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإن أبي، ضُرِبَتْ عُنُقُه. وهذا يُشْبِهُ قَوْلَ الشافعيِّ. وقال النَّخَعِيُّ: يُسْتَتابُ أبَدًا. وهذا يُفْضِي إلى أنَّه لا يُقْتَلُ أَبدًا، وهو مُخالِفٌ للسُّنَّةِ والإِجْماعِ. وعن عليٍّ، أنَّه استتاب رجلًا شَهْرًا (¬3). ولَنا، حديثُ ¬

(¬1) أخرج روايتي الاستتابة المطلقة والمقيدة بعشرين ليلة، أبو داود، في: باب الحكم في من ارتد، من كتاب الحدود. سن أبي داود 2/ 441. كما أخرج الرواية المقيدة بشهرين، عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 168. وابن أبي شيبة، في: باب في المرتد عن الإسلام ما عليه، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 138. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 164.

4583 - مسألة: (ويقتل بالسيف)

وَيُقْتَلُ بِالسَّيفِ ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ (¬1)، ولأنَّ الرِّدَّةَ إنَّما تكونُ لشُبْهَةٍ، ولا تَزُولُ في الحالِ، فوَجَبَ أن يُنْظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فيها، وأَوْلَى (¬2) ذلك ثلاثة أَيَّامٍ؛ للأَثَرِ فيها، وأنَّها مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ. ويَنْبَغِي أن يُضيَّقَ عليه في مُدَّةِ الاسْتِتابَةِ، ويُحْبَسَ؛ لقولِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه: هَلَّا حَبَسْتُمُوه، وأطْعَمْتُموهُ كلَّ يومٍ رَغِيفًا. ويُكَرِّرَ دِعايتَه، لَعَلَّهُ يَنْعَطِفُ قَلْبُه، فيُرَاجِعَ دِينَه. الفصلُ الرابعُ: إن لم يَتُبْ قُتِلَ؛ لِما قَدَّمْنا ذِكْرَه. وهو قولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ. 4583 - مسألة: (ويُقْتَلُ بالسَّيفِ) لأنَّه آلةُ القَتْلِ ولا يُحْرَقُ بالنَّارِ. ورُوِيَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أمَرَ بتَحْرِيقِ المُرْتَدِّينَ (¬3)، وفعَلَ ذلك بهم خالِدٌ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لقَوْلِ النبِّي - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ». يَعْنِي النَّارَ، أخْرَجَه البخارِيُّ (¬4). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فإِذَا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا القِتْلَةَ» (¬5). الفصلُ الخامسُ: أنَّ مَفْهُومَ كلامِ المُصَنِّفِ، رَحِمَه اللهُ، في هذه المسألةِ، إذا تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه، وسَنَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في م: «على». (¬2) بعده في م: «كل». (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب القتل بالنار، من كناب الجهاد. المصنف 5/ 212. والبيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال. . . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 178. (¬4) تقدم تخريجه في 21/ 42. (¬5) تقدم تخريجه في 10/ 170.

4584 - مسألة: (ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه)

وَلَا يَقْتُلُهُ إلَّا الإمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، فَإنْ قَتَلَهُ غَيرُهُ بِغَيرِ إِذْنِهِ، أسَاءَ، وَعُزِّرَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيهِ، سَواءٌ قَتَلَهُ قَبْلَ الْاسْتِتَابَةِ أوْ بَعْدَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4584 - مسألة: (ولا يَقْتُلُه إلَّا الإمامُ أو نائِبُه) حُرًّا كان المُرْتَدُّ أو عَبْدًا. وهذا قولُ عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، إلَّا الشافعيَّ، في أحَدِ الوَجْهَين في العَبْدِ، أنَّ لسَيِّدِه قَتلَه. وعن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ لَه قَتْلَه في الرِّدَّةِ، وقَطْعَه في السَّرِقَةِ؟ لقولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ» (¬1). ولأنَّ حَفْصَةَ قَتَلَتْ جَارِيَةً سَحَرَتْها (¬2)، وابنَ عمرَ قَطَع عَبْدًا سَرَق (¬3). ولأنَّه حَدٌّ للهِ تعالى، فَمَلَك السَّيِّدُ إقَامَتَه، كحَدِّ الزَّانِي. ولَنا، أنَّه قَتْل لحَقِّ اللهِ تعالى، فكان إلى الإِمامِ، كقَتْلِ الحُرِّ، فأمَّا قولُه: «أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ». فلا يَتَناوَلُ القَتْلَ في الرِّدَّةِ، فإنَّه قَتْلٌ لكُفْرِه، لا حَدَّا في حَقِّه. وأمَّا خبَرُ حَفْصَةَ، رضي اللهُ عنهِا، فإنَّ عُثمانَ، رضي اللهُ عنه، تَغَيَّظَ عليها، وشَقَّ عليه (¬4). فأمَّا الجَلْدُ في الزِّنى، فإنَّه تَأْدِيبُ عَبْدِهِ، بخِلافِ القَتْلِ، وقد ذَكَرْنا. ذلك في كتابِ (¬5) الحُدُودِ. 4585 - مسألة: (فإن قَتَلَه غيرُه بغيرِ إذْنِه، أسَاءَ، وعُزِّرَ) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 174. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 175. (¬3) تقدم تخريجه في 26/ 175. (¬4) في الأصل: «عليها». (¬5) سقط من: م.

4586 - مسألة: (وإن عقل الصبي الإسلام، صح إسلامه وردته. وعنه، يصح إسلامه دون ردته. وعنه، لا يصح شيء منهما حتى يبلغ. والمذهب الأول)

وَإنْ عَقَلَ الصَّبِيُّ الإسْلَامَ، صَحَّ إِسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ. وَعَنْهُ، يَصِحُّ إِسْلَامُهُ دُونَ رِدَّتِهِ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَبْلُغَ. وَالْمَذْهَبُ الْأوَّلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لإساءَتِه وافْتِيَاتِه على الإمامِ (ولا ضَمانَ عليه) لأنَّه مَحَلٌّ غيرُ مَعْصُومٍ، و (سَواءٌ قَتَلَه قبلَ الاسْتِتابَةِ أو بعدَها) لذلك. 4586 - مسألة: (وإن عَقَل الصَّبِيّ الإِسْلامَ، صَحَّ إسْلامُه ورِدَّتُهُ. وعنه، يَصِحُّ إسْلامُهُ دُونَ رِدَّتِهِ. وعنه، لا يَصِحُّ شيءٌ منهما حَتَّى يَبْلُغَ. والمذهبُ الأوَّلُ) يَصِحُّ إسْلامُ الصَّبِيِّ في الجملةِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وإسحاقُ، وابنُ أبي شَيبَةَ، وأبو أيُّوبَ. وقال الشافعيُّ، وزُفَرُ: لا يَصِحُّ إسْلامُه حتى يَبْلُغَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثةٍ؛ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» (¬1). حديثٌ حسنٌ. ولأنَّه قَوْلٌ تَثْبُتُ به الأحْكامُ، فلم يَصِحَّ مِن الصَّبِيِّ، كالهِبَةِ والعِتْقِ، ولأنَّه أحَدُ مَن رُفِعَ عنه القَلَمُ، فلم يَصِحَّ إسْلامُه، كالنَّائِمِ والمَجْنُونِ، ولأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، أشْبَهَ الطِّفْلَ. ولَنا، عُمُومُ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ قَال: لَا الهَ إلَّا اللهُ. دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬2). وقولِه: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: ¬

(¬1) تقدم تخريخه في 3/ 15. وانظر الإرواء 2/ 4 - 7. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الثياب البيض، من كتاب اللباس. صحيح البخاري 7/ 192، 193. ومسلم، في: باب من مات لا يشرك بالله شيئًا. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 95. والترمذي، في: باب في من يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي 10/ 105، 106. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 467، 5/ 166، 391، 6/ 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، فإذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ إلَّا بحَقِّهَا، وحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (¬1). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ، فَأبوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، ويُنَصِّرَانِه، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورًا» (¬2). وهذه الأخْبارُ يَدْخُلُ في عُمُومِها الصَّبِيُّ، ولأنَّ الإِسْلامَ عِبادَة مَحْضَة، فصَحَّتْ من الصَّبِيِّ العاقلِ، كالصلاةِ والحَجِّ، ولأنَّ اللهَ تعالى دَعا عبادَه إلى دارِ السَّلامِ (¬3)، وجَعَل طريقَها الإِسْلامَ، وجَعَل مَن لم يُجِبْ دَعْوتَه في الجحيمِ والعَذابِ الأليمِ، فلا يجوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ من إجابَةِ دَعْوَةِ اللهِ تعالى، مع إجابتِه إليها، وسُلوكِه طَرِيقَها، ولا إلْزامُه بعذاب اللهِ، والحكمُ عليه بالنَّارِ، وسَدُّ طريقِ النَّجاةِ عليه مع هَرَبِه منها، ولأنَّ ما ذَكَرناه إجْماعٌ، فإنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، أسْلَم صَبِيًّا، وقال (¬4): سَبَقْتُكُمُ إلى الإِسْلامِ طُرًّا … صَبيًّا ما بَلَغْتُ أوانَ حُلْمِي ولهذا قِيلَ: أوَّلُ مَن أسْلَمَ من الرِّجالِ أَبو بكرٍ، ومن الصِّبْيانِ عليٌّ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 94. ويضاف إليه: مسند الإمام أحمد 3/ 353. وانظر طرقه وألفاظه في الإرواء 5/ 49 - 51. (¬3) في الأصل: «الإسلام». (¬4) البيت ضمن أبيات له في: البداية والنهاية 8/ 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن النِّساءِ خَدِيجَةُ، ومن العَبِيدِ بلالٌ (¬1). وقال عُرْوَةُ: أسْلَمَ على والزُّبَيرُ، وهما ابنا ثمانِ سنينَ، وبايعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابنُ الزُّبَيرِ لسَبْعِ أو ثمانِ سِنِينَ، ولم يَرُدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أحَدٍ إسْلَامَه، من صَغِيرٍ أو (¬2) كبيرٍ. فأمَّا قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثةٍ». فلا حُجَّةَ لهم فيه، فإنَّه يَقْتَضِي (¬3) أنْ لا يُكْتَب عليه ذَنْبٌ، والإِسْلامُ يُكْتَبُ له لا عليه، ويَسْعَدُ به في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فهو كالصلاةِ تَصِحُّ منه وتُكْتَبُ له وإن لم تَجِبْ عليه، وكذلك غيرُها من العباداتِ المَحْضَةِ، فإن قِيلَ: فالإِسْلامُ يُوجِبُ عليه الزَّكاةَ [في مالِه، ونَفَقَةَ قَرِيبِه المُسْلِمِ، ويَحْرِمُه مِيرَاثَ قَرِيبِه الكَافِرِ، ويَفسَخُ نِكاحَه. قُلْنا: أمَّا الزَّكاةُ] (¬4) فإنَّها نَفعٌ؛ لأنَّها سَبَبُ الزِّيادَةِ والنَّماءِ، وتَحْصِينِ المالِ، والثَّوابِ، وأمَّا المِيراثُ والنَّفَقَةُ، فأمْرٌ مُتَوَهَّمٌ، وهو مَجْبُورٌ بمِيرَاثِه من أقارِبِه المسلمينَ، وسُقوطِ نَفَقَةِ أقارِبِه الكُفَّارِ، ثم إنَّ هذا الضَّرَرَ مَغْمُورٌ في جَنبِ ما يَحْصُلُ له من سعادةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وخَلاصِه من شَقاءِ الدَّارَين والخُلودِ في الجحيمِ فيُنَزَّلُ (¬5) منْزِلَةَ الضَّرَرِ في أكْلِ القُوتِ، المُتضمِّنِ افَوْتَ ما يَأْكُلُه وكُلْفَةَ ¬

(¬1) انظر: الوسائل إلى معرفة الأوائل، للسيوطي 96. (¬2) في الأصل: «و». (¬3) في الأصل: «يفضي». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «منزل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْريكِ فِيه لمَّا كان بَقاؤُه به (¬1) لم يُعَدَّ ضَرَرًا، والضَّرَرُ في مسألتِنا في جَنْبِ ما يَحْصُلُ من النَّفْعِ، أدْنَى من ذلك بكثيرٍ. فصل: واشْتَرَطَ الخِرَقِيُّ لصِحَّةِ إسْلامِه، أن يكونَ له عشرُ سِنِينَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بضَرْبِه على الصلاةِ لعَشْرٍ (2). وأن يكونَ ممَّن يَعْقِلُ الإِسْلامَ. ومعناه أن يَعْلَمَ أنَّ اللهَ تَعالى ربُّه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبْدُه ورسولُه. وهذا لا خِلافَ في اشْتِراطِه. فإنَّ الطِّفْلَ الذي لا يَعْقِلُ، لا يَتَحَقَّقُ منه اعْتِقادُ الإِسْلام، وإنَّما كلامُه لَقْلَقَةٌ بلسانِه، لا يَدُلُّ على شيءٍ. فأمَّا اشْتِراطُ العَشْرِ، فإنًّ أكثرَ المُصَحِّحِينَ لإِسْلامِه لم يَشْتَرِطُوا ذلك، ولم يَحُدُّوا له حَدًّا من السِّنينَ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ؛ لأنَّ المَقْصُودَ متى حَصَل، لم يَحْتَجْ إلى زِيادةٍ عليه. ورُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، إذا كانَ ابنَ سَبْعِ سِنينَ، فإسْلامُه إسْلامٌ؛ وذلك لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُرُوهُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ» (¬2). فدَلَّ على أنَّ ذلك حَدٌّ لأمْرهم، وصِحَّةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 19.

4587 - مسألة: (وإن أسلم، ثم قال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت

وَإنْ أسْلَمَ ثُمَّ قَال: لَمْ أَدرِ مَا قُلْتُ. لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَأُجْبِرَ ـــــــــــــــــــــــــــــ عِبادَتِهم، فيكونُ حَدًّا لصِحَّةِ إسْلامِهم. وقال ابنُ أبي شَيبَةَ: إذا أسْلَمَ وهو ابنُ خَمْسِ سِنِينَ، جُعِلَ إسْلامُه إسْلامًا. ولعلَّه يقولُ: إن عليًّا أسْلَمَ (¬1) وهوٍ ابنُ خَمسٍ؛ لأنَّه قد قِيلَ: إنَّه قد ماتَ وهو ابنُ ثمانٍ وخمسينَ سنةً. فعلى هذا يكونُ إسْلامُه، وهو ابنُ خَمسٍ؛ لأنَّ مُدَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منذُ بُعِثَ إلى أن ماتَ ثلاثٌ وعشرونَ سَنَةً، وعاشَ عليٌّ بعدَه ثلاثين سنةً؛ فذلك ثلاثٌ وخمسونَ سنةً (¬2)، فإذا ضَمَمْنا إليها خَمْسًا، كانت ثمانيًا وخمْسين. وقال أبو أيُّوبَ: أُجِيزَ إسْلامُ ابنِ ثلاثِ سِنِينَ، مَن أصابَ الحقَّ من صَغِيرٍ أو (¬3) كبِيرٍ أجَزْناه. وهذا لا يَكادُ يَعْقِلُ الإِسْلامَ، ولا يَدْرِي ما يقولُ، ولا يَثْبُتُ لقولِه حُكْمٌ، فإن وُجِدَ ذلك منه ودَلَّتْ أحْوالُه وأقوالُه على مَعرِفَةِ الإِسْلامِ، وعَقْلِه إيَّاهُ، صَحَّ منه كغيرِه. 4587 - مسألة: (وإن أسْلَمَ، ثم قال: لم أدْرِ ما قُلْتُ. لم يُلْتَفَتْ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «و».

عَلَى الإسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى قولِه، وأُجْبِرَ على الإِسْلامِ) متى حَكَمْنا بصِحَّةِ إسْلامِ الصَّبِيِّ، لمعرِفَتِنا بعَقْلِه (¬1) بأدِلَّتِه، فرَجَعَ، وقال: لم أدْرِ ما قلتُ. لم يُقْبَلْ قولُه، ولم يَبْطُلْ إسْلامُه الأوَّلُ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه يُقْبَلُ منه، ولا يُجْبَرُ على الإِسْلام. قال أبو بكرٍ: هذا قولٌ مُحْتَمِلٌ؛ لأنَّ الصَّبِيَّ في مَظِنَّةِ النَّقْصِ، فيجوزُ أن يكونَ صادِقًا. قال: والعملُ على الأوَّلِ؛ لأنَّه قد ثَبَت عَقْلُه للإِسْلامِ، ومعرفتُه به بإفْعالِه أفعال العُقَلاءِ، وتَصرُّفاتِه تَصَرُّفاتِهم، وتَكَلُّمِه بكلامِهم، وهذا يَحْصُلُ به معرِفَةُ عَقْلِه؛ ولهذا اعْتَبَرْنا رُشْدَه بعدَ بُلُوغِه بأفْعالِه وتَصرُّفاتِه، وعَرَفْنا جُنونَ المجْنُونِ وعَقْلَ العاقلِ بما يَصْدُرُ عنه من أقْوالِه وأفْعالِه وأحْوالِه، فلا يَزولُ ما عَرَفْناه بمُجَرَّدِ دَعْوَاه. وهكذا كلُّ مَن تَلَفَّظَ بالإِسْلامِ، أو أخْبَرَ عن نفْسِه، ثم أنْكَرَ معرفتَه بما قال، لم يُقْبَلْ إنْكارُه، وكان مُرْتَدًّا. نَصَّ عليه أحمدُ في مَواضِعَ. ¬

(¬1) في م: «بفعله».

4588 - مسألة: (ولا يقتل حتى يبلغ، ويجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه، فإن ثبت على كفره قتل)

وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُجَاوزَ ثَلَاثَةَ أَيامٍ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِهِ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى كُفْرِهِ قُتِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، إذا ارْتَدَّ، صَحَّتْ رِدَّتُه، وأُجْبِرَ على الإِسْلامِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. والظاهرُ مِن مذهبِ مالكٍ. وعندَ الشافعيِّ: لا يَصِحُّ إسْلامُه ولا رِدَّتُه. وقد رُوِيَ أنَّه يَصِحُّ إسْلامُه، ولا تَصِحُّ رِدَّتُه، لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» (¬1). وهذا يَقْتَضِي أنَّه لا يُكْتَبُ عليه ذَنْبٌ ولا شَيءٌ، ولو صَحَّتْ رِدَّتُه، لكُتِبَتْ. وأمَّا الإِسْلامُ فلا يُكْتَبُ عليه، إنَّما يُكْتَبُ له، ولأنَّ الرِّدَّةَ أمرٌ يُوجِبُ القَتْلَ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّ الصَّبِيِّ كالزِّنَى، ولأنَّ الإِسْلامَ إنَّما صَحَّ منه، لأنَّه تَمَحَّضَ مصلحةً، فأشْبَهَ الوَصِيَّةَ والتَّدْبِيرَ، والرِّدَّةُ تَمَحَّضَت مَضَرَّةً ومَفْسَدَةً، فلم يَلْزَمْ صِحَّتُها منه. فعلى هذا، حُكْمُه حُكْمُ مَن لم يَرْتَدَّ، فإذا بَلَغ، فإن أصَرَّ على الكُفْرِ كان مُرْتَدًّا حِينَئِذٍ. 4588 - مسألة: (ولا يُقْتَلُ حتى يَبْلُغَ، ويُجاوزَ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ مِن وَقْتِ بُلُوغِه، فإن ثَبَت على كُفْرِه قُتِلَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الصَّبِيَّ لا يُقْتَلُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 15.

4589 - مسألة: (ومن ارتد وهو سكران، لم يقتل حتى يصحو، وتتم له ثلاثة أيام من وقت ردته، فإن مات في سكره، مات كافرا. وعنه، لا تصح ردته)

وَمَنِ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ، لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يَصْحُوَ، وَتَتِمَّ لَهُ ثَلَاثةُ أيَّامٍ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، فَإِنْ مَاتَ في سُكْرِهِ، مَاتَ كَافِرًا. وَعَنْهُ، لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ارْتَدَّ، سَواءْ قُلْنا بصِحَّةِ رِدَّتِه أو لا؛ لأنَّ الغُلامَ لا يجبُ عليه عُقُوبَةٌ، بدَليلِ أنَّه لا يَتَعَلَّقُ به حُكمُ الزِّنَى والسَّرِقَةِ وسائرِ الحُدُودِ، ولا يُقْتَلُ قِصاصًا، فإذا بَلَغ، وثَبَت على رِدَّتِه، ثَبَت حُكمُ الرِّدَّةِ حِينَئذٍ، فيُسْتَتابُ ثلاثًا، فإن تابَ، وإلَّا قُتِلَ، سَواءٌ قُلْنا: إنَّه كان مُرْتَدًّا قبلَ بُلُوغِه أو لم نَقُلْ، وسَواءٌ كان مسلمًا أصْلِيًّا فارْتَدَّ، أو كان كافِرًا فأسْلَمَ صَبِيًّا ثم ارْتَدَّ. 4589 - مسألة: (ومَن ارْتَدَّ وهو سَكْرانُ، لم يُقْتَلْ حَتَّى يَصْحُوَ، وتَتِمَّ له ثَلاثَةُ أيَّام مِن وَقْتِ رِدَّتِه، فإن ماتَ في سُكْرِه، ماتَ كَافِرًا. وعنه، لا تَصِحُّ رِدَّتُه) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، في رِدَّةِ السَّكْرانِ؛ فرُوىَ عنه أنَّها تصِحُّ. قال أبو الخَطَّابِ: وهو أظهرُ الرِّوايَتَين عنه. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وعنه، لا تَصِحُّ رِدَّتُه (¬1). وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك يتعَلَّقُ بالاعْتِقادِ والقَصْدِ، والسَّكْرانُ لا يَصِحُّ عقدُه، فأشْبَهَ المَعْتُوهَ، ولأنَّه زائِلُ العَقْلِ، فلم تَصِحَّ رِدَّتُه كالنَّائمِ والمَجْنُونِ، ولأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فأشْبَهَ المَجْنُونَ. ووَجْهُ الرِّوايةِ الأولَى أنَّ الصحابةَ قالوا في السَّكْرانِ: إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، فَحُدُّوه حَدَّ المُفْتَرِي (¬1). وأوْجَبُوا عليه حَدَّ الفِرْيَةِ التي يأْتِي بها في سُكْرِه، وأقامُوا مَظِنَّتَهَا مُقَامَها، ولأنَّه يَقَعُ طَلاقُه، فصَحَّتْ رِدَّتُه كالصَّاحِي. وقولُهم: ليس بمُكَلَّفٍ. مَمْنُوعٌ، فإنَّ الصلاةَ واجِبَةٌ عليه، وكذلك سائِرُ أرْكانِ الإِسْلامِ، ويَأْثَمُ بفِعْلِ المُحَرَّماتِ. وهذا معنى التَّكْلِيفِ، ولأنَّ السَّكْرانَ لا يَزُولُ عقلُه بالكُلِّيَّةِ، ولهذا يَتَّقِي المُحْذُورَاتِ، ويَفْرَحُ بما يَسُرُّه، ويُساءُ بما يَضُرُّه، ويزولُ سُكْرُه عن قَرِيبٍ مِن الزَّمانِ، فأشبَهَ النَّاعِسَ، بخِلافِ المجْنُونِ، وأمَّا اسْتِتابَتُه فتُؤَخَّرُ إلى حينِ صَحْوه، فيَكْمُلُ عَقْلُه، ويَفْهَمُ ما يُقالُ له، وتَزُولُ شُبْهَتُه أنْ كان قد قال الكُفْرَ مُعْتَقِدًا له، كما تُؤَخَّرُ اسْتِتابَتُه إلى حينِ زَوالِ شِدَّةِ عَطَشِه وجُوعِه، ويُؤَخَّرُ الصَّبِيُّ إلى حينِ بُلُوغِه وكمالِ عَقْلِه، ولأنَّ القَتْلَ جُعِلَ للزَّجْرِ، ولا يَحْصُلُ الزجرُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 424.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حالِ سُكْرِه. وإن قَتَلَه قاتِلٌ في حالِ سُكْرِه، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّ عِصْمَتَه زالتْ. برِدَّتِه. وإن ماتَ أو قُتِلَ، [مات كافِرًا و] (¬1) لم يَرِثْه ورَثَتُه، ولا يُقْتَلُ حتى يَتِمَّ له ثلاثةُ أيَّامٍ مِن وَقْتِ رِدَّتِه، فإنِ اسْتَمَرَّ سُكْرُه أكثرَ مِن ثلاثٍ، لم يُقْتَلْ حتى يَصْحُوَ، ثم يُسْتَتابَ عَقِيبَ صَحْوه، فإن تابَ، وإلَّا قُتِلَ في الحالِ. فصل: فإن أسْلَمَ في سُكْرِه، صَحَّ إسْلامُه كما صَحَّتْ رِدَّتُه، ثم يُسْألُ بعدَ صَحْوه، فإن ثَبَت على إسْلامِه، فهو مسلمٌ مِن حينَ أسْلَمَ؛ لأنَّ إسْلامَه صَحَّ، وإنَّما يُسْألُ اسْتِظْهارًا، فإن ماتَ بعدَ إسْلامِه في سُكْرِه، مات مُسْلِمًا. ويَصِحُّ إسْلامُه في سُكْرِه؛ سَواءٌ كان كافِرًا (¬2) أصْلِيًّا أو مُرْتَدًّا، لأنَّه إذا صَحَّتْ رِدَّتُه مع أنَّها مَحْضُ مَضَرَّةٍ، وقولُ باطلٍ، فلأنْ يَصِحَّ إسْلامُه، الذي هو مَحْضُ مَصْلَحَةٍ، أوْلَى. ويَتَخرَّجُ أن لا يَصِحَّ [إسْلامُه في حالِ سُكْرِه، بِناءً على القولِ بأنَّ رِدَّتَه لا تَصِحُّ] (1)، فإنَّ مَن لا تَصِحُّ رِدَّتُه، لا يَصِحُّ إسْلامُه، كالمَجْنُونِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من النسخ، والمثبت من المغني 12/ 296.

4590 - مسألة: (وهل تقبل توبة الزنديق، ومن تكررت ردته، أو من يسب الله تعالى أو رسوله، أو الساحر؟ على روايتين؛ إحداهما، لا تقبل توبته، ويقتل بكل حال. والأخرى، تقبل توبته كغيره)

وَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، أوْ مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالى أوْ رَسُولَهُ، وَالسَّاحِرِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ؛ إِحْدَاهُمَا، لَا تقْبَل تَوْبَتُهُ، وَيُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ. وَالأخْرَى، تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، كَغَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تَصِحُّ رِدَّةُ المجنونِ ولا إسْلامُه، لأنَّه لا قولَ له. فإنِ ارْتَدَّ في صِحَّتِه، ثم جُنَّ، لم يُقْتَل في حالِ جُنونِه؛ لأنَّه يُقْتَلُ بالإِصْرارِ على الرِّدَّةِ، والمجنونُ لا يُوصَفُ بالإصْرارِ، ولا يُمْكِنُ اسْتِتابَتُه. ولو وَجَب عليه القِصاصُ فجُنَّ، قُتِل؛ لأنَّ القِصاصَ لا يَسْقُطُ عنه بسَبَبٍ من جِهَتِه، وههُنا يَسْقُطُ برُجُوعِه، ولأنَّ القِصاصَ إنَّما يَسْقُطُ بسَبَبٍ من جِهَةِ المُسْتَحِقِّ له، فَنَظِيرُ مَسْألَتِنا أن يُجَنَّ المُسْتَحِقُّ للقِصاصِ، فإنَّه لا (¬1) يَسْتَوْفِي في حالِ جُنُونِه. 4590 - مسألة: (وهل تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، ومَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه، أو مَن يسبَّ اللهَ تَعَالى أو رسولَه، أو السَّاحِرِ؟ على روَايَتَين؛ إحْدَاهُما، لا تُقْبَلُ تَوْبَتُه، ويُقتَلُ بِكُلِّ حالٍ. والأُخْرَى، تُقْبَلُ توْبَتُه كغيرِه) مفهومُ كلامِ الشيخِ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ المُرْتَدَّ إذا تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه، ولم يُقْتَلْ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيَّ كُفْرٍ (¬1) كان. وهو ظاهرُ كلام الخِرَقِيِّ، سَواءٌ كان زِنْدِيقًا، أو لم يَكُنْ. وهذا مذهبُ الشافعَيِّ، وَالعَنْبَرِيِّ. ويُرْوَى ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وهو إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، واختيارُ أبي بكرٍ الخَلَّالِ، وقال: إنَّه أَوْلَى على مذهبِ أبي عبدِ اللهِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، ومَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه. وهو قولُ مالكٍ، واللَّيثِ، وإسْحاق. وعن أبي حنيفةَ رِوايَتان، كهاتَين. واخْتيارُ أبي بكرٍ أنَّها لا تُقْبَلُ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (¬2). والزِّنْدِيقُ لا يَظْهَرُ منه ما يُبَيِّنُ به رُجُوعَه وتَوْبَتَه؛ لأنَّه كان مُظْهِرًا للإِسْلامِ، مُسِرًّا للكُفْرِ، فإذا أظْهَرَ التَّوْبَةَ، لم يَزِدْ على ما كان منه قبلَها، وهو إظْهارُ الإِسْلامِ، وأمَّا مَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه، فقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (¬3). وروَى الأثْرَمُ، بإسْنادِه، عن ظَبْيانَ (¬4) بنِ عُمارَةَ، أنَّ رَجلًا مِن بني سَعْدٍ مَرَّ على مسجدِ بني حَنِيفَةَ، فإذا هم يَقْرَأْونَ ¬

(¬1) في م: «كافر». (¬2) سورة البقرة 160. (¬3) سورة النساء 137. (¬4) انظر الاختلاف في فتح الظاء وكسرها بين ابن ماكولا والذهبي، في: الإكمال 5/ 246، 247، والمشتبه 424، 425.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ برَجَزِ مُسَيلَمَةَ، فرَجَعَ إلى ابنِ مسعودٍ، فذَكَرَ ذلك له، فبَعَث إليهم، فأُتِيَ بهم، فاسْتَتابَهُم، فتابُوا، فخَلَّى سَبِيلَهم، إلَّا رجُلًا منهم يُقالُ له: ابنُ النَّوَّاحَةِ. قال: قد أُتِيتُ بك مَرَّةً، فزَعَمْتَ أنَّك قد تُبْت، وأرَاكَ قد عُدْتَ. فقَتَلَه (¬1). ووَجْهُ الرَّوايةِ الأولى، قولُ اللهِ تعالى: {قُل للَّذِينَ كَفَروا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (¬2). ورُوِيَ أنَّ رجلًا سَارَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُدْرَ ما سَارَّه به، فإذا هو يَسْتَأْذِنُه في قَتْلِ رَجُلٍ من المُنافِقين، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَليسَ يَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ؟». قال: بلى، ولا شَهادةَ له. قال: «أليسَ يُصَلِّي؟». قال: بلى، ولَا صلاةَ له. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِيَ اللهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» (¬3). وقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إلا الَّذِينَ تَابُوا} (¬4). ورُوِيَ أنَّ مَخشِيَّ (¬5) ¬

(¬1) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 169. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد. . . .، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 269. والبيهقي، في: باب من قال في المرتد: يستتاب. . . .، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 206. (¬2) سورة الأنفال 38. (¬3) أخرجه الدارمي، في: باب في القتال على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن. . . .»، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 218. والإمام مالك، في: باب جامع الصلاة، من كتاب قصر الصلاة في السفر. الموطأ 1/ 171. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 432، 433. (¬4) سورة النساء 145، 146. (¬5) في النسخ: «محش». خطأ. وانظر: الإصابة 6/ 53. والإكمال 7/ 228.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنَ حُمَيِّرٍ كان في النَّفَرِ الذين أنْزَلَ اللهُ فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (¬1). فأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وتابَ إلى اللهِ تعالى، فقَبِلَ اللهُ توْبَتَه (¬2)، وهو الطَّائِفَةُ التي عَفا اللهُ عنها بقولِه سبحانه: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} (¬3). ورُوِيَ أنَّه سألَ اللهَ تعالى أن يُقْتَلَ شَهِيدًا في سَبيلِه، ولا يُعْلَمَ بمكانِه، فقُتِلَ يومَ اليَمامَةِ، ولم يُعْلَمْ مَوْضِعُه. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَفَّ عن المُنافِقِين بما أظْهَرُوا مِن الشَّهادةِ، مع إخْبارِ الله تعالى له بباطِنِهم، بقولِه تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (¬4) وغيرِها مِن الآياتِ. وحديثُ ابن مسعودٍ حُجَّةُ في قَبُولِ تَوْبَتِهم، مع إسْرارِهِم بكُفْرِهم. فأمَّا قَتْلُ ابنِ النَّوَّاحَةِ، فيَحْتَمِلُ أنَّه قَتَلَه لظُهُورِ كَذبِه في تَوْبَتِه؛ لأنَّه أظْهَرَها، وتَبَيَّنَ أنَّه ما زال عمَّا كان عليه مِن كُفْرِه. ويَحْتَمِلُ أنَّه (¬5) قَتَلَه؛ لقولِ النبيِّ ¬

(¬1) سورة التوبة 65. (¬2) أخرجه الطبري، في: تفسيره 10/ 173. (¬3) سورة التوبة 66. وانظر تفسير عبد الرزاق 2/ 282، 283. (¬4) سورة التوبة 56. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - له حينَ جاءَ رسولًا لمُسَيلِمَةَ: «لَوْلَا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ» (¬1). فقَتَلَه (¬2) تَحْقِيقًا لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقد رُوِيَ أنَّه قَتَلَه لذلك. فصل: فأمَّا مَن سَبَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أو رَسُولَه، فروَى القاضي، عن أحمدَ، أنَّه قال: لا تَوْبَةَ لِمَن سَبَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وذَكَرَ أبو الخَطَّابِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في الرسل، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 76. والدارمي، في: باب في النهي عن قتل الرسل، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 235. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 391. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوايةً أُخْرَى، أنَّ تَوْبَتَه مَقْبُولَةٌ، لقَوْلِ اللهِ تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. ولحديثِ مَخْشِيِّ بنِ حُمَيِّرٍ، ولأنَّ مَن زَعَم أنَّ للهِ ولدًا فقد سبَّ اللهَ تعالى، بدَليلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إخْبارًا عن رَبِّه تعالى أنَّه قال: «شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي، أمَّا شَتْمُه إِيَّايَ، فَزَعَمَ أنَّ لِي وَلدًا» (¬1). وتَوْبَتُه مَقْبُولةٌ، بغيرِ خِلافٍ، وإذا قُبِلَتْ تَوْبَةُ مَن سبَّ اللهَ تعالى، فمن سبَّ نَبِيَّه - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى أن تُقْبَلَ توْبَتُه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 404.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وهل تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ؟ فيه رِوايَتان؛ إحدَاهُما، لا يُسْتَتابُ. وهو ظاهِرُ ما نُقِلَ عن الصحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّه لم يُنْقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه اسْتَتابَ ساحِرًا، وفي الحديثِ الذي رَواه هشامُ بنُ (¬1) عُرْوَةَ، عن عائشةَ، أنَّ امرأةً جاءَتْها، فقالت: يا أُمَّ المُؤْمِنينَ، إنَّ عَجُوزًا ذَهَبتْ بي إلى هاروتَ وماروتَ، فقلتُ: عَلِّمانيَ السِّحْرَ. فقالا: اتَّقِي اللهَ ولا تَكْفُرِي، فإنَّكِ على رأسِ أمْرِكِ. فقلتُ: عَلِّمانِيَ السِّحْرَ. فقالا: اذْهَبِي إلى ذلك التَّنُّورِ، فبُولِي فيه. ففعَلْتُ، فرأيتُ كأنَّ فارِسًا مُقَنَّعًا في الحديدِ خرَج مِنِّي حتى طارَ، فغابَ في السَّماءِ، فرَجَعْتُ إليهما، فأخْبَرْتُهما، فقالا: ذلك إيمانُكِ. فذكَرتْ باقِيَ القِصَّةِ، إلى أن قالتْ: واللهِ يا أمَّ (¬2) المؤمِنين ما صنعتُ شيئًا غيرَ هذا، ولا أصْنَعُه أبدًا، فهل لي مِن تَوْبَةٍ؟ قالت عائشةُ: ورأيتُها تَبْكِي بُكاءً شديدًا، فطَافَتْ (¬3) في أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهم مُتوافِرُون تسْألُهم، هل لها مِن تَوْبةٍ؟ ¬

(¬1) في النسخ: «عنه». والمثبت من مصدري التخريج. (¬2) في م: «أمير». (¬3) في م: «فكانت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فما أفْتاها أحدٌ، إلَّا ابنَ عَبَّاسٍ قال: إن كان أحَدٌ مِن أُبوَيكِ حَيًّا، فبَرِّيه، وأكْثِري مِن عملِ (¬1) البِرِّ ما اسْتَطَعْتِ (¬2). ولأنَّ السِّحْرَ مَعْنًى في قلبِه لا يزولُ بالتَّوْبَةِ، فيُشْبهُ مَن لم يَتُبْ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، يُسْتَتابُ، فإن تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه، فإنَّ اللَّهَ تَعالى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَونَ، وجَعَلَهم مِن أوْلِيائِه في ساعةٍ، ولأنَّ السَّاحِرَ لو كان كافِرًا فأسْلَمَ صَحَّ إسْلامُه وتَوْبَتُه، فإذا صَحَّتِ التَّوْبَةُ منهما؛ صَحَّتْ من أحَدِهما، كالكُفْرِ، ولأنَّ الكُفْرَ والقتلَ ما هو إلَّا بعَمَلِه بالسِّحْرِ، [لا بعِلْمِه] (¬3)، بدَليلِ السَّاحِرِ إذا أسْلَمَ، والعملُ به تُمْكِنُ التَّوْبَةُ منه، وكذلك اعْتِقادُ ما يَكْفُرُ باعْتِقادِه، تُمْكِنُ التَّوْبَةُ منه، كالشِّرْكِ. فصل: والخِلافُ بينَ الأئِمَّةِ في قَبُولِ تَوْبَتِهم إنَّما هو في الظَّاهِرِ مِن ¬

(¬1) في الأصل: «عملك». (¬2) أخرجه ابن جرير في: تفسيره 1/ 460، 461. والبيهقي، في: باب قبول توبة الساحر. . . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 137. (¬3) سقط من: م.

4591 - مسألة: (وتوبة المرتد إسلامه، وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. إلا أن تكون ردته بإنكار فرض، أو إحلال محرم، أو جحد نبي أو كتاب، أو إلى دين من يعتقد أن محمدا

وَتَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. إلا أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِإِنْكَارِ فَرْضٍ، أَوْ إِحْلَالِ مُحَرَّمٍ أو جَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ، أَوْ انْتَقَلَ إِلَى دِينِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا ـــــــــــــــــــــــــــــ أحْكام الدُّنْيا؛ مِن تَرْكِ قَتْلِهم، وثُبُوتِ أحْكامِ الإِسْلامِ في حَقِّهِم؛ فأمَّا قَبُولُ اللَّهِ تعالى لها في الباطِنِ، وغُفْرَانُ ذُنُوبِهم لِمَن تابَ وأقْلَعَ ظاهِرًا وباطِنًا، فلا خِلافَ فيه، فإنَّ اللهَ تَعالى قال في المُنافِقِين: {إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). 4591 - مسألة: (وتَوْبَةُ المُرْتَدِّ إسْلامُه، وهو أن يَشْهَدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه. إلَّا أن تكونَ رِدَّتُه بإنْكارِ فَرْضٍ، أو إحْلالِ مُحَرَّمٍ، أو جَحْدِ نَبِيٍّ أو كِتابٍ، أو إلى دِينِ مَن يَعْتَقِدُ أنَّ مُحَمَّدًا ¬

(¬1) سورة النساء 146.

- صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، فَلَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ، وَيَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إِلَى الْعَالمِينَ، أَوْ يَقُولَ: أنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الإسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بُعِثَ إلى العَرَبِ خاصَّةً، فلا يَصِحُّ إسْلامُه حتى يُقِرَّ بما جَحَدَه، ويَشْهَدَ أنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ إلى العَالمِينَ، أو يَقُولَ: أنا بَرِئٌ مِن كلِّ دِينٍ يُخالِفُ دينَ الإسْلام) مَن ثَبَتَتْ رِدَّتُه بإقْرارٍ أو بَيِّنَةٍ، فتَوْبَتُه أن يَشْهَدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، [وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ] (¬1)، ولا يُكْشَفُ عن صِحَّةِ ما شُهِدَ به عليه، ويُخَلَّى سَبِيلُه، ولا يُكَلَّفُ الإقْرارَ بما نُسِبَ إليه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا الهَ إلَّا اللهُ. فَإذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَموَالهمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأنَّ هذا يَثْبُتُ به إسْلامُ الكافِرِ الأصْلِيِّ، فكذلك إسْلامُ المُرْتَدِّ، ولا حاجَةَ مع ثُبُوتِ إسْلامِه إلى الكَشْفِ عن صِحَّةِ رِدَّتِه. وهذا يَكْفِي في مَن كانت رِدَّتُه بجَحْدِ الوَحْدانِيَّةِ، أو جَحْدِ رسالةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أو جَحْدِهما معًا، فأمَّا مَن كَفَر بغيرِ هذا، فلا يَحْصُلُ إسْلامُه إلَّا بالإقْرارِ بما جَحَده. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في: 3/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَن أقَرَّ برسالةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأنْكَرَ أنَّه مَبْعُوثٌ إلى العَالمِينَ، فلا يَثْبُتُ إسْلامُه حتى يَشْهَدَ أنَّ محمدًا [رسولُ اللهِ] (¬1) بُعِثَ إلى الخَلْقِ أجْمَعِينَ، أو يَتَبَرَّأَ مع الشَّهادَتَين مِن كلِّ دِين يُخالِفُ الاسْلامَ. فإن زَعَم أنَّ محمدًا رسول مَبْعُوثٌ بَعْدُ (¬2) غيرَ هذا، لَزِمَه الإقْرارُ بأنَّ هذا المبعوثَ هو رسولُ اللهِ، لأنَّه إذا اقْتَصَر على الشَّهادَتَينِ، احْتَمَلَ أنَّه أرادَ ما اعْتَقَدَه. وإنِ ارْتَدَّ بجُحودِ فَرْضٍ، لم يُسْلِمْ حتى يُقِرَّ بما جَحَدَه، ويُعِيدَ الشَّهادَتَين؛ لأنَّه كَذَّبَ اللهَ ورسولَه بما اعْتَقَده. وكذلك إن جَحَد نَبِيًّا، أو آيَةً مِن كتابِ الله تعالى، أو كتابًا من كُتُبِه، أو مَلَكًا مِن مَلائِكَتِه الذين ثَبَت أنَّهم مَلائِكَةُ اللهِ، أو اسْتَباحَ مُحَرَّمًا، فلا بُدَّ في إسْلامِه مِن الإِقْرارِ بما جَحَده. وأمَّا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «وهو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكافِرُ بجَحْدِ الدِّينِ مِن أصْلِه، إذا شَهِدَ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ واقْتَصَر على ذلك، ففيه رِوايَتان، إحداهما، يُحْكَمُ بإسْلامِه، لأنَّه رُوِيَ أنَّ يَهُودِيًّا قال: أشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. ثم ماتَ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» (¬1). ولأنَّه لا (¬2) يُقِرُّ برِسالةِ محمدٍ إلَّا وهو مُقِرٌّ بمَن أرسَلَه وبتَوحِيدِه، لأنَّه صَدَّقَ النبيَّ (¬3) - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءَ به، وقد جاءَ بتَوْحِيدِه. والثانيةُ، إن كان مُقِرًّا بالتَّوْحِيدِ كاليهودِ، حُكِمَ بإسْلامِه؛ لأنَّ تَوْحيدَ اللهِ ثابتٌ في حَقِّه، وقد ضَمَّ إليه الإِقْرارَ برسالةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فكَمَلَ إسْلامُه. وإن كان غيرَ مُوَحِّدٍ، كالنَّصارَى والمَجُوسِ وعَبَدَةِ الأوْثانِ، لم يُحْكَمْ بإسْلامِه حتى يشهدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ. وبهذا جاءتْ أكثرُ الأخْبارِ، وهو الصَّحِيحُ، لأنَّ مَن يَجْحَدُ شَيئَين لا يزولُ جَحْدُهما إلَّا [بإقْرارِه بهما] (¬4) جميعًا. وإن قال: أشْهَدُ أنَّ النبيَّ رسولُ اللهِ. لم يُحْكَمْ بإسْلامِه، لأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّه يُريدُ غيرَ نَبِيِّنا. وإن قال: أنا مؤمنٌ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصَلَّى عليه. . . .، من كتاب الجنائز. صحيح البخاري 2/ 118. وأبو داود، في: باب في عيادة الذمي، من كتاب الجنائز. سنن أبي داود 2/ 164. والنسائي، في: باب عرض الإسلام على المشرك، من كتاب السير. السنن الكبرى 5/ 173. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 260، 280. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «بإقرارهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: أنا مسلمٌ. فقال القاضي: يُحْكَمْ بإسْلامِه بهذا، وإن لم يَأْتِ بلَفْظِ الشَّهادَتينِ؛ لأنَّهما اسمان لشيءٍ مَعْلومٍ معروفٍ وهو الشَّهادَتان، فإذا أخْبَرَ عن نفْسِه بما تَضَمَّنَ الشَّهادَتين، كان مُخْبِرًا بهما. ورَوَى المِقْدَادُ، أنَّه قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ (¬1) إن لَقِيتُ رجلًا من الكُفَّارِ، فقاتَلَنِي، فضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بالسَّيفِ، فقَطَعَها (¬2)، ثم لاذَ مِنِّي بشَجَرَةٍ، فقال: أسْلَمْتُ. أفأقْتُلُه يا رسولَ اللهِ بعدَ أن قالها؟ قال: «لَا تَقْتُلْه، فَإنْ قَتَلْتَهُ، فَإنَّه بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَه، وإنَّكَ بمَنْزِلَتِه قَبْلَ أنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالها». وعن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، قال: أَصابَ المسلمون رجلًا مِن بَني عُقيلٍ، فأتَوْا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمدُ، إنِّي مسلمٌ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كُنْتَ قُلْتَ وأنْتَ تَمْلِكُ أمْرَكَ، أفْلَحْتَ كُلَّ الفَلَاحِ». رَواهُما مسلمٌ (¬3). ويَحْتَمِلُ أنَّ هذا في الكافرِ الأصْلِيِّ، أو مَن جَحَد الوَحْدانِيَّةَ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فقطعهما». (¬3) أخرج الأول مسلم، في: باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 95. كما أخرجه البخاري، في: باب حدثني خليفة. . . .، من كتاب المغازي، وفي: باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} من كتاب الديات. صحيح البخاري 5/ 109، 9/ 3. وأبو داود، في: باب على ما يقاتل المشركون، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 42. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 5، 6. وأخرج الثاني مسلم، في: باب لا وفاء بنذر في معصية الله، من كتاب النذر. صحيح مسلم 3/ 1262. كما أخرجه أبو داود، في: باب في النذر فيما لا يملكه، من كاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 214. والدارمي، في: باب إذا أحرز العدو من مال المسلمين، من كتاب السير. سنن الدارمي 2/ 236. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 430، 433، 434.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَّا مَن كَفَر بجَحْدِ نَبِيٍّ أو كتابٍ أو فَرِيضَةٍ أو نحو هذا، فإنَّه لا يَصِيرُ مسْلِمًا بذلك؛ لأنَّه رُبَّما اعْتَقَد أنَّ الإِسْلامَ ما هو عليه، فإنَّ أهلَ البِدَعِ كلَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهم هم المسلمون، ومنهم مَن هو كافِرٌ.

4592 - مسألة: وإذا أتى الكافر بالشهادتين، ثم قال: لم أرد الإسلام. صار بذلك مرتدا، ويجبر على الإسلام. نص عليه أحمد، في رواية جماعة، ونقل عن أحمد، أنه يقبل منه، ولا يجبر على الإسلام؛ لأنه يحتمل الصدق، فلا يراق دمه بالشبهة

وَإذَا مَاتَ الْمُرْتَدُّ، فَأَقامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4592 - مسألة: وإذا أتَى الكافِرُ بالشَّهَادَتَينِ، ثم قال: لم أُرِدِ الإِسْلامَ. صارَ بذلك مُرْتَدًّا، ويُجْبَرُ على الإِسْلامِ. نصَّ عليه أحمدُ، في رِوايةِ جماعةٍ، ونُقِلَ عن أحمدَ، أنَّه يُقْبَل منه، ولا يُجْبَرُ على الإِسْلامِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، فلا يُرَاقُ دَمُه بالشُّبْهَةِ (¬1)، والأوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّه قد حُكِمَ بإسْلامِه، فلم يُقْبَلْ إذا رَجَع، كما لو طالتْ مُدَّته. 4593 - مسألة: (وإذا مات المُرْتَدُّ، فأقام وارِثُهَ بَيِّنَةً أنَّه صَلَّى بعدَ الردَّةِ، حُكِمَ بإسْلامِه) متى صَلَّى الكافِرُ، حُكِمَ بإسْلامِه، أصْلِيًّا كان أو مُرْتَدًّا، جماعةً أو فُرَادَى، في دارِ الحربِ أو في دارِ الإسْلام. وقال الشافعيُّ: يُحْكَمُ بإسْلامِه إذا صَلَّى في دارِ الحرب، ولا نَحْكُمُ بَإسْلامِه [إذا صَلَّى] (¬2) في دارِ الإسْلامِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أنه صَلَّى رِياءً وتَقِيَّةً. ولَنا، أنَّ ما كان إسلامًا في دارِ الحربِ، كان إسلامًا في دارِ الإسلام، كالشَّهَادَتَين، واحْتِمالُ التَّقِيَّةِ والرِّياءِ يَبْطُلُ بالشَّهادَتَين. وأمَّا سائِرُ أرْكانِ ¬

(¬1) في م: «بالشهادة». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِسْلامِ، مِن الزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، فلا يُحْكَمُ بإسْلامِه به، فإنَّ المُشْرِكِينَ كانوا يَحُجُّون في عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حتى مَنَعهم، فقال: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ» (¬1). والزَّكاةُ صَدَقَة، وهم يَتَصَدَّقُونَ، وقد فُرِضَ على نَصَارَى بني تَغْلِبَ مِن الزَّكاةِ مِثْلا (¬2) ما يُؤْخَذ مِن المسلمينَ، فلم يَصِيرُوا بذلك مسلمين، وأمَّا الصِّيامُ فلكلِّ أهْلِ دِينٍ صِيامٌ، ولأنَّ الصِّيامَ ليس بفِعْلٍ، إنَّما هو إمْساكٌ عن (¬3) أفعالٍ مَخْصوصَةٍ، وقد يَتَّفِقُ هذا مِن الكافرِ، كاتِّفاقِه مِن المسلمِ، ولا عِبْرَةَ بالنِّيَّةِ؛ لأنَّها أمْرٌ باطِنٌ، لا عِلْمَ به، بخِلافِ الصلاةِ، فإنَّها أفْعالٌ تَتَمَيَّزُ عن أفْعالِ الكُفَّارِ، ويَخْتَصُّ بها أهْلُ الإسلامِ، ولا يَثْبُتُ بها الإِسلامُ حتى يَأْتِيَ بصلاةٍ يَتَمَيَّزُ بها عن صلاةِ الكُفَّارِ، مِن اسْتِقْبالِ قِبْلَتِنا والرُّكُوعَ والسُّجُودِ، ولا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ القِيام؛ لأنَّهم يَقُومُونَ في صلاتِهم. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه متى ماتَ المُرْتَدُّ، فأقامَ وارِثُه بَيِّنَةً أنَّه صَلَّى بعدَ رِدَّتِه، حُكِمَ لهم بالمِيرَاثِ، إلَّا أن يَثْبُتَ أنَّه ارْتَدَّ بعدَ صلاته أو تكونَ رِدَّتُهُ بجَحْدِ فَرِيضَةٍ، أو كتابٍ، أو نَبِيٍّ، أو مَلَكٍ، أو نحو ذلك من البِدَعِ التيِ يَنْتَسِبُ (¬4) أهْلُها إلى الإِسلامِ، فإنَّه لا يُحْكَمُ بإسْلامِه بصلاتِه؛ لأنَّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 8/ 50. (¬2) في الأصل: «مثل». (¬3) في الأصل: «على». (¬4) في م: «ينسب».

4594 - مسألة: (ولا يبطل إحصان المسلم بردته، ولا عباداته التي فعلها في إسلامه، إذا عاد إلى الإسلام)

وَلَا يَبْطُلُ إِحْصَانُ الْمُسْلِمِ بِرِدَّتِهِ، وَلَا عِبَادَاتُهُ الَّتى فَعَلَهَا في إِسْلَامِهِ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصلاةِ، ويَفْعَلُها (¬1) مع كُفْرِه، فأشْبَهَ فِعْلُه غيرَها. 4594 - مسألة: (ولا يَبْطُلُ إحْصانُ المُسْلمِ برِدَّتِه، ولا عِباداتُه التي فَعَلَها في إسلامِه، إذا عاد إلى الإِسلامِ) يعْني إذا كان (¬2) مُحْصَنًا فارْتَدَّ، ثم أسْلَمَ، لم يَصِرْ غيرَ مُحْصَنٍ، بل متى زَنى رُجِمَ؛ لأنَّه يَثْبُتُ له حُكْمُ الإِحْصانِ، والأصْلُ بقاءُ ما كان على ما كان، ولا تَبْطُلُ عباداتُه التي فَعَلَها في إسلامِه إذا عاد إلى الإِسلامِ؛ لأنَّه فعلَها على وَجْهِها، وبَرِئَتْ ¬

(¬1) في الأصل، م، ص: «يعتقدها». (¬2) سقط من: الأصل.

فَصْل: وَمَنِ ارْتَدَّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ، بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا، وَتَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً، فَإنْ أسْلَمَ، ثَبَتَ مِلْكُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ، وَإلَّا بَطَلَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِمَّتُه منها، فلم تَعُدْ إلى ذِمَّتِه، كدُيُونِ الآدَمِيِّين. وإن كان قد حَجَّ حجَّةَ الإِسلامِ قبلَ رِدَّتِه، لم يَجِبْ عليه إعادَتُها إذا عادَ إلى الإِسلامِ، لِما ذَكَرْنا. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ومَن ارْتَدَّ لم يَزُلْ مِلْكُه، بل يكونُ مَوْقوفًا، وتَصَرُّفاتُه مَوْقوفةً، فإن أسْلَمَ، ثَبَت مِلْكُه وتَصَرُّفاتُه، وإلَّا بَطَلَتْ) لا يُحْكَمُ بزَوالِ مِلْكِ المُرْتَدِّ برِدَّتِه، في قَوْلِ أكثرِ أهلِ العلمِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَن نَحْفَظُ عنهم مِن أهلِ العلمِ] (¬1) (¬2). فعلى هذا، إن قُتِلَ أو ماتَ، زال مِلْكُه بمَوْتِه، وإن راجَعَ الإِسلامَ، فمِلْكُه باقٍ له. فعلى هذا، تَصَرُّفاتُه في رِدَّتِه بالبَيعِ والهِبَةِ والعِتْقِ والتَّدْبيرِ والوَصِيَّةِ ونحو ذلك مَوْقُوفَةٌ، إن أسْلَمَ تَبَيَّنَّا أنَّ تصَرُّفَه كان صَحِيحًا، فإن قُتِلَ أو مات، كان باطِلًا. [وهذا الذي قاله الشَّريفُ أبو جَعْفَرٍ عَن أحمدَ. وهو قولُ أبي حَنيفةَ. وأحدُ قَوْلَي الشافِعيِّ] (¬3). وقال [أبو بكرٍ] (¬4): يزولُ مِلْكُه بِرِدَّتِه، فإن راجَعَ الإِسلامَ رُدَّ إليه تَمْلِيكًا مُسْتَأنَفًا، لأنَّ عِصْمَةَ نَفْسِه ومالِه إنَّما تَثْبُتُ بإسْلامِه، فزَوالُ إسلامِه يُزِيلُ عِصْمَتَهما، كما لو لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ، ولأنَّ المسلمين مَلَكُوا إراقَةَ دَمِه برِدَّتِه، فوَجَب أن يَمْلِكُوا أمْواله بها (¬5). وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: مالُه مَوْقُوفٌ، إن أسْلَمَ تَبَيَّنَّا بَقاءَ مِلْكِه، وإن ماتَ أو قُتِلَ تَبَيَّنَّا زَواله ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر: الإشراف 3/ 164، والإجماع 76. (¬3) زيادة من: الأصل. (¬4) في م: «مالك». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن حينَ رِدَّتِه. قال الشَّرِيفُ أبو جعفرٍ: هذا ظاهِرُ كلام أحمدَ. وعن الشافعيِّ الأقْوالُ الثَّلاثةُ. ولَنا، أنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ يُبِيحُ دَمَه [فَلم يَزُلْ مِلْكُه به] (1) كزِنَى المُحْصَنِ، وقَتْلِ مَن يُكافِئُه عَمْدًا، لا يَلْزَمُ منه زَوالُ المِلْكِ، بدَليلِ الزَّاني المُحْصَنِ، والقاتِلِ في المُحارَبَةِ، [وأهْلِ الحَرْبِ] (¬1)، فإنَّ مِلْكَهم ثابِتٌ مع عَدَم عِصْمَتِهم، ولو لَحِقَ المُرْتَدُّ بدارِ الحَرْبِ، لم يَزُلْ مِلْكُه، لكنْ يُباحُ لكَلِّ أحَدٍ قَتْلُه بغيرِ اسْتِتابَةٍ، وأخْذُ مالِه لِمَن قَدَر عليه، لأنَّه صارَ حَرْبِيًّا، حُكْمُه حُكْمُ أهْلِ الحَرْبِ. ولو ارْتَدَّ جماعةٌ وامْتَنَعوا في دَارِهم عن طاعةِ الإِمامِ، زالتْ عِصْمَتُهم في أنْفُسِهم وأموالِهم، لأنَّ الكُفَّارَ الأصْليِّينَ لا عِصْمَةَ لهم في دارِهم، فالمُرْتَدُّونَ أَوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا على قولِ أبي بكرٍ، فتَصرُّفُ المُرْتَدِّ باطِلٌ؛ لأنَّ مِلْكَه قد زَال برِدَّتِه. وهذا أحَدُ أقوالِ الشافعيِّ. وعن الشافعيِّ قولٌ آخَرُ، أنَّه إن تَصَرَّفَ قبلَ الحَجْرِ عليه، انْبَنَى على الأقْوالِ الثلاثةِ، وإن تَصَرَّفَ بعدَ الحَجْرِ عليه، لم يَصِحَّ تَصَرُّفُه كالسَّفِيهِ. ولَنا، أنَّ مِلْكَه تَعَلَّقَ به حَقُّ غيرِه مع بَقاءِ مِلْكِه فيه، فكان تَصَرُّفُه مَوْقُوفًا، كتَبَرُّعِ (¬1) المريضِ. فصل: وإن تَزَوَّجَ، لم يَصِحَّ تَزَوُّجُه؛ لأنَّه لا يُقَرُّ على النِّكاحِ، وما مَنَع الإِقْرارَ على النِّكاحِ، مَنَع انعِقادَه، كنِكاحِ الكافِرِ المُسْلِمَةَ. وإن زَوَّجَ مُولِّيَتَه، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ ولَايتَه على مُولِّيَتِه قد زالتْ برِدَّتِه، وكذلك إن زَوَّجَ أمَتَه؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يكونُ مَوْقُوفًا، ولأنَّ النِّكاحَ وإن كان في الأمَةِ فلا بُدَّ في عَقْدِه من ولَايةٍ صَحِيحَةٍ، بدَليلِ أنَّ المرأةَ لا يجوزُ أن تُزَوِّجَ ¬

(¬1) في الأصل: «كتصرف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمَتَها، وكذلك الفاسِقُ، والمُرْتَدُّ لا ولايَةَ له، فإنَّه أدْنَى حالًا من الفاسِقِ الكافِرِ (¬1). فصل: ويُؤْخَذُ مَالُ المُرْتَدِّ، فيُتْرَكُ عندَ ثِقَةٍ مِن المسلمين، فإن كان له إماءٌ جُعِلْنَ عندَ امْرأةٍ ثِقَةٍ؛ لأنَّهُنَّ مُحَرَّماتٌ عليه، فلا يُمَكَّنُ منهنَّ. وذَكَرَ القاضي أنَّه يُؤْجَرُ عَقارُه، وعَبِيدُه، وإماؤُه. قال شيخُنا (¬2): والأوْلَى أن لا يُفْعَلَ ذلك؛ لأنَّ مُدَّةَ انْتِظارِه قَريبَةٌ، ليس في انْتِظارِه فيها ضَررٌ، فلا يُفَوَّتُ عليه مَنافِعُ مِلْكِه فيما لا يَرْضَاه من أجْلِها، فإنَّه رُبَّما ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: المغني 12/ 273.

4595 - مسألة: (وتقضى ديونه وأروش جناياته، وينفق على من تلزمه مؤنته)

وَتُقْضَى دُيُونُهُ، وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ، وَيُنْفَقُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُه. ـــــــــــــــــــــــــــــ راجَعَ الإِسلامَ، فيَمْتَنِعُ عليه التَّصَرُّفُ في مالِه بإجارَةِ الحاكِمِ له. وإن لَحِقَ بدَارِ الحَرْبِ، أو تَعَذَّرَ قَتْلُه مُدُّةً طَويلَةً، فَعَلَ الحَاكِمُ (¬1) ما يَرَى الحَظَّ فيه، مِن بَيعِ الحَيَوانِ الذي يَحْتاجُ إلى النَّفَقَةِ وغيرِه، وإجارَةِ ما يَرَى إبْقَاءَه، والمُكاتَبُ يُؤَدِّي إلى الحاكمِ، ويَعْتِقُ بالأداءِ؛ لأنَّه نائِبٌ عنه. 4595 - مسألة: (وَتُقْضَى دُيُونُه وأُرُوشُ جِناياتِه، ويُنْفَقُ على مَن تَلْزَمُه مؤْنَتُه) يعني إذا مات أو قُتِلَ، فإنَّه يُبْدَأُ بقَضاء دُيونِه، وأَرْشِ ¬

(¬1) بعده في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جِنايَتِه، ونَفَقَةِ زَوْجَتِه وأقارِبهِ الذين تَلْزَمُه مُؤْنَتُهم؛ لأَنَّ هذه الحُقوقَ لا يجوزُ تَعْطِيلُها، وأُولَى ما يُؤْخَذُ من مالِه، [وما بَقِي مِن مالِه فهو فَىْءٌ] (¬1). في الصَّحِيحِ من المذهبِ. وعنه، أنَّه لوَرَثَتِه من المسلمين. وعنه، أنَّه لوَرَثَتِه من أهلِ الدِّينِ الذي انْتَقَلَ إليه، وقد ذَكَرْنا ذَلكَ في الفَرائِضِ. فصل: وإذا وُجدَ من المُرْتَدِّ سَبَبٌ يَقْتَضِي المِلْكَ؛ كالصَّيدِ، والاحْتِشاشِ، والاتِّهابِ، والشِّراءِ، وإيجارِ نَفْسِه إجارَةً خاصَّةً، أو مُشْتَرَكَةً، ثَبَتَ المِلْكُ له؛ لأنَّه أهْل للمِلْكِ، وكذلك (¬2) بَقِيَتْ أمْلاكُه الثَّابِتَةُ له. ومن قال: إنَّ مِلْكَه يَزُولُ. لم يُثْبِتْ له مِلْكًا؛ لأنَّه ليس بأهْلٍ للمِلْكِ، ولهذا زالتْ أمْلاكُه الثَّابِتَةُ، فإن أسْلَمَ، احْتَملَ أن لا يَثْبُتَ له شيءٌ أيضًا؛ لأنَّ السَّبَبَ لم يَثْبُتْ حُكْمُه. واحْتَمَلَ أن يَثْبُتَ المِلْكُ له حِينَئِذٍ؛ لأنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ، وإنَّما امْتَنَع ثُبوتُ حُكْمِه؛ لعَدَمِ أهْلِيَّتِه، فإذا وُجِدَتْ، تَحَقَّقَ الشَّرْطُ، فيَثْبُتُ المِلْكُ حينَئِذٍ، كما تَعُودُ إليه أمْلاكُه التي زالتْ عنه عندَ عَوْدِ أهْلِيَّتِه. فعلى هذا، إن ماتَ، أو قُتِلَ، انْتَقَلَ المِلْكُ لمَن يَنْتَقِلُ إليه مالُه؛ لأنَّ هذا في مَعْناه. فصل: وإن لَحِقَ المُرْتَدُّ بدارِ الحَرْبِ، فالحُكْمُ فيه حُكْمُ مَن هو في دارِ الإِسْلامِ، إلَّا أنَّ ما كانَ معه من مالِه، يَصِيرُ مُباحًا لمَن قَدَرَ عليه؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) ق م: «ولذلك».

4596 - مسألة: (وما أتلف من شيء، ضمنه، ويتخرج في الجماعة الممتنعة أن لا تضمن ما أتلفته)

وَمَا أَتْلَفَ مِنْ شَيْءٍ، ضَمِنَهُ، وَيَتَخَرَّجُ في الْجَمَاعَةِ الْمُمْتَنِعَةِ أَنْ لَا تَضْمَنَ مَا أَتْلَفَتْهُ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ، وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ، وَإنْ أَسْلَمَ رُدَّ إِلَيهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما أُبِيحَ دَمُه، وأمَّا أمْلاكُه ومالُه الذي في دارِ الإِسلامِ، فمِلْكُه ثابِتٌ فيه، ويَتَصرَّفُ فيه الحاكِمُ بما يَرَى المَصْلَحَةَ فيه. وقال أبو حنيفةَ: يُورَثُ مالُه، كما لو ماتَ؛ لأنَّه قد صارَ في حُكْمِ المَوْتَى؛ بدَلِيلِ حِل دَمِه ومالِه الذي معه لكلِّ مَن قَدَر عليه. ولَنا، أنَّه حَيٌّ فلم يُورَثْ، كالحَرْبِيِّ الأصْلِيِّ، وحِلُّ دَمِه لا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مالِه؛ بدليلِ الحَرْبِيِّ الأصْلِيِّ، وإنَّما حَلَّ مالُه الذي معه؛ لأنَّه زَال العاصِمُ (¬1) له، فأشْبَهَ مالَ الحَرْبِيِّ الذي في دارِ الحَرْبِ، وأمَّا الذي في دارِ الإِسلامِ، فهو باقٍ على العِصْمَةِ، كمالِ الحَرْبِيِّ الذي مع مُضارَبِه في دارِ الإِسْلامِ، أو عندَ مُودَعِه. 4596 - مسألة: (وما أتْلَفَ من شيءٍ، ضَمِنَه، ويَتَخَرَّجُ في الجماعَةِ المُمْتَنِعَةِ أن لا تَضْمَنَ ما أَتْلَفَتْه) إذا ارْتَدَّ قَوْمٌ، فأتْلَفُوا مالًا للمسلمين، لَزِمَهُم ضَمانُ ما أتْلَفُوه، سَواءٌ تَحَيَّزُوا (¬2) أو صارُوا في ¬

(¬1) بعده في الأصل: «الذي». (¬2) في الأصل: «غيروا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنَعَةٍ، أو لم يَصِيرُوا. ذَكَرَه أبو بكرٍ. قال القاضي: وهو ظاهِرُ كلامِ أحمدَ. وقال الشافعيُّ (¬1): حُكْمُهم حُكْمُ أهْلِ البَغْي فيما أتْلَفُوه، من الأنْفُسِ والأمْوالِ؛ لأنَّ تَضْمِينَهم يُؤَدِّي إلى تَنْفِيرِهم عن الرُّجُوعِ إلى الإِسلامِ، فأشْبَهُوا أهْلَ البَغْي. ولَنا، ما رُوِيَ عن أبي بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال لأهْلِ الرِّدَّةِ حينَ رَجَعُوا: تَرُدُّونَ علينا ما أخَذْتُم منَّا، ولا نَرُدُّ عليكم ما أخَذْنا منكم، وأن تَدُوا قَتْلانَا، ولا نَدِي قَتْلاكُم. قالوا: نعم يا خليفةَ رسولِ اللهِ. قال عمرُ: كُلُّ ما قُلْتَ كما قُلْتَ، إلَّا أن يَدُوا ما قُتِلَ مِنَّا، فَلا؛ لأنَّهم قَوْمٌ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ واسْتُشْهِدُوا (¬2). ولأنَّهم أتْلَفُوه بغيرِ تَأْويل، فأشْبَهُوا أهْلَ الذِّمَّةِ. فأمَّا القَتْلَى فحُكْمُهم حُكْمُ أهلِ البَغْي؛ لِما ذَكَرْنا من خَبَرِ أبي بكرٍ وعُمرَ، ولأنَّ طُلَيحَةَ (¬3) الأسَدِيَّ قَتَل عُكَّاشَةَ بنَ مِحْصَنٍ، وثابتَ بنَ أقْرَمَ (¬4) ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 83. (¬3) في الأصل: «طلحة». وانظر القصة في الكامل لابن الأثير 2/ 347. (¬4) في النسخ: «أرقم». والمثبت من مصدر التخريج.

4597 - مسألة: (وإذا أسلم، فهل يلزمه قضاء ما ترك من العبادات؟ على روايتين)

وَإذَا أسْلَمَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسَدِيَّيْن، فلم يَغْرَمْهما (¬1)، وبنو حنيفةَ قَتَلُوا مَن قَتَلُوا من المسلمين يومَ اليَمَامَةِ، فلم يَغْرَمُوا شيئًا. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ قولُ أحمدَ، وكَلامُه في المالِ، على وُجُوبِ رَدِّ ما هو في أيدِيهم دُونَ ما أتْلَفُوه، وعلى مَن أتْلَفَ من غيرِ أن تكونَ له مَنَعَةٌ، أو أتْلَفَ في غيرِ الحَرْبِ. وما أتْلَفُوه حال الحَرْبِ، فلا ضَمانَ عليهم فيه؛ لأنَّه إذا سَقَط ذلك عن أهْلِ البَغْي، كيلا يُؤَدِّيَ إلى تَنْفِيرِهم عن الرُّجوعَ إلى الطَّاعةِ، فلأنْ يَسْقُطَ ذلك كيلا يُؤَدِّيَ إلى التَّنْفِيرِ عن الإِسلامِ أوْلَى، ولأنَّهم إذا امْتَنَعُوا صارُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِين بدارِهِم، فأشْبَهُوا أهْلَ الحَرْبِ. ويُحْمَلُ قولُ أبي بكرٍ على ما بَقِيَ في أيدِيهم مِن المالِ، فيكونُ مذهبُ أحمدَ، والشافعيِّ في هذا سَواءً. وهذا أعْدَلُ وأصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فأمَّا مَن لا مَنَعَةَ له فيَضْمَنُ ما أتْلَفَ مِن نَفْسٍ ومالٍ، كالواحدِ مِن المسلمينَ، أو أهْلِ الذِّمَّةِ؛ لأنَّه لا مَنَعَةَ له، ولا يَكْثُرُ ذلك منه، فَبَقِيَ المالُ والنَّفْسُ بالنِّسْبَةِ إليه على عِصْمَتِه، ووُجُوبِ ضَمانِه. واللهُ أعلمُ. 4597 - مسألة: (وإذا أسْلَمَ، فهل يَلْزَمُه قَضاءُ ما تَرَك من العباداتِ؟ على رِوايَتَين) إحداهما، عليه القَضاءُ؛ لأنَّها عِبادةٌ واجِبَةٌ الْتَزَم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بوُجوبِها، واعْتَرَف بها في زَمَنِ إسْلامِه، فلَزِمَ قَضاءُها عندَ فَواتِها كغيرِ المُرْتَدِّ. والثانيةُ، لا يَلْزَمُه قَضاءُها؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). ولأَنَّه كافرٌ أسْلَمَ، فلم يَلْزَمْه قَضاءُ العِباداتِ التي كانت في كُفْرِه، كالحَرْبِيِّ، ولأنَ أبا بكرٍ لم يَأْمُرِ المُرْتَدِّينَ حينَ أسْلَمُوا بقَضاءِ ما فاتَهم. ¬

(¬1) سورة الأنفال 38.

4598 - مسألة: (وإذا ارتد الزوجان، ولحقا بدار الحرب، ثم قدر عليهما، لم يجز استرقاقهما، ولا استرقاق أولادهما الذين ولدوا في الإسلام، ومن لم يسلم منهم قتل. ويجوز استرقاق من ولد بعد الردة، وهل يقرون على كفرهم؟ على روايتين)

وَإذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ، وَلَحِقَا بدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيهِمَا، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُمَا، وَلَا اسْتِرْقَاقُ أَولَادِهِمَا الَّذِينَ وُلِدُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ قُتِلَ. وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَهَلْ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4598 - مسألة: (وإذا ارْتَدَّ الزَّوْجانِ، ولَحِقَا بدارِ الحَرْبِ، ثم قُدِرَ عليهما، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهما، ولا اسْتِرْقاقُ أوْلادِهما الَّذِينَ وُلِدُوا في الإِسْلامِ، ومَن لم يُسْلِمْ منهم قُتِلَ. ويَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَن وُلِدَ بعدَ الرِّدَّةِ، وهل يُقَرُّونَ على كُفْرِهم؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّ الرِّقَّ لا يَجْرِي على المُرْتَد، سَواءٌ كان رجلًا أو امرأةً، وسَواءٌ لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ أو أقامَ بدارِ الإِسْلامِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا لَحِقَتِ المُرْتَدَّةُ بدارِ الحَرْبِ، جازَ اسْتِرْقاقُها؛ لأنَّ أبا بكرٍ سَبَى بني حنيفةَ، واسْتَرَقَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نساءَهم، وأمُّ محمدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ [من سَبْيِهم] (¬1). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلُوهُ» (¬2). ولأنَّه لا يجوزُ إقْرارُها (¬3) على كُفْرِها (¬4)، فلم يَجُزِ اسْتِرْقاقُها (¬5) كالرَّجلِ، ولم يُنْقَلْ أنَّ الذين سَباهُم أبو بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، كانوا أسْلَمُوا، ولا ثَبَت لهمِ حُكْمُ الرِّدَّةِ. فإن قِيل: فقد رُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ المُرْتدَّةَ تُسْبَى (¬6). قُلْنا: هذا الحديث ضَعَّفَه أحمدُ. فأمَّا أوْلادُ المُرْتَدِّينَ، فإن كانُوا وُلِدُوا قبلَ الردَّةِ، فإنَّهم مَحْكومٌ بإسْلامِهم تَبَعًا لآبائِهم، ولا يتْبَعُونَهم في الرِّدَّةِ؛ لأنَّ الإِسلامَ يَعْلُو، وقد تَبِعُوهم فيه، فلا يَتْبَعُونهم في الكُفْرِ، فلا يجوزُ اسْتِرْقاقُهم صِغارًا؛ لأنَّهم مسلمون، ولا كِبارًا؛ لأنَّهم إن ثَبَتُوا على إسْلامِهم بعدَ كُفْرِهم فهم مسلمون، وإن كَفَرُوا فهم مُرْتَدُّون، حُكْمهُم حُكْمُ آبَائِهم في الاسْتِتَابَةِ، وتَحْرِيمِ الاسْتِرْقاقِ. وأمَّا مَن حَدَث بعدَ الرِّدَّةِ، فهو محكومٌ بكُفْرِه؛ لأنَّه وُلِدَ بينَ أبَوَين كافِرَين، ويجوزُ اسْتِرْقاقُه؛ ¬

(¬1) في م: «منهم». (¬2) تقدم تخريجه في: 21/ 42. (¬3) في م: «إقراره». (¬4) في م: «كفره». (¬5) في م: «استرقاقه». (¬6) انظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإيمان، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 171. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد، من كتاب الجهاد. المصنف 12/ 267. والبيهقي، في: باب ما جاء في سبي ذرية المرتدين، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه ليس بمُرْتَدٍّ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ وأبي بكرٍ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ اسْتِرْقاقُهم، لأنَّ آباءَهم لا يجوزُ اسْتِرْقاقُهم، ولأنَّهم لا يُقَرُّون بالجِزْيَةِ، فلا يُقَرُّونَ بالاسْتِرْقاقِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: إن وُلِدُوا في دارِ الإِسلامِ، لم يَجُزِ اسْتِرْقاقُهم، وإن وُلِدُوا في دارِ الحَرْبِ، جازَ اسْتِرْقاقُهم. [ولَنا، أنَّه لم يَثْبُت لهم حكمُ الإِسلامِ، فجازَ اسْترْقاقُهم] (¬1)، كوَلَدِ الحَرْبِيَّين، بخِلافِ آبائِهم. فعلى هذا، إذا وَقَع في الأسْرِ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحربِ، فحُكْمُه حُكْمُ سائرِ أهلِ الحربِ، وإن كان في دارِ الإِسْلام، لم يُقَرَّ بالجِزْيَةِ، وكذلك لو بَذَل الجِزْيَةَ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحَرْبِ، لمَ يُقَرَّ بها، لأنَّه انْتَقَل إلى الكُفْرِ بعدَ نزولِ القُرْآنِ. فأمَّا مَن كان حَمْلًا حال رِدَّتِه، فظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ أنَّه كالحادِثِ بعدَ كُفْرِه. وعندَ الشافعيِّ، هو كالمَوْلُودِ، [لأَنَّه موجودٌ] (1)، ولهذا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرِثُ. ولَنا، أنَّ أكثرَ الأحْكامِ إنَّما تَتَعَلَّقُ به (¬1) بعدَ الوَضْعِ، فكذلك هذا الحكمُ. وهل يُقَر مَن وُلِدَ بعدَ الرِّدَّةِ على كُفْرِه؛ فيه رِوايتان؛ إحداهما، يُقرُّ، كأوْلادِ أهْلِ الحربِ. والثانيةُ، لا يُقَرُّونَ، فإذا أسْلَمُوا رُقُّوا؛ لأنَّهم أوْلادُ مَن لا يُقَرُّ على كُفْرِه، فلا يُقَرونَ على كُفْرِهم، كالمَوْجودِين قبلَ رِدَّتِهِم. فصل: ومَن لم يُسْلِمْ من الذين كانوا مَوْجُودِين قبلَ الرِّدَّةِ، فقُدِرَ عليهم، أو على آبَائِهم، اسْتُتِيبَ منهم مَن كان بالغًا عاقِلًا، فمَن لم يَتُبْ قُتِلَ، ومَن لم يَبْلُغِ انْتُظِرَ بُلُوغُه، فإن لم يَتُبْ، قُتِلَ إذا اسْتُتِيبَ، ويَنْبَغِي أن يحْبَسَ حتى لا يَهْرُبَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومتى ارْتَدَّ أهلُ بلدٍ، وجَرَتْ فيهم أحْكامُهم، صارُوا دارَ حَرْبٍ في اغْتِنامِ أمْوالِهم، وسَبْي ذَرارِيِّهم الحادِثِين بعدَ الرِّدَّةِ، وعلى الإِمامِ قِتالُهم، فإنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قاتَلَ أهْلَ الرِّدَّةِ بجمَاعَةِ (¬1) الصحابةِ، ولأنَّ اللهَ تَعالى قد أمَرَ بقِتالِ الكُفَّارِ في مَواضِعَ من كِتابِه، وهؤلاءِ أحَقُّهم بالقِتالِ؛ لأنَّ تَرْكَهم ربَّما أغْرَى أمْثالهم بالتَّشَبُّهِ بهم، والارْتِدَادِ معهم، فيَكْثُرُ الضَّرَرُ بهم. وإذا قَاتَلَهم، قَتَلَ مَن قَدَر عليه، ويُتْبَعُ مُدْبِرُهم، ويُجَازُ على جَرِيحِهم، وتُغْنَمُ أمْوالُهم. وبهذا قال ¬

(¬1) بعده في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَصِيرُ دارَ حربٍ حتى يَجْتَمِعَ فيها ثلاثةُ أشْياءَ؛ أن تكونَ مُتاخِمَةً لدارِ الحربِ، لا شيءَ بينَهما من دارِ الإِسلامِ. الثاني، أن لا يَبْقَى فيها مُسْلِمٌ ولا ذِمِّيٌّ آمِن. الثالثُ، أن تَجْرِي فيها أحْكامُهم. ولَنا، أنَّها دارُ كُفَّارٍ، فيها أحْكامُهم، فكانتْ دارَ حَرْبٍ، كما لو اجْتَمَعَ فيها هذه الخِصالُ، أو دارَ الكَفَرَةِ الأصْلِيِّين. فصل: وإن قَتَلَ المُرتَدُّ مَن يُكافِئَه عَمْدًا، فعليه القِصاصُ. نَصَّ عليه أحمدُ. والوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بينَ قَتْلِه والعَفو عنه، فإن اخْتارَ القِصاصَ، قُدِّمَ على قَتْلِ الرِّدَّةِ، سَواءٌ تَقَدَّمَتِ الرِّدَّةُ أو تَأْخَّرَتْ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمي، وإن عَفَا على مالٍ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ في مالِه. وكذلك إن كان القَتْلُ خَطَأً، تَجِبُ الدِّيَةُ في مالِه أيضًا؛ لأنَّه لا عاقلةَ له. قال القاضي: وتُؤْخَذُ منه الدِّيَةُ في ثلاثِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سِنِينَ؛ لأنَّها دِيَةُ الخَطَأ، وإن قُتِلَ أو ماتَ، أُخِذَتْ من مالِه في الحالِ؛ لأنَّ الدَّينَ المُؤَجَّلَ يَحِلُّ بالمَوْتِ في حَقِّ مَن لا وارِثَ له. ويَحْتَمِلُ أن تَجبَ الدِّيَةُ حالَّةً عليه؛ لأنَّها إنَّما أُجِّلَتْ في حَقِّ العاقِلَةِ تَخْفِيفًا عليهم، لأَنَّهم يَحْمِلُون عن غيرِهم على سَبِيلِ المُوَاساةِ، فأمَّا الجانِي، فتَجِبُ عليه حالَّةً؛ لأنَّها بَدَلٌ عن مُتْلَفٍ، فكانتْ حالَّةً، كسائرِ أبْدالِ المُتْلَفاتِ. فصل: ومَن أسْلَمَ من الأبوَين، كان أوْلادُه الأصَاغِرُ تَبَعًا له. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: إذا أسْلَمَ أبَوَاهُ أو أحدُهما، وأدْرَكَ فأبَى الإِسلامَ، أُجْبِرَ عليه، ولم يُقْتَلْ. وقال مالكٌ: إن أسْلَمَ الأبُ، تَبِعَه أوْلادُه، وإن أسْلَمَتِ الأمُّ لم يَتْبَعُوها؛ لأنَّ وَلَدَ الحَرْبِيَّين (¬1) يَتْبَعُ أبَاه دُونَ أُمِّه، بدَليلِ المَوْلَيَين إذا كانَ لهما ولدٌ، كان وَلاؤُه لمَوْلَى أبِيه دُونَ أُمِّه (¬2)، ولو كان الأبُ عَبْدًا والأمُّ مَوْلاةً، فأُعْتِقَ العبدُ، لجَرَّ وَلاءَ ولدِه إلى مَوالِيه، ولأنَّ الوَلَدَ يَشْرُف بشَرَفِ أبِيه، ويُنْسَبُ إلى قَبِيلَتِه دُونَ قَبِيلَةِ ¬

(¬1) في م: «الحرين». خطأ. (¬2) أي: مولى أمه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمِّه، فوَجَبَ أن يَتْبَعَ اعصباه في دِينِه أيَّ دِينٍ كان. وقال الثَّوْرِيُّ: إذا بَلَغ خُيِّرَ بينَ دِينِ أبِيه ودِينِ أُمِّه، فأيُّهما اخْتارَه كان على دِينِه. ولَعلَّه يَحْتَجُّ بحديثِ الغُلامِ الذي أسْلَمَ أبُوه، وأبَتْ أُمُّه أن تُسْلِمَ، فخَيَّرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ أبِيه وأُمِّه (¬1). ولَنا، أنَّ الولدَ يَتْبَعُ أبَوَيه في الدِّينِ، فإذا اخْتَلَفا، وَجَب أن يَتْبَعَ المسلمَ منهما، كولدِ المسلمِ من الكِتابِيَّةِ، ولأنَّ الاسلامَ يَعْلُو ولا يُعْلَى، ويَتَرَجَّحُ الإسلامُ (¬2) بأَشْياءَ؛ منها أنَّه دِينُ اللهِ الذي رَضِيَه لعبادِه، وبَعَث به رُسُلَه، ودَعا خَلْقَه إليه، ومنها، أنه تَحْصُلُ به السَّعادَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ويَتَخَلَّصُ به في الدُّنْيا من القَتْلِ والاسْتِرْقاقِ وأداءِ الجِزْيَةِ، وفي الآخِرَةِ مِن سَخَطِ اللهِ وعَذَابِه، ومنها أنَّ الدَّارَ دارُ الإِسْلامِ يُحْكَمُ بإسلام (¬3) لَقِيطِها، ومَن لا يُعْرَفُ حالُه فيها (¬4)، وإذا كان مَحْكومًا بإسْلامِه، أُجْبِرَ عليه إذا امتنعَ منه بالقَتْلِ، كوَلَدِ المسلمين، ولأنَّه مسلمٌ، فإذا رَجَع عن إسْلامِه، وَجَبَ قتلُه؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬5). وبالقِياسِ على غيرِه. ولَنا، على مالكٍ، أنَّ الأُمَّ أحَدُ الأبوَين، فتَبِعَها وَلَدُها في الإِسْلام، كالأبِ، بل الأُمُّ أَوْلَى به (2)؛ لأنَّها أخَصُّ به؛ لأنه مَخْلُوقٌ منها حَقِيقةً، وتَخْتَصُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 24/ 470. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «بإسلامه». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه، في: 21/ 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بحَمْلِه ورَضاعِه، ويَتْبَعُها في الرِّقِّ والحُرِّيَّةِ والتَّدْبِيرِ والكتابةِ، ولأنَّ سائرَ الحَيَواناتِ يَتْبَعُ الولَدُ أُمَّه دُونَ أبِيه، وهذا يُعارضُ ما ذَكَرَه (¬1). وأمَّا تَخْيِيرُ الغلامِ، فهو في الحَضانةِ لا في الدِّينِ. فصل: ومَن ماتَ مِن الأبَوَين الكافِرَين على كُفْرِه، قُسِمَ للولَدِ المِيراثُ، وكان مسلمًا بمَوْتِ مَن ماتَ منهما. وأكثرُ الفُقَهاءِ على أنَّه لا يحْكَمُ بإسْلامِه بمَوْتِهما ولا بمَوْتِ أحَدِهما؛ لأنَّه ثَبَت كُفْرُه تَبَعًا، ولم يُوجدْ منه إسْلامٌ، ولا ممَّن هو تابعٌ له، فوَجَب إبْقاؤُه (¬2) على ما كان عليه؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحَدٍ مِن خُلَفائِه أنَّه أجْبَرَ أحدًا مِن أهلِ الذِّمَّةِ على الإِسْلامِ بمَوْتِ أبِيه، مع أنَّه لم يَخْلُ زَمَنُه عن مَوْتِ بعضِ أهلِ الذِّمَّةِ عن يَتِيمٍ (¬3). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويُمَجِّسَانِه». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). فجَعَل كُفْرَه بفِعْلِ أبْوَيه، فإذا ماتَ أحَدُهما، انْقَطَعَتِ ¬

(¬1) في الأصل: «ذكروه». (¬2) في م: «بقاؤه». (¬3) في م: «بنيهم». (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 94.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّبَعَيَّةُ، فوَجَب إبْقاؤُه على الفِطْرَةِ التي وُلِدَ عليها، ولأنَّ المسألةَ مَفْرُوضَةٌ في مَن مات أبُوه في دارِ الإسلامِ، وقَضِيَّةُ الدارِ الحُكمُ بإسْلامِ أهْلِها، ولذلك (¬1) حَكَمْنا بإسلام لَقِيطِها، وإنَّما ثَبَت الكُفْرُ للطِّفْلِ الذي له أبَوان، فإذا عُدِمَا أو أحَدُهما، وَجَب إبْقاؤُه على حُكمِ الدَّارِ؛ لانْقِطاعِ تَبَعِيَّتِه لمَن يَكْفُرُ بها، وإنَّما (¬2) قُسِمَ له المِيراثُ؛ لأنَّ إسْلامَه إنما ثَبَت بمَوْتِ أبِيه الذي اشتَحَقَّ به المِيراثَ، فهو سَبَبٌ لهما، فلم يَتَقَدَّمِ الإِسلامُ المانِعُ مِن المِيراثِ على اسْتِحْقاقِه، ولأنَّ الحُريَّةَ المُعَلَّقَةَ بالموتِ، لا تُوجِبُ المِيراثَ فيما إذا قال سَيِّدُ العَبْدِ له: إذا ماتَ أبُوكَ فأنتَ حُرٌّ. فماتَ أبوه، فإنَّه يَعْتِقُ، ولا يَرِثُ، فيجبُ أن يكونَ الإِسلامُ المُعَلَّقُ بالمَوْتِ لا يَمْنَعُ المِيراثَ، وهذا فيما إذا كان في دارِ الإِسلامِ؛ لأنَّه متى انْقَطَعَت تَبَعِيَّتُه لأبوَيه أو أحدِهما، ثَبَت له حُكْمُ الدَّارِ، فأمَّا دارُ الحَرْبِ، فلا يُحْكَمُ بإسلامِ ولدِ الكافِرَين (¬3) فيها بمَوْتِهما، ولا مَوْتِ أحدِهما؛ لأنَّ الدَّارَ لا يُحْكَمُ بإسْلامِ أهْلِها، ولذلك لم يُحْكَمْ بإسلامِ لَقِيطِها. ¬

(¬1) في م، ص: «كذلك». (¬2) بعده في الأصل: «تقسم». (¬3) في م: «الكافر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَثْبُتُ الرِّدَّةُ بشَيئَين؛ الإِقْرارُ، والبَيِّنةُ، فمتى شَهِد بالرِّدَّةِ على المُرْتَدِّ مَن ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ بشَهادَتِه، فأنْكَرَ، لم يُسْمَعْ إنْكارُه، واسْتُتِيبَ، فإن تَاب، وإلَّا قُتِلَ. وحُكِيَ عن بعضِ أصحابِ أبي حنيفةَ، أنَّ إنْكارَه يَكْفِي في الرُّجُوعِ إلى الإِسلام، ولا يَلْزَمُه النُّطْقُ بالشَّهادةِ؛ لأنَّه لو أقَرَّ بالكُفْرِ ثُمَّ أنْكَرَه، قُبِلَ منه، ولم يُكَلَّفِ الشَّهادَتَين، فكذا هذا. ولَنا، ما رَوَى الأثْرَمُ بإسْنادِه، عن عل، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أُتِي برَجلٍ عربيٍّ [قد تَنَصَّر] (¬1)، فاسْتَتابَه، فأبَى أن يَتُوبَ، فقَتَلَه، وأُتِيَ برَهْطٍ يُصَلُّونَ وهم زَنادِقَةٌ، وقد قامتْ عليهم بذلك الشُّهُودُ العُدُولُ، فجَحَدُوا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقالوا: ليس لنا دِينٌ إلَّا الإِسلامُ. فقَتَلَهم، ولم يَسْتَتِبْهم، ثم قال: أتَدْرُونَ لمَ اسْتَتَبْتُ النَّصْرانِيَّ؛ اسْتَتَبْتُه؛ لأنَّه أظْهَرَ دِينَه، فأمَّا الزَّنادِقَةُ الذين قامتْ عليهم البَيِّنَةُ، فإنَّما قَتَلْتُهم؛ لأنَّهم جَحَدُوا، وقد قامتْ عليهم البَيِّنَةُ (¬1). ولأنَّه قد ثَبَت كُفْرُه، فلم يُحْكَمْ بإسلامِه بدونِ الشَّهادَتَين، كالكافرِ الأصْلِيِّ، ولأنَّ إنْكارَه تَكْذِيب للبَيِّنَةِ، فلم يُسْمَعْ، كسائرِ الدَّعَاوَى. فأمَّا إذا أقَرَّ بالكُفْرِ ثم أنكرَ، فيَحْتَمِلُ أنَّ القولَ فيه كمسألتِنا، وإن سَلَّمْنا، فالفرقُ بينَهما أنَّ الحَدَّ وَجَب بقولِه، فقُبِلَ رُجُوعُه عنه، وما ثَبَت بالبَيِّنَةِ لم يَثْبُتْ بقولِه، فلا يُقْبَلُ رُجُوعُه عنه، كالزِّنَى والسَّرِقَةِ. ¬

(¬1) أخرج نحوه عبد الرزاق، في: باب في الكفر بعد الإِيمان، من كتاب اللقطة. المصنف. 10/ 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتُقْبَلُ الشَّهادةُ على الرِّدَّةِ مِن عَدْلَين، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالكٌ، والشافعيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. قال ابنُ المُنْذِر: ولا نعلمُ أحدًا خالفَهم، إلَّا الحسنَ، قال: لا يُقْبَلُ في القَتْلِ إلَّا أرْبعةٌ؛ لأنَّها شهادةٌ بما يُوجِبُ القَتْلَ، فلم يُقْبَلْ فيها إلَّا أربعةٌ، قياسًا على الزِّنَى (¬1). ولَنا، أنَّها شَهادةٌ بغيرِ الزِّنى، فقُبلَتْ مِن عَدْلَين، كالشَّهادَةِ على السَّرِقَةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الزِّنى، فإنَّه لم يُعْتَبَرْ فيه الأربعةُ (¬2) لعلَّةِ القَتْلِ، بدليلِ اعْتِبارِ ذلك في زِنَى البِكْرِ، ولا قَتْلَ فيه، وإنَّما العِلَّةُ كَوْنُه زِنًى، ولم يُوجَدْ ذلك في الرِّدَّةِ، ثم الفرقُ بينَهما أنَّ القَذْفَ بالزِّنَى يُوجِبَ ثمانين جلدةً، بخِلافِ القَذْفِ بالرِّدَّةِ. فصل: وإذا أُكْرِهَ على الإسلام مَن لا (¬3) يجوزُ إكْراهُه، كالذِّمَّيِّ والمُسْتَأْمِنِ، فأسْلَمَ، لم يَثْبُتْ له حَكمُ الإِسلامِ، حتى يُوجَدَ منه ما يَدُلُّ على إسْلامِه طَوْعًا، مثلَ أن يَثْبُتَ على الإِسلامِ بعدَ زَوالِ الإِكْراهِ عنه. وإن ماتَ قبلَ ذلك، فحُكْمُه حُكْمُ الكُفَّارِ. وإن رَجَع إلى دِينِ الكُفْرِ، لم يَجُزْ قَتْلُه ولا إكْراهُه على الإِسلامِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ¬

(¬1) انظر الأشراف 3/ 170، والإِجماع 76. (¬2) في النسخ: «إلا أربعة». والمثبت من المغني 12/ 288. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال محمدُ بنُ الحسنِ: يَصيرُ مسلمًا في الظَّاهِرِ، وإن رَجَع عنه قُتِلَ إذا امْتَنَع مِن الإِسلامِ؛ لعُمُومِ قولِه - عليه السلام -: «أمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إلا اللهُ. فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَموَالهُمْ إلا بِحَقِّهَا [وحِسَابُهُم عَلَى الله] (¬1)» (¬2). ولأنَّه أتَى بقَوْلِ الحَقِّ، فلَزِمَه حُكْمُه، كالحَرْبِيِّ إذا أُكْرِهَ عليه. ولَنا، أنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكراهُه عليه، فلم يَثْبُت حُكْمُه في حَقِّه، كالمُسْلمِ إذا أُكْرِهَ على الكُفْرِ، والدَّليلُ على تحريمِ الإِكراهِ قولُ اللهِ تعالى؛ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬3). وأجْمَعِ أهلُ العلمِ على أنَّ الذِّميَّ إذا قامَ على ما هو عليه والمُسْتَأْمِنَ، لا يجوزُ نقْضُ عَهْدِه، ولا إكْرَاهُه على ما لم يَلْتَزِمْه (¬4). ولأنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكْراهُه عليه، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّه، كالإِقْرارِ والعِتْقِ. وفارَقَ الحَرْبِيَّ والمُرْتَدَّ؛ فإنَّه يجوزُ قَتْلُهما وإكْراهُهُما على الإِسلامِ، بأنْ يقولَ: إن أسْلَمْتَ وإلَّا قَتَلْنَاكَ. فمتى أسلمَ، حُكِمَ بإسْلامِه ظاهِرًا. وإن ماتَ قبلَ زَوالِ الإِكراهِ عنه، فحُكْمُه حكمُ المسلمين؛ لأنَّه أُكْرِهَ بحَقٍّ، فحُكِمَ بصِحَّةِ ما يَأْتِي به، كما لو أُكْرِهَ المسلمُ على الصلاةِ فصَلَّى، وأمَّا في الباطِنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬3) سورة البقرة 256. (¬4) في الأصل: «يلزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فبينَهم وبينَ ربِّهم، فمَن اعْتَقَد الإِسلامَ بقَلْبِه، وأسلمَ فيما بينَه وبينَ رَبِّه، فهو مسلمٌ عندَ اللهِ موْعودٌ بما وَعَد به مَن أسْلَمَ طائِعًا، ومَن لم يَعْتَقِدِ الإِسلامَ بقَلْبِه، فهو باقٍ على كُفْرِه، لا حَظَّ له في الإِسلامِ، وسَواءٌ في هذا مَن يُجَوِّزُ إكْراهَه ومَن لا يُجَوزُ، فإنَّ الإِسلامَ لا يَحْصُلُ بدونِ اعْتِقادِه مِن العاقلِ، بدليل أنَّ المُنافِقِين كانوا يُظْهِرُونَ الإِسلامَ، ويَقُومُونَ بفَرائِضِه، ولم يكُونوا مُسْلِمِين. فصل: ومَن أُكْرِهَ على الكُفْرِ، لم يَصِرْ كافِرًا. وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: هو كافِرٌ في الظَّاهِرِ، تَبِينُ منه امرأتُه، ولا يَرِثُه المسلمون إن ماتَ، ولا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه، وهو مسلمٌ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، لأنَّه نَطَق بكَلِمَةِ الكُفْرِ، فأشْبَهَ المُخْتارَ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (¬1). ويُرْوَى أنَّ عَمَّارًا (¬2) أكْرَهَه المُشْرِكون، فضربُوه حتى تَكَلَّمَ بما طَلَبُوا منه، ثم أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يَبْكِي، فأخبرَه، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ عَادُوا فَعُدْ» (¬3). ورُوِيَ أنَّ الكُفَّارَ كانوا يُعَذِّبُونَ المُسْتَضْعَفِينَ مِن المؤمِنِين، فما منهم أحَدٌ إلَّا أجابَهم، إلَّا بلالًا، فإنَّه كان يقولُ: أحَدٌ. أحَدٌ (¬4). ¬

(¬1) سورة النحل 106. (¬2) في الأصل: «عميرا». (¬3) تقدم تخريجه في 22/ 154. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب المكره على الردة، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 209. وانظر: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأمَّتِي عَنِ الخَطَأ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (¬1). ولأنَّه قول أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَثْبُتْ في حَقِّه، كما لو أُكْرِهَ على الإِقْرارِ، وفارَقَ ما إذا أُكْرِهَ بحَقٍّ، فإنَّه خُيِّرَ بينَ أمْرَينِ يَلْزَمُه أحدُهما، فأيُّهما اخْتارَه ثَبَت حُكْمُه في حَقِّه. فإذا ثَبَت أنَّه لم يَكْفُرْ، فمتى زال عنه الإكراهُ، أُمِرَ بإظْهارِ إسْلامِه، فإن أظْهَرَه فهو بَاقٍ على إسْلامِه، وإن أظْهَرَ الكُفْرَ حُكِمَ أنَّه كَفَر مِن حينَ نَطَق به؛ لأنَّنَا تَبَيَّنَّا بذلك أنَّه كان مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بالكُفْرِ مِن حينَ نَطَق به، مُخْتارًا له. وإدْ قامَتْ عليه بَيِّنَةٌ أنَّه نَطَق بكَلمةِ الكُفرِ، وكان محبوسًا عندَ الكُفَّارِ، أو مُقَيَّدًا عندَهم في حالةِ خوفٍ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّ ذلك ظاهر في الإِكراهِ. وإن شَهِدَت أنَّه كان آمِنًا حال نُطْقِه حُكِمَ (¬2) برِدَّتِه. فإنِ ادَّعَى ورثتُه رُجوعَه إلى الإِسْلامِ، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاؤْه على ما هو عليه. وإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ عليه بأكْلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّه قد يأكلُه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه، كما يشربُ الخمرَ مَن يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَها. وإن قال بعضُ ورَثَتِه: أكلَه مُسْتَحِلًّا له. أو أقَرَّ برِدَّتِه، حُرِمَ مِيرَاثَه؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّه لا يَسْتَحِقُّه، ويُدْفَعُ إلى مُدَّعِي إسْلامِه قَدْرُ ميراثِه؛ لأنَّه لا يَدَّعِي أكثرَ منه، ويُدْفَعُ الباقِي إلى بَيتِ المالِ؛ لعَدَمِ مَن يَسْتَحِقُّه، فإن كان في الورثةِ صغيرٌ أو مجنونٌ، دُفعَ إليه نَصيبُه، ونصيبُ المُقِر برِدَّةِ الموروثِ؛ لأنَّه لم تثْبُتْ ¬

= السيرة النبوية 1/ 317 - 321. (¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رِدَّتُه بالنسبةِ إليه. فصل: ومَن أُكْرِهَ على كلمةِ الكُفْرِ، فالأفضلُ أن يصبرَ ولا يقولَها، وإن أتَى ذلك على نفْسِه؛ لِما رَوَى خَبَّابٌ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ لَيُحْفَرُ له في الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بمِنْشَارٍ، فيُوضَع عَلَى شِقِّ رَأْسِه، ويُشَقُّ باثْنَتَين، مَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِه مِنْ لَحْمٍ، مَا يَصْرِفُه ذَلِكَ عَنْ دِينِه» (¬1). وجاءَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (¬2). أنَّ بعضَ مُلُوكِ الكُفَّارِ، أخَذ قَوْمًا مِن المُؤْمِنِين، فحَفَر لهم أُخْدُودًا في الأرْضِ، وأوقَدُوا فيها نارًا، ثم قال: مَن لم يَرْجِعْ عن دَينِه فَألْقوه في النَّارِ. فجعَلُوا يُلْقُونَهم فيها، حتى جاءَتِ امرأةٌ على كَتِفِها صَبِيٌّ لها، فتَقاعَسَتْ مِن أجْلِ الصَّبِيِّ، فقال الصَّبِيُّ (¬3): يا أُمَّهِ، اصْبِرِي، فإنَّكِ على الحَقِّ. فذَكَرَهُم اللهُ تعالى في كِتابِه (¬4). ورَوَى الأثْرَمُ، عن أبي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب علامات النبوة في الإِسلام، من كتاب المناقب، وفي: باب من اختار الضرب والقتل. . . .، من كتاب الإكراه. صحيح البخاري 4/ 244، 9/ 25، 26. وأبو داود، في. باب في الأسير يكره على الكفر، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 44. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 109، 110، 111، 6/ 395. (¬2) سورة البروج 4 - 7. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب قصة أصحاب الأخدود. . . .، من كتاب الزهد والرقائق. صحيح مسلم 4/ 2299 - 2301. والترمذي، في: باب ومن سورة البروج، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبدِ اللهِ، أنَّه سُئِلَ عن رجلٍ يُؤْسَرُ، فيُعْرَضُ على الكُفْرِ، ويُكْرَهُ عليه، أَلَهُ أن يَرْتَدَّ؟ فكَرِهَه كَرَاهَةً شديدةً، وقال: ما يُشْبِهُ (¬1) هذا عندِي الذين (¬2) أُنْزِلَتْ فيهم الآيةُ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أولئِكَ كانوا يُرادُونَ على الكلمةِ، ثم يُتْرَكُونَ يعملون ما شاءوا، وهؤلاءِ يُريدُونَهم على الإِقامَةِ على الكُفْرِ، وترْكِ دِينِهم. وذلك أنَّ الذي يُكْرَهُ على الكلمةِ يقولُها ثم يُخَلَّى، لا ضَرَرَ فيها، وهذا المُقِيمُ بينَهم، يَلتزِمُ بإجابَتِهم إلى الكُفْرِ المُقامَ عليه، واسْتِحْلال المُحَرماتِ، وتَرْكَ الفَرائضِ والواجباتِ، وفِعْلَ المُنْكَراتِ والمَحْظُورَاتِ، وإن كان امْرأةً [تَزَوَّجُوها واسْتَوْلَدُوها] (¬3) أوْلادًا كُفَّارًا، وكذلك الرَّجُلُ، وظاهرُ حالِهم المصيرُ إلى الكُفْرِ الحقيقِيِّ، والانْسِلاخُ مِن الدِّين الحَنِيفيِّ. فصل: ومَن أصابَ حَدًّا ثم ارْتَدَّ ثم أسلمَ، أُقِيمَ عليه حَدُّه. وبهذا قال الشافعيُّ، سَواءٌ لَحِقَ بدارِ الحَرْبِ في رِدَّتِه، أو لم يَلْحَقْ بها. وقال قَتادَةُ، في مسلم أحْدَثَ حَدَثًا، ثم لَحِقَ بالرُّومِ، ثم قدِرَ عليه: إن كان ارْتَدَّ دُرِئَ عنه الحَدُّ، وإن لم يَكُنِ ارْتَدَّ، أُقِيمَ عليه. ونحوَ هذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ، إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ؛ لأنَّ رِدَّتَه أحْبَطَتْ عَمَلَه، ¬

= 12/ 238 - 242. والنسائي، في: باب سورة البروج، من كتاب التفسير. السنن الكبرى 6/ 510 - 512. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 17، 18. (¬1) في الأصل: «يشبهه». (¬2) في م: «الذي». (¬3) في الأصل: «تزوجها واستولدها» وفي م: «يزوجونها ويولدونها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأسْقَطَتْ ما عليه مِن حُقوقِ اللهِ تعالى، كمَن فَعَل ذلك في حالِ شِرْكِه [ولأنَّ «الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» (¬1). ولَنا، أنَّه حَقٌّ عليه فلم يَسْقُطْ برِدَّتِه، كحقوقِ الآدَمِيِّين. وفارَقَ ما فَعَلَه في شِرْكِه] (¬2). فإنَّه لم يَثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّه. وأمَّا قولُه: «الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ». فالمُرادُ به ما فَعَلَه في كُفْرِه؛ لأنَّه لو أرادَ ما قبلَ رِدَّتِه، أفْضَى إلى كَوْنِ الرِّدَّةِ التي هي أعْظَمُ الذُّنُوبِ، مُكَفِّرَةً للذُّنُوبِ، وأنَّ مَن كَثُرَتْ ذُنُوبُه، ولَزِمَتْه حُدُودٌ، يَكْفُرُ ثم يُسْلِمُ، فتُكَفَّرُ ذُنُوبُه، وتَسْقُطُ حُدُودُه. فصل: فأمَّا ما (¬3) فَعَلَه في رِدَّتِه، فقد نَقَل مُهَنَّا عن أحمدَ، قال: سألتُه عن رجلٍ ارْتَدَّ عن الإِسلامِ فقَطَعَ الطَّرِيقَ، ثم لَحِق بدارِ الحَرْبِ، وأخَذَه المسلمونَ. فقال: تُقامُ عليه (¬4) الحدُودُ، ويُقْتَصُّ منه. وسألتُه عن رجلٍ ارْتَدَّ فلَحِقَ بدارِ الحَرْبِ، فقَتَلَ بها مُسلمًا، ثم رَجَع تائِبًا، وقد أسْلَمَ، فأخَذَه وَلِيُّه، يكونُ عليه القصاصُ؟ فقال: قد زال عنه الحُكْمُ؛ لأنَّه إنَّما قَتَل وهو مُشرِكٌ، [وكذلك إن سَرَق وهو مُشْرِكٌ] (¬5). ثم تَوَقَّف بعدَ ذلك. وقال: لا أقولُ في هذا شيئًا. وقال القاضي: ما أصابَ في رِدَّتِه مِن نَفْسٍ أو مالٍ أو جُرْحٍ، فعليه ضَمانه، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 112. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 199، 204، 205. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل، ر 3: «فيه». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ كان في مَنَعَةٍ وحماعةٍ، أو لم يَكُنْ؛ لأنَّه الْتَزَمَ حُكْمَ الإِسلامِ بإقْرارِه به (¬1)، فلم يَسْقُطْ بجَحْدِه، كما لا يَسْقُطُ ما الْتَزَمَه عندَ الحاكمِ بجَحْدِه. قال شيخُنا (¬2): والصَّحِيحُ أنَّ ما أصابَه المُرْتَدُّ بعدَ لُحُوقِه بدارِ الحَرْبِ، أو كَوْنِه في جماعةٍ مُمْتَنِعَةٍ، لا يَضْمَنُه. لِما ذَكَرْناه فيما تَقَدَّمَ في (¬3) مَسألَةِ: وما أتْلَفَ من شيءٍ ضَمِنَه. وما فعلَه قبلَ هذا، أُخِذَ به، إذا كان ممَّا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ آدَمِيٍّ، كالجِنايَةِ على نفْسٍ أو مالٍ؛ لأنَّه في دارِ الإِسْلامِ، فلَزِمَه حُكْمُ جِنايَتِه، كالذِّمِّيِّ والمُسْتَأْمِنِ. وأمَّا إنِ ارْتَكَبَ حَدًّا خالِصًا للهِ تَعالى، كالزِّنَى وشُرْبِ الخَمْرِ، والسَّرِقَةِ، فإنَّه إن قُتِلَ بالرِّدَّةِ، سَقَط ما سِوَى القَتْلِ مِن الحُدُودِ؛ لأنَّه متى اجْتَمَعَ مع القَتْلٍ حَدٌّ، اكْتُفِيَ (¬4) بالقَتْلِ، وإن رَجَع إلى الإِسلام، أُخِذَ بحَدِّ الزِّنَى والسَّرِقَةِ؛ لأنَّه من أهلِ دارِ الإِسلامِ، فأُخِذَ بهما، كالذِّمِّيِّ والمُسْتَأْمِنِ. فأمَّا حَدُّ الخمرِ، فيَحْتَمِلُ أنَّه لا يجبُ عليه؛ لأنَّه كافرٌ، فلا يُقامُ عليه حَدُّ الخمرِ، كسائرِ الكُفَّارِ. ويَحْتَمِلُ أن يجبَ؛ لأنَّه أقَرَّ بحُكْمِ الإِسلامِ قبلَ رِدَّتِه، وهذا من أحْكامِه، فلم يَسْقُطْ بجَحْدِه بعدَه. فصل: ومَن ادَّعَى النُّبُوَّةَ، أو صَدَّقَ مَن ادَّعاها، فقد ارْتَدَّ؛ لأنَّ مُسَيلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فصَدَّقَه قَوْمُه، صارُوا بذلك مُرْتَدِّينَ، وكذلك ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في المغني 12/ 298. (¬3) سقط من: الأصل، ر 3. (¬4) في م: «انتفى».

فَصْل: والسَّاحِرُ الَّذِي يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ، فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَنَحْوهِ، يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ، فَأَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بالْأَدْويَةِ، وَالتَّدْخِينِ، وَسَقْي شَيْءٍ يَضُرُّ، فَلَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَيُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طُلَيحَةُ الأسَدِيُّ ومُصدِّقُوه. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى [يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ] (¬1) كُلُّهم يَزْعُمُ (¬2) أنَّه رَسُولُ الله» (¬3). فصل: قال الشيخُ رَحِمَه اللهُ (والسَّاحِرُ الذي يَرْكَبُ المِكْنَسَةَ، فتَسِيرُ به في الهواءِ ونحوه، يَكْفُرُ ويُقْتَلُ. فأمَّا الذي يَسْحَرُ بالأدْويَةِ، والتَّدْخِينِ، وسَقْي شيءٍ يَضُرُّ، فلا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ، ولكنْ يُعَزَّرُ، ويُقْتَصُّ منه إن فَعَل ما يُوجِبُ القِصاصَ) وجملةُ ذلك، أنَّ السِّحْرَ عُقَدٌ ¬

(¬1) في م: «يخرج ثلاثون كذابون». (¬2) في م: «يدعى». (¬3) أخرجه البخاري، في: باب علامات النبوة في الإسلام، من كتاب المناقب. صحيح البخاري 4/ 243. ومسلم، في: باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل. . . .، من كتاب الفتن وأشراط الساعة. صحيح مسلم 4/ 2240. وأبو داود، في: باب في خبر ابن صائد، من كتاب الملاحم. سنن أبي داود 2/ 435. والترمذي، في: باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 63. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 450.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُقًى وكَلامٌ يَتَكَلَّمُ به، أو يَكْتُبُه، أو يَعْمَلُ شيئًا يُؤَثرُ في بَدَنِ المَسْحُورِ، أو قَلْبِه، أو عَقْلِه، مِن غيرِ مُباشَرَةٍ له. وله حَقِيقةٌ، فمنه ما يَقْتُلُ، وما يُمْرِضُ، وما يَأْخُذُ الرجلَ عن امرأتِه فيَمْنَعُه وَطْأَها، ومنه ما يُفَوَّق به بينَ المرءِ وزَوْجِه، وما يُبَغِّضُ أحدَهما إلى الآخَرِ، أو يُحَبِّبُ بينَ اثْنَين. وهذا قولُ الشافعيِّ. وذَهَب بعضُ أصحابِه إلى أنَّه لا حَقِيقَةَ له، إنَّما هو تَخْيِيلٌ؛ قال اللهُ تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (¬1). وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: إن كان شيئًا يَصِلُ إلى بَدَنِ المَسْحُورِ، كدُخانٍ ونحوه، جازَ أن يَحْصُلَ منه ذلك، فأمَّا أن يَحْصُلَ المَرَضُ والمَوْتُ مِن غيرِ أن يَصِلَ إلى بَدَنِه شيءٌ، فلا يجوزُ ذلك؛ لأنَّه لو جازَ، لَبَطَلَتْ مُعْجِزاتُ الأنْبِياءِ عليهم السلامُ؛ لأنَّ ذلك يَخْرِقُ العاداتِ، فإذا جازَ من غيرِ الأنبياءِ، بَطَلَتْ مُعْجِزاتُهم وأدِلَّتُهمِ. ولَنا، قولُ الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (¬2). يَعْنِي السَّواحِرَ اللَّاتي يَعْقِدْنَ في سِحْرِهِنَّ، ويَنْفُثْنَ عليه، ولولا أنَّ السِّحْرَ له (¬3) حقيقةٌ، لَما ¬

(¬1) سورة طه 66. (¬2) سورة الفلق 1 - 4. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُمِرْنا (¬1) بالاسْتِعاذَةِ منه. وقال اللهُ تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (¬2). إلى قولِه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}. ورَوَت عائشةُ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُحِرَ حتى إنَّه ليُخَيَّلُ إليه (¬3) أنَّه يَفْعَلُ الشئَ وما يَفْعَلُه، وأنَّه قال لها ذاتَ يوم: «أَشَعَرْتِ أنَّ اللهَ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيتُه؟ أنَّه أتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَال: مَطْبُوبٌ. قَال: مَنْ طَبَّهُ؟ قَال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ (¬4)، في جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، في بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ» (¬5). ذَكَرَه البخاريُّ، وغيرُه (¬6). جُفُّ الطَّلْعَةِ: وعاؤُها. والمُشَاطَةُ: الشَّعَرُ الذي يَخْرُجُ من شَعَرِ (3) الرَّأْسِ أو غيرِه إذا مُشِطَ. فقد أثْبَتَ لهم سِحْرًا. وقد اشْتُهِرَ بينَ النَّاسِ وجودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عن امرأتِه حينَ ¬

(¬1) في م: «أمر». (¬2) سورة البقرة 102. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في بعض روايات البخاري: «ومشاقة». والمشاقة: ما يستخرج من الكتان. (¬5) في «البخاري» بئر ذروان، وكلاهما صحيح، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 14/ 177. (¬6) أخرجه البخاري، في: باب صفة إبليس وجنوده، من كتاب بدء الخلق، وفي: باب السحر، وباب هل يستخرج السحر، من كتاب الطب، وفي باب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، من كتاب الأدب، وفي: باب تكرير الدعاء، من كتاب الدعوات. صحيح البخاري 4/ 148، 7/ 177، 178 =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَتَزَوَّجُها، فلا يَقْدِرُ على إتْيانِها، وحَلُّ عَقْدِه، فيَقْدِرُ عليها بعدَ عَجْزِه عنها، حتى صارَ مُتَواتِرًا لا يُمْكِنُ جَحْدُه. ورُوِيَ من أخْبارِ السَّحَرَةِ ما لا يَكادُ يُمْكِنُ التَّواطُؤُ على الكَذِبِ فيه. وأمَّا إبْطالُ المُعْجِزَاتِ، فلا يَلْزَمُ مِن هذا؛ لأنَّه لا يَبْلُغُ ما تَأْتِي به الأنبياءُ عليهم السلامُ، وليس يَلْزَمُ أن يَنْتَهِيَ إلى أن تَسْعَى العَصَا والحِبالُ. فصل: وتَعْلِيمُ السِّحْرِ وتَعَلُّمُه حَرامٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا بينَ أهلِ العلمِ. قال أصحابُنا: ويَكْفُرُ السَّاحِرُ بتَعَلُّمِه وفِعْلِه، سَواءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَه أو إباحَتَه. ورُويَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يَكْفُرُ، فإنَّ حَنْبَلًا روَى عنه، قال: قال عَمِّي في العَرَّافِ والكاهِنِ والسَّاحِرِ: أرَى أن يُسْتَتابَ مِن هذه الأفَاعِيلِ كلِّها، فإنَّه عندِي في معْنى المُرْتَدِّ، فإن تابَ وراجَعَ -يعني- خُلِّيَ سَبِيلُه. قلتُ له: يُقْتَلُه؟ قال: لا، يُحْبَسُ (¬1)، لَعَلَّه يَرْجِعُ (¬2). قلتُ له: لِمَ لا تَقْتُلُه؟ قال: إذا كان يُصَلِّي، لعلَّه يتوبُ ويرجعُ. وهذا يَدُلّ على أنَّه لم يُكَفِّرْه؛ لأنَّه لو كَفَّرَه لقَتَلَه. وقولُه: في معنى المُرْتَدِّ. يعني في الاسْتِتَابَةِ. وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: ¬

= 8/ 22، 23، 103. ومسلم، في: باب السحر، من كتاب السلام. صحيح مسلم 4/ 1719 - 1721. وابن ماجه، في: باب السحر، من كتاب الطب. سنن ابن ماجه 2/ 1173. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 57، 63، 96. (¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «يراجع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنِ اعْتَقدَ أنَّ الشَّياطِينَ تَفْعَلُ له ما يَشاءُ، كَفَر، وإنِ اعتقدَ أنَّه تَخْيِيلٌ، لم يَكْفُرْ. وقال الشافعيُّ: إنِ اعْتَقَدَ ما يُوجبُ الكُفْرَ، مثلَ التَّقَرُّبِ إلى الكواكبِ السَّبْعَةِ، أنَّها تَفْعَلُ ما يَلْتَمِسُ، أوَ اعْتَقَدَ حِلَّ السِّحْرِ، كَفَر؛ لأنَّ القرآنَ نَطَق بتَحْرِيمِه، وثَبَت بالنَّقْلِ المُتواترِ والإِجْماعِ، وإلَّا فُسِّقَ ولم يُكَفَّرْ؛ لأنَّ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، باعَتْ مُدَبَّرَةً لها سَحَرتْها، بمَحْضَرٍ مِن الصحابَةِ (¬1). ولو كَفَرَتْ لصَارَتْ مُرْتَدَّةً يجبُ قَتْلُها، ولم يَجُزِ اسْتِرْقاقُها، ولأنَّه شيء يَضُرُّ بالنَّاسِ، فلم يَكْفُرْ بمُجَرَّدِه كأذاهم. ووَجْهُ قولِ الأصحابِ قولُ اللهِ تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. إلى قولِه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. وقولُه تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ} (¬2). أي ما كان ساحِرًا كَفَر بسِحْرِه. وقولُهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. أي لا تَتَعَلَّمْه فَتَكْفُرَ بذلك، وقد ذَكَرْنا حديثَ هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبِيه، عن عائشةَ، أنَّ السَّاحِرَةَ سأَلَتْ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهم مُتوافِرُونَ، هل لها من تَوْبَةٍ؟ فما أفْتاها أحَدٌ (¬3) فصل: وحَدُّ السَّاحِرِ القَتْلُ. رُوِيَ ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 183. والبيهقي، في: باب من لا يكون سحره كفرا. . . .، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 137. (¬2) سورة البقرة 102. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدَبِ بنِ عبدِ اللهِ، وجُنْدَبِ بنِ كَعْبٍ، وقَيسِ بنِ سَعْدٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. ولم يَرَ الشافعيُّ عليه القتلَ بمُجَرَّدِ السِّحْرِ. وهو قولُ ابنِ المُنْذِرِ، ورِوايَة عن أحمدَ وقد ذَكَرْناها. ووَجْهُها ما ذَكَرْنا مِن حديثِ عائشةَ في المُدَبَّرَةِ التي سَحَرَتْها، فبَاعَتْها، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بإحْدَى ثَلَاثٍ، كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، أو زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغَيرِ حَقٍّ» (¬1). ولم يَصْدُرْ منه أحَدُ الثلاثةِ، فوَجَب أن لا يَحِلَّ دَمُه. ولَنا، ما روَى جُنْدَبُ بنُ عبدِ اللهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «حَدُّ السَّاحِرِ، ضَرْبةٌ بِالسَّيفِ» (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ (¬3): رَواه إسْماعيلُ بنُ مسلمٍ، وهو ضَعِيفٌ. ورَوَى. سعيدٌ، وأبو داودَ، في «كِتَابَيهِمَا» (¬4)، عن بَجَالةَ، قال: كنتُ كاتِبًا لجَزْءِ (¬5) بنِ مُعاويةَ، عَمِّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 3/ 31. (¬2) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في حد الساحر، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذي 6/ 246. والدارقطني، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطني 3/ 114. والببيهقى، في: باب تكفير الساحر وقتله، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 136. وهو ضعيف. انظر ضعيف سنن الترمذي 244. (¬3) انظر الإشراف 3/ 268. (¬4) أخرجه سعيد، في: باب جامع الطلاق، من كتاب الطلاق. السنن 2/ 90، 91. ولم نجده في سنن أبي داود. كما أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 179، 180. والبيهقي، في: باب تكفير الساحر وقتله. . . .، من كتاب القسامة، وفي: باب ما جاء في الذميين. . . .، من كتاب الحدود. السنن الكبرى 8/ 136، 247. وعبد الرزاق، في: باب كل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 179، 180، 181. وابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الساحر. . . .، من كتاب الحدود. المصنف 10/ 136. (¬5) في الأصل: «لجبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحْنَفِ بنِ قَيسٍ، إذ جاءَ كتابُ عمرَ قبلَ مَوْتِه بسَنَةٍ: اقْتُلُوا كلَّ ساحِرٍ. فقَتَلْنا ثلاثَ سَوَاحِرَ في يومٍ. وهذا اشْتُهِرَ فلم يُنْكَرْ، فكان إجْماعًا، وقتلتْ حَفْصَةُ جارِيةً لها سَحَرَتْها (¬1). وقَتَل جُنْدَبُ بنُ كَعْبٍ ساحِرًا كان يَسْحَرُ بينَ يَدَيِ الوَليدِ بنِ عُقْبَةَ (¬2). ولأنَّه كافِرٌ فيُقْتَلُ؛ للخَبَرِ المَرْويِّ. فصل: والسِّحْرُ الذي ذَكَرْنا حُكْمَه، هو الذي يُعَدُّ في العُرْفِ سِحْرًا (¬3)، مثلَ فِعْلِ لَبِيدِ بنِ الأعْصَمِ، حينَ سَحَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ. ورَوَينا في «مَغازِي الأُمَويِّ» (¬4) أنَّ النَّجاشِيَّ دَعَا السَّواحِرَ فنَفَخْنَ في إحليلِ عُمارةَ بنِ الوَليدِ، فهامَ مع الوَحْشِ، فلم يَزَلْ معها إلى إمارَةِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ، فأمْسَكَه إنْسانٌ، فقال: خَلِّنِي وإلَّا مِتُّ. فلم يُخَلِّه، فماتَ من ساعَتِه. وبَلَغَنا أنَّ بعضَ الأُمَراءِ أخذَ ساحِرَةً، فجاء زَوْجُها كأنَّه مُحْتَرِقٌ، فقال: قُولُوا لها تَحُلُّ عَنِّي. فقالت: ائْتُونِي بخُيوطٍ وبابٍ. فأتَوْها به، فجَلَسَتْ على البابِ، وجعلَتْ تَعْقِدُ، فطارَ بها البابُ، فلم يقدرُوا عليها. فهذا وأمْثالُه مثلُ أن يَعْقِدَ الرجلَ المُتَزَوِّجَ، فلا يُطِيقُ وَطْءَ امرأتِه، هو السِّحْرُ المُخْتَلَفُ في حُكْمِ صاحِبِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 175. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب قتل الساحر، من كتاب اللقطة. المصنف 10/ 181، 182. والبيهقي، في: باب تكفير الساحر وقتله، من كتاب القسامة. السنن الكبرى 8/ 136. (¬3) بعده في الأصل: «بين». (¬4) وأخرجه أبو نعيم، في: دلائل النبوة 1/ 243 - 246. والبيهقي، في: دلائل النبوة 2/ 285 - 296.

4599 - مسألة: (فأما الذي يسحر بالأدوية، والتدخين، وسقي شيء يضر، فلا يكفر ولا يقتل)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4599 - مسألة: (فأمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بالأدْويَةِ، والتَّدْخِينِ، وسَقْي شَيءٍ يَضُرُّ، فلا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ) لأنَّ اللهَ تعالى وَصَف السَّاحِرينَ الكافِرينَ بأنَّهم يُفَرقُونَ بينَ المرءِ وزَوْجِه، فيَخْتَصُّ الكُفْرُ بهم، ويَبْقَى مَن سِوَاهم من الذين يسْحرُونَ بالأدْويَةِ والتَّدْخِينِ على أصْلِ العِصْمَةِ، لا يجبُ قَتْلُهم، ولا يَكْفُرونَ بسِحْرِهم، لكنْ يُعَزَّرُونَ إنِ ارْتَكَبُوا مَعْصِيَةً، ويُقْتَصُّ منهم [إن فعلوا] (¬1) ما يُوجِبُ القِصاصَ، كما يُقْتَصُّ مِن غيرِهم من المسلِمِين. ¬

(¬1) سقط من: م.

4600 - مسألة: (وأما الذي يعزم على الجن، ويزعم أنه يجمعها فتطيعه، فلا يكفر ولا يقتل. وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون)

وَأَمَّا الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجَنِّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ، فَلَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ، وَذَكَرهُ أبو الْخَطَّابِ فِي السَّحَرَةِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4600 - مسألة: (وأمَّا الذي يَعْزِمُ على الجنِّ، ويَزْعُمُ أنَّه يَجْمَعُها فتُطِيعُه، فلا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ. وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ في السَّحَرَةِ الذين يُقْتَلون) وكذلك ذَكَرَه القاضي. فأمَّا الذي يَحُلُّ بالسِّحْرِ، فإن كان بشيءٍ من القُرْآنِ، أو شيءٍ من الذِّكْرِ والأقْسامِ والكلامِ المُباحِ، فلا بَأْسَ به، فإن كان بشيءٍ من السِّحْرِ، فقد تَوَقَّفَ أحمدُ عنه، قال الأثرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن رجلٍ يَزْعُمُ أنَّه يَحُلُّ السِّحْرَ، فقال: قد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَخَّصَ فيه بعضُ النَّاسِ. قِيلَ لأبي عبدِ اللهِ: إنَّه يَجْعَلُ في الطِّنْجيرِ (¬1) ماءً، ويَغِيبُ فيه، ويَعْمَلُ كذا. فنَفَض يَدَه كالمُنْكِرِ، وقال: ما أَدْرِي ما هذا؟ قِيلَ له: أفتَرَى أن يُؤْتَى مثلُ هذا يَحُلُّ السِّحْرَ؟ فقال: ما أدْرِي ما هذا؟ ورُوِيَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ، أنَّه سُئِلَ عن امرأةٍ تُعَذِّبُها السَّحَرَةُ، فقال رجلٌ: أخُطُّ خَطًّا عليها، وأغْرِزُ السِّكِّينَ عندَ مَجْمَعِ الخَطِّ، وأقْرَأُ القُرْآنَ. فقال محمدٌ: ما أعلمُ بقراءةِ القُرْآنِ بَأْسًا على حالٍ، ولا أدْرِي ما الخَطُّ والسِّكِّينُ. ورُوِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، في الرجُلِ يُؤْخَذُ عن امرأتِه، فيَلْتَمِسُ مَن يُداويه، فقال: إنَّما نَهَى اللَّهُ عمَّا يَضُرُّ، ولم يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ. وقال أيضًا: إن اسْتَطَعْتَ أن تَنْفَعَ أخاكَ فافْعَلْ. فهذا من قولِهم يَدُلُّ على أنَّ المُعَزِّمَ ونحوَه لم يَدْخُلُوا في حُكْمِ السَّحَرَةِ؛ لأنَّهم لا يُسَمَّوْن به، وهو ممَّا (¬2) يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ. ¬

(¬1) الطنجير: بالكسر لفظ فارسي معرب، وهو إناء من نحاس يطبخ فيه. انظر المصباح المنير (ط ن ج ر)، وقصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل 2/ 266. (¬2) بعده في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا الكاهِنُ (¬1) الذي له رَئِيٌّ من الجِنِّ، يَأْتِيه بالأَخْبارِ، والعَرَّافُ الذي يَحْدِسُ ويَتَخَرَّصُ، فقد قال أحمدُ، في روايةِ حَنْبَلٍ، في العَرَّافِ والسَّاحِرِ والكاهِنِ: أرَى أن يُسْتَتابَ من هذه الأفاعِيلِ. قِيلَ له: يُقْتَلُ؟ قال: لا، يُحْبَسُ، لَعَلَّه يَرْجِعُ. قال: والعِرافَةُ طَرَفٌ من السِّحْرِ، والسَّاحِرُ أخْبَثُ؛ لأنَّ السِّحْرَ شُعْبَةٌ من الكُفْرِ. وقال: السَّاحِرُ والكاهِنُ حُكْمُهُما القَتْلُ، أو الحَبْسُ حتى يَتُوبَا؛ لأنَّهما يُلبِّسانِ أمْرَهما، وحديثُ عمرَ: اقْتُلوا كُلَّ ساحرٍ وكاهِنٍ (¬2). وليس هو من أمرِ الإِسلامِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ فيه رِوايتان؛ إحدَاهما، ¬

(¬1) في م: «الكافر». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يُقْتَلُ إذا لم يَتُبْ. والثانيةُ، لا يقتلُ؛ لأنَّ حكمَه أخفُّ من حكمِ الساحِرِ، وقد اخْتُلِفَ فيه، فهذا (1) بدَرْءِ القَتْلِ عنه (¬1) أوْلَى. فصل: فأمَّا ساحِرُ أهْلِ الكِتابِ، فلا يُقْتَلُ لصِحْوه، إلَّا أن يَقْتُلَ به، ويكونَ ممَّا يَقْتُلُ غالبًا، فيُقْتَلُ قِصاصًا. وقال أبو حنيفةَ: كقْتَلُ، لعُمُومِ ما تَقَدَّمَ من الأخْبارِ، ولأنَّه جِنايَةٌ أوْجَبَتْ قَتْلَ المسلمِ، فأوْجَبَتْ قَتْلَ الذِّمِّيِّ، كالقَتْلِ قِصاصًا. ولَنا، أنَّ لَبِيدَ بنَ الأعْصَمِ سَحَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَقْتُلْه. ولأنَّ الشِّرْكَ أعْظَمُ من سِحْرِه، فلا يُقْتَلُ به، والأخْبارُ وَرَدَتْ في ساحرِ المسلمين؛ لأنَّه يَكْفُرُ بسِحْرِه، وهذا كافِرٌ أصْلِيٌّ. وقياسُهم ينتقِضُ باعتِقادِ الكُفْرِ، والتَّكَلُّمِ به، وينتقِضُ بالزِّنَى من المُحْصَنِ، فإنَّه لا يُقْتَلُ به الذِّمِّيّ عندَهم، ويُقْتَلُ به المسلِمُ. واللهُ أعلمُ.

كتاب الأطعمة

كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ، فَيَحِلُّ كُلُّ طَعَامٍ طَاهِرٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ مِنَ الْحُبُوبِ والثِّمَارِ وَغَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الأطْعِمةِ (والأصْلُ فيها الحِلُّ) لقولِ اللهِ تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1). وقولِه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (¬2). وقولِه سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (¬3). 4601 - مسألة: (فيَحِلُّ كُلُّ طَعام طاهِرٍ لا مَضَرَّةَ فيه مِن الحبُوبِ ¬

(¬1) سورة البقرة 29. (¬2) سورة الأعراف 157. (¬3) سورة المائدة 1.

فَأَمَّا النَّجَاسَاتُ؛ كَالْمَيتَةِ، وَالدَّمِ، وَغَيرِهِمَا، وَمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ مِنَ السُّمُومِ وَنَحْوهِا، فَمُحَرَّمَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثِّمارِ) لأنَّها مِن الطَّيِّباتِ (فأمَّا النَّجاساتُ؛ كالمَيتَةِ، والدَّمِ، وغيرِهما) فحرامٌ؛ لأنَّها مِن الخبائِثِ؛ لقولِ الله تعالى؛ {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (¬1). وقولِه: {وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). ويَحْرُمُ (ما فيه مَضَرَّةٌ مِن السُّمُومِ وَنحْوها) لمَضَرَّتِها وأذِيَّتها (¬3)، لأنَّها تُفْضِي إلى هَلاكِ النَّفْسِ، وقد قال اللهُ تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) سورة الأعراف 157. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة البقرة 195.

4602 - مسألة: (والحيوانات مباحة)

وَالْحَيَوانَاتُ مُبَاحَةٌ، إلا الْحُمُرَ الْأهْلِيَّةَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4602 - مسألة: (والحَيواناتُ مُباحَةٌ) لِعُمُومِ [النُّصُوصِ الدَّالَّةِ] (¬1) على الإِباحَةِ (إلَّا الحُمُرَ الأهْلِيَّةَ) أكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. قال أحمدُ: خمسةٌ وعِشرون مِن أصْحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهُوهَا. قال ابنُ عبد البَرِّ (¬2): لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ اليومَ في تَحْرِيمِها. وحُكِيَ عن ابنِ عباسٍ، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما كانا يقولان بظاهِرِ قولِه تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (¬3). وتَلاها ابنُ عباسٍ، وقال: ما خَلا هذا فهو حلالٌ (¬4). وسُئِلَتْ عائشةُ عنِ الفَأْرَةِ، فقالت: ما هي بحرامٍ. وتَلَتْ هذه الآيةَ (¬5). ولم يَرَ عِكْرِمَةُ وأبو وائِلٍ بِأكْلِ لَحْمِ الحُمُرِ (¬6) بَأْسًا. ورُوِيَ عن غالِبِ بنِ أبْجَرَ (¬7)، قال: أصابَتْنا سَنَةٌ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أصابَتْنا سَنَةٌ، ¬

(¬1) في م: «النص الدال». (¬2) انظر: التمهيد 10/ 123. (¬3) سورة الأنعام 145. (¬4) انظر ما أخرجه البخاري، في: باب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح والصيد. . . . صحيح البخاري 7/ 124. وأبو داود، في: باب في أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 320. وعبد الرزاق، في: باب الحمار الأهلي، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 525، 526. (¬5) انظر: الإشراف 3/ 207. (¬6) في م: «الخنزير». (¬7) في م: «الحر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَكُنْ في مَالِي ما أُطْعِمُ أهْلِي إلَّا سِمانٌ حُمُرٌ، وإنَّكَ (¬1) حَرَّمْتَ لُحُومَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. قال: «أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ، فَإنَّما حَرَّمْتُهَا مِنْ أجْلِ جَوَالِّ (¬2) القَرْيَةٍ» (¬3). ولَنا، ما رَوَى جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى يومَ خيبَرَ عن لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، وأَذِنَ في لُحُومِ الخيلِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬5): روَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَحْرِيمَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ علي، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، وجابِرٌ، والبَراءُ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفى، وأنَسٌ، وزاهِرٌ الأسْلَمِيُّ، بأسانِيدَ صِحاحٍ حِسانٍ، وحديثُ غالِب بنِ أبْجَرَ لا يُعَرَّجُ على مِثْلِه مع ما عارَضَه. ويَحْتَمِلُ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لهم في مَجاعَتِهِم، وبَيَّنَ عِلَّةَ تَحْرِيمِها المُطْلَقِ؛ لكونِها تَأكُلُ العَذِراتِ. قال عبدُ اللهِ بنُ أبي أَوْفَى: حَرَّمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَتَّةَ، مِن أجل أنَّها تَأكُلُ العَذِرَةَ. [مُتَّفَقٌ عليه] (¬6). ¬

(¬1) في م: «أنت». (¬2) في الأصل، م: «حوالي». والجوال: جمع جالّة من الحيوان، وهي التي تأكل العَذِرة. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 321. والبيهقي، في: باب أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الضحايا 7/ 269. وقال: إسناده مضطرب. وانظر: نصب الراية 4/ 197. (¬4) تقدم تخريجه في 20/ 417. (¬5) في: التمهيد 10/ 125، 126. (¬6) سقط ش: م. والحديث أخرجه البخاري، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي. صحيح البخاري 5/ 173. =

4603 - مسألة: (وما له ناب يفرس به؛ كالأسد، والنمر، والذئب، والفهد، والكلب، والخنزير، وابن آوى، والسنور، وابن عرس، والنمس، والقرد، إلا الضبع)

وَمَا لَهُ نَابٌ يَفْرِسُ بِهِ؛ كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَابْنِ آوَى، وَالسِّنَّوْرِ، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، إلا الضَّبُعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وألْبانُ الحُمُرِ مُحَرَّمَةٌ، في قولِ أكثرِهم. ورَخَّصَ فيها عَطاءٌ، وطاوُسٌ، والزُّهْرِيُّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ [لأنَّ حُكْمَ الألْبانِ حُكْمُ اللُّحْمانِ] (¬1). 4603 - مسألة: (وما له نابٌ يَفْرِسُ به؛ كالأسدِ، والنَّمِرِ، والذِّئْبِ، والفَهْدِ، والكلب، والخِنزِيرِ، وابنِ آوَى، والسِّنَّوْرِ، وابنِ عِرْسٍ، والنمْسِ، والقِرْدِ، إلَّا الضَّبُعَ) ذَكَر شيخُنا في هذه المسألةِ الخِنْزِيرَ وليس (¬2) له نابٌ يَفْرِسُ به، وهو مُحَرَّمٌ بالنَّصِّ، وقولِه تعالى: ¬

= ومسلم، في: باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1538. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب لحوم الحمر الوحشية، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1064، 1065. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 381. (¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (¬1). ولا خِلافَ في تَحْرِيمِه بينَ أهلِ العلمِ. فأمّا ما سِوَى الخِنْزِيرِ ممّا ذَكَرْنا، فأكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نابٍ قَويٍّ مِن السِّباعِ، يَعْدُو به (¬2) ويَكْسِرُ، إلَّا الضَّبُعَ؛ منهم مالِكٌ، والشافعيُّ (¬3)، وأبو ثوْرٍ، وأصْحابُ الحديثِ، و [أبو حنيفةَ وأصْحابُه. وقال] (¬4) الشَّعْبِيُّ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، وبعضُ أصْحابِ مالِكٍ: هو مُباحٌ؛ لعُموم قولِه تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}. إلى قولِه: {إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}. ولَنا، ما رَوَى أبو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في ص، م: «إلا أن الشافعي لا يحرم ابن عرس». ويأتي كلامه في الفصل بعد الآتي. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 1/ 178.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو هُرَيرَةَ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكْلُ كلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعَ حَرَامٌ» (¬1). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): هذا حديثٌ ثابِتٌ (¬3) صَحِيحٌ مُجْمَعٌ على صِحَّتِه. وهو نَصٌّ صَرِيحٌ يَخُصُّ عُمومَ الآياتِ، فيَدْخُلُ فيه الأسَدُ، والنَّمِرُ، والذِّئْبُ، والفَهْدُ، والكَلْبُ. وقد رُوِيَ عنِ الشَّعْبِيِّ، أنَّه سُئِلَ عن رجلٍ يَتَداوَى بلَحْمِ الكلبِ؟ فقال: لا شَفاهُ اللهُ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه رَأى تَحْرِيمَه. فصل: والقِرْدُ مُحَرَّمٌ. كَرِهَه ابنُ عمرَ، وعَطاءٌ، والحسنُ، ولم يُجيزُوا بَيعَه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): لا أعْلَمُ خِلافًا بينَ عُلَماء المسلمين في أنَّ القِرْدَ لا يُؤْكَلُ، ولا يَجُوزُ بَيعُه. ورُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن لَحْمِ القِرْدِ (¬5). ولأنَّه سَبُعٌ له نابٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ التَّحْرِيمِ، وهو مَسْخٌ أيضًا، فيكونُ مِن الخبائِثِ المُحَرَّمةِ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، في: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1543. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية أكل ذي ناب وذي مخلب، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 272. والنسائي، في: باب تحريم أكل السباع، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 177. وابن ماجه، في: باب أكل كل ذي ناب من السباع، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1077. والإمام مالك، في: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، من كتاب الصيد. الموطأ 2/ 496. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 236، 366، 418. (¬2) في: التمهيد 1/ 139. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في: الاستذكار 15/ 324، والتمهيد 1/ 157. (¬5) أخرجه ابن وهب، كما ذكره ابن عبد البر في التمهيد 1/ 157.

4604 - مسألة: (وما له مخلب من الطير يصيد به، كالعقاب والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة، والبومة)

وَمَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنَ الطَّيرِ يَصِيدُ بِهِ؛ كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْحِدَأةِ، وَالْبُومَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وابنُ آوَى، وابنُ عِرْسٍ، والنِّمْسُ، حَرامٌ. وسُئِلَ أحمدُ (¬1) عن ابنِ آوَى وابنِ عِرْسٍ، فقال: كُلُّ شيءٍ يَنْهَشُ بأنْيابِه فهو مِن السِّباعِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ وأصْحابُه. وقال الشافعيُّ: ابنُ عِرْسٍ مُباحٌ؛ لأنَّه ليس له نابٌ قَويٌّ، فأشْبَهَ الضَّبَّ. ولأصْحابِه في ابنِ آوَى وَجْهان. ولَنا، أنَّها مِن السِّباعِ، فتَدْخُلُ في عُمومِ النَّهْي، ولأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ، غيرُ مُسْتَطابَةٍ، فإنَّ ابنَ آوَى يُشْبِهُ الكلبَ، ورائِحَتُه كَرِيهَةٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ}. 4604 - مسألة: (وما له مِخْلَبٌ مِن الطيرِ يَصِيدُ به، كالعُقابِ والبازِي، والصَّقْرِ، والشّاهينِ، والحِدَأةِ، والبُومَةِ) هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. وقال مالِكٌ، واللَّيثُ، والأوْزَاعِيُّ، ويحيى بنُ سعيدٍ: لا يَحْرُمُ مِن الطيرِ شيءٌ. قال مالكٌ: لم أرَ أحَدًا مِن أهلِ العلمِ يَكْرَهُ سِباعَ الطيرِ. واحْتَجُّوا بعُمومِ الآياتِ المُبِيحَةِ، وقولِ أبي الدَّرْداءِ وابنِ عباسٍ: ما سَكَت اللهُ عنه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو ممّا عُفِيَ عنه (¬1). ولَنا، ما رَوَى ابنُ عباسٍ قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن كُلِّ ذَي نابٍ مِن السِّباعِ، وكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِن الطيرِ. [وعن خالدِ بنِ الوليدِ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حَرَامٌ عَلَيكُمُ الْحُمُرُ الْأَهلِيَّةُ، وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيرِ»] (¬2). رواهُما أبو داودَ (¬3). وهذا يَخُصُّ عُمومَ الآياتِ، ويُقَدَّمُ على ما ذكَروه، فيَدْخُلُ في هذا كُلُّ ما له مِخْلَبٌ يَعْدُو به، كالعُقابِ، والبازي، والصقرِ، والشّاهِينِ، والباشَقِ (¬4)، والحِدَأَةِ، والبُومَةِ، وأشْباهِها (¬5). ¬

(¬1) أخرج أبو داود عن ابن عباس نحوه، في: باب ما لم يذكر تحريمه، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 319. (¬2) سقط من: م. (¬3) في: باب النهي عن أكل السباع، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 9/ 312، 320. كما أخرج الأول مسلم، في: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1534. والنسائي،. في: باب إباحة أكل لحوم الدجاج، من كتاب الصيد. المجتبى 7/ 182. وابن ماجه، في: باب أكل كل ذي ناب من السباع، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1077. والدارمي، في: باب ما لا يؤكل من السباع، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 85. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 244، 289، 302، 327. كما أخرج الثاني النسائي، في: باب تحريم أكل لحوم الخيل، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 178. وابن ماجه، في: باب لحوم البغال، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1066. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 89. والدارقطني، في: باب الصيد والذبائح والأطعمة. سنن الدارقطني 4/ 287. وقال: هذا حديث ضعيف. وانظر: نصب الراية 4/ 196، 197. (¬4) الباشق: من الجوارح، يشبه الصقر ويتميز بجسم طويل، ومنقار قصير بادي التقوس. (¬5) في الأصل: «أشباههما».

4605 - مسألة: (وما يأكل الجيف؛ كالنسر، والرخم

وَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ؛ كَالنَّسْرِ، وَالرَّخَمِ، وَاللَّقْلَقِ، وَغُرَابِ الْبَين وَالْأَبْقَعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4605 - مسألة: (وما يَأْكُلُ الجِيَفَ؛ كالنَّسْرِ، والرَّخَمَ (¬1)، واللَّقلَقِ (¬2)، وغُرَابِ البَينِ والأَبْقَعِ) قال عُروَةُ: ومَن يَأْكُلُ الغُرابَ وقد سَمّاه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاسِقًا! واللهِ ما هو مِن الطَّيِّباتِ (¬3). ولَعَلَّه أرادَ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ والحَرَمِ؛ الغُرابُ، والحِدَأَةُ، والفَأْرَةُ، والعَقْرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ» (¬4). فهذه الخَمْسُ مُحَرَّمَةٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أباحَ قَتْلَها في الحَرَمِ، ولا يجوزُ قَتْلُ صَيدٍ مَأكُولٍ في الحَرَمِ، ولأنَّ ما يُؤكَلُ لا يَحِلُّ (¬5) قَتلُه إذا قُدِر عليه، بل يُذْبَحُ ويُؤْكَلُ. وسُئِلَ أحمدُ عن أكْلِ (¬6) العَقْعَقِ (¬7)، فقال: إن لم يكنْ يَأكُلُ الجِيَفَ، فلا بَأْسَ به. قال أصْحابُنا: هو يَأكُلُ الجِيَفَ، فيكونُ على هذا مُحَرَّمًا. ¬

(¬1) الرخم: طائر غزير الريش، له منقار طويل أكثر من نصفه مغطى بجلد رقيق. (¬2) اللقلاق: بالفتح الصوت، واللقلاق طائر أعجمي نحو الأوزة، طويل العنق، يأكل الحيات، واللقلق مقصور منه. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب جماع ما يحل ويحرم من الحيوانات. . . .، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 317. عن ابن عمر بنفس هذا اللفظ، وعن عروة بقريب منه. (¬4) تقدم تخريجه في 8/ 305. (¬5) في م: «يجوز». (¬6) سقط من: م. (¬7) العقعق: من فصيلة الغراب، صخَّاب، له ذنب طويل، ومنقار طويل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَحْرُمُ الخُطَّافُ (¬1)، والخُشَّافُ والخُفّاشُ وهو الوَطْواطُ. قال الشاعرُ (¬2): مِثْل النهارِ يَزِيدُ أبْصارَ الوَرَى … نُورًا وتَعْمَى (¬3) أعْيُنُ الخُفّاشِ قال أحمدُ: ومَن يأكُلُ الخُشّافَ! وسُئِلَ عن الخُطّافِ؟ فقال: ما أدْرِي. وقال النَّخَعِيُّ ش كُلُّ الطيرِ حَلالٌ إلَّا الخُفّاشَ. وإنَّما حُرِّمَتْ هذه؛ لأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ، لا تَسْتَطِيبُها العربُ، ولا تَأْكُلُها. ويَحْرُمُ الزَّنابيرُ (¬4)، واليَعاسِيبُ (¬5)، والنَّحْلُ، وأشْباهُها؛ لأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ، غيرُ مُسْتَطابَةٍ. ¬

(¬1) الخطاف: جمعه خطاطيف، وهو من الطيور القواطع إلى الناس تقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم، وهو ما يعرف بعصفور الجنة. (¬2) البيت دون عزو، في: حياة الحيوان، للدميري 1/ 421. (¬3) في م: «يعمى». (¬4) جمع زنبارة وهي حشرة أليمة اللَّسْع، من الفصيلة الزنبورية. (¬5) اليعسوب: هو ملك النحل.

4606 - مسألة: (وما يستخبث؛ كالقنفذ، والفأر، والحيات، والحشرات كلها)

وَمَا يُسْتَخْبَثُ؛ كَالْقُنْفُذِ، وَالْفَأْرِ، وَالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4606 - مسألة: (وما يُسْتَخْبَثُ؛ كَالقُنْفُذِ، والفَأرِ، والحَيّاتِ، والحَشَراتِ كُلِّهَا) القُنْفُذُ حَرامٌ. قال أبو هُرَيرَةَ: هو حَرامٌ. وكَرِهَه مالِكٌ وأبو حنيفةَ. ورَخَّصَ فيه الشافعيُّ، واللَّيثُ، وأبو ثَوْرٍ. ولَنا، ما رُوِيَ عن أبي هُرَيرَةَ، قال: ذُكِرَ القُنْفُذُ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هُوَ خَبيثَةٌ مِنَ الخَبائِثِ». روَاه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه ئشْبِهُ المحَرَّماتِ، ويَأكُل الحَشَراتِ، فأشْبَهَ الجُرَذَ. ¬

(¬1) في: باب في أكل حشرات الأرض، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 318، 319. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 381. والبيهقي، في: باب ما روى في القنفذ وحشرات الأرض، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 326. وضعف إسناده. وفي ضعفه الألباني في: الإرواء 8/ 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وما اسْتَطابَتْه العَرَبُ، فهو حَلالٌ؛ لقوْلِ اللهِ تعالى: [{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}. يعْنِي ما يَسْتَطِيبُونَه. وما اسْتَخْبَثَتْه العربُ فهو مُحَرَّمٌ؛ لقولِ اللهِ تعالى] (¬1): {وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ}. والذين تُعْتَبَرُ اسْتِطابَتُهم واسْتِخْباثُهم هم أهلُ الحِجازِ، مِن أهلِ الأمْصارِ؛ لأنَّهم الذين نَزَلَ عليهم الكِتابُ، وخُوطِبُوا به، وبالسُّنَّةِ، فرُجِعَ في مُطْلَقِ ألفاظِهما إلى عُرْفِهم دُونَ غيرِهم، ولم يُعْتَبَرْ أهلُ البَوادِي؛ لأنَّهم للضَّرُورَةِ والمَجاعَةِ يأكُلُون ما وَجَدوا، ولهذا سُئِلُ بعْضُهم عمّا يَأكُلُون، فقال: ما دَبَّ ودَرَجَ، إلَّا أُمَّ حُبَينٍ (¬2). فقال: لِتَهْنِ أُمَّ حُبَينٍ العافِيَةُ. وما وُجِدَ في أمْصارِ المسلِمِين، ممّا لا يَعْرِفُه أهلُ الحِجازِ، رُدَّ إلى أقْرَبِ ما يُشْبِهُه في الحِجازِ، فإن لم يُشْبِهْه شيءٌ منها، فهو مُباحٌ؛ لدُخُولِه في عُمومِ قولِه تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}. الآية. ولقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا سَكَت اللهُ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» (¬3). فعلى هذا، مِن المُسْتَخْبَثَاتِ الحَشَراتُ؛ كالدِّيدانِ، والجُعْلانِ، وبناتِ وَرْدَانَ (¬4)، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أم حبين: دُوَيبة تشبه الضب. انظر: الحيوان 6/ 143. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في لبس الفراء، من أبراب اللباس. عارضة الأحوذي 7/ 229. وابن ماجه، في: باب أكل الجبن والسمن. من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1117. (¬4) بات وردان: دويبة نحو الخنفساء حمراء اللون، وأكثر ما تكون في الحمامات والكنف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والخَنافِسِ، والفَأْرِ، والأوْزاغِ، والحِرْباءِ، والعَظَاءِ (¬1)، والجَراذِينِ، والعَقارِبِ، والحَيّاتِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ورَخَّصَ مالِكٌ، وابنُ أبي لَيلَى، والأوْزَاعِيُّ، في ذلك كُلِّه، إلَّا الأوْزاغَ، فإنَّ ابنَ عبدِ البَرِّ قال: هو مُجْمَعٌ على تَحْريمِه. وقال مالِكٌ: الحَيَّةُ حَلالٌ إذا ذُكِّيَتْ. واحْتَجُّوا بعُموم الآيةِ المُبِيحَةِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ}. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ والْحَرَمِ؛ العَقْرَبُ، والفَأْرَةُ، والغُرابُ، والحِدَأَةُ، والْكَلْبُ العَقُورُ» (¬2). وفي الحديثِ: «الحَيَّةُ» مكانَ: «الْفَأْرَةُ». ولو كانت مِن الصَّيدِ المُباحِ، لم يُبَحْ قَتْلُها؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬3). وقال سبحانَه: {وَحُرِّمَ عَلَيكُمْ صَيدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4). ولأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ، فحَرُمَتْ، كالأوْزاغِ، ومأْمُورٌ بقَتْلِها، فأشبَهَتِ الوَزَغَ. ¬

(¬1) العظاءة: دويبة من الزواحف ذوات الأربع، تعرف في مصر بالسحلية. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 305. (¬3) سورة المائدة 95. (¬4) سورة المائدة 96.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والسِّنَّوْرُ الأهْلِيُّ مُحَرَّمٌ. وبه قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن أكْلِ الهِرِّ (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في ثمن السنور، من كتاب البيوع، وفي: باب النهي عن أكل السباع، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 250، 320. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 280. وابن ماجه، في: باب الهرة، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1082. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 297 مختصرًا. قال الترمذي، هذا حديث غريب. وضعفه الألباني في: الإرواء 8/ 140.

4607 - مسألة: (وما تولد من مأكول وغيره؛ كالبغل، والسمع، والعسبار، والسمع ولد الضبع من الذئب. وقيل: يسمى العسبار. والعسبار ولد الذئب من الذيخ)

وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيرِهِ؛ كَالْبَغْلِ وَالسِّمْعِ؛ وَلَدِ الضَّبُعِ مِنَ الذِّئْبِ، والعِسْبَارِ؛ وَلَدِ الذِّئْبةِ مِنَ الذِّيخِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4607 - مسألة: (وما تَوَلَّدَ مِن مَأكُولٍ وغَيرِه؛ كالبَغْلِ، والسِّمْعِ، والعِسْبارِ، والسِّمْعُ وَلَدُ الضَّبُعِ مِن الذِّئْبِ. وقِيلَ: يُسمَّى العِسْبارَ. والعِسْبارُ وَلَدُ الذِّئْبِ مِن الذِّيخِ) ذَكَرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ. البغالُ مُحَرَّمَةٌ عندَ كُلِّ مَن حَرَّمَ الحِمارَ الأهْلِيَّ؛ لأنَّها مُتَوَلِّدَةٌ

4608 - مسألة: (وفي الثعلب، والوبر

وَفِي الثَّعْلَبِ، وَالْوَبْرِ، وَسِنَّوْرِ الْبَرِّ، وَالْيَرْبُوعِ، رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه، والمُتَوَلِّدُ مِن شيءٍ له حُكْمُه في التَّحْريمِ. وهكذا إن تَوَلَّدَ بين الوَحْشِيِّ والإِنْسِيِّ وَلَدٌ، فهو مُحَرَّمٌ، تَغْلِيبًا للتَّحْريمِ. والسِّمْعُ المُتَوَلِّدُ بينَ الذِّئْبِ والضَّبُعِ، مُحَرَّم، وكذا العِسْبارُ وَلَدُ الذِّئْبَةِ مِن الذِّيخِ، لذلك (¬1). قال قَتادَةُ: ما البَغْلُ إلَّا شيءٌ مِن الحمارِ. وعن جابرٍ، قال: ذَبَحْنا يومَ خَيبَرَ الخيلَ والبِغال والحميرَ، فنَهانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن البِغالِ والحميرِ، ولم يَنْهَنا عنِ الخَيلِ (¬2). 4608 - مسألة: (وفي الثَّعْلَبِ، والوَبْرِ (¬3)، وسِنَّوْرِ البَرِّ، واليَرْبُوعِ، رِوايَتان) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الثَّعْلَبِ، فأكثرُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي: باب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 5/ 173، 7/ 123. ومسلم، في: باب في أكل لحوم الخيل، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1541. وأبو داود، في: باب في أكل لحوم الخيل، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 316. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 271. وابن ماجه، في: باب لحوم البغال، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1066. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 356، 385. (¬3) الوبر: حيوان من ذوات الحوافر، في حجم الأرنب، لونه بين الغبرة والسواد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّواياتِ عن أحمدَ تحْرِيمُه. وهذا قولُ أبي هُرَيرَةَ، ومالِكٍ، وأبي حنيفةَ؛ لأنَّه سَبُعٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ النَّهْي. ورُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، إباحَتُه. اخْتارَه الشريفُ أبو جعفرٍ. ورَخَّصَ فيه عَطاءٌ، وقَتادَةُ، وطاوسٌ، واللَّيثُ، وسفيانُ بنُ عُيَينَةَ، والشافعيُّ؛ لأنَّه يُفْدَى في الإِحْرامِ والحَرَمِ. قال أحمدُ، وعَطاءٌ: كلُّ ما يُودَى إذا أصابَه المُحْرِمُ، فإنَّه يُؤكَلُ. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في سِنَّوْرِ البَرِّ، كاخْتِلافِها في الثَّعْلَبِ. والقولُ فيه كالقولِ في الثَّعْلَبِ. وللشافعيِّ في سِنَّوْرِ البَرِّ وَجْهان. فأمّا الوَبْرُ فمُباحٌ. وبه قال عَطاءٌ،، وطاوسٌ، ومُجاهِدٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وأبو يوسفَ. قال القاضي: هو مُحَرَّمٌ. وهو قول أبي حنيفةَ وأصْحابِه، إلَّا أبا يوسفَ. ولَنا، أنَّه يُفْدَى في الإِحْرامِ والحَرَمِ، وهو كالأرْنَبِ، يأكُلُ النَّباتَ والبُقولَ، وليس له نابٌ يَفْرِسُ به، ولا هو مِن المُسْتَخْبَثاتِ، فكان مُباحًا كالأرْنبِ، ولأنَّ الأصْلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِباحَةُ، وعُمومُ النَّصِّ يَقْتَضِيها، ولم يَرِدْ فيه تَحْرِيمٌ، فتَجِبُ إباحَتُه. فأَمّا اليَرْبُوعُ، فسُئِلَ أحمدُ عنه، فرَخَّصَ فيه. وهذا قولُ عُرْوَةَ، وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه مُحَرَّمٌ. ورُوِيَ ذلك عنِ ابنِ سِيرينَ، والحَكَمِ، وحَمَّادٍ، وأصْحابِ الرَّأْيِ؛ لأنَّه يُشْبهُ الفَأْرَ. ولَنا، أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، حَكَم فيه بجَفْرَةٍ (¬1). ولأنَّ الأَصْلَ الإِباحَةُ ما لم يَرِدْ فيه تحْرِيمٌ. وأمّا السِّنْجابُ، فقال القاضي: هو مُحَرَّمٌ؛ لأنَّه يَنْهَشُ بنابِه، فأشْبَهَ الجُرَذَ. ¬

(¬1) الجَفْرة من أولاد الشاء: ما عظم واستكرش أو ما بلغ أربعة أشهر. وحكم فيه أي في قتله في الإحرام والحرم. وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الغزال واليربوع، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 401. والبيهقي، في: باب فدية الغزال، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أنَّه مُباحٌ؛ لأنَّه يُشْبهُ اليَرْبُوعَ، ومتى تَرَدَّدَ بينَ الإِباحَةِ والتَّحْرِيمِ، غُلِّبَتِ الإِباحَةُ؛ لأنَّها الأصْلُ، وعُمومُ النُّصوصِ يقْتَضِيها. فصل: والفِيلُ مُحَرَّمٌ. قال أحمدُ: ليس هو مِن أطْعِمَةِ المسلمين. وقال الحسنُ: هو مَسْخٌ. وكَرِهَه أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. ورَخَّصَ الشَّعْبِيُّ في أكلِه. ولَنا (¬1)، نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ. وهو مِن أعْظَمِها نابًا، ولأنَّه مُسْتَخْبَثٌ، فيَدْخُلُ في عُمومِ الآيَةِ المُحَرِّمَةِ. ¬

(¬1) بعده في م: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا الدُّبُّ، فيُنْظَرُ فيه؛ فإن كان ذا نابٍ يَفْرِسُ به، فهو، مُحَرَّمٌ، وإلَّا فهو مُباحٌ. قال أحمدُ: إن لم يَكُنْ له نابٌ، فلا بَأْسَ به. وقال أصْحابُ أبي حنيفةَ: هو سَبُعٌ؛ لأنَّه أشْبَهُ شيءٍ بالسِّباعِ، فلا يُؤْكَلُ. ولَنا، أنَّ الأصْلَ الإِباحَةُ، ولم يتَحَقَّقْ وُجودُ المُحَرِّمِ، فيَبْقَى على الأصْلِ، وشَبَهُه بالسِّباعِ إنَّما يُعْتَبَرُ في وُجودِ العِلَّةِ المُحَرِّمَةِ، وهو كونُه ذا نابٍ يَصِيدُ به ويَفْرِسُ، فإذا لم يُوجَدْ ذلك، كان داخِلًا في عُمومِ النُّصوصِ المُبِيحَةِ.

4609 - مسألة: (وما عدا هذا فمباح؛ كبهيمة الأنعام، والخيل، والدجاج)

وَمَا عَدَا هَذَا مُبَاحٌ؛ كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْخَيلِ، وَالدَّجَاجِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4609 - مسألة: (وما عَدا هذا فمُباحٌ؛ كبَهِيمَةِ الأنْعامِ، والخَيلِ، والدَّجَاجِ) لعُمومِ النُّصوصِ الدَّالَّةِ على الإِباحَةِ، كبَهِيمَةِ الأنْعامِ، وهي الإِبِلُ، والبقرُ، والغنمُ، قال اللهُ تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (¬1). والخَيلُ كُلُّها، عِرَابُها وبَراذِينُها. نَصَّ أحمدُ على ذلك. وبه قال ابنُ سِيرِينَ. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ الزُّبَيرِ، والحسَنِ، وعَطاءٍ، والأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ. وبه قال حَمَّادُ بنُ زيدٍ، واللَّيثُ، وابنُ المُبارَكِ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: ما أكَلْتُ شيئًا أطْيَبَ مِن مَعْرَفَةِ (¬2) بِرْذَوْنٍ. وحَرَّمها أبو حنيفةَ. وكَرِهَها مالِكٌ، والأوْزَاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْخَيلَ وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ ¬

(¬1) سورة المائدة 1. (¬2) المعرفة: موضع العرف من الخيل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِتَرْكَبُوهَا} (¬1). وعن خالِدٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حَرَامٌ عَلَيكُمُ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، وخَيلُهَا، وبِغَالُهَا» (¬2). ولأنَّه ذو حافِرٍ، أشْبَهَ الحِمارَ. ولَنا، قولُ جابِرٍ: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ خيبَرَ عن لُحومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، وأذِنَ في لُحومِ الخَيلِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وقالت أسماءُ: نَحَرْنا فَرَسًا على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأكَلْناه، ونحنُ بالمَدِينَةِ. مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ولأنَّه حَيوانٌ طاهِرٌ مُسْتَطابٌ، ليس بذِى نابٍ ولا مِخْلَبٍ، فيَحِلُّ، كبَهيمَةِ الأنْعامِ، ولأنَّه داخِلٌ في عُمومِ الآياتِ والأخْبارِ المُبِيحَةِ. وأمّا الآيةُ فإنَّهم إنَّما يتعَلَّقُونَ بدليلِ خِطابِها، وهم لا يقولون به. وحديثُ خالدٍ ليس له إسْنادٌ جَيِّدٌ. قاله أحمدُ. قال: وفيه رجُلان لا يُعْرَفان، يَرْويه ثَوْرٌ عن رجُلٍ ليس بمَعْرُوفٍ، فلا نَتْرُكُ أحادِيثَنا لِمثل هذا الحديثِ المُنْكَرِ. والدَّجاجُ مُباحٌ. قال أبو مُوسى: رأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ ¬

(¬1) سورة النحل 8. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 203. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 211. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي، وفي: باب لحوم الخيل، وباب لحوم الحمر الإنسية، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 5/ 173، 7/ 123. ومسلم، في: باب في أكل لحوم الخيل، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1541. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب لحوم الخيل، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1064. والدارمي، في: باب في أكل لحوم الخيل، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 87. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 345، 346، 353.

4610 - مسألة: (والوحشي من البقر، والظباء، والحمر)

وَالْوَحْشِيِّ مِنَ الْبَقَرِ، وَالظِّبَاءِ، وَالْحُمُرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّجاجَ (¬1). 4610 - مسألة: (والوَحْشِيُّ مِن البَقَرِ، والظِّباءِ، والحُمُرِ) يُباحُ. بَقَرُ الوَحْشِ، على اخْتِلافِ أنْواعِها، مِن الأُيَّلِ (¬2)، والثَّيتَلِ (¬3)، والوَعْلِ، والمَها (¬4)، وكذلك الظِّبَاءُ، وسائرُ (¬5) الوَحْشِ مِن الصُّيودِ كلِّها مُباحَةٌ (¬6)، وتُفْدَى في الإِحْرامِ، [وحُمُرُ الوَحْشِ] (¬7). وهذا كُلُّه مُجْمَعٌ عليه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا ما روَى طَلْحَةُ بنُ مُصَرِّفٍ، أنَّ الحِمارَ الوَحْشِيَّ إذا أَنِسَ واعْتَلَفَ، فهو بمَنْزِلَةِ الأهْلِيِّ. قال أحمدُ: وما ظَنَنْتُ أنَّه رُوِيَ في هذا شيءٌ، وليس الأمْرُ عندِي كما قال، وأهلُ العلمِ على خِلافِه؛ لأنَّ الظِّباءَ إذا تَأنَّسَتْ لم تَحْرُمْ، والأهْلِيُّ إذا تَوَحَّشَ لم يَحِلَّ، ولا يتغيَّرُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، من كتاب المغازي، وفي: باب الدجاج، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 5/ 219، 7/ 122. ومسلم، في: باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها. . . .، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1270. والترمذي، في: باب ما جاء في أكل الدجاج، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 20، 21، 22. والنسائي، في: باب إباحة لحوم الدجاج، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 182. والدارمي، في: باب في أكل الدجاج، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمي 2/ 102، 103. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 394، 397، 398، 401، 406. (¬2) الأُيَّل: بضم الهمزة وكسرها، والياء فيهما مشددة مفتوحة، ذكر الأوعال، وهو التيس الجبلي. (¬3) الثيتل: جنس من بقر الوحش، أو ذكر الأروى. (¬4) المها: البقرة الوحشية. (¬5) في م: «حمر». (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) سقط من: م.

4611 - مسألة: (والأرنب)

وَالزَّرَافَةِ، وَالنَّعَامَةِ، وَالْأَرْنَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــ منها شيءٌ عن أصْلِه وما كان عليه. قال عَطاءٌ، في حمارِ الوَحْشِ: إذا تَناسَلَ في البُيوتِ، لا تَزُولُ عنه أسْماءُ الوَحْشِ. فأمّا الزَّرافَةُ فسُئِلَ أحمدُ عنها: تُؤْكَلُ؟ قال: نَعَمْ. وهي دابَّةٌ تُشْبِهُ البَعِيرَ، إلَّا أنَّ عُنُقَها أطْوَلُ مِن عُنُقِه، وجِسْمَها ألْطَفُ مِن جِسْمِه، وأعْلَى منه، ويَداها أطْولُ مِن رِجْلَيها، وهي مُباحَةٌ لعُمومِ النُّصوصِ المُبِيحَةِ، ولأنَّها مُسْتَطابَةٌ، ليس لها نابٌ، ولا هي مِن المُسْتَخْبَثاتِ، أشْبَهَتِ الإِبِلَ. وحَرَّمَها أبو الخَطّابِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما ذكَرْنا. والنَّعامَةُ مُباحَةٌ، وقد قَضَى فيها الصَّحابَةُ، رَضِيَ اللهُ عنهم، ببَدَنَةٍ إذا قَتَلَها المُحْرِمُ، ولا نَعْلَمُ في إباحَتِها خِلافًا. 4611 - مسألة: (والأرْنَبُ) مُباحَةٌ، أكلَها (¬1) سعدُ بنُ أبي ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وبه قال». =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَّاصٍ. ورَخَّصَ فيها أبو سعيدٍ، وعَطاءٌ، وابنُ المُسَيَّبِ، واللَّيثُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نَعْلَمُ قائِلًا بتَحْرِيمِها، إلَّا شيئًا رُوِيَ عن عمرِو بنِ العاصِ. وقد صَحَّ عن أنسٍ أنَّه قال: أنْفَجْنَا (¬1) أرْنَبًا، فسَعَى القَوْمُ فلَغَبُوا (¬2)، فأخذْتُها، وجئْتُ بها أبا طَلْحَةَ، فذَبَحَها فبَعَثَ بوَرِكِها -أو قال- فَخِذِها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقَبِلَه. مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وعن محمدِ بنِ صَفْوانَ، أو صَفْوانَ بنِ محمدٍ، قال: صِدْتُ أرْنَبَين، فَذَبَحْتُهُما بمَرْوَةَ (¬4)، فسَألْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَنِي ¬

= وانظر لأثر سعد ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 8/ 59. (¬1) أنفجنا: أي هيجناها من محلها لنأخذها. (¬2) لغبوا: تعبوا. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب قبول هدية الصيد، من كتاب الهبة، وفي: باب ما جاء في التَّصيُّد، وباب الأرنب، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 3/ 202، 203، 7/ 115، 125. ومسلم، في: باب إباحة الأرنب، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1547. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أكل الأرنب، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 317. والترمذي، في: باب في أكل الأرنب، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 283، 284. والنسائي، في: باب الأرنب، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 173، 174. وابن ماجه، في: باب الأرنب، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1080. والدارمي، في: باب في أكل الأرنب، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 92. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 171، 232، 291. (¬4) المروة: حجر أبيض براق.

4612 - مسألة: (وسائر الوحش)

وَسَائِرِ الْوَحْشِ، وَالضَّبُعِ، والضَّبِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بأَكْلِهِما. رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّها حيوانٌ مُسْتَطابٌ، ليس بذِي نابٍ، فأَشْبَهَ الظَّبْيَ (¬2). 4612 - مسألة: (وسائِرُ الوَحْشِ) لِعُمومِ النَّصِّ (والضَّبُعُ، والضَّبُّ) رُويَتِ الرُّخْصَةُ في الضَّبُعِ عن سَعْدٍ، وابنِ عمرَ، وأبي هُرَيرَةَ، وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ، وعِكْرِمَةَ، وإسحاقَ. قال عُرْوَةُ: ما زالتِ العربُ تأكُلُ الضَّبُعَ، لا تَرَى بأكْلِها بَأسًا. وقال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ: هي حرامٌ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ؛ فإنَّها مِن ¬

(¬1) في: باب في الذبيحة، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 92. كما أخرجه النسائي، في: باب الأرنب، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 174. وابن ماجه، في: باب الأرنب، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1080، والدارمي، في: باب في أكل الأرنب، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 92. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 471. (¬2) في م: «الضب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّباعِ، وقد نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ، وهي مِن السِّباعِ، فتدْخُلُ في عُمومِ النَّهْيِ. ورُوِيَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ عنِ الضَّبُعِ، فقال: «ومَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ؟» (¬1). ولَنا، ما رَوَى جابرٌ، قال: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأكْلِ الضَّبُعِ. قلتُ: صَيدٌ هي؟ قال: «نعم». احْتَجَّ به أحمدُ. وفي لَفْظٍ قال: سألْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الضَّبُعِ. فقال: «هُوَ صَيدٌ، ويُجْعَلُ فِيه كَبْشٌ إذَا صَادَه المُحْرِمُ». رَواه أبو داودَ (¬2). وعن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي عَمَّارٍ، قال: قلتُ لجابرٍ: الضَّبُعُ، أصَيدٌ هي؟ قال: نعم، قلتُ: أقاله رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. رَوَاه التِّرْمِذِيُّ، وقال: حَدِيثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ. [ورَواه النَّسائِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ] (¬3). قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4): هذا لا يُعارِضُ حديثَ النَّهْيِ عن كُلِّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ؛ لأنَّه أقْوَى منه. قُلْنا: هذا تَخْصيصٌ لا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في أكل الضبع، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 293. وابن ماجه، في: باب الضبع، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1078. وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 428. (¬3) سقط من: م. والحديث أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في أكل الضبع، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 291، 292. والنسائي، في: باب ما لا يقتله المحرم، من كتاب المناسك، وفي: باب الضبع، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 5/ 150، 7/ 176. والدارقطني، في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطني 2/ 245. كما أخرجه الدارمي، في: باب في جزاء الضبع، من كتاب المناسك. سنن الدارمي 2/ 74. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 318، 322. (¬4) في: الاستذكار 15/ 322.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُعارِضٌ (¬1)، ولا يُعْتَبَرُ في التَّخْصِيصِ كونُ المُخَصِّصِ في رُتْبَةِ المُخَصَّصِ، بدَليلِ تَخْصِيصِ عُمومِ الكتابِ بأخْبارِ الآحادِ. فأمّا الخَبَرُ الذي فيه: «ومَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ!» (¬2). فهو حَدِيثٌ طويلٌ، يَرْويه عبدُ الكريمِ (¬3) بنُ أبي (¬4) المُخارِقِ، يَنْفَرِدُ به، وهو مَتْرُوكُ الحديثِ. وقد قيل: إنَّ الضَّبُعَ ليس لها نابٌ. فعلى هذا، لا تَدْخُلُ في عُمومِ النَّهْي. فصل: والضَّبُّ مُباحٌ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عمرُ بنُ الخَطَّابِ، وابنُ عباسٍ، وأبو سعيدٍ، وأصْحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو سعيدٍ: كُنّا مَعْشَرَ أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لأنْ يُهْدَى إلى أحَدِنا ضَبٌّ (¬5) أحَبُّ إليه مِن دَجاجَةٍ. وقال عمرُ: ما يَسُرُّنِي أنَّ مَكانَ كُلِّ ضَبٍّ دَجاجَةً سَمِينَة، ولَوَدِدْتُ أنَّ في كُلِّ جُحْرِ ضَبٍّ ضَبَّينِ (¬6). وبهذا قال مالِكٌ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ: هو حَرامٌ؛ لِما رُوِيَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن أكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ (¬7). ورُوِيَ نحوُه عن عليٍّ. ولأنَّه يَنْهَشُ، فأشْبَهَ ابنَ ¬

(¬1) في الأصل: «يعارض». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 222. (¬3) في النسخ: «الملك». والمثبت من مصادر التخريج. (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في أكل الضب، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 271، 272. (¬7) أخرجه أبو داود، في: باب في أكل الضب، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 318.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عِرْسٍ. ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: دَخَلْتُ أنا وخالِدُ بنُ الوليدِ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيتَ مَيمُونَةَ، فأُتِيَ بضَبٍّ مَحْنُوذٍ (¬1)، فقيل: هو ضَبٌّ يا رسولَ اللهِ. فرَفَعَ يَدَه، فقلتُ: أحرامٌ هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لَا، ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأرْض قَوْمِي، فَأَجدُنِي أعَافُهُ». قال خالدٌ: فاجْتَرَرْتُه فأكَلْتُه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). قال ابنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الضَّبَّ تَقَذُّرًا، وأُكِلَ على مائِدَتِه، ولو كان حَرامًا ما أُكِلَ على مائِدَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال عمرُ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُحَرِّمِ الضَّبَّ، ولكنَّه قَذِرَهُ، ولو كان عندِي لأَكَلْتُه (¬4). ولأنَّ الأصْلَ الحِلُّ، ولم يُوجَدِ المُحَرِّمُ، فبَقِيَ على الإِباحَةِ، ولم يثْبُتْ فيه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَهْيٌ ولا تحْريمٌ، ولأنَّ إباحَتَه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصحابةِ، رَضِيَ اللهُ عنهم، ولم يثْبُتْ عنهم خِلافُه، فيكونُ إجْماعًا. ¬

(¬1) محنوذ: مشوي. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب الشواء، من كتاب الأطعمة. صحيح البخاري 7/ 93. ومسلم، في: باب إباحة الضب، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1543. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أكل الضب، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 317. والنسائي، في: باب الضب، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 174. وابن ماجه، في: باب الضب، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1079، 1080. والدارمي، في: باب في أكل الضب، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 93. والإمام مالك، في: باب ما جاء في أكل الضب، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 968. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 89. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب قبول الهدية، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 203. ومسلم، في: الباب السابق. صحيح مسلم 3/ 1545. وأبو داود، في: الباب السابق. سنن أبي داود 2/ 317. والنسائي، في: الباب السابق. المجتبى 7/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 255، 322، 340، 347. (¬4) أخرجه مسلم، في: الباب السابق. صحيح مسلم 3/ 1545، 1546.

4613 - مسألة: (والزاغ

وَالزَّاغِ، وَغُرَابِ الزَّرْعِ، وَسَائِرِ الطَّيرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4613 - مسألة: (والزَّاغُ) (¬1) مُبَاحٌ. وبذلك قال الحَكَمُ، وحَمَّادٌ، ومحمدُ بنُ الحسَنِ، والشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه. ويُباحُ (غُرابُ الزَّرْعِ) وهو الأسْوَدُ الكبيرُ الذي يأكُلُ الزَّرْعَ، ويطيرُ مع الزَّاغِ؛ لأنَّ مَرْعاهُما الزَّرْعُ والحُبوبُ، فأشْبَها الحَجَلَ (¬2). (وسائِرُ الطَّيرِ) كالحمامِ وأنْواعِه مِن الفَواخِتِ (¬3)، والجَوَازِلِ (¬4)، والرَّقاطَي (¬5)، والدَّبَاسِيِّ (¬6)، والعَصافِيرِ، والقَنابِرِ (¬7)، والقَطا (¬8)، والحَجَلِ؛ والحُبارَى (¬9)، لِما روَى سَفِينَةُ، قال: أكلتُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَحْمَ حُبارَى. رواه أبو داودَ (¬10). والكُرْكِيُّ (¬11)، والكَرَوانُ، والبَطُّ، ¬

(¬1) الزاغ: نوع من الغربان، صغير نحو الحمامة، أسود، برأسه غبرة وميل إلى البياض، لا يأكل جيفة. (¬2) الحجل: في حجم الحمام، أحمر المنقار والرجلين. (¬3) الفراخت: ضرب من الحمام المطوق، إذا مشى توسع في مشيه، وباعد ببن جناحيه وإبطيه وتمايل. (¬4) الجوزل: فرخ الحمام. (¬5) الرقطاء: المبرقشة من الدجاج والحمام. (¬6) الدُّبْس: بالضم، ضرب من الفراخت. قيل: نسبة إلى طير دبس، وهو الذي لونه بين السواد والحمرة. (¬7) القنابر: نوع من الطير. (¬8) القطا: نوع من اليحام، يؤثر الصحراء. (¬9) الحبارى: طائر طويل العنق، من رتبة الكركيات. (¬10) في: باب أكل لحم الحبارى، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 318. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في أكل الحبارى، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 23. هو ضعيف. انظر تلخيص الحبير 4/ 154. (¬11) الكركى: طائر كبير، طويل العنق والرجلين، يأوي إلى الماء أحيانًا.

4614 - مسألة: (وجميع حيوان البحر)

وَجَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، إلا الضِّفْدِعَ، وَالْحَيَّةَ، وَالتِّمْسَاحَ. وَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ والإِوَزُّ، وما أشْبَهَه ممّا يَلْتَقِطُ الحَبَّ، أو يُفْدَى في الإِحْرامِ، مُباحٌ؛ لأنَّه مُسْتَطابٌ، ويُفْدَى في حَقِّ المُحْرِمِ، فكانَ مُباحًا كبَقِيَّةِ ما يُفْدَى. وكذلك الغَرانِيقُ (¬1)، والطَّواويسُ، وطَيرُ الماءِ كلُّه، وأشْبَاهُ ذلك، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. فصل: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الهُدْهُدِ والصُّرَدِ (¬2)، فعنه، أنَّهما حَلالٌ؛ لأنَّهما ليسا مِن ذَواتِ المِخْلَبِ، ولا مُسْتَخْبَثاتٍ. وعنه تَحْرِيمُهما؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قَتلِ الهُدْهُدِ، والصُّرَدِ، والنَّمْلَةِ، والنَّحْلَةِ (¬3). وكلُّ ما كان لا يَصِيدُ بمِخْلَبِه، ولا يَأكُلُ الجِيَفَ، ولا يُسْتَخْبَثُ، فهو حَلالٌ. 4614 - مسألة: (وجميعُ حيوانِ البحرِ) مُباحٌ؛ لقوْلِ اللهِ تعالى: ¬

(¬1) الغرنوق: طائر مائي، طويل الساق، أبيض، جميل. (¬2) الصرد: طائر أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 57.

ابْنُ حَامِدٍ: وَإِلَّا الْكَوْسَجَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} (¬1). (إلَّا الضِّفْدِعَ، والحَيَّةَ، والتِّمْسَاحَ. وقال ابنُ حَامِدٍ: وإلَّا الكَوْسَجَ) (¬2) كلُّ صَيدِ البحرِ مُباحٌ، إلَّا الضِّفْدِعَ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وقال ¬

(¬1) سورة المائدة 96. (¬2) الكوسج: سمك خرطومه كالمنشار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّعْبِيُّ: لو أكلَ أهْلى الضَّفادِعَ لأطْعَمْتُهم (¬1). ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قَتْل الضِّفْدِعِ. رواه النَّسَائِيُّ (¬2). فيدُلُّ على تَحْريمِه، ولأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ. وكذلك الحَيَّةُ، وقد ذكَرْنا الخِلافَ فيها. فأمّا التِّمْساحُ، فقال ابنُ حامِدٍ: لا يُؤكَلُ التِّمْساحُ ولا الكَوْسَجُ، لأنَّهما يأكُلان النّاسَ. وذكرَ ابنُ أبي موسى في التِّمْساحِ رِوايَةً، أنَّه مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٍ؛ للآيةِ. ورُوِيَ عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ أو غيرِه (¬3)، أنَّهم كانوا يَكْرَهُون سِباعَ البحرِ، كما يكْرَهون سِباعَ البَرِّ. وذلك لِنَهْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكلِ كُلِّ ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقًا، في: باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ}، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 116. (¬2) في: باب الضفدع، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 185. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الأدوية المكروهة، من كتاب الطب. سنن أبي داود 2/ 334. وابن ماجه، في: باب ما ينهى عن قتله، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1074. والدارمي، في: باب النهي عن قتل الضفادع، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 88. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 453. (¬3) انظر: التمهيد 15/ 177 - 181.

وَقَال أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ: لَا يُبَاحُ مِنَ الْبَحْرِيِّ مَا يَحْرُمُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ؛ كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ، وَإنْسَانِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِي نابٍ مِن السِّبَاعِ (وقال أبو عليٍّ النَّجّادُ: لا يُباحُ مِن البَحْرِيِّ ما يَحْرُمُ نَظَيرُه في البَرِّ، كخِنْزِيرِ الماءِ وإنْسانِه) وهو قولُ اللَّيثِ، إلَّا في كَلْبِ الماءِ، فإنَّه يَرَى إباحَةَ كلْبِ البَرِّ والبَحْرِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُباحُ إلَّا السَّمَكُ. وقال مالِكٌ: كُلُّ ما فِي البحرِ مُباحٌ؛ لعُموم قولِه سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}. فصل: وكَلْبُ الماءِ مُباحٌ، ورَكِبَ الحسنُ بنُ عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهما، سَرْجًا عليه جلْدٌ مِن جُلُودِ كلابِ الماءِ. وهذا قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ، واللَّيثِ. ويَقْتَضِيه قولُ الشَّعْبِيِّ، والأوْزَاعِيِّ. ولا يُباحُ عندَ أبي حنيفةَ. وهو قولُ أبي عليٍّ النَّجَّادِ، وبعضِ أصْحابِ الشافعيِّ. ولَنا، عُمومُ الآيةِ والخَبَرِ. قال عبدُ اللهِ: سَألْتُ أبي عن كَلْبِ الماءِ، فقال: حدثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عمرِو بن دينارٍ، وأبي الزُّبَيرِ، سَمِعا شُرَيحًا، رَجُلًا أدْرَكَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقول: كُلُّ شيءٍ في البحرِ فهو مَذْبُوحٌ. فذكَرْتُ ذلك لعَطاءٍ، فقال: أمّا الطَّيرُ فيَذْبَحُه (¬1). وقال ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، انظر مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 890. كما أخرجه البخاري معلقا، في: باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ} من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 116. ووصله في التاريخ الكبير 4/ 228. وابن حجر في: تغليق التعليق 4/ 508، 509.

4615 - مسألة: (وتحرم الجلالة التي أكثر علفها النجاسة، وبيضها، ولبنها. وعنه، تكره ولا تحرم)

وَتَحْرُمُ الْجَلَّالةُ الَّتي أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةُ، وَلَبَنُهَا، وَبَيضُهَا، حَتَّى تُحْبَسَ. وَعَنْهُ، تُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو عبدِ اللهِ: كلبُ الماءِ نَذْبَحُه. فصل: قال أحمدُ: لا أكْرَهُ الجِرِّيَّ (¬1)، وكيف لنا بالجِرِّيِّ. ورَخَّصَ فيه عليٌّ، والحسَنُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي، وسائِرُ أهلِ العلمِ. وقال ابنُ عباسٍ: الجِرِّيُّ لا تَأْكُلُه اليهودُ (¬2). ووَافَقَهم الرّافِضَةُ، ومُخالفَتُهم صَوابٌ. 4615 - مسألة: (وتَحْرُمُ الجَلَّالةُ التي أكثَرُ عَلَفِها النَّجاسَةُ، وبَيضُها، ولَبَنُها. وعنه، تُكْرَهُ ولا تَحْرُمُ) قال أحمدُ: أكْرَهُ لُحومَ الجَلَّالةِ وألْبانَها. قال القاضي: هي التي تَأكُلُ العَذِرَةَ، فإذا كان أكثرُ عَلَفِها النَّجاسَةَ، حَرُمَ لَحْمُها ولَبَنُها. وفي بَيضِها روايتان. وإن كان أكثرُ ¬

(¬1) الجري: كذمي، نوع من السمك. (¬2) سقط من: م. والأثر أخرجه البخاري معلقا في باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ}، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 116. ووصله عبد الرزاق، في: المصنف 4/ 538. وابن أبي شيبة، في: المصنف 8/ 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَفِها الطَّاهِرَ، لم يَحْرُمْ أكْلُها ولا لَبَنُها. قال شيخُنا (¬1): وتحْدِيدُ الجَلَّالةِ بكونِ أكْثَرِ عَلَفِها النَّجاسَةَ، لم نَسْمَعْه عن أحمدَ، ولا هو ظاهِرُ كلامِه، لكنْ يُمْكِنُ تَحْدِيدُه بما (¬2) يكونُ كثيرًا في مأكُولِها، ويُعْفَى عنِ اليَسِيرِ. وقال اللَّيثُ: إنَّما كانُوا يَكْرَهون الجَلَّالةَ التي لا طَعامَ لها إلَّا الرَّجِيعُ وما أشْبَهَه. وقال ابنُ أبي مُوسَى: في الجَلَّالةِ روايتان؛ إحداهُما، هي مُحَرَّمَةٌ. والثانيةُ، هي مَكْرُوهَةٌ غيرُ مُحَرَّمَةٍ. وهذا قولُ الشافعيِّ. وكَرِهَ أبو حنيفةَ لُحُومَها، والعملَ عليها حتى تُحْبَسَ. ورَخَّصَ الحسنُ (¬3) في لُحُومِها وألْبانِها؛ لأنَّ الحيوانَ لا يَنْجُسُ بأكلِ النَّجاسةِ، بدَليلِ أنَّ شارِبَ الخمرِ لا يُحْكَمُ بتَنْجِيسِ أعْضائِه، والكافِرَ الذي يأكلُ الخِنْزِيرَ والمحرَّماتِ، لا يكونُ ظاهِرُه نَجِسًا، ولو نَجُسَ لما طَهُرَ بالإِسلامِ، ولا الاغْتِسالِ، ولو تَنَجَّسَتِ الجَلَّالةُ، لَما طَهُرَتْ بالحَبْسِ. ولَنا، ما روَى ابنُ عمرَ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أكلِ الجَلَّالةِ وألْبانِها. رواه أبو داودَ (¬4). وروَى عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ ¬

(¬1) في: المغني 13/ 328. (¬2) في م: «بأن». (¬3) في م: «العمل». (¬4) في: باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 316. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي =

4616 - مسألة: (حتى تحبس)

وَتُحْبَسُ ثَلَاثًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ العاص، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنَ الإِبِلَ الجَلَّالةِ، أن يُؤْكَلَ لَحْمُها، ولا يُحْمَلَ عليها إلَّا الأُدُمُ، ولا يَرْكَبَها النّاسُ حتى تُعْلَفَ أرْبَعِين ليلةً. رواه الخَلَّالُ بإسْنادِه (¬1). ولأنَّ لَحْمَها يتَوَلَّدُ مِن النَّجاسَةِ، فيكونُ نَجسًا، كرَمادِ النجاسَةِ. وأمّا شارِبُ الخمرِ، فليس ذلك أكثرَ غِذَائِه، وإنَّما يتَغَذَّى الطّاهِراتِ، وكذلك الكافِرُ في الغالِبِ. 4616 - مسألة: (حتى تُحْبَسَ) وتَزولُ الكَرَاهَةُ بحَبْسِها اتِّفاقًا. واخْتُلِفَ في قَدْرِه، فرُويَ أنَّها تُحْبَسُ ثلاثًا، سواءٌ كانت طائِرًا أو بهيمةً. وكان ابنُ عمرَ إذا أرادَ أكلَها حَبَسَها ثلاثًا (¬2). وهذا قولُ أبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ ¬

= 8/ 18. وابن ماجه، في: باب النهي عن لحوم الجلالة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1064. وصححه الألباني في الإرواء 8/ 149 - 151. (¬1) وأخرجه الدارقطني، في باب الصيد والذبائح. . . . سنن الدارقطني 4/ 283. والبيهقي، في: باب ما جاء في أكل الجلالة وألبانها، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 333. وقال: ليس هذا بالقوى. وانظر: الإرواء 8/ 152. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجلالة، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 522. وابن أبي شيبة، في: باب في لحوم الجلالة، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 147.

وَعَنْهُ، يُحْبَسُ الطَّائِرُ ثَلَاثًا، وَالشَّاةُ سَبْعًا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما طَهَّرَ حَيوانًا يُطَهِّرُ الآخَرَ، كالذي نَجُسَ ظاهِرُه. والأُخْرَى، تُحْبَسُ الدَّجاجَةُ ثلاثًا، والبَعِيرُ والبقرةُ ونحوُهما يُحْبَسُ (¬1) أرْبعين يومًا. وهذا قولُ عطاءٍ، في الناقةِ والبقرةِ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، لأنَّهما أعْظَمُ جِسْمًا، وبَقاءَ عَلَفِهِما فيهما أكثرُ مِن بَقائِه في الدَّجاجَةِ والحيوانِ الصغيرِ. وعنه، تُحْبَسُ الشّاةُ سَبْعًا؛ لأنَّها أكبرُ مِن الطائِرِ ودونَ البَعِيرِ والبقرةِ. ويُكْرَهُ رُكوبُ الجَلَّالةِ. وهو قولُ عمرَ، وابنِه، وأصْحابِ الرَّأْي؛ لحديثِ عبدِ الله بنِ عمرٍو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه (¬2) نَهَى عن رُكُوبِها (¬3). ولأنَّها رُبَّما عَرِقَتْ فتُلَوِّث بعَرَقِها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في أكل لحوم الحمر الأهلية، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 321. والنسائي، في: باب النهي عن أكل لحوم الجلالة، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 211، 212. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 219. وحسنه الحافظ في: الفتح 9/ 558.

4617 - مسألة: (وما سقي بالماء النجس من الزرع والثمار محرم)

وَمَا سُقِيَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ مِنَ الزَّرْعِ والثَّمَرِ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ سُقِيَ بِالطَّاهِرِ، طَهُرَ وَحَلَّ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: لَيسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالاسْتِحَالةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4617 - مسألة: (وما سُقِيَ بالماءِ النَّجِسِ مِن الزرعِ والثِّمارِ مُحَرَّمٌ) وكذلك مَا [سُمِّدَ به] (¬1). وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أن يُكْرَهَ ذلك، ولَا يَحْرُمَ، ولا يُحْكَمَ بتَنْجِيسِها؛ لأنَّ النَّجاسَةَ تَسْتَحِيلُ في باطِنِها (¬2)، فتَطْهُرُ بالاسْتِحالةِ، كالدَّم يَسْتَحِيلُ في أعْضاءِ الحيوانِ لَحْمًا، ويَصِيرُ لَبَنًا. وهذا قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ منهم أبو حنيفةَ، ¬

(¬1) في الأصل: «شهد بها». (¬2) في م: «بطنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ. وكان سعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ يَدْمُلُ أرْضَه بالعُرَّةِ، ويقولُ: مِكْتلُ (¬1) عُرَّةٍ مَكِتلُ (¬2) بُرٍّ (¬3). والعُرَّةُ: عَذِرَةُ النَّاسِ. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عباسٍ، قال: كُنَّا نُكْرِي أراضِيَ أصحابِ (¬4) رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونَشْتَرِطُ عليهم أن لا يَدْمُلوها (¬5) بعَذِرَةِ النّاسِ (¬6). ولأنَّها تَتَغَذَّى بالنَّجاساتِ، ويَتَرقَّى (¬7) فيها أجْزاؤُها، والاسْتِحالةُ لا تُطَهِّرُ. فعلى هذا، تَطْهُرُ إذا سُقِيَت بالطّاهِراتِ، كالجَلَّالةِ إذا حُبِسَتْ وأُطْعِمَتِ الطّاهِراتِ. ¬

(¬1) في الأصل، ر 3، م: «مكيلى». وغير منقوطة في ص، والمثبت موافق لسنن البيهقي. (¬2) في الأصل: «ميل»، وفي ر 3، م: «مكيل»، وغير منقوطة في ص. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في طرح السرجين والعذرة في الأرض، من كتاب المزارعة. السنن الكبرى 6/ 139. (¬4) سقط من: م. (¬5) دمل الأرض: سمَّدها. (¬6) أخرجه البيهقي، في الموضع السابق. (¬7) في م: «تسرى».

فَصْلٌ: وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مُحَرَّمٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، حَلَّ لَهُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ومَن اضْطُرَّ إلى مُحَرَّمٍ ممّا ذكَرْنا،

رَمَقَهُ. وَهَلْ لَهُ الشِّبَعُ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فله أن يأكلَ منه ما يَسُدُّ رَمَقَه. وهل له الشِّبَعُ؟ على رِوايَتَين) أجْمَعَ العُلَماءُ على تحْريمِ المَيتَةِ والخِنْزيرِ حالةَ الاخْتيارِ، وعلى إباحَةِ الأكلِ منها في الاضْطِرارِ. وكذلك سائِرُ المُحَرَّماتِ. والأصْلُ في ذلك قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1). وقولُه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ} (¬2). ويُباحُ له أكلُ ما يَسُدُّ رَمَقَه، ويأمَنُ معه الموْتَ، بالإِجْماعِ. ويَحْرُمُ ما زادَ على الشِّبَعِ، بالإِجْماعِ أيضًا. وفي الشِّبَعِ رِوايَتان؛ إحداهُما، لا يُباحُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وإحْدَى الرِّوايَتَين عن مالِكٍ. وأحَدُ القَوْلَين للشافعيِّ. قال الحسنُ: يأكلُ قَدْرَ ما يُقِيمُه؛ لأنَّ الآيَةَ دَلَّتْ على تحريمِ المَيتَةِ، واسْتُثْنِيَ ما اضْطُرَّ إليه، فإذا انْدَفَعَتِ الضَّرورَةُ، لم يَحِلَّ له ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) سورة البقرة 173.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأكلُ، كحالةِ الابتِداءِ، ولأنَّه بعدَ سَدِّ الرَّمَقِ غيرُ مُضْطَرٍّ، [فلم يَحِلَّ] (¬1) له الأكلُ؛ [للآيَةِ. يُحَقِّقُه أنَّه بعدَ سَدِّ رَمَقِه، كهُوَ قبلَ أن يُضْطَرَّ، وثَمَّ لم يُبَحْ له الأكلُ] (¬2)، كذا ههُنا. والثانيةُ، يُباحُ له الشِّبَعُ. اختارَها أبو بكرٍ؛ لِما روَى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، أنَّ رجلًا نَزَل الحَرَّةَ (¬3)، فنفَقَت عندَه ناقَةٌ، فقالت له امرأتُه: اسْلُخْها حتى نُقَدِّدَ شَحْمَها ولَحْمَها، ونَأْكُلَه. فقال: حتى أسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فسألَه، فقال: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟». قال: لا. قال: «فَكُلُوهَا». ولم يُفَرِّقْ. رواه أبو داودَ (¬4). ولأنَّ ما جازَ سَدُّ الرَّمَقِ منه، جازَ الشِّبَعُ منه، كالمُباحِ. ويَحْتَمِلُ أن يُفرَّقَ بينَ ما إذا كانتِ [الضَّرورَةُ مُسْتَمِرَّةً، وبينَ ما إذا كانت] (¬5) مَرْجُوَّةَ الزَّوالِ، فما كانت مُسْتَمِرَّةً، كحالِ الأعْرابِيِّ الذي سألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، جازَ الشِّبَعُ؛ لأنَّه إذا اقْتَصَرَ على سَدِّ الرَّمَقِ، عادَتِ الضَّرورَةُ إليه عن قُرْبٍ، ولا يتَمَكّنُ مِن البُعْدِ عنِ المَيتَةِ، مَخافَةَ الضَّرورَةِ المُسْتَقْبَلَةِ، ويُفْضِي إلى ضَعْفِ بَدَنِه، وربَّما أدَّى ذلك إلى تَلَفِه، بخلافِ التي ليست مُسْتَمِرَّةً، فإنَّه يَرْجو الغِنَى عنها (¬6) بما يَحِلُّ له. إذا ثَبَت هذا، ¬

(¬1) في م: «ولم يبح». (¬2) سقط من: م. (¬3) الحرة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود. (¬4) في: باب في المضطر إلى الميتة، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 322. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 89، 96، 97، 104. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في م: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ الضَّرورَةَ المُبِيحَةَ، هي التي يَخافُ التَّلفَ بهما إن تَرَك الأكلَ. قال أحمدُ: إذا كان يَخْشَى على نفْسِه، سواءٌ كان مِن جُوعٍ، أو يَخافُ إن تَرَكَ الأكلَ عَجَز عن المَشْي، وانْقَطَعَ عن الرُّفْقَةِ فهَلَكَ، أو يَعْجِزُ عن الرُّكوبِ فيَهْلِكُ، ولا يتَقَيَّدُ ذلك بزمنٍ مَحْصورٍ. فصل: وهل يجبُ الأكلُ مِن المَيتَةِ أو غيرِها مِن المحرماتِ على المُضْطَرِّ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، يجبُ. وهو قولُ مَسْرُوقٍ، وأحَدُ الوَجْهَين لأصْحاب الشافعيِّ. قال الأثْرَمُ: سُئِلَ أبو عبدِ الله عن المُضْطَرِّ يَجِدُ المَيتَةَ، ولم يأْكلْ؟ فذكرَ قولَ مَسْروقٍ: مَن اضْطُرَّ، فلم يأكلْ ولم يَشْرَبْ، فماتَ، دخل النّارَ (¬1). وهذا اخْتِيارُ ابنِ حامِدٍ؛ لقولِ اللهِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 10/ 413.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). وتَرْكُ الأكْلِ مع إمكانِه في هذه الحالِ، إلْقاءٌ بيدِه إلى التَّهْلُكَةِ. وقال اللهُ تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬2). ولأنَّه قادِرٌ على إحْياءِ نفْسِه بما أحَلَّه اللهُ له، فلَزِمَه، كما لو كان معه طَعامٌ حَلالٌ. والثاني، لا يَلْزَمُه؛ لِما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ حُذافَةَ السَّهْمِيِّ، صاحبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ أنَّ طاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَه في بَيتٍ، وجَعَل معه خَمْرًا ممْزُوجًا بماءٍ (¬3)، ولحمَ خِنْزِيرٍ مَشْويٍّ، ثلاثةَ أيّامٍ، فلم يأكلْ ولم يَشْرَبْ، حتى مال رأسُه مِن الجُوعِ والعَطَشِ، وخَشُوا مَوْتَه، فأخرَجُوه، فقال: قد كان اللهُ قد (¬4) أحَلَّه لي؛ لأنَّنِي مُضْطَرٌّ، ولكنْ لم أكُنْ لأُشْمِتَكَ بدِينِ الإِسْلامِ (¬5). ولأنَّ إباحَةَ الأكلِ رُخْصَةٌ، فلا تَجِبُ عليه، كسائِرِ الرُّخَصِ، ولأنَّ له غَرَضًا في اجْتِنابِ النَّجاسَةِ، والأخْذِ بالعَزِيمَةِ، ورُبَّما لم تَطِبْ نفْسُه بتَناوُلِ المَيتَةِ، وفارَقَ الحلال في الأصْلِ مِن هذه الوُجُوهِ. ¬

(¬1) سورة البقرة 195. (¬2) سورة النساء 29. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 26/ 421.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُباحُ المُحَرَّماتُ عندَ الاضْطِرارِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ جميعًا؛ لأنَّ الآيَةَ مُطْلَقَةٌ، غيرُ مُقَيَّدَةٍ بإحْدَى الحالتَين، وقولُه سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ} (¬1). لَفْظٌ عامٌّ في كلِّ مُضْطَرٍّ، ولأنَّ الاضْطِرارَ يكونُ في الحَضَرِ في سَنَةِ المَجاعَةِ، وسَبَبُ الإِباحَةِ الحاجَةُ (¬2) إلى حِفْظِ النَّفْسِ عنِ الهَلاكِ؛ لكونِ هذه المصْلَحَةِ أعْظَمَ مِن مَصْلَحَةِ اجْتِنابِ النَّجاساتِ، والصِّيانَةِ عن تَناوُلِ المُسْتَخْبَثاتِ، وهذا المعنى عامٌّ في الحالين. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّ المَيتَةَ لا تَحِلُّ لِمَن يَقْدِرُ على دَفْعِ ضَرورَتِه بالمسألةِ. ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال: أكْلُ المَيتَةِ إنَّما يكونُ في السَّفَرِ. يعني أنَّه في الحَضَرِ يُمْكِنُه السُّؤالُ. وهذا عن أحمدَ خَرَج مَخْرَجَ الغالِبِ، فإنَّ الغالِبَ أنَّ الحَضَرَ يُوجَدُ فيه الطَّعامُ الحلالُ، ويُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرورَةِ بالسُّؤَالِ، ولكنَّ الضَّرُورَةَ أمْرٌ مُعْتَبَرٌ بوُجُودِ حقِيقَتِه، لا يُكْتَفَى فيه بالمَظِنَّةِ، بل متى وُجِدَتِ الضَّرورَةُ أباحَتْ، سواءٌ وُجِدَتِ المَظِنَّةُ أو لم تُوجَدْ، ومتى انتَفَتْ، لم يُبَحِ الأكلُ لوجُودِ مَظِنَّتِها بحالٍ. فصل: قال أصْحابُنا: ليس للمُضْطَرِّ في سَفَرِ المَعْصِيَةِ الأكلُ مِن المَيتَةِ، كقاطِعِ الطَّريقِ، والآبِقِ؛ لقولِ الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ}. قال مجاهِدٌ: غَيرَ بَاغٍ على المسلمين وَلَا ¬

(¬1) من سورة البقرة 173، والمائدة 3، والأنعام 145، والنحل 115. (¬2) في الأصل: «الخاصة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَادٍ عليهم. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: إذا خَرَج يقْطَعُ الطَّريقَ، فلا رُخْصَةَ له، فإن تابَ وأقْلَع عن مَعْصِيَتِه، حَلَّ له الأكلُ. فصل: وهل للمُضْطَرِّ التَّزَودُ مِن المَيتَةِ؟ على رِوايَتَين؛ أصَحُّهما، له ذلك. وهو قولُ مالِكٍ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في اسْتِصْحابِها، ولا في إعْدادِها لدَفْعِ ضَرورَتِه، وقضاءِ حاجَتِه، ولا يأكلُ منها إلَّا عندَ ضَرورَتِه. والثانيةُ، لا يجوزُ؛ لأنَّه تَوَسُّعٌ فيما لم يُبَحْ إلَّا للضَّرورَةِ، فإنِ اسْتَصْحَبَها، فلَقِيَه مُضْطَرٌ، لم يَجُزْ له بَيعُه إيّاه؛ لأنَّه إنَّما أُبِيحَ له منها ما يَدْفَعُ به الضَّرورَةَ، ولا ضَرورَةَ إلى البَيعِ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُه، ويَلْزَمُه إعْطاءُ الآخَرِ بغيرِ عِوَضٍ، إذا لم يكنْ هو مُضْطَرًّا في الحالِ إلى [ما معه] (¬1)؛ لأنَّ ضَرورَةَ الذي لَقِيَه موجودةٌ، وحامِلُها يَخافُ الضَّرَرَ في ثانِي الحالِ. ¬

(¬1) في م: «منعه».

4618 - مسألة: (فإن وجد طعاما لا يعرف مالكه، وميتة، أو صيدا، وهو محرم، فقال أصحابنا: يأكل الميتة. ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة)

فَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ، وَمَيتَةً، أَوْ صَيدًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَال أَصْحَابُنَا: يَأْكُلُ الْمَيتَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحِلَّ لَهُ الطَّعَامُ وَالصَّيدُ، إِذَا لَمْ تَقْبَلْ نَفْسُهُ الْمَيتَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4618 - مسألة: (فإن وَجَد طعامًا لا يَعْرِفُ مالِكَه، ومَيتَةً، أو صَيدًا، وهو مُحْرِمٌ، فقال أصْحابُنا: يَأكلُ المَيتَةَ. ويَحْتَمِلُ أن يَحِلَّ له الطعامُ والصَّيدُ إذا لم تَقْبَلْ نفْسُه المَيتَةَ) وكقولِ أصْحابِنا قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وزيدُ بنُ أسْلَمَ. وقال مالِكٌ: إن كانوا يُصَدِّقونَه أنَّه مُضْطَرٌ، أكلَ مِن الزَّرْعِ والثَّمَرَةِ، وشَرِب اللَّبَنَ، وإن خافَ أن تُقْطَعَ يَدُه، أو لا يُقْبَلَ منه، أكلَ المَيتَةَ. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان؛ أحدُهما، يأكلُ الطَّعامَ. وهو قولُ عبدِ الله بنِ دينارٍ (¬1)؛ لأنَّه قادِرٌ على ¬

(¬1) عبد الله بن دينار العدوي العمري أبو عبد الرحمن مولاهم المدني، الإمام المحدث الحجة، سمع ابن عمر وأنسًا، روى عنه شعبة ومالك.، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 253 - 255.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّعام الحَلالِ، فلم يَجُزْ له أكلُ المَيتَةِ، كما لو بَذَلَه له صاحِبُه. ولَنا، أنَّ أكلَ المَيتَةِ مَنْصوصٌ عليه، ومال الآدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فيه، فكان العُدولُ إلى المَنْصُوصِ عليه أَوْلَى، ولأنَّ حُقوقَ اللهِ تعالى مَبْنِيَّة على المُسامَحَةِ والمُساهَلَةِ، وحَقَّ الآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ على الشُّحِّ والضِّيقِ، ولأنَّ حَقَّ الآدَمِيِّ تَلْزَمُه غَرامَتُه، وحَقَّ الله تعالى لا عِوَضَ له. ويَحْتَمِلُ أن يَحِلَّ له أكلُ الطَّعامِ والصَّيدِ إذا لم تَقْبَلْ نفْسُه المَيتَةَ؛ لأنَّه قادِرٌ على الطَّعامِ الحلالِ، فأشْبَهَ ما لو بذَلَه له صاحِبُه. فصل: إذا وَجَد المُضْطَرُّ مَن يُطْعِمُه ويَسْقِيه، لم يَحِلَّ له الامْتِناعُ مِن الأكلِ والشُّرْبِ، ولا العُدولُ إلى المَيتَةِ، إلَّا أن يَخافَ أن يَسُمَّه فيه، أو يكونَ الطَّعامُ الذي يُطْعِمُه ممّا يَضُرُّه، ويخافُ أن يُهْلِكَه أو يُمْرِضَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن وَجَد طعامًا مع صاحِبِه (¬1)، وامْتَنَع مِن بَذْلِه، أو بَيعِه منه، ووَجَد ثَمَنَه، لم يَجُزْ له مُكابَرَتُه عليه وأخْذُه منه، وعدَلَ إلى المَيتَةِ، سواءٌ كان قَويًّا لا يخافُ مِن مُكابَرَتِه التَّلَفَ أو لم يَخَفْ. فإن بذَلَه بثَمَنِ مِثْلِه، وقَدَر على الثَّمَنِ، لم يَحِلَّ له أكلُ المَيتَةِ؛ لأنَّه قادِرٌ على طعامٍ حلالٍ. وإن بذَلَه بزِيادَةٍ على ثَمَنِ المِثْلِ، لا تُجْحِفُ بمالِه، لَزِمَه شِراؤُه أيضًا؛ لِما ذكَرْناه، وإن كان عاجِزًا عن الثَّمَنِ، فهو في حُكْمِ العادِمِ، وإنِ امْتَنَعَ مِن بذْلِه إلَّا بأكْثَرَ مِن ثَمَنِ مِثْلِه، فاشْتَراهُ المُضْصطَرُّ بذلك، لم يَلْزَمْه أكثَرُ مِن ثَمَنِ مِثْلِه؛ لأنَّ الزِّيادَةَ أُحْوجَ إلى بَذْلِها بغيرِ حَقٍّ، فلم يَلْزَمْه، كالمُكْرَهِ. فصل: وإن وَجَد المُحْرِمُ مَيتَةً وصَيدًا، أكلَ المَيتَةَ. وبه قال الحسنُ، ومالِكٌ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قوْلَيه: يأكلُ الصَّيدَ، ويفْدِيه. وهو قولُ الشَّعْبِيِّ؛ لأنَّ الضَّرورَةَ تُبِيحُه، ومع القُدْرَةِ ¬

(¬1) في م: «مالكه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه لا تَحِلُّ المَيتَةُ؛ لغِنَاهُ عنها. قال شيخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن يَحِلَّ له أكلُ الصَّيدِ، إذا لم تَقْبَلْ نفْسُه المَيتَةَ) ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ إباحَةَ المَيتَةِ منْصُوصٌ عليها، وإباحَةَ الصَّيدِ مُجْتَهَدٌ فيها، وتَقْدِيمُ المَنْصُوصِ عليه أَوْلَى. فإن لم يَجِدْ مَيتَةً، ذَبَح الصَّيدَ وأكَلَه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه مُضْطَرٌّ إليه عَينًا. وقد قيلَ: إنَّ في الصَّيدِ تحْريماتٍ ثلاثًا؛ تحْرِيمَ قَتْلِه، وتحْريمَ أكلِه، وتحْريمَ المَيتَةِ؛ لأنَّ ما ذَبَحَه المُحْرِمُ مِن الصَّيدِ يكونُ مَيتَةً، فقد ساوَى المَيتَةَ في هذا، وفَضَلَ عنها (¬1) بتَحْريمِ القَتْلِ والأكلِ. لكن يُقال على هذا: إنَّ الشّارِعَ إذا أباحَ له أكلَه، لم يَصِرْ مَيتَةً، ولهذا لو لم يَجِدِ المَيتَةَ فذَبَحَه، كان ذَكِيًّا طاهِرًا، وليس بنَجِسٍ ولا مَيتَةٍ، ولهذا يَتَعَيَّنُ عليه ذَبْحُه في مَحَلِّ الذَّبْحِ، وتُعْتَبَرُ شُروطُ الذَّكاةِ فيه، ولا يجوز قَتْلُه، ولو كان مَيتَةً، لم يتعَيَّنْ ذلك عليه. فصل: إذا ذَبَح المحْرِمُ الصَّيدَ عندَ الضَّرورَةِ، جازَ له أن يَشْبَعَ منه؛ لأنَّه لَحْمٌ ذَكِيٌّ، ولا حَقَّ فيه لآدَمِيٍّ سِوَاهُ، فأُبِيحَ له الشِّبَعُ منه، كما لو ذَبَحَه حَلالٌ لا مِن أجْلِه. ¬

(¬1) في م: «هذا».

4619 - مسألة: (وإن لم يجد إلا طعاما لم يبذله مالكه؛ فإن كان صاحبه مضطرا إليه، فهو أحق به، وإلا لزمه بذله، فإن أبى، فللمضطر أخذه قهرا، ويعطيه قيمته، فإن منعه، فله قتاله على ما يسد رمقه، أو قدر شبعه، على اختلاف الروايتين. فإن قتل صاحب الطعام، لم يجب ضمانه، وإن قتل المضطر، فعليه ضمانه)

وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلا طَعَامًا لَمْ يَبْذُلْهُ مَالِكُهُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ بَذْلُهُ بِقِيمَتِهِ، فَإِنْ أَبَى، فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْرًا، وَيُعْطِيهِ قِيمَتَه، فَإِن مَنَعَه، فَلَهُ قِتَالُهُ عَلَى مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، أَوْ قَدْرِ شِبَعِهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَينِ. فَإِنْ قُتِلَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، وَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ، فَعَلَيهِ ضَمَانُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن لم يَجِدِ المُضْطَرُّ شيئًا، لم يُبَحْ له أكلُ (¬1) بعضِ أعْضائِه. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: له ذلك؛ لأنَّ له أن يَحْفَظَ الجُمْلَةَ بقَطْعِ عُضْوٍ، كما لو وقَعَتْ فيه الأكِلَةُ. ولَنا، أنَّ أكْلَه مِن نفْسِه ربَّما قَتَلَه، فيكونُ قاتِلًا لنَفْسِه، ولا يتَيَقَّنُ حُصولَ البَقاءِ بأكلِه. أمّا قَطْعُ الأكِلَةِ فإنَّه يُخافُ الهَلاكُ بذلك، فأُبِيحَ له إبْعادُه، ودَفْعُ الضَّرَرِ المُتَوَجِّهِ منه بتَرْكِه، كما أُبِيحَ قَتْلُ الصّائِلِ عليه، ولم يُبَحْ له قَتْلُه ليأكلَه. 4619 - مسألة: (وإن لم يَجِدْ إلَّا طعامًا لم يَبْذُلْهُ مالِكُه؛ فإن كان صاحِبُه مُضْطَرًّا إليه، فهو أحَقُّ به، وإلَّا لَزِمَهُ بَذْلُهُ، فإن أبَى، فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُه قَهْرًا، ويُعْطِيهِ قيمَتَه، فإن مَنَعَه، فلهُ قتالُهُ على ما يَسُدُّ رَمَقَه، أو قَدْرِ شِبَعِهِ، على اخْتِلافِ الرِّوايَتَين. فإن قُتِلَ صاحِبُ الطَّعامِ، لم يَجِبْ ضمانُهُ، وإن قُتِلَ المُضْطَرُّ، فعليه ضمانُهُ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا اضْطُرَّ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى طعامٍ، فلم (¬1) يَجِدْ إلَّا طعامًا لغيرِه؛ فإن كان صاحِبُه مُضْطَرًّا إليه، فهو أحَقُّ به، ولا يجوزُ لأحَدٍ أخْذُه منه؛ لأنَّه ساواهُ في الضَّرورَةِ، وانْفَرَدَ بالمِلْكِ، فأَشْبَهَ غيرَ حالِ الضَّرورَةِ، وإن أخذَه منه أحَدٌ فماتَ، فعليه ضَمانُه؛ لأنَّه قَتَلَه بغيرِ حَقٍّ، فإن لم يكُنْ صاحِبُه مُضْطَرًّا إليه لَزِمَه بَذْلُه (¬2) لِلمُضْطَرِّ؛ لأنَّه يتعَلَّقُ به إحْياءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ معْصُومٍ، فلَزِمَه بذْلُه، كما يَلْزَمُه بَذْلُ منافِعِه في إنْجائِه مِن الغَرَقِ والحَزْقِ، فإن لم يفْعَلْ فللْمُضْطَر أخْذُه منه؛ لأنَّه يَسْتَحِقُّه دونَ مالِكِه، فجازَ له أخْذُه، كعينِ مالِه، فإنِ احْتيجَ في ذلك إلى قِتالٍ، فله المُقاتَلَةُ عليه على ما يَسُدُّ رَمَقَه؛ لأنَّه الذي اضْطُرَّ إليه. وعنه، له قِتالُه على قَدْرِ الشِّبَعِ. والأوَّلُ أوْلَى. وذكرَ ابنُ أبي مُوسَى في «الإِرْشَادِ» أنَّه لا يجوزُ قِتالُه على شيءٍ منه، كما ذَكَر في دَفْعِ الصّائِلِ. ¬

(¬1) في م: «فإن لم». (¬2) في الأصل: «بذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قُتِلَ المُضطَرُّ فهو شهيدٌ، وعلى قاتِلِه ضَمانُه، وإن آلَ أخْذُه إلى قَتْلِ صاحِبه، فهو هَدْرٌ؛ لأنَّه ظالِمٌ بقِتَالِه، فأشْبَهَ الصّائِلَ، إلَّا أن يُمْكِنَ أخْذُه بشِراءٍ أو اسْتِرْضاءٍ، فليس له المُقاتَلَةُ عليه، لإِمْكانِ الوُصولِ إليه دُونَها، فإن لم يَبِعْه إلَّا بأكثرَ مِن [ثَمَنِ مِثْلِه، فذكرَ القاضي أنَّ له قِتاله. والأَوْلَى أنَّه لا يجوزُ ذلك؛ لإمْكانِ الوُصولِ إليه بدُونِها. لكنَّه إنِ اشْتراهُ بأكثرَ مِن ثمنِ] (¬1) مِثْلِه لم يَلْزَمْه إلَّا ثمنُ مِثْلِه، وقد ذكَرْناه. ويَلْزَمُه عِوَضُه في كلِّ مَوْضِعٍ أخَذَه، فإن لم يكنْ معه في الحالِ، لَزِمَه في ذِمَّتِه. ¬

(¬1) في م: «ثمنه لم يلزمه إلا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُباحُ للمُضْطَرِّ مِن مالِ أخِيه إلَّا ما يُباحُ مِن المَيتَةِ. قال أبو هُرَيرَةَ، قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، ما يَحِلُّ لأَحَدِنا مِن مالِ أخِيه إذا اضْطُرَّ إليه؟ قال: «يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلُ، ويَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلُ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في: باب النهي أن يصيب منها شيئًا إلا بإذن صاحبها، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 772. والبيهقي، في: باب ما جاء في من مر بحائط إنسان أو ماشيته، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 360، 361. وقال: هذا إسناد مجهول لا تقوم بمثله الحجة.

4620 - مسألة: (فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم، كالمرتد، والزاني المحصن، حل)

فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلا آدَمِيًّا مُبَاحَ الدَّمِ؛ كَالْحَرْبِيِّ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، حَلَّ قَتْلُهُ وَأَكْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4620 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ إلَّا آدَمِيًّا مُباحَ الدَّمِ، كالمُرْتَدِّ، والزّانِي المُحْصَنِ، حَلَّ) له (قَتْلُه وأكلُه) وجملةُ ذلك، أنَّ المُضْطَرَّ إذا لم يجِدْ إلَّا آدَمِيًّا مَحْقونَ الدَّمِ، لم يُبَحْ له قَتْلُه إجْماعًا، ولا إتْلافُ عُضْوٍ منه، مسلمًا كان أو كافِرًا؛ لأنَّه مِثْلُه، فلا يجوزُ أن يَقِيَ نفْسَه بإتْلافِه. وهذا لا خِلافَ فيه. وإن كان مُباحَ الدَّمِ، كالحَرْبِيِّ والمُرْتَدِّ، فذكرَ القاضِي أنَّ له قَتْلَه وأكلَه؛ لأنَّ قَتْلَه مُباحٌ. وهكذا قال أصحابُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لا حُرْمَةَ له، فهو بمَنْزِلَةِ السِّباعِ. وإن وَجَدَه مَيِّتًا، أُبِيحَ

وَإِنْ وَجَدَ مَعْصُومًا مَيِّتًا، فَفِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكلُه؛ لأنَّ أكلَه مُباحٌ قبلَه، فكذلك بعدَ مَوْتِه (وإن وجَدَ مَعْصُومًا مَيِّتًا) لم يُبَحْ أكلُه. في قوْلِ أكثرِ الأصْحابِ. وقال الشافعيُّ، وبعضُ الحَنَفِيَّةِ: يُباحُ. قال شيخُنا (¬1): وهو أَوْلَى؛ لأنَّ حُرْمَةَ الحَيِّ أعْظَمُ. قال أبو بكرِ ابنُ داودَ: أباحَ الشافعيُّ أكلَ لُحُوم الأنْبِياءِ. واحْتَجَّ أصْحابُنا بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ، كَكَسْرِهِ وهُوَ حَيٌّ» (¬2). واخْتارَ أبو الخَطّابِ أنَّ له أكلَه. وقال: لا حُجَّةَ في الحديثِ ههُنا؛ لأنَّ الأكْلَ مِن اللَّحْمِ لا مِن العَظْمِ، والمُرادُ مِن الحديثِ التَّشْبِيهُ في أصْلِ الحُرْمَةِ، لا بمِقْدارِها، بدَليلِ اخْتِلافِهما في الضَّمانِ والقِصاصِ وَوُجوبِ صِيانَةِ الحَيِّ بما لا تَجبُ به صِيانَةُ المَيِّتِ. ¬

(¬1) في: المغني 13/ 339. (¬2) تقدم تخريجه في 6/ 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا اشْتَدَّتِ المَخْمَصَةُ في سَنَةِ المَجاعَةِ، وأصابَتِ الضَّرورَةُ خَلْقًا كثيرًا، وكان عندَ بعضِ النّاسِ قَدْرُ كِفايَتِه [وكِفايَةِ عِيالِه، لم يلْزَمْه بَذْلُه للمُضْطَرِّين، وليس لهم أخذُه منه؛ لأنَّ ذلك يُفْضِي إلى وُقوعِ الضَّرورةِ به، ولا يدْفَعُها عنهم. وكذلك إن كانوا في سفرٍ ومعه قَدْرُ كفايَتِه] (¬1) مِن غيرِ فَضْلَةٍ، لم يَلْزَمْه بَذْلُ ما معه للمُضْطَرِّين. ولم يُفَرِّق أصْحابُنا بينَ هذه الحالِ وبينَ كونِه لا يتَضَرَّرُ بدَفْعِ ما معه إليهم، في أنَّ ذلك واجِبٌ عليه؛ لكونِه غيرَ مُضْطَرٍّ في الحالِ، والآخَرُ مُضْطَرٌّ، فوَجَبَ تَقْدِيمُ حاجَةِ المُضْطرِّ. ولَنا، أنَّ هذا مُفْضٍ به إلى هَلاكِ نفْسِه وعِيالِه، فلم يَلْزَمْه، كما لو أمْكَنَه إنْجاءُ الغَرِيقِ بتَغْرِيقِ نفْسِه، ولأنَّ (¬2) في بَذْلِه إلْقاءً بيَدِه إلى التَّهْلُكَةِ، وقد نَهَى اللهُ عن ذلك. وهذا اخْتِيارُ شيخِنا (¬3)، رَحِمَهُ اللهُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م.: «ليس». (¬3) انظر: المغني 13/ 340.

فَصْلٌ: وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرٍ في شَجَرٍ لَا حَائِطَ عَلَيهِ وَلَا نَاظِرَ، فَلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتِّرْياقُ مُحَرَّمٌ، وهو دَواءٌ يُعالجُ به مِن السَّمِّ، يُجْعَلُ فيه لُحومُ الحَيّاتِ، ويُعْجَنُ بالخَمْرِ، لا يَحِلُّ أكْلُه ولا شُرْبُه؛ لأنَّ الخمرَ ولُحومَ الحَيّاتِ حرَامٌ. وممَّن كَرِهَه الحسَنُ، وابنُ سِيرِينَ. ورَخَّصَ فيه الشَّعْبِيُّ، ومالِكٌ. ويَقْتَضيه مذْهَبُ الشافعيِّ؛ لإِباحَتِه التَّداويَ ببعضِ المُحَرَّماتِ. ولَنا، أنَّ لحمَ الحَيَّةِ حرَامٌ على ما ذكَرْنا فيما مَضَى، وكذلك الخمرُ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيهَا» (¬1). فصل: ولا يجوزُ التَّداوي بشيءٍ مُحَرَّمٍ، ولا بشيءٍ فيه مُحَرَّمٌ، مثلَ ألْبانِ الأُتُنِ، ولحمِ شيء مِن المُحَرَّماتِ، ولا شُرْبُ الخمرِ للتَّداوي؛ لِما ذكَرْنا مِن الخبرِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَ له النَّبِيذُ يُصْنَعُ للدَّواءِ، فقال: «إنَّه لَيسَ بِدَواءٍ وَلَكِنَّه دَاءٌ» (¬2). فصل: قال رَحِمَهُ اللهُ: (ومَن مَرَّ بثَمَرَةٍ في شَجَرٍ لا حائِطَ عليه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 420. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 420.

أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلَا يَحْمِلُ. وعَنْهُ، لَا يَحِلُّ ذَلِكَ إلا لِحَاجَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا ناظِرَ، فله أن يَأْكُلَ منه، ولا يَحْمِلُ. وعنه، لا يَحِلُّ ذلك إلَّا لحاجَةٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في ذلك، فرُوىَ عنه أنَّه قال: إذا لم يَكُنْ عليها [حائِطٌ، يأكلُ] (¬1) إذا كان جائِعًا، وإذا لم يكُنْ جائِعًا، فلا يَأكلُ. وقال: قد فَعَلَه غيرُ واحدٍ مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا كان عليه حائِطٌ لم يأكلْ؛ لأنَّه قد صارَ شِبْهَ الحَرِيمِ. وقال في مَوْضِعٍ: إنَّما الرُّخْصَةُ للمُسافِرِ. إلَّا أنَّه لم يَعْتَبِرْ ههُنا الاضْطِرارَ؛ لأنَّ الاضْطِرَارَ يُبِيحُ ما وراءَ الحائِطِ. ورُويَت عنه الرُّخْصَةُ في الأكْلِ مِن غيرِ المَحُوطِ (¬2) مُطْلَقًا، مِنْ غيرِ اعْتِبارِ جوعٍ ولا غيرِه. وهذا المشْهورُ في المذهَبِ؛ لِما رُوِيَ عن أبي زَينَبَ التَّيمِيِّ، قال: سافَرْتُ مع أنَسِ بْنِ مالِكٍ، وعبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ، وأبي بَرْزَةَ، فكانُوا يمُرُّونَ بالثِّمارِ، فيأْكُلُون في أفْواهِهِم. وهو قولُ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وأبي بَرْزَةَ (¬3). قال عمرُ (¬4): ¬

(¬1) في م: «حافظ أكل». (¬2) في م: «المحفوظ». (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة هكذا: عن أبي زينب قال: سافرت مع جيش مع أبي بكرة وأبي بردة وعبد الرحمن ابن سمرة فكنا نأكل من الثمار. المصنف 6/ 85. ولم نهتد إلى أبي زينب التيمي، وذكر الطبري أبا زينب بن عوف بن الحارث الأزدي. انظر: تاريخ الطبري 4/ 273، 275، 277، 403، 5/ 27. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يأكلُ، ولا يَتَّخِذُ خُبْنَةً (¬1). ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّه قال: يأكلُ ممَّا تحتَ الشَّجَرِ، فإذا لم يكنْ تحتَ الشَّجَرِ، فلا يأكلُ ثِمارَ الناسِ، وهو غَنِيٌّ عنه، ولا يضْرِبُ بحَجَرٍ، ولا يَرْمِي؛ لأنَّ هذا يُفْسِدُ. وقد رُوِيَ عن [رافِعَ بنَ عمرٍو] (¬2)، قال: كنتُ أرْمِي نَخْلَ الأنصارِ، فأخَذونِي، فذَهَبوا بي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يَا رَافِعُ (¬3)، لِمَ تَرْمِي نَخْلَهُمْ؟». فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، الجوعُ. قال: «لَا ترْمِ، وَكُلْ مَا وَقَعَ، أشْبَعَكَ اللهُ وأرْوَاكَ». أخْرَجَه التِّرْمِذِيُّ (¬4)، وقال: هذا حدِيثٌ حسَنٌ ¬

(¬1) الخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه أو تحت إبطه. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من رخص في أكل الثمرة إذا مر بها، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 83، 84. والبيهقي، في: باب ما جاء في من مر بحائط إنسان أو ماشية، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 359. وصححه الألباني في الإرواء 8/ 158. (¬2) في م: «نافع عن عبد الله بن عمر». (¬3) في م: «نافع». (¬4) في: باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 289. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قال إنه يأكل مما سقط، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 37، 38. وابن ماجه، في: باب من مر على ماشية قوم أو حائط. . . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 771. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صَحِيحٌ. وقال أكثرُ الفُقَهاءِ: لا يُباحُ الأكلُ إلَّا في الضَّروَرةِ؛ لِما روَى العِرْباضُ بنُ سارِيَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أَلَا وَإِنَّ اللهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بإِذْنٍ، ولَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، ولَا أكْلَ ثِمَارِهِمْ، إذَا أعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيهِمْ». أخْرَجَه أبو داودَ (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ دمَاءَكُمْ، وأمْوَالكُمْ، وأعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولَنا، ما روَى عمرُو بنُ شعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه سُئِلَ عن الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فقال: «مَا أصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي الْحَاجَةِ، غَيرَ مُتَّخِذٍ خبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ، ومَنْ أخْرَجَ مِنْهُ شَيئًا، فَعَلَيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيهِ والْعُقُوبَةُ» (¬3). وقال التِّرْمِذِيُّ: هذا حَدِيثٌ حسَنٌ. وروَىَ أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إذَا أَتَيتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ، فَنَادِ صَاحِبَ البُسْتَانِ ثَلَاثًا، فَإنْ أجَابَكَ، وإلَّا فَكُلْ مِنْ غَيرِ أَنْ تُفسِدَ» (¬4). وروَى سعيدٌ، ¬

(¬1) في: باب في تفسير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 151، 152. (¬2) تقدم تخريجه في 25/ 450. (¬3) تقدم تخريجه في 26/ 475. (¬4) أخرجه ابن ماجه، في: باب ما للعبد أن يعطى ويتصدق، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 771. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 85، 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسْنادِه عنَ الحسَنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَه (¬1). ولأنَّه قولُ مَن سَمّينا مِن الصَّحابَةِ مِن غيرِ مُخالِفٍ، فكان إجْماعًا. فإن قيلَ: فقد أبَى سعدٌ أن يَأكلَ (¬2)؟ قُلْنا: امْتِناعُ سعْدٍ مِن أكِله ليس مُخالِفًا لهم؛ فإنَّ الإِنسانَ قد يتْرُكُ المُباحَ غِنًى عنه، أو تَوَرُّعًا، أو تَقَذُّرًا، كتَركِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أكلَ الضَّبِّ (¬3). فأمّا أحادِيثُهم، فهي مخْصوصَةٌ بما روَيناه مِن الحديثِ والإِجْماعِ. فإن كانت مَحُوطَةً، لم يَجُزِ الدُّخُولُ إليها؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: إن كان عليها حائِطٌ فهي حَرِيمٌ، فلا تأكلْ، وإن لم يكنْ عليها حائِطٌ، فلا بأسَ (¬4). ولأنَّ إحْرازَه بالحائطِ يدُلُّ على شُحِّ صاحِبِه به، وعَدَمِ المُسامَحَةِ. قال بعْضُ أصْحابِنا: إذا كان عليه ناطُورٌ (¬5)، فهو كالمَحُوطِ، في أنَّه لا يدْخُلُ إليه، ولا يأكلُ منه إلَّا في الضَّرورَةِ. ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب في ابن السبيل يأكل من التمر. . . .، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 37. والترمذي، في: باب ما جاء في احتلاب المواشي بغير إذن الأرباب، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 295، 296. وصححه في: الإِرواء 8/ 160. (¬2) انظر ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 87. والبيهقي، في: السنن الكبرى 9/ 358. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 224. (¬4) انظر ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 88، 89. (¬5) الناطور: حافظ الزرع.

4621 - مسألة: (وفي الزرع وشرب لبن الماشية روايتان)

وَفي الزَّرْعِ وَشُرْبِ لَبَنِ الْمَاشيَةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4621 - مسألة: (وفي الزَّرْعِ وشُرْب لَبَنِ الماشِيَةِ رِوايَتان) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في الزرعِ، فرُوِيَ عنه أَنَّه قال: لا يأكلُ، إنَّما رُخِّصَ في الثِّمارِ، ليس الزرعُ. وقال: ما سَمِعْنا في الزرعِ أن يُمَسَّ منه. ووَجْهُه أنَّ الثِّمارَ خَلَقَها اللهُ تعالى للأكلِ رَطْبَةً، والنُّفُوسُ تَتُوقُ إليها، والزرعُ بخِلافِها. والثانيةُ، قال: يأكلُ مِن الفَرِيكِ؛ لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بأكلِه رَطبًا، أشْبَهَ الثَّمَرَ. وكذلك الحُكْمُ في الباقِلَّا، والحِمَّصِ، وشِبْهِه ممّا يُؤكَلُ رَطْبًا. فأمّا الشَّعِيرُ، وما لم تَجْرِ العادَه بأكلِه، فلا يجوزُ الأكلُ منه. والأوْلَى في الثِّمارِ وغيرِها، أن لا يأْكلَ منها إلَّا بإذْنٍ؛ لما فيها مِن الخِلافِ والأخْبارِ الدّالَّةِ على التَّحْريمِ. وكذلك رُوِيَ عن أحمدَ في حَلْبِ لَبَنِ الماشِيَةِ رِوايَتان؛ إحداهُما،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوزُ له أن يحلبَ، ويَشْرَبَ، ولا يَحْمِلُ، لِما روَى الحسَنُ، عن سَمُرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أتَى أحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فإنْ كَان فِيهَا صَاحِبُهَا، فلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإنْ أَذنَ فَلْيَحْلِبْ، ولْيَشْرَبْ، [وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ، فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ، فَلْيَحْلِبْ، ولْيَشْرَبْ] (¬1)، ولا يَحْمِلْ». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ، والعَمَلُ عليه عندَ بعضِ أهلِ العلمِ، وهو قولُ إسحاقَ. والرِّوايةُ الثانيةُ، لا يجوزُ له أن يَحْلِبَ ولا يَشْرَبَ؛ لما روَى ابنُ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَحْلِبَنَّ أحَدٌ مَاشِيَةَ أحَدٍ إلَّا بِإذْنِهِ، أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ، وتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، ويُنْتَقَلَ (¬3) طَعَامُهُ، فَإنَّما تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أطْعِمَتَهُمْ، فَلَا يَحْلِبَنَّ أحَدٌ مَاشِيَةَ أحَدٍ إلَّا بإذْنِه». وفي لفظٍ: «فَإنَّ مَا فِي ضُرُوعِ مَوَاشِيهِمْ مِثْلُ مَا في مَشَارِبِهِم». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) هو الذي تقدم عن سمرة في صفحة 258. (¬3) في م: «ينقل». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب ما تحتلب ماشية أحد بغير إذن، من كتاب اللقطة. صحيح البخاري 3/ 165. ومسلم، في: باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها، من كتاب اللقطة. صحيح مسلم 3/ 1352. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من لا يحلب، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 38. وابن ماجه، في: باب النهي أن يصيب منها شيئًا إلا. . . .، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 772. والإمام مالك، في: باب ما جاء في أمر الغنم، من كتاب الاستئذان. الموطأ 2/ 971. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 6، 57.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: أكرهُ أكْلَ (¬1) الطِّينِ، ولا يَصِحُّ فيه حَدِيثٌ، إلَّا أنَّه يَضُرُّ بالبَدَنِ، يقال: إنَّه رَدِئٌ، وتَرْكُه خَيرٌ مِن أكلِه. وإنَّما كَرِهَه أحمدُ مِن أجْلِ مَضَرَّتِه، فإن كان منه ما يُتَداوَى به، كالطِّينِ الأرْمَنِيِّ، فلا يُكْرَهُ، وإن كان ممّا لا مَضَرَّةَ فيه ولا نَفْعٌ، كالشيءِ اليَسِيرِ، جازَ أكلُه؛ لأنَّ الأصْلَ الإِباحَةُ، والمَعْنَى الذي كُرِه لأجْلِه مُنْتَفٍ ههُنا، فلم يُكْرَهْ. فصل: ويُكْرَهُ أكلُ البَصَلِ، والثُّومِ والكُرّاثِ، والفُجْلِ، وكُلِّ ذِي رِائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، مِن أجْلِ رائِحَتِه، سواءٌ أرادَ دُخُولَ المسْجِدِ أو لم يُرِدْ؛ لِما روَى ابنُ ماجه (¬2). أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ». فإن أكَلَه لم يَقرَبِ المسْجِدَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب أكل الثوم والبصل والكراث، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1116. كما أخرجه مسلم، في: باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوهما من دخول المسجد، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 394، 395. والنسائي، في: باب من يمنع من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 34. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 374.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَينِ الشَّجَرَتَينِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا». وفي رِوايَةٍ: «فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجدِنَا». روَاه التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وقال: حَدِيثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ. وليس أكْلُهَا مُحَرَّمًا؛ لِما روَى أبو أيُّوبَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ إليه بطعامٍ فلم يأكلْ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكَرْتُ له ذلك، فقال: «فِيهِ الثُّومُ». فقال: يا رسولَ اللهِ، أحَرامٌ هو؟ قال: «لَا، وَلَكِنِّي أكْرَهُه مِنْ أجْلِ رِيحِهِ». رواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: حديثٌ حَسَنٌ. ورُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ: «كُلِ الثُّومَ، فَلَوْلَا أنَّ [المَلَكَ يَأْتِينِي] (¬3) لأكلْتُهُ» (¬4). وإنَّما (¬5) مَنَعَ أكْلَها لئلَّا يُؤْذِيَ الناسَ برائِحَتِه، ولذلك نُهِيَ عن قُرْبانِ المسْجِدِ. فإن أتَى المسْجِدَ كُرِهَ له ذلك، ولم يَحْرُمْ؛ لِما روَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قال: أكَلْتُ ثُومًا، وأتَيتُ مُصلَّى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 312. كما أخرجه البخاري، في: باب ما جاء في الثوم، من كتاب الأذان، وفي: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 1/ 216، 217، 9/ 135. ومسلم، في: باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا ونحوهما من حضور المسجد، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 393 - 395. وأبو داود، في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 324، 325. والنسائي، في: باب من يمنع من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 34. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 12. (¬2) في: باب ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 312، 313. كما أخرجه مسلم، في: باب إباحة أكل الثوم. . . .، من كتاب الأطعمة. صحيح مسلم 3/ 1623، 1624. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 95، 416، 417. (¬3) في الأصل: «الملائكة تأتيني». (¬4) أخرجه أبو نعيم، في الحلية 8/ 357، 358. وعزاه السيوطي في الجامع الكبير 1/ 628 لأبي بكر في الغيلانيات. (¬5) في الأصل: «أما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد سُبِقْتُ برَكْعَةٍ، فلمَّا دخَلْتُ المسجدَ، وَجَدَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رِيحَ الثُّومِ، فلمّا قَضَى صلاتَه، قال: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبْنَا حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا». فجِئْتُ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ: لِتُعْطِنِي يَدَكَ. قال: فأدْخَلْتُ يَدَه في كُمِّ قَمِيصِ إلى صَدْرِي، فإذا أنا معْصُوبُ الصَّدْرِ، فقال: «إنَّ لَكَ عُذْرًا». رواه أبو داودَ (¬1). وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه يَأْثَمُ؛ لأنَّ ظاهِرَ النَّهْي التَّحْرِيمُ، ولأنَّ أذَى المسلمينَ حَرامٌ، وهذا فيه أذاهُم. فصل: ويُكْرَهُ أكلُ الغُدَّةِ (¬2)، وأُذُنِ القلبِ (¬3)؛ لِما رُوِيَ عن مُجاهِدٍ، قال: كَرِهَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن الشَّاةِ سِتًّا. وذكَرَ هذَين (¬4). ولأنَّ النَّفْسَ تَعافُهما وتَسْتَخْبِثُهُما. قال الشيخُ (¬5): ولا أظُنُّ أحمدَ كِرَهَهُما إلَّا لذلك، لا للخَبَرِ؛ لأنَّه قال فيه: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. ولأنَّ في ¬

(¬1) في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 324، 325. كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 4/ 252. (¬2) الغدة: عضو مفرز مكون من خلايا بشرية (نسبة إلى البَشَرة). (¬3) أذنا القلب: زنمتان في أعلاه. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يكره من الشاة، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 535. وأبو داود، في: المراسيل 226. والبيهقي، في: باب ما يكره من الشاة إذا ذبحت، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 10/ 7. وعندهم أنها سبع، وليس فيها: أذن القلب. وحديث أذن القلب أخرجه ابن عدي في: الكامل 4/ 1531. وقال الألباني: منكر. الإرواء 8/ 152 - 154. (¬5) في: المغني 13/ 352.

4622 - مسألة: (ويجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يوما وليلة، فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم)

وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ ضِيَافَةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ يَوْمًا وَلَيلَةً، فَإِنْ أَبَى، فَلِلضَّيفِ طَلَبُهُ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَبَرِ ذكرَ الطِّحالِ (¬1)، وقد قال أحمدُ: لا بأسَ به، ولا أكْرَهُ منه شيئًا. فصل: قيلَ لأبي عبدِ اللهِ: الجُبْنُ؟ قال: يُؤكَلُ مِن كُلٍّ. وسُئِلَ عنِ الجُبْنِ الذي يَصْنَعُه المَجُوسُ؟ قال: وما أدْرِي، إلَّا أنَّ أصَحَّ حديثٍ فيه حَدِيثُ الأعْمَشِ، عن أبي وَائِلٍ، عن عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلٍ، قال: سُئِلَ عمرُ عنِ الجُبْنِ، وقيل له: تُعْمَلُ فيه الإِنْفَحَةُ المَيِّتَةُ. فقال: سَمُّوا أنتم وكُلُوا. رواه أبو مُعاويَةَ، عنِ الأعْمَشِ (¬2). وقال: ألَيسَ الجُبْنُ الذي يأكُلُه عامَّتُهُم يَصْنَعُه المَجُوسُ. فصل: ولا يجوزُ أن يَشْتَرِيَ الجَوْزَ الذي يَتقامَرُ به الصِّبْيانُ (¬3)، ولا البَيضَ الذي يتَقامَرُون به يومَ العيدِ؛ لأنَّهم يأخُذونَه بغيرِ حَقٍّ. واللهُ أعلمُ. 4622 - مسألة: (ويَجِبُ على المسلمِ ضِيافَةُ المسلمِ المُجْتازِ به يومًا وليلةً، فإن أبَى فلِلضَّيفِ طَلَبُه به عندَ الحاكمِ) قال أحمدُ: الضِّيافَةُ ¬

(¬1) ما روى في الطحال، أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يكره من الشاة. المصنف 4/ 536. وابن أبي شيبة، في: باب أكل الطحال، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 274، 275. والبيهقي، في: باب ما جاء في الكبد والطحال، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 7/ 10. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجبن، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 538. وابن أبي شيبة، في: باب في الجبن وأكله، من كتاب العقيقة. المصنف 8/ 100. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المسلمين، كلُّ مَن نزلَ به ضَيفٌ كان عليه أن يُضِيفَه. قيل: إن ضافَ الرّجُلَ ضَيفٌ كافِرٌ [يُضِيفُه؟ قال] (¬1): قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيلَةُ الضَّيفِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬2). [وهذا الحديثُ بَيِّنٌ] (¬3)، ولمَّا أضافَ المشركَ دَلَّ على أنَّ المسلمَ [والمشركَ] (3) يُضافُ، وأنا (¬4) أراه كذلك. والضِّيافَةُ معناها معنى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ على المسلمِ والكافرِ. واليومُ والليلةُ حَقٌّ واجبٌ. وقال الشافعيُّ: ذلك مُسْتَحَبٌّ، وليس بواجِبٍ؛ لأنَّه غيرُ مُضْطَرٍّ إلى طعامِه، فلم يجِبْ عليه بَذْلُه، كما لو لم يُضِفْه. ولَنا، ما ذَكَرْناه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الضيافة، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 308. وابن ماجه، في: باب حق الضيف، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1212. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 130، 133. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن الحديثِ، وروَى المِقْدامُ أبو (¬1) كَرِيمةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيلَةُ الضَّيفِ حَقٌّ واجِبٌ، فَإنْ أصْبَحَ بِفِنَائِهِ، فَهُوَ دَينٌ عَلَيهِ، إنْ شَاءَ اقْتَضَى، وإنْ شَاءَ تَرَكَ». حدِيثٌ صَحِيحٌ (¬2). وفي لفظٍ: «أيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيفُ مَحْرُومًا، فإنَّ نَصْرَهُ [حَقٌّ] (¬3) عَلَى كُلِّ مُسْلمٍ، حتى يَأْخُذَ بِحَقِّه مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ». رَوَاه أبو داودَ (¬4). والواجبُ يومٌ (¬5) ولَيلَةٌ، والكمالُ ثلاثةُ أيّامٍ. وذكَرَ ابنُ أبي مُوسى أنَّ الواجِبَ ثلاثةُ أيّامٍ؛ لما روَى أبو شُرَيحٍ (¬6)، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) في النسخ: «ابن أبي». والمثبت من مصادر التخريج. (¬2) أخرجه أبو داود، في: الباب السابق. وابن ماجه، في: الباب السابق. والدارمي، في: باب في الضيافة، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمي 2/ 98. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 130، 132، 133. (¬3) تكملة من سنن أبي داود، وفي المسند: «فإن حقا على كل مسلم نصره». (¬4) في الباب السابق. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 133. (¬5) في الأصل: «يومًا». (¬6) في م: «سريج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «الضِّيَافَةُ ثَلاثةُ أيامٍ، وجائِزَتُهُ يومٌ ولَيلَة، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف يُؤْثِمُهُ؟ قال: «يُقِيمُ عِنْدَهُ ولَيسَ عِنْدَهُ مَا يَقْرِيهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال أحمدُ: معنى قولِه عليه السلامُ: «جائِزَتُهُ يومٌ ولَيلَةٌ». كأنَّه أوْكَدُ مِن سائِرِ الثَّلاثَةِ، ولم يُرِدْ يومًا وليلةً سِوَى الثلاثَةِ؛ لأنَّه يصيرُ أرْبعةَ أيامٍ، وقد قال: «ومَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ». فإنِ امْتَنَعَ مِن ضِيافَتِه، فللضَّيفِ بقَدْرِ ضِيافَتِه. قال أحمدُ: يُطالِبُهم بحَقِّه الذي جَعَلَه له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يأْخُذُ شيئًا إلَّا بعِلْمِ أهْلِه. وعنه رِوايَةٌ أُخْرَى، له أن يأخُذَ ما يَكْفِيه بغيرِ إذْنِهِم؛ لما روَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، قال: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، إنَّك تَبْعَثُنا، فنَنْزِلُ بقومٍ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إكرام الضيف، من كتاب الأدب. وفي: باب حفظ اللسان، من كتاب الرقاق. صحيح البخاري 8/ 39، 125. ومسلم، في: باب الضيافة ونحوها، من كتاب اللقطة. صحيح مسلم 3/ 1353. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الضيافة، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 308. والترمذي، في: باب ما جاء في الضيافة كم هو؟، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذي 8/ 145. وابن ماجه، في: باب حق الضيف، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1212. والدارمي، في: باب في الضيافة، من كتاب الأطعمة. سنن الدارمي 2/ 98. والإمام مالك، في: باب جامع ما جاء في الطعام والشراب، من كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الموطأ 2/ 929. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 31، 6/ 385، 386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يَقْروننا. قال: «إذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيفِ، فَاقْبَلُوا (¬1)، فَإنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيفِ الَّذِي يَنْبَغِي ¬

(¬1) في الأصل: «فاقلوا».

4623 - مسألة: (وتستحب ضيافته ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة)

وَتُسْتَحَبُّ ضِيَافَتُهُ ثَلَاثًا، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لَهُمْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). 4623 - مسألة: (وتُسْتَحَبُّ ضِيافَتُه ثَلاثَةَ أيّام، فما زاد فهو صَدَقَةٌ) [لما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي شُرَيحٍ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثةُ أَيَّام، وَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ»] (¬2). وعن أحمدَ، أنَّ الضِّيافَةَ على أهلِ القُرَى دونَ أهلِ الأمْصارِ. قال الأثْرَمُ: سمِعْتُ أبا عبدِ الله يُسْئَلُ إلى أيِّ شيءٍ تَذْهَبُ فيها؟ قال: هي مُؤكَّدَةٌ، وكأنَّها على أهلِ الطُرُّقِ والقُرَى الذين يَمُرُّ بهم الناسُ أوْكَدُ، فأمّا مِثْلُنا الآنَ، فكأنَّه ليس مِثْلَ أولئك. وذلك لأنَّ أهلَ القُرَى، واللهُ أعلمُ، ليس عادَتُهم بَيعَ القُوتِ، فلو لم تَلْزَمْهم الضِّيافَةُ، بَقِيَ المُسافِرُ ليس له ما يَقْتاتُ، بخِلافِ أهلِ الأمْصارِ، فإنَّ عادَتَهم ذلك، فيَجِدُ المسافِرُ ما يَشْتَرِي ويَقْتاتُ، فلا تَلْزَمُهُم الضِّيافَةُ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قصاص المظلوم، من كتاب المظالم، وفي: باب إكرام الضيف، من كتاب الأدب. صحيح البخاري 3/ 172، 8/ 39. ومسلم، في: باب الضيافة ونحوها، من كتاب اللقطة. صحيح مسلم 3/ 1353. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الضيافة، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 308. والترمذي، في: باب ما يحل من أموال أهل الذمة، من أبواب السير. عارضة الأحوذي 7/ 86، 87. وابن ماجه، في: باب حق الضيف، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1212. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 149. (¬2) سقط من: م.

4624 - مسألة: (وليس عليه إنزال الضيف في بيته)

وَلَا يَجِبُ عَلَيهِ إِنْزَالُهُ في بَيتِهِ، إلا أنْ لَا يَجِدَ مَسْجِدًا، أوْ رِبَاطًا يَبِيتُ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4624 - مسألة: (وليس عليه إنْزالُ الضَّيفِ في بيته) لِما فِيه مِن الحَرَجِ (إلَّا أن لا يَجدَ مسجدًا أو رِباطًا يَبِيتُ فيه) فيَبِيتُ عندَه للضَّرورَةِ، ولأنَّ الخبرَ إنَّما وَرَد في الضِّيافَةِ لا غيرُ، فكان خاصًّا فيها دونَ غيرِها. فصل: قال المَرُّوذِيُّ: سألتُ أبا عبدِ الله، قلتُ: تَكْرَهُ الخُبْزَ الكِبارَ؟ قال: نعم أكرهُه، ليس فيه بَرَكَةٌ، إنَّما البَرَكَةُ في الصِّغارِ. وقال: مُرْهُم أن لا يَخْبِزوا كبارًا. قال: ورأيتُ أبا عبدِ اللهِ يغسلُ يدَيه قبلَ الطعامِ وبعدَه، وإن كان على وُضوءٍ. وقال مُهَنّا: ذكَرْت ليحيى بنِ مَعِينٍ حدِيثَ قَيسِ بنِ الرَّبِيعِ، عن أبي هاشِم، عن زاذانَ، عن سَلْمانَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال (¬1): «بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ» (¬2). فقال له يحيى: ما أحسنَ الوضوءَ قبلَه وبعدَه. وذكَرْتُ الحدِيثَ لأحمدَ، قال: ما حَدَّثَ به إلَّا قَيسُ بنُ الرَّبِيعِ، وهو مُنْكَرُ الحديثِ. قُلْتُ: بَلَغَنِي عن يحيى بنِ سعيدٍ قال: كان سفيانُ يَكْرَهُ غسلَ اليدِ عندَ الطعامِ، لِمَ كَرِهَ سُفيانُ ذلك؟ قال: لأنَّه مِن زِيِّ العَجَمِ. قلتُ: بَلَغَنِي عن يحيى بنِ سعيدٍ، قال: كان سفيانُ يَكرَهُ أن يكونَ تحتَ القَصْعَةِ الرَّغيفُ، لِمَ كَرِهَهُ سُفيانُ؟ قال: كَرِهَ أن يُسْتَعْمَلَ الطعامُ. قلت: تَكْرَهُه أنتَ؟ قال: نعم. ورُوِيَ عن (¬3) عُقَيلٍ، قال: حَضَرْتُ مع ابنِ شِهابٍ وَلِيمَةً، ففَرَشُوا المائِدَةَ بالخُبْزِ، فقال: لا تَتَّخِذُوا الخُبْزَ بِساطًا. وقال المَرُّوذِيُّ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ: إنَّ أبا مَعْمَرٍ قالً: إنَّ أبا أُسامَةَ قَدَّمَ إليهم خُبْزًا، فكَسَرَهُ. فقال: هذا لِئَلَّا تَعْرِفُوا كم تأْكلون. قيل لأبي عبدِ اللهِ: يُكْرَهُ الأكلُ مُتَّكِئًا؟ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في غسل اليد قبل الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 311. والترمذي، في: باب ما جاء في الوضوء قبل الطعام وبعده، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 36. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 441. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1/ 309. (¬3) في م: «ابن». وهو عقيل بن خالد القرشي الأموي الأيلي، مولى عمان بن عفان، رضي الله عنه، سمع الزهري وعكرمة، روى عنه الليث، كان يصحب الزهري في الحضر والسفر. التاريخ الكبير 7/ 94. الجرح والتعديل 7/ 43.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أليس قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا». روَاه أبو داودَ (¬1). و (¬2) عن شُعَيبِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، عن أبِيه، قال: ما رُئِيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ مُتَّكِئًا قَطُّ. روَاه أبو داودَ (¬3). وعن ابنِ عمرَ، قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يأكلَ الرَّجُلُ [وهو مُنْبَطِحٌ] (¬4). رواه أبو داودَ (¬5). فصل: وتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عندَ الطعامِ، وحَمْدُ الله تعالى عندَ آخِرِه؛ لِما روَى عمرُ بنُ أبي سَلَمَةَ، قال: أكلتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «سَمِّ اللهَ، وكُلْ بِيَمينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». فما زالت أكلَتِي بعدُ (¬6). مُتَّفَقٌ عليه (¬7). وروَى الإِمامُ أحمدُ (¬8)، بإسنادِه عن أبي هُرَيرَةَ، قال: لا أعْلَمُه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 365. (¬2) الواو ساقطة من النسخ. (¬3) في: باب ما جاء في الأكل متكئا، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 313. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من كره أن يوطأ عقباه، من المقدمة. سنن ابن ماجه 1/ 89. (¬4) في الأصل: «وهو منضجع»، وفي م: «منبطحا». (¬5) في: باب ما جاء في الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 314. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب النهي عن الأكل منبطحا، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1118. وقال أبو داود: وهو منكر. (¬6) سقط من: م. (¬7) تقدم تخريجه في 21/ 361. (¬8) في: المسند 2/ 283، 289. كما أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري. . . .، من أبواب صفة القيامة. عارضة الأحوذي 9/ 301. وابن ماجه، في: باب في من قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجه 1/ 561. وصحح إسناده في الزوائد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِثْلُ مَا (¬1) لِلصَّائِم الصَّابِرِ». قال: مَعْناهُ إذا أكلَ وشَرِبَ، يَشْكُرُ اللهَ ويَحْمَدُه على ما رَزَقَه. وعن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فإن نَسِيَ أنْ يَذْكُرَ [اسْمَ الله] (¬2) فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ». رَواه أبو داودَ (¬3). وعن مُعاذِ بنِ أنَسٍ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أكَلَ طَعَامًا، فَقَال: الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ، مِنْ غيرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ. غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬4). وعن أبي سعيدٍ، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أكلَ طعامًا، قال: «الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أطْعَمَنَا، وسَقَانَا، وجَعَلَنا مُسْلِمِينَ» (¬5). وعن أبي أُمامَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رُفِعَ طعامُه، أو ما بَينِ يَدَيه، قال: «الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، غيرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ». رواهُنَّ ابنُ ماجَه (¬6). فصل: ويأكلُ بيَمينِه، ويَشْرَبُ بها؛ لِمَا (1) روَى ابنُ عمرَ، عن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 21/ 362. (¬4) تقدم تخريجه في 21/ 368. (¬5) تقدم تخريجه في 21/ 367. (¬6) تقدم تخريجه في 21/ 367.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذَا أَكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَأكُلْ بِيَمِينِه، وَإذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإنَّ الشَّيطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، ويَشْرَبُ بِشِمَالِهِ». رواه مسلمٌ، وأبو داودَ (¬1). ويُسْتَحَبُّ الأكْلُ بثلاثِ أصابعَ، لِما روَى كعبُ بنُ مالكٍ، قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأْكلُ بثلاثِ أصابعَ، ولا يَمْسَحُ يَدَه حتى يَلْعَقَها. رواه الإِمامُ أحمدُ (¬2). وذُكِرَ له حديثٌ ترْويه ابنة (¬3) الزُّهْرِيِّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأْكلُ بكَفِّه كلِّها (¬4)، فلم يُصحِّحْه، ولم يَرَ إلَّا ثلاثَ أصابِعَ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه أكَلَ خَبيصًا (¬5) بكَفِّه كُلِّها. ورُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدَةَ، أنَّه كان يَنْهَى بَناتِه أنَّ يَأْكُلْنَ بثلاثِ أصابعَ، وقال: لا تَشَبَّهْنَ بالرِّجالِ. فصل: قال مُهَنَّا: سألتُ أحمدَ، عن حديثِ عائشةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكينِ، فَإنَّ ذَلِكَ صَنِيعُ الأعَاجِمِ» (¬6). فقال: ليس بصَحِيحٍ، لا يُعْرَفُ هذا. وقال: حديث عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ خِلافُ هذا، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ (¬7) مِن لَحْمِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 361. (¬2) تقدم تخريجه في 21/ 365. (¬3) بعده في الأصل: «عن». (¬4) حديث موضوع تقدم تخريجه في 21/ 364 (¬5) الخبيص: يعمل من التمر والعسل. (¬6) تقدم تخريجه في 21/ 360. (¬7) في الأصل: «يحترم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّاةِ، فقام إلى الصلاةِ، وطَرَحَ السِّكِّينَ (¬1). وحديثُ مِسْعَرٍ، عن جامِعِ بنِ شَدَّادٍ، عن المُغِيرَةِ اليَشْكُرِيِّ، عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ: ضِفْتُ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ لَيلَةٍ، فأمَرَ بجَنْبٍ فشُوِيَ، ثم أخَذَ الشَّفْرَةَ، فجَعَلَ يحُزُّ، فجاءَ بلالٌ يُؤذِنُه بالصلاةِ، فألْقَى الشَّفْرَةَ (¬2). قال: وسألْتُ أحمدَ عن حديثِ أبي جُحَيفَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «اكْفُفْ جُشَاءَكَ يَا أبَا جُحَيفَةَ، فَإنَّ أكْثَرَكُمْ شِبَعًا الْيَوْمَ أكْثَرُكُمْ جُوعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» (¬3). فقال هو ويحيى جميعًا: ليس بصحيحٍ. فصل: ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ، قال: لم يكُنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينْفُخُ في طعامٍ ولا شَرابٍ، ولا يَتَنَفَّسُ في الإِناءِ (¬4). وعن أَنَسٍ، قال: ما أكلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ ولا في سُكُرَّجَةٍ (¬5). قال قَتادَةُ: فعلامَ كانوا يأكلُون؟ قال: على السُّفَرِ (¬6). حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وعن عائشةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أن يُقامَ عن الطعامِ حتى يُرْفَعَ. وعن نُبَيشَةَ، قال: قال رسولُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 360. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 43. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 252، 255. (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا محمد بن حميد الرازي. . . .، من أبواب صفة القيامة. عارضة الأحوذي 9/ 297، 298. وابن ماجه، في: باب الاقتصاد في الأكل. . . .، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1111. (¬4) تقدم تخريجه في 21/ 371. (¬5) السكرجة: الصحفة التي يوضع فيها الأكل. (¬6) تقدم تخريجه في 21/ 371.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ، فَلَحَسَهَا، اسْتَغْفَرَتْ لَهُ القَصْعَةُ». وعن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَمْسَحْ أحَدُكُمْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا؛ فإنَّه لَا يَدْرِي فِي أيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ». رواهُنَّ ابنُ ماجَه (¬1). فصل: وسُئِلَ أبو عبدِ اللهِ عن غَسْلِ اليَدِ بالنُّخالةِ، قال: لا بأْسَ به، نحنُ نَفْعَلُه. وسُئِلَ عنِ الرَّجُلِ يأْتي القومَ، وهم على طَعامٍ، فَجْأةً، لم يُدْعَ إليه، فلمّا دخَلَ إليهم دَعَوْه، هل (¬2) يَأْكُلُ؟ قال: نعم، وما بأسٌ. وسُئِلَ عن حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه ادَّخَرَ لأهْلِه قُوتَ سَنَةٍ (¬3). هو صَحِيحٌ؟ قال: نعم، ولكِنَّهم يخْتَلِفُون في لَفْظِه. فصل: روَى أنَسٌ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءَ إلى سعدِ بنِ عُبادَةَ، فجاءَ بخُبْزٍ وزَيتٍ، فأكلَ، ثم قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وأكَلَ ¬

(¬1) حديث عائشة، أخرجه ابن ماجه، في: باب النهي عن الطعام حتى يرفع. . . .، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1095. وضعف إسناده في الزوائد. وحديث نبيشة تقدم تخريجه في 21/ 366. وحديث جابر، أخرجه ابن ماجه، في: باب لعق الأصابع، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1088. كما أخرجه مسلم، في: باب استحباب لعق الأصابع، من كتاب الأشربة. صحيح مسلم 3/ 1606، 1607. والترمذي، في: باب ما جاء في لعق الأصابع بعد الأكل، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 7/ 307. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 301، 331. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، من كتاب النفقات. صحيح البخاري 7/ 81. ومسلم، في: باب حكم الفئ، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1378، 1379. وأبو داود، في: باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 126. والنسائي، في: باب قسم الفئ، من كتاب الفئ. المجتبى 7/ 120. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طَعَامَكُمُ الأبْرارُ، وصَلَّتْ عَلَيكُمُ الْمَلائِكَةُ». وعن جابرٍ، قال: صَنَعَ أبو الهَيثَمَ بنُ التَّيِّهَانِ (¬1) للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعامًا، فَدَعا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابَه، فلمّا فَرَغُوا قال: «أَثِيبُوا أخَاكُمْ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما إثَابَتُه؟ قال: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيتُهُ، وأُكِلَ طَعَامُهُ، وشُرِبَ شَرابُهُ، فَدَعَوْا لَه، فَذَلِكَ إثَابَتُهُ». رواهما أبو داودَ (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «النبهان». (¬2) تقدم تخريجهما في 21/ 368، 369.

باب الذكاة

بَابُ الذَّكَاةِ وَلَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيهِ بِغَيرِ ذَكَاةٍ إلا الْجَرَادَ وَشِبْهَهُ، وَالسَّمَكَ، وَسَائِرَ مَا لَا يَعِيشُ إلا في الْمَاءِ، فَلَا ذَكَاةَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الذَّكاةِ 4625 - مسألة: (ولا يُباحُ شيءٌ مِن الحَيَوانِ المقْدورِ عليه بغيرِ ذَكاةٍ إلَّا الجَرادَ وشِبْهَه، والسَّمكَ، وسائِرَ ما لا يَعِيشُ إلَّا في الماءِ، فلا

وَعَنْهُ، في السَّرَطَانِ وَسَائِرِ الْبَحْرِيِّ أنَّه يَحِلُّ بِلَا ذَكَاةٍ. وَعَنْهُ، فِي الْجَرَادِ لَا يُؤْكَلُ إلا أنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ كَكَبْسِهِ وَتَغْرِيقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكاةَ له. وعنه فِي السَّرَطانِ وسائِرِ البحريِّ، أنَّه يُباحُ بلا ذكاةٍ. وعنه، في الجرادِ، لا يُؤكلُ إلَّا أن يَمُوتَ بسبحب ككَبْسِه وتغْرِيقِه) أمَّا الحيوانُ المقْدورُ عليه (¬1) مِن الصيدِ والأنْعام، فلا يُباحُ إلَّا بالذَّكاةِ، بغيرِ خلافٍ بينَ أهلَ العلمَ؛ لقولِ الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ}. إلى قولِه. {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} (¬2). فأمّا السَّمكُ وشِبْهُه ممّا لا يعيشُ إلَّا في الماء، فإنَّه يُباحُ بغيرِ ذكاةٍ، لا نعلمُ في هذا خلافًا؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ» (¬3). وقد صَحَّ أنَّ أبا عُبَيدَةَ وأصحابَه وجَدُوا على ساحِلِ البحرِ دابَّةً، يقالُ لها العَنْبَرُ، فأكَلُوا منها شَهْرًا، حتى سَمِنُوا وادَّهَنُوا، فلَمّا قَدِمُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أخْبَرُوه، فقال: «هُوَ رِزْقٌ أخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ تُطْعِمُونَا؟». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة المائدة 3. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 34. (¬4) أخرجه البخاري، في: باب غزوة سيف البحر، من كتاب المغازي، وفي: باب قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ}، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 5/ 211، 212، 7/ 116. ومسلم، في: باب إباحة ميتات البحر، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1535، 1536. كما أخرجه أبو داود، في: باب في دواب البحر، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 327. النسائي، في: باب ميتة البحر، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 184، 185. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 311.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا فَرْقَ في ذلك بينَ ما مات بسَبَبٍ أو بغيرِ سَبَبٍ؛ لِما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَين، وقد أجْمَعَ أهلُ العلمِ على إباحَةِ ما مات بسَبَبٍ؛ مِثْلَ أن صادَه إنسانٌ، أو نَبَذَه البحرُ، أو جَزَرَ (¬1) عنه، وكذلك ما حُبِسَ في الماءِ بحَظِيرَةٍ حتى يموتَ، فإنَّه يَحِلُّ. قال أحمدُ (¬2): الطّافِي يُؤكَلُ، وما جَزَر عنه الماءُ أجودُ، والسَّمَكُ الذي نَبَذَه البحرُ لم يُخْتَلَفْ فيه، وإنّما اخْتَلَفُوا في الطّافِي، وليس به بَأسٌ. وممَّن أباح الطّافِيَ مِن السَّمَكِ أبو بكرٍ الصديقُ، وأبو أيُّوبَ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال مالِكٌ، والشافعيُّ. ورُوِيَ ذلك عن عَطاءٍ، ومَكْحُولٍ، والثَّوْرِيِّ، والنَّخَعِيِّ. وكَرهَ الطّافِيَ جابِر، وطاوسٌ، وابنُ سِيرِينَ، وجابرُ بنُ زيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لِما رُوِيَ أنَّ جابِرًا قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَلْقَى البَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، فَكُلُوهُ، ومَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا، فَلا تَأكلُوهُ». رَواه أبو داودَ (¬3). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬4). قال ابنُ عباسٍ: طعامُه ما مات فيه (¬5). وأيضًا ما ذَكَرْنا مِن الحَدِيثَين. وقال أبو بكرٍ الصديقُ، رَضِيَ اللهُ عنه: الطّافِي ¬

(¬1) جزر البحر أو النهر: انحسر ماؤه. (¬2) بعده في م: «في». (¬3) في: باب في أكل الطافي من السمك، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 322. كما أخرجه ابن ماجه، في: الطافي من صيد البحر، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1081. (¬4) سورة المائدة 96. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 230 عند قول ابن عباس: الجري لا تأكله اليهود.

4626 - مسألة: (وعنه، في السرطان وسائر البحري، أنه يحل بلا ذكاة)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَلالٌ (¬1). ولأنَّه لو مات في البَرِّ، أُبِيحَ، فإذا ماتَ في البحرِ أُبِيحَ، كالجَرادِ. فأمّا حديثُ جابِرٍ، فإنَّما هو مَوْقُوفٌ عليه، كذلك قال أبو داودَ: رَواه الثِّقاتُ فأوْقَفُوه على جابرٍ، وقد أُسْنِدَ مِن وَجْهٍ ضَعِيفٍ (¬2). وإن صَحَّ فنَحْمِلُه على نَهْيِ الكَراهَةِ؛ لأنَّه إذا مات رَسب (¬3) في أسْفَلِه، فإذا أنْتَنَ طَفا، فكرِهَه لنَتْنِه، لا لتَحْرِيمِه. 4626 - مسألة: (وعنه، في السَّرَطانِ وسَائِرِ البحريِّ، أنَّه يَحِلُّ بلا ذكاةٍ) قال أحمدُ: السَّرَطانُ لا بَأْسَ به. قيل له: يُذْبَحُ؟ قال: لا. وذلك أنَّ مَقْصُودَ الذَّبْحِ إنَّما هو إخْراجُ الدَّمِ منه، وتَطْيِيبُ اللَّحْمِ بإزالتِه عنه، فما لا دَمَ فيه، لا حاجَةَ إلى ذَبْحِه، فإن قُلْنا: يُذَكَّى. فذَكاتُه أن يُفْعَلَ به ما يموتُ به (¬4). فأمّا ما كان مأْواهُ البحرَ، وهو يعيشُ في البَرِّ مِن دَوابِّ البحرِ؛ كطيرِ الماءِ، والسُّلَحْفاةِ، وكَلْبِ الماءِ، فلا يَحِلُّ إلَّا أنْ ¬

(¬1) أخرجه البخاري تعليقا، في: باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ}، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 116. ووصله ابن أبي شيبة، في: باب من رخص في الطافي من السمك، وباب قوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 380 - 382. والدارقطني، في: كتاب الصيد والذبائح. سنن الدارقطني 4/ 269، 270. والبيهقي، في: باب ما لفظ البحر وطفا. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 253، 255. (¬2) انظر طرق الحديث والكلام عليها في: نصب الراية 4/ 202 - 204. (¬3) في الأصل: «رست». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُذْبَحَ. هذا الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ. قال أحمدُ: كَلْبُ الماءِ يَذْبَحُه، ولا أَرَى (¬1) بَأْسًا بالسُّلَحْفاةِ إذا ذُبِحَ، [والرَّقُّ يَذْبَحُه] (¬2). وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّه يَحِلُّ بغيرِ ذَكاةٍ. وذهبَ إليه قَوْمٌ مِن أهلِ العلمِ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ». رَواه التِّرْمِذِيُّ، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ. ولأنَّه مِن حيوانِ الاءِ، فأُبِيحَ بغيرِ ذَكاةٍ، كالسَّمَكِ والسَّرَطانِ. وقال أبو بكرٍ الصديقُ، رَضِيَ اللهُ عنه: كُلُّ ما في البحرِ قد ذَكّاه اللهُ لكم (¬3). ورَوَى الإِمامُ أحمدُ بإسْنادِه، عن شُرَيحٍ، رجلٍ أدْرَكَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: كُلُّ شَيءٍ في البحرِ مَذْبُوحٌ (¬4). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ذبَح كُلَّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ لِابنِ آدَمَ» (¬5). والأُولَى أصَحُّ فيما سِوَى السَّرَطانِ، لأنَّه حيوانٌ يعيشُ في البَرِّ، له نَفْسٌ سائِلَةٌ، فلم يُبَحْ بغيرِ ذكاةٍ، كالطيرِ. قال شَيخُنا (¬6): ¬

(¬1) في الأصل: «نرى». (¬2) سقط من: الأصل، ر 3، ص. والرق: العظيم من السلاحف. (¬3) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الصيد والذبائح. سنن الدارقطني 4/ 269، 270. والبيهقي، في: باب الحيتان وميتة البحر، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 252. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 228. (¬5) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الصيد والذبائح. سنن الدارقطني 4/ 267، 269. وقال الحافظ في الفتح 9/ 616: وفي سنده ضعف. (¬6) في: المغني 13/ 344، 345.

4627 - مسألة: (وعنه، في الجراد، لا يؤكل إلا أن يموت بسبب، ككبسه وتغريقه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا خِلافَ فيما عَلِمْناه في الطيرِ، والأخْبارُ مَحْمُولَةٌ على ما لا يَعِيشُ إلَّا في البحرِ، كالسَّمَكِ وشِبْهِه؛ لأنَّه لا يتَمَكَّنُ مِن تَذْكِيَتِه، لأنَّه لا يُذبَحُ إلَّا بعدَ إخْراجِه مِن الماءِ، ومتى خَرَجَ ماتَ. 4627 - مسألة: (وعنه، في الجَرادِ، لَا يُؤْكَلُ إلَّا أن يَمُوتَ بسَبَبٍ، ككَبْسِه وتَغْرِيقِه) لا خِلافَ في إباحَةِ الجرادِ، وقد رَوَى عبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى، قال: غَزَوْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَواتٍ نأْكُلُ الجرادَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولا فَرْقَ بينَ أن يمُوتَ بسَبَبٍ أو بغيرِ سَبَبٍ، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشافعيُّ، وأصْحابُ الحديثِ، وأصْحابُ الرَّأْي، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، إذا قَتَلَه البردُ، لم يُؤْكَلْ. وعنه، لا يُؤكَلُ إذا ماتَ بغيرِ سَبَبٍ. وهو قولُ مالِكٍ. ويُرْوَى عن سعيدِ بنِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب أكل الجراد، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 117. ومسلم، في: باب إباحة الجراد، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1546. كما أخرجه أبو داود، في: باب في أكل الجراد، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 321. والترمذي، في: باب ما جاء في أكل الجراد، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 15، 16. والشافعي، في: باب الجراد، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 185. والدارمي، في: باب في أكل الجراد، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 91. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 353، 357، 380.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَيَّبِ. ولَنا، عُمومُ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيتَتَانِ ودَمَانِ، فالمَيتَتانِ السَّمَكُ والجَرَادُ». رَواه ابنُ ماجه (¬1). ولم يُفصِّلْ. ولأنَّه تُباحُ مَيتَتُه، فلم يُعْتَبَرْ له سبَبٌ، كالسَّمَكِ، ولأنَّه لو افْتَقَرَ إلى سببَبٍ، لافْتَقَرَ إلى ذَبْحٍ وآلةٍ، كبَهيمَةِ الأنْعامِ. فصل: [ويُباحُ] (¬2) أكْلُ الجرادِ بما فيه، وكذلك السَّمَكُ، يجوزُ أنْ يُقْلَى مِن غيرِ أن يُشقَّ جَوْفُه. وقال أصْحابُ الشافعيِّ في السَّمَكِ: لا يجوزُ، لأنَّ رَجِيعَه نَجِسٌ. ولَنا، عُمومُ النَّصِّ في إباحَتِه، وما ذكَرُوه غيرُ مُسَلَّم. وإن بَلَعَ إنْسانٌ منه شيئًا وهو حَيٌّ، كُرِهَ؛ لأنَّ فيه تَعْذِيبَ الحيوانِ. فصل: وسُئِلَ أحمدُ عن السَّمَكِ يُلْقَى في النّارِ؟ فقال: ما يُعْجِبُنِي. ¬

(¬1) في: باب صيد الحيتان والجراد، من كتاب الصيد، وفي: باب الكبد الطحال، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1073، 1102. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 97. (¬2) في م: «ويجوز».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجرادِ؟ فقال: ما يُعْجِبُنِي، والجرادُ أسْهَلُ، فإنَّ هذا له دَمٌ. ولم يَكْرَهْ أكْلَ السَّمَكِ إذا أُلقِيَ في النّارِ، إنَّما كَرِهَ تَعْذِيبَه بالنّارِ. وأمّا الجَرادُ [فسَهَّلَ في إلْقائِه؛ لأنَّه لا دَمَ له، ولأنَّ السَّمَكَ لا حاجَةَ إلى إلْقائِه في النّارِ، لإِمْكانِ تَرْكِه حتى يموتَ بسُرْعَةٍ، والجرادَ] (¬1) لا يموتُ في الحالِ، بل يَبْقَى مُدَّةً طويلةً. وفي «مُسْنَدِ الشافعيِّ» (¬2) أنَّ كَعْبًا كان مُحْرِمًا، فمَرَّت به رَجْلٌ (¬3) من جَرَادٍ، فنَسِيَ، وأخَذَ جَرادَتَين، فألْقاهُما في النّارِ، فشَواهُما، وذكَرَ ذلك لعُمَرَ، فلم يُنْكِر عمرُ تَرْكَهُما في النّارِ. وذُكِرَ له حَدِيثُ ابنِ عمرَ: كان الجرادُ يُقْلَى له (¬4). فقال: إنَّما يُؤْخَذُ الجرادُ فتُقْطَعُ أجْنِحَتُه، فيُلْقَى في الزَّيتِ وهو حَيٌّ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر: الباب الخامس، فيما بياح للمحرم وما يحرم، من كتاب الحج. ترتيب مسند الشافعي 1/ 326، 327. (¬3) الرجْل من الجراد: الطائفة العظيمة منه. (¬4) أخرج ابن أبي شيبة، في: المصنف 8/ 139 عن عمو قال: أشتهي جرادا مقليا. وانظر ما ورد عن ابن عمر في: مصنف عبد الرزاق 4/ 531. ومصنف ابن أبي شيبة 8/ 141.

4628 - مسألة: (ويشترط للذكاة شروط أربعة؛ أحدها، أهلية الذابح، وهو أن يكون عاقلا، مسلما أو كتابيا، فتباح ذبيحته، ذكرا كان أو أنثى. وعنه، لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب، ولا من أحد أبويه غير كتابي)

وَيُشْتَرَطُ للِذَّكَاةِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ؛ أَحَدُهَا، أَهْلِيَّةُ الذَّابِحِ، وَهُوَ أنْ يَكُونَ عَاقِلًا، مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، فَتُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَعَنْهُ، لَا تُبَاحُ ذَبِيحَةُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَلَا مَنْ أَحَدُ أَبوَيهِ غَيرُ كِتَابِيٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4628 - مسألة: (ويُشْتَرَطُ للذّكاةِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ؛ أحَدُها، أهْلِيَّةُ الذَّابِحِ، وهو أن يكُونَ عاقِلًا، مُسْلمًا أو كِتابِيًّا، فَتُباحُ ذَبِيحَتُه، ذَكَرًا كانَ أو أُنْثَى. وعنه، لَا تُباحُ ذَبِيحَةُ نَصارَى بَنِي تَغْلِبَ، ولَا مَن أحدُ أبَوَيهِ غيرُ كِتابِيٍّ) أجمعَ أهلُ العلمِ على إباحَةِ ذَبائِحِ أهلِ الكتابِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1). يعني ذَبائِحَهُم. قال البُخارِيُّ (¬2): قال ابنُ عباسٍ: طَعامُهم ذَبائِحُهم. وكذلك قال قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ. ورُوِيَ مَعْناه عن ابنِ مسعودٍ. وهذا قولُ مالِكٍ، ¬

(¬1) سورة المائدة 5. (¬2) في: باب ذبائح أهل الكتاب. . . .، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 120. ووصله البيهقي، في: السنن الكبرى 9/ 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي. ولا فَرْقَ بين العَدْلِ والفاسِقِ مِن المسلمين وأهْلِ الكتابِ. وعن أحمدَ، لا تُؤكلُ (¬1) ذَبِيحَةُ الأقْلَفِ. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ (¬2). والصَّحِيحُ إباحَتُه، فإنَّه مُسْلمٌ، أشْبَهَ سائِرَ المسلمين، وإذا أُبِيحَتْ ذَبِيحَةُ القاذِفِ والزّانِي وشارِبِ الخَمْرِ، مع تحَقُّقِ فِسْقِه، وذَبِيحَةُ النَّصْرانِيِّ وهو كافِرٌ أقْلَفُ، فالمسلمُ أوْلَى. فصل: ولا فَرْقَ بينَ الحَرْبِيِّ والذِّمِّيِّ في إباحَةِ ذَبِيحَةِ الكِتابِيِّ منهم، وتَحْريمِ ذَبِيحَةِ مَن سِواه. وسُئِلَ أحمدُ عن ذبائِحِ نَصارَى أهلِ الحربِ، ¬

(¬1) في م: «تباح». (¬2) أخرج عبد الرزاق في المصنف 4/ 483 عن ابن عباس أنه كره ذبيحته. والأقلف: الذي لم يختن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: لا بَأْسَ بها، حديثُ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ [في الشَّحْمِ] (¬1). قال إسحاقُ: أجادَ. وقَال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ على هذا كُلُّ مَن نحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ؛ منهم مُجاهِدٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا فَرْقَ بينَ الكِتابِيِّ العَرَبِي وغيرِه، إلَّا أنَّ في نَصارَى العَرَبِ اخْتلافًا ذكَرْناه في بابِ الجِزْيَةِ. وسُئِلَ مكْحُولٌ عن ذَبائِحِ نَصارَى العَرَبِ (¬3)؟ فقال أمّا بَهْرَا وتَنُوخُ، فلا بَأْسَ، وأمّا بنو تَغْلِبَ، فلا خَيرَ في ذَبائِحِهم؛ لأنَّه يُرْوَى عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه. وهو مذهَبُ الشافعيِّ. ولا ذَبائِح العربِ مِن أهْلِ الكتابِ كلِّهم. والصحيحُ ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في 1/ 155، 156. (¬2) انظر الإجماع 25. (¬3) في ر 3: «الحرب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إباحَتُه؛ لعُمومِ الآيةِ فيهم. فأمّا مَن أحَدُ أبَوَيهِ غيرُ كِتَابِيٍّ ممَّن لا تَحِلُّ ذَبِيحَتُه، فقال أصحابُنا: لا تَحِلُّ ذَبِيحَتُه. وبه قال الشافعيُّ إذا (¬1) كانَ الأبُ [غيرَ كِتابِيٍّ، وإن كانَ الأبُ] (¬2) كِتابِيًّا ففيه قَوْلان، أحدُهما، تُباحُ. وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ. والشافعي، لا تُباحُ؛ لأنَّه وُجِدَ ما يَقْتَضِي الإِباحَةَ والتَّحْرِيمَ، فغُلِّبَ ما يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، كما لو جَرَحَه مسلمٌ ومَجُوسِيٌّ، وبيانُ وُجودِ ما يَقْتَضِي التَّحْريمَ، أنَّ كونَه ابنَ مَجُوسِيٍّ أو وَثَنِيٍّ يقْتَضِي تَحْريمَ ذَبيحَتِه. وعنه، تُباحُ ذَبِيحَتُه مُطْلَقًا. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لعُمومِ النَّصِّ، ولأنَّه كِتابِيٌّ يُقَرُّ على دِينِه، فتَحِلُّ ذَبِيحَتُه، ¬

(¬1) في م: «وإذا». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو كان ابْنَ كِتابِيَّين. فإن كان ابنَ وَثَنِيَّين أو مَجُوسِيَّين، فمُقْتَضَى قولِ أصْحابِنا، والشافعيِّ، ومالِكٍ، تحريمُه، ومُقْتَضَى قولِ أبي حنيفةَ حِلُّه،

4629 - مسألة: (ولا تباح ذكاة مجنون، ولا سكران، ولا طفل غير مميز، ولا مجوسي، ولا وثني، ولا مرتد)

وَلَا تُبَاحُ ذَكَاةُ مَجْنُونٍ، وَلَا سَكْرَانَ، وَلَا طِفْلٍ غَيرِ مُمَيِّزِ، وَلَا وَثَنِيٍّ، وَلَا مَجُوسِيٍّ، وَلَا مُرْتَدٍّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الاعْتِبارَ بدِينِ الذّابحِ لا بدِينِ أبيهِ، بدَلِيلِ أنَّ الاعْتِبارَ في قَبُولِ الجِزْيَةِ بذلك، ولعُمومِ النَّصِّ والقِياسِ. 4629 - مسألة: (ولا تُباحُ ذكاةُ مَجْنُونٍ، ولَا سَكْرانَ، ولا طِفْلٍ غيرِ مُمَيِّزٍ، ولَا مَجُوسِيٍّ، ولَا وَثَنِيٍّ، ولَا مُرْتَدٍّ) أمّا المجنونُ والطِّفْلُ والسكرانُ، فلا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهم؛ لأنَّه لا يصِحُّ منهم (¬1) القَصْدُ، أشْبَهَ ما لو ضَرَبَ إنْسانًا بالسَّيفِ فقَطَعَ عُنُقَ شاةٍ، ولأنَّه أمْرٌ يُعْتَبَرُ له الدِّينُ، فاعْتُبِرَ له العَقْلُ، كالغُسْلِ. وبهذا قال مالِكٌ. وقال الشافعيُّ: لا يُعْتَبَرُ العَقْلُ. والأوَّلُ أَولَى؛ لأنَّ الذَّكاةَ يُعْتَبَرُ لها [القَصدُ، فيُعْتَبَرُ لها] (¬2) العَقْلُ، كالعِبادَةِ، ومَن لا عَقْلَ له لا يَصِحُّ منه القَصْدُ، فيصيرُ ذَبْحُه كما لو وقَعَتِ الحديدَةُ بنَفْسِها على حَلْقِ شاةٍ فذبَحَتْها. ¬

(¬1) في الأصل، ر 3: «منه». (¬2) سقط من: ر 3، ص، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا ذَكاةُ المَجُوسِيِّ، فلا تَحِلُّ في قولِ أهلِ العلمِ، وشَذَّ أبو ثَوْرٍ، فأباحَ صَيدَه وذَبِيحَتَه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» (¬1). ولأنَّهم يُقَرُّونَ بالجِزْيَةِ، فتباحُ ذَبِيحَتُهم وصَيدُهم، كاليَهُودِ والنَّصارَى. وهذا قولٌ يُخالِفُ الإِجْماعَ، فلا عِبْرَةَ به. قال إبراهيمُ الحَرْبِيُّ: خَرَقَ أبو ثَوْرٍ الإِجْماعَ. قال أحمدُ: ههُنا قَوْمٌ لا يَرَون بذَبائِحِ المَجُوسِ بَأْسًا، ما أعْجَبَ هذا! يُعَرِّضُ بأبي ثَوْرٍ. وممَّن كَرِهَ ذَبائِحَهم ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ، وعليٌّ، وجابِرٌ، وأبو بُرْدَةَ (¬2)، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعِكْرِمَةُ، والحسَنُ بنُ محمدٍ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيلَى، وسعيدُ بنُ جُبَيرِ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. قال أحمدُ: ولا أعْلَمُ [أحدًا يقولُ] (¬3) بخِلافِه، إلَّا أن يكونَ صاحِبَ بدْعَةٍ. ولأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬4). فمَفْهُومُه تحْرِيمُ طَعامِ غيرِهم مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 20/ 350. (¬2) أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، الإمام الفقيه الثبت، قيل اسمه عامر، وقيل غير ذلك، ثقة كثير الحديث، توفي سنة ثلاث ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 343 - 346. (¬3) في الأصل: «قال». (¬4) سورة المائدة 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكُفّارِ، ولأنَّهم لا كتابَ لهم، فلم تَحِلَّ ذَبائِحُهم، كأهْلِ الأوْثانِ. وقد روَى الإِمامُ أحمدُ (¬1)، بإسْنادِه عن قَيسِ بنِ سَكَن الأسَدِيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُمْ قَدْ نَزَلْتُمْ (¬2) بفَارِسَ مِنَ النَّبَطَ، فإذَا اشْتَريتُمْ لَحْمًا، فإنْ كَانَ مِنْ يَهُودِيٍّ أوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا، وإنْ كانَ مِنْ ذَبِيحَةِ مَجُوسِيٍّ فلَا تَأْكُلُوا». ولأنَّ كُفْرَهم مع كونِهم غيرَ أهلِ كتابٍ، يقْتَضِي تحْريم ذَبائِحِهم ونِسائِهم، بدليلِ سائِرِ الكُفّارِ مِن غيرِ أهْلِ الكتابِ، وإنَّما أُخِذَتْ منهم الجِزْيَةُ، لأنَّ شُبْهَةَ الكِتاب تَقتَضِي التَّحْريمَ لدِمائِهم، فلَمَّا غُلِّبَتْ في التَّحْريمِ لدمائِهِم، وَجَب (¬3) أَن يُغَلَّبَ عَدَمُ الكتابِ في تَحْريمِ الذَّبائِحِ والنِّساءِ، احْتِياطًا للتَّحْريمِ في الموْضِعَين، ولأنَّه إجْماعٌ، فإنَّه قولُ مَن سَمَّينا، ولا مُخالِفَ لهم في عَصْرِهم، ولا في مَن بعدَهُم، إلَّا رِوايَةً عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، رُوِيَ عنه خِلافُها. فصل: وسائِرُ الكُفّارِ مِن عَبَدَةِ الأوْثانِ والزَّنادِقَةِ وغيرِهم، حُكْمُهم حُكْمُ المَجُوسِ، في تحْريمِ ذَبائِحِهم، قِياسًا عليهم، بل هم شَرٌّ مِن ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق عن قيس بن سكن عن ابن مسعود موقوفًا عليه. المصنف 4/ 487، 488. وقيس بن سكن تابعي ثقة، يروى عن ابن مسعود. انظر ترجمته في: تهذيب الكمال 24/ 50 - 53. (¬2) في م: «تركتم». (¬3) في الأصل، م: «فوجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَجُوسِ؛ لأنَّ المَجُوسَ لهم شُبْهَةُ كتابٍ، بخلافِ هؤلاء. قال أحمدُ: وطعامُ المَجُوسِ ليس به بَأْسٌ أن يُؤْكَلَ، وإذا أُهْدِيَ إليه أَن يُقْبَلَ، إنَّما تُكْرَهُ (¬1) ذَبائِحُهم، أو شَيْءٌ (¬2) فيه دَسَمٌ. يعني مِن اللَّحْمِ. ولم يَرَ بالسَّمْنِ والجُبْنِ (¬3) بأسًا. وسُئِلَ عمّا تَصْنَعُ المجُوسُ لأمْواتِهم، ويُزَمْزِمُون (¬4) عليهم إيّامًا عَشْرًا، ثم يَقْسِمُون ذلك في الجِيرانِ؟ قال: لا بَأْسَ بذلك. وعن الشَّعْبِي، قال: كُلْ مع المَجُوسِيِّ وإنْ زَمْزَمَ. وروَى أحمدُ، أنَّ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ كان يأكُلُ مِن كَوامِيخِ (¬5) المَجُوسِ، فأعْجَبَه ذلك. ورَوَى هِشامٌ، عن الحسَنِ، أنَّه كان لا يَرَى بَأْسًا بطَعامِ المَجُوسِ في المِصْرِ، ولا [بشَوارِيزِهم، ولا بكَوامِيخِهم] (¬6). فصل: ولا تُباحُ ذَبِيحَةُ المُرْتَدِّ، وإن كانت رِدَّتُه إلى دِينِ أهْلِ الكتابِ. وهذا قولُ مالِكٍ، والشافعيِّ، وأصْحابِ الرَّأْي. وقال إسحاقُ: إن تدَيَّنَ بدِينِ أهلِ الكتابِ، حَلَّتْ ذَبِيحَتُه. ويُحْكَى ذلك ¬

(¬1) في م: «كره». (¬2) في م: «شيئًا». (¬3) في الأصل: «الخبز». (¬4) الزمزمة: تحرك الشفة بكلام لا يفصح عنه قائله. وقيل: كلام الفرس عند أكلهم. (¬5) الكامخ: بفتح الميم، إدام. (¬6) في الأصل: «شواديرهم ولا كوامخهم». والشواريز: جمع شيراز، وهو اللبن الرائب: والأثر أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 8/ 88.

فَصْلٌ: الثَّاني، الْآلةُ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ بِمُحَدَّدٍ، سَواءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ حَجَرٍ، أوْ قَصَبٍ، أَوْ غَيرِهِ، إلا السِّنَّ وَالظُّفُرَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ، لَيسَ السِّنَّ والظّفُرَ». ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الأوْزاعِيِّ؛ لأنَّ عليًّا، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: مَن تَوَلَّى قَوْمًا، فهو منهم. ولَنا، أنَّه كافِرٌ لا يُقَرُّ على دِينِه، فلم تَحِلَّ ذَبِيحَتُه، كالوَثَنِيِّ، ولأنَّه لا تَثْبُتُ له أحْكامُ أهلِ الكتابِ إذا تدَيَّنَ بدِينهم، فإنَّه لا يُقَرُّ بالجِزْيَةِ، ولا يُسْتَرقُّ، ولا يَحِلُّ له نِكاحُ المُرْتَدَّةِ. وأمَّا قولُ عليٍّ: فهو منهم. لم يُرِدْ به (¬1) أنَّه منهم في جميعِ الأحْكام، بدَليلِ ما ذكَرْنا، ولأنَّه لم يكُنْ يَرَى حِلَّ ذَبائِحِ نَصارَى بني تَغْلِبَ، ولا نِكاحِ نِسائِهم، مع توَلِّيهم للنَّصارَى، ودُخُولِهم في دِينِهم، ومع إقْرارِهم على ما صُولِحوا عليه، فلا يُعْتَقَدُ ذلك في المُرْتَدِّينَ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه إذا ذَبَحَ حيوانًا لغيرِه بغيرِ إذْنِه؛ ضَمِنَه بقِيمَتِه حَيًّا؛ لأنَّه أتْلَفَه وحَرَّمَه، ولا يَضْمَنُه إذا كان بإذْنِه؛ لأنَّه أذِنَ في إتْلافِه. فصل: قال رَحِمَهُ اللهُ: (الثاني، الآلةُ، وهو أن يَذْبَحَ بمُحَدَّدٍ، سواءٌ كان مِن حَديدٍ، أو حَجَرٍ، أو قَصَبٍ أو غيرِه، إلَّا السِّنَّ والظُّفُرَ) الآلةُ لها شَرْطان؛ أحدُهما، أن تكونَ مُحَدَّدَةً، تقْطَعُ أو تَخْرِق بحَدِّها، لا بثِقْلِها. والثاني، أن (¬2) لا تكونَ سِنًّا ولا ظُفُرًا، فإذا اجْتَمَعَ هذان ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطان في شيءٍ، حَلَّ الذَّبْحُ به، حدِيدًا كان أو حجَرًا أو خَشَبًا أو قَصَبًا، لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلُوه، لَيسَ السِّنَّ والظُّفُرَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وعن عَدِيِّ بنِ حاتِم قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنْ أحدُنا صادَ صَيدًا، وليسَ معه سِكِّينٌ، أيذْبَحُ بالمَرْوَةِ وشَقَّةِ العَصا؟ فقال: «أَمرِرِ الدَّمَ بمَا شِئْتَ، واذْكُرِ اسْمَ اللهِ عليهِ (¬2)». والمَرْوَةُ: الصَّوَّانُ. وعن رَجُلٍ مِن بني حارِثَةَ، أنَّه كان يَرْعَى لِقْحَةً (¬3)، فأخَذَها الموتُ، فلم يَجِدْ شيئًا ينْحَرُها به، فوَجَدَ وَتِدًا، فوَجَأَهَا به في لَبَّتِها حتى أُهَرِيقَ دَمُها، ثم جاءَ إلى (¬4) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَه بأكْلِها. رَواهما أبو داودَ (¬5). وبهذا قال الشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. ونحوُه قولُ مالِكٍ، وعمرِو بنِ دِينارٍ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، إلَّا في السِّنِّ والظُّفُرِ، فإنَّه قال: إذا كانَا مُتَّصِلَين، لم يَجُزِ الذَّبْحُ بهما، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 9/ 341 حاشية 1، ويضاف إليه: والدارمي، في: باب في البهيمة إذا ندت، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 84. والإمام أحمد، في: السند 3/ 463، 464. (¬2) سقط هن: الأصل. (¬3) اللقحة: الناقة قريبة العهد بالنتاج. (¬4) سقط من: م. (¬5) في: باب في الذبيحة بالمروة، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 92. كما أخرج الأول النسائي، في: باب إباحة الذبح بالعود، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 198. ابن ماجه، في: باب ما يذكى به، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1060. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 256، 258، 377. وأخرج الثاني الإمام أحمد، في: المسند 5/ 430.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنْ كانا مُنْفَصِلَين، جازَ. ولَنا، عُمومُ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، [وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلُوا] (¬1)، إلَّا السِّنَّ والظُّفُرَ». ولأنَّ ما لم تَجُزِ الذكاةُ به مُتَّصِلًا، لم تَجُزْ مُنْفَصِلًا، كغيرِ المُحَدَّدِ. فصل: فأمّا العَظْمُ غيرُ السِّنِّ، فمُقْتَضَى إطْلاقِ قولِ أحمدَ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، إباحَةُ الذَّبْحِ به. وهو قولُ مالِكٍ، وعمرِو بنِ دِينارٍ، وأصْحابِ الرَّأْي. وقال ابنُ جُرَيجٍ: يُذَكَّى بعَظْمِ الحِمارِ، ولا يُذَكَّى بعَظْمِ القِرْدِ؛ لأَنَّكَ تُصَلِّي على الحمارِ وتَسْقِيه في جَفْنَتِك. وعن أحمدَ، لا يُذَكَّى بعَظْمٍ ولا ظُفُرٍ. وقال النَّخَعِيُّ: لا يُذَكَّى بالعَظْمِ والقَرْنِ. وَوَجْهُه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلُوا، لَيسَ السِّنَّ والظُّفُرَ، وسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أمّا السِّنُّ فعَظْمٌ، وأمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ». فعَلَّلَه بكونِه عَظْمًا، فكُلُّ عَظْمٍ فقد وُجِدَتْ فيه العِلَّةُ. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى. قاله شيخُنا (¬2)؛ لأنَّ العَظْمَ دخَلَ في عُمُومِ اللَّفْظِ المُبِيحِ، ثم اسْتُثْنِيَ السِّنُّ والظُّفُرُ خاصَّةً، فَتَبْقَى سائِرُ العِظام دَاخِلَةً فيما يُباحُ الذَّبْحُ به، والمنطوقُ مُقَدَّمٌ على التَّعْلِيلِ، ولهذا عَلَّلَ الظُّفُرَ بكَونِه مِن مُدَى الحَبَشَةِ، ولا يَحْرُمُ الذَّبْحُ بالسِّكِّينِ وإن كانت مُدْيَةً لهم، ولأنَّ العِظامَ يتَناوَلُها سائِرُ الأحادِيثِ العامَّةِ، ويحْصُلُ بها المقْصُودُ، فأشْبَهَتْ سائِرَ الآلاتِ. ¬

(¬1) في الأصل: «فكل». (¬2) في: المغني 13/ 302.

4630 - مسألة: (فإن ذبح بآلة مغصوبة، حل في أصح الوجهين)

فَإِنْ ذَبَحَ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، حَلَّ، في أَصَحِّ الْوَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4630 - مسألة: (فإن ذَبَحَ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، حَلَّ في أصَحِّ الوَجْهَينِ) لأنَّ الذكاةَ وُجِدَتْ ممَّن له أهْلِيَّةُ الذَّبْحِ، أشْبَهَ ما لو ذَبَحَ شاةَ مغْصُوبَة. والثاني، لا يَحِلُّ (¬1)؛ لأنَّه مَنْهِيٌّ عنه، لأنَّ الآلةَ مُحَرَّمَة، فلم يحْصلْ مقْصُودُها، كما لو اسْتَجْمَرَ بالرَّوْث والرِّمَّةِ. ¬

(¬1) بعده في م: «له».

فَصْلٌ. الثَّالِثُ، أَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِئَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال رَحِمَه اللهُ: (الثالثُ، أنْ يَقْطَعَ الحُلْقُومَ والمَرِئَ.

وَعَنْهُ، يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ قَطْعُ الْوَدَجَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، يُشْتَرَطُ مع ذلك قَطْعُ الوَدَجَين) وجملةُ ذلك، أنَّ مَحَلَّ الذَّبْح الحَلْقُ واللَّبَّةَ، وهي الوَهْدَةُ التي بين أصْلِ العُنُقِ والصَّدْرِ. ولا يجوزُ الذَّبْحُ في غيرِ هذا المَحَلِّ بالإِجْماعِ، وقد رُوِيَ [في حديثٍ] (¬1) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «الذَّكَاةُ في الحَلْقِ واللَّبَّةِ» (¬2). [وقال أحمدُ: الذكاةُ في الحَلْقِ واللَّبَّةِ. واحْتَجَّ بحديثِ عمرَ، وهو ما رَوَى سعيدٌ والأثْرَمُ (¬3) بإسْنادِهما عن الفُرافِصَةِ، قال: كنَّا عندَ عمرَ، فنادَى: إنَّ النَّحْرَ في اللَّبَّةِ والحَلْقِ لِمَنْ قَدَرَ. وإنَّما نَرَى أنَّ الذَّكاةَ اخْتَصَّتْ بهذا المحَلِّ] (¬4)؛ لأنَّه مَجْمَعُ العُرُوقِ، فيَنْسَفِحُ الدَّمُ بالذَّبْحِ فيه، ويُسْرِعُ زُهوقُ النَّفْسِ، فيكونُ أطْيَبَ للَّحْمِ، وأخَفَّ على الحيوانِ. قال أحمدُ: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الصيد والذبائح. سنن الدارقطني 4/ 283. وضعفه الألباني في الإرواء 8/ 176. (¬3) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يقطع من الذبيحة، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 495. والبيهقي، في: باب الذكاة في المقدور عليه ما بين اللبة والحلق، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 278. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لو كان حديثُ أبي العُشَراءِ حَدِيثًا. يَعْنِي ما روَى أبو العُشَراءِ، عن أبِيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه سُئِلَ: أمَّا تكونُ الذكاةُ إلَّا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا، أجْزَأ عَنْكَ» (¬1). قال أحمدُ: أبو العُشَراءِ هذا ليس بمَعْرُوفٍ. إذا ثَبَتَ ذلك، فيُشْتَرَطُ قَطْعُ الحُلْقُومِ والمَرِئِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وعن أحمدَ، رِوايَةٌ أُخْرَى أنَّه (¬2) يُشْتَرَطُ مع هذا (¬3) قَطْعُ الوَدَجَين. وبه قال مالِكٌ، وأبو يوسفَ؛ لِما روَى أبو هُرَيرَةَ، قال: نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شَرِيطَةِ الشَّيطانِ. وهي التي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الجِلْدُ ولا تُفْرَى الأوْداجُ، ثم تُتْرَكُ حتى تَمُوتَ. رَواه أبو داودَ (¬4). وقال أبو حنيفةَ: يُعْتَبَرُ قَطْعُ الحُلْقُومِ والمَرِئِ وأحَدِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في ذبيحة المتردية، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 92. والترمذي، في: باب ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 274. والنسائي، في: باب ذكر المتردية في البئر. . . .، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 200. وابن ماجه، في: باب ذكاة النّادّ من البهائم، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1063. والدارمي، في: باب في ذبيحة المتردي. . . .، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 82. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 334. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «ذلك». (¬4) في: باب في المبالغة في الذبح، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 93. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 289. وضعفه في الإرواء 8/ 166.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَدَجَين. ولا خِلافَ في أنَّ الأكْمَلَ قَطْعُ الأربعةِ؛ الحُلْقُومِ والمَرِئِ والوَدَجَين، فالحُلقومُ مَجْرَى النَّفَسِ، والمَرِئُ مَجْرَى الطَّعامِ والشَّرابِ، والوَدَجان هما عِرْقانِ مُحِيطان (¬1) بالحُلْقُومِ؛ لأنَّه أسْرَعُ لخُرُوجِ رُوحِ الحيوانِ، فيَخِفُّ عليه، ويخرجُ مِن الخلافِ، فيكون أوْلَى. والأوَّلُ يُجْزِئُ؛ لأنَّه قَطْعٌ في محلِّ الذَّبْحِ ما لا تَبْقَى الحَياةُ مع قَطْعِه، فأشْبَهَ ما لو قطَعَ الأرْبَعَةَ، والحديثُ محْمُولٌ على ما (¬2) لم يقْطَع المَرِئَ. ¬

(¬1) في الأصل: «مختلطان». (¬2) في م: «من».

4631 - مسألة: (وإن نحره، أجزأ، وهو أن يطعنه بمحدد في لبته. ويستحب أن ينحر البعير، ويذبح ما سواه)

وَإنْ نَحَرَهُ، أَجْزَأَ، وَهُوَ أَنْ يَطْعَنَهُ بِمُحَدَّدٍ في لُبَّتِهِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَرَ الْبَعِيرَ، وَيَذْبَحَ مَا سِوَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4631 - مسألة: (وإن نَحَرَه، أجْزَأ، وهو أن يَطْعَنَه بمُحَدَّدٍ فِي لَبَّتِهِ. ويُسْتَحَبُّ أن يَنْحَرَ البَعِيرَ، ويَذْبَحَ مَا سِواهُ) ولا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في اسْتِحْبابِ نَحْرِ الإِبِلِ، وذبْحِ ما سِواها، قال اللهُ تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬2). قال مُجاهِدٌ: أمَرَنا بالنَّحْرِ، وأَمَر بني إسرائيلَ بالذَّبْحِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ في قَومٍ ماشِيَتُهم الإِبِلُ، فَسُنَّ النَّحْرُ، وكانت (¬3) بنو إسْرائِيلَ ماشِيَتُهم البَقَرُ، فأُمِرُوا بالذَّبْحِ (¬4). وثَبَتَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ بَدَنةً، وضَحَّى بكَبْشَين أَقْرَنين، ذَبَحَهما بيَدِه. مُتَّفَقٌ عليه (¬5). والنَّحْرُ أن يَطْعَنَها بحَرْبَةٍ أو نحوها في الوَهْدَةِ التي بينَ عُنُقِها وصَدْرِها. ¬

(¬1) سورة الكوثر 2. (¬2) سورة البقرة 67. (¬3) سقط من: م. (¬4) أخرجه عبد الرزاق مختصرًا، في: المصنف 4/ 488، 489. (¬5) تقدم تخريجه في 9/ 331.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن ذَبَحَ الإِبِلَ، ونَحَرَ ما سِواها، أجْزَأَه. وهذا قولُ أكْثَرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، واللَّيثُ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ. وحُكِيَ عن داودَ، أنَّ الإِبلَ لا تُباحُ إلَّا بالنَّحْرِ، ولا يُباحُ غيرُها إلَّا بالذَّبْحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. والأمرُ يَقْتَضِي الوجوبَ. وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ البُدْنَ، وذَبَحَ الغَنَمَ، وإنَّما نَأْخُذُ الأحْكامَ مِن جِهَتِه. وحُكِيَ عن مالِكٍ، أنَّه لا يُجْزِئُ في الإبِلِ إلَّا النَّحْرُ؛ لأنَّ أعْناقَها طويلَةٌ، فإذا ذُبِحَ تَعَذَّبَ بخُروجِ رُوحِه. وحَكى ابنُ أبي موسَى، عن أحمدَ، أنَّه توَقَّفَ عن أكْلَ البَعِيرِ إذا ذُبحَ ولم يُنْحَرْ. قال ابنُ المُنْذِرِ: إنَّما كَرِهَه ولم يُحَرمْه. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمْرِرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ». وقالتْ أسماءُ: نَحَرْنا فرَسًا على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأكَلْناه ونحنُ بالمدينَةِ. [مُتَّفَقٌ عليه] (¬1). وعن عائشةَ، قالتْ: نَحَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ بَقَرَةً واحدةً (¬2). ولأنَّه ذَكَّاهُ في محَلِّ الذَّكاةِ، فجازَ أكْلُه، كالحيوانِ الآخَرِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. والحديث تقدم تخريجه في صفحة 217. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في هدي البقر، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 406. وابن ماجه، في: باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة، من كتاب الأضاحي. سنن ابن ماجه 2/ 1047.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتَصِحُّ ذَبِيحَةُ المرأةِ، حُرَّةً كانت أو أمَةً، إذا أطاقَتِ الذَّبْحَ، ووُجِدَتِ الشُّرُوطُ. وكذلك ذَبْحُ الصَّبِيِّ العاقِلِ، إذا أطاقَ، حُرًّا كان أو عَبْدًا، لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ كُلُّ مَن نحْفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على إباحَةِ ذَبِيحَةِ المرأةِ والصَّبِيِّ. وقد رُوِيَ أنَّ جارِيَةً لكعبِ بنِ مالكٍ، كانت تَرْعَى غَنَمًا بسَلْعٍ (¬2)، فأُصِيبَتْ شاةٌ منها، فأدْرَكَتْها، فذَكَّتْها بحَجَرٍ، فسُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كُلُوها (¬3)». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وفي هذا الحديثِ فوائِدُ سبعٌ، أحدُها، إباحَةُ ذَبِيحَةِ المرأةِ. والثانيةُ، إباحَةُ ذَبِيحَةِ الأمَةِ. الثالثةُ، إباحَةُ ذَبِيحَةِ الحائِضِ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يسْتَفْصِلْ. الرابعةُ، إباحةُ الذَّبْحِ بالحَجَرِ. الخامسةُ، إباحَةُ ذَبْحِ ما خِيفَ عليه الموتُ. السّادِسةُ، حِلُّ ما يذْبَحُه ¬

(¬1) انظر الإجماع 25. (¬2) سلع: جبل بالمدينة. (¬3) في م: «خذوها». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت. . . .، من كتاب الوكالة، وفي: باب ما أنهر الدم من القصب والمروة، وباب ذبيحة المرأة والأمة، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 3/ 130، 7/ 119. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ذبيحة المرأة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1062. والدارمي، في: باب ما يجوز به الذبح، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 82. والإمام مالك، في: باب ما يجوز من الذكاة في حال الضرورة، من كتاب الذبائح. الموطأ 2/ 489. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 76، 80، 6/ 386. ولم نجده عند مسلم.

4632 - مسألة: (فإن عجز عن ذلك)

فَإِنْ عَجَزَ عِنْ ذَلِكَ، مِثْلَ أَن يَنِدَّ الْبَعِيرُ، أَوْ يَتَرَدَّى في بِئْرٍ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ، صَارَ كَالصَّيدِ، إِذَا جَرَحَهُ في أَيِّ مَوْضِعٍ أَمْكَنَهُ فَقَتَلَهُ، حَلَّ أَكْلُهُ، إلا أَنْ يَمُوتَ بِغَيرِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ في الْمَاءِ، فَلَا يُبَاحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ مالِكِه بغيرِ إذْنِه. السابعةُ، إباحَةُ ذبْحِه لغيرِ مالِكِه، [بغيرِ إذنِه عندَ الخوفِ عليه] (¬1). 4632 - مسألة: (فإن عَجَز عن ذلك) أي عَنْ قَطْعِ الحُلْقُوم والْمَرِئِ (مِثْلَ أن يَنِدَّ البَعِيرُ، أو يَتَرَدَّى في بِئرٍ، فلا يَقدِرُ على ذَبْحِهِ، صارَ كالصَّيدِ، إذا جَرَحَهُ في أيِّ مَوْضِعٍ أمْكَنَهُ فقَتَلَهُ، حَلَّ أكلُهُ، إلَّا أن يَمُوتَ بغيرِهِ، مِثْلَ أن يكونَ رَأسُهُ فِي الماءِ، فلا يُباحُ) هذا قولُ أكثرِ الفُقهاءِ. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عمرَ، وابنِ عباسٍ، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال مَسْرُوقٌ، والحسَنُ، والأسْوَدُ، وعَطاءٌ، وطاوسٌ، وإسحاقُ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَمَّادٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالِكٌ: لا يجوزُ أكْلُه إلَّا أنْ يُذَكَّى. وهو قولُ رِبيعَةَ، واللَّيثِ. قال أحمدُ: لعَلَّ مالِكًا لم يسْمَعْ حديثَ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ. واحْتَجَّ مالِكٌ بأنَّ الحيوانَ الإِنْسيَّ إذا تَوَحَّشَ لم يَثْبُتْ له حكمُ الوَحْشِيِّ، بدَليلِ أنَّه لا يجبُ على المُحْرِمِ الجَزاءُ بقَتْلِه، ولا يصِيرُ الحِمارُ الأهْلِيُّ مُباحًا إذا تَوَحَّشَ. ولَنا، ما رَوَى رافِعُ بنُ خَدِيجٍ قال: كُنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَدَّ بَعِيرٌ، وكان في القوْمِ خَيلٌ يَسِيرَةٌ، فطَلَبُوه فأعْياهُم، فأهْوَى إليه رجلٌ بسَهْمٍ، فحَبَسَه اللهُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ (¬1) كَأوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فاصْنَعُوا بِه هَكَذا». وفي لفظٍ: «فَمَا نَدَّ عَلَيكُمْ فَاصنَعُوا بِهِ هَكَذَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وحَرِبَ (¬3) ثَوْرٌ في بعض دُورِ الأنْصارِ، فضرَبَه رَجُلٌ بالسَّيفِ، وذَكَرَ اسْمَ اللهِ عليه، فسُئِلَ عنه عليٌّ، فقال: ذَكاةٌ وَحِيَّةٌ (¬4). فأمَرَ بأكْلِه (¬5). وتَرَدَّى بعيرٌ في بئرٍ، ¬

(¬1) الأوابد: جمع آبدة، وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنس. (¬2) تقدم تخريجه في 9/ 341 من حديث رافع. (¬3) في الأصل: «هرب». وحرب: أي اشتد غضبه. (¬4) وحية: أي سريعة. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب ما قالوا في الإنسية توحش. . . .، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 386، 387. وعنده: فسئل عنه. والآثار قبله عن ابن مسعود، فلعل في النسخة سقطًا، فقد أخرج ابن أبي شيبة أثرا آخر في المصنف عن علي بنفس هذا السند. المصنف 5/ 396. =

4633 - مسألة: (وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ، فأتت

وَإنْ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَأ وَهُوَ مُخْطِئٌ، فَأَتَتِ السِّكِّينُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ فذُكِّيَ مِن قِبَلِ شاكِلَتِه (¬1)، فبِيعَ بعِشْرِين دِرْهَمًا، فأخَذَ ابنُ عمرَ عُشْرَهُ بدِرْهَمَين (¬2). ولأنَّ الاعْتِبارَ في الذَّكاةِ بحالِ الحيوانِ وقْتَ ذَبْحِه، لا بأصْلِها، بدَلِيلِ الوَحْشِيِّ إذا قُدِرَ عليه، وجَبَتْ تَذْكِيَتُه في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، فكذلك الأهْلِيُّ إذا تَوَحَّشَ اعْتُبِرَ بحالِه. وبهذا فارَقَ ما ذَكَرُوه (¬3)، فإذا تَرَدَّى فلم يُقْدَرْ على تَذْكِيَته، فهو مَعْجُوزٌ عن تَذْكِيَته، فأَشْبَهَ الوَحْشِيَّ، فأمّا إن كان رأسُ المُتَرَدِّي في الماءِ، لم يُبَحْ؛ لأنَّ الماءَ يُعِينُ على قَتْلِه، فيحْصُلُ قَتْلُه بمُبِيحٍ وحاظِرٍ، فيَحْرُمُ، كما لو جَرَحَه مسلمٌ ومَجُوسِيٌّ. 4633 - مسألة: (وإن ذَبَحَها مِن قَفَاها وهو مُخْطِئٌ، فأتَتِ ¬

= وعلق البخاري نحوه عن ابن مسعود في قصة حمار وحشي، في: باب صيد القوس، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 111. ووصله ابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 373. وانظر مصنف عبد الرزاق 4/ 464، 465. وانظر آثارا عن علي بنحو ذلك في مصنف عبد الرزاق 4/ 465. ومصنف ابن أبي شيبة 5/ 386. والسنن الكبرى 9/ 246. (¬1) شاكلته: أي خاصرته. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب من قال: تكون الذكاة في غير الحلق واللبة، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 394. والبيهقي، في: باب ما جاء في ذكاة ما لا يقدر على ذبحه. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 246. وأصل الحديث في الصحيحين دون هذه الزيادة. انظر 9/ 341. (¬3) في م: «ذكره».

مَوْضِعِ ذَبْحِهَا وَهِيَ في الْحَيَاةِ، أُكِلَتْ، وَإنْ فَعَلَهُ عَمْدًا، فَعَلَى وَجْهَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّكِّينُ على مَوْضِعِ ذَبْحِها وهي في الحياةِ، أُكِلَتْ، وإن فَعَلَهُ عَمْدًا، فعلى وَجْهَينِ) قال القاضي: معنى الخطأ أن تَلْتَوىَ الذَّبِيحَةُ عليه، فتَأْتِيَ السِّكِّينُ على القَفَا؛ لأنَّها مع الْتِوائِها مَعْجُوزٌ عن ذَبْحِها في محَلِّ الذَّبْحِ، فسَقَطَ اعْتِبارُ المَحَلِّ، كالمُتَرَدِّيةِ في بئْرِ، فأمّا مع عَدَمِ الْتِوائِها، فلا تُباحُ بذلك؛ لأنَّ الجَرْحَ في القَفا (¬1) سبَبٌ للزُّهوقِ، وهو في غيرِ مَحَلِّ الذَّبْحِ، فإذا اجْتَمَعَ مع الذَّبْحِ، مَنَعَ حِلَّه، كما لو بَقَرَ بطْنَها. وقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على هذا المعْنَى، فإنَّ الفَضْلَ بنَ زِيادٍ قال: سألتُ أبا عبدِ اللهِ عمَّن ذَبَحَ في القَفا؟ فقال: عامِدًا أو غيرَ عامِدٍ؟ قلتُ: عامِدًا. قال: لا تُؤكَلُ، فإذا كان غيرَ عامِدٍ، كأنَّه (¬2) الْتَوَى عليه، فلا بَأسَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «كأن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن ذَبَحَها مِن قَفاها اخْتِيارًا، فقد ذكَرْنا عن أحمدَ أنَّها لا تُؤكَلُ. وهو مفْهومُ كلامِ الْخِرَقِيِّ. وحُكِيَ هذا عن عليٍّ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ومالِكٍ، وإسْحاقَ. قال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: تُسَمَّى هذه الذَّبِيحَةُ القَفِينَةُ. وقال القاضي: إنْ بقِيَت فيها حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ قبلَ قَطْعِ الحُلْقُومِ والمَرِئِ حَلَّتْ، وإلَّا فلا، ويُعْتَبَرُ ذلك بالحَرَكَةِ القَويَّةِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وهذا أصَحُّ، لأنَّ الذَّبْحَ إذا أتَى على ما فيه حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، أحَلَّه، كأكِيلَةِ السَّبُعِ، والمُتَرَدِّيَةِ، والنَّطِيحَةِ. وعنه ما يَدُلُّ على إباحَتِها مُطْلَقًا. ولو ضَرَبَ عُنُقَها (¬1) بالسَّيفِ فأطارَ رَأسَها، حَلَّتْ بذلك، فإنَّ أحمدَ قال: لو أنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَأسَ بَطَّةٍ أو شَاةٍ بالسَّيفِ، يُرِيدُ بذلك الذَّبِيحَةَ، كان له أن يَأكُلَ (¬2). ورُوِيَ عن عليٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: تلك ذَكاةٌ وَحِيَّةٌ (¬3). وأَفْتَى بأَكْلِها عِمْرانُ بنُ حُصَينٍ. وبه قال الشَّعْبِيُّ، وأبو حنيفةَ، والثَّوْرِيُّ. وقال أبو بكرِ: لأبي عبدِ اللهِ فيها ¬

(¬1) في م: «عنقا». (¬2) في م: «يأكله». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلان، الصَّحِيحُ أنَّها مُباحَةٌ، لأنَّه اجْتَمَعَ قَطْعُ ما لا تَبْقَى الحياةُ معه مع الذَّبْحِ، فأُبِيحَ، كما ذكَرْنا، مع قولِ مَن ذكَرْنا قوْلَه مِن الصحابَةِ مِن غيرِ مُخالِفٍ. فصل: فإن ذَبَحَها مِن قَفاها، فلم يَعْلَمْ هل كانت فيها حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ قبلَ قَطْعِ الحُلْقُومِ والمَرِئِ أم لا؟ نَظَرْتَ؛ فإن كان الغالِبُ بقاءَ ذلك، لحِدَّةِ الآلةِ، وسُرْعَةِ القَطْعِ، فالأوْلَى إباحَتُه، لأنَّه بمَنْزِلَةِ ما قُطِعَتْ عُنُقُه بضَرْبَةٍ بالسَّيفِ، وإن كانتِ الآلةُ كالَّةً، وأبْطَأَ قَطْعُه،

4634 - مسألة: (وكل ما وجد فيه سبب الموت؛ كالمنخنقة)

وكُلُّ، مَا وُجِدَ فِيهِ سَبَبُ الْمَوْتِ؛ كَالْمُنْخَنِقَةِ، وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَالنَّطيحَةِ، وَأَكيلَةِ السَّبُعِ، إِذَا أدْرَكَ ذَكَاتَهَا وَفِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ وطال تَعْذِيبُه، لم يُبَحْ؛ لأنَّه مَشْكُوكٌ في وُجُودِ ما يُحِلُّه، فيَحْرُمُ، كما لو أرْسَلَ كَلْبَه (¬1) على الصَّيدِ، فوَجَدَ معه كلْبًا آخَرَ لا يَعْرِفُه. 4634 - مسألة: (وكُلُّ مَا وُجِدَ فيه سَبَبُ المَوْتِ؛ كالمُنْخَنِقَةِ) والمَوقُوذَةِ (والمُتَرَدِّيَةِ والنَّطِيحَةِ، وأَكِيلَةِ السَّبُعِ، إذا أدركَ ذَكاتَها ¬

(¬1) في م: «كلبا».

أكْثَرُ مِنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، حَلَّتْ، وَإنْ صَارَتْ حَرَكَتُها كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لَمْ تَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيها حياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أكْثَرُ مِن حَرَكَةِ المَذْبُوحِ، حَلَّتْ، وإن صارت حَرَكَتُها كحَرَكَةِ المَذْبُوحِ، لَمْ تَحِلَّ) وجملةُ ذلك، أنَّ المُنْخَنِقَةَ، والموْقُوذَةَ، وسائِرَ ما ذُكِرَ في هذه المسألةِ، وما أصابَها مَرَضٌ فماتَتْ بذلك، فهي مُحَرَّمَةٌ، إلَّا أن تُدْرَكَ ذَكاتُها؛ لقولِ اللهِ تعالى: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ}. وفي حديثِ جارِيَةِ كَعْبِ [بنِ مالكٍ] (¬1)، أنَّها [كانت تَرْعَى غَنَمًا بسَلْعٍ، فأُصِيبتْ] (¬2) شاةٌ مِن غَنَمِها، فأدركَتْها، فذَبَحَتْها بحَجَرٍ، فسُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كُلُوهَا» (¬3). فإن كانت لم يَبْقَ مِن حَياتِها إلَّا مثلُ حَرَكَةِ المَذْبُوحِ، لم تُبَحِ الذَّكاةُ؛ لأنَّه لو ذَبَحَ ما ذَبَحَه المَجُوسِيُّ، لم يُبَحْ، وإن أدركها وفيها حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، بحيثُ يُمْكِنُه ذَبْحُها، حَلَّتْ؛ لعُموم الآيةِ والخبَرِ. [وسواءٌ كانت قد انْتَهت إلى حالِ يَعْلَمُ أنَّها لا تعيشُ معه أَو تعيشُ؛ لعُمومِ الآيةِ والخبرِ] (¬4)، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «أصيبت». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 306. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَسألْ، ولم يَسْتَفْصِلْ. وقد قال ابنُ عباسٍ، في ذِئْب عَدَا على شاةٍ، فعَقَرَها، فوَقَعَ (¬1) قُصْبُها (¬2) بالأرضِ، فأدركها، فذبَحَها بحَجرٍ، قال: يُلْقِي ما أصابَ الأرْضَ، ويَأْكُلُ سائِرَها (¬3). قال أحمدُ في بهيمَةٍ عَقَرَتْ بَهِيمَةً، حتى تَبَيَّنَ فيها آثارُ الموتِ، إلَّا أنَّ فيها الرُّوحَ -يعني فذُبِحَتْ- فقال: إذا مَصَعَتْ (¬4) بذَنَبها، وطَرَفَتْ بعَينِها، وسالَ الدَّمُ، فأرْجُو، إن شاءَ اللهُ، أن لا يكونَ بأكلِها بَأسٌ. ورَوَى ذلك بإسنادِه (¬5) عن عُبَيدِ (¬6) بنِ عُمَيرٍ، وطاوُسٍ، وقالا: تَحَرَّكَت. ولم يَقُولا: سال الدَّمُ. وهذا على (¬7) مذْهبِ أبي حنيفةَ. وقال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ: ¬

(¬1) في م: «فوضع». (¬2) القُصْبُ: اسم للأمعاء كلها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب ما يقطع من الذبيحة، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 494. (¬4) مصعت بذنبها: حركته من غير عدو. (¬5) وأخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 4/ 499، 500. وابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 395، 396. (¬6) في الأصل، ر 3؛ ص: «عبد الله»، وفي م: «عقيل»، والمثبت؛ في المصنف، وانظر المغني. 13/ 314. (¬7) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سألتُ أحمدَ عن شاةٍ مَرِيضَةٍ، خافُوا عليها الموتَ، فذَبَحُوها، فلم يُعْلَمْ منها أكْثَرُ مِن أنَّها طَرَفَتْ بعَينِها، أو حَرَّكَتْ يَدَها أو رِجْلَها أو ذَنَبَها بضَعْفٍ، فنَهَرَ الدَّمُ؟ قال: لا بَأْسَ. وقال ابنُ أبي مُوسى: إذا انْتَهَتْ إلى حَدٍّ لا تَعِيشُ معه، لم تُبَحْ بالذَّكاةِ. ونصَّ عليه أحمدُ، فقال: إذا شَقَّ الذِّئْبُ بطْنَها، وخَرَجَ قُصْبُها، فذَبَحَها، لا تُؤكَلُ. وقال: إن كان يَعْلَمُ أنَّها تموتُ مِن عَقْرِ السَّبُعِ، فلا تُؤْكَلُ وإن ذَكَّاها، وقد يَخافُ (¬1) على الشاةِ الموتَ مِن العِلَّةِ والشيءِ يُصِيبُها، [فَيُبادِرُها، فيَذْبَحُها، فيأكُلُها] (¬2)، وليس هذا مثلَ هذه، لا يَدْرِي لعَلَّها تَعِيشُ، والتي قد خَرَجَتْ أمْعاؤُها، يَعْلَمُ أنَّها لا تَعِيشُ. وهذا قولُ أبي يوسفَ. والأوَّلُ أصَحُّ، لأنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، انْتَهَى به الجُرْحُ إلى حَدٍّ عَلِمَ أنَّه لا يَعِيشُ معه، فوَصَّى، فقُبِلَتْ وَصاياهُ (¬3)، ووَجَبَتِ العِبادَةُ عليه، وفيما ذكَرْنا مِن عُمُوم الآيةِ والخبرِ، وكونِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْ في حديثِ (¬4) جاريَةِ كَعْبٍ ما يَرُدُّ هذا، وتُحْمَلُ نُصوصُ أحمدَ على ¬

(¬1) في م: «خاف». (¬2) في م: «فبادرها فذبحها يأكلها». (¬3) انظر ما تقدم في 17/ 122. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شاةٍ خَرَجَت أمْعاؤُها، وبانَتْ منها، فَتِلْك لا تَحِلُّ بالذَّكاةِ؛ لأنَّها في حُكْمِ المَيِّتِ، ولا تَبْقَى حَرَكَتُها إلَّا كحَرَكَةِ المذْبُوحِ، فأمّا ما خَرَجَتْ أمعاؤُها، [ولم تَبِنْ] (¬1) منها، فهي في حُكْمِ الحياةِ تُباحُ بالذَّبْحِ، ولهذا قال الخِرَقِيُّ، في مَن شَقَّ بَطْنَ رَجُلٍ، [فأخْرَجَ حِشْوَتَه، فقَطَعَها فأبانَها، ثم ضَرَبَ عُنُقَه آخَرُ: فالقاتِلُ هو الأوَّلُ، ولو شَقَّ بَطْنَ رَجُلٍ] (¬2)، وضَرَبَ عُنُقَه آخرُ، فالقاتِلُ هو الثانِي. وقال بعضُ أصحابِنا: إذا كانت تَعِيشُ مُعْظَمَ اليومِ، حَلَّتْ بالذَّكاةِ. وهذا التَّحْدِيدُ بَعِيدٌ، ¬

(¬1) في م: «وبانت». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُخالِفُ ظواهِرَ النُّصوصِ، ولا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه. وقولُه في حديثِ جارِيَةِ كَعْبٍ: فذَكَّتْها بحَجَرٍ. يَدُلُّ على أنَّها بادَرَتْها بالذَّكاةِ حينَ خافَتْ مَوْتَها في ساعَتِها. والصَّحِيحُ أنَّها إذا كانت تَعِيشُ زَمَنًا يكونُ الموتُ بالذَّبْحِ أسرعَ منه، حَلَّتْ بالذَّبْحِ، وأنَّها متى كانت ممّا لا يُتَيَقَّنُ مَوْتُها، كالمَرِيضَةِ، أنَّها متى تحَرَّكَتْ، وسال دَمُها، حَلَّتْ. واللهُ أعْلَمُ.

فَصلٌ: الرَّابعُ، أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالى عِنْدَ الذَّبْحِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللهِ. لَا يَقُومُ غَيرُهَا مَقَامَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الشَّرْطُ (الرابعُ، أن يذْكُرَ اسْمَ اللهِ تعالى عندَ الذَّبْحِ، وهو أن يقولَ: باسْمِ اللهِ. لا يقومُ غيرُها مَقامَها) فهذه التَّسْمِيَةُ المُعْتَبَرَةُ عندَ الذَّبْحِ، لأَنَّ إطْلاقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إليها، وقد ثَبَتَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذَبَحَ قال: «بِاسْمِ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ» (¬1). وكانَ ابنُ عمرَ يقولُه. ولا خِلافَ أنَّ قولَ (¬2): بِاسْمِ اللهِ. يُجْزِئُه. وإن قال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 9/ 343. (¬2) في الأصل: «يقول».

4635 - مسألة: (إلا الأخرس، فإنه يومئ برأسه إلى السماء)

إلا الأَخْرَسَ فَإِنَّهُ يُومِئُ إِلَى السَّمَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَكْفِ؛ لأنَّ ذلك طَلَبُ حاجَةٍ. وإن هَلَّلَ، أو سَبَّحَ، أو كَبَّرَ اللهَ، أو حَمِدَ اللهَ، احْتَمَلَ الإِجْزاءَ؛ لأنَّه ذَكَرَ اسْمَ الله تعالى على وَجْهِ التَّعْظِيمِ، واحْتَمَلَ المَنْعَ؛ لأنَّ إطْلاقَ التَّسْمِيَةِ لا يَتَناوَلُه. وإن ذَكَرَ اسْمَ اللهِ بغيرِ العَرَبِيَّةِ، أجْزَأه. [وقيل: لا يُجْزِئُه] (¬1)، وإنْ أحْسَنَ العربِيَّةَ؛ لأنَّ المقْصُودَ ذِكْرُ اسْم اللهِ، وهو يحْصُلُ بجميعِ اللُغاتِ، بخلافِ التَّكْبِيرِ والسَّلام، فإنَّ المقَصُودَ لَفْظُه. 4635 - مسألة: (إلَّا الأَخْرَسَ، فإنَّهُ يُومِئُ برَأْسِهِ إلى السَّماءِ) ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهل العلمِ، على إباحَةِ ذَبيحَةِ الأخْرَسِ، منهم اللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وهو قولُ الشَّعْبِيِّ، وقَتادَةَ، والحسَنِ بنِ صالحٍ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يُشِيرُ إلى السَّماءِ برَأسِه، لأنَّ إشارَتَه تقُومُ مَقامَ نُطْقِ النّاطِقِ، وإشارَته إلى السَّماءِ تَدُلُّ على قَصْدِه (¬2) تَسْمِيَةَ الذي في السماء. ونحوَ هذا قال الشَّعْبِيُّ. وقد دَلَّ على هذا حديثُ أبي هُرَيرَةَ، أنَّ رَجُلًا أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بجارِيَةٍ أعْجَمِيَّةٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ عليَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أفأُعْتِقُ هذه؟ فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أينَ اللهُ؟». فأشارَتْ إلى السماءِ، فقال: «مَنْ أنا؟». فأشَارت بإصْبَعِها إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإلى السَّماءِ، أي أنتَ رسولُ اللهِ. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أعْتِقْهَا، فإنَّها مُؤمِنَةٌ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، والقاضِى البِرْتِيُّ (¬3)، في «مُسْنَدَيهِما» (¬4). فحَكَمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر الإجماع 25. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أحمد بن محمد بن عيسى البِرْتي الحنفي الفقيه الحافظ أبو العباس القاضي، كان ثقة حجة، كان يذكر بالصلاح والعبادة، حدَّث بالكثير، وكتب، وصنف «المسند»، توفي سنة ثمانين ومائتين. الجواهر المضية 1/ 301 - 303. الطبقات السنية 2/ 74 - 76. (¬4) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 291. كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرقبة المؤمنة، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 207. وانظر حديث معاوية بن الحكم السلمي في 3/ 557، 23/ 299.

4636 - مسألة: (فإن ترك التسمية عمدا، لم تبح، وإن تركها ساهيا، أبيحت. وعنه، تباح في الحالين. وعنه، لا تباح فيهما)

فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، لَمْ تُبَحْ، وَإنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا، أُبِيحَتْ. وَعَنْهُ، تُبَاحُ في الْحَالينِ. وَعَنْهُ، لَا تُبَاحُ فِيهمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بإيمانِها بإشارَتِها إلى السَّماءِ، تُرِيدُ أنَّ اللهَ سبحانَه فيها، فأَوْلَى أن يُكْتَفَى بذلك عَلَمًا على التَّسْمِيَةِ. ولو أنَّه أشارَ إشارَةً تدُلُّ على التَّسْمِيَةِ، وعُلِمَ ذلك، كان ذلك (¬1) كافِيًا. فصل: وإن كان المُذَكِّي جُنُبًا، جازَتْ له التَّسْمِيَةُ؛ لأنَّه إنَّما مُنِعَ مِن (4) القُرْآنِ، لا مِن الذِّكْرِ، ولهذا تُشْرَعُ له (¬2) التَّسْمِيَةُ عندَ الاغْتِسالِ، وليستِ الجنابَةُ أعْظَمَ مِن الكُفْرِ، والكافِرُ يَذْبَحُ ويُسَمِّي. وممَّن رَخَّصَ في ذَبْحِ الجُنُبِ؛ الحسنُ، واللَّيث، والحَكَمُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ أحَدًا كَرِهَ ذلك، ولا مَنَعَ منه. وتباحُ ذَبِيحَةُ الحائِضِ؛ لأنَّها في مَعْنَى الجُنُبِ. 4636 - مسألة: (فإن تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، لم تُبَحْ، وإن تَرَكَها ساهِيًا، أُبِيحَتْ. وعنه، تباحُ فِي الحالينِ. وعنه، لَا تباحُ فيهما) المشْهُورُ مِن مذهبِ أحمدَ أنَّ التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ في إباحَةِ أكلِها مع الذِّكْرِ، وتَسْقط بالسَّهْو. ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وبه قال مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وإسحاقُ. وممَّن أباحَ ما نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه؛ عَطاءٌ، وطاوسٌ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وعبدُ الرحمنِ بنُ أبي لَيلَى، وجعفرُ بنُ محمدٍ (¬1)، ورَبِيعَةُ. وعن أحمدَ أنَّها مُسْتَحَبَّةٌ، وليست شَرْطًا في عَمْدٍ ولا سَهْوٍ. وبه قال الشافعيُّ؛ لأنَّ البَراءَ رَوَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللهِ، سَمَّى أوْ لَمْ يُسَمِّ» (¬2). وعن أبي هُرَيرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ، فقيل. أرَأيتَ الرَّجُلَ منّا يَذْبَحُ، ويَنْسَى أن يُسَمِّيَ (¬3) اللهَ؟ فقال: «اسْمُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬4). قال الإِمامُ أحمدُ: إنَّما قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ} (¬5). يعني المَيتَةَ. وذُكِرَ ذلك عن ابنِ عباسٍ. وعن أحمدَ رِوايَةٌ ¬

(¬1) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله القرشي الهاشمي، العلوي، الإمام الصادق، شيخ بني هاشم، رأى بعض الصحابة، ثقة صدوق، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 255 - 270. (¬2) قال العراقي: لا يعرف بهذا اللفظ فضلا عن صحته. وقال ابن السبكي: لم أجد له إسنادا. وقال ابن حجر: لم أره من حديث البراء. تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 2/ 1069، 1070. تلخيص الحبير 4/ 137. وأخرج أبو داود عن الصلت قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» المراسيل 197. وانظر الكلام عليه في المواضع السابقة. (¬3) في م: «يذكر اسم». (¬4) أخرجه الدارقطني، في: كتاب الصيد والذبائح. سنن الدارقطني 4/ 295. والبيهقي، في: باب من ترك التسمية وهو ممن تحل ذبيحته، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 240. وقال البيهقي: هذا الحديث منكر بهذا الإسناد. (¬5) سورة الأنعام 121.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثالثةٌ، أنَّها تَجبُ في العَمْدِ والسَّهْو؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ}. وهو عامٌّ في العَمْدِ والسَّهْو. ودَلِيلُ الرِّوايةِ الأُولىَ، ما روَى راشِدُ بنُ سعدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَبِيحَةُ المُسْلِمِ حَلَال وإنْ لَمْ يُسَمِّ، إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ». أخْرَجَه سعيدٌ (¬1). فأمّا الآيةُ فمَحْمُولَةٌ على ما إذا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، بدليلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬2). والأكْلُ ممّا نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ عليه ليس بفِسْقٍ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ» (¬3). إذا ثَبَتَ هذا، فالتَّسْمِيَةُ مع العَمْدِ شَرْطٌ، سواء كان الذَّابِحُ مُسْلِمًا أو كِتابِيًّا، فإن تَرَكَ الكِتابِيُّ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، وذَكَرَ اسْمَ غيرِ اللهِ، لم تُبَحْ ذَبِيحَتُه. رُوِيَ ذلك عن (¬4) عليٍّ. وبه قال الشافعيُّ، والنَّخَعِيُّ، وحَمَّاد، وإسحاقُ، ¬

(¬1) وأخرجه الحارث ابن أبي أسامة، انظر: باب التسمية على الذبح، من كتاب الصيد والذبائح. زوائد مسند الحارث 135. وقال البوصيري: رواه الحارث مرسلًا. انظر المطالب العالية 2/ 301. وضعفه في: الإرواء 8/ 169، 170. (¬2) سورة الأنعام 121. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 276، 2/ 381. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصْحابُ الرَّأْي. وقال عَطاءٌ، ومَكْحُولٌ: إذا ذَبَحَ الكِتابِيُّ باسْمِ المسيحِ حَلَّ؛ لَأنَّ اللهَ تعالى أحَلَّ لنا ذَبِيحَتَهُم، وقد عَلِمَ أنَّهم يقُولُون ذلك. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ}. وقولُه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1). والآيَةُ أُرِيدَ بها ما ذَبَحُوه بشَرْطِه كالمُسْلِمِ. وإن لم يُعْلَمْ أسَمَّى (¬2) الذَّابِحُ أم لا؟ أو ذَكَر اسْمَ غيرِ اللهِ أو لا؟ فَذَبِيحَتُه حَلالٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباحَ لنا أكلَ ما ذَبَحَه المسلمُ والكِتابِيُّ، وقد عَلِم أنَّنا لا نَقِفُ على كُل ذابِحٍ. وقد رُوِيَ عن عائشةَ، أنَّهم قالُوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ قَوْمًا حَدِيثَ (¬3) عَهْدٍ بشِرْكٍ، يَأْتُونَنا بلَحْم لا نَدْرِي أذَكَرُوا اسْمَ اللهِ أم لم يذْكُرُوا؟ قال: «سَمُّوا أنْتُمْ وكُلُوا». أخْرَجَه البُخَارِيُّ (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) في الأصل: «اسم». (¬3) في م: «حديثو». (¬4) في: باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات، من كتاب البيوع، وفي: باب ذبيحة الأعراب ونحوها، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 3/ 71، 7/ 120. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب التسمية عند الذبح، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1059، 1060. والدارمي، في: باب اللحم يوجد فلا يُدرَى أذكر اسم الله عليه أم لا، من كتاب الذبائح. سنن الدارمي 2/ 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والتَّسْمِيَةُ على الذَّبيحَةِ مُعْتبرَةٌ حال الذَّبْحِ، أو قَرِيبًا منه، كما تُعْتَبَرُ على (¬1) الطَّهارَةِ. وإن سَمَّى على شاةٍ، ثم أخَذَ أُخْرَى فَذَبَحَها بتلك التَّسْمِيَةِ، لم يَجُزْ، سواءٌ أرْسَلَ الأُولَى أو ذَبَحَها، لأنَّه لم يقْصِدِ الثانيةَ بهذه التَّسْمِيَةِ. فإن رأى قَطِيعًا مِن الغَنَمِ، فقال: باسْمِ اللهِ. ثمَّ أخَذَ شاةً فذَبَحَها بغيرِ تَسْمِيَةٍ، لم تَحِلَّ. فإن جَهِلَ كونَ ذلك لا يُجْزِئُ، لم يَجْرِ مَجْرَى النِّسْيانِ، لأنَّ النِّسْيانَ يُسْقِطُ المُؤاخَذَةَ، والجاهِلُ مُؤاخَذٌ، ولذلك يُفْطِرُ الجاهِلُ بالأكْلِ في الصَّوْمِ دونَ النّاسِي. وإن أضْجَعَ شاةً ليَذْبَحَها، وسَمَّى، ثم ألْقَى السِّكِّينَ، وأخَذَ أُخْرَى، أو رَدَّ سَلامًا، أو كَلَّمَ إنْسانًا، أو اسْتَسْقَى ماء [وذَبَح] (¬2)، حَلَّ، لأنَّه سَمَّى على تلك الشّاةِ ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) سقط من: م.

4637 - مسألة: (وتحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه إذا خرج ميتا، أو متحركا كحركة المذبوح، وإن كانت فيه حياة مستقرة، لم يبح إلا بذبحه، وسواء أشعر أو لم يشعر)

وَتَحْصُلُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا، أَوْ مُتَحَرِّكًا كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَإنْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، لَمْ يُبَحْ إلا بِذَبْحِهِ، وسَوَاءٌ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعَينِها، ولم يَفْصِلْ بينَهما إلَّا بِفَصْلٍ يَسِيرٍ، فأشْبَهَ ما لو لم يتَكَلَّمْ. 4637 - مسألة: (وتَحْصُلُ ذَكاةُ الجَنِينِ بذَكاةِ أُمِّهِ إذا خَرَجَ مَيِّتًا، أو مُتَحَرِّكًا كحَرَكَةِ المَذْبُوحِ، وإن كانت فيه حياة مُسْتَقِرَّةٌ، لم يُبِحْ إلَّا بذَبْحِه، وسواءٌ أشْعَرَ أو لم يُشْعِرْ) وجملةُ ذلك، أنَّ الجَنِينَ إذا خرَجَ مَيِّتًا مِن بَطْنِ أُمِّه بعدَ ذَبْحِها، أو وُجِدَ مَيِّتًا في بَطْنِها، أو كانت حَرَكَتُه بعدَ خُرُوجِه كحَرَكَةِ المذْبُوحِ، فهو حَلالٌ. رُوِيَ هذا عن عليٍّ، وعمرَ، وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِي، والشافعيُّ، وإسحاق، وابنُ المُنْذِرِ. وقال ابنُ عمرَ: ذَكاتُه ذَكاةُ أُمِّه إذا أشْعَرَ (¬1). ورُوِيَ ذلك عن طاوس، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِيِّ، والحسَنِ، وقَتادَةَ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك، في: باب ذكاة ما في بطن الذبيحة، من كتاب الذبائح. الموطأ 2/ 490. وعبد الرزاق، في: باب الجنين، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 500، 501. والبيهقي، في: باب ذكاة ما في بطن الذبيحة، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 335، 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالِكٍ، واللَّيثِ، والحسَنِ بنِ صالحٍ، وأبي ثَوْرٍ، لأنَّ عبدَ الله بِنَ كَعْبِ بنِ مالِكٍ، قال: كان أصْحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إذا أشْعَرَ الجَنِينُ فذَكاتُه ذكاةُ أُمِّه (¬1). وهذا إشارَةٌ إلى جميعِهِم، فكان إجْماعًا. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحِل إلَّا أن يخْرُجَ حَيًّا فيُذَكَّى؛ لأنَّه حيوانٌ ينْفَرِدُ بحَياتِه، فلا يتَذَكَّى بذَكاةِ غيرِه، كما بعدَ الوَضْعِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وكان الناسُ على إباحَتِه، لا نَعْلَمُ أحدًا منهم خالفَ ما قالوا، إلى أن جاءَ النُّعْمان، فقال: لا يَحِل، لأنَّ ذَكاةَ نفسٍ لا تكونُ ذَكاةً لنَفْسَين. ولَنا، ما روَى أبو سعيدٍ، قال: قيل: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أحَدَنا يَنْحَرُ النّاقَةَ، ويَذْبَحُ البَقَرَةَ والشّاةَ، فيَجِدُ في بطْنِها الجَنِينَ، أيَأكُلُه أم يُلْقِيه؟ قال: «كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ، فَإنَّ ذَكَاتَهُ فيَ ذَكَاةُ أُمِّهِ». وعن جابرٍ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ». رواهما (¬2) أبو داودَ (¬3). ولأنَّ هذا إجْماعٌ مِن ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الجنين، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 500، 501. وعلقه البيهقي، في: باب ذكاة ما في بطن الذبيحة، من كتاب الضحايا. السنن الكبرى 9/ 335. (¬2) في م: «رواه». (¬3) في: باب ما جاء في ذكاة الجنين، من كتاب الأضاحي. سنن أبي داود 2/ 93. كما أخرجهما الدارمي، في: باب في ذكاة الجنين، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 84. وأخرج الأول الترمذي، في: باب ما جاء في ذكاة الجنين، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 269. وابن ماجه، في: باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1067. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 31، 39، 45، 53. وصححه في الإرواء 8/ 172 - 175.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهُم، فلا يُعَوَّلُ على ما خالفَه، ولأنَّ الجَنِينَ مُتَّصِلٌ بها اتِّصال خِلْقَةٍ، يَتَغَذَّى بغِذائِها، فتكونُ ذَكاتُه ذَكَاتَها، كأعْضائِها، ولأنَّ الذَّكاةَ في الحيوانِ تخْتَلِفُ على حَسَبِ الإِمْكانِ فيه والقُدْرَةِ، بدَليلِ الصيدِ المُمْتَنِعِ والمَقْدُورِ عليه والمُتَرَدِّيَةِ، والجَنِينُ لا يُتَوَصَّلُ إلى ذَبْحِه بأكْثَرَ مِن ذبْحِ أُمِّه، فيكونُ ذَكاةً له. فأمّا إن خَرَجَ حَيًّا حياةً مُسْتَقِرَّةً يُمْكِنُ أن يُذَكَّى، فلم يُذَكِّه حتى ماتَ، فليس بذَكِيٍّ. قال أحمدُ: إن خَرَجَ حَيًّا فلا بُدَّ مِن ذَكاتِه، لأنَّه نَفْسٌ أُخْرَى. فصل: واسْتَحَبَّ أبو عبدِ الله أن يَذْبَحَه وإن خَرَج مَيِّتًا، ليَخْرُجَ الدَّمُ الذي في جَوْفِه، ولأنَّ ابنَ عمرَ كان يُعْجِبُه أن يُرِيقَ مِن دَمِه وإن كان مَيِّتًا.

فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ تَوْجيهُ الذَّبِيحَةِ إلَى غَيرِ الْقِبْلَةِ، وَالذَّبْحُ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، وَأنْ يُحِدَّ السِّكِّينَ وَالْحَيَوانُ يُبْصِرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ويُكْرَهُ توْجِيهُ الذَّبِيحَةِ إلى غيرِ القِبْلَةِ، وأن يَذْبَحَ بآلَةٍ كالَّةٍ، وأن يُحِدَّ السِّكِّينَ والحيوانُ يُبْصِرُه) وجملةُ ذلك، أنَّه يُسْتَحَبُّ أن يسْتَقْبِلَ بها القِبْلَةَ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عمرَ، وابنِ سِيرِينَ، وعَطاءٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وكَرِهَ ابنُ عمرَ، وابنُ سِيرِينَ، أكْلَ ما ذُبِحَ لغيرِ القِبْلَةِ. والأكْثَرُون على أنَّه لا يُكْرَهُ؛ لأنَّ أهلَ الكِتابِ يَذْبَحُون لغيرِ القِبْلَةِ، وقد أحَلَّ الله سُبحانه ذَبائِحَهُم. [ويُكْرَهُ أن يَذْبَحَ] (¬1) بآلَةٍ كالَّةٍ؛ لِما روَى أبو داودَ بإسْنادِه (¬2)، عن شَدّادِ بنِ أوْسٍ، قال: خَصْلَتان سَمِعْتُهما مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فإذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَه، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». ويُكْرَهُ أنْ يُحِدَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل. والحديت تقدم تخريجه في 3/ 33.

4638 - مسألة: (و)

وَأَنْ يَكْسِرَ عُنُقَ الْحَيَوانِ، أَوْ يَسْلُخَهُ حَتَّى يَبْرُدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّكِّينَ والحيوانُ يُبْصرُه. ورَأى عمرُ رَجُلًا قد وَضَعَ رِجْلَيه على شاةٍ، وهو يُحِدُّ السِّكِّينَ، فضَرَبَه حتى أفْلَتَ الشّاةَ. ويُكْرَهُ أن يَذْبَحَ شاةً والأُخْرَى تَنْظُرُ إليه؛ لذلك (¬1). 4638 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (أن يَكْسِرَ عُنَقَ الحيوانِ، أو يَسْلُخَه حتى يَبْرُدَ) أي حتى تَزْهَقَ نَفْسُه. وقد قال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: لا تَعْجَلُوا الأنْفُسَ حتى تَزْهَقَ (¬2). ولأنَّ في ذلك تَعْذِيبَ الحيوانِ، فأشْبَهَ قَطْعَ عُضْوٍ منه. وممَّن كَرِهَ قَطْعَ عُضْو منه قبلَ الزُّهُوقِ؛ عطاءٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، ومالِكٌ، والشافعيُّ. ولا نعلمُ لهم مُخالِفًا. ¬

(¬1) في م: «كذلك». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 301.

4639 - مسألة: (فإن فعل، أساء، وأكلت)

فَإنْ فَعَلَ، أَسَاءَ، وَأُكِلَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4639 - مسألة: (فإن فَعَلَ، أساءَ، وأُكِلَتْ) لأنَّ ذلِك حَصَلَ بَعْدَ ذَبْحِهَا وحِلِّها. وقد سُئِلَ أحمدُ عن رَجُلٍ ذَبَحَ دجاجَةً، فأبانَ رَأسَها؟ فقال: يَأكُلُها. قيل له: والذي بانَ منها أيضًا؟ قال: نعم. قال البُخَارِيُّ (¬1): قال ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ: إذا قَطَعَ الرَّأسَ فلا بَأسَ به. وهو قولُ الحسَنِ، والنَّخَعِيِّ، والشَّعْبِيِّ، والزُّهْرِيِّ، والشافعيِّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأي؛ وذلك لأنَّ قَطْعَ ذلك العُضْو بعدَ حُصُولِ الذَّكاةِ، فأشبَهَ ما لو قَطَعَه بعدَ الموْتِ. فأمّا إن قطِعَ مِن الحيوانِ شيءٌ وفيه حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فهو مَيتَةٌ؛ لِما روَى أبو وَاقِدٍ الليثيُّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ، وهِيَ حَيَّةٌ، فهُوَ مَيتَةٌ». رواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّ إباحَتَه إنَّما تحْصُلُ بالذَّبْحِ، وليس هذا بِذَبْحٍ. ¬

(¬1) في: باب النحر والذبح، من كتاب الذبائح والصيد. . . . صحيح البخاري 7/ 121. وانظر: فتح الباري 9/ 641. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 180.

4640 - مسألة: (وإذا ذبح الحيوان، ثم غرق في ماء، أو وطئ عليه شيء يقتله مثله، فهل يحل؟ على روايتين)

وَإذَا ذَبَحَ الْحَيَوانَ، ثُمَّ غَرِقَ في مَاءٍ، أَوْ وَطِئَ عَلَيهِ شَيْءٌ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ، فَهَلْ يَحِلُّ؟ على رَوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4640 - مسألة: (وإذا ذَبَح الحيَوانَ، ثُمَّ غَرِقَ في ماءٍ، أو وَطِئَ عليه شَيءٌ يَقْتُلُه مِثلُه، فهل يَحِلُّ؟ على رِوايَتَينِ) إحداهما، لا يَحِلُّ. وهو الذي ذكَرَه الخِرَقِيُّ. ونَصَّ عليه أحمدُ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ عَدِيِّ بِن حاتِمٍ، في الصَّيدِ: «وإنْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ» (¬1). وقال ابنُ مسعودٍ: مَن رَمَى طائِرًا فوقَعَ. في ماءٍ، فغرِقَ فيه، فلا تأْكُلْه (¬2). ولأنَّ الغَرَقَ سَبَبٌ يقْتُلُ، فإذا اجْتَمَعَ مع الذَّبْحِ، فقد ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 85. وهذا اللفظ أخرجه البخاري، في: باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 113. ومسلم، في: باب الصيد بالكلاب المعلمة، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1531. وأبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98. والترمذي، في: باب ما جاء في من يرمى الصيد فيجده ميتا في الماء، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 257. والنسائي، في: باب في الذي يرمى الصيد فيقع في الماء، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 169، 170. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 379. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: باب إذا رمى صيدا فوقع في الماء، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 372. والبيهقي، في: باب الصيد يرمى. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 248.

4641 - مسألة: (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه، كذي الظفر، لم يحرم علينا)

وَإِذَا ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ مَا يَحْرُمُ عَلَيهِ، كَذِي الظُّفْرِ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَينَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ اجْتَمَعَ ما يُبِيحُ ويُحَرِّمُ، فيُغَلَّبُ الحَظْرُ، ولأنَّه لا يُؤمَنُ أن يُعِينَ على خُروجِ الرُّوحِ، فيكونَ قد خَرَجَتْ بفِعْلَين مُبِيحٍ ومُحَرِّمٍ، فأشْبَهَ ما لو وُجِدَ الأمْرانِ في حالٍ واحدةٍ، أو رَماه مُسْلِمٌ ومَجُوسِيٌّ فماتَ. والثانيةُ، لا يَحْرُمُ. وبه قال أكثرُ أصْحابنا المُتأخِّرِين. وهو قولُ أكثَرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّها إذا ذُبِحَتْ فقد صارَتْ في حُكْمِ الميِّتِ، وكذلك لو أُبِين رأسُها بعدَ (¬1) الذَّبْحِ، لم تَحْرُمْ. نصَّ عليه أحمدُ. ولأنَّه لو ذُبِح إنْسانٌ ثم ضَرَبَه آخَرُ أو غرَّقَه، لم يلْزَمْه قِصاصٌ ولا دِيَةٌ. 4641 - مسألة: (وإذا ذَبَح الكِتابِيُّ ما يَحْرُمُ عليه، كذِي الظُّفْرِ، لم يَحْرُمْ علينا) وذو الظُّفْرِ، قال قَتادَةُ: هي الإِبلُ والنعامُ (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: «قبل». (¬2) في م: «الأنعام».

وَإِنْ ذَبَحَ حَيَوانًا غَيرَهُ، لَمْ تَحْرُمْ عَلَينَا الشُّحُومُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَيهِمْ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ والبَطُّ، وما ليس بمَشْقُوقِ الأصابِعِ (¬1) (وإذا ذَبَح حيوانًا غيرَه، لم ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير في: تفسيره 8/ 73.

وَهُوَ شَحْمُ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَينِ، في ظَاهرِ كَلَامِ أحْمَدَ، رَحِمَهُ اللهُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَحَكَاهُ عنِ الْخِرَقِيِّ في كَلَام مُفْرَدٍ. وَاخْتَارَ أَبوْ الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالْقَاضِي تَحْرِيمَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَحْرُمْ علينا الشُّحُومُ المُحَرَّمَةُ عليهم؛ وهو شَحْمُ الثَّرْبِ (¬1) والكُلْيَتَينِ، في ظاهِر كلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ. واخْتارَه ابنُ حامِدٍ) فإنَّ أحمدَ حَكَى عن مالِكٍ، في اليَهُودِيِّ يَذْبَحُ الشّاةَ، قال: لا تأكُلْ مِن شَحْمِها. قال أحمدُ: هذا مذهبٌ دَقِيقٌ. وظاهِرُ هذا أنَّه لم يَرَهُ صَحِيحًا. وهذا اخْتِيارُ ابنِ حامِدٍ، وأبي الخَطّابِ. وذهَبَ أبو الحسَنِ التَّمِيمِيُّ، والقاضِي، إلى تَحْرِيمِها. وحَكاه التَّمِيمِيُّ عن الضَّحّاكِ، ومُجاهِدٍ. وهوْ قولُ مالِكٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}. ¬

(¬1) الثرب: الشحم الرقيق الذي على الكرش والأمعاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس هذا مِن طَعامِهِم. ولأنَّه جُزْءٌ مِن البَهِيمَةِ لم يُبَحْ لذابِحِها، فلم يُبَحْ لغيرِه، كالدَّمِ. ولَنا، ما روَى عبدُ اللهِ بنُ مُغَفَّلٍ، قال: دُلِّيَ جِرابٌ مِنِ شَحْمٍ يومَ خَيبَرَ، فنَزَوْتُ لآخُذَه، فإذا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَبسَّمُ إليَّ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). ولأنَّها ذَكاةٌ أباحَتِ اللَّحْمَ، [والجِلْدَ] (¬2)، فأباحَتِ الشَّحْمَ، كذَكاةِ المسلمِ. والآيَةُ حُجَّةٌ لنا، فإنَّ مَعْنَى طعامِهم ذبائِحُهُم، كذلك فَسَّرَه العُلَماءُ، وقياسُهم يَنْتَقِضُ بما ذَبَحَه الغاصِبُ. وإن ذَبَح شيئًا يَزْعُمُ أنَّه يَحْرُمُ عليه، ولم يثبُتْ أنَّه مُحَرَّمٌ عليه، حَلَّ؛ لعُمومِ الآيَةِ. وقولُه: إنَّه حَرامٌ. غيرُ مقبولٍ (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 156. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «معقول».

4642 - مسألة: (وإن ذبح لعيده، أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه، لم يحرم. نص عليه)

وَإنْ ذَبَحَ لِعِيدِهِ، أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى شَيءٍ مِمَّا يُعَظِّمُونَهُ، لَمْ يَحْرُمْ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4642 - مسألة: (وإن ذَبَحَ لعِيدِه، أو ليَتَقَرَّبَ به إلى شيءٍ مِمّا يُعَظِّمُونَهُ، لم يَحْرُمْ. نَصَّ عليه) لأنَّه مِن طَعامِهم، لْيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الآيَةِ. وجملةُ ذلك، أنَّ ما ذَبَحُوه لكَنائِسِهم [وأعْيادِهم] (¬1) يُنْظَرُ فيه؛ فإن ذَبَحَه مُسْلِمٌ، فهو مُباحٌ. نَصَّ عليه. وقال أحمدُ، وسُفْيان، في المَجُوسِيِّ يَذْبَحُ لآلهَتِه، ويدْفَعُ الشاةَ إلى المسلمِ فيَذْبَحُها فيُسَمِّي: يجوزُ الأكْلُ منها. وقال إسماعيلُ بنُ سعيدٍ: سألْتُ أحمدَ عمّا يُقَرَّبُ لآلهَتِهِم، يَذْبَحُه رجُلٌ مسلمٌ، قال: لا بَأسَ به. وإن ذَبَحَها الكِتابِيُّ، وسَمَّى الله وحدَه، حَلَّتْ أيضًا؛ لأنَّ شَرْطَ الحِلِّ وُجِدَ. وإن عُلِمَ أنَّه ذَكَرَ [اسْمَ غيرِ] (¬2) الله عليها، أو تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، لم تَحِلَّ. قال حَنْبَلٌ: سمِعْت أبا عبدِ اللهِ قال: لا تُؤْكَلُ. يعني ما ذُبِحَ لأعْيادِهم وكنائِسِهم؛ لأنَّه أُهِلَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «غير اسم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيرِ اللهِ به. وقال في موضِع: يَدَعُونَ التَّسْمِيَةَ [على عَمْدٍ بما] (¬1) يَذْبَحُونَ للمَسِيحِ. فأمّا ما سِوَى ذلك، فرُويَتْ عن أحمدَ الكراهَةُ فيما ذُبِحَ لكنَائِسِهم وأعيادِهم، [قال: لا يُؤْكَلُ. يَعْنِي: ما ذُبِح لأعْيادِهم] (¬2) مُطلَقًا. وهو قولُ مَيمُونِ بنِ مِهْرانَ؛ لأنَّه ذُبِحَ لغيرِ اللهِ. ورُوِيَ عن أحمدَ إباحَتُه. وسُئِلَ عنه العِرْباضُ بنُ سارِيَةَ، فقال: كُلُوا، وأطعِمُونِي. ورُوِيَ مثلُ ذلك عن أبي أُمامَةَ الباهِلِيِّ، وأبي مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيِّ (¬3). وأكلَه أبو الدَّرْدَاءِ، وجُبَيرُ بنُ نُفَيرٍ (¬4). ورَخَّصَ فيه عمرُو (¬5) بنُ الأسْودِ، ومكحولٌ، وضَمْرَةُ بنُ حَبِيبٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬6). وهذا مِن طعامِهِم. قال ¬

(¬1) في م: «عمدًا إنما». (¬2) سقط من: م. (¬3) عبد الله بن ثُوَب الداراني أبو مسلم الخولاني، سيد التابعين وزاهد العصر، قدم من اليمين، وأسلم في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل المدينة في خلافة الصديق، توفي بأرض الروم. سير أعلام النبلاء 4/ 7 - 14. (¬4) جبير بن نفير بن مالك بن عامر أبو عبد الرحمن الحضرمي الحمصي، الإمام الكبير، أدرك حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحدث عن أبي بكر، كان من علماء الشام، اختلف في وفاته فقيل: في سنة خمس وسبعين، وقيل: في سنة ثمانين. سير أعلام النبلاء 4/ 76 - 78. وما روى عنه وعن أبي الدرداء أخرجه سعيد بن منصور، كما ذكره الإمام الذهبي في الموضع السابق. (¬5) في م: «عمر». (¬6) سورة المائدة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: ما ذَبَحَه الكِتابِيُّ لعِيدِه أو نَجْم أو صَنَمٍ أو نَبِيٍّ، فسَمّاه على ذَبِيحَتِه، حَرُمَ؛ لقول اللهِ تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1). وإن سَمَّى اللهَ وحْدَه، حَلَّ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ} (¬2). لكنَّه يُكْرَهُ؛ لقَصدِه بقلبِه (¬3) الذَّبْحَ لغيرِ اللهِ تعالى. فصل: قال أحمدُ: لا تُؤكَلُ المَصْبُورَةُ، ولا المُجَثَّمَةُ. وبه قال إسْحاقُ. [والمُجَثَّمَةُ] (¬4) هي الطائِرُ والأرْنبُ يُجْعَلُ غَرَضًا يُرْمَى حتى يُقْتَلَ. والمَصبُورَةُ مثلُه، إلَّا أنَّ المُجَثَّمَةَ لا تكونُ إلَّا في الطائِرِ أو الأرْنَبِ وأشْباهِها، والمَصْبُورةُ كُلُّ حَيوانٍ. وأصْلُ الصَّبْرِ الحَبْسُ. والأصْلُ في تَحْرِيمِه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صَبْرِ البهائِمِ (¬5)، ومَال: «لَا تَتَّخِذُوا ¬

(¬1) سورة المائدة 3، وسورة النحل 115. (¬2) سورة الأنعام 118. (¬3) في الأصل: «بقتله». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 10/ 58.

4643 - مسألة: (ومن ذبح حيوانا، فوجد في بطنه جرادا، أو

وَمَنْ ذَبَحَ حَيَوَانًا، فَوَجَدَ في بَطْنِهِ جَرَادًا، أَوْ طَائِرًا، فَوَجَدَ في ـــــــــــــــــــــــــــــ شَيئًا فِيهِ (¬1) الرُّوحُ غَرَضًا» (¬2). وروَى سعيدٌ بإسْنادِه [عن أبي الدَّرداءِ قال: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن كُلِّ مُجَثَّمَةٍ (¬3). وبإسْنادِه] (¬4) قال: نهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المُجَثَّمَةِ، وعن أكْلِها، [ونَهَى عن المَصبُورةِ وعن أكْلِها] (¬5). ولأنَّه حيوانٌ مَقْدورٌ عليه، فلم يُبَحْ بغيرِ الذَّكاةِ، كالبَعِيرِ والبَقَرَةِ. 4643 - مسألة: (ومَن ذَبَحَ حيوانًا، فوَجَدَ في بَطنِه جَرادًا، أو ¬

(¬1) في الأصل: «مما فيه». (¬2) أخرجه مسلم، في: باب النهي عن صيد البهائم، من كتاب الصيد. صحيح مسلم 3/ 1549. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية المصبورة، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 267. والنسائي، في: باب النهي عن المجثمة، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 210، 211. وابن ماجه، في: باب النهي عن صيد البهائم وعن المثلة، من كتاب الذبائح. سنن ابن ماجه 2/ 1063. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 216، 273، 274، 280. (¬3) وأخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة، من أبواب الصيد، وفي: باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 6/ 265، 8/ 19. والنسائي، في: باب النهي عن المجثمة، وباب النهي عن الجلالة، من كتاب الضحايا. المجتبى 7/ 209، 212. والدارمي، في: باب النهي عن المثلة، وباب في الجلالة وما جاء فيه من النهي، من كتاب الأضاحي. سنن الدارمي 2/ 83، 89. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 226، 241، 293، 321، 339، 2/ 366، 3/ 323، 4/ 127، 194، 6/ 445. (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: م. والحديث أخرجه عبد الرزاق بنحوه عن مجاهد مرسلًا، في: باب المثل بالحيوان، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 454.

حَوْصَلَتِهِ حَبًّا، أَوْ وَجَدَ الْحَبَّ في بَعْرِ الْجَمَلِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَعَنْهُ، يَحْرُمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طائرًا، فوَجَدَ فِي حَوْصَلَتِه حَبًّا، أو وَجَد الحَبَّ في بَعْرِ الجَمَلِ، لم يَحْرُمْ. وعنه، يَحْرُمُ) قال أحمدُ في السمكَةِ تُوجَدُ في بطنِ سَمَكَةٍ أُخْرَى، أو حَوْصَلَةِ طائِرٍ، أو يُوجَدُ في حَوْصَلَتِه جَرادٌ، فقال في مَوْضِع: كُلُّ شيءٍ أكِلَ مَرَّةً لا يُؤْكَلُ؛ لأنَّه مُسْتَخْبَثٌ. وقال في مَوْضِعٍ: الطّافِي أشَدُّ مِن هذا، وقد رَخَّصَ فيه أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللهُ عنه (¬1). قال شيخُنا (¬2): وهذا هو الصَّحِيحُ. وهو مذهب الشافعيِّ فيما في بَطْنِ السَّمَكَةِ، دونَ ما في حَوْصَلَةِ الطائِرِ؛ لأنَّه كالرَّجِيعِ، ورَجِيعُ الطائِرِ عندَه نَجِسٌ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيتَتَانِ ودَمَانِ» (¬3). ولأنَّه حيوانٌ طاهِر في مَحَلٍّ طاهِرٍ، لا تُعْتَبَرُ له ذَكاةٌ، فأُبِيحَ، كالطّافِي مِن السَّمَكِ. وهكذا يُخَرَّجُ في الشَّعِيرِ يُوجَدُ في بَعْرِ الجملِ، أو خِثْي الْجَوامِيسِ (¬4)، ونحوها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 282. (¬2) في: المغني 13/ 347. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 285. (¬4) خثى الجواميس: ما ترميه من بطونها.

كتاب الصيد

كِتَابُ الصَّيدِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الصَّيدِ (¬1) الأصْلُ في إباحَةِ الصَّيدِ، الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ اللهِ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيكُمْ صَيدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2). وقال سبحانه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬3). وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ} (¬4). وأمّا السُّنَّةُ، فروَى أبو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ، قال: أَتَيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ إنّا بِأرْضِ صَيدٍ، أصِيدُ بقَوْسِي، وأصِيدُ بكَلْبِي المُعَلَّمِ، ¬

(¬1) من هنا يبدأ الجزء العاشر من نسخة مكتبة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والمشار إليها بـ (ق). (¬2) سورة المائدة 96. (¬3) سورة المائدة 2. (¬4) سورة المائدة 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصِيدُ بكَلْبِي الذي ليس بمُعَلَّمٍ، فأخْبِرْنِي ماذا يَصْلُحُ لي؟ قال: «أمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيدٍ، فَمَا صِدْتَ بقَوْسِكَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلْ، ومَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ، [فذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عليهِ، فَكُلْ، وما صِدْتَ بكَلْبِكَ] (¬1) الذي ليس بمُعَلَّمٍ، فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وعن عَدِيِّ بنِ حاتِم، قال: قلتُ: يارسولَ اللهِ، إنّا نُرْسِلُ الكلبَ المُعَلَّمَ، فيُمْسِكُ علينا؟ قال: «كُلْ». قلتُ: وإن قَتَل؟ قال: «وإنْ قَتَلَ ما لَمْ يَشْرَكْهُ كَلْبٌ غَيرُهُ». قال: وسُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صَيدِ المِعْراضِ، قال: «مَا خزَقَ (¬3) فَكُلْ، ومَا قَتَلَ بِعَرْضهِ فَلَا تَأْكُلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4) أيضًا. وأجْمَعَ أهْلُ العلمِ على إباحَةِ الاصْطِيادِ والأكْلِ مِن الصَّيدِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 157. ويضاف إليه: والنسائي، في: باب الأمر بالتسمية عند الصيد، وباب صيد الكلب الذي ليس بمعلم، وباب الكلب يأكل من الصيد، من كلاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 159. (¬3) في م: «خرق». (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 85.

4644 - مسألة: (ومن صاد صيدا، فأدركه حيا حياة مستقرة، لم يحل إلا بالذكاة)

وَمَنْ صَادَ صَيدًا، فَأدْرَكَهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، لَمْ يَحِلَّ إلا بِالذَّكَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4644 - مسألة: (ومَن صاد صَيدًا، فَأدْرَكَهُ حَيًّا حياةً مُسْتَقِرَّةً، لم يَحِلَّ إلَّا بالذَّكَاةِ) أمَّا ما أدْرَكَ ذَكاتَه مِن الصَّيدِ، فلا يُشْتَرَطُ في إباحَتِه سِوَى صِحَّةِ التَّذْكِيَةِ؛ ولذلك قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «ومَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الذي ليس بمُعَلَّمٍ، فَأدْرَكْتَ ذَكاتَهُ، فَكُلْ». فأمّا إن أدْرَكَه وفيه حياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فلم يَذْبَحْه حتى مات، نَظرتَ؛ فإن كان الزَّمان لا يَتَّسِعُ لذَكاتِه فماتَ، فإنَّه يَحِلُّ أيضًا. قال قَتادَةُ: يأْكلُه ما لم يَتَوانَ في ذَكاتِه، أو يتْرُكْه عَمْدًا وهو قادِرٌ على ذَكاتِه. ونحوُه قول مالِكٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيِّ. ورُوِيَ ذلك عن الحسنِ، والنَّخَعِيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحِلُّ؛ لأنَّه أدْرَكَه وفيه حياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فتَعَلَّقَتْ إباحَتُه بتَذْكِيَتِه، كما لو اتَّسَعَ الزَّمانُ. ولَنا، أنَّه لم يَقْدِرْ على ذَكاتِه [بوَجْهٍ يُنْسَبُ فيه إلى التَّفْرِيطِ، ولم يَتَّسِعْ لها الزمانُ، فكان عَقْرُه ذكاتَه] (¬1)، كالذي قَتَلَه الصَّائِدُ. ويُفارِقُ ما قاسُوا عليه؛ لأنَّه أمْكَنَه ذَكاتُه، وفَرَّطَ بتَرْكِها. ولو أدْرَكَه وفيه حياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ يعيشُ بها زَمَنًا طويلًا، وأمْكَنَه ذَكاتُه، ولم يُذَكِّه حتى ماتَ، لم يُبَحْ، سَواءٌ كان به جُرْحٌ يعِيشُ معه أو لا. وبه قال مالِكٌ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ ما كان كذلك، فهو في حُكْمِ الحَيِّ، بدليلِ أنَّ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، ¬

(¬1) سقط من: م.

4645 - مسألة: (فإن لم يجد ما يذكيه به، أرسل الصائد له عليه حتى يقتله، في إحدى الروايتين. واختاره الخرقي)

فَإِنْ خَشِيَ مَوْتَهُ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُذَكِّيهِ بِهِ، أَرْسَلَ الصَّائِدُ لَهُ عَلَيهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كانَتْ جِراحَاتُه مُوحِيَةً، فأوْصَى (¬1)، وأُجِيزَتْ وصاياه وأقوالُه في تلك الحالِ، ولم تَسْقُطْ عنه الصلاةُ ولا العباداتُ، ولأنَّه تَرَك تَذْكِيَتَه مع القُدْرَةِ عليها، فأشبَهَ غيرَ الصَّيدِ. 4645 - مسألة: (فإن لَم يَجِدْ ما يُذَكِّيه به، أرْسَلَ الصّائِدُ له عليه حتى يَقْتُلَه، في إحدى الرِّوايَتَينِ. واخْتارَه الخِرَقِيُّ). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 122.

4646 - مسألة: (فإن لم يفعل وتركه حتى مات، لم يحل. وقال القاضي: يحل. والأخرى، لا يحل إلا أن يذكيه)

فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، لَمْ يَحِلَّ. وَقَال الْقَاضِي: يَحِلُّ. وَالرِّوَايَةُ الأُخْرَى، لَا يَحِلُّ إلا أنْ يُذَكِّيَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4646 - مسألة: (فإن لم يَفْعَلْ وتَرَكَه حتى مات، لم يَحِلَّ. وقال القاضي: يَحِلُّ. والأُخْرَى، لا يَحِلُّ إلَّا أن يُذَكِّيَه) اخْتَلَفَ قولُ أحمدَ في هذه المسألةِ، فعنه مِثْلُ قولِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ الحسنِ، وإبراهيمَ. وقال في موضِعٍ: إنِّي لأَقْشَعِرُّ مِن هذا. يعني أنَّه لا يَراه. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لأنَّه مقدُورٌ عليه، فلم يُبَحْ بقَتْلِ الجارِحِ، كالأنْعامِ، وكما لو أخَذَه سليمًا. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه صَيدٌ قَتَلَه الجارِحُ له مِن غيرِ إمْكانِ ذَكاتِه، فأُبِيحَ، كما لو أدْرَكَه مَيِّتًا، ولأنَّها حالٌ تتَعَذَّرُ فيها الذَّكاةُ في الحَلْقِ واللَّبَّةِ غالبًا، فجازَأن تكونَ ذَكاتُه على حَسَبِ الإِمْكانِ،

4647 - مسألة: (وإن رمى صيدا فأثبته، ثم رماه آخر فقتله،

وَإِنْ رَمَى صَيدًا فَأَثْبَتَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ، لَمْ يَحِلَّ، وَلِمَن أَثْبَتَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُتَرَدِّيَةِ في بئرٍ. وحُكِيَ عن القاضي، أنَّه قال في هذا: يتْرُكُه حتى يموتَ، فيحلَّ؛ لأنَّه صَيدٌ تعَذَّرَتْ تَذْكِيَتُه، فأُبِيحَ بمَوْتِه مِن غيرِ عَقِرِ الصّائِدِ له، كالذي تَعَذَّرَتْ تَذْكِيَتُه لقِلَّةِ لُبْثِه (¬1). والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه حيوانٌ لا يُباحُ بغيرِ التَّذْكِيَةِ إذا كان معه آلةُ الذَّكاةِ، فلم يُبَحْ بغيرِها إذا لم تكُنْ آلةٌ، كسائِرِ المقْدُورِ على تَذْكِيَتِه. فصل (¬2): مسألةُ الخِرَقِيِّ مَحْمُولَةٌ على ما يُخافُ موتُه إن لم يَقْتُلْه الحيوانُ أو يُذَكَّى. فإن كان به حَياةٌ يُمْكِنُ بَقاءُه إلى أن يأْتِيَ به منزلَه، فليس فيه اخْتِلافٌ؛ لأنَّه لا يُباحُ إلَّا بالذَّكاةِ. 4647 - مسألة: (وإن رَمَى صَيدًا فَأثْبَتَه، ثُمَّ رَمَاه آخَرُ فَقَتَله، ¬

(¬1) في الأصل: «لبته». (¬2) سقط من: الأصل، وفي م: «و».

قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا عَلَى قَاتِلِه، إلا أنْ يُصِيبَ الْأوَّلُ مَقْتَلَهُ دُونَ الثَّانِي، أوْ يُصِيبَ الثَّانِي مَذْبَحَهُ، فَيَحِلُّ، وَعَلَى الثَّانِي مَا خَرَقَ مِنْ جِلْدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَحِلَّ، ولِمَن أثْبَتَه قِيمَتُه مَجْرُوحًا على قَاتِلِه، إلَّا أن يُصِيبَ الأوَّلُ مَقْتَلَه دونَ الثانِي، أو يَصِيبَ الثّانِي مَذْبَحَه، فيَحِلُّ، وعلى الثّانِي ما خرَقَ مِن جِلْدِه) إذا رَمَى صَيدًا فأثْبَتَه، ثم رَماه آخَرُ فأصابَه، لم تَخْلُ رَمْيَةُ الأوَّلِ مِن قِسْمَين؛ أحَدُهما، أن تكون مُوحِيَةً (¬1)، مِثْلَ أن يَنْحَرَه، أو يَذْبَحَه، أو تَقَعَ في خاصِرَتِه أو قَلْبِه، فيُنْظَرُ في رَمْيَةِ الثانِي، فإن كانت غيرَ مُوحِيَةٍ (1)، فهو حَلالٌ، ولا ضَمانَ على الثاني، إلَّا أن يَنْقُصَه برَمْيِه شيئًا، فيضْمَنُ ما نَقَصَه، وبالرَّمْيَةِ الأُولَى صار مَذْبُوحًا. وإن كانت رَمْيَةُ الثانِي (¬2) مُوحِيَةً (1)، فقال القاضِي وأصحابُه: يَحِلُّ، كالتي قبلَها. وهو مذهبُ الشافعيِّ. ويَجِئُ على قولِ الخِرَقِيِّ أن يكونَ حَرامًا، كما لو ذُبِحَ حيوانٌ، فغَرِقَ في ماءٍ، أو وَطِئَ عليه شيءٌ (¬3) فقَتَلَه، وقد ذكَرْناه. ¬

(¬1) في م: «موجئة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «بشيء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القسمُ الثاني، أن يكونَ جُرْحُ الأوَّلِ غيرَ مُوحٍ (¬1)، فيُنْظَرُ في رَمْيَةِ الثاني؛ فإن كَانت مُوحِيَةً (¬2)، فهو مُحَرَّمٌ؛ لِما ذكَرْنا، إلَّا أن تكونَ رَمْيَةُ الثانِي ذَبَحَتْه أو نحَرَتْه. فصل: فإن لم تكُنْ جِراحَةُ الثاني مُوحِيَةً، فله ثلاثُ صُوَرٍ؛ إحداها، أن يُذَكَّى بعدَ ذلك، فيَحِلُّ. الثانِيةُ، لم يُذَكَّ حتى ماتَ، فهو حَرامٌ؛ لأنَّه مات مِن جُرْحَينِ؛ مُبِيحٍ ومُحَرمٍ، فحَرُمَ، كما لو مات مِن جَرْحِ مسلمٍ ومَجُوسِيٍّ، وعلى الثاني ضَمانُ جَمِيعِه؛ لأنَّ جُرْحَه هو الذي حَرَّمَه، فكان جَمِيعُ الضَّمانِ عليه. الثالثةُ، قَدَر على ذَكاتِه فلم يُذَكِّه حتى مات، فمحْرُمُ لِمَعْنَيَين؛ أحدُهما، أنَّه تَرَك ذَكاتَه مع إمْكانِه. الثاني، أنَّه مات مِن جُرْحَين؛ مُبِيحٍ ومُحَرِّمٍ، ويلزمُ الثانيَ الضَّمانُ، وفي قَدْرِه ¬

(¬1) في م: «موجئ». (¬2) في م: «موجئة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احْتِمالان؛ أحدُهما، يضْمَنُ جميعَه، كالتي قبلَها. الاحتمالُ الثانِي، [أنَّ الثانيَ] (¬1) يضْمَنُ بقِسْطِ (¬2) جُرْحِه؛ لأنَّ الأوَّلَ إذا تَرَك الذَّبْحَ مع إمْكانِه، صار (¬3) جُرْحُه حاظِرًا أيضًا، بدليلِ ما لو انْفَرَدَ وقَتَل الصَّيدَ، فيكونُ الضَّمانُ مُنْقَسِمًا عليهما. وذكَر القاضِي في قَسْمِه عليهما، أنَّه (¬4) يَسْقُطُ أرْشُ جُرْحِ الأوَّلِ، وعلى الثاني أرْشُ جِراحَتِه، ثُمَّ يُقْسَمُ ما بَقِيَ مِن القِيمَةِ بينَهما نِصْفَين. وفَرَضَ المسألةَ في صَيدٍ قِيمَتُه عشَرةُ دراهِمَ، نقَصَه جُرْحُ الأوَّلِ درهمًا، ونقَصَه جُرْحُ الثاني درهمًا، فعليه درهمٌ، ويُقْسَمُ الباقي وهو ثمانيةٌ بينَهما نِصْفَين، فيكونُ على الثانِي خَمْسَةُ دراهمَ؛ درهمٌ بالمُباشَرَةِ، وأربعةٌ بالسِّرَايَةِ، وتَسْقُطُ حِصَّةُ الأوَّلِ وهي خَمْسَةٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «سقط». (¬3) في م: «كان». (¬4) في م: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان أرْشُ جُرْحِ الثاني درهمَين، لَزِماهُ، ويَلْزَمُه نِصْفُ السبعةِ الباقِيَةِ، ثلاثةٌ ونِصْفٌ، وذلك خَمْسَةٌ ونِصْفٌ، وتسْقُطُ حِصَّةُ الأوَّلِ أربعةٌ ونِصْفٌ. فإن كانت جِنايَتُهُما [على حيوانٍ] (¬1) مَمْلُوكٍ (¬2) لغيرِهما، قُسِمَ الضَّمانُ عليهما كذلك. قال شيخُنا (¬3): ويتَوَجَّهُ على هذه الطريقَةِ، أنَّه سَوَّى بينَ الجِنايَتَين، مع أنَّ الثانيَ جَنَى عليه وقيمَتُه دونَ قِيمَتِه يومَ جَنَى عليه الأوَّلُ، فإنَّه (¬4) لم يَدْخُلْ أرْشُ الجِنايَةِ في بَدَلِ النَّفْسِ، كما يدْخُلُ في الجِنايَةِ على الآدَمِي. قال شيخُنا (¬5): والجوابُ عن هذا، أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما انْفَرَدَ بإتْلافِ ما قِيمَتُه درهمٌ، وتَساوَيا في إتْلافِ الباقي بالسِّرَايَةِ، وتَساوَيا في الضَّمانِ، وإنَّما يدْخُلُ أرْشُ الجنايَةِ في (¬6) بَدَلِ النَّفْسِ التي لا يَنْقُصُ بَدَلُها بإتْلافِ بعْضِها، وهو (¬7) الآدَمِيُّ، أمّا البَهائِمُ، فإذا جَنَى عليها جنايَةً أَرْشُها درهَمٌ، نَقَصَ ذلك بِن قِيمَتِها، فإذا سَرَى إلى النَّفْسِ، أوْجَبْنا ما بَقِيَ مِن قِيمَةِ النَّفْسِ، ولم يَدْخُلِ الأَرْشُ فيها. وذكرَ أصحاب الشافعيِّ في قِسْمَةِ الضَّمانِ طُرُقًا سِتَّةً؛ أصَحُّها ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «مملوكة». (¬3) في: المغني 13/ 285. (¬4) في م: «وإن». (¬5) في: الموضع السابق. (¬6) في الأصل: «و». (¬7) في الأصل: «هي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عنْدَهم أن يُقال: إنَّ الأوَّلَ أتْلَفَ نِصْفَ قِيمَتُها [عشَرةٌ، فيَلْزَمُه خمسةٌ، والثاني أتْلَفَ نصفَ قيمَتُها] (¬1) تسعةٌ، فيَلْزَمُه أربعةٌ ونصفٌ، فيكونُ الجْمُوعُ تِسْعةً ونِصْفًا، وهي أقلُّ مِن قِيمَتِه، لأنَّها عشَرةٌ، فتُقْسَمُ العشَرةُ على تِسْعَةٍ ونِصْفٍ، فيسْقُطُ عن الأوَّلِ ما يُقابِلُ أرْبَعَةً ونِصْفًا. ويتَوَجَّهُ على هذا، أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يلزَمُه أكْثَرُ مِن قِيمَةِ نِصْفِ الصَّيدِ حينَ جَنَى عليه. وإن كانتِ الجِراحَاتُ مِن ثلاثةٍ، فإن كان الأوَّلُ هو (¬2) أثْبَتَه، فعلى طَرِيقَةِ القاضِي، على كُلِّ واحدٍ أرْشُ جَرْحِه، وتُقْسَمُ السِّرَايَةُ عليهم أثلاثًا، وإن كان المُثْبِتُ له الثانِيَ، فجِراحَةُ الأوَّلِ هَدْرٌ لا عِبْرَةَ بها، والحكمُ في جَرْحَيِ الآخَرَين كما ذكَرْنا. وعلى الطرِيقَةِ الأُخْرَى، الأوَّلُ أتْلَفَ ثُلُثَ قيمتُها عشرةٌ، فيَلْزَمُه ثلاثَةٌ وثُلُثٌ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني أتْلَفَ ثُلُثَها وقيمَتُها تسعةٌ، فيَلْزَمُه ثلاثَةٌ، والثالثُ أتْلَفَ ثُلُثَها وقِيمَتُها ثمانيةٌ، فيَلْزَمُه دِرْهَمان وثُلُثان، فمجموعُ ذلك تِسْعَةٌ، تُقْسَمُ عليها العشَرةُ، حِصَّةُ كلِّ واحدٍ منهم ما يُقابِلُ ما أتْلَفَه. وإن أتْلَفُوا شاةً مَمْلُوكَةً لغيرِهم (¬1) ضَمِنُوها كذلك. فصل: فإن رَمَياهُ معًا فَقَتَلاه، كان حلالًا، ومَلَكاهُ؛ لأنَّهما اشْتَرَكا في سَبَبِ المِلْكِ والحِلِّ، تَساوَى الجُرْحان أو تَفاوَتا؛ لأنَّ موتَه كان بهما (¬2)، فإن كان أحدُهما مُوحِيًا (¬3)، والآخَرُ غيرَ مُوحٍ (¬4)، ولا يُثْبِتُه مِثْلُه، فهو لِصاحبِ الجُرْحِ المُوحِي؛ لأنَّه الذي أثْبَتَه وقَتَلَه، ولا شَيءَ على الآخرِ؛ لأنَّ جُرْحَه كان قبلَ ثُبُوتِ مِلْكِ الآخَرِ فيه. وإن أصابَه أحَدُهما بعدَ صاحِبِه، فوَجَدْناه مَيِّتًا، و (¬5) لم يُعْلَمْ هل صارَ بالأوَّلِ مُمْتَنِعًا (¬6) أو لَا؟ حَلَّ؛ لأنَّ الأصلَ الامْتِناعُ، ويكونُ بينَهما؛ لأنَّ ¬

(¬1) في م: «لغيره». (¬2) في الأصل: «بينهما». (¬3) في م: «موجئا». (¬4) في م: «موجئ». (¬5) سقط من: م. (¬6) أي: هل صار قادرا على الفرار أو لا؟

4648 - مسألة: (وإن أدرك الصيد متحركا كحركة المذبوح،

وَإِنْ أَدرَكَ الصَّيدَ مُتَحَرِّكًا كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ، وَمَتَى ـــــــــــــــــــــــــــــ أيدِيَهما عليه. فإنْ قال كُلُّ واحدٍ منهما: أنا أثْبَتُّه، ثم قَتَلْتَه أنتَ. حَرُمَ؛ لأنَّهما اتَّفَقا على تَحْرِيمِه، ويتَحالفان لأجلِ الضَّمانِ. وإنِ اتَّفَقا على الأوَّلِ منهما، فادَّعَى الأوَّلُ أنَّه أثْبَتَه، ثم قَتَلَه الآخرُ، وأنْكَرَ الثاني إثْباتَ الأوَّلِ له، فالقولُ قولُ الثاني؛ لأنَّ الأصْلَ عدمُ (¬1) امْتِناعِه، ويَحْرُمُ على الأوَّلِ؛ لإِقْرارِه بتَحْرِيمِه، والقولُ قولُ الثاني في عدمِ الامْتِناعِ مع يَمِينِه. وإن عُلِمَتْ جِراحَةُ كُلِّ واحدٍ منهما، نُظِرَ فيها، فإن عُلِمَ أنَّ جِراحَةَ الأوَّلِ لا يَبْقَى معها امْتِناعٌ، مِثْلَ أن كسَرَ جَناحَ الطَّيرِ، أو ساقَ الظَّبْي، فالقولُ قولُ الأوَّلِ بغيرِ يَمِينٍ، وإن عُلِمَ أنَّه لا يُزِيلُ الامْتِناعَ، مِثْلَ خَدْشِ الجِلْدِ، فالقولُ قولُ الثاني، وإنِ احْتَمَلَ الأمْرَينِ، فالقولُ قولُ الثاني؛ لأنَّ الأصلَ معه، وعليه اليَمِينُ؛ لأنَّ ما ادَّعاه الأوَّلُ مُحْتَمِلٌ. 4648 - مسألة: (وإن أدْرَكَ الصَّيدَ مُتَحَرِّكًا كحَرَكَةِ المَذْبُوحِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

أَدْرَكَهُ مَيِّتًا، حَلَّ بِشُرُوطٍ أرْبَعَةٍ؛ أحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلَ الذَّكَاةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فحُكْمُه، حُكْمُ المَيِّتِ) لَا يَحْتَاجُ إلى ذَكاةٍ؛ لأنَّ عَقْرَه كذَكاتِه (ومتى أدْرَكَه مَيِّتًا حَلَّ بشُرُوطٍ أربعةٍ؛ أحدُها، أن يكونَ الصائِدُ مِن أهلِ الذَّكاةِ) وهو أن يكونَ مُسْلِمًا عاقِلًا، أو كِتابِيًّا، فإن كان وَثَنِيًّا، أو مَجُوسِيًّا، أو مُرْتَدًّا، أو مِن غير المسلمين وأهلِ الكتابِ، أو مَجْنُونًا، لم يُبَحْ صَيدُه؛ لأنَّ الاصْطِيادَ أُقِيمَ مُقامَ الذَّكاةِ، والجارِحُ مُقامَ الآلَةِ كالسِّكِّينِ، وعَقْرُه للحيوانِ بمَنْزِلَةِ إفْراءِ الأوْداجِ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإنَّ أخْذَ الكَلْبِ لَهُ ذَكَاةٌ» (¬1). والصّائِدُ بمنزلَةِ المُذَكِّي، فتُشْتَرَطُ الأهْلِيَّةُ فيه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ. . . .} من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 110. ومسلم، في: باب الصيد بالكلاب المعلمة، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1530. والنسائي، في: باب النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 158، 159. والدارمي، في: باب التسمية عند إرسال الكلاب وصيد الكلاب، من كتاب الصيد. سنن الدارمي 2/ 89. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 256.

4649 - مسألة: (فإن رمى مسلم ومجوسي صيدا، أو أرسلا عليه جارحا، أو شارك كلب المجوسي كلب المسلم في قتله، لم يحل، وإن أصاب سهم أحدهما المقتل دون الآخر، حل. ويحتمل أن لا يحل)

فَإنْ رَمَى مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ صَيدًا، أوْ أَرْسَلا عَلَيهِ جَارِحًا، أوْ شَارَكَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ كَلْبَ الْمُسْلِمِ في قَتْلِهِ، لَمْ يَحِلَّ، وَإنْ أصَابَ سَهْمُ أحَدِهِمَا الْمَقْتَلَ دُونَ الْآخرِ، فَالْحُكْمُ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمّا ما لا يَفْتَقِرُ إلى الذَّكاةِ، كالحُوتِ والجَرادِ، فيُباحُ إذا صادَه المَجوسِيُّ ومَن لا تُباحُ ذَبِيحَتُه، وقد أجْمَعَ على ذلك أهلُ العلمِ، غيرَ أنَّ مالِكًا، واللَّيثَ، وأبا ثَوْرٍ، شَذُّوا عن الجماعَةِ، وأفرَطُوا، فقال مالِكٌ، واللَّيثُ: لا نَرَى أن يُؤْكَلَ الجرادُ إذا صادَه المَجُوسِيُّ. ورَخَّصا في السَّمَكِ، وأباحَ أبو ثَوْرٍ صَيدَ المجُوسِيِّ وذَبِيحَتَه. وقد ذكَرْنا ذلك في بابِ الذَّكاةِ (¬1). 4649 - مسألة: (فإن رَمَى مُسْلِمٌ ومَجُوسِيٌّ صَيدًا، أو أرْسَلا عليه جَارِحًا، أو شارَكَ كَلْبُ المَجُوسِي كَلْبَ المسْلِمِ في قَتْلِه، لم يَحِلَّ، وإن أصابَ سهمُ أحدِهما المَقْتَلَ دونَ الآخرِ، حَلَّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحِلَّ) متى رَمَى مسلمٌ ومَجُوسِيٌّ، أو مَن ليس مِن أهلِ الذَّكاةِ صَيدًا، أو أرسَلا عليه جارِحًا، فمات بذلك، لم يَحِل؛ لأنَّه اجْتَمَعَ في قَتْلِه مُبِيحٌ ومُحَرِّمٌ، فغَلَبَ التَّحرِيمُ، كالمُتَوَلِّدِ بينَ ما يُؤْكَلُ وبينَ ما لا يُؤْكَلُ. ¬

(¬1) في صفحة 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن شارَكَ كلبُ المجُوسِيِّ كلبَ المسلمِ في قَتْلِه؛ لِما ذكَرْنا، ولأنَّ الأصلَ الحَظْرُ، والحِلُّ مَوْقُوفٌ على شَرْطٍ، وهو تَذْكِيَةُ (¬1) مَن هو مِن أهلَ الذَّكاةِ، أو صَيدُه الذي حصَلَتِ التَّذْكِيَةُ به، ولم يتحقَّقْ ذلك. وكذلك إن رَمَياه بسَهْمَيهِما، فأصَاباه، فمات؛ لِمَا ذكَرْناه. ولا فَرْقَ بينَ أن يَقَعَ سَهْماهُما فيه دَفْعَةً واحدةً، أو يَقَعَ أحدُهما قبلَ الآخَرِ. فإن أصابَ أحدُهما مَقْتَلَه دونَ الآخَرِ، مِثْلَ أن يكونَ الأوَّلُ (¬2) قد عَقَرَه عَقْرًا (¬3) مُوحِيًا، مِثْلَ أن ذَبَحَه، أو جَعَلَه في حُكْمِ المذْبُوحِ، ثم أصابَه الثاني وهو غيرُ مُوحٍ، [فيكونُ الحُكْمُ للأوَّلِ، فإن كان الأوَّلُ المسلمَ، أُبِيحَ، وإن كان المَجُوسِيَّ، لم يُبَحْ. وإن كان الجُرْحُ الثاني مُوحِيًا أيضًا، فهو مُباحٌ في قولِ أكثرِ الأصحابِ، إن كان الأوَّلُ مسلمًا؛ لأنَّ الإِباحةَ حصلت به، فأشبهَ ما لو كان الثاني غيرَ مُوحٍ. ويتَخَرَّجُ أن لا يُباحَ على قولِ الخِرَقِيِّ] (¬4)، فإنَّه قال: إذا ذَبَح فأتَى على المَقاتِلِ، فلم تخْرُجِ الرُّوحُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أن يذكيه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «ويجئ على قول الخرقي أن لا يباح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى وقَعَتْ في الماءِ، لم تُؤْكَلْ. ولأنَّ الرُّوحَ خَرَجَتْ بالجُرْحَين، فأشْبَهَ ما لو جَرَحاه معًا. وإن كان الأوَّلُ ليس بمُوحٍ، [والثاني موحٍ] (¬1)، فالحُكمُ للثاني في الحظْرِ والإِباحَةِ. فصل: فإن أرْسَلَ مُسْلمان كلْبَيهِما على صَيدٍ، وسَمَّى أحدُهما دونَ الآخَرِ، وكان أحَدُ الكَلْبَين غيرَ مُعَلَّم، فقَتَلا صَيدًا، لم يَحِلَّ. وكذلك إن أرْسَلَ كلْبَه المُعَلَّمَ، فاسْتَرْسَلَ (¬2) معه مُعَلَّمٌ آخَرُ بنَفسِه، فقَتَلا الصَّيدَ، [لم يَحِلَّ] (1)، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم ربيعهُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الأوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ ههُنا. ولَنا، أنَّ إرْسال الكَلْبِ على الصَّيدِ شرطٌ؛ لِما نذْكُرُه، ولم يُوجَدْ في أحَدِهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فاستهل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا أَرسَلَ جماعةٌ كلابًا، وسَمَّوْا، فوجَدُوا الصَّيدَ قَتِيلًا، لا يَدْرُونَ مَن قَتَلَه، حَلَّ أكلُه. فإنِ اخْتَلَفُوا في قاتلِه، وكانتِ الكِلابُ مُتَعَلِّقَةً به، فهو بينَهم على السَّواءِ؛ لأنَّ الجميعَ مُشْتَرِكَةٌ في إمْساكِه، فأَشْبَهَ ما لو كان في أيدِى الصَّيّادِين أو عَبِيدِهم. وإن كان البعضُ مُتَعَلِّقًا به دونَ باقِيها، فهو لِمن كَلْبُه متعلِّقٌ به، وعلى مَن حَكَمْنا له به اليَمِينُ في المسأَلتَين؛ لأنَّ دَعْواه مُحْتَمِلَةٌ، فكانتِ اليمينُ عليه، كصاحبِ اليَدِ. وإن كان قتيلًا والكلابُ ناحيةً، وقَفَ الأمْرُ حتى يَصْطَلِحُوا. ويَحْتمِلُ أن يُقْرَعَ بينَهم،

4650 - مسألة: (وإن رد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم، فقتله، حل)

وإنْ رَدَّ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ الصَّيدَ عَلَى كَلْبِ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ، حَلَّ. وَإِنْ صَادَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، حَلَّ. وَعَنْهُ، لَا يَحِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَن قَرَع صاحبَه حَلَفَ، وكان له. وهذا قولُ أبي ثَوْرٍ، قياسًا على ما لو تَداعَيا دَابَّةً في يَدِ غيرِهما. وعلى الأوَّلِ، إذا خِيفَ فسادُه، قبلَ اصْطِلاحِهم عليه، باعُوه، ثم اصْطَلَحُوا على ثَمَنِه. 4650 - مسألة: (وإن رَدَّ كَلْبُ المَجُوسِيِّ الصَّيدَ على كَلْبِ المسلمِ، فقَتَلَه، حَلَّ) أكْلُه. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحِلُّ؛ لأنَّ كَلْبَ المجُوسِيِّ عاوَنَ في اصْطِيادِه، فأشْبَهَ إذا عَقَرَه. ولَنا، أنَّ جارِحَةَ المسلمِ انْفَرَدَتْ بقَتْلِه، فأُبِيحَ، كما لو رَمَى المَجُوسِيُّ سَهْمَه، فرَدَّ الصَّيدَ، فأصابَه سَهْمُ المسلمِ، فقَتَلَه، أو أمْسَكَ مَجُوسِيٌّ شاةً، فذَبَحَها مُسْلِمٌ. وبهذا يَبْطُلُ ما قاله. 4651 - مسألة: (وإن صادَ المسلمُ بكَلْبِ المَجُوسِيِّ، حَلَّ) صَيدُه (وعنه، لا يَحِلُّ) يَحِلُّ (¬1) صَيدُ المسلمِ بكَلْبِ المَجُوسِيِّ، في ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ص، م.

4652 - مسألة: (وإن صاد المجوسي بكلب المسلم، لم يحل)

وَإِنْ صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ، لَمْ يَحِلَّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّحيحِ مِن المذهبِ. وبه قال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحَكَمُ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي، وإسحاقُ. وعنه، لا يُباحُ. وكَرِهَهُ جابرٌ، والحسَنُ، ومُجاهِدٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬1). وهذا لم يُعَلِّمْه. وعن الحسَنِ، أنَّه كَرِهَ الصَّيدَ بكلب اليَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ؛ لهذه الآيةِ. ولَنا، أنَّه آلَةٌ صادَ بها المسلمُ، فحلَّ صَيدُه، كالقَوْسِ والسَّهْمِ. وقال ابنُ المُسَيَّبِ: هو بمنْزِلَةِ شَفْرَتِه (¬2). والآيةُ دَلَّت على إباحَةِ الصَّيدِ بما عَلَّمْناه، وما عَلَّمَه غيرُنا فهو في مَعْناه، فيَثْبُتُ الحُكْمُ بالقِياسِ الذي ذكَرْناه، يُحَقِّقُه أنَّ التَّعْلِيمَ إنَّما أثَّرَ في جَعْلِة آلَةً، ولا تُشْتَرَطُ الأهْلِيَّةُ في ذلك هنا (¬3)، كعَمَلِ القَوْسِ والسَّهْمِ، وإنَّما أثَّرَ فيما أُقيمَ مُقامَ الذَّكاةِ، وهو إرْسالُ الآلَةِ، مِن الكلْبِ والسَّهْمِ، وقد وُجِدَ الشَّرْطُ ههُنا. 4652 - مسألة: (وإن صادَ المجُوسِيُّ بكَلْبِ المسلمِ، لم يَحِلَّ) ¬

(¬1) سورة المائدة 4. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 361. (¬3) سقط من: الأصل.

4653 - مسألة: (وإن أرسل المسلم كلبا، فزجره المجوسي، حل صيده)

وَإِنْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبًا، فَزَجَرَهُ الْمَجُوسِيُّ، حَلَّ صَيدُهُ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ، فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ، لَمْ يَحِلَّ. فَصْلٌ: الثَّاني، الْآلَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ؛ مُحَدَّدٌ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِآلَةِ الذَّكَاةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَرْحِهِ بِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقْلِهِ، لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ صَيدُه في قولِ الجَمِيعِ. 4653 - مسألة: (وإن أرْسَلَ المسلمُ كَلْبًا، فزَجَرَه المَجُوسِيُّ، حَلَّ صَيدُه) لأنَّ الصّائِدَ هو المسلمُ (وإن أرسْلَهَ مجُوسِيٌّ، فزَجَرَه مسلمٌ، لم يَحِلَّ) لأنَّ الصّائِدَ هو المجُوسِيُّ. فصل: (الثاني، الآلَةُ، وهي نَوْعان؛ مُحَدَّدٌ، فيُشْتَرطُ له ما يُشْتَرطُ لآلَةِ الذَّكاةِ) [على ما ذكَرْنا في بابِ الذَّكاةِ] (¬1)، ولا بدَّ أن يَجْرَحَه (فإن قَتَلَه بثِقْلِه، لم يُبَحْ) لأنَّه وَقِيذٌ (¬2)، فيَدْخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وقذ».

4654 - مسألة: (وإن صاد بالمعراض، أكل ما قتل بحده دون عرضه)

يُبَحْ، وَإنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ، أَكَلَ ما قَتَلَ بِحَدِّهِ دُونَ عَرْضِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَالْمَوْقُوذَةُ} (¬1). 4654 - مسألة: (وإن صادَ بالمِعْراضِ، أكَلَ ما قَتَل بِحَدِّهِ دونَ عَرْضِه) المِعْراضُ: عودٌ مُحَدَّدٌ، ورُبَّما جُعِلَ في رَأْسِه حديدَةٌ. قال أحمدُ: المِعْراضُ يُشْبِهُ السَّهْمَ، يُحْذَفُ (¬2) به الصَّيدُ، فرُبَّما أصابَ الصَّيدَ بحَدِّه، فخَرَقَ وقَتَلَ، فيُباحُ، وربَّما أصابَ بعَرْضِه، فقَتَلَ بثِقْلِه، فيكونُ مَوْقُوذًا، فلا يُباحُ. وهذا قولُ عليٍّ، وسلمانَ (¬3)، وعَمّارٍ، وابنِ عباسٍ. وبه قال النَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الأوْزاعِيُّ، والحَكَمُ، وأهْلُ الشّامِ: يُباحُ ما قَتَلَه (¬4) بحَدِّه وعَرْضِه. وقال ابنُ عمرَ: ما رُمِيَ مِن الصَّيدِ بجُلَّاهِقَ (¬5) أو مِعْراضٍ، فهو مِن المَوقوذَةِ (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة 3. (¬2) في الأصل: «يحدون». (¬3) في م: «سليمان». (¬4) في م: «قتل». (¬5) الجُلَّاهِق: بضم الجيم: البندق المعمول من الطين، الواحدة جلاهقة، وهو فارسي. (¬6) أخرج البخاري معلقا عن ابن عمر كراهة ما أصيب بالبندقة، انظر: باب صيد المعراض، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح البخاري 7/ 111.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال الحسَنُ. ولَنا، ما رَوَى عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ، قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صَيدِ المِعْرَاضِ، فقال: «مَا خزَق فَكُلْ، ومَا قَتَلَ بعَرْضه فهُوَ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا نَصٌّ صريحٌ. ولأنَّ ما قَتَلَه (¬2) بحَدِّه بمَنْزِلَةِ ما طَعَنَه برُمْحِه، أو رَماهُ بسَهْمِه، ولأنَّه مُحَدَّد خَرَق وقَتَل بحَدِّه، وما قَتَل بعَرْضه إنَّما يقْتُلُه بثِقْلِه، فهو مَوْقُوذٌ، كالذي رَماه بحَجَرٍ أو بُنْدُقٍ. ويُحْمَلُ قولُ ابنِ عمرَ في تحْريمِ ما قَتَل بالمِعْراضِ، على ما قَتَل بعَرْضِه؛ لأنَّه (¬3) شَبَّهَه بالبُنْدُقِ. فصل: وحُكْمُ آلاتِ الصَّيدِ حُكْمُ المِعْراضِ، في أنَّها إذا قَتَلَتْ بعَرْضِها ولم تَجْرَحْ، لم يُبَحِ الصَّيدُ، كالسَّهْمِ يُصِيبُ الطائِرَ بعَرْضه فيقتُلُه، أو الرُّمْحِ والحَرْبَةِ والسَّيفِ يُضْرَبُ به صَفْحًا فيَقْتُلُ، فكُلُّ ذلك حَرامٌ. وكذا إن أصابَ بحَدِّه فلم يَجْرَحْ، وقَتَل بثِقْلِه، لم يُبَحْ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا خَزَق، فَكُلْ». ولأنَّه إذا لم يَجْرَحْه، فإنَّما يَقْتُلُ بثِقْلِه، فأَشْبَهَ ما أصابَ بعَرْضه. ¬

= وانظر ما وصله الإمام مالك، في: باب ترك أكل ما خل المعراض والحجر، من كتاب الصيد. الموطأ 2/ 491. وابن أبي شيبة، في: باب في المعراض، وباب في البندقة والحجر ورمى به. . . .، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 378. والبيهقي، في: باب الصيد يرمي بحجر أو بندقة، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 249. (¬1) انظر ما تقدم في صفحة 359. وأخرجه الترمذي دون قوله: «فلا تأكل»، في: باب ما جاء في صيد المعراض، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 259. (¬2) في م: «قتل». (¬3) في م: «ولأنه».

4655 - مسألة: (وإن نصب مناجل أو سكاكين، وسمى عند نصبها، فقتلت صيدا، أبيح)

وَإِنْ نَصَبَ مَنَاجِلَ أَوْ سَكَاكِينَ، وَسَمَّى عِنْدَ نَصْبِهَا، فَقَتَلَتْ صَيدًا، أُبِيحَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4655 - مسألة: (وإن نَصَب منَاجِلَ أو سَكاكِينَ، وسَمَّى عندَ نَصْبِها، فقَتَلَتْ صَيدًا، أُبِيحَ) فَإن بانَ منه عُضْوٌ، فحُكْمُه حُكْمُ البائنِ بضَرْبَةِ الصّائِدِ على ما نَذْكُرُه. رُوِيَ نحوُ ذلك عن ابنِ عمرَ. وهو قولُ الحسنِ، وقَتادَةَ. وقال الشافعيُّ: لا يُباحُ بحالٍ؛ لأنَّه لم يُذَكِّه أحَدٌ، وإنَّما قَتَلَتِ المناجِلُ بنَفْسِها، ولم يُوجَدْ مِن الصّائِدِ إلَّا السَّبَبُ، فجَرَى ذلك مَجْرَى مَن (¬1) نَصَب سِكِّينًا، فذَبَحَتْ شاةً، ولأنَّه لو رَمَى سَهْمًا وهو لا يَرَى صَيدًا، فقَتَلَ صَيدًا، لم يَحِلَّ، فهذا أوْلَى. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيكَ يَدُكَ» (¬2). [ولأنَّه قَتَل الصيدَ بحَدِيدةٍ على الوجْهِ المُعْتادِ، فأشْبَهَ ما لو رَماه بها] (¬3)، ولأنَّه قَصَد قَتْلَ الصَّيدِ بما له حَدٌّ ¬

(¬1) في الأصل: «من لا». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 195. كلاهما من حديث أبي ثعلبة الخشني. (¬3) سقط من: م.

4656 - مسألة: (وإذا قتل بسهم مسموم، لم يبح، إذا غلب على الظن أن السم أعان على قتله)

وَإنْ قَتَلَ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ، لَمْ يُبَحْ، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ السَّمَّ أَعانَ عَلَى قَتْلِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَرَتِ العادَةُ بالصَّيدِ به، أشْبَهَ ما ذكَرْنا، والتَّسَبُّبُ يَجْرِي مَجْرَى المُباشَرَةِ في الضَّمانِ، فكذلك في إباحَةِ الصَّيدِ، وفارَقَ ما إذا نَصَب سِكِّينًا، فإنَّ العادَةَ لم تَجْرِ بالصَّيدِ بها، وإذا رَمَى سَهْمًا، ولم يَرْمِ صَيدًا، فليس ذلك بمُعْتادٍ، والظَّاهِرُ أنَّه لا يُصِيبُ صَيدًا، فلم يَصِحَّ قَصْدُه، بخلافِ هذا. 4656 - مسألة: (وإذا قَتَل بسَهْم مسمُومٍ، لم يُبَحْ، إذا غَلب على الظَّنِّ أنَّ السَّمَّ أعانَ على قَتْلِه) إنَّما كان كذلك؛ لأنَّ ما قَتَلَه السَّمُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَرَّمٌ، وما قَتَلَه السَّهْمُ مُباحٌ، فإذا مات بسَبَبٍ مُباحٍ ومُحَرَّمٍ، حَرُمَ، كما لو مات بسَهْمَيْ مسلمٍ ومَجُوسِيٍّ. فأمّا إن عَلِمَ أنَّ السَّمَّ لم يُعِنْ على

4657 - مسألة: (وإن رماه فوقع في ماء، أو تردى من جبل، أو وطئ عليه شيء فقتله، لم يبح، إلا أن تكون الجراحة موحية كالذكاة، فهل يحل؟ على روايتين)

وَلَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ في مَاءٍ، أوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، أوْ وَطِئَ عَلَيهِ شَيْءٌ فَقَتَلَهُ، لَمْ يَحِلَّ، إلا أن يَكُونَ الْجُرْحُ مُوحِيًا كَالذَّكَاةِ، فَهَلْ يَحِلُّ؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَتْلِه، لكونِ السَّهْمِ أوْحَى منه، فهو مُباحٌ. 4657 - مسألة: (وإن رَماه فوَقَعَ في ماءٍ، أو تَرَدَّى مِن جَبَلٍ، أو وَطِئَ عليه شيءٌ فقَتَلَه، لم يُبَحْ، إلَّا أن تكونَ الجِراحَةُ مُوحِيَةً كَالذَّكاةِ، فهل يَحِلُّ؟ على رِوايَتَين) أرادَ (¬1) إذا وَقَع في ماءٍ يقتُلُه مِثلُه، أو تَرَدَّى تَرَدِّيًا يقْتُلُه مِثلُه، قلا يَحِلُّ إذا لم تكُنِ الجِراحَةُ مُوحِيَةً، فإن كانتِ الجراحَةُ مُوحِيَةً كالذَّكاةِ، ففيه رِوايتان، إحداهما، لا يَحِلُّ. وهو الذي ذكَرَه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخِرَقِيُّ. وهي المشْهُورَةُ عن أحمدَ. وهو ظاهِرُ قولِ ابنِ مسعودٍ، وعَطاءٍ، وأصحابِ الرَّأْي. والرِّوايةُ الثانيةُ، يَحِلُّ. وهو قولُ أكثرِ أصحابِنا المُتأخِّرِين، ولا يَضُرُّ وقُوعُه في الماءِ ولا تَرَدِّيه. وهو قول الشافعيِّ، ومالِكٍ، واللَّيثِ، وقَتادَةَ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّ هذا صارَ في حُكْمِ الميِّتِ بالذَّبْحِ، فلا يُؤثِّرُ فيه ما أصابَه. ووَجْهُ الأُولَى، قوْلُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «فإن وَجدْتَه غَرِيقًا في الماءِ فلا تأْكُلْ» (¬1). ولأنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ الماءَ أعانَ على خُروجِ رُوحِه، فصارَ بمنزلَةِ ما لو كانتِ الجِراحَةُ غيرَ مُوحِيَةٍ، ولا خلافَ في تحْرِيمِه إذا كانتِ الجراحَةُ غيرَ مُوحِيَةٍ. فأمّا إن وَقَع في الماءِ على وَجْهٍ لا يقتُلُه، مِثْلَ أن يكونَ رأَسُه خارِجًا مِن الماءِ، أو يكونَ مِن طيرِ الماءِ الذي لا يقْتُلُه الماءُ، أو كان التَّرَدِّي لا يَقْتُلُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، من كتاب الذبائح والصيد. صحيح البخاري 7/ 113. ومسلم، في: باب الصيد بالكلاب المعلمة، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1531. وأبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98. والترمذي، في: باب ما جاء في من يرمي الصيد فيجده ميتا في الماء، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 257. والنسائي، في: باب في الذي يرمي الصيد فيقع في الماء، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 169، 170. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 379.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ ذلِك الحيوانِ، فلا خِلافَ في إباحَتِه؛ لأنَّ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإن وَجَدْتَه غَرِيقًا في الماءِ فلا تَأْكلْه». يقْتَضِي أن يَغْرَقَ جميعُه، ولأنَّ الوُقُوعَ في الماءِ والتَّرَدِّيَ إنَّما حَرَّمَ خَشْيَةَ أن يكونَ قاتِلًا أو مُعِينًا على القَتْلِ، وهذا مُنْتَفٍ فيما ذَكَرْناه.

4658 - مسألة: (فإن رماه في الهواء، فوقع على الأرض، فمات، حل)

وَإنْ رَمَاهُ في الْهَواءِ، فَوَقَعَ عَلَى الْأرْضِ، فَمَاتَ، حَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4658 - مسألة: (فإن رَماه في الهَواءِ، فوَقَع على الأرضِ، فمات، حَلَّ) إذا رَمَى طائِرًا في الهواءِ، أو على شجرةٍ، أو جبَل، فوَقَع على الأرضِ، فماتَ به (¬1)، حَلَّ. وبه قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال مالِكٌ: لا يَحِلُّ، إلَّا أن تكونَ الجِراحَةُ مُوحِيَةً، أو يموتَ قبلَ سُقوطِه. وحَكَى ابنُ أبي موسى عن أحمدَ رِوايَةً نحوَ ذلك؛ لقولِه تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} (¬2). ولأنَّه اجْتَمَعَ المُبِيحُ والحاظِرُ، فَغُلبَ الحَظْرُ (¬3)، كما لو غَرِقَ. ولَنا، أنَّه صَيدٌ سَقَط بالإِصابَةِ سُقُوطًا لا يُمْكِنُ ¬

(¬1) زيادة من: ق، م. (¬2) سورة المائدة 3. (¬3) في م: «الحاظر».

4659 - مسألة: (وإن رمى صيدا، فغاب، ثم وجده ميتا لا أثر به غير سهمه، حل. وعنه، إن كانت الجراح موحية، حل، وإلا فلا. وعنه، إن وجده في يومه، حل، وإلا فلا. وإن وجد به غير أثر سهمه مما يحتمل أنه أعان على قتله، لم يبح)

وَإنْ رَمَى صَيدًا، فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ غَيرَ سَهْمِهِ، حَلَّ. وَعَنْهُ، إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحُ مُوحِيَةً، حَلَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْهُ، إنْ وَجَدَهُ في يَوْمِهِ، حَلَّ، وَإلَّا فَلَا. وَإنْ وَجَدَ بِهِ غَيرَ أَثَرِ سَهْمِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، لَمْ يُبَحْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاحْتِرازُ عن سُقُوطِه عليه، فوجَبَ أن يَحِلَّ، كما لو أصابَ الصَّيدَ فوقَع على جَنْبِه. ويُخالِفُ ما ذكروه، فإنَّ الماءَ يُمْكِنُ التَّحَوُّزُ عنه، بخلافِ الأرضِ. 4659 - مسألة: (وإن رَمَى صَيدًا، فغابَ، ثم وجَدَه مَيِّتًا لا أثَرَ به غَيرَ سَهْمِه، حَلَّ. وعنه، إن كانتِ الجِراحُ مُوحِيَةً، حَلَّ، وإلَّا فلا. وعنه، إن وَجَدَه في يومِه، حَلَّ، وإلَّا فلا. وإن وَجَدَ به غيرَ أثَرِ سَهْمِه ممّا يَحْتَمِلُ أنَّه أعانَ على قَتْلِه، لم يُبَحْ) متى رَمَى صَيدًا، فغابَ عن عَينِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَدَه مَيِّتًا، وسَهْمُه فيه، لا أثَرَ بهْ غيرَه، حَلَّ أكْلُه. هذا المشهورُ عن أحمدَ، وكذلك لو أرْسَلَ كلْبَه على صَيدٍ، فغابَ عن عَينِه، ثم وَجَدَه ميِّتًا ومعه كَلْبُه، حَلَّ. وهذا قولُ الحسنِ، وقَتادَةَ. وعنٍ أحمدَ، إن كانتِ الجِراحَةُ مُوحِيَةً، حَلَّ، وإلَّا فلا؛ لأنَّها إذا كانت مُوحِيَةً، لم يتَأخَّرِ الموتُ عنها، ولم تَجُزْ نِسْبَة الوتِ إلى غيرِها إلَّا بوُجُودِ مِثْلِها أو أوْحَى، بخِلافِ غيرِها. وعنه، إن وجَدَه في يومِه، حَلَّ، وإلَّا فلَا. قال أحمدُ: إن غابَ نهارًا، فلا بأْسَ، وإن غابَ ليلًا، لم يأْكلْه. وعن مالِكٍ كالرِّوايَتَينٍ. وعن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه إن غابَ مُدَّةً طويلةً، لم يُبَحْ، وإن كانت يَسِيرَةً، أُبِيحَ. قيل له: إن غابَ يومًا؟ قال: يومٌ كثيرٌ. ووَجْهُ ذلك قولُ ابنِ عباسٍ: إذا رَمَيتَ فأقْعَصْتَ، فكُلْ، وإن رَمَيتَ فوَجَدْتَ فيه سَهْمَك مِن يومِكَ أو ليلتِكَ، فكُلْ، وإن غابَ عنك ليلةً، فلا تأْكُلْ؛ فإنَّك لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْرِي ما حَدَث فيه (¬1) بعدَك. وكرِهَ عطاءٌ والثَّوْرِيُّ أكْلَ ما غابَ. وعن أحمدَ مثل ذلك. وللشافعيِّ فيه قولان؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ قال: كُلْ ما أصْمَيتَ، وما أنْمَيتَ فلا تأْكُلْ (¬2). قال الحَكَمُ: الإصْماءُ: الإِقْعاصُ -يعني أنَّه يمُوتُ في أكْلِ- والإِنْماءُ أن يَغِيبَ عنك. يعني أنَّه لا يمُوتُ في الحالِ. قال الشاعِرُ (¬3): فَهْوَ لا تَنْمِي رَمِيَّتُه … ما له لا عُدَّ مِن نَفَرِهْ وقال أبو حنيفةَ: يُباحُ إن لم يكُنْ تَرَك. طَلَبَه، وإن تشاغَلَ عنه ثم وَجَدَه، لم يُبَحْ. ولَنا، ما رَوَى عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذَا رَمَيتَ الصَّيدَ، فَوَجَدْتَه بَعْدَ يَوْم أو يَوْمَينِ، لَيسَ بِهِ إلا أثَرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وإن وجَدْتَه غَرِيقًا فِي الماءِ، فَلَا تَأْكُلْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وعن ¬

(¬1) في م: «به». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الصيد يغيب مقتله، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 460. وابن أبي شيبة، في: باب الرجل يرمي الصيد. . . .، من كتاب الصيد. المصنف 5/ 371. والبيهقي. في: باب الإِرسال على الصيد. . . .، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 241. (¬3) هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه 125. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 373.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ رَجُلًا أتَى (¬1) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ اللهِ، أفْتِنِي في سَهْمِي. قال: «مَا رَدَّ عَلَيكَ سَهْمُكَ، فَكُلْ». قال: وإنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قال: «وإنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ، مَا لَمْ تَجدْ فيه أثَرًا غيرَ سَهْمِكَ، أو تَجِدْه قد صَلَّ (¬2)». رَواه أبو داودَ (¬3). وعن أبي ثَعْلَبَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إذَا رَمَيتَ الصيدَ، فَأدْرَكْتَه بَعْدَ ثَلَاثٍ وسَهْمُكَ فِيهِ، فَكُلْهُ، ما لَمْ يُنْتِنْ» (¬4). ولأنَّ جُرْحَه سَبَبُ إباحَتِه، وقد وُجدَ يَقِينًا، والمُعارِضُ له مَشْكوكٌ فيه، فلا نَزُولُ عن اليقينِ بالشَّكِّ، ولَأنَّه وجَدَه وسَهْمُه فيه، ولم يَجِدْ به أثَرًا آخَرَ، فأشْبَهَ ما لو لم يَتْرُكْ طَلَبَه عندَ أبي حنيفةَ، أو كما لو غابَ نهارًا، أو مُدَّةً يَسِيرةً، أو كما لو لم يَغِبْ. ¬

(¬1) في الأصل: «لقى». (¬2) في الأصل، ق: «ضل». وصلَّ اللحم: أنتن. وضل: غاب ومات. (¬3) في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 99، 100. كما أخرجه النسائي، في: باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 168. (¬4) أخرجه مسلم، في: باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده، من كتاب الصيد والذبائح. صحيح مسلم 3/ 1532. وأبو داود، في: باب في اتباع الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 100. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 194.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يُشْتَرطُ لحِلِّه شَرْطان؛ أحدُهما، أن يَجِدَ سَهْمَه فيه، أو أثَرَه ويَعْلَمَ أنَّه أثَرُ سَهْمِه؛ لأنَّه إذا لم يكُنْ كذلك، فهو شَاكُّ في وُجودِ المُبِيحِ، فلا يثْبُتُ بالشَّكِّ. والثاني، أن لا يجدَ به أثَرًا غيرَ أثَرِ سَهْمِه، ممّا يَحْتَمِلُ أنَّه أعانَ على قَتْلِه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما لَمْ تَجِدْ فِيهِ أثَرًا غَيرَ سَهْمِكَ». وفي لفظٍ: «إنْ وَجَدْتَ فِيهِ أثَرًا غَيرَ سَهْمِكَ، فَلَا تَأْكُلْه، فإنَّكَ لَا تَدْرِي، أقَتَلْتَهُ أنْتَ أو غيرُك». رَواه الدّارَقُطْنِيُّ (¬1). وفي لفْظٍ: «إذَا وَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ، ولَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبُعٌ، فكُلْ مِنْهُ». رَواه النَّسائِي (¬2). وفي حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإنْ رَمَيتَ الصَّيدَ، فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْم أو يَوْمَينِ، لَيسَ بِهِ إلَّا أثَرُ سَهْمِكَ، فكُلْ، وإنْ وَقَعَ في الماءِ، فَلَا تَأْكُلْ». رَواه البخارِيُّ. ولأنَّه إذا وجَدَ به أثَرًا يصلُحُ أن يكونَ قد قَتَلَه، أو أعان على قَتْلِه، فقد تحَقَّقَ المُعارِضُ، فلم يُبَحْ، كما لو وجد مع كَلْبِه كلْبًا سِواهُ، فأمّا إن كان الأثَرُ ممّا لا يقْتُلُ مثلُه، مِثْلَ أكْلِ حَيَوانٍ ضَعِيفٍ، كالسِّنَّوْرِ والثَّعْلَبِ، مِن حيوانٍ قَويٍّ، فهو مُباحٌ؛ لأنَّ هذا يُعْلَمُ أنَّه لم يَقْتُلْه، فهو كما لو تَهَشَّمَ مِن وَقْعَتِه. ¬

(¬1) في: كتاب الصيد والذبائح والأطعمة. . . . سنن الدارقطني 4/ 294. (¬2) في: باب الذي يرمي الصيد فيغيب عنه، من كتاب الصيد والذبائح. المجتبى 7/ 170. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في الرجل ورمى الصيد فيغيب عنه، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 256. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 377. كلهم من حديث عدي بن حاتم.

4660 - مسألة: (وإن ضربه، فأبان منه عضوا وبقيت فيه حياة مستقرة، لم يبح ما أبان منه، وإن بقي معلقا بجلده، حل، وإن أبانه ومات في الحال، حل الجميع. وعنه، لا يباح ما أبان منه)

وَإنْ ضَرَبَهُ، فَأبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، وَبَقِيَتْ فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّةٌ، لَمْ يُبَحْ ما أَبَانَ مِنْهُ، وَإِنْ بَقِيَ مُعَلَّقًا بِجِلْدِهِ، حَلَّ، وَإنْ أَبَانهُ وَمَاتَ في الْحَالِ، حَلَّ الْجَمِيعُ. وَعَنْهُ، لَا يُبَاحُ مَا أَبَانَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4660 - مسألة: (وإن ضَرَبَه، فأبانَ منهُ عُضْوًا وبقِيَتْ فيه حياةٌ مُسْتَقِرَّة، لم يُبَحْ ما أَبانَ منه، وإن بَقِيَ مُعَلَّقًا بجِلْدِهِ، حَلَّ، وإن أبانَه ومات في الحالِ، حَلَّ الجَمِيعُ. وعنه، لا يُباحُ ما أبانَ منه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا رَمَى صَيدًا، أو ضَرَبَه، فأبانَ منه بعْضَه، لم يَخْلُ مِن ثلاثةِ أقْسامٍ؛ أحدُها، أن يَقْطَعَه قِطْعَتَين، أو يَقْطَعَ رأْسَه، فيَحِلُّ جميعُه، سواءٌ كانتِ القِطْعتان مُتساويَتَين أو مُتَفاوتَتَين. وبهذا قال الشافِعِيُّ. ورُوِيَ ذلك عن عِكْرِمَةَ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ. وقال أبو حنيفةَ: إن كانَتا مُتَساويَتَين، أو التي مع الرَّأْسِ أقَلَّ، حَلَّتا، وإن كانتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأُخْرَى أقَلَّ، لم تَحِلَّ، وحَلّ الرَّأْسُ وما مَعَه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أُبِينَ مِنْ حَيٍّ، فهو مَيِّتٌ» (¬1). ولَنا، أنَّه جُزْءٌ لا تَبْقَى الحياةُ مع فَقْدِه، فأُبِيحَ، كما لو تَساوَتِ القِطْعَتان. الثاني، أنْ يَبِينَ منه عُضْوٌ، وتَبْقَى فيه حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فالبائِنُ مُحَرَّمٌ بكُلِّ حالٍ، سواءٌ بَقِيَ الحيوانُ حَيًّا، أو أدْرَكَه فذَكَّاه، أو رَماهُ بسَهْمٍ آخَرَ فقَتَلَه، إلَّا أنَّه إن ذكَّاه حَلَّ بكُلِّ حالٍ دونَ ما أبانَ منه. وإن ضَرَبَه في غيرِ مَذْبَحِه فقَتَلَه، نَظرتَ؛ فإن لم يكُنْ أثْبَتَه بالضَّرْبَةِ الأُولَى، حَلَّ دونَ ما أبانَ منه، وإن كان أثْبَتَه، لم يَحِلَّ شيءٌ منه؛ لأنَّ ذَكاةَ المقْدُورِ عليه (¬2) في الحَلْقِ واللَّبَّةَ. الثالثُ، أبانَ منه عُضْوًا، ولم تَبْقَ فيه حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، ففيها رِوايتان؛ أشْهَرُهُما عن أحمدَ، إباحَتُهما (¬3). قال أحمدُ: إنَّما حديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا قَطَعْتَ مِنَ الحَيِّ مَيتَةٌ». إذا قُطِعَت وهي حَيَّةٌ تَمْشِي وتَذْهَبُ، أمّا إذا كانتِ البَينُونَةُ والموتُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 181. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «إباحتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جميعًا، أو بعدَه بقليلٍ، إذا كان في عِلاجِ الموتِ، فلا بَأْسَ به، ألَا تَرَى الذي يُذْبَحُ رُبَّما مَكَث ساعةً، ورُبَّما مَشَى حتى يموتَ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وعَطاءٍ، والحسنِ. وقال قَتادَةُ، وإبراهيمُ، وعِكْرِمَةُ: إن وَقَعا معًا أكَلَهُما، وإن مَشَى بعدَ قَطْعِ العُضْو أكَلَه، ولم يأْكُلِ العُضْوَ. والرِّوايَةُ الثانيةُ، لا يُباحُ ما أبانَ منه. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ، فهو مَيِّتٌ». ولأنَّ هذه البَينُونَةَ لا تَمْنعُ بقاءَ الحيوانِ في العادَةِ، فلم يُبَحْ أكلُ البائِنِ، كما لو أدْرَكَه الصَّيّادُ وفيه حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ. والأُولَى المشهورةُ؛ لأنَّ ما كان ذَكاةً لبعضِ الحيوانِ، كان ذَكاةً لجَمِيعِه، كما لو قَدَّه نِصْفين، والخَبَرُ يقْتَضِي أن يكونَ الباقِي حَيًّا، حتى يكونَ المُنْفَصِلُ منه مَيِّتًا، وكذا نقولُ. قال: (وإن بَقِيَ مُعَلَّقًا بجِلْدِه، حَلَّ) رِوايَةً واحدةً. ذكَرَه أبو الخطّابِ؛ لأنَّه لم يَبِنْ. فصل: قال أحمدُ: ثَنا هُشَيمٌ، عن منصورٍ، عن الحسنِ، أنَّه كان لا يَرَى بالطَّرِيدَةِ بأْسًا، كان المسلمون يفْعَلُون ذلك في مَغازِيهم. واسْتَحْسَنه أبو عبدِ اللهِ. قال: والطرِيدَةُ الصيدُ يقَعُ بينَ القوْمِ، فيقطَعُ ذامنه بسَيفِه قِطْعَةً، ويقْطَعُ الآخَرُ أيضًا، حتى يُؤْتَى عليه وهو حَيٌّ. قال: وليس هو عندِي إلَّا أنَّ الصَّيدَ يقَعُ بينَهم، لا يَقْدِرُونَ على ذَكاتِه، فيأخُذونَه (¬1) قِطَعًا. ¬

(¬1) في م: «فيقطعونه».

4661 - مسألة: (وإن أخذ قطعة من حوت، وأفلت حيا، أبيح ما أخذ منه)

وَإِنْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ حُوتٍ، وَأَفْلَتَ حَيًّا، أُبِيحَ مَا أَخذَ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا لَيسَ بِمُحَدَّدٍ؛ كَالْبُنْدُقِ، وَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالشَّبَكَةِ، وَالْفَخِّ، فَلَا يُبَاحُ مَا قْتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَقِيذٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4661 - مسألة: (وإن أخَذَ قِطْعَةً مِن حُوتٍ، وأفْلَتَ حَيًّا، أُبِيحَ ما أخَذَ منه) لأنَّ أقْصَى ما فيه أنَّه مَيِّتٌ، ومَيتَتُه حلالٌ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ في البحرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ» (¬1). 4662 - مسألة: (وأمّا ما ليس بمُحَدَّدٍ؛ كالبُنْدُقِ والعَصَا والحَجَرِ والشَّبَكَةِ والفَخِّ، فلا يُباحُ ما قُتِلَ بِهِ؛ لأنَّه وَقِيذٌ) أمّا ما قَتَلَتْه الشَّبَكَةُ والحَبْلُ، فهو مُحَرَّمٌ. لا نعلَمُ فيه خِلافًا، إلَّا عن الحسنِ، أنَّه [يُباحُ ما] (¬2) قَتَلَه الحَبْلُ إذا سَمَّى، فدَخَل فيه وجَرَحَه. وهذا قول شاذٌّ، يُخالِفُ عَوامَّ أهْلِ العلمِ، ولأنَّه قُتِلَ بما ليس له حَدٌّ، أشْبَهَ ما قَتَلَه بالبُنْدُقِ. فصل: فأمّا ما قَتَل البُنْدُقُ أو الحَجَرُ الذي لا حَدَّ له، فلا يُؤْكَلُ. وهذا قولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ -[وأرادَ الحَجَرَ الذي لا حدَّ له] (¬3) - فأمّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 34. (¬2) في م: «مباح إذا». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَجَرُ (¬1) المُحَدَّدُ كالصَّوّانِ، فهو كالمِعْرَاضِ، إن قُتِلَ بحَدِّه أُبِيحَ، وإن قُتِلَ بعَرْضِه أو ثِقْلِه فهو وَقِيذٌ لا يُباحُ. قال ابنُ عمرَ، في المقتولَةِ بالبُنْدُقِ: تلك الموْقُوذَةُ (¬2). وكَرِهَ ذلك سالِمٌ، والقاسِمُ، ومُجاهِدٌ، وعطاءٌ، والحسنُ، وإبراهيمُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. ورَخَّصَ فيما قُتِلَ بها ابنُ المُسَيَّبِ. [ورُوي أيضًا عن] (¬3) عَمَّارٍ، وعبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيلَى. ولَنا، قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ} إلى قولِه: {وَالْمَوْقُوذَةُ} (¬4). ورَوَى سَعِيدٌ، بإسْنادِه عن إبراهيمَ، عن عَدِيٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تَأْكُلْ مِنَ البُنْدُقَةِ إلَّا مَا ذَكَيتَ» (¬5). وقال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: لِيَتَّقِ أحدُكم أن يحْذِفَ الأرْنَبَ بالعَصا والحجَرِ. ثم قال: ولْيُذَكِّ لكم الأسَلُ؛ الرِّماحُ والنَّبْل (¬6). إذا ثَبَت هذا، فسواء شَدَخَه أو لم يَشْدَخه، حتى لو رَماه ببُنْدُقَةٍ فقَطَعَتْ حُلْقُومَ طائِرٍ ومَرِيئَه، أو أطارَتْ رأْسَه، لم يَحِلَّ. ومِثْلُه لو فعلَ ذلك بحَجَرٍ غيرِ مُحَدَّدٍ. فصل: أجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على تحريمِ صَيدِ المَجُوسِيِّ، إذا لم يُذَكِّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في صفحة 367. (¬3) في م: «أيضًا و». (¬4) سورة المائدة 3. (¬5) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 380. (¬6) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 9/ 248.

النَّوْعُ الثَّانِي؛ الْجَارِحَةُ، فَيُبَاحُ مَا قَتَلَتْهُ إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً، إلا الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، فَلَا يُبَاحُ صَيدُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن هو مِن أهلِ الذَّكاةِ، إلَّا ما لا ذَكاةَ له، كالسَّمَكِ والجَرادِ، إلَّا أنَّ مالِكًا، واللَّيثَ، وأبا ثَوْرٍ، شَذُّوا عن الجماعَةِ، وأفْرَطُوا؛ فأمّا مالِكٌ واللَّيثُ فقالا: لا نرَى أن (¬1) يُؤْكَلَ الجرادُ إذا صادَه المجُوسِيُّ. ورَخَّصَا في السَّمَكِ. وأبو (¬2) ثَوْرٍ أباحَ صَيدَه؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أهْلِ الكتابِ» (¬3). وهذا قولٌ يُخالِفُ الإِجْماعَ، فلا عِبْرَةَ به. والحدِيثُ إنَّما أُرِيدَ به قَبولُ الجِزْيَةِ منهم، لا تحليلُ ذَبائِحِهم ونِسائِهم، لمُخالفَتِه الإِجْماعَ. (النوعُ الثاني، الجارِحَةُ، فيُباحُ ما قَتَلَتْه إذا كانت مُعَلَّمَةً، إلَّا الكلبَ الأسْودَ البهيمَ، فلا يُباحُ صَيدُه) ولا خلافَ في اعْتِبارِ شَرْطِ التَّعْليمِ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل، ر 3، ق، م: «أبا». (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 127.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجارِحَةِ؛ لقولِه تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} (¬1). فأمّا الكلبُ الأسْوَدُ البهيمُ، فلا يُباحُ صَيدُه. والبَهِيمُ: الذي لا يُخالِطُ لَوْنَه لَوْنٌ سِوَاهُ. قال أحمدُ: الذي ليس فيه بَياضٌ. قال ثعلبٌ، وإبراهيمُ الحَرْبِيُّ: كُلُّ لَونٍ لم يُخالِطْه لَوْنٌ آخرُ، فهو بهيمٌ. قيل لهما: مِن كُلِّ لَوْنٍ؟ قالا: نعم. وممَّن كَرِهَ صَيدَه الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، وإسحاقُ. قال أحمدُ: ما أعْرِفُ أحدًا يُرَخِّصُ فيه. يَعْنِي مِن السَّلَفِ. وأباحَ صَيدَه أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، لعُمومِ الآيَةِ والخَبَرِ، والقياسِ على غيرِه مِن الكلابِ. ولَنا، أنَّه كلبٌ مُحَرَّمٌ اقْتِناؤُه، فلم يُبَحْ صَيدُه، كغيرِ المُعَلَّمِ، ودليلُ تحْرِيمِ اقْتِنائِه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَاقْتُلُوا مِنْها كُلَّ أسْوَدَ بَهِيمٍ». رَواه سعيدٌ، وغيرُه (¬2). وروَى مسلمٌ، في «صَحِيحِه» (¬3)، ¬

(¬1) سورة المائدة 4. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 653. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 652. واللفظ المرفوع من حديث جابر بن عبد الله. والذي عند مسلم عن عبد الله بن المغفل قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب. ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب؟». ثم رخص في كلب الصيد والغنم. صحيح مسلم 2/ 1201. كما أخرجه النسائي، في: باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، من كتاب المياه. المجتبى 1/ 47.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإسنادِه عن عبدِ اللهِ بنِ المُغَفَّلِ، قال: أمَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِ الكلابِ، ثم نَهَى عن قَتْلِها، فقال: «عَلَيكُم بالأسْوَدِ الْبَهِيمِ، ذِي النُّكْتَتَينِ (¬1)، فإنَّه شَيطَانٌ». فأمَرَ بقَتْلِه، وما وَجَب قَتْلُه حَرُمَ اقْتناؤُه وتَعْليمُه، فلم يُبَحْ صَيدُه، كغيرِ المُعَلَّمِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمّاه شَيطانًا، ¬

(¬1) عند مسلم: «ذي النقطتين».

4663 - مسألة: (والجوارح نوعان؛ ما يصيد بنابه، كالكلب والفهد، فتعليمه بثلاثة أشياء؛ أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل)

وَالْجَوَارِحُ نَوْعَانِ؛ مَا يَصِيدُ بِنَابهِ، كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ، فَتَعْلِيمُهُ بثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ أَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرسِلَ، وَيَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يجوزُ اقْتناءُ الشيطانِ، وإباحَةُ الصَّيدِ المَقْتُولِ رُخْصَةٌ، فلا تُسْتَباحُ بمُحَرَّمٍ، كسائِرِ الرُّخَصِ، والعُموماتُ مخْصوصةٌ بما ذكَرْناه، وإن كان فيه نُكْتَتانِ فوقَ عَينَيه، لم يَخْرُجْ بذلك عن كوْنِه بَهِيمًا؛ لِما ذكَرْنا مِن الخَبَرِ. 4663 - مسألة: (والجوارحُ نوعانِ؛ ما يَصِيدُ بِنابِه، كالكلبِ والفَهْدِ، فتَعْلِيمُه بثلاثَةِ أشْياءَ؛ أن يَسْتَرْسِلَ إذا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِرَ إذَا زُجِرَ، وإذا أمْسَكَ لم يأْكُلْ).

4664 - مسألة: (ولا يعتبر تكرر ذلك منه)

وَلَا يُعْتَبَرُ تَكَرُّرُ ذَلِكَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4664 - مسألة: (ولا يُعْتَبَرُ تَكَرُّرُ ذلك منه) هذا قولُ الشريفِ أبي جعفرٍ، وأبي الخطّابِ، بل يحْصُلُ ذلك بالمَرَّةِ؛ لأنَّه تَعَلُّمُ صَنْعَةٍ، فلا يُعْتَبَرُ فيه التَّكْرارُ، كسائرِ الصنائعِ. وقال القاضي: يُعْتَبَرُ تَكْرارُ ذلك منه مَرَّةً بعدَ أُخْرَى حتى يَصيرَ مُعَلَّمًا في العُرْفِ، وأقَلُّ ذلك ثلاثٌ. وهو قولُ أبي يوسف، ومحمدٍ. ولم يُقَدِّرْ أصحابُ الشافعيِّ عَدَدَ المَرّاتِ؛ لأنَّ التَّقْديرَ بالتَّوْقيفِ، ولا تَوْقِيفَ في هذا، بل قَدْرُه بما يصيرُ به في العُرْفِ مُعَلَّمًا. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ، أنَّه إذا تَكَرَّرَ مَرَّتَينِ، صار مُعَلَّمًا؛ لأنَّ التَّكْرارَ يحْصُلُ بمرَّتَين. وإنَّما اشْتَرَطْنا التَّكْرارَ؛ لأنَّ تَرْكَه للأكْلِ يَحْتَمِلُ أن يكونَ لشِبَعٍ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لتَعْلِيمٍ، فلا يَتَمَيَّزُ ذلك إلَّا بالتَّكْرارِ، وما اعْتُبِرَ فيه التَّكْرارُ اعْتُبرَ ثلاثًا، كالمَسْحِ في الاسْتِجْمارِ، والأقْراءِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشُّهورِ (¬1) في العِدَّةِ، والغَسَلاتِ في الوُضوءِ. ويُفَارِقُ الصَّنائعَ، فإنَّه لا يتَمَكَّنُ مِن فِعْلِها إلَّا مَن تَعَلَّمَها، فإذا فَعَلَها، عُلِمَ أنَّه تَعَلَّمَها وعرَفَها، وتَرْكُ الأكْلِ مُمْكِنُ الوُجودِ مِن المُتعلِّمِ وغيرِه، فيُوجَدُ مِن الصِّنْفَين جميعًا، فلا يتميَّزُ به أحدُهما مِن الآخَرِ حتى يتَكَرَّرَ. فصل: قد ذكَرْنا أنَّ تَرْكَ الأكْلِ شَرْطٌ لكونِ الجارِحِ المذْكُورِ مُعَلَّمًا. وحُكِيَ عن ربيعةَ، ومالِكٍ، أنَّه لا يُشْتَرَطُ تَرْكُ الأكْلِ؛ لِما روَى أبو ثَعْلَبَةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلْ وإنْ أكَلَ». ذكره الإِمامُ أحمدُ، ورواه أبو داودَ (¬2). ولَنا، أنَّ العادةَ في المُعَلَّمِ تَرْكُ الأكْلِ، فاعْتُبِرَ ¬

(¬1) في م: «الشهود». (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98.

4665 - مسألة: (فإن أكل بعد تعلمه، لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أكل منه في إحدى الروايتين. والأخرى، يحل)

فَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ، لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيدِهِ، وَلَمْ يُبَحْ مَا أَكَلَ مِنْهُ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينَ. وَالْأُخْرَى، يَحِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطًا، كالانزِجارِ إذا زُجِرَ، وحديثُ أبي ثَعْلَبَةَ مُعارَضٌ بما روَى عَدِيُّ بنُ حاتمٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإنْ أكَلَ فلَا تَأْكُلْ، فإنِّي أخافُ أنْ يكونَ إنَّما أمْسَكَ عَلَى نَفْسِه» (¬1). وهذا أَوْلَى بالتَّقْدِيمِ؛ لأنَّه أصَحُّ، وهو مُتَّفَقٌ عليه. ولأنَّه مُتضَمِّنٌ للزيادَةِ، وهو ذِكْرُ الحُكْمِ مُعَلَّلًا. ثم إنَّ حديثَ أبي ثَعْلَبَةَ مَحْمولٌ على جارِحَةٍ ثَبَت تعليمُها؛ لقولِه: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ». ولا يثْبُتُ التَّعْليمُ حتى يتْرُكَ الأَكْلَ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الانْزِجارَ بالزَّجْرِ إنَّما يُعْتَبرُ قبلَ إرْسالِه على الصَّيدِ، أو رُؤْيَتِه، أمّا بعدَ ذلك، فإنَّه لا يُعْتَبَرُ الانْزِجارُ بحالٍ. قال شيخُنا: ولا أحْسَبُ هذه الخِصال تُعْتَبرُ في غيرِ الكلبِ، فإنَّه الذي يُجِيبُ صاحِبَه إذا دَعاه، ويَنْزَجِرُ إذا زَجَرَه، والفَهْدُ لا يَكادُ يُجِيبُ دَاعِيًا وإن عُدَّ مُتَعَلِّمًا، فيكونُ التعْلِيمُ في حَقِّه بتَرْكِ الأكْلِ خاصَّةً، أو بما يعُدُّه به أهلُ العُرْفِ مُعَلَّمًا. 4665 - مسألة: (فإن أكَلَ بعدَ تَعَلُّمِه، لم يَحْرُمْ ما تَقَدَّمَ مِن صَيدِه، ولم يُبَحْ ما أكَلَ منه في إحدى الرِّوايَتَين. والأُخْرَى، يَحِلُّ) أصَحُّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 85.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّوايتَين أنَّ ما أكَلَ منه لا يُباحُ. ويُرْوَى ذلك عن ابنَ عباسٍ، وأبي هُرَيرَةَ. وبه قال عَطاءٌ، وطاوسٌ، وعُبَيدُ (¬1) بنُ عُمَيرٍ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وسُوَيدُ (¬2) بنُ غَفَلَةَ، وأبو بُرْدَةَ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، وقَتادَةُ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ وأصحابُه. والثانيةُ، يُباحُ. رُوِيَ ذلك عن سَعْدِ بنَ أبي وَقّاصٍ، وسَلْمَانَ، وأبي هُرَيرَةَ، وابنِ عمرَ. حكاه عنهم الإِمامُ أحمدُ. وبه قال مالِكٌ. وللشافعيِّ قَوْلان كالمَذْهَبَين. واحْتَجَّ مَن أباحَه بعُمومِ قولِه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ}. وبحديثِ أبي ثَعْلَبَةَ، ولأنَّه صَيدٌ جارِحٌ مُعَلَّمٌ، فأُبِيحَ، كما لو لم يأكلْ، فإنَّ الأكْلَ يحْتَمِلُ أن يكونَ (¬3) لفَرْطِ جُوعٍ أو غَيظٍ على الصَّيدِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ: «إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أمْسَكَ عَلَيكَ». ¬

(¬1) في الأصل: «عبيدة». (¬2) في الأصل: «سعيد». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قلْتُ: وإنْ قَتَلَ. قال: «وَإِنْ قَتَلَ، إلَّا أنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فإنْ أكَلَ، فَلَا تَأْكُلْ، فإنِّي أخَافُ أنْ يَكُونَ إنَّمَا أمْسَكَه (¬1) عَلَى نَفْسِه». مُتَّفَقٌ عليه. ولأنَّ ما كان شَرْطًا في الصَّيدِ الأوَّلِ، كان شَرْطًا في سائِرِ صُيودِه، كالإِرْسالِ والتَّعْليمِ. فأمّا الآيَةُ فلا تَتَناوَلُ هذا الصَّيدَ؛ لأنَّه قال: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ}. وهذا إنَّما أمْسَكَ على نفْسِه. وأمّا حديثُ أبي ثَعْلَبَةَ، فقال أحمدُ: يَخْتَلِفُون عن هُشَيمٍ فيه. وحدِيثُنا أصَحُّ؛ لأنَّه مُتَّفَقٌ عليه، وحَدِيثُ (¬2) عَدِيِّ [بنِ حاتِمٍ] (¬3) أضْبَطُ، ولفظُه أبْيَنُ؛ لأنَّه ذكَرَ الحُكْمَ والعِلَّةَ. قال أحمدُ: حديثُ الشَّعْبِيِّ عن عَدِيٍّ مِن أصَحِّ (¬4) ما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، الشَّعْبِيُّ يقولُ: كان جارِي ورَبِيطِي، فحدَّثَنِي. والعملُ عليه. ويَحْتَمِلُ أنَّه أكَلَ منه بعدَ أن قَتَلَه وانْصَرَفَ عنه. ¬

(¬1) في م: «أمسك». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «أصلح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَحْرُمُ ما تَقَدَّمَ مِن صَيدِه، في قولِ أكْثَرِ أهلِ العلمِ. وقال أبو حنيفةَ: يَحْرُمُ؛ لأنَّه لو كان مُعَلَّمًا ما أكَلَ. ولَنا، عُمومُ الآيةِ والأخْبارِ، وإنَّما خُصَّ ما أكَلَ منه، ففيما عَداهُ يجبُ العملُ بالعُمومِ، ولأنَّ اجْتماعَ شُروطِ التَّعْليمِ حاصلٌ، فوجَبَ الحكمُ به، ولهذا حكَمْنا بحِلِّ صَيدِه، فإذا وُجِدَ الأكْلُ، احْتَمَلَ أن يكونَ لِنِسْيانٍ، أو فَرْطِ جُوعٍ، فلا يُتْرَكُ ما ثَبَتَ (1) يَقِينًا بالاحْتمالِ. فصل: ولا يَحْرُمُ ما صادَه الكلبُ بعدَ الصَّيدِ الذي أكَلَ منه. ويَحْتَمِلُ كلامُ الخِرَقِيِّ أنَّه يَخْرُجُ عن أن يكونَ مُعَلَّمًا، فتُعْتَبَرُ له شُروطُ التَّعْليمِ ابْتِداءً. والأوَّلُ أَوْلَى؛ لِما ذكَرْنا في صَيدِه قبلَ الأكْلِ. فصل: فإن شَرِبَ مِن (¬1) دَمِه ولم يَأْكُلْ منه، لم يَحْرُمْ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال عَطاءٌ، والشافعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وكَرِهَه الشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ؛ لأنَّه في مَعْنَى الأكْلِ. ولَنا، عُمومُ الآيةِ والأخْبارِ، [وإنَّما] (¬2) خَرَج منه ما أكَلَ منه؛ لحديثِ عَدِيٍّ، وهو ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: «فَإنْ أكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَأْكُلْ». وهذا لم يأْكُلْ، ولأنَّ الدَّمَ لا يَقْصِدُه الصَّائِدُ منه، ولا ينْتَفِعُ به، فلا يَخْرُجُ بشُرْبِه عن أن يكونَ مُمْسِكًا على صائدِه. فصل: وكُلُّ ما يَقْبَلُ التَّعْليمَ، ويُمْكِنُ الاصْطِيادُ به مِن سباعِ البهائِمِ، كالفَهْدِ وجَوارِحِ الطَّيرِ، فحُكْمُه حُكْمُ الكلبِ في إباحَةِ صَيدِه. قال ابنُ عباسٍ، في قولِه تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}. هي الكِلابُ المُعَلَّمَةُ، وكُلُّ طَيرٍ تعَلَّمَ الصَّيدَ، والفُهُودُ، والصُّقُورُ وأشْباهُها (¬1). وبمعنى ذلك قال طاوُسٌ، ويحيى بنُ أبي كَثِيرٍ، والحسَنُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وحُكِيَ عن ابنِ عمرَ، ومُجاهِدٍ، أنَّه لا يجوزُ الصَّيدُ إلَّا بالكلبِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}. يعني: كَلَّبْتُم (¬2) مِن الكلابِ. ولَنا، ما رُوِيَ عن عَدِيٍّ، قال: سأَلْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صَيدِ البَازِي، فقال: «إذا أمْسَكَ عَلَيكَ، فَكُلْ» (¬3). ولأنَّه جارِحٌ يُصادُ به عادةً، ويَقْبَلُ التَّعليمَ، فأشْبَهَ ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير، في: تفسيره 6/ 90. والبيهقي، في: السنن الكبرى 9/ 235. وضعف إسناده في الإرواء 8/ 182. (¬2) في م: «علمتم». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98. والترمذي، في: باب ما جاء في صيد البزاة، من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 255. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 257.

وَالثَّانِي، ذُو الْمِخْلَبِ؛ كَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالْعُقَابِ، وَالشَّاهِينِ، فَتَعْلِيمُهُ بِأَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرْسِلَ، وَيُجِيبَ إِذَا دُعِيَ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَرْكُ الْأَكْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلبَ. فأمّا الآيَةُ، فإنَّ الجوارِحَ الكَواسِبُ. قال اللهُ تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} (¬1). أي: كَسَبْتُم. وفلانٌ جارِحَةُ أهلِه، أي: كاسِبُهم. {مُكَلِّبِينَ}. مِن التَّكْلِيبِ (¬2) وهو الإِغْراءُ. النوعُ (الثاني، ذو المِخْلَبِ؛ كالبازِي، والصَّقْرِ، والعُقابِ، والشّاهينِ، فتَعْلِيمُه بأن يَسْتَرْسِلَ، ويُجِيبَ إذا دُعِيَ، ولا يُعْتَبَرُ تَرْكُ الأكْلِ) فعلى هذا، يُباحُ صَيدُه وإن أكَلَ منه. وبهذا قال ابنُ عباسٍ. وإليه ذهبَ النَّخَعِيُّ، وحَمّادٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ وأصحابُه. ونصَّ الشافعيُّ على أنَّه كالكلبِ في تَحْريمِ ما أكَلَ منه مِن صَيدِه؛ لأنَّ مُجالِدًا رَوَى عن الشَّعْبِيِّ، عن عَدِيٍّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإنْ أكَلَ الكَلْبُ والبَازِيُّ، فلا تَأْكُلْ» (¬3). ولأنَّه جارِحٌ أكَلَ ممّا صادَه عَقِيبَ قَتْلِه، ¬

(¬1) سورة الأنعام 60. (¬2) في الأصل: «التكلب». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 98. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 257.

4666 - مسألة: (ولابد أن يجرح الصيد، فإن قتله بصدمته،

وَلَابُدَّ أَنْ يَجْرَحَ الصَّيدَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِصَدْمَتِه، أَوْ خَنْقِهِ، لَمْ يُبَحْ. وَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ فأشْبَهَ سِباعَ البهائمِ. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ، فروَى الخَلَّالُ بإسْنادِه عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا أكَلَ الكَلْبُ، فَلا تأْكُلِ الصيدَ (¬1)، وإن أكَلَ الصَّقْرُ، فكُلْ؛ لأنَّك تَسْتطيعُ أن تَضْرِبَ الكلْبَ، ولا تسْتطيعُ أن تَضْرِبَ الصَّقْرَ (¬2). وقد ذكَرْنا عن أربعةٍ مِن الصحابةِ إباحَةَ ما أكَلَ منه الكلبُ، وخالفَهُم ابنُ عباسٍ [في الكلبِ] (¬3)، ووافَقَهم في الصَّقْرِ، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ في عَصْرِهم خِلافُهم (¬4)، ولأنَّ جَوارِحَ الطَّيرِ تُعَلَّمُ بالأَكْلِ، ويتَعَذَّرُ تَعْلِيمُها بتَرْكِ الأكْلِ، فلم يقْدَحْ في تَعْلِيمِها، بخلافِ الكلبِ والفهْدِ. وأمّا الخبَرُ، فلا يَصِحُّ، يَرْويه (¬5) مُجالِدٌ، وهو ضعيفٌ. قال أحمدُ: مُجالِدٌ يُصَيِّرُ القِصَّةَ واحِدَةً، كم مِن أُعْجوبَةٍ لِمُجالِدٍ. والرِّوايَةُ الصَّحِيحةُ تُخالِفُه، ولا يصِحُّ قِياسُ الطَّيرِ على السِّباعِ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ. وعلى هذا، كلُّ ما أمْكَنَ تَعْلِيمُه والاصْطِيادُ به مِن جَوارِحِ الطَّيرِ، كالبَازِي والصَّقْرِ والعُقابِ والباشَقِ ونحوه، حَلَّ صَيدُها على ما ذكَرْنا. 4666 - مسألة: (ولابُدَّ أن يَجْرَحَ الصَّيدَ، فإن قَتَلَه بصَدْمَتِه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أورده البيهقي معلقا، في: باب البزاة المعلمة إذا أكلت، من كتاب الصيد والذبائح. السنن الكبرى 9/ 238. وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الجارح يأكل، من كتاب المناسك. المصنف 4/ 473. مختصرًا. (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «خالفهم». (¬5) في م: «برواية».

4667 - مسألة: (وما أصابه فم الكلب، هل يجب غسله؟ على وجهين)

ابنُ حَامِدٍ: يُبَاحُ. وَمَا أَصَابَه فَمُ الْكَلْبِ، هَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو خَنْقِه، لم يُبَحْ) قال الشريفُ: وبه قال أكثرُهم (وقال ابنُ حامدٍ: يُباحُ) وهو قولٌ للشافعيِّ؛ لعُمومِ الآيةِ والخَبَرِ. ولَنا، أنَّه قَتَلَه بغيرِ جُرْحٍ، أشْبَهَ ما لو قَتَلَه بالحَجَرِ والبُنْدُقِ، ولأنَّ اللهَ تعالى حَرَّمَ الموْقُوذَةَ، وهذا كذلك، وهو يَخُصُّ ما ذكرُوه، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ، فَكُلْ» (¬1). يَدُلُّ على أنَّه لا يُباحُ ما لم يُنْهِرِ الدَّمَ. 4667 - مسألة: (وما أصابَه فَمُ الكلبِ، هل يَجِبُ غَسْلُه؟ على وَجْهَين) أحدُهما، لا يَجِبُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ورسولَه أمَرا بأكْلِه، ولم يأْمُرا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 9/ 341، وصفحة 297.

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، إِرْسَالُ الْآلةِ قَاصِدًا لِلصَّيدِ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ أَوْ غَيرُهُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يُبَحْ صَيدُهُ وَإِنْ زَجَرَهُ، إلا أَنْ يَزيدَ عَدْوُهُ بِزَجْرِهِ، فَيَحِلُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بغَسْلِه. والثاني، يَجِبُ؛ لأنَّ نَجاسَتَه قد ثَبَتَتْ، فيَجِبُ غَسْلُ ما أصابَه، كبَوْلِه. فصل: قال رَحِمه اللهُ: (الثالثُ، أن يُرْسِلَ الآلةَ قاصِدًا للصَّيدِ، فإنِ اسْتَرْسَلَ الكلبُ أو غيرُه بنَفْسِه، لم يُبَحْ صَيدُه وإن زَجَرَه، إلَّا أن يَزِيدَ عَدْوُه بزَجْرِه، فيَحِلُّ) وبهذا قال ربيعَةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال عطاءٌ، والأوْزَاعِيُّ: يؤْكَلُ صَيدُه إذا جَرَحَ الصَّيدَ (¬1). وقال إسحاقُ: إذا سَمَّى عندَ انْفِلاته، أُبِيحَ. وروَى بإسْنادِه ¬

(¬1) بعده في الأصل، ر 3: «وإن زجره إلا أن يزيد عدوه بزجره، فيحل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابنِ عمرَ، أنَّه سُئِلَ عن الكلابِ تَنْفَلِتُ مِن مَرابِطِها (¬1) فتَصِيدُ الصَّيدَ؟ قال: [إذا ذُكِرَ] (¬2) اسْمُ اللهِ، فكُلْ (¬3). قال إسحاقُ: فهذا الذي أَخْتارُ إذا لم يتَعَمَّدْ إرْساله مِن غيرِ اسْمِ اللهِ عليه. قال الخَلَّالُ: هذا قولُ أبي عبدِ الله. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وسَمَّيتَ، فكُلْ» (¬4). ولأنَّ إرْسال الجارِحَةِ جُعِلَ بمنْزِلَةِ الذَّبْحِ، ولهذا اعْتُبِرَتِ التَّسْمِيَةُ معه. فإنِ اسْتَرسلَ بنَفْسِه فسمَّى صاحِبُه وزَجَرَه، فزَادَ عَدْوُه بزَجْرِه، أُبِيحَ صَيدُه. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يُباحُ. وعن مالكٍ كالمَذْهَبَين. ولَنا، أنَّ زَجْرَه له (¬5) أثَّرَ في عَدْوه، فصار كما لو أرْسَلَه؛ لأنَّ فِعْلَ الآدَمِيِّ إذا انضافَ إلى فعلِ البهيمةِ، كان الاعْتِبارُ بفِعْلِ الإِنْسانِ، بدليلِ أنَّه لو عَدا على إنْسانٍ، فأغْراه آدَمِيٌّ فأصابَه، ضَمِنَ الآدَمِيُّ. وإن لم يَزِدْ عَدْوُه بزَجْرِه، لم يُبَحْ؛ لأنَّه لم يُؤَثِّرْ شيئًا، فهو كما لو لم يَزْجُرْه. ¬

(¬1) في م: «مرابضها». (¬2) في الأصل: «اذكر». (¬3) انظر ما أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف 5/ 361. (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 85. (¬5) سقط من: م.

4668 - مسألة: (وإن أرسل كلبه إلى هدف فقتل صيدا، أو أرسله يريد الصيد ولا يرى صيدا، لم يحل صيده إذا قتله)

وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ إِلَى هَدَفٍ فَقَتَلَ صَيدًا، أَوْ أَرْسَلَهُ يُرِيدُ الصَّيدَ وَلَا يَرَى صَيدًا، لَمْ يَحِلَّ صَيدُهُ إِذَا قَتَلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن أرْسلَه بغيرِ تَسْمِيَةٍ، سَمَّى وزجَرَه، فزادَ في عَدْوه، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه يُباحُ؛ فإنَّه قال: إذا أرْسلَ، ثم سَمَّى فانْزَجَرَ، أو أرْسلَ وسمَّى، فالمعنى قريبٌ مِن السَّواءِ. وظاهِرُ هذا الإِباحَةُ؛ لأنَّه انْزَجَرَ بتَسْمِيَتِه وزَجْرِه، فأشْبَهَ التي قبلَها. وقال القاضي: لا يُباحُ؛ لأنَّ الحُكْمَ يتَعَلَّقُ بالإِرْسالِ الأوَّلِ، بخلافِ ما إذا اسْتَرْسلَ بنَفْسِه، لأنَّه (¬1) لا يتَعَلَّقُ به حَظْرٌ ولا إباحَةٌ. 4668 - مسألة: (وإن أرْسَلَ كَلْبَه إلى هَدَفٍ فقَتَلَ صَيدًا، أو أرْسَلَه يُرِيدُ الصَّيدَ ولا يَرَى صَيدًا، لم يَحِلَّ صَيدُه إذا قَتَلَه) لأنَّ قَصْدَ الصَّيدِ شَرْطٌ، ولم يُوجَدْ، وكذلك إن قَصَدَ إنْسانًا أو حَجَرًا، أو رَمَى عَبَثًا (¬2) غيرَ قاصِدٍ صَيدًا فقَتَلَه، لم يَحِلَّ؛ لأنَّه لم يقْصِدْ صَيدًا، لكَوْنِ القَصْدِ ¬

(¬1) في الأصل: «ولأنه». (¬2) في م: «عينًا».

4669 - مسألة؛ (فإن رمى حجرا يظنه صيدا، فأصاب صيدا، لم يحل. ويحتمل أن يحل)

وَإِنْ رَمَى حَجَرًا يَظُنُّهُ صَيدًا، فَأَصَابَ صَيدًا، لَمْ يَحِلَّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحِلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يتحقَّقُ إلَّا بعِلْمِه. وبهذا قال الشَّافِعِيُّ في الكلبِ. وقال الحسَنُ، ومُعاويَةُ بنُ قُرَّةَ: يأْكُلُه؛ لعُمومِ الآيةِ والخبرِ، ولأنَّه قَصَدَ الصَّيدَ، فحَلَّ له ما صادَه، كما لو رآه. ولَنا، أنَّ قَصْدَ الصَّيدِ شَرْطٌ، ولا يَصِحُّ مع عَدَمِ العِلْمِ، فأشْبَهَ ما لو لم يقْصِدِ الصَّيدَ. 4669 - مسألة؛ (فإن رَمَى حَجَرًا يَظُنُّهُ صَيدًا، فأصاب صَيدًا، لم يَحِلَّ. ويَحْتَمِلُ أن يَحِلَّ) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه لم يقْصِدْ صَيدًا (¬1) على الحقيقَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَحِلَّ. اخْتارَه شيخُنا؛ لأنَّه قَصَدَ الصَّيدَ، أشْبَهَ ما لو رآه، ولأنَّ صِحَّةَ القَصْدِ تَنْبَنِي على الظَّنِّ، وقد وُجِدَ، وصَحَّ قَصْدُه، فيَنْبَغِي أن يَحِلَّ صيدُه. فأمَّا إن شَكَّ هل هو صَيدٌ أو لا؟ وغَلَبَ على ظَنِّه أنَّه ليس بصَيدٍ، لم يُبَحْ؛ لأنَّ صِحَّةَ القَصْدِ تَنْبَنِي على العِلْمِ، ولم يُوجَدْ ذلك. ¬

(¬1) في م: «شيئًا».

4670 - مسألة: (وإن رمى صيدا، فقتل غيره، أو رمى صيدا، فقتل جماعة، حل)

وَإِنْ رَمَى صَيدًا فأَصَابَ غَيرَهُ، أَوْ رَمَى صَيدًا فَقَتَلَ جَمَاعَةً، حَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَأى سَوادًا، أو سمِعَ حِسًّا، فظَنَّه آدَمِيًّا، أو بَهيمةً، أو حَجَرًا، فرَماه فقَتَلَه، فإذا هو صَيدٌ، لم يُبَحْ. وبهذا قال مالِكٌ، ومحمدُ بنُ الحسَنِ. وقال أبو حنيفةَ: [يباحُ. وقال الشَّافعِيُّ] (¬1): يُباحُ إن كان المُرْسَلُ سَهْمًا، ولا يُباحُ إن كان جارِحًا. واحْتَجَّ مَن أباحَه بعُمومِ الآيةِ والخَبَرِ، ولأنَّه قَصَدَ الاصْطِيادَ وسَمَّى، فأشْبَهَ ما لو عَلِمَه صَيدًا. ولَنا، أنَّه لم يقْصِدِ الصَيدَ (¬2)، فلم يُبَحْ، كما لو رَمَى هَدَفًا فأصابَ صيدًا، أو كما في الجارِحِ عندَ الشافعيِّ. وإن ظَنَّه كَلْبًا أو خِنْزِيرًا، لم يُبَحْ؛ لذلك. وقال محمدُ بنُ الحسَنِ: يُباحُ؛ لأنَّه ممَّا يُباحُ قَتْلُه. ولَنا، ما تقَدَّمَ. 4670 - مسألة: (وإن رَمَى صَيدًا، فقَتَلَ غَيرَه، أو رَمَى صَيدًا، فقَتَلَ جَماعَةً، حَلَّ) إذا رَمَى صَيدًا، فأصابَه هو وغيرَه، حلَّا جميعًا، ¬

(¬1) في م: «والشافعي يباح». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والجارِحُ في هذا بمنْزِلَةِ السَّهْمِ. نَصَّ أحمدُ على ذلك. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وقَتادَةُ، وأبو حنيفةَ، والشَّافِعِيُّ، إلَّا أنَّ الشافعيَّ قال: إذا أرْسَلَ الكلْبَ على صَيدٍ، فأخَذَ آخَرَ في طَرِيقِه، حَلَّ، وإن عَدَلَ عن طريقِه إليه، ففيه وَجْهان، وإن أرْسَلَه على صَيدٍ فقَتَلَ غيرَه، أُبِيحَ. وقال مالِكٌ: إذا أرْسَلَ كلْبَه على صَيدٍ بعَينِه، فأخَذَ غيرَه، لم يُبَحْ؛ لأنَّه لم يقْصِدْ صَيدَه، إلَّا أن يُرْسِلَه على صُيودٍ، فتَتَفَرَّقَ عن صِغارٍ، فإنَّها تُباحُ إذا أخَذَها. ولَنا، عُمومُ قولِه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} (¬1). وقولُه - عليه السلام -: «إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عليه، فَكُلْ مِمَّا أمْسَكَ عليك». وقوْلُه - عليه السلام -: «كُلْ ما رَدَّتْ عَلَيكَ قَوْسُكَ» (¬2). ولأنَّه أرْسَلَ آلةَ الصَّيدِ على صَيدٍ، فَحَلَّ ما صادَه، كما لو أرْسَلَها على كِبارٍ فتَفَرَّقَتْ عن صِغارٍ فأخَذَها عندَ مالكٍ، أو كما لو أخَذَ صَيدًا في طريقِه عندَ الشافعيِّ، ولأنَّه لا يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الجارِحِ اصْطِيادَ واحِدٍ بعَينِه دُونَ واحدٍ (¬3)، فسَقَطَ اعْتِبارُه. ¬

(¬1) سورة المائدة 4. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في الصيد، من كتاب الصيد. سنن أبي داود 2/ 99. والترمذي، في: باب ما جاء ما يؤكل من صيد الكلب وما لا يؤكل. من أبواب الصيد. عارضة الأحوذي 6/ 252. وابن ماجه، في: باب صيد القوس، من كتاب الصيد. سنن ابن ماجه 2/ 1071. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 193، 195. (¬3) سقط من: الأصل.

4671 - مسألة: (وإن أرسل سهمه على صيد، فأعانته الريح فقتلته، ولولاها ما وصل، حل)

وَإِنْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيدٍ، فَأَعَانَتْهُ الرِّيحُ، فَقَتَلَهُ، وَلَوْلَاهَا مَا وَصَلَ، حَلَّ. وَإِنْ رَمَى صَيدًا فَأَثْبَتَهُ، مَلَكَهُ، فَإِنْ تَحَامَلَ فَأَخَذَهُ غَيرُهُ، لَزِمَهُ رَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، فَدَخَلَ خَيمَةَ إِنْسَانٍ فَأَخَذَهُ، فَهُوَ لِآخِذِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4671 - مسألة: (وإن أرْسَلَ سَهْمَه على صَيدٍ، فأعانَتْه الرِّيحُ فقَتَلَته، ولَوْلَاها ما وَصَلَ، حَلَّ) لأنَّه قتلَ الحيوانَ بسَهْمِه ورَمْيِه، فحَلَّ، كما لو وقَعَ سَهْمُه في حَجَرٍ، فرَدَّه إلى الصَّيدِ فقَتَلَه. فصل (¬1): وإن سمَّى الصائِدُ على صَيدِ غيرِه، حلَّ. 4672 - مسألة: (وإن رَمَى صَيدًا فأثْبَتَه، مَلَكَه، فإن تَحامَلَ فأَخَذَهُ غَيرُهُ، لَزِمَه رَدُّه) كما يَلْزَمُه رَدُّ الشَّاةِ. 4673 - مسألة: (وإن لم يُثبِتْه، فدَخَلَ خَيمَةَ إنسانٍ فأخَذَه، فهو لآخِذِه) لأنَّ الأوَّلَ لم يَمْلِكْه؛ لكَوْنِه مُمْتَنِعًا، فمَلَكَه الثاني بأخْذِه. ولو ¬

(¬1) سقط هذا الفصل من: م.

4674 - مسألة: (ولو وقع صيد في شبكة إنسان، فخرقها

وَلَوْ وَقَعَ في شَبَكَتِهِ صَيدٌ فَخَرَقَهَا وَذَهَبَ بِهَا، فَصَادَهُ آخَرُ، فَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــ رَمَى طَيرًا على شجرةٍ في دارِ قَوْمٍ، فطرَحَه في دارِهم فأخَذُوه، فهو للرَّامِي دُونَهم؛ لأنَّه ملَكَه بإزالةِ امْتِناعِه. 4674 - مسألة: (ولو وَقَعَ صَيدٌ فِي شَبَكَةِ إنْسانٍ، فخَرَقَها

لِلثَّانى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَهَبَ بها، فصَادَه آخَرُ، فهو للثَّانِي) أمَّا إذا تعَلَّقَ صَيدٌ في شَرَكِ إنسانٍ أو شَبَكَتِه، مَلَكَه؛ لأنَّه أثْبَتَه بآلَتِه. ذكَرَه أصْحابُنا. فإن أخَذَه إنسانٌ، لَزِمَه رَدُّه عليه؛ لأنَّ آلَتَه أثْبَتَتْه، فأشْبَه ما لو أثْبَتَه بسَهْمِه. وإن لم تُمْسِكْه الشَّبَكَةُ، بل انْفَلَتَ منها في الحالِ، أو بعدَ حِينٍ، لم يَمْلِكْه؛ لأنَّه لم يُثْبِتْه. وإن أخَذَ الشَّبَكَةَ، وذهَبَ بها، فصادَه إنسانٌ؛ مَلَكَه، ويَرُدُّ الشَّبَكَةَ على صاحِبِها دونَ الصيدِ (¬1)؛ لأنَّه لم يُثْبِتْه. وإن كان يَمْشِي بالشَّبَكَةِ على وَجْهٍ لا يَقْدِرُ على الامْتِناعِ فهو لِصاحِبِها؛ لأنَّها أزالتِ امْتِناعَه. فأمَّا إن أمْسَكَه الصَّائِدُ، وثَبَتَتْ يَدُه عليه، ثم انْفَلَتَ منه، لم يَزُلْ مِلْكُه عنه؛ لأنَّه امْتَنَعَ منه بعدَ ثُبُوتِ مِلْكِه عليه، فلم يَزُلْ (¬2) مِلْكُه عنه، كما لو شَرَدَتْ فرَسُه، أو نَدَّ بَعِيرُه. فصل: فإنِ اصْطادَ صَيدًا، فوجَدَ عليه عَلامَةً، مثلَ قِلادَةٍ في عُنُقِه، أو وَجَد (¬3) في أُذُنِه (¬4) قُرْطًا، لم يَمْلِكْه؛ لأنَّ الذي صادَه مَلَكَه، فلا يَزُولُ مِلْكُه بالانْفِلاتِ. وكذلك إن وجَدَ طائِرًا مَقْصوصَ الجَناحِ، ويكونُ لُقَطَةً. فإن قيل: يَحْتَمِلُ أن يكونَ (3) الذي أمْسَكَه أوَّلًا مُحْرِمٌ لم يَمْلِكْه، أو أنَّه أرْسَلَه على سَبِيلِ التَّخْلِيَةِ وإزالةِ المِلْكِ عنه، كإلْقاءِ الشيءِ التَّافِهِ. قُلْنا: أمَّا الأوَّلُ فنادِرٌ، وهو مُخالِفٌ للظاهِرِ؛ لأنَّ ظاهِرَ حالِ ¬

(¬1) في م: «الصائد». (¬2) في م: «يرد». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

4675 - مسألة: (ومن كان في سفينة، فوثبت سمكة فوقعت في حجره، فهي له دون صاحب السفينة)

وَإِنْ كَانَ في سَفِينَةٍ، فَوَثَبَتْ سَمَكَةٌ فَوَقَعَتْ في حِجْرِهِ، فَهِيَ لَهُ دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُحْرِمِ أنَّه لا يَصِيدُ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى عليه. وأمَّا الثاني فخِلافُ الأصْلِ، فإنَّ الأصْلَ بقاءُ مِلْكِه عليه. وما ذكَرُوه مُحْتَمِلٌ، فلا يزولُ المِلْكُ بالشَّكِّ. 4675 - مسألة: (ومَن كان في سَفِينَةٍ، فوَثَبَتْ سَمَكَةٌ فوَقَعَتْ في حِجْرِه، فهي له دُونَ صاحِبِ السَّفِينَةِ) وذلك لأنَّ السَّمَكَ مِن الصَّيدِ المُباحِ، فَمُلِكَ بالسَّبْقِ إليه، وهذه حصَلَتْ في يَدِ الذي هي في حِجْرِه، وحِجْرُه له، ويَدُه عليه، دونَ صاحِبِ السَّفِينَةِ، [ألا تَرَى] (¬1) أنَّهما لو تَنازَعا كِيسًا في حِجْرِه، كان أحَقَّ به مِن صاحِبِ السفينَةِ؟ كذا ههُنا. فأمَّا إن وقَعَتِ السَّمَكَةُ في السَّفِينَةِ، فهي لصاحِبِها. ذكَرَهُ ابنُ أبي موسَى. وهو مفْهُومُ كلامِ الخِرقِيِّ؛ لأنَّ السَّفِينةَ ¬

(¬1) في م: «ألم تر».

4676 - مسألة. (وإن صنع بركة ليصيد بها السمك، فما حصل

وَإِنْ صَنَعَ بِرْكَةً لِيَصِيدَ بِهَا السَّمَكَ، فَمَا حَصَلَ فِيهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ مِلْكُه، ويدُه عليها، فما حصَلَ مِن المُباحِ فيها، كان أحَقَّ به، كحِجْرِه. فصل: فإن كانتِ السَّمَكَةُ وثَبَتْ بفعْلِ إنْسانٍ لقَصْدِ الصَّيدِ، كالصَّيَّادِ (¬1) الذي يجْعَلُ في السفينةِ ضَوْءًا بالليلِ، ويَدُقُّ بشيءٍ كالجَرَسِ ليَثِبَ السَّمَكُ في السفينَةِ، فهذا للصَّيَّادِ دُونَ مَن وقَعَ في حِجْرِه؛ لأنَّ الصّائِدَ أثْبَتَها بذلك، فصارَ كمَن رَمَى طائِرًا فألْقاه في دارِ قَوْمٍ. وإن لم يقْصِدِ الصَّيدَ بهذا، بل حصلَ اتِّفاقًا، كانت لمَن وقَعَتْ في حِجْرِه. 4676 - مسألة. (وإن صَنَعَ بِرْكَةً ليَصِيدَ بها السَّمَكَ، فما حَصَلَ ¬

(¬1) في الأصل: «كالصيد».

مَلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ذَلِكَ، لَمْ يَمْلِكْهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَصَلَ في أَرْضِهِ سَمَكٌ، أَوْ عَشَّشَ فِيهَا طَائِرٌ، لَمْ يَمْلِكْهُ، وَلِغيرِهِ أَخْذُه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها مَلَكَه، وإن لم يَقْصِدْ بها ذلك لَمْ يَمْلِكْهُ) [لِما ذَكَرْنا في الفصلِ الذي قبلَ هذه المسألةِ، ولأنَّها آلةٌ للصيدِ قَصَد بها الصيدَ، أشْبَهتِ الشَبَكةَ والشَّرَكَ، وإذا لم يَقْصِدْ بها الصيدَ، لم يَمْلِكْه] (¬1)، كما لو توَحَّلَ الصَّيدُ في أرْضِه (وكذلك لو حصَلَ في أرْضِه سَمَكٌ) مِن مَدِّ الماءِ (وإن عَشَّشَ فيها طائِرٌ، لم يَمْلِكْه، ولغَيرِه أخْذُه) كما يجوزُ له أخْذُ الماءِ والكَلَأ. ¬

(¬1) سقط من: م.

4677 - مسألة: (ويكره صيد السمك بالنجاسة)

وَيُكْرَهُ صَيدُ السَّمَكِ بِالنَّجَاسَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4677 - مسألة: (ويُكْرَهُ صَيدُ السَّمَكِ بالنَّجاسَةِ) وهو أن يُتْرَكَ في الماءِ شيءٌ نَجِسٌ، كالعَذِرَةِ والمَيتَةِ وشِبْهِهما، ليأْكُلَه السَّمَكُ ليَصِيدَ به. كَرِهَ أحمدُ ذلك، وقال: هو حَرامٌ، لا يُصادُ به. وإنَّما كَرِهَه لِمَا يتَضَمَّنُ مِن أكلِ السَّمَكِ للنَّجاسَةِ، فيُشْبِهُ الجَلَّالةَ. وسواءٌ في هذا ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يتفَرَّقُ، كالدَّم، وما لا يتَفَرَّقُ، كقِطْعَةٍ مِن المَيتَةِ. وكَرِهَ أحمدُ الصَّيدَ ببَناتِ وَرْدانَ (¬1)، وقال: إنَّ مَأْواها (¬2) الحُشُوشُ. وكَرِهَ الصَّيدَ بالضَّفادِعِ، وقال: نُهِيَ عن قَتْلِ الضِّفْدَعِ (¬3). ¬

(¬1) بنت وردان: دويبة مثل الخنفساء، حمراء اللون. (¬2) في الأصل: «ماؤها». (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 228.

4678 - مسألة: (و) يكره (صيد الطير بالشباش)

وَصَيدُ الطَّيرِ بِالشِّبَاشِ. وَإِذَا أَرْسَلَ صَيدًا، وَقَال: أَعْتَقْتُكَ. لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ؛ وَيَمْلِكَهُ مَنْ أَخَذَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4678 - مسألة: (و) يُكْرَهُ (صَيدُ الطَّيرِ بالشِّباشِ) وهو طَائرٌ يَخِيطُ عينَيه أو يَرْبِطُه (¬1). وكَرِهَ أحمدُ الصَّيدَ بالخراطِيمِ (¬2)، وكلِّ شيءٍ فيه رُوحٌ، [لِمَا فيه] (¬3) مِن تَعْذيبِ الحيوانِ، فإنْ صادَه، فالصَّيدُ مُباحٌ. ولم يَرَ بَأْسًا بالصَّيدِ بالشَّبَكَةِ، والشَّرَكِ، وبالدِّبْقِ الذي يَمْنَعُ الحيوانَ مِن الطَّيَرانِ، وأن يطْعَمَ شيئًا إذا أكلَه سَكِرَ وأُخِذَ. 4679 - مسألة: (وإن أرْسَلَ صَيدًا، وقال: أعْتَقْتُكَ. لم يَزُلْ مِلْكُه عنه. ويَحْتَمِلُ أن يَزُولَ) وهو لِمَن أخَذَه. ظاهِرُ المذهبِ أنَّه لا يزُولُ مِلْكُه عنه بالإِرْسالِ والإِعْتاقِ. قاله أصْحابُنا. كما لو أرْسَلَ البَعِيرَ والبقرَةَ. ¬

(¬1) انظر 11/ 32. (¬2) الخراطيم: جمع الخرطوم، وهو الخمر السريع الإسكار. (¬3) سقط من: الأصل.

فَصْلٌ: الرَّابعُ، التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَو الْجَارِحَةِ، فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْتَمِلُ أنْ يزولَ المِلْكُ؛ لأنَّ الأصْلَ الإِباحَةُ، والإِرْسالُ يَرُدُّه إلى أصْلِه. ويُفارِقُ بهِيمَةَ الأنْعامِ مِن وجْهَين؛ أحدُهما، أنَّ الأصْلَ ههُنا الإِباحَةُ، وبهيمَةُ الأنْعامِ بخلافِه. الثاني، أنَّ الإِرْسال ههُنا يُفيدُ، وهو رَدُّ الصَّيدِ إلى الخلاص. مِن أيدِي الآدَمِيِّين وحبْسِهم، ولهذا رُوِيَ عن أبي الدَّرْداءِ أنَّه اشْتَرَى عُصْفُورًا مِن صَبِيٍّ فأرْسَلَه، ولأنَّه يَجِبُ إرْسالُ الصَّيدِ على المُحْرِمِ إذا أحْرَمَ، بخلافِ بهيمَةِ الأنْعامِ، فإنَّ إرْساله تَضْيِيعٌ له، ورُبَّما هلَكَ إذا لم يكُنْ له مَن يَقُومُ به. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (الرابعُ التَّسْمِيَةُ عندَ إرْسالِ السَّهْمِ أو

تَرَكَهَا، لَمْ يُبَحْ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ، إِنْ نَسِيَهَا عَلَى السَّهْمِ، أُبِيحَ، وَإِنْ نَسِيَهَا عَلَى الْجَارِحَةِ، لَمْ يُبَحْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجارِحَةِ، فإن تَرَكَها، لم يُبَحْ، سواءٌ تَرَكَها عَمْدًا أو سَهْوًا، في ظاهرِ المذْهَبِ. وعنه، إن نَسِيَها على السَّهْمِ أُبِيحَ، وإن نَسِيَها على الجارِحَةِ لم يُبَحْ) ظاهِرُ المذهب أنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ لإِباحَةِ الصَّيدِ، وأنَّها لا تسْقُطُ بالسَّهْو. وهو قولُ الشَّعْبِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وداودَ. ورَوَى حَنْبَلٌ عن أحمدَ، أنَّ التَّسْمِيَةَ تسْقُطُ بالنِّسْيانِ. قال الخَلَّالُ: سَها حَنْبَلٌ (¬1) في نَقْلِه. وممَّن أباحَ مَتْروكَ التَّسْمِيَةِ في النِّسْيانِ دونَ العَمْدِ أبو حنيفةَ، ومالِكٌ؛ لقوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عن الخَطَأ والنِّسْيَانِ» (¬2). ولأنَّ إرْسال الجارِحَةِ جَرَى مَجْرَى التَّذْكِيَةِ، فعُفِيَ عن النِّسْيانِ فيه، كالذَّكاةِ. وعن أحمدَ، أنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْتَرَطُ على إرْسالِ الكَلْبِ في (¬3) العَمْدِ والنِّسْيانِ بخلافِ السَّهْمِ، فإنَّ السَّهْمَ آلةٌ حقيقَةً (¬4)، وليس له اخْتِيارٌ، فهو بمَنزِلَةِ ¬

(¬1) في م: «أحمد». (¬2) تقدم تخريجه في 1/ 256. (¬3) في م: «و». (¬4) في م: «خفيفة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السِّكِّينِ، بخلافِ الحيوانِ، فإنَّه يفْعَلُ باخْتِيارِه. وقال الشافِعِيُّ: يُباحُ مَتْروكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وسَهْوًا؛ لأنَّ البَراءَ روَى، أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ على اسْمِ اللهِ، سَمَّى أو لم يُسَمِّ» (¬1). وعن أبي هُرَيرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قيلَ له: أرأيتَ الرَّجُلَ منَّا يَذْبَحُ ويَنْسَى أن يُسَمِّيَ اللهَ؟ فقال: «اسْمُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬2). وقد رُوِيَ عن أحمدَ مثلُ ذلك. ولَنا، قولُه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ} (¬3). وقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ}. وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وذَكَرْتَ [اسْمَ اللهِ عَلَيهِ] (¬4)، فَكُلْ». قلتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فأجدُ معه كَلْبًا آخَرَ؟ قال: «لا تَأْكُلْ، فإنَّكَ إنَّما سَمَّيتَ على كَلْبِكَ، ولم تُسَمِّ على الآخَرِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وفي لفْظٍ: «إذا خَالطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيهَا، ¬

(¬1) تقدم الكلام عليه في صفحة 323. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 325. (¬3) سورة الأنعام 121. (¬4) في الأصل: «وسميت». (¬5) تقدم تخريجه في 11/ 85.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمْسَكْنَ وقَتَلْنَ، فلا تَأْكُلْ». وفي حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ: «ومَا صِدْتَ بقَوْسِكَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عليه، فكُلْ» (¬1). وهذه نصوصٌ صَحِيحَةٌ، فلا يُعَرَّجُ على ما خالفَها. وقولُه: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ». يَقْتَضِي نَفْيَ الإِثْمِ، لا جَعْلَ الشَّرْطِ [المعْدُومِ كالموجُودِ] (¬2)، بدليلِ ما لو نَسِيَ شَرْطَ الصَّلاةِ. والفَرْقُ بينَ الصَّيدِ والذَّبِيحَةِ، أنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ في مَحَلِّه، فجازَ أن يُتَسامَحَ فيه، بخلافِ الصَّيدِ. وأحَادِيثُ أصْحابِ الشافعيِّ، لم يذْكُرْها أصْحابُ السُّنَنِ المشْهُورَةِ، وإن صَحّتْ فهي في الذَّبِيحَةِ، ولا يصحُّ قياسُ الصَّيدِ على الذَّبِيحَةِ؛ لِمَا ذكَرْنا، مع ما في الصَّيدِ مِن النُّصوصِ الخاصَّةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 157. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا سَمَّى الصائِدُ على صَيدٍ فأصابَ غيرَه، حَلَّ، وإن سَمَّى على سَهْمٍ، ثم ألْقاه وأخَذَ غيرَه، فرَمَى به، لم يُبَحْ ما صادَ به؛ لأنَّه لمَّا لم يُمْكِنِ اعْتِبارُ التَّسْمِيَةِ على صَيدٍ بعَينِه، اعْتُبِرَتْ على الآلةِ التي يَصِيدُ بها، بخلافِ الذَّبِيحَةِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يُباحَ، قياسًا على ما لو سمَّى على سِكِّينٍ ثم ألْقاها وأخَذَ غيرَها، وسُقُوطُ اعْتِبارِ تعْيِينِ الصَّيدِ لمَشَقَّتِه، لا يَقْتَضِي اعْتِبارَ تَعْيينِ الآلةِ، فلا يُعْتَبَرُ.

كتاب الأيمان

كِتَابُ الْأَيْمَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الأيمان والأصْلُ في مَشْرُوعِيَّتِها وثُبوتِ حُكْمِها، الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ، فقولُه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ} (¬1). الآية. وقال تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (¬2). وأمَرَ نَبِيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالحَلِفِ في ثَلاثةِ مَواضِعَ، فقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (¬3). وقال سبحانَه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (¬4). وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (¬5). وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي وَاللهِ، إنْ شَاءَ اللهُ، لَا أحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ ¬

(¬1) سورة المائدة 89. (¬2) سورة النحل 91. (¬3) سورة يونس 53. (¬4) سورة سبأ 3. (¬5) سورة التغابن 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَيرٌ وتَحَلَّلْتُهَا». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وكان أكثرُ قَسَمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمُصَرِّفِ القُلُوبِ» (¬2). «وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ» (¬3). ثَبَت هذا عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في آيٍ وأخْبارٍ سِوَى هذَين كثيرٍ. وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ على مَشْرُوعِيَّةِ اليَمِينِ، وثُبوتِ أحْكامِها. ووَضْعُها في الأصْلِ لتَوْكيدِ (¬4) المَحْلوفِ عليه. فصل: وتَصِحُّ مِن كلِّ مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ قاصِدٍ إلى اليمينِ، ولا تَصِحُّ مِن غيرِ مُكَلَّفٍ، كالصَّبِيِّ والمجنونِ والنائمَ؛ [لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ» (¬5). ولأنَّه قولٌ (¬6) يَتَعَلَّقُ به وجوبُ حَقٍّ، فلم يَصِحَّ من غيرِ مُكَلَّفٍ] (¬7)، كالإِقْرارِ. وفي السَّكْرانِ وَجْهان، بِناءً على [أنَّه هل هو] (¬8) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 207، 208. (¬2) أخرجه النسائي، في: باب الحلف بمصرف القلوب، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 3. وابن ماجه، في: باب يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 677. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب يحول بين المرء وقلبه، من كتاب القدر، وفي: باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الأيمان، وفي: باب مقلب القلوب، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 8/ 157، 160، 9/ 145. وأبو داود، في: باب ما جاء في يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كانت، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 202. والترمذي، في: باب كيف كان يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 24. والنسائي، في: أول كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 3. والدارمي، في: باب بأي أسماء الله حلفت لزمك، من كتاب النذور. سنن الدارمي 2/ 187. والإمام مالك بلاغًا، في: باب جامع الأيمان، من كتاب النذور. الموطأ 2/ 480. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 26، 67، 68، 127. (¬4) في الأصل: «كتوكيد». (¬5) تقدم تخريجه في 3/ 15. وانظر طرق الحديث في: الإرواء 2/ 4 - 7. (¬6) في الأصل، م: «حق». (¬7) سقط من: ق، م. (¬8) في م: «أن هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُكَلَّفٌ، [أو غيرُ مُكَلَّفٍ] (¬1)؟ ولا تَنْعَقِدُ يَمِينُ مُكْرَهٍ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: تَنْعَقِدُ؛ لأنَّها يَمِينُ مُكَلَّفٍ، فانْعَقَدَتْ، كيَمِينِ المُخْتارِ. ولَنا، ما روَى أبو أُمامَةَ، وواثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» (¬2). ولأنَّه قولٌ حُمِلَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَصِحَّ، ككلمَةِ الكُفْرِ. فصل: وتَصِحُّ من الكافِرِ، وتَلْزَمُه الكَفَّارَةُ بالحِنْثِ، سَواءٌ حَنِث في كُفْرِه أو بعدَ إسْلامِه. وبه قال الشافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، إذا حَنِث بعدَ إسْلامِه. وقال الثَّوْرِيُّ، وأصحابُ الرَّأْي: لا تَنْعَقِدُ يَمِينُه؛ لأنَّه ليس بمُكَلَّفٍ. ولَنا، أنَّ عمرَ نَذَر في الجاهِلِيَّةِ أن يَعْتَكِفَ في المسجدِ الحرامِ، فأمَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالوَفاءِ بنَذْرِه (¬3). ولأنَّه من أهْلِ القَسَمِ، بدليلِ قولِه تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (¬4). ولا نُسَلِّمُ أنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، وإنَّما تَسْقُطُ عنه العِباداتُ بإسْلامِه؛ لأنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ ما قبلَه، فأمَّا ما الْتَزَمه بنَذْرِه أو يَمِينِه، فيَنْبَغِي أن يَبْقَى حُكْمُه في حَقِّه؛ لأنَّه من جِهَتِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه الدارقطني، في: كتاب النذور. سنن الدارقطني 4/ 171. وهو حديث منكر. انظر: تلخيص الحبير 4/ 171. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬4) سورة المائدة 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والأيمانُ تَنْقَسِمُ خمسةَ أقْسامٍ؛ أحدُها، واجِبٌ، وهي التي يُنْجِي بهِا إنْسانًا مَعْصومًا مِن هَلَكَةٍ، كما رُوِيَ عن سُويَدِ (¬1) بنِ حَنْظَلَةَ، قال: خرَجْنا نُرِيدُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا وائلُ بنُ حُجْرٍ، فأَخَذَه عَدُوٌّ له، فتَحَرَّجَ القومُ أن يَحْلِفُوا، وحَلَفَتُ أنا أنَّه أخِي، فذَكَرْتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ». رَواه أبو داودَ (¬2). فهذا وأشباهُه واجِبٌ؛ لأنَّ إنْجاءَ المعْصومِ واجِبٌ، وقد تَعَيَّنَ في اليَمِينِ، فيَجِبُ، وكذلك إنْجاءُ نَفْسِه، مثلَ أن تَتَوَجَّهَ أيمانُ القَسامَةِ في دَعْوَى القتلِ عليه، وهو بَرِئٌ. الثاني، مَنْدُوبٌ، وهو الحَلِفُ الذي تَتَعَلَّقُ به مَصْلَحَةٌ؛ مِن إصْلاحٍ بينَ مُتَخاصِمَين، أو إزالةِ حِقْدٍ مِن قلبِ مسلمٍ عن الحالِفِ أو غيرِه، أو في دَفْعِ شَرٍّ، فهذا مَنْدُوبٌ؛ لأنَّ فِعْلَ هذه الأمُورِ مندوبٌ إليه، واليَمِينَ مُفْضِيَةٌ إليه. وإن حَلَفَ على فِعْلِ طاعَةٍ، أو تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، أنَّه مَنْدوبٌ إليه. وهو قولُ بعضِ أصْحابِنا، وأصحابِ الشافِعِيِّ؛ لأنَّ ذلك يَدْعُوه إلى فِعْلِ الطَّاعاتِ؛ وتَرْكِ المَعاصِي. والثاني، ليس بمنْدوبٍ إليه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابَه لم يكونُوا يَفْعَلُون ذلك في الأكثرِ الأغْلَبِ، ولا حَثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا عليه، ولا نَدَبَهُم إليه، ولو كان ذلك طاعَةً لم يُخِلُّوا به، ولأن ذلك يَجْرِي مَجْرَى النَّذْرِ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن النَّذْرِ، وقال: «إنَّهُ لَا ¬

(¬1) في الأصل: «سعيد». (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأْتِي بِخَيرٍ، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). الثالثُ، المُباحُ، مثل الحَلِفِ على فِعْلٍ مُباحٍ أو تَرْكِه، والحَلِفِ على الخَبَرِ بشيءٍ هو صادِقٌ فيه، أو يَظُنُّ أنَّه فيه صادِقٌ، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ} (¬2). ومِن صُورِ اللَّغْو أن يَحْلِفَ على شيءٍ يَظُنُّه كما حَلَف، ويَبِينَ بخِلافِه. الرابعُ، المَكْرُوهُ، وهو الحَلِفُ على مَكْرُوهٍ، أو تَرْكِ مندوبٍ، قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَينَ النَّاسِ} (¬3). ورُوِيَ أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللهُ عنه، حَلَفَ لا يُنْفِقُ على مِسْطَحٍ بعدَ الذي قال لعائِشةَ ما قال، وكان مِن أهلِ الإفْكِ، فأنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} (¬4). قيلَ: المرادُ بقولِه: {وَلَا يَأْتَلِ}. أي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، من كتاب القدر، وفي: باب الوفاء بالنذر، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 8/ 155، 176. ومسلم، في: باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئًا، من كتاب النذر. صحيح مسلم 3/ 1261. كما أخرجه أبو داود، في: باب كراهية النذر، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 207. والترمذي، في: باب في كراهية النذر، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 21، 22. والنسائي، في: باب النهي عن النذر، وباب النذر لا يقدم شيئًا. . . .، وباب النذر يستخرج به من البخيل، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 15، 16. وابن ماجه، في: باب النهي عن النذر، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 686. والدارمي، في: باب النهي عن النذر، من كتاب النذور. سنن الدارمي 2/ 185. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 61، 235، 242، 301، 314، 412، 463. (¬2) من سورة البقرة 225، وسورة المائدة 89. (¬3) سورة البقرة 224. (¬4) سورة النور 22. والحديث تقدم تخريجه في 25/ 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَمْتَنِعْ. ولأنَّ اليمينَ على ذلك مانِعَةٌ مِن فِعْلِ الطَّاعَةِ، أو (¬1) حامِلَةٌ على فِعْلِ المَكْرُوهِ، فتكونُ مَكْرُوهَةً. فإن قيلَ: لو كانت مَكْرُوهَةً لأنْكَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الأعْرابِيِّ الذي سَألَه عن الصَّلواتِ، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ فقال: «لَا، إلَّا أنْ تَطَوَّعَ». فقال: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أَزِيدُ عليها ولا أنْقُضُ منها. ولم يُنْكِرْ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بل قال: «أفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ» (¬2). قُلْنا: لا يلزَمُ هذا، فإنَّ اليَمِينَ على تَرْكِها، [لا تَزِيدُ على] (¬3) تَرْكِها، ولو تَرَكَها، لم يُنْكَرْ عليه، ويَكْفِي في ذلك بَيانُ أنَّ ما تَرَكَه تَطَوُّعٌ، وقد بَيَنّهَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَوْلِه: «إلَّا أنْ تَطَوَّعَ». ولأنَّ هذه اليَمِينَ إن تَضَمَّنَتْ تَرْكَ المنْدوبِ، فقد تَناوَلَتْ فِعْلَ الواجِبِ، والمُحافَظَةَ عليه كلِّه، بحيثُ لا يَنْقُصُ منه شيئًا، وهذا في الفَضْلِ يَزِيدُ على ما قابَلَه مِن تَرْكِ التَّطَوُّعِ، فيَتَرَجَّحُ جانِبُ الإِتْيانِ بها على تَرْكِها، فيكونُ مِن قِبَلِ المندُوبِ، فكيفَ يُنْكَرُ! ولأنَّ في الإِقْرارِ على هذه اليَمِينِ بَيانَ حُكْمٍ يُحْتاجُ إليه، وهو بَيانُ أنَّ تَرْكَ التَّطَوُّعِ غيرُ مُؤاخَذٍ به، ولو أنْكَرَ على الحالِفِ هذا، لحَصَلَ ضِدُّ هذا، وتَوَهَّمَ كثيرٌ مِن الناسِ لُحوقَ الإِثْمِ بتَرْكِه، فيَفُوتُ الغَرَضُ. ومِن قِسْمِ المَكْرُوهِ الحَلِفُ في البَيعِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحَلِفُ مُنْفِقٌ للسِّلْعَةِ، مُمْحِقٌ ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 126. ويضاف إليه: والإمام أحمد، في: المسند 1/ 162. (¬3) في الأصل: «تزيد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للبَرَكَةِ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). القِسمُ الخامِسُ، المُحَرَّمُ، وهو الحَلِفُ الكاذِبُ، فإنَّ اللهَ تعالى ذَمَّه بقَوْلِه سبحانَه: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). ولأنَّ الكَذِبَ حَرامٌ، فإذا كان مَحْلُوفًا عليه، كان أشَدَّ في التَّحْريمِ. وإن أبْطَلَ به حَقًّا، واقْتَطَعَ به مال مَعْصُومٍ، كان أشَدَّ، فإنَّه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَال مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبانُ» مُتَّفَقٌ على مَعْناه (¬3). وأنْزَلَ اللهُ تعالى في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ يَوْمَ ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كراهية الأيمان في البيع والشراء، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 745. كما أخرجه البخاري، في: باب يمحق الله الربا. . . .، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 78. ومسلم، في: باب النهي عن الحلف في البيع، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1228. وأبو داود، في: باب في كراهية اليمين في البيع، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 219، 220. والنسائي، في: باب المنفق سلعته بالحلف الكاذب، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 216. (¬2) سورة المجادلة 14. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، من كتاب الخصومات، وفي: باب سؤال الحاكم المدعى هل لك بينة. . . .؟ وباب حدثنا عثمان بن أبي شيبة، من كتاب الشهادات، وفي: باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} من كتاب التفسير، وفي: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} من كتاب الأيمان، وفي: باب الحكم في البئر ونحوها، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 1/ 159، 160، 232، 233، 6/ 42، 8/ 171، 9/ 90. ومسلم، في: باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 1/ 122، 123. كما أخرجه أبو داود، في: باب في من حلف يمينا ليقتطع بها مالا لأحد، من كتاب الأيمان. سنن أبي داود 2/ 197. والترمذي، في: باب ما جاء في اليمين الفاجرة. . . .، من أبواب البيوع. وفي: باب سورة آل عمران، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 5/ 271، 11/ 122. وابن ماجه، في: باب من حلف على يمين فاجرة. . . .، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 778. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 377، 379، 426، 442، 460، 5/ 25، 211، 212.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). ومِن هذا القِسْمِ الحَلِفُ على مَعْصِيَةٍ، أو تَرْكِ واجِبٍ، فإنَّ المَحْلُوفَ عليه حَرامٌ، فكان الحَلِفُ حَرامًا؛ لأنَّه وَسِيلَةٌ إليه، والوَسِيلَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ المُتَوَسَّلِ إليه. فصل: ومتى كانتِ اليَمِينُ على فِعْلِ واجِبٍ، أو تَرْكِ مُحَرَّمٍ، كان حَلُّها مُحَرَّمًا؛ لأنَّ حَلَّها بفعلِ المُحَرَّمِ، وهو مُحَرَّمٌ. وإن كانت على منْدوبٍ، أو تَرْكِ مَكْرُوهٍ، فحَلُّها مَكْرُوهٌ، وإن كما نت على مُباحٍ، فحَلُّها مُباحٌ. فإن قيلَ: فكيف يكونُ حَلُّها مُباحًا، وقد قال اللهُ سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (¬2). [قُلْنا: هذا في الأيمانِ في العُهودِ والمواثيقِ، بدليلِ قولِه تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}] (¬3). إلى قولِه: {تَتَّخِذُونَ أَيمَانَكُمْ دَخَلًا بَينَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (¬4). والعَهْدُ يجبُ الوَفاءُ به بغيرِ يَمِينٍ، فمع اليَمِينِ أوْلَى، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬5). ولهذا نَهى عن نَقْضِ اليَمِينِ، والنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وذَمَّهم عليه، وضَرَب لهم مَثَلَ التي نَقَضتْ غَزْلَها مِن بعدِ قُوَّةٍ ¬

(¬1) سورة آل عمران 77. (¬2) سورة النحل 91. (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة النحل 12. (¬5) سورة المائدة 1.

4680 - مسألة: (واليمين التي تجب بها الكفارة، هي اليمين بالله تعالى، أو صفة من صفاته)

وَالْيَمِينُ الَّتى تَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ، هِيَ الْيَمِينُ بالله تِعَالى، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنْكاثًا، ولا خِلافَ في أنَّ الحَلَّ (¬1) المُخْتَلَفَ فيه لا يَدْخُلُه شيءٌ مِن هذا. وإن كانت على فِعْلِ مَكْرُوهٍ، أو تَرْكِ مَنْدُوبٍ، فحَلُّها مندوبٌ إليه، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وكَفِّرْ عَنْ يَميِنِكَ» (¬2). وقال - عليه السلام -: «إنِّي وَاللهِ، إنْ شَاءَ اللهُ، لَا أحْلِفَ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وتَحَلَّلْتُهَا» (¬3). وإن كانتِ اليَمِينُ على فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أو تَرْكِ واجِبٍ، فحَلُّها واجِبٌ؛ لأنَّ حَلَّها بفِعْلِ الواجِبِ، وفعلُه واجِبٌ. 4680 - مسألة: (واليمينُ التي تَجِبُ بها الكَفَّارَةُ، هي اليمينُ باللهِ تعالى، أو صِفَةٍ مِن صِفاتِه) أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَن حَلَف بالله تعالى، فقال: واللهِ. أو: باللهِ. أو: تاللهِ. فحَنِثَ، أنَّ عليه الكَفَّارَةَ. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬4): وكان مالكٌ، وأبو عُبَيدٍ، والشافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، ¬

(¬1) في م: «المحل». (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 207. (¬3) تقدم تخريجه في 23/ 207، 208. (¬4) انظر الإشراف 2/ 235.

4681 - مسألة: (وأسماء الله تعالى قسمان؛ أحدهما، ما لا يسمى به غيره، نحو: والله، والقديم الأزلي، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وخالق الخلق، ورازق العالمين. فهذا القسم به يمين بكل حال)

وَأَسْماءُ اللهِ تَعَالى قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا، مَا لَا يُسَمَّى بِهِ غَيرُهُ، نَحْوَ: واللهِ، وَالْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، وَالْأَوَّلِ الَّذِي لَيسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرِ الَّذِي لَيسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ، وَرَازِقِ الْعَالمِينَ. فَهَذَا الْقَسَمُ بِهِ يَمِينٌ بِكُلِّ حَالٍ. والثَّاني، مَا يُسَمَّى به غَيرُهُ، وَإِطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إِلَى اللهِ تعالى؛ كَالرَّحْمَنِ، وَالرَّحِيمِ، وَالْعَظِيمِ، وَالْقَادِرِ، وَالرَّبِّ، وَالْمَوْلَى، وَالرَّزَّاقِ وَنَحْوهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْي، يقولُون: مَن حَلَف باسمٍ مِن أسماءِ الله تعالى، فحَنِثَ، فعليه الكَفَّارَةُ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا، إذا كان مِن أسماءِ اللهِ التي لا يُسَمَّى بها سِوَاه. 4681 - مسألة: (وأسماءُ اللهِ تعالى قِسْمان؛ أحدُهما، ما لا يُسَمَّى به غيرُه، نحوَ: واللهِ، والقديمِ الأزَليِّ، والأوَّلِ الذي ليس قبلَه شيءٌ، والآخِرِ الذي ليس بعدَه شيءٌ، وخالقِ الخَلْقِ، ورازِقِ العالمِينَ. فهذا القَسَمُ به يَمِينٌ بكلِّ حالٍ) وكذلك قوْلُه: ورَبِّ العالمِين، ورَبِّ السَّمَواتِ، والحَيِّ الذي لا يَمُوتُ (الثاني، ما يُسَمَّى به غيرُه، وإطْلاقُه يَنْصَرِفُ إلى اللهِ تعالى؛ كالعَظيمِ، والرَّحيمِ، والرَّبِّ، والمَوْلَى، والرَّازِقِ، ونحوه) فأمَّا الرحمنُ، فذكَرَه شيخُنا مِن هذا القِسمِ في الكتابِ

4682 - مسألة: (فهذا إن نوى بالقسم به اسم الله تعالى، أو أطلق، كان يمينا)

فَهَذَا إِنْ نَوَى بِالْقَسَمِ بِهِ اسْمَ اللهِ تَعَالى، أَوْ أَطْلَقَ، فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ نوَى غَيرَه، فَلَيسَ بِيَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المشْروحِ، وذكَره في كتابِ «المُغْنِي» (¬1) مِن القِسْمِ الأوَّلِ، وهو أَوْلَى؛ لأنَّ ذلك إنَّما كان يُسَمَّى به غيرُ اللهِ تعالى مُضافًا، كقَوْلِهم في مُسَيلِمَةَ: رَحْمانُ اليَمامَةِ. أمَّا إذا أُطْلِقَ، فلا يَنْصَرِفُ إلَّا إلى اللهِ تعالى، فهذا القِسْمُ الذي يُسَمَّى به غيرُ اللهِ مَجازًا، بدليلِ قولِه تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (¬2). و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (¬3). وقال: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (¬4). وقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬5). 4682 - مسألة: (فهذا إن نَوَى بِالقَسَمِ به اسْمَ اللهِ تعالى، أو أطْلَقَ، كان يَمِينًا) لأنَّه بإطْلَاقِه يَنْصَرِفُ إليه [وإن نَوَى غيرَه، فليس بيَمِينٍ]) لأنَّه يَسْتَعْمِلُه في غيرِه فيَنْصَرِفُ إليه] (¬6) بالنِّيَّةِ. وهذا مذهبُ ¬

(¬1) 13/ 452. (¬2) سورة يوسف 50. (¬3) سورة يوسف 42. (¬4) سورة النساء 8. (¬5) سورة التوبة 128. (¬6) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافِعِيِّ. وقال طَلْحَةُ العَاقُولِيُّ: إذا قال: والرَّبِّ، والخالِقِ، والرَّازِقِ. كان يَمِينًا على كُلِّ حالٍ، كالأوَّلِ؛ لأنَّها (¬1) لا تُسْتَعْمَلُ مع التَّعْريفِ باللامِ إلَّا في اسْم اللهِ تعالى، فأشْبَهَتِ القِسْمَ الأوَّلَ. ¬

(¬1) سقط من: ر 3، ق، م.

4683 - مسألة: (وأما ما لا يعد من أسمائه، كالشيء والموجود)

وَأَمَّا مَا لَا يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهِ، كَالشَّيْءِ، وَالْمَوْجُودِ، فَإِنْ لَمْ يَنْو بِهِ اللهَ تَعَالى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَإِنْ نَوَاهُ، كَانَ يَمِينًا. وَقَال الْقَاضِي: لَا يَكُونُ يَمِينًا أَيضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4683 - مسألة: (وأمَّا ما لا يُعَدُّ مِن أسْمائِه، كالشيءِ والمَوْجُودِ) والحَيِّ، والعالِمِ، والمُؤْمِنِ، والكريمِ، والشَّاكِرِ (فإن لم يَنْو به اللهَ تعالى) أو نَوَى غيرَه (لم يَكُنْ يَمِينًا، وإن نَوَاه، كان يَمِينًا) فيَخْتَلِفُ هذا القِسْمُ والذي قبلَه في حالةِ الإِطْلاقِ، ففي الأوَّلِ يكونُ يَمِينًا، وفي الثاني لا يكونُ يَمِينًا (وقال القاضي) والشافعيُّ في هذا القِسْمِ: (لا يكونُ يَمِينًا أيضًا) وإن قَصَد به اسمَ اللهِ تعالى؛ لأنّ اليَمِينَ إنَّما تَنْعَقِدُ لِحُرْمَةِ (¬1) الاسْمِ، فمع الاشْتِراكِ لا يكونُ له حُرْمَةٌ، والنِّيةُ المُجَرَّدَةُ لا تَنْعَقِدُ بها اليَمِينُ. ولنا، أنَّه أقْسَم باللهِ قاصدًا به الحَلِفَ، فكان يمينًا مُكَفَّرةً، كالقِسْمِ الذي قبلَه. وقولُهم: إنَّ النِّيةَ المُجَرَّدَةَ لَا تَنْعَقِدُ ¬

(¬1) في الأصل: «بحرمة».

4684 - مسألة: (وإن قال: وحق الله، وعهد الله، وايم الله، وأمانة الله، وميثاقه، وقدرته، وعظمته، وكبريائه، وجلاله، وعزته، ونحو ذلك، فهو يمين. وإن قال: والعهد، والميثاق، وسائر ذلك، ولم يضفه إلى الله تعالى، لم يكن يمينا، إلا أن ينوي صفة الله تعالى. وعنه، يكون يمينا)

وَإِنْ قَال: وَحَقِّ اللهِ، وَعَهْدِ اللهِ، وَايمُ اللهِ، وَأَمَانَةِ اللهِ، وَمِيثَاقِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَجَلَالِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ يَمِينٌ. وَإِنْ قَال: وَالْعَهْدِ، وَالْمِيثَاقِ، وَسَائِرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللهِ تَعَالى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، إلا أَنْ يَنْويَ صِفَةَ اللهِ تَعَالى. وَعَنْهُ، يَكُونُ يَمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بها اليَمينُ. نقولُ به، وما انْعَقَدَ بالنّيةِ المُجردةِ، وإنَّما انعقَدَ بالاسْمِ المُحْتَمِلِ المُرادِ به اسمُ اللهِ تعالى، فإنَّ النِّيَّةَ تَصْرِفُ اللَّفْظَ المُحْتَمِلَ إلى (¬1) أحَدِ مُحْتَملاتِه، فيَصِيرُ كالمُصَرَّحِ به، كالكناياتِ، ولهذا لو نَوَى بالقِسْمِ الذي قبلَه غيرَ اللهِ، لم يَكُنْ يَمِينًا لنِيَّتِه. 4684 - مسألة: (وإن قال: وحَقِّ اللهِ، وعَهْدِ اللهِ، وايمُ اللهِ، وأمانَةِ اللهِ، ومِيثاقِه، وقُدْرَتِه، وعَظَمَتِه، وكِبْرِيائِه، وجَلالِه، وعِزَّتِه، ونَحْوَ ذلك، فهو يَمِينٌ. وإن قال: والعَهْدِ، والميثاقِ، وسائِرَ ذلك، ولم يُضِفْه إلى اللهِ تعالى، لم يَكُنْ يَمِينًا، إلَّا أن يَنْويَ صِفَةَ الله تعالى. وعنه، يكونُ يَمِينًا) إذا قال: وحَقِّ اللهِ. فهي يَمينٌ مُكَفَّرَةٌ. وبه قال مالكٌ، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «بعض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافِعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا كَفَّارَةَ لها؛ لأنَّ حَقَّ اللهِ طاعَتُه ومَفْرُوضاتُه، وليست صِفَةً له. ولَنا، أنَّ للهِ حُقوقًا يَسْتَحِقُّها لنَفْسِه؛ مِن البَقاءِ، والعَظَمَةِ، والجَلالِ، والعِزَّةِ، وقد اقْتَرَنَ عُرْفُ الاسْتِعْمالِ بالحَلِفِ بهذه الصِّفَةِ، فيَنْصَرِفُ إلى صِفَةِ اللهِ تعالى، كقَوْلِه: وقُدْرَةِ (¬1) اللهِ. وإن نَوَى بذلك القَسَمَ بمَخْلُوقٍ، فالقولُ فيه كالقَوْلِ في الحَلِفِ بالعلمِ والقُدْرَةِ، إلَّا أنَّ احْتِمال المَخْلُوقِ بهذا اللَّفْظِ أظْهَرُ. وإن قال: وعَهْدِ اللهِ، وكَفالتِه. فذلك يَمِينٌ، يجبُ تَكْفِيرُها إذا حَنِثَ فيها. وبهذا قال الحسنُ، وطاوسٌ، والشَّعْبِيُّ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ، والأوْزاعِيُّ، ومالكٌ. وقال عطاءٌ، وابنُ المُنْذِرِ، وأبو عُبَيدٍ: لا يكونُ يَمِينًا إلَّا أن يَنْويَ. وقال الشافِعيُّ. لا يكونُ يَمِينًا إلَّا أن يَنْويَ اليَمِينَ بعَهْدِ اللهِ الذي هو صِفَتُه. وقال أبو حنيفةَ: ليس بيَمِينٍ. ولَعَلَّهُم ذَهَبُوا إلى أنَّ العَهْدَ مِن صِفاتِ الفعْلِ، فلا يكونُ الحَلِفُ به يَمِينًا، ¬

(¬1) في م: «قدر».

4685 - مسألة: وإن قال: وايم الله، أو: وايمن الله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو قال: وحَقِّ (¬1) اللهِ. وقد وافَقَنا أبو حنيفةَ في أنَّه إذا قال: عَلَيَّ عَهْدُ اللهِ ومِيثاقُه. ثم حَنِثَ، أنَّه تَلْزَمُه الكَفَّارَةُ. ولَنا، أنَّ عَهْدَ اللهِ يِحْتَمِلُ كلامَه الذي أمَرَنا به ونَهانا عنه، لقولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَابَنِي آدَمَ} (¬2). وكلامُه قديمٌ صِفَةٌ له، ويَحْتَمِلُ أنَّه اسْتِحْقاقُه لِما تَعَبَّدَنا به، وقد ثَبَت له عُرْفُ الاسْتِعْمالِ، فيَجبُ أن يكونَ يَمِينًا بإطْلاقِه، كما لو قال: وكلامِ اللهِ. إذا ثَبَت هذا، فإِنَّه إذا قال: عَلَيَّ عَهْدُ اللهِ ومِيثاقُه لأفْعَلَنَّ (3). أو قال: وعَهْدِ اللهِ ومِيثاقِه لأفْعَلَنَّ (¬3). فهو يَمِينٌ. 4685 - مسألة: وإن قال: وايمُ اللهِ، أو: وَايمُنُ اللهِ. فهي يَمِينٌ مُوجِبَةٌ للكَفَّارَةِ، وهو كالحَلِفِ بعَمْرِ اللهِ على ما نَذْكُرُه. وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقْسِمُ به، وانْضَمَّ إليه عُرْفُ الاسْتِعْمالِ، فوَجَبَ أنْ يُصْرَفَ إليه. واخْتُلِفَ في اشْتِقاقِه، فقيل: هو جَمْعُ يَمِينٍ، وحُذِفَتِ النُّونُ فيه في البعضِ تَخْفِيفًا لكَثْرَةِ الاسْتِعْمالِ. وقيل: هو مِن اليَمِينِ، فكأنَّه قال: ويَمِين اللهِ لأفْعَلَنَّ. وألِفُه ألِفُ وَصْلٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «خلق». (¬2) سورة يس 6. (¬3) في م: «لا أفعلن».

4686 - مسألة: وإن قال: وأمانة الله. فقال القاضي: لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تنعقد اليمين بها، إلا أن ينوي الحلف بصفة الله؛ لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق، قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4686 - مسألة: وإن قال: وأمانَةِ اللهِ. فقال القَاضِي: لا يَخْتَلِفُ المذهبُ في أنَّ الحَلِفَ بأمانَةِ اللهِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: لا تَنْعَقِدُ اليَمِينُ بها، إلَّا أن يَنْويَ الحَلِفَ بِصِفَةِ اللهِ؛ لأنَّ الأمانةَ تُطْلَقُ على الفَرائِض والوَدائِعِ والحُقوقِ، قال اللهُ تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬2). يَعْنِي الوَدائِعَ والحُقوقَ. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» (¬3). وإذا كان اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لم يُصْرَفْ إلى أحَدِ مُحْتَمِلاتِه إلَّا بنِيَّتِه (¬4) أو دليلٍ صارِفٍ إليه. ولَنا، أنَّ أمانَةَ اللهِ صِفَةٌ من صِفاتِه، بدليلِ وُجوبِ الكَفَّارَةِ على مَن حَلَف بها إذا نَوَى، [ويَجِبُ] (¬5) حَمْلُها على ذلك عندَ الإِطْلاقِ؛ لوُجوهٍ؛ أحَدُها، أنَّ حَمْلَها على غيرِ ذلك صَرْفٌ ليَمِينِ المسلمِ إلى المَعْصِيَةِ، ¬

(¬1) سورة الأحزاب 72. (¬2) سورة النساء 58. (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 5. (¬4) في م: «ببينة». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو المَكْرُوهِ؛ لكَوْنِه قَسَمًا بمَخْلُوقٍ، والظَّاهِرُ من حالِ المسلمِ خِلَافُه. الثاني، أنَّ القَسَمَ في العادَةِ يكونُ بالمُعَظَّمِ المُحْتَرَمِ دونَ غيرِه، وصِفَةُ اللهِ أعْظَمُ حُرْمَةً وقَدْرًا. الثالِثُ، أنَّ ما ذكَرُوه من الفَرائِضِ والوَدائِعِ لم يُعْهَدِ القَسَمُ بها، ولا يُسْتَحْسَنُ ذلك لو صرّحَ به، فكذلك (¬1) لا يُقْسَمُ بما هو عِبارةٌ عنه. الرابعُ، أنَّ أمانَةَ اللهِ المُضافَةَ إليه، هي صِفَتُه، وغيرُها يُذْكَرُ غيرَ مُضافٍ إليه، كما ذُكِرَ في الآياتِ والخَبَرِ. الخامسُ، أنَّ اللَّفْظَ عامٌّ في كلِّ أمانَةٍ للهِ (¬2)؛ لأنَّ اسمَ الجِنْسَ إذا أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ، أفادَ الاسْتِغْراقَ، فتَدْخُلُ فيه أمانَةُ اللهِ التي هي صِفَتُه، فتَنْعَقِدُ اليَمِينُ بها مُوجِبَةً للكَفَّارَةِ، كما لو نَواها. فصل: والقَسَمُ بصِفَاتِ اللهِ تعالى، كالقَسَمِ بأسْمائِه. وصِفاتُه تَنْقَسِمُ ثلاثَةَ أقْسَامٍ؛ أحَدُها، ما هو صِفاتٌ لذاتِ اللهِ تعالى، لا يَحْتَمِلُ غيرَها، كعِزَّةِ اللهِ، وعَظَمَتِه، وجَلَالِه، وكِبْرِيائِه، وكَلامِه، فهذه تَنْعَقِدُ بها اليَمِينُ في قَوْلِهم جميعًا. وبه يقولُ الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ هذه مِن صِفاتِ ذَاتِه، لم يَزَلْ مَوْصُوفًا بها، وقد وَرَد الأثَرُ بالقَسَمِ ببَعْضِها، فرُويَ أنَّ النَّارَ تقولُ: «قَطِ قَطِ (¬3)، وعِزَّتِكَ». روَاه البُخَارِيُّ (¬4). والذي يَخْرُجُ مِن النَّارِ يقولُ: «وعِزَّتِكَ، لَا ¬

(¬1) في م: «فلذلك». (¬2) في ر 3، م: «الله». (¬3) قط قط: حسبي حسبي. (¬4) في: باب تفسير سورة ق، من كتاب التفسير، وفي: باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، من كتاب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسْأَلُكَ غَيرَها» (¬1). وفي كتابِ اللهِ تعالى: {قَال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2). الثاني، ما هو صِفَةٌ للذَّاتِ، إلَّا أنَّه يُعَبَّرُ به عن غيرِها مَجازًا، كعِلْمِ اللهِ وقُدْرَتِه، فهذه صِفَةٌ للذَّاتِ لم يَزَلْ مَوْصُوفًا بها، وقد تُسْتَعْمَلُ في المَعْلُومِ والمَقْدُورِ اتِّساعًا (¬3)، كقولِهم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا عِلْمَك فينا. ويقالُ: اللَّهُمَّ قد أرَيتَنا قُدْرَتَك، فأَرِنَا عَفْوَكَ. ويُقالُ: انْظُرُوا إلى قُدْرَةِ اللهِ. أي مَقْدُورِه. فمتى أقْسَمَ بهذا، كان يَمِينًا. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال: وعِلْمِ اللهِ. لا يكونُ يَمِينًا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ المَعْلُومَ. ولَنا، أنَّ العِلْمَ من صِفاتِ الله تعالى، فكانتِ اليَمِينُ به يَمِينًا مُوجِبَةً للكَفَّارَةِ، كالعَظَمَةِ، والعِزَّةِ، والقُدْرَةِ، ويَنْتَقِضُ ما ذَكَرُوه بالقُدْرَةِ، فإنَّهم قد سَلَّمُوها، وهي قَرِينَتُها. فأمَّا إن نوَى القَسَمَ بالمَعْلُومِ والمَقْدُورِ، احْتَمَلَ أن لا يكونَ يَمِينًا. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه نَوَى بالاسمِ غيرَ صِفَةِ اللهِ تعالى، مع احْتِمالِ اللَّفْظِ ما ¬

= الأيمان، وفي: باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 6/ 173، 8/ 168، 9/ 143: ولم يرد في الموضع الأول: «وعزتك». كما أخرجه الترمذي، في: باب ومن سورة ق، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذي 12/ 159، 160. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 134، 141، 234. (¬1) أخرجه البخاري، في: باب الصراط جسر جهنم، من كتاب الرقاق، وفي: باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، من كتاب الأيمان، وفي: باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تعليقًا، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 8/ 148، 167، 168، 9/ 143. ومسلم، في: باب معرفة طريق الرؤية، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 276، 293، 534، 3/ 27. (¬2) سورة ص 82. (¬3) في م: «أقساما».

4687 - مسألة: (وإن قال: والعهد، والميثاق، وسائر ذلك، ولم يضفه إلى الله تعالى، لم يكن يمينا، إلا أن ينوي صفة الله تعالى. وعنه، يكون يمينا)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَوَاه، فأَشْبَهَ ما لو نَوَى القَسَمَ بمَخْلُوقٍ في الأسْماءِ التي يُسَمَّى بها غيرُ اللهِ تعالى. وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنَّ ذلك يكونُ يَمِينًا بكلِّ حالٍ، ولا يُقْبَلُ منه نِيَّةُ غيرِ صِفَةِ. اللهِ، كالعَظَمَةِ. وقد ذَكَر طَلْحَةُ العاقُولِيُّ، أنَّ أسماءَ الله تعالى المُعَرَّفَةَ بلامِ التَّعْريفِ، كالخالقِ والرَّازِقِ، أنَّها تكونُ يَمِينًا بكلِّ حالٍ، لأنَّها لا تَنْصَرِفُ إلَّا إلى اسمِ اللهِ تعالى، كذا هذا. الثالثُ، ما لا يَنْصَرِفُ بإطْلاقِه إلى صِفَةِ اللهِ تعالى، لكنْ يَنْصَرِفُ بإضافَتِه إلى اللهِ سُبْحانَه لَفْظًا أو نِيَّةً، كالعَهْدِ والميثاقِ والأمانَةِ، فهذا لا يكونُ يَمِينًا مُكَفَّرَةً إلَّا بإضافَتِه أو نِيَّتِه. وسنَذْكُرُه إن شاءَ اللهُ. 4687 - مسألة: (وإن قال: والعَهْدِ، والمِيثاقِ، وسائِرَ ذلك، ولم يُضِفْه إلى الله تعالى، لم يَكُنْ يَمِينًا، إلَّا أن يَنْويَ صِفَةَ الله تعالى. وعنه، يَكُونُ يَمِينًا) إذا قال: والعَهْدِ، والمِيثاقِ، والأمانَةِ، والعَظَمَةِ، والكِبْرياءِ، والقُدْرِةِ، والجَلالِ. ونَوَى عَهْدَ اللهِ، كان يَمِينًا، وكذلك في سائِرِها؛ لأنَّه نوَى الحَلِفَ بصِفَةٍ مِن صِفاتِ اللهِ. وإن أطْلَقَ، فقال

4688 - مسألة: (وإن قال، لعمر الله. كان يمينا. وقال أبو

وَإِنْ قَال: لَعَمْرُ اللهِ. كَانَ يَمِينًا. وَقَال أبُو بَكْرٍ: لَا يَكُونُ يَمِينًا ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: فيه رِوايتان؛ إحْدَاهما، يكونُ يَمِينًا؛ لأنَّ لامَ التَّعْريفِ إن كانت للعَهْدِ، يَجِبُ أن تُصْرَفَ إلى عَهْدِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه الذي عُهِدَتِ اليَمِينُ به، وإن كانت للاسْتِغْراقِ، دَخَل فيه ذلك. والثانيةُ، لا تكونُ يَمِينًا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ غيرَ ما وَجَبَتْ به الكَفَّارَةُ، ولم يَصْرِفْه إلى ذلك بنِيَّتِه، فلا تَجِبُ الكَفَّارَةُ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُها. فصل: ويُكْرَهُ الحَلِفُ بالأمانَةِ؛ لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ حَلَفَ بالْأَمَانَةِ، فَلَيسَ مِنَّا». رَواه أبو داودَ (¬1). ورُوِيَ عن (¬2) زيادِ بنِ حُدَيرٍ: أنَّ رجلًا حَلَفَ عندَه بالأمانَةِ، فجعلَ يَبْكِي بُكاءً شديدًا، فقال له الرجلُ: هل كان هذا يُكْرَهُ؟ قال: نعم، كان عمرُ يَنْهَى عن الحَلِفِ بالأمانَةِ أشَدَّ النَّهي. 4688 - مسألة: (وإن قال، لَعَمْرُ اللهِ. كان يَمِينًا. وقال أبو ¬

(¬1) في: باب في كراهية الحلف بالأمانة، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 199. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 352. وهو صحيح، سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 132، 133. (¬2) سقط من: م.

إلا أَنْ يَنْويَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَكْرٍ: لا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أن يَنْويَ) ظاهِرُ المذهب أنَّ ذلك يَمِينٌ مُوجِبَةٌ للكَفَّارَةِ وإن لم يَنْو. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال أَبو بكرٍ: إن قَصَدَ اليَمِينَ، فهو يَمِينٌ، وإلَّا فلا. وهو قولُ الشافِعيِّ؛ لأنَّها إنَّما تكونُ يَمِينًا بتَقْدِيرِ خَبَرٍ مَحْذُوفٍ، فكأنَّه قال: لعَمْرُ اللهِ ما أُقْسِمُ به. فيكونُ مَجازًا، والمَجازُ لا يَنْصَرِفُ إليه الإِطْلاقُ. ولَنا، أنَّه أقْسَمَ بصِفَةٍ من صِفَاتِ اللهِ، فكانت يَمِينًا مُوجِبَةً للكَفَّارَةِ، كالحَلِفِ ببَقاءِ اللهِ وحَياتِه. ويُقالُ: العُمْرُ والعَمْرُ واحِدٌ. وقيل: مَعْناه وحَقِّ اللهِ. وقد ثَبَت له عُرْفُ الشَّرْعِ والاسْتِعْمالِ، قال اللهُ تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬1). وقال النَّابِغَةُ (¬2): فَلَا لعَمْرُ الذِي [قَدْ زُرْتَه] (¬3) حِجَجًا … وما أُرِيقَ على الأنْصابِ مِنْ جَسَدِ ¬

(¬1) سورة الحجر 72. (¬2) في ديوانه 19. صنعة ابن السكيت. تحقيق د. شكري فيصل. وقد جاء الشطر الأول برواية أخرى هي: «فلا لعمر الذي سبحت كعبته» في طبعة دار المعارف، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، صفحة 25. (¬3) في ق، ر 3: «قدرته».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال آخرُ: إذَا رَضِيَتْ كِرامُ بَنِي قُشَيرٍ … لَعَمْرُ اللهِ أعْجَبَنِي رِضَاهَا (¬1) وهذا في الشِّعْرِ والكلامِ كثيرٌ. وأمَّا احْتِياجُه إلى التَّقْديرِ، فلا يَضُرُّ، فإنَّ اللَّفْظَ إذا اشْتَهَرَ في العُرْفِ، صارَ من الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ، ويجبُ حَمْلُه عليه (¬2) عندَ الإِطْلاقِ دُونَ مَوْضُوعِه الأصْلِيِّ، على ما عُرِفَ من سائرِ الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ، ومتى احْتاجَ اللَّفْظُ إلى التَّقْديرِ، وَجَب التَّقْدِيرُ له، ولم يَجُزِ اطِّراحُه، ولهذا يُفْهَمُ مُرادُ المُتَكَلِّمِ به من غيرِ اطِّلاعٍ على نِيَّةِ قائِلِه وقَصْدِه، كما يُفْهَمُ أنَّ مُرادَ المُتَكَلِّمِ بهذا (¬3). مِن المتقدِّمِينَ القَسَمُ، ويُفْهَمُ من القَسَمِ بغيرِ حَرْفِ القَسَمِ في أشْعارِهم القَسَمُ (3) في مثلِ قولِه (¬4): * فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِدًا * ويُفْهَمُ من القَسَمِ الذي حُذِفَ في جَوابِه حَرْفُ [«لا» أنّه] (¬5) مُقَدَّرٌ ¬

(¬1) الدر الفريد 1/ 322، ونسبه للعامري. والبيت في اللسان (ر ض ى) منسوبا إلى القحيف العقيلي. (¬2) في م: «فيه». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «قولهم». أي قول امرئ القيس، وهو صدر بيت له عجزه: * ولو قطَّعوا رأسِي لَديكِ وأوْصالي * ديوانه 32. (¬5) في م: «لأنه».

4689 - مسألة: (وإن حلف بكلام الله، أو بالمصحف، أو بالقرآن، فهي يمين فيها كفارة واحدة. وعنه، عليه بكل آية كفارة)

وَإِنْ حَلَفَ بِكَلامِ اللهَ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ، أَوْ بِالْقُرْآنِ، فَهُوَ يَمِينٌ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْهُ، عَلَيهِ بِكُل آيَةٍ كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُرادٌ، كهذا (¬1) البَيتِ، ويُفْهَمُ مِن قولِ اللهِ تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2). {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (¬3). التَّقْديرُ، فكذا ههُنا. وإن قال: عَمْرَكَ اللهَ. كما في قولِه (¬4): أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيلًا … عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يَلْتَقِيانِ؟ فقد قيل: هو مِثْلُ قولِه: نَشَدْتُكَ اللهَ. ولهذا يُنْصَبُ اسْمُ اللهِ فيه. وإن قال: لعَمْرِي، أو لعَمْرُك، أو عَمْرُك. فليس بيَمِينٍ في قولِ أكثَرِهم. وقال الحسنُ، في قوْلِه: لعَمْرِي: عليه الكَفَّارَةُ. ولَنا، أنَّه أقْسَمَ بحَياةِ مخْلُوقٍ، فلم تَلْزَمْه كَفَّارَةٌ، كما لو قال: وحَياتِي. وذلك لأنَّ هذا اللَّفْظَ يكونُ قَسَمًا بحَياةِ الذي أُضِيفَ إليه العَمْرُ، فإنَّ التَّقْديرَ، لَعَمْرُكَ قَسَمِي، أو ما أُقْسِمُ به، والعَمْرُ الحياةُ أو البقاءُ. 4689 - مسألة: (وإن حَلَف بكَلام اللهِ، أو بالمُصْحَفِ، أو بالقُرْآنِ، فَهِي يَمِينٌ فيها كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وعنهَ، عليه بكلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحَلِفَ بكلامِ الله تعالى، أو بالقُرْآنِ، أو بآيَةٍ منه، يَمِينٌ ¬

(¬1) في م: «لهذا». (¬2) سورة يوسف 82. (¬3) سورة البقرة 93. (¬4) هو عمر بن أبي ربيعة، والبيت في شرح ديوانه 503. وتقدم في 20/ 5، 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُنْعَقِدَةٌ، تَجِبُ الكَفَّارَةُ بالحِنْثِ فيها. وبه قال ابنُ مسعودٍ، والحسنُ، وقَتادَةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وعامَّةُ أهْلِ العلْمِ. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: ليس بيَمِينٍ، ولا تَجِبُ به كَفَّارَةٌ. فمنهم مَن (¬1) زعَمَ أنَّه مَخْلُوقٌ، ومنهم مَن قال: لا تُعْهَدُ اليَمِينُ به. ولَنا، أنَّ القُرْآنَ كلامُ اللهِ تعالى، وصِفَةٌ من صِفاتِ ذاتِه، فتَنْعَقِدُ اليَمِينُ به، كما لو قال: وجَلالِ اللهِ، وعَظَمَتِه. وقولُهم: هو مخلوقٌ. قُلْنا: هذا كلامُ المُعْتَزِلَةِ، وإنَّما الخِلافُ مع الفُقَهاءِ، وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْقُرْآنُ كَلامُ اللهِ غَيرُ مَخْلُوقٍ» (¬2). وقال ابنُ عباسٍ في قولِه تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيرَ ذِي عِوَجٍ} (¬3). أي: غيرَ مخلُوقٍ (¬4). ¬

(¬1) بعده في الأصل: «قال». (¬2) أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعًا، انظر: فردوس الأخبار 3/ 279. وعزاه لابن شاهين في السنة عن أبي الدرداء مرفوعًا، في: الدر المنثور 5/ 326. وقال البيهقي: ونقل إلينا عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، مرفوعًا: «القرآن كلام الله غير مخلوق». وروى ذلك أيضًا عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم، مرفوعًا، ولا يصح شيء من ذلك، أسانيده مظلمة، لا ينبغي أن يحتج بشيء منها. . . . الأسماء والصفات 239. انظر اللآلئ المصنوعة 1/ 5. تنزيه الشريعة 1/ 134. تذكرة الموضوعات 77. كشف الخفاء 2/ 94. (¬3) سورة الزمر 28. (¬4) أخرجه البيهقي، في: الأسماء والصفات 239، 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا قولُهم: لا تُعْهَدُ اليَمِينُ به. فيَلْزَمُهم قولُهم: وكبرِياءِ اللهِ، وعَظَمَتِه، وجَلالِه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الحَلِفَ بآيَةٍ منه كالحَلِفِ بجَمِيعِه؛ لأنَّها من كلامِ اللهِ تعالى. وكذلك الحَلِفُ بالمُصْحَفِ، تَنْعَقِدُ به اليَمِينُ. وكان قَتادَةُ يَحْلِفُ بالمُصْحَفِ. ولم يَكْرَهْ ذلك إمامُنا، وإسْحاقُ؛ لأنَّ الحَالِفَ (¬1) بالمُصْحَفِ إنَّما قَصَد الحَلِفَ بالمَكْتُوبِ فيه، وهو القُرْآنُ، فإنَّه بينَ دَفَّتَي المُصْحَفِ بإجْماعِ المسلِمِين. فصل: فإنْ حَلَفَ بالقُرْآنِ، أو بحَقِّ القُرْآنِ، أو بكلامِ اللهِ، لَزِمَتْه كَفَّارَةٌ واحدةٌ. ونَصَّ أحمدُ على أنَّه تَلْزَمُه بكلِّ آيةٍ كَفَّارَةٌ. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِيُّ. وهو قولُ ابنِ مسعودٍ، والحسنِ. وقياسُ المذهبِ أنَّه تَلْزَمُه كَفَّارَةٌ واحدةٌ. وهو قياسُ مذهبِ الشافِعِيِّ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأَنَّ الحَلِفَ بصِفاتِ اللهِ تعالى، وتَكَرُّرَ اليَمِينِ باللهِ سبحانَه، لا يُوجبُ أكثرَ من كَفَّارَةٍ، فالحَلِفُ بصِفةٍ من صِفاتِ اللهِ أوْلَى أن تُجْزِئَه كَفَّارَةٌ واحدةٌ. ¬

(¬1) في م: «الحلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ (¬1) الأوَّلِ، ما رَوَى مجاهدٌ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ بِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَلَيهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ صَبْرٍ، فَمَنْ شاء بَرَّ، وَمَنْ شَاءَ فَجَرَ». رَواه الأثْرَمُ (¬2). ولأنَّ ابنَ مسعودٍ قال ذلك (¬3). ولم نَعْرِفْ له مُخالِفًا في الصحابةِ. قال أحمدُ: وما أعْلمُ شيئًا يَدْفَعُه. قال شيخُنا (¬4): ويَحْتَمِلُ [أن يُحْمَلَ] (¬5) كلامُ أحمدَ، أنَّ في كُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةً، على الاسْتِحْبابِ لمَن قَدَر عليه، فإنَّه قال: عليه بكلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ (¬6)، فإن لم يُمْكِنْه فكفَّارَةٌ واحدةٌ، ورَدُّه إلى واحِدَةٍ عندَ العَجْزِ، دليلٌ على أنَّ ما زادَ عليه غيرُ واجِبٍ. وكلامُ ابنِ مسعودٍ أيضًا يُحْمَلُ على الاخْتِيارِ، [والاحْتِياطِ] (¬7) لكلامِ اللهِ، والمُبالغَةِ في تَعْظِيمِه، كما رُوِيَ عن عائِشَةَ، أنَّها أعْتَقَتْ أرْبَعِين رَقَبَةً حينَ حَلَفَت بالعَهْدِ، وليس ذلك بواجِبٍ. فعلى هذا، تُجْزئُه كفَّارَةٌ واحِدَةٌ؛ لقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬8). وهذه يَمِينٌ، ¬

(¬1) في الأصل زيادة: «ما ذهب إليه ابن مسعود ومن وافقه». ومشار إليها بالإلغاء في ر 3. (¬2) وأخرجه عبد الرزاق، في: باب الحلف بالقرآن والحكم فيه، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 473. والبيهقي، في: باب ما جاء في الحلف بصفات الله تعالى، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 43. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 472. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 43. (¬4) في: المغني 13/ 475. (¬5) سقط من: م. (¬6) بعده في ق، م: «لمن قدر عليها». (¬7) سقط من: ر 3، م. (¬8) سورة المائدة 89.

4690 - مسألة: (وإن قال: احلف بالله أو: أشهد بالله. أو: أقسم بالله. أو: أعزم بالله. كان يمينا. وإن لم يذكر اسم الله، لم يكن

وَإنْ قَال: احلِفُ بِاللهِ أَوْ: أَشْهَدُ باللهِ. أَوْ: أُقْسِمُ باللهِ. أَوْ: أَعْزِمُ باللهِ. كَانَ يَمِينًا. وَإنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، إلا أَنْ يَنْويَ. وَعَنْهُ، يَكُونُ يَمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَدْخُلُ في عُمومِ الأَيمانِ المُنْعَقِدَةِ، ولأنَّها يَمِينٌ واحِدَةٌ، فلم تُوجِبْ كفَّاراتٍ، كسائِرِ الأيمانِ، ولأنَّ إيجابَ كفَّاراتٍ بعَدَدِ الآياتِ يُفْضِي إلى المَنْعَ من البِرِّ والتَّقْوَى والإِصْلاحِ بينَ النَّاسَ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّه بحِنْثِه تَلْزَمُه هذه الكفَّاراتُ كلُّها، يَتْرُكُ المَحْلُوفَ عليه كائِنًا ما كان، وقد يكونُ بِرًّا وتَقْوَى وإصْلاحًا، فتَمْنَعُه يَمِينُه من، وقد نَهَى الله تعالى عنه بقولِه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَينَ النَّاسِ} (¬1). وإن قُلْنا بوُجوبِ كفَّاراتٍ بعَدَدِ الآياتِ، فلم يُطِقْ ذلك، أجْزَأتْه كَفَّارَةٌ واحِدَةٌ. نَصَّ عليه أحمدُ. 4690 - مسألة: (وَإنْ قَال: احلِفُ بِاللهِ أَوْ: أَشْهَدُ باللهِ. أَوْ: أُقْسِمُ باللهِ. أَوْ: أَعْزِمُ باللهِ. كَانَ يَمِينًا. وَإنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ، لَمْ يَكُنْ ¬

(¬1) سورة البقرة 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينًا، إلا أَنْ يَنْويَ. وَعَنْهُ، يَكُونُ يَمِينًا) هذا قولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا، وسَواءٌ نَوَى اليَمِينَ أو أطْلَقَ؛ لأنَّه لو قال: باللهِ. ولم يقُلْ: أُقْسِمُ. ولا: أشْهَدُ. ولم يَذكُرِ الفِعْلَ، كان يَمِينًا، وإنَّما كان يَمِينًا بتَقْديرِ الفِعْلِ قَبْلَه؛ لأنَّ الباءَ تتَعَلَّقُ بفِعْل مُقَدَّرٍ، على ما ذَكَرْناه، فإن أظْهَرَ الفِعْلَ ونَطَق بالمُقَدَّرِ، كان أوْلَى بثُبُوتِ حُكْمهِ، وقد ثَبَت له عُرْفُ الاسْتِعْمالِ، قال اللهُ تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} (¬1). وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ} (¬2)، وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬3). ويقولُ المُلاعِنُ في لِعَانِه: أشْهَدُ باللهِ إنِّي لمِن الصَّادِقِينَ. وتقولُ المَرْأَةُ: أشْهَدُ باللهِ إنَّه لمِن الكاذِبِينَ. ¬

(¬1) سورة المائدة 106. (¬2) سورة الأنعام 109، وسورة النحل 38، وسورة النور 53، وسورة فاطر 42. (¬3) سورة النور 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنْشَدَ أعرابِيٌّ: أُقْسِمُ (¬1) باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ (¬2) وكذلك الحُكْمُ إن ذَكَر الفِعْلَ بلَفْظِ الماضِي، فقال: أقْسَمْتُ بالله (¬3). أو: شَهِدْتُ باللهِ. قال عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ (¬4): أقْسَمْتُ باللهِ لتَنْزِلِنَّهْ ¬

(¬1) في م: «أشهد». (¬2) طبقات الشافعية الكبرى 1/ 264. والرجز دون هذا البيت أيضًا في: الخصائص 2/ 73، شرح المفصل 1/ 44. (¬3) سقط من: م. (¬4) ديوانه 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أرادَ بقَوْلِه: أقْسَمْتُ باللهِ. الخبرَ عن قَسَمٍ ماضٍ، أو بقولِه: أُقْسِمُ باللهِ. الخَبَرَ عن قَسَم يَأْتِي به، فلا كَفارَةَ عليه. وإنِ ادَّعَى ذلك، قُبِلَ منه. وقال القاضي: لا يُقْبَلُ في الحُكْمِ. وهو قولُ بعضِ أصحاب الشافعيِّ؛ لأنَّه خِلافُ الظاهِرٍ. ولَنا، أنَّ هذا حُكْم فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فإذا عَلِمَ مِن نَفْسِه أنَّه نوَى شيئًا وأرادَه، مع احْتِمالِ اللَّفْظِ إيَّاه، لم يَلْزَمْه شيءٌ. وإن قال: شَهِدْتُ باللهِ أنِّي آمَنْتُ باللهِ. فليس بيَمِينٍ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكَرَ أبو بكرٍ، في قَوْلِه: أعْزِمُ باللهِ. أنَّه ليس بيَمِينٍ مع الإِطْلاقِ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له عُرْفُ الشَّرْعِ ولا الاسْتِعْمالِ، فظاهِرُه غيرُ اليَمِينِ؛ لأنَّ مَعْناه: أقْصِدُ اللهَ لأفْعَلَنَّ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه يَحْتَمِلُ اليَمِينَ، وقد اقْتَرَنَ به ما يَدُلُّ عليه، وهو جَوابُه بجَوابِ القَسَمِ، فيكونُ يَمِينًا. فأمَّا إن نوَى بقولِه غيرَ اليَمِينِ، لم يَكُنْ يَمِينًا. فصل: وإن قال: أُولِي باللهِ. أو: حَلَفْتُ باللهِ. أو: آليتُ باللهِ. أو: ألِيَّةً باللهِ. أو: حَلِفًا باللهِ. أو: قَسَمًا باللهِ. فهو يَمِينٌ، سَواءٌ نَوَى به اليَمِينَ أو أَطْلَقَ؛ لِما ذَكَرْناه في: أُقْسِمُ باللهِ. وحُكْمُه حُكْمُه في تَفْصِيله؛ لأنَّ الإيلاءَ والحَلِفَ والقَسَمَ واحِدٌ. قال اللهُ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬1). وقال سعدُ بنُ مُعاذٍ: أحْلِفُ بِاللهِ، لقد ¬

(¬1) سورة البقرة 226.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جاءَكُم أُسَيدٌ بغيرِ الوَجْهِ الَّذي ذَهَبَ به (¬1). وقال الشاعر (¬2): أُولِي برَبِّ الرَّاقِصاتِ إلى مِنًى … ومَطارِحِ (¬3) الأكْوارِ حيثُ تَبِيتُ (¬4) وقال ابنُ دُرَيدٍ (¬5): ألِيَّةً باليَعْمَلاتِ تَرْتَمِي … بِها النَّجاءُ بَينَ أجْوازِ الفَلَا وقال (¬6): بَلْ قَسَمًا بالشُّمِّ مِنْ يَعْرُبَ … هَلْ لمُقْسِمٍ مِنْ بَعْدِ هذا مُنْتَهَى فصل: فأمَّا إن قال: أقْسَمْتُ، أو: آليتُ، أو: شَهِدْتُ لأفعَلَنَّ. ولم يَذْكُرِ اسمَ اللهِ، فعن أحمدَ رِوايتان؛ إحداهُما، أنَّها يَمِينٌ، سَواءٌ نَوَى اليَمِمنَ أو أطْلَقَ. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ، وابنِ عباسٍ، والنَّخَعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابِه. وعن أحمدَ، إن نوَى اليَمِينَ بالله كِان يَمِينًا، وإلَّا فلا. وهو قولُ مالكٍ، وإسحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ القَسَمَ بالله وبغيرِه، فلم يَكُن يَمِينًا حتى يَصْرِفَه بنِيَّتِهِ إلى ما تَجِبُ به الكَفَّارَةُ. وقال الشافِعيُّ: ليس بيَمِينٍ وإن نوَى. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر، في: تاريخه 3/ 17. (¬2) لم نجده فيما بين أيدينا. (¬3) في الأصل: «مطراح». (¬4) في الأصل: «ثنت». (¬5) ديوانه 119. واليعملات: النوق الصلبة القوية على السير، والنجاء: السرعة في المشي. (¬6) ديوان ابن دريد 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَطاءٍ، والحسنِ، والزُّهْرِيِّ، وقَتادَةَ، وأبي عُبَيدٍ؛ لأنَّها عَرِيَتْ عن اسمِ الله تعالى وصِفتِه، فلم تَكُنْ يَمِينًا، كما لو قال: أقْسَمْتُ بالبَيتِ. ولَنا، أنَّه قد ثَبَت لها عُرْفُ الشَّرْعِ والاسْتِعْمالِ، فإنَّ أبا بكرٍ قال: أقْسَمْتُ عليك يا رَسولَ اللهِ، لَتُخْبِرَنِّي بما أصَبْتُ ممَّا أخْطَأتُ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُقْسِمْ يا أبَا بَكْرٍ». رَواه أبو داودَ (¬1). وقال العبّاسُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أقْسَمْتُ عليك يا رَسولَ الله لِتُبَايِعَنُّه. فبايَعَه (¬2) النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «أَبْرَرْتُ قَسَمَ عَمِّي، ولَا هِجْرَةَ» (¬3). وفي كتابِ الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. إلى قولِه: {اتَّخَذُوا أَيمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4). فسَمَّاها يَمِينًا، وسَمَّاها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمًا. وقالت عاتِكَةُ بنتُ عبدِ المطَّلِبِ (¬5): ¬

(¬1) في: باب في القسم هل يكون يمينًا؟ من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 203. كما أخرجه البخاري تعليقا، في: باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، من كتاب الأيمان والنذور، وموصولًا في باب من لم ير الرؤيا لأول عابر. . . .، من كتاب التعبير. صحيح البخاري 8/ 166، 9/ 55. ومسلم، في: باب في تأويل الرؤيا، من كتاب الرؤيا. صحيح مسلم 4/ 1778. والدارمي، في: باب القسم يمين، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمي 2/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 211، 236. (¬2) في الأصل: «فباعه». (¬3) أخرجه ابن ماجة، في: باب إبرار القسم، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجة 1/ 684. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 430، 431. (¬4) سورة المنافقون 1، 2. (¬5) أخرجه الطبراني، في: المعجم الكبير 24/ 348. وأورده في النهاية 1/ 233. وقال في مجمع الزوائد: وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن. مجمع الزوائد 6/ 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَلَفْتُ لَئِنْ عَادُوا لنَصطَلِمَنَّهُمْ … بجَأْواءَ (¬1) تُرْدِي حَجْرتَيها المَقانِبُ (¬2) وقالت عاتِكَةُ بنتُ زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيلٍ (¬3): فَآلَيتُ لا تَنْفَكُّ عَينِي حَزِينةً … عَلَيكَ ولا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ أغْبَرَا وقولُهم: يَحْتَمِلُ القَسَمَ بغيرِ اللهِ. قُلْنا: إنَّما يُحْمَلُ على القَسَمِ المشروعِ، ولهذا لم يكُنْ مَكْرُوهًا، ولو حُمِلَ على القَسَمِ بغيرِ اللهِ، كان مَكْرُوهًا، ولو كان مَكْرُوهًا لم يَفْعَلْه أبو بكرٍ بينَ يَدَيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أَبرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ العَبَّاسِ حينَ أقْسَمَ عليه. فصل: وإن قال: أعْزِمُ. أو: عَزَمْتُ. لم يَكُنْ قَسَمًا، نَوَى به القَسَمَ أو لم يَنْوه، لأنَّه لم يَثْبُتْ لهذا اللَّفْظِ عُرْفٌ في الشَّرْعِ، ولا هو مَوْضُوعٌ للقَسَمَ، ولا فيه دَلالة عليه، ولذلك إن قال: أسْتَعِينُ باللهَ. أو: أعْتَصِمُ باللهِ. أو: أتَوَكَّلُ على اللهِ. أو: عَلِمَ اللهُ. أو: عَزَّ اللهُ. أو: تبارَكَ اللهُ. أو نحوَ هذا، لم يَكُنْ يَمِينًا، نَوَى أو لم يَنْو؛ لأنَّه ليس بمَوْضُوعٍ للقَسَمِ لُغَةً، ولا ثَبَت له عُرْفٌ في شَرْع ولا اسْتِعْمالٍ، فلم يَجبْ به شيءٌ؛ لو قال: سُبْحانَ اللهِ وبحَمْدِه، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ. ¬

(¬1) في م: «لجاءوا». (¬2) في الأصل: «المعايب». والبيت فيه تحريف في المعجم الكبير، والبيت هكذا في النهاية: حلفت لئن عدتم لنصطلمنكم … بجأواء تردى حافتيها المقانب والاصطلاء: الاسئصال. وحجرتاها: جانباها. المقانب: جمع مقنب وهي جماعة الخيل والفرسان. (¬3) البيت في: الطبقات الكبرى 8/ 266، المردفات من قريش 62. الاستيعاب 4/ 1878، أسد الغابة 7/ 184. وفي المردفات: «عيني سخينة».

فَصْلٌ: وَحُرُوفُ الْقَسَم؛ الْبَاءُ، وَالْواوُ، وَالتَّاءُ فِي اسْمِ اللهِ تَعَالى خَاصَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وحُروفُ القَسَمَ) ثلاثَةٌ (الباءُ، والواوُ، والتاءُ في اسْمِ اللهِ تعالى خاصَّةً) الأصْلُ في حُروفِ القَسَمِ (¬1) الباءُ، وتَدْخُلُ على والمُظْهَرِ جميعًا، كقَوْلِكَ: باللهِ، وبِكَ. والواوُ، وهي بَدَلٌ مِن الباءِ، تَدْخُلُ على المُظْهَرِ دُونَ المُضْمَرِ، وهي أكْثرُ اسْتِعْمالًا، [وبها جاءَت] (¬2) أكثرُ الأقْسام في الكتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّما كانتِ الباءُ الأصْلَ؛ لأنَّها الحَرْفُ الَّذي تَصَلُ به الأفْعالُ القاصِرَةُ عنَ التَّعَدِّي إِلى مَفْعُولاتِها، والتَّقْديرُ في القَسَمِ، أُقْسِمُ باللهِ، كما قال اللهُ سبحانَه: {وَاقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيمَانِهِمْ} (¬3). والتاءُ بَدَلٌ مِن الواو، وتَخْتَصُّ باسْم واحدٍ مِن أسماءِ الله تعالى، وهو اللهُ، ولا تَدْخُلُ على غيرِه، فيقالُ: تاللهِ. ولو قال: تالرَّحْمَنِ. أو: تَالرَّحِيمِ. لم يَكُنْ قَسَمًا. فإذا أقْسَمَ بأحَدِ هذه الحروفِ الثلاثَةِ في مَوْضِعِه، كان قَسَمًا صحيحًا؛ لأنَّه مَوْضوعٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ولأنها جاءت في». (¬3) سورة الأنعام 109، وسورة النحل 38، وسورة النور 53، وسورة فاطر 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له. وقد جاءَ في كتابِ الله تعالى وكلام العربِ، قال اللهُ تعالى: {تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} (¬1). {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَينا} (¬2). {تَاللهِ تَفْتَوأ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬3). {تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أصْنَامَكُم} (¬4). وقال الشاعرُ (¬5): تَاللهِ يَبْقَى على الأيَّامِ ذُو حِيَدٍ … بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والْآسُ (¬6) وإن قال: ما (¬7) أرَدْتُ به القَسَمَ. لم يُقْبَلْ قولُه، لأنَّه أتَى باللَّفْظِ الصَّريحِ في القَسَمِ، واقْتَرَنَتْ به قَرِينَة دالَّة عليه، وهو الجوابُ بجَوابِ ¬

(¬1) سورة النحل 56. (¬2) سورة يوسف 91. (¬3) سورة يوسف 85. (¬4) سورة الأنبياء 57. (¬5) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي. وقال أبو نصر: هي لمالك بن خالد الخناعي الهذلي. شرح أشعار الهذليين 1/ 226، 227. (¬6) في الأصل «والأرش». وذو حيد: ذو قرون ناتئة. والظيان: شجر الياسمين. وصدر البيت في شرح السكري: * يامَيُّ لا يُعْجِزُ الأيام ذو حِيَدٍ * والصدر الَّذي وردهنا ذكره السكري صدر بيت لساعدة الهذلي، وعجزه: * أدْفَى صَلودٌ من الأوعال ذو خَدَمٍ * شرح أشعار الهذليين 3/ 1124. (¬7) سقط من: الأصل.

4691 - مسألة: (ويجوز القسم بغير حرف القسم، فيقول: الله لأفعلن. بالجر والنصب، فإن قال: الله لأفعلن. مرفوعا، كان يمينا، إلا أن يكون من أهل العربية، ولا ينوي اليمين)

وَيَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيرِ حَرْفِ الْقَسَمِ، فَيَقُولُ: اللهَ لأَفْعَلَنَّ. بالْجَرِّ والنَّصْبِ، فَإِنْ قَال: اللهُ لأَفْعَلَنَّ. مَرْفُوعًا، كَانَ يَمِينًا، إلا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَنْويَ الْيَمِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القَسَمِ، [ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ منه في قولِه (¬1): تاللهِ لأقُومَنَّ. إذا قال: أرَدْتُ أنَّ قِيامي بمَعُونَتِه وفَضْلِه. لأنَّه فَسَّرَ كَلامَه بما يَحْتَمِلُه، ولا يُقْبَلُ في الحرفين الآخرَين؛ لعَدَمِ الاحْتِمالِ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه أجابَه بجَوابِ القَسَمَ] (¬2). فيَمْتَنِعُ صَرْفُه إلى غيرِه. 4691 - مسألة: (وَيَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيرِ حَرْفِ الْقَسَمِ، فَيَقُولُ: اللهَ لأَفْعَلَنَّ. بالْجَرِّ والنَّصْبِ، فَإِنْ قَال: اللهُ لأَفْعَلَنَّ. مَرْفُوعًا، كَانَ يَمِينًا، إلا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَنْويَ الْيَمِينَ) إذا أقْسَمَ بغيرِ حَرْفِ القَسَمِ، فقال: اللهَ لأقُومَنَّ. بالجَرِّ والنَّصْبِ، فهو يمينٌ. وقال الشافعيُّ: لا يكونُ يَمِينًا، إلَّا أن يَنْويَ؛ لأنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى بغيرِ حَرْفِ القَسَمِ ليس بصرِيح في القَسَمِ، فلا يَنْصرِفُ إلَّا بالنِّيَّةِ. ولَنا، أنَّه سائِغٌ في العَرَبِيَّةِ، وقد وَرَد به عُرْفُ الاسْتِعْمالِ في الشَّرْعِ، فرُوىَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ أخْبَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَتَل أبا جَهْلٍ، فقال: «آللهِ إنَّكَ قَتَلْتَه؟». ¬

(¬1) في الأصل: «قولهم». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: اللهِ إنِّي قَتَلْتُه. ذَكَره البخاريُّ (¬1). وقال لِرُكَانَةَ بنِ عبدِ يَزِيدَ: «آللهِ ما أرَدْتَ إلَّا وَاحِدَةً؟». قال: اللهِ ما أرَدْتُ إلَّا واحِدَةً (¬2). وقال امرؤُ القَيسِ (¬3): * فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِدًا * وقال أيضًا (¬4): * فَقالتْ يَمِينَ اللهِ ما لَكَ حِيلَةٌ * وقد اقْتَرَنَتْ به قَرِينَتان تَدُلَّان عليه؛ إحْداهُما، الجوابُ بجَوابِ القَسَمِ. والثانيةُ، الجَرُّ والنَّصْبُ [في اسمِ] (¬5) اللهِ تعالى، فوَجَبَ أن يكونَ يَمِينًا، كما لو قال: واللهِ. فإن قال: اللهُ لأفْعَلَنَّ. بالرَّفْعِ، ونَوَى اليَمِينَ، فهو يَمِينٌ، إلَّا أنَّه (¬6) يكونُ قد لَحَن، كما لو قال: واللهُ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 444. والطبراني، في: المعجم الكبير 9/ 81 - 85. والبيهقي، في: السنن الكبرى 9/ 62. ولم نجد هذا اللفظ عند البخاري، وانظر مجمع الزوائد 6/ 79، وتلخيص الحبير 4/ 169. وأصل الحديث تقدم تخريجه في 10/ 156. (¬2) تقدم تخريجه في 22/ 239. (¬3) تقدم في صفحة 343. (¬4) في ديوانه 14، وعجز البيت: * وما إنْ أرى عنك العَمايةَ تَنْجَلِي * (¬5) في م: «واسم». (¬6) في م: «أن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالرَّفْعِ. [وإن لم] (¬1) يَنْوِ اليَمِينَ، فقال أبو الخَطَّابِ: تكونُ يَمِينًا؛ لأنَّ قَرِينَةَ الجَوابِ بجَوابِ (¬2) القَسَمِ كافِيَة، والعامِّيُّ لا يَعْرِفُ الإعْرابَ فيأتِيَ به، إلَّا أن يكونَ مِن أهلِ العَرَبِيَّةِ، فإنَّ عُدولَه عن إعْرابِ القَسَمِ دليل على أنَّه لم يُرِدْه. قال شيخُنا (¬3): ويَحْتَمِلُ أن لا يكونَ قَسَمًا في حَقِّ العامِّيِّ؛ لأنَّه ليس بقَسَم في حَقِّ أهلِ العَربِيَّةِ، فلم يَكُنْ قَسَمًا في حَقِّ غيرِهم، كما لو لم يُجِبْه بجوابِ القَسَمِ. فصل: ويُجابُ القَسَمُ بأرْبَعَةِ أحْرُفٍ؛ حرفان للنَّفْي، وهما «ما» و «لا»، وحَرفان للإِثباتِ، وهما «إنْ» و «اللام» المَفْتُوحَةُ. وتقُومُ «إن» الخفيفةُ المكسورَةُ، مَقامَ «ما» النَّافِيَةِ، مثلَ قولِه: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إلا الْحُسْنَى} (¬4). وإن قال: واللهِ أفْعَلُ. بغيرِ حَرْفٍ، فالمحذوف ههُنا «لا»، ويكونُ يَمِينُه على النَّفي، لأنَّ ¬

(¬1) في م: «ولم». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في: المغني 13/ 459. (¬4) سورة التوبة 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْضُوعَه في العَرَبِيَّةِ لذلك، قال اللهُ تعالى: {تَاللهِ تَفْتَوأ تَذْكُرُ يُوسُفَ}. أي: لا تَفْتَؤُ. وقال الشاعر: * تَاللهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ * وقال آخرُ: * فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا * أي: لا أَبْرَحُ. فصل: وإن قال: لاهَا اللهِ. ونَوَى اليَمِينَ، كان يَمِينًا؛ لأنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال في سَلَبِ قتيلِ أبي قَتادَةَ: لَاها اللهِ، إذًا يَعْمِدُ (¬1) إلى أسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ، يُقاتِلُ عن اللهِ وعن رسولِه، فيُعْطِيكَ سَلَبَه! فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ» (¬2). وإن لم يَنْو اليَمِينَ، فالظاهِرُ أنَّه لا يكونُ يَمِينًا؛ لأنَّه لم يَقْتَرِنْ به عُرْفٌ (¬3) ولا نِيَّةٌ، ولا في جَوأبِه حَرْفٌ يَدُل على القَسَمِ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في م: «تعمد». وانظر تخريج الحديث. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 152، 153. (¬3) في م: «صرف».

4692 - مسألة: (ويكره الحلف بغير الله تعالى. ويحتمل أن يكون محرما)

وَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4692 - مسألة: (ويُكْرَهُ الحَلِفُ بغيرِ اللهِ تعالى. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ مُحرَّمًا) وذلك نَحْوُ أن يَحْلِفَ بأبِيهِ، أو بِالْكَعْبَةِ، أو بِصَحابِيٍّ، أو إمام، أو غيرِه. قال الشافعيُّ: أخْشَى أن يكونَ مَعْصيَةً. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1): هذا أمْرٌ مُجْتَمَعٌ (¬2) عليه. وقيلَ: يجوزُ (¬3) ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى أقْسَمَ بمَخْلُوقاتِه، فقال: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} (¬4). {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (¬5). وقال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأعْرابِيِّ الَّذي سَأَل عن الصلاةِ: «أفْلَحَ، وأبِيهِ، إن صَدَقَ» (¬6). وقال في حديث أبي العُشَراءِ: «وَأبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ في فَخِذِهَا لأَجْزَأَكَ» (¬7). ولَنا، ما روَى عمرُ بنُ الخطابِ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أدْرَكَه وهو يَحْلِفُ بأبِيه، ¬

(¬1) في: التمهيد 14/ 366. (¬2) في الأصل، ر 3: «مجمع». (¬3) في م: «لا يكره». (¬4) سورة الصافات 1. (¬5) سورة المرسلات 1. (¬6) تقدم تخريجه في 3/ 126. (¬7) تقدم تخريجه في صفحة 302.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال: «إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ». قال عمرُ: فواللهِ ما حَلَفْتُ بها بعدَ ذلك، ذاكِرًا ولا آثِرًا. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). يعني ولا حَاكِيًا عن غيرِى. وعن ابنِ عمرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ، فَقَدْ أشْرَكَ». قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ (¬2). فأمَّا قَسَمُ اللهِ بمَصْنُوعاتِه، فإنَّما أقْسَمَ [بها دالَّةً] (¬3) على قُدْرَتِه وعَظَمَتِه، وللهِ تعالى أن يُقْسِمَ بما شاءَ، ولا وَجْهَ للقِياسِ على إقْسامِه. وقد قيل: إنَّ في إقْسامِه إضْمارَ القَسَمِ بربِّ هذه المخلوقاتِ، فقولُه: {وَالضُّحَى} (¬4). أي ورَبِّ الضُّحَى. وأمَّا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 149. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 40. ويضاف إليه: وأبو داود، في: باب في كراهية الحلف بالآباء، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 199. (¬3) في ق، م: «دالًّا». (¬4) سورة الضحى 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للأعْرابِيِّ: «أفْلَحَ، وأَبِيهِ، [إِن صَدَقَ] (¬1)». فقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): هذه اللفظَةُ غيرُ مَحْفُوظَةٍ من وَجْهٍ صحيح. وحديثُ أبي العُشَراءِ، قال أحمدُ: لو كانَ يَثْبُتُ. يعني أنَّه لم يَثْبُتْ، ثم إن لم يَكُنِ الحَلِفُ بغيرِ اللهِ مُحَرَّمًا، فهو مَكْرُوهٌ؛ لأنَّ مَن حَلَف بغيرِ اللهِ، فقد عَظَّمَ غيرَه تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تبارَكَ وتعالى، ولهذا سُمِّيَ شِرْكًا، لكَوْنِه أشْرَكَ غيرَ اللهِ مع اللهِ تعالى في تَعْظِيمِه بالقَسَمِ به. فعلى هذا، يَسْتَغْفِرُ اللهَ إذا أقْسَمَ بغيرِ الله (¬3). قال الشَّافِعِيُّ: مَنْ حَلَفَ بغيرِ اللهِ فَلْيَقُلْ: أسْتَغْفِرُ اللهَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ر 3. (¬2) في: التمهيد 14/ 367. (¬3) بعده في الأصل، ر 3: «فليقل أستغفر الله».

4693 - مسألة: (ولا تجب الكفارة باليمين به، سواء أضافه إلى الله تعالى، مثل قوله: ومعلوم الله، وخلقه، ورزقه، وبيته. أو لم يضفه، مثل: والكعبة، وأبى)

وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْيَمِينِ بِهِ، سَواءٌ أَضَافَهُ إِلَى اللهِ تَعَالى، مِثْلَ قَوْلِهِ: ومَعْلُومِ اللهِ، وَخَلْقِهِ، وَرِزْقِهِ، وَبَيتِهِ. أَوْ لَمْ يُضِفْهُ، مِثْلَ: وَالْكَعْبَةِ، وَأَبى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4693 - مسألة: (وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْيَمِينِ بِهِ، سَواءٌ أَضَافَهُ إِلَى اللهِ تَعَالى، مِثْلَ قَوْلِهِ: ومَعْلُومِ اللهِ، وَخَلْقِهِ، وَرِزْقِهِ، وَبَيتِهِ. أَوْ لَمْ يُضِفْهُ، مِثْلَ: وَالْكَعْبَةِ، وَأَبى) يعني لا تجبُ الكَفّارَةُ بالحِنْثِ فيها. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ.

4694 - مسألة: (وقال أصحابنا: تجب الكفارة بالحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة)

وقَال أَصْحَابُنَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحَلِفِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4694 - مسألة: (وقال أصحابُنا: تَجِبُ الكَفَّارَةُ بالحَلِفِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً) ورُويَ عن أحمدَ، أنَّه قال: إذا حَلَف بحَقِّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فحَنِثَ، فعليه الكَفَّارَةُ، لأنَّه أحَدُ شَرْطَىِ الشَّهادَةِ، فالْحَلِفُ به مُوجِبٌ للكَفَّارَةِ، كالحَلِفِ باللهِ تعالى. والأوَّلُ أوْلَى؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أو لِيَصْمُتْ». ولأنَّه حَلِفٌ بغيرِ اللهِ تعالى، فلم يُوجِبِ الكَفَّارَةَ بالحِنْثِ فيه، كسائِرِ الأنْبِياءِ، ولأنَّه مخلوقٌ، فلم تَجِبِ الكَفَّارَةُ بالحَلِفِ به، كالحَلِفِ بإبراهيمَ - عليه السلام -،

فَصْلٌ: وَيُشَتَرَطُ لِوجُوب الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدةً، وَهِيَ الًّتى يُمْكِنُ فِيهَا الْبِرُّ وَالْحِنْثُ، وَذَلِكَ الْحَلِفُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه ليس بمَنْصوصٍ عليه، ولا هو في مَعْنَى المَنْصُوصِ، ولا يَصِحُّ قِياسُ اسمِ غيرِ اللهِ على اسْمِه؛ لعَدَمِ الشَّبَهِ، وانْتِفاءِ المُماثَلَةِ. وكلامُ أحمدَ يُحْمَلُ على الاسْتِحْبابِ. فَصْلٌ: وَيُشَتَرَطُ لِوجُوب الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدةً، وَهِيَ الَّتي يُمْكِنُ فِيهَا الْبِرُّ وَالْحِنْثُ، وَذَلِكَ الْحَلِفُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ) قال ابنُ عبدِ البَر (¬1): اليَمِينُ التي فيها الكَفَّارَةُ بإجْماعِ المسلمين، هي التي على المُسْتَقْبَلِ مِن الأفْعالِ. كمَن حَلَف ليَضْرِبَنَّ غُلامَه أَوْ لا يَضْرِبُه، فإن فَعَل، فعليه الكَفَّارَةُ. وذَهَبَتْ طائِفَةٌ إلى أنَّ الحِنْثَ إذا كان طاعةً، لم يُوجِبْ كَفَّارَةً. وقال قومٌ: مَن حَلَفَ على فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، فكَفَّارَتُها تَرْكُها. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: اللَّغْوُ أن ¬

(¬1) انظر: التمهيد 21/ 247.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يحْلِفَ الرجلُ (¬1) فيما لا يَنْبَغِي له. يعني فلا كَفَّارَةَ عليه في الحِنْثِ. وقد روَى عَمْرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا في مَعْصِيَةِ اللهِ، ولَا في قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ومَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَدَعْهَا، ولْيَأتِ الَّذِي هُوَ خَير، فإنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ». روَاه أبو داودَ (¬2). ولأنَّ الكَفَّارَةَ إنَّما تَجِبُ لرَفْعِ (¬3) الإِثْمِ، ولا إثْمَ في الطَّاعَةِ، ولأنَّ اليَمِينَ كالنَّذْرِ، ولا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللهَ. ولَنا، قولُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خير، ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِه» (¬4). وقال: «إِنِّي وَاللهِ، إنْ شَاءَ اللهُ، لَا أحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، إلَّا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي». ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب اليمين في قطيعة الرحم، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 204. كما أخرجه النسائي، في: باب اليمين فيما لا يملك، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 212. (¬3) في م: «لدفع». (¬4) أخرجه مسلم، في: باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرا منها. . . .، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1272، 1273. والترمذي، في: باب ما جاء في الكفارة قبل الحنث، من أبواب النذور والأيمان. عارضة الأحوذي 7/ 11. والإمام مالك، في: باب ما تجب فيه الكفارة من الأيمان، من كتاب النذور والأيمان. الموطأ 2/ 478. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 361. كلهم من حديث أبي هريرة.

4695 - مسألة: (فأما اليمين على الماضي، فليست منعقدة، وهي نوعان، يمين الغموس، وهي التي يحلف بها كاذبا عالما بكذبه.

فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي، فَلَيسَتْ مُنْعَقِدَةً، وَهِيَ نَوْعَانِ، يَمِينُ الغَمُوسِ، وَهِيَ الَّتي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا ـــــــــــــــــــــــــــــ أخْرَجَه البخاريُّ (¬1). وحَدِيثُهم لا يُعارِضُ حدِيثَنا؛ لأنَّ حَدِيثَنا أصَحُّ منه وأثْبَتُ. ثم إنَّه يَحْتَمِلُ أنَّ تَرْكَها كَفَّارَةٌ لإثْمِ الحَلِفِ، والكَفَّارَةُ المُخْتلَفُ فيها كَفَّارَةُ المُخالفَةِ. وقولُهم: إنَّ الحِنْثَ طاعةٌ. قُلْنا: فاليَمِينُ غيرُ طاعَةٍ، فتَلْزَمُه الكَفَّارَةُ؛ للمُخالفَةِ، ولتَعْظِيمِ اسْمِ الله عَزَّ وجَلَّ إذا حَلَف به ولم يَبَرَّ يَمِينَه. إذا ثَبَت ذلك، نَظرنا في يَمِينِه، فإن كانت على تَرْكِ شيءٍ ففَعَلَه، حَنِثَ، ووَجَبَتِ الكَفَّارَةُ. وإن كانت على فِعْلِ شيءٍ فلم يَفْعَلْه، وكانت يَمِينُه مُؤقَّتَةً بلَفْظِه، أو بنِيَّتِه، أو قَرِينَةِ حالِه، ففاتَ الوَقْتُ، حَنِث، [وكَفَّر] (¬2). وإن كانت مُطْلَقَةً، لم يَحْنَثْ إلَّا بفَواتِ وَقْتِ الإِمْكانِ؛ لأنَّه ما دامَ في الوَقْتِ، والفعلُ مُمْكِن، فيَحْتَمِلُ أنَّه يفْعَلُ فلا يَحْنَثُ. 4695 - مسألة: (فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي، فَلَيسَتْ مُنْعَقِدَةً، وَهِيَ نَوْعَانِ، يَمِينُ الغَمُوسِ، وَهِيَ الَّتي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا بكَذِبه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 207، 208. (¬2) سقط من: ق، م.

بِكَذِبِهِ. وَعَنْهُ، فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَمِثْلُهَا الْحَلِفُ عَلَى مُسْتَحِيلٍ، كَقَتْلِ الْمَيِّتِ وَإِحْيَائِهِ، وَشُرْبِ مَاءِ الْكُوزِ وَلَا مَاء فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، فيها الكَفَّارَةُ. ومِثْلُها الحَلِفُ على مُسْتَحِيلٍ، كقَتْلِ المَيِّتِ وإحْيائِه، وشُرْبِ ماءِ الكُوزِ ولا ماءَ فيه) ظاهِرُ المذهب أنَّ يَمِينَ الغَمُوسِ لا كَفَّارَةَ فيها. نَقَلَه الجماعَةُ عن أحمدَ. وهو قولُ أكثرِ أَهلِ العلمِ؛ منهم ابنُ مسْعُودٍ، وسعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ومالكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، واللَّيثُ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الحَدِيثِ، وأصْحابُ الرَّأْي مِن أهلِ الكوفَةِ. وإنَّما سُمِّيَتْ هذه يَمِينَ الغَمُوسِ؛ لأنَّها تَغْمِسُ صاحِبَها فِي الإِثْمِ. قال ابنُ مسعودٍ: كُنَّا نَعُدُّ مِن (¬1) اليَمِينِ التي لا كَفَّارَةَ لها، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَمِينَ الغَمُوسَ (¬1). وعن سعيدِ بنِ المُسَيَّب، قال: هي مِن الكبائِرِ، وهي أعظمُ مِن أن تُكَفَّرَ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ فيها الكَفَّارَةَ. ورُوِيَ ذلك عن عَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ، والحَكَمِ، والبَتِّيِّ. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّه وُجِدَتْ منه اليَمِينُ باللهِ، والمُخالفَةُ مع القَصْدِ، فلَزِمَتْه الكَفَّارَةُ، كالمُسْتَقْبَلَةِ (¬2). ولَنا، أنَّها يمِينٌ غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، فلا تُوجِبُ الكَفَّارَةَ، كاللَّغْو، أو يَمِينٌ على ماضٍ، أشْبَهَتِ اللَّغْوَ، وبَيانُ أنَّها غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، كَوْنُها لا (¬3) تُوجِبُ بِرًّا، ولا يُمْكِنُ فيها، ولأنَّه قارَنَها ما يُنافِيها، فلم تَنْعَقِدْ، كالنِّكاحِ الَّذي قارَنَه الرَّضاعُ. ولأنَّ الكَفَّارَةَ لا تَرْفَعُ إثْمَها، فلا تَسُوغُ (¬4) فيها، ودليلُ أنَّها كبيرةٌ، ما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مِنَ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ باللهِ، وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، والْيَمِينُ الغَمُوسُ». رَواه البخاريُّ (¬5). ورُوِيَ فيه: «خمْسٌ مِنَ الكَبَائِرِ لَا ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب في اليمين الغموس، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 38. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «تشرع». (¬5) في: باب اليمين الغموس، من كتاب الأيمان، وفي: باب قول الله تعالى: {ومن أحياها} من كتاب الديات، وفي: باب قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} من كتاب المرتدين. صحيح البخاري 8/ 171، 4/ 9، 17. كما أخرجه النسائي، في: باب ذكر الكبائر، من كتاب تحريم الدم، وفي: باب ما جاء في كتاب القصاص. . . .، من كتاب القسامة. المجتبى 7/ 82، 8/ 57. والدارمي، في: باب التشديد في قتل النفس المسلمة، من كتاب الديات. سنن الدارمي 2/ 191. والإمام أحمد، في المسند 2/ 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفَّارَةَ لَهُنَّ، الإِشْرَاكُ باللهِ، والْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وبَهْتُ المُؤْمِنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيرِ حَقٍّ، والحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» (¬1). ولا يَصِحُّ القياسُ على المُسْتَقْبَيَةِ، لأنَّها يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، يُمْكِنُ حلُّها والبِرُّ فيها، وهذه غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، فلا حَلَّ لها. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِنِهِ، ولْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ». يَدُلُّ على أنَّ الكَفَّارَةَ إنَّما تجِبُ على فِعْل يَفْعَلُه فيما يَسْتَقْبِلُه. قاله ابنُ المُنْذِرِ (¬2). فصلٌ: والمُسْتَحِيلُ نَوْعان؛ أحدُهما، مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، كقَتْلِ الميِّتِ وإحْيائِه، وشُرْبِ ماءِ الكُوزِ ولا ماءَ فيه. فقال أبو الخَطَّابِ: لا تَنْعَقِدُ [يَمِينُه، ولا تَجِبُ بها كَفَّارَة. وهذا مذهبُ مالكٌ، لأنَّها يَمِينٌ قارَنَها ما لا يُتَصَوَّرُ، فلم تَنْعَقِدْ] (¬3)، كيَمِينِ الغَمُوسِ، ولأنَّ اليَمِينَ إنَّما تَنْعَقِدُ على مُتَصوَّرٍ، أو مُتَوَهَّمِ التَّصَوُّرِ، وليس ههُنا واحِدٌ منهما. وقال ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 362. (¬2) انظر: الإشراف 2/ 244. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: يَنْعَقِدُ مُوجِبًا للكَفَّارَةِ في الحالِ. وهذا قولُ أبي يُوسُفَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه حَلَف على فِعْلِ نفْسِه في المُسْتَقْبَلِ ولم يَفْعَلْ، فهو كما لو حَلَف ليطَلِّقَنَّ امرأتَه، فماتَ قبلَ طَلاقِها، وبالقِياسِ (¬1) على المُسْتَحِيلِ عادةً. ولا فَرْقَ بينَ أنْ يَعْلَمَ اسْتِحالتَه (¬2) أو لا يَعْلَمَ، مثلَ أن يَحْلِفَ ليَشرَبَنَّ الماءَ الَّذي في الكُوزِ ولا ماءَ فيه، فالحُكْمُ واحدٌ في مَن عَلِمَ أنَّه لا ماءَ فيه ومَن لم يَعْلَمْ. وذَكَر شَيخُنا في الكتابِ المَشْروحِ إحْياءَ المَيِّتِ وقَتْلَه في المُسْتَحِيلِ عقْلًا. وإحْياءُ الميِّتِ مُتَصَوَّرٌ عقْلًا، وإنَّما هو مُسْتَحِيلٌ عادةً، فهو من النَّوْعِ الثاني. فأمَّا قَتْلُ المَيِّتِ، ¬

(¬1) في الأصل: «القياس». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أرادَ قَتْلَه حال مَوْتِه، فهو مِن المُسْتَحِيلِ عقْلًا، فيه من الخِلافِ ما ذكَرْنا، وإن حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ فُلانًا، وهو مَيِّت، فهو كالمُسْتَحِيلِ عادةً، فإنَّه يُتَصَوَّرُ أن يُحْيِيَه اللهُ، فيَقْتُلَه، فَتَنْعَقِدَ يَمِينُه، على ما نَذْكُرُ في المُسْتَحِيلِ عادةً. النَّوْعُ الثانِي، المُسْتَحِيلُ عادةً، كصُعودِ السَّماءِ، والطَّيرَانِ، وقَطْعِ المسافَةِ البَعِيدَةِ في المُدَّةِ القَليلَةِ، فإذا حَلَف على فِعْلِه، انْعَقَدَتْ يَمِينُه. ذَكَرَه القاضِي، وأبو الخَطَّابِ؛ لأنَّه يُتَصَوَّرُ وجُودُه، فإذا حَلَف عليه، انْعَقَدَتْ يَمِينُه، ولَزِمَتْه الكَفَّارَةُ في الحالِ، لأنَّه مَأْيُوسٌ من البِرِّ فيها، فوَجَبَتِ الكَفَّارَةُ، كما لو حَلَف لَيُطَلِّقَنَّ امرأتَه فماتتْ. فصل: إذا قال: واللهِ لَيفَعَلَنَّ فلانٌ كذا، أو لا يَفْعَلَنَّ (¬1). أو حَلَف على حاضِرٍ، فقال: واللهِ لتَفْعَلَنَّ كذا. فأْحْنَثَه، ولم يَفْعَلْ، فالكَفَّارَةُ على الحالِفِ. كذلك قال ابنُ عمرَ، وأهلُ المدينةِ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ، والأوْزَاعِيُّ، وأهلُ العراقِ، والشافعيُّ، لأنَّ الحالِفَ هو الحانِثُ، فكانتِ ¬

(¬1) في م: «يفعل كذا».

الثَّانِي، لَغْوُ الْيَمِينِ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَيَبِينَ بِخِلَافِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَفَّارَةُ عليه، كما لو كان هو الفاعِلَ لِما يُحْنِثُه، ولأنَّ سَبَبَ الكَفَّارَةِ إمَّا اليَمِينُ، أو الحِنْثُ، أو هما، وأيُّ ذلك قُدِّرَ، فهو مَوْجُودٌ في الحالِفِ. وإن قال: أسْأَلُكَ باللهِ لتَفْعَلَنَّ. وأرادَ اليَمِينَ، فهي كالتي قبلَها. وإن أرادَ الشَّفاعَةَ إليه باللهِ، فليس بيَمِينٍ، ولا كَفَّارَةَ على واحدٍ منهما. وإن قال: باللهِ لتَفْعَلَنَّ. فهي يَمِينٌ؛ لأنَّه أجابَ بجوابِ القَسَمِ، إلَّا أن يَنْويَ ما يَصْرِفُها. وإن قال: باللهِ أفْعَلُ. فليست يَمِينًا؛ لأنَّه لم يُجِبْها بجَوابِ القَسَمِ، ولذلك لا يَصْلُحُ أن يقولَ: والله أفْعَلُ. ولا: تالله أفْعَلُ. وإنَّما صَلَح ذلك في الباءِ؛ لأنَّها لا تخْتَصُّ القَسَمَ، فيَدُلُّ على أنَّه سُؤالٌ، فلا تَجِبُ به كَفَّارَةٌ. (الثاني، لَغْوُ اليَمِينِ، وهو أن يَحْلِفَ على شيءٍ يَظُنُّه فيَبِينَ بخِلافِه، فلا كَفَّارَةَ فيها) أكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّ هذه اليَمِينَ لا كَفَّارَةَ فيها. قاله ابنُ المُنْذِرِ (¬1). يُرْوَى هذا عن ابنِ عباس، وأبي هُرَيرَةَ، وأبي مالكٍ، ¬

(¬1) انظر الإشراف 2/ 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وزُرَارَةَ (¬1) بنِ أوْفَى، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، والثَّوْرِيِّ. وممَّن قال: هذا لَغْوُ اليَمِينِ. مُجاهِدٌ، وسُليمانُ بنُ يَسارٍ، والأوْزَاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه. وأكثرُ أهلِ العِلْمِ على أنَّ لَغْوَ اليَمِينِ لا كَفَّارَةَ فيه. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): أجْمَع المسلمون على هذا. وقد حُكِيَ عن النَّخَعِيِّ في اليَمِينِ على شيءٍ يَظُنُّه حَقًّا، فيَبِينُ بخِلافِه، أنَّه من لَغْو اليَمِينِ، وفيه الكَفَّارَةُ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ، أنَّ فيه الكَفَّارَةَ، وليس هو مِن لَغْو اليَمِينِ، لأنَّ اليَمِينَ باللهِ وُجِدَتْ مع المُخالفَةِ، فأوْجَبَتِ الكَفَّارَةَ، كاليَمِينِ على مُسْتَقْبَل. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {لَا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ} (¬3). [وهذا منه] (¬4)، ولأنَّها يَمِين غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، فلم تَجِبْ فيها كفَّارَةٌ، كيَمِينِ الغَمُوسِ، ولأنَّه غيرُ قاصِدٍ للمُخالفَةِ، فأشْبَهَ ما لو ¬

(¬1) في الأصل: «ورواه». وهو زرارة بن أوفى أبو حاجب، العامري الإمام الكبير، قاضي البصرة، أحد الأعلام، تابعي ثقة، توفى سنة ثلاث وتسعين. سير أعلام النبلاء 4/ 516، تهذيب التهذيب 3/ 322، 323. (¬2) انظر: التمهيد 21/ 247. (¬3) سورة البقرة 225، وسورة المائدة 89. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَنِثَ (¬1) ناسِيًا. وفي الجُمْلَةِ، لا كَفَّارَةَ في يَمِينٍ على ماضٍ؛ لأنَّها تَنْقَسِمُ ثلاثَةَ أقْسامٍ؛ ما هو صادِقٌ فيه، فلا كَفَّارَةَ فيه إجْماعًا. وما تَعَمَّدَ ¬

(¬1) في م: «حلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكَذِبَ فيه، فهو يَمِينُ الغَمُوسِ، لا كَفَّارَةَ فيها؛ لأنَّها أعْظَمُ مِن أن تكِونَ فيها كَفَّارَةٌ. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ فيها. وما يَظُنُّه حَقًّا، فيَبِينُ بخِلافِه، فلا كَفَّارةَ فيها؛ لأنَّها من لَغْو اليَمِينِ.

فَصْلٌ: الثَّانِي، أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا، فَإِنْ حَلَفَ مُكْرَهًا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: الشَّرْطُ (الثاني، أن يَحْلِفَ مُخْتارًا، فإن، حَلَف مُكْرَهًا، لم تَنْعَقِدْ يَمِينُه) وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ. وذَكَر فيها أبو الخَطَّابِ رِوَايَتَين؛ إحْدَاهما، تَنْعَقِدُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّها يَمِينُ مُكَلَّفٍ، فانْعَقَدَتْ، كيَمِينِ المُخْتارِ، ولأنَّ هذه الكَفَّارَةَ لا تَسْقُطُ بالشُّبْهَةِ، فوَجَبَتْ مع الإِكْراهِ، ككَفَّارَةِ الصَّيدِ. ولَنا، ما روَى أبو أُمامَةَ، ووَاثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» (¬1). ولأنَّه قولٌ حُمِلَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَصِحَّ مع الإِكْراهِ، ككَلِمَةِ الكُفْرِ، وأمَّا كَفَّارَةُ الصَّيدِ فلا تجِبُ مع الإِكْراهِ، فهي كمَسْأَلَتِنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 423.

4696 - مسألة: (وإن سبقت اليمين على لسانه من غير قصد إليها، كقوله: لا والله. وبلى والله. في عرض حديثه، فلا كفارة عليه)

وَإِنْ سَبَقَتِ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ إِلَيهَا، كَقَوْلِهِ: لَا وَاللهِ. وَبَلَى وَاللهِ. في عُرْضِ حَدِيثِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4696 - مسألة: (وَإِنْ سَبَقَتِ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ إِلَيهَا، كَقَوْلِهِ: لَا وَاللهِ. وَبَلَى وَاللهِ. في عُرْضِ حَدِيثِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيهِ) هذا قولُ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّها من لَغْو اليَمِينِ. نَقَل عبدُ اللهِ، عن أبِيه، أنَّه قال: اللَّغْوُ عندِي أن يَحْلِفَ على اليَمِينِ، يَرَى أنَّها كذلك، والرجلُ يَحْلِفُ فلا يَعْقِدُ قَلْبَه على شيءٍ. وممَّن قال: إنَّ اللَّغْوَ اليَمِينُ التي لا يَعْقِدُ عليها قَلْبَه؛ عمرُ، وعائشةُ، رَضِيَ اللهُ عنهما. وبه قال عَطاءٌ، والقاسِمُ، وعِكْرِمَةُ، والشَّعْبِيُّ، والشافعيُّ؛ لِما رُوِيَ عن عَطاءٍ، قال: قالت عائشةُ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال، يَعْنِي في اللَّغْو في اليَمِينِ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ في بَيتِه: لَا واللهِ. و: بَلَى واللهِ». أخرَجَه أبو داودَ (¬1). قال: ورَواه الزُّهْرِيُّ، وعبدُ الملكِ (¬2) بنُ أبي سُلَيمانَ، ومالِكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن عَطاءٍ، عن عائشةَ مَؤقُوفًا. وروَى الزُّهْرِيُّ، أنَّ عُروَةَ ¬

(¬1) في: باب لغو اليمين، من كتاب الأيمان والنذور. سن أبي داود 2/ 200. (¬2) في م: «عبد الله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَدَّثَه أنَّ (¬1) عائشةَ، قالت: أيمانُ (¬2) اللَّغْو، ما كان في المِرَاءِ، والهَزْلِ، والْمُزَاحَةِ، والحديثِ الَّذي لا يُعْقَدُ عليه القَلْبُ، وأيمانُ الكَفَّارَةِ كلُّ يَمِينٍ حَلَف عليها على وَجْهٍ من الأمْرِ، في غَضَبٍ أو غيرِه، ليَفْعَلَنَّ، أو ليَتْرُكَنَّ، فذاك عَقْدُ الأيمانِ التي فَرَض اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيها الكَفَّارَةَ (¬3). ولأنَّ اللَّغْوَ في كلامِ العَرَبِ غيرُ المَعْقُودِ عليه، وهذا كذلك. وممَّن قال: لا كَفَّارَةَ في هذا؛ ابنُ عباسٍ، وأبو هُرَيرَةَ، وأبو مالكٍ، وزُرَارَةُ (¬4) بنُ أوْفَى، والحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وممالكٌ. وهو قولُ مَن قال: إنَّه مِن لَغْو اليَمِينِ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ووَجْهُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬5). فجَعَلَ الكفَّارَةَ لليَمِينِ ¬

(¬1) في م: «عن». (¬2) في م: «إنما». (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب لغو اليمين، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 49. وأخرج عبد الرزاق نحوه، في: باب اللغو وما هو؟ من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 474. (¬4) في الأصل: «ورواه». (¬5) سورة المائدة 89.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التي يُؤْاخَذُ بها، ونَفَى المُؤاخَذَةَ باللَّغْو، فيَلْزَمُ انْتِفاءُ الكفَّارَةِ، ولأنَّ المُؤاخَذَةَ يَحْتَمِلُ أن يكونَ مَعْناها إيجابَ الكَفَّارَةِ، بدليلِ أنَّها تَجِبُ في الأيمانِ التي لا مَأْثَمَ (¬1) فيها، وإذا كانتِ المُؤاخَذَةُ إيجابَ الكَفَّارَةِ، فقد نَفَاها في اللَّغْو، فلا تَجِبُ، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصحابةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم، فكان إجْماعًا، ولأنَّ قولَ عائشةَ في تفسيرِ اللَّغْو، وبَيانِ الأيمانِ التي فيها الكَفَّارَةُ، خَرَج منها تفسيرًا لكلامِ اللهِ تعالى، ¬

(¬1) في م: «يأثم».

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، الْحِنْثُ في يَمِينهِ، بَأَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يَتْرُكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، مُخْتَارًا ذَاكِرًا، وَإِنْ فَعَلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَفْسِيرُ الصَّحابِيِّ مَقبولٌ. فصل: الشَّرطُ (فَصْلٌ: الثَّالِثُ، الْحِنْثُ في يَمِينهِ، بَأَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يَتْرُكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، مُخْتَارًا ذَاكِرًا، وَإِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أو

مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيهِ. وَعَنْهُ، عَلَى النَّاسِي كَفَّارَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ناسِيًا، فلا كَفَّارَةَ عليه. وعنه، على النَّاسِي كَفَّارَةٌ) إذا حَلَف لا يَفْعَلُ شيئًا، فَفَعَلَه ناسِيًا، فلا كَفَّارَةَ عليه. نَقَلَه عن أحمدَ الجماعَةُ، إذا كان في غيرِ الطَّلاقِ والعَتاقِ. وهذا ظاهِرُ المذهبِ. اخْتارَه الخَلَّالُ وصاحِبُه. فأمَّا الطَّلاقُ والعَتاقُ، فإنَّه يَحْنَثُ فيهما، في ظاهرِ المذهبِ. وعنه، لا يَحْنَثُ في الطَّلاقِ والعتَاقِ أيضًا. وهو قولُ عَطاءٍ، وعَمْرِو بنِ دِينارٍ، وإسْحَاقَ. وهو ظاهِرُ مذهبِ الشافِعِيِّ؛ لقولِه تعالى. {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1). وقال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تَجاوَز لأُمَّتِي (¬2) عَنَ الخَطَأْ، والنِّسْيانِ، ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (¬3). ولأنَّه غيرُ قاصِدٍ للمُخالفَةِ، فلم يَحْنَثْ، كالنَّائِم والمجْنُونِ. ولأنَّه أحَدُ طَرَفَيِ اليَمِينِ، فاعْتُبِرَ فيه القَصْدُ، كحالةِ الابتِداءِ (¬4) بها. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخرَى، أنَّه يَحْنَثُ، وتَلْزَمُه الكَفَّارَةُ في اليَمِينِ المُكَفَّرَةِ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِيِّ، ¬

(¬1) سورة الأحزاب 5. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 276. (¬4) في م: «الانتهاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقَتادَةَ، ورَبِيعَةَ، ومالكٍ، وأصْحابِ الرَّأْي، والقولُ الثاني للشافِعِيِّ، لأنَّه خالفَ ما حَلَف عليه قاصِدًا لفِعْلِه، فلَزِمَه الحِنْثُ، كالذَّاكِرِ، وكما لو كانتِ اليَمِينُ بالطَّلاقِ والعَتاقِ. ولَنا، على (¬1) أنَّ الكَفَّارَةَ لا تَجِبُ في اليَمِينِ المُكَفَّرَةِ، ما تَقَدَّمَ من الآيةِ والخَبَرِ، ولأنَّها تَجِبُ لمَحْو الإثْمِ، ولا إثْمَ على النَّاسِي. وأمَّا الطَّلاقُ والعَتاقُ، فهو مُعَلَّقٌ بشَرْطٍ، فيَقَعُ بوُجودِ شَرْطِه من غيرِ قَصْدٍ، كما لو قال: أنْتِ طالِقٌ، إنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أو قَدِمَ الحاجُّ. فصل: فإن فَعَلَه غيرَ عالمٍ بالمَحْلُوفِ عليه، كرجلٍ لا يُكَلِّمُ فُلانًا، فسَلَّمَ عليه يَحْسَبُه أجْنَبِيًّا، أو حَلَف لا يُفارِقُه حتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّه، فأعْطاه، ففارَقَه ظَنًّا منه أنَّه قد بَرَّ (¬2)، فوَجَدَه مَعِيبًا أو رَدِيئًا، أو حَلَفَ: لا بِعْتُ لزيدٍ ثَوْبًا. فوَكَّلَ زيدٌ مَنْ يَدْفَعُه إلى مَن يَبِيعُه، فدَفَعَه إلى الحالِفِ، فباعَه مِن غيرِ عِلْمِه، فهو كالنَّاسِي، لأنَّه غيرُ قاصِدٍ للمُخالفةِ، أَشْبَهَ النَّاسِيَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «برأ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُكْرهُ على الفِعْلِ يَنْقَسِمُ قِسمَين؛ أحدُهما، أن يُلْجَأَ إليه، مثلَ مَن حَلَف لا يَدْخُل دارًا، فحُمِلَ فأُدْخِلَها. أو لا يَخْرُجُ منها، فأُخْرِجَ مَحْمُولًا، ولم يُمْكِنْه الامْتِناعُ، فلا يَحْنَثُ في قولِ الأكْثَرِين. وبه قال أصحابُ الرَّأْي. وقال مالكٌ: إن دَخَل مَرْبُوطًا، لم يَحْنَث. وذلك لأنَّه لم يَفْعَلِ الدُّخولَ والخُروجَ، فلم يَحْنَث، كما لو لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُوجَدْ ذلك. الثاني، أن يُكْرَهَ بالضَّرْبِ والتَّهْدِيدِ بالقَتْلِ ونحوه، فقال أبو الخَطَّابِ: فيه رِوايتان، كالنَّاسِي. وللشافعيِّ قَوْلان. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَحْنَثُ، لأنَّ الكَفَّارَةَ لا تَسْقُطُ بالشُّبْهَةِ، فوَجَبَت مع الإِكْراهِ والنِّسْيانِ، ككَفَّارَةِ الصَّيدِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأ، والنِّسْيانِ، ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ». ولأنَّه نَوْعُ إكْراهٍ، فلم يَحْنَثْ به، كما لو حُمِلَ ولم يُمْكِنْه الامْتِناعُ، لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْسَبُ إليه، فأشْبَهَ مَن لم يَفْعَلْه، ولا نُسَلِّمُ الكَفَّارَةَ في الصَّيدِ، بل إنَّما تَجِبُ على المُكْرِهِ.

4697 - مسألة: (فإن حلف فقال: إن شاء الله. لم يحنث، فعل أو ترك، إذا كان متصلا بيمينه)

وَإنْ حَلَفَ فَقَال: إِنْ شاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ، فَعَلَ أَوْ تَرَكَ، إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4697 - مسألة: (فإن حَلَف فقال: إن شاءَ اللهُ. لم يَحْنَثْ، فَعَل أو تَرَك، إذا كان مُتَّصِلًا بيَمِينِه) وجملةُ ذلك، أنَّ الحالِفَ إذا قال: إن شاء اللهُ. مع يَمِينِه، فهذا يُسَمَّى اسْتِثْناءً. فإنَّ (¬1) ابنَ عمرَ رَوَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ حَلَفَ، فَقَال: إنْ شَاءَ اللهُ. [فَقَدِ اسْتَثْنَى] (¬2)». روَاه أبو داودَ (¬3). وأجْمَعَ العُلَماءُ على تَسْمِيَته اسْتِثْناءً، وأنَّه متى اسْتَثْنَى في يَمِينِه، لم يَحْنَث فيها؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن حَلَفَ، فَقَال: إنْ شَاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ». رَواه التِّرْمِذِي (¬4). وروَى أبو داودَ (¬5): «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى، فإنْ شَاءَ رَجَعَ، وإنْ شَاءَ تَرَكَ». ¬

(¬1) في م: «قال». (¬2) في م: «لم يحنث فعل أو ترك». (¬3) تقدم تخريجه في 22/ 563. (¬4) تقدم تخريجه في 22/ 563. وهذا الحديث إنما اختصره معمر، كما في المسند 2/ 301، فلا مدخل لعبد الرزاق في ذلك. (¬5) في باب الاستثناء في اليمين، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 202. كما أخرجه النسائي، في: باب من حلف فاستثنى، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 12. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 2، 48، 49، 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه متى قال: لأَفعَلَنَّ إن شاء اللهُ. فقد عَلِمْنا أنَّه متى شاءَ اللهُ فَعَل، ومتى لم يَفْعَلْ لم يَشَأ اللهُ ذلك، فإنَّ ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُشْتَرَطُ أن يكونَ الاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا باليَمِينِ، بحيث لا يَفْصِلُ بينَهما بكلامٍ أجْنَبِيٍّ، ولا يَسْكُتُ بينَهما سُكوتًا يُمْكِنُه الكَلامُ فيه، فأمَّا السُّكوتُ لانْقِطاعِ نَفَسِه أو صَوْتِه، أو عِيٍّ، أو عارِضٍ، من عَطْسَةٍ، أو شيءٍ غيرها، فلا يَمْنَعُ صِحَّةَ الاسْتِثْناءِ، وثُبوتَ حُكْمِه. وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وإسْحاقُ، وأصْحابُ الرَّأْي؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَلَفَ، فاسْتَثْنَى». وهذا يَقْتَضِي كَوْنَه (¬1) عَقِيبَه. ولأنَّ الاسْتِثْناءَ من تَمامِ الكلامِ، فاعْتُبرَ اتِّصالُه به، كالشَّرْطِ وجَوابِه، وخَبَرِ المُبْتَدَأ، والاسْتِثْناءِ بإلَّا، ولأنَّ الحالِفَ إذا سَكَت ثَبَت حُكْمُ يَمِينِه، وانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لحُكْمِها، وبعدَ ثُبُوتِه لا يُمْكِنُ دَفْعُه (¬2) ولا تَغْيِيرُه. قال أحمدُ: حديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَبْدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل: «أن يكون». (¬2) في م: «رفعه». (¬3) تقدم تخريجه في 23/ 207.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَمْ يَقُلْ: فاسْتَثْنِ. ولو جازَ الاسْتِثْناءُ في كلِّ حالٍ، لم يَحْنَثْ حالِفٌ به. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أُخرَى، أنَّه يجوزُ الاسْتِثْناءُ إذا لم يَطُلِ الفَصْلُ بينَهما. قال في رِوايَةِ المَرُّوذِيِّ: حديثُ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَاللهَ لأغْزُوَنَّ قُريشًا». ثم سَكَت، ثم قال: «إنْ شَاءَ اللهُ» (¬1). إنَّما هو اسْتِثْناءٌ بالقُرْبِ، ولم يخْلِطْ كلامَه بغيرِه. ونقَل عنه إسْماعيلُ بنُ سعيدٍ مثلَ هذا، وزادَ: ولا أقولُ فيه بقَوْلِ هؤلاءِ. يَعْنِي مَن (¬2) لم يَرَ ذلك إلَّا مُتَّصِلًا. ويَحْتَمِلُه كلامُ الخِرَقِيِّ؛ فإنَّه قال: إذا لم يَكُنْ بينَ اليَمِينِ والاسْتِثْناءِ كلامٌ. ولم يَشْتَرِطِ اتِّصال الكلام، وعدمَ السُّكوتِ. وهذا قولُ الأوْزاعِيِّ، قال في رجلٍ، قال: لا أَفْعَلُ كذا وكذا. ثم سَكَت ساعَةً لا يَتَكَلَّمُ، ولا يُحَدِّث نَفْسَه بالاسْتِثْناءِ، فقال ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 207. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له إنْسانٌ: قُلْ: إن شاءَ اللهُ. [فقال: إن شاء اللهُ] (¬1). أَيُكَفِّرُ عن يَمِينِه؟ قال: أراهُ قد اسْتَثْنَى. وقال قَتادَةُ: له أن يَسْتَثْنِيَ قبلَ أن يقومَ أو يتَكَلَّمَ. ووَجْهُ ذلك، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَثْنَى بعدَ سُكُوتِه، إذْ قال: «وَاللهِ لَأغْزُوَنَّ قُرَيشًا». ثم سَكَتَ، ثم قال: «إنْ شَاءَ اللهُ». احْتَجَّ به أحمدُ، ورَواه أبو داودَ. وزاد (¬2): قال الوليدُ بنُ مسلم: ولم يَغْزُهُم. ويُشْتَرَطُ على هذه الرِّوايَةِ أن لا يُطِيلَ الفَصْلَ بينَهما، ولا يَتَكَلَّمَ بينَهما بكَلامٍ أجْنَبِيٍّ. وحَكَى ابنُ أبي موسى عن بعضِ أصحابِنا، أنَّه قال: يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ ما دامَ في المَجْلِسِ. وحُكِيَ ذلك عن الحسنِ، وعَطاءٍ. وعن عَطاءٍ أنَّه قال: قَدْر حَلْبِ النَّاقَةِ الغَرُوزَةِ (¬3). وعن ابنِ عباسٍ، أنَّ له أن يَسْتَثْنِيَ بعدَ حِينٍ (¬4). وهو قولُ مُجاهِدٍ. وهذا القولُ لا يَصِحُّ؛ لِما ذَكَرْناه، وتَقْديرُه بمَجْلِسٍ أو غيرِه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ التَّقْديراتِ بابُها التَّوْقِيفُ، فلا يُصارُ إليها (¬5) بالتَّحَكُّمِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «الغروزة». وغرزت الناقة: قل لبنها. (¬4) أخرجه البيهقي، في: باب الحالف يسكت بين يمينه واستثنائه، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 48. (¬5) في م: «إليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرَطُ أن يَسْتَثْنِيَ بلِسانِه، ولا يَنْفَعُه الاسْتِثْناءُ بالقَلْبِ في قول عامَّةِ أهلِ العلمِ؛ منهم الحسنُ، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأَوْزاعِيُّ، واللَّيثُ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو حنيفةَ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَلَفَ، فَقَال: إنْ شَاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ». والقولُ هو النُّطْقُ، ولأنَّ اليَمِينَ لا تَنْعَقِدُ بالنَّيَّةِ، وكذلك الاسْتِثْناءُ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ: إن كان مَظْلُومًا فاسْتَثْنَى في نفْسِه، رَجَوْتُ (¬1) أنْ يجوزَ، إذا خافَ على نَفْسِه. فهذا في حَقِّ الخائِفِ على نفسِه؛ لأنَّ يَمِينَه غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، أو لأنَّه بمنزِلَةِ المُتَأَوِّلِ، وأمَّا في حَقِّ غيرِه فلا. ¬

(¬1) في الأصل: «وجب».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: واشْتَرَطَ القاضِي [أن يَقْصِدَ] (¬1) الاسْتِثْناءَ، فلو أرادَ الجَزْمَ، فسَبَقَ لِسانُه إلى الاسْتِثْناءِ مِن غيرِ قَصْدٍ، أو كانت عادَتُه جارِيَةً بالاسْتِثْناءِ، فجرَى على لِسانِه من غيرِ قَصْدٍ، لم يَصِحَّ، لأنَّ اليَمِينَ لَمّا لم تَنْعَقِدْ مِن غيرِ قَصْدٍ، فكذلك الاسْتِثْناءُ. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وذَكَر بعضُهم أنَّه لا يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ حتَّى يَقْصِدَه مع ابتِدَاءِ (¬2) يَمينِه (¬3)، فلو حَلَف غيرَ قاصِدٍ للاسْتِثْناءِ، ثم عَرَض له بعدَ فَرَاغِه من اليَمِينِ فاسْتَثْنَى، لم يَنْفَعْه. وهذا القولُ يُخالِفُ عُمومَ الخَبَرِ، وهو قولُه، عليه السَّلامُ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَال: إنْ شَاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ». فلا يَصِحُّ، ولأنَّ لَفْظَ الاسْتِثْناء يكونُ عَقِيبَ يَمِينِه، فكذلك نِيَّتُه. ¬

(¬1) في م: «قصد». (¬2) في م: «ابتدائه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويَصِحُّ الاسْتِثْناءُ في كُلِّ يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى، والظِّهارِ، والنَّذْرِ. قال ابنُ أبي موسى. مَنْ اسْتَثْنَى في يَمِينٍ تَدْخُلُها كَفَّارَةٌ، فله ثُنْيَاهُ (¬1)؛ لأنَّها أَيمانٌ مُكَفَّرَةْ، فدَخَلَها الاسْتِثْناءُ، كاليَمِينِ باللهِ تعالى، فلو قال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي، إن شاءَ اللهُ. [أو أنْتِ حَرامٌ، إن شاء اللهُ. أو: إن دخَلْتِ الدّارَ فأنْتِ عليَّ كظَهْرِ أُمِّي، إن شاء اللهُ] (¬2). أو: للهِ عليَّ أن أتَصَدَّقَ بمائَةِ دِرْهَمٍ، إن شَاءَ اللهُ. لم يَلْزَمْه شيءٌ؛ لأنَّها أيمانٌ، فتَدْخُلُ في عُمومِ قولِه: «مَنْ حَلَفَ، فَقَال: إنْ شاءَ اللهُ. لَمْ يَحْنَثْ». فصل: فإن قال: واللهِ لأَشْرَبَنَّ اليومَ، إلَّا أن يشاءَ اللهُ. أو: لا أشْرَبُ، إلَّا أن يشاءَ اللهُ. لم يَحْنَثْ بالشُّرْبِ ولا تَرْكِه، لِما ذَكَرْنا في الإِثْباتِ. ولا فَرْقَ بينَ تَقْديمِ الاسْتِثْناءِ وتَأْخيرِه في هذا كُلِّه، فإذا قال: واللهِ، إن شَاءَ اللهُ، لا أشْرَبُ اليومَ. أو: لأشْرَبَنَّ (¬3). ففَعَلَ أو تَرَك، ¬

(¬1) أي: استثناؤه. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لا أشربن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ وتَأْخِيرَه سَواءٌ، قال اللهُ تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (¬1). فصل: فإن قال: واللهِ لأشْرَبَنَّ اليومَ، إن شاءَ زَيدٌ. فشاءَ زَيدٌ، ولم يَشْرَبْ حتَّى مَضَى اليومُ، حَنِثَ، وإن لم يَشَأْ زَيدٌ، لم تَلْزَمْه يَمِينٌ، فإن لم تُعْلَمْ مَشِيئَتُه لغَيبَةٍ أو جُنونٍ أو مَوْتٍ انْحَلَّتِ اليَمِينُ؛ لأنَّه لم يُوجَدِ الشَّرْطُ. وإن قال: واللهِ لا أشْرَبُ، إلَّا أن يَشاءَ زيدٌ. فقد مَنَع نَفسَه الشُّرْبَ إلَّا أن تُوجَدَ مَشِيئَةُ زيدٍ، فإن شاءَ فله الشُّرْبُ، وإن لم يَشأْ لم يَشْرَبْ، وإن خَفِيَتْ مَشِيئَتُه لغَيبَةٍ أو موتٍ أو جُنونٍ، لم يَشْرَبْ، وإنْ شَرِبَ حَنِثَ؛ لأنَّه مَنَع نَفْسَه إلَّا أن تُوجَدَ المَشِيئَةُ. (¬2) ولم يَكُنْ له أن يَشْرَبَ قبلَ وُجودِها. وإن قال: واللهِ لأشْرَبَنَّ، إلَّا أن يشاءَ زيدٌ. فقد ألْزَمَ نَفْسَه الشُّرْبَ إلَّا أن يَشاءَ زيدٌ أن لا يَشْرَبَ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ ضِدُّ المُسْتَثْنَى منه، والمُسْتَثْنَى منه إيجابٌ لشربِه بيَمِينِه، فإن شَرِبَ قبلَ مَشِيئَةِ زيدٍ بَرَّ. وإن قال زيدٌ: قد شِئتُ أن لا يَشْرَبَ. انْحَلَّتْ يَمِينُه؛ لأنَّها مُعَلَّقَةٌ بعَدَمِ مَشِيئَتِه لتَرْكِ الشربِ، وإن لم تَتَقَدَّمْ فلم يُوجَدْ شَرْطُها. وإن قال: قد ¬

(¬1) سورة النساء 176. (¬2) ما بين المعكوفين لم يرد في ق، ص، م، وغير واضح في الأصل، واستدركناه من: ر 3، وفي حاشية «م» إشارة إلى هذا السقط.

4698 - مسألة: (وإذا حلف ليفعلن شيئا، ونوى وقتا بعينه، تقيد به، وإن لم ينو، لم يحنث حتى ييأس من فعله، إما بتلف المحلوف عليه، أو موت الحالف)

وَإذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيئًا، وَنَوَى وَقْتًا بِعَينِهِ، تَقَيَّدَ بِهِ، وَإنْ لَمْ يَنْو، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَيأَسَ مِنْ فِعْلِهِ، إِمَّا بِتَلَفِ الْمَحْلُوفِ عَلَيهِ، أَوْ مَوْتِ الْحَالِفِ، وَنَحْو ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شِئْتُ أن يَشْرَبَ. أو: ما شِئْتُ أن لا يَشْرَبَ. لم تَنْحَلَّ اليَمِينُ؛ لأنَّ هذه المَشِيئَةَ غيرُ المستثناةِ، فإن خَفِيتْ مَشِيئَتُه، لَزِمَه الشربُ؛ لأنَّه عَلَّقَ وُجوبَ الشُّرْبِ بعَدَمِ المشيئةِ، وهي مَعْدُومَةٌ بحُكْمِ الأصلِ. وإن قال: واللهِ لا أشربُ اليومَ، إن شاء زيدٌ. فقال زيدٌ: قد شِئْتُ أن لا يشربَ. فشربَ حَنِث، وإن شَرِب قبلَ مشيئتِه لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ الامْتِناعَ من الشُّرْبِ مُعَلَّقٌ بمشيئتِه، ولم تَثْبُتْ مشيئتُه، فلم يَثْبُتْ الامْتناعُ، بخلافِ التي قبلَها. وإن خفِيَتْ مشيئتُه، فهي في حكمِ المعْدومةِ. والمشيئةُ في هذه المواضِعِ أن يقولَ: قد شئتُ. بلسانِه. 4698 - مسألة: (وَإذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيئًا، وَنَوَى وَقْتًا بِعَينِهِ، تَقَيَّدَ بِهِ، وَإنْ لَمْ يَنْو، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَيأَسَ مِنْ فِعْلِهِ، إِمَّا بِتَلَفِ الْمَحْلُوفِ عَلَيهِ، أَوْ مَوْتِ الْحَالِفِ) وذلك لأنَّ اللفظَ يَحْتَمِلُ إرادةَ المَحْلُوفِ عليه في وَقْتٍ مُعَيَّن، ويَحْتَمِلُ غيرَه، فرُجِعَ إلى ما نَواه، ككناياتِ الطلاقِ والعِتقِ، وإن لم يكنْ له نيةٌ، لم يَحْنَثْ قبلَ اليَأْسِ مِن فِعْلِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ} (¬1). فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ: ألم تُخْبِرْنا أَنّا سنَأْتي البيتَ ونَطُوف به؟ قال: «بلى، ¬

(¬1) سورة الفتح 27.

4699 - مسألة: (وإذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، استحب له الحنث والتكفير)

وَإذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ وَالتَّكْفِيرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخْبَرْتُك أنَّك آتِيه العامَ؟». قال: لا. قال: «فإنَّك آتِيه ومُطَّوِّفٌ بِه» (¬1). 4699 - مسألة: (وَإذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ وَالتَّكْفِيرُ) لِما روَى عبدُ الرحمنِ بنُ سَمُرَةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حَلَفْتَ على يَمِين، فرَأَيتَ غيرَها خَيرًا منْها، فكَفِّر عن يَمِينِك، ثم ائْت الَّذي هو خيرٌ». رَواه أبو داودَ (¬2). وفي لفظٍ: «وائْتِ الَّذي هو خَيرٌ». رَواه البخارِيُّ، والأثْرَمُ (2). وعن أبي موسى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إنِّي، إن شاء اللهُ، لا أحْلِفُ على يَمِين فأرَى غيرَها خيرًا منْها، إلَّا كَفَّرْتُ عن يَمِينِي، وأتَيتُ الَّذي هو خيرٌ». أو: «أتَيتُ الَّذي هو خيرٌ، وكَفَّرْتُ عن يَمِينِي». رَواه البُخارِيُّ (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 458. (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 207. (¬3) تقدم تخريجه في 23/ 207، 208.

4700 - مسألة: (ولا يستحب تكرار الحلف)

وَلَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ الْحَلِفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4700 - مسألة: (ولا يُسْتَحَبُّ تَكْرارُ الحَلِفِ) باللهِ، ولا الإِفْراطُ (¬1) فيه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (¬2). وهذا ذَمٌّ له يَقْتَضِي كَراهَةَ فِعْلِه. فإن لم يخرُجْ إلى حَدِّ الإِكْثارِ، فليس بمَكْرُوهٍ، إلَّا أن يَقْتَرِنَ به ما يُوجِبُ كراهَتَه. ومن الناسِ مَن قال: الأَيمانُ كُلُّها مَكْروهَةٌ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ} (¬3). ولَنا، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَحْلِفُ كثيرًا، وقد كان يَحْلِفُ في الحديثِ الواحِدِ أيمانًا كثيرةً، ورُبَّما كرَّرَ اليمينَ الواحِدةَ ثلاثًا، فإنَّه قال في خُطْبةِ الكُسوفِ: «وَاللهِ يا أُمَّةَ ¬

(¬1) في ر 3: «إفراط». وغير واضحة في الأصل. (¬2) سورة القلم 10. (¬3) سورة البقرة 224.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمَّدٍ، مَا مِنْ أحَدٍ أغْيَرُ مِنَ الله أنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أو تَزْنِيَ أَمتُهُ، يَا أَمَّةَ محمّدٍ، واللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعلَمُ، لَضَحِكْتُم قَلِيلًا، ولَبَكَيتُمْ كَثيرًا» (¬1). ولَقِيَتْه امرأةٌ من الأنْصارِ، معها أولادُها، فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُم لأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ». ثَلاثَ مَرَّاتٍ (¬2). وقال: «وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا، وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا» (¬3). ولو كان هذا مكروهًا، لَكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَبْعدَ الناسِ منه. ولأنَّ الحَلِفَ بالله تعالى تعظيمٌ له، وربَّما ضَمَّ إلى يَمِينِه وَصْفَ الله تعالى بتعظِيمِه وتَوْحِيدِه، فيكونُ مُثابًا على ذلك. فقد رُوِيَ أنَّ رجُلًا حَلَفَ على شيءٍ، فقال: واللهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ما فَعَلْتُ كذا. فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا إنَّه، (¬4) قد كَذَبَ، وَلَكِنْ غفَرَ اللهُ له بتَوْحِيدِه» (¬5). وأمَّا الإفْراطُ في الحَلِفِ، فإنَّه إنَّما كُرِهَ، لأنَّه لا يَكادُ يَخْلُو من الكَذِبِ. واللَّهُ أعلمُ. وأمَّا قولُه تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 5/ 397. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «أنتم أحب الناس إلي»، من كتاب مناقب الأنصار، وفي: باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس، من كتاب النِّكَاح، وفي: باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 5/ 40، 7/ 48، 8/ 164. ومسلم، في: باب فضائل الأنصار، رضي الله تعالى عنهم، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1948، 1949. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 129، 258. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 490. (¬4) إلى هنا ينتهي السقط. (¬5) أخرجه بنحوه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 68، 4/ 3.

4701 - مسألة: (فإن دعي إلى الحلف عند الحاكم وهو محق،

وَإنْ دُعِيَ إِلَى الْحَلِفِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ مُحِقٌّ، اسْتُحِبَّ افْتِدَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ}. فمَعْناه لا تَجْعَلُوا أَيمَانَكُم باللهِ مانِعَةً لكم من البِرِّ والتَّقْوَى والإِصْلاحِ بينَ الناسِ، وهو أن يَحْلِفَ باللهِ أن لا يَفْعَلَ بِرًّا ولا تَقوَى ولا يُصْلِحَ بينَ الناسِ، ثم يمْتنِعَ مِن فِعْلِه، لِيَبَرَّ في يَمِينِه، ولا يَحْنَثَ فيها، فنُهُوا عن المُضِيِّ فيها. قال أحمدُ، ولِيَبَرَّ حديثَ ابنِ عباسٍ بإسْنادِه، في قولِه تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ}: الرجلُ يَحْلِفُ أن لا يَصِلَ قَرابَتَه، وقد جَعَل اللهُ له مَخْرَجًا في التَّكْفير، فأمَرَه أن لا يَعْتَلَّ باللهِ، وَلْيُكَفِّرْ، ولْيَبَرَّ (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَأَنْ يَسْتَلِجَّ (¬2) أَحَدُكُمْ في يَمِينِه، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أنْ يُؤَدِّيَ الكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللهُ عَلَيهِ» (¬3). وإن كان النَّهْي عادَ إلى اليَمِينِ، فالمَنْهِيُّ عنه الحَلِفُ على تَرْكِ البِرِّ والتَّقْوَى والإِصْلاحِ بينَ الناسَ، لا على كلِّ يَمِينٍ، فلا حُجَّةَ فيها لهم إذًا. 4701 - مسألة: (فإن دُعِيَ إلى الحَلِفِ عندَ الحاكِمِ وهو مُحِقٌّ، ¬

(¬1) أخرجه بنحوه الطبري في: تفسيره 2/ 400. (¬2) أي: يستمر في لجاجه، فلا يعدل إلى ما هو خير من يمينه. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب قول الله تعالى: {{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ. . . .} الآية، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 8/ 160. ومسلم، في: باب النهي عن الإصرار على اليمين. . . .، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1276. وابن ماجة، في: باب النهي أن يستلج الرجل في يمينه ولا يكفِّر، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجة 1/ 683. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 278، 317.

يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ، فَلَا بَأْسَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتُحِبَّ افْتِدَاءُ يَمِينِه، فإن حَلَف، فلا بَأْسَ) قال أصحابُنا: تَرْكُه أوْلَى، فيكونُ مَكْرُوهًا. وبه قال أصحابُ الشافعي؛ لِما رُوِيَ أنَّ المِقْدادَ وعثمانَ تَحاكَما إلى عمرَ، في مالٍ اسْتَقْرَص سه المِقْدادُ، فجعلَ عمرُ اليَمِينَ على المِقْدادِ، فرَدَّها على عثمانَ، فقال عمرُ: لقد أنْصَفَكَ. فأخَذَ عثمانُ ما أعْطاهُ المِقْدادُ، ولم يَحْلِفْ، وقال: خِفْتُ أن يُوافِقَ قَدَر بَلاءً، فيُقال: بيَمِينِ عثمانَ (¬1). والصَّحِيحُ أنَّه لا يُكْرَهُ بل هو مُباح، فِعْلُه كتَركِه؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أمَر نَبِيَّه - عليه السلام - بالحَلِفِ على الحَقِّ في ثلَاثةِ مَواضعَ، فقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقُّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّىَ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (¬2). والثاني قولُه: {قُلْ بَلَى وَربي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (¬3). والثالثُ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (¬4). ورَوَى محمدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، أنَّ عمرَ قال على المِنبَرِ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: باب تأكيد اليمين بالمكان، وباب النكول ورد اليمين، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 177، 184. (¬2) سورة يونس 53. (¬3) سورة سبأ 3. (¬4) سورة التغابن 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى يَدِه عَصًا: يا أيُّها الناسُ، لا تَمْنعَنَّكم اليمينُ من حُقُوقِكُم، فوَالذِي نفْسِي بِيَدِه، إنَّ في يَدِي لَعَصًا. ورَوَى الشَّعْبِيُّ، أنَّ عمرَ وأُبَيًّا احْتَكَمَا (¬1) إلى زيدٍ في نَخْلٍ ادَّعاه أُبَيٌّ، فتَوَجَّهَتِ اليمينُ على عمرَ، فقال زيدٌ: أَعفِ أميرَ المؤمِنين. فقال عمرُ: ولِمَ يُعْفِي أميرَ المؤمنين؟ إن عَرَفْتُ شيئًا اسْتَحْقَقْتُه بيَمِينِي، وإلَّا تَرَكْتُه، والله (¬2) الذِى لا إلهَ إلَّا هو، إنَّ النَّخْلَ لنَخْلِي، وما لأُبَيٍّ فيه حَقٌّ فلمَّا خرَجا وَهَب النَّخْلَ لأُبَيٍّ، فقيل له: يا أميرَ المؤمنين، هلَّا كان هذا قبلَ اليَمِينِ؟ فقال: خِفْتُ أن لا أحْلِفَ، فلا يَحْلِفَ الناسُ على حُقُوقِهم بَعْدِي، فتكونَ سُنَّةً (¬3). ولأنَّه حَلِف صِدْقٍ على حَق، فأَشْبَهَ الحَلِفَ عندَ غيرِ الحاكمِ. ¬

(¬1) في الأصل: «تحاكما». (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه البيهقي، في: باب القاضي لا يحكم لنفسه، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبرى 10/ 144.

فصْلٌ: فإِنْ حَرَّمَ أمَتَهُ أَوْ شَيئًا مِنَ الْحَلَالِ، لَمْ يُحَرَّمْ، وَعَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَرَّمَ تَحْرِيمًا تُزِيلُهُ الْكَفَّارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (وإِنْ حَرَّمَ أمَتَهُ أَوْ شَيئًا مِنَ الْحَلَالِ، لَمْ يُحَرَّمْ، وَعَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحَرَّمَ تَحْرِيمًا تُزِيلُهُ الْكَفَّارَةُ) وقال أبو حنيفةَ: يُحَرَّمُ، لقولِ الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} (¬1). وقولِه: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} (¬2). ولأنَّه تَحْرِيمٌ للحَلالِ، فحَرَّمَ، كتَحْريمِ الزَّوْجَةِ. ولَنا، أنَّه إذا أرادَ التَّكْفِيرَ، فله فِعْلُ المَحْلُوفِ عليه، وحِلُّ فِعْلِه مع كَوْنِه (¬3) مُحَرَّمًا تَناقُضٌ، والعَجَبُ أنَّ أبا حنيفةَ لا يُجِيزُ التَّكْفِيرَ إلَّا بعدَ الحِنْثِ، وقد فَرَض اللهُ تعالى تَحِلَّةَ اليمينِ، فعلى قولِه، يَلْزَمُ كونُ المُحَرَّم مَفروضًا، أو من ضَرُورَةِ المَفْروضِ، لأنَّه لا تَحْصُلُ التَّحِلَّةُ إلَّا بفِعْلِ المَحْلُوفِ عليه (¬4)، وهو عندَه مُحَرَّمٌ، وهذا غيرُ جائِزٍ، ولأنَّه لو كان مُحَرَّمًا، ¬

(¬1) التحريم 1. (¬2) التحريم 2. (¬3) ق م: «تركه». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الكَفّارَةِ عليه، كالظِّهارِ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» (¬1). فأمَرَ بفِعْلِ المحْلُوفِ عليه، ولو كان مُحَرَّمًا، لم يَأْمُرْ بفِعْلِه، وسَمَّاه خَيرًا، والمُحَرَّمُ ليس بخيرٍ. وأمَّا الآيةُ، فالمُرادُ بها قوْلُه: هو علَيَّ حَرامٌ. أو مَنْعُ نَفْسِه منه، وذلك (¬2) يُسَمَّى تحْرِيمًا، قال اللهُ تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} (¬3). وقال: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ} (¬4). ولم يَثْبُتْ في التَّحْرِيمُ حَقِيقَةً ولا شَرْعًا. فإذا قال: هذا حَرامٌ عليَّ إن فَعَلْتُ. وفَعَل. أو: ما أحَلَّ اللهُ عليَّ حَرامٌ إن فَعَلْتُ. ثم فَعَلَ، فهو مُخَيَّرٌ، إن شاءَ تَرَك ما حَرَّمَه على نَفْسِه، وإن شاءَ كَفَّرَ. وإن قال: هذا الطعامُ حَرامٌ عليَّ. فهو كالحالِفِ على تَرْكِه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 207. (¬2) بعده في م: «ليس». (¬3) سورة التوبة 37. (¬4) سورة الأنعام 140.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُرْوَى نحوُ هذا عن ابنِ مسعودٍ، والحَسنِ، وجابرِ بنِ زَيدٍ، وقَتادَةَ، وإسْحاقَ، وأهلِ العراقِ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، في مَن قال: الحِلُّ عَلَيَّ حَرامٌ: يَمِينٌ مِن الأيمانِ، يُكَفِّرُها. وقال الحسنُ: هي يَمِينٌ، إلا أن يَنْويَ امرأتَه. وعن إبراهيمَ مثلُه. وعنه، إن نَوَى طَلاقًا، وإلَّا فليس بشيءٍ. وعن الضَّحَّاكِ، أنَّ أبا بكرٍ، وعمرَ، وابنَ مسعودٍ، قالوا: الحرامُ يَمِينٌ (¬1). وقال طاوُسٌ: هو ما نَوَى. وقال مالكٌ، والشافعيُّ: ليس بيَمِينٍ، ولا شيءَ عليه، لأنَّه قَصَد تَغْيِيرَ المَشْرُوعِ، فَلَغا ما قَصَدَه، كما لو قال: هذه ابْنَتِي. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} إلى قولِه: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} (¬2). سَمَّى تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللهُ يَمِينًا، وفَرَض له تَحِلَّةً، وهو الكَفَّارَةُ. وقالت عائِشَةُ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْكُثُ عندَ زَينَبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشْرَبُ عندَها عَسَلًا، فتَواطَيتُ (¬3) أنا وحَفْصَةُ، أنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلْتَقُلْ: إنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغافِيرَ (¬4) فدَخَلَ على إحْدانا، فقالتْ له ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 5/ 74. (¬2) سورة التحريم 1، 2. (¬3) في م: «فتواصيت». (¬4) مغافير: جمع مغفار ومُغفور، وهو صمغ حلو يسيل من شجر العُرفُط يؤكل، أو يوضع في ثوب ثم ينضح بالماء فيشرب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، فقال: «لَا، بَل شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَينَبَ بنْتِ جَحْشٍ، ولَنْ أَعُودَ». فنزَلَتْ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فإن قيل: إنَّما نَزَلَتِ الآيَةُ في تَحْرِيمِ مارِيَةَ القِبْطِيَّةِ، كذلك قال الحسنُ، وقَتادَةُ (¬2). قُلنا: ما ذَكَرْناه أصَحُّ، فإنَّه مُتَّفَقٌ عليه، وقولُ عائشةَ صاحِبَةِ القِصَّةِ الحاضِرَةِ للتَّنْزِيلِ، المُشاهِدَةِ للحالِ، أوْلَى، والحسنُ وقَتادَةُ لو سَمِعَا قولَ عائشةَ، لم يَعْدِلا به شيئًا، ولم يَصِيرَا إلى غيرِه، فكيفَ يُصارُ إلى قولِهما، ويُتْرَكُ قَوْلُها! وقد رُوِيَ عن ابنِ عَباسٍ، وابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه جَعَل تَحْرِيمَ الحلالِ يَمِينًا (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب سورة التحريم، من كتاب التفسير، وفي: باب {لِمَ تُحْرِّمْ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من كتاب الطلاق، وفي: باب إذا حرم طعامه، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 6/ 194، 7/ 56، 57، 8/ 175، 176. ومسلم، في: باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته. . . .، من كتاب الطلاق. صحيح مسلم 2/ 1100 - 1103. كما أخرجه أبو داود، في: باب في شراب العسل، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 301. والنسائي، في: باب تأويل هذه الآية، أي {يَل أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحْرِّمْ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من كتاب الطلاق، وفي: باب تحريم ما أحل الله عزَّ وجلَّ، من كتاب الأيمان والنذور، وفي: باب الغيرة، من كتاب عشرة النساء. المجتبى 6/ 123، 7/ 13، 66. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 221. (¬2) انظر: تفسير الطبري 28/ 155 - 158. (¬3) أخرجه البيهقي عن عائشة مرفوعًا في: السنن الكبرى 10/ 352. وإسناده ضعيف. ولم نجده عن ابن عباس أو ابن عمر مرفوعًا، وتقدم تخريجه في: 22/ 267 موقوفًا على ابن عباس. وانظر الإرواء 8/ 200، 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو ثَبَت أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في تحريمِ ماريَةَ، كان حُجَّةً لنا؛ لأنَّها من الحلالِ الَّذي حَرَّمَ، وليست زَوْجَةً، فوُجُوابُ الكَفَّارَةِ بتَحْرِيمِها يَقْتَضِي وُجُوبَها بتَحْرِيمِ كلِّ حَلالٍ، بالقياسِ عليها؛ لأنَّه حَرَّمَ الحَلال فأوْجَبَ الكَفَّارَةَ، كتَحْرِيمِ الأمَةِ [والزَّوْجَةِ] (¬1)، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بتَحْرِيمِها. إذا ثَبَت هذا، فعليه إن فَعَلَه كَفَّارَةُ يَمِينٍ لقولِه عليه السَّلامُ: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَكَفرْ عَنْ يَمِينِكَ». مُتَّفَقٌ عليه. ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا حَرَّمَ العَسَلَ، أو مارِيَةَ، أَنْزلَ اللهُ سبحانَه: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ}. قال الحسنُ: سَمَّى تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللهُ يَمِينًا، وفَرَضَ لَهُ تَحِلَّةً، وهي الكَفَّارَةُ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يُحَرَّمَ تَحْرِيمًا تُزِيلُه الكَفَّارَةُ؛ لأنَّه تَحْرِيمٌ يُوجِبُ الكَفَّارَةَ بالفِعْلِ، فحَرُمَ ما حَرَّمَه، كالظِّهارِ. ¬

(¬1) في م: «المزوجة».

4702 - مسألة: (وإن قال: هو يهودي)

وَإنْ قَال: هُوَ يَهُودِيٌّ. أوْ: كَافِرٌ. أوْ: بَرِئٌ مِنَ اللهِ تَعَالى، أوْ: مِنَ الإسْلَامِ، أو: الْقُرْآنِ، أو: النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4702 - مسألة: (وإن قال: هو يَهُودِيٌّ) أو: نَصْرانِيٌّ (أو: بَرِئٌ مِنَ اللهِ تعالى، أو:) من (القُرْآنِ، أو: الإِسْلام، أو: النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إن فَعَل ذلك. فقد فَعَل مُحَرَّمًا) لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَال». مُتَّفَق عليه (¬1). وفي لَفْظٍ: «مَنْ حَلَفَ أنَّه بَرِئٌ مِنَ الإِسْلَامِ، فَإنْ كَانَ قَدْ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب ما جاء في قاتل النفس، من كتاب الجنائز، وفي: باب ما ينهى من السباب واللعن، وباب من كفر أخاه، من كتاب الأدب، وفي: باب من حلف بملة غير الإسلام، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 2/ 120، 18/ 8، 19، 32، 166. ومسلم، في: باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. . . .، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 1/ 104، 105. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 201. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية الحلف بنو ملة الإسلام، من أبواب النذور. =

4703 - مسألة: (وعليه كفارة إن فعل، في إحدى الروايتين)

وَعَلَيهِ كَفَّارَةٌ إِنْ فَعَلَ، في إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَذَبَ، فَهُوَ كَمَا قَال، وَإنْ كَانَ صَادِقًا، لَمْ يَرْجِعْ إلَى الإِسْلَامِ سَالِمًا» (¬1). 4703 - مسألة: (وعليه كَفَّارَةٌ إن فَعَل، في إحْدَى الرِّوَايَتَين) اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، في الحالِفِ بالخُروجِ من الإسْلامِ، مثلَ أن يقولَ: هو يَهُودِيٌّ. أو: نَصْرَانِيٌّ،. أو: مَجُوسِيٌّ، إن فَعَل كَذا. [أو: هو] (¬2) بَرِئٌ من الإِسْلامِ. أو: مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. أو يقولُ: هو يَعْبُدُ الصَّلِيبَ. أو: يَعْبُدُ غيرَ اللهِ، إن فَعَل. أو نحوَ هذا (¬3)، فعن أحمدَ: عليه الكَفَّارَةُ إذا حَنِثَ. يُرْوَى هذا عن طاوُسٍ، والحسنِ، والشَّعْبِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وإسْحاقَ، وأصحابِ الرَّأْي. ¬

= عارضة الأحوذي 7/ 28. والنسائي، في: باب الحلف بملة سوى الإسلام، وباب النذر فيما لا يملك، من كتاب الأيمان. المجتبى 6/ 7، 18. وابن ماجه، في: باب من حلف بملة غير الإسلام، كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 678. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 33. (¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 201. والنسائي، في: باب الحلف بالبراءة من الإسلام، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 6/ 7، 7. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 335، 356. وصححه في الإرواء 8/ 201، 202. (¬2) في م: «وهو». (¬3) بعده في م: «إن فعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِيَ ذلك عن زَيدِ بنِ ثابِتٍ، رَضِيَ اللهُ عنه. والثانِيَةُ، لا كَفَّارَةَ عليه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، واللَّيثِ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه لم يَحْلِفْ باسمِ اللهِ، ولا صِفَتِه، فلم تَلْزَمْه كَفَّارَة، كما لو قال: عَصَيتُ اللهَ فيما أمَرَنِي به. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ كلامُ أحمدَ في الرِّوايَةِ الأُولَى على النَّدْبِ دونَ الإيجابِ، فإنَّه قال في رِوايَةِ حَنْبَلٍ: إذا قال: أكفُرُ باللهِ. أو: أُشْرِكُ باللهِ: فأحَبُّ إليَّ أن يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذا حَنِثَ. ووَجْهُ الرِّوايَةِ الأُولَى، ما رُوِيَ [عن الزُّهْرِيِّ، عن خارِجَةَ بنَ زيدٍ، عن أبيه] (¬1)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه سُئِلَ عن الرجلِ يقولُ: هو يَهُودِيٌّ، أو نَصْرَانِيٌّ، أو مَجُوسِيٌّ، أو بَرِئٌ من الإسْلامِ. في اليَمِينِ يَحْلِفُ بها، فيَحْنَث في هذه الأشْياءِ. قال: «عَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». أخْرَجَه أبو بَكْرٍ (¬2). ولأنَّ البَرَاءَةَ من هذه الأشْياءِ تُوجِبُ الكُفْرَ باللهِ، فكان الحَلِف بها يَمِينًا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرجه البيهقي دونَ قوله: «أو مَجُوسيّ»، «في هذه الأشياءِ»، في: باب من حلف بغير حنث أو حلف بالبراءة من الإسلام، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 30. وقال: لا أصل له من حديث الزهري ولا غيره، تفرد به سليمان بن أبي داود الحراني، وهو منكر الحديث، ضعفه الأئمة وتركوه.

4704 - مسألة: (وإن قال: «أنا أستحل الزنى. أو نحوه، فعلى وجهين)

وَإنْ قَال: أَنَا أَسْتَحِلُّ الزِّنَى. أَوْ نَحْوَهُ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحَلِفِ باللهِ تعالى. قال شيخُنا (¬1): والرِّوايةُ الثانِيَةُ أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى، فإنَّ الوُجوبَ من الشَّارعِ، ولم يَرِدْ في هذه اليَمِينِ نَصٌّ، ولا هي في قياسِ المَنْصُوصِ، فإنّ الكَفَّارَةَ إنَّما وَجَبَتْ بالحَلِفِ باسِم اللهِ تَعْظِيمًا لاسْمِه، وإظْهارًا لشَرَفِه وعَظَمَتِه، ولا تَتَحَقَّقُ التَّسْويَةُ. 4704 - مسألة: (وإن قال: «أنا أسْتَحِلُّ الزِّنَى. أو نَحْوَه، فعلى وَجْهَين) وكذلك إن قال: أنا أسْتَحِلُّ تَرْكَ الصلاةِ أو الزكاةِ أو الصِّيامِ. ¬

(¬1) في: المغني 13/ 465.

4705 - مسألة: (وإن قال: عصيت الله. أو: أنا أعصي الله في كل ما أمرني به. أو: محوت المصحف إن فعلت)

وَإنْ قَال: عَصَيتُ اللهَ. أوْ: أَنا أَعْصِي اللهَ في كُلِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ. أوْ: مَحَوْتُ الْمُصْحَفَ إِنْ فَعَلْتُ. فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كالحَلِفِ بالبَراءَةِ من الإسْلامِ؛ لأنَّ اسْتِحْلال ذلك يُوجِبُ الكُفْرَ، فيُخَرَّجُ على الرِّوايَتَين في المسألةِ قبلَها. 4705 - مسألة: (وإن قال: عَصيتُ اللهَ. أو: أنَا أعْصِي اللهَ في كُلِّ ما أمَرَنِي بِهِ. أو: مَحَوْتُ المُصْحَفَ إن فَعَلْتُ) كَذا. وحَنِثَ (فلا كَفَّارَةَ فيه) لأنَّ هذا دونَ الشِّرْكِ. وإن قال: أخْزاه اللهُ. أو: قَطَعَ يَدَه. أو: لعنه، إن فَعَل. ثم حَنِثَ، فلا كَفّارَةَ عليه. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال عَطاءٌ، والثَّوْرِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال طاوُسٌ، واللَّيثُ: عليه الكَفَّارَةُ. وبه قال الأوْزَاعِيُّ إذا قال: عليه لَعْنَةُ اللهِ. ولَنا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ هذا لا يُوجِبُ الكُفْرَ، أشْبَهَ ما لو قال: مَحَوْتُ المُصْحَفَ. وإن قال: لا يَرانِيَ اللهُ في (¬1) مَوْضِعِ كذا إن فعلتُ. وحَنِثَ، فقال القاضِي: عليه ¬

(¬1) في الأصل: «من».

4706 - مسألة: (وإن قال: عبد فلان حر لأفعلن. فليس بشيء. وعنه، عليه كفارة إن حنث)

وَإنْ قَال: عَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ لأفْعَلَنَّ. فَلَيسَ بِشَيْءٍ؛ وَعَنْهُ، عَلَيهِ كَفَّارَة إِنْ حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَفَّارَةٌ. وذَكَرَ أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه. والصَّحِيحُ أنَّ هذا لا كفَّارَةَ فيه، لأنَّ إيجابَها في هذا ومثلِه تَحَكُّم بغيرِ نَصٍّ، ولا قِياس صَحِيحٍ. 4706 - مسألة: (وإن قال: عَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ لَأفْعَلَنَّ. فليس بشيءٍ. وعنه، عليه كَفَّارَةٌ إن حَنِثَ) أمَّا إذا قال: عَبْدُ فُلانٍ حُرٌّ. من غيرِ تعْلِيقٍ، لم يَلْزَمْه شيءٌ، وكذلك إن عَلَّقَه، لأنَّ تَعْلِيقَ الشيءِ بالشَّرْطِ أثَرُه في أن يَصِيرَ عندَ الشَّرْطِ كالمُطْلَقِ (¬1)، فإذا كان المُطْلَقُ (¬2) لا يُوجبُ شيئًا، فكذلك المعَلَّقُ. ولا يَعْتِقُ العَبْدُ إذا حَنِثَ، بغيرِ خلافٍ، لأنَّه لا يَعْتِقُ بتَنْجِيزِ (¬3) العِتْقِ، فالتَّعْلِيقُ أوْلَى. وهل تَلْزَمُه كَفَّارَةٌ؟ فيه رِوايتان عن أحمدَ، ذَكَرَهُما ابنُ أبي موسى؛ إحْداهما، عليه كَفَّارَةٌ؛ لأنَّه حَلَف بالعِتْقِ فيما لا يَقَعُ بالحِنْثِ، فلَزِمَتْه كَفَّارَةٌ، كما لو قال: فللهِ عَلَيَّ أنْ أُعْتِقَ فُلانًا. والثانيةُ، لا كَفَّارَةَ عليه؛ لأنَّه حَلَف بإخْراجِ مالِ غيرِه، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو قال: مالُ فُلانٍ صَدَقَةٌ، إن دَخَلْتُ الدَّارَ. ولأنَّه تعْلِيقٌ للعِتْقِ ¬

(¬1) في م: «كالمعلق». (¬2) في م: «المعلق». (¬3) في م: «بغير تنجيز».

4707 - مسألة: (وإن قال: أيمان البيعة تلزمني. فهي يمين، رتبها الحجاج، تشتمل على اليمين بالله تعالى، والطلاق، والعتاق،

وَإنْ قَال: أَيمَانُ الْبَيعَةِ تَلْزَمُنِي. فَهِيَ يَمِينٌ، رَتَّبَها الْحَجَّاجُ، تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ باللهِ تَعَالى، والطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَصَدَقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ على صِفَةٍ، فلم تَجِبْ به كَفَّارَة، كسائِرِ التَّعْلِيقُ (¬1). أمَّا إذا قال: للهِ عَلَيَّ أن أُعْتِقَ عَبْدًا. فإنَّه نَذْرٌ، فأوجَبَ الكَفَّارَةَ؛ لكَوْنِ (¬2) النَّذْرِ كاليَمِينِ، وتعْلِيقُ العِتْقِ بخلافِه. فصل: وإن قال: إن فَعَلْتُ كذا، فمالُ فُلانٍ صَدَقَةٌ، أو: فعلى فُلانٍ حَجَّةٌ، أو: فمالُ (¬3) فُلانٍ حَرامٌ عليه، أو: هو بَرِئٌ من الإِسْلام. وأشْباهَ هذا، فليس ذلك بيَمِينٍ، ولا تَجبُ به كَفَّارَةٌ. لا نَعْلَمُ بينَ أهَلِ العِلْمِ فيه خِلافًا؛ لأنَّه لم يَرِدِ الشَّرْعُ فيه بَكفَّارَةٍ، ولا هو في معنى ما وَرَد الشَّرْعُ به. 4707 - مسألة: (وإن قال: أيمانُ البَيعَةِ تَلْزَمُنِي. فهي يَمِينٌ، رَتَّبَهَا الحَجَّاجُ، تَشْتَمِلُ على اليَمِينِ باللهِ تَعَالى، والطَّلاقِ، والعَتاقِ، ¬

(¬1) في الأصل: «العتق». (¬2) في م: «بكون». (¬3) في الأصل: «قال».

الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ يَعْرِفُهَا وَنَوَاهَا، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِمَا فِيهَا، وَإلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِحَالٍ، إلا في الطَّلَاقِ والْعَتَاقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصَدَقَةِ المالِ، فإن كان الحالِفُ يَعْرِفُها ونَوَاها، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بما فيها، وإلَّا فلا شيءَ عليه. ويَحْتَمِلُ أن لا تَنْعَقِدَ إلَّا فِي الطَّلاقِ والعَتاقِ) قال أبو عبدِ اللهِ بنُ بَطَّةَ: كُنْتُ عندَ أبي القاسِمِ الخِرَقِيِّ، وقد سَأَلَه رجلٌ عن أيْمانِ البَيعَةِ، فقال: لستُ أُفْتِي فيها بشيءٍ، ولا رأيتُ أحدًا من شيوخِنا يُفْتِي في هذه اليَمِينِ. قال: وكان أبي، رَحِمَه اللهُ -يَعْنِي [أبا عليٍّ] (¬1) - يَهابُ الكلامَ فيها. ثم (¬2) قال أبو القاسِمِ: إلَّا أن يَلْتَزِمَ الحالِفُ بها بجميعِ ما فيها من الأيمانِ. فقال له السائِلُ: عَرَفَها أم لم يَعْرِفْها؟ قال: نعم. وكانتِ اليَمِينُ على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمصافَحَةِ (¬3)، فلمَّا وَلِيَ الحَجَّاجُ رَتَّبَها إيمانًا تَشْتَمِلُ على اليَمِينِ باللهِ ¬

(¬1) في م: «الحسين». (¬2) سقط من: م. (¬3) عن بهية بنت عبد الله البكرية أنها وفدت مع أبيها، فبابع الرجال وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهن. انظر الاستيعاب 4/ 1798. وأسد الغابة 7/ 42. معزوا لأبي نعيم وابن عبد البر وابن منده. وانظر جامع المسانيد 15/ 327. تلخيص الحبير 4/ 169، 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى، والطَّلاقِ، والعَتاقِ، وصَدَقَةِ المالِ. فمَن لم يَعْرِفْها، لم تَنْعَقِدْ يَمِينُه بشيءٍ ممَّا فيها؛ لأنَّ هذا ليس بصَرِيحٍ في القَسَمِ، والكِنايَةُ لا تَصِحُّ إلَّا بالنِّيَّةِ، ومَن لم يَعْرِفْ شيئًا، لمْ يصِحَّ أن يَنْويَه. وإن عَرَفَها، ولم يَنْو عَقْدَ اليَمِينِ بما فيها، لم يَصِحَّ أيضًا؛ لِما ذَكَرْناه. ومَن عَرَفَها، ونوَى اليَمِينَ بما فيها، انْعَقَدَ في الطَّلاقِ، العَتاقِ؛ لأنَّ اليَمِينَ بهما (¬1) جميعًا (¬2) ¬

(¬1) في م: «بها». (¬2) زيادة من: ر 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَنْعَقِدُ بالكِنايَةِ، وما عدا الطَّلاقَ والعَتاقَ، كاليَمِينِ بالله تعالى، وصَدَقَةِ المالِ، فقال القاضي: تَنْعَقِدُ يَمِينُه ها هنا أيضًا؛ لأنَّها يَمِينٌ، فتَنْعَقِدُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكِنايَةِ المَنْويَّةِ، كالطَّلاقِ والعَتاقِ، وكما لو لَفَظَ بكل واحدةٍ وَحْدَها. وقال في مَوْضِعٍ: لا تَنْعَقِدُ اليَمِينُ باللهِ بالكِنايَةِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الكفَّارَةَ إنَّما وَجَبَتْ فيها لما ذُكِرَ فيها من اسْمِ اللهِ تعالى المُعَظَّمِ المُحْتَرَمِ، ولا يُوجَدُ ذلك في الكِنايَةِ.

4708 - مسألة: (وإن قال: علي نذر، أو يمين إن فعلت كذا. وفعله، فقال أصحابنا: عليه كفارة يمين)

وَإنْ قَال: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ: يَمِين إِنْ فعَلْتُ كَذَا. وَفَعَلَهُ، فَقَال أصْحَابُنَا: عَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4708 - مسألة: (وإن قال: عَلَيَّ نَذْرٌ، أو يَمِينٌ إن فَعَلْتُ كذا. وفَعَلَه، فقال أصحابُنا: عليه كَفَّارَةُ يَمِينٍ) لِما روَى ابنُ عامِرٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذَا لَمْ يُسَمَّ، كَفَّارَةُ الْيَمِينِ». قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التِّرْمِذِيُّ (¬1): هذا حدِيثٌ صَحِيحٌ. ¬

(¬1) في: باب ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسم، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 7. كما أخرجه أبو داود، في: باب من نذر نذرا لم يسمه، من كتاب الأيمان. سنن أبي داود 2/ 216. وابن ماجه، في: باب من نذر نذرًا ولم يسمه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 687. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 144. والحديث دون قوله: «إذا لم يسم». أخرجه مسلم، في: باب في كفارة النذر، من كتاب النذر. صحيح مسلم 3/ 1265. والنسائي، في: باب كفارة النذر، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 24. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 146، 149، 156. وهو ضعيف بهذه الزيادة، انظر الإرواء 8/ 209 - 211.

4709 - مسألة: (وهي تجمع تخييرا وترتيبا، فيخير بين ثلاثة

فَصْلٌ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: وَهِيَ تَجْمَعُ تَخْيِيرًا وَتَرْتِيبًا، فَيُخَيَّرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل في كَفَّارَةِ اليَمِينِ: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ تعالى: (وهي تَجْمَعُ تَخْيِيرًا وترتيبًا). والأصْلُ في كفَّارَةِ اليَمِينِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} (¬1) الآية. وأمَّا السُّنَّةُ، فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَايتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» (¬2). في أخْبارٍ سِوَى هذا. وأجْمعَ المسلِمُون على مَشْرُوعِيَّةِ الكفَّارَةِ في اليَمِينِ باللهِ تعالى. 4709 - مسألة: (وهي تَجْمَع تَخْيِيرًا وتَرْتِيبًا، فَيُخَيَّرُ بينَ ثَلَاثةِ ¬

(¬1) سورة المائدة 89. (¬2) تقدم تخريجه في 23/ 207.

فِيهَا بَينَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أوْ كُسْوَتُهُمْ، أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. والْكُسْوَةُ لِلرَّجُلِ ثَوْبٌ يُجْزِئُهُ أنْ يُصَلِّيَ فيهِ، وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْيَاءَ؛ إطْعامُ عَشَرَةِ مساكِينَ، أو كُسْوَتُهُم، أو تَحْريرُ رَقَبَةٍ) لِما ذَكَرْنا في الآيةِ. وقد سَبَق شَرْحُ العِتْقِ والإِطْعام في كفَّارَةِ الظِّهارِ. و (كُسْوَةُ) المساكينِ (للرجلِ ثَوْبٌ يُجْزِئُه أن يُصَلِّيَ فيه، وللمرأةِ دِرْعٌ وخِمَارٌ) ولا خِلافَ في أنَّ الكُسْوَةَ أحَدُ أصْنافِ الكفَّارَةِ؛ لنَصِّ اللهِ عليها، في كتابِه بقولِه: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}. وتتقَدَّرُ الكُسْوَةُ بما تُجْزِئُ الصلاةُ فيه، على ما ذكَرْنا. وهذا قولُ مالكٍ. ومِمَّن قال: لا تُجْزِئُه السَّراويلُ وحدَها (¬1). الأوْزَاعِيُّ، وأبو يوسف. وقال إبراهيمُ: ثَوْبٌ جامِعٌ. وقال الحسنُ: كلُّ مِسْكِين حُلَّة؛ إزَارٌ ورِداءٌ. وقال ابنُ عمرَ، وعَطاء، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وأصْحابُ الرَّأْي: يُجْزِئُه ثوْبٌ ثَوْبٌ (¬2). ولم يُفَرِّقُوا بينَ الرجلِ والمرأةِ. ورُوِيَ عن الحسنِ (¬3)، ¬

(¬1) في الأصل، ر 3: «وحده». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) إلى هنا ينتهي الجزء الثامن من نسخة المكتبة العامة السعودية بالرياض، والتي أشير إليها بـ (ر 3).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: تُجْزِئُ العِمامَةُ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: عباءَةٌ وعِمامَةٌ. [وقال الشافعيُّ: يُجْزِئُ أقَلُّ ما يَقَعُ عليه الاسمُ؛ من سَراويلَ، أو إزارٍ، أو رِداءٍ، أو مِقْنَعَةٍ، أو عِمامَةٍ] (¬1). وفي القَلَنْسُوَةِ وَجْهان. واحْتَجُّوا بأنَّ ذلك يَقَعُ عليه اسمُ الكُسْوَةِ، فأجْزَأ، كالذي تجوزُ الصلاةُ فيه. ولَنا، أنَّ الكُسْوَةَ أحَدُ أنْواعِ الكَفَّارَةِ، فلم يَجُزْ فيه ما يَقَعُ عليه الاسمُ، كالإِطْعامِ والإِعْتاقِ، ولأنَّ التَّكْفِيرَ عِبادَةٌ تُعْتَبَرُ فيها الكُسْوَةُ، فلم يَجُزْ فيه أقَلُّ ممَّا ذَكَرْناه، كالصلاةِ، ولأنَّه مَصْروفٌ إلى المساكِينِ في الكَفَّارَةِ، فيُقَدَّرُ، كالإِطْعامِ، ولأنَّ اللَّابِسَ ما لا يَسْتُرُ عَوْرَتَه يُسَمّى عُرْيانًا، فلا يُجْزِئُه؛ لقولِ الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}. إذا ثَبَت هذا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه إذا كَسَا امرأةً، أعْطاها دِرْعًا وخِمارًا، على ما ذَكَرْنا؛ لأنَّه [أقَلُّ ما] (¬1) يَسْتُرُ عَوْرَتَها، وتُجْزئُها الصلاةُ فيه، وإن أعْطاها ثوبًا واسِعًا، يُمْكِنُها أن تَسْتُرَ به بَدَنَها ورَأْسَها، أجْزَأَة ذلك. والرجلُ يُجْزِئُه إذا كَسَاه ثَوْبٌ، أو قَمِيصٌ يُمْكِنُه أن يَسْتُرَ به عَوْرَتَه، ويَجْعَلَ على عاتِقِه منه شيئًا، أو ثَوْبَين يَأْتَزِرُ بأحَدِهما، ويَرْتَدِي بالآخَرِ. ولا يُجْزِئُه مِئْزَرٌ وَحْدَه، ولا سَراويلُ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُصَلِّي أحَدُكُم فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيسَ عَلَى عَاتِقِه مِنْهُ شَيْءٌ» (¬2). ويجوزُ أن يَكْسُوَهُم من جميعِ أصْنافِ الكُسْوَةِ، من القُطْنِ، والكَتَّانِ، والصوفِ، والشَّعَرِ، والوَبَرِ، والخَزِّ، والحريرِ، لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بكُسْوَتِهم ولم يُعَيِّنْ جِنْسَها، فأيُّ جِنْسٍ كَساهُم منه، خَرَجَ به عن العُهْدَةِ؛ لوُجُودِ الكُسْوَةِ المأْمُورِ بها. ويجوزُ أن يَكْسُوَهُم جَدِيدًا ¬

(¬1) في الأصل: «قد». (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 216.

4710 - مسألة: (فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام متتابعة، إن شاء قبل الحنث، وإن شاء بعده، ولا يجوز تقديمها على اليمين)

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَةٍ، إِنْ شَاءَ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَإنْ شَاءَ بَعْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْيَمِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَبِيسًا، إلَّا أن يكونَ قد بَلِيَ وذَهَبَتْ مَنْفَعَتُه، فلا يجوزُ؛ لأنَّه مَعِيبٌ، فهو كالحَبِّ المَعِيبِ، والرَّقَبَةِ إذا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُها وسَواءٌ كان ما أعْطَاهُم مَصْبُوغًا أو لا، أو خَامًا أو مَقْصُورًا (¬1)؛ لأنَّه تَحْصُلُ به الكُسْوَةُ المأْمُورُ بها، والمَنْفَعَةُ المقْصُودَةُ منها (¬2). فصل: والذين (¬3) تُجْزِئُ كُسْوَتُهم، هم المساكينُ الذين يُجْزِئُ إطْعامُهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى. قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ}. فيَنْصَرِفُ الضَّمِيرُ إليهم. 4710 - مسألة: (فإن لم يَجِدْ، فصِيامُ ثَلَاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَةٍ، إن شاء قَبْلَ الحِنْثِ، وإن شاء بعدَه، ولا يَجُوزُ تَقْدِيمُها على اليَمِينِ) إذا عَجَز عن العِتْقِ والإِطْعامِ والكُسْوَةِ، أجْزَأَه صِيامُ ثلاثَةِ أيَّامٍ؛ للآيةِ. ¬

(¬1) قصر الثوب: دقه وبيضه. (¬2) في م: «بها». (¬3) في ص، م: «الذي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذَكَرْنا صِفَةَ العَجْزِ في كفَّارَةِ الظِّهارِ في العَجْزِ عن الرَّقَبَةِ. ويُشْتَرَطُ التَّتابُعُ في صَوْمِ الأَيَّامِ الثلاثَةِ. وعنه، لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّ الأمْرَ بصَوْمِها مُطْلَقٌ، فلم يَجُزْ تَخْصِيصُه (¬1) بغيرِ دليلٍ. والأوَّلُ ظاهِرُ المذهَبِ؛ لأنَّ في قراءَةِ أُبَيٍّ، وابنِ مسعودٍ: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَاتٍ) (¬2). والظاهِرُ أنَّهما سَمِعاه من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيكونُ خَبَرًا، ولأنَّه صَوْمٌ في كَفَّارَةٍ، فلا يُنْتَقَلُ عنه إلَّا بعدَ العَجْزِ عن العِتْقِ، فوَجَبَ التَّتابعُ، كصَوْمِ المُظاهِرِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) قراءة ابن مسعود أخرجها عبد الرزاق، في: باب صيام ثلاثة أيام وتقديم التكفير، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 514. والبيهقي، في: باب التتابع في صوم الكفارة، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 60. وابن جرير في: تفسيره 7/ 30. وقراءة أبي أخرجها الإمام مالك، في: باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 305. والحاكم، في: المستدرك 2/ 276. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 60. وانظر: الدر المنثور 2/ 314.

4711 - مسألة: وهو مخير في التكفير، إن شاء قبل الحنث، وإن شاء بعده، سواء كان صوما أو غيره، فيما سوى الظهار

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4711 - مسألة: وهو مُخَيَّرٌ في التَّكْفِيرِ، إن شاء قَبْلَ الحِنْثِ، وإن شاء بعدَه، سواءٌ كان صَوْمًا أو غيرَه، فيما سِوَى الظِّهارِ (¬1)، في قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ، منهم مالكٌ. وممَّن رُوِيَ عنه تَقْدِيمُ التَّكْفِيرِ على الحِنْثِ؛ عمرُ بنُ الخَطَّابِ، وابنُه، وابنُ عباسٍ، وسَلْمانُ الفارِسِيُّ، ¬

(¬1) في الأصل: «الظاهر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومَسْلَمَةُ بنُ مَخْلَدٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، ورَبِيعةُ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابنُ المُبارَكِ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيدٍ، وأبو خَيثَمَةَ، وسليمانُ بنُ داودَ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا تُجْزِئُ الكَفَّارَةُ قبلَ الحِنْثِ؛ لأنَّه تَكْفِيرٌ قبلَ وُجودِ سَبَبِه، فأشْبَهَ ما لو كَفَّرَ قبلَ اليَمِينِ، ودليلُ ذلك أنَّ سَبَبَ التَّكْفِيرِ الحِنْثُ، إذ (¬1) هو هَتْكُ الاسمِ المُعَظَّمِ المُحْتَرَمِ، ولم يُوجَدْ ذلك. وقال الشافِعِيُّ كقَوْلِنا في الإِعْتاقِ والإِطْعامِ والكُسْوَةِ، وكقَوْلِهم في الصِّيامِ، من أجْلِ أنَّه عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فلم يَجُزْ فِعْلُه قبلَ وُجُوبِه لغيرِ مَشقةٍ، كالصَّلاةِ (¬2). ولَنا، ما رَوَى عبدُ الرحمنِ بنُ سَمُرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا حَلَفْتَ عَلَىِ يَمِينٍ، فَرَأيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ». رَواه أبو ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في م: «كالصيام»

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ داودَ (¬1). [وفي لفظٍ: «وائْتِ الذي هو خيرٌ». رَواه البُخارِيُّ] (¬2). وقد رَوَى أبو هُرَيرَةَ، وأبو الدَّرْدَاءِ، وعَدِيُّ بنُ حاتمٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوَ ذلك. رَواه الأثْرَمُ (¬3). وعن أبي موسى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إنِّي، إنْ شَاءَ اللهُ، لَا أحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأرَى غَيرَها خَيرًا مِنْهَا، إلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وأتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ». أو: «أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي». رَواه البخارِيُّ (¬4). ولأنَّه كَفَّرَ بعدَ وُجودِ السَّبَبِ، فأجْزَأَ، كما لو كَفَّرَ بعدَ الجَرْحِ وقبلَ الزُّهوقِ، والسَّبَبُ هو اليَمِينُ، بدليلِ قولِه تعالى. {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬5). وقولِه سبحانَه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} (¬6). وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي»: «فكَفِّرْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 207. (¬2) سقط من: ص، ق، م. (¬3) حديث أبي هريرة تقدم تخريجه في صفحة 468. وحديث أبي الدرداء أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 52. وعزاه في: مجمع الزوائد إلى الطبراني في الكبير، وقال: رجاله ثقات. مجمع الزوائد 4/ 184. وحديث عدي بن حاتم أخرجه مسلم، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1272، 1273. والنسائي، في: باب الكفارة قبل الحنث، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 10، 11. وابن ماجه، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 681. والدارمي، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمي 2/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 256، 259. (¬4) تقدم تخريجه في 23/ 207، 208. (¬5) سورة المائدة 89. (¬6) سورة التحريم 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَنْ يَمِينِكَ». وتَسْمِيَةِ الكَفَّارَةِ كَفَّارَةَ اليَمِينِ، وبهذا يَنْفَصِلُ عمَّا ذَكَرُوه، وعلى هذا، فالحِنْثُ شَرْطٌ وليس بسَبَبٍ، ولأنَّ تَعْجِيلَ حَقِّ اللهِ تعالى في المالِ بعدَ وُجودِ (¬1) سَبَبِه قبلَ وُجودِ شَرْطِه جائِزٌ، بدليلِ تَعْجيل الزَّكاةِ بعدَ وُجودِ (1) النِّصابِ وقبلَ الحَوْلِ، وكَفَّارَةِ القَتْلِ بعدَ الجَرْحِ وقبلَ الزُّهوقِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ (¬2): العَجَبُ من أصحابِ أبي حنيفةَ، أجازُوا تَقْدِيمَ (¬3) الزَّكاةِ من غيرِ أن يَرْوُوا فيها مثلَ هذه الآثارِ الوارِدَةِ (¬4) في تَقْدِيمِ الكَفَّارَةِ، وأبَوْا تَقْدِيمَ الكَفَّارَةِ ههُنا مع كَثْرَةِ الرِّوايَةِ الوارِدَةِ فيها، والحُجَّةُ في السُّنَّةِ، ومَن خالفَها مَحْجُوجٌ بها. فأمَّا أصحابُ الشافِعِيِّ فهم مَحْجُوجُونَ بالأحادِيثِ، مع أنَّهم قد احْتَجُّوا بها في البَعْضِ، وخالفُوها في البعضِ، وفَرَّقُوا بينَ (¬5) ما جَمَعَ بينَه النَّصُّ. ولأنَّ الصِّيامَ نَوْعُ تَكْفِيرٍ، فجازَ قبلَ الحِنْثِ، كالتَّكْفِيرِ بالمالِ، وقياسُ الكَفَّارَةِ على الكَفَّارَةِ أوْلَى من قِياسِها على الصلاةِ المَفْروضَةِ بأصْلِ الوَضْعِ. ¬

(¬1) في م: «وجوب». (¬2) في التمهيد 21/ 247. (¬3) في م: «تعجيل». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمّا تَقْدِيمُها على اليَمِينِ، فلا يجوزُ عندَ أحَدٍ من العُلَماءِ، لأنَّه تَقْدِيمٌ للحُكْمِ قبلَ سَبَبِه، فلم يَجُزْ، كتَقْدِيمِ الزَّكاةِ قبلَ مِلْكِ النِّصابِ، وكَفَّارَةِ القَتْلِ قبلَ الجَرْحِ. فصل: والتَّكْفِيرُ قبلَ الحِنْثِ وبعدَه سَواءٌ في الفَضِيلَةِ. وقال ابنُ أبي موسى: بعدَه أفْضَلُ عندَ أحمدَ. وهو قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشافِعِيِّ؛ لِما فيه من الخُروجِ من الخِلافِ، وحُصُولِ اليَقِينِ (¬1) ببَراءَةِ الذِّمَّةِ. ولَنا، أنَّ الأحادِيثَ الوارِدَةَ فيه، فيها التَّقْدِيمُ مَرَّةً والتَّأْخِيرُ أُخْرَى، وهذا دليلُ التَّسْويَةِ، ولأنَّه تَعْجِيلُ ما (¬2) يجوزُ تعْجِيلُه قبلَ وُجوبِه، فلم يَكُن التَّأْخِيرُ أفْضَلَ، كتَعْجِيلِ الزَّكاةِ وكفَّارَةِ القَتْلِ، وما ذَكَرُوه مُعارَضٌ بتَعْجيلِ النَّفْعِ للفُقَراءِ، والتَّبَرُّعِ بما لم يَجِبْ عليه، والخِلافُ الخالِفُ [للنُّصوصِ] (¬3) لا يُوجِبُ تَفْضيلَ المُجْمَعِ عليه، كتَرْكِ الجَمْعِ بينَ الصَّلاتَين. ¬

(¬1) في ق، م: «النفس». (¬2) في ق، م: «مال». (¬3) تكملة من المغني 13/ 483.

4712 - مسألة: (ومن كرر أيمانا قبل التكفير، فعليه كفارة واحدة. وعنه، لكل يمين كفارة)

وَمَنْ كَرَّرَ أَيمَانًا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَعَلَيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْهُ، لِكُلِّ يَمِين كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان الحِنْثُ في اليَمِينِ مَحْظُورًا، فعَجَّلَ الكَفَّارَةَ (¬1) قبلَه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يُجْزِئُه؛ لأنَّه عَجَّلَ الكَفَّارَةَ قَبْلَ سَبَبِها، فأجْزَأته، كما لو كان الحِنْثُ مُباحًا. والثاني، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَة، فلا يُسْتَباحُ بالمَعْصِيَةِ، كالقَصْرِ في سَفَرِ المَعْصِيَةَ، والحديث لم يَتَناوَلِ المَعْصِيَةَ؛ فإنَّه قال: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرأَيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا». ولأصحابِ الشافعيِّ في هذا وَجْهان كما ذَكَرْنا. 4712 - مسألة: (ومَن كَرَّرَ أيمَانًا قبلَ التَّكْفِيرِ، فعليه كَفَّارَة واحِدَةٌ. وعنه، لكلِّ يَمِين كَفَّارَةٌ) إذا كَرَّرَ أيمانًا قبلَ التَّكْفِيرِ، ¬

(¬1) في ق، ص، م: «الزكاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [كقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1): «واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا» (¬2)، فحَنِثَ، فليس عليه إلَّا كَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، وكذلك إن حَلَف بأيمانٍ [كَفّارَتُها واحِدَةٌ] (¬3)، كقَوْلِه: واللهِ، وعَهْدِ اللهِ، ومِيثَاقِه، وقُدْرَتِه، وكَلامِه، وكِبْرِيائِه. على شيءٍ واحدٍ. رُوِيَ نحوُ هذا عن ابنِ عمرَ. وبه قال الحسنُ، وعُرْوَةُ، وإسْحاقُ. ورُوِيَ أيضًا عن عَطاءٍ، وعِكْرِمَةَ، والنَّخَعِيِّ، وحَمَّادٍ، والأوْزاعِيِّ. وقال أبو عُبَيدٍ، في مَن قال: عليَّ عَهْدُ اللهِ ومِيثاقُه وكَفالتُه. ثم حَنِثَ: فعليه ثَلاثُ كفَّاراتٍ. وقال أصحابُ الرَّأْي: عليه لكلِّ يَمينٍ كَفَّارَةٌ، إلَّا أن يَنْويَ التَّأكِيدَ أو التَّفْهِيمَ. ونحوُه عن الثَّوْرِيِّ، وأبي ثَوْرٍ. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. وعن الشافعيِّ قَوْلان كالمَذْهَبَين. وعن عمرِو بنِ دينارٍ، إن كان في مَجْلِسٍ واحدٍ كقَوْلِنا، وإن كان في مَجالِسَ كقَوْلِهم. واحْتَجُّوا بأنَّ أسْبابَ الكَفَّاراتِ تَكَرَّرَتْ، فتَكَرَّرُ (¬4) الكَفَّاراتُ، كالقَتْلِ لآدَمِيٍّ، أو صَيدِ حَرَمِيٍّ (¬5). ولأنَّ اليَمِينَ الثانِيَةَ مثلُ الأُولَى، فتَقْتَضِي ما تَقْتَضِيه. ¬

(¬1) في م: «مثل أن قال». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 490. (¬3) سقط من: م. (¬4) بعده في م: «في». (¬5) في م: «حربي».

4713 - مسألة: (والظاهر)

وَالظَّاهِرُ أَنَّها إِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه حِنْثٌ واحدٌ أوْجَبَ جِنْسًا واحدًا من الكَفَّاراتِ، فلم يَجِبْ به أكثرُ مِن كَفَّارَةٍ، كما لو قَصَد التَّأْكِيدَ. قولُهم: إنَّها أسْبابٌ تَكَرَّرَتْ. مَمْنُوعٌ، فإنَّ السَّبَبَ الحِنْثُ، وهو واحِدٌ، وإن سَلَّمْنا، فيَنْتَقِضُ بما إذا كَرَّرَ الوَطْءَ في رمضانَ في أيَّامٍ، وبالحُدودِ إذا تَكَرَّرَتْ أسْبابُها، ولا يَصِحُّ القياسُ على الصَّيدِ الحَرَمِيِّ؛ لأنَّ الكَفَّارَةَ بَدَلٌ، ولذلك تَزْدادُ بكِبَرِ الصَّيدِ، وتُقَدَّرُ بقَدْره، فهي كدِيَةِ القتلِ، ولا على كَفَّارَةِ قَتْلِ الآدَمِي؛ لأنَّها أُجرِيَتْ مُجْرَى البَدَلِ أيضًا لحَقِّ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لمّا أتْلَفَ آدَمِيًّا عابدًا للهِ تعالى، ناسَبَ أن يُوجِدَ عبدًا يَقُومُ مَقامَه في العِبادَةِ، فلمَّا عَجَز عن الإِيجادِ، لَزِمَه إعْتاقُ رَقَبَةٍ؛ لأنَّ العِتْقَ إيجاد للعَبْدِ بتَخْلِيصِه من رِقِّ العُبُودِيَّةِ وشُغْلِها، إلى فَراغِ البالِ للعِبادَةِ بالحُرِّيَّةِ التي حَصَلَت بالإِعْتاقِ، ثم الفَرْقُ ظاهِرٌ، لأنَّ السَّبَبَ ههُنا تَكَرَّرَ بكَمالِه وشُروطِه، وفي مَحَل النِّزاعِ لم يُوجَدْ ذلك، لأنَّ الحِنْثَ إمَّا أن يكونَ هو السَّبَبَ، أو جُزْءًا منه، أو شَرْطًا له، بدليلَ تَوَقُّفِ الحُكْمَ على وجُودِه، وأَيًّا ما كان، فلم يَتَكَرَّرْ، فلم يَجُزِ الإِلْحاقُ (¬1)، وإن صَحَّ القِياسُ، فقِياسُ كَفَّارَةِ اليَمِينِ على مِثْلِها أوْلَى من قِياسِها على القَتْلِ؛ لبُعْدِ ما بينَهما. 4713 - مسألة: (والظَّاهِرُ) فيما إذا كَرَّرَ الأيمَانَ (أنَّها إن كانت ¬

(¬1) سقط من: م.

كَانَتْ عَلَى أَفْعَالٍ، فَعَلَيهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على فِعْلٍ واحِدٍ، فكَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، وإن كانت على أفْعَالٍ، فعليهِ لِكلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ) لأنَّها إذا كانت على فِعْلٍ واحدٍ، كان سَبَبُها واحدًا، فالظَّاهِرُ أنَّه أرادَ التَّوْكِيدَ لذلك، كقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيشًا». كَرَّرَها (¬1) ثلاثًا، وإن كانت على أفْعالٍ، فعليه لكلِّ يَمِين كَفَّارَةٌ. وهو ظاهِرُ كلام الخِرَقِيِّ. ورَواه المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ. وهو قولُ أكثرِ أهلِ العِلْمِ. وقال أبو بَكْرٍ: تجْزِئُه كَفَّارَةٌ واحدةٌ، رَواها ابنُ مَنْصُورٍ عن أحمدَ. قال القاضي: هي الصَّحِيحَةُ. وقال أبو بكرٍ: ما نَقَلَه المَرُّوذِيُّ عن أحمدَ قولٌ لأبي عبدِ اللهِ، ومذهَبُه أنَّ كَفَّارَةً واحِدَةً تُجْزِئه. ¬

(¬1) في ق، م: «قالها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ إسحاقَ؛ لأنَّها كَفَّارات من جِنْس واحدٍ، فتَداخَلَتْ، كالحُدودِ مِن جِنْسٍ واحدٍ، وإنِ اخْتَلَفَتْ محالُّها، بأن سَرَقَ من جماعَةٍ، أو زَنَى بنِساءٍ. ولَنا، أنَّهُنَّ أيمانٌ لا يَحْنَثُ في إحْداهُنَّ بالحِنْثِ في الأُخْرَى، فلم تَتَكَفَّرْ (¬1) إحْداهما بكَفَّارَةِ الأُخْرَى، كما لو كَفَّرَ عن إحْداهما قبلَ الحِنْثِ في الأُخْرَى، وكالأيمانِ المُخْتَلِفَةِ الكَفَّارَةِ. وبهذا فارَقَ الأيمانَ على شيءٍ واحدٍ؛ فإنَّه متى حَنِثَ في إحْداهما كان حانِثًا في الأُخْرَى، فلمَّا كان الحِنْثُ واحِدًا، كانتِ الكَفَّارَةُ واحِدَةً، وههُنا تَعَدَّدَ (¬2) الحِنْثُ، فتَعَدَّدَتِ (¬3) الكَفَّاراتُ، وفارَقَ الحُدودَ، فإنَّها وَجَبَت للزَّجْرِ، وتَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، بخلافِ مسألتنا، ولأنَّ الحُدودَ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فالمُوالاةُ بينَها رُبَّما أفْضتْ إلى التَّلَفَ، فاجْتُزِئَ بإحَداها (¬4)، وههُنا الواجِبُ (¬5) إخْراجُ مالٍ يَسِيرٍ، أو صيامُ ثلاثَةِ إيَّامٍ، فلا يَلْزَمُ الضَّرَرُ الكبيرُ بالمُوالاةِ فيه، ولا يُخْشَى منه التَّلَفُ. فصل: إذا حَلَف يَمِينًا واحِدَةً على أجْناسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فقال: واللهِ لا ¬

(¬1) في م: «تكفر». (¬2) في م: «تعذر». (¬3) في م: «تعذرت». (¬4) في الأصل، ق، ص: «بإحداها». (¬5) سقط من: م.

4714 - مسألة: (وإن كانت الأيمان مختلفة الكفارة، كالظهار واليمين بالله تعالى، فلكل يمين كفارتها)

وَإنْ كَانَتِ الأيمَانُ مُخْتَلِفَةَ الْكَفَّارَةِ، كَالظِّهَارِ وَالْيَمِين باللهِ تَعَالى، فَلِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَتُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ أكَلْتُ، ولا شَرِبْتُ: ولا لَبِسْتُ. فحَنِثَ في الجميعِ، فكَفَّارَةٌ واحِدَةٌ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ اليَمِينَ واحِدَةٌ، والحِنْثَ واحِدٌ، فإنَّه يَحْنَث بفِعْلِ واحدٍ من المَحْلوفِ عليه، وتَنْحَلُّ يَمِينُه. وإن حَلَف أيمانًا على أجْناسٍ، فقال: واللهِ لا أكَلْتُ، واللهِ لا شَرِبْتُ، واللهِ لا لَبِسْتُ. فحَنِثَ في واحِدَةٍ منها، فعليه كَفَّارَةٌ، فإن أخْرَجَها ثم حَنِثَ في يَمِين أُخْرَى، لَزِمَتْه كَفَّارَةٌ أُخْرَى. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا أيضًا (¬1)؛ لأنَّ الحِنْثَ في الثانِيةِ (¬2) تَجِبُ به الكَفَّارَةُ بعدَ أن كَفَّرَ عن الأُولَى، فأشْبَهَ ما لو وَطِئَ في رمضانَ فكَفَّرَ، ثم وَطِئَ مَرَّةً أُخْرَى. وإن حَنِثَ في الجميعِ قبلَ التَّكْفِيرِ، ففيه رِوايتان ذَكَرْناهُما في المسألةِ قبلَ هذا الفَصْلِ. 4714 - مسألة: (وإن كانتِ الأيمَانُ مُخْتَلِفَةَ الكَفَّارَةِ، كالظِّهَارِ واليَمِينِ باللهِ تعالى، فلكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَتُهَا) مثلَ أن يَحْلِفَ باللهِ تعالى وبِالظِّهَارِ وبعِتْقِ عَبْدِه، فإذا حَنِثَ (¬3)، فعليه كَفَّارَةُ يَمِين وكَفَّارَةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الثاني». (¬3) في م: «وجبت».

4715 - مسألة: (وكفارة العبد الصيام، وليس لسيده منعه منه. ومن بعضه حر فحكمه في الكفارة حكم الأحرار)

وَكَفَّارَةُ الْعَبْدِ الصِّيَامُ، وَلَيسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظِهَارٍ، ويَعْتِقُ العَبْدُ؛ لأنَّ تَداخُلَ الأحْكامِ إنَّما يكونُ مع اتِّحادِ الجنْسِ، كالحُدودِ من جِنْسٍ، فأمَّا الكَفَّارَاتُ ههُنا فمن أجْناسٍ، وَأسْبابُها مُخْتَلِفَةٌ، فلم تَتَداخَلْ، كحَدِّ الزِّنَى والسَّرِقَةِ والقَذْفِ والشُّرْبِ. 4715 - مسألة: (وكَفَّارَةُ العَبْدِ الصِّيامُ، وليس لسَيِّدِه مَنْعُه منه. ومَن بَعْضُه حُرٌّ فَحُكْمُه في الكَفَّارَةِ حُكمُ الأحْرارِ) لا خِلافَ في أنَّ العَبْدَ يُجْزِئُه الصِّيامُ في الكَفَّارَةِ؛ لأنَّ ذلك فرْضُ المُعْسِرِ من الأحْرارِ، وهو أحْسَنُ حالًا من العَبْدِ، فإنَّه (¬1) يَمْلِكُ في الجُمْلَةِ، ولأنَّ العَبْدَ داخِلٌ في قولِ اللهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬2). فصل: فإن أَذِنَ السَّيِّدُ لعَبْدِه في التَّكْفِيرِ بالمالِ، لم يَلْزَمْه؛ لأنَّه ليس بمالِكٍ (¬3) لِمَا أَذِنَ له فيه. وهل يُجْزِئُه بإذْنِ السَّيِّدِ؛ فيه رِوَايتان؛ إحْداهما، لا يُجْزِئُه. وهو ظاهِرُ كلامِ الْخِرَقِيِّ، ولا يُجْزِئُه إلَّا الصِّيامُ. ¬

(¬1) بعده في م: «لم». (¬2) سورة المائدة 89. (¬3) في م: «يملك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانِيَةُ، يُجْزِئُه؛ لأنَّ المَنْعَ لحَقِّ السَّيِّدِ، وقد أذِنَ، أشْبَهَ ما لو أذِنَ له أن يَتَصَدَّقَ بالمالِ، وقد ذَكَرْنا ذلك في الظِّهارِ، والاخْتِلافَ فيه (¬1). وذكرَ القاضي، أنَّ أصْلَ هذا (¬2) عندَه الرِّوايتان في مِلْكِ العَبْدِ بالتَّمْليكِ، فإن قُلْنا: يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ. فمَلَّكَه سَيِّدُه، وأذِنَ له بالتَّكْفيرِ بالمالِ، جازَ، لأنَّه مالِكٌ لِما يُكَفِّرُ به، وإدت قُلْنا: لا يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ. ففَرْضُه الصِّيامُ؛ [لأنَّه لا يَمْلِكُ شيئًا يُكَفِّرُ به، وكذلك إن قُلْنا: إنَّه يَمْلِكُ. ولم يَأْذَنْ له سَيِّدُه في التَّكْفيرِ بالمالِ، ففَرْضُه الصِّيامُ] (¬3) وإن مَلَك؛ لأنَّه مَحْجُورٌ عليه، مَمْنُوعٌ مِن التَّصَرُّفِ فيما في يَدَيه. قال: وأصْحابُنا يَجْعَلُون في العَبْدِ رِوايَتَين مُطْلَقًا، سَواءٌ قُلْنا: يَمْلِكُ أو لا يَمْلِكُ. ثم (¬4) على الرِّوايَةِ التي تُجِيزُ له التَّكْفِيرَ بالمالِ له أن يُطْعِمَ، وهل له أن يُعْتِقَ؟ على رِوايَتَين؛ إحْداهما، ليس له ذلك؛ لأنَّ العِتْقَ يَقْتَضِي الوَلاءَ والولايةَ والإِرْثَ، وليس ¬

(¬1) تقدم في 23/ 287. (¬2) في م: «هذين». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك للعَبْدِ. وهذه رِوايَةٌ عن مالكٍ. وبه قال الشافعيُّ، على القوْلِ الذي يُجِيزُ له التَّكْفِيرَ بالمالِ. والثانيةُ، له التَّكْفِيرُ بالعِتْقِ؛ لأنَّ مَن صَحَّ تَكْفِيرُه بالمالِ، صَحَّ تَكْفيرُه بالعِتْقِ، كالحُرِّ (¬1)، ولأنَّه يَمْلِكُ العَبْدَ، فصَحَّ تَكْفِيرُه بإعْتاقِه، كالحُرِّ. وقولُهم: إنَّ العِتْقَ يَقْتَضِي الوَلاءَ والوِلايةَ. مَمْنُوعٌ إذا أعْتَقَ في الكَفَّارَةِ، على ما أسْلَفْناه، وإن سَلَّمْنا، فتَخَلُّفُ بعضِ الأحْكامِ لا يَمْنَعُ ثُبوتَ المُقْتَضِي، فإنَّ الحُكْمَ يَتَخَلَّفُ لتَخَلُّفِ سَبَبِه، لا لتَخَلُّفِ أحْكامِه،؛ أنَّه يَثْبُتُ لوُجودِ سَبَبِه، ولأنَّ تَخَلُّفَ بعضِ الأحْكامِ مع وجُودِ المُقْتَضِي إنَّما يكونُ لمانِعٍ، ويجوزُ أن يَخْتَصَّ المَنْعُ بها دونَ غيرِها، وهذا السَّبَبُ المُقْتَضِي لهذه الأحْكامِ، لا (¬2) يَمْنَعُ ثُبُوته تخَلُّفُها عنه في الرَّقِيقِ، على أنَّ الوَلاءَ يَثْبُتُ بإعْتاقِ العَبْدِ، لكن لا يَرِثُ به، كما لو اخْتَلَفَ دِيناهُما. وهذا اخْتِيارُ أبي بكرٍ. ويُفَرِّعُ عليه إذا أذِنَ له سَيِّدُه فأعْتَقَ نَفْسَه، ففيه قَوْلان؛ أحدُهما، يُجْزِئُه؛ لأنَّه رَقَبَةٌ تُجْزِء عن غيرِه، فأجْزَأت عنه كغيرِه. والآخَرُ، لا يُجْزِئُه؛ لأنَّ الإِذْنَ ¬

(¬1) في م: «كالحرية». (¬2) في م: «ولا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له في الإِعْتاقِ يَنْصَرِفُ إلى إعْتاقِ غيرِه. وهذا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ على أنَّ سَيِّدَه إذا أذِنَ له في إعْتاقِ نَفْسِه عن كَفَّارَتِه، جازَ، ومتى أطْلَقَ الإِذْنَ في الإِعْتاقِ، فليس له أن يُعْتِقَ إلَّا أقَلَّ رَقَبَةٍ تُجْزِئُ عن الواجِبِ، وليس له إعْتاقُ نَفْسِه إذا كان أفضلَ (¬1) ممَّا تُجْزِئُ. وهذا من أبي بكر يَقْتَضِي أن لا يُعْتَبَرَ في التَّكْفِيرِ أن يُمَلِّكَه سَمدُه ما يُكَفِّرُ به؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ نَفْسَه، بل متى أذِنَ له في التَّكْفِيرِ بالإِطْعامِ أو الإعْتاقِ، أجْزَأَه؛ لأنَّه لو اعْتَبَرَ التَّمْلِيكَ، لَما صحَّ له أن يُعْتِقَ نَفْسَه، لأَنَّه لا (¬2) يَمْلِكُها، ولأنَّ التَّمْلِيكَ لا يكونُ إلَّا في مُعَيَّنٍ، فلا يَصِحُّ أن يَأْذَنَ فيه مُطْلَقًا. فصل: إذا أعْتَقَ العَبْدُ عَبْدًا عن كَفَّارَتِه بإذْنِ سَيِّدِه، وقُلْنا: إنَّ الإِعْتاقَ في الكَفَّارَةِ يَثْبُتُ به الوَلاءُ لمُعْتِقِه. ثَبَت وَلاؤُه للعَبْدِ الذي أعْتَقَه؛ لقَوْلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ» (¬1). ولا يَرِثُ به؛ لأنَّه ليس مِن أهلِ الميراثِ، وانْتِفاءُ الإِرْثِ لا يَمْنَعُ ثُبوتَ الوَلاءِ، كما لو اخْتَلَفَ دِينُهُما (¬2)، أو قَتَل المُعْتِقُ عَتِيقَه، فإنَّه لا يَرِثُه مع ثُبوتِ الولايَةِ عليه. فإن عَتَق المُعْتِقُ، وَرِث بالوَلاءِ، لزَوالِ المانِعِ، كما إذا كانا مُخْتَلِفَي الدِّينِ فأسْلَمَ الكافِرُ منهما. ذَكَر هذا طَلْحَةُ العَاقُولِيُّ. ومُقْتَضَى هذا أنَّ سَيِّدَ العَبْدِ لا يَرِثُ عَتِيقَه في حَياةِ عَبْدِه، كما لا يَرِثُ وَلَدَ عَبْدِه، وإن أعْتَقَ عَبْدَه، ثم مات، وَرِثَ السَّيِّدُ مَوْلَى عَبْدِه؛ لأنَّه مَوْلَى مَوْلاه، كما أنَّه لو أعْتَقَ العَبْدَ وله وَلَدٌ عليه الوَلاءُ لمَوْلَى أُمِّه لَجَرَّ (¬3) وَلاءَه، ويَرِثُه سَيِّدُه إذا ماتَ أبُوه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 11/ 234، 235. (¬2) في م: «ديناهما». (¬3) في م: «يجر».

4716 - مسألة: وليس للسيد منع العبد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4716 - مسألة: وليس للسَّيِّدِ مَنْعُ العبدِ (¬1) مِنَ التَّكْفِيرِ بالصِّيَامِ، سَواءٌ كان الحِنْثُ والحَلِفُ بإذْنِه أو بغيرِ إذْنِه، وسَواءٌ أضَرَّ به الصِّيامُ أو لم يُضرَّ به. وقال الشافعيُّ: إن حَنِثَ بغيرِ إذْنِه، والصَّوْمُ يُضِرُّ به، فله مَنْعُه، لأنَّ السَّيِّدَ لم يَأْذَنْ له فيما ألْزَمَ نَفْسَه، ممَّا يَتَعَلَّقُ به ضَرَرٌ على السَّيِّدِ، فكان له مَنْعُه (¬2) وتَحْلِيلُه، كما لو أحْرَمَ بالحجِّ بغيرِ إذْنِه. ولَنا، أنَّه صَوْمٌ واجِبٌ لحَقِّ اللهِ تعالى، فلم يَكُنْ لسَيِّدِه مَنْعُه منه (¬3)، كصيام رمضانَ وقَضائِه، ويُفارِقُ الحجَّ؛ لأنَّ ضَرَرَه كثيرٌ؛ لطُولِ مُدَّتِه وغَيبَتِه عن سَيِّدِه، وتَفْويتِ خِدْمَتِه، ولهذا مَلَك تَحْلِيلَ زَوْجَتِه ¬

(¬1) في م: «عبده». (¬2) بعده في الأصل: «لأن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه، ولم يَمْلِكْ مَنْعَها صَوْمَ الكَفَّارَةِ. فأمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فإن كان فيه ضَرَرٌ عليه، فلسَّيِّدِ مَنْعُه منه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّه [بما ليس] (¬1) بواجِبٍ عليه، وإن كان لا يُضِرُّ به، لم يَكُنْ لسَيِّدِه مَنْعُه منه؛ لأنَّه يَعْبُدُ رَبَّه بما لا مَضَرَّةَ فيه، فأشْبَهَ ذِكْرَ اللهِ تعالى، وصلاةَ النَّافِلَةِ في غيرِ وَقْتِ خِدْمَتِه، وللزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِه (¬2) منه في كلِّ حالٍ؛ لأنَّه يُفَوِّتُ حَقَّه من الاسْتِمْتاعِ، ويَمْنَعُه منه. ¬

(¬1) في م: «وليس». (¬2) في الأصل: «وامرأته».

وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، فَحُكْمُهُ في الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الْأَحْرارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (ومَن نِصْفُه حُرٌّ، فحُكْمُه في الكَفَّارَةِ حُكْمُ الأحْرارِ) متى مَلَك بجُزْئِه الحُرِّ مالًا (¬1) يُكَفِّرُ به، لم يَجُزْ له الصِّيامُ، وله التَّكْفِيرُ بأحَدِ الأُمُورِ الثلاثَةِ. وظاهِرُ كلامِ الشافعيِّ، أنَّ له التَّكْفِيرَ بالإطْعامِ والكُسْوَةِ دونَ الإعْتاقِ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ له الوَلاءُ. منهم من قال: لا يُجْزِئُه إلَّا الصيامُ؛ لأنَّه مَنْقُوصٌ بالرِّقِّ، أشْبَهَ القِنَّ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬2). وهذا واجِدٌ، ولأنَّه (¬3) يَمْلِكُ مِلْكًا تامًّا، فأشْبَهَ الحُرَّ الكامِلَ، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يَثْبُتُ له الوَلاءُ، ثم إنَّ امْتِناعَ بعضِ أحْكامِه، لا يَمْنَعُ صِحَّتَه، كعِتْقِ المُسْلِمِ رَقِيقَه الكافِرَ. فصل: والكَفَّارَةُ في حَقِّ الحُرِّ والعَبْدِ، والمسلمِ والكافِرِ، سَواءٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَكَر الكَفَّارَةَ بلَفْظٍ عامٍّ في جميعِ المُخاطَبِين، فدَخَلَ الكُلُّ في عُمومِه، إلَّا أنَّ الكافِرَ لا يَصِحُّ منه التَّكْفِيرُ بالصِّيامِ؛ لأنَّه عِبادَةٌ، وليس ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) سورة المائدة 89. (¬3) بعده في الأصل: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو من أهْلِها، ولا بالإِعْتاقِ؛ لأنَّ مِن شَرْطِه الإِيمانَ في الرَّقَبَةِ، ولا يجوزُ لكافِرٍ شِراءُ مسْلِمٍ، إلَّا أنْ يتَّفِقَ إسْلامُه (¬1) في يَدَيه، أو يَرِثَ مُسْلِمًا فيُعْتِقَه، فيَصِحُّ إعْتأقُه، وإن لم يَتَّفِقْ ذلك فتَكْفِيرُه بالإِطْعام أو الكُسْوَةِ، فإذا كَفَّرَ ثم أسْلَمَ، لم تَلْزَمْه إعادَةُ التَّكْفِيرِ. وإن أسْلَمَ قبلَ التَّكْفِيرِ، كَفَّرَ بما يَجِبُ عليه في تلك الحالِ؛ من إعْتاقٍ، أو إطْعامٍ، أو كُسْوَةٍ، أو صِيامٍ. ويَحْتَمِلُ على قولِ الْخِرَقِيِّ أن لا يُجْزِئَه الصِّيامُ؛ لأنَّه إنَّما يُكَفِّرُ بما وَجَب عليه حينَ الحِنْثِ، ولم يَكُنِ الصِّيامُ ممَّا وَجَب عليه. فصل: إذا حَلَف رجلٌ باللهِ لا يَفْعَلُ شيئًا، فقال له آخَرُ: يَمِيني في يَمِينِكَ. لم يَلْزَمْه شيءٌ؛ لأنَّ يَمِينَ الأوَّلِ ليست ظَرْفًا ليَمِينِ الثاني. وإن نَوَى أنَّه يَلْزَمُنِي من اليَمِينِ ما يَلْزَمُكَ، لم يَلْزَمْه حُكْمُها. قاله القاضي. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ اليَمِينَ باللهِ لا تَنْعَقِدُ بالكِنايَةِ؛ لأنَّ تعْلِيقَ الكَفَّارَةِ بها لحُرْمَةِ اللَّفْظِ باسمِ اللهِ المُحْتَرَمِ، أو صِفَةٍ من صِفاتِه، ولا يُوجَدُ ذلك في الكنايَةِ. فأمَّا إن حَلَف بطَلاقٍ، فقال آخَرُ: يَمِيني في يَمِينِكَ. يَنْوي أنَّه يَلْزَمُنِي من اليَمِينِ ما يَلْزَمُكَ، انْعَقَدَت يَمِينُه. نصَّ عليه أحمدُ، وسُئِلَ عن رجلٍ حَلَف بالطَّلاقِ لا يُكَلِّمُ رجلًا، فقال رجلٌ: وأنا على مثلِ يَمِينك؟ فقال: عليه مثلُ [ما قال] (¬2) الذي حَلَف. لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكِنايَةَ تَدْخُلُ في الطَّلاقِ، وكذلك يَمِينُ العَتاقِ. وإن لم يَنْو شيئًا، لم تَنْعَقِدْ يَمِينُه؛ لأنَّ الكِنايَةَ لا تَنْعَقِدُ (¬1) بغيرِ نِيَّةٍ، وليس قولُه هذا بصَرِيحٍ. وإن كان المَقولُ له لم يَحْلِفْ بعدُ، وإنَّما أرادَ أنَّه [يَلْزَمُه ما] (¬2) يَلْزَمُ الآخرَ يَمِينًا يَحْلِفُ بها، فحَلَفَ المَقُولُ له (¬3) لم تَنْعَقِدْ يَمِينُ القائِلِ وإن كان في الطَّلاقِ والعَتاقِ؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكونَ هناك ما يُكْنَى عنه، وليس ههُنا ما يُكْنَى عنه. فصل: وإذا قال: حَلَفْتُ. ولم يَكُنْ حَلَف، فقال أحمدُ: هي كَذِبَةٌ، وليس عليه يَمِين. وعنه، عليه الكَفَّارَةُ؛ لأنَّه أقَرَّ على نَفْسِه. والأوَّلُ المذهبُ؛ لأنَّه حُكْمٌ فيما بينَه وبينَ اللهِ، فإنْ كَذَبَ في الخَبَرِ به، لم يَلْزَمْه حُكْمُه، كما لو قال: ما صَلَّيتُ. وقد صَلَّى. ولو قال: عليَّ يَمِينٌ. فهي كالتي قبلَها. وإن نَوَى القَسَمَ، فقال أبو الخَطَّاب: هي يَمِينٌ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: ليس بيَمِينٍ؛ لَأنَّه لم يَأْتِ باسمِ اللهِ المُعَظَّمِ، ولا صِفَتِه، فلمِ يَكُنْ يَمِينًا، كما لو قال: حَلَفْتُ. وهذا أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى، فإن هذه ليست صِيغةَ اليَمِينِ والقَسَمِ، وإنَّما هي صِيِغةُ الخَبَرِ، فلا يكونُ بها حالِفًا، وإن قُدِّرَ ثُبوتُ حُكْمِها، لَزِمَه أقَلُّ ما تَناوَلَه الاسْمُ، وهو يَمِينٌ ما، وليست كلُّ يَمِينٍ ¬

(¬1) في م: «تقبل». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُوجِبَةً للكَفَّارَةِ، فلا يَلْزَمُه شيءٌ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه كِنايَةٌ عن اليَمِينِ، وقد نَوَى بها اليَمِينَ، فتكونُ يَمِينًا، كالصَّرِيحِ. فصل: وثَبَت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بإبْرارِ المُقْسِمِ أو القَسَمِ. رَواه البخاريُّ (¬1). وهذا، واللهُ أعْلَمُ، على سَبِيلِ النَّدْبِ، لا. على (¬2) سبيلِ الإِيجابِ، بدليلِ أنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أقْسَمْتُ عليكَ يا رسولَ اللهِ، لتُخْبِرَنِّي بما أصَبْتُ ممَّا (¬3) أخْطَأتُ. فقال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُقْسِمْ يَا أبَا بَكْرٍ» (¬4). ولم يُخْبِرْه. ويَحْتَمِلُ أن يَجِبَ إبْرارُه إذا لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ، ويكونُ امْتِناعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن إبْرارِ أبي بكرٍ لِمَا عَلِمَ مِن الضَّرَرِ فيه. وإن أجابَه إلى صورَةِ ما أقْسَمَ عليه دونَ مَعْناه، عندَ تَعَذُّرِ المعْنَى، فحَسَنٌ؛ فإنَّه رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ العباسَ جاءَه برجل لِيُبايِعَه على الهِجْرَةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ». قال العباسُ: أقْسَمْتُ عليكَ يا رسولَ الله لِتُبَايِعَنَّه. فوَضَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَه في يَدِه، فقال: «أبرَرْتُ قَسَمَ عَمِّي، ولَا هِجْرَةَ» (¬5). فأجابَه إلى صُورَةِ المُبايَعَةِ، دونَ ما قَصَد بيَمِينه. فصل: وتُسْتَحَبُّ إجابَةُ مَن سألَ (¬6) باللهِ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 7. (¬2) زيادة من: ص. (¬3) في الأصل: «وبما». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 454. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 454. (¬6) في م: «حلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأعِيذُوهُ، ومَنْ سَألَكُمْ باللهِ فَأعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللهِ فأَجِيرُوهُ، ومَنْ أتَى إلَيكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أنْ قَدْ (¬1) كَافَأْتُمُوهُ». وعن أبي ذَرٍّ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ يحِبُّهُمُ اللهُ، وثَلاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللهُ؛ أمَّا الّذِين يُحِبُّهُمُ اللهُ؛ فرَجُلٌ سَأل قَوْمًا، فَسَألَهُم باللهِ، ولَمْ يَسْأَلهُمْ بِقَرَابَةٍ بَينَهُ وبَينَهُم، فتَخَلَّفَ رجُلٌ بأعْقَابِهِمْ، فأَعطَاهُ سِرًّا، لَا يَعْلَمُ بعَطِيَّتِهِ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ والَّذِي أعْطَاهُ، وقَوْمٌ سَاروا لَيلَتَهُمْ حَتَّى إذَا كَانَ النَّوْمُ أحَبَّ إلَيهِمْ مِمَّا (¬2) يُعْدَلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي (¬3)، ورَجُل كَانَ في سَرِيَّةٍ، فَلَقُوا العَدُوَّ فهُزِمُوا، فأقْبَلَ بِصَدْرِه حَتَّى يُقْتَلَ أوْ يُفْتَحَ لَهُ، والثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللهُ؛ الشَّيخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ». رَواهما النَّسَائِيُّ (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ما». (¬3) في م: «كتابي». (¬4) الأول في: باب من سأل الله عزَّ وجلَّ، من كتاب الزكاة. المجتبى 5/ 61. كما أخرجه أبو داود، في: باب عطية من سأل بالله عزَّ وجلَّ، من كتاب الزكاة. سنن أبي داود 1/ 389. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 68، 95، 96، 99، 127. والثاني في: باب فضل صلاة الليل، من كتاب قيام الليل وتطوع النهار، وفي: باب ثواب من يعطى، من كتاب الزكاة. المجتبى 3/ 169، 5/ 63. كما أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا أبو كريب. . . .، من أبواب صفة الجنة. عارضة الأحوذي 10/ 40. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 153. وإلى هنا ينتهي الجزء العاشر من نسخة مكتبة فيصل بن محمد آل سعود.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب جامع الأيمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ جَامِعِ الْأَيمَانِ وَيُرْجَعُ في الأَيمَانِ إلَى النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، رُجِعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ جامِعَ الأيمانِ 4717 - مسألة: (ويُرْجَعُ في الأيمانِ إلى النِّيَّةِ، فإن لم تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، رُجِعَ إلى سَبَبِ اليَمِينِ وما هَيَّجَها) الأيمانُ مَبْنِيَّةٌ على نِيَّةِ الحالِفِ، فإذا نَوَى بيَمِينِه ما يَحْتَمِلُه، انْصَرَفَت يَمِينُه (¬1) إليه، سَواءٌ كان ما نَواه مُوافِقًا لظاهِرِ اللَّفْظِ، أو مُخالِفًا له، فالمُوافِق للظَّاهِرِ أن يَنْويَ باللَّفْظِ مَوْضُوعَه الأصْلِيَّ، مثل (¬2) أنْ يَنْويَ باللَّفْظِ العامِّ العُمُومَ، وبالمُطْلَقِ الإِطْلاقَ، وبسائِرِ الألْفاظِ ما يَتَبادَرُ إلى الأفْهامِ منها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «ثم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمخالِفُ (¬1) يَتَنَوَّعُ أنْواعًا؛ أحَدُها، أن يَنْويَ بالعامِّ الخاصَّ، مثلَ مَن (¬2) يَحْلِفُ لا يَأكلُ لحْمًا ولا فاكهةً. يُرِيدُ لَحْمًا بعَينه، وفاكِهَةً بعَينها. ومنها، أن يَحْلِفَ على فِعْلِ شيءٍ أو تَرْكِه مُطْلَقًا، ويَنْويَ فِعْلَه أو تَرْكَه في وَقْتٍ بعَينِه، مثلَ مَن يَحْلِفُ، أن لا يتَغَدَّى. ويُرِيدُ اليومَ. أو: لا أكَلْتُ. يعني الساعةَ. ومنها، أن يَنْويَ بيَمِينِه غيرَ ما يَفْهَمُه السَّامِع منه، كما ذكَرْنا في المَعارِيضِ (¬3) في مسألةِ إذا تَأَوَّلَ في يَمِينِه فله تَأْويلُه. ومنها، أن يُرِيدَ بالخاصِّ العامَّ، مثلَ أن يَحْلِفَ: لا شَرِبْتُ لفُلانٍ الماءَ من العَطَشِ. ينوي (¬4) قَطْعَ كُلِّ ما له فيه مِنَّةٌ. أو: لا يَأْوي مع امْرأتِه في دارٍ. يريدُ جَفاءَها بتَرْكِ اجْتماعِه بها في جميعِ الدُّورِ. أو حَلَف: لا يَلْبَسُ ثَوْبًا من غَزْلِها. يُرِيدُ قَطْعَ مِنَّتِها به، فتَتَعَلَّقُ يَمِينُه بالانْتِفاعِ به، أو بثَمَنِه (¬5)، ممَّا لها فيه مِنَّةٌ عليه. وبهذا قال مالكٌ. وقال أبو حنيفةَ، ¬

(¬1) في م: «والحالف». (¬2) في م: «أن». (¬3) في الأصل: «المعارض». (¬4) في م: «يعني». (¬5) بعده في م: «منها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافِعِيُّ: لا عِبْرَةَ بالنِّيَّةِ والسَّبَبِ فيما يُخالِفُ لَفْظَه؛ لأنَّ الحِنْثَ مُخَالفَةُ ما وَقَعَتْ عليه اليَمِينُ، واليَمِينُ لَفْظُه، فلو أحْنَثْناه على ما سِوَاه، لأحْنَثْناه على ما نَوَى، لا على ما حَلَف، ولأنَّ النِّيَّةَ بمُجرَّدِها لا تَنْعَقِدُ بها اليَمِينُ، فكذلك لا يَحْنَثُ بمُخالفَتِها. ولَنا، أنَّه نَوَى بكَلامِه ما يَحْتَمِلُه، ويَسُوغُ في اللُّغَةِ التَّعْبيرُ به (¬1) عنه، فتَنْصَرِفُ يَمِينُه إليه، كالمَعارِيضِ، وبَيانُ احْتمالِ اللَّفْظِ له، أنَّه يَسُوغُ في كَلامِ العَرَبِ التَّعْبيرُ بالخاصِّ عن العامِّ، قال اللهُ تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬2). {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬3). {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (¬4). والقِطْمِيرُ: لُفافَةُ النَّواةِ. والفَتِيلُ: ما في شَقِّها. والنَّقِيرُ: النَّقْرَةُ التي في ظَهْرِها. ولم يُرِدْ ذلك بعَينه، بل نَفَى كلَّ شيءٍ. وقال الحُطَيئَةُ (¬5) يَهْجُو (¬6) بني العَجْلانِ: * ولَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ * ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة فاطر 13. (¬3) سورة النساء 49. (¬4) سورة النساء 53. (¬5) كذا نسبه إلى الحطيئة. وهو للنجاشي. وتقدم في 22/ 254. (¬6) في م: «يهيج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يُرِدِ الحَبَّةَ بعَينِها، إنَّما أرادَ لا يَظْلِمُونَهم شيئًا. وقد يُذْكَرُ العامُّ ويُرادُ به الخَاصُّ، كقوْلِه تعالى: {الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ} (¬1). أرادَ رجلًا واحِدًا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (1). يعْني أبا سفيانَ. وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬2). ولم تُدَمِّرِ السَّماءَ والأرْضَ ولا مَساكِنَهم. وإذا احْتَمَلَه اللَّفْظُ، وَجَب صَرْفُ اليَمِينِ إليه إذا نَوَاه؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» (¬3). ولأنَّ كلامَ الشَّارِعِ يُحْمَلُ على مُرادِه به، إذا ثَبَت ذلك بالدَّليلِ، فكذلك كلامُ غيرِه. قولُهم: إنَّ الحِنْثَ مُخالفَةُ ما عُقِدَ اليَمِينُ عليه. قُلْنا: وهذا كذلك، فإنَّ اليَمِينَ إنَّما انْعَقَدَتْ على ما نَوَاه، ولَفظُه مَصْروفٌ إليه، وليست هذه نِيَّةً مُجَرَّدَةً، بل لَفْظٌ مَنْويٌّ به ما يَحْتَمِلُه. ¬

(¬1) سورة آل عمران 173. (¬2) سورة الأحقاف 25. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 308.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومن شَرْطِ (¬1) انْصِرافِ اللَّفْظِ إلى ما نَوَاه، احْتِمالُ اللَّفْظِ له، فإن نَوَى ما لا يَحْتَمِلُه اللَّفْظُ، مثلَ أن يَحْلِفَ لا يَأْكُلُ ¬

(¬1) في م: «شرائط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُبْزًا، يَعْنِي به لا يَدْخُلُ بَيتًا، فإنَّ يَمِينَه لا تَنْصَرِفُ إلى المَنْويِّ؛ لأنَّها نِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ لا يَحْتَمِلُها اللَّفْظُ، فأشْبَهَ ما لو نَوَى ذلك بغيرِ يَمِينٍ.

4718 - مسألة: (فإن لم تكن له نية، رجع إلى سبب اليمين وما هيجها)

فَإذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا، فَقَضَاهُ قَبْلَهُ، لَمْ يَحْنَثْ إِذَا قَصَدَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ يَقْتَضِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4718 - مسألة: (فإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، رُجِعَ إلى سَبَبِ اليَمِينِ وما هَيَّجَهَا) إذا عُدِمَتِ النِّيَّةُ (¬1)، نَظَرْنا في سَبَبِ اليَمِينِ وما أثارَها؛ لدَلالتِه على النِّيَّةِ (فإذا حَلَف ليَقْضِيَنَّه حَقَّه غدًا، فقَضَاه قبلَه، لم يَحْنَثْ إذا قَصَد أن لا يَتَجاوَزَه، أو كان السَّبَبُ يَقْتَضِيه) وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الشافعيُّ: يَحْنَثُ إذا قَضاه قبلَه؛ لأنَّه [تَرَك فِعْلَ] (¬2) ما حَلَفَ عليه مُخْتارًا، فحَنِثَ، كما لو قَضاه بعدَه. ولَنا، أنَّ مُقْتَضَى اليَمِينِ تَعْجِيلُ القَضاءِ قبلَ خُروجِ الغَدِ، فإذا قَضاه قبلَه، فقد قَضَى قبلَ خُروجِ الغَدِ، وزادَه خَيرًا، ولأنَّ مَبْنَى الأيمانِ على النِّيَّةِ (¬3)، ¬

(¬1) في م: «البينة». (¬2) في ق، م: «يترك». (¬3) في م: «هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونِيَّةُ هذا بيَمِينِه تَعْجِيلُ القَضاءِ قبلَ خُروجِه، فتَعَلَّقَتْ يَمِينُه بهذا المَعْنَى، كما لو صَرَّحَ به. فإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، رُجِعَ إلى سَبَب اليَمِينِ، فإن كان يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، فهو كما لو نَوَاه؛ لأنَّ السَّبَبَ يَدُلَّ على النِّيَّةِ، وإن لم يَنْو ذلك، ولا كان السَّبَبُ يَقْتَضِيه، فظاهِرُ كَلامِ الْخِرَقِيِّ، أنَّه لا يَبَرُّ إلَّا بقَضائِه [في الغَدِ، ولا يَبَرُّ بقضائِه] (¬1) قبلَه. وقال القاضي: يَبَرُّ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ اليَمِينَ للحَثِّ (¬2) على الفِعْلِ، فمتى عَجَّلَه، فقد أتَى بالمقْصُودِ فيه، فيَبَرُّ، كما لو نَوَى ذلك. والأوَّلُ أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لأنَّه تَرَك فِعْلَ ما تَناوَلَتْه يَمِينُه لفْظًا، ولم تَصْرِفْها عنه نِيَّةٌ ولا سَبَبٌ، فحَنِثَ، كما لو حَلَف لَيَصُومَنَّ شعبانَ، فصامَ رَجَبًا. ويَحْتَمِلُ أنَّ ما قاله القاضي في القَضاءِ خاصَّةً؛ لأنَّ عُرْفَ هذه اليَمِينِ في القَضاءِ التَّعْجِيلُ، فتَنْصَرِفُ اليَمِينُ المُطْلَقَةُ إليه. فصل: فأمَّا غيرُ قَضاءِ الحَقِّ، كأَكْلِ شيءٍ، أو شُرْبِه، أو بَيع شيء، أو شِرائِه، أو ضَرْبِ عَبْدٍ (¬3)، أو نَحْوه، فمتى عَيَّنَ وَقْتًا، ولم يَنْو ما يَقْتَضِي تَعْجِيلَه، ولا كان سَبَبُ يَمِينه يَقْتَضِيه، لم يَبَرَّ إلَّا بفِعْلِه في وَقتِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، م: «للحنث». (¬3) في م: «عبده».

4719 - مسألة: (وإن حلف)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ إلَّا بِمِائَةٍ، فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذَكَرَ القاضي أنَّه يَبَرُّ بتَعْجِيلِه عن وَقْتِه. وحُكِيَ ذلك عن بعضِ أصحابِ أبي حنيفةَ. ولَنا، أنَّه لم يَفْعَلِ المَحْلوفَ عليه في وَقْتِه، من غيرِ نِيَّةٍ تَصْرِفُ يَمِينَه، ولا سَبَبٍ، فيَحْنَثُ، كالصِّيام. ولو فَعَل بعضَ المَحْلوفِ عليه قبلَ وَقْتِه، وبعضَه في وَقْتِه، لم يَبَرَّ؛ لأَنَّ اليَمِينَ في الإِثْباتِ لا يَبَرُّ فيها إلَّا بفِعْلِ جميعِ المَحْلوفِ عليه، فتَرْكُ بعضِه في وَقْتِه كتَرْكِ جَمِيعِه، إلَّا أن يَنْويَ أن لا يُجاوزَ ذلك الوَقْتَ، أو يَقْتَضِيَ ذلك سَبَبُها. 4719 - مسألة: (وإن حَلَف) أن (لا يَبِيعَ ثَوْبَه إلَّا بمائَةٍ، فباعَه بأكْثَرَ، لم يَحْنَثْ، وإن بَاعَه بِأقَلَّ، حَنِثَ) لأنَّ قَصْدَه أن لا يَبِيعَه بأقَلَّ منها، فحَنِثَ إذا باعَه بالأقَلِّ، ولا يَحْنَثُ إذا باعَه بأكثرَ، لأنَّ قَرِينَةَ الحالِ تَدُلُّ على ذلك، والعُرْف، فهو كما لو حَلَف ليَقْضِيَنَّه حَقَّه غدًا، فقَضاه اليومَ، ومُقْتَضى مذهبِ الشافِعِيِّ أنَّه يَحْنَثُ إذا باعَه بأكثرَ؛ لمُخالفَتِه اللَفْظَ. فصل: ومَن حَلَف لا يَبِيعُ ثَوْبَه بعَشَرَةٍ، فبَاعَه بها أو بأقَلَّ، حَنِثَ، وإن باعَه بأكْثَرَ، لم يَحْنَثْ. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ إذا باعَه بأَقَلَّ؛ لأنَّه لم تَتَناوَلْه يَمِينُه. ولَنا، أنَّ العُرْفَ في هذا أن لا يَبِيعَه بها ولا بأَقَلَّ منها، بدَلِيلِ أنَّه لو وَكَّلَ في بَيعِه إنْسانًا، وأمَرَه أن لا يَبِيعَه بعَشرةٍ، لم يَكُنْ له بَيعُه بأقَلَّ منها، ولأنَّ هذا تَنْبِيهٌ على امْتِناعِه من بَيعِه

4720 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل دارا، ونوى اليوم، لم يحنث بالدخول في غيره)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، وَنَوَى الْيَوْمَ، لَمْ يَحْنَثْ بِالدُّخُولِ في غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بما دونَ العشَرةِ، والحُكْمُ يَثْبُتُ بالنِّيَّةِ (¬1)، كثُبُوتِه باللَّفْظِ. وإنْ حَلَف: لا أشْتَرِيه بعشَرةٍ (¬2). فاشْتَراه بأقَلَّ، لم يَحْنَثْ. وإنِ اشْتَراه بها أو بأكثرَ منها، حَنِثَ؛ لِما ذَكَرْنا. ومُقْتَضَى مذهبِ الشافعيِّ، أن لا يَحْنَثَ إذا اشْتَراه بأكْثَرَ منها؛ لأنَّ يَمِينَه لم تَتَناوَلْه لَفْظًا. ولَنا، أنَّها تَناوَلَتْه عُرْفًا وتَنْبِيهًا، فكان حانِثًا، كما لو حَلَف (¬3): ما لَه عليَّ حَبَّةٌ. فإنَّه يَحْنَثُ إذا كان عليه أكْثَرُ منها. قيلَ لأحمدَ: رجلٌ حَلَف أن (¬4) لا يَنْقُصَ هذا الثَّوبَ من كذا. قال: قد أخَذْتُه، ولكن هَبْ لي كذا. قال: هذا حِيلَةٌ. قيل له: فإن قال البائِعُ: أبِيعُك بكذا، وأهَبُ لفُلانٍ شيئًا آخَرَ. قال: هذا كلُّه ليس بشيءٍ. وكَرِهَه. 4720 - مسألة: (وإن حَلَف لَا يَدْخُلُ دَارًا، ونَوَى اليَوْمَ، لم يَحْنَثْ بالدُّخُولِ في غَيرِه) لأنَّ قَصْدَه يَتَعَلَّقُ باليومِ، فاخْتَصَّ الحِنْثُ بالدُّخولِ فيه دونَ غيرِه. ¬

(¬1) في م: «بالتنبيه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في م: «أن». (¬4) سقط من: م.

4721 - مسألة: (وإن دعي إلى غداء، فحلف لا يتغدى، اختصت يمينه به إذا قصده)

وَإنْ دُعِيَ إِلَى غَداءٍ، فَحَلَفَ لَا يَتَغَدَّى، اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ إِذَا قَصَدَهُ، وَإن حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْعَطَش، يَقْصِدُ قَطْعَ الْمِنَّةِ، حَنِث بِأَكْلِ خُبْزِهِ، وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ الْمِنَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4721 - مسألة: (وإن دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ، فحَلَفَ لا يَتَغَدَّى، اخْتَصَّتْ يَمِينُه به إذا قَصَدَه) لِما ذَكَرْنا. 4722 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَشْرَبُ له الماءَ مِن العَطَشِ، يَقْصِدُ قَطْعَ مِنَّتِه، حَنِثَ بأَكْلِ خُبْزِهِ، واسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ، وكل ما فيه المِنَّةُ) لأنَّ ذلك للتَّنْبيهِ على ما هو أعْلَى منه، كقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬1). يريدُ: لا يُظْلَمونَ شيئًا. وقال الشاعرُ: * ولَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ * ¬

(¬1) سورة النساء 49.

4723 - مسألة: (وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها، يقصد قطع منتها، فباعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه، حنث، وكذلك إن انتفع بثمنه)

وَإنْ حَلَفَ لا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا، يَقْصِدُ قَطْعَ مِنَّتِهَا، فَبَاعَهُ واشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، حَنِثَ، وَكَذِلَكَ إنِ انْتَفَعَ بِثَمَنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4723 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِن غَزْلِهَا، يَقْصِدُ قَطْعَ مِنَّتِها، فبَاعَه واشْتَرَى بثَمَنِه ثَوْبًا فَلَبِسَه، حَنِثَ، وكذَلِك إنِ انْتَفَعَ بثَمَنِه) هذه المسألةُ [فَرْعُ أصْلٍ] (¬1) قد تَقَدَّمَ ذِكْرُه في أوَّلِ البابِ، وهو أنَّ الأسْبابَ مُعْتَبَرَةٌ في الأيمانِ، يتَعَدَّى الحُكْمُ بتَعَدِّيها، فإذا امْتُنَّ عليه بثَوْبٍ، فحَلَفَ أن لا يَلْبَسَه، لتَنْقَطِعَ المِنَّةُ به، حَنِثَ بالانْتِفاعِ به في غيرِ اللُّبْسِ؛ لأنَّه نَوْعُ انْتِفاعٍ به يُلْحِقُ المِنَّةَ به، فإن لم يَقْصِدْ قَطْعَ المِنَّةِ، ولا كان سَبَبُ يَمِينِه يَقْتَضِي ذلك، لم يَحْنَثْ إلَّا بما تَناوَلَتْه يَمِينُه، وهو لُبْسُه خاصَّةً، فلو أبْدَلَه بثَوْبٍ غيرِه، ثم لَبِسَه، [أو انْتَفَعَ به في غيرِ اللُّبْسِ] (¬2)، أو باعَه وأخَذَ ثَمَنَه، لم يَحْنَثْ؛ لعَدَمِ تَناوُلِ اليَمِينِ له لَفْظًا ونِيَّةً وسَبَبًا. ¬

(¬1) في الأصل: «فرع»، وفي ق، م: «أصل فرع». والمثبت كما في المغني 13/ 566. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن فَعَل شيئًا لها فيه مِنَّةٌ عليه سِوَى الانْتِفاعِ بالثَّوْبِ، وبعِوَضِه، مثلَ أن سَكَن دارَها، أو أكَلَ طَعامَها، أو لَبِسَ ثَوْبًا لها غيرَ الثَّوْبِ (¬1) المَحْلُوفِ عليه، لم يَحْنَثْ، لأنَّ المَحْلُوفَ عليه الثَّوْبُ، فتَعَلَّقَتْ يَمِينُه به، [أو بما] (¬2) حَصَل به، ولم يتَعَدَّ إلى غيرِه، لاخْتِصاصِ اليَمِينِ والسَّبَبِ به. فصل: وإنِ امْتَنَّتْ عليه امرأتُه بثَوْبٍ، فحَلَفَ أن لا يَلْبَسَه، قَطْعًا لمِنَّتِها، فاشْتَراه غيرُها، ثم كَساه إيَّاه، أو اشْتَراه الحالِفُ، ولَبِسَه على وَجْهٍ لا مِنَّةَ لها فيه، ففيه وَجْهان، أحَدُهما، يَحْنَثُ، لمُخالفَتِه يَمِينَه لَفْظًا، ولأنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذا كان أعَمَّ مِن السَّبَبِ، وَجَب الأخْذُ بعُمومِ اللَّفْظِ دونَ خُصوصِ السَّبَبِ، كذا في اليَمِينِ، ولأنَّه لو خاصَمَتْه امرأةٌ له، فقال: نسائِي طَوالِقُ. طَلُقْنَ كُلّهُنَّ، وإن كان سَبَبُ الطَّلاقِ واحِدةً، كذا ههُنا. والثاني، لا يَحْنَثُ، لأنَّ السَّبَبَ اقْتَضَى تَقْيِيدَ لَفْظِه بما وُجِدَ فيه السَّبَبُ، فصارَ كالمَنْويِّ، أو كما لو خَصَّصَه بقَرِينَةٍ لَفْطيَّةٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «إنما».

4724 - مسألة: (وإن حلف لا يأوي معها في دار، يريد جفاءها، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه، فأوى معها في غيرها، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لا يَأْوي مَعَهَا في دَارٍ، يُرِيدُ جَفَاءَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ سَبَبٌ هَيَّجَ يَمِينَهُ، فَأوَى مَعَها في غَيرِهَا، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4724 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْوي معها في دارٍ، يُرِيدُ جَفاءَها، ولم يَكُنْ للدَّارِ سَبَب هَيَّجَ يَمِينَه، فأَوَى معها في غيرِها، حَنِثَ) وهذه المسألةُ أيضًا مِن فُروعِ اعْتِبارِ النِّيَّةِ، وذلك أنَّه متى قَصَد جَفاءَها بتَرْكِ الأُويِّ (¬1) معها، ولم يَكُنْ للدَّارِ أثَرٌ في يَمِينِه، كان ذِكْرُ الدَّارِ كعَدَمِه، وكأنَّه حَلَف لا يَأْوي معها، فإذا أوَى معها في غيرِها، حَنِثَ؛ لمُخالفَتِه ما حَلَف على تَرْكِه، وصارَ هذا بمَنْزِلَةِ سُؤالِ الأعْرابِيِّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: واقَعْتُ أهْلِي في نهارِ رَمضانَ. فقال: «أعْتِقْ رَقَبَةً» (¬2). لَمَّا كان ذِكْرُه أهْلَه لا أثَرَ له في إيجابِ الكَفَّارَةِ، حذَفْناه مِن السَّبَبِ، وصارَ السَّبَبُ الوقاعَ، سَواءٌ كان للأهْلِ أو لغيرِهم (¬3). وإن كان للدَّارِ أثَرٌ في يَمِينِه، مثلَ أنْ كان يَكْرَهُ سُكْناها، أو خُوصِمَ (¬4) مِن أجْلِها، أو امْتُنَّ (¬5) ¬

(¬1) في الأصل: «الإرواء». (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 445. (¬3) في م: «لغيره». (¬4) في الأصل: «حرم». (¬5) في الأصل: «أمنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه بها, لم يَحْنَثْ إذا أَوَى معها في غيرِها؛ [لأنَّه قَصَدَ] (¬1) بيَمِينِه الجَفاءَ في الدَّارِ بعَينِها، فلم يُخالِفْ ما حَلَف عليه. وإن عُدِمَ السَّبَبُ والنِّيَّةُ، لم يَحْنَثْ إلَّا بفِعْلِ ما تَناوَلَه لَفْظُه، وهو الأُويُّ معها في تلك الدَّارِ بعَينِها؛ لأنَّه (¬2) يَجِبُ اتِّباعُ لَفْظِه، إذا لم يَكُنْ سَبَبٌ ولا نِيَّةٌ تَصْرِفُ اللَّفْظَ عن مُقْتَضاه، أو تَقْتَضِي زِيادَةً عليه، ومَعْنَى الأُويِّ الدُّخُولُ، فمتى (¬3) حَلَف لا يَأْوي معها، فدَخَلَ معها الدَّارَ، حَنِثَ، قَلِيلًا كان لُبْثُهُما أو كثيرًا، قال اللهُ تعالى مُخْبِرًا عن فَتَى موسى: {إِذْ أَوَينَا إِلَى الصَّخْرَةِ} (¬4). قال أحمدُ: كم كان ذلك إلَّا ساعَةً، أو ما شاءَ اللهُ. يُقال: أَوَيتُ أنَا، وآوَيتُ غَيرِي. قال اللهُ تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (¬5). وقال تعالى: {وَآوَينَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} (¬6). فصل: وإنْ بَرّها بهَدِيَّةٍ أو غيرِها، أو اجْتَمَعَ معها فيما ليس بدارٍ ولا بَيتٍ، لم يَحْنَثْ، سَواءٌ كان للدَّارِ سَبَبٌ في يَمِينِه أو لم يَكُنْ؛ لأنَّه قَصَد جَفاءَها بهذا النَّوْعِ، فلم يَحْنَثْ بغيرِه. فإن حَلَف أن لا يَأْويَ معها ¬

(¬1) في الأصل: «لأن قصده». (¬2) بعده في م: «لم». (¬3) في م: «فمن». (¬4) سورة الكهف 63. (¬5) سورة الكهف 10. (¬6) سورة المؤمنون 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في دارِ لسَبَبٍ، فزال السَّبَبُ المُوجِبُ ليَمِينِه، مثلَ أن كان السَّبَبُ امْتِنانَها بها عليه، فمَلَكَ الدَّارَ، أو صارت لغيرِها، فأوَى معها فيها، فهل يَحْنَثُ؟ على وَجْهَين، مَضَى ذكْرُهما وتَعْلِيلُهما. فصل: وإن حَلَفَ لا يدْخُلُ عليها بَيتًا، فدَخَلَ عليها فيما ليس ببَيتٍ، فحُكْمُه حُكْمُ المسألةِ التي قبلَها؛ إن قَصد جَفاءَها، ولم يَكُنْ للبَيتِ سَبَبٌ هَيَّجَ يَمِينَه، حَنِثَ، وإلَّا فلا. وإنْ دَخَل على جماعَةٍ هي فيهم، يَقْصِدُ الدُّخولَ عليها معهم، حَنِثَ، وكذلك إن لم يَقْصِدْ شيئًا. وإنِ اسْتَثْناها بقَلْبه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ، كما لو حَلَف أن لا يُسَلِّمَ عليها، فسَلَّمَ على جماعَةٍ هي فيهم، يَقْصِدُ بقَلْبه السَّلامَ على غيرِها، فإنَّه لا يَحْنَثُ. والثاني، يَحْنَثُ؛ لأنَّ الدُّخولَ فِعْلٌ لا يَتَمَيَّزُ، فلا يَصِحُّ تَخْصِيصُه بالقَصدِ، وقد وُجِدَ في حَقِّ الكلِّ على السواءِ، وهي منهم فيَحْنَثُ (¬1) به، كما لو لم يَقْصِدِ اسْتِثْناءَها، وفارَقَ السَّلامَ، فإنَّه قَوْلٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُه بالقَصْدِ، ولهذا يَصِحُّ أن يُقال: السلامُ عليكم إلَّا فُلانًا. [ولا يَصِحُّ أن يقولَ: دَخَلْتُ عليكم إلَّا فُلانًا] (¬2). ولأنَّ السَّلامَ قولٌ يَتَناوَلُ ما يَتَناوَلُه الضَّمِيرُ في «عليكم»، والضَّمِيرُ عامٌّ يَصِحُّ أن يُرادَ به الخاصُّ، فصَحَّ أن يُرادَ به مَن سِوَاها، والفِعْلُ لا يَتَأَتَّى هذا فيه. وإنْ دَخَل بَيتًا لا يَعْلَمُ أنَّها فيه، فوَجَدَها فيه، فهو كالدُّخولِ عليها ناسِيًا، فيه ¬

(¬1) في م: «فحنث». (¬2) سقط من: م.

4725 - مسألة: (وإن حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل، أو على زوجته فطلقها، أو على عبده فأعتقه، ونحوه، يريد ما دام كذلك، انحلت يمينه. وإن لم تكن له نية، انحلت)

وَإنْ حَلَفَ لِعَامِلٍ أنْ لَا يَخْرُجَ إلا بِإِذْنِهِ فَعُزِلَ، أوْ عَلَى زَوْجَتِهِ فَطَلَّقَهَا، أوْ عَلَى عَبْدِهِ فَأعْتَقَهُ، وَنَحْوه، يُرِيدُ مَا دَامَ كَذَلِكَ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ. وَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، انْحَلتْ أيضًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأنَّ الْحَال تَصْرِفُ الْيَمِينَ إِلَيهِ. وَذَكَرَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ السَّبَبَ إِذَا كَانَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، عَمَّمْنَاهَا بِهِ، وَإِنِ اقْتَضَى الْخُصُوصَ، مِثْلَ مَنْ نَذَرَ لَا يدخلُ بَلَدًا؛ لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ، فَزَال الظُّلْمُ، فَقَال ـــــــــــــــــــــــــــــ رِوَايتان، فإنْ قُلْنا: لا يَحْنَثُ بذلك. فخَرَجَ حينَ عَلِمَ بها, لم يَحْنَثْ. وكذلك إن حَلَف لا يدخلُ عليها، فدَخَلَتْ هي عليه، فخَرَجَ في الحالِ، لم يَحْنَثْ. وإن أقامَ معها (¬1) فهل يَحْنَثُ؟ على وَجْهَين، بِناءً على مَن حَلَف لا يدخلُ دارًا هو فيها، فاسْتَدامَ المُقامَ، فهل يَحْنَثُ؟ على وَجْهَين. 4725 - مسألة: (وإن حَلَف لعامِلٍ لا يَخْرُجُ إلَّا بإذْنِه فعُزِلَ، أو على زَوْجَتِه فَطَلَّقَهَا، أو على عَبْدِه فأعْتَقَه، ونحوه، يُرِيدُ ما دامَ كذلك، انْحَلَّتْ يَمِينُه. وإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، انْحَلَّتْ) يَمِينُه (أَيضًا. ذَكَرَه القاضي؛ لأنَّ الحال تَصْرِفُ اليَمِينَ إليه. وذَكَر في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ السَّبَبَ إذا كان يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، عَمَّمْناها به، وإنِ اقْتَضَى الخُصوصَ، مثلَ مَن نَذَرَ لا يدخلُ بَلَدًا؛ لظُلْمٍ رَآه فيه، فَزَال الظُّلْمُ، فقال أحمدُ: ¬

(¬1) زيادة من: ق، م.

أحْمَدُ: النَّذْرُ يُوفَى بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، فَصَارَ كَالْمَنْويِّ سَواءً. وَإنْ حَلَفَ: لَا رَأيتُ مُنْكَرًا إلا رَفَعْتُهُ إلَى فُلَانٍ الْقَاضِي. فَعُزِلَ، انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، إِنْ نَوَى مَا دَام قَاضِيًا، وَإن لَمْ يَنْو، احْتَمَلَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّذْرُ يُوفَى به) قال شَيخُنا: (والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ على النِّيَّةِ، فصارَ كالمَنْويِّ سَواءً. وإنْ حَلَفَ: لا رَأَيتُ مُنْكَرًا إلَّا رَفَعْتُه إلى فُلانٍ القاضي. فعُزِلَ، انْحَلَّتْ يَمِينُه إن نَوَى ما دامَ قاضِيًا، وإن لم يَنْو، احْتَمَلَ وَجْهَينِ) وقد ذَكَرْنا في أوَّلِ الباب أنَّ النِّيَّةَ إذا عُدِمَتْ، نَظَرْنا في سَبَبِ اليَمِينَ وما أثَارَها, لدَلالتِه على النِّيَّةِ، فإذا حَلَف لا يَأْوي مع امْرَأتِه في هذه الدَّارِ، [وكان] (¬1) سَبَبُ يَمِينِه غَيظًا مِن جِهَةِ الدَّارِ، لضَرَرٍ لَحِقَه منها، أو مِنَّةٍ عليه بها، اخْتصَّتْ يَمِينُه بها، وإن كان لغَيظٍ لَحِقَه مِن المرأةِ يَقْتَضِي جَفاءَها, لا أثَرَ للدَّارِ فيه، تَعَلَّقَ بإيوائِه (¬2) معها في كلِّ دارٍ، ومثلُه إذا حَلَف لا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِن غَزْلِها، إن كان سَبَبُه المِنَّةَ عليه منها، فكيفما انْتَفَعَ به أو بثَمَنِه حَنِثَ، وإن كان سَبَبُ يَمِينِه خُشُونَةَ غَزْلِها أو ¬

(¬1) في الأصل: «كان». (¬2) في م: «بأويه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَداءَتَه، لم تَتَعَدَّ يَمِينُه لُبْسَه، وقد دَلَّلْنا على تعلُّقِ اليَمِينِ بما نَوَاه، والسَّبَبُ دليلٌ على النِّيَّةِ، فتتَعَلَّقُ اليَمِينُ به، وقد ثَبَتَ أنَّ كَلامَ الشَّارِعِ إذا كان خاصًّا في شيءٍ لسَبَبٍ عامٍّ، تَعَدَّى إلى ما وُجِدَ فيه السَّبَبُ، كتَنْصِيصِه (¬1) على تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ في أعْيانٍ سِتَّةٍ، أثْبَتَ الحُكْمَ في كُلِّ ما وُجِدَ فيه معناها، كذلك في كَلامِ الآدَمِيِّ مثلُه. فأمَّا إن كان اللَّفْظُ عامًّا والسَّبَبُ خاصًّا، مثلَ مَن دُعِيَ إلى غَداءٍ، فحَلَفَ لا يَتَغَدَّى، أو حَلَفَ أن لا يَقْعُدَ، فإن كانت له نِيَّة، فيَمِينُه على ما نَوَى، وإن لم تَكُنْ له نِيَّةٌ، فكلامُ أحمدَ يَقْتَضِي رِوايَتَين؛ إحْدَاهما، ¬

(¬1) في م: «لنصه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ اليَمِينَ مَحْمُولَةٌ على العُمومِ؛ لأنَّ أحمدَ سُئِلَ عن رجلٍ حَلَف (¬1) لا يدخلُ بلدًا، لظُلْمٍ رَآه فيه، فزَال الظُّلْمُ. فقال: النَّذْرُ يُوفى به. يَعْنِي لا يَدْخُلُه. ووَجْهُ ذلك أنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذا كان عامًّا لسَبَبٍ خاصٍّ، وَجَبَ الأخْذُ بعمُومِ اللَّفْظِ لا بخُصوصِ السَّبَبِ، كذلك يَمِينُ الحالِفِ. وذَكَر القاضِي، في مَن حَلَف على زَوْجَتِه أو عَبْدِه أن لا يَخْرُجَ إلَّا بإذْنِه، فعَتَقَ العَبْدُ، وطَلُقَتِ المرأةُ، وخرَجا بغيرِ إذْنِه، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ قَرِينَةَ الحالِ تَنْقُلُ حُكْمَ الكَلامِ إلى نَفْسِها، وإنَّما يَمْلِكُ مَنْعَ الزَّوْجَةِ أو العَبْدِ مع ولايَتِه عليهما، فكَأنَّه قال: ما دُمْتُما في مِلْكِي. ولأنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ على النِّيَّةِ في الخُصُوصِ، كدَلالتِه عليها في العُمومِ، ولو نَوَى الخُصُوصَ لاخْتَصَّتْ يَمِينُه به، فكذلك إذا وُجِد ما يَدُلُّ عليها. ولو حَلَف لعامِلٍ لا يَخْرُجُ إلَّا بإذْنِه فَعُزِلَ، أو حَلَف لا يَرَى مُنْكَرًا إلَّا رَفَعَه إلى فُلانٍ القاضِي فعُزِلَ، ففيه وَجْهان، بِناءً على ما تقَدَّمَ؛ أحَدُهما، لا تَنْحَلُّ اليَمِينُ بعَزْلِه. قال القاضِي: هذا قِياسُ المذهبِ؛ لأنَّ اليَمِينَ إذا تَعَلَّقَتْ بعينٍ (¬2) ¬

(¬1) في م: «نذر». (¬2) في م: «بيمين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَوْصُوفَةٍ، تَعَلَّقَتْ بالعَينِ وإن تَغَيَّرَتِ الصِّفَةُ. وهذا أحَدُ الوَجْهَينِ لأصحابِ الشافعيِّ. والوَجْهُ الآخَرُ، تَنْحَلُّ (¬1) اليَمِينُ بعَزْلِه. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه لا يُقالُ: رَفَعَه إليه. إلَّا في حالِ ولايتِه. فعلى هذا، إن رَأى المُنْكَرَ في ولايتِه فأَمْكَنَه رَفْعُه فلم يَرْفعْه إليه حتَّى عُزِلَ، لم يَبَرَّ برفعِه إليه في حالِ العَزْلِ. وهل يَحْنَثُ بعَزْلِه؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه قد فاتَ رَفْعُه إليه، فأشْبَهَ ما لو ماتَ. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لم يَتَحَقَّقْ فَواتُه؛ لاحْتِمالِ أن يَلِيَ فيَرْفَعَه إليه، بخلافِ ما لو ماتَ، فإنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه قد تَحَقَّقَ فَواتُه، وإن ماتَ قبلَ إمْكانِ رَفْعِه إليه، حَنِثَ أَيضًا؛ لأنَّه قد فاتَ، فأشْبَهَ ما لو حَلَف ليَضْرِبَنَّ عَبْدَه في غَدٍ، فماتَ العَبْدُ اليومَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنَّه لم يَتَمَكَّنْ مِن فِعْلِ المَحْلُوفِ عليه، فأشْبَهَ المُكْرَهَ. وإن قُلْنا: لا تَنْحَلُّ يَمِينُه. فعُزِلَ، فرَفَعَه إليه بعدَ عَزْلِه، بَرَّ بذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «يحتمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ والنِّيَّةُ، مثلَ أنِ امْتَنَّتْ عليه امْرأتُه بغَزْلِها، فحَلَف أن لا يَلْبَسَ ثَوْبًا مِن غَزْلِها، يَنْوى اجْتِنابَ اللُّبْسِ خاصَّةً، دونَ الانْتفاعِ بثَمَنِه وغيرِه، قُدِّمَتِ النِّيَّةُ على السَّبَبِ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ النِّيَّةَ وافَقَتْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وإن نَوَى بيَمِينِه ثَوْبًا واحدًا، فكذلك في ظاهِرِ كَلامِ الخِرَقِيِّ. وقال القاضي: يُقَدَّمُ السَّبَبُ؛ لأنَّ اللَّفْظَ ظاهِرٌ في العُمومِ، والسَّبَبُ يُؤكِّدُ ذلك الظَّاهِرَ ويُقَوِّيه؛ لأنَّ السَّبَبَ هو الامْتِنانُ، وظاهِرُ حالِه قَصْدُ قَطْعِ المِنَّةِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى نِيَّتِه المُخالِفَةِ للظَّاهِرَين (¬1). والأوَّلُ أَصَحُّ؛ لأنَّ السَّبَبَ إنَّما اعْتُبِرَ لدَلالتِه على القَصْدِ، فإذا خالفَ حَقِيقَةَ القَصْدِ، لم يُعْتَبَرْ، فكان وُجودُه كعَدَمِه، فلم يَبْقَ إلَّا اللَّفْظُ بعُمومِه، والنِّيَّةُ تَخُصُّه على ما بَيَّناه فيما مَضَى. ¬

(¬1) في الأصل: «للظاهر».

فَصْلٌ: فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ، رُجِعَ إلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يدخلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَدَخَلَهَا وَقَدْ صَارَتْ فَضَاءً أوْ حَمَّامًا أوْ مَسْجِدًا، أوْ بَاعَهَا فُلَانٌ. أوْ: لَا لَبسْتُ هَذَا الْقَمِيصَ. فَجَعَلَهُ سَرَاويلَ أوْ رِدَاءً أوْ عِمَامَةً، وَلَبِسَهُ. أَوْ: لَا كَلَّمْتُ هَذَا الصَّبِيَّ. فَصَارَ شَيخًا. أو: امْرأةَ فُلَانٍ. أوْ: صَدِيقَهُ فُلَانًا. أوْ: ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (فإن عُدِمَ ذلك، رُجِعَ إلى التَّعْيِينِ) يَعْنِي إذا عُدِمَتِ النِّيَّةُ والسَّبَبُ رُجِعَ إلى التَّعْيِينِ (فإذا حَلَف لا يدخلُ دارَ فُلانٍ هذه، فدَخَلَها وقد صارَتْ فَضاءً أو حَمَّامًا أو مَسْجِدًا، أو باعَها فُلانٌ. أو: لا لَبِسْتُ هذا القَمِيصَ. فجَعَلَه سَراويلَ أو رِداءً أو عِمامَةً، ولَبِسَه. أو: لا كَلَّمْتُ هذا الصَّبِيَّ. فصارَ شَيخًا.

غُلَامَهُ سَعْدًا. فَطَلُقَتِ الزَّوْجَةُ، وَزَالتِ الصَّدَاقَةُ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَكَلَّمَهُمْ. أوْ: لَا أكَلْتُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ. فَصَارَ كَبْشًا. أوْ: لَا أَكَلْتُ هَذَا الرُّطَبَ. فَصَارَ تَمْرًا أَوْ دِبْسًا أَوْ خَلًّا. أَوْ: لَا أَكَلْتُ هَذَا اللَّبَنَ. فَتَغَيَّرَ. أو عُمِلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَأكَلَهُ، حَنِثَ في ذَلِكَ كُلِّهِ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحْنَثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: امْرَأةَ فُلانٍ. أو: صَدِيقَه فُلانًا. أو: غُلامَه سَعْدًا. فطَلُقَتِ الزَّوْجَةُ، وزَالتِ الصَّداقَةُ، وعَتَقَ العَبْدُ، فكَلَّمَهُم. أو: لا أكَلْتُ لَحْمَ هذا الحَمَلِ. فصارَ كَبْشًا. أو: لا أكَلْتُ هذا الرُّطَبَ. فصارَ تَمْرًا أو دِبْسًا أو خَلًّا. أو: لا أكَلْتُ هذا اللَّبَنَ. فتَغَيَّرَ، أو عُمِلَ منه شيءٌ فأكَلَه، حَنِثَ في ذلك كُلِّه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا حَلَف على شيءٍ عَيَّنه بالإِشَارَةِ، مثلَ أن حَلَف لا يَأْكُلُ هذا الرُّطَبَ، لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحَدُهما، أنْ يَأْكُلَه رُطَبًا، فيَحْنَث، بلا خِلافٍ بينَ الجميعِ؛ لكَوْنِه فَعَل ما حَلَف على تَرْكِه صَرِيحًا. الثاني، أن تَتَغَيَّرَ صِفَتُه، فذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَمْسَةُ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أن تَسْتَحِيلَ أجْزاؤُه، ويَتَغَيَّرَ اسْمُه، مثلَ أن حَلَف: لا أكَلْتُ هذه البَيضَةَ. فصارَتْ فرْخًا. أو: لا أكَلْتُ هذه الحِنْطَةَ. فصارَتْ زَرْعًا فأكَلَه، فلا يَحْنَثُ؛ لأنَّه زال اسْمُه، واسْتَحالتْ أجْزاؤُه. وعلى قِياسِه: لا شَرِبْتُ هذا الخَمْرَ. فصارَ خَلًّا وشَرِبَه. القسمُ الثاني، تَغَيَّرَتْ صِفَتُه، وزال اسْمُه، مع بَقاءِ أجْزائِه، مثلَ أن يَحْلِفَ: لا أكَلْتُ هذا الرُّطَبَ. فصارَ تَمْرًا. أو: لا كَلَّمْتُ هذا الصَّبِيَّ. فصارَ شَيخًا. أو: لا أكَلْتُ هذا الحَمَلَ. فصارَ كَبْشًا. [و: لا أكَلْتُ هذا الرُّطَبَ. فصار دِبْسًا، أو خَلًّا، أو ناطِفًا (¬1)، أو غيرَه من الحَلْواءِ. أو: لا يَأْكُلُ هذه الحِنْطَةَ. فصارت دَقِيقًا، أو سَويقًا، أو خُبْزًا، أو هَرِيسَةً. أو: لا أَكلْتُ هذا العَجِينَ. فصار خُبْزًا. أو: لا أكلْتُ هذا اللَّبَنَ. فصار مَصْلًا (¬2)، أو جُبْنًا، أو كَشْكًا. أو: لا دَخَلْتُ هذه الدَّارَ. فصارت مَسْجِدًا، أو حَمَّامًا، أو فَضاءً، ثم دَخَلَها وأكَلَه. حَنِثَ في جَمِيعِ ذلك. وبه قال أبو حنيفةَ، فيما إذا حَلَف: لا كَلَّمْتُ هذا الصَّبِيَّ. فصار شَيخًا. و: لا أكَلْتُ هذا الحَمَلَ. فصار كَبْشًا] (¬3). أو: لا دَخَلْتُ هذه الدَّارَ. ¬

(¬1) الناطف: ضرب من الحلواء، يصنع من الجرز واللرز والفستق. (¬2) المصل: عصارة الأقط، وهو ماؤه الذي يعصر منه حين يطبخ. (¬3) سقط من ق، م. وفي حاشية م إشارة إلى هذا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فدَخَلها بعدَ تَغَيُّرِها. وقاله أبو يوسفَ في الحِنْطَةِ إذا صارَت دَقِيقًا. وللشافِعِيِّ في الرُّطَبِ إذا صارَ تَمْرًا، والصَّبِيِّ إذا صارَ شَيخًا، والحَمَلِ إذا صارَ كَبْشًا، وَجْهان. وقالُوا في سائِرِ الصُّوَرِ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ اسْمَ المَحْلوفِ عليه وصُورَتَه زالتْ، فلم يَحْنَثْ، كما لو حَلَف لا يَأْكُلُ هذه البَيضَةَ فصارَتْ فَرْخًا. ولَنا، أنَّ عَينَ المَحْلوفِ عليه باقِيَةٌ، فحَنِثَ، كما لو حَلَف: لا أكَلْتُ هذا الحَمَلَ. فأكَلَ لحمَه. أو: لا لَبِسْتُ هذا الغَزْلَ. فصارَ ثَوْبًا ولَبِسَه. أو: لا لَبِسْتُ هذا الرِّداءَ. فلَبِسَه بعدَ أن صارَ قَمِيصًا أو سَرَاويلَ. وفارَقَ البَيضَةَ إذا صارَتْ فَرْخًا؛ لأنَّ أجْزاءَها اسْتَحالتْ، فصارَتْ عَينًا أُخْرَى، ولم تَبْقَ عَينُها, ولأنَّه لا اعْتِبارَ بالاسْمِ مع التَّعْيِينِ، كما لو حَلَف: لا كَلَّمْتُ زَيدًا هذا. فغَيَّرَ اسْمَه. أو: لا كَلَّمْتُ صاحِبَ الطَّيلَسانِ. فكَلَّمَه بعدَ بَيعِه. ولأنَّه متى اجْتَمَعَ التَّعْيِينُ مع غيرِه مِمّا (¬1) يُعْرَفُ به، كان الحُكْمُ للتَّعْيِينِ، كما لو اجْتَمَعَ مع الإِضافَةِ. القِسْمُ الثالِثُ، تَبَدَّلَتِ الاضَافَةُ، مثلَ أن حَلَف: لا كَلَّمْت زَوْجَةَ زَيدٍ هذه، ولا عَبْدَه هذا, ولا دَخَلْتُ دارَه هذه. فطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، ¬

(¬1) في م: «فما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وباعَ العَبْدَ والدَّارَ، فكَلَّمَهُما، ودَخَل، حَنِثَ. وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، ومحمَّدُ، وزُفَرُ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: لا يَحْنَثُ إلَّا في الزَّوْجَةِ؛ لأنَّ الدَّارَ لا تُوالى ولا تُعادَى، وإنَّما الامْتِناعُ لأجْلِ مالِكِها، فتَعَلَّقَتِ اليَمِينُ بها مع بَقاءِ مِلْكِه عليها، وكذلك العَبْدُ في الغالِبِ. ولَنا، أنَّه إذا اجْتَمَعَ في اليَمِينِ التَّعْيِينُ والإضافَةُ، كان الحُكْمُ للتَّعْيِينِ، كما لو قال: واللهِ لا كَلَّمْتُ زَوْجَةَ فُلانٍ ولا صَدِيقَه. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ في العَبْدِ؛ لأنَّه يُوالي ويُعادَي، ويَلْزَمُه في الدَّارِ إذا أطْلَقَ ولم يَذْكُرْ مالِكَها، فإنَّه يَحْنَثُ بدُخُولِها بعدَ بَيعِ مالِكِها إيَّاها. القِسْمُ الرابعُ، إذا تَغَيَّرَت صِفَتُه بما يُزِيلُ اسْمَه ثم عادَتْ، كمِقَصٍّ انْكَسَرَ ثم أُعِيدَ، وقَلَمٍ كُسِرَ ثم بُرِىَ، وسَفِينَةٍ نُقِضَتْ ثم أُعيدَتْ، فإنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّ أجْزاءَها واسْمَها موجودان، فأَشْبَهَ ما لو لم تَتَغَيَّرْ. القِسْمُ الخامِسُ، إذا تَغَيَّرَتْ صِفَتُه بما لا يُزِيلُ اسْمَه، كَلَحْمٍ شُوِيَ، وعبدٍ بِيعَ، ورجلٍ مَرِضَ، فإنَّه يَحْنَثُ به، بلا خِلافِ نَعْلَمُه؛ لأنَّ الاسْمَ الذي عَلَّقَ عليه اليَمِينَ لم يَزُلْ، ولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زال التَّغْيِيرُ، فحَنِثَ به، كما لو لم يَتَغَيَّرْ حالُه. فصل: وإن قال: والله لا كَلَّمْتُ سَعْدًا زَوْجَ هِنْدٍ. أو: سَيِّدَ صُبَيحٍ. أو: صَدِيقَ عَمْرٍو. أو: مالِكَ هذه الدَّارِ. أو: صاحِبَ هذا (¬1) الطَّيلَسانِ. أو: لا كَلَّمْتُ هِنْدًا امْرَأةَ سَعْدٍ. أو: صُبَيحًا عَبْدَه. أو: عَمْرًا صَدِيقَه. فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وباعَ العَبْدَ والدَّارَ والطَّيلَسانَ، وعَادَى عَمْرًا، وكَلَّمَهُم، حَنِثَ؛ لأنَّه متى اجْتَمَعَ الاسْمُ والإِضافَةُ، غَلَب الاسْمُ بجَرَيانِه جرَى التَّعْيِينِ في تعْرِيفِ المَحَلِّ. فصل: فإن حَلَف لا يَلْبَسُ هذا الثَّوْبَ، وكان رِداءً في حالِ حَلِفِه، فارْتَدَى به، أو ائْتَزَرَ، أو اعْتَمَّ به، أو جَعَلَه قَمِيصًا، أو سَرَاويلَ، أو قَباءً، فلَبِسَه، حَنِثَ، وكذلك إن كان قَمِيصًا فارْتَدَى به، أو سَراويلَ فائْتَزَرَ به (¬2)، حَنِثَ. وهذا هو الصَّحِيحُ من مذهبِ الشافعيِّ؛ لأنَّه قد ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «بها».

فَصْلٌ: فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ، رَجَعْنَا إِلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الاسْمُ. وَالْأَسْمَاءُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أقْسَامٍ؛ شَرْعِيَّةٌ، وَحَقِيقِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ. فَأمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ لَبِسَه. وإن قال في يَمِينِه: لا لَبِسْتُه وهو رِداءٌ. فغَيَّرَه عن كَوْنِه رداءً ولَبِسَه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ اليَمِينَ وَقَعَتْ على تَرْكِ لُبْسِه رِداءً. وكذلك إن نوَى بيَمِينِه في شيءٍ من هذه الأشياءِ ما دامَ على تلك الصِّفَةِ والإِضافَةِ، وما لم يَتَغَيَّرْ في هذه المسائلِ المذْكُورَةِ في هذا الفَصلِ والذي قبلَه؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: «وإنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نوَى» (¬1). فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (فإن عُدِمَ ذلك، رَجَعْنا إلى ما يَتَناوَلُه الاسْمُ. والأسْماءُ تَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقْسامٍ؛ شَرْعِيَّةٌ، وحَقِيقِيَّةٌ، وعُرْفِيَّةٌ) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الأسْماءَ تَنْقَسِمُ (¬2) سِتَّةَ أقْسامٍ؛ أحَدُها، ما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 308. (¬2) بعده في م: «على».

الشَّرْعِيَّةُ؛ فَهِيَ أَسْمَاءٌ لَهَا مَوْضُوعٌ في الشَّرْعِ وَمَوْضُوعٌ في اللُّغَةِ، كالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوهِ، فَالْيَمِينُ الْمُطلَقَةُ تَنْصَرِفُ إلى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ، وَتَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لَه مُسَمًّى واحِدٌ، كالرَّجُلِ والمرأةِ والإنسانِ والحَيوانِ، فهذا تَنْصَرِفُ اليَمِينُ إلى مُسَمَّاه، بغيرِ خِلافٍ. الثاني، ما له مَوْضوعٌ شَرْعِيٌّ، ومَوْضوعٌ لُغَويٌّ، كالوُضُوءِ، والصلاةِ، والطَّهارَةِ، والزَّكاةِ، والصَّوْمِ، والحَجِّ، والعُمْرَةِ، والبَيعِ، فهذا تَنْصَرِفُ اليَمِينُ عندَ الإطْلاقِ إلى الموْضوعِ الشرْعِيِّ دونَ اللغَويِّ، لا نَعْلَمُ أَيضًا فيه خِلافًا، إلَّا ما نَذْكُرُه (¬1) فيما يَأْتِي إن شاءَ اللهُ. الثالثُ، ما له مَوْضُوعٌ حَقِيقِيٌّ ومَجازٌ، لم يُسْتَعْمَلْ أكثرَ من الحقِيقَةِ، كالأسَدِ، والبحرِ، فيَمِينُ الحالِفِ تَنْصَرِفُ عندَ الإطْلاقِ إلى الحقيقةِ دونَ المجازِ؛ لأن كلامَ الشَّارِعِ إذا وَرَدَ في (¬2) مثلِ هذا حُمِلَ على حَقِيقَتِه دونَ مَجازِه، كذلك اليَمِينُ. الرَّابعُ، الأسْماءُ العُرْفِيَّةُ، وهي ما يَشْتَهِرُ مَجازُه حتَّى تَصِيرَ الحقِيقَةُ مَغْمُورَةً فيه، ¬

(¬1) في م: «ذكره». (¬2) سقط من: م.

فإذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَبَاعَ بَيعًا فَاسِدًا، أَوْ لَا يَنْكِحُ, فَنَكَحَ نِكَاحًا ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا على ضُرُوبٍ؛ أحَدُها، ما يَغْلِبُ على الحقِيقَةِ بحيثُ لا يَعْلَمُها أكثرُ الناسِ، كالرَّاويَةِ، وهي في العُرْفِ اسْم للمَزَادَةِ، وفي الحقيقَةِ اسْمٌ لِما يُسْتَقَى (¬1) عليه من الحيواناتِ، والظَّعِينَةُ في العُرْفِ المرأةُ، وفي الحقيقَةِ النَّاقَةُ التي يُظْعَنُ عليها، والعَذِرَةُ والغائِطُ في العُرْفِ الفَضْلَةُ المُسْتَقْذَرَةُ، وفي الحقِيقَةِ العَذِرَةُ فِناءُ الدَّارِ، ولذلك قال عليٌّ، رَضِيَ الله عنه، لقومٍ: ما لَكُم لا تُنَظِّفُون عَذِرَاتِكُم؟ يُرِيدُ أفْنِيَتَكُم. والغائِطُ المُطْمَئِنُّ من الأرْضِ. فهذا وأشْباهُه يَنْصَرِفُ (¬2) يَمِينُ الحالِفِ إلى المجازِ دونَ الحقِيقَةِ؛ لأنَّه الذي يُرِيدُه بيَمِينِه، ويُفْهَمُ من كَلامِه، فأشْبَهَ الحَقِيقَةَ في غيرِه. الضَّرْبُ الثاني، أن يَخُصَّ (¬3) عُرْفُ الاسْتِعْمالِ بعضَ الحَقِيقَةِ بالاسْمِ (¬4)، ويَتَنَوَّعُ أنْواعًا، نَذْكُرُها إن شاءَ الله في المسائِلِ، كالدَّابَّةِ، والرَّيحانِ، وغيرِ ذلك. فصل في الأسماءِ الشَّرْعِيَّةِ: (إذا حَلَف لا يَبِيعُ، فباعَ بَيعًا فاسِدًا، ¬

(¬1) في الأصل: «يستسقى». (¬2) في ق، م: «يصرف». (¬3) في م: «يحصل». (¬4) بعده في م: «الموضوع».

فَاسِدًا، لَمْ يَحْنَثْ، إلا أَنْ يُضِيفَ الْيَمِينَ إلَى شَيْءٍ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الصِّحَّةُ، مِثْلَ أنْ يَحْلِفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ أو الْحُرَّ، فَيَحْنَثُ بِصُورِةِ الْبَيعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو لا يَنْكِحُ، فنَكَحَ نِكاحًا فاسِدًا، لم يَحْنَثْ، إلَّا أن يُضِيفَ اليَمِينَ إلى شيءٍ لا تُتَصَوَّرُ فيه الصِّحَّةُ، مثلَ أن يَحْلِفَ أن لا يَبيع الحُرَّ أو الخَمْرَ، فيَحْنَثُ بصُورةِ البَيعِ) إذا حَلَف أن لا يَبِيعَ ولا يَنْكِحَ، انْصَرَفَ إلى الصَّحِيحِ دونَ الفاسِدِ. وبهذا قال الشافعِيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا قال لعَبْدِه: إن زَوَّجْتُكَ، أو بِعْتُكَ، فأنْتَ حُرٌّ. فزَوَّجَه تَزْويجًا فاسِدًا، لم يَعْتِقْ، وإن باعَه بَيعًا فاسِدًا يُمْلَكُ به، حَنِثَ؛ لأنَّ البَيعَ [الفاسِدَ عندَه يَثْبُت به المِلْكُ، إذا اتَّصَلَ به القَبْضُ. ولنا، أنَّ اسْمَ البَيعِ] (¬1) يَنْصَرِفُ إلى الصَّحِيحِ، بدَليلِ (¬2) قولِ اللهِ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} (¬3). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في الأصل، ق: «أن». (¬3) سورة البقرة 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكْثَرُ ألْفاظِه في البَيعِ إنَّما تَنْصَرِفُ إلى الصَّحِيحِ، فلا يَحْنَثُ بما دونَه، كما في النِّكاحِ، وكالصَّلاةِ، وغيرِهما، وما ذكروه مِن ثُبوتِ المِلْكِ به ممنوعٌ. وقال ابنُ أبي موسى: لا يَحْنَثُ بالنِّكاحِ الفاسِدِ، وهل يَحْنَثُ بالبَيعِ الفاسِدِ؟ على رِوايتَين. وقال أبو الخَطّابِ: إن نَكَحَها نِكاحًا مُخْتَلَفًا فيه، مثلَ أن يَتَزوَّجَها بلا وَلِيٍّ ولا شُهودٍ، أو باعَ في وقتِ النِّداءِ، فعلى وَجْهَين. وقال ابنُ أبي موسى: إن تَزَوَّجَها زَواجًا مُخْتَلَفًا فيه، أو مَلَك مِلْكًا مُخْتَلَفًا فيه، حَنِثَ فيهما جميعًا. ولَنا، أنَّه نِكاحٌ فاسِدٌ، وَبَيعٌ فاسِدٌ، فلم يَحْنَثْ بهما، كالمُتَّفَقِ على فسادِهِما. فصل: والماضِي والمُسْتَقْبَلُ سَواءٌ في هذا. وقال مُحَمَّد بنُ الحسنِ: [إذا حَلَفَ] (¬1): ما تَزَوَّجْتُ، ولا صَلَّيتُ، ولا بِعْتُ. وكان قد فَعَلَه فاسِدًا، حَنِثَ؛ لأنَّ الماضِيَ لا يُقْصَدُ منه إلَّا الاسْمُ، والاسْمُ يَتَناوَلُه، والمُسْتَقْبَلُ بخِلافِه، فإنَّه يُرادُ بالنِّكاحِ والبَيعِ المِلْكُ، وبالصلاةِ القُرْبَةُ. ولَنا، أنَّ ما لا يَتَناوَلُه الاسْمُ في المُسْتَقْبَلِ، لا يَتَناوَلُه في الماضِي، وكغيرِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسَمَّى، وما ذَكَرَه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الاسْمَ لا يَتَناوَلُ إلَّا الشَّرْعِيَّ، ولا يحْصُلُ. فصل: فإن حَلَف لا يَبِيعُ، فباع (¬1) بَيعًا فيه الخِيارُ، حَنِثَ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ المِلْكَ لا يَثْبُتُ في مُدَّةِ الخِيارِ، فأشْبَهَ البَيعَ الفاسِدَ. ولَنا، أنَّه بَيعٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ، فيَحْنَثُ به، كالبَيعِ اللَّازِمِ، وما ذَكَرَه مَمْنُوعٌ، فإنَّ بَيعَ الخِيارِ يَثْبُتُ المِلْكُ به بعدَ انْقِضاءِ الخِيارِ بالاتِّفاقِ، وهو سَبَبٌ له، فكذلك قبلَه. فصل: وإن حَلَف لا يَبِيعُ، أو لا يُزَوِّجُ، فأوْجَبَ البَيعَ والنِّكاحَ، ولم يَقبَلِ المُتَزوِّجُ والمُشْتَرِي، لم يَحْنَثْ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافِعِيُّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ البَيعَ والنِّكاحَ عَقْدان لا يَتِمَّان إلَّا بالقَبولِ، فلم يَقَعْ الاسْمُ على الإيجابِ بدُونِه، فلم يَحْنَثْ به. فصل: وإنْ أضافَ اليَمِينَ في البَيعِ والنِّكاحِ إلى ما لا (¬2) تُتَصَوَّرُ فيه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

4726 - مسألة: (وذكر القاضي في من قال لامرأته: إن سرقت مني شيئا وبعتنيه، فأنت طالق. ففعلت، لم تطلق)

وَذَكَر الْقَاضِي فِي مَنْ قَال لامْرأَتهِ: إِنْ سَرَقْتِ مِنِّي شَيئًا وَبِعْتِنِيهِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَفَعَلَتْ، لَمْ تَطْلُقْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّحَّةُ، كالخَمْرِ والخِنْزيرِ والحُرِّ، حَنِثَ بصُورَةِ (¬1) البَيعِ؛ لأَنه يتَعَذَّرُ حَمْلُ يَمِينِه على عَقْدٍ صَحِيحٍ، فتَعَيَّنَ محملًا له. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ؛ لأَنه ليس ببَيعٍ في الشَّرْعِ. 4726 - مسألة: (وذَكَر القاضِي في مَن قال لامْرأتِه: إن سَرَقْتِ مِني شَيئًا وبِعْتِنِيه، فأنْتِ طالِقٌ. ففَعَلَتْ، لم تَطْلُقْ) لأنَّ البَيعَ الشَّرْعِيَّ لم يُوجَدْ (والأوَّلُ أوْلَى) لأنَّ صُورَةَ البَيعِ وُجِدَتْ. فصل: وإن حَلَف لا يَتَزَوَّجُ، حَنِثَ بمُجَرَّدِ الإِيجابِ والقَبُولِ الصَّحِيحِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ ذلك يَحْصُلُ به المُسَمَّى الشَّرْعِيُّ، ¬

(¬1) في م: «كصورة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فتَناوَلَتْه يَمِينُه. وإن حَلَف ليَتَزَوَّجَنَّ، بَرَّ بذلك، سَواءٌ كانت له امرأةٌ أو لم تَكُنْ، وسَواءٌ تَزوَّجَ نَظِيرَتَها، أو أعْلَى منها، إلَّا أن يَحْتال على حلِّ يَمِينِه بتَزْويجٍ لا يُحَصِّلُ القْصودَ، مثلَ أن يُواطِئَ امرأتَه على نِكاحٍ لا يَغِيظُها به، [ليَبَرَّ بيَمِينِه] (¬1)، فلا يَبَرُّ. [بهذا. و] (¬2) قال أصحابُنا: إذا حَلَف ليَتَزَوَّجَنَّ على امرأتِه، لا يَبَرُّ حتَّى يَتَزَوَّجَ نَظِيرَتَها، ويَدْخُلَ بها. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه قَصَد غَيظَ زَوْجَتِه، ولا يَحْصُلُ إلَّا بذلك. ولَنا، أنَّه تزَوَّجَ تَزْويجًا صَحِيحًا، فبَرَّ به، كما لو تَزَوَّجَ نَظِيرَتَها، والدُّخُولُ غيرُ مُسَلَّمٍ؛ فإنَّ الغَيظَ يَحْصُلُ بمُجَرَّدِ الخِطْبَةِ، وإن حَصَل بما ذَكَرُوه زِيادَة في الغَيظِ، فلا تَلْزَمُه الزِّيادَة على الغَيظِ الذي يَحْصُلُ بما تَناوَلَتْه يَمِينُه، كما أنَّه لا يَلْزَمُه نِكاحُ اثْنَتَين (¬3) ولا ثلاثةٍ، ولا أعْلَى مِن نَظِيرَتِها. والذي تَناوَلَتْه يَمِينُه مُجَرَّدُ التَّزْويجِ، ولذلك لو حَلَف لا يَتَزَوَّجُ على امرأتِه (¬4)، حَنِثَ بهذا، فكذلك يَحْصُلُ البِرُّ به؛ لأنَّ المُسَمَّى واحِدٌ، فما تَناوَلَه النَّفْيُ تَناوَلَه في الإثْباتِ، وإنَّما لا يَبَرُّ إذا تَزَوَّجَ (¬5) تَزْويجًا لا يَحْصُلُ به الغَيظُ، كما ذَكَرْناه مِن الصُّورَةِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «وبهذا». (¬3) في م: «اثنين». (¬4) في م: «امرأة». (¬5) في م: «زوج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَظائِرِها؛ لأنَّ مَبْنَى الأيمانِ على المَقاصِدِ والنِّيَّاتِ، ولم يَحْصُلْ مَقْصُودُه، ولأنَّ التَّزْويجَ يَحْصُلُ ههُنا حِيلَةً على التّخَلُّصِ مِن يَمِينِه بما لا يُحَصِّلُ مَقصُودَها، فلم تُقْبَلْ منه حِيلَتُه. وقد نَصَّ أحمدُ على هذا، فقال: إذا حَلَف ليَتَزَوَّجَنَّ على امرأتِه، فتَزَوَّجَ بعَجُوزٍ أو زِنْجِيّةٍ، لا يَبَرُّ؛ لأنَّه أَرادَ أن يَغِيظَها و (¬1) يُغِيرَها ويَغُمَّها، وبهذا لا تَغارُ ولا تَغْتَمُّ. فعَلَّلَه أحمدُ بما يَغِيظُ به الزَّوْجَةَ، [ولم يَعْتَبِرْ أن تكونَ نَظِيرَتَها] (¬2)؛ لأنَّ (¬3) الغَيظَ لا يَتَوقَّفُ على ذلك، ولو قَدَّرَ أنَّ تَزَوُّجَ العَجُوزِ يَغِيظُها والزِّنْجِيَّةِ، لَبَرَّ به، وإنَّما ذَكَرَه أحمدُ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّه لا يَغِيظُها؛ لأنَّها تَعْلَمُ أنَّه إنَّما فَعَل ذلك حِيلَةً لِئلَّا يَغِيظَها، ويَبَرَّ به. فصل: وإن حَلَف: لا تَسَرَّيتُ. فوَطِئَ جاريَتَه، حَنِثَ. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وقال القاضِي: لا يَحْنَثُ حتَّى يَطَأَ فيُنْزِلَ، فَحْلًا كان أو خَصِيًّا. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ حتَّى يُحْصِنَها ويَحْجُبَها عن الناسِ؛ لأنَّ التَّسَرِّيَ مَأْخُوذٌ مِن السِّرِّ. [ولأصحابِ الشافعيِّ ثلاثةُ أوْجُهٍ كهذه. ولَنا، أنَّ التَّسَرِّيَ مَأخُوذٌ مِن السِّرِّ] (2)، وهو الوَطْءُ؛ لأنَّه يكونُ في السِّرِّ، قال اللهُ تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (¬4). وقال ¬

(¬1) في الأصل: «أو». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «ولأن». (¬4) سورة البقرة 235.

4727 - مسألة.: (إذا حلف لا يصوم، لم يحنث حتى يصوم يوما)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَصُومَ يَوْمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشاعرُ (¬1): فلَنْ تَطْلُبوا سِرَّها لِلْغِنَى … ولَنْ تُسْلِمُوها لإِزْهادِهَا وقال الآخَرُ (¬2): لقد زَعَمَتْ بَسْباسَةُ القَوْمِ أنَّنِي … كَبِرْتُ وأنْ لا يُحْسِنَ السِّرَّ أمْثالي ولأنَّ ذلك حُكْمٌ تَعَلَّقَ بالوَطْءِ، فلم يُعْتَبَرْ فيه الإِنْزالُ ولا التَّحْصِينُ، كسائِرِ الأحْكامِ. 4727 - مسألة.: (إذا حَلَف لا يَصُومُ، لم يَحْنَثْ حتَّى يَصُومَ يَوْمًا) هذا إذا لم يُسَمِّ عَدَدًا، ولم ينْوه، وأقَلُّ ذلك صَوْمُ يَوْم، لا خِلافَ فيه؛ لأنَّه ليس في الشَّرْعِ صَوْمٌ مُفْرَدٌ أقَلَّ مِن يَوْم، فلَزِمَه؛ لأنَّه اليَقِينُ. ¬

(¬1) تقدم في 20/ 71. (¬2) تقدم في 20/ 71.

4728 - مسألة: (وإن حلف لا يصلي، لم يحنث)

وَإنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي، لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4728 - مسألة: (وإن حَلَف لا يُصَلِّي، لم يَحْنَثْ) حتَّى يَفْرُغَ مِمَّا يَقَعُ عليه اسْمُ الصلاةِ. وفيه رِوايتان؛ إحداهما، يُجْزِئُه رَكعةٌ. نَقَلَها إسماعيلُ بنُ سعيدٍ؛ لأنَّ أقَلَّ الصلاةِ رَكعةٌ، فإنَّ الوتْرَ صلاةٌ مَشْرُوعَةٌ،

وَقَال الْقَاضِي: إِنْ حَلَفَ: لَا صَلَّيتُ صَلَاةً. لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا يَقَعُ عَلَيهِ اسْمُ الصَّلَاةِ، وَإنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي، حَنِثَ بالتَّكْبِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي رَكعةٌ واحدةٌ. ورُوي عن عمرَ، رَضِي الله عنه، أنَّه تَطَوَّعَ برَكعةٍ واحدةٍ (¬1). والثانيةُ، لا يُجْزِئُه إلَّا ركْعَتانِ. وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنَّ أقَلَّ صلاةٍ وَجَبَتْ بالشَّرْعِ رَكْعتان، فوَجَبَ حَمْلُ اليَمِينِ عليه. وقد قيل: إنَّما يَجِبُ رَكْعتان في النَّذْرِ؛ لأنَّه واجِبٌ، أمَّا الوتْرُ فهو نَفْلٌ. ولأنَّ الرَّكْعَةَ لَا تُجْزِئُ في الفَرْضِ، فلا تُجْزِئُ في النَّفْلِ قياسًا عليه، وكالسَّجْدَةِ. وللشافعيِّ قَوْلان كالرِّوايَتَين (وقال القاضي: إن حَلَف: لا صَلَّيتُ صلاةً. لم يَحْنَثْ حتَّى يَفْرُغَ مما يَقَعُ عليه اسمُ الصلاةِ) على ما ذَكَرْنا (وإن حَلَف لا يُصَلِّي، حَنِث بالتَّكْبيرِ) وهذا يُشْبِهُ ما إذا قال لزَوْجَتِه: إن ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 3/ 24. وقال في: تلخيص الحبير: وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان، وهو لين. تلخيص الحبير 2/ 25.

وَإنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ زَيدًا شَيئًا، وَلَا يُوصِي لَهُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ عَلَيهِ، فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبَلْ زَيدٌ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِضْتِ حَيضَةً فأنتِ طالِقٌ. فإنَّها لاتَطْلُقُ حتَّى تَحِيضَ ثم تَطْهُرَ. ولو قال: إن حِضْتِ. طَلُقَتْ بأوَّلِ الحَيضِ؛ لأنَّه إذا شَرَع في الصلاةِ يُسَمَّى مُصَلِّيًا. قال شيخُنا (¬1): يَحْتَمِلُ أن يُخَرَّجَ هذا على الرِّوايَتَين في مَن حَلَف لا يَفْعَلُ شيئًا، ففَعَل بعضَه. فصل: (وإن حَلَف لا يَهَبُ زَيدًا شيئًا, ولا يُوصِي له، ولا يَتَصَدَّقُ عليه، ففَعَلَ ولم يَقْبَلْ زَيدٌ، حَنِثَ) إذا حَلَف لا يَهَبُ زيدًا شيئًا، أو لا يُعِيرُه، فأوْجَبَ ذلك، ولم يَقْبَلْ زيدٌ، حَنِثَ. ذَكَرَه القاضِي. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وابنِ سُرَيجٍ (¬2)؛ لأنَّ الهِبَةَ والعارِيَّةَ لا عِوَضَ فيهما، فكان مُسَمَّاهُما الإِيجابَ، والقَبُولُ شَرْطٌ لنَقْلِ المِلْكِ، ¬

(¬1) في: الكافي 4/ 399. (¬2) في النسخ: «شريح». وانظر ترجمته في 10/ 442.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس هو مِن السَّبَبِ، فيَحْنَثُ (¬1) بمُجَرَّدِ الإيجابِ فيه، كالوَصِيَّةِ. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ بمُجَردِ الإيجابِ؛ لأنَّه عَقْد لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبُولِ، فلم يَحْنَثْ (¬2) بمُجَرَّدِ الإِيجابِ، كالنِّكاحِ والبَيعِ. فأمَّا الهَدِيةُ والوَصِيَّة والصدَقَةُ، [فيَحْنَثُ فيها] (¬3) بمُجَرَّدِ الإيجابِ. وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. قال شيخُنا (¬4): ولا أعلمُ [قولَ الشافِعِيِّ] (¬5) فيها (¬6)، إلَّا أنَّ الظاهِرَ أنَّه لا يُخالِفُ في الوَصِيَّةِ والهدِيّةِ؛ لأنَّ الاسْمَ يَقَعُ عليهما (¬7) بدونِ القَبُولِ، ولهذا لَمَّا قال اللهُ تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬8). إنّما أَرادَ الإيجابَ دونَ القَبُولِ، ولأنَّ الوَصِيَّةَ تَصِحُّ قبلَ مَوْتِ المُوصِي، ولا قَبُولَ لها حِينَئِذٍ. ¬

(¬1) في النسخ: «فيجب» وانظر المغني 13/ 491. (¬2) في م: «يجب». (¬3) في ق، م: «فتجب». (¬4) في: المغني 13/ 491، 492. (¬5) في ق، م: «قولا للشافعي». (¬6) سقط من: م. (¬7) في م: «عليها». (¬8) سورة البقرة 180.

4729 - مسألة: (وإن حلف لا يتصدق عليه، فوهبه، لم يحنث)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَيهِ، فَوَهَبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإنْ حَلَفَ لَاَ هَبُهُ، فَتَصَدَّقَ عَلَيهِ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4729 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَتَصَدَّقُ عليه، فوَهَبَه، لم يَحْنَثْ) لأنَّ الصَّدَقَةَ (¬1) نَوْعٌ مِن الهِبَةِ، ولا يَحْنَثُ الحالِفُ على نَوْعٍ [بفِعْلِ نوعٍ] (¬2) آخَرَ، ولا يَثْبُتُ للجِنْسِ حُكْمُ النَّوْعِ، ولهذا حَرُمَتِ الصَّدَقَةُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم تَحْرُمِ الهِبَةُ ولا الهدِيَّةُ، بدَليلِ قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في اللَّحْمِ الذي تُصُدِّقَ به على بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيهَا صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ» (¬3). وإن حَلَف لا يَهَبُه شيئًا، فأسْقَطَ عنه دَينًا، لم يَحْنَثْ إلَّا أن يَنْويَ؛ لأنَّ الهِبَةَ تَمْلِيكُ عَينٍ، وليس له إلَّا دَينٌ في ذِمَّتِه. 4730 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَهَبُه، فتَصَدَّقَ عليه، حَنِثَ) ¬

(¬1) في م: «التصدق». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 298.

وَقَال أبو الْخَطَّابِ: لَا يَحْنَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك إن أهْدَى له أو أعْمَرَه؛ لأنَّ ذلك مِن أنْواعِ الهِبَةِ، وإن أعْطاه مِن الصَّدَقَةِ الواجِبَةِ، [أو نَذْرًا أو كَفّارَةً] (¬1)، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ ذلك حَقٌّ للهِ تعالى عليه، يَجِبُ إخْراجُه، فليس هو هِبَةً منه، فإن تَصَدَّقَ عليه تَطَوُّعًا، حَنِثَ. قاله القاضي. وهو مذهبُ الشَّافعيِّ (وقال أبو الخَطَّابِ: لا يَحْنَثُ) وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّهما يَخْتَلِفان اسْمًا وحُكْمًا، بدَليلِ قولِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ عَلَيهَا صَدَقَةٌ، ولَنا هَدِيَّةٌ». وكانتِ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عليه، والهَدِيَّةُ حَلالٌ له، ويَقْبَلُ الهدِيَّةَ ولا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ (¬2)، ومع هذا الاخْتلافِ لا يَحْنَثُ في أحَدِهما بفِعْلِ الآخَرِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أَنه تَبَرَّعَ بعَينٍ في الحياةِ، فحَنِثَ به، كالهدِيَّةِ، ولأنَّ الصَّدَقَةَ تسَمَّى هِبَةً، فلو تَصَدَّقَ بدِرْهَمٍ، قيلَ: وَهَب دِرْهَمًا، وتَبَرَّعَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر ما تقدم في 7/ 297.

4731 - مسألة: (وإن أعاره لم يحنث إلا عند أبي الخطاب)

وَإِنْ أعَارَهُ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا عِنْدَ أبِي الْخَطَّابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بدِرْهَمٍ. واخْتِلافُ التَّسْمِيَةِ لكَوْنِ الصَّدَقَةِ نَوْعًا مِن الهِبَةِ، فتَخْتَصُّ باسْمٍ دونَها، كاخْتِصاصِ الهدِيَّةِ والعُمْرَى باسْمَين، ولم يُخْرِجْهُما ذلك عن كَوْنِهما هِبَةً، وكذلك اخْتِلافُ الأحْكام، فإنَّه قد يَثْبُتُ للنَّوْعِ ما لا يَثْبُتُ للجِنْسِ، كما يَثْبُتُ للآدَمِيِّ مِن الأحكامِ ما لا يَثْبُتُ لمُطْلَقِ الحيوانِ. 4731 - مسألة: (وإن أعَارَه لم يَحْنَثْ إلَّا عندَ أبي الخَطَّابِ) لأنَّ العارِيَّةَ هِبَةُ (¬1) المَنْفَعَةِ. وقال القاضي: لا يَحْنَثُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ الهِبَةَ تَمْلِيكُ الأعْيانِ، وليس في العارِيَّةِ تَمْلِيكُ عَينٍ، ولأنَّ المُسْتَعِيرَ لا يَمْلِكُ المَنْفَعَةَ، وإنَّما يَسْتَبِيحُها (¬2)، ولهذا يَمْلِكُ المُعِيرُ الرُّجُوعَ فيها (¬3)، ولا يَمْلِكُ المُسْتَعِيرُ إجارَتَها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يستحقها». (¬3) سقط من: م.

4732 - مسألة: (وإن وقف عليه، حنث)

وَإِنْ وَقَفَ عَلَيهِ، حَنِثَ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ بَاعَهُ وَحَابَاهُ، حَنِثَ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحْنَثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4732 - مسألة: (وإن وَقَفَ عليه، حَنِثَ) قاله أبُو الخَطَّابِ؛ لأنَّه تَبَرَّعَ له بعَينٍ في الحَياةِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنَّ الوَقْفَ لا يُمْلَكُ، في رِوايَةٍ، ولأنَّه لا يُطْلَقُ عليه اسْمُ الهِبَةِ. 4733 - مسألة: (وإن وَصَّى له، لم يَحْنَثْ) لأنَّ الهِبَةَ تَمْلِيكٌ في الحياةِ، والوَصِيَّةُ إنَّما تُمْلَكُ بالقَبُولِ بعدَ الموتِ. 4734 - مسألة: (وإن باعَه وحاباه، حَنِثَ) في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه تَرَك له بعضَ المَبِيعِ بغيرِ عِوَضٍ أو وَهَبَه (¬1) بعضَ الثَّمَنِ. والوَجْهُ الآخَرُ، أنَّه لا يَحْنَثُ. وهو أَوْلَى؛ لأنَّها مُعاوَضَةٌ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ أخْذَ جميعِ ¬

(¬1) في م: «هبة».

فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي؛ الْأَسْمَاءُ الْحَقِيقِيّةُ، إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، فَأَكَلَ الشَّحْمَ، أو الْمُخَّ، أو الْكَبدَ، أَو الطِّحَال، أَو الْقَلْبَ، أَوْ الْكَرِشَ، أَو الْمُصْرَانَ، أو الْأَلْيَةَ، أَو الدِّمَاغَ، أو ـــــــــــــــــــــــــــــ المَبِيعِ. ولو كان هِبَةً أو بعضُه، لم يَمْلِكْ أخْذَه كلِّه. وإن أضافَه لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يُمَلِّكْه شيئًا، وإنَّما أباحَه الأكْلَ، ولهذا لا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بغيرِه. فصل: قال رَحِمَه الله: (القِسْمُ الثاني؛ الأسْماءُ الحقِيقِيَّةُ، فإذا حَلَف لا يَأكُلُ اللَّحْمَ، فأكَلَ الشَّحْمَ، أو المُخَّ، أو الكَبِدَ، أو الطِّحال، أو القَلْبَ، أو الكَرِشَ، أو المُصْرانَ، أو الأَلْيَةَ، أو الدِّماغَ، أو

الْقَانِصَةَ، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ القانِصَةَ (¬1)، لم يَحْنَثْ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحالِفَ على تَرْكَ (¬2) أكلِ (¬3) اللَّحْمِ، لا يَحْنَثُ بأكْلِ ما ليس بلَحْمٍ، من الشَّحْمِ والمُخِّ، وهو الذي في العِظامِ، والدِّماغِ، وهو الذي في الرَّأْسِ في قِحْفِه (¬4)، ولا الكَبِدِ، والطِّحالِ، والرِّئَةِ، والقَلْبِ، والكَرِشِ، والمُصْرانِ، والقانِصَةِ، ونحوها. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: يَحْنَثُ بأَكْلِ هذا كلِّه؛ لأنَّه لَحْمٌ حَقِيقَةً، ويُتَّخَذُ منه ما يُتَّخَذُ من اللَّحْمِ، فأَشْبَهَ لَحْمَ الفَخِذِ. ولَنا، أنَّه لا يُسَمَّى لحْمًا، وَيَنْفَرِدُ عنه باسْمِه وصِفَتِه، ولو أمَرَ وَكِيلَه بشِراءِ لَحْمٍ، فاشْتَرَى هذا، لم يَكُنْ مُمْتَثِلًا لأمْرِه، ولا يَنْفُذُ الشِّراءُ للموكِّلِ، فلم يَحْنَثْ بأكْلِه، كالبقْلِ، وقد دَلَّ على أنَّ الكَبِدَ والطِّحال ¬

(¬1) القانصة من الطير: جزء عضلي من المعدة يتم فيه جرش الغذاء وطحنه، وهي مشهورة في الطيور التي تتغذى بالحبوب، كالحمام والدجاج. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) القحف: أعلى الدماغ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليسا بلَحْمٍ، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيتَتَانِ وَدَمَانِ؛ أمَّا الدَّمَانِ، فالْكَبِدُ والطِّحَالُ» (¬1). ولا نُسَلِّمُ أنَّه لَحْمٌ حَقِيقَةً، بل هو من الحَيوانِ، كالعَظْمِ والدَّمِ. فأمَّا إن قَصَد اجْتِنابَ الدَّسَمِ، حَنِثَ بأكْلِ الشَّحْمِ؛ لأنَّ له دَسَمًا، وكذلك المُخُّ، وكلُّ ما فيه دَسَمٌ. ولا يَحْنَثُ بأكْلِ الألْيَةِ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: يَحْنَثُ؛ لأنَّها نابِتَةٌ في اللَّحْمِ، وتُشْبِهُه في الصَّلابَةِ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّها لا تُسَمَّى لَحْمًا, ولا يُقْصَدُ منها ما يُقْصَدُ منه، وتُخالِفُه في اللَّوْنِ والذَّوْبِ والطَّعْمِ، فلم يَحْنَثْ بأكْلِها، كشَحْمِ البَطْنِ. فأمَّا الذي على الظَّهْرِ والجَنْبِ وفي تَضاعيفِ اللَّحْمِ، فلا يَحْنَثُ بأكْلِه، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِيِّ، فإنَّه قال: اللَّحْمُ لا يَخْلُو من شَحْمٍ. يُشِيرُ إلى ما يُخالِطُ اللَّحْمَ ممَّا تُذِيبُه النارُ، وهذا كذلك. وهو قولُ طَلْحَةَ العَاقُولِيِّ. وممَّن قال: هذا شَحْمٌ. أبو يوسفَ، ومحمَّدٌ. وقال القاضِي: هو لَحْمٌ، يَحْنَثُ بأكْلِه، [ولا يَحْنَثُ بأكْلِه] (¬2) مَن حَلَف لا يَأْكُلُ شَحْمًا. وهو مذهبُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 27/ 285. (¬2) سقط من: الأصل، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى شَحْمًا, ولا بائِعُه شَحّامًا, ولا يُفْرَدُ عن اللَّحْمِ (¬1) مع الشَّحْمِ، ويُسَمَّى بائِعُه لَحَّامًا، ويُسَمَّى لَحْمًا سَمِينًا, ولو وَكَّلَ في شِراءِ لَحْمٍ، فاشْتَراه الوَكِيلُ، لَزِمَه، ولو اشْتَراه الوَكِيلُ في شِراءِ الشَّحْمِ، لم يَلْزَمْه. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَو الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (¬2). ولأنَّه يُشْبِهُ الشَّحْمَ (¬3) في صِفتِه وذَوْبه، ويُسَمَّى دُهْنًا، فكان شَحْمًا كالذي في البَطْنِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لا يُسَمَّى شَحْمًا، ولا أنَّه يُسَمَّى بمُفْرَدِه لَحْمًا، وإنَّما يُسَمَّى اللَّحْمُ الذي هو عليه لَحْمًا سَمِينًا, ولا يُسَمَّى بائِعُه شَحَّامًا؛ لأنَّه لا يُباعُ بمُفْرَدِه، وإنَّما يُباعُ تَبَعًا للَّحْمِ، وهو تابعٌ له في الوُجُودِ والبَيعِ، فلذلك سُمِّيَ بائِعُه لَحَّامًا، ولم يُسَمَّ شَحَّامًا؛ لأنَّه سُمِّيَ بما هو الأصْلُ دونَ التَّبَعِ. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ولا يحنث». (¬2) سورة الأنعام 146. (¬3) في م: «اللحم».

4735 - مسألة: (وإن أكل المرق، لم يحنث. وقد قال أحمد: لا يعجبني. قال أبو الخطاب: هذا على سبيل الورع)

وَإنْ أكَلَ الْمَرَقَ، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَدْ قَال أحْمَدُ: لا يُعْجِبُنِي. قَال أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4735 - مسألة: (وإن أكَلَ المَرَقَ، لم يَحْنَثْ. وقد قال أحمدُ: لا يُعْجِبُنِي. قال أبو الخَطَّابِ: هذا على سَبِيلِ الوَرَعِ) وقال ابنُ أبي موسى، والقاضِي: يَحْنَثُ؛ لأنَّ المرَقَ لا يَخْلُو مِن أجْزاءِ اللَّحْمِ الذَّائِبَةِ فيه، وقد قيلَ: المَرَقُ أحَدُ اللَّحْمَين. ولَنا، أنَّه ليس بلَحْمٍ حَقِيقَةً، ولا يُطْلَقُ عليه اسْمُ اللَّحْمِ، فلم يَحْنَثْ به، كالكَبِدِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ أجْزاءَ اللَّحْم فيه، وإنَّما فيه ماءُ اللَّحْمِ ودُهْنُه، وليس ذلك بلَحْمٍ. وأمَّا المَثَلُ، فإنَّما أُرِيدَ به المَجازُ، كما في نَظائِرِه، مِن قَوْلِهم: الدُّعاءُ أحَدُ الصَّدَقَتَين، وقِلَّةُ العِيالِ أحدُ اليَسارَين. وهذا دَليلٌ على أنَّها ليست بلَحْمٍ؛ لأنَّه جَعَلَها غيرَ اللَّحْمِ الحَقِيقِيِّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنْ أكَلَ رَأسًا [أو كُراعًا] (¬1)، [فقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه رُوِيَ عنه ما يَدُلُّ على [أنَّ] (¬2) مَن حَلَف لا يَشْتَرِي لَحْمًا، فاشْتَرَى رَأْسًا أو (¬3) كُراعًا] (¬4)، لا يَحْنَثُ، إلَّا أن يَنْويَ لا يَشْتَرِي مِن الشَّاةِ شيئًا. قال القاضي: لأنَّ إطْلاقَ اسْمِ اللَّحْمِ لا يَتَناوَلُ الرُّءُوسَ والكَوَارِعَ، ولو وَكَّلَه في شِراءِ لَحْمٍ، فاشْتَرَى رَأْسًا أو كُراعًا (¬5)، لم يَلْزَمْه، ويُسَمَّى بائِعُ ذلك رَوَّاسًا, ولا يُسَمَّى لَحَّامًا. وقال أبو الخطَّابِ: يَحْنَثُ بأكْلِ لَحْمِ الخَدِّ؛ لأنَّه لحمٌ حَقِيقَةً. وحُكِيَ عن ابنِ أبي موسى أنَّه لا يَحْنَثُ حتَّى يَنْويَه باليَمِينِ. وإن أَكَلَ اللِّسانَ، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه لحمٌ حَقِيقَةً. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه مُنْفَرِدٌ عن اللَّحْمِ باسْمِه وصِفَتِه، فأَشْبَهَ القَلْبَ. ¬

(¬1) في الأصل: «وكراعا» وفي ق: «أو كارعا». (¬2) سقط من النسخ، وانظر: المغني 13/ 600. (¬3) في الأصل: «و». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) في ق، م: «كارعا».

4736 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل الشحم، فأكل شحم الظهر، حنث)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ، فَأكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4736 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْكُلُ الشَّحْمَ، فأكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ، حَنِثَ) ظاهِرُ هذا، أنَّ الشَّحْمَ كلُّ ما يَذُوبُ بالنارِ ممَّا في الحَيوانِ، وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وظاهِرُ الآيَةِ، والعُرْفُ يَشْهَدُ لذلك. وهو ظاهِرُ قولِ أبي الخَطَّابِ، وطَلْحَةَ العَاقُولِيِّ، [وهو قَوْلُ] (¬1) أبي يوسف، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وقال القاضي: الشَّحْمُ هو (¬2) الذي يكونُ في الجَوْفِ، مِن شَحْمِ الكُلَى أو غيره، وإن أكَلَ مِن كلِّ شيءٍ مِن الشَّاةِ، مِن لَحْمِها الأحْمَرِ والأبيَضِ، والأَلْيَةِ، والكَبِدِ، والطِّحالِ، والقَلْبِ، فقال شيخُنا -يعني ابنَ حامِدٍ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ اسْمَ الشَّحْمِ لا يَقَعُ عليه. وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. وقد سَبَق الكَلامُ في أنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ والجَنْبِ شَحْمٌ، فيَحْنَثُ به. فأمَّا إن أكَلَ اللَّحْمَ الأحْمَر وَحْدَه، ولم يَظْهَرْ فيه شيءٌ مِن الشَّحْمِ، فقال الخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «وقول». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّا قد ذَكَرْنا أنَّ الشَّحْمَ كلُّ ما يَذُوبُ بالنارِ، ولا يَكادُ اللَّحْمُ يَخْلُو مِن شيءٍ منه وإن قَلَّ، فيَحْنَثُ به، ولأنَّه يَظْهَرُ في الطَّبْخِ، فيَبِينُ على وَجْهِ المَرَقِ وإن قَلَّ، وهذا يُفارِقُ مَن حَلَف لا يَأْكُلُ سَمْنًا، فأكَلَ خَبِيصًا (¬1) فيه سَمْنٌ لا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه ولا لَوْنُه، فإنَّ هذا يَظْهَرُ الدُّهْنُ فيه. وقال غيرُ الخِرَقِيِّ مِن أصحابِنا: لا يَحْنَثُ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى شَحْمًا, ولا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه ولا لَوْنُه، والذي يَظْهَرُ في المَرَقِ قد فارَقَ اللَّحْمَ، فلا يَحْنَثُ بأكْلِ اللَّحْمِ الذي كان فيه. فصل: ويَحْنَثُ بالأكْلِ مِن الألْيَةِ، في ظاهِرِ كلامِ الخِرَقِيِّ ومُوافقِيه؛ لأنَّها دُهْنٌ تَذُوبُ بالنَّارِ، وتُباعُ مع الشَّحْمِ، ولا تُباعُ مع اللَّحْمِ. وعلى قولِ القاضي ومُوافقِيه: ليست شَحْمًا ولا لَحْمًا، فلا يَحْنَثُ به الحالِفُ على تَرْكِهما. فصل: إذا حَلَف لا يَأْكُلُ لَحْمًا، حَنِث بأكْلِ اللَّحْمِ المُحَرَّمِ، ¬

(¬1) الخبيص: الحلواء المخلوطة من التمر والسمن.

4737 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل لبنا، فأكل زبدا، أو سمنا، أو كشكا، أو مصلا، أو جبنا، لم يحنث. وإن حلف على الزبد

وَإنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، فَأكَلَ زُبْدًا، أوْ سَمْنًا، أو كَشْكًا، أوْ مَصْلًا، أو جُبْنًا، لَمْ يَحْنَثْ. وَإنْ حَلَفَ عَلَى الزُّبْدِ والسَّمْنِ فَأكَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَيتَةِ، والخِنْزِيرِ، والمَغْصُوبِ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيه: لا يَحْنَثُ بأكْلِ اللَّحْمِ المُحَرَّمِ بأصْلِه؛ لأنَّ يَمِينَه تَنْصَرِفُ إلى ما يَحِلُّ دونَ ما يَحْرُمُ، فلا يَحْنَثُ بما لا يَحِلُّ، كما لو حَلَف لا يَبِيعُ، فباعَ بَيعًا فاسِدًا، [لم يَحْنَثْ] (¬1). ولَنا، أنَّ هذا لَحْمٌ حَقِيقَةً وعُرْفًا، فحَنِثَ به، كالمَغْصُوبِ، وقد سَمَّاه اللهُ تعالى لَحْمًا، فقال: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (¬2). وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا حَلَف لا يَلْبَسُ ثَوْبًا، فلَبِس ثَوْبَ حَرِيرٍ. وأمَّا البَيعُ الفاسِدُ، فلا يَحْنَثُ به؛ لأنَّه ليس ببَيعٍ في الحَقِيقَةِ. 4737 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأكُلُ لَبَنًا، فأكَلَ زُبْدًا، أو سَمْنًا، أو كَشْكًا، أو مَصْلًا، أو جُبْنًا، لم يَحْنَث. وإن حَلَف على الزُّبْدِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 173، وسورة النحل 115.

لَبَنًا، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والسَّمْنِ فأكَلَ لَبَنًا، لم يَحْنَثْ) إذا حَلَف لا يَأْكلُ لَبَنًا، فأكَلَ مِن لَبَن الأنْعامِ، أو الصَّيدِ، أو لَبَنِ آدَمِيَّةٍ، حَنِثَ؛ لأنَّ الاسْمَ يَتَناوَلُه حَقِيقَةً وعُرْفًا، وسَواءٌ كان حَلِيبًا أو رائِبًا، أو مائِعًا أو مُجَمَّدًا؛ لأنَّ الجميعَ لَبَنٌ. ولا يَحْنَثُ بأكْلِ الجُبْنِ والسَّمْنِ والمَصْلِ (¬1) والأقِطِ والكَشْكِ ونحوه (¬2). وإن أكَلَ زُبْدًا، فكذلك. نَصَّ عليه. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن يُقال في الزُّبْدِ: إن ظَهَر فيه لَبَنٌ، حَنِثَ بأكْلِه، وإلَّا فلا، كما لو حَلَف لا يَأْكلُ سَمْنًا، فأكَلَ خَبِيصًا فيه سَمْنٌ. وهذا مذهبُ الشافِعِيِّ. وإن حَلَف لا يَأْكُلُ زُبْدًا، فأكَلَ سَمْنًا أو لَبَنًا لم يَظْهَرْ فيه الزُّبْدُ، لم يَحْنَث، وإن كان الزُّبْدُ فيه ظاهِرًا، حَنِثَ. وإن أكَلَ لَبَنًا، لم يَحْنَثْ. وكذلك سائِرُ ما يُصْنَعُ مِن اللَّبَنِ. [وإن حَلَف لا يَأْكُلُ سَمْنًا، فأكَلَ زُبْدًا، أو لَبَنًا، أو شيئًا ممّا يُصْنَعُ مِن اللَّبَنِ] (¬3) سِوَى السَّمْنِ، لم يَحْنَثْ. وإن أكَلَ ¬

(¬1) في م: «البصل». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّمْنَ مُنْفَرِدًا، أو في عَصِيدَةٍ، أو حَلْواءَ، أو طَبِيخٍ يَظْهَرُ فيه طَعْمُه، حَنِثَ. وكذلك إذا حَلَف لا يَأْكلُ لَبَنًا، فأكَلَ طَبِيخًا فيه لَبَنٌ، أو لا يَأْكلُ خَلًّا، فأكَلَ ظبِيخًا فيه خَلٌّ، يَظْهَرُ فيه طَعْمُه، حَنِثَ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال بعضُ أصحابِنا: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لم يُفْرِدْه بالأكْلِ. ولا يصِحُّ؛ لأنَّه أكَلَ المَحْلُوفَ عليه، وأضافَ إليه غيرَه، فحَنِثَ، كما لو أكَلَه ثم (¬1) أكَلَ غيرَه. ¬

(¬1) في م: «و».

4738 - مسألة: (وإن حلف على الفاكهة، فأكل من ثمر الشجر؛ كالجوز، واللوز، والتمر، والرمان، حنث، وإن أكل البطيخ، حنث. ويحتمل أن لا يحنث)

وَإنْ حَلَفَ عَلَى الْفَاكِهَةِ، فَأكَلَ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ؛ كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالتَّمْرِ، وَالرُّمَّانِ، حَنِثَ، وَإنْ أكَلَ الْبِطِّيخَ، حَنِثَ. وَيَحْتَمِلُ أن لَا يَحْنَثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4738 - مسألة: (وإن حَلَف على الفاكِهَةِ، فأكَلَ مِن ثَمَرِ الشَّجَرِ؛ كالجَوْزِ، واللَّوْزِ، والتَّمْرِ، والرُّمَّانِ، حَنِثَ، وإن أكَلَ البِطِّيخَ، حَنِثَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ) إذا حَلَف لا يَأْكُلُ فاكِهَةً، حَنِثَ بأكْلِ ما يُسَمَّى فاكِهَةً، وذلك كلُّ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ مِن الشَّجَرِ يُتَفَكَّهُ بها، مِن العِنَبِ، والرُّطَبِ، والرُّمَّانِ، والسَّفَرْجَلِ، والتُّفَّاحِ، والكُمَّثْرَى، والخَوخِ، والمِشْمِشِ، والأتْرُجِّ، والتُّوتِ، والنَّبقِ، والمَوْزِ (¬1)، والجُمَّيزِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ: لا يَحْنَثُ بأكْلِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ والرُّمَّانِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬2). والمعطوفُ يُغايِرُ المعطوفَ عليه. ولَنا، أنَّهما (¬3) ثَمَرَةُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ بهما (¬4)، فكانا مِن الفاكِهَةِ، ¬

(¬1) في م: «اللوز». (¬2) سورة الرَّحْمَن 68. (¬3) في النسخ: «أنها» وانظر المغني 13/ 591. (¬4) في ق، م: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ الأثْمارِ المَذْكُورَةِ (¬1)، ولأنَّهما فاكِهَةٌ في عُرْفِ الناسِ، ويُسَمَّى بائِعُهُما فاكِهانِيًّا. ومَوْضِعُ بَيعِهما دارَ الفاكِهَةِ، والأصْلُ في العُرْفِ الحَقِيقَةُ، والعَطْفُ لتَشْرِيفِهما وتَخْصِيصِهما، كقولِه تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} (¬2). وهما من الملائكةِ. فأمَّا يابِسُ هذه الفَواكِهِ؛ كالزَّبِيبِ، والتَّمْرِ، والتِّينِ، والمِشْمِشِ اليابِسِ، والإجَّاصِ ونحوها، فهو مِن الفاكِهَةِ؛ لأنَّه ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ به. ويَحْتَمِلُ أنَّه ليس منها؛ لأنَّه يُدَّخرُ، ومنه ما يُقْتاتُ، فأشْبَهَ الحُبوبَ. والزَّيتونُ ليس بفاكِهَةٍ؛ لأنَّه لا يُتَفَكَّهُ بأكْلِه، وإنَّما المقْصودُ منه [زَيتُه، وما يُؤكلُ منه] (¬3) [يُقْصَدُ به] (¬4) الأدْمُ لا التَّفَكُّهُ. والبُطْمُ (¬5) في مَعْناه؛ لأنَّ المقْصودَ زَيتُه. ويَحْتَمِلُ أنَّه فاكِهَةٌ؛ لأنَّه ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُؤْكَلُ غَضًّا ويابسًا على جِهَتِه، أشْبَه التُّوتَ. والبَلُّوطُ ليس بفاكِهَةٍ؛ لأنَّه لا يُتَفَكَّهُ به، وإنَّما يُؤكَلُ عندَ المَجاعَةِ، أو للتَّداوي. وكذلك سائِرُ ثَمَرِ الشَّجَرِ البَرِّيِّ الذي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 98. (¬3) سقط من: م. (¬4) تكملة من المغني 13/ 592. (¬5) البطم: شجرة الحبة الخضراء، ثمرتها تؤكل في الشام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُسْتَطابُ، كالزُّعْرُورِ الأحْمَرِ (¬1)، وثَمَرِ القَيقَبِ (¬2)، والعَفْصِ (¬3)، وحَبِّ الآسِ، ونحوه، إن كان فيها ما يُسْتَطابُ، كحَبِّ الصَّنَوْبَرِ ¬

(¬1) الزعرور: ثمر من ثمر البادية، يشبه النبق في خلقه، وفي طعمه حموضة. (¬2) القيقب: شجر تتخذ منه السروج. (¬3) العفص: ثمر شجرة البلوط، وهو دواء قابض مجفِّف، وربما اتخذوا منه حبرا أو صبغا.

4739 - مسألة: (ولا يحنث بأكل القثاء والخيار)

وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبُنْدُقِ، فهو فاكِهَةٌ لأَنه ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُتَفَكَّهُ به. وفي البِطِّيخِ وَجْهان؛ أحَدُهما، هو مِن الفاكِهَةِ. ذَكَرَه القاضي. وهو قول الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأَنه يَنْضَجُ ويَحْلُو، أشْبَهَ ثَمَرَ الشَّجَرِ. والثاني، لا يَحْنَثُ بأَكْلِه؛ لأنَّه ثَمَرُ بَقْلَةٍ، أشْبَه الخِيارَ. 4739 - مسألة: (ولا يَحْنَثُ بأَكْلِ القِثَّاءِ والخِيَارِ) ونَحْوه، والْقَرْعِ، والْبَاذِنْجَانِ؛ لأَنه مِن الخُضَرِ، وليس مِن الفاكِهَةِ. وكذلك ما يكونُ في الأرْضِ، كالجَزَرِ، واللِّفْتِ، والفُجْلِ، والقُلْقاسِ، والسوطَلِ (¬1) ونحوه، ليس شيءٌ مِن ذلك فاكِهَةً؛ لأنَّه لا يُسَمَّى بها, ولا هو في مَعْناها. ¬

(¬1) لم نعرفه.

4740 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل رطبا، فأكل مذنبا، حنث)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَأْكلُ رُطَبًا، فَأكَلَ مُذَنَّبًا، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4740 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْكُلُ رُطَبًا، فأَكلَ مُذَنَّبًا، حَنِثَ) وهو الذي بَدَا (¬1) فيه الإِرْطابُ مِن ذَنَبِه، وباقِيه بُسْرٌ، أو مُنَصَّفٌ، وهو الذي بعضُه بُسْرٌ وبعضُه رُطَبٌ. أو حَلَف لا يَأْكلُ بُسْرًا، فأكَلَ ذلك، حَنِثَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومحمَّدُ، والشافعيُّ. وقال أبو يوسفَ، وبعضُ أصحاب الشافعيِّ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى رُطَبًا ولا بُسْرًا (¬2). ولَنا، أنَّه أكَلَ رُطَبًا وبُسْرًا، فحَنِثَ، كما لو أكَلَ نِصْفَ رُطَبَةٍ ونِصْفَ بُسْرَةٍ مُنْفَرِدَين. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ القَدْرَ الذي أرْطَبَ رُطَبٌ، والباقِيَ بُسْرٌ، ولو أنَّه حَلَف لا يأكلُ [الرُّطَبَ، فأكَلَ القَدْرَ الذي أرْطَبَ مِن النِّصفِ، حَنِثَ، ولو حَلَف لا يَأْكلُ] (¬3) البُسْرَ، فأكَلَ البُسْرَ الذي في المُنَصَّفِ، حَنِثَ. وإن أكَلَ البُسْرَ مَن يَمِينُه على الرُّطَبِ، وأكَلَ الرُّطَبَ مَن يَمِينُه على البُسْرِ، لم يَحْنَثْ واحِدٌ منهما. وإن حَلَف واحِدٌ لَيَأْكُلَنَّ رُطَبًا، وآخَرُ لَيَأْكُلَنَّ بُسْرًا، فَأكَلَ الحالِفُ على أكْلِ ¬

(¬1) في ق، م: «بدأ». (¬2) في النسخ: «تمرًا». والمثبت كما في المغني 13/ 590. (¬3) سقط من: م.

4741 - مسألة: (وإن أكل تمرا أو بسرا)

وَإِنْ أكَلَ تَمْرًا أوْ بُسْرًا، أو حَلَفَ لَا يَأْكلُ تَمْرًا، فَأكَلَ رُطَبًا أوْ دِبْسًا أوْ نَاطِفًا، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّطَبِ ما في المُنَصَّفِ مِن الرُّطَبِ، وأكَلَ الآخَرُ باقِيَها، بَرًّا جميعًا، وإن حَلَف لَيَأْكُلَنَّ رُطَبَةً أو بُسْرَةً، أو لا يَأْكُلُ ذلك، فأكَلَ مُنَصَّفًا، لم يَبَرَّ ولم يَحْنَثْ؛ لأنَّه ليس فيه رُطَبَةٌ ولا بُسْرَةٌ. 4741 - مسألة: (وإن أكَلَ تَمْرًا أو بُسْرًا) لم يَحْنَثْ؛ لأَنه ليس برُطَبٍ (أو حَلَف لا يَأْكلُ تَمْرًا، فأكَلَ رُطَبًا أو دِبْسًا أو ناطِفًا، لم يَحْنَثْ) لأنَّه ليس بتَمْرٍ. فصل: وإن حَلَف لا يَأْكلُ تَمْرًا، فأكَلَ رُطَبًا، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يَتَناوَلْه الاسْمُ، وكذلك لو أكَلَ بُسْرًا أو بَلَحًا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. ولا نَعلمُ فيه خِلافًا. فصل: فإن حَلَف لا يَأْكلُ عِنَبًا، فأَكلَ زَبِيبًا أو دِبْسًا أو خَلًّا أو ناطِفًا، أو لا يُكَلِّمُ شابًّا، فكَلَّمَ شَيخًا، أو لا يَشْتَرِي جَدْيًا، فاشْتَرَى تَيسًا، أو لا يَضْرِبُ عَبْدًا، فضَرَبَ عَتِيقًا، لم يَحْنَثْ، بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّ اليَمِينَ تَعَلَّقَتْ بالصِّفَةِ دونَ العَينِ، ولم تُوجَدِ الصِّفَةُ، فجَرَى مَجْرَى قولِه: لا أكَلْتُ هذه التَّمْرَةَ. فأكَلَ غيرَها. فأمَّا إن عَيَّنَ المَحْلُوفَ عليه، ففيه خِلافٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى.

4742 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل أدما، حنث بأكل البيض، والشواء، والجبن، والملح، والزيتون، واللبن، وسائر ما يصطبغ به. وفي التمر وجهان)

وَإنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدْمًا، حَنِثَ بأَكْلِ الْبَيضِ، وَالشِّوَاءِ، وَالْجُبْنِ، وَالْمِلْحِ، وَالزَّيتُونِ، وَاللَّبَنِ، وَسَائِرِ مَا يُصْطبَغُ بِهِ. وفي التَّمْرِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4742 - مسألة: (وإن حَلَف لَا يَأكُلُ أُدْمًا، حَنِثَ بأكْلِ البَيضِ، والشِّوَاءِ، والجُبْنِ، والمِلْحِ، والزَّيتُونِ، واللَّبَنِ، وسائِرِ مَا يُصْطَبَغُ به. وفي التَّمْرِ وَجْهانِ) إذا حَلَف على تَرْكِ الأُدْمِ، حَنِثَ بأكْلِ كلِّ (¬1)؛ ما جَرَتِ العادَةُ بأكْل الخُبْزِ به؛ لأنَّ هذا مَعْنَى التَّأَدُّم، وسَواءٌ في هذا ما يُصْطَبَغُ (¬2) به؛ كالطَّبِيخِ (¬3)، والمَرَقِ، والخَلِّ، وَالزَّيتِ، والسَّمْنِ، والشَّيرَجِ، واللَّبَنِ، قال اللهُ تعالى: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (¬4). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ» (¬5). وقال: ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «يصطنع». (¬3) في الأصل: «كالبطيخ». (¬4) سورة المؤمنون 20. (¬5) أخرجه مسلم، في: باب فضيلة الخل والتأدم به، من كتاب الأطعمة. صحيح مسلم 3/ 1621 - 1623. وأبو داود، في: باب في الخل، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 323. والتِّرمذيّ، في: باب ما جاء في الخل، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 33. والنَّسائي، في: باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل خبزا بخل، من كتاب الإيمان والنذور. المجتبى 7/ 13. وابن ماجه، في: باب الائتدام بالخل، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1102. والدارمي، في: باب أي الإدام كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الأطعمة. سنن الدَّارمي 2/ 101. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 301، 304، 364، 371، 389، 390.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «ائْتَدِمُوا بِالزَّيتِ، وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). أو من الجامِداتِ، كالشِّواءِ والجُبْنِ والباقِلَّاءِ والزَّيتُونِ والبَيضِ. وبهذا قال الشافِعِيُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسف: ما لا يُصْطَبَغُ به فليس بأُدْم؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُرْفَعُ إلى الفَمِ مُفْرَدًا. ولَنا، ما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «سَيِّدُ الإِدَامِ اللَّحْمُ» (¬2). وقال: «سَيِّدُ أُدْمِكُمُ المِلْحُ». رَواه ابنُ ماجَه (¬3). ولأنَّه يُؤْكَلُ به الخُبْزُ عادَةً، فكان إدامًا (¬4)، كالذي يُصْطَبَغُ (¬5) به، ولأنَّ ¬

(¬1) في: باب الزيت، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1103. كما أخرجه التِّرْمِذِي، في: باب ما جاء في أكل الزيت، من أبواب الأطعمة. عارضة الأحوذي 8/ 43. والدارمي، في: باب في فضل الزيت، من كتاب الأطعمة. سنن الدَّارمي 2/ 102. والإمام أَحْمد، في: المسند 3/ 497. (¬2) بهذا اللفظ أخرجه تمام الرَّازي في «فوائده». انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 2/ 930. من حديث بريدة مرفوعًا. وعند ابن ماجه من حديث أبي الدَّرداء بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم». سنن ابن ماجه 2/ 1099. وانظر مجمع الزوائد 5/ 35، كشف الخفاء 1/ 461، 462. (¬3) في: باب الملح، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1102. وهو ضعيف، انظر كشف الخفاء 1/ 459، 458. (¬4) في م: «أدما». (¬5) في الأصل: «يصطنع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كثيرًا ممَّا ذَكَرْنا لا يُؤْكَلُ في العادَةِ وَحْدَه، إنَّما يُعَدُّ للتَّأدُّمِ به، فكان أُدْمًا (¬1)، كالخَلِّ واللَّبَنِ. وقولُهم: إنَّه يُرْفَعُ إلى الفَمِ مُفْرَدًا. عنه جوابان؛ أحَدُهما، أنَّ منه ما يُرْفَعُ مع الخُبْزِ، كالملحِ ونحوه. والثاني، أنَّهما يَجْتَمِعان في الفَمِ والمَضْغِ والبَلعِ، الذي هو حَقِيقَةُ الأكلِ، فلا يَضُرُّ افْتِراقُهُما قبلَه. وأمَّا التَّمْرُ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، هو (¬2) أُدْمٌ؛ لِما روَى يوسفُ بنُ (¬3) عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ، قال: رَأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضَع تَمْرَةً على كِسْرَةٍ، وقال: «هذِهِ (¬4) إدَامُ هذِهِ». رَواه أبو داوُدَ (¬5). وذَكَرَه الإمامُ أحمدُ. والثاني، ليس بأُدْم؛ لأنَّه لا يُؤْتَدَمُ به عادَةً، وإنَّما يُؤْكَلُ قُوتًا وحَلاوَةً، ولأنَّه فاكِهَةٌ، فأشْبَهَ الزَّبِيبَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «أنَّه». (¬3) في م: «عن». (¬4) في م: «هذا». (¬5) في: باب الرجل يحلف أن لا يتأدم، من كتاب الأيمان والنذور، وفي: باب في التمر، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 201، 325. كما أخرجه أبو يعلى في مسنده 13/ 482، من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أَبيه. وقال في مجمع الزوائد 5/ 40: وفيه يحيى بن العلاء، وهو ضعيف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا حَلَف لا يَأْكُلُ طَعامًا، حَنِثَ بأكْلِ كلِّ ما يُسَمَّى طَعامًا؛ مِن قُوتٍ، وأُدْمٍ، وحَلْواءَ، وجامِدٍ، ومائِعٍ، قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬1). وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (¬2). يَعْنِي على مَحَبَّةِ الطَّعامِ، وحاجَتِهم إليه. وقيل: على حُبِّ الله تعالى. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (¬3). وسَمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّبَنَ طَعامًا، فقال: «إنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ (¬4) ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أطْعِمَتَهُمْ» (¬5). وفي الماءِ وَجْهان؛ أحَدُهما، هو طَعامٌ؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬6). والطَّعامُ ما يُطْعَمُ، ولأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمَّى اللَّبَنَ طَعامًا، وهو ¬

(¬1) سورة آل عمران 93. (¬2) سورة الإنسان 8. (¬3) سورة الأنعام 145. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 27/ 260. (¬6) سورة البقرة 249.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْروبٌ، فكذلك الماءُ. والثاني، ليس بطَعامٍ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى طَعامًا، ولا يُفْهَمُ مِن إطْلاقِه اسْمُ الطَّعامِ، ولهذا يُعْطَفُ عليه، فيقالُ: طعامٌ وشَرابٌ. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أعْلَمُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا اللَّبَنُ». رَواه ابنُ ماجَه (¬1). ويُقالُ: بابُ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ. ولأنَّه إن كان طَعامًا في الحَقِيقَةِ، فليس بطعامٍ في العُرْفِ، فلا يَحْنَثُ بشرْبِه؛ لأنَّ مَبْنَى الأيْمانِ على العُرْفِ، لكَوْنِ الحالِفِ في الغالِبِ لا يُرِيدُ بلَفْظِه إلَّا ما يَعْرِفُه. فإن أكَلَ دَواءً، ففيه وَجْهانِ؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه يُطْعَمُ حال الاخْتِيارِ. وهو مذهبُ الشافعيِّ. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يدْخُلُ في إطْلاقِ اسْمِ الطَّعامِ، ولا يُؤْكَلُ إلَّا عندَ الضَّرُورَةِ. فإن أكَلَ مِن نَباتِ الأرْضِ ما جَرَتِ العادَةُ بأكْلِه، حَنِثَ. وإن أكلَ ما لم تَجْرِ به عادَةٌ، ¬

(¬1) في: باب اللبن، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1103. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما يقول إذا شرب اللبن، من كتاب الأشربة. سنن أبي داود 2/ 304.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كوَرَقِ الشَّجَرِ، ونُشارَةِ الخشَبِ والتُّرابِ، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحَدُهما؛ يَحْنَثُ؛ لأنَّه قد أكَلَه، فأَشْبَهَ ما جَرَتِ العادَةُ بأكْلِه، ولأنَّه رُوِيَ عن عُتْبَةَ بنِ غَزْوانَ، أنَّه قال: لقد رأَيتُنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سابِعَ سَبْعَةٍ، ما لَنا طَعامٌ إلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ (¬1)، حتَّى قَرِحَتْ أشْدَاقُنا (¬2). والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يَتَناوَلُه اسمُ الطَّعامِ في العُرْفِ. فصل: وإن حَلَف لا يَأكُلُ قُوتًا، فأكَلَ خبزًا، أو تمرًا، أو زَبِيبًا (¬3)، أو لَحْمًا، أو لَبَنًا، حَنِثَ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ مِن هذه يُقْتاتُ في بعضِ البُلْدانِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ إلا بما يَقْتاتُه أهْلُ بَلَدِه؛ لأنَّ يَمِينَه تَنْصَرِف إلى القُوتِ المُتَعارَفِ عندَهم وفي بَلَدِهم. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كَهذَين. وإن أكَلَ سَويقًا، أو اسْتَفَّ دَقِيقًا، حَنِثَ؛ لأنَّه يُقْتاتُ كذلك. ولهذا قال بعضُ اللُّصوصِ (¬4): لا تَخْبِزَا خُبْزًا وبُسَّا بَسَّا ولا تُطِيلَا بمُقامٍ حَبْسَا ¬

(¬1) الحُبْلَةُ: ثَمَر السَّمُرِ، يشبه اللوبياء. النهاية 1/ 334. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب حَدَّثَنَا قتيبة بن سعيد. . . .، من كتاب الزهد والرقائق. صحيح مسلم 4/ 2279. وابن ماجه، في: باب معيشة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1392. والإمام أَحْمد، في: المسند 4/ 174، 5/ 61. (¬3) في م: «تينا». (¬4) الرجز في: الحيوان 4/ 490، 491، الصحاح 2/ 873، مقاييس اللغة 2/ 240، اللسان والتاج (خ ب ز) وفيهما: «نُسَّا نَسَّا» واللسان (ب س س) انظر معجم الشعراء 476، والمخصص 7/ 127.

4743 - مسألة: (وإن حلف لا يلبس شيئا، فلبس ثوبا، أو درعا، أو جوشنا، أو خفا، أو نعلا، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيئًا، فَلَبِسَ ثَوْبًا، أَوْ دِرْعًا، أَوْ جَوْشَنًا، أو خُفًّا، أو نَعْلًا، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أكَلَ حَبًّا يُقْتاتُ خُبْزُه، حَنِثَ، ولذلك رُوِيَ أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَدَّخِرُ قُوتَ عِيالِه سَنَةً (¬1). وإنّما يُدَّخَرُ (¬2) الحَبُّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنّه لا يُقْتاتُ كذلك. وإن أكلَ عِنَبًا، أو حِصْرِمًا (¬3)، أو خَلًّا، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يَصِرْ قُوتًا. 4743 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَلْبَسُ شَيئًا، فلَبِسَ ثَوْبًا، أو دِرْعًا، أو جَوْشَنًا، أو خُفًّا، أو نَعْلًا، حَنِثَ) وكذلك إن لَبِسَ عِمامَةً، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 27/ 276. (¬2) في م: «يريد». (¬3) الحصرم: أول العنب ما دام حامضًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو قَلَنْسُوَةً. وقال أصحابُ الشافعيِّ: في الخُفِّ والنَّعْلِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ. ولَنا، أَنه مَلْبُوسٌ حَقِيقَةً وعُرْفًا، فَحَنِثَ به (¬1)، كالثِّيابِ، وفي الحديثِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أهْدَى إليه النَّجاشِيُّ خُفَّينِ، فلَبِسَهُما (¬2). وقيل لابنِ عمرَ: إنَّكَ تَلْبَسُ هذه النِّعال؟ فقال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُهُما (¬3). فإن تَرَكَ القَلَنْسُوَةَ في رِجْلِه، أو أدْخَلَ يَدَه في الخُفِّ أو النَّعْلِ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ ذلك ليس بلُبْسٍ لهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب المسح على الخفين، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 34. والترمذي، في: باب ما جاء في الخفّاف السود، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي 10/ 260. وابن ماجه، في: باب ما جاء في المسح على الخفين، من كتاب الطهارة، وفي: باب الخفّاف السود، من كتاب اللباس. سنن ابن ماجه 1/ 182، 2/ 1196. والإمام أَحْمد، في: المسند 5/ 352. (¬3) انظر ما أخرجه البُخَارِيّ، في: باب غسل الرجلين في النعلين. . . .، من كتاب الطهارة. صحيح البُخَارِيّ 1/ 53. ومسلم، في: باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 844، 845. وأبو داود، في: باب في وقت الإحرام، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 410، 411. والنَّسائي، في: باب الوضوء في النعل، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 68، 69. والإمام مالك، في: باب العمل في الإهلال، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 333. والإمام أَحْمد، في: المسند 2/ 17، 66، 110.

4744 - مسألة: (وإن حلف لا يلبس حليا، فلبس حلية ذهب أو فضة أو جوهر، حنث، وإن لبس عقيقا أو سبجا

وَإنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَلْيًا، فَلَبِسَ حِلْيَةَ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ أو جَوْهَرٍ، حَنِثَ، وَإنْ لَبِسَ عَقِيقًا أو سَبَجًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإن لَبِسَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ في مُرْسَلَةٍ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4744 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَلْبَسُ حَلْيًا، فلَبِس حِلْيَةَ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ أو جَوْهَرٍ، حَنِثَ، وإن لَبِس عَقِيقًا أو سَبَجًا (¬1)، لم يَحْنَثْ، وإن لَبِسَ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ في مُرْسَلَةٍ، فعلى وَجْهَين) إذا لَبِس (¬2) حلْيَةَ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، حَنِثَ، فإن لَبِسَ خَاتَمًا مِن فِضَّةٍ، أو مِخْنَقَةً مِن لُؤْلُؤٍ، أو جَوْهَرٍ وَحْدَه، حَنِثَ. وبه قال الشَّافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه ليس بحَلْيٍ وَحْدَه. ولَنا، قولُ الله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬3). وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاورَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} (¬4). وجاءَ في الحديثِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو (¬5)، أنَّه قال: ¬

(¬1) السبج: خرز أسود. (¬2) في م: «حلف لا يلبس حليا، فلبس». (¬3) سورة النحل 14. (¬4) سورة الحج 23. (¬5) في م: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال اللهُ تعالى للبَحْرِ الشَّرْقِيِّ: إنِّي جاعِلٌ فيك الحِلْيَةَ والصَّيدَ والطِّيبَ (¬1). ولأنَّ الفِضَّةَ حَلْيٌ إذا كانت سِوارًا أو خَلْخالًا، فكانتْ حَلْيًا إذا كانت خَاتَمًا، كالذَّهَبِ، والجَوْهَرُ، واللُّوْلُؤُ حَلْيٌ مع غيرِه، فكان حَلْيًا وَحْدَه، كالذَّهَبِ. وإنْ لَبِسَ عَقِيقًا، أو سَبَجًا، لم يَحْنَثْ. وقال الشافعيُّ: إن كان مِن أهْلِ السَّوادِ، حَنِثَ (¬2). وفي غيرِهم وَجْهان؛ لأنَّ هذا حَلْيٌ في عُرْفِهم. ولَنا، أنَّ هذا ليس بِحَلْيٍ، فلا يَحْنَثُ به، كالوَدَعِ، وخرَزِ الزجاجِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالوَدَع. وإن لَبِسَ الدَّراهِمَ والدَّنانيرَ في مُرْسَلَةٍ، فعلى وَجْهَين؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه ليس بحَلْيٍ إذا لم يَلْبَسْه، فكذلك إذا لَبِسَه. والثاني، يَحْنَثُ؛ لأنَّه ذَهَبٌ وفِضَّةٌ لَبِسَه، فكان حَلْيًا، كالسِّوارِ والخَاتَمِ. وإن لَبِسَ سَيفًا مُحَلًّى، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ السَّيف ليس بحَلْيٍ. وإن لَبِسَ مِنْطَقَةً مُحَلَّاةً، ففيه ¬

(¬1) عزاه في الدر المنثور لابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو عن كعب الْأَحبار. الدر المنثور 4/ 113. (¬2) في المغني 13/ 562: «بر». والصواب ما هنا، وانظر المجموع 19/ 315 - 317.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ الحِلْيَةَ لها دُونَه، فأشْبَهَتِ السَّيفَ المُحَلَّى. والثاني، يَحْنَثُ؛ لأنَّها مِن حَلْيِ الرِّجالِ، ولا يُقْصَدُ بلُبْسِها مُحَلَّاةً في الغالِب إلَّا التَّجَمُّلُ بها. وإن حَلَف لا يَلْبَسُ خاتَمًا، فلَبسَه في غيرِ الخِنْصَرِ مِن أَصابِعِه، حَنِثَ. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ اليَمِينَ تَقْتَضِي لُبْسًا مُعْتادًا، وليس هذا مُعْتادًا، فأشْبَهَ ما لو أدْخَلَ القَلَنْسُوَةَ في رِجْلِه. ولَنا، أنَّه لابِسٌ لِما حَلَف على تَرْكِ لُبْسِه، فأشْبَهَ ما لو ائْتَزَرَ بالسَّراويلِ، وأمَّا إدْخالُ القَلَنْسُوَةِ في رِجْلِه، فهو عَبَثٌ وسَفَهٌ، بخِلافِ هذا، فإنَّه لا فرْقَ بينَ الخِنْصَرِ وغيرِها، إلَّا مِن حيثُ الاصْطِلاحُ على تَخْصِيصِه بالخِنْصَرِ.

4745 - مسألة: (وإن حلف لا يركب دابة فلان، ولا يلبس ثوبه، ولا يدخل داره، فركب دابة عبده، ولبس ثوبه، ودخل داره، أو فعل ذلك فيما استأجره فلان، حنث، وإن ركب دابة استعارها، لم يحنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ، وَلَا يَدْخُلُ دَارَهُ، فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِهِ، وَلَبِسَ ثَوْبَهُ، وَدَخَلَ دَارَهُ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا اسْتَأْجَرَهُ فُلَانٌ، حَنِثَ، وَإِنْ رَكِبَ دَّابةً اسْتَعَارَهَا، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4745 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَرْكَبُ دابَّةَ فُلَانٍ، ولا يَلْبَسُ ثَوْبَه، ولا يَدْخُلُ دَارَه، فرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِه، ولَبِسَ ثَوْبَه، ودَخَل دَارَه، أو فَعَل ذلك فيما اسْتَأجَرَه فُلَانٌ، حَنِثَ، وإن رَكِبَ دَابَّةً اسْتَعارَها، لم يَحْنَثْ) إذا حَلَف لا يَدْخُلُ دارَ فُلانٍ، فدَخَلَ دارًا مَمْلُوكَةً له، أو دارًا يَسْكُنُها بأُجْرَةٍ أو عارِيَّةٍ أو غَصْبٍ، حَنِثَ. وبذلك قال أبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ إلَّا بدُخولِ دارٍ يَمْلِكُها؛ لأنَّ الإِضافَةَ في الحَقِيقَةِ إلى المالِكِ، بدليلِ أنَّه لو قال: هذه الدَّارُ لفُلانٍ. كان مُقِرًّا له بمِلْكِها. ولو قال: إنَّه يَسْكُنُها. لم يُقْبَلْ. ولَنا، أنَّ الدَّارَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُضافُ إلى ساكِنِها، كإضافَتِها إلى مالِكِها، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (¬1). وأرادَ بُيوتَ أزْواجِهِنَّ اللَّائي يَسْكُنَّها. وقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (¬2). ولأنَّ الإضافَةَ للاخْتِصاصِ، ولذلك يُضافُ الرجلُ إلى أخِيه بالأُخُوَّةِ، وإلى أُمِّه بالبُنُوَّةِ، وإلى وَلَدِه بالأُبُوَّةِ، وإلى امْرَأتِه بالزَّوْجِيَّةِ، وساكِنُ الدَّارِ مُخْتَصٌّ بها، فكانت إضافَتُها إليه صَحِيحَةً، وهي مُسْتَعْمَلَة في العُرْفِ، فوَجَبَ أن يَحْنَثَ بدُخُولِها، كالمَمْلُوكَةِ له. وقولُهم: هذه الإِضافَةُ مَجازٌ. مَمْنُوعٌ، بل هي حَقِيقَةٌ؛ لِما ذَكَرْناه، ولو كانت مَجازًا، لكنَّه مَشْهُورٌ، فيَتَناوَلُه اللَّفْظُ, كما لو حَلَف: لا شَرِبْتُ مِن رَاويَةِ فُلانٍ. فإنَّه يَحْنَث بالشُّرْبِ مِن مَزادَتِه. أمَّا الإِقْرارُ، فإنَّه لو قال: هذه دارُ زَيدٍ. وفَسَّرَ إقْرارَه بسُكْناها، احْتَمَلَ أن نقولَ (¬3): يُقْبَلُ تَفْسِيرُه. وإن سَلَّمْنا، فإنَّ قَرِينَةَ الإِقْرارِ تَصْرِفُه إلى المِلْكِ، وكذلك لو حَلَف: لا دَخَلْتُ مَسْكَنَ زَيدٍ. حَنِثَ بدُخُولِه الدَّارَ التي يَسْكُنُها. ولو قال: هذا المَسْكَنُ لزَيدٍ. كان مُقِرًّا له به. ولا خِلافَ في هذه المسألةِ، وهي نظِيرَةُ مسألتِنا. ¬

(¬1) سورة الطلاق 1. (¬2) سورة الأحزاب 33. (¬3) في م: «لا».

4746 - مسألة: (وإن حلف لا يركب دابة فلان، فركب دابة استعارها، لم يحنث، وإن ركب دابة استأجرها، حنث)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن رَكِب دابَّةَ عَبْدِه، أو لَبِس ثَوْبَه، أو دَخَل دارَه، حَنِثَ؛ لأنَّ ما في يَدِ العَبْدِ لسَيِّدِه، فهو كالذي في يَدِه؛ لأنَّه مالكٌ لمنافِعِها، بخلافِ المُسْتَعِيرِ. 4746 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَرْكَبُ دابَّةَ فُلانٍ، فرَكِبَ دابَّةً اسْتعارَها، لم يَحْنَثْ، وإن رَكِب دابةً اسْتَأْجَرَها، حَنِث) وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، ولا نَعْلَمُ فيه خلافًا، فيما إذا حَلَف لا يَدْخُلُ دارَ زيدٍ، فدَخَل دارَ عبدِه؛ لأنَّ دارَ العَبْدِ مِلْكٌ للسَّيِّدِ. فإنْ حَلَفَ لا يَلْبَسُ ثَوْبَ السَّيِّدِ، ولا يَرْكَبُ دابَّتَه، فلَبِس ثَوْبَ عَبْدِه، ورَكِبَ دابَّتَه، حَنِثَ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ العَبْدَ بهما أخَصُّ. ولَنا، أنَّهما مَمْلُوكانِ للسَّيِّدِ، فتَناوَلَتْهُما يَمِينُ الحالِفِ، كالدَّارِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالدَّارِ. وهكذا ذَكَرَه أبو الخطَّابِ. ولو رَكِب دَابَّةً غَصَبَها فُلانٌ، لم يَحْنَثْ. وفارَقَ مَسْألَةَ الدَّارِ؛ فإنَّه لم يَحْنَثْ في الدَّارِ لكَوْنِه

4747 - مسألة: (وإن حلف لا يركب دابة عبده، فركب دابة جعلت برسمه، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ عَبْدِهِ، فَرَكِبَ دَابَّةً جُعِلَتْ بِرَسْمِهِ، حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَدَخَلَ سَطْحَهَا، حَنِثَ، وَإِنْ دَخَلَ طَاقَ الْبَابِ، احْتَمَلَ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَعارَها ولا غَصَبَها، وإنَّما حَنِثَ [لسُكْناهُ بها] (¬1)، فأُضِيفَتِ الدَّارُ إليه لذلك. ولو غَصَبَها أو اسْتَعارَها مِن غيرِ أن يَسْكُنَها، لم تَصِحَّ إضافَتُها إليه، فلا يَحْنَثُ الحالِفُ، فيكونُ كمُسْتَعِيرِ الدَّابَّةِ وغاصِبِها. 4747 - مسألة: (وإن حَلَف لَا يَرْكَبُ دابَّةَ عَبْدِه، فرَكِب دابَّةً جُعِلَتْ برَسْمِه، حَنِثَ) وكذلك إن حَلَف لا يَدْخُلُ دارَ هذا العَبْدِ، ولا يَلْبَسُ ثَوْبَه. وعندَ الشافعيِّ لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ شيئًا مِن ذلك، والإِضافَةُ تَقْتَضِي المِلْكَ. وقد قَدَّمْنا الكلامَ معه فيما مَضَى. ونَخُصُّ هذا الفَصْلَ (¬2) بأنَّ المِلْكِيَّةَ لَا تُمْكِنُ ههُنا، فلا تَصِحُّ الإِضافَةُ بمَعْناها، فتَعَيَّنَ حَمْلُ الإِضافَةِ ههُنا على إضافَةِ الاخْتِصاصِ دونَ المِلْكِ. 4748 - مسألة: (وإن حَلَف لَا يَدْخُلُ دَارًا، فدَخَلَ سَطْحَها، حَنِثَ، وإن دخلَ طاقَ البابِ، احْتَمل وَجْهَين) إذا حَلفَ لا يَدخلُ دارًا ¬

(¬1) في الأصل: «لسكناها». وفي م: «لسكناه فيها». (¬2) في الأصل: «الفعل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرَقِي فوقَ (¬1) سطحِها، حَنِثَ. وبه قال مالكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْي. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ. ولأصْحابِه فيما إذا كان السَّطْحُ مُحَجَّرًا وَجْهان، واحْتَجُّوا بأنَّ السَّطْحَ يَقِيها الحَرَّ والبَرْدَ، ويُحْرِزُها، فهو كحِيطانِها. ولَنا، أنَّ سَطْحَ الدَّارِ منها، وحُكْمُه حُكْمُها، فحَنِثَ بدُخولِه، كالمُحَجَّرِ، أو كما لو دَخَل بينَ حِيطانِها، ودَليلُ ذلك، أنَّ الاعْتِكافَ يَصِحُّ في سَطْحِ المَسْجِدِ ويُمْنَعُ الجُنُبُ من اللُّبْثِ فيه، ولو حَلَف ليَخْرُجَنَّ مِن الدَّارِ، فصَعِدَ سَطْحَها, لم يَبَرَّ، ولو حَلَف أن لا يَخْرُجَ منها، فصَعِدَ سَطْحَها، لم يَحْنَثْ، ولأنَّه داخِلٌ في حُدودِ الدَّارِ، ومَمْلُوكٌ لصاحِبِها، ويُمْلَكُ بشِرائِها، ويَخْرُجُ مِن مِلْكِ صاحِبِها ببَيعِها، والبائِتُ عليه، يقالُ: باتَ في دارِه. وبهذا يُفارِق ما وراءَ حائِطِها. فإن كان في ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اليَمِينِ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ أو حالِيَّةٌ تَقْتَضِي اخْتِصاصَ الإِرادَةِ بداخِلِ الدَّارِ، مثلَ أن يكونَ سَطْحُ (¬1) الدَّارِ طَرِيقًا، وسَبَبُ يَمِينِه يَقْتَضِي تَرْكَ وُصْلَةِ أهْلِ الدَّارِ، لم يَحْنَثْ بالمُرُورِ على سَطْحِها، وكذلك إن نَوَى بيَمِينِه باطِنَ الدَّارِ، تَقَيَّدَتْ يَمِينُه بما نَوَاه؛ لأنَّه ليس للمَرءِ إلَّا ما نَوَى. وإن دَخَل طاقَ البابِ، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه دَخَل في حَدِّها. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى داخِلًا. وقال القاضي: إذا قامَ على العَتَبَةِ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ البابَ إذا أُغْلِقَ حصَلَ خارِجًا منها، ولا يُسَمَّى داخِلًا فيها. فصل: فإن تَعَلَّقَ بغُصْنِ شَجَرَةٍ في الدَّارِ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يَدْخُلْها، فإن صَعِدَ حتى صارَ في مُقابَلَةِ سَطْحِها بينَ حِيطانِها، حَنِثَ. ¬

(¬1) في م: «بسطح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يَنْزِلْ بينَ حِيطانِها، احْتَمَلَ أن (¬1) يَحْنَثَ؛ لأنَّه في هَوائِها، وهَواؤُها مِلْكٌ لصاحِبِها، فأشْبَهَ ما لو قامَ على سَطْحِها، واحْتَمَلَ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى داخلًا، ولا هو على شيءٍ مِن أجْزائِها، وكذلك لو كانتِ الشَّجَرَةُ في غيرِ الدَّارِ, فتَعَلَّقَ بفرْعٍ مَادَ على الدَّارِ في مُقابَلَةِ سَطْحِها. وإن قامَ على حائِطٍ، احْتَمَلَ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يَحْنَث. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّه داخِلٌ في حَدِّها، فأشْبَهَ القائِمَ على سَطْحِها. والثاني، لا يَحْنَث؛ لأنَّه لا يُسَمَّى دُخُولًا. فصل: وإن حَلَف لا يَضَعُ قَدَمَه في الدَّارِ، فدَخَلها راكِبًا أو ماشِيًا، أو حافِيًا أو مُنْتَعِلًا، حَنِثَ, كما لوَ حَلَف لا يَدْخُلُها. وبهذا قال أصحابُ الرَّأْي. وقال أبو ثَوْرٍ: إن دَخَلها راكِبًا، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يَضَعْ قَدَمَه فيها. ولَنا، أنَّه قد دَخَل الدَّارَ, فَحَنِثَ (¬2) , كما لو دَخَلها ماشِيًا، ولا نُسَلِّمُ أنَّه لم يَضَع قَدَمَه فيها، فإنَّ قَدَ مَوْضُوعَةٌ على الدَّابَّةِ فيها، فأشْبَهَ ما لو دَخَلها مُنْتَعِلًا. وعلى أنَّ هذا في العُرْفِ عِبارَةٌ عن اجْتِنابِ الدُّخُولِ، فتُحْمَلُ عليه يَمِينُه. فإن قيلَ: هذا مَجازٌ لا تُحْمَلُ اليَمِينُ عليه. قُلْنا: المَجازُ إذا اشْتَهَرَ، صارَ مِن الأسْماءِ العُرْفِيَّةِ فيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ بإطْلاقِه إليه، كلفظِ الرَّاويَةِ والدّابَّةِ وغيرِهما. ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) بعده في الأصل: «أشبه».

4749 - مسألة: (وإن حلف لا يكلم إنسانا، حنث بكلام كل إنسان)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إِنْسَانًا، حَنِثَ بِكَلَامِ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَإِنْ زَجَرَهُ فَقَال: تَنَحَّ، أَو: اسْكُتْ. حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4749 - مسألة: (وإن حَلَف لا يُكَلِّمُ إنْسَانًا، حَنِثَ بكَلَامِ كلِّ إنسانٍ) لأنَّه فَعَل المَحْلُوفَ عليه (فإن زَجَرَه، فقال: تَنَحَّ، أو: اسْكُتْ. حَنِثَ) لأنَّه كَلَّمه. وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: لا يَحْنَثُ بالقَليلِ؛ لأنَّ هذا تَمامُ الكلامِ الأوَّلِ، والذي يَقْتَضِيه يَمِينُه أن لا يُكَلِّمَه كَلامًا مُسْتَأْنَفًا. ولَنا، أنَّ هذا القليلَ كَلامٌ منه له حَقِيقَةً، وقد وُجِدَ بعدَ يَمِينِه، فيَحْنَثُ به, كما لو فَصَله، ولأنَّ ما يَحْنَثُ به إذا فَصَلَه، [يَحْنَثُ به إذا وَصَلَه] (¬1)، كالكثيرِ (¬2). وقِوْلُهم: إنَّ اليَمِينَ تَقْتَضِي خِطابًا مُسْتَأْنَفًا. قُلْنا: هذا الخِطابُ مُسْتَأْنَفٌ، وهو غيرُ الأوَّلِ، بدَليلِ أنَّه لو قَطَعه حَنِث به. قال شيخُنا (¬3): وقياسُ المذهبِ أنَّه لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ قَرِينَةَ صِلَتِه هذا الكلامَ بيَمِينِه، تدُلُّ على إرادَةِ كلام يَسْتَأْنِفُه بعدَ انْقِضاءِ هذا الكلامِ المُتَّصِلِ، فلا يَحْنَثُ, كما لو وُجِدَتِ النِّيَّةُ حَقِيقَةً. وإن نَوَى كلامًا غيرَ هذا، لم يَحْنَثْ بهذا في المَذْهَبَين. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «كالكبير». (¬3) في: المغني 13/ 616.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن صَلَّى بالمَحْلوفِ إمامًا، ثم سَلَّم من الصلاةِ، لم يَحْنَثْ. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال أصحابُ الشافعيِّ: يَحْنَثُ؛ لأنَّه شُرِعَ له أن يَنْويَ السَّلامَ على الحاضِرِين. ولَنا، أنَّه قَوْلٌ مَشْرُوعٌ في الصلاةِ، فلم يَحْنَث به، كتَكْبِيرِها، وليست نِيَّةُ الحاضِرِين بسَلامِه واجِبَةً في السَّلامِ. وإن أُرْتِجَ في الصلاةِ، ففَتَح عليه الحالِفُ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ ذلك كلامُ اللهِ تعالى، وليس بكلامِ الآدَمِيِّين.

4750 - مسألة: (وإن حلف لا يبتدئه بكلام، فتكلما معا، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبْتَدِئُهُ بِكَلَامٍ فَتَكَلَّمَا مَعًا، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4750 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَبْتَدِئُه بكَلامٍ، فتَكَلَّما معًا، حَنِثَ) لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما مُبْتَدِئٌ، إذ لم يتَقَدَّمْ كلامُه كلامَ سِوَاه. فصل: وإن كاتَبَه، أو أرْسَلَ إليه رَسُولًا، حَنِثَ، إلَّا أن يكونَ أرادَ أن لا يُشافِهَه. وهذا قول أكثرِ (¬1) الأصحاب، ومذهبُ مالكٍ، والشَّافعيِّ في القَدِيمِ. وقد رَوَى الأثْرَمُ وغيرُه عن أَحمدَ، في رجلٍ حَلَف أن لا يُكَلِّمَ رجلًا، فكَتَب إليه كِتابًا؟ قال: وأيُّ شيءٍ كان سَبَبَ ذلك؟ إنَّما نَنْظُرُ إلى سَبَبِ يَمِينِه، ولِمَ حَلَف؟ إنَّ الكِتابَ يَجْرِي مَجْرَى الكلامِ، وقد يكونُ بمَنْزِلَةِ الكلامِ في بعضِ الحالاتِ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [يَحْنَثُ بالكتابِ، إلَّا أن تكونَ نِيَّتُه أو سَبَبُ يَمِينِه يَقْتَضِي هِجْرَانَه، وتَرْكَ صِلَتِه، فإن لم يَكُنْ كذلك، لم] (¬1) يَحْنَثْ بكِتابٍ ولا رَسُولٍ؛ لأنَّ ذلك ليس بتَكْلِيمٍ في الحَقِيقَةِ، ولهذا (¬2) يَصِحُّ نَفْيُه، فيُقالُ: ما كَلَّمْتُه، إنَّما كاتَبْتُه، أو: راسَلْتُه. ولذلك قال اللهُ تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (¬3). وقال: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلَامِي} (¬4). وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬5). ولو كانتِ الرِّسالةُ تَكْلِيمًا، لشارَك (¬6) مُوسى غيرُه من الرُّسُلِ، ولم يَخْتَصَّ بكَوْنِه كَلِيمَ اللهِ ونَجيَّه. وقد قال أحمدُ، حينَ ماتَ بِشْرٌ الحافِي: لقد كان فيه أُنْسٌ، وما كَلَّمْتُه قَطُّ. وقد كانت بينهما مُراسَلَةٌ. وممَّن قال: لا يَحْنَثُ بهذا. الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وابنُ المُنْذِرِ، والشافعيُّ في الجَدِيدِ. واحْتَجَّ أصحابُنا بقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (¬7). فاسْتَثْنَى الرسولَ التَّكْلِيم (¬8)، والأصْلُ أن يكون ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «هذا». (¬3) سورة البقرة 253. (¬4) سورة الأعراف 144. (¬5) سورة النساء 164. (¬6) في الأصل: «لتساوي». (¬7) سورة الشورى 51. (¬8) في م: «التكلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُسْتَثْنَى مِن جِنْسِ المُسْتَثْنَى منه، ولأنَّه وُضِعَ (¬1) لإِفْهامِ الآدَمِيِّين، أشْبَهَ الخِطابَ. والصَّحِيحُ أنَّ هذا ليس بتَكْلِيمٍ، وهذا الاسْتِثْناءُ [في هذا] (¬2) مِن غيرِ الجِنْسِ، كما قال في الآيةِ الأُخْرَى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} (¬3). والرَّمْزُ ليس بتَكْلِيمٍ. لكن إن نَوَى تَرْكَ مُواصَلَتِه، أو كان سَبَبُ يَمِينِه يَقتَضِي هِجْرانَه، حَنِثَ، ولذلك قال أحمدُ: إنَّ الكتابَ يَجْرِي مَجْرَى الكلامِ، وقد يكونُ بمَنْزِلَةِ الكلامِ. فلم يَجْعَلْه كَلامًا، إنَّما قال هو بمَنْزِلَتِه في بعضِ الحالاتِ إذا كان السَّبَبُ يَقْتَضِي ذلك. وإذا أطْلَقَ، احْتَمَلَ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنَّه لم يُكَلِّمْه. واحْتَمَلَ أن يَحْنَثَ؛ لأنَّ الغالِبَ من الحالِفِ بهذه اليَمِينِ تَرْك (¬4) قَصْدِ المُواصَلَةِ، فتَتَعَلَّقُ يَمِينُه بما يُرادُ في الغالِبِ. فصل: وإن أشارَ إليه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ. قاله القاضي؛ [لأنَّه في مَعْنى المُكاتَبَةِ والمُراسَلَةِ في الإِفْهامِ. والثاني، لا يَحْنَثُ، ذَكَرَه أبو الخطابِ] (¬5)؛ لأنَّه ليس بكَلامٍ (¬6)، قال اللهُ تعالى لمريمَ ¬

(¬1) في م: «موضوع،. (¬2) زيادة من: الأصل. (¬3) سورة آل عمران 41. (¬4) سقط من: م. (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «بكلامه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها السَّلامُ: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. إلى قولِه: {فَأَشَارَتْ إِلَيهِ} (¬1). وقال في زكَرِيَّا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَويًّا}. إلى قولِه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (¬2). ولأنَّ الكلامَ حروفٌ وأصْواتٌ، ولا يُوجَد في الإِشارَةِ، ولأنَّ الكلامَ شيءٌ مَسْمُوعٌ، وتَبْطُلُ به الصلاةُ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَام النَّاسِ» (¬3). والإِشارَةُ بخِلافِ هذا. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا}. قُلْنا: هذا اسْتِثْناءٌ من غيرِ الجنْسِ، بدِليل ما ذَكَرْنا، ولصِحَّةِ نفْيِه عنه، فيقالُ: ما كَلَّمَه وإنَّما أَشارَ إليه. فصل: فإن ناداهُ بحيثُ يَسْمَعُ، فلم يَسْمَعْ، لتَشاغُلِه، أو غَفْلَتِه، حَنِثَ. نَصَّ عليه أحمدُ، فإنَّه سُئِلَ عن رجلٍ حَلَف أن لا يُكَلِّمَ إنْسانًا، فنَاداهُ، والمحلوفُ عليه لا يَسْمَعُ؟ قال: يَحْنَثُ. وهذا لكَوْنِ ذلك يُسَمَّى تَكْلِيمًا، يقالُ: كَلَّمْتُه فلم يَسْمَعْ. فصل: وإن سَلَّمَ على المَحْلُوفِ عليه، حَنِثَ؛ لأنَّ السَّلامَ كلامٌ تَبْطُلُ ¬

(¬1) سورة مريم 26 - 29. (¬2) سورة مريم 10، 11. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 557.

4751 - مسألة: (وإن حلف لا يكلمه حينا، فذلك ستة أشهر. نص عليه)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا، فَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ به الصلاةُ، فحَنِثَ به، كغيرِه من الكلامِ. 4751 - مسألة: (وإن حَلَف لا يُكَلِّمُه حِينًا، فذلك سِتَّةُ أَشْهُرٍ. نَصَّ عليه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا حَلَف لا يُكَلِّمُه حِينًا، فقَيَّد (¬1) ذلك بلَفْظِه أو نِيَّتِه بزَمَنٍ، تَقَيَّدَ به، وإنْ أطْلَقَه (¬2) انْصَرفَ إلى سِتَّةِ أشْهُرٍ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ (¬3). وبه قال أصحابُ الرَّأْي. وقال مُجاهِدٌ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ: هو سَنَةٌ؛ لقَوْلِه تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (¬4). أي كُلَّ عام. وقال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ: ليس هو مُقَدَّرًا، ويَبَرُّ بأدْنَى زَمَنٍ؛ لأنَّ الحِينَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ على الكثيرِ والقَليلِ، قال اللهُ تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (¬5). قيل: أرادَ يومَ القِيامَةِ. وقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬6). ¬

(¬1) في الأصل: «فقدر». (¬2) في م: «أطلق». (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره 13/ 208. (¬4) سورة إبراهيم 25. (¬5) سورة ص 88. (¬6) سورة الإنسان 1.

4752 - مسألة: (وإن قال: زمنا، أو: دهرا، أو: بعيدا، أو: مليا،

وَإِنْ قَال: زَمَنًا، أَوْ: دَهْرًا، أَوْ: بَعِيدًا، أو: مَليًّا، أَو: الزَّمَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} (¬1). وقال: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (¬2). ويُقالُ: جِئتُ مُنْذُ (¬3) حِينٍ. وإن كان أتاه من ساعَةٍ. ولَنا، أنَّ الحِينَ المُطْلَقَ في كلامِ الله تعالى أقَلُّه سِتَّةُ أشْهُرٍ. [قال عِكْرِمَةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وأبو عُبَيدٍ، في قولَهُ تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}: إنَّه سِتَّةُ أشْهُرٍ] (¬4). فيُحْمَلُ مُطْلَقُ كلامِ الآدَمِيِّ على مُطْلَقِ كلامِ اللهِ تعالى، ولأنَّه قولُ ابنِ عباسٍ، ولا نعلمُ له في الصحابَةِ مُخالِفًا، وما اسْتَشْهَدُوا به مِن المُطْلَقِ في كلامِ الله تعالى، فما ذكَرْناه أقَلُّه، فيُحْمَلُ عليه؛ لأنَّه اليَقِينُ. 4752 - مسألة: (وإن قال: زَمَنًا، أو: دَهْرًا، أو: بَعِيدًا، أو: مَلِيًّا، ¬

(¬1) سورة المؤمنون 54. (¬2) سورة الروم 17. (¬3) في الأصل: «بعد». (¬4) سقط من: الأصل. وأخرجه ابن جرير عن عكرمة وسعيد بن جبير، في تفسيره 13/ 208, 209.

رُجِعَ إِلَى أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: الزَّمَانَ. رُجِعَ إلى أقَلِّ ما يَتَنَاوَلُه اللَّفْظُ) وكذلك: وَقْتًا، أو: طَويلًا، أو بَعِيدًا، أو: قَرِيبًا، في قول أبي الخَطَّابِ، وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ هذه الأشياءَ لا حَدَّ لها في اللُّغَةِ، وتَقَعُ على القَليلِ والكَثيرِ، فوَجَب حَمْلُه على أقَلِّ ما تَناوَلَه اسْمُه، وقد يكونُ القَريبُ بَعِيدًا بالنِّسْبَةِ (¬1) إلى ما هو أقْرَبُ منه، وقَرِيبًا بالنِّسْبَةِ إلى ما هو أبْعَدُ منه، ولا يَجُوزُ التَّحْديدُ بالتَّحَكُّمِ، وإنَّما يُصارُ إليه بالتَّوْقيفِ، ولا تَوْقِيفَ ههُنا، فيَجِبُ حَمْلُه على اليَقِينِ، وهو أقَلُّ ما تَناوَلَه الاسْمُ. وقال ابنُ أبي موسى: الزَّمانُ ثلاثةُ أشْهُرٍ. وقيل: هو كالأبدِ والدَّهْرِ. وهو أقْيَسُ؛ لأنَّه بالألِفِ واللَّامِ، فهو في (¬2) مَعْناهُما. وقال طَلْحَةُ العَاقُولِيُّ: الحِينُ والعمرُ والزَّمانُ واحِدٌ؛ لأنَّهم لا يُفَرِّقُونَ في العادَةِ بينَها، والناسُ يَقْصِدُونَ بذلك التبعيدَ، فلو حُمِلَ على القَليلِ، حُمِلَ على خِلافِ قَصْدِ الحالِفِ. و «دَهْرٌ» يَحْتَمِلُ أنَّه كالحِينِ أيضًا لهذا المَعْنَى. وقال في «بعيدٍ» و «طويلٍ» و «مَلِيٍّ»: هو على أكْثَرَ مِن شَهْرٍ. وهذا قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ ذلك ضِدُّ القليلِ، فلا يجوزُ حَمْلُه على ضِدِّه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «على».

4753 - مسألة: (وإن قال: عمرا. احتمل أن يكون كذلك)

وَإِنْ قَال: عُمْرًا. احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ. وَاحتَمَلَ أَنْ يَكونَ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَقَال الْقَاضِي: هَذهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مِثْلُ الْحِينِ، إلا بَعِيدًا وَمَلِيًّا، فَإِنَّهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4753 - مسألة: (وإن قال: عُمْرًا. احْتَمَلَ أن يكونَ كذلك) كالوَقْتِ في قولِ أبي الخَطابِ. واحْتَمَلَ أن يكونَ كالحِينِ وهو قولُ طلحةَ العاقُولِيِّ (واحْتَمَلَ أن يَكُونَ أرْبَعِينَ عامًا) لقولِ الله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} (¬1). وكان ذلك أرْبَعِين سَنَة، فيَجِبُ حَمْلُ الكلامِ عليه، ولأنَّ العُمرَ في الغالِبِ لا يكونُ إلَّا مُدةً طويلَةً، فلا يُحْمَلُ على خِلافِ ذلك. وهذا قولٌ حَسَنٌ، قاله شَيخُنا (¬2) (وقال القاضي: هذه الألْفاظُ كلُّها مثلُ الحِينِ) قياسًا عليه (¬3) (إلَّا بَعِيدًا، ومَلِيًّا، فإنَّه على أكْثَرَ من شَهْرٍ) لأنَّه يَقْتَضِي البَعِيدَ. ¬

(¬1) سورة يونس 5. (¬2) انظر: المغني 13/ 574. (¬3) سقط من: م.

4754 - مسألة: (وإن قال: الأبد، والدهر. فذلك على الزمان كله)

وَإِنْ قَال: الْأَبَدَ، وَالدَّهْرَ، فَذَلِكَ عَلَى الزَّمَانِ كُلِّهِ. وَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4754 - مسألة: (وإن قال: الأبدَ، والدَّهْرَ. فَذَلِكَ على الزَّمَانِ كلِّه) لأنَّ الألِفَ واللَّامَ للاسْتِغْراقِ، تَقْتَضِي الدَّهْرَ كلَّه. وكذلك الزمانُ، في الصَّحِيحِ، وقد ذَكَرْناه. 4755 - مسألة: (والحُقْبُ ثَمَانُونَ سنةً) وقال مالكٌ: أَرْبَعُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَامًا (¬1)؛ لأنَّ ذلك يُرْوَى عن ابنِ عباسٍ. وقال القاضي، وأصحابُ الشافعيِّ: هو أدْنَى زَمانٍ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن أهْلِ اللُّغَةِ فيه تَقدِيرٌ. ولَنا، ما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنَّه قال في تَفْسيرِ قولِه تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (¬2): الحُقْبُ ثمانون سَنَةً (¬3). وما ذَكَرَه القاضي وأصحابُ الشافِعِيِّ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ قولَ ابنِ عباسٍ حُجَّةٌ، ولأنَّ ما ذَكَرُوه يُفْضِي إلى حَمْلِ كلامِ اللهِ تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}. وقولِ موسى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (¬4). إلى اللُّكْنَةِ؛ لأنَّه أخْرَجَ ذلك مَخْرَجَ التَّكْثيرِ، فإذا صارَ مَعْنَى ذلك: لابِثِينَ فِيهَا ساعاتٍ أو لَحَظاتٍ، أو أمْضِيَ لَحَظاتٍ أو سَاعاتٍ، صارَ مُقْتَضَى ذلك التَّقْليلَ، وهو ضِدُّ مما أرادَ اللهُ تعالى بكلامِه، وضِدُّ المفْهُومِ منه، ولم يَذْكُرْه أحَدٌ من المُفَسِّرِين فيما نَعْلَمُ، فلا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الحُقْبِ به. ¬

(¬1) في م: «يوما». (¬2) سورة النبأ 23. (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره 30/ 11. (¬4) سورة الكهف 60.

4756 - مسألة: (والشهور اثنا عشر عند القاضي. وعند أبي الخطاب ثلاثة، كالأشهر)

وَالشُّهُورُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا عِنْدَ الْقَاضِي. وَعنْدَ أَبي الْخَطَّابِ ثَلَاثةٌ، كَالْأَشْهُرِ. وَالْأيَّامُ ثَلَاثَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4756 - مسألة: (والشُّهُورُ اثْنا عَشَرَ عندَ القاضي. وعندَ أبي الخَطَّاب ثَلَاثةٌ، كالأَشْهُرِ) أما الأَشْهُرُ، فهي ثَلاثةٌ؛ لأنَّها أقَلُّ الجَمْعِ. وأمَّا الشَّهورُ، فاخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّها ثلاثةٌ أيضًا؛ لذلك، ولأنَّ جَمْعَ الكَثْرَةِ (¬1) يُسْتَعْمَلُ بمَعْنَى القِلَّةِ، كقَوْلِه تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2). وقال القاضي وغيرُه: هي اثْنا عَشَرَ شَهْرًا؛ لقولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}. ولأنَّ الشُّهورَ جَمْعُ الكَثْرَةِ، وأقَلُّه عَشَرَةٌ، فلا يُحْمَلُ على ما يُحْمَلُ عليه جَمْعُ القِلَّةِ. 4757 - مسألة: (والأَيَّامُ ثَلَاثَةٌ) لأنَّها أقَلُّ الجَمْعِ، قال اللهُ تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬3). وهي أيَّامُ التَّشْرِيقِ ¬

(¬1) في الأصل: «الكثير». (¬2) سورة البقرة 228. والآية في سورة التوبة 36. (¬3) سورة البقرة 203.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَلَف لا يَتَكَلَّمُ ثلاثَ ليالٍ، أو ثلاثةَ أيَّامٍ، لم يَكُنْ له أن يَتَكَلَّمَ في الأيَّامِ التي بينَ اللَّيالِي، ولا في اللَّيالي التي بينَ الأيَّامِ، إلَّا أن يَنْويَ، قال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} (¬1). وفي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَويًّا} (¬2). فكان كلُّ واحدٍ من اللَّفْظَينِ عِبارَةً عن الزَّمانين جميعًا. وقال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (¬3). فدخلَ فيه اللَّيلُ والنَّهارُ. ¬

(¬1) سورة آل عمران 41. (¬2) سورة مريم 10. (¬3) سورة الأعراف 142.

4758 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل باب هذه الدار، فحول ودخله، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَابَ هَذِهِ الدَّارِ، فَحُوِّلَ وَدَخَلَهُ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4758 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَدْخُلُ بابَ هذه الدَّارِ، فحُوِّلَ ودَخَلَه، حَنِثَ) إذا حَلَف لا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ من بابِها، فدَخَلَها من غيرِ البابِ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ يَمِينَه لم تَتَناوَلْ غيرَ البابِ. ويَتَخَرَّجُ أن يَحْنَثَ إذا أرادَ بيَمِينِه اجْتِنابَ الدَّارِ، ولم يَكُنْ للبَابِ (¬1) سَبَبٌ هَيَّجَ يَمِينَه, كما لو حَلَف لا يَأْوي مع زَوْجَتِه في دارٍ، فأوَى معها في غيرِها. وإن حُوِّلَ بابُها إلى مكانٍ آخَرَ، فدَخَلَ منه، حَنِثَ؛ لأنَّه دَخَلَها من بابِها. وهذا أحَدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ. وإن حَلَف: لا دَخَلْتُ من بابِ هذه الدَّارِ. فكذلك. وإن جُعِلَ لها بابٌ آخَرُ، مع بَقاءِ الأوَّلِ، فدَخَلَ منه، حَنِثَ؛ لأنَّه دَخَل من بابِ الدَّارِ. وإن قُلِعَ البابُ، ونُصِبَ في دارٍ أُخْرَى، وبَقِيَ المَمَرُّ، حَنِثَ بدُخُولِه، ولم يَحْنَثْ بالدُّخولِ من المَوْضِعِ الذي نُصِبَ فيه البابُ؛ لأنَّ الدُّخولَ في المَمَرِّ لا مِن المِصْراعِ. ¬

(¬1) في الأصل: «للدار». وفي م: «الباب».

4759 - مسألة: (وإن حلف لا يكلمه إلى حين الحصاد، انتهت يمينه بأوله)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إِلَى حِينِ الْحَصادِ، انْتَهَتْ يَمِينُهُ بِأَوَّلِهِ. وَيَحْتَملُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ مُدَّتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4759 - مسألة: (وإن حَلَف لا يُكَلِّمُه إلى حينِ الحَصادِ، انْتَهَتْ يَمِينُه بأوَّلِه) لأنَّ «إلى» لانْتِهاءِ الغايَةِ، فتَنْتَهِى عندَ أوَّلِ الغايَةِ، كقَوْلِه سبحانَه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} (¬1) (ويَحْتَمِلُ أن يَتَناوَلَ جميعٍ مُدَّتِه) لأنَّ «إلى» تُسْتَعْمَلُ بمعنى «مع» كقولِه تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬2). وقولِه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬3). وقولِه: {وَأَيدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة 187. (¬2) سورة هود 52. (¬3) سورة النساء 2. (¬4) سورة المائدة 6.

4760 - مسألة: (وإن حلف لا مال له، وله مال غير زكوي، أو دين على الناس، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا مَال لَهُ، وَلَهُ مَالٌ غَيرُ زَكَويٍّ، أَوْ دَينٌ عَلَى النَّاسِ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4760 - مسألة: (وإن حَلَف لا مال له، وله مالٌ غيرُ زَكَويٍّ، أو دَينٌ على النَّاسِ، حَنِثَ) إذا حَلَفَ لا يَمْلِكُ مالًا، حَنِثَ بمِلْكِ كلِّ ما يُسَمَّى مالًا، سَواءٌ كان من الأثْمانِ، أو غيرِها من العقارِ والأثاثِ والحَيوانِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وعن أحمدَ، أنَّه إذا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بجميعِ مالِه، إنَّما يَتَناوَلُ نَذْرُه الصَّامِتَ (¬1) من مالِه. ذَكَرَها ابنُ أبي موسى؛ لأنَّ إطْلاقَ المالِ يَنْصَرِفُ إليه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ إلَّا أن يَمْلِكَ مالًا زَكَويًّا، اسْتِحْسانًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬2). فلم يَتَناوَلْ إلَّا الزَّكَويَّ. ولَنا، أنَّ غيرَ الزَّكَويَّةِ (¬3) أمْوالٌ، قال اللهُ تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬4). وهي ¬

(¬1) الصامت: الذهب والفضة. (¬2) سورة الذاريات 19. (¬3) في الأصل، ق: «النقود». (¬4) سورة النساء 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ممَّا يجوزُ ابْتِغاءُ النِّكاحِ يها. وقال أبو طَلْحَةَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أحَبَّ أمْوالِي إليَّ بِيرُحَاءَ. يُريدُ حَدِيقَةً (¬1). وقال عمرُ: أصَبْتُ أرْضًا بخَيبَرَ، لم أُصِبْ مالًا قَطُّ هو أنْفَسَ عندِي منه (¬2). وقال أبو قَتادَةَ: اشْتَرَيتُ مَخْرَفًا (¬3)، فكان أوَّلَ مالٍ تَأَثَّلْتُه (¬4). وفي [الحديثِ «خَيرُ] (¬5) المَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ (¬6)، أو مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» (¬7). ويقالُ: خيرُ المالِ عَينٌ خَرَّارَةٌ، في أرْضٍ خَوَّارَةٍ. ولأنَّه يُسَمَّى مالًا، فحَنِثَ به، كالزَّكَوي. وأمَّا قولُه تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}. فالحَقُّ ههُنا غيرُ الزَّكاةِ؛ لأنَّ هذه الآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نزَلَتْ قبلَ فَرْضِ الزَّكاةِ؛ لأنَّ الزَّكاةَ إنَّما فُرِضَتْ بالمدينةِ، ثم لو كان ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الزكاة على الأقارب، من كتاب الزكاة، وفي: باب إذا قال الرجل له كيله: ضعه حيث أراك الله، من كتاب الوكالة، وفي: باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه. . . .، من كتاب الوصايا، وفي: باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، من كتاب التفسير، وفي: باب استعذاب الماء، من كتاب الأشربة. صحيح البخاري 2/ 148، 3/ 134، 135, 4/ 7، 6/ 46، 7/ 142. ومسلم، في: باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 693، 694. والدارمي، في: باب أي الصدقة أفضل، من كتاب الزكاة. سنن الدارمي 1/ 390. والإمام مالك، في: باب الترغيب في الصدقة، من كتاب الصدقة. الموطأ 2/ 995، 996. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 141، 262. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 362. (¬3) المخرف: البستان، أو نخلات. انظر: الفائق 1/ 359. (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 152, 153. (¬5) في م: «حدث آخر». (¬6) في م: «مأثورة». (¬7) تقدم تخريجه في 12/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحقُّ (¬1) الزَّكاةَ، فلا حُجَّةَ فيها، فإنَّ الحَقَّ إذا كان في بعضِ المالِ، كان في المالِ, كما أنَّ مَن هو في بَيتٍ [في دارٍ] (¬2) أو (¬3) بَلْدَةٍ، فهو في الدارِ (¬4) وفي البَلْدَةِ، قال اللهُ تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬5). ولا يَلْزَمُ أن يكونَ في جميعِ أقْطارِها. ثم لو اقْتَضَى هذا العُمومَ، لوَجَبَ تَخْصِيصُه، فإنَّ ما دونَ النِّصابِ مالٌ، ولا زَكاةَ فيه. وإن كان له دَينٌ، حَنِثَ. وهكذا ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يُنْتَفَعُ به. ولَنا، أنَّه يَنْعَقِدُ عليه حَوْلُ الزَّكاةِ، ويَصِحُّ إخْراجُها عنه، ويَصِحُّ التَّصَرُّفُ فيه بالإِبْراءِ، والحَوَالةِ، والمُعَاوَضَةِ عنه لمَن هو في ذِمَّتِه، والتَّوْكِيل في اسْتِيفائِه، فيَحْنَثُ به، كالمُودَعِ. فصل: وإن كان له مالٌ مَغْصُوبٌ، حَنِثَ؛ لأنَّه باقٍ على مِلْكِه. وإن ¬

(¬1) في م: «لحق». (¬2) تكملة من المغني 13/ 597. (¬3) في م: «في». (¬4) ق م: «البيت». (¬5) سورة الذاريات 22.

4761 - مسألة: (وإن حلف لا يفعل شيئا، فوكل من يفعله، حنث، إلا أن ينوي)

وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفعَلُ شَيئًا، فَوَكَّلَ منْ يَفْعَلُهُ، حَنِثَ، إلا أَنْ يَنْويَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان له مالٌ ضائِعٌ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاؤُه على مِلْكِه. والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ بَقاؤُه. فإن ضاعَ على وَجْهٍ قد أَيِسَ من عَوْدِه، كالذي سَقَط في بَحْرٍ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ وُجودَه كعَدَمِه. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ في كُلِّ مَوْضِعٍ لا يَقْدِرُ على أخْذِ مالِه، كالمَجْحُودِ، والمَغْصُوبِ، والدَّينِ على غيرِ مَلِئٍ؛ لأنَّه لا نَفْعَ فيه، وحُكْمُه حُكْمُ المَعْدُومِ، في جَوازِ الأخْذِ من الزَّكاةِ، وانْتِفاءِ وُجوبِ أدَائِها عنه. وإن تَزَوَّجَ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ ما مَلَكَه ليس بمالٍ. وكذلك إن وَجَب له حَقُّ شُفْعَةٍ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له المِلْكُ به. وإنِ اسْتَاجَرَ عَقارًا أو غيرَه، لم يَحْنَثْ؟ لأنَّه لا يُسَمَّى مالِكًا لمالٍ. 4761 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَفْعَلُ شَيئًا، فوَكَّلَ مَن يَفْعَلُه، حَنِثَ، إلَّا أن يَنْويَ) لأنَّ الفِعْلَ يُنْسَبُ إلى المُوَكِّلِ كما يُنْسَبُ إلى الوَكيلِ، فيَحْنَثُ به, كما لو حَلَف لا يَحْلِقُ رَأْسَه، فأمَرَ بحَلْقِه (¬1)، فإنَّه ¬

(¬1) في م: «من يحلقه».

فَصْلٌ: فَأمَّا الْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ، فَهِيَ أَسْمَاءٌ اشْتَهَرَ مَجَازُهَا حَتَّى غَلَبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ كَالرَّاويَةِ، وَالظَّعِينَةِ، وَالدَّابَّةِ، وَالْغَائِطِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْنَثُ؛ لأنَّ الفِعْلَ مَنْسُوبٌ إليه، ولذلك تجِبُ الفِدْيَةُ على مَن حُلِقَ رَأْسُه بإذْنِه في الإِحْرامِ. وإن كانت نِيَّتُه أن لا يُباشِرَ بنَفْسِه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ الأيمانَ مَبْناها على النِّيَّةِ. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (فأمَّا الأسْماءُ العُرْفِيَّةُ، فهي أسماءٌ اشْتَهَرَ مَجازُها حتى غَلَب على الحَقِيقَةِ؛ كالرَّاويَةِ، والظَّعِينَةِ، والدَّابَّةِ،

4762 - مسألة.: (وإن حلف على وطء امرأة، تعلقت يمينه بجماعها)

وَالْعَذِرَةِ، ونَحْوها، فَتَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعُرْفِ دُونَ الْحَقِيقةِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَطْءِ امْرَأَةٍ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِجِمَاعِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ والغائِطِ، والعَذِرَةِ، ونحوها، فتَتَعَلَّقُ اليَمِينُ بالعُرْفِ دونَ الحَقِيقَةِ) لأنَّ الحَقِيقَةَ صارتْ فيها مَغْمُورَةً (¬1)، لا يَعْرِفُها أكثرُ الناسِ، كالرَّاويَةِ، للمَزادَةِ في العُرْفِ، وفي الحَقِيقَةِ الجَمَلُ الذي يُسْتَقَى عليه، والغائِطُ والعَذِرَةُ في العُرْفِ الخارِجُ المُسْتَقْذَرُ، وفي الحَقِيقَةِ الغائِطُ المكانُ المُطْمَئِنُّ [مِن الأرضِ] (¬2)، والعَذِرَةُ فِناءُ الدَّارِ، والظَّعِينَةُ في العُرْفِ للمَرْأة، وفي الحَقِيقَةِ النَّاقَةُ التي (¬3) يُظْعَنُ عليها، والدَّابَّةُ في الحَقِيقَةِ لكُلِّ ما يَدِبُّ، قال اللهُ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (¬4). وفي العُرْفِ اسْمٌ للبِغالِ والخَيلِ والحَمِيرِ. فلهذا قُلْنا: اليَمِينُ تَنْصَرِفُ إلى العُرْفِ دونَ الحَقِيقَةِ؛ لأنَّه يُعْلَمُ أنَّ الحالِفَ لا يُرِيدُ غيرَه، فصارَ كالمُصَرَّحِ به. 4762 - مسألة.: (وإن حَلَف على وَطْءِ امرأةٍ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُه بجِمَاعِها) لأنَّه الذي يَنْصَرِفُ اللَّفْظُ في العُرْفِ إليه، وكذلك إذا حَلَف ¬

(¬1) في الأصل: «معهودة». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «لأنها». (¬4) سورة النور 45.

4763 - مسألة: (وإن حلف على وطء دار، تعلقت)

وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَطْءِ دَارٍ، تَعَلَّقَتْ بدُخُولِهَا، رَاكبًا أَوْ مَاشِيًا، أَوْ حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ الرَّيحَانَ، فَشَمَّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ وَالْيَاسَمِينَ، أَوْ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ، فَشَمَّ دُهْنَهُمَا، أَوْ مَاءَ الْوَرْدِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَحْنَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على تَرْكِ (¬1) وَطْءِ زَوْجَتِه، صارَ مُولِيًا منها. 4763 - مسألة: (وإن حَلَف على وَطْءِ دَارٍ، تَعَلَّقَتْ) يَمِينُه (بدُخُولِهَا، راكِبًا أو مَاشِيًا، أو حافِيًا أو مُنْتَعِلًا) لأنَّ هذا في العُرْفِ عبارَةٌ عن اجْتِنابِ الدُّخولِ، فتُحْمَلُ اليَمِينُ عليه بإطْلاقِه، كلَفْظِ الرَّاويَةِ والدَّابَّةِ وغيرِهما. 4764 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَشَمُّ الرَّيحانَ، فشَمَّ الوَرْدَ والبَنَفْسَجَ واليَاسَمِينَ، أو لا يَشَمُّ الوَرْدَ والبَنَفْسَجَ، فشَمَّ دُهْنَهما، أو ماءَ الوَرْدِ، فالقِياسُ أنَّه لا يَحْنَثُ. وقال بعضُ أصحابِنا: يَحْنَثُ) إذا حَلَف ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَشَمُّ الرَّيحانَ، فإنَّه في العُرْفِ اسمٌ يَخْتَصُّ الرَّيحانَ الفَارِسِيَّ، وفي الحَقِيقَةِ اسمٌ لكلِّ نَبْتٍ أو زَهْرٍ طَيِّبِ الرِّيحِ، مثلَ الوَرْدِ والبَنَفْسَجِ والنَّرْجِسِ. وقال القاضي: لا يَحْنَثُ إلَّا بشَمِّ الرَّيحانِ الفارِسِيِّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ الحالِفَ لا يُرِيدُ بيَمِينِه في الظَّاهِرِ سِوَاه. وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْنَثُ بشَمِّ ما يُسَمَّى في الحَقِيقَةِ رَيحانًا، [لأنَّ الاسمَ] (¬1) [يَتَناولُه حَقِيقَةً] (¬2)، ولا يَحْنَثُ بشَمِّ الفاكِهَةِ، وَجْهًا واحِدًا. وإن حَلَف لا يَشَمُّ وَرْدًا ولا بَنَفْسَجًا، فَشَمَّ دُهْنَهُما، أو ماءَ الوَرْدِ، فقال القاضي: لا يَحْنَثُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لم يَشَمَّ وَرْدًا ولا بَنَفْسَجًا. وقال أبو الخطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لأنَّ الشَّمَّ إنَّما هو للرَّائِحَةِ دونَ الذاتِ، ورَائِحَةُ الوَرْدِ والبَنَفْسَجِ مَوْجُودَةٌ فيهما. وقال أبو حنيفةَ: يَحْنَثُ بشَمِّ دُهْنِ البَنَفْسَجِ؛ لأنَّه يُسَمَّى بَنَفْسَجًا (¬3)، [ولا يَحْنَثُ بشَمِّ ماءِ الوردِ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى وردًا] (¬4). والأوَّلُ أقْرَبُ إلى الصِّحَّةِ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فإن شَمَّ الوَرْدَ والبَنَفْسَجَ اليابِسَ، حَنِثَ. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعيِّ: لا يَحْنَثُ, كما لو حَلَف لا يَأْكُلُ رُطَبًا، فأَكَلَ تَمْرًا. ولَنا، أنَّ هذا اسْمُه، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «ريحانا». وسقط من: ق، م. والمثبت من المغني 13/ 604. (¬3) في م: «وردا». (¬4) سقط من: م.

4765 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل لحما، فأكل يسمكا، حنث عند الخرقي، ولم يحنث عند ابن أبي موسى)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ سَمَكًا، حَنِثَ عِنْدَ الْخِرَقِيِّ، وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي مُوسى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحَقِيقَتَه باقِيَةٌ، فيَحْنَثُ به (¬1) , كما لو حَلَف لا يَأْكُلُ لحْمًا، فأكَلَ قَدِيدًا، وفارَقَ ما ذَكَرُوه؛ فإنَّ التَّمْرَ ليس برُطَبٍ، ولا يُسمَّى رُطَبًا. 4765 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْكُلُ لَحْمًا، فأكَلَ يسمَكًا، حَنِث عندَ الخِرَقِيِّ، ولم يَحْنَثْ عندَ ابنِ أبي مُوسَى) إذا حَلَف لا يَأْكُلُ لحْمًا، ولم يُرِدْ لحمًا بعَينِه، فأكَلَ من لَحْم (¬2) الأنْعامِ أو الصَّيدِ أو الطَّيرِ، حَنِثَ، في قولِ عامَّةِ عُلَماءِ الأمْصارِ. وأمَّا السَّمَكُ، فظاهِرُ المذْهَبِ أنَّه يَحْنَثُ بأَكْلِه. وبهذا قال قَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، وأبو يوسفَ. وقال ابنُ أبي موسى في «الإِرْشَادِ»: لا يَحْنَثُ، إلَّا أن يَنْويَه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشَّافِعِيِّ، [وأبي ثورٍ] (¬3)؛ لأنَّه لا يَنْصَرِفُ إليه إطْلاقُ اسْمِ اللَّحْمِ، ولو وَكَّلَ وَكِيلًا في شِراءِ اللَّحْمِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فاشْتَرَى له سَمَكًا، لم يَلْزَمْه، ويَصِحُّ أن يَنْفِيَ عنه الاسْمَ، فيقولَ: ما أَكَلْتُ لَحْمًا، إنَّما أكَلْتُ سَمَكًا. فلم يَتَعَلَّقْ به الحِنْثُ عندَ الإِطْلاقِ، كما لو حَلَفَ: لاقَعَدْتُ تحتَ سَقْفٍ. فإنَّه لا يَحْنَثُ بقُعُودِه تحتَ السَّماءِ, وقد سمَّاها اللهُ تعالى سَقْفًا مَحْفُوظًا؛ لأنَّه مَجازٌ، كذا ههُنا. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬1). ولأنَّه من جِسْمِ حَيوانٍ، ويُسَمَّى لحْمًا، فَحَنِثَ بأكْلِه، كلَحْمِ الطَّيرِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بلَحْمِ الطَّائِرِ. وأمَّا السَّماءُ، فإنَّ الحالِفَ لا يَقْعُدُ تحتَ سَقْفٍ لا (¬2) يُمْكِنُه التَّحَرُّزُ مِن القُعُودِ تحتَها، فيُعْلَمُ أنَّه لم (2) يُرِدْها بيَمِينِه، ولأنَّ التَّسْمِيَةَ ثَمَّ مَجازٌ، وههُنا حَقِيقَةٌ؛ لكَوْنِه من جِسْمِ حَيوانٍ يَصْلُحُ للأكْلِ، فكان الاسمُ فيه حَقِيقَةً، كلَحْمِ الطَّيرِ، حيثُ قال اللهُ تعالى: {وَلَحْمِ طَيرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النحل 14. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة الواقعة 21.

4766 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل رأسا ولا بيضا، حنث بأكل رءوس الطير والسمك، وبيض السمك والجراد، عند القاضي. وعند أبي الخطاب، لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفردا، أو بيض يزايل بائضه حال الحياة)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا وَلَا بَيضًا، حَنِثَ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطُّيُورِ وَالسَّمَكِ، وَبَيضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، عِنْدَ الْقَاضِي. وَعنْدَ أَبي الْخَطَّابِ، لَا يَحْنَثُ إلا بِأَكْلِ رَأْسٍ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ بَيضٍ يُزَايِلُ بَائِضَهُ حَال الْحَيَاةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4766 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْكُلُ رأْسًا ولا بَيضًا، حَنِثَ بِأكْلِ رُءُوسِ الطَّيرِ والسَّمَكِ، وبيضِ السمكِ والجَرَادِ، عندَ القاضي. وعندَ أبي الخَطَّابِ، لا يَحْنَثُ إلَّا بأَكْلِ رَأْسٍ جَرَتِ العَادَةُ بأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا، أو بَيضٍ يُزَايِلُ بائِضَه حال الحَيَاةِ) إذا حَلَف لا يَأْكُلُ رأْسًا، فإنَّه يَحْنَثُ بأكْلِ رَأْسِ كُلِّ (¬1) حَيوانٍ من الإِبِلِ والصُّيودِ والحِيتَانِ والجَرادِ. ذَكَره القاضِي. وقال أبو الخطَّابِ: لا يَحْنَثُ إلَّا بأَكْلِ رَأْسٍ جَرَتِ العادَةُ ببَيعِه للأكْلِ مُنْفَرِدًا. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ إلَّا بأَكْلِ رُءُوسِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ دونَ غيرِها، إلَّا أن يكونَ ببَلَدٍ تَكْثُرُ فيه الصُّيودُ، وتُمَيَّزُ رُءُوسُها، فيَحْنَثُ بأكْلِها. وقال أبو حنيفةَ: لا يَحْنَثُ بأكْلِ رُءُوسِ الإِبلِ؛ لأنَّ العادَةَ لم تَجْرِ ببَيعِها للأكْلِ مُنْفَرِدَةً. وقال صاحِباه: لا يَحْنَثُ إلَّا بأكْلِ رُءُوسِ الغَنَمِ؛ لأنَّها التي تُباعُ في الأسْواقِ دونَ غيرِها، فيَمِينُه تَنْصَرِف ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إليها. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ هذه رُءُوسٌ حَقِيقَةً وعُرْفًا، وهي مَأْكُولَةٌ، فيَحْنَثُ بأكْلِها, كما لو حَلَف لا يَأْكُلُ لَحْمًا، فأَكَلَ من لَحْمِ النَّعامِ والزَّرافَةِ، وما يَنْدرُ وُجودُه وبَيعُه. وأمَّا إذا حَلَف لا يَأْكُلُ بَيضًا، فيَحْنَثُ بأَكْلِ بَيضِ كُلِّ حَيوانٍ، كَثُرَ وُجُودُه، كبَيضِ الدَّجاجِ، أو قَلَّ، كبَيضِ النَّعامِ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أصحابُ الرَّأْي: لا يَحْنَثُ بأكْلِ بَيضِ النَّعامِ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَحْنَثُ إلَّا بأَكْلِ بَيضِ الدَّجاجِ، وما يُباعُ في السُّوقِ. ولَنا، أنَّ هذا كُلَّه بَيضٌ حَقِيقَةً وعُرْفًا، وهو مأْكُولٌ، فيَحْنَثُ بأكْلِه، كبَيضِ الدَّجاجِ، ولأنَّه لو حَلَف لا يَشْرَبُ ماءً، فشَرِبَ ماءَ البَحْرِ، أو ماءً نَجِسًا، أو لا يَأْكُلُ خُبْزًا، فأَكَلَ خُبْزَ الأُرْزِ أو الذُّرَةِ في مَكانٍ لا يُعْتادُ أكْلُه فيه، حَنِثَ. فأمَّا إن أكَلَ بَيضَ السَّمَكِ أو الجَرادِ، فقال القاضي: يَحْنَثُ؛ لأنَّه بَيضُ حيَوانٍ، أشْبَهَ بَيضَ النَّعامِ. وقال أبو الخَطَّابِ: لا يَحْنَثُ إلَّا بأَكْلِ بَيضٍ يُزايِلُ بائِضَه حال الحياةِ. وهذا قولُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي،

4767 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل بيتا، فدخل مسجدا، أو حماما، أو بيت شعر، أو أدم، أو لا يركب، فركب سفينة، حنث عند أصحابنا. ويحتمل أن لا يحنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيتًا، فَدَخَلَ مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، أَوْ بَيتَ شَعْرٍ، أَوْ أَدَم، أَوْ لَا يَرْكَبُ، فَرَكبَ سَفِينَةً، حَنِثَ عنْدَ أَصْحَابِنَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأكثَرِ العُلَماءِ. وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ هذا لا يُفْهَمُ من إطْلاقِ اسمِ (¬1) البَيضِ، ولا يُذْكَرُ إلَّا مُضافًا إلى بائِضِه. ولا يَحْنَثُ بأكْلِ شيءٍ يُسَمَّى بَيضًا غيرَ بَيضِ الحيوانِ، ولا بشيءٍ يُسَمَّى رَأْسًا غيرَ رُءُوسِ الحيوانِ؛ لأنَّ ذلك ليس برَأْسٍ ولا بيضٍ في الحَقِيقَةِ. 4767 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَدْخُلُ بَيتًا، فَدَخَلَ مَسْجِدًا، أو حَمَّامًا، أو بَيتَ شَعْرٍ، أو أَدمٍ، أو لا يَرْكَبُ، فرَكِبَ سَفِينَةً، حَنِثَ عندَ أصْحابِنا. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا حَلَف لا يَدْخُلُ بَيتًا، فدَخَلَ مَسْجِدًا، أو حَمَّامًا، حَنِثَ. نَصَّ عليه أحمدُ. ويَحْتَمِلُ أن ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَحْنَثَ. وهو قولُ أكْثَرَ الفُقهاءِ؛ لأنَّه لا يُسَمّى بَيتًا في العُرْفِ. والأوَّلُ المذهبُ؛ لأنَّهما بَيتان حَقِيقَةً، وقَد سَمَّى اللهُ عزَّ وجَلَّ المساجِدَ بُيوتًا، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (¬1). وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (¬2). ورُوِيَ في حديثٍ: «المَسْجِدُ بَيتُ كُلِّ تَقِيٍّ» (¬3). ورُوِيَ في الحديثِ: «بِئْسَ الْبَيتُ الحَمَّامُ» (¬4). وإذا كان في الحَقِيقَةِ بَيتًا، وفي عُرْفِ الشَّرْعِ, حَنِثَ بدُخُولِه، كبيتِ الإِنْسانِ. وإن دَخَلَ بَيتَ شَعْرٍ، أو أدَم، حَنِثَ، سَواء كان الحالِفُ حَضَرِيًّا أو بَدَويًّا، فإنَّ اسمَ البَيت يَقَعُ عليه حَقِيقَةً وعُرْفًا، قال اللهُ تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} (¬5). وأمَّا ما لا يُسَمَّى في العُرْفِ بَيتًا، كالخَيمَةِ، فالأوْلَى أن لا يَحْنَثَ بدُخُولِه مَن لا يُسَمِّيه بَيتًا؛ لأنَّ يَمِينَه لا تَنْصَرِفُ إليه. وإن دَخَلَ دِهْلِيزَ دارٍ [أو صُفَّتَها] (¬6)، لم يَحْنَثْ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: يَحْنَثُ؛ لأنَّ جميعَ الدَّارِ ¬

(¬1) سورة النور 36. (¬2) سورة آل عمران 96. (¬3) أخرجه الطبراني، في: المعجم الكبير 6/ 313. وبلفظ: «المسجد بيت كل مؤمن». أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 176. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 274، 275. وانظر كشف الخفاء 2/ 206. (¬4) أخرجه ابن الجوزي في: العلل المتناهية 1/ 304. وابن عدي، في: الكامل 7/ 2679. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. (¬5) سورة النحل 80. (¬6) في م: «وصفتها». والصفة: البهو الواسع العالي السقف.

4768 - مسألة: (وإن حلف لا يتكلم، فقرأ، أو سبح، أو ذكر الله تعالى، لم يحنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَرَأَ، أو سَبَّحَ، أو ذَكَرَ اللهَ تَعَالى، لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيتٌ. ولَنا، أنَّه لا يُسَمَّى بَيتًا، ولهذا يُقال: ما دَخَل البَيتَ، وإنَّما وَقَف في الصَّحْنِ. فإن حَلَف لا يَرْكَبُ، فرَكِبَ سَفِينَةً، حَنِثَ. وهو قولُ أبي الخَطَّابِ؛ لأنَّه رُكُوبٌ، قال اللهُ تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} (¬1). وقال: {فإذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} (¬2). وَيَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى في العُرْفِ رُكوبًا. 4768 - مسألة: (وإن حَلَف لا يتَكَلَّمُ، فقَرَأ، أو سَبَّحَ، أو ذَكَرَ اللهَ تعالى، لم يَحْنَثْ) [إذا حَلَفَ لا يتَكَلَّمُ، فقَرَأَ] (¬3)، لم يَحْنَثْ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن قَرأَ في الصلاةِ، لم يَحْنَثْ، وإن قَرَأَ خارِجًا منها، حَنِثَ؛ لأنَّه يَتَكَلَّمُ بكلامِ اللهِ تعالى. وإن ذَكَرَ اللهَ تعالى، لم يَحْنَثْ. ومُقْتَضَى مذهبِ أبي حنيفةَ أنَّه يَحْنَثُ، لأنَّه كلامٌ (¬4)، قال اللهُ تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (¬5). وقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى ¬

(¬1) سورة هود 41. (¬2) سورة العنكبوت 65. (¬3) في الأصل، ق: «إذا قرأ». (¬4) في م زيادة: «الله». (¬5) سورة الفتح 26.

يَحْنَثْ. وَإِنْ دَقَّ عَلَيهِ إِنْسَانٌ، فَقَال: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِه، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» (¬1). ولَنا، أنَّ الكلامَ في العُرْفِ لا يُطْلَقُ إلَّا على كلامِ الآدَمِيِّين، ولهذا لمَّا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، و (¬2) قَدْ أحْدَثَ أنْ لا تَتَكَلَّمُوا في الصَّلَاةِ» (¬3). لم يَتَناوَلِ المُختَلَفَ فيه. وقال زيدُ بنُ أرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ، حتى نزلَ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬4). فأُمِرْنا بالسُّكوتِ، ونُهِينَا عن الكلام (¬5). وقال اللهُ تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَويًّا} (¬6). وقال: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬7). فأمَرَه بالتَّسْبِيحِ مع قَطْعِ الكلامِ عنه. ولأنَّ ما لا يَحْنَثُ به في الصلاةِ، لا يَحْنَثُ به خارِجًا منها، كالإِشارَةِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالقِراءَةِ والتَّسْبِيحِ في الصلاةِ، وذِكْرِ اللهِ المَشْرُوعِ فيها. وإنِ اسْتَأْذَنَ عليه إنْسانٌ، فقال: ¬

(¬1) أخرب البخاري، في: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم. فصلى. . . .، من كتاب الأيمان والنذور، وفي: باب قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ. . . .}، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 8/ 173، 9/ 199. ومسلم، في: باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، من كتاب الذكر. صحيح مسلم 4/ 2072. وابن ماجه، في: باب فضل التسبيح، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1251. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 232. (¬2) في م: «وإنه». (¬3) تقدم تخريجه في 4/ 33. (¬4) سورة البقرة 238. (¬5) تقدم تخريجه في 4/ 29. (¬6) سورة مريم 10. (¬7) سورة آل عمران 41.

يَقْصِدُ تَنْبِيهَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (¬1). يَقْصِدُ القُرآنَ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ هذا من القُرآنِ، فلا يَحْنَثُ به، ولذلك لا تَبْطُلُ الصلاةُ به، وإن لم يَقْصِدِ القُرآنَ، حَنِثَ؛ لأنَّه من كلامِ الناسِ. ¬

(¬1) سورة الحجر 46.

4769 - مسألة: (وإن خلف لا يضرب امرأته، فخنقها، أو نتف شعرها، أو عضها، حنث)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرأَتَهُ، فَخَنَقَهَا، أَوْ نَتَفَ شَعَرَهَا، أَوْ عَضَّهَا، حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَجَمَعَهَا، فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ في يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4769 - مسألة: (وإن خَلَف لا يَضْرِبُ امرأتَه، فخَنَقَهَا، أو نَتَفَ شَعَرَها، أو عَضَّهَا، حَنِثَ) لأنَّه يَقْصِدُ تَرْكَ تأْلِيمِها، وقد آلمَها. فأمَّا إن عَضَّهَا للتَّلَذُّذ (¬1)، ولم يَقْصِدْ تَأْلِيمَها، لم يَحْنَث، وإن حَلَف لَيَضْرِبَنَّها، ففَعَلَ ذلك، بَرَّ؛ لوُجودِ المَقْصُودِ بالضَّرْبِ. 4770 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَضْرِبَنَّه مِائَةَ سَوْطٍ، فَجَمَعَها، فضَرَبَه بها ضَرْبَةً وَاحِدَةً، لم يَبَرَّ في يَمِينِه) وبهذا قال مالكٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال ابنُ حامِدٍ: يَبَرُّ؛ لأنَّ أحمدَ قال في المريضِ عليه الحَدُّ: يُضْرَبُ بعِثْكالِ النَّخْلِ، ويَسْقُطُ عنه الحَدُّ. وبهذا قال الشافعيُّ إذا علِمَ أنَّها مَسَّتْه كُلُّها، وإن علِمَ أنَّها لم تَمَسَّه كُلُّها، لم يَبَرَّ، وإنْ شَكَّ، لم ¬

(¬1) في م: «تلذذ».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْنَثْ في الحُكْمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المريضٍ الذي زَنَى: «خُذُوا لَه عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَةً» (¬2). ولأنَّه ضَرَبَ بمِائَةِ سَوْطٍ، فبَرَّ في يَمِينِه, كما لو فرَّقَ الضَّربَ. ولَنا، أنَّ مَعْنَى يَمِينِه أن يَضْرِبَه مائةَ ضَرْبَةٍ، ولم يَضْرِبْه إلَّا ضَربَةً واحِدَةً، والدَّليلُ على هذا أنَّه لو ضَرَبَه مِائةَ ضَرْبَةٍ بسَوْطٍ بَرَّ، بغيرِ خلافٍ، ولو عادَ العددُ إلى السَّوْطِ، لم يَبَرَّ بالضَّرْبِ بسَوْطٍ واحدٍ, كما لو حَلَف لَيَضْرِبَنَّه بعَشَرَةِ أسْواطٍ، ولأنَّ السَّوْطَ ههُنا آلةٌ أُقِيمَتْ مُقامَ المَصْدَرِ، وانْتَصَبَ انْتِصابَه؛ لأنَّ مَعْنَى كلامِه: لأضْرِبَنَّه مِائَةَ ضَرْبَةٍ بسَوْطٍ. وهذا هو المَفْهومُ من يَمِينِه، والذي يَقْتَضِيه لُغَةً، فلا يَبَرُّ بما يُخالِفُ ذلك. وأمَّا أيُّوبُ، عليه السلامُ، فإنَّ اللهَ تعالى أرْخَصَ له رِفْقًا بامرأتِه، لِبِرِّها به، وإحْسانِها إليه، ليَجْمَعَ له بينَ بِرِّه في يَمِينِه ورِفْقِه بامرأتِه، ولذلك امْتَنَّ عليه بهذا، وذَكَرَه في جُمْلَةِ ما مَنَّ به عليه، من مُعافاتِه من بَلائِهِ، وإخْراجِ الماءِ له، فيَخْتَصُّ ¬

(¬1) سورة ص 44. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 195.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا به، كاخْتِصاصِه بما ذكرَ معه، ولو كان هذا الحكمُ عامًّا لكلِّ أحَدٍ لَما خَصَّ أيُّوبَ بالمِنَّةِ عليه. وكذلك المرِ يضُ الذي يُخافُ تَلَفُه، أُرْخِصَ له بذلك في الحَدِّ دونَ غيرِه، وإذا لم يَتَعَدَّه هذا الحكمُ في الحَدِّ الذي [وَرَد النَّصُّ به فيه، فَلأَنْ لا يَتَعَدَّاه إلى اليَمِينِ أَوْلَى، ولو خُصَّ بالبِرِّ مَن له عُذْرٌ يُبِيحُ العُدولَ في الحَدِّ] (¬1) إلى الضَّرْبِ بالعِثْكَالِ، لكان له وَجْه، أمَّا (¬2) تَعْدِيَتُه إلى غيرِه فبَعِيدٌ جِدًّا. فصل: ولو حَلَف أن يَضْرِبَه بعَشَرَةِ أسْواطٍ، فجَمَعَها، فضَرَبَه بها، بَرَّ؛ لأنَّه قد فَعَل ما حَلَف عليه. وإن حَلَف ليَضْرِبَنَّه [عشْرَ مراتٍ، لم يَبَرَّ بضَرْبِه عشَرةَ أسْواطٍ، دَفْعَةً واحدةً، بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّه لم يَفْعَلْ ما تَناوَلَتْه يَمِينُه. وإن حَلَف لَيَضْرِبَنَّه] (¬3) عشْرَ ضَرَباتٍ، فكذلك، إلَّا وَجْهًا لأصْحابِ الشافِعِيِّ، أنَّه يَبَرُّ. وليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ هذه ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ بأسْواطٍ، ولهذا يَصِحُّ أن يُقال: ما ضَرَبْتُه إلَّا (¬4) واحِدَةً، ولو حَلَف لا يَضْرِبُه أكْثرَ مِن ضَرْبَةٍ واحدةٍ، ففَعَلَ هذا، لم يَحْنَثْ في يَمِينِه. فصل: ولا يَبَرُّ حتى يَضْرِبَهِ ضَرْبًا يُؤْلِمُه. وبهذا قال مالكٌ. وقال الشافعيُّ: يَبَرُّ بما (¬5) لم يُؤْلِمْ؛ لأنَّ الاسمَ يَتَناوَلُه، فوَقَعَ البِرُّ به، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في م: «بعد». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «بضرب ما».

فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيئًا، فَأَكَلَهُ مُسْتَهْلَكًا في غَيرِهِ، مِثْلَ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَبَنًا، فَأَكَلَ زُبْدًا، أَوْ لَا يَأْكُلَ سَمْنًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ سَمْنٌ، لَا يَظْهَرُ فيه طَعْمُهُ، أَوْ لَا يَأْكُلَ بَيضًا، فَأَكَلَ نَاطِفًا، أو لَا يَأْكُلَ شَحْمًا، فَأَكَلَ اللَّحْمَ الأَحْمَرَ، أو لَا يَأْكُلَ شَعِيرًا، فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ ظَهَرَ طَعْمُ السَّمْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمُؤْلِمِ. ولَنا، أنَّ هذا يُقْصَدُ به في العُرْفِ التَّأْلِيمُ، فلا يَبَرُّ بغيرِه. ولذلك (¬1) كلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّرْبُ في الشَّرْعِ، في حَدٍّ، أو تَعْزيرٍ، كان مِن شَرْطِه التَّأْلِيمُ، كذا ههُنا. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (إذا حَلَفَ لا يَأْكُلُ شيئًا، فأَكَلَه مُسْتَهْلَكًا في غيرِه، مثلَ أن لا يَأْكُلَ لَبَنًا، فأكَلَ زُبْدًا، أو لا يَأْكُلَ سَمْنًا، فأكَلَ خَبِيصًا فيهْ سَمْنٌ، لا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه، أو لا يَأْكُلَ بَيضًا، فأكَلَ ناطِفًا، أو لا يَأكُلَ شَحْمًا، فأكَلَ اللَّحْمَ الأحْمَرَ، أو لا يأْكُلَ شَعِيرًا، فأكَلَ حِنْطَةً فيها حبَّاتُ شَعِيرٍ، لم يَحْنَثْ. وإن ظَهَر طَعْمُ السَّمْنِ، أو طَعْمُ ¬

(¬1) في م: «كذلك».

أَوْ طَعْمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيهِ، حَنِثَ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ ـــــــــــــــــــــــــــــ شيءٍ مِن المحْلُوفِ عليه، حَنِثَ. وقال الخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ بأَكْلِ اللَّحْمِ

4771 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل شحما، فأكل اللحم الأحمر، فقال الخرقي: يحنث)

بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْأَحْمَرِ وَحْدَهُ. وَقَال غَيرُهُ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ حِنْطَةٍ فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأحْمَرِ وَحْدَه. وقال غيرُه: يَحْنَثُ بأَكْلِ حِنْطةٍ فيها حَبَّاتُ شعيرٍ) أمَّا إذا حَلَفَ لا يَأْكُلُ لَبَنًا، فأكَلَ زُبْدًا لا يَظْهَرُ فيه طَعْمُ اللَّبَنِ، لم يَحْنَث؛ لأنَّه لم يَأْكُلْ لَبَنًا، فأشْبَهَ ما لو أكَلَ كَشْكًا، وكذلك إن حَلَف لا يَأْكُلُ سَمْنًا، فأكَلَ خَبِيصًا فيه سَمْنٌ، لا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه، لا يَحْنَث؛ لذلك، فأمَّا إن ظَهَر طَعْمُ شيءٍ مِن المَحْلُوفِ عليه، حَنِثَ, كما لو أكَلَ كلَّ (¬1) واحدٍ مُنْفَرِدًا، وإن حَلَف لا يَأْكُلُ بَيضًا، فأكَلَ ناطِفًا، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى بَيضًا. 4771 - مسألة: (وإن حَلَف لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، فأكَلَ اللَّحْمَ الأَحْمَرَ، فقال الْخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ) لأنَّ الشَّحْمَ [كلُّ ما] (¬2) يَذُوبُ بالنَّارِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مما في الحَيَوانِ. والعُرْفُ (¬1) يَشْهَدُ لقَوْلِه. وهو ظاهِرُ قولِ أبي الخَطَّابِ. واللَّحْمُ لا يَكادُ يَخْلُو مِن شيءٍ منه، فيَحْنَثُ به وإن قَلَّ؛ لأنَّه يَظْهَرُ في الطَّبْخِ، فيَبِينُ على وَجْهِ المَرَقِ، وفارَقَ مَن حَلَف لا يَأْكُلُ سَمْنًا، فأكَلَ خَبِيصًا فيه سَمْنٌ لا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه ولا لَوْنُه؛ لأنَّ هذا قد يَظْهَرُ الدُّهْنُ فيه. وقال غيرُ الخِرَقِيِّ مِن أصْحابِنا: لا يَحْنَثُ. قال شيخُنا (¬2): وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى شَحْمًا، ولا يَظْهَرُ فيه طَعْمُه ولا لَوْنُه، والذي يَظْهَرُ في المَرَقِ قد فارَقَ اللَّحْمَ، فلا يَحْنَثُ بأكْلِ اللَّحْمِ الذي كان فيه. فإن حَلَف لا يَأْكُلُ شَعِيرًا، فأكَلَ حِنْطَةً فيها حَبَّاتُ شَعِيرٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «الفرق». (¬2) في: المغني 13/ 601.

فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَويقًا، فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ، فَأَكَلَهُ، فَقَال الْخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ. وقال أَحْمَدُ في مَن حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا، فَثَرَدَ فِيهِ، وَأَكَلَهُ: لَا يَحْنَثُ. فَيُخَرَّجُ في كُلِّ مَا ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال غيرُ الخِرَقِيِّ: يَحْنَثُ؛ لأنَّه أكلَ شَعِيرًا، فأَشْبَهَ ما لو أكلَه مُنْفَرِدًا، أو حَلَف لا يَأْكُلُ رُطَبًا، فأكَلَ مُنَصَّفًا. والأَوْلَى أنَّه لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه مُسْتَهْلَكٌ في الحِنْطَةِ، أشْبَهَ السَّمْنَ في الخَبيصِ الذي لا يَظْهَرُ طَعْمُه، وإن نَوَى بيَمِينِه أن لا يَأْكُلَ الشَّعِيرَ مُنْفَرِدًا، أَو كان السَّبَبُ يَقْتَضِي ذلك، أو يَقْتَضِي أكْلَ شعيرٍ يَظْهَرُ أثَرُ أكْلِه، لم يَحْنَثْ بذلك. فصل: قال، رَضِيَ اللهُ عنه: (فإن حَلَف لا يَأْكُلُ سَويقًا، فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه، فأكَلَه، فقال الخِرَقِيُّ: يَحْنَثُ. وقال أحمدُ في مَن حَلَف

حَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ، فَشَرِبَهُ، أَوْ لَا يَشْرَبُهُ، فَأَكَلَهُ، وَجْهَانِ. وَقَال الْقَاضِي: إِنْ عَيَّنَ الْمَحْلُوفَ عَلَيهِ، حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَشْرَبُ نَبِيذًا، فثَرَد فيه، وأكَلَه: لا يَحْنَثُ. فيُخَرَّجُ في كلِّ ما حَلَف لا يَأْكُلُه، فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه، فأَكَلَه، وَجْهان. وقال القاضي: إن عَيَّنَ المَحْلُوفَ عليه، حَنِثَ، وإلَّا فَلَا) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن حَلَف لا يَأْكُلُ شيئًا، فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه، فأَكَلَه، فقد نُقِلَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على رِوايَتَين؛ إحْداهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّ اليَمِينَ على تَرْكِ أكْلِ شيءٍ أو شُرْبِه يُقْصَدُ بها في العُرْفِ اجْتِنابُ ذلك الشيءِ، فَحُمِلَتِ اليَمِينُ عليه، ألَا تَرَى أنَّ (¬1) قَوْلَه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ} (¬2). و: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى} (¬3). لم يُرِدْ به الأكْلَ على الخُصوصِ؟ ولو قال طَبِيبٌ لمريضٍ: لا تَأْكُلِ. العَسَلَ. لَكانَ ناهِيًا عن شرْبِه. والثانِيَةُ، لا يَحْنَثُ. وهو مذهبُ الشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ الأفْعال أنْواعٌ كالأعيانِ (¬4)، ولو حَلَف على نَوْعٍ مِن الأعْيانِ، لم يَحْنَثْ بغيرِه، كذلك ¬

(¬1) في م: «إلى». (¬2) سورة النساء 2. (¬3) سورة النساء 10. (¬4) في م: «كاليمين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأفْعالُ. وقال القاضي: إنَّما الرِّوايتان في مَن عَيَّنَ المَحْلُوفَ عليه، مثلَ مَن حَلَف: لا أكَلْتُ هذا السَّويقَ. فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه، فأكَلَه، أمَّا إذا أطْلَقَ، فقال: لا أكَلْتُ سَويقًا. فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه، فأكَلَه، لم يَحْنَثْ، رِوايَةً واحِدَةً، لا يَخْتَلِفُ المذهبُ فيه. وهذا يُخالِفُ ما ذَكَرْنا ههُنا مِن الإِطْلاقِ، ومُخالِفٌ لِما أطْلَقَه الخِرَقِيُّ، وليس للتَّعْيِينِ أثَرٌ في الحِنْثِ وعَدَمِه، فإنَّ الحِنْثَ في المُعَيَّنِ إنَّما كان لتَناوُلِه ما حَلَف عليه، وإجْراءِ مَعْنَى الأكْلِ والشُّرْبِ على التَّناوُلِ العامِّ فيهما، وهذا لا فَرْقَ فيه بينَ التَّعْيِينِ وعَدَمِه، وعَدَمُ الحِنْثِ مُعَلَّلٌ بأنَّه لم يَفْعَلِ الفِعْلَ الذي حَلَف على تَرْكِه، وإنَّما فَعَل غيرَه، وهذا في المُعَيَّنِ كهُوَ في المُطْلَقِ؛ [لعَدَمِ الفارِقِ بينَهما، فإذا كان في المُعَيَّنِ رِوايتان، كانتا في المُطْلَقِ] (¬1)، لعَدَمِ الفارِقِ بينَهما، ولأنَّ الرِّوايَةَ في الحِنْثِ أُخِذَتْ (2) مِن كلامِ الْخِرَقِيِّ، وليس فيه تَعْيِينٌ، ورِوايَةُ عَدَمِ الحِنْثِ أُخِذَتْ (¬2) مِن رِوايَةِ مُهَنَّا عن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أحدث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، في مَن حَلَف لا يَشْرَبُ هذا النَّبِيذَ، فأكَلَه، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لا يُسَمَّى شُرْبًا، وهذا في المُعَيَّنِ، فإن عَدَّيتَ كلَّ رِوايَةٍ إلى مَحَلِّ الأُخْرَى، وَجَب أن يكونَ في الجميعِ رِوايَتان، وإن قَصَرْتَ كلَّ رِوايَةٍ على مَحَلِّها، كان الأمْرُ على خِلافِ ما قال القاضي، وهو أن يَحْنَثَ في المُطْلَقِ، ولا يَحْنَثَ في المُعَيَّنِ. فصل: فإن حَلَف لَيَشْرَبَنَّ شيئًا، فأكَلَه، أو ليَأْكُلَنَّه، فشَرِبَه، خُرِّجَ فيه وَجْهان، بناءً على الرِّوايَتَين في الحِنْثِ إذا حَلَف على التَّرْكِ، ومتى تَقَيَّدَتْ يَمِينُه بنِيَّةٍ، أو سَبَب يَدُلُّ عليها، كانت يَمِينُه على ما نَوَاه، أو دَلَّ عليه السَّبَبُ؛ لأنَّ الأيمانَ على النِّيَّةِ. فصل: فإن حَلَف لا يَشْرَبُ شيئًا، فمَصَّه ورَمَى به، فقد رُوِيَ عن

4772 - مسألة: (فإن حلف لا يطعم شيئا، حنث بأكله وشربه)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَطعَمُهُ، حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، وَإِنْ ذَاقَهُ، وَلَمْ يَبْلَعْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ في مَن حَلَف لا يَشْرَبُ، فمَصَّ قَصَبَ السُّكَّرِ: لا يَحْنَثُ. وقال ابنُ أبي موسى: إذا حَلَف لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ، [فمصَّ قَصَبَ السُّكَّرِ، لا يَحْنَثُ. وهذا قولُ أصحابِ الرَّأْي، فإنَّهم قالوا: إذا حَلَف] (¬1) [لا يَشْرَبُ] (¬2)، فمَصَّ حَبَّ رُمَّانٍ، ورَمَى بالثُّفْلِ (¬3)، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه ليس بأكْلٍ ولا شُرْبٍ. ويَجِئُ على قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه قد تَناوَلَه، فوَصَل إلى حَلْقِه وبَطْنِه، فيَحْنَث به، على ما قُلْنا في مَن حَلَف لا يَأْكُلُ شيئًا فشَرِبَه، أو لا يَشْرَبُه فأكَلَه. وإن حَلَف لا يَأْكُلُ سُكَّرًا، فتَرَكه في فيه حتى ذابَ وابْتَلَعه، خُرِّج على الرِّوايَتَين. 4772 - مسألة: (فإن حَلَف لا يَطْعَمُ شَيئًا، حَنِث بأكْلِه وشُرْبِه) وَمَصِّهِ؛ لأنَّ ذلك كُلَّه طُعْمٌ، قال اللهُ تعالى، في النَّهْرِ: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} (¬4). 4773 - مسألة: (وإن ذاقَه ولم يَبْتَلِعْه، لم يَحْنَثْ) في قولِهم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من النسخ. والمثبت كما في المغني 13/ 608. (¬3) في ق، م: «بالتفل». (¬4) سورة البقرة 249.

4774 - مسألة: (وإن حلف لا يأكل مائعا، فأكله بالخبز، حنث)

لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مَائِعًا، فَأَكَلَة بِالْخبْزِ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جميعًا؛ لأنَّه ليس بأكْلٍ ولا شُرْبٍ، ولذلك لا يُفْطِرُ به الصائِمُ. وإن حَلَف لا يَذُوقُه، فأكَلَه، أو شَرِبَه، أو مَصَّه، حَنِث؛ لأنَّه ذَوْقٌ وزِيادَةٌ، وكذلك إن مَضَغه (¬1) ورَمَى به؛ لأنَّه قد ذاقَه. 4774 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَأْكُلُ مائِعًا، فأكَلَه بالخُبْزِ، حَنِث) لأنَّ ذلك يُسَمَّى أكْلًا، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُوا الزَّيتَ وَادَّهِنُوا بِهِ» (¬2). فصل: وإن حَلَف لَيَأْكُلَنَّ أَكْلَةً، بالفَتْحِ، لم يَبَرَّ (¬3) حتى يَأْكُلَ ما يَعُدُّه الناسُ أَكْلَةً، وهي المَرَّةُ من الأكْلِ، والأُكْلَةُ، بالضَّمِّ، اللُّقْمَةُ، ومنه: «فَلْيُنَاولْهُ في يَدِهِ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَينِ» (¬4). ¬

(¬1) في الأصل: «مصه». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 69. (¬3) في الأصل: «يحنث». (¬4) تقدم تخريجه، في: 24/ 441. ويضاف إليه: وأخرجه البخاري أيضًا، في: باب إذا أتاه خادمه بطعامه، من كتاب العتق. صحيح البخاري 3/ 197.

4775 - مسألة: (وإن حلف لا يركب ولا يلبس، فاستدام ذلك، حنث)

فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ، وَلَا يَتَطَهَّرُ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَلْبَسُ، فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: (وإن حَلَف لا يَتَزَوَّجُ، ولا يَتَطَهَّرُ، ولا يَتَطَيَّبُ، فاسْتدامَ ذلك، لم يَحْنَثْ) في قولِهم جميعًا؛ لأنَّه لا يُطْلَقُ اسمُ الفِعْلِ على مُسْتَديمِ هذه الثلاثةِ، فلا يُقالُ: تَزَوَّجْتُ شَهْرًا. ولا تَطَهَّرْتُ شَهْرًا. ولا تَطَيَّبْتُ شَهْرًا. وإنَّما يُقالُ: مُنْذُ (¬1) شَهْرٍ. ولم يُنَزِّلِ الشَّارِعُ اسْتِدامَةَ التَّزْويج والطِّيبِ مَنْزِلَةَ ابْتِدائِهِما (¬2) في تَحْريمِه في الإِحْرامِ. 4775 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَرْكَبُ ولا يَلْبَسُ، فاسْتَدامَ ذلك، حَنِث) مَن حَلَف لا يَلْبَسُ. ثَوْبًا هو لابِسُه، فنَزَعه في الحالِ، وإلَّا ¬

(¬1) في الأصل: «منه». (¬2) في الأصل: «ابتدائه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَنِث، وكذلك إن حَلَف لا يَرْكَبُ دابَّةً هو راكِبُها، فنَزَلَ في أوَّلِ حالةِ الإِمْكانِ، وإلَّا حَنِث. وبهذا قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يَحْنَثُ باسْتِدامَةِ اللُّبْسِ والرُّكُوبِ حتى يَبْتَدِئَه؛ لأَنَّه لو حَلَف أن لا يَتَزَوَّجَ ولا يَتَطَهَّرَ، فاسْتَدامَ ذلك، لم يَحْنَثْ، كذا ههُنا. ولَنا، أنَّ اسْتِدامَةَ اللُّبْسِ والرُّكوبِ تُسَمَّى لُبْسًا ورُكُوبًا، ويُسَمَّى لابِسًا وراكِبًا، ولذلك يقالُ: لبِسْتُ هذا الثَّوْبَ شَهْرًا، ورَكِبْتُ دابَّتِي يومًا. فحَنِث باسْتِدامَتِه, كما لو حَلَف لا يَسْكُنُ، فاسْتَدامَ السُّكْنَى، وقد اعْتَبَر الشَّرْعُ هذا في الإِحْرامِ، حيث حَرَّم لُبْسَ المَخِيطِ، وأوْجَب الكَفَّارَةَ في اسْتِدامَتِه, كما أوْجَبَها في ابْتِدائِه. وفارقَ التَّزْويجَ، فإنَّه لا يُطْلَقُ على الاسْتِدامَةِ، فلا يقالُ: تزَوَّجْتُ شَهْرًا. وإنَّما يقالُ: مُنْذُ شَهْرٍ. ولهذا لم تَحْرُمِ اسْتِدامَتُه في الإِحْرامِ، ويَحْرُمُ ابْتِداؤُه.

4776 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل دارا هو داخلها، فأقام فيها، حنث عند القاضي. ولم يحنث عند أبي الخطاب)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا هُوَ دَاخِلُهَا، فَأَقَامَ فِيهَا، حَنِثَ عِنْدَ الْقَاضِي. وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4776 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَدْخُلُ دَارًا هو داخِلُهَا، فأقَامَ فيها، حَنِث عندَ القاضي. ولم يَحْنَثْ عندَ أبي الخَطَّابِ) ووَجْهُ قولِ القاضي، أنَّ اسْتِدامَةَ المُقامِ في مِلْكِ الغيرِ كابْتِدائِه في التَّحْريمِ. قال أحمدُ في رجلٍ حَلَف على امرأتِه: لا دَخَلْتُ أنا وأنْتِ هذه الدارَ. وهما جميعًا فيها، قال: أخافُ أن يكونَ قد حَنِث. والثاني، لا يَحْنَثُ. اخْتارَه أبو الخطَّابِ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي؛ لأنَّ الدُّخولَ لا يُسْتَعْمَلُ في الاسْتِدامَةِ، ولهذا يُقالُ: دَخَلْتُها مُنْذُ شَهْرٍ. ولا يقالُ: دَخَلْتُها شَهْرًا. فجَرَى مَجْرَى التَّزْويجِ، ولأنَّ الدُّخولَ الانْفِصالُ من خارِجٍ إلى داخِلٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يُوجَدُ في الإِقامَةِ. وللشافعيِّ قَوْلان كالوَجْهَين. ويَحْتَمِلُ أنَّ مَن أحْنَثَه إنَّما كان لأنَّ ظاهِرَ حالِ الحالِفِ أنَّه يَقْصِدُ هِجْرانَ الدَّارِ ومُبايَنَتَها، والإِقامَةُ فيها تُخالِفُ ذلك، فجَرَى مَجْرَى الحالِفِ على تَرْكِ السُّكْنَى بها. فصل: وإن حَلَف لا يُضاجِعُ امْرَأتَه على فِراشٍ، وهما مُتَضاجِعان، فاسْتَدامَ ذلك، حَنِث؛ لأنَّ المُضاجَعَةَ تَقَعُ على الاسْتِدامَةِ، ولهذا يُقالُ: اضْطَجَع على الفِراشِ لَيلَةً. وإن كان هو مُضْطَجِعًا على الفِراشِ وَحْدَه، فاضْطَجَعت عندَه عليه، نَظَرْتَ؛ فإن قامَ لوَقْتِه، لم يَحْنَثْ، وإنِ اسْتَدامَ، حَنِث؛ لِما ذَكَرْنا. وإن حَلَف لا يَصُومُ وهو صائِمٌ، فأتَمَّ يَوْمَه، فقال القاضي: لا يَحْنَثُ. [ويَحْتَمِلُ أنْ يَحْنَثَ] (¬1)؛ لأنَّ الصَّوْمَ (¬2) يَقَعُ على الاسْتِدامَةِ، يقالُ: صامَ يَوْمًا. ولو شَرَع في صَوْمِ يومِ العِيدِ، [فظَنَّ أنَّه مِن رمضانَ (¬3) فبان يومَ العيدِ] (¬4) حَرُمَتْ عليه اسْتِدامَتُه. وإن حَلَف لا يُسافِرُ وهو مُسافِرٌ، فأخَذَ في العَوْدٍ أو أقامَ، لم يَحْنَثْ، وإن مَضَى في سَفَرِه، حَنِثَ؛ لأنَّ الاسْتِدامَةَ سَفرٌ، ولهذا يقالُ: سافَرْت شَهْرًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «لا». (¬3) سقط من النسخ، والمثبت من المغني 13/ 561. (¬4) سقط من: م.

4777 - مسألة: (وإن حلف لا يدخل على فلان بيتا، فدخل فلان عليه، فأقام معه، فعلى الوجهين)

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيتًا، فَدَخَلَ فُلَانٌ عَلَيهِ، فَأَقَامَ مَعَهُ، فَعَلى الْوَجْهَينِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا، أَوْ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَهُوَ مُسَاكِنُهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ في الْحَالِ، حَنِثَ، إِلَّا أنْ يُقِيمَ لِنَقْل مَتَاعِهِ، أَوْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْخُرُوجَ فَيُقِيمَ إِلَى أنْ يُمْكِنَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4777 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَدْخُلُ على فُلانٍ بَيتًا، فدَخَل فُلَانٌ عليه، فأقَامَ معه، فعلى الوَجْهَين). 4778 - مسألة: (وإن حَلَف لا يَسْكُنُ دَارًا، ولا يُسَاكِنُ فُلَانًا وهما مُتَسَاكِنَان، ولم يَخْرُجْ في الحالِ، حَنِث، إلَّا أن يُقِيمَ لنَقْلِ مَتاعِه، أو يَخْشَى على نَفْسِه الخُرُوجَ فيُقِيمَ إلى أن يُمْكِنَه) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا حَلَف لا يَسْكُنُ دارًا هو ساكِنُها، خرَج مِن وَقْتِه، فإن أقامَ فيها بعدَ يَمِينِهِ زَمَنًا يُمْكِنُه الخُروجُ، حَنِث؛ لأنَّ اسْتِدامَةَ السُّكْنَى سُكْنَى، كابْتِدائِها،

4779 - مسألة: فإن أقام لنقل متاعه وأهله، لم يحنث

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في وُقوعِ السُّكْنَى عليها، ألا تَرَاه يقولُ: سَكَنْتُ (¬1) هذه الدَّارَ شَهْرًا. كما يقولُ: لبِسْتُ هذا الثَّوْبَ شَهْرًا؟ (¬2). وبهذا قال الشافعيُّ. فإنْ أقامَ لنَقْلِ رَحْلِه وقُماشِه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ الانْتِقال لا يكونُ إلَّا بالأهْلِ والمالِ، فيَحْتاجُ إلى أن يَنْقُلَ ذلك معه، حتى يكونَ مُنْتَقِلًا. وحُكِي عن مالِكٍ، أنَّه إن أقامَ دونَ اليومِ واللَّيلَةِ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ ذلك قليلٌ يَحْتاجُ إليه في الانْتِقالِ، فلم يَحْنَثْ به. وعن زُفَرَ، أنَّه قال (2): يَحْنَثُ وإنِ انْتَقَل في الحالِ؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكونَ ساكِنًا عَقِيبَ يَمِينِه ولو لَحْظَةً، فحَنِثَ بها. وليس بصَحِيحٍ؛ [فإنَّ ما] (¬3) لا يُمْكِنُ الاحْتِرازُ منه (¬4) لا يُرادُ باليَمِينِ، ولا تَقَعُ عليه، أمَّا إذا أقامَ زَمَنًا يُمْكِنه الانتِقالُ فيه، فإنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه فَعَل ما يَقَعُ عليه اسمُ السُّكْنَى، فحَنِثَ به، كمَوْضِعِ الاتِّفاقِ، ألَا تَرَى أنَّه لو حَلَف لا يَدْخُلُ الدَّارَ، فدَخَل إلى أوَّلِ جُزْءٍ منها، يَحْنَثُ، وإن كان قَليلًا؟ 4779 - مسألة: فإن أقامَ لنَقْلِ متاعِه وأهْلِه، لم يَحْنَثْ. وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: يَحْنَثُ. ولَنا، أنَّ الانْتِقال إنَّما يكونُ بالأهْلِ والمالِ، على ما سَنَذْكُرُه، فلا يُمْكِنُه التَّحَرُّزُ مِن هذه الإِقامَةِ، فلا تَقَعُ اليَمِينُ عليها. وعلى هذا، لو خَرَج بنَفْسِه، وتَرَك أهْلَه وماله في ¬

(¬1) بعده في م: «في». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «فإنه». (¬4) بعده في م: «لأنه».

4780 - مسألة: (وإن خرج دون أهله ومتاعه، حنث)

وإنْ خَرَجَ دُونَ مَتَاعِهِ وَأهْلِهِ، حَنِثَ، إلا أنْ يُودِعَ مَتَاعَهُ أوْ يُعِيرَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ المَسْكَنِ مع إمْكانِ نَقْلِهم عنه، حَنِثَ. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ إذا خَرَج بنِيَّةِ الانْتِقالِ؛ لأنَّه إذا خَرَج بنِيَّةِ الانْتِقالِ، فليس بساكِنٍ؛ لأنَّه يجوزُ أن يُرِيدَ السُّكْنَى وَحْدَه دونَ أهْلِه ومالِه. ولَنا، أنَّ السُّكْنَى تكونُ بالأهْلِ والمالِ، ولهذا يقالُ: فلان ساكِن في البَلَدِ الفُلانِيِّ. وهو غائِبٌ عنه بنَفْسِه، وإذا نَزَل بَلَدًا بأهْلِه ومالِه، يقالُ: سَكَنَه. وقوْلُهم: إنَّه نَوَى السُّكْنَى بنَفْسِه. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ مَن خَرَج إلى مكانٍ ليَنْقُلَ أهْلَه إليه، لم (¬1) يَنْو السُّكْنَى به بنَفْسِه، [فأشْبَهَ مَن خَرَج لشِراءِ مَتاعٍ، وإن خَرَج عازِمًا على السُّكْنَى بنفسِه] (¬2) مُنْفَرِدًا عن أهْلِه الذي في الدَّارِ، لم يَحْنَث فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى. ذَكَرَه القاضي. وحُكِي (¬3) عن مالكٍ، أنَّه اعْتَبَر نَقْلَ عِيالِه دونَ مالِه. والأوْلَى، إن شاءَ الله، أنَّه إذا انْتَقَلَ بأهْلِه، فسَكَنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ، أنَّه لا يَحْنَثُ، وإن بَقِيَ مَتاعُه في الأُولَى؛ لأنَّ مَسْكَنَه حيثُ حَلَّ أهْلُه به، ونَوَى الإقامَةَ به، ولهذا لو حَلَف لا يَسْكُنُ دارًا لم يَكُنْ ساكِنًا بها، فنَزَلَها بأهْلِه ناويًا للسُّكْنَى بها، حَنِثَ. وقال القاضي: إن نَقَل إليها ما يَتَأَثَّثُ به، ويَسْتَعْمِله في مَنْزِلِه، فهو ساكِنٌ وإن سَكَنَها بنَفسِه. 4780 - مسألة: (وإن خَرَج دُونَ أهْلِه ومَتاعِه، حَنِث) لِما ¬

(¬1) في م: «ولم». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: ق، م.

وَتَأْبَى امْرَأَتُه الْخُرُوجَ مَعَهُ، وَلَا يُمْكِنَهُ إِكْرَاهُهَا، فَيَخْرُجَ وَحْدَهُ، فَلَا يَحْنَث. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا في المسألةِ التي قبلَها (إلَّا أن يُودِعَ مَتاعَه أو يُعِيرَه، أو تَأْبَى امْرَأتُه الخُروجَ معه، ولا يُمْكِنَه إكْرَاهُها، فيَخْرُجَ وَحْدَه، فلا يَحْنَثُ). فصل: وإن أُكْرِه على المُقامِ، لم يَحْنَثْ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأ، والنِّسْيانِ، ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (¬1). وكذلك إن كان في جَوْفِ اللَّيلِ في وَقْتٍ لا يَجِدُ مَنْزِلًا يَتَحَوَّلُ إليه، أو تحولُ بينَه وبينَ المنْزِلِ أبوابٌ مُغْلَقَةٌ لا يُمْكِنُه فَتْحُها، أو خَوْفٌ على نَفْسِه أو أهْلِه أو مالِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأقامَ في طَلَبِ النُّقْلَةِ، أو انْتِظارًا لزَوالِ المانِعِ منها، أو خَرَج طالِبًا للنُّقْلَةِ فتَعَذَّرَت (¬1) عليه؛ إمَّا لكَوْنِه لم يَجِدْ مَسْكَنًا يَتَحَوَّلُ إليه، لتَعَذُّرِ الكِراءِ أو غيرِه، أو لم يَجِدْ بَهائِمَ يَنْتَقِلُ عليها، ولا يُمْكِنُه النُّقْلَةُ بدُونِها، فأقامَ ناويًا للنُّقْلَةِ متى قَدَر عليها، لم يَحْنَثْ وإن أقامَ أيَّامًا ولَيالِيَ؛ لأنَّ إقامَتَه من غيرِ اخْتِيارٍ منه، لعَدَمِ تَمَكنِه من النُّقْلَةِ، فإنَّه إذا لم يَجِدْ مَسْكَنًا لا يُمْكِنُه تَرْكُ أهْلِه، و (¬2) إلْقاءُ مَتاعِه في الطَّريقِ، فلم يَحْنَث به، كالمُقِيمِ للإِكْراهِ. فإن أقامَ في هذا الوَقْتِ، غيرَ ناوٍ للنُّقْلةِ، حَنِث، ويكونُ نَقْلُه لِما يَحْتاجُ إلى نَقْلِه على ما جَرَت به (¬3) العادَةُ، فلو كان ذا مَتاعٍ كثير، فنَقَلَه قليلًا قليلًا على العادَةِ، بحيثُ لا يَتْرُكُ النَّقْلَ المُعْتادَ، لم يَحْنَثْ وإن أقامَ أيَّامًا، ولا يَلْزَمُه جَمْعُ دَوابِّ البلَدِ لنَقْلِه، ولا النَّقْلُ باللَّيلِ، ولا وقتَ الاسْتراحَةِ عندَ التَّعَبِ، ولا أوْقاتَ الصلواتِ؛ لأن العادَةَ لم تَجْرِ بالنَّقْلِ فيها. فصل: ولو وَهَب رَحْلَه أو أوْدَعَه أو أعارَه وخَرَج وَحْدَه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ يَدَه زالت عن المَتاعِ. وكذلك إن أُبتِ امْرَأتُه الخُروجَ معه، ولم يُمْكِنْه إكْراهُها، أو كان له عائِلَة فامْتَنَعُوا من الخُروجِ والانتِقالِ، ولم ¬

(¬1) في الأصل: «فبعدت». (¬2) في ق، م: «أو». (¬3) سقط من: ق، م.

4781 - مسألة: (وإن حلف لا يساكن فلانا، فبنيا بينهما حائطا وهما متساكنان، حنث، وإن كان في الدار حجرتان، كل حجرة تختص ببابها ومرافقها، فسكن كل واحد حجرة، لم يحنث)

وَإنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، فَبَنَيَا بَينَهُمَا حَائِطًا وَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ، حَنِثَ، وَإنْ كَانَ في الدَّارِ حُجْرَتَانِ، كُلُّ حُجْرَةٍ تَخْتَصُّ بِبَابِهَا وَمَرَافِقِهَا، فَسَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ حُجْرَةً، لَمْ يَحْنَث. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنْه إخْراجُهم فتَرَكَهُم، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ هذا ممَّا لم يُمْكِنْه، فأشْبَهَ ما لم يُمْكِنْه نَقْلُه من رَحْلِه. وإن تَرَدَّد إلى الدَّارِ لنَقْلِ المَتاعِ، أو عائِدًا، أو زائِرًا لصَدِيقٍ، لم يَحْنَثْ. وقال القاضي: إن دَخَلَها ومِن رَأْيِه الجُلوسُ عندَه، حَنِث، وإلَّا فلا. ولَنا، أنَّ هذا ليس بسُكْنَى، ولذلك لو حَلَف ليَسْكُنَنَّ دارًا، لم يَبَرَّ بالجُلُوسِ فيها على هذا الوَجْهِ، ولا يُسَمَّى ساكِنًا به (¬1) بهذا القَدْرِ، فلم يَحْنَثْ، كما لو لم يَنْو الجُلوسَ. فصل: وإن حَلَف لا يُساكِنُ فُلانًا وهو مُساكِنُه، فالحُكْمُ في الاسْتِدامَةِ على ما ذَكَرْنا في الحَلِفِ على السُّكْنَى، وإنِ انْتَقَل أحَدُهما وبَقِيَ الآخَرُ، لم يَحْنَثْ؛ لزَوالِ المُساكَنَةِ. 4781 - مسألة: (وإن حَلَف لا يُساكِنُ فُلَانًا، فبَنَيا بينَهما حائِطًا وهما مُتَساكِنَان، حنث، وإن كان في الدَّارِ حُجْرَتان، كلُّ حُجْرَةٍ تَخْتَصُّ ببَابِها ومَرافِقِها، فسَكَنَ كلُّ واحِدٍ حُجْرَةً، لم يَحْنَثْ) إذا كانا في دارٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. وفي م: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةٍ حالةَ اليَمِينِ، فخَرَج أحَدُهما منها، وقَسَماها حُجْرَتَين، وفَتَحا لكلِّ واحدةٍ منهما بابًا، وبينَهما حاجِزٌ، ثم سَكَن كل واحدٍ منهما في حُجْرَةٍ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّهما غيرُ مُتَساكِنَين، وإن بَنَيَا الحاجِزَ بينَهما وهما مُتَساكِنان، حَنِث؛ لأنَّهما تَساكَنا قبلَ انْفِرادِ إحْدَى الدَّارَين مِن الأخْرَى. وهذا قولُ الشَّافعيِّ (¬1). ولا نَعلمُ فيه خِلافًا. فصل: وإن سَكَنا في دارٍ واحدَةٍ، كل واحدٍ في بَيتٍ ذِي بابٍ وغَلْقٍ، رُجِع إلى نِيَّتِه بيَمِينِه أو إلى سَبَبِها، وما دَلَّتْ عليه قَرائِنُ أحْوالِه في المَحْلُوفِ ¬

(¬1) في الأصل: «للشافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على المُساكَنَةِ فيه، فإن عُدِمَ ذلك، حَنِثَ. وهذا قولُ مالكٍ. وقال الشافعيُّ: إن كانتِ الدَّارُ صَغيرَةً، فهما مُتَساكِنان؛ [لأنَّ الصغيرةَ مَسْكَنٌ واحِدٌ، وإن كانت كبيرةً، إلَّا أنَّ أحدَهما في البيتِ و (¬1) الآخَرَ في الصُّفَّةِ، أو كانا في صُفَّتَين، أو بَيتَين ليس على أحدِهما غَلْقٌ دونَ صاحبِه، فهما مُتساكِنان] (¬2). وإن كانا في بَيتَين، كلُّ واحدٍ منهما له غَلْق، أو كانا في خَانٍ، فليسا مُتَساكِنَين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَنْفَرِدُ بمَسْكَنِه دونَ الآخَرِ، فأشْبَها المُتَجاورَين. فصل: وإن حَلَف: لا ساكَنْتُ فُلانًا في هذه الدَّارِ. فقَسماها حُجْرَتَينِ، وبَنَيا بَينَهما حائِطًا، ومثَح كلُّ واحدٍ منهما بابًا لنفسِه، وسَكَنا فيهما (¬3)، لم يَحْنَثْ؛ لِما (¬4) ذَكَرْنا في التي قبلَها. وهذا قولُ الشافعيِّ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال مالكٌ: لا يُعْجِبُنِي ذلك. ويَحْتَمِلُه قياسُ المذهبِ؛ لكَوْنِه عيَّنَ (¬5) الدَّارَ، فلا تَنْحَلُّ يَمِينُه بتَغْيِيرِها (¬6)، كما لو حَلَف لا يَدْخُلُها، فصارَتْ فَضاءً. ¬

(¬1) الواو ساقطة من النسخ، وانظر: المغني 13/ 550. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في ق، م: «وسكناها». (¬4) في ق، م: «كما». (¬5) في الأصل: «غير». (¬6) في الأصل: «بتغييرهما».

4782 - مسألة: (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة، فخرج دون أهله)

وَإنْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، فَخَرَجَ وَحْدَهُ دُونَ أهْلِهِ، بَرَّ، وَإنْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنَ الدَّارِ، فَخَرَجَ دُونَ أهْلِهِ، لَمْ يَبَرَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه لم يُساكِنْه فيها، لكَوْنِ المُساكَنَةِ في الدَّارِ لا تَحْصُلُ مع كَوْنِها (¬1) دارَين، وفارَقَ الدُّخولَ، فإنَّه دَخَلَها مُتَغَيِّرَةً. 4782 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَخْرُجَنَّ من هذه البَلْدَةِ، فخَرَجَ دُونَ أهْلِه) لم يَحْنَثْ (وإن حَلَف لَيَخْرُجَنَّ مِن) هذه (الدَّارِ، فَخَرَجَ دُونَ أهْلِه، لم يَبَرَّ) إذا حَلَف ليَخْرُجَنَّ مِن هذه الدَّارِ، اقْتَضَتْ يَمِينُه الخُروجَ بنَفْسِه وأهْلِه، كما لو حَلَف لا يَسْكُنُها. وإن حَلَف ليَخْرُجَنَّ مِن هذه البَلْدَةِ، تَناوَلَتْ يَمِينُه الخُروجَ بنَفْسِه؛ لأنَّ الدَّارَ يَخْرُجُ منها صاحِبُها في اليومِ مَرَّات عادَة (¬2)، فظاهِرُ حالِه أنَّه لم يُرِدِ الخُروجَ المُعْتادَ، وإنَّما أرادَ الخُروجَ الذي هو النُّقْلَةُ، والخُروجُ من البَلَدِ بخلافِ ذلك. ¬

(¬1) في ق: «كونهما». (¬2) في الأصل: «عدة».

4783 - مسألة: (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة، أو ليرحلن عن هذه الدار، ففعل، فهل له العود إليها؟ على روايتين)

وَإنْ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أو لَيَرْحَلَنَّ عَنْ هذِهِ الدَّارِ، فَفَعَلَ، فَهَلْ لَهُ الْعَوْدُ إِلَيهَا؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4783 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَخْرجَنَّ مِن هذه البَلْدَةِ، أو لَيَرْحَلَنَّ عن هذه الدَّارِ، ففَعَل، فهل له العَوْدُ إليها؟ على رِوَايَتَين) إحْدَاهما، لا شيءَ عليه في العَوْدِ، ولا يَحْنَث به؛ لأنَّ يَمِينَه على الخُروجِ، وقد خَرَج، فانْحَلَّتْ يَمِينه بفِعْلِ ما حَلَف عليه، فلم يَحْنَثْ فيها (¬1) بعدُ. والثانِيَة، يَحْنَث بالعَوْدِ؛ لأنَّ ظاهِرَ حالِه قَصْدُ هِجْرانِ ما حَلَف على الرَّحيلِ منه، ولا يَحْصُلُ ذلك بالعَوْدِ. ويُمْكِن حَمْلُ هذه الرّوايَةِ على أنَّ للمَحْلُوفِ (¬2) عليه سَبَبًا (¬3) هَيَّجَ يَمِينَه، أو دَلَّتْ قَرِينَة حالِه على إرادَةِ هِجْرانِه، أو نَوَى ذلك بيَمِينِه، فاقْتَضَتْ يَمِينه دَوامَ اجْتِنابِها. فإن لم يَكنْ كذلك، لم يَحْنَثْ بالعَوْدِ؛ لأنَّ اليَمِينَ تحْمَل (¬4) عندَ عَدَمِ ذلك على مُقْتَضَى اللَّفْظِ، ¬

(¬1) في الأصل: «فيما». (¬2) في م: «المحلوف». (¬3) في م: «شيء». (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: وإنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَحُمِلَ فَأُدْخِلَهَا، وَيُمْكِنُهُ الامْتِنَاعُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ، أوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ رَجُلًا فَخَدَمَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَال الْقَاضِي: يَحْنَثُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحْنَثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُقْتَضاه ههُنا الخُروجُ، وقد فَعَلَه، فانْحَلَّتْ يَمِينُه به. وكذلك الحُكْمُ (¬1) إذا حَلَف على الرَّحيلِ من بَلَدٍ، لم يَبَرَّ إلَّا بالرَّحيلِ بأهْلِه. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (إذا حَلَف لا يَدْخُلُ دارًا، فحُمِلَ فأُدْخِلَها، ويُمْكِنُه الامْتِناعُ فلم يَمْتَنِعْ، أو حَلَف لا يَسْتَخْدِمُ رَجُلًا، فخَدَمَه وهو ساكِت، فقال القاضي: يَحْنَثُ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ) إذا حَلَف لا يَدْخُلُ دارًا، فحُمِلَ فأُدْخِلَها، فلم يُمْكِنْه الامْتِناعُ، لم يَحْنَثْ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ أبي طالبٍ. وبه قال الشافعي، وأبو ثَوْرٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ الفِعْلَ غيرُ مَوْجودٍ منه، ولا مَنْسُوبٍ إليه. فإن حُمِلَ بأمْرِه، فأُدْخِلَها، حَنِثَ؛ لأنَّه دَخَل مُخْتارًا، فأشْبَهَ ما لو دَخَل راكِبًا. فإن حُمِلَ بغيرِ أمْرِه، لكنَّه أمْكَنَه الامْتِناعُ فلم يَمْتَنِعْ، حَنِثَ أيضًا. اخْتارَه القاضي؛ لأنه دَخَلَها غيرَ مُكْرَهٍ، فأشْبَهَ ما لو حُمِلَ بأمْرِه. وقال أبو الخَطَّابِ: في الحِنْثِ وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ؛ [لأنَّه لم يَفْعَلِ الدُّخُولَ، ولم يَأمُرْ به، فأشْبَهَ ما لو لم يُمْكِنْه الامْتِناعُ. ومتى دَخَل باخْتِيارِه، حَنِثَ] (¬1)، سَواءٌ كان ماشِيًا، أو راكِبًا، أو مَحْمُولًا، أو ألْقَى نَفْسَه (¬2) في ماءٍ فَجَرَّه إليها، أو سَبَح فيها فَدَخَلَها، وسَواءٌ دَخَل مِن بابِها، أو تَسَوَّرَ حائِطَها، أو دَخَل مِن طاقَةٍ فيها، أو نَقَب حائِطَها، و (¬3) دَخَل مِن ظَهْرِها، أو غير ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «سفينة». (¬3) في ق، م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أُكْرِهَ بالضَّرْبِ ونَحْوه، فدَخَلَها، لم يَحْنَثْ، في أحَدِ الوَجْهَين. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. والثاني، يَحْنَثُ. وهو قولُ أصحابِ الرَّأْي. ونحوُه عن النَّخَعِيِّ؛ لأنه دَخَلَها وفَعَل ما حَلَف على تَرْكِه. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأَ، والنِّسْيانِ، ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» (¬1). ولأنَّه دَخَلَها مُكْرَهًا، فأشْبَهَ ما لو حُمِلَ فأُدْخِلَها مُكْرَهًا. وكذلك إن حَلَف لا يَسْتَخْدِمُ رَجُلًا، فخَدَمَه وهو ساكِتٌ، فيه مِن الخلافِ ما ذكَرْناه في دُخولِ الدَّارِ؛ لأنَّه في مَعْناه. فصل: وإن حَلَف لا يَسْتَخْدِمُ عَبْدًا، فخَدَمَه وهو ساكِت، لم يَأْمُرْه ولم يَنْهَه، فقال القاضي: إن كان عبدَه، حَنِثَ، وإن كان عبدَ غيرِه، لم يَحْنَثْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ عبدَه يَخْدِمُه عِبادَةً (¬2) بحُكْمِ اسْتِحْقَاقِه ذلك عليه، فيكونُ معْنى يَمِينِه: لَا مَنَعْتُك خِدْمَتِي. فإذا لم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276. (¬2) في ق، م: «عادة».

4784 - مسألة: (وإن حلف ليشربن)

وَإنْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ، أو لَيَضْرِبَنَّ غُلَامَهُ غَدًا، فَتَلِفَ الْمَحْلُوفُ عَلَيهِ قَبْلَ الْغَدِ، حَنِثَ عِنْدَ الْخِرَقِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَحْنَثَ. وإنْ مَاتَ الْحَالِفُ، لَمْ يَحْنَثْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَنْهَه، لم يَمْنَعْه، فحَنِثَ (¬1)، وعبدُ غيرِه بخِلافِه. وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْنَثُ في الحالين؛ لأنَّ إقْرارَه على الخِدْمَةِ اسْتِخْدامٌ، ولهذا يقالُ: فلانٌ يَسْتَخْدِمُ عبدَه. إذا خَدَمَه وإن لم يَأْمُرْه، ولأنَّه ما حَنِثَ به في عبدِه، حَنِث به في عبدِ غيرِه، [كسائِرِ الأشْياءِ. وقال الشافعيُّ: لا يَحْنَثُ في الحالين؛ لأنَّه حَلَف على فِعْلِ نَفْسِه، فلا يَحْنَث بفِعْلِ غيرِه] (¬2)، كسائِرِ الأفْعالِ. 4784 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَشْرَبَنَّ) هذا (الماءَ، أو لَيَضْرِبَنَّ غُلامَه غَدًا، فتَلِفَ المَحْلُوفُ عليه قبلَ الغَدِ، حَنِثَ عندَ الخِرَقِيِّ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَحْنَثَ. وإن مَاتَ الحَالِفُ، لم يَحْنَثْ) أمَّا إذا ماتَ الحالِفُ من يَوْمِه، فلا حِنْثَ عليه؛ لأنَّ الحنثَ إنَّما يحصُلُ بفواتِ المحلوف عليه في وقته، وهو الغَدُ، والحالِفُ قد خَرَج عن أهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ قبلَ الغَدِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يُمْكِنُ حِنْثُه. وكذلك إن جُنَّ الحالِفُ من يَوْمِه، فلم يُفِقْ إلَّا بعدَ خُروجِ الغَدِ؛ لأنَّه خَرَج عن كَوْنِه مِن أهلِ التَّكْلِيفِ. وإن هَرَب العبدُ، أو مَرِضَ هو أو الحالِفُ، أو نحو ذلك، فلم يَقْدِرْ على ضَرْبِ العَبْدِ، حَنِثَ؛ لأنَّه لم يَفْعَلْ ما حَلَف عليه، مع كَوْنِه مِن أهلِ التَّكْلِيفِ. وإن لم يَمُتِ الحالِفُ، ففيه مسائِلُ سبعٌ (¬1)؛ أحدُها، أن يَضْرِبَ العَبْد في غَدٍ، أيَّ وَقْتٍ كان منه، فإنَّه يَبَرُّ في يَمِينِه، بلا خِلافٍ. الثانِيَةُ، أمْكَنَه ضَرْبُه في غَدٍ، فلم يَضْرِبْه حتى مَضَى الغَدُ، وهما في الحَياةِ (¬2)، فيَحْنَثُ بلا خِلافٍ أيضًا. الثالِثَةُ، ماتَ العبدُ من يَوْمِه، فإنَّه يَحْنَثُ. وهو أحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. ويَتَخَرجُ أن لا يَحْنَثَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ. والقولُ الثاني للشافعيِّ؛ لأنَّه فقدَ (¬3) ضَرْبَه بغيرِ اختِيارِه، فلم يَحْنَث، كالمُكرَهِ ¬

(¬1) كذا ذكر الشارح، والمذكور إحدى عشرة مسألة. (¬2) في ق، م: «الغد». (¬3) في الأصل، م: «قد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والنَّاسِي. ولَنا، أنَّه لم يَفْعَلْ ما حَلَف عليه في وَقْتِه، مِن غيرِ إكْرَاهٍ ولا نِسْيانٍ، وهو مِن أهْلِ الحِنْثِ، فحَنِثَ، كما لو أتْلَفَه (¬1) باخْتِيارِه، وكما لو حَلَف ليَحُجَّنَّ العامَ، فلم يَقْدِرْ على الحَجِّ؛ لمرَض، أو عَدَمِ النَّفَقَةِ، وفارَقَ الإكراهَ والنِّسيانَ، فإنَّ الامْتِناعَ لمَعْنًى في الحَالِفِ (¬2)، وههُنا الامْتِناغُ لمَعْنًى في المَحَلِّ، فأشْبَهَ ما لو تَرَك ضَرْبَه لصُعُوبَتِه، أو تَرَك الحالِفُ الحَجَّ لصُعُوبَةِ الطَّريقِ وبُعْدِها عليه. فأمَّا إن كان تَلَفُ المَحْلُوفِ عليه بفِعْلِه واخْتِيارِه، حَنِثَ، وَجْهًا. واحِدًا؛ لأنَّه فَوَّتَ الفِعْلَ على نَفْسِه. ¬

(¬1) في ق، م: «أحلفه». (¬2) في م: «الحلف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: ويَحْنَثُ الحالِفُ ساعةَ مَوْتِه؛ لأنَّ يَمِينَه انْعَقَدَتْ مِن حِينِ حَلِفِه، وقد تَعَذَّرَ عليه الفِعْلُ، فحَنِثَ في الحالِ، كما لو لم يُؤَقِّتْ. ويَتَخَرَّجُ أن لا يَحْنَثَ قبلَ الغَدِ؛ لأنَّ الحِنْثَ مُخالفَةُ ما عَقَدَ يَمِينَه عليه، فلا تحْصُلُ المُخالفَةُ إلَّا بتَرْكِ الفِعْلِ في وَقْتِه. الرابِعَةُ، ماتَ العبدُ في غَدٍ قبلَ التَّمَكُّنِ من ضَرْبِه، فهو كما لو ماتَ في يَوْمِه. الخامِسَةُ، ماتَ العبدُ في غَدٍ بعدَ التَّمَكُّنِ من ضَرْبِه، قبلَ ضَرْبِه، فإَّنه يَحْنَثُ، وَجْهًا واحدًا. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ. وقال بعضُهم: فيه قَوْلان. ولَنا، أنَّه تَمَكَّنَ من ضَرْبِه في وَقْتِه، فلم يَضْرِبْه، فحَنِثَ، كما لو مَضَى الغَدُ قبلَ ضَرْبِه. السادِسَةُ، ماتَ الحالِفُ في غَدٍ، بعدَ التَّمَكنِ من ضَرْبِه، فلم يَضْرِبْه، حَنِثَ، وَجْهًا واحدًا، لِما ذَكَرْنا. السابِعَةُ، ضَرَبَه في يَوْمِه، فإنَّه لا يَبَرُّ. وهذا قولُ أصحابِ الشافعيِّ. وقال القاضي، وأصحابُ أبي حنيفةَ: يَبَرُّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ يَمِينَه للحَثِّ (¬1) على ضَرْبِه، فإذا ضَرَبَه اليومَ، فقد فَعَل المحلوفَ عليه وزِيادَةً، فأشْبَهَ ما لو حَلَف ليَقْضِيَنَّه حَقَّه (¬2) غَدًا، فقَضاه اليومَ. ولَنا، أنَّه لم يَفْعَلِ المَحْلُوفَ عليه في وَقْتِه، فلم يَبَرَّ، كما لو حَلَف ليَصُومَنَّ يومَ الجُمُعَةِ، فصامَ يومَ الخميسِ، وفارَقَ قَضاءَ الدَّينِ، فإنَّ المقْصودَ تَعْجِيلُه لا غيرُ، وفي قَضاءِ اليومِ (¬3) زِيادَة في التَّعْجيلِ، فلا يَحْنَثُ فيها؛ لأَنه عُلِمَ من قَصْدِه إرادَةُ أن لا يَتَجاوَزَ غَدًا بالقَضاءِ، فصارَ كالمَلْفوظِ به، إذْ (¬4) كان مَبْنَى الأيمانِ على النِّيَّةِ، ولا يَصِحُّ قِياسُ ما ليس مثلُه عليه، وسائرُ المَحْلُوفاتِ لا يُعْلَمُ منها إرادَةُ التَّعْجيلِ عن الوَقْتِ الذي وَقَّتَه لها، فامْتَنَعَ الإلْحاقُ، وتَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ باللَّفْظِ. الثامنَةُ، ضَرَبَه بعدَ مَوْتِه، فلا يَبَرُّ؛ لأن اليَمِينَ تَنْصَرِفُ إلى ضَرْبِه حَيًّا، يَتَألَّمُ بالضَّرْبِ، وقد زال هذا بالموتِ. التاسِعَةُ، ضَرَبَه ضَرْبًا لا يُولِمُه، لا يَبَرُّ؛ لِما ذَكَرْناه. العاشِرَةُ، خَنَقَه، [أو نَتَف] (¬5) شَعَرَه، أو عَصَر ساقَه، بحيثُ يُؤْلِمُه، فإنَّه يَبرُّ؛ لأَنَّه ¬

(¬1) في النسخ: «للحنث». والمثبت من المغني 13/ 571. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «الدين». (¬4) في النسخ: «إذا». وانظر المغني 13/ 571. (¬5) في الأصل: «و».

4785 - مسألة: وإن قال: والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا. فاندفق اليوم. أو: لآكلن هذا الخبز غدا. فتلف، فهو على نحو ما ذكرنا في العبد. قال صالح: سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسَمَّى ضَرْبًا، لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُنا له. الحادِيَةَ عَشَرَةَ، جُنَّ العبدُ، فضَرَبَه، فإنَّه يَبَرُّ؛ لأَنَّه حَى يَتَأَلَّمُ بالضَّرْبِ. وإن لم يَضْرِبْه، حَنِثَ. وإن حَلَف لا يَضْرِبُه في غَدٍ، ففيه نحوُ هذه المَسائلِ. ومتى فاتَ ضَرْبُه بمَوْتِه أو غيرِه، لم يَحْنَثْ؛ لأنه لم يَضْرِبْه. 4785 - مسألة: وإن قال: واللهِ لَأشْرَبَنَّ ماءَ هذا الكُوزِ غَدًا. فانْدَفَقَ اليَوْمَ. أو: لآكُلَنَّ هَذَا الخُبْزَ غَدًا. فتَلِفَ، فهو على نحو ما ذَكَرْنَا في العَبْدِ. قال صالحٌ: سألْتُ أبي عن الرجلِ يَحْلِفُ أن يَشْرَبَ هذا (¬1) الماءَ، فانْصَبَّ؟ فقال: يَحْنَث. وكذا لو حَلَف [أن يَأكُلَ] (¬2) هذا الرَّغِيفَ، فأكَلَه كلبٌ (¬3)؟ قال: يَحْنَثُ؛ لأن هذا لا يَقْدِرُ عليه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ليأكلن». (¬3) في الأصل: «غيره».

4786 - مسألة: (وإن حلف ليقضينه حقه، فأبرأه، فهل يحنث؟ على وجهين)

وإنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ، فَأبْرأهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ومَن حَلَفَ لا يَتَكَفَّلُ بمالٍ، فكَفَلَ ببَدَنٍ، فقال أصحابُنا: يَحْنَثُ؛ لأنَّ المال (¬1) يَلْزَمُه بكَفالتِه إذا تَعَذَّرَ إحْضارُ المَكْفولِ به. قال شَيخُنا (¬2): والقياسُ أَنه لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه لم يَكْفُلْ بمالٍ، وإنَّما يَلْزَمُه المالُ بتَعَذر إحْضارِ المَكْفُولِ به، وأمَّا قبلَ ذلك فلا يَلْزَمُه، ولأنَّ هذا لا يسَمَّى كَفالةً بالمالِ، ويَصِحُّ نَفْيُها عنه، فيقالُ: ما تَكَفَّلَ بمالٍ، إنَّما تَكَفَّلَ بالبَدَنِ. وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ. 4786 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَقْضِيَنَّه حَقَّه، فأبْرَأه، فهل يَحْنَثُ؟ على وَجْهَين) وذلك مَبْنِيٌّ على ما إذا حَلِف على فِعْلِ شيءٍ، فتَلِفَ قبلَ فِعْلِه، وفيه وَجْهان؛ أحدُهما، يَحْنَثُ؛ لأنَّه لم يَفْعَلْ ما حَلَف عليه. ¬

(¬1) في الأصل: «هذا». (¬2) في: المغني 13/ 618.

4787 - مسألة: (وإن مات المستحق فقضى ورثته، لم يحنث)

وَإنْ مَاتَ الْمُسْتَحِقُّ فَقَضَى وَرَثَتَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَال الْقَاضِي: يَحْنَثُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني، لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه مُنِعَ من فِعْلِه، فأشْبَهَ المُكْرَهَ على فِعْلِ ما حَلَف على [تَرْكِ فِعْلِه] (¬1)، وقد ذَكَرْنا ذلك في مَن حَلَف ليَضْرِبَنَّ غُلامَه غَدًا (¬2)، فتَعَذَّرَ ضَرْبُه. 4787 - مسألة: (وإن ماتَ المُسْتَحِقُّ فقَضَى وَرَثَتَه، لم يَحْنَثْ) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ قَضاءَ وَرَثَتِه يَقُومُ مَقامَ قَضائِه في إبْراء ذِمَّتِه، فكذلك في البِرِّ في يَمِينه. وحُكِيَ عن القاضي أنَّه يَحْنَثُ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ قَضاؤُه، فأشْبَهَ ما لو حَلَف ليَضْرِبَنَّ عبدَه غَدًا، فماتَ العبدُ اليومَ. ومَن ¬

(¬1) في م: «تركه». (¬2) سقط من: م.

4788 - مسألة: (وإن باعه بحقه عرضا، لم يحنث عند ابن حامد)

وَإنْ بَاعَهُ بِحَقِّهِ عَرْضًا، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ، وَحَنِثَ عِنْدَ الْقَاضِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصَر قولَ أبي الخطَّابِ قال: مَوْتُ العَبْدِ يُخالِفُ ذلك؛ لأنَّ ضَرْبَ غيرِه لا يَقُومُ مَقامَ ضَرْبِه. وقال أصحابُ الرَّأْي، وأبو ثَوْرٍ: تَنْحَلُّ اليَمِينُ بمَوْتِ المُسْتَحِقِّ، ولا يَحْنَثُ، سَواءٌ قَضَى وَرَثَتَه أو لم يَقْضِهم؛ لأنَّه تَعَذَّرَ عليه فِعْلُ (¬1) ما حَلَف عليه بغيرِ اخْتِيارِه، أشْبَهَ المُكْرَهَ. وقد سَبَق الكلامُ على هذا في مسألَةِ مَن حَلَف ليَضْرِبَنَّ عَبْدَه غَدًا، فماتَ العبدُ اليومَ. 4788 - مسألة: (وإن باعَه بحَقِّه عَرْضًا، لم يَحْنَثْ عندَ ابنِ حامِدٍ) [لأنَّه قد قَضَاه] (¬2) حَقَّه. وقال القاضي: يَحْنَثُ؛ لأنَّه لم يَقْض الحَقَّ الذي عليه بعَينِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «قصد قضاء».

4789 - مسألة: (وإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الهلال)

وإنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأسِ الْهِلَالِ، فَقَضَاهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ في أوَّل الشَّهْرِ، بَرَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4789 - مسألة: (وإن حَلَف لَيَقْضِيَنَّه حَقَّه عندَ رَأسِ الهِلَالِ) أو مع رَأْسِه، أو إلى رَأْسِ الهِلَالِ، أو إلى اسْتِهْلَالِه، أو عندَ رَأْسِ الشَّهْرِ، أو مع رَأسِه (فقَضَاه عندَ غُرُوبِ الشَّمْسِ في أوَّلِ الشَّهْرِ، بَرَّ) في يَمِينِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أخَّرَ ذلك مع إمْكَانِه، حَنِثَ. وإن شَرَع في عَدِّه أو كَيله (¬1) أو وَزْنِه، فتَأخَّرَ القَضاءُ، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه لم يَتْرُكِ القَضاءَ. وكذلك إذا حَلَف ليَأكُلَنَّ هذا الطَّعامَ، في هذا الوَقتِ، فشَرَعَ في أكْلِه فيه، وتَأخَّرَ الفَراغُ لكَثْرَتِه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ أكلَه كلِّه غيرُ مُمْكِن في هذا الوَقتِ [ليَسِيرِ، فكانت يَمِينُه على الشُّرُوعِ منه في ذلك، أو على مُقارَنَةِ فِعْلِه لذلك الوقتِ] (¬2)، للِعلْمِ بالعَجْزِ عن غيرِ ذلك. ومذهبُ الشافعيِّ في هذا كما ذكَرنا. ¬

(¬1) في م: «وكيله». (¬2) سقط من: م.

4790 - مسألة: (وإن حلف: لا فارقتك حتى أستوفي حقي)

وَإنْ حَلَفَ: لَا فَارَقْتُهُ حَتَّى أَستَوْفِيَ حَقِّي. فَهَرَبَ مِنْهُ، حَنِثَ. نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: لَا يحْنثُ. وَإنْ فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ وَحَكَمَ عَلَيهِ بِفِرَاقِهِ، خُرِّجَ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4790 - مسألة: (وإِن حَلَف: لا فارَقْتُكَ حتى أسْتوْفِيَ حَقِّي) منك (فَهَرَبَ منه، حَنِثَ. نصَّ عليه. وقال الخِرَقِيُّ: لا يَحْنَث. وإن فَلَّسَه الحاكِمُ وحَكَم عليه بِفِراقِه، خُرِّجَ على رِوايَتَينِ) إذا حَلَف: لا فارَقْتُكَ. ففيه عشرُ مسائِلَ (¬1)؛ أحدُها، أن يُفارِقَه الحالِفُ مُخْتارًا، فيَحْنَثُ، [بلا خِلافٍ] (¬2)، سَواءٌ أبْرأه من الحَقِّ أو فارَقَه، والحَقُّ عليه؛ لأنَّه فارَقَه قبلَ اسْتِيفاءِ حَقِّه منه. الثانِيَةُ، فارَقَه مُكْرَهًا، فيُنْظَرُ؛ فإن كان حُمِلَ مُكْرَهًا حتى فارَقَه، لم يَحْنثْ، وإن أُكْرِهَ بالضَّرْبِ والتَّهْديدِ، لم يَحْنَثْ. وفي قولِ أبي بكرٍ، يَحْنَثُ. وفي النَّاسِي تَفْصِيلٌ ذَكَرْناه فيما مَضَى. الثالِثَةُ، هَرَب منه الغَرِيمُ بغَيرِ اخْتِيارِه، فلا يَحْنَثُ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وأصحابُ الرَّأْي. ورُوِيَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أحمدَ أَنه يحْنَثُ؛ لأنَّ مَعْنَى يَمِينِه أن لا تَحْصُلَ بينَهما فُرْقَةٌ، وقد حَصَلَتْ. ولَنا، أنَّه حَلَف على فِعْلِ نَفْسِه في الفُرْقَةِ، [وما فَعَل] (¬1)، ولا فعلَ باخْتِيارِه، فلم يَحْنَثْ، كما لو حَلَف: لا قُمْتُ. فقامَ غيرُه. الرابِعَةُ، أذِنَ له الحالِفُ في الفُرْقَةِ، ففارَقَه، فمَفْهُومُ كلامِ الخِرَقِيِّ أنَّه يَحْنَثُ. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعيُّ: لا يحنث. قال القاضي: وهو قولُ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه لم يَفْعَلِ الفُرْقَةَ التي حَلَف أنَّه لا يَفْعَلُها. ولَنا، أنَّ مَعْنَى يَمِينِه: لألْزَمَنَّكَ. فإذا فارَقَه بإذْنِه فما لَزِمَه، ويُفارِقُ ما إذا هَرَب منه؛ لأنَّه فَرَّ بغيرِ اخْتِيارِه. وليس هذا قولَ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّ الخِرَقِيَّ قال: فهَرَبَ منه. فمَفْهُومُه أنَّه إذا فارَقَه بغيرِ هَرَبٍ أنَّه يَحْنَثُ. الخامِسَةُ، فارَقَه مِن غيرِ إذْنٍ ولا هَرَبٍ، على وَجْهٍ تُمْكِنُه مُلازَمَتُه، والمَشْيُ معه، أو إمْساكُه، فهي كالتي قبلَها. السادِسَةُ، قَضاهُ قَدْرَ حَقِّه، ففارَقَه ظَنًّا منه أنَّه قد وَفَّاه، فخَرَجَ رَدِيئًا أو بعضُه، فيُخَرَّجُ في الحِنْثِ رِوايتان، بِناءً على النَّاسِي. وللشافِعِيِّ قَوْلان كالروايَتَين؛ أحدُهما، يَحْنَثُ. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه فارَقَه قبلَ اسْتِيفاءِ حَقِّه مُخْتارًا. والثانِيَةُ، لا يَحْنَثُ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرَّأْي،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا وَجَدَها زُيُوفًا، وإن وَجَد أكثَرَها نُحاسًا أَنه يَحْنَثُ. وإن وَجَدَها مُسْتَحَقَّةً، فأخَذَها صاحِبُها، خُرِّجَ أيضًا على الرِّوايَتَين في النَّاسِي؛ لأنَّه ظَانٌّ أنَّه مُسْتَوْفٍ حَقَّه، فأشْبَهَ ما لو وَجَدَها رَدِيئَةً. وقال أبو ثَورٍ، وأصحابُ الرَّأي: لا يَحْنَثُ. وإن عَلِمَ بالحالِ ففارَقَه، حَنِثَ؛ لأنه لم يُوَفِّه حَقَّه. السابِعَةُ، فَلَّسَهُ الحاكِمُ، ففارَقَه، فإن ألْزَمَه الحاكِمُ، فهو كالمُكْرَهِ، وإن لم يُلْزِمْه مُفارَقَتَه، لكنْ فارَقَه لعِلْمِه بوُجوبِ مُفارَقَتِه، حَنِثَ؛ لأنَّه فارَقَه مِن غيرِ إكْراهٍ، فحَنِثَ، كما لو حَلَف لا يُصَلِّي، فوَجَبَتْ عليه صلاة فصَلَّاها. الثامِنَةُ، أحاله الغَرِيمُ بحَقِّه، ففارَقَه، فإنَّه يَحْنَث. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يوسفَ، وأبو ثَوْرٍ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: لا يَحْنَثُ؛ لأنَّه قد بَرِئ إليه منه. ولَنا، أنَّه ما اسْتَوْفَى حَقَّه منه، بدَليلِ أنَّه لم يَصِلْ إليه شيءٌ، ولذلك يَمْلِكُ المُطالبَةَ به،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فحَنِثَ، كما لو لم يُحِلْه. فإن ظَنَّ أنَّه قد بَرَّ (¬1) بذلك (¬2)، ففارَقَه، خُرِّجَ على الرِّوايَتَين. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. قال شيخُنا (¬3): والصَّحِيحُ أَنه يَحْنَثُ؛ لأنَّ هذا جَهْل بحُكمِ الشَّرْعِ فيه، فلا يَسْقُطُ عنه الحِنْثُ، كما لو جَهِل كَوْنَ اليَمِينِ مُوجِبَةً للكَفَّارَةِ. فأمَّا إن كانت يَمِينُه: لا فارَقْتُك ولى قِبَلَكَ حَقٌّ. فأحاله به، ففارَقَه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّه (¬4) لم يَبْقَ له قِبَلَه حَقٌّ. وإنْ أخَذَ به ضَمِينًا أو كَفِيلًا أو رَهْنًا، ففارَقَه، حَنِث بلا إشْكالٍ؛ لأنَّه يملكُ مُطالبَةَ الغَرِيمِ. التاسِعَةُ، قَضاهُ عن حَقِّه عِوَضًا عنه، ثم فارَقَه، فقال ابنُ حامِدٍ: لا يَحْنَثُ. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه قد قَضاه حَقَّه، وبَرِئَ إليه منه بالقَضاءِ. وقال القاضي: يَحْنَثُ؛ لأنَّ يَمِينَه على نَفْس الحَقِّ، وهذا بَدَلُه. والأوَّلُ أوْلَى، إن شاءَ الله تعالى؛ لحُصُولِ المَقْصودِ به. فإن كانت يَمِينُه: لا فارَقْتُكَ حتى تَبْرَأ من حَقِّي. أو: ولِي قِبَلَكَ حَقٌّ. لم يَحْنَثْ، وَجْهًا واحِدُا؛ لأنَّه لم يَبْقَ له قِبَلَه حَق. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. العاشِرَةُ، وَكَّلَ وَكِيلًا يَسْتَوْفِي له حَقه، فإن فارَقَه قبلَ اسْتِيفاءِ ¬

(¬1) في م: «يريد». (¬2) بعده في م: «مفارقته». (¬3) في: المغني 13/ 581. (¬4) في م: «لأن هذا».

4791 - مسألة: (فإن حلف: لا افترقنا. فهرب منه، حنث)

وَإنْ حَلَفَ: لَا افْتَرَقْنَا. فَهَرَبَ مِنْهُ، حَنِثَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَكِيلِ، حَنِثَ؛ لأنَّه فارَقَه قبلَ اسْتِيفاءِ حَقِّه. وإنِ اسْتَوْفَى الوَكيلُ، ثم فارَقَه، لم يَحْنَثْ؛ لأنَّ اسْتِيفاءَ وَكِيله اسْتِيفاءٌ له، [يَبْرأُ به] (¬1) غَرِيمُه، ويَصِيرُ في ضَمانِ المُوَكِّلِ (¬2). فأمَّا إنْ قال: لا فارَقْتَنِي حتى أسْتَوْفِيَ حَقِّي منك. ففارَقَه المحْلُوفُ عليه مُخْتارًا، حَنِثَ، وإن أُكْرِهَ على فِراقِه، لم يَحْنَثْ. وإن فارَقَه الحالِفُ مُخْتارًا، حَنِثَ، إلَّا على ما ذَكَرَه القاضي في تَأويلِ كلامِ الْخِرَقِيِّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ، وسائِرُ الفُروعِ تَأْتِي ها هنا على نحو ما ذَكَرْنا. 4791 - مسألة: (فإن حَلَف: لا افْتَرَقْنا. فهَرَبَ منه، حَنِثَ) إذا هَرَب مِن المَحْلُوفِ عليه؛ لأنَّ يَمِينَه تَقْتَضِي أن لا تَحْصُلَ بينَهما فُرْقَةٌ بوَجْهٍ، وقد حَصَلَتِ الفُرْقَةُ بهَرَبِه، وإن أُكْرِها على الفُرْقَةِ، لم يَحْنَث، إلَّا على قَوْلِ مَن لا يَرَى الإكراهَ عُذْرًا. ¬

(¬1) في م: «ببراءة». (¬2) في الأصل: «الوكيل».

4792 - مسألة: (وقدر الفراق ما عده الناس فراقا، كفرقة البيع)

وَقَدْرُ الْفِرَاقِ مَا عَدَّهُ النَّاسُ فِرَاقًا، كفُرْقَةِ الْبَيعِ. وَاللهُ أعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن حَلَف: لا فارَقْتُكَ حتى أُوَفِّيَكَ حَقَّكَ. فأبْرَأَه الغَرِيمُ منه، فهل يَحْنَثُ؟ على وَجْهَين، بِناءً على المُكْرَهِ. وإن كان الحَقُّ عَينًا، فوَهَبَها له الغَرِيمُ، فقَبِلَها، حَنِثَ؛ لأنَّه تَرَك إيفاءَها له باخْتِيارِه. وإن قَبَضَها منه، ثم وَهَبَها إيَّاه، لم يَحْنَثْ. وإن كانت يَمِينُه: لا أُفارِقُكَ ولَكَ قِبَلِي حَقٌّ. لم يَحْنَثْ إذا أبرأهُ، أو وَهَبَ العَينَ له. 4792 - مسألة: (وقَدْرُ الفِراقِ مَا عَدَّه النَّاسُ فِرَاقًا، كفُرْقَةِ البَيعِ) وقد ذَكَرْناه في البَيعِ (¬1). وما نَوَاه بيَمِينِه ممَّا يَحْتَمِلُه لَفْظُه، فهو على ما نَواه. واللهُ أعْلَمُ. ¬

(¬1) انظر 11/ 284 وما بعدها.

باب النذر

بابُ النَّذرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ النَّذرِ الأصْلُ فيه الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقَوْلُ اللهِ تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْر} (¬1). وقال سبحانه: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬2). وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَتْ عائشةُ، رَضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ». رَواه [السبعةُ غيرَ مسلمٍ] (¬3). وعن عِمْرانَ بنِ حُصَين، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «خَيرُكُمْ (¬4) قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِئُ قَوْمٌ يَنْذُرُون ولَا يُوفُونَ، ويَخُونُونَ ولَا يُؤْتَمَنُون (¬5)، ويَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ». ¬

(¬1) سورة الإنسان 7. (¬2) سورة الحج 29. (¬3) في م: «البخاري». والحديث تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬4) في م: «خير القرون». (¬5) في م: «يؤمنون».

4793 - مسألة: (وهو أن يلزم نفسه لله تعالى شيئا)

وَهُوَ أنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ لِلّهِ تَعَالى شَيئًا. وَلَا يَصِحُّ إلا مِنْ مُكَلَّفٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ رَواه (¬1) البخارِيُّ (¬2). وأجْمَعَ المسلمون على صِحَّةِ النَّذْرِ في الجُمْلَةِ، ووُجوبِ الوَفاءِ به. فصل: ولا يُسْتَحَبُّ النَّذْرُ؛ لأنَّ ابنَ عمرَ روَى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن النَّذْرِ، وقال: «إنَّه لَا يَأتِي بِخَيرٍ، وإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وهذا نَهْيُ كَراهَةٍ، لا نهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لأنَّه لو كان حَرَامًا لَما مَدَح المُوفِينَ به؛ لأنَّ ذَنْبَهم (¬4) في ارْتِكابِ المُحَرَّم أشَدُّ مِن طاعَتِهم في وَفائِه، ولأنَّ النَّذْرَ لو كان مُسْتَحَبًّا، لفَعَلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأفاضِلُ أصحابِه. 4793 - مسألة: (وهو أن يُلْزِمَ نَفْسَه للهِ تعالى شَيئًا) فيَقُولَ: ¬

(¬1) في الأصل: «رواها». (¬2) في: باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، من كتاب الشهادات، وفي: باب فضائل أصحاب النبي، وفي: باب ما يحذر من زهرة الدنيا. . . .، من كتاب الرقائق، وفي: باب إثم من لا يفي بالنذر، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 3/ 224، 5/ 2، 3، 8/ 113، 176. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في القرن الثالث، من أبواب الفتن، وفي: باب منه، من أبواب الشهادات. عارضة الأحوذي 9/ 66، 176. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 426، 427، 436، 440. (¬3) تقدم تخريجه في 27/ 425. (¬4) في الأصل: «ذمهم».

مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ للهِ عليَّ أن أفْعَلَ كذا. وإن قال: عليَّ نَذْرُ كَذَا. لَزِمَه أيضًا؛ لأنَّه صَرَّع بلَفْظِ النَّذْرِ (ولا يَصِحُّ إلَّا مِن مُكَلَّفٍ، مُسْلِمًا كان أو كافِرًا) لأنَّه قَوْل يُوجِبُ على المُكَلَّفِ عِبادَةً أو مالًا، فلم يَصِحَّ مِن غيرِ المُكَلَّفِ، كالإِقْرارِ، ولأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، أشْبَهَ الطِّفْلَ. ويَصِحُّ مِن الكافِرِ؛ لحديثِ عمرَ حينَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي نَذَرْتُ [في الجاهليةِ] (¬1) أن اعتَكِفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ. قال: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 563. ويضاف إليه: والإمام أحمد، في: المسند 2/ 20.

4794 - مسألة: (ولا يصح إلا بالقول، فإن نواه من غير قول، لم يصح)

وَلَا يَصِحُّ إلا بِالْقَوْلِ، فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيرِ قَوْلٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4794 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إلَّا بالقولِ، فإن نَوَاه مِن غيرِ قَوْلٍ، لم يَصِحَّ) لأنَّه مُوجِبٌ للكَفَّارَةِ في أحَدِ طَرَفَيه، فلم ينْعَقِدْ بالنِّيَّةِ، كاليَمِينِ.

4795 - مسألة: (ولا يصح في محال ولا واجب، فلو قال: لله علي صوم أمس. أو: صوم رمضان. لم ينعقد)

وَلَا يَصِحُّ في مُحَالٍ وَلَا وَاجِبٍ، فَلَوْ قَال: لِلّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ. أو: صَوْمُ رَمَضَانَ. لَمْ يَنْعَقِدْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4795 - مسألة: (ولا يصِحُّ في مُحَالٍ ولا واجِبٍ، فلو قال: للهِ عليَّ صومُ أَمْسِ. أو: صَوْمُ رمضانَ. لم يَنْعَقِدْ) لا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ المُسْتَحيلُ، كصَوْمِ أمسِ، ولا يُوجِبُ شيئًا؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ انْعِقادُه، ولا الوَفاءُ به؛ لأنَّه لو حَلَف على فِعْلِه، لم تَلْزَمْه كَفَّارَة، فالنَّذْرُ أوْلَى. قال شيخُنا (¬1): وعَقْدُ البابِ في الصَّحيحِ مِن المذهبِ، أنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ، ومُوجَبُه مُوجَبُها، إلَّا في لُزُوم الوفاء به، إذا كان قُرْبَةً و (¬2) أمْكَنَه فِعْلُه، ودَليلُ هذا الأصْلِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأختِ عُقْبَةَ، لمَّا نَذَرَتِ المَشْيَ ولم تُطِقْهُ: «وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا» (¬3). وفي روايةٍ: «فَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ» (¬4). قال أحمدُ: إليه أذْهَبُ. وعن عُقْبَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) في المغني 13/ 628، 629. (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 209. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 310. كلاهما من حديث ابن عباس. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 209. والترمذي، في: باب حدثنا محمود بن غيلان، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 29. والنسائي، في: باب إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير منتعلة. . . .، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 19. وابن ماجه، في: باب من نذر أن يحج ماشيا، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 689. والدارمي، في: باب في كفارة النذر، من كتاب النذور. سنن الدارمي 2/ 183. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 143، 145، 149، 151. وانظر الكلام على هذه الرواية في: الإرواء 8/ 218 - 221.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينِ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬1). وقولُ ابنِ عباس في التي نَذَرَتْ ذَبْحَ ابْنِها: كَفِّرِي يَمِينَكِ (¬2). ولأنَّه قد ثَبَت أنَّ حُكْمَه حكمُ اليَمِينِ في أحَدِ أقْسامِه وهو نَذْرُ اللَّجاجِ (¬3)، فكذلك في سائِرِه، سِوَى ما اسْتَثْناه الشَّرْعُ. فإن نَذَرَ واجِبًا، كالصلاةِ المَكْتُوبَةِ، فقال أصْحابُنا: لا يَنْعَقِدُ نَذْرُه. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ، لأنَّ النَّذْرَ التِزامٌ، ولا يَصِحُّ التزامُ ما هو لازمٌ له. ويَحْتَمِلُ أن ينعقدَ نذْرُه مُوجِبًا لكَفَّارَةِ يَمِين إن تَرَكَه، كما لو حَلَف لا يَفْعَلُه ففَعَلَه، فإنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ، وقد سَمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمِينًا، ولذلك لو نَذَرَ مَعْصِيَةً أو مُباحًا، لم يَلْزمْه، ويُكَفِّرُ إذا لم يَفْعَلْه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 27/ 521. (¬2) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله، من كتاب النذور والأيمان. الموطأ 2/ 476. والدارقطني، في: كتاب النذور. سنن الدارقطني 4/ 164. والبيهقي، في: باب ما جاء في من نذر أن يذبح ابنه. . . .، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 72. (¬3) في الأصل: «الحاج».

4796 - مسألة: (والنذر المنعقد على خمسة أقسام؛ أحدها، النذر المطلق، وهو أن يقول: لله علي نذر. فتجب)

وَالنَّذْرُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى خَمْسَةِ أقْسَامٍ؛ أحَدُهَا، النَّذْرُ الْمُطْلَقُ؛ وَهُوَ أنْ يَقُولَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ. فَتَجِبُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4796 - مسألة: (والنَّذْرُ المُنْعَقِدُ على خَمْسَةِ أَقسام؛ أحَدُها، النَّذْرُ المُطْلَقُ، وهو أن يقولَ: لله عِليَّ نَذْرٌ. فتَجِبُ) به (كَفَّارَةُ يَمِينٍ) في قولِ أكثرِ أهْلِ العِلْمِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباس، وجابِر، وعائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وبه قال الحسنُ، وطاوسٌ، وسالمٌ، والقاسمُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بنُ جُبَير، ومالكٌ، والثَّوْرِيُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا إلَّا الشافعيَّ، قال: لا يَنْعَقِدُ نَذْرُه، ولا كَفَّارَةَ فيه. ولَنا (¬1) ما روَى عُقْبَةُ بنُ عامِر، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذَا لَمْ يُسَمَّ، كَفَّارَةُ يَمِين». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬2)، وقال: هذا حديث حسنٌ صَحِيحٌ غَريبٌ. وهذا نَصٌّ، ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينَا مِن الصحابَةِ والتابِعِين، ولا نَعْرِفُ لهم في عَصْرِهم مُخالِفًا، فيكونُ إجْماعًا. ¬

(¬1) في م: «أما». (¬2) انظر تخريج هذا اللفظ في 27/ 521.

الثَّانِي، نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهُوَ مَا يَقْصِدُ بِهِ الْمَنْعَ مِنْ شَيْءٍ، أو الْحَمْلَ عَلَيهِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُكَ فَلِلّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ. أوْ: صَوْمُ سَنَةٍ. أوْ: عِتْقُ عَبْدِي. أو: الصَّدَقَةُ بِمَالِي. فَهَذَا يَمِين، يُخَيَّرُ بَينَ فِعْلِهِ وَالتَّكْفِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثاني، نَذْرُ اللَّجَاجِ والغَضَبِ، وهو ما يَقْصِدُ به المَنْعَ مِن شيءٍ، أو الحَمْلَ عليه، كقَوْلِه: إن كَلَّمْتُكَ فَلِله علَيَّ الحَجُّ. أو: صَوْمُ سَنَةٍ. أو: عِتْقُ عَبْدِي. أو: الصَّدَقَةُ بمالِي. فهذا يَمِينٌ، يُخَيَّرُ بينَ فِعْلِه) وبينَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ؛ لِما روَى عِمْرانُ بن حُصَين، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا نَذْرَ في غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». رَواه سعيدٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «سُنَنِه» (¬1). وعن أحمدَ أنَّ الكَفَّارَةَ تَتَعَيَّنُ عليه، ولا يُجْزِئُه غيرُها؛ للخَبَرِ. والأوَّلُ ظاهِرُ المذهَبِ، لأنَّها يَمِين، فيُخَيَّرُ فيها بينَ الأمْرَين، ¬

(¬1) وأخرجه النسائي، في: باب كفارة النذر، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 26. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 433، 439، 440.

الثَّالِثُ، نَذْرُ الْمُبَاحِ، كَقَوْلِهِ: للهِ عَلَيَّ أنْ ألْبَسَ ثَوْبِي. أوْ: أرْكَبَ دَابَّتِي. فَهَذَا كَالْيَمِينِ، يَتَخَيَّرُ بَينَ فِعْلِهِ وَبَينَ كَفَّارَةِ يمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كاليَمِينِ باللهِ تعالى، ولأنَّ هذا جمَعَ الصِّفَتين، فَيَخْرُجُ عن العهْدَةِ بكُلِّ واحدَةٍ منهما. (الثالِثُ، نَذْرُ المُباحِ، كقولِه: لله عِليَّ أنْ ألْبَسَ ثَوْبِي. أو: أرْكَبَ دابَّتِي. فهذا كاليَمِينِ، يَتَخَيَّرُ بينَ فِعْلِه وبينَ كَفَّارَةِ يَمِين) لِما رُوِيَ أنَّ امرأةً أتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالتْ: إنِّي نَذَرْتُ أن أضْرِبَ على رَأْسِكَ بالدُّفِّ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أوْفِ بِنَذْرِكِ». رَواه أبو داودَ (¬1). ولأنَّه لو حَلَف على فِعْلِ مُباح، بَرَّ بفِعْلِه، فكذلك إذا نَذَرَه؛ لأنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ. وإن شاءَ تَرَكَه وعليه كَفَّارةُ يَمِين، كما لو حَلَف ليَفْعَلَنَّه، فلم يَفْعَلْ. ويَتَخَرَّجُ أن لا كَفَّارَةَ فيه، فإنَّ أصحابَنا قالوا: مَن نَذَر أن يَعْتَكِفَ ¬

(¬1) في: باب ما يؤمر به من الوفاء عن النذر، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 213. كما أخرجه الترمذي، في: باب مناقب عمر، رضي الله عنه، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 147. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 353، 356. والبيهقي، في: باب ما يوفى به من النذر، من كتاب النذور. السنن الكبرى 10/ 77. وابن حبان، في: باب ذكر الخبر الدال على إباحة قضاء النذر. . . .، من كتاب النذور. انظر: الإحسان 6/ 286، 287. وصححه في: الإرواء 8/ 213، 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في مسجدٍ مُعَيَّن، أو يُصَلِّيَ فيه، كان له أن يُصَلِّيَ ويَعْتَكِفَ في غيرِه، ولا كَفَّارَةَ عليه، ومَن نَذَر أن يَتَصَدَّقَ بمالِه كلِّه، أجْرَأَتْه الصَّدَقَةُ بثُلُثِه بلا كَفَّارَةٍ. وهذا مثلُه. وقال مالكٌ، والشافِعِيُّ: لا يَنْعَقِدُ نَذْرُه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «لَا نَذْرَ إلَّا فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ» (¬1). وروَى ابنُ عباسٍ، قال: بَينَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسَألَ عنه، فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذرَ أن يقومَ في الشمسِ، ولا يَسْتَظِلَّ، ولا يَتَكَلَّمَ، ويصومَ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتمَّ صَوْمَهُ». رَواه البخاريُّ (¬2). وعن أنَسٍ، قال: نَذَرَتِ امرأةٌ أن تَمْشِيَ إلى بيتِ اللهِ، فسُئِلَ نبيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «إنَّ اللهَ لغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِها، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ». قال التِّرْمِذِيُّ (¬3): هذا حديث صَحِيحٌ. ولم يأمُرْ بكَفَّارَةٍ. ورُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رجلًا يُهادَى بينَ اثْنَين، فسألَ عنه، فقالوا: نَذَرَ أن يَحُجَّ ماشِيًا. فقال: «إنَّ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الطلاق قبل النكاح، من كتاب الطلاق. سنن أبي داود 1/ 507. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 185. (¬2) تقدم تخريجه في 7/ 631. (¬3) في: باب ما جاء في من يحلف بالمشي ولا يستطيع، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 19، 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيب هذَا نَفْسَهُ، مُرُوهُ فَلْيَرْكَبْ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولم يَأْمُرْه بكَفَّارَةٍ. ولأَنَّه نَذْرٌ غيرُ مُوجِبٍ (¬2) لفِعْلِ ما نَذَرَه، فلم يُوجِبْ كَفَّارَةً، كنَذْرِ المُسْتَحيلِ. ولَنا، ما تقَدَّمَ في قِسْمِ نَذْرِ اللَّجَاجِ (¬3) والغَضَب، فأمَّا حديثُ التي نَذَرَتِ المَشْيَ، فقد أمَرَ فيه بالكَفَّارَةِ في حديثٍ آَخَرَ، فروَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، أنَّ أُخْتَه نَذَرَتْ أن تَمْشِيَ إلى بيتِ الله الحَرامِ، فسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا». أخْرَجَه أبو داودَ (¬4). وهذه زِيادَةٌ يجبُ الأخْذُ بها، ويجوزُ أن يكونَ الرَّاوي للحديثِ روَى البعضَ وتَرَك البعضَ، أو يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ (¬5) ذِكْرَ الكَفَّارَةِ في بعضِ الحديثِ، إحالةً على ما عُلِمَ مِن حَدِيثِه في مَوْضِعٍ آخَرَ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب من نذر المشي إلى الكعبة، من أبواب المحصر وجزاء الصيد، وفي: باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 3/ 25، 8/ 177: ومسلم، في: باب من نذر أن يمشي إلي الكعبة، من كتاب النذور. صحيح مسلم 3/ 1264. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 219، 220. والترمذي، في: باب ما جاء في من يحلف بالمشي ولا يستطيع، من أبواب الأيمان والنذور، عارضة الأحوذي 7/ 21. والنسائي، في: باب ما الواجب على من أوجب على نفسه نذرا فعجز عنه، من كتاب الأيمان. المجتبى 7/ 28. وابن ماجه، في: باب من نذر أن يحج ماشيا، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 689. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 106، 114، 183، 235، 271. (¬2) في م: «واجب». (¬3) في الأصل: «الحاج». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 171. (¬5) سقط من: الأصل.

4797 - مسألة: (فإن نذر مكروها، كالطلاق)

فَإِنْ نَذَرَ مَكرُوهًا، كَالطَّلاقِ، اسْتُحِبَّ أنْ يُكَفِّرَ وَلَا يَفْعَلَهُ. الرَّابعُ، نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَصَوْمِ يَوْمِ الْحَيضِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، فَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيُكَفِّرُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4797 - مسألة: (فإن نَذَر مَكْرُوهًا، كالطَّلاقِ) فإنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلىَ اللهِ الطَّلاقُ» (¬1) (اسْتُحِبَّ أن يُكَفِّرَ ولا يَفْعَلَه) لأنَّ تَرْكَ المَكْرُوهِ أوْلَى مِن فِعْلِه، فإن فَعَلَه فلا كَفَّارَةَ عليه، والخِلافُ فيه كالذي قبلَه. (الرابعُ، نَذْرُ المَعْصِيَةِ، كشُرْبِ الخَمْرِ، وصَوْم يومِ الحَيضِ، ويومِ العيدِ، فلا يجوزُ الوَفاءُ به، ويُكَفِّرُ) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 131.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ» (¬1). ولأنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ لا تُباحُ في حالٍ. ويَجِبُ على النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رُوِيَ نحوُ هذا عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وعِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، وسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ. وبه قال الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ، وأصحابُه. ورُوِيَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّه لا كَفَّارَةَ عليه، وسَنَذْكُرُ ذلك، إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 563.

4798 - مسألة: (إلا أن ينذر ذبح ولده، ففيه روايتان؛ إحداهما، أنه كذلك. والثانية، يلزمه ذبح كبش)

إلا أنْ يَنْذِرَ نَحْرَ وَلَدِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا، أنَّهُ كَذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ، يَلْزَمُهُ ذَبْحُ كَبْشٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4798 - مسألة: (إلَّا أن يَنْذِرَ ذَبْحَ وَلَدِه، ففيه رِوَايتان؛ إحْدَاهُما، أنَّه كذلك. والثَّانِيَةُ، يَلْزَمُه ذَبْحُ كَبْشٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في مَن قال: إن فَعَلْتُ كذا، فلِلّه عليَّ نَحْرُ وَلَدِي. أو يقولُ: وَلَدِي نَحِيرٌ إن فَعَلْتُ كذا. أو نَذَر ذَبْحَ وَلَدِه مُطْلَقًا، غيرَ مُعَلَّقٍ بشَرْطٍ. فعن أحمدَ، عليه كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وهذا قياسُ المذهبِ؛ لأنَّ هذا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، أوْ نَذْرُ لَجاجٍ، وكِلاهما يُوجِبُ الكَفَّارَةَ. وهو قولُ ابنِ عباس؛ فإنَّه قال لامرأةٍ نَذَرَتْ أن تَذْبَحَ ابْنَها: لا تَنْحَرِي ابْنَكِ، وكَفِّرِي عن يَمِينكِ (¬1). والرِّوايةُ الثانِيَةُ، كَفَّارتُه ذَبْحُ كَبْشٍ، ويُطْعِمُه المساكينَ. وهو قولُ أبي حنيفةَ. ويُرْوَى ذلك عن ابنِ عباسٍ أيضًا؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 172.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الوَلَدِ جُعِلَ في الشَّرْعِ كنذْرِ ذَبْحِ شاةٍ، بدَليلِ أنَّ الله تعالى أمَرَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، بذَبْحِ وَلَدِه، وكان [أُمِرَ أن يَذْبَحَ] (¬1) شاةً، وشَرْعُ مَن قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُتْ نَسْخُه، ودليلُ أنَّه أُمِرَ بذَبْحِ شاةٍ، أنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بالفَحْشاءِ ولا بالمَعاصِي، وذَبْحُ الوَلَدِ مِن كَبائِرِ المعاصِي، قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬2). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أكْبَرُ الكَبَائِرِ أنْ تَجْعَلَ لِله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قِيلَ: ثم أيٌّ؟ قال: «أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» (¬3). وقال الشافِعِيُّ: ليس هذا بشيءٍ، ولا يَجِبُ به شيءٌ؛ لأنَّه نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، لا يَجِبُ (¬4) الوَفاءُ به، ولا يجوزُ، ولا تَجِبُ به كَفَّارَةٌ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» (¬5). ولَنا، قولُه عليه ¬

(¬1) في ق، م: «أمرا بذبح». (¬2) سورة الإسراء 31. (¬3) تقدم تخريجه في 25/ 69. (¬4) في م: «يجوز». (¬5) أخرجه النسائي، في: باب النذر فيما لا يملك، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 18. وابن ماجه، في: باب النذر في المعصية، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 686. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 429، 432. كلهم من حديث عمران بن حصين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ والسلامُ: «لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّارَتُه كَفَّارَةُ يَمِينٍ». رَواه سعيدٌ، في «سُنَنِه» (¬1). ولأنَّ النَّذْرَ حُكْمُه حكمُ اليَمِينِ، بدليلِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «النَّذْرُ حَلْفَةٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» (¬2). فيكونُ بمَنْزِلَةِ مَن حَلَف ليَذْبَحَنَّ وَلَدَه. وقولُهم: إنَّ النَّذْرَ لذَبْحِ الوَلَدِ كِنايَةٌ عن ذَبْحِ كَبْشٍ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ إبراهيمَ، عليه السَّلامُ، لو كان مَأْمُورًا بذَبْحِ كَبْشٍ، لم يَكُنِ الكَبْشُ فِداءً، ولا كان مُصَدِّقًا للرُّؤْيَا قبلَ ذَبْحِ الكَبْشِ، وإنَّما أُمِرَ بِذَبْحِ ابنِه ابْتِلاءً (¬3)، ثم فُدِيَ بذَبْحِ الكَبْشِ، وهذا أمْرٌ اخْتَصَّ به إبراهيمُ - عليه السلام -، لا يَتَعَدَّاه إلى غيرِه، لحِكْمَةٍ عَلِمَها اللهُ تعالى فيه، ثم لو كان إبراهيمُ مَأْمُورًا بذَبْحِ كَبْشٍ، فقد وَرَد شَرْعُنا بخِلافِه، فإنَّ نَذْرَ ذَبْحِ الابنِ ليس بقُرْبَةٍ في شَرْعِنا، ولا مُباحٍ، ¬

(¬1) وأخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في النذر في المعصية، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 208. والترمذي، في: باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا نذر في معصية، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 3، 4. والنسائي، في: باب كفارة النذر، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 24، 25. وابن ماجه، في: باب النذر في المعصية، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 686. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 247. وصححه في الإرواء 8/ 214 - 217. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 149. والطبراني، في: المعجم الكبير 17/ 313، كلاهما بلفظ: «النذر يمين. . . .». (¬3) بعده في الأصل: «بذبح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بل هو مَعْصِيَةٌ، فتكونُ كَفَّارَتُه ككَفَّارَةِ (¬1) سائِرِ نُذُورِ المَعاصِي. فصل: فإن نَذَر ذَبْحَ نَفْسِه، أو أجْنَبِيٍّ، ففيها أيضًا عن أحمدَ رِوايَتان، فنَقَل ابنُ مَنْصُورٍ عن أحمدَ، في مَن نَذَر ذَبْحَ نفْسِه إذا حَنِث: يَذْبَحُ شاةً، وكذلك إن نَذَر ذَبْحَ أجْنَبِيٍّ؛ لأنَّ ذلك يُرْوَى عن ابنٍ عباسٍ. والذي قال: أنا أنْحَرُ فُلانًا. فقال: عليه كَبْشٌ. ولأنَّه نَذَر ذبْحَ آدَمِيٍّ، فكان عليه ذَبْحُ كَبْشٍ، كنَذْرِ ذَبْحِ ابْنِه. والثانِيَةُ، عليه كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأنَّه نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فكان مُوجَبُه كَفَّارَةً؛ لِما ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ. ورَوَى الجُوزْجَانِيُّ، بإسْنادِه عن الأوْزاعِيِّ، قال: حَدَّثَنِي أبو عُبَيدٍ، قال: جاءَ رجلٌ إلى ابنِ عمرَ، فقال: إنِّي نَذَرْتُ أن أنْحَرَ نَفْسِي. قال (¬2): فتَجَهَّمَه ابنُ عمرَ، وأفَّفَ منه، ثم أتَى ابنَ عباسٍ، فقال له: أهْدِ مِائَةَ بَدَنَةٍ (¬3). ثم أتَى عبدَ الرحمنِ بنَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ، فقال: أَرَأَيتَ لو نَذَرْتَ أن لا تُكَلِّمَ أباكَ أو أخاكَ؟ إنَّما هذه خُطْوَةٌ مِن خُطُواتِ الشَّيطانِ، اسْتَغْفِرِ اللهَ، وتُبْ إليه. فرَجَعَ إلى ابنِ عباسٍ فأخْبَرَه، فقال: أصابَ عبدُ الرحمنِ. ورَجَع ابنُ عباسٍ عن قَوْلِه. والصحيحُ أنَّ هذا نَذْرُ ¬

(¬1) في م: «كفارة». (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «من الإبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعْصِيَةٍ، حُكْمُه حُكْمُ نَذْرِ (1) سائِرِ المعاصِي لا غيرُ. فصل: قال أحمدُ، في امرأةٍ نَذَرَت نَحْرَ وَلَدِها، ولها ثلاثةُ أوْلادٍ: تَذْبَحُ عن كلِّ واحدٍ كَبْشًا، وتُكَفِّرُ عن يَمينِها. وهذا على قولِنا: إنَّ كفَّارَةَ نَذْرِ ذَبْحِ الوَلَدِ ذَبْحُ (1) كبشٍ. جُعِل عن كلِّ واحدٍ؛ لأنَّ لَفْظَ الواحِدِ إذا أُضِيف اقْتَضَى التَّعْمِيمَ، فكان عن كلِّ واحدٍ كَبْشٌ. فإن عَيَّنَتَ بنَذرِها واحِدًا فإنَّما عليها كَبْشٌ واحدٌ، بدليلِ أنَّ (¬1) إبراهيمَ - عليه السلام -، لَمَّا أُمِرَ بذَبْحِ ابْنِه الواحدِ، فُدِي بكَبْشٍ واحدٍ، ولم يُفْدَ غيرُ مَن أُمِرَ بذَبْحِه ¬

(¬1) سقط من: م.

4799 - مسألة: (ويحتمل أن لا ينعقد نذر المباح ولا المعصية، ولا تجب به كفارة، ولهذا قال أصحابنا: من نذر الاعتكاف

وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا يَنْعَقِدَ نَذْرُ الْمُبَاحِ وَلَا الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ، وَلِهَذَا قَال أصْحَابُنَا: لَوْ نذَرَ الصَّلَاةَ أوْ الاعْتِكَافَ في مَكَانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن أوْلادِه، كذا ههُنا، وعبدُ المُطَّلِبِ لَمَّا نَذَر ذَبْحَ ابنٍ مِن بَنِيه إن بَلَغُوا عَشَرَةً، لم يَفْدِ منهم إلَّا واحِدًا. وسَواءٌ نَذَرَتْ مُعَينَّا أو عَيَّنَتَ واحدًا غيرَ مُعَيَّنٍ، فأمَّا قولُ أحمدَ: وتُكَفِّرُ يَمِينَها. فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ أنَّ ذَبْحَ (¬1) الكِباشِ كَفَّارَةُ يَمينِها (¬2). ويَحْتَمِلُ أنَّه كان مع نَذْرِها يَمِينٌ. فأمَّا على الرِّوايَةِ الأُخرَى، تُجْزِئُها كَفَّارَةُ يَمِينٍ، على ما سَبَق. 4799 - مسألة: (ويَحْتَمِلُ أن لا يَنْعَقِدَ نَذْرُ المُباحِ ولا المَعْصِيَةِ، ولا تَجِبُ به كَفَّارَةٌ، ولهذا قال أصحابُنا: مَن نَذَر الاعْتِكافَ ¬

(¬1) في م: «يذبح». (¬2) سقط من: م.

مُعَيَّنٍ، فَلَهُ فِعْلُهُ في غَيرِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو الصلاةَ في مَكانٍ مُعَيَّن، فله فِعْلُهُ في غَيرِه، ولا كَفَّارَةَ) وقد رُويَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على ذلك، فَإنَّه قال في مَن نَذَر لَيَهْدِمَنَّ دارَ غيرِه لَبِنَةً لَبِنَةً: لا كَفَّارَةَ عليه [وهذا في معناه. و] (¬1) رُويَ هذا عن مَسْرُوقٍ، والشَّعْبِيِّ. وهو مذهبُ الشافعيِّ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللهِ، ولَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ». رَواه مسلمٌ (¬2). والمذهبُ أنَّ عليه الكَفَّارَةَ، وقد ذَكَرْناه في نَذْرِ المُباحِ. ووَجْهُه ما رَوَتْ عائشةُ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّارَتُه كَفَّارَةُ يَمِينٍ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرْمِذِيُّ (¬3)، وقال: هذا حديثٌ غَرِيبٌ. فصل: وإن نَذَر فِعْلَ طاعَةٍ وما (¬4) ليس بطاعَةٍ، لَزِمَه فِعْلُ الطَّاعَةِ، كالذي في خَبَرِ أبي إسْرائيلَ (¬5)، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَه بإتْمامِ الصَّوْمِ، وتَرْكِ ما سِوَاه؛ لكَوْنِه ليس بطاعَةٍ. وفي وُجوبِ الكَفَّارَةِ لِمَا تَرَكَه رِوايتان، على ما ذَكَرْناه. وقد رَوَى عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، أنَّ أُخْتَه نَذَرَتْ أن تَمْشِيَ إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ حافِيَةً غيرَ مُخْتَمِرَةٍ، فذَكَر عُقْبَةُ ذلك لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «مُرْ أُخْتَكَ فَلْتَرْكَبْ، وَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 84، حاشية 5. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬4) سقط من: م. (¬5) تقدم تخريجه في 7/ 631.

4800 - مسألة: (ولو نذر الصدقة بكل ماله، فله الصدقة بثلثه، ولا كفارة عليه)

وَلَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَالِهِ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِثُلُثِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَيَّامٍ». رَواه الجُوزْجَانِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ (¬1). فإن كان المَتْرُوكُ خِصالًا كثيرةً (¬2)، أجْزَأتْه كَفَّارَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّه نَذْرٌ واحدٌ، فتكونُ كفَّارَتُه واحِدَةً، كاليمينِ الواحدةِ على أفْعالٍ، ولهذا لم يَأْمُرِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُخْتَ عُقْبَةَ بنِ عامِر في تَرْكِ التَّحَفِّي (¬3) والاخْتِمارِ، بأكثرَ مِن كَفَّارَةٍ. 4800 - مسألة: (ولو نَذَر الصَّدَقَةَ بكلِّ مالِه، فَله الصَّدَقَةُ بثُلُثِه، ولا كَفَّارَةَ عليه) لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال لأبي لُبَابَةَ، حينَ قال: إنَّ مِن تَوْبَتِي يا رسولَ اللهِ أن أنخَلِعَ مِن مالِي. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 171. (¬2) في الأصل: «كبيرة». (¬3) في الأصل: «الحفا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ» (¬1). وبهذا قال الزُّهْرِيُّ، ومالكٌ. وقال رَبيعَةُ: يَتَصَدَّقُ منه بقَدْرِ الزَّكاةِ؟ لأنَّ المُطْلَقَ يُحْمَلُ على مَعْهودِ الشَّرْعِ، ولا يَجِبُ في الشَّرْعِ إلَّا قَدْرُ الزَّكاةِ. وعن جابرِ بنِ زيدٍ، قال: إنْ كان كثيرًا -وهو ألْفان- تَصَدَّق بعُشْرِه، وإن كان مُتَوَسِّطًا -وهو ألْفٌ- تصَدَّق بسُبْعِه، وإن كان قليلًا -وهو خَمْسُمائةٍ- تصَدَّق بخمْسِه (¬2). وقال أبو حنيفةَ: يَتَصَدَّقُ بالمالِ الزَّكَويِّ كلِّه. وعنه في غيرِه (¬3) رِوايَتان؛ إحْدَاهما، يَتَصَدَّقُ به. والثانِيَةُ، لا يَلْزَمُه منه شيء. وقال النَّخَعِيّ، والبَتِّيُّ، والشافعيُّ: يَتَصَدَّقُ بمالِه كلِّه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب من نذر أن يتصدق بماله، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 215. والإمام مالك بلاغا، في: باب جامع الأيمان، من كتاب النذور. الموطأ 2/ 481. والدارمي، في: باب النهي عن الصدقة بجميع ما عند الرجل، من كتاب الزكاة. سنن الدارمي 1/ 390، 391. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 452، 453، 502. وابن حبان، انظر: الإحسان 8/ 164، 165. والطبراني، في: المعجم الكبير 5/ 22، 23. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 486. وعنده في آخره: وقال قتادة: والكثير ألفان، والوسط ألف، والقليل خمسمائة. (¬3) بعده في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «مَنْ نَذَر أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطعْهُ» (¬1). ولأنَّه نَذْرُ طاعَةٍ، فلَزِمَه الوَفاءُ به، كنَذْرِ الصلاةِ والصِّيامِ. ولَنا، حديثُ أبي لُبَابَةَ المذْكُورُ. وعن كَعْبِ بنَ مالكٍ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبَتِي أن أنْخَلِعَ مِن مالِي صَدَقَةً إلى الله وإِلى رسولِه. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أمْسِكْ عَلَيكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خيرٌ لَكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ولأبي داودَ: «يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ». قالوا: ليس هذا بنَذْرٍ، وإنَّما أرادَ الصَّدَقَةَ بجَمِيعِه، فأمرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاقْتِصارِ [على ثُلُثِه، كما أمَرَ سعدًا حينَ أرادَ الوَصِيَّةَ بجَمِيعِ مالِه، فأمَرَه بالاقْتِصارِ على] (¬3) الثُّلُثِ، وليس هذا مَحَلَّ النِّزاعِ، إنَّما النِّزاعُ في مَن نَذَر الصدقةَ بجميعِه. قُلْنا: عنه جوابان؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب إذا تصدق أو أوقف بعض ماله. . . .، من كتاب الوصايا، وفي: باب سورة التوبة، من كتاب التفسير، وفي: باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البخاري 4/ 9، 6/ 87، 88، 8/ 175. ومسلم، في: باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، من كتاب التوبة. صحيح مسلم 4/ 2127. كما أخرجه أبو داود، في: باب من نذر أن يتصدق بماله، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 215. والنسائي، في: باب إذا أهدى ماله على وجه النذر، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 7/ 21، 22. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 454، 456، 459، 6/ 389. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، أنَّ قولَه: «يُجْزِئُكَ [مِن ذلك] (¬1) الثُّلُثُ». دليلٌ على أنَّه أتَى بلَفْظٍ يَقْتَضِي الإِيجابَ؛ لأنَّها إنَّما تُسْتَعْمَلُ غالِبًا في الواجباتِ، ولو كان مُخَيَّرًا بإرادَةِ الصَّدَقَةِ، لَما لَزِمَه شيءٌ يُجْزِء عنه بعضُه. الثاني، أنَّ مَنْعَه مِن الصدقَةِ بزيادةٍ على الثُّلُثِ، دليلٌ على أنَّه ليس بقُرْبَةٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَمْنَعُ أصْحابَه مِن القُرَبِ، ونَذْرُ ما ليس بقُرْبَةٍ لا يَلْزَمُ الوَفاءُ به. ولَنا، على أبي حنيفةَ، أنَّ غيرَ الزَّكَويِّ مالٌ، فتَناوَلَه النَّذْرُ، كغيرِ (¬2) الزَّكَويِّ. وما قاله رَبيعَةُ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ هذا ليس بزَكاةٍ، ولا في مَعْناها، فإنَّ الصدقةَ وَجَبَتْ لإِغْناءِ الفُقَراءِ ومُواساتِهِم، وهذه صَدَقَةٌ تَبَرَّع بها صاحبُها تَقَرُّبًا إلى اللهِ تعالى، ثم إنَّ المَحْمُولَ على مَعْهُودِ الشَّرْعِ المُطْلَقُ، وهذه صَدَقَةٌ مُعَيَنة غيرُ مُطْلَقَةٍ، ثم تَبْطُلُ بما لو نَذَر صِيامًا، فإنَّه لا يُحْمَلُ على صومِ رمضانَ، وكذلك الصلاةُ. وما ذَكَرَه جابِرُ بنُ زَيدٍ، فهو تَحَكُّمٌ بغيرِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «غير».

4801 - مسألة: (وإن نذر الصدقة بألف، لزمه جميعه. وعنه، يجزئه ثلثه)

وإنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِأَلفٍ، لَزِمَهُ جَمِيعُهُ. وَعَنْهُ، يُجْزِئُهُ ثُلُثُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دليلٍ. 4801 - مسألة: (وإن نَذَر الصَّدَقَةَ بألْفٍ، لَزِمَه جَمِيعُه. وعنه، يُجْزِئُه ثُلُثُه) إذا نَذَر الصَّدَقَةَ بمُعَيَّن مِن مالِه، أو بمُقَدَّرٍ، كأَلفٍ، فرُوِيَ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، أنَّه يُجْزِئُه ثُلُثُه، لأنَّه مالٌ نَذَر الصدقةَ به، فأجْزَأَه ثُلُثُه، كجَمِيعِ المالِ. والصَّحِيحُ في المذهبِ لُزومُ الصدقةِ بجَميعِه، لأنَّه مَنْذُورٌ، وهو قُرْبَةٌ، فلَزِمَه الوَفاءُ به، كسائرِ المَنْذُوراتِ، ولعُمومِ قولِه سبحانَه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬1). وإنَّما خُولِفَ هذا في جميعِ المالِ، للأثَرِ فيه، ولِما في الصدقةِ بالمالِ كلِّه مِن الضَّرَرِ اللَّاحِقِ به، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكونَ المَنْذُورُ ههُنا يَسْتَغْرِقُ جميعَ المالِ، فيكونَ كنَذْرِ ذلك. ويحْتَمِلُ أنَّه إن كان المَنْذُورُ ثُلُثَ المالِ فما دونَ، لَزِمَه وَفاءُ نَذْرِه، وإن زادَ على الثُّلُثِ، لَزِمَه الصدقةُ بقَدْرِ الثُّلُثِ منه، لأنَّه حُكْم يُعْتَبَرُ فيه الثُّلُثُ، فأشْبَهَ الوَصِيَّةَ به. ¬

(¬1) سورة الإنسان 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا نَذَر الصدقةَ بقَدْرٍ مِن المالِ، فأبْرَأ غَرِيمَه مِن قَدْرِه، يَقْصِدُ به وَفاءَ النَّذْرِ، لم يُجْزِئْهُ، وإن كان الغَرِيمُ مِن أهلِ الصَّدَقَةِ. قال أحمدُ: لا يُجْزِئُه حتى يَقْبِضَه. وذلك لأنَّ الصدقةَ تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، وهذا إسْقاط، فلم يُجْزِئْهُ، كما في الزَّكاةِ. قال أحمدُ، في مَن نَذَر أن يَتَصَدَّقَ بمالٍ، وفي نَفْسِه أنَّه ألْفٌ: أجْزَأه أن يُخْرِج ما شاءَ (¬1). وذلك لأنَّ اسمَ المالِ يَقَعُ على القليلِ، وما نَواه زِيادَةٌ على ما تَناوَلَه الاسمُ، والنَّذْرُ لا يَلْزَمُ بالنِّيَّةِ. والقياسُ أنَّه يَلْزَمُه ما نَواه؛ لأنه نَوَى بكَلامِه ما يَحْتَمِلُه، فتَعَلَّقَ الحكمُ به، كاليَمِينِ. وقد نَصَّ أحمدُ، في مَن نَذَر صَوْمًا أو صلاةً، وفي نَفْسِه أكثرُ ممَّا تَناوَلَه لَفْظُه، أنَّه يَلْزَمُه ذلك، وهذا كذلك. ¬

(¬1) في م: «قلنا».

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، نَذْرُ التَّبَرُّرِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ، والصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالاعْتِكَافِ، وَالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ، وَنَحْوهَا مِنَ الْقُرَبِ، عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ، سَواءٌ نَذَرَهُ مُطْلَقًا، أوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يَرْجُوهُ، فَقَال: إِنْ شَفَى الله مَرِيضِي، أوْ: سَلَّمَ الله تَعَالى مَالِي، فَلِلّهِ عَلَيَّ كَذَا. فَمَتَى وُجِدَ شَرْطُهُ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، ولَزِمَهُ فِعْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (الخامِسُ، نَذْرُ التَبَّرُّرِ، كنَذْرِ الصلاةِ، والصِّيامِ، والصَّدَقَةِ، والاعْتِكافِ، والحَجِّ، والعُمْرَةِ، ونحوها من القُرَبِ، على وَجْهِ القُرْبِ، سَواءٌ نَذَرَه مُطْلَقًا، أو عَلَّقَه بشَرْطٍ يَرْجُوه، فقال: إن شَفَى الله مَرِيضِي، أو: سَلَّمَ اللهُ مالي، فللهِ عليَّ كذا. فمتى وُجِد شَرْطُه، انْعَقَد نَذْرُه) ويَلْزَمُه الوَفاءُ به. نَذْرُ التَّبَرُّرِ يَتَنَوَّعُ ثلاثةَ أنْواعٍ؛ أحدُها، هذا الذي ذَكَرْناه إذا كان في مُقابَلَةِ (¬1) نِعْمَةٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَجْلَبَها، أو نِقْمَةٍ اسْتَدْفَعَها، كقولِه: إن شَفَى اللهُ مَرِيضِي، [فللهِ عليَّ] (¬1) صَوْمُ شَهْرٍ. وتكونُ الطَّاعَةُ المُلْتَزَمَةُ مِمّا له أصْلٌ في الشَّرْعِ، كالصومِ والصلاةِ والصَّدقَةِ والحَجِّ، فهذا يَلْزَمُ الوَفاءُ به، بإجْماعِ أهلِ العلمِ. النَّوعُ الثاني، الْتِزامُ طاعَةٍ مِن غيرِ شَرْطٍ، كقَوْلِه ابْتِداءً: للهِ عليَّ صَوْمُ شَهْرٍ. فيَلْزَمُه الوَفاءُ به، في قولِ أكثرِ أهكِ العلمِ. وهو قولُ أهلِ العراقِ. وظاهِرُ مذهبِ الشافِعِيِّ. وقال بعضُ أصحابِه: لا يَلْزَمُ الوَفاءُ به؛ لأنَّ أبا عمرَ غُلامَ ثَعْلَبٍ (¬2) قال: النَّذْرُ عندَ العَرَبِ وَعْدٌ بشرْطٍ. ولأنَّ ما الْتَزَمَه الآدَمِيُّ بعِوَضٍ، يَلْزَمُه بالعَقْدِ (¬3)، كالمَبِيعِ (¬4) والمُسْتَأجَرِ، وما الْتَزَمَه (¬5) بغيرِ عِوَضٍ، لا يَلْزَمُه بمُجَرَّدِ العَقدِ، كالهِبَةِ. النَّوْعُ الثالِثُ، نَذْرُ طاعَةٍ، لا أصْلَ لها في الوُجوبِ، كالاعْتِكافِ، وعِيادَةِ المريضِ، فيَلْزَمُ الوَفاءُ به عند عامَّةِ أهلِ العلمِ. ¬

(¬1) في ق، م: «فعليَّ». (¬2) في ق، م: «ثعلبة». (¬3) سقط من النسخ. والمثبت من المغني 13/ 623. (¬4) في م: «كالبائع». (¬5) في الأصل: «ألزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِي عن أبي حنيفةَ أنَّه لا يَلْزَمُه الوَفاءُ به؛ لأنَّ النَّذْرَ فَرْعٌ على المَشْرُوعِ، فلا يَجبُ به ما لا يَجبُ له (¬1) نَظِير (¬2) بأصْلِ الشَّرْعِ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، [ومَن نَذَر أن يَعْصِيَه فلا يَعْصِه] (¬3)». رَواه البخاريُّ: وذَمُّه (¬4) الذين يَنْذُرُونَ ولا يُوفُونَ (¬5). وقولُ اللهِ تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}. الآيات إلى قولِه: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬6). [وقد رُوِيَ أنَّ عمرَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬7): إنِّي نَذَرْتُ أن أعْتَكِفَ لَيلَةً في المسجدِ الحَرامِ. فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أوْفِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. وبعده في م: «مالا». (¬2) بعده في م: «له». (¬3) سقط من: ق، م. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬4) في الأصل: «وذم الله». (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 168. (¬6) سورة التوبة 75 - 77. (¬7) في م: «وقال عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِنَذْرِكَ» (¬1). ولأَنَّه ألْزَمَ نفْسَه قُرْبَةً على وَجْهِ التَّبَرُّر، فلَزِمَه، كمَوْضِعِ الإِجْماعِ، وكالعُمْرَةِ، فإنَّهم سَلَّمُوها، وهي غيرُ واجبَةٍ عندَهم، وكالاعْتِكافِ، وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بهذَين الأصْلَين، وما حَكوْه عن أبي (¬2) عمرَ لا يصِحُّ؛ فإنَّ العربَ تُسَمى المُلْتَزَمَ نَذْرًا، وإن. لم يَكُنْ بشَرْطٍ، قال جَمِيل (¬3): فليت رجالًا فيكِ قد نَذَرُوا دَمِي … وهَمُّوا بقَتْلِي يا بُثَينُ لَقُونِي (¬4) والجَعَالةُ وَعْدٌ بشَرْطٍ، وليست بنَذْرٍ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه، في 7/ 563. وفي صفحة 169. (¬2) في الأصل: «ابن». (¬3) ديوانه 124. (¬4) في الأصل: «لهونى».

4802 - مسألة: (وإن نذر صوم سنة، لم يدخل في نذره رمضان ويوما العيدين. وفي أيام التشريق روايتان. وعنه ما يدل على أنه يقضي يومي العيدين وأيام التشريق)

وَإنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ، لَمْ يَدْخُلْ في نَذْرِهِ رَمَضَانُ وَيَوْمَا الْعِيدَينِ. وَفِي أيَّامِ التَّشْرِيقِ رِوَايَتَانِ. وعنْهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّه يَقْضِي يَوْمَيِ الْعِيدَينِ وَأيَّامَ التَّشْرِيقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4802 - مسألة: (وإن نَذَر صَوْمَ سَنَةٍ، لم يَدْخُلْ في نَذْرِه رمضانُ ويَوْمَا العِيدَين. وفي أيَّام التَّشْرِيقِ رِوايَتَان. وعنه ما يَدُلُّ على أنَّه يَقْضِي يَوْمَيِ العِيدَينِ وأيَّام التَّشْرِيقِ) إذا نَذَر صَوْمَ سَنَةٍ مُعَيَنةٍ، لم يَدْخُلْ في نَذْرِه رمضانُ ويَوْما العِيدَين؛ [لأنَّ رمضانَ لا يَقْبَلُ الصومَ عن النذورِ، ويَوْمَيِ العِيدَين] (¬1) لا يَصِحُّ صَوْمُهما، فلم يَدْخُلا في نَذرِه، كاللَّيلِ. وفي أيَّامِ التَّشْريقِ رِوايَتان؛ إحْداهما، لا تَدْخُلُ في نَذْرِه؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَنْهِيٌّ عن صَوْمِها، أشْبَهَتْ يَوْمَيِ العِيدَين. والثَّانِيَةُ، تَدْخُلُ في نَذْرِه ويَصُومُها، كالمُتَمَتِّعِ إذا لم يَجِدِ الهَدْىَ. وفيه رِوايَة أخْرَى، أنَّ يَوْمَيِ العِيدَين وأيَّامَ التَّشْريقِ تَدْخُلُ في نَذْرِه. فعلى هذا، لا يَصُومُها، ويَقضِي بَدَلَها، وعليه كَفَّارَةُ يَمِين؛ لقولِه عليه السَّلامُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وكفَّارَتُه كَفَّارَةُ يَمِين». رَواه أبو داودَ (¬1). وإنْ قُلْنا: يجوزُ صَوْمُ أيَّامِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في: صفحة 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّشْرِيقِ عن نَذْرِه. فصامَها، فلا كَفَّارَةَ عليه؛ لأنَّه أتَى بالمَنْذُورِ، أشْبَهَ ما لو نَذَر غيرَها ممَّا يَصِحُّ صَوْمُه.

4803 - مسألة: (وإن نذر صوم يوم الخميس، فوافق يوم عيد أو حيض، أفطر، وقضى وكفر)

وَإذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْم الْخَمِيس، فَوَافَقَ يَوْمَ عِيدٍ أوْ حَيض، أفْطَرَ، وَقَضَى وَكَفَّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4803 - مسألة: (وإن نَذَر صَوْمَ يَوْمِ الخميسِ، فَوَافَق يومَ عِيدٍ أو حَيض، أفْطَر، وقَضَى وكَفَّر) وذلك (¬1) لأنَّ مثلَ هذا النَّذْرِ يَنْعَقِدُ، ¬

(¬1) سقط من: م.

4804 - مسألة: (ونقل عنه ما يدل على أنه إن صام يوم العيد، صح صومه)

وَعَنْهُ، يُكَفِّرُ مِنْ غَيرِ قَضَاءٍ. وَنُقِلَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ إِنْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ، صَحَّ صَوْمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه نَذَر نَذْرًا يُمْكِنُ الوَفاءُ به غالِبًا، فكان مُنْعَقِدًا، كما لو وافَقَ غيرَ يومِ العيدِ أو غيرَ يومِ الحَيضِ والنِّفاسِ، ولا يجوزُ أن يصومَ يومَ العيدِ إن وافَقَه؛ لأنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ صَوْمَه، فأشْبَهَ زَمَنَ الحَيضِ، ويَلْزَمُه القَضاءُ؛ لأنَّه نَذْر مُنْعَقِد، وقد فاتَه الصيامُ بالعُذْرِ، فلَزِمَتْه الكَفَّارَةُ، كما لو فاتَه لمَرَضٍ (وعنه، يُكَفِّرُ مِن غيرِ قَضاءٍ). لأنَّه وافَقَ يومَ صَوْمِه مَعْصِيَة، فأوْجَبَ الكَفَّارَةَ من غيرِ قَضاء، كما لو نَذرَتِ المرأةُ صومَ يومِ حَيضِها. 4804 - مسألة: (ونُقِل عنه ما يَدُلُّ على أنَّه إن صام يومَ العِيدِ، صَحَّ صَوْمُه) لأنَّه وَفَّى بما نَذَر. فأمَّا إن وافَقَ نَذْرُه يومَ حَيض أو نفاس، لم يَصُمْه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه بينَ أهلِ العلمِ. ويَتَخَرَّجُ في القَضاءِ والكَفَّارَةِ مثلُ ما في يومِ العيدِ، قياسًا عليه.

4805 - مسألة: (وإن وافق أيام التشريق، فهل يصومها؟ على روايتين)

وَإنْ وَافَقَ أيامَ التَّشْرِيقِ، فَهَلْ يَصُومُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَين. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4805 - مسألة: (وإن وَافَق أيامَ التَّشْرِيقِ، فهل يَصُومُها؟ على رِوايَتَين) إحْدَاهما، يَصُومُها؛ لقَوْلِ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها: لم يُرَخَّصْ في هذه الأيَّامِ أن يُصَمْنَ إلَّا للمُتَمَتِّعِ إذا لم يَجِدِ الهَدْيَ (¬1). وقِسْنا عليه سائِرَ الواجِباتِ. والثَّانِيَةُ، لا يَصُومُها؛ للنَّهْي عن ذلك. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 544، 8/ 395.

4806 - مسألة: (وإن نذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلا، فلا شيء عليه، وإن قدم نهارا، فعنه ما يدل على أنه لا ينعقد نذره، ولا يلزمه إلا صيام ذلك اليوم إن لم يكن أفطر. وعنه، أنه يقضي ويكفر، سواء قدم وهو مفطر أو صائم. وإن وافق قدومه يوما من رمضان، فقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان ونذره. وقال غيره: عليه القضاء. وفي الكفارة روايتان)

وإذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَان، فَقَدِمَ لَيلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيهِ، وَإنْ قَدِمَ نَهَارًا، فَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّه لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا إِتْمَامُ صِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أفْطَرَ. وَعَنْهُ، أنَّهُ يَقْضِي وَيُكَفِّرُ، سَواء قَدِمَ وَهُوَ مُفْطِر أَوْ صَائِمٌ. وإنْ وَافَقَ قُدُومُهُ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَال الْخِرَقِيُّ: يُجْزِئُهُ صِيَامُهُ لِرَمَضَانَ وَنَذْرِهِ. وَقَال غَيرُهُ: عَلَيهِ الْقَضَاءُ. وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4806 - مسألة: (وإن نَذَر صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَان، فقَدِمَ لَيلًا، فلا شيءَ عليه، وإن قَدِم نَهَارًا، فعنه مَا يَدُلُّ على أنَّه لا يَنْعَقِدُ نَذْرُه، ولا يَلْزَمُه إلَّا صِيامُ ذلك اليومِ إن لم يَكُنْ أفْطَر. وعنه، أنه يَقْضِي ويُكَفِّرُ، سَواء قَدِم وهو مُفْطِر أو صائِم. وإن وافَقَ قُدُومُه يَوْمًا مِن رمضانَ، فقال الخِرَقِيُّ: يُجْزِئُه صِيامُه لرمضانَ ونَذْرِهِ. وقال غيرُه: عليه القَضاءُ. وفي الكَفَّارَةِ رِوايَتَان) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا نَذَر [أن يَصومَ يومَ] (¬1) يَقْدَمُ فُلان، صَحَّ نَذْرُه. وهو قولُ أبي حنيفةَ. وأحَدُ قَوْلَي الشَّافعيِّ. وقال في الآخَرِ: ¬

(¬1) في الأصل: «صوم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَصِحُّ نَذْرُه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ صَوْمُه بعدَ وُجودِ شَرْطِه، فلم يَصِحَّ، كما لو قال: للهِ عليَّ أن أصوم اليومَ الذي قبلَ اليومِ الذي يَقْدَمُ فيه زَيدٌ. ولَنا، أنَّه زَمَنٌ يَصِحُّ فيه صومُ التَّطَوُّعِ، فانْعَقَدَ نَذْرُه لصومِه، كما لو أصْبَحَ صائِمًا تَطوُّعًا، وقال: للهِ عليَّ أن أصومَ يَوْمِي. وقولُهم: لا يَصِحُّ صَوْمُه. لا يَصِحُّ؛ لأنَّه قد يَعْلَمُ اليومَ الذي يَقدَمُ فيه قبلَ قُدُومِه، فيَنْوي صَوْمَه مِن اللَّيلٍ، ولأنَّه قد يَجِبُ عليه ما لَا يُمْكِنُه، كالصَّبِيِّ يَبْلُغُ في أثْناءِ يوم مِن رمضان، والحائضِ تَطْهُرُ فيه، ولا نُسَلِّمُ ما قاسُوا عليه. إذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَت ذلك، لم يَخْلُ مِن أقْسام خَمْسَةٍ؛ أحَدُها، أن يَقْدَمَ لَيلًا، فلا شيءَ عليه، في قولِ الجَميعِ؛ لأنَّه لم يَقْدَم في اليومِ، ولا في وَقْتٍ يَصِحُّ فيه الصِّيامُ. الثَّاني، أن يَعْلَمَ قُدُومَه مِن الليلِ، فيَنْويَ صَوْمَه، ويكون يَوْمًا يجوزُ فيه صَوْمُ النَّذْرِ، فيَصِحُّ صَوْمُه ويُجْزِئُه وَفاءً بنَذْرِه. الثَّالِثُ، أن يَقْدَمَ يومَ فِطْر أو أضْحَى، فاخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ في هذه المسألةِ؛ فعنه، لا يَصُومُه (¬1)، ويَقْضِي ويُكَفِّرُ. نَقَلَه عن أحمدَ جَماعَة. وهو قولُ أكثرِ أصحابِنا، ومذهبُ الحَكَمِ وحَمَّادٍ. والرِّوايَةُ الثانِيَةُ، يَقْضِي ولا كَفَّارَةَ عليه. وهو قولُ الحسينِ، والأوْزاعِيِّ، وأبي عُبَيدٍ، وقَتادَةَ، وأبي ثَوْرٍ، وأحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ؛ لأنَّه فاتَه الصَّوْمُ الواجِبُ بالنَّذْرِ، فلَزِمَه قَضاؤه، كما لو تَرَكَه نِسْيانًا (¬2)، ولم تَلْزَمْه كَفَّارَة؛ لأنَّ الشَّرْعَ مَنَعَه من صَوْمِه، ¬

(¬1) في م: «يضح». (¬2) في الأصل: «ناسيا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو كالمُكْرَهِ. وعن أحمدَ رِوايَة ثالثة، إن صامَه صَحَّ صَوْمُه. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّه [قد وَفَّى] (¬1) بما نَذَر، فأشْبَهَ ما لو نَذَر مَعْصِيَةً ففَعَلَها. ويَتَخَرَّجُ أن يُكَفِّرَ مِن غيرِ قَضاءٍ؛ لأنَّه وافَقَ يومًا صَوْمُه حَرامٌ، فكان مُوجَبُه الكَفَّارَةَ، كما لو نَذَرَتِ المرأةُ صومَ يومِ حَيضِها. ويَتَخَرَّجُ أن لا يَلْزَمَه شيء مِن كفَّارَةٍ ولا قَضاءٍ، بِناءً على مَن نَذَر المَعْصِيَةَ. [وهو قولُ مالكٍ، والشَّافعيِّ في أحَدِ قولَيهِ، بناءً على نَذْرِ المَعْصِيَةِ] (¬2). ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ، لأنَّه نَذَر نَذْرًا يُمْكِنُ الوفاءُ به غالِبًا، فكان مُنْعَقِدًا، كما لو وافَقَ غيرَ يَوْمِ العيدِ، ولا يجوزُ أن يصومَ يومَ العيدِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ صَوْمَه، فأشْبَهَ زَمَنَ الحَيضِ، ولَزِمَه القَضاءُ؛ لأنَّه نَذْرٌ مُنْعَقِدُ، وقد فاتَه الصِّيامُ بالعُذْرِ، فلَزِمَتْه الكَفَّارَةُ لفَواتِه، كما لو فاتَه بمرض. وإن وافَقَ يومَ حَيض أو نِفاس، فهو كما لو وافَقَ يومَ فِطْر أو ¬

(¬1) في الأصل: «وفاء». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أضْحَى، إلَّا أنَّها لا تَصُومُه. بغيرِ خِلافٍ بينَ أهلِ العلمِ. الرَّابع، أن يَقْدَمَ في يوم يَصِحُّ صَوْمُه والنَّاذِرُ مُفْطِر، ففيه رِوَايتان؛ إحداهما، يَلْزَمُه القَضاءُ والكَفَّارَةُ؛ لأنَّه نَذَر صَوْمًا نَذْرًا صَحِيحًا، ولم يَفِ به، فلَزِمَه القَضاءُ والكَفَّارَةُ، كسائِرِ المَنْذُوراتِ. ويَتَخَرَّجُ أن لا تَلْزَمَه كَفَّارَة. وهو مذهبُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّه تَرَك المَنْذُورَ لعُذْرٍ. والثَّانِيَةُ، لا يَلْزَمُه شيءٌ مِن قَضاءٍ ولا غيرِه. وهو قولُ أبي يوسفَ، وأصحابِ الرَّأي، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّه قَدِمَ في زَمَن لا يَصِحُّ صَوْمُه فيه، فلم يَلْزَمْه شيءٌ، كما لو قَدِمَ ليلًا. الخامِسَةُ، قَدِم والنَّاذِرُ صائِمٌ، فلا يَخْلُو مِن أن يكونَ تَطَوُّعًا أو فرْضًا؛ فإن كان تَطَوُّعًا، فقال القاضي: يصومُ بَقِيَّتَهُ، ويَعْقِدُه عن نَذْرِه، ويُجْزِئُه، ولا قَضاءَ ولا كَفَّارَةَ. وهو قولُ أبي حنيفة؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يُمْكِنُ صومُ يوم بعضُه تَطَوُّع وبعضُه واجب، كما لو نَذَر في صَوْمِ التَّطَوُّعِ إتْمامَ صومِ ذلك اليوم، وإنَّما وُجِدَ سببُ الوُجوبِ في بعضِه. وذَكَر القاضي احْتمالًا آخَرَ، أَنَّه يَلْزَمُه القَضاءُ والكَفَّارَةُ؛ لأنَّه صَوْم واجِب، فلم يَصِحَّ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، كقَضاءِ رمضانَ. وذَكَر أبو الخطَّابِ هذَين الاحْتِمالين رِوايَتَين. وعندَ الشَّافعيِّ، عليه القَضاءُ فقط، كما لو قَدِم وهو مُفْطِرٌ. ويَتَخرَّجُ لنا مثلُه. وأمَّا إن كان الصومُ واجبًا، مثلَ أن يُوافِقَ يومًا مِن رمضانَ، فقال الخِرَقِيُّ: يُجْزِئُه (¬1) لرَمضانَ ونَذْرِه؛ لأنَّه نَذَر صَوْمَه، وقد وَفَّى به. وقال غيرُه: عليه القَضاءُ؛ لأنَّه لم يَصُمْه عن نَذْرِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4807 - مسألة: (وإن وافق يوم نذره وهو مجنون، فلا قضاء عليه ولا كفارة)

وَإنْ وَافَقَ يَوْمَ نَذْرِهِ وَهُوَ مَجْنُونٌ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيهِ وَلَا كَفَّارَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الكَفَّارَةِ رِوايتان؛ إحْداهما، تجِبُ (¬1)؛ لتَأخُّرِ النَّذْرِ. والثَّانِيَةُ، لا تَجِبُ؛ لأنَّه [أخَّرَه لعُذْرٍ] (¬2)، أشْبَهَ ما لو أخَّرَ صَوْمَ رمضانَ لعُذْرٍ. 4807 - مسألة: (وإن وافَقَ يومَ نَذْرِه وهو مَجْنُون، فلا قَضاءَ عليه ولا كَفَّارَةَ) لأنَّه خَرَج من أهْلِيَّةِ التَّكْليفِ قبلَ وَقْتِ النَّذْرِ، أشْبَهَ ما لو فاتَه (¬3). فصل: وإن قال: للهِ عليَّ صومُ يومِ العيدِ. فهذا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، على نَاذِرِه الكَفّارَةُ لا غيرُ. نَقَلَها حَنْبَل عن أحمدَ. وفيه رواية أخْرَى، أنَّ عليه القَضاءَ مع الكفَّارَةِ، كما لو نَذَر يومَ الخميسِ، فوافَقَ يومَ العيدِ. والأولَى هي الصَّحِيحَةُ. قاله القاضي؛ لأنَّ هذا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فلم يُوجِبْ قَضاءً، ¬

(¬1) في الأصل: «يحنث». (¬2) في ق، م: «أخر». (¬3) في الأصل: «قاله».

4808 - مسألة: (وإن نذر صوم شهر معين، فلم يصمه لغير عذر، فعليه القضاء وكفارة يمين، [وإن لم يصمه لعذر فعليه القضاء، وفي الكفارة روايتان)

وَإنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْر مُعَيَّن، فَلَمْ يَصُمْهُ لِغَيرِ عُذْرٍ، فَعَلَيهِ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةُ يَمِين، وَإنْ لَمْ يَصُمْهُ لِعُذْرٍ، فَعَلَيهِ الْقَضَاءُ، وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائِرِ المَعاصِي. وفارَقَ ما إذا نَذَر صَوْمَ يومِ الخميسِ، فوافَقَ يومَ العيدِ؛ لأنَّه لم يَقْصِدْ بنَذْرِه المَعْصِيَةَ، وإنَّما وَقَع اتِّفاقًا، وههُنا تَعَمَّدَها بالنَّذْرِ، فلم يَنْعَقِدْ نَذْرُه، ويَدْخُلُ في قولِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» (¬1). ويَتَخَرَّجُ أن لا يَلْزَمَه شيءٌ، بِناءً على نَذْرِ المَعْصِيَةِ فيما تقَدَّمَ. 4808 - مسألة: (وإن نَذَر صَوْمَ شَهْر مُعَيَّن، فلم يَصُمْه لغيرِ عُذْر، فعليه القَضاءُ وكَفَّارَةُ يَمِين، [وإن لم يَصُمْه لعُذْرٍ فعليه القَضاءُ، وفي الكَفّارَةِ رِوايَتان) أمّا إذا تَرَك صَوْمَه لغيرِ عُذْرٍ فعليه القَضاءُ] (¬2)؛ لأنَّه ¬

(¬1) انظر ما تقدم تخريجه في 9/ 414، 10/ 38 حاشية، وانظر صفحة 184. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صوم واجبٌ مُعَيَّن أخَّرَه، فلَزِمَه قَضاؤه، كرَمضانَ، وتَلْزَمُه كَفَّارَةُ يَمِين؛ لتَأخُّرِ النَّذْرِ عن وَقْتِه؛ لأنَّه يَمِينٌ، وإن لم يَصُمْه لِعُذْرٍ، فعليه القَضاءُ؛ لأنَّه واجِبٌ، أشْبَهَ رمضانَ. وفي الكَفَّارَةِ رِوايَتان، إحْداهما، تَلْزَمُه، لتَأخُّرِ النَذْرِ [عن وَقْتِه] (¬1). والأخْرَى، لا تَلْزَمُه، لأنَّه أخَّرَه لعُذْرٍ (¬2)، أشْبَهَ تَأخِيرَ رَمضانَ لعُذْرٍ (2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لنذر».

4809 - مسألة: (وإن صام قبله، لم يجزئه)

وَإنْ صَامَ قَبْلَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وإنْ أفْطَرَ في بَعْضِهِ لِغَيرِ عُذْرٍ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَيُكَفِّرُ. وَيَحْتَمِلُ أن يُتمَّ بَاقِيَهُ، وَيَقْضِيَ وَيُكَفِّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4809 - مسألة: (وإن صَامَ قَبْلَهُ، لم يُجْزِئْه) وكذلك إن نَذَر الحَجَّ في عام، فحَجَّ قبلَه. وقال أبو يوسف: يُجْزِئه، كما لو حَلَف ليَقْضِيَنَّه حَقَّه في وَقْتٍ، فقَضاه قبلَه. ولَنا، أنَّ المَنْذُورَ مَحْمُولٌ على المَشْرُوعِ، ولو صامَ قبلَ رمضانَ لم يُجْزِئْه، فكذلك إذا صامَ المَنْذُورَ قبلَه، ولأنَّه لم يَأتِ بالمَنْذورِ في وَقْتِه، فلم يُجْزِئْه، كما لو لم يَفْعَلْه أصْلًا. 4810 - مسألة: (وإن أفْطَر في أثْنَائِه لغَيرِ عُذْرٍ، لَزِمَه اسْتِئْنَافُه، ويُكَفِّرُ. ويَحْتَمِلُ أن يُتمَّ باقِيَه، ويَقْضِيَ ويُكَفِّرَ) إذا نَذَر صومَ شَهْر مُعَيَّن، فأفْطَرَ في أثْنائِه، لم يَخْلُ من حالين؛ أحَدُهما، الفِطْرُ لغيرِ عُذْرٍ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ففيه روايَتان؛ إحْداهما، يَنْقَطِعُ صَوْمُه، ويَلْزَمُه اسْتِئْنافُه؛ لأنَّه صومٌ يَجِبُ مُتَتابِعًا بالنَّذْرِ، فأبْطَلَه الفِطْرُ لغيرِ عُذْرٍ، [كما لو شَرَط التَّتابُعَ] (¬1)، وفارَقَ رمضانَ؛ فإن تَتابُعَه بالشَّرْعِ لا بالنَّذْرِ، وههُنا أوْجَبَه على نفسِه ثم فَوَّتَه، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَه مُتَتابِعًا. الثَّانِيَةُ، لا يَلْزَمُه الاسْتِئْنافُ، إلَّا أن يكونَ قد شَرَط التَّتابُعَ. وهذا قولُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ وُجوبَ التَّتابُعِ ضَرُورَةُ التَّعْيِينِ لا بالشَّرطِ، فلم يُبْطِلْه الفِطْرُ في أثْنائِه، كشهرِ رمضان، ولأنَّ الاسْتِئْنافَ يَجْعَلُ الصومَ في غيرِ الوقتِ الذي عَيَّنَه، والوفاءَ بنَذْرِه في غيرِ وَقْتِه، وتَفْويتُ البعضِ لا يُوجِبُ تَفْويتَ الجميعِ. فعلى هذا، يُكَفِّرُ عن فِطْرِه، ويَقْضي أيَّامَ فِطْرِه بعدَ إتْمامِ صَوْمِه. وهذا أقْيَسُ، إن شاءَ اللهُ تعالى، وأصَحُّ. وعلى الرِّوايَةِ الأولَى، يَلْزَمُه الاسْتِئْنافُ عَقِيبَ الأيَّامِ التي أفْطَر ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، ولا يجوزُ تَأخِيرُه؛ لأنَّ باقِيَ الشَّهْرِ مَنْذُورٌ، فلا يجوزُ تَرْكُ الصومِ فيه، وتَلْزَمُه كَفَّارَةٌ أيضًا؛ لإِخْلالِه بصومِ الأيَّامِ التي أفْطرَها. الحال الثَّاني، أفْطرَ لعُذْرٍ، فإنَّه يَبْنِي على ما مَضَى من صِيامِه [ويَقْضِي] (¬1)، ويُكَفِّرُ. هذا قِياسُ المذهبِ. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه لا كَفَّارَةَ عليه. وهو مذهبُ مالكٍ، والشَّافعيّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ على المَشْرُوعِ، ولو أفْطرَ رمضانَ لعُذْرٍ لم يَلْزَمْه شيء. ولَنا، أنَّه فاتَ ما نَذَرَه، فلَزِمَتْه كَفَّارَة؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأخْتِ عُقْبَةَ بنِ عامِر: «وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا» (¬2). وفارَقَ رمضانَ، فإنَّه لو أفْطرَ لغيرِ عُذْرٍ، لم تَجِبْ عليه كَفَّارَةٌ إلَّا في الجِماعِ، بخلافِ هذا. فصل: وإن جُنَّ جميعَ الشهرِ المُعَيَّنِ، لم يَلْزَمْه قَضاء ولا كَفَّارَة. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 171.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو يوسفَ: يَلْزَمُه القَضاءُ؛ لأنَّه من أهلِ التَّكْلِيفِ [حالةَ نَذْرِه وقَضائِه، فلَزِمَه القَضاءُ، كالمُغْمَى عليه. ولَنا، أنَّه ليس من أهلِ التَّكْلِيفِ] (¬1) في وَقْتِ الوُجوبِ، فلم يَلْزَمْه القَضاءُ، كما لو كان في شهرِ رمضانَ. وإن حاضَتِ المرأةُ جميعَ الزَّمَنِ المُعَيَّنِ، فعليها القَضاءُ، وفي الكَفَّارَةِ وَجْهان. وقال الشَّافعيُّ: لا كفَّارَةَ عليها، وفي القَضاءِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُها، لأنَّ زمَنَ الصوم لا يُمْكِنُ الصومُ فيه، فلا يَدْخُلُ في النَّذْرِ، كزمنِ رمضانَ. ولَنا، أنَّ المَنْذُورَ يُحْمَلُ على المَشْرُوعِ ابْتِداءً، ولو حاضَتْ في شهرِ رمضانَ، لَزِمَها القَضاءُ، فكذلك المَنْذُورُ. فصل: وإن قال: للهِ عليَّ الحَجُّ في عامِي هذا. فلم يَحُجَّ لعُذْرٍ أبي غيرِه، فعليه القَضاءُ والكَفَّارَةُ. ويَحْتَمِلُ أن لا كَفَّارَةَ عليه إذا كان مَعْذُورًا. وقال الشَّافعيّ: إن تَعَذَّرَ عليه الحَجُّ لأحَدِ الشَّرائِطِ السَّبْعَةِ، أو مَنَعَه منه سُلْطان أو عَدُوٌّ، فلا قَضاءَ عليه، وإن حَدَث به مَرَضٌ، أو أخْطَأ، أو تَوانَى، قَضاه. ولَنا، أنَّه فاتَه الحَجُّ المنذورُ، فلَزِمَه قَضاؤه، كما لو مَرِض، ولأنَّ المنذورَ مَحْمُولٌ على المَشْرُوعِ ابْتِداءً، ولو فاتَه الشروعُ، [لَزِمَه قَضاؤه] (¬2)، فكذلك المنْذُورُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

4811 - مسألة: (وإن نذر صوم شهر، لزمه التتابع)

وَإذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْر، لَزِمَهُ التَّتَابُعُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4811 - مسألة: (وإن نَذَر صَوْمَ شَهْر، لَزِمَه التَّتابُعُ) إذا نَذَر صومَ شهو، فهو مُخَيَّرٌ بينَ أن يصومَ شهرًا بالهلالِ، فيُجْزِئُه، وبينَ أن يَصُومَه بالعَدَدِ ثلاثينَ يومًا، ويَلْزَمُه التَّتابُعُ، في أحَدِ الوَجْهَين. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، لأنَّ إطْلاقَ الشهرِ يَقْتَضِي التَّتابُعَ. والثَّاني، لا يَلْزَمُه التَّتابُعُ.

4812 - مسألة: (وإن نذر أياما معدودة، لم يلزمه التتابع، إلا أن يشترطه)

وإنْ نَذَرَ صِيَامَ أيَّام مَعْدُودَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتابُعُ، إلَّا أَنْ يَشتَرِطَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الشَّافعيِّ، ومحمدِ بنِ الحسنِ؛ لأنَّ الشهرَ يَقَعُ على ما بينَ الهِلالين، وعلى ثلاثينَ يومًا، ولا خِلافَ في أنَّه يُجْزِئُه ثلاثونَ يومًا، فلم يلْزَمْه التَّتابُعُ، كما لو نَذَر ثلاثينَ يومًا. 4812 - مسألة: (وإن نَذَر أيَّامًا مَعْدُودَةً، لم يَلْزَمْه التَّتابُعُ، إلَّا أن يَشْتَرِطَه) نَصَّ عليه أحمدُ. ورُوِيَ عنه في مَن قال: للهِ عليَّ صِيامُ عشَرةِ أيَّام. يصومُها مُتَتابِعًا. وهذا يَدُلُّ على وُجوبِ التَّتابعِ في الأَيَّامِ المَنْذُورَةِ. وهو اخْتِيارُ القاضي. وحَمَل بعضُ أصحابِنا كلامَ أحمدَ على مَن شَرَط التَّتابُعَ أو نَواه؛ لأنَّ لَفْظَ العشَرةِ لا يَقْتَضِي تَتابُعًا، والنَّذْرُ لا يَقْتَضِيه، ما لم يَكُنْ في لَفْظِه أو نِيَّته. وقال بعضُهم: كلامُ أحمدَ على ظاهِرِه، ويَلْزَمُه التَّتابُعُ في نَذْرِ العشَرةِ دونَ الثلاثينَ؛ لأنَّ الثلاثينَ شهرٌ، فلو أرادَ التَّتابُعَ لقال: شهرًا. فعُدُولُه إلى العدَدِ دليلٌ على إرادَةِ التَّفْرِيقِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بخِلافِ العشَرةِ. والصَّحِيحُ أنَّه لا يَلْزَمُه التَّتابُعُ، فإن عَدَمَ ما يَدُلُّ على التَّفْرِيقِ ليس بدليل على التَّتابُعِ، فإن اللهَ تعالى قال في قَضاءِ (¬1) رمضانَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2). ولم يَذْكُرْ تَفْرِيقَها ولا تَتابُعَها، ولم يَجِبِ التَّتابُعُ فيها بالاتِّفاقِ. وقال بعضُ أصحابنا: إن نَذَر اعْتِكافَ أيَّام، لَزِمَه التَّتابُعُ، ولا يَلْزَمُ مثلُ ذلك في الصيامِ؛ لأَنَّ الاعْتِكافَ يَتَّصِلُ بعضُه ببعض مِن غيرِ فَصْل (¬3)، والصَّوْمُ يَتَخَلَّلُه اللَّيلُ، فيَفْصِلُ بعضَه مِن بعض، ولذلك لو نَذَر اعْتِكافَ يومَين مُتَتابِعَين، لَدَخَلَ فيه اللَّيلُ. والصَّحِيحُ التَّسْويَةُ؛ لأنَّ الواجِبَ ما اقْتَضاهُ لَفظه، ولَفْظُه (1) لا يَقْتَضِي التَّتابعَ، بدليلِ نَذْرِ الصومِ، وما ذكَرُوه مِن الفَرْقِ لا أثرَ له. ومَن قال: يَلْزَمُه التَّتابعُ. لَزِمَتْه اللَّيالِي التي بينَ أيَّام الاعْتِكافِ، كما لو قال: مُتَتابِعَة. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة البقرة 184، 185. (¬3) بعده في الأصل: «صوم».

4813 - مسألة: (وإن نذر صياما متتابعا، فأفطر لمرض أو حيض، قضى لا غير، وإن أفطر لغير عذر، لزمه الاستئناف، وإن أفطر لسفر أو ما يبيح الفطر، فعلى وجهين)

وَإنْ نَذَرَ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، فَأفطَرَ لِمَرض أو حَيض، قَضَى لا غَيرُ، وَإنْ أفْطَرَ لِغَيرِ عُذْرٍ، لَزِمَهُ الاسْتِئْنَافُ، وَإنْ أفْطَرَ لِسَفَر أوْ مَا يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4813 - مسألة: (وإن نَذَر صِيامًا مُتَتابِعًا، فأفْطَرَ لمَرَض أو حَيضٍ، قَضَى لا غيرُ، وإن أفْطَرَ لغيرِ عُذْرٍ، لَزِمَه الاسْتِئْنافُ، وإن أفْطَرَ لسَفَر أو ما يُبِيحُ الفِطْرَ، فعلى وَجْهَين) وجملتُه، أنَّ مَن نَذَر صِيامًا مُتَتابِعًا غيرَ مُعَيَّن، [ثم أفْطَرَ فيه] (¬1) لم يَخْلُ مِن حالين؛ أحَدُهما، أن يُفْطِرَ لعُذْرٍ؛ مِن حَيض، أو مَرَض، أو نحوه، فهو مُخَيَّرٌ بينَ أن يَبْتَدِئ الصومَ، ولا شيءَ عليه؛ لأنَّه أتَى بالمنْذُورِ على وَجْهِه، وبينَ أن يَبْنِيَ على صِيامِه ويُكَفِّرَ؛ لأنَّ الكَفَّارَةَ تَلْزَمُ لتَرْكِه المنذورَ وإن كان عاجِزًا، بدليلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أخْتَ عُقْبَةَ بنَ عامِر بالكَفَّارَة، لعَجْزِها عن المَشْي، ولأنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ، ولو حَلَف ليَصُومَنَّ صِيامًا مُتَتابعًا، ثم لم يَأت به مُتَتابِعًا، لَزِمَتْه الكَفَّارَةُ، وإنَّما جَوَّزْنا له البِنَاءَ ههُنا؛ لأنَّ الفِطْرَ لعُذْرٍ لا يَقْطَعُ التَّتابُعَ حُكْمًا، كما لو أفْطَرَ في صِيامِ الشَّهْرَين المُتَتابعَين لعُذْرٍ، كان له البِنَاءُ. والذي ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المشروحِ، أنَّه لا كَفَّارَةَ عليه إذا أفْطَرَ لعُذْرٍ، فإنَّه قال: قَضاهُ لا غيرُ. وهي إحْدَى الرِّوايَتَين عن أحمدَ، كما لو تَرَك التَّتابُعَ في الشَّهْرَين المُتَتابِعَين لعُذْرٍ، فإنَّه لا كَفَّارَةَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، كذا ههُنا. الحالُ الثَّاني، أن يُفْطِرَ لغيرِ عُذْرٍ، فهذا يَلْزَمُه اسْتِئْنافُ الصيامِ، ولا كَفَّارَةَ عليه؛ لأنَّه تَرَك التَّتابُعَ المنذورَ لغيرِ عُذْرٍ، مع إمْكانِ الإِتْيانِ به، فلَزِمَه فِعْلُه، كما لو نَذَر صومًا مُعَينًا، فصامَ قبلَه. فإن أفْطَرَ لعُذْرٍ يُبِيحُ الفِطْرَ، كالسَّفَرِ، لم يَقْطَعِ التَّتابُعَ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه عُذْرٌ في فِطْرِ رمضانَ، فأشْبَهَ المَرَضَ. والثَّاني، يُفْطِرُ؛ لأنَّه أفْطر باخْتِيارِه، أشْبَهَ ما لو أفْطَرَ لغيرِ عُذْرٍ. فصل: إذا نَذَر صومَ شهر مُتَتابع، فصامَ من أوَّلِ الهِلالِ، أجْزَأه، تامًّا كان الشهرُ أو ناقِصًا؛ لأنَّ ما بينَ الهِلالين شَهْرٌ، ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا (¬1) الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» (¬2). وإن بَدَأ مِن أثْناءِ شَهْر، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في 22/ 321، 322. ويضاف إليه في تخرج البُخاريّ 7/ 68: وانظر لهذا اللفظ ما أخرجه البُخاريّ، في: باب الصَّلاة في السطوح. . . .، من كتاب الصَّلاة، وفي: باب الفرفة والعلية المشرفة. . . .، من كتاب المظالم، وفي: باب موعظة الرجل ابنته. . . .، من كتاب النكاح، وفي: باب من حلف أن لا يدخل على أهله. . . .، من كتاب الأيمان والنذور. صحيح البُخاريّ 1/ 106، 3/ 176، 7/ 38، 8/ 173. والترمذي، فهي: باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين. عارضة الأحوذي 3/ 205. والنَّسائيُّ، في: باب كم الشهر، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 111. وابن ماجة، في: باب الإيلاء، من كتاب الطلاق. سنن ابن ماجة 1/ 664. والدارمي، في: باب الشهر تسع وعشرون، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 4. والإمام مالك، في: باب ما جاء في رؤية الهلال للصوم. . . .، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 286. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 218، 258، 340، 2/ 31، 40، 56، 75، 78، 251، 298، 3/ 200، 341، 6/ 33، 51، 105، 163، 243، 315.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَزِمَه شهرٌ بالعدَدِ، ثلاثون يومًا؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا لِرُؤيَتهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتهِ، فإن غُمَّ عَلَيكُمْ، فأكْمِلُوا ثَلَاثِينَ» (¬1). [فإن صام شَوّالًا، لَزِمَه إكْمالُه ثلاثين] (¬2)؛ لأنَّه بَدَأ مِن أثْنائِه، إن كان ناقِصًا، قضَى يَومينِ، وإن كان تامًّا أتَمَّ يومًا واحدًا. وإن صامَ ذا الحِجَّةِ، أفْطَرَ يومَ الأضْحَى وأيَّام التَّشْرِيقِ، ولم يَنْقَطِعْ تَتابُعُه، كما لو أفْطَرَتِ المرأةُ لحَيضٍ، وعليه كَفَّارَةٌ، ويَقْضِي أرْبَعةَ أيَّام إن كان تامًّا، وخمسة إن كان ناقِصًا. والأوْلَى أن لا يَلْزَمَه إلَّا أرْبَعَةٌ إذا كان ناقِصًا؛ لأنَّه بدَأ مِن أوَّلِه، فيَقْضِي المَتْرُوكَ منه حَسْبُ. وإن صامَ مِن أوَّلِ شَهْر، فمَرِضَ فيه أيَّامًا مَعْلُومَةً، أو حاضَتِ المرأةُ فيه ثم طَهُرَتْ قبلَ خُروجِه، قَضَى ما أفْطَرَ منه بعِدَّتِه إن كان الشَّهرُ تامًّا، وإن كان ناقِصًا، فهل يَلْزَمُه الإِتْيانُ بيَوْم آخَرَ؟ على وَجْهَين، بِناءً على ما ذَكَرْنا فيما إذا أفْطَرَ يومَ العيدِ وأيَّامَ التَّشْريقِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 327. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا نَذَر صِيامَ شهر مِن يومِ يَقْدَمُ فُلانٌ، فقَدِم في أوَّلِ شَهْرِ رمضانَ، فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّ هذا نَذْر مُنْعَقِد، يُجْزِئُ صِيامُه عن النَّذْرِ ورمضانَ. وهو قولُ أبي يوسفَ. وقياسُ قولِ ابنِ عباس، وعِكْرِمَةَ؛ لأنَّه نَذَر صومًا في وَقْتٍ، وقد صامَ فيه. وقال القاضي، في «شَرْحِه»: ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، أنَّه غيرُ مُنْعَقِدٍ؛ لأنَّ نَذْرَه وافَقَ زَمَنًا يُسْتَحَقُّ صَومُه، فلم يَنْعَقِدْ نَذْرُه، كنَذْرِ صومِ رمضانَ. قال: والصَّحِيحُ عندِي صِحَّةُ النَّذْرِ؛ لأنَّه نَذْرُ طاعَةٍ يُمْكِنُ الوَفاءُ به غالِبًا، فانعَقَد، كما لو وافَقَ شعبانَ. فعلى هذا، يصومُ رمضانَ، ثم يَقْضِي ويُكَفِّرُ. وهذا اخْتِيارُ أبي بكر. ونَقَل جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أحمدَ، أنَّ عليه القَضاءَ. وقولُ الخِرَقِيِّ: أجْزَاة صِيامُه لرمضانَ ونَذْرِه. دليل على أنَّ نَذرَه انْعَقَد عندَه، ولولا ذلك ما كان صومُه عن نَذْرِه. وقد نَقَل أبو طالِبٍ عن أحمدَ، في مَن نَذَر أن يَحُجَّ وعليه حَجَّة مَفْرُوضَة، فأحْرَم عن النَّذْرِ: وَقَعَتْ عنِ المَفْرُوضِ، ولا يَجِبُ عليه شيءٌ آخَرُ. وهذا مثلُ قولِ الخِرَقِيِّ. ورَوَى عِكْرِمَةُ، عن ابنِ عباس، في رجل نَذَر أن يَحُجَّ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَكُنْ حَجَّ الفَرِيضَةَ، قال: يُجْزِئُ لهما جميعًا. وعن عِكْرِمَةَ، أنَّه سُئِلَ عن ذلك، فقال عِكْرِمَةُ: يَقْضِي حَجَّتَهُ عن نَذْرِه وعن (¬1) حَجَّةِ الإسْلامِ، أرَأيتُم لو أنَّ رجلًا نَذَر أن يُصَلِّيَ أرْبَعَ رَكَعاتٍ، فصَلَّى العَصْرَ، أليس ذلك يُجْزِئُه مِن العصرِ والنَّذْرِ؟ قال: فذكَرْتُ قَوْلِي لابنِ عباس، فقال: أصَبْتَ و (¬2) أحْسَنْتَ. وقال ابنُ عمرَ، وأنَسٌ: يَبْدَأ بحَجَّةِ الإِسْلامِ، ثم يَحُجُّ لنَذْرِه. وفائِدَةُ انْعِقادِ [نَذرِه، لُزومُ] (¬3) الكَفَّارَةِ بتَرْكِه، وأنَّهِ لو لم يَنْوه لنَذْرِه، لَزِمَه قَضاؤه. وعلى هذا، لو وافَقَ نَذْرُه بعضَ رمضان، وبعضَ شَهْر آخَرَ، إمَّا شعبان، وإمَّا شوال، لَزِمَه صومُ ما خرَج عن رمضانَ، ويُتمُّه [مِن رمضانَ] (¬4)، ولو قال: للهِ عليَّ صومُ رمضان. فعلى قياس قولِ الخِرَقِي، يَصِحُّ نَذْرُه، ويُجْزِئُه صِيامُه عن الأمرين، وتَلْزَمُه الكفَّارَةُ إن أخَلَّ به. وعلى قولِ القاضِي، لا يَنْعَقِدُ نَذْرُه. وهو مذهبُ الشَّافعيِّ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ صومُه عن النَّذْرِ، أشْبَهَ الليلَ. ولَنا، أنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ، فيَنْعَقِدُ (¬5) في الواجِبِ مُوجِبًا للكَفَّارَةِ، كاليَمِينِ باللهِ ¬

(¬1) في الأصل: «على». (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) في الأصل: «لزوم نذره». (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «منعقدة».

4814 - مسألة: (وإن نذر صياما، فعجز عنه لكبر، أو مرض

وَإنْ نَذَرَ صِيَامًا، فَعَجَزَ عَنْهُ لِكِبَر، أوْ مَرَض لَا يُرْجَى بُرْؤهُ، أطعَمَ ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى. وقد نُقِلَ من أحمدَ، في مَن نَذَر أن يَحُجَّ العامَ، وعليه حَجَّةُ الإِسلام، رِوايَتانِ؛ إحْداهُما، تُجْزِئُه حَجَّةُ الإِسْلامِ عنها وعن نَذْرِه. نَقَلَها أَبو طالِبٍ. والثَّانيةُ، يَنْعَقِدُ نَذْرُه مُوجِبًا لحَجَّةٍ غيرِ حَجَّةِ (¬1) الإِسْلامِ، ويَبْدَأ بحَجَّةِ الإِسْلامِ، ثم يَقْضِي نَذْرَه. نَقَلَها ابنُ مَنْصُورٍ؛ لأنَّهما عِبادَتان تجِبانِ بسَبَبَين (¬2) مُخْتَلِفَين، فلم تَسْقُطْ إحْداهما بالأخرَى، كما لو نَذَر حَجَّتَين. ووَجْهُ الأولَى، أنَّه نَذَر عِبادَةً في وقتٍ مُعَيَّن، وقد أتَى بها فيه، فأشْبَهَ ما لو قال: للهِ عليَّ أن أصومَ رمضانَ. فصل: فأمَّا إن قال: لله عِليَّ أن أصومَ شهرًا. فنَوَى صيامَ شهرِ رمضانَ لنَذْرِه ورمضانَ، لم يُجْزِئْه؛ لأنَّ شَهْرَ رمضانَ واجِبٌ بفَرْضِ اللهِ تعالى، ونَذْرُه يَقْتَضِي (¬3) إيجابَ شهر، فيَجِبُ شَهْران بسَبَبَين، فلا يُجْزِئُ أحدُهما عن الآخَرِ، كما لو نَذر صومَ شَهْرَين، وكما لو نَذَر أن يُصَلِّيَ ركعتَين، لم تُجْزِئْه صلاةُ الفَجْرِ عن نَذْرِه وعن الفجرِ. 4814 - مسألة: (وإن نَذَر صيامًا، فعَجَز عنه لكِبَر، أو مَرَض ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بشيئين». (¬3) في الأصل: «يقضي».

عَنْهُ لكُلِّ يَوْم مِسْكِينًا. وَيَحْتَمِلُ أن يُكَفِّرَ ولَا شَيْءَ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُرْجَى بُرْؤهُ، أطْعَم عنه لكلِّ يَوْم مِسْكِينًا. ويَحْتَمِلُ أن يُكَفِّرَ ولا شَيْءَ عليه) مَن نَذَر طاعَةً لا يُطيقُها، أو كان قادِرًا عليها فعَجَزَ عنها، فعليه كَفَّارَةُ يَمِين؛ لِما روَى عُقْبةُ بنُ عامِر، قال: نَذَرَتْ أخْتي أن تَمْشِيَ إلى بيتِ اللهِ حافِيَةً، فأمَرَتْنِي أن أسْتَفْتِيِ لها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَفْتَيتُه، فقال: «لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ». مُتَّفقٌ عليه (¬1). ولأبي داودَ (¬2): «وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا». وللتِّرْمِذِيِّ (¬3): «وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّام». وعن عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِين» (¬4). قال: «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِين». رَواه أبو داودَ (¬5)، وقال: وَقَفَه مَن رَواه عنِ ابنِ ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب من نذر المشي إلى الكعبة، من كتاب المحصر وجزاء الصيد. صحيح البُخاريّ 3/ 25. ومسلم، في: باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، من كتاب المنذر. صحيح مسلم 3/ 1264. كما أخرجه أبو داود، في: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 210. والنَّسائيُّ، في: باب من نذر أن يمشي إلى بيت الله، من كتاب الإيمان والنذور. المجتبى 7/ 18، 19. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 152. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 178. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 171. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 184. (¬5) في: باب من نذر نذرًا لا يطيقه، من كتاب الإيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 216. كما أخرجه ابن ماجة، في: باب من نذر نذرًا لم يسمه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجة 1/ 687. والدارقطني، في: كتاب النذور. سنن الدارقطني 4/ 159.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس. وقال ابنُ عباس: مَن نَذَرَ نَذْرًا لا يُطِيقُه فكَفَّارَتُه كَفَّارَةُ يَمِين، ومن نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُه، فَلْيَفِ بما نَذَر (¬1). فإذا كَفَّرَ، وكان المَنْذُورُ غيرَ الصيامِ، لم يَلْزَمْه شيءٌ آخَرُ. وإن كان صِيامًا. فعن أحمدَ رِوايَتان؛ إحداهما، يَلْزَمُه لكلِّ يوم إطْعامُ مِسْكِين. قال القاضي: وهذا أصَحُّ؛ لأنَّه صَوْمٌ وُجِدَ سَبَبُ إيجابِه عَينًا (¬2)، فإذا عَجَز عنه، لَزِمَه أن يُطْعِمَ عن كلِّ يوم مِسْكينًا، كصومِ رمضانَ، ولأنَّ المُطْلَقَ مِن كلامِ الآدَمِي يُحْمَلُ على المُطْلَقِ مِن كلام الله تعالى، ولو عَجَز عن الصومِ المَشْرُوعِ، أطْعَمَ عن كلِّ يومٍ مِسْكينًا، كذلك إذا عَجَز عن الصومِ المَنْذُورِ. والثَّانِيَةُ، لا يَلْزَمُه شيء آخَرُ مِن إطْعام ولا غيرِه؛ لقَوْلِه: «مَنْ نَذَرَ نَذرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِين». وهذا يَقْتَضي أن تكونَ كَفَّارَةُ اليَمِينِ جميعَ كفَّارَتِه، ولأنَّه نَذْرٌ عَجَز عن الوَفاءِ به، فكان الواجبُ فيه كَفّارَةَ يَمِين، كسائرِ النَّذْرٍ، ولأنَّ مُوجَبَ النَّذْرِ مُوجَبُ اليَمِينِ، إلَّا مع إمْكانِ الوَفاءِ به إذا كان قُرْبَة، ولا يَصِحُّ قياسُه على صومِ رمضانَ؛ لوَجْهَين؛ ¬

(¬1) انظر حاشية الدارقطني. (¬2) في م: «عبثًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما، أنَّ رمضانَ يُطْعَمُ عنه عندَ العَجز بالموتِ، فكذلك في الحياةِ، [وهذا بخِلافِه] (¬1). والثَّاني، أنَّ قياسَ المَنْذُورِ على المَنْذُورِ أوْلَى مِن قياسِه على (¬2) المَفْرُوضِ بأصلِ الشَّرْعِ؛ لأنَّ هذا قد وَجَبَت فيه كفَّارَة، فأجْزَأت عنه، بخلافِ المشْروعِ. [وقولُهم: إنَّ المُطْلَقَ مِن كَلامِ الآدَمِيِّ مَحْمُولٌ على المَعْهُودِ في الشَّرْعِ. قُلْنا: وليس هذا بمُطْلَقٍ، وإنَّما هو مَنْذُور مُعَيَّن. ويَتَخَرَّجُ أن لا تَلْزَمَه كفَّارَة في العَجْزِ عنه، كما لو عَجَز عن الواجِبِ بأصْلِ الشرْعِ] (1). فصل: وإن عَجَز [عن الصومِ] (¬3) لعارِض يُرْجَى زَوالُه، مِن مَرَض، أو نحوه، انْتَظَر زَواله، ولا تَلْزَمُه كَفَّارَة ولا غيرُها؛ لأنَّه لم يَفُتِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «من». (¬3) زيادة من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوقْتُ، فيُشْبِهُ المرِيضَ في شهرِ رمضانَ، فإنِ اسْتَمَرَّ عَجْزُه إلى أن صارَ غيرَ مَرْجُوِّ الزَّوالِ، صارَ إلى الكَفَّارَة والفِدْيَةِ، على ما ذَكَرْنا مِن الخلافِ فيه. فإن كان العَجْزُ المَرْجُوُّ الزَّوال عن صوم مُعَيَّن فاتَ وَقْتُه، انْتَظَر الإمْكانَ ليَقْضِيَه. وهل تَلْزَمُه لفَواتِ الوقتِ كَفَّارَةٌ؟ علي رِوايَتَين، ذَكَرَهما أبو الخَطَّاب؛ إحداهما، تَجِبُ الكفَّارَةُ؛ لأنَّه أخَلَّ بما نَذَرَه على وَجْهِه، فلَزِمَتْه الكَفَّارَةُ، كما لو نَذَر المَشْيَ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ فعَجَز، ولأنَّ النَّذْرَ كاليَمِينِ، ولو حَلَف ليَصُومَنَّ هذا الشهرَ [فأفْطَرَه لعُذْرٍ] (¬1)، لَزِمَتْه الكفَّارَةُ، كذا ههُنا. والثَّانيةُ، لا تَلْزَمُه؛ لأنَّه أتَى بصِيام أجْزَأ عن نَذْرِه مِن غيرِ تَفْرِيطِه، فلم تَلْزَمْه كَفَّارَةٌ، كما لو صامَ ما عَيَّنَه. فصل: فإن نَذَر غيرَ الصيامِ، فعَجَز عنه، كالصَّلاةِ ونحوها، فليس عليهْ إلَّا الكفَّارَةُ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَجْعَلْ لذلك بَدَلًا (¬2) يُصارُ إليه، فوَجَبَت الكَفَّارَةُ؛ لمُخالفَتِه نَذْرَه فقط. وإن عَجَز عنه لعارِض، فحُكْمُه حكمُ الصيامِ سَواءً فيما فصَّلْناهُ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «حدا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن نَذَر صِيامًا، ولم يُسَمِّ عَدَدًا، ولم يَنْوه، أجْزَأه صومُ يوم، لا خِلافَ فيه؛ لأنَّه ليس في الشَّرْعِ صومٌ مُفْرَدٌ أقلّ مِن يوم، فلَزِمَه؛ لأنَّه اليَقِينُ. فإن نَذَر صلاةً مُطْلَقَةً، ففيها رِوايَتان؛ إحداهما، تُجْزِئُه ركعةٌ. نَقَلَها إسماعيلُ بنُ سعيدٍ، لأنَّ أقَلَّ الصلاةِ ركعةٌ، فإن الوترَ صلاة مَشْرُوعَةٌ، وهي ركعةٌ واحدة. ورُوِيَ عن عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه تَطَوَّعَ بركعةٍ واحدةٍ (¬1). والثَّانيةُ، لا يجزِئُه إلَّا ركعتان. ذَكَرَها الْخِرَقِيُّ. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنَّ أقَلَّ صلاةٍ وَجَبَتْ بالشَّرْعِ رَكعتان، فوَجَبَ حَمْلُ النَّذْرِ عليه، وأمَّا الوتْرُ، فهو نَفْلٌ، والنَّذْرُ فَرْضٌ، فحَمْلُه على المَفْرُوضِ أوْلَى، ولأنَّ الرَّكْعَةَ لا تُجْزِئ في الفَرْضِ، فلا تجْزِئُ في النَّفْلِ، كالسَّجْدَةِ. وللشَّافعيِّ قَوْلان كالرِّوايَتَين. فأمَّا إن عَيَّنَ بنَذْرِه عَدَدًا، لَزِمَه، قَلَّ أو كَثُرَ؛ لأنَّ النَّذْرَ يَثْبُتُ بقَوْلِه، فكذلك عَدَدُه، فإن نَوَى عَدَدًا، فهو كما لو سَمَّاه؛ لأنَّه نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُه، فلَزِمَه حُكْمُه، كاليَمِينِ. فصل: وإن نَذَر صومَ الدَّهْرِ، لَزِمَه، ولم يَدْخُلْ في نَذْرِه رمضانُ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 44.

4815 - مسألة: (وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام، أو موضع من الحرم، لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة، فإن ترك المشي لعجز أو غيره، فعليه كفارة يمين. وعنه، عليه دم)

وَإنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيتِ اللهِ الحَرَامِ، أو مَوْضِع مِنَ الْحَرَمِ، لَمْ يُجْزِئْهُ إلا أن يَمْشِيَ فِي حَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَشْيَ لِعَجْزٍ أو غَيرِهِ، فَعَلَيهِ كَفَّارَةُ يَمِين. وَعَنْهُ، عَلَيهِ دَمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أيَّامُ العيدِ والتَّشْريقِ. فإن أفْطَرَ لعُذْرٍ أو غيرِه، لم يَقْضِه؛ لأنَّ الزَّمَنَ مُسْتَغْرقٌ بالصَّومِ المَنْذُورِ، لكنْ تَلْزَمُه كفَّارَةٌ لتَرْكِه. وإن لَزِمَه قَضاء [من رمضانَ] (¬1)، أو كَفَّارَة، قَدَّمَه على النَّذْرِ؛ لأنَّه واجِبٌ بأصْلِ الشَّرْعِ، فيُقَدَّمُ على ما أوْجَبَه على نَفْسِه، كتَقْدِيمِ (¬2) حَجَّةِ الإِسْلامِ على المَنْذُورَةِ. وإذا لَزِمَتْه كَفَّارَة لتَرْكِه صومَ يوم أو أكثرَ، وكانت كَفَّارَتُه الصِّيامَ، احْتَمَلَ أن لا (3) يَجِبَ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّكْفِيرُ إلَّا بتَرْكِ الصومِ المَنْذُورِ، وتَرْكُه يُوجِبُ كفَّارَةً، فيُفْضِي ذلك (¬3) إلى التَّسَلْسُلِ، وتَرْكِ المَنْذُورِ بالكُلِّيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَجِبَ الكَفَّارَةُ، ولا يَجِبُ بفِعْلِها كفَّارَةٌ؛ لأنَّ تَرْكَ النَّذْرِ لعُذْرٍ لا يُوجِبُ كَفَّارَةً، فلا يُفْضِي إلى التَّسَلْسُلِ. واللهُ أعلمُ. 4815 - مسألة: (وإن نَذَر المَشْيَ إلى بَيتِ اللهِ الحَرامِ، أو مَوْضِع مِن الحَرَمِ، لم يُجْزِئْه إلَّا أن يَمْشِيَ فِي حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، فَإن تَرَك المَشْيَ لعَجْزٍ أو غيرِه، فعليه كَفَّارَةُ يَمِين. وعنه، عليه دَمٌ) وجملةُ ¬

(¬1) في م: «لرمضان». (¬2) في م: «لتقديم». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّ مَن نَذَر المَشْيَ إلى بيتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لَزِمَه الوَفاءُ بنَذْرِه. وبهذا قال مالكٌ، والأوْزَاعِيّ، والشَّافعيّ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا نعلمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ نَذَرَ أن يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ» (¬1). وقال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِي هذَا، والمَسْجِدِ الأقْصَى» (¬2). ولا يُجْزِئُه المَشْيُ إلَّا في حَج أو عُمْرَةٍ. وبه يقولُ الشافِعِيُّ. ولا نعلمُ فيه خِلافًا؛ وذلك لأنَّ المشيَ إليه في الشَّرْعِ هو المشيُ في حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، فإذا أطْلَقَ النَّاذِرُ، حُمِلَ على المَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ، ويَلْزَمُه المشيُ لنَذْرِه إيَّاه، فإن عَجَز عن المشي، رَكِب، وعليه كَفَّارَةُ يَمِين. وعن أحمدَ رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه يَلْزَمُه دَم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 563. (¬2) تقدم تخريجه في 5/ 34.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ الشَّافِعِيِّ. [وأفْتَى به] (¬1) عَطاءٌ؛ لِما روَى ابنُ عباس، أنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بنِ عامِر نَذَرَتِ المَشْيَ إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ، فأمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تَرْكَبَ، وتُهْدِيَ هَدْيًا. رَواه أبو داودَ (¬2)، وفيه ضعفٌ. [ولأنَّه] (¬3) أخَلَّ بواجبٍ في الإِحْرام، فلَزِمَه هَدْيٌ، كتاركِ الإِحْرام مِن المِيقاتِ. وعن ابنِ عمرَ، وابن الزُّبَيرِ، قالا: يَحُجُّ مِن قابل، ويَرْكَبُ ما مَشَى ويَمْشِي ما رَكِب (¬4). ونحوَه قال ابنُ عباسٍ (4)، وزادَ: ويُهْدِي. وعن الحسنِ مثلُ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ. وعن النَّخَعِيِّ رِوايتان؛ إحداهما، كقولِ ابنِ عمرَ. والثَّانيةُ، كقولِ ابنِ عباس. وهذا قولُ مالكٍ. وقال أبو حنيفةَ: عليه (¬5) هَدْيٌ، سَواءٌ عَجَز عن المشْي أو قَدَر عليه، وأقل الهَدْي شاةٌ. وقال الشَّافعيُّ: لا تَلْزَمُه مع العَجْزِ كفَّارَة بحالٍ، ¬

(¬1) في م: «وبه قال». (¬2) في: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، من كتاب الإيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 210. كما أخرجه الدارمي، في باب في كفارة المنذر، من كتاب النذور والأيمان. سنن الدارمي 2/ 183، 184. وقال الحافظ: إسناده صحيح. تلخيص الحبير 4/ 178. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 239، 253، 311. وعنده: «ولتهد بدنة». وانظر: الإرواء 8/ 219 - 221. (¬3) في م: «لأنَّه». (¬4) أخرجه عن ابن عمرو بن عباس، عبد الرزاق، في: باب من نذر مشيًا ثم عجز، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 449. والبيهقي في: باب من أمر فيه بالإعادة والمشي فيما ركب. . . .، من كتاب النذور. السنن الكبرى 10/ 81. (¬5) في م: «يلزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يكونَ النَّذْرُ إلى بيتِ اللهِ، فهل يَلْزَمُه هَدْيٌ؟ فيه قَوْلانِ، وأمَّا غيرُه، فلا يَلْزَمُ مع العَجْزِ شيءٌ. ولَنا، قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأخْتِ عُقْبةَ بنِ عامِر، لَمَّا نذَرَتِ المشْيَ إلى بيتِ اللهِ: «لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتُكَفِّرْ يَمِينَهَا» (¬1). وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينِ» (¬2). ولأنَّ المَشْيَ ممَّا لا يُوجِبُه الإِحْرامُ، فلم يَجِبِ الدَّمُ ببرْكِه، كما لو نَذَرَت صلاةَ رَكعتين، فتَرَكَتْهما، وحدِيثُ الهَدْي ضَعِيف، وهذا حُجَّة على الشَّافعيِّ، حيثُ أوْجَب الكفَّارَةَ عليها [مِن غيرِ ذكرِ] (¬3) العَجْزِ. فإن قيلَ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوْجَبَ عليها (¬4) الكفَّارَةَ مِن غيرِ ذِكْرِ العَجْزِ. قُلْنا: يَتَعَيَّنُ حَمْلُه على حالةِ العَجْزِ؛ لأنَّ المشيَ قُرْبَة، لكَوْنِه مَشْيًا إلى عِبادَةٍ، والمشْيُ إلى العِبادَةِ أفضلُ، ولهذا رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَرْكَبْ في عِيدٍ ولا جِنازَةٍ (¬5). فلو كانت قادِرَةً على المشي، لأمَرَها به، ولم يَأمُرْها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 171. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 172. (¬3) في الأصل: «مع». (¬4) في م: «عليه». (¬5) تقدم تخريجه في 5/ 326.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [بالرُّكوبِ والتَّكْفيرِ] (¬1)، ولأنَّ المشيَ المَقْدُورَ عليه لا يَخْلُو مِن أن يكونَ واجِبًا أو مُباحًا؛ فإن كان واجِبًا، لَزِم (¬2) الوَفاءُ به، وإن كان مُباحًا، لم تَجِبِ الكَفَّارَةُ بتَرْكِه عندَ الشَّافعيِّ، وقد أوجَب الكفَّارَةَ ههُنا، وتَرْكُ ذِكْرِه في الحديثِ؛ إمَّا لِعلمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحالِها وعَجْزِها، وإمَّا لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ المرأةِ العَجْزُ عن المَشْي إلى مَكَّةَ. أو (¬3) يكونُ قد ذُكِر في الخَبَرِ، فتَرَك الرَّاوى ذِكْرَه. وقولُ أصحابِ أبي حنيفةَ: إنَّه أخَلَّ بواجِبٍ في الحَجِّ. قُلْنا المشيُ لم يُوجِبْه الإِحْرامُ، ولا هو مِن مَناسِكِه، فلم يَجِبْ بتَرْكِه هَدْيٌ، كما لو نَذَر صلاةَ ركعتين في الحَجِّ، فلم يُصَلِّهِما. فأمَّا إن تَرَك المَشْيَ مع إمْكانِه، فقد أساءَ، وعليه كَفَّارَة لتَرْكِه صِفَةَ النَّذْرِ. وقياسُ المذهبِ أن يَفزَمَه اسْتِئْناف الحَجِّ ماشِيًا؛ لتَرْكِه صِفَةَ المَنْذُورِ، كما لو نَذَر صَوْمًا مُتَتابِعًا فأتى به مُتَفَرِّقًا. فإن عَجَز عن المشي بعدَ الحَجِّ، كَفَّر، وأجْزَأه. وإن مَشَى بعضَ. الطريقِ ورَكِب بعضًا، فعلى هذا القياسِ، يَحْتَمِلُ أن يكون كقولِ ابنِ عمرَ، وهو أن يَحُجَّ فيَمْشِيَ ¬

(¬1) في ق، م: «بالتكفير». (¬2) في الأصل: «لزمه». (¬3) في الأصل: «و».

4816 - مسألة: (فإن نذر الركوب، فمشى، فعلى الروايتين)

وَإنْ نَذَرَ الرُّكُوبَ، فَمَشَى، فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما رَكِب، ويَرْكبَ ما مَشَى. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْزِئَه إلَّا حَجٌّ يَمْشِي في جميعِه؛ لأنَّ ظاهِرَ النَّذْرِ يَقْتَضي هذا. ووَجْهُ القولِ الأوَّلِ، وهو أن لا يَلْزَمَه بتَرْكِ المشي المَقْدُورِ عليه أكثرُ مِن كفَّارَةٍ، أنَّ المشْيَ ليس بمَقْصودٍ في الحجِّ، ولا وَرَد الشَّرْعُ باعْتِبارِه في مَوْضِع، فلم يَلْزَمْه بتَرْكِه أكثرُ مِن كفَّارَةٍ، كما لو نَذَر التَّحَفِّيَ وشِبْهَه، وفارَقَ التَّتابُعَ في الصيامِ؛ فإنَّه صِفَةٌ مَقْصُودَة فيه، اعْتَبرَها الشَّرْعُ في صيامِ كفَّارَتَيِ الظِّهارِ والقَتْلِ. 4816 - مسألة: (فإن نَذَر الرُّكُوبَ، فمَشَى، فعلى الرِّوَايَتَين) إذا نَذَر الحجَّ راكِبًا، لَزِمَه الحجُّ كذلك؛ لأنَّ فيه إنْفاقًا في الحَجِّ، فإن تَرَك الرُّكوبَ، فعليه كَفَّارَة. وقال أصحابُ الشَّافعيِّ: يَلْزَمُه دَمٌ؛ لتَرَفُّهِه (¬1) بتَرْكِ الانْفاقِ. وعن أحمدَ مثلُ ذلك. وقد بَيَّنّا أنَّ الواجِبَ بتَرْكِ النَّذْرِ الكفَّارَةُ دونَ الهَدْي، إلَّا أنَّ هذا إذا مَشَى ولم يَرْكَبْ مع إمْكانِه، ¬

(¬1) في الأصل: «لترفه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يَلْزَمْه أكثرُ مِن كفَّارَةٍ؛ لأنَّ الرُّكوبَ في نفْسِه ليس بطاعَةٍ، ولا قُرْبَةٍ. وكلُّ مَوْضِعٍ نَذَر المشيَ فيه أو الركوبَ، فإنَّه يَلْزَمُه الإِتْيانُ بذلك مِن دُوَيرَةِ أهْلِه، إلَّا أن يَنْويَ مَوْضِعًا بعَينِه، فيَلْزَمَه مِن ذلك المَوْضِعِ؛ لأنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ على أصْلِه في الفَرْضِ، والحَجُّ المفْروضُ [بأصلِ الشَّرْعِ] (¬1) يَجِبُ كذلك. ويُحْرِمُ للمَنْذُورِ مِن حيثُ يُحْرِمُ للواجِبِ. وقال بعضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الإحْرامُ مِن دُوَيرَةِ أهلِه، لأنَّ إتْمامَ الحَجِّ كذلك. ولَنا، أنَّ المُطْلَقَ محمولٌ على المَعْهُودِ في الشَّرْعِ، والإِحْرامُ الواجبُ إنَّما هو مِن المِيقاتِ، ويَلْزَمُه المَنْذُورُ مِن المشي أو الركوبِ في الحجِّ أو (¬2) العُمْرَةِ إلى أن يَتَحَلَّلَ؛ لأنَّ ذلك انْقِضاءُ الحَجِّ والعُمْرَةِ. قال أحمدُ: يَرْكَبُ في الحَجِّ إذا رَمَى، وفي العُمْرةِ إذا سَعَى؛ لأنَّه لو وَطِئ بعدَ ذلك، لم يُفْسِدْ [حَجًّا ولا عُمْرَة] (¬3). وهذا يَدُلّ على أنَّه إنَّما يَلْزَمُه في الحجِّ مِن (¬4) التَّحَلُّلِ الأولِ. فصل: وإذا نَذَر المشْيَ إلى البيتِ الحَرامِ، أو بُقْعَةٍ منه، كالصَّفا والمروةِ وأبي قُبيس، أو مَوْضِع مِن الحرمِ، لَزِمَه حَجٌّ أو عُمرَة. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشَّافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا يَلْزَمُه إلَّا أن يَنْذِرَ المشْيَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، م: «و». (¬3) في م: «حجه ولا عمرته». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الكعبةِ، أو إلى مكةَ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ، إن نَذَر المشيَ إلى الحَرم، أو المسجدِ الحَرامِ كقَوْلِنا، وفي باقي الصُّوَرِ كقولِ أبي حنيفةَ. ولَنا، أَنَّه نَذَر المشيَ إلى مَوْضِع مِن الحَرمِ، أشْبَهَ النَّذْرَ إلى مكةَ. فأمَّا إن نَذَر المشيَ إلى غيرِ الحَرمِ، كعَرَفَةَ، ومَواقِيتِ الإحْرامِ، وغيرِ ذلك، لم يَلْزَمْه ذلك، ويكونُ كنَذْرِ المُباحِ. وكَذلك إن نَذَر إتْيانَ مسجدٍ سِوَى المساجدِ الثلاثةِ، لم يَلْزَمْه إتْيانُه. وإن نَذَر الصلاةَ فيه، لَزِمَتْه (¬1) الصَّلاةُ دونَ المسجدِ (¬2)، ففي أيِّ مَوْضِع صَلَّى أجْزَأه؛ لأنَّ الصلاةَ لا تَخْتَصُّ مَكانًا دونَ مكانٍ، فلَزِمَتْه الصَّلاةُ دونَ المَوْضِعِ. ولا نعلمُ في هذا خِلافًا، إلَّا عن اللَّيثِ، فإنَّه قال: لو نَذَر صلاةً أو صيامًا بمَوْضِع، لَزِمَه فِعْلُه في ذلك الموضِعِ، ومَن نَذَر المشيَ إلى مسجدٍ، مَشَى إليه. قال الطَّحاويّ: ولم يُوافِقْه على ذلك أحَدٌ مِن الفُقَهاءِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثةِ مَسَاجدَ؛ المَسْجِدِ الْحَرَامِ، ومَسْجِدِي هَذَا، والْمَسْجِدِ الأقْصَى». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). ولو لَزِمَه المشيُ إلى مسجدٍ بَعِيدٍ لشَدَّ الرَّحْلَ إليه، وقد ذَكَرْناه في الاعْتِكافِ (¬4). فصل (¬5): فإن نَذَر المشيَ إلى بيتِ اللهِ، ولم يَنْو شيئًا، ولم يُعَيِّنه، ¬

(¬1) في م: «لزمه». (¬2) في ق، م: «المشي». (¬3) تقدم تخريجه في 5/ 34. (¬4) انظر 7/ 583 - 586. (¬5) سقط هذا الفصل من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انْصَرَف إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ؛ لأنَّه المَخْصُوصُ بالقَصْدِ دونَ غيرِه، وإطْلاقُ بيتِ اللهِ يَنْصَرِفُ إليه دونَ غيرِه في العُرْفِ، فيَنْصَرِفُ إليه في النَّذْرِ. فصل: إذا نَذَر المشيَ إلى بيتِ اللهِ، أو الرُّكوبَ إليه، ولم يُرِدْ بذلك حَقِيقَةَ المشي، إنَّما أرادَ إتْيانَه، لزِمَه إتْيانُه في حَجٍّ أو عُمْرَةٍ؛ [لِما ذَكَرْنا. ولم يَتَعَيَّنْ عليه مشيٌ، ولا ركوبٌ؛ لأنَّه عَيَّنَ ذلك بنَذْرِه، وهو مُحْتَمِل له، فأشْبَهَ ما لو صَرَّح به. وإن نَذَر أن يَأتيَ بيتَ اللهِ الحَرامَ، أو يذهبَ إليه، لَزِمَه إتْيانُه في حَج أو عُمْرَةٍ] (¬1). وعن أبي حَنيفةَ، لا يَلْزَمُه شيءٌ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ إتْيانِه ليس بقرْبَةٍ ولا طاعَةٍ. ولَنا، أنَّه عَلَّقَ نَذْرَه بوُصولِ البيتِ، فلَزِمَه، كما لو قال: لله عِليَّ المشيُ إلى الكعبةِ. إذا ثَبَت هذا، فهو مُخَيَّر في المَشْي والرُّكوبِ. وكذلك إذا نَذَر أن يَحُجَّ البيتَ أو يَزُورَه؛ لأنَّ الحجَّ يَحْصُلُ بكُلِّ واحدٍ مِن الأمْرَين، فلم يَتَعَيَّنْ أحَدُهما، وإن قال: للهِ عليَّ أن آتِيَ البيتَ الحرامَ، غيرَ حاج ولا مُعْتَمِر. لَزِمَه الحَجُّ أو (¬2) العُمْرَةُ، وسَقَط شَرْطُه. وهذا أحدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ قولَه: لله عِليَّ أن آتِيَ البيتَ. يَقْتَضِي حَجًّا أو عُمْرَةً، وشَرْطُ سُقوطِ ذلك يُناقِضُ (¬3) نَذْرَه، فسَقَط حُكْمُه. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «و». (¬3) في م: «يخالف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا نَذَر المشيَ إلى مسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو المسجدِ الأقْصَى، لَزِمَه ذلك. وبهذا قال مالكٍ، والأوْزَاعِيُّ، وأبو عُبَيدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو أحدُ قَوْلَي الشَّافعيِّ. وقال في الآخرِ: لَا يَتَبَيَّنُ لي وُجوبُ المشي إليهما؛ لأنَّ البرَّ بإتْيانِ بيتِ اللهِ فرْضٌ، والبِرَّ بإتْيانِ هذَين نَفْلٌ. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذَا، وَالْمَسْجِدِ الأقْصَى». ولأنَّهَ أحدُ المساجدِ الثلاثةِ، فيَلْزَمُ [المشيُ إليه بالنَّذْرِ] (¬1)، كالمسجدِ الحَرامِ، ولا يَلْزَمُ ما ذَكَرَه (¬2)، فإنَّ كلُّ قُرْبَةٍ تَجِبُ بالنَّذْرِ، وإن لم يَكُنْ لها أصْل في الوُجوبِ، كعِيادةِ المَرْضَى، وشُهودِ الجَنائزِ. ويَلْزَمُه بهذا النَّذْرِ أن يُصَلِّيَ في المَوْضِعِ الذي أتاهُ رَكْعَتين؛ لأنَّ القَصْدَ بالنَّذْرِ القُرْبَةُ والطَّاعَةُ، وإنَّما يَحْصُلُ ذلك بالصَّلاةِ، فتَضَمَّنَ ذلك نَذْرُه، كما يَلْزَمُ ناذِرَ المشي إلى بيتِ الله الحرامِ أحَدُ النُّسُكَين. ونَذْرُ الصلاةِ في أحدِ المَسجدين كنَذْرِ ¬

(¬1) في ق، م: «المنذر بالمشي إليه». (¬2) في م: «ذكروه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المشي إليه، كما أنَّ نَذْرَ أحدِ النُّسُكَين في المسجدِ الحَرامِ كنَذْرِ المشي إليه. وقال أبو حنيفةَ: لا تَتَعَيَّنُ عليه الصَّلاةُ في مَوْضِعٍ بالنَّذْرِ، سَواءٌ كان في المسجدِ الحَرامِ أو غيرِه، لأنَّ ما لا أصْلَ له في الشَّرْعِ، لا يجِبُ بالنَّذْرِ، بدليلِ نَذْرِ الصلاةِ في سائرِ المساجدِ. ولَنا، ما رُوِيَ أنَّ عمرَ، رَضِي اللهُ عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ أن أعْتَكِفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ. قال: «أوفِ بِنَذْرِكَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). [ولأنَّ الصلاةَ فيها أفضلُ مِن غيرِها، بدليلِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيرٌ مِنْ ألْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِواهُ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ». مُتَّفَقٌ عليه] (¬2). ورُوي عنه عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «صَلَاة فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمائَةِ ألْفِ صَلَاةٍ» (¬3). وإذا كان فَضِيلَةً وقُرْبَةً، لَزِم بالنَّذْرِ، كما لو نَذَر طُول القِراءَةِ. وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بالعُمْرَةِ، فإنَّها تَلْزَمُ بالنَّذْرِ، وهي غيرُ واجبةٍ عندَهم. فصل: إذا نَذَر الصلاةَ في المسجدِ الحرامِ، لم تُجْزِئْه الصَّلاةُ في غيرِه؛ لأنَّه أفضلُ المساجدِ وخيرُها (¬4)، وأكثرُها ثَوابًا للمُصَلِّي فيها. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 563، وفي صفحة 169. (¬2) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 585. ويضاف إليه: وأخرجه التِّرمذيُّ، في: باب في فضل المدينة، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذي 13/ 273. والإمام مالك، في: باب ما جاء في مسجد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب القبلة. الموطأ 1/ 196. (¬3) تقدم تخريجه في 7/ 587. (¬4) سقط من: م.

4817 - مسألة: (فإن نذر رقبة، فهي التي تجزئ عن الواجب،

وَإنْ نَذَرَ رَقَبَةً، فَهِيَ الَّتِي تُجْزِئُهُ عَنِ الْوَاجِبِ، إلَّا أن يَنْويَ رَقَبَةً ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن نَذَر الصلاةَ في السجدِ الأقْصى، أجْزَأتْه الصَّلاةُ في المسجدِ الحَرامِ؛ لِما رَوَى جابِرٌ، أنَّ رجلًا قامَ يومَ الفَتْحِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ إن فَتَح اللهُ عليكَ أن أصَلِّيَ في بيتِ المَقْدِسِ رَكْعَتَين. قال: «صَلِّ ههُنا». ثم أعادَ عليه فقال: «صَلِّ ههُنَا». ثم أعادَ عليه، قال: «صَلِّ ههُنَا». ثم أعادَ عليه، قال: «شَأنَكَ». رَواه الإِمامُ أحمدُ، ولَفْظُه: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ صَلَّيتَ ههُنَا لَأجْزَأ عَنْكَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي بَيتِ الْمَقْدِسِ» (¬1). وقد سَبَق هذا في كتابِ (¬2) الاعْتِكافِ. فصل: وإن أفْسَد الحَجَّ المَنْذُورَ ماشيًا، وَجَب القَضاءُ مَشْيًا؛ لأنَّ القَضاءَ يكونُ على صِفَةِ الأداءِ. وكذلك إن فاتَه الحَجُّ، لكنْ إن فاتَه الحَجُّ، سَقَط تَوابع الوُقوفِ، مِن المَبِيتِ (¬3) بمُزْدَلِفَةَ ومِنًى، والرَّمْي، وتَحَلَّل للعُمْرَةِ (¬4)، ويَمْضِي في الحَجِّ الفاسدِ ماشيًا حتَّى يَحِلَّ منه. 4817 - مسألة: (فإن نَذَر رَقَبَةً، فهي التي تُجْزِئُ عن الواجِبِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 588. (¬2) في ق، م: «باب». (¬3) في الأصل: «الوقوف». (¬4) في الأصل: «عمرة».

بِعَينهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا أن يَنْويَ رَقَبَةً بعَينِها) إذا نذَرَ عِتْقَ (¬1) رَقَبَةٍ، فهي التي تُجْزِئُ في الكفَّارَةِ، وهي المُؤمِنَةُ السَّلِيمَةُ مِن العُيوبِ المُضِرَّةِ بالعَمَلِ، على ما ذَكَرْنا في بابِ الظِّهارِ (¬2)؛ لأنَّ النَّذْرَ المُطْلَقَ يُحْمَلُ على المعهودِ في الشَّرْعِ، والواجبُ بأصْلِ الشَّرْعِ كذلك. وهو أحدُ الوَجْهَين لأصحابِ الشَّافعيِّ. والثَّاني، تُجْزِئُه أيُّ رَقَبَةٍ كانتْ، صَحِيحَةً أو مَعِيبَةً، مُسْلِمَةً أو كافِرَةً؛ لأنَّ الاسمَ يَتَناول جميعَ ذلك. [ولَنا، أنَّ] (¬3) المُطْلَقَ يُحْمَلُ على معهودِ الشَّرْعِ، وهو الواجبُ في الكفَّارَةِ، وما ذكَرُوه يَبْطُلُ بنَذْرِ المشْي إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ، فإنَّه لا يُحْمَلُ على ما تَناوَلَه الاسمُ. فأمَّا إن نَوَى رَقَبَةً بعَينها، أجْزَاة عِتْقُها، أيَّ رَقَبَةٍ كانتْ؛ لأنَّه نَوَى بلَفْظِه ما يَحْتَمِلُه. وإن نَوَى ما يَقَعُ عليه اسمُ الرَّقَبَةِ، أجْزَأه ما نَوَاه؛ لِما ذَكَرْنا، فإن المُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بالنِّيَّةِ، كما يَتَقَيَّدُ بالقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ. قال أحمدُ في مَن نَذَر [عِتقَ عبدٍ بعَينِه] (¬4)، فماتَ قبْلَ أن يُعْتِقَه (¬5): تَلْزَمُه كفَّارَةُ يَمِين، ولا يَلْزَمُه عِتْقُ عبدٍ؛ لأنَّ هذا شيءٌ فاتَه، على حديثِ عُقبةَ بنِ عامِر، وإليه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) انظر ما تقدم في 23/ 298 - 301. (¬3) في م: «ولأن». (¬4) في م: «رقبة معينة». (¬5) في م: «يعتقها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أذهبُ (¬1) في الفائِتِ وما عُجِزَ عنه. فصل: ومَن نَذَر حَجًّا، أو صيامًا، أو صدقةً، أو عِتْقًا، أو اعْتِكافًا، أو صلاةً، أو غيرَه (¬2) مِن الطَّاعاتِ، وماتَ قبلَ فِعْلِه، فعَلَه الوَلِيُّ عنه. وعن أحمدَ في الصلاةِ: لا يُصَلِّي عن المَيِّتِ؛ لأنَّها لا بَدَلَ لها بحالٍ، وأمَّا سائِرُ الأعْمالِ فيَجُوزُ أن يَنُوبَ الوَلِيُّ عنه فيها، وليس بواجِبٍ عليه، لكنْ يُسْتَحَبُّ له ذلك على سبيلِ الصِّلَةِ له والمعروفِ. وأفْتَى بذلك ابنُ عباس في امْرَأةٍ نَذَرَتْ أن تَمْشِيَ إلى قُبَاءٍ، فماتَتْ ولم تَقْضه، أن تَمْشِيَ ابْنَتُها عنها (¬3). وروَى سعيد (¬4)، عن سُفيانَ، عن عبدِ الكريمِ بنِ أبي أُمَيَّةَ، [عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ الله] (¬5)، أنَّه سألَ ابنَ عباس عن نَذْر كان على أُمِّه مِن اعْتِكافٍ، قال: صُمْ عنها، واعْتَكِفْ عنها. وقال (¬6): حَدَّثَنا أبو الأحْوَصِ، عن إبراهيمَ بنِ مُهاجِرٍ، عن عامرِ بنِ مُصْعبٍ (¬7)، أنَّ ¬

(¬1) في م: «ذهب». (¬2) في م: «غيرها». (¬3) أخرجه البُخاريّ معلقًا، في: باب من مات وعليه نذر، من كتاب الإيمان والنذور. صحيح البُخاريّ 8/ 177. وفيه أن أمها جعلت على نفسها صلاة بقباء، فقال: صَلِّي عنها. ووصله الإمام مالك، في: باب ما يجب من النذور في المشي، من كتاب النذور والأيمان. الموطأ 2/ 472. (¬4) في: باب هل يقضي الحي النذر عن الميت؟ من كتاب الفرائض. السنن 1/ 125. (¬5) سقط من النسخ، والمثبت من سنن سعيد. (¬6) في الموضع السابق. (¬7) في النسخ: «شعيب». وانظر سنن سعيد، وتهذيب التهذيب 5/ 81، 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشةَ اعْتَكَفَتْ عن أخِيها عبدِ الرحمنِ بعدَ ما ماتَ. وقال مالكٌ: لا يَمْشِي أحدٌ من أحَدٍ، ولا يصومُ عنه، ولا يُصَلِّي، وكذلك سائِرُ أعْمالِ البَدَنِ، قياسًا على الصلاةِ. وقال الشَّافعي: يَقْضِي عنه الحَجَّ، ولا يَقْضِي الصلاةَ، قولًا واحدًا، ولا يَقْضِي الصومَ، في أحَدِ القولَين، ويُطْعَمُ عنه في كلِّ يوم مِسْكين؛ لأنَّ ابنَ عمرَ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَليُطْعَمْ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يَوْم مِسْكِينٌ». أخْرَجه ابنُ ماجَه (¬1). وقال أهلُ الظَّاهِرِ: يَجِبُ القَضاءُ على وَلِيِّه، لظاهِرِ الأخْبارِ الوارِدَةِ فيه. وجُمْهورُ أهلِ العلمٍ على أنَّ القَضاءَ ليس بواجِب على الوَلِيِّ، إلَّا أن يكونَ حَقَّا في المالِ، ويكون للمَيِّتِ تَرِكَة، فأمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا مَحمُولٌ على النَّدْبِ والاسْتِحْبابِ، بدليلِ قَرائِنَ في الخَبَرِ؛ منها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَبَّهَه بالدَّينِ، وقَضاءُ الدَّينِ عن المَيِّتِ لا يَجِبُ على الوارِثِ ما لم يُخَلِّفْ تَرِكَةً يُقْضَى منها. ومنها أنَّ السائِلَ سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: هل يَفْعَلُ ذلك أولًا؟ وجَوابُه يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ مُقْتَضَى سُؤالِه، فإن كان مُقْتَضاهُ السُّؤال عن الإباحَةِ، فالأمْرُ في جَوابِه يَقْتَضِي الإباحَةَ، وإن كان السُّؤالُ عن الأجْزاءِ، فأمْرُه يَقْتَضِي الإِجْزَاءَ، كقَوْلِهم: أنصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ؟ قال: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ» (¬2). وإن كان السُّؤالُ عن الوُجوبِ، فأمْرُه يَقْتَضِي الوُجوبَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 502. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 297.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كقولِهم: أنتَوَضَّأ مِن لُحُومِ الإِبِلِ؟ قال: «نَعَمْ، تَوَضَّئوا مِنْهَا» (¬1). وسؤالُ السَّائلِ في مسألَتِنا كان عن الإِجْزاءِ، فأمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له (¬2) بالفِعْلِ يَقْتَضِيه لا غيرُ. ولَنا، على جَوازِ الصِّيامِ عن المَيِّتِ، ما رَوَت عائشةُ، رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». وعن ابنَ عباسٍ، قال: جاءَ رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي ماتَت وعليها صومُ شَهْرٍ، أفأصُومُ عنها؟ قال: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَين، أكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟» قالْ نعم. قال: «فَدَينُ اللهِ أحَقُّ أن يُقْضَى». وفي روايَةٍ قال: جاءَتِ امْرأة إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي ماتت وعليها صومٌ، أفَأصُومُ عنها؟ قال: «أرَأيتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَين فَقَضَيتهِ، أكَانَ يُؤدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟». قالتْ: نعم. قال: «فَصُومِي عَنْ أمِّكِ». مُتَّفَقٌ عليهِنَّ (¬3). وعن ابنِ عباس، أنَّ سعدَ بنَ عُبادةَ، اسْتَفْتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نَذْرٍ كان على أُمِّه، فتُوُفِّيَتْ قبلَ أن تَقْضِيَه، فأفْتاه أن يَقْضيَه، فكانت سُنَّةً ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 2/ 55. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «عليه». والأول تقدم تخريجه في 7/ 501. والثَّاني تقدم تخريجه في 6/ 260، حاشية 2. والثالث تقدم تخريجه في 7/ 501. ويضاف إليه: كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في من مات وعليه صيام صام عنه وليه، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 212. وابن ماجة، في: باب من مات وعليه صيام من نذر، من كتاب الصيام. سنن ابن ماجة 1/ 559. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 224، 258، 362.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدُ (¬1). وعنه أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أمِّي نَذَرَتْ أن تَحُجَّ، وإنَّها ماتتْ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَ عَلَيهَا دَينٌ، أكنْتَ قَاضِيَهُ؟». قال: نعم. قال: «فَاقْضِ اللهَ، فَهُوَ أحقُّ بِالْقَضَاءِ». رَواه البخارِيُّ (¬2). وهذا صريحٌ في الصَّومِ والحَجِّ، ومُطْلَقٌ في النَّذْرِ، وما عدا المذكورَ في الحديثِ (¬3) فمُقاسٌ عليه، وحديثُ ابنِ عمرَ في الصومِ (¬4) الواجِبِ بأصْلِ الشَّرْعِ، ويَتَعَيَّنُ حَمْلُه عليه جمعًا بينَ الحديثَين، ولو قُدِّرَ التَّعارُضُ، لَكانتْ أحادِيثُنا أصَحَّ، وأكثَرَ، وأوْلَى بالتَّقْديمِ. إذا ثَبَت هذا، فإن الأوْلَى أن يَقْضِيَ النَّذْرَ عنه وارِثُه، وإن قَضاه غيرُه، أجْزَأ عنه، كما لو قَضَى عنه دَينَه؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَبَّهَه بالدَّينِ، وقاسَه عليه، ولأنَّ ما يَقْضيه الوارِثُ إنَّما هو تَبَرُّع منه، وغيرُه مثلُه في التَّبَرُّعِ. وإن كان النَّذْرُ في مالٍ، تَعَلَّق بِتَرِكَتِه. ¬

(¬1) أخرجه البُخاريّ، في: باب من مات وعليه نذر، من كتاب الإيمان، وفي: باب في الزكاة، من كتاب الحيل. صحيح البُخاريّ 8/ 177، 9/ 30. ومسلم، في: باب الأمر بقضاء المنذر، من كتاب المنذر. صحيح مسلم 3/ 1260. والترمذي، في: باب ما جاء في قضاء المنذر عن الميت، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 30. والنسائي، في: باب فضل الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا، وفي: باب من مات وعليه نذر، من كتاب الأيمان والنذور. المجتبى 6/ 212، 213، 7/ 19، 20. وابن ماجة، في: باب من مات وعليه نذر، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجة 1/ 689. والإمام أحمد، في: المسند 9/ 211، 370. (¬2) في: باب من مات وعليه نذر، من كتاب الأيمان والنذور، وفي: باب من شبه أصلا معلومًا بأصل مبين. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخاريّ 8/ 177، 9/ 125، 126. كما أخرجه النسائي. في: باب الحج عن الميت الذي نذر أن يحج. المجتبى 5/ 87. والدارمي، في: باب الرجل يموت وعليه صوم، من كتاب الصوم. سنن الدارمي 2/ 24. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 345. (¬3) في الأصل: «الحج». (¬4) سقط من: م.

4818 - مسألة: (وإن نذر أن يطوف على أربع، طاف طوافين. نص عليه)

وَإنْ نَذَرَ الطَّوافَ عَلَى أرْبَع، طَافَ طَوَافَينِ. نَصَّ عَلَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4818 - مسألة: (وإن نَذَر أن يَطُوفَ على أرْبَع، طافَ طَوافَين. نصَّ عليه) قال ذلك ابنُ عباس؛ لِمَا رَوَى مُعاويةُ بنُ حُدَيجٍ (¬1) الكِنْدِيُّ، أنَّه قَدِمَ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، معه أُمُّه كَبْشةُ بنتُ مَعْدِي كَرِبَ، عَمَّةُ الأشْعَثِ بنِ قَيس، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي آليتُ أن أطُوفَ بالبيتِ حَبْوًا. فقال لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «طُوفِي عَلَى رِجْلَيكِ سَبْعَينِ؛ سَبْعًا عَنْ يَدَيكِ، وسَبْعًا عَنْ رِجلَيكِ». أخْرجَه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬2) بإسْنادِه. وقال ابنُ عباس، في امرأةٍ نَذَرَتْ أن تَطُوفَ بالبيتِ على أربع، قال: تَطوفُ عن يَدَيها سَبْعًا، وعن رِجْلَيها سبعًا. رَواه سعيد (¬3). ¬

(¬1) في النسخ والدارقطني: «خديج». وانظر تهذيب التهذيب: 10/ 203. (¬2) في: باب المواقيت، من كتاب الحج. سنن الدارقطني 2/ 273. (¬3) وانظر ما أخرجه عبد الرَّزاق، في: باب من نذر أن يطوف على ركبتيه. . . .، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 457.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقياسُ أن يَلْزَمَه طَوافٌ واحدٌ على رِجْلَيه، ولا يَلْزَمُه على يَدَيه؛ لأنَّه غيرُ مَشْروع، فيَسْقُطُ، كما أنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بنِ عامِر نَذَرَتْ أن تحُجَّ غيرَ مُخْتَمِرَةٍ، فأمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تَحُجَّ وتَخْتَمِرَ (¬1). وروَى عِكْرِمَةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان في سَفَرٍ، فحانَتْ منه نَظْرة، فإذا امرأة ناشِرَة شَعَرَها، قال: «مُرُوهَا فَلْتَخْتَمِرْ» (¬2). ومَرَّ برجلَين مَقْرونَين، فقال: «أطْلِقَا قِرَانَكُما» (¬3). وقد ذَكَرْنا حديثَ أبي إسْرَئِيلَ الذي نَذَر أن يصومَ، ويفعلَ أشياءَ، فأمَرَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّومِ وَحْدَه، ونَهاه عن سائرِ نُذُورِه (¬4). وهل تَلْزَمُه كفَّارَة؟ يُخرَّجُ فيه وَجْهان؛ بِناءً على ما تَقَدَّمَ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 147. (¬2) أخرجه البيهقي، في: باب الهدي فيما ركب، من كتاب النذور. السنن الكبرى 10/ 80. وعبد الرزاق، في: باب من نذر مشيًا ثم عجز، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 449. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 183. وعزاه صاحب الكنز إلى ابن النجار. كنز العمال 16/ 738. (¬4) تقدم تخريجه في 7/ 631.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقياسُ المذهبِ لُزومُ الكفَّارةِ؛ لإِخْلالِه بِصفةِ نَذْرِه وإن كان غيرَ مَشْروع، كما لو كانَ أصلُ النَّذْرِ غيرَ مَشْروع. وأمَّا وَجْهُ الأوَّلِ، فإن مَن نَذَر الطَّوافَ على أرْبَع، فقد نَذَر الطَّوافَ على يَدَيه ورِجْلَيه، فأُقيمَ الطَّواف الثَّانِي مُقامَ طَوافِه على يَدَيه.

كتاب القضاء

كتاب القضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ القَضاءِ الأصلُ في القَضاءِ ومَشْرُوعِيَّته الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ اللهِ تعالى: [{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. وقَوْلُه تعالى] (¬1): {وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬2). وقولُه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ} (¬3). وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ} (¬4). وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إذا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأصابَ، فَلَهُ أجرَانِ، وَإذَا اجْتَهَدَ فَأخطَأ فَلَهُ أجر». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). في آيٍ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والآية من سورة ص 26. (¬2) سورة المائدة 49. (¬3) سورة النور 48. (¬4) سورة النساء 65. (¬5) أخرجه البُخاريّ، في: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، من كتاب الاعتصام. صحيح البُخاريّ 9/ 133. ومسلم، في: باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1342. =

4819 - مسألة: (وهو فرض كفاية)

وَهُوَ فَرْضُ كِفَايةٍ. قَال أحْمَدُ، رَحِمَهُ اللهُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِم، أتذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ! ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخْبارٍ سِوَى ذلك كثيرةٍ. وأجْمَعَ المسلمون على مَشْروعِيَّةِ نَصْبِ القَضاءِ (¬1)، والحكْمِ بينَ النَّاسِ. 4819 - مسألة: (وهو فَرْضٌ كِفايَةٍ) لأنَّ أمْرَ النَّاسِ لا يَسْتَقِيمُ بدُونِه، فكان واجِبًا عليهم، كالجِهادِ والإمامَةِ (قال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ: لا بُدَّ للنَّاسِ مِن حاكِم، أتَذْهَب حقوقُ النَّاسِ!) وفيه فَضْلٌ عظيمٌ لمَن قَوِيَ على القِيامِ به، وأداء الحقِّ فيه، ولذلك جعلَ الله فيه أجْرًا على الخَطَأ، وأسْقَطَ عنه حُكْمَه، ولأنَّ فيه أمْرًا بالمَعْروفِ، ونُصْرة للمَظْلُومِ، وأداءَ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه، ورَدَّ الظَّالِمِ عن ظُلْمِه، وإصْلاحًا بينَ النَّاسِ، وتَخْلِيصًا لبعضِهم مِن بعض، وذلك مِن أبوابِ القُرَبِ؛ ¬

= كما أخرجه أبو داود، في: باب في القاضي يخطئ، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 268. وابن ماجه، في: باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجة 2/ 776. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 187، 4/ 198، 204. (¬1) في ق: «القضاة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك تَوَلَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والأنْبِياءُ قبلَه، فكانوا يَحْكُمُون لأمَمِهم، وبَعَث عليًّا إلى اليمنِ قاضِيًا (¬1)، وبَعَث مُعاذًا قاضِيًا (¬2). وعن عُقْبَةَ بنِ عامر، قال: جاء خَصْمانِ يَخْتَصِمان إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي (¬3): «اقْضِ بَينَهُما». قلتُ: أنت أوْلَى بذلك. قال (¬4): «وَإنْ كَانَ». قلتُ: علامَ أقْضِي؟ قال: «اقْضِ، فَإنْ أصَبْتَ فَلَكَ عَشرَةُ أُجُور، وَإنْ أخْطَأتَ فَلَكَ أجْر وَاحِدٌ». رَواه سعيد في «سُنَنِه» (¬5). ووَلَّى عمرُ شُرَيحًا قَضاءَ الكُوفَةِ، وكعبَ بنَ سُورٍ (¬6) قَضاءَ البَصْرَةِ. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب كيف القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 270. وابن ماجة، في: باب ذكر القضاء، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجة 2/ 774. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 83، 88، 136، 149. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 99، 6/ 291. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 205. وابن عساكر في تاريخه 11/ 700. وعزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الصَّغير والأوسط، وقال عن إسناد الإمام أحمد: رجاله رجال الصَّحيح. مجمع الزوائد 4/ 195. (¬6) في الأصل: «سوار». والأثر عن كعب بن سور أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 7/ 92. وانظر: 21/ 401، 402.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وفيه خَطَر عظيمٌ ووزْرٌ كبيرٌ لمَن لم يُؤَدِّ الحَقَّ فيه، ولذلك كان السَّلَفُ، رَحِمَهم اللهُ، يَمْتَنِعُونَ منه أشَدَّ الامْتِناعِ، ويَخْشَوْن على أنْفُسِهم خَطَرَه. قال خاقانُ بنُ عبدِ الله (¬1): أُرِيدَ أبو قِلابَةَ على قَضاءِ البَصْرَةِ، فهَرَبَ إلى اليَمامَةِ، فأُرِيدَ على قَضائِها، فهَرَبَ إلى الشَّام، فأُرِيدَ على قَضائِها، وقيل: ليس ههُنا غيرُك. قال: فَأَنْزِلُوا (¬2) الأَمرَ على ما قُلْتُمْ، فإنَّما مَثَلِي مَثَلُ سابِحٍ وَقَع في البَحْرِ، فسَبَحَ يومَه، فانْطَلَقَ، ثم سَبَح اليومَ الثَّانِيَ، فمَضَى أيضًا، فلَمّا كان اليومُ الثالثُ فتَرَتْ يَداه (¬3). وكان يُقالُ: أعلَمُ الناسِ بالقَضاءِ أشَدُّهم له كَراهَةً. ولعِظَمِ خَطرَه، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا، فَقَدْ ذُبِحَ بغيرِ سِكِّين». قال التِّرْمِذِيُّ (¬4): هذا حديث حسنِ. قيلَ في هذا الحديثِ: إنَّه لم يَخْرُجْ مَخْرَجَ الذَّمِّ للقَضاءِ، وإنَّما وَصَفه بالمَشقَّةِ، فكأنَّ مَن وَلِيَه قد حُمِل على ¬

(¬1) خاقان بن عبد الله بن الأهتم أخو يحيى بن أبي الحجاج المنقري، روى عن الحكم بن عتيبة وعلي بن زيد بن جدعان، روى عنه عبد الصمد بن عبد الوارث ومسدد وهشام الكلبي. الجرح والتعديل 3/ 405، 406. ولم نجد هذا الأثر من روايته عن أبي قلابة. (¬2) في الأصل: «فاتركوا». (¬3) أخرج نحوه ابن أبي شيبة، في: باب في القضاء وما جاء فيه، من كتاب البيوع. المصنف 7/ 238. والبيهقي، في: باب كراهية الإمارة. . . .، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبر ى 10/ 97. ووكيع، في: أخبار القضاة 1/ 23. كلهم عن أيوب عنه. (¬4) في: باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 66، 67. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في طلب القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 268. وابن ماجه، في: باب ذكر القضاة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 774.

4820 - مسألة: (فيجب على الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضيا، ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم)

فَيَجِبُ عَلَى الْإمَامِ أنْ يُنَصِّبَ في كُلِّ إقْلِيم قَاضِيًا، وَيَخْتَارَ لِذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْ يجِدُ وَأَوْرَعَهُمْ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشَقَّةٍ، كمَشَقَّةِ الذَّبْح. 4820 - مسألة: (فيَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أنْ يُنَصبَ في كلِّ إِقْلِيمٍ قاضِيًا، ويَخْتارَ لذلك أفْضَلَ مَن يَجِدُ وأوْرَعَهم) [إذا كان الإِمامُ في بَلَدٍ، فعليه أنَّ يَبْعَثَ القُضاةَ إلى الأمْصارِ غيرِ بَلَدِه] (¬1)؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ عليًّا قاضِيًا إلى اليَمَنِ، وبَعَث مُعاذًا قاضِيًا أيضًا (¬2)، وقال له (¬3): «بِمَ تَحْكُمُ؟». قال: بكتابِ اللهِ. قال: «فَإنْ لَمْ تَجِدْ؟». قال: بسُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟». قال: أجْتَهِدُ رَأْيي. قال: «الْحَمْدُ للهِ الَّذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ» (¬4). ووَلَّى عُمَرُ شُرَيحًا قَضاءَ الكُوفَةِ، وكَتَبَ إلى أبي عُبَيدَةَ ومُعاذٍ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب اجتهاد الرأي في القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 272. والترمذي، في: باب حدثنا هناد. . . .، وباب حدثنا محمد بن بشار. . . .، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 68، 69. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 230، 236، 242. وانظر الكلام على ضعف الحديث وطرقه في تلخيص الحبير 4/ 182، 183.

4821 - مسألة: (ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم، ويأمره بتقوى الله، وإيثار طاعته في سره وعلانيته، وتحري العدل، والاجتهاد في إقامة الحق)

وَيَأْمُرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَإيثارِ طَاعَتِهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتهِ، وَتَحَرِّي الْعَدْلِ، والْاجْتِهَادِ في إِقَامَةِ الْحَقِّ، وَأنْ يَسْتَخْلِفَ في كُلِّ صُقعٍ أصْلَحَ مَن يَقْدِرُ عَلَيهِ لَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَأْمُرُهما بتَوْلِيَةِ القُضاةِ (¬1) في الشَّامِ. ولأنَّ أهلَ كلِّ بَلَدٍ يَحْتاجُون إلى القاضِي، ولا يُمْكِنُهم المَصِيرُ إلى بَلَدِ الإِمامِ، ومَن أمْكَنَه ذلك شَقَّ عليه، فوَجَبَ إغْناؤُهم عنه. 4821 - مسألة: (وَيَخْتارَ لذلك أفْضَلَ مَن يَجِدُ وَأوْرَعَهم، ويَأْمُرَه بتَقْوَى اللهِ، وإيثارِ طاعَتِه في سِرِّهِ وعَلانِيَته، وتَحَرِّي العَدْلِ، والاجْتِهادِ في إقامَةِ الحَقِّ) إذا أراد الإِمامُ تَوْلِيَةَ قاضٍ، فإن كان له خِبْرَةٌ بالنَّاسِ، ويَعْرِفُ مَن يَصْلُحُ للقَضاءِ، وَلَّاه، وإنْ لم يَعْرِف ذلك، سأل أهلَ المَعْرِفةِ بالناسِ، واسْتَرْشَدَهم عمَّن يَصْلُحُ. وإن ذُكِر له رجلٌ لا يَعْرِفُه، أحْضَرَه وسأله، فإن عَرَف عَدالتَه، وإلَّا بَحث عن عَدالتِه، فإذا عَرَفَها وَلَّاه. قال عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه: لا يَنْبَغِي للقاضي أنْ يكونَ قاضِيًا حتى يكونَ فيه خَمْسُ خِصالٍ؛ عَفيفٌ، حَلِيمٌ، عالمٌ بما كان قبلَه، يَسْتَشِيرُ ذَوي الرَّأْي (¬2). ويَكْتُبُ له (¬3) الإِمامُ عَهْدًا يَأْمُرُه فيه ¬

(¬1) في م: «القضاء». (¬2) والخصلة الخامسة: «لا يخاف في الله لومة لائم». ويأتي ذكرها في صفحة 330. (¬3) سقط من: الأصل.

4822 - مسألة: (ويجب على من يصلح له، إذا طلب ولم يوجد غيره، الدخول فيه. وعنه، أنه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وهذا يدل على أنه ليس بواجب)

وَيَجبُ على مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، إِذَا طُلِبَ وَلَمْ يُوجَدْ غَيرُهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ، الدُّخُولُ فِيهِ. وَعَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي بِالامْتِنَاعِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيرُهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بهِ؛ قَال: لَا يَأْثَمُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليسَ بِوَاجِبٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بتَقْوَى اللهِ، والتَّثَبُّتِ في القَضاءِ، ومُشاوَرَةِ أهلِ العلمِ، وتَصَفُّحِ (¬1) حالِ الشُّهُودِ، وتَأمُّلِ الشَّهاداتِ، وتَعاهُدِ اليَتامَى، وحِفْظِ أمْوالِهم وأموالِ الوُقُوفِ، وغيرِ ذلك ممّا يَحْتاجُ إلى مُراعاتِه (وأنْ يَسْتَخْلِفَ في كلِّ صُقْعٍ (¬2) أصْلَحَ مَن يَقْدِرُ عليه) ليكونَ [قَيِّمًا بما] (¬3) يَتَولَّاه. 4822 - مسألة: (ويَجِبُ على مَن يَصْلُحُ له، إذَا طُلِبَ ولم يُوجَدْ غَيرُه، الدُّخُولُ فيه. وعنه، أنَّه سُئِلَ: هل يَأْثَمُ القاضي إذا لم يُوجَدْ غَيرُه ممَّن يُوثَقُ به؟ قال: لا يَأَثَمُ. وهذا يَدُلُّ على أنَّه ليس بواجبٍ) الناسُ في القَضاءِ على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ منهم مَن لا يَجُوزُ له الدُّخُولُ فيه، وهو مَن لا يُحْسِنُه، ولم تَجْتَمِعْ فيه شُروطُه، فقد رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: ¬

(¬1) في الأصل: «يتفحص». (¬2) الصُّقْع: الناحية. (¬3) في الأصل: «فيما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ». ذَكَر منهم رجلا قَضَى بينَ الناسِ بجَهْل، فهو في النارِ (¬1). ولأنَّ [مَن لا] (¬2) يُحْسِنُه لا يَقْدِرُ على العَدْلِ فيه، فيَأْخُذُ الحَقَّ مِن مُسْتَحِقِّه ويَدْفَعُه إلى غيرِه. ومنهم مَن يجوزُ له، ولا يَجِبُ عليه، وهو مَن كان مِن أهلِ العَدالةِ والاجْتِهادِ، ويُوجَدُ غيرُه مثلُه، فله أنْ يَلِيَ القَضاءَ بحُكمِ حالِه وصَلاحِيَته، ولا يَجِبُ عليه، لأنَّه لم يَتَعَيَّنْ له. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يُسْتَحَبُّ له الدُّخُولُ فيه، لِما فيه مِن الخَطَرِ والغَرَرِ، وفي تَرْكِه مِن السَّلامَةِ، ولِما وَرَد فيه مِن التَّشْدِيدِ والذَّمِّ، ولأنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الامْتِناعُ منه والتَّوقِّي، وقد أراد عمانُ تَولِيَةَ ابنِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، القَضاءَ فأباه (¬3). وقال أبو عبدِ اللهِ ابنُ حامدٍ: إن كان رجلًا خامِلًا، لا يُرْجَعُ إليه في الأحْكامِ، [ولا يُعْرَفُ] (¬4)، فالأوْلَى له تَوَلِّيه، ليُرْجَعَ إليه في الأحْكامِ، ويَقُومَ به الحَقُّ، ويَنْتَفِعَ به المسلمون، وإن كان مَشْهورًا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب في القاضي يخطئ، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 268. وابن ماجه، في: باب الحاكم يجهد فيصيب الحق، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 776. (¬2) في الأصل: «ما». (¬3) أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 63، 64. وابن حبان، انظر: الإحسان 11/ 440، 441. ووكيع، في: أخبار القضاة 1/ 17، 18. (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الناسِ بالعِلْمِ، يُرْجَعُ إليه في تَعْلِيمِ العِلْمِ والفَتْوَى (¬1)، فالأَولَى الاشْتِغالُ بذلك؛ لِما فيه مِن النَّفْعِ مع الأمْنِ مِن الغَرَرِ. [ونحوُ] (¬2) هذا قولُ أصْحابِ الشافعيِّ، وقالوا أيضًا: إذا كان ذا حاجةٍ، وله في القضاءِ رِزْقٌ، فالأوْلَى له. الاشْتِغالُ به، فيكونُ أوْلَى مِن سائرِ المَكاسِبِ؛ لأنَّه قُرْبَةٌ وطاعَةٌ. والثالثُ، مَن يَجِبُ عليه، وهو مَن يَصْلُحُ للقَضاءِ، ولا يُوجَدُ سواه، فهذا يَتَعَيَّنُ عليه؛ لأنَّه فَرْضُ كِفايَةٍ، لا يَقدِرُ على القيامِ به غيرُه، فيتَعَيَّنُ عليه، كغَسْلِ المَيِّتِ وتَكْفِينه. وقد نُقِل عن أحمدَ ما يدُلُّ على أنَّه لا يَتَعَيَّنُ عليه، فإنَّه سُئِلَ: هل يَأْثَمُ القاضي بالامتناعِ (¬3) إذا ¬

(¬1) في الأصل: «التقوى». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: م.

4823 - مسألة: (فإن وجد غيره، كره له طلبه، بغير خلاف في المذهب)

فَإِنْ وُجِدَ غَيرُهُ، كُرِهَ لَهُ طَلبهُ، بِغَيرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يُوجَدْ غيرُه؟ قال: لا يَأْثَمُ. فهذا يَحْتَمِلُ أنْ يُحْمَلَ على ظاهِرِه، في أنَّه لا يَجِبُ عليه؛ لِما فيه مِن الخَطَرِ، فلا يَلْزَمُه الإضْرارُ بنَفْسِه لنَفْعِ غيرِه، ولذلك امْتَنَعَ أبو قِلابَةَ منه، وقد قيلَ له: ليس ههُنا غيرُك. ويَحْتَمِلُ أنْ يُحْمَلَ على مَن لم يُمْكِنْه القِيامُ بالواجِبِ، لظُلْمِ السُّلْطانِ أو غيرِه؛ فإنَّ أحمدَ قال: لا بُدَّ للناسِ مِن حاكم، أتَذْهَبُ حُقُوقُ الناسِ! 4823 - مسألة: (فإن وُجِد غيرُه، كُرِه له طَلَبُه، بغَيرِ خِلافٍ في المَذْهَبِ) لأنَّ أنَسًا روَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ ابْتَغَى القَضَاءَ، وسَألَ فِيهِ شُفَعَاءَ، وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، ومَنْ أكْرِهَ عَلَيهِ، أنْزَلَ اللهُ عليه (¬1) مَلَكًا يُسَدِّدُه». قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب ما جاء عن رسول الله في في القاضي، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 65، 66. كما أخرجه أبو داود، في: باب في طلب القضاء والتسرع إليه، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 269. وابن ماجه، في: باب ذكر القضاء، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 774. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 118، 220.

4824 - مسألة: (وإن طلب، فالأفضل أن لا يجيب إليه، في ظاهر كلام أحمد. وقال ابن حامد: الأفضل الإجابة إليه إذا أمن نفسه)

وَإِنْ طُلِبَ، فَالأفْضَلُ أنْ لَا يُجيبَ إِلَيهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: الأَفْضَلُ الإجَابَةُ إلَيهِ إِذَا أَمِنَ نَفْسَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمن، لَا تَسْألِ الإِمَارَةَ؛ فَإنَّكَ إِنْ أعْطِيتَهَا عَنْ مَسْألَةٍ، وُكِلْتَ إلَيها، وإنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيرِ مَسْألةٍ، أُعِنْتَ عَلَيهَا». مُتَّفَق عليه (¬1). 4824 - مسألة: (وإن طُلِبَ، فالأفْضَلُ أنَّ لا يُجِيبَ إليه، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ. وقال ابنُ حامِدٍ: الأفْضَلُ الإجابَةُ إليه إذا أَمِنَ نَفْسَه) ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: أول كتاب الإيمان والنذور، وفي: باب الكفارة قبل الحنث وبعده، من كتاب الكفارات، وفي: باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله، وباب من سأل الإمارة وكل إليها، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 8/ 159، 184، 9/ 79. ومسلم، في: باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1456. كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في طلب الإمارة، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 118. والترمذي، في: باب ما جاء في من حلف على يمين فرأى غير ما خيرا منها، من أبواب النذور. عارضة الأحوذي 7/ 10. والنسائي، في: باب النهي عن مسألة الإمارة، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 198. والدارمي، في: باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، من كتاب النذور. سنن الدارمي 2/ 186. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 62، 63.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذَكَرْنا أنَّ ظاهِرَ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ الأفْضَلَ والأوْلَى له أنَّ لا يُجِيبَ إذا طُلِبَ ووُجِدَ غيرُه؛ لِما فيه مِن الخَطَرِ والغَرَرِ، وفي تَرْكِه مِن السلامَةِ، ولِما وَرَد فيه مِن التَّشْدِيدِ والذَّمِّ، ولأنَّ طَريقةَ السَّلَفِ الامْتِناعُ منه والتَّوقِّي لذلك، وقد أراد عُثْمانُ، رَضِيَ اللهُ عنه، تَوْلِيَةَ ابنِ عُمَرَ القَضاءَ فأباه. وقد (¬1) [ذَكَرناه و] (¬2) ذَكَرْنا قولَ ابنِ حامدٍ قبل (¬3) مُفَصَّلًا (¬4). وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «فقد». (¬2) في ق، م: «ذكرنا». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «مقتضاه».

4825 - مسألة؛ (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو نائبه)

وَلَا تَثْبُتُ ولَايةُ الْقَضَاءِ إلَّا بِتَوْلِيَةِ الإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا مَعْرِفَةُ الْمُوَلِّى كَوْنَ الْمُوَلَّى عَلَى صِفَةٍ تَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4825 - مسألة؛ (ولا تَثْبُتُ ولايةُ القَضاءِ إلَّا بتَوْلِيَةِ الإِمامِ أو نائِبِه) لأنَّهَا مِن المصالِحِ العَامَّةِ، فلم تَجُزْ إلَّا مِن جِهَةِ الإِمامِ، كعَقْدِ الذِّمَّةِ. 4826 - مسألة: (ومِن شَرْطِ صِحَّتِها مَعْرِفَةُ المُوَلِّي كونَ المُوَلَّى على صِفَةٍ تَصْلُحُ للقَضاءِ) لأنَّ مَقْصُودَ القَضاءِ لا يَحْصُلُ إلَّا بذلك، فإن كان يَعْرِفُ صَلاحِيَتَه للقَضاءِ، وَلَّاه، وإن لم يَعْرِفْ ذلك، سألَ أهلَ المَعْرِفَةِ بالنَّاسِ، واسْتَرْشَدَهم، فإن عَرَف ذلك وَلَّاه.

4827 - مسألة: (وتعيين ما يوليه الحكم فيه من الأعمال والبلدان، ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها، وإشهاد شاهدين على توليته. وقال القاضي: تثبت بالاستفاضة، إذا كان بلده قريبا يستفيض فيه أخبار بلد الإمام)

وَتَعْيِينُ مَا يُوَلِّيهِ الْحُكْمَ فِيهِ مِنَ الْأعْمَالِ وَالبُلْدَانِ، وَمُشَافَهَتُهُ بِالْولَايةِ أَوْ مُكَاتَبَتُهُ بِهَا، وَإشْهَادُ شَاهِدَينِ على تَوْلِيَتهِ. وَقَال الْقَاضِي: تَثْبُتُ بِالاسْتِفَاضَةِ، إِذَا كَانَ بَلَدُهُ قَرِيبًا تَسْتَفِيضُ فِيهِ أخْبَارُ بَلَدِ الْإِمَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4827 - مسألة: (وتَعْيينُ ما يُوَلِّيه الحُكْمَ فيه مِن الأعْمالِ والبُلدانِ، ومُشَافَهَتُه بالولايَةِ أو مُكَاتَبَتُه بها، وإشْهَادُ شاهِدَين على تَوْلِيَته. وقال القاضي: تَثْبُتُ بالاسْتِفاضَةِ، إذا كان بَلَدُه قَرِيبًا يَسْتَفِيضُ فِيهِ أخْبارُ بَلَدِ الإِمام) يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ ما يُوَلِّيه مِن الأعْمالِ والبُلْدانِ، ليَعْلَمَ مَحَلَّ ولائيه، فيَحْكُمَ فِيه، ولا يَحْكُمَ في غيرِه، وقد وَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيًّا قَضاءَ اليَمَنِ، ووَلَّى عُمَرُ شُرَيحًا قَضاءَ الكُوفَةِ، وكَعْبَ بنَ سُورٍ قَضاءَ البَصْرَةِ، وبَعَث في كلِّ مِصْر قاضِيًا وَوالِيًا. ويُشافِهُه الإِمامُ بالولايةِ إن كان حاضِرًا، أو يُكاتِبُه بها إن كان غائِبًا؛ لأنَّ التَّوْلِيَةَ تحْصُلُ بالمُشافَهَة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحَضْرَةِ، وبالمُكاتَبَةِ في الغَيبَةِ، كالتَّوْكِيلِ. فإن كان البَلَدُ الذي [ولَّاه قَضاءَه] (¬1) فيه غيرَ بلدِ الإمامِ، كَتَب له العَهْدَ بما وَلَّاه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب لعَمْرِو بنِ حَزْم، حينَ بَعَثه إلى اليَمَنِ (¬2). وكَتَب عُمَرُ إلى أهلِ الكُوفَةِ: أمَّا بعدُ، فإنِّي قد بَعَثْتُ عليكم عَمّارًا أمِيرًا، وعبدَ اللهِ قاضِيًا، فاسْمَعُوا لهما وأطِيعُوا (¬3). فإن كان البَلَدُ الذي وَلَّاه قَضاءَه (¬4) بعيدًا، لا يَسْتَفِيضُ إليه الخَبَرُ بما يكونُ في بَلَدِ الإِمامِ، أحْضَرَ شاهِدَين عَدْلَين وقَرَا عليهما العَهْدَ، [أو قَرَأه غيرُه بحَضْرَتِه] (¬5)، وأشْهَدَهما على تَوْلِيَته؛ ليَمْضِيَا (¬6) معه إلى بَلدِ ولايَتِه، فيُقِيما له الشَّهادةَ، ويقولُ لهما: اشْهَدا على أنِّي قد وَلَّيتُه قَضاءَ البلدِ الفُلانِيِّ، وتَقَدَّمْتُ إليه بما يَشْتَمِلُ هذا العَهْدُ عليه. وإنْ كان البلدُ قَرِيبًا مِن بلدِ الإمام، يَسْتَفِيضُ إليه ما يَجْرِي في بلدِ الإِمامِ، نحوَ أنْ يكونَ بينَهما خمسةُ أيّامٍ أَو ما دُونَها، جاز أنَّ يَكْتَفِيَ بالاسْتِفاضَةِ دُونَ الشَّهادَةِ؛ لأنَّ الولايةَ تَثْبُتُ بها. وبهذا قال الشافعيُّ، إلَّا أنَّ عندَه في ثُبوتِ الولايةِ بالاسْتِفاضَةِ في البلدِ القريبِ ¬

(¬1) في ق، م: «لا قضاة». (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 72، وفي 25/ 309، 369. (¬3) أخرجه الحاكم، في: المستدرك 3/ 388. (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) سقط من: ق، م. (¬6) في الأصل: «ليضما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجْهَين. وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: تَثْبُتُ بالاسْتِفاضَةِ. ولم يُفَرِّقُوا بينَ البلدِ القريبِ والبعيدِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولَّى عليًّا قَضاءَ اليَمَنِ، وهو بعيدٌ، مِن غيرِ شَهادةٍ، ووَلَّى الوُلاةَ في البُلْدانِ البعيدةِ، وفَوَّضَ إليهم الولايةَ والقَضاءَ، ولم يُشْهِدْ، وكذلك خُلَفاؤه، ولم يُنْقَلْ عنهم الإشْهادُ على تَوْلِيةِ القَضاءِ، مع بعدِ بُلدانِهم. ولَنا، أنَّ القَضاءَ لا يَثْبُت إلَّا بأحَدِ أمْرَين، وقد تَعَذَّرَتْ (¬1) الاسْتِفاضَةُ في البَلَدِ البعيدِ؛ لعَدَمِ وُصُولِها إليه، فيَتَعَيَّنُ الإشْهادُ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُشْهِدْ على تَوْلِيَته، فإنَّ الظَّاهِرَ أنَّه لم يَبْعَثْ والِيًا إلَّا ومعه جماعةٌ الظاهرُ أنَّه أشْهَدَهم، وعَدَمُ نَقْلِه لا يَلْزَمُ منه عَدَمُ فِعْلِه، وقد قام دَلِيلُه، فيَتَعَيَّنُ وُجُوبُه. ¬

(¬1) في م: «بعدت».

4828 - مسألة: (وهل تشترط عدالة المولي؟ على روايتين)

وَهَلْ تُشْتَرَطُ عَدَالةُ الْمُوَلِّي؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4828 - مسألة: (وهل تُشْتَرَطُ عَدالةُ المُوَلِّي؟ على رِوايَتَين) إحْداهما، تُشْتَرَطُ، كما تُشْتَرَطُ في المُتَوَلِّي. والثانيةُ، لا تُشْتَرَطُ؛ لأنَّ ولايَةَ الإِمامَةِ الكُبْرَى تَصِحُّ مِن كلِّ بَر وفاجِر، فصَحَّتْ ولايَتُه، كالعَدْلِ، ولأنَّنا لو اعْتَبَرْنا العدالةَ في المُوَلِّي، أفْضَى إلى تَعَذُّرِها بالكُلِّيَّةِ، فيما إذا كان الإمامُ غيرَ عَدْلٍ.

4829 - مسألة: (وألفاظ التولية الصريحة سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك، واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك، وفوضت إليك، [وجعلت لك الحكم]

وَأَلفَاظُ التَّوْلِيَةِ الصَّرِيحَةِ سَبْعَةٌ: وَلَّيتُكَ الْحُكْمَ، وَقَلَّدْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَرَدَدْتُ إِلَيكَ، وَفَوَّضْتُ إِلَيكَ، وَجَعَلْتُ لَكَ الْحُكْمَ. فَإِذَا وُجِدَ لَفْظٌ مِنْهَا وَالْقَبُولُ مِنَ الْمُوَلَّى، انْعَقَدَتِ الْولَايةُ. وَالْكِنَايةُ نَحْوُ: اعْتَمَدْتُ عَلَيكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيكَ، وَوَكَّلْتُ إِلَيكَ، وَأسْنَدْتُ إِلَيكَ الْحُكْمَ. فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 4829 - مسألة: (وألفاظُ التَّوْلِيَةِ الصَّرِيحَةِ سَبْعَة: وَليتُك الحُكْمَ، وقَلَّدْتُك، واسْتَنَبْتُك، واسْتَخْلَفْتُك، ورَدَدْتُ إليك، وفَوَّضْتُ إليك، [وجَعَلْتُ لك الحُكْمَ] (¬1). فإذا وُجِد لَفْظٌ منها والقَبُولُ مِن المُوَلَّى، انْعَقَدَتِ الولايةُ) لأنَّها لا تَحْتَمِلُ إلَّا ذلك، فمتى أتَى بواحِدَةٍ منها، واتَّصَلَ بها القَبُولُ، صَحَّتِ الولايةُ، كالبَيعِ والنِّكاحِ وغيرِ ذلك (والكِنايَةُ) أربعةٌ: (اعْتَمَدْتُ عليك، وعَوَّلْتُ عليك، ووَكَّلْتُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م، وغير واضحة في الأصل.

حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ، نَحْوُ: فَاحْكُمْ، أو فَتَوَلَّ مَا عَوَّلْتُ عَلَيكَ فِيهِ. وَمَا أَشْبَهَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إليك، وأسْنَدْتُ إليك الحُكْمَ. فلا يَنْعَقِدُ حتى تَقْتَرِنَ بها قَرِينَة، نحوُ: فاحْكُمْ، أو: تَوَلَّ ما عَوَّلْتُ عليك فيه. وما أشْبَهَه) نحو: وانْظُرْ فيما أسْنَدْتُ إليك؛ واحْكُمْ فيما وَكَّلْتُ إليك، لأنَّ هذه الألْفاظَ تَحْتَمِلُ التَّوْلِيَةَ وغيرَها، مِن كونِه يَأْخُذُ برأْيِه وغير ذلك، فلا تَنْصرِفُ إلى التَّوْلِيَةِ إلَّا بقَرينَةٍ تَنْفِي الاحْتِمال.

فصلٌ: وَإذَا ثَبَتَتِ الْولَايةُ وَكَانَتْ عَامَّةً، اسْتَفَادَ بِهَا النَّظَرَ في عَشَرَةِ أَشْيَاءَ؛ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيهِ وَدَفْعُهُ إلَى رَبِّهِ، والنَّظَرُ في أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَجَانِينِ والسُّفَهَاءِ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ في عَمَلِهِ، بِإجْرَائِهَا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا، وَتزْويجُ النِّسَاءِ اللَّاتي لَا وَلِيَّ لَهُنَّ، وَإقَامَةُ الْحُدُودِ، وَإقَامَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيخُ، رَضِيَ اللهُ عنه: (وإذا ثَبَتَتِ الولايةُ وكانت عامَّةً، اسْتفاد بها النَّظَرَ في عَشَرَةِ أشياءَ؛ فَصْلُ الخُصُوماتِ، واسْتِيفاءُ الحَقِّ ممَّن هو عليه ودَفْعُه إلى رَبِّه، والنَّظَرُ في أمْوالِ اليَتامَى والمَجانِين والسُّفهاءِ، والحَجْرُ على مَن يَرَى الحَجْرَ عليه لسَفَهٍ أو فَلَس، والنَّظَرُ في الوُقُوفِ في عملِه، بإجْرائِها على شَرْطِ الواقفِ، وتَنْفِيذُ الوَصايا، وتَزْويجُ النِّساءِ اللَّاتِي لا وَلِيَّ لَهُنَّ، وإقامةُ الحُدُودِ، وإقامَةُ الجُمُعَةِ، والنَّظَرُ في

الْجُمُعَةِ، والنَّظَرُ في مَصَالِحِ عَمَلِهِ، بِكَفِّ الأذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتهِمْ، وَتَصَفُّحُ حَالِ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، والْاسْتِبدَالُ بِمَنْ ثَبَتَ جَرْحُهُ مِنْهُمْ. فَأَمَّا جِبَايةُ الْخَرَاجِ، وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مصالحِ عملِه، بكَفِّ الأذَى عن طُرُقاتِ المسلِمِين وأفْنِيَتهم، وتَصفُّحُ حالِ شُهُودِه وأُمَنائِه، والاسْتِبْدالُ بمَن ثَبَت جَرْحُه منهم) وإنَّما تَثْبُتُ هذه الولاياتُ له؛ لأنَّ العادَةَ مِن القضاةِ تَوَلِّيها، فعندَ إطْلاقِ تَوْلِيَةِ القَضاءِ تَنْصَرِفُ إلى ولايَةِ ما جَرَتِ العادةُ بولايَتِه لها (فأمَّا جِبايَةُ الخَراجِ، وأخْذُ الصَّدَقةِ، فعلى وَجْهَين) أحَدُهما، يَدْخُلان فيه، قِياسًا على سائرِ الخِصالِ المَذْكُورَةِ. وفي الآخرِ، لا يَدْخُلانِ فيه؛ لأنَّ العادةَ لم تَثْبُتْ بتَوْلِيَةِ القَضاءِ لهما، و (¬1) الأصْل عَدَمُ ذلك، فلا يَثْبُتُ. ¬

(¬1) في م: «لأن».

4830 - مسألة: (وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة. فأما مع عدمها، فعلى وجهين)

وَلَهُ طَلَبُ الرِّزْقِ لِنَفْسِهِ وَأُمَنَائِهِ وَخُلَفَائِهِ مَعَ الْحَاجَةِ. فَأمَّا مَعَ عَدَمِهَا، فَعَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4830 - مسألة: (وله طَلَبُ الرِّزْقِ لنَفْسِه وأُمَنائِه وخُلَفائِه مع الحاجَةِ. فأمَّا مع عَدَمِها، فعلى وَجْهَين) يَجُوزُ للقاضي أخْذُ الرِّزْقِ. ورَخَّصَ فيه شُرَيحٌ، وابنُ سِيرِينَ، والشافعيُّ، وأكْثَرُ أهلِ العلمِ. ورُوِيَ عن عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه اسْتَعْمَلَ زيدَ بنَ ثابتٍ على القَضاءِ، وفَرَض له رِزْقًا (¬1). ورَزَق شُرَيحًا في كلِّ شهر مائةَ دِرْهم (¬2). وبَعَث إلى الكوفَةِ عمّارًا وابنَ مسعودٍ وعُثْمانَ [بنَ حُنَيفٍ، ورَزَقَهم كلَّ يوم شاةً؛ نِصْفُها لعَمّارٍ، ونِصْفُها لابنِ مسعودٍ وعُثْمانَ] (¬3)، وكان ابنُ ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 2/ 359. وإسناده منقطع. انظر: إرواء الغليل 8/ 230، 231. (¬2) أخرج البخاري معلقا كان شريح يأخذ على القضاء أجرا. انظر باب رزق الحكام والعاملين علها، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 84. وانظر ما أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 297. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 194. (¬3) سقط من: ق، م. والأثر أخرجه ابن سعد، في: الطبقات الكبرى 3/ 255. وانظر: إرواء الغليل 8/ 233.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسعودٍ قاضِيَهم ومُعَلِّمَهم. وكَتَب إلى مُعاذِ بنِ جَبَلٍ وأبي عُبَيدَةَ، حينَ بَعَثَهما إلى الشامِ، أنِ انْظُرَا رجالًا مِن صَالِحي مَن قِبَلَكم، فاسْتَعْمِلُوهم على القَضاءِ، وأوْسِعُوا عليهم، وارْزُقُوهم، واكْفُوهم مِن مالِ اللهِ. وقال أبو الخَطَّابِ: يَجُوزُ له أخْذُ الرِّزْقِ مع الحاجةِ، فأمَّا مَع عَدَمِها فعلى وَجْهَين. [وهو الذي ذَكَرَه شيخُنا في الكِتابِ المَشْرُوحِ] (¬1). وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه قال: ما يُعْجِبُني أنَّ يَأْخُذَ على القَضاءِ أجْرًا، وإنْ كان فَبِقَدْرِ عَمَلِه، مثلَ مالِ (¬2) اليَتيمِ. لي كان ابنُ مسعودٍ والحسنُ يَكْرَهانِ الأجْرَ على القضاءِ (¬3). وكان مَسْروق (¬4) وعبدُ الرحمنِ بنُ القاسِمِ بنِ عبدِ الرحمَنِ (¬5)، لا يَأْخُذان عليه أجْرًا، وقالا: لا نَأْخُذُ أجْرًا على أنَّ نَعْدِلَ بينَ اثْنَين (¬6). وقال أصْحابُ الشافعيِّ: إن لم يكنْ مُتَعَيِّنًا جاز له أخْذُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) كذا في النسخ، وفي المغني 9/ 14: «والى». (¬3) أخرج أثر الحسن ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 505. (¬4) في النسخ: «ابن مسعود، والمثبت من المصنف، وانظر: المغني 14/ 9. (¬5) عبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن البكري، من أولاد أبي بكرٍ الصديق، إمام ثبت فقيه، من صغار التابعين، توفي بحوران، في سنة ست وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 5، 6. (¬6) انظر ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 505.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرِّزْقِ، وإن تَعَيَّنَ لم يَجُزْ إلَّا مع الحاجَةِ. والصَّحِيِحُ جوازُ الأخْذِ عليه مُطْلَقًا؛ لأنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، لَمَّا وَلِيَ الخِلافةَ، فَرَضُوا له رِزْقًا، كلَّ يومٍ دِرْهَمَينِ (¬1). ولِما ذَكَرْنا مِن (¬2) أنَّ عُمَرَ رَزَق زيدًا وشُرَيحًا وابنَ مسعودٍ، وأمَرَ بفرْضِ الرِّزْقِ لمَن وَلِيَ (¬3) مِن القُضاةِ. ولأنَّ بالنَّاسِ حاجَةً إليه، ولو لم يَجُزْ فَرْضُ الرِّزْقِ لَتَعَطَّلَ، وضاعَتِ الحُقُوقُ. فأمَّا الاسْتِئْجارُ عليه، فلا يجوزُ. قال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: لا يَنْبَغِي لقاضِي المسلِمِين أنَّ يَأْخُذَ علي القَضاء أجْرًا (¬4). وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ، ولا نعلمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه قُرْبَةٌ يَخْتَصُّ فاعِلُه أنَّ يكونَ مِن أهلِ القُرْبَةِ، فأشْبَهَ الصلاةَ، ولأنَّه لا يَعْمَلُه (¬5) الإنسانُ عن غيرِه، وإنَّما يَقَعُ عن نَفْسِه، فأشْبَهَ الصلاةَ، ولأنَّه عمل غيرُ مَعْلُومٍ. فإن لم يكنْ للقاضي رِزْق، فقال للخَصْمَين: لا أقْضِي بينَكما حتى تَجْعَلا لي جُعْلًا عليه. جاز. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يَجُوزَ. ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر: لم أره هكذا. تلخيص الحبير 4/ 194. وانظر: إرواء الغليل 8/ 231 - 233. وانظر ما أخرجه البخاري، في: باب كسب الرجل وعمله بيده، من كتاب البيوع. صحيح البخاري 3/ 74. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «يتولى». (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 505. وعبد الرزاق، في: المصنف 8/ 297. (¬5) في الأصل، ق: «يعلمه».

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ في عُمُومِ الْعَمَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خَاصًّا في أَحَدِهمَا أو فِيهِمَا، فيُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ في بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ خَاصَّةٍ، فَيَنْفُذَ قَضَاؤهُ في أَهْلِهِ وَمَنْ طَرأَ إِلَيهِ، أَوْ يَجْعَلَ إليهِ الْحُكْمَ في الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً، أَوْ فِي قَدْرٍ مِنَ الْمَالِ لَا يَتَجَاوَزُهُ، أَوْ يُفَوِّضَ إِلَيهِ عُقُودَ الأَنْكِحَةِ دُونَ غَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (ويجوز أنَّ يُوَلِّيَه عُمُومَ النَّظَرِ في عُمُومِ العملِ، ويجوزُ أنَّ يُوَلِّيَه خاصًّا في أحَدِهما أو فيهما، ويُوَلِّيَه عُمُومَ النَّظَرِ في بلدٍ أو مَخَلَّةٍ خاصَّةٍ، فيَنْفُذَ قضاؤه في أهلِه ومَن طَرَأ إليه، أو يَجْعَلَ إليه الحُكْمَ في المُدايَناتِ خاصَّةً، أو في قَدْرٍ مِن المالِ لا يَتجاوزُه، أو يُفَوِّضَ إليه عُقُودَ الأنْكِحَةِ دُونَ غيرِها) لأن ذلك جميعَه إلى الإِمامِ، وله الاسْتِنابَةُ في الكلِّ، فتكونُ له الاسْتِنابَةُ في البعضِ، فإنَّ مَن مَلَك في الكلِّ مَلَك في (¬1) البعضِ، وقد صَح أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْتَنِيبُ أصحابَه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4831 - مسألة

وَيَجُوزُ أنْ يَوَلِّيَ قَاضِيَينِ أَوْ أَكْثَرَ في بَلَدٍ وَاحِدٍ؛ يَجْعَلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَمَلًا، فَيَجْعَلُ إلَى أحَدِهِمَا الْحُكْمَ بَينَ النَّاسِ، لَيالى الْآخَرِ عُقُودَ الْأنْكِحَةِ دُونَ غَيرِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلًّا في شيءٍ؛ فوَلَّى عُمَرَ القَضاءَ (¬1)، وبَعَثَ عليًّا قاضِيًا على اليَمنِ (¬2)، وكان يُرْسِلُ أصحابَه في جَمْعِ الزكاةِ وغيرِها، وكذلك الخُلَفاءُ بعدَه، ولأنَّه نِيابَةٌ، فكان على حَسَبِ الاسْتِنابَةِ. 4831 - مسألة (¬3): (ويَجُوزُ) له (أنَّ يُوَلِّيَ قاضِيَين أو أكْثَرَ في بَلَدٍ واحِدٍ، فيَجْعَلُ إلى أحَدِهما الحُكْمَ بينَ الناسِ، وإلى الآخرِ عُقودَ الأنْكِحَةِ) لِما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) انظر ما أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 1/ 105. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 257. (¬3) سقطت هذه المسألة من: ق، م.

4832 - مسألة: (فإن جعل إليهما عملا واحدا، جاز. وعند أبي الخطاب لا يجوز)

فَإِنْ جَعَلَ إِلَيهِمَا عَمَلًا وَاحِدًا، جَازَ. وَعِنْدَ أَبِي الْخطَّابِ لَا يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4832 - مسألة: (فإن جَعَل إليهما عَمَلًا واحِدًا، جاز. وعندَ أبي الخَطَّابِ لا يجوزُ) [إذا وَلَّى قاضِيَين أو أكْثَرَ في بَلَدٍ واحدٍ وجَعَل إليهما عَمَلًا واحدًا، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَجُوزُ. اخْتارَه أبو الخَطَّابِ] (¬1). وهو أحدُ الوَجْهَين لأصْحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى إيقافِ (¬2) الأحْكامِ والخُصُوماتِ، لأنَّهما يَخْتَلِفان في الاجْتِهادِ، ويَرَى أحَدُهما ما لا يَرَى الآخرُ. والثَّاني، يجوزُ. وهو قولُ أصْحابِ أبي حنيفةَ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «اتفاق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ تعالى؛ لأنَّه يجوزُ أنَّ يَسْتَخْلِفَ في البلدِ الذي هو فيه، فيكونَ فيه قاضِيان، فجاز أنَّ يكونَ فيها قاضِيان أصْلِيّان؛ لأنَّ الغَرَضَ فَصْلُ الخُصُوماتِ، وإيصالُ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّه، وهذا يَحْصُلُ، فأشْبَهَ القاضِيَ وخُلَفاءَه. ولأَنه يجوزُ للقاضي أن يَسْتَخْلِفَ خَلِيفَتَين في موضعٍ واحدٍ، فالإمامُ أوْلَى؛ لأنَّ تَوْلِيَتَه أقْوَى. وقولُهم: يُفْضِي إلى إيقافِ (¬1) الأحْكامِ. لا يَصِحُّ؛ فإنَّ كلَّ حاكم يَحْكُمُ باجْتِهادِه بينَ المُتَحاكِمَين إليه، وليس للآخَرِ الاعْتِراضُ عليه، ولا نَقْضُ حُكْمِه فيما خالفَ اجْتِهادَه. فصل: ولا يَجُوزُ أن يُقَلِّدَ القَضاءَ لواحدٍ على أنَّ يَحْكُمَ بمذهبٍ بعَينه. وهذا مَذْهَبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: (فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (¬2). والحقُّ لا يَتَعَيَّنُ في مَذْهَبٍ، وقد ¬

(¬1) في الأصل: «اتفاق». (¬2) سورة ص 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَظْهَرُ له الحقُّ في غيرِ ذلك المَذْهَبِ. فإن قَلَّدَه على هذا الشَّرْطِ، بَطَل الشَّرْطُ. وفي فَسادِ التَّوْلِيَةِ وَجْهان، بِناءً على الشُّرُوطِ الفاسِدَةِ في البَيعِ. فصل: إذا فَوَّضَ (¬1) الإمامُ إلى إنْسانٍ تَوْلِيَةَ القاضي، جاز؛ لأنَّه يجوزُ أنَّ يَتَوَلَّى ذلك، فجاز له التَّوْكِيلُ فيه، كالبَيعِ. فإن فَوَّضَ إليه اخْتِيارَ قاض، جاز، ولا يجوزُ له اخْتِيارُ نفسِه، ولا والدِه، ولا ولَدِه، كما لو ¬

(¬1) في م: «فرض».

4833 - مسألة: (إذا مات المولي، أو عزل المولى مع صلاحيته، لم تبطل ولايته في أحد الوجهين، وتبطل في الآخر)

وَإِنْ مَاتَ الْمُوَلِّي، أَوْ عُزِلَ الْمُوَلَّى مَعَ صَلَاحِيَتهِ، لَمْ تَبْطُلْ ولَايتُهُ في أَحَدِ الْوَجْهَينِ، وَتَبْطُلُ في الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَكَّلَه في الصَّدقةِ بمالٍ، لم يَجُزْ له أخْذُه، ولا دَفْعُه إلى هَذَين. ويَحْتَمِلُ أنَّ يجوزَ له اخْتِيارُهما، إذا كانا صالحَين للولايةِ؛ لأنَّهما يَدْخُلان في عُمُومِ مَن أذِنَ له في الاخْتِيارِ منه، مع أهْلِيَّتهما، أشْبَها الأجانِبَ. 4833 - مسألة: (إذا مات المُوَلِّي، أو عُزِل المُوَلَّى مع صَلاحِيته، لم تَبْطُلْ ولايتُه في أحَدِ الوَجْهَين، وتَبْطُلُ في الآخَرِ) إذا وَلَّى الإمامُ قاضِيًا، ثم مات، لم يَنْعَزِلِ القاضِي؛ لأنَّ الخُلَفاءَ، رَضِيَ الله عنهم، [وَلَّوْا حُكّامًا] (¬1) في زَمَنِهم، فلم يَنْعَزِلُوا بمَوْتِهم، ولأنَّ في عَزْلِه بمَوْتِ الإمام ضَرَرًا على المسلِمِين، فإنَّ البَلَدَ يَتَعَطَّلُ (¬2) مِن الحُكّامِ، وتَقِفُ أحْكَامُ النَّاسِ إلى أنَّ يُوَلِّيَ الإِمامُ الثَّاني حَاكِمًا، وفيه ¬

(¬1) في م: «ولو أحكاما». (¬2) في الأصل: «يبطل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَرَرٌ (¬1) عَظِيمٌ. وكذلك لا يَنْعَزِلُ القاضِي إذا عُزِل الإمامُ؛ لِما ذَكَرْنا. فأمَّا إن عَزَلَه الإمامُ الذي وَلَّاه أو غيرُه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَنْعَزِلُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه عَقْدٌ لمَصْلَحَةِ المسلمين، فلم يَمْلِكْ عَزْلَه مع سَدادِ حالِه، كما لو عَقَدَ النِّكاحَ على مُوَلِّيَته، لم يكنْ له فَسْخُه. والثاني، [له عَزْلُه] (¬2)، لِما رُوِيَ عن (¬3) عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لأعْزِلَنَّ أبا مَرْيَمَ (¬4)، وأُوَلِّيَنَّ رجُلًا إذا رآهُ الفاجرُ فَرِقَه (¬5). فعَزَلَه عن قَضاء البَصْرَةِ، ووَلَّى كَعْبَ بنَ سُورٍ مَكانَه. ووَلَّى عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنه، أَبا الأسْوَدِ، ثم عَزَلَه، فقال له: لِمَ عَزَلْتَنِي، وما خُنْتُ (¬6). قال: إنِّي رَأيتُك يَعْلُو كلامُك على الخَصْمَين. ولأنَّه يَمْلِكُ عَزْلَ أُمَرائِه ووُلاتِه على البُلْدانِ، فكذلك قُضاتُه. وقد كان عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عنه، يُوَلِّى ويَعْزِلُ، فعَزَلَ شرَحْبِيلَ بنَ حَسَنَةَ ¬

(¬1) في ق، م: «خطر». (¬2) سقط من: ق، وفي م: «ينعزل». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) هو إياس بن صبيح بن محرش الحنفي. انظر ترجمته في: أخبار القضاة، لوكيع 1/ 269. (¬5) فرقه: خافه. والأثر أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 108. ووكيع، في: أخبار القضاة 1/ 270. وانظر: إرواء الغليل 8/ 234. (¬6) في الأصل: «جنيت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ولايَته في الشامِ، ووَلَّى مُعاويَةَ، فقال له شُرَحْبِيلٌ: أمِن جُبْنٍ عَزَلْتَنِي، أو مِن (¬1) خِيانَةٍ؟ قال: من كلٍّ لا، ولكنْ أرَدْتُ رجلًا أقْوَى مِن رجلٍ. وعزلَ خالدَ بنَ الوليدِ، ووَلَّى أبا عُبَيدَةَ. وقد كان يُوَلِّي بعضَ الوُلاةِ الحُكْمَ مع الإمارَةِ، فوَلَّى أبا موسى البَصْرَةَ قضاءَها وإمْرَتَها (¬2). ثم كان يَعْزِلُهم هو (¬3)، ومَن لم يَعْزلْه، عَزَلَه عُثْمانُ بعدَه إلَّا القليلَ منهِم، فعَزْلُ القاضي أوْلَى. ويُفارِقُ عَزْلَه بمَوْتِ مَن وَلَّاه أو عَزْلِه؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا، وههُنا لا ضَرَرَ فيه؛ لأنَّه لا يَعْزِلُ قاضيًا حتى يُوَلِّيَ آخَرَ مكانَه، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) انظر لذلك كله: تاريخ الطبري 4/ 64 - 69. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا لا يَنْعَزِلُ الوالي (¬1) بمَوْتِ الإمامِ، ويَنْعَزِلُ بعَزْلِه. وقد ذَكَر شيخُنا في عَزْلِه بالموتِ، في الكتابِ المَشْرُوحِ وَجْهَين، وحَكاهما أبو الخَطَّابِ. والأوْلَى، إن شاءَ اللهُ، ما ذَكَرْنا. فأمَّا إن تَغَيَّرَتْ حالُ القاضي، بفِسْقٍ، أو زَوالِ عَقْل، أو مَرَضٍ يَمنعُه من القضاءِ، أو اخْتَلَّ فيه بعضُ شُرُوطِه، فإنَّه يَنْعَزِلُ بذلك، ويَتَعَيَّنُ على الإِمامِ عَزْلُه، وَجْهًا واحدًا. وأمَّا إذا اسْتَخْلَفَ القاضي خَلِيفَةً، فإنَّه يَنْعَزِلُ بمَوْتِه وعَزْلِه؛ لأنَّه نائِبُه، أشْبَهَ الوَكِيلَ. ¬

(¬1) في ق، م: «القاضي».

4834 - مسألة: (وهل ينعزل قبل العلم بالعزل؟ على روايتين،

وَهَلْ يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ؟ عَلَى وَجْهَينِ، بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4834 - مسألة: (وهل يَنْعَزِلُ قبلَ العلمِ بالعَزْلِ؟ على رِوايَتَين،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِناءً على الوَكِيلِ) وقد مَضَى ذلك في كِتابِ الوَكالةِ (¬1). فصل: وللإمامِ تَوْلِيَةُ القَضاء في بلدِه وغيرِه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَّى عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ القَضاءَ (¬2)، وولَّى عليًّا (¬3) ومُعاذًا (¬4). وقال عثمانُ [بنُ عَفّانَ] (¬5) لابنِ عُمَرَ: إنَّ أباكَ كان يَقْضِي وهو خيرٌ منك. فقال: إنَّ أبي قد كان يَقْضِي، فإن أشْكَلَ عليه شيء، سأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وذَكَر الحديثَ (¬6). رَواه [عُمَرُ بنُ شَبةَ] (¬7)، في «قُضاةِ البَصْرَةِ». ورَوَى سعيدٌ، في «سُنَنِه» عن عمرِو بنِ العاصِ، قال: جاء خَصْمان إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: «يَا عَمْرُو، اقْضِ بَينَهُمَا». قال: قلتُ: أنت أوْلَى بذلك مِنِّي يا رسولَ اللهِ. قال: «إنْ أصَبْتَ القَضَاءَ بَينَهُمَا، فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وإنْ أخْطَأْتَ، فَلَكَ حَسَنَةٌ» (¬8). وعن عُقْبَةَ بنِ عامِر مثلُه (¬9). ولأن الامامَ يَشْتَغِلُ بأشْياءَ كثيرةٍ مِن مَصالِح ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 13/ 477 - 479. (¬2) انظر ما أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 1/ 105. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 257. (¬4) تقدم تخريجه في: 2/ 99، 6/ 291، وفي صفحة 257. (¬5) سقط من: ق، م. (¬6) تقدم تخريجه في صفحة 262. (¬7) في الأصل، ق: «عمرو بن شبة»، وفي م: «عمرو بن شيبة». وانظر: ترجمته في 21/ 402. (¬8) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 204. والحاكم، في: كتاب الأحكام. المستدرك 4/ 88. والدارقطني، في: كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطني 4/ 203. (¬9) تقدم تخريجه في صفحة 257.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلِمِين، فلا يَتَفَرَّغُ للقَضاءِ بينَهم. فإذا وَلَّى قاضيًا، اسْتُحِبَّ أنَّ يَجْعَلَ له أنَّ يَسْتَخْلِفَ؛ لأنَّه قد يَحْتاجُ إلى ذلك، فإذا أذِنَ له في الاسْتِخْلافِ، جازَ له بلا خِلافٍ نَعْلَمُه، وإن نَهاهُ، لم يكنْ له أنَّ يَسْتَخْلِفَ؛ لأنَّ ولايتَه بإذْنِه، فلم يَكنْ له ما [نهاه عنه] (¬1)، كالوكيلِ. وإن أطْلَقَ، فله الاسْتِخْلافُ. ويَحْتَمِلُ أنَّ لا يكونَ له ذلك؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ بالاذْنِ، فلم يكنْ له ما لم يَأْذَنْ فيه، كالوَكيلِ. ولأصْحابِ الشافعيِّ في هذا وَجْهان. ¬

(¬1) في ق، م: «ذكرناه».

4835 - مسألة: (وإذا قال المولي: من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان، فهو خليفتي، أو: قد وليته. لم تنعقد الولاية لمن ينظر)

وَإذَا قَال الْمُوَلِّي: مَنْ نَظَرَ في الْحُكْمِ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَهُوَ خَلِيفَتِي، أَوْ: قَدْ وَلَّيتُهُ. لَمْ تَنْعَقِدِ الْولَايةُ لِمَنْ يَنْظُرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ووَجْهُ الأوَّلِ أنَّ الغَرَضَ مِن القَضاءِ الفَصْلُ بينَ المُتَخاصِمَين، فإذا فَعَلَه بنفسِه [أو بغيرِه، جاز، كما لو أذِنَ له، ويفارِقُ التَّوكِيل؛ لأنَّ الإِمام يُوَلِّي القَضاءَ للمسلمين] (¬1)، بخلافِ الوَكيلِ. فإنِ اسْتَخْلَفَ في مَوْضِع ليس له الاسْتِخْلافُ، فحُكْمُه حكمُ مَن لم يُوَلَّ. 4835 - مسألة: (وإذا قال المُوَلِّي: مَن نَظَر في الحُكْمِ في البَلَدِ الفُلانِيِّ مِن فُلانٍ وفُلانٍ، فهو خَلِيفَتِي، أو: قد وَلَّيتُه. لم تَنْعَقِدِ الولايةُ لمَن يَنْظُرُ) لأنَّه عَلَّقَها على شَرْطٍ، ولم يُعَيِّنْ بالولايةِ أحدًا منهم. ويَحْتَمِلُ أنَّ تَنْعَقِدَ لمَنِ نَظَر؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أميرُكُمْ (¬2) زَيدٌ، فَإنْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَميرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ» (¬3). فعَلَّقَ ولايةَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 13/ 439.

4836 - مسألة: (وإن قال: وليت فلانا وفلانا، فمن نظر منهما، فهو خليفتي. انعقدت الولاية)

وَإِنْ قَال: وَلَّيتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَمَنَ نَظرَ مِنْهُمَا، فَهُوَ خَلِيفَتِي. انْعَقَدَتِ الْولَايةُ. فَصْلٌ: وَيُشْتَرَط في الْقَاضِي عَشْرُ صِفَاتٍ؛ أنْ يَكُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِمارةِ بعدَ زيدٍ على شَرْطٍ، فكذلك ولايةُ الحُكْمِ. 4836 - مسألة: (وإن قال: وَلَّيتُ فُلانًا وفُلانًا، فمَن نَظَر منهما، فهو خَلِيفَتِي. انْعَقَدَتِ الولايةُ) لمَن يَنْظُرُ منهما؛ لأنَّه عَقَد الولايةَ لهما جميعًا. فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ويُشْتَرَطُ في القاضي عَشْرُ صِفاتٍ؛

بَالِغًا، عَاقِلًا، ذَكَرًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا، مُجْتَهِدًا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ كَاتِبًا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ يكونَ بالِغًا، عاقِلًا، حُرًّا، ذَكَرًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا، مُجْتَهِدًا. وهل يُشْتَرَطُ كونُه كاتِبًا؟ على وَجْهَين) وجملةُ ذلك، أنَّه يُشْتَرَطُ للقاضي أنَّ يكونَ بالِغًا عاقِلا مسلمًا؛ لأنَّ هذه شُرُوطُ العَدالةِ، فأَولَى أنَّ تُشْتَرَطَ للقَضاءِ. الرابعُ، الذُّكُورِيَّةُ، فلا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ المرأةِ. وحُكِيَ عنٍ (1) ابنِ جَرِير أنَّ الذُّكُوريَّةَ لا تُشْتَرَطُ؛ لأنَّ المرأةَ يَجُوزُ أنَّ تكونَ مُفْتِيَة، فيجوزُ أنَّ تكونَ قاضية. وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ أنَّ تكونَ قاضيةً في غيرِ الحُدُودِ؛ لأنَّه يجوزُ أنَّ تكونَ شاهِدَةً فيه (¬1). ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أفْلَحَ قَوْم وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً» (¬2). ولأنَّ القاضيَ يَحْضُرُه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) أخرجه البخاري، في: باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، من كتاب المغازي، وفي: باب حدثنا عثمان بن الهيثم، من كتاب الفتن. صحيح البخاري 10/ 6، 9/ 70، والترمذي، في: باب حدثنا محمد بن المثنى، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذي 9/ 118، 119. والنسائي، في: باب النهي عن استعمال النساء في الحكم، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 200. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 38، 43، 47، 50، 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محافِلُ الخُصُومِ والرِّجالِ، ويحْتاجُ فيه إلى كَمالِ الرَّأْي وتمامِ العَقْلِ والفِطْنَةِ، والمرأةُ ناقِصَةُ العقلِ، ضَعِيفَةُ الرَّأْي، ليستْ [أهلًا للحُضُورِ] (¬1) في محافلِ الرِّجالِ، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُها ولو كان معها ألفُ امرأةٍ مثلِها، ما لم يكنْ مَعَهُنَّ رجلٍ، وقد نَثهَ اللهُ تعالى على ضَلالِهنَّ ونِسْيانِهِنَّ بقولِه سبحانه: (أَنْ تَضِل إِحْدَهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَهُمَا الأُخْرَى) (¬2). ولا تَصْلُحُ للامامَةِ العُظْمَى، ولا لتَوْلِيَةِ البُلْدانِ، ولهذا لم يُوَلِّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدٌ مِن خُلَفائِه، ولا مَن بعدَهم، امرأةً قَضاءً ولا ولايةَ بَلَدٍ، فيما بَلَغَنا، ولو جاز ذلك لم يَخْلُ منه جميعُ الزَّمانِ غالِبًا. الخامسُ، الحُرِّيَّةُ، فلا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ العَبْدِ؛ لأنَّه مَنْقُوصٌ برِقِّه، مَشْغُولٌ بحُقوقِ سَيِّدِه، لا تُقْبَلُ شَهادَتُه في جميعِ الأشْياءِ، فلم يكنْ أهْلًا للقضاءِ، كالمرأةِ. السادسُ، أنْ يكونَ سَمِيعًا. السَّابعُ، أنَّ يكونَ بَصِيرًا. الثامِنُ، أنَّ يكونَ مُتَكَلِّمًا؛ لأنَّ الأصَمَّ لا يَسْمَعُ قولَ الخَصْمَين، والأعْمَى لا يَعْرِفُ المُدَّعِيَ مِن المُدَّعَى عليه، والمُقِرَّ مِن المُقَرِّ له، والأخْرَسُ لا يُمْكِنُه النُّطْقُ بالحُكْمِ، ولا يَفْهَمُ [جَمِيعُ الناسِ] (¬3) إشارَتَه. وقال بعضُ ¬

(¬1) في م: «من أهل الحضور». (¬2) سورة البقرة 282. (¬3) في ق، م: «الناس جميع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحابِ الشافعيِّ: يجُوزُ أنَّ يكونَ أعْمَى (¬1)؛ لأنَّ شُعَيبًا - عليه السلام -، كان أعْمَى. ولهم في الأخْرسِ الذي تُفهَمُ إشارتُه وَجْهان. ولنا، أنَّ هذه الحَواسَّ تُؤَثِّرُ في الشَّهادةِ، فيَمْنَعُ فَقْدُها ولايةَ القَضاءِ كالسَّمْعِ؛ وهذا لأنَّ مَنْصِبَ الشَّهادةِ دُونَ مَنْصِبِ القَضاءِ، والشاهدَ يَشْهَدُ في أشْياءَ يَسِيرَةٍ يُحْتاجُ إليه فيها، وربَّما أحاط بحَقِيقَةِ عِلْمِها، والقاضيَ ولايتُه عامَّة، فيَحْكُمُ في قَضايا الناسِ عامَّةً، فإذا لم تُقْبَلْ منه الشَّهادةُ، فالقضاءُ أَوْلَى، وما ذَكَرُوه عن شُعَيبٍ - عليه السلام -، فمَمْنُوعٌ، فإنه لم يَثْبُتْ أنَّه كان أعْمَى (¬2)، ولو ثَبَت فيه ذلك، فلا يَلْزَمُ ¬

(¬1) بعده في ق، م: «قاضيًا». (¬2) ذكر الشارح، رحمه الله، أن شعيبا، - عليه السلام -، كان أعمى. انظر 20/ 183.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا؛ فإنَّ شُعَيبًا، - عليه السلام -، كان مَن آمَنَ معه مِن الناسِ قليلًا، ورُبَّما لا يَحْتاجُونَ إلى الحُكْمِ بينَهم لقلَّتِهم وتَناصُفِهم، فلا يكونُ حُجَّةً في مسألتِنا. التاسعُ، العدالةُ، فلا يجوزُ تَوْلِيَةُ فاسِقٍ، ولا مَن فيه نَقْصٌ يَمْنَعُ الشَّهادةَ، وسَنذْكُرُ ذلك في الشَّهادةِ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وحُكِيَ عن الأصَمِّ، أنَّه قال: يجوزُ أنَّ يكونَ القاضي فاسِقًا، لِما رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «سَيَكُونُ بَعْدِي أمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ أوْقَاتِهَا، فَصَلُّوهَا لِوَقْتِهَا، واجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» (¬1). ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬2). فأمَرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 359. والسبحة: النافلة. (¬2) سورة الحجرات 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتَّبَيُّنِ (¬1) عندَ قول الفاسِقِ، ولا يجوزُ أنَّ يكونَ الحاكِمُ ممَّن لا يُقْبَلُ قولُه، ويَجِبُ التَّبَيُّنُ (¬2) عندَ حُكْمِه، ولأنَّ الفاسِقَ لا يجوزُ أنَّ يكونَ شاهدًا، فلَأن لا (¬3) يكونَ قاضِيًا أوْلَى. فأمَّا الخبرُ فأخْبَر بوُقُوعِ ذلك مع كونِهم أُمَراءَ، لا بمَشْرُوعِيَّته، والنِّزاعُ في صِحَّةِ تَوْلِيَته لا في وُجُودِها. العاشرُ، أنَّ يكونَ مُجْتَهِدًا. وبهذا قال مالكٌ، والشافعيُّ، وبعضُ الحنفيَّة. وقال بعضُهم: يجوزُ أنْ يكونَ عامِّيًّا فيَحْكُمَ بالتَّقْلِيدِ؛ لأنَّ الغَرَضَ منه فَصْلُ الخُصوماتِ، فَإِذا (¬4) أمْكَنَه ذلك بالتَّقْلِيدِ (¬5) جاز، كما يُحْكَمُ بقولِ المُقَوِّمِينَ. ولَنا، قولُه تعالى: (وَأنِ احْكُم بَينَهُم بِمَا أنزَلَ ¬

(¬1) في النسخ: «بالتبيين». وانظر المغني 14/ 14. (¬2) في النسخ: «التبيين». (¬3) بعده في م: «يجوز أن». (¬4) في م: «فأما إذا». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اللهُ) (¬1). [ولم يَقُلْ: بالتَّقْلِيدِ. وقال: (لِتَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَراكَ اللهُ)] (¬2). وقال: (فَإِن تَنَزَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (¬3). ورَوَى بُرَيدَةُ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ اثْنَانِ فِي النَّارِ، ووَاحِدٌ فِي الْجَنةِ، رَجُل عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْل، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ». رَواه ابنُ ماجه (¬4). والعامِّيُّ يَقضِي على جَهْلٍ، ولأنَّ الحُكْمَ آكَدُ مِن الفُتْيا؛ لأنَّه فُتْيا وإلزامٌ، ثم المُفْتِي لا يجوزُ أنَّ يكونَ عامِّيًّا مُقَلِّدًا، فالحُكْمُ أوْلَى. فإنْ قيل: فالمُفْتِي يجوزُ أنْ يُخْبِرَ بما سَمِع. قُلْنا: نعم، إلَّا أنَّه لا يكونُ مُفْتِيًا في تلك الحالِ، وإنَّما هو مُخْبِرٌ، فيَحْتاجُ أنْ يُخْبِرَ عن رجلٍ بعَينه مِن أهلِ الاجْتِهادِ، فيكونُ مَعْمُولًا بخَبَرِه لا بفُتْياه. ويُخالِفُ قولَ المُقَوِّمِين؛ لأنَّ ذلك لا يُمْكِنُ الحاكمَ مَعْرفَتُه بنَفْسِه، بخلافِ الحُكْمِ. ¬

(¬1) سورة المائدة 49. (¬2) سقط من: م. والآية من سورة النساء 105. (¬3) سورة النساء 59. (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 262.

4837 - مسألة: وليس من شرط الحاكم أن يكون كاتبا. وفيه وجه آخر، أنه يشترط ذلك؛ ليعلم ما يكتبه كاتبه، ولا يتمكن من إخفائه عنه. ولنا، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أميا، وهو سيد الحكام، وليس من ضرورة الحكم الكتابة، فلا تعتبر شرطا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4837 - مسألة: وليس مِن شَرْطِ الحاكِمِ أنَّ يكونَ كاتِبًا. وفيه وَجْهٌ آخَر، أنَّه يُشْتَرَطُ ذلك؛ ليَعْلَمَ ما يَكْتُبُه كاتِبُه، ولا يَتَمَكَّنَ مِن إخْفائِه عنه. ولَنا، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِّيًّا، وهو سَيِّدُ الحُكّامِ، وليس مِن ضرورةِ الحُكْمِ الكِتابةُ، فلا تُعْتَبَر شَرْطًا (¬1). فإنِ احْتاجَ إلى ذلك، ¬

(¬1) في الأصل: «شروطها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جاز تَوْلِيَتُه لمَن يَعْرِفُه، كما أنَّه قد يَحْتاجُ إلى القِسْمَةِ بينَ الناسِ، وليس مِن شَرْطِه مَعْرِفَةُ المِساحَةِ، ويَحْتاجُ إلى التَّقْويِمِ، وليس مِن شُروطِ القَضاءِ أن يكونَ عالِمًا بقِيَمِ الأشْياءِ، [ولا مَعْرِفتُه بعُيُوبِ كلِّ شيءٍ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: م.

4838 - مسألة: (والمجتهد من يعرف من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الحقيقة والمجاز، والأمر والنهي، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمستثنى والمستثنى منه، ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها، وتواترها من آحادها، ومرسلها ومتصلها، ومسندها ومنقطعها، مما له تعلق بالأحكام خاصة)

وَالْمُجْتَهِدُ مَنْ يَعْرِفُ مِنْ كِتَابِ الله تِعَالى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيهِ السَّلَامُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَالأمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ، وَالْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ، وَالْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَالْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَعْرِفُ مِنَ السُّنَّةِ صَحِيحَهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَتَوَاتُرَهَا مِنْ آحَادِهَا، وَمُرْسَلَهَا وَمُتَّصِلَهَا، وَمُسْنَدَهَا وَمُنْقَطِعَهَا، مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالأحْكَامِ خَاصَّةً، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4838 - مسألة: (والمُجْتَهِدُ مَن يَعْرِفُ مِن كِتابِ اللهِ تَعالى، وسُنَّةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - الحَقِيقَةَ والمَجازَ، والأمْرَ والنَّهْيَ، والمُجْمَلَ والمُبَيَّنَ، والمُحْكَمَ والمُتَشابِهَ، والخاصَّ والعامَّ، والمُطْلَقَ والمُقَيَّدَ، والنَّاسِخَ والمَنْسُوخَ، والمُسْتَثْنَى والمُسْتَثْنَى منه، ويَعْرِفُ مِن السُّنَّةِ صحيحَها مِن سَقِيمِها، وتَواتُرَها مِن آحادِها، ومُرْسَلَها ومُتَّصِلَها، ومُسْنَدَها ومُنْقَطِعَها، ممّا له تَعَلُّقٌ بالأحْكامِ خاصَّة) وهي مِن (¬1) كتابِ اللهِ تعالى نحوُ خَمْسِمائةِ آيةٍ، ولا يَلْزَمُه معرفةُ سائِرِ القُرآنِ. ومِن السُّنَّةِ ما يتَعَلَّقُ بالأحْكامِ دُونَ سائِرِ الأخْبارِ، مِن (¬2) خَبَرِ الجَنَّةِ والنَّارِ، ¬

(¬1) في م: «في». (¬2) في م: «ومن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحوهما (¬1) ممَّا لا (¬2) يَتَعَلَّقُ بالأحْكامِ. وإنَّما كان المُجْتَهِدُ مَن يَعْرِفُ هذه الأشْياءَ المَذْكُورَةَ؛ لأنَّ المُجْتَهِدَ هو مَن يُمْكِنُه تَعَرُّفُ الصَّوابِ بدَليله، كالمُجْتَهِدِ في القِبْلَةِ، ومَن لا يَعْرِفُه بدَلِيله يكونُ مُقَلِّدًا؛ لكونِه يَقْبَلُ قولَ غيرِه مِن غيرِ مَعْرِفَةٍ بصَوابِه، كالذي يَقْبَلُ قولَ الدَّليلِ على الطَّريقِ مِن غيرِ مَعْرِفَةٍ بَصوابه، وقولَ مَن يعْرِف جِهَةَ القِبْلَةِ مِن غيرِ مَعْرِفَتِه (¬3). وأدلةُ الأحْكامِ، الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإِجْماعُ، والقِياسُ، وجِهَةُ دَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن هذه الوُجوهِ، فإنَّ الكلامَ بإطْلاقِه يُحْمَلُ على الحقيقةِ دُونَ المجازِ، والعامُّ والخاصُّ إذا تَعارَضا قُدِّم الخاصُّ، ويَجُوزُ تَخْصِيصُ العامِّ، ولا يَدْخُلُ الخاصَّ تَخْصِيصٌ، والمُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ. والمقْصودُ أنَّ لكلِّ واحدٍ ممَّا ذَكَرْنا دَلالةً لا يُمْكِنُ معرِفَتُها إلَّا بمعرفَتِه، فوَجَب معرفَةُ ذلك؛ ليَعْرِفَ دَلالتَه، ووَقَفَ الاجْتِهادُ على معرفتِه لذلك. ومثالُه، أنَّ المُجْتَهِدَ في القِبلةِ يَحْتاجُ في معرفةِ النُّجومِ إلى (¬4) معرفتِها بأعْيانِها وجِهاتِها، فإذا عَرَف القُطْبَ، احْتاجَ إلى معرفةِ ¬

(¬1) في الأصل: «نحوها». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «معرفة». (¬4) سقط من: الأصل.

4839 - مسألة: (ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه، والقياس وحدوده وشروطه وكيفية استنباطه)

ويَعْرِفُ مَا أُجْمِعَ عَلَيهِ ممَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْقِيَاسَ وَحُدُودَهُ وَشُرُوطَهُ وَكَيفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِهِ، وَالْعَرَبِيَّةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمَا يُوَالِيهِمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيهِ وَرُزِقَ فَهْمَهُ، صَلُحَ لِلْقَضَاءِ، وَالْفُتْيَا، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كونِه في الجِهَةِ الشَّمالِيَّةِ، وكذلك إذا عَرَف الشمسَ، احْتاجَ إلى معرفةِ الجِهَةِ التي تكونُ فيها في حالِ طُلوعِها، وحالِ غُرُوبِها وتَوَسُّطِها، وهذا كذلك. والمُسْنَدُ مِن السُّنَّةِ والمُتَّصِلُ واحدٌ، والمُرْسَلُ الذي يكونُ (¬1) بينَ الرَّاوي وبينَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ غيرُ مَذْكُورٍ، والمُنْقَطِعُ الذي يكونُ بينَهما أكثرُ مِن واحدٍ. وقيلَ: هو الذي يَرْويه مَن لم يُدْرِكِ الصحابةَ عنهم (¬2). 4839 - مسألة: (ويَعْرِفُ ما أُجْمِع عليه ممَّا اخْتُلِف فيه، والقِياسَ وحُدُودَه وشُرُوطَه وكَيفِيَّةَ اسْتِنْباطِه) الأحْكامَ [منه (والعربيةَ المُتداوَلَةَ بالحِجازِ والشَّامِ والعِراقِ وما يُوالِيهم) ليَتَعَرَّفَ به اسْتِنْباطَ الأحْكامِ] (¬3) مِن أصْنافِ عُلُومِ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وقد نَصَّ أحمدُ على ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) زيادة من: ق، م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اشْتِراطِ ذلك لِلفُتْيا، والحُكْمُ في مَعْناه. وإنَّما اشْترطَ معرفةَ ما أُجْمِع عليه؛ لأنَّ الاجْتِهادَ إنَّما يُشْرَعُ فيما اخْتُلِف فيه، وأمَّا المُجْمَعُ عليه، فيَجِبُ الرُّجُوعُ إلى ما أُجْمِع عليه دُونَ غيرِه، فيَجِبُ معرفةُ [ذلك؛ ليَرْجِعَ في المُجْمَعِ عليه إلى الإجْماعِ، وفي غيرِه إلى الاجْتِهادِ. وأمَّا معرفةُ اسْتِنْباطِ] (¬1) القياسِ -وهو أحدُ أدِلَّةِ الأحْكامِ- فإنَّه لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُها إلَّا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك، فكان معرفةُ ذلك مِن ضَرُورَةِ معرفةِ الأحْكامِ. فأمَّا معرفةُ اللُّغَةِ والعرَبِيَّةِ، فإنَّ أدِلَّةَ الأحْكامِ كتابُ اللةِ تعالى وسُنَّةُ رسولِه، والكتابُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (¬1)، نَزَل به الرُّوحُ الأمِينُ، بلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، والسُّنَّةُ قولُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وما يَقُومُ مَقامَه، وقد قال اللهُ تعالى: (وَمَا أرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) (¬2). فيُعْتَبَرُ معرفةُ اللُّغَةِ التي هي لِسانُ الكتابِ والسُّنَّةِ؛ ليَعْرِفَ مُقْتَضاهما (¬3). فإن قيلَ: فهذه الشُّروطُ لا تَجْتَمِعُ في أحدٍ، فكيفَ يجوزُ اشْتراطُها؟ قُلْنا: ليس مِن شَرْطِه أنَّ يكونَ مُحِيطًا بهذه العُلُومِ إحاطَةً تَجْمَعُ أقْصاها، وإنَّما يَحْتاجُ أنْ يَعْرِفَ مِن ذلك ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة إبراهيم 4. (¬3) في م: «مقتضاها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَتَعَلَّقُ بالأحْكامِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ ولسانِ العربِ، ولا أنَّ يُحِيطَ بجميعِ الأخْبارِ الواردةِ في هذا، فقد كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ وعمرُ بنُ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عنهما، خَلِيفَتا رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ووَزِيراه، وخيرُ الناسِ بعدَه، في حالِ إمامَتِهما يُسْألانِ عن (¬1) الحُكْمِ، فلا يَعْرِفانِ ما فيه مِن السُّنَّةِ حتى يَسْألا الناسَ فيُخْبَرَا، فسُئِلَ أبو بكرٍ عن ميراثِ الجَدَّةِ، فقال: مالكِ في كتابِ اللهِ شيءٌ، ولا أعْلَمُ لكِ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ولكنِ ارْجعِي حتى أسْألَ الناسَ. ثم قامَ فقال: أنشُدُ اللهَ مَن يَعْلَمُ قضاءَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الجَدَّةِ؟ فقامَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، فقال: أشْهَدُ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْطاها السُّدْسَ (¬2). وسأل عمرُ عن إمْلاصِ المرأةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 8/ 561.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأخْبَرَه المُغِيرَةُ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فيه بغُرَّةٍ (¬1). ولا تُشْتَرَطُ معرِفةُ المسائلِ التي فَرَّعَها (¬2) المجتَهِدون في كُتُبِهم، فإنَّ هذه فُرُوعٌ فَرَّعَها الفُقَهاءُ بعدَ حِيازَةِ مَنْصِبِ الاجْتِهادِ، فلا تكونُ شَرْطًا له وهو سابقٌ عليها (¬3). وليس مِن شَرْطِ الاجْتِهادِ في مسألةٍ أنَّ يكونَ مُجْتَهِدًا في كلِّ المسائلِ، بل مَن عَرَف أدِلَّةَ مسألةٍ، وما يَتَعَلَّقُ بها، فهو مُجْتَهِدٌ فيها وإن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 411. (¬2) في م: «عرفها». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جَهِل غيرَها، كمَن يَعْرِفُ الفَرائِضَ وأُصُولَها، ليس مِن شَرْطِ اجْتِهادِه فيها معرفتُه بالبَيعِ، ولذلك ما مِن إمامٍ إلَّا وقد تَوَقَّفَ في مسائلَ. وقيل: مَن يُجِيبُ في كلِّ مسألةٍ فهو مجنون، وإذا تَرَك العالِمُ: لا أدْرِي. أُصِيبَتْ مَقاتِلُه. وحُكِي [عن مالِكٍ أنَّه] (¬1) سُئِل عن أرْبَعِين مسألةً، فقال في ستٍّ وثلاثين: لا أدْرِي. ولم يُخْرِجْه ذلك عن كونِه مُجْتَهِدًا. وإنَّما المُعْتَبَرُ أُصُولُ هذه الأُمُورِ، وهو مَجْمُوع مُدَوَّن في فُرُوعِ الفِقْهِ وأُصُولِه، فمَن عَرَف ذلك، ورُزِق فَهْمَه، كان مُجْتَهِدًا، وصَلَح للفُتْيا والقضاءِ. وباللهِ التَّوْفِيقُ. ¬

(¬1) في الأصل: «أنَّ مالكا».

فَصْل: وَإنْ تَحَاكَمَ رَجُلَانِ إِلَى رَجُل يَصْلُحُ للقَضَاءِ، فَحَكَّمَاهُ بَينَهُمَا، فَحَكَمَ، نَفَذَ حُكمُهُ في الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإذا تحاكَمَ رَجُلانِ إلى رجل يَصْلُحُ للقَضاءِ، وحَكَّماه بينَهما) جازَ ذلك، و (نَفَذ حُكْمُه) عليهما. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وللشافعيِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُهما (¬1) حُكْمُه إلَّا بتَراضِيهما؛ لأنَّ حُكْمَه إنَّما يَلْزَمُ بالرِّضا به، ولا يكونُ الرِّضا إلَّا بعدَ المعرفةِ بحُكْمِه. ولَنا، ما رَوَى أبو شُرَيح، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أبا الحَكَمِ؟». قال: إنَّ قَوْمِي إذا اخْتَلَفوا في شيءٍ أتَوْني، فحَكَمْتُ بينَهم، فرَضِيَ عليَّ الفَرِيقان. قال: «مَا أحْسَنَ ¬

(¬1) في م: «يلزمه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا، فَمَنْ أكْبَرُ وَلَدِكَ؟» قال: شُرَيحٌ. قال: «فَأنْتَ أبو شُرَيح». أخْرَجَه النَّسائِيُّ (¬1). ورُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ حَكَمَ بَينَ اثْنَينِ تَرَاضَيَا بِهِ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَينَهُما، فَهُوَ مَلْعُون» (¬2). ولولا أنَّ حُكْمَه يَلْزَمُهما، لَما لَحِقَه هذا الذَّمُّ. ولأنَّ عُمَرَ وأبَيًّا تَحاكَما إلى زيدٍ (¬3). وحاكَمَ عُمَرُ أعْرابِيا إلى شُرَيح قبلَ أن يُوَلِّيَه القضاءَ. وتحاكَمَ عُثمانُ وطَلْحَةُ إلى جُبَيرِ بنِ مُطْعِم (¬4)، ولم يكونوا قُضاةً. [فإن قِيلَ: فعُمَرُ وعُثْمانُ كانا إمامَين، فإذا رَدَّا الحُكْمَ إلى رجل صار قاضِيًا. قُلْنا: لم يُنْقَلْ عنهما إلَّا الرضا بتَحْكِيمِه خاصَّةً، وبهذا لا يُعْتَبَرُ قاضِيًا] (¬5). وما ذَكَرُوه يَبْطُلُ بما إذا رَضِيَ بتَصَرُّفِ وَكِيله، فإنَّه يَلْزَمُه قبلَ المعرفةِ به. إذا ثَبَت هذا، فإنه لا يجوزُ نقْضُ حُكْمِه فيما لا يُنْقَضُ فيه حُكْمُ مَن له ولاية. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: للحاكِمِ نَقْضُه إذا خالفَ رَايَه؛ لأن هذا عَقْذ في حقِّ الحاكمِ، فمَلَك فَسْخَه، كالعَقْدِ المَوْقُوفِ في حَقِّه. ولَنا، أن هذا حُكْمٌ صحيح لازِم، فلم يَجُزْ فَسْخُه لمُخالفَةِ رَأيِه، كحُكْمِ مَن له ولاية. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ حُكْمَه لازِم للخَصْمَين، فكيفَ ¬

(¬1) في: باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم، من كتاب آداب القضاة. المجتبى 8/ 199. كما أخرجه أبو داود، في: باب في تغيير الاسم القبيح، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 585. (¬2) عزاه ابن حجر لابن الجوزي في التحقيق. تلخيص الحبير 4/ 185. (¬3) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬4) انظر ما تقدم في 11/ 96. (¬5) سقط من: الأصل.

ويَنْفُذُ في الْقِصَاصِ، والْحَدِّ، وَالنِّكَاحِ، واللِّعَانِ في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. ذَكَرَهُ أبو الْخَطَّابِ. وَقَال الْقَاضِي: لا يَنْفُذُ إلا في الاموالِ خَاصَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكونُ مَوْقُوفًا؛ ولو كان كذلك، لملك فَسْخَه وإن لم يُخالِفْ رَايَه، ولا نُسَلِّمُ الوُقُوفَ في العُقُودِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ لكلِّ واحدٍ مِن الخَصْمَين الرُّجُوعَ عن تَحْكِيمِه قبلَ شُرُوعِه [في الحُكْمِ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ إلَّا برِضاه، فأشْبَهَ ما لو رَجَع عن التَّوْكِيلِ قبلَ التَّصَرُّفِ. وإن رَجَع بعدَ شُرُوعِه] (¬1)، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، له ذلك؛ لأنَّ الحُكْمَ لم يتمَّ، أشْبَهَ قبلَ الشُّرُوعِ. والثاني، ليس له ذلك؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما إذا رَأى مِن الحُكْمِ ما لا يُوافِقُه، رَجَع، فبَطَل المقْصُودُ به. واخْتَلَفَ أصْحابُنا فيما يجوزُ فيه التَّحْكِيمُ، فقال أبو الخَطَّابِ: ظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ تَحْكِيمَه يجوزُ في كلِّ ما يَتحاكَمُ فيه الخَصْمانِ، قِياسًا على قاضي الإمامِ. وقال القاضي: يجوزُ حُكْمُه في الأمْوالِ خاصَّةً، فأمَّا النِّكاحُ، واللِّعانُ، والقَذْفُ، والقِصاصُ، فلا يجوزُ التَّحْكِيمُ فيها؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لهذه الأحْكامِ مَزِيَّةً على غيرِها، فاخْتَصَّ حاكمُ الإمامِ بالنَّظَرِ فيها، كالحُدودِ وذكرَ صاحِبُ «المُحَرَّرِ» فيها رِوايَتَين. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهَذَين. وإذا كَتَب هذا القاضي بما حَكَم به كِتابًا إلى قاض مِن قُضاةِ المسلمين، لَزِمَه قَبُولُه، وتَنْفِيذُ كِتابِه؛ لأنَّه حاكمٌ نافِذُ الأحْكامِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلَزِم قَبولُ كتابِه، كحاكِمِ الإمامِ.

باب أدب القاضي

بَابُ أدبِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أن يَكُونَ قَويًّا مِنْ غَيرِ عُنْفٍ، صليَنا مِنْ غَيرِ ضَعْفٍ، حَلِيمًا، ذَا أنَاةٍ وَفِطْنَةٍ، بَصِيرًا بِأحْكَامِ الْحُكَّامِ قَبْلَهُ، وَرِعًا، عَفِيفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ أدبِ القاضي (يَنْبَغِي أن يكونَ قويًّا مِن غيرِ عُنْفٍ، لينا مِن غيرِ ضَعْفٍ) لا يَطْمَعُ القويُّ في باطلِه، ولا يَيأسُ الضَّعِيفُ مِن عَدْلِه، ويكون (حليمًا، مُتَأنيا، ذا فِطْنَةٍ) وتَيَقُّظٍ؛ لا يُؤْتَى مِن غَفْلَةٍ، ولا يُخْدَعُ لِغِرَّةٍ، صحيحَ السمعِ والبصرِ، عالِمًا بلُغاتِ أهلِ ورئته (عفيفًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرِعًا) نَزِهًا، بعيدًا مِن الطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذا رَأيٍ ومَشُورَةٍ، لكلامِه لِينٌ إذا قَرُب، وَهَيبَةٌ إذا أوْعَد، [ووفاءٌ إذا وَعَد] (¬1)، ولا يكونَ جَبَّارًا، ولا عَسُوفًا، فيَقْطَعَ ذا الحُجَّةِ عن حُجَّتِه. قال عليٌّ، رَضِي الله عنه: لا يَنْبَغِي أن يكونَ القاضي قاضِيًا حتى يكونَ فيه خمسُ خِصالٍ؛ عفيفٌ، حليمٌ، عالمٌ بما كان قبلَه، يَسْتَشِيرُ ذَوي الألْبابِ، لا يخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِم. [وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنَّه قال] (¬2): يَنْبَغِي للقاضي أن يكونَ فيه سبعُ خلالٍ، إن فاتَتْه واحدَة كانت فيه وَصْمَة؛ العقلُ، والفِقْهُ (¬3)، والوَرَعُ، والنزاهةُ، والصَّرامةُ، والعلمُ [بالسُّنَنِ، والحِلْمُ] (¬4). رَواه سعيدٌ (¬5). وفيه: ويكونُ فَهِمًا، حليمًا، عفيفًا، صُلْبًا، سألا عمَّا لا يَعْلَمُ. وفي روايةٍ: مُحْتَمِلًا لِلَّائمَةِ، ولا يكونُ ¬

(¬1) في الأصل: «وفاء». (¬2) في م: «وقال عمر بن عبد العزيز». (¬3) في م: «العفة». (¬4) في الأصل: «باليسير والحكم». وفي م: «بالسنين والحلم». (¬5) انظر ما أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور، في: السنن الكبرى 10/ 117. وما علقه البخاري، في: باب ما يستوجب الرجل القضاء؟ من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 84. كلاهما بلفظ: خمس خصال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَعيفا، مَهِينًا؛ لأنَّ ذلك يبسُطُ المُتخاصِمين إلى التَّهاتُرِ والتَّشاتُمِ بينَ يَدَيه. قال عمرُ، رَضِيَ الله عنه: لأعْزِلَنَّ فُلانا عن القَضاءِ، ولأستعْمِلَنَّ رجلا إذا رآه الفاجِرُ فَرِقَه (¬1). فصل: وله أن يَنْتَهِرَ الخَصْمَ إذا الْتَوَى، ويَصِيحَ عليه، وإنِ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ عَزَّرَه بما يَرَى مِن أدَبٍ أو حَبْس. وإنِ افتاتَ عليه بأنْ يقولَ: حَكَمْتَ عليَّ بغيرِ حق. أو: ارْتَشَيتَ. فله تَأدِيبُه. وله أن يَعْفُوَ. وإن بَدَأ المُنْكِرُ باليَمِينِ، قَطَعَها عليه، وقال: البَينةُ على خَصْمِك. فإن عاد نَهَرَه، فإن عادَ عَزَّرَه إن رأى. وأمثالُ ذلك ممَّا فيه إساءَةُ الأدَبِ، فله مقابَلَةُ فاعِلِه، وله العَفْوُ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 289.

4840 - مسألة: (وإذا ولي في غير بلده، سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول، وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتلقوه)

وَإذَا وُلِّيَ فِي غَيرِ بَلَدِهِ، سَألَ عَمَّنْ فِيهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْفُضَلَاءِ والْعُدُولِ. وَيُنْفِذُ عِنْدَ مَسِيرِهِ مَنْ يُعْلِمُهُمْ يَوْمَ دُخُولِهِ لِيَتَلَقَّوْهُ. وَيَدْخُلُ الْبَلَدَ يَوْمَ الْاثْنَينِ أو الْخَمِيسِ أو السَّبْتِ لَابِسًا أجْمَلَ ثِيَابِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4840 - مسألة: (وإذا وُلِّي في غيرِ بلدِه، سأل عَمَّن فيه مِن الفُقَهاءِ والفُضَلاءِ والعُدُولِ، ويُنْفِذُ عندَ مَسِيرهْ مَن يُعْلِمُهم يومَ دُخُولِه ليَتَلَقَّوْه) وجملةُ ذلك، [أنَّ القاضِيَ] (¬1) إذا وُلِّيَ في غيرِ بَلَدِه، فأراد المَسِيرَ إلى بَلَدِ ولايته، بَحَث عن قوم مِن أهْلِ ذلك البَلَدِ، ليَسْألَهم عنه، ويَتَعَرّفَ منهم ما يَحْتاجُ إلى معرفتِه، فإن لم يَجِدْ، [سَأل في طريقِه، فإن لم يَجِدْ] (¬2)، سَأل إذا دَخَل عن أهلِه، ومَن به مِن العلماءِ والفُضَلاءِ وأهْلِ العَدالةِ والسَّتْرِ (¬3)، وسائرِ ما يَحْتاجُ إلى معرفتِه، وإذا قَرُب مِن البَلَدِ، بَعَث مَن يُعْلِمُهم بقُدومِه ليَتَلَقَّوْه. 4841 - مسألة: (و) يَجْعَلُ دُخُولَه (يومَ الاثْنَينِ أو الخميسِ أو السَّبْتِ) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «في طريقه». (¬3) في الأصل، م: «السير».

فَيَأتِي الْجَامِعَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَينِ، وَيَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن أمْكَنَه؛ لقَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «بُورِكَ لأمَّتِي في سَبْتِها وَخَمِيسِهَا» (¬1). ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه كان إذا قَدِم من سَفَرٍ، قَدِم يومَ الخميسِ (¬2). ويكونُ (لابِسًا أجْمَلَ ثِيابِه، فيَأتِي الجامِعَ فيُصلِّي فيه ركعتَين)؛ كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَل إذا دَخَل المدينةَ (¬3). ويَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، [فإنَّه قد] (¬4) رُوِيَ: ¬

(¬1) قال ابن الملقن، في شرح المنهاج: لا أصل له. انظر: كشف الخفاء 1/ 187. (¬2) لم نجد هذا، ولعل المصنف أراد الخروج إلى السفر. انظر: جامع الأصول 5/ 15. وانظر ما تقدم في 10/ 124. (¬3) أخرجه البخاري، في: باب الصلاة إذا قدم من سفر، من كتاب الجهاد. صحيح البخاري 4/ 94. ومسلم، في: باب استحباب الركعتين في المسجد. . . .، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 946. وأبو داود، في: باب في الصلاة عند القدوم من السفر. سنن أبي داود 2/ 82. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 455. (¬4) في م: «لأنه».

4842 - مسألة: (فإذا اجتمع الناس أمر بعهده فقريء عليهم)

فَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أمر بِعَهْدِهِ فَقُرِئَ عَلَيهِمْ، وَأمرَ مَنْ يُنَادِي: مَنْ لَهُ حَاجَة، فَلْيَحْضُرْ يَوْمَ كَذَا. ثُمَّ يَمْضِي إِلَى مَنْزِلِهِ، ويُنْفِذ فَيَتَسَلَّمُ دِيوَانَ الحُكْمِ مِنَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ «أفْضَلُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» (¬1). 4842 - مسألة: (فإذا اجْتَمَعَ النَّاسُ أمَرَ بعَهْدِه فَقُرِيء عليهم) ليَعْلَمُوا تَوْلِيَتَه (وأمَرَ مَن يُنَادِي: مَن له حاجَة، فَلْيَحْضُرْ يومَ كذا. ثم يَنْصَرِفُ إلَى مَنْزِلِه) الذي قد أُعِدَّ لَهُ. وأوَّلُ ما يَبْدَأ به، أن يَبْعَثَ إلى الحاكِمِ المعْزُولِ فيَاخُذَ منه دِيوانَ الحُكْمِ؛ وهو ما فيه وَثائِقُ الناسِ مِن المَحاضِرِ، وهو نسَخُ ما ثَبَت عندَ الحاكمِ، والسِّجِلَّاتُ نسَخُ ما حَكَم به، وما كان عندَه مِن حجَجِ الناسِ ووَثائِقِهم مُودَعَةً في دِيوانِ الحُكْمِ، وكانت عندَه بحُكْمِ الولايةِ، فإذا انْتَقَلَتِ الولايةُ إلى غيرِه، ¬

(¬1) انظر ما تقدم في 3/ 397.

4843 - مسألة: (ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه، على أعدل أحواله، غير غضبان، ولا جائع، ولا شبعان، ولا حاقن، ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم)

ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَعَدَ بِالْجُلُوسِ فِيهِ، عَلَى أعدَلِ أحْوَالِهِ، غيرَ غَضْبَانَ، وَلَا جَائِعٍ، وَلَا شَبْعَان، وَلَا حَاقِنٍ، وَلَا مَهْمُوم بِأمْر يَشْغَلُهُ عَنِ الفَهْمِ، فَيُسَلِّمُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ كان عليه تَسْلِيمُها إليه، فتكونُ مُودَعَةً عندَه في دِيوانِه. 4843 - مسألة: (ثم يَخْرُجُ في اليومِ الذي وَعَد بالجُلُوسِ فيه، على أعْدَلِ أحْوالِه، غيرَ غَضْبانَ، ولا جائِعٍ، ولا شَبْعان، ولا حاقِنٍ، ولا مَهْمُوم بأمْر يَشْغَلُه عن الفَهْمِ) كالعَطَشِ الشّديدِ، والفَرَحِ الشَّديدِ، والحُزْنِ الكبيرِ، والهَمِّ العظيمِ، والوَجَعِ المُؤْلمِ، والحَرِّ المُزْعِجِ، والنُّعاس الذي يَغْمُرُ القلبَ؛ ليكونَ أجْمَعَ لقَلْبِه، وأحْضَرَ لذِهْنِه، وأبلَغَ في تَيَقُّظِه للصَّوابِ، وفِطْنَتِه لمَوْضِعِ الرأي؛ ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْضِي القَاضِي بَينَ اثْنَين وَهُوَ غَضْبَانُ» (¬1). فنَصَّ على الغَضَبِ، ونبَهَ على ما في مَعْناه ممَّا ذَكَرْنا (فيُسَلِّمُ على ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب هل يقضي الحاكم أو يفتى وهو غضبان؟ من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 82. ومسلم، في: باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1342، 1343. وأبو داود، في: باب القاضي يقضي وهو غضبان، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 271. والترمذي، في: باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان، من أبواب الأحكام. عارضة =

مَنْ يَمُرُّ بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ فِي مَجْلِسِهِ، وَيُصَلِّي تَحِيَّةَ المَسْجِدِ إنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ، وَيَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَن يَمُرُّ به، ثم يُسَلِّمُ على مَن في مَجْلِسِه، ويُصَلِّي تَحِيَّةَ المسجدِ إن كان في المسجدِ، ويَجْلِسُ على بِساطٍ) ولا يَجْلِسُ على التُّرابِ، ولا على حُصْرِ المسجدِ؛ لأنَّ ذلك يَذْهَبُ بهَيبَتِه مِن أعْيُنِ الخُصُومِ. وهذه الآدابُ المَذْكُورةُ في هذه المسألةِ ليستْ شَرْطًا في الحُكْمِ، إلَّا الخُلُوَّ مِن الغَضَبِ وما في مَعْناه، وفي اشْتِراطِه رِوايتان. وما ذُكِر ههُنا مِن الجُلُوسِ على بِساطٍ، ولا يَجْلِسُ على التُّرابِ ولا حُصْرِ المسجدِ، لم نَعْلَمْ أنَّه نُقِل عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحَدٍ مِن خُلَفائِه، والاقْتِداءُ بهم أوْلَى، فيكونُ وُجُودُه وعَدَمُه سواءً. والله أعلمُ. ¬

_ = الأحوذي 6/ 77، 78. والنسائي، في: باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين، من كتاب القضاة. المجتبى 8/ 216، 217. وابن ماجه، في: باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 776. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 36، 37، 52.

4844 - مسألة: (ويستعين بالله ويتوكل عليه.، ويدعوه سرا أن يعصمه من الزلل، ويوفقه للصواب، ولما يرضيه من القول والعمل، ويجعل مجلسه في مكان فسيح؛ كالجامع، والفضاء)

وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيهِ، وَيَدْعُوهُ سِرًّا أن يَعْصِمَهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلصَّوَابِ، ولِمَا يُرْضِيهِ مِنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَيَجْعَلُ مَجْلِسَهُ فِي مَكَانٍ فسِيحٍ؛ كَالْجَامِعِ، وَالْفَضَاءِ، وَالدَّارِ الْوَاسِعَةِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ إنْ أمْكَنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4844 - مسألة: (ويَسْتَعِينُ بِاللهِ وَيَتَوَكَّلُ عليه.، ويَدْعُوه سِرًّا أن يَعْصِمَه مِن الزَّلَلِ، ويُوَفِّقَه للصَّوابِ، ولِما يُرْضِيه مِن القولِ والعَمَلِ، ويَجْعَلُ مَجْلِسَه في مَكانٍ فَسِيح؛ كالجَامِعِ، والفَضَاءِ) الوَاسِعِ (والدّارِ الواسعةِ في وَسَطِ البَلَدِ إن أمْكَنَ) ليَتَساوَى النَّاسُ فيه. فصل: ولا يُكْرَهُ القضاءُ في الجامعِ والمساجدِ (¬1). فَعَل ذلك شُرَيح، والحسنُ، والشَّعْبِي، ومحارِبُ بنُ دِثار (¬2)، ويحيى بنُ يَعْمُرَ، وابنُ أبي ليلى، وابنُ خَلْدَةَ (¬3)، قاضٍ لعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ورُوي عن ¬

(¬1) انظر لذلك ما أخرجه البخاري معلقا، في: باب من قضى ولاعن في المسجد، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 85. (¬2) محارب بن دثار بن كردوس السدوسي، كان ثقة حجة، توفي سنة ست عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 217 - 219. (¬3) عمر بن خلدة، ويقال: عمر بن عبد الرحمن بن خلدة الزرقي الأنصاري، تابعي، ثقة، مهيب صارم، ورع عفيف، ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك بن مروان. انظر تهذيب التهذيب 7/ 442، وأخبار القضاة، لوكيع 1/ 130 - 133.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرَ وعُثْمانَ وعليّ، رَضِي الله عنهم، أنَّهم كانوا يَقْضُونَ في المسجدِ. قال مالك: القضاءُ في المسجدِ مِن أمْرِ الناسِ القديمِ. وبه قال مالك، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الشافعي: يُكْرَهُ ذلك، إلَّا أن يتَّفِقَ خَصمانِ عندَه في المسجدِ؛ لِما رُوِيَ أنَّ عمرَ، رَضِي الله عنه، كَتَب إلى القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ، أن لا تَقْضِيَ في المسجدِ؛ لأنَّه يَأتِيك الحائضُ والجُنُبُ. [ولأنَّ القاضِيَ يَأتِيه الحائِضُ والجُنُبُ] (¬1) والذِّمِّي، وتَكْثُرُ غاشِيَتُه، ويَجْرِي بينَهم اللَّغَطُ والتَّكاذُبُ والتَّجاحُدُ، ورُبَّما أدَّى إلى السَّبِّ وما لم تبْنَ له المساجدُ. ولَنا، إجْماعُ الصحابةِ بما قد رَوَينا عنهم. وقال الشَّعْبِي: رَأيتُ عُمَرَ مُسْتَنِدًا إلى القبلةِ، يَقْضِي بينَ الناسِ. ولأنَّ القَضاءَ قُرْبَة وطاعة وإنْصافٌ بينَ الناسِ. ولا نَعْلَمُ صِحَّةَ ما رَوَوْه، وقد رُوِيَ عنه خِلافُه. وأمَّا الحائضُ، فإن عَرَضَتْ لها حاجَة إلى القضاءِ، وَكَّلَتْ، أو أتَتْه في مَنْزِلِه. والجُنُبُ يَغْتَسِلُ ويَدْخُلُ، والذِّمِّي يجوزُ دُخُولُه بإذْنِ مسلم. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُ في مسجدِه، مع حاجةِ الناسِ إليه للحُكُومَةِ والفُتْيا وغيرِ ذلك مِن حَوائِجِهم، وكان أصْحابُه يُطالِبُ بعضُهم بعضًا بالحُقوق في المسجدِ، ورُبَّما رَفَعُوا أصْواتَهم، فقد رُوِيَ عن كَعْبِ بنِ مالكٍ، قال: تقاضَيتُ ابنَ أبي حَدْرَدٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

4845 - مسألة: (ولا يتخذ حاجبا ولا بوابا)

وَلَا يَتَّخِذُ حَاجِبًا وَلَا بَوَّابًا، إلَّا فِي غَيرِ مَجْلِس الحُكْمِ إن شَاءَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دَينًا في المسجدِ، حتى ارْتَفَعَتْ أصْواتُنا، فَخَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليَّ أن (¬1) ضَعْ مِن دَينك الشَّطْرَ. فقُلْتُ: نعم يا رسولَ اللهِ. فقال: «قمْ فَاقْضِه» (¬2). 4845 - مسألة: (ولا يَتَّخِذُ حاجِبًا ولا بَوَّابًا) يَحْجُبُ الناسَ عن الوُصُولِ إليه؛ لِما روَى القاسمُ بنُ مُخَيمِرَةَ، عن أبي مَرْيَمَ (1) صاحبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: [سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ] (¬3): «مَنْ وَلِيَ مِنْ أمُورِ النَّاسِ شَيئًا، وَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهم، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِه وَفَاقَتِه وَفَقْرِه». رَواه التِّرْمِذِيُّ (¬4). ولأن حاجِبَه رُبَّما قَدَّمَ المُتَأخِّرَ وأخّرَ المُتَقَدِّمَ لغَرَض له، ورُبَّما كَسَرَهم بحَجْبِهم (¬5) والاسْتِئْذانِ لهم. ولا بَأسَ باتِّخاذِ حاجِبٍ في غيرِ مَجْلِسِ القضاءِ؛ لأنَّه يَحْتاجُ إلى الخَلْوَةِ بنَفْسِه. ¬

(¬1) سقط من. م. (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 127. (¬3) سقط من: م. (¬4) في: باب ما جاء في إمام الرعية، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 74. كما أخرجه أبو داود، في: باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم، من كتاب الإمارة. شن أبي داود 2/ 122. (¬5) في الأصل: «بحجتهم».

4846 - مسألة: (ويعرض القصص، فيبدأ بالأول فالأول)

وَيَعْرِضُ الْقَصَصَ، فَيَبْدأ بِالأوَّلِ فَالأوَّلِ، وَلَا يُقَدِّمُ السَّابِقَ فِي أكْثَرَ مِنْ حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ حَضَروا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتَشَاحُّوا، قَدَّمَ أحدَهُمْ بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4846 - مسألة: (ويَعْرِضُ القَصَصَ، فيَبْدأ بالأوَّلِ فالأوَّلِ) لأنَّ الأوَّلَ سَبَق، فقُدِّمَ، كما لو سَبَق إلى مَوْضِع مُباح (ولا يُقَدِّمُ السابِقَ في أكثَرَ مِن حُكُومَةٍ واحدةٍ) لئلَّا يَسْتَوْعِبَ المجْلِسَ بدَعاويه فيَضُرَّ بغيرِه (فإن حَضَرُوا دَفْعَةً واحِدَةً وتَشاحُّوا) أقْرَعَ بينَهم، فقَدَّمَ مَن تَقَعُ له

4847 - مسألة: (ويعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه والدخول عليه، إلا أن يكون أحدهما كافرا، فيقدم المسلم عليه في الدخول، ويرفعه في الجلوس)

وَيَعْدِلُ بَينَ الْخَصْمَينِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَالدُّخُولِ عَلَيهِ، إلَّا أنْ يَكُونَ أحَدُهُمَا كَافِرًا، فَيُقَدِّمُ الْمُسْلِمَ عَلَيهِ فِي الدُّخُولِ، وَيَرْفَعُهُ فِي الجُلُوسِ. وَقِيلَ: يُسَوِّي القُرْعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4847 - مسألة: (ويَعْدِلُ بينَ الخَصْمَين في لَحْظِه، ولَفْظِه، ومَجْلِسِه والدُّخُولِ عليه، إلَّا أن يكونَ أحَدُهما كافِرًا، فيُقَدِّمُ المُسْلِمَ عليه في الدُّخُولِ، ويَرْفَعُه في الجُلُوسِ) لحُرْمَةِ الإسْلام، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (¬1). ووَجْهُ وُجُوبِ العَدْلِ بينَ الخَصْمَين فيما ذَكَرْنا، ما رَوَى عمرُ (¬2) بنُ شَبَّةَ (¬3)، في كتابِ ¬

(¬1) سورة السجدة 18. (¬2) في الأصل، م: «عمرو». (¬3) في الأصل: «شيبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «القُضَاةِ»، بإسْنادِه عن أمِّ سَلَمَةَ، رضِيَ الله عنها، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَينَ المسلمين، فَلْيَعْدِلْ بَينَهُمْ فِي لَفْظِه، وَإشَارَتِه، ومَقْعَدِه، وَلَا يَرْفَعَنَّ صَوْتَه عَلَى أحَدِ الخَصْمَين ما (¬1) لا يَرْفَعُه عَلَى الآخَرِ» (¬2). وفي روايةٍ: «فَلْيُسَوِّ بَينَهُمْ فِي النظَرِ، والمَجْلِسِ، وَالإشَارةِ» (¬3). ولأَنه إذا مَيَّزَ أحَدَ الخَصْمَين عن الآخَرِ، حُصِرَ، ¬

(¬1) في النسخ: «و». والمثبت من مصدر التخريج. (¬2) وأخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 135، وضعف إسناده. (¬3) أخرجه أبو يعلى، في: مسنده 6/ 264، 12/ 356. وانظر: نصب الراية 4/ 74.

بَينَهُمَا. وَلَا يُسَارُّ أحَدَهُمَا، وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يُضِيفُهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وانْكَسَرَ، ورُبَّما لم يُقِمْ حُجَّتَه، فأدَّى ذلك إلى ظُلْمِه. وقِيلَ: يُسَوِّي بينَ المسلمِ والكافِرِ؛ لأنَّ العَدْلَ يَقْتَضِي ذلك (ولا يُسارُّ أحَدَهما، ولا يُلَقِّنُه حُجَّتَه) لِما فيه مِن الضَّرَرِ (ولا يُضِيفُه) لأنَّه يَكْسِرُ قَلْبَ صاحِبِه. ورُوِيَ مثلُ ذلك عن عليٍّ، رَضِيَ الله عنه، [إلَّا أن يُضِيف صاحِبَه معه] (¬1)؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4848 - مسألة: (ولا يعلمه كيف يدعي، في أحد الوجهين)

وَلَا يُعَلِّمُهُ كَيفَ يَدَّعِي، فِي أحدِ الوَجْهَينِ. وَفِي الآخَرِ، يَجُوزُ لَهُ تَحْرِيرُ الدَّعْوَى لَهُ، إِذَا لَمْ يُحْسِنْ تَحْرِيرَهَا. وَلَهُ أنْ يَشْفَعَ إلَى خَصْمِهِ لِيُنْظِرَهُ، أوْ لِيَضَعَ عَنْهُ، وَيَزِنَ عَنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [لِما رُوِيَ عن عليٍّ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه] (¬1)، أنَّه نَزل به رجل، فقال له: ألك (¬2) خَصْمٌ؟ قال: نعم. قال تَحَوَّلْ عنّا، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا تُضِيفُوا أحَدَ الخَصْمَين إلا وَخَصْمُهُ مَعَهُ» (¬3). 4848 - مسألة: (ولا يُعَلِّمُه كيف يَدَّعِي، في أحَدِ الوَجْهَين) لِما ذَكَرْنا (وفي الآخَرِ، له تَحْرِيرُ الدعْوَى إذا لم يُحْسِنْ تَحْرِيرَها) لأنه لا ضَرَرَ [في ذلك] (¬4) على خَصْمِه (وله أن يَشْفَعَ إلى خَصْمِه ليُنْظِرَه، أو يَضَعَ عنه، ويَزِنَ عنه) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَفَع إلى كَعْبِ بنِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «إنك». (¬3) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 137. (¬4) سقط من: م.

4849 - مسألة: (وينبغي أن يحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب)

وَيَنْبَغِي أنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ الْفُقَهَاءَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مالكٍ، في أن يَحُطَّ عن ابن أبي حَدْرَدٍ بَعْضَ دَينه. وله أن يَزِنَ عن المُدَّعَى عليه ما وَجَب عليه؛ لأنَّه نَفْعٌ لخَصْمِه، ولا يكونُ إلَّا بعدَ انْقِضاءِ الحُكْمِ. 4849 - مسألة: (ويَنْبَغِي أن يُحْضِرَ مَجْلِسَه الفُقَهاءَ مِن كلِّ مَذْهَبٍ) حتى إذا حَدَثَتْ حادِثَة يَفْتَقِرُ إلى سُؤَالِهم عنها، سألهم؛ ليَذْكُرُوا

إنْ أمْكَنَ، وَيُشَاورَهُمْ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أدِلَّتَهم فيها، وجَوابَهم عنها؛ فإنَّه أسْرَعُ لاجْتِهادِه، وأقْرَبُ لصوابِه. وإن حَكَم باجْتِهادِه، فليس لأحَدٍ منهم الاعْتِراضُ عليه وإن خالفَ اجْتِهادَه؛ لأنَّ فيه افْتِياتًا عليه، إلَّا أن [يَحْكُمَ بما] (¬1) يُخالِفُ نَصًّا أو إجْماعًا (و) يُسْتَحَبُّ أن (يُشاورَهم فيما يُشْكِلُ عليه) لقولِه سبحانه: {وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬2). قال الحسنُ: إن كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لغَنِيًّا عن مَشُورَتهم، وإنَّما أراد أن يَسْتَنَّ بذلك الحُكَّامُ بعدَه (¬3). وقد شاوَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه في أُسارَى بَدْرٍ (¬4)، وفي مُصالحةِ الكُفَّارِ يومَ الخَنْدَقِ (¬5). وشاوَرَ أبو بكر، رَضِيَ الله عنه، النَّاسَ في ميراثِ الجَدَّةِ (¬6)، وعُمَرُ في ديةِ الجنينِ (¬7)، وشاوَرَ في حَدِّ الخَمْرِ (¬8). ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ كان يكونُ عندَه جماعة مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ منهم عثمانُ، وعليٌّ، وطَلحَةُ، والزُّبَيرُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، إذا نَزَل به الأمْرُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة آل عمران 1590. (¬3) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 109. (¬4) انظر ما تقدم في 10/ 80. وأخرجه مسلم، في: باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر. . . .، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1385. وأبو داود، في: باب في فداء الأسير بالمال، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 56 مختصرًا. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 30 - 33، 3/ 243. (¬5) انظر ما تقدم في 10/ 374. (¬6) تقدم تخريجه في 18/ 56. (¬7) تقدم تخريجه في 25/ 411. (¬8) تقدم تخريجه في 26/ 424.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شاوَرَهم فيه (¬1). ولا مُخالِفَ في اسْتِحْبابِ ذلك، قال أحمدُ: لمّا وَلِيَ سعدُ بنُ إبراهيمَ قضاءَ المدينةِ، كان يَجْلِسُ بينَ القاسِمِ وسالم ويُشاورُهما، ووَلِيَ مُحارِبُ بنُ دِثارٍ قضاءَ الكوفةِ، فكان يَجْلِسُ بينَ الحَكَمِ وحَمّادٍ يُشاورُهما، ما أحْسَنَ هذا لو كان الحُكَّامُ يَفْعَلُونَه، يُشاورُون ويَنْتَظِرُون. ولأنَّه يَنْتَبِهُ بالمُشاوَرَةِ، ويَتَذَكَّرُ ما نَسِيَه بالمذاكرةِ. ولأنَّ الاحاطةَ بجميعِ العُلومِ مُتَعَذِّرَة، وقد يَنْتَبِهُ لإصابةِ الحقِّ ومعرفةِ الحادثةِ مَن هو (¬2) دُونَ القاضي، فكيف بمَن يُساويه [أو يَزِيدُ عليه] (¬3)! فقد رُوِيَ أنَّ أبا بكر الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللهُ عنه، جاءَتْه الجَدَّتان، فوَرَّثَ أمَّ الأمِّ، وأسْقَطَ أمَّ الأبِ، فقال له عبدُ الرحمنِ بنُ سَهْل: يا خليفةَ رسولِ اللهِ، لقد أسْقَطْتَ التي لو ماتَتْ وَرِثَها، ووَرَّثْتَ التي لو ماتَتْ لم يَرِثْها. فرَجَعَ أبو بكر، فأشْرَكَ بينَهما (¬4). إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُشاورُ أهلَ العلمِ والأمانَةِ؛ لأنَّ مَن ليس كذلك فلا قولَ له في الحادثةِ، ولا يُسْكَنُ إلى قولِه. قال سُفْيانُ: ولْيَكُنْ أهلُ مَشورَتِك أهلَ التَّقْوَى وأهلَ الأمانَةِ. ويُشاورُ المُوافِقِين والمُخالِفِينَ، ويَسْألهم عن حُجَّتِهم؛ ليَبِينَ له الحَقُّ. ¬

(¬1) انظر ما علقه البخاري، في: كتاب قوله الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ}. . . .، من كتاب الاعتصام. صحيح البخاري 9/ 138، 139. وما أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 113. وانظر: فتح الباري 13/ 343. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) تقدم تخريجه في 18/ 57.

4850 - مسألة: (فإن اتضح له)

فَإن اتَّضَحَ لَهُ، حَكَمَ، وَإلَّا أخَّرَهُ. وَلَا يُقَلِّدُ غَيرَهُ وإنْ كَانَ أعلَمَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: والمُشَاوَرَةُ ههُنا لاسْتِخْراجِ الأدِلَّةِ، وتَعَرُّفِ الحَق بالاجْتِهادِ. 4850 - مسألة: (فإنِ اتضَحَ له) الحَقُّ (¬1) (حَكَم، وإلا أخرَه، ولا يُقَلِّدُ غيرَه وإن كان أعْلَمَ منه) لا يجوزُ له (¬2) تَقْلِيدُ غيرِه، سَواء ظَهَر له (2) الحَقُّ فخالفَه غيرُه فيه، أو لم يَظْهَرْ له شيء، وسَواء ضاق الوَقْت أو لم يَضِقْ. وكذلك ليس للمُفْتِي الفُتْيا بالتَّقْلِيدِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: إذا كان الحاكِمُ مِن أهلِ الاجْتِهادِ، جاز له تَرْكُ رَأيِه لرَأي مَن هو أفْقَهُ منه عندَه إذا صار إليه، فهو ضَرْبٌ مِن الاجْتهادِ؛ لأنَّه يَعْتَقِدُ أنَّه أفْقَهُ منه بطريقِ الاجْتهادِ. ¬

(¬1) في م: «الحكم». (¬2) سقط من: م.

4851 - مسألة: (ولا يقضي وهو غضبان، ولا حاقن، ولا في

وَلَا يَقْضِي وَهُوَ غَضْبانُ، ولَا حَاقِن، وَلَا فِي شِدَّةِ الْجُوعِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّه مِن أهلِ الاجْتِهادِ، فلم يَجُزْ له تَقْلِيدُ غيرِه، كما لو كان مِثْلَه، كالمُجْتَهدين في القبلةِ. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ مَن هو أفْقَهُ منه يجوزُ عليه الخَطَأ، فإذا اعْتَقَدَ أنَّ ما قاله خَطَأٌ، لم يَجُزْ له أن يَعْمَلَ به، وإن كان لم يَبِنْ له الحَقُّ، فلا يجوزُ له أن يَحْكمَ بما يجوزُ أن يَبِينَ له خَطَؤُه إذا اجْتَهَدَ. 4851 - مسألة: (ولا يَقْضِي وهو غَضبانُ، ولا حاقِنٌ، ولا في

وَالْعَطَشِ، وَالْهَمِّ، وَالْوَجَعِ، والنُّعَاسِ، وَالبَردِ المُؤلِمِ، وَالحَرِّ المُزْعِجِ. فَإِنْ خَالفَ، وَحَكَمَ فَوَافَقَ الْحَق، نفَذَ حُكْمُهُ. وَقَال القَاضِي: لَا يَنْفُذُ. وَقِيلَ: إِنْ عَرَضَ ذَلِكَ بَعْدَ فَهْمِ الْحُكْمِ، جَازَ، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ شِدَّةِ الجُوعِ، والعَطَش، والهَمِّ، والوَجَعِ، والنُّعَاسِ، والبَرْدِ المُؤْلِمِ، والحَرِّ المُزْعِجِ. فإن خالفَ، وحَكَم فوافَقَ الحَقَّ، نَفَذ حُكْمُه. وقال القاضي: لا يَنْفُذُ. وقِيلَ: إن عَرَض ذلك بعدَ فَهْم الحُكْمِ، جاز، وإلَّا فلا) لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ فيما عَلِمْنا، في أنَّ القاضيَ لا يَنْبَغِي له أن يَقْضِيَ وهو غَضْبانُ. كَرِه ذلك شُرَيحٌ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لِما رُوِيَ أنَّ أبا بَكْرَةَ كتبَ إلى ابنِه عبدِ اللهِ وهو قاض بسِجسْتَانَ، لا تَحْكُمْ بينَ اثْنَين وأنت غَضْبان، فإنِّي سَمِعْتُ رِسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَا يَحْكُمْ أحَدٌ بَينَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضْبَانُ». مُتَّفق عليه (¬1). ورُوِيَ عن عمرَ، أنَّه كَتَب إلى أبي موسى: إيَّاك والغَضَبَ، والقَلَقَ، والضَّجَرَ، والتَّأذيَ بالناسِ عندَ الخُصُومةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 335.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا رَأْيتَ الخَصْمَ يَتَعَمَّدُ الظُّلْمَ (¬1)، فأوْجِعْ رَأسَه (¬2). ولأنَّه إذا غَضِب تَغَيَّرَ عَقْلُه، ولم يَسْتَوْفِ رَأيَه ولا (1) فِكْرَه. وفي معنى الغضبِ كل ما يَشْغَلُ فِكْرَه؛ مِن الجُوعِ المُفْرِطِ (¬3) والعَطَشِ الشَّدِيدِ، والوَجَعِ (4) المُزْعِجِ، ومُدافَعةِ أحدِ الأخْبَثَين، وشِدَّةِ النُّعاسِ، والهمِّ، والغمِّ، والحُزْنِ، والفَرَحِ، فهذه كلها تَمْنَعُ الحُكْمَ؛ لأنَّها تَمنَعُ حُضُورَ القلبِ، واسْتِيفاءَ الفِكْرِ، الذي يُتَوَصَّلُ به إلى إصابَةِ الحقِّ في الغالبِ، فهي في مَعْنَى الغَضَبِ المَنْصُوصِ عليه، فتَجْرِي مَجْراه. فإن خالفَ وحَكَمَ في الغَضَبِ أو ما شاكلَه، فوافَقَ الحقَّ، نَفَذَ قَضاؤه. ذَكَرَه القاضي في «المُجَرَّدِ». وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ. وحُكِيَ عن القاضي أنَّه لا يَنْفُذُ؛ لأنَّه مَنْهِي عنه، والنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسادَ المَنْهِيِّ عنه. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اخْتَصَمَ إليه الزُّبَيرُ ورجل مِن الأنْصارِ، في شِرَاجِ الحَرَّةِ (¬4)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للزُّبَيرِ (1): ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 11/ 328، 329. (¬3) في م: «الجوع». (¬4) شراج الحرة: مسيل الماء منها إلى السهل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «اسْقِ [يَا زُبَيرُ] (¬1)، ثُمَّ أرْسِلْ إلَى جَارِكَ». فقال الأنْصارِي: أن كان ابنَ عَمَّتِك. فغضِبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال للزُّبَيرِ: «اسْقِ، ثُم احْبِس الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُع الجَدْرَ». مُتَّفَق عليه (¬2). فحَكَمَ في حالِ غضبِه. وقال بعضُ أهل العلمِ: إنَّما يَمْنَعُ الغَضَبُ الحُكْمَ إذا كان قبلَ أن يَتَّضِحَ حُكْمُ المسألةِ للحاكمِ؛ لأنَّه يَشْغَلُه عن استِيفاءِ النَّظَرِ فيها، فأمَّا ما حَدَث بعدَ اتِّضاحِ الحُكْمِ، فلا يَمْنَعُه؛ لأنَّ الحق قد اسْتَبانَ قبلَه، كغَضَبِ النبيِّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 142.

4852 - مسألة: (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يهدي إليه قبل وكشه، بشرط أن لا يكون له حكومة)

وَلَا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَرْتَشيَ، وَلَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ إلا مِمَّنْ كَانَ يُهْدِي إلَيهِ قَبْلَ ولايتهِ، بِشرْطِ أنْ لَا يَكُونَ لَهُ حُكُومَة. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - في قِصَّةِ الزُّبَيرِ. 4852 - مسألة: (ولا يَحِلُّ له أن يَرْتشِيَ، ولَا يَقْبَلَ الهَدِيَّةَ إلَّا ممَّن كان يُهْدِي إليه قبلَ وكشه، بشَرْطِ أن لا يكونَ له حُكُومَة) أمَّا الرِّشْوَةُ في الحُكْمِ، ورِشْوَةُ العامِلِ (¬1)، فحرامٌ على الآخِذِ، بلا خلافٍ، قال اللهُ تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬2). قال الحسنُ، وسعيدُ بنُ جُبَير، في تفسيرِه: هو الرشْوَةُ. وقال: إذا قَبِل القاضي الرشْوَةَ، بلَغتْ به إلى (¬3) الكُفْرِ. وروَى عبدُ اللهِ بنُ عمرو (¬4)، قال: لَعَن رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ والمُرْتَشِيَ. قال الترْمِذِيُّ (¬5): هذا حديث حسن صحيحٌ. ورَواه أبو هُرَيرَةَ، وزادَ: «في الحُكْمِ» (¬6). رَواه أبو بكر، ¬

(¬1) في الأصل، م: «العالم». (¬2) سورة المائدة 42. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «عمر». (¬5) في: باب ما جاء في الراشي والمرتشي، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 81، 82. كما أخرجه أبو داود، في: باب في كراهية الرشوة، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 270، وابن ماجه، في: باب التغليظ في الحيف والرشوة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 775. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 164، 190، 194، 212. (¬6) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 387، 388. وابن حبان، انظر: الإحسان 11/ 467.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في «زادِ المُسافرِ» (¬1)، وزادَ: «والرَّائِشَ» (¬2). وهو السَّفيرُ بينَهما. ولأن المُرتَشِيَ إنما يَرْتَشِي ليَحْكُمَ بغيرِ الحقِّ، أو ليُوقِفَ (¬3) الحُكْمَ عنه، وذلك مِن أعظمِ الظُّلْمِ. قال مَسْرُوق: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن السُّحْتِ، أهو الرِّشْوَةُ في الحُكمِ؟ قال: لا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} (¬4). وإنما السُّحْتُ أن يَسْتَعِينَك على مَظْلَمَةٍ، فيُهْدِيَ لك، فلا تَقْبَلْ (¬5). وقال قَتادَةُ: قال كَعْبٌ: الرِّشْوَةُ تُسَفِّهُ الحلِيمَ، وتُعْمِيِ عينَ الحكيمِ. فأما الرَّاشِي، فإن رَشاه ليَحْكُمَ له بباطِل، أو يَدفعَ عنه (¬6)، فهو مَلْعُون، وإن رَشاه ليَدْفَعَ ظُلمَه، ويَجْزِيَه على واجِبِه، فقد قال عَطاء، ¬

(¬1) ذكره ابن أبي يعلى، في ترجمته، في: طبقات الحنابلة 2/ 120. (¬2) وأخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 279. والطبراني، في: الكبير 2/ 89. والبزار، انظر: كشف الأستار 2/ 124. وقال الهيثمي: وفيه أبو الخطاب، وهو مجهول. مجمع الزوائد 4/ 198، 199. (¬3) في الأصل: «ليتوقف». (¬4) سررة المائدة 44، 45، 47. (¬5) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 139. وأبو يعلى في المسند 9/ 173، 174. (¬6) بعده في الأصل: «حقه». وفي المغني 14/ 60: «حقا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجابِرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ: لا بَأسَ أن يُصانِعَ عن نَفْسِه. قال جابِرُ [بنُ زيدٍ] (¬1): ما رَأينا في زمنِ زِيادٍ (¬2) أنْفع لَنا مِن الرِّشا. ولأنه يَسْتَنْقِذُ ماله كما يَستَنْقِذُ الرجلُ أسيرَه. فصل: ولا يَقْبَلُ الحاكمُ هَدِيَّةً؛ وذلك لأنَّ الهَدِيَّةَ يُقْصَدُ بها في الغالِبِ اسْتِمالته، ليَعْتَنِيَ به في الحُكمِ، فيُشْبِهُ الرِّشْوَةَ. قال مَسْرُوق: إذا قَبِل القاضي الهدِيَّةَ، أكَلَ السُّحْتَ، وإذا قَبِل الرِّشْوَةَ، بَلَغَتْ به الكفرَ. وقد روَى أبو حُمَيدٍ السَّاعِدِيُّ، قال: بَعَث رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا مِن الأزْدِ، يُقالُ له ابنُ (3) اللُّتْبِيَّةِ على الصدقةِ، فقال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إليَّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أي زياد بن أبيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ اللهَ وأثْنَى عليه، ثم قال: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فيَجِئُ (¬1) فيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ! ألَا جَلَس في بَيتِ [أبِيه و] (¬2) أُمِّه، فيَنْظُرَ أيُهْدَى إلَيهِ أمْ لَا؟ والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِه، لا نَبْعَثُ أحَدًا مِنْكُمْ، فَيَأخُذُ شَيئًا، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُه [على رَقَبَتِه] (¬3)، إن كان بَعِيرًا لَهُ رُغَاء، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَار، أوْ شَاةً تَيعَرُ (¬4)». فرَفَعَ يَدَيه حتى رَأيت عُفْرَةَ إبْطَيه (¬5). فقال: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ». ثلاثًا؛ مُتَّفَق عليه (¬6). ولأنَّ حُدُوثَ الهدِيَّةِ عندَ حُدوثِ الولايةِ يَدُلُّ على أنَّها مِن أجْلِها، ليَتَوسَّلَ بها إلى مَيلِ الحاكمِ معه على خَصْمِه، فلم يَجُزْ قَبُولُها، كالرِّشْوَةِ. فأمَّا إن كان يُهْدِي إليه قبلَ ولايته، جاز قَبُولُها منه بعدَ الولايةِ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: تثغر. وتيعر: تصيح، واليُعار: صوت الشاة. (¬5) عفرة الإبط: البياض الذي ليس بالناصع. (¬6) تقدم تخريجه في 7/ 230. ويضاف إليه: وأخرجه البخاري، في: باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 8/ 162. وأبو داود، في: باب في هدايا العمال، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود 2/ 121، 122.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها لم تكنْ مِن أجْلِ الولايةِ، لوُجودِ سَبَبِها قبلَها، بدليلِ وُجودِها قبلَ الولايةِ. قال القاضي: ويُسْتَحَبُّ له التنَّزَّهُ عنها. فإن أحَسَّ أنَّه (¬1) يُقَدِّمُها بينَ يَدَيْ خُصُومَةٍ، أو فَعَلَها حال الحُكُومَةِ، حَرُم أخْذُها في هذه الحالِ؛ لأنَّها كالرشْوَةِ. وهذا كلُّه (¬2) مَذْهَبُ الشافعيِّ.، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ وأصْحابِه أنَّ قَبُولَ الهدِيَّةِ مَكْرُوة غيرُ مُحَرَّم. وفيما ذَكَرْناه دَلالة على التَّحْرِيمِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ ارْتَشَى الحاكِمُ، أو قَبِل هَدِيَّةً ليس له قَبُولُهَا، لَزِمَه (¬1) رَدُّها إلى أرْبابِها؛ لأنَّه أخَذَها (¬2) بغيرِ حَق، فأشْبَهَ المَأخُوذَ بعقدٍ فاسدٍ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَجْعَلَها في بيتِ المالِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَأمُرِ ابنَ اللتْبِيَّةِ برَدِّها إلى أرْبابِها. وقد قال أحمدُ: إذا أهْدَى البِطْرِيقُ لصاحبِ الجيشِ عَينًا أو فِضَّةً، لم تكنْ له دُونَ سائرِ الجيشِ. قال أبو بكر: يكونون فيه سواءً. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «منهم».

4853 - مسألة: (ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه، ويستحب أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله)

وَيُكْرَهُ أنْ يَتَوَلَّى الْبَيعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، وَيُستَحَبُّ أنْ يُوَكِّلَ فِي ذلِكَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أنَّهُ وَكِيلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4853 - مسألة: (ويُكْرَهُ أن يَتَوَلَّى البَيعَ والشِّرَاءَ بِنَفْسِه، ويُسْتَحَبُّ أن يُوَكِّلَ في ذلك مَن لا يُعْرَفُ أنَّه وَكِيلُه) لِما روَى أبو الأسْوَدِ المالِكيّ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا عَدَلَ والٍ (¬1) اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتهِ أبدًا» (¬2). ولأنَّه يُعْرَفُ فيُحابَى، فيكونُ كالهدِيَّةِ، ولأنَّ ذلك يَشْغَلُه عن [النَّظَرِ في] (¬3) أُمُورِ الناسِ. وقد رُوِيَ عن أبي بكر، رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه لَمَّا بُويعَ، أخَذَ الذِّراعَ، وقَصَد السُّوقَ، فقالوا: يا خليفةَ رسولِ اللهِ، لا يَسَعُك (¬4) أن تَشتَغِلَ عن أمُورِ المسلمين. فقال: ¬

(¬1) في م: «ولى». (¬2) عزاه السيوطي لابن منيع، والحاكم في الكنى، وأبي سعيد النقاش في القضاة. جمع الجوامع 706. وعزاه في الإرواء لأبي نعيم في القضاء. وضعفه. إرواء الغليل 8/ 250. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «يشغلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنِّي لا أدَعُ عِيالِي يَضِيعُون. قالوا: فنحن نَفْرِضُ لك ما يَكْفِيك. ففَرَضُوا له كلَّ يوم درهمين (¬1). فإن باع واشترى، صح البيع [والشراء؛ لأن البيع] (¬2) تَمَّ (¬3) بشُرُوطِه وأرْكانِه. وإنِ احْتاجَ إلى مُباشَرَتِه، ولم يكنْ له ما يَكْفِيه، لم يُكْرَهْ؛ لأنَّ أبا بكرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، قَصَد السُّوقَ ليَتَّجِرَ فيه (¬4)، حتى فَرَضوا له ما يَكْفِيه. ولأنَّ القِيامَ بعِيالِه فَرْضُ عَين، فلا يَترُكُه لوَهْمِ مَضَرَّةٍ، وإنَّما إذا اسْتَغْنَى عن مُباشَرَتِه، ووَجَد مَن يَكْفِيه ذلك، كُرِهَ؛ لِما ذَكَرْناه مِن المَعْنَيَيْن. ويَنْبَغِي أن يُوَكِّلَ في ذلك مَن لا يُعْرَفُ أنَّه وَكِيلُه؛ لئلَّا يُحابَى. وهذا مَذهَبُ الشافعي. وحُكِيَ عن أبي حنيفةَ أنَّه قال: لا يُكرَهُ له البيعُ والشِّراءُ وتَوْكِيلُ مَن (¬5) يُعْرَفُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن قَضِيَّةِ أبي بكر، رَضِيَ اللهُ عنه. [ولَنا، ما] (¬6) ذَكَرْناه. ورُوِيَ عن شُرَيح، أنَّه قال: شَرَط (7) عليَّ عُمَرُ حينَ (¬7) وَلَّانِي القَضاءَ أن لا أبيعَ، ولا أبتاعَ، ولا أرْتَشِيَ، ولا أقْضِيَ وأنا غَضبانُ (¬8). وقَضِيَّةُ أبي ¬

(¬1) انظر ما تقدم في صفحة 281. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «يتم». (¬4) سقط من: م. (¬5) بعده في النسخ: «لا». وانظر المغني 14/ 61. (¬6) في م: «ولما». (¬7) سقط من: الأصل. (¬8) قال في: تلخيص الحبير 4/ 195. لم أجده. وانظر: إرواء الغليل 8/ 250.

4854 - مسألة: (ويستحب له عيادة المرضى، وشهود الجنائز، ما لم يشغله عن الحكم)

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ عِيَادَةُ المَرضَى، وَشُهودُ الجَنَائِزِ، مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنَ الحُكْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بكر حُجَّةٌ لنا، فإنَّ الصحابةَ أنْكَرُوا عليه، فاعْتَذرَ بحِفْظِ عِيالِه عن الضَّياعِ، فلمّا أغْنَوْه عن البَيعِ والشِّراءِ بما فَرَضُوا له، قَبِلَ قَوْلَهم، وتَرَك التِّجارَةَ، فحصَلَ الاتِّفاقُ منهم على تَرْكِها عندَ الغِنَى عنها. 4854 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ له عِيادَةُ المَرْضَى، وشُهُودُ الجنائِزِ، ما لم يَشْغَلْه عن الحُكْمِ) [للقاضي عِيادَةُ المَرضَى وشُهُودُ الجنائزِ] (¬1) وزِيارَةُ الإِخْوانِ والصَّالحين مِن الناسِ، لأنَّه قُرْبَةٌ وطاعَة، وإن كَثُرَ ذلك، فليس له الاشْتِغالُ به عنِ الحُكْمِ؛ لأنَّ هذا تَبَرُّعٌ، فلا يَشْتَغِلُ به عن الفَرْضِ. وله حُضُورُ البعضِ [دونَ البعضِ] (1)، لأنَّ هذا يَفْعَلُه لنَفْعِ نَفْسِه بتَحْصِيلِ الأجْرِ والقُرْبَةِ له، بخِلافِ الوَلائِمِ، لأنَّه يُراعَى فيها حَقُّ الدَّاعِي، فيَنْكَسِرُ قَلْبُ مَن لم يُجَبْ إذا أُجِيبَ غيرُه. ¬

(¬1) سقط من: م.

4855 - مسألة: (وله حضور الولائم)

وَلَه حُضُورُ الوَلَائِم، فَإِنْ كَثُرَتْ، تَرَكَهَا كُلَّهَا، وَلَمْ يُجِبْ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْض. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4855 - مسألة: (ولَه حُضُورُ الوَلائِمِ) لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَحْضُرُها، وأمَرَ بحُضُورِها، وقال؛ «مَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَه» (¬1). (فإن كَثُرَتْ) وازْدَحَمَتْ (تَرَكَها كلَّها) ولم يُجِبْ أحدًا، لأنَّ هذا يَشْغَلُه عن الحُكمِ الذي قد تَعَيَّنَ عليه، لكنَّه يَعْتَذِرُ إليهم، ويَسْألهم التَّحْلِيلَ، ولا يُجِيبُ بعضًا دُونَ بعض، لأنَّ في ذلك كَسْرًا لقلبِ مَن لم يُجِبْه، إلَّا أن يَخْتَصَّ بعضُها بعُذْرٍ يَمْنَعُه دُونَ بعض، مثلَ أن يكونَ في إحْداها مُنْكَر، أو تكونَ في مكانٍ بعيدٍ، أو يَشْتَغِلَ بها زَمنًا طويلًا والأخْرَى بخلافِ ذلك، فله الإجابةُ إليها دُونَ الأولَى؛ لأنَّ عُذْرَه ظاهِر في التَّخَلُّفِ عن الأولَى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه، في 21/ 318.

4856 - مسألة: (ويوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرفق بالخصوم، وقلة الطمع، ويجتهد أن يكونوا شيوخا أو كهولا، من أهل الدين والعفة والصيانة)

وَيُوصِي الوُكَلَاءَ وَالْأعْوَانَ عَلَى بَابِهِ بِالرِّفْقِ بِالخُصُومِ، وَقِلَّةِ الطَّمَعِ، وَيَجْتَهِدُ أن يَكُونُوا شُيُوخًا أوْ كُهُولًا، مِنْ أهْلِ الدِّينِ والعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ. وَيَتَّخِذُ كَاتِبًا مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، عَدْلًا، حَافِظًا، عَالِمًا، يُجْلِسُهُ بِحَيثُ يُشَاهِدُ مَا يَكتُبُهُ، وَيَجْعَلُ الْقِمَطْرَ مَخْتُومًا بَينَ يَدَيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4856 - مسألة: (ويُوصِي الوُكَلَاءَ والأعْوانَ على بابِه بالرِّفْقِ بالخُصُومِ، وقِلَّةِ الطَّمَعِ، ويَجْتَهِدُ أن يكونوا شُيُوخًا أو كُهُولًا، مِن أهْلِ الدِّينِ والعِفَّةِ والصِّيانَةِ) لأنَّهم أقلُّ شرًّا، فإنَّ الشَّبابَ شُعْبَةٌ مِن الجُنُونِ، ولأنَّ الحاكمَ (¬1) يَأتِيه النِّساءُ، وفي اجْتِماعِ الشَّبابِ بهِنَّ ضَرَرٌ (¬2). 4857 - مسألة: (ويَتَّخِذُ كاتِبًا مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، عَدْلًا، حافِظًا، عالِمًا، يُجْلِسُه بحيثُ يُشاهِدُ ما يَكْتُبُه، ويَجْعَلُ القِمَطْرَ (¬3) مَخْتُومًا بين يَدَيه) وجملةُ ذلك، أنَّه يُسْتَحَبُّ للحاكمِ أن يَتَّخِذَ كاتِبًا؛ ¬

(¬1) في الأصل: «الحكم». (¬2) في م: «ضرورة». (¬3) هو الذي تصان فيه الكتب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَكْتَبَ زيدَ بنَ ثابتٍ وغيرَه (¬1). ولأنَّ الحاكمَ تَكْثُرُ أشْغالُه ونَظَرُه، فلا يُمْكِنُه [أن يَتَولَّى] (¬2) الكِتابَةَ بنَفْسِه. وإنْ أمْكَنَه تَوَلِّي (¬3) الكتابَةِ بنفسِه، جاز، والاسْتِنابَةُ فيه أوْلَى. ولا يجوزُ أن يَسْتَنِيبَ في ذلك إلَّا عَدْلًا، لأنَّ الكتابةَ مَوْضِعُ أمانَةٍ. ويُسْتَحَبُّ أن يكونَ فَقِيهًا؛ ليَعْرِفَ مَواقِعَ الألْفاظِ التي تَتَعَلَّقُ بها الأحْكامُ، ويُفَرِّقَ بينَ الجائزِ والواجِبِ، ويَنْبَغِي أن يكونَ وافِرَ العَقْلِ، وَرِعًا، نزهًا؛ لئلَّا يُسْتمال بالطَّمَعِ، ويكونَ مسلمًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} (¬4). وَرُوىَ أنَّ أبا موسى قَدِمَ على عُمرَ، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 126. وانظر ما أخرجه البخاري، في: باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، من كتاب التفسير، وفي: باب جمع القرآن، من كتاب فضائل القرآن، وفي: باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، وباب ترجمة الحكام. . . . (معلقا) من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 6/ 89، 90، 225، 226، 9/ 92 - 94. وأبو داود، في: باب رواية حديث أهل الكتاب، من كتاب العلم. سنن أبي داود 2/ 286. والترمذي، في: باب ما حاء في تعليم السريانية، من كتاب الاستئذان، وفي: باب قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، من كتاب التفسير. عارضة الأحوذي 10/ 172، 11/ 258 - 261. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 182، 184. (¬2) في م: «تولى». (¬3) سقط من: م. (¬4) سورة آل عمران 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعه كاتِب نَصْرانِيٌّ، فأحْضَرَ أبو موسى شيئًا مِن مَكْتُوباتِه عندَ عُمَرَ، فاسْتَحْسَنَه، وقال: قُلْ لكاتِبِك يَجِئُ ويَقْرَأ كتابَه. قال: إنَّه لا يَدْخُلُ المسجدَ. قال: ولِمَ؟ قال: إنَّه نَصْرانِيٌّ. فانْتَهَرَه عُمَرُ، وقال: لا تَأتَمِنُوهم وقد خَوَّنَهم اللهُ تعالى، ولا تُقَرِّبُوهم وقد أبعَدَهم اللهُ، ولا تُعِزُّوهم وقد أذَلَّهم الله (¬1). ولأنَّ الإِسْلامَ مِن شُرُوطِ العَدالةِ، والعدالةُ شَرْط. وقال أصحابُ الشافعيِّ: في اشْتِراطِ عَدالتِه وإسْلامِه وَجْهان؛ أحَدُهما، يُشْتَرَطُ؛ لِما ذَكَرْنا. والثاني، لا يُشْتَرَطُ؛ لأنَّ ما يَكْتُبُه لا بدَّ مِن وُقُوفِ القاضي عليه فتُؤْمَنُ (¬2) الخِيانَةُ. ويُسْتَحَبُّ أن يكونَ جَيِّدَ الخَطِّ؛ لأنَّه أكْمَلُ. وأن يكونَ حُرا؛ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ. وإن كان عبدًا، جاز؛ لأن شهادةَ العبدِ جائزة. ويكون القاسِمُ على الصِّفَةِ التي ذَكَرْنا في الكاتِبِ، ولابدَّ مِن كونِه حاسِبًا؛ لأنَّه عَمَلُه، وبه يَقْسِمُ، فهو كالخَطِّ للكاتِبِ، والفِقْهِ للحاكمِ. ويُسْتَحَبُّ للحاكمِ أنْ يُجْلِس الكاتبَ بينَ يَدَيه؛ ليُشاهِدَ ما يَكْتُبُه، ويُشافِهَه بما يُمْلِي عليه، وإن قَعَدَ ناحيةً، جاز؛ لأنَّ المَقْصُودَ يَحْصُلُ؛ لأنَّ ما يَكْتُبُه يُعْرَضُ على الحاكمِ، [فيشيرُ به] (¬3). ويَجْعَلُ القِمَطْرَ مَخْتُومًا بينَ يَدَيه؛ ليَتْرُكَ فيه ما يَجْتَمِعُ مِن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 474. (¬2) في م: «فهو من». (¬3) في م: «فيستبرئه».

4858 - مسألة: (ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود)

وَيُسْتَحَبُّ أنْ لَا يَحْكُمَ إلا بحَضْرَةِ الشهُودِ. وَلَا يَحكُمُ لِنَفْسِهِ، وَلا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَحْكُمُ بَينَهُمْ بَعْضُ خُلَفَائِهِ. وَقَال أبو بَكْر: يَجُوزُ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المحاضِرِ والسِّجِلَّاتِ، ويَتَحَرَّزُ مِن أن [يُدْخِلَ كتابًا مُزَوَّرًا] (¬1)، أو يُؤْخَذَ منه شيء. 4858 - مسألة: (ويُسْتَحَبُّ أن لا يَحْكُمَ إلَّا بحَضْرَةِ الشهُودِ) ليَسْتَوْفِيَ بهم الحُقُوقَ، ويُثْبِتَ بهم الحُجَجَ والمحاضِرَ، فإن كان ممَّن يَحْكُمُ بعِلْمِه، فإن شاء أدْناهم منه (¬2)، وإنْ شاءَ أبعَدَهم (¬3)، بحيث إذا احْتاجَ إلى إشْهادِهم على حُكْم (¬4)، اسْتَدْعاهم ليَشْهَدُوا بذلك، وإن كان ممَّن لا يَحْكُمُ بعِلْمِه، أجْلَسَهم بالقُرْبِ حتى يَسْمَعُوا كلامَ المُتحاكِمَين؛ لئلَّا يُقِرَّ منهم مُقِرٌّ ثم يُنْكِرَ ويَجْحَدَ، فيَحْفَظُوا عليه إقْرارَه. 4859 - مسألة: (ولا يَحْكُمُ لنَفْسِه، ولا لمَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له، ويَحْكُمُ بينَهم بَعْضُ خُلَفائِه. [وقال أبو بَكْو: يَجُوزُ ذلك) ليس] (¬5) ¬

(¬1) في م: «يدخله كتاب مزور». (¬2) في م: «إليه». (¬3) بعده في م: «منه». (¬4) في م: «حكمه». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [للحاكِم أن يَحْكُمَ لنَفْسِه، كما لا يَجُوزُ له أن يَشْهَدَ لنَفْسِه، فإن عَرَضَتْ له حُكُومَة مع بَعْضِ النَّاسِ، جاز أن يُحاكِمَه إلى بَعْضِ خُلَفائِه] (¬1) أو بعضِ رَعِيَّته، فإنَّ عُمَرَ حاكمَ أُبَيًّا إلى زيدٍ (¬2)، وحاكمَ رجلًا عِراقِيا إلى شُرَيحٍ، وحاكمَ عليٌّ يَهُودِيًّا إلى شُرَيح (¬3)، وحاكمَ عُثْمانُ طَلْحَةَ إلى جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ (¬4). وإن عَرَضَتْ حُكُومة لوالِدَيه، أو وَلَدِه، أو مَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجوزُ له الحُكْمُ فيها بنَفسِه، وإن حَكَم لم يَنْفُذْ حُكْمُه. [وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّه لا تُقْبَلُ شَهادَتُه له، فلم يَنْفُذْ حُكْمه] (1) له، كنَفْسِه. والثاني، يَنْفُذُ حكمُه. اخْتارَه أبو بكر. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، وابنِ المُنْذِرِ، وأبي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬3) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 136. وضعفه. وانظر الكلام عليه في: تلخيص الحبير 4/ 193. (¬4) تقدم تخريجه في 11/ 96.

فَصْل: وَأوَّلُ مَا يَنظُرُ فِيهِ أمْرُ الْمُحْبَسِينَ، فَيَبْعَثُ ثِقَةً إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَوْرٍ؛ لأنَّه حُكم لغَيرِه، أشْبَهَ الأجانِبَ. وعلى القولِ الأوَّلِ، متى عَرَضَتْ لهؤلاءِ حُكومَةٌ، حَكَمَ بينَهم الإِمامُ، أو حاكمٌ آخَرُ، أو بعضُ خُلَفائِه، فإن كانتِ الحُكومَةُ بينَ والِدَيه، أو وَلَدَيه، أو والِدِه ووَلَدِه، لم يَجُزِ الحكمُ بينَهما، على أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا تُقْبَلُ شَهادَتُه لأحَدِهما على الآخَرِ، فلم يَجُزِ الحكمُ بينَهما، كما لو كان خَصْمُه أجْنَبِيا. وفي الآخرِ، يجوزُ. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّهما سواء عندَه، فارْتَفَعَتْ تُهْمَةُ المَيلِ، فأشْبَها الأجْنَبِيين. فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (وأوَّلُ ما يَنْظُرُ فيه أمْرُ المُحْبَسِين، فيَبْعَثُ

الْحَبْسِ، فَيَكْتُبُ اسْمَ كُلِّ مَحْبُوس، وَمَنْ حَبَسَهُ، وَفِيمَ حَبَسَهُ، فِي رُقْعَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، ثُمَّ يُنَادِي فِي البلَدِ: إِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي أمرِ الْمُحْبَسِينَ غَدًا، فَمَنْ لَهُ مِنْهُمْ خَصْمٌ فَلْيَحْضُرْ. فَإذا كَانَ الغَدُ، وَحَضَرَ القَاضِي، أحضَرَ رُقْعَةً، فَقَال: هَذِهِ رُقْعَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَمَنْ خَصْمُهُ؟ فَإِنْ حَضَرَ خَصْمُهُ، نَظَرَ بَينَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثِقَةً إلى الحَبْسِ، فيَكْتُبُ اسْمَ كلِّ مَحْبُوس، ومَن حَبَسَه، وفِيمَ حَبَسَه، في رُقْعَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، ثم يُنادِي في البَلَدِ: إنَّ القاضيَ يَنْظُرُ في أمْرِ المُحْبَسِين غدًا، فمَن له منهم خصْم فلْيَحْضُرْ) إنَّما بَدَأ بالنَّظَرِ في أمْرِ المُحْبَسِين؛ لأن الحَبْسَ عذابٌ، ورُبَّما كان فيهم مَن لا يَسْتَحِقُّ البَقاءَ فيه، فيُنْفِذُ إلى حَبْسِ القاضي الذي كان قبلَه ثِقَةً، فيَكْتُبُ اسمَ كلِّ مَحْبُوس، وفِيمَ حُبِس، ولمَن حُبِس، وتُحْمَلُ الرِّقاعُ إليه، ويَأمُرُ مُنادِيًا يُنادِي في البَلَدِ ثلاثةَ أيام: إنَّ القاضيَ فُلانَ [بنَ فُلانٍ] (¬1) يَنْظرُ في أمْرِ المُحْبَسِين يومَ كذا، فمَن كان له مَحْبُوس فَلْيَحْضُرْ. فإذا حَضَر الناسُ في ذلك اليومِ، جَعَل الرِّقاعَ بينَ يَدَيه، فيَمُدُّ يَدَه إليها، فما وَقَع في يَدِه منها نَظَر إلى اسمِ المَحْبُوسِ، وقال: مَن خَصْمُ فُلانٍ المَحْبُوسِ؟ فإذا قال خَصْمُه: أنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعَث ثِقَةً إلى الحَبْسِ، فأخْرَجَ خَصْمَه، وحَضَر معه مَجْلِسَ الحُكْمِ، ويَفْعَلُ ذلك في قَدْرِ ما يَعْلَمُ أنَّه يَتَّسِعُ زَمانُه للنَّظَرِ في ذلك المجلسِ، ولا يُخْرِجُ غيرَهم، فإذا حَضَر المَحْبُوسُ وخَصْمُه، لم يَسْألْ خَصمَه: لِمَ حَبَسَه؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّ الحاكِمَ إنَّما حَبَسَه بحَق، لكنْ يَسْألُ (¬1) المَحْبُوسَ: بِمَ حُبِسْتَ؟ ولا يَخْلُو جَوابُه (¬2) مِن خَمْسَةِ أقْسام؛ أحَدُها، أن يقولَ: حَبَسَنِي بحقٍّ له حالّ، أنا مَلِئ به. فيقولَ له الحاكمُ: اقْضِه وإلَّا رَدَدْتُكَ إلى الحَبْسِ. الثاني، أن يقولَ: له عليَّ دَين، أنا مُعْسِر به. فيَسْألُ خَصْمَه، فإنْ صدَّقَه، فَلَّسَه الحاكمُ وأطْلَقَه. وإن كَذَّبَه، نَظَر في سَبَبِ الدَّينِ، فإن كان شَيئًا (¬3) حَصَل له به مالٌ، كقَرْض أو شِراء، لم يُقْبَلْ قولُه في الإعْسارِ إلَّا ببَيِّنَةٍ بأنَّ ماله تَلِف أو نَفِد، أو ببَيِّنةٍ أنَّه معْسِر، فيَزولُ الأصْلُ الذي ثَبَت، ويكونُ القولُ قولَه فيما يَدَّعِيه عليه مِن المالِ. وإن لم يَثْبُتْ له أصْلُ مالٍ، ولم يكنْ لخَصْمِه بَينة بذلك، فالقولُ قولُ المَحْبُوس مع يَمينه أنَّه مُعْسِرٌ؛ لأنَّ الأصْلَ الإعْسارُ. وإن شَهِدَتْ لخَصْمِه بَينة بأنَّ له مالًا، لم تُقْبَلْ حتى تُبَيِّنَ ذلك المال بما يَتَمَيَّزُ به، فإن شَهِدَتْ عليه البيَنةُ بدارٍ مُعَيَّنَةٍ أو غيرِها، وصَدَّقَها، ¬

(¬1) في م: «يسار». (¬2) زيادة من: م. (¬3) في م: «سبيا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا كلامَ، وإن كَذَّبَها، وقال: ليس هذا لي، وإنَّما هو في يَدِي لغيرِي. لم يُقْبَلْ إلَّا أن يَعْزِيَه إلى مُعَيَّن، فإن كان الذي أقَرَّ له حاضِرًا، سُئلَ؛ فإن كَذَّبَه في إقْرارِه، سَقَط، وقُضِيَ مِن المالِ دَينُه، وإن صَدَّقَه، وكانت له بَينة، فهو أوْلَى؛ لأنَّ له بَيِّنَة، وصاحبُ اليَدِ يُقِرُّ له به، وإن لم تكنْ له بَينة، فذَكَرَ القاضي أنَّه لا يُقْبَلُ قَوْلُهما، ويُقْضَى الدَّينُ منه؛ لأنَّ البَينة شَهِدَتْ لصاحِبِ اليدِ بالمِلْكِ، فتَضَمَّنَتْ شَهادَتُهما (¬1) وُجُوبَ القضاءِ منه، فإذا لم تُقْبَلْ شَهادَتُهما (¬2) في حَق نفسِه، قُبِلَتْ فيما تَضَمَّنَتْه؛ لأنَّه حَقّ لغيرِه، ولأنَّه مُتَّهَم في إقْرارِه [لغيرِه؛ لأنَّه] (¬3) قد يَفْعَلُ ذلك ليُخَلِّصَ ماله، ويعودَ إليه، فتَلْحَقُه تُهْمَة، فلم تَبْطُل البينة بقولِه. وفيه وَجْه آخَرُ، يَثْبُتُ الإِقْرارُ، وتَسْقُطُ البينة؛ لأنَّها تشْهَدُ بالمِلْكِ لمَن لا يَدَّعِيه ويُنْكِرُه. القِسْمُ الثالثُ، أن يقولَ: حَبَسَنِي؛ لأنَّ البَيَنة شَهِدَتْ عليَّ لخَصْمِي (¬4) بحَق ليَبْحَثَ (¬5) عن حالِ الشُّهودِ. فهذا يَنْبَنِي على أصْل، وهو أنَّ الحاكمَ هل له ذلك أو لا؟ وفيه وَجْهان؛ أحَدُهما، ليس له ذلك؛ لأنَّ الحَبْسَ عذاب، فلا يَتَوَجَّهُ عليه قبلَ ثبُوتِ الحَقِّ عليه. فعلى هذا، لا يَرُدُّه ¬

(¬1) في م: «شهادتها». (¬2) في النسخ: «شهادتها». والمثبت من المغني 14/ 23. (¬3) في الأصل: «ولأنه». (¬4) في الأصل: «لخصمين». (¬5) في م: «ابتحث».

4860 - مسألة: (وإن كان حبس في تهمة، أو افتيات على القاضي

وَإنْ كَانَ حُبِسَ فِي تُهْمَةٍ، أو افْتِيَاتٍ عَلَى القَاضِي قَبْلَهُ، خَلَّى سَبِيلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الحَبْسِ إن صدَّقَه خَصْمُه في هذا. والثاني، يجوزُ حَبْسُه؛ لأنَّ المُدَّعِيَ قد أقام ما عليه، وإنَّما بَقِيَ ما على الحاكمِ مِن البَحْثِ. ولأصحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهَذَين. [فعلى هذا الوَجْه] (¬1)، يَرُدُّه إلى الحَبْسِ حتى يَكْشِفَ عن حالِ شُهُودِه. وإن كَذَّبَه خَصْمُه، وقال: بل عَرَف الحاكمُ عدالةَ شهُودِي، وحَكَم عليه بالحَقِّ. فالقول قولُه؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّ حَبْسَه بحَق. القِسْمُ الرابعُ، أن يقولَ: حَبَسَنِي الحاكمُ بثَمَنِ كلبٍ، أو: قيمةِ خَمْر أرَقْتُه لذِمِّي؛ لأنَّه كان يَرَى ذلك. فإن صَدَّقَه خَصْمُه، فذَكَرَ القاضي أنَّه يُطْلِقُه؛ لأنَّ غُرْمَ هذا ليس بواجِبٍ. وفيه وَجْه آخَرُ، أنَّ الحاكم يُنَفِّذ حُكْمَ الحاكمِ الأوَّلِ؛ لأنَّه ليس له نَقْضُ حُكْمِ غيرِه باجْتهادِه. وفيه وَجْهٌ ثالث، أنَّه يَتَوَقَّفُ ويَجْتَهِدُ أن يَصْطَلِحا على شيء؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه فِعْلُ أحَدِ الأمْرَين المُتَقَدِّمَين (¬2). وللشافعيِّ قَوْلان كالوَجْهَين الآخَرَين. فإن كَذَّبَه خَصْمُه، وقال: بل حُبِسْتَ بحَق واجبٍ غيرِ هذا. فالقولُ قولُه؛ لأنَّ الظاهر حَبْسُه بحَق (¬3). 4860 - مسألة: (وإن كان حُبِس في تُهْمَةٍ، أو افْتِياتٍ على القاضِي ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) يأتي القسم الخاص في المسألة بعد القادمة. وانظر: المغني 14/ 24.

4861 - مسألة: (وإن لم يحضر له خصم، وقال: حبست ظلما، ولا حق علي، ولا خصم لي. نادى بذلك ثلاثا، فإن حضر له خصم، وإلا أحلفه، وخلى سبيله)

وَإنْ لَمْ يَحْضُرْ لَهُ خَصْم، وَقَال: حُبِسْتُ ظُلْمًا، وَلَا حَقَّ عَلَيَّ، وَلَا خَصْمَ لِي. نَادَى بِذَلِكَ ثَلَاثًا، فَإنْ حَضَرَ لَهُ خَصْم وإلَّا احْلَفَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلَه، خَلَّى سَبِيلَه) لأنَّ المَقْصُودَ بحَبْسِه التَّأدِيبُ، وقد حَصَل. 4861 - مسألة: (وإن لم يَحْضُرْ له خَصْمٌ، وقال: حُبِسْتُ ظُلْمًا، ولا حَقَّ عليَّ، ولا خَصْمَ لي. نادَى بذلك ثَلاثًا، فإن حَضَر له خَصْمٌ، وإلَّا أحْلَفَهُ، وخَلَّى سَبيلَه) لأنَّ الظاهِرَ أنَّه لو كان له خَصْم، لظَهَر.

4862 - مسألة: (ثم ينظر في أمر اليتامى والمجانين والوقوف)

ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الأَيتَامِ وَالْمَجَانِينِ وَالوُقُوفِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4862 - مسألة: (ثم يَنْظُرُ في أمْرِ اليَتَامَى والمَجانِينِ والوُقُوفِ) والنَّظَرُ في ذلك بالنَّظَرِ في أمْرِ الأوْصِياءِ، ونُظَّارِ الوُقُوفِ؛ لأنَّهم يكونون ناظِرِين في أمْوالِ اليَتامَى والمَجانِينِ وتَفْرِقَةِ الوصيةِ بينَ المساكِينِ، [وتَفْرِقَةِ الوَصايا والوُقُوفِ على أرْبابِها، فيَقْصِدُهم الحاكمُ بالنَّظَرِ] (¬1)؛ لأنَّ المَنْظُورَ عليه إن كان مِن الأيتامِ والمَجانِينِ، لم تُمْكِنْهم المُطالبَةُ؛ لأنَّهم لا قولَ لهم، وإن كانوا مَساكِينَ، ولم يَتَعَيَّنِ الأخْذُ منهم، فإذا قَدِمَ إليه الوَصِيُّ، فإن كان الحاكمُ قبلَه نَفَّذَ وَصِيَّتَه، لم يَعْزِلْه؛ لأنَّ الحاكمَ ما نَفَّذَ وَصِيَّتَه إلَّا بعدَ مَعْرِفةِ أهْلِيَّتِه في الظاهِرِ، ولكنْ يُراعِيه، فإن تَغَيَّرتْ حالُه بفِسْقٍ أو ضَعْفٍ، أضاف إليه أمِينًا قَويًّا يُعِينُه، وإن كان الأوَّلُ ما نَفَّذَ وَصِيَّتَه، نَظَر فيه، فإن كان أمِينًا قَويًّا، أقَرَّه، وإن كان أمِينًا ضعيفًا، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمَّ إليه مَن يُعِينُه، وإن كان فاسِقًا، عَزَلَه وأقام غيرَه. وعلى قولِ الخِرَقِيِّ، يُضَمُّ إليه أمِينٌ يَنْظُرُ عليه. فإن كان قد تَصَرَّفَ، أو فَرَّقَ الوَصِيَّةَ، وهو أهْلٌ للوَصِيَّةِ، نَفَّذَ تَصَرُّفَه، وإن كان ليسَ بأَهْلٍ، وكان المُوصَى لهم بالِغينَ عَاقِلينَ مُعيَّنِينَ صَحَّ الدَّفْعُ إِلَيهم؛ لأنَّهم قَبضُوا حُقُوقَهم، وإن كانوا غيرَ مُعَيَّنِينَ، كالفُقَراءِ والمساكينِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، عليه الضَّمانُ. ذَكَرَه القاضي، وأصْحابُ الشافعيِّ؛ لأنَّه ليس له التَّصَرُّفُ. والثاني، لا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى أهْلِه. وكذلك إن فَرَّقَ الوَصِيَّةَ غيرُ المُوصَى إليه بتَفْرِيقِها، فعلى الوَجْهَين. فصل: ويَنْظُرُ في أُمَناءِ الحاكمِ وهم مَن رَدَّ إليهم الحاكمُ النَّظَرَ في أمْرِ الأطْفالِ، وتَفرِقَةِ الوصايا التي لم (¬1) يَتَعَيَّنْ لها وَصِيٌّ، فإن كانوا بحالِهم، أقَرَّهمِ؛ لأنَّ الذي قَبْلَه وَلَّاهم، ومَن تَغَيَّرَ حالُه، عَزَلَه إن فَسَق، وإن ضَعُفَ، ضَمَّ إليه أمِينًا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4863 - مسألة: (ثم)

ثُمَّ حَال القَاضِي قَبْلَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَنْقُضْ مِنْ أَحْكَامِهِ إلا مَا خَالفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ثم يَنْظُرُ في أمرِ الضَّوالِّ واللُّقَطَةِ التي يَتَوَلَّى الحاكمُ حِفْظَها؛ فإن كانت ممَّا يُخافُ تَلَفُه، كالحيوانِ، أو في حِفْظِه مُؤْنَةٌ، كالأمْوالِ الجافِيَةِ (¬1)، باعَها، وحَفِظَ ثمنَها لأرْبابِها، وإن لم تكنْ كذلك، كالأثْمانِ، حَفِظَها لأرْبابِها، ويَكْتُبُ عليها لتُعَرَّفَ (¬2). 4863 - مسألة: (ثم) يَنْظُرُ في (حالِ القاضي قبلَه؛ فإن كان ممَّن يَصْلُحُ للقضاءِ، لم يَنْقُضْ مِن أحْكامِه إلَّا ما خالفَ نَصَّ كِتابٍ أو سُنَّةً أو إجْماعًا) لا يَجِبُ على الحاكمِ تَتَبُّعُ قَضايا مَن كان قبلَه؛ لأنَّ الظاهِرَ ¬

(¬1) في النسخ: «الحافية»، والمثبت من المغني 14/ 25. والجافية: البعيدة النائية. (¬2) في م: «ليعرفها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صِحَّتُها وصَوابُها، وأنَّه لا يَتَوَلَّى القضاءَ إلَّا مَن كان (¬1) أهلًا للولايَةِ، فإنْ تَتَبَّعَها، نَظَر في الحاكمِ قبلَه؛ فإن كان ممَّن يَصْلُحُ للقضاءِ، فما وافَقَ مِن أحْكامِه الصَّوابَ، أو لم يُخالِفْ كِتابًا ولا سُنَّةً ولا إجْماعًا، لم يَسُغْ (¬2) نَقْضُه، [وإن كان مُخالِفًا لأحَدِ هذه الثلاثةِ، وكان في حَقِّ اللهِ تعالى، كالعَتاقِ والطَّلاقِ، نَقَضَه] (¬3)؛ لأنَّ له النَّظَرَ في حُقُوقِ اللهِ تعالى، وإن كان يَتَعَلَّقُ بحَقِّ آدَمِيٍّ، لم يَنْقُضْه إلَّا بمُطالبَةِ صاحِبِه؛ لأنَّ الحاكمَ لا يَسْتَوْفِي حَقًّا لمَن لا ولايَةَ عليه بغيرِ مُطالبتِه، فإنْ طلبَ صاحِبُه ذلك، نَقَضَه. وبهذا قال الشافعيُّ، وزاد: إذا خالفَ [قِياسًا جَلِيًّا، نَقَضَه. وعن مالكٍ، وأبي حنيفةَ، أنَّهما قالا: لا يَنْقُضُ الحُكْمَ إلَّا إذا خالفَ] (3) الإِجْماعَ. ثمَّ ناقَضا قولَهما، فقال مالكٌ: إذا حَكَم بالشُّفْعَةِ للجارِ، نَقَض حُكْمَه. وقال أبو حنيفةَ: إذا حَكَم ببَيعِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، أو حَكَم بينَ العَبِيدِ بالقُرْعَةِ، نَقَض حُكْمَه. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: إذا حَكَم بالشَّاهِدِ واليمينِ، نَقَض حُكْمَه. وهذه مسائلُ خلافٍ مُوافِقةٌ ¬

(¬1) في م: «هو من». (¬2) في م: «يجز». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للسُّنَّةِ. واحْتَجُّوا على أنَّه لا يَنْقُضُ ما لم يُخالِفِ الإِجْماعَ بأنَّه يَسُوغُ فيه الخِلافُ، فلم يَنْقُضْ حُكْمَه فيه (¬1)، كما لا نَصَّ فيه. وحُكِيَ عن أبي ثَوْرٍ (¬2)، أنَّه يَنْقُضُ جميعَ ما بان له خَطَؤُه؛ لأنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللهُ عنه-، كَتَب إلى أبي موسى: لا يَمْنَعنَّكَ قَضاءٌ قَضَيتَه بالأمْسِ، ثم رَاجَعْتَ نَفْسَك فيه اليومَ، فهُدِيتَ لرُشْدِك، أن تُراجِعَ فيه الحَقَّ، فإنَّ الرُّجُوعَ إلى الحَقِّ خيرٌ مِن التَّمادِي في الباطِلِ (¬3). ولأنَّه خطأٌ، فوَجَبَ الرُّجُوعُ عنه، كما لو خالفَ الإِجْماعَ. [وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه وافَقَهما في قَضاءِ نَفْسِه] (¬4). ولَنا، على نَقْضِه إذا خالفَ نَصًّا أو إجْماعًا، أنَّه قَضاءٌ لم يُصادِفْ شَرْطَه، فوَجَبَ نَقْضُه، كما لو خالفَ الإِجْماعَ، وبَيانُ مُخالفَتِه للشَّرْطِ، أنَّ شَرْطَ الحُكْمِ بالاجْتهادِ عَدَمُ النَّصِّ، بدليلِ خبرِ مُعاذٍ (¬5). ولأنَّه إذا تَرَك الكتابَ والسُّنَّةَ، فقد فَرَّطَ، فوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِه، كما لو خالفَ الإِجْماعَ، أو كما لو حَكَم بشَهادةِ كافِرَينِ. وما قالُوه يَبْطُلُ بما حَكَينا عنهم. فإن قيل: إذا صَلَّى بالاجْتِهادِ إلى جِهَةٍ، ثم بان له الخطأُ لم يُعِدْ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما مِن ثلاثةِ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، أنَّ اسْتِقْبال القبلةِ يَسْقُطُ حال العُذْرِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «داود». (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 206، 207. والبيهقي مختصرًا، في: السنن الكبرى 10/ 135، 136. وانظر الكلام عليه في: إرواء الغليل 8/ 241، 242. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 259.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في حالِ المُسايَفَةِ (¬1) والخوفِ مِن عَدُوٍّ أو سَبُعٍ أو نحوه، مع العلمِ، ولا يجوزُ له تَرْكُ الحَقِّ [إلى غيرِه] (¬2) مع العلمِ بحالٍ. الثاني، أنَّ الصلاةَ مِن حُقوقِ اللهِ تعالى، تَدْخلُها المُسامَحَةُ. الثالثُ، أنَّ القبلَةَ يَتَكَرَّرُ فيها الاشْتِباهُ، فيَشُقُّ القَضاءُ، وههُنا إذا بان له الخَطأُ لا يَعُودُ الاشْتِباهُ بعدَ ذلك. وأمَّا إذا تَغَيَّرَ اجْتِهادُه مِن غيرِ أن يُخالِفَ نَصًّا ولا إجْماعًا، أو خالفَ اجْتِهادُه اجْتِهادَ مَن قبلَه، لم يَنْقُضْه لمُخالفَتِه؛ لأنَّ الصحابةَ، -رَضِيَ اللهُ عنهم-، أجْمَعُوا على ذلك، فإنَّ أبا بكرٍ حَكَم في مَسائِلَ باجْتهادِه، وخالفَه عُمَرُ، فلم يَنْقُضْ أحْكامَه، وعليٌّ خالفَ عُمَرَ في اجْتِهادِه، فلم يَنْقُضْ أحْكامَه، وخالفَهما عليٌّ (¬3)، فلم يَنْقُضْ أحْكامَهما، فإنَّ أبا بكرٍ، - رَضِيَ اللهُ عنه-، سَوَّى بينَ الناسِ في العَطاءِ، وأعْطَى العبيدَ، وخالفَه عُمَرُ، ففاضَلَ بينَ الناسِ، وخالفَهما عليٌّ، فسَوَّى بينَ الناسِ، وحَرَم العبيدَ، ولم يَنْقُضْ أحَدٌ منهم ما فَعَلَه مَن قبلَه (¬4). وجاءَ أهلُ نَجْرانَ إلى عليٍّ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، كتابُك بيَدِك، وشَفاعَتُك بلسانِك. فقال: وَيحَكُمْ، إنَّ عُمَرَ كان رَشِيدَ الأمرِ، لا (¬5) أرُدُّ قَضاءً قَضَى به ¬

(¬1) في الأصل: «المسابقة». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 348. وانظر ما تقدم في: 10/ 334. (¬5) في م: «ولن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُمَرُ. رَواه سعيدٌ (¬1). ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ حَكَم في المُشَرَّكَةِ بإسْقاطِ الإِخْوةِ مِن الأبَوَين، ثم شَرَّكَ بينَهم بعدُ، وقال: تلك على ما قَضَينا، وهذه على ما قَضَينا (¬2). وقَضَى في الجَدِّ بقَضايا مُخْتَلِفةٍ، ولم يَرُدَّ الأُولَى (¬3). ولأنَّه يُؤَدِّي إلى نَقْضِ الحُكْمِ بمِثْلِه، وهذا يُؤَدِّي إلى أن لا يَثْبُتَ الحُكْمُ أصْلًا؛ لأنَّ الحاكمَ الثانيَ يُخالِفُ الذي قبلَه، والثالثَ يُخالِفُ الثانيَ، فلا يثْبُتُ حُكْمٌ. فإن قيل: فقد رُوِيَ أنَّ شُرَيحًا حَكَم في ابْنَيْ عمٍّ، أحدُهما أخٌ للأُمِّ، أنَّ المال للأخِ، فرُفِعَ ذلك إلى عليٍّ، -رَضِيَ اللهُ عنه-، فقال: عليَّ بالعبدِ. فجئَ به، فقال: في أيِّ كتابِ اللهِ وَجَدْتَ ذلك؟ فقال: قال اللهُ تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬4). فقال له عليٌّ: فقد قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬5). ونَقَض حُكْمَه (¬6). قُلْنا: لم يَثْبُتْ عندَنا أنَّ عليًّا نَقَض حُكْمَه، ولو ثَبَت فيَحْتَمِلُ أن يكونَ على اعْتِقادِ أنَّه خالفَ نَصَّ الكتابِ في الآيةِ التي ذَكَرَها، فنَقَضَ حُكْمَه لذلك. ¬

(¬1) وأخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 120. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق. (¬3) انظر ما أخرجه الدارمي، في: باب في قول عمر في الجد، من كتاب الفرائض. سنن الدارمي 2/ 354. (¬4) سورة الأنفال 75. (¬5) سورة النساء 12. (¬6) أخرجه سعيد بن منصور، في: سننه 1/ 64. والبيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 239، 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا تَغَيَّرَ اجْتِهادُه قبلَ الحُكْمِ، فإنَّه يَحْكُمُ بما تَغَيَّرَ اجْتِهادُه إليه، ولا يَجُوزُ أن يَحْكُمَ باجْتِهادِه الأوَّلِ؛ لأنَّه إذا حَكَم به فقد حَكَم بما يَعْتَقِدُ أنَّه باطِلٌ، وهذا كما قُلْنا في مَن تَغَيَّرَ اجْتِهادُه في القبلةِ بعدَ ما صَلَّى لا يُعِيدُ، وإن كان قبلَ أن يُصَلِّيَ، صَلَّى إلى الجهةِ التي تَغَيَّرَ اجْتِهادُه إليها. وكذلك إذا بان فِسْقُ الشُّهُودِ قبلَ الحُكْمِ بشَهادَتِهم، لم يَحْكُمْ بها، ولو بان بعدَ الحُكْمِ، لم يَنْقُضْه.

4864 - مسألة: (وإن كان ممن لا يصلح، نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح. ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها)

وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ، نَقَضَ أَحْكَامَهُ وَإِنْ وَافَقَتِ الصَّحِيحَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَنْقُضَ الصَّوَابَ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4864 - مسألة: (وإن كان ممَّن لا يَصْلُحُ، نَقَض أحْكامَه وإن وَافَقَتِ الصَّحِيحَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَنْقُضَ الصَّوابَ منها) أمَّا إذا كان القاضي قبلَه لا يَصْلُحُ للقضاءِ، نَقَضَ قَضاياه كلَّها، ما أخْطأ فيها وما أصاب. ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ وُجُودَ قَضائِه كعَدَمِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخُنا (¬1): تُنْقَضُ قَضاياه المخالِفَةُ للصَّوابِ كلُّها، سواءٌ كانت ممَّا يَسُوغُ فيه الاجْتِهادُ أو لا يَسُوغُ؛ لأنَّ حُكْمَه غيرُ صحيحٍ، وقضاؤُه كَلَا قضاءٍ، لعَدَمِ شَرْطِ القضاءِ فيه، وليس في نَقْضِ قَضاياه نَقْضُ الاجْتِهادِ بالاجْتِهادِ (¬2)؛ لأنَّ الأوَّلَ ليس باجْتهادٍ. ولا ينْقضُ ما وافَقَ الصَّوابَ؛ ¬

(¬1) في: المغني 14/ 37. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَدَمِ الفائدةِ في نَقْضِه، فإنَّ الحقَّ وَصَل إلى مُسْتَحِقِّه، ولو وَصَل الحَقُّ إلى مُسْتَحِقِّه بطريقِ القَهْرِ مِن غيرِ حُكْمٍ، لم يُغَيِّرْ ذلك، فكذلك إذا كان بقَضاءٍ (¬1) وُجُودُه كعَدَمِه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لأن».

4865 - مسألة: (وإن استعداه)

وَإِنِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى القَاضِي خَصْمٌ لَهُ، أَحْضَرَهُ. وَعَنْهُ، لَا يُحْضِرُهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ لِمَا ادَّعَاهُ أَصْلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4865 - مسألة: (وإنِ اسْتَعْداه) أحَدٌ على (خَصْمٍ له، أحْضَرَه. وعنه، لا يُحْضِرُه حتى يَعْلَمَ أنَّ لِما ادَّعاه أصْلًا) هذه المسألةُ فيها رِوايتان؛ إحْداهما، أنَّه يَلْزَمُ القاضي أن يُعْدِيَه، ويَسْتَدْعِيَ خَصْمَه، سَواءٌ عَلِم بينَهما مُعامَلَةً أو لم يَعْلَمْ، وسَواءٌ كان المُسْتَعْدِي ممَّن يُعامِلُ المُسْتَعْدَى عليه أو لا يُعامِلُه، كالفَقيرِ يَدَّعِي على ذِي ثَرْوَةٍ وهَيئَةٍ (¬1). نَصَّ على هذا في رِوايةِ الأثْرَمِ، في الرجلِ يَسْتَعْدِي، على الحاكمِ، أنَّه يُحْضِرُه ويَسْتَحْلِفُه. وهذا اخْتِيارُ أبي بكرٍ، ومَذْهَبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ؛ لأنَّ في تَرْكِه تَضْيِيعًا للحُقُوقِ، وإقْرارًا للظُّلْمِ، فإنَّه قد يَثْبُتُ ¬

(¬1) في الأصل: «هبة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له الحَقُّ على مَن هو أرْفَعُ منه بغَضْبٍ، أو يَشْتَرِي منه شيئًا ولا يُوَفِّيه، أو يُودِعُه شيئًا، أو يُعِيرُه إيَّاه فلا يَرُدُّه، ولا تُعْلَمُ بينَهما مُعاملةٌ، فإذا لم يُعْدَ عليه، سَقَط حَقُّه، وهذا أعْظَمُ ضَرَرًا مِن حُضُورِ مَجْلِسِ الحاكمِ، فإنَّه [لا نَقِيصةَ فيه] (¬1)، وقد حَضَر عُمَرُ وأُبَيٌّ عندَ زَيدٍ (¬2)، وحَضَر هو وآخَرُ عندَ شُرَيحٍ، وحَضَر المَنْصُورُ عندَ رجلٍ مِن وَلَدِ طَلْحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ. والثانيةُ، لا يَسْتَدْعِيه (¬3) إلَّا أن تُعْلَمَ بينَهما مُعامَلَةٌ، ويَتَبَيَّنَ أنَّ لِما ادَّعاه أصْلًا. رُوِيَ ذلك عن عليٍّ، - رَضِيَ اللهُ عنه -. وهو مَذْهَبُ مالكٍ؛ لأنَّ في إعْدائِه على كلِّ أحدٍ تَبْذِيلَ أهلِ المُرُوءاتِ، وإهانةً لذوي الهَيئاتِ، ¬

(¬1) في م: «يقبضه». (¬2) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬3) في م: «يستعديه». والمثبت موافق لما في الأصل، ق، وفي حاشية ق: «لعله يستعديه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه لا يَشاءُ أحدٌ أن يُبَذِّلَهم عندَ الحاكمِ إلَّا فَعَل، ورُبَّما فَعَل هذا مَن لا حَقَّ له ليَفْتَدِيَ المُدَّعَى عليه مِن حُضُورِه وشَرِّ خصْمِه بطائفةٍ مِن مالِه. والأُولَى أَوْلَى؛ لأنَّ ضَرَرَ تَضْيِيعِ الحقِّ أعْظَمُ مِن هذا،

4866 - مسألة: (وإن استعداه على القاضي قبله، سأله عما يدعيه، فإن قال: لي عليه دين من معاملة، أو رشوة. راسله)

وَإِنِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى القَاضِي قَبْلَهُ، سَأَلَهُ عَمَّا يَدَّعِيهِ، فَإِنْ قَال: لِي عَلَيهِ دَينٌ مِنْ مُعَامَلَةٍ، أَوْ رِشْوَةٌ. رَاسَلَهُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ، وَقَال: إِنَّمَا يُرِيدُ تَبْذِيلِي. فَإِنْ عَرَفَ لِمَا ادَّعَاهُ أَصْلًا، أَحْضَرَه، وَإِلَّا فَهَلْ يُحْضِرُه؟ عَلَى رِوَايَتَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وللمُسْتَعْدَى عليه أن يُوَكِّلَ مَن يَقُومُ مَقامَه إن كَرِهَ الحُضُورَ. 4866 - مسألة: (وإنِ اسْتَعْداه على القاضي قبلَه، سَألَه عَمّا يَدَّعِيه، فإن قال: لي عليه دَينٌ مِن مُعامَلَةٍ، أو رِشْوَةٌ. راسَلَه) بذلك (فإن اعْتَرَفَ به، أمَرَه بالخُرُوجِ منه، وإن أنْكَرَ، وقال: إنَّما يُرِيدُ تَبْذِيلي. فإن عَرَف لِما ادَّعاه أصْلًا، أحْضَرَه، وإلَّا فهل يُحْضِرُه؟ على رِوايَتَين) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا اسْتَعْدَى على الحاكمِ المَعْزُولِ، لم يُعْدِه حتى يَعْرِفَ ما يَدَّعِيه، فيَسْألَه عنه، صِيانَةً للقاضي عن الامْتِهانِ، فإن ذَكَر أنَّه يَدَّعِي عليه حَقًّا مِن دَينٍ أو غَصْبٍ، أعْداه عليه، وحَكَم بينَهما،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كغيرِ القاضي. وكذلك إنِ ادَّعَى أنَّه أخَذَ منه رِشْوَةً على الحُكْمِ؛ لأنَّ أخْذَ الرِّشْوَةِ عليه لا يجوزُ، فهي كالغَصْبِ. وإنِ ادَّعَى عليه الجَوْرَ في الحُكْمِ، وكان للمدَّعِي بَيِّنَةٌ، أحْضَرَه، وحَكَم بالبَيِّنَةِ، وإن لم تكنْ معه بَيِّنَةٌ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يُحْضِرُه؛ لأنَّ في إحْضارِه وسُؤالِه امْتهانًا له، وأعْداءُ القاضي كثيرٌ، وإذا فَعَل هذا معه، لم يُؤْمَنْ أن لا يَدْخُلَ في القضاءِ أحدٌ، خَوْفًا مِن عاقِبَتِه. والثاني، يُحْضِرُه؛ لجوازِ أن يَعْتَرِفَ، فإن حَضَر واعْترَفَ، حَكَم عليه، وإن أنْكَرَ، فالقولُ قولُه مِن غيرِ يَمينٍ؛

4867 - مسألة: (وإن قال: حكم علي بشهادة فاسقين. فالقول قوله بغير يمين)

وَإِنْ قَال: حَكَمَ عَلَيَّ بِشَهَادَةِ فَاسِقَينِ. فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيرِ يَمِينٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ قولَ القاضي مَقْبُولٌ بعدَ العَزْلِ، كما يُقْبَلُ في (¬1) ولايَتِه. وإنِ ادَّعَى عليه أنَّه قَتل ابنَه ظُلْمًا، فهل يَسْتَحْضِرُه مِن غيرِ بينةٍ؟ فيه وَجْهان. فإن أحْضَرَه، فاعْتَرَفَ، حَكَم عليه، وإلَّا فالقولُ قولُه. وإنِ ادَّعَى أنَّه أخْرَجَ عَينًا مِن يَدِه بغيرِ حَقٍّ، فالقولُ قولُ الحاكمِ مِن غيرِ يمينٍ، ويُقْبَلُ قولُه للمَحْكُومِ له، على ما سنَذْكُرُه، إن شاءَ اللهُ تعالى. 4867 - مسألة: (وإن قال: حَكَم عَلَيَّ بشَهادَةِ فاسِقَين. فالقولُ قولُه بغيرِ يَمينٍ) لأنَّ القولَ قولُه في حُكْمِه، فلو قال: حَكَمْتُ على فُلانٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

4868 - مسألة: (وإن قال الحاكم المعزول: كنت حكمت في

وَإِنْ قَال الحَاكِمُ الْمَعْزُولُ: كُنْتُ حَكَمْتُ فِي ولَايَتِي لِفُلَانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ بكذا. قُبِل قولُه بغيرِ يمينٍ. فكذا في هذه المسألةِ؛ لأنَّه شاهِدٌ على فِعْلِ نَفْسِه، أشْبَهَ المُرْضِعَةَ [والقاسِمَ، فإنَّ المُرْضِعَةَ] (¬1) إذا شَهِدَتْ بالرَّضاعِ، لم يَلْزَمْها يمينٌ. وكذلك القاسِمُ إذا شَهِد بالقِسْمَةِ؛ لأنَّ الشاهِدَ لا يمينَ عليه. 4868 - مسألة: (وإن قال الحاكمُ المعزولُ: كُنْتُ حَكَمْتُ في ¬

(¬1) سقط من: م.

عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولايَتِي لفُلانٍ على فُلانٍ بِحَقٍّ. قُبِل قولُه) وبه قال إسْحاقُ (ويَحْتَمِلُ أن لا يُقْبَلَ قَوْلُه) ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ. قال شيخُنا (¬1): وقولُ القاضي في فُرُوعِ هذه المسألةِ يَقْتَضِي أن لا يُقْبَلَ قولُه ههُنا، وهو قولُ أكثرِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّ (¬2) مَن لا يَمْلِكُ الحُكْمَ، لا يَمْلِكُ الإِقْرارَ به، كمَن أقَرَّ بعِتْقِ عبدٍ بعدَ بيعِه. ثم اخْتَلَفُوا، فقال الأوْزاعِيُّ، وابنُ أبي لَيلَى: هو بمنزلةِ الشّاهِدِ إذا كان معه شاهِدٌ آخرُ، قُبِلَ. وقال أصْحابُ الرَّأْي: لا يُقْبَلُ إلَّا شاهِدان سِواه، يَشْهَدانِ بذلك. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّ شَهادَتَه على فِعْلِ (¬3) نَفْسِه لا تُقْبَلُ. ولَنا، أنَّه لو كَتَب إلى غيرِه، ثمَّ عُزِل، ووَصَل ¬

(¬1) في: المغني 14/ 85، 86. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكتابُ بعدَ عَزْلِه، لَزِم المَكْتُوبَ إليه قَبولُ كتابِه (¬1) [بعدَ عَزْلِ كاتِبِه] (¬2)، فكذلك هذا، ولأنَّه أخْبَرَ بما حَكَم به، وهو غيرُ مُتَّهَمٍ، فيَجِبُ قَبُولُه، كحالِ ولايَتِه. فصل: فأمَّا إن قال في ولايتِه: كُنْتُ حَكَمْتُ لفُلانٍ بكذا. قُبِلَ قَوْلُه، سواءٌ قال: قَضَيتُ عليه بشاهِدَين عَدْلَين. أو قال: سمعتُ بَيِّنَتَه وعَرَفْتُ عَدالتَهم. أو قال: قَضَيتُ عليه بنُكولِه. أو قال: أقَرَّ عندِي فلانٌ لفلانٍ بحقٍّ، فحَكَمْتُ به. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأبو يُوسُفَ. وحُكِيَ عن محمدِ بنِ الحسنِ، أنَّه لا يُقْبَلُ حتى يَشْهَدَ معه رجلٌ عَدْلٌ؛ ¬

(¬1) في الأصل: «كتابته». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه إخْبارٌ بحَقٍّ على غيرِه، فلم يُقْبَلْ فيه قولُ واحدٍ، كالشَّهادَةِ. ولَنا، أنَّه يَمْلِكُ الحُكْمَ، فمَلَكَ الإِقْرارَ به، كالزَّوْجِ إذا أخْبَرَ بالطَّلاقِ، والسَّيِّدِ إذا أخْبَرَ بالعِتْقِ، ولأنَّه لو أخْبَرَ أنَّه رَأى كذا وكذا، فحَكَمَ به، قُبِلَ، كذا ههُنا، وفارَقَ الشَّهادَةَ؛ فإنَّ الشَّاهِدَ لا يَمْلِكُ إثْباتَ ما أخْبَرَ به. فأمَّا إن قال: حَكَمْتُ بعِلْمِي -أو- بالنُّكُولِ -أو- بشاهِدٍ (¬1) ويمينٍ في الأمْوالِ. فإنَّه يُقْبَلُ أيضًا. وقال الشافعيُّ: لا يُقْبَلُ قولُه في القَضاءِ بالنُّكُولِ. ويَنْبَنِي قوْلُه: حَكَمْتُ عليه بعِلْمِي. على القَوْلَين في جَوازِ القَضاءِ بعِلْمِه؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ الحُكْمَ بذلك، فلا يَمْلِكُ الإِقْرارَ به. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «بشاهدين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه أخْبَرَ بحُكْمِه فيما لو حَكَم به لنَفَذَ حُكْمُه، فوَجَبَ قَبُولُه، كالصُّوَرِ التي تَقَدَّمَتْ، ولأنَّه حاكِمٌ أخْبَرَ بحُكْمِه في ولايَتِه، فوَجَبَ قَبُولُه، كالذي سَلَّمَه، ولأنَّ الحاكمَ إذا حَكَم في مسألةٍ يَسُوغُ فيها الاجْتِهادُ، لم يَسُغْ نَقْضُ حُكْمِه، ولَزِم غيرَه إمْضاؤُه، والعَمَلُ به، فصار بمنزلةِ الحُكْمِ بالبينةِ العادلةِ، ولا نُسَلِّمُ ما ذَكَرَه. وإن قال: حَكَمْتُ لفُلانٍ على فُلانٍ بكذا. ولم يُضِفْ حُكْمَه إلى بينةٍ ولا غيرِها، وَجَب قَبُولُه. وهو ظاهِرُ ما ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ، وظاهِرُ قولِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْ ما ثَبَت به الحُكْمُ، وذلك لأنَّ الحاكمَ متى ما حَكَم بحُكْمٍ يَسُوغُ فيه الاجْتِهادُ، وَجَبَ قَبُولُه، وصار بمنزلةِ ما أُجْمِعَ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أخْبَرَ القاضي بحُكْمِه في غيرِ مَوْضِعِ ولايَتِه، قُبِل. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ؛ لأنَّه إذا قُبِل قولُه بحُكْمِه بعدَ العَزْلِ وزَوالِ ولايِته بالكُلِّيَّةِ، فلأن يُقْبَلَ مع بَقائِها في غيرِ مَوْضِعِ ولايَتِه أَوْلَى. وقال القاضي: لا يُقْبَلُ قولُه. وقال: لو اجْتَمَعَ قاضيان في غيرِ ولايتِهما، كقاضي دِمَشْقَ وقاضي مِصْرَ، اجْتَمَعا في بيتِ المَقْدِسِ، فأخْبَرَ أحَدُهما الآخَرَ بحُكْمٍ حَكَم به، أو شَهادةٍ ثَبَتَتْ عندَه، لم يَقْبَلْ أحَدُهما قولَ صاحِبِه، ويكونان كشاهِدَين أخَبَرَ أحَدُهما صاحِبَه بما عندَه، وليس له أنْ يَحْكُمَ به إذا رَجَع إلى عَمَلِه؛ لأنَّه خَبَرُ مَن ليس بقاضٍ في مَوْضِعِه، وإن كانا جميعًا في عَمَلِ أحَدِهما، كأنَّهما اجْتَمَعا في دِمَشْقَ، فإنَّ قاضِيَ دِمَشْقَ لا يَعْمَلُ بما يُخْبِرُه به قاضي مِصْرَ؛ لأنَّه يُخْبِرُه في غيرِ عَمَلِه، وهل يَعْمَلُ قاضي مِصْرَ بما أخْبَرَه به قاضي دِمَشْقَ إذا رَجَع إلى مِصْرَ؟ فيه وَجْهان، بِناءً على القاضي، هل له أن يَحْكُمَ بعِلْمِه؟ على رِوايَتَين؛ لأنَّ قاضىَ دِمَشْقَ أخْبَرَه به في عملِه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ في هذا كقولِ القاضي ههُنا.

4869 - مسألة: (فإن ادعى على امرأة غير برزة، لم يحضرها، وأمرها بالتوكيل، فإن وجبت عليها اليمين، أرسل إليها من يحلفها)

وَإِنِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ غَيرِ بَرْزَةٍ، لَمْ يُحْضِرْهَا، وَأَمَرَهَا بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيهَا اليَمِينُ، أَرْسَلَ إِلَيهَا مَنْ يُحْلِفُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4869 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى على امرأةٍ غيرِ بَرْزَةٍ، لم يُحْضِرْها، وأمَرَها بالتَّوْكِيلِ، فإن وجَبَتْ عليها اليمينُ، أرْسَلَ إليها مَن يُحْلِفُها) إذا كان المُدَّعَى عليه امرأةً؛ فإن كانت بَرْزَةً، وهي التي [تَبْرُزُ لقضاءِ حوائِجِها، فحُكْمُها حكمُ الرجلِ. وإن كانت مُخَدَّرَةً وهي التي لا] (¬1) تَبْرُزُ لقَضاءِ حَوائِجِها، أُمِرَتْ بالتَّوْكِيلِ، فإن تَوَجَّهَتِ اليمينُ عليها، بَعَث الحاكمُ أمِينًا معه شاهِدان، فيَسْتَحْلِفُها بحَضْرَتِهما، فإن أقَرَّتْ، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهِدَا (¬1) عليها. وذَكَر القاضي أنَّ الحاكمَ يَبْعَثُ مَن يَقْضِي بينَها وبينَ خَصْمِها في دارِها. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَاغْدُ يَا أُنَيسُ إلَى امْرَأةِ هذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬2). فبَعَثَ إليها ولم يَسْتَدْعِها. وإذا حَضَرُوا عندَها، كان بينَهم وبينَها سِتْرٌ تَتَكَلَّمُ مِن وَرائِه، فإنِ اعْتَرَفَتْ للمدَّعِي أنَّها خَصْمُه، حَكَم بينَهما، وإن أنْكَرَتْ ذلك، جِيءَ بشاهِدَين مِن ذوي رَحِمِها، يَشْهَدان أنَّها المُدَّعَى عليها، ثمَّ يُحْكَمُ بينَهما، فإن لم تكنْ بَيِّنَةٌ، الْتَحَفَتْ بجِلْبابِها، وأُخْرِجَتْ مِن وراءِ السِّتْرِ لموضعِ الحاجةِ. وما ذَكَرْناه أوْلَى، إن شاء اللهُ؛ لأنَّه أسْتَرُ لها، وإذا كانت خَفِرَةً، مَنَعَها الحَياءُ مِن النُّطْقِ بحُجَّتِها، والتَّعْبِيرِ عن نَفْسِها، سِيَّما مع جَهْلِها بالحُجَّةِ، وقِلَّةِ مَعْرِفَتِها بالشَّرْعِ وحُجَجِه. ¬

(¬1) في الأصل: «شهدوا». (¬2) تقدم تخريجه في 13/ 450.

4870 - مسألة: (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه، كتب إلى ثقات من أهل ذلك البلد، ليتوسطوا بينهما، فإن لم يقبلوا، قيل للخصم: حقق ما تدعيه. ثم يحضره وإن بعدت المسافة)

وَإِنِ ادَّعَى عَلَى غَائِبٍ عَنِ البَلَدِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ، كَتَبَ إِلَى ثِقَاتٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَتَوَسَّطُوا بَينَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا، قِيلَ لِلْخَصْمِ: حَقِّقْ مَا تَدَّعِيهِ. ثُمَّ يُحْضِرُهُ وَإِنْ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4870 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى على غائِبٍ عن البَلَدِ في مَوْضِعٍ لا حاكِمَ فيه، كَتَب إلى ثِقاتٍ مِن أهلِ ذلك البَلَدِ، ليَتَوَسَّطُوا بينَهما، فإن لم يَقْبَلُوا، قيل للخَصْمِ: حَقِّقْ ما تَدَّعِيه. ثم يُحْضِرُه وإن بَعُدَتِ المَسافَةُ) إذا اسْتَعْدَى على غائبٍ وكان الغائبُ في غيرِ ولايةِ القاضي، لم يكنْ له أنْ يُعْدَى عليه. فإن كان في ولايَتِه، وله في بَلَدِه خَلِيفَةٌ، فإن كانت له بينةٌ، ثَبَتَ له (¬1) الحَقُّ عندَه، وكَتَب به (1) إلى خَلِيفَتِه، ولم يُحْضِرْه، وإن لم تَكنْ له (1) بَيِّنَةٌ حاضِرَةٌ، نَفَّذَه إلى خَصْمِه ليُحاكِمَه عندَ خليفتِه، ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يكنْ له فيه خليفةٌ، وكان فيه مَن يَصْلُحُ للقضاءِ، [أذِنَ له في الحُكْمِ بينَهما، وإن لم يكنْ له فيه مَن يَصْلُحُ للقضاءِ] (¬1)، قيل له: حَرِّرْ دَعْواكَ. لأنَّه يجوزُ أن يكونَ ما يَدَّعِيه ليس بحَقٍّ عندَه، كالشُّفْعَةِ للجارِ، وقيمةِ الكلبِ، أو خَمْرِ الذِّمِّيِّ، فلا يُكَلَّفُ الحُضُورَ لِما لا يُقْضَى عليه به، مع المَشقَّةِ فيه، بخِلافِ الحاضرِ، فإنَّه لا مَشَقَّةَ في حُضُورِه، فإذا تَحَرَّرَتْ، بَعَث فأحْضَرَ خَصْمَه، بَعُدَتِ المسافةُ أو قَرُبَتْ. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو يُوسُفَ: إن كان يُمْكِنُه أن يَحْضُرَ ويَعُودَ فيَأْويَ إلى مَوْضِعِه، أحْضَرَه، وإلَّا لم يُحْضِرْه، ويُوَجِّهُ مَن يَحْكُمُ بينَهما. وقيل: إن كانتِ المسافةُ دُونَ مَسافةِ القَصْرِ، أحْضَرَه، وإلَّا فلا. ولَنا، أنَّه لابُدَّ مِن فَصْلِ الخُصُومةِ بينَ المُتخاصِمَين، فإذا لم تُمْكِنْ إلَّا بمَشَقَّةٍ، فَعَل ذلك، كما لو امْتَنَعَ مِن الحُضُورِ، فإنَّه يُؤَدَّبُ، ولأنَّ إلْحاقَ المَشقَّةِ به أَوْلَى [مِن إلْحاقِها] (¬2) بمَن يُنْفِذُه الحاكمُ ليَحْكُمَ بينَهما. وإن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بإلحاقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانتِ امْرأةً بَرْزَةً (¬1)، لم يُشْتَرَطْ في سفرِها (¬2) هذا مَحْرَمٌ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِيٍّ، [وحَقُّ الآدَمِيِّ] (¬3) مَبْنِيٌّ على الشُّحِّ والضِّيقِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «سفره». (¬3) سقط من: الأصل.

باب طريق الحكم وصفته

بَابُ طَرِيقِ الحُكْمِ وَصِفَتِهِ إِذَا جَلَسَ إِلَيهِ خَصْمَانِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: مَنِ المُدَّعِي مِنْكُمَا؟ وَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَبْتَدِئَا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى، قَدَّمَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ طريقِ الحُكْمِ وصِفَتِه (إذا جَلَس إليه الخَصْمان، فله أن يقولَ: مَن المُدَّعِي منكما؟ وله أن يَسْكُتَ حتى يَبْتَدِئا) يُسْتَحَبُّ أن يَجْلِسَ الخَصْمانِ بينَ يَدَي الحاكمِ؛ لِما رُوِيَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أن يَجْلِسَ الخَصْمانِ بينَ يَدَيِ الحاكمِ. روَاه أبو داودَ (¬1). ورَوَى سعيدٌ بإسْنادِه، عن الشَّعْبِيِّ، قال: كان بينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ مُداراةٌ (¬2) في شيءٍ، فجَعَلا بينَهما زيدَ بنَ ثابتٍ، فأتياه في مَنْزلِه، فقال له عمرُ: أتَيناك لِتَحْكُمَ بينَنا، في ¬

(¬1) في: باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 271. كما أخرجه البيهقي، في: باب إنصاف الخصمين، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبرى 10/ 135. (¬2) في السنن الكبرى: «تدارى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيتِه يُؤْتَى الحَكَمُ. فوَسَّعَ له زيدٌ عن صَدْرِ فِراشِه، فقال: ههُنا يا أميرَ المؤمنين. فقال له عمرُ، - رَضِيَ اللهُ عنه -: جُرْتَ في أوَّلِ القَضاءِ، ولكنْ أجْلِسُ مع خَصْمِي. فجَلَسا بينَ يَدَيه، فادَّعَى أُبَيٌّ فأنْكَرَ عمرُ، فقال زيدٌ لأُبَيٍّ: أعْفِ أميرَ المؤمنين مِن اليمينِ. فحَلَفَ عمرُ، ثم أقْسَمَ: لا يُدْرِكُ زيدٌ بابَ القضاءِ حتى يكونَ عمرُ ورجلٌ مِن عُرْضِ المسلمين عندَه سَواءً (¬1). وقال عليٌّ، - رَضِيَ اللهُ عنه، حين خاصَم اليَهُودِيَّ على دِرْعِه إلى شُرَيحٍ: لو أنَّ خَصْمِي مسلمٌ لَجَلَسْتُ معه بينَ يَدَيك (¬2). ولأنَّ ذلك أمْكَنُ للحاكمِ في العَدْلِ بينَهما، والإِقْبالِ عليهما، والنَّظَرِ في خُصُومَتِهما. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 368.

وَإِنِ ادَّعَيَا مَعًا، قَدَّمَ أَحَدَهُمَا بِالْقُرْعَةِ. فَإِذَا انْقَضَتْ حُكُومَتُهُ، سَمِعَ دَعْوَى الْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإذا جَلَسا بينَ يَدَيه، فإن شاء قال: مَن المُدَّعِي منكما؟ لأنَّهما حَضَرا لذلك، وإن شاء سَكَت، ويقولُ القائمُ على رَأْسِه: مَن المُدَّعِي منكما؟ إن سَكَتا جميعًا. ولا يقولُ الحاكمُ ولا صاحبُه لأحدِهما: تَكَلَّمْ. لأنَّ في إفْرادِه بذلك تَفْضِيلًا له، وتَرْكًا للإِنْصافِ. قال عَمْرُو بنُ قيسٍ: شَهِدْتُ شُرَيحًا إذا جَلَس إليه الخَصْمان، ورجلٌ قائمٌ على رَأْسِه يقولُ: أيُّكما المُدَّعِي فَلْيَتَكَلَّمْ (¬1)؟ فإن ذَهَب الآخَرُ يَشْغَبُ، غَمَزَه (¬2) حتى يَفْرُغَ المُدَّعِي، ثم يقولُ: تَكَلَّمْ. فإن بَدَأ أحدُهما فادَّعَى، فقال خَصْمُه: أنا المُدَّعِي. لم يَلْتَفِتِ الحاكِمُ (¬3) إليه، وقال: أجِبْ عن دَعْواه، ثم ادَّعِ [بعدُ ما] (¬4) شِئْتَ. وإنِ ادَّعَيا معًا، فقِياسُ المَذْهَبِ أن يُقْرَعَ بينَهما، وهو قياسُ قولِ الشافعيِّ؛ لأنَّ أحَدَهما ليس بأوْلَى مِن الآخَرِ، وقد تَعَذَّرَ الجَمْعُ بينَهما، فيُقْرَعُ بينَهما. كالمَرْأتَين إذا زُفَّتا في ¬

(¬1) أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 2/ 307. (¬2) في م: «نهره». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «بما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ليلةٍ واحدةٍ. واسْتَحْسَنَ ابنُ المُنْذِرِ أن يَسْمَعَ منهما جميعًا. وقِيلَ: يُرْجِئُ أمْرَهما حتى يتَبَيَّنَ مَن المُدَّعِي منهما. وما ذَكَرْناه أَوْلَى؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَ الحُكْمِ في القَضِيَّتَين معًا، وإرْجاءُ أمرِهما إضْرارٌ بهما، وفيما ذَكَرْناه دَفْعٌ للضَّررِ بحَسَبِ الإِمْكانِ، وله نظيرٌ في مَواضِعَ مِن الشَّرْعِ، فكان أَوْلَى.

4871 - مسألة: (ثم يقول للخصم: ما تقول فيما ادعاه؟)

ثُمَّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: مَا تَقُولُ فِيمَا ادَّعَاهُ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ سُؤَالهُ حَتَّى يَقُولَ المُدَّعِي: اسْأَلْ سُؤَالهُ عَنْ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4871 - مسألة: (ثم يقولُ للخَصْمِ: ما تَقُولُ فيما ادَّعاه؟) لأنَّ شاهِدَ الحالِ يدُلُّ على (¬1) المُطالبَةِ؛ لأنَّ إحْضارَه والدَّعْوَى إنَّما يُرادُ ليَسْألَ الحاكمُ المُدَّعَى عليه، فقد أغْنَى ذلك عن سُؤالِه (ويَحْتَمِلُ أن لا يَمْلِكَ سُؤاله حتى يقولَ المُدَّعِي: اسْألْ سُؤَاله عن ذلك) ¬

(¬1) بعده في م: «طلب».

4872 - مسألة: (فإن أقر، لم يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم)

فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ، لَمْ يَحْكُمْ لَهُ حَتَّى يُطَالِبَهُ المُدَّعِي بِالْحُكْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه حَقٌّ للمدَّعِي، فلا يتَصَرَّفُ فيه بغيرِ إذْنِه، كالحُكْمِ له. 4872 - مسألة: (فإن أقَرَّ، لم يَحْكُمْ لَهُ حتَّى يُطالِبَه المُدَّعِي بالحُكْمِ) إذا أقَرَّ المُدَّعَى عليه، لَزِمَه ما ادُّعِيَ عليه به (¬1)، وليس للحاكمِ أن يَحْكُمَ عليه إلَّا بمَسْألةِ المُقَرِّ له؛ لأنَّ الحُكْمَ عليه حَقٌّ له، فلا يَسْتَوْفِيه إلَّا بمَسْألةٍ مُسْتَحَقَّةٍ. هكذا ذَكَره أصْحابُنا. قال شيخُنا (¬2): ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ له الحكمُ قبلَ مَسْألةِ المُدَّعِي؛ لأنَّ الحال تَدُلُّ على إرادَتِه ذلك، فاكْتُفِيَ بها، كما اكْتُفِيَ بها (1) في مسْألةِ المُدَّعَى عليه الجوابَ، ولأنَّ كثيرًا مِن الناسِ لا يَعْرِفُ مطالبَةَ الحاكمِ بذلك، فيَتْرُكُ مُطالبَتَه به لجَهْلِه، فيَضِيعُ حَقُّه. فعلى هذا، يجوزُ له الحكمُ (¬3) قبلَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: المغني 14/ 69. (¬3) سقط من: الأصل.

4873 - مسألة: (وإن أنكر، مثل أن يقول المدعي: أقرضته ألفا. أو: بعته. فيقول: ما أقرضني ولا باعني. أو: ما يستحق علي

وَإِنْ أَنْكَرَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ المُدَّعِي: أَقْرَضْتُهُ أَلْفًا. أَوْ: بِعْتُهُ. فَيَقُولَ: مَا أَقْرَضَنِي وَلَا بَاعَنِي. أَوْ: مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ مَا ادَّعَاهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مسْألَتِه. وعلى القولِ الأوَّلِ، إن سأله الخَصْمُ الحُكْمَ، حَكَم له على المُقِرِّ. والحُكْمُ أن يقولَ: قد ألْزَمْتُك ذلك. أو: قَضَيتُ عليك له. أو يقولَ: اخْرُجْ إليه منه. فمتى قال له أحدَ هذه الثَّلاثةِ، كان حُكْمًا بالحَقِّ. 4873 - مسألة: (وإن أنْكَرَ، مثلَ أن يَقُولَ المُدَّعِي: أقْرَضْتُه ألْفًا. أو: بِعْتُه. فيَقُولَ: مَا أقْرَضَنِي ولا باعَنِي. أو: ما يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ

وَلَا شَيئًا مِنْهُ. أَوْ: لَا حَقَّ لَهُ عَلَيَّ. صَحَّ الجَوَابُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما ادَّعاه، ولا شَيئًا منه. أو: لا حَقَّ له عَلَيَّ. صَحَّ الجَوابُ).

4874 - مسألة: (وللمدعي أن يقول: لي بينة)

وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ: لِي بَيِّنَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَقُلْ، قَال الْحَاكِمُ: أَلَكَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4874 - مسألة: (وللمُدَّعِي أن يقولَ: لي بَيِّنَةٌ) وهذا مَوْضِعُ

بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ قَال: لِي بَيِّنَةٌ. أَمَرَهُ بِإِحْضَارِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ البينةِ (فإن لم يَقُلْ، قال الحاكمُ: ألكَ بينَةٌ؟) لِما رُوِيَ أنَّ رَجُلَين اخْتَصما إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حَضْرَمِيٌّ وكِنْدِيٌّ، فقال الحَضْرَمِيُّ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا غَلَبَنِي على أرضٍ لي. فقال الكِنْدِيُّ: هي أرْضِي، وفي يَدِي، وليس له فيها حَقٌّ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحَضْرَمِيِّ: «ألَكَ بَيِّنَةٌ؟». قال: لا. قال: «فَلَكَ يَمِينُهُ» (¬1). وهو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وإن كان المُدَّعِي عارِفًا بأنَّه مَوْضِعُ البيِّنةِ، فالحاكمُ مُخَيَّرٌ بينَ أن يقولَ: ألك بَينةٌ؟ وبينَ أن يَسْكُتَ (فإذا قال: لي بَيِّنَةٌ) حاضِرَةٌ. (أمَرَه بإحْضارِها) ذَكَرَه شيخُنا في الكتابِ المَشْرُوحِ. وذَكَر في كتابِ «المُغْنِي» (¬2) أنَّ المُدَّعِيَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في: باب الحكم في البئر ونحوها، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 9/ 90. ومسلم، في: باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 123، 124. وأبو داود، في: باب في من حلف يمينا. . .، من كتاب الأيمان، وفي: باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 198، 280. والترمذي، في: باب ما جاء في أن البينة على المدعى. . .، من كتاب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 86. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 317. (¬2) 14/ 69.

4875 - مسألة: فإذا سمع الحاكم الشهادة، وكانت صحيحة (حكم بها إذا سأله المدعي)

فَإِنْ أَحْضَرَهَا، سَمِعَهَا الحَاكِمُ، وَحَكَمَ بِهَا إِذَا سَأَلَهُ المُدَّعِي. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قال: لي بينةٌ. لم يَقُلْ له الحاكمُ: أحْضِرْها. لأنَّ ذلك حَقٌّ له، فله أنْ يَفْعَلَ ما يَرَى. فإذا أحْضَرَها لم يَسْألْها الحاكمُ عمّا عندَها حتى يَسْألَه المُدَّعِي ذلك؛ لأنَّه حَقٌّ له، فلا يتَصَرَّفُ فيه مِن غيرِ إذْنِه، فإذا سألَه المُدَّعِي سُؤَالها، قال: مَن كانت عندَه شَهادةٌ فَلْيَذْكُرْ، إنْ شاء. ولا يقولُ لهما: اشْهَدا. لأنَّه أمْرٌ. وكان شُرَيحٌ يقولُ للشّاهِدَين: ما أنا دَعَوْتُكما، ولا أنْها كُما أنْ تَرْجِعا، وما يَقْضِي على هذا المسلمِ غيرُكما، وإنِّي بكما أقْضِي اليومَ، وبكما أتَّقِي يومَ القيامةِ (¬1). 4875 - مسألة: فإذَا سَمِع الحاكِمُ الشَّهادَةَ، وكانت صَحِيحَةً (حَكَم بها إذا سَألَه المُدَّعِي) فيقولُ للمُدَّعَى عليه: قد شَهِدا عليك، فإن كان عندَك ما يَقْدَحُ في شَهادَتِهما فبَيِّنْه عندِي. فإنْ لم يَظْهَرْ ¬

(¬1) انظر أخبار القضاة 2/ 254، 255، 291، 296، 299، 316، 363، 392.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يَقْدَحُ فيهما، حَكَم عليه إذا سألَ الحاكمَ؛ لأنَّ الحُكْمَ بالبينةِ حَقٌّ له، فلا يَسْتَوْفِيه إلَّا بمَسْألةٍ مُسْتَحَقَّةٍ.

4876 - مسألة: (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه، إذا سمعه معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحد، أو سمعه معه شاهد واحد، فله الحكم. نص عليه)

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ فِي مَجْلِسِهِ، إِذَا سَمِعَهُ مَعَهُ شَاهِدَانِ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مَعَهُ أَحَدٌ، أَوْ سَمِعَهُ معه شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَهُ الْحُكْمُ بِهِ، نَصَّ عَلَيهِ. وَقَال القَاضِي: لَا يَحْكُمُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4876 - مسألة: (ولا خلافَ في أنَّه يَجُوزُ له الحُكْمُ بالإِقْرارِ والبينةِ في مَجْلِسِه، إذا سَمِعَه معه شاهِدانِ، فإن لم يَسْمَعْه معه أحَدٌ، أو سَمِعَه معه شاهِدٌ واحِدٌ، فله الحُكْمُ. نَصَّ عليه) لأنَّ الإِقْرارَ أحَدُ البَيِّنَتَين، فجاز الحكمُ به في مجْلِسِه، كالشَّهادَةِ (وقال القاضي: لا يَحْكُمُ به) حتى يَسْمَعَه معه شاهِدان؛ لأنَّه إذا لم يَسْمَعْه

4877 - مسألة: (وليس له الحكم بعلمه فيما رآه أو سمعه)

وَلَيسَ لَهُ الحُكْمُ بِعِلْمِهِ، مِمَّا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ. نَصَّ عَلَيهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الأَصْحَابِ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَدٍّ أَوْ غَيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ معه أحَدٌ، كان حُكْمًا بعِلْمِه. 4877 - مسألة: (وليس له الحُكْمُ بعِلْمِه فيما رَآه أو سَمِعَه) في غيرِ مَجْلِسِه (نَصَّ عليه. وهو اخْتِيارُ الأصْحابِ. وعَنْهُ مَا يَدُلُّ على جوازِ ذلك، سواءٌ كان في حَدٍّ أوْ غَيرِه) ظاهِرُ المذهبِ أَنَّ الحاكمَ لا يَحْكُمُ بعِلْمِه في حَدٍّ ولا غيرِه، وسواءٌ في ذلك ما عَلِمَه قبلَ الولايَةِ أو بعدَها. هذا قولُ شُرَيحٍ، والشَّعْبِيِّ، ومالكٍ، [وإسْحاقَ] (¬1)، وأبي عُبَيدٍ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وهو أحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، يجوزُ له ذلك. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، وأبي ثَوْرٍ، والقولُ الثاني للشافعيِّ، واخْتِيارُ المُزَنِيِّ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قالتْ له هندٌ: إنَّ أبا سُفْيانَ رجلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِن النَّفَقةِ ما يَكْفِيني ووَلَدِي. قال: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» (¬2). فحَكَم لها مِن غيرِ بينةٍ ولا إقْرارٍ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) تقدم تخريجه في 24/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعلمِه بصِدْقِها. ورَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1)، في «كتابِه» أنَّ عُرْوَةَ ومُجاهِدًا رَوَيا، أنَّ رجلًا مِن بني مَخْزُومٍ اسْتَعْدَى عمرَ بنَ الخَطَّابِ على أبي سُفْيانَ بنِ حَرْبٍ، أنَّه ظَلَمَه حَدًّا في موضِعِ كذا وكذا. فقال عمرُ: إنِّي لأعْلَمُ الناسِ بذلك، ورُبَّما لَعِبْتُ أنا (¬2) وأنتَ فيه، ونحنُ غِلمانٌ، فائْتِنِي بأبي سُفْيانَ. فأتاه به، فقال عمرُ: يا أبا سُفْيانَ، انْهَضْ بنا إلى موضعِ كذا وكذا. فنَهَضُوا، ونَظَر عُمَرُ، فقال: يا أبا سُفْيانَ، خُذْ هذا الحَجَرَ مِن ههُنا فَضَعْه ههُنا. فقال: واللهِ لا أفْعَلُ. فقال: واللهِ لتَفْعَلَنَّ. فقال: واللهِ لا أفْعَلُ. فَعَلاه بالدِّرَّةِ، وقال: خُذْه لا أُمَّ لك، فضَعْه ههُنا، فإنَّك ما عَلِمْتُ قَدِيمُ الظُّلْمِ. فأخَذَ أبو سُفْيانَ الحَجَرَ، ووَضَعَه حيثُ قال عمرُ، ثم إنَّ عُمَرَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فقال: اللهمَّ لك الحَمْدُ حيثُ لم تُمِتْنِي حتى غَلَبْتُ أبا سفيانَ على رَأْيه، وأذْلَلْتَه لي بالإِسْلامِ. قال (¬3): فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ أبو سُفْيانَ، وقال: اللَّهُم لك الحمدُ، إذ (¬4) لم تُمِتْنِي حتى جَعَلْتَ ¬

(¬1) في: التمهيد 22/ 218. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «حيث».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في قلبِي مِن الإِسْلامِ ما أذِلُّ بِه لعُمَرَ. قال: فحَكَمَ بعلمِه. ولأنَّ الحاكمَ يَحْكُمُ بالشّاهِدَين؛ لأنَّهما يَغْلِبان على الظَّنِّ، فما تَحَقَّقَه وقَطَع به كان أَوْلَى، ولأنَّه يَحْكُمُ بعِلْمِه (¬1) في تَعْديلِ الشُّهودِ وجَرْحِهم، فكذلك في ثُبُوتِ الحَقِّ، قياسًا عليه. وقال أبو حنيفةَ: ما كان مِن حُقوقِ اللهِ تعالى، لا يَحْكُمُ فيه بعِلْمِه؛ لأنَّ حُقوقَ اللهِ تعالى مَبْنِيَّةٌ على المُساهَلَةِ والمُسامَحَةِ، وأمَّا حُقوقُ الآدَمِيِّين فما عَلِمَه قبلَ ولايَتِه، [لم يَحْكُمْ به، وما عَلِمه في ولايتِه، حَكَم به؛ لأنَّ ما عَلِمَه قَبْلَ ولايتِه بمنْزِلَةِ ما سَمِعه مِن الشُّهودِ قَبْلَ ولايتِه] (¬2)، وما عَلِمَه في ولايتِه بمنزلةِ ما سَمِعَه مِن الشُّهودِ في ولايتِه. ولَنا، قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِه مِن بعضٍ، فَأقْضِيَ لَهُ عَلَى (¬3) نَحْو مَا أسْمَعُ مِنْهُ» (¬4). فدَلَّ على أنَّه إنَّما يَقْضِي بما يَسْمَعُ، لا بما يَعْلَمُ. وقال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) بعده في الأصل: «أخيه». (¬4) أخرجه البخاري، في: باب من أقام البينة بعد اليمين، من كتاب الشهادات، وفي: باب حدثنا محمد بن كثير، من كتاب الحيل، وفي: باب موعظة الإمام للخصوم، من كتاب الأحكام. صحيح البخاري 3/ 235، 9/ 32، 86. ومسلم، في: باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1337. وأبو داود، في: باب في قضاء القاضي إذا أخطأ، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 270، 271. والترمذي، في: باب ما جاء في التشديد. . .، من كتاب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 83، 84. والنسائي، في: باب الحكم بالظاهر، وباب ما يقطع القضاء، من كتاب القضاء، المجتبى 8/ 205، 217. وابن ماجه، في: باب قضية الحاكم لا تحل حراما ولا تحرم حلالًا، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 777. والإمام مالك، في: باب الترغيب في القضاء بالحق، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 719. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 203، 290، 291، 308، 320.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، في قَضِيَّةِ (¬1) الحَضْرَمِيِّ والكِنْدِيِّ: «شَاهِدَاك أوْ يَمينُهُ، لَيسَ لَكَ مِنْه إلَّا ذاك» (¬2). ورُوِيَ عن عمرَ، - رَضِيَ اللهُ عنه-، أنَّه تَداعَى عندَه رجُلانِ، فقال له أحَدُهما: أنتَ شاهِدِي. فقال: إنْ شِئْتما شَهِدْتُ ولم أحْكُمْ، أو أحْكُمُ ولا أشْهَدُ (¬3). وذَكَر ابنُ عبدِ البَرِّ (¬4)، عن عائشةَ، - رَضِيَ اللهُ عنها-، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَث أبا جَهْمٍ على الصَّدَقَةِ، فَلَاحَاه رجلٌ في فَرِيضةٍ، فوَقَعَ بينَهما شِجَاجٌ، فأتَوُا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأعْطاهم الأَرْشَ، ثم قال: «إنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ، وَمُخْبِرَهُمْ أنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُم، أرَضِيتُم؟» قالوا: نعم. فصَعِدَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَر القِصَّةَ، وقال: «أرَضِيتُم؟» قالوا: لا. وهَمَّ بهم المُهاجِرُون، فنَزَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطاهم، ثم صَعِد، فخَطَبَ الناسَ، فقال: «أرَضِيتُم؟» قالوا: نعم. وهذا (¬5) يُبَيِّنُ أنَّه لم يَأْخُذْ بعِلْمِه. ورُوِيَ عن أبي بكرٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «قصة». (¬2) أخرج هذا اللفظ البخاري، في: باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه. . .، من كتاب الرهن، وفي: باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، ومعلقا، في: باب يحلف المدعى عليه، من كتاب الشهادات، ومعلقا أيضًا، في: باب القسامة، من كتاب الديات. صحيح البخاري 3/ 187، 188، 233، 234، 9/ 10. ومسلم، في: باب وعيد من اقتطع حق مسلم. . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 123. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 211. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 538. (¬4) في: التمهيد 22/ 217. وأخرجه أبو داود، في: باب العامل يصاب على يديه خطأ، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 489. والنسائيُّ، في: باب السلطان يصاب على يديه، من كتاب القسامة، المجتبى 8/ 31. وابن ماجه، في: باب الجارح يفتدى بالقود، من كتاب الديات، سنن ابن ماجه 2/ 881. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 232. (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - رَضِيَ اللهُ عنه-، قال: لو رَأيتُ [حَدًّا على رجلٍ] (¬1)، لم أحُدَّه (¬2) حتى تقومَ البَيِّنَةُ (3). ولأنَّ تَجْويزَ القضاءِ بعِلْمِه يُفْضِي إلى تُهْمَتِه والحُكْمِ بما اشْتَهَى، ويُحِيلُه على عِلْمِه. فأمَّا حديثُ أبي سُفْيانَ، فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه فُتْيا لا حُكْمٌ، بدليلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أفْتَى في حَقِّ (¬3) أبي سُفْيانَ مِن غيرِ حُضورِه، ولو كان حُكْمًا عليه لم يَحْكُمْ عليه في غَيبَتِه. وحديثُ عمرَ الذي رَوَوْه، كان إنْكارًا لمُنْكَرٍ رَآه، لا حُكْم (¬4)، بدليلِ أنَّه ما وُجِدَتْ منهم دَعْوَى ولا إنْكارٌ بشُرُوطِهما، ودليلُ ذلك ما رَوَيناه عنه، ثم لو كان حُكْمًا، كان مُعارَضًا بما رَوَيناه عنه. ويُفارِقُ الحُكْمَ بالشَّهادةِ؛ فإنَّه لا يُفْضِي إلى تُهْمَةٍ، بخلافِ مسألتِنا. وأمَّا الجَرْحُ والتَّعْديلُ، فإنَّه يَحْكُمُ فيه بعِلْمِه، بغيرِ خلافٍ؛ لأنَّه لو لم يَحْكُمْ فيه (¬5) بعِلْمِه، لتَسَلْسَلَ، فإنَّ المُزَكِّيَين يَحْتاجُ إلى مَعْرفَةِ عَدالتِهما وجَرْحِهما، فإذا لم يَعْمَلْ بعِلْمِه، احْتاجَ كلُّ واحدٍ منهما إلى مُزَكِّيَين، ثم كلُّ واحدٍ منهما يَحْتاجُ إلى مُزكِّيَين، فيَتَسَلْسَلُ، وما نَحْنُ فيه بخلافِه. ¬

(¬1) في الأصل: «رحلا على حمل رجل». (¬2) في م: «آخذه». وعزاه الحافظ للإمام أحمد والبيهقي. انظر: تلخيص الحبير 4/ 197. (¬3) في م: «حكم». (¬4) كذا بالنسخ. (¬5) سقط من: الأصل.

4878 - مسألة: (وإن قال المدعي: ما لي بينة. فالقول قول المنكر مع يمينه، فيعلمه أن له اليمين على خصمه، فإن سأله إحلافه، أحلفه)

وَإِنْ قَال المُدَّعِي: مَا لِي بَيِّنَةٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، فَيُعْلِمُهُ أَنَّ لَهُ اليَمِينَ عَلَى خَصْمِهِ، وإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ، أَحْلَفَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4878 - مسألة: (وإن قال المُدَّعِي: ما لي بَيِّنَةٌ. فالقولُ قولُ المُنْكِرِ مع يمينِه، فيُعْلِمُه أنَّ له اليمينَ على خَصْمِه، فإن سأله إحْلافَه، أحْلَفَه) لأنَّ الحَقَّ له، فإذا أحْلَفَه خَلَّى سَبِيلَه. وليس له اسْتِحْلافُه قبلَ مسألةِ المُدَّعِي؛ لأنَّ اليمينَ حقٌّ له، فلم يَجُزِ اسْتِيفاؤُها قبلَ مُطالبَةِ مُسْتَحِقِّها، كنفسِ الحقِّ، وسَقَطَتِ الدَّعْوى؛ لِما رَوَى وائِلُ بنُ حُجْرٍ، أنَّ رجلًا مِن حَضْرَ مَوْتَ، ورجلًا مِن كِنْدَةَ، أتَيا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحَضْرَمِيُّ: إنَّ هذا غَلَبَنِي على أرْضٍ لي، وَرِثْتُها مِن أبي. وقال الكِنْدِيُّ: أرْضِى، وفي يَدِي، لا حقَّ له فيها. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «شَاهِدَاكَ أوْ يمينُه». قال: إنَّه لا يَتَوَرَّعُ مِن شيءٍ. قال: «لَيسَ لَكَ إلَّا ذلك». رَواه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمٌ بمعناه (¬1). ¬

(¬1) في: باب وعيد من اقتطع حق مسلم. . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 123، 124. وليس فيه: «شاهداك أو يمينه». وتقدم تخريج هذا اللفظ في صفحة 427. وهو من رواية الحضرمي نفسه.

4879 - مسألة: (وإن أحلفه، أو حلف من غير سؤال المدعي، لم يعتد بيمينه)

وَإِنْ أَحْلَفَهُ، أَوْ حَلَفَ هُوَ مِنْ غَيرِ سُؤَالِ المُدَّعِي، لَمْ يُعْتَدَّ بِيَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4879 - مسألة: (وإن أحْلَفَه، أو حَلَف مِن غيرِ سُؤَالِ المُدَّعِي، لم يُعْتَدَّ بيمينِه) لأنَّه أتَى بها في غيرِ وَقْتِها. فإن سألها المُدَّعِي، أعادها له؛ لأنَّ الأُولَى لم تكنْ يمينَه. وإن أمْسَكَ المُدَّعِي (¬1) عن إحْلافِ خَصْمِه المُدَّعَى عليه، ثم أراد إحْلافَه بالدَّعْوَى المُتقدِّمةِ، جاز؛ لأنَّه لم يُسْقِطْ حقَّه منها، وإنَّما أخَّرَها. وإن قال: أبْرَأْتُكَ مِن هذه اليمينِ. سَقَط حقُّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4880 - مسألة: (وإن نكل، قضى عليه بالنكول. نص عليه. واختاره عامة شيوخنا. فيقول له: إن حلفت، وإلا قضيت عليك.

وَإِنْ نَكَلَ، قَضَى عَلَيهِ بِالنُّكُولِ. نَصَّ عَلَيهِ. وَاخْتَارَهُ عَامَّةُ شُيُوخِنَا. فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ، وَإِلَّا قَضَيتُ عَلَيكَ. ثَلَاثًا، فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ منها في هذه الدَّعْوَى، وله أن يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى؛ لأنَّ حقَّه لا يَسْقُطُ بالإِبْراءِ مِن اليمينِ. فإنِ اسْتَأْنفَ الدَّعْوَى، وأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فله أن يُحْلِفَه؛ لأنَّ هذه الدَّعْوَى غيرُ الدَّعْوَى التي أبْرأه فيها (¬1) مِن اليمين، فإن حَلَف سَقَطَتِ الدَّعْوَى، ولم يكنْ للمُدَّعِي أنْ يُحْلِفَه يمينًا أُخْرَى، لا في هذا المجلسِ ولا في غيرِه. 4880 - مسألة: (وإن نَكَل، قَضَى عليه بالنُّكُولِ. نصَّ عليه. واخْتارَه عامَّةُ شُيوخِنا. فيقولُ له: إنْ حَلَفْتَ، وإلَّا قَضَيتُ عليك. ¬

(¬1) في م: «بها».

لَمْ يَحْلِفْ، قَضَى عَلَيهِ إِذَا سَأَلَ المُدَّعِي ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثًا، فإن لم يَحْلِفْ، قَضَى عليه إذا سألَ المُدَّعِي ذلك) لِما روَى أحمدُ (¬1)، أنَّ ابنَ عمرَ باع زيدَ بنَ ثابتٍ عبدًا، فادَّعَى عليه زيدٌ أنَّه باعَه إيَّاه عالِمًا بعَيبِه، فأنْكَرَه ابنُ عمرَ، فتَحاكَما إلى عثمانَ، -رَضِيَ اللهُ عنه-، فقال عُثْمانُ: احْلِفْ بأنَّك ما عَلِمْتَ به عَيبًا. فأبَي ابنُ عُمَرَ أن يَحْلِفَ، ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، في: مسائله برواية ابنه عبد الله 3/ 903، 904. وتقدم تخريجه عند الإمام مالك في 11/ 256.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرَدَّ عليه العبدَ. ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَيهِ» (¬1). فحَصَرَها في جَنَبَتِه، فلم تُشْرَعْ لغيرِه. وهذا مذهبُ أبي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 252.

وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، تُرَدُّ اليَمِينُ عَلَى المُدَّعِي. وَقَال: قَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، وَقَال: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ، يَحْلِفُ وَيَأْخُذُ. فَيُقَالُ لِلنَّاكِلِ: لَكَ رَدُّ اليَمِينِ عَلَى المُدَّعِي. فَإِنْ رَدَّهَا، حَلَفَ المُدَّعِي، وَحَكَمَ لَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ. واخْتارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه لا يَحْكُمُ بالنُّكُولِ، ولكنْ يَرُدُّ اليمينَ على خَصْمِه (وقال: قد صَوَّبَه أحمدُ، وقال: ما هو ببعيدٍ، يَحْلِفُ) ويَسْتَحِقُّ. فيقولُ الحاكِمُ لخَصْمِه: (لك رَدُّ اليَمينِ على المُدَّعِي. فإن رَدَّها، حَلَف المُدَّعِي، وحكَمَ له) لِما رَوَى ابنُ عمرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ اليمينَ على صاحِب الحقِّ. رَواه الدَّارَقُطْنِيُّ (¬1). ورُوِيَ أنَّ المِقْدادَ اقْتَرَض مِن عثمانَ مالًا، فقال عثمانُ: هو سبْعَةُ آلافٍ. وقال المقدادُ: هو أرْبَعةُ آلافٍ. فقال المقْدادُ لعثمانَ: احْلِفْ أنَّه سَبْعَةُ آلافٍ. فقال (¬2) ¬

(¬1) في: كتاب في الأقضية والأحكام. سنن الدارقطني 4/ 213. كما أخرجه الحاكم، في: المستدرك 4/ 100. والبيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 184. وضعف الحافظ إسناده في: تلخيص الحبير 4/ 209. (¬2) بعده في م: «له».

4881 - مسألة: (وإن نكل أيضا صرفهما)

وَإِنْ نَكَلَ أَيضًا صَرَفَهُمَا، فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَبَذَلَ الْيَمِينَ، لَمْ يَسْمَعْهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، حَتَّى يَحْتَكِمَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عمرُ: أنْصَفَك (¬1). فإن حَلَف، حَكَم له. 4881 - مسألة: (وإن نَكَل أيضًا صَرَفَهما) إذا نَكَل المُدَّعِي، سُئِل عن سببِ نُكُولِه؛ لأنَّه لا يَجِبُ بنُكُولِه لغيرِه حقٌّ، بخِلافِ المُدَّعَى عليه، فإن قال: امْتَنَعْتُ لأنَّ لي بَيِّنَةً أُقِيمُها -أو- حِسابًا أنْظُرُ فيه. فهو على حقِّه مِن اليمينِ، ولا يُضَيَّقُ عليه في اليمينِ؛ لأنَّه لا يتَأخَّرُ بتَرْكِه إلَّا حقُّه، بخلافِ المُدَّعَى عليه. وإن قال: لا أُريدُ أن أحْلِفَ. فهو ناكِلٌ (فإن عاد أحدُهما فبذَلَ اليمينَ، لم يَسْمَعْها في ذلك المجلسِ) لأنَّه أسْقَطَ حقَّه منها (حتى يَحْتَكِما في مجلسٍ آخَرَ) فإذا اسْتَأْنَفَ الدَّعْوَى، أُعِيدَ ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 184. وقال: هذا إسناد صحح إلا أنه منقطع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحكمُ بينَهما، كالأوَّلِ.

4882 - مسألة: (وإن قال المدعي: لي بينة. بعد قوله: ما لي بينة. لم تسمع. ذكره الخرقي)

وَإنْ قَال المُدَّعِي: لِي بَيَنةٌ. بَعدَ قَوْلِهِ: مَا لِي بَيَنةٌ. لَمْ تُسْمَعْ. ذَكَرَهُ الخِرَقِيّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُسْمَعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4882 - مسألة: (وإن قال المُدَّعِي: لي بَينة. بعد قولِه: ما لي بينة. لم تُسْمَعْ. ذَكَرَه الخِرَقي) لأنَّه أكْذَبَ بَيِّنتَه، لكونِه أقَرَّ أنَّه لا يَشْهَدُ له أحدٌ، فإن شَهِد له إنْسان، كان تَكْذِيبًا له (ويَحْتَمِلُ أن تُقْبَلَ) لأنَّه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوز أن يَنْسَى، أو (¬1) يكونَ الشاهِدان سَمِعا منه، وصاحِب الحقِّ لا يَعْلَمُه، فلا يثْبِتُ ذلك أنَّه كَذبَ نفسَه. ¬

(¬1) في م: «و».

4883 - مسألة: (وإن قال: لا أعلم لي بينة. ثم قال: قد علمت لي بينة. سمعت)

وَإنْ قَال: مَا أعْلَمُ لِي بَينةً. ثُمَّ قَال: قَدْ عَلِمتُ لِي بَيَنةً. سُمِعَتْ. وإنْ قَال شَاهِدَانِ: نَحْنُ نَشْهَدُ لَكَ. فَقَال: هَذَانِ بَيِّنتِي. سُمِعَتْ. وَإنْ قَال: مَا أرِيدُ أن تَشْهَدَا لِي. لَمْ يُكَلَّفْ إِقَامَةَ البَينةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4883 - مسألة: (وإن قال: لا أعْلَمُ لي بَينةً. ثم قال: قد عَلِمْتُ لي بَينةً. سُمِعَتْ) لأنه يجوزُ أن تكونَ له بَينة لم يَعْلَمْها، ثم عَلِمَها. 4884 - مسألة: (وإن قال شاهدان: نحن نَشْهَدُ لكَ. فقال: هذان بَينتِي. سُمِعَتْ) قاله أبو الخَطَّابِ؛ لِما ذَكَرْنا. 4885 - مسألة: (وإن قال: ما أرِيدُ أن تَشْهَدَا لي. لم يُكَلَّفْ إقامَةَ البَيِّنةِ) لأنَّه أسْقَطَ حقَّه منها.

4886 - مسألة: (وإن قال: لي بينة وأريد يمينه. فإن كانت غائبة، فله إحلافه، وإن كانت حاضرة، فهل له ذلك؟ على وجهين)

وَإنْ قَال: لِي بَيَنةٌ وَأرِيدُ يَمِينَهُ. فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، فَلَهُ إحْلَافُهُ. وَإنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَينِ. فَإن حَلَفَ المُنْكِرُ ثُمَّ أحْضَرَ المُدَّعِي بَيَنةً، حُكِمَ بِهَا، وَلَمْ تَكُنِ اليَمِينُ مُزيلَةً لِلْحَقِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4886 - مسألة: (وإن قال: لي بَيِّنة وأرِيدُ يمينَه. فإن كانت غائِبَةً، فله إحلافُه، وإن كانت حاضِرَةً، فهل له ذلك؟ على وَجْهَين) إذا قال المُدَّعِي: لي بَيِّنة غائبة. قال له (¬1) الحاكمُ: لكَ يمينُه، فإن شِئْتَ فاسْتَحْلِفْه، وإن شِئْتَ أخَّرْتُه إلى أن تُحْضِرَ بَينتَكَ، وليس لكَ مُطالبَتُه بكفيل، ولا مُلازَمَتُه حتى تُحْضِرَ البَينةَ. نصَّ عليه أحمدُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ؛ لقولِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ، لَيسَ لَكَ إلَّا ذَلِكَ» (¬2) (فإن أحْلَفَه، ثم [حَضَرَتْ بَيِّنتُه] (¬3)، حَكَم بها، ولم تكنِ اليمينُ مُزِيلَةً للحَقِّ) لأنَّ اليمينَ إنَّما يُصارُ إليها عندَ عَدَمِ البَيِّنةِ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 427. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا وُجِدَتِ البَيِّنةُ بَطَلَتِ اليمينُ وتَبيَّنَ كَذِيها. فإن قال: لي بَيِّنة حاضِرَة، وأرِيدُ يمينَه ثم أقِيمُ بَينتِي. لم يَمْلِكْ ذلك، في أحَدِ الوَجْهَينٍ. وفي الآخَرِ، له إحْلاقُ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، كما لو كانتِ البَينةُ غائبة. ولَنا، قوله، عليه الصلاةُ والسلامُ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمينُهُ، لَيسَ لَكَ إلَّا ذلِكَ». [و «أو» للتَّخْيِيرِ] (¬1) بينَ شَيئَين، فلا يكونُ له (¬2) الجَمْعُ بينَهما، ولأنَّه أمْكَنَ فَصْلُ الخُصومَةِ بالبينةِ، فلم يُشْرَعْ غيرُها معها مع إرادةِ المُدَّعِي إقامَتَها وحُضُورَها، كما لو لم (2) يَطْلُبْ يمينَه، ولأنَّ اليمينَ بَدَل، فلم يَجِبِ الجَمْعُ بينَها وبينَ مُبْدَلِها، كسائِرِ الأبدالِ مع مُبْدَلاتِها. وإن قال المُدَّعِي: لا أرِيدُ إقامَتَها، وإنَّما أرِيدُ يمينَه أكْتَفِي بها. اسْتُحْلِفَ؛ لأنَّ البينةَ حَقُّه، فإذا رَضِيَ بإسْقاطِها، وتَرْكِ إقامَتِها، فله ذلك، كنفسِ الحق. فإن حَلَف المُدَّعَى عليه، ثم أراد المُدَّعِي إقامَةَ بَينتِه، لم يَمْلِكْ ذلك، في أحدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه قد أسْقَطَ حقَّه مِن إقامَتِها، ولأنَّ تَجْويزَ إقامَتِها يَفْتَحُ بابَ الحِيلةِ؛ لأنَّه يقولُ: لا أرِيدُ إقامَتَها. ليَحْلِفَ خَصْمُه، ثم يُقِيمَها. ¬

(¬1) في الأصل: «والتخيير». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني، له ذلك، لأنَّ البينةَ لا تَبْطل بالاسْتِحْلافِ، كما لو كانت غائبةً. فإن كان له شاهدٌ واحد في المالِ، عَرَّفَه الحاكمُ أنَّ له أن يَحْلِفَ مع شاهِدِه، ويَسْتَحِقَّ. فإن قال: لا أحْلِفُ أنا، وأرْضَى بيمينه. اسْتُحْلِفَ له (¬1)، فإذا حَلَف، سَقَط الحقُّ عنه. فإن عاد المُدَّعِي بعدَها وقال: أنا أحْلِفُ مع شاهِدِى. [لم يُسْتَحْلَف] (¬2)، ولم يسْمَعْ مِنه. ذَكَره القاضِي. وهو مَذْهَبُ الشَّافِعيِّ، لأنَّ اليَمِينَ فِعْلُه وهو قادرٌ عليها، فأمْكَنَه أن يُسْقِطَها، بخِلافِ البينةِ. وإن عاد قبلَ أن يَحْلِفَ المُدَّعَى عليه، فبَذَلَ اليمينَ، لم يكنْ له ذلك في هذا المَجْلسِ. وكلُّ موضعٍ قُلْنا: يُسْتَحْلَفُ المُدَّعَى عليه. فإنَّ الحاكمَ يقولُ له: إن حَلَفْتَ، وإلَّا جَعَلْتُك ناكِلًا، وقَضَيت عَلَيكَ. ثلاثًا، فإن حَلَف، وإلَّا حَكَم عليه بنُكُولِه إذا سألَه المُدَّعِي ذلك. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «استحلف».

4887 - مسألة: (فإن سكت)

وَإنْ سَكَتَ المُدَّعَى عَلَيهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ، قَال لَهُ الْقَاضِي: إِنْ أَجَبْتَ، وَإلَّا جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، وَقَضَيتُ عَلَيكَ. وَقِيلَ: يَحْبِسُه حَتَّى يُجِيبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4887 - مسألة: (فإن سَكَت) عن جَوابِ المُدَّعِي (فلم يُقِرَّ ولم يُنْكِرْ) حَبَسَه الحاكِمُ حتى يُجِيبَ، ولا يَجْعَلُه بذلك ناكِلًا. ذَكَرَه القاضي في «المُجَرَّدِ» (¬1). وقال أبو الخَطَّابِ: يقولُ له الحاكمُ: (إن أجَبْتَ، وإلَّا جَعَلْتُك ناكِلًا، وحَكَمْتُ عليك) ويُكَرِّرُ ذلك ثلاثًا، فإن ¬

(¬1) في م: «المحرر».

4888 - مسألة: (وإن حلف المنكر، ثم أحضر المدعي بينته، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجاب، وإلَّا جَعَلَه ناكِلًا، وحَكَم عليه؛ لأنَّه ناكِل عمّا تَوَجَّهَ عليه (¬1) الجوابُ فيه، فيُحْكَمُ عليه بالنُّكُولِ عنه، كاليمينِ (¬2). 4888 - مسألة: (وإن حَلَف المُنْكِرُ، ثم أحْضَرَ المُدَّعِي بَينتَه، حُكِم بها، ولم تكنِ اليمينُ مُزِيلَةً للحَق) وجملةُ ذلك، أنَّ المُدَّعِيَ إذا ذَكَر أنَّ بيِّنتَه (¬3) بعيدة، ولا يُمْكِنُه إحْضارُها، أو لا يُرِيدُ إقامَتَها، فطَلَبَ اليمينَ مِن المُدَّعَى عليه، أُحْلِفَ له، فإذا حلف، ثم أحْضَرَ المُدَّعِي بينتَه، حُكِم له. وبهذا قال شُرَيحٌ، والشَّعْبِيُّ، ومالك، والثَّوْرِيُّ، واللَّيثُ، والشافعيّ، وأبو حنيفةَ، وأبو يُوسُف، وإسْحاقُ. وحُكِيَ عن ابنِ أبي ليلَى، وداودَ، أنَّ بينتَه لا تُسْمَعُ؛ لأنَّ اليمينَ حُجَّةُ المُدَّعَى عليه، فلا تُسْمَعُ بعدَها حُجَّةُ المُدَّعِي، كما لا تُسْمَعُ يمينُ المُدَّعَى عليه بعدَ بينةِ المُدَّعِي. ولَنا، قولُ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه: البينةُ الصادِقةُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «باليمين». (¬3) في م: «له بينة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَبُّ إلَيَّ مِن اليمينِ الفاجِرَةِ (¬1). وظاهِرُ هذه البينةِ الصِّدْقُ، ويَلْزَمُ مِن صِدْقِها فُجُورُ اليمينِ المُتَقَدِّمَةِ، فتكونُ أولَى، ولأنَّ كلَّ حالةٍ يَجِبُ عليه الحقُّ فيها بإقْرارِه، يَجِبُ عليه بالبينةِ، كما قَبْلَ اليمينِ. وما ذَكَرَاه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ البينةَ الأصْلُ، واليمينَ بدَلٌ عنها، ولهذا لا تُشْرَعُ إلَّا عندَ تَعَذرها، والبَدَلُ يَبْطُلُ بالقُدْرَةِ على المُبْدَلِ، كبُطْلانِ التَّيَمُّمِ بالقُدْرةِ على الماءِ، ولا يَبْطُلُ الأصْلُ بالقُدْرةِ على البَدَلِ. ويدُلّ على الفَرْقِ بينَهما، أنَّهما حال اجْتِماعِهما، وإمْكانِ سَماعِهما، تسْمَعُ البَيِّنَةُ، ويُحْكَمُ بها، ولا تُسْمَعُ اليمينُ، ولا يُسْألُ عنها. فصل: فإن طَلَب المُدَّعِي حَبْسَ المُدَّعَى عليه، أو (¬2) إقامةَ كَفيلٍ به إلى إقامَةِ بينتِه البعيدَةِ، لم يُقْبَلْ منه، ولم تكنْ له ملازَمَة خَصمِه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ له قِبَلَه حَق يُحْبَسُ به، ولا يُقِيمُ به كَفِيلًا، ولأن الحَبْس عذاب، فلا يَلْزَمُ مَعْصُومًا لم يتَوَجَّهْ عليه حَق، ولو جازَ ذلك، لتَمَكَّنَ كلُّ ظالم مِن حَبْسِ مَن شاء مِن الناسِ بغيرِ حق. وإنْ كانت بينتُه قريبةً، فلَه مُلازَمَتُه حتى يُحْضِرَها؛ لأنَّ ذلك مِن ضَرُورَةِ إقامَتِها، فإنَّه لو لم يَتَمَكَّنْ مِن مُلازَمَتِه، لذَهَبَ مِن مجْلِسِ الحكمِ (¬3)، ولا تُمْكِنُ إقامَتُها إلَّا بحَضْرَتِه. ولأنَّه لَمّا تَمَكَّنَ مِن إحْضارِه مَجْلِسَ الحكمِ ¬

(¬1) ذكره بنحوه وكيع عن شريح وليس عن عمر في: أخبار القضاة 2/ 342. (¬2) في م: «و». (¬3) في م: «الحاكم».

4889 - مسألة: (فإن قال: لي مخرج مما ادعاه. لم يكن مجيبا)

وَإنْ قَال: لِي مَخْرَجٌ مِمَّا ادَّعَاهُ. لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا. وَإنْ قَال: لِي حِسَابٌ أرِيدُ أن أنْظُرَ فِيهِ. لَمْ يَلْزَمِ المُدَّعِيَ إِنْظَارُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى يُقِيمَ عليه (¬1) البينةَ، تَمَكَّنَ مِن مُلازَمَتِه فيه حتى تَحْضُرَ البينةُ. وتُفارِق البينةَ البعيدَةَ، ومَن لا يُمْكِنُ حُضُورُها، فإنَّ إلْزامَه الإِقامةَ إلى حينِ حُضورِها يَحْتاجُ إِلى حَبْس، أو ما يقومُ مَقامَه، ولا سَبِيلَ إليه. فصل: ولو أقام المُدَّعِي شاهِدًا واحدًا، [ولم] (¬2) يَحْلِف معه، وطَلَب يمينَ المُدَّعَى عليه، أحْلِفَ له، ثم إن (¬3) أحْضَرَ شاهدًا آخَرَ بعدَ ذلك، كَمَلَتْ بَينتُه، وقُضِيَ بها؛ لِما ذَكَرْنا في التي قبلَها. واللهُ أعلمُ. 4889 - مسألة: (فإن قال: لي مَخْرَجٌ ممّا ادَّعاه. لم يكنْ مُجِيبًا) لأنَّ الجوابَ أحدُ أمْرَين، إقْرارٍ أو إنْكارٍ، وليس هذا واحدًا منهما. 4890 - مسألة: (وإن قال: لي حِسابٌ أرِيدُ أن أنْظُرَ فيه. لم يَلْزَمِ المُدَّعِيَ إنْظارُه) لأنَّ حقَّ الجوابِ ثَبَت له حالًّا، فلم يَلْزَمْه إنْظارُه، ¬

(¬1) في م: «فيه». (¬2) في الأصل: «لم». (¬3) سقط من: الأصل.

4891 - مسألة: (وإن قال: قضيته. أو: أبرأني، ولي بينة بالقضاء. أو: الإبراء. وسأل الإنظار، أنظر ثلاثا)

وَإنْ قَال: قَدْ قَضَيتُهُ. أوْ: أبْرَأَنِي، وَلِي بَيَنةٌ بِالقَضَاءِ. أَو: الإبْرَاءِ. وَسَألَ الإِنْظَارَ، أنْظِرَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُدَّعِي مُلَازَمَتُه، ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو ثَبَت عليه الدَّينُ. وذَكَر شيخُنا، في كتابِ «الكَافِي» (¬1) أنَّه يُنْظَرُ ثلاثًا، ولا يُمْهَلُ (¬2) أكْثَرَ منها؛ لأنَّه كثير. وهو الصحيحُ، إن شاء الله تعالى؛ لأنه يَحْتاج إلى ذلك لمعرفةِ قَدْرِ دَينه، أو يَعْلَمُ هل عليه شيء أو لا، والثَّلاثُ مُدَّة يسيرةٌ. 4891 - مسألة: (وإن قال: قَضيتُه. أو: أبرَأني، ولي بَينة بالقَضاءِ. أو: الإِبراءِ. وسأل الإِنْظارَ، أنْظِرَ ثَلاثًا) لأنَّها قريبة (وللمُدَّعِي مُلازمَتُه) لئلَّا يَهْرُبَ أو يتَغَيَّبَ، ولا يُؤَخَّرُ الحق ¬

(¬1) 4/ 463. (¬2) في م: «يهمل».

فَإِنْ عَجَزَ، حَلَفَ المُدَّعِي عَلَى نَفْي مَا ادَّعَاهُ، وَاسْتَحَقَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن المُدَّةِ التي أُنْظِرَ فيها (فإن عَجَز) عن إقامةِ البَينةِ (حَلَف المُدَّعِي على نَفْي ما ادَّعاه، واسْتَحَقَّ) لأنَّه يصيرُ مُنْكِرًا، واليمينُ على المُنْكِرِ. فصل: فإنْ شَهِدَتِ البينة للمُدَّعِي، فقال المُدَّعَى عليه: أحْلِفُوه أنه يسْتَحِقُّ ما شَهِدَتْ به البَيَنةُ. لم يُحْلَفْ؛ لأنَّ في ذلك طعْنًا على البَينةِ.

4892 - مسألة: (فإن ادعى عليه عينا في يده، فأقر بها لغيره، خعل الخصم فيها، وهل يحلف المدعى عليه؟ على وجهين. فإن كان المقر له حاضرا مكلفا، سئل، فإن ادعاها لنفسه ولم تكن بينة، حلف وأخذها، وإن أقر بها للمدعي، سلمت إليه، وإن قال: ليست لي، ولا أعلم لمن هي. سلمت إلى المدعي، في أحد الوجهين. وفي الآخر، لا تسلم إليه إلا ببينة. ويجعلها الحاكم عند أمين. وإن أقر بها لغائب، أو صبي، أو مجنون، سقطت عنه الدعوى. ثم إن كان للمدعي بينة،

فَإِن ادَّعَى عَلَيهِ عَينًا فِي يَدِهِ، فَأقَرَّ بِهَا لِغَيرِهِ، جُعِلَ الخَصْمَ فِيهَا، وَهَلْ يَحْلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ؟ عَلَى وَجْهَينِ. فَإِنْ كَانَ المُقَرّ لَهُ وَأخَذَهَا، وَإنْ أقَرَّ بِهَا لِلْمُدَّعِي، سُلِّمَتْ إِلَيهِ، وَإنْ قَال: لَيسَتْ لِي، وَلَا أعْلَمُ لِمَنْ هِيَ. سُلمَتْ إِلَى المُدَّعِي، فِي أحَدِ الْوَجْهَينِ. وَفِي الآخَرِ، لَا تُسَلَّمُ إِلَيهِ إلا بِبَيِّنَةٍ، وَيَجْعَلُهَا الحَاكِمُ عِنْدَ أمين. وَإنْ أقرَّ بِهَا لِغَائِبٍ، أو صَبِيٍّ، أوْ مَجْنُونٍ، سَقَطَتْ عَنْهُ الدَّعْوَى، ثُمَّ إِنْ كَإنَ لِلْمُدَّعِي بَيَنةٌ، سُلِّمتْ إِلَيهِ، وَهَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4892 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى عليه عَينًا في يَدِهِ، فأقَرَّ بها لغيرِه، خعِلَ الخَصْمَ فيها، وهل يَحْلِفُ المُدَّعَى عليه؟ على وَجْهَين. فإن كان المُقَرّ له حاضِرًا مُكَلَّفًا، سُئِل، فإنِ ادَّعاها لنَفْسِه ولم تكنْ بَينة، حَلَف وأخَذَها، وإن أقَرَّ بها للمُدَّعِي، سلِّمَتْ إليه، وإن قال: ليست لي، ولا أعْلَمُ لِمَن هي. سُلِّمَتْ إلى المُدَّعِي، فِي أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، لا تُسَلَّمُ إليه إلَّا ببينةٍ. ويَجْعَلُها الحاكِمُ عندَ أمِين. وإن أقَرَّ بها لغائِبٍ، أو صبيٍّ، أو مَجْنُونٍ، سَقَطَتْ عنه الدَّعْوَى. ثم إن كان للمُدَّعِي بينة،

يَحْلِفُ؟ عَلَى وَجْهَينِ. وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيَنةٌ، حَلَفَ المُدَّعَى عَلَيهِ أنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا إِلَيهِ، وَأُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، إلا أنْ يُقِيمَ بَيِّنةً أنَّهَا لِمَنْ سَمَّى، فَلَا يَحْلِفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سُلِّمَتْ إليه. وهل يَحْلِف؟ على وَجْهَين. وإن لم يكنْ له بينة، حَلَف المُدَّعَى عليه أنَّه لا يَلْزَمُه تَسْلِيمُها إليه، وأقِرَّتْ في يَدِه، إلَّا أن يُقِيمَ بَينةً أنَّها لمَنْ سَمَّى، فلا يَحْلِفُ) وجملةُ ذلك، أنَّ الإِنسانَ إذا ادَّعَى دارًا في يدِ غيرِه، فقال الذي هي في يَدِه: ليستْ لي، إنَّما هي لفُلانٍ. وكان المُقَرُّ له بها حاضِرًا، سُئِل عن ذلك، فإن صَدَّقَه، صار الخَصْمَ فيها، وكان صاحِبَ اليَدِ؛ لأنَّ مَن هي في يَدِه اعْتَرَفَ أنَّ يدَه نائِبَةٌ (¬1) عن يَدِه، وإقْرارُ الإِنسانِ بما في يَدِه إقْرارٌ صحيحٌ، فيصيرُ خَصْمًا للمُدَّعِي، فإن كانت للمُدَّعِي بينةٌ، حُكِم له بها، وإن لم تكنْ له بينة، فالقولُ قولُ المُدَّعَى عليه مع يمينه. وإن قال المُدَّعِي: أحْلِفُوا المُقِرَّ الذي كانتِ العَينُ في يَدِه، أنَّه لا يَعْلَمُ أنَّها لي. فعليه اليمينُ؛ لأنَّه لو أقَرَّ له (¬2) بها، لَزِمَه الغُرْمُ، كما لو قال: هذه العَينُ لزيدٍ. ثم قال: هي لعمرو. فإنَّها تُدْفَعُ إلى زيدٍ، ¬

(¬1) في النسخ: «بائنة». وانظر المغني 14/ 310. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَغْرَمُ قِيمتَها لعمرو. ومَن لَزِمَه الغُرْمُ مع الإِقْرارِ، لَزِمَتْه اليمينُ مع الإنْكارِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ (¬1)، أنَّه لا يَحْلِفُ؛ لأنه أقام المُقَرَّ له [مُقامَ نفْسِه] (¬2)، فيقومُ مَقامَه في اليمينِ، وتُجْزِيء اليمينُ عنهما. فإن رَدَّ المُقَرُّ له الإِقْرارَ، وقال: ليستْ لي، وإنَّما هي للمُدَّعِي. حُكِم له بها. وإنْ لم [يَقلْ: هي للمُدَّعِي. ولكنْ قال: ليستْ لي، ولا أعْلَمُ لمَن هي. فإن كان للمُدَّعِي بينة، حُكِم له بها، وإن لم] (¬3) تكنْ له بينة، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تُدْفَعُ إلى المُدَّعِي؛ لأنَّه يَدَّعِيها، ولا مُنازِعَ له فيها، ولأن مَن هي في يَدِه لو ادَّعاها ثم نَكَل، قَضَينا له بها، فمع عَدَمِ ادِّعائِه لها أوْلَى. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «مقامه». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني، لا تُدْفَعُ إليه؛ لأنه لم يَثْبُتْ لها مُسْتَحِق؛ لأنَّ المُدَّعِيَ لا يَدَ له، ولا بينةَ، وصاحِبَ اليَدِ مُعْتَرِف أنَّها ليست له، فيَأخُذُها الإمامُ فيَحْفَظُها لصاحِبِها. وهذا الوَجْهُ الذي ذَكَرَه القاضي. والأوَّلُ أوْلَى (¬1)؛ لِما ذَكَرْنا مِن دَلِيله. ولأصْحابِ الشافعيِّ وَجْهان كهذَين، ووَجْة ثالث، أنَّ المُدَّعِيَ يَحْلِفُ أنَّها له، وتُسَلَّمُ إليه. ويتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُه، بِناءً على القولِ بردِّ اليمينِ إذا نَكَل المُدَّعَى عليه. وإن قال المُقَر له: هي لثالثٍ. انْتَقَلَتِ الخُصُومَةُ إليه، وصار بمنزلَةِ صاحِبِ اليَدِ؛ لأنَّه أقَرَّ له بها مَن اليدُ له حُكْمًا. ¬

(¬1) في م: «أصح».

4893 - مسألة: وإن أقر بها لغائب، أو لغير مكلف معين، كالصبي والمجنون، صارت الدعوى عليه. فإن لم تكن للمدعي بينة، لم يقض له بها؛ لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولايقضى على الغائب بمجرد الدعوى، ويقف الأمر حتى يقدم الغائب، ويصير غير المكلف مكلفا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4893 - مسألة: وإنْ أقَرَّ بها لغائب، أو لغيرِ مكَلَّفٍ معَيَّن، كالصَّبِيِّ والمجْنونِ، صارتِ الدَّعْوَى عليه. فإن لم تكنْ للمدَّعِي بينةٌ، لم يُقْضَ له بها؛ لأنَّ الحاضِرَ يَعْتَرِفُ أنَّها ليست له، ولايقضَى على الغائِبِ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، ويَقِفُ الأمْرُ حتى يَقْدَمَ الغائِبُ، ويصيرَ غيرُ المُكَلَّفِ مُكَلَّفًا (¬1)، وتكونُ الخُصومَةُ معه. فإن قال المُدَّعِي: أحْلِفُوا لي المُدَّعَى عليه. أحْلَفْناه؛ لِما تَقَدَّمَ. وإن أقَرَّ بها للمُدَّعِيِ، لم تُسَلَّمْ إليه؛ لأنَّه اعْتَرَفَ أنَّها لغيرِه، ويَلْزَمُه أن يَغْرَمَ له قِيمَتَها؛ لأنَّه فوَّتَها عليه بإقْرارِه ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بها لغيرِه. وإن كان مع المدَّعِي بينة، سَمِعَها الحاكمُ، وقَضَى بها، وكان الغائِبُ على خُصومَتِه، متى حَضَر (¬1)، له أن يَقْدَحَ في بينةِ المُدَّعِي، وأن يُقِيمَ بينةً تَشْهَدُ بانْتِقالِ المِلْكِ إليه مِن المُدَّعِي. وإن أقام بينةً أنَّها مِلْكُه، فهل يُقْضَى بها؟ على وَجْهَين، بِناءً على تَقْدِيمِ بينةِ الدَّاخِلِ والخارِجِ؛ فإن قُلْنا: تُقدَّمُ بينةُ الخارِجِ. فأقام الغائِبُ بَيَنةً تَشْهَدُ له بالملْكِ والنِّتاجِ، أو سببٍ مِن أسْبابِ المِلْكِ، فهل تُسْمَعُ بينتُه ويُقْضَى بها؟ على وَجْهَين. فإن كان مع المُقِرِّ بينة تَشْهَدُ بها للغائِبِ، سَمِعها الحاكمُ، ولم يَقضِ بها؛ لأنَّ البينةَ للغَائِبِ، [والغائِبُ] (¬2) لم يَدَّعِها هو ولا وكيلُه، وإنَّما سَمِعَها الحاكمُ لِما فيها مِن الفائِدَةِ، وهو زَوالُ التُّهْمَةِ عن الحاضِرِ، وسُقُوطُ اليمينِ عنه، إذا ادَّعَى عليه أنَّك تَعْلَمُ أنَّها لي. ويَتَخَرَّجُ أن يُقضَى بها، إذا قلنا بتَقْدِيمِ بينةِ الدَّاخِلِ، وإنَّ للمُودَعِ المُحاكَمَةَ في الودِيعةِ إذا غُصِبَتْ، ¬

(¬1) في م: «خطر». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها بينة مَسْمُوعَةٌ، فيُقْضَى بها، كبينةِ المُدَّعِي إذا لم تُعارِضْها بينةٌ أخْرَى. فإنِ ادَّعَى مَن هي في يَدِه أنَّها معه بإجارَةٍ أو عارِيَّةٍ، وأقام بينةً بالمِلْكِ للغائِبِ، لم يُقْضَ بها؛ لوَجْهَين؛ أحَدُهما، أنَّ ثُبُوتَ الإجارَةِ والعاريَّةِ يَتَرَتَّبُ على ثُبُوتِ المِلْكِ للمُؤْجِرِ، ولا يُمْكِنُ ثُبوتُ المِلْكِ للمُؤْجِرِ جهذه البينةِ، فلا تَثْبُتُ الإجارَةُ المُترتبةُ عليها. والثاني، أنَّ بينةَ الخارِجِ مُتَرَتِّبَة على بينةِ الدَّاخِلِ. ويَتَخَرَّجُ القضاءُ بها على رِوايةِ (¬1) تقديمِ بينةِ الدَّاخِلِ، وكونِ الحاضِرِ له فيها حَق. ومتى عاد المُقِرُّ بها لغيرِه، وادَّعاها (¬2) لنفسِه، لم تُسْمَعْ دَعْواه؛ لأنَّه أقَرَّ بأنَّه لا يَمْلِكُها، فلا يُسْمَعُ منه الرُّجوعُ عن إقْرارِه. والحكمُ في غيرِ المُكَلَّفِ، كالحكمِ في الغائِبِ، على ما ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «فأعادها».

4894 - مسألة: (ؤإن أقر بها لمجهول، قيل: إما أن تعرفه، وإما أن نجعلك ناكلا)

وَإنْ أقَرَّ بِهَا لمَجْهُولٍ، قِيلَ لَهُ: إِمَّا أنْ تُعَرِّفَهُ، أوْ نَجْعَلَكَ نَاكِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4894 - مسألة: (ؤإن أقَرَّ بها لمَجْهولٍ، قيل: إمَّا أن تُعَرفَه، وإمَّا أنْ نَجْعَلَك ناكِلًا) [ويُقالُ له: هذا ليس بجواب، فإن أقْرَرْتَ بها لمَعْروفٍ، وإلَّا جَعَلْناك ناكِلًا] (¬1) وقضَينا عليك. فإن أصَرَّ، قُضِيَ عليه بالنُّكُولِ؛ لأنَّه لا تُمْكِنُ الدَّعْوَى على مَجْهُولٍ، فيَضِيعُ الحقُّ بإقْرارِه هذا، فيَجِبُ أن لا يُقْبَلَ، كما لو سَكَتَ. ¬

(¬1) سقط من: م.

فَصْل: وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلا مُحَرَّرَةً تَحْرِيرًا يُعْلَمُ بِهِ المُدَّعَى، إلا فِي الوَصِيَّةِ وَالإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه الله: (ولا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً تَحْرِيرًا يُعْلَمُ به المُدَّعَى، إلَّا في الوصيةِ والإِقْرارِ، فإنَّها تجوزُ بالمجْهولِ) أمَّا في غيرِ ذلك فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الحاكمَ يَسْألُ المُدَّعَى عليه عمّا ادَّعاه المُدَّعِي، فإنِ اعْتَرَفَ به، لَزِمَه، ولا يُمْكِنُه أن يُلْزِمَه مَجْهُولًا. ويُفارِقُ الإقْرارَ، فإنَّ الحقَّ عليه، فلا يَسْقُطُ بتَرْكِه إثْباتَه. وإنَّما صَحَّتِ الدَّعْوَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في الوصيةِ مَجْهولةً؛ فلأنَّها تَصِحُّ مجهولةً، فإنَّه لو وَصَّى له بشيءٍ أو سَهْم صَحَّ، فلا يُمْكِنُه أن يَدَّعِيَها إلَّا مَجْهُولةً كما ثَبَتَ، وكذلك الإِقْرارُ، لَمّا صَحَّ أن يُقِرَّ بمَجْهولٍ، صَحَّ لخَصْمِه أن يَدَّعِي عليه أنَّه أقَرَّ له بمَجْهولٍ. إذا ثَبَت هذا، فإن كان المُدَّعَى أثْمانًا، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ ثلاثةِ أشْياءَ؛ الجِنْس، والنَّوْعِ، والقَدْرِ، فيقالُ: عَشَرَةُ دَنانِيرَ مِصْرِيَّةٍ. وإنِ اخْتَلَفَتْ بالصحاحِ والمُكَسَّرَةِ [قال: صِحاحٌ. أو قال: مُكَسَّرَةٌ] (¬1). ¬

(¬1) تكملة من المغني 14/ 67.

4895 - مسألة: (فإن كان المدعى عينا حاضرة، عينها)

فَإِنْ كَانَ المُدَّعَى عَينًا حَاضِرَةً، عَيَّنَهَا، وَإنْ كَانَتْ غَائِبَةً، ذَكَرَ صِفَاتِهَا، إِنْ كَانتْ تَنْضَبِطُ بهَا، وَالأوْلَى ذِكْرُ قِيمَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4895 - مسألة: (فإن كان المُدَّعَى عَينًا حاضِرَةً، عَيَّنها) بالإشارةِ؛ لأنَّها تُعْلَمُ بذلك (وإن كانَتْ غائِبَة، ذَكَر صِفاتِها، إن كانت تَنْضَبِطُ بِهَا، وإلَّا ذَكَر قِيمَتَها) لأنَّها لا تَتَمَيَّزُ ولَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بذلك،

4896 - مسألة: (وإن كانت تالفة من ذوات الأمثال، ذكر قدرها وجنسها وصفتها)

وَإنْ كَانَتْ تَالِفَةً مِنْ ذَوَاتِ الأمْثَالِ، ذَكَرَ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَصِفَتَهَا، وَإنْ ذَكَرَ قِيمَتَهَا كَانَ أوْلَى، وَإنْ لَمْ تَنْضَبِطْ بِالصِّفَاتِ، فَلابُدَّ مِنْ ذِكْرِ قِيمَتِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تَعَذَّرَ ذلك، رَجَعْنا إلى القِيمَةِ، كما لو تَلِفَتِ العَينُ. 4896 - مسألة: (وإن كانت تالِفةً مِن ذَواتِ الأمْثالِ، ذَكَر قَدْرَها وجنْسَها وصِفَتَها) لأنَّ المِثْلَ واجِث في ذَواتِ الأمْثالِ، فوجَبَتْ فيه هذه الصِّفاتُ؛ لأنَّه لا يتَحَقَّقُ المثْلُ بدُونِها (وإن ذَكَرَ قِيمتَها كان أوْلَى) لأنَّه أحْصَرُ. وإنْ كان ممّا لا مِثْلَ له، كالنباتِ (¬1) والحيوانِ، ذَكَر قِيمَتَه؛ لأنَّها تَجِبُ بتَلَفِه. وكذلك إن كان جَوْهرًا، تَعَيَّنَ ذِكْرُ قِيمَتِه؛ لأنَّها (¬2) لا تَنْضَبِطُ إلَّا بذلك. فإن كان المُدَّعَى دارًا، فلا بُدَّ مِن بَيانِ مَوْضِعِها وحُدُودِها، فيَدَّعِي أنَّ هذه الدارَ (¬3) بحُدودِها وحُقوقِها لي، وأنَّها في يَدِه ظُلْمًا، وأنا أطالِبُه بردِّها. وإنِ ادَّعَى عليه أنَّ هذه الدارَ لي، وأنَّه يَمْنَعُنِي ¬

(¬1) في الأصل: «الثياب». (¬2) بعده في م: «تجب بتلفه لأنها». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منها، صحَّتِ الدَّعْوَى وإنْ لم يَقُلْ: إنَّها في يَدِه. لأنَّه يجوزُ أن يُنازِعَه ويمنعَه وإن لم تكنْ في يَدِه. وإنِ ادَّعَى جِراحَةً فيها أرُوش معْلُومَة، كالمُوضِحَةِ مِن الحُرِّ، لم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ أرْشِها؛ لأنَّه مَعْلُوم. وإن كانت مِن عبدٍ، أو كانت مِن حُر لا مُقَدَّرَ فيها، فلابُدَّ مِن ذِكْرِ أرْشِها. وإنِ ادَّعَى على أبيه (¬1) دَينًا، لم تُسْمَعِ الدَّعْوَى حتى يَدَّعِي أنَّ أباه مات، وتَرَك في يَدِه مالًا؛ لأنَّ الولَدَ لا يَلْزَمُه قضاءُ دينِ والدِه، ما لم يكنْ كذلك. ويَحْتاجُ أن يَذْكُرَ تَرِكَةَ أبيه، ويُحَرِّرَها، ويذْكُرَ قَدْرَها، كما يَصْنَعُ في قَدْرِ الدَّينِ. هكذا ذكرَه القاضي. قال شيخُنا (¬2): والصحيحُ أنَّه يحْتاجُ إلى ذِكْرِ ثلاثةِ أشْياءَ؛ قَدْرِ دَينه، ومَوْتِ أبِيه، وأنَّه وَصَل إليه مِن تركةِ أبيه ما فيه وَفاء لدَينه. وإن قال: ما فيه وَفاء لبعضِ دَينه. احْتاجَ أن يَذْكُرَ ذلك القَدْرَ. والقولُ قولُ المُدَّعَى عليه في نَفْي تركةِ الأبِ مع ¬

(¬1) في الأصل: «ابنه». (¬2) في: المغني 14/ 68.

4897 - مسألة: (وإن ادعى نكاحا، فلابد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت، وإلا ذكر اسمها ونسبها، وذكر شروط النكاح، وأنه تزوجها بولي مرشد وشاهدي عدل، ورضاها، في الصحيح من المذهب)

وَإنِ ادَّعَى نِكَاحًا، فَلَابُدَّ مِنْ ذِكْرِ المَرأةِ بِعَينها إِنْ حَضَرَتْ، وَإلَّا ذَكَرَ اسْمَهَا وَنَسَبَهَا، وَذَكَرَ شُرُوطَ النِّكَاحِ، وَأنَهُ تَزَوَّجَهَا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَرِضَاهَا، فِي الصَّحِيحِ مِنَ المَذْهَبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يمينيه. وكذلك إن أنْكَرَ موتَ أبيه، ويَكْفِيه أنْ يَحْلِفَ على (¬1) نفي العِلْمِ؛ لأنَّه على نفْي فعلِ الغيرِ، وقد يموتُ ولا يَعْلَمُ به ابنُه، ويَكْفِيه أن يَحْلِفَ أنَّه ما وَصَل إليه مِن تركةِ أبيه شيء، ولا يَلْزَمُه أن يَحلِفَ أنَّ أباه لم يُخَلِّفْ شيئًا؛؟ لأنَّه قد يُخَلِّفُ تَرِكَةً لا تَصِلُ إليه، فلا يَلْزَمُه الإِيفاءُ منه. 4897 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى نِكاحًا، فلابُدَّ مِن ذِكْرِ المرأةِ بعينها إن حَضَرَتْ، وإلَّا ذَكَر اسْمَها ونَسَبَها، وذَكَر شُرُوطَ النِّكَاحِ، وأنَّه تَزَوَّجَها بولِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلٍ، ورِضاها، في الصحيحِ مِن المذْهَبِ) إن كانت ممَّن يُعْتَبَرُ رِضاها. وهذا مَنْصُوصُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ، ومالك: لا يحْتاجُ إلى ذِكْرِ شَرَائِطِه؛ لأنَّه نَوْعُ مِلْكٍ، فأشْبَهَ مِلْكَ العَبْدِ، إلَّا أنَّه لا يحتاجُ أن يقولَ: وليستْ مُعْتدَّةً ولا مُرْتَدَّةً. ولَنا، أنَّ الناسَ اخْتَلَفُوا في شَرائِطِ النِّكاحِ؛ فمنهم مَن يَشْتَرِطُ الوَلِيَّ والشُّهُودَ، ومنهم مَن لا يَشْتَرِطُ إذْنَ البِكْرِ البالِغِ لأبيها في تَزْويجِها، ومنهم مَن يَشْتَرِطُه، وقد يَدَّعِي نِكاحًا يَعْتَقِدُه صحيحًا، والحاكمُ لا يَرَى صحتَه، ولا يَنْبَغِي أن يَحكُمَ بصحتِه مع جَهْلِه بها، ولا يَعْلَمُها ما لم يَذْكُرِ الشُّرُوطَ، وتَقُمِ (¬1) البَينةُ بها. ويُفارِقُ المال، فإنَّ أسْبابَه لا تَنْحَصِرُ، وقد يَخْفَى على المُدَّعِي سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّه، والعُقودُ تَكْثُرُ. شُرُوطُها، ولذلك اشْتَرَطْنا لصحَّةِ البيعِ شُرُوطًا سبعةً، فرُبَّما لا يُحْسِنُ المُدَّعِي عَدَّها (¬2) ولا يَعْرفُها، والأمْوالُ ممَّا يُتساهَلُ فيها، ولذلك افْتَرَقا في اشْتِراطِ الوليِّ والشُّهُودِ في عُقودِه، فافْتَرَقا في الدَّعْوَى. وأمَّا الرِّدَّةُ والعِدَّةُ، فالأصْلُ عَدَمُهما، ولا يَخْتَلِف الناسُ فيه، ولا تَخْتَلِف (¬3) به الأغْراضُ. ¬

(¬1) في النسخ: «تقوم». (¬2) في الأصل: «عددها». (¬3) سقط من: الأصل.

4898 - مسألة: (وإن ادعى بيعا، أو عقدا سواه، فهل يشترط

وَإنِ ادَّعَى بَيعًا، أو عَقْدًا سِوَاهُ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شُرُوطِهِ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كانتِ المرْأةُ أمَةً والزوْجُ حُرا، فقياسُ ما ذَكَرْنا، أنَّه يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ (¬1) عَدَمِ الطَولِ، وخوْفِ العَنَتِ، لأنَّهما مِن شَرائِطِ صِحَّةِ نِكاحِها (¬2). فأمَّا إنِ ادَّعَى اسْتِدامَةَ الزَّوْجِيَّةِ، ولم يَدَّعِ العَقْدَ، لم يَحْتَجْ إلى ذِكْر شُرُوطِه في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه يَثْبُتُ بالاسْتِفاضَةِ. ولو اشْتُرطَ ذِكْرُ الشروطِ، [لاشْتُرِطَتِ الشَّهادَةُ به، ولا يَلْزَمُ ذلك في شَهادَةِ الاسْتِفاضَةِ. وفي الثانِي، يحْتاجُ إلى ذِكْرِ الشرُوطِ] (¬3)، لأنَّه دَعْوَى نِكاح، أشْبَهَ دَعْوَى العَقْدِ. 4898 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى بيعًا، أو عَقْدًا سِواه، فهل يُشْتَرَطُ ¬

(¬1) سقط من النسخ، وانظر: المغني 14/ 277. (¬2) في م: «نكاحهما». (¬3) سقط من: الأصل.

يَحْتَمِلُ وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِكْرُ شُرُوطِه؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين) أمَّا سائِرُ العُقُودِ؛ مِن البَيعِ والإِجارَةِ والصُّلْحِ وغيرِها، فلا يفْتَقِرُ إلى الكَشْفِ [وذِكْر الشُّرُوطِ، في أصَحِّ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا يُحْتَاطُ لها ولا يَفْتَقِرُ إلى الوليِّ والشَهُودِ، فلم يَفْتَقِرْ إلى الكَشْفِ] (¬1)، كدَعْوَى العَينِ. وسَواء كان المبيعُ جارِيَةً أو غيرَها؛ لأنَّها مبِيعٌ، فأشْبَهَتِ العَبْدَ، وكذلك إذا كان المُدَّعَى عَينًا (¬2) أو دَينًا، لم يحْتَجْ إلى ذِكْرِ السَّبَبِ؛ لأنَّ أسْبابَ ذلك تَكْثُرُ ولا تَنْحَصِرُ، ورُبَّما خَفِيَ على المُسْتَحِقِّ سَبَبُ اسْتِحْقاقِه، فلا يُكَلَّفُ بَيانَه، ويَكْفِيه أن يقولَ: أسْتَحِقُّ هذه العَينَ التي في يَدِه -أو (¬3) - أسْتَحِقُّ كذا وكذا في ذِمَّتِه. ويقولَ في البيعِ: إنِّي اشْتَرَيتُ هذه الجارِيَةَ بألفْ دِرْهَم -أو- بعْتُها منه بذلك. ولا يَحْتاجُ أنْ يقولَ: وهي مِلْكُه -أو- وهي مِلْكِي ونحنُ جَائزا الأمرِ، وتَفَرَّقْنا عن تَراض. وذَكَر أبو الخَطَّابِ في العُقُودِ وَجْهًا آخرَ، أنَّه يُشْتَرَطُ ذِكْرُ شُرُوطِها، قِياسًا على النِّكاحِ. وذَكَر أصْحابُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «عبدا». (¬3) في م: «و».

4899 - مسألة: (وإن ادعت المرأة نكاحا على رجل، وادعت معه نفقة أو مهرا، سمعت دعواها، وإن لم تدع سوى النكاح، فهل تسمع دعواها؟ على وجهين)

وَإنِ ادَّعَتِ امْرأة نِكَاحًا عَلَى رَجُل، وَادَّعَتْ مَعَهُ نَفَقَةً أو مَهْرًا، سُمِعَتْ دَعْوَاهَا، وَإنْ لَمْ تَدَّعِ سِوَى النِّكَاحِ، فَهَلْ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا؟ عَلَى وَجْهَينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعيِّ هَذَين الوَجْهَين، ووَجْهًا ثَالِثًا، أتَّه (¬1) إن كان المبيعُ جارِيةً، اشْتُرِطَ ذِكْرُ شُرُوطِ البيعِ؛ لأنَّه عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ به الوَطْءُ، أشْبَهَ النِّكاحَ، وإن كان المَبِيعُ غيرَها، لم يُشْتَرَطْ؛ لعدَمِ ذلك. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّها دَعْوَى فيما لا يُشْتَرَطُ فيه الوليُّ والشُّهُودُ، أشْبَهَ دَعْوَى العَينِ. وما لَزِمَ ذِكْرُه في الدَّعْوَى، فلم يَذْكُرْه، سألَه الحاكمُ عنه، لتصيرَ الدَّعْوَى مَعْلُومَةً، فيُمْكِنَ الحاكمَ الحكمُ بها. 4899 - مسألة: (وإنِ ادَّعَتِ المرأةُ نِكاحًا على رَجُل، وادَّعَتْ معه نَفَقَةً أو مَهْرًا، سُمِعَتْ دَعْواها، وإن لم تَدَّعِ سوى النِّكَاحِ، فهل تُسْمَعُ دَعْواها؟ على وَجْهَين) [أمّا إذا] (¬2) ذَكَرَتِ المرأةُ (¬3) مع ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إذا». (¬3) زيادة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعْوَى الزّوْجِيّةِ حَقًّا مِن حُقوقِ النِّكاحِ، كالمهْرِ والنفقةِ ونحوها، فإنَّ دَعْواها تُسْمَعُ، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنّها تَدَّعِي حقًّا لها تُضِيفُه إلى سَبَبِه، فتُسْمَعُ دَعْواها، كما لو ادَّعَتْ إضافَتَه إلى الشِّراءِ. وإن أفْرَدَتْ دَعْوَى النِّكاحِ، فقال القاضي: تُسْمَعُ دَعْواها أيضًا؛ لأنَّه سَبَحث لحُقوق لها، فتُسْمَعُ دَعْوَاها فيه (¬1)، كالبيعِ. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه وَجْه آخَرُ، لا (¬2) تُسْمَعُ دَعْواها؛ لأنَّ النِّكَاحَ حَق للزَّوْجِ عليها، فلا تُسْمَعُ دَعواها حَقًّا لغيرِها. وإن قُلْنا بالأوَّلِ، سُئِل الزَّوْجُ، فإن أنْكَرَ ولم تكنْ بينة، فالقولُ قولُه بغيرِ يمين؛ لأنَّه إذا لم تُسْتَحْلَفِ المرأةُ والحَقُّ عليها، فلَأن لا يُسْتَحْلَفَ مَن الحَقُّ له وهو يُنْكِرُه أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أن يُسْتَحْلَفَ؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أنه لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَعْواها إنما سُمِعَتْ لتَضَمُّنِها دَعْوَى حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ تُشرَعُ فيها اليمينُ. وإن أقامَتِ (¬1) البينةَ بالنِّكاحِ، ثَبَت لها ما تَضَمَّنَه النِّكاحُ مِن حُقُوقِها. وأمَّا إباحَتُها، فتُبْنَى على باطِنِ الأمْرِ، فإن عَلِم أنَّها امْرأتُه، حَلَّتْ له؛ لأنَّ إنْكارَه النِّكاحَ ليس بطلاقٍ، ولا نَوَى به الطَّلاقَ، وإن عَلِم أنَّها ليستِ امْرَأتَه؛ إمَّا لعَدَمِ العَقْدِ، أو لبَينُونَتِها منه (¬2)، لم تَحِلَّ له. وهل يُمَكَّنُ منها في الطاهِرِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحَدُهما، يُمَكَّنُ منها؛ لأنَّ الحاكمَ قد حَكَم بالزَّوْجِيَّةِ. والثاني، لا يُمكنُ منها؛ لإقرارِه على نفْسِه بتَحْرِيمِها عليه (¬3)، فيُقْبَلُ قولُه في حَقِّ نفْسه، دُونَ ما عليه، كما لو تَزَوَّجَ امرأةً، ثم قال: هي أخْتِي مِن الرَّضاعَةِ. فإذا ثَبَت هذا، فإنَّ دَعْواها النِّكاحَ كدَعْوَى الزَّوْجِ، فيما ذَكَرْنا مِن الكَشْفِ عن سَبَبِ النِّكاحِ، وشَرائِطِ العَقْدِ. ومَذهَبُ الشافعيِّ قرِيبٌ ممَّا ذَكَرْنا في هذا الفَصْلِ. ¬

(¬1) في الأصل: «كانت». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

4900 - مسألة: (وإن ادعى قتل موروثه، ذكر القاتل، وأنه انفرد به، أو شاركه)

وَإنِ ادَّعَى قَتْلَ مَوْرُوثِهِ، ذَكَرَ الْقَاتِلَ، وَأنَهُ انْفَرَدَ بِهِ، أوْ شَارَكَ غَيرَهُ، وَأنَهُ قَتَلَهُ عَمْدًا، أوْ خَطَأً، أوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَيَصِفُهُ. وإنِ ادَّعَى الإرْثَ، ذَكَرَ سبَبَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4900 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى قتلَ مَوْرُوثِه، ذَكَر القاتِلَ، وأنَّه انْفَرَدَ به، أو شارَكَه) فيه (غيرُه، وأنَّه قَتَلَه عَمْدًا أو خَطَأً، أو شِبْهَ عَمْدٍ، ويَصِفُه) ويَذْكُرُ صِفَةَ العَمْدِ؛ لأَنه قد يَعْتَقِدُ ما ليس بعمدٍ عَمْدًا، فلا يُؤْمَنُ أن يُقْتَصَّ ممَّن لا يجبُ له القِصاصُ عليه، وهو ممّا لا يُمْكِنُ تلافيه، فوَجَبَ الاحْتِياطُ فيه. 4901 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى الإرْثَ، ذَكَر سَبَبَه) لأنَّ أسْبابَه تَخْتَلِفُ، ولابدَّ في الشَّهادَةِ مِن أن تكونَ على سَبَبٍ مُعَيَّن، فكذلك في

4902 - مسألة: (وإن ادعى شيئا محلى)

وَإنِ ادَّعَى شَيئًا مُحَلًّى، قَوَّمَهُ بِغَيرِ جِنْسِ حِلْيَتهِ، فَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا لِلْحَاجَةِ. فَصْلٌ: وَتُعْتَبَرُ فِي البَينةِ العَدَالةُ ظَاهِرًا وبَاطِنًا، فِي اخْتِيَارِ أبي بَكْرِ وَالقَاضِي. وَعَنْهُ، تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ مُسْلِم لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّعْوَى. 4902 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى شَيئًا مُحَلًّى) بذَهَبٍ [أو فِضَّةٍ] (¬1) (قَوَّمَه بغيرِ جِنْسِ حِلْيَته، وإن كان مُحَلًّى بذَهَب وَفِضَّةٍ، قَوَّمَه بما شاء منهما للحاجَةِ). فصل: قال الشَّيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وتُعْتَبَرُ في البَينةِ العدالةُ ظاهِرًا وباطِنًا، في اخْتِيارِ أبي بكر والقاضي. وعنه، تُقْبَلُ شهادَةُ كلِّ مسلم ¬

(¬1) سقط من: م.

اخْتارَهَا الخِرَقِيُّ. وإنْ جَهِلَ إِسْلَامَهُ، رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ. والْعَمَلُ عَلَى الأوَلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم تَظْهَرْ منه رِيبَةٌ. اخْتارَها الخِرَقِيُّ. وإن جَهِل إسْلامَه، رَجَع إلى قوله) والمذهبُ الأوَّلُ. وحملةُ ذلك، أنَّ الحاكمَ إذا شَهِد عندَه شاهِدان، فإن عَرَف عَدالتَهما، حَكَم بشَهادتِهما، وإن عَرَف فِسْقَهما، لم يَقْبَلْ قولَهما، وإن لم يَعْرِفْ حالهما، سأل عنهما؛ لأنَّ مَعْرِفَةَ العَدالةِ شَرْط في جميعِ الحُقوقِ. وبهذا قال الشافعي، وأبو يُوسُفَ، ومحمد. وعن أحمدَ، رِوايَة أخْرَى، يَحْكُمُ بشَهادَتِهما إذا عَرَف إسْلامَهما، بظاهِرِ الحالِ، إلَّا أن يقولَ الخَصْمُ: هما فاسقان. وهذا قولُ الحسنِ. والمالُ والحَدُّ في ذلك سَواء؛ لأنَّ الظّاهِرَ مِن المسلمين العَدالةُ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا قال عمرُ، رَضِيَ اللهُ عنه: المسلمون عُدُول بَعْضُهم على بعض (¬1). ورُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فشَهِدَ برُؤيَةِ الهلالِ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتَشْهَدُ أن لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ؟». قال: نعم [قال: «أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟». فقال.: نعم] (¬2). فصام وأمَرَ الناسَ بالصِّيامِ. ولأنَّ العَدالةَ أمْر خَفِي، سَبَبُها الخوْفُ مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ودليلُ ذلك الإِسلامُ، فإذا وُجِدَ، فلْيَكْتَفِ به، ما لم يَقُمْ على خِلافِه دليل. وقال أبو حنيفةَ في الحُدُودِ والقصاصِ كالرِّوايَةِ الأولَى، وفي سائرِ الحُقوقِ كالثانيةِ؛ لأنَّ الحُدودَ والقِصاصَ ممَّا يُحْتاطُ لها، وتُدْرَأ بالشُّبُهاتِ، بخلافِ غيرِها. ولَنا، أنَّ العَدالةَ شَرْط، فوَجَبَ العِلْمُ بها، كالإِسلامِ، وكما لو طَعَن الخَصْمُ فيهما (¬3). فأمَّا الأعْرابِي المسلمُ، فإنَّه مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثَبَتْ عَدالتُهم بثَناءِ اللهِ تعالى عليهم، فإنَّ مَن تَرَك ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 382. وهذه الجملة منه عند البيهقي في: السنن الكبرى 10/ 155، 156. (¬2) سقط من: م. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 340. (¬3) في الأصل: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِينَه في زَمَنِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إيثارًا لدينِ الإسلامِ، وصَحِب رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قد (¬1) ثَبَتَتْ عَدالته. وأمَّا قولُ عُمَرَ، فالمُرادُ به الظاهرُ (¬2) العدالةِ، ولا يَمْنَعُ ذلك وُجوبَ البَحْثِ ومعرفَةِ حقيقةِ العدالةِ، فقد رُوِيَ عنه أنَّه أُتِيَ بشاهِدَين، فقال لهما (1): لَسْتُ أعْرِفُكما، ولا يَضُرُّ كما أن لم أعْرِفْكُما، جِيئا بمَن يَعْرِفُكما. فأتيا برجل، فقال له عمرُ: تَعْرِفُهما؟ فقال: نعم. فقال عُمَرُ: صَحِبْتَهما في السَّفَرِ الذي تَبِينُ فيه جَواهِرُ الناسِ؟ قال: لا. قال: عامَلْتَهما في [الدنانيرِ والدراهمِ] (¬3) التي تُقْطَعُ فيها (¬4) الرَّحِمُ؟ قال: لا. قال: كنتَ جارًا لهما تَعْرِفُ. صباحَهما ومَساءَهما؟ قال: لا. قال: يا ابنَ أخي، لستَ تَعْرِفُهما، جِيئَا بمَن يَعْرِفُكما (¬5). وهذا بَحْث يدُلُّ على أنَّه لا يكْتَفى بدُونِه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الشَّاهِدَ يُعْتَبَرُ فيه أرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ الإِسلامُ، والبُلوغُ، والعقل، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «الدينار والدرهم». (¬4) في الأصل: «فيه». (¬5) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 10/ 125، 126. والعقيلي، في: الضعفاء الكبير 3/ 454، 455. وعندهما أنه شاهد واحد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعَدالةُ، وليس فيها ما يَخْفَى ويَحْتاجُ إلى البَحْثِ إلَّا العَدالةُ، فيَحْتاجُ إلى البَحْثِ عنها؛ لقولِ الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). ولا يَعْلَمُ أنَّه مَرْضِيٌّ حتى يَعْرِفَه، أو يُخْبَرَ عنه، فيَأمُرُ الحاكمُ بكَتْبِ أسْمائِهم، وكُناهم ونَسَبِهم، ويَرْفَعُ فيها بما يَتَمَيَّزونَ به عن غيرِهم، ويَكْتُبُ صَنائِعَهم، ومَعايِشَهم، ومَوْضِعَ مَسَاكِنِهم، وصَلاتِهم؛ ليَسْألَ عنهم جيرانَهم، وأهلَ سُوقِهم، ومَسْجِدِهم، ومَحَلَّتِهم، ويَحْكِيهَم (¬2)، فيَكْتُبُ: أسودُ أو أبيضُ، أو أنْزَعُ، أو أغَمُّ (¬3)، أو أشْهَلُ (¬4) أو أكْحَلُ، أقْنَى الأنفِ أو أفْطَس (¬5)، رَقِيقُ الشَّفَتَين أو غَلِيظُهما، طويلٌ أو قصير أو رَبْعَةٌ، ونحو هذا؛ ليَتَمَيَّزَ (¬6)، ولا يقَعَ اسْمٌ على اسم، ويكْتُبُ اسْمَ المَشْهُودِ له (¬7)، وقَدْرَ الحقِّ، ويَكْتُبُ ذلك كلَّه ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) في الأصل: «نحلتم». (¬3) أنزع: أي انحسر الشعر عن جانبي جبته. وأغم: أي سال شعر رأسه حتى ضاقت جبهته وقفاه. (¬4) أشهل: الشهل أن يشوب حدقة العين حمرة. (¬5) أقنى: القنا ارتفاع في أعلى الأنف بين القصبة والمارن من غير قبح. وأفطس: أي انخفضت قصبة أنفه. (¬6) في ق، م: «التمييز». (¬7) في الأصل: «عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأصْحابِ مَسائلِه، لكلِّ واحدٍ رُقْعَةً. وإنَّما ذَكَرْنا اسمَ (¬1) المَشْهُودِ له؛ لئلَّا يكونَ بينَه وبينَ الشاهدِ [قرابة تَمْنَعُ الشَّهادَةَ، أو شَرِكة، وذَكَرْنا اسمَ المَشْهُودِ عليه؛ ليُعْرَفَ، لِئلَّا يكونَ بينَه وبينَ الشَّاهِدِ] (¬2) عَدَواة، وذَكَرْنا قَدْرَ الحق؛ لأنَّه رُبَّما كان ممَّن يَرَوْنَ قَبُولَه في اليسيرِ دُونَ الكثيرِ، فتَطِيبُ نَفْسُ المُزَكِّى به إذا كان يسيرًا، ولا تَطِيبُ إذا كان كثيرًا. ويَنْبَغِي للقاضي أن يُخْفِيَ عن كلِّ واحدٍ مِن أصْحابِ مَسائِلِه ما يُعْطِي الآخَرَ مِن الرِّقاعِ؛ لئلَّا يَتَواطَئُوا. وإن شاء الحاكمُ عَيَّنَ لأصحابِ (¬3) مَسائِلِه مَن يَسْأله ممَّن يَعْرِفُه؛ مِن جِيرانِ الشّاهِدِ، وأهلِ الخِبْرَةِ به، وإن شاء أطْلَقَ، ولم يُعَيِّنِ المسئولَ. ويكونُ السُّؤالُ سِرًّا؛ لئلَّا يكونَ فيه هَتْكُ المسئولِ عنه، ورُبَّما يَخافُ المسئولُ مِن الشاهِدِ، أو (¬4) المشهودِ له، أو (4) المشهودِ عليه، أن يُخْبِرَ بما عندَه، أو يَسْتَحِي. ويَنْبَغِي أن يكونَ أصحابُ مَسائِلِه غيرَ مَعْرُوفِينَ؛ لئلَّا يُقْصَدوا بهديَّةٍ أو رِشْوةٍ، وأن يكونوا أصْحابَ عَفافٍ في الطُّعْمَةِ والأنْفُسِ، ذَوي عُقُولٍ وافِرَةٍ، أَبرياءَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لصاحب». (¬4) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من الشَّحْناءِ والبِغْضَةِ؛ لئلَّا يَطْعَنوا في الشّهودِ، أو يَسْألوا عن الشاهدِ عَدُوَّه فيَطْعَنَ فيه، فيَضِيعَ حَقُّ المَشْهُودِ له، ولا يكونون مِن أهلِ الأهْواءِ والعصبيَّةِ، يميلون إلى مَن وافَقَهم على مَن خالفَهما، ويكونون (¬1) أمَناءَ ثِقاتٍ؛ لأنَّ هذا مَوْضِعُ أمانَةٍ. وإذا رَجَع أصْحابُ مسائِلِه، فأخْبَرَ اثْنان بالعَدالةِ، قَبِل شَهادَتَه، وإنْ أخْبَرَا (¬2) بالجَرْحِ، رَدَّ شهادَتَه، وإن أخْبَرَ أحدُهما بالجَرْحِ، والآخَرُ بالتَّعْدِيلِ، بَعَث آخَرَين، فإن عادا فأخْبَرَا بالتَّعْدِيلِ، تَمَّتْ بَيِّنَةُ التَّعْديلِ، وسَقَط الجَرْحُ؛ لأنَّ بينتَه لم تَتِمَّ، وإن أخْبَرَا بالجَرْحِ، ثَبَت ورَدَّ الشَّهادَةَ، وإن أخْبَرَ أحَدُهما بالجَرْحِ والآخرُ بالتَّعْديلِ، لم تَتِمَّ البينتانِ، ويُقَدِّمُ الجَرْحَ، ولا يَقْبَلُ الجَرْحَ والتَّعْديلَ إلَّا مِن اثْنَين، ويَقْبَلُ قولَ أصحاب السائِلِ. وقيل: لا يَقْبَلُ إلَّا (¬3) شَهادَةَ المسئولِينَ، ويُكَلِّفُ اثْنَين منهم أنَّ يَشْهَدُوا بالتَّزْكِيَةِ والجَرْحِ عندَه، على شَرْطِ الشَّهادَةِ في (¬4) اللَّفْظِ وغيرِه، ولا يَقْبَلُ مِن صاحِبِ المسألَةِ؛ لأن ¬

(¬1) بعده في الأصل: «على». (¬2) في م: «أخبر». (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسخ: «و»، وانظر المغني 14/ 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك شهادةٌ على شَهادَةٍ، مع حُضورِ شُهودِ الأصْلِ. ووَجْهُ القولِ الأوَّلِ، أنَّ شَهادَةَ أصْحابِ المسائلِ شَهادةُ اسْتِفاضَةٍ، لا شَهادَة على شَهادَةٍ، فيُكْتَفَى بمَن يَشْهَدُ بها، كسائرِ شَهاداتِ الاسْتِفاضَةِ، ولأنَّه مَوْضِعُ حاجةٍ، فإنَّه لا يَلْزَمُ المُزَكِّيَ الحُضورُ للتَّزْكِيَةِ، وليس للحاكمِ إجْبارُه عليها، فصار كالمرضِ والغَيبَةِ في سائرِ الشَّهاداتِ، ولأنَّنا لو لم نَكْتَفِ بشهادةِ أصْحابِ المسائلِ، لتَعَذَّرَتِ التَّزْكِيَةُح لأنَّه قد لا يكونُ في جِيرانِ الشَّاهدِ مَن يَعْرِفُه الحاكِمُ (¬1)، فلا يَعْرِفُه الحاكمُ، فيَفوتُ الجَرْحُ والتَّعديلُ. فصل: ولابدَّ للحاكمِ مِن معرفةِ إسْلامِ الشَّاهِدِ. قاله القاضي. ويَحْصُلُ ذلك بأحَدِ أمُورٍ أرْبَعَةٍ؛ أحدُها، إخْبارُه عن نفْسِه أنَّه مسلمٌ، أو (¬2) إتْيانُه بكلمةِ الإِسْلامِ، وهي شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ؛ لأنَّه لو لم يكنْ مسلمًا صار مسلمًا بذلك. الثاني، اعْتِرافُ المشْهُودِ عليه بإسْلامِه؛ لأنَّه حَقٌّ عليه. الثالثُ، خِبْرَةُ الحاكمِ؛ لأننا اكْتَفَينا بذلك في عَدالتِه، فكذلك في إسْلامِه. الرابعُ، أن تقومَ به بَيَنة. ¬

(¬1) في م: «للحاكم». (¬2) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ الحُرِّيَّةِ في مَوْضِع تُعْتَبَرُ (¬1) فيه، ويَكْفِي في ذلك أحَدُ أمُورٍ ثلاثةٍ؛ البَيِّنَةُ، أو اعْتِرَافُ المشْهودِ عليه، أو خِبْرَةُ الحاكمِ. ولا يَكْفِي اعْترافُ الشاهدِ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ أن يصيرَ حُرًّا، فلا يَمْلِكُ الإِقْرارَ به. فصل: إذا شَهِد عندَ الحاكمِ مجْهولُ الحالِ، فقال المشْهودُ عليه: هو عَدْل. ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُ الحاكمَ الحُكْمُ (2) بشهادَتِه؛ لأنَّ البَحْثَ عن عدَالتِه لحَقِّ المشْهودِ عليه، وقد اعْترفَ بها، ولأنَّه إذ أقَرَّ بعَدالتِه، فقد أقَرَّ بما يُوجِبُ الحكَمَ لخَصْمِه عليه، فيُؤْخَذُ بإقْرارِه، كسائرِ أقارِيرِه. والثاني، لا يجوزُ الحكمُ بشَهادتِه؛ لأنَّ في (2) الحكمَ بها تَعْديلًا، فلا يَثْبُت بقولِ واحدٍ، ولأنَّ اعتِبار العَدِالةِ في الشاهدِ حَقٌّ للهِ تعالى، ولهذا لو رَضِيَ الخَصْمُ بأن يُحْكَمَ عليه بقولِ فاسِقٍ، لم يَجُزِ الحُكْمُ به، و (¬2) لأنَّه لا يَخْلُو؛ إمَّا أن يَحْكُمَ عليه مع تَعْديله، أو مع انتِفائِه، لا يجوزُ أن يُقال: مع تَعْديلِه. لأنَّ التَّعْديلَ لا يَثْبُتُ بقولِ الواحدِ، ولا يجوزُ مع انْتِفاءِ تَعْديلِه؛ لأنَّ الحكْمَ بشهادةِ غيرِ العَدْلِ لا يجوزُ، بدليلِ ¬

(¬1) في الأصل: «عليه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَةِ مَنْ ظَهَر فِسْقُه. ومَذْهَبُ الشافعيِّ مثلُ هذا. فإن قُلْنا بالأوَّلِ، فلا يَثْبُتُ تَعْديلُه في حقِّ (¬1) غيرِ المشْهودِ عليه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه التَّعْديلُ، وإنَّما حُكِم عليه لإِقْرارِه بوُجودِ شَرْطِ الحُكْمِ، وإقْرارُه يَثْبُتُ في حَقِّه دُونَ غيرِه، [كما لو أقَرَّ بحق عليه وعلى غيرِه، ثَبَت في حقِّه دُونَ غيرِه] (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

4903 - مسألة: (وإذا علم الحاكم عدالتهما، عمل بعلمه، وحكم بشهادتهما)

وَإذَا عَلِمَ الحَاكِمُ عَدَالتَهُمَا، عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4903 - مسألة: (وإذا عَلِم الحاكِمُ عَدالتَهما، عَمِل بعِلْمِه، وحَكَم بشهادَتِهما) لا نَعْلَمُ فيه خلافًا، وإذا عَرَف عَدالةَ الشُّهودِ، قال للمَشْهودِ عليه (¬1): قد شَهِدا عليك، فإن كان عندَك ما يَقدَحُ في شَهادَتِهم، فبَيِّنْه عندِي. فإن لم يَقْدَحْ في شَهادَتِهم، حَكم عليه؛ لأنَّ الحَق قد وَضَحَ (¬2) على وَجْهٍ لا إشْكال فيه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «صح».

4904 - مسألة: (إلا أن يرتاب بهما، فيفرقهما، ويسأل كل واحد)

إِلَّا أَنْ يَرْتَابَ بِهِمَا، فَيُفَرقَهُمَاْ وَيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ: كَيْفَ تَحَمَّلْتَ الشَّهَادَةَ؟ وَمَتَى؟ وَفِى أَيَّ مَوْضِعٍ؟ وَهَلْ كُنْتَ وَحْدَكَ أَوْ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنِ اخْتَلَفَا، لَمْ يَقْبَلْهَا، وَإِنِ اتَّفَقَا، وَعَظَهُمَا وَخَوَّفَهُمَا، فَإِنْ ثَبَتَا، حَكَمَ بِهِمَا إِذَا سَأَلَهُ المُدَّعِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4904 - مسألة: (إلَّا أن يَرْتابَ بهما، فيُفَرقَهما، ويَسْألَ كلَّ واحِدٍ) منهما: (كيف تَحَمَّلْتَ الشَّهادَةَ؟ ومتى؟ وفى أىِّ مَوْضِعٍ؟ وهل كنتَ وَحْدَك أوْ أنت وصاحِبُك؟ فإنِ اخْتَلَفَا، لم يَقْبَلْها، وإنِ اتَّفَقَا، وَعَظَهما وخَوَّفَهما، فإن ثَبَتا، حَكم بهما إذا سَأله المُدَّعِى) وجملةُ ذلك،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ الحاكمَ إذا ارْتابَ بشهادَةِ الشُّهودِ، احْتاجَ إلى البحثِ عنهم، لقولِ الله تِعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). ولا نَعْلَمُ أنَّه مَرْضِىّ حتى نَعْرِفَه، أو نُخْبَرَ عنه، فيُفَرِّقُهما ليَظْهَرَ له حالُهما، فيُفَرِّقُهم، ويَسْألُ كلَّ واحدٍ عن شَهادتِه وصِفَتِها، فيقولُ: كنتَ أوَّلَ مَن شَهِدَ- أو- كَتَبْتَ- أو- لم تَكْتُبْ، وفى أىِّ مكانٍ شَهِدْتَ؟ وفى أىِّ شهرٍ؟ وأىِّ يوم؟ وهل كنتَ وحدَك- أو- معك غيرُك؟ فإنِ اخْتَلَفوا سَقَطَتْ شَهادَتُهم، لأنَّه قد ظَهَر له ما يَمْنَعُ قَبُولَها. ويقالُ: أوَّلُ مَن فعلَ هذا دَانيالُ (¬2). وقيلَ: سليمانُ، عليه السَّلامُ، وهو صَغِيرٌ (¬3). ورُوِىَ عن علي، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ سَبْعَةَ نَفَر خَرَجوا، فَفُقِدَ واحد منهم، فأتَتْ زَوْجَتُه عليًّا، فَدَعا (¬4) السِّتَّةَ، فسَألَهم (¬5) فأنْكَرُوا، ففَرَّقَهم، وأقام كلَّ واحدٍ منهم عندَ (¬6) سارِيَةٍ، ووَكَّلَ به مَن يَحْفَظُه، ودَعا واحِدًا منهم، فسَألَه فأنكرَ، فقال: الله أكبرُ. فظَنَّ الباقون أنَّه قد اعْتَرَفَ، فدَعاهم، فاعْتَرَفوا، فقال للأوَّلِ: قد شَهِدُوا عليك، وأنا قاتِلُك. فاعْتَرَف، فقتلَهم. ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) انطر ما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 8/ 235. (¬3) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 565، 566. وانظر: تلخيص الحبير 4/ 194. (¬4) في م: «تدعى على». (¬5) بعده في م: «على». (¬6) سقط من: الأصل.

4905 - مسألة: وإن اتفقوا، وعظهم، وخوفهم، كما روى عن شريح، أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا: يا هذان، ألا تريان؟ إنى لم أدعكما، ولست أمنعكما أن ترجعا، وإنما يقضى على هذا أنتما، وأنا متق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 4905 - مسألة: وإنِ اتَّفَقُوا، وَعَظَهم، وَخَوَّفَهم، كما رُوِىَ عَن شُرَيْحٍ، أنَّه كان يَقُولُ للشَّاهِدَيْن إذا حَضَرا: يا هَذانِ، ألَّا تَرَيانِ؟ إنِّى لم أدْعُكُما، ولستُ أمْنَعُكما أن تَرْجِعَا، وإنَّمَا يَقْضِى على هذا أنتما، وأنا مُتقٍ (¬1) بكُما، فَاتَّقيا. وفى لَفْظٍ: فإنِّى بكما أقْضِى اليومَ (¬2)، وبكما أتَّقِى يومَ القيامَةِ (¬3). وروَى أبو حنيفةَ، قال: كنتُ عندَ مُحارِبِ بنِ دِثارٍ، وهو قاضِى الكُوفةِ، فجاء رجلٌ، فادَّعَى على رجل حَقُّا، فأنْكَرَه، فأحْضَرَ المُدَّعِى شاهِدَيْن، فشَهِدا له، فقال المشْهُودُ عليه: والذى تَقُومُ به السَّماءُ والأرضُ لقد كَذَبا علىَّ في الشَّهادَةِ. وكان مُحارِبُ ابنُ دِثارٍ مُتَّكِئًا فاسْتَوَى جالِسًا، وقال: سمعتُ ابنَ عُمَرَ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إِنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بأجْنِحَتِهَا، وتَرْمِى مَا فِى حَوَاصِلِهَا، مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬4). فإن صَدَقْتُما فاثْبُتا، وإن كَذَبْتما فَغَطِّيا ¬

(¬1) في الأصل، ق: «متقو». (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 417. (¬4) أخرج حديث: «إذ الطير لتخفق. . . .» البيهقى، في: باب وعظ القاضى الشهود. . . .، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 10/ 122. وأخرج حديث: «إن شاهد الزور. . . .». ابن ماجه، في: باب شهادة الزور، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجة 2/ 794. والحاكم، في: باب ظهور شهادة الزور من أشراط الساعة. من كتاب الأحكام. المستدرك 4/ 98. والبيهقى، في: الموضع السابق. والعقيلى، في: الضعفاء الكبير 4/ 123.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُءُوسَكما وانْصَرِفا. [فغَطَّيا رُءوسَهما وانْصَرَفا] (¬1). فصل: قال (¬2)، رَحِمَه اللهُ: يَنْبَغِى للقاضى أن يَسْألَ عن شُهودِه كلَّ قليل، لأنَّ الرجلَ يَنْتَقِلُ مِن حالٍ إلى حالٍ. وهل هذا مُسْتَحَب أو واجِبٌ؟ فيه وَجْهان، أحَدُهما، مُسْتَحَب، لأنَّ الأصْلَ بقاءُ ما كان، فلا يَزُولُ حتى يَثْبُتَ الجَرْحُ. والثاني، يَجِبُ البَحْثُ كلَّما مَضَتْ مُدَّة يَتَغَيَّرُ الحالُ فيها، لأنَّ العَيْبَ يَحْدُثُ، وذلك على ما يَرَاه الحاكمُ. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهان مثلُ هَذَيْن. فصل: وليس للحاكِمِ أن يُرَتِّبَ شُهُودًا لا يَقْبَلُ غيرَهم، لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3). ولأنَّ فيه إضْرارًا بالناسِ، وتَضْيِيقًا عليهم، لأنَّ كثيرًا مِن الوقائِعِ التى يُحْتاجُ إلى البينةِ فيها تَقَعُ عندَ غيرِ المُرَتَّبِينَ، فمتى ادَّعَى إنْسان شهادةَ غيرِ المُرَتَّبِين، وَجَب على الحاكمِ سَماعُ بينَتِه، والنَّظَرُ في عدالةِ شاهِدَيْه، ولا يجوزُ رَدُّهم بكونِهم مِن غيرِ المُرَتَّبِين، لأنَّ ذلك يُخالِفُ الكتابَ والسُّنَّةَ والإجْماعَ، لكنْ له أنْ يُرَتِّبَ ¬

(¬1) سقط من: م. والقصة ذكرها الذهبى عن عبد الملك بن عمير وليس عن أبي حنيفة. سير أعلام النبلاء 5/ 218. (¬2) يقصد الإمام أحمد، انظر: المغنى 14/ 51. (¬3) سورة الطلاق 2.

4906 - مسألة: (فإن ثبتا، حكم)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُهُودًا يُشْهِدُهم الناسُ فيَسْتَغْنُون بإشْهادِهم عن تَعْديلهم، ويَسْتَغْنِى الحاكمُ عن الكَشْفِ عن أحْوالِهم، فيكونُ فيه تخْفِيفٌ [مِن وَجْهٍ] (¬1)، ويكونون أيضًا يُزَكُّون (¬2) مَن عَرَفوا عَدالتَه مِن غيرِهم إذا شَهِد. 4906 - مسألة: (فإن ثَبَتا، حَكَم) بشَهادَتِهما؛ لأنَّ الظاهِرَ صِدْقُهما. ولا يَحْكُمُ حتى يَسْألَه المُدَّعِى؛ لأنَّ الحَقَّ له. وقد ذَكَرْناه. فصل: إذا اتَّصَلَتْ به الحادِثَةُ، واسْتَنارَتِ (¬3) الحُجَّةُ لأحَدِ الخَصْمَيْن، حَكَم إذا سَألَه؛ لِما بَيَّنا. وإن كان فيها لَبْسٌ، أمَرَهما بالصُّلْحِ، فإن أبَيا أخَّرَهما إلى البَيانِ، فإن عَجَّلها قبلَ البَيانِ، لم يَصِحَّ حُكْمُه. وممَّن رأى الِإصْلاحَ بينَ الخُصُومِ؛ شُرَيْحٌ، وعبدُ الله بِنُ عُتْبَةَ، وأبو حنيفةَ، والشَّعْبِىُّ، والعَنْبَرِىُّ. ورُوِىَ عن عمرَ، أنَّه قال: رُدُّوا الخُصُومَ حتى يَصْطَلِحُوا، فإنَّ فَصْلَ القَضاءِ يُحْدِثُ بينَ القَوْمِ الضَّغائِنَ (¬4). قال أبو عُبَيْدٍ: إنَّما يَسَعُه الصُّلْحُ في الأمُورِ المُشْكِلَةِ، أمَّا إذا اسْتَنارَتِ الحُجَّةُ لأحَدِ الخَصمَيْن، وتَبَيَّنَ له مَوْضِعُ الظَّالِمِ (¬5)، فليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يتركون». (¬3) بعده في م: «به». (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 303، 304. وابن أبي شيبة، في: المصنف 7/ 213، 214. (¬5) في م: «الظلم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له أنْ يَحْمِلَه على الصُّلْحِ. ونحوُه قولُ عَطاء. واسْتَحْسَنَه ابنُ المُنْذِرِ. ورُوِىَ عن شُرَيْحٍ أنَّه ما أصْلَحَ بين مُتحاكِمَيْن إلَّا مَرَّةً واحدةً. فصل: وإن حَدَثَتْ حادِثَةٌ، نَظَرَ في كتابِ اللهِ، [فإن وَجَدها] (¬1)، وإلَّا نَظَر في سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يَجِدْها، نَظَر في القِياسِ، فألْحَقَها بأشْبَهِ الأصُولِ (¬2) بها؛ لِما روَى عَمْرُو بنُ الحارِثِ ابنُ أخى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، عن رجالٍ (¬3) مِن أصْحابِ مُعاذٍ مِن أهلِ حِمْصَ، عن مُعاذٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمُعاذٍ حينَ بَعَثَه إلى اليَمَنِ: «بِمَ تَحْكُمُ؟». قال: بكتابِ اللهِ. قال: «فَإنْ لَمْ تَجِدْ؟». قال: بسُنَّةِ رسولِ اللهَ. قال: «فَإنْ لَمْ تَجِدْ؟». قال: أجْتَهِدُ رَأْيىِ، ولا آلو. قال: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِما يُرْضِى رَسُولَ اللهِ» (¬4). فإن قيلَ: عمرُو ابنُ أخى المُغيرةِ والرِّجالُ مَجْهولون. قُلنا: قد رَواه عُبادَةُ بنُ نُسَىٍّ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ غَنْمٍ، عن مُعاذٍ. ثم إنَّه حديثٌ مشهورٌ في كُتُبِ أهلِ العلمِ؛ رَواه سعيدُ بنُ مَنْصورٍ، والِإمامُ أحمدُ، وغيرُهما، وتَلَقَّاه العُلَماءُ بالقَبُولِ، وجاءَ عن الصَّحابةِ مِن قَوْلِهم ما يُوافِقُه، فرَوَى سعيدٌ، أنَّ عمرَ قال لشُرَيْحٍ: انْظُرْ ما تَبَيَّنَ لك في كتابِ اللهِ، [ولا تَسْألْ عنه أحدًا، وما لا يَتَبَيَّنُ لك في كتابِ الله] (1)، فاتَّبعْ فيه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الأشياء». (¬3) في م: «رجل». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 259.

4907 - مسألة: (وإن جرحهما المشهود عليه، كلف البينة بالجرح، فإن سأل الإنظار، أنظر ثلاثا)

وَإِنْ جَرَحَهُمَا المَشْهُودُ عَلَيْهِ، كُلِّفَ البَيَّنَةَ بِالْجَرْحِ، فَإنْ سَأَلَ الْإنْظَارَ، أُنْظِرَ ثَلَاثًا. وَلِلْمُدَّعِى مُلَازَمَتُهُ، فَان لَمْ يُقِمْ بَينّةَ، حُكِمَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّنَّةَ، وما لم يتَبَيَّنْ لك (¬1) في السُّنَّةِ، فاجْتَهِدْ فيه رَأيَك. وعن ابنِ مسعودٍ مثلُ ذلك (¬2). 4907 - مسألة: (وإن جَرَحَهما المَشْهُودُ عليه، كُلِّفَ البَيِّنَةَ بالجَرْحِ، فإن سألَ الِإنْظارَ، أنْظِرَ ثَلاثًا) ليَجْرَحَهما؛ لِما رُوِىَ عن عمرَ (¬3)، رَضِىَ الله عنه، أنَّه قال في كتابِه إلى أبي موسى: واجْعَلْ لمَن ادَّعَى حَقًّا غائِبًا أمدًا يَنْتَهِى إليه، فإن أحْضَرَ بينتَه، أخَذْتَ له حقَّه، وإلا اسْتَحْلَلْتَ القَضِيَّةَ عليه، فإنَّه أنْفَى للشَّك، وأجْلَى للعَمَى (¬4). 4908 - مسألة: (وللمُدَّعِى مُلازَمَتُه) إلَّا أن يُقِيمَ بَيِّنَةً بالجَرْحِ؛ لأنَّ الحقَّ قد ثَبَت في الظَّاهِرِ (فإذا لم يُقِمْ بَيِّنَةً) بالجَرْحِ (حُكِمَ عليه) ¬

(¬1) في م: «ذلك». (¬2) أخرجه عن عمر، ومن طريق سعيد بن منصور، البيهقى، في: باب موضع المشاورة. كما أخرجه عن عمر وابن مسعود، في: باب ما يقضى به القاضى، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 10/ 110، 115. (¬3) في م: «على». (¬4) تقدم تخريجه في صفحة 382.

4909 - مسألة: (ولا يسمع الجرح إلا مفسرا بما يقدح فى العدالة)

وَلَا يُسْمَعُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِى العَدَالَةِ، إِمَّا أَنْ يَرَاهُ، أَوْ يَسْتَفِيضَ عَنْهُ. وعنه، [332 و] أَنَّهُ يَكْفِى أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَلَيْسَ بِعَدْلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لظُهورِ الحَقِّ. 4909 - مسألة: (ولا يُسْمَعُ الجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا بما يَقْدَحُ في العَدالَةِ) ويُعْتَبَرُ فيه اللَّفْظُ، فيقولُ: أشْهَدُ أنِّى رَأيْتُه يَشْرَبُ الخَمْرَ، أو- سَمِعْتُه يَقْذِفُ- أو- رَأيْتُه يَظْلِمُ الناسَ بأخْذِ أمْوالِهم، أو ضَرْبِهم (¬1) - أو- يُعَامِلُ بِالرِّبا. أو يُعْلَمُ ذلك بالاسْتِفاضَةِ في الناسِ. ولابدَّ مِن ذِكْرِ السَّبَبِ وتَعْيِينه. وبهذا قال الشافعىُّ، وسَوّارٌ. وعنه، يَكْفِى أن يَشْهَدَ أنَّه فاسِقٌ، وليس بعَدْلٍ. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنَّ التَّعْديلَ يُسْمَعُ (¬2) مُطْلَقًا، فكذلك الجَرْحُ؛ لأنَّ التَّصْريحَ بالسَّبَبِ يَجْعَلُ الجارحَ فاسِقًا، يُوجِبُ عليه الحَدَّ في بعضِ الحالاتِ، وهو أن يَشْهَدَ عليه بالزِّنَى، فيُفْضِى الجَرْحُ إلى جَرْحِ الجارحِ، وتَبْطُلُ شَهادَتُه، ولا يَتَجَرَّحُ بها المَجْرُوحُ. ¬

(¬1) في الأصل: «ميزتهم». ولعلها: «ميرتهم». (¬2) في الأصل: «يقبل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، أنَّ الناسَ يَخْتلفون في أسْبابِ الجَرْحِ، كاخْتِلافِهم في شاربِ يَسِيرِ النَّبِيذِ، فوَجَبَ أن لا يُقْبَلَ بمُجَرَّدِ الجَرْحِ، لئَلَّا يَجْرَحَه بما لا يَراه القاضى جَرْحًا، ولأنَّ الجَرْحَ يَنْقُلُ عن الأصْلِ، فإنَّ الأصْلَ في المسلمين العَدالَةُ، والجرحُ يَنْقُلُ عنها، فلابدَّ أن يُعْرَفَ النَّاقلُ؛ لئلَّا يُعْتَقَدَ نَقْلُه بما لا يَراه الحاكمُ ناقِلًا. وقولُهم: إنَّه يُفْضِى إلى جَرْحِ الجارحِ، وإيجابِ الحَدِّ عليه. قُلْنا: ليس كذلك؛ لأنَّه يُمْكِنُه التَّعْرِيضُ مِن غيرِ تَصْريحٍ. فإن قيل: ففى بَيانِ السَّبَبِ هَتْكُ المَجْروحِ. قُلْنا: لا بُدَّ مِن هَتْكِه؛ فإنَّ الشَّهادَةَ عليه [بالفِسْقِ هَتْكٌ، ولكن جاز ذلك للحاجةِ الدَّاعِيَةِ إليه، كما جازَتِ الشَّهادةُ عليه] (¬1) به لِإقامَةِ الحَدِّ عليه، بل ههُنا أوْلَى، فإنَّ فيه دَفْعَ الظّلْمِ عن المشْهودِ عليه، وهو حَقُّ آدَمِى، فكان أوْلَى بالجَوازِ، ولأنَّ هَتْكَ عِرْضِه بسَبَبِه، لأنَّه تعَرَّضَ للشَّهادةِ مع ارْتِكابِه ما يُوجِبُ جَرْحَه، فكان هو الهاتِكَ لنَفْسِه، إذ كان فِعْلُه المُحْوِج للناسِ إلى جَرْحِه. فإن صَرَّحَ الجارِحُ بقَذْفِه بالزِّنَى، فعليه الحَدُّ إن لم يَأْتِ بتَمامِ أرْبَعَةِ شُهَداءَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعىُّ: لا حَدَّ عليه إذا كان بلَفْظِ الشَّهادَةِ، لأنَّه لم يَقْصِدْ إدْخالَ المَعَرَّةِ عليه. ولَنا، قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1). ولأنَّ أبا بَكْرَةَ ورَفِيقَه شَهِدُوا على المُغِيرةِ بالزِّنَى، ولم يُكْمِلْ زيادٌ شَهادَتَه، فجَلَدهم عمرُ حَدَّ القَذْفِ بمَحْضَرٍ مِن الصَّحابةِ (¬2)، ولم يُنْكِرْه مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا. ويَبْطُلُ ما ذَكَرُوه بما إذا (¬3) شَهِدُوا عليه لِإقامَةِ الحَدِّ عليه. فصل: فإنْ أقامَ [المُدَّعَى عليه] (¬4) بينةً، أنَّ هَذَيْن الشاهِدَيْن شَهِدا بهذا الحَقِّ عندَ حاكمٍ، فرَدَّ شَهادَتَهما لفِسْقِهما، بَطَلَتْ شَهادَتُهما، لأنَّ الشَّهادةَ إذا رُدَّتْ لفِسْقٍ، لم تُقْبَلْ مَرَّةً ثانيةً. ¬

(¬1) سورة النور 4. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 408. (¬3) سقط من: م. (¬4) في النسخ: «المدعى». وانظر المغنى 14/ 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُقْبَلُ الجَرْحُ والتَّعْديلُ مِن النِّساءِ. وقال أبو حنيفةَ: يُقْبَلُ؛ لأنَّه لا (¬1) يُعْتَبَرُ فيه لَفْظُ الشَّهادَةِ، فأشْبَهَ الرِّوايَةَ، وأخْبارَ الدِّياناتِ (¬2). ولَنا، أنَّها شَهادَةٌ فيما ليس بمالٍ، ولا يُقْصَدُ منه (¬3) المالُ، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ في غالبِ الأحْوالِ، فأشْبَهَ الشَّهادَةَ في القِصاصِ. وما ذَكَرُوه مَمْنُوعٌ. فصل: ولا يُقْبَلُ الجَرْحُ مِن الخَصْمِ، بلا خِلافٍ بينَ العُلَماءِ. فلو قال المشْهودُ عليه: هذان فاسِقان- أو- عَدُوَّان- أو- آباءُ (¬4) المشْهودِ له. لم يُقْبَلْ قَوْلُه؛ لأنَّه مُتَّهَم في قَوْلِه، ويَشْهَدُ بما يَجُرُّ إلى نفْسِه نَفْعًا، فأشْبَهَ الشَّهادةَ لنَفْسِه. ولأنَّنا (¬5) لو قَبِلْنا قولَه، لم يَشَأْ أحَدٌ أنْ يُبْطِلَ شَهادةَ مَن شَهِد عليه إلَّا أبْطَلَها، فتَضِيعَ الحقوقُ، وتَذْهَبَ حِكمَةُ شَرْعِ (¬6) البَيِّنةِ. فصل: ولا تُقْبَلُ شهادةُ المُتَوَسّمِينَ، وذلك إذا حَضَر مُسافِران، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «الديات». (¬3) في م: «به». (¬4) في م: «أبا». (¬5) في الأصل: «لنا». (¬6) سقط من: م.

4910 - مسألة: (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله، قال للمدعى: زدنى شهودا)

وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَاسِقٌ يَعْرِفُ حَالَهُ، قَالَ لِلْمُدَّعِى: زِدْنِى شُهُودًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فشهِدا عندَ حاكمٍ لا يَعْرِفُهما، لم يَقْبَلْ شَهادَتَهما. وقال مالكٌ: يَقْبَلُهما إذا رأى منهما (¬1) سِيما الخَيْرِ؛ لأنَّه لا سَبِيلَ إلى معرفةِ عدالَتِهما، ففى التَّوَقُّفِ عن قَوْلِهما تَضْيِيعُ الحُقوقِ، فوجَبَ الرُّجوعُ فيهما إلى السِّيماءِ (¬2) الجميلةِ. ولَنا، أنَّ عَدالَتَهما مجهولةٌ، فلم يَجُزِ الحُكْمُ بشَهادَتِهما، كشاهِدَىِ الحَضَرِ. وما ذكرُوه مُعارَضٌ بأنَّ (¬3) قَبُولَ شَهادَتِهما يُفْضِى إلى القَضاءِ بشَهادتِهما في دَفْعِ الحَقِّ إلى غيرِ مُسْتَحِقِّه. 4910 - مسألة: (وإن شَهِد عندَه فاسِقٌ يَعْرِفُ حالَه، قال للمُدَّعِى: زِدْنِى شُهُودًا) ولا يَقْبَلُ قولَه؛ لقولِ الله تِعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4). ويقولُ للمُدَّعِى: زِدْنِى شُهُودًا. لئلَّا يَفْضَحَه. ¬

(¬1) في م: «منها». (¬2) في الأصل: «السماء». (¬3) في الأصل: «فإن». (¬4) سورة الحجرات 6.

4911 - مسألة: (وإن جهل حاله، طالب المدعى بتزكيته)

وَإِنْ جَهِلَ حَالَهُ، طَالَبَ المُدَّعِىَ بِتَزْكِيَتَهِ. وَيَكْفِى فِى التَّزْكِيَةِ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ عَدْلٌ رِضًا، وَلَا يَحْتَاجُ أنْ يَقُولَ: عَلَىَّ وَلِىَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4911 - مسألة: (وإن جَهِل حالَه، طالَبَ المُدَّعِىَ بتَزْكِيَتِه) لأنَّه رُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه أُتِىَ بشاهِدَيْن، فقال لهما: إنِّى لا أعْرِفُكما، ولا يَضُرُّكما أن لم أعْرِفْكما، جِيئا بمَن يَعْرِفُكما (¬1). ولأنَّ العدَالَةَ شَرْطٌ في قَبولِ الشهادةِ، على ما ذَكَرْنا، فإذا شَكَّ في وُجودِها، كانت كعَدَمِها، كشُروطِ الصلاةِ. 4912 - مسألة: (ويَكْفِى في التَّزْكِيةِ شاهِدانِ يَشْهَدان أنَّه عَدْلٌ رِضًا، ولا يَحْتاجُ أن يقولَ) في التزكيةِ: (عَلَىَّ وَلِىَ) وهذا قولُ أكثرِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 479.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ شُرَيْحٌ، وأهلُ العراقِ، ومالكٌ، وبعضُ الشافعيةِ. وقال أكْثَرُهم: لا يَكْفِيه إلَّا أن يقولَ: علىَّ ولِىَ. واخْتَلَفُوا في تَعْلييه، فقال بعضُهم: لئلَّا تكونَ بينَهما عَداوةٌ أو قَرابَةٌ. وقال بعضُهم: لئلَّا يكونَ عَدْلًا في شئٍ دونَ شئٍ. ولَنا، قولُه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). فإن شَهِدا أنَّه عَدْلٌ، ثَبَت ذلك بشَهادَتِهما، فيَدْخُلُ في عُمومِ الآيةِ، ولأنَّه إذا كان عَدْلًا، لَزِم أن يكونَ له وعليه، وفى حقِّ سائرِ الناسِ، وفى كلِّ شئٍ، فلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه. ولا يَصِحُّ ما ذَكَرُوه، فإنَّ الإنسانَ لا يكونُ عَدْلًا في شئ دُونَ شئٍ، ولا في حَقِّ شَخْصٍ دونَ شَخْصٍ، فإنَّها لا تُوصَفُ بهذا، ولا تَنْتَفِى أيضًا بقَوْلِه: علىَّ ولِىَ. فإنَّ مَن ثَبَتَتْ عَدالَتُه، لم تَزُلْ بقَرابَةٍ ولا عَداوَةٍ، وإنَّما تُرَدُّ شَهادَتُه للتُّهْمَةِ مع كونِه عَدْلًا، ثم إنَّ هذا إذا كان مَعْلُومًا انْتِفاؤْه بينَهما، لم يَحْتَجْ إلى ذِكْرِه ولا نَفيِه عن نفسِه، [كما لو شَهدِ بالحقِّ مَن عرَف الحاكمُ عدالتَه، لم يَحْتَجْ إلى أن يَنْفِىَ عن نفسِه ذلك] (¬2)، ولأنَّ العداوةَ لا تَمْنَعُ مِن شَهادَتِه له بالتَّزْكِيَةِ، وإنَّما تَمْنَعُ الشَّهادةَ عليه، وهذا شاهِدٌ له بالتَّزْكِيَةِ والعَدالةِ، فلا حاجَةَ به (¬3) إلى نَفْىِ العَداوةِ. ¬

(¬1) سورة الطلاق 2. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَكْفِى أن يقولَ: ما أعلمُ منه إلَّا الخَيْرَ. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وقال أبو يوسُفَ: يَكْفِى؛ لأنَّه إذا كان مِن أهلِ الخِبْرَةِ به، ولا يَعْلَمُ منه إلَّا الخَيْرَ، فهو عَدْلٌ. [ولَنا] (¬1)، أنَّه لم يُصَرِّحْ بالتَّعْديلِ، فلم يكنْ تَعْديلًا، كما لو قال: أعْلَمُ منه خَيْرًا. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الجاهِلَ بحالِ أهلِ الفِسْقِ، لا يَعْلَمُ منهم إلَّا الخَيْرَ؛ لأنَّه يَعْلَمُ إسلامَهم، وهو لا يَعْلَمُ منهم (¬2) غيرَ ذلك، وهم غيرُ عُدولٍ. قال أصْحابُنا: ولا يُقْبَلُ التَّعْديلُ إلَّا مِن أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ، والمعرفةِ المُتَقادِمَةِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لخَبَرِ. عمرَ الذى قَدَّمْناه، ولأنَّ عادةَ الناسِ إظْهارُ الطَّاعاتِ وإسْرارُ المَعاصِى، فإذا لم يكنْ ذا خِبْرَةٍ باطنةٍ، فرُبَّما اغْتَرَّ (¬3) بحُسْنِ ظاهِرِه، وهو فاسِقٌ في الباطِنِ. وهذا يَحْتَمِلُ أن ¬

(¬1) في الأصل: «قلنا». (¬2) بعده في الأصل: «من». (¬3) في الأصل: «اعتبر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُرِيدَ الأصْحابُ بما ذَكَرُوه أنَّ الحاكمَ إذا عَلِمَ أنَّ المُعَدِّلَ لا خِبْرَةَ له، لم يَقْبَلْ شهادتَه بالتَّعْديلِ، كما فعَل عمرُ، رَضِىَ اللهُ عنه. ويَحْتَمِلُ أنَّهم أرادوا أنَّه (¬1) لا يجوزُ للمُعَدِّلِ الشَّهادةُ بالعَدالةِ، إلَّا أن تكونَ له خِبْرَةٌ باطِنَةٌ. فأمَّا الحاكمُ (¬2) إذا شَهِد عندَه العَدْلُ بالتَّعديلِ، ولم يَعْرِفْ حقيقةَ الحالِ، فله أن يَقْبَلَ الشَّهادَةَ مِن غيرِ كَشْفٍ، وإنِ اسْتَكْشَفَ الحالَ، كما فعَل عمرُ، رَضِىَ الله عنه، فحسَنٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) في م: «الحكم».

4913 - مسألة: (وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، فالجرح أولى)

وَإنْ عَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَحَهُ اثْنَانِ، فَالجَرْحُ أوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4913 - مسألة: (وإن عَدَّلَه اثْنان، وجَرَحَه اثْنانِ، فالجَرْحُ أوْلَى) وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ: يُنْظَرُ أيُّهما أعْدَلُ؛ اللَّذان جَرَحاه، أو اللَّذان عَدَّلاه، فيُؤْخَذُ بقولِ أعْدَلِهما. ولَنا، أنَّ الجارحَ معه زِيادَةُ عِلْم خَفِيَتْ على المُعَدِّلِ، فوَجَبَ تَقْدِيمُه؛ لأنَّ التَّعْديلَ مُتَضَمِّنٌ تَرْكَ الرِّيَبِ [والمحارم] (¬1)، والجارِحَ مُثْبِتٌ لوُجودِ ذلك، والإِثْباتُ مُقَدَّمٌ على النَّفْىِ، ولأنَّ الجارِحَ يقولُ: رأيتُه يَفْعَلُ كذا (¬2). والمُعَدِّلَ مُسْتَنَدُه أنَّه لم يَرَه يفْعَلُ، ويُمْكِنُ صِدْقُهما والجمعُ بينَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

4914 - مسألة: (وإن سأل المدعى حبس المشهود عليه حتى يزكى شهوده، فهل يحبس؟ على وجهين)

وَإنْ سَأَلَ المُدَّعِى حَبْسَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ حَتَّى يُزَكِّىَ شُهُودَهُ، فَهَلْ يُحْبَس؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَوْلَيْهما بأن يَراه الجارِحُ يَفْعَلُ المعصيةَ، ولا يَراه المُعَدِّلُ، فيكونُ مَجْروحًا. 4914 - مسألة: (وإن سَأَل المُدَّعِى حَبْسَ المَشْهُودِ عليه حتى يُزَكِّىَ شُهُودَه، فهل يُحْبَسُ؟ على وَجْهَيْن) أحَدُهما، يُحْبَسُ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ العدالَةُ وعَدَمُ الفِسْقِ، ولأنَّ الذى على الغَريمِ قد أتَى به، وإنَّما

4915 - مسألة: (وإن أقام شاهدا، وسأل حبسه حتى يقيم الآخر، حبسه إن كان فى المال)

وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَسَأَلَ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الآخَرَ، حَبَسَهُ إِنْ كَانَ فِى المَالِ، وَإنْ كَانَ فِى غَيْرِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَقِىَ ما (¬1) على الحاكِمِ، وهو الكَشْفُ عن عَدالةِ الشُّهودِ. والثانى، لا يُحْبَسُ؛ لأنَّ الأصْلَ براءَةُ الذِّمَّةِ. وقيل (¬2): يُحْبَسُ في المالِ فقط. 4915 - مسألة: (وإن أقام شاهِدًا، وسأل حَبْسَه حتى يُقِيمَ الآخَر، حَبَسَه إن كان في المالِ) لأنَّ الشَّاهِدَ حُجَّةٌ فيه، وإنَّما اليَمِينُ مُقوِّيَةٌ (¬3) له. وإن كان في غيرِه، لم يُحْبَسْ؛ لأنَّه لا يكونُ حُجَّةً في إثْباتِه، أشْبَهَ ما لو لم يُقِمْ شاهِدًا. وفيه وَجْة آخَرُ، أنَّه يُحْبَسُ، كالتى قبلَها. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه إن حُبِس ليُقِيمَ شاهِدًا آخَرَ يُتِمُّ بهما البَيِّنَةَ، فهو ¬

(¬1) بعده في م: «كان». (¬2) في الأصل: «قد». (¬3) في م: «معونة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كالحَقِّ الذى لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، وإن حُبِسَ ليَحْلِفَ معه، فلا حاجَةَ إليه؛ لأنَّ الحَلِفَ مُمْكِنٌ في الحالِ، فإن حَلَفَ، ثَبَت حَقُّه، وإلَّا لم يَجِبْ شئٌ. ويَحْتَمِلُ أن يقالَ: إن كان المُدَّعِى باذِلًا لليَمِينِ، والتَّوَقُّفُ لإِثْباتِ عدالَةِ الشَّاهِدِ (¬1)، حُبِس؛ لِما (¬2) ذَكَرْنا في التى قبلَها. وإن كان التَّوَقُّفُ عن الحُكْمِ لغيرِ ذلك، لم يُحْبَسْ؛ لِما ذَكَرْنا. قال القاضى: وكُلُّ مَوْضِعٍ حُبِس فيه بشاهِدَيْن، دام الحَبْسُ حتى تَثْبُتَ عدَالةُ الشُّهودِ أو فِسْقُهمِ، وكلُّ مَوْضِعٍ حُبِسَ بشاهِدٍ واحدٍ، فإنَّه يُقالُ للمَشْهُودِ له: إن جِئْتَ بشاهِدٍ آخَرَ إلى ثلاثٍ وإلَّا أطْلَقْناه. وإن أقام شاهِدَيْن، فحُبِسَ حتى يُزَكِّىَ شُهودَه، فقيلْ: يُمْهَلُ ثلاثةَ أيامٍ أيضًا، كالتى قبلَها. ¬

(¬1) في م: «الشاهدين». (¬2) في م: «كما».

4916 - مسألة: (وإن حاكم إليه من لا يعرف لسانه، ترجم

وَإِنْ حَاكَمَ إلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُ، تَرْجَمَ لَهُ مَنْ يَعْرِفُ لِسَانَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [وهو أوْلَى، إن شاء اللهُ تعالى؛ لأنَّ الحَبْسَ عُقُوبَةٌ، فإذا قُلْنا: يُحْبَسُ حتى يُزَكِّىَ شُهودَه. فكُلُّ مَنِ أراد حَبْسَ خَصْمِه، أقام شاهِدَيْن مَجْهُولَيْن لا يَعْرفُهما الحاكمُ، ويَبْقَى خصْمُه في الحَبْسِ دائمًا، وهذا ضَرَرٌ كثيرٌ، مع أنَّ الأصْلَ براءَةُ الذمَّةِ، فأمَّا الثَّلاثةُ أيامٍ، فهى يَسِيرَةٌ] (¬1). فصل: إذا ادَّعَى العَبْدُ أنَّ سيِّدَه أعْتَقَه، وأقام شاهِدَيْن لم يُعَدَّلَا (¬2)، فسأل الحاكمَ أن يَحُولَ بينَه وبينَ سيِّدِه، إلى أن يَبْحَثَ الحاكِمُ عن عَدالَةِ الشُّهودِ، [فعلى الحاكمِ فعلُ] (¬3) ذلك، ويُؤجِرُه من ثِقَةٍ، يُنْفِقُ عليه مِن كَسْبِه، ويَحْبِسُ الباقِىَ، فإن عُدِّلَ الشاهِدان، أسْلَمَ إليه الباقىَ مِن كَسْبِه، وإن فُسِّقَا، رُدَّ إلى سَيِّدِه. وإنَّما حُلْنا بينَهما؛ لِما ذَكَرْناه في الفَصْلِ الذى قبلَ هذا، ولأنَّنا لو لم نَحُلْ بينَهما، أفْضَى إلى أن تكونَ أمَةً فيَطَأَها. وإن أقام شاهِدًا واحِدًا، وسألَ أن يُحالَ بينَهما، ففيه وَجْهان. فصل: وإن أقامَتِ المرأةُ شاهِدَيْن يَشْهدان بطَلاقِها، ولم تُعْرَفْ عَدالَةُ الشُّهودِ، حِيلَ بينَه وبينَها، وإن أقامَتْ شاهِدًا واحِدًا، لم يُحَلْ بينَهما؛ لأنَّ البَيِّنةَ لم تَتِمَّ، وهذا ممّا لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن. 4916 - مسألة: (وإن حاكَمَ إليه مَن لا يَعْرِفُ لِسانَه، تَرْجَمَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «يفده». (¬3) في م: «فعل الحاكم».

4917 - مسألة: (ولا يقبل فى الترجمة، والجرح، والتعديل، والتعريف، والرسالة، إلا قول عدلين. [وعنه، يقبل قول)

وَلَا يَقْبَلُ فِى التَّرْجَمَةِ، وَالجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، وَالتَّعْرِيفِ، وَالرِّسَالَةِ، إِلَّا قَوْلَ عَدْلَيْنِ. وعنه، يَقْبَلُ قَوْلَ وَاحِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له مَن يَعْرِفُ لِسانَه) إذا تحاكمَ إلى القاضى العَرَبِىِّ أعْجَمِيَّانِ، أو أعْجَمِىٌّ وعَرَبِىٌّ، فلا بُدَّ مِن مُتَرْجِمٍ عنهما. 4917 - مسألة: (ولا يَقْبَلُ في التَّرْجَمَةِ، والجَرْحِ، والتَّعْدِيلِ، والتَّعْرِيفِ، والرِّسالَةِ، إلَّا قولَ عَدْلَيْن. [وعنه، يَقْبَلُ قولَ) عدلٍ (واحدٍ) لا تُقْبَلُ التَّرجمةُ إلَّا مِن اثْنَيْن عَدْلَيْن] (¬1). وبهذا قال الشافعىُّ. وعن أحمدَ [روايةٌ أُخْرَى، أنها تُقْبَلُ مِن] (¬2) واحدٍ. وهذا اخْتِيارُ أبى بكرٍ عبدِ العزيزِ، وابنِ المُنْذِرِ، وقولُ أبى حنيفةَ. قال ابنُ المُنْذِرِ، في حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَه أن يتَعَلَّمَ كتابَ يَهودَ. قال: فكنتُ أكْتُبُ له إذا كَتَب إليهم، وأقْرأ له إذا كَتَبُوا إليه (¬3). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «أنه يقبل». (¬3) سقط من: م. وانظر ما تقدم تخريجه في صفحة 365.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه ممَّا لا يَفْتَقِرُ إلى لَفْظِ الشَّهادَةِ، فأجْزَأ فيه الواحدُ، كأخْبارِ الدِّياناتِ. [ولنا، أنَّه] (¬1) نَقْلُ ما خَفِىَ عن الحاكمِ إليه، فيما يتَعَلَّقُ بالمُتَحاكِمَيْن، فوَجَبَ فيه العَدَدُ، كالشَّهادةِ، ولأنَّ ما لا يَفْهَمُه الحاكمُ وُجودُه عندَه كغَيْبَتِه، فإذا تُرْجِمَ له، كان كنَقْلِ الإِقْرارِ إليه مِن غيرِ مَجْلِسِه، ولا يُقْبَلُ ذلك إلَّا مِن شاهِدَيْن، كذا ههُنا. فعلى هذه الرِّوايةِ، تكونُ التَّرْجَمَةُ شَهادةً تَفْتَقِرُ إلى العَدَدِ والعدَالةِ، ويُعْتَبَرُ فيها مِن الشُّروطِ ما يُعْتَبَرُ في الشَّهادةِ على الِإقْرارِ بذلك الحقِّ، فإن كان ممّا يَتَعَلَّقُ بالحُدودِ والقِصاصِ، اعتُبِرَ فيه الحُرِّيَّةُ، ولم يَكْفِ إلَّا شاهِدانِ ذَكَرانِ. وإن كان [مالَا، كَفَى] (¬2) فيه تَرْجَمةُ رجل وامْرَأتَيْن، ولم تُعْتَبَرْ فيه الحُرِّيَّةُ. وإن كان في حَدِّ زِنًى، خُرِّجَ في التَّرْجَمَةِ فيه (¬3) وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَكْفِى فيه أقَلُّ مِن أربعةِ رجالٍ أحْرارٍ عُدُولٍ. والثانى، يَكْفِى فيه اثْنان، بِناءً (¬4) ¬

(¬1) في م: «ولأنه». (¬2) في الأصل: «مما يكفى». وفى م: «مما لا يكفى». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على الرِّوايَتَيْن في الشَّهادَةِ على الإِقْرارِ بالزِّنى. ويُعْتَبَرُ فيه لَفْظُ الشَّهادةِ؛ لأنَّه شهادَةٌ. وإن قُلْنا: يَكْفِى فيه واحِدٌ. فلا بُدَّ مِن عَدالَتِه، ولا تُقْبَلُ مِن كافِرٍ ولا فاسِقٍ. وتُقْبَلُ مِن العَبْدِ؛ لأنَّه مِن أهلِ الشَّهادةِ والرِّوايةِ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُقْبَلُ مِن العَبْدِ؛ لأنَّه (¬1) ليس مِن أهلِ الشَّهادَةِ. ولَنا، أنَّه خَبَرٌ يَكْفِى فيه قولُ الواحدِ، فيُقْبَلُ فيه خَبَرُ العَبْدِ، كأخْبارِ الدِّياناتِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ هذه شَهادَةٌ، [ولا أنَّ] (¬2) العبدَ ليس مِن أهلِ الشَّهادةِ، ولا يُعْتَبَرُ فيه لَفْظُ الشَّهادةِ، كالرِّوايةِ. وعلى هذا الأصْلِ ينبغِى أن تُقْبَلَ فيه تَرْجَمَةُ المرأةِ إذا كانت مِن أهلِ العدالةِ؛ لأنَّ رِوايَتَها مَقْبولةٌ. فأمَّا الجَرْحُ والتَّعْديلُ، فلا يُقْبَلُ (¬3) إلَّا مِن اثْنَيْن. وبهذا قال مالكٌ، ¬

(¬1) في م: «لكونه». (¬2) في م: «ولأن». (¬3) في م: «يكون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعىُّ، ومحمدُ بنُ الحسنِ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، يُقْبَلُ ذلك مِن واحدٍ. وهو اخْتِيارُ أبى بكرٍ، وقولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه خَبَرٌ لا يُعْتَبَرُ فيه لفظُ الشَّهادةِ، فيُقْبَلُ مِن واحدٍ، كالرِّوايةِ. ولَنا، أنَّه إثْباتُ صِفَةِ مَن يَبْنِى الحاكمُ حُكْمَه على صِفَتِه، فاعْتُبِرَ فيه (¬1) العَدَدُ، كالحَضانَةِ. وفارَقَ الرِّوايةَ، فإنَّها على المُساهَلَةِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّها لا تَفْتَقِرُ إلى لفْظِ الشَّهادةِ. فصل: والحُكْمُ في التَّعْريفِ والرِّسالةِ، كالحُكْمِ في التَّرجمةِ، وفيها مِن الخِلافِ ما فيها. ذَكَره شيْخُنا في الكتابِ المشروحِ. وذَكَرَه الشَّريفُ أبو جعفرٍ، وأبو الخَطَّابِ. [وقد ذَكَرْنا الجرْحَ والتعْديلَ فيما قبلَ هذا الفصلِ] (¬2). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م. وانظر ما تقدم في صفحة 476 - 487، 494 - 505.

4918 - مسألة: (ومن ثبتت عدالته مرة، فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين)

وَمَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ مَرَّةً، فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَي تَجْدِيدِ البَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4918 - مسألة: (ومَن ثَبَتَتْ عَدالَتُه مَرَّةً، فهل يَحْتاجُ إلى تَجْدِيدِ البَحْثِ عن عَدالَتِه مَرَّةً أُخْرَى؟ على وَجْهَيْن) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن ثَبَتَتْ عدالَتُه، ثم شَهِد عندَ الحاكمِ بعدَ ذلك بزَمَنٍ قريبٍ، حَكَمَ بشَهادتِه وعَدالَتِه؛ لأنَّ عَدالَتَه ثَبَتَتْ. وإن كان بعدَه بزَمَنٍ طويلٍ، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا يحْتاجُ إلى ذلك. والثاني، يحْتاجُ؛ لأنَّ مع (¬1) طُولِ الزَّمانِ تَتَغَيَّرُ الأحْوالُ. ¬

(¬1) في م: «من».

فَصْلٌ: وَإِنِ ادَّعَى عَلَى غائِبٍ، أَوْ مُسْتَتِرٍ فِى البَلَدِ، أَوْ مَيِّتٍ، أوْ صَبِىٍّ، [332 ظ] أَوْ مَجْنُونٍ، وَلَهُ بَيِّنَةٌ، سَمِعَهَا الْحَاكِمُ وَحَكَمَ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: (وإنِ ادَّعَى علي غائِبٍ، أو مُسْتتِرٍ في البلدِ، أو مَيِّتٍ، أو صَبِىٍّ، أو مَجْنُونٍ، وله بَيِّنَةٌ، سَمِعَها الحاكِمُ وحَكَم بها) مَن ادَّعَى حقًّا على غائبٍ في بلدٍ آخرَ، وطَلَب مِن الحاكِمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سماعَ البينةِ، والحُكْمَ بها عليه، فعلى الحاكِمَ إجابَتُه، إذا كَمَلَتِ الشُّروطُ. وبهذا قال ابنُ شُبْرُمَةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ، والأوْزاعِىُّ، واللَّيْثُ، وسَوَّارٌ، وأبو عُبَيْدٍ، وإسْحاقُ-، وابنُ المُنْذِرِ. وكان شُرَيْحٌ لا يَرَى القضاءَ على الغائِبِ. وعن أحمدَ مِثْلُه. وبه قال ابنُ أبى ليلَى، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، وأصْحابُه. ورُوىَ ذلك عن القاسمِ، والشَّعْبِىِّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ قال: إذا كان له خصْمٌ حاضِرٌ، مِن وَكِيلٍ أو شَفِيعٍ، جازَ الحُكْمُ عليه. واحْتَجُّوا بما رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال لعليٍّ: «إذَا تَقَاضَى إلَيْكَ رَجُلانِ، فَلَا تَقْضِ لِلْأوَّلِ حتى تَسْمَعَ كَلامَ الآخَرِ، فَإنَّكَ (¬1) تَدْرِى بما تَقْضِى». قال التِّرْمِذِيُّ (¬2): هذا حديثٌ حسنٌ (¬3). ولأنَّه قضاءٌ لأحَدِ الخَصْمَيْن وحدَه، فلم يَجُزْ، كما لو كان الآخَرُ في البَلَدِ، ولأنَّه يجوزُ أن يكونَ للغائِبِ ما يُبْطِلُ البينةَ، ويَقدَحُ فيها، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لا». (¬2) في: باب ما جاء في القاضى لا يقضى بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 72. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 143، 150. والبيهقى، في: باب ما يقول القاضى إذا جلس الخصمان بين يديه، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 10/ 137. (¬3) بعده في م: «صحيح».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يَجُزِ الحُكْمُ عليه. ولَنا، أنَّ هِنْدًا قالت: يا رسولَ اللهِ، إن أبا سُفْيانَ رجلٌ شَحِيحٌ، وليس يُعْطِينِى ما يَكْفِينى ووَلَدِى؟ قال: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فقَضَى عليه لها، ولم يكنْ حاضِرًا. ولأنَّ هذا له (¬2) بَيِّنَةٌ مَسْمُوعَةٌ عادِلَةٌ (¬3)، فجاز الحُكْمُ بها، كما لو كان الخَصْمُ حاضِرًا، [وقد وافَقَ أبو حنيفةَ في سماعِ البينةِ؛ لأنَّ ما تأخَّرَ عن سُؤالِ المُدَّعِى إذا كان حاضِرً] (¬4)، يُقَدَّمُ عليه إذا كان غائِبًا، كسَماعِ البينةِ. وأمَّا حديثُهم، فنقولُ به إذا تَقاضَى إليه رَجُلان، لم يَجُزِ الحُكْمُ قبلَ سَماعِ كلامِهما، وهذا يَقْتَضِى أن يكونا حاضِرَيْن، ويُفارِقُ الحاضِرُ الغائِبَ؛ فإنَّ البينةَ لا تُسْمَعُ على حاضِر إلَّا بحَضْرَتِه، والغائبُ بخِلافِه. وقد ناقَضَ أبو حنيفةَ أصْلَه، فقال: إذا جاءتِ امرأةٌ فادَّعَتْ أنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 24/ 288. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «وعادلة». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لها زَوْجًا غائِبًا، وله مالٌ في يَدِ رجلٍ، وتحْتاجُ إلى النَّفَقَةِ، فاعْتَرَفَ لها بذلك، فإنَّ الحاكمَ يَقْضِى عليه بالنَّفَقَةِ، ولو ادَّعَى على حاضِرٍ أنَّه اشْتَرَى مِن غائبٍ ما فيه شُفْعَةٌ، وأقام بينةً بذلك، حَكَم بالبَيْعِ والأخْذِ بالشُّفْعَةِ، ولو مات المُدَّعَىٍ عليه، فحضَرَ بعضُ ورثتِه، أو حضَرَ وكيلُ الغائِبِ، وأقامَ المُدَّعِى بينةً، حَكَم له بما ادَّعاه. فصل: وكذلك الحُكْمُ في المُسْتتِرِ في البلدِ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ حُضُورُه، أشْبَهَ الغائِبَ، بل أوْلَى، فإن الغائِبَ مَعْذُورٌ، ولا عُذْرَ للمُسْتَتِرِ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايةِ حَرْبٍ. وروَى حَرْبٌ، بإسْنادِه، عن أبى موسى، قال: كان الخَصْمان إذا اخْتَصَما إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاتَّعَدا الموْعِدَ، فوَفَّى (¬1) أحدُهما، ولم يُوَفِّ الآخَرُ، قَضَى للذى وَفَّى (¬2). ولأنَّه لو لم يحْكُمْ عليه، لجعَلَ الاسْتِتارَ وسيلَةً إلى تَضْيِيعِ الحُقوقِ. ¬

(¬1) في الأصل: «فتوفى». (¬2) عزاه الهيثمى للطبراني، في الأوسط، وفيه أن معاوية بن أبى سفيان هو الذى قال ذلك لأبي موسى. وقال الهيثمى: وفيه خالد بن نافع الأشعرى، قال أبو حاتم: ليس بقوى، يكتب حديثه، وضعفه الأئمة. مجمع الزوائد 4/ 198.

4919 - مسألة: والميت المدعى عليه كالغائب، بل أولى؛ لأن الغائب قد يحضر، بخلاف الميت. قال الشاعر

وَهَلْ يَحْلِفُ المُدَّعِى أَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَا مِنْ شَىْءٍ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4919 - مسألة: والمَيِّتُ المُدَّعَى عليه كالغائِبِ، بل أوْلَى؛ لأنَّ الغائِبَ قد يَحْضُرُ، بخِلافِ المَيِّتِ. قال الشاعرُ (¬1): وكلُّ ذِى غَيْبَةٍ يَئُوبُ … وغائِبُ الموْتِ لا يَئُوبُ وكذلك الصَّبِىُّ والمجنونُ المُدَّعَى عليهما، يجوزُ سَماعُ البينةِ عليهما، والحُكْمُ عليهما بها (¬2)؛ لأنَّه لا يُعَبِّرُ عن نفسِه، فهو كالغائِبِ. وفى المستتِرِ قول آخَرُ، يَأْتِى ذِكْرُه. والغَيْبَةُ المُعْتبرةُ إلى مسافةِ القَصْرِ؛ لأنُّها التى تُبْنَى عليها الأحْكامُ. 4920 - مسألة: (وهل يَحْلِفُ المُدَّعِى أنَّه لم يَبْرَأْ إليه منه، ولا مِن شئٍ منه؟ على رِوايَتَيْن) وجملةُ ذلك، أنَّ البينةَ إذا قامت على غائبٍ، أو غيرِ مُكَلَّفٍ كالصَّبِىِّ والمجنونِ، لم يُسْتَحْلَفِ المُدَّعِى مع بينتِه (¬3)، في ¬

(¬1) هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 13. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «يمينه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أشْهَرِ الرِّوايَتَيْن؛ لقولِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّنَةُ على المُدَّعِى، والْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬1). ولأنَّها بَيِّنَةٌ عادِلَةٌ، فلم تَجِبِ اليمينُ معها، كما لو كانتْ على حاضرٍ. والثانيةُ، يُسْتَحْلَفُ معها. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ اسْتَوْفَى ما قامَتْ به البينةُ، أو مَلَّكَه العَيْنَ التى قامتْ بها البينةُ، ولو كان حاضرًا فادَّعَى ذلك، لوَجَبَتِ اليمينُ، فإذا تَعَذَّرَ ذلك منه لغَيْبَتِه، أو عَدَم. تَكْلِيفِه، يجبُ أن يقومَ الحاكمُ مَقامَه فيما يُمْكِنُ دَعْواه، ولأنَّ الحاكمَ مَأْمُورٌ بالاحْتِياطِ [في حَقِّ الصَّبِىِّ والمجنونِ والغائبِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم لا يُعَبِّرُ عن نفسِه، وهذا مِن الاحْتياطِ] (¬2). والأُولَى ظاهِرُ المذهبِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 252. (¬2) سقط من: الأصل.

4921 - مسألة: (ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبى، أو أفاق المجنون، فهو على حجته)

ثُمَّ إِذَا قَدِمَ الغَائِبُ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِىُّ، أوْ أفَاقَ المَجْنُونُ، فَهُوَ عَلَى حُجَّتِه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4921 - مسألة: (ثم إذا قَدِم الغائِبُ، أو بَلَغ الصَّبِىُّ، أو أفاق المَجْنُونُ، فهو على حُجَّتِه) أمَّا إذا قَدِم الغائبُ قبلَ (¬1) الحُكمِ، فإنَّ الحُكْمَ يَقِفُ على حُضورِه، فإن جَرَحَ الشُّهودَ، لم يَحْكُمْ علية، وإنِ اسْتَنْظَرَ الحاكمَ، أجَّلَه ثلاثًا، فإن أقام البَيِّنَةَ بجَرْحِهم، وإلَّا حَكَم عليه. وإنِ ادَّعَى القَضاءَ أو الإِبراءَ، وكانت له بينةٌ به بَرِئَ، وإلَّا حَلَف المُدَّعِى، وحَكَمَ له. وإن قَدِم بعدَ الحُكْمِ، فجَرَحَ الشُّهودَ بأمرٍ كان قبلَ الشَّهادةِ، بَطَل الحُكْمُ؛ لفَواتِ شَرْطِه، وإن جَرَحَهم- بأمرٍ بعدَ أداءِ الشَّهادةِ أو مُطْلقًا، لم يَبْطُلِ الحُكْمُ، ولم يَقْبَلْه الحاكمُ؛ لجوازِ أن يكونَ بعدَ الحُكْمِ، فلا يَقدَحُ فيه. فصل: ولا يُقْضَى على الغائبِ إلَّا في حُقُوقِ الآدميِّين، فأمَّا في الحُدودِ التى لله تِعالى، فلا يُقْضَى بها عليه؛ لأنَّ مَبْناها على المُساهَلَةِ، والإِسْقاطِ، فإن قامَتْ بينةٌ على غائبٍ بسرقةِ مالٍ، حُكِمَ بالمالِ دُونَ القَطْعِ. فصل: ظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه إذا قُضىَ على الغائبِ بعَيْنٍ، سُلِّمَتْ ¬

(¬1) في م: «عن».

4922 - مسألة: (وإن كان الخصم فى البلد غائبا عن المجلس، لم تسمع البينة حتى يحضر، فإن امتنع من الحضور، سمعت البينة

وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ فِى البَلَد غَائِبًا عَنِ المَجْلِسِ، لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ حَتَّى يَحْضُرَ، فَإنِ امْتَنَعَ عَنِ الحُضُورِ، سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ وَحُكِمَ بِهَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المُدَّعِى، وإن قُضِىَ عليه بدَينٍ، ووُجدَ له مالٌ، وُفِّىَ (¬1) منه، فإنَّه قال في رِوايةِ حَرْبٍ، في رجل أقام بينةً أنًّ له سَهْمًا مِن ضَيْعَةٍ في أيْدِى قومٍ، فتَوارَوْا عنه: يُقْسَمُ عليهم، شَهِدُوا أو غابوا، ويُدْفَعُ إلى هذا حقُّه. ولأنَّه ثَبَت حَقُّه بالبينةِ، فيُسَلَّمُ إليه، كما لو كان خَصْمُه حاضِرًا. ويَحْتَمِلُ أن لا يُدْفَعَ إليه شئٌ حتى يُقِيمَ كَفِيلًا أنَّه متى حَضَر خَصْمُه، وأبْطَلَ دَعْواه، فعليه ضَمانُ ما أخَذَه؛ لئلَّا يَأْخُذَ المُدَّعِى ما حُكِم له به، ثم يَأْتِىَ خصْمُه، فيُبْطِلَ حُجَّتَه، أو يُقِيمَ بينةً بالقضاءِ أو (¬2) الِإبراءِ، أو (¬3) يَمْلِكَ العَيْنَ التى قامت بها البينةُ بعدَ ذَهابِ المُدَّعِى [وغَيبتِه] (¬4) أو مَوتِه، فيَضِيعَ مالُ المُدَّعَى عليه. وظاهرُ كلامِ أحمدَ الأوَّلُ، فإنَّه قال، في رجلٍ عندَه دابَّةٌ مسروقةٌ، فقال: هى عندِى وَدِيعَةٌ: إذا أقِيمَتِ البينةُ أنَّها له، تُدْفَعُ إلى الذى أقامَ البينةَ، حتى يَجِئَ صاحِبُ الوديعةِ فيُثْبِتَ. 4922 - مسألة: (وإن كِان الخَصْمُ في البلدِ غائبًا عن المجْلِسِ، لم تُسْمَعِ البَيِّنَةُ حتى يَحْضُرَ، فإنِ امْتَنَعَ مِن الحُضُورِ، سُمِعَتِ البَيِّنَةُ ¬

(¬1) في م: «أخذ». (¬2) في م: «و». (¬3) في الأصل: «أو». (¬4) سقط من: م.

فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن. وَفِي الأُخْرَى، لَا تُسْمَعُ حَتَّى يَحْضُرَ، فَإِنْ أَبَى، بَعَثَ إِلَى صَاجِبِ الشُّرَطَةِ لِيُحْضِرَهُ، فَإِن تَكَرَّرَ مِنْهُ الاسْتِتَارُ، أَقْعَدَ عَلَى بَابِهِ مَنْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِى دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ حَتَّى يَحْضُرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وحُكِمَ بها، في إِحْدَى الرِّوايَتَيْن. وفى الأُخْرَى، لا تُسْمَعُ حتى يَحْضُرَ، فإن أبَى، بَعَث إلى صاحِبِ الشُّرَطَةِ ليُحْضِرَه، فإن تَكَرَّرَ منه الاسْتتارُ، أقْعَدَ على بابِه مَن يُضَيِّقُ عليه في دُخُولِه وخُرُوجِه حتى يَحْضُرَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحاضِرَ في البلدِ، أو قريبٍ منه، إذا لم يَمْتنعْ مِن الحُضورِ، لم يُحْكَمْ عليه قبلَ حُضورِه، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهٌ، أنَّه يُقْضَى عليه في غَيْبَتِه؛ لأنَّه غائِبٌ، أشْبَهَ الغائِبَ البعيدَ. ولَنا، أنَّه أمْكَنَ سُؤالُه، [فلم يَجُزِ الحُكمُ عليه قبلَ سؤالِه، كحاضرِ المجلسِ، ويُفارِقُ الغائبَ البعيدَ، فإنَّه لا يُمْكِنُ سؤالُه] (¬1). فإنِ امْتَنَعَ مِن ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُضورِ أو (¬1) تَوارَى، فظاهِرُ كلام أحمدَ جوازُ القضاءِ عليه؛ لِما ذَكَرْنا عنه في روايةِ حَرْبٍ. وروَى عنهَ أبو طالبٍ, في رجلٍ وَجَد غُلامَه عندَ رجلٍ، فأقام البينةَ أنَّه غُلامُه، فقال الذى عندَه الغُلامُ: أوْدَعَنى هذا رجلٌ. فقال أحمدُ: أهلُ المدينةِ يَقْضُون على الغائبِ، ويقولون: إنَّه لِهذا الذى أقام البينةَ. وهو مذهبٌ حسنٌ، وأهلُ البصرةِ يَقْضُون على غائبٍ، يَسمُّونَه الإِعْذارَ. وهو إذا ادَّعَى على رجل ألفًا، وأقام البينةَ، فاخْتَفَى المُدَّعَى عليه، يُرْسَلُ إلى بابِه، فيُنادِى الرسولُ ثلاَثًا، فإن جاء، وإلَّا قد أعْذَرُوا إليه. فهذا يُقَوِّى قولَ أهلِ المدينةِ، وهو مذهبٌ حسنٌ. وقد ذَكَر الشَّريفُ أبو جَعْفرٍ، وأبو الخَطَّابِ، أنَّه يُقْضَى على الغائبِ ¬

(¬1) في الأصل: «و».

4923 - مسألة: (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن أخ له غائب،

وَإِنَ ادَّعَى أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَنْهُ وَعَنْ أَخٍ لَهُ غَائِبٍ، وَلَهُ مَالٌ فِى يَدِ ـــــــــــــــــــــــــــــ المُمْتَنِعِ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه تَعَذَّرَ حُضورُه وسُؤالُه، فجاز القضاءُ عليه، كالغائبِ البعيدِ، بل هذا أوْلَى؛ لأنَّ البعيدَ معْذورٌ، وهذا لا عُذْرَ له. وعلى القولِ الآخَرِ، إذا امْتَنَعَ مِن الحُضورِ، بَعَث إلى صاحِبِ الشُّرَطَةِ ليُحْضِرَه، فإن تَكَرَّر منه الاسْتِتارُ، أقْعَدَ على بابِه مَن يُضَيِّقُ عليه في دُخولِه وخُروجِه حتى يَحْضُرَ؛ لأنَّ ذلك طريقٌ إلى حُضورِه وتَخْليصِ الحقِّ منه. 4923 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى أنَّ أباه مات عنه وعن أخٍ له غائِبٍ،

فُلَانٍ، أَوْ دَيْنٌ عَلَيْهِ، فَأَقَرَّ المُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، سُلِّمَ إِلَى المُدَّعِى نَصِيبُهُ، وَأَخَذَ الحَاكِمُ نَصِيبَ الغَائِبِ فَيَحْفَظُهُ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ المَالُ دَيْنًا، أَنْ يُتْرَكَ نَصِيبُ الغَائِبِ فِى ذِمَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وله مالٌ في يدِ فُلانٍ، أو دَيْنٌ عليه، فأقَرَّ المُدَّعَى عليه، أو ثَبَتَ ببينةٍ، سُلِّمَ إلَى المُدَّعِى نَصِيبُه، وأخَذَ الحاكمُ نَصِيبَ الغائِبِ فحُفِظَ له) [حتى يَحْضُرَ] (¬1) (ويَحْتَمِلُ أَّنه إذا كان المالُ دَيْنًا، أن يُتْرَكَ نَصيبُ الغائِبِ ¬

(¬1) سقط من: م.

الغَرِيمَ حَتَّى يَقْدَمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذِمَّةِ الغريمَ حتى يَقدَمَ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن ادَّعَى أنَّ أباه مات، وخَلَّفَه وأخًا له (¬1) غائِبًا، لا وارِثَ له سِواهما، وتَرَك في يَدِ إنْسانٍ دارًا أو عَيْنًا مَنْقُولَةً، فأقَرَّ له صاحِبُ اليَدِ، أو أنْكَرَ فثَبَتَ ببينةٍ ما ادَّعاه، ثَبَت ما في يَدِ المُدَّعَى عليه (1) للمَيِّتِ، وانْتُزِعَ مِن يدِ (¬2) المُنْكِرِ، فدُفِعَ نِصْفُها إلى المُدَّعِى، وجُعِل النِّصْفُ الآخَرُ في يَدِ أمِينٍ للغائِبِ، يَكْرِيه (¬3) له، إن كان يُمْكِنُ كِراؤْه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان ممّا لا يُنْقَلُ ولا يُحوَّلُ، أو (¬4) ممّا يَنْحَفِظُ ولا يُخافُ هَلاكُه، لم يُنْزَعْ نَصِيبُ الغائِبِ مِن يَدِ المُدَّعَى عليه؛ لأنَّ الغائِبَ لم يَدَّعِه هو ولا وكيلُه، فلم يُنْزَعْ مِن يَدِ مَن هو [في يدِه] (¬5)، كما لو ادَّعَىِ أحَدُ الشَّرِيكَيْن دارًا مُشْتَرَكَةً بينَه وبينَ أجْنَبِىٍّ، فإنَّه يُسَلَّمُ إلى المدَّعِى نصِيبُه، ولا يُنْزَعُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «تكرمة». (¬4) في م: «و». (¬5) في م: «فيه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نَصِيبُ الغائِبِ، كذا ههُنا. ولَنا، أنَّها تَرِكَةُ مَيِّتٍ، ثَبَتَتْ ببيِّنةٍ، فوَجَبَ أن يُنْزَعَ نصيبُ الغائبِ، كالمنقولِ (¬1)، وكما لو كان أخوه صَغِيرًا أو مَجْنُونًا، ولأنَّ [فيما قاله] (¬2) ضَرَرًا، لأنَّه قد يَتَعَذَّرُ على الغائِبِ إقامَةُ البينةِ، وقد يموتُ الشّاهِدان أو يَغيبا، أو تَزُولُ عَدالتُهما، ويُعْزَلُ الحاكِمُ، فيَضِيعُ حَقُّه، فوَجَبَ أن يُحْفَظَ بانْتِزاعِه، كالمنقولِ. ويُفارِقُ الشَّرِيكَ للأجْنَبِىِّ إجْمالًا وتفْصِيلًا؛ أما الإِجْمالُ فإنَّ المنقُولَ يُنْتَزَعُ فيه (¬3) نصيبُ شريكِه في الميراثِ، ولا يُنزعُ نَصيبُ الأجنبىِّ، وأمَّا التَّفْصِيلُ، فإنَّ البينةَ ثَبَت بها الحَقُّ للمَيِّتِ، بدليلِ أنَّه تُقْضَى منه دُيونُه، وتُنْفَذُ منه وَصاياه، ولأنَّ الأخَ يُشارِكُه فيما أخَذَه، إذا تَعَذَّرَ عليه أخْذُ الباقِى. فأمَّا إن كان دَيْنًا في ذِمَّةِ إنْسانٍ، فهل يَقْبِضُ الحاكمُ نصيبَ الغائِبِ؟ فيه وَجْهان، أحَدُهما، يَقْبِضُه، كما يَقْبِضُ العينَ. والثانى، لا يَقْبِضُه؛ لأنَّه إذا كان في ¬

(¬1) في م: «كالنقول». (¬2) في م: «في بقائه له». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذِمَّةِ مَن هو (¬1) عليه، كان أحْوَطَ مِن أن يكونَ أمانةً في يَدِ الأمينِ؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ عليه التَّلَفُ إذا قَبَضَه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّه في الذِّمَّةِ يَعْرِضُ التَّلَفُ بالفَلَسِ، والموتِ، وعَزْلِ الحاكمِ، وتعذُّرِ البينةِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّنا إذا دَفَعْنا إلى الحاضِرِ نِصْفَ العَيْنِ أو الدَّيْنِ، لم نُطالِبْه بضَمِينٍ؛ لأنَّا دَفَعْناه بقولِ الشُّهودِ، والمطالَبَةُ بالضَّمِينِ طَعْنٌ عليهم. قال أصْحابُنا: سَواءٌ كان الشَّاهِدان مِن أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ أو لم يَكُونا. ويَحْتَمِلُ أن لا تُقْبَلَ شَهادَتُهما في نَفْىِ وارِثٍ آخَرَ، حتى يكونا مِن أهْلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ، والمَعْرِفَةِ المُتَقادِمَةِ؛ [لأنَّ مَن ليس مِن أهْلِ المعرفةِ، ليس (¬2) جَهْلُه] (¬3) بالوَارِثِ دَليلًا على عَدَمِه، فلا يُكْتَفَى به. وهذا قولُ الشافعىِّ. فعلى هذا، تكونُ الدّارُ مَوْقوفَةً، فلا (¬4) يُسَلَّمُ إلى الحاضِرِ نِصْفُها، حتى يَسْألَ الحاكِمُ، ويَكْشِفَ عن المواضِعِ التى كان يَطْرُقُها، ويَأْمُرُ (¬5) مُنادِيًا يُنادِى: إنَّ فَلانًا مات، فإن كان له وارِثٌ، فَلْيَأْتِ. فإذا غَلَب على ظَنِّه ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من النسخ. والمثبت من المغنى 14/ 314. (¬3) في الأصل: «لأن ليس من أهل المعرفة جهله». وفى م: «لأنه ليس من أهل المعرفة لأن جهله». (¬4) في الأصل: «حتى». (¬5) في م: «ينادى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لو كان له وارِثٌ ظَهَر، دَفَع إلى الحاضِرِ نَصِيبَه. وهل يُطْلَبُ منه ضَمِينٌ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن. وكذلك الحُكْمُ إذا كانا مِن أهْلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ، لكنْ لم يقولا: ولا نَعلَمُ له وارِثًا سِواه. فصل: فإن كان مع الابنِ ذُو فَرْضٍ، فعلى ظاهِرِ المذهبِ، يُعْطَى فَرْضَه كامِلًا. وعلى هذا التَّخْريجِ (¬1)، يُعْطَى اليَقِينَ. فإن كانت له زَوْجَةٌ، أُعْطِيَتْ رُبْعَ الثُّمْنِ عائِلًا، فيكونُ رُبْعَ التُّسْعِ؛ لجوازِ أن يكونَ له أرْبَعُ زَوْجاتٍ، وإن كانت له جَدَّةٌ، لم يَثْبُتْ مَوْتُ أُمِّه، لم تُعْطَ (¬2) شيئًا، وإنْ عُلِم مَوْتُها، اعْطِيَتْ ثُلُثَ السُّدْسِ؛ لجوَازِ أن يكونَ له ثَلاثُ جَدَّاتٍ، وتُعْطاه عائِلًا، فيكونُ ثُلُثَ العُشْرِ، ولا يُعْطَى العَصَبةُ شيئًا. [وإن كان الوارثُ أخًا، لم يُعْطَ شيئًا] (¬3)؛ لجَوازِ أنْ يكونَ للمَيِّتِ (¬4) وارِثٌ يَحْجُبُه. وإن كان زَوْجًا، أُعْطِىَ الرُّبْعَ عائِلًا، وهو الخُمْسُ؛ لجوازِ أن تكونَ المسْألةُ عائِلَةً، فيُعْطَى اليَقِينَ، فإذا كَشَف الحاكمُ، أعْطَى الزَّوْجَ نَصِيبَه، وكَمَّلَ لذوى الفُرُوضِ فُرُوضَهم. فصل: إذا اخْتَلَفا في دارٍ في يَدِ أحَدِهما، فأقام المُدَّعِى بينةً أنَّ الدَّارَ كانت أمسِ (¬5) مِلْكَه، أو منذُ شَهْرٍ، فهل تُسْمَعُ البينةُ، ويُقْضَى بها؟ ¬

(¬1) في الأصل: «الترجيح». (¬2) في النسخ: «يعط». وانظر المغنى 14/ 315. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «ليست».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، تُسْمَعُ، ويُحْكَمُ بها؛ لأنَّها تُثْبِتُ المِلْكَ في الماضِى، وإذا ثَبَت اسْتُدِيمَ حتى يُعْلَمَ زوالُه. والثانى، لا تُسْمَعُ. قال القاضى: هو الصحيحُ؛ لأنَّ الدَّعْوَى لا تُسْمَعُ ما لم يَدَّعِ المُدَّعِى المِلْكَ في الحالِ، فلا يُسْمَعُ على (¬1) ما لم يَدَّعِه، لكنْ إنِ انْضمَّ إلى شَهادَتِها (¬2) بَيانُ سَبَبِ يَدِ الثانى، وتعريفُ تَعدِّيها، فقالا: نَشْهَدُ أنَّها كانت مِلْكَه أمسِ، فغَصَبَها هذا منه- أو- سَرَقَها- أو- ضَلَّتْ منه فالْتَقَطَها هذا. ونحوَ ذلك، سُمِعَتْ، وقُضِىَ بها؛ لأنَّها إذا لم تُبَيِّنِ السَّبَبَ، فاليَدُ دليلُ المِلْكِ، ولا تَنافِىَ بينَ ما شَهِدَتْ به البينةُ وبينَ دَلالَةِ اليَدِ؛ لجوازِ أن يكونَ مِلْكَه أمسِ، ثم يَنْتقِلَ إلى صاحِبِ اليدِ. فإذا ثَبَت أنَّ سَبَبَ اليَدِ عُدْوانٌ، خَرَجَتْ عن كونِها دَليلًا، فوَجَبَ القضاءُ باسْتدامَةِ المِلْكِ السابِقِ. فإن أقَرَّ المُدَّعَى عليه أنَّها كانت للمُدَّعِى أمسِ، أو فيما مَضَى، سُمِعَ إقْرارُه، في الصَّحِيحِ، وحُكِم به؛ لأنَّه حينَئِذٍ يحْتاجُ إلى سَبَبِ انْتِقالِها إليه، فيصيرُ هو المُدَّعِىَ، فيَحْتاجُ إلى بينةٍ. ويُفارِقُ البينةَ مِن وَجْهَيْن؛ أحَدُهما، أنَّه أقْوَى مِن البَيِّنَةِ؛ لكَونِه (¬3) شَهادَةَ الإِنسانِ على نفسِه، ويَزُولُ به النزاعُ، بخِلافِ البَيِّنَةِ. الثانى، أنَّ البينةَ لا تُسْمَعُ إلَّا على ما ادَّعاه، والدَّعْوَى يَجِبُ أن تكونَ مُعَلَّقَةً بالحالِ، والإِقْرارُ يُسْمَعُ ابْتِداءً. فإن شَهِدَتِ البينةُ أنَّها كانت في يَدِه أمسِ، ففى سَماعِها وَجْهان. وإن أقَرَّ المُدَّعَى عليه ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «شهادتهما». (¬3) في م: «لكونها».

4924 - مسألة: (وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له بحق، فصدقه، قبل قول الحاكم وحده، وإن لم يذكر الحاكم ذلك، فشهد عدلان أنه حكم له به، قبل شهادتهما، وأمضى القضاء. وكذلك إن شهدا أن فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا، قبل شهادتهما)

وَإذَا ادَّعَى إنْسَانٌ أنَّ الحَاكِمَ حَكَمَ لَهُ بِحَقٍّ، فَصَدَّقَهُ، قُبِلَ قَوْلُ الْحَاكِمٍ وَحْدَهُ، وَإنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، [333 و] فَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُ بِهِ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأمْضَى القَضَاءَ. وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا شَهِدَا عِنْدَكَ بِكَذَا، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك، فالصَّحِيحُ أنَّه يُسْمَعُ، ويُقْضَى بها؛ لِما ذَكَرْنا. واللهُ أعلمُ. 4924 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى إنْسانٌ أنَّ الحَاكِمَ حَكَم له بحَقٍّ، فَصَدَّقَه، قُبِل قولُ الحاكمِ وَحدَه، وإن لم يَذْكُرِ الحاكمُ ذلك، فشَهِد عَدلان أنَّه حَكَم له به، قَبِل شَهادَتَهما، وأمْضَى القضاءَ. وكذلك إن شَهِدا أنَّ فُلانًا وفُلانًا شَهِدا عندَك بكذا، قَبِل شَهادَتَهما) إذا ادَّعَى إنسانٌ على الحاكمِ، أنَّك حَكَمْتَ لى بهذا الحَقِّ على خَصْمِى. فذَكَر الحاكمُ حُكْمَه، أمْضاه، وألْزَمَ خَصْمَه ما حَكَم به عليه. وليس هذا حُكْمًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعِلْمِ، إنَّما هو إمْضاءٌ لحُكْمِه السّابِقِ. وإن لم يَذْكُرْه القاضى، وشَهِد عندَه شاهدان على حُكْمِه، لَزِمَه قَبُولُها (¬1)، وإمْضاءُ القضاءِ. وبه قال ابنُ أبى ليلَى، ومحمدُ بنُ الحسنِ. قال القاضى: هذا قياسُ قولِ أحمدَ؛ لأنَّه قال: يَرْجِعُ الإِمامُ إلى قولِ اثْنَيْن فصاعِدًا مِن المأْمومِين. وقال أبو ¬

(¬1) في م: «قبولهما».

4925 - مسألة: (وإن لم يشهد به أحد، لكن وجده فى قمطره، فى صحيفة تحت ختمه بخطه، فهل ينفذه؟ على روايتين)

وَإنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ، لكِنْ وَجَدَهُ فِى قِمَطْرِهِ فِى صَحِيفَةٍ تَحْتَ خَتْمِهِ بِخَطِّهِ، فَهَلْ يُنْفِذُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفةَ، وأبو يُوسُفَ، والشافعىُّ: لا يَقْبَلُ؛ لأنَّه (¬1) يُمْكِنُه الرُّجوعُ إلى الإِحاطَةِ والعلمِ، فلا يَرْجِعُ إلى الظَّنِّ، كالشاهِدِ إذا نَسِىَ شَهادَتَه، فشهِدَ عندَه شاهدان أنَّه شَهِد، لم يكنْ له أن يَشْهَدَ. ولَنا، أنَّهما لو شَهِدا عندَه بحُكْمِ غيرِه قَبِلَ، فكذلك إذا شَهِدا عندَه بحُكْمِه، فإنَّهما شَهِدا بحُكْمِ حاكم. وما ذَكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ ذِكْرَ ما نَسيَه ليس إليه، ويُخالِفُ الشّاهِدَ، لأنَّ الحاكمَ يُمْضِى ما حَكَم به إذا ثَبَت عندَه، والشاهِدَ لا يَقْدِرُ على إمْضاءِ شَهادَتِه، وإنَّما يُمْضِيها (¬2) الحاكمُ. وكذلك إن شَهِدا أنَّ فُلانًا وفُلانًا شَهِدا عندَك بكذا، قَبِل شَهادَتَهما على الشّاهِدَيْن، كما يَقْبَلُ شَهادَتَهما على الحَقِّ نفسِه. 4925 - مسألة: (وإن لم يَشْهَدْ به أحَدٌ، لكنْ وَجَدَه في قِمَطْرِه، في صَحِيفَةٍ تحتَ خَتْمِه بخطِّهِ، فهل يُنْفِذُه؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، لا يُنْفِذُه إلَّا أن يَذْكُرَه. نَصَّ عليه أحمدُ في الشهادةِ. قالَه بعضُ أصْحابِنا-. ¬

(¬1) بعده في م: «لا». (¬2) في الأصل: «يمضى بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولُ (¬1) أبى حنيفةَ، والشافعىِّ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. والثانيةُ، أنَّه يَحْكُمُ به. وبه قال ابنُ أبى ليلَى. قال شيخُنا (¬2): وهذا الذى رَأْيتُه عن أحمدَ في الشهادةِ؛ لأنَّه إذا كان في قِمَطْرِه تحتَ خَتْمِه، لم يَحْتَمِلْ أن يكونَ إلَّا صحيحًا. ووَجْهُ الأولَى، أنَّه حُكْمُ حاكِمٍ لم يَعْلَمْه، فلم يَجُزْ إنْفاذُه إلَّا ببينةٍ، كحُكْمِ غيرِه، ولأنَّه يجوزُ أن يُزَوَّرَ عليه وعلى خَطِّه وخَتْمِه، والخَطُّ يُشْبِهُ الخَطَّ. فإن قيل: فلو وَجَد في دَفْتَرِ أبِيه حَقًّا على إنسانٍ، جاز له أن يَدَّعِيَه، ويَحْلِفَ عليه. قُلْنا: هذا يُخالِفُ الحُكْمَ والشَّهادةَ، بدليلِ الإِجْماعِ على أنَّه لو وَجَد خَطَّ أبيه بشهادَةٍ، لم يَجُزْ له (¬3) أن يَحْكُمَ بها، ولا يَشْهَدَ بها، ولو وَجَد حُكْمَ أبيه مَكْتُوبًا بخَطِّه، لم يَجُزْ له إنْفاذُه، ولأنَّه يُمْكِنُه الرُّجُوعُ فيما حَكَمَ به (¬4) إلى نفسِة؛ لأنَّه فِعْلُه، فرُوعِىَ ذلك. وأمَّا ما كَتَبه أبوه، فلا يُمْكِنُه الرُّجوعُ فيه إلى نفسِه، فكَفَى فيه الظَّنُّ. ¬

(¬1) في م: «مذهب». (¬2) في: المغنى 14/ 57. (¬3) زيادة من: ق. (¬4) سقط من: الأصل.

4926 - مسألة: (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة فى كتاب، ولم يذكرها، فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين)

وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا رَأَى خَطَّهُ فِى كِتَابٍ بِشَهَادَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا، فَهَلْ لَهُ أنْ يَشْهَدَ بِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4926 - مسألة: (وكذلك الشّاهِدُ إذا وَجَد خَطَّه بشَهادَةٍ في كِتابٍ، ولم يَذْكُرْها، فهل له أن يَشْهَدَ بها؟ على رِوايَتَيْن) إحْداهما، له أن يَشْهَدَ بها؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّها خَطُّه. والثانيةُ، لا يَشْهَدُ بها إلَّا أن يَذْكُرَها؛ لأنَّها قد تُزَوَّرُ على خَطِّه، وقد وُجِدَ ذلك.

فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ حَقٌّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ أخْذُهُ بِالْحَاكِمِ، وَقَدَرَ عَلَى مَالٍ لَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ عَامَّةُ شُيُوخِنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (ومَن كان له على إنْسانٍ حَقٌّ، ولم يُمْكِنْه أخْذُه بالحاكمِ، وقَدَر له على مالٍ، لم يَجُزْ أن يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّه. نَصَّ عليه. واخْتارَه عامَّةُ شُيوخِنا) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا كان لرجلٍ على غيرِه حَقٌّ، وهو مُقِرٌّ به، باذِلٌ له، لم يكنْ له أنْ يَأْخُذَ مِن مالِه إلَّا ما يُعْطِيه. بلا خِلافٍ بينَ أهلِ العلمِ. فإن أخَذَ مِن مالِه شيئًا بغيرِ إذْنِه، لَزِمَه رَدُّه إليه وإن كان قَدْرَ حَقِّه؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يَمْلِكَ عليه (¬1) عينًا مِن أعْيانِ مالِه، بغيرِ اخْتِيارِه، لغيرِ ضَرُورَةٍ، وإن كانت مِن جِنْسِ حَقِّه؛ لأنَّه قد يكونُ للإِنْسانِ غَرَضٌ في العَيْنِ. فإن أتْلَفها، أو تَلِفَتْ فصارت دَيْنًا في ذِمَّتِه، وكان الثابِتُ في ذِمَّتِه مِن جِنْسِ حَقِّه، تَقاصّا، في قياسِ المذهبِ، والمَشْهُورِ مِن مَذهبِ الشافعىِّ. وإن كان مانِعًا له لأمْرٍ يُبِيحُ المَنْعَ، كالتَّأْجِيلِ والإِعْسارِ، لم يَجُزْ أخْذُ شئٍ مِن مالِه، بغيرِ خِلافٍ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ مِنَ المُحْدَثِينَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ، أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ، وَإلَّا قَوَّمَهُ وَأَخَذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، مُتَحَرِّيًا ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن أخَذَ شيئًا، لَزِمَه رَدُّه ما كان باقِيًا، أو عِوَضُه إن كان تالِفًا، ولا يحْصُلُ التَّقاصُّ ههُنا؛ لأنَّ الدَّيْنَ الذى له لا يَسْتَحِقُّ أخْذَه في الحالِ، بخِلافِ التى قبلَها. وإنْ كان [مانعًا له] (¬1) بغيرِ حَقٌّ، وقَدَر على اسْتِخْلاصِه بالحاكمِ أو (¬2) السُّلْطانِ، لم يَجُزْ له الأخْذُ أيضًا (¬3)، بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه قَدَر على اسْتِيفاءِ حَقِّه بمَن (¬4) يقومُ مَقامَه، فأشْبَهَ ما لو قَدَر على اسْتِيفائِه مِن وكيلِه. وإن لم يَقْدِرْ على ذلك لكونِه جاحِدًا له، ولا بَيِّنَةَ به، أو (¬5) لكونِه لا يُجِيبُه إلى المُحاكَمَةِ، ولا يُمْكِنُه إجْبارُه على ذلك، أو نحو هذا، فالمشْهورُ في المذهبِ، أنَّه ليس له أخْذُ قَدْرِ حَقِّه. وهو إحْدَى الرِّوايَتَيْن عن مالكٍ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وقد جَعَل أصْحابُنا المُحْدَثون ¬

(¬1) في م: «ماله». (¬2) في م: «و». (¬3) أى بغير ذلك. انظر المغنى 14/ 340. (¬4) في م: «ممن». (¬5) في م: «و».

لِلْعَدْلِ فِى ذَلِكَ؛ لحَدِيثِ هِنْدٍ: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ». ـــــــــــــــــــــــــــــ لجوازِ (¬1) الأخْذِ وَجْهًا في المذهبِ، أخْذًا مِن حديثِ هِنْدٍ، حينَ قال لها النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ» (¬2). وقال أبو الخَطَّابِ: ويَتَخَرَّجُ لَنا جوازُ الأخْذِ؛ فإن كان المقدُورُ عليه قَدْرَ حَقِّه مِن جِنْسِه، أخَذَه، وإن كان مِن غيرِ جِنْسِه، تَحَرَّى، واجْتَهَدَ في تَقْويمِه؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ هِنْدٍ، ومِن قولِه في الرَّهْنِ: يرْكَبُ ويحْلبُ، ¬

(¬1) في م: «بجواز». (¬2) تقدم تخريجه في 24/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقَدْرِ ما يُنْفِقُ، والمرْأةُ تَأْخُذُ مُؤْنَتَها، وبائِعُ السِّلْعَةِ يَأْخُذُها مِن مالِ المُفْلِسِ بغيرِ رِضاه. وقال الشافعىُّ: إن لم يَقْدِرْ على اسْتِخْلاصِ حَقِّه ببينةٍ، فله أخْذُ قَدْرِ حَقِّه مِن جِنْسِه أو مِن غيرِ جِنْسِه، وإن كانت له به (¬1) بينةٌ، وقَدَر على اسْتِخْلاصِه، ففيه وَجْهان. والمشهورُ مِن مذهبِ مالكٍ، أنَّه إن لم يكنْ لغيرِه عليه دَيْنٌ، فله أن يَأْخُذَ بقَدْرِ حَقِّه، وإن كان عليه دَيْنٌ، لم يَجُزْ؛ لأنَّهما يَتحاصَّان في مالِه إذا أفْلَسَ. وقال أبو حنيفةَ: له أن يَأْخُذَ بقَدْرِ حَقِّه إن كان عَيْنًا، أو وَرِقًا، أو مِن جِنْسِ حَقِّه، وإن كان المالُ عَرْضًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ أخْذَ العَرْضِ عن حَقِّه اعْتِياضٌ، ولا تَجُوزُ المُعاوَضَةُ إلَّا برِضَا (¬2) المُتعاوِضَيْن، قال اللهُ تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬3). واحْتَجَّ مَن أجاز الأخْذَ بحديثِ هِنْدٍ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) بعده في م: «من». (¬3) سورة النساء 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَ جاءَتْ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفْيانَ رجلٌ شحيحٌ (¬1)، وليس يُعْطِينِى مِن النَّفَقَةِ ما يَكْفِينِى ووَلدِى. فقال: «خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ». مُتَّفَقٌ عليه. وإذا جاز لها أن تَأْخُذَ مِن مالِه (¬2) ما يَكْفِيها بغيرِ إذْنِه، جاز للرجلِ الذى له الحَقُّ على الرجلِ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» (¬3). رَواه التَّرْمِذِىُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ. ومتى أخَذَ منه قَدْرَ حَقِّه مِن مالِه بغيرِ إذْنِه، فقد خانَه (¬4)، فيَدْخُلُ في عُمومِ الخبرِ، وِقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئً مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نفْسٍ مِنْهُ» (¬5). ولأنَّه إن أخَذَ مِن غيرِ جِنْسِه، كان مُعاوَضةً بغيرِ تَراضٍ، وإن أخَذَ مِن جِنْسِ حَقِّه، فليس له تَعْيِينُ الحَقِّ بغيرِ رِضا صاحِبِه، فإنَّ التَّعْيِينَ إليه، ألا تَرَى أنَّه لا يجوزُ له أن يقولَ: لا آخُذُ حَقِّى ¬

(¬1) في م: «صحيح». (¬2) في م: «مالها». (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 5. (¬4) في الأصل: «جاء به». (¬5) تقدم تخريجه في 13/ 432.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا مِن هذا الكِيسِ دُونَ هذا. ولأنَّ كلَّ ما لا يجوزُ له تَمَلُّكُه إذا لم يكنْ له دَيْنٌ، لا يجوزُ له أخْذُه إذا كان له دَيْنٌ، كما لو كان باذِلًا له. فأمَّا حديث هِنْدٍ، فإنَّ أحمدَ اعْتَذَرَ عنه بأنَّ حَقَّها واجِبٌ عليه في كلِّ وَقْتٍ. وهذا إشارَةٌ منه إلى الفَرْقِ بالمَشَقَّةِ في المُحاكَمَةِ في كُلِّ وَقتٍ، والمُخاصَمَةِ كلَّ يوم تجبُ فيه النَّفَقَةُ، بخِلافِ الدَّيْنِ. وفَرَّقَ أبو بكرٍ بينَهما بفَرْقٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آخرَ، وهو أنَّ قِيامَ الزوجيَّةِ كقيامِ البَيِّنَةِ، فكأنَّ الحقَّ صار معلومًا بعلمِ قيامِ مُقْتَضِيه. وبينَهما فرقان آخَرانِ؛ أحدُهما، أنَّ للمَرْأةِ مِن التَّبَسُّطِ في مالِه بحُكْمِ العادَةِ، ما يُؤَثِّرُ في إباحَةِ أخْذِ الحقِّ، وبَذْلِ اليَدِ فيه بالمعروفِ، بخِلافِ الأجْنَبِىِّ. الثانى، أنَّ النَّفَقَةَ تُرادُ لإِحيْاءِ النَّفْسِ، وإبْقاءِ المُهْجَةِ، وهذا ممّا لا يُصْبَرُ عنه، ولا سبيلَ إلى تَرْكِه، فجاز أخْذُ ما تَنْدَفِعُ به هذه الحاجَةُ، بخِلافِ الدَّيْنِ، حتى نقولَ: لو صارَتِ النَّقَقَةُ ماضِيَة، لم يكنْ لها أخْذُها، ولو وَجَب لها عليه دَيْنٌ آخَرُ، لم يكنْ لها أخْذُه. فعلى هذا، إن أخَذَ شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إن كان باقِيًا، وإن كان تالِفًا وَجَب مِثْلُه إن كان مِثْلِيًّا، أو قِيمَتُه إن كان مُتَقَوَّمًا، فإن كان مِن جِنْسِ دَيْنِه، تَقاصّا (¬1)، وتساقَطا، في قياسِ المذهبِ، وإن كان مِن غيرِ جِنْسِه، غَرِمَه، ومَن جَوَّزَ مِن أصْحابِنا الأخْذَ (¬2)، فإنَّه إن وَجَد جِنْسَ حَقِّه، جاز له الأخْذُ بقَدْرِ حَقِّه، مِن غيرِ زِيادَةٍ، وليس له الأخْذُ ¬

(¬1) في الأصل: «تقاضيا». (¬2) بعده في الأصل: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن غيرِ جِنْسِه مع قُدْرَتِه على جِنْسِ حَقِّه. وإنْ لم يَجِدْ إلَّا من غَيرِ جنسِ حَقِّه، فيَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ له تَمَلُّكُه؛ لأنَّه لا يجوزُ له أن يبيعَه مِن نفْسِه، وهذا يبيعُه مِن نفسِه، وتَلْحَقُه فيه تُهْمَة. ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ له ذلك، كما قالوا في (¬1) الرَّهْنِ يُنفَقُ عليه إذا كان مَحْلُوبًا أو مَرْكُوبًا: يُحْلَبُ ويُرْكَبُ بقَدْرِ النَّفَقَةِ. وهى مِن غيرِ الجِنْسِ. واخْتلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ في هذا؛ ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

4927 - مسألة: - (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته فى الباطن. وذكر ابن أبى موسى عنه رواية)

وَحُكْمُ الحَاكِمِ لا يُزِيلُ الشَّىْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِى البَاطِنِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِى مُوسَى عَنْهُ رِوَايَةً، أَنَّهُ يُزِيلُ العُقُودَ وَالفُسُوخَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فمنهم مَن جَوَّزَه له، ومنهم مَن قال: يُؤَاطِئُ رجلًا يَدَّعِى عليه عندَ الحاكمِ دَيْنًا، فيُقِرُّ له بملكِ الشَّئِ (¬1) الذى أخَذَه، فيَمْتَنِعُ مَن عليه الدَّعْوَى مِن قَضاءِ الدَّينِ، ليبيعَ الحاكمُ الشئَ المأْخُوذَ، ويَدْفَعَه إليه. 4927 - مسألة: - (وحُكْمُ الحاكمِ لا يُزِيلُ الشئَ عن صِفَتِه في الباطِنِ. وذَكَر ابنُ أبى موسى عنه رِوايةً) أُخْرَى (أنَّه يُزِيلُ العُقُودَ والفُسُوخَ) ذهَب جُمْهورُ العُلماءِ إلى أنَّ حُكْمَ الحاكمِ لا يُزِيلُ الشئَ عن صِفَتِه في الباطِنِ؛ منهم مالكٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ، ومحمدُ بنُ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ: إذا حَكَم بعَقْدٍ أو (¬2) فَسْخٍ أو طَلاقٍ، نَفَذَ حُكْمُه ظاهِرًا وباطنًا، فلو أنَّ رَجُلَيْن تَعَمَّدا الشَّهادَةَ على رجلٍ أنَّه طَلَّقَ امْرَأتَه، فقَبِلَهما القاضى بظاهرِ عَدالتِهما، ففَرَّقَ بينَ الزَّوْجَيْن، جاز لأحدِ الشاهِدَيْن نِكاحُها بعدَ قَضاءِ عِدَّتِها، وهو عالمٌ بتَعَمُّدِ الكَذِبِ، ولو أنَّ رجلًا ادَّعَى نِكاحَ امرأةٍ، وهو يعلمُ أنَّه كاذِبٌ، وأقام شاهِدَىْ زُورٍ، فحكَمَ الحاكمُ، حَلَّت له بذلك، ¬

(¬1) بعده في م: «المأخوذ». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصارَتْ زَوْجَتَه. قال ابنُ المُنْذِرِ: وتَفَرَّدَ أبو حنيفةَ، فقال: لو اسْتَأْجَرَتِ امرأةٌ شاهِدَيْن، شَهِدا لها بطَلاقِ زَوْجِها، وهما يَعْلَمان كذِبَها وتَزْويرَهما (¬1)، فحكَم الحاكمُ بطَلاقِها، يَحِلُّ لها أن تَتَزَوَّجَ، وحَلَّ لأحدِ الشاهِدَيْن نِكاحُها. واحْتَجَّ بما رُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنهُ، أنَّ رجلًا ادَّعَى على امرأةٍ نِكاحَها (¬2)، فرَفَعَها إلى علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، فشهِدَ له شاهِدان بذلك، فقَضَى بينَهما (¬3) بالزَّوْجيَّةِ. فقالت: واللهِ ما تَزَوَّجَنِى يا أميرَ المؤمنين، اعْقِدْ بينَنا عَقْدًا حتى أحِلًّ له. فقال: شاهِداكِ زَوَّجاكِ. فدَلَّ على أنَّ النِّكاحَ ثَبَت بحُكْمِه، ولأنَّ اللِّعانَ ينفسِخُ به النِّكاحُ وإن كان أحَدُهما كاذِبًا، فالحُكْمُ أوْلَى. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ (¬4)، وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَىَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُم أن يَكُونَ ألحَنَ بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فأقْضِىَ له على نَحْوِ ما أسْمَعُ منه، فمَنْ قَضَيْتُ له بشَئٍ مِن حَقِّ أخيه، فلا يَأْخُذْ منه شيئًا، فإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». ¬

(¬1) في ق، م: «تزويرها». (¬2) في م: «نكاحا». (¬3) في م: «بينها و». (¬4) بعده في م: «مثلكم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّفَقٌ عليه (¬1). وهذا يَدْخُلُ فيه ما إذا ادَّعَى أنَّه اشْتَرَى منه شيئًا، فحَكَم له، ولأنَّه حُكْم (¬2) بشَهادَةِ زُورٍ، فلا يُحِلُّ له ما كان مُحَرَّمًا عليه، كالمالِ المُطْلَقِ. وأمَّا الخَبَرُ عن علىٍّ، إن صَحَّ، فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ لأنَّه أضاف التَّزْوِيجَ إلى الشَّاهِدَيْن، لا إلى حُكْمِه، ولم يُجِبْها إلى التَّزْويجِ؛ لأنَّ فيه طَعْنًا على الشُّهودِ. فأمَّا اللِّعانُ، فإنَّما حَصَلَتِ الفُرْقَةُ به، لا بصدقِ الزَّوْجِ، ولهذا لو قامَتِ البَيِّنَةُ به، لم يَنْفَسِخِ النِّكاحُ. إذا ثَبَت هذا، فإذا شَهِد على امرأةٍ بنكاحٍ، وحَكَم به الحاكمُ، ولم تكنْ زَوْجَتَه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 426. (¬2) بعده في ق، م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّها لا تَحِلُّ له، ويَلْزَمُها في الظّاهِرِ، وعليها أن تَمْتَنِعَ منه ما أمْكَنَها، فإن أكْرَهَها، فالإِثْمُ عليه دُونَها. وإن وَطِئَها الرجلُ، فقال أصحابُنا، وبعضُ الشافعيةِ: عليه الحَدُّ، لأنَّه وَطِئَها وهو يَعْلَمُ أنَّها أجْنَبِيَّةٌ -. وقيل: لا حَدَّ عليه، لأنَّه وَطْءٌ مُخْتَلَفٌ في (1) حُكْمِه، فيكونُ شُبْهَةً. وليس لها أن تَتَزَوَّجَ غيرَه. وقال أصحابُ الشافعىِّ: تَحِلُّ لزَوْجٍ ثانٍ، غيرَ أنَّها مَمْنُوعَةٌ منه (¬1) في الحُكْمِ. وقال القاضى: يَصِحُّ النِّكاحُ. ولَنا، أنَّ هذا ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُفْضِى إلى الجَمْعِ بينَ الوَطْءِ للمرأةِ مِن اثْنَيْن، أحدُهما يَطَؤُها بحُكْمِ الظَّاهِرِ، والآخَر بحُكْمِ الباطِنِ، وهذا فَسادٌ، فلا يُشْرَعُ، ولأنَّها مَنْكُوحَةٌ لهذا الذى قامَتْ له (¬1) البَيِّنَةُ، في قولِ بعضِ الأئمةِ، فلم يَجْزْ ¬

(¬1) في ق، م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزْوِيجُها لغيرِه، كالمَنْكُوحَةِ بغيرِ وَلِىٍّ. وحَكَى أبو الخَطَّابِ، عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحمدَ، رِوايَةً أُخْرَى، مثلَ مَذْهَبِ أبى حنيفةَ، كما حَكَى ابنُ أبى موسى في أنَّ حُكْمَ الحاكِمِ يُزِيلُ العُقودَ والفُسوخَ. والأوَّلُ هو المَذْهَبُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال ابنُ المُنْذِرِ: يُكْرَهُ للقاضى أن يُفْتِىَ في الأحْكامِ، كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شُرَيْحٌ يقول: أنا أَقْضِى ولا أُفْتِى. أمّا الفُتْيَا في الطّهارَةِ وسائرِ ما لا يُحْكَمُ في مِثْلِه، فلا بَأْسَ بالفُتْيَا فيه. واللهُ سبحانَه أعلمُ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب حكم كتاب القاضى إلى القاضى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [333 ظ] بَابُ حُكْمِ كِتَابِ القَاضِى إِلَى القَاضِى ـــــــــــــــــــــــــــــ باب حكمِ كتابِ القاضى إلى القاضى الأصْلُ في كتابِ القاضى [إلى القاضى] (¬1)، والأميرِ إلى الأميرِ، الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكتابُ فقولُ الله تِعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (¬2). وأمَّا السُّنَّةُ، فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب إلى كِسْرَى، وقَيْصَرَ، والنَّجاشِى، وإلى مُلوكِ الأطْرافِ (¬3)، وكان يَكْتُبُ إلى وُلاتِه، [ويَكْتُبُ لعُمّالِه] (¬4) وسُعاتِه، وكان في كتابِه إلى قَيْصَرَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحُمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ، أمَّا بَعْدُ، فَأسْلِمْ تَسْلَمْ، وأسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْن، وإن تَوَلَّيْتَ، فَإنَّ عليكَ إِثْمَ الأَريسِيِّينَ (¬5)، و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سورة النمل 29 - 31. (¬3) انظر ما أخرجه مسلم، في: باب كتاب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكفار. . . .، من كتاب الجهاد والسير. صحيح مسلم 3/ 1397، 1398. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 133. (¬4) في ق، م: «وعماله». (¬5) أى: إثم الفلاحين والزارعين، أى إثم رعيته.

4928 - مسألة: (يقبل كتاب القاضى إلى القاضى فى المال، وما

يُقْبَلُ كِتَابُ القَاضِى إلَى القَاضِى فِى المَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآيَة (¬1). ورَوى الضَّحّاكُ بنُ سُفْيانَ، قال: كَتَب إلَىَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أُوَرِّثَ امْرَأةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِىِّ مِن دِيةِ زَوْجِها (¬2). وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ على كتابِ القاضى إلى القاضى. ولأنَّ الحاجَةَ إلى قَبُولِه داعِيَةٌ، فإنَّ مَن له حقٌّ في بلَدٍ غيرِ بلدِه، لا يُمْكِنُه إثْباتُه والمُطالَبَةُ به إلَّا بكتابِ القاضى، فوَجَبَ قَبُولُه. 4928 - مسألة: (يُقْبَلُ كِتابُ القاضى إلى القاضى في المالِ، وما ¬

(¬1) سقط من: م. والآية من سورة آل عمران 64. أما الحديث فأخرجه البخارى، في: باب كيف كان بدء الوحى، وفى: باب حدثنا إبراهيم بن حمزة، من كتاب الإيمان، وفى: باب من أمر بإنجاز الوعد. . . .، من كتاب الشهادات، وفى: باب قول الله تعالى: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}. . . .، وباب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام. . . .، من كتاب الجهاد والسير، وفى: باب فضل الوفاء بالعهد، من كتاب الجزية، وفى: باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . . .} في تفسير سورة آل عمران، من كتاب التفسير، وفى: باب صلة المرأة أمها ولها زوج، من كتاب الأدب، وفى: باب كيف يكتب الكتاب الى أهل الكتاب، من كتاب الاستئذان، وفى: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم. . . .، من كتاب الأيمان والنذور (معلقا)، وفى: باب ترجمة الحكام، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى 1/ 5 - 7، 20، 3/ 236، 4/ 23، 54 - 57، 123، 6/ 42 - 45، 8/ 5، 72، 173، 9/ 94. ومسلم، في: باب كتاب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1393 - 1397. وأبو داود، في: باب كيف يكتب إلى الذمى، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 628. والترمذى، في: باب ما جاء كيف يكتب إلى أهل الشرك، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذى 6/ 183، 184. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 263. (¬2) أخرجه أبو داود، في: باب في المرأة ترث من دية زوجها، من كتاب الفرائض. سنن أبى داود 2/ 117. والترمذى، في: باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، من أبواب الفرائض. عارضة الأحوذى 8/ 260. وابن ماجه، في: باب الميراث من الدية، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 883. والإمام مالك، في: باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، من كتاب العقول. الموطأ 2/ 866. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 452.

المَالُ؛ كَالْقَرْضِ، وَالْغَصْبِ، وَالْبَيْعِ، وَالإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالصُّلْحِ، وَالوَصِيَّةِ لَهُ، وَالجِنَايَةِ المُوجِبَةِ لِلْمَالِ، وَلَا يُقْبَلُ فِى حَدٍّ للهِ تَعَالَى. وَهَلْ يُقْبَلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ؛ مِثْلَ القِصَاصِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالخُلْعِ، وَالعِتْقِ، وَالنَّسَبِ، وَالكِتَابَةِ، وَالتَّوْكِيلِ، وَالوَصِيَّةِ إلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَأَمّا حَدُّ القَذْفِ، فَان قُلْنَا: هُوَ لِلهِ تَعَالَى. فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ. وَإنْ قُلْنَا: لِلْآدَمِىِّ. فَهُوَ كَالْقِصَاصَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْصَدُ به المالُ؛ كالقَرْضِ، والغَصْبِ، والإِجارةِ، والبَيْعِ، والرَّهْنِ، والصُّلْحِ، والوصيةِ له، والجِنايَةِ المُوجِبَةِ للمالِ، ولا يُقْبَلُ فِى حَدٍّ للهِ تعالى. وهل يُقْبَلُ فيما عدا ذاك؛ مِثْل القِصاصِ، والنِّكاحِ، والطَّلاقِ، والخُلْعِ، والعِتْقِ، والنَّسَبِ، والكِتابةِ،: والتَّوْكِيلِ، والوصيةِ إليه؟ على رِوايَتَيْن. فأمَّا حَدُّ القَذْفِ، فإن قُلْنا: هُو) حَقٌّ (¬1) (للهِ تعالى. فلا يُقْبَلُ فيه. وإن قُلْنْا): هو حَقٌّ (لآدَمِىِّ. فهو كالقِصاصِ) وجملةُ ذلك، أنَّ كتابَ القاضى إلى القاضى يُقْبَلُ في المالِ، ¬

(¬1) في الأصل: «حد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه، ولا يُقْبَلُ في الحُدُودِ لحَقِّ (¬1) اللهِ تعالى. وهل يُقْبَلُ فيما عدا هذا؟ على وَجْهَيْن. وبهذا قال أصْحابُ الرَّأْىِ. وقال أصْحَابُ (¬2) الشافعىِّ: يُقْبَلُ في (¬3) كلِّ حَق لآدَمِىِّ، مِن الجِراحِ وغيرِها، وهل يُقْبَلُ في الحُدودِ التى للهِ تعالى؟ على قَوْلَيْن؛ أحَدُهما، يُقْبَلُ. وهو قولُ مالكٍ، وأبى ثَوْرٍ. وحَدُّ القَذْفِ يَنْبَنِى على الخِلافِ فيه، على ما ذَكَرْنا. ولَنا، على أنَّها لا تُقْبَلُ في الحُدُودِ، أنَّها (¬4) مَبْنِيَّةٌ على السَّتْرِ، والدَّرْءِ بالشُّبُهاتِ، والإِسْقاطِ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ، وكتابُ القاضى [شهادةٌ على شهادةٍ] (¬5)، وفيها (¬6) شُبْهَةٌ، فإنَّه يَتَطَرَّقُ إليها (¬7) احْتِمالُ الغَلَطِ و (¬8) السَّهْوِ في شُهودِ الفَرْعِ (¬9)، مع احْتمالِ ذلك في شُهودِ الأصْلِ، وهذا احْتمالٌ زائدٌ، لا يُوجَدُ في شَهادةِ الأصْلِ، وهو مُعْتَبَرٌ، ¬

(¬1) في م: «كحق». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «لأنها». (¬5) في ق، م: «إلى القاضى شهادة». (¬6) في ق، م: «فيه». (¬7) في م: «إليه». (¬8) في م: «أو». (¬9) في الأصل: «الفروع».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدليلِ أنَّها لا تُقْبَلُ مع القُدْرَةِ على شُهودِ الأصْلِ، فوَجَبَ أن لا تُقْبَلَ فيما يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَّ كتابَ القاضى إلى القاضى إنَّما يُقْبَلُ للحاجَةِ، ولا حاجةَ إلى ذلك في الحَدِّ؛ لأنَّ سَتْرَ صاحِبِه أوْلَى مِن الشَّهادةِ عليه، ولأنَّه لا نَصَّ في ذلك، ولا يَصحُّ قِياسُه على الأمْوالِ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ [في الحاجةِ والتَّساهُلِ فيها] (¬1). وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّ كتابَ القاضى إلى القاضى لا يُقْبَلُ في القِصاصِ أيضًا، ولا حَدِّ القَذْفِ؛ لأنَّه قال: إنَّما يجوزُ في الحُقوقِ، أمَّا الدِّماءُ والحَدُّ فلا. وهذا قولُ أبى حنيفةَ (¬2). وظاهِرُ كلام الخِرَقِىِّ، أنَّه يُقْبَلُ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ. ولَأنَّه حَقُّ آدمىِّ، لا يَسْقُطُ بالرُّجوعِ عن الإقْرارِ به، أشْبَهَ الأمْوالَ. وذَكَر أصْحابُنا هذا عن أحمدَ رِوايَة؛ [لأنَّ سُفْيانَ] (¬3) قال: شَهادةُ رجل (¬4) في الطَّلاقِ جائِزَةٌ. قال أحمدُ: ما أحْسَنَ ما قال. ¬

(¬1) في م: «والتساهل». (¬2) بعده في الأصل: «وظاهر قول أبى حنيفة». (¬3) في م: «لأنه». (¬4) بعده في المغنى 14/ 200: «مكان رجل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فجعَلَه أصْحابُنا رِوايَةً في القِصاصِ. قال شيْخُنا (¬1): وليس هذا برِوايَةٍ؛ فإنَّ الطَّلاقَ لا يُشْبِهُ القِصاصَ، والمذهبُ أنَّها لا تُقْبَلُ فيه؛ لأنَّه (¬2) عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وتُبْنَى على الإِسْقاطِ، فأشْبَهَتِ (¬3) الحُدودَ (¬4). فأمَّا ما عَدا الحُدودَ [والقِصاصَ] (¬5) والأمْوالَ؛ كالنِّكاحِ والطَّلاقِ، وسائرِ ما لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، فنَصَّ أحمدُ على قَبُولِها في الطَّلاقِ والحُقُوقِ، فدَلَّ على [قَبُولِها في جَميعِ هذه الحُقوقِ] (¬6). وهو قولُ الخِرَقِىِّ. وقال ابنُ حامدٍ: لا تُقْبَلُ في النِّكاحِ. ونحوُه قولُ أبى بكرٍ. فعلَى قولِهما، لا تُقْبَلُ الشَّهادَةُ على الشهادةِ إلَّا في المالِ، وما يُقْصَدُ به. وهو قولُ أبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّه حَقٌّ لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، فأشْبَهَ حَدَّ القَذْفِ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه حَقُّ لا يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فيَثْبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، كالمالِ، وبهذا فارقَ الحُدُودَ. وكتابُ القاضى إلى القاضى ¬

(¬1) في: المغنى 14/ 200. (¬2) في الأصل: «لا». (¬3) في الأصل، ق: «فأشبه». (¬4) في م: «الحد». (¬5) سقط من: ق، م. (¬6) في النسخ: «جميعها في قبول هذه الحقوق». وانظر المغنى الموضع السابق.

4929 - مسألة: (ويجوز كتاب القاضى فيما حكم به لينفذه فى المسافة القريبة ومسافة القصر، ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به فى المسافة

وَيَجُوزُ كِتَابُ القَاضِى فِيمَا حَكَمَ بِهِ لِيُنْفِذَهُ فِى المَسَافَةِ القَرِيبَةِ وَمَسَافَةِ القَصْرِ، وَيَجُوزُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ليَحْكُمَ بِهِ فِى الْمَسَافَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ حُكْمُه حُكْمُ الشَّهادةِ على الشَّهادةِ؛ لأنَّه شَهادةٌ على شهادةٍ. 4929 - مسألة: (ويَجُوزُ كِتابُ القاضى فيما حَكَم به ليُنْفِذَه في المسافَةِ القريبَةِ ومَسافَةِ القَصْرِ، ويَجُوزُ فيما ثَبَت عندَه ليَحْكُمَ به في المسافَةِ

البَعِيدَةِ دُونَ الْقَرِيبَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَعِيدَةِ دُونَ القريبةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ كتابَ القاضى على ضَرْبَيْن؛ أحدُهما، أن يَكْتُبَ بما حَكَم به، وذلك مثلُ أن يَحْكُمَ على رجلٍ بحَقٍّ، [فيتَغَيَّبَ قبلَ وَفائِه] (¬1)، أو يَدَّعِىَ حَقُّا على غائِبٍ، ويُقِيمَ به بَيِّنَةً، ويَسْألَ الحاكِمَ الحُكْمَ عليه، فيَحْكُمَ عليه، ويسْألَه أن يَكْتُبَ له كِتابًا بحُكْمِه إلى قاضى البلدِ الذى فيه الغائِبُ، فيكتبَ له (¬2) إليه، أو تقومَ البَيِّنَةُ على حاضِرٍ (¬3)، فيَهْرُبَ قبلَ الحُكْمِ عليه، فيسْألَ صاحِبُ الحقِّ (¬4) الحُكْمَ عليه، وأنْ يَكْتُبَ له كتابًا بحُكْمِه. ففى هذه الصُّوَرِ الثَّلاثِ، يَلْزَمُ الحاكمَ إجابَتُه إلى الكتابَةِ، ويَلْزَمُ المكتوبَ إليه قبولُه (¬5)، سَواءٌ كانت بينهما مَسافةٌ قريبةٌ أو بعيدَةٌ، حتى لو كانا في جَانِبَىِ البلدِ أو مجلسِ الحاكمِ، لَزِمَه قَبولُه وإمْضاؤُه، وسواءٌ كان حُكْمًا على حاضرٍ أو غائبٍ. لا نعلمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّ حُكْمَ الحاكمِ يجبُ إمْضاؤُه على كلِّ حاكمٍ. الضَّرْبُ الثانى، أن يَكْتُبَ [يُعْلِمُه بشَهادَةِ] (¬6) شاهِدَيْن عندَه بحقٍّ لفُلانٍ، مثلَ أن تقومَ البَيِّنَةُ عندَه بحَقٍّ لرجلٍ على آخَرَ، ولم يَحْكُمْ به، فيَسْألَ صاحِبُ الحَقِّ أن يَكْتُبَ له كتابًا بما حَصَل عندَه، فإنَّه يَكْتُبُ له أيضًا. قال القاضى: ¬

(¬1) في الأصل: «فيبعث قبل وفاته». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «الحكم الحاكم». (¬5) في م: «قوله». (¬6) في م: «بعلمه شهادة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويكونُ في كِتابِه: شَهِد عندى فُلانٌ وفُلانٌ بكذا؛ ليكونَ المكْتوبُ إليه هو الذى يَقْضِى به، ولا يَكْتُبُ: ثَبَت عندى؛ لأنَّ قوْلَه: ثَبَت عندى. حُكْمٌ بشَهادَتِهما، فهذا لا يَقْبَلُه المكتوبُ إليه إلَّا في المسافةِ البَعيدةِ، التى هى مَسافَةُ القَصْرِ، ولا يَقْبَلُه فيما دُونَها؛ لأنَّه نَقْلُ شَهادةٍ، فاعْتُبِرَ فيه ما يُعْتَبَرُ في الشَّهادةِ على الشهادةِ. ونحوُ هذا قولُ الشافعىِّ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ: يجوزُ أن يَقْبَلَه في بَلَدِه. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ مثلُ هذا. وقال بعضُ المتأخِّرين مِن أصحابه: الذى يَقْتَضِيه مَذْهَبُه أنه لا يجوزُ، كما لا يجوزُ ذلك في الشهادة على الشهادة. واحْتَجَّ مَن أجازَه بأنَّه كتابُ الحاكمِ بما ثَبَت عندَه، فجاز قبولُه مع القُرْبِ، ككتابِ (¬1) حُكْمِه. ولَنا، أنَّ ذلك نَقْلُ الشهادةِ إلى المَكْتُوبِ إليه، فلم يَجُزْ مع القُرْب، كالشَّهادةِ على الشهادةِ، ويُفارِقُ كتابَة بالحُكْمِ، فليس هو نَقْلًا، إنَّما هو خَبَرٌ. فضل: ويُقْبَلُ [الكتابُ مِن قاضى مِصرٍ] (¬2) إلى قاضى مِصرٍ، وإلى قاضى قريةٍ، ومِن قاضى قَرْيةٍ إلى قاضى قريةٍ، وإلى قاضى مِصرٍ. ¬

(¬1) في ق، م: «ككتابة». (¬2) في الأصل: «كتاب قاضى مصر إلى».

4930 - مسألة: (ويجوز أن يكتب إلى قاض معين، وإلى من يصل إليه كتابى هذا من قضاة المسلمين وحكامهم)

وَيَجُوزُ أنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، وَإلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابِى هَذَا مِنْ قُضَاةِ المُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ. وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، يُحْضِرُهُمَا القَاضِى الكَاتِبُ فَيَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يَقُولُ: أُشْهِدُكُمَا أن هَذَا كِتَابِى إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ 4930 - مسألة: (ويجوزُ أن يَكْتُبَ إلى قاضٍ مُعَيَّنٍ، وإلى مَن يَصِلُ إليه كِتابى هذا مِن قُضاةِ المسلمين وحكّامِهم) مِن غيْرِ تَعْيِينٍ، ويَلْزَمُ مَن وَصَلَه قَبُولُه. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ. واسْتَحْسَنَه أبو يُوسُفَ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ أن يَكْتُبَ إلى غيرِ مُعَيَّنٍ. ولَنا، أنَّه كتابُ حاكمٍ مِن وِلايتِه، وَصَل إلى حاكمٍ، فلَزِمَه قَبُولُه، كما لو كان الكتابُ إليه بعَيْنِه. 4931 - مسألة: (ولا يُقْبَلُ الكِتابُ إلَّا أن يَشْهَدَ به شاهِدانِ، يُحْضِرُهما القاضى الكاتبُ، فيَقْرَؤُه عليهما، ثم يقولُ: اشْهِدُ كما أنَّ هذا

فُلانِ بْنِ فُلانٍ. وَيَدْفَعُهُ [334 و] إلَيْهِمَا، فَإذَا وَصَلَا إلَى المَكْتُوبِ إلَيْهِ، دَفَعَا إِلَيْهِ الكِتَابَ وَقَالَا: نَشْهَدُ أنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ إلَيْكَ، كَتَبَهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأشْهَدَنَا عَلَيْهِ. وَالاحْتِيَاطُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ، وَيَخْتِمَهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ خَتْمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابى إلى فُلانِ بنِ فُلانٍ. ويَدْفَغه إليهما، فإذا وَصَلا إلى المكْتُوبِ إليه، دَفَعا إليه الكتابَ وقالا: نَشْهَدُ أنَّ هذا كِتابُ فُلانٍ إليك، كَتَبَه مِن عَمَلِه، وأشْهَدَنا عليه. والاحْتِياطُ أن يَشْهَدا عليه بما فيه، ويَخْتِمَه. ولا

وَإِنْ كَتَبَ كِتَابًا وَأَدْرَجَهُ وَخَتَمَهُ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابِى إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــ يُشْتَرَطُ خَتْمُه. وإن كَتَب كِتابًا وأدْرَجَه وخَتَمَه، وقال: هذا كِتابى إلى

فُلَانٍ، اشْهَدَا عَلَىَّ بِمَا فِيهِ. لَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّ أحْمَدَ قَالَ فِى مَنْ كَتَبَ وَصِيَّةً وَخَتَمَهَا، ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى مَا فِيهَا: فَلَا، حَتَّى يُعْلِمَهُ مَا فِيهَا. وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ لِقَوْلِهِ: اذَا وُجِدَتْ وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةً عِنْدَ رَأْسِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَكُونَ أشْهَدَ، أوْ أعْلَمَ بِهَا أحَدًا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعُرِفَ خَطُّهُ وَكَانَ مَشْهورًا، فَإنَّهُ يَنْفُذُ مَا فِيهَا. وَعَلَى هَذَا، إذَا عَرَفَ المَكْتُوبُ الَيْهِ أَنَّهُ خَطُّ القَاضِى الكَاتِبِ وَخَتْمُهُ، جَازَ قَبُولُهُ. وَالعَمَلُ عَلَى الأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فُلانٍ، اشْهَدَا عَلَىَّ بما فيه. لم يَصِحَّ؛ لأنَّ أحمدَ قال في مَن كَتَب وصيةً وخَتَمَها، ثم أشْهَدَ على ما فيها: فلا حتى يُعْلِمَه ما فيها. ويَتَخَرَّجُ الجَوازُ لقولِه: إذا وُجِدَتْ وصيةُ الرجلِ مَكْتُوبَةً عندَ رَأْسِه، مِن غيرِ أن يكونَ أشْهَدَ، أو أعْلَمَ أحَدًا بها عندَ مَوْتِه، وعُرِف خَطُّه وكان مشْهُورًا، فإنَّه يَنْفُذُ ما فيها. فعلى هذا، إذا عَرَف المكْتُوبُ إليه أنَّه خَطُّ القاضى الكَاتِبِ وخَتْمُه، جاز قَبُولُه. والعَمَلُ على الأوَّلِ) وجملةُ ذلك، أنَّه يُشْتَرَطُ لقبولِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابِ القاضى شُرُوطٌ ثَلاَثَةٌ؛ أحدُها، أن يَشْهَدَ به شاهِدان عَدْلان، ولا يَكْفى مَعْرفةُ المكتوبِ إليه خَطَّ الكاتِبِ وخَتْمَه، ولا يجوزُ له قَبولُه بذلك، في قولِ الجُمْهورِ. وحُكِىَ عن الحسنِ، وسَوّارٍ، والعَنْبَرِىِّ، أنَّهم قالوا: إذا كان يَعْرِفُ خَطَّه وخَتْمَه، قَبِلَه. وهو قولُ أبى ثَوْرٍ، والإِصْطَخْرِىِّ. ويتَخَرَّجُ لَنا مِثْلُ ذلك؛ لأنَّه تحْصلُ به غَلَبَةُ الظَّنِّ، فأشْبَهَ شَهادةَ الشّاهِدَيْن. ولَنا، أنَّ ما أمْكَنَ إثْباتُه بالشَّهادةِ، لم يَجُزْ الاقْتصارُ فيه (¬1) على الظَّاهِرِ، كإثْباتِ العُقودِ، ولأنَّ الخَطَّ يُشْبِهُ الخَطَّ، والخَتْمَ يُمْكِنُ التَّزْويرُ عليه، ويُمْكِنُ الرُّجوعُ إلى الشهادةِ، فلم يُعَوَّلْ على الخَطِّ، كالشّاهِدِ لا يُعَوِّلُ في الشَّهادةِ على الخَطِّ، وفى هذا انْفِصال عمّا ذَكَرُوه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ القاضىَ إذا كَتَب الكتابَ، دَعا رَجُلَيْن يَخْرُجان إلى البَلَدِ الذى فيه القاضى المكتوبُ إليه، فيَقْرأْ عليهما الكتابَ، أو يَقْرَؤُه غيرُه عليهما، والأحْوَطُ أن يَنْظُرا (¬2) معه فيما يَقْرَؤُه، فإن لم يَنْظُرا (2)، جاز؛ لأنَّه لا يُسْتَقْرأً إلَّا ثِقَةٌ، فإذا قَرَأَ عليهما، قال: اشْهَدا علىَّ أنَّ هذا كتابى إلى فُلانٍ. وإن قال: اشْهَدا علىَّ بما فيه. كان أوْلَى، فإنِ اقْتَصَرَ على قولِه: هذا كتابى إلى فُلانٍ. فظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّه لا يُجْزِئُ؛ لأنَّه يُحَمِّلُهما ¬

(¬1) تكملة من المغنى 14/ 80. (¬2) في الأصل: «ينظر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهادةَ، فاعْتُبِرَ أن يقولَ: اشْهَدا علىَّ. كالشَّهادةِ على الشَّهادةِ. وقال القاضى: يُجْزِئُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. ثم إن كان ما في الكتاب قليلًا، اعْتَمَدا على حِفْظِه، وإن كَثُرَ (¬1) فلم يَقْدِرا على حِفْظِه، كَتَب كلُّ واحدٍ منهما مَضْمُونَه، وقابَلَ بها لتكونَ معه، يَذْكُرُ بها ما يَشْهَدُ به، ويَقْبِضان الكِتابَ قبلَ أن يَغِيبا؛ لئلَّا يَدْفَعَ إليهما غيرَه، فإذا وَصَل الكِتابُ معهما إليه، قرَأه الحاكمُ أو غيرُه عليهما، فإذا سَمِعاه، قالا: نَشْهَدُ أنَّ هذا كتابُ فُلانٍ [القاضى إليك، أشْهَدَنا على نفسِه بما فيه؛ لأنَّه قد يكونُ كتابُه غيرَ الذى أشْهَدَهما عليه. قال أبو الخَطَّاب: ولا يُقْبَلُ إلَّا (¬2) أن يقولا: نَشْهَدُ أنَّ هذا كتابُ فُلانٍ] (¬3)؛ لأنَّها أداءُ شَهادةٍ، فلا بُدَّ فيها مِن لَفْظِ الشَّهادةِ. ويجبُ أن يقولا: مِن عَمَلِهْ؛ لأنَّ الكتابَ لا يُقْبَلُ إلَّا إذا وَصَل مِن مَجْلِسِ عَمَلِه. وسواءٌ وَصَل الكتابُ مَخْتُومًا أو غيرَ مَخْتُومٍ، مَقبولًا أو غيرَ مَقْبُولٍ؛ لأنَّ الاعْتِمادَ على شَهادَتِهما، لا على الخَطِّ والخَتْمِ. فإنِ امْتَحَى الكتابُ، وكانا يَحْفَظان ما فيه، جاز لهما أن يَشْهَدا بذلك، وإن لم [يَحْفَظا ما فيه] (¬4)، لم يُمْكِنْهما الشَّهادةُ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ: لا يُقْبلُ الكتابُ (¬5) حتى يَشْهَدَ شاهِدَان على خَتْمِ القاضى. ولَنا، ¬

(¬1) في م: «كان كثيرا». (¬2) زيادة لازمة من المغنى 14/ 80. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «يحفظاه». (¬5) سقط من: الأصل.

4932 - مسألة: (ولو أدرج الكتاب وختمه، وقال: هذا خطى، اشهدا على بما فيه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب كِتابًا إلى قَيْصَرَ، ولم يَخْتِمْه، فقيل له: إنَّه لا يَقْرأُ كتابًا غيرَ مَخْتُومٍ. فاتَّخَذَ الخاتَمَ (¬1). واقْتِصارُه على الكتابِ دُونَ الخَتْمِ، دليلٌ على أنَّ الخَتْمَ ليس بشَرْطٍ في القَبولِ، وإنَّما فَعَلَه النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ليَقْرَءُوا كِتابَه. ولأنَّهما (¬2) شَهِدَا بما في الكتابِ، وعَرَفا ما فيه، فوَجَبَ قَبولُه، كما لو وَصَل مَخْتُومًا وشَهِدا بالخَتْمِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه إنَّما يُعْتَبَرُ (¬3) ضَبْطُهما لمعنَى الكتابِ وما يتَعَلَّقُ به الحكمُ. قال الأثْرَمُ: سَمِعْت أبا عبدِ اللهِ يُسْألُ عن قومٍ شَهِدُوا على صحيفةٍ، وبعضُهم يَنْظُرُ فيها، وبعضُهم لا يَنْظُرُ؛ قال: إذا حَفِظَ فلْيَشْهَدْ. قيل: كيف، وهو كلامٌ كثيرٌ! قال: يَحْفَظُ ما كان عليه الكلامُ والوَضْعُ. قلتُ: يَحْفَظُ المعنَى؟ قال: نعم. قيل له: والحدودَ والثَّمَنَ وأشْباهَ ذلك؟ قال: نعم. 4932 - مسألة: (ولو أدْرَجَ الكِتابَ وخَتَمَه، وقال: هذا خَطِّى، اشْهَدا علىَّ بما فيه) أو: قد أشْهَدْتُكما على نفسِى بما فيه (لم يَصِحَّ) ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب دعوة اليهودى والنصرانى، من كتاب الجهاد، وفى: باب نقش الخاتم، وباب اتخاذ الخاتم، من كتاب اللباس. صحيح البخارى 4/ 54، 7/ 202، 203. ومسلم، في: باب في اتخاذ النبى - صلى الله عليه وسلم - خاتما. . . .، من كتاب اللباس والزينة. صحيح مسلم 3/ 1657. وأبو داود، في: باب ما جاء في اتخاذ الخاتم، من كتاب الخاتم. سنن أبى داود 2/ 405. والترمذى، في: باب في مكاتبة المشركين، وباب ما جاء في ختم الكتاب، من أبواب الاستئذان. عارضة الأحوذى 6/ 183، 185. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 169، 170، 181، 198، 275. (¬2) بعده في م: «لو». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا التَّحَمُّلُ. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال أبو يُوسفَ: إذا خَتَمَه بخَتْمِه وعَنْوَنَه، جاز أن يتَحَمَّلا الشَّهادةَ عليه مُدْرَجًا، فإذا وَصَل الكتابُ شَهِدا عندَه أنَّه كتابُ فُلانٍ. ويَتَخَرَّجُ لَنا مثلُ هذا؛ فإنَّهما شَهِدا بما في الكتابِ، فجاز وإن لم يَعْلَما تَفْصِيلَه، كما لو شَهِدا بما في هذا الكِيسِ مِن الدَّراهِمِ، جازَتْ شَهادَتُهما وإن لم يَعْرِفا قَدْرَها. ولَنا، أنَّهما شَهِدا بمَجْهُولٍ لا يَعْلَمانِه، فلم تَصِحَّ شَهادَتُهما، كما لو شَهِدا أنَّ لفُلانٍ على فُلانٍ مالًا. وفارَقَ ما ذَكَرَه، فإنَّ تَعْيينَه الدَّراهِمَ التى في الكِيسَ أغْنَى عن معرفةِ قَدْرِها، وههُنا الشهادةُ على ما في الكتابِ دُونَ الكتابِ، وهما لا يَعْرِفانِه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطُ الثانى، أن يَكْتُبَه القاضى مِن مَوْضِعِ عَمَلِه ووِلَاِيَتِه، فإن كَتَبَه مِن غيرِ وِلاِيَتِه، لم [يَسُغْ قَبولُه] (¬1)، لأنَّه لا يَسُوغُ له في غيرِ وِلاِيَتِه حُكمٌ، فهو فيه كالعامِّىِّ. ¬

(¬1) في الأصل، ق: «يسمع قوله».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطُ الثالثُ، أن يَصِلَ الكتابُ إلى المكتوبِ إليه في مَوْضِعِ وِلايَتِه، فإن وَصَله في غيرِه، لم يكنْ له قبولُه حتى يصيرَ إلى مَوْضِعِ وِلايَتِه. ولو تَرافَعَ إليه خَصْمانِ في غيرِ محَلِّ وِلايَتِه، لم يكنْ له الحُكْمُ بينَهما بحُكْمِ وِلايَتِه، إلَّا أن يتَراضَيا به (¬1)، فيكون حُكْمُه حكْمَ غيرِ القاضى إذا تَراضَيا به. وسواء كان الخَصْمان مِن أهلِ عَمَلِه أو لم يكونا. ولو تَرافَعَ إليه خَصْمان، وهو في مَوْضِعِ وِلايَتِه، مِن غيرِ أهلِ وِلايَتِه، كان له الحُكْمُ بينَهما؛ لأنَّ الاعْتِبارَ بمَوْضِعِهما، إلَّا أن يَأْذَنَ الإِمامُ لقاضٍ أن يَحْكُمَ بينَ أهلِ وِلايَتِه حيثُ كانوا، ويَمْنَعَه مِن الحكمِ بينَ غيرِ أهلِ وِلايَتِه حيثُما كان، فيكونَ الأمرُ على ما أذِنَ فيه ومَنع منه؛ لأنَّ الوِلايَةَ بتَوْلِيَتِه، فيكونُ الحُكْمُ على وَفْقِها. ¬

(¬1) في م: «عليه».

4933 - مسألة: (فإذا وصل الكتاب، فأحضر المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه فى الكتاب، فقال: لست فلان بن فلان. فالقول قوله مع يمينه، إلا أن تقوم به بينة، فإن ثبت أنه فلان بن فلان ببينة أو

فَإِذَا وَصَلَ الكِتَابُ، فَأَحضَرَ المَكْتُوبُ الَيْهِ الْخَصْمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فِى الْكِتَابِ، فَقَالَ: لَسْتُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَإنْ ثَبَتَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4933 - مسألة: (فإذا وَصَل الكِتابُ، فأحْضَرَ المكْتُوبُ إليه الخَصْمَ المَحْكُومَ عليه في الكِتاب، فقال: لستُ فُلانَ بنَ فُلانٍ. فالقولُ قولُه مع يمينِه، إلَّا أن تقومَ به بَيِّنَةٌ، فإن ثَبَت أنَّه فُلانُ بنُ فُلانٍ ببَيِّنةٍ أو

فَقَالَ: المَحْكُومُ عَلَيْهِ غَيْرِى. [334 ظ] لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةَ تَشْهَدُ أَنّ فِى الْبَلَدِ مَنْ يُسَاوِيهِ فِيمَا سُمِّىَ وَوُصِفَ بِهِ، فَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إقْرَارٍ، فقال: المحكُومُ عليه غيرِى. لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أنَّ في البَلَدِ مَن يُساوِيه فيما سُمِّىَ ووُصِفَ به، فيَتَوَقَّفُ حتى يَعْلَمَ المَحْكُومَ عليه منهما) وجملةُ ذلك، [أنَّ القاضىَ المكتوبَ إليه إذا وَصَل إليه الكتابُ في مَوْضِع يَلْزَمُه قَبولُه، فإنَّه يَأْخُذُ المحكومَ عليه بالحقِّ الذى حُكِم عليه فيَسْتَدْعِيه، فإنِ اعْتَرَفَ بالحقِّ ألْزَمَه أدَاءَه، وإن قال: لستُ المُسَمَّى في هذا الكتابِ. فالقولُ قولُه مع يمينه، إلَّا أن يُقِيمَ المُدَّعِى بينةً أنَّه المسمَّى في الكتابِ. وإنِ اعْتَرفَ أن الاسمَ اسمُه، والنَّسبَ نسبُه، والصفةَ صفتُه، إلَّا أنَّ الحقَّ ليس هو عليه، وإنَّما هو على آخرَ يُشارِكُه في الاسمِ والنسبِ والصفةِ، فالقولُ قولُ المُدَّعِى في نفىِ ذلك؛ لأنَّ الظاهرَ عدمُ المشاركةِ في هذا كلِّه، فإن أقام المُدَّعَى عليه بينةً بما ادَّعاه بوجودِ مشاركٍ له في هذا كلِّه، أحْضَرَه الحاكمُ وسألَه عن الحقِّ، فإنِ اعْتَرَف به، ألْزَمَه به، ويَخلُصُ الأوَّلُ، وإن أنْكَرَه] (¬1)، وَقَفَ الحاكمُ، ويَكْتُبُ إلى الحاكِمِ الكاتِبِ يُعْلِمُه الحالَ، وما وَقعَ مِن الإِشْكالِ، حتى يُحْضِرَ الشَّاهِدَيْن، ¬

(¬1) في م: «أنه إن أنكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَشْهَدا عندَه (¬1) بما يَتَمَيَّزُ به المَشْهُودُ عليه منهما. فإنِ ادَّعَى المُسَمَّى أنَّه كان في البلدِ مَن يُشارِكُه في الاسْمِ والصِّفَةِ، وقد ماتَ، نَظَرْنا؛ فإن كان مَوْتُه قبلَ وُقُوعِ المُعامَلَةِ التى وَقَع الحُكْمُ بها، أو كان ممَّن لم يُعاصِرْه (¬2) المحكومُ عليه، أو المحكومُ له، لم يَقَعِ الإِشكالُ، وكان وُجُودُه كعَدَمِه. وإن كان مَوْتُه بعدَ الحُكْمِ، أو بعدَ المُعامَلَةِ، وكان ممَّن أمكَنَ أن تَجْرِىَ بينَه وبينَ المحكومِ له معاملَةٌ، فقد وَقَع الإِشْكالُ، كما لو كان حَيُّا؛ لجواز أن يكونَ الحقُّ على الذى مات. فصل: وإذا كَتَبَ (¬3) الحاكمُ (4) بثُبوتِ بيِّنةٍ، أو إقْرارٍ بدَينٍ، جاز، وحَكَم به المكتوبُ إليه، وأخَذَ المحكومَ عليه به (4)، وإن كان ذلك عَيْنًا؛ كعَقارٍ مَحْدودٍ، أوْ عَيْن مَشْهُورَةٍ لا تَشْتَبهُ بغيرِها، كعبدٍ معروفٍ مشهورٍ، أو دابَّةٍ كذلك، حَكَم به (¬4) المكتوبُ إليه أيضًا، وأُلزِمَ تَسْلِيمَه ¬

(¬1) في م: «عنه». (¬2) في الأصل: «يعارضه». (¬3) في الأصل: «ثبت». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى المحكومِ له به. وإن كان عَيْنًا لا تَتَمَيَّزُ إلَّا بالصِّفَةِ، كعبدٍ غيرِ مَشْهورٍ، أو غيرِه مِن الأعْيانِ التى لا (¬1) تَتَمَيَّزُ إلَّا بالوَصْفِ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَقْبَلُ كتابَتَه به. وِهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ الوَصْف لا يَكْفِى، بدليلِ أنَّه لا يجوزُ أن يَشْهَدَ لرجلٍ بالوَصْفِ والتَّحْلِيَةِ، كذلك المشْهودُ به. والثانى، يجوزُ؛ لأنَّه يَثْبُتُ في الذمَّةِ بالعقْدِ على هذه الصِّفَةِ، فأشْبَهَ الدَّيْنَ، ويُخالِفُ المشهودَ له، فإنَّه لا حاجَةَ إلى ذلك فيه، فإنَّ الشَّهادَةَ له لا تَثْبُتُ إلَّا بعدَ دَعْواه، ولأنَّ المشْهودَ عليه يَثْبُت بالصِّفَةِ والتَّحْلِيَةِ، فكذلك المشْهودُ به. فعلى هذا الوَجْهِ، يُنْفِذُ العَيْنَ مَختومَةً، وإن كان عبدًا أو أمَةً خَتَم في عُنُقِه، وبَعَثَه إلى القاضى الكاتبِ؛ ليَشْهَدَ الشاهدان على عَيْنِه، فإن شَهِدا عليه، دُفِع (¬2) إلى المشْهودِ له به، وإن لم يَشْهَدا على عَيْنِه، أو (¬3) قالا: المشْهودُ به غيرُ هذا. وَجَب على آخِذِه رَدُّه إلى صاحِبِه، ويكونُ حُكْمُه حكمَ المغْصوبِ في ضَمانِه، وضَمانِ نَقْصِه ومنفعتِه، فيَلْزَمُه أجْرُه إنْ كان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «وقع». (¬3) في م: «و».

4934 - مسألة: (وإن تغيرت حال القاضى الكاتب بعزل أو موت، لم يقدح فى كتابه، وإن تغيرت بفسق، لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن تغيرت حال المكتوب إليه، فلمن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به)

وَإنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ القَاضِى الكَاتِبِ بِعَزْلٍ، أوْ مَوْتٍ، لَمْ يَقْدَحْ في كِتَابِهِ، وَإنْ تَغَيَّرَتْ بِفِسْقٍ، لَمْ يَقْدَحْ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَبَطَلَ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيَحْكُمَ بهِ، وَإنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ المَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَلِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ قَبُولُ اَلكِتَابِ، وَالعَمَلُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له أجْرٌ مِن يومِ أخَذَه، إلى أن يَصِلَ إلى صاحِبِه؛ لأنَّه أخَذَه مِن صاحِبِه قَهْرًا بغيرِ حَقٍّ. 4934 - مسألة: (وإن تَغَيَّرَتْ حالُ القاضى الكاتِبِ بعَزْلٍ أو مَوْتٍ، لم يَقْدَحْ في كتابه، وإن تَغَيَّرَتْ بفِسْقٍ، لم يَقدَحْ فيما حَكَم به، وبَطَلَ فيما ثَبَت عندَه ليَحْكُمَ به، وإن تَغَيَّرَتْ حالُ المكتوبِ إليه، فلمَن قامَ مَقامَه قَبولُ الكتاب والعملُ به) وجملةُ ذلك، أنَّه لا يَخْلُو مِن أن تَتَغَيَّرَ حالُ القاضى الكاتبِ أَو المكتوب إليه، أو حالُهما معًا، فإن تَغيَّرت حالُ الكاتبِ بموتٍ أو عَزْلٍ، بعدَ أن كَتَب الكِتابَ، وأشْهَدَ على نفسِه، لم يَقْدَحْ في كِتابِه، وكان على مَن وَصَلَه الكتابُ قبولُه، والعملُ به، سَواءٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَغَيَّرَتْ حالُه قبلَ خُروجِ الكِتابِ من يدِه (¬1) أو بعدَه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُعْمَلُ به في الحالَيْن. وقال أبو يُوسُفَ: إن مات قبلَ خُروجِه مِن يَدِه، لم يُعْمَلْ به، وإن مات بعدَ خُروجِه مِن يَدِه، عُمِل به؛ لأنَّ كِتابَ الحاكمِ بمنزلةِ الشَّهادةِ على الشَّهادةِ، لأنَّه يَنْقُلُ شَهادةَ شاهِدَىِ الأصْلِ، فإذا مات قبلَ وُصولِ الكِتابِ، صار بمنزلةِ موتِ شاهِدَىِ الفَرْعِ قبلَ أداءِ شَهادَتِهما. ولَنا، أنَّ المُعَوَّلَ في الكِتابِ على الشَّاهِدَين اللَّذَيْن يَشْهَدان على الحاكمِ، وهما حَيّانِ، فيجبُ أن يُقْبَلَ (¬2) كِتابُه، كما لو لم يَمُتْ، ولأنَّ كِتابَه إن كان فيما حَكَمَ به، فحُكْمُه لا يَبْطُلُ بموتِه وعَزْلِه، وإن كان فيما ثَبَت عندَه بشَهادةٍ، فهو أصْل، واللَّذان شَهِدا عليه فَرْعٌ، ولا تَبْطُلُ شَهادَةُ الفَرْعِ بموتِ شاهِدَىِ الأصْلِ، وما ذَكَرُوه حُجَّةٌ عليهم؛ لأنَّ الحاكمَ قد أشْهَدَ على نفسِه، وإنَّما يَشْهَدُ عندَ المكتوبِ إليه شاهِدَان عليه، وهما حَيّان، وهما شاهِدا الفَرْعِ، وليس (¬3) موتُه مانِعًا مِن شَهادَتِهما، فلا يَمْنَعُ قَبولَها، كموتِ شاهِدَىِ الأصْلِ. وإن تَغَيَّرَتْ بفِسْقٍ قبلَ الحُكْمِ بكِتابِه، لم يُحْكَمْ به، لأنَّ حُكْمَه [به بعدَ فسقِه] (¬4) لا يَصِحُّ، فكذلك لا يجوزُ الحكمُ بكتابِه، ولأنَّ بقاءَ ¬

(¬1) في م: «بلده». (¬2) في م: «ينقل». (¬3) في الأصل: «لأن». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عدالَةِ شاهِدَىِ الأصْلِ شَرْطٌ في الحُكْمِ بشاهِدَىِ الفَرْعِ، فكذلك بَقاءُ عَدالةِ الحاكمِ؛ لأنَّه بمَنزلةِ شاهِدَىِ الأصْلِ. وإن فسَق بعدَ الحُكْمِ بكتابه لم يَتَغَيَّرْ، كما لو حَكَم بشئ ثمِ بان فِسْقُه، فإنَّه لا يُنْقضُ ما مَضَى مِن أَحْكامِه، كذا ههُنا. وأمَّا إن تغَيَّرَتْ حالُ المكتوبِ إليه بأىِّ حالٍ كان؛ مِن مَوْتٍ، أو عَزْلٍ، أو فِسْقٍ، فلمَن وَصَل إليه الكتابُ ممّن قام مَقامَه، قَبولُ الكتابِ، والعملُ به. وبه قال الحسنُ. وحُكِىَ عنه أنَّ قاضِىَ الكوفةِ كَتَب إلى إيَاسِ بنِ مُعاويةَ قاضى البصرةِ كتابًا، فوصَلَ وقد عُزِل، ووَلِىَ الحسنُ، فعَمِلَ به (¬1). وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَعْمَلُ به؛ لأنَّ كتابَ القاضى بمنزلةِ الشَّهادةِ على الشَّهادةِ عندَ المكتوبِ إليه، وإذا شَهِد شاهِدان عندَ قاضٍ، لم يَحْكُمْ بشَهادَتِهما غيرُه. ولَنا، أنَّ المُعَوَّلَ على شَهادةِ الشَّاهِدَيْن بحُكْمِ الأوَّلِ (¬2)، أو ثُبُوتِ الشَّهادةِ عندَه، وقد شَهِدا عندَ الثانى، فوَجَبَ أن يقْبَلَ كالأوَّلِ. وقولُهم: إنَّها شَهادَة عندَ الذى مات. ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ الحاكمَ الكاتِبَ ليس بفَرْعٍ، [ولو كان فرعًا، لم يُقْبَلْ وَحْدَه، وإنَّما الفَرْعُ الشَّاهِدان اللَّذان شَهِدا عليه] (¬3)، وقد أدَّيا الشَّهادةَ عندَ المجددِ (¬4)، ولو ضاع الكِتابُ، فشَهِدَا بذلك عندَ الحاكمِ المكتوبِ إليه، ¬

(¬1) الخبر في: أخبار القضاة، لوكيع 2/ 8. (¬2) في م: «الأصل». (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «المحدود».

فَصْلٌ: وَإذَا حَكَمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ إلَى الحَاكِمِ ـــــــــــــــــــــــــــــ قَبِلَ، فدَلَّ (¬1) ذلك على أنَّ الاعْتِبارَ بشَهادَتِهما دُونَ الكتابِ. وقياسُ ما ذَكَرْنا، أنَّ الشاهِدَيْن إذا حَمَلا الكتابَ إلى غيرِ المكتوبِ إليه في حالِ حَياتِه، وشَهِدا عندَه، عَمِل به؛ لِما بَيَّنَّاه. فإن كان المكْتوبُ إليه خليفةً للكاتبِ، فمات الكاتِبُ أو عُزِل، انْعَزَلَ المكتوبُ إليه؛ لأنَّه نائبٌ عنه، فيُعْزَلُ بعَزْلِه ومَوْتِه، كَوُكَلائِه. وقال بعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: لا يَنْعَزِلُ خليفتُه، كما لا يَنْعَزِلُ القاضي الأصْلى بموتِ الإِمامَ ولا عَزْلِه. ولَنا، ما ذَكَرْناه، ويُفارِقُ الإِمامَ؛ لأنَّ الإِمامَ يَعْقِدُ القَضاءَ والإِمارةَ للمسلمين، فلم يَبْطُلْ ما عَقَدَه لغيرِه، كوِلَايةِ النِّكاحِ، [فإنَّه إذا] (¬2) مات الولِىُّ، لم يَبْطُل النِّكاحُ، بخِلافِ نائبِ الحكمِ، فإنَّه تَنْعَقِدُ وِلايتُه لنفسِه نائِبًا عنه، فيَمْلِكُ عَزْلَه، ولأنَّ القاضىَ لو انْعَزَلَ بموتِ الإِمامِ، لدَخَلَ الضَّرَرُ على المسلمين؛ لأنَّه يُفْضِى إلى عَزْل (¬3) القُضاةِ في جميعِ بلادِ الإِسْلامِ، وتَتَعَطَّلُ الأحْكامُ. فإذا ثَبَت أنَّه يَنْعَزِلُ، فليس له قَبولُ الكتابِ؛ لأنَّه حِينَئِذٍ ليس بقاضٍ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وإذا حَكَم عليه، فقال له: اكْتُبْ ¬

(¬1) في الأصل: «قول». (¬2) في م: «فإذا». (¬3) بعده في ق: «الإمام».

4935 - مسألة: (وكل من ثبت له عند حاكم حق، أو ثبتت براءته، مثل أن أنكر وحلفه الحاكم، فسأل الحاكم أن يكتب له محضرا

الْكَاتِبِ أَنَّكَ حَكَمْتَ عَلَيَّ، حَتَّى لَا يَحْكُمَ عَلَيَّ ثَانِيًا. لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ مَحْضَرًا بِالْقَضِيَّةِ. وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ عِنْدَ حَاكِمٍ حَقٌّ، أَوْ ثَبَتَتْ بَرَاءَتُهُ، مِثْلَ أَنْ أَنْكَرَ وَحَلَّفَهُ الحَاكِمُ، فَسَأَلَ الحَاكِمَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الحاكمِ الكاتِبِ أنَّك حَكَمْتَ علىَّ، حتَّى لا يَحْكُمَ علىَّ ثانِيًا. لم يَلْزَمْه ذلك، ولكنَّه يَكْتُبُ له مَحْضَرًا بالقَضِيَّةِ) لأنَّ المحْكُومَ عليه إذا اسْتُوفِىَ الحقُّ منه، فقال للحاكمِ: اكْتُبْ لى مَحْضَرًا بما جَرَى؛ لئلَّا يَلْقانِى خَصْمِى في مَوْضِعٍ آخَرَ، فيُطالِبَنِى ثانِيًا. ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَلْزَمُه إجابَتُه؛ ليَتَخَلَّصَ مِن المحْذُورِ الَّذي يَخافُه. والثانى، لا تَلْزَمُه؛ لأنَّ الحاكمَ إنَّما يَكْتُبُ بما ثَبَت عندَه، أو حَكَم به، فأمَّا اسْتِئنافُ ابْتِداءٍ، فيَكْفِى فيه الإشْهادُ، فيُطالِبُه أن يَشْهَدَ على نفسِه بقَبْضِ الحقِّ، لأنَّ الحقَّ ثَبَت عليه بالبينةِ (¬1). 4935 - مسألة: (وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ عِنْدَ حَاكِمٍ حَقٌّ، أَوْ ثَبَتَتْ بَرَاءَتُهُ، مِثْلَ أَنْ أَنْكَرَ وَحَلَّفَهُ الحَاكِمُ، فَسَأَلَ الحَاكِمَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا ¬

(¬1) في المغنى 14/ 77: «بالشهادة».

بِمَا جَرَى، لِيُثْبِتَ حَقَّهُ أَوْ بَرَاءَتَهُ، لَزِمَهُ إجَابَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بما جَرَى، لِيُثْبِتَ حَقَّه أو بَراءَتَه، لَزِمَتْه إجابَتُه) أمَّا إذا ثَبَت له حَقٌّ بإقْرارٍ، فسَأله المُقَرُّ له أن يُشْهِدَ على نَفْسِه شاهِدَيْن، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّ الحاكمَ لا يحْكمُ بعِلْمِه، فرُبَّما جَحَد المُقِرُّ، فلا يُمْكِنُه الحكمُ عليه، ولو قُلْنا: يَحْكمُ بعِلْمِه. احْتَمَلَ أن يَنْسَى، فإنَّ الانسانَ عُرْضَةُ النِّسيانِ، فلا يُمْكِنُه الحكمُ بإقرارِه. وإنْ ثبتَ عندَه (¬1) حَقُّ بنُكُولِ المُدَّعَى عليه، أو بيمينِ المُدَّعِى بعد النُّكُولِ، فسَألَه المُدَّعِى أن يُشْهِدَ على نفسِه، لَزِمَه ذلك؛ لأنَّه لا حُجَّةَ للمُدَّعِى سِوَى (¬2) الإِشْهادِ فأمَّا إن ثَبَت عندَه بِبَيِّنَةٍ [فسأله الإِشْهادَ، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ [بالحَقِّ] (¬3) بينةً] (¬4)، فلا يَجِبُ جَعْلُ بِبَيِّنَةٍ أُخرَى. والثاني، يجبُ؛ لأنَّ في الإشْهادِ ¬

(¬1) في م: «عليه». (¬2) في م: «سواء». (¬3) بياض في الأصل. واستدركناه من المغنى 14/ 54. وفى المبدع 10/ 113: «له بالحق». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فائدةٌ جديدةٌ، وهو إثْباتُ تَعْديلِ بَيِّنَتِهِ، وإلْزامُ خَصْمِه. وإن حَلَف المُنْكِرُ، وسألَ الحاكمَ الإِشْهادَ على بَراءَتِه، لَزِمَه؛ ليكونَ حُجَّةٌ له في سُقُوطِ المُطالَبَةِ مَرَّةً أُخرَى. وفى جميعِ ذلك، إذا سألَه أن يَكْتُبَ له مَحْضَرًا بما جَرَى، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، يَلْزَمُه ذلك؛ لأنَّه وَثِيقَةٌ له، فهو كالإِشْهادِ؛ لأنَّ الشَّاهِدَيْن رُبَّما نَسِيا الشَّهادةَ، أو نَسِيا الخَصْمَيْنِ، فلا يُذَكِّرُهما إلَّا رُؤْيَةُ خَطِّهما. والثانى، لا يَلْزَمُه؛ لأنَّ الإشْهادَ رُبَّما (¬1) يَكْفِيه. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ الشُّهودَ تَكثُرُ عليهم الشَّهاداتُ، ويَطُولُ عليهم الأمَدُ، فالظاهِرُ أنَّهما لا يَتَحَقَّقان الشَّهادةَ تَحَقُّقًا يَحْصُلُ به أداؤُها، فلا يُفِيدُ (¬2) إلَّا بالكتابِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في المغنى 14/ 54: «يتقيد».

4936 - مسألة: (وإن سأل من ثبت محضره عند الحاكم، أن يسجل به، فعل ذلك، وجعله نسختين؛ نسخة يدفعها إليه، ونسخة يحبسها عنده، والورق من بيت المال، فإن لم يكن، فمن مال المكتوب له)

وَإنْ سَأَلَ مَنْ ثَبَتَ مَحْضَرُهُ عِنْدَ الحَاكِمِ، أَنْ يُسَجِّلَ بِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ نُسْخَتَيْنِ؛ نُسْخَةً يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَالأُخْرَى يَحْبِسُهَا عِنْدَهُ، وَالْوَرَقُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ، فَمِنْ مَالِ المَكْتُوبِ لَهُ. وَصِفَةُ المَحْضَرِ: بِسْمِ الله اِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4936 - مسألة: (وَإنْ سَأَلَ مَنْ ثَبَتَ مَحْضَرُهُ عِنْدَ الحَاكِمِ، أَنْ يُسَجِّلَ بِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ نُسْخَتَيْنِ؛ نُسْخَةً يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، ونُسْخَةً يَحْبِسُهَا عِنْدَهُ، وَالْوَرَقُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ، فَمِنْ مَالِ المَكْتُوبِ لَهُ) يَنْبَغِى أن يُجْعَلَ مِن بيتِ المالِ شيءٌ برَسْمِ الكاغَدِ الَّذي يُكْتَبُ فيه المَحاضِرُ والسِّجِلَّاتُ؛ لأنَّه مِن المصالِحِ، فإنَّه يُحْفَظُ به الوَثائِقُ، ويُذَكِّرُ الحاكمَ حُكْمَه، والشّاهِدَ شَهادَتَه، ويُرْجَعُ بالدَّرَكِ على مَن يَرْجِعُ عليه. فإن أعْوَزَ ذلك، لم يَلْزَمِ الحاكمَ ذلك، ويقولُ لصاحِبِ الحقِّ: إن شِئْتَ جئتَ بكاغَدٍ، أكْتُبُ لكَ فيه، فإنَّه حُجَّة لكَ، ولستُ أُكْرِهُكَ عليه. فإنِ اخْتارَ أن يَكْتُبَ له مَحْضَرًا (فصفتُه: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ،

حَضَرَ [335 و] القَاضِىَ فُلَانَ بْنَ فُلانٍ الفُلَانِىَّ، قَاضِىَ عَبْدِ اللهِ الإِمَامِ، عَلَى كَذَا وَكَذَا. وَإِنْ كَانَ نَائِبًا، كَتَبَ: خَلِيفَةُ القَاضِى فُلانٍ، قَاضِى عَبْدِ اللهِ الإِمَامِ، في مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، بِمَوْضِعِ كَذَا، مُدَّعٍ، ذَكَرَ أنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَأحْضَرَ مَعَهُ مُدَّعَى عَلَيْهِ، ذَكَرَ أنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَادَّعَى عَلَيْهِ كَذَا، فَأقَرَّ لَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ حضرَ القاضىَ فُلانَ بنَ فُلانٍ، قاضىَ. عبدِ اللهِ الإِمامِ) فلانٍ (على كذا وكذا. وإن كان خليفةَ القاضي، قال: خليفةُ القاضي فُلانِ) بنِ فُلانٍ الفلانِيِّ (¬1) (قاضى الإِمامِ بِمجْلِسِ حُكْمِه وقَضائِه بكذا) فإن كان يَعْرِفُ المُدَّعِىَ والمُدَّعَى عليه بَأسْمائِهما وأنْسابِهما، قال: فلانُ بنُ فلانٍ الفلانِىُّ، حَضَر معه فُلانُ بنُ فُلانٍ الفُلانِىُّ. ويَرْفَعُ في (¬2) نَسَبِهما [حتَّى يَتَمَيَّزَ، ويُسْتَحَبُّ ذكْرُ حِلْيتِهما، وإن أخَلَّ به، جاز؛ لأنَّ ذكْرَ نَسَبِهما إذا رَفَع فيه، أَغْنَى عن ذكرِ الحِلْيَةِ. وإن كان الحاكمُ لا يَعْرَفُ الخَصْمَيْن، قال: (مُدَّعٍ، ذَكَر أنَّه فُلانُ بنُ فلانٍ) الفلانيُّ (وأحْضرَ معه مُدَّعًى عليه، ذَكَر أنَّه فُلانُ بنُ فلانٍ) الفلانيُّ، ويَرْفَعُ في نَسَبِهما] (¬3) ويَذْكُرُ حِلْيَتَهما؛، لأنَّ الاعْتِمادَ عليها، فرُبَّما اسْتعارَ النَّسَبَ (فادَّعَى عليه كذا) وكذا (فأقَرَّ له) ولا يَحْتاجُ أن يقولَ: بمَجْلِسِ حُكْمِه؛ لأنَّ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «من». (¬3) سقط من: م.

أو فَأَنْكَرَ، فَقَالَ القَاضِى لِلْمُدَّعِى: أَلَكَ بَيِّنَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَحْضَرَهَا، وَسَأَلَهُ سَمَاعَهَا، فَفَعَلَ، أَوْ فَأَنكَرَ، وَلَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَسَأَلَ إِحْلَافَهُ، فَأَحْلَفَهُ. وَإنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، ذَكَرَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِنُكولِهِ. وَإِن رَدَّ اليَمِينَ فحَلَّفَهُ، حَكَى ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِقْرارَ يَصِحُّ في غيرِ مَجْلِسِ الحُكْمِ. وإن كَتَب أنَّه شَهِدَ على إقْرارِه شاهدان، كان آكَدَ. ويَكْتُبُ الحاكمُ على رَأَسِ المَحْضَرِ: الحمدُ لله رِبِّ العالمين. أو ما أحَبَّ. فأمَّا إن أنْكَرَ المُدَّعَى عليه، وشَهِدَتْ عليه بَيِّنَةٌ؟ قال: فادَّعَى عليه كذا وكذا، فأنْكَرَ، فسئلَ الحاكمُ المُدَّعِىَ: ألكَ بَيِّنَةٌ؟ فأحْضَرَها، وسأل الحاكمَ سَماعَها ففَعَل، وسألَه أن يَكْتُبَ له مَحْضَرًا بما جَرَى، فأجابه إليه، وذلك في وَقْتِ كذا. ويَحْتاجُ ههُنا أن يَذكُرَ مَجْلِسَ حُكْمِه وقَضائِه. بخلافِ الإِقْرارِ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ لا تسْمَعُ إلَّا في مَجْلِسِ الحُكْمِ، والإِقْرارُ بخِلافِه. ويكْتُبُ الحاكمُ (¬1) في آخِرِ المَحْضَرِ: شَهِدا عندِى بذلك. ويَكْتُبُ علامتَه في رَأَسِ المَحْضَرِ، وإنِ اقْتَصَرَ على ذلك دُونَ المَحْضَرِ، جازَ. [فأمّا إن لم يكنْ للمُدَّعِى بَينةٌ، فاسْتَحْلَفَ المُنْكِرَ، ثم سأل المُنْكِرُ الحاكمَ مَحْضَرًا] (¬2) لِئلَّا يُحْلَفَ ثانيًا، ¬

(¬1) في الأصل: «القاضي». (¬2) سقط من: م.

4937 - مسألة: (وأما السجل، فهو لإنفاذ ما ثبت عنده،

وَسَأَلهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، في يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا. وَيُعْلِمُ فِي الإِقْرَارِ وَالإِحْلَافِ: جَرَى الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِى الْبَيِّنَةِ: شَهِدَ عِنْدِى بذَلِكَ. وَأمَّا السِّجِلُّ، فَهُوَ لانْفَاذِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمِ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَتَب له مثلَ ما تَقَدَّمَ، إلَّا أنَّه يقولُ (¬1): فأنْكَرَ، فسألَ الحاكمُ المُدَّعِىَ: ألك بينةٌ؟ قال: لا. قال: فلكَ يمينُه (وسألَ إحْلافَه، فأحْلَفَه) في مَجْلِسِ حُكْمِه وقَضائِه، في وَقْتِ كذا وكذا. ولابُدَّ مِن ذِكْرِ تَحْلِيفِه؛ لأنَّ الاسْتِحْلاف لا يكونُ إلَّا بمَجْلِسِ الحُكْمِ، ويُعْلَمُ في أوَّلِه خاصَّةً (ويُعْلِمُ في الإِقْرارِ والإِحْلافِ) على رَأْسِ المَحْضَرِ: (جَرَى الأمْرُ على ذلك) فإن نَكَل المُدَّعَى عليه عن اليمينِ، قال: فعُرِضَ اليمينُ على المُدَّعَى عليه، فنَكَل عنها، فسأل خَصْمُه الحاكمَ أن يَقْضِىَ عليه بالحقِّ في وقتِ كذا. وإن رَدَّ اليمينَ على المُدَّعِى، فحلَفَ وحكمَ له بذلك، ذَكَره. ويُعْلِمُ في آخِره، ويَذْكُرُ أنَّ ذلك في [مَجْلِسِ حُكْمِه] (¬2) وقَضائِه. وهذه صِفَةُ المَحْضَرِ. 4937 - مسألة: (وأمَّا السِّجِلُّ، فهو لإِنْفاذِ ما ثَبَت عندَه، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «له». (¬2) في الأصل: «مجلسه».

وَصِفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ: هَذَا مَا أَشْهَدَ عَلَيْه القَاضِى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ - وَيَذْكُرُ مَا تَقَدَّمَ - مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الشُّهُودِ، [335 ظ] أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَدْ عَرَفَهُمَا بِمَا رَأى مَعَهُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا، بِمَحْضَر مِنْ خَصْمَيْنِ. ويَذْكُرُهُمَا إِنْ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ، وَإلَّا قَالَ: مُدَّع وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، جَازَ حُضُورُهُمَا، وَسَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، مَعْرِفَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. وَيَذْكُرُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَإقْرَارَهُ طَوْعًا في صِحَّةٍ مِنْهُ، وَسَلَامَةٍ، وَجَوَازِ أمْرٍ بِجَمِيعِ مَا سُمَىَ وَوُصِفَ بِهِ، في كِتَابٍ نسَخْتُهُ. وَيَنْسَخُ الْكِتَابَ المُثْبَتَ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُكْمِ به، وصفتُه أن يَكْتُبَ): بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ (هذا ما أشْهَدَ عليه القاضي فُلانُ بنُ فُلانٍ - ويَذْكُرُ ما تقَدَّمَ) في أوَّلِ المَحْضَرِ (مَن حَضَرَه مِن الشُّهودِ أشْهَدَهم أنَّه ثَبَت عندَه بشَهادةِ فُلانٍ وفلانٍ، وقد عَرَفَهما بما رَأْى معه قَبولَ شَهادَتِهما، بمَحْضَرٍ مِن خَصْمَيْن. ويَذْكُرُهما إن كانا مَعْرُوفَيْن، وإلَّا قال: مُدَّعٍ ومُدَّعًى عليه، جاز حُضُورُهما، وسماعُ الدَّعْوى مِن أحدِهما على الآخرِ، معرفةُ فلانِ بنِ فُلانٍ. ويَذْكُرُ المشهودَ عليه، وإقْرارَه طَوْعًا في صِحَّةٍ منه، وجوازِ أمرٍ، بجميعِ ما سُمِّىَ ووُصف به، في كتابٍ نَسَخْتُه. ويَنْسَخُ الكتابَ المُثْبَتَ،

أَوِ الْمَحْضَرَ جَمِيعَهُ، حَرْفًا بِحَرْفٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قال: وَإنَّ القَاضِىَ أَمْضَاهُ، وَحَكَمَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَيْهِ في مِثْلِهِ، بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ ذَلِكَ وَالإِشْهَادَ بِهِ، الْخَصْمُ المُدَّعِى - وَيَذْكُرُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ - وَلَمْ يَدْفَعْهُ الْخَصْمُ الحَاضِرُ مَعَهُ بِحُجَّةٍ، وَجَعَلَ كُلَّ ذِى حجَّةٍ عَلَى حجَّتِهِ، وَأَشْهَدَ القَاضِى فُلَانٌ عَلَى إِنْفَاذِهِ وَحُكْمِهِ وَإمْضَائِهِ، مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الشُّهُودِ في مَجْلِسِ حُكْمِهِ، في الْيَوْمِ المُؤَرَّخِ في أعْلَاهُ، وَأَمَرَ بِكَتْبِ. هَذَا السِّجلِّ نُسْختَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ. يُخَلِّدُ نُسْخَةً مِنْهُمَا دِيوانَ الْحُكْمِ، وَيَدْفَعُ الأُخْرَى إِلَى مَنْ كَتَبَهَا لَهُ، وَكُلُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ أو المَحْضَرَ جميعَه، حَرْفًا بحَرْفٍ، فإذا فَرَغ منه قال: وإنَّ القاضىَ أمْضاهُ، وحَكَم به على ما هو الواجِبُ في مِثْلِه، بعدَ أن سأَلَه ذلك والإِشْهادَ به، الخَصْمُ المُدَّعِى - ويَذْكُرُ اسْمَه ونَسَبَه - ولم يَدْفَعْه الخَصْمُ الحاضِرُ بحُجَّةٍ، وجَعَل كُلَّ ذِى حُجَّةٍ على حُجَّتِه، وأشْهَدَ القاضي فُلانٌ على إنفاذِه وحُكْمِه وإمضائِه، مَن حَضَرَه مِن الشُّهودِ في مَجْلِسِ حُكْمِه، في اليومِ المُؤَرَّخِ في أعْلاه، وأمَرَ بكَتْبِ هذا السِّجِلِّ نُسْخَتَيْن مُتَساوِيَتَيْن. يُخَلِّدُ نُسْخةً منهما دِيوانَ الحُكْمِ، والأُخْرَى يَدْفَعُها إلى مَن كَتَبَها له، وكلُّ

وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ وَوَثِيقَة فِيمَا أَنْفَذَهُ فِيهِمَا. وَهَذَا يُذْكَرُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ. وَلَوْ قَالَ: إِنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مَا في كِتَابٍ نُسْخَتُه كَذَا. وَلَمْ يَذْكُرْ: بِمَحْضَرٍ مِنَ الخَصْمَيْنِ، سَاغَ ذَلِكَ؛ لِجَوَازِ القَضَاءِ عَلَى الغَائِبِ. وَمَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ والسِّجِلَّاتِ في كُلِّ أُسْبُوعٍ، أَوْ شَهْرٍ، عَلَى قِلَّتِهَا وَكَثْرتِهَا، يَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَكْتُبُ عَلَيْهَا: مَحَاضِرُ وَقْتِ كَذَا، في سَنَةِ كَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدَةٍ منهما حُجَّةٌ ووثيقةٌ فيما أنْفَذَه منهما. وهذا يُذْكَرُ ليَخْرُجَ مِن الخِلافِ. ولو قال: إنَّه ثَبَت عندَه بشَهادةِ فُلانٍ وفُلانٍ ما في كتابٍ نُسْخَتُه كذا. ولم يَذْكُرِ) والمُدَّعَى عليه، جازَ، و (ساغ ذلك؛ لجَوازِ القضاءِ على الغائِبِ. وما يَجْتَمِعُ عندَه مِن المَحاضِرِ والسِّجِلَّاتِ في كلِّ أُسبوعٍ, أو شهرٍ، يَضُمُّ بعْضَها إلى بعْضٍ، ويَكْتُبُ عليها: مَحاضِرُ وقتِ كذا، في سَنةِ كذا). فصلٌ فِى صِفَةِ الكِتابِ إلى القاضي: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، سببٌ هذه المُكاتَبَةِ، أطال اللهُ بقَاءَ مَن يَصِلُ إليه مِن قُضاةِ المسلمين وحُكّامِهم، أنَّه ثَبَت عندِى في مَجْلِسِ حُكْمِى وقَضائِى، الَّذي أتَوَلَّاه بمكانِ كذا - وإن كان نائِبًا، قال: الَّذي أنُوبُ فيه عن القاضي فلانٍ - بمَحْضَرٍ مِن خَصْمَيْن، مُدَّعٍ، ومدَّعًى عليه، جاز

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ استِماعُ الدَّعْوَى منهما (¬1)، وقَبولُ البينةِ مِن أحدِهما على الآخرِ، بشَهادَةِ فُلانٍ وفلانٍ، وهما مِن الشُّهودِ المُعَدَّلِين عندِى، عَرَفْتُهما، وقَبِلْتُ شَهادَتَهما، بما رَأيْتُ معه قَبولَها، مَعْرِفَةُ فُلانِ بنِ فلانٍ الفُلانِىِّ، بعينِه واسْمِه ونَسَبِه. فإن كان في إثْباتِ أسْرِ أسيرٍ، قال: وإنَّ الفِرِنْجَ، خَذَلَهم اللهُ، أسَرُوه مِن مكانِ كذا، في وقتِ كذا، وحَمَلُوه إلى موضعِ (¬2) كذا، وهو مُقِيمٌ تحتَ حَوْطَتِهم، أبادَهم اللهُ، وإنَّه فقيرٌ مِن فقَراءِ المسلمين، ليس له شيءٌ مِن الدُّنيا، لا يَقْدِرُ على فَكاكِ نفسِه، ولا شيءٍ منه، وإَّنه مُسْتَحِقٌّ للصدَقَةِ، على ما يقْتَضِيه كِتابُ المَحْضَرِ المُشارُ إليه، المُتَّصِلُ أوَّلُه بآخرِ كِتالى، المُؤَرَّخُ بكذا. وإن كان في إثْباتِ دَيْنٍ، قال: وإنَّه يَسْتَحِقُّ في ذِمَّةِ فُلانِ بنِ فُلانٍ الفُلانِىِّ - ويَرْفَعُ في نَسَبِه، ويَصِفُه بما يَتَمَيَّزُ به - مِن الدَّين كِذا وكذا، دَيْنًا عليه حالًّا، وحَقُّا واجِبًا لازِمًا، وإنَّه يَسْتَحِقُّ مُطالَبَتَه به (¬3) واسْتِيفاءَه منه. وإن كان في إثْباتِ عَيْنٍ (¬4)، كَتَب: وإنَّه مالكٌ لِما في يَدِ فُلانٍ مِن الشَّئِ الفُلانِىِّ - ويَصِفُه صِفَةً يَتَمَيَّزُ بها - مُسْتَحِقُّ لأخْذِه وتَسَلُّمِه، على ما يَقْتَضِيه كتابُ المَحْضَر المُتَّصِلُ بآخرِ كتابِى هذا (3)، المُؤَرَّخُ بتاريخِ كذا، وقَال الشًّاهِدان المَذْكُوران: إنَّهما بما شَهِدا به عالِمان، وله مُحَقِّقان، وإنَّهما لا يَعْلمان ¬

(¬1) في م: «بينهما». (¬2) في م: «مكان». (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خِلافَ ما شَهِدا به إلى حينَ أقاما الشَّهادةَ عندِى، فأمْضَيْتُ ما ثَبَت عندِى مِن ذلك، وحَكَمْتُ بمُوجِبه بسُؤالِ مَن جازَت مَسْألتُه، وسألَنى مَن جاز سُؤالُه، وسَوَّغَتِ الشَّريعةُ المُطَهَّرَةُ إجابتَه المُكاتَبةَ إلى القُضاةِ والحُكّامِ، فأجَبْتُه إلى مُلْتَمَسِه (¬1)؛ لجوازِه شَرْعًا، وتَقَدَّمْتُ بهذا فكُتِبَ، وبإلْصاقِ المَحْضَرِ [المُشارِ إليه] (¬2) فأُلْصِقَ، فمَن وَقَف عليه منهم، وتأمَّلَ ما ذَكَرْتُه، وتصَفَّحَ ما سَطَّرْتُه (¬3)، واعْتَمَد في إنْفاذِه والعملِ بمُوجِبِه ما يُوجبُه الشَّرْعُ المُطَهّرُ، أحْرَزَ مِن الأجْرِ أجْزَلَه، وكَتَب في مَجْلِسِ الحُكْمِ المَحْروسِ، مِن مكانِ كذا، في وقتِ كذا. ولا يُشْتَرَطُ أن يَذْكُرَ القاضي اسْمَه في العُنوانِ، ولا ذِكْرُ المكتوبِ إليه في باطِنِه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا لم يَذْكُرِ اسْمَه، فلا يَقْبَلُه؛ لأنَّ الكتابَ ليس إليه، ولا يَكْفِى ذِكْرُ اسْمِه في العُنوانِ دُونَ باطِنِه؛ لأنَّ ذلك لم يَقَعْ على وَجْهِ المُخاطَبَةِ. ولَنا، أنَّ المُعَوَّلَ فيه على شَهادةِ الشاهِدَيْن على الحاكمِ الكاتِبِ (¬4) بالحُكْمِ، وذلك (¬5) لا يَقْدَحُ، ولو ضاع الكتابُ أو (¬6) امْتَحَى، سُمِعَتْ شَهادَتُهما، وحُكِم بها. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «مسلمته». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «ينظر فيه». (¬4) في الأصل: «المكاتب». (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «و».

باب القسمة

بَابُ القِسْمَةِ وَقِسْمَةُ الأَمْلَاكِ جَائِزَةٌ. وَهِىَ نَوْعَانِ؛ قِسْمَةُ تَرَاضٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ القِسْمَةِ (وَقِسْمَةُ الأَمْلَاكِ جَائِزَةٌ) الأصْلُ في القِسمةِ قولُ اللهِ تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} (¬1). وقولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى} (¬2) الآية. وقولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» (¬3). وقَسَم النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ (¬4)، وكان يَقْسِمُ الغَنائِمَ. وأجْمَعَتِ الُأمَّةُ على جَوازِ القِسْمةِ، ولأنَّ بالنَّاسِ حاجَةً إلى القِسْمَةِ؛ ليَتَمَكَّنَ كلُّ واحدٍ مِن الشُّركاءِ مِن التَّصَرُّفِ على إيثارِه، ويَتَخَلَّصَ مِن سُوءِ (¬5) المُشارَكَةِ وكَثْرةِ الأيدِى. 4938 - مسألة: (وَهِىَ نَوْعَانِ؛ قِسْمَةُ تَرَاضٍ ¬

(¬1) سورة القمر 28. (¬2) سورة النساء 8. (¬3) تقدم تخريجه في 15/ 357. (¬4) تقدم تخريجه في 10/ 255. (¬5) سقط من: الأصل.

وَهِىَ نَوْعَانِ؛ قِسْمَةُ تَرَاضٍ، وَهِىَ مَا فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ رَدُّ عِوَضٍ مِنْ أحَدِهِمَا؛ كَالدُّورِ الصِّغَارِ، وَالحَمَّامِ، والعَضَائِدِ المُتَلَاصِقَةِ اللَّاتِى لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلِّ عَيْنٍ مُفْرَدَةٍ، والأرْضِ الَّتِى في بَعْضِهَا بِئْرٌ أَوْ بِنَاءٌ وَنَحْوُهُ، لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِالأَجْزَاءِ وَالتَّعْدِيلِ، إِذَا رَضُوا بِقِسْمَتِها أَعْيَانًا بِالْقِيمَةِ، جَازَ. وَهَذِهِ جَارِيَةٌ مَجْرَى البَيْعِ، فِي أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا المُمْتَنِعُ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي البَيْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي ما فيها ضَرَرٌ، أو رَدُّ عِوَضٍ مِن أحدِهما؛ كالدُّورِ الصِّغارِ، والحَمّامِ، والعَضائِد (¬1) المُتَلاصقةِ اللاتى لا يُمْكِنُ قِسْمَةُ كلِّ عَيْنٍ مُنْفَرِدَةٍ، والأرْضِ التي في بعضِها بِئْرٌ أو بِناءٌ ونحْوُه، لا يُمْكِنُ قِسْمَتُه بالأجْزاءِ والتَّعْدِيلِ، إذا رَضُوا بقِسْمَتِها أعْيَانًا بالقِيمَةِ، جاز) لأنَّ الحَقَّ لهم، لا يَخْرُجُ عنهم، وقد رَضُوا بقِسْمَتِه (وهذه جارِيَةٌ مَجْرَى البَيْعِ، لا يُجْبَرُ عليها المُمْتَنِعُ منها، [ولا] (¬2) يَجُوزُ فيها إلَّا ما يَجُوزُ في البَيْعِ) ¬

(¬1) العضائد: واحدتها عضادة، وهي ما يصنع لجريان الماء فيه من السواقى وذوات الكتفين، ومنه عضادتا الباب، وهما جنبتاه من جانبيه. (¬2) في النسخ: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنَّ الشَّريكَيْن والشُّركاءَ في شيءٍ، رَبْعًا كان أو غيرَه - والرَّبْعُ هو العَقارُ مِن الدُّورِ ونحوِها - إذا طَلَبَا مِن الحاكمِ أن يَقسِمَه بينَهما، أجابَهما إليه وإن لم يَثْبُتْ عندَه مِلْكُهما. وبهذا قال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان عَقارًا نَسَبُوه إلى ميراثٍ، لم يَقْسِمْه حتَّى يَثْبُتَ الموتُ والوَرَثَةُ؛ لأنَّ المِيراثَ باقٍ على حُكْمِ مِلْكِ الميِّتِ، فلا يَقْسِمُه احْتِياطًا للمَيِّتِ، وماعَدا العَقارَ يَقْسِمُه وإن كانَ مِيراثًا؛ لأنَّه يَثْوِى ويَهْلِكُ، وقِسْمَتُه تَحْفَظُه، وكذلك العقارُ الَّذي لا يُنْسَبُ إلى الميراثِ. وظاهِرُ قولِ الشافعىِّ، أنَّه لا يُقْسَمُ، عقارًا كان أو غيرَه، ما لم يَثْبُتْ مِلْكُهما؛ لأنَّ قَسْمَه بقولِهم لو رُفِع (¬1) بعدَ ذلك إلى حاكمٍ آخرَ سَهُل (¬2) أن يَجْعَلَه حُكْمًا لهم، ولعلَّه أن يكونَ لغيرِهم. ولَنا، أنَّ اليَدَ تَدُلُّ على الملكِ، ولا مُنازِعَ لهم، فيَثْبُتُ لهم من طريقِ الظاهرِ، ولهذا يجوزُ لهم التَّصَرُّفُ فيه، ويجوزُ شِراؤُه منهم، واتِّهابُه، واسْتِئْجارُه. وما ذَكَرَه الشافعىُّ يَنْدَفِعُ إذا أثْبَتَ في القضيةِ (¬3): إنِّى قَسَمْتُه بينَهم بإقْرارِهم، لا ¬

(¬1) في م: «دفع». (¬2) في الأصل: «سببها». (¬3) في م: «القصة».

4939 - مسألة: (وهذه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن بَيَّنةٍ شَهِدَتْ لهم أنَّه مِلْكُهم، وكلُّ ذى حُجَّةٍ على حُجَّتِه. وما ذَكَرَه أبو حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الظّاهِرَ تَمَلُّكُهم، ولا حَقَّ للمَيِّتِ فيه، إلَّا أن يكونَ عليه دَيْنٌ، وما ظَهَر، والأصْلُ عَدَمُه، ولهذا اكْتَفَيْنا به في غيرِ العَقارِ، وفيما لم يَنْسِبُوه إلى الميراثِ. 4939 - مسألة: (وهذه) القِسْمَةُ (جَارِيَةٌ مَجْرَى البَيْعِ) لِما فيها مِن الرَّدُّ، وبهذا تَصِيرُ بَيْعًا؛ لأنَّ صاحبَ الرَّدِّ بَذل المالَ عِوَضًا عمّا

4940 - مسألة: (والضرر المانع من القسمة، هو نقص القيمة

وَالضَّرَرُ المَانِعُ مِنَ الْقِسْمَةِ، هُوَ نَقْصُ القِيمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــ حَصَل له مِن حقِّ شَرِيكِه، وهذا هو البيعُ. ولا يُجْبَرُ عليها المُمْتَنِعُ منها؛ لِما رَوَى مالكٌ، في «مُوَطَّئِه» عن عمرِو (¬1) بنِ يحيى المازِنِىِّ، عن أبيه، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬2)». ولأنَّه لا يُجْبَرُ على بَيْعِ مِلْكِه، فلا يُجْبَرُ على قِسْمَتِه؛ لأنَّها بَيْعٌ، ولايجوزُ فيها إلَّا ما يجوزُ في البَيْعِ كذلك. فصل: وهل تَلْزَمُ قِسْمةُ التَّراضِى بالقُرْعَةِ إذا قَسَمَها الحاكمُ، أو رَضِيا بقاسِم يَقْسِمُ بينَهم؟ فيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تَلْزَمُ، كقِسْمَةِ الإِجْبارِ؛ ولأنَّ (¬3) القاسِمَ كالحاكمِ، وقُرْعَتَه كحُكْمِه. والثاني، لا تَلْزَمُ؛ [لأنَّها بَيْعٌ] (¬4)، والبَيْعُ لا يَلْزَمُ إلَّا بالتَّراضِى، لا بالقُرْعَةِ، وإنَّما القُرْعَةُ فيه لتَعْريفِ البائِع مِن المشْتَرِى. فأمَّا إن تَراضَيا على أنْ يَأْخُذَ كلُّ واحدٍ منهما مِن السَّهْمَيْن بغيرِ قُرْعَةٍ، فإنَّه يجوزُ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما، لا يَخْرُجُ عنهما، وكذلك لو خَيَّرَ أحدُهما صاحِبَه فاخْتارَ، ويَلْزَمُ ههُنا. بالتَّراضِى والتَّفَرُّقِ، كما يَلْزَمُ البيعُ. 4940 - مسألة: (والضَّرَرُ المانِعُ مِن القِسْمَةِ، هو نَقْصُ القِيمَةِ ¬

(¬1) في م: «عمر». (¬2) في الأصل: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬3) في م: «لأن». (¬4) في م: «إلا في البيع».

بِالْقَسْمِ، في ظَاهِرِ كَلَامِهِ. أَوْ لَا يَنْتَفِعَانِ بِهِ مَقْسُومًا، فِي ظَاهِرِ كَلَامَ الخِرَقِىِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقَسْمِ، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ. أو لا يَنْتَفِعان به مَقْسُومًا، في ظاهِرِ كَلامِ الخِرَقِىِّ) اخْتَلَفَتِ الرِّوايةُ في الضَّرَرِ المانِعِ مِن القِسْمَةِ، ففي قولِ الخِرَقِىِّ، هو ما لا يُمْكِنُ أحدَهما معه الانْتِفاعُ بنصيبِه مُفْرَدًا، فيما كان يَنْتَفِعُ به مع الشَّرِكَةِ، مثلَ أن تكونَ بينَهما دارٌ صغيرةٌ، إذا قُسِمَتْ أصاب كلُّ واحدٍ منهما مَوْضِعًا ضَيِّقًا لا يَنْتَفِعُ به. ولو أمْكَنَ أن يَنْتَفِعَ به في شيءٍ غيرِ الدَّارِ، [ولا يُمْكِنُ أن يَنْتَفِعَ به دارًا] (¬1)، لم يُجْبَرْ على القِسْمَةِ أيضًا؛ لأنَّه ضَرَرٌ يَجْرِى مَجْرَى الإِتْلافِ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، أنَّ المانِعَ مِن القِسْمَةِ هو أن تَنْقُصَ قِيمَة نصيبِ أحدِهما بالقِسْمَةِ عن حالِ الشركةِ، ¬

(¬1) سقط من: م.

4941 - مسألة: (فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر، كرجلين لأحدهما الثلثان، وللآخر الثلث، ينتفع صاحب الثلثين

فَإنْ كَانَ الضَّرَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ، كَرَجُلَيْنِ لِأحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ، وَلِلآخَرِ الثُّلُثُ، يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وسَواءٌ انْتَفَعُوا به مَقْسُومًا أو لم يَنْتَفِعُوا. قال القاضي: هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ؛ لأنَّه قال في رِوايَةِ المَيْمُونِىِّ: إذا قال بعضُهم: يَقْسِمُ. وقال (¬1) بعضُهم: لا يَقْسِمُ. فإن كان فيه نُقْصانٌ عن (¬2) ثَمنِه، بِيعَ، وأُعْطِىَ الثَّمَنَ. فاعْتَبَرَ نُقْصانَ الثَّمَنِ. وهذا ظاهِرُ (¬3) كلامِ الشافعىِّ؛ لأنَّ نَقْصَ قِيمتِه ضَرَرٌ، والضَّرَرُ مَنْفِىٌّ شَرْعًا. وقال مالكٌ: يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ وإن اسْتَضَرَّ، قياسًا على ما لا ضَرَرَ فيه. ولا يَصِحُّ؛ لقولِه عليه السلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬4)». مِن «المُسْنَدِ». ولأنَّ في قِسْمَتِه ضَرَرًا، فلم يُجْبَرْ عليه، كقِسْمَةِ الجَوهَرَةِ بكَسْرِها، ولأنَّ في قِسْمَتِه إضاعَةَ المالِ، وقد نَهَى النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضَاعةِ المالِ (¬5). ولا يَصِحُّ القِياسُ على ما لاضَرَرَ فيه؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ. 4941 - مسألة: (فَإنْ كَانَ الضَّرَرُ عَلَى أحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ، كَرَجُلَيْنِ لِأحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ، وَلِلآخَرِ الثُّلُثُ، يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «من». (¬3) في م: «الظاهر من». (¬4) في الأصل، ق: «إضرار». (¬5) أخرجه البخاري، في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى. . . .، من كتاب الزكاة، وفى: باب ما ينهى =

بِقَسْمِهَا، وَيَتَضَرَّرُ الآخَرُ، فَطَلَبَ مَنْ لا يَتَضَرَّرُ الْقَسْمَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْآخَرُ، أُجْبِرَ الأوَّلُ. وَقَالَ القَاضِى: إنْ طَلَبَهُ الْأَوَّلُ أُجْبِرَ الْآخَرُ، وَإِنْ طَلَبَهُ المَضْرُورُ لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بِقَسْمِهَا، وَيَتَضَرَّرُ الآخَرُ، فَطَلَبَ مَنْ لا يَتَضَرَّرُ الْقَسْمَ، لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْآخَرُ، أُجْبِرَ الأوَّلُ. وَقَالَ القَاضِى: إنْ طَلَبَهُ الْأَوَّلُ أُجْبِرَ الْآخَرُ، وَإن طَلَبَهُ المَضْرُورُ لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ) أمَّا إذا طَلَب القِسْمَةَ مَن لا يَتَضَرَّرُ، لم يُجْبَرِ الآخَرُ. ذَكَرَه أبو الخطَّابِ. وهو ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، قال: كلُّ قِسْمَةٍ فيها ضَرَرٌ، لا أرَى قَسْمَها. وهذا قولُ ابنِ أبى لَيْلَى. وأبى ثَوْرٍ. وقال القاضي: يُجْبَرُ الآخَرُ عليها. وهو قولُ الشافعىِّ، وأهلِ العراقِ؛ لأنَّه طَلَب إفْرادَ نصيبِه الَّذي لا يَسْتَضِرُّ بتَمْييزِه، فوَجَبَ إجابتُه إليه، كما لو كانا لا يَسْتَضِرّانِ بالقِسْمَةِ. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬1)». ولأنَّها قِسْمَةٌ يَضُرُّ بها ¬

= عن إضاعة المال. . . .، من كتاب الاستقراض، وفى: باب من رد أمر السفيه. . . .، من كتاب الخصومات، وفى: باب ما يكره من قيل وقال، من كتاب الرقاق. صحيح البخاري 2/ 139، 3/ 157، 159، 8/ 124. ومسلم، في: باب النهى عن كثرة المسائل. . . .، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1340، 1341. والدارمى، في: باب إن الله كره لكم قيل وقال، من كتاب الرقاق. سنن الدارمي 2/ 311. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 250 - 251، 255. (¬1) في الأصل: «إضرار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحِبَه، فلم يُجْبَرْ عليها، كا لو اسْتَضَرَّا معًا، ولأنَّ فيه إضاعةَ المالِ، وقد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَتِه، وإذا حَرُم عليه إضاعَةُ مالِه، فإضاعَةُ مالِ غيرِه أَوْلَى. وقد رَوَى عَمْرُو بنُ جُمَيْعٍ (¬1)، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «لَا تَعْضِيةَ (¬2) عَلَى أهْلِ الميراثِ، إلَّا مَا حَصَلَ القَسْمُ». قال أبو عُبَيْدٍ (¬3): هو أنْ يُخَلِّفَ شيئًا، إذا قُسِمَ كان فيه (¬4) ضَرَرٌ على بعضِهم، أو [عليهم جميعًا] (¬5). ولأنَّنا اتَّفَقْنا على أنَّ الضَّرَرَ مانِعٌ مِن القِسْمَةِ، وأنَّ الضَّرَرَ في حَقِّ أحدِهما مانِعٌ، فلا يجوزُ أن يكونَ المانِعُ هو ضررَ الطالبِ؛ لأنَّه مَرْضِىٌّ به من جِهَتِه، فلا يجوزُ كونُه مانِعًا، كما لو تَراضَيا عليها مع ضَرَرِهما أو ضرَرِ أحدِهما، فَتَعَيَّنَ الضَّرَرُ (¬6) المانِعُ في جِهَةِ المطْلوبِ، ولأنَّه ضَرَرٌ غيرُ مَرْضِيٍّ به مِن جِهَةِ صاحِبِه، فمَنَع القِسْمَةَ، ¬

(¬1) قال عنه ابن معين: كذاب خبيث. تاريخ ابن معين 2/ 441. وانظر لسان الميزان 4/ 358، 359. والحديث أخرجه من طريق محمد بن أبى بكر بن حزم، الدارقطني في سننه 4/ 219. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 133. وهو في: غريب الحديث 2/ 7، والفائق 2/ 444، والنهاية لابن الأثير 3/ 256. (¬2) في ق، م: «تعصبة». والإعجام غير واضح في الأصل. والتعصية: التفريق. غريب الحديث، الموضع السابق. (¬3) في م: «عبيدة». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «على جميعهم». (¬6) بعده في م: «من».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو اسْتَضَرّا معًا. وأمَّا إذا طَلَب القِسْمَةَ المُسْتضِرُّ بها، كصاحبِ الثُّلُثِ في المسألةِ المفْروضَةِ، أُجْبِرَ الآخَرُ عليها. هذا مَذْهَبُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، لأنَّه طَلَب دَفْعَ ضَرَرِ الشَّرِكةِ عنه بأمرٍ لا ضررَ على صاحِبِه فيه، فأُجْبِرَ عليه، كما لا ضَرَرِ فيه. يُحَقِّقُه أنَّ ضَرَرَ الطالِبِ مَرْضِىٌّ به مِن جِهَتِه، فسَقَطَ حُكْمُه، والآخرُ لا ضررَ عليه، فصارَتْ؛ لا ضَرَرَ فيه. وذَكَر أصْحابُنا أنَّ المذهبَ، أنَّه لا يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ عن القِسْمَةِ؛ لنَهْىِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعَةِ المالِ، ولأنَّ طَلَبَ القِسْمَةِ مِن المُسْتَضِرِّ سَفَهٌ، فلا تجِبُ إجابَتُه إلى السَّفَهِ. قال الشَّرِيفُ: متى كان أحدُهما يَسْتَضِرُّ، [لم يُجَبْ إلى] (¬1) القِسْمَةِ. وقال أبو حنيفةَ: متى كان أحدُهما يَنْتَفِعُ بها، وَجَبَت. [وقال الشافعىُّ: إنِ انْتَفَعَ بها الطالِبُ، وَجَبَتْ] (¬2)، وإنِ اسْتَضَرَّ بها الطالِبُ، فعلى وَجْهَيْن. وقال مالكٌ: تجبُ على كلِّ حالٍ. ¬

(¬1) في ق، م: «تجب». (¬2) تكملة من المغنى 14/ 105.

4942 - مسألة: (وإن كان بينهما عبيد، أو بهائم، أو ثياب،

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَبِيدٌ، أَوْ بَهَائِمْ، أَوْ ثِيَابٌ وَنَحْوُهَا، فَطَلَبَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو كانت دارٌ بينَ ثَلاثةٍ، لأحدِهم نِصْفُها، وللآخَرَيْن (¬1) نِصْفُها، لكلِّ واحدٍ منهما رُبْعُها، فإذا قُسِمَت اسْتَضَرَّ كلُّ واحدٍ منهما، ولا يَسْتَضِرُّ صاحِبُ النِّصفِ، فطَلَبَ صاحِبُ النِّصْفِ القِسْمَةَ، وَجَبَتْ إجابتُه؛ لأنَّه يُمْكِنُ قِسْمَتُها نِصْفَيْن مِن غيرِ ضَرَرٍ، فيَصِيرُ حَقُّهما لهما دارًا، وله النِّصْفُ، فلا يَسْتَضِرُّ واحدٌ منهما. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ عليهما الاجابَةُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَسْتَضرُّ بإفْرازِ (¬2) نصيبِه. وإن طَلَبا المُقاسَمَةَ، فامْتَنَعَ صاحِبُ النِّصْفِ، أُجْبِرَ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ على واحدٍ منهم. وإن طَلَبا إفْرازَ (¬3) نصيبِ كلِّ واحدٍ منهما، [أو طَلَب أحدُهما] (¬4) إفْرازَ (¬5) نصيبِه، لم تَجِبِ القِسْمَةُ على قياسِ المذهبِ؛ لأنَّه (¬6) إضْرار بالطَّالبِ وسَفَهٌ. وعلى الوَجْهِ الَّذي ذَكَرْناه تَجِبُ القِسْمَةُ؛ لأنَّ المطْلوبَ منه لا ضَرَرَ عليه. 4942 - مسألة: (وإن كان بينهما عبيدٌ، أو بَهائِمُ، أو ثِيابٌ، ¬

(¬1) في الأصل: «للآخر». (¬2) في الأصل: «بإقرار»، وفى م: «بإفراد». (¬3) في الأصل: «إقرار»، وفى م: «إفراد». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «إفراد». (¬6) بعده في الأصل: «لا».

أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا أَعْيَانًا بِالقِيمَةِ، لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يُجْبَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَحْوُهَا، فطَلَبَ أحَدُهما قَسْمَها أعْيَانًا بالقِيمَةِ، لم يُجْبَرِ الآخَرُ عليه. وقال القاضي: يُجْبَرُ) أمَّا إذا اتَّفَقا على القِسْمَةِ، جاز، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَم الغنائِمَ يومَ بَدْرٍ، ويومَ خَيْبَرَ، ويومَ حُنَيْنٍ، وهي تَشْتَمِلُ على أجْناسٍ مِن (¬1) المالِ. وسواءٌ اتَّفَقا على قِسْمَةِ كلِّ جِنْسٍ بينَهما، أو اتَّفَقا على قِسْمَتِها أعْيانًا بالقِيمَةِ. وإن طَلَبَ أحدُهما قِسْمَةَ كلِّ نَوع على حِدَتِه، [وطَلَب الآخَرُ قِسْمَتَه أعْيانًا بالقِيمَةِ، قُدِّمَ قولُ مَن طَلَب قِسْمَةَ كلِّ نَوْعٍ على حِدَتِه] (¬2) إن أمْكَنَ. وإن طَلَبَ أحدُهما القِسْمَةَ، وأبّى الآخَرُ، وكان ممّا لا تُمْكِنُ قِسْمَتُه إلَّا بأخْذِ عِوَضٍ عنه (1) مِن غيرِ جِنْسِه، أو قَطْعِ ثَوْبٍ في قَطْعِه نَقْصٌ، أو كَسْرِ إناءٍ، أو رَدِّ عِوَضٍ، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ. وإن أمْكَنَ قِسْمَةُ كلِّ نَوْعٍ على حِدَتِه، مِن غيرِ ضَرَرٍ، ولا رَدِّ عِوَض، فقال القاضي: يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ. وهو ظاهرُ مَذْهَبِ الشافعىِّ. وقال أبو الخَطَّابِ: لا أعْرِفُ في هذا عن إمامِنا رِوايَةً، ويَحْتَمِلُ أن لا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُجْبَرَ المُمْتَنِعُ عليه. [وهو قولُ ابنِ خَيْرانَ (¬1) مِن أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ هذا إنَّما يُقْسَمُ أعْيانًا بالقِيمَةِ، فلم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ عليه] (¬2)، كما لا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ الدُّورِ، بأن يَأْخُذَ هذا دارًا وهذا دارًا، كالجِنْسَيْن المُخْتَلِفَيْن. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ الجِنْسَ الواحِدَ كالدّارِ الواحِدَةِ، وليس اخْتِلافُ الجِنْسِ الواحدِ في القِيمَةِ بأكْثَرَ مِن اخْتِلافِ قِيمَةِ الدَّارِ الكبيرةِ والقَرْيَةِ العَظِيمَةِ، فإنَّ أرْضَ القَرْيَةِ تَخْتَلِفُ، سِيَّما (¬3) إذا كانت ذاتَ أشْجارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وأراضٍ (¬4) مُتَنَوِّعَةٍ، والدارُ ذاتَ بُيوتٍ واسعةٍ وضيِّقَةٍ، وحديثةٍ وقَديمةٍ، ثم هذا الاخْتِلافُ لا يَمْنَعُ الإِجْبارَ على القِسْمَةِ، كذلك الجِنْسُ الواحدُ، وفارَقَ الدُّورَ، فإنَّه أمْكَنَ قِسْمَةُ كلِّ دارٍ على حِدَتِها، وههُنا لا يُمْكِنُ قِسْمَةُ كلِّ ثَوبٍ منها [أو إناءٍ على حِدَةٍ] (¬5). فإن كانتِ الثِّيابُ أنْواعًا؛ كالحريرِ، والقُطْنِ، والكَتّانِ، فهي ¬

(¬1) هو الحسين بن صالح بن خيران أبو علي، أحد أركان المذهب الشافعي، كان إماما زاهدا ورعا، توفى سنة عشرين وثلاثمائة. طبقات الشافعية الكبرى 3/ 271 - 274. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) ف م: «لا سيما». (¬4) ف م: «أرض». (¬5) ف م: «أثوابا على حدته».

4943 - مسألة: (وإن كان بينهما حائط، لم يجبر الممتنع من قسمته، وإن استهدم، لم يجبر على قسم عرصته. وقال أصحابنا: إن

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، لَمْ يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِنْ قِسْمَتِهِ، وَإِنِ اسْتهْدمَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَسْمِ عَرْصَتِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالأجْناسِ، وكذلك سائِرُ المالِ. والحيوانُ كغيرِه مِن الأمْوالِ، ويُقْسَمُ النَّوعُ الواحدُ منه. وبه قال الشافعىُّ، وأبو يُوسُف، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قَسْمَ إجْبارٍ؛ لأنَّ مَنافِعَه تَخْتَلِفُ، ويُقْصَدُ منه (¬1) العَقْلُ والدِّينُ والفِطْنَةُ، وذلك لا يَقَعُ فيه التَّعْديلُ. ولَنا، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَزَّأ العبيدَ الذين أعْتَقَهم الأنْصارِىُّ في مَرَضِه ثلاثةَ أجْزاءٍ (¬2). ولأنَّه نَوْعُ حَيوانٍ يَدْخُلُه التَّقْوِيمُ، فجازَتْ قِسْمَتُه، كسائِرِ الحيوانِ، وما ذَكَرَه (¬3) غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ القِيمَةَ تَجْمَعُ ذلك، وتُعَدُّ له، كسائرِ الأشْياءِ المُخْتَلِفةِ. 4943 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، لَمْ يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِنْ قِسْمَتِهِ، وَإِنِ اسْتهْدمَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَسْمِ عَرْصَتِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ ¬

(¬1) في الأصل: «من». (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 124، 19/ 110. (¬3) في م: «ذكروه».

طَلَبَ قَسْمَهُ طُولًا، بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ الطُّولِ فِي كَمَالِ العَرْضِ، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ، وَإنْ طَلَبَ قَسْمَهُ عَرْضًا، وَكَانَت تَسَعُ حَائِطَيْنِ، أُجْبِرَ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَلَبَ قَسْمَهُ طُولًا، بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ الطُّولِ فِي كَمَالِ العَرْضِ، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ، وَإنْ طَلَبَ قَسْمَهُ عَرْضًا، وَكَانَت تَسَعُ حَائِطَيْنِ، أُجْبِرَ، وَإِلَّا فَلاَ) وجملةُ ذلك، أنَّ الشَّرِيكَيْن إذا كان بينَهما حائِطٌ، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِن قَسْمِه؛ لأنَّ القِسْمَةَ إفْرازُ (¬1) حَقِّ أحدِ الشَّرِيكَيْن مِن حقِّ الآخرِ، على وَجْهٍ يُمْكِنُ كلَّ واحدٍ منهما الانْتِفاعُ بحقِّه مُفْرَدًا، ولا يُمْكِنُ ذلك في الحائطِ؛ لأنَّه إن طَلَب قِسْمَتَه طُولًا في كمالِ العَرْضِ، فقَطَعَ الحائِطَ، ففِيه إتْلافٌ، وإن لم يَقْطَعْه، أفْضَى إلى الضَّرَرِ؛ لأنَّ في ذلك تَحْمِيلَ أحدِهما ثِقْلًا على نَصيبِ صاحبِه، وإن طَلَب قِسْمَتَه عَرْضًا في كمالِ الطولِ، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّ فيه إفْسادًا. وفيه وَجْهٌ آخرُ أنَّه يُجْبَرُ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ في قِسْمَتِه. وإنِ اسْتهْدمَ لم يُجْبَرْ على قَسْمِ عَرْصَتِه. وقال أصحابُنا: إن طلَبَ ¬

(¬1) في م: «إفراد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما (¬1) قَسْمَه طولًا (¬2) ليَحْصُلَ لكلِّ واحدٍ منهما نِصْفُ الطُّول في كمالِ العَرْضِ، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّه لا ضَرَرَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْبَرَ؛ لأنَّه يُفضِى إلى أن (¬3) يَبْقَى مِلْكُه الَّذي يَلِى نَصِيبَ صاحِبه بغيرِ حائطٍ. وإن طَلَب قَسْمَه عَرْضًا ليَحْصُلَ لكلِّ واحدٍ نِصْفُ العَرْضِ في كمالِ الطولِ، وكان يَحصُلُ لكلِّ واحدٍ منهما ما لا يُمْكِنُ أن يَبْنِىَ فيه حائطًا، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّه يَتَضَرَّرُ بذلك، وإن حَصَل له ما يُمْكِنُ بِناءُ حائِطٍ فيه، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّه مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ، يُمْكِنُ كلَّ واحدٍ منهما الانْتِفاعُ به مَقْسُومًا. ويَحْتَمِلُ أن لا يُجْبَرَ؛ لأنَّه لا تَدْخُلُه القُرْعَةُ، خَوْفًا مِن أن يَحْصُلَ لكلِّ واحدٍ منهما ما يَلِى مِلْكَ الآخرِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «عرضا». (¬3) في م: «ألا».

4944 - مسألة: (وإن كان بينهما دار لها علو وسفل، فطلب أحدهما قسمها، لأحدهما العلو وللآخر السفل، أو كان بينهما منافع، لم يجبر الممتنع من قسمها، وإن تراضيا على قسمها كذلك، أو على قسم المنافع بالمهايأة، جاز)

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دَارٌ لَهَا عُلْوٌ وَسُفْلٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا، لأَحَدِهِمَا [337 و] العُلْوُ وَلِلآخَرِ السُّفْلُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَنَافِعُ، لَم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا، وَإِن تَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهَا كَذَلِكَ، أَوْ عَلَى قَسْمِ المنَافِعِ بالمُهَايَأَةِ، جَازَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4944 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دَارٌ لَهَا عُلْوٌ وَسُفْلٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا، لأَحَدِهِمَا العُلْوُ وَلِلآخَرِ السُّفْلُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَنَافِعُ، لَم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا، وَإِن تَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهَا كَذَلِكَ، أَوْ عَلَى قَسْمِ المنَافِعِ بالمُهَايَأَةِ، جَازَ) إذا كانت دارٌ بينَ اثْنَيْن، سُفْلُها وعُلْوُها، فطَلَبا قَسْمَها؛ نَظَرْتَ، فإن طَلَب أحدُهما قِسْمَةَ العُلْوِ والسُّفْلِ بينَهما، ولا ضَرَرَ في ذلك، أُجْبِرَ الآخَرُ عليه؛ لأنُّ البِناءَ في الأرضِ يَجْرِى مَجْرَى الغَرْسِ، يَتْبَعُها في البَيْعِ والشُّفْعَةِ، ولو طَلَبَ قِسْمَةَ أرضٍ فيها غِراسٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أُجْبِرَ شَرِيكُه عليه، كذلك البِناءُ. وإن طَلَب أحدُهما جَعْلَ السُّفْلِ لأحدِهما والعُلْوِ للآخَرِ، ويُقْرَعُ بينَهما، لم يُجْبَرْ عليه الآخَرُ؛ لثلاثةِ مَعانٍ؛ أحدُها (¬1)، أنَّ العُلْوَ تَبَع للسُّفْلِ، ولهذا إذا (¬2) بِيعا، ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فيهما، وإذا أُفْرِدَ العُلْوُ بالبيعِ، لم تَثْبُتِ الشُّفْعَةُ فيه، وإذا كان تَبَعًا له، لم يُجْعَل المَتْبُوعُ سَهْمًا (3) والتَبّعَ سَهْمًا (¬3)، فيصيرُ التَبّعَ أصْلًا. الثانى، أنَّ السُّفْلَ والعُلْوَ يَجْرِيان مَجْرَى الدّارَيْنِ المُتَلاصِقَتَيْن؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يُسْكَنُ مُنْفَرِدًا، ولو كانَ بينَهما دَاران، لم يكنْ لأحدِهما المُطالَبَةُ بجَعْلِ كلِّ دارٍ نصيبًا، كذلك ههُنا. الثالثُ، أنَّ صاحِبَ القَرارِ يَمْلِكُ قَرارَها وهَواءَها، فإذا جُعِل السُّفْلُ نصيبًا انْفَرَدَ صاحِبُه بالهَواءِ، وليست هذه قِسْمَةً عادِلَةً. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَقْسِمُه الحاكمُ، ¬

(¬1) في النسخ: «أحدهما». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «بينهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَجْعَلُ ذِراعًا مِن السُّفْلِ بذِراعَيْن مِن العُلْوِ. وقال أبو يُوسُفَ: ذِراعٌ بذِراعٍ. وقال محمدٌ: يَقْسِمُها بلقِيمَةِ. واحْتَجُّوا بأَنَّها دارٌ واحدة، فإذا قَسَمَها على ما يَراه جاز، كالتى لا عُلْوَ لها. ولَنا، ما ذَكَرْناه مِن المعانى الثلاثةِ، وفيها رَدُّ ما ذكَروه، وما يَذْكُرُونه مِن كَيْفِيَّةِ القِسْمَةِ تَحَكمْ، وبعضُه يَرُدُّ بعضًا. وإنْ طَلَب أحدُهما قِسْمَةَ العُلْوِ وحدَه، أو السُّفْلِ وحدَه، لم يُجَبْ إليه؛ لأنَّ القِسْمَةَ ترادُ للتَّميِيزِ، ومع بقاءِ الإِشاعةِ لا يَحْصُلُ التَّميِيزُ. وإن طَلَب أحدُهما قِسْمَةَ العُلْوِ مُنْفَرِدًا، أو (¬1) السُّفْلِ مُنْفَرِدًا، لم يُجَبْ إليه؛ لأنَّه قد يَحْصُلُ لكلِّ واحدٍ منهما عُلْوُ سُفْلِ الآخرِ، فيَسْتَضِرُّ كلٌّ واحدٍ منهما، ولا يتَمَيَّزُ الحَقَّان. ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلِ: وإن كان بينَهما منافِعُ، فطَلَبَ أحدُهما قَسْمَهابالمُهايَأةِ، لم يُجْبَرِ الآخرُ؛ لأنَّ قِسْمَةَ المنافعِ إنَّما تكونُ بقِسْمةِ الزَّمانِ، والزَّمانُ إنَّما يُقْسَمُ بأن يَأْخُذَ أحدُهما قبلَ الآخرِ، وهذا لا تَسْوِيَةَ فيه، فإنَّ الآخرَ يَتأخَّرُ حَقُّه، فلا يُجْبَرُ على ذلك. فأمَّا إن تَراضَيا على قِسْمَةِ العُلْوِ لأحدِهما، والسُّفْلِ للآخَرِ، أو تَراضَيا على قِسْمَةِ المنافعِ بالمُهايَأةِ، جاز؛ لأنَّ الحقَّ

4945 - مسألة: (وإن كان بينهما أرض ذات زرع، فطلب أحدهما قسمها دون الزرع، قسمت)

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أرْضٌ ذَاتُ زَرْعٍ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا دُونَ الزَّرْعَ، قُسِمَت. ـــــــــــــــــــــــــــــ لهما (¬1) لا يَخْرُجُ عنهما، فيجوزُ تراضِيهما (¬2). وذكرَ ابنُ البَنّا في كتابِ «الخِصال [والأقْسامِ] (¬3)» أنَّ الشركاءَ إذا اخْتَلَفوا في منافعِ دارٍ بينَهم، أنَّ الحاكمَ يُجْبِرُهم على قَسْمِها بالمُهايَأةِ، أو يُؤْجِرُها عليهم. 4945 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أرْضٌ ذَاتُ زَرْعٍ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا دُونَ الزَّرْعَ، قُسِمَت) لأنَّه لا ضَرَرَ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) كذا في النسخ، ولعلها: «بتراضيهما». (¬3) سقط من: م.

4946 - مسألة: (وإن طلب قسمتها مع الزرع، لم يجبر الآخر)

وَإِنْ طَلَبَ قَسْمَهَا مَعَ الزَّرْعِ، أَوْ قَسْمَ الزَّرْعِ مُفْرَدًا، لَمْ يُجْبَرِ الْآخَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَسْمِهَا، ويُجْبَرُ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّ الزَّرْعَ في الأرضِ كالقُماشِ في الدّارِ، فلم يَمْنَعِ القِسْمَةَ، وسواءٌ خَرَج الزَّرْعُ أو كان بَذْرًا لم يَخْرُجْ، فإذا قَسَماها، بَقِىَ الزَّرْعُ بينَهما مُشْتَرَكًا، كما لو باعا الأرْضَ لغيرِهما. وإن طَلَب أحدُهما قِسْمةَ الزَّرْعِ مُنْفَرِدًا، لم يُجْبَرِ الآخَرُ عليه؛ لأنَّ القِسْمَةَ لا بُدَّ فيها مِن تَعْديلِ المَقْسومِ، وتَعْدِيلُ الزَّرْعِ بالسِّهامِ لا يُمْكِنُ؛ لأنَّه يُشْتَرَطُ بَقاؤه في الأرضِ المُشْتَرَكَةِ. 4946 - مسألة: (وَإِنْ طَلَب قِسْمَتَها مع الزَّرْعِ، لم يُجْبَرِ الآخَرُ) هكذا ذَكَرَه في الكتابِ المشروحِ. وهو قولُ الشافعىِّ. وذَكَر في كتابَيْه «المُغْنِى» (¬1) و «الكافى» (¬2)، أنَّه يُجْبَرُ إذا كان الزَّرْعُ قد ¬

(¬1) 14/ 109. (¬2) 4/ 481.

4947 - مسألة: (وإن تراضوا عليه والزرع قصيل أو قطن،

وَإنْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ وَالزَّرْعُ قَصِيلٌ أَوْ قُطْنٌ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــ خَرَج، [إذا كان قَصِيلًا قد اشْتَدَّ] (¬1)؛ لأنَّ الزَّرْعَ كالشَّجرِ في الأرْضِ، والقِسْمَةَ إفْرازُ حَقٍّ، وليست بَيْعًا. وإن قُلْنا: هي بَيْعٌ. لم يَجُزْ إذا اشْتَدَّ الحَبُّ؛ لأنَّه يَتَضَمنُ بَيْعَ السُّنْبُلِ بعضِه ببعضٍ. ويَحْتَمِلُ الجَوازَ؛ لأنَّ السُّنْبُلَ ههُنا دَخَلَ تَبَعًا للأرْضِ، وليس بمقْصُودٍ، فأشْبَهَ بَيْعَ النَّخْلةِ المُثْمِرَةِ بمِثْلِها. وقال الشافعيُّ: لا يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ مِن قِسْمَتِها مع الزَّرْعِ؛ لأنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ في الأرْضِ للنَّقْلِ عنها، فلم تَجِبْ قِسْمَتُه معها، كالقُماشِ فيها. ولَنا، أنَّه ثابت فيها للنَّماءِ والنَّفْعِ، فأشْبَهَ الغِراسَ، وفارَقَ القُماشَ، فإنَّه غيرُ مُتَّصِلٍ بالدَّارِ، ولا ضَرَرَ في نَقْلِه. 4947 - مسألة: (وإنْ تَراضَوْا عليه والزَّرْعُ قَصِيلٌ أو قُطْنٌ، ¬

(¬1) سقط من: م. والقصيل: ما يؤْخذ من الزرع وهو أخضر.

بَذْرًا أَوْ سَنَابِلَ قَدِ اشْتَدَّ حَبُّها، فَهَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِى: يَجُوزُ في السَّنَابِلِ، وَلَا يَجُوزُ في الْبَذْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جاز) لأنَّ الحقَّ لهم لا يَخْرُجُ عنهم (وإن كان بَذْرًا أو سَنابِلَ مَد اشْتَدَّ حَبُّها) ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجوزُ في البَذْرِ؛ لجَهالَتِه، وكونِه لا يُمْكِنُ إفْرازُه. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. والثانى، يجوزُ؛ لأنَّه يَدْخُلُ تَبَعًا للأرْضِ، فأشْبَهَ أساساتِ الحِيطانِ. وكذلك القولُ فيما إذا اشْتَدَّ حَبُّه، فيه الوَجْهان؛ أحَدُهما، لا يجوزُ؛ لإِفْضائِه إلى بَيْعِ السُّنْبُلِ بعضِه ببعضٍ. والثانى، يجوزُ؛ لأنَّه يَدْخُلُ تَبَعًا (وقال القاضي: يجوزُ في السَّنابِلِ، ولا يَجوزُ في البَذْرِ) لجَهالَتِه. ووَجْهُ الجَوازِ، أنَّه يَدْخُلُ تَبَعًا، فلا يكونُ مانِعًا مِن الصِّحّةِ، كما لو اشْتَرَى أرْضًا فيها زَرْعٌ واشْتَرَطَه، فإنَّه يَمْلِكُه بالشَّرْطِ وإن كان بَذْرًا مَجْهُولًا.

4948 - مسألة: (وإن كان بينهما نهر، أو قناة، أو عين ينبع ماؤها، فالماء بينهما على ما اشترطا عند استخراج ذلك)

وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ، أَوْ قَناةٌ، أَوْ عَيْنٌ يَنْبُعُ مَاؤُهَا، فَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهِ بِالمُهَايَأْةِ، جَازَ. وَإِنْ أرَادَا قَسْمَ ذَلِكَ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ، أَوْ حَجَر مُسْتَوٍ في مَصْدَمِ المَاءِ، فيه ثُقْبَانِ عَلَى قَدْرِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4948 - مسألة: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ، أَوْ قَناةٌ، أَوْ عَيْنٌ يَنْبُعُ مَاؤُهَا، فَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ) لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤْمِنُونَ عندَ (¬1) شُرُوطِهِم» (فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهِ بِالمُهَايَأْةِ، جَازَ) لأنَّ الحقَّ لهما لا يخرج عنهما، ولأنَّ المنافِعَ مِلْكُهما، فجاز قَسْمُها، كالأعيانِ. والمُهَايَأْةِ أَنْ يكونَ في يَدِ كلِّ واحدٍ منهما مُدَّةٌ معْلُومَةٌ على قَدْرِ حَقِّه مِن ذلك. 4949 - مسألة: (وَإِنْ أرَادَا قَسْمَ ذَلِكَ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ، أَوْ حَجَرٍ فِي مَصْدَمِ المَاءِ، فيه ثُقْبَانِ عَلَى قَدْرِ حَقِّ كلِّ واحدٍ منهما جَازَ) ¬

(¬1) في م: «على». والحديث تقدم تخريجه في: 10/ 149. وانظر التعليق عليه في 19/ 20.

جَازَ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْقِىَ بِنَصِيبهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شِرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، جَازَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجوزَ. وَيَجِئُ عَلَى [337 ظ] أَصْلِنَا، أَنَّ المَاءَ لَا يُمْلَكُ، وَيَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ [ويُسَمَّى] (¬1) المرارَ؛ لأنَّ ذلك طريقٌ إلى التَّسْوِيَةِ بينَهما، فجاز، كقَسْم الأرْضِ بالتَّعْديلِ (وإن أراد أحدُهما أنْ يَسْقِىَ بنَصِيبِه أرْضًا ليس لها رَسْمُ شِرْبٍ مِن هذا النَّهْرِ، جاز) لأنَّه مِن نصيبِه، فجاز التَّصَرُّفُ فيه كيفَ شاء، كسائِرِ مالِه، وكما لو لم يكنْ له شريكٌ (ويَحْتَمِلُ أنْ لا يجوزَ) لأنَّه إذا جَعَل لهذه الأرْضِ حَقًّا في الشرْبِ مِن هذا النَّهْرِ المُشتَرَكِ، فرُبَّما أفْضَى إلى أنْ يَجْعَلَ لها حَقًّا في نَصِيبِ شَرِيكِه؛ لأنَّه إذا طَال الزَّمانُ يَظُنُّ أن لهذه الأرْضِ حَقُّا مِن السَّقْىِ مِن النَّهْرِ المُشْتَرَكِ، فيَأْخُذُ لذلك أكْثَرَ مِن حَقِّه (ويَجِئُ على أصْلِنا، أنَّ الماءَ لا يُمْلَكُ، ويَنتفِعُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِى، قِسْمَةُ الإِجْبَارِ، وَهِىَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهَا، وَلَا رَدَّ عِوَضٍ، كَالْأرْضِ الْوَاسِعَةِ، وَالقُرَى، وَالبَسَاتِينِ، والدُّورِ الكِبَارِ، وَالدَّكَاكِينِ الوَاسِعَةِ، وَالْمَكِيلَاتِ وَالمَوْزُونَاتِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، كَالدِّبْسِ وَخَلِّ التَّمْرِ، أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ، كَخَلِّ العِنَب وَالأَدْهَانِ وَالأَلبَانِ، فَإذَا طَلَبَ أحَدُهُمَا قَسْمَهُ وَأَبَى ـــــــــــــــــــــــــــــ كُلُّ واحدٍ منهما على قَدْرِ حاجَتِه). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللهُ: (النَّوْعُ الثَّانِى، قِسْمَةُ الإِجْبَارِ، وَهِىَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهَا، وَلَا رَدَّ عِوَضٍ، كَالْأرْضِ الْوَاسِعَةِ، وَالقُرَى، وَالبَسَاتِينِ, والدُّورِ الكِبَارِ، وَالدَّكَاكِينِ الوَاسِعَةِ، وَالْمَكِيلَاتِ وَالمَوْزُونَاتِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِما مَسَّتْهُ النَّارُ، كَالدِّبْسِ وَخَلِّ التمْرِ، أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ، كَخَلِّ العِنَبِ وَالأَدْهَانِ وَالأَلبَانِ، فَإذَا طَلَبَ أحَدُهُمَا

الْآخَرُ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قَسْمَهَا وأُبى الآخَرُ، أُجْبِرَ عليه) أمَّا المَكِيلاتُ والمَوْزوناتُ، مِن المَطْعوماتِ وغيرِها، فيَجوزُ قَسْمُها؛ لأنَّ جَوازَ قَسْمِ الأرْضِ مع اخْتِلافِها، يدُلُّ على جَوازِ قَسْمِ (¬1) ما لا يَخْتلفُ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ. وسواءٌ في ذلك الحُبوبُ والثِّمارُ، والنَّوْرَةُ، والأُشْنانُ، والحديدُ، والرَّصاصُ، ونحوُها مِن الجَامِداتِ، والعصيرُ، والخَل، واللَّبَنُ، والعسلُ، والسَّمْنُ، والدِّبْسُ، والزَّيْتُ، والرُّبُّ، ونحوُها مِن المائعاتِ، وسَواءٌ قُلْنا: إنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ - أو - إفْرازُ حَقٍّ؛ لأنَّ بَيْعَه جائِزٌ، وإفْرازَه (¬2) جائِزٌ. فإن كان فيها أنواعٌ؛ كحِنْطَةٍ وشَعِير، وتَمرٍ وزَبيبٍ، فطَلَبَ أحدُهما قَسْمَها كلَّ نوعٍ على حِدَتِه، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ، وِإن طلبَ قَسْمَها أعْيانًا بالقيمةِ (¬3)، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّ هذا بَيْعُ نوعٍ بنَوْعٍ آخَرَ، وليس بقِسْمَةٍ، فلم يُجْبَرْ عليه، كغيرِ الشريكِ. فإن تراضَيا عليه، جاز، وكان بَيْعًا يُعْتَبَرُ له التَّقابُضُ قبلَ التَّفَرُّقِ، فيما يُعْتبرُ التَّقابُضُ فيه، وسائِرُ شُرُوطِ البَيْعِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «إقراره». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا طَلَب أحَدُ الشُّرَكاءِ القِسْمَةَ، وامْتَنَعَ بعضُ الشركاءِ في الأرضِ والدُّورِ ونحوِها ممّا ذَكَرْنا، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ على القِسْمَةِ بثلاثةِ شُروطٍ؛ أحدُها، أن يَثْبُتَ عندَ الحاكمِ مِلْكُهم بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ في الإجْبارِ عليها حُكْمًا على الممْتَنِعِ منهما (¬1)، فلا يَثْبُت إلَّا بما ثَبَت به المِلْكُ لخَصْمِه، بخلافِ حالةِ الرِّضا، فإنَّه لا يَحْكُمُ على أحدِهما، إنَّما يَقْسِمْ بقَوْلِهما ورضَاهما. الشَّرْط الثانى، أن لا يكون فيها ضَرَرٌ، فإن كان فيها ضَرَرٌ، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ؛ لقولِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬2)».رَواه ابن ماجة. وفى لَفْظٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أن لا ضَرَرَ ولا إضْرَارَ (¬3). الشَّرْطُ الثالثُ، أن يُمْكِنَ تَعْدِيلُ السِّهامِ مِن غيرِ شيءٍ يُجْعَلُ ¬

(¬1) في م: «منها». (¬2) في الأصل: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368. (¬3) في م: «ضرار». وهذا اللفظ أخرجه ابن ماجة عن عبادة بن الصامت، في الموضع المتقدم. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 327. وقال في الزوائد: إسناد رجاله ثقات، إلا أنَّه منقطع، لأن إسحاق بن الوليد لم يدرك عبادة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معها، فإنْ لم يُمْكِنْ ذلك، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ؛ لأنَّها تصير بَيْعًا، والبَيْع لا يُجْبَرُ عليه أحدُ المُتَبايِعَيْن. ومثالُ ذلك، أرضٌ قِيمتُها مِائة، فيها شجرةٌ أو (¬1) بِئْرٌ تُساوِى مِائَتَيْن، فإذا جُعِلَتِ الأرضُ سَهْمًا، كانتِ الثُّلُثَ، فيُحْتاجُ أن يُجْعَلَ معها خمسون يَردُّها عليه مَن لم تَخْرُجْ له البئرُ أو الشَّجرةُ، ليكونا نِصْفَيْن مُتساوِيَيْن، فهذه فيها بَيْعٌ، ألَا تَرَى أنَّ آخِذَ الأرضِ قد باع نَصِيبَه مِن الشَّجرةِ والبئرِ بالثَّمَنِ الَّذي أخَذَه، والبَيْعُ لا يُجْبَرُ عليه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} (¬2). فإذا اجْتَمَعَتِ الشُّروطُ الثلاثةُ، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ مِن القِسْمَةِ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سورة النساء 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها؛ لأنَّها تَتَضَمَّنُ إزالَةَ ضَرَرِ الشَّرِكةِ عنهما، وحُصُولَ النَّفْعِ لهما؛ لأنَّ نصيبَ كلِّ واحدٍ منهما إذا تَمَيَّزَ، كان له أن يتَصَرَّفَ فيه بحَسَبِ اخْتِيارِه، ويَتمكَّنَ مِن إحْداثِ الغِرَاسِ، والبِناءِ، [والسِّقايةِ] (¬1)، والإِجارَةِ، والعارِيَّةِ، ولا يُمْكِنُه ذلك مع الاشْتِراكِ، فوجَبَ أن يُجْبَرَ (¬2) الآخَرُ عليه؛ لقولِه عليه السلامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬3)». وقد اخْتُلِفَ في الضَّررِ المانعِ مِن القِسْمَةِ، وقد ذَكَرْناه (¬4). ¬

(¬1) في م: «فيه». (¬2) في م: «لا يجبر». (¬3) في الأصل: «إضرار». (¬4) انظر ما تقدم من صفحة 49 - 51.

4950 - مسألة: (وهذه القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر، وليست بيعا)

وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ إفْرَازُ حَقِّ أحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا، فَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ العَقَارِ طِلْقًا وَنِصْفُهُ وَقْفًا، جَازَتْ قِسْمَتُه، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا، وَقِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَزْنًا، وَمَا يُوزَنُ كَيْلًا، وَالتَّفَرُّقُ فِي قِسْمَةِ ذَلِكَ قَبْلَ القَبْضِ، وَإذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فقَسَمَ، لَم يَحْنَثْ. وَحُكِىَ عَنْ أَبِى عَبْدِ اللهِ ابْنِ بَطَّةَ مَا يَدُلُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4950 - مسألة: (وهذه القِسْمَةُ إفْرازُ حَقِّ أحَدِهما مِن الآخَرِ، وليست بَيْعًا) وهذا أحدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ. وفى الآخَرِ، هي بَيْعٌ. وحُكِىَ ذلك عن أبى عبدِ اللهِ ابنِ بَطَّةَ؛ لأنَّه يُبْدِلُ نصيبَه مِن أحدِ (¬1) السَّهْمَيْن ¬

(¬1) في الأصل: «أخذ».

أَنَّهَا كَالْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ، بَعْضُهَا يُسْقَى [338 و] سَيحًا، وَبَعْضُهَا بَعْلًا، أَوْ في بَعْضِهَا نَخْلٌ، وَفِى بَعْضِهَا شَجَرٌ، فَطَلبَ أحَدُهُمَا قَسْمَ كُلِّ عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ، وَطَلَبَ الْآخَرُ قَسْمَهَا أَعْيَانًا بِالقِيمَةِ، قُسِمَتْ كُلُّ عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ إذَا أَمْكَنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بنصيبِ صاحِبِه مِن السَّهمِ الآخَرِ، وهذا حقيقةُ البيعِ. ولَنا، أنَّها لا تَفْتَقِرُ إلى لَفْظِ التمليكِ، ولا يجبُ فيها شُفْعَةٌ، وتَلْزَمُ بإخْراجِ القُرْعَةِ، ويَتَقَدَّرُ أحدُ النَّصِيبَيْنِ بقَدْرِ الآخرِ، والبَيْعُ لا يجوزُ فيه شيءٌ مِن ذلك، ولأنَّها تَنْفَردُ عن البيعِ باسْمِها وأحْكامِها، فلم تكُنْ بَيعًا، كسائرِ العُقودِ، وفائدةُ الخلافِ، أنَّها إذا لم تكنْ بَيْعًا، جازتْ قِسْمَةُ الثمارِ خَرْصًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمَكيلِ وَزْنًا، والموزونِ كَيْلًا، والتَّفَرُّيق قبلَ القَبْضِ فيما يُشْتَرَط فيه القَبْضُ في البيعِ، وإذا حَلَف لا يبيعُ، فقَسَمَ، لم يَحْنَثْ، وإذا كان العَقارُ أو بعضه وَقْفًا، جازَتْ قِسْمَتُه. وإن قُلْنا: هي بيعٌ. انْعَكَسَتْ هذه الأحْكامْ. هذا إذا خَلَتْ مِن الرَّدِّ، فإن كان فيها رَدُّ عِوَضٍ، فهي بَيْعٌ؛ لأنَّ صاحِبَ الرَّدِّ يَبْذُلُ المالَ عِوضًا عمَّا حَصَل له مِن مالِ شَرِيكِه، وهذا هو البَيْعُ. فإن فَعَلا ذلك في وَقْفٍ، لم يَخزْ؛ لأنَّ بَيْعَه غير جائِزٍ، وإن كان بعضُه طِلْقًا، وبعضُه وَقْفًا، والرَّدُّ مِن صاحبِ الطِّلْقِ (¬1)، لم يَجُزْ؛ لأنَّه يَشْتَرِى بعضَ الوَقْفِ، وإن كان مِن أهلِ الوَقْفِ، جاز؛ لأنَّهم يَشْتَرون بعضَ الطِّلْقِ، وذلك جائِزٌ. ¬

(¬1) في ق: «الوقف».

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَنْصِبُوا قَاسِمًا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَسْأَلُوا الْحَاكِمَ نَصْبَ قَاسِمٍ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ. وَمِنْ شَرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وَيَجُوزُ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَنْصِبُوا قَاسِمًا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَسْأَلُوا الْحَاكِمَ نَصْبَ قَاسِمٍ [يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ. وَمِنْ

مَنْ يُنْصَبُ أنْ يَكُونَ عَدْلًا عَارِفًا بِالْقِسْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَرْطِ مَن يُنْصَبُ أن يكونَ عدلًا عالمًا بالقِسْمَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الشُّرَكاءَ يَجُوزُ لهِم أن يَقسِمُوا بأنفسِهم، وأن يَنصِبُوا قاسمًا يَقْسِمُ لهم، وأن يَسْأَلُوا الحاكمَ نصْبَ قاسمٍ] (¬1)، فإن نَصَب الحاكمُ قاسِمًا، فمِن شَرْطِه أن يكونَ عَدْلًا عالِمًا بالحِسابِ، ليُوصِلَ (¬2) إلى كلِّ (¬3) ذى حَقٍّ حَقَّه، كما يَلْزَمُ أن يكونَ الحاكمُ عَدْلًا (3) عالِمًا بالحُكمِ؛ ليَحْكُمَ بالحقِّ. وهذا قولُ الشافعىٍّ، إلَّا أنَّه يَشْتَرِطُ أن يكونَ حُرًّا. وإن نَصَبُوا قاسمًا بينَهم، فكان على صِفةِ قاسمِ الحاكمِ في العَدالةِ والمعرفةِ، فهو كقاسمِ الحاكمِ، في لزومِ قِسْمَتِه بالقُرْعَةِ، وإن كان كافِرًا، أو فاسِقًا، أو جاهِلًا بالقِسْمَةِ، لم تَلْزَمْ قِسْمَتُه إلَّا بتَراضِيهم بها، ويكونُ وُجودُه فيما يَرْجِعُ إلى لُزومِ القِسْمَةِ كعَدَمِه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ليوكل». (¬3) سقط من: م.

4951 - مسألة: (فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة، لزمت القسمة)

فَمَتَى عُدِّلَتِ السِّهَامُ وَأُخْرِجَتِ القُرْعَةُ، لَزِمَتِ القِسْمَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَلْزَمَ فِيمَا فِيهِ رَدٌّ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ حَتَّى يَرْضَيَا بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4951 - مسألة: (فَمَتَى عُدِّلَتِ السِّهَامُ وَأُخْرِجَتِ القُرْعَةُ، لَزِمَتِ القِسْمَةُ) لأَنَّها كالحُكم مِنْ الحاكمِ (وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَلْزَمَ فِيمَا فِيهِ رَدٌّ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ حَتَّى يَرْضَيَا بِذَلِكَ) لأنَّ ما فيه رَدٌّ، بَيْعٌ حقيقةً؛ لأنَّ صاحِبَ الرَّدِّ يَيْذُلُ عِوضًا لِما حَصَل له مِن حَقِّ شَريكِه، وهذا هو البَيْعُ، والبَيْعُ لايلْزَمُ بالقُرْعَةِ.

4952 - مسألة: (وإذا كان في القسمة تقويم، لم يجز أقل من قاسمين)

وَإِذَا كَانَ في القِسْمَةِ تَقْويمٌ، لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ وَإِنْ خَلَتْ مِنْ تَقْوِيم، أَجْزَاَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4952 - مسألة: (وَإِذَا كَانَ في القِسْمَةِ تَقْويمٌ، لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ) لأنَّها شَهادَةٌ بالقِيمَةِ، فلم يُقْبَلْ فيها أقَلُّ مِن اثنَيْن، كسائرِ الشَّهاداتِ. وإن لم يكنْ فيها تقويمٌ، أجْزَأ قاسِمٌ واحدٌ؛ لأنَّ القاسِمَ مُجْتَهِدٌ في التَّقْويمِ، وهو يَعْمَلُ باجْتِهادِه، أشْبَهَ الحاكمَ. ومتى اقْتَسَما بأنفسِهما، واقْتَرَعا، لم تَلْزَمِ القِسْمَةُ إلَّا بتَراضِيهما.

4953 - مسألة: (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم، قسمه، وذكر في كتاب القسمة أن قسمه بمجرد دعواهم، لا عن بينة شهدت لهم بملكهم)

وَإذَا سَأَلُوا الْحَاكِمَ قِسْمَةَ عَقَارٍ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَهُمْ، قَسَمَهُ، وَذَكَرَ في كِتَابِ القِسْمَةِ أَنَّ قَسْمَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمْ، لَا عَنْ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُمْ بِمِلْكِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى طَلَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــ 4953 - مسألة: (وَإذَا سَأَلُوا الْحَاكِمَ قِسْمَةَ عَقَارٍ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَهُمْ، قَسَمَهُ، وَذَكَرَ في كِتَابِ القِسْمَةِ أَنَّ قَسْمَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمْ، لَا عَنْ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُمْ بِمِلْكِهِمْ) لأَنّ اليَدَ دليلُ الملكِ. وقال الشافعيُّ: لا

الْقِسْمَةِ، لَمْ يَقْسِمْهُ. فَصْلٌ. وَيُعَدِّلُ القَاسِمُ السِّهَامَ بِالْأَجْزَاءِ إِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً، وَبِالقِيمَةِ إِنْ كَانتْ مُخْتَلِفَةً، وَبِالرَّدِّ إِنْ كَانَتْ تَقْتَضِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ يَقْسِمُه حتَّى يَثْبُتَ عندَه مِلْكُهم. وفى ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه في أوَّلِ بابِ القِسْمَةِ. ولا يجبُ عليه أن يَقْسِمَ بينَهم في هذه الحالِ، بل يجوزُ له ذلك، وقد ذَكَرْناه. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (وَيُعَدِّلُ القَاسِمُ السِّهَامَ بِالْأَجْزَاءِ إِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً، وَبِالقِيمَةِ إِنْ كَانتْ مُخْتَلِفَةً، وَبِالرَّدِّ إِنْ كَانَتْ تَقْتَضِيهِ) القِسْمَةُ على ضَرْبَيْن؛ قِسْمةُ إجْبارٍ، وقِسْمةُ تَراضٍ. وقِسْمةُ الإِجْبارِ ما أمْكَنَ التَّعْدِيلُ فيها مِن غيرِ رَدٍّ. ولا تَخْلُو مِن أربعةِ أقْسامٍ؛ أحَدُها، أنْ تكونَ السِّهامُ مُتَساوِيَة، وقِيمَةُ [أجْزاءِ المَقْسُومِ] (¬1) مُتَساوِيَةً. الثانى، أن تكونَ السِّهامُ مُتَساوِيَةً، وقِيمَةُ الأَجْزَاءِ مُخْتَلِفَةً. الثالثُ، أن تكونَ السِّهامُ مُخْتَلِفَةً، وقِيمَةُ الأجْزاءِ مُتَساوِيَةً. الرابعُ، أن تكونَ السِّهامُ مُخْتَلِفَةً، والقِيمَةُ مُخْتَلِفَةً. فأمَّا الأوَّلُ، فمِثْلُ أرضٍ بينَ سِتَّةٍ، لكلِّ واحدٍ منهم ¬

(¬1) في م: «الأجزاء».

ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ [338 ظ] لَهُ سَهْمٌ، صَارَ لَهُ، وَكَيْفَمَا أَقْرَعَ، جَازَ، إِلَّا أَنَّ الأَحْوَطَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ في رُقْعَةٍ، ثُمَّ يُدْرِجَها في بَنَادِقِ شَمْعٍ أَوْ طِينٍ مُتَسَاوِيَةِ الْقَدْرِ وَالْوَزْنِ، وتُطْرَحَ في حِجْرِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ بُنْدُقَةً عَلَى هَذَا السَّهْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ سُدْسُها، وقِيمَةُ أجْزاءِ الأرضِ مُتَساوِيةٌ، فهذه يُعَدِّلُها بالمساحةِ سِتَّةَ أجْزاءٍ مُتساويَةٍ؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن تَعْدِيلها بالمساحةِ تَعْدِيلُها بالقِيمَةِ، لتَساوِى أجْزائِها في القِيمَةِ، ثم يُقْرِعُ بينَهم، وكيْفما أقْرَعَ بينَهم جاز، في ظاهرِ كلامِ أحمدَ؛ فإنَّه قال، في رِوايةِ أبى داودَ: إن شاء رِقاعًا، وإن شاء خَواتيمَ، يُطْرَحُ ذلك في حِجْرِ مَن لم يَحْضُرْ، ويكونُ لكلِّ واحدٍ خاتَمٌ مُعَيَّنٌ، ثم يقالُ: أخْرِجْ خاتمًا على هذا السَّهْمِ. فمَن خَرَج خاتَمُه فهو له. وعلى هذا، لو أقْرَعَ بالحَصَى أو غيرِها، جاز. واخْتارَ أصْحابُنا في القُرْعةِ أن يَكْتُبَ رِقاعًا مُتَساويةً بعددِ السِّهام، وهو ههُنا مُخَيَّرٌ بينَ أن يُخْرِجَ السِّهامَ على الأسْماءِ، أو يُخْرِجَ الأَسْماءَ على السِّهامِ، فإن أخْرَجَ الأسْماءَ على السِّهامِ (كَتَب في) كلِّ (رُقْعةٍ اسْمَ كلِّ واحدٍ مِن الشُّركاءِ، وتُتْرَكُ في بَنادِقِ شَمْعٍ أو طِينٍ مُتَساوِيةِ القَدْرِ والوَزْنِ، وتُتْرَكُ في حِجْرِ مَن لم يَحْضُرِ القِسْمَةَ، ويقالُ له: أخْرِجْ بُنْدُقَةً على هذا السَّهْمِ)

فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ، كَانَ لَهُ، ثُمَّ الثَّانِى كَذَلِكَ، وَالسَّهْمُ البَاقِى لِلثَّالِثِ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً وَسِهَامُهُمْ مُتَسَاويَةً. وَإِنْ كَتَبَ اسْمَ كُلِّ سَهْمٍ في رُقْعَةٍ، وَقَالَ: أَخْرِجْ بُنْدُقَةً بِاسْمِ فُلَانٍ، وَأَخْرِجِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أخْرَجَها كان ذلك السَّهْمُ لمَن خَرَج اسْمُه في البُنْدُقةِ، ثم يُخْرِجُ على سَهْمٍ آخرَ، كذلك حتَّى يَبْقَى الأخيرُ، فيَتَعَيَّنُ لمَن بَقِىَ.

الثَّانِيَةَ بِاسْمِ الثَّانِى، وَالثَّالِثَةَ لِلثَّالِثِ، جَازَ. وَإِن كَانَتِ السِّهَامُ مُخْتَلِفَةً كثَلَاثَةٍ، لأَحَدِهِمُ النِّصْفُ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِلْآخَرِ السُّدْسُ؛ فَإنَّه يُجَزِّئُهَا سِتَّةَ أجْزَاءٍ، وَيُخْرِجُ الأَسْمَاءَ عَلَى السِّهَامِ لَا غَيْرُ، فَيَكْتُبُ بِاسْمِ صَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثًا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنِ اخْتارَ إخْراجَ السِّهامِ على الأسْماءِ، كَتَب في الرِّقاعِ أسْماءَ السِّهام، فيَكْتُبُ في رُقْعةٍ: الأوَّلُ ممّا يلي جِهَةَ كذا. وفى الآخرِ الثانِى، حتَّى يَكْتُبَ السِّتَّةَ، ثم يُخْرِجُ الرُّقْعَةَ (¬1) على واحدٍ بعَيْنِه، فيكونُ له السَّهْمُ الَّذي في الرُّقْعَةِ. ويَفْعَلُ ذلك حتَّى يَبْقَى الأخيرُ، فيَتَعَيَّنُ لمَن بَقِىَ. وذَكَر أبو بكر، أنَّ البَنادِقَ تُجْعَلُ طِينًا، وتُطْرَحُ في ماءٍ، ويُعَيِّنُ واحِدًا، فأىُّ البَنادقِ انْحَلَّ الطِّينُ عنها، وخرَجَتْ رُقْعتُها على الماءِ، فهي له، وكذلك الثانِى والثالثُ وما بعدَه، فإن خَرَج اثنان مَعًا أُعِيدَ الإِقْراعُ. والأوَّلُ أَوْلَى وأسْهَلُ. القسمُ الثانِى، أن تكونَ السَّهْمُ مُتَّفِقَةً والقِيمةُ مُخْتَلِفَةً، فإنَّ الأرضَ تُعَدَّلُ بالقيمةِ، وتُجْعَلُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مُتَساويةِ القيمةِ. ويُفْعَلُ في إخْراجِ السِّهامِ مثلُ الَّذي قبلَه سواءً، لا فرْقَ بينَهما إلَّا أنَّ التَّعْدِيلَ ثَمَّ بالسِّهامِ، وههُنا بالقيمةِ. القسمُ الثالثُ، أن تكونَ القيمةُ مُتساوِيَةً والسَّهْمُ مُخْتَلِفَةً، كأرْضٍ بينَ ثَلاثةٍ، لأحدِهم النِّصْفُ، وللآخرِ الثُّلُثُ، وللثالثِ السُّدْسُ، وأجْزاؤُها مُتساويةُ القِيمةِ (¬2)، فإنَّها تُجْعَلُ ¬

(¬1) في م: «القرعة». (¬2) في م: «القيم».

وَبِاسْمِ صَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَتَيْنِ، وَبِاسْمِ صَاحِبِ السُّدْسِ وَاحِدَةً، وَيُخْرِجُ بُنْدُقَةً عَلَى السَّهْمِ الأَوَّلِ، فَإنْ خَرَجَ اسْمُ ـــــــــــــــــــــــــــــ سِهامًا بقَدْرِ أقلِّها، وهو السُّدْسُ، فتُجْعَلُ سِتَّةَ أسْهُمٍ، وتُعَدَّلُ بالأجْزاءِ، وِيَكْتُبُ ثلاثَ رِقاعٍ بأسْمائِهم، ويُخْرِجُ رُقْعَةً على السَّهْمِ الأوَّلِ، فإن خرَجَتْ لصاحبِ السُّدْسِ، أخَذَه، ثم يُخْرِجُ أُخرَى على الثانى، فإن خَرَجَتْ لصاحب الثُّلُثِ، أخَذَ الثانِىَ والثالثَ، وكانتِ الثلاثةُ الباقيةُ لصاحبِ النِّصْفِ بغيرِ قُرْعَةٍ، وإنْ خَرَجَتِ القُرْعَةُ الثانيةُ لصاحبِ النِّصْفِ، أخَذَ الثانىَ والثالثَ والرابعَ، وكان الخامسُ والسادسُ لصاحبِ الثُّلُثِ، وإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ الأُولَى لصاحبِ النِّصْفِ، أخذَ الثلاثةَ الأوَلَ، وتُجرَجُ الثانيةُ على الرابعِ، فإنْ خَرَجَتْ لصاحبِ الثُّلُثِ، أخَذَه والذي يَليه، وكان السادسُ لصاحِبِ السُّدْسِ، وإن خَرَجَتِ الثانيةُ لصاحبِ السُّدْسِ، أخَذَه، وأخذَ الآخَرُ الخامسَ والسادسَ، وإن خَرَجَتِ الأُولَىِ لصاحِبِ الثُّلُثِ، أخَذَ الأوَّلَ والثانىَ، ثم تُخْرَجُ الثانيةُ على الثالثِ، فإن خرَجَتْ لصاحبِ النِّصفِ، أخَذَ الثالثَ والرابعَ والخامسَ، وأخَذَ الآخِرُ السادسَ، فإن خَرَجَتِ الثانيةُ لصاحبِ السُّدْسِ، أخَذَه، وأخَذَ صاحبُ النِّصْفِ ما بَقِىَ. وقِيلَ: تُكْتَبُ سِتُّ رِقاعٍ، باسْمِ صاحبِ النِّصْفِ ثلاثٌ، وباسمِ صاحب الثُّلُثِ اثْنان، وباسمِ صاحبِ السُّدْسِ واحدةٌ. وهذا لا فائدةَ فيه، فإنَّ المقْصودَ خُرُوجُ اسمِ صاحبِ

صَاحِبِ النِّصْفِ، أَخَذَهُ وَالثَّانِىَ وَالثَّالِثَ، وَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ الثُّلُثِ، أخَذَهُ [339 و] وَالثَّانِىَ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الآخَرَيْنِ، وَالبَاقِى لِلثَّالِثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النِّصْفِ، وإذا كَتَب ثلاثَ رِقاعٍ حَصَل المقْصودُ فأغْنَى. ولا يَصِحُّ أن يَكْتُبَ رِقاعًا بأسْماءِ السِّهامِ، ويُخْرِجَها على أسْماءِ المُلَّاكِ؛ لأنَّه إذا أخْرَجَ واحدةً فيها السَّهْمُ الثانى لصاحبِ السُّدْسِ، ثم أخْرَجَ أُخْرَى لصاحبِ النِّصْفِ أو (¬1) الثُّلُثِ فيها السَّهْمُ الأوَّلُ، احْتاجَ أن يَأْخذَ نصيبَه مُتَفرِّقًا، فيَتَضَرَّرُ بذلك. القسمُ الرابعُ، إذا اخْتَلَفَتِ السِّهامُ والقِيمةُ، فإنَّ القاسِمَ يُعَدِّلُ السِّهامَ بالقيمةِ، ويَجْعَلُها سِتَّةَ أسْهُمٍ مُتَساويةِ القِيَمِ، ثم يُخْرِجُ الرِّقاعَ فيها الأسْماءُ على السِّهامِ، كما ذَكَرْنا في القسمِ ¬

(¬1) في م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثِ سواءً، لا فَضْلَ بينَهما، إلَّا أنَّ التَّعْدِيلَ ههُنا بالقِيَمِ، وفى التى قبلَها بالمساحَةِ. فصل: إذا كان بينَهما دارٌ، أو خانٌ كبيرٌ، فطَلَبَ أحدُهما قِسْمَةَ ذلك، ولا ضَرَرَ في قِسْمَتِه، أُجْبِرَ المُمتَنِعُ على القِسْمَةِ، وتُفْرَدُ بعضُ المساكنِ عن بعضٍ وإن كَثُرُتِ المَساكنُ. فإن كان بينَهما داران، أو خانان، أو أكْثَرُ، فطَلَبَ أحَدُهما أنْ يَجْمَعَ نصيبَه في إحْدَى الدّارَيْن، [أْو أحدِ الخانَيْن] (¬1)، ويَجْعَلَ الباقِىَ نصيبًا للآخَرِ، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدٌ (¬2): إذا رأى الحاكمُ ذلك، فله فِعْلُه، سَواءٌ تقارَبَتا أو تَفَرَّقَتا؛ لأنَّه أنْفَعُ وأعْدَلُ. وقال مالكٌ: إن كانتا مُتَجاوِرَتَيْن، أُجْبِرَ الممْتَنِعُ مِن ذلك عليه؛ لأنَّ المتَجاوِرَتَيْن تَتقارَبُ (¬3) مَنْفَعَتُهما، بخلافِ المُتباعِدَتَيْن. وقال أبو حنيفةَ: إن كانت إحْداهما حَجْزَةَ (¬4) الأخْرَى، أُجْبِرَ، وإلَّا فلا، لأنَّهما يَجْرِيان مَجْرَى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) بعده في م: «يجبر». (¬3) في م: «تتفاوت». (¬4) في الأصل: «حجرة»، في م: «أحجزة». والمعنى: في ناحيتها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّارِ الواحدةِ. ولَنا، أنَّه نَقْلُ حَقِّه مِن عَيْنٍ إلى عَيْنٍ أُخْرَى، فلم يُجْبَرْ عليه، كالمتَفَرِّقَتَيْن عندَ مالكٍ، وكما لو لم تكنْ حَجْزَتَها (¬1) عندَ أبي حنيفةَ، وكما لو كانتا دارًا و (¬2) دُكَّانًا عند (¬3) أبي يُوسُفَ ومحمدٍ. والحكمُ في الدَّكاكينِ كالحُكْمِ في الدُّورِ. ولو كانت لهما عَضائدُ صغارٌ، لا يُمْكِنُ قِسْمةُ كلِّ واحدةٍ منهما مُنْفَردَةً، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِن قِسْمَتِها عليها. فصل: وإن [كانت بينَهما] (¬4) أرضٌ واحدة تُمْكِنُ قِسْمَتُها، وتُوجَدُ (¬5) فيها الشُّروطُ التى ذَكَرْناها، أُجْبِرَ المُمْتَنِعُ على قِسْمَتِها، سَواءٌ كانت فارِغةً أو ذاتَ شَجَر وبِناءٍ. فإن كان فيها نَخْلٌ، وكَرْمٌ، وشَجَرٌ مُخْتَلِفٌ، وبِناء، فطَلَبَ أحدُهما قِسْمَةَ كل عَيْن على حِدَتِها، وطَلَب الآخَرُ قِسْمَةَ الجميعِ بالتَّعْدِيلِ بالقِيمَةِ، فقال أبو الخَطَّابِ: تُقْسَمُ كلُّ عَيْن على حِدَتِها. وهو ظاهِرُ كلامِ شَيْخِنا في الكتابِ المَشْروحِ (¬6). ¬

(¬1) في الأصل: «حجرتها». (¬2) في م: «أو». (¬3) في م: «مع». (¬4) في م: «كان». (¬5) في م: «تؤخذ». (¬6) في حاشية ق: «بل صرح به المصنف في: المقنع في آخر فصل الإجبار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك كلُّ مَقْسُومٍ، إذا أمْكَنَتِ التَّسْوِيَةُ بينَ الشَّرِيكَيْن في جَيِّدِه ورَدِيئه، كان أوْلَى. ونحوَ هذا قال أصْحابُ الشافعيِّ؛ فإنَّهم قالوا: إذا أمْكَنَتِ التَّسْوِيَةُ بينَ الشَّرِيكَيْن في جَيِّدِه ورَدِيئِه، بأن يكونَ الجَيِّدُ في مُقَدَّمِها والرَّدِئُ في مُؤَخرِها، فإذا قَسَمْناها صار لكلِّ واحدٍ مِن الجَيِّدِ والرَّدِئِ مثلُ ما للآخَرِ، وَجَبَتِ القِسْمَةُ، وأُجْبِرَ المُمْتَنِعُ عليها، وإن لم تُمْكِنِ القِسْمَةُ، بأن تكونَ العِمارَةُ و (¬1) الشَّجرُ والجَيِّدُ لا يُمْكِنُ قِسْمَتُه وَحْدَه، وأمْكَنَ التَّعْدِيلُ بالقِيمَةِ، عُدِّلَتْ بالقيمةِ، وأُجبِرَ المُمْتَنِعُ مِن القِسْمَةِ عليها. وقال الشافعىُّ، في أحَدِ القوْلَيْن: لا يُجْبَرُ المُمْتَنِعُ مِن القِسْمةِ عليها. وقالوا: إذا كانتِ الأرضُ ثَلاثينَ جرِيبًا (¬2)، قِيمَةُ عَشَرَةٍ منها كقيمةِ عشرين، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِن القِسْمَةِ عليها؛ لتَعَذُّرِ التَّساوِى في الذَّرْعِ، ولأنَّه لو كان حَقْلان مُتجاوِران، لم يُجْبَرِ المُمْتَنِعُ مِن القِسْمَةِ، [إذا لم تُمْكِنْ] (¬3) إلَّا بأن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهما سَهْمًا، كذا ¬

(¬1) في ق، م: «أو». (¬2) في م: «جزءا». والجريب: الوادى، ثم استعير للقطعة المتميزة من الأرض، والجمع أجربة وجُربان، ويختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ههُنا. ولَنا، أنَّه مكانٌ واحدٌ، أمْكَنَتْ قِسْمَتُه وتَعْدِيلُه مِن غيرِ ضَرَرٍ ولا رَدِّ عِوَضٍ، فوَجَبَتْ قِسْمَتُه، كالدُّورِ. ولأنَّ ما ذَكَرُوه يُفضِى إلى مَنْعِ وُجُوبِ القِسْمةِ في البَساتِينِ كُلِّها والدُّور؛ فإنَّه لا يُمْكِنُ تَساوِى الشَّجرِ وبناءِ الدُّورِ ومَساكِنِها إلَّا بالقِيمَةِ، ولأنَّه مكان لو بِيعَ بعضُه، وَجَبَتْ فيه الشُّفْعَةُ لشريكِ البائِع، فوَجَبَتْ قِسْمَتُه، كما لو أمْكَنَتِ التَّسْويةُ بالذَّرْعِ (¬1). فأمَّا إن كان بُسْتانان، لكلِّ واحدٍ منهما طريقٌ، أو حَقْلان، أو داران، أو دُكّانان مُتجاوِران أو مُتَباعِدان، فطَلَبَ أحدُ الشريكَيْن قِسْمَتَه، بجعْلِ كلِّ واحدٍ منهما سَهْمًا، لم يُجْبَرِ الآخَر على هذا، سواءٌ كانا مُتَساوِيَيْن أو مُخْتَلِفَيْن. وهذا ظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ؛ لأنَّهما شيئان مُتَمَيِّزان، لو بِيعَ أحَدُهما، لم تجبْ فيه الشُّفْعَةُ لمالكِ الآخَرِ، بخِلافِ البُسْتانِ الواحدِ، والأرضُ الواحدةُ وإن عَظُمَتْ، فإنَّها إذا بِيعَ بعضُها، وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لمالكِ البعضِ الباقى، والشُّفْعَةُ كالقِسْمَةِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُرادُ لإزالَةِ ضَرَرِ الشرِكةِ، ونُقْصانِ التَّصَرُّفِ، فما (¬2) لا تَجِبُ قِسْمَتُه، لا تجبُ الشُّفْعةُ فيه، وكذلك ما لا شُفْعَةَ فيه، لا تَجِبُ قِسْمتُه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فيما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعكسُ هذا ما تجِبُ قِسْمتُه، تَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ، وما تجبُ الشُّفْعَةُ فيه، تَجِبُ قِسْمتُه. ولأنَّه لو بَدَا الصَّلاحُ في بعضِ البُسْتانِ، كان صلاحًا لباقِيه وإن كان كثيرًا، ولم يكنْ صَلاحًا لِما جاوَرَه (¬1) وإن كان صغيرًا. فصل: إذا كانت بينَهما أرضٌ قِيمتُها مائةٌ، في أحدِ جانِبَيْها بئرٌ قِيمَتُها مِائةٌ، وفى الآخَرِ شَجَرةٌ قِيمَتُها مائةٌ، عُدِّلَتْ بالقِيمَةِ، وجُعِلَتِ البئرُ مع نِصْفِ الأرضِ نَصِيبًا، والشَّجرةُ مع النِّصْفِ الآخَرِ (¬2) نصيبًا، فإن كانت بينَ ثلاثةٍ أو أكْثَرَ، نَظَرْتَ في الأرْضِ؛ فإن كانت قِيمَتُها مائةً أو أقَل، لم تَجِبِ القِسْمَةُ؛ لأنَّها إذا كانت أقَلَّ، لم يُمْكِنِ التَّعْدِيلُ إلَّا بقِسْمةِ البئرِ أو الشجرةِ، وذلك ممّا لا تَجِبُ قِسْمَتُه، وإن كانت قِيمتُها مائةً، فجَعَلْناها سَهْمًا، [والبِئْرَ سهْمًا] (¬3)، والشَّجرةَ سَهْمًا، لم يَحْصُلْ مع البئرِ والشَّجرةِ شئٌ مِن الأرْضِ، فتصيرُ هذه كقِسْمَةِ الشَّجرِ وَحْدَه، وقِسْمةُ ذلك وَحْدَه ليستْ قِسْمَةَ إجْبارٍ. وإن كانتِ الأرضُ كثيرةَ القِيمَةِ، بحيث يَأْخُذُ بعضُ الشُّرَكاءِ سِهامَهم منها، ويَبْقَى منها شئٌ مع البئرِ والشَّجرةِ، وَجَبَتِ القِسْمَةُ، ومِثالُه أن تكونَ قِيمَةُ الأرضِ مائَتَيْن وخمسين، فتُجْعَلُ مائةً وخمسين سهمًا، ويُضَمُّ (¬4) إلى البئرِ ما قِيمتُه خمسون، وإلى الشَّجَرةِ ¬

(¬1) في م: «جاوزه». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م. (¬4) في م: «يصير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلُ ذلك، فتصيرُ ثلاثةَ (¬1) سِهامٍ مُتَساويةٍ، وفى كلِّ سَهْمٍ جُزْءٌ مِن أجْزاءِ الأرضِ، فتَجِبُ القِسْمَةُ حِينَئِذٍ. وكذلك لو كانوا أربعةً، وقِيمَةُ الأرضِ أربعَمائةٍ، وجَبَتِ القِسْمَةُ؛ لأنَّنا نَجْعَلُ ثلاثَمائةٍ منها سَهْمَيْن، ومائةً مع البئرِ والشجرةِ سَهْمَيْن، فتَعَدَّلَتِ السِّهامُ. ولو كانتِ الأرضُ لاثْنَيْن، فأرادا قِسْمةَ البئرِ والشَّجرِ دُونَ الأرضِ، لم تكنْ قِسْمةَ إجْبارٍ، ولو اقْتَسماها بشَجَرِها، كانت. قِسْمَةَ إجْبارٍ؛ لأنَّ الشَّجرَ يَدْخُلُ تَبَعًا للأرضِ، فيصيرُ الجميعُ كالشئِ الواحدِ، ولهذا تَجبُ فيه الشُّفْعَةُ إذا بِيعَ شئٌ مِن الأرضِ بشَجَرِه. وإذا قُسِم ذلك دُونَ الأرَضِ، صار أصْلًا في القِسْمةِ، ليس بتابعٍ لشئٍ واحدٍ، فيصيرُ كأعْيانٍ مُفْرَدَةٍ مِن الدُّورِ والدَّكاكينِ المُتَفَرِّقَةِ، ولهذا لا تَجِبُ فيه الشُّفْعَةُ [إذا بِيعَ مُنْفَرِدًا. وكلُّ قِسمَةٍ غيرُ واجبةٍ إذا تَراضيا بها، فهى بَيْعٌ، حُكْمُها حُكْمُ البيعِ] (¬2). فصل: وعلى الإِمامِ أن يَرْزُقَ القاسِمَ مِن بيتِ المالِ؛ لأنَّ هذا مِن المصالِحِ، وقد رُوِىَ أنَ عَلِيًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، اتَّخَذَ قاسِمًا، وجَعَل له رِزْقًا مِن بَيْتِ المالِ (¬3). فإن لم يَرْزُقْه الإمامُ، قال الحاكمُ للمُتَقاسِمَيْن: ادْفَعا إلى قاسم أُجْرَةً ليَقْسِمَ بينَكما. فإنِ اسْتَأْجرَه كلُّ واحدٍ (¬4) منهما بأجْرٍ مَعْلومٍ ليَقْسِمَ نصيبَه، جازَ، وإنِ اسْتأجَرُوه جميعًا ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م. (¬3) انظر ما أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 132، 133. (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: فَإنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ غَلَطًا فِيمَا تَقَاسَمُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَشْهَدُوا عَلَى تَرَاضِيهِمْ بِهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِيمَا ـــــــــــــــــــــــــــــ إجارةً واحدةً ليَقْسِمَ بينَهم بأجْرٍ واحدٍ مَعْلومٍ، لَزِم كلَّ واحدٍ منهم مِن الأجْرِ بقَدْرِ نصيبِه مِن المقسومِ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يكونُ عليهم على عَدَدِ رُءُوسِهم؛ لأنَّ عَمَلَه في نَصِيبِ أحدِهما مثلُ عَمَلِه في نَصِيبِ الآخَرِ، وسَواءٌ تَساوَتْ سِهامُهم أو اخْتَلَفَتْ، فكان الأجْرُ بينَهم سواءً. ولَنا، أنَّ أجْرَ القِسْمَةِ يَتَعَلَّقُ بالمِلْكِ، فكان بينَهم على قَدْرِ الأمْلاكِ، كنَفَقَةِ العَبْدِ، وما ذَكَرَه (¬1) لا يصِحُّ؛ لأنَّ العَمَلَ في أكْبَرِ النَّصِيبَيْن أكْثَرُ، ألا تَرَى أنَّ المَقْسُومَ إذا كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، كان كَيْلُ الكثيرِ أكْثرَ عَمَلًا مِن كيلِ القليلِ، وكذلك الوزن والذَّرْعُ، وعلى أنَّه يَبْطُلُ بالحافِظِ، فإن حِفْظَ القليلِ والكثيرِ سَواءٌ، ويَخْتَلِفُ أجْرُه باخْتِلافِ المالِ. فصل: وأُجْرَةُ القِسْمَةِ بينَهما وإن كان أحدُهما الطّالِبَ لها. وبهذا قال أبو يُوسفَ، ومحمدٌ، والشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: هى على الطالِبِ للقِسْمَةِ؛ لأنَّها حَقٌّ له. ولَنا، أنَّ الأُجْرَةَ تَجِبُ بإفرازِ الأنْصِباءِ، وهم سواءٌ فيها، فكانتِ الأُجْرَةُ عليهما، كما لو تَراضَوْا عليها. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَهُ اللهُ: (إذا ادَّعَى بعضُهم غَلَطًا فيما تقاسَمُوه بأنفسِهم، وأشْهَدُوا على تراضِيهم به، لم يُلْتَفَتْ إليه. وإن كان ¬

(¬1) في م: «ذكروه».

قَسَمَهُ قَاسِمُ الْحَاكِمِ، فَعَلَى المُدَّعِى البَيِّنَةُ، وَإلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ المُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَسَمَهُ قَاسِمُهُمْ الَّذِى نَصَبُوهُ، وَكَانَ فِيمَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الرِّضَا بَعْدَ القُرْعَةِ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَإلَّا فَهوَ كَقَاسِمِ الْحَاكِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما قَسَمَه قاسِمُ الحاكمِ، فعلى المُدَّعِى البَيِّنةُ، وإلَّا فالقولُ قولُ المُنْكِرِ مع يمينِه. وإن كان فيما قَسَمَه قاسِمُهم الذى نَصَبُوه، وكان فيما اعْتَبَرْنا فيه الرِّضا بعدَ القُرْعَةِ، لم تُسْمَعْ دَعْواه، وإلَّا فهو كقاسِمِ الحاكمِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى بعضُ المُتَقاسِمِين غَلَطًا في القِسْمَةِ، وأنَّه اعْطِىَ دُونَ حَقِّه، وكانت قِسْمَتُه تَلْزَمُ بالقُرْعَةِ مِن غيرِ تَراضٍ منهم، فالقولُ قولُ المُدَّعَى عليه مع يمينِه، ولا يُقْبَلُ قولُ المُدَّعِى إلَّا ببينةٍ (¬1)، فإن أقام شاهِدَيْن عَدْلَيْن، نُقِضَتِ القِسْمَةُ وأُعِيدَتْ، وإن لم يُقِمْ بينةً عادِلَةً، وطَلَب يمينَ شَرِيكِه أنَّه لا فَضْلَ معه، أُحْلِفَ له. وإنَّما قَدَّمْنا قولَ المُدَّعَى عليه؛ لأنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ القِسْمَةِ، وأداءُ الأمانةِ فيها. وإن كان ممّا لا ¬

(¬1) بعده في: المغنى 14/ 115: «عادلة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَلْزَمُ إلَّا (¬1) بالتَّراضِى، كالذى قَسماه بأنفسِهما ونحوِه، لم تُسْمَعْ دَعْوَى [مَن ادَّعَى] (¬2) الغَلَطَ. وهو الذى ذَكَرَه الأصْحابُ. وهو مَذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه قد رَضِىَ بذلك، ورضاه بالزِّيادةِ في نصيب شرِيكِه يَلْزَمُه. قال شيخُنا (¬3): والصَّحِيحُ عندِى أنَّ هذه كالتى قبلَها، وأَنَّه متى أقام البينةَ بالغَلَطِ، نُقِضَتِ القِسْمَةُ؛ لأنَّ ما ادَّعاه مُحْتَمِلٌ، ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عادِلةٍ، فأشْبَهَ ما لو أشْهَدَ على نفسِه بقَبْضِ الثَّمَنِ أو المُسْلَمِ فيه، ثم ادَّعَى غَلَطًا في كَيْلِه. وقولُهم: إنَّ حَقَّه في الزِّيادةِ سَقَطَ بِرضاه. ممنوعٌ؛ فإنَّه إنَّما يَسْقُطُ إذا عَلِمَه، أمَّا إذا ظَنَّ أنَّه أُعْطِىَ حَقَّه فرَضِىَ بِناءً على هذا، ثم بان له الغَلَطُ، فلا يَسْقُطُ به حَقٌّ، كالثَّمَنِ والمُسْلَمِ فيه، فإنَّه لو قَبَض المُسْلَمَ فيه بِناءً على أنَّه عَشَرَةُ أقْفِزَةٍ، راضِيًا بذلك، ثم تَبَيَّنَ له ثمانيةٌ، أو (¬4) ادَّعَى المُسْلِمُ إليه أنَّه غَلِطَ، فأعْطاه اثْنَىْ عَشَرَ، وثَبَت ذلك بِبَيِّنَةٍ، لم يَسْقُطْ حَقُّ واحدٍ منهما بالرِّضا به، ولا يَمْتَنِعُ سَماعُ دَعْواه وبَيِّنتِه، ولأنَّ المُدَّعَى عليه في مَسْألتِنا لو أقَرَّ (¬5) بالغَلَطِ، لنُقِضَتِ القِسْمَةُ، ولو سَقَط ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ادعاء». (¬3) في: المغنى 14/ 115، 116. (¬4) في م: «و». (¬5) في م: «فرط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حقُّ المُدَّعِى بالرِّضا، لَما نُقِضَتِ القِسْمَةُ بإقْرارِه، كما لو وَهَبَه الزائِدَ، وقد ذَكَر أصْحابُنا وغيرُهم في مَن باع دارًا على أنَّها عَشَرَةُ أذْرُعٍ،، فبانَتْ تِسْعَةً أو أحدَ عَشَرَ، أنَّ البَيْعَ باطِلٌ في أحدِ الوَجْهَيْن، وفى الآخرِ، تكونُ الزِّيادةُ للبائِع، والنَّقْصُ عليه، والبَيْعُ إنَّما يَلْزَمُ بالتَّراضِى، فلو كان التَّراضِى يُسْقِطُ حَقَّه مِن الزِّيادةِ، لسَقَطَ حَقُّ البائِعِ مِن الزِّيادةِ، وحَقُّ المشْتَرِى مِن النَّقْصِ. ولأنَّ مَن رَضِى بشئٍ بِناءً على ظَنٍّ تَبَيَّنَ خِلافُه، لم يَسْقُطْ به حَقُّه، كما لو اقْتَسما شيئًا، وتَراضَيا به، ثم بان نَصِيبُ أحدِهما مُسْتَحَقًّا. فإن قيلَ: فلِمَ لم (¬1) يُعْطَ المظْلومُ حَقَّه في هاتَيْن المسألتَيْن، ولا تنْقَضُ القِسْمةُ،؛ لو تَبَيَّنَ الغَلَطُ في الثمنِ أو المُسْلَمِ؟ قُلْنا: لأنَّ الغَلَطَ ههُنا في نَفْسِ القِسْمَةِ بتَفْويتِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِها، وهو تَعْدِيلُ السِّهامِ، فتَبْطُلُ لفَواتِ (¬2) شَرْطِها، وفى السَّلَمِ والثمنِ الغَلَطُ في القَبْضِ دُونَ العَقْدِ، فإنَّ العَقْدَ [قد تَمَّ] (¬3) بشُروطِه، فلا يُؤَثِّرُ الغلطُ في قَبْضِ عِوَضِه في صِحَّتِه، بخِلافِ مَسْألتِنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «كفوات». (¬3) في م: «قديم».

4954 - مسألة: (وإن تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهما شئ معين، بطلت)

وَإِنْ تَقَاسَمُوا ثُمَّ اسْتُحِقَّ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا شَىْءٌ مُعَيَّنٌ، بَطَلَتْ. وَإنْ كَانَ شَائِعًا فِيهِمَا، فَهَلْ تَبْطُلُ القِسْمَةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4954 - مسألة: (وإن تَقاسَمُوا ثم اسْتُحِقَّ مِن حِصَّةِ أحَدِهما شئٌ مُعَيَّنٌ، بَطَلَتِ) القِسْمةُ (وإن كان شائِعًا فيهما) فعلى وَجْهَيْن. إذا اقْتَسَمَ الشريكان شيئًا، فبان بعضُه مُسْتَحَقًّا، وكان مُعَيَّنًا في نصيبِ أحدِهما، بَطَلَتِ القِسْمَةُ. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تَبْطُلُ، بل يُخَيَّرُ مَن ظَهَر المُسْتَحَقُّ في نصيبِه بينَ الفَسْخِ والرُّجُوعِ بما بَقِىَ مِن حَقِّه، كما لو وَجَدَ عَيْبًا فيما أخَذَه. ولَنا، أنَّها قِسْمَة لم تُعَدَّلْ فيها السِّهامُ، فكانت باطلةً، كما لو فَعَلا ذلك مع عِلمِهما بالحالِ. وأمَّا إذا بان عَيْبُ نصيبِ أحدِهما، فيَحْتَمِلُ أن تُمْنَعَ المسألَةُ، ونقولَ ببُطْلانِ القِسْمَةِ؛ لعَدَمِ التَّعْديلِ بالقيمةِ، ويَحْتَمِلُ أن يُفَرَّقَ بينَهما، فإنَّ العَيْبَ لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه، فلم يُؤثِّرْ في البُطْلانِ، كالبَيْعِ. وإن كان المُسْتَحَقُّ في نصيبِهما على السَّواءِ، لم تَبْطُلِ القِسْمَةُ؛ لأنَّ ما يَبْقَى لكلِّ واحدٍ منهما بعدَ المُسْتَحَقِّ قَدْرُ حَقِّه، ولأنّ القِسْمَةَ إفْرازُ حَقِّ أحدِهما مِن الآخَرِ، وقد أفْرَزَ كلُّ واحدٍ منهما حَقَّه، إلَّا أن يكونَ ضَرَرُ المُسْتَحَقِّ في نصيبِ أحدِهما أكْثَرَ، مثلَ أن يَسُدَّ طريقَه، أو مَجْرَى مائِه، أو ضَوْئِه، ونحو هذا، فتَبْطُلُ القِسْمَةُ؛ لأنَّ هذا يَمْنَعُ التَّعْدِيلَ. فإن كان المُسْتَحَقُّ في نصيبِ أحدِهما أكثرَ مِن الآخَرِ، بَطَلَتِ القِسْمَةُ؛ لِما ذَكَرْناه، وإن كان مُشاعًا فيهما، بَطَلَتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القِسْمَةُ (¬1)؛ لأنَّ الثالثَ شريكُهما ولم يَحْضُرْ ولا أذِنَ، فأشْبَهَ ما لو كان لهما شريكٌ يَعْلَمانِه، فاقْتَسما دُونَه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، أنَّها لا تَبْطُلُ؛ لأنَّه يَأْخُذُ مِن كلِّ واحدٍ منهما مثلَ ما يَأْخُذُ مِن الآخَرِ، ويصيرُ مع كلِّ واحدٍ قَدْرُ حَقِّه، فأشْبَهَ ما لو كان المُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا (¬2) في نصيبِهما على السَّواءِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «معيبا»

4955 - مسألة: (وإن اقتسما دارين قسمة تراض، فبنى أحدهما فى نصيبه، ثم خرجت الدار مستحقة، فقلع بناؤه، رجع بنصف قيمته على شريكه)

وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارَيْنِ قِسْمَةَ تَرَاضٍ، فَبَنَى أَحدُهُمَا فِى نَصِيبِهِ، ثُمَّ خَرَجَتِ الدَّارُ مُسْتَحَقَّةً، وَنُقِضَ بِنَاؤُهُ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4955 - مسألة: (وإنِ اقْتَسَما دارَيْن قِسْمَةَ تَراضٍ، فبَنَى أحَدُهما في نصيبِه، ثُمَّ خَرَجَتِ الدّارُ مُسْتَحَقةً، فقُلِعَ بِناؤُه، رَجَع بنِصْفِ قِيمَتِه على شريكِه) هكذا ذَكرَه الشَّريفُ أبو جَعْفرٍ، وحَكاه أبو الخَطَّابِ عن القاضى. وقال أبو يُوسُفَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ: ليس له الرُّجُوعُ عليه بشئٍ؛ لأنَّه غَرَسَ وبَنَى باخْتِيارِه، فلم يَرْجِعْ بنَقْصِ ذلك على غيرِه، كما لو بَنَى في مِلْكِ نفسِه. ولَنا، أنَّ هذه القِسْمَةَ بمنزلَةِ البيعِ؛ فإنَّ الدّارَيْن لا يُقْسمانِ قِسْمَةَ إجْبارٍ (¬1) على أن [تكونَ كل واحدةٍ] (¬2) منهما نصيبًا، وإنَّما يُقْسَمانِ كذلك بالتَّراضِى، فتكونُ جارِيَةً مَجْرَى البيعِ، ¬

(¬1) في الأصل: «اختيار». (¬2) في م: «يكون كل واحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو باعَه الدّارَ جميعَها، ئم بانَتْ مُسْتَحَقَّةً، رَجَع عليه بالبِناءِ كلِّه، فإذا باعه نِصْفَها، رَجَع عليه بنصفِه. وكذلك يُخرَّجُ في كل قِسْمَةٍ جارِيَةٍ مَجْرَى البيعِ، وهى قِسْمةُ التَّراضِى، كالذى فيه رَدُّ عِوَضٍ، وما لا يُجْبَرُ على قِسْمَتِه لضَرَرٍ فيه، ونحوِ ذلك. فأمَّا قِسْمَةُ الإجْبارِ، إذا ظَهر نصيبُ أحدِهما مُسْتَحَقًّا بعدَ البِناءِ والغَرْسِ فيه، فنُقِضَ البِناءُ، وقُلِعَ الغَرْسُ. فإن قُلْنا: القِسْمةُ بَيْعٌ. فكذلك. وإن قُلْنا: ليست بيعًا. لم يَرْجِعْ، لأنَّ شريكَه لم يَغُرَّه (¬1)، ولم يَنْتَقِلْ إليه مِن جهتِه ببيعٍ (¬2)، وإنَّما أفْرَزَ حَقَّه مِن حَقِّه، فلم يَضْمَنْ له ما غرِمَ فيه. هذا الذى يَقْتَضِيه قولُ الأصْحابِ. ¬

(¬1) في م: «يضره». (¬2) في م: «بيع».

4956 - مسألة: (وإن خرج فى نصيب أحدهما عيب، فله فسخ القسمة)

وَإنْ خَرَجَ فِى نَصِيبِ أحَدِهِمَا عَيْبٌ، فَلَهُ فَسْخُ القِسْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4956 - مسألة: (وإن خَرَج في نصيبِ أحَدِهما عَيْبٌ، فله فَسْخُ القِسْمَةِ) إذا لم يَعْلَمْه، أو الرُّجُوعُ بأَرْشِ العَيْبِ؛ لأنَّه نَقْصٌ في نصيبِه، فمَلَكَ ذلك؛ كالمُشْتَرِى. ويَحْتَمِلُ أن تَبْطلَ القِسْمَةُ؛ لأنَّ التَّعْدِيلَ فيها شَرْطٌ، ولم يُوجَدْ، بخِلافِ البيعِ.

4957 - مسألة: (وإذا اقتسم الورثة العقار، ثم ظهر على الميت دين، فإن قلنا: هى إفراز حق. لم تبطل القسمة. وإن قلنا: هى بيع.

وَإِذَا اقْتَسَمَ الوَرَثَةُ الْعَقَارَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى المَيِّت دَيْنٌ، فَإِنْ قُلْنَا: هِىَ إفْرَازُ حَقٍّ. لَمْ تَبْطُلِ القِسْمَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: هِىَ بَيْعٌ. انْبَنَى عَلَى بَيْعِ التَّرِكَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، هَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4957 - مسألة: (وإذا اقْتَسَمَ الورثةُ العَقارَ، ثم ظَهَر على المَيِّتِ دَيْنٌ، فإن قُلْنا: هى إفْرازُ حَقٍّ. لم تَبْطُلِ القِسْمَةُ. وإن قُلْنا: هى بيعٌ. انْبَنَى على بيعِ الترِكَةِ قبلَ قَضاءِ الدَّيْنِ، هل يَجُوزُ؟ على وَجْهَيْن) وجملةُ ذلك، أن ترِكَةَ الميِّتِ يَثْبُتُ فيها المِلْكُ لورثتِه، سواءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم يكنْ. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن أفْلَسَ، ثم مات، فقال: قد انْتَقَلَ المَبيعُ إلى الورثةِ، وحَصَل مِلْكًا لهم. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: إن كان الدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، مَنَع نَقْلَها إلى الورثةِ، وإن كان لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَغْرِقُها، لم يَمْنَعِ انْتِقالَ شئٍ منها. وقال أبو سعيد الإصْطَخْرِيُّ: يَمْنَعُ بقَدْرِه. وقد أوْمَأ إليه أحمدُ، فإنَّه قال في أربعةِ بَنِينَ تَرَك أبوهم دارًا وعليه دَيْن، فقال أحدُ البنينَ: أنا أُعْطِى، ودَعُوا لى الرُّبْعَ. فقال أحمدُ: هذه الدَّارُ للغُرَماءِ، لا يرِثُون شيئًا حتى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّها لم تَنْتَقِلْ إليهم عندَه؛ لأنَّه مَنَع الوارِثَ مِن إمْساكِ الرُّبْعِ (¬1) بدَفعِ قِيمَتِه؛ لأنَّ الدَّيْنَ لم يَثْبُتْ في ذِمَّةِ الورثةِ، فيَجِبُ أن يَتَعَلَّقَ بالترِكَةِ. والمذهبُ الأوَّلُ، ولهذا قُلْنا: إنَّ الغَرِيمَ لا يَحْلِفُ على دَيْنِ الميِّتِ؛ لأنَّ الدَّيْنَ مَحَلُّه الذِّمَّةُ، وإنَّما يَتَعَلَّقُ بالتَّرِكَةِ، فيَتَخَيَّرُ الورثَةُ بينَ قَضاءِ الدَّيْنِ منها، أو مِن غيرِها، كالرَّهْنِ والجانِى، ولهذا لا يَلْزَمُ الغُرَماءَ نفَقَةُ العبيدِ، ولا يكون نَماءُ التَّرِكةِ لهم، ولأنَّه لا [يَخْلُو مِن أن] (¬2) تَنْتَقِلَ إلى الورثةِ، أو إلى الغُرَماءِ، أو تَبْقَى للميِّتِ، أو لا تكونَ لأحَدٍ، لا يجوزُ أنْ تَنْتَقِلَ إلى الغُرَماءِ؛ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها لو انْتَقَلَتْ إليهم، لَزِمَهم نَفَقَةُ الحيواناتِ، وكان نَماؤُها لهم غيرَ مَحْسوبٍ مِن دَيْنِهم، ولا يجوزُ أن تَبْقَى للمَيِّتِ؛ لأنَّه لم يَبْقَ أهْلًا للملْكِ، ولا يجوزُ أن لا (¬1) تكونَ لأحدٍ؛ لأنَّها مالٌ مَمْلُوكٌ، فلا بُدَّ مِن مالِكٍ، ولأنَّها لو بَقِيَتْ بغيرِ مالكٍ، لأُبِيحَتْ لمَن (¬2) يَتَمَلَّكُها، كسائِرِ المُباحاتِ، فثَبَتَ أنّها انْتَقَلَتْ إلى الورثةِ. فعلى هذا، إذا نَمَتِ (¬3) التَّرِكةُ، مِثْل (¬4) أنْ غَلَتِ الدّارُ، أو أثْمَرَتِ النَّخِيلُ، أو نُتِجَتِ الماشِيَةُ، فهو للوارِثِ، يَنْفَرِدُ به، لا يَتَعَلَّقُ به حَقُّ الغُرَماءِ؛ لأنَّه نَماءُ مِلْكِه، أشْبَهَ كَسْبَ الجانِى. ويَحْتَمِلُ أن يَتَعَلَّقَ به حَقُّ الغُرَماءِ، كنَماءِ الرَّهْنِ. ومَن اخْتارَ الأوَّلَ، قال: تَعَلُّقُ حَقِّ الغُرَماءِ بالرَّهْنِ آكَدُ؛ [لأنَّه ثَبَت] (¬5) باخْتِيارِ المالِكِ ورِضاه، ولهذا مُنِع التَّصَرُّفَ (¬6) فيه، وهذا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لأن». (¬3) في م: «تمت». (¬4) في م: «ثم». (¬5) في م: «لا يثبت». (¬6) في م: «المتصرف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَتَ بغيرِ رِضا المالِكِ، فلم يُمْنَعِ التَّصَرُّفَ؛ لأنَّه أشْبَة بالجانِى. وعلى الروايةِ الأُخْرَى، يكون حُكْمُه حُكْمَ التَّرِكَةِ، وما يُحْتاجُ إليه مِن المُؤْنَةِ (¬1) منها. فعلى هذا، إنْ تَصَرَّفَ الورثةُ في التَّرِكةِ ببيعٍ أو هِبَةٍ، فعلى الرِّوايةِ الأولَى، تَصَرُّفهم صحيحٌ، فإن قَضَوُا الدَّيْنَ وإلَّا نُقِضَتْ تَصَرُّفاتُهم، كما إذا تَصَرَّفَ السَّيِّدُ في العبدِ الجانِى ولم يُؤدِّ (¬2) دَيْنَ (¬3) الجِنايَةِ. وعلى الرِّوايةِ الأُخْرَى، تَصَرُّفاتُهم فاسدةٌ؛ لأنَّهم تَصَرَّفُوا فيما لم يَمْلِكوه. والأوَّل أوْلَى، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «الورثة». (¬2) في م: «يود». (¬3) تكملة من المغنى 14/ 217.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ اقْتَسَمَ الورثةُ تَرِكَةَ المَيِّتِ، ثم ظَهَر عليه دَيْنٌ لا وَفاءَ له إلَّا ما اقْتَسَمُوه، لم تَبْطُلِ القِسْمَةُ، إذا قُلْنا: هى إفْرازُ حَقٍّ. لأن تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بالتَّرِكَةِ لا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الوارثِ فيها، كما لا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ في العَبْدِ الجاني، لكنْ إنِ امْتَنَعُوا مِن وَفاءِ الدَّيْنِ، بِيعَتْ في الدَّيْنِ، وبَطَلَتِ القِسْمَةُ؛ لأن الدَّيْنَ يُقَدَّمُ على المِيراثِ؛ لقولِه تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1). فإن وَفَّى أحدُهما دُونَ الآخَرِ، صَحَّ في نصيبِه، وبيعَ نَصِيبُ الآخَرِ. فإن قُلْنا: إنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ. انْبَنى على بَيْعِ التَّرِكَةِ، وفيه وَجْهان، ذَكَرْنا دَلِيلَهما في المسْألةِ قبلَ هذا؛ فإنْ قُلْنا: يجوزُ. لم تَبْطُلِ القِسْمَةُ. وإن قُلْنا: لا يجوزُ. فالقِسْمَةُ باطِلَةً؛ لأنَّها بَيْعٌ، فإنْ قَضَوُا الدَّيْنَ أعادُوها، وإلَّا بِيعَ في قَضائِه. والخِلافُ في ذلك مَبْنِىٌّ على الخلافِ في انْتِقالِ التَّرِكَةِ إلى الورثةِ، إذا كان على الميِّتِ دَيْنٌ، وفيه رِوايَتان، ذَكَرْناهما [ودَلِيلَهما] (¬2) والمُخْتارَ منهما. واللهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ، في قومٍ اقْتَسمُوا دارًا وحَصَلَ لبعضِهم فيها زِيادةُ أذْرُعٍ، ولبعضِهم نُقْصانٌ، ثم باعوا الدَّارَ جُمْلَةً واحدةً (¬1): قُسِمَتِ الدَّارُ بينَهم على قَدْرِ الأذْرُعِ. يَعْنِى أنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بينَهم على قَدْرِ مِلْكِهم فيها، وهذا محْمولٌ على أنَّ زيادةَ أحدِهما في الأذْرُعِ كزِيادةِ (¬2) مِلْكِه فيها، مثلَ أن يكونَ لأحدِهما الخُمْسانِ، فيَحْصُلَ له أرْبَعُون ذِراعًا، وللآخَرِ ثلاثةُ أخْماسٍ، فيَحْصُلَ له سِتُّون ذِراعًا، فإنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بينَهم أخْماسًا على قَدْرِ مِلْكِهما في الدَّارِ، فأمَّا إن كانت زيادةُ الأذْرعِ لرَداءَةِ (¬3) ما أخَذَ صاحِبُها، كدارٍ تكونُ بينَهما نِصْفَيْن، فأخَذَ أحدُهما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الزيادة». (¬3) في الأصل: «كزيادة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بنصيبِه مِن جَيِّدِها أرْبَعِين ذِراعًا، وأخَذَ الآخَرُ مِن رَدِيئِها ستِّينَ ذِراعًا (¬1)، فلا يَنْبَغِى أن يُقْسَمَ الثَّمَنُ على قَدْرِ الأذْرُعِ، بل يُقْسُممُ بينَهما نِصْفَيْن؛ لأنَّ السِّتِّينَ ههُنا مَعْدُولةٌ بالأرْبَعِين، فلذلك تُعْدَلُ بها في الثَّمَنِ. وقال أحمدُ، رَحِمَه اللهُ، في قوم اقْتَسمُوا دارًا كانت أربعةَ أسْطِحَةٍ يَجْرِى عليها الماءُ مِن أحدِ الأسْطِحَةِ، فلمّا اقْتَسَمُوا أراد أحدُهما مَنْعَ جَرَيانِ [ماءِ الآخرِ] (¬2) عليه، وقال: هذا شئٌ قد صار لى. قال: إن كان بينَهما شَرْطٌ برَدِّ الماءِ، فله ذلك، وإنْ لم يُشْتَرَطْ، فليس له مَنْعُه. ووَجْهُ ذلك، أنَّهم اقْتَسُموا الدَّارَ وأطْلَقُوا، فاقْتَضَى ذلك أن يملِكَ كلُّ واحدٍ حِصَّتَه بحقُوقِها،؛ لو اشْتَراها بحُقُوقِها، ومِن حَقِّها جَريانُ مائِها فيما كان يَجْرِى إليه مُعْتادًا له، وهو على سَطْحِ المانعِ، فلهذا اسْتَحَقَّه حالةَ الإطْلاقِ، فإن تَشارَطا على رَدة، فالشَّرْطُ أمْلَكُ، والمؤمِنونَ على شروطِهم. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الآخر».

4958 - مسألة: (وإن اقتسما فحصلت الطريق فى نصيب أحدهما، ولا منفذ للآخر، بطلت القسمة)

وَإنِ اقْتَسَمَا [339 ظ] فَحَصَلَتِ الطرِيقُ فِى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلَا مَنْفَذَ لِلْآخَرِ، بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4958 - مسألة: (وإنِ اقْتَسَما فحَصَلَتِ الطَّرِيقُ في نصيبِ أحَدِهما، ولا مَنْفَذَ للآخَرِ، بَطَلَتِ القِسْمَةُ) لأنَّ القِسْمَةَ تَقْتَضِى التَّعْدِيلَ، والنَّصِيبُ الذى لا طريقَ له لا قِيمَةَ له إلَّا قِيمةً قليلةً، فلا يَحْصُلُ التَّعْدِيلُ، ولأنَّ مِن شَرْطِ الإجْبارِ على القِسْمَةِ، أن يكونَ ما يَأْخُذُه كلُّ واحدٍ منهما يُمْكِنُ الانْتِفاعُ به، وهذا لا يَنْتَفِعُ به آخِذُه. فإن كان قد أخَذَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ راضِيًا، عالِمًا بأنَّه لا طريقَ له، جاز؛ لأنَّ قِسْمَة التَّراضِى بَيْعٌ، وشراؤُه على هذا الوَجْهِ جائِزٌ. قال شيخُنا (¬1): وقياسُ المسْألةِ التى قبلَ هذه، أنَّ الطرِيقَ تَبْقَى بحالِها في نَصِيبِ الآخَرِ، ما لم يَشْتَرِطْ صَرْفَها عنه، كَجَرْىِ (¬2) الماءِ. ¬

(¬1) في: المغنى 14/ 121. (¬2) في المغنى: «كمجرى».

4959 - مسألة: (ويجوز للأب والوصى قسم مال المولى عليه مع شريكه)

وَيَجُوزُ لِلْأَب وَالْوَصِىِّ قَسْمُ مَالِ الْمُولَّى عَلَيْهِ مَعَ شَرِيكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4959 - مسألة: (ويَجُوزُ للأبِ والوَصِىِّ قَسْمُ مالِ المُوَلَّى عليه مع شريكِه) لأنَّ القِسْمَةَ إمَّا إفْرازُ حَقٍّ، وإمَّا (¬1) بَيْعٌ، وكلاهما جائرٌ لهما. ولأنَّ في القِسْمَةِ مَصْلَحةً للصبىِّ، فجازَتْ، كالشِّراءِ له، ويَجُوزُ لهما قِسْمَةُ التَّراضِى مِن غيرِ زِيادةٍ في العِوَضِ؛ لأنَّ فيه دَفْعًا لضَرَرِ الشَّركةِ، فأشبَهَ ما لو باعه لضررِ الحاجَةِ إلى قَضاءِ الدَّيْنِ، أو للنَّفَقَةِ. واللهُ أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «أو».

باب الدعاوى والبينات

بَابُ الدَّعَاوَى وَالبيِّنَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الدَّعَاوَى والبَيِّناتِ الدَّعْوَى؛ إضافةُ الإنسانِ إلى نَفْسِه شَيْئًا (¬1)، مِلْكًا أو اسْتِحْقاقًا، أو نحوَه. وهو في الشَّرْعِ؛ إضافتُه إلى نَفْسِه اسْتِحْقَاقَ شئٍ في يدِ غيرِه، أو في ذِمَّتِه. والمُدَّعَى عليه؛ مَن يُضافُ إليه اسْتِحْقاقُ شئٍ عليه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: الدَّعْوَى الطَّلَبُ، قال اللهُ تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) بعده في ق، م: «أو». (¬2) سورة يس 57.

4960 - مسألة: (والمدعى من إذا سكت ترك، والمنكر من إذا سكت لم يترك)

المُدَّعِى مَنْ إذَا سَكَتَ تُرِكَ، وَالمُنْكِرُ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4960 - مسألة: (والمُدَّعِى مَن إذا سَكَت تُرِك، والمُنكِرُ مَن إذا سَكَت لم يُتْرَكْ) وقِيل: المُدَّعِى مَن يَلْتَمِسُ بقَوْلِه أخْذَ شئٍ مِن يدِ غيرِه، أو (¬1) إثباتَ حَقٍّ في ذِمَّتِه، والمُدَّعَى عليه مَن يُنْكِرُ ذلك. وقد يكونُ كلُّ واحدٍ منهما مُدَّعِيًا ومُدَّعًى عليه، بأن يَخْتَلِفا في العَقْدِ، فيَدَّعِىَ كلُّ واحدٍ منهُما أنَّ اليَمِينَ غيرُ الذى ذَكَرَه صاحِبُه. والأصْلُ في الدَّعْوَى قَوْلُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أُعْطِىَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأمْوالَهُم، ولَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». رَواه مسلمٌ (¬2). وفى ¬

(¬1) في ق، م: «و». (¬2) تقدم تخريجه في 12/ 478.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حديثٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، والْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى علَيْهِ» (1).

4961 - مسألة: (ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف)

وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى وَالإنْكَارُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ. وَإذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاَثةِ أقْسَام؛ أحَدُهَا، أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَهِىَ لَهُ مَعَ يَمِينهِ أَنَّهَا لَهُ، لاَ حَقَّ لِلْاَخَرِ فِيهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4961 - مسألة: (وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى والإنْكَارُ إلَّا مِن جائِزِ التَّصَرّفِ) لأنَّ مَن لا يصِحُّ تَصَرُّفُه، لا قَوْلَ له في المالِ، ولا يصِحُّ إقْرارُه ولا تَصَرُّفُه، فلا تُسْمَعُ دَعْواه ولا إنْكارُه، كما لا يُسْمَعُ إقْرارُه. 4962 - مسألة: (وإن تَدَاعَيا عَينًا، لم تَخْلُ مِن ثَلاَثَةِ أقْسَامٍ؛ أحَدُهَا، أن تَكُونَ في يَدِ أحدِهما، فهي له مع يَمِينِه أنَّها له، لا حَق للآخرِ فيها، إذا لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ) لِما رَوَى ابنُ عَبَّاس، رَضِىَ الله عنهما، قال:

4963 - مسألة: (ولو تنازعا دابة، أحدهما راكبها، أو له عليها

وَلَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً، أحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، أوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ، وَالْآخَرُ آخِذٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أنَّ النَّاسَ أُعْطُوا بدَعْواهُمْ، لَادَّعَىِ نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وأمْوَالَهُمْ، وَلكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَعَى عَلَيْهِ». مُتَّفقٌ عليه. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، في قِصَّةِ الحَضْرَمِىِّ والكِنْدِىِّ: «شاهِداكَ أو يَمِينُهُ، ليس لك إلَّا ذلك» (¬1). ولأنَّ الظَّاهرَ مِن اليدِ المِلْكُ. 4963 - مسألة: (ولو تَنازَعا دابةً، أحَدُهما راكِبُهَا، أو له عليها ¬

(¬1) تقدم تخريجه فيه 28/ 427.

بِزِمَامِهَا، فَهِىَ لِلْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حِمْلٌ، والآخَرُ آخِذٌ بزِمامِها، فهي للأوَّلِ) لأنَّ تَصَرُّفَه أقْوَى، ويَدَه آكَدُ، وهو المُسْتَوْفِى لمَنْفَعتِها. فإن كان لأحدِهما عليها (¬1) حِمْلٌ، والآخَرُ راكِبُها، فهي للرّاكِبِ؛ لأنه أقْوَى تَصَرُّفًا. فإنِ اخْتَلَفا في الحِمْلِ، فادَّعاهُ الرّاكِبُ وصاحِبُ الدَّابَّةِ، فهو للرّاكِبِ؛ لأن يَدَه على الدَّابَّةِ والحِمْلِ مَعًا، فأشْبَهَ ما لو اخْتَلَف السَّاكِنُ وصاحِبُ الدَّارِ في قُماشٍ فيها. وإن تَنازَعَ الرّاكِبُ وصاحِبُ الدابَّةِ في السَّرْجِ، فهو لصاحِبِ الدابَّةِ؛ لأنَّ السَّرْجَ في العادَةِ يكونُ لصاحب الفَرَسِ. ولو تنازَعَ اثْنانِ في ثِيابِ عبدٍ لأحدِهما، فهي لصاحِب العَبْدِ؛ لأن يَدَ العَبْدِ عليها. وإن تنازَعَ صاحِبُ الثِّيابِ وآخرُ في العَبْدِ الَلَّابِسِ لها، فهما سَواءٌ؛ لأنَّ نَفعَ الثِّيابِ يعودُ إلى العَبْدِ، لا إلى صاحِبِ الثِّيابِ. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا الفَصْلَ كالذى ذَكَرْنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4964 - مسألة: (وإن تنازعا قميصا، أحدهما لابسه، والآخر آخذ بكمه، فهو للابسه)

وَإنْ تَنَازَعَا قَمِيصًا، أحَدُهُمَا لَابِسُهُ، وَالْآخَرُ آخِذ بِكُمِّهِ، فَهُوَ لِلَابِسِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4964 - مسألة: (وإن تَنازَعا قَمِيصًا، أحدُهما لَابِسُه، والآخَرُ آخِذٌ بكُمِّهِ، فهو للابِسِه) لأنَّ تَصَرُّفَه أقْوَى، وهو المُسْتَوْفِى لمَنْفَعَتِه، فإن كان كُمُّهُ في يَدِ أحدِهما، وباقِيه مع الآخَرِ، أو تَنازَعا عِمَامَةً، طَرَفُها في يَدِ أحدِهما، وباقِيها في يَدِ الآخَرِ، فهما سواءٌ فيها؛ لأنَّ يَدَ المُمْسِكِ بالطَّرَفِ عليها، بدَلِيلِ أنَّه لو كان باقِيها على الأرْضِ، فنازَعَه فيها غَيْرُه كانتْ له، وإذا كانتْ في أْيدِيهما تساوَيا فيها. فصل: ولو كانتْ دارٌ فيها أرْبعةُ أْبياتٍ؛ في أحدِ أبياتِها ساكنٌ، وفي الثَّلاَثَةِ الباقِيَةِ ساكنٌ آخَرُ، فاخْتَلَفا فيها، كان لكلِّ واحدٍ ما هو ساكنٌ فيه؛ لأنَّ كلَّ بَيْتٍ يَنْفَصِلُ عن صاحِبِه، ولا يُشارِكُ الخارِجُ منه السَّاكِنَ فيه في ثُبُوتِ اليَدِ عليه. وإن تَنازَعا السَّاحَةَ التي يُتَطَرقُ منها إلى البُيُوتِ، فهي بينَهما نِصْفان؛ لاشْتِراكِهِما في ثُبُوتِ اليَدِ عليها، فأشْبَهَتِ العِمَامَةَ فيما ذَكَرْناه.

4965 - مسألة: (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص، فهما للخياط)

وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالْخَيَّاطُ الإبرَةَ وَالمِقَصَّ، فَهُمَا لِلْخَيَّاطِ، وإنْ تَنَازَعَ هُوَ وَالقَرَّابُ القِرْبَةَ، فَهِىَ لِلْقَرَّابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4965 - مسألة: (وإن تَنازَعَ صاحِبُ الدَّارِ والخَيّاطُ الإبْرَةَ والمِقَصَّ، فهما للخَيَّاطِ) لأنَّ تَصرُّفَه فيهما أكْثَرُ وأظْهَرُ، والظَّاهِرُ أنَّ الإنسانَ إذا دَعَا خَيَّاطًا يَخِيطُ له، فالعادَةُ أنَّه يَحْمِلُ معه إبْرَتَه ومِقَصَّه. وإنِ اخْتَلَفا في القَمِيصِ، فهو لصاحِبِ الدَّارِ؛ إذ لَيستِ العادَةُ أنْ يَحْمِلَ القَمِيصَ معه يَخِيطُه في دارِ غيرِه، وإنَّما العادَةُ أنْ يَخِيطَ قَمِيصَ صاحِبِ الدَّارِ فيها. وإنِ اخْتَلَفَ صاحِبُ الدَّارِ والنَّجّارُ في القَدُومِ، والمِنْشارِ، وآلةِ النِّجَارَةِ، فهي للنَّجَّارِ. وإنِ اخْتَلَفا في الخَشَبَةِ المنْشُورَةِ، والأبوابِ، والرُّفُوفِ المنْجُورَةِ، فهي لِصاحِبِ الدَّارِ. وإنِ اخْتَلَفَ النَّجَّادُ ورَبُّ (¬1) الدَّارِ في قَوْسِ النَّدْفِ، فهو لِلنَّجّادِ. وإنِ اخْتَلَفا في الفَرْشِ والْقُطْنِ والصُّوفِ، فهو لِصاحِبِ الدَّارِ. 4966 - مسألة: (وإن تَنازَعَ هو والقرّابُ القِرْبَةَ، فهي للقرّابِ) وإنِ اخْتَلَفَا في الخَابِيَةِ والْجِرَارِ، فهي لِصاحِبِ الدَّارِ. ومذهبُ الشافعىِّ في هذه المسائِلِ على ما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «صاحب».

4967 - مسألة: (وإن تنازعا عرصة فيها شجر، أو بناء لأحدهما، فهي له)

وَإنْ تَنَازَعَا عَرْصَةً فِيهَا شَجَرٌ، أَوْ بِنَاءٌ لأَحَدِهِمَا، فَهِىَ لَهُ. وإنْ تَنَازَعَا حَائِطًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أحَدِهِمَا وَحْدَهُ، أوْ مُتَّصِلًا بِهِ اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ، أوْ لَهُ عَلَيْهِ أزَجٌ، فَهُوَ لَهُ، وَإنْ كَانَ [340 و] مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، أَوْ مَعْقُودًا بِهِمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ 4967 - مسألة: (وإن تَنازَعا عَرْصَةً فِيهَا شَجَرٌ، أوْ بِنَاءٌ لأحَدِهما، فهي له) لأنَّه المُسْتَوفِى لمَنْفَعَتِها. 4968 - مسألة: (وإن تَنازَعا حائِطًا مَعْقُودًا ببنَاءِ أحَدِهمَا، وَحْدَه، أو مُتَّصِلًا بِهِ اتِّصالاً لا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ، أو له عليهِ أَزَجٌ، فهو له، وإن كان مَحْلُولًا مِن بِنائِهما، أو مَعْقُودًا بهما، فهو بينَهما) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الرَّجُلَيْن إذا تَنازَعا (¬1) حائِطًا بينَ مِلْكَيهما، وتَسَاوَيا في كَوْنِه مَعْقُودًا ببِنائِهما معًا، وهو أن يكونَ مُتَّصِلًا بهما اتِّصالًا لا يُمْكِنُ إحْداثُه بعدَ بِنَاءِ الحائِطِ، مثلَ اتِّصالِ البِناءِ بالطِّينِ، كهذه الفطائِرِ (¬2) التي لا يُمْكِنُ إحْداثُ اتِّصالِ بعْضِها ببعض، أو تَساوَيا في كَوْنِه مَحْلُولًا مِن بِنَائِهما، ¬

(¬1) في الأصل: «تدعيا». (¬2) في م: «معطائر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أي غيرَ مُتَّصِلٍ ببِنائِهما (¬1)، الاتِّصالَ المذْكُورَ، بل بينَهما شَقٌّ مُسْتَطِلٌ، كما يكونُ بينَ الحائِطَيْن اللَّذين ألصِقَ أحدُهما بالآخَرِ، فهما سواءٌ في الدَّعْوَى، إن لم تكُنْ لواحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، تَحالَفَا، فيَحْلِفُ كلَّ واحدٍ منهما على نِصْفِ الحائِطِ أنَّه له، وتكونُ بينَهما نِصْفَيْن؛ وإن كلَّ واحدٍ منهما يَدُه على نِصْفِ الحائِطِ، لكَوْنِ الحائِطِ في أيدِيهما. وإن حَلَفَ كلُّ واحدٍ منهما على جَمِيعِ الحائِطِ أنَّه له، وما هو لِصَاحِبِه، جازَ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ. ولا أعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ لأنَّ المُخْتَلِفَيْن في العَيْنِ، إذا لم تكُنْ لواحدٍ منهما بَينةٌ، فالقولُ قولُ مَن هي في يَدِه مع يَمِينِه، وإذا كانت في أيدِيهما، كانَتْ يَدُ كل واحدٍ منهما على نِصْفِها، ¬

(¬1) في م: «القنائهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ القولُ قولَه في نِصْفِها مع يَمِينِه، وإن كان لأحدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِم له بها، وإن كان لكُلِّ واحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، تَعارَضَتا، وصَارَا كمَن لا بَيِّنَةَ لهما، فإن لم تكُنْ لهما بَيِّنَةٌ، ونَكَلَا عن اليَمِينِ، كان الحائِطُ في أيْدِيهما على ما كان. وإن حَلَف أحدُهما، ونَكَل الآخرُ، قُضِىَ علِى النَّاكِلِ، فكان الكلُّ للآخَرِ. وإن كان مُتَّصِلًا ببِنَاءِ أحَدِهما دونَ الآخرِ، فهو له مع يَمِينِه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال أبو ثَوْرٍ: لا يُرَجَّحُ بالعَقْدِ، ولا يُنْظَرُ إليه. ولَنا، أنَّ الظَّاهِرَ أنَّ هذا البِنَاءَ بُنِيَ كلُّه بِناءً واحِدًا، فإذا كان بعْضُه لرَجُلٍ، كان باقِيه له، والبِنَاءُ الآخَرُ الظَّاهِرُ أنَّه بُنِي وَحْدَه، فإنَّه لو بُنِي مع هذا، كان متَّصِلًا به، فالظَّاهِرُ أنه لغيرِ صاحِبِ هذا [الحائِطِ المُخْتَلَفِ فيه] (¬1)، فوَجَبَ أن يُرَجَّحَ بهذا، كاليَدِ. فإن قِيل: فلِمَ لا تَجْعَلُوهُ له بغيرِ يَمِين لذلك؟ قُلْنا: لأنَّ ذلك ظَاهِرٌ، وليس ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بيَقِينٍ (¬1)، إذْ يَحْتَمِلُ أن يَكونَ (2) أحدُهما بَنَى الحائِطَ لصاحِبِه تَبَرُّعًا مع حائِطِه، أو كان له فَوَهَبَه إيَّاه، أو بَناهُ بأجْرَةٍ، فشُرِعَتِ اليَمِينُ مِن أجْلِ الاحْتِمالِ، كما شُرِعَتْ في حَقِّ صاحبِ اليَدِ، وسائِرِ مَن وجَبَت عليه اليَمِينُ، فأمَّا إن كان مَعْقُودًا ببِنَاءِ أحَدِهما عقدًا يُمْكِنُ إحْدَاثُه، كالبِنَاءِ باللَّبِنِ والآجُرِّ، فإنَّه يُمْكِنُ أن يُنْزَعَ مِن الحائِطِ المَبْنِيِّ نِصْفُ لَبِنَةٍ أو آجُرةٍ، ويُجْعَلَ مكانَها لَبِنَةٌ صَحِيحَةٌ أو آجُرَّةٌ صَحِيحَةٌ تُعْقَدُ بينَ (¬2) الحائِطينِ، فقال القاضى: لا يُرَجَّحُ بهذا؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ فَعَل هذا ليَتَمَلَّكَ الحائِطَ المُشْتَركَ. وظاهِرُ كلام الخِرَقِىِّ، أنَّه يُرَجَّحُ بهذا الاتصَالِ،؛ يُرَجَّحُ بالاتصالِ الذي لا يُمْكِنُ إحْدَاثُه؛ لأنَّ الظاهِرَ أن صاحِبَ الحائِطِ لا يَدَعُ غيرَه يتَصَرَّفُ فيه بنَزْعِ آجُرِّهِ، وتَغْيِيرِ بِنَائِه، وفِعْلِ ما يدُل علي مِلْكِه له، فوَجَبَ أن يُرَجَّحَ، كما يُرَجَّحُ باليَدِ، مع أنَّها تَحْتَمِلُ أن تكون يَدًا عادِيَةً، حدَثَت بالغَصْبِ أو بالعَارِيَّةِ أو الإجارَةِ، ولم يَمْنَعْ ذلك التَّرْجِيحَ بها. ¬

(¬1) في الأصل: «بتعين». (¬2) سقط من: ق، م.

4969 - مسألة: (ولا ترجح الدعوى بوضع خشب أحدهما عليه، ولا بوجوه الآجر، والتزويق، والتجصيص، ومعاقد القمط

وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِوَضْعِ خَشَبِ أحَدِهِمَا عَلَيْهِ، وَلَا بِوُجُوهِ الآجُرِّ، وَالتَّزْوِيقِ، وَالتَّجْصِيصِ، وَمَعَاقِدِ الْقِمْطِ في الخُصِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن كان لأحَدِهما عليه بِنَاءٌ، كحَائِطٍ مَبْنِي عليه، أو عَقْدٍ مُعْتَمِدٍ عليه، أو قبَّةٍ، ونحو هذا، فهو له. وبهذا قال الشافعيُّ؛ لأنَّ وَضْعَ بِنَائِه عليه بمَنْزِلَةِ اليَدِ الثابِتَةِ عليه (¬1)، لكَوْنِه مُنتفِعًا به، فجَرَى مَجْرَى كَوْنِ (¬2) حِمْلِه على البَهِيمَةِ وزَرْعِه في الأرْضِ، وِلأن الظاهِرَ أنَّ الإنسانَ لا يَتْرُكُ غيرَه يبني على حائِطِه (¬3). وكذلك إن كانَت له (2) عليه سُتْرَة، أو كان في أصْلِ الحائِطِ خَشَبَةٌ، أو طَرَفُها بجَنْبِ حائِطٍ يَنْفَردُ به أحَدُهما، أو له عليه أزَجٌ مَعْقُودٌ، فالحائِطُ المُخْتَلَفُ فيه له؛ لأنَّ الظَّاهِرَ [أنَّ الخَشَبَةَ] (¬4) لمَن يَنْفَرِدُ بوَضْعِ بِنَائِه عليها، فيكونُ الظَّاهِرُ أنَّ ما عليها مِن البِناءِ له. 4969 - مسألة: (ولَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِوَضْعِ خَشَبِ أحَدِهِمَا عليه، وَلَا بوُجُوهِ الآجُرِّ، والتزْوِيقِ، والتجْصِيصِ، ومَعاقِدِ القِمْطِ (¬5) فِي الخُصِّ) قال أصْحابُنا: لا تُرَجَّحُ دَعْوَى أحدِهما بوَضْعِ خَشَبِهِ على ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «حائط». (¬4) في م: «في الخشبة أنها». (¬5) حبل من ليف أو خوص تشد به الأخصاص.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحائِطِ. وهو قولُ الشافعىِّ؛ لأنَّ هذا ممَّا (¬1) يَسْمَحُ به الجارُ. وقد وَرَد [الخَبَرُ بالنَّهْىِ] (¬2) عن المَنْعِ منه (¬3). وهو عندَنا حَقٌّ يَجِبُ التَّمْكِينُ منه، فلا تُرَجَّحُ به الدَّعْوَى، كإسْنادِ مَتاعِه إليه، وتَجْصِيصِه وتَزْوِيقِه. ويَحْتَمِلُ أن تُرَجَّحَ به الدَّعْوَى. وهو قولُ مالكٍ؛ لأنَّه يَنْتَفِعُ به بوَضْعِ ماله عليه، فأشْبَهَ البَانِيَ عليه والزَّارِعَ في الأرْضِ. وَوُرُودُ الشَّرْعِ بالنَّهْىِ عن المَنْعِ منه لا يَمنَعُ كَوْنَه دَلِيلًا على الاسْتِحْقاقِ، بدَلِيلِ أنَّنا اسْتَدْلَلْنَا بوَضْعِه على كَوْنِ الوَضْعِ مُسْتَحَقًّا على الدَّوام، حتى متى زالَ، جازَتْ إعادَتُه، ولأنَّ كَوْنَه مُسْتَحَقًّا تُشْتَرَطُ له الحاجَةُ إلى وَضْعِه، ففيما لا حاجَةَ إليه له مَنْعُهُ مِن وَضْعِه (¬4)، وأمَّا السَّماحُ به، فإنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَتَسامَحُونَ (¬5) به، ولهذا لَمَّا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ الحَدِيثَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، طَأطَئُوا رُءُوسَهُم، كَرَاهَةً لذلك، فقال: مَالِى أرَاكُم عنها مُعْرِضِين؟ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «في الخبر النهي». (¬3) انظر ما تقدم تخريجه في 7/ 199. (¬4) في الأصل: «موضعه». (¬5) في م: «يسامحون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واللهِ لأرْمِيَنَّ بها بينَ أكْتافِكُمْ (¬1). وأكْثَرُ الفُقَهاءِ لا يُوجِبُونَ التَّمْكِينَ مِن هذا، ويَحْمِلُونَ الحديثَ على كَرَاهَةِ المَنْعِ لا على تَحْرِيمِه. ولأنَّ الحائِط يُبْنَى لذلك، فيُرَجَّحُ به، كالأزَجِ. وقال أصْحابُ أبي حنيفةَ: لا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بالجِذْعِ الواحدِ؛ لأنَّ الحائِطَ لا يُبْنَى له، وتُرَجَّحُ بالجِذْعَيْن؛ لأنَّ الحائِطَ يُبْنَى لهما. ولَنا، أنَّه مَوْضُوعٌ على الحائِطِ، فاسْتَوَى في (¬2) تَرْجِيحِ الدَّعْوَى قَلِيلُه وكثيرُه، كالبِنَاءِ. فصل: ولا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بكَوْنِ الدَّواخِلِ إلى أحَدِهما، والخَوَارِجِ ووُجُوْهِ الآجُرِّ والحِجَارَةِ، ولا كَوْنِ الآجُرَّةِ الصَّحِيحَةِ ممَّا يَلي أحدَهما، وقِطَعِ الآجُرِّ ممَّا يَلي مِلْكَ الآخَرِ، ولا بمَعَاقِدِ القِمْطِ في الخُصِّ، يَعْنى عَقْدَ الخُيوطِ التي يُشَدُّ بها الخُصُّ (¬3). وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ. وقال أبو يوسفَ، ومحمدٌ: يُحْكَمُ به لمن إليه وَجْهُ الحائِطِ ومَعاقِدُ القِمْطِ؛ لِما رَوَى نِمْرَانُ بنُ جاريةً (¬4) التَّمِيمِىُّ، عن أبِيه، أنَّ قَوْمًا اخْتَصَمُوا إلى النَّبىِّ - صلى الله عليه وسلم - في خُصٍّ، فبَعَثَ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَانِ يَحكُمُ بينَهم، فحَكَمَ لمَن تَلِيه مَعاقِدُ القِمْطِ، ثم رَجَع إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخْبَرَه، فقال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 13/ 199. (¬2) في الأصل: «فيه». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في النسخ: «حارثة». وانظر: ترجمته في: تهذب التهذيب 10/ 475.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ «أصَبْتَ وأحْسَنْتَ». روَاه ابنُ ماجَه (¬1). ورُوِىَ نحوُه عن عليٍّ. ولأنَّ العُرْفَ جارٍ بأنَّ مَن بَنَى حائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الحائِطِ إليه. ولَنا، عُمومُ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، واليَمِينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ» (¬2). ولأنَّ وَجْهَ الحائِطِ ومَعاقِدَ القِمْطِ إذا كانا شَرِيكَيْن فيه، لا بُدَّ مِن (¬3) أن يكونَ إلى أحَدِهما، إذ لا يُمْكِنُ كونُه إليهما جَمِيعًا، فبَطَلَتْ دَلالتُه، كالتَّزْوِيقِ، ولأنَّه يُرادُ للزِّينَةِ، فهو كالتَّزْويقِ. وحَدِيثُهم لا يُثْبِتُه أهْلُ النَّقْلِ، وإسْنادُه مَجْهولٌ. قالَه ابنُ المُنْذِرِ. قال الشَّالَنْجِيُّ: ذَكَرْتُ هذا الحديثَ لأحمدَ، فلم يُقنِعْه، وذَكَرْتُه لإسْحاقَ بنِ رَاهُويَه، فقال: ليس هذا حَدِيثًا. ولم يُصَحِّحْه. وحَدِيثُ علىٍّ فيه مَقالٌ. وما ذَكَرُوه مِن العُرفِ ليس بصَحِيحٍ، فإنَّ العادَةَ جَعْلُ وَجْهِ الحائِطِ إلى خارِجٍ ليَرَاهُ الناسُ، كما يَلْبَسُ الرَّجُلُ أحْسَنَ ثِيابِه، أعْلاها الظَّاهِرُ للناسِ، ليَرَوْه، فيَتَزَيَّنُ به، فلا دَلِيلَ فيه. فصل: ولا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بالتَّزْوِيقِ والتَّحْسِينِ، ولا بكَوْنِ أحدِهما له [على الآجُرِّ سُتْرَةٌ] (¬4) غيرُ مَبْنِيَّةٍ عليه؛ لأنّه ممَّا يُتَسامَحُ به، ويُمْكِنُ إحْداثه. ¬

(¬1) في: باب الرجلان يدعيان في خص، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 785. كما أخرجه الدارقطني، في: سننه 4/ 229. وقال: لم يروه غير دَهْثَم بن قُرّان، وهو ضعيف، وقد اختلف في إسناده. (¬2) تقدم تخريجه في 16/ 252. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «الآجر وسترة».

4970 - مسألة: (وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السلم المنصوب أو الدرجة، فهي لصاحب العلو، إلا أن يكون تحت الدرجة مسكن لصاحب السفل، فيكون بينهما. وإن تنازعا في السقف الذي بينهما، فهو بينهما)

وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ في سُلَّمٍ مَنْصُوبٍ، أوْ دَرَجَةٍ، فَهِىَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، إلَّا أنْ يَكُونَ تَحْتَ الدَّرَجَةِ مَسْكَنٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَنَازَعَا في السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4970 - مسألة: (وإن تنازَعَ صاحِبُ العُلْوِ والسُّفْلِ في السُّلَّمِ المنصوبِ أو الدَّرَجَةِ، فهي لصاحِبِ العُلْوِ، إلاَّ أن يَكُونَ تحتَ الدَّرَجَةِ مَسْكَنٌ لصاحِبِ السُّفْلِ، فيَكُونُ بينَهما. وإن تَنازَعا في السَّقْفِ الذي بينَهما، فهو بينَهما) إذا تَنازَعَ صاحِبُ العُلْوِ والسُّفْلِ في الدَّرَجَةِ التي يُصْعَدُ منها, ولم يكُنْ تحتَها مِرْفَقٌ لِصاحِبِ السُّفْلِ، كَسُلَّم مُسَمَّرٍ (¬1)، أو دَكَّةٍ، فهي لصاحِبِ العُلْوِ وَحْدَهُ؛ لأنَّ له اليَدَ والتَّصَرُّفَ وحدَه؛ لكَوْنِها مَصْعَدَ صاحِبِ العُلْوِ لا غيرُ. والعَرْصَةُ التي عليها الدَّرَجَةُ له أيضًا؛ لانْتِفاعِه بها وحدَه. وإن كان تحتَها بَيْتٌ بُنِيَتْ لأجْلِه، ولتكونَ مَدْرَجًا ¬

(¬1) في النسخ: «مستمر». وانظر المغنى 7/ 45.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للعُلْوِ، فهي بينَهما (¬1)؛ لأنَّ يَدَهما عليها (¬2)، ولأنَّها سَقْفٌ للسُّفْلانِيِّ، ومَوْطِئٌ للفَوْقانِيِّ، فهي كالسَّقْفِ. وإن كان تحتَها طاقٌ (¬3) صغيرٌ، لم تُبْنَ الدَّرَجَةُ لأجْلِه، وإنَّما جُعِلَ مِرْفَقًا يُجْعَلُ فيه جُبُّ (¬4) الماءِ ونحوُه، فهي لِصاحِبِ العُلوِ؛ لأنَّها بُنِيَت لأجْلِه وحدَه. ويَحْتَمِلُ أن تكون بينَهما؛ لأنَّ يَدَهُما عليها (¬5)، وانْتِفاعَهما حاصِلٌ بها، فهي كالسَّقْفِ. فصل: فإن تَنازَعا السَّقْفَ الذي بينَهما، تَحالَفا، وكان بينَهما. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: هو لصاحِبِ السُّفْلِ؛ لأن السَّقْفَ على مِلْكِه، فكان القولُ قولَه فيه، كما لو تَنازَعا سَرْجًا على دَابَّةِ أحَدِهما، كان القولُ قولَ صَاحِبِها. وحُكِىَ عن مالكٍ، أنَّه لِصاحِبِ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «أيضًا». (¬2) في ق، م: «عليه». (¬3) في ق، م: «طباق». (¬4) في م: «حب». (¬5) سقط من: ق، م.

4971 - مسألة: (وإن تنازع المؤجر والمستأجر في رف مقلوع، أو مصراع له شكل منصوب في الدار، فهو لصاحبها، وإلا

وَإِنْ تَنَازَعَ الْمُؤجِرُ وَالمُسْتَأجِرُ في رَفٍّ مَقْلُوعٍ أَوْ مِصْرَاعٍ لَهُ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ في الدَّارِ، فَهُوَ لِصَاحِبِهَا، وَإِلاَّ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ السُّفْلِ. وحُكِىَ عنه، أنَّه لِصَاحِبِ العُلْوِ؛ لأنَّه يَجْلِسُ عليه، ويَتَصَرَّفُ فيه، ولا يُمْكِنُه السُّكْنَى إلَّا به. ولَنا، أنَّه حاجِزٌ بينَ مِلْكَيْهما يَنْتَفِعَانِ به، غيرَ مُتَّصِلٍ بِبنَاءِ أحَدِهما اتِّصالَ البُنْيَانِ، فكَان بينهما، كالحائطِ بينَ المِلْكَيْنِ. وقوْلُهم: هو على مِلْكِ صَاحِبِ السُّفْلِ. يَبْطُلُ بحِيطَانِ العُلْوِ، ولا يُشْبِهُ السَّرْجَ على الدَّابَّةِ؛ لأنَّه لا يَنْتَفِعُ به غيرُ صَاحِبِها, ولا يُرادُ إلَّا لها (¬1)، فكان في يَدِه، وهذا السَّقْفُ يَنْتَفِعُ به كلُّ واحدٍ منهما؛ لأنَّه سَمَاءُ صاحِبِ السُّفْل يُظِلُّه، وأرْضُ صاحِبِ العُلْوِ يُقِلُّه، فاسْتَوَيا فيه. وإن تَنازَعا [في جُدْرانِ البَيْتِ السُّفْلانىِّ، فهي لصاحِبِ السُّفْلِ؛ لأنَّه المُنْتَفِعُ بها، وهي مِن جلةِ البيتِ، فكانت لصاحِبِه، وإن تَنازعا] (¬2) حَوائِطَ العُلْوِ، فهي لصاحِبِ العُلْوِ؛ لِما ذَكَرْنا. 4971 - مسألة: (وإن تَنازَعَ المُؤْجِرُ والمُسْتَأْجِرُ فِي رَفٍّ مَقْلُوعٍ، أو مِصْرَاعٍ له شَكْلٌ مَنْصُوبٌ في الدَّارِ، فهو لصاحِبِها، وإلَّا فهو بينَهما) وجملةُ ذلك، أنَّ المُكْتَرِىَ والمُكْرِىَ إذا اخْتَلَفا في شئٍ في ¬

(¬1) في م: «لهذا». (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدّارِ؛ فإنْ (¬1) كان ممّا يُنْقَلُ ويُحَوَّلُ؛ كالأثاثِ، والأوانِي، والكُتُبِ، فهو للمُكْتَرِى؛ لأنَّ العادَةَ أنَّ الإنسانَ يُكْرِى دارَهُ فارِغَةً مِن رَحْلِه وقُماشِهِ، وإن كان في شيء ممّا يَتْبَعُ في البَيْعِ؛ كالأبْوابِ المَنْصُوبَةِ، والخَوابِى المَدْفُونَةِ، والرُّفُوفِ المُسَمَّرَةِ، والسَّلَالِيمِ المُسَمَّرَةِ (¬2)، [والمفاتيحِ] (¬3) والرَّحا المَنْصُوبَةِ، وحَجَرِها الفَوْقانِيِّ، فهو للمُكْرِى؛ لأنَّه مِن تَوابعِ الدَّارِ، فأشْبَهَ الشَّجَرَةَ المَغْرُوسَةَ فيها. وإن كانتِ الرُّفُوفُ مَوْضُوعَةً على أوْتَادٍ، فقال أحمدُ: إذا اخْتَلفا في الرُّفُوفِ، فهي لصاحِبِ الدَّارِ. فظاهِرُ هذا العُمُومُ في الرُّفُوفِ كُلِّها. وقال القاضى: هي بينَهما إذا تَحالَفا؛ لأنَّها لا (1) تَتْبَعُ في البَيْعِ، فأشْبَهَتِ القُماشَ، فهذا ظاهِرٌ يَشْهَدُ للمُكْتَرِي، ولِلْمُكْرِى ظَاهِرٌ يُعارِضُ هذا، وهو أنَّ المُكْرِىَ (¬4) يَتْرُكُ الرُّفُوفَ في الدَّارِ، ولا يَنْقُلُها عنها، فإذا تَعارَضَ الظَّاهِرُ مِن الجَانِبَيْن، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «المستمرة». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «المنكر».

4972 - مسألة: (وإن تنازعا دارا في أيديهما، فادعاها أحدهما،

وَإِنْ تَنَازَعَا دَارًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا، وَادَّعَى الآخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوَيا. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. فعلى هذا، إن تَحالفا، كانتْ بينَهما، وإن حَلَف أحَدُهما، ونَكَل الآخَرُ، فهي لمَن حَلَف. وذَكَر شيخُنا في الكتابِ المشروحِ، أنَّه إن كان للرَّفِّ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ في الدَّارِ، فهو لصاحِبِ الدَّارِ مع يَمِينِه، وإن لم يكُنْ له شَكْلٌ، فهو بينَهما إذا تَحالَفا؛ لأنه إذا كان له شَكْلٌ مَنْصُوبٌ تابعٌ للدَّارِ، فهو لصاحِبِها، والظَّاهِرُ أنَّ أحَدَ الرَّفَّيْن لمَن له الآخَرُ، وكذلك إذا اخْتَلَفا في مِصْرَاعِ بابٍ مَقْلُوعٍ، فالحكْمُ فيه كما ذَكَرْنا. هكذا ذكَرَه أبو الخَطَّابِ. وذَكَرَه القاضى في مَوْضِعٍ؛ لأنَّ أحَدَهما لا يَسْتَغْنِي عن صَاحِبِه، فكان أحَدُهما لمَن له الآخَرُ، كالحَجَرِ الفَوْقانِيِّ مِن الرَّحا، والمِفْتاحِ مع السّكَّرَةِ (¬1). 4972 - مسألة: (وإن تَنازَعا دارًا في أْيدِيهما، فَادَّعاها أحَدُهما، ¬

(¬1) السكرة: قفل الباب.

نِصْفَهَا، جُعِلَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِى النِّصْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وادَّعَى الآخَرُ نِصْفَهَا، جُعِلَت بينَهما نِصْفَيْن، والْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِى النِّصْفِ) نَصَّ عليه أحمدُ. ولا يَمِينَ على الآخَرِ؛ لأنَّ النِّصْفَ المَحْكُومَ له به لا مُنازِعَ له فيه. ولا أعْلَمُ في هذا خِلافًا. إلَّا أَنَّه حُكِىَ عن ابنِ شُبْرُمَةَ، أنَّ لمُدَّعِى الكُلِّ ثلاثةَ أرْباعِها؛ لأنَّ النِّصْفَ له لا مُنازِعَ له فيه، والنِّصْفَ الآخَرَ يُقْسَمُ بينهما على حَسَبِ دَعْواهما فيه. ولَنا، أنَّ يَدَ (¬1) مُدَّعِى النِّصْفِ على ما يَدَّعِيه، فكان القولُ قولَه فيه مع يَمِينِه، كسَائِرِ الدَّعَاوَى. فإن كان (¬2) لكُلِّ وَاحِدٍ منهما بَيِّنَةٌ بما يَدَّعِيه، فقد تَعارضَتْ بَيِّنَتاهما (¬3) في النِّصْفِ، فيكونُ النِّصْفُ لمُدَّعِى الكُلِّ، والنِّصْفُ الآخَرُ يَنْبَنِي على الخِلافِ في أىِّ البَيِّنَتَيْن تُقَدَّمُ. وظاهِرُ المذْهبِ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ المُدَّعِى، [فتَكُونُ الدّارُ كلُّها لمُدَّعِى] (¬4) الكلِّ. وعلى قَوْلِ أَبي حنيفةَ، وصاحِبَيْه، إن كانتِ الدَّارُ في يَدِ ثالِثٍ لا يَدَّعِيها، فالنِّصْفُ لصاحبِ الكلِّ، لا مُنازِعَ له فيه، ويُقْرَعُ بينهما في النِّصْفِ الآخَرِ، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَة، حلَفَ، وكان له. وإن كان لكُلِّ واحدٍ بَيِّنَةٌ، تعارَضَتا وسَقَطَتا، وصارا كمَن لا بَيِّنَةَ لهما. وإن قُلْنا: تُسْتَعْمَلُ البَيِّنَتان. أُقْرِعَ بينَهما، وقُدِّمَ مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ، في أحدِ الوَجْهَيْن. والثاني، يُقْسَمُ بينَهما النِّصْفُ، ¬

(¬1) سقط من النسخ، والمثبت من المغنى 14/ 289. (¬2) سقط من: م. (¬3) في الأصل: «بيناتهما». (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكونُ لمُدَّعِى الكُلِّ ثلاثةُ أرْباعِها. فصل: فإن كانت دارٌ في يَدِ ثلاثةٍ، ادَّعَى أحَدُهم نِصْفَها، وادَّعَى الآخَرُ ثُلُثَها، وادَّعَي الثالِثُ سُدْسَها، فهذا اتِّفَاق منهم على كيْفِيَّةِ مِلْكِهم، وليس ها هُنا اخْتِلافٌ ولا تَجَاحُدٌ، وإنِ ادَّعَى كُلُّ واحدٍ منهم أنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ وَدِيعَة، أو عَارِيَّة [معى، و] (¬1) كانتْ لكلِّ واحدٍ منهم (¬2) بما ادَّعاه مِن المِلْكِ بَيِّنَةٌ، قُضِىَ له بها؛ لأنَّ بَيِّنتَهُ تَشْهَدُ بما (¬3) ادَّعاه، ولا مُعارِضَ لها، وإن لم تكُنْ لوَاحِدٍ منهم بَيِّنَةٌ، حلَفَ كُلُّ واحدٍ منهم، وأقِرَّ في يَدِه ثُلُثُها. فصل: فإنِ ادَّعَى أحدُهم جَمِيعَها، والآخَرُ نِصْفَها، والآخَرُ ثُلُثَها، فإن لم يكُنْ لواحِدٍ منهم بَيِّنَةٌ، قُسِمَتْ بينَهم أثْلاثًا، وعلى كلِّ واحدٍ منهم اليَمِينُ على ما حُكِمَ له به؛ لأنَّ يَدَ كُلِّ واحدٍ منهم على ثُلُثِها. وإن كانت لأحَدِهم بَيِّنَةٌ، نَظَرْتَ؛ فإن كانت لمُدَّعِى الجَميعِ، فهي له، وإن كانت لمُدَّعِى النِّصْفِ، أخَذَه، والبَاقِى بينَ الآخَرَيْن نِصْفَيْن؛ لصاحِبِ الكُلِّ السُّدْسُ بغيرِ يَمِين، ويَحْلِفُ على نِصْفِ السُّدسِ، ويَحْلِفُ الآخَرُ على الرُّبْعِ الذي يَأْخُذُه جميعه. وإن كانتِ البَيِّنَةُ لمُدَّعِى الثُّلُثِ، أخَذَه، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، م: منهما». (¬3) في الأصل: «بها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والباقِى بينَ الآخَرَيْن؛ لمُدَّعِىِ الكُلِّ السُّدْسُ بغير يَمِينٍ، ويَحْلِفُ على السُّدْسِ الآخَرِ، ويَحْلِفُ الآخرُ على جَميعِ ما يأْخُذُه. وإن كانتْ لكُلِّ واحدٍ بما يَدَّعِيه بَيِّنَةٌ؛ فإنْ قُلْنا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ صاحِبِ اليَدِ. قُسِمَتْ بينَهم أثْلاثًا؛ لأنَّ يَدَ كُلِّ واحدٍ منهم على الثُّلُثِ. وإن قُلْنا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الخارِجِ. فيَنْبَغِى أن تسْقُطَ بَيِّنَةُ صاحِبِ الثُّلُثِ؛ لأنَّها دَاخِلَةٌ، ولمُدَّعِى النِّصْفِ السُّدْسُ؛ لأنَّ بَيِّنَتَه خَارِجَةٌ فيه، ولمُدَّعِى الكلِّ خَمْسَةُ أسْداسٍ؛ لأنَّ له السُّدْسَ بغيرِ بَيِّنةٍ، لكَوْنِه لا مُنازِعَ له فيه؛ لأنَّ أحدًا لا يَدَّعِيه، وله الثُّلُثان؛ لكَوْنِ بَيِّنَتِه خَارِجَةً فيهما. وقيل: بل لمُدَّعِى الثُّلُثِ السُّدْسُ؛ لأنَّ [بينةَ مُدَّعى الكلِّ ومُدَّعى] (¬1) النِّصْفِ تَعَارَضَتا فيه، فتساقطتا، وبَقِىَ لمَن هو في يَدِه، ولا شئَ لمُدَّعِى النِّصْفِ؛ لعَدَمِ ذلك فيه. وسَواءٌ كان لمُدَّعِى الثُّلُثِ بَيِّنَة أو لم تكُنْ. وإن كانتِ العَيْنُ في يَدِ غيرِهم، واعْتَرَفَ أنَّه لا يَمْلِكُها, ولا بَيِّنَةَ لهم، فالنِّصْفُ لمُدَّعِى الكُلِّ؛ لأنَّه ليس منهم مَن يَدَّعِيه، ويُقْرَعُ بينَهم في النِّصْفِ البَاقِى، فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ لصاحِبِ الكُلِّ، أو صاحِبِ النِّصْفِ، حلَفَ وأخَذَه، وإن خَرَجَت لصاحِبِ الثُّلُثِ، حلَفَ وأخَذَ الثُّلُثَ، ثم يُقْرَعُ بينَ الآخَرَيْن في السُّدْسِ، فمَنْ قَرَعَ صاحِبَه، حَلَفَ وأخَذَه. وإن أقامَ كُلُّ واحدٍ منهم بَيِّنَةً بما ادَّعاه، فالنِّصْفُ لمُدَّعِى الكُلِّ؛ لِما ذَكَرْنا، والسُّدْسُ الزَّائِدُ يَتَنازَعُه مُدَّعِى الكُلِّ ¬

(¬1) في ق، م: «بينته تدعى الكل وتدعى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومُدَّعِى النِّصْفِ، والثُّلُثُ يَدَّعِيه الثَّلاثةُ، وقد تَعارَضَتِ البَيِّنَاتُ فيه، فإن قُلْنا: تَسْقُطُ البَيِّنَاتُ. أقْرَعْنا بينَ المُتنازِعَيْن فيما تنازَعُوا فيه، فمَن قرَعَ صاحِبَه، حَلَفَ وأخَذَه، ويكونُ الحُكْمُ فيهكما لو لم تَكُنْ لهم بَيِّنَة. وهذا قَوْلُ أبي عُبَيْدٍ، وقَوْلُ الشافعىِّ إذْ (¬1) كان بالعِراقِ. وعلى الرِّوايَةِ التي تقولُ: إذا تَعارَضَتِ البَيِّناتُ (¬2)، قُسِمَتِ العَيْنُ بينَ المُتَدَاعِين (¬3). فلِمُدَّعِى الكُلِّ النِّصْفُ ونِصْفُ السُّدْسِ الزَّائِدِ وثُلُثُ الثُّلُثِ، ولمُدَّعِى النِّصْفِ نِصْفُ السُّدْسِ وثُلُثُ الثُّلُثِ، ولمُدَّعِى الثُّلُثِ ثُلُثُه وهو التُّسْعُ، فتُخَرجُ المسْألةُ مِن سِتَّةٍ وثَلاِثين؛ لمُدَّعِى الكُلِّ النِّصْفُ ثَمانِيَةَ عشرَ، ونِصْفُ السُّدْسِ ثلاثةٌ، والتُّسْعُ أرْبَعةٌ، فذلك خَمْسَةٌ وعِشْرُون سَهْمًا, ولصاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةٌ، ولمُدَّعِى الثُّلُثِ أرْبَعةٌ وهو التُّسْعُ. وهذا قِياسُ قَوْلِ قَتادَةَ، والحَارِثِ العُكْلِىِّ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وحَمَّادٍ، وأبي حنيفةَ. وهو قَوْل للشافعىِّ (4). وقال أبو ثَوْرٍ: يَأخُذُ مُدَّعِى الكُلِّ النِّصْفَ، ويُوقَفُ الباقِى حتى يَتَبَيَّنَ. ورُوِىَ هذا عن مالكٍ. وهو قَوْل للشافعىِّ (¬4). وقال ابنُ أبي ليلَى، وقَوْمٌ مِن أهْلِ العراقِ: تُقْسَمُ العَيْنُ بينَهم على حَسَبِ عَوْلِ الفَرَائِضِ؛ لصاحِبِ الكُلِّ سِتَّةٌ، ولصاحِبِ النِّصْفِ ثلاثةٌ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ اثْنانِ، فتَصِحُّ مِن أحَدَ عشَرَ ¬

(¬1) في الأصل: «إذا». (¬2) في م: «البينتان». (¬3) في الأصل: «المتنازعين». (¬4) في ق، م: «الشافعي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَهْمًا. وسُئِلَ سَهْلُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي (¬1) أُوَيْسٍ عن ثلاثةٍ ادَّعَوْا كِيسًا وهو بأيدِيهِم، ولا بَيِّنَةَ لهم، وحَلَفَ كُلُّ واحدٍ منهم علي ما ادَّعاه؛ ادَّعَى أحَدُهم جَمِيعَه، وادَّعَى الآخَرُ ثُلُثَيْه، وادَّعَى آخَرُ نِصْفه؟ فأجَابَ فيها بشِعْرٍ: نَظرتُ أبا يَعْقوبَ في الحِسَبِ التي … طَرَتْ فأقامَتْ منهمُ كُلَّ قاعِدِ فلِلْمُدَّعِى الثُّلُثَيْن ثُلْث ولِلَّذى … اسْتَلَاطَ جَمِيعَ المَالِ عند التَّحَاشُدِ [مِن المَالِ نِصْفٌ غَيْرَ ما سَيَنُوبُهُ … وحِصَّتُه مِن نِصْفِ ذا المالِ زائِدِ] (¬2) ولِلْمُدَّعِى نِصْفًا مِن المالِ رُبْعُه … ويُؤْخَذُ نِصْفُ السُّدْسِ مِن كُلِّ وَاحِدِ وهذا قوْلُ مَن قَسَمَ المالَ بينَهم على حَسَبِ العَوْلِ، فكَأنَّ المسْألةَ عالَتْ إلى ثَلاثةَ عَشَرَ؛ وذلك أنَّه أخَذَ مَخارِجَ الكُسُورِ، وهي سِتَّةٌ، فجعلها لمُدَّعِى الكُلِّ، وثُلُثاها أرْبَعةٌ لمدَّعِى الثُّلُثَيْن، ونِصْفُها ثلاثةٌ لمُدَّعِى النِّصْفِ، صارتْ ثلاثةَ عَشَرَ. فصل: فإن كانَتِ الدَّارُ في أيْدِى أرْبعةٍ، فادَّعَى أحدُهم جمِيعَها، والثانِي ثُلُثَيْها، والثالِثُ نِصْفَها، والرَّابعُ ثُلُثَها, ولا بَيِّنَةَ لهم، حَلَف كلُّ واحدٍ منهم وله رُبْعُها؛ لأنَّه في يَدِه، والقَوْلُ قولُ صاحِبِ اليَدِ مع يَمِينِه. وإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهم بما ادَّعاهُ بيِّنةً، قُسمَتْ بينَهم أرْباعًا أيضًا؛ لأنَّنا إن قُلْنا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الداخِلِ. فكُلُّ واحدٍ منهم دَاخِلٌ في رُبْعِها، فتُقَدَّمُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيِّنَتُه فيه. وإنْ قُلْنا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الخَارِجِ. فإنَّ الرَّجُلَيْن إذا ادَّعَيا عَيْنًا في يَدِ غيرِهما، فأنْكَرَهما، وأقامَ كُلُّ واحدٍ منهما بَينّةَ بدَعْوَاهُ، تَعارَضَتَا، وأُقِرَّ الشئُ في يَدِ مَن هو في يَدِه. وإن كانَتِ الدَّارُ في يَدِ خامسٍ لايَدَّعِيها، ولا بَيِّنَةَ لواحِدٍ منهم بما ادَّعاهُ، فالثُّلُثُ لمدَّعِى الكلِّ؛ لأنَّ أحدًا لا يُنازِعُه فيه، ويُقْرَعُ بينَهم في الباقي، فإنْ خَرَجَتِ القُرْعَةُ لصاحبِ الكلِّ، أو مُدَّعِى الثُّلُثَيْن , أخَذَه، وإنْ وقَعَتْ لمُدَّعِى النِّصْفِ، أخَذَه، وأُقْرِعَ بينَ الباقِين في الباقِى، فإنْ وقَعَتْ لصاحِبِ الثُّلُثِ، أخَذَه، وأُقْرِعَ بينَ الثَّلاثةِ في الثُّلُثِ الباقِى. وهذا قولُ أبي عُبَيْدٍ، والشافعىِّ إذْ كان بالعراقِ، إلَّا أنَّهم عَبَّرُوا عنه بعبارَةٍ أخْرَى، فقالوا: لمُدَّعِى الكُلِّ الثُّلُثُ، ويُقْرَعُ بينَه وبينَ مُدَّعِى [الثُّلُثَيْن في الثُّلُثِ الزَّائِدِ عن النصفِ، ثم بينَهما وبينَ مُدَّعِى] (¬1) النِّصْفِ في السُّدْسِ الزَّائِدِ عن الثُّلُثِ، ثم يُقْرَعُ بينَ الأربعةِ في الثُلُثِ الباقِى، ويكونُ الإقْراعُ في ثلاثةِ مواضِعَ. و (¬2) على الرِّوَايةِ الأخْرَى، الثُّلُثُ لمُدَّعِى الكُلِّ، ويُقْسَمُ السُّدْسُ الزَّائِدُ عن النِّصْفِ بينَه وبينَ مُدَّعِى الثُّلُثَيْن، ثم يُقْسَمُ السُّدْسُ الزَّائِدُ عن الثُّلُثِ بينَهما وبينَ مُدَّعِى النِّصْفِ أثْلاثًا، ثم يُقْسَمُ الثُّلُثُ البَاقِى بينَ الأربعةِ أرْباعًا، وتَصِحُّ المَسْألةُ مِن سِتَّةٍ وثلاثِين سَهْمًا؛ لصاحِبِ الكُلِّ ثُلُثُها اثْنا عشرَ، ونِصْفُ السُّدْسِ الزائِدِ عن النِّصْفِ ثَلاَثَةٌ، وثُلُثُ السُّدْسِ الزَّائدِ عن الثُّلُثِ سَهْمَان، ورُبْعُ الثُّلُثِ الباقِى ثلاثةٌ، فيحْصُلُ له عِشرون سَهْمًا، وذلك خَمْسةُ أتْساعِ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: م.

4973 - مسألة: (وإن تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت، فما كان يصلح للرجال فهو للرجل، وما)

وَإِنْ تَنَازَعِ الزَّوْجَانِ أَوْ وَرَثتهُمَا في قُمَاشِ البَيْتِ، فَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَراةِ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدَّارِ. ولمُدَّعِى الثُّلُثَيْن ثَمانِيةُ أسْهُم، تُسْعان وهي مثلُ ما لمُدَّعِى الكُلِّ بعدَ الثُّلثِ الذي انْفَرَدَ به، ولمُدَّعِى النِّصْفِ خمسةُ أسْهُمٍ، تُسْعٌ ورُبْعُ تُسْعٍ، ولمُدَّعِى الثُّلُثِ ثلاثةٌ، نِصْفُ سُدْس. وعلى قولِ مَن قَسَمَها على العَوْل، هي (¬1) مِن خمسةَ عشرَ؛ لصاحِبِ الكلِّ سِتَّة، ولصَاحِبِ الثُّلُثَيْن أربعةٌ، ولصاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمان، ولصاحِبِ النِّصْفِ ثلاثةٌ، وعلى قَوْلِ أبي ثَوْرٍ، لصاحِبِ الكُلِّ الثُّلُثُ، ويُوقَفُ البَاقِى. 4973 - مسألة: (وإن تَنازَعَ الزَّوْجان أو وَرَثتهما في قُماشِ البيتِ، فما كان يصْلُحُ للرجالِ فهو للرجلِ، وما) كان (يَصْلُحُ للنساءِ فهو للمرأةِ، وما كان يَصْلُحُ لهما فهو بينَهما) إذا اخْتَلَفَ الزوجانِ في قُماشِ البيتِ، أو في بعْضِه، فقال كل وِاحدٍ منهما: جَمِيعُهُ لِىِ. أو قال كُل وَاحِدٍ منهما: هذهِ العَيْنُ لِي. وكانت لأحدِهما بَيِّنَة، ثَبَت له، بلا خِلافٍ. وإن لم تكُنْ لواحِدٍ منهما بَيِّنَة، فالمنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّ ما يَصْلُحُ للرجالِ؛ مِن العَمائمِ، وقُمْصَانِهم، وجِبابِهمْ، والأقْبِيَةِ، والطَّيالِسَةِ، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والسِّلاحِ، وأشْباهِ ذلك، القَوْلُ فيه قَوْلُ الرجلِ مع يَمِينِه، وما يَصْلُحُ للنِّساءِ؛ كحَلْيِهنَّ، وقُمُصِهِنَّ، ومَقانِعِهنَّ، ومَغازِلِهنَّ، فالقولُ قولُ المرأةِ مع يَمِينها، وما يَصْلُحُ لهما؛ كالمفارِشِ، والأوانِي، فهو بينَهما، وسواءٌ كان في أيدِيهما مِن طريقِ الحُكْمِ، أو مِن طريقِ المُشاهدةِ، وسواءٌ اخْتَلَفا (¬1) في حالِ الزَّوْجِيَّةِ، أو بعدَ البَيْنُونَةِ، وسواءٌ اخْتَلَفا، أو اخْتَلَفَ ورَثتهما، أو أحَدُهما ووَرَثَةُ الآخَرِ. قال أحمدُ في رِوايَةِ الجماعةِ، منهم يَعْقُوبُ بنُ بَخْتانَ، في الرجلِ يُطَلقُ زَوْجَتَه، أو يَمُوتُ، فتَدَّعِى المرأةُ المتاعَ: فما كان يَصْلُحُ للرِّجالِ، فهو للرجلِ، وما كان مِن (¬2) مَتاعِ النِّساءِ، فهو للنِّساءِ، وما اسْتَقامَ أن يكونَ للرِّجالِ وللنِّساءِ، فهو بينهما، فإن كان المتاعُ على يَدَىْ غيرِهما، فمَن أقامَ البَيِّنَةَ، دُفِعَ إليه، وإن لم تكُنْ لهما بَيِّنَةٌ، اقْرِعَ بينَهما، فمَن كانَت له القُرْعَةُ، حَلَف واعْطِىَ المتاعَ. ¬

(¬1) في م: «اختلفوا». (¬2) في الأصل: «مع».

4974 - مسألة: (وإن اختلف صانعان في قماش دكان لهما، حكم بآلة كل صناعة لصاحبها، في ظاهر كلام أحمد والخرقى)

وَإِنِ اخْتَلَفَ صَانِعَانِ في قُمَاشِ دُكَّانٍ لَهُمَا، حُكِمَ بِآلةِ كُلِّ صِنَاعَةٍ لِصَاحِبِهَا، في ظَاهِرِ كَلَامِ [340 ظ] أحْمَدَ وَالْخِرَقِىِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في رِوايَةِ مُهَنَّا: وكذلك إنِ اخْتَلَفا، و (¬1) أحَدُهما مَمْلُوكٌ. وبهذا قال الثوْرِىُّ، وابنُ أبي لَيْلَى؛ لأنَّ أيدِيَهما جَمِيعًا على قُماشِ البَيْتِ، بدَلِيلِ ما لو نازَعَهما فيه أجْنَبِيٌّ، كان القَوْلُ قوْلَهما، وقد تَرَجَّحَ أحَدُهما على صاحِبِه يَدًا وتَصَرُّفًا، فيَجِبُ تَقْدِيمُه، كما لو تَنازَعا دَابَّةً، أحَدُهما رَاكِبُها، والآخَرُ آخِذ بزِمامِها، أو قَمِيصًا، أحَدُهما لابِسُه، والآخَرُ آخِذ بكُمِّه، أو جِدارًا مُتَّصِلًا بدَارَيْهما (¬2)، مَعْقُودًا ببناءِ أحَدِهما. 4974 - مسألة: (وإنِ اخْتَلَفَ صانِعانِ في قُماشِ دُكانٍ لَهُمَا، حُكِمَ بآلةِ كلِّ صِناعَةٍ لصاحِبِها، في ظاهِرِ كلامِ أحمدَ والخِرَقِىِّ) لِما ذَكرْنا فيما إذا اخْتَلَف الزَّوْجانِ في قُماشِ البَيْتِ، فآلةُ [العطّارِين للعَطارِ] (¬3)، وآلةُ النَّجارِين للنَّجارِ، فإن لم يكُونا في دُكانٍ واحدٍ، ولكنِ ¬

(¬1) في الأصل: «أو». (¬2) في النسخ: «بجداريهما» وانظر ما يأتي في المسألة القادمة, انظر: المغني 14/ 335. (¬3) في م: «العطار له».

وَقَالَ القَاضِى: إنْ كَانَتْ أيْدِيهِمَا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الحُكْمِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ المُشَاهَدَةِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ اخْتَلَفا في عَيْنٍ، لم يُرَجَّحْ أحَدُهما بصلاحِيَةِ العَيْنِ المُخْتَلَفِ فيها له (¬1)؛ لِما (¬2) يُذْكَرُ في مسألةِ الزَّوْجَيْن بعدُ (وقال القاضى): هذا إنَّما هو (إذا كانَتْ أيدِيهما عليه مِن طريقِ الحُكْمِ) أمَّا ما كان في يَدِ أحَدِهما مِن طريقِ المُشاهَدَةِ، فهو له مع يَمِينِه، وإنْ كان في أيدِيهما، قُسِمَ بينَهما نِصْفَيْن، سواءٌ كان يَصْلُحُ لهما، أو لأحَدِهما. وهذا قَوْلُ أبي حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ، إلَّا أنَّهما قالا: ما يَصْلُحُ لهما، ويَدُهما عليه مِن طريقِ الحُكمِ، فالقَوْلُ فيه (1) قَوْلُ الرجلِ مع يَمِينِه، وإذا اخْتَلَفَ أحَدُهما ووَرَثَةُ الآخرِ، فالقَوْلُ قولُ الباقِى؛ لأنَّ اليَدَ المُشاهَدَةَ أقْوَى مِن اليَدِ الحُكْمِيَّةِ، بدَلِيلِ ما لو تَنازَعَ الخَيّاطُ وصاحِبُ الدَّارِ في الإبرَةِ والمِقَصِّ، كانَتْ للخَيّاطِ. وقال أبو يوسفَ: القَوْلُ قَوْلُ المرْأةِ، فيما جَرَتِ العادَةُ أنَّه قَدْرُ جِهازِ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «كما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِثْلِها. وقال مالكٍ: ما صَلَح لكلِّ واحِدٍ منهما، فهو له، وما صَلَح لهما، كان للرجلِ، سواء كان في أيدِيهما مِن طريقِ المشاهَدَةِ، أو مِن طريقِ الحُكْمِ؛ لأنَّ البَيتَ للرجلِ، ويَدُهُ عليه أقْوَى؛ لأن عليه السُّكْنَىِ. وقال الشافعىُّ، وزُفَرُ، والبَتِّىُّ: ما كان في البيتِ فهو [لهما نِصْفينِ] (¬1)، فيَحْلِفُ كُلُّ واحدٍ منهما على نِصْفِه ويأخُذُه. ورُوِىَ نحوُ (2) ذلك عن عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، رَضِىَ الله عنه؛ لأنَّهما تَساوَيا في ثُبُوتِ يَدِهما على المُدَّعَى، وعَدَمِ البَيِّنَةِ، فلم يُقَدَّمْ أحَدُهما على صاحِبِه، كالذى يَصْلُحُ لهما، أو كما لو كان في يَدِهما مِن حيثُ المُشاهَدَةُ، عندَ مَن سلَّم ذلك. ولَنا، أنَّ أيدِيَهما جميعًا على مَتاعِ البَيْتِ، بدَلِيلِ ما لو نازَعَهما فيه أجْنَبِيٌّ، كان القَوْلُ قَوْلَهما، وقد تَرَجَّحَ أحَدُهما على صاحِبِه يَدًا وتَصَرفًا، فيَجبُ أن يُقَدَّمَ، كما لو تَنازَعا دابَّةً، أحَدُهما رَاكِبُها، والآخَرُ آخِذ بزِمَامِها، أو جدارًا مُتصِلًا بدارَيْهما، مَعْقُودًا ببناءِ أحَدِهما، أو له عليه (¬2) أزَجٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «بينهما». (¬2) سقط من: ق، م.

4975 - مسألة: (وكل من قلنا: هو له. فهو مع يمينه، إذا لم تكن بينة)

وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا: هُوَ لَهُ. فَهُوَ مَعَ يَمِينِهِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، على أبي حنيفةَ، والقاضى، أنَّهما تَنازَعا فيما في أيْدِيهِما، أشْبَهَ إذا كان في اليَدِ الحُكْمِيَّةِ. فأمَّا ما كان يَصْلُحُ لهما، فإنَّه في أيْدِيهما, ولا مَزِيَّةَ لأحَدِهما على صاحِبِه، أشْبَهَ إذا كان في أيْدِيهما مِن جهَةِ المُشاهَدَةِ. والدَّلالَةُ على أنَّه ليس للباقِى منهما، أنَّ وارِثَ الميِّتِ قائِمٌ مَقامَه، أشْبَهَ ما لو وَكَّل (¬1) أحَدُهما لنَفْسِه وَكِيلًا. فصل: فأمَّا إذا لم تَكُنْ لأحَدِهما يَدٌ حُكْمِيَّة، بل تَنازَعَ رجلٌ وامْرَأةٌ في عَيْنٍ غيرِ قُماشٍ بينَهما، فلا يُرَجَّحُ أحَدُهما بصَلاحِيَةِ ذلك له، بل إن كانتْ في أيدِيهما، فهي بينَهما، وإن كانتْ في يَدِ أحَدِهما فهي له، وإن كانَتْ في يَدِ غَيْرِهما، اقْتَرَعا عليها، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ فهي له، واليَمِينُ على مَن حَكَمْنا له بها في كُلِّ المَواضِعِ؛ لأنَّه ليس لهما يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، فأشْبَهَا سائِرَ المُخْتَلِفِينَ. 4975 - مسألة: (وَكلُّ مَن قُلْنا: هو له. فهو مع يَمِينِه، إذا لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ) لاحْتمالِ ما ادَّعاه خصْمُه. ¬

(¬1) في م: «جعل».

4976 - مسألة: (وإن كان لأحدهما بينة، حكم له بها)

وَإنْ كَانَ لِأحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4976 - مسألة: (وإن كان لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بِها) وجملةُ ذلك، أنَّ البَيِّنَةَ إذا كانت للمُدَّعِى وحدَه، وكانَتِ العَيْنُ في يَدِ المُدَّعَى عليه، حُكِمَ بالعَينِ (¬1) للمُدَّعِى، بغيْرِ خِلافٍ، ولم يَحْلِفْ. وهو قولُ أهلِ الفُتْيَا مِن أهلِ الأمْصارِ، منهم الزُّهْرِيُّ (¬2)، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ. وقال شُرَيْحٌ، وعَوْنُ بنُ عبدِ اللهِ، والنَّخَعِىُّ، والشَّعْبِىُّ، وابنُ أبي ليْلَى: يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مع بَيِّنَتِه. قال شُرَيْحٌ: لو أثْبَتَّ كذا وكذا شاهدًا (¬3) عندِى، ما قَضَيْتُ لك حتى تحْلِفَ (¬4). ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - [للحَضْرَمِىِّ: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُه، لَيْسَ لَكَ إلَّا ذَلِكَ» (¬5). وقولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬6): «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، واليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬7). ولأنَّ ¬

(¬1) في ق، م: «باليمين». (¬2) بعده في م: «والثورى». (¬3) في م: «شهداء». (¬4) في أخبار القضاة 2/ 310، أنه قضى باليمين مع الشاهد. (¬5) تقدم تخريجه في 28/ 416. (¬6) سقط من: م. (¬7) تقدم تخريجه في 16/ 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البَيِّنَةَ إحدَى حُجَّتَىٍ الدَّعْوَى، فيُكْتَفَى بها، كاليَمِينِ. إذا ثَبَتَ ذلك، فقال أصْحابُنا: لا فَرْقَ بينَ الحاضِرِ والغائِبِ، والحىِّ والميِّتِ، والعاقِل والمجْنونِ، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ. وقال الشافعىُّ: إذا كان المشْهُودُ عليه لا يُعَبِّرُ عن نفْسِه، أحْلِفَ المشْهُودُ له؛ لأنَه لا يُعَبِّرُ عن نفْسِه في دَعْوَى القَضاءِ والإبراءِ، فيَقُومُ الحاكمُ مَقامَه في ذلك، لتَزُولَ الشُّبْهَةُ. قال شيخُنا (¬1): وهذا حَسَنٌ؛ فإنَّ قِيامَ البَيِّنَةِ للمُدَّعِى بثُبُوتِ حَقِّه، لا يَنْفِى احْتِمالَ القَضاءِ والإبراءِ، بدَلِيلِ أنَّ المُدَعَى عليه لو ادَّعاه، سُمِعَتْ دَعْواه و (¬2) بَيِّنتُه، فإذا كان حاضِرًا مُكَلَّفًا، فسُكُوتُه عن الدَّعْوَى [دلِيلٌ على انْتِفائِه، فيُكْتَفَى بالْبَيِّنةِ. فإن كان غائِبًا أو مِمَّن لا قَوْلَ له، بَقِىَ احْتِمالُ ذلك مِن غيرِ] (¬3) دَلِيل يدُلُّ على انْتِفائِه، فتُشْرَعُ اليَمِينُ لنَفْيِه. وإن لم تَكُنْ للمُدَّعِى بَينةٌ، وكانت للمنكِرِ بَيِّنَةٌ، سمِعت بَيِّنَتُه، ولم يَحْتَجْ إلى الحَلِفِ مَعها؛ ¬

(¬1) في: المغنى 14/ 281، 282. (¬2) في الأصل: «أو». (¬3) سقط من: الأصل.

4977 - مسألة: (وإن كان لكل واحد منهما بينة، حكم بها للمدعى، في ظاهر المذهب. وعنه، إن شهدت بينة المدعى عليه أنها

وَإنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَنةٌ، حُكِمَ بِهَا لِلْمُدَّعِى، في ظَاهِرِ المَذْهَبِ. وَعَنْهُ، إِنْ شَهِدَتْ بَيَنةُ المُدَّعَى عَلَيْهِ أنَهَا لَه، نُتِجَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَّنا إن قُلْنَا بتَقْدِيمِها مع التَّعَارُضِ، وأنَّه لا يَحْلِفُ معها، فمَع انفِرادِها أوْلَى، وإن قُلْنَا بتَقْدِيمِ بَيِّنةِ المُدَّعَى عليه، فيَجِبُ أن يُكْتَفَى بها عن اليَمِينِ؛ لأنَّها أقْوَى مِن اليَمِينِ، فإذا اكْتُفِىَ باليَمِينِ، فبما (¬1) هو أقْوَى منها أوْلَى. ويَحْتَمِلُ أن تُشْرَعَ أيضًا؛ لأنَّ البَيِّنةَ ها هُنا يَحْتَمِلُ أن يكُونَ مُسْتَنَدُها اليَدَ والتَّصَرُّفَ، فلا تُفِيدُ (¬2) إلَّا ما أفادَتْه اليَدُ والتَّصرُّفُ، [وذلك] (¬3) لا يُغْنِي عن اليَمِينِ، فكذلك ما قام مَقامَه. 4977 - مسألة: (وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها للمُدَّعِى، في ظَاهِرِ المذهبِ. وعنه، إن شَهدَتْ بَيِّنةُ المُدَّعَى عليه أنَّها ¬

(¬1) في الأصل: «فيما». (¬2) في الأصل: «تقبل». (¬3) سقط من: م.

في مِلْكِهِ، أوْ قَطِيعَة مِنَ الإمَامِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ، وإلَّا فَهِىَ لِلْمُدَّعِى بِبَينتِهِ. وقَالَ الْقَاضِى فِيهِمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ بَيِّنةِ الدَّاخِلِ تَرْجِيحٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أبُو الخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَةٌ أخْرَى، أنَهَا مُقَدَّمَة بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ له، نُتِجَتْ في مِلْكِهِ، أو قَطِيعَةٌ مِن الإمَام، قُدِّمَتْ بَينتُه، وإلاَّ فهي للمُدَّعِى بِبَيِّنتِهِ. وقَالَ القَاضِى فيهما: إذا لم يكُنْ مع بَيِّنَةِ الدَّاخل تَرْجِيحٌ، لم يُحْكَم بها، رِوايَةً واحدَةً. وقال أبو الخَطَّابِ: فيه رِوايَة أخرَى، أنَّها مُقَدِّمَة بكلِّ حالٍ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن ادَّعى عَيْنًا في يَدِ غيرِه، فأنْكَرَه، وأقامَ كل واحدٍ منهما بَيِّنَةً، [حُكِمَ بها] (¬1) للمُدَّعِى ببَينتِه، وتُسَمَّى بَيِّنةَ الخَارِجِ، وبَينةُ المُدَّعَى عليه تُسَمَّى بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، وقد اخْتلَفَتِ الرِّوَايةُ عن أحمدَ، رَحِمه الله، فيما إذا تَعارَضَتا، فالمشْهُورُ عنه تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ المُدَّعِى، ولا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ المُدَّعَى عليه بحالٍ. وهذا اختِيارُ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ إسحاقَ. وعنه، رِوَايَةٌ ثانِيَةٌ, إن شَهِدَت بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ بسَبَبِ المِلْكِ، فقالت: نُتِجَتْ في مِلْكِه. أو: اشتَرَاها. أو: نَسَجَها. ¬

(¬1) في الأصل: «فهي».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو كانت بَيِّنَتُه أقْدَمَ تارِيخًا، قُدِّمَتْ، وإلَّا قُدِّمَتْ بَيِّنةُ المُدَّعِىِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ، وأبي ثَوْرٍ، في النِّتاجِ والنِّساجِ، فيما لا يتَكَرَّرُ نسْجُه، وأمَّا ما يتَكَرَّرُ نَسْجُه، كالخَزِّ والصوفِ، فلا تُسْمَعُ بَيِّنَتُه؛ لأنَّها إذا شَهِدَتْ بالسَّبَب، فقد أفادَت ما لا تُفِيدُه اليَدُ، وقد رَوَى جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - اخْتَصَمَ إليه رَجُلان في دَابَّةٍ أو بَعيرٍ، فأقَامَ كُلُّ واحدٍ منهما البَيِّنةَ [أنَّها له] (¬1)، أنْتَجَها، فقَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للذي هى في يَدِه (¬2). وذكرَ أبو الخَطَّابِ رِوايَةً ثالثةً، أنَّ بَيِّنةَ المُدَّعَى عليه تُقَدَّمُ بكُلِّ حالٍ. وهو قولُ شُرَيْح، والشَّعْبِى، والحَكَمِ، والشافعىِّ، وأبي عُبَيْدٍ، وقال: هو قولُ أهْلِ المدينةِ، وأهْلِ الشَّامِ. ورُوِىَ ذلك عن طاوُسٍ. وأنْكَرَ القاضى كَوْنَ هذا رِوايةً عن أحمدَ، وقال: لا تُقَدَّمُ بَمنةُ الدَّاخِلِ إذا لم تُفِدْ إلَّا ما أفادَتْه يدُه، رِوَايةً واحدةً. واحْتَجَّ مَن ذَهَب إلى تقْدِيم بَيِّنةِ المُدَّعَى عليه بأنَّ جَنَبَتَهُ أقْوَى؛ لأنَّ الأصْلَ معه، ويَمينُه تُقَدَّمُ على ¬

(¬1) في ق، م: «أنه». (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب المتداعيين يتنازعان. . . .، من كتاب الدعاوى والبينات. السنن الكبرى 10/ 256. والدارقطني، في: كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطني 4/ 209. والإمام الشافعي، انظر كتاب الأحكام والأقضية، من ترتيب المسند 2/ 180. وضعف إسناده في: تلخيص الحبير 4/ 210.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينِ المُدَّعِى، فإذا تَعارَضَتِ البَيِّنَتانِ، وَجَب إبْقاءُ يَدِه على ما فيها، وتَقْدِيمُه، كما لو لم تكُنْ بَيِّنَة لواحِدٍ منهما، وحديثُ جابرٍ يدُلُّ على هذا، فإنَّه إنَّما قَدَّمَ بَيِّنتَه ليَدِه. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى والْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬1). فجعَلَ جنْسَ البَيِّنةِ في (¬2) جَنَبَة المُدَّعِى، فلا يَبْقَى (¬3) في جَنَبةِ المُدَّعَى عليه بَيِّنَةٌ، ولأنَّ بَيِّنَةَ المُدَّعِى أكْثَرُ فائِدَةً، فوَجَب تَقْدِيمُها، كتقْدِيمِ بَيِّنَةِ الجَرْحِ على (¬4) التَّعْدِيلِ. ودليلُ كثْرَةِ فائِدَتِها، أنَّها تُثْبِتُ شيئًا لم يكُنْ، وبيِّنةُ المُنْكِرِ إنَّما تُثْبتُ ظاهرًا تدُلُّ اليدُ عليه، فلم تكُنْ مُفِيدَةً، ولأنَّ الشَّهادةَ بالملْكِ يجُوزُ أنْ يَكونَ مُسْتَنَدُها رُؤيَةَ اليَدِ والتَّصَرُّفَ، فإنَّ ذلك جائِز عندَ كَثيرٍ مِن أهْلِ العلمِ، فصارَتِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 252. (¬2) في م: «من». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «و».

4978 - مسألة: (وإن أقام الداخل بينة أنه اشتراها من الخارج، وأقام الخارج بينة أنه اشتراها من الداخل، فقال القاضى: تقدم بينة الداخل)

فَإِنْ أقامَ الدَّاخِلُ بَيِّنَةً أنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْخَارِجِ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقَالَ القَاضِى: تُقَدُّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. وَقِيلَ: تُقَدَّمُ بَينّةَ الْخَارِجِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَينّةَ بمنْزِلَةِ اليَدِ المُفْرَدَةِ، فتُقَدَّمُ عليها بَيِّنَةُ المُدَّعِى، كما تُقَدَّمُ اليَدُ، كما أنَّ شاهِدَىِ الفَرْعِ لمّا كانا مَبْنِيَّين على شاهِدَىِ الأصلِ، لم تَكُنْ لهما مَزِيَّة عليهما. فصل: وأىُّ البَينتَينِ قدَّمْنَاها, لم يَحلِفْ صاحِبُها. وقال الشافعيُّ في أحَدِ قَوْلَيْه: يُستَحلفُ صَاحِبُ اليَدِ؛ لأنَّ البَيِّنَتَيْن سَقَطَا بتَعارُضِهِما، فصَارَتَا كمَنْ لا بَيِّنَةَ لهما، فيَحْلِفُ الدَّاخِلُ كما لو لم تكُن لواحِدٍ منهما بَيِّنَةٌ. ولَنا، أنَّ إحْدَى البَيِّنَتَيْن راجِحةٌ، فيَجبُ الحُكْمُ بها مُنْفرِدَةً، كما لو تَعارَضَ خَبَران، خَاصٌّ وعامٌّ، أو أحَدُهما أرجَحُ بوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ البَيِّنَةَ الرّاجِحَةَ تَسْقُطُ، وإنَّما ترْجُحُ، ويُعْمَلُ بها، وتَسْقُطُ المَرْجُوحَةُ. 4978 - مسألة: (وإن أقامَ الدَّاخِلُ بينةً أنَّهُ اشْتَراها مِن الخارِجِ، وأقام الخارِجُ بَيِّنَةً أنَّه اشْتَرَاهَا مِن الدَّاخِلِ، فقال الْقَاضِى: تُقَدِّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ) لأنَّه الخارِجُ في المَعْنَى (وقِيل: تُقَامُ بَيِّنَةُ الخَارِجِ) لقَوْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِى» (¬1). فصل: إذا ادَّعَى الخارِجُ أنَّ العَيْنَ مِلْكُه، وأنَّه أوْدَعَها للدَّاخِلِ, أوْ أعارَه إيَّاها، أو أجَرَها منه، ولم يكُنْ لوَاحِدٍ منهما بَيِّنَةٌ، فالقَوْلُ قوْلُ المُنْكِرِ مع يَمِينِه، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الخارِجِ. وهو قَوْلُ الشافعىِّ. وقال القاضى: بَيِّنةُ الدَّاخِلِ مُقَدَّمَة؛ لأنَّه هو الخارِجُ في المَعْنَى، كالمسْألَةِ قبلَها؛ لأنَّه ثَبَتَ أنَّ المُدَّعِىَ صاحِبُ اليَدِ، فإنَّ يَدَ الدَّاخِلِ نائِبَةٌ عنه. ولَنا، قولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى». [ولأنَّ اليَمِينَ في حَقِّ] (¬2) المُدَّعَى عليه، فتكونُ البَيِّنَةُ للمُدَّعِى، كما لو لم يَدَّعِ الإيداعَ، يُحَقِّقُه أنَّ دَعْواه الإيداعَ زِيَادَة في حُجَّتِه، وشَهادَةَ البَيِّنةِ بها تقْوِيَة لها، فلا يجوزُ أن تكونَ مُبْطِلَةً لبَيِّنَتِه. وإنِ ادَّعَى الخارِجُ أنَّ الدَّاخِلَ غصَبَه إيَّاها، وأقاما بَيِّنَتَيْن، [قُضِىَ للخارِجِ] (¬3). ويَقْتَضِى قولُ القاضِى أنَّها للدَّاخِلِ. والأوْلَى ما ذَكَرْناه. ¬

(¬1) بعده في الأصل: «وقيل تقدم بينة الخارج». (¬2) في م: «واليمين على». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن كان في يَدِ رَجُلٍ جِلْدُ شاةٍ مَسْلوخَةٍ، ورَأسُها وسوَاقِطُها وبَاقِيها في يَدِ آخَرَ، فادَّعَاها كُل واحدٍ منهما جميعَها (¬1)، ولا بَيِّنَةَ لَهما ولا لأحَدِهما، فلكلِّ واحدٍ منهما ما في يَدِه مع يَمِينِه. وإن أقاما بَيِّنَتَيْن، وقُلْنا: تقَدَّمُ بَيِّنَةُ [لخارجِ. فلكلِّ واحدٍ منهما ما في يدِ صاحبِه. وإن قُلْنا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ] (¬2) الدَّاخِلِ. فلكُلِّ واحِدٍ منهما ما في يَدِه مِن غيرِ يَمِينٍ. فصل: فإن كان في يَدِ كلِّ واحِدٍ منهما شاةٌ، فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّ الشَّاةَ التي في يَدِ صاحِبِه له، ولا بَيِّنةَ لهما، حَلَفَ كلُّ واحدٍ منهما لصاحِبِه، وكانتِ الشَّاةُ التي في يَدِه له. وإن أقاما بَيِّنتَيْن، فلكلِّ واحدٍ منهما الشَّاةُ التي في يَدِ صاحِبِه، ولا تَعارُضَ بينَهما. وإن كان كلُّ واحدٍ ¬

(¬1) في الأصل: «جميعًا». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: هذه الشَّاةُ التي في يَدِكَ لي، مِن نِتاجِ شَاتِى هذه. فالتَّعَارُضُ في النِّتَاجِ، لا في المِلْكِ. وإنِ ادَّعَى كلُّ (¬1) واحدٍ منهما أنَّ الشاتَيْن له دُونَ صاحِبِه، وأقاما بَيِّنَتَيْن، تَعارَضَتا، وانْبَنَى ذلك على القَوْلِ في بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ والخَارِجِ، فَمَنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الخَارِجِ، جعلَ لكلِّ واحدٍ منهما ما في يَدِ الآخَرِ، ومَنْ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، أو قَدَّمَها إذا شَهِدَتْ بالنِّتاجِ، جعلَ لكلِّ واحدٍ منهما ما في يَدِه. فصل: إذا ادَّعَى زَيْدُ شاةً في يَدِ عمرو، وأقامَ بها بَيِّنَةً، فحَكَم له (¬2) بها حَاكِمٌ، ثم ادَّعاها عمرو على زيدٍ، وأقامَ بها بَيِّنَةً؛ فإن قُلْنا: بَيِّنَةُ الخارِجِ مُقَدَّمَةٌ. لم تُسْمَعْ بَيِّنةُ عمرو؛ لأنَّ بَيِّنَةَ زَيْدٍ مُقَدَّمَة عليها. وإنْ قُلْنا: بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ مُقَدَّمَة. نظَرْنا في الحُكْمِ كيف وقَعَ؛ فإن كان حكمَ بها لزِيدٍ لأنَّ عمْرًا لا بَيِّنةِ له، رُدَّتْ إلى عمرو؛ لأنّه قد قامَتْ له بَيِّنَة، واليدُ كانَت له، وإن كان حَكَم بها لزيدٍ لأنَّه يرى تَقْديمَ بَيِّنَةِ الخَارِجَ، لم يُنْقَضْ حُكْمُه؛ لأنَّه حَكَمَ بما يسُوغُ الاجْتِهادُ فيه. وإن كانت بَيِّنَةُ عمرو قد شَهِدَت له أيضًا، ورَدَّها الحاكِمُ لفِسْقِها، ثم عُدِّلَتْ، لم يُنْقَضِ الحُكْمُ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا؛ لأنَّ الفَاسِقَ إذا شَهِدَ عندَ الحاكمِ بشَهادَةٍ فرَدَّها لِفسْقِه، ثم أعادَها بعدُ، لم تُقْبَلْ. وإن لم يُعْلَمِ الحُكْمُ كيف كان، لم يُنْقَضْ؛ لأَّنَّه حُكْمُ حاكمٍ، الأصْلُ جَرَيانُه على العَدلِ والصِّحَّةِ، فلا يُنْقَضُ بالاحْتِمالِ. وإن جاء ثالِثٌ، فادَّعاها، وأقامَ بها بَيِّنةً، فبَيِّنتُه وبَيِّنةُ زيدٍ مُتَعارِضَتَان، ولا يَحْتاجُ زيدٌ إلى إقامَةِ بَيِّنةٍ؛ لأنَّها قد شَهِدَتَ مَرَّةً، وهما سواءٌ في الشَّهادَةِ حالَ التَّنازُعِ، فلم يَحْتَجْ إلى إعادَتِها، كالبَيِّنةِ إذا شَهِدَتْ، ووَقَف الحُكْمُ على البَحْثِ عن حالِها، ثم بانَتْ عَدَالَتُها، فإنَّها تُقْبَلُ، ويُحْكَمُ بها مِن غيرِ إعادَةِ شَهادَتِها (¬1)، كذا ها هُنا. فصل: وإذا كان في يَدِ رَجُلٍ شاةٌ، فادَّعاها رَجُل أنَّها له منذ سنَةٍ، وأقامَ بذلك بَيِّنَةً، وادَّعَى الذي هي في يَدِه أنَّها في يَدَيْه منذُ سَنَتَيْن، وأقامَ بذلك بَيِّنَةً، فهي للمُدَّعِى، بغيرٍ خِلافٍ؛ لأنَّ بَيِّنَتَه تَشْهَدُ له بالمِلْكِ، وبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ تَشْهَدُ باليَدِ خاصَّةً، فلا تعارُضَ بينَهما؛ لإمْكانِ الجَمْعِ بينَهما، بأن تكونَ اليَدُ عن غيرِ مِلْكٍ، فكانت بَيِّنَةُ المِلْكِ أوْلَى. وإن شَهِدَتْ بَيِّنَتُه بأنَّها مِلْكُه منذ سَنَتَيْن، فقد تَعارَضَ تَرْجِيحَان، تَقْديمُ التَّارِيخِ مِن بَيِّنَةَ الدَّاخلِ، وكَوْنُ الأخْرَى بَيِّنَةَ الخارِجِ، ففيه رِوايَتان؛ إحدَاهما، تُقَدَّمُ بَيِّنةُ الخَارِجِ. وهو قَوْل أبي يوسفَ، ومحمدٍ، وأبي ثَوْرٍ. ¬

(¬1) في الأصل، م: «شهادتهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَقْتَضِيه عُمومُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لقَوْلِه عليه الصلاةُ والسلامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى» (¬1). ولأنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ يجوزُ أن يكونَ مُسْتَنَدُها اليَدَ، فلا تُفِيدُ أكثرَ ممَّا تُفِيدُه اليَدُ، فأشْبَهَتِ الصُّورَةَ الأولَى. والثانيةُ، تُقَدَّمُ بَيِّنةُ الدَّاخِلٍ. [وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعىِّ؛ لأنَّها تَضَمَّنَتْ زِيادَةً. وإن كانتْ بالعَكْسِ، فشَهِدَتْ بَيَنَةُ الدَّاخِلِ] (¬2) أنَّه يَمْلِكُها منْذُ سَنَةٍ، وشَهِدَتْ بَينهُ الخارِجِ أنَّه يَمْلِكُها منذُ سَنَتَيْن، قُدِّمتْ بَيِّنَةُ الخارِجِ، إلُّا على الرِّوايةِ التي تُقَدَّمُ فيها بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، فيُخَرَّجُ فيها وَجْهان، بِناءً على الرِّوَايَتَيْن في التي قبلَها. وظَاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ على كلِّ حالٍ. وقال بعضُهم: فيها قَوْلان. فإنِ ادَّعَى الخارِجُ أنَّها مِلْكُه منذُ سَنَةٍ، وادَّعَى الدَّاخِلُ أنَّه اشْتَرَاها منه منذُ سَنَتَيْن، وأقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ. ذكَرَه القاضى. وهو قَوْلُ أبي ثَوْرٍ. فإنِ اتَّفَقَ تارِيخُ البَيِّنتَيْن، إلَّا أنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ تَشْهَدُ بنِتَاجٍ، أو شِراءٍ، أو غَنِيمةٍ، أو إرْثٍ، أو هِبَةٍ مِن مالكٍ، أو قَطِيعَةٍ مِن الِإمامِ، أو سَبَبٍ مِن أسْبابِ المِلْكِ، ففي أيِّهما تُقَدَّمُ رِوَايَتان (¬3) ذَكَرْناهُما. فإنِ ادَّعَى أحدُهما (¬4) أنَّه اشْتَراها مِن الآخَرِ، قُضِىَ له بها؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الابتِياعِ شَهِدَتْ بأمْرٍ حادِثٍ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 252. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في الأصل: «فيها وجهان». (¬4) سقط من: ق، م.

فَصْل: الْقِسْمُ الثَّانِي، أنْ تَكُونَ العَيْنُ في يَدَيْهِمَا، فَيَتَحَالَفَانِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَفِىَ على البَيِّنةِ الأخْرَى، فقُدِّمَتْ عليها، كما تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الجَرْحِ (¬1) على التَّعْدِيلَ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (القسمُ الثاني، أن تكونَ العَيْنُ في يَدَيْهِما، فيَتَحالَفان، وتُقْسَمُ بينَهما) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا تَنازَعَ نَفْسانِ في عَيْن في أيدِيهما، فادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّها له دُونَ صاحِبِه؛ ولم تكنْ لهما بَيِّنَة، حَلَف كلُّ واحدٍ منهما لصاحِبِه، وجُعِلَتْ بينَهما نِصْفَيْن. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّ يَدَ كُلِّ واحدٍ منهما على نِصْفِها، والقَوْلُ قولُ صَاحِبِ اليَدِ مع يَمِينِه. وإن نَكَلا جَمِيعًا عن اليَمِينِ، فكذلك؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَسْتَحِقُّ ما في يَدِ الآخَرِ بنُكُولِه. وإن نَكَل أحَدُهما، وحَلَف الآخَرُ، قُضِىَ له بجَمِيعِها؛ لأَّنَّه يَسْتَحِقُّ ما في يَدِه بيَمِينه، وما في يَدِ الآخَرِ. بنُكُولِه، أو بيَمِينِه التي رُدَّتَ عليه بنُكُولِ صَاحِبِه. [وإن كان لأحَدِهما بَينةٌ دُونَ الآخَرِ، حُكِمَ له بها، بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه؛ لأنَّه تَرَجَّحَ بالبَيِّنَةِ] (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «الخارج». (¬2) سقط من: الأصل.

4979 - مسألة: (وإن تنازعا مسناة

وإنْ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أحَدِهِمَا وَأرْضِ الْآخَرِ، [341 و] تَحَالَفَا، وَهِيَ بَيْنَهُمَا. وإنْ تَنَازَعَا صَبِيًّا في يَدَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4979 - مسألة: (وَإن تَنازَعا مُسَنَّاةً (¬1) بينَ نهْرِ أحَدِهما وأرْضِ الآخَرِ، تَحالَفا، وهي بينَهما) لأنَّها حاجِز بينَ مِلْكَيْهِما، فكانتْ يَدُهما عليه، كما لو تَنازَعا حائطًا بينَ دَارَيْهما. وفي كلِّ مَوْضِعٍ قُلْنا: هو بَيْنَهما نِصْفَيْن. إنَّما يَحْلِفُ كلُّ واحدٍ منهما على النِّصْفِ الذي يجْعَلُه له دونَ ما لا يحْصُلُ له. 4980 - مسألة: (وإن تَنازَعا صَبِيًّا في يَدَيْهِما، فكذلك) لأنَّ ¬

(¬1) المُسَنَّاة: سد يبني لحجز ماء السيل أو النهر، به مفاتيح للماء تفتح على قدر الحاجة.

وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، فَقَالَ: إنِّي حُرُّ. فَهُوَ حُرُّ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَة بِرِقِّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَالطِّفْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدَيْهما عليه، واليَدُ دَلِيلُ المِلْكِ، والطِّفْلُ لا يُعَبِّرُ عن نفْسِه، فهو كالبَهِيمَةِ والمتاعِ، إلَّا أن يُعْرَفَ (¬1) أنَّ سَبَبَ يَدِه غيرُ المِلْكِ، مثلَ أن يَلْتَقِطَه، فلا تُقْبَلُ دَعْواه لرِقِّه؛ لأنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بحُرِّيته، فأمَّا غيرُه فقد وُجِدَ فيه دليلُ المِلْكِ مِن غيرِ مُعارِض، فيُحْكَمُ برِقه. فعلى هذا، إذا بَلَغ، فادَّعَى الحُرِّيَّةَ، لم تُسمَعْ دَعْواهُ؛ لأنَّه مَحْكُومٌ برِقِّه قبلَ دَعْواهُ (فأمَّا إن كان مُمَيِّزًا، فقال: إنِّي حُرٌّ) مُنِعا منه (إلَّا أن تَقُومَ بَيِّنَةٌ برِقِّه) لأنَّ الظَّاهِرَ الحُرِّيّةُ، وهي الأصْلُ في بَنِي آدَمَ، والرِّق طارِئٌ عليها، فإن كان له بَيِّنَةٌ، قُدِّمتِ البَيِّنَةُ؛ لأنّها تُقَدّمُ على الأصْلِ؛ لأنَّها تَشْهَدُ بزِيادَةٍ (ويَحْتَمِلُ أن يكونَ كالطِّفْلِ) فيكونُ بينَهما؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، أشْبَهَ الطِّفْلَ. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ المُمَيِّزَ يَصِحُّ تَصَرُّفُه بالوَصِيَّةِ، ويلْزَمُ بالصّلاةِ، أشْبَهَ البَالِغَ، ¬

(¬1) في ق، م: «يعترف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه يُعْرِبُ عن نَفْسِه في دَعْوَى الحُرِّيَّةِ، أشْبَهَ البَالِغَ. فأمَّا البالِغُ إذا ادَّعَى رِقَّه فأنْكَرَ، لم يَثْبُتْ رِقُّه إلَّا ببَيِّنَةٍ. وإن لم تكُنْ له بَيِّنَة، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمِينِه في الحُرِّيةِ؛ لأنَّها الأصْلُ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأصحابِ الرأىِ. فإنِ ادَّعَى رِقَّه اثْنَانِ، فأقرَّ لهما بالرِّقِّ، ثَبَتَ رِقُّه. فإنِ ادَّعاه كلُّ واحدٍ منهما لِنَفْسِه، فاعْتَرَفَ لأحَدِهما، فهو لمَن اعْتَرَفَ له. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: يكونُ بينَهما نِصْفَيْن؛ لأنَّ يَدَهما عليه، فأشْبَهَ الطِّفْلَ والثَّوْبَ. ولَنا، أنَّه إنَّما ثَبَتَ رِقُّه باعْتِرافِه، فكان مَمْلُوكًا لمَن اعْتَرَفَ له، كما لو لم تكُنْ يَدُه عليه. ويُخالِفُ الثوْبَ والطِّفْلَ؛ فإنَّ المِلْكَ حَصَلَ فيهما باليَدِ، وقد تَساوَيا فيها، وَها هُنا حصَلَ بالاعْتِرَافِ، وقد اخْتَصَّ به أحَدُهما، فكان مُخْتَصًّا به. فإن أقامَ كُلُّ واحِدٍ منهما (¬1) بَيِّنَةً أنَّه مَمْلُوكُه، تعارَضَتا، وسَقَطَتا، ويُقْرَعُ بينَهما، أو يُقْسَمُ بينَهما، على ما مَرَّ مِن التفْصِيل. فإن قُلْنا بسُقُوطِهما, ولِم يَعْتَرِفْ لهما بالرِّقِّ، فهو حُرٌّ، وإنِ اعْتَرَفَ لأحَدِهما، فهو لمن اعْتَرَف له، وإن أقَرَّ لهما معًا، فهو بينَهما؛ لأن البَيِّنَتَيْن سَقَطَتا، فصارَتَا كالمعْدُومَتَيْن. وإن قُلْنا بالقُرْعَةِ أو بالقِسْمَةِ، فأنْكَرَهما، لم يُلْتَفَتْ إلى إنْكارِه، وإنِ اعْتَرَفَ لأحَدِهما، لم يُلْتَفَتْ إلى اعْتِرافِه؛ لأنَّ رِقَّه ثابِتٌ بالبَيِّنَةِ، فلم يبْقَ له يَدٌ على نَفْسِه، كما قُلْنا فيما إذا ادَّعَى رَجُلان دارًا في يَدِ ثَالثٍ، وأقامَ كُلُّ واحدٍ ¬

(¬1) سقط من: م.

4981 - مسألة: (وإن كان لأحدهما بينة، حكم له بها)

فَإنْ كَانَ لِأحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ، قُدِّمَ أسْبَقُهُمَا تَارِيخًا، فَإنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا، وَأطْلِقَتِ الأخْرَى، فَهُمَا سَوَاءٌ. ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ المُطْلَقَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيِّنَةً أنها مِلْكُه، واعْتَرَفَ أنَها ليستْ له، ثم أقَرَّ بها (¬1) لأحَدِهما، لم يُرَجَّحْ بإقْرارِه. 4981 - مسألة: (وإن كان لأحدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها) لأنَّه تَرَجَّحَ بالبَيِّنةِ (وإن كان لكلِّ واحدٍ) منهما (بَيِّنَة، قُدِّمَ أسْبَقُهما تارِيخًا، فإن وُقِّتَتْ إحْدَاهُما، وأطلقَتِ الأخرى، فهما سَواء. ويَحْتَمِلُ تَقْدِيمُ المُطْلَقَةِ) أنا إذا أقامَ كل واحدٍ منهما بَيِّنَةً، وتَساوَتا، تعارَضَتا، وقُسِمَتِ العَيْنُ بينَهما نِصْفَيْن. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأىِ؛ لِما رَوَى أبو موسى، أنَّ رَجُلَيْن اخْتَصَما إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعيرٍ، فأقامَ كلُّ واحدٍ منهما شاهِدَيْن، فقَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالبَعيرِ بينَهما نِصْفيْن. رَواه أبو داودَ (¬2). ولأنَّ كلَّ واحدٍ منهما داخِلٌ في نِصْفِ العَيْنِ، خارِجٌ في نِصْفِها، فتُقَدَّمُ بَيِّنةُ كلٌ واحِدٍ منهما ¬

(¬1) في ق، م: «أنهما ليست له، ثم أقر أنهما». (¬2) في: باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست بينهما بينة، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 278، 279. كما أخرجه النسائي، في: باب في من لم تكن له بينة، من كتاب الأقضية. المجتبى 8/ 217. وابن ماجه، في: باب الرجلان يدعيان السلعة وليس بينهما بينة، من كتاب الأحكام. منن ابن ماجه 2/ 780. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 402. والبيهقى، في: باب المتداعيين يتنازعان. . . .، من كتاب الدعاوى والبينات. السنن الكبرى 10/ 254. وانظر الكلام عليه في تلخيص الحبير 4/ 208، 209.

4982 - مسألة: وإن كانت إحداهما متقدمة التاريخ، قدمت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما في يَدِه، عندَ مَن يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الدَّاخِل، وفيما في يَدِ صَاحِبِه، عندَ مَن يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الخَارِجِ، فيَسْتَوِيان على كلْ واحِدٍ مِن القَوْلَيْن. 4982 - مسألة: وإن كانتْ إحداهُما مُتَقَدِّمةَ التَّارِيخِ، قُدِّمَت (¬1) وحُكِمَ بهَا (¬2)، مثلَ أن تَشْهَدَ إحْداهُما أنَّها له منذُ سنةٍ، وتَشْهَدَ الأخْرَى أنَّها للآخَرِ منذُ سَنَتَيْن، فتُقَدَّمُ أسْبَقُهما تارِيخًا. قال القاضى: هو قِياسُ المذهبِ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَىِ الشافعيِّ؛ لأن المُتَقَدِّمَةَ التَّارِيخِ أثْبَتَتِ المِلْكَ له في وقْتٍ لم تُعارِضْه فيه البَيِّنَةُ الأخْرَى، فيَثْبُتُ المِلْكُ فيه، ولهذا له المُطالَبَةُ بالنَّماءِ في ذلك الزَّمانِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) بعده في م: «له».

4983 - مسألة: فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتَعارَضَتِ البَيِّنَتان في المِلْكِ في الحال، فسَقَطَتا، وبَقِىَ مِلْكُ السابِقِ تحتَ اسْتِدامَتِه، وأن لا يَثْبُتَ لغَيْرِه مِلْكٌ إلَّا مِن جِهَتِه. وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ التَّسْوِيَةُ بينَهما. وهو أحَدُ قَوْلَىِ الشافعيِّ. ووَجْهُه أنَّ الشاهِدَ بالمِلْكِ الحادِثِ أحَقُّ بالتَّرْجِيحِ؛ لجوازِ أن يَعْلَمَ به دُونَ الأوَّل، بدَلِيلِ أنَّه لو ذَكَر أنَّه اشْتَراه مِن الآخَرِ، أو وَهَبَه إيَّاه، لقدِّمَت بَيِّنَتُه اتِّفاقًا، فإذا لم يُرَجَّحَ بها، فلا أقَلَّ مِن التَّساوِى. وقولُهم: إنَّه يَثْبُتُ المِلْكُ في الزَّمانِ الماضِى مِن غيرِ مُعارَضَةٍ. قُلْنا: إنَّما يَثْبُتُ تَبَعًا لثُبُوتِه في الحالِ، ولو انْفَرَدَ بأن يَدَّعِىَ المِلْكَ في الماضي، لم تُسْمَعْ دَعْواه ولا بَيِّنَتُه. 4983 - مسألة: فإن وُقِّتَت إحداهُما وأطْلِقَتِ الأخْرَى، فهما

4984 - مسألة: (وإن شهدت إحداهما بالملك، والأخرى بالملك والنتاج، أو سبب من أسباب الملك، فهل ترجح بذلك؟ على وجهين)

وَإِنْ شَهِدَتْ إحْدَاهُمَا بِالْمِلْكِ، وَالأخْرَى بِالْمِلْكِ وَالنِّتاَجِ أَوْ سَبَبٍ مِنْ أسْبَابِ الْمِلْكِ، فَهَلْ تُقَدَّمُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْن. ـــــــــــــــــــــــــــــ سَواءٌ. ذَكَرَه القاضِى. ويَحْتَمِلُ أن يُحْكَمَ به لمَن لم (¬1) يُوَقِّتْ. قاله أبو الخَطَّابِ. وهو قولُ أبي يُوسُفَ، ومحمدٍ. ولَنا، أنَّه ليس في إحْداهما ما يَقْتَضِى التَّرْجِيحَ مِن تَقَدُّمِ المِلْكِ ولا غيرِه، فوَجَبَ اسْتِواؤُهما، كما لو أطلِقَا، أو اسْتَوَى تَارِيخُهما. 4984 - مسألة: (وإن شَهِدَتْ إحداهما بالمِلْكِ، والأخْرَى بالمِلْكِ والنِّتاجِ، أو سَبَبٍ مِن أسبابِ الملْكِ، فهل تُرَجَّحُ بذلك؟ على وَجْهَيْن) إحداهما، لا تُرَجَّحُ به. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّهما تَسَاوَتا فيما يَرْجِعُ إلى المُخْتَلَفِ فيه، وهو مِلْكُ العَيْنِ الآنَ، فوَجَبَ تَساوِيها ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

4985 - مسألة: (ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة، ولا الرجلان على الرجل والمرأتين، ويقدم الشاهدان على الشاهد واليمين، في أحد الوجهين)

وَلَا تُقَدَّمُ إِحْدَاهُما بكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَلَا اشْتِهَارِ العَدَالَةِ، وَلَا الرَّجُلَانِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَيُقَدَّمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، في أحَدِ الْوَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحُكْمِ. والثاني، تُقَدَّمُ بَيِّنةُ النِّتاجِ وما في مَعْناه. وهو مذهبُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّها تتَضَمَّنُ زِيادَةَ عِلْم، وهو مَعْرِفَةُ السَّبَبِ، والأخْرَى خَفِىَ عليها ذلك، فيَحْتَمِلُ أن تكونَ شَهادَتُها مُسْتَنِدَةً إلى مُجَرَّدِ اليَدِ والتَّصَرُّفِ، فتُقَدَّمُ الأولَى عليها، كتقديمِ بَيِّنةِ الجَرْحِ (¬1) على التَّعْدِيلِ. وهذا قَوْلُ القاضى فيما إذا كانتِ العَيْنُ في يَدِ غيرِهما. 4985 - مسألة: (ولا تُقَدَّمُ إحداهُما بكَثْرَةِ العَدَدِ، ولا اشْتِهارِ العَدَالَةِ، ولا الرَّجُلانِ على الرجلِ والمرأتَيْن، وَيُقَدَّمُ الشَّاهِدانِ على الشاهِدِ واليَمِينِ، في أحَدِ الوَجْهَيْن) لا تُرَجَّحُ إحْدَى البَينتَيْنِ بكَثْرَةِ العَدَدِ، واشْتهارِ العَدالةِ. وهو قَوْلُ أبي حنيفةَ، والشافعي. ويتَخَرَّجُ أنْ تُرَجَّحَ ¬

(¬1) في الأصل: «الخارج».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بذلك، مَأخُوذًا مِن قَوْلِ الخِرَقِىِّ: ويُقَدِّمُ الأعْمَى أوْثَقَهُما في نَفْسِه. وهذا قَوْلُ مالكٍ؛ لأنَّ أحَدَ الخَبَرَيْن يُرَجَّحُ بذلك، فكذلك الشهادَةُ؛ لأنَّها (¬1) خَبَرٌ، ولأنَّ الشَّهادَةَ إنَّما اعْتُبِرَتْ لغَلَبَةِ الظَّنِّ بالمَشْهُودِ به، وإذا محَرُ العَدَدُ أو قَوِيَتِ العَدالَةُ، كان الظَّنُّ أقْوَى. وقال الأوْزَاعِى: تُقْسَمُ على عدَدِ الشهودِ، فإذا شَهِد لأحَدِهما شاهِدان، وللآخَرِ أرْبعة، قُسِمَتِ العَيْنُ بينَهما أثْلاثًا؛ لأنَّ الشَّهادةَ سَبَبُ الاسْتِحْقاقِ، فتَوَزَّعَ الحقُّ عليها. ولَنا، أنَّ الشَّهادَةَ مُقَدَّرَة بالشَّرْعِ، فلا تَخْتَلِفُ بالزِّيادَةِ، كالدِّيةِ، بخِلافِ الخَبَر، فإَّنه مُجْتَهَدٌ في قَبُولِ خبَرِ الواحدِ دُونَ العَدَدِ، فرَجَحَ بالزِّيَادَةِ، والشَّهادَةُ مُتَّفَق فيها على خَبَرِ الاثْنَيْن، فصارَ الحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بهما دُونَ اعْتِبارِ الظَّنِّ، ألا تَرى أنَّه لو شَهِدَ النِّساءُ مُنْفَرداتٍ، لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُنَ، وإن كَثُرْنَ حتى صارَ الظَّنُّ بشَهادَتِهنَّ ¬

(¬1) في م: «ولأنها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أغْلَبَ مِن شهادةِ الذَّكَرَيْن؟ وعلى هذا لا تُرَجَّحُ شَهادَةُ الرَّجُلَيْن على شهادةِ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْن في المالِ؛ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ مِن البَيِّنَتَيْن حُجَّةٌ في المالِ، فإذا اجْتَمَعتا تَعارَضَتا. فأمَّا إن كان لأحَدِهما شاهِدان، وللآخَرِ شاهِدٌ، فبَذَلَ يَمِينَه معه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما (¬1)، يَتَعارَضان؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

4986 - مسألة: (وإذا تساوتا، تعارضتا، وقسمت العين بينهما بغير يمين. وعنه، أنهما يتحالفان، كمن لا بينة لهما. وعنه، أنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وأخذها)

وَإذاَ تًسَاوَتَا، تَعَارَضَتَا، وَقُسِمَتِ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَعَنْهُ، أنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. وَعَنْهُ، أنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ، حَلَفَ وَأخَذَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما حُجَّة بمُفْرَدِهِ، فأشْبَهَ الرَّجُلَيْن مع الرَّجُلِ والمرْأتَيْن. والثاني، يقَدَّمُ الشاهِدَان؛ لأنَّهما حُجَّة مُتَّفَق عليها، والشاهِدُ واليَمِينُ مُخْتَلَفٌ فيها (¬1)، ولأنَّ اليَمِينَ قَوْلُه لنَفْسِه، والبَينّةً الكامِلَةَ شَهادَةُ الأجْنَبِيَّيْن، فوَجَبَ تقْدِيمُها، كتَقْدِيمِها على يَمِينِ المُنْكِرِ. وهذا الوَجْهُ أصَح، إن شاءَ الله تعالى. وللشافعىِّ قَوْلان كالوَجْهَيْن. 4986 - مسألة: (وإذا تَساوَتا، تَعارَضَتا، وقُسِمَتِ العَيْنُ بينَهما بغيرِ يَمِينٍ. وعنه، أنَّهما يَتَحالَفان، كمن لا بَيِّنَةَ لهما. وعنه، أنَّه يُقْرَعُ بينَهما، فمَن قَرَع صاحِبَه، حَلَف وأخَذَها) وجملةُ ذلك، أنَّ البَيِّنَتَيْن إذا ¬

(¬1) في م: «فيهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَساوَتا، تَعارَضَتا، وقُسِمَتِ العَيْنُ بينَهما (¬1) نِصْفَيْن؛ لِما ذَكَرْنا مِن حديثِ أبي موسى، وما ذَكَرْناه مِن المعْنى. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ، هل يَحْلِفُ كلُّ واحدٍ منهما على النِّصْفِ المَحْكُومِ له به، أو يكونُ له مِن غيرِ يَمِينٍ؟ فرُوِىَ عنه (¬2) أنّه يَحْلِفُ. وهو الذي ذَكَرَه الخِرَقِىُّ؛ لأن البَيَّنتَيْن لما تَعارَضتا مِن غيرِ تَرْجِيح، وجَب إسْقاطُهما، كالخَبَريْن إذا تَعارَضا وتَساوَيا، وإذا سَقَطا، صار المُخْتَلِفان كمَن لا بَيِّنَةَ لهما، ويَحْلِفُ كلُّ واحدٍ منهما على النِّصْفِ المَحْكُومِ له به. وهذا أحَدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ، بِناءً على أنَّ اليَمِينَ تجِبُ على الداخِلِ مع بَيِّنَتِه، [وكلُّ واحدٍ منهما داخلٌ في نِصْفِها، فَيُحْكَمُ له به ببَيِّنَتِه] (¬3)، ويَحْلِفُ معها. والرِّواية الأخرَى، تُقْسَمُ بينَهما العَيْنُ مِن غيرِ يَمِينٍ. وهذا قَوْلُ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والقَوْلُ الثاني للشافعىِّ. وهو أصَحُّ، إن شاءَ اللهُ، للخَبَرِ والمعْنَى الذي ذَكَرْناه، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يَصِحُّ قِياسُ هاتَيْن البَيِّنتَيْن على الخَبَرَيْن المُتَساوِيَيْن؛ لأنَّ كلَّ بَيِّنَةٍ راجِحَةٌ في نِصْفِ العَيْنِ، على كلِّ واحِدٍ مِن القَوْلَيْن. وقد ذَكَرْنا أن البَيِّنةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الراجِحةَ (¬1) يُحْكَمُ بها مِن غيرِ يمِينٍ. وفيه رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّه يُقْرَعُ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، حَلَف أنَّها له، لا حَقَّ للآخَرِ فيها، وكانتِ العَيْنُ له، كما لو كانتْ في يَدِ غيرِهما. ذكرَ هذه الرِّوايَةَ أبو الخَطَّابِ. والأولَى أصَحُّ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى، للخَبَرِ والمَعْنى. ¬

(¬1) سقط من: م.

4987 - مسألة: (فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد، لم تسمع البينة على ذلك حتى يقول: وهي ملكه. وتشهد البينة به)

فَإنِ ادَّعَى أحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ، لَمْ تُسْمَعِ البَينةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ: وَهِيَ مِلْكُهُ. وَتَشْهَدَ [341 ظ] البَيِّنَةُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4987 - مسألة: (فإنِ ادَّعَى أحَدَّهما أنَّه اشْتَراها مِن زيدٍ، لم تُسْمَعِ البَيِّنَةُ على ذلك حتى يَقُولَ: وهي مِلْكُه. وتَشْهَدَ البَيِّنَةُ به) وجملةُ ذلك، أنَّه متى كان في يَدِ رَجُلٍ عَيْنٌ، فادَّعَى آخَرُ أنَّه اشْتَراها مِن زيدٍ، وهي ملْكُه، وأقامَ بذلك بَيِّنَةً، حُكِم له بها؛ لأنَّه ابْتاعَها مِن مالِكِها، وكذا إن شَهِدَتْ أنَّه باعَه إيَّاها وسَلَّمَها إليه، حُكِمَ له بها؛ لأنَّه لم يُسَلِّمْها إليه إلَّا وهي في يَدِه. وإن لم تَذْكُرْ إلَّا التّسْلِيمَ، لم يُحْكَمْ له (¬1) بها؛ لأنَّه ¬

(¬1) سقط من: م.

فَإنِ ادَّعَىِ أحَدُهُمَا انَهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ مِلْكُهُ، وَادَّعَى الآخَرُ أنهُ اشْتَرَاهَا مِنْ عَمْرٍو، وَهِيَ مِلْكُهُ، وَأقَامَا بِذَلِكَ بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُمْكِنُ أنْ يَبِيعَه ما لا يَمْلِكُه، فلا تُزالُ يدُ (1) صاحِب اليَدِ (فإنِ ادَّعَى أحَدُهما أنَّه اشْتَراها مِن زيدٍ، وهي مِلْكُه، وادْعَى الآخَرُ أنَّه اشْتَراها مِن عمرٍو، وهي مِلْكُه، وأقاما بذلك بَيِّنَتَيْن، تَعارَضَتا) فإن كانت في يَدِ أحَدِهما، انْبَنَى ذلك على الرِّوايَتَيْن في تَقْديمِ بَيِّنَةِ الخارِجِ والداخِل. فإن كانت في أيْدِيهِما، قُسِمَتْ بينَهما؛ لأنَّ بَيِّنَةَ كلِّ واحدٍ منهما داخِلَةٌ في أحَدِ النِّصْفَيْن، خارِجَةٌ عن النِّصْفِ الآخَرِ. وإن كانتْ في يَدِ أحَدِ البائِعَيْن، فأنْكَرَهما، وادَّعاها لنَفْسِه، فإن قُلْنا: تسْقُطُ البَيِّنَتان. حَلَف، وكانتْ له. وإن أقَرَّ بها لأحَدِهما، صارَ الدَّاخِلَ، إلاَّ أن يُقِرَّ له (¬1) بعدَ أن يَحْلِفَ أنَّها له. وإن قُلْنا: يُقَدَّمُ أحَدُهما بالقُرْعَةِ. فهي لمَن تَخْرُجُ له القُرْعَةُ مع يَمِينِه. وإن قُلْنا: تُقْسَمُ بينَهما. قُسِمَتْ، ورَجَع كلُّ واحِدٍ منهما بنِصْفِ ثَمَنِها. فإن كان المَبِيعُ ممّا يدْخُلُ في ضَمانِ المُشْتَرِى بنَفْسِ ¬

(¬1) سقط من: م.

4988 - مسألة: (وإن أقام أحدهما بينة أنها ملكه، وأقام الآخر بينة أنه اشتراها منه، أو أعتقه، قدمت بينه الثاني)

وَإِنْ أَقَامَ أحَدُهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَأقَامَ الآخَرُ بَيِّنَةً أنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، أَوْ وَقَفَهَا عَلَيْهِ، أَوْ اعْتَقَهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنتُهُ. وَلَوْ أقامَ رَجُل بَيِّنَةً أنَّ هَذِهِ الدَّارَ لأبِى، خَلَّفَهَا تَرِكَةً، وَأقَامَتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ العَقْدِ، أو كان المُشْتَرِى مُقِرًّا بقَبْضِه، فلا خِيارَ لواحِدٍ منهما ولا الرُّجوع بشئٍ مِن الثَّمَنِ؛ لاعْتِرافِه بسُقُوطِ الضَّمانِ عن البَائِعِ، وإن كان مِن المَكِيل والمَوْزُونِ، ولم يُقْبَضْ، فلكلِّ واحدٍ منهما الخِيارُ في الفَسْخِ والإمْضاءِ، فإنِ اخْتارَ أحَدُهما الفَسْخَ، لم يَتَوفَّرِ المَبِيعُ على الآخَرِ؛ لأنَّ البَائِعَ اثْنان. والله أعلمُ. 4988 - مسألة: (وإن أقامَ أحَدُهما بَيِّنَةً أنَّها مِلْكُه، وأقامَ الآخَرُ بَيِّنَةً أنَّه اشْتَراها منه، أو أعْتَقَه، قُدِّمَتْ بَينهُ الثَّانِي) لأنَّها تَشْهَدُ بأمْرٍ حادِثٍ على المِلْكِ، خَفِىَ على بَيِّنةِ المِلْكِ، ولا تَعارُضَ بينَهما، فيَثْبُتُ المِلْكُ للأوَّلِ والشِّراءُ منه للثاني. 4989 - مسألة: (وَلو أقامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أنَّ هذه الدَّارَ لأبِى، خَلَّفَهَا

امْرَأَتُهُ بَيِّنَةً أَنَّ أَبَاهُ أَصْدَقَهَا إِيَّاهَا، فَهِىَ لِلْمَرْأَةِ. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ، تَدَاعَيَا عَيْنًا فِى يَدِ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، حَلَفَ وَأَخَذَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرِكَةً، وأقامَتِ امْرأتُهُ بَيِّنَةً أنَّ أباه أصْدَقَها إِيَّاها، فهى للمرْأةِ) لِما ذَكَرْنا. فصل: قال، رَضِىَ اللهُ عنه: (القِسْمُ الثالثُ، تَداعَيا عَيْنًا في يَدِ غيرِهما، فإنَّه يُقْرَعُ بينَهما، فَمَنْ خرَجَتْ له القُرْعَةُ، حَلَف) أنَّها له (وأخَذَها) وجملةُ ذلك، أنَّ الرَّجُلَيْن إذا تَداعَيا عَيْنًا في يَدِ غيرِهما، ولا بَيِّنَةَ لهما، فأنْكَرَهما، فالقوْلُ قَوْلُه مع يَمِينِه، بغيرِ خِلافٍ. وإنِ اعْتَرَفَ أنَّه لا يَمْلِكُها، وقال: لا أعْرِفُ صاحِبَها. أو قال: هى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأحَدِكُما، لا أعْرِفُه عَيْنًا (¬1). أُقْرِعَ بينَهما، فمَنْ قَرَع صاحِبَه، حَلَف أنَّها له، وسُلِّمَتْ إليه؛ لِما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلَيْن تَداعَيا عَيْنًا، لم تَكُنْ لواحِدٍ منهما بَيِّنَة، فأمَرَهما النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَسْتَهِمَا على اليَمِينِ، أحَبَّا أم كَرِهَا. روَاه أبو داودَ (¬2). ولأنَّهما تَساوَيا في الدَّعْوى، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في: باب الرجلين يدعيان شيئا وليست بينهما بينة، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 279. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب الرجلان يدعيان السلعة وليس بينهما بينة، وباب القضاء بالقرعة، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 780، 786. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 489، 524.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بَيِّنَةَ لواحِدٍ منهما ولا يدَ، والقُرْعَةُ تُمَيِّزُ عندَ التَّساوِى، كما لو أعْتَقَ عَبِيدًا لا (¬1) مالَ له غيرُهم في مَرَضِ مَوْتِه. ¬

(¬1) في م: «إلا».

4990 - مسألة: (فإن كان المدعى عبدا، فأقر لأحدهما، لم يرجح بإقراره)

فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَبْدًا، فَأَقَرَّ لأَحَدِهِمَا، لَمْ يُرَجَّحْ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ لأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَة، تَعَارَضَتَا، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4990 - مسألة: (فإن كان المُدَّعَى عَبْدًا، فأقَرَّ لأحَدِهما، لم يُرَجَّحْ بإقْرارِه) لأنَّه محْجُوزٌ عليه، أشْبَهَ الطِّفْلَ (فإن كانت لأحَدِهما بَيِّنَة، حُكِمَ له بها) بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. 4991 - مسألة: (وَإن كانَت لكلِّ واحدٍ) منهما (بَيِّنَة) فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهما أبو الخَطَّابِ؛ إحْداهما، تَسْقُطُ البَيِّنَتان، ويَقْتَرِعُ المُدَّعِيَان على اليَمِينِ، كما لو لم تكُنْ بَيِّنةٌ. هذا الذى ذَكَرَه القاضى. وهو ظاهِرُ كَلام الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه ذَكَر القُرْعَةَ، ولم يُفَرِّقْ بينَ أن تكونَ معها بَيِّنَة أو لم تَكُنْ. رُوِىَ هذا عن ابنِ عمرَ، وابنِ الزُّبَيْرِ. وبه قال إسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ. وهو رِوايَةٌ عن مالكٍ، وقَدِيمُ قَوْلِ الشافعىِّ؛ لِما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رَوَى ابنُ المُسَيَّبِ، أنَّ رَجُلَيْن اخْتَصَما إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، في أمْرٍ (¬1)، وجاءَ كلُّ واحدٍ منهما بشُهُودٍ عُدُولٍ، على عِدَّةٍ واحِدَةٍ، فأسْهَمَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما. رَواه الشافعىُّ في «مُسْنَدِه» (¬2). ولأنَّ البَيِّنَتَيْن حُجَّتان تَعارَضَتا، مِن غيرِ تَرْجِيح لإِحْدَاهما على الأُخْرَى، فسَقَطَتا، كالخَبَرَيْن. والرِّوايَةُ الثَّانِيَةُ، تُسْتَعْملُ البَيِّنَتان. وفى كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمالِهما رِوايَتان؛ إحْداهما، تُقْسَمُ العَيْنُ بينَهما (¬3). وهو قَوْلُ الحارثِ العُكْلِىِّ، وقَتادةَ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وحَمَّادٍ، وأبى حنيفةَ، وقَوْلٌ للشَّافِعِىِّ؛ لِما ذَكرْنا مِن حديثِ أبى موسى، ولأنَّهما تَساوَيا في دَعْواه، فتَساوَيا في قِسْمَتِه. والرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، تُقَدَّمُ إحْدَاهما بالقُرعةِ (¬4). وهو قَوْلٌ للشافعىِّ. وله قَوْلٌ رابعٌ، يُوقَفُ الأمْرُ حتى يتبيَّنَ. وهو قَوْلُ أبى ثَوْرٍ؛ لأنَّه اشْتَبَهَ (¬5) الأمْرُ، فوَجَبَ ¬

(¬1) في ق، م: «امرأة». (¬2) وأخرجه أبو داود، في: المراسيل 203. والبيقى، في: باب المتداعيين يتداعيان. . . .، من كتاب الدعاوى والبينات. السنن الكبرى 10/ 259. ووصله الطبرانى، في: الأوسط عن أبى هريرة. وهو ضعيف. ولم نجده في مسند الإمام الشافعى. انظر مسند الإمام الشافعى بحاشية الأم 6/ 253. وانظر: نصب الراية 4/ 108، تلخيص الحبير 4/ 210. (¬3) في الأصل: «اليمين». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «أشبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّوَقُّفُ، كالحَاكِمِ إذا لم يَتَّضِحْ له الحُكْمُ في قَضِيَّةٍ. ولَنا، خَبَرُ أبى موسى، وخَبَرُ ابنِ المُسَيَّبِ، ولأنَّ تَعارُضَ الحُجَّتَيْن لا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، كالخَبَرَيْن (¬1)، بل إذا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ أسْقَطْناهما، ورَجَعْنا إلى دَلِيلٍ غيرِهما. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّنا (¬2) إذا أسْقَطْنا البَيِّنَتَيْن، أقْرَعْنا بينَهما، فمَن خَرَجَت له القُرْعَةُ، حَلَف وأخَذَها (¬3)، كما لو لم تَكُنْ لهما بَيِّنَةٌ. وإن قُلْنا: يُعْمَلُ بالبَيِّنَتَيْن، ويُقْرَعُ بينَهما. فمَن خَرَجَت له القُرْعَةُ، أخَذَها مِن غيرِ يَمِينٍ. وهذا قَوْلُ الشافعىِّ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تُغْنِى عن اليَمِينِ. وقال أبو الخَطَّابِ: عليه اليَمِينُ مع بَيِّنَتِه، تَرْجِيحًا لها. وعلى هذا القَوْلِ تكونُ هذه الرِّوَايةُ كالأُولى، وإنَّما يَظْهَرُ اخْتِلافُ الحُكْمِ في شئ آخَرَ، سَنَذْكُرُه، إن شاء اللهُ تعالى. ¬

(¬1) في الأصل: «كالخبر». (¬2) في ق، م: «فأما». (¬3) في الأصل: «أخذهما».

4992 - مسألة: (فإن أقر صاحب اليد لأحدهما، لم يرجح)

فَإِنْ أَقَرَّ صَاحِبُ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَتَرَجَّحْ بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أنْكَرَهما مَن العَيْنُ في يَدِه، وكانت لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها. وإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةً. فإن قُلْنا: تُسْتَعْمَلُ البَيِّنَتان. أُخِذَتِ العَيْنُ مِن يَدِه، وقُسِمَتْ بينَهما، على قَوْلِ مَن يَرَى القِسْمَةَ، أو (¬1) تُدْفَعُ إلى مَن تَخْرُجُ له القُرْعَةُ، عندَ مَن يَرَى ذلك. وإن قُلْنا: تَسْقُطُ البَيِّنَتَان. حَلَف صاحِبُ اليَدِ، وأُقِرَّتْ في يَدِه، كما لو لم تَكُنْ لهما بَيِّنَةٌ. 4992 - مسألة: (فإن أقَرَّ صاحِبُ اليَدِ لأحَدِهما، لم يُرَجَّحْ) بإقْرارِه، إذا قُلْنا: لا تَسْقُطُ البَيِّنَتان. لأنَّه قد ثبتَ زَوالُ مِلْكِه، فصارَ كالأجْنَبِىِّ. وإن قُلْنا بسُقُوطِهما، فأقَرَّ بها لهما أو لأحَدِهما، ¬

(¬1) في م: «و».

4993 - مسألة: (وإن ادعاها صاحب اليد لنفسه)

وَإِنِ ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْيَدِ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ القَاضِى: يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهِىَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلْ يُقْرَعُ بَيْنَ المُدَّعِيَيْنِ، فَتَكُونُ لِمَنْ تَخْرُجُ لَهُ الْقُرْعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قُبِلَ إقْرارُه. فأمَّا إنْ أقَرَّ بها في الاْبتِدَاءِ لأحَدِهما، صارَ المُقَرُّ له صاحِبَ اليَدِ؛ لأنَّ مَن هى في يَدِه مُقِرٌّ بأنَّ يدَه نائِبَةٌ عن يَدِه. وإن أقَرَّ لهما جميعًا، فاليَدُ لكلِّ واحدٍ منهما في الجُزْءِ الذى أقَرَّ له به؛ لذلك. 4993 - مسألة: (وإنِ ادَّعاها صاحِبُ اليَدِ لنَفْسِه) وقُلْنا بسُقُوطِ البَيِّنَتَيْن (حَلَف لكلِّ واحِدٍ منهما، وهى له) وهو قَوْلُ القاضى؛ لأنَّه صاحِبُ اليَدِ، وهو مُنْكِرٌ، فلَزِمَتْه اليَمِينُ؛ لقَوْلِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» (¬1) (وقال أبو بكرٍ: بل يُقْرَعُ بينَ المُدَّعِيَيْنِ، فتكونُ لمَن تخْرُجُ له القُرْعَةُ) وهذا يَنْبَنِى على أنَّ البَيِّنَتَيْن إذا تَعارَضَتا لا يَسْقُطان، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فرَجُحَتْ إحْدَى البَيِّنَتَيْن بالقُرْعَةِ، كما لو أقَرَّ صاحِبُ اليَدِ أنَّها لأحَدِهما لا يَعْلَمُه بِعَيْنِه. فصل: إذا تَداعَيا عيْنًا في يَدِ غيرِهما، فقال: هى لأحدِ كما لا أعْرِفُه عيْنًا. أو قال: لا أعْرِفُ صاحِبَها، أهو (¬1) أحدُكما أو غيرُكما. أو قال: أوْدَعَنِيها أحدُكما. أو: رَجُلٌ لا أعْرِفُه عيْنًا. فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّك تَعْلَمُ أنِّى صاحِبُها، أو أنِّى أنا (¬2) الذى أوْدَعْتُكَها، وطَلَبَ يَمِينَه، لَزِمَه أن يَحْلِفَ له؛ لأنَّه لو أقَرَّ له، لَزِمَه تَسْلِيمُها إليه، ومَن لَزِمَه الحَقُّ مع الإِقْرارِ، لَزِمَتْه اليَمِينُ مع الإِنْكارِ، ويحْلِفُ على ما ادَّعاه مِن نَفْىِ العلمِ. وإن صَدَّقاهُ، فلا يَمِينَ عليه. وإن صَدَّقَه أحَدُهما، حَلَفَ للآخَرِ (¬3). وإن أقَرَّ بها لأحَدِهما أو لغيرِهما، صار المُقَرُّ له صَاحِبَ اليَدِ. فإن قال غيرُ المُقَرِّ له: احْلِفْ لى أنَّ العَيْنَ ليستْ مِلْكِى. أو (¬4): أنِّى لستُ الذى أوْدَعْتُكَها. لَزِمَتْه اليَمِينُ على ما ادَّعاهُ مِن ذلك؛ لِما ذَكَرْنا. وإن نَكَل عن اليَمِينِ، قُضِىَ عليه بِقِيمَتِها. وإنِ اعْتَرَفَ بها (¬5) لهما، كان الحُكْمُ ¬

(¬1) في م: «أو هو». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ق، م: «الآخر». (¬4) في الأصل: «و». (¬5) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها كما لو كانتْ في أيْدِيهما ابْتِدَاءً، وعليه اليَمِينُ لكُلِّ وَاحِدٍ منهما في النِّصْفِ المَحْكُومِ به لصاحِبِه، وعلى كلِّ وَاحِدٍ منهما اليَمِينُ لصَاحِبِه في النِّصْفِ المَحْكُومَ له به. فصل: إذا كان في يَدِ رَجُلٍ دارٌ، فادَّعاها نَفْسان، فقال أحدُهما: أجَرْتُكَها. وقال الآخَرُ: هى دارِى أعَرْتُكَها. أو قال: هى دارِى وَرِثْتُها مِن أبى. أو قال: هى دَارِى. ولم يذْكُرْ شيئًا آخَرَ، فأنْكَرَهما صَاحِبُ اليَدِ، فالقَوْلُ قوْلُه مع يَمِينِه. وإن كان لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها. فإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةً بما ادَّعاه، تَعارَضَتا، وكان الحُكْمُ على ما ذَكَرْنا فيما مَضَى، إلَّا على الرِّوايَةِ التى تُقَدَّمُ فيها البَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ بالسَّبَبِ، فإنَّ بَيِّنَةَ مَن ادَّعَى أنَّه وَرِثَها مُقَدَّمَةٌ؛ لشهادَتِها بالسَّبَبِ. وإن أقامَ أحدُهما بَيِّنَةً أنَّه غَصَبَه إيّاهَا، وأقامَ الآخَرُ بَيِّنَةً أنَّه أقَر له بها، فهى للمَغْصُوبِ منه، ولا تَعارُضَ بينَهما؛ لأنَّ الجَمْعَ بينَهما مُمْكِنٌ، بأن يكونَ غَصَبَها مِن هذا وأقَرَّ بها لغيرِه، وإقْرَارُ الغاصِبِ باطِلٌ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. فتُدْفَعُ إلى المغْصُوبِ منه. فصل: نقَل ابنُ منصورٍ عن أحمدَ، في رَجُلٍ أخذَ مِن رَجُلَيْن ثَوْبَيْن، أحدَهما بعشَرَةٍ والآخَرَ بعشْرِين، ثم لم يَدْرِ أيُّهما ثَوْبُ هذا [مِن ثوبِ هذا] (¬1)، فادَّعَى أحدُهما ثوْبًا مِن هذَيْن الثَّوْبَيْن، وادَّعاه الآخَرُ: يُقْرَعُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل، وفى م: «من هذا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما، فأيُّهما أصابَتْه القُرْعَةُ، حَلَف وأخذَ الثَّوْبَ الجيِّدَ (¬1)، والآخَرُ للآخَرِ. وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّهما تَنازَعا عَيْنًا في يَدِ غيرِهما. فصل: إذا تَداعَيَا عَيْنًا، فقال كلُّ واحدٍ منهما: هذه العَيْنُ لى، اشْتَريْتُها (¬2) مِن زيدٍ بمِائةٍ، ونَقَدْتُه إيَّاها. ولا بَيِّنَةَ لواحِدٍ منهما، فإن أنْكَرَهما (¬3) زيدٌ، فهى له مع يَمِينِه، وإن أقَرَّ بها لأحَدِهما، سَلَّمَها إليه، وحَلَف للآخَرِ. وإن أقَرَّ لكُلِّ واحدٍ منهما بنِصْفِها، سُلِّمَتْ إليهما، وحَلَف لكلِّ واحدٍ منهما على نِصْفِها (¬4). وإن قال: لا أعْلَمُ لمَن هى. أُقْرِعَ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، حَلَف وأخَذَها. وإن حَلَف البائِعُ له، ثم أقَرَّ بها لأحَدِهما، سُلِّمَتْ إليه، ثم (¬5) إن أقَرَّ بها للآخَرِ، لَزِمَتْه غَرامَتُهِا له. وإن أقامَ كُلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً بما ادَّعاه، وكانَتا مُؤَرَّخَتَيْن بتارِيخيْن مُخْتَلِفَيْن، مثلَ أن يَدَّعِىَ أحدُهما أنَّه اشْتَراها في المُحَرَّمِ، وادَّعَى الآخَرُ أنَّه اشْتَراها في صَفَر، وشَهِدَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ واحدٍ منهما للآخَرِ بدَعْواه، فهى للأوَّلِ؛ لتَقَدُّمِ بَيِّنَتِه بأنَّه باعَها منه أوَّلًا، وزَالَ مِلْكُه عنها، فيكونُ ¬

(¬1) في ق، م: «الجديد». (¬2) في ق، م: «استدنتها». (¬3) في الأصل: «أنكرها». (¬4) في الأصل: «نفسه». (¬5) في ق، م: «و».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَيْعُ الثانِى باطِلًا، لكَوْنِه باعَ ما لا يَمْلِكُه، ويُطالَبُ برَدِّ الثَّمَنِ. وإنِ اتَّفَقَ تارِيخُهما، أو كانَتا مُطْلَقَتَيْن، أو أحَدُهما مُطْلَقَةً وِالأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، تَعارَضَتا؛ لتَعَذُّر الجَمْعِ، فيُنْظَرُ في العَيْنِ؛ فإنْ كانتْ في يَدِ أحَدِهما، انْبَنَى ذلك على بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ والخارِجِ، فمن قَدَّمَ بَيِّنَةَ الدَّاخِلٍ، جعَلَها لمن هى في يَدِه، ومَن قَدَّمَ بَيِّنَةَ الخارِجِ، جَعَلَها له. وإن كانتْ في يَدِ البَائِعِ، وقُلْنا: تَسْقُطُ البَيِّنَتان. رُجِعَ إلى البَائِعِ، فإن أنْكَرَهما، حَلَف لهما، وكانت له، وإن أقَرَّ لأحَدِهما، سُلِّمَتْ إليه، وحَلَف للآخَرِ، وإن أقَرَّ لهما، فهى بينَهما، ويَحْلِفُ لكلِّ واحِدٍ منهما على نِصْفِها، كما لو لم يكُنْ لهما بَيِّنَة. وإن قُلْنا: لا تَسْقُطُ البَيِّنَتان. لم يُلْتَفَتْ إلى إنْكارِه ولا اعْتِرَافِه. وهذا قَوْلُ القاضِى، واكثرِ أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه قد ثَبَت زَوالُ مِلْكِه، وأنَّ يَدَه لا حُكْمَ لها، فلا حُكْمَ لقَوْلِه، فمن قال: يُقْرَعُ بينَهما. أُقْرِعَ بينَهما، فمَن خَرَجَت له القُرْعَةُ، فهى له مع يَمِينِه. وهذا قَوْلُ القاضِى، لم يَذْكُرْ غيرَه. وقال أبو الخَطَّابِ: تُقْسَمُ بينَهما. وقد نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ الكَوْسَجِ، في رَجُلٍ أقامَ بَيِّنَةً أنَّه اشْتَرَى سِلْعَةً بمِائةٍ، وأقامَ الآخَرُ بَيِّنَةً أنَّه اشْتَرَاها بمائَتَيْن: فكلُّ واحدٍ منهما يَسْتَحِقُّ نِصْفَ السِّلْعَةِ بنِصْفِ الثَّمَنِ، ويكُونان شَرِيكَيْن. وحملَ القاضِى هذه الرِّوايَةَ على أنَّ العَيْنَ في أْيدِيهما، أو على أنَّ البَائِعَ أقَرَّ لهما جيعًا. وإطْلاقُ الرِّوايَةِ يدُلُّ على صِحَّةِ قَوْلِ أبى الخَطَّابِ. فعلى هذا، إن كان المَبِيعُ ممّا لا يدْخُلُ في ضَمانِ المُشْتَرِى إلَّا بقَبْضِه، فلكلِّ واحدٍ منهما الخِيارُ؛ لأنَّ الصَّفْقَةَ

4994 - مسألة: (وإن كان فى يد رجل عبد، فادعى أنه اشتراه من زيد، وادعى العبد أن زيدا أعتقه، وأقام كل واحد بينه، انبنى على بينة الداخل والخارج، وإن كان العبد فى يد زيد، فالحكم فيه كالحكم

وَإنْ كَانَ فِى يَدِ رَجُلٍ [342 و] عَبْدٌ، فَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ زَيْدٍ، وَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ زَيْدًا أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، انْبَنَى عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَإنْ كَانَ الْعَبْدُ فِى يَدِ زَيْدٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ مَا إِذَا ادَّعَيَا عَيْنًا فِى يَدِ غَيْرِهِمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبَعَّضَتْ عليه. فإنِ اخْتارَ الإِمْساكَ، رَجَعَ كلُّ واحِدٍ منهما بنِصْفِ الثَّمَنِ، وإنِ اخْتارَ الفَسْخَ، رَجَع كلُّ واحدٍ منهما بجَمِيعِ الثَّمَنِ، وإنِ اخْتارَ أحَدُهما الفَسْخَ، توَفَّرَتِ السِّلْعَةُ كلُّها على الآخَرِ، إلَّا أن يكونَ الحاكِمُ قد حَكَمَ له (¬1) بنِصْفِ السِّلْعَةِ ونِصْفِ الثَّمَنِ، فلا يَعُودُ النِّصْفُ الآخَرُ (¬2) إليه. وهذا قَوْلُ الشافعىِّ في كلِّ مَوْضِعٍ. فصل: ولو كان في يَدِ رَجُلٍ دارٌ، فادَّعى عليه رَجُلان، كلُّ واحِدٍ منهما يَزْعُمُ أنَّه غَصَبَها منه، وأقامَ بذلك بَيِّنَةً، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا ادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنِّى اشْتَريْتُها منه، على ما مَضَى مِن التَّفْصِيلَ فيه. واللهُ أعلمُ. 4994 - مسألة: (وإن كان في يَدِ رجلٍ عَبْدٌ، فادَّعى أنَّه اشْتَراه مِن زيدٍ، وادَّعَى العَبْدُ أنَّ زَيدًا أعْتَقَه، وأقامَ كلُّ واحدٍ بَيِّنَهْ، انْبَنَى على بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ والخارِجِ، وَإن كان العَبْدُ في يَدِ زيدٍ، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما إذا ادَّعَيا عَيْنًا فِى يَدِ غيرِهما) إذا ادَّعَى رجلٌ عبدًا في يَدِ آخَرَ أنَّه اشْتَرَاه منه، وادَّعَى العَبْدُ أنَّ سَيِّدَه أعْتَقَه، ولا بَيِّنَةَ لهما، فأنْكَرَهما، حَلَف لهما، والعَبْدُ له. فإن أقَرَّ لأحَدِهما، ثبتَ ما أقَرَّ به، ويَحْلِفُ للآخَرِ. وإن أقامَ أحدُهما بَيِّنَةً بما ادَّعاه، ثَبَتَ. وإن أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعْواه، وكانَتا مُؤَرَّخَتَيْن بتارِيخَيْن مُخْتَلِفَيْن، قَدَّمْنا الأُولَى، وبَطَلَتِ الأُخْرَى؛ لأنَّه إن سَبَق العِتْقُ، لم يَصِحَّ البَيْعُ، وإن سَبَقَ البَيْعُ، لم يَصِحَّ العِتْقُ؛ لأنَّه أعْتَقَ عَبْدَ غيرِه. فإن قِيلَ: يَحْتَمِلُ أنَّه عاد إلى مِلْكِه فأعْتَقَه. قُلْنا: قد ثَبَتَ المِلْكُ للمُشْتَرِى، فلا يُبْطِلُه عِتْقُ البَائعِ. وإن كانتا مُؤَرَّخَتَيْن بتارِيخٍ واحدٍ، أو مُطْلَقَتَيْن، أو إحْداهُما مُطْلَقَةً، تعارَضَتا؛ لأنَّه لا تَرْجِيحَ لإِحْدَاهما على الأُخْرَى. فإن كان في يَدِ المُشْتَرِى، انْبَنَى ذلك على الخِلافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ أو (¬1) الخَارِجِ، فإن قَدَّمْنا بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ، فهو للمُشْتَرِى، وإن قَدَّمْنا بَيِّنَةَ الخارِجِ، قُدِّمَ العِتْقُ؛ لأنَّه خارِجٌ. وإن كان فَى يَدِ البائِعِ، وقُلْنا: إنَّ البَيِّنَتَيْن تَسْقُطان بالتَّعارُضِ. صارا كمَن لا بَيِّنَةَ لهما، فإن أنْكَرَهما، حَلَف لهما، وإن أقَرَّ بالعِتْقِ، ثَبَتَ، ولم يَحْلِفِ العَبْدُ؛ لأنَّه لو أقَرَّ بأنَّه ما أعْتَقَه، لم يَلْزَمْه شئٌ، فلا فائِدَةَ في إحْلافِه، [ويَحْلِفُ البائِعُ للمُشْتَرى. وإن أقَرَّ للمُشْتَرى ثَبَت المِلكُ له، ولم يَحْلِفْ للعبدِ؛ لأنَّه لو أقَرَّ له أنَّه كان أعْتَقَه، لم يَلْزَمْه غُرْمٌ، فلا فائدةَ في إحْلافِه] (¬2). وإن قُلْنا: تَرْجُحُ إحْدَى البَيِّنَتَيْن بالقُرْعَةِ. قَرَعْنا بينَهما، فمَن خَرَجَت قُرْعَتُه، قَدَّمْناه. قال أبو بكرٍ: هذا قِياسُ قولِ أبى عبدِ اللهِ. فعلَى هذا، يَحْلِفُ مَن خَرَجَت له القُرْعَةُ، في أحَدِ الوَجْهَيْن. وإن قُلْنا: يُقْسَمُ. قَسَمْنا العَبْدَ، فجَعَلْنا نِصْفَه مَبِيعًا ونِصْفَه حُرًّا، ويَسْرِى العِتْقُ إلى جَمِيعِه إن كان البائِعُ مُوسِرًا؛ لأنَّ البَيِّنَةَ قامت (¬3) عليه بأنَّه أعْتَقَه مُخْتَارًا، وقد ثَبَت العِتْقُ في نِصْفِه بشهادَتِهما. ¬

(¬1) في ق، م: «و». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: م.

4995 - مسألة: (وإن كان فى يده عبد، فادعى عليه رجلان، كل واحد منهما أنه اشتراه منه بثمن سماه، فصدقهما، لزمه الثمن لكل واحد منهما، وإن أنكرهما، حلف لهما، وبرئ، وإن صدق أحدهما، لزمه ما ادعاه، وحلف للآخر، وإن كان لأحدهما بينة، فله الثمن، ويحلف للآخر، وإن كان لكل واحد منهما بينة، وأمكن صدقهما؛ لاختلاف تاريخهما، أو إطلاقها، أو إطلاق إحداهما وتأريخ الأخرى، عمل بهما، وإن اتفق تاريخهما، تعارضتا، والحكم على ما

وَإِنْ كَانَ فِى يَدِهِ عَبْدٌ، فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشتَرَاهُ مِنِّى بِثَمَنٍ سَمَّاهُ، فَصَدَّقَهُمَا، لَزِمَهُ الثَّمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإنْ أَنكَرَهُمَا، حَلَفَ لَهُمَا، وَبَرِئَ، فَإنْ صَدَّقَ أَحدَهُمَا، لَزِمَهُ مَا ادَّعَاهُ، وَحَلَفَ لِلْآخَرِ، وَإنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةَ، فَلَهُ الثَّمَنُ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَأَمكَنَ صِدْقُهُمَا؛ لِاخْتِلَافِ تَارِيخِهِمَا، أَو إِطْلَاقِهِمَا، أَوْ إِطْلَاقِ إِحْدَاهُمَا وَتَأْرِيخِ الأُخْرَى، عُمِلَ بِهِمَا، وَإِنِ اتَّفَقَ تَارِيخُهُمَا، تَعَارَضَتَا، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 4995 - مسألة: (وإن كان في يَدِه عَبْدٌ، فادَّعى عليه رجلان، كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه اشْتَراه منه بثَمَنٍ سَمَّاه، فصَدَّقَهما، لَزِمَه الثّمَنُ لكلِّ واحِدٍ منهما، وإن أنْكَرَهما، حَلَف لهما، وبَرِئَ، وإن صَدَّقَ أحَدَهما، لَزِمَه ما ادَّعاه، وحَلَف للآخَرِ، وإن كان لأحَدِهما بَيِّنَةٌ، فله الثَّمَنُ، ويَحْلِفُ للآخَرِ، وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بَيِّنَةٌ، وأمْكَنَ صِدْقُهما؛ لاخْتِلافِ تارِيخِهما، أو إطلاقِها، أو إطْلاقِ إحْداهما وتأْرِيخ الأُخرَى، عُمِلَ بهما، وإنِ اتَّفَقَ تارِيخُهما، تَعارَضَتا، والحُكْمُ على ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَقَدَّمَ) إذا كان في يَدِ إنسانٍ عَيْنٌ، فادَّعَى عليه رجلان، كلُّ واحِدٍ منهما أنَّك اشْتَرَيْتَه مِنِّى بألْفٍ، وأقامَ بذلك بَيِّنَةً، واتَّفَقَ تَارِيخُهما، مثلَ أن يقولَ: اشْتَراها مِنِّى مع الزَّوالِ، يومَ كذا. ليوم واحدٍ، فهما مُتَعارِضَتان. فإن قُلْنا: تَسْقُطان. رُجِع إلى قَوْلِ المُدَّعَى عليه، فإن أنْكَرَهما، حَلَف لهما، وبَرِئَ، وإن أقَرَّ لأحَدِهما، فعليه له الثمنُ، ويحْلِفُ للآخَرِ، وإن أقَرَّ لهما، فعليه لكلِّ واحدٍ منهما الثّمَنُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يَشْتَرِيَها مِن أحدِهما (¬1)، ثم يَهَبَها للآخرِ ويَشتَرِيَها منه. وإن قال: اشْتَرَيْتُها منكما صَفْقَةً واحِدَةً بألفٍ. فقد أقرَّ لكلِّ واحدٍ منهما بنِصْفِ الثَّمَنِ، وله أن يحْلِفَ على الباقِى. وِإن قُلْنا: يُقْرَعُ بينَهما. وجَب الثَّمَنُ لمَن تَخْرُجُ له القُرْعَةُ، ويَحْلِفُ للآخرِ، ويَبْرأُ. وإنْ قُلْنا: ¬

(¬1) في م: «أحدهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْسَمُ. قُسِمَ الثَّمَنُ بينَهما، ويحْلِفُ لكلِّ واحدٍ منهما على الباقِى. فإن كان التَّاريخان مُخْتَلِفَيْن، أو كانتا مُطْلَقَتَيْن، أو إحْدَاهُما مُطْلَقَةً، ثَبَتَ العَقدَانِ، ولزِمَه الثَّمَنان؛ لأنَّه يُمْكِنُ أن يَشْتَرِيَها مِن أحَدِهما ثم يَمْلِكَها الآخَرُ (¬1)، فيَشْتَرِيَها منه، وإذا أمْكَنَ صِدْقُ البَيِّنَتَيْن والجَمْعُ بينَهما، وَجَب تَصْدِيقُهما. فإن قيلَ: فلِمَ قُلْتُم: إنَّ البائِعَ إذا كان واحِدًا والمُشْتَرِى اثْنَين، فأقامَ أحَدُهما بَيِّنَةً أنَّه اشْتَراه في المُحَرَّمِ، وأقامَ الآخَرُ بَيِّنَةً أنَّه اشْتَراه في صَفَر، يكونُ الشِّراءُ الثَّانِى باطِلًا؟ قُلْنا: لأنَّه (¬2) إذا ثَبَتَ المِلْكُ للأوَّلِ، لم يُبْطِلْه بأنْ يَبِيعَه الثانى (¬3) ثانِيًا، وفى مَسْألَتِنا ثُبُوتُ [شِرإئِه مِن كلِّ واحدٍ منهما (¬4) يُبْطِلُ مِلْكَه؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يَشْتَرِىَ ثانِيًا مِلْكَ نَفْسِه، ويَجُوزُ أن يَبِيعَ البائِعُ] (¬5) ما ليس له، فافْتَرَقا. فإن قِيلَ: فإذا كانتِ البَيِّنَتان مُطْلَقَتَيْن، أو إحْداهما مُطْلَقَةً، احْتَمَلَ أن يَكُونَ تارِيخُهما واحِدًا، فيَتعارَضان، والأصْلُ بَراءَةُ ذِمَّةِ المَشْهُودِ عليه، فلا تُشْغَلُ بالشَّكِّ. قُلْنا: متى أمْكَنَ صِدْقُ البَيِّنَتَيْن، وَجَب تَصْدِيقُهما، و (¬6) لم ¬

(¬1) في الأصل: «للآخر». (¬2) في ق، م: «إنه». (¬3) في النسخ: «للثانى»، والمثبت كما في المغنى 14/ 300. (¬4) في م: «منها». (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في الأصل: «وإن».

4996 - مسألة: (وإن ادعى كل واحد منهما أنه باعنى إياه بألف، وأقام بينة، قدم أسبقهما تاريخا)

وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ بَاعَنِى إِيَّاهُ بِأَلْفٍ، وَأَقامَ بَيِّنَةً، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا. وَإِنْ لَمْ تَسْبِقْ إِحْدَاهُمَا، تَعَارَضَتَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكُنْ ثَمّ وَهْمٌ (¬1)، وإنَّما يَبْقَى الوَهْمُ، والوَهْمُ لا تَبْطُلُ به البَيِّنَةُ؛ لأنَّها لو بَطَلَتْ به، لم يَثْبُتْ بها حَقٌّ أصْلًا؛ لأنُّه ما مِن بَيِنَةٍ إلَّا ويَحْتَمِلُ أنْ تكونَ كاذِبَةً، أو غيرَ عَادِلَةٍ، أو مُتَّهَمَةً، أو مُعارَضَةً، ولم يُلْتَفَتْ (¬2) إلى الوَهْمِ، كذا (¬3) ههُنا. 4996 - مسألة: (وإنِ ادَّعى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه باعَنِى إيّاه بألْفٍ، وأقامَ بَيِّنَةً، قُدِّمَ أسْبَقُهما تارِيخًا) لِما ذَكَرْنا (فإن لم تَسْبِقْ إحْداهُما، تَعارَضَتا). ¬

(¬1) في م: «شك». (¬2) في الأصل: «يكتف». (¬3) سقط من: الأصل.

4997 - مسألة: (وإن قال أحدهما: غصبنى إياه. وقال الآخر: ملكنيه. أو: أقر لى به. وأقام كل واحد)

وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: غَصَبَنِى إيَّاهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: مَلَّكَنِيهِ. أَوْ: أَقَرَّ لِى بِهِ. وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ [342 ظ] بَيِّنَةً، فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يَغرَمُ لِلْآخَر شَيْئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4997 - مسألة: (وإن قال أحَدُهما: غَصَبَنِى إيّاه. وقال الآخَرُ: مَلَّكَنِيه. أو: أقَرَّ لى به. وأقام كلُّ واحِدٍ) منهما (بَيِّنَةً، فهو للمَغْصُوبِ منه، ولا يَغْرَمُ للآخَرِ شَيْئًا) لأنَّه لا تَعارُضَ بينَهما؛ لجَوازِ أن يكونَ غَصَبَه مِن هذا، ثم مَلَّكَه الآخَرَ. واللهُ أعلمُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا ادَّعى رجلٌ زَوْجِيَّةَ امرأةٍ، فأقَرَّتْ بذلك، قُبِلَ إقْرارُها؛ لأنَّها أقَرَّتْ على نَفْسِها وهى غيرُ مُتَّهَمَةٍ؛ لأنَّها لو أرادَتِ ابْتداءَ النِّكاحِ، لم تُمْنَعْ منه. فإنِ ادَّعاها اثْنان، فأقَرَّت لأحَدِهما، لم يُقْبَلْ إقْرارُها (¬1)؛ لأنَّ الآخَرَ يَدَّعِى مِلْكَ بُضْعِها (¬2)، وهى مُعْتَرِفَةٌ أنَّ ذلك قد مَلَك عليها، فصار إقْرارُها بحَقِّ غيرِها، ولأنَّها مُتَّهَمَةٌ، فإنَّها لو أرادَتِ ابْتِداءَ تَزْوِيجِ أحَدِ المُتَداعِيَيْن، لم يَكُنْ لها ذلك قبلَ الانْفِصالِ مِن دَعْوى الآخَرِ. فإن قيلَ: فلو تَداعَيا عَيْنًا في يَدِ ثالِثٍ، فأقَرَّ لأحَدِهما، قُبِلَ. قُلْنا: لا يثْبُتُ المِلْكُ بإقْرارِه في العَيْنِ، إنَّما يَجْعَلُه كصاحِبِ اليَدِ، فيَحْلِفُ، والنِّكاحُ لا يُسْتَحَقُّ باليَمِينِ، فلم يَنْفَعِ الإِقْرارُ بها ههُنا. فإن كان [لأحَدِ المُتَدَاعِيَيْن] (¬3) بَيِّنَةٌ، حُكِمَ له بها؛ لأنَّ البَيِّنَةَ حُجَّةٌ في النِّكاحِ وغيرِه. وإن ¬

(¬1) في الأصل: «منها». (¬2) في الأصل: «نصفها». (¬3) في ق، م: «أحد المتداعيين له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقاما بَيِّنَتَيْن، تَعارَضَتا، وسَقَطَا، وحِيلَ بينَهما [وبينَها] (¬1)، ولا يُرَجَّحُ أحَدُ المُتَداعِيَيْن بإقْرارِ المرْأةِ؛ لِما ذَكَرْنا، ولا بكوْنِها في بَيْتِه ويَدِه؛ لأنَّ اليَدَ لا تثْبُتُ على حُرَّةٍ، ولا سَبِيلَ إلى القِسْمَةِ ههُنا، ولا إلى القُرْعَةِ؛ لأنَّه لا بُدَّ مع القُرْعَةِ مِن اليَمِينِ، ولا مدْخَلَ لها ههُنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

باب فى تعارض البينتين

بَابٌ فِى تَعَارُضِ الْبَيِّنَتيْن إِذَا قَالَ لِعَبْدِه: مَتَى قُتِلْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قُتِلَ، وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ، فَهَلْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ، فَيَعْتِقُ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَيَبْقَى عَلَى الرِّقِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابٌ في تَعارُضِ البَيِّنَتَيْن (إذا قال لعَبْدِه: متى قُتِلْتُ فأنت حُرٌّ. فادَّعى العَبْدُ أنَّه قُتِلٍ، وأنْكَرَ الورثةُ، فالقَوْلُ قولُهم) لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ القَتْلِ، فإن أقامَ بَيِّنَة بدَعْواه، عَتَق. وإن أقامَ الوَرَثَةُ بَيِّنَةً بمَوْتِه، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ العَبْدِ في أحَدِ الوَجْهَيْن؛ لأنَّها تَشْهَدُ بزِيادَةٍ، وهى القَتْلُ. والثانى، يتَعارَضان؛ لأنَّ إحْداهما (¬1) تَشْهَدُ بضِدِّ ما شَهِدَتْ به الأُخْرَى، فيَبْقَى على الرِّقِّ. ¬

(¬1) في م: «أحدهما».

4998 - مسألة: (وإن قال: إن مت فى المحرم، فسالم حر، وإن مت في صفر، فغانم حر. وأقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، قدمت بينة سالم)

وَإنْ قَالَ: إِنْ مِتُّ فِى الْمُحَرَّمِ، فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مِتُّ فِى صَفَرٍ، فَغَانِمٌ حُرٌّ. فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمُوجبِ عِتْقِهِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ سَالِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 4998 - مسألة: (وإن قال: إن مِتُّ في المحَرَّمِ، فسالمٌ حُرٌّ، وَإن مِتُّ في صَفَرٍ، فغانِمٌ حُرُّ. وأقام كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةُ بمُوجِبِ عِتْقِهِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ سالمٍ) في أحَدِ الوُجُوهِ؛ لأنَّ معها زِيادَةَ عِلْمٍ، فإنَّهَا أثْبَتَتْ ما يجوزُ أن يَخْفَى على البَيِّنَةِ الأُخْرَى. والثانى، يتَعارَضان، ويَبْقَى العَبْدُ على الرِّقِّ؛ لأنَّهما سَقَطا، فصارا كمَنْ لا بَيِّنَةَ لهما. والثالثُ، يُقْرَعُ بينَهما، فيَعْتِقُ مَن تَقَعُ له القُرْعَةُ. فأمَّا إن لم تَقُمْ لواحِدٍ منهما بَيِّنَةْ، وأنْكَرَ

4999 - مسألة: (وإن قال: إن مت من مرضى هذا، فسالم حر. وإن برئت، فغانم حر. فأقاما بينتين، تعارضتا، وبقيا على الرق.

وَإنْ قَالَ: إِنْ مِتُّ فِى مَرَضِى هَذَا، فَسَالِمٌ حُرٌّ. وَإنْ بَرِئْت، فَغَانِمٌ حُرٌّ. وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، وَبَقِيَا عَلَى الرِّقِّ. ذَكَرَة أَصْحَابُنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَرَثَةُ، فالقَوْلُ قولُهم؛ لأنَّه يجوزُ أن يمُوتَ في غيرِ هذَيْن الشَّهْرَيْن، وإن أقَرُّوا لأحَدِهما (¬1)، عَتَقَ بإقْرارِهم، وكذلك إنْ أقامَ بَيِّنَةً. 4999 - مسألة: (وإن قال: إن مِتُّ مِن مَرَضِى هذَا، فسَالِمٌ حُرٌّ. وإن بَرِئْتُ، فَغَانِمٌ حُرٌّ. فأقاما بَيِّنَتَيْن، تَعارَضَتا، وبَقِيا على الرِّقِّ. ¬

(¬1) في ق، م: «لأحدهم».

وَالْقِيَاسُ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ غَانِمُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَ أصْحابُنا. والقِياسُ أن يَعْتِقَ أحدُهما بالقُرْعَةِ. ويَحْتَمِلُ أن يَعْتِقَ غانِمٌ وَحْدَه؛ لأنَّ بَيِّنَتَه تَشْهَدُ بزِيادَةٍ) إذا قال: إن مِتُّ مِن مَرَضِى هذا، فسالِمٌ حُرُّ، وإن بَرِئْتُ، فغانِمٌ حُرٌّ. فمات، وادَّعى كلُّ واحدٍ منهما مُوجِبَ عِتْقِه، أُقْرِعَ بينَهما، فمَن خرَجَت له القُرْعَةُ، عَتَقَ؛ لأَّنه لا يَخْلُو مِن أن يَكونَ بَرَأ أو لم يَبْرَأْ، فيَعْتِقُ أحدُهما على كلِّ حالٍ، ولم تُعْلَمْ عَيْنُه فيُخْرَجُ بالقُرْعَةِ، كما لو أعْتَقَ أحَدَهما، فأشْكَلَ عليْنا. ويَحْتَمِلُ أنْ يُقَدَّمَ قَوْلُ سالمٍ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ البُرْءِ. وإن أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةً بمُوجِبِ عِتْقِه، فقالَ أصْحابُنا: يَتعارَضان، ويبْقَى العَبْدان على الرِّقِّ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ كلَّ واحِدَةٍ (¬1) منهما تُكَذِّبُ الأُخْرَى (¬2)، وتُثْبِتُ ¬

(¬1) في الأصل: «واحد». (¬2) في الأصل: «الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زِيادَةً تَنْفِيها الأُخْرَى. وهذا قَوْلٌ لا يَصِحُّ، وهو ظاهِرُ الفَسادِ؛ لأنَّ التَّعارُضَ أثَرُه (¬1) في إسْقاطِ البَيِّنَتَيْن، ولو لم يَكُونا أصْلًا لعَتَقَ أحَدُهُما، فكذلك إذا سَقَطتا، وذلك لأنَّه لا يَخْلُو مِن إحْدَى الحالَتَيْن اللَّتَيْن عَلَّقَ على كلِّ واحِدَةٍ منهما عِتْقَ أحدِهما، فيَلْزَمُ وجُودُه، كما لو قال: إن كان هذا الطَّائِرُ غُرابًا، فسالمٌ حُرٌّ، وإن لم يكُنْ غُرابًا (¬2)، فغانمٌ حُرٌّ. ولم يُعْلَمْ حالُه، ولكنْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يُقْرَعُ بينَهما، كما في مسْألَةِ الطَّائِرِ، ولأنَّ البَيِّنَتَيْن إذا تَعارَضَتا، قُدِّمَتْ إحْداهما بالقُرْعَةِ في رِوايَةٍ. ¬

(¬1) في ق، م: «أثر». (¬2) سقط من: الأصل.

5000 - مسألة: (وإن أتلف ثوبا، فشهدت بينة أن قيمته عشرون، وشهدت أخرى أن قيمته ثلاثون، لزمته أقل

وَإِنْ أَتْلَفَ ثَوْبًا، فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أنَّ قِيمَتَهُ عِشْرُونَ، وَشَهِدَتْ أُخْرَى أَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثُونَ، لَزِمَهُ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ غانِمٍ؛ لأنَّها شَهِدَتْ بزِيادَةٍ، وهى البُرْءُ. وإن أقَرَّ الوَرَثَةُ لأحَدِهم، عَتَق بإقْرارِهم، ولم يَسْقُطْ حَقُّ الآخَرِ ممَّا ذَكَرْنا، إلَّا أن يَشْهَدَ عَدْلان منهم بذلك، مع انْتِفاءِ التُّهْمَةِ، فيَعْتِقُ وَحْدَه إذا لم تَكُنْ للآخَرِ بَيِّنَةٌ. 5000 - مسألة: (وإن أتْلَفَ ثَوْبًا، فشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أنَّ قِيمَتَه عِشْرون، وشَهِدَتْ أُخْرى أنَّ قِيمَتَه ثلاثُون، لَزِمَتْه أقَلُّ القِيمَتَيْن) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا شَهِدَ شاهِدٌ أنَّه عَصَبَه ثوبًا قِيمتُه دِرْهمان، وشَهِدَ آخَرُ أنَّ قِيمتَه ثلاثةٌ، ثَبَتَ ما اتَّفَقَا عليه، وهو دِرْهمان، فله أن يَحْلِفَ مع الآخَرِ على دِرْهَمٍ؛ لأنَّهما اتَّفقَا على دِرْهَمَيْن، وانْفَرَد أحدُهما بدرهمٍ، فأشْبَهَ ما لو شَهِدَ أحدُهما بألْفٍ والآخَر بخَمْسِمائةٍ. وإذا شَهِدَ شاهِدان أنَّ قِيمَتَه دِرْهمانِ، وشاهِدان أنَّ قِيمَتَه ثلاثةٌ، ثَبَت له دِرْهمان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: له ثلاثةٌ؛ لأنَّه قد شَهِدَ بها شاهِدان, وهما حُجَّةٌ, فيُؤْخَذُ بهما, كما يُؤْخَذُ بالزِّيادةِ في الأخْبارِ, وكما لو شَهِدَ له (¬1) شاهِدان بألْفٍ, وشاهِدان بألْفَيْن , فإنَّه يَجِبُ له ألْفان. قال القاضي: ويتَوجَّهُ لنا مثلُ ذلك, كما لو شَهِدَ له شاهِدان بألْفٍ, وشاهِدان بخَمْسِمائةٍ. ولَنا, أنَّ مَن شَهِدَ أنَّ قِيمَتَه دِرْهمان, يَنْفِي أنَّ قِيمَتَه ثلاثةٌ, فقد تَعارَضَتِ البَيِّنَتان في الدِّرْهَمِ, ويُخالِفُ الزِّيادَةَ في الأخْبارِ, فإنَّ مَن يَرْوِى النَّاقِصَ لا يَنْفِي الزِّيادَةَ, وكذلك مَن شَهِدَ بألْفٍ, لا يَنْفِي أنَّ عليه ألْفًا آخَرَ. فإن قيلَ: فلِمَ قُلْتُم: إنَّه إذا شَهِدَ بواحِدَةٍ مِن القِيمَتَيْن شاهِدان, تَعارَضَتا, وإن شَهِدَ شاهِدٌ, لم يَتعارَضا, وكان له أن يَحْلِفَ مع الشاهِدِ بالزِّيادةِ عليها؟ قُلْنا: لأنَّ الشَّاهِدَيْن حُجَّةٌ وبَيِّنَةٌ, وإذا كَمَلَتْ مِن الجانِبَيْنِ, تَعارَضَتِ الحُجَّتانِ؛ لِتَعَذُّرِ الجَمْعِ بينَهما, أمَّا الشَّاهِدُ الواحدُ, فليسَ بحُجَّةٍ وَحْدَه, وإنَّما يصيرُ حُجَّةً مع اليَمِينِ, فإذا حَلَف مع أحدِهما كمَلَتِ الحُجَّةُ مع يَمِينِه, ولم يُعارِضْها ما ليس بحُجَّةٍ, ¬

(¬1) سقط من: م.

5001 - مسألة: (ولو ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابنى فورثته. وقال أخوها: بل مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها. حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين. وإن

وَلَوْ مَاتَتِ امْرأَةٌ وَابْنُهَا، فَقَالَ زَوْجُهَا: [343 و] مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنِى فَوَرِثْتُهُ. وَقَالَ أَخوهَا: مَاتَ ابْنُهَا. فَوَرِثَتْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثْنَاهَا. وَلَا بَيِّنَةَ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ مِيرَاثُ الابْنِ لِأَبِيهِ، وَمِيرَاثُ الْمَرأَة لأَخِيهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو شَهِدَ بأحدِهما شاهِدان، وبالآخَرِ شاهِدٌ واحدٌ. 5001 - مسألة: (ولو ماتَتِ امْرَأةٌ وابْنُها، فقال زوجُها: ماتَت فوَرِثْناها، ثم مات ابْنِى فوَرِثْتُه. وقال أخوها: بل مات ابْنُهَا فَوَرِثَتْه، ثم ماتَتْ فوَرِثْناها. حَلَف كلُّ واحِدٍ منهما على إبْطالِ دَعْوى صاحِبِه، وكان مِيرَاثُ الابْنِ لأبِيهِ، وَمِيرَاثُ المَرْأةِ لأخِيهَا وَزوْجِهَا نِصْفَيْنِ. وإن

وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ. وَإنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، تَعَارَضَتَا، وَسَقَطَتَا. وَقِيَاسُ مَسَائِلِ الْغَرْقَى، أَنْ يُجْعَلَ لِلْأَخِ سُدْسُ مَالِ الابْنِ، وَالبَاقِى لِلزَّوْجِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقامَ كلُّ واحِدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعْواه، تَعارَضَتا، وسَقَطَتا أيْضًا. وَقِيَاسُ مَسائِلِ الغَرْقَى، أن يُجْعَلَ للأخِ سُدْسُ مالِ الابْنِ، والباقِى للزَّوْجِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا مات جَماعَةٌ يَرِثُ بعْضُهم بعْضًا، واخْتَلَفَ الأحْياءُ مِن وَرَثَتِهم في السَّابِقِ بالموتِ في المسْألَةِ المذْكورَةِ، فقال الزَّوجُ: ماتتِ المرأةُ أوَّلًا، فصارَ مِيراثُها كلُّه لى ولابْنِى، ثمَّ مات ابْنِى فصارَ مِيراثُه لى. وقال أخُوها: مات ابْنُها أوَّلًا، فوَرِثَتْ ثُلُثَ مالِه، ثم ماتَتْ فكانَ مِيراثُها بَيْنِى وبَيْنَك نِصْفَيْن. حَلَف كلُّ واحدٍ منهما على إبْطالِ دَعْوى صاحِبِه، وجَعَلْنا مِيراثَ كلِّ واحدٍ منهما للأحْياءِ مِن وَرَثَتِه، دُونَ مَن مات معه؛ لأنَّ سَبَبَ اسْتِحْقاقِ الحَىِّ مِن مَوْرُوثِه مَوْجُودٌ، وإنَّما يَمْتَنِعُ لبقاءِ مَوْرُوثِ الآخَرِ بعدَه، وهذا الأمْرُ مَشْكُوكٌ فيه، فلا نَزُولُ عن اليَقِينِ بالشَّكِّ، فيكونُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِيراثُ الابْنِ لأبِيه، لا مُشارِكَ له فيه، ومِيراثُ المرْأةِ بينَ أخيها وزَوْجِها نِصْفَيْن. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. فإنْ قِيلَ: فقد أعْطَيْتُم الزَّوجَ النِّصْفَ، وهو لا يَدَّعِى إلَّا الرُّبْعَ. قُلْنا: بل هو مُدَّعٍ لجَمِيعِه؛ رُبْعُه [بمِيراثِه منها] (¬1)، وثلاثةُ أرْباعِه بإرثِه (¬2) مِن ابنِه (¬3) قال أبو بَكْرٍ: قد ثَبَتَتِ البُنُوَّةُ بيَقِينٍ، فلا يُقْطَعُ ميراثُ الأبِ فيه إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ للأخِ. وهذا تَعْلِيلٌ لقَوْلِ الخِرَقِىِّ في هذه المسْألَة. وذكَرَ قَوْلًا آخَرَ يَحْتَمِلُ أنَّ المِيراثَ بينَهما نِصْفَيْن، [قال: وهذا اخْتِيارى أنَّ كلَّ رجلين ادَّعَيا ما لا يُمْكِنُ صِدْقهما فيه، فهو بينَهما نصفين] (¬4). قال شيْخنا (¬5): وهذا لا (¬6) يُدْرَى ما أرادَ به؛ إن أرادَ أنَّ مالَ المرْأةِ بينَهما نِصْفَيْن، [فهو قولُ الخِرَقِىِّ، وليس بقولٍ آخرَ، وإن أرإدَ أنَّ مالَها ومالَ الابْنِ بينَهما نِصْفَيْن] (4)، لم يَصِحَّ؛ ¬

(¬1) في م: «بميراثها منه». (¬2) في م: «بميراثه». (¬3) في ق، م: «أبيه». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) في: المغنى 14/ 327. (¬6) في ق، م: «ما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه يُفْضِى إلى إعْطاءِ الأخِ ما لا يَدَّعِيه، ولا يَسْتَحِقُّه يَقِينًا؛ لأنَّه لا يَدَّعِى مِن مالِ الابْنِ أكثرَ مِن سُدْسِه، ولا يُمْكِنُ أن يَسْتَحِقَّ أكثرَ منه، وإن أرادَ أنَّ ثُلُثَ مالِ الابنِ يُضَمُّ إلى مالِ المرْأةِ، فيَقْسِمانِه نِصْفَيْن، لم يَصحَّ؛ لأنَّ نِصْفَ ذلك إلى الزَّوْجِ باتِّفاقٍ منهما، لا يُنازِعُه الأخُ فيه، وإنَّما النِّزاعُ بينَهما في نِصفِه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ هذا مُرادَه، كما لو تَنازَعَ رجلان دارًا في أيْدِيهما، فادَّعاها أحدُهما كُلَّها، وادَّعَى الآخَرُ نِصْفَها، فإنَّها تُقْسَمُ بينَهما نِصْفَيْن، وتكونُ اليَمِينُ على مُدَّعِى النِّصْفِ، إلَّا أنَّ الفَرْقَ بينَ هذه المسْألةِ وتلك، أنَّ الدَّارَ في أيْدِيهما، فكلُّ واحدٍ منهما في يَدِه نِصْفُها، فمُدَّعِى النِّصْفِ يدَّعِيه وهو في يَدِه، فقُبِلَ قَوْلُه فيه مع يَمِينِه، وفى مسْألَتِنا يَعْتَرِفان أنَّ هذا مِيراثٌ عن المَيِّتَيْن (¬1)، فلا يَدَ لأحدِهما عليه؛ لاعْتِرافِهما ¬

(¬1) في ق، م: «البنين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنَّه لم يَكنْ لهما، وإنَّما هو مِيراثٌ يَدَّعِيانِه مِن غيرِهما. وإِن أرادَ أنَّ سُدْسَ مالِ الابْنِ يُضَمُّ إلى نِصْفِ مالِ المرْأةِ، فيُقْسَمُ بينَهما نِصْفيْن، فله وَجْهٌ؛ لأنَّهما تَساوَيا في دَعْواه، فيُقْسَمُ بينَهما، كما لو تَنازَعا دابَّةً في أيْدِيهما، وعلى كلِّ واحدٍ منهما اليَمِينُ فيما حُكِمَ له به. والذى يَقْتَضِيه قَوْلُ أصْحابِنا في الغَرْقَى والهَدْمَى، أنْ يكونَ سُدْسُ الابْنِ للأخِ، وباقى مِيراثِهما للزَّوْجِ؛ لأنَّا نُقَدِّرُ أنَّ المرأةَ ماتَتْ أوَّلًا، فيَكونُ مِيراثها لابْنها وزَوْجِها، ثم مات الابْنُ، فوَرِثَه أبُوه، وهو الزَّوْجُ، فصار مِيراثُها كلُّه لزوجِها، ثم نُقَدِّرُ أنَّ الابْنَ مات أوَّلًا، فوَرِثَه أبَواه؛ لأُمِّه الثُّلُثُ، ثمَّ ماتَتْ، فصار الثُّلُثُ بينَ أخِيها وزَوْجِها نِصْفَيْن، لِكُلِّ واحدٍ منهما السُّدْسُ، فلم يَرِثِ الأخُ إلَّا سُدْسَ مالِ الابْنِ، كما ذَكَرْنا. قال شيْخُنا (¬1): ولَعل هذا القَوْلَ يَخْتَصُّ بمَن جُهِلَ مَوْتُهما، واتَّفَقَ وُرَّاثُهما (¬2) على الجَهْلِ به. والقَوْلانِ ¬

(¬1) في: المغنى 14/ 328. (¬2) في الأصل: «وارثهما».

فَصْلٌ: إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَشَهِدَتْ أُخْرَى أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، عَتَقَ دُونَ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُتَقَدِّمان؛ قولُ الخِرَقِىِّ، وقَوْلُ أبى بكر، فيما إذا ادَّعَى وَرَثَةُ كلِّ مَيِّتٍ أنَّه مات أخِيرًا، وأنَّ الآخرَ مات قَبْلَه، فإن كان لأحَدِهما بَيِّنَة بما ادَّعاهُ، حُكِمَ له بها، وإن أقاما بَيِّنَتَيْن، تَعارَضَتا، وهل يَسْقُطان، أو يُقْرَعُ بينَهما، أو يَقْتَسمان ما اخْتَلَفا فيه؟ يُخَرجُ على الرِّواياتِ الثَّلاثِ. واللهُ أعلمُ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللهُ: (إذا شَهِدَت بَيِّنَةٌ على مَيِّتٍ أنَّه وَصَّى بعِتْقِ سالمٍ، وهو ثُلُثُ مالِه، وشَهِدَت) بَيِّنَةٌ (أُخْرى أنَّه وَصَّى بعِتْقِ غانمٍ، وهو ثُلُثُ مالِه، أُقْرِعَ بينَهما، فمَن تَقَعُ له القُرْعَةُ، عَتَق دُونَ صاحِبِه، إلَّا أن يُجِيزَ الوَرَثَةُ) لأنَّ الوَصِيتَّيْن ثَبتتا بشَهادَةِ العُدُولِ، فهما سَواءٌ، فيُقْرَعُ بينَهما، سَواءٌ اتَّفَقَ تارِيخُهما أو اخْتَلَفَ؛ لأنَّ الوَصِيَّةَ يَسْتَوِى فيها المُتَقَدِّمُ والمُتَأَخِّرُ، فمَن خرَجَت له القُرْعَةُ، عَتَق

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِى مُوسَى: يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ جَمِيعُه (وقال أبو بكرٍ، وابنُ أبى موسى: يَعْتِقُ نِصْفُ كلِّ واحدٍ منهما بغيرِ قُرْعَةٍ) لأنَّ القُرْعَةَ إنَّما تَجِبُ إذا كان أحدُهما عبْدًا والآخَرُ حُرًّا، ولا كذلك ههُنا، فيجبُ أن يُقْسَمَ بينَهما، ويَدْخُلُ النَّقْصُ على كلِّ واحدٍ منهما بقَدْرِ وَصِيِّتِه، كما لو أوْصَى لاثْنَيْن بمالٍ. والأوَّلُ قِياسُ المذهبِ؛ لأنَّ الإِعْتاقَ بعدَ الموْتِ كالإِعْتاقِ في مَرَضِ الموْتِ، وقد ثَبَت في الإِعتاقِ في مَرَضِ الموْتِ أنَّه يُقْرَعُ بينَهما؛ لحدِيثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ (¬1)، كذلك بعدَ الموْتِ، ولأنَّ المَعْنَى المُقْتَضِىَ في أحَدِهما في الحياةِ مَوْجُودٌ بعدَ المَماتِ، فيَثْبُتُ. فأمَّا إن صَرحَّ فقال: إذا مِتُّ، فنِصْفُ كلِّ واحدٍ مِن سالمٍ وغانم حُرٌّ. أو كان في لَفظِه ما يَقْتَضِيه، أو دَلَّت عليه قَرِينَةٌ، ثَبَت ما اقْتَضاهُ. وان أجازَ الوَرَثَةُ عِتْقَهُما عَتَقا؛ لأنَّ الحَقَّ لهم، فأشْبَهَ ما لو أعْتَقُوهُما بعدَ مَوْتِه. ¬

(¬1) تقدَّم تخريجه في 17/ 124، 19/ 110.

5002 - مسألة: (وإن شهدت بينة سالم أنه رجع عن عتق غانم، عتق سالم وحده، سواء كانت)

وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ غَانِمٍ أَنَّه رَجَعَ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ، عَتَقَ غانِمٌ وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ وَارِثَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ غَانِمٍ سُدْسَ الْمَالِ، وَبَيِّنَتَهُ أَجْنَبِيَّةً، قُبِلَتْ، وَإِنْ كَانَتْ وَارِثَةً، عَتَقَ الْعَبْدَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5002 - مسألة: (وإن شَهِدَت بَيِّنَةُ سالمٍ أنَّه رجَع عن عِتْقِ غانمٍ، عَتَق سالمٌ وَحْدَه، سَواءٌ كانت) بَيِّنَتُه (وارِثَةً أو لم تَكُنْ) لأنَّهما لا يَجُرَّان بشَهَادَتِهما إلى أنفُسِهما نَفْعًا، ولا يَدْفَعان عنهاْ ضَرَرًا. فإنْ قيلَ: فهما (¬1) يُثْبِتان لأنْفُسِهما ولاءَ سالم. قُلْنا: وهما يُسْقِطَان ولاءَ غانم أيضًا، على أنَّ الوَلاءَ إنَّما هو إثْباتُ سَبَبِ المِيراثِ، ومثلُ ذلك لا تُرَدُّ الشَّهادةُ فيه، كما يثْبُت النَّسَبُ بالشهادةِ، وإن كان الشاهِدُ يجوزُ أن يَرِثَ المَشْهُودَ له، وتُقْبَل شَهادَتُه لأخِيه بالمالِ، وإن جازَ أن يَرِثَه. 5003 - مسألة: (وإن كانت قِيمَةُ غَانِمٍ سُدْسَ المالِ، وَبَيِّنَتُه أجْنَبِيَّةً، قُبِلَتْ) لأنَّها بَيِّنَةٌ غيرُ مُتَّهَمَةٍ، فتُقْبَلُ شهادتُها، كما لو كانتْ قِيمَتُه ثُلُثَ المالِ (وإنْ كانتْ) بَيِّنَتُه (وارِثَةً، عَتَقَ العَبْدَان) لأنَّ البَيِّنَةَ الوارِثَةَ ¬

(¬1) بعده في الأصل: «لا».

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: [343 ظ] يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَإنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِسَالِمٍ، عَتَقَ وَحْدَهُ، وَإنْ خَرَجَتْ لِغانِمٍ، عَتَقَ هُوَ وَنِصْفُ سَالِمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّهَمَةٌ في شهادَتِها؛ لكَوْنِها تَرُدُّ إلى الرِّقِّ مَن كَثُرَتْ قِيمَتُه، وتُرَدُّ شهادَتُها في الرُّجوعِ، كما لو كانَتْ فاسِقَةً، ويَعْتِقُ سالمٌ كلُّه بالبَيِّنَةِ العادِلَةِ، ويَعْتِقُ غانمٌ؛ لأنَّ سالِمًا لمَّا عَتَق بشهادةِ الأجْنَبِيِّيْن، صار كالمَغْصُوبِ، فصار غانمٌ رُبْعَ التَّرِكَةِ، فيَعْتِقُ جَمِيعُه؛ لنَقْصِه عن ثُلُثِ الباقى، لأنَّ الباقِىَ يصيرُ كأنَّه التَّرِكة جيعُها، وإنَّما يَعْتِقُ بإقرارِهم لا بشهادَتِهم (قال أبو بكرٍ: وِيَحْتَمِلُ أن يُقْرَعَ بينَهما؛ فإن خرَجَتِ القُرْعَةُ لسالمٍ، عَتَق وَحْدَه، وإن خرَجَت لغانمٍ، عَتَق هو ونِصْفُ سالمٍ) كما لو لم تَشْهَدْ بالرُّجُوعِ، فإنَّ الشَّهادَةَ بالرُّجُوعِ لم تُقْبَلْ، فكان وُجودُها كعَدَمِها، فإنَّه في هذه الصُّورَةِ يَعْتِقُ فيها ثُلُثُ المالِ، وتَكْمُلُ في أحَدِهما، فإذا وَقَعَتِ القُرعَةُ لسالمٍ، عَتَق جَمِيعُه؛ لأنَّه ثُلثُ المالِ، وإن وَقَعَت لغانمٍ، عَتَق جَمِيعُه ونِصْفُ سالمٍ؛ لأنَّ ذلك ثلثُ المالِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بتاريخَيْن مُخْتَلِفَيْن، عَتَق الأوَّلُ منهما، ورَقَّ الثانِى، إلَّا أن يُجِيزَ الوَرَثَةُ؛ لأنَّ المرِيضَ إذا تَبَرَّعَ تَبَرُّعاتٍ (¬1)، يَعْجِزُ ثُلُثُه [عن جميعِها] (¬2)، قُدِّمَ الأوَّلُ فالأوَّلُ، وإنِ اتَّفَقَ تارِيخُهما، أو أُطْلِقَتا، أو إحْداهما، فهما سَواءٌ؛ لأنَّه لا مَزِيَّةَ لإِحْداهما على الأُخْرَى، فيسْتَويان، ويُقْرَعُ بينَهما، فيَعْتِقُ مَنْ تخْرُجُ له القُرْعَةُ، ويَرِقُّ الآخَرُ، إلَّا أنْ يُجِيزَ الوَرَثَةُ؛ لأنَّه لا يَخْلُو؛ إمَّا أن يَكُونَ أعْتَقَهُما معًا، فيُقْرَعُ بينَهما، كما فَعَل النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - في العَبِيدِ السِّتَّةِ الذين أعْتقَهم سَيِّدُهم عندَ مَوْتِه، ولم يَكُنْ له مالٌ غيرُهم (¬3). أو يَكونَ أعْتَقَ أحَدَهما قبلَ صاحِبِه، وأشْكَلَ عليْنا، فيُخْرَجُ بالقُرعَةِ، كما في مسألَةِ الطَّائِرِ. وقِيلَ: يَعْتِقُ مِن كلِّ واحِدٍ نِصْفُه. وهو قَوْلُ الشافعىِّ (¬4)؛ لأنَّه أقْرَبُ إلى التَّعْدِيلِ بينَهما (¬5)، فإنَّ في القُرعَةِ قد يَرِقُّ السابِقُ المُسْتَحِقُّ للعتْقِ، ويَعْتِقُ الثانِى المُسْتَحِقُّ للرِّقِّ، وفى القِسْمَةِ لا يَخْلُو المُسْتَحِقُّ للعِتْقِ مِن حُرِّيَّةٍ، ولا المُسْتَحِقُّ للرِّقِّ مِن رِقٍّ، ولذلك قَسَمْنا المُخْتَلَفَ فيه، على إحْدَى الرِّوايَتَيْن، إذا تَعارَضَت به (¬6) بَيِّنَتان. والأوَّلُ المذهبُ؛ ¬

(¬1) في م: «تبرعا». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في ق، م: «سواهم». والحديث تقدم تخريجه في 17/ 124، 19/ 110. (¬4) في المغنى 14/ 304: «للشافعى». (¬5) في ق، م: «منهما». (¬6) سقط من: ق، م.

5004 - مسألة: (وإن شهدت بينة أنه أعتق سالما فى مرضه، وشهدت أخرى أنه وصى بعتق غانم، وكل واحد منهما ثلث المال، عتق سالم وحده)

وَإِنْ شَهِدَت بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْتَقَ سَالِمًا فِى مَرَضِهِ، وَشهِدَتِ الْأُخرَى أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ المَالِ، عَتَقَ سَالِمٌ وَحْدَهُ، وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ غَانِمٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِى مَرَضِهِ أَيْضًا، عَتَقَ أَقْدَمُهُمَا تَارِيخًا، فَإنْ جُهِلَ السَّابِقُ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5004 - مسألة: (وإن شَهِدَت بَيِّنَةٌ أنَّه أعْتَقَ سالمًا في مَرَضِه، وَشَهِدَت أُخْرَى أنَّه وَصَّى بعِتْقِ غانمٍ، وكلُّ واحِدٍ مِنهما ثُلثُ المالِ، عَتَق سالمٌ وَحْدَه) لأنَّه لا يَنْفُذُ تَصَرُّفُه في مَرَضِه إلَّا في الثُّلثِ إذا لم تُجِزِ الوَرَثَةُ، وعِتْقُ سالِمٍ مُنْجَزٌ، وعِتْقُ غانمٍ وَصِيَّةٌ، فيُقَدَّمُ عِتْقُ سالمٍ على الوَصِيَّةِ. 5005 - مسألة: (وإن شَهِدَتْ بَيِّنَةُ غانمٍ أنَّه أعْتَقَه في مَرَضِهِ أيضًا، عَتَق أقْدَمُهما تاريخًا، فإن جُهِل السَّابِقُ، عَتَق أحدُهما بالقُرْعَةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى سالمٌ أنَّه أعْتَقَه في مَرَضِ مَوْتِه، وادَّعَى عبدُه غانمٌ أنَّه أعْتَقَه في مَرضِ مَوْتِه، وأقامَ كلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعْواه، فلا تَعارُضَ بينَهما؛ لأنَّ ما شَهِدَت به كلُّ بَيِّنَةٍ لا يَنْفِى ما شَهِدَت به الأُخْرَى، ولا يُكَذِّبُها، فيثْبُتُ إعْتاقُه لهما؛ فإن كانتِ البَينتان مُؤَرَّخَتَيْن

5006 - مسألة: (فإن كانت بينة أحدهما وارثة، ولم تكذب الأجنبية، فكذلك. وإن قالت: ما أعتق سالما، إنما أعتق غانما. عتق غانم كله. وحكم سالم كحكمه لو لم يطعن فى بينته، فى أنه يعتق إن تقدم تاريخ عتقه، أو خرجت له القرعة، وإلا فلا. وإن كانت الوارثة فاسقة، ولم تطعن فى بينة سالم، عتق سالم كله، وينظر فى)

فَإنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَارِثَةً، وَلَمْ تُكَذِّبِ الْأَجْنَبِيِّةَ، فَكَذَلِكَ. وَإنْ قَالَتْ: مَا أَعْتَقَ سَالِمًا، إنَّمَا أَعْتَقَ غَانِمًا. عَتَقَ غَانِمٌ كُلُّهُ. وَحُكْمُ سَالِمٍ كَحُكْمِهِ لَوْ لَمْ يُطْعَنْ فِى بَيِّنَتِهِ، فِى أَنَّهُ يَعْتِقُ إِنْ تَقَدَّمَ تَارِيخُ عِتْقِهِ، أَوْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَإلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَتِ الوَارِثَةُ فَاسِقَةً، وَلَمْ تَطْعَنْ فِى بَيِّنَةِ سَالِمٍ، عَتَقَ سَالِمٌ كُلُّهُ، وَيُنظَرُ فِى غَانِمٍ، فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه لا يَخلُو من شُبْهَةٍ بإحْدَى الصُّورَتَيْن اللَّتَيْن ذَكَرْناهما، والقُرْعَةُ ثَابتَةٌ في كلِّ واحدةٍ (¬1) منهما. وقولُهم: إنَّ في القُرْعَةِ احْتِمَالَ إرْقَاقِ الحُرِّ. قلْنا: وفى القِسْمَةِ إرْقاقُ نِصْفِ الحُرِّ يَقِينًا، وتَحْرِير نِصْفِ الرَّقِيقِ يَقِينًا، وهو أعْظَمُ ضَرَرًا. 5006 - مسألة: (فإن كانَتْ بَيِّنَةُ أحَدِهما وارِثَةً، ولم تُكَذِّبِ الأجْنَبِيِّةَ، فكذلك. وإن قالَت: ما أعْتَقَ سالمًا، إنَّما أعْتَقَ غانمًا. عَتَق غانمٌ كلُّه. وحُكْمُ سالِمٍ كحُكْمِه لو لم يَطْعَنْ في بَيِّنَتِه، في أنَّه يَعْتِق إن تَقَدَّمَ تارِيخُ عِتْقِه، أو خرَجَت له القرْعَةُ، وإلَّا فلا. وإن كانَتِ الوارِثَةُ فاسِقَةً، ولم تَطْعَنْ في بَيِّنَةِ سالمٍ، عَتَق سالمٌ كلُّه، ويُنْظَرُ في) بَيِّنَةِ ¬

(¬1) في الأصل: «واحد».

كَانَ تَارِيخُ عِتْقِهِ سَابِقًا، أَوْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، عَتَقَ كُلُّهُ. وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا، أَوْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِسَالِمٍ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَىْءٌ. وَقَالَ القَاضِى: يَعْتِقُ مِنْ غَانِمٍ نِصْفُهُ. وَإِنْ كَذَّبَتْ بَيِّنَةَ [344 و] سَالِمٍ، عَتَقَ العَبْدَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (غانمٍ، فإن كان تارِيِخُ عِتْقِه سابقًا، أو خَرَجَتِ القُرْعَةُ له، عَتَق كلُّه. وإن كان مُتَأَخِّرًا، أو خرَجَتِ القُرْعَةُ لسالِمٍ، لم يَعْتِقْ منه شَئٌ. وقال القاضِى: يَعْتِقُ مِن غانِمٍ نِصْفُه. وإن كَذَّبَت بَيِّنَةَ سَالِمٍ، عَتَقَ العَبْدانِ) وجملةُ ذلك، أنَّ المَرِيضَ إذا خَلَّفَ ابْنَيْن، لا وارِثَ له سِواهما، فشهِدا أنَّه أعْتَقَ سالمًا في مَرَضِ مَوْتِه، وشهدَ أجْنَبِيَّان أنَّه أعْتَقَ غانمًا في مَرَضِ مَوْتِه، وكلُّ واحِدٍ ثُلُثُ مَالِه، ولم يَطْعَنْ الابْنان (¬1) في شَهادَتِهما، وكانتِ البَيِّنتَان عادِلَتَيْن، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ فيما إذا كانَتا أجْنَبِيَّتيْن سَواءً؛ لأنَّه قد ثَبَت أنَّ المَيِّتَ أعْتَقَ العَبْدَيْن. وإن طَعَن الابْنان (1) في ¬

(¬1) في ق، م: «الاثنان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شهادَةِ الأجْنَبِيَّيْن، وقالا: ما أعْتَقَ غانِمًا، إنَّما أعْتَقَ سالِمًا. لم يُقْبَلْ قَوْلُهما في رَدٍّ شهادَةِ الأجْنَبِيَّةِ؛ لأنَّها بَيِّنَةٌ عادِلَةٌ مُثْبِتةٌ، والأُخْرَى نافِيَةٌ، وقَوْلُ المُثْبِتِ يُقَدَّمُ على قَوْلِ النَّافِى، ويكون حُكْمُ ما شَهِدَت به إذا لم [يَطْعَنِ الوَرَثَةُ] (¬1) في شهادَتِها، أنَّه يَعْتِقُ إن تَقَدَّمَ تارِيخُ عِتْقِه، أو خَرَجَت له القُرْعَةُ، ويَرِقُّ إذا تَأَخَّرَ [تارِيخُ عِتْقِه] (¬2)، أو خَرَجَتِ القُرْعَةُ لغيرِه. وأمَّا الذى شَهِدَ به الابْنان، فيَعْتِق كلُّه؛ لإِقْرارِهما بإعْتاقِه وَحْدَه، واسْتِحْقاقِه الحُرِّيَّةَ. وهذا قولُ القاضى. وقِيل: يَعْتِقُ ثُلُثاه إن حُكِم بعِتْقِ سالمٍ، وهو ثُلُثُ الباقِى؛ لأنَّ العبْدَ الذى شَهِدَ به الأجْنَبِيَّان كالمَغْصُوبِ مِن التَّرِكَةِ، والذَّاهِب مِن التَّرِكَةِ بمَوْتٍ أو تَلَفٍ، فيَعْتِقُ ثُلُث الباقِى، وهو ثُلُثا غانمٍ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ المُعْتَبَرَ خُروجُه مِن الثُّلُثِ حالَ المَوْتِ، وحالَ الموتِ (¬3) في قَوْلِ الابْنَيْن لم يَعْتِقْ سَالمٌ، إنَّما عَتَقَ بالشَّهادةِ بعد المَوْتِ، فيكونُ ذلك بمنْزِلَةِ مَوْتِه بعدَ مَوْتِ سَيِّدِه، فلا يَمْنَعُ من عِتْقِ مَنْ خَرَجَ مِن الثُّلُثِ قبلَ مَوْتِه. فإن كان الابْنان (¬4) فاسِقَيْن ولم ¬

(¬1) في م: «تطعن الوارثة». (¬2) في ق، م: «تاريخه». (¬3) في م: «الميت». (¬4) في ق، م: «الاثنان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرُدَّا شهادَةَ الأَجْنَبِيَّةِ، ثَبَت العِتْقُ لسالمٍ، ولم يُزاحِمْه مَن شَهِد له الابْنان (¬1)، لفسْقِهِما (¬2)، فلا يُقْبَلُ قَوْلُهما في إسْقاطِ حَقٍّ ثَبَت ببَيِّنَةٍ عادِلَةٍ، وقد أقَرَّ الابْنان بعِتْقِ غانمٍ، فيُنْظرُ؛ فإن تَقَدَّمَ تارِيخُ عِتْقِه، أو أُقْرِعَ بينَهما، فمَنْ خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، عَتَقَ كُلُّه، كما قُلْنا في التى قبلَها. وإنْ تأَخَّرَ تارِيخُ عِتْقِه، أو خَرَجَتِ القُرْعَةُ لغيْرِه، لم يَعْتِقْ منه شئٌ؛ لأنَّ الابْنَين (¬3) لو كانا عَدْلَيْن، لم يَعْتِقْ منه شئٌ، فإذا كانا فاسِقَيْن أوْلَى. وقال القاضى، وبعضُ أصْحابِ الشافعىِّ: يَعْتِقُ نِصْفُه في الأحْوالِ كلِّها؛ لأنَّه اسْتَحَقَّ العِتْقَ بإقْرارِ الوَرَثَةِ، مع ثُبُوتِ [العِتْقِ للآخَرِ] (¬4) بالبَيِّنَةِ العادِلَةِ، فصار بالنِّسبةِ (¬5) كأنَّه أعْتَقَ العَبْدَيْن، فيَعْتِقُ منه نِصْفُه. قال شيْخُنا (¬6): وهذا لا يَصِحُّح فإنَّه لو أعْتَقَ العَبْدَيْن، لأعْتَقْنَا أحَدَهما ¬

(¬1) في ق، م: «الاثنان». (¬2) بعده في المغنى: «لأن شهادة الفاسق كعدمها». (¬3) في ق، م: «الاثنين». (¬4) في م: «عتق الآخر». (¬5) في ق، م: «بالبينة». (¬6) في: المغنى 14/ 307.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقُرْعَةِ، ولأنَّه في حالِ تقْدِيمِ تارِيخِ عِتْقِ (¬1) مَنْ شَهِدَتْ له البَيِّنَةُ، لا يَعْتِقُ منه شئٌ ولو (¬2) كانتْ بَيِّنَةً عادِلَةٌ، فمع فُسُوقِها أوْلَى. وإن كَذَّبَتِ الوارثَةَ الأجْنَبِيَّةُ، فقالتْ: ما أعْتَقَ سالِمًا، إنَّما أعْتَقَ غانِمًا، عَتَقَ العَبْدان. وقِيل: يعْتِقُ مِن غانمٍ ثُلُثاه. والأوَّلُ أَوْلَى. فصل: إذا شَهد عَدْلان أجْنَبِيَّان، أنَّه وَصَّى بعِتْقِ سالمٍ، وشَهِد عَدْلان وارِثان، أنَّه رَجَع عن الوَصِيَّةِ بعِتْقِ سالمٍ (¬3)، ووَصَّى بعِتْقِ غَانمٍ، وقِيمَتُهما سَواءٌ، أو كانت قِيمَةُ غانمٍ أكثرَ، قُبِلَتْ شهادَتُهما، وبَطَلَتْ وَصِيَّةُ عِتْقِ سالمٍ، وقد ذَكَرْناه. فإن كان الوارِثان فاسِقَيْن، لم تُقْبَلْ شهادَتُهما في الرُّجُوعِ، ويَلْزَمُهما إقْرارُهما لغانمٍ، فيَعْتِقُ سالمٌ بالبَيِّنَةَ العادِلةِ، ويَعْتِقُ غانِمٌ بإقْرَار الوَرَثَةِ بالوَصِيَّةِ بإعْتاقِه وَحْدَه. وذَكَر القاضى، وأصحابُ الشافعىِّ، أنَّه إنَّما يَعْتِقُ ثُلُثاه؛ لأنَّه لمَّا أُعْتِقَ سالم بشَهادةِ الأجْنَبِيَّيْن، صار كالمَغْصُوبِ، فصار غانمٌ نِصْفَ التَّرِكَةِ، فيَعْتِقُ ثُلُثاه، وهو ثُلُثُ التَّرِكَةِ. ولَنا، أنَّ الوارِثَةَ (¬4) تُقِرُّ بأنَّه حينَ المَوْتِ ثُلُثُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل: «الورثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التَّرِكَةِ، وأنَّ عِتْقَ سالمٍ إنَّما كان بشهادَتِهما بعدَ المَوْتِ، فصار كالمَغْصُوبِ بعدَ المَوْتِ، ولو غُصِبَ بعدَ الموْتِ، لم يَمْنَعْ عِتْقَ غانمٍ كلِّه، فكذلك الشَّهادَةُ بعِتْقِه. وقد ذكَرَ القاضى، فيما إذا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عادِلَةُ بإعْتَاقِ سَالمٍ في مَرَضِه، ووارِثَةٌ فاسِقَةٌ بإعْتاقِ غانمٍ في مَرَضِه، وأنَّه لِم يُعْتِقْ سالمًا، أنَّ غانِمًا يَعْتِقُ كلُّه. وهذا مثلُه. فأمَّا إن كانتْ قِيمَةُ غانمٍ أقَلَّ مِن قِيمَةِ سالمٍ، فالوارِثَةُ (¬1) مُتَّهَمَةٌ؛ لكَوْنِها تَرُدُّ إلى الرِّقِّ مَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُه، فتُرَدُّ شَهادَتُها (2) في الرُّجُوعِ، كما تُرَدُّ شهادَتُها (¬2) بالرُّجُوعِ عن الوَصِيَّةِ بعِتْقِ سالمٍ. ويَعْتِقُ غانِمٌ كلُّه، أو ثُلُثُ الباقى، على ما ذَكَرْنا مِن الاخْتِلافِ فيما إذا كانتْ فاسِقَةً. فإن لم تَشْهَدِ الوارِثَةُ (¬3) بالرُّجُوعِ عن عِتْقِ سالمٍ، لكن شَهِدتْ بالوَصِيَّةِ بعِتْقِ غانمٍ، وهى بَيِّنَةٌ عادِلَةٌ، ثَبَتتِ الوَصِيَّتان، سَواءٌ كانَتْ قِيمَتُهما سَواءً أو مُخْتَلِفَةً، إن خَرَجا من الثُّلُثِ، وإن لم يَخْرُجا مِن الثُّلُثِ، أُقْرِعَ بينَهما، فيَعْتِقُ مَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، ويَعْتِقُ تَمامُ الثُّلُثِ مِن الآخَرِ، سَواءٌ تقَدَّمَتْ إحْدَى الوَصِيتَّيْن عن الأُخْرَى أو اسْتَوَتَا؛ لأنَّ المُتَقَدِّمَ والمُتَأَخِّرَ مِن الوَصايا سَواءٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «فالورثة». (¬2) في ق، م: «شهادتهما». (¬3) في الأصل: «الورثة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو شَهِدَت بَيِّنَةٌ عادِلَةٌ، أنَّه وَصَّى لزيدٍ بثُلُثِ مالِه، وشَهِدَت بَيِّنَةٌ أُخْرَى أنَّه رَجَع عن الوَصِيَّةِ لزيدٍ، ووَصَّى لعمرٍو بثُلُثِ مالِه، وشَهِدَت بَيِّنَةٌ ثالِثَةٌ أنَّه رَجَع عن الوَصِيَّةِ لعَمْرٍو، ووَصَّى لبكرٍ بثُلُثِ مالِه، صَحَّتِ الشَّهاداتُ (¬1) كلُّها، وكانتِ الوَصِيَّةُ لبكرٍ، سَواءٌ كانتِ البَيِّنَاتُ مِن الورَثَةِ أو لم تكُنْ؛ لأنَّه لا تُهْمَةَ في حَقِّهم. وإن كانَتْ شَهادَةُ البَيِّنَةِ الثالِثَةِ أنَّه رَجَع عن إحْدَى الوَصِيِّتيْن، لم تُفِدْ هذه الشَّهادَةُ؛ لأنَّه قد ثَبَت بالبَيِّنَةِ الثانيةِ أنَّه رَجَع عن الوَصِيَّةِ لزيدٍ، وهى إحْدَى الوَصِيتَّيْن. فعلى هذا، تَثْبُتُ الوَصِيَّةُ لعَمْرٍو. وإن كانَتِ البَيِّنَةُ شَهِدَت بالوَصِيَّةِ لعَمْرٍو، ولم تَشْهَدْ بالرُّجُوعِ عن وَصِيَّةِ زيدٍ، فشَهِدَتِ الثالِثةُ برُجوعِه عن إحْدَى الوَصِيَّتيْن لا بعَيْنِها، فقال القاضى: لا تَصِحُّ الشَّهادةُ. وهو مذْهَبُ الشافعىِّ؛ لأنَّهما لم يُعَيِّنا المَشْهُودَ عليه، وتصيرُ كما لو قالا: نَشْهَدُ أنَّ لهذا على هذين ألْفًا. أو: أنَّ لأحَدِ هذين على هذا ألْفًا. فيكونُ الثُّلُثُ بينَ الجميعِ أثْلاًثا. وقال أبو بكرٍ: قياسُ قَوْلِ أبى عبدِ اللهِ، أنَّه يَصِحُّ الرُّجُوعُ عن إحْدَى الوَصِيَتَّيْن، ويُقْرَعُ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له [قُرْعَةُ الرُّجُوعِ] (¬2) عن وَصِيَّتِه، بَطَلَتْ. وهذا قَوْلُ ابنِ (¬3) أبى موسى. وإذا صَحَّ الرُّجُوعُ عن أحَدِهما بغيرِ تَعْيِينٍ، صَحَّتِ الشَّهادَةُ به لذلك. ووَجْهُ ذلك، أنَّ الوَصِيَّةَ ¬

(¬1) في ق: «كالشهادة». وفى م: «الشهادة». (¬2) في الأصل: «القرعة بالرجوع». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَصِحُّ بالمَجْهولِ، وتصِحُّ الشهادَةُ فيها بالمَجْهُولِ، فجازَت في الرُّجُوعِ مِن غيرِ تَعْيِينِ المَرْجُوعِ (¬1) عن وَصِيَّتِه. فصل: إذا شهِد شاهِدان أنَّه وَصَّى لزيدٍ بثُلُثِ ماله، وشهِد واحِدٌ أنَّه وَصَّى لعمرٍو بثُلُثِ مالِه، انْبَنَى هذا على أنَّ (¬2) الشاهِدَ واليَمِينَ هل يُعارِضُ الشَّاهِدَيْن؟ فيه (¬3) وَجْهان؛ أحدُهما، يتَعارَضان، فيَحْلِفُ عمرٌو (¬4) مع شاهِدِه، ويُقْسَمُ الثُّلُثُ (¬5) بينَهما؛ لأنَّ الشاهِدَ واليمِينَ حُجَّةٌ في المالِ، فأشْبَهَ الشاهِدَيْن. والثانى، لا يُعارِضُهما؛ لأنَّ الشاهِدَيْن أقْوَى. فعلى هذا، يَنْفَرِدُ زيدٌ بالثُّلُثِ، وتَقِفُ وَصِيَّةُ عَمْرٍو على إجازَةِ الوَرَثةِ. فأمَّا إن شهِد واحِدٌ أنَّه رَجَع عن وَصِيَّةِ زيدٍ، ووَصَّى لعمرٍو بثُلُثِه، فلا تَعارُضَ بينَهما، ويَحْلِفُ عَمْرٌو مع شاهِدِه، وتَثْبُتُ الوَصِيَّةُ له. والفَرْقُ بينَ المسْألَتَيْن، أنَّ في الأُولَى، تَقابَلَتِ البَيِّنَتَان، فقَدَّمْنا أقْواهما (¬6)، وفى الثَّانِيَةِ، لم يَتَقابَلا، وإنَّما يثْبُتُ بالرُّجُوعِ، وهو يثْبُتُ بالشَّاهِدِ واليَمِينِ؛ لأنَّ المقْصُودَ به المالُ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. ¬

(¬1) في النسخ: «الرجوع»، والمثبت كما في المغنى 14/ 309. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في الأصل: «وفيه». (¬4) في م: «عمر». (¬5) في ق، م: «الثالث». (¬6) في ق، م: «إقرارها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا اخْتَلَفا في دارٍ في يَدِ أحَدِهما، فأقامَ المُدَّعِى بَيِّنَةً، أنَّ هذه الدَّارَ كانَتْ أمسِ مِلْكَه، أو منذُ شَهْرٍ، فهل تُسْمَعُ هذه البَيِّنَةُ، ويُقْضَى بها؟ على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، تُسْمَعُ، ويُحْكَمُ بها؛ لأنَّها تُثْبِتُ المِلْكَ في الماضِى، وإذا ثَبَث اسْتُدِيمَ حتى يُعْلَمَ زَوالُه. والثانى، لا يُحْكَمُ بها. قال القاضى: وهو الصَّحِيحُ؛ لأنَّ الدَّعْوى لا تُسْمَعُ ما لم يَدَّعِ المُدَّعِى المِلْكَ في الحالِ، فلا تُسْمَعُ بَيِّنَتُه على ما لم يَدَّعِهِ، لكن إنِ انْضَمَّ إلى شهادتِهما (¬1) بَيانُ سَبَبِ يَدِ الثَّانِى، وتَعْرِيفُ تَعدِّيها (¬2)، فقالا: نَشْهَدُ أنَّها كانتْ مِلْكَه أمسِ، فغَصَبَها هذا منه. أو: سَرَقَها. أو: ضَلَّتْ منه، فالتَقَطَها هذا. ونحوَ ذلك، سُمِعَتْ، وقضِىَ بها؛ لأنَّها إذا لم تُبَيِّنِ السَّبَبَ، فاليَدُ دَلِيلُ المِلْكِ، ولا تَنافِىَ بينَ ما شَهِدَتْ به البَيِّنَةُ، وبينَ دَلالَةِ اليَدِ، لجَوَازِ (¬3) أن تكونَ مِلْكَه أمسِ، ثم تَنْتَقِلُ إلى صاحِبِ اليَدِ، فإذا ثَبَت أنَّ سَبَبَ اليَدِ عُدْوانٌ، خَرَجَتْ عن كوْنِها دَلِيلًا، فوَجَب القَضاءُ باسْتِدامَةِ المِلْكِ السَّابقِ. وإن أقَرَّ المُدَّعَى عليه أنَّها كانَتْ مِلْكًا للمُدَّعِى أمسِ، أو فيما مَضَى، سُمِع إقْرارُه، وحُكِمَ به، في الصَّحِيحِ؛ لأنَّه ¬

(¬1) في الأصل: «شهادتها». (¬2) ق م: «تعديهما». (¬3) في الأصل: «يجوز».

فَصْلٌ: إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ؛ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ، فَإِنْ عُرِفَ أَصْلُ دِينِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، فَالْمِيرَاثُ لِلْكَافِرِ؛ لِأَنَّ المُسْلِمَ لَا يُقِرُّ وَلَدَهُ عَلَى الكُفْرِ فِى دَارِ الإِسْلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَئذٍ يحْتاجُ إلى بَيانِ سَبَبِ انْتِقالها إليه، فيَصيرُ هو المُدَّعِىَ، فيَحْتاجُ إلى البَيِّنَةِ. ويُفارِقُ البَيِّنَةَ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّه أقْوَى مِن البَيِّنَةِ، لكَوْنِه (¬1) شهادةً مِن الإِنْسانِ على نَفْسِه، ويزولُ به النِّزَاعُ، بخِلافِ البَيِّنَةِ، ولهذا يُسْمَعُ في المجْهُولِ، ويُقْضَى به، بخِلافِ البَيِّنَةِ. والثَّانى، أنَّ البَيِّنَةَ لا تُسْمَعُ إلَّا على ما ادَّعاه، والدَّعْوى يجبُ أن تَكونَ مُعَلَّقَةً بالحالِ، والإِقْرارُ يُسْمَعُ ابْتِداءً. وإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ أنَّها كانَتْ في يَدِه أمسِ، ففى سَماعِها الوَجهان. وإن أقَرَّ المُدَّعَى عليه بذلك، فالصَّحِيحُ أنَّه يُسْمَعُ، ويُقْضَى به؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه اللهُ: (إذا مات رجلٌ وخَلَّفَ وَلَدَيْن؛ مُسلِمًا وكافِرًا، فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه مات على دينِه، فإن عُرِف أصْلُ دِينِه، فالقولُ قولُ مَن يَدَّعِيه، وإن لم يُعْرَفْ، فالمِيراثُ للكافِرِ؛ لأنَّ المسلمَ لا يُقِرُّ ولَدَه على الكُفْرِ في دارِ الإِسلامِ) إذا مات رجلٌ لا يُعْرَفُ ¬

(¬1) في ق، م: «لكونها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دِينُه، وخَلَّفَ تَرِكَةً وابْنَيْن، [يعْتَرفان أنَّه أبوهما] (¬1)، أحَدُهما مُسْلِمٌ، والآخَرُ كافِرٌ، فادَّعَى كلُّ واحِدٍ منهما أنَّه مات على دِينِه، وأنَّ المِيرَاثَ له دُونَ أخِيهِ، فالميرَاثُ للكافِرِ. ذَكَرَه الخِرَقِىُّ؛ لأنَّ دَعْوَى المُسْلِمِ لا تخْلُو مِن أن يَدَّعِىَ كَوْنَ المَيِّتِ مُسْلِمًا أصْلِيًّا، فيجبَ كونُ أوْلادِه مُسْلِمِين، ويَكونَ أخُوهُ الكافِرُ مُرْتَدًّا، وهذا خِلافُ الظَّاهِرِ، فإنَّ المُرْتَدَّ لا يُقَرُّ على رِدَّتِه في دارِ الإِسْلامِ. أو يقولَ: إنَّ أباه كان كافِرًا، فأسْلَمَ قبلَ مَوْتِه. فهو مُعْتَرِفٌ بأنَّ الأصْلَ ما قالَه أخُوهُ، مُدَّعٍ زَوالَه وانْتِقالَه، والأصْلُ بَقاءُ ما كان على ما كان، حتى يَثْبُتَ زَوالُه. وذَكَر ابنُ أبى موسى عن أحمدَ رِوايَةً أُخْرَى، أنَّهما في الدَّعْوَى سَواءٌ، فالمِيرَاثُ بينَهما نِصْفَيْن، كما لو تَنازَعَ اثْنان عَيْنًا في يَدَيْهما. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المِيراثُ للمسلمِ منهما. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّ الدَّارَ دارُ الإِسلامِ، يُحْكَمُ بإسْلامِ لَقِيطِها، ويثْبُتُ للمَيِّتِ فيها إذا لم يُعْرَفْ أصْلُ دِينِه، حُكْمُ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسْلامِ؛ في الصَّلاةِ عليه، ودفْنِه، وتَكْفِينِه مِن الوَقْفِ المَوْقُوفِ على تَكْفِينِ أمْواتِ المُسْلِمِين، ولأنَّه يُدْفَنُ في مَقابِرِ المُسلمين، ويُغَسَّلُ، فيَثْبُتُ فهه سائِرُ أحْكام المسْلمين، فكذلك في مِيراثِه، ولأنَّ الإِسْلامَ يَعْلُو ولا يُعْلَى، ويجوزُ أن يَكونَ أخُوه الكافِرُ مُرْتَدًّا، لم تَثْبُتْ عندَ الحاكِمِ رِدَّتُه، ولم يَنْتَهِ إلى الإِمام خبرُه، وظُهورُ الإسلام بناءً على هذا أظْهَرُ مِن ثُبُوتِ الكُفْرِ بِناءً على كُفْرِ أبِيه، ولهذا جَعَل الشَّرْعُ أحكًامَه أحْكامَ المسلمين، فيما عَدَا المُتَنَازَعَ فيه. وقال القاضى: قياسُ المذهبِ أنَّنا نَنْظُرُ؛ فإن كانتِ التَّرِكَةُ في أيْدِيهما، [قُسِمَت بينَهما نِصْفين، وإن لم تَكُنْ في أيديهما] (¬1)، أُقْرِعَ بينَهما، فمَن قَرَع صاحِبَه، حَلَف، واسْتَحَقَّ، كما قُلْنا فيما إذا تَداعَيا عَيْنًا. ويَقْتَضِى كَلامُه، أنَّها إذا كانَتْ في يَدِ أحدِهما، فهى له مع يَمينِه. وهذا قَوْلٌ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُقِرُّ بأنَّ هذه التَّرِكَةَ تَرِكَةُ هذا المَيِّتِ، وأنَّه إنَّما يَسْتَحِقُّها بالمِيراثِ، فلا حُكمَ ليَدِه. وقال أبو الخَطَّابِ: يَحْتَمِلُ أن يَقِفَ الأمْرُ حتى يُعْرَفَ أصْلُ دِينِه أو يَصْطَلِحا. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقد ذَكَرْنا الدَّلِيلَ على ظُهورِ كُفْرِه، فأمَّا ظُهورُ حُكْمِ الإِسْلامِ في الصَّلاةِ عليه، وغَسْلِه، وغيرِ ذلك، فإنَّ هذا لا ضَرَرَ فيه على أحَدٍ. وأمَّا قَوْلُه: إنَّ الإِسْلامَ يَعْلُو ولا ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

وَإنْ لَمْ يَعْتَرِفِ المُسْلِمُ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْلَى. فإنَّما يَعْلُو إذا ثَبَت، والنِّزاعُ في ثُبُوتِه. وهذا إذا لم يَثْبُتْ أصْلُ دِينِه، فإن ثَبَت أصْلُ دِينِه، فالقولُ قولُ مَن يَنْفِيه عليه (¬1) مع يَمِينِه. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ: القَوْلُ قولُ المُسْلِمِ على كلِّ حالٍ؛ لِما ذَكَرْنا في التى قبلَها. ولَنا، أنَّ الأصْلَ بَقاءُ ما كان عليه، فكان القوْلُ قولَ مَن يَدَّعِيه، كسائِرِ المَواضِعِ. (و) أمَّا (إن لم يَعْتَرِفِ المُسْلِمُ أنَّه أخُوه) وادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنَّ المَيِّتَ أبُوه دُونَ الآخَرِ، فهما سَواءٌ في الدَّعْوَى؛ لتَساوِى أيْدِيِهما (¬2) عليه ودَعاوِيهما، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل.

لِأنَّ حُكْمَ المَيِّتِ حُكْمُ المُسْلِمِينَ، فِى غَسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ القَاضِى: القِيَاسُ أَن يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَظْهَرَ أَصْلُ دِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ المسلمَ والكافِرَ في الدَّعْوى سَواءٌ، ويُقْسَمُ المالُ بينَهما نِصْفَيْن، كما لو كان في أيْدِيهما دارٌ، فادَّعى كلُّ واحدٍ منهما أنَّها له، ولا بَيِّنَةَ لهما. ويَحْتَمِلُ أنْ يُقدَّمَ قَوْلُ المسلمِ (لأنَّ حُكْمَ الميِّتِ حُكْمُ المسلمين، في غَسْلِه، والصَّلاةِ عليه) وسائِرِ أحْكامِه (وقال القاضى: يُقْرَعُ بينَهما) كما إذا تَداعيا عَيْنًا في يَدِ غيرِهما، ولم يَدَّعِها لنَفْسِه (ويَحْتَمِلُ أن يَقِفَ الأمْرُ حتَّى يُعْرَفَ أصْلُ دِينِه) وهو قَوْلُ الشافعىِّ. إلَّا أن يَصْطَلِحا.

5007 - مسألة: (وإن أقام كل واحد بينة أنه مات على دينه، تعارضتا، وإن قال شاهدان: نعرفه مسلما. وقال شاهدان: نعرفه كافرا. فالميراث للمسلم، إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم)

وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينهِ، تَعَارَضَتَا، وَإِنْ قَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ مُسْلِمًا. وَقَالَ شَاهِدَانِ: نَعْرِفُهُ كَافِرًا. فَالْمِيرَاث لِلْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يُؤَرِّخِ الشُّهُودُ مَعْرِفَتَهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5007 - مسألة: (وإن أقامَ كلُّ واحدٍ بَيِّنَةً أنَّه مات على دِينِه، تَعارَضَتا، وإن قال شاهِدانِ: نَعْرِفه مُسْلِمًا. وقال شاهِدان: نَعْرِفُهُ كافِرًا. فالميراثُ للمسلمِ، إذا لم يُؤَرِّخِ الشُّهُودُ مَعْرِفَتَهم) أمَّا إذا أقاما بَيِّنَتَيْن، كلُّ واحدٍ بَيِّنَةً أنَّه مات على دِينِه، ولم يُعْرَفْ أصْلُ دِينِه (¬1)، تعارَضَتا. وإن عُرِف أصْلُ دِينِه، نَظَرْنا في (¬2) لفْظِ الشَّهادَةِ؛ فإن شَهِدَت كلُّ واحِدَةٍ منهما أنَّه كان آخِرُ كَلامِه التَّلَفُّظَ بما شَهِدَت به، فهما مُتَعارِضَتان، وإن شَهِدَت إحْداهما أنَّه مات على دِينِ الإِسلامِ، وشَهِدَتِ الأُخْرَى أنَّه مات على دِينِ الكُفْرِ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ مَن يَدَّعِى انْتِقالَه عن دِينِه؛ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «يخالف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ المُبْقِيَةَ له على أصْلِ دِينِه، ثبتَتْ شَهادَتُها على الأصْلِ الذى تَعْرِفُه؛ لأنَّهما إذا عَرَفا أصْلَ دِينِه ولم يَعْرِفا انْتِقالَه عنه، جاز لهمِا أن يَشْهَدا أنَّه مات على دِينِه الذى عَرَفاه، والبَيِّنَةُ الأُخْرَى معها عِلْمٌ لم تَعْلَمْه الأُولَى، فقُدِّمَتْ عليها، كما لو شَهِدا أنَّ هذا العَبْدَ كان مِلْكًا لفُلانٍ إلى أن مات، وشَهِد آخران أنَّه أعْتَقَه أو باعَه قبلَ مَوْتِه، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ العِتْقِ والبَيْعِ. فأمَّا إن قال شاهِدان: نَعْرِفُه مُسْلِمًا. وقال شاهِدان: نَعْرِفُه كافِرًا. نَظَرْنا في تَارِيخِهما؛ فإنِ اخْتَلَف تَارِيخُهما، عُمِل بالآخِرَةِ منهما؛ لأنَّه ثَبَت أنَّه انْتَقَلَ عما شَهِدَت به الأُولَى إلى ما شَهِدَت به الأُخْرَى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن كانَتا مُطْلَقَتَيْن، أو إحداهما مُطْلَقَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ المُسْلِمِ؛ لأنَّ المسلِمَ لا يُقَرُّ على الكُفْرِ في دارِ الإِسْلامِ، وقد يُسْلِمُ الكافِرُ فيُقَرُّ. وإن كانَتا مُؤَرَّختَيْن بتاريخٍ واحدٍ، نَظَرْنا في شَهادَتِهما؛ فإن كانَتْ على اللَّفْظِ، فهما مُتَعارِضَتان. وإن لم تكُنْ على اللَّفْظِ، ولم يُعْرَفْ أصْلُ دِينِه، فهما مُتَعارضَتان. وإن عُرِف أصْلُ دِينه، قُدِّمَتِ الناقِلَةُ له عن أصْلِ دِينِه. وكلُّ مَوْضِعٍ تَعارَضَتِ البَيِّنَتانِ، فقال الخِرَقِىُّ: تسْقُطُ البَيِّنَتان، ويَكُونان كمَن لا بَيِّنَةَ لهما. وقد ذَكَرْنا رِوايَتَيْن أُخْرَيَيْن؛ إحْداهُما، يُقْرَعُ بينَهما، فمَن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، حَلَف، وأخَذ. والثانيةُ، يُقْسَمُ بينَهما. ونحوَ هذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الإِسلامِ على كلِّ حالٍ. وقد مَضَى الكَلامُ معه. وقد قال الخِرَقِىُّ: إذا قال شاهِدان: نَعْرِفُه كان مسلمًا. وقال شاهِدان: نَعْرِفُه كان كافِرًا. فالمِيراثُ للمُسْلِمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا لم يُؤَرِّخِ الشُّهودُ مَعْرِفَتَهم. وهو مَحْمُولٌ على مَنْ لم يُعْرَفْ (¬1) أصْلُ دِينِه، أو على أنَّ أصْلَ دِينِه الكُفْرُ. أمَّا مَن كان مُسْلِمًا في الأصْلِ، فيَنْبَغِى أن تُقَدَّمَ بَيِّنَةُ الكُفْرِ؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الإِسْلامِ يَجُوزُ أنْ تَسْتَنِدَ إلى ما كان عليه في الأصْلَ. فصل: وإن خَلَّف ابْنًا مُسْلِمًا، وأخًا كافِرًا، فاخْتَلَفا في دِينِه حالَ مَوْتِه، فالحُكْمُ فيها كالتى قبلَها. وهكذا سائِرُ الأقارِبِ. ¬

(¬1) في ق، م: «يعلم».

5008 - مسألة: (وإن خلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فاختلفوا فى دينه، فالقول قول الأبوين. ويحتمل أن القول قول الابنين)

وَإِنْ خَلَّفَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ وَابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَاخْتَلَفُوا فِى دِينِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبَوَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ القَوْلَ قَوْل الِابْنَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5008 - مسألة: (وإن خَلَّف أبوَيْن كافِرَيْن وابْنَيْن مُسْلِمَيْنِ، فاخْتَلَفُوا في دِينِه، فالقولُ قولُ الأبوَيْنِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ القولَ قولُ الابْنَيْن) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ القولَ قولُ الأبوَيْن؛ لأنَّ كَوْنَ الأبوَيْن كافِرَيْن [بمَنْزِلَةِ مَعْرفةِ] (¬1) أصْلِ دِينِه؛ لأنَّ الوَلَدَ قبلَ بُلُوغِه مَحْكُومٌ له بدِينِ أبَوَيْه، فيثْبُتُ أنَّه كان كافِرًا في صِغَرِه. ويَحْتَمِلُ أنَّ القولَ قولُ الابْنَيْن؛ لأنَّ كُفْرَ أُبوَيْه يدُلُّ على أصْلِ دِينِه في صِغَرِه، وإسْلامَ ابْنَيْه يدُلُّ على إسْلامِه في كِبَرِه، فيُعْمَلُ بهما جميعًا، يُحْمَلُ كلُّ واحدٍ منهما على مُقْتَضاه، فهو كما لو قال شاهِدان: نَعْرِفُه كافِرًا في صِغَرِه. وقال شاهِدان: نَعْرِفُه مُسْلِمًا في كِبَرِه. ¬

(¬1) في الأصل: «بمعرفة».

5009 - مسألة: (وإن خلف ابنا كافرا وأخا وامرأة مسلمين، فاختلفوا فى دينه، فالقول قول الابن، على قول الخرقى)

وإنْ خَلفَ ابْنًا كَافِرًا [344 ظ] وَأخًا وَامْراةً مُسْلِمَيْنِ، فَاخْتَلَفُوا فِى دِينهِ، فَالْقَوْل قَوْلُ الِابنِ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِىِّ. وَقَالَ القَاضِى: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أبو بَكْر: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ تُعْطَى الْمَرأَةُ الرُّبْعَ، وَيُقْسَمَ الْبَاقِى بَيْنَ الِابنِ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5009 - مسألة: (وإن خلفَ ابْنًا كافِرًا وأخًا وامْرَأةً مُسْلِمَيْن، فاخْتَلَفُوا في دِينه، فالقولُ قولُ الابنِ، على قولِ الخِرَقِىِّ) ووَجْهُه ما سَبَق فيما إذا خَففَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وكافِرًا (وقال القاضى: يُقْرَعُ بينهما) وقد سَبَق تَعْلِيلُه في مَسألةِ الابنَيْن (وقال أبو بكرِ: قِياسُ المسْألةِ أن تُعْطَى المرْأةُ الرُّبْعَ، ويُقْسَمَ الباقى بينَ الأخِ والابنِ نِصْفيْن) لأنها تَدَّعِى زِيادَةً عليه، فتدْخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (¬1). فلا تَخْرُجُ إلَّا بدَليلٍ يُخَصِّصُها (¬2)، ولا تَخْرُجُ بالشَّكِّ، ويُقْسَمُ الباقِى بينَ الآخرَيْن (¬3)، لتَساوِيهما في الدَّعْوى وهو في أْيدِيهما. ¬

(¬1) سورة النساء 12. (¬2) في ق، م: «تخصيصها». (¬3) في ق، م: «الأخوين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو مات مسلِمٌ، وخلفَ زَوْجَةً ووَرَثَةً سِواها، وكانَتِ الزَّوْجَةُ كافِرَةً، ثم أسْلَمَتْ، وادَّعَتْ أنَّها أسْلَمَتْ قبلَ مَوْتِه، وأنْكَرَها الوَرَثَةُ، فالقَوْلُ قوْلُهم؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ ذلك. فإن لم يَثْبُتْ أنَّها كافِرَةٌ، فادَّعَى عليها الوَرَثَةُ أنَّها كانَتْ كافِرَةً، فأنْكَرَتْهم، فالقَوْلُ قوْلُها؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ ما ادعوْه. وإنِ ادعوْا أنه طَلقَها قبَل مَوْتِه، فأنْكَرَتْهم، فالقَوْلُ قولُها. فإنِ اعتَرَفَتْ بالطلاق، وانْقِضاء العِدةِ، وادَّعَتْ أنّه رَاجَعَها، فالقَوْلُ قَوْلُهم. وإنِ اخْتَلَفُوا في انْقِضاءِ عِدَّتِها، فالقَوْلُ قوْلُها، في أنها لم تَنْقَضِ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاؤها. ولا نَعلَمُ في هذا كُلِّه خِلافًا. وبه قال الشافعىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ. ولو خَلَّفَ وَلَدَيْن مُسْلِمَيْن، اتَّفَقا على أن أحَدَهما كان مُسْلِمًا حينَ موتِ أبيه، وادَّعَى الآخَرُ أنه أسْلَمَ في حياةِ أبيه، وجَحَدَه أخُوه، فالمِيرَاثُ للمُتفَقِ عليه؛ لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الكُفْرِ، إلا أنْ يُعلَمَ زَوالُه، وعلى أخِيه اليَمِينُ، وتكونُ على نَفْىِ العِلْمِ؛ لأنَّها على نَفْىِ فعلِ أخِيه، إلَّا أن يَكونَ ثَبَت أنَّه أسْلَمَ قبلَ قَسْمِ الترِّكَةِ، فيَرِثُ،

5010 - مسألة: (ولو مات مسلم، وخلف ولدين؛ مسلما وكافرا، فأسلم الكافر، وقال: أسلمت قبل موت أبى. وقال أخوه

وَلَوْ مَاتَ مُسلِم وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ؛ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، فَأسْلَمَ الكَافِرُ، وَقَالَ: أسلَمتُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِى. وَقَالَ أخُوهُ: بَلْ بَعدَهُ. فَلَا مِيرَاثَ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ مَن أسْلَمَ على مِيراثٍ قبلَ القِسْمَةِ، قُسِمَ له. كان كان أحَدُهما حُرًّا، والآخَرُ رَقِيقًا، ثم عتَق واخْتَلَفا في حُرِّيَّتِه عندَ المَوْتِ، فالقَوْلُ قولُ مَن يَنْفِيها. وإن لم يَثْبُتْ أنَّه كان رَقِيقًا ولا كافِرًا، فادَّعَى عليه أنَّه كذلك، فأنْكَرَ، فالقَوْلُ قولُه، والمِيراثُ بينَهما؛ لأنَّ الأصلَ الحُرِّيةُ والإسْلامُ، وعَدَمُ ما سِواهُما. فصل: إذا أسْلَمَ أحَدُ الابنَيْن في غُرَّةِ شَعبانَ، والآخَرُ في غُرَّةِ رَمضانَ، واخْتَلَفا في مَوْتِ أبِيهِما، فقال الأوَّلُ: مات في شعبانَ فَوَرِثتُه وَحْدِى. وقال الآخَرُ: مات في رمضَانَ. فالمِيراثُ بينَهما؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ حَياتِه حتى يعلَمَ زَوالُها. فإن أقامَ كلُّ (¬1) واحدٍ منهما بَيِّنَةً بدَعواه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، يتَعارَضان. والثاني، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ مَوْتِه في شَعبانَ؛ لأنَّ (¬2) معها زِيادَةَ عِلْم، لأنَّه ثَبَت مَوْتُه في شعبانَ، ويجوزُ أن يَخْفَى ذلك على البَيِّنَةِ الأُخْرَى. 5010 - مسألة: (ولو مات مُسْلمٌ، وخَلَّفَ وَلَدَيْن؛ مُسْلِمًا وكافِرًا، فأسْلَمَ الكافِرُ، وقال: أسْلمتُ قبلَ مَوْتِ أبى. وقال أخُوه: ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «لأنها».

5011 - مسألة: (وإن قال: أسلمت فى المحرم، ومات أبى فى صفر)

لَهُ، فَإنْ قَالَ: أسْلَمتُ فِى الْمُحَرَّم، وَمَاتَ أبِى فِى صَفَرٍ. وَقَالَ أخُوهُ: بَلْ مَاتَ فِى ذِى الْحِجَّةِ. فَلَهُ الْمِيرَاثُ مَعَ أَخِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بل بعدَه. فلا مِيرَاثَ له) لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الكُفرِ حتى يُعلَمَ زَوالُه، وعلى أخِيهِ اليَمِينُ، وتكونُ على نَفْىِ العِلْمِ؛ لأنَّها على نَفْىِ فِعْلِ الغيرِ، وقد ذَكَرناه. 5011 - مسألة: (وإن قال: أسْلَمتُ في المُحَرم، وماتَ أبِى في صفَر) فلِىَ المِيرَاثُ (وقال أخُوه: بل ماتَ في ذِىَ الحِجَّةِ. فله المِيراثُ مع أخِيهِ) لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الحَياةِ. فإن أقامَ كلُّ واحِدٍ بَينةً بدَعواه، فهل يَتعارَضان، أو تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ مَن ادَّعَى تَقْدِيمَ مَوْتِه؟ فيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجهان، ذَكَرناهُما في الفَصلِ قبلَ هاتَيْن المسْأَلَتَيْن. والله أعلمُ.

كتاب الشهادات

كِتَابُ الشَّهادَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابُ الشَّهاداتِ والأصلُ فيها الكتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكتابُ، فقولُ الله تِعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). وقال سبحانه: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقال جل وعزَّ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (1). وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى وائلُ بنُ حُجْرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، قال: جاءَ رجلٌ مِن حضْرَمَوْتَ، ورجلٌ من كِنْدَةَ، إلى النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ الحَضْرَمِىُّ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا غَلَبَنِى على أرضٍ لى. فقال الكِنْدِي: هى أرْضِى وفى يَدِى، وليس له فيها حَقٌّ. فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - للحَضْرَمِىِّ: «ألكَ بَيِّنَةٌ؟». فقال: لا. قال: «فَلَكَ يَمِينُهُ». قال: يا رسولَ اللهِ، الرجلُ فاجِرٌ لا يُبالِى على ما حَلَف عليه، وليس يَتَوَرَّعُ مِن شئٍ. قال: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) سورة الطلاق 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا ذَلِكَ». قال: فانْطلَقَ الرجلُ لِيَحلِفَ له، فقال النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -[لَمَّا أدبرَ] (¬1): «لَئِنْ حلفَ عَلَى مَالِهِ لِيأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ الله وَهُوَ عَنْهُ مُعرِضٌ» (¬2). قال التِّزمِذِيُّ: هذا حَدِيثٌ حسنٌ صحيح. ورَوَى محمدُ ابنُ عُبَيْدِ (¬3) اللهِ العَرْزَمِيُّ (¬4)، عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْبينةُ عَلَى المُدَّعِى، وَالْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْه» (¬5). قال التِّرمِذِىُّ (¬6): هذا حديث في إسْنادِه مَقالٌ، والعَرْزَمِىُّ (4) يُضَعَّفُ في الحديثِ من قِبَلِ حِفْظِه، ضَعَّفَه ابنُ المُبارَكِ وغيرُه، إلَّا أنَّ أهلَ العِلمِ أجْمَعُوا على هذا. قال التِّرْمِذِى: والعَملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ مِن أصْحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم. ولأنَّ العِبْرَةَ تَقْتَضِى مَشْرُوعِيَّةَ الشَّهادَةِ، فإنًّ الحاجَةَ داعِيَة إليها، لحُصولِ التَّجاحُدِ بينَ الناسِ، فوَجَبَ الرُّجُوعُ إليها. قال شُرَيْح: القَضاءُ جَمْرٌ، فنَحِّه عنكَ بعُوديْن - يعنى الشّاهِدَيْن - وإنَّما الخَصمُ داءٌ، والشُّهودُ شِفَاءٌ، فأفْرِغِ الشِّفاءَ على الدَّاءِ (¬7). واشْتِقاق الشَّهادةِ مِن المُشاهدَةِ؛ لأنَّ الشاهِدَ يُخْبِرُ عمّا شاهَدَه. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 28/ 416، وليس هذا اللفظ عند البخارى ولا أبى داود 2/ 280. (¬3) في النسخ: «عبد». وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 9/ 322 - 324. (¬4) في م: «العزرمى». (¬5) تقدم تخريجه في 16/ 252. (¬6) في: عارضة الأحوذى 6/ 87، 88. (¬7) انظر أخبار القضاة، لوكيع 2/ 289.

5012 - مسألة: (تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، إذا قام بها من يكفى، سقطت عن الباقين، وإن لم يقف بها)

تَحَمُّلُ الشَّهادَةِ وَأدَاؤها فرض عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِها مَن يَكْفِىِ، سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وإنْ لَمْ يَقُف بِها مَنْ يَكْفِى، تَعَيَّنَتْ عَلى مَنْ وُجِدَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقِيل: لأنَّ الشّاهِدَ يُخْبِرٌ، ويَجْعَلُ الحاكِمَ كالمشاهِدِ (¬1) للمَشْهودِ عليه. وتُسَمَّى بَيِّنَةً؛ لأنَّها تُبَيِّنُ ما الْتَبَسَ (¬2)، وتَكْشِفُ الحقَّ في المُخْتَلَفِ فيه. 5012 - مسألة: (تَحَمُّلُ الشَّهادَةِ وأداؤُها فَرضٌ على الكِفايَةِ، إذا قام بها مَن يَكْفِى، سَقَطَتْ عن الباقِين، وإن لم يَقُف بها) أحَدٌ (تَعَيَّنَتْ على مَن وُجدَ) لقولِ الله تِعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬3). وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬4). وإنَّما ¬

(¬1) في ق، م: «كالشاهد». (¬2) في ق: «البينتين». (¬3) سورة البقرة 282. (¬4) سورة البقرة 283.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَصَّ القلبَ بالإثْمِ؛ لأنَّه مَوْضِعُ العِلْمِ بها، ولأنَّ الشَّهادةَ أمانَةٌ، فلزِمَ أداؤها، كسائرِ الأماناتِ. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1). إذا ثَبَتَ هذا، فإذا دُعِىَ إلى تَحَمُّلِ شَهادةٍ في نِكاحٍ أو دَيْن أو عِدَّةٍ، لَزِمَتْه الإجابَةُ، قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (¬2). فإنْ قام بالفرضِ في التَّحَمُّلِ والأداءِ اثنان، سَقَط عن الجميعِ، وإنِ امتَنَعَ الكُلُّ أثِمُوا، وإنَّما يأثَمُ الممتَنِعُ إذا لم يكُنْ عليه ضَرَرٌ، وكانت شَهادَتُه تنْفَعُ، فإن كان عليه ضَرَر في التَّحَمُّلِ أو الأداءِ، أو كان ممَّن لا تُقْبَلُ شهادَتُه، أو يَحْتاجُ إلى التَّبَذُّلِ في التَّزْكِيَةِ، لم تَلْزَمه؛ لقول اللهِ تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬3). وقولِ النبىّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (¬4)». ولأنَّه لا يَلْزَمُه أنْ يَضُرَّ نَفْسَه لنَفْعِ غيرِه. وإذا كان ممَّن لا تُقْبَلِ شهادَتُه، لم تجِبْ عليه؛ لأنَّ مقْصُودَ الشَّهادَةِ لا يحصُلُ منه. وهل يَأثَمُ بالامتِناعِ ¬

(¬1) سورة النساء 58. (¬2) سورة النساء 135. (¬3) سورة البقرة 282. (¬4) في الأصل، في: «إضرار». والحديث تقدم تخريجه في 6/ 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا وُجِدَ غيره ممَّن يقوم مَقامَه؟ فيه وَجهان؛ أحدهما، يأْثَمُ؛ لأنَّه قد تَعَيَّنَ بدُعائِه، ولأنَّه مَنْهِىٌّ عن الامتِناعِ بقولِه تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. والثاني، لا يَأْثَمُ؛ لأنَّ غيرَه يقوم مَقامَه، فلم تَتَعَيَّنْ في حَقِّه، كما لو لم يُدْعَ إليها. فأمّا قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}. فقد قُرِئ بالفَتْحِ والرَّفْعِ، فمَن رفَعَ فهو خَبَرٌ معناه النَّهْىُ، ويَحتَمِلُ معنَيَيْن؛ أحدهما، أن يكونَ الكاتِبُ فاعلاً؛ أى لا يَضُرَّ الكاتِبُ؛ والشَّهِيد مَن يَدعوه، بأن لا يجِيبَ، أو يَكْتبَ ما لم يسْتَكْتَبْ، أو يَشْهدَ بما لم يُسْتَشْهد به (¬1). والثاني، أنْ يكونَ {يضارّ} فِعْلَ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، فيكون مَعْناه ومَغنَى الفَتْحِ واحدًا؛ أى لا يضَرُّ الكاتِبُ والشَّهِيدُ بأن يَقْطَعَهما (¬2) عن شُغْلِهما بالكِتابةِ والشَّهادَةِ، ويُمْنَعا حاجَتَهما. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق: «بقطعها»، وفى م: «بقطعهما».

5013 - مسألة: (قال الخرقى: ومن لزمته الشهادة، فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك)

قَالَ الخِرَقِىُّ: وَمَنْ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ، فَعَلَيْهِ أنْ يَقُومَ بِها عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، لَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ عَنْ إِقَامَتِها وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5013 - مسألة: (قال الخِرَقِىُّ: ومَن لَزِمَتْه الشَّهادَةُ، فعليه أن يَقُومَ بها على القَرِيب والبَعِيدِ، لا يَسَعُه التَّخَلُّفُ عن إقامَتِها وهو قادِرٌ على ذلك) قد ذكَرنا أنًّ أداءَ (¬1) الشَّهادَةِ مِن فُروضِ الكِفاياتِ، فإنْ تعَيَّنَتْ عليه، بأن لا يَتَحمَّلَها مَن يَكْفِى فيها سِواهُ، لَزِمَه القِيامُ بها. وإن قام بها مَن يَكْفِى غيرُه، سقَطَ عنه أداؤها، إذا قَبِلَها (¬2) الحاكِمُ. فإن كان تَحَمَّلَها جماعة، فأداوها واجِبٌ على الكُلِّ، إذا امْتَنَعوا أثِمُوا كلُّهم، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل، ق: «قبلهما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائرِ فُروضِ الكِفاياتِ، ودليلُ وُجُوبِها قولُ اللهِ تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. وقولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (¬1). وفى آيَةٍ أخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬2). ولأنَّ الشَّهادةَ أمانة، فلزِمَه أداوها، كالوَدِيعَةِ. ¬

(¬1) سورة المائدة 8. (¬2) سورة النساء 135.

5014 - مسألة: (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها، ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه، في أصح الوجهين)

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ أخْذُ الأجْرَةِ عَلَيْها، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، [345 و] فِى أصَحِّ الْوَجْهيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5014 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لمَن تَعَينَّتْ عليه أخْذُ الأجْرَةِ عليها، ولا يَجُوزُ ذلك لمَن لم تَتَعَيَّنْ عليه، في أصَحِّ الوَجْهيْنِ) مَنِ له كِفايَةٌ، فليس له أخْذُ الجُعلِ على الشَّهادَةِ؛ لأنَّها أداءُ فرض، فإن فرضَ الكِفايَةِ إذا قام به البَعضُ وقعَ منهم فَرضًا. وإن لم تكُنْ له كِفايَةٌ، ولا تَعَينَّتْ عليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حلَّ له أخْذُ الجُعلِ؛ لأنَّ النَّفَقَةَ على عِيالِه فَرضُ عَيْن، فلا يَشْتَغِلُ عنه بفَرضِ الكِفايةِ، فإذا أخَذَ الرِّزْقَ جمعَ بينَ الأمرَيْن. فإن تعيَّنَتْ عليه الشَّهادةُ، احتَمَلَ ذلك أيضًا، واحتَمَلَ أن لا يجوزَ؛ لئلَّا يأخُذَ العِوَضَ عن أداءِ فُروضِ الأعْيانِ. وقال أصحابُ الشافعىِّ: لا يَجُوزُ أخْذُ الأُجْرَةِ

5015 - مسألة: (ومن كانت عنده شهادة فى حد لله تعالى، أبيح إقامتها، ولم يستحب، وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها، فى أحد الوجهين)

وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهادَة فِى حَد لِلّهِ تَعَالَى، أبِيحَ إِقامَتُها، وَلَم يُسْتَحَبَّ، وَلِلْحَاكِمِ أن يُعَرِّضَ لَهُم بِالْوُقُوفِ عَنْها، فِى أحدِ الْوَجْهيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لمَن تعَيَّنَتْ عليه، وهل يَجُوزُ لغيرِه؟ على وَجْهيْنِ. 5015 - مسألة: (ومَن كانَتْ عندَه شَهادَة في حَدٍّ لله تِعالى، أُبِيحَ إقامَتُها، ولم يُسْتَحَبَّ، وللحاكِمِ أن يُعَرِّضَ له بالوُقُوفِ عنها، في أحَدِ الوَجْهيْن) يجوزُ للشّاهدِ إقامَةُ الشَّهادَةِ في حُدودِ الله تِعالى، مِن غيرِ تقَدُّمِ دَعوَى؛ لأنَّ أبا بَكْرَةَ وأصحابَه شَهِدُوا على المُغِيرَةِ (¬1)، وشَهِدَ الْجَارودُ وأبو هُرَيْرَةَ على قُدامَةَ بنِ مَظْعُونٍ بشُربِ الخمرِ، مِن غيرِ تَقَدُّم دَعوَى (¬2). فأجِيزَتْ شَهادَتُهم. ولا يُسْتَحَبُّ أداوها؛ لقولِ رسولِ اللهِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 318. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 186.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ (¬1)، سَتَرَهُ الله فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» (¬2). وللحاكمِ أن يُعَرضَ للشّاهدِ بالوُقوفِ عن الشَّهادَةِ، في أظْهرِ الوَجْهيْن (¬3)؛ لِما روَى صالحٌ، في «مَسائِلِه»، عن أبى عُثْمانَ النَّهْدِىِّ، قال: جاءَ رجل إلى عُمَرَ، فشَهِدَ على المُغيرَةِ بنِ شُعبَةَ، فتَغَيَّرَ لوْنُ عمرَ، ثم جاءَ آخَرُ، فشَهِدَ، فاسْتَنْكَرَ ذلك عمرُ (¬4)، ثم جاء شابٌّ يخْطُرُ بيدَيْه، فقال عمرُ: ما عندَك يا سَلْحَ العُقابِ؟ وصاحَ به عمرُ صَيْحَة، فقال أبو عُثمانَ: اللهِ لقد كِدتُ (¬5) يُغْشى علىَّ. فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، رأيتُ أمْرًا قَبيحًا. فقال: الحمدُ للهِ الذى لم يُشَمِّتِ الشَّيْطانَ بأصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. قال (¬6): فأمَرَ بأولئِك النَّفَرِ فجُلِدوا. وفى رِوايةٍ، أَنَّ عمرَ لَمّا شُهِدَ (¬7) عندَه على المُغِيرةِ، شَهِدَ ثَلاثة، وبَقِىَ واحِدٌ، فقال عمرُ: أرى شابًّا حَسَنًا، وأرجُو أن لا يَفْضَحَ اللهُ على لِسانِه ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) انظر ما تقدم تخريجه في 6/ 113. (¬3) في ق، م: «الروايتين». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) بعده في ق، م: «أن». (¬6) سقط من: م. (¬7) في الأصل: «شهدوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلاً مِن أصحابِ محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وهذا تَعرِيضٌ ظاهِرٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 320.

5016 - مسألة (ومن كانت عنده شهادة لآدمى يعلمها، لم يقمها حتى يسأله، فإن لم يعلفها، استحب له إعلامه بها، وله إقامتها قبل ذلك)

وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهادَةُ لآدَمِىٍّ يَعلَمُها، لَمْ يُقِمها حَتَّى يَسْألهُ، فَإنْ لَم يَعلَمها، اسْتُحِبَّ لَهُ إعلَامُه بِها، وَلَهُ إقَامَتُها قَبْلَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5016 - مسألةْ (ومَن كانَتْ عندَه شَهادَة لآدَمِىٍّ يَعلَمها، لم يقِمها حتى يَسْأَلَهُ، فإن لم يَعلَفها، اسْتحبَّ له إعلامُه بها، وله إقامَتُها قبلَ ذلك) إذا كان المَشْهُود له يَعلَمُ له شَهادةً عندَ إنسانٍ، لم يُقِفها الشّاهِدُ حتى يَسْأله صاحِبها؛ لِما روِى عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «خَيْرُ النَّاسِ قرني، ثمَّ الَّذِينَ يَلُونهْم، ثمِ يأتِى قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ (¬1)، وَيَشْهدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخونُون وَلَا يُؤْتَمَنونَ». رواه البخارىُّ (¬2). فإن كان لا يَعلَمها، اسْتحِبَّ له إعلامُه بها؛ لأنَّها أمانَةٌ [8/ 221 و] يُسْتَحَبُّ إعلامُ صاحِبِها (¬3)، كالوَدِيعَةِ. وله أداؤها قبلَ إعلامِه؛ لقَوْلِ النَّبِىِّ ¬

(¬1) في م: «يفون». (¬2) تقدم تخريجه في 68/ 128. (¬3) سقط من: ق، م.

5017 - مسألة: (ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه بروية أو سماع)

وَلَا يَجُوزُ ان يَشْهدَ إلَّا بِمَا يَعلَمُهُ بِرُويَةٍ أَوْ سَمَاعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم -: «ألَا أنبئُكُم بِخَيْرِ الشُّهدَاءِ؛ الَّذِى يأْتِى بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْأَلَهَا». روَاه أبو داودَ، وأحمدُ، ومسلمٌ، وابنُ ماجه (¬1). فيتَعَيَّنُ حَملُ الحديثِ على هذه الصُّورَةِ، جَمعًا بينَ الخَبَريْن. 5017 - مسألة: (ولا يَجُوزُ أن يَشْهدَ إلَّا بما يَعلَمُه برُويَةٍ أو سَماع) وجملةُ ذلك، أنَّ الشَّهادةَ لا تجوزُ إلَّا بما يَعلَمُه، بدليلِ قولِ اللهِ تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). وقولِه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬3). وتخْصِيصُ هذه الثلاثةِ بالسُّؤالِ؛ لأنَّ العلمَ بالفُؤادِ، وهو يَسْتَنِدُ إلى السَّمعِ والبصرِ؛ لأنَّ مدرَكَ الشهادةِ الرُّؤْيَةُ والسَّماعُ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والحديث أخرجه مسلم، في: باب بيان خير الشهود، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1344. وأبو داود، في: باب في الشهادات، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 273. وابن ماجه، في: باب الرجل عنده شهادة لا يعلم بها صاحبها. من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 792. والإماء أحمد، في. المسند 4/ 115 - 117، 5/ 192، 193. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في الشهداء أيهم خير، من أبواب الشهادات. عارضة الأحوذى 9/ 169، 170. والإمام مالك، في: باب ما جاء في الشهادات، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 720. (¬2) سورة الزخرف 86. (¬3) سورة الاسراء 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهما بالبَصرِ والسمعِ (¬1). وقد رُوِىَ عن ابنِ عباس، أنَّه قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الشَّهادةِ، قال: «هلْ تَرَى الشَّمْسَ؟». قال: نعم. قال: «عَلَى مِثْلِها فَاشهد أوْ دَعْ». روَاه الخَلَّالُ بإسْنادِه في «جامِعِه» (¬2). إذا ثبتَ هذا، فإنَّ مدرَكَ العلمِ الذى تَقَعُ به الشَّهادَةُ اثنان، السَّمعُ والبَصَرُ، وما عداهما مِن (¬3) مَدارِكِ العلمِ؛ كالشَّمِّ، والذَّوْقِ، واللَّمسِ، لا حاجةَ إليها في الشَّهادةِ في الأغْلَبِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) وأخرجه الحاكم، في: كتاب لا تشهد الا ما يضئ لك كضياء الشمس، من كتاب الأحكام. المستدرك 4/ 98. والبيهقى، في: باب التحفظ في الشهادة والعلم بها، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 156. والعقيلى، في: الضعفاء الكبير 4/ 70. وابن عدى، في: الكامل 6/ 2213. وإسناده ضعيف. انظر: تلخيص الحبير 4/ 198، وإرواء الغليل 8/ 282. (¬3) سقط من: ق، م.

5018 - مسألة: (والرؤية تختص بالأفعال؛ كالقتل، والغصب، والسرقة، وشرب الخمر، والرضاع، والولادة، وغيرها)

وَالرُّويَةُ تَخْتَصُّ بِالأفْعَالِ؛ كَالْقَتْلِ، وَالْغصبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَشربِ الْخَمرِ، وَالرضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَغَيْرِها. وَالسمَاعُ عَلَى ضَربَيْنِ؛ سَمَاع مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، نحوَ الإقْرَارِ، وَالْعُقُودِ، وَالطَلاقِ، وَالعَتَاقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5018 - مسألة: (والرُّؤْيَةُ تَخْتص بالأفْعالِ؛ كالقَتْلِ، والغَصبِ، والسَّرِقَةِ، وشُربِ الخَمرِ، والرضاعِ، والوِلادَةِ، وغَيْرِها) فهذا لا تُتَحَمَّلُ الشَّهادةُ فيه (1) إلَّا بالرويَة؛ لأنَّه لا (¬1) يُمكِنُ الشهادةُ عليه قطعًا، ومِن ذلك الصِّفاتُ المَرئِيَّةُ (¬2)؛ كالعيوبِ (¬3) في المبيعِ، ونحوِها، فلا يُرجَعُ إلى غيرِ ذلك. 5019 - مسألة: (والسَّماع على ضربَيْن؛ سَماعٌ مِن المَشْهُودِ عليه، نحوَ الإقْرارِ، والعُقُودِ، والطَّلاقِ) ونحو ذلك، فيُحتاجُ أن يُسْمَعَ كلامُ المُتَعاقِدَيْن يَقِينًا، ولا تُعتَبَرُ رُويَةُ المُتَعاقِدَيْن إذا عرَفَهما، وتَيَقَّنَ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل، في: «المرتبة». (¬3) زيادة من المغنى 14/ 139.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامُهما. وبهذا قال ابنُ عباس، والزُّهْرى، ورَبِيعَةُ، واللَّيْثُ، وشُرَيْحٌ، وعَطاءٌ، وابنُ أبى ليلَى، ومالكٌ. وذهبَ أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، إلى أنَّ الشَّهادةَ (¬1) لا تجوزُ حتى يُشاهِدَ القائِلُ المَشْهودَ عليه؛ لأنَّ الأصواتَ تَشْتَبِهُ، فلا يَجوزُ أنْ يَشْهدَ عليها مِن غيرِ زُؤيَةٍ، كالخَطِّ. ولَنا، أنَّه عرَفَ المشْهودَ عليه يَقِينًا، فجازَتْ شَهادَتُه عليه، كما لو رآه. وجوازُ اشْتِباهِ الأصواتِ، كجَوازِ اشْتِباهِ الصُّوَرِ، وإنَّما تَجوزُ الشَّهادةُ لمَن عرَفَ المشْهودَ عليه يَقِينًا، وقد يحصُلُ العِلمُ بالسَّماعِ يَقِينًا، وقد اعتبرَه الشَّرْعُ بتَجْوِيزِه الرِّوايةَ مِن غيرِ رُؤْيَةٍ، ولهذا قُبِلَتْ رِوايَةُ الأعْمَى، ورِوايةُ مَن رَوَى عن أزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن غيرِ مَحارِمِهنَّ. فصل: إذا عرَفَ المَشْهودَ عليه باسْمِه وعَيْنِه ونَسَبِه، جازَ أن يَشْهدَ عليه، حاضِرًا كان أو غائِبًا، وإنْ لم يَعرِفْ ذلك، لم يَجُزْ أن يَشْهدَ عليه مع غَيْبَتِه، وجازَ أنْ يَشْهدَ عليه حاضِرًا بمَعرفةِ عَيْنه. نصَّ عليه أحمدُ. قال مُهنَّا: سألتُ أحمدَ عن رجل يَشْهدُ لرَجُل بحقٍّ له على آخَرَ، وهو لا يعرِف اسْمَ هذا، ولا اسْمَ هذا، إلَّا أنَّه يَشْهدُ له، فقال: إذا قال: أشهدُ أنَّ لهذا على هذا كذا (¬2). وهما شاهِدَانِ جميعًا، فلا بأسَ، وإذا كان ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غائبًا، فلا يَشْهدُ حتى يَعْرِفَ اسْمَه. والمرأةُ كالرَّجُلِ، في أنَّه إذا عرَفَ اسْمَها ونَسَبَها (¬1)، جازَ أنْ يشْهدَ عليها مع غَيْبَتِها. وإنْ لم يعرِفْها، لم يَشهد عليها إلَّا في حالِ حُضُورِها. قال أحمدُ في رِوايةِ الجَماعةِ: لا يَشْهدُ إلَّا لمَن يعرِفُ، وعلى مَن يَعرِفُ، ولا يَشْهدُ إلَّا على امرأةٍ قد عرَفَها، وإن كانتْ ممَّن عرَفَ اسْمَها، ودُعِيَتْ، وذَهبَتْ، في جاءتْ، فَلْيَشْهد، وإلَّا فلا يَشْهَدْ، فأمَّا إنْ لم يَعْرِفْها، فلا يجوزُ أن يشهدَ مع غَيْبَتِها. ويجوزُ أن يَشْهدَ على عَينها إذا عرَفَ عَيْنَها، ونظَرَ إلى وَجْهها. قال أحمدُ: ولا يَشْهَدُ على امرأةٍ، حتى ينْظُرَ إلي وَجْهِها. وهذا محمولٌ على الشَّهادةِ على مَن لم يتَيقَّنْ مَعرفَتَها. فأمَّا مَن يَتَيَقنُ معرِفَتَها، ويَعرِفُ صَوْتَها (¬2) يَقِينًا، فيجوزُ أن يشْهدَ عليها إذا تيقَّنَ صَوْتَها، على ما قَدَّمناه في المسألةِ قبلَها. فإن لم يعرِفِ المشْهودَ عليه، فعرَّفَه عندَه مَن يَعرِفُه، فقد رُوِىَ عن أحمدَ أنَّه قال: لا يَشْهدُ على شَهادَةِ غيرِه إلَّا بمعرِفَتِه لها. وقال: لا يَجوزُ للرَّجلِ أن يقولَ للرَّجلِ: أشْهدُ أنَّ هذه فلانةُ. ويَشْهدَ على شهادَتِه. وهذا صريحٌ في المَنْعِ مِن الشَّهادةِ على مَن لا يعرِفُه بتَعرِيفِ غيرِه. وقال القاضى: يجوزُ أن يُحْمَلَ هذا على الاسْتحبابِ، لتَجْوِيزِه الشَّهادةَ بالاسْتِفاضَةِ. وظاهرُ قولِه المنعُ منه. وقال أحمدُ: لا يَشْهدُ على امرأةٍ إلَّا بإذْنِ زَوْجِها. وهذا يَحتَمِلُ أنَّه ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «صورتها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يَدخُلُ عليها بَيْتَها إلَّا بإذْنِ زَوْجِها؛ لِما رَوَى عمرُو بنُ العاصِ، قال: نَهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُسْتأذَنَ على النِّساءِ إلَّا بإذْنِ أزْواجِهنَّ. رواه أحمدُ في «مُسْنَدِه» (¬1). فأمَّا الشَّهادةُ عليها في غيرِ بييها فجائزَة؛ لأنَّ إقْرارَها صحيح، وتَصَرُّفَها إذا كانتْ رَشِيدَةً صحيحٌ، فجازَ أن يَشْهدَ عليها به. فصل: وإذا عَرَفَ الشّاهدُ خطَّه، ولم يذْكُرِ الشَّهادَةَ، فهل يجوزُ أنْ يَشْهدَ بذلك؟ على رِوايَتَيْن؛ إحداهما، لا يجوزُ. قال أحمدُ في رِوايةِ حربٍ، في مَن يَرَى خَطَّه وخاتَمَه ولا يذْكرُ الشهادةَ: لا يَشْهدُ إلَّا بما يَغلَمُ. وقال في رِوايةٍ: يَشْهدُ إذا عرَفَ خَطَّه، وكيفَ تكونُ الشَّهادةُ إلَّا هكذا؟. وقال في موضع آخَرَ: إذا عَرَفَ خَطَّه، ولم يحْفَظْ، فلا يَشْهدُ، إلَّا أنْ يكونَ مَنْسوخًا عندَه، مَوْضوعًا تحتَ خَتْمِه وحرزِه، فيَشْهدُ وإن لم يَحفَظْ. وقال أيضًا: إذا كان رَدِئَ الحِفْظِ (¬2)، فيَشْهَدُ ويَكتُبُها عندَه. وهذه رِوايةٌ ثالثةٌ، وهو أنْ يَشْهدَ إذا كانت مَكْتوبةٌ عندَه بخَطِّه في حِرزِه، ولا يَشْهدُ إذا لم تَكُنْ كذلك، [بمَنْزِلةِ القاضى، في إحدَى الرِّوايتَيْنِ، إذا وجدَ حُكْمَه بخَطِّه تحت خَتْمِه أمضاه] (¬3) (¬4)، ولا يُمضِيه إذا لم يكُنْ كذلك (3). ¬

(¬1) 4/ 203. (¬2) في ق: «الخط». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) تكملة من المغنى 14/ 141.

5020 - مسألة: الضرب الثانى (سماع من جهة الاستفاضة، فيما يتعذر علمه فى الغالب إلا بذلك؛ كالنسب، والموت، والملك، والنكاح، والخلع، والوقف، ومصرفه، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل، وما أشبة ذلك)

وَسَمَاعٌ مِنْ جِهةِ الاسْتِفَاضَةِ، فِيمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ فِى الغَالِبِ إِلَّا بِذلِكَ؛ كَالنَّسبِ، وَالْمَوْت، وَالْمِلْكِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالوَقْفِ وَمصرِفِهِ، وَالْعِتْقِ، وَالوَلَاءِ، وَالْوِلَايةِ، وَالْعَزْلِ، وَمَا أشْبَهَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5020 - مسألة: الضَّرْبُ الثانِى (سماعٌ مِن جِهةِ الاسْتِفاضَةِ، فيما يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ في الغالِبِ إلَّا بذلك؛ كالنَّسَبِ، والمَوْتِ، والمِلْكِ، والنكاحِ، والخُلْعِ، والوَقْفِ، ومَصرِفِه، والعِتْقِ، والوَلاءِ، والوِلَايةِ، والعَزْلِ، وما أشْبَة ذلك) قال الخِرَقِىُّ: وما تَظاهرَتْ به الأخْبارُ، واسْتَقرَّتْ معرِفَتُه في قَلْبِه، شَهِدَ به، كالشَّهادةِ على النَّسَبِ والوِلادَةِ. أجْمَع أهلُ العلمِ على صِحَّةِ الشَّهادةِ بالنَّسَبِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعلَمُ أحدًا مِن أهلِ العلمِ مَنعَ منه، ولو مُنِعَ ذلك (¬1) لاسْتَحالَتْ مَعرِفتُه؛ إذ لا سَبِيلَ إلى مَعرفَتِه قطعًا بغيرِه، ولا تُمكِنُ المُشاهدَةُ فيه، ولو اعتُبِرَتِ المُشاهدَةُ (¬2) لمَا عَرَفَ أحدٌ أباه، ولا أمَّه، ¬

(¬1) في الأصل: «منه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أحدًا مِن أقارِبِه. وقد قال اللهُ تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬1). وكذلك الوِلادةُ. واخْتَلَفَ أهلُ العلمِ فيما تجوزُ الشهادةُ عليه بالاسْتِفاضَةِ، غيرِ النسَبِ والوِلادةِ، فقال أصْحابُنا: هو تِسعةُ أشْياءَ؛ النِّكاحُ، والمِلْكُ المُطْلَقُ، والوَقْفُ، ومَصرِفُه، والمَوْتُ، والعِتْقُ، والوَلاءُ، والوِلايةُ، والعَزْلُ. وبهذا قال أبو سعيدٍ الإصظَخْرِىُّ، وبعضُ أصْحابِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: لا تجوزُ في الوَقْفِ والوَلاء والعِتْقِ. والزَّوْجِيةِ؛ لأنَّ الشهادَةَ مُمكِنَةٌ فيه بالقَطْعِ، ولأنَّه (2) شَهادَة بعَقْدٍ، فأشْبَهُ سائرَ العُقودِ. وقال أبو حنيفةَ: لا تُقْبَلُ إلَّا في النِّكاحِ والموْتِ، ولا تُقْبَلُ في المِلْكِ المُطْلَقِ؛ لأنَّه (¬2) شهادة بمالٍ، فأشْبَة الدَّيْنَ. وقال صاحِباه: تُقْبَلُ في الوَلاءِ، مثلَ عِكْرِمَةَ مولَى ابنِ عبَّاسٍ. ولَنا، أنَّ هذه تَتَعذرُ الشَّهادةُ عليها في الغالبِ بمُشاهدَتِها، أو مُشاهدَةِ أسْبابِها، لجازَتِ الشَّهادةُ عليها بالاسْتِفاضَةِ، كالنَّسَبِ. قال مالكٌ: ليس عندَنا مَن يَشْهدُ على أحباسِ (¬3) أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلا بالسَّماعِ. وقال: السَّماعُ في الأحْباسِ (¬4) والوَلاءِ ¬

(¬1) سورة البقرة 146، وسورة الأنعام 20. (¬2) في م: «لأنها». (¬3) في الأصل: «أجناس». (¬4) في الأصل: «الأجناس».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جائِرٌ. وقال أحمدُ في رِوايَةِ المَرُّوذِىِّ: اشْهد أنَّ دارَ بَخْتانَ لبَخْتَانَ، وإن لم يُشْهِدكَ. وقيلَ له: تَشْهدُ أنَّ فُلانةَ امرأةُ فلانٍ، ولم تَشْهَد (¬1)؟ فقال: نعم، إذا كانَ مُسْتَفيضًا، فأشْهدُ، أقولُ: إنَّ فاطمةَ بنتُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ خَديجةَ وعائشةَ زَوْجَتاه، وكُلُّ أحدٍ يشهدُ بذلك مِن غيرِ مُشاهدةٍ. فإن قيلَ: يُمكِنُه العِلمُ بذلك (¬2) بمُشاهدَةِ السَّبَبِ. قُلْنا: وُجودُ السَّبَبِ لا يُفِيدُ العِلْمَ بكَوْنِه سَبَبًا يَقِينًا، فإنَّه يجوزُ أن يَشْتَرِىَ ما ليس بمِلْكِ البائعِ، ويَصْطادَ صيدًا صادَه غيرُه، ثم انْفلَتَ منه، وإن تُصُوِّرَ ذلك، فهو نادرٌ. وقولُ أصْحابِ الشافعىِّ: تُمكِنُ الشَّهادةُ على الوَقْفِ باللَّفْظِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّهادةَ ليستْ بالعُقودِ ههُنا، إنَّما يُشْهدُ بالوَقْفِ ¬

(¬1) بعده في المغنى 14/ 142: «النكاح». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاصِلِ بالعَقْدِ، فهو بمَنْزِلةِ المِلْكِ، وكذلك يُشْهدُ بالزَّوْجِيَّةِ دونَ العَقْدِ، وكذلك الحُرِّيّةُ والوَلَاءُ، وهذه جَمِيعُها لا يُمكِنُ القَطْعُ بها، كما لا يمكِنُ القَطْعُ بالمِلْكِ؛ لأنَّها مُرَتَّبَةٌ عليه، فوَجب أنْ تجوزَ الشَّهادةُ فيها بالاسْتِفاضَةِ، كالمِلْكِ سَواءً.

5021 - مسألة: (ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم، فى ظاهر كلام أحمد والخرقى. وقال القاضى: تسمع من عدلين فصاعدا [ظاهر كلام أحمد والخرقى، أنه لا يشهد بالاستفاضة، حتى يسمع من عدد كثير، يحصل العلم بخبرهم. وذكر القاضى فى «المجرد» أنه يكفى أن يسمع من اثنين عدلين، يسكن قلبه إلى خبرهما]

وَلَا تُقْبَلُ الاسْتِفَاضَةُ إلَّا مِنْ عَدَدٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، فِى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِىِّ. وَقَالَ القَاضِى: تُسْمَعُ مِنْ عَدلَيْنِ فَصَاعِدًا ـــــــــــــــــــــــــــــ 5021 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ الاسْتِفاضَةُ إلَّا مِن عَدَدٍ يَقَعُ العِلمُ بِخَبَرِهم، في ظاهِرِ كَلامِ أحمدَ وَالخِرَقِىِّ. وقال القاضى: تُسْمَعُ مِن عَدلَيْنِ فَصَاعِدًا [ظاهِرُ كَلامِ أحمدَ والخِرَقِى، أنّه لا يَشْهدُ بالاسْتِفاضَةِ، حتى يسمعَ مِن عَدَدٍ كثيرٍ، يَحصُلُ العلمُ بخَبَرِهم. وذكرَ القاضى في «المُجَرَّدِ» أنَّه يَكْفِى أن يَسْمَعَ مِن اثنين عدلَين، يَسْكُنُ قَلْبُه إلى خَبَرِهما] (¬1)؛ لأنَّ الحُقوقَ تَثْبُتُ بقَوْلِ اثْنَيْنِ. وهذا قَوْلُ المتأخرينَ مِن أصْحابِ الشَّافعىِّ. والقولُ الأوَّلُ هو الذى تَقْتَضِيهِ لَفْظَةُ الاسْتِفاضَةِ، فإنَّها مَأخُوذَةٌ مِن فَيْضِ الماءِ؛ لكَثْرَتِه، ولأنَّه لو اكْتُفِىَ فيه بقَوْلِ اثْنَيْنِ، ¬

(¬1) في ق، م: «ذكره في المحرر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لاشْتُرِط (¬1) فيه ما يُشتَرَطُ في الشَّهادةِ على الشَّهادةِ، وإنَّما اكْتُفِىَ بمُجَرَّدِ السَّماعِ. وقد ذكرَ شيْخُنا، في كتابِ «المُقْنِعِ» (¬2) الخُلْعَ فيما يثْبُتُ بالاسْتِفاضَةِ، ولم يذْكُره في «المُغْنِى»، ولا في «الكَافِى»، ولا رأَيْتُه في كتابٍ غيرِه، ولعَله قاسَه على النِّكاحِ، والأوْلَى أنَّه لا يثْبُتُ، قِياسًا على الطَّلاقِ والنّكاحِ؛ [لأنَّه يَشْتَهِرُ] (¬3)، بخِلافِ الخُلْعِ. ¬

(¬1) في ق، م: «لا يشترط». (¬2) بعده في الأصل: «ف». (¬3) سقط من: ق، م.

5022 - مسألة: (وإن سمع إنسانا يقر بنسب أب، أو ابن، فصدقه المقر له، جاز أن يشهد)

[345 ظ] وإنْ سَمِعَ إنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبِ أبٍ، او ابْنٍ، فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، جَازَ انْ يَشْهَدَ بِهِ، وَإنْ كَذَّبَهُ، لَمْ يَشْهَدْ، وَإنْ سَكَتَ، جَازَ أنْ يَشْهَدَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَشْهَدَ حَتَّى يَتَكَرَّرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5022 - مسألة: (وإن سَمِعَ إنْسانًا يُقِرُّ بِنَسَبِ أبٍ، أو ابنٍ، فَصَدَّقَه المُقَرُّ لَه، جاز أن يَشْهَدَ) له (به، وإن كَذَّبَه، لم يَشْهَدْ، وإن سَكَتَ، جَازَ أن يَشْهَدَ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَشْهَدَ حَتَّى يَتَكَرَّرَ) إذا سمِعَ رجلًا يقولُ للصَّبِىِّ: هذا ابنى. جازَ أن يَشْهَدَ به؛ لأنَّه مُقِرٌّ بنَسَبِه. وإنْ سمِعَ الصَّبِىَّ يقولُ: هذا أبي. فسكتَ الأبُ، جازَ أن يَشْمهَدَ (¬1) أيضًا؛ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ، لأنَّ سُكوتَ الأبِ إقْرار له، والإقْرارُ يَثْبُتُ به النَّسَبُ، فجازَتِ الشَّهادةُ به، وإنَّما أُقِيمَ السُّكوتُ ههنا مُقامَ الإقْرارِ؛ لأنَّ الإِقْرارَ على الانْتِسَابِ الباطِلِ غيرُ جائز، بخِلافِ سائرِ الدَّعاوَى، ولأنَّ النَّسَبَ يغْلِبُ فيه الإِثْباتُ، ألا تَرَى أنَّه يَلْحَقُ بالإِمْكانِ في النِّكاحِ (¬1). ويَحْتَمِلُ أن لا يَشْهدَ حتى يَتَكَرَّرَ. ذكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ السُّكوتَ ليس بإقْرار ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

5023 - مسألة: (وإن رأى شيئا فى يد إنسان، يتصرف فيه تصرف الملاك؛ من النقض، والبناء، والإجارة، والإعارة، ونحوها، جاز أن يشهد له بالملك)

وإنْ رَأَى شَيْئًا فِى يَدِ إنْسَانٍ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرفَ المُلَّاكِ؛ مِنَ النقْضِ، وَالْبِنَاءِ، وَالإجَارَةِ، وَالإعَارَةِ، وَنَحْوِها، جَازَ أنْ يَشْهدَ بالْمِلْكِ لَهُ. وَيَحتَمِلُ أنْ لَا يَشْهدَ إلأ بَالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَقِيقِىٍّ، وإنَّما أقِيم مُقامَه، فاعتُبِرَتْ تَقْوِيتُه بالتَّكْرارِ، كما اعتُبِرَتْ تَقْويَةُ اليَدِ في العَقارِ بالاسْتِمرارِ. 5023 - مسألة: (وإن رَأى شيئًا فِى يَدِ إنْسانٍ، يَتَصَرَّفُ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ؛ مِن النقْضِ، والبِنَاءِ، والإجارَةِ، والإعَارَةِ، ونَحوها، جاز أن يَشْهدَ له بِالْمِلْك) قال ذلك أبو عبدِ اللهِ ابنُ حامدٍ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، والإصْطَخْرِىِّ مِن أصحاب الشافعىِّ (ويَحتَمِلُ أن لا يشْهدَ إلَّا باليَدِ والتَّصَرُّفِ) ذكَرَه القاضى؛ لأنَّ اليدَ ليستْ مُنْحصِرَةً في المِلْكِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّه قد تكونُ بإجارَةٍ وإعارَةٍ وغَصْبٍ ووَكَالَةٍ. وهو قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعىِّ. ووَجْهُ الأوَّلِ، أن اليدَ دليلُ المِلكِ، واسْتِمرارُها مِن غيرِ مُنازِعٍ يُقَوِّيها، فجرَتْ مَجْرَى الاسْتِفاضَةِ، فجازَ أن يَشْهدَ بها، كما لو شاهدَ سَبَبَ اليَدِ، مِن بَيْعٍ، أو إرثٍ، أو هِبَةٍ، واحتمالُ كَوْنِها عن (¬1) غَصْبٍ أو (¬2) إجارَةٍ أو نحوِ ذلك، يُعارِضُه اسْتِمرارُ اليَدِ مِن غيرِ مُنازِعٍ، فلا يبقَى مانِعًا، كما لو شاهدَ سَبَبَ اليَدِ؛ فإنَّ احتِمالَ كَوْنِ البائعِ غيرَ المالكِ والوارِثِ والواهِبِ، لا يَمنَعُ الشَّهادةَ، كذا ههُنا. فإن قيلَ: فإذا بَقِىَ الاحتِمالُ لم يَحصُلِ العلمُ، ولا تجوزُ الشَّهادةُ إلَّا بما يَعلَمُ. قُلْنا: الظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا، قال الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (¬3)؛ ولا سبيلَ إلى العلمِ اليَقِينىِّ ههُنا، فجازَتْ (¬4) بالظَّنِّ. ¬

(¬1) في م: «من». (¬2) في م: «و». (¬3) سورة الممتحنة 10. (¬4) في ق، م: «فجاز».

فصل: وَمَنْ شَهِدَ بِالنِّكَاحِ، فَلَا بدَّ مِنْ ذِكْر شُرُوطِهِ، وأنَّهُ تزَوّجَها بِوَلِى مرشِدٍ، وَشاهِدَىْ عَدلٍ، وَرِضَاهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيِخ، رَحِمَه اللهُ: (ومَن شَهِدَ بالنِّكاحِ، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ شُروطِه، وأنَّه تزَوَّجَها بوَلِى مرشِدٍ، وشاهِدَىْ عَدلٍ، ورِضاها) لأنَّ النَّاسَ يخْتَلِفُون في شُروطِه، فيَجِبُ ذِكْرُها، لئَلَّا يكونَ الشاهِدُ مُعتَقِدًا صِحَّةَ النِّكاحِ وهو فاسِدٌ. فإن شَهِدَ بعَقْدٍ سِواهُ؛ كالبَيْعِ، والإِجارَةِ،

5024 - مسألة: (وإن شهد بالرضاع، فلا بد من ذكر عدد

وَإن شَهِدَ بِالرَّضَاعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكرِ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ، وَأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فهل يُشْتَرطُ ذِكْرُ شُروطِه؟ على رِوايَتَيْن مَبْنِيَتّيْن على الرِّوايَتَيْن فيما إذا (¬1) ادَّعاها، وقد ذكَرناه. 5024 - مسألة: (وإن شَهِدَ بالرَّضاعِ، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ عَدَدِ ¬

(¬1) سقط من: م.

5025 - مسألة: (وإن شهد بالقتل، احتاج أن يقول: ضربه بالسيف. أو: جرحه فقتله. أو: مات من ذلك. فإن قال: جرحه فماب لم يحكم به)

شَرِبَ مِنْ ثَديها، أوْ مِنْ لَبَنٍ حُلِبَ مِنْهُ. وإنْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ، احتَاجَ أنْ يَقُولَ: ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ. أوْ: جَرَحَهُ فَقَتَلَهُ. أَوْ: مَاتَ مِنْ ذَلِكَ. فَإنْ قَالَ: جَرَحَهُ فَمَاتَ. لَمْ يحكم بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرَّضَعاتِ، وأنَّه شَرِبَ مِن ثَديِها، أو مِن لَبَن حُلِبَ منه) لأنَّ الناسَ يَخْتَلِفُون في الرَّضَعاتِ، وفى الرَّضاعِ المُحَرِّمِ. فإن شَهِدَ أنَّه ابْنُها مِن الرضاع، لم يَكْفِ؛ لاخْتِلافِ الناسِ فيما يصِيرُ به ابنها، ولا بُدَّ مِن ذِكْرِ أنَّ ذلك في الحَوْلَيْنِ. 5025 - مسألة: (وإن شَهِدَ بالقَتْلِ، احتَاجَ أن يَقُولَ: ضَرَبَه بالسَّيْفِ. أو: جَرَحَه فقَتَلَه. أو: مات مِن ذلك. فإن قال: جَرَحَه فماب لم يحْكَم به) لجَوازِ أن يكونَ ماتَ بغيرِ هذا. وقد رُوِىَ عن شرَيح، أنَّه شهِدَ عندَه رجل، فقال: اتَّكَأَ عليه بمِرْفَقِه (¬1) فماتَ. فقال له (¬2) شُرَيْح: فماتَ منه، أو فقتلَه؟ فأعادَ القولَ الأوَّلَ، فأعادَ عليه شُرَيْحٌ سُؤالَه، فلم يقُلْ: فقتَلَه. ولَا: ماتَ منه. فقال له شُرَيْحٌ: قُم، فلا شهادةَ لكَ. رَواه سَعِيدٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «بمرفقيه». (¬2) سقط من: م.

5026 - مسألة: (وإن شهد بالزنى، فلا بد أن يذكر بمن زنى، واين زنى، وأنه رأى ذكره فى فرجها)

وإنْ شَهِدَ بِالزِّنَى، فَلَا بُدَّ أنْ يَذْكُرَ بِمَنْ زَنَى، وَأيْنَ زَنَى، وَكَيْفَ زَنَى، وَأنهُ رأى ذَكَرَهُ فِى فَرْجِهَا. وَمِن أصحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُحتَاجُ الَى ذِكْرِ الْمَزْنِىِّ بِها، وَلَا ذِكْرِ الْمَكَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5026 - مسألة: (وإن شَهِدَ بالزِّنَى، فلا بُدَّ أن يَذْكُرَ بِمَن زَنَى، واينَ زَنَى، وأنَّه رَأى ذَكَرَه في فَرجِها) لأنَّ اسْمَ الزِّنَىٍ يُطْلَقُ على ما لا يُوجِبُ الحَدَّ، وقد يعتَقِدُ الشَّاهِدُ ما ليس بزِنًى زِنًى، فاعتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِه؛ ليَزُولَ الاحتِمالُ، واعتُبِرَ ذِكْرُ المرأةِ؛ لئَلَّا تكونَ ممَّن تَحِلُّ له، أو له في وَطْئِها شُبْهةٌ، وذِكْرُ المكانِ؛ لئَلَّا تكونَ الشهادةُ منهم على فِغلَيْن (ومِن أصحابِنا مَن قال: لا يُحتاجُ إلى ذِكْرِ الْمَزْنِىِّ بها، ولا ذِكْرِ المكانِ) لأنَّه محَلُّ الفِعلِ، فلا يُعتبرُ ذِكْرُه، كالزمانِ. والأوَّلُ أولَى، والزَّمانُ ممنوع، في أحَدِ الوَجْهيْن، فإنَّه يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ؛ لتَكُونَ شهادَتهم على فعل واحدٍ، لجوازِ أنْ يكونَ ما شَهِدَ به أحدُهما غيرَ ما شَهِدَ به الآخَرُ، ولأنَّ الناسَ اخْتَلَفُوا في الشهادةِ في الحَدِّ مع تَقادُمِ الزمانِ، فقال ابنُ أبى موسى: لاتُقْبَلُ؛ لأنَّ عمرَ قال: مَن شَهِدَ على رجلٍ بحَدٍّ، فلم يَشْهَدْ

5027 - مسألة: (ومن شهد بالسرقة، فلا بد من ذكر المسروق منه، والنصاب، والحزز، وصفة السرقة)

[416 و] وَمَنْ شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالنِّصَابِ، وَالْحِرزِ، وَصِفَةِ السرِقَةِ. وَإنْ شَهِدَ بِالْقَذْفِ، ذَكَرَ المَقْذُوفَ وَصِفَةَ الْقَذْفِ. وَإنْ شَهِدَا أنَّ هذَا العَبْدَ ابنُ أَمَةِ فُلَانٍ، لَمْ يُحكم لَهُ بِهِ حَتَّى يَقُولَا: وَلَدَتْهُ فِى مِلْكه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حينَ يُصِيبُه، فإنَّما يشْهدُ على ضِغْن (¬1). وقال غيرُه مِن أصحابِنا: تُقْبَلُ؛ لأنَّها شهادةٌ بحقٍّ، فجازَتْ مع تَقادُمِ الزمانِ، كالقِصاصِ، ولأنَّه قد يَعرِضُ له ما يَمنَعُه الشَّهادةَ في حِينها، ويتَمَكَّنُ منها بعدَ ذلك. 5027 - مسألة: (ومَن شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ، فَلَا بُدَّ مِن ذِكْرِ المَسْرُوقِ منه، والنِّصابِ، والحِززِ، وصِفَةِ السَّرِقَةِ) لاخْتِلافِ العُلَماءِ في ذلك. 5028 - مسألة: (وإن شَهِدَ بِالْقَذْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ المَقْذُوفِ، وَصِفَةِ الْقَذْفِ) لذلك. 5029 - مسألة: (وإن شَهِدا أنَّ هذا العَبْدَ ابنُ أمَةِ فُلانٍ، لم يُحكَم له به حَتَّى يَقولا: وَلَدَتْهُ في مِلْكِه) إذا ادَّعَى عبدًا أنَّه له، فشَهِدَ له شاهِدان ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 336.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه ابنُ أمَتِه، أو ادَّعَى ثَمَرةَ شَجَرَة، فشَهِدَتْ له البَينةُ أنَّها ثَمَرَةُ شَجَرَتِه، لم يُحكم له بها؛ لجَوازِ أنْ تكونَ ولَدَتْه (¬1) قبلَ تَملُّكِها، وأثْمَرتِ الشَّجَرَةُ هذه الثَّمَرةَ قبلَ مِلْكِه إيَّاها. وإن قالتِ البَيِّنَةُ: ولَدَتْه في مِلْكِه. أو (¬2): أثْمَرتْها في مِلْكِه. حُكِمَ له بالوَلَدِ والثَّمرَةِ؛ لأنَّها شَهِدَتْ أنَّها نَماءُ مِلْكِه، [ونماءُ مِلْكِه مِلْكُه] (¬3)، ما لم يَرِد سبب ينْقُلُه عنه. فإن قيل: فقد قُلْتُم: لا تُقْبَلُ شَهادَةٌ بالمِلْكِ السَّابِقِ على الصَّحِيحِ، وهذه شَهادَةٌ بمِلْكٍ سَابِقٍ. قُلْنا: الفَرقُ بينَهما على تقْديرِ (¬4) التَّسْلِيمِ، أنَّ النَّماءَ تَابعٌ للمِلْكِ في الأصلِ، فإثْباتُ مِلْكِه في الزَّمَنِ الماضِى على وَجْهِ التَّبَعَ (¬5)، وجَرَى مَجْرَى ما لو قال: مَلَكْتُه منذُ سَنَةٍ. وأقامَ البَيِّنَةَ بذلك، فإنَّ مِلْكَه يثبت في الزَّمَنِ الماضِى تَبعًا للحالِ، فيكونُ له النّماءُ فيما مَضَى، ولأنَّ البَيِّنَةَ ههُنا شَهِدَتْ بسَبَبِ المِلْكِ، وهو وِلادَتُها، أو (¬6) وُجُودُها في مِلْكِه، فقَوِيت بذلك، ولهذا لو شَهِدَتْ بالسَّبَبِ (¬7) في الزَّمَنِ ¬

(¬1) في الأصل: «ولدتها». (¬2) في الأصل: «و». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في م: «تقديم». (¬5) في الأصل: «البيع». (¬6) سقط من: الأصل. (¬7) في الأصل: «بالنسب».

5030 - مسألة: (وإن شهدت أنه اشتراها من فلان، أو وقفها عليه، أو أعتقها، لم يحكم بها حتى يقولا: وهى في ملكه)

وإنْ شَهِدَا أنَّهُ اشْتَرَاها مِنْ فُلَانٍ، او وَقَفَها عَلَيْهِ، او أعتَقَها، لَمْ يحكَم لَهُ بِها حَتَّى يَقُولَا: وَهِىَ فِى مِلْكِهِ. وإنْ شَهِدَا أنَّ هذَا الغَزْلَ مِنْ قُطْنِهِ، أوِ الطَّيْرَ مِنْ بَيْضَتِهِ، وَالدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَتِهِ، حُكِمَ لَهُ بِها. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماضِى، فقالتْ: أقْرَضَه ألفًا. أو: بَاعَه. ثَبَت المِلْكُ وإن لم يذْكُره، فمع ذِكْرِه أوْلَى. 5030 - مسألة: (وإن شَهِدَتْ أنَّه اشْتَراها مِن فُلَانٍ، أو وَقَفَها عليه، أو أعتَقَها، لم يحكم بها حتى يَقُولَا: وَهِى في مِلْكِهِ) لما ذكَرنا في المسألةِ قبلَها، ولأنَّه يجوزُ أن يَبِيعَ ويَقِفَ ويُعتِقَ ما لا يَملِكُ. 5031 - مسألة: (وإن شَهِدَا (¬1) أن هذَا الْغَزْلَ مِن قُطنهِ، أو الطَّائِرَ مِن بَيْضَتِهِ، أو الدَّقِيقَ مِن حِنْطَتِهِ، حُكِمَ له بها) لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ الطيرُ مِن بَيْضَتِه قبلَ مِلْكِه البَيْضَةَ، وكذلك الغَزْلُ والدقِيقُ، ولأنَّ الغزْلَ عَيْنُ القُطْنِ، وإنَّما تغَيَّرَتْ صِفَتُه، والدقِيقَ أجْزاءُ الحِنْطَةِ ¬

(¬1) في النسخ: «شهد».

5032 - مسألة

وإذَا مَاتَ رَجُلٌ، فَادعَى آخَرُ أنهُ وَارِثُهُ، فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أنَّهُ وَارِثُهُ، لَا يَعلَمَانِ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، سُلِّمَ الْمَالُ إلَيْهِ، سَوَاء كَانَا مِنْ أهْلِ الخِبْرَةِ البَاطِنَةِ أوْ لَمْ يَكُونَا. وإنْ قَالَا: لَا نعلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِى هذَا الْبَلَدِ. احتَمَلَ أنْ يُسَلمَ الْمَالُ إلَيْهِ، وَاحتَمَلَ أنْ لَا يُسَلَّمَ إلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَكْشِفَ القَاضِى عَنْ خبَرِهِ فِى الْبُلْدَانِ الَّتِى سَافَرَ إلَيْها. ـــــــــــــــــــــــــــــ تفَرقَتْ، والطيرَ هو البَيْضُ اسْتَحَالَ، فكأنَّ البَينةَ قالتْ: هذا غَزْلُه ودَقيقُه وطَيْرُه. وليس كذلك الوَلَدُ والثَّمَرَةُ، فإنَّهما غيرُ الأمِّ والشجَرَةِ. ولو شَهِدَا (¬1) أن هذه البَيْضَةَ من طَيْرِه، /لم يحكم له بها حتى يقولَا (¬2): باضَها في مِلْكِه. لأنَّ البَيْضَةَ غيرُ الطيرِ، وإنَّما هى من نَمَائِه، فهى كالوَلَدِ. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا الفَصلِ على ما ذكَرْنا. 5032 - مسألة (¬3): (وإذا ماتَ رجلٌ، فادَّعَى آخَرُ أنَّه وَارِثه، فشَهِد له شاهِدان أنَّه وَارِثُه، لا يَعلَمان له وارِثًا غيرَه، سُلِّم المالُ. إليه، سَواءٌ كانا مِن أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ أو لم يكُونا. وإنْ قالا: لا نعْلَمُ له وارِثًا غيرَه في هذا البَلَدِ. احتَمَل أن يُسَلَّمَ المالُ إليه، واحتَمَلَ أنْ لا يُسَلَّمَ إليه، حتى يَسْتَكْشِفَ القاضِى عن خَبَرِه في البُلْدَانِ التى سافَرَ إليها) وجملةُ ¬

(¬1) في م: «شهد». (¬2) في م: «يقول». (¬3) في م: «فصل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّ مَن ادَّعَى أنَّه وارِثُ فُلانٍ الميِّتِ، فشَهِد له شاهِدَان أنَّه وارِثُه، لا يَعلَمانِ له وارِثًا غيرَه، قُبِلَتْ شَهادَتُهما، وسُلِّمَ المالُ إليه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، والعَنْبَرِىُّ. وقال ابنُ أبى ليلَى: لا تُقْبَلُ حتى (¬1) يُبَيِّنَا أنَّه لا وارِثَ له سِوَاه. ولَنا، أنَّ هذا ممَّا لا يُمكِنُ عِلْمُه، فَكَفَى فيه الظاهِرُ مع شَهادَةِ الأصلِ بعَدَم وارِثٍ آخَرَ. قال أبو الخَطَّابِ: سَواءٌ كانا مِن أهْلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ أو لم يَكُونَا. وكذلك ذَكَرَه شيْخُنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحتَمِلُ أنْ لا تُقْبَلَ إلَّا مِن أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ؛ لأنَّ عدَمَ عِلْمِهمِ بوارِثٍ آخَرَ ليسَ بدَليلٍ على عَدَمِه، بخِلافِ أهلِ الخِبْرَةِ الباطِنَةِ، فإنَّ الظاهِرَ أنَّه لو كان له وارِثٌ آخَرُ، لم يَخْفَ عليهم. وهذا قولُ الشافعىِّ. فأمَّا إن قالَا: لا نَعلَمُ له وارِثًا بهذه البَلْدَةِ، أو: بأرضِ كذا وكذا. احتَمَل أنْ يُسَلَّمَ المالُ إليه. وبه قال أبو حنيفةَ، كما لو قال: لا نَعلَمُ له وارِثًا. وذُكِرَ ذلك مذْهبًا لأحمدَ. واحتَمَلَ أنَّ هذا ليس بدَليلٍ على عَدَمِ وارِثٍ سِوَاهُ؛ لأنَّهما قد يعلَمان أنَّه لا وارِثَ له في تلك الأرضِ، ويَعلَمان له وارِثًا في غيرِها، فلم تقْبَلْ شَهادَتُهما، كما لو قال: لا نعلَمُ له وارِثًا في هذا (¬1) البَيْتِ. وهذا قولُ مالِكٍ، والشافعىِّ، وأبي يوسف، ومحمدٍ. وهو أوْلَى، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا ماتَ رجلٌ، فشَهِدَ رجُلان أنَّ هذا الغلَامَ ابنُ فُلانٍ (¬1) الميِّتِ، لا نعلم له وارِثًا سِواه، وشَهِدَ آخَرَان لآخَرَ أنَّ هذا الغلامَ ابن هذا الميِّتِ، لا نعلم له وارِثًا سِواه، فلا تَعارضَ بينَهما، وثَبَتَ نَسَبُ الغلَامَيْن منه، ويكون الإرْثُ بينَهما؛ لأنَّه يجوزأنْ تعلَمَ كلُّ بَينةٍ ما لم تعلَمه الأُخْرَى. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5033 - مسألة: (وتجوز شهادة المستخفى)

وَتَجُوزُ شَهادَةُ الْمُسْتَخْفِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5033 - مسألة: (وَتَجُوزُ شَهادَةُ المُسْتَخْفِى) المُسْتَخْفِى: هو الذى يُخْفِى نَفْسَه عن المَشْهُودِ عليه؛ ليَسْمَعَ إقْرارَه، ولا يعلَمَ به، مثلَ مَن (¬1) يَجْحَدُ الحَقَّ عَلانِيَةً، ويُقِرُّ به سِرًّا، فيَخْتَبِئُ شاهِدَان في مَوْضِعٍ لا يَعلَمُ بهما، ليَسْمَعا إقْرارَه به، ثم يَشهدا به، فشَهادَتُهما مَقْبُولَةٌ، على الرِّوايَةِ الصَّحِيحَةِ. وبهذا قال عمرُو بنُ حُرَيْثٍ، وقال: كذلك يُفْعَلُ بالخائنِ والفاجِرِ (¬2). ورُوِىَ مثلُ ذلك عن شُرَيْحٍ (¬3). وهو قولُ الشافعىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ رِوَاية اخْرَى، لا تسْمَعُ شَهادَتُه. اخْتارَه أبوِ بكر، وابنُ أبى موسى. ورُوِىَ ذلك عن شُرَيْح (¬4)، والشَّعبِىِّ (¬5)؛ لأنَّ ¬

(¬1) في ق، م: «أن». (¬2) وعلقه البخارى، في: باب شهادة المختبئ، من كتاب الشهادات. صحيح البخارى 3/ 220. ووصله عبد الرزاق في: باب السمع شهادة وشهادة المحتفى، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 356. وابن أبى شيبة، في: باب في شهادة السمع. . . .، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 498. والبيهقى، في: باب ما جاء في شهادة المختبئ، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 251. وسعيد بن منصور، كما في تغليق التعليق 3/ 374. (¬3) أخرجه وكيع، في: أخبار القضاة 2/ 239. وانظر: مصنف ابن أبى شيبة 6/ 497. (¬4) أخرجه عبد الرزاق، في: باب السمع شهادة وشهادة المختفى، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 356. وابن أبى شيبة، في: باب في شهادة السمع. . . .، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 497. والبيهقى، في: باب ما جاء في شهادة المختبئ، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 250، 251. (¬5) أخرجه ابن أبى شيبة، في: المصنف 6/ 498. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 251. =

5034 - مسألة: (ومن سمع رجلا يقر بحق، أو يشهد شاهدا بحق، أو سمع حاكما يحكم، أو يشهد على حكمه وإنفاذه)

وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُقِرُّ بِحَق، أوْ يُشْهِدُ شَاهِدًا بِحَقٍّ، أوْ سَمِعَ الْحَاكِمَ يَحكُمُ، أوْ يُشْهِدُ عَلَى حُكْمِهِ وَإنْفَاذِهِ، فِى [346 ظ] إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ فِى الأخْرَى حَتَّى يُشهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله تعالى قال: {وَلَا تَجَسَّسُوا} (¬1). ورُوِىَ عن النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ حَدَّثَ بحَدِيثٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَهِىَ أمَانَةٌ» (¬2). يَعنِى أنَّه لا يجوزُ لسامِعِه ذِكْرُه عنه؛ لالْتِفاتِه وحَذَرِه. وقال مالكٍ: إن كان المشْهُودُ عليه ضَعِيفًا ينْخَدِعُ، لم يُقْبَلا عليه، وإنْ لم يكُنْ كذلك، قُبِلَتْ. ولَنا، أنَّهما شَهِدَا بما سَمِعَاه يَقِينًا، فقُبِلَتْ شَهادَتهما، كما لو عَلِمَ بهما. 5034 - مسألة: (ومَن سَمِعَ رجلًا يُقِرُّ بحَق، أو يُشْهِدُ شاهِدًا بِحَق، أو سَمِعَ حاكِمًا يحكُمُ، أو يُشهِدُ على حُكمِهِ وإنْفاذِهِ) جاز أن يَشْهدَ به (في إحدَى الروايَتَيْن. ولا يَجُوزُ في الأخْرَى حتى يُشْهِدَه على ذلك اخْتلفَتِ الرِّوايَةُ عن أحمدَ، رَحِمَه الله، في مَن سَمِعَ ¬

= وعلق البخارى عنه: السمع شهادة. انظر: باب شهادة المختبئ، من كتاب الشهادات. صحيح البخارى 3/ 220. ووصله ابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 496. وأبو القاسم البغوى، في: الجعديات 2/ 183، 184. وانظر: فتح البارى 5/ 250. (¬1) سورة الحجرات 12. (¬2) أخر جه أبو داود، في: باب في نقل الحديث، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 566. والترمذى، في: باب ما جاء أن المجالس أمانة، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذى 8/ 138. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 324، 352، 380، 394. وأبو يعلى، في: مسنده 4/ 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجلًا يُقِرُّ بحَق، فالمذهبُ أنَّه يجوزُ أن يَشْهدَ عليه وإن لم يَقلْ للشّاهِدِ: اشْهد علىَّ. وهى التى ذكَرَها الخِرَقِىُّ. وبه قال الشَّعبِى، والشافعيُّ. وعن أحمدَ رِواية ثانية، لا يَشْهدُ حتى يقولَ له المُقِرُّ: اشْهَدْ علىَّ. كما لا يجوزُ أن يَشْهدَ على شَهادَةِ (1) رجل حتى يَسْتَرعِيَه إيَّاها، ويقولَ له: اشْهد على شَهادَتِى. وعنه رواية ثالثَة، إذا سَمِعَه يُقِرُّ بقرضٍ، لا يَشْهدُ، وإذا سَمِعَه يُقِرُّ بدَيْنٍ، شَهِدَ؛ لأنَّ المُقِر بالدَّيْنِ مُعتَرِفٌ أنَّه عليه، والمُقِرَّ بالقَرضِ لا يَعتَرِفُ بذلك، لجَوازِ أنْ يكونَ قد وَفّاه. وعنه رِواية رابعة: إذا سَمِعَ شيئًا، فَدُعِىَ إلى الشَّهادَةِ به، فهو (¬1) بالخِيارِ؛ إن شاء شَهِدَ، وإن شاء لم يَشْهد. قال: ولكنْ يَجِبُ عليه إذا اشْهِدَ (¬2) أن يَشْهدَ، [إذا دُعِىَ] (¬3)، {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬4). قال: إذا أُشْهِدُوا (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأص. (¬2) في ق، م: «شْهد». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سورة البقرة 282. (¬5) في ق، م: «شهدوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابنُ أبى موسى: إذا سَمِعَ رجلًا يُقِرُّ لرَجل بحَق، ولم يَقُلْ: اشْهد علىَّ بذلك. وَسِعَ (¬1) الشَّاهِدَ أنْ يَشْهدَ عليه، فيقولَ: أشْهدُ أنِّى حَضَرتُ إقْرارَ فُلانٍ بكذا. [وإنْ سَمِعَه] (¬2) يقولُ: اقْتَرَضْتُ مِن فُلانٍ. أو: قَبَضْتُ مِن فُلانٍ. لم يَجُزْ أنْ يَشْهدَ به. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الشّاهِدَ يَشْهدُ بما عَلِمَه، وقد حصَلَ له العلمُ بسَماعِه، فجازَأن يَشْهدَ به، كما يجوزُ أن يَشْهدَ بما رآهُ مِن الأفْعالِ. فأمَّا الشهادةُ على الشَّهادةِ، فهى ضَعِيفَةٌ، فاعتُبِرَتْ تَقْوِيَتُها بالاسْترعاءِ. وذَكَرَ القاضى أنَّ في الأفْعالِ رِوايَتَيْن؛ إحداهما، لا يَشْهدُ به حتى يقولَ له المشْهودُ عليه: اشْهد. قال شيْخُنا (¬3): وهذا إن أرادَ به العُمومَ في جميعِ الأفْعالِ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّى إلى مَنْعِ الشَّهادةِ عليها (¬4) بالكُلِّيَّةِ، فإنَّ الغاصِبَ لا يقولُ لأحَدٍ: اشْهد أنِّى غَصَبْتُ. ولا السّارِقُ، ولا الزَّانِى، ولا القاتِلُ (¬5)، ¬

(¬1) في الأصل: «سمع». (¬2) في الأصل: «وأنى سمعته». (¬3) في: المغنى 14/ 208. (¬4) في ق، م: «عليه». (¬5) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشْباهُ هؤلاءِ، وقد شَهِدَ أبو بَكْرةَ وأصحابُه على المُغِيرةِ [بنِ شُعبَةَ] (¬1) بالزِّنَى (¬2)، فلم يَقُلْ عمرُ: هل أشْهدكم أوْ لا؟ ولا قالَه للدَّين (¬3) شَهِدُوا على قُدامَةَ بشُربِ الخَمرِ (4). ولا قالَه عثمانُ للدَّين شَهِدُوا على الوَليدِ بن عُقْبَةَ بشُربِ الخَمْرِ (¬4). ولم يَقُلْ هذا أحدٌ مِن الصَّحابةِ، ولا غيرُهم، ولا بَلَغَنا عن حاكم مِن حُكَّامِ المسْلمين في قَدِيمِ الدَّهْرِ وحَديثه، أنَّه رَدَّ شهادةً على فِعْلٍ بكونِ الشَّاهدِ لم يَحمِلْها، فحصَلَ ذلك إجْماعًا، ولأن الشّاهِدَ مُخْبِر صادِقٌ، وهذا يحصُلُ مِن غيرِ أن يقالَ له: اشْهَدْ. وكذلك إن سَمِعَ الحاكمَ يَحكُمُ، أو يُشْهِدُ (¬5) على حُكْمِه وإنْفاذِه، جازَ أن يَشْهدَ على ذلك، في أظْهَرِ الرِّوايَتَيْن. والأخْرَى، لا يجوزُ حتى ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) تقدم تخرجه في 26/ 318. (¬3) في الأصل: «الذين» (¬4) تقدم تخريجه في 26/ 186. (¬5) في م: «شهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رُشْهِدَه. ووَجْهُها (¬1) ما ذكَرنا. واللهُ أعلمُ. وإن أرادَ به الأفْعالَ التى تكونُ بالتَّراضِى؛ كالقرضِ، والقَبْضِ فيه، وفى الرَّهْنِ والبَيْعِ، والافْتِراقِ، ونحوِ ذلك، جاز (¬2). فصل: ولو حضرَ شاهِدان حِسابًا بينَ رَجُلَيْن، شَرَطا عليهما أن لا يَحفَظا عليهما شيئًا، كان للشَّاهِدَيْن أن يَشْهدَا بما سَمِعَاه منهما، ولم يَسْقُطْ ذلك بشَرطِهِما؛ لأنَّ للشَّاهِدِ أن يَشْهدَ بما سَمِعَه أو عَلِمَه، وقد حصَلَ ذلك، سَواءٌ أشْهدَه أو مَنَعَه، وكذلك يَشْهدانِ على العُقودِ بحُضُورِهما، ¬

(¬1) في م: «ووجههما». (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الجِناياتِ بمُشاهدَتِهِما، ولا يَحتاجان إلى إشْهادٍ. وبه قال ابنُ سِيرِينَ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ. فصل: والحُقوقُ على ضَربَيْن؛ أحدُهما، حقٌّ لآدَمِىٍّ مُعَيَّنٍ، كالحقوقِ المالِيَّةِ، والنِّكاحِ وغيرِه مِن العُقودِ، والعُقوباتِ، كالقِصاصِ، وحدِّ القَذْفِ، والوَقْفِ على آدَمِىٍّ مُعَيَّن (¬1)، فلا تُسْمَعُ الشَّهادةُ فيه إلَّا بعدَ الدَّعوَى؛ لأنَّ الشَّهادةَ فيه حق لآدَمِىٍّ، فلا تُسْتَوْفَى إلَّا بعدَ مُطالَبَتِه وإذْنِه، ولأنَّها حُجَّة على الدّعوَى (¬2)، ودَليلٌ لها، فلا يجوزُ تَقدِيمُها عليها. الضَّربُ الثاني، ما كان حقُّا لآدَمِىٌّ غيرِ مُعَيَّنٍ، كالوقْفِ (¬3) على الفُقَراء والمساكينِ، أو جيعِ المسلمين (¬4)، أو على مَسْجدٍ، أو سِقايَةٍ، أَو مَقْبَرةٍ مُسَبَّلَةٍ، أو (¬5) الوَصِيَّةِ لشئٍ مِن ذلك، أو نحوِ هذا، أو ما كان حَقًّا للهِ تعالى، كالحُدودِ الخالِصَةِ للهِ تعالى، أو الزّكاةِ، أو الكَفَّارَةِ، فلا تَفتَقِرُ الشَّهادةُ به (¬6) إلى تَقَدُّمِ الدّعوَى؛ لأنَّ ذلك ليس له مُسْتَحِق مُعَيَّن مِن الآدَمِيِّين يَدَّعِيه، ويُطالِبُ به، ولذلك شَهِدَ ¬

(¬1) في الأصل: «آدميين معينين». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «كالوقوف». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «و». (¬6) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو بَكْرةَ وأصحابُه على المُغِيرَةِ، وشَهِدَ الْجَارودُ وأبو هُرَيْرَةَ على قُدامَةَ ابنِ مَظْعُونٍ بشُربِ الخَمرِ، مِن غيرِ تَقَدُّمِ دَعوَى، فأجِيزَتْ شَهادَتهم، ولذلك لم (¬1) يُعتَبر في ابْتِداءِ الوَقْفِ قَبول مِن أحَدٍ، ولا رِضًا منه. وكذلك (¬2) ما لا يتعَلَّقُ به حقُّ أحَدٍ، كتَحرِيمِ الزَّوْجَةِ بالطَّلاقِ أو الظِّهارِ، أو إعتاقِ الرَّقيقِ، تجوزُ الحسْبَةُ به، ولا تُعتَبَرُ فيه الدَّعوَى. فلو شَهِدَ شاهِدان بعِتْقِ عَبْدٍ أو أمَةٍ ابْتِداءً، ثبَتَ ذلك، سَواءً صدَّقَهما المشْهودُ بِعِتْقِه (¬3)، أو لم يُصَدِّقْهما. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال به أبو حنيفةَ في الأمَةِ. وقال في العَبْدِ: لا يَثْبُتُ، ما لم يُصَدِّقِ العَبْدُ به، ويَدَّعِيه؛ لأنَّ العِتْقَ حَقُّه، فأشْبَهَ سائِرَ حُقوقِه. ولَنا، أنَّها شَهادة بعِتْقٍ، فلا تَفْتَقِرُ إلى تقَدُّمِ الدعوى، كعِتْقِ الأمَةِ، ويُخالِفُ سائِرَ حُقوقِ الآدَمِيين؛ لأنَّه حَقُّ لله تعالى، ولهذا لا يَفْتَقِرُ إلى قَبولِ العِتْقِ، ودَليلُ ذلك الأمَةُ. وبه يَبْطُلُ ما ذَكَرُوه. فإنْ قال: الأمَةُ يتعَلَّقُ بإعتاقِها تَحريمُ الوَطْءِ. قُلْنا: هذا لا أثرَ له، فإنَّ البَيْعَ يُوجِبُ تَحريمَها عليه، ولا تُسْمَعُ الشَّهادةُ به (¬4) إلا بعدَ الدَّعوَى. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) بعده في الأصل: «حق». (¬3) في م: «عليه». (¬4) سقط من: م.

فَصْلٌ: وإذَا شَهدَ أحَدُهُمَا أنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أحْمَرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أنَّهُ غصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ، أوْ شَهدَ أحَدُهُمَا أنَّهُ غَصَبَهُ الْيَوْمَ، وَشهِدَ آخرُ أنَّهُ غصَبَهُ أمسِ، لَمْ تَكمُلِ الْبَيِّنَةُ. وَكذلِكَ كُلُّ شَهادَةٍ عَلَى الْفعلِ، إِذَا اخْتَلَفَا فِى الْوَقْتِ، لَمْ تَكْمُل الْبَيِّنَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه الله: (إذا شَهِدَ أحدُهما أنَّه غَصَبَه ثَوْبًا أحْمَرَ، وشَهِد آخَرُ أنَّه غَصَبَه ثَوْبًا أْبيضَ، أو شَهِدَ أحدُهما أنه غَصَبَه اليومَ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه غَصَبَه أمْسِ، لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ. وكذلك كلُّ شَهادَةٍ على الفِعلِ، إذا اخْتَلَفا في الوَقْتِ) متى كانتِ الشَّهادةُ على فعلٍ، فاخْتلفَ الشاهِدان في زَمَنِه، أو مَكانِه، أو صِفَةٍ له تَدُلُّ على تَغايُر الفِعلَيْن، لم تَكْمُلْ شَهادَتُهما، مثلَ أن يَشْهدَ أحدُهما [أنَّه غَصَبَه] (¬1) دِينارًا يومَ السَّبتِ، و [يشْهدَ الآخَرُ أنَّه غصَبَه دينارًا يومَ الجمعةِ، أو يَشْهدَ أحدُهما أنَّه غَصَبَه بدمشقَ، ويَشْهدَ الآخرُ أنَّه غَصَبَه] (¬2) بمصرَ، أو يَشْهدَ أحدُهما أنَّه غَصَبَه دِينارًا، ويَشْهدَ الآخَرُ (1) أنَّه غَصَبَه ثوبًا، فلا تَكْمُلُ الشَّهادةُ؛ لأنَّ كُل فِعل لم يَشْهد به شاهِدَان. وهكذا إنِ اخْتَلفَا في زَمَنِ القَتْلِ، ومكانِه، أو صِفَتِه، أو في شُربِ الخمرِ، أو القَذْفِ، لم تَكْملِ الشَّهادةُ؛ لأنَّ ما ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «بدمشق، ويشهد الآخر أنه غصبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهِدَ به أحدُ الشَّاهِدَيْن غير الذى شَهِدَ به الآخَرُ، فلم يَشْهد بكُلِّ واحدٍ مِن الفعلَيْن إلَّا شاهدٌ واحدٌ، فلم يُقْبَلْ، إلَّا على قولِ أبى بكر، فإنَّ هذه الشَّهادةَ تَكْمُلُ. ويَثْبُتُ المشْهودُ به إذا اخْتلَفا في الزَّمانِ أو المكانِ. فأمَّا إنِ اخْتلَفا في صِفَةِ الفِعلِ، فشَهِدَ أحدُهما أنَّه سرَقَ مع الزَّوالِ كِيسًا (1) أبيَضَ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه سرَقَ مع الزَّوالِ كِيسًا (¬1) أسودَ، أو شَهِدَ أحدُهما أنَّه سرَقَ هذا الكِيسَ (¬2) غُدوَةً، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه سرَقَه عَشِيًّا، لم تَكْمُلِ الشَّهادةُ. ذكَرَه ابنُ حامدٍ. وقال أبو بكرٍ: تَكْمُلُ ¬

(¬1) في الأصل: «كبشا». (¬2) في الأصل: «الكبش».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهادةُ (¬1). والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ كُلَّ فِعل لم [يَشْهد به] (¬2) إلَّا واحدٌ، على ما قَدَّمنا. فإنِ اخْتلَفا في صِفَةِ المشْهودِ به اخْتِلافًا يُوجِبُ تَغايُرَهما، مثلَ أن يَشهدَ أحدُهما بثَوْبٍ والآخَرُ بدينارٍ، فلا خِلافَ في أنَّ الشَّهادةَ لا تَكْمُلُ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ إيجابُهما (¬3) جميعًا؛ لأنَّه يكونُ إيجابَ حَقٍّ عليه بشَهادةِ واحدٍ، ولا إِيجابُ أحَدِهما بعَيْيه؛ لأنَّ الآخَرَ لم يَشْهَدْ به، وليس أحدُهما أوْلَى مِن الآخرِ. فأمَّا إن شَهِدَ بكُلِّ فِعلٍ شاهِدان، واخْتلَفا في المَكانِ أو الزَّمانِ أو الصِّفَةِ، ثَبَتَا جَمِيعا؛ لأنَّ كلُّا منهما قد شَهِدَ به بَيِّنَةٌ عادِلَةٌ، لو انْفَرَدَتْ أثْبَتَتِ الحَقَّ، وشَهادةُ الأخْرَى لا (1) تُعارِضُها؛ لإمكانِ الجَمعِ بينَهما، إلَّا أن يكونَ الفِعلُ ممَّا لا يُمكنُ تَكَرُّرُه، كقَتْلِ رَجُل بعَيْنِه، فتَتعارَضُ البَينتانِ؛ لعِلْمِنا أنَّ إحْداهما كاذِبَةٌ، ولا نعلمُ أيَّتُهما هى، بخلافِ ما يتَكَرَّرُ ويُمكِنُ صدقُ البَمنتَيْنِ فيه، فإنَّهما يَثْبُتان جميعًا إِنِ ادَّعاهُما، وإن لم يَدَّعِ إلَّا أحدَهما، ثَبَت له ما ادَّعاه دونَ ما لم يَدَّعِه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «يشهده». (¬3) في الأصل: «إيجابها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن شهِدَ اثْنانِ أنَّه سَرَق مع الزَّوالِ كِيسًا (1) أسْوَدَ، وشهِدَ آخَرَان أنَّه سرَقَ مع الزَّوالِ كِيسًا (¬1) أْييَضَ، أو شهِدَ اثْنانِ أنَّه سرَقَ هذا الكِيسَ (¬2) غُدوةً، وشهِدَ آخَران أنَّه سَرَقَه عَشِيًّا، فقال القاضى: يتَعارَضان. وهو مذهبُ الشافعىِّ. كما لو كان المشْهودُ به قَتْلًا. قال شيْخُنا (¬3): والصَّحِيحُ أنَّ هذا لا تَعارُضَ فيه؛ لأنَّه يُمكِنُ صدقُ البَينتَيْن، بأن يسْرِقَ عندَ الزَّوالِ كِيسَيْنِ أبيضَ وأسودَ، وتشْهدُ كُلُّ بَينةٍ بأحَدِهما، ويُمكِنُ أن يسْرقَ كِيسًا (1) غُدوةً، ثم يعودَ إلى صاحِبِه أو غيرِه، فيَسْرِقَه عَشِيًّا، ومع إمكانِ الجَمعِ لا تَعارُضَ. فعلى هذا، إن ادَّعاهُما المشْهودُ له، ثَبَتا له في الصُّورَةِ الأولَى، وأمَّا في الصُّورَةِ الثانية، فيَثْبُتُ له الكِيسُ (2) المشْهودُ به حَسْبُ؛ فإنَّ المشْهودَ به وإن كان فِعلَيْنِ، لكنَّهما في مَحَلٍّ واحدٍ، فلا يَجِبُ أكثرُ مِن ضَمانِه. ,وإن لم يَدَّعِ المشْهودُ له إلَّا أحدَ الكِيسَيْنِ (¬4)، ¬

(¬1) في الأصل: «كبشا». (¬2) في الأصل: «الكبش». (¬3) في: المغنى 14/ 240. (¬4) في الأصل: «الكبشين».

5035 - مسألة: (وإن شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس، وشهد آخر أنه أقر له بألف اليوم، أو شهد أحدهما أنه باعه داره أمس،

وَإِنْ شَهِدَ احَدهمَا أنَّه أَقَرَّ له بِألْفٍ أمْسِ، وَشهِدَ آخر أنَّه أقَرَّ لَهُ بألْفٍ اليَوْمَ، أَوْ شَهِدَ أحَدهُمَا أنَّهُ بَاعَه دَارَهُ أمْسِ، وَشَهِدَ آخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ ثَبَتَ له، ولم يثْبُتْ له الآخَرُ؛ لعَدَمِ دعواه إيَّاهُ. وإن شهِدَ له شاهِدٌ بسَرِقَةِ كِيس (1) في يوم، وشهِدَ آخَرُ بسَرِقَةِ كيسٍ (¬1) في يوم آخَرَ، أو شَهِدَ أحدُهما بسَرِقَتِه مِن مَكانٍ، وشهِدَ آخَرُ بسَرِقَتِه من (¬2) مَكانٍ آخَرَ، أو شَهِدَ أحدُهما بغَضبِ كيسٍ (1) أبيضَ، وشهِدَ اخَرُ بغَضبِ كيسٍ (1) أسودَ، فادَّعاهما (¬3) المشْهودُ له، فله أن يَخلِفَ مع كُلِّ واحدٍ منهما، ويُحكَمَ له به؛ لأنَّه مال قد شهِدَ له به (¬4) شاهِدٌ. وإن لم يَدَّعِ إلَّا أحدَهما، ثَبتَ له ما ادَّعاه، ولم يثْبُتْ له الآخَرُ؛ لأنَّه لم يَدَّعِه. 5035 - مسألة: (وإن شَهِدَ أحَدُهما أنَّه أقَرَّ له بألْفٍ أمْسِ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه أقَرَّ له بألفٍ اليومَ، أو شَهِدَ أحدُهما أنه باعَه دارَه أمسِ، ¬

(¬1) في الأصل: «كبش». (¬2) في م: «في». (¬3) في م: «فادعاها». (¬4) سقط من: «م».

أنَّه بَاعَهُ إيَّاها الْيَوْمَ، كَمَلَتِ الْبَيِّنَةَ، وَثَبَتَ الْبَيْع وَالإقْرَارُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهادَةٍ عَلَى الْقَوْلِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وشَهِدَ آخَرُ أنَّه باعَه إيَّاها اليومَ، كَمَلَتِ البينةُ، وثَبَتَ البَيْع والإقْرارُ، وكذلك كُلُّ شَهادَةٍ على القَوْلِ) أمَّا إذا شهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ له بألْفٍ أمسِ، وشهِدَ آخَر أنَّه أقَرَّ له بألْفٍ اليومَ، كَمَلَتِ البَيِّنَةُ؛ لأنَّ الألْفَ التى شَهِدَ بها أحدهما، هى الألْف التى شَهِدَ بها الآخَرُ، ولأنَّ الشّاهِدَيْن شَهِدَا بألْفٍ. وإنْ شَهِدَ أحدهما أنَّه بَاعَه أمسِ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه بَاعَه اليومَ، أو شَهِدَ أحدهما أنَّه طلَّقَها أمسِ، وشهِدَ آخَر أنَّه طلَّقَها اليومَ، فقال أصحابنا: تَكْفل الشَّهادة. وقال الشافعىُّ: لا تَكْمُلُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن البَيْعِ والطَّلاق لم يشْهد به إلَّا واحدٌ، أشْبَهَ ما لو شَهِدَ بالغَصْبِ في وَقْتَيْنِ. ووَجه قولِ أصحابِنا، أنَّ المشْهودَ به شيءٌ واحدٌ، يجوزُ أن يُعادَ مَرَّةً بعد أخْرَى، ويكونَ واحدًا، فاخْتِلافهما في الوقتِ ليس باخْتِلافٍ فيه، فلم يُؤَثِّرْ، كما لو شهِدَ أحدُهما بالعَربيَّةِ والآخَر بالفارسِيَّةِ. وكذلك

5036 - مسألة: (وكذلك القذف)

الَّا النِّكَاحَ، إِذَا شَهِدَ أحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أمْسِ، وَشَهِدَ الآخَرُ أَنَّهُ تزَوَّجَهَا اليَوْمَ، لَمْ تَكمُلِ الْبَيِّنَةَ. وَكذلِكَ الْقَذْفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُكْمُ في كلِّ شَهادةٍ على قولٍ، فالحكمُ فيه كالحُكْمِ في البَيْعِ (إلَّا النِّكاحَ) فإنَّه كالفِعْلِ، (إذا شَهِدَ أحدُهما أنَّه تزَوَّجَها أمْسِ، وشهِدَ الآخَرُ أنَّه تزَوَّجَها اليومَ، لم تَكْمُلِ) الشَّهادةُ، في قولِهم جميعًا؛ لأنَّ النِّكاحَ أمْسِ غيرُ النِّكاحِ اليومَ، فلم يَشْهَدْ بكلِّ واحدٍ مِن العَقْدَيْنِ إلَّا شاهِدٌ واحِدٌ، فلم يثْبُتْ، كما لو كانتِ الشَّهادةُ على فعلٍ. 5036 - مسألة: (وكذلك القَذْفُ) إذا شَهِدَ أحدُهما أنَّه قَذَفَه غُدْوَةً، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه قَذَفَه عَشِيَّةً، أو شَهِدَ أحَدُهُما أنَّه قَذَفَه بالعَرَبِيَّةِ، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه قَذَفَه بالعَجَمِيَّةِ، أو اخْتَلَفا في المَكانِ، لم يَثْبُتِ القَذْفُ؛ لأنَّ القَذْفَ في مَكانٍ غيرُ القَذْفِ في المكانِ الآخَرِ، وكذلك الاخْتِلافُ

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَثْبُتُ الْقَذْفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ في الزَّمانِ (وقال أبو بكرٍ: يَثْبُتُ القَذْفُ) لأنَّ المَشْهودَ به واحدٌ، وإنِ اخْتَلَفَتِ العِبارَةُ، واخْتَلَفَ الزَّمانُ. والأوَّلُ المذهبُ. فَصْلٌ في الشَّهادةِ على الإقْرارِ بالفِعْلِ: مثل أن يَشْهَدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ عندِى يومَ الخميسِ بدمشقَ أنَّه قَتَلَه، أو قَذَفَه، أو غَصَبَه كذا، أو أنَّ له في ذِمَّتِه كذا، ويَشْهَدَ الآخَرُ أنَّه أقَرَّ عندِى بهذا يومَ السبتِ بحِمْصَ، كَمَلَتْ شَهادَتُهما. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال زُفَرُ: لا تَكْمُلُ شَهادَتُهما؛ لأنَّ كلَّ إقْرارٍ لم يَشْهَدْ به إلَّا واحدٌ، فلم تكْمُل الشَّهادةُ، كالشَّهادةِ على الفِعْلِ. ولَنا، أنَّ المُقَرَّ به واحدٌ، وقد شَهِدَ اثْنان بالإقْرارِ به، فكَمَلَتْ شَهادَتُهما، كما لو كان الإقْرارُ بهما واحدًا، وفارَقَ الشَّهادةَ على الفِعْلِ؛ فإنَّ الشَّهادةَ فيها (¬1) على فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْن، فنَظِيرُه مِن الِإقْرارِ أن يَشْهَدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ عندِى أنَّه قتَلَه يومَ الخميسِ، وشهِدَ الآخَرُ أنَّه أقَرَّ أنَّه قتَلَه يومَ الجمعةِ، فإنَّ شَهادَتَهما لا تُقْبَلُ ههُنا. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُحَقِّقُ ما ذكَرْناه، أنَّه لا يُمْكِنُ جَمْعُ الشُّهودِ لسَماعِ الشَّهادةِ في حَقِّ كلِّ واحدٍ، والعادةُ جارِيةٌ بطَلَبِ الشُّهودِ في أماكِنِهم، لا في جَمْعِهم إلى المشْهودِ له، فيَمْضِى إليهم في أَوْقاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ (¬1)، وأماكنَ مُخْتَلِفَةٍ، فيُشْهِدُهم على إقْرارِه. فإن كان الإقْرارُ بفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مثلَ أن يقولَ أحدُهما: أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ عندِى أئه قتَلَه يومَ الخميسِ. وقال الآخَرُ: أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ عندِى [أنَّه قَتَلَه يومَ الجُمُعَةِ. أو قال أحدُهما: أشْهَدُ أنَّه أقَر عندِى أنَّه قَذَفَه بالعَرَبيَّةِ. وقال الآخَرُ. أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ عندى] (¬2) أنَّه قَذَفَه بالعَجَمِيَّةِ. لم تَكْمُلِ الشَّهادةُ؛ لأنَّ الذى شَهِدَ به أحدُهما غيرُ الذى شهِدَ به صاحِبُه، فلم تَكْمُلِ الشَّهادةُ، كما لو شهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ أنَّه غصَبَه دَنانِيرَ، وشهِدَ الآخَرُ أنَّه غصَبَه دَراهِمَ، لم تَكْمُلْ. وعلى قولِ أبي بكرٍ، تَكْمُلُ الشهادةُ في القَتْلِ والقَذْفِ؛ لأنَّ القَذْفَ بالعربيَّةِ أو العَجَمِيَّةِ، والقَتْلَ بالبَصْرةِ أو الكُوفِة، ليس مِن المُقْتَضِى، فلا يُعْتَبَرُ في الشَّهادةِ. والأوَّلُ أصَحُّ. ¬

(¬1) في م: «منفردة». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن شَهِدَ أحدُهما أنَّه غَصَبَه هذا العبدَ، وشهِدَ الآخَرُ أنَّه أقَرَّ بغَصْبِه منه، كَمَلَتِ الشَّهادةُ، [وقُبِلَتْ] (¬1)، وحُكِمَ بها؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ الغَصْبُ الذى أقَرَّ به هو الذى شهِدَ الشَّاهِدُ به، فلم يخْتَلِفِ الفِعْلُ، وكَمَلَتِ الشَّهادةُ، كما لو شهِدَا في وَقْتَيْنِ على إقْرارِه بالغَصْبِ. وقال القاضى: لا تَكْمُلُ الشَّهادةُ، ولا يُحْكَمُ بها. وهو تولُ الشافعىِّ؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ ما أقَرَّ به غيرَ ما شهِدَ به الشَّاهِدُ. وهذا يَبْطُلُ بالشَّهادةِ على إقْرارَيْنِ، فإنَّه يجوزُ أن يكونَ ما أقَرَّ به عندَ أحدِ الشَّاهِدَيْن غيرَ ما أقَرَّ به عندَ الآخَرِ، إذا كانا في وَقْتَيْن مُخْتَلِفَيْن، ولأنَّه إذا أمْكَنَ جَعْلُ الشَّهادةِ على فِعْلٍ واحدٍ، لم تُحْمَلْ على اثْنَيْن (¬2)، كالإقْرارَيْن، وكما لو شهِدَ بالغَصْبِ اثْنان، وشهِدَ على الإقْرارِ به اثْنان. فإن شهِدَ أحدُهما أنَّه غَصَب هذا العبدَ مِن زيدٍ، أو أنَّه (¬3) أقَر بغَصْبِه منه، وشهِدَ الآخَرُ أنَّه مِلْكُ زَيْدٍ، لم تَكْمُلْ شَهادَتُهما (¬4)؛ لأنَّهما لم يَشْهَدا على شئٍ واحدٍ. وإن شَهِدَا (¬5) أنَّه أخذَه من يَدَيْه، ألْزمَه الحاكمُ رَدَّه إلى يَدَيْه؛ لأنَّ اليدَ دَليلُ المِلْكِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «الاثنين». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «الشهادة». (¬5) في م: «شهد».

5037 - مسألة: (وإن شهد شاهد أنه أقر له بألفين، وشهد آخر أنه أقر له بألف، ثبت الألف، ويحلف على الآخر مع شاهده، إن أحب)

وَإنْ شهِدَ شاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ لهُ بِأَلْفٍ، وَشهِدَ آخرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفيْنِ، ثَبَتَ الْأَلْفُ، وَيَحْلِفُ عَلَى الآخَرِ مَعَ [347 و] شَاهِدِهِ إِنْ أَحَبَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَرُدُّه إلى يَدِه؛ لتكونَ دَلالتُها ثابتةً له. قال مُهَنَّا: سألتُ أبا عبدِ اللهِ، عن رجلٍ ادَّعَى دارًا في يَدِ رجلٍ، وأقامَ شاهِدَيْن، شهِدَ أحدُهما، قال: أشْهَدُ أنَّ هذه الدَّارَ لفُلانٍ. وقال الآخَرُ: أشْهَدُ أنَّ هذه الدَّارَ دارُ فلانٍ. قال: شَهادَتُهما جائزةٌ. 5037 - مسألة: (وإن شَهِدَ شاهِدٌ أنَّه أقَرَّ له بأَلْفَيْنِ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه أقَرَّ له بألْفٍ، ثَبَتَ الألْفُ، ويَحْلِفُ على الآخَرِ مع شاهِدِه، إن أحَبَّ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا شهِدَ أحدُ الشّاهِدَيْن بشئٍ، وشهِدَ الآخَرُ ببَعْضِه، صحَّتِ الشَّهادةُ، وثَبَتَ ما اتَّفَقا عليه، وحُكِمَ به. وهذا قولُ شُرَيْحٍ، ومالِكٍ، والشافعىِّ، وابنِ أبي ليلَى، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ، وإسْحاقَ، وأبي عُبَيْدٍ. وحُكِىَ عن الشَّعْبِىِّ، أنَّه شهِدَ عندَه رجُلان؛ شهِدَ أحدُهما أنَّه طلَّقَها تَطْلِيقَةً، وشهِدَ آخَرُ أنَّه طلَّقَها تَطليقَتَيْن، فقال: قد اخْتَلَفْتُما، قُوما. وحُكِىَ عن أبي حنيفةَ، أنَّه إذا شَهِدَ شاهِدٌ أنَّه أقَرَّ بألْفٍ، وشهِدَ آخَرُ أنَّه أقَرَّ بألْفَيْن، لم تَكْمُلِ الشَّهادةُ؛ لأنَّ الإقْرارَ بالألْفِ غيرُ الإِقْرارِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بألْفَيْن (¬1)، ولم يَشْهَدْ بكلِّ إقْرارٍ إلَّا واحدٌ. ولنا، أنَّ الشَّهادَةَ قد كَمَلَتْ فيما اتَّفَقا عليه، فحُكِمَ به، كما لو لم يَزِدْ (¬2) أحدُهما على صاحِبِه. وما ذكَرَه (¬3) مِن أنَّ كلَّ إقْرارٍ إنَّما شهِدَ به واحدٌ، يبْطُلُ بما إذا شهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ بألْفٍ غُدْوةً، وشَهدَ الآخَرُ أنَّه أقَرَّ بألْفٍ عَشِيًّا، فإنَّ الشَّهادةَ تَكْمُلُ، مع أنَّ كُلَّ إقْرارٍ إنَّما شهِدَ به واحدٌ. فأمَّا ما انْفَرَد به أحدُهما، فإن للمُدَّعِى أنْ يَحْلِفَ معه، ويَسْتَحِقُّ. هذا قولُ مَن يَرَى الحُكْمَ بشاهِدٍ ويَمِينٍ. وهذا فيما إذا أطْلَقا الشَّهادةَ، أو لم تَخْتَلِفِ الأسْبابُ والصِّفاتُ. فصل: إذا شهِدَ له شاهِدان بألْفٍ، وشاهِدان بخَمْسِمائةٍ، ولم تخْتَلِفِ الأسْبابُ والصِّفاتُ، دخَلَتِ الخَمْسُمائَة في الألْفِ، ووَجَبَ له الألْفُ بِالشَّهادَتَيْن (¬4). وإنِ اخْتَلَفَتِ الأسْبابُ وِالصِّفاتُ، وجَبَ له (1) الألْفُ والخَمْسُمائة، ولم يَدْخُلْ أحدُهما في الآخرِ؛ لأنَّهما مُخْتلفان. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في النسخ: «يرد»، وانظر المغنى 14/ 266. (¬3) في م: «ذكروه». (¬4) في ق، م: «بالشاهدين».

5038 - مسألة: (وإن شهد أحدهما أن له)

وِإنْ شَهِدَ أحَدُهُمَا أنَّ لَهُ أَلْفًا، وَشَهِدَ آخَرُ أنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ، فَهَلْ تَكْمُلُ الْبَيِّنةُ عَلَى أَلْفٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ قَرْضٍ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5038 - مسألة: (وإن شَهِدَ أحدُهما أنَّ له) عليه (ألْفًا، وشَهِدَ آخَر أن له عليه ألْفَيْنِ، فهل تَكْمُل البَيِّنَة على ألْفٍ؟ على وَجْهَيْنِ) أحَذهما، تَكْمُلُ، كالتى قبلَها. والثاني، لا تكْمُلُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ الألْفُ المُنْفَرِدُ (¬1) مِن غيرِ الألْفَيْن. 5039 - مسألة: (وإن شَهِدَ أحدُهما أنَّ له عليه ألْفًا مِن قَرْضٍ، وشَهِدَ آخَر أنَّ له عليه ألْفًا مِن ثَمَنِ مَبِيعٍ، لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ) أمَّا إذا اخْتَلَفَتِ الأسْبابُ والصِّفاتُ، مثلَ أن يشْهَدَ شاهِدٌ بألفٍ مِن قَرْضٍ، وآخَر بألفٍ ¬

(¬1) في الأصل: «المفرد».

5040 - مسألة: (وإن شهد شاهدان أن له عليه ألفا، وقال أحدهما: قضاه بعضه. بطلت شهادته. نص عليه. وإن شهدا

وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ الْفًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ بَعْضَهُ. بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ نِصْفَهُ. صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن ثَمَنِ مَبِيعٍ، أو يَشْهَدَ شاهِدٌ بألْفٍ بِيضٍ، وآخَرُ بألْفٍ سُودٍ، أو يشْهَدَ أحدُهما بألْفِ دينارٍ، والآخَرُ بألْفِ دِرْهَمٍ، لم تَكْمُلَ البَيِّنَةُ، وكان له أن يَحْلِفَ مع كلِّ واحدٍ منهما، ويَسْتَحِقُّها، أو يَحْلِفَ مع أحدِهما، ويَسْتَحِقُّ ما شَهِدَ به. 5040 - مسألة: (وإن شَهِدَ شاهِدانِ أنَّ له عليه ألْفًا، وقال أحَدُهما: قَضَاهُ بَعْضَهُ. بَطَلَت شَهادَتُه. نَصَّ عليهِ. وإن شَهِدَا (¬1) أنَّه أقْرَضَه ألْفًا، وقال أحدُهما: قَضَاهُ نِصْفَهُ. صَحَّتْ شَهَادَتُهُما) إذا شَهِدَا أنَّ له عليه ألْفًا، ثم قال أحدُهما: قَضاه نِصْفَه. بَطَلَت شَهادَتُه. وهكذا ¬

(¬1) في النسخ: «شهد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرَه أبو الخطّابِ؛ وذلك لأنَّه (¬1) شَهِدَ بأنَّ الألْفَ جميعَه عليه، فإذا قَضاه بعضَه، لم يَكُنِ الألفُ كلُّه عليه (¬2)، فيَكُونُ كلامُه مُتَناقِضًا، فتَفْسُدُ شَهادَتُه. وفارَقَ هذا ما لو شَهِدَ بألفٍ، ثم قال: بل بخَمْسِمائةٍ؛ لأنَّ ذلك رُجوعٌ عنِ الشَّهادَةِ بخَمْسِمائةٍ، وإقرارٌ بغَلَطِ نفسِه، وهذا. لا يقولُ ذلك على وجهِ الرُّجوعِ. والمَنْصُوصُ عن أحمدَ، أنَّ شهادَتَه تُقْبَلُ بخَمْسِمائةٍ، فإنَّه قال: إذا شَهِدَ بألفٍ، ثم قال أحدُهما قبلَ الحكمِ: قضاه منه خَمْسَمائةٍ. أفْسَدَ شَهادَتَه، [وللمَشْهودِ له ما] (¬3) اجْتَمَعا عليه، وهو خَمْسُمائةٍ. فصحَّحَ (¬4) شَهادَتَه في نِصْفِ الألْفِ الباقى، وأبْطَلَها في النِّصْفِ الذى ذَكَر أنَّه قضاه؛ لأنَّه بمَنْزِلةِ الرُّجوعِ عن الشَّهادَةِ به، فأشْبَهَ ما لو قال: أشْهَدُ بألْفٍ، بل بخَمْسِمائةٍ. قال أحمدُ: ولو جاء بعْدَ هذا المجلسِ، فقال: أشْهَدُ أنَّه قَضاه منه خَمْسَمائةٍ. لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّه قد ¬

(¬1) في م: «بأنه». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «والمشهود له». (¬4) في م: «فصحت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمضى الشَّهادَةَ. فهذا يَحْتَمِلُ أنَّه أراد إذا جاء بعدَ الحُكْمِ فشَهِدَ بالقَضاءِ، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّ الألْفَ قد وَجَب بشهادتِهما (¬1) وحكْمِ الحاكمِ، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُه بالقضاءِ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ بشاهدٍ واحدٍ. فأمّا إنْ شَهِدَ أنَّه أقْرَضَه ألْفًا، ثم قال أحدُهما: قَضاه منه خَمْسَمائةٍ. قُبِلَتْ شَهادَتُه في باقِى الألْفِ، وَجْهًا واحدًا؛ لأنَّه لا تَناقُضَ في كَلامِه، ولا اخْتلافَ. ¬

(¬1) في م: «بشهادتها».

5041 - مسألة: (وإن كانت له بينة بألف، فقال: أريد أن تشهدا لى بخمسمائة. لم يجز. وعند أبي الخطاب، يجوز)

وَإذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أُرِيدُ أنْ تَشْهَدَا لِى بِخَمْسِمِائَةٍ. لَمْ يَجُزْ. وَعِنْدَ أَبِى الْخَطَّابِ، يَجُوزُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5041 - مسألة: (وإن كانتْ له بَيِّنَةٌ بألْفٍ، فقال: أُرِيدُ أن تَشْهَدَا لِى بِخَمْسِمِائةٍ. لم يَجُزْ. وعندَ أبي الخَطَّابِ، يجوزُ) قال أحمدُ: إذا شهِدَ على ألْفٍ، وكان الحاكِمُ لا يَحْكُمُ إلَّا على مائَتَيْن، فقال له صاحِبُ الحقِّ: أُريدُ أن تشْهَدَ (¬1) لى على مائةٍ. لم يَشْهَدْ إلَّا بألْفٍ. قال القاضى: وذلك أنَّ على الشاهدِ نَقْلَ شَهَادَتِه (¬2) على ما شَهِدَ، قال اللهُ تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (¬3). ولأنَّه لو ساغَ ¬

(¬1) في م: «تشهدا». (¬2) في م: «الشهادة». (¬3) سورة المائدة 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للشَّاهدِ أن يشْهَدَ ببَعْضِ ما أُشْهِدَ (¬1)، لَساغَ للقاضى أنْ يَقْضِىَ ببَعْضِ ما شَهِدَ به الشّاهِدُ. وقال أبو الخَطَّابِ: عندِى يَجُوزُ [أن يَشْهَدَ] (¬2) بذلك؛ لأنَّ مَن شَهِدَ بأَلْفٍ، فقد شَهِدَ (¬3) بمائةٍ، وإذا شَهِدَ بمائةٍ، لم يكُنْ كاذبًا في شَهادَتِه، كجازَ، كما لو كان قد أقْرَضَه مائةً مَرةً، وتِسْعَمائةٍ أُخْرَى. قال شيْخُنا (¬4). والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِما ذكَره القاضى، ولأنَّ شَهادَتَه بمائةٍ رُبَّما أوْهمتْ أنَّ هذه المائةَ غيرُ التى شهِدَتْ بأصْلِه، فيُؤدِّى إلى إيجابِها عليه مَرتَيْن. قال أحمدُ: إذا قال: اشْهَدْ على مائةِ درهمٍ، ومائةِ درهمٍ، ومائةِ درْهم. فشَهِدَ على مائةٍ دونَ مائةٍ، كُرِهَ، إلَّا أن يقولَ: [اشهَدُوا لى] (¬5) عَلى مائةٍ، ومائةٍ، ومائةٍ. يَحْكِيه كلَّه للحاكمِ كما كان. ¬

(¬1) في الأصل: «شهد». (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «به». (¬4) في: المغنى 14/ 274. (¬5) في ق، م: «اشهدوني».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال أحمدُ: إذا شَهِدَ بألفِ درهم ومائةِ دينارٍ، فله دراهمُ ذلك البلدِ ودَنانِيرُه. قال القاضى: لأنَّه لمَّا جازَ أن يُحْمَلَ مُطْلَقُ العَقْدِ على ذلك، جازَ أن تُحْمَلَ الشَّهادةُ عليه. فصل: إذا شَهِدَ شاهِدٌ أنَّه باعَه هذا العبدَ بألفٍ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه باعَه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إيَّاه بِخَمْسِمائةٍ، لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ؛ لاخْتِلافِهما في صِفَةِ البَيْعِ، وله أن يَحْلِفَ مع أحدِهما، ويثْبُتُ له ما حَلَفَ عليه. فإن شهِدَ بكُلِّ عَقْدٍ شاهِدَان، ثبَتَ البَيْعان، فإنْ أضافَا البَيْعَ إلى وَقْتٍ واحدٍ، مثلَ أن يَشْهدَا أنَّه باعَه هذا العبدَ مع الزَّوالِ بألفٍ، وشَهِدَ آخَرُ أنَّه باعَه إيَّاه مع الزَّوالِ بخَمْسِمائةٍ، تَعارَضَتِ البَيِّنَتان، وسَقَطتَا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ اجْتِماعُهما، وكلُّ بَيِّنَةٍ تُكَذِّبُ الأُخْرَى. وإن شَهِدَ بكُلِّ واحدٍ مِن هذَيْن شاهِدٌ واحدٌ، كان له أن يَحْلِفَ مع أحَدِهما، ولا يتَعارَضان؛ لأنَّ التَّعارُضَ إنَّما يكونُ بينَ (¬1) البَيِّنتَيْن الكامِلَتَيْن. ¬

(¬1) في م: «مع».

باب شروط من تقبل شهادته

بَابُ شُرُوطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهِىَ سِتَّةٌ؛ أَحَدُهَا، الْبُلُوغُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ. وَعَنْهُ، تُقْبَلُ مِمَّن هُوَ فِى حَالِ الْعَدَالَةِ. وَعَنْهُ، لَا تُقْبَلُ إلَّا فِى الْجِرَاحِ، إذَا شَهِدُوا قَبْلَ الافْتِرَاقِ عَنِ الْحَالِ الَّتِى تَجَارَحُوا عَلَيْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بَابُ شُرُوطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ (وهى سِتَّةٌ؛ أحدُها، البُلوغُ، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ الصِّبْيانِ. وعنه، تقْبَلُ ممَّن هو في حالِ العَدالَةِ. وعنه، لا تُقْبَلُ إلَّا في الجِراحِ، إذا شَهِدُوا قبلَ الافْتِراقِ عن الحالِ التى تَجارَحوا عليها) اخْتلفَتِ الرِّواية عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، في ذلك، فالمشْهورُ عنه، أنَّها لا تُقْبَلُ شَهادةُ الصَّبِىِّ ما لم يَبْلُغْ. رُوِىَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ. وبه قال القاسِمُ، وسالمٌ، وعَطاءٌ، ومَكْحُولٌ، وابن أبي ليلَى، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو حنيفةَ، وأصْحابُه. وعن أحمدَ رِوايةٌ ثانِيَةٌ، أنَّ شَهادَتَه تُقْبَلُ إذا كان ابنَ عشرٍ. قال ابن حامدٍ: فعلَى هذه الرِّوايةِ، تُقْبَلُ شَهادَتُهم في غيرِ الحُدودِ والقِصاصِ، كالعَبِيدِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورُوِىَ عن علىِّ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ شَهادةَ بعْضِهم تُقْبَلُ على بعْضٍ (1). ورُوِىَ ذلك عن شُرَيْحٍ (¬1)، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ. قال إبْراهيمُ: كانوا يُجِيزُون شَهادةَ بعْضِهم على بعض فيما كان بينَهم. قال المُغِيرَة: وكان أصْحابُنا لا يُجِيزون شَهادَتَهم على رجلٍ، ولا على عبدٍ. ورَوَى الإِمامُ أحمدُ (¬2) بإسْنادِه عن مَسْروقٍ، قال: كُنَّا عندَ علىٍّ، فجاءَه خَمْسةُ غِلْمَةٍ، فقالوا: إنَّا كُنَّا سِتَّةَ غِلْمَةٍ نَتَغاطُّ، فغَرِقَ منّا غُلامٌ، فشهِدَ الثلاثةُ على الاثْنَيْن أنَّهما غَرَّقاه، وشهِدَ الاثْنان على الثلاثةِ أنّهم غَرَّقُوه، فجعَلَ على الاثْنَيْن ثلاثةَ أخْماسِ الدِّيَةِ، وجعلَ على الثَّلاثةِ خُمْسَيْهَا. وقَضَى بنَحْوِ هذا مَسْرُوقٌ (¬3). وعنه رِوايةٌ ثالِثَةٌ، أنَّ شَهادَتَهم لا تُقْبَلُ إلَّا في الجِراحِ، إذا شَهِدُوا قبلَ الافْتِراقِ عن الحالِ التى تَجارَحُوا عليها، فإنْ تَفَرَّقُوا لم تُقْبَلْ شَهادَتُهم. وهو قولُ مالِكٍ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهم وضَبْطُهم، ولا تُقَبْلُ بعدَ الافْتِراقِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يُلَقَّنُوا. قال ابنُ الزُّبَيْرِ: إن أُخِذُوا عندَ مُصابِ ذلك، فبالحَرِىِّ أن يَعْقِلُوا (¬4) ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: باب شهادة الصبيان، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 350، 351. (¬2) أخرجه الإمام أحمد عن إبراهيم النخعى عن على. انظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1306. وعن مسروق أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 9/ 400، 401. وابن حزم، في: المحلى 10/ 614. (¬3) انظر ما أخرجه ابن أبي شيبة، في: المصنف 9/ 401. وابن حزم، في: المحلى 10/ 614. (¬4) في الأصل: «يفعلوا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَحْفَظُوا. وعن الزُّهْرِىِّ أنَّ شَهادَتَهم جائِزَةٌ، ويُسْتَحْلَفُ أوْلِياءُ المَشْجُوجِ (¬1). وذكَرَه عن مَرْوانَ (¬2). والمذهبُ أنَّ شَهادتَهم لا تُقْبَلُ في شئٍ؛ لقولِ الله تِعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬3). وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬4). وقال سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬5). والصَّبِىُّ ممَّن (¬6) لا يُرْضَى. وقال جلَّ وعزَّ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬7). فأخْبرَ أنَّ الشاهِدَ الكاتِمَ لشَهادَتِه آثِمٌ، والصَّبِىُّ لا يَأْثَمُ، فيَدُلُّ على أنّه ليس بشاهِدٍ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 348، 349. وابن أبي شيبة، في: المصنف 6/ 280، 281. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 161، 162. (¬2) انظر: مصنف عبد الرزاق 8/ 351. وابن حزم، في: المحلى 10/ 616. (¬3) سورة البقرة 182. (¬4) سورة الطلاق 2. (¬5) سورة البقرة 182. (¬6) سقط من: م. (¬7) سورة البقرة 283.

الثَّانِي، الْعَقْلُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَعْتُوهٍ وَلَا مَجْنُونٍ، إِلَّا مَنْ يُخْنَقُ فِى الأَحْيَانِ، إذَا شَهِدَ فِى إِفَاقَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الصَّبِىَّ لا يَخافُ مِن مَأْثمِ الكَذِبِ (¬1)، فيَزَعُه عنه، ويَمْنَعُه منه، فلا تحْضل الثِّقَة بقولِه، ولأنَّ مَن لا يُقْبَلُ قوْلُه على نَفْسِه في الإقْرارِ، لا تُقْبَل شَهادته على غيرِه، كالمجْنرنِ، يُحَقِّق هذا أنَّ الإقْرارَ أوْسَعُ؛ لأنَّه ئقْبَل مِن الكافرِ والفاسِقِ والمرأةِ، ولا تَصِحُّ الشَّهادةُ منهم، ولأنَّ مَن لا تقْبَل شَهادته في المالِ، لا تُقْبَل في الجراحِ، كالفاسقِ. (الثاني، العَقْلُ، فلا تقْبَلُ شَهادةَ مَعْتوهٍ ولا مَجْنونٍ، إلَّا مَن يُخْنَقُ في الأحْيانِ، إذا شهِدَ في) حالِ (إفاقَتِه) لا تقْبَل شَهادةُ مَن ليس بعاقِلٍ، ¬

(¬1) في الأصل: «والكذب».

الثالثُ، الْكَلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إجْماعًا. قاله ابنُ المُنْذِرِ (¬1). وسواءٌ ذهبَ عقْلُه بجُنونٍ أو سُكْرٍ أو صِغَرٍ؛ لأنَّه ليس بمُحَصِّلٍ، ولا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بقوْلِه. فأمَّا مَن يُخْنَقُ في الأحْيانِ إذا شَهِدَ في حالِ إفاقَتِه، فتُقْبَلُ شَهادتُه؛ لأنَّها شَهادة مِن عاقلٍ، أشْبَهَ مَن لم (¬2) يُخْنَقْ. (الثالثُ، الكَلامُ، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ الأخْرَسِ) نَصَّ عليه أحمدُ، قيل له: وإن كَتَبَها؟ قال: لا أدْرِى. وهو قولُ أصْحابِ الرَّأْىِ. وقال مالِكٌ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: تُقْبَلُ إذا فُهِمَتْ إشارَتُه؛ لقيامِها مَقامَ نُطْقِه في (¬3) أحْكامِه، مِن طلاقِه (¬4)، ونِكاحِه، وغيرِ ذلك، فكذلك في ¬

(¬1) انظر: الإجماع 30. (¬2) سقط من: م. (¬3) بعده في م: «كل». (¬4) في ق، م: «كلامه».

[347 ظ] وَيَحْتَمِلُ أنْ تُقْبَلَ فِيمَا طَرِيقُهُ الرُّؤْيَةُ، إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَتِه. واسْتَدَلَّ ابنُ المُنْذِرِ بأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أشارَ وهو جالِسٌ (¬1) إلى الناسِ وهم قيامٌ: «أنِ اجْلِسُوا». فَجَلَسُوا (¬2). ولَنا، أنَّها شهَادةٌ بالإشارَةِ، فلم تَجُزْ، كإشارَةِ النّاطقِ؛ لأنَّ الشهادةَ يُعْتَبَرُ فيها اليَقِينُ، ولذلك لا يُكْتَفَى بإيماءِ النّاطِقِ، ولا يَحْصُلُ اليَقِينُ بالإشارةِ، وإنَّما اكْتُفِىَ بإشارَته في أحْكامِه المُخْتَصَّةِ به للضَّرُورَةِ، ولا ضَرُورةَ ههُنا. وما اسْتَدَلَّ به ابنُ المُنْذِرِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قادِرًا على الكَلامَ، وعُمِلَ بإشارَتِه في (¬3) الصلاةِ. ولو شهِدَ النَّاطِقُ بالإشارةِ والإيماءِ، لم تَصِحَّ شَهادَتُه (¬4) إجْماعًا، فعُلِمَ أنَّ الشهادةَ تُفارِقُ غيرَها مِنَ الأحْكامِ (ويَحْتَمِلُ أنْ تُقْبَلَ فيما طَرِيقُه الرُّؤْيَةُ، إذا فُهِمَت إشَارتُه) لأنَّ إشارَتَه بمَنْزِلَةِ نُطْقِه، كما في سائرِ أحْكامِه. والأوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّا إنَّما قَبِلْنا إشارَتَه فيما يَخْتَصُّ به للضَّرُورَةِ، ولا ضَرُورةَ ههُنا. ¬

(¬1) أى في الصلاة. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 416. (¬3) في م: «إلى». (¬4) في الأصل: «إشارته».

الرَّابعُ، الإِسْلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ، إِلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ فِى الْوَصِيَّةِ فِى السَّفَرِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ، وَحَضَرَ الْمُوصِىَ الْمَوْتُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَلِّفُهُمُ الْحَاكِمُ بَعْدَ العَصْرِ: لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ، وَإِنَّهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرابعُ، الإسلامُ، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ كافرٍ، إلَّا أهلَ الكتابِ في الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، إذا لم يُوجَدْ غيرُهم، وحضَرَ المُوصِىَ الموْتُ، فتُقْبَلُ شهادَتُهم، ويُحَلِّفُهم الحاكمُ بعدَ العَصْر: لا نَشْتَرِى به ثَمَنًا ولو كانَ ذا قُرْبَى، ولا نَكْتُمُ شَهادةَ اللهِ، وإنَّها لَوَصِيَّةُ الرجلِ) بَعْييهِ (فإن عُثِرَ على

لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ. فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا، قَامَ آخَرَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِى فَحَلَفَا بِاللهِ: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَلَقَدْ خَانَا وَكَتَمَا. وَيَقْضِى لَهُمْ. وَعَنْهُ، أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ تُقْبَلُ عَلَى بَعْضٍ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّهما اسْتَحَقّا إثْمًا، قام آخَران مِن أوْلِياءِ الموصِى فحَلَفَا باللهِ: لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهما، ولقد خانَا وكَتَما. ويَقْضِى لهم. وعنه، أنَّ شَهادةَ بعضِ أهلِ الذِّمَّةِ تُقْبَلُ على بَعْضٍ. والأوَّلُ المذهبُ) وجملةُ ذلك، أنَّ شهادةَ أهلِ الكتابِ لا تُقْبَلُ في شئٍ على مسلمٍ ولا كافرٍ، إلَّا في الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، على ما نَذْكُرُه. ذكَرَه الخِرَقِىُّ. ورَوَى ذلك عن أحمدَ نحوٌ مِن عِشرين نَفْسًا. وممَّن قال: لا تُقْبَلُ شهادتُهم؛ الحسنُ، وابنُ أبي ليلَى، والأوْزاعِىُّ، ومالكٌ، وأبو ثَوْرٍ. ونقَلَ حَنْبَلٌ عن أحمدَ أنَّ شَهادةَ بعْضِهم تُقْبَلُ على بعضٍ. وخَطَّأه الخَلَّالُ في نَقْلِه هذا. وقال صاحِبُه أبو بكرٍ: هذا غَلَطٌ لا شكَّ فيه. وقال ابنُ حامدٍ: بل المَسْأَلَةُ على رِوايَتَيْن. قال أبو حَفْصٍ البَرْمَكِىُّ: تُقْبَلُ شَهادةُ السَّبْىِ بعْضِهم على بعضٍ في النَّسَبِ، إذا ادَّعَى أحدُهم أنَّ الآخَرَ أخُوه. والمذْهب الأوَّلُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والظَّاهِرُ غَلَطُ مَن رَوَى خِلافَ ذلك. وذهَبَت طائفةٌ مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ شَهادةَ بعْضِهم على بعض تُقْبَلُ، ثم اخْتلَفوا؛ فمنهم مَن قال: الكُفْرُ مِلَّة واحدة، فتُقْبَلُ شَهادَةُ اليَهُودِىِّ على النَّصْرانِىِّ، والنَّصْرانِىِّ على اليَهُودِىِّ. هذا قولُ حَمَّادٍ، وسَوَّارٍ، والثَّوْرِىِّ، وأبي حنيفةَ، وأصْحابِه. وعن قَتادَةَ.، والحَكَمِ، وأبى عُبَيْدٍ، وإسْحاقَ: تُقْبَلُ شَهادةُ كُلِّ مِلَّةٍ بَعْضِها على بعضٍ، ولا تُقْبَلُ شَهادةُ يَهُودِيٍّ على نَصْرَانِىٍّ، ولا نَصْرانِىٍّ على يَهُودِيٍّ. ويُرْوَى عن الزُّهْرِىِّ، والشَّعْبِىِّ، كقَوْلِنا وقَوْلِهم. واحْتَجُّوا بما رُوِىَ عن جابِرٍ، أنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أجازَ شَهادةَ أهلِ الذِّمَّةِ بعْضِهم على بعضٍ. روَاه ابنُ ماجَه (¬1). ولأنَّ بعْضَهم يَلِى على بعْضٍ، فتُقْبَلُ شَهادةُ بعْضِهم على بعضٍ،. كالمسلمِين. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا ¬

(¬1) في: باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 794. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 165. وضعفه في: الإرواء 8/ 283. (¬2) سورة الطلاق 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}. إلى قَوْلِه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). والكافِرُ ليس بذِى عَدْلٍ، ولا هو مِنَّا، ولا مِن رِجالِنا، ولا ممَّن نَرْضاه، ولأنَّه لا تُقْبَلُ شَهادتُه على غيرِ أهلِ دِينِه، فلا تُقْبَلُ على أهلِ دِينِه، كالحَرْبِىِّ. والخبَرُ يَرْوِيه مُجالِدٌ، وهو ضَعِيفٌ، وإن ثبَتَ فيَحْتَمِلُ أنَّه أرادَ اليَمِينَ، فإنَّها تُسَمَّى شَهادةً، قال اللهُ تعالى في اللِّعانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2). وأمَّا الوَلايةُ فمُتعلَّقُها القَرابةُ والشَّفَقَةُ، وقَرَابَتُهم ثابِتَةٌ، وشَفَقَتُهم كشَفَقةِ المُسلمِين، وجازَتْ لمَوْضِعِ الحاجَةِ، فإنَّ غيرَ أهلِ دِينِهم لا يَلى عليهم، والحاكمُ يَتعَذَّرُ عليه ذلك؛ لكَثْرَتِهِم، بخِلافِ الشَّهادةِ، فإنَّها مُمْكِنَة مِن المُسلمين، وقد رُوِىَ عن مُعاذٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أهْلِ دِينٍ، إلَّا المُسْلِمِينَ؛ فإئهم عُدُولٌ على أنْفُسِهم، وعلى غيرِهم» (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) سورة النور 6. (¬3) انظر ما أخرجه البيهقى عن أبي هريرة، في: باب من رد شهادة أهل الذمة، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 163. والعقيلى، في: الضعفاء الكبير 3/ 158. وعبد الرزاق عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، في: باب شهادة أهل الملل بعضهم عل بعض. . . .، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 356، 357.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا شَهادةُ أهلِ الكِتابِ بوَصِيَّةِ المُسافِرِ الذى ماتَ في سَفَرِه، إذا شَهِدَ بها شاهِدَان مِن أهلِ الذِّمَّةِ، قُبِلَتْ شَهادَتُهما (¬1)، إذا لم يُوجَدْ غيرُهما مِن المُسلمين، ويُسْتَحْلَفان بعدَ العَصْرِ على ما ذَكَرْنا في صَدْرِ المسألَةِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وبهذا قال أكابِرُ الماضِين. يَعنى الآيةَ التى في سُورَةِ المائدةِ. ومِمَّن قالَه؛ شُرَيْحٌ، والنَّخَعِىُّ، والأوْزاعِىُّ، ويحيى ابنُ حَمْزَةَ (¬2). وقَضَى بذلك عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وأبو موسى، رَضِىَ اللهُ عنهما. وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ: لا تُقْبَلُ؛ لأنَّ مَن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه في غيرِ الوَصِيَّةِ، لا تُقْبَلُ في الوَصِيَّةِ، كالفاسِقِ، ولأنَّ الفاسقَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُه، فالكافِرُ أَوْلَى. واخْتلَفوا في تَأْوِيلِ الآيةِ؛ فمنهم مَن حَمَلَها على التَّحَمُّلِ دونَ الأداءِ، ومِنهم مَن (¬3) قال: المُرادُ بقَوْلِه: ¬

(¬1) في ق، م: «شهادتهم». (¬2) يحيى بن حمزة بن واقد، قاضى دمشق، ثقة، كثير الحديث، توفى سنة ثلاث وثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 314، 315. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {مِنْ غَيْرِكُمْ} (¬1). أى: مِن غيرِ (¬2) عَشِيرَتِكم. ومنهم مَن قال: المُرادُ بالشَّهادةِ اليَمِينُ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية (1). وهذا نَصُّ الكتابِ، وقد قَضَى به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابُه، فرَوَى ابنُ عبَّاسٍ، قالِ: خرجَ رجُلٌ مِن بَنِى [سَهْمٍ مع] (¬3) تَمِيمٍ الدَّارِىِّ، وعَدِىِّ بنِ زَيْدٍ، فماتَ السَّهْمِىُّ بأرضٍ ليس بها مُسْلِمٌ، فلَمَّا قَدِما (¬4) بتَرِكَتِه فَقَدُوا جَامَ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا (¬5) بالذَّهبِ، فأحْلَفَهما رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم وجَدُوا الجَامَ بمَكَّةَ، فقالوا: اشْتَرَيْناه مِن تَمِيمٍ وعَدِىٍّ، فقامَ رجلان مِن أوْلِياءِ السَّهْمِىِّ، فحلَفا باللهِ: لَشَهادَتُنا ¬

(¬1) سورة المائدة 106. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في الأصل: «قدمنا». (¬5) مُخَوَّص: مُزَيَّن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَقُّ مِن شَهادَتِهما، وإنَّ الجامَ لصاحبِهم. فنزلَتْ فيهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية. وعن الشَّعْبِىِّ، أنَّ رجلًا مِن المُسلمين حضَرَتْه الوَفَاةُ بِدَقُوقَا (¬1)، ولم يَجِدْ أحدًا مِنَ المُسلمين يُشْهِدُه على وَصِيَّتِه، فأشْهَدَ رجُلَيْن مِن أهلِ الكِتابِ، فقَدِما الكُوفَةَ، فأَتَيا الأشْعَرِىَّ، فأخْبَراه، وقَدِمَا بتَرِكَتِه ووَصِيَّتِه، فقال الأشْعَرِىُّ: هذا أمرٌ لم يكُنْ بعدَ الذى كان في عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأحْلَفَهما بعدَ العَصْرِ، ما خَانا، ولا كَذَبا، ولا بَدَّلا، ولا كَتَما، ولا غَيَّرَا، وإنَّها لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ، وتَرِكَتُه، فأمْضَى شَهادتَهما. رَواهما (¬2) أبو داودَ (¬3). ورَوَى ¬

(¬1) دقوقا: مدينة بين إربل وبغداد. معجم البلدان 2/ 581. (¬2) في م: «رواه». (¬3) في: باب شهادة أهل الذمة. . . .، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 276. كماأخرج الأول البخارى، في: باب قول الله تعالى: (ياآيها الذين آمنوا شهادة بينكم. . . .) من كتاب الوصايا. صحيح البخارى 4/ 16. والترمذى، في: باب تفسر سورة المائدة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 182 - 184.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَلَّالُ (¬1) حديثَ أبى موسى بإسْنادِه. وحَمْلُ الآيةِ على أنَّه أرادَ مِن غيرِ عَشِيرَتِكم، لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الاَيةَ نزَلَتْ في قِصَّةِ عَدِىٍّ وتَمِيمٍ، بلا خِلافٍ بين المُفَسِّرينَ، وقد فَسَّرَه بما قُلْنا سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، وابنُ سِيرِينَ، وعَبِيدَةُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وسُلَيمانُ التَّيمِىُّ، وغيرُهم، ودلَّتْ عليه الأحاديثُ التى رَوَيْناها. ولأنَّه لو صَحَّ ما ذكَرُوه، لم تَجِبِ الأيْمانُ؛ لأنَّ الشَّاهِدَيْن مِن المسلِمينَ لا قَسَامَةَ عليهم. وحَمْلُها على التَّحَمُّلِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه أمرَبإحْلافِهم، ولا أيْمانَ في التَّحَمُّلِ. وحَمْلُها على اليَمِينِ لا يَصِحُّ؛ لقولِه: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} (¬2). ولأنَّه عَطَفَها على ذَوَىِ العَدْلِ مِن ¬

(¬1) في: أحكام أهل الملل 63، في حاشية مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1305. كما أخرجه الأمام أحمد، في: باب شهادة أهل الذمة، من كتاب الشهادات. مساثل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1304. وعبد الرزاق، في: المصنف 8/ 360. وابن أبى شيبة، في: المصنف 7/ 91. (¬2) سورة المائدة 106.

الْخَامِسُ، أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْفَظُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المُؤْمِنين، وهما شَاهِدان. ورَوَى أبو عُبَيْدٍ في «النَّاسِخِ والمَنْسُوخِ» (¬1) أنَّ ابنَ مَسعودٍ قَضَى بذلك في زَمَنِ عُثمانَ. قال أحمدُ: أهلُ المَدينةِ ليس عندَهم حديثُ أبى موسى، مِن أينَ يَعْرِفُونَه؟ فقد ثَبَت هذا الحُكْمُ بكتابِ اللهِ، وقَضاءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقَضاءِأصْحابِه به (¬2) وعَملِهم بما ثِبَت في الكِتابِ والسُّنَّةِ، فتَعَيَّنَ المصِيرُ إليه، والعَملُ به، سواءٌ وَافقَ القِياسَ أو خالَفَه. (الخامسُ، أن يكونَ مِمَّن يحْفَظُ، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ مُغَفَّلٍ، ولا مَعْروفٍ بكَثْرَةِ الغَلَطِ والنِّسْيانِ) لأنَّ الثِّقَةَ لا تحْصُلُ بقَوْلِه؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ مِن غَلَطِه، وتُقْبَلُ شَهادةُ مَن يَقِلٌّ ذلك منه؛ لأنَّ أحدًا لا يَسْلَمُ مِن الغَلَطِ. ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ 213 - 215. (¬2) زيادة من: ق.

فَصْلٌ: السَّادِسُ، الْعَدَالَةُ، وَهِىَ اسْتِوَاءُ أحْوَالِهِ فِى دِيِنهِ، وَاعْتِدَالُ أقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ. وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ؛ الصَّلَاحُ فِى الدِّينِ، وَهُوَ أدَاءُ الفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنَ عَلَى صَغِيرَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه الله: (السادسُ، العَدالَةُ، وهى اسْتِواءُ أحْوالِه في دِينِه، واعْتِدالُ أقْوالِه وأفْعالِه. وقيل: العَدْلُ مَن لم تَظْهَرْ منه رِيبَةٌ. ويُعْتَبَرُ لها شَيْئان؛ الصَّلاحُ في الدِّينِ، وهو أداءُ الفَرائِضِ، واجْتِنابُ المَحارِمِ، وهو أن لا يَرْتَكِبَ كبيرةً، ولا يُدْمِنَ على صَغِيرةٍ) فإنَّ اللهَ تعالى نَهَى أن تُقْبَلَ شَهادةُ القاذِفِ، فيُقاسُ عليه كُلُّ مُرْتَكِبِ كبيرةٍ، ولا يُخْرِجُه عن العَدالةِ فِعْلُ صَغِيرةٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ} (¬1). قيل: اللَّمَمُ صِغارُ الذُّنوبِ. ولأنَّ التَّحَرُّزَ منها غيرُ مُمْكِنٍ، وجاءَ عنِ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) سورة النجم 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه قال: إنْ تَغْفرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وأىُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا (¬1) أىْ: لم يُلمَّ. فإنَّ «لا» مع الماضِى بمَنْزِلةِ «لم» مع المُسْتَقْبَلِ. وقيل: اللَّمَمُ أن يُلمَّ بالذَّنْبِ، ولا يَعُودَ فيه. والكَبائِرُ كلُّ ذَنْبٍ فيه حَدٌّ، والإِشْراكُ باللهِ، وقَتْلُ النًّفْسِ التى حَرَّمَ اللهُ، [وشهادَةُ الزُّورِ] (¬2)، وعُقُوقُ الوَالِدَيْن. وقد رَوَى أبو بَكْرَةَ (¬3) أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألَا أُنَبَّئُكُمْ بِأكْبَرِ الكَبائِرِ؟ الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ، وعُقُوقُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب نفسير سورة النجم، من أبواب التفسر. عارضة الأحوذى 12/ 173. والحاكم، في: باب تفسر سورة النجم، من كتاب التفسر. المستدرك 2/ 469. والطبرى، في: تفسير سورة النجم 32. تفسير الطبرى 17/ 66. والرجز من الشواهد النحوية. انظر: معجم شواهد العربية 2/ 530. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في الأصل: «بكر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَالِدَيْن». وكان مُتَّكِئًا فَجَلَس، فقال: «ألَاوَقَوْلُ الزُّورِ، وشَهَادَةُ الزُّورِ». فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قُلْنا: لَيْتَه سَكَت. مُتَّفَقٌ عليه (¬1). قال أحمدُ: لا تجوزُ شَهادَةُ آكلِ الرِّبَا، والعَاقِّ، وقَاطِعِ الرَّحِمِ، [ولا مَنْ] (¬2) لا يُؤدِّى زَكاةَ مالِه، وإذا أخْرجَ في طريقِ المُسلمينَ الأُصْطُوانةَ (¬3) والكَنِيفَ لا يكونُ عَدْلًا، ولا يكونُ ابْنُه عَدْلًا إذا وَرِثَ أباه، حتى يَرُدَّ ما أخَذَ مِن طريقِ المسلمين، ولا يكونُ عَدْلًا إذا كذَبَ الكَذِبَ الشَّديدَ؛ ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: باب ما قيل في شهادة الزور، من كتاب الشهادات، وفى: باب عقوق الوالدين من الكبر، من كتاب الأدب، وفى: باب من اتكأ بين يدى أصحابه، من كتاب الاستئذان. صحيع البخارى 3/ 225، 8/ 4، 76. ومسلم، في: باب بيان الكبائر وأكبرها، من كتاب الإيمان. صحيع مسلم 1/ 91. كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في عقوق الوالدين. من أبواب البر والصلة، وفى: باب ما جاء في شهادة الزور، من أبواب الشهادات، وفى: باب تفسير سورة النساء، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 8/ 97، 9/ 175، 11/ 150، 151. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 36 - 38. (¬2) في م: «ومن لا». (¬3) في الأصل، م: «الأسطوانة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ النَبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ شَهادةَ رجلٍ في كِذْبَةٍ (¬1). وقال: عن الزُّهْرِىِّ، عن عُرْوةَ، عن عائِشَةَ، عن النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، ولَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ فِى حَدٍّ، وَلَا ذِى غِمْرٍ (¬2) عَلَى أخِيه في عَدَاوَةٍ، ولَا القَانِعِ (¬3) لأهْلِ البَيْتِ، وَلَا مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، ولَا ظَنِينٍ (¬4) في قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ» (¬5). وقد روَاه أبو داود (¬6)، وفيه (¬7): «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِن وَلَا خَائِنَةٍ، ولَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ، ولَا ذِى غِمْرٍ عَلَى أخِيهِ». فأمَّا ¬

(¬1) لم نهتد إليه. (¬2) الغمر: الحقد والغل. (¬3) في ق، م: «القاطع». والقانع: هو الذى ينفق عليه أهل البيت. (¬4) في الأصل، م: «ضنين». (¬5) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في من لا تجوز شهادته، من أبواب الشهادات. عارضة الأحوذى 9/ 171. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 155. ومن حديث عمرو بن شعيب أخرجه ابن ماجه، في: باب من لا تجوز شهادته، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 792. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 181، 204، 208، 225، 226. (¬6) في: باب من ترد شهادته، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 275. (¬7) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصَّغائِرُ، فإن كان مُصِرًّا عليها، رُدَّتْ شَهادتُه، وإن كان الغالِبُ مِن أمْرِه

وَقِيلَ: أنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطَّاعاتِ، لم تُرَدَّ؛ لِما ذكَرْنا مِن عَدَمِ إمْكانِ التَّحَرُّزِ منه (وقيل): هو (أن لا يَظْهَرَ منه إلَّا الخيرُ).

5042 - مسألة: (ولا تقبل شهادة فاسق)

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــ 5042 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ شهادَةُ فاسِقٍ) لقوْلِه سبحانَه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية (¬2). والشَّهادَةُ نَبَأٌ، فيَجِبُ التَّوَقُّفُ عنه. وقد رُوِىَ في الحديثِ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ ¬

(¬1) سورة الطلاق 2. (¬2) سورة الحجرات 6.

سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الأفْعَالِ، أَوْ الِاعْتِقَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِى الإسْلامِ، وَلَا ذِى غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ». رواه أبو عُبَيْدٍ (¬1). وكان أبو عُبَيْدٍ لا يَرَىَ الخائِنَ والخائِنَةَ مُخْتَصًّا بأمانَاتِ الناسِ، بل جَميعَ ما فَرَضَ اللهُ تعالى على العِبَادِ القيامَ به، واجْتِنابَه، مِن كبيرِ ذلك وصغيرِه، قال اللهُ تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} الاَية (¬2). ورُوِىَ عن عمرَ، أنَّه قال: لا يُؤْسَرُ (¬3) رَجلٌ بغيرِ العُدولِ (¬4). ولأنَّ دِينَ الفاسِقِ لا يَزَعُه عن ارْتِكابِ مَحْظُوراتِ الدِّينِ، فلا يُؤْمَنُ أنْ لا (¬5) يَزَعَه عن الكَذِبِ، فلا تحْصُلُ الثِّقَةُ بخَبَرِه. إذا تَقَرَّرَ هذا، فالفِسْقُ نَوْعان؛ أحدُهما، مِن جِهَةِ الأفْعالِ، فلا خِلافَ في رَدِّ شَهادَتِه. الثانى، مِن جِهَةِ الاعْتِقادِ، وهو اعْتِقادُ البِدْعَةِ، فيُوجِبُ رَدَّ الشَّهادَةِ أيضًا. وبه قال مالكٌ، وشَرِيكٌ، وإسْحاقُ، وأبوعُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. قال شَرِيكٌ: أرْبعةٌ لا تجوزُ شَهادتهم؛ رَافِضِىٌّ يَزْعُمُ أنَّ (¬6) له إمامًا مُفْتَرَضَةٌ طاعَتُه، وخارِجِىٌّ يَزْعُمُ أنَّ الدُّنْيا دارُ ¬

(¬1) في: غريب الحديث 2/ 153. (¬2) سورة الأحزاب 72. (¬3) أى: لا يحبس. (¬4) أخرجه الإمام مالك، في: باب ما جاء في الشهادات، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 720. والبيهقى، في: باب لا يجوز شهادة غير عدل، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 166. وابن أبى شيبة، في: باب ما ذكر في شهادة الزور، من كتاب الأقضية. المصنف 7/ 258. (¬5) سقط من: الأصل. (¬6) في م: «أنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَرْبٍ، وقَدَرِىٌّ يَزْعُمُ أنَّ المَشِيئَةَ إليه، ومُرْجئٌ. ورَدَّ شَهادةَ يعْقوبَ (¬1)، وقال: ألا أردُّ شَهادةَ قومٍ يَزْعُمونَ أنًّ الصَّلاةَ ليستْ مِن الإيمانِ؟ وقال أبو حامدٍ، مِن أصْحابِ الشافعىِّ: المُخْتَلِفُون على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ اخْتلَفُوا في الفُرُوعِ، فهؤلاء لا يُفَسَّقُون بذلك (¬2)، ولا تُرَدُّ شَهادَتُهم، وقد اخْتَلَفَ الصحابةُ في الفُرُوعِ ومَن بعدَهم مِن التّابِعينَ. الثانى، مَن نُفَسِّقُه ولا نُكَفِّرُه، وهو مَن يسبَّ الْقَرابَةَ، كالخَوَارِجِ، أو مَن يسبَّ الصَّحابةَ، كالرَّوافِضِ، فلا تُقْبَلُ لهم شَهادَة لذلك. الثالثُ، مَن نُكَفِّرُه، وهو مَن قال بخَلْقِ القُرْآنِ، ونَفْىِ الرُّؤْيَةِ، وأضافَ المَشِيئَةَ إلى نَفْسِه، فلا تُقْبَلُ له شَهادةٌ. وذكرَ القاضى أبو يَعْلَى مِثْلَ هذا سواءً. قال: وقال أحمدُ: ما تُعْجِبُنى شَهادةُ الجَهْمِيَّةِ، والرّافِضَةِ، والقَدَرِيَّةِ المُغْلِيَةِ (¬3). وظاهرُ قولِ الشافعىِّ، وابنِ أبى ليلَى، والثَّوْرِىِّ، وأبى حنيفةَ، وأصحابِه، قَبولُ شَهادةِ أهلِ الأهْواءِ. وأجازَ سَوَّارٌ شَهادةَ ناس مِن بنى العَنْبَرِ، ممَّن يَرَى الاعْتِزَالَ. قال الشافعىُّ: إلَّا أن يكونَ ممَّن يَرَى الشَّهادةَ بالكَذِبِ، [بعضُهم لبعض] (¬4)، كالخَطَّابِيَّةِ، وهم أصْحابُ أبى الخَطَّابِ (¬5)، يَشْهَدُ بعْضُهم ¬

(¬1) هو القاضى أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبى حنيفة. (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «المعلنة». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) محمد بن أبى زينب الأسدى الأجدع أبو الخطاب، مولى بنى أسد، من الغالين، زعم أن الأئمة أنبياء =.

5043 - مسألة: (ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة، قبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد المتدين به، إذا لم يتدين بالشهادة لموافقيه على مخالفيه)

وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبُولُ شَهادَةِ الفَاسِقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ المُتَدَيِّنِ بِهِ، إِذَا لَمْ يَتَدَيَّنْ بِالشَّهَادَةِ لمُوَافِقِهِ عَلَى مُخَالِفِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لبعضٍ بتَصْديقِه. ووَجْهُ قولِ مَن أجازَ شَهادَتَهم، أنّه اخْتِلافٌ لم يُخْرِجْهم عن الإسْلامِ، أشْبَهَ الاخْتِلافَ في الفُروعِ، ولأنَّ فِسْقَهم لا يدُلُّ على كَذِبِهم؛ لكَوْنِهم ذَهبُوا إلى ذلك تَدَيُّناً واعْتِقادًا أنَّه الحقُّ، ولم يَرْتَكِبُوه عالِمينَ بتَحْريمِه، بخِلافِ فِسقِ الأفْعالِ. 5043 - مسألة: (ويَتَخَرَّجُ على قَبُولِ شَهَادَةِ أهْلِ الذِّمَّةِ، قَبُولُ شهادةِ الفاسِقِ مِن جِهَةِ الاعْتِقادِ المُتَدَيِّنِ به، إذا لم يَتَدَيَّنْ بالشهادَةِ لمُوافِقِيهِ على مُخالِفِيهِ) كالخَطَّابِيَّةِ. وكذلك قال أبو الخَطَّابِ. ورُوِىَ عن أحمدَ جوازُ الرِّوايَةِ عن القَدَرِىِّ، إذا لم يكُنْ داعِيَةً، فكذلك الشَّهادةُ. ولَنا، أنَّه أحدُ نَوْعَىِ الفِسْقِ، فتُرَدُّ به الشَّهادةُ، كالنَّوعِ الآخَرِ؛ ولأنَّه فاسِقٌ، فتُرَدُّ شَهادَتُه، للآيَةِ. ¬

_ = ثم آلهة، ولَمَّا وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله. الملل والنحل 1/ 380، 381.

5044 - مسألة: (فأما من فعل شيئا من الفروع المختلف فيها، فتزوج بغير ولى، أو شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو أخر الحج الواجب

وَأمَّا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنَ الفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، فَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِىٍّ، أوْ شَرِبَ مِنَ النَّبِيذِ مَا لَا يُسْكِرُهُ، أوْ أخَّرَ الْحَجَّ الوَاجِبَ مَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5044 - مسألة: (فأمّا مَن فَعَل شَيْئًا مِن الفُرُوعِ المُخْتَلَفِ فيها، فتَزَوَّجَ بغيرِ وَلِىٍّ، أو شَرِبَ مِن النَّبِيذِ مَا لَا يُسْكِرُهُ، أو أخَّرَ الحَجَّ الواجِبَ

إِمْكَانِهِ، وَنَحْوَهُ، متَأوِّلًا، فَلَا ترَدُّ شَهَادَتُةُ، وَإنْ فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَيَحْتَمِلُ أنْ لَا تُرَدَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعَ إمْكَانِهِ، ونَحْوَه، مُتَأَوِّلًا، فَلَا تُرَدُّ شهِادَتُهُ، وإن فعلَه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه، رُدَّتْ شَهادتُه. ويَحْتَمِلُ أن لا تُرَدَّ) نصَّ عليه أحمدُ، في شارِبِ النَّبِيذِ (¬1): يُحَدُّ، ولا تُرَدُّ شَهادتُه. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال مالكٌ: تُرَدُّ شَهادتُه، لأنَّه فَعلَ ما يَعْتقِدُ الحاكمُ تحْرِيمَه، فأشْبَهَ المُتَّفَقَ على تحْرِيمِه. ولَنا، أنَّ الصَّحابةَ، رَضِىَ اللهُ عنهم، كانوا يخْتَلِفُون في الفُروعِ، فلم يكُنْ بعْضُهم يَعِيبُ مَن خالَفَه، ولا يُفَسِّقُه، ولأنَّه فَرْعٌ مُخْتَلَفٌ فيه، فلم تُرَدَّ شهادةُ فاعِلِه، كالذى يُوافِقُه عليه الحاكمُ. فأمَّا إن فعلَه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه، رُدَّتْ شهادتُه إذا تكَرَّرَ. ويَحْتَمِلُ أن لا تُرَدَّ. وبه قال أصْحابُ الشافعىِّ، لأنَّه فِعْلٌ لا تُرَدُّ شَهادَةُ بعضِ الناسِ به (¬2)، ¬

(¬1) في الأصل: «الخمر». (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تُرَدُّ شَهادةُ البعضِ الاَخَرِ، كالمُتَّفَقِ على حِلِّه. ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّه فِعْلٌ مُحَرَّمٌ على فاعلِه، ويَأْثَمُ به، فأشْبَهَ المُتَّفَقَ على تحْرِيمِه، وبهذا فارَقَ مُعْتَقِدَ حِلِّه. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، في مَن يجبُ عليه الحَجُّ فلا يَحُجُّ: تُرَدُّ شَهادتُه. وهذا يُحْمَلُ على مَن اعْتقَدَ وُجوِبَه على الفَوْرِ. فأمّا مَن يعْتَقِدُ أنَّه على التَّراخِى، ويَتْرُكُه بنِيَّةِ فِعْلِه، فلا تُرَدُّ شَهادته، كسائرِ ما (¬1) ¬

(¬1) في الأصل: «من»

5045 - مسألة: (الثانى، استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه، فلا تقبل شهادة المصافع

الثَّانِى، اسْتِعْمَالُ المُرُوءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَافِعِ، وَالْمُتَمَسْخِرِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرْنا. وقيل: تُرَدُّ؛ لأَّنه قد رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لقد هَمَمْتُ أن أنظُرَ في الناسِ، فمَن وَجَدْتُه يَقْدِرُ على الحَجِّ ولا يَحُجُّ، ضَرَبْتُ عليه الجِزْيَةَ. ثم قال: ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. 5045 - مسألة: (الثانى، استِعْمَالُ المُرُوءَةِ، وهو فِعْلُ ما يُجَمِّلُهُ ويُزَيِّنُهُ، وتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ ويَشِينُهُ، فلا تُقْبَلُ شَهادَةُ المُصَافِعِ (¬1)، ¬

(¬1) المصافع: من يصفع كره ويمكن غيره من قفاه فيصفعه.

وَالمُغَنىِّ، وَالرَّقَّاصِ، واللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدِ، والْحَمَامِ، وَالَّذِى يَتَغَدَّى فِى السُّوقِ، وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِى مَجْمَعِ النَّاسِ، وَيُحَدِّثُ بِمُبَاضَعَتِهِ أهْلَهُ أوْ أمَتَهُ، وَيَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمُتَمَسْخِرِ، والمُغَنِّى، والرَّقَّاصِ، واللَّاعِبِ بالشِّطْرَنْجِ، والنَّرْدِ، والحَمَامِ، والذى يَتَغَدَّى فِى السُّوقِ، ويَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِى مَجْمَعِ الناسِ، ويُحَدِّثُ بمُبَاضَعَةِ أهْلِه وأمَتِه، ويَدْخُلُ الحَمَّامَ بغَيْرِ مِئْزَرٍ، ونَحوِ ذلك) لأنًّ المُرُوءَةَ (¬1) اجْتِنابُ الأُمورِ الدَّنِيئَةِ المُزْرِيَةِ به، وذلك نَوْعانِ؛ أحدُهما، في الأفْعالِ، كالأكْلِ في السُّوقِ، وهو الذى يَنْصِبُ مائدةً في السُّوقِ، ويأْكُلُ والناسُ يَنْظُرونَ إليه، ولا يَعنى أكْلَ شئٍ يَسِيرٍ، كالكِسْرَةِ ونحوِها. وإنْ كان يَكْشِفُ ما جرَتِ العادةُ بتَغْطِيَته مِن بَدَنِه، أو يَمُدُّ رِجْلَيْه في مَجْمَعِ النَّاسِ (¬2)، أو يتَمَسْخَرُ بما يُضْحِكُ الناسَ به، أو يُخاطِبُ امْرَأتَه أو أمَتَه أو غيرَهما بحَضرةِ الناسِ بالخِطابِ الفاحِشِ، أو يُحَدِّثُ الناسَ بمُباضَعَتِه أهْلَه، أو نحوِ هذا مِن الأفْعالِ الدَّنِيئَةِ، فلا تُقْبَلُ شَهادَتُه، لأنَّ هذا سُخْفٌ ودَناءَةٌ، فمَن رَضيَه ¬

(¬1) في ق، م: «المروءات». (¬2) في الأصل: «الرجال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لنَفْسِه واسْتحسَنَه، فليستْ له مُروءةٌ، ولا تَحْصُلُ الثقَةُ بقَوْلِه. قال أحمدُ في رجلٍ شَتَمَ بَهِيمَةً: قال الصَّالحُونَ: لا تُقْبَلُ شَهادَتُه حتى يَتُوبَ. وقد روَى أبو (¬1) مسعودٍ البَدْرِىُّ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى، إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَع مَا شِئتَ» (¬2). يَعنى مَن لمَ يَسْتَحِ (¬3) صَنَع ما شاءَ. ولأنَّ المُروءةَ تمْنعُ الكَذِبَ، وتَزْجُرُ عنه، ولهذا يَمْتَنِعُ منه ذُو المُروءَةِ وإن لم يكُنْ ذا دِينٍ، فقد رُوِىَ عن أبى سُفيانَ، أنَّه حينَ سَأله قَيْصَرُ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وصِفَتِه، قال: واللهِ لولا أنِّى كَرِهْتُ أن يُؤْثَرَ عنِّىَ الكَذِبُ، لَكَذَبْتُه (¬4). ولم يكُنْ ¬

(¬1) في م: «ابن». (¬2) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، من كتاب الأنبياء. صحيح البخارى 4/ 215. وأبو داود، في: باب في الحياء، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 552. وابن ماجه، في: باب الحياء، من كتاب الزهد 2/ 1400. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 121، 122، 5/ 273. (¬3) في الأصل، ق: «يستحى»، وهما بمعنى. (¬4) انظر ما تقدم في تخريج حديث كتاب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر، في صفحة 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يومَئذٍ ذا دِينٍ. ولأنَّ الكَذِبَ دَناءةٌ، والمُروءةُ تَمْنَعُ مِن الدَّناءَةِ. وإذا كانتِ المُروءةُ مانعةً مِن الكَذِبِ، اعْتُبِرَتْ في العَدالةِ، كالدِّينِ، ومَن فعلَ شيئًا مِن هذا مُخْتَفِيًا به، لم يَمْنَعْ مِن قَبُولِ شَهادَتِه؛ لأنَّ مُروءَتَه لا تَسْفُطُ به. وكذلك إن فعلَه مَرَّةً، أو شيئًا قليلًا، لم تُرَدَّ شَهادتُه؛ لأنَّ صغيرَ المعاصِى لا يَمْنَعُ الشَّهادةَ إذا قَلَّ، فهذا أوْلَى، ولأنَّ المُروءةَ لا تَخْتَلُّ بقليلِ هذا، ما لم يكُنْ عادةً. فصلٌ في اللَّعِبِ: كلُّ لَعِبٍ فيه قِمارٌ، فهو مُحَرَّمٌ، أىَّ لَعِبٍ كان، وهو مِن المَيْسِرِ الذى أمرَ الله تعالى باجْتِنَابِه، ومَن تَكَرَّرَ منه ذلك رُدَّتْ شَهادَتُه. وما خَلا مِن (¬1) الْقِمارِ، وهو اللَّعِبُ الذى لا عِوَضَ فيه مِن ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجانِبَيْن، ولا مِن أحَدِهما، فمنه ما هو مُحَرَّمٌ، ومنه ما هو مُباحٌ؛ فالمُحَرَّمُ اللَّعِبُ بالنَّرْدِ، وهذا قولُ أبى حنيفةَ، وأكْثَرِ أصْحاب الشافعىِّ. وقال بعْضُهم: هو مَكْرُوهٌ، غيرُ مُحَرَّمٍ. ولَنا، ما رَوَى أبَو موسى، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ (¬1): «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ». ورَوَى بُرَيْدَةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِه». روَاهما أبو داودَ (¬2). وكان سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ إذا مَرَّ على أصْحابِ النَّرْدَشِيرِ، لم يُسَلِّمْ عليهم. إذا ثَبَت هذا، فمَن تكَرَّرَ منه اللَّعِبُ به، لم تُقْبَلْ شَهادتُه، سواءٌ لَعِبَ به قِمارًا أو غيرَ قِمارٍ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، وظاهِرُ مذهبِ الشافعىِّ. وقال مالكٌ: مَن لَعِبَ بالشِّطْرَنْجِ والنَّرْدِ، فلا أرَى شَهادَتَه إلَّا باطِلَةً (¬3)؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬4). ¬

(¬1) في م: «قال». (¬2) في: باب في النهى عن اللعب بالنرد، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 582. كما أخرجهما ابن ماجه، في: باب اللعب بالنرد، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجة 2/ 1237، 1238 كما أخرج الأول الإمام مالك، في: باب ما جاء في النرد، من كتاب الرؤيا. الموطأ 2/ 958. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 394، 397، 400. والحاكم، في كتاب الإيمان. المستدرك 1/ 50. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 215. وأخرج الثانى مسلم، في: باب تحريم اللعب بالنردشير، من كتاب الشعر. صحيح مسلم 4/ 1770. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 352، 357، 361. (¬3) في الأصل: «طائلة». (¬4) سورة يونس 32.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا ليس مِن الحقِّ، فيكونُ مِن الضَّلالِ. فصل: والشِّطْرَنْجُ كالنَّرْدِ في التَّحْريمِ، إلَّا (¬1) أنَّ تَحْرِيمَ النَّرْدِ آكَدُ؛ لوُرُودِ النَّصِّ في تَحْرِيمِه، وهذا في مَعْناه، فيَثْبُتُ فيه حُكْمُه قياسًا عليه. وذكَر القاضى أبو الحُسينِ ممَّن ذهبَ إلى تَحْرِيمِه؛ علىَّ بنَ أبى طالِبٍ، وابنَ عمرَ، وابنَ عباسٍ، وسعيدَ بنَ المُسَيَّبِ، والقاسِمَ، وسالِمًا، وعُرْوَةَ، ومحمدَ بنَ علىِّ بنِ الحُسينِ، ومَطرًا الوَرَّاقَ (¬2)، ومالِكًا. وبه قال أبو (¬3) حنيفةَ. وذهبَ الشافعىُّ إلى إباحَتِه. وحَكَى ذلك أصْحابُه عن أبى هُرَيْرَةَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّب، وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ. واحْتَجُّوا بأنَّ الأصْلَ الإباحَةُ، ولم يَرِدْ بتَحْرِيمِه نَصٌّ، ولا هو في مَعْنَى المنْصوصِ عليه، فيَبْقَى على الِإباحَةِ. ويُفارِقُ الشِّطْرَنْجُ النَّرْدَ من وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ في الشِّطْرَنْجِ تَدْبِيرَ الحَرْبِ، فأشْبَهَ اللَّعِبَ بالحِرابِ، والرَّمْىَ بالنُّشَّابِ، والمُسابقَةَ بالخَيْلِ. والثانى، أنَّ المُعَوَّلَ في النَّرْدِ على ما تُخْرِجُه الكَعْبَتانِ (¬4)، فأشْبَهَ الأزْلَامَ، والمُعَوَّلَ في ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) مطر بن طهمان الوراق الخراسانى الزاهد، توفى سنة تسع عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 452، 453. (¬3) في م: «وأبا». (¬4) الكعبة في النرد: ما يعرف اليوم بالزهرة، وهى قطعة مكعبة يبين على كل وجه منها نقاط تمثل رقما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشِّطْرَنْجِ على حِذْقِه وتَدْبيرِه، فأشْبَهَ المُسابقَةَ بالسِّهام. ولَنا، قولُ اللهِ سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (¬1). قال علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه: الشِّطْرَنْجُ مِن المَيْسِرِ. ومَرَّ، رَضِىَ اللهُ عنه، على قومٍ [يلعبون بالشِّطْرَنجِ] (¬2)، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (¬3). قال أحمدُ: أصَحُّ ما في الشطْرَنْجِ، قولُ علىٍّ، رَضِىَ الله عنه. ورَوَى واثِلَةُ بنُ الأسْقَعِ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى كُل يَوْمٍ ثَلاَثمائةٍ (¬4) وسِتِّينَ نَظْرَةً، لَيْسَ لِصاحِبِ الشَّاهِ فِيهَا نصِيبٌ» (¬5). ولأنَّه لَعِبٌ يَصُدُّ عنِ ذِكْرِ اللهِ تعالى وعن الصَّلاةِ، فأَشْبَهَ اللَّعِبَ بالنَّرْدِ. وقولُهم: لا نَصَّ فيها. قد ذكَرْنا فيها نَصًّا، وهى في مَعْنى النَّرْدِ (¬6) ¬

(¬1) سورة المائدة 90. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرج اللفظين البيهقي، في: باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 212. وأخرج الأول ابن أبى شيبة، في: باب في اللعب بالنرد وما جاء فيه، كتاب الأدب. المصنف 8/ 548. وأخرج الثانى أيضا، في: باب في اللعب بالشطرنج، الكتاب نفسه. المصنف 8/ 550. وانظر الكلام على ضعف الأثر في: الإرواء 8/ 288، 289. وما اقتبسه على رضى الله عنه، هو الآية 52 من سورة الأنبياء. (¬4) في ق، م: «ستمائة». (¬5) أخرجه ابن حبان، في: المجروحين 2/ 297. وابن الجوزى، في: العلل المتناهية 2/ 297. وانظر حاشيته. وقال في الإرواء: موضوع. الإرواء 8/ 287. وصاحب الشاه: من يلعب بالشطرنج. (¬6) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المَنْصوصِ على تَحْرِيمِه. وقولُهم: إنَّ فيها تَدْبِيرَ الحرْبِ. قُلْنا: لا يُقْصَدُ هذا منها، وأكثْرُ اللَّاعِبين بها إنَّما يَقْصِدُونَ منها اللَّعِبَ والقِمارَ. وقولُهم: إنَّ المُعَوَّلَ فيها على تَدْبِيرِه. فهو أبْلَغُ في اشْتِغَالِه (¬1) بها، وصَدِّها عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ. إذا ثَبَت هذا، فقال أحمدُ: النَّرْدُ أشَدُّ مِن الشِّطْرَنجِ. إنَّما قال ذلك؛ لورُودِ النَّصِّ في النَّرْدِ، بخِلافِ الشِّطرَنْجِ. إذا ثبت هذا، فقال القاضى: هو كالنَّرْدِ في رَدِّ الشَّهادةِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ؛ لاشْتِراكِهما في التَّحْريمِ. وقال أبو بكرٍ: إن فَعَلَه مَن يَعْتَقِدُ (¬2) تَحْرِيمَه، فهو كالنَّرْدِ في حَقِّه، وإن فعَلَه مَن يَعْتَقِدُ إباحَتَه، لم تُرَدَّ شَهادَتُه، إلَّا أن يَشْغَلَه عن الصَّلاةِ في أوْقاتِها، أو يُخْرِجَه إلى الحَلِفِ الكاذِبِ، أو نحوِه مِن المُحَرَّماتِ، أو يَلْعَبَ بها على الطرَّيقِ، أو يَفْعَلَ في لَعِبِه ما يُسْتَخَفُّ به مِن أجْلِه، ونحوَ هذا ممَّا يُخْرِجُه عن المُروءَةِ. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ وذلك لأنَّه (¬3) مُخْتَلَفٌ فيه، أشْبَهَ سائِرَ المُخْتَلَفِ فيه. فصل: فأمَّا اللَّاعِبُ بالحَمامِ يُطَيِّرُها، فلا شَهادَةَ له. وهذا قولُ ¬

(¬1) في الأصل: «استعماله»، وفى م: «اشتماله». (¬2) في الأصل: «يقصد». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصْحابِ الرَّأْىِ. وكان شُرَيْحٌ لا يُجِيزُ شَهادةَ صاحِب (¬1) حَمامٍ ولا حَمَّامٍ؛ ولأنَّه سَفَهٌ ودَناءَةٌ وقِلَّةُ مُرُوءَةٍ، ويتَضَمَّنُ أَذَى الجيرَانِ، وإشْرَافَه (¬2) على دُورِهم، ورَمْيَه إيَّاها بالحِجَارَةِ. وقد رُوِىٍ أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رجلًا يَتْبَعُ حَمامًا، فقال: «شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً» (¬3). فإنِ اتَّخَذَ الحَمامَ لطَلَبِ فِرَاخِها، أو لحَمْلِ الكُتُبِ، أو للأنْسِ بها مِن غيرِ أذًى يَتعدَّى إلى الناسِ، فلا بَأْسَ. وقد رَوَى عُبادَةُ بنُ الصّامِتِ، أنَّ رَجُلًا [جاء إلى] (¬4) النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَشَكا إليه الوَحْشَةَ، فقال: «اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ» (¬5). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل، ق: «اشترافه». (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب في اللعب بالحمام، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 582. والإمام أحمد، في المسند 2/ 345. (¬4) في م: «أتى». (¬5) أخرجه الخطيب، في: تاريخ بغداد 5/ 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأمَّا المُسابَقَةُ المَشْرُوعةُ، بالخَيْلِ وغيرِها مِن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحيواناتِ، أو على الأقْدامِ، فَمُباحٌ (¬1) ولا دَناءَةَ فيه (¬2)، ولا تُرَدُّ به (¬3) الشَّهادةُ، وقد ذكَرْنا مَشْرُوعِيَّةَ ذلك في بابِ المُسابَقَةِ (¬4). وكذلك ما في مَعْناه من الثِّقَافِ، واللَّعِبِ بالحِرَابِ. وقد لَعِبَ الحَبَشَةُ بينَ يَدَىِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - بالحِرابِ، وقامتْ عائشةُ، رَضِىَ الله عنها، تَنْظُرُ إليهم، وتَسْتَتِرُ به، حتى مَلَّتْ (¬5). وسائِرُ اللَّعِبِ إذا لم يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا، ولا شَغلًا عن فَرْضٍ، فالأصلُ إباحَتُه، فما كان منه (¬6) فيه دَناءَةٌ يتَرفَّعُ عنه ذَوُو المُروءاتِ، مَنَعَ الشَّهادةَ إذا فَعلَه ظاهِرًا، وتَكَرَّرَ منه، وما [كان منه] (¬7) لا دَناءَةَ فيه، لم تُرَّ الشَّهادةُ به بحالٍ. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في م: «فمباحة». (¬2) في م: «فيها». (¬3) في م: «بها». (¬4) تقدم في 15/ 5 - 8. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 53. (¬6) سقط من: م. (¬7) سقط من: م.

5046 - مسألة: (فأما الشين فى الصناعة)

فَأمَّ الشَّيْنُ فِى الصِّنَاعَةِ؛ كَالحَجَّامِ، وَالْحَائِكِ، وَالنَّخَّالِ، وَالنَّفَّاطِ، وَالْقَمَّامِ، والزَّبَّالِ، وَالْمُشَعْوِذِ، وَالدَّبَّاغِ، وَالْحَارِسِ، وَالْقَرَّادِ، والْكَبَّاشِ، فَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا حَسُنَتْ طَرَائِقُهُمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5046 - مسألة: (فأمّا الشَّيْنُ في الصَّناعَةِ) [وهو النوع الثانى] (¬1) (كَالحَجَّامِ، والحَائِكِ، والنَّخّالِ، والنَّفّاطِ، والقَمّامِ، والزَّبّالِ، والمُشَعْوِذِ، والدَّبّاغِ، والحَارِسِ، والقَرَّادِ (¬2)، والكَبَّاشِ (¬3)، فهل تُقْبَلُ شَهَادَتُهم إذا حَسُنَتْ طَرائِقُهم؟ على وَجْهَيْنِ) الصَّناعاتُ الدَّنِيئَةُ، كالكَسّاحِ، والكنَّاسِ (¬4)، لا تُقْبَلُ شَهادَتُهما؛ لِما رَوَى سعيدٌ، في «سُنَنه» أنَّ رَجُلًا أتَى ابنَ عمرَ، فقال له: إنِّى رجلٌ كنَّاسٌ. فقال له: أىَّ شئٍ تَكْنُسُ (¬5)، الزِّبْلَ؟ قال: لا. قال: فالعَذِرَةَ؟ قال: نعم. قال: ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) القراد: الذى يلعب بالقرد ويطوف به الأسواق وغيرها مكتسبا به. (¬3) الكباش: الذى يلعب بالكباش ويناطح بها. (¬4) في ق، م: «الكباش». (¬5) بعده في الأصل: «قال».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه كَسَبْتَ المالَ، ومنه تَزَوَّجْتَ، ومنه حَجَجْتَ؟ قال: نعم. قال (¬1): الأجْرُ خَبِيثٌ، وما تزَوَّجْتَ فخَبِيثٌ، حتى تَخْرُجَ منه كما دخَلْتَ فيه (¬2). وعن ابنِ عباسٍ مثلُه في الكَسَّاحِ (¬3). ولأنَّ هذا دَناءةٌ يَجْتَنِبُه أهلُ المُروءاتِ، فأشْبَهَ الذى قبلَه. فأمّا الزَّبَّالُ والقرَّادُ وَالحَجَّامُ (¬4) ونحوُهم، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، لا تُقْبَلُ شَهادَتُهم؛ لأنَّها دَناءةٌ يَجْتَنِبُها أهلُ المُروءاتِ، فهو كالذى قبلَه. والثانى، يُقْبَلُ؛ لأنَّ بالناسِ إليه حاجةً. فعلى هذا الوَجْهِ، إنَّما تُقْبَلُ شَهادَتُه إذا كان يتَنَظَّفُ للصَّلاةِ في وَقْتِها ويُصَلِّيها، فإن صلَّى بالنَّجاسَةِ، لم تُقْبَلْ شَهادتُه، وَجْهًا واحدًا. وأمّا الحائِكُ والحارسُ والدَّبّاغُ، فهو أعلَى مِن هذه الصَّنائِعِ، فلا تُرَدُّ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب أجر الكساح، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 42. والبيهقى، في: باب ما جاء في طرح السرجين. . . .، من كتاب المزارعة. السنن الكبرى 6/ 139. وانظر: المحلى 9/ 30. وقد تقدم تخريجه في 316/ 14 من حديث ابن عمرو، وهو خطأ. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة، في: باب أجر الكساح، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 7/ 42. وانظر: المحلى 9/ 30. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به الشَّهادةُ. وذكَرَ شيْخُنا فيها وَجْهَيْن، وكذلك ذكَرَها أبو الخَطَّابِ. والأوْلَى قَبولُ شَهادةِ الحائِكِ والحارسِ والدَّبَّاغِ، لأنَّه قد تَوَلَّاها كثير مِن الصَّالحين وأهلِ المُروءاتِ. وأمّا سائِرُ الصِّناعاتِ التى لا دَناءَةَ فيها، فلا تُرَدُّ الشَّهادةُ بها، وقد قِيل: ألَا إنَّما التَّقْوَى هى العِزُّ والكَرَمْ … وحُبُّكَ للدُّنْيَا هو الذُّلُّ والهَرَمْ ولَيْسَ على عَبْدٍ تَقِىٍّ نَقِيصَةٌ … إذا صَحَّح التَّقْوَى وإن حاك أو حَجَمْ (¬1) إلَّا مَن كان منهم يَحْلِفُ كاذِبًا، أو يَعِدُ ويُخْلِفُ، وغَلبَ هذا عليه، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والأبيات تقدم تخريجها في 20/ 270. وفى الديوان: «العدم» مكان: «الهرم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنَّ شَهادتَه تُرَدُّ. وكذلك مَن كان منهم يُؤَخِّرُ الصَّلاةَ عن أوْقاتِها، أو (¬1) لا يَتَنَزَّهُ عن النَّجاساتِ، فلا شهادةَ له. ومَن كانت صِناعتُه [مُحَرَّمَةً؛ كصانِعِ المَزامِيرِ والطَّنَابِيرِ، فلا شَهادَةَ له. ومَن كانَتْ صِناعَتُه] (¬2) يَكْثُرُ فيها الرِّبا، كالصّائِغِ والصَّيْرَفِىِّ، ولم يَتَوَقَّ (¬3) ذلك، رُدَّتْ شَهادتُه. فصلٌ في الملاهِى: وهى على ثلاثةِ أضْرُبٍ؛ محَرَّمٌ، وهو ضَرْبُ الأوْتارِ والنّاياتِ، والمَزامِيرِ كلِّها، والعُودِ، والطُّنْبُورِ، والمَعْزَفَةِ، والرَّبابِ، ونحوِها، فمَن أدامَ اسْتِماعَها (¬4)، رُدَّتْ شَهادتُه؛ لأنَّه يُرْوَى عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا ظَهَرَ فِى أُمَّتِى خَمْس عَشْرَةَ ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) سقط من: م. (¬3) في ق، م: «يتق». (¬4) في الأصل: «استعمالها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خَصْلَةً، حَلَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ» (¬1). ذكَرَ منها إظْهارَ المَعازِفِ والمَلاهِى. وقال سعيدٌ: ثنا فرَجُ بنُ فَضَالَةَ، عن علىِّ بنِ يَزِيدَ، عن القاسِمِ، عن أبى أُمامَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ بعَثَنِى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأمَرَنِى بِمَحْقِ الْمَعازِفِ وَالْمَزَامِيرِ، لَا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ، وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، ولا تَعْلِيمُهُنَّ (¬2)، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» (¬3). يعنى الضَّارباتِ. ورَوَى نافِعٌ، قال: سمِعَ ابنُ عمرَ مِزْمارًا، فوَضَعَ إصْبَعَيْه على أُذُنَيْه، ونَأَى عن الطَّريقِ، وقال لى: يا نافعُ، هل تَسْمَعُ شيئًا؟ قال: فقلتُ: لا. قال: فرَفَعَ إصْبَعَيْه مِن أُذُنَيْه، وقال: كنتُ مع النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، من أبواب الفتن. عارضة الأحوذى 9/ 58. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 257، 268.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فسَمِعَ مثلَ هذا، فصنَعَ مثلَ هذا. رَوَاه الخَلَّالُ في «جَامِعِه» مِن طريقَيْن. ورَوَاه أبو داودَ، في «سُنَنِه» (¬1)، وقال: حديثٌ مُنْكَرٌ. وقد احْتَجَّ قومٌ بهذا الخَبَرِ على إباحَةِ المِزْمارِ، وقالوا: لو كان حَرامًا لَمَنَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمرَ مِن سَماعِه، ومَنَعَ ابنُ عمرَ نافِعًا مِن اسْتِماعِه، ولأنْكَرَ على الزَّامِرِ بها. قُلْنا: أمَّا (¬2) الأوَّلُ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ اسْتِماعُها دونَ سَماعِها، والاسْتِماعُ غيرُ السَّماعِ، ولهذا فَرَّقَ الفُقَهاءُ في سُجودِ التِّلاوَةِ بينَ السّامِعِ والمُسْتَمِعِ، ولم يُوجِبُوا على مَن سَمِعَ شيئًا مُحَرَّمًا سَدَّ أُذُنَيْه، قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (¬3). ولم يَقُلْ: سَدُّوا آذَانَهم. والمُسْتَمِعُ هو الذى يَقْصِدُ السَّماعَ، ولم يُوجَدْ هذا مِن ابنِ عمرَ، وإنَّما وُجِدَ منه (¬4) السَّماعُ؛ ولأنَّ بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - حاجَةً إلى مَعْرِفةِ انْقِطاعِ سَماعِ الصَّوْتِ عنه؛ لأنَّه عَدَلَ عن الطَّريقِ، وسَدَّ أُذُنَيْه، فلم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 21/ 333. (¬2) سقط من: الأصل، م. (¬3) سورة القصص 55. (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكُنْ ليَرْجِعَ إلى الطَّريقِ، ولا يَرْفَعَ إصْبَعَيْه مِن أُذُنَيْه، حتى يَنْقَطِعَ الصَّوْتُ عنه، فأُبِيحَ للحاجَةِ. وأمّا الِإنْكارُ، فلَعلَّه كان في أوَّلِ الهِجْرَةِ، حينَما لم يكُنِ الإِنْكارُ واجِبًا، أو قبلَ إمْكانِ الإِنْكارِ؛ لكَثْرَةِ الكُفَّارِ، وقلَّةِ أهلِ الِإسْلام. فإن قيلَ: فهذا الخبَرُ ضَعِيفٌ. فإنَّ أبا داودَ روَاه، وقال: هو حديَثٌ مُنْكَرٌ. قُلْنا: قد روَاه الخَلَّالِ بإسنادِهِ (¬1) مِن طريقَيْن، فلَعلَّ أبا داودَ ضَعَّفَه؛ لأنَّه لم يَقَعْ له إلَّا مِن إحْدَى الطَّريقَيْنِ. وضَرْبٌ مُباحٌ، وهو الدُّفُّ؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعْلِنُوا النِّكَاحَ، واضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ». أخْرَجَه مسلمٌ (¬2). وذكَرَ أصْحابُنا، وأصْحابُ الشافعىِّ، أنَّه مَكْرُوهٌ في غيرِ النِّكاحِ؛ لأنَّه يُرْوَى عن عُمَرَ، أنَّه كان إذا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ، بعَثَ فنَظَرَ، فإن كان في وَلِيمَةٍ سكَتَ، وإن كان في غيرِها، عَمَدَ بالدِّرَّةِ (¬3). ولَنا، ما رُوِىَ عنِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ امرأةً جاءَتْه، فقالتْ: إنِّى نَذَرْتُ إن رَجَعْتَ مِن سَفرِكَ سَالِمًا، أن أضْرِبَ على رَأسِكَ بالدُّفِّ. فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أوْفِ بِنَذْرِكِ». رَواه أبو داودَ (¬4). ولو كان مَكْرُوهًا، لم يَأْمُرْها به وإن كان مَنْذُورًا. ورَوَتِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 17/ 360، وانظر 21/ 354. ولم يخرجه مسلم، انظر: تحفة الأشراف 12/ 283. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب الغناء والدف، من كتاب الجامع. المصنف 11/ 5. (¬4) تقدم تخريجه في 28/ 176.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرُّبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ، قالتْ: دخَلَ علىَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَبِيحَةَ بُنِىَ بى، فجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بدُفِّ لهنَّ، ويَنْدُبْنَ مَن قُتِلَ مِن آبائى يومَ بَدْرٍ، إلى أن قالَتْ إحْداهُنَّ: وفينا نَبِّىٌّ يَعْلَمُ ما في غَدٍ. فقال: «دَعِى هَذَا، وَقُولِى الَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). فأمَّا الضَّرْبُ به للرِّجالِ فهو مَكْرُوةٌ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّه إنَّما كان (¬2) يَضْرِبُ به النِّساءُ، والِمُخَنَّثُونَ، والمُتَشبِّهون (¬3) بهِنَّ، ففى ضَرْبِ الرِّجالِ به تَشَبُّهٌ بالنِّساء. فأمَّا الضَّرْبُ بالقَضِيبِ، فيُكْرَهُ إذا انْضَمَّ إليه مَكْرُوهٌ أو مُحَرَّمٌ كالتًّصْفِيقِ والغِنَاءِ والرَّقْصِ، وإن خلا عن ذلك كُلِّه، لم يُكْرَهْ؛ لأنَّه ليس بآلةِ لَهْوٍ ولا بطَرَبٍ، ولا يُسْمَعُ مُنْفَرِدًا، بخلافِ الْمَلاهِى. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا الفَصْلِ كما قُلْنا. فصل: واخْتَلَفَ أصْحابُنا في الغِناءِ، فذهبَ أبو بكرٍ (¬4) الخَلَّالُ، ¬

(¬1) أخرجه البخارى، في: كتاب حدثنى خليفة حدثنا محمد، من كتاب المغازى، وفى: باب ضرب الدف في النكاح والوليمة، من كتاب النكاح. صحيع البخارى 5/ 105، 7/ 25. كا أخرجه أبوداود، في: باب في النهى عن الغناء، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 578. والترمذى، في: باب ما جاء في إعلان النكاح، من أبواب النكاح. عارضة الأحوذى 4/ 309. وابن ماجه، في: باب الغناء والدف، من كتاب النكاح. سنن ابن ماجه 611/ 1. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 359، 360. وليس في صحيح مسلم، انظر: تحفة الأشراف 301/ 11، 302. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «المشبهون». (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاحبُه أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ، إلى إباحَتِه. قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ: والغِناءُ والنَّوْح مَعْنًى واحدٌ، مباحٌ ما لم يكنْ معه مُنْكَرٌ، ولا فيه طَعْنٌ. وكانَ (¬1) الخَلَّالُ يَحْمِلُ الكَراهَةَ مِن أحمدَ على الأفْعالِ المذْمُومَةِ، لا على القَوْلِ بعَيْنِه. ورُوِىَ عن أحمدَ أنَّه سَمِعَ مِن عندِ ابْنِه صالحٍ قَوَّالًا، فلم يُنْكِرْ عليه، وقال له صالحٌ: يا أبَةِ، أليس كُنتَ تَكْرَهُهُ (¬2)؟ فقال: قِيلَ لى: إنَّهم يَسْتَعْمِلون المُنْكَرَ. وممَّن ذهبَ إلى إباحَتِه (¬3) مِن غيرِ كَرَاهَةٍ؛ إبراهيمُ ابنُ سعدٍ، وكثيرُ مِن أهلِ المدينةِ، والعَنْبَرِىُّ؛ لِما رُوِىَ عن عائِشةَ، رَضِىَ الله عنها، قالتْ: كانتْ عندِى جَارِيَتان تُغَنِّيان، فدخَلَ أبو بكرٍ، فقال: مَزْمُورُ (¬4) الشَّيْطانِ في بيتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُما، فَإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ». مُتَّفَقٌ عليه (¬5). وعن عمرَ، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّه قال: الغِناءُ زادُ الرَّاكِبِ (¬6). واختارَ القاضى أنَّه مَكرُوهٌ غيرُ ¬

(¬1) في ق، م: «إن». (¬2) في ف، م: «تكرههم». (¬3) في م: «إباحة الغناء». (¬4) في الأصل: «مزمار». (¬5) أخرجه البخارى، في: باب الحراب والدرق يوم العيد، من كتاب العيدين، وفى: باب قصة الحبش وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: يا بنى أرفدة، من كتاب المناقب. صحيح البخارى 2/ 20، 4/ 225. ومسلم، في: كتاب الرخصة في اللعب. . . .، من كتاب العيدين. صحيح مسلم 2/ 608. كما أخرجه النسائى، في: باب الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد، من كتاب العيدين. المجتبى 4/ 160. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 84. (¬6) أخرجه البيهقى، في: باب لا يضيق عل واحد منهما. . . .، من كتاب الحج. السنن الكبرى 5/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُحَرَّمٍ. وهو قولُ الشافعىِّ، وقال: هوَ (¬1) مِن اللَّهْوِ المَكْرُوهِ. وقال أحمدُ: الغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ، لا يُعْجِبُنِى. وذهبَ آخُرون مِن أصْحابِنا إلى تَحْرِيمِه. قال أحمدُ، في مَن مات وخَلَّفَ ولدًا يَتيمًا، وجارِيَةً مُغَنَّيةً، فاحْتاجَ الصَّبِىُّ إلى بَيْعِها: تُباعُ ساذَجَةً. قيل له: إنها تُساوِى مُغَنَّيَةً ثلاثين ألفًا، وتُساوى سَاذَجَةً عِشرين دِينارًا. فقال: لا تُباعُ إلَّا على (¬2) أنَّها سَاذَجَةٌ. واحْتَجُّوا على تَحْرِيمِه بما رُوِىَ عن ابنِ الحَنَفِيَّةِ، في قولِه تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬3). قال: الغِناءُ. وقال ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ مَسعودٍ، في قولِ اللهِ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (¬4). قال: هو الغِناءُ (¬5). وعن أبى أُمامَةَ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -[نَهَى عن شِراءِ المُغَنِّياتِ، وبَيْعِهِنَّ، والتِّجارَةِ فِيهنَّ، وأكْلُ أثْمانِهِنَّ حَرامٌ. أخْرَجَه التِّرْمِذِىُّ (¬6)، وقال: لا نَعْرِفُه إلَّا مِن حديثِ علىِّ بنِ يَزِيدَ، وقد تَكَلَّمَ أهلُ العلمِ فيه. ورَوَى ابنُ مَسعودٍ، أنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬7) قال: «الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِى الْقَلْبِ» (¬8). والصَّحِيحُ أنَّه مِن (¬9) قولِ ابنِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة الحج 30. (¬4) سورة لقمان 6. (¬5) أخرجه الطبرى في تفسره 21/ 61. (¬6) في: باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات، من كتاب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 281، 282. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما لا يحل بيعه، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 733. (¬7) سقط من: الأصل. (¬8) أخرجه أبو داود، في: باب كراهية الغناء والزمر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 579. (¬9) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسعودٍ. وعلى كلِّ حالٍ، مَن اتَّخَذَ الغِناءَ صِناعَةً، يُؤْتَى إليه، ويَأْتِى له، أو اتَّخذَ غُلامًا أو جارِيَةً مُغَنَّييْن، يَجْمَعُ عليهما الناسَ، فلا شَهادةَ له؛ لأنَّ هذا عندَ مَن لم يُحَرِّمْه سَفَهٌ ودَناءةٌ وسُقوطُ مُروءَةٍ، ومَن حَرَّمَه فهو مع سَفَهِه عاصٍ، مُصِرٌّ مُتَظاهِرٌ بفِسْقِه. وبهذا قال الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وإن كان لا يَنْسِبُ نَفْسَه إلى الغِناءِ، وإنَّما يتَرَنَّمُ لنَفْسِه، ولا يُغَنِّى للناسِ، أو كان غُلامُه وجارِيَتُه إنَّما يُغَنِّيان له، انْبَنَى هذا على الخِلافِ فيه، فمَن أباحَه أو كَرِهَه، لم تُرَدَّ شَهادَتُه، ومَن حَرَّمَهُ، قال: إن دامَ عليه، رُدَّت شَهادتُه، كسائِرِ الصَّغائِرِ، وإن لم يُداوِمْ عليه، لم تُرَدَّ شَهادتُه. وإن فعَلَه [مَن يَعْتَقِدُ] (¬1) حِلَّه، فقِياسُ المذهبِ أن لا تُرَدّ شَهادتُه بما لا يَشْتَهِرُ به (¬2) منه، كسائرِ المُخْتَلَفِ فيه مِن الفُروعِ. ومَن كان يَغْشَى بُيوتَ الغِناءِ (¬3)، أو يَغْشاه المُغَنُّون للسَّماعِ، مُتَظاهِرًا بذلك، وكَثُرَ منه، رُدَّتْ شَهادتُه، في قولِهم جميعًا؛ لأنَّه سَفَهٌ ودَناءةٌ. وإن كان مُسْتَتِرًا به، فهو كالمُغَنِّى لنَفْسِه، على ما ذُكِرَ مِن التَّفْصِيلِ فيه. فصل: فأمّا الحُدَاءُ، وهو الإنْشادُ الذى تُساقُ به الإِبلُ، فمُباحٌ، لا بَأْسَ به في فِعْلِه واسْتِماعِه؛ لِما رُوِىَ عن عائشةَ، رَضِىَ اللهُ عنها، قالت: كُنَّا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، وكان عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ ¬

(¬1) في الأصل: «معتقدا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «المغنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جيِّدَ الحُدَاءِ، وكان مع الرِّجالِ، وكان أنْجَشَةُ مع النِّساءِ، فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لابنِ رَوَاحَةَ: «حَرِّكْ بِالْقَوْمِ». فانْدَفَعِ يُنْشِدُ، فتَبِعَه أنْجَشَةُ، فأعْنَقَتِ الإبِلُ، فقالَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأنْجَشةَ: «رُوَيْدَكَ، رِفْقًا بِالْقَوارِيرِ» (¬1). يَعنى النِّساءَ. وكذلك نَشِيدُ الأعْرابِ، وهو النَّصْبُ، لا بَأْسَ به، وسائرُ أنْواعِ الإنْشادِ، ما لم يَخْرُجْ إلى حَدِّ الغِناءِ. وقد كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمَعُ إنْشادَ الشِّعْرِ، فلا يُنْكِرُه. والغِناءُ، مِن الصَّوتِ، مَمْدودٌ مَكْسورٌ. والغِنَى، مِن المالِ، مَقْصورٌ. والحُدَاءُ، مَمْدودٌ مَضْمُومٌ، كالدُّعاءِ، ويَجوزُ الكَسْرُ، كالنِّداءِ. فصل: والشِّعْرُ كالكَلامِ؛ حَسَنُه كحَسَنِه، وقَبِيحُه كقَبِيحِه. وقد رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «إن مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْمًا» (¬2). وكان ¬

(¬1) لم نجده عن عائشة، وأخرجه عن أنس بن مالك، البخارى، في: باب المعاريض مندوحة عن الكذب، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 58. ومسلم، في: باب رحمة النبى - صلى الله عليه وسلم - بالنساء، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1811، 1812. وابن حبان، انظر: الإحسان 7/ 522. والإمام أحمد، في: المسند 7/ 103، 117، 172، 176، 187، 202، 206، 227، 254. وعن عمر وابن رواحة أخرجه النسائى، في: باب عبد الله بن رواحة، رضى الله عنه، من كتاب المناقب. السنن الكبرى 5/ 69، 70. (¬2) أخرجه البخارى، في: باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، من كتاب الأدب، صحيح البخارى 8/ 42. وأبو داود، في: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 598. والترمذى، في: باب ما جاء: إن من الشعر حكمة، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 288. وابن ماجه، في: باب الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1235، 1236. والدارمى، في: باب في أن من الشر حكمة، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 297. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 269، 273، 303، 309، 313، 327، 332، 5/ 125. وبعده في حاشية ق: «يعنى أن من الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما. والله أعلم،.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَضَعُ لحسَّانَ مِنْبَرًا يقَومُ عليه، فيَهْجُو مَن هَجَا رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمينَ (¬1). وأنْشَدَه كَعْبُ بنُ زُهَير قَصِيدَتَه: * بَانَتْ سُعادُ فَقَلْبِى الْيَوْمَ مَتْبُولُ * في المسجدِ (¬2). وقال له عَمُّه العَباسُ: [يا رسولَ الله] (¬3)، إنِّى أُرِيدُ أنْ أمْتَدِحَكَ. فقال: «قلْ لَا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ». فأنْشَدَه: مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِى الظِّلالِ (¬4) وفى … مُسْتَوْدَعٍ حيثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ (¬5) وقال عمرُو (¬6) بنُ الشَّرِيدِ: أرْدَفَنِى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ؟». قلتُ: نعم. فأنْشدْته بيتًا. فقال: «هِيهِ». ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 599. والترمذى، في: باب ما جاء في إنشاد الشعر، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 289/ 10. (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب من شبب فلم يسم أحدًا. . . .، من كناب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 243. وعجز البيت: * مُتَيَّمٌ إثرَهَا لم يُفْدَ مَكْبولُ * وانظر: ديوانه 6 - 25. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في الأصل، ق: «الضلال». (¬5) أخرجه الطبرانى، في: المعجم الكبير 4/ 252، 253. من حديث خريم بن أوس بن حارثة. وقال الهيثمى: وفيه من لم أعرفهم. مجمع الزوائد 8/ 217، 218. و: «من» ليست عندما. (¬6) في ق، م: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فأنْشَدْتُه بَيْتًا فقالَ: «هِيهِ» (¬1). حتى أنْشدْتُه مِائَةَ قَافيةٍ (¬2). وقال النبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -[يومَ حُنَيْنٍ] (¬3) أنَا النَّبِىُّ لا كذِبْ … أنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ (¬4) وقد اخْتُلِفَ في هذا، فقيل: ليس بشعرٍ، وإنَّما هو كَلامٌ مَوْزونٌ. وقيلَ: بل هو شِعرٌ، ولكنَّه بَيْتٌ واحدٌ قَصيرٌ، فهو كالنَّثْرِ. ويُرْوَى أنَّ أبا الدَّرْداءِ قيلَ له: ما مِن أهلِ بيتٍ في الأنْصارِ إلَّا وقد قال الشِّعْرَ. قال: وأنا قد قُلْتُ: يُريدُ المَرْءُ (¬5) أن يُعْطَى مُناهُ … ويَأْبَى الله إلَّاما أرَادَا يَقولُ المَرءُ (5) فائِدَتِى ومَالِى … وتَقْوَى اللهِ أفْضَلُ ما اسْتَفادَا (¬6) وليس في إباحةِ الشِّعرِ اخْتِلافٌ، وقد قالَه الصَّحابةُ والعلماءُ، والحاجَةُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) أخرجه مسلم، في: كتاب الشعر. صحيح مسلم 4/ 1767. وابن ماجه، في: باب الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1236. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 388 - 390. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب من قاد دابة غيره في الحرب، وباب بغلة النبى - صلى الله عليه وسلم - البيضاء، وباب من صف أصحابه عند الهزيمة. . . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب قول الله تعالى: {ويوم حنين. . . .}، من كتاب المنازى. صحيح البخارى 4/ 37، 39، 81، 5/ 194، 195. ومسلم، في: باب غزوة حنين، من كتاب الجهاد. صحيح مسلم 3/ 1400، 1401. والترمذى، في: باب ما جاء في الثبات عند القتال، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 184. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 281، 304. (¬5) في ق، م: «العبد». (¬6) أورده ابن عبد البر، في: الاستيعاب 4/ 1648.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَدْعُو إليه لمَعْرفَةِ اللُّغةِ والعربيَّةِ، وللاسْتِشْهادِ به في التَّفْسيرِ، وتَعَرُّفِ مَعنى كلامِ اللهِ تعالى، وكلامِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويُسْتدَلُّ به أيضًا على النَّسَبِ، والتَّارِيخِ، وأيَّام العَرَبِ. ويقالُ: الشِّعْرُ ديوانُ العَربِ. فإن قِيلَ: فقد قال اللهُ تعالى: {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (¬1). وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لأنْ يَمْتَلِى جَوْفُ (¬2) أحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا». روَاه أبو داودَ، وأبو عُبَيْدٍ (¬3). وقال: معنى يَرِيَهُ، يَأْكُلُ جوفَه. يُقالُ: وَرَاه يَرِيه. قال الشّاعِرُ (¬4): وَرَاهُنٌ رَبِّى مثلَ ما قَدْ وَرَيْننِى … وأحْمَى على أكْبادِهِنَّ الْمَكَاوِيَا قُلْنا: أمَّا الآيةُ، فالمُرادُ بها مَن أسْرَفَ وكَذَبَ، بدَليلِ وَصْفِه لهم بقولِه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا ¬

(¬1) سورة الشعراء 224. (¬2) سقط من: م. (¬3) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في الشعر، من كتاب الأدب. سنن أبى داود 2/ 598. وأبو عبيد، في: غريب الحديث 1/ 34. كما أخرجه البخارى، في: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر. . . .، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 8/ 45. ومسلم، في: كتاب الشعر. صحيح مسلم 4/ 1769، 1770. والترمذى، في: باب ما جاء لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا. . . .، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذى 10/ 292. وابن ماجه، في: باب ما كره من الشعر، من كتاب الأدب. سنن ابن ماجه 2/ 1236، 1237. والدارمى، في: باب لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . .، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمى 2/ 297. والإمام أحمد، في: المسند 175/ 1، 177، 181، 2/ 39، 96، 288، 331، 355، 391، 478، 480، 3/ 8، 41. (¬4) هو سحيم عبد بنى الحسحاس. ديوانه 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَفْعَلُونَ} (¬1). ثم اسْتَثنى المؤمِنينَ بقولهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (¬2). ولأن الغالِبَ على الشُّعراءِ قِلَّةُ الدِّينِ، والكَذِبُ، وقذْفُ المُحْصَناتِ، وهِجَاءُ الأبْرِياء، لا سِيَّما مَن كان فِى ابْتداءِ الإسْلامِ، ممَّن يَهْجُو النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، ويَهْجُو المسلمين، ويَعِيبُ الِإسلامَ، ويَمْدَحُ الكُفَّارَ، فوَقَعَ الذَّمُّ على الأغْلَبِ، واسْتَثْنَى منهم مَن لا يَفْعَلُ الخِصالَ المذْمُومَةَ، فالاَيةُ دَليلٌ على إباحَتِه، ومَدْحِ أهْلِه المُتَّصِفِينَ بالصِّفاتِ الجَمِيلةِ. وأمَّا الخبرُ، فقال أبو عُبَيْدٍ (¬3): مَعناهُ أنْ يَغْلِبَ عليه الشِّعْرُ حتى يَشْغَلَه عن القُرْآنِ والفِقْهِ. وقيلَ: المُرادُ به ما كان هِجاءً وفُحْشًا، فما كان مِن الشعْرِ يتَضَمَّنُ هَجْوَ (¬4) المسلمينَ، والقَدْحَ في أعْراضِهم، أو التَّشبيبَ بامرأةٍ بعَيْنِها، بالإفْراطِ في وَصْفِها، فذكرَ أصْحابُنا أنَّه مُحَرَّمٌ. وهذا إن أُرِيدَ به أنَّه مُحَرَّمٌ على قائِلِه، فهو صَحِيحٌ، وأمّا على رَاوِيه (¬5) فلا يَصِحُّ؛ فإن الْمَغازِىَ يُرْوَى فيها قَصائدُ الذين هَاجَوْا بها أصْحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لا ينكِرُ ذلك أحدٌ. وقد رُوِىَ أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ في الشِّعرِ الذى تَقاوَلَتْ به الشَّعَراءُ ¬

(¬1) سورة الشعراء 225، 226. (¬2) سورة الشعراء 227. (¬3) في الأصل: «عبيد». وانظر: غريب الحديث 1/ 36، 37. (¬4) في م: «هجاء». (¬5) في الأصل، ق: «رواية».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في يومِ بَدْرٍ وأُحدٍ وغيرِهما، إلَّا قصيدَةَ أُمَيَّةَ بنِ أبى الصَّلْتِ الحائِيَّةَ (¬1). وكذلك يُرْوَى شِعْرُ قَيْسِ بنِ الخَطيِمِ (¬2)، في التَّشْبِيبِ (3) بعَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ، أُخْتِ عبدِ الله بِنِ رَوَاحَةَ، وأُمِّ النُّعْمانِ بنِ بَشِير. وقد سمعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قصيدةَ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ، وفيها التَّشْبيبُ (¬3) بسُعادَ. ولم يَزلِ النَّاسُ يَرْوون أمثالَ هذا، ولا يُنْكَرُ. ورَوَينا أنَّ النُّعمانَ بنَ بَشِير دخلَ مَجْلِسًا فيه رجُلٌ يُغنِّيهم بقصيدةِ قَيسِ بنِ الخَطِيمِ، فلمَّا دخلَ النُّغمانُ سَكَّتوه مِن قِبَلِ أنَّ فيها ذِكْرَ أمِّه، فقالَ النُّعمانُ: فإنه (¬4) لم يَقُل بأْسًا، إنَّما قال: وعَمْرَةُ مِن سَرَوَاتِ النِّسا … ءِ تَنْفَحُ بالمِسْكِ أرْدَانُها (¬5) وكان عِمرانُ (¬6) بنُ طَلْحةَ في مجلسٍ، فغَنَّاهم رَجُلٌ بشِعْرٍ فيه ذِكرُ أمِّه، فسَكَّتوُه، فقال: دَعُوه، فإنَّ قائِلَ هذا الشِّعْرِ كان زوْجَها. فأمَّا الشَّاعِرُ، فمتى كان يَهْجُو المسلمين، ويَمْدَحُ بالكَذِبِ، أو يَقْذِفُ مُسْلِمًا أو مُسْلِمَةً، فإنَّ شَهادَتَه تُرَدُّ، وسواءٌ قَذَفَ المُسْلِمَةَ بنَفسِه أو بغيره. ¬

(¬1) القصيدة في: السيرة النبوية 2/ 30 - 32، وأولها: ألا بكيتِ على الكرا … م بني الكرام أولى الممادحْ (¬2) قيس بن الخطيم من بنى الأوس، عاش في الجاهلية، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل قبل الهجرة. انظر مقدمة تحقيق الديوان 7، 8. (¬3) في الأصل، م: «التشبيب». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) القصة والبيت في ديوانه 24. (¬6) في ق، م: «عمر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد قيلَ: أعْظَمُ الناسِ ذَنْبًا، رَجُلٌ يهاجِى رَجلًا، فيَهْجُو القَبِيلَةَ بأسْرِها. وقد رَوَينا أنَّ أبا دُلامةَ (¬1) شَهِدَ عندَ قَاضٍ، فخافَ أن تُرَدَّ شَهادتُه، فقال: إنِ الناسُ غَطُّونِى تَغطَّيْتُ عنهمُ … وإن بَحثُوا عنِّى فَفِيهم مَباحِثُ فقال القاضى: ومَن يَبْحَثُكَ يا أبا دُلامةَ؟ وغَرِمَ المالَ مِن عندِه، ولم يُظْهِرْ أنَّه رَدَّ شَهادتَه. فصل في قِراءةِ القُرآنِ بالألْحانِ: أمّا قِراءَتُه مِن غيرِ تَلْحِينٍ، فلا بَأسَ بها، وإن حَسَّنَ صَوْتَه به، فهو أفْضَلُ؛ فإن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «زَيَّنُوا أصْوَاتَكُمْ بالْقُرْآنِ» (¬2). ورُوِىَ: «زَيَّنُوا الْقُرْآنَ بأصْوَاتِكُمْ» (¬3). وقال: «لَقَدْ أُوتِىَ أبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» (¬4). ¬

(¬1) هو زيد بن الجون، كوفى أسود، كان مولى لبنى أسد، وأدرك آخر أيام بنى أمية، والقصة والبيت في: عيون الأخبار 1/ 69، الكامل للمبرد 2/ 45، 46، الأغانى 10/ 238، 239. (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 2/ 485. والحاكم، في: المستدرك 1/ 572. من حديث البراء بن عازب. وابن عدى، في: الكامل 3/ 1221، من حدث ابن عباس. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 443، 444. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب حسن الصوت بالقراءة، من كتاب فضائل القرآن. صحيح البخارى 6/ 241. ومسلم، في: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم ا /546. والترمذى، في: باب في مناقب أبى موسى الأشعرى، رضى الله عنه، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 241. والنسائى، في: باب تزينن القرآن بالصوت، من كتاب افتتاح الصلاة. المجتبى 2/ 140، 141. وابن ماجه، في: باب في حسن الصوت بالقرآن، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 425، 426. والدارمى، في: باب التغنى بالقرآن، من كتاب الصلاة، وفى: باب التغنى بالقرآن، من كتاب فضائل القرآن. سنن الدارمى 1/ 349، 2/ 472. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 369، 450، 5/ 349، 351، 359، 6/ 37، 167.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [ورُوِىَ أن النبَّى - صلى الله عليه وسلم - قال لأبى مُوسى «لَقَدْ مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ، وَأنْتَ تَقْرَأُ، وَلَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»] (¬1). فقال أبو موسى: لو أعْلَمُ أنك تَسْتَمِعُ، لحَبَّرْتُه لكَ تَحْبِيرًا. ورُوِىَ أنَّ عائشةَ أبْطَأتْ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةً، فقال: «أيْنَ كُنْتِ يَا عَائِشَةُ». فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، كنتُ أسْتَمِعُ قِراءةَ رَجلٍ في المسجدِ، لم أسْمَعْ أحدًا يَقْرأُ أحْسَنَ مِن قراءَتِه. فقامَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَمَعَ قِراءَتَه، ثم قال: «هذَا سَالِمٌ مَوْلَى أبى حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلّهِ الذِى جَعَلَ فِى أمَّتِى مِثْلَ هَذَا» (¬2). قال صالحٌ: قلتُ لأبِى: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بأصْوَاتِكُمْ». ما مَعناه؟ قال: أن تُحَسِّنَه. وقيل (¬3) له: ما مَعْنَى: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقرآنِ» (¬4). قال: يَرْفَعُ صَوْتَه به. وهكذا قال الشَّافعىُّ. وقال اللَّيْثُ: يتَحزَّنُ به، ويتَخَشَّعُ به، ويَتَباكَى به. وقال ابنُ عُيَيْنَةَ، وعمرُو بنُ الحارِثِ (¬5). ووَكِيعٌ: يَسْتَغْنِى به. فأمَّا القِراءَةُ (¬6) بالتَّلْحينِ، فيُنْظَرُ فيه؟ فإن لم يُفرِطْ في التَّمْطِيطِ والمَدِّ ¬

(¬1) سقط من: م. والحديث أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 231. وأبو يعلى، في مسنده 13/ 266. وليس عند أبى يعلى في هذا الحديث: «ولقد أوتيت مزمارا من مزاميرآل داود». وقال الهيثمى: رواه أبو يعلى، وفيه خالد بن نافع الأشعرى، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 7/ 171. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 181. (¬3) في الأصل: «قال». (¬4) تقدم تخريجه في 4/ 180. (¬5) عمرو بن الحارث بن يعقوب بن عبد الله، أبو أمية الأنصارى السعدى، العلامة، الحافظ، الثبت، مولاهم، المدنى الأصل، المصرى، عالم الديار المصرية ومفتيها، مولى قيس بن سعد بن عبادة، ولد بعد التسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، توفى في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 349 - 353. (¬6) في ق، م: «القرآن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإشْباعِ الحَرَكاتِ، فلا بَأْسَ به؛ فإنَّ النبَّى - صلى الله عليه وسلم - قد قَرأ، ورَجَّعَ، ورَفَعَ صَوْتَه، وقال الرّاوِى: لولا أن تَجْتَمِعَ النَّاسُ إلىَّ، لَحَكَيْتُ لكم قراءَةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ». وقال: «مَاْ أذِنَ اللهُ لِشَىْءكَأذَنِهِ لنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغنَّى بِالْقُرْآنِ» (¬2). أىْ يَجْهَرُ به. ومعنى أذِنَ: اسْتَمَعَ. قال القاضى: هو مَكْرُوهٌ على كلِّ حالٍ. ونحوُه قولُ أبى عُبَيْدٍ، وقال (¬3): مَعنَى قولِه: «مَنْ لَمْ يَتَغن بِالْقُرْآنِ» أىْ: يَسْتَغنِى به، قال الشَّاعِرُ: وَكنْتُ امْرَءًا زَمَنًا بالعِراقِ … عَفيف المُناخِ (¬4) كَثيرَ التَّغنِّى قال: ولو كان مِن (¬5) الغِناءِ بالصَّوْتِ، لَكانَ: مَن لم يُغنِّ بالقُرآنِ. ورُوِىَ نحوُ هذا التَّفْسيرِ عن ابنِ عُيَينةَ. وقال القاضى أحمدُ بنُ محمدٍ البِرْتِىُّ: هذا قولُ مَن أدْرَكْنا مِن أهلِ العلمِ. وِقال الوليدُ بنُ مسلمٍ: يَتغنَّى بالقُرآنِ، يَجْهرُ به. وقيلَ: يُحسِّنُ صَوْتَه به. قال شيْخُنا (¬6): والصَّحِيحُ أنَّ هذا القَدْرَ مِن التَّلْحينِ لا بَأسَ به، ولأنَّه لو كان مَكْرُوهًا، لم يَفْعَلْه النبُّى - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَصِحُّ حَمْلُه على التَّغَنِّى في حديثِ: «مَا أذِنَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 4/ 179. (¬2) تقدم تخريجه في 4/ 180. (¬3) في غريب الحديث 2/ 171، 172. والبيت للأعشى الكبير، وهو في ديوانه 25. (¬4) في ق، م: «النياح». (¬5) سقط من: م. (¬6) في: المغنى 14/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الله لِشَىْءٍ، كَأَذَنِهِ لِنَبِىٍّ يَتَغَّنى بِالْقُرْآنِ». على الاسْتِغْناءِ؛ لأنَّ مَعنى أذِنَ: اسْتَمَعَ، وإنَّما تُسْمَعُ القِراءةُ، ثم قال: يَجْهَرُ. والجَهْرُ صِفَةُ القِراءةِ لا صِفَةُ الاسْتِغْناءِ. فأمّا إذا أسْرَفَ في المَدِّ والتَّمْطِيطِ وإشْبَاعِ الحَرَكاتِ، بحيثُ يجْعَلُ الضَّمَّةَ واوًا. والفَتْحَةَ ألِفًا، والكَسْرةَ ياءً، كُرِه له (¬1) ذلك. ومِن أصْحابِنا مَن قال: يَحْرُمُ؛ لانَّه يُغيِّرُ القُرآنَ، ويُخْرِجُ الكَلماتِ عن وَضْعِها، ويَجْعَلُ الحَرَكاتِ حُروفًا. وقد رَوَينَا عن أبى عبدِ اللهِ، أنَّ رَجلًا سأَلَه عن ذلك، فقال له: ما اسمُك؟ قال: محمدٌ. قال: أَيسُرُّكَ أن يُقالَ لك: يَامُو حَامَّد؟ قال: لا. قال: ولا يُعْجِبُنِى أن يَتعَلَّمَ الرَّجلُ الألْحانَ، إلَّا أن يكونَ جَرَمُه (¬2) مِثلَ جَرَمِ (¬3) أبى موسى. قال له رجلٌ: فيُكَلَّمون؟ قال: ولا كلُّ ذا. واتَّفَقَ أهلُ العلمِ على أنَّهِ تُسْتَحَبُّ قِراءَةُ القُرآنِ بالتَّحْزينِ والتَّرْتِيلِ والتَّحْسينِ. ورَوَي بُرَيْدَةُ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ، فَإنَّه نَزَلَ بِالْحُزْنِ» (¬4). وقال الْمَرُّوذِىُّ: سمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ قال لرَجُلٍ: لو قَرَأتَ. وجعلَ أبو عبدِ الله رِبَّما تَغرْغَرَتْ عَيْنُه. وقال زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ: كنَّا عندَ يحيى القَطَّانِ، فجاءَ محمدُ بنُ سعيدٍ الترمِذِىُّ (1)، فقال له يحيى: اقْرأْ. فقرأ، فغُشِىَ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «حرمه». وجرمه أى: صفاؤه. (¬3) في م: «حرم». (¬4) عزاه الهيثمى للطبرانى في الأوسط، وقال: فيه إسماعيل بن سيف، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 7/ 170. وعزاه السيوطى اليه وإلى أبى يعلى - ولم نجده عنده - وإلى أبى نصر السجزى في الإبانة. الجامع الكبير 1/ 134. وانظر 3/ 444.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على يحيى حتى حُمِلَ وأُدْخِلَ. وقال محمدُ بنُ صالِحٍ العَدَوِىُّ: قَرأتُ عندَ يحيى بنِ سعيدٍ القطَّانِ، فغُشِىَ عليه، حتى فاته خَمسُ صَلَواتٍ. فصل: ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ الطُّفَيْلىِّ؛ وهو الذى يأْتِى طَعامَ النَّاسِ مِن غيرِ دَعْوَةٍ. وبهذا قال الشافعىُّ. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا؛ وذلك لأنَّه يُرْوَى عنِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «مَنْ أتَى طَعَامًا لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ، دَخَلِ سَارِقًا، وَخرَج مُغِيرًا» (¬1). ولأنَّه يأكُلُ مُحَرَّمًا، ويفْعَلُ ما فيه سَفهٌ ودَناءةٌ وذَهابُ مُروءَةٍ، فإن لم يَتكَرَّرْ هذا منه، لم تُرَدَّ شَهادَته؛ لأنَّه مِن الصَّغائرِ. فصل: ومَن سَألَ مِن غيرِ أن تَحِلَّ له المسْألةُ، فأكْثَرَ، رُدَّتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه فَعَلَ مُحَرَّمًا، وأكلَ سُحْتًا، وأتَى دَناءَةً. وقد رَوَى قَبِيصَةُ، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «إن الْمَسْالةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأحَدِ ثَلَاَثةٍ؛ رَجُلٍ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أو قال (¬2): سِدادًا مِنْ عَيْشٍ، [وَرَجُلٍ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أوْ - سِدَاِدًا مِنْ عَيْشٍ] (¬3)، وَرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، ¬

(¬1) في م: «معيرا». ومغيرا، أى: ناهبا مال غيره. والحديث أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في إجابة. . . .، من كتاب الأطعمة. سنن أبى داود 2/ 306. والبيهقى، ق: باب من لم يدع ثم جاء. . . .، من كتاب الصداق. السنن الكبرى 7/ 265. (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: ق، م.

فَصْلٌ: وَمَتَى زَالتِ المَوَانِعُ مِنْهُمْ، فَبَلَغ الصَّبِىُّ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَأسْلَمَ الْكَافِرُ، وتَابَ الْفَاسِقُ، قُبلَتْ شَهَادَتُهُمْ بمُجَرَّدِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ، يأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاه مسلمٌ] (¬1). فأمَّا السَّائِلُ ممَّن تُباحُ له المسْأَلةُ، فلا تُرَدُّ شَهادتُه بذلك، إلَّا أن يكونَ أكْثرَ عُمُرِه سائِلًا، فيَنبغِى أن تُرَدَّ شَهادَتُه؛ لأنَّ ذلك دَناءَةٌ وسُقُوطُ مُروءَةٍ. ومَن (¬2) أخذَ مِن الصَّدقةِ مِمَّن يجوزُ له الأخْذُ مِن غيرِ مَسْألةٍ، لم تُرَدَّ شَهادتُه؛ لأنَّه فِعْلٌ جائِرٌ، لا دَناءَةَ فيه. وإنْ أخذَ منها ما لا يجوزُ له، وتَكَرَّرَ ذلك منه، رُدَّتْ شَهادتُه؛ لأنَّه مُصِرٌّ على الحَرامِ. فصل: قال الشيخُ، رَحِمَه الله: «ومتى زالتِ المَوانِعُ منهم، فبَلَغَ الصَّبِىُّ، وعَقَلَ المجْنونُ، وأسْلَمَ الكافِرُ، وتابَ الفاسِقُ، قُبِلَتْ شَهادَتُهم بمُجَرَّدِ ذلك) لأنَّ المُقْتَضِىَ لقَبُولِ الشَّهادَةِ مَوْجودٌ، وإنَّما رُدَّتْ لوُجودِ المانِعِ، فإذا زَالَ المانِعُ، عَمِلَ (¬3) المُقْتَضِى عملَه، كما لم يُوجَدِ المانِعُ، وتُقْبَلُ تَوْبَةُ الفاسِقِ؛ لقولِ اللهِ سبحانَه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (¬4). وقولِه سبحانَه: {وَمَن يَعْمَلْ سُوَءًا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُّمَّ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والحديث تقدم تخريجه في 7/ 219. (¬2) في ق، م: «فإن». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سورة الشورى 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬1). وقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (¬2). وقال عمرُ، رَضِىَ الله عنه: بَقِيَّةُ عُمُرِ المَرْءِ لا قِيمَةَ له، يُدْرِكُ فيه ما فاتَ، ويُحْيىِ فيه ما أماتَ، ويُبَدِّلُ اللهُ سَيّئاتِه حَسَناتٍ. والتَّوْبَةُ على ضَرْبَيْنِ؛ باطِنةٌ، وحُكْمِيَّةٌ، فالباطِنَةُ فيما بينَه وبينَ الله تِعالى، فإن كانتِ المَعْصِيَةُ لا تُوجِبُ حقاً عليه في الحُكْمِ، كقُبْلَةِ الأجْنَبِيَّةِ، والخَلْوَةِ بها، وشُرْبِ المُسكِرِ، والكَذِب، فالتَّوْبَةُ منها النَّدمُ، والعَزْمُ على أن لا يَعُودَ، فقد رُوِىَ عن النَّبِّىِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» (¬3)،. قيل: التوبةُ النصُوحُ تَجْمَعُ أرْبَعَةَ أشيَاءَ؛ النَّدَمَ بالْقَلْبِ، والاسْتِغْفارَ باللِّسَانِ، وإضْمارَ أن لا يَعُودَ، ومُجانبةَ خُلَطاءِ السُّوءِ. وإن كانتْ تُوجِبُ حقَّا عليه لله تِعالى، أو لآدَمِىٍّ؛ كمَنْعِ الزَّكاةِ، والغصْب، فالتَّوْبَةُ مهنا بما ذكَرْنا، وتَرْكِ المَظْلَمَةِ حَسْبَ إمْكانِه، بأن يُؤدَّىَ الزَّكَاةَ، ويَرُدَّ المَغصُوبَ أو بَدَلَه. وإنْ عَجَزَ عن ذلك، نَوَى رَدَّه متى قَدَر عليه. فإن كان عليه فيها حَقٌّ في البَدَنِ، وكان حقَّا لآدَمِيٍّ، كالقِصاصِ، وحَدِّ القَذْفِ، اشْتُرِطَ في التَّوْبَةِ التَّمْكِينُ مِن نَفْسِه، ببَذلِها ¬

(¬1) سورة النساء 110. (¬2) تقدم تخريجه في 20/ 338. (¬3) سقط من: م. والحديث أخرجه ابن ماجه، في: باب ذكر التوبة، من كاتب الزهد. سنن ابن ماجه 2/ 1420. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 376، 423، 433. والحاكم، في: كتاب التوية والإنابة. المستدرك 4/ 243. والبيهقى، في: باب شهادة القاذف، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمُسْتَحِقِّ، وإنْ كان حقَّا لله تعالى، كحَدِّ الزِّنَى، وشُرْبِ الخمرِ، فتَوْبَتُه بالنَّدَمِ، والعَزْمِ على تَرْكِ العَوْدِ، ولا يشْتَرَطُ الإقْرارُ به، فإن كان ذلك لا يَشْتَهِرُ عنه، فالأوْلَى له سَتْرُ نَفْسِه، والتَّوبةُ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى؛ لأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِه القَاذُورَاتِ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإنَّه مَنْ أبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ» (¬1). فإنَّ الغامِدِيَّةَ حينَ أقَرَّتْ بالزِّنَى، لم يُنْكِرْ عليها النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬2). وإن كانَتْ مَعْصِيَةً مَشْهُورةً، فذكرَ القاضى أنَّ الأوْلَى الإقْرارُ به (¬3)، ليُقَامَ عليه الحَدُّ؛ لأنَّه إذا كان مَشْهُورًا، فلا فائدةَ في تَرْكِ إقَامَةِ (¬4) الحَدِّ عليه. قال شيْخُنا (¬5): والصَّحِيحُ أن تَرْكَ الإقْرارِ أوْلَى؛ لأن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - عرَّضَ للمُقِرِّ عندَه بالرُّجوعِ (¬6) عن الإقْرارِ، فعرَّضَ لماعز (¬7)، وللمُقِرِّ عندَه بالسَّرِقةِ (¬8) بالرُّجوعِ، معِ اشْتِهارِه عنه بإقْرارِه، وكَرِهَ الإقْرارَ، حتى قيلَ - إنَّه لَمَّا قطَعَ السَّارِق: كَأنَّما أُسِفَّ وَجْهُه رمادًا (¬9). ولم يَردِ الأمرُ بالإقْرارِ، ولا الحَثُّ عليه في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا يَصِحُّ له قِياسٌ، إنَّما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 186. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 196. (¬3) سقط من: م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في: المغنى 14/ 193. (¬6) في الأصل: «عند الرجوع». (¬7) تقدم تخريجه في 26/ 168. (¬8) تقدم تخريجه في 26/ 559. (¬9) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 419، 438.

5047 - مسألة: (ولا يعتبر إصلاح العمل. وعنه، يعتبر فى التائب إصلاح العمل سنة)

وَلَا يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ. وَعَنْهُ، يُعْتَبَرُ فِى التَّائِبِ إصْلَاحُ العَمَلِ سَنَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَدَ الشَّرْعُ بالسَّتْرِ، والاسْتِتارِ، والتَّعْرِيضِ للمُقِر بالرُّجوعِ عن الإقْرارِ. وقال لهَزَّالٍ، وهو الذى أمرَ ماعِزًا بالإقْرارِ: «يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَه بِثَوْبِكَ، كَانَ خَيْرًا لَكَ» (¬1). وقال أصْحابُ الشافعىِّ: تَوْبةُ هذا إقْرارُه ليُقامَ عليه الحدُّ. وليس بصَحِيحٍ؛ لِما ذكَرْنا، ولأنَّ التَّوْبةَ تُوجَدُ حَقِيقَتُها بدونِ الإقْرارِ، وهى تَجُبُّ ما قبلَها، وَرَدَ في الأخْبارِ، مع ما دَلَّتَ عليه الاَياتُ في مَغْفِرَةِ الذُّنوبِ بالاسْتِغْفارِ، وتَرْكِ الإصرارِ (¬2). وأمَّا البِدْعَةُ، فالتَّوْبَةُ (¬3) منها بالاعْتِرافِ بها، والرُّجُوعِ عنها (¬4)، واعْتِقادِ ضِدِّ ماكان يَعْتَقِدُ منها. 5047 - مسألة: (ولا يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ العَمَلِ. وعنه، يُعْتَبَرُ في التَّائِبِ إصْلَاحُ العَمَلِ سَنَةً) ظاهِرُ كلامِ أحمدَ والخِرَقِىِّ، أنَّه لا يُعْتَبَرُ في ثُبُوتِ أحْكامِ التَّوْبَةِ، مِن قَبولِ الشَّهادةِ، وصِحَّةِ الوِلَايةِ في النِّكاحِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 344. (¬2) في الأصل: «الإضرار». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إصْلاح العَمَلِ. وهو أحد القَوْلَيْن للشافعىِّ. وفى القَوْلِ الآخَرِ، يُعْتَبَرُ إصْلاح العَمَلِ، إلَّا أن يكونَ ذَنْبُه الشَّهادةَ بالزِّنَى، ولم يَكْفلْ عدَدُ الشُّهودِ، فإنَّه يَكْفِى مجَرَّدُ التَّوْبَةِ مِن غيرِ اعْتِبارِ إصْلاحٍ، وما عَداه فلا تَكْفِى التَّوْبَة (¬1) حتى تَمْضِىَ عليه سنَةٌ، تَظْهَر فيها تَوْبَته، ويَبِينُ فيها صَلاحُه. وهذا رِوايةٌ عن أحمدَ، حَكاها أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} (¬2). وهذا نَصٌّ، فإنَّه نَهَى عن قَبولِ شَهادَتِهم، ثم اسْتَثْنَى التَّائِبَ المُصْلِحَ، ولأنَّ عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، لَمَّا ضَرَبَ صَبِيغًا أمرَ بهِجْرَانِه، حتى بَلَغَتْه تَوْبتُه، فأمرَ أن لا يُكلَّمَ إلَّا بعدَ سنَةٍ (¬3). ولَنا، قوْلُه عليه السَّلامُ: «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَها» (¬4). وقَوْلُه: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (¬5). ولأنَّ المغْفِرَةَ تحْصُلُ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سورة النور 5. (¬3) أخرجه الدارمى، في: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع، من المقدمة. سنن الدارمى 1/ 54 - 56. وليس فيه ذكر السنة. وانظر: الإصابة 3/ 458، 459. ولم نجده في كناب الورع. (¬4) لم نجد هذا اللفظ. (¬5) تقدم تخريجه في 20/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بمُجَرَّدِ التَّوْبةِ، فكذلك الأحْكامُ، ولأنَّ التَّوْبةَ مِن الشِّرْكِ بالِإسْلامِ، لا تحْتاجُ إلى اعْتِبارِ ما بعدَه، وهو أعْظمُ الذنَّوبِ، فما دونَه أَوْلَى. وَأمَّا الآيةُ (¬1)، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ الإصْلاحُ مِن التَّوْبَةِ، وعَطْفُه عليها لاخْتِلافِ اللَّفْظَيْنِ، ودليلُ ذلك، قولُ عُمرَ لأبى بَكْرَةَ: تُبْ، أقْبَلْ شَهادَتَكَ (¬2). ولم يَعْتَبِرْ أمرًا آخَرَ، ولأن مَن كان غاصِبًا، فرَدَّ ما في يَدَيْه، أو مانِعًا للزَّكاةِ (¬3)، فأدَّاها وتابَ إلى اللهِ عز وجل، قد حصَلَ منه الإصْلاحُ، وعُلِمَ نُزوعُه (¬4) عن مَعْصِيَتِه [بأداءِ ما] (¬5) عليه، فإنَّه لولم يُرِدِ التَّوْبةَ، لَما أدَّى ما في يَدَيْه، ولأنَّ تَقْدِيرَه بسَنَةٍ تَحَكُّمٌ لم يَرِدْ به الشَّرْعُ، والتَّقْديرُ إنَّما يَثْبُتُ بالتَّوْقِيفِ، وما وَرَد عن عمرَ في حقِّ صَبيغٍ إنَّما كان لأنَّه تائبٌ مِن بِدْعَةٍ، وكانت تَوْبَتُه بسبَبِ الضَّرْبِ والهِجْرانِ، فيَحْتَمِلُ أنَّه أظْهَرَ التَّوْبَةَ تَسَتُّرًا، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وقد ذكرَ القاضى، أنَّ التَّائِبَ مِن البِدْعَةِ ¬

(¬1) في الأصل: «الولاية». (¬2) أخرجه البيهقى، في: باب شهادة القاذف، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 152. وعبد الرزاق، في: باب شهادة القاذف، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 362. (¬3) في م: «للذكاة». (¬4) في م: «نزوله». (¬5) في م: «نادما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُعْتَبَرُ له مُضِىُّ (¬1) سَنَةٍ؛ لحديثِ صَبِيغٍ. رَواه أحمدُ في «الوَرَعِ»، قال: ومِن عَلامَةِ تَوْبَتِه، أنْ يَجْتَنِبَ مَن كان يُوالِيه مِن أهلِ البِدَعِ، ويُوالِى مَن كان يُعادِيه مِن أهلِ السُّنَّةِ. والصَّحيحُ أنَّ التَّوْبَةَ مِن البِدْعَةِ كغيرِها، إلَّا أن تكونَ التَّوْبةُ [بِفِعْلٍ يُشْبِهُ] (¬2) الإكْرَاهَ، كَتَوْبَةِ صَبِيغٍ، فيُعْتَبَرُ له مُدَّةٌ يُظْهِرُ أنَّ تَوْبَتَه عن إخْلاصٍ، لا عن إكْراهٍ. وللحاكمِ أن يَقولَ للمُتَظاهِرِ بالمَعْصِيَةِ: تُبْ أقْبَلْ شَهادتَكَ. وقال ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق: «تفعل نسبة». وفى م: «تفعل بسبب».

5048 - مسألة: (ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب)

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ القَاذِفِ حَتَّى يَتُوبَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالِكٌ: لا أعْرِفُ هذا. قال الشافعىُّ: وكيفَ لا يَعْرِفُه، وقد أمرَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتَّوْبَةِ، وقالَه عُمرُ لأبى بَكْرَةَ! 5048 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ القاذِفِ حتى يَتُوبَ) وجملةُ ذلك، أنَّ القاذِفَ إذا كان زَوْجًا، فحَقَّقَ قَذْفَه ببَيِّنَةٍ أو لِعانٍ، أو كان أجْنَبِيًّا فَحَقَّقَه بالبَيِّنَةِ أو بإقْرارِ المَقْذُوفِ، لم يَتعلَّقْ بقَذْفِه فِسْقٌ، ولا حَدٌّ، ولا رَدُّ شَهادَةٍ، وإن لم يُحَقِّقْ قَذْفَه بشئٍ مِن ذلك، تَعلَّقَ به وُجوبُ الحدِّ عليه، والحُكْمُ بفِسْقِه، ورَدِّ شَهادَتِه؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). فإن تابَ، لم يَسْقُطْ عنه الحَدُّ، وزَالَ الفِسْقُ، بلا خِلافٍ. وتُقْبَلُ شَهادَتُه عندَنا. ورُوِىَ ذلك (¬2) عن عُمرَ، وأبى الدَّرْداءِ، وابنِ عباسٍ. وبه قال عَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وعبدُ اللهِ بنُ عُتْبَةَ، وجَعفرُ (¬3) بنُ أبى ثابِتٍ، وأبو الزِّنادِ، ومالِكٌ، والشافعىُّ، والبَتِّىُّ، ¬

(¬1) سورة النور 4. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) كذا بالنسخ ولعله حبيب بن أبى ثابت. انظر: تهذيب الكمال 5/ 358 - 363، سير أعلام النبلاء 5/ 288 - 291.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وذكرَه ابنُ عبدِ البَرِّ، عن يحيى ابنِ سعيدٍ، ورَبيعةَ. وقال شُرَيْحٌ، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والثَّوْرِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ: لا تُقْبَلُ شَهادتُه إذا جُلِدَ، وإنْ تابَ. وعندَ أبى حنيفةَ، لا تُرَدُّ شَهادتُه قَبْلَ الجَلْدِ، وإن لم يَتُبْ. فالخِلافُ معه في فَصْلَيْن؛ أحدُهما، أنَّه عندَنا تَسْقُطُ شَهادَتُه بالقَذْفِ إذا لم يُحَقِّقْه، وعندَ أبى حنيفةَ ومالكٍ، لا تَسْقُطُ إلَّا بالجَلْدِ. والثانى، أنَّه إذا تابَ، قُبِلَتْ شَهادتُه وإنْ جُلِدَ، وعندَ أبى حنيفةَ، لا تُقْبَلُ، وتُعلَّقُ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. وبما رَوَى ابنُ ماجَه، بإسْنادِه عن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِى الإسْلَامِ» (¬1). واحْتَجَّ في الفَصْلِ الآخَرِ بأنَّ القَذْفَ قبلَ حُصولِ الجَلْدِ يجوزُ أَن تقومَ به البَيَّنَةُ، فلا يجبُ به التَّفْسِيقُ. ولَنا، في الفصلِ الثانى، إجْماعُ الصَّحابةِ، رَضِىَ اللهُ عنهم، فإنَّه رُوِىَ عن عُمرَ، رَضِىَ الله عنه، أنَّه كان يقولُ لأبى بَكْرةَ، حينَ شَهِدَ على المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ: تُبْ أقْبَلْ شَهادَتَكَ. ولم يُنْكِرْ ذْلك مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا. قال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ: شَهِدَ على المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ ثَلاثةُ رِجالٍ؛ أبو بَكْرةَ، وشِبْلُ بنُ مَعْبَدٍ، ونافِعُ بنُ الحارِثِ، ونكَلَ زِيادٌ، فجلَدَ عُمرُ الثَّلاثةَ، وقال لهم عمرُ (¬2): تُوبوا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 339. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تُقْبَلْ شَهادَتُكم. فتَابَ رجُلانِ، وقَبِلَ عمرُ شَهادَتَهما، وأبَى أبو بَكْرَةَ، فلم يَقْبَلْ شَهادَتَه، وكان قد عادَ مثلَ النَّصْلِ مِن العِبادةِ (¬1). ولأنَّه تابَ مِن ذَنْبِه، فقُبِلَتْ شَهادتُه، كالتَّائِبِ مِن الزِّنى، يُحَقِّقُه أنَّ الزِّنَى أعْظمُ مِن القَذْفِ به، وكذلك قَتْلُ النَّفْسِ التى حَرَّمَ اللهُ، وسائِرُ الذُّنوب، إذا تابَ فاعِلُها، قُبِلَتْ شَهادتُه، فهذا أَوْلَى. وأمَّا الآيةُ، فهى حجَّةٌ لنا؛ لأنَّه اسْتَثْنَى التَّائبين بقولِه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬2). والاسْتِثْناءُ مِن النَّفْىِ إثْباتٌ، فيكونُ تَقْدِيرُه: إلَّا الذينَ تَابُواْ، فاقْبَلوا شَهادَتَهم، ولَيسوا بفَاسِقِينَ. فإن قالوا: إنَّما يَعودُ الاسْتِثْناءُ إلى الجُملةِ التى تَلِيه، بدَليلِ أنَّه لا يَعودُ إلى الجَلْدِ. قُلْنا: بل يَعودُ إليه أيضًا؛ لأنَّ هذه الجُمَلَ مَعْطُوفٌ بعْضُها على بعضٍ بالواوِ، وهى للجَمْعِ تَجْعَلُ الجُمَلَ كلَّها كالجُملةِ الواحِدَةِ، فيعودُ الاسْتِثْناءُ إلى جَمِيعِها، إلَّا ما مَنَعَ [منه مانِعٌ] (¬3)، ولهذا لمّا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَؤْمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي بَيْتِه، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإذْنِهِ» (¬4). عادَ الاسْتِثْناءُ إلى الجُمْلَتَيْن جميعًا، ولأنَّ الاسْتِثْناءَ يُغايِرُ (¬5) ما قبلَه، فعادَ إلى الجُمَلِ المعْطُوفِ بعْضُها على بعْضٍ بالواوِ، كالشَّرْطِ، فإنَّه لو قال: امرأتُه طالِقٌ، وعبدُه حُرٌّ، ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 362. والبيهقي مختصرا، في: السنن الكبرى 10/ 152. (¬2) سورة النور 5. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) تقدم تخريجه في 4/ 278. (¬5) في الأصل: «بغير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنْ لم يَقُمْ. عادَ الشَّرْطُ إليهما، كذا الاسْتِثْناءُ، بل عَوْدُ الاسْتِثْناءِ إلى رَدِّ [الشَّهادَةِ أَوْلَى؛ لأنَّ رَدَّ الشَّهادَةِ هو المَأْمُورُ به، فيكونُ هو] (¬1) الحُكْمَ، والتَّفْسِيقُ خَرَجَ مَخْرَجَ الخَبرِ و [التَّعليلِ لردِّ] (¬2) الشَّهادةِ، فعَوْدُ الاسْتِثْناءِ إلى الحُكْمِ المَقْصودِ (¬3)، أوْلَى مِن رَدِّه إلى التَّعليلِ، وحديثُهم ضَعِيفٌ، يَرْوِيه الحجَّاجُ بن أرْطَاةَ، وهو ضَعيفٌ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: لم يَرْفَعْه مَن (¬4) في رِوايَتِه حُجَّةٌ، وقد رُوِىَ مِن غيرِ طَرِيقِه، ولم يُذْكَرْ فيه هذه الزِّيادَةُ، فدَلَّ ذلك على أنَّها مِن غَلَطِه، ويَدُلُّ على خَطَئِه قَبولُ شَهادَةِ كُلِّ مَحْدُودٍ في غيرِ القَذْفِ (¬5) بعدَ توبتِه (¬6). ثم لو قُدِّرَ صِحَّتُه، فالمُرادُ به مَن لم يَتُبْ، بدليلِ: كُلِّ مَحْدودٍ تاب سِوَى هذا. وأمّا الفصلُ الأوَّلُ فدَلِيلُنا فيه الآيةُ، فإنه رَتَّبَ على رَمْىِ المُحْصَناتِ ثَلاثةَ أشْياءَ؛ إيجابُ الجَلْدِ، ورَدُّ الشَّهادَةِ، والفِسْقُ، فيَجِبُ أن يَثْبُتَ رَدُّ الشَّهادَةِ بوُجودِ الرَّمْىِ الذى لم يُمْكِنْه تَحْقِيقُه، كالجَلْدِ، ولأنَّ الرَّمْىَ هو المَعْصِيَةُ، والذَّنْبُ الذى يَسْتَحِقُّ به العُقوبَةَ، وتثْبُتُ به المعْصِيَةُ المُوجِبَةُ رَدَّ الشَّهادةِ، والحدُّ كَفَّارَةٌ وتَطْهِيرٌ، فلا يجوزُ تَعْلِيقُ رَدِّ الشَّهادةِ به، وإنَّما الجَلْدُ ورَدُّ الشَّهادةِ حُكْمانِ للقَذْفِ، فيَثْبُتان جميعًا به، وتخلُّفُ اسْتِيفاءِ أحَدِهما لا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «التعديل كرد». (¬3) في الأصل: «المقود». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) في م: «المقذوف». (¬6) في م: «ثبوته».

5049 - مسألة: (وتوبته أن يكذب نفسه. وقيل: إن علم صدق نفسه، فتوبته أن يقول: قد ندمت على ما قلت، ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه)

وَتَوْبَتُهُ أَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: إنْ عَلِمَ صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ نَدِمْتُ عَلَى مَا قُلْتُ، وَلَا أَعُودُ إلَى مِثْلِهِ، وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمْنَعُ ثُبوتَ الآخَرِ. وقولُهم: إنَّما يتَحقَّقُ بالجَلْدِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الجَلْدَ حُكْمُ القَذْفِ الذى تَعذَّرَ تَحْقِيقُه، فلا يُسْتَوْفَى قبلَ تَحَقُّقِ القَذْفِ، وكيفَ يجوزُ أن يُسْتَوْفَى حَدٌّ قبلَ تحَقُّقِ سَبَبِه، ويَصِيرُ مُتحَقِّقًا بعدَه! هذا باطِلٌ. فصل: والقاذِفُ في الشَّتْمِ تُرَدُّ شَهادَتُه ورِوايتُه حتى يَتُوبَ، والشاهِدُ بالزِّنَى إذا لم تكْمُلِ البَيِّنَةُ، تُقْبَلُ رِوايتُه دونَ شَهادتِه. وحُكِىَ عن الشافعيِّ أنَّ شَهادتَه لا تُرَدُّ. ولَنا، أنَّ عُمرَ لم يَقْبَلْ شَهادةَ أبى بَكْرةَ، وقال له: تُبْ أقْبَلْ شَهادَتَكَ. ورِوايتُه مَقْبولَةٌ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في قَبُولِ رِوايَةِ أبي بَكْرَةَ، مع رَدِّ عُمرَ شَهادَتَه. 5049 - مسألة: (وتَوْبَتُهُ أن يُكْذِبَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: إن عَلِمَ صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَوْبَتُه أن يَقُولَ: قَدْ نَدِمْتُ على ما قُلْتُ، ولا أعُودُ إلى مِثْلِه، وأنا تَائِبٌ إلى الله تِعالى منه) ظاهِرُ كلامِ أحمدَ والْخِرَقِيِّ، أنَّ تَوْبَةَ القاذِفِ إكْذابُه نَفْسَه، فيقولُ: كَذَبْتُ فيما قلتُ. وهذا مَنْصوصُ الشافعيِّ، واخْتيارُ الإِصْطَخْرِيِّ مِن أصْحابه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وممَّن قال هذا سَعيدُ ابنُ المُسَيَّبِ، وطاوسٌ، وعَطاءٌ، والشعبيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عُبَيْدٍ (¬1)؛ لِما رُوِىَ عن الزُّهْرِىِّ، عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عن عُمرَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال، في قولِ اللهِ تعالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). قال: «تَوْبَتُهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ» (¬3). ولأنَّ عِرْضَ المقْذُوفِ يُلَوَّثُ بقَذفِه، فإكْذَابُه نفْسَه يُزيلُ ذلك التَّلْوِيثَ، فتكونُ التَّوْبةُ به (¬4). وذكرَ القاضي أنَّ القَذْفَ إن كان سَبًّا، فالتَّوْبةُ منه إكْذَابُ نَفْسِه، وإن كانَ شَهادةً، فالتَّوْبةُ منه أن يقولَ: القَذْفُ حرامٌ باطِلٌ، ولَنْ أعُودَ إلى ما قلتُ. وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ. قال: وهو المذهبُ؛ لأنَّه قد يكونُ صادِقًا، فلا يُؤْمَرُ بالكَذِبِ، والخبَرُ مَحْمولٌ على الإِقْرارِ بالبُطْلانِ؛ لأنَّه نوعُ إكْذَابٍ. قال شَيْخُنا (¬5): والأَوْلَى أنَّه متى عَلِمَ مِن نَفْسِه الصِّدْقَ فيما قَذفَ به، فتَوْبَتُه الاسْتِغْفارُ، والإِقْرارُ ببُطْلانِ ما قالَه وتَحْرِيمِه، وأنَّه لا يَعودُ إلى مِثْلِه. ¬

(¬1) في م: «عبيدة». (¬2) سورة النور 5. (¬3) ذكر صاحب كنز العمال 2/ 474، أن ابن مردويه أخرجه. (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) في: المغنى 14/ 192.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يَعْلَمْ صِدْقَ نفْسِه، فتَوْبَتُه إكْذابُ نفْسِه، سواءٌ كان القَذْفُ بشهَادَةٍ أو سَبٍّ (¬1)؛ لأنَّه قد يكونُ كاذِبًا في الشَّهادَةِ، صادِقًا في السَّبِّ (¬2). ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ اللهَ تعالى سَمَّى القاذِفَ كاذِبًا [إذا لم يَأْتِ بأَرْبَعَةِ شُهَداءَ] (¬3) على الإِطْلاقِ، بقوْلِه سبحانه: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬4). فتَكْذيبُ الصَّادِقِ نفْسَه يَرْجِعُ إلى أنَّه كاذِبٌ في حُكْمِ اللهِ تِعالى، وإنْ كان في نفسِ الأمْرِ صادِقًا. ¬

(¬1) في الأصل: «سبب». (¬2) في الأصل: «السبب». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سورة النور 13.

فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِى الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةُ، بَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِى كُلِّ شَىْءٍ، إِلَّا فِى الْحُدُودِ وَالقِصَاصِ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشيخ، رَحِمَه اللهُ: (ولا يُشْتَرَط في الشَّهادةِ الحُرِّيَّةُ، بل تَجُوزُ شَهادةُ العَبْدِ في كُلِّ شئٍ، إِلَّا في الحُدودِ والقِصاصِ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ. وتجوزُ شَهادةُ الأمَةِ فيما تجوزُ فيه شَهادةُ النِّساءِ) الكلامُ في هذه المسْألَةِ في ثلاثةِ فُصُولٍ؛ أحدُها: في قَبولِ شَهادةِ العَبْدِ فيما عدا الحُدُودَ والقِصاصَ، والمذهبُ أنَّها مَقْبولةٌ. رُوِىَ ذلك عن عليٍّ، وأنَسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما. قال أنَسٌ: ما عَلِمْتُ أنَّ أحَدًا رَدَّ شَهادةَ العبدِ. وبه قال عُرْوَة، وشُرَيْحٌ، وإياسٌ، وابنُ سِيرِينَ، والبَتِّيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مُجاهِدٌ، والحسنُ، وعَطاءٌ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والشافعيُّ، وأبو عُبَيْدٍ: لا تُقْبَلُ شَهادَتُه؛ لأنَّه غيرُ ذِى مُروءةٍ، ولأنَّها مَبْنِيَّةٌ على الكَمالِ لا تَتَبَعَّضُ، فلم يَدْخُلْ فيها (¬1) العَبْدُ، كالمِيراثِ. وقال الشَّعْبِيُّ (¬2)، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ: تُقْبَلُ في الشئِ اليسيرِ. ولَنا، عُمومُ آياتِ الشَّهادةِ، وهو داخِلٌ فيها؛ فإنَّه مِن رِجالِنا، وهو عَدْلٌ تُقْبَلُ رِوايَتُه وفُتْياه وأخْبارُه الدِّيِنِيَّةُ. ورَوَى عُقْبَةُ بنُ الحارِثِ، قال: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يحيى بنتَ أبي إهابٍ، فجاءَتْ أَمَةٌ سَوداءُ، فقالتْ: قد أرْضَعْتُكما. فذَكَرْتُ ذلك لرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كَيْفَ وقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ؟». مُتَّفَقٌ عليه (¬3). وفى رِوايةِ أبي داودَ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّها لَكاذِبَةٌ. فقال: «وَمَا يُدْرِيكَ، وقَدْ قَالَتْ مَا قَالَتْ؟ دَعْهَا عَنْكَ». ولأنَّه عَدْلٌ غيرُ مُتَّهَمٍ، فتُقْبَلُ شَهادتُه، كالحُرِّ. وقولُهم: ليس له مُروءَةٌ. مَمْنوعٌ، بل هو كالحُرِّ يَنْقَسِمُ إلى مَن له مُروءةٌ، ومَن لا مُروءَةَ له، وقد يكونُ منهم العُلَماءُ والأُمَراءُ والصَّالِحونَ والأتْقِياءُ. سُئِلَ إياسُ بنُ مُعاوِيةَ عن شَهادةِ العَبْدِ، فقال: أنا أرُدُّ شَهادةَ عبدِ العزيزِ بنِ صُهَيْبٍ (¬4)! وكان منهم ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «الشافعي». (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 347. (¬4) البناني مولاهم، البصرى الأعمى، ثقة، توفي سنة ثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 6/ 341، 342.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [زِيادٌ مَوْلَى ابنِ عَيَّاشٍ] (¬1)، من العُلَماءِ الزُّهَّادِ، كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يَرْفَعُ قَدْرَه، ويُكْرِمُه. ومنهم عِكْرِمَةُ مَوْلى ابنِ عبَّاسٍ، مِن العُلَماءِ الثِّقاتِ. وكثيرٌ مِن الموالِى كانوا عَبِيدًا أو أبْناءَ عَبِيدٍ، لم يَحْدُثْ فيهم بالإِعْتاقِ إلَّا الحُرِّيَّةُ، وهى لا تُغَيِّرُ طَبْعًا، ولا تُحْدِثُ عِلْمًا، ولا دِينًا، ولا مُروءَةً، ولا يُقْبَلُ منهم إلَّا مَن كان ذَا مُروءَةٍ. ولا يَصِحُّ قِياسُ الشَّهادةِ على المِيراثِ؛ فإنَّ المِيراثَ خِلافَةٌ للمَوْروثِ في مالِه وحُقوقِه، والعَبْدُ لا يُمْكِنُه الخِلافَةُ؛ لأنَّ ما يَصِيرُ إليه يَمْلِكُه سَيِّدُه، فلا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُفَ فيه، ولأنَّ المِيراثَ يَقْتَضِى التَّمْلِيكَ، والعَبْدُ لا يَمْلِكُ، ومَبْنَى الشَّهادةِ على العَدالَةِ التى هى مَظِنَّةُ الصِّدْقٍ، وحُصولِ الثِّقَةِ مِن القَوْلِ، والعبدُ أهلٌ لذلك، فوجَبَ أنْ تُقْبَلَ شَهادتُه. ¬

(¬1) في النسخ: «زياد بن أبي عياش». وهو زياد بن أبي زياد ميسرة المخزومي، مولى عبد الله بن عياش، ثقة، عابد، زاهد، توفى سنة خمس وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 367، 368.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثاني: أنَّ شهادتَه لا تُقْبَلُ في الحُدودِ، وفي القِصاصِ احْتِمالان؛ أحدُهما، تُقْبَلُ شهادَتُه فيه؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِيٍّ، لا يَصِحُّ الرُّجوعُ عن الإِقْرارِ به، أشْبَهَ الأمْوالَ. والثاني، لا تُقْبَلُ؛ لأنَّه عُقوبَةٌ بدَنِيَّةٌ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فأَشْبَهَ الحدَّ وقد ذكَرْنا في هذا الكِتابِ المَشْروحِ (¬1)، في الحدِّ، والقِصاصِ رِوايَتَيْن. وكذلك ذكَرَه الشَّريفُ، وأبو الخَطّابِ، فإنَّهما ذكَرَا في العُقوباتِ كلِّها رِوايَتَيْن؛ إحْدَاهما، تُقْبَلُ؛ لِما ذكَرْنا، ولأنَّه رجُلٌ عَدْلٌ، فتُقْبَلُ شَهادتُه فيها، كالحُرِّ. والثانيةُ، لا تُقْبَلُ. وهي ظاهرُ المذهبِ؛ لأنَّ الاخْتِلافَ في قَبُولِ شهادتِه في الأمْوالِ نَقْصٌ وشُبْهَةٌ، فلم تُقْبَلْ شهادتُه فيما يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَّه ناقِصُ الحالِ، فلم تُقْبَلْ شهادتُه في الحدِّ والقِصاصِ، كالمرْأةِ. الفصلُ الثالثُ: أنَّ شَهادةَ الأمَةِ تُقْبَلُ فيما تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ، قِياسًا عليْهِنَّ، فإنَّ النِّساءَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُنَّ في الحُدودِ والقِصاصِ، وإنَّما ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5050 - مسألة: (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات، إذا تيقن الصوت، وبالاستفاضة)

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الأَصَمِّ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَعَلَى المَسْمُوعَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ صَمَمِهِ. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي المَسْمُوعَاتِ، إذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ، وَبِالِاسْتِفَاضَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُقْبَلُ في المالِ أو شِبْهِه، والأمَةُ كالحُرَّةِ فيما عداهما، وقد دَلَّ عليه حديثُ عُقبَةَ بنَ الحارِثِ (¬1). وحُكْمُ المُكاتَبِ والمُدَبَّرِ وأمِّ الوَلَدِ والمُعْتَقِ بعضُه، حكمُ القِنِّ فيما ذكَرْنا؛ لأنَّ الرِّقَّ فيهم، وقد رُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه لا تجوزُ شَهادةُ المُكاتَبِ. وبه قال عَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ. ولَنا، ما ذكَرْناه في العبدِ، ولأنَّه إذا ثبَتَ الحُكْمُ في القِنِّ، ففى هؤلاء أَوْلَى. فصل: (وتَجُوزُ شَهادَةُ الأصَمِّ) في المَرْئِيَّاتِ (وعلى المَسْمُوعاتِ قبلَ صَمَمِهِ) أمَّا شهادَتُه على المَرْئِيَّاتِ، فهو فيها كالذي يَسْمَعُ، فَتُقْبَلُ شَهادَتُه فيها، وتَجُوزُ شهادَتُه في المَسْمُوعاتِ التى كانَتْ قبلَ صَمَمِهِ، كما تجوزُ شهادةُ الأعْمَىِ على الأفْعالِ التى رَآهَا قبلَ العَمَى، إذا عَرَفَ المَشْهودَ عليه باسْمِه ونسَبِهِ. 5050 - مسألة: (وتجُوزُ شَهادَةُ الأعْمَى في المَسْمُوعاتِ، إذا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ، وبالاسْتِفاضَةِ) رُوِىَ هذا عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ. وبه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 10/ 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، والشعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، وابنُ أبي ليلَى، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ: لا تُقْبَلُ شَهادتُه. ورُوِىَ ذلك عن النَّخَعِيِّ، وأبي هاشمٍ (¬1). واخْتُلِفَ فيه عن الحسنِ، وإياسٍ، وابنِ أبي ليلَى. وأجازَ الشافعيُّ شَهادَتَه بالاسْتِفاضَةِ والتَّرْجَمَةِ، و (¬2) إذا أقَرَّ عندَ أُذُنِه ويَدُ الأعْمَى على رَأْسِه، ثم ضَبَطَه حتى حضَرَ عندَ الحاكمِ، فشَهِدَ عليه، ولم يُجِزْها في غيرِ ذلك؛ لأنَّ مَن لا تجوزُ شَهادتُه على الأفْعالِ، لا تجوزُ على الأقْوالِ، كالصَّبِىِّ، ولأنَّ الأصْواتَ تَشْتَبهُ، فلا يحْصُلُ اليَقِينُ، فلم يَجُزْ إنْ يشْهَدَ بها، كالخَطِّ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬3). ولأنَّه رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبولُ الرِّوايةِ، فقُبِلَتْ شَهادتُه، كالبَصِيرِ، وفارَقَ الصَّبِيَّ؛ فإنَّه ليس برَجُلٍ ولا عَدْلٍ ولا مَقْبولِ الرِّوايَةِ، ولأنَّ السَّمْعَ أحدُ الحَواسِّ التى يَحْصُلُ بها اليَقِينُ، وقد يكونُ المشْهودُ عليه (¬4) ممَّن ألِفَه الأعْمَى، وكَثُرَتْ صُحْبَتُه له، وعَرَفَ صَوْتَه يَقِينًا، فلا يَشُكُّ فيه، فوجَبَ أن تُقْبَلَ شَهادتُه فيما تَيَقَّنَه، كالبَصِيرِ، [ولا سَبِيلَ إلى إنْكارِ حُصُولِ اليَقِينِ في بعضِ الأحْوالِ، قال قَتادَةُ: للسَّمْعِ قِيافَةٌ كقِيافَةِ] (¬5) ¬

(¬1) في الأصل: «هشام». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سورة البقرة 282. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) سقط من: ق، م.

5051 - مسألة: (وتجوز في المرئيات التى تحملها قبل العمى، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به)

وَتَجُوزُ فِى الْمَرْئِيَّاتِ الَّتِى تَحَمَّلَهَا قَبْلَ الْعَمَى، إِذَا عَرَفَ الفَاعِلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ البَصَرِ (¬1). ولهذا أجازَ الشافعيُّ وأصْحابُه شَهادَتَه بالاسْتفاضَةِ، ولا تَثْبُتُ عندَهم حتى يَسْمَعَها مِن عَدْلَيْنِ، ولا بُدَّ أن يَعْرِفَهما حتى يَعْرِفَ عَدَالَتَهما، فإذا صَحَّ أن يَعْرِفَ الشّاهِدَيْنِ، صَحَّ أنْ يَعْرِفَ المُقِرَّ. ولا خِلافَ في قَبُولِ رِوايَتِه، وجَوازِ اسْتِماعِه مِن زَوْجَتِه إذا عَرَفَ صَوْتَها، وصِحَّةِ قَبُولِ النِّكاحِ، وجوازُ اشْتِباهِ الأصْواتِ كجَوازِ اشْتِباهِ الصِّفَةِ، وفارَقَ الأفْعالَ، فإن مُدْرَكَها الرُّؤْيَةُ، وهى غيرُ مُمْكِنَةٍ مِن الأعْمَى، والأقْوالُ مُدْرَكُها السَّمْعُ، وهو يُشارِكُ البَصِيرَ فيه، ورُبَّما زادَ عليه، ويُفارِقُ الخَطَّ، فإنَّه لو تَيَقَّنَ مَن كَتَبَ الخَطَّ، أو رآهُ يَكْتُبُه، لم يَجُزْ أن يشْهَدَ بما كَتَبَ فيه. إذا ثبتَ هذا، فإنَّه لا يجوزُ أن يَشْهَدَ إلَّا إذا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ، وعَلِمَ المشْهودَ عليه يَقِينًا. فإن جَوَّزَ أن يكونَ صَوْتَ غيرِه، لم يَجُزْ أن يَشْهَدَ به، كما لو اشْتَبَهَ على البَصِيرِ المشْهودُ عليه فلم يَعْرِفْه. 5051 - مسألة: (وتَجُوزُ في المرْئِيّاتِ التى تَحَمَّلَهَا قَبْلَ العَمَى، إذا عَرَفَ الفاعِلَ باسْمِهِ ونسَبِه وما يَتَمَيَّزُ به) وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجوزُ شَهادَتُه أصْلًا (¬2)؛ لأنَّه لا يجوزُ أن يكونَ حاكِمًا. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل.

5052 - مسألة: (فإن لم يعرف المشهود عليه)

فَإنْ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا بِعَيْنِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَيْضًا، وَيَصِفُهُ لِلْحَاكِمِ بمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجُوزَ؛ لِأنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ غَالِبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولَنا، ما تقَدَّمَ في المسْألةِ قبلَها، ولأنَّ العَمَى فَقْدُ حاسَّةٍ لا تُخِلُّ بالتَّكْليفِ، فلم يَمْنَعْ قَبُولَ الشَّهادةِ، كالصَّمَمِ، وفارَقَ الحُكْمَ، فإنَّه يُعْتَبَرُ له مِن شُروطِ الكَمالِ ما لا يُعْتَبَرُ للشَّهادةِ، ولذلك يُعْتَبَرُ له السَّمْعُ والاجْتِهادُ (¬1) وغيرُهما. 5052 - مسألة: (فإن لم يَعْرِفِ المَشْهُودَ عليه) باسْمِهِ ونسَبِه، ولم يَعْرِفْهُ (إلَّا بعَيْنِه، قُبِلَتْ شَهَادَتُه أيضًا) لِما ذَكَرْنا في الْمَسْأَلَةِ الأُولَى. وهذا قولُ القاضي (ويَصِفُه للحاكمِ بما يتَمَيَّزُ به) قال شيْخُنا: (ويَحْتَمِلُ أن لا تُقْبَلَ؛ لأنَّ هذا ممَّا لا ينْضَبِطُ غالِبًا). ¬

(¬1) في الأصل: «الآحاد».

5053 - مسألة: (وإن شهد عند الحاكم، ثم عمى، قبلت شهادته، وجها واحدا)

وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، ثُمَّ عَمِىَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَشَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى جَائِزَةٌ فِى الزِّنَى وَغَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5053 - مسألة: (وإن شَهِدَ عندَ الحَاكِمِ، ثم عَمِىَ، قُبِلَتْ شَهادَتُهُ، وَجْهًا واحِدًا) وجَازَ الحُكْمُ بها. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو يوسف، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ الحُكمُ بها (1)، لأنَّه مَعْنًى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهادةِ مع صِحَّةِ النُّطْقِ، فمنَعَ الحُكمَ بها، كالفِسْقِ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى طرَأَ بعدَ أداءِ الشهادةِ (¬1) لا يُورِثُ تُهْمَةً في حالِ الشَّهادةِ، فلم يَمْنَعْ قَبُولَها، كالموتِ، وفارَقَ الفِسْقَ؛ فإنَّه يُورِثُ تُهْمةً حالَ الشَّهادةِ. 5054 - مسألة: (وشهادةُ وَلَدِ الزِّنَى جائِزَةٌ، فِى الزِّنَى وغيرِه) هذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم عَطاءٌ، والحسنُ، والشعبيُّ، والزُّهْرِيُّ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو حنيفةَ، وأصْحابُه. ¬

(¬1) سقط من ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال مالِكٌ، واللَّيْثُ: لا تجوزُ شَهادَتُه في الزِّنَى وَحْدَه؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ، فإنَّ العادةَ في مَن فعلَ قَبِيحًا، أنَّه يُحِبُّ أن يكونَ له نُظَراءُ (¬1). وحُكِىَ عن عثمانَ، أنَّه قال: وَدَّتِ الزّانِيَةُ أنَّ النِّساءَ كُلَّهُنَّ زَنَيْنَ. ولَنا، عُمومُ الآياتِ، وأنَّه عَدْلٌ مَقْبولُ الشَّهادةِ في غيرِ الزِّنَى، فيُقْبَلُ في الزِّنَى كغيرِه، ولأنَّ مَن قُبِلَتْ شهادتُه في القَتْلِ، قُبِلَتْ في الزِّنَى، كوَلَدِ الرِّشْدَةِ (¬2). قال ابنُ المُنْذِرِ: وما احْتَجُّوا به غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ؛ أحدُها، أنَّ ولدَ الزِّنَى لم يَفْعَلْ فِعْلًا (¬3) قَبِيحًا، يُحِبُّ أن يكونَ له نُظَراءُ (1) فيه. والثاني، لا أعْلَمُ ما ذُكِرَ عن عثمانَ ثابِتًا عنه، وأشْبَهُ ذلك أن لا يكونَ ثابِتًا، وغيرُ جائِزٍ أن يثْبُتَ عن (¬4) عثمانَ كلامٌ بالظَّنِّ (¬5) عن ضَمِيرِ امرأةٍ لم يَسْمَعْها تَذْكُرُه. الثالثُ، أنَّ الزَّانِىَ لو (4) تابَ، لَقُبِلَتْ شهادتُه، وهو الذى فَعَلَ الفِعْلَ القَبِيحَ، فإذا قُبِلَتْ شهادتُه مع ما ذَكَرُوه، فغيْرُه أَوْلَى؛ فإنَّه لا يجوزُ أن يَلْزَمَ ولدَه مِن وِزْرِه أكْثَرُ ممَّا لَزِمَه، ولا يتَعَدَّى الحُكْمُ إلى غيرِه مِن غيرِ أن يثْبُتَ فيه، مع أنَّ ولَدَه لا يَلْزَمُه شيءٌ مِن وِزْرِه (¬6)؛ لقولِ اللهِ تعالى: ¬

(¬1) في الأصل، ق: «نظير». (¬2) في الأصل: «الرشيدة». وولد الرشدة: أي صحيح النسب. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في الأصل: «باطن». (¬6) في م: «ضرره».

5055 - مسألة: (وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه؛ كالمرضعة على الرضاع، والقاسم على القسمة، والحاكم على حكمه بعد العزل)

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ؛ كَالْمُرْضِعَةِ عَلَى الرَّضَاعِ، وَالْقَاسِمِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَالْحَاكِمِ عَلَى حُكْمِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). . ووَلَدُ الزِّنَى لم يَفْعَلْ شيئًا يَسْتَوْجِبُ به حُكْمًا. 5055 - مسألة: (وتُقْبَلُ شَهادَةُ الإِنْسانِ على فِعْلِ نَفْسِهِ؛ كالمُرْضِعَةِ على الرَّضَاعِ، والقاسِمِ على القِسْمَةِ، والحَاكِمِ على حُكْمِه بعدَ العَزْلِ) تجوزُ شهادةُ المُرْضِعَةِ على الرَّضاعِ؛ لِما ذكَرْنا مِن حديثِ عُقبةَ بنِ الحارِثِ (¬2)، وكذلك شَهادةُ القاسِمِ على القِسْمَةِ؛ لأنَّه يشْهَدُ لغَيْرِه، فَصَحَّ على فِعْلِ نفْسِه، كما لو شَهِدَ على فِعْلِ غيرِه، وكذلك تُقْبَلُ ¬

(¬1) سورة الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18، الزمر 7. (¬2) تقدم تخريجه في 10/ 347.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادة الحاكمِ على حُكْمِه بعدَ العَزْلِ؛ لذلك، وفى ذلك كلِّه اخْتِلافٌ، ذكَرْناه (¬1) فيما مَضَى. ¬

(¬1) في ق، م: «لما ذكرنا».

5056 - مسألة: (وتقبل شهادة البدوى على القروى، والقروى على البدوى)

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِىِّ، وَالْقَرَوِىِّ عَلَى الْبَدَوِىِّ. وَعَنْهُ، فِى شَهَادَةِ البَدَوِىِّ عَلَى الْقَرَوِىِّ: أَخْشَى أَنْ لَا تُقْبَلَ. فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5056 - مسألة: (وَتُقْبَلُ شَهادَةُ البدَوِىِّ على الْقَرَوِىِّ، والقَرَوِىِّ على البَدَوِىِّ) إذا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ. وهو قولُ ابنِ سِيرِينَ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأبي ثورٍ. واختارَه (¬1) أبو الخَطَّابِ (وعن أحمدَ، في شَهادةِ البَدَوِىِّ على القَرَوِيِّ: أخْشَى أن لا تُقْبَلَ. فيَحْتَمِلُ وَجْهَيْن) أحدُهما، لا تُقْبَلُ. وهو قولُ جَماعةٍ مِن أصْحابِنا، ومذْهبُ أبي عُبَيْدٍ. وقال مالكٌ كقَوْلِ أصْحابِنا، فيما عَدا ¬

(¬1) في ق، م: «أجازه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجِراحَ، وكقولِ الباقِينَ [في الجِراحِ] (¬1)؛ احْتِياطًا للدِّماءِ. واحْتَجَّ أصْحابُنا بما رَوَى أبو داودَ في «سُنَنِه» (¬2)، عن أبي هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللهُ عنه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا تَجُوزُ شَهادَةُ بَدَوِىٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ». ولأنَّه مُتَّهَمٌ، حيثُ عَدَلَ [عن (¬3) أن يُشْهِدَ] (¬4) قَرَوِيًّا وأشْهَدَ بَدَوِيًّا. قال أبو عُبَيْدٍ: ولا أرَى شَهادَتَهم رُدَّتْ إلَّا لِما فيهم (¬5) مِن الجَفَاءِ بحُقوقِ اللهِ، والجَفَاءِ في الدِّينِ. والثاني، تُقْبَلُ؛ لأنَّ مَن قُبِلَتْ شَهادَتُه على أهْلِ [البلدِ، وقُبِلَتْ شَهادتُه على] (¬6) البَدْوِ، قُبِلَتْ شَهادتُه علىِ أهْلِ القُرَى، ويُحْمَلُ الحدِيثُ على مَن لم تُعْرَفْ عدَالته مِن أهلِ البَدْوِ، ونخُصُّه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في: باب شهادة البدوى على أهل الأمصار، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود 2/ 275. كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من لا تجوز شهادته، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 793. (¬3) في الأصل: «على». وانظر المغنى 14/ 150. (¬4) في ق، م: «إذا أشهد». (¬5) في الأصل: «فيه». (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذا؛ لأنَّ الغالِبَ أنْ لا يكونَ له مَن يَسْألُه الحاكمُ، فيَتَعَرَّفُ عَدالتَه.

باب موانع الشهادة

بَابُ مَوَانِع الشَّهَادَةِ وَيَمْنعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ؛ أَحدُهَا، قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ سَفُلَ، وَلَا وَلَدٍ لِوَالِدِهِ، وَإِنْ عَلَا، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ. وَعَنْهُ، تُقْبَلُ فِيمَا لَا يَجُرُّ بِهِ نَفْعًا غَالِبًا، نَحْوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ، أَوْ قَذْفٍ. وَعَنْهُ، تُقْبَلُ شَهَادَةُ الوَلَدِ لِوَالِدِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب موانعَ الشَّهادَةِ (ويَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهادةِ خَمسةُ أشْياءَ؛ أحدُها، قَرابَةُ الوِلادَةِ، فلا تُقْبَلُ شَهادةُ وَالدٍ لوَلَدِه، وإن سَفُلَ، ولا وَلَدٍ لوالِدِه، وإن عَلا) ظاهِرُ المذهبِ أنَّ شَهادةَ الوالِدِ لولدِه لا تُقْبَلُ، ولا لِولَدِ وَلَدِه، وإن سَفُلَ، وسَواءٌ في ذلك وَلَدُ البَنِينَ وولدُ البَناتِ. ولا تُقْبَلُ شَهادةُ الولَدِ لوالدِه، ولا والِدَتِه، ولا جَدِّه، ولا جَدَّتِه مِن قِبَلِ أبِيه وأُمِّه وإن عَلَوا، وسَواءٌ في ذلك الآباءُ والأُمَّهاتُ، وآباؤُهُما وأُمَّهاتُهما. وبه قال شُرَيْحٌ،

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحسنُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأصْحابُ الرَّأْيِ. ورُوِىَ عن أحمدَ رِوايةٌ ثانِيةٌ، تُقْبَلُ شَهادةُ الابْنِ لأبيه، ولاتُقْبَلُ شَهادةُ الأبِ لابْنِه؛ لأنَّ مالَ الابْنِ في حُكْمِ مالِ الأبِ، له أَن يَتَمَلَّكَه إذا شاءَ، فشهادتُه له شَهادةْ لنَفْسِه، أو يَجُرُّ بها لنَفْسِه نَفْعًا، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» (¬1). وقال: «إنَّ أطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِه، وَإنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ (¬2) كَسْبِكُمْ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 7/ 94، 17/ 106. (¬2) سقط من: الأصل، ق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (¬1). ولا يُوجَدُ هذا في شَهادةِ الابنِ لأبِيه. وعنه رِوايةٌ ثَالِثَةٌ، تُقْبَلُ شَهادةُ كُلِّ واحدٍ منهما لصاحِبِه، فيما لا تُهْمَةَ فيه؛ كالنِّكاحِ، والطَّلاقِ، والقِصاصِ، والمالِ إذا كان مُسْتَغْنًى عنه؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما لا يَنْتَفِعُ بما يَثْبُتُ للآخَرِ مِن ذلك، فلا تُهْمَةَ في حَقِّه. ورُوِىَ عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّ شَهادَةَ كُلِّ واحدٍ منهما للآخرِ مَقْبُولَةٌ (¬2). ورُوِىَ ذلك عن شُرَيْحٍ (¬3). وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبو ثَوْرٍ، والمُزَنِيُّ، وداودُ، وإسْحاقُ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لعُمومِ الآياتِ، ولأنَّه عَدْلٌ تُقْبَلُ شَهادتُه في غيرِ هذا الموضِعِ، فتُقْبَلُ شَهادتُه فيه، كالأجْنَبِىِّ. ولَنا، ما رَوَى الزُّهْرِيُّ، [عن عُرْوَةَ] (¬4)، عن عاثشةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَاثِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ فِى قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ» (¬5). والظَّنِينُ: المُتَّهَمُ. والأبُ مُتَّهَمٌ لوَلَدِه؛ لأنَّ مالَه كمالِه بما ذكَرْنا، ولأنَّ بينَهما بَعْضِيَّةً، فكأنَّه يَشْهَدُ لنَفْسِه، ولهذا قال عليه الصّلاةُ والسلامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّى، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 17/ 87. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: باب شهادة الأخ لأخيه. . . .، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 344. وقد روى عن شريح عدم الجواز. وانظر: المصنف 8/ 344. (¬4) سقط من النسخ، وانظر تخريج الحديث. (¬5) تقدم تخريجه في صفحة 339.

5057 - مسألة: (وتقبل شهادة بعضهم على بعض، في أصح الروايتين)

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَرِيبُنِى مَا رَابَهَا» (¬1). ولأنَّه مُتَّهَمٌ في الشَّهادةِ على عَدُوِّه، والخَبَرُ أخَصُّ مِن الآياتِ، فتَخْتَصُّ به. 5057 - مسألة: (وتُقْبَلُ شَهادَةُ بعضِهِم على بَعْض، في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ) أمَّا شهادةُ أحدِهما على صاحِبِه، فتُقْبَلُ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال شيْخُنا (¬2): ولم أجِدْ عن أحمدَ في «الجامعِ» فيه اختِلافًا؛ وذلك لقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬3). فأمرَ بالشَّهادَةِ عليهم، ولولم تُقْبَلْ لَمَا أمرَ بها، ولأنَّها إنَّما رُدَّتْ شَهادَتُه له للتُّهْمَةِ في إيصالِ النَّفْعِ، ولا تُهْمَةَ في شهادَتِه عليه، فوَجَبَ أن تُقْبَلَ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 145. (¬2) في: المغني 14/ 182. (¬3) سورة النساء 135.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كشَهادةِ الأجْنَبِيِّ، بل أَوْلَى، فإنَّ شهادَتَه لنَفْسِه لَمَّا رُدَّتْ للتُّهْمَةِ في إيصَالِ النَّفْعِ إلى نَفْسِه، كان إقْرارُه عليها مَقْبولًا. وفيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ شهادةَ أحدِهما لا تُقبلُ على صاحبِه. حَكاها القاضي في «المُجَرَّدِ»؛ لأنَّ شَهادتَه غيرُ مَقْبولَةٍ له (¬1)، فلا تُقْبَلُ عليه، كالفاسِقِ. وقال بعضُ الشافعيةِ: لا تُقبَلُ شَهادةُ الابنِ على أبِيه في قِصاصٍ، ولا حَدِّ قَذْفٍ؛ لأنَّه لا يُقْتَلُ بقَتْلِه، ولا يُحَدُّ بقَذْفِه، فلا يَلْزَمُه ذلك. والمذهبُ الأوَّلُ؛ لِما ذكرْنا، ولأنَّه يُتَّهَمُ له ولا يُتَّهَمُ عليه، فشهادتُه عليه أبْلَغُ في الصِّدْقِ، كشَهادتِه على نَفْسِه. فصل: فإن شَهِدَ اثْنانِ بطلاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِما، أو قَذْفِ زَوْجِها لها، قُبِلَت شَهادتُهما؛ لأنَّ حَقَّ أُمِّهما لا يَزْدادُ به، وسواءٌ كان المشْهودُ عليه أباهُما أو أجْنَبِيًّا، وتَوفِيرُ المِيراثِ لا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهادةِ، بدليلِ قَبولِ شَهادةِ الوَارِثِ لمَوْرُوثِه. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5058 - مسألة: (ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه، في إحدى الروايتين)

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فِى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتجوزُ شَهادةُ الرَّجُلِ لابنِه مِن الرَّضاعةِ، وأبيه (¬1)، وسائرِ أقارِبِه منها؛ لأنَّه لا نَسَبَ بينَهما يُوجِبُ الإِنْفاقَ، والصِّلَةَ، وعِتْقَ أحدِهما على صاحِبِه، وتَبسُّطَه (¬2) في مالِه، بخِلافِ قَرابَةِ النَّسَبِ. واللهُ أعلمُ. 5058 - مسألة: (وَلَا تُقْبَلُ شَهادَةُ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ لصاحِبه، فِي إحْدَى الرِّوايَتَيْن) هذا الذى ذكَره الخِرَقِيُّ. وبه قال الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، ¬

(¬1) في الأصل: «ابنه». (¬2) في الأصل: «يتبسط».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومالكٌ، وإسْحاقُ، وأبو حنيفةَ. والرِّوايةُ الأُخْرَى، يجوزُ. وهو قولُ شُرَيْحٍ، والحسنِ، والشافعيِّ، وأبي ثَوْرٍ؛ لأنَّه عَقْدٌ على مَنْفَعَةٍ، فلا يَمْنَعُ قَبولَ الشَّهادَةِ، كالإِجارَةِ. وقال الثَّوْريُّ، وابنُ أبي ليلَى: تُقْبَلُ شَهادَةُ الرَّجُلِ لامْرأتِه؛ لأنَّه لا تُهْمَةَ في حقِّه، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُها له؛ لأنَّ يسَارَه وزِيادَةَ حَقِّها مِن النَّفَقَةِ، يحْصُلُ بشَهادَتِها له بالمالِ، فهى مُتَّهَمَةٌ لذلك. ولَنا، أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن الزَّوْجَيْن يَرِثُ الآخَرَ مِن غيرِ حَجْبٍ، ويتَبَسَّطُ في مالِه عادةً، فلم تُقْبَلْ شَهادتُه له، كالابنِ مع أبِيه، ولأنَّ يَسَارَ الرَّجُلِ يَزِيدُ نَفَقةَ امْرأتِه، ويَسارَ المرأةِ يَزِيدُ في قِيمَةِ

5059 - مسألة: (ولا تقبل شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده)

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بُضْعِها الممْلوكِ لزَوْجِها، فكان كُلُّ واحدٍ منهما [يَنْتَفِعُ بشَهادَتِه لصاحِبِه، فلم تُقْبَلْ، كشَهادتِه لنَفْسِه. ويتحققُ هذا أنَّ مالَ كلِّ واحِدٍ منهما] (¬1) يُضافُ إلى الآخَرِ، قال اللهُ تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (¬2). وقال: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} (¬3). فأضافَ البُيُوتَ إليهنَّ تارَةً، وإلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُخْرَى، وقال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (¬4). وقال عمرُ للذى قال له: إنَّ غُلامى سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأتِي: لا قَطْعَ عليه، عَبْدُكم سرَقَ مَالَكُم (¬5). ويُفارِقُ عَقْدَ الإِجارَةِ مِن هذه الوُجوهِ كلِّها. 5059 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، ولا العَبْدِ لسَيِّدِهِ) أمّا شهادةُ السَّيِّدِ لعَبْدِه، فغيرُ مَقْبولةٍ؛ لأنَّ مالَ العَبدِ لسَيِّدِه، فشَهادتُه له شَهادةٌ لنَفْسِه، ولهذا قال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سورة الأحزاب 33. (¬3) سورة الأحزاب 53. (¬4) سورة الطلاق 1. (¬5) تقدم تخريجه في 26/ 540.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَالٌ، فَمَالُهُ للبائِعِ، إلَّا أنْ يَشْترِطَهُ المُبْتَاعُ» (¬1). ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا. ولا تُقْبَلُ شَهادتُه له أيضًا بنِكاحٍ، ولا لأَمَتِه بطَلاقٍ؛ لأنَّ في طَلاقِ أمَتِه تَخْلِيصَها (¬2) له، وإباحَةَ بُضْعِها، وفى نِكاحِ العَبدِ نَفْعٌ له، ونَفْعُ مالِ الإِنسانِ نَفْعٌ له. ولا تُقْبَلُ شَهادةُ العَبْدِ لسَيِّدِه؛ لأنَّه يتَبَسَّطُ في مالِه، ويَنْتَفِعُ به، ويتَصَرَّفُ فيه، وتجبُ نَفَقَتُه منه، ولا يُقْطَعُ بسَرِقَتِه، فلا تُقْبَلُ شَهادتُه له، كالابنِ مع أَبِيه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 6/ 303. (¬2) في ق، م: «تخليصا».

5060 - مسألة: (وتقبل شهادة الأخ لأخيه، وسائر الأقارب، والصديق لصديقه، والمولى لعتيقه)

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الأخِ لِأَخِيهِ، وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ، وَالصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ، وَالْمَوْلَى لِعَتِيقِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5060 - مسألة: (وتُقْبَلُ شَهادةُ الأخِ لأخِيهِ، وسائِرِ الْأقارِبِ، والصَّدِيقِ لصَدِيقِه، والمَوْلَى لِعَتِيقِه) قال ابنُ المُنْذِرِ (¬1): أجْمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ شهادةَ الأخِ لأخِيه جائِزةٌ. رُوِىَ ذلك عن ابنِ الزُّبَيْرِ. وبه قال شُرَيْحٌ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِىُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وحَكَى ابنُ المُنْذِرِ عن الثَّوْرِىِّ، أنَّه لا تُقْبَلُ شَهادةُ كُلِّ ذِى رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وعن مالكٍ، أنَّه لا تُقْبَلُ شَهادتُه لأخِيه إذا كان مُنْقَطِعًا إليه في صِلَتِه وبِرِّه؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ في حقِّه. وقال ابنُ المُنْذِرِ: قال مالكٌ: لا تجوزُ شَهادةُ الأخِ لأخِيه في النَّسَبِ، وتجوزُ في الحُقوقِ. ولَنا، عُمومُ الآياتِ، ولأنَّه عَدْلٌ غيرُ مُتَّهَمٍ، فتُقْبَلُ شَهادتُه له، كالأجْنَبِيِّ، ولا يَصِحُّ القياسُ على الوالدِ والولدِ؛ لأنَّ بينَهما بَعْضِيَّةً وقَرابةً قَوِيَّةً (¬2)، بخِلافِ الأخِ. ¬

(¬1) انظر: الإجماع 30. (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وشَهادةُ العمِّ وابْنِه، والخالِ وابنِه، وسائرِ الأقارِبِ، أَوْلَى بالجَوازِ؛ فإنَّ شَهادةَ الأخِ إذا أُجيزَتْ مع قُرْبِه، كان تَنْبِيهًا على قَبُولِ شَهادةِ مَن هو أبْعَدُ منه بطرِيقِ الأَوْلَى. وتُقْبَلُ شهادةُ أحَدِ الصَّدِيقَيْن للآخَرِ، في قَوْل عامَّةِ العُلَماءِ، إلَّا مالِكًا قال: لا تُقْبَلُ شهادةُ الصَّدِيقِ المُلاطِفِ؛ لأنَّه يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا بها، فهو مُتَّهَمٌ، فلم تُقْبَلْ شَهادتُه، كشَهادَةِ العَدُوِّ على عَدُوِّه. ولَنا، عُمومُ أدِلَّةِ الشَّهادةِ، وما قالَه يَبْطُلُ بشَهادةِ الغَرِيمِ للمَدِينِ قبلَ الحَجْرِ، وإن كان رُبَّما قَضاه دَيْنَه منه (¬1)، فَجَرَّ إلى نَفْسِه نَفْعًا أعْظمَ مِمَّا يُرْجَى ههُنا مِن الصَّديقَيْن. وأمَّا العَداوَةُ، فسَبَبُها محْصُورٌ (¬2)، وفي الشَّهادةِ عليه شِفاءُ غَيْظِه منه، فخالَفَ الصَّداقةَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في الأصل: «محظور».

فَصْلٌ: الثَّانِي، أَنْ يَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ، كَشَهَادَةِ السَّيِّدِ لِمُكَاتَبِهِ، وَالْوَارِثِ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجُرْحِ قَبْلَ الانْدِمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتجوزُ شهادةُ الموْلَى المُعْتِق لِعَتِيقِه؛ لأنَّه لا تُهْمَةَ فيه، أشْبَهَ الأجْنَبِيَّ، ولأنَّه بمَنْزِلةِ الأخِ، وشَهادةُ الأخِ لأخِيه مَقْبُولَةٌ [على ما] (¬1) ذكَرْنا. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللهُ: (الثانى، أن يَجُرَّ إلى نَفْسِه نَفْعًا بشَهادَتِه، كشَهادةِ السَّيِّدِ لمُكاتَبِه، والوارِثِ لمَوْرُوثِه) [الجَارُّ إلى نَفْسِه، هو الذى يَنْتَفِعُ بشَهادتِه، ويَجُرُّ بها إليه نَفْعًا، كشهادةِ السَّيِّدِ لمُكاتَبِه] (¬2)، أو العَبْدِ المَأْذُونِ له في التِّجارةِ؛ [لأنَّه عبدُه، بدليلِ قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» (¬3). وقد ذكرْناه] (2). (و) كذلك لا تُقْبَل شَهادةُ (الوارثِ لمَوْرُوثِه بالجُرْحِ قبلَ الانْدِمالِ) ¬

(¬1) في م: «كما». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) تقدم تخريجه في 6/ 300.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه قد يَسْرِى الجَرْحُ إلى نَفْسِه، فتَجِبُ الدِّيَةُ لهم بشهادتِه (¬1). ولا تُقْبَلُ شهادةُ الشَّفيعِ بِبَيْعِ الشِّقْصِ الذى له فيه الشُّفْعَةُ؛ لأنَّه يَجُرُّ إلى نَفْسِه نَفْعًا. ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ الغُرَماءِ بدَيْنٍ للمُفْلِسِ أو بعَيْنٍ، ولا شَهادَتُهم للمَيِّتِ بدَيْنٍ أو مالٍ؛ فإنَّه لو ثبَت للمُفْلِسِ أو للمَيِّتِ دَيْنٌ أو مالٌ، تعَلَّقَتْ حُقوقُهم به، ويُفارِق ما لو شَهِدَ الغُرَماءُ لِحَىٍّ لا حَجْرَ عليه بمالٍ، فإنَّ شَهادَتَهم تُقْبَلُ؛ لأنَّ حَقَّهم لا يتعَلَّقُ بمالِه، وإنَّما يتَعَلَّقُ بذِمَّتِه. فإن قيل: إذا كان مُعْسِرًا سقَطَتْ عنه المُطالَبَةُ، فإذا شَهِدَا له بمالٍ، مَلَكا (¬2) مُطالَبَتَه، فجرُّوا إلى أنْفُسِهم نَفْعًا. قُلْنا: لم تَثْبُتِ المُطالَبَةُ بشَهادَتِهِم، إنَّما ثَبَتتْ بيَسارِه وإقْرارِه؛ لدَعْواه الحقَّ الذى شَهِدُوِا به. قال القاضي: ولا تُقْبَلُ شهادةُ الأجِيرِ لمَن اسْتَأْجَرَه. [وقال] (¬3): نصَّ عليه أحمدُ. فإن قيل: فَلِمَ قَبِلْتُم شَهادةَ الوارثِ لمَوْرُوثِه، مع أنَّه إذا ماتَ وَرِثَه، فقد جَرَّ إلى نَفْسِه نَفْعًا بشَهادتِه؟ قُلْنا: لا حَقَّ له في مالِه حينَ الشَّهادةِ، وإنَّما يَحْتَمِلُ أن يتَجَدَّدَ له حَقٌّ، وهذا لا يَمْنَعُ قَبولَ الشَّهادةِ، كما لو شَهِدَ لامْرأةٍ يَحْتَمِلُ أن يتَزَوَّجَها، أو لِغَريمٍ له بمالٍ يَحْتَمِلُ أن يُوفِّيَه منه (¬4) أو يُفْلِسَ، فيَتعلَّقُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ق، م: «ملك». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حقُّه به، وإنَّما المانِعُ ما يحْصُلُ به نَفْعٌ حالَ الشَّهادةِ. فإن قيل: فقد مَنَعْتُم قَبُولَ (¬1) شَهادتِه لمَوْرُوثِه بالجُرْحِ قبلَ الانْدِمالِ؛ لجوازِ أن يتَجَدَّدَ له حَقٌّ، وإن لم يَكُنْ له حَقٌّ في الحالِ، فإن قُلْتُم: قد انْعَقَدَ سبَبُ حقِّه. قُلْنا: [يَبْطُلُ بالشَّاهدِ] (¬2) لمَوْرُوثِه المريضِ بحَقٍّ (¬3)، فإنَّ شَهادتَه تُقْبَلُ مع انْعِقادِ سبَبِ اسْتِحْقاتِه، بدَليلِ أنَّ عَطِيَّتَه له لا تَنْفُذُ، وعَطِيَّتَهَ لغيرِه تَقِفُ على الخُرُوجِ مِن الثُّلُثِ. قُلْنا: إنَّما منَعْنا الشَّهادةَ لمَوْرُوثِه بالجُرْحِ؛ لأنَّه ربَّما أفْضَى إلى الموْتِ به، فتَجِبُ الدِّيَةُ للوَارثِ الشاهدِ به ابْتِداءً، فيكونُ شاهدًا لنَفْسِه، مُوجِبًا [له بها] (¬4) حقًّا ابْتِدَاءً، بخِلافِ الشَّاهدِ للمَرِيضِ أو المَجْرُوحِ بمالٍ، فإنَّه إنَّما يَجبُ للمَشْهُودِ له، ثم يجوزُ أن يَنْتَقِلَ، ويجوزُ أن لا يَنْتَقِلَ، فلم يَمْنَعِ الشَّهادةَ له، كالشَّهادةِ لغَرِيمِه. فإن قيل: فقد أجَزْتُم شَهادةَ الغَرِيمِ لِغَرِيمِه بالجُرْعِ قبلَ الانْدِمالِ، كما أجَزْتُمْ شَهادتَه له بالمالِ. قُلْنا: إنَّما أَجَزْناها؛ لأنَّ الدِّيَةَ لا ¬

(¬1) سقط من: الأصل، ق. (¬2) في الأصل، ق: «فالشاهد». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سقط من: الأصل.

5061 - مسألة: (و)

وَالْوَصِىِّ لِلْمَيِّتِ، وَالوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ بِمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، وَالشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَالغُرَمَاءِ لِلْمُفْلِسِ بِالْمَالِ، وَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ بِعَفْوِ الْآخَرِ عَنْ شُفْعَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَجِبُ للشَّاهدِ ابْتِداءً، إنَّما تَجِبُ للقَتيلِ، أو لورَثَتِه، ثم يَسْتَوْفِى الغَرِيمُ منها، فأشْبَهَتِ الشَّهادةَ بالمالِ. 5061 - مسألة: (و) لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ (المُوصَى له للمَيِّتِ، والوَكِيلِ لمُوَكِّلِهِ بما هو وَكِيلٌ فيه، والشَّرِيك لشَرِيكِه، والغُرَمَاءِ للمُفْلِسِ بِالمالِ، وأحَدِ الشَّفِيعَيْنِ بعَفْوِ الْآخَر عن شُفْعَتِه) وكذلك المُضارِبُ بمَالِ المُضَارَبَةِ؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ، ولأنَّ الشُّفْعَةَ إذا بَطَلَتْ للمَشْهودِ عليه، تَوَفَّرَتْ على الشَّاهدِ، فيكونُ شاهِدًا لنَفْسِه. وممّن رَدَّ شَهادةَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشّريكِ لشَريكِه شُرَيْحٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. ولا نَعْلَمُ فيه خِلافًا (¬1). فأمَّا إن شَهِدَ الشَّريكُ لشَريكِه، في غيرِ ما هو شَرِيكٌ فيه، أو الوَكِيلُ لمُوَكِّلِه، في غيرِ ما هو وَكِيلٌ فيه، أو العَدُوُّ لعَدُوِّه، أو الوَارثُ لمَوْرُوثِه بمالٍ، أو بالجَرْحِ بعدَ الانْدِمالِ، أو شَهِدَ أحدُ الشَّفِيعَيْنِ بعدَأن أسْقطَ شُفْعتَه على الآخَرِ، بإسْقاطِ شُفْعتِه، أو أحدُ الوَصِيَّيْن بعدَ سُقُوطِ وَصِيَّتِه على الآخَرِ، بما يُسْقِطُ وَصِيَّتَه، أو كانت إحدى الوَصِيتَّيْن لا تُزاحَمُ بها الأُخْرَى، ونحو ذلك ممَّا لا تُهْمَةَ فيه، قُبِلَتْ؛ لأنَّ المُقْتَضِىَ لقَبولِ الشَّهادةِ مُتحَقِّقٌ، والمانعَ مُنْتَفٍ، فوجَبَ قَبولُها، عمَلًا بالمُقْتَضِى. ¬

(¬1) في الأصل: «مخالفا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُقْبَلُ شَهادةُ الوَصِىِّ للمُوصَى عليهم، إن كانوا في حِجْرِه. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم الشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشَّافعيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ. وأجازَ شُرَيْحٌ وأبو ثَوْرٍ شَهادتَه لهم، إذا كان الخَصْمُ غيرَه؛ لأنَّه أجْنَبِي مُتَّهَمٌ، فقُبِلَتْ شَهادتُه لهم، كما بعدَ زَوالِ الوَصِيَّةِ. ولَنا، أنَّه شَهِدَ بشئٍ هو خصْمٌ فيه، فإنَّه الذى يُطالِبُ بحُقوقِهم، ويُخاصِمُ فيها، ويتَصَرَّفُ فيها، فلم تُقْبَلْ شَهادتُه به، كما لو شَهِدَ بمال نَفْسِه، ولأنَّه يأْكُلُ مِن أمْوالِهم عندَ الحاجَةِ، فيكونُ مُتَّهَمًا بالشَّهادةِ به. وقولُهم: في حِجْرِه. احْتِرازٌ. أمّا (¬1) لو شَهِدَ لهم بعدَ زَوالِ وِلايَتِه عنهم، فإنَّها تُقْبَلُ. والحُكْمُ في أمينِ الحاكمِ يَشْهَدُ للأيْتامِ الذين هم تحتَ وِلايَتِه، كالحُكْمِ في الوَصِيِّ سواءً، قياسًا عليه. فأمّا شَهادتُه عليهم فمَقْبُولةٌ، لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ فإنَّه لا يُتَّهَمُ عليهم، ولا يَجُرُّ بشَهادتِه عليهم نَفْعًا، ولا يَدْفَعُ بها عنهم ضَرَرًا، فهو كالأجْنَبِيِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «كما».

فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا، كَشَهَادَةِ العَاقِلَةِ بِجَرْحِ شُهُودِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَالغُرَمَاءِ بِجَرْحِ شُهُودِ الدَّيْنِ عَلَى المُفْلِسِ، وَالسَّيِّدِ بِجَرْحِ مَنْ شَهِدَ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ بِدَيْنٍ، وَالْوَصِيِّ بِجَرْحِ الشَّاهِدِ عَلَى الأَيْتَامِ، وَالشَّرِيكِ بِجَرْحِ الشَّاهِدِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَسَائِرِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِإنْسَانٍ، إِذَا شَهِدَ بِجَرْحِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه الله: (الثالثُ، أن يَدْفَعَ عن نَفْسِه ضَرَرًا، كشَهادةِ العاقِلَةِ بجَرْحِ شُهودِ قَتْلِ الخَطَأِ، والغُرماءِ بجَرْحِ شُهودِ الدَّيْنِ على المُفْلِسِ، والسَّيِّدِ بجَرْحِ مَن شَهِدَ على مُكاتَبِه أو عبدِه بدَيْنٍ، والوَصِىِّ بجَرْحِ الشّاهدِ على الأيْتامِ، والشَّريكِ بجَرْحِ الشّاهِدِ على شَريكِه، وسائرِ مَن لا تُقْبَلُ شَهادتُه لإِنْسانٍ، إذا شَهِدَ بجَرْحِ الشّاهِدِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه) إنَّما لم تُقْبَلْ شَهادةُ العاقِلَةِ بجَرْحِ شُهود قَتْلِ الخَطَأَ، لِما فيه مِن دَفْعِ الدِّيَةِ عن أنْفُسِهم. فإن كان الشّاهِدان بالجَرْحِ فَقِيرَيْن، احْتمَلَ قَبولُ شَهادتِهما؛ لأنَّهما لا يَحْمِلانِ شيئًا مِن الدِّيَةِ، واحْتَمَلَ أن لا تُقْبَلَ؛ لجَوازِ أن يُوسِرَا قبلَ الحَوْلِ، فيَحْمِلا. وكذلك الخِلافُ في البَعيدِ الذى لا يَحْمِلُ لبُعْدِه؛ لجَوازِ أنْ يموتَ مَن هو أقْرَبُ منه قبلَ الحَوْلِ، فيَحْمِلَ. ولا تُقْبَلُ شَهادةُ الضَّامِنِ للمَضْمونِ عنه بقضاءِ الحقِّ، أو الإِبْراءِ منه. ولا شَهادةُ أحدِ الشَّفِيعَيْن على الآخَرِ بإسقاطِ شُفْعَتِه. ولا شَهادةُ بعْضِ غُرماءِ المُفْلِسِ على بَعْض بإسْقاطِ دَيْنِه، أو اسْتِيفائِه، [ولا] (¬1) بعْضِ مَن أوْصَى له بمالٍ على آخَرَ بما يُبْطِلُ وَصِيَّتَهَ، إذا كانت وَصِيَّتُه تَحْصُلُ بها مُزاحَمتُه؛ إمَّا لضِيقِ الثُّلُثِ عنهما، أو لكَوْنِ الوَصِيَّتَيْن بمُعَيَّنٍ. ¬

(¬1) في م: «أو».

فَصْلٌ: الرَّابعُ، الْعَدَاوَةُ، كَشَهَادَةِ الْمَقْذُوفِ عَلَىْ قَاذِفِهِ، وَالمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ عَلَى قَاطِعِهِ، وَالزَّوْجِ بِالزِّنَى عَلَى امْرَأَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا وأشْباهُه لا تُقْبَلُ الشَّهادةُ فيه؛ لأنَّ الشّاهِدَ به مُتَّهَمٌ، لِما يحْصُلُ بشَهادتِه مِن دَفْعِ الضَّرَرِ عن نَفْسِه، ونَفْعِها، فيكونُ شاهِدًا لنَفْسِه، وقد قال الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ في الإِسلامِ، أن لا تجوزَ شَهادةُ خَصْمٍ، ولا ظَنِينٍ. والظَّنِينُ: المُتَّهَمُ. ورَوَى طَلْحَةُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ، قال: قَضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَنْ لا شَهادةَ لخَصْمٍ، ولا ظَنِينٍ (¬1). فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (الرابعُ، العَداوةُ، كشَهادةِ المَقْذُوفِ على قاذِفِه، والمَقْطُوعِ عليه الطَّريقُ على قاطعِه، والزَّوْجِ بالزِّنَى على امْرأتِه) وجملةُ ذلك، أنَّ شَهادةَ العَدُوِّ لا تُقْبَلُ على عَدُوِّه، في قولِ أكثرِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: المراسيل 203. والبيهقي، في: باب لا تقبل شهادة خائن. . . .، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 201. وأخرجه موصولا عن أبي هريرة عبد الرزاق، في: باب لا يقبل متهم. . . .، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 320.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أهلِ العلمِ؛ منهم رَبيعَةُ، والثَّوْرِيُّ، وإسْحاقُ، ومالكٌ، والشافعيُّ. والمُرادُ بالعَداوةِ ههُنا العَداوةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، مثل شَهادةِ المقْذوفِ على القَاذِفِ، والمقْطوِع عليه الطَّريقُ على القاطعِ، وِالمقْتولِ وَلِيُّه على القاتلِ، والمَجْروح على الجارحِ، والزَّوْجِ يَشْهَدُ بالزِّنَى على امْرأتِه، فلا تُقْبَلُ شَهادتُه؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفْسِه بعداوَتِه لها؛ بإفْسادِها فِراشَه. وأمّا العَداوةُ في الدِّينِ، كالمُسْلمِ يَشْهدُ على الكافرِ، أو المُحِقِّ مِن أهلِ السُّنَّةِ يَشْهدُ على المُبْتَدِعِ، فلا تُرَدُّ شَهادتُه؛ لأنَّ العَداوةَ في الدِّينِ، والدِّينُ يَمْنعُه مِن ارْتكابِ مَحْظورٍ في دِيِنه. وقال أبو حنيفةَ: لا تَمْنَعُ العَداوةُ الشَّهادةَ؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّها لا تُخِلُّ بالعَدالةِ، فلا تَمْنَعُ الشَّهادةَ، كالصَّداقةِ، لا تَمْنَعُ الشَّهادةَ له. ولَنا، ما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبِيه، عن جَدِّه، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِى غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ». رواه أبو داودَ (¬1). والغِمْرُ: الحِقْدُ. ولأنَّ العَداوَةَ تُورِثُ التُّهْمةَ، فتَمْنَعُ الشَّهادةَ، كالقَرابَةِ القَرِيبَةِ، وتُخالِفُ الصَّداقةَ؛ فإنَّ شَهادةَ الصَّديقِ لصَديقِه بالزُّورِ نَفْعُ غيرِه بمَضَرَّةِ نَفْسِه، وبَيْعُ آخِرَتِه بدُنْيا غيرِه. وشهادةُ العَدُوِّ على عدُوِّه يَقْصِدُ بها نَفْعَ نَفْسِه، بالتَّشَفِّى مِن عَدُوِّه، فافْتَرقا. فإن قيل: فلِمَ قَبِلْتُم (¬2) شَهادةَ المسلمين على الكُفَّارِ مع العَداوَةِ؟ قُلْنا: العَداوَةُ ههُنا دِينِيَّةٌ، والدِّينُ لا يَقْتَضِى شَهادةَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في صفحة 339. (¬2) في الأصل: «قلتم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الزُّورِ، ولا أن يَتْرُكَ دِينَه بمُوجِبِ دِينِه. فصل: فإن شَهِدَ على رَجلٍ بحَقٍّ، فقَذَفَه المشْهودُ عليه، لم تُرَدَّ شَهادَتُه بذلك؛ لأنّا لو أبْطَلْنا شَهادته بهذا، لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَشْهودٍ عليه بإبْطالِ شَهادةِ الشّاهدِ بقَذْفِه، ويُفارِقُ ما لو طَرَأ الفِسْقُ بعدَ أداءِ الشَّهادةِ، وقَبلَ الحُكْمِ، فإنَّ رَدَّ الشَّهادةٍ فيه لا يُفْضِى إلى ذلك، بل إلى عَكْسِه؛ لأنَّ طَرَيانَ الفِسْقِ يُورِثُ تُهْمَةً في حالِ أداءِ الشَّهادةِ؛ لأنَّ العادةَ إسْرارُه، فظُهورُه بعدَ أداءِ الشَّهادةِ، يدُلُّ على أنَّه كان يُسِرُّه حالَ أدائِها، وههُنا حصَلَتِ العَداوَةُ بأمرٍ لاتُهْمَةَ على الشّاهدِ فيه. وأمَّا المُحاكَمَةُ في الأمْوالِ، فليستْ عَداوَةً تَمْنَعُ الشَّهادةَ في غيرِ ما حاكمَ (¬1) فيه. ¬

(¬1) في ق، م: «حكم».

فَصْلٌ: الْخَامِسُ، أَنْ يَشْهَدَ الْفَاسِقُ بِشَهَادَةٍ، فَتُرَدَّ، ثُمَّ يَتُوبَ، فَيُعِيدَهَا، فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِلتُّهْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحِمَه اللهُ: (الخامسُ، أن يَشْهَدَ الفاسِقُ بشَهادةٍ، فتُرَدَّ، ثم يتُوبَ، فَيُعيدَها، فإنَّها لا تُقبَلُ للتُّهْمَةِ) وبهذا قال الشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وقال أبو ثَوْرٍ، والمُزَنِيُّ، وداودُ: تُقْبَلُ. قال ابنُ المُنْذِرِ: والنَّظَرُ يدُلُّ على هذا؛ لأنَّها شَهادةُ عَدْلٍ (¬1) تُقْبَلُ في غيرِ هذه الشَّهادةِ، فقُبِلَتْ فيها، قِياسًا على غيرِها، وكما لو شَهِدَ وهو كافرٌ، فرُدَّتْ شَهادتُه، ثم شَهِدَ بها بعدَ إسلامِه. ولَنا، أنَّه مُتَّهَمٌ في أدائِها؛ لأنَّه يُعَيَّرُ برَدِّها، وتَلْحَقُه غَضاضَةٌ؛ لكَوْنِها رُدَّتْ بسَببِ نقْصٍ يتَعَيَّرُ به، وصلاحُ حالِه بعدَ ذلك مِن فِعْلِه يَزُولُ به العارُ، فتَلْحَقُه التُّهْمَةُ في أنَّه قَصَدَ إظْهارَ العَدالةِ، وإعادةَ الشَّهادةِ لتُقْبَلَ، فيزولُ ما حصَلَ برَدِّها، ولأنَّ الفِسْقَ يَخْفَى، فيُحْتاجُ في مَعْرِفَتِه إلى بَحْثٍ واجْتِهادٍ، فعندَ ذلك نقولُ: شَهادتُه مَرْدودةٌ بالاجْتِهادِ، فلا تُقْبَلُ بالاجْتِهادِ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّى إلى نَقْضِ الاجْتِهادِ بالاجْتِهادِ. وفارَقَ ما إذا رَدَّ شهادةَ كافرٍ لكُفْرِه، أو صَبِيٍّ لصِغَرِه، أو عبدٍ لرِقِّه، ثم أسلمَ الكافِرُ، وبلَغَ الصَّبِيُّ، وعَتَقَ العبدُ، ¬

(¬1) سقط من: م.

5062 - مسألة: (ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا، قبلت)

وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى صَارَ عَدْلًا، قُبِلَتْ. وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ، أوْ صَبِيٌّ، أَوْ عَبْدٌ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ، ثُمَّ أَعَادُوهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ وأعادُوا تلك الشَّهادةَ، فإنَّها لا تُرَدُّ؛ لأنَّها لم تُرَدَّ أوَّلًا بالاجْتِهادِ، وإنَّما رُدَّتْ باليَقِينِ، ولأنَّ البُلوغَ. والحُرِّيَّةَ ليسا مِن فِعْلِ الشَّاهدِ، فيُتَّهمُ أنَّه فَعَلَهُما لتُقْبَلَ شَهادتُه، والكافِرُ لا يَرَى كُفْرَه عارًا، ولا يَتْرُكُ دِينَه مِن أجْلِ شَهادَةٍ رُدَّتْ. 5062 - مسألة: (ولو لم يَشْهَدْ بها عندَ الحَاكِمِ حتى صار عَدْلًا، قُبِلَتْ) وذلك لأنَّ التَّحَمُّلَ لا تُعْتَبَرُ فيه العَدالةُ، ولا البُلوغُ، ولا الإسلامُ؛ لأَنَّه لا تُهْمَةَ في ذلك، وإنَّما يُعْتَبَرُ ذلك للأداءِ، فإذا رأى الفاسِقُ شيئًا، أو سَمِعَه، ثم عُدِّلَ، وشَهِدَ به، قُبِلَتْ شَهادتُه. بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. وهكذا الصَّبِىُّ، والكافِرُ [إذا شَهِدَا (¬1) بعدَ الإسلامِ والبُلوغِ، قُبِلَتْ. وكذا الرِّوايَةُ. وكذلك (¬2) كان الصِّبْيانُ] (¬3) في زَمَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوُونَ عنه بعدَ أن كَبِرُوا، كالحسَنِ، والحُسَيْنِ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزُّبيْرِ، وابنِ جَعْفرٍ، والنُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ. والرِّوايَةُ في مَعنى الشَّهادةِ، تُشْتَرَطُ لها العَدالةُ وغيرُها مِن الشُّروطِ المُعْتَبرَةِ للشَّهادةِ. 5063 - مسألة: (ولو شَهِدَ) وهو (كافِرٌ، أو صَبِيٌّ، أو عَبْدٌ، ¬

(¬1) في الأصل: «شهد»، وانظر المغنى 14/ 197. (¬2) في المغنى: «لذلك». (¬3) سقط من: ق، م.

بَعْدَ زَوَالِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ والصِّبَا، قُبِلَتْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرُدَّتْ شَهادَتُهُم، شا أعادُوها بعدَ زَوالِ الكُفرِ والصِّبَا والرِّقِّ، قُبِلَتْ) لِما ذكَرْنا في الفَصْلِ الذى قبلَها. وقد رُوِىَ عن النَّخَعِيِّ، وقَتادةَ، وأبي الزِّنادِ، ومالكٍ، أنَّها تُرَدُّ أيضًا في حقِّ مَن أسْلَمَ وبَلَغ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرى (¬1) كذلك؛ لأنَّها شَهادةٌ مَرْدُودَةٌ، فلم تُقْبَلْ، كشَهادةِ مَن كان فاسِقًا، وقد ذكَرْنا ما يَقْتَضِى فَرْقًا بينَهما (¬2)، فيَفْتَرِقان. ورُوِىَ عن أحمدَ في العبدِ إذا رُدَّت شَهادتُه لرِقِّه، ثم عَتَق (¬3)، وأعادَ تلك الشَّهادةَ رِوايتان. وقد ذكَرْنا أنَّ (¬4) الأَولَى أنَّ شَهادتَه تُقْبَلُ؛ لأنَّ العِتْقَ مِن غيرِ فِعْلِه، وهو أمرٌ يَظْهَرُ، بخِلافِ الفِسْقِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) زيادة من: م. (¬3) في الأصل: «أعتق». (¬4) سقط من: ق، م.

5064 - مسألة: (وإن شهد لمكاتبه، أو لموروثه بجرح قبل برئه، فردت، ثم أعادها بعد عتق المكاتب وبرء الجرح، ففى ردها وجهان)

وَإِنْ شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ، أوْ لِمَوْرُوثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ بُرْثِهِ، فَرُدَّتْ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وبُرْءِ الْجُرْحِ، فَفِى رَدِّهَا وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5064 - مسألة: (وإن شَهِدَ لمُكَاتَبِه، أو لمَوْرُوثِه بِجُرْحٍ قبلَ بُرْئِه، فَردَّتْ، ثم أعادَها بعدَ عِتْقِ المُكَاتَبِ وبُرْءِ الْجُرْحِ، ففى رَدِّها وجهانِ) أحدُهما، تُقْبَلُ؛ لأنَّ زَوالَ المانعِ ليس مِن فِعْلِهم، فأَشْبَهَ زَوالَ [الصِّبَا والبُلوغَ] (¬1)، ولأنَّ رَدَّها بسبَبٍ لا عارَ فيه، فلا يُتَّهَمُ في قَصْدِ نَفْيِ العارِ بإعادَتِها، بخِلافِ الفِسْقِ. والثاني، لا تُقْبَلُ؛ لأنَّه رَدَّها باجْتِهادِه، فلا يَنْقُضُها باجْتِهادِه. والأوَّل أصَحُّ، فإنَّ الأصْلَ قَبولُ شَهادةِ العَدْلِ، ما (¬2) لم يَمْنَعْ منه مانِعٌ، ولا يَصِحُّ القِياسُ على الشَّهادةِ المَرْدُودَةِ بالفِسْقِ؛ لِما ذكَرْنا بينَهما مِن الفَرْقِ. ويُخَرَّجُ على هذا كُلُّ شَهادةٍ مَرْدُودَةٍ؛ إمّا للتُّهْمَةِ، أو لعَدَمِ الأهْلِيَّةِ، إذا أعَادها (¬3) بعدَ زَوالِ التُّهْمَةِ، ووُجودِ الأهْلِيَّةِ، هل تُقْبَلُ؟ على وَجْهَيْن. ¬

(¬1) في المغني 14/ 196: «الصبا بالبلوغ». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في ق، م: «أعادوها».

5065 - مسألة: (وإن شهد الشريك بعفو شريكه عن الشفعة، ثم عفا الشاهد عن شفعته، وأعاد تلك الشهادة، لم تقبل. ذكره القاضي)

وَإِنْ شَهِدَ الشَّفِيعُ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ فِى الشُّفْعَةِ عَنْهَا فَرُدَّتْ، ثُمَّ عَفَا الشَّاهِدُ عَنْ شُفْعَتِهِ، وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، لَمْ تُقْبَلْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقْبَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5065 - مسألة: (وإن شَهِدَ الشَّرِيكُ بعَفْوِ شَرِيكِه عن الشُّفْعَةِ، ثم عَفا الشّاهِدُ عن شُفْعَتِه، وأعادَ تلك الشَّهادَةَ، لم تُقْبَلْ. ذَكَرَه القاضِي) لأنَّه مُتَّهَمٌ، فأشْبَهَ الفاسِقَ. والأَولَى أنَّها تُخَرَّجُ على الوَجْهَيْن؛ لأنَّها إنَّما رُدَّتْ لكَوْنِه يَجُرُّ بها إلى نَفْسِه نَفْعًا، وقد زَالَ ذلك بعَفْوِه. واللهُ أعلمُ.

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م المكتب: 4 ش ترعة الزمر- المهندسين - جيزة تليفون: 3452579 - فاكس: 3451756 المطبعة: 2، 6 ش عبد الفتاح الطويل أرض اللواء - تليفون: 3452963 ص. ب: 63 إمبابة

يوزع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود خدمة للعلم وطلابه أجزل الله مثوبته .. ووفقه لمرضاته

باب أقسام المشهود به

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ أَقْسَامِ المَشْهُودِ بِهِ وَالْمَشْهُودُ بِهِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا، الزِّنَى وَمَا يُوجِبُ حَدَّهُ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ أقْسامِ الْمَشْهُودِ به (والمَشْهودُ به ينْقَسِمُ خمْسةَ أقْسامٍ؛ أحدُها، الزِّنَى وما يُوجبُ حَدَّه، فلا يُقْبَلُ فيه إلَّا أرْبعةُ رِجالٍ أحْرارٍ) أجْمَعَ المسلمون على أنَّه لا يُقْبَلُ في الزِّنَى أقَلُّ مِن أربعةِ شُهودٍ. وقد نَصَّ اللهُ تعالى عليه بقولِه سبحانه: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬1). وقد رُوِىَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال [لهلالِ بنِ أُمَيَّةَ] (¬2): «أرْبَعَةٌ، وَإِلَّا حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ» (¬3). في أخْبارٍ سِوَى هذا. ¬

(¬1) سورة النور 13. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) أخرجه النسائى، في: باب كيف اللعان، من كتاب الطلاق. المجتبى 6/ 141. وأبو يعلى، في: مسنده 5/ 207. والطحاوى، في: شرح معاني الآثار 3/ 101. كلهم من حديث أنس.

5066 - مسألة: (وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين، أو لا يثبت إلا بأربعة؟ على روايتين)

وَهَلْ يَثْبُتُ الإقْرَارُ بِالزِّنَى بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجْمَعوا على أنَّه يُشْتَرَطُ كونُهم عُدولًا، ظاهِرًا وباطِنًا، مُسلمينَ، سَواءٌ كان المشْهودُ عليه مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا. وجُمهورُ العُلَماءِ على أنَّه يُشْتَرطُ أنْ يكونُوا رِجالًا أحْرارًا، فلا تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ ولا العَبِيدِ. وبه يقولُ مالِكٌ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْيِ. وشَذَّ أبو ثَوْرٍ، فقال: تُقْبَلُ شهادةُ العَبِيدِ. وحَكاه أبو الخَطّابِ والشَّريفُ رِوايةً في المَذهبِ. وحُكِىِ عن حَمَّادٍ وعَطاءٍ أنَّهما قالا: تجوزُ شَهادةُ ثلاثةِ رجالٍ وامرأتَيْن؛ لأنَّه نقَصَ واحِدٌ مِن عدَدِ الرِّجالِ، فقامَ مَقامَه امْرأتانِ، كالأمْوالِ. ولَنا، ظاهِرُ الآيةِ، وأنَّ العَبْدَ مُخْتَلَفٌ في شَهادتِه، فكان ذلك شُبْهَةً في الحَدِّ؛ لأنَّه يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولا يَصِحُّ قياسُ هذا على الأموالِ؛ لخِفَّةِ حُكْمِها، وشِدَّةِ الحاجَةِ إلى إثْباتِها (¬1)، لكَثْرةِ وُقُوعِها، والاحْتِياطِ في حِفْظِها، ولهذا زِيدَ في عَدَدِ شُهودِ الزِّنَى على شُهودِ المالِ. 5066 - مسألة: (وهل يَثْبُتُ الإقْرارُ بالزِّنَى بشاهِدَيْنِ، أو لا يَثْبُتُ إلَّا بأرْبَعَةٍ؟ على رِوايتين) وللشافعيِّ فيه (¬2) قوْلان؛ أحدُهما، ¬

(¬1) في م: «إتيانها». (¬2) سقط من: ق، م.

الثَّانِى، الْقِصَاصُ، وَسَائِرُ الْحُدُودِ، فَلَا يُقبَلُ فِيهِ إِلَّا رَجُلَانِ حُرَّانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَثْبُتُ بشاهِدَيْن، قِياسًا على سائِرِ الأقَارِيرِ. والثانى، لا يَثْبُتُ إلَّا بأرْبعةٍ؛ لأنَّه مُوجِبٌ لحدِّ الزِّنَى، فأشْبَهَ فِعْلَه. (الثانى، القِصاصُ، وسائِرُ الحُدودِ، فلا يُقْبَلُ فيه إلا رَجُلانِ حُرَّانِ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا ما رُوِىَ عن عَطاءٍ وحَمَّادٍ أنَّهما قالا: يُقْبَلُ فيه رَجلٌ وامْرأتان، قِياسًا على الشَّهادةِ في الأمْوالِ. ولَنا، أنَّ هذا ممَّا يُحْتاطُ لدَرْئِه وإسْقاطِه، ولهذا يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولا تَدْعُو الحاجَةُ إلى إثْباتِه، وفى شَهادةِ النِّساءِ شُبْهَةٌ، بدَليلِ قولِه تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬1). وأنَّ شَهادَتَهُنَّ لا تُقْبَلُ وإنْ كَثُرْنَ، ما لم يكُنْ مَعَهُنَّ رجلٌ، فوجَبَ أن لا تُقْبَلَ شَهادَتُهُنَّ فيه. ولا يَصِحُّ قِياسُ هذا على المالِ؛ لِما ذكَرْنا مِن الفَرْقِ. وبهذا الذى ذكَرْناه قال سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وحَمَّادٌ، والزُّهْرِيُّ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثورٍ، وأصْحابُ الرَّأْيِ. واتَّفَقَ هؤلاءِ كلُّهم على أنَّها تَثْبُتُ بشَهادةِ رَجُلَيْنِ ما خلَا الزِّنَى، إلَّا الحسنَ، فإنَّه قال: الشَّهادةُ على القتلِ، كالشَّهادةِ على الزِّنَى، لا يُقْبَلُ فيها إلَّا أرْبَعَةٌ. ورُوِىَ ذلك عن أبي عبدِ اللهِ؛ لأنَّها شَهادةٌ يَثْبُتُ بها القَتْلُ، فلم تَثْبُتْ إلَّا بأرْبعةٍ، كالشّهادةِ على زِنَى المُحْصَنِ. ولَنا، أنَّه أحدُ نَوْعَىِ القِصاصِ، فيُقْبَلُ فيه اثْنان، كقَطْعِ الطَّرَفِ، وفارَقَ الزِّنَى؛ فإنَّه مُخْتَصٌّ بهذا، وليستِ العِلَّةُ كوْنَه قَتْلًا، بدليلِ وُجوبِ الأرْبعةِ في زِنَى البِكْرِ، ولا قَتْلَ فيه، ولأنَّه انْفَرَدَ بإيجابِه الحدَّ على الرَّامِي به، والشُّهودِ إذا لم تَكْمُلْ شَهادَتُهُم، فلم يَجُزْ أن يَلْحَقَ به ما ليس مثلَه. ¬

(¬1) سورة البقرة 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُقْبَلُ الشَّهادةُ على القَتْلِ إلَّا مع زَوالِ الشُّبْهَةِ في لَفْظِ الشّاهدِ، نحوَ أن يقولَ: ضَرَبَه فَقَتَله. وقد ذكَرْنا ذلك. فإن كانتِ الشَّهادةُ بالجَرْحِ، فقالا: ضَرَبَه فأوْضحَه. أو: فاتَّضَحَ منه. أو: فوَجَدْناه مُوضَحًا مِن الضَّرْبَةِ. قُبِلَتْ شَهادتُهما. فإن قالا: ضَرَبَه فاتَّضَحَ رَأْسُه. أو: فَوَجَدْناه مُوضَحًا. أو: فأسالَ دمَه. أو: وجَدْنا في رأْسِه مُوضِحَةً. لم يَثْبُتِ الإِيضاحُ؛ لجَوازِ أن يتَّضِحَ عَقِيبَ ضَرْبِه بسَبَبٍ آخَرَ. ولابدَّ مِن تَعْيِينِ (¬1) المُوضِحَةِ في إيجابِ القِصاصِ؛ لأنَّه إن كان في رَأْسِه مُوضِحَتان، فيَحْتاجان إلى بَيانِ ما شَهِدا به منهما، وإن كانتْ واحدةً، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد أوْسَعَها غيرُ المشْهودِ عليه، فيَجِبُ أن يُعَيِّنَها الشّاهِدان، فيقولان: هذه. فإن قالا: أوْضَحَه في مَوْضِعِ كذا مِن رَأْسِه مُوضِحَةً، قَدْرُ مِساحَتِها كذا وكذا. قُبِلَتْ شَهادَتُهما. وإن قالا: لا نعلَمُ قَدْرَها. أو: مَوْضِعَها (¬2). لم يُحْكَمْ بالقِصاصِ؛ لأنَّه يتَعَذَّرُ مع الجهَالَةِ، وتَجِبُ دِ يَةُ المُوضِحَةِ؛ لأنَّها لا تَخْتلِفُ باخْتِلافِها. وإن قالا: ضَرَبَ رأْسَه، فأسالَ دَمَه. فهى (¬3) بازلَةٌ. وإن قالا: فسالَ دَمُه. لم يَثْبُتْ شئٌ؛ لجَوازِ أنْ يَسِيلَ دَمُه بسبَبٍ آخَرَ. وإن قالا: نَشْهَدُ أنَّه ضَرَبَه، فقَطَعَ يَدَه. ولم يكُنْ أقْطَعَ اليَدَيْن، قُبِلَتْ شَهادَتُهما، ويَثْبُتُ القِصاصُ؛ ¬

(¬1) في ق، م: «تعبير». (¬2) في الأصل: «موضحة». (¬3) في ق، م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لعَدَمِ الاشْتِباهِ. وإن كان أقْطَعَ اليَدَيْن، ولم يُعَيِّنا المقْطوعَةَ، لم يَجِبْ قِصاصٌ؛ لأنَّهما لم يُعَيِّنا اليَدَ التى يَجِبُ (¬1) القِصاصُ منها، وتَجِبُ دِيَةُ اليَدِ؛ لأنَّها تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأيْدِى. فصل: فإن شَهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ بقَتْلِه عَمْدًا، والآخَرُ أنَّه (¬2) أقَرَّ بقَتْلِه. ولم يَقُل: عَمْدًا ولا خَطَأً. ثبتَ القتلُ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ قد كَمَلَتْ عليه، ولم تَثْبُتْ صِفتُه، فيُسْألُ (¬3) المشْهودُ عليه عن صِفَتِه، فإنْ أنْكَرَ أصْلَ القتلِ، لم يُقْبَلْ إنْكارُه؛ لِقيام البَيِّنَةِ به. وإن أقَرَّ بقَتْلِ العَمْدِ، ثَبَت بإقْرارِه. وإن أَقَرَّ بالخَطَأِ، فأنكَر الوَلِيُّ، فالقَوْلُ قَوْلُ القاتِلِ. وهل يُسْتَحْلَفُ على ذلك؟ يُخَرجُ فيه وجْهانِ. فإن صدَّقَه الوَلِيُّ على الخَطَأِ، ثَبَت عليه. وإن أقَرَّ بقَتْلِ العَمْدِ، وكَذَّبَه الوَلِيُّ، وقال: بل كان خَطَأً. لم يَجِبِ القَوَدُ؛ لأنَّ الوَلِىَّ لا يَدَّعِيه، وتَجِبُ دِيَةُ الخَطإِ. ولا تَحْمِلُها العاقِلَةُ في هذه المواضِعِ كُلِّها، ولا شيئًا منها، وتكونُ في مالِه؛ لأنَّها لم تثْبُتْ ببَيِّنَةٍ، وفي بَعْضِها القاتِلُ مُقِرٌّ بأنَّها في مالِه دونَ مالِ عاقِلَتِه. وإنْ شَهِدَ أحدُهما أنَّه قتَلَه عَمْدًا، وشَهِدَ الآخَرُ أنَّه قَتَلَه خَطَأً، [ثَبَت القَتْلُ] (¬4) ¬

(¬1) بعده في ق، م: «فيها». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في ق، م: «فنسأل». (¬4) في الأصل: «والآخر عمدًا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دونَ صِفَتِه، ويُطالَبُ بِبَيانِ صِفَتِه على ما ذكرنا؛ لأنَّ الفِعْلَ قد يَعْتَقِدُه أحدُهما خَطَأ، والآخر عَمْدًا، ويكونُ الحُكْمُ؛ لو شَهِدَ أحدُهما أنَّه أقَرَّ بقَتْلِه [عَمْدًا، وشَهِدَ الآخر أنَّه أقَرَّ بقَتْلِه] (¬1) خَطَأً، أنَّ المشْهودَ عليه يُسْألُ، على ما ذكَرْنا في أوَّلِ الفَصْلِ. فإن شَهِدَ أحدُهما أنَّه قتلَه غُدْوِةً، والآخر أنَّه قتلَه عَشِيَّةً، أو شَهِدَ أحدُهما أنَّه قَتَلَه بسَيْفٍ، وقال الآخر: قَتَلَه (¬2) بِعَصًا. لم تَتِمَّ الشَّهادةُ. ذكرَه القاضى؛ لأنَّ كُلّ واحدٍ منهما يُخالِفُ صاحِبَه ويُكَذِّبُه. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وقال أبو بكر: يثْبُتُ القتلُ؛ لاتِّفاقِهما عليه، واخْتِلافِهما في الصِّفَةِ، فيَثْبُتُ القتلُ, كما لو شَهِد (¬3) أحدُهما بقَتْلِ العَمْدِ، والآخر بقَتْلِ الخَطَأ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ القَتْلَ غُدْوةً غيرُ القَتْلِ (¬4) عَشِيَّة، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يُقتَلَ غُدْوَةً ثم يُقتَلَ عَشِما (¬5)، ولا أنْ يُقْتَلَ بسَيْفٍ، ثم يُقْتَلَ بِعَصًا، بخِلافِ الخَطَأ والعَمْدِ؛ فإنَّ الفِعْلَ واحدٌ، والخِلافُ في نِيَّته وقَصْدِه، وقد يَخْفَى ذلك على أحَدِهما ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في ق، م: «السيف». (¬5) في ق، م: «عشاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونَ الآخَرِ. وإنْ شَهِدَ أحدُهما أَّنه قتلَه، وشَهِدَ الآخر أنَّه أقَرَّ بقَتْلِه، ثَبَت القَتْلُ. نَصَّ عليه أحمدُ. واخْتارَه أبو بكر. واخْتارَ القاضىِ أنَّه لا يثْبُتُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّ أحدَهما شَهِدَ بغيرِ ما شَهِدَ به الآخر، فلم تَتَّفِقْ شَهادَتُهما على فِعْل واحِدٍ. ولَنا، أنَّ الذى أقَرَّ به هو القَتْلُ الذى شَهِدَ به الشّاهِدُ، فلا تَنافِىَ بينَهما، فيَثْبُتُ بشهادَتِهما، كما لو شَهِدَ أحدُهما بالقَتْلِ عَمْدًا، وشَهِدَ الآخر بالقَتْلِ خَطَأً، أو كما لو شَهِدَ أحدُهما أنَّ له عليه ألفًا، وشَهِدَ الآخر أنَّه أقَرَّ له بألْفٍ. فصل: إذا قُتِلَ رَجُل عَمْدًا قَتْلًا يُوجِبُ القِصاصَ، فشَهِدَ أحدُ الوَرَثَةِ على واحدٍ منهم (¬1) أنَّه عَفَى عن القِصاصِ، سَقَط القَوَدُ، سَواءٌ كان الشَّاهِدُ عَدْلًا أو فاسِقًا؛ لأنَّ شَهادتَه تَضَمَّنَتْ سُقُوطَ حَقِّه مِن القِصاصِ، وقوْلُه مَقْبولٌ في ذلك؛ فإنَّ أحدَ الوَلِيين إذا عَفَا عن حَقِّه، سَقَط القِصاصُ كلُّه. ويُشْبِهُ هذا ما لو كان عبدٌ بينَ شَرِيكَيْن، فشَهِدَ أحَدُهما أنَّ شَرِيكَه أعْتَقَ نَصِيبَه وهو مُوسِرٌ، عَتَقَ نَصِيبُ الشَّاهِدِ وإن أنْكَرَه الآخر. فإن كان الشّاهِدُ بالعَفْوِ (¬2) شَهِدَ بالعَفْوِ عن القِصاصِ والمالِ، لم يَسْقُطِ المالُ؛ لأنَ الشَاهِدَ اعْتَرفَ أنَ نَصِيبَه سَقَط بغيرِ اخْتِيارِه، فأمّا نَصِيبُ المشْهودِ عليه، فإن كان الشّاهِدُ ممَّن لا تُقْبَلُ شَهادَتُه، فالقَوْلُ قَوْلُ المشْهودِ عليه مع يَمِينه، فإذا حَلَفَ ثَبَتَتْ حِصَّتُه مِن الدِّيَةِ، وإن كان مَقبولَ القَوْلِ، حَلَفَ الجانِى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَعه، وسَقَط حَقُّ المشْهودِ عليه، ويَحْلِفُ الجانِى أنَّه عَفا عن الدِّيَةِ، ولا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِ العَفْوِ عن القِصاصِ؛ لأنَّه قد سَقَط بشَهادَةِ الشَّاهِدِ، فلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه في اليَمِينِ؛ ولأنه إنَّما يَحْلِفُ على ما يُدعَى عليه، ولا يُدَّعَى عليه غيرُ الديةِ. فصل: إذا جُرِحَ رَجُل، فشَهِدَ له رَجُلانِ مِن وَرَثَتِه غيرِ الوَالِدين والمَوْلُودِين، وكانتِ الجِراحُ مُنْدَمِلَةً، قُبِلَتْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما لا يَجُرَّانِ إلى أنْفُسِمهما نَفْعًا، وإنْ كانت غيرَ مُنْدَمِلَةٍ، لم يُحْكَمْ بشَهادَتِهما، وقد ذَكرْناه. وإن شَهِدَ وارثا (¬1) المَرِيضِ له بمالٍ، ففى قَبُولِ شَهَادَتِهم (¬2) وَجْهان؛ أظْهَرُهما، قَبُولُها, كما لو شَهِدَا له وهو صَحِيح. والثانى، لا تُقْبَلُ؛ لأنَّه متى ثَبَت المالُ للمَرِيضِ، تَعلقَ حَقُّ ورَثَتِه به، ولهذا لا يَنْفُذُ تَبَرُّعُه فيه فيما زادَ على الثُّلُثِ. وإن شَهِدَ للمجروحِ بالجرْحِ مَن لا يَرِثُه، لكَوْنِه مَحْجُوبًا، كالأخَوَيْن يَشْهدَانِ لأخِيهِما، وله ابنٌ، سُمِعَتْ شَهادَتُهما، فإن ماتَ ابنُه، نَظرتَ؛ فإن كان الحاكمُ حَكَمَ بشَهادَتِهما، لم يُنْقَضْ حُكْمُه؛ لأنَّ ما يَطْرأُ بعدَ الحُكْمِ بالشَّهادةِ لا يُؤثِّرُ فيها، كالفِسْقِ، وإن كان ذلك قبلَ الحُكْمِ بالشَّهادَةِ، لم يُحْكَمْ بها؛ لأنَّهما صَازا مُسْتَحِقَّيْنِ، فلا يُحْكَمُ بشَهادَتِهما , كما لو فَسَقَ الشّاهِدَان قبلَ الحُكْمِ بشَهادَتِهما. وإن شُهِدَ على رَجُلٍ بالجُرْحِ ¬

(¬1) في الأصل: «واعترف»، وفى ق، م: «وارث». والمثبت كما في المغنى 12/ 234. (¬2) في ق، م: «شهاداتهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المُوجِبِ للدِّيَةِ على العاقِلَةِ، فَشَهِدَ بعْضُ عَاقِلَةِ المشْهُودِ عليه بجَرْحٍ الشُّهُودِ، لم تُقْبَلْ شَهادَتُه وإن كان فَقِيرًا؛ لأنَّه قد يكونُ ذا مالٍ وقت العَقْلِ، فيَكُونُ دافِعًا عن نَفْسِه. ويَحْتَمِلُ أن تُقْبَلَ؛ لأنهما لا يَحْمِلانِ شيئًا مِن الدِّيَةِ. وإن كان الجرْحُ ممَّا لا تَحْمِلُه العاقِلَةُ، كجِرَاحَةِ العَمْدِ، [أو العبدِ] (¬1)، سُمِعَتْ شَهادَتُهما؛ لأنَّهما لا يَدْفَعان عن أنْفُسِهما ضَرَرًا، وإن كان الشَّاهِدان شَهِدَا على إقرارِه بالجُرْحِ، قُبِلَتْ (¬2)؛ لأنَّ العاقِلَةَ لا تَحْمِلُ الاعْتِرافَ. وإنْ كانتْ شَهادَتُهما بجُرْحٍ عَقْلُه دونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ خَطَأ، وكانتْ شَهادَتُهما بالجرْحِ قبلَ الانْدِمالِ، لم تُقْبَلْ؛ لأنَّها ربَّما صارتْ نفسًا فتَحْمِلُها، وإن كان بعدَه، قُبِلَتْ؛ لأنَّها لا تَحْمِلُ ما دونَ ذلك. فصل: وإذا شَهِدَ رَجُلان على رَجُلَيْن، أنَّهما قَتَلا رَجُلًا، ثم شَهِدَ المشْهُودُ عليهما على الأوَّلَيْن أنَّهما اللَّذانِ قَتَلاه، فصَدَّقَ الوَلِىُّ الأوَّلَيْن، وكَذبَ الآخِرَيْن، وجبَ القتلُ عليهما؛ لأنَّ الوَلِىَّ يُكَذِّبُهما، وهما يَدْفَعانِ بِشَهادَتِهما عن أنْفُسِهما ضَرَرًا. [وإن صَدَّقَ الآخِرَيْن وحدَهما، بطَلَتْ شَهادةُ الجميعِ؛ لأنَّ الأوَّلَين بَطَلَتْ شهادَتُهما لتَكْذِيبِه لهما، ورُجُوعِه عمَّا شَهِدَا له به، والآخِران لا تُقْبَلُ شهادتُهما؛ لأنَّهما عَدُوَّان للأوَّلَين] (¬3) , ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل، ق. (¬3) سقط من: ق، م.

الثّالِثُ، مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ المَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِى غَالِبِ الأحْوَالِ، غَيْرُ الْحُدُودِ والْقِصَاصِ؛ كَالطَّلَاقِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوَكَالَةِ فِى غَيْرِ الْمَالِ، وَالوَصِيَّةِ الَيْهِ، وَمَا أشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا رَجُلَانِ. وَعَنْهُ فِى النِّكَاحِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ [ولأنهما يَدْفَعان عن أنْفُسِهما ضَرَرًا] (¬1)، وإنْ صَدَّقَ الجميعَ، بَطَلَتْ شَهادَتُهم أيضًا؛ لأنَّه بتَصْديقِ الأوَّلَيْن مُكَذِّب للآخِرَيْن، وتَصْدِيقُه الآخِرَيْنِ تَكْذِيب للأوَّلَيْن، وهما مُتَّهمان، لِما ذكَرْناه. فإن قيل: فكيف تُتَصَوَّرُ هذه المْسَألةُ، والشَّهادةُ إنَّما تكونُ بعدَ الدَّعْوَى، فكيفَ يُتَصَوَّرُ فَرْضُ تَصْدِيقِهم وتَكْذِيبِهم؛ قُلْنا: يُتَصَوَّرُ أنْ يَشْهَدَا قبلَ الدَّعْوَى، إذا لم يَعْلَمِ الوَلِىُّ مَن قَتَلَه، ولهذا رُوِىَ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِى يَأتِى بشَهَادَتِه قبلَ أنْ يُسْألهَا» (¬2). وهذا مَعْنى ذلك. (الثالثُ، ما ليس بمالٍ، ولا يُقْصَدُ به المالُ، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ في غالِبِ الأحْوالِ، غيرُ الحُدودِ والقِصاصِ) كالنكاحِ (والطَّلاقِ) ؤالرَّجْعَة، (والنَّسَبِ) والعِتْقِ (والوَلاء، والوَكالَةِ في غيرِ المالِ، والوصِيَّةِ إليه، وما أشْبَهَ ذلك، فلا يُقْبَلُ فيه إلًّا رَجلانِ. وعنه في الرَّجْعَةِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) تقدم تخريجه في 29/ 260.

وَالرَّجْعَةِ، وَاِلْعِتْقِ، أنَهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُل وَامْرأتيْنِ. وَعَنْهُ فِى الْعِتْقِ، أنَهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينُ المُدَّعِى. وَقَالَ القَاضِى: النِّكَاحُ وَحُقُوقُهُ؛ مِنَ الطَّلَاقِ، وَالْحُلْعِ، وَالرَّجْعَةِ، لَا يَثْبُتُ [351 و] إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَالْوَكَالَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَنَحْوُهَا، تُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنِّكاحِ، والعِتْقِ، أنَّه يُقْبَلُ فيه شَهادةُ رَجل وامْرَأتَيْن. وعنه في العِتْقِ، أنَّه يُقْبَلُ فيه شاهِدٌ ويَمِينُ المُدَّعِى. وقال الفاضى: النِّكاحُ وحُقُوتُه؛ مِن الطَّلاقِ، والخُلْعِ، والرَّجْعَةِ، لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، رِوايَةً واحِدَةً، والوَكالَةُ، والوَصِيَّةُ، والكِتابَةُ، ونحوُها، تُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن) وجُملةُ

قَالَ أحمَدُ فِى الرَّجُلِ يُوَكِّلُ وَكِيلًا، وَيُشْهدُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا وَامْرَأتيْنِ: إِنْ كَانَتْ فِى الْمُطَالَبَةِ بِدَيْن، فَأما غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، أنَّ ما ليس بعُقُوبَةٍ، ولا يُقْصدُ به المالُ، كالنِّكاحِ، والرَّجْعَةِ، والطَّلاقِ، والعَتاقِ، والِإيلاءِ، والظِّهارِ، والنَّسبِ، والتَّوْكيلِ، والوَصِيَّةِ إليه، والوَلاءِ، والكِتابَةِ، وأشْباهِ هذا، فقال القاضى: المُعَوَّلُ عليه في المذهبِ، أنَّ هذا لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن ذَكَرَيْن، ولا تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ بحالٍ. وقد نَصَّ أحمدُ في رِوايةِ الجماعةِ، على أنَّه لا تجوزُ شَهادةُ النِّساءِ في النِّكاحِ والطَّلاقِ. وقد نُقِلَ عن أحمدَ في الوَكالَةِ (إن كانتْ بمُطالَبَةِ دَيْنٍ) يعنى تُقْبَلُ فيه (¬1) شَهادةُ رجلٍ وامرأتَيْن (فأمَّا غيرُ ذلك فلا) ووَجْهُ ذلك أنَّ الوَكالَةَ في اقْتِضاءِ الدَّيْنِ يُقْصَدُ منها المالُ، فيُقْبَلُ فيها شَهادةُ رَجلٍ وامْرأتَيْن، كالحَوالَةِ. قال القاضى: فيُخَرَّجُ مِن هذا ¬

(¬1) في م: «فيها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن النِّكاحَ وحُقوقَه، من الرَّجْعَةِ وشِبْهِها، لا تُقْبَلُ فيها شَهادةُ النِّساءِ، روايةً واحدةً، وما عَداه يُخَرَّجُ على رِوايَتَيْن. وقال أبو الخَطَّابِ: في النِّكاحِ والعَتاقِ أيضًا رِوَايتان؛ إحْداهما، لا تُقْبَلُ فيه إلَّا شَهادةُ رجُلَيْنِ. وهو قولُ النَّخَعِىِّ، والزُّهْرِىِّ، ومالكٍ، وأهلِ المدينةِ، والشافعىِّ. وبه قال سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، والحسنُ، ورَبِيعَةُ، في الطَّلاقِ. والثانيةُ، تُقْبَلُ فيه شَهادةُ رَجُل وامْرأتَيْن. رُوِىَ ذلك عن جابرِ بنَ زيدٍ، وإياسَ بنِ مُعاوِيةَ، والشَّعْبِىِّ، والثَّوْرِىِّ، وإسْحاقَ، وأصْحابِ الرَّأىِ. ورُوِىَ ذلك في النِّكاحِ عن عَطاء. واحْتَجُّوا بأنه لا يَسْقُطُ بالشبْهَةِ، فيَثْبُت برَجُل وامْرأتَيْن، كالمالِ. ولَنا، أنَّه ليس بمال، ولا يُقْصَدُ منه (¬1) المالُ، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ، فلم يكُنْ للنساء في شَهادَتِه مَدْخَل، كالحُدودِ والقِصاصِ. وما ذكَرُوه لا يَصِح، فإنًّ الشبْهَةَ لا مَدْخَلَ لها في النِّكاحِ، وإنْ تُصُوِّرَ بأن تكونَ المرأةُ مُرْتابَة بالحَمْلِ، لم يَصِحَّ النِّكاحُ. ¬

(¬1) في ق، م: «به».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وقد نُقِلَ عن أحمدَ، في الإعْسارِ ما يَدُلُّ على أنَّه لا يَثْبُتُ إلَّا بثلائةٍ؛ لحديثِ قَبِيصَةَ بنِ المُخارِقِ، وفيه: «حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَة مِنْ ذَوِى الحِجَا مِنْ قَوْمِه، لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ» (¬1). قال أحمدُ: هكذا جاءَ الحديثُ. فظاهِرُ هذا أنَّه أخَذَ به. ورُوِىَ عنه، لا يُقْبَلُ أَّنه وَصَّى، حتى يَشْهَدَ له رَجُلانِ أو رجُل عَدْلٌ. فظاهِرُ هذا أَّنه [يُقْبَلُ في الوصِيَّةِ شهادةُ رجل واحدٍ. وقال في الرجلِ يُوَصِّى ولا يحضُرُه إلا النِّساءُ، قال: أجِيزُ شَهادةَ النساءِ. فظاهِرُ هذا أنَّه] (¬2) أثْبَتَ الوَصِيَّةَ بشَهادةِ النِّساءِ على الانْفِرادِ، إذا لم يحْضُرْه الرجالُ. قال القاضى: المذهبُ في هذا كلِّه لا يثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، وحَدِيثُ قَبِيصَةَ في حِلِّ المسْألةِ، لا في الإعْسارِ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في [7/ 219]. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يَثْبُتُ شئٌ ممَّا ذكَرْنا بشاهِدٍ ويَمِينِ المُدَّعِى؛ لأنَّه إذا لم يثْبُتْ بشَهادَةِ رجُل وامرأتَيْن، [فلَأن لا] (¬1) يثْبُتَ بشاهِدٍ واحدٍ ويَمِين أوْلَى. قال أحمدُ، ومالكٌ، في الشاهدِ واليَمِينِ: إنَّما يكونُ ذلك في الأمْوالِ خاصَّةً، لا يَقَعُ في حَدٍّ، ولا نِكاحٍ، ولا طَلَاق، ولا عَتَاقٍ، ولا سَرِقَةٍ، ولا قَتل. وعن أحمدَ في العِتْقِ أنه (2) يَثْبُت بشاهِدٍ ويَمِينِ العَبْدِ. ذكَرَه الخِرَقِىُّ، فقال: إذا ادَّعى العَبْدُ (¬2) أنَّ سَيِّدَه أعْتَقَه، وأتَى بشاهدٍ، حَلَفَ مع شاهِدِه، وصارَ حُرًّا، ونَصَّ عليه أحمدُ. وقال في الشَّريكَيْن في عبدٍ، ادَّعَى كُلُّ واحدٍ منهما أنَّ شَرِيكَه أعْتَقَ حقَّه منه، وكانا مُعْسِرَيْنِ عَدْلَيْنِ: فللعَبْدِ أنْ يَحْلِفَ مع كُلِّ واحدٍ منهما ويَصِيرَ حُرا، أو يَحْلِفَ مع أحَدِهما ويَصِيرَ نِصْفُه حُرًّا. فيُخَرَّجُ مثلُ هذا في الكِتابَةِ، ¬

(¬1) في النسخ: «فلئلا». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَلاءِ، والوَصِيّةِ، والوَدِيعَةِ، والوَكالَةِ، فيكونُ في الجَميِعِ رِوايتان، ما خَلا العُقُوباتِ البَدَنِيَّةَ، والنِّكاحَ وحقوقَه، فإنَّها لا تثْبُت بشَاهدٍ ويَمِين، قَوْلًا واحدًا. قال القاضى: المَعْمُولُ عليه في جَمِيعِ ما ذكَرْناه، أنّه لا يثْبُتُ إلَّا بشَاهِدَيْن. وهو قولُ الشافعىِّ. وقد رَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (¬1) بإسْنادِه عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللهُ عنه، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَشَرْتُ جِبْرِيلَ فِى القَضَاءِ بالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فأشَارَ عَلَىّ فِى الأمْوَالِ، لَا تَعْدُو ذَلِكَ» وقال عمرُو بنُ دِينار، عن ابنِ عباس، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قَضَى بالشّاهِدِ واليَمِينِ؟ قال: نعم في الأمْوالِ. وتَفْسِيرُ الرَّاوِى أوْلَى مِن تَفْسِيرِ غيرِه. رَواه الإمامُ أحمدُ، وغيرُه (¬2)، بإسنادِه. ¬

(¬1) وكذا عزاه إليه الحافظ في: تلخيص الحبير 4/ 206، وضعف إسناده، ولم نجده في سنن الدارقطنى. ومن حديث مسلمة بن قيس أخرجه أبو نعيم، وابن منده في المعرفة، والديلمى. انظر: الإصابة 6/ 115، أسد الغابة 5/ 173، الجامع الكبر 1/ 105. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 323.وأبو داود، في: باب القضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 277. والبيهقى، في: باب القضاء باليمين مع الشاهد، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 167 , 168. والشافعى، انظر: كتاب الأحكام والأقضية، من ترتيب المسند 2/ 178. وأخرجه دون لفظ: «نعم في الأموال» مسلم، في: باب القضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأقضية. صحيح مسلم 3/ 1337. وابن ماجه، في: باب القضاء بالشاهد واليمين، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 793. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 248، 315. وانظر الكلام على طرق الحديث في: الإرواء 8/ 296 - 306.

الرَّابع، الْمَالُ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ؛ كَالْبَيْعِ، وَالقَرْضِ، وَالرهْنِ، وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَجِنَايَةِ الْخَطَأَ، تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرأتَيْنِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينُ المُدَّعِى. وَهَلْ تُقْبَلُ فِى جِنَايَةِ الْعَمْدِ المُوجِبَةِ لِلْمَالِ دُونَ القِصَاصِ، كَالْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، شَهَادَةُ رَجُل وَامْرَأتَيْنِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرَّابعُ، المالُ، وما يُقْصَدُ به المالُ؛ كما لبَيْعِ، والرَّهْنِ، والقَرْضِ، والوَصِيةِ له، وجِنايَةِ الخَطَأ، تُقْبَلُ فيه شَهادة رجل وامرأتَيْن، وشاهِدٌ ويَمِينُ المُدَّعِى. وهل تُقْبَلُ في جِنايَةِ العَمْدِ المُوجِبَةِ للْمَالِ دُونَ القِصاصِ، كالهاشِمَةِ والمُنَقِّلَةِ، شَهادَةُ رَجُل وامْرأتَيْن؟ عَلَى رِوايَتَيْن)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنّ المالَ؛ كالقَرْضِ، [والغَصْبِ] (¬1)، والرُّهونِ، والدُّيونِ كلِّها، وما يُقْصَدُ به المالُ؛ كالبَيْعِ، والوَقْفِ، والِإجارَةِ، والهِبَةِ، والصُّلْحِ، والمُساقَاةِ، والمُضارَبَةِ، والشَّرِكَةِ، والوَصِيَّةِ له، والجِنايَةِ المُوجِبَةِ للمال، كالخَطَأ وعَمْدِ الخَطَأَ، والعَمْدِ المُوجب للمالِ دونَ القِصاصِ، كالجائِفَةِ وما دونَ المُوضِحَةِ مِن الشِّجاجِ، يَثْبُتُ بشَهادَةِ رجل وامْرأتَيْن. وقال أبو بكر: لا تثْبُتُ الجِنايَةُ في البَدَنِ بشَهادةِ رجل وامرأتَيْن؛ لأنَّها جِنايَة، فأشْبَهَتْ ما يُوجب القِصاصَ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ مُوجَبَها المالُ، فأشْبَهَتِ البَيْعَ، وفارَقَ ما يُوجب القِصاصَ؛ لأنَّ القِصاصَ لا تُقْبَلُ فيه شهادةُ النِّساءِ، فكذلك (¬2) ما يُوجِبُه. والمالُ يَثْبُتُ بشَهادَةِ النِّساءِ، فكذلك ما يُوجِبُه. ولا خِلافَ في أنَّ المالَ يَثْبُتُ بشَهادةِ النِّساءِ مع الرِّجالِ، وقد نَصَّ الله تعالى على ذلك في كتابِه العزيزِ بقولِه سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3). وأجْمَعَ أهلُ العلمِ على ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «فلذلك». (¬3) سورة البقرة 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القَوْلِ به. فصل: وأكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ ثُبُوتَ المالِ لمُدَّعِيه بشاهِدٍ ويَمِينٍ. رُوِىَ ذلك عن أبى بكر، [وعمرَ] (¬1)، وعثمانَ (¬2)، وعلىٍّ (¬3)، رَضِىَ اللهُ عنهم. وبه قال الفُقَهاءُ السَّبْعَةُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وشُرَيْح، والحسنُ، وإياسٌ، وعبدُ الله بنُ عُتْبَةَ، وأبو سَلَمةَ ابنُ عبدِ الرحمنِ، ويحيى بنُ يَعْمُرَ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، وابنُ أبى ليلَى، وأبو الزِّنادِ، والشافعىُّ. وقال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وأصْحابُ الرَّأىِ، والأوْزاعِىُّ: لا يُقْضَى بشاهدٍ ويَمِين. وقال محمدُ بنُ الحسنِ: مَن قَضَى بالشّاهدِ واليَمِينِ، نَقَضْتُ حُكْمَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. فمَن زادَ في ذلك، فقد زادَ في النَّصِّ، والزِّيادةُ في النَّصِّ نَسْخٌ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِى، والْيمينُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ» (¬4). فحصَرَ اليَمِينَ في جانِبِ المُدَّعَى عليه, كما حصَرَ البَيِّنَةَ في جانِبِ المُدَّعِى. ولَنا، ما رَوَى سُهَيْلٌ، عن أبيه، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) ما روى عن أبى بكر وعمر وعثان، أخرجه الدارقطنى، في كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطنى 4/ 215. (¬3) أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء في اليمين مع الشاهد، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 90. والدارقطنى، في الكتاب السابق. سنن الدارقطنى 4/ 212. والبيهقى، في: باب القضاء باليمين والشاهد، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 169، 170، 171. (¬4) تقدم تخريجه في 16/ 252.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ الله عنه، قال: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - باليَمِينِ مع الشَّاهِدِ الواحدِ. رواه سعيدُ بنُ مَنْصُورٍ، في «سُنَنِه»، والأئِمَّةُ مِن أهلِ السُّنَنِ والمَسانِيدِ (¬1)، قال الترْمِذِىُّ: هذا حديث غريبٌ، وفى البابِ عن على، وابنِ عبَّاس، وجابر. وقال النَّسَائِىُّ (¬2): إسْنادُ ابنِ عبَّاس في اليَمِينِ مع الشّاهِدِ إسْنادٌ جَيِّدٌ. ولأنَّ اليَمِينَ تُشْرَعُ في مَن ظَهَرَ صِدْقُه، وقَوِىَ جانِبُه، ولذلك شُرِعَتْ في حَقِّ صاحِبِ اليَدِ لقُوَّةِ جَنَبَتِه بها، وفى حَقِّ المُنْكِرِ لِقُوَّةِ جَنَبَتِه، فإنَّ الأصْلَ بَراءَةُ ذِمتِهْ، والمُدَّعِى ههُنا قد ظَهَر صِدْقُه، فوَجَبَ أن تُشْرَعَ اليَمِينُ في حَقِّه. ولا حُجَّةَ لهم في الآيةِ؛ لأنَّها ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب الفضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 277. والترمذى، في: باب ما جاء في اليمين مع الشاهد، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 89. وابن ماجه، في: باب القضاء بالشاهد واليمين. سنن ابن ماجه 2/ 793. ومن حديث الأعرج عن أبي هريرة أخرجه النسائى، في: باب الحكم باليمين مع الشاهد الواحد، من كتاب القضاء. السنن الكبرى 3/ 491. والبيهقى، في: باب القضاء باليمين مع الشاهد، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 168، 169. (¬2) في: السنن الكبرى 3/ 490.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دَلَّتْ على مَشْرُوعِيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ (¬1)، [والشَّاهِدِ] (¬2) والمرْأتَيْن، ولا نِزَاعَ في هذا. وقوْلُهم: إنَّ الزِّيادةَ في النَّصِّ نَسْخ. غيرُ صَحِيحٍ؛ لأنَّ النَّسْخَ الرَّفْعُ والِإزَالَةُ، والزِّيادَةُ في الشئِ تَقْرِير له، لا رَفْعٌ، والحُكْمُ بالشّاهِدِ واليَمِينِ لا يَمْنَعُ الحُكْمَ بالشّاهِدَيْن، ولا يَرْفَعُه، ولأنَّ الزِّيادَةَ لو كانت مُتَّصلَةً بالمَزِيدِ عليه لم ترفَعْه، ولم تكُنْ نسْخًا، فكذلك إذا انْفَصَلَتْ عنه، ولأنَّ الآيةَ وارِدَة في التَّحَمُّل دُونَ الأداءِ، ولهذا قال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬3). والنِّزاعُ في الأداءِ، وحدِيثُهم ضَعِيفٌ، وليس هو للحَصْرِ، بدَليلِ أنَّ اليَمِينَ تُشْرَعُ في حَقِّ المُودَعِ إذا ادَّعَى رَدَّ الوَدِيعَةِ وتَلَفَها، وفى حَقِّ الأمَناءِ لظُهورِ ¬

(¬1) في النسخ: «الشاهد». وانظر المغنى 14/ 131. (¬2) سقط من: م. (¬3) سورة البقرة 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جانِبِهم (¬1)، وفى حَقِّ المُلاعِنِ، وفى القَسامَةِ، وتُشْرَعُ (¬2) في حَقِّ البائع والمُشْتَرِى إذا اخْتَلَفا في الثَّمَنِ والسِّلْعَةُ قائِمَة. وقولُ محمدٍ في نَقْضِ قَضاءِ مَن قَضَى بالشّاهدِ واليَمِينِ، يَتضمَّنُ القَوْلَ بنَقْضِ قَضاءِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والخُلَفاء الذين قَضَوْا به، وقد قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3). والقضاءُ بما قَضَى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محمدُ بنُ عبدِ الله، أوْلَى مِن قَضاءِ محمدِ بنِ الحسنِ المُخالِفِ له. ¬

(¬1) في الأصل: «خيانتهم». (¬2) بعده في الأصل: «له». (¬3) سورة النساء 65.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال القاضى: يجوزُ أن يَحْلِفَ على ما لا تجوزُ الشَّهادةُ عليه، مثلَ أنْ يَجِدَ بخَطِّه دَيْنًا له على إنْسانٍ، وهو يَعْرِفُ أنَّه لا يَكْتُبُ إلَّا حقَّا، ولم يَذْكُرْه، أو يَجِدَ في رُوزْمانِجِ (¬1) أبيه بخطِّه دَيْنًا له على إنْسانٍ، ويَعْرِفُ مِن أبيه الأمانةَ، وأنَّه لا يَكْتُبُ إلا حقَّا، فله أن يحْلِفَ عليه، ولا يجوزُ أن يَشْهَدَ به، ولو أخبرَه بحَقِّ (¬2) أبِيه ثِقَة، فسكَنَ إليه، جازَ أن يَخلِفَ عليه، ولم يَجُزْ له (¬3) أن يَشْهَدَ به. وبهذا قال الشافعىُّ. والفَرْقُ بينَ اليَمِينِ والشَّهادةِ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ الشَّهادةَ لغيرِه، فيَحْتَمِلُ أنَّ مَن له الشَّهادةُ قد زَوَّرَ على خَطِّه، ولا يَحْتَمِلُ هذا فيما يَحْلِفُ عليه؛ لأنَّ الحقَّ إنَّما هو للحالفِ، فلا يُزَوِّرُ أحدٌ عليه. الثانى، أنَّ ما يَكْتُبُه الإنسانُ مِن حُقُوقِه يَكْثُرُ فيَنْسَى بعضَه، بخِلافِ الشَّهادةِ. والأوْلَى التَّوَرُّعُ عن ذلك، إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬

(¬1) الروزمانج: الدفتر، معرب من روزنامه. (¬2) في الأصل: «عن». (¬3) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وكلُّ مَوْضِع قُبِلَ فيه الشّاهِدُ واليَمِينُ، فلا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المُدَّعِى مُسْلِمًا أو كافِرًا، عَدْلًا أو فاسِقًا، رَجُلًا أو امرأةً. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ مَن شُرِعَتْ في حَقِّه اليَمِينُ لا يَخْتَلِف حُكْمُه باخْتِلافِ هذه الأوْصافِ، كالمُنْكِرِ إذا لم تكُنْ بينةٌ. فصل: قال أحمدُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أن يُقْضَى باليمِينِ مع الشّاهدِ الواحدِ، فإنْ أبى أن يَحْلِفَ، اسْتُحْلِفَ المَطْلوبُ. وهذا قول مالكٍ، والشافعىِّ. ويُرْوَى عن أحمدُ: فإن أبى المطْلوبُ أن يَحْلِفَ، ثَبَتَ الحقُّ عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا تُقْبَلُ شَهادةُ امرأتَيْن ويَمِينُ المُدَّعِى. وبه قال الشافعى. وقال مالكٌ: يُقْبَلُ ذلك في الأمْوالِ؛ لأنَّهما في الأمْوالِ أُقِيمَتَا مُقامَ الرَّجلِ، فحُلِفَ معهما, كما يُحْلَفُ مع الرَّجلِ. ويَحْتَمِلُ لَنا مثلُ ذلك. ولَنا، أنَّ البَينةَ على المالِ إذا خَلَت (¬1) مِن رَجُل لم تُقْبَلْ, كما لو شَهِدَ أرْبَعُ نِسْوةٍ، وما ذكَرُوه يَبْطُلُ بهذه الصُّورةِ، فإنَّهما لو اقِيمَتا مُقامَ رجلٍ مِن كلِّ وَجْهٍ، لَكفَى أربعُ نِسْوةٍ مقامَ رَجليْن، ولَقُبِلَ في غيرِ الأمْوالِ شَهادةُ رجل وامرأتَيْن؛ لأنَّ شَهادةَ المرأتَيْن ضَعيفة، تَقَوَّتْ بالرَّجُلِ، واليَمِينُ ضَعِيفة، فيُضَمُّ ضعيفٌ إلى ضعيفٍ، فلا يُقْبَلُ. ¬

(¬1) في الأصل: «دخلت».

الخَامِسُ، مَا لَا يَطلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثيّاَبِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولا يُشْتَرَطُ أن يقولَ في يَمِينِه: وإنَّ شاهِدِى صادِقٌ في شَهادَتِه. وقيلَ: يُشْتَرطُ. وهل تُقْبَلُ شَهادةُ رجلٍ وامرأتَيْن، وشاهِدٌ ويَمِينٌ في دَعْوَى قَتْلِ الكافرِ، لاسْتِحْقاقِ سَلَبِه، ودَعْوَى [الأسِيرِ إسْلامًا] (¬1) سابِقًا لمَنْعِ رِقِّه؟ على رِوَايَتَيْن في (¬2) «المُحَرَّرِ». (الخامِسُ، ما لا يَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ؛ كعُيوبِ النِّساءِ تحتَ الثِّيابِ، ¬

(¬1) في ق: «الاستبراء سلامًا». (¬2) في ق، م: «من».

وَالرَّضَاعِ، وَالاسْتِهْلَالِ، وَالْبَكَارَةِ، والثُّيُوبَةِ، وَالْحَيْضِ، ونَحْوِهِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْهُ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ أقَلُّ مِنَ امْرأتَيْنِ. وإنْ شَهِدَ بِهِ الرَّجُلُ كَانَ أوْلَى بِثُبُوتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرَّضاعِ، والاسْتِهْلالِ، والبَكارَةِ، والثُّيوبَةِ، والحَيْضِ، ونحوِه، فيُقْبَلُ فيه شهادةُ امرأةٍ واحدَةٍ. وعنه، لا يُقْبَلُ فيه أقَل مِن امرأتَيْن. وإن شَهِدَ به الرَّجُلُ كان أوْلَى بثُبُوتِه) لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في قَبولِ شَهادةِ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ في الجُمْلةِ. قال القاضى: والذى تُقْبَلُ فيه شَهادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ خَمْسةُ أشْياءَ؛ الوِلادةُ، والاسْتِهْلالُ، والرَّضاعُ، والعَيوبُ تحتَ الثِّيابِ؛ كالرَّتْقِ، والقَرْنِ، والبَكارَةِ، والثَّيابَةِ، والبَرَصِ، وانْقِضاءُ العِدَّةِ. وعن أبى حنيفةَ، لا تُقْبَلُ شَهادَتُهنَّ مُنْفَرِداتٍ على الرَّضاعِ؛ لأنَّه يجوزُ أن يَطَّلِعَ عليه محارمُ المرأةِ مِن الرِّجالِ، فلم يَثْبُتْ بالنِّساء مُنْفَرِداتٍ، كالنِّكاحِ. ولَنا، ما رَوَى عُقْبَةُ بنُ الحارِثِ، قال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تزَوَّجْتُ أُمَّ يحيى بنتَ أبى إهابٍ، فأتتْ أمَةٌ سَوادءُ، فقالتْ: قد أرضَعْتُكُما. فأَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرْتُ ذلك له، فأَعْرَضَ عنِّى، ثم أتيْتُه فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّها كاذِبَةٌ. فقال: «وَكَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ؟» [متفق عليه] (¬1). ولأنَّها شَهادةٌ على عَوْرةٍ للنِّساءِ فيها مَدْخَلٌ، فقُبِلَ فيها شَهادَةُ النِّساءِ، كالوِلادةِ، ويُخالِفُ عَقْدَ النِّكاحِ؛ فإنَّه ليس بعَوْرَةٍ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ أيضًا، أنَّ شَهادةَ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ لا تُقْبَلُ في الاسْتِهْلالِ؛ لأنَّه يكونُ بعدَ الوِلادةِ. وخالَفَه صاحِبَاه، وأكثَرُ أهلِ العلمِ؛ لأنَّها تكونُ حالَ الوِلادةِ، فيَتَعَذَّرُ حُضورُ الرِّجالِ، فأشْبَهَتِ الوِلادةِ نفْسَها. وقد رُوِىَ عن علىٍّ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه أجازَ شَهادةَ القابِلَةِ وَحْدَها في الاسْتِهْلالِ. رواه الإمامُ أحمدُ، وسعيدُ بنُ مَنْصُورٍ (¬2)، مِن حديثِ جابر الجُعْفِىِّ. وأجازه شُرَيْحٌ، والحسنُ، والحارِثُ العُكْلِىُّ، وحَمَّادٌ. فإذا ثبَت هذا، فكُلُّ مَوْضِع قُلْنا: تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ. فإنَّه يُقْبَلُ فيه شَهادةُ المرأةِ الواحدةِ. وقال طاوسٌ: تجوزُ ¬

(¬1) سقط من: ق، م. والحديث تقدم تخريجه في 10/ 347. (¬2) وأخرجه الدارقطنى، في: كتاب في الأقضية والأحكام وغر ذلك. سنن الدارقطنى 4/ 233. والبيهقى، في: باب ما جاء في عددهن، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 151. وعبد الرزاق، في: باب شهادة امرأة على الرضاع، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 485. وابن أبى شيبة، في: باب ما تجوز فيه شهادة النساء، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 187. ولم نجده في المسند.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادةُ المرأةِ في الرَّضاعِ، وإن كانت سَوْداءَ (¬1). وعن أحمدَ، رِواية أخْرَى: لا يُقْبَلُ فيه إلا امْرأتانِ. وهو قولُ الحَكَمِ، وابنِ أبى ليلَى، وابنِ شُبْرُمَةَ. وإليه ذهبَ مالكٌ، والثَّوْرِىُّ؛ لأنَّ كُلَّ جِنْس يثْبُتُ به الحقُّ يَكْفِى فيه اثْنان، كالرِّجالِ، ولأنَّ الرجالَ أكْمَلُ مِنْهُنَّ، ولا يُقْبَلُ منهم إلَّا اثْنان. وقال عُثمانُ (¬2): يَكْفِى ثلاث؛ لأنَّ كلَّ مَوْضِع قُبِلَ فيه النِّساءُ، كان العَدَدُ ثَلاثةً, كما لو كان مَعَهُنَّ رَجلُ. وقال أبو حنيفةَ: تُقْبَلُ شَهادةُ المرأةِ الواحدةِ في وِلادَةِ الزَّوْجاتِ دون (¬3) وِلادة المُطَلَّقَةِ. وقال عَطاءٌ، والشَّعْبِىُّ، وقَتادةُ، [والشافعىُّ] (¬4): لا يُقْبَلُ فيهَا إلَّا أرْبعٌ؛ لأنَّها شَهادةٌ مِن شَرْطِها الحُرِّيَّةُ، فلم تُقْبَلْ فيها الواحِدةُ، كسائرِ الشَّهاداتِ، ولأنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بشَهَادَةِ رَجُلٍ» (¬5) ولَنا، حديثُ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ، الذى ذكَرْناه. ورَوَى حُذَيْفَةُ، أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 7/ 483. وسعيد بن منصور، في: سننه 1/ 245. (¬2) أى البتى. انظر المغنى 14/ 136. (¬3) في الأصل: «ولا تقبل في». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) أخرجه البخارى، في: باب ترك الحائض الصوم، من كتاب الحيض. صحيح البخارى 1/ 83. ومسلم، في: باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات. . . .، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 86، 87. وأبو داود، في: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، من كتاب السنة. سنن أبى داود 2/ 522. والترمذى، في: باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه، من أبواب الإيمان. عارضة الأحوذى 10/ 82. وابن ماجه، في: باب فتنة النساء، من كتاب الفتن. سنن ابن ماجه 2/ 1326، 1327. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أجَاز شَهادَة القَابلَةِ (¬1). ذَكرَه الفُقَهاءُ في كُتُبِهم. ورَوَى أبو الخَطّابِ عن ابنِ عمرَ، أَنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: «يُجْزِئُ فِى الرَّضَاعِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» (¬2). ولأنَّه مَعْنًى يثْبُتُ بقَوْلِ النِّساءِ المُنْفَرِداتِ، فلا يُشْتَرطُ فيه العَدَدُ، كالرِّوايةِ وأخْبارِ الدِّياناتِ (¬3). وما ذكَرَه الشافعىُّ مِن اشْتِراطِ الحُرِّيَّةِ غيرُ مُسَلَّمٍ، وقولُ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُل». في الموْضِعِ الذى تَشْهَدُ فيه مع الرَّجُلِ. فإن شَهِدَ الرجلُ بذلك، قُبِلَ وَحْدَه. وهو قولُ أبى الخطَّابِ؛ لأنَّه أكْمَلُ مِن المَرْأةِ، فإذا اكْتُفِىَ بها وَحْدَها، فَلَأن يُكْتَفَى به أوْلَى، ولأنَّ ما قُبِلَ فيه قَوْلُ المرأةِ الواحدةِ، قُبِلَ فيه قَوْلُ الرجلِ، كالرِّوايةِ. ¬

(¬1) أخرجه الدارقطنى، في: سننه 4/ 232. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 51. وعزاه الهيثمى للطبرانى في الأوسط، وقال: وفيه من لم أعرفه. مجمع الزوائد 4/ 201. وضعفه في: الإرواء 8/ 306. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 2/ 35 بلفظ: «رجل وامرأة وامرأة». وفى 2/ 109 بلفظ: «رجل أو امرأة». وفى الموضع الأول بهذا اللفظ أيضا. وكذا عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 336. وفى 7/ 484 بلفظ: «رجل أو امرأة». وبهذا اللفظ أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 7/ 464. وضعف إسناده. وذكر الاختلاف في متنه. وعزاه الهيثمى لأحمد والطبرانى في الكبير، وقال: فيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلمانى وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 201. (¬3) في الأصل: «الدايات»، وصوابها: «الديات».

فصلٌ: وَإذَا شَهِدَ بِقَتْلِ العَمْدِ رَجُلٌ وَامْرَأتانِ، لَمْ يَثبُتْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ. وَإنْ شَهِدُوا [351 ظ] بِالسرِقَةِ، ثبَتَ المَالُ دُونَ الْقَطْعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، رَحمَه الله: (وإذا شَهِدَ بقَتْلِ العَمْدِ رَجلٌ وامْرأتانِ، لم يَثْبُتْ قِصاصٌ ولا دِيَةٌ. وإن شَهِدُوا بالسرِقَةِ، ثَبَت المالُ دُونَ القَطْعِ) لأنَّ السَّرِقةَ تُوجِبُ المالَ والقَطْعَ، فإذا قَصُرَتْ عن أحدِهما، أثْبَتُتِ الآخَرَ، والقَتْلُ يُوجِبُ القِصاصَ، والمالُ بدَل منه، فإذا لم يَثْبُتِ الأصْلُ، لم يَجِبْ بدَلُه. وإن قُلْنا: مُوجَبُه أحدُ شَيْئَيْن. لم يتَعَيَّنْ أحدُهما إلَّا بالاخْتِيارِ، فلو أوْجَبْنا الدِّيَةَ وَحْدَها، أوْجَبْنا مُعَيَّنًا. وقال ابنُ أبى موسى: لا يَجِبُ المالُ فيما إذا شَهِدُوا بالسَّرِقَةِ؛ لأنَّها شَهادةٌ لا تُوجِبُ الحدَّ،

5067 - مسألة: (وإن ادعى رجل الخلع، قبل فيه رجل وامرأتان)

وَإنِ ادَّعَى رَجُلٌ الْخُلْعَ، قُبِلَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وإنِ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ إلَّا رَجُلَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو أحدُ مُوجَبَيْها (¬1)، فإذا بطَلَتْ في أحَدِهما بطَلَتْ في الآخَرِ. 5067 - مسألة: (وإنِ ادعَى رَجُلٌ الخُلْعَ، قُبِلَ فيه رَجُلٌ وامْرَأتان) أو شاهِدٌ ويَمِينُ المُدَّعِى؛ لأنَّه يَدعِى المالَ الذى خالَعَتْ به (وإنِ ادعَتْه المرأةُ، لم يُقْبَلْ فيه إلَّا رَجلانِ) لأنَّها لا تَقْصِدُ منه إلَّا الفَسْخَ وخَلاصَها من الزَّوْج، ولا يثْبُتُ ذلك بهذه البَيِّنَةِ. فأمَّا إنِ اخْتلَفا في عِوَضِ الخُلْعِ خاصَّةً، ثَبَتَ برَجُلٍ وامْرأتَيْن، وكذلك إنِ اخْتلَفا في الصَّداقَ؛ لأنَّه مالٌ. فصل: وإنِ ادَّعَى رجلٌ أنَّه ضَرَبَ أخاه بسَهْمٍ عَمْدًا فقتَلَه، ونفَذَ إلى أخِيه الآخَرِ فقتلَه خَطَأً، وأقامَ بذلك شاهِدًا وامْرَأتَيْن، أو شاهدًا وحلَفَ معه، ثَبَت قَتْلُ الثانى؛ لأنَّه خَطَأٌ مُوجَبُه المالُ، ولم يَثْبُتْ قَتْلُ الأوَّلِ؛ لأنَّه عَمْدٌ مُوجَبُه القِصاصُ، فهما كالجِنايَتَيْنِ المُفْتَرِقَتَيْن. وعلى قولِ أبى ¬

(¬1) في م: «موجبها».

5068 - مسألة: (وإذا شهد رجل وامرأتان لرجل بجارية أنها أم ولده، وولدها منه، قضى له بالجارية أم ولد. وهل تثبت حرية الولد ونسبه من مدعيه؟ على روايتين)

وَإذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرأتَانِ لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ أنَهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَوَلَدُهَا مِنْهُ، قُضِىَ لَهُ بِالْجَارِيَةِ أُمُّ وَلَدٍ. وَهَلْ تَثْبتُ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ وَنَسَبُهُ مِنْ مُدَّعِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بكر، لا يَثْبُتُ منهما شئٌ؛ لأنَّ الجِنايةَ عندَه لا تَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، سَواءٌ كان مُوجَبُها المالَ أو غيرَه. ولو ادَّعَى رجلٌ على آخَرَ أنَّه سَرَقَ منه وغَصَبَه مالًا، فحلَفَ بالطَّلاقِ والعَتاقِ ما سرَقَ منه ولا غَصَبَه، فأقامَ المُدَّعِى شاهِدًا و (¬1) امْرأتَيْن شَهِدا بالسَّرقَةِ والغَصْبِ، أو شاهِدًا وحَلَفَ معه، اسْتَحَقَّ المسروقَ والمغْصوبَ؛ لأنَّه أتَى ببَيِّنَةٍ يثْبُتُ ذلك بمثْلِها، ولم يثْبُتْ طلاقٌ ولا عِتْقٌ؛ لأنَّ هذه البَينةَ حُجَّةٌ في المالِ دونَ الطَّلاقِ والعَتاقِ. وهو ظاهرُ مذهبِ الشافعىِّ. 5068 - مسألة: (وإذَا شَهِدَ رَجُلٌ وامْرَأتان لرَجُلٍ بجارِيَةٍ أنَّها أُمُّ وَلَدِه، ووَلَدُها منه، قُضِىَ له بالجارِيَةِ أُمُّ ولدٍ. وهل تَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الوَلَدِ ونسَبُه مِن مُدَّعِيه؟ على رِوايَتَيْن) أمّا الجارِيةُ فنَحْكُمُ له بها؛ لأنَّ أُمُّ الوَلدِ ¬

(¬1) في م: «أو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَمْلُوكَةٌ له، ولهذا يَمْلِكُ وَطْأها وإجارَتَها وإعارَتَها وتَزْوِيجَها، ويَثْبُتُ لها حُكْمُ الاسْتِيلادِ بإقْرارِه؛ لأنَّ إقْرارَه يَنْفُذُ في مِلْكِه، والمِلْكُ (¬1) يَثْبُتُ بالشّاهدِ والمرْأتَيْن، والشَّاهدِ واليَمِينِ، ولا نَحْكُمُ له بالولدِ؛ لأنَّه يَدَّعِى نَسَبَه، والنَّسَبُ لا يثْبُتُ بذلك، ويَدَّعِى حُرِّيَّته أيضًا. فعلى هذا، يُقَرُّ (¬2) الولدُ في يَدِ المُنْكِرِ مَمْلُوكًا له. وهذا أحدُ قَوْلَىِ الشافعىِّ. وقال في الآخر: يأخُذُها وولَدَها، ويكونُ ابنَه؛ لأنَّ مَن ثَبَتَت له العَيْنُ، ثَبَت له نَماؤها، والولدُ نَماؤها. وذكرَ فيها أبو الخَطَّابِ عن أحمدَ رِوايَتَيْن، كقَوْلَىِ (¬3) الشَّافعىِّ. ولَنا، أنَّه لم يَدَّعِ الولدَ مِلْكًا، وإنَّما يَدَّعِى حُرِّيَته ونَسَبَه، وهذان لا يَثْبُتان بهذه البَيِّنَةِ، فيَبْقَيانِ على ما كانا عليه. ¬

(¬1) في ق، م: «لذلك». (¬2) في ق، م: «نقول». (¬3) في الأصل: «لقول»، وفى ق، م: «كقول». والمثبت من المغنى 14/ 134.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإنِ ادَّعَى أنَّها كانتْ مِلْكَه فأعتَقَها، لم يثْبُتْ ذلك بشاهد وامرأتَيْن؛ لأنَّ البَيِّنَة شهِدَتْ بمِلْكٍ قَديم، فلم يَثْبُتْ، والحُريَّةُ لا تَثْبُتُ (¬1) برجلٍ وامرأتَيْن. ويَحْتَمِلُ أن تَثْبُت، كالتى قبلَها. واللهُ تعالى أعلمُ. ¬

(¬1) بعده في م: «إلا».

باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِى، وَتُرَدُّ فِيمَا يُرَدُّ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الشَّهادةِ على الشَّهادَةِ والرُّجُوعِ عن الشّهادَةِ (تُقْبَلُ الشَّهادَةُ على الشَّهادَةِ فيما يُقْبَلُ فيه كِتابُ القاضى، وتُرَدُّ فيما يُرَدُّ فيه) الكلامُ في هذه المسألةِ في فُصول ثَلاثَةٍ؛ أحدُها، في (¬1) جَوازِها. والثانى، في مَوْضِعِها. والثالثُ، في شَرْطِها. أمّا الأوَّلُ: فإنَّ الشَّهادةَ على الشَّهادةِ جائِزَةٌ، بإجْماعِ العُلَماءِ. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. قال أبو عبيدٍ: أجْمَعَتِ العُلَماءُ مِن أهلِ الحِجازِ والعِراقِ، على إمْضاءِ الشَّهادةِ على الشَّهادةِ في الأمْوالِ. ولأنَّ الحاجةَ داعِيَة إليها، فإنَّها لو لم تُقْبَلْ، لبَطَلَتِ الشَّهادةُ على الوُقُوفِ (¬2)، وما يتَأخَّرُ إثْباتُه عندَ الحاكمِ ثم يَمُوتُ شُهودُه، وفى ذلك ضَرَرٌ على النَّاسِ، ومَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فوجَبَ أن تُقْبَلَ، كشَهادَةِ الأصْلِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «الموقوف».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثانى: أنَّها تُقْبَلُ في المالِ، وما يُقْصَدُ به المالُ, كما ذكَر أبو عُبَيْدٍ، ولا تُقْبَلُ في حَدٍّ. وهذا قولُ الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وأبى حنيفةَ. وقال مالكُ، والشافعىُّ في قولٍ، وأبو ثَوْرٍ: تُقْبَلُ في الحُدودِ، وفى كُلِّ حقٍّ؛ لأنَّ ذلك يثْبُتُ بشَهادةِ الأصْلِ، فيَثْبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، كالمالِ. ولَنا، أنَّ الحُدودَ مَبْنِيَّةٌ على السَّتْرِ والدَّرْءِ بالشّبُهاتِ، والإِسْقاطِ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ، والشَّهادةُ على الشهادةِ فيها شُبْهَةٌ؛ فإنَّها يَتَطَرَّقُ إليها احْتِمالُ الغَلَطِ والسَّهْوِ والكَذِبِ في شُهودِ الفَرْعِ، مع احْتِمالِ ذلك في شُهودِ الأصْلِ، وهذا احْتِمال زائدٌ، لا يُوجَدُ في شُهودِ الأصْلِ، وهو مُعْتَبَرٌ، بدَلِيلِ أنَّها لا تُقْبَلُ مع القُدْرَةِ على شُهُودِ الأصْلِ، فوَجَب أن لا تُقْبَلَ فيما يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَها إنَّما تُقْبَلُ للحاجَةِ، ولا حاجَةَ إليها في الحَدِّ؛ لأنَّ سَتْرَ صاحبه أوْلَى مِن الشَّهادةِ عليه، ولأنَّه لا نَصَّ فيها، ولا يَصِحُّ قِياسُها [على الأَموالِ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ في الحاجَةِ والتَّساهُلِ فيها، ولا يَصِحُّ قِياسُها] (¬1) على شَهادةِ الأصْلِ؛ لِما ذكَرْنا، فيَبْطُلُ إثْباتُها. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّها لا تُقْبَلُ في القِصاصِ أيضًا، ولا حَدِّ القَذْفِ؛ لأنَّه قال: إنَّما تجوزُ في الحُقوقِ، أمّا الدماءُ والحَدُّ فلا. ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: تُقْبَلُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لقولِه: في كُلِّ شئٍ إلَّا في الحُدودِ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِى، لا يَسْقُطُ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ به، ولا يُسْتَحَبُّ سَتْرُه، فأشْبَهَ الأمْوالَ. وذكرَ أصْحابُنا هذا رِوايةً [عن أحمدَ؛ لأنَّ ابنَ منصورٍ نَقَلَ أنَّ سُفْيانَ قال: شهادةُ رجلٍ مكانَ رجلٍ في الطَّلاقِ جائِزةٌ. قال أحمدُ: ما أحْسَنَ ما قال. فجَعَلَه أصْحابُنا رِوايَةً في القِصاصِ] (¬1). وليس هذا بِرِوايَةٍ؛ فإنَّ الطَّلاقَ لا يُشْبِهُ القِصاصَ. والمذهبُ أنَّها لا تُقْبَلُ فيه؛ لأنَّه عُقُوبَة بَدَنِيَّة (¬2)، تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وتُبْنَى على الإسْقاطِ، فأشْبَهَتِ الحُدودَ، فأمَّا ما عَدا الحُدودَ والقِصاصَ والأموالَ، كالنِّكاحِ والطَّلاقِ وسائرِ ما لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، فنَصَّ أحمدُ على قَبُولِها في الطَّلاقِ والحُقوقِ، فدَلَّ على قَبُولِها في جميعِ هذه الحُقوقِ. وهو قولُ الخِرَقِىِّ. وقال ابنُ حامدٍ: لا تُقْبَلُ في النِّكاحِ. ونحوُه قولُ أبى بَكرٍ. فعلَى قولِهما، لا تُقْبَلُ إلَّا في المالِ، وما يُقْصَدُ به المالُ. وهو قولُ أبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّه حَقٌّ لا يثْبُتُ إلَّا بشَاهِدَيْن، فأشْبَهَ حَدَّ القَذْفِ. ووَجْهُ الأوّلِ، أنَّه حَقٌّ لا يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فيَثْبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، كالمالِ، وبهذا فارَقَ الحُدودَ. ¬

(¬1) في ق، م: «في الطلاق». (¬2) في م: «فيه».

5069 - مسألة: (ولا تقبل إلا أن تتعذر شهادة شهود الأصل؛ بموت، أو مرض، أو غيبة إلى مسافة القصر)

وَلَا تُقْبَلُ إلَّا أنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ شُهُودِ الْأصْلِ؛ بمَوْتٍ، أوْ مَرَضٍ, أوْ غَيْبَةٍ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ إلًّا بَعْدَ مَوْتِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصلُ الثالثُ: في شُرُوطِها، وهى ثَلاثةٌ؛ أحدُها، أن تتَعَذَّرَ [الشَهادَةُ مِن شُهودِ الأصْل. 5069 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ إلَّا أن تَتَعَذَّرَ (¬1) شَهادةُ شُهُودِ الأصْلِ؛ بمَوْتٍ، أو مَرَض، أو غَيْبَةٍ إلى مَسافَةِ القَصْرِ) وعنه، لا تُقْبَلُ إلَّا أن يَمُوتَ شاهِدُ الأصْلِ. هذا أحدُ الشروطِ، وهِو تَعَذُّرُ شَهادةِ الأصْلِ؛ لموْتٍ، أو غَيْبَةٍ، أو مَرَضٍ، أو حَبْسٍ، أو خوْفٍ مِن سُلْطانٍ ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو غيره. وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشَّافعىُّ. وحُكِىَ عن أبى يوسف، ومحمدٍ، جَوازُها مع القُدْرَةِ على شَهادةِ الأصْلِ، قِياسًا على الرِّوايةِ وأخْبارِ الدِّياناتِ. ورُوِىَ عن الشَّعْبِىِّ، أنَّها لا تُقْبَلُ إلَّا أن يَمُوتَ شاهِدُ الأصْلِ؛ لأنَّهما إذا كانا حَيَّيْنِ، رُجِىَ حُضورُهما، فكانا كالحاضِرَيْن. وعن أحمد مثلُ هذا، إلَّا أنَّ القاضىَ تَأوَّلَه على الموتِ، وما في معناه مِن الغَيْبَةِ البَعيدَةِ ونحوِها. ويُمْكِن تأويلُ قولِ الشَّعْبِىِّ على هذا، فَيَزُولُ هذا الخِلافُ. ولَنا على اشْتِراطِ تعَذرِ شهادَةِ (¬1) شاهِدِ الأصْلِ، أنَّه إذا أمْكَنَ الحاكمَ أن يَسْمَعَ شَهادةَ شاهِدَىِ الأصْلِ، اسْتَغْنَى عن البَحْثِ عن عَدالَةِ شاهِدَىِ الفَرْعِ، وكان أحْوطَ للشهادةِ، فإنَّ سَماعَه منهما مَعْلُوم، وصِدْقَ شاهِدَىِ الفَرْعِ عليهما مَظْنون، والعملُ باليَقِينِ (¬2) مع إمْكانِه أوْلَى مِن اتِّباعِ الظَّنِّ، ولأنَّ شَهادَةَ الأصْلِ تُثْبِتُ نَفْسَ الحقِّ، وهذه إنَّما تُثْبِتُ الشَّهادةَ عليه، ولأنَّ في شَهادةِ الفَرْعِ ضَعْفًا؛ لأنَّه يَتَطَرَّقُ إليها احْتِمالان؛ احْتِمالُ غَلَطِ شاهِدَىِ [الأصْلِ، واحْتِمالُ غَلَطِ شاهِدَىِ] (¬3) الفَرْعِ، فيكونُ ذلك وَهْنًا فيها، ولذلك لم تَنْتَهِضْ لإثْباتِ الحُدودِ والقِصاصِ، فيَنبغِى أن لا تَثْبُتَ إلَّا عندَ عَدَمِ شَهادةِ الأصْلِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ق، م: «باليمين». (¬3) سقط من النسخ، والمثبت من المغنى 14/ 201.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كسائرِ الأبدالِ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على أخْبارِ الدِّياناتِ؛ لأنَّه خُفِّفَ فيها، ولذلك (¬1) لا يُعْتَبَرُ فيها العدَدُ، ولا الذكورِيَّةُ، ولا الحُريَّةُ، ولا اللَّفْظُ، والحاجَةُ داعِيَةٌ إليها في حَقِّ عُمومِ الناسِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ولَنا على قَبُولِها عندَ تَعذُّرِها بغيرِ الموْتِ، أنَّه قد تَعذَّرَتْ شَهادةُ الأصْلِ، فتُقْبَلُ شَهادةُ الفَرْعِ, كما لو ماتَ شاهِدا (¬2) الأصْلِ، ويُخالِفُ الحاضِرَيْن؛ فإنَّ سَماعَ شَهادَتِهما مُمْكِن، فلم يَجُزْ غيرُ ذلك. إذا ثَبَت هذا، فذكرَ القاضى أن الغَيْبَةَ المُشْترَطةَ لسَماعِ شَهادَةِ (¬3) الفَرْعِ، أن يكونَ شاهدُ الأصْل بمَوْضِعٍ لا يُمْكِنُه أن يَشْهَدَ ثم يَرْجِعَ مِن يَوْمِه. وهذا قالَه أبو يوسف، وأبو حامِدٍ مِن أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ الشَّاهِدَ تَشُقُّ عليه المُطالَبَةُ بمِثْلِ هذا السَّفَرِ، وقد قال الله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬4). وإذا لم يُكَلَّفِ الحُضورَ، تَعذّرَ سَماعُ شَهادتِه، فاحْتِيجَ إلى سَماعِ شَهادَةِ الفَرْعِ. وقال أبو الخَطَّابِ: تُعْتَبَرُ مَسافةُ القَصْرِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأبى الطّيِّبِ الطَّبرِىِّ، مع اخْتِلافِهم في ¬

(¬1) في ق، م: «وكذلك». (¬2) في ق، م: «شاهد». (¬3) في م: «شهاد». (¬4) سورة البقرة 282.

5070 - مسألة: (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل، فيقول: اشهد على شهادتى أنى أشهد أن فلان ابن فلان، وقد عرفته بعييه، واسمه، ونسبه، أقر عندى، وأشهدنى على نفسه طوعا بكذا. أو: شهدت عليه. أو: أقر عندى بكذا. وإن سمعه يقول: أشهد على فلان بكذا. لم يجز أن يشهد، إلا أن يسمعه يشهد عند الحاكم، أو يشهد بحق يعزيه إلى سبب؛ من بيع، أو إجارة، أو قرض، فهل يشهد به؟ على وجهين)

وَلَا يَجُوزُ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ أنْ يَشْهَدَ، إلَّا أنْ يَسْتَرْعِيَهُ شَاهِدُ الْأصْلِ، فَيَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادتِى أَنِّى أشْهَدُ أنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَقَدْ عَرَفْتُهُ بِعَيْنهِ، وَاسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، أقَرَّ عِنْدِى، وَأشْهَدَنِى عَلَى نَفْسِهِ طَوْعًا بِكَذَا. أوْ: شَهِدْتُ عَلَيْهِ. أوْ: أقَرَّ عِنْدِى بكَذَا. فإنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: أشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا. لَمْ يَجُزْ أنْ يَشْهَدَ، إَلَّا أنْ يَسْمَعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ [352 و] الْحَاكِمِ، أوْ يَشْهَدُ بِحَقٍّ يَعْزِيهِ إلَى سَبَب؛ مِنْ بَيْع، أوْ إجَارَةٍ، أوْ قَرْض، فَهَلْ يَشْهَدُ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مَسافةِ القَصْرِ كلٌّ على أصْلِه؛ لأنَّ ما دونَ ذلك في حُكْمِ الحاضرِ، في التَّرَخُّصِ وغيرِه، بخِلافِ مَسافةِ القَصْرِ. ويُعْتَبَرُ دَوامُ هذا الشرْطِ إلى الحُكْمِ، سنَذْكُرُه، إن شاءَ اللهُ تعالى. 5070 - مسألة: (ولا يَجُوزُ لشاهِدِ الفَرْعِ أن يَشْهَدَ حَتَّى يَسْتَرْعِيَه شاهِدُ الأصْلِ، فَيَقُولَ: اشْهَدْ على شَهادَتِى أنِّى أشْهَدُ أنَّ فُلَانَ ابنَ فُلَانٍ، وقد عَرَفْتُه بعَيْيهِ، واسْمِهِ، ونَسَبِهِ، أقَرَّ عِنْدِى، وَأشْهَدَنِى على نَفْسِهِ طَوْعًا بكذَا. أو: شَهِدْتُ عليه. أو: أقَرَّ عِنْدِى بِكَذَا. وإنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: أشْهَدُ على فُلَانٍ بِكَذَا. لم يَجُزْ أن يَشْهَدَ، إلَّا أن يَسْمَعَه يَشْهَدُ عِنْدَ الحَاكِمِ، أو يَشْهَدُ بحَقٍّ يَعْزِيهِ إلى سَبَبٍ؛ مِن بَيْعٍ، أو إجارَةٍ، أو قَرْض، فهل يَشْهَدُ به؟ على وَجْهَيْنِ) يُشتَرطُ لجَوازِ شَهادةِ الفَرْعِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يَسْتَرْعِيَه على ما ذكَرْنا. فإن سَمِعَ شاهِدًا يَسْتَرْعِى آخَرَ شَهادةً يَشْهَدُ عليها، جازَ لهذا السَّامعِ أن يَشْهَدَ بها؛ لحُصُولِ الاسْتِرْعاءِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ له أن يَشْهَدَ إلَّا أن يَسْتَرْعِيَه بعَيْيه. وهو قولُ أبى حنيفةَ. قال أحمدُ: لا تَكونُ شَهادةً إلَّا أن يكونَ يُشْهِدُكَ، فأمّا إن سَمِعْتَه (¬1) يتَحَدَّثُ، فإنَّما ذلك حديثٌ. وبما ذكَرْناه قال الشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ، وأبو عُبَيْدٍ. فأمّا إن سَمِعَ شاهِدًا يَشْهَدُ عندَ الحاكمِ بحَقٍّ، أو سَمِعَه يَشْهَدُ بحَقٍّ يَعْزِيهِ إلى سَبَبٍ، نحوَ أن يقولَ: أشْهَدُ أنَّ لفُلانٍ على فُلانٍ ألفًا مِن ثَمَنِ مَبِيع. فهل يَشْهَدُ به؟ فيه رِوَايتانِ. ذكَرَهما أبو الخَطَّاب. وذكرَ القاضى، أنَّ له الشَّهادةَ. وهو مذهبُ الشافعىِّ؛ لأنَّه بالشَّهادةِ عندَ الحاكم، ونِسْبَتِه الحقَّ إلى سَبَبِه يَزُولُ الاحْتِمالُ، ويرتَفِعُ الإِشْكالُ، فتجوزُ له الشَّهادةُ على ¬

(¬1) في ق، م: «سمعه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شَهادَتِه, كما لو اسْتَرْعاه. والرِّوايةُ الأخْرَى، لا يجوزُ له أن يَشْهَدَ على شَهادَتِه. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّ الشَّهادةَ [على الشَّهادَةِ] (¬1) فيها معْنَى النِّيابَةِ، فلا يَنُوبُ عنه إلَّا بإذْنِه. ومَن نَصَر الأوَّلَ قال: هذا يَنْقُلُ شَهادَتَه، ولا يَنُوبُ عنه؛ لأنَّه لا يَشهَدُ مِثْلَ شَهادَتِه، ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [إنَّما شَهِدَ على شَهادتِه. فأمّا إن قالَ: اشْهَدْ أنِّى أشْهَدُ على فُلانٍ بكذا. فالأشْبَهُ أنَّه يجوزُ أن يَشْهَدَ على شَهادتِه] (¬1). وهو قولُ أبى يوسُفَ؛ لأنَّ معنَى ذلك: اشْهَدْ على شَهادَتِى. [وقال أبو حنيفةَ: لا يَجُوزُ إلَّا أنْ يَقولَ: اشْهَدْ على شَهادَتِى] (¬2) أنِّى أشْهَدُ، لأنَّه إذا قال: اشْهَدْ. فقد أمرَه بالشَّهادةِ، ولم يَسْتَرْعِه. وما عَدا هذه المَواضِعَ، لا يجوزُ أن يَشْهَدَ فيها على الشَّهادةِ، فإذا سَمِعَه يقولُ: أشْهَدُ أنَّ لفُلانٍ على فُلانٍ ألفَ دِرْهم. لم يَجُزْ أن يَشْهَدَ على شَهادتِه؛ لأنَّه لم يَسْتَرعِه الشهادةَ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ وَعَدَه بها، وقد يُوصَفُ الوَعْدُ بالوُجوب مَجازًا؛ فإنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «العِدَةُ دَيْنٌ» (¬3). ويَحْتَمِلُ أن يُرِيدَ بالشَّهادةِ العِلْمَ، فلم يَجُزْ لسَامِعِه الشَّهادةُ به. فإن قيل: فلو سَمِعَ رَجلًا يقولُ: لفُلانٍ علىَّ (¬4) ألفُ دِرْهم. جازَ أن يَشْهَدَ بذلك، فكذا هذا. قُلْنا: الفَرْقُ بينَهما مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ الشَّهادةَ تَحْتَمِلُ العِلْمَ، ولا يحْتَمِلُ الإِقْرارُ ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) أخرجه الطبرانى، في: الصغير 1/ 150. من حديث على وابن مسعود. وأبو نعيم، في: تاريخ أصبهان 2/ 270. والديلمى، انظر: فردوس الأخبار 3/ 111. وقال الهيثمى: وفيه حمزة بن داود، ضعفه الدارقطنى. مجمع الزوائد 4/ 166. وانظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 3/ 1162، وفيض القدور 4/ 377، 378. (¬4) في ق، م: «على فلان».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى، أنَّ الإقْرارَ أوْسَعُ في لُزُومِه مِن الشَّهادةِ، بدليلِ صِحَّتِه في المَجْهولِ، وأنَّه لا يُراعَى فيه العَددُ، بخِلافِ الشَّهادةِ، ولأنَّ الإِقْرارَ قولُ الإِنسانِ على نَفْسِه، وهو غيرُ مُتَّهَم عليها، فيكونُ أقْوَى منها، ولهذا لا تُسْمَعُ الشَّهادةُ في حَقِّ المُقِرِّ، ولا يُحْكَمُ بها. ولو قال شاهدُ الأصْلِ: أنا أشْهَدُ أنَّ لفُلانٍ على فلانٍ ألْفًا، فاشْهَدْ به أنتَ عليه. لم يَجُزْ أن يَشْهَدَ على شَهادتِه؛ لأنَّه ما اسْتَرْعاه شَهادتَه فيَشْهَدَ عليها، ولا هو شاهِدٌ بالحَقِّ؛ لأنَّه ما سَمِعَ الاعْتِرافَ به ممَّن هو عليه، ولا شاهَدَ سَبَبَه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فأما كَيْفِيَّةُ الأداءِ (¬1) إذا كان قد اسْتَرْعاه الشَّهادةَ، فإنَّه يقولُ: أشهَدُ أنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ، وقد عَرَفْتُه (¬2) بعينِه واسْمِهِ ونَسَبهِ وعَدَالَتِه، أشْهَدَنِى أنَّه يَشْهَدُ أنَّ لفُلانِ بنِ فُلانٍ كذا. أو: أنَّ فُلانًا أقَرَّ عندِى بكذا. وإن لِم يَعْرِفْ عَدالَتَه لم يَذْكُرْها. وإن سَمِعَه يُشْهِدُ غيرَه، قال: أشْهَدُ أنَّ فُلان بنَ فُلانٍ، أشْهَدَ على شَهَادته أنَّ لفُلانِ بنِ فُلانٍ، على فُلانِ بنِ فُلانٍ كذا وكذا. وإن كان سَمِعَه يَشْهَدُ عندَ الحاكمِ، قال: أشْهَدُ أنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ، شهِدَ على فُلانِ بنِ فُلانٍ، عندَ الحاكمِ بكذا. وإن كان نَسَب الحقَّ إلى سَبَبِه، قال: أشهَدُ أن فُلانَ بنَ فُلانٍ قال: أشْهَدُ أنَّ لفُلانِ بنِ فُلانٍ، على فُلانِ بنِ فُلانٍ كذا وكذا، مِن جِهَةِ كذا وكذا. وإذا أرادَ الحاكِمُ أن يَكتُبَ ذلك، كتَبَه، على ما ذكَرْنا. ¬

(¬1) في الأصل: «الإمام». (¬2) في الأصل: «عرفه».

5071 - مسألة: (وتثبت شهادة شاهدى الأصل بشهادة شاهدين، يشهدان عليهما، سواء شهدا على كل واحد منهما، أو شهد

وَتَثْبُتُ شَهَادَةُ شَاهِدَىِ الأَصْلِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ شَهِدَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أوْ شَهِدَ عَلَى كُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ويُشْتَرطُ أن يُعَيِّنا شاهِدَىِ الأصْلِ، على ما ذكَرْنا، ويُسمِّياهُما. وقال ابنُ جَرِيرٍ: إذا قالا: ذكَرَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَدْلَيْنِ. جازَ، وإنْ لم يُسَمِّيا؛ لأنَّ الغَرَضَ مَعْرِفَةُ الصِّفاتِ دُونَ العَيْنِ. وليس بصَحِيحٍ؛ لجَوازِ أن يَكونا عَدْلَيْن عندَهما، وهما مَجْروحَان عندَ غيرِهما، ولأنَّ المَشْهودَ عليه ربَّما أمْكَنَه جَرْحُ الشُّهودِ، فإذا لم يَعْرِفْ أعْيانَهما، تَعذَّرَ عليه ذلك. 5071 - مسألة: (وتَثْبُتُ شَهادَةُ شاهِدَىِ الأصْلِ بشَهادَةِ شاهِدَيْنِ، يَشْهَدَانِ عليهما، سَواءٌ شَهِدَا على كُلِّ واحِدٍ منهما، أو شَهِدَ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ مِنْ شُهُودِ الْفَرْعِ. وَقَالَ أبو عَبْدِ الله ابْنُ بَطَّةَ: لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ أرْبَعَة؛ عَلَى كُلِّ شَاهِدِ أصْلٍ شَاهِدَا فَرْعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ على كُلِّ واحِدٍ منهما شاهِدٌ مِن شُهُودِ الفَرْعِ. وقال أبو عبدِ الله ابنُ بَطَّةَ: لا تَثْبُتُ حتى يَشْهَدَ أرْبَعَةٌ؛ على كُلِّ شاهِدِ أصْلٍ شَاهِدَا فَرْعٍ) وجملةُ ذلك، أنَّه يَجُوزُ أن يَشْهَدَ على كلِّ واحدٍ مِن شَاهِدَىِ الأصْلِ شاهِدُ (¬1) فَرْع، فيَشْهَدَ شاهِدَا فَرْعٍ على شاهِدَىْ أصْل. قال القاضى: لا يَخْتَلِفُ كلامُ أحمدَ في هذا. وهو قولُ شُرَيْحٍ، والشَّعْبِىِّ، والحسنِ، وابنِ شُبْرُمَةَ، وابنِ أبى ليلَى، والثوْرِىِّ، وإسْحاقَ، والبَتِّىِّ، والعَنْبَرِىِّ. قال إسْحاقُ: لم يَزَلْ أهلُ العلمِ على هذا، حتى جاءَ هؤلاءِ. قال أحمدُ: وشَاهِدٌ على شاهدٍ يجوزُ، لم يَزَلِ النَّاسُ على ذا؛ شُرَيْحٌ فمَن دُونَه، إلَّا ¬

(¬1) في ق: «شاهدا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّ أبا حنيفةَ أنْكَرَه. وذهَبَ أبو عبدِ الله ابنُ بَطَّةَ إلى أنَّه لا يُقْبَلُ على كلِّ شاهدِ أصْل إلَّا شاهِدَا فَرْعٍ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعىِّ؛ لأنَّ شَاهِدَىِ الفَرْعِ يُثْبِتانِ شَهادةَ شاهِدَىِ الأصْلِ، فلا تثْبُتُ شَهادةُ كلِّ واحدٍ منهما بأقلَّ مِن شاهِدَيْن, كما لا يثْبُتُ إقْرارُ مُقِرَّيْنِ بشَهادَةِ اثْنَيْن، يَشْهَدُ على كلِّ واحدٍ منهما واحِدٌ. ولَنا، أنَّ هذا يَثْبُتُ بشَاهِدَيْن، وقد شَهِدَ اثْنان بما يُثْبِتُه، فيَثْبُتُ, كما لو شَهِدَا بنَفْسِ الحَقِّ، ولأنَّ شَاهِدَىِ الفَرْعِ بَدَلٌ مِن شاهِدَىِ الأصْلِ، فيَكْفِى في عَددِهما (¬1) ما يَكْفِى في شَهادةِ الأصْلِ، ولأنَّ هذا إجْماعٌ، على ما ذكَرَه أحمدُ وإسْحاقُ، ولأنَّ شاهِدَىِ الفَرْعِ لا يَنْقُلانِ عن شاهِدَىِ الأصْلِ حَقًّا عليهما، فوَجَبَ أن يُقْبَلَ فيه قولُ واحدٍ، كأخْبارِ الدِّياناتِ، فإنَّهما إنَّما (¬2) يَنْقُلانِ ¬

(¬1) في م: «عددها». (¬2) في ق، م: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشَّهادةَ، وليستْ حقا عليهما، ولهذا لو أنْكَراها (¬1) لم يُعِدِ الحاكمُ عليهما، ولم يَطْلُبْها (¬2) منهما. وهذا الجوابُ عمَّا ذكَرُوه. إذا ثَبَت هذا، فمَن اعْتَبَر لكُلِّ شاهِدِ أصْل شاهِدَىْ فَرْع، أجازَ أن يَشهَدَ شاهدان على كُلِّ واحدٍ مِن شاهِدَىِ الأصل. وبه قال مالكٌ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. قال الشافعىُّ: رأيتُ كثيرًا مِن الحُكًّامِ والمُفْتِينَ يُجِيزُه. وخرَّجَه على قَوْلَيْنِ؛ أحدُهما، جَوازُه. والآخر، لا يجوزُ حتى يكونَ شُهودُ الفَرْعِ أربعةً، على كُلِّ شاهدِ أصل شاهِدَا فَرْع. واخْتارَه المُزَنِىُّ؛ لأنَّ مَن يَثْبتُ به أحدُ طَرَفَىِ الشَّهادَةِ، لا يثْبتُ به الطَّرَفُ الآخرُ, كما لو شَهِدَ أصْلًا، ثم شَهِدَ مع آخَرَ على شَهادَةِ شاهِدِ الأصْلِ الآخر. ولَنا، أنَّهما شهِدَا على قَوْلَيْنِ، فوجَبَ أن يقْبَلَ, كما لو شهِدَا بإقْرارِ اثْنَيْن، أو بإقْرارَيْن بحَقَّيْن. وإنَّما لم يَجُزْ أن يَشهَدَ شاهدُ الأصْلِ فَرْعًا؛ لأنَّه يُؤَدِّى إلى أن يكونَ بَدلًا أصْلا [في شَهادةٍ] (¬3) بحق، وذلك لا يجوزُ، ولأنَّهم يُثْبِتونَ بشَهادتِهم شَهادةَ الأصْلِ، وليستْ شَهادةُ أحدِهم (¬4) طَرَفًا (¬5) لشهادةِ ¬

(¬1) في ق، م: «أنكراهما». (¬2) في م: «يبطلها». (¬3) في ق، م: «بشهادة». (¬4) في ق: «أحد»، وفى م: «أحدهما». (¬5) في م: «ظرفا».

5072 - مسألة: (ولا مدخل للنساء فى شهادة الفرع. وعنه،

وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِى شَهَادَةِ الْفَرْعِ. وَعَنْهُ، لَهُنَّ مَدْخَل. ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخر. فعلى قَوْلِ الشافعىِّ، إن ثَبَت الحقُّ بشَهادةِ رَجل وامرأتَيْن، وجَبَ أن يكونَ شُهودُ الفَرعِ سِتَّة، وإن كان ثَبَتَ بأربعِ نِسْوَة، وجَبَ أن يكونَ شُهودُ الفَرْعِ ثمانيةً، وإن كان المشْهودُ به زِنًى، خُرِّجَ فيه خمسةُ أقْوالٍ؛ أحدُها، لا مَدْخلَ لشَهادةِ الفَرْعِ في إثْباتِه. والثانى، يجوزُ، ويَجِبُ أن يكونَ شُهودُ الفَرْعِ سِتَّةَ عشر.، فيَشْهَدَ على كُلِّ واحدٍ مِن شُهودِ الأصْلِ أربَعة. الثالث، يَكْفِى ثَمانيةٌ. والرابعُ، يكونُون أربعةً، يَشْهدونَ على كلِّ واحدٍ. والخامِس، يَكْفِى شاهِدَان يَشْهَدان على كلِّ واحدٍ مِن شهودِ الأصْلِ. وهذا إثْبات لحدِّ الزِّنى بشاهِدَيْنِ، وهو بَعِيدٌ. فصل: فإن شَهِدَ بالحقِّ شاهِدُ أصْل، وشاهِدَا فَرْع، يَشْهدان على شَهادةِ أصلٍ آخَرَ، جازَ. وإن شَهِدَ شاهدُ أصل، وشاهدُ فَرْع، خُرِّجَ فيه ما ذكَرْنا من الخلافِ مِن قبلُ. فصل: وإن شَهِدَ شاهدُ أصلٍ، ثم شَهِدَ هو وآخَرُ فَرْعًا على شاهدِ أصْل آخَرَ، لم تُفِدْ شَهادتُه الفَرْعِيةُ شيئًا، وكان حُكْمُ ذلك حُكْمَ ما لو شَهِدَ على شَهادتِه شاهدٌ واحدٌ. 5072 - مسألة: (ولا مَدْخَلَ للنِّساءِ في شَهادَةِ الفَرْعِ. وعنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَهُنَّ مَدْخَلٌ) [اخْتَلَفَتِ الروايَةُ؛ هل الذُّكُورِيَّةُ شَرْط في شُهودِ الفَرْعِ أم لا؟ فعنه، أنَّها شرط] (¬1)، فلا يُقْبَلُ في شُهودِ الفَرْعِ نِساءٌ بحالٍ، سواءٌ كان الحقُّ ممَّا تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ أوْ لا. وهذا قول الشافعىِّ، ومالكٍ، والثَّوْرِىِّ؛ لأنَّهم يُثْبِتونَ بشَهادتِهم (¬2) شُهودَ الأصْلِ دونَ الحقِّ. وليس ذلك بمالٍ، ولا المقْصودُ منه المالَ، ويَطَّلِعُ عليه الرِّجالُ، فأشْبَهَ القِصاصَ والحَدَّ. والثانيةُ، لَهُنَّ مَدْخَل، فيما كانَ المشْهودُ (¬3) به يَثْبُتُ بشَهادَتِهنَّ في الأصْلِ. قال حَرْبٌ: قيل لأحمدَ: فشَهادةُ امْرأتَيْن على شَهادةِ امْرأتَيْن، تجوزُ؟ قال: نعم. يعنى إذا كان معهما رَجلٌ. وذكَرَ الأوْزاعِىُّ، قال: سمِعْتُ نُمَيْرَ بنَ أوْسٍ (¬4) يُجِيزُ شَهادةَ المرأةِ على شَهادةِ المرأةِ. ووَجْهُه أنَّ المقْصودَ بشَهادَتِهِنَّ إثْباتُ الحقِّ الذى شَهِدَ به شُهودُ ¬

(¬1) في م: «عن أحمد أنَّ الذكورية شرط». (¬2) بعده في المغنى 14/ 205: «شهادة». (¬3) في الأصل: «للشهود». (¬4) نمير بن أوس الأشعرى، قاضى دمشق، ثقة، قليل الحديث. توفى سنة خمس عشرة ومائة. تهذيب التهذيب 10/ 475، 476.

فَيَشْهَدُ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأتيْنِ، أو رَجُلٌ وَامْرَأتانِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَتيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصْلِ»، [فقُبِلتْ فيه شَهادَتُينَّ، كالبيع. ويفارِقُ الحَدُّ والقِصاصَ، فإنَّه ليس القَصْد مِن الشهادةِ به إثباتَ مالٍ بحالٍ. فأمّا شهودُ الأصلِ] (¬1)، فيَدْخُل النِّساءُ فيه، فيَجوزُ أن يَشْهَدَ رَجلان على رجلٍ وامْرأتَيْن، [في كُلِّ حَقٍّ ثبتَ بشهادتِهنَّ مع الرجالِ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلم. وأن يَشْهَدَ رجلٌ وامرأتان على رجلٍ وامرأتين] (¬2). وذكَرَ أبو الخَطَّابِ رِوايةً أخْرَى، أن النِّساءَ ليس لهُنَّ مَدْخَلٌ في الشَّهادةِ على الشَّهادةِ؛ لأنَّ فيها ضَعْفًا؛ لِما ذكَرْنا مِن قبلُ، فلا مَدْخَلَ لهنَّ فيها؛ لأنَّها ¬

(¬1) تكملة من المغنى 14/ 205. (¬2) سقط من: ق، م.

5073 - مسألة: (قال القاضى: لا تجوز شهادة رجلين على)

وَفَالَ الْقَاضِى: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَزْدادُ بشَهادَتِهِن ضَعْفًا، فاعْتُبِرَتْ تَقْوِيتُها باعْتِبارِ الذُّكورِيَّةِ فيها. فعلى هذه الروايةِ لَا تَكُن أصُولًا ولا فُروعًا. ولَنا، أنَّ شُهودَ الفَرْعِ إن كانوا يُثْبِتونَ شَهادةَ الأصُولِ، فهى تَثْبُتُ بشَهادَتِهمِ، وإن كانوا يُثْبِتُونَ نَفْسَ الحقِّ، فهو يَثْبُتُ بشهادَتِهِم، ولأنَّ النِّساءَ يَشْهَدْن بالمالِ، أو ما يُقْصَدُ به المالُ، فيَثْبُتُ بشَهادتِهنَّ, كما لو أدَّيْنَها عندَ الحاكمِ. وما ذُكِرَ للرِّوايةِ الأخْرَى لا أصْلَ له. 5073 - مسألة: (قال القاضِى: لَا تَجُوزُ شهادةُ رَجُلَيْنِ على)

5074 - مسألة: (ولا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدى الفرع، حتى تثبت عنده عدالتهما، وعدالة شاهدى الأصل)

نَصَّ عَلَيْهِ احْمَدُ. قَالَ أبو الْخَطَّابِ: وَفِى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَهْوٌ مِنْ نَاقِلِهَا. وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَىِ الْفَرْعِ، حَتَّى تَثْبُتَ عِنْدَهُ عَدَالتهُمَا، وَعَدَالَةُ شَاهِدَىِ الْأصْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ شهادَةِ (رَجُل وَامْرَأتيْنِ. نَص عليه أحمدُ. وقال أبو الخَطابِ: في هذه الرِّوايةِ سَهْوٌ مِن ناقِلِها). 5074 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للحاكِمِ أن يَحْكُمَ بشهادةِ شاهِدَىِ الفَرْعِ، حَتى تَثْبُت عندَه عَدالَتُهَما، وعدالَةُ شاهِدَىِ الْأصْلِ) وذلك

5075 - مسألة: (وإن شهدا عنده، فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل، وقف الحكم على سماع شهادتهم)

وَإنْ شَهِدَا عِنْدَهُ، فَلَمْ يَحْكُمْ حَتَّى حَضَرَ شُهُودُ الأصْلِ، وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ الحُكْمَ يَنْبَنِى على الشَّهادَتَيْن جميعًا، فاعْتُبِرَتِ الشُّروطُ في كلِّ واحدٍ منهما. ولا نَعْلَمُ في هذا خلافًا. فإن عَدَّلَ شُهودَ الأصْلِ شُهودُ الفَرْعِ، فشهِدَا بعَدالتِهما، وعلى شَهادتِهما، جازَ، بغيرِ خلافٍ نعْلَمُه. وإن لم يَشْهدَا بعدَالَتِهما، جازَ، ويتَوَلَّى الحاكِمُ ذلك، فإذا عَلِمَ عَدَالَتَهما حَكَمَ، وإن لم يَعْرِفْهما، [بحثَ عنهما] (¬1). وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وتال الثَّوْرِىُّ، وأبو يوسفَ: إن لم يُعَدِّلْ شَاهِدَا الفَرْعِ شاهِدَىِ الأصْلِ، لم يَسْمَعِ الحاكِمُ شَهادَتَهما؛ لأنَّ تَرْكَ تَعْدِيله يَرْتابُ به الحاكمُ. ولا يَصِحُّ ذلك؛ لأنَّه يجوزُ أن لا يَعْرِفا ذلك، فيُرْجَعُ فيه إلى بَحْثِ الحاكمِ، ويجوزُ أن يَعْرِفا (¬2) عَدالَتَهما ويَتْرُكاها، اكْتِفاءً بما يَثْبُتُ عندَ الحاكمِ مِن عَدالَتِهما. 5075 - مسألة: (وإن شَهِدَا عندَه، فلم يَحْكُمْ حتَّى حَضَر شُهُودُ الأصْلِ، وَقَف الحُكْمُ على سَماعِ شهادَتِهم) لأنَّه قَدَرَ على الأصْلِ قبلَ العمَلِ بالبَدَلِ، فأشْبَهَ المُتَيَمِّمَ إذا قَدَر على الماءِ، فلا تَصِحُّ صَلاُته حتى يَتَوَضَّأَ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «يعرف».

5076 - مسألة: (وإن حدث منهم ما يمنع قبول الشهادة، لم يجز الحكم)

وإنْ حَدَثَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ. [352 ظ] وَإنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ، لَزِمَهُمُ الضَّمَانُ. وَإنْ رَجَعَ شُهُودُ الْأصْلِ، لَمْ يَضْمَنُوا. وَيَحْتَمِلُ أنْ يَضْمَنُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5076 - مسألة: (وإن حَدَثَ منهم ما يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، لم يَجُزِ الحُكْمُ) لا بُدَّ مِن اشْتِراطِ اسْتِمْرارِ العَدالَةِ في الجميعِ إلى اسْتِمرارِ (¬1) الحُكْمِ؛ لِما ذكَرْنا في شاهدِ (¬2) الأصْلِ قبلَ هذا. فعلى هذا، إن رَجَعُوا قبلَ الحُكْمِ، لم يَحْكُمْ بها؛ لأنَّ الحُكْمَ يَنْبَنِى عليها، فأشْبَهَ ما لو فسَقَ شُهودُ الفَرْعِ أو رَجعُوا. 5077 - مسألة: (فإن حَكَمَ بشَهادَتِهما، ثم رَجَع شُهُودُ الفَرْعِ، لَزِمَهم الضَّمانُ) لأنَّ الإِتْلافَ كان بشَهادَتِهم، فلَزِمَهم الضَّمانُ, كما لو أتْلَفوا بأيْدِيهم. 5078 - مسألة: (فإن رَجَع شُهُودُ الأصْلِ، لم يَضْمَنُوا) لأنَّ ¬

(¬1) في المغنى 14/ 202: «انقضاء». (¬2) في الأصل: «شهادة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإتْلافَ كان بشَهادةِ غيرِهم، فلا يَلْزَمُهم ضَمان، كالمُتَسَبِّبِ مع المُباشِرِ، ولأنَّهم لم يُلْجِئُوا الحاكمَ إلى الحُكْمِ (ويَحْتَمِلُ أن يَضْمَنُوا) لأنَّ الحُكْمَ يُضافُ إليهم، بدليلِ أنَّه تُعْتَبَرُ عَدالتهم، فلَزِمَهم الضَّمانُ، كما لو حُكمَ بشَهادتِهم، ثم رَجعوا، ولأنَّهم سَبَبٌ في الحُكْمِ، فيَضْمَنُوا، كالمُزَكِّين. فصل: فإن ماتَ شُهودُ الأصْلِ أو الفَرْعِ، لم يَمْنَعِ الحُكْمَ، وكذلك لو ماتَ شُهودُ الأصْلِ قبلَ أداءِ الفُروعِ شهادَتَهم (¬1)، لم يَمْنَعْ مِن أدائِها، والحُكْمِ بها؛ لأنَّ مَوْتَهم مِن شَرْطِ سَماعِ شَهادةِ الفُروعِ ¬

(¬1) في م: «الشهادة».

فَصْلٌ: وَمَتَى رَجَعَ شُهُودُ الْمَالِ بَعْدَ الْحُكْمِ، لَزِمَهُمُ الضمَانُ، وَلَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، سَوَاء مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا أوْ تَالِفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحُكمِ، فلا يجوزُ جَعْلُه مانِعًا، وكذلك إن جُنُّوا؛ لأنَّ جُنونَهم بمَنْزلةِ مَوْتِهم. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه الله: (ومتى رَجَعَ شُهودُ المالِ بعدَ الحُكمِ، لَزِمَهم الضَّمانُ، ولم يُنْقَضِ الحُكْمُ، سواءٌ كان قبلَ القضاءِ أو بَعْدَه، وسَواءٌ كان المالُ قائمًا أو تَالِفًا) أمَّا الرُّجوعُ به على المَحْكومِ له، فلا نعْلَمُ بينَ أهلِ العلمِ فيه (¬1) خِلافًا، أنَّه لا يَرْجِعُ به عليه، ولا ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُنْقَضُ الحُكْمُ في قولِ أهلِ الفُتْيَا مِن عُلَماءِ الأمْصارِ. وحُكِىَ عن سعيدِ ابنِ المُسَيَّبِ، والأوْزاعِىِّ، أنَّهما قالا: يُنْقَضُ الحكمُ [248/ 8 ظْ] وإنِ اسْتُوفِىَ الحقُّ؛ [الأنَّ الحَقّ] (¬1) ثَبَت بشَهادتِهما، فإذا رَجعا، زالَ ما ثَبَت به الحكمُ, كما لو تَبَيَّنَ أنَّهما كانا كافِرَيْن. ولَنا، أنَّ حقَّ المشْهودِ له وجَبَ له، فلا يسْقُطُ بقَوْلِهما, كما لو ادَّعَياه لأنْفُسِهما، يُحَقِّقُ هذا أن حَقَّ الانسانِ لا يَزُولُ إلَّا ببَينةٍ أو إقْرارٍ، ورُجوعُهما ليس بشَهادةٍ، ولهذا لا يَفْتَقِرُ إلى لَفْظِ الشَّهادةِ، ولا هو إقْرار مِن صاحب الحَقِّ، وفارَقَ ما إذا تَبَينَ أنَّهما كانا كافِرَيْن؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا أنه لم يُوجَدْ شَرْطُ الحُكْمِ، وهو شَهادةُ العُدولِ، وفى مسْأَلَتِنا لم يَتَبَيَّنْ ذلك؛ لجوازِ أن يكونَا عَدْلَيْن صادقَيْن في شَهادَتِهما، وإنَّما كذَبا في رُجوعِهما، ويُفارِقُ العُقوباتِ، حيث لا تُسْتَوْفَى؛ لأنَّها تُدْرَأْ بالشُّبُهاتِ. وأمّا الرُّجوعُ على الشّاهِدَيْن به، فهو قولُ اكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالك، وأصْحابُ الرَّأى. وقولُ الشافعىِّ القَديمُ، وقال في الجديدِ: لا يَرْجِعُ عليهما بشيءٍ، إَلَّا أن يشْهَدَا بعِتْقِ عبدٍ، فيَضْمَنا قِيمَتَه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منهما إتْلافٌ للمال، ولا يَدٌ عادِيَةٌ عليه، فلم يَضْمَنا, كما لو رُدَّتْ شَهادَتُهما. ولَنا، أنَّهما أقَرَّا [أنَّهما أخْرجَا] (¬2) مالَه مِن يَدِه بغيرِ حقٍّ، وحالَا بينَه وبينَه، فلَزِمَهما الضَّمان، كما لو شَهِدَا بعِتْقِه، ولأنَّهما أزالَا يَدَ السيِّدِ عن عبدِه بشَهادتِهما المَرْجوعِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «إنما أخرج».

5079 - مسألة: (وإن رجع شهود العتق، غرموا القيمة)

وَإنْ رَجَعَ شُهُودُ الْعِتْقِ، غَرِمُوا الْقِيمَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنها، فأشْبَهَ ما لو شَهِدَا بحُرِّيته، ولأنَّهما تسَبَّبا إلى إتْلافِ حَقِّه بشَهادَتِهما بالزُّورِ عليه، فلَزِمَهما الضَّمانُ، كشاهِدَىِ القِصاصِ. يُحَقِّقُ هذا، أنَّه إذا لَزِمَهما القِصاصُ الذى يُدْرَأ بالشُّبُهاتِ، فوُجوبُ المالِ أوْلَى. وقولُه: إنَّهما ما أتْلَفا المالَ. يَبْطُلُ بما إذا شَهِدَا بعِتْقِه، فإن الرِّق في الحَقِيقَةِ لا يزُولُ بشَهادةِ الزُّورِ، وإنَّما حالَا بينَ سيِّدِه وبينَه، وفى مَوْضعِ إتْلافِ المالِ، فهُما تَسَبَّبا إلى تَلَفِه، فلَزِمَهما ضَمانُ ما تَلِفَ بسبَبِهما، كشَاهِدَىِ القِصاصِ، وشُهودِ الزِّنَى، وحافِرِ البِئْرِ، وناصِبِ السِّكِّينِ. 5079 - مسألة: (وإن رَجَعَ شُهُودُ العِتْقِ، غَرِمُوا القِيمَةَ) [أمّا إذا شَهِدَا بالعَبْدِ أو الأمَةِ لغيرِ مالِكِه، فالحُكْمُ فيه] (¬1) كالحُكْمِ في الشَّهادةِ بالمالِ، على ما ذكَرْنا مِن الخلافِ؛ لأنهما مِن جُمْلَةِ المالِ. وإن شَهِدَا بالحُرِّيَّةِ ثم رَجَعَا عن الشَّهادةِ، لَزِمَهما غَرامةُ قِيمَتِهما لسَيِّدِهما، بغيرِ خلافٍ بينَهم فيه، فإنَّ المُخالِفَ في التى قبلَها هو الشافعىُّ، وقد وافَقَ هاهُنا، وهو حُجَّةٌ عليه فيما خالَفَ فيه. ويَغْرَما القِيمَةَ؛ لأنَّ العَبِيدَ مِن المتقَوِّماتِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5080 - مسألة: (وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول، غرموا نصف المسمى، وإن كان بعده، لم يغرموا شيئا)

وَإنْ رَجَعَ شُهُودُ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، غَرِمُوا نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَإنْ كَانَ بَعْدَهُ، لَم يَغْرَمُوا شَيْئًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5080 - مسألة: (وإن رَجَعَ شهود الطَّلاق قبلَ الدُّخول، غَرِموا نِصْفَ المسَمَّى، وإن كان بَعْدَه، لم يَغْرَموا شَيْئًا) إذا شَهِدَا بطَلاقِ امرأةٍ تَبِين به، فحَكَمَ الحاكِم بالفرْقَةِ، ثم رَجَعا عن الشَّهادةِ، وكان قبلَ الدُّخولِ، فالواجِبُ عليهما نِصْفُ المُسَمَّى. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وقال الشافعى في أحَدِ قَوْلَيْه: يجبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لانهما أتْلَفا عليه البُضْعَ، فلَزِمَهما عِوَضُه، وهو مَهْرُ المِثْلِ. وفى القولِ الآخر، يَلْزَمُهما نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنَّه إنَّما مَلَكَ (¬1) نِصْفَ البُضْعِ، بدليلِ أنَّه إنَّما يجِب عليه ¬

(¬1) في ق، م: «يملك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نِصْفُ المَهْرِ. ولَنا، أنَّ خُروجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوجِ غيرُ مُتَقَوَّم، بدَليلِ ما لو أخْرجَه من مِلْكِه برِدَّتِها، أو (¬1) إسْلامِها، أو قَتْلِها نَفْسَها، فإنَّها لا تَضْمَنُ شيئًا، ولو فَسَخَتْ نِكاحَها قبلَ الدُّخولِ، برَضاعِ مَن يَنْفَسِخُ به نِكاحُها، لم يَغْرَمْ شيئًا، وإنَّما يجبُ نِصْفُ المُسَمَّى (¬2)؛ لأنَّهما ألْزَماه للزَّوْجِ بشَهادتِهما، وقرَّراه (¬3) عليه, كما يَرْجِعُ به على مَن (¬4) فَسَخَ نكاحَه برَضاعٍ أو غيرِه. وقولُه: إنَّه ملكَ نِصْفَ البُضْعِ. غيرُ صَحيحٍ؛ فإنُّ البُضْعَ لا يجوزُ تَمْلِيكُ (¬5) نِصْفِه، ولأنَّ العَقْدَ ورَدَ على جَمِيعِه، والصَّداقُ واجب جميعُه، ولهذا تَمْلِكُه المرأةُ إذا قَبَضَته، ونَماؤه لها، وتَمْلِكُ طَلَبَه إذا لم تَقْبِضْه، وإنَّما يَسْقُطُ نِصْفه بالطَّلاقِ. وأمَّا إن كان (¬6) الحكمُ بالفُرْقَةِ بعدَ الدُّخولِ، فليس عليهما ¬

(¬1) في م: «و». (¬2) في الأصل: «المهر». (¬3) في الأصل: «إقراره». (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) في الأصل: «تمليكه». (¬6) في ق، م: «يكون».

5081 - مسألة: (وإن رجع شهود القصاص أو الحد قبل الاستيفاء، لم يستوف، وإن كان بعده، وقالوا: أخطأنا. فعليهم دية ما تلف، ويقسط الغرم على عددهم، فإن رجع أحدهم، غرم بقسطه)

وإنْ رَجَعَ شُهُودُ القِصَاصِ أوِ الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يُسْتَوْفَ، وإنْ كَانَ بَعْدَهُ، وَقَالُوا: أخْطَأْنَا. فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ مَا تَلِفَ، وَيَتَقَسَّطُ الْغُرْمُ عَلَى عَدَدِهِمْ، فَإن رَجَعَ أحَدُهُمْ وَحْدَهُ، غَرِمَ بِقِسْطِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمانٌ. وبه قال أبو حنيفةَ. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، عليهما ضَمانُ المُسَمَّى في الصَّداقِ؛ لأنهما فَوَّتا عليه نِكاحًا وجَبَ عليه به عِوَضٌ، فكانَ عليهما ضَمانُ ما وَجَبَ به, كما قبلَ الدُّخولِ. وقال الشافعىُّ: يَلْزَمُهما له مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنَّهما أتْلَفا البُضْعَ عليه (¬1). وقد سَبَق الكَلامُ معه في هذا، ولا يَصِحُّ القياسُ على ما قبلَ الدُّخولِ؛ لأنَّهما قَرَّرَا عليه نِصْفَ المُسَمَّى، وكان بعَرَضِ (¬2) السُّقوطِ، وهاهُنا قد تقَرَّر المَهْرُ كلُّه بالدُّخولِ، فلم يُقَرِّرَا عليه شيئًا، ولم يُحرِجَا مِن مِلْكِه مُتَقَوَّمًا، فأشْبَهَ ما لو أخْرَجَاه مِن مِلْكِه بقَتْلِها، أو أخرَجَتْه هى برِدَّتِها. 5081 - مسألة: (وإن رَجَعَ شُهُودُ القِصَاص أو الحَدِّ قبلَ الاسْتِيفَاءِ، لم يُسْتَوْفَ، وإن كان بعدَه، وقالوا: أخْطَأَنَا. فعليهم دِيَةُ ما تَلِفَ، ويُقَسَّطُ الغُرْمُ على عَدَدِهم، فإن رَجَعَ أحَدُهم، غَرِمَ بقِسْطِهِ) ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في الأصل: «يعرض».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجملةُ ذلك، أنَّ الشُّهودَ إذا رَجَعُوا عن شَهادَتِهم بعدَ أدائِها، لم تَخْلُ مِن ثَلاثةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يَرْجعُوا قبلَ الحُكْمِ بها، فلا يجوزُ الحكمُ بها، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ. وحُكِىَ عن أبى ثَوْرٍ، أنَّه شَدَّ عن أهلِ العلمِ، وقال: يُحْكَمُ بها؛ لأنَّ الشَّهادةَ قد أُدِّيَتْ، فلا تَبْطُلُ برُجوعِ مَن شَهِدَ بها، كما لو رَجَعا بعدَ الحُكْمِ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّ الشَّهادَةَ شَرْطُ الحُكْمِ، فإذا زَالَتْ قبلَه، لم يَجُزْ، كما لو فَسَقا، ولأنَّ رُجوعَهما يَظْهَرُ به كَذِبُهما، فلم يَجُزْ به الحكمُ، كما لو شَهِدَا (¬1) بقَتْلِ رجلٍ، ثم عَلِمَ حَياتَه، ولأنَّه زالَ ظَنُّه في أنَّ ما شُهِدَ به حَقٌّ، فلم يَجُزْ لَه (¬2) الحُكْمُ به، كما لو تَغَيَّرَ اجْتِهادُه. وفارَقَ [ما بعدَ] (¬3) الحكمِ، فإنَّه تَمَّ بشَرْطِه، ولأنَّ الشَّكَّ لا ئزيلُ ما حُكِمَ به، كما لو تَغَيَّرَ اجْتِهادُه. الحالُ الثانى، أن يَرْجِعا بعدَ الحُكْمِ وقبلَ الاسْتِيفاءِ؛ فإن كان المحكومُ به عُقوبَةً، كالحدِّ والقِصاصِ، لم يَجُزِ ¬

(¬1) في ق، م: «شهد». (¬2) سقط من: م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتِيفاؤُه؛ لأنَّ الحُدودَ تُدْرَأْ بالشُّبُهاتِ، [ورُجوعُهما مِن أعْظمِ الشُّبُهاتِ] (¬1)، ولأنَّ المحكومَ به عُقوبَةٌ لم يَبْقَ ظَنُّ اسْتِحْقاتِها، ولا سبيلَ إلى جَبْرِها (¬2)، فلم يَجُزِ اسْتِيفاؤُهَا، كما لو رَجَعا قبلَ الحُكْمِ. وإن كان المحكومُ به مالًا، اسْتُوفىَ، ولم يُنْقَضِ الحكمُ، وقد ذكَرْناه. وفارَقَ المالُ القِصاصَ والحدَّ، فإنَّه يُمْكِنُ جَبْرُه، بإلْزامِ الشاهِدِ عِوَضَه، والحَدُّ والقِصاصُ لا يُجْبَرُ بإيجابِ مِثْلِه على الشَّاهِدَيْن؛ لأنَّ ذلك ليس بِجَبْرٍ، ولا يَحْصُلُ لمَن وَجَب له منه عِوَضٌ، وإنَّما شُرِعَ للزَّجْرِ والتَّشَفِّى والانْتِقامِ، لا للجَبْرِ. فإن قِيلَ: فلِمَ قُلْتُم: إنَّه إذا حُكِمَ بالقِصاصِ، ثم فَسَقَ الشَّاهِدُ، اسْتُوفِىَ فِى أحَدِ الوَجْهَيْن. قُلْنا: الرُّجوعُ أعْظَمُ في الشُّبْهَةِ مِن طَرَيانِ الفِسْقِ؛ لأنَّهما يُقِرَّان أنَّ شَهادتَهما زُورٌ، وأنَّهما كانا فاسِقَيْن حين شَهِدَا، وحينَ حَكَم الحاكمُ بشَهادَتِهما، وهذا الذى طَرَأَ فِسْقُه لا يتحَقَّقُ كونُ شَهادتِه كَذِبًا، ولا أنَّه كان فاسِقًا حينَ أدَّى الشَّهادةَ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «خبرها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا حينَ الحُكمِ بها، ولهذا لو فَسَقَ بعدَ الاسْتِيفاءِ، لم يَلْزَمْه شئٌ، والرّاجِعان تَلْزَمُهما غَرامَةُ ما شَهِدَا به، فافْتَرَقا. الحالُ الثالثُ، أن يَرْجِعا بعدَ الاسْتِيفاءِ، فإنَّه لا يَبْطُلُ الحكمُ، ولا يَلْزَمُ المَشْهودَ له شئٌ، سَواءٌ كان المَشْهودُ به مالًا أو عُقوبةً؛ لأنَّ الحُكْمَ قد تَمَّ باسْتِيفاءِ المحْكومِ به، ووُصولِ الحق إلى مُسْتَحِقِّه، ويَرْجِعُ به على الشّاهِدَيْن. فإن كان المَشْهودُ به (¬1) إتْلافًا في مِثْلِه القِصاصُ، كالقتلِ والجَرْحِ، وقالا: عَمَدْنا الشَّهادةَ عليه بالزُّورِ؛ ليُقْتَلَ، أو: يُقْطَعَ. فعليهما القِصاصُ. وبه قال ابنُ أبى ليلَى، والأوْزاعِىُّ، والشافعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ. وقال أصْحابُ الرَّأْىِ: لا قَوَدَ عليهما؛ لأنَّهما لم يُباشِرَا الإتْلافَ، فأشْبَها حافِرَ البِئْرِ، إذا تَلِفَ به شئٌ. ولَنا، أنَّ عليًّا، رَضِىَ اللهُ عنه، شَهِدَ عندَه رَجلان على رجلٍ بالسَّرِقَةِ، فقطَعَه، ثم عادَا، فقالا: أخْطَأْنا، ليس هذا السَّارِقَ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه: لو أعْلَمُ أنَّكما تَعَمَّدْتُما، لقَطَعْتُكما (¬1). ولا مُخالِفَ له في الصَّحابةِ، ولأنَّهما تَسَبَّبا إلى قَتْلِه وقَطْعِه، بما يُفْضِى إليه غالِبًا، فلَزِمَهما القِصاصُ، كالمُكْرَهِ، وفارَقَ الحَفْرَ، فإنَّه لا يُفْضِى إلى القَتْلِ غالبًا. وقد ذكَرْنا هذه المسألةَ في الجِناياتِ (¬2). فإن قالا: عَمَدْنا الشَّهادةَ عليه، ولم نَعْلَمْ أنَّه يُقْتَلُ بهذا. وكانا ممَّن يجوزُ أن يَجْهَلا ذلك، وجَبَتِ الدِّيَةُ في أمْوالِهما مُغلَّظَةً؛ لأنَّه شِبْهُ عَمْدٍ، ولم تَحْمِلْه العاقِلَةُ؛ لأنَّه ثَبَتَ باعْتِرافِهما. وإن قال أحدُهما: عمَدْتُ قَتْلَه. وقال الآخَرُ: أخْطَأْتُ. فعلى العامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وعلى الآخَرِ نِصْفُها مُخَفَّفَةً. ولا قِصاصَ في الصَّحيحِ مِن المذهبِ. وإن قال كُلُّ واحدٍ منهما: [عَمَدْتُ وأخْطَأَ صاحِبى. احْتملَ وجُوبُ القِصاصِ عليهما به؛ لاعْتِرافِ كُلِّ واحدٍ منهما بعمدِ نفسِه. واحتمل أن لا يَجِبَ إلا الدِّيَةُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما] (¬3) إنَّما اعْتَرفَ بعَمْدٍ شارَكَ فيه مُخْطِئًا، وهو لا يُوجِبُ القِصاصَ، والإنْسانُ إنَّما يُؤاخَذُ بإقْرارِه، لا بإقْرارِ غيرِه. فعلى هذا، تَجِبُ عليهما دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ. وإن قال أحدُهما: عَمَدْنا جميعًا. وقال الآخَرُ: عَمَدْتُ وأخْطأَ صاحِبى. فعلى الأوَّلِ القِصاصُ، وفى الثّانى وَجْهان، كالتى قبلَها. وإن قالا: أخْطَأْنا. فعليهما الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 25/ 32. (¬2) في 25/ 31 - 34. (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْوالِهما؛ لأنَّ العاقِلَةَ لا تَحْمِلُ الاعْترافَ. وإن قال أحدُهما: عَمَدْنا معًا. وقال الآخَرُ: أخْطَأْنا معًا. فعلَى الأوَّلِ القِصاصُ، وعلى الثانى نِصْفُ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُؤاخَذُ بإقْرارِه. وإن قال كلُّ واحدٍ منهما: عَمَدْتُ، ولا أدْرِى ما فَعَلَ صاحِبِى. فعليهما القِصاصُ؛ لإِقْرارِ كلِّ واحدٍ منهما بالعَمْدِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ عليهما القِصاصُ؛ لأنَّ إقْرارَ كلِّ واحدٍ منهما لو انْفَرَدَ، لم يجِبْ عليه قِصاصٌ، وإنَّما يُؤاخَذُ الإنْسانُ بإقرارِه، لا بإقْرارِ صاحِبِه. وإن قال أحدُهما: عَمَدْتُ، ولا أدْرِى ما قَصَدَ صاحِبى. سُئِلَ صاحِبُه، فإنْ قال مثلَ قَوْلِه، فهى كالتى قبلَها، وإنْ قال: عَمَدْنا معًا. فعليه القِصاصُ، وفى الأوَّلِ وَجْهانِ. وإنْ قال: أخْطَأْتُ. أو: أخْطَأْنا. فلا قِصاصَ على واحدٍ منهما. وإن جُهِلَ حالُ الآخَرِ؛ بجُنونٍ، أو مَوْتٍ، أو لم يُقدَرْ عليه، فلا قِصاصَ على المُقِرِّ، وعليه نَصِيبُه مِن الدِّيَةِ المُغَلَّظَةِ. فصل: وإن رجَعَ أحدُ الشّاهِدَيْن وحدَه، فالحُكْمُ فيه كالحُكْمِ في رُجوعِهما، في أنَّ الحاكمَ لا يَحْكُمُ بشَهادتِهما، إذا كان رُجوعُه قبلَ الحُكْمِ، ولا تُسْتَوْفَى العُقوبَةُ إذا رجعَ قبلَ اسْتِيفائِها؛ لأنَّ الشَّرْطَ يَخْتَلُّ برُجوعِه، كاخْتِلالِه برُجوعِهما. وإن كان رُجوعُه بعدَ الاسْتِيفاءِ، لَزِمَه حُكْمُ إقْرارِه وحدَه، فإن أقَرَّ بما يُوجِبُ القِصاصَ، وجَبَ عليه، وإنْ أقَرَّ بما يُوجِبُ دِيَةً مُغَلَّظَةً، وجَبَ عليه قِسْطُه منها، وإنْ أَقَرَّ بالخطَأ، وجَبَ عليه قِسْطُه مِن الدِّيَةِ المُخَفَّفَةِ. وإن كان الشُّهودُ أكثرَ

5082 - مسألة: فإذا شهد ستة بالزنى على محصن

وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ سِتَّةٌ بِالزِّنَى فَرُجِمَ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، غَرِ مَا ثُلُثَ الدِّيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن اثْنَيْنِ في الحُقوقِ المالِيَّةِ، أو القِصاصِ، ونحوِه، فيما يَثْبُتُ بشَاهِدَيْن أو أكثرَ مِن أرْبعةٍ، فرجَعَ الزَّائِدُ منهم قبلَ الحُكْمِ أو الاسْتِيفاءِ، لم يَمْنَعْ ذلك الحكمَ ولا الاسْتِيفاءَ؛ لأنَّ ما بَقِىَ مِن البَيِّنَةِ كافٍ في إثْباتِ الحُكْمِ واسْتِيفاثِه. وإن رَجَعَ بعدَ الاسْتِيفاءِ، فعليه القِصاصُ إن أقَرَّ بما يُوجِبُه، أو قِسْطُه مِن الدِّيَةِ أو مِن المُفَوَّتِ بشَهادتِهم إن كان غيرَ ذلك. وفى ذلك اختلافٌ، ذكَرْنا بعْضَه. فصل: وكلُّ مَوْضِعٍ وجَبَ الضَّمانُ على الشُّهودِ بالرُّجوعِ، فإنَّه يُوَزَّعُ بينَهم على عدَدِهم، قَلُّوا أو كَثُروا. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ: إذا شَهِدَ بشَهادةٍ، ثم رجَعَ وقد أتْلَفَ مالًا، فإنَّه ضامِنٌ بقَدْرِ ما كانوا في الشَّهادةِ، فإن كانوا اثْنَيْنِ، فعليه النِّصْفُ، وإن كانوا ثَلاثةً، فعليه الثُّلُثُ. وعلى هذا، لو كانوا عشَرَةً، فعليه العُشرُ. فإن رجَعَ أحدُهم وحدَه، غَرِمَ بقِسْطِه، على ما ذكَرْنا، وفيه اخْتلافٌ يُذْكَرُ إن شاءَ اللهُ تعالى. فإذا شَهِدَ أربعةٌ بالقتلِ، فقُتِلَ المَشْهودُ عليه، ثم رجَعَ واحدٌ، فعليه الرُّبْعُ إن قال: أخْطَأْنا. وإن رجَعَ اثْنانِ، فعليهما النِّصْفُ. 5082 - مسألة: فإذا شَهِدَ سِتَّةٌ بِالزِّنَى على مُحْصَنٍ، فَرُجِمَ

وَإِنْ رَجَعَ الْكُلُّ، لَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ أَسْدَاسًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بشَهادَتِهم، ثم رَجَع واحِدٌ، فعليه القِصاصُ أو سُدْسُ الدِّيَةِ. وإن رَجَع اثْنَانِ، فعليهما القِصاصُ أو ثُلُثُ الدِّيَةِ. وبهذا قال أبو عُبَيْدٍ. وقال أبو حنيفةَ: إن رجَعَ واحدٌ أو اثْنان، فلا شئَ عليهما؛ لأنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَى قائمَةٌ، فَدَمُه غيرُ مَحْقُونٍ، وإن رجَعَ ثلاثةٌ، فعليهم رُبْعُ الدِّيَةِ، وإن رجَعَ أربعةٌ، فعليهم نِصْفُ الدِّيَةِ، وإن رجَعَ خَمسةٌ، فعليهم ثلاثةُ أرْباعِها، وإن رجَعَ السِّتَّةُ، فعلى كلِّ واحدٍ منهم سُدْسُها. ومَنْصوصُ الشافغىِّ فيما إذا رَجَع اثْنان، كمذهبِ أبى حنيفةَ. واخْتلَفَ أصْحابُه فيما إذا شَهِدَ بالقِصاصِ ثلاثةٌ، فرجَعَ أحدُهم، فقال أبو إسْحاقَ: لا قِصاصَ عليه؛ لأنَّ بَيِّنَةَ القِصاصِ قائمةٌ، وهل يَجِبُ عليه ثُلُثُ الدِّيَةِ؟ على وَجْهَيْن. وقال ابنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَدّادِ (¬1): عليه القِصاصُ. وفَرَّقَ بينَه وبينَ الرّاجعِ مِن شُهودِ الزِّنَى إذا كان زائدًا، بأنَّ دَمَ المشْهودِ عليه بالزِّنَى غيرُ مَحْقُونٍ، وهذا دمُه مَحْقُونٌ، وإنَّما أُبِيحَ دَمُه لوَلِىِّ القِصاصِ وحْدَه. واخْتلَفوا فيما إذا شَهِدَ بالمالِ ثلاثةٌ، فرَجَعَ أحدُهم، على وَجْهَيْن؛ أحدُهما، يَضْمنُ الثُّلُثَ. والثانى، لا شئَ عليه. ولَنا، أنَّ الإتْلافَ حصَلَ بشَهادتِهم، فالرّاجِعُ يُقِرُّ بالمُشارَكَةِ فيه عَمْدًا عُدْوانًا لِمَن (¬2) هو مِثْلُه في ذلك، فلَزِمَه القِصاصُ، كما لو أقَرَّ بمُشارَكَتِهم في مُباشرَةِ قَتْلِه، ولأنَّه أحدُ مَن قُتِلَ المشْهودُ عليه بشَهادتِه، فأشْبَهَ الثانَى مِن شُهودِ القِصاصِ، والرابعَ مِن شُهودِ الزِّنَى، ولأنَّه أحدُ مَن حصَلَ الإتْلافُ بشَهادتِه، فلَزِمَه مِن الضَّمانِ بقِسْطِه، كما لو رجَعَ الجميعُ. وقولُهم: إنَّ دمَه غيرُ مَحْقُونٍ. [غيرُ صَحيحٍ] (¬3)؛ فإنَّ الكلامَ فيما إذا قُتِلَ، ولم يَبْقَ له دمٌ يُوصَفُ بحَقْنٍ ولا عَدَمِه، وقيامُ الشَّهادةِ لا يَمْنَعُ وُجوبَ القِصاصِ، كما لو شَهِدَت لرجلٍ باسْتِحْقاقِ القِصاصِ، فاسْتَوْفاه، ثم أقَرَّ بأنَّه قَتَلَه ظُلْمًا، وأنَّ الشُّهودَ شُهودُ زُورٍ (¬4). والتَّفْريقُ بينَ القِصاصِ والرَّجْمِ بكَوْنِ دَمِ القاتلِ غيرَ ¬

(¬1) محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر أبو بكر ابن الحداد الكنانى المصرى الشافعى، الإمام العلامة الثبت، شيخ الإسلام، عالم العصر، صاحب «الفروع» في المذهب، كان تقيا متعبدا، ذا لسن وبلاغة وبصر بالحديث ورجاله، توفى سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. طبقات الشافعية الكبرى [3/ 79 - 98] سير أعلام النبلاء 15/ 44 - 451. (¬2) في ق، م: «كمن». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) بعده في الأصل: «في».

5083 - مسألة: (وإن شهد أربعة بالزنى، واثنان بالإحصان، ثم رجع الجميع، لزمتهم الدية أسداسا، فى أحد الوجهين. وفى الآخر، على شهود الزنى النصف، وعلى شهود الإحصان النصف. فإن شهد أربعة بالزنى، وشهد اثنان منهم بالإحصان، صحت الشهادة، فإن رجم ثم

وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى، وَاثْنَانِ بِالإِحْصَانِ، فَرُجِمَ، ثُم رَجَعَ الْجَمِيعُ، لَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ أَسْدَاسًا، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، عَلَى شُهُودِ الزِّنَى النِّصْفُ، وعَلَى شُهُودِ الإِحْصَانِ [353 و] النِّصْفُ. وَإنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى، وَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِالإِحْصَانِ، صَحَّتِ الشَّهَادَةُ، فَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحْقُونٍ، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه غيرُ مَحْقُونٍ بالنِّسْبَةِ إلى مَن قَتَلَه، ولأنَّ كلَّ واحدٍ مُؤَاخَذٌ بإقْرارِه، ولا يُعْتَبَرُ قولُ شَريكِه، ولهذا لو أقَرَّ أحدُ الشَّرِيكَيْن بعَمْدِهما (¬1)، وقال الآخَرُ: أخْطَأْنا. وجبَ القِصاصُ على المُقِرِّ (¬2) بالعَمْدِ. 5083 - مسألة: (وإن شَهِدَ أرْبَعَةٌ بالزِّنَى، واثْنانِ بالإِحْصانِ، ثم رَجَع الجَمِيعُ، لَزِمَتْهم الدِّيَةُ أسْداسًا، في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفِى الآخَرِ، على شُهُودِ الزِّنَى النِّصْفُ، وعلى شُهُودِ الإِحْصَانِ النِّصْفُ. فإن شَهِدَ أرْبَعَةٌ بِالزِّنى، وشَهِدَ اثْنَانِ منهم بالإِحْصَانِ، صَحَّتِ الشَّهَادَةُ، فإن رُجِمَ ثم ¬

(¬1) في ق، م: «بعمدها». (¬2) سقط من: الأصل.

فَعَلَى مَنْ شَهِدَ بِالإِحْصَانِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِى، يَلْزَمُهُمْ ثَلَاَثةُ أَرْبَاعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَجَعُوا عن الشَّهادَةِ، فعلى مَن شَهِدَ بالإِحْصانِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، على الوَجْهِ الأوَّل. وِعلى الثَّانِى، يَلْزَمُهُم ثَلَاَثةُ أَرْبَاعِهَا) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا شَهِدَ أربعةٌ بالزِّنى، واثْنان بالإِحْصانِ [صَحَّتِ الشَّهادَةُ. فإن رُجِمَ] (¬1)، ثمِ رَجعُوا عن الشَّهادةِ، فالضَّمانُ على جَمِيعِهم. وقال أبو حنيفةَ: لا ضَمانَ على شُهودِ الإِحْصانِ؛ لأنَّهم شَهِدُوِا بالشَّرْطِ دونَ السَّبَبِ المُوجِبِ للقَتْلِ، وإنَّما يَثْبُتُ ذلك بشَهادةِ الزِّنَى. ولأصْحابِ الشافعىِّ وَجْهان كالمَذْهَبَيْنِ. ولَنا، أنَّ قتلَه حصَلَ بمجموعِ الشَّهادَتَيْن (¬2)، فتجِبُ الغَرامَةُ على الجميعِ، كما لو شَهِدُوا جميعًا على الزِّنَى. وفى كَيْفِيَّةٍ الضَّمانِ وَجْهان؛ أحدُهما، يُوَزَّعُ عليهم على عَدَدِ رُءوسِهم، كشُهودِ الزِّنَى؛ لأنَّ القتلَ حصَلَ مِن جميعِهم. والثانى، على شُهودِ الزِّنَى النِّصْفُ، وعلى شُهودِ ¬

(¬1) في ق، م: «فرجم». (¬2) في م: «الشهادة».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإحْصانِ النِّصْفُ؛ لأنَّهما حِزْبان، فلكلِّ حِزْبٍ نِصْفٌ. فإن شَهِدَ أرْبعةٌ بالزِّنَى، واثْنان منهم بالإِحْصانِ، ثم رَجعُوا، فعلى الوَجْهِ (¬1) الأوَّلِ، على شاهِدَىِ الإِحْصانِ الثُّلُثانِ، وعلى الآخَرَيْن (¬2) الثُّلُثُ؛ لأنَّ عِلى شاهِدَىِ الإِحْصانِ الثُّلُثَ لشَهادتِهما به، والثُّلُثَ لشَهادَتِهما بالزِّنى، وعلى الآخَرَيْن الثُّلُثُ لشَهادتِهما بالزِّنَى وحْدَه. وعلى الوَجْهِ الثانى، على شهودِ الإِحْصانِ ثلاثةُ أرْباعِ الدِّيَةِ؛ لأنَّ عليهما النِّصْفَ لشَهادتِهما بالإِحْصانِ، ونِصْفَ الباقى لشَهادتِهما بالزِّنَى. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجِبَ على شاهِدَى الإِحْصانِ إلَّا النِّصْفُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما جَنَى جِنايَتَيْنِ، وجَنَى كلُّ واحدٍ مِن الآخَرَيْن جِنايةً واحدةً، فكانتِ الدِّيَةُ بينَهم على عددِ رُءوسِهم، لا على عَدَدِ جِناياتِهم، كما لو قَتَلَ اثْنان واحدًا، جَرَحَه أحدُهما جُرْحًا، والآخَرُ اثْنَيْنَ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في ق، م: «الآخر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإذا حَكَمَ الحاكمُ في المالِ برَجُلٍ وامرأتَيْنِ، ثم رجَعُوا عن الشَّهادة، تَوَزَّعَ الضَّمانُ عليهم، على الرَّجُلِ نِصْفُه، وعلى كلِّ امرأةٍ رُبْعُه. وَإن رجَعَ أحدُهم وحْدَه، فعليه مِن الضَّمانِ حِصَّتُه. وإن كان الشُّهودُ رَجُلًا وعشْرَ نِسْوةٍ، فرَجَعوا عن شَهادتِهم، فعلى الرَّجُلِ السُّدْسُ، وعلى كلِّ امرأةٍ نصفُ السُّدسِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ؛ لأنَّ كلَّ امْرأتَيْنِ كرَجُلٍ، فالعَشْرُ كخَمْسَةِ رجالٍ. ويَحْتَمِلُ أن يجبَ عليْهِنَّ النِّصْفُ، وعلى الرجلِ النِّصْفُ. وبهذا قال أبو يوسفَ، ومحمدٌ؛ لأنَّ الرجلَ نصفُ البَيِّنَةِ، بدَليلِ أنَّه لو رجَعَ وحْدَه قبلَ الحكمِ، كان كرجُوعِهنَّ كُلِّهنَّ، فيكونُ الرَّجُلُ حِزْبًا والنِّساءُ حِزْبًا. فإنْ رجَعَ بعْضُ النِّسْوَةِ وحْدَه، [أو الرجلُ] (¬1)، فعلى الرَّاجِعِ ¬

(¬1) في النسخ: «والرجل»، والمثبت كما في المغنى 14/ 253.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلُ ما عليه إذا رجَعَ الجميعُ. وعندَ أبى حنيفةَ وأصْحابِه، متى رجعَ مِن النِّسْوَةِ ما زادَ على اثْنَيْنِ، فليس على الرّاجِعاتِ شئٌ. وقد مضَى الكلامُ معهم في هذا. فصل: وإذا شَهِدَ أرْبعةٌ بأرْبَعِمائةٍ، فحكمَ الحاكمُ بها، ثم رجَعَ واحدٌ عن مائةٍ، وآخَرُ عن مائَتَيْنِ، والثالثُ عن ثلاثِمائةٍ، والرابعُ في أرْبَعِمائةٍ، فعلى كلِّ واحدٍ ممّا (¬1) رجَعَ عنه بقِسْطِه، فعلى الأوَّلِ خمسةٌ وعشرون، وعلى الثانى خَمْسون، وعلى اِلثالثِ خَمسةٌ وسَبْعونَ، وعلى الرّابعِ مائةٌ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُقِرُّ بأنَّه فَوَّتَ على المَشْهودِ عليه رُبْعَ ما رجَعَ عنه. ويقْتَضىِ مذهبُ أبى حنيفةَ أن لا يَلْزَمَ الرَّاجِعَ عن الثَّلاِثمِائة والأربَعِمِائة أكثرُ مِن خمْسينَ خمسينَ؛ لأنَّ المائَتَيْنِ التى (¬2) رجعَا (¬3) عنهما قد بَقِىَ بها (¬4) شاهِدَان. ¬

(¬1) في ق، م: «منهما ما». (¬2) في م: «اللتين». (¬3) في ق، م: «رجع». (¬4) في م: «بهما».

5084 - مسألة: (وإذا حكم)

وَإِنْ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَرَجَعَ الشَّاهِدُ، غَرِمَ الْمَالَ كُلَّهُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَغْرَمَ النِّصْفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5084 - مسألة: (وإذا حَكَمَ) الحَاكِمُ (بشاهِدٍ ويَمِينٍ، فرَجَع الشّاهِدُ، غَرِمَ المالَ كُلَّه. ويَتَخرَّجُ أن يَغْرَمَ النِّصْفَ) المنْصوِصُ عن أحمدَ، رَحِمَه اللهُ، أنَّه يَضْمَنُ المالَ كلَّه، في رِوايَةِ جماعةٍ. ويتَخرَّجُ أن يَغرَمَ (¬1) النِّصْفَ. وبه قال مالكٌ، والشّافعىُّ؛ لأنَّه أحدُ حُجَّتَىِ الدَّعْوَى، فكان عليه النِّصْفُ، كما لو كانا شاهِدَيْنِ. ولَنا، أنَّ الشاهِدَ حُجَّةُ الدَّعْوَى، فكان الضَّمانُ عليه، كالشّاهِدَيْن. يُحَقِّقُه أنَّ اليَمِينَ قولُ ¬

(¬1) في ق، م: «يضمن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخَصْمِ، وقولُ الخَصْمِ ليس بحُجَّةٍ على خَصْمِه، وإنَّما هو شَرْطُ الحُكْمِ، فجَرَى مَجْرَى مُطالَبَتِه للحاكمِ بالحُكْمِ، وبهذا يَنْفَصِلُ عمَّا ذكَرُوه. وإن سَلَّمْنا أنَّها حُجَّةٌ، لكنْ إنَّما جعَلَها حُجَّةً شَهادةُ الشاهدِ، ولهذا لم يَجُزْ تَقْدِيمُها على شَهادَتِه، بخلافِ شَهادةِ الشّاهدِ الآخَرِ. قال أبو الخَطَّابِ: ويتَخَرَّجُ أن لا يَلْزَمَه إلَّا النِّصْفُ، إذا قُلْنا بِرَدِّ اليَمِينِ على المُدَّعِى. فصل: وإذا شَهِدَ شاهِدَان أنَّه أعْتَقَ هذا العبدَ عن ضَمانِ مائةِ في رهمٍ، وقِيمةُ العبدِ مائتانِ، فحكمَ الحاكمُ بشَهادتِهما، ثم رَجَعا، رَجَعَ السَّيِّدُ على الشّاهِدَيْن بمائةٍ؛ لأنَّها تَمامُ القِيمَةِ. وكذلك إن شَهِدا على رجلٍ أنَّه طَلَّقٍ امْرأتَه قبلَ الدُّخولِ على مائةٍ، ونِصْفُ المُسَمَّى مائتان، غَرِ ما للزَّوجِ مائةً؛ لأنَّهما فَوَّتَاها بشَهادتِهما المرْجُوعِ عنها.

5085 - مسألة: (وإن بان بعد الحكم أن الشاهدين كانا

فَإِن بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ كَانَا كَافِرَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصلٌ: وإن شَهِدَ رجلانِ على رَجُلٍ بنِكاحِ امرأةٍ، بصَداقٍ ذكَراه، وشَهِدَ آخَران بدُخولِه بها، ثم رَجَعُوا بعدَ الحكمِ عليه بصَداقِها، فعلى شُهودِ النِّكاحِ الضَّمانُ؛ لأنَّهم ألْزَمُوه المُسَمَّى. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ عليهم النِّصْفُ، وعلى الآخَرَيْن النِّصْفُ؛ لأنَّهما قَرَّراهُ، وشاهِدَا النِّكاحِ أوْجَباه، فيُقْسَمُ بينَ الأرْبعةِ أرْباعًا. وإن شَهِدَ مع هذا شاهِدَان بالطَّلاقِ، لم يَلْزَمْهما شئٌ؛ لأنَّهما لم يُفوِّتا عليه شيئًا يَدَّعِيه، ولا أوْجَبا عليه ما لم يكُنْ عليه (¬1) واجِبًا. 5085 - مسألة: (وإن بان بعدَ الحُكْمِ أنَّ الشّاهِدَيْن كانا ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

نُقِضَ، وَيُرْجَعُ بِالْمَالِ أَوْ بِبَدَلِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ إِتْلَافًا، فَالضَّمَانُ عَلَى المُزَكِّينَ. فَان لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَزْكِيَةٌ، فَعَلَى الْحَاكِمِ. وَعَنْهُ، لَا يُنْقَضُ إِذَا كَانَا فَاسِقَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَافِرَيْنِ، أو فاسِقَيْنِ، نُقِضَ، ويُرْجَعُ بِالمالِ أو ببَدَلِه على المَحْكُومِ له. وإن كان المَحْكُومُ به إتْلافًا، فالضَّمانُ على المُزَكِّينَ. فإن لم يَكُنْ ثَمَّ تَزْكِيَةٌ، فَعلى الحَاكِمِ. وعنه، لا يُنْقَضُ إذا كانا فاسِقَيْنِ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحاكمَ إذا حَكَمَ بشَهادةِ شاهِدَيْنِ، ثم بانا فاسِقَيْنِ أو كافِرَيْنِ، فإنَّ الإِمامَ ينْقُضُ حُكْمَه، ويَرُدُّ المالَ إن كان قائِمًا، أو عِوَضَه إن كان تالِفًا. فإن تعَذَّرَ ذلك؛ لإِعْسارِه أو غيرِه، فعلى الحاكمِ، ثم يَرْجِعُ على المشْهودِ له. وعن أحمدَ رِوايةٌ أُخْرَى، لا يَنْقُضُ حُكْمَه إذا كانا فاسِقَيْن، ويَغْرَمُ الشُّهودُ المالَ. وكذلك إذا شَهِدَ عندَه عَدْلان أنَّ الحاكِمَ قَبْلَه حكمَ بشَهادةِ فاسِقَيْنِ، ففيه الرِّوَايتان. واخْتَلَفَ أصْحابُ الشافعىِّ فيه أيضًا. ولا خِلافَ بينَ الجميعِ في (¬1) أنَّه يَنْقُضُ حُكْمَه إذا كانا كافِرَيْنِ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويَنْقُضُ حكمَ غيرِه إذا ثَبَت عندَه أنَّه حَكَمَ بشَهادةِ كافِرَيْنِ، فنَقِيسُ على ذلك إذا حكَمَ بشَهادةِ فاسِقَيْنِ، فإنَّ شَهادةَ الفاسِقَيْنِ مُجْمَعٌ على رَدِّها، وقد نَصَّ اللهُ تَعالى على التَبّيِّنِ فيها، فقال سبحانَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1). وأمَرَنا بإشْهادِ العُدولِ، فقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقال سبحانه: {مِمَّن ¬

(¬1) سورة الحجرات 6. (¬2) سورة الطلاق 2.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). فيجبُ نَقْضُ الحُكمِ لفَواتِ العَدالةِ، كما يَجِبُ نَقْضُه لفَواتِ الإسْلامِ، ولأنَّ الفِسْقَ معْنًى لو ثَبَت عندَ الحاكمِ قبلَ الحُكمِ مَنَعَه، فإذا شَهِدَ شاهِدَان أنَّه كان مَوْجُودًا حالَ الحُكْمِ، وجَبَ نَقْضُ الحكمِ، كالكُفْرِ والرِّقِّ في العُقوباتِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ أبا حنيفةَ قال: لا يَسْمَعُ الحاكمُ الشَّهادةَ بفِسْقِ الشّاهِدَيْنِ قبلَ الحُكْمِ ولا بعدَه، ومتى جرَحَ المشْهودُ عليه البَيِّنَةَ، لم تُسْمَعْ بَيِّنَتُه بالفِسْقِ، لكنْ يُسْأَلُ عن الشّاهِدَيْن، ولا يُسْمَعُ على الفِسْقِ شَهادةٌ؛ لأنَّ الفِسْقَ لا يتعَلَّقُ به حَقُّ أحدٍ، فلا تُسْمَعُ فيه الدَّعْوَى والبَيِّنَةُ. ولَنا، أنَّه معْنًى يَتعلَّقُ به الحُكْمُ، فسُمِعَتْ فيه الدَّعْوَى والبَيِّنَةُ، كالتَّزْكِيَةِ. وقولُه: لا يَتَعلَّقُ به حَقُّ أحَدٍ. مَمْنُوعٌ؛ فإنَّ المَشْهودَ عليه يتَعلَّقُّ حَقُّه بفِسْقِه في مَنْعِ الحُكْمِ عليه قبلَ الحكمِ، ونَقْضِه بعدَه، وتَبْرِئتِه مِن أخْذِ مالِه أو عُقُوبتِه بغيرِ حَقٍّ، فوجبَ أن تُسْمَعَ فيه الدَّعْوَى والبَيِّنَةُ، كما لو ادَّعَى رِقَّ الشَّاهدِ ولم يَدَّعِه لنَفْسِه، ولأنَّه إذا لم تُسْمَعِ البَيِّنَةُ بالفِسْقِ أدَّى إلى ظُلْمِ المشْهودِ عليه؛ [لأنَّه يُمْكِنُ أن لا يَعْرِف فِسْقَ الشّاهِدَيْنِ إلَّا شُهودُ المشْهودِ عليه] (¬2)، ¬

(¬1) سورة البقرة 282. (¬2) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا لم تُسْمَعْ عليه شَهادتُهم، وحُكِمَ عليه بشَهادةِ الفاسِقَيْن، كان ظالِمًا له. فأمَّا إن قامتِ البَيِّنَةُ أنَّه حكَمَ بشَهادةِ والدَيْنِ، أو وَلَدَيْنِ، أو عَدُوَّيْنِ؛ فإن كان الحاكمُ الذى حَكَم بشَهادتِهما ممَّن يَرَى الحُكْمَ به، لم يَنْقُضْ حُكْمَه؛ لأنَّه حَكَم باجْتِهادِه فيما يَسُوغُ فيه الاجْتِهادُ، ولم يُخالِفْ نَصًّا ولا إجْماعًا. فإنْ كان (¬1) ممَّن لا يَرَى الحُكْمَ بشَهادتِهم، نَقَضَه؛ لأنَّ الحاكِمَ يَعْتَقِدُ بُطْلانَه. فصل: فإن كان المحكومُ به إتْلافًا، كالقَطْعِ في السَّرِقَةِ والقتلِ، ثم ¬

(¬1) في م: «كل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بانَ أنَّهما كافِرَان، أو فاسِقَانِ، أو عَبْدان، أو أحدُهما، فلا ضَمانَ على الشّاهِدَيْن؛ لأنَّهما مُقِيمانِ على أنَّهما صادِقَان فيما شَهِدَا به، وإنَّما الشَّرْعُ مَنَعَ قَبولَ شَهادَتِهما، بخِلافِ الرّاجِعَيْنِ عن الشَّهادَةِ، فإنَّهما اعْتَرفا بكَذِبِهما. فإنْ لم يكُنْ ثَمَّ مُزَكُّون، فالضَّمانُ على الحاكمِ أو الإِمامِ الذى تَوَلَّى ذلك؛ لأنَّه حكمَ بشَهادةِ مَن لا يجوزُ له الحُكْمُ بشَهادَتِه، ولا قِصاصَ عليه؛ لأنَّه مُخْطِئٌ، وتَجِبُ الدِّيَةُ. وفى مَحَلِّها رِوايتان؛ إحداهما، في بيتِ المالِ. والثانيةُ، على العاقِلَةِ. وقد ذكَرْنا ذلك فيما مضَى. وللشافعىِّ قَوْلان كالرِّوايَتَيْن. فإن قُلْنا: الدِّيَةُ على العاقِلَةِ. لم تَحْمِلْ إلَّا الثُّلُثَ فما زادَ، ولا تَحْمِلُ الكَفَّارةَ؛ لأنَّها لا تَحْمِلُ ذلك في مَحَلِّ الوِفَاقِ، كذا ههُنا، وتكونُ الكَفَّارةُ في مالِ القاتلِ. وإن قُلْنا: في بيتِ المالِ. فيَنْبَغِى أن يكونَ فيه القليلُ والكثيرُ؛ لأنَّه يَكْثُرُ فيه (¬1) خَطَؤُه، فجَعْلُ الضَّمانِ عليه يُجْحِفُ به وإن قَلَّ، ولأَنَّ جَعْلَه في بيتِ المالِ لعِلَّةِ أنَّه نائِبٌ عنهم، وخَطَأُ النَّائِبِ على مُسْتَنِيبِه، وسواءٌ توَلَّى الحاكمُ الاسْتِيفاءَ بنَفْسِه أو أَمَرَ مَن يَتَولَّاه. قال أصْحابُنا: وإن كان الوَلِىُّ اسْتَوْفاه، فهو كما لو ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَوْفاه الحاكمُ؛ لأَنَّ الحاكِمَ سَلَّطَه على ذلك، ومَكَّنَه منه، والولِىَّ يَدَّعِى أنَّه حَقُّه. فإن قيلَ: فإذا كانَ الوَلِىُّ اسْتَوْفَى حَقَّه، فيَنْبَغِى أن يكونَ الضَّمانُ عليه، كما لو حَكَم له بمالٍ فقَبضَه، ثم بانَ فِسْقُ الشُّهودِ، كان الضَّمانُ على المُسْتَوْفِى دونَ الحاكم، كذا ههُنا. قُلْنا: ثَمَّ حصَلَ في يَدِ المُسْتَوْفِى مالُ المحْكُومِ عليه بغيرِ حَقٍّ، فوَجبَ عليه رَدُّه أو ضَمانُه إن تَلِفَ، وههُنا لم يحْصُلْ في يَدِه شئٌ، وإنما أتْلَفَ شيئًا بخَطَأَ الإِمامِ وتَسْلِيطِه عليه، فافْتَرَقا. فصل: فإنْ كان ثَمَّ مُزَكُّون، مثلَ أن يَشْهَدَ بالزِّنَى أرْبَعَةٌ، فيُزَكِّيهم (¬1) اثْنان، فَرُجِمَ المَشْهودُ عليه، ثم بانَ أنَّ (¬2) الشُّهودَ فَسَقَةٌ، أو عبيدٌ، أو بعضُهم، فلا ضَمانَ على الشُّهودِ؛ لأنَّهم يَزْعُمون أنَّهم مُحِقُّون، ولم يُعْلَمْ كَذِبُهم يَقِينًا، والضَّمانُ على المُزَكِّين. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال القاضى: الضَّمانُ على الحاكمِ؛ لأنَّه حَكَمَ بقَتْلِه مِن غيرِ تَحَقُّقِ شَرْطِه، ولا ضَمانَ على المُزَكِّينَ؛ لأَنَّ شَهادتَهما شَرْطٌ، وليستِ المُوجِبَةَ. وقال أبو الخَطَّابِ في «رُءوسِ المسائلِ»: الضَّمانُ على الشُّهودِ بالزِّنَى. ولَنا، أنَّ المُزَكِّين شَهِدُوا بالزُّورِ شَهادةٌ أفْضَتْ إلى قَتْلِه، فلَزِمَهم الضَّمانُ، كشُهودِ الزِّنَى إذا رَجَعُوا، ولا ضَمانَ ¬

(¬1) في الأصل: «فيزكيهما». (¬2) سقط من: ق، م.

5086 - مسألة: (وإن شهدوا عند الحاكم بحق، ثم ماتوا،

وَإِنْ شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ، ثُمَّ مَاتُوا، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ، إِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــ على الحاكمِ؛ لأنَّه أمْكَنَ إحالةُ الحُكْمِ على الشُّهودِ، فأشْبَهَ ما إذا رَجَعُوا عن الشَّهادةِ. وقولُهم: إنَّ شَهادَتَهم شَرْطٌ. لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ مِن أصْلِنا أنَّ شُهودَ الإِحْصانِ يَلْزَمُهم الضَّمانُ وإن لم يَشْهَدُوا بالسَّبَبِ. وقد نَصَّ عليه أحمدُ. وقولُ أبى الخَطّابِ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ شُهودَ الزِّنَى لم يَرْجِعُوا، ولا عُلِمَ كَذِبُهم، بخِلافِ المُزَكِّين، فإنَّه تبَيَّنَ كَذِبُهم، وأنَّهم شَهِدُوا بالزُّورِ. فأمّا إن تبَيَّنَ فِسْقُ المُزَكِّين، فالضَّمانُ على الحاكمِ؛ لأَنَّ التَّفْرِيطَ منه، حيثُ قَبِلَ شَهادةَ فاسِقٍ مِن غيرِ تَزْكِيَةٍ، ولا بَحْثٍ، فلَزِمَه الضَّمانُ، كما لو قَبِلَ شَهادةَ شُهودِ الزِّنَى مِن غيرِ تَزْكِيَةٍ، ثم تَبَيَّنَ كَذِبُهم. فصل: ولو جلَدَ الإِمامُ إنْسانًا بشَهادةِ شُهودٍ، ثم بانَ أنَّهم فَسَقَةٌ، أو كَفَرَةٌ، أو عَبِيدٌ، فعلى الإِمامِ ضَمانُ ما حصَلَ بسَبَبِ الضَّرْب. وبهذا قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا ضَمانَ عليه. ولَنا، أنَّها جِنايةٌ صدَرَتْ عن خَطأ الإِمامِ، فكانتْ مَضْمُونةً عليه، كما لو قَطَعَه أو قَتَلَه. 5086 - مسألة: (وإن شَهِدُوا عندَ الْحاكِمِ بحَقٍّ، ثم ماتُوا،

5087 - مسألة: (وإذا علم الحاكم بشاهد الزور، عزره، وطاف به فى المواضع التى يشتهر فيها، فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاجتنبوه)

ثَبَتَتْ عَدَالتهُمْ. وَإِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِشَاهِدِ الزُّورِ، عَزَّرَهُ، وَطَافَ بِهِ فِى الْمَوَاضِعِ الَّتِى يَشْتَهِرُ فِيهَا، فَيُقَالُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ، فَاجْتَنِبُوهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَكَمَ بشهادَتِهم، إذا ثَبَتَتْ عَدالتُهم) لأنَّهم أدَّوُا الشَّهادةَ، أشْبَهَ ما لو كانوا أحْياءً، وكذلك إن جُنُّوا؛ لأن جُنونَهم بمَنْزلةِ مَوْتِهم. 5087 - مسألة: (وإذا عَلِمَ الحَاكِمُ بِشاهِدِ الزُّورِ، عَزَّرَه، وَطافَ به في المَوَاضِعِ التى يَشْتَهِرُ فيها، فيُقالُ: إنَّا وَجَدْنَا هذا شَاهِدَ زُورٍ، فَاجْتَنِبُوه) شَهادةُ الزُّورِ مِن أكْبرِ الكبائرِ، وقد نَهَى اللَّهُ عنها في كتابِه، مع نَهْيِه عن الأوْثانِ، فقال سبحانَه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬1). ورَوَى أبو بَكْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟». قالوا: بَلَى يا رسولَ اللَّهِ. قال: «الإشْرَاكُ باللَّهِ وعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وكانَ مُتَّكِئًا فَجلَسَ فقال: «ألَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ». فما زالَ يُكَرِّرُها، حتى قُلْنا: لَيْتَه سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عليه (¬2). ورَوَى أبو حنيفةَ، ¬

(¬1) سورة الحج 30. (¬2) تقدم تخريجه في 29/ 338.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن مُحارِبِ بنِ دِثَارٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: «شَاهِدُ الزُّورِ، لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى تَجِبَ لَهُ النَّارُ» (¬1). فمتى ثَبَت عندَ الحاكمِ أنَّ رَجلًا شَهِدَ بزُورٍ عَمْدًا، عَزَّرَه، وشَهَّرَه. في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. ورُوِىَ ذلك عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه (¬2). وهو قولُ شرَيْحٍ، والقاسمِ ابنِ محمدٍ، وسالمِ بنِ عبدِ اللَّهِ، والأوْزاعِىِّ، وابن أبى ليلَى، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُعَزَّرُ، ولا يُشَهَّرُ؛ لأنَّه قَوْلُ مُنْكَرٍ وزُورٍ، فلا يُعَزَّرُ به، كالظِّهارِ. ورَوَى عنه الطَّحاوِىُّ أنَّه يُشَهَّرُ. وأنْكَرَه المُتَأَخِّرُون. ولَنا، أنَّه قَوْلٌ مُحَرَّمٌ يَضرُّ به الناسَ، فأوْجَبَ العُقوبَةَ على قائلِه، كالسَّبِّ والقَذْفِ، ويُخالِفُ الظِّهارَ مِن وِجْهَيْنِ؛ أحدُهما، أنَّه يَخْتَصُّ بِضرَرِه. والثانى، أنَّه أوْجَبَ كفَّارةً شاقَّةً هى أشَدُّ مِن التَّعْزِيرِ، ولأنَّه قولُ عمر، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ولا نَعْلَمُ له في الصَّحابَةِ مُخالِفًا. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّ عُقُوبَتَه غيرُ مُقَدَّرَةٍ، وإنَّما ذلك مُفَوَّضٌ إلى رَأْىِ الحاكِمِ؛ إن رأى ذلك بالجَلْدِ، فَعَلَ، وإن رآه بحَبْسٍ أو كَشْفِ رأْسِه وتَوْبِيخِه، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 28/ 490. (¬2) تقدم تخريجه في 26/ 461.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَعَل، ولا يَزِيدُ في جَلْدِه على عَشْرِ جَلَداتٍ. وقال الشافعىُّ: لا يَزيدُ على تِسْعٍ وثلاثين. وقال ابنُ أبى ليلَى: يُجْلَدُ خَمْسةً وسبعين سوطًا. وهذا أحدُ قَوْلَىْ أبى يوسُفَ. وقال الأوْزاعِىُّ في شاهِدَىِ الطَّلاقِ: يُجْلَدان مائةً، ويَغْرَمان الصَّداقَ. ولَنا، قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا يُجْلَدُ أَحدٌ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إلَّا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ». مُتُّفَقٌ عليه (¬1). وقال القاسمُ، وسالمٌ: يُخْفقُ (¬2) سَبْعَ خَفَقاتٍ. فأمَّا شُهْرَتُه بينَ الناسِ، فإنَّه يُوقَفُ في سُوقِه إن كان مِن أهلِ السُّوقِ، أو في قَبِيلَتِه إن كان مِن أهلِ القبائلِ، أو في مَسْجدِه إن كان مِن أهلِ المساجدِ، ويقولُ المُوَكَّلُ به: إنَّ الحاكمَ يَقْرأُ عليكم السَّلامَ، ويقولُ: هذا شاهِدُ زُورٍ، فاعْرِفُوه. وهذا مذهبُ الشافعىِّ. وأُتِىَ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ بشاهدِ زُورٍ، فأمرَ بقَطْعِ لِسانِه، وعندَه القاسمُ وسالمٌ، فقالا: سبحانَ اللَّهِ، بحَسْبِه أن يُخفَقَ سَبْعَ خَفَقاتٍ، ويُقامَ بعدَ العَصرِ، فَيُقالَ: هذا أبو قُبَيْسٍ، وجَدْناه شاهِدَ زُورٍ. فَفعَلِ ذلك به. ولا يُسَخَّمُ وَجْهُه، ولا يُرْكَبُ، ولا يُكَلَّفُ أن يُنادِىَ على نفْسِه. ورُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه يُجْلَدُ أرْبعينَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 455. (¬2) خفق فلانا بالسوط ونحوه: ضربه به خفيفًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جلدةً، ويُسَخَّمُ وَجْهُه، ويُطالُ حَبْسُه. رواه الإِمامُ أحمدُ (¬1). وقال سَوَّارٌ: يُلَبَّبُ (¬2)، ويُدارُ به على حِلَقِ المسجدِ، فيقولُ: مَن رآنِى فلا يَشْهدْ بزُورٍ. ورُوِىَ عن عبدِ الملكِ بنِ يَعْلَى، قاضى البَصْرَةِ، أنَّه أمرَ بحَلْقِ بعضِ رُءوسِهم، وتَسْخِيمِ وُجوهِهم، ويُطافُ بهم في السُّوقِ، والذى شَهِدُوا له معهم. ولَنا، أنَّ هذا مُثْلَةٌ، وقد نَهَى النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المُثْلَةِ (¬3). وما رُوِى عن عمرَ، فقد رُوِى عنه خِلافُه، وأنَّه حَبَسَه يومًا وخَلَّى سَبيلَه (¬4). وفى الجُملةِ، ليس في هذا تقْديرٌ شَرْعِىٌّ، فما فعلَ الحاكمُ ممَّا رآهُ، ما (¬5) لم يَخْرُجْ عن مُخالفَةِ نَصٍّ أو معنَى نصٍّ، فله ذلك، ولا يُفْعَلُ به شىئٌ مِن هذا حتى يتَحَقَّقَ أنَّه شاهِدُ زُورٍ، وتَعَمَّدَ (¬6) ذلك، [إمَّا بإقْرارِ] (¬7)، أو يَشْهَدُ على رجلٍ بفِعْلٍ في الشَّامِ، ويُعْلَمُ أنَّ المشْهودَ عليه في ذلك الوقتِ في العِراقِ، أو يَشْهَدُ بقَتْلِ رجلٍ، وهو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 461. (¬2) يلبب: أى تجمع ثيابه عند نحره ويجر بها. (¬3) تقدم تخريجه في 10/ 86. (¬4) أخرجه البيهقى، في: باب ما يفعل بشاهد الزور، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى 10/ 141. وعبد الرزاق، في: باب عقوبة شاهد الزور، من كتاب الشهادات. المصنف 8/ 325. (¬5) سقط من: م. (¬6) في الأصل: «بعد». (¬7) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَىٌّ، وأنَّ هذه البَهِيمةَ في يَدِ هذا منذُ ثلاثةِ أعوام، وسِنُّها (¬1) أقَلُّ مِن ذلك، أو يَشْهَدُ على رَجُلٍ أنَّه فعلَ شيئًا، وقد مات قبلَ ذلك، وأشْباهُ هذا ممَّا يُعْلَمُ به كَذِبُه، ويُعْلَمُ تَعَمُّدُه لذلك. فأمَّا تَعارُضُ البَيِّنتَيْنِ، أو ظُهورُ فِسْقِه، أو غَلَطِه في شَهادَتِه، فلا يُؤَدَّبُ؛ لأَنَّ الفِسْقَ لا يَمْنَعُ الصِّدْقَ، والتَّعارُضَ لا [يُعْلَمُ به] (¬2) كَذِبُ إحْدَى البَيِّنَتَيْنِ بعَيْنِها، والغَلَطَ قد يَعْرِضُ للصَّادِقِ العَدْلِ ولا يَتَعَمَّدُه، فيُعْفَى عنه، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬3). فصل: ومتى عَلِمَ أنَّ الشّاهِدَيْنِ شَهِدَا بالزُّورِ، تَبَيَّنَ أنَّ الحُكْمَ كان باطِلًا، ولَزِمَ نقضُه؛ لأنَّا تَبَيَّنَّا كَذِبَهما؛ فإن كان المحْكُومُ به مالًا، رُدَّ إلى صاحِبه، وإن كان إتْلافًا، فعلى الشّاهِدَيْنِ ضَمانُه؛ لأنَّهما سبَبُ إتْلافِه، إِلَّا (¬4) أن يَثْبُتَ ذلك بإقْرارِهما على أنْفُسِهما مِن غيرِ مُوافَقَةِ المَحْكومِ له، فيكونَ ذلك رُجوعًا منهما عن شَهادَتِهما، وقد مَضَى حكمُ ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: «تبينا». (¬2) في م: «يمنع أنه». (¬3) سورة الأحزاب 5. (¬4) في ق، م: «إلى».

5088 - مسألة: (ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة، فإن قال: أعلم. أو: أحق. لم يحكم به)

وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ قَالَ: أَعْلَمُ. أَوْ: أُحِقُّ. لَمْ يُحْكَمْ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن تابَ شاهدُ الزُّورِ، ومَضَى على ذلك مُدَّةٌ تَظْهَرُ فيها تَوْبَتُه، وتبَيَّنَ صِدْقُه فيها وعَدالَتُه، قُبِلَتْ شهادتُه. وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ. وقال مالكٌ: لا تُقْبَلُ شهادتُه أبدًا؛ لأَنَّ ذلك لا يُؤْمَنُ منه (¬1). ولَنا، أنَّه تائِبٌ مِن ذَنْبِه، فقُبِلَتْ تَوْبَتُه، كسائِرِ التّائِبينَ. وقولُه: لا يُؤْمَنُ منه ذلك. قُلْنا: مُجَرَّدُ الاحْتِمالِ لا يَمْنَعُ قَبولَ الشَّهادةِ، بدليلِ سائرِ التّائِبينَ، فإنَّه لا يُؤْمَنُ منهم (¬2) مُعاوَدَةُ ذُنُوبِهم، وشهادتُهم مَقْبولَةٌ. 5088 - مسألة: (ولا تُقْبَلُ الشَّهادَةُ إلَّا بلَفْظِ الشَّهادَةِ، فإن قال: أعْلَمُ. أو: أُحِقُّ. لم يُحْكَمْ به) وجملةُ ذلك، أنَّ لَفْظَ الشَّهادةِ مُعْتَبَرٌ في أدائِها، فيقولُ: أشْهَدُ أنَّه أقَرَّ بكذا. ونحوَه. ولو قالَ: أعْلَمُ. ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: أُحِقُّ. أو: أتَيَقَّنُ. أو: أعْرِفُ. لم يُعْتَدَّ به؛ لأَنَّ الشَّهادةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ شَهادَةً، فلابُدَّ مِن الإِتْيَانِ بفِعْلِها المُشْتَقِّ منها، ولأَنَّ فيها معْنًى لا يحْصُلُ في غيرِها مِن اللَّفَظاتِ، بدليلِ أنَّها تُسْتَعْمَلُ في اللِّعَانِ، ولا يحْصُل ذلك مِن غيرِها. وهذا مذهبُ الشافعىِّ، ولا أعلمُ في ذلك خلافًا. فصل: وإذا غَيَّرَ (¬1) العَدْلُ شَهادتَه بحَضْرةِ الحاكمِ، فزادَ فيها أو نَقَصَ، قُبِلَتْ منه ما لم يَحْكُمْ بشَهادتِه. ذكَرَه الخِرَقِىُّ. مثلَ أن يَشْهَدَ بمائةٍ، ثم يقولَ: بل هى مائةٌ وخمسون. أو: بل هى تِسعون. فإنَّه يُقْبَلُ منه رُجوعُه، ويُحْكَمُ بما شَهِدَ به أخِيرًا. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ. وقال الزُّهْرِىُّ: لا تُقْبَلُ شَهادتُه الأُولَى ولا الأخِيرةُ؛ لأنَّ كُلَّ ¬

(¬1) في ق، م: «عين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدةٍ منهما تَرُدُّ الأُخْرى (¬1)، ولأَنَّ الأُولَى مَرْجُوعٌ عنها، والثانيةَ غيرُ مَوْثُوقٍ بها؛ لأنَّها مِن مُقِرٍّ بغَلَطِه وخَطَئِه في شَهادَتِه، فلا يُؤْمَنُ أن تكونَ في الغَلَطِ كالأُولَى. وقال مالكٌ: يُؤْخَذُ بأقَلِّ (¬2) قَوْلَيْه؛ لأنَّه أدَّى الشَّهادةَ وهو غيرُ مُتَّهَمٍ، فلم يُقْبَلُ رُجُوعُه عنها، كما لو اتَّصَلَ بها الحكمُ. ولَنا، أنَّ شَهادَتَه الأخِيرَةَ شهادةٌ مِن عَدْلٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، لم يَرْجِعْ عنها، فَوَجَب الحُكْمُ بها، كما لو لم يَتقَدَّمْها ما يُخالِفُها، ولا تُعارِضُها الأُولَى؛ لأنَّها قد بطَلَتْ برُجُوعِه عنها، ولا يجوزُ الحُكمُ بها؛ لأنَّها شَرْطُ الحُكْمِ، فوجَبَ اسْتِمْرارُها إلى انْقِضائِه. ويُفارِقُ رُجوعَه بعدَ الحُكْمِ؛ لأَنَّ الحكمَ قد تَمَّ باسْتِمْرارِ شَرْطِه، فلا يُنْقَضُ بعدَ تَمامِه. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) بعده في الأصل: «من».

باب اليمين فى الدعاوى

بَابُ الْيَمِينِ فِى الدَّعَاوَى وَهِىَ مَشْرُوعَةٌ فِى حَقِّ المُنْكِرِ فِى كُلِّ حَقٍّ لِآدَمِىِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ اليَمينِ في الدَّعاوَى (وهى مَشْروعةٌ في حَقِّ المنكِرِ في كلِّ حَقٍّ لآدَمِىٍّ) وجملةُ ذلك، أنَّ الحُقوقَ على ضَرْبَيْنِ؛ أحدُهما، ما هو حَقٌّ لآدَمِىٍّ. والثانى، ما هو حَقٌّ للَّه تِعالى. وحَقُّ الآدَمِىِّ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أحدُهما، ما هو مالٌ، أو المقْصودُ منه المالُ؛ كالبَيْعِ، والقَرْضِ، والصُّلْحِ، والغَصْبِ، والجِنايةِ المُوجِبَةِ للمالِ، فيُسْتَحْلَفُ فيه؛ لقَوْلِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِى واليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ». مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ولحَديثِ الحَضْرَمِىِّ والكِنْدِىِّ (¬2). القسمُ الثانى، ما ليس بمالٍ، ولا المقْصودُ منه المالَ، وهو كلُّ ما لا يَثْبُتُ إلَّا بشَاهِدَيْنِ؛ كالقِصاصِ، وحَدِّ القَذْفِ، والنِّكاحِ، والطَّلاقِ، والرَّجْعَةِ، والعِتْقِ، والنَّسَبِ، والاسْتِيلادِ (¬3)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) تقدم تخريجه في 28/ 416. (¬3) في م: «الاستيلاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والوَلاءِ، والرِّقِّ، ففيه رِوايتان؛ إحداهما، لا يُسْتَحْلَفُ المُدَّعَى عليه، ولا تُعْرَضُ عليه اليَمِينُ. قال أحمدُ: ولم أسمَعْ مَن مَضَى جَوَّزَ الأيْمانَ إلَّا في الأمْوالِ والعُرُوضِ خاصَّةً. وهذا قولُ مالكٍ. ونحوُه قولُ أبى حنيفةَ، فإنَّه قال: لا يُسْتَحْلَفُ في النِّكاحِ، وما يَتعلَّقُ به مِن دَعْوَى الرَّجْعَةِ والفَيْئَةِ في الإِيلاءِ، ولا في الرِّقِّ وما يتَعلَّقُ به مِن الاسْتِيلادِ (¬1) والوَلاءِ والنَّسَبِ؛ لأَنَّ هذه الأشْياءَ لا يَدْخُلُها البَدَلُ، وإنَّما تُعْرَضُ اليَمِينُ فيما يدْخُلُها البَدَلُ؛ فإنَّ المُدَّعَى عليه مُخَيَّرٌ بينَ أن يَحْلِفَ أو يُسَلِّمَ، ولأَنَّ هذه الأشياءَ لا تَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْنِ ذَكَرَيْنِ، فلا تُعْرَضُ فيها اليَمِينُ، كالحدودِ. والروايةُ الثَّانيةُ، يُسْتَحْلَفُ في الطَّلاقِ، والقِصاصِ، والقَذْفِ. وقال الخِرَقِىُّ: إذا قال: ارْتَجَعْتُكِ. فقالت: انْقَضَتْ عِدَّتِى قبلَ رَجْعَتِكَ. فالقولُ قولُها مع يَمِينِها. وإذا اخْتَلَفا في مُضِىِّ الأرْبعةِ الأشْهُرِ في الإِيلاءِ، فالقولُ قوْلُه مع يَمِينِه. فَيُخَرَّجُ مِن (¬2) هذا أنَّه ¬

(¬1) في م: «الاستيلاء». (¬2) في م: «في».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَحْلَفُ في كلِّ حَقٍّ لآدَمِىٍّ. وهذا قولُ الشافعىِّ، وأبى يوسفَ، ومحمدٍ؛ لقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْواهُمْ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وأمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه». [مُتَّفَقٌ عليه] (¬1). وهذا عامٌّ في كلِّ مُدُّعًى عليه (¬2)، وهو ظاهِرٌ في دَعْوَى الدِّماءِ؛ لذِكْرِها في الدَّعْوَى مع عُمومِ الأحاديثِ، ولأنَّها دَعْوَى صَحيحةٌ في حَقِّ آدَمِىٍّ، فجازَ أَنْ يَحْلِفَ عليه، كدَعْوَى المالِ. وهذا أَوْلَى إن شاءَ اللَّهُ تعالى. و (قال أبو بكرٍ) عبدُ العزيزِ: تُشْرعُ اليَمِينُ في كلِّ حَقٍّ لآدَمِىٍّ (إلَّا في النِّكاحِ والطَّلاقِ) لأَنَّ هذا ممَّا لا يَحِلُّ بَذْلُه، فلم يُسْتَحْلَفْ فيه (¬3)، كحُقوقِ اللَّهِ سبحانه، وإنَّما كان كذلك؛ لأَنَّ الأبْضاعَ ممَّا يُحْتاطُ لها، فلا تُسْتَباحُ بالنُّكُولِ، لأَنَّ النُّكُولَ ليس بحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ، لأنَّه سُكُوتٌ مُجَرَّدٌ، يَحْتَمِلُ أن يكونَ للخَوْفِ مِن اليَمِينِ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ للجَهْلِ بحَقِيقةِ الحالِ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لعِلْمِه بصِدْقِ المُدَّعِى، ومع هذه ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: م.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِلَّا فِى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ؛ النِّكَاحِ، والرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرِّقِّ، وَالْوَلَاءِ، وَالاسْتِيلَادِ، وَالنَّسَبِ، وَالْقَذْفِ، وَالْقِصَاصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاحْتِمالاتِ لا يَنْبَغِى أن يُقْضَى به فيما يُحْتاطُ له (وقال أبو الخَطَّابِ): تُشْرَعُ اليَمِينُ في كلِّ حَقٍّ لآدَمِىٍّ (إلَّا في تِسْعةِ أشياءَ؛ النِّكاحِ، والرَّجْعَةِ، والطَّلَاقِ، والرِّقِّ، والوَلاءِ، والاسْتِيلادِ، والنَّسَبِ، والقَذْفِ، والقِصاصِ) لأَنَّ البَدَلَ لا يَدْخُلُ هذه الأشياءَ، فلم يُسْتَحْلَفْ

وَقَالَ الْقَاضِى: فِى الطَّلَاقِ وَالقِصَاصِ وَالْقَذْفِ رِوَايَتَانِ، وَسَائِرُ السِّتَّةِ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الخِرَقِىُّ: لَا يُحَلَّفُ فِى القِصَاصِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِذَا أَنْكَرَتِ النِّكَاحَ، وَتُحَلَّفُ إِذَا ادَّعَتِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها، كحُقوقِ اللَّه سبحانه (وقال القاضى: في الطَّلاقِ والقِصاصِ والقَذْفِ رِوَايتان) إحداهما، لا يُسْتَحْلَفُ فيها، لذلك. والثانيةُ، يُسْتَحْلَفُ فيها، لأنَّها دَعْوَى صَحيحَةٌ يُسْتَحلفُ فيها، كدَعْوَى المالِ. وأمَّا (السِّتَّةُ الباقِيَةُ، فلا يُسْتَحْلَفُ فيها، رِوايةً واحدةً) لِما سَبَقَ (وقال الخِرَقِىُّ: لا يُسْتَحْلَفُ في القِصاصِ، ولا المرأةُ إذا أنْكَرَتِ النِّكاحَ،

انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُولِى مُضِىَّ الأرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، حَلَفَ. وَإِذَا أَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدًا بِعِتْقِهِ، حَلَفَ مَعَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتُحَلَّفُ إذا ادَّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها) لِما سبَقَ (وإذا أقامَ العبدُ شاهِدًا بعِتْقِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حَلَفَ مع شاهدِه) وعَتَقَ. وهى إحْدَى (¬1) الرِّوايَتَيْن عن أحمدَ. وقد ذكَرْنا ذلك. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

5089 - مسألة: (ولا يستحلف فى حقوق الله سبحانه)

وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَالحُدُودِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَنَحْوِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5089 - مسألة: (وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِى حُقُوقِ اللَّهِ سبحانَه) وهى نَوْعان؛ أحدُهما، الحُدُودُ، فلا تُشْرَعُ فيها يَمِينٌ. لا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّه لو أقَرَّ، ثم رَجَعَ عن إقْرارِه، قُبِلَ منه، وخُلِّىَ مِن غيرِ يَمِينٍ، فَلَأَن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُسْتَحْلَفَ مع عَدمِ الإِقْرارِ أَوْلَى، ولأنَّه يُسْتَحَبُّ سَتْرُه، والتَّعْرِيضُ للمُقِرِّ به بالرُّجوعِ عن إقْرارِه، وللشُّهودِ بتَرْكِ الشَّهادَةِ والسَّتْرِ عليه، قال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لهَزَّالٍ، في قصَّةِ ماعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَه بثَوْبِكَ، لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» (¬1). فلا تُشْرَعُ فيه يَمِينٌ بحالٍ. النوعُ الثانى، الحُقوقُ المالِيَّةُ، كدَعْوَى السَّاعِى الزَّكاةَ على رَبِّ المالِ، وأنَّ الحَوْلَ قد تَمَّ وكَمَلَ النِّصابُ، فقال أحمدُ: القولُ قولُ رَبِّ المالِ، بغيرِ يَمِينٍ، ولا يُسْتَحْلَفُ الناسُ على صَدَقاتِهم. وقال الشافعىُّ، وأبو يوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ؛ لأنَّها دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ يتَعلَّقُ بها حَقُّ آدَمِىٍّ، أشْبَهَ حَقَّ الآدَمِىِّ. ووَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه حَقٌّ للَّهِ تعالى، أشْبَهَ الحَدَّ، ولأَنَّ ذلك عِبادةٌ، فلا يُسْتَحْلَفُ عليها، كالصَّلاةِ. ولو ادَّعَى عليه أنَّ عليه كفَّارَةَ يَمِينٍ، أو ظِهارٍ، أو نَذْرٍ، أو صَدَقَةٍ أو غيرِها، فالقولُ قولُه في نَفْىِ ذلك مِن غيرِ يَمِينٍ، ولا تُسْمَعُ الدَّعْوَى في هذا، ولا في حَدٍّ للَّه تِعالى؛ لأَنَّه لا حَقَّ للمُدَّعِى فيه، ولا وِلاية له عليه، فلا تُسْمَعُ منه دَعْوَاه، كما لو ادَّعَى حَقًّا لغيرِه مِن غيرِ إذْنِه ولا وِلايَة له عليه. فإن تَضَمَّنَتْ دَعْواه حقًّا له، مثلَ أن يَدَّعِىَ سَرِقَةَ مالِه، لتَضْمينِ السَّارِقِ، أو يَأْخُذ (¬2) منه ما سَرَقَه، أو يَدَّعِىَ عليه الزِّنَى بجارِيَتِه؛ ليَأْخُذَ مَهْرَها منه، سُمِعَتْ دَعْوَاه ويُسْتَحْلَفُ المُدَّعَى عليه لحَقِّ الآدَمِىِّ، دونَ حَقِّ اللَّهِ تعالى. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 26/ 344. (¬2) في الأصل: «لا يأخذ».

5090 - مسألة: (ويجوز الحكم فى المال، وما يقصد به المال بشاهد ويمين المدعى)

وَيَجُوزُ الْحُكْمُ فِى الْمَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقْبَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5090 - مسألة: (ويَجُوزُ الحُكْمُ فِى المالِ، وما يُقْصَدُ به المَالُ بشاهِدٍ ويَمِينِ المُدَّعِى) رُوِى ذلك عن الخُلفاءِ الأربعةِ، رَضِىَ اللَّه عنهم. وقد سبقَ ذِكْرُ ذلك (ولا تُقْبَلُ فيه شَهادةُ امرأتَيْن ويَمِينٌ) لأَنَّ شَهادةَ النِّساءِ ناقِصَةٌ، وإنَّما أُجيزَتْ بانْضِمامِ الذَّكَرِ إلَيْهِنَّ، فلا يُقْبَلْنَ مُنْفَرِداتٍ وإن كَثُرْنَ (وَيَحْتَمِلُ أَن تُقْبَلَ) لأن المرْأتَيْنِ في المالِ مَقامُ رجلٍ، فيَحْلِفُ معهما كما يَحْلِفُ مع الرَّجُلِ. وهو مذهبُ مالكٍ. ويَبْطُلُ ذلك بشَهادةِ أرْبعِ نِسْوَةٍ، فإنَّه لا يُقْبَلُ إجْماعًا.

5091 - مسألة: (وهل يثبت العتق بشاهد ويمين؟ على روايتين)

وَهَلْ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلَا يُقْبَلُ فِى النِّكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ، وَسَائِرِ مَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ شَاهِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5091 - مسألة: (وهل يَثْبُتُ العِتْقُ بشاهِدٍ ويَمِينٍ؟ على رِوايَتَيْنِ) إحداهما، يَثْبُتُ. وهو اخْتِيارُ الخِرَقِىِّ، وأبى بكرٍ؟ لأنَّه إزالةُ مِلْكٍ، فقُبِلَ فيه شاهدٌ ويَمِينٌ، كالبَيْعِ، أو إتْلافُ مالٍ، فقُبِلَ فيه شاهدٌ ويَمِينٌ، كالإِتْلافِ بالفِعْلِ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ، لا تَثْبُتُ الحُرِّيَّةُ إلَّا بشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ذكَرَيْنِ؛ لأنَّه ليس بمالٍ، ولا المَقْصودُ منه المالَ، ويَطَّلِعُ عليه الرجالُ في غالبِ الأحْوالِ، فأَشْبَهَ الحُدودَ والقِصاصَ. 5092 - مسألة: (ولا يُقْبَلُ فِى النِّكَاحِ، والرَّجْعَةِ، وسَائِرِ مَا لَا

5093 - مسألة: (ومن حلف على فعل نفسه، أو دعوى عليه)

وَيَمِينٌ. وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، أَوْ دَعْوَى عَلَيْهِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، أَوْ دَعْوَى عَلَيْهِ فِى الإِثْبَاتِ، حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى النَّفْى، حَلَفَ عَلَى نَفْى عِلْمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَحْلَفُ فيه) كالطَّلَاقِ والوَصِيَّةِ (شَاهِدٌ ويَمِينٌ) لقولِ اللَّهِ تعالى في الرَّجْعَةِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). وقِسْنا عليه سائرَ ما ذكَرْنا؛ لأنَّه ليس بمالٍ، ولا يُقْصَدُ به المالُ، أشْبَهَ العُقوباتِ. وفيه رِوايةٌ أُخْرَى، يُقْبَلُ فيه رجلٌ وامْرأتانِ، أو يَمِينٌ؛ لأنَّه ليس بعُقوبَةٍ، ولا يَسْقُطُ بالشُّبْهَةِ، أشْبَهَ المالَ. وقال القاضى: النِّكاحُ لا يَثْبُتُ إلَّا بشَاهِدَيْنِ، والباقِى (¬2) يُخَرَّجُ فيه رِوَايتان. ذكَرْنا وَجْهَهُما. 5093 - مسألة: (ومَن حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِه، أو دَعْوَى عليه) في الإِثْباتِ (حَلَف على البَتِّ) معنى البَتِّ: القطعُ. أى يَحْلِفُ باللَّهِ: ما لَه علىَّ شئٌ. والأيْمانُ كلُّها على البَتِّ والقَطْعِ، إلَّا على نَفْى فِعْلِ ¬

(¬1) سورة الطلاق 2. (¬2) في م: «الثانى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَيْرِ، فإنَّها على نَفْى العِلْمِ. وبه قال أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعىُّ. وقال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ: كلُّها على العلمِ. وذكرَه ابنُ أبى موسى رِوايةً عن أحمدَ. وذكرَ حديثَ الشَّيْبَانِىِّ (¬1)، عن القاسِمِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لَا تَضْطَرُّوا النَّاسَ فِى أيْمَانِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ» (¬2). ولأنَّه لا يُكَلَّفُ (¬3) على ما لا عِلْمَ له به. وقال ابنُ أبى ليلَى: كلُّها على البَتِّ، كما يَحْلِفُ على فِعْلِ نَفْسِه. ولَنا، حديثُ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَحْلَفَ رَجُلًا، فقال: «قُلْ: وَاللَّهِ الَّذِى لَا إلهَ إلَّا هُوَ، مَا لَهُ عَلَيْكَ حَقٌ» (¬4). ورَوَى الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ، أنَّ رَجلًا ¬

(¬1) في م: «البستانى». (¬2) أخرجه عبد الرزاق، في: باب اليمين بما يصدقك صاحبك. . .، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 494. وأخرجه الخطيب، في: تاريخ بغداد 3/ 313. وأبو نعيم، في: تاريخ أصفهان 2/ 216. كلاهما موصولا من حديث ابن مسعود. وانظر الكلام على الحديث في: الإرواء 8/ 308، 309. (¬3) في م: «يحلف»، وفى المغنى 14/ 228: «لا يكلف ما لا علم له به». (¬4) أخرجه أبو داود، في: باب كيف اليمين، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 279، 280. والبيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 180.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن كِنْدَةَ، ورجلًا مِن حَضْرَمَوْتَ، اخْتَصَما إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أرْضٍ مِن اليَمَنِ، فقال الحَضْرَمِىُّ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أرْضِى اغْتصَبَنِيها (¬1) أبو هذا، وهى في يَدِه. قال: «هَلْ لَكَ بَيِّنةٌ؟». قال: لا، ولكن أُحَلِّفُه واللَّهِ ما يَعْلَمُ أنَّها أرْضِى اغْتَصَبَنِيها أبُوه. فتهَيَّأَ الكِنْدِىُّ لليَمِينِ. رَوَاه أبو داودَ (¬2). ولم يُنْكِرْ ذلك النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُمْكِنُه الإِحاطَةُ بفِعْلِ نفسِه، ولا يُمْكِنُه ذلك في فِعْلِ غيرِه، فافْتَرَقا في اليَمِينِ، كما (¬3) افْتَرَقَتِ الشَّهادةُ، فإنَّها تكونُ بالقَطْعِ فيما يُمْكِنُ القَطْعُ فيه مِن العُقودِ، وعلى الظَّنِّ فيما لا يُمْكِنُ فيه القَطْعُ مِن الأمْلاكِ والأنْسابِ (¬4)، وعلى نَفْى العلمِ فيما لا تُمْكِنُ الإِحاطَةُ بانْتِفائِه، كالشَّهادةِ على أنَّه لا وارِثَ له إلَّا فُلانٌ وِفُلانٌ وحديثُ القاسِمِ بنِ عبدِ الرحمنِ، مَحْمولٌ على اليَمِينِ على نَفْىِ (¬5) فِعْلِ الغيرِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَحْلِفُ فيما عليه على البَتِّ، نَفْيًا كان أو إثْباتًا. وأمَّا ما يَتعلَّقُ بفعلِ غيرِه، فإن كان إثْباتًا، ¬

(¬1) في الأصل: «اغتصبها». (¬2) في: باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، من كتاب الأقضية. سنن أبى داود 2/ 280. كما أخرجه ابن الجارود، في: المنتقى 369، 370. (¬3) بعده في م: «لو». (¬4) في ق، م: «الأسباب». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مثلَ أن يَدَّعِىَ أنَّه أقْرَضَ أو باعَ، ويُقِيمَ شاهِدًا بذلك، فإنَّه يَحْلِفُ مع شاهدِه على البَتِّ والقَطْعِ، وإن كان على نَفْىٍ، مثلَ أن يَدَّعِىَ عليه دَيْنًا، أو غَصْبًا، أو جِنايةً، [أو خِيانةً] (¬1)، فإنَّه يَحْلِفُ على نَفْى العلمِ لا غيرُ. وإن حَلَف عليه على البَتِّ كَفاه، وكان التَّقْديرُ فيه العِلْمَ، كما في الشَّاهدِ إذا شَهِدَ بعَددِ الوَرَثَةِ، وقال: ليس له وارثٌ غيرَهم. سُمِعَ ذلك، وكان التَّقْديرُ فيه (¬2) عِلْمَه. ولو ادُّعِىَ عليه (¬3) أنَّ عبدَه اسْتدانَ أو جَنَى، فأنْكَرَ ذلك، فيَمِينُه على نَفْى العلْمِ؛ لأنَّها يَمِينٌ على فِعْلِ الغيرِ، فأشْبَهَتْ يَمِينَ الوارِثِ على نَفىِ فِعْلِ المَوْروثِ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في الأصل: «علم». (¬3) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ذكَرَ ابنُ أبى موسى أنَّه اخْتلَفَ قوْلُه، في مَن باعَ سِلْعةً، فظَهرَ المُشْتَرِى على عَيْبٍ بها، فأنْكَرَه البائِعُ، هل اليَمِينُ على البَتَاتِ أو على عِلْمِه؟ على رِوايَتَيْنِ. ولو أبَقَ عَبْدُ (¬1) المُشْتَرِى، فادَّعَى على البائعِ أنَّه أبَقَ عندَه، فأنْكَرَ، هل يَلْزَمُه أن يَحْلِفَ أنَّه لم يَأْبِقْ قَطُّ، أو على نفْىِ عِلْمِه؟ على رِوَايَتَيْنِ، إلَّا أن يكونَ ولدَه، فيَلْزَمُه أن يَحْلِفَ أنَّه لم يَأْبِقْ قَطُّ. ووَجْهُ كَوْنِ اليَمِينِ على نَفْى عِلْمِه، أنَّها على نَفْى فِعْلِ الغيرِ، فأشْبَهَ ما لو ادَّعَى عليه [أنَّ عبدَه جنَى. ووَجْهُ الأُخْرَى، أنَّه ادَّعَى عليه] (¬2) أنَّه باعَه مَعِيبًا، يَسْتَحِقُّ رَدَّه عليه، فلزِمَتْه اليَمِينُ على البَتِّ، كما لو كان إثْباتًا. ¬

(¬1) في الأصل: «عند». (¬2) سقط من: الأصل.

5094 - مسألة: (ومن توجهت عليه يمين لجماعة، فقال: أحلف يمينا واحدة. فرضوا، جاز، وإن أبوا، حلف لكل واحد يمينا)

وَمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِجَمَاعَةٍ، فَقَالَ: أَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً لَهُمْ. فَرَضُوا، جَازَ، وَإِنْ أَبَوْا، حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5094 - مسألة: (ومَن تَوَجَّهَتْ عليه يَمِينٌ لجماعَةٍ، فقال: أحْلِفُ يَمِينًا واحِدَةً. فَرَضُوا، جَازَ، وإن أبَوْا، حَلَفَ لكُلِّ واحِدٍ يَمِينًا) إذا كان الحقُّ لجماعةٍ، فرَضُوا بيَمِينٍ واحدةٍ، صَحَّ، وسَقَطَتْ دَعْواهم باليَمِينِ؛ لأنَّها حَقُّهم، ولأنَّه لمَّا جازَ ثُبوتُ الحقِّ ببَيِّنَةٍ واحدةٍ لجَماعةٍ، جازَ سُقوطُه بيَمِينٍ واحدةٍ. قال القاضى: ويَحْتَمِلُ أن لا يَصِحَّ حتى

فصل

فَصْلٌ: وَالْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ هِىَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، تَعَالَى اسْمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يَحْلِفَ لكُلِّ واحدٍ يَمِينًا. وهو أحدُ الوَجْهَيْنِ لأصْحابِ الشافعىِّ؛ لأَنَّ اليَمِينَ حُجَّةٌ في حقِّ الواحدِ، فإذا رَضِىَ بها اثْنان، صارَتِ الحُجَّةُ في حقِّ كلِّ واحدٍ منهما ناقِصَةً، [والحُجَّةُ الناقِصَةُ لا تَكْمُلُ] (¬1) برِضَا الخَصْمِ، كما لو رَضِىَ أن يحْكمَ عليه بشَاهدٍ واحدٍ. والصَّحيحُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ الحقَّ لهما، فإذا رَضِيَا به، جازَ، ولا يَلْزَمُ مِن رِضَاهُما بيَمِينٍ واحدةٍ أن يكونَ لكُلِّ واحدٍ بعضُ اليَمِينِ كما أنَّ الحُقوقَ إذا قامتْ بها بَيِّنَةٌ واحدةٌ لا تكونُ لكُلِّ حقٍّ بعضُ البَيِّنَةِ. فأمَّا إن حَلَّفَه الحاكمُ لجميعِهم يَمِينًا واحدةً [بغيرِ رِضاهم، لم تَصِحَّ يمينُه. بلا خِلافٍ نَعْلَمُه. وقد حَكَى الإِصْطَخْرِىُّ، أنَّ إسماعيلَ بنَ إسحاقَ، حلَّفَ رجلًا بحقٍّ لرجلَيْن يَمِينًا واحِدَةً] (¬2)، فخَطَّأَه أهْلُ عصرِه (¬3). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (واليَمِينُ المَشْرُوعَةُ هى اليَمِينُ ¬

(¬1) في م: «لا يعمل». (¬2) سقط من: م. (¬3) انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/ 332، 333.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باللَّهِ، تَعالى اسْمُه) [وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ اليمينَ المشروعةَ هى اليمينُ باللَّهِ، تعالى اسمُه] (1)، في قولِ عامَّةِ أهلِ العلمِ، إلَّا أنَّ مالِكًا أحَبَّ [أَنْ يَحْلِفَ] (¬1) باللَّهِ الذى لَا إلهَ إلَّا هو، وإنِ اسْتَحْلفَ [حاكم باللَّهِ، أجْزَأَ. قال ابنُ المُنْذِرِ: وهذا أحَبُّ إلىَّ؛ لأَنَّ ابنَ عبَاسٍ رَوَى، أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَحْلفَ] (¬2) رجلًا، فقال: «قُلْ: وَاللَّهِ الَّذى لا إلهَ إلَّا هُوَ، مَا لَهُ عِنْدَكَ شَىْءٌ». رواه أبو داودَ (¬3). وفى حديثِ عمرَ حينَ حَلَف لأُبَىٍّ، قال (¬4): واللَّهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو، إنَّ النَّخْلَ لنَخْلى وما لأُبىِّ فيها شَىْءٌ (¬5). وقال الشافعىُّ: إن كان المُدَّعَى قِصاصًا، أو عَتاقًا، أو حَدًّا، أو مالًا يَبْلُغُ نِصابًا، غُلِّظَتِ اليَمِينُ، فَيَحْلِفُ باللَّه اِلذى لا إلهَ إلَّا هو، عالمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، الذى يَعْلمُ مِن السِّرِّ ما يَعْلَمُ مِن العَلَانِيَةِ، وقال في القَسامَةِ: عالمِ خائِنَةِ الأعْيُنِ وما تُخْفِى الصُّدورُ. وهذا اخْتِيارُ أبى الخَطَّابِ. وذكرَ القاضى أنَّ هذا في أيْمانِ القَسامةِ خاصَّةً، وليس بشَرْطٍ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬6). وقال تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في صفحة 115. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬6) سورة المائدة 106.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (¬1). وقال تعالى في اللِّعانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬2). وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬3). قال بعضُ المفَسِّرين: مَن أقْسَمَ باللَّهِ فقد أَقْسَمَ باللَّهِ جَهْدَ اليَمِينِ. واسْتَحْلفَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رُكانَةَ بنَ عبدِ (¬4) يَزِيدَ في الطَّلاقِ، فقال: «آللَّهِ مَا أَرَدْتَ إلَّا وَاحِدَةً؟» (¬5). وقال عثمانُ لابنِ عُمَرَ: تحْلِفُ باللَّهِ لقد بِعْتَه وما به داءٌ تَعْلَمُه (¬6). ولأَنَّ [في اللَّهِ] (¬7) كِفَايَةً، فوجبَ أَنْ يُكْتَفَى باسْمِه في اليَمِينِ، كالمواضِعِ التى سَلَّمُوها. فأمّا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ [وعُمَرَ] (¬8)، فإنَّه يدُلُّ على جَوازِ الاسْتِحْلافِ كذلك (¬9)، وما ذكَرْناه يدُلُّ على الاكْتِفاءِ باسْمِ (¬10) اللَّهِ تعالَى وحدَه، وما ذكَرَه الباقونَ تحَكُّمٌ لا نَصَّ فيه، ولا قِياسَ يَقْتَضِيه. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ اليَمِينَ في حقِّ المسلمِ والكافرِ جميعًا باللَّهِ تعالى، لا يَحْلِفُ أحدٌ بغيرِه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}. ولِقولِ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ ¬

(¬1) سورة المائدة 107. (¬2) سورة النور 6. (¬3) سورة الأنعام 109، سورة النحل 38، سورة النور 53، سورة فاطر 42. (¬4) في الأصل: «عبيد». (¬5) تقدم تخريجه في 22/ 239. (¬6) تقدم تخريجه في 11/ 256، 28/ 433. (¬7) في م: «فيه». (¬8) في النسخ: «وابن عمر». والمراد حديث عمر المتقدم حين حلف لأبى، وانظر: المغنى 14/ 223. (¬9) في النسخ: «لذلك». وانظر المغنى الموضع السابق. (¬10) في ق، م: «ببسم».

5095 - مسألة: (وإن رأى الحاكم تغليظها بلفظ، أو زمن، أو مكان، جاز، ففى اللفظ يقول: والله الذى لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضار النافع، الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. واليهودى يقول: والله الذى أنزل التوراة على موسى، وفلق له البحر، وأنجاه من فرعون وملئه. والنصرانى يقول: والله الذى أنزل الإنجيل على عيسى، وجعله يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص. والمجوسى يقول: والله الذى

وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ تَغلِيظَهَا بِلَفْظٍ، أَوْ زَمَنٍ، أَوْ مَكَانٍ، جَازَ، فَفِى اللَّفْظِ يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الطَّالِبِ الْغَالِبِ، الضَّارِّ النَّافِعِ، الَّذِى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ. وَالْيَهُودِىُّ يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَفَلَقَ لَهُ الْبَحْرَ، وَأَنْجَاهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. وَالنَّصْرَانِىُّ يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَجَعَلَهُ يُحْيِى الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. وَالْمَجُوسِىُّ يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِى خَلَقَنِى وَصَوَّرَنِى وَرَزَقَنِى. وَالزَّمَانِ، يُحَلِّفُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ باللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» (¬1). 5095 - مسألة: (وإن رَأَى الحاكِمُ تَغْلِيظَها بلَفْظٍ، أو زَمَنٍ، أو مَكَانٍ، جازَ، ففى اللَّفْظِ يقولُ: واللَّهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو، عالمِ الغَيْبِ والشَّهادةِ، الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الطّالبِ الغالِبِ، الضَّارِّ النافعِ، الذى يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِى الصُّدورُ. واليَهُودِىُّ يقولُ: واللَّهِ الذى أنْزَلَ التَّوْراةَ على مُوسى، وفلَقَ له البَحْرَ، وأنجاهُ مِن فِرْعَوْنَ ومَلَئِه. والنَّصْرانِىُّ يقولُ: واللَّهِ الذى أنْزَلَ الإِنْجيلَ على عِيسى، وجعَلَه يُحْيِى المَوْتَى، ويُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبرَصَ. والمَجُوسِىُّ يقولُ: واللَّهِ الذى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 23/ 149.

بَعْدَ الْعَصْرِ، أَوْ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ. وَالْمَكَانِ، يُحَلِّفُهُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَفِى الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِى سَائِرِ البُلْدَانِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَيُحَلِّفُ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِى الْمَوَاضِعِ الَّتِى يُعَظِّمُونَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ خَلَقَنِى وصَوَّرَنِى ورَزَقَنِى. والزَّمانِ، يُحلِّفُه بعدَ العَصْرِ، وبينَ الأذانَيْن. والمكانِ، يُحلِّفُه بمكَّةَ بينَ الرُّكْنِ والمقَامِ، وفى الصَّخْرَةِ ببَيْتِ المقْدِسِ، وفى سائرِ البُلْدانِ عندَ المِنْبَرِ. ويُحَلِّفُ أَهْلَ الذِّمَّةِ في الْمَوَاضِعِ الَّتِى يُعَظِّمُونَهَا) هذا الذى ذكَره شَيْخُنا اخْتِيارُ أبى الخَطَّابِ، قال: وقد أوْمأَ إليه أحمدُ في رِوايةِ المَيْمُونِىِّ، وذكَرَ التَّغْلِيظَ في حَقِّ المَجُوسِىِّ، قال: قُلْ: واللَّهِ اِلذى خلَقَنى ورزَقَنِى. وإن كان وثَنِيًّا حَلَّفه باللَّهِ وِحدَه، وكذلك إن كان لا يَعْبُدُ اللَّهَ؛ لأنَّه لا يجوزُ الحَلِفُ بغيرِ اللَّهِ تعالى؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». ولأَنَّ هذا إن لم يكُنْ يَعُدُّ هذه يَمِينًا، فإنَّه (¬1) يَزْدادُ بها إثْمًا وعُقوبةً، ورُبَّما عُجِّلَتْ عُقوبَتُه، فيَتَّعِظُ بذلك، ويَعْتَبِرُ به غيرُه. وهذا كلُّه ليس بشَرْطٍ في اليَمِينِ، ¬

(¬1) في ق، م: «إنما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما للحاكمِ فِعْلُه إذا رأَى. وظاهِرُ كلامِ الْخِرَقِىِّ، أنَّ اليَمِينَ لا تُغَلَّظُ إلَّا في حَقِّ أهلِ الذِّمَّةِ، ولا تُغلَّظُ في حقِّ المسلمِ. وبه قال أبو بكرٍ، وذلك لِما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ، رضى اللَّه عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعنى لليهودِ-: «نَشَدْتُكْم بِاللَّهِ الَّذِى أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟». روَاه أبو داودَ (¬1). وكذلك قال الخِرَقِىُّ: تُغلَّظُ في المكانِ، فيُحَلَّفُ في المواضعِ التى يُعَظِّمُونَها، ويُتَوَقَّى الكَذِبُ فيها. ولم يَذْكُرِ التَّغْلِيظَ بالزَّمانِ. وممَّن قال: يُسْتَحْلَفُ أهلُ الكتابِ باللَّهِ وحدَه. مَسْرُوقٌ، وأبو عُبَيْدَةَ بنُ عبدِ اللَّهِ (¬2)، وعَطاءٌ، وشُرَيْحٌ، والحسنُ، وإبراهيمُ، وكَعْبُ بنُ سُورٍ، ومالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ. وممَّن قال: لا يُشرَعُ التَّغْليظُ بالزَّمانِ والمكانِ في حقِّ مُسْلِمٍ. ¬

(¬1) في: باب رجم اليهوديين، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 465، 466. (¬2) أبو عبيدة عامر بن عبد اللَّه بن مسعود الهذلى الكوفى، ويقال: احمه كنيته، تابعى، ثقة، فقد ليلة دجيل، وكانت سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين. سير أعلام النبلاء 4/ 363، تهذيب التهذيب 5/ 75، 76.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حنيفةَ وصاحِبَاه. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: تُغلَّظُ. ثم اخْتلَفا؛ فقال مالكٌ: يُحَلَّفُ في المدينةِ على مِنْبَرِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُحَلَّفُ قائمًا، ولا يُحَلَّفُ قائمًا إلَّا على مِنْبَرِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُسْتَحْلَفون في غيرِ المدينةِ في مساجدِ الجماعاتِ، ولا يُحَلَّفُ عندَ المِنْبَرِ إلَّا على ما يُقْطَعُ فيه (¬1) الِسَّارِقُ فصاعدًا، وهو ثلاثةُ دراهمَ. وقال الشافعىُّ: يُسْتَحْلَفُ المسلمُ بينَ الرُّكْنِ والمَقامِ بمكَّةَ، وفى المدينةِ عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفى سائرِ البُلْدانِ في الجوامعِ عندَ المِنْبَرِ، وعندَ الصَّخْرَةِ ببيتِ المَقْدِسِ، وتُغَلَّظُ في الزَّمانِ في الاسْتِحْلافِ بعدَ العَصْرِ، على نحوِ ما ذكَرْناه في صدْرِ المسألةِ، ولا تُغَلَّظُ في المالِ إلَّا في نِصابٍ فصاعِدًا، وتُغَلَّظُ في الطَّلاقِ والعَتاقِ والحدِّ والقِصاصِ. وقال ابنُ حَزْمٍ (¬2): تُغلَّظُ بالقليلِ والكثيرِ. واحْتَجُّوا [بقولِه تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (¬3). قيل: أرادَ صلاةَ العَصْرِ. ورُوى عن] (¬4) النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، [أنَّه قال] (¬5): «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِى هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ ¬

(¬1) في الأصل: «به». (¬2) انظر المحلى 10/ 562، 563. (¬3) سورة المائدة 106. (¬4) في ق، م: «بقول». (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّارِ» (¬1). فثَبتَ أنَّه يتَعلَّقُ بذلك تأْكيدُ اليَمِينِ. ورَوَى مالكٌ (¬2)، قال: اخْتصمَ زيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ مُطيعٍ في دارٍ كانت بينَهما إلى مَرْوانَ ابنِ الحكمِ، فقال زيدٌ: أحْلِفُ له مَكانِى. فقال مَرْوانُ: لا واللَّهِ، إلَّا عندَ مُنْقطَعِ الحُقوقِ. قال: فجَعلَ زيدٌ يَحْلِفُ أنَّ حقَّه لحَقٌّ، ويَأْبَى أن يَحْلِفَ عندَ المِنْبَرِ، فجَعلَ مَرْوانُ يَعْجَبُ. ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (¬3). ولم يَذْكُرْ مَكانًا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأيمان. سنن أبى داود 2/ 198. وابن ماجه، في: باب اليمين عند مقاطع الحقوق، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه 2/ 779. والإمام مالك، في: لاب ما جاء في الحنث على منبر النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 727. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 329، 518. (¬2) في: باب جامع ما جاء في اليمين على المنبر، من كتاب الأقضية. الموطأ 2/ 728. كما أخرجه البخارى معلقا، في: باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين، من كتاب الشهادات. صحيح البخارى 3/ 234. (¬3) سورة المائدة 107.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا زَمانًا، ولا زِيادةً في اللَّفْظِ. واسْتَحْلَفَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رُكانَةَ في الطَّلاقِ، فقال: «آللَّهِ مَا أَرَدْتَ إلَّا وَاحِدَةً؟». قال: آللَّهِ مَا أرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً (¬1). ولم يُغَلِّظْ يَمِينَه بزَمَنٍ، ولا مَكانٍ، ولا زيادةِ لفظٍ. وحَلَفَ عمرُ لأُبَىٍّ حينَ تَحاكَما إلى زيدٍ في مَكانِه، وكانا في بيتِ زيدٍ (¬2). وقال عثمانُ لابنِ عمرَ: تحْلِفُ باللَّهِ لقد بِعْتَه ومَا به داءٌ تَعْلَمُه (¬3)؟. وفيما ذكَرُوه مِن التَّغْليظِ تَقْيِيدٌ لهذه النُّصوصِ، ومُخالفةٌ للإِجْماعِ. فإنَّ ما ذُكِرَ عن الخَليفَتَيْن عمرَ وعثمانَ، مع مَن حَضَرهما، لم يُنْكَرْ، وهو في مَحَلِّ (¬4) الشُّهْرَةِ، فكان إجْماعًا. وقولُه تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬5). إنَّما كان في حَقِّ أهلِ الكتابِ، [والوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، وهى قَضِيَّةٌ خُولِفَ فيها القِياسُ في مَواضِعَ؛ منها قَبولُ شَهادةِ أهلِ الكتابِ] (¬6) على المسلمين، ومنها اسْتِحْلافُ الشَّاهِدَيْنِ، ومنها اسْتِحْلافُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 22/ 239. (¬2) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬3) تقدم تخريجه في 11/ 256، 28/ 433. (¬4) سقط من: ق، م. (¬5) سورة المائدة 106 (¬6) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خُصومِهما عندَ العُثورِ على اسْتِحْقاقِهما الإِثْمَ، وهم لا يَعْمَلُون (¬1) بها أصلًا، فكيفَ يحْتَجُّون بها! ولَمَّا ذَكَرَ أيْمانَ المسلمين أطْلَقَ اليَمِينَ، ولم يُقَيِّدْها، والاحْتِجاجُ بهذا أَوْلَى مِن المَصِيرِ [إلى ما خُولِفَ فيه القِياسُ وتُرِكَ العملُ به. وأمَّا حديثُهم، فليس فيه دليلٌ على مَشْرُوعِيَّةِ اليَمِينِ عندَ المِنْبَرِ] (¬2)، إنَّما فيه دليلٌ على تَغْليظِ الإِثْمِ على الحالفِ. وأمَّا قَضِيَّةُ مَرْوانَ، فمِنَ العَجَبِ احْتِجاجُهم بها، وذَهابُهم إلى قولِ مَرْوانَ في قَضِيَّةٍ خالَفَه زيدٌ فيها، وقولُ زيدٍ، فَقِيهِ الصَّحابة وقارِئِهم وأَفْرَضِهم، أحقُّ أن يُحْتَجَّ به مِن قولِ مَرْوانَ، الذى لو انْفَرَدَ، ما جازَ الاحْتِجاجُ به، فكيفَ يجوزُ مع مُخالَفةِ إجْماعِ الصَّحابةِ، وقولِ أَئِمَّتِهم وفُقَهائِهم، ومُخالفةِ فِعْلِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإطْلاقِ كتابِ اللَّهِ سبحانه وتعالى! فهذا ممَّا لا يجوزُ. ¬

(¬1) في النسخ: «يعلمون». وكذا في نسخ المغنى، انظر حاشية المغنى 14/ 226. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما ذكرَ الخِرَقِىُّ التَّغْليظَ بالمكانِ واللَّفْظِ في حقِّ الذِّمِّىِّ (¬1)، لاسْتِحْلافِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليهودَ بقولِه: «نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى» (¬2). ورُوِىَ عن كَعْبِ بنِ سُورٍ، في النَّصْرَانِىِّ، قال: اذْهَبُوا بِه إلى المَذْبَحِ، واجْعَلُوا الإِنْجِيلَ في حِجْرِه، والتَّوْراةَ على رَأْسِه (¬3). وقال الشَّعْبِىُّ في نَصْرانِىٍّ: اذْهَبْ به إلى البِيعَةِ، فاسْتَحْلِفْه بما يُسْتَحْلَفُ به مِثْلُه (¬4). وقال ابنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ حُجَّةً تُوجِبُ أن يُسْتَحْلَفَ في مكانٍ بعَيْنِه، ولا يَمِينًا يُسْتَحْلَفُ بها غيرَ التى يُسْتَحْلفُ بها المسلمون. ¬

(¬1) في م: «الآدمى». (¬2) تقدم تخريجه في صفحة 125. (¬3) أخرجه عبد الرزاق، في: المصنف 8/ 361. ووكيع، في: أخبار القضاة 1/ 278. (¬4) ذكره ابن حزم في المحلى 10/ 548 من طريق أبى عبيد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى الجملةِ، لا خِلافَ بينَ المسلمين في أنَّ التَّغْليظَ بالمكانِ والزَّمانِ والألْفاظِ غيرُ واجبٍ، إلَّا أنَّ ابنَ الصَّبَّاغِ ذكرَ في وُجوبِ التَّغْليظِ بالمكانِ قَوْلَيْن للشافعىِّ. وخالَفَه ابنُ القَاصِّ، فقال: لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ في أنَّ القاضِىَ حيثُ اسْتَحْلَفَ المُدَّعَى عليه في عمَلِه (¬1) وبلَدِ قَضائِه، جازَ، ¬

(¬1) في الأصل: «علمه».

5096 - مسألة: (ولا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر، كالجنايات، والعتاق، والطلاق، وما تجب فيه الزكاة من المال)

وَلَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ إلَّا فِيمَا لَهُ خَطَر؛ كَالْجِنَايَاتِ، وَالْعَتَاقِ، وَالطَّلاقِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزكَاةُ مِنَ الْمَالِ. وَقِيلَ: مَا يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنَّما التَّغْليظُ بالمكانِ اخْتِيار منه. فيكونُ التَّغْليظُ عندَ مَن رآه اخْتِيارًا واسْتحبابًا. فصل: قال ابنُ المُنْذِرِ: ولم أجدْ أحدًا يُوجِبُ اليَمِينَ بالمُصْحَف. وقال الشافعىُّ: رأيتُهم يُؤكِّدُون بالمُصحَفِ، ورأيتُ ابنَ مَازِنٍ، وهو قاضٍ بصنعاءَ، يُغَلِّظُ اليَمِينَ بالمُصحَف. قال أصحابُه: فيُغَلَّظُ عليه بإحضارِ المُصْحَف؛ لأنَّه يَشْتَمِلُ على كلامِ اللَّهِ وأسْمائِه. وهذا زِيادةٌ على ما أَمَرَ به رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في اليَمِينِ، وعلى ما فَعلَه الخُلفاءُ وقُضاتُهم، مِن غيرِ دليل ولا حُجَّةٍ يُسْتَنَدُ إليها، ولا يُتْرَكُ فعلُ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفِعلُ (¬1) أصحابِه لفِعلِ ابنِ مَازِنٍ ولا غيرِه. 5096 - مسألة: (ولا تُغَلَّظُ اليَمِينُ إلَّا فيما له خَطَر، كالجِناياتِ، والعَتَاقِ، والطَّلاقِ، وما تَجِبُ فيه الزَّكاةُ مِن المالِ) عندَ مَن يرَى التَّغْلِيظَ (وقيلَ: ما يُقْطَعُ فيه السَّارِقُ) رُوِى ذلك عن مالكٍ؛ ¬

(¬1) زيادة من: م.

5097 - مسألة: (وإن رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه، كان

وَإِنْ رَأى الْحَاكِمُ تَركَ التَّغْلِيظِ فَتَرَكَهُ، كَانَ مُصِيبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ التَّغْليظَ زِيادةٌ على اليَمِينِ التى وَرَد الشَّرعُ بوُجوبِها، فلا تَجِبُ إلَّا بزيادةٍ على مُطلَقِ الحَقِّ. وتَركُ التَّغْليظِ أولَى، على ما اخْتارَه شيْخُنا، ودَلَّ عليه، إلَّا في مَوْضعٍ وَرَد الشَّرعُ به وصَحَّ، كتَحْليفِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليهودَ بقولِه: «نَشَدتُكم بِاللَّهِ الَّذِى أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى». ونحوِه. 5097 - مسألة: (وإن رأَى الحَاكِمُ تَركَ التَّغْلِيظِ فتَرَكَه، كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُصِيبًا) لمُوافقَتِه مُطْلَقَ النَّصِّ، وهو قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» (¬1). فصل: ومَن تَوَجَّهتْ عليه يَمِين وهو فيها صادِقٌ، أو توَجَّهَتْ له، أُبِيحَ له الحَلِفُ، ولا شئَ عليه مِن إثْمٍ ولا غيرِه؛ لأَنَّ اللَّه تعالى شرَعَ اليَمِينَ، ولا يَشْرَعُ مُحَرَّمًا، وقد أمرَ اللَّهُ سبحانه نَبِيَّه، عليه الصلاة والسلامُ، أَنْ يُقْسِمَ على الحقِّ، في ثلاثةِ مَواضِعَ مِن كتابِه، منها قولُه تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (¬2). وحلَفَ عمرُ لأُبَىٍّ على نَخْلٍ، ثم وَهبَه إيَّاه، وقال: خِفْتُ إنْ لم أحْلِفْ أن يَمتَنِعَ الناسُ مِن الحَلِفِ على حُقوقِهم، فتَصِيرَ سُنَّةً (¬3). قال حَنْبَلٌ: بُلِىَ أبو عبدِ اللَّهِ بنَحْوِ هذا، جاء إليه ابنُ عَمِّه، فقال: لى قِبَلَكَ حقٌّ مِن مِيراثِ أبى، وأُطالِبُكَ بالقاضى، وأُحَلِّفُكَ. فقيل لأبى عبدِ اللَّهِ: ما تَرَى؟ قال: أَحْلِفُ له، إذا لم يكُنْ له في قِبَلِى حَقّ، وأنا غيرُ شاك في ذلك، حَلَفْتُ له، وكيفَ لا أحْلِفُ، وعمرُ (¬4) قد حلَفَ، وأنا مَن أنا؟ وعزَمَ أبو عبدِ اللَّهِ على اليَمِينِ، فكَفَاه اللَّهُ ذلك، ورجَعَ الغُلامُ عن (¬5) تلك المُطالَبَةِ. واخْتُلِفَ في الأُوْلَى، فقال قومٌ: الحَلِف أوْلَى مِن افْتداءِ يَمِينِه؛ لأَنَّ عمرَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 12/ 478. (¬2) سورة التغابن 7. (¬3) تقدم تخريجه في 27/ 502. (¬4) في النسخ «ابن عمر». وابن عمر لم يحلف كما تقدم في 11/ 256، 28/ 433. (¬5) في الأصل: «على».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حلَفَ، ولأَنَّ في الحَلِفِ فائِدَتَيْنِ؛ إحداهما، حِفْظُ مالِه عن الضَّياعِ، وقد نَهى النَّبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إضاعَتِه (¬1). والثانيةُ، تخْليصُ أخِيه الظَّالمِ مِن ظُلْمِه (¬2)، وَأَكْلِ المالِ بغيرِ حَقِّه، وهذا مِن نُصْحِه ونُصْرَتِه بكَفِّه عن ظُلْمِه، وقد أشارَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على رجلٍ أن يَحْلِفَ ويأْخُذَ حَقَّه (¬3). وقال أصْحابُنا: الأفْضَلُ افْتِداءُ يَمينِه؛ فإنَّ عثمانَ افْتَدى يَمينَه، وقال: خِفْت أن يُصادِفَ قَدَرًا، فيقالَ: حلَفَ وعُوقِبَ، أو هذا شُؤْمُ يَمينِه (¬4). ورَوَى الخَلَّالُ بإسْنادِه، أنَّ حُذَيْفَةَ عَرَفَ جَمَلًا سُرِقَ له، فخَاصَمَ فيه (¬5) إلى قاضى المُسلمين، فصارَتِ اليَمِينُ على حُذَيْفةَ، فقال: لكَ عَشَرةُ دَراهِمَ. فأبَى، فقال: لكَ عِشرون. فأبَى. فقال: لكَ ثَلاثون. فأبَى فقال: لكَ أرْبَعونَ. فأبَى، فقال: حُذَيْفَةُ: أتُرانِى اترُكُ جَمَلِى؟ فحلَف باللَّهِ أنَّه له (¬6) ما باعَ ولا وَهب (¬7). ولأَنَّ في اليَمِينِ عندَ الحاكمِ تَبَذُّلًا، ولا يَأْمَنُ أن يُصادِفَ قَدَرًا، فيُنْسَبَ إلى الكَذِبِ، وأنَّه عُوقِبَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 29/ 51. (¬2) في م: «مظلمته». (¬3) انظر ما تقدم في 28/ 436. (¬4) تقدم تخريجه في 27/ 501. (¬5) سقط من: ق، م. (¬6) سقط من: م. (¬7) أخرجه الدارقطنى، في: كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطنى 4/ 242. والبيهقى، في: باب ما جاء في الافتداء عن اليمين. . .، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 179. وابن أبى شيبة، في: باب في الرجل يدعى الشئ فيقيم عليه البينة فيستحلف أنه لم بيع، من كتاب البيوع والأقضية. المصنف 6/ 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِحَلِفِه كاذِبًا، وفى ذَهابِ مالِه أجْرٌ. وليس هذا تَضْييعًا للمالِ، فإنَّ أخاه المُسلمَ يَنْتَفِعُ به في الدُّنْيا ويَغْرَمُه له في الآخِرَةِ. وأَمَّا عمرُ، فإنَّه خافَ الاسْتِنانَ به، وتَركَ الناسِ الحَلِفَ على حُقوقِهم، فيدُلُ على أنَّه لولا ذلك، لمَا حَلَف. قال شيْخُنا (¬1): وهذا أوْلَى. واللَّه تعالى أعلمُ. فصل: والحَلِف الكَذِبُ لِيَقْتَطِعَ به مالَ أخِيه، فيه إثْمٌ كبير. وقِيلَ: إنَّه مِن الكبائرِ؛ لأَنَّ اللَّه تعالى وَعَدَ عليه العذابَ الأليِمَ، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). ورَوَى ابنُ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْر (¬3)، يَقْتَطِعُ بِها مَالَ امرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيها فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». مُتَّفَقٌ عليه (¬4). وقد رُوِى في حديثٍ أنَّ يَمِينَ الغَمُوسِ تَدَعُ الدِّيارَ بَلاقِعَ (¬5). فصل: ومَن ادُّعِىَ عليه دَيْن وهو مُعسِر به، لم يَحِلَّ له أن يَحلِفَ ¬

(¬1) في: المغنى 14/ 231. (¬2) سورة آل عمران 77. (¬3) يمين صبر، أو يمينٍ صبر. الصبر: الحبس. والمراد إلزام الحاكم بها. (¬4) تقدم تخريجه في 27/ 427. (¬5) بلفظ: «واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع». أخرجه البيهقى، في: السنن الكبرى 10/ 35، من حديث أبى هريرة. وعنه أيضا بلفظ: «واليمين الغموس تذهب المال، وتثقل في الرحم، وتذر الديار بلاقع». أخرجه الطبرانى في الأوسط. كما قال الهيثمى في مجمع الزوائد 4/ 180، 8/ 152. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه لا حَقَّ له علىَّ. وبهذا قال المُزَنِىُّ. وقال أبو ثَوْرٍ: له ذلك؛ لأَنَّ اللَّه تعالى قال: {وَإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَة إلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). ولأنَّه لا يَسْتَحِقُّ مُطالبتَه به (¬2) في الحالِ، ولا يَجبُ عليه أداؤه إليه. ولَنا، أنَّ الدَّينَ في ذِمَّتِه، وهو حَقٌّ له عليه، ولو لم يَكُنْ عليه حق، لم يَجُزْ إنْظارُه به. فصل: ويَمِينُ الحالِفِ على حَسَبِ جَوابِه، فإذا ادَّعَى عليه (¬3) أنَّه غَصَبَه، أو اسْتَوْدَعَه وَدِيعَةً (¬4)، أو اقْتَرضَ منه، نَظَرنا في جوابِ المُدَّعَى عليه؛ فإن قال: ما غصَبْتُكَ، ولا اسْتَوْدَعتَنِى، ولا أقْرَضْتَنِى. كُلِّفَ أن يَحلِفَ على ذلك. وإنْ قال: [ما لَكَ علىَّ شئٌ] (¬5). أو: لا تَسْتَحِقُّ علىَّ شيئًا. أو: لا تَسْتَحِقُّ علىَّ ما ادَّعَيْتَه، ولا شيئًا منه. كان جوابًا صَحِيحًا. ولا يُكَلَّف الجوابَ عن الغَصبِ والوَدِيعةِ والقَرضِ؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ غصَبَ منه ثم رَدَّه عليه، فلو كُلِّفَ جَحدَ ذلك كان كاذِبًا، وإن أقَرَّ به، ثم ادَّعَى الرَّدَّ، لم يُقْبَلْ منه، فإذا طُلِبَ منه اليَمِينُ، حَلَفَ على حَسَبِ ما أجابَ. ولو ادَّعَى أنَّنِى ابْتعتُكَ الدَّارَ التى في يَدِكَ، فأنْكَرَه، وطلبَ ¬

= ومن حديث واثلة بن الأسقع بلفظ: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع». أخرجه الأطرابلسى في «المنتخب من الفوائد»، والدولابى في «الكنى»، والكلاباذى في «مفتاح المعانى» والخطيب في «تلخيص المتشابه». ذكر ذلك الشيخ الألبانى. انظر السلسلة الصحيحة 2/ 578 - 581. (¬1) سورة البقرة 280. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م. (¬5) في الأصل: «ما على حق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَمِينَه؛ فإنْ (¬1) أجابَ بأنَّك لا تَسْتَحِقُّها. حَلَفَ على ذلك، [ولم يَلْزَمْه أن يَحلِف أنَّه ما ابْتَاعَها؛ لأنَّه قد يَبْتاعُها ثم يَرُدُّها عليه. وإن أجَابَ بأنَّك لم تَبْتعها مِنِّى. حَلَفَ على ذلك] (¬2). قال أحمدُ، في رجلٍ ادَّعَى على رَجل أنَّه أوْدَعَه، فأنْكَرَه، هل يَحْلِفُ: ما أوْدَعتُكَ؟ قال: إذا حَلَف: ما لَكَ عندى، ولا في يَدِى شئٌ. فهو يَأتِى على ذلك. وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَلْزَمُه أن يحْلِفَ على حَسَبِ الجوابِ، وأنَّه متى حَلَف: ما لَكَ قِبَلِى حَقٌّ. بَرِئَ بذلك. ولأصحابِ الشافعىِّ وَجْهان كَهذَيْنِ. فصل: ولا تَدْخُلُ اليَمِينَ النِّيابةُ، ولا يَحلِفُ أحدٌ عن غيرِه، فلو كان المُدَّعَى عليه صغيرًا أو مَجْنونًا، لم يُحْلَفْ عنه، حتى يَبْلُغَ الصَّبِىُّ، ويعقِلَ المجْنونُ، ولم يَحْلِفْ عنه وَلِيُّهِ. ولو ادَّعَى الأبُ لابنِه الصَّغيرِ حقًّا، أو ادَّعاه الوَصِىُّ أو الأمِينُ له، وأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فالقولُ قَوْلُه مع يَمِينِه، فإن نَكَلَ قُضِىَ عليه. ومَن لم يَرَ القَضاءَ بالنُّكُولِ، ورَاى رَدَّ اليَمِينِ على المُدَّعِى، لم يُحَلِّفِ الوَلِىَّ عنهما، ولكن تَقِف اليَمِينُ، ويكْتُبُ الحاكمُ مَحضَرًا بنُكولِ المُدَّعَى عليه. وإنِ ادَّعَى على العبدِ دَعْوَى، وكانت ممَّا يُقْبَلُ قولُ العَبدِ فيها على نَفْسِه؛ كالقِصاصِ، والطَّلاقِ، والقَذْفِ، والخُصومَةِ معه دونَ سَيِّدِه؛ فإن قُلْنا: إنَّ اليَمِينَ تُشْرَعُ في هذا. حَلَفَ العبدُ دونَ سيدِه، وإن نَكَلَ لم يَخلِفْ غيرُه، وإن كان ممَّا لا يُقْبَلُ قولُ ¬

(¬1) بعده في م: «كان». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العَبدِ فيه، كإتْلافِ مالٍ، أو جِنَايةٍ تُوجِبُ المالَ، فالخَصمُ السَّيِّدُ، واليَمِينُ عليه، ولا يَحْلِف العبدُ فيها بحالٍ. وإن نَكَلَ مَن تَوجَّهَتْ عليه اليَمِينُ عنها، وقال: لى بَيِّنَةٌ أُقِيمُها، أو حِسابٌ أسْتَثْبِتُه، لأحلِفَ على ما أتيَقَّنُه فذكرَ أبو الخَطَّابِ، أنَّه لا يُمهلُ، وإنْ لم يَحْلِفْ، جُعِلَ ناكِلًا. وقيلَ: لا يكونُ ذلك نُكولًا، ويُمهلُ مُدَّةً قريبةً، كما لو ادَّعَى قَضاءً أو إبْراءً. فصل (1): ولا يُقْضَى في غَيْرِ المالِ وما يُقْصَدُ به المالُ بالنُّكُولِ. نصَّ عليه أحمدُ في القِصاصِ. ونُقِلَ عنه، في رجل ادَّعَى على رجلٍ أنَّه قَذَفَه، فقالَ: اسْتَحْلِفُوه، فإن قال: لا أحْلِفُ. أقِيمَ عليه. قال أبو بكرٍ: هذا قولٌ قديمٌ، المَذْهبُ أنَّه لا يُقْضَى في شَىْءٍ مِن هذا بالنكُولِ. ولا فَرقَ بينَ القِصاصِ في النَّفْسِ والقِصاصِ في الطَّرَفِ. وبهذا قال أبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال أبو حنيفةَ: يُقْضَى بالنُّكُولِ فيما دونَ النفسِ. وعن أحمدَ مثلُه. والمذهبُ هو الأَوَّلُ؛ لأَنَّ هذا أحدُ نَوْعَىِ القِصاصِ فأَشْبَهَ النوعِ الآخرَ. فعلى هذا، ما يُصنَعُ به فيه وجهان؛ أحدُهما، يُخَلَّى سَبِيلُه؛ لأنَّه لم تَثْبُتْ عليه حُجَّة، وتكونُ فائِدةُ مَشْرُوعِيَّةِ أنْينِ الرَّدْعَ والزَّجْرَ. والثانى يُحْبَسُ حتى يُقِرَّ أو يَحْلِفَ. وأصلُ الوَجْهيْنِ المرأةُ إذا نَكَلَتْ في اللِّعانِ. فصل (¬1): إذا حَلَفَ فقال: إن شاءَ اللَّهُ. اعِيدَتْ عليه اليمينُ، لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ يُزِيلُ حُكمَ اليمينِ. وكذلك إن وَصَلَ يَمِينَه بشرطٍ أو كلامٍ غير ¬

(¬1) سقط هذان الفصلان من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَفْهومٍ. وإن حلفَ قبل أن يَسْتَحْلِفَه الحاكمُ، اعِيدَتْ عليه. وكذلك إنِ استَحلفَه الحاكمُ قبل أن يَسْأله المُدَّعَى فإنَّه لا يُعتدُّ بها. وقد ذكرناه. فصل: ولو ادَّعَى على رجلٍ دَيْنًا، أو حقًا، فقال: قد أبْرَأْتَنى منه، أو اسْتَوفَيْتَه مِنِّى. فالقولُ قولُه في الإِبْراءِ والاسْتِيفاءِ مع يَمِينِه، ويَكْفِيه أن يَحْلِفَ باللَّهِ أنَّ هذا الحقَّ -ويُسَمِّيه تَسْمِيَةً يَصِيرُ بها مَعلومًا- ما بَرِئَتْ ذِمَّتُكَ منه، ولا مِن شئٍ منه. أو: ما بَرِئَتْ ذِمَّتُكَ مِن ذلك الحقِّ، [ولا مِن شئٍ منه] (¬1). وإنِ ادَّعَى اسْتِيفاءَه، أو البَراءةَ بجِهةٍ معلومةٍ، كَفاهُ الحَلِفُ على تلك الجِهةِ وحدَها. واللَّهُ أعلمُ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

كتاب الإقرار

كِتَابُ الْإِقْرَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتَابُ الْإِقْرَارِ الإقْرارُ: الاعتِرافُ. والأصلُ فيه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمَّا الكِتابُ، فقولُ اللَّهِ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قولِه: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} (¬1). وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} (¬2). وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬3). في آىٍ كثيرة مثل هذا. وأمّا السُّنَّةُ، فما رُوِى أنَّ (¬4) ماعِزًا أقَرَّ بالزِّنى، فرَجَمَه النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وكذلك الغامِدِيَّةُ (¬6). وقال: «وَاغْدُ يَا أُنيس عَلَى امرَأَةِ هذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (¬7). ¬

(¬1) سورة آل عمران 81. (¬2) سورة التوبة 102. (¬3) سورة الأعراف 172. (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) انظر ما تقدم في 13/ 450، 26/ 168، 204، 208، 209. (¬6) انظر ما تقدم في 26/ 205. (¬7) تقدم تخريجه في 13/ 450.

5098 - مسألة: و (يصح الإقرار من كل مكلف مختار غير

يَصِحُّ الإِقْرَارُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ. فَأَمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمَّا الإِجْماعُ، فإنَّ الأُمَّةَ أجْمَعَتْ على صِحَّةِ الإِقْرارِ. ولأَنَّ الإِقْرارَ إخْبار على وَجْهٍ تَنْتَفِى عنه التُّهْمَةُ والرِّيبَةُ، فإنَّ العاقِلَ لا يَكْذبُ على نَفسِه كَذِبًا يَضُرُّ بها، ولهذا كان آكَدَ مِن الشَّهادَةِ، فإنَّ المُدَّعَى عليه إذا اعتَرفَ لا تُسْمَعُ عليه الشَّهادَةُ، وإنَّما تُسْمَعُ إذا أنْكَرَ، ولو كَذَّبَ المُدَّعِى بَينتَه لم تُسْمَع، وإن كَذب المُقِرَّ ثم صَدَّقَه، سُمِعَ. 5098 - مسألة: و (يَصِحُّ الإِقْرارُ مِن كلِّ مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ غيرِ

الصَّبِىُّ، وَالْمَجْنُونُ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِىُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ مَحْجُورٍ عليه) [لا يَصِحُّ الإِقرارُ إلَّا مِن عاقِلٍ مُختارٍ] (¬1) (فأمَّا الطِّفْلُ والمَجْنُونُ، فلا يَصِحُّ إقْرارُهما) وكذلك المُبَرسَمُ والنائِمُ والمُغْمَى عليه. لا نَعلَمُ في هذا خِلافًا، وقد قال عليه الصلاةُ والسلام: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وعنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» (¬2). فنَصَّ على (¬3) الثَّلَاثةِ، والمُبرسَمُ والمُغْمَى عليه في مَعْنَى المَجْنُونِ والنَّائِمِ. ولأنَّه قَوْلٌ مِن غائِبِ العقْلِ، فلم يَثْبُتْ له حُكْمٌ، كالبَيْعِ والطَّلاقِ. فأمَّا الصَّبِىُّ المُمَيِّزُ، فإن كان مَحْجُورًا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) تقدم تخريجه في 3/ 15، وانظر طرقه في: الإرواء 2/ 4 - 7. (¬3) في م: «عن».

مَأْذُونًا لَهُ فِى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ فِى قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ دُونَ مَا زَادَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، لم يَصِحَّ إقْرارُه؛ للنَّصِّ (وإن كان مأْذُونًا له في البَيْعِ والشِّراءِ، [صَحَّ إِقْرارُه في قَدرِ ما أذِنَ له) فيه (دُونَ ما زاد عليه) قال أحمدُ في رِوايَةِ مهنَّا، في اليَتيمِ إذا أُذِنَ له في التِّجارَةِ وهو يَعقِلُ البَيْعَ والشِّراءَ] (¬1): فبَيْعُه وشِراؤُه جائِزٌ، كان أقَرَّ أنَّه اقْتَضَى شيئًا مِن مالِه، جازَ بقَدرِ ما أَذِنَ له وَلِيُّه فيه. وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وقال أبو بكرٍ، وابنُ أبى مُوسَى: إنَّما ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ إقْرارُه فيما أُذِنَ له في التِّجارَةِ فيه في الشئِ اليَسِيرِ. وقال الشافعىُّ: لا يَصِحُّ إقْرارُه بحالٍ؛ لعُمُومِ الخَبَرِ، ولأنَّه غيرُ بالِغٍ، أَشْبَهَ الطِّفْلَ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّه (¬1) لا تُقْبَلُ شَهادَتُه ولا رِوَايَتُه، أشْبَهَ الطِّفْلَ. ولنا، أنَّه عاقِل مُخْتارٌ ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يَصِحُّ تَصرُّفُه، فصَحَّ إِقْرارُه، كالبالِغِ، وقد دَلَّلْنا على صِحَّةِ تَصرُّفِه فيما مَضَى، والخَبَرُ مَحمُول على رَفْعِ التَّكْلِيفِ والإِثْمِ.

5099 - مسألة: (وكذلك العبد المأذون له فى التجارة)

وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمأْذُونُ لَهُ فِى التِّجَارَةِ. وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ. وَتَتَخَرَّجُ صِحَّتُهُ، بِنَاءً عَلَى طَلَاقهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5099 - مسألة: (وكذلك العَبْدُ المَأْذُونُ له في التِّجارَةِ) لِما ذَكَرنا في الصَّبِىِّ، بل صِحَّةُ إقْرارِ العَبْدِ أوْلَى؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ. فصل: فإن أَقَرَّ مُراهِق غيرُ مَأذُونٍ له، ثم اخْتَلَفَ هو والمُقَرُّ له في بُلُوغِه، فالقَوْلُ قولُ المُقِرِّ، إلَّا أن تَقُومَ بَيِّنَةٌ ببُلُوغِه؛ لأَنَّ الأصْلَ الصِّغَرُ، ولا يَحْلِفُ المُقِرُّ (¬1)؛ لأنَّنا حَكَمنا بعَدَم بُلُوغِه، إلَّا أن يَخْتَلِفَا بعدَ ثُبُوتِ بُلُوغِه، فعليه اليَمِينُ أنَّه حِينَ أقَرَّ لم يَكُنْ بالِغًا. 5100 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إِقْرارُ السَّكْرانِ. وتَتَخرَّجُ صِحَّتُه، بِناءً على طَلاقِه) أمّا مَن زال عَقْلُه بسَبَب مُباح أو معذُور فيه، فهو ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5101 - مسألة: (ولا يصح إقرار المكره، إلا أن يقر بغير ما

وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمُكْرَهِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، مِثْلَ أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ كالمَجْنُونِ، لا يَصِحُّ إقْراره، بغيرِ خِلافٍ (¬1). وإن كان بمَعْصِيَةٍ، كالسَّكْرانِ، ومَن شَرِب ما يُزِيل عَقْلَه عامِدًا لغيرِ حاجةٍ، لم يَصِحَّ إقْرارُه. ويَتَخرَّجُ أن يَصِحَّ، كطَلاقِه. وهو (¬2) مَنْصوصُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ أفْعالَه تَجْرِى مَجْرَى أفعالِ (¬3) الصّاحِى. ولنا، أنَّه غير عاقِل، فلم يَصِحَّ إقْراره، كالمَجْنونِ الذى سَبَّبَ جنُونَه فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، ولأَنَّ السَّكْرانَ لا يُوثَق بصِحَّةِ ما يقولُ، ولا تَنْتَفِى عنه التُّهْمةُ فيما يُخْبِر به، فلم يوجَد مَعْنَى الإِقْرارِ المُوجِبِ لقَبولِ قَوْلِه. 5101 - مسألة: (ولا يَصِحُّ إقْرارُ المُكْرَهِ، إلَّا أن يُقِرَّ بغيرِ ما ¬

(¬1) بعده في م: «وإن كان خلاف». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سقط من: ق، م.

يُكْرَه عَلَى الْإِقْرارِ لإِنْسَانٍ، فَيُقِرَّ لِغيْرِهِ، أو عَلَى الإِقْرَارِ بِطَلَاقِ امْرَأةٍ، فَيُقِرَّ بِطَلاقِ غَيْرِهَا، أَوْ عَلَى الإِقْرَارِ بِدَنَانِيرَ، فَيُقِرَّ بِدَرَاهِمَ، فَيَصِحُّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ أُكْرِه عليه، مثلَ أن يُكْرَه على الإِقْرارِ لإِنْسانٍ، فيُقِر لغيرِه، أو على الإِقْرارِ بطَلاقِ امْرأةٍ، فيُقِرَّ بطَلاقِ غيرِها، أو على الإِقْرارِ بدَنانِيرَ، فيُقِرَّ بدَراهِمَ، فيَصِحُّ) لا يَصِحُّ إِقْرارُ المُكْرَهِ بما أُكْرِهَ على الإِقْرارِ به. وهذا مذهبُ الشافعىِّ؛ لقولِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬1). ولأنَّه قَولٌ أُكْرِهَ عليه بغيرِ (¬2) حَقٍّ، فلم يَصِحَّ، كالبَيْعِ. فأمّا إن أَقَرَّ بغيرِ ما أُكْرِهَ عليه، مثلَ أن يُكْرَهَ على الإِقْرارِ لرَجُلٍ، فيُقِرَّ لغيرِه، أو بنَوْعٍ مِن المالِ، فيُقِرَّ بغيرِه، أو على الإِقْرارِ بطَلاقِ امرأةٍ، فيُقِرَّ بطَلاقِ أُخْرَى، أو (¬3) أقَرَّ بعِتْقِ عَبْدٍ، صَحَّ؛ لأنَّه أقَرَّ بما لم يُكْرَهْ عليه، فصَحَّ (¬4)، كما لو أقَرَّ به ابْتِداءً. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 1/ 276. (¬2) بعده في الأصل: «قول». (¬3) في الأصل: «و». (¬4) بعده في الأصل: «لأنه».

5102 - مسألة: (وإن أكره على وزن ثمن، فباع داره فى ذلك، صح)

وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى وَزْنِ ثَمَنٍ، فَبَاعَ دَارَهُ فِى ذَلِكَ، صَحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5102 - مسألة: (وإن أُكْرِهَ علِى وَزْنِ ثَمَنٍ، فباع دارَه في ذلك، صَحَّ) بَيْعُه. نصَّ عليه أحمدُ (¬1)؛ لأنَّه لم يُكْرَهْ على البَيْعِ. ومَن أقَرَّ بِحَقٍّ، ثم ادَّعَى أنَّه كان مُكْرَهًا، لم يُقْبَلْ قولُه إلَّا بِبَيِّنةٍ، سواء أقَرَّ عندَ سُلْطانٍ أو عندَ غيرِه؛ لأَنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإِكراهِ، إلَّا أن يكونَ هناك دَلالَةٌ على الإكْراهِ (¬2)، كالقَيْدِ والحَبْسِ والتَّوَكّلِ به (¬3)، فيكونُ القولُ قولَه مع يَمِينِه؛ لأن الحالَ تَدُلُّ على الإكراه. ولو ادَّعَى أنَّه كان زائِلَ العَقْلِ حالَ إقْرارِه، لم يُقْبَلْ قولُه إلا ببَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأصلَ السَّلامةُ حتى يُعْلَمَ غيرُها. ولو شَهِدَ الشُّهودُ بإقْرارِه، لم تَفْتَقِر صِحَّةُ الشَّهادةِ إلى أن يَقُولُوا: طَوْعًا في صِحَّةِ عَقْلِه؛ لأَنَّ الظّاهِرَ السَّلامَةُ وصِحَّة الشَّهادةِ. وقد ذكَرنا إقْرارَ السَّفِيهِ والمُفْلِسِ فيما مَضَى (¬4). ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في ق، م: «الإقرار». (¬3) أى إلزامه من يؤذيه. (¬4) انظر 13/ 247.

5103 - مسألة: (وأما المريض مرض الموت المخوف، فيصح إقراره بغير المال)

وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الْمَالِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لِمَنْ لَا يَرِثُهُ، صَحَّ، فِى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِى الأُخْرَى، لَا يَصِحُّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5103 - مسألة: (وأمّا المَرِيضُ مَرَضَ المَوْتِ المَخُوفِ، فيَصِحُّ إقْرارُه بغيرِ المالِ) لأنَّه لا تُهْمةَ عليه في ذلك، وإنما تَلْحَقُه التُّهْمَةُ في المالِ. 5104 - مسألة: (وإن أقَرَّ بمالٍ لمَن لا يَرِثُه، صَحَّ، في أصَحِّ الرِّوايتينِ) لأنَّه (¬1) غيرُ مُتَّهَمٍ في حَقذِه وهو قولُ أكْثرَ أَهْلِ العِلْم. قال ابنُ المُنْذِرِ (¬2): أجْمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أَهْلِ العِلْمِ، على أنَّ إقْرارَ المَرِيضِ في مَرَضِه لغيرِ الوارِثِ جائِر. وحَكَى أصحابُنا رِوايةً أنَّه لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه إقْرارٌ في مَرَضِ المَوْتِ، أشْبَهَ الإِقْرارَ للوارِثِ (وفيه رِوَايةٌ أُخْرى) أنَّه (لا يَصِحُّ بزِيادةٍ على الثُّلُثِ) ذكَرَها أبو الخَطّابِ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ مِن عَطِيَّةِ [ذلك الأجْنَبِىَّ، كما هو ممنوعٌ مِن عَطِيَّةِ] (¬3) ¬

(¬1) في الأصل: «لأنهم». (¬2) انظر الإجماع 32. (¬3) سقط من: م.

5105 - مسألة: (ولا يحاص المقر له غرماء الصحة. وقال أبو الحسن التميمى، والقاضى: يحاصهم)

وَلَا يُحَاصُّ المُقَرُّ لَهُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ. وَقَالَ أبو الْحَسَنِ التَّمِيمِىُّ، وَالْقَاضِى: يُحَاصُّهُمْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوارِثِ، فلم يَصِحَّ إقْرارُه بما لا يَمْلِكُ عَطِيَّتَه، بخِلافِ الثُّلُثِ فما دون. ولَنا، أنَّه إقْرار غيرُ مُتَّهَمٍ فيه، فقُبِلَ، كالإِقْرارِ في الصِّحَّةِ، يُحَقِّقُه أنَّ حالَةَ المَرَضِ أقرَبُ إلى الاختِياطِ لِنَفْسِه، [وإبْراءِ ذِمَّتِه] (¬1)، وتَحَرِّى الصِّدقِ، فكان أوْلَى بالقَبُولِ. وفارَقَ الإِقْرارَ للوارِثِ، فإنَّه مُتَّهَمٌ فيه. 5105 - مسألة: (ولا يُحَاصُّ المُقَرُّ له غُرَماءَ الصِّحَّةِ. وقال أبو الحَسَنِ التَّمِيمِىُّ، والقاضِى: يُحاصُّهُم) إذا ثَبَتَ عليه دَيْن في الصِّحَّةِ، ثم أقَرَّ لأجْنَبِىٍّ بِدَيْنٍ في مَرَضِ مَوْتِه، واتَّسَعَ مالُه لهما، تَساوَيَا، وإن ضاقَ عنهما فَقِيلَ: [بينَهما سواء. و] (¬2) المَذْهبُ أن يُقَدَّمَ الدَّيْنُ الثابِتُ على الدَّيْنِ الذى أقَرَّ به في المَرَضِ. قاله أبو الخَطَّابِ. قال القاضِى: وهو قِياسُ المَذْهبِ، لنَصِّ (¬3) أحمدَ في المُفْلِسِ على أنَّه إذا أقَرَّ وعليه دَيْنٌ بِبَيِّنةٍ؛ يبْدأ بالدَّيْنِ الذى بالبَيِّنةِ. وبهذا قال النَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، ¬

(¬1) في م: «وأبرأ لذمته». (¬2) في الأصل: «قياس». وفى ق: «بين و». (¬3) في الأصل: «كنص». وفى م: «نص».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصحابُ الرَّأْى؛ لأنَّه أقَرَّ بعدَ تَعَلقِ الحَقِّ بتَرِكَتِه، فوَجَبَ أن لا يُشارِكَ المُقَرُّ له مَن ثَبَتَ دَيْنُه بِبَمنةٍ، كغَرِيمِ المُفْلِسِ الذى أقَرَّ له بعدَ الحَجْرِ عليه، والدَّلِيلُ على تَعَلُّقِ الحَقِّ بمالِه، مَنْعُه مِن التَّبَرُّعِ والإِقْرارِ لوارِثٍ، ولأنَّه مَحْجُورٌ عليه، ولهذا لا تَنْفُذُ هِبَاتُه، فلم يُشارِكْ مَن أقَرَّ له قبلَ الحَجْرِ، ومَن ثَبَتَ دَيْنُه بِبَيِّنَةٍ، كالذى أقَرَّ له المُفْلسُ. وظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ أنَّهما يَتَحاصّانِ. وهو قولُ أبى الحَسَنِ التَّمِيمِىِّ. وبه قال مالِكٌ، والشَّافِعِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ. وذكَر أبو عُبَيْدٍ أنَّه قولُ أكثَرِ أَهْلِ المَدِينةِ. فإن أقَرَّ لهما في المَرَضِ جَمِيعًا، تَساوَيَا، [لأنَّهُما حَقَّانِ يَجِبُ قضاؤُهما مِن رأسِ المالِ، فأَشْبَهَ ما لو أقرَّ به في الصِّحَّةِ، وكما لو ثَبَتا ببَيِّنَةٍ] (¬1). ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5106 - مسألة: (وإن أقر لوارث، لم يقبل إلا ببينة)

وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5106 - مسألة: (وإن أقَرَّ لوارِثٍ، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) وبهذا قال شُرَيْحٌ، وأبو هاشِم، وابنُ أُذَيْنَةَ، والنَّخَعِىُّ، ويَحْيَى الأنْصارِىُّ، وأبو حنِيفةَ وأصحابُه. ورُوِىَ ذلك عن القَاسِمِ، وسالِم. وقال عَطَاءٌ، والحَسَنُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ: يُقْبَلُ؛ لأَنَّ مَن صَحَّ الإِقْرارُ له في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصِّحَّةِ، صَحَّ في المَرَضِ، كالأجْنَبِىِّ. وللشّافِعِىِّ قَوْلانِ كالمَذْهبَيْنِ. وقال مالِك: يَصِحُّ إذا لم يُتَّهم، ويَبْطُل إذا اتُّهِمَ، كمَن له بِنْتٌ وابْنُ عَمٍّ، فأقَرَّ لابْنَتِه، لم يُقبَلْ، وإن أَقَرَّ لِابنِ عَمِّه، قُبِلَ؛ لأنَّه لا يُتَّهَمُ في أنَّه يَروِى ابْنَتَه ويُوصِلُ المالَ إلى ابْنِ عَمِّه، وعِلَّةُ مَنْعِ الإِقْرارِ التُّهْمَةُ، فاخْتَصَّ المَنْعُ بمَوْضِعِها. ولَنا، أنه إيصالٌ لِمَالِه إلى وارثِه بقَوْلِه في مَرَضِ مَوْتِه، فلم يَصحَّ بغيرِ رِضَا بَقِيةِ وَرَثَتِه، كَهِبَتِه، ولأنَّه مَحجُورٌ عليه في حَقِّه، فلم يَصِحَّ الإِقْرارُ له، كالصَّبِىِّ في حَقِّ جَميعِ (¬1) النّاسِ. وفارَقَ الأجْنَبِىَّ، فإنَّ هِبَتَه له (¬2) تَصِحُّ. وما ذكَرَه مالِكٌ لا يَصِحُّ، فإنَّ التُّهْمَةَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

5107 - مسألة: (إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها)

إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِامْرأَتِهِ بِمَهْرِ مِثْلِها، فَيَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يُمكِنُ اعْتِبارُها بِنَفْسِها، فوَجَبَ (¬1) اعتبارُها بمَظِنَّتِها، وهو الإِرْثُ، ولذلك اعتُبِرَ في الوَصِيَّةِ والتَّبرُّعِ وغيرِهما (¬2). 5107 - مسألة: (إلَّا أن يُقِرَّ لِزَوْجَتِه بمَهْرِ مِثْلِها) فما دُونَه (فيَصِحُّ) في قَوْلِ الجَمِيعِ، لا نَعلَمُ فيه مُخالِفًا، إلَّا أنَّ (¬3) الشَّعْبِىَّ قال: لَا يَجُوزُ إقْرارُه لها؛ لأنَّه إقْرار لوارِثٍ. ولنا، أنَّه إقْرار بما تَحَقَّقَ سَبَبُه، وعُلِمَ وُجودُه، ولم تُعلَمِ البَراءةُ منه، فأشبَهَ ما لو كان عليه دَيْنٌ بِبَيِّنةٍ، فأقَرَّ بأنه لم يُوَفِّه. وكذلك إنِ اشْتَرَى مِن وارِثِه شيئًا، فأقَرَّ له بثَمَنِ مِثْلِه؛ لأَنَّ القَولَ قولُ المُقَرِّ له، في أنَّه لم يَقْبِضْ ثَمَنَه. كان أقَرَّ لِامرَأتِه بدَيْنٍ سِوَى الصَّداقِ، لم يُقْبَلْ. ¬

(¬1) في م: «فأجيز». (¬2) في الأصل: «غيرها». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن أقَرَّ لها، ثم أبانَها، ثم تَزَوَّجَها، وماتَ مِن مَرَضِه، لم يُقْبَلْ إقْرارُه لها. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ: يُقْبَلُ؛ لأنَّها صارَتْ إلى حالٍ لا يُتَّهَمُ فيها، فأَشْبَهَ ما لو أقَر المَرِيضُ (¬1) ثم بَرَأَ. ولنا، أنَّه أقَرَّ لوارِثٍ في مَرض المَوْتِ، [أشْبَهَ ما لو لم يُبِنْها، وفارَقَ ما إذا صَحَّ (¬2) مِن مَرَضِه؛ لأنَّه لا يكونُ مَرَضَ المَوْتِ] (¬3). ¬

(¬1) في م: «لمريض». (¬2) في الأصل: «صلح». وانظر المغنى 7/ 333. (¬3) سقط من: ق، م.

5108 - مسألة: (وإن أقر لوارث وأجنبى، [فهل يصح فى حق الأجنبى؟ على وجهين)

وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ وَأجْنَبِىٍّ، فَهلْ يَصِحُّ فِى حَقِّ الْأَجْنَبِىِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5108 - مسألة: (وإن أقَرَّ لِوَارِثٍ وأجْنَبِىٍّ، [فهل يَصِحُّ في حَقِّ الأجْنَبِىِّ؟ على وَجْهَيْن) الإِقْرارُ باطِل في حقِّ الوارِثِ، على ما ذَكرْنا مِن الخِلافِ فيه، من يَصِحُّ] (¬1) في حَقِّ الأجْنَبِىِّ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ أنَّه لا يَصِحُّ، كما لو شَهِدَ بشَهادَةٍ يَجُرُّ إلى نَفْسِه بعضَها، بَطَلَتْ شَهادَتُه في الكُلِّ، كما لو شَهِدَ لِابْنِه وأَجنَبِىٍّ. وقال أبو حنيفةَ: إن أقَرَّ لهما بِدَيْنٍ مِن الشَّرِكَةِ، فاعتَرفَ الأجْنَبِىُّ بالشَّرِكةِ، صَحَّ الإِقْرارُ لهما، وإن جَحَدَها، صَحَّ له دونَ الوارِثِ. ولَنا، أنَّه (¬2) أقَرَّ لوارِثٍ وأجْنَبِىٍّ، فيَصِحُّ للأَجنَبِىِّ دونَ الوارثِ، كما لو أقَرَّ بلَفْظَيْنِ، أو كما لو جَحَدَ الأجْنَبِىُّ الشَّرِكةَ. ويُفَارِقُ الإِقْرارُ الشَّهادَةَ؛ لِقُوَّةِ الإِقْرارِ، ولذلك لا تُعْتَبَرُ فيه العَدالَةُ. ولو أقَرَّ بشئٍ ¬

(¬1) في م: «بطل في حق الوارث وصح». (¬2) بعده في ق: «لو».

5109 - مسألة: (وإن أقر لوارث، فصار عند الموت غير وارث، لم يصح. وإن أقر لغير وارث، صح وإن صار وارثا. نص عليه. وقيل

وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ، صَحَّ وَإِنْ صَارَ وَارِثًا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إنَّ الاعتِبَارَ بِحَالِ الْمَوْتِ، فَيَصِحُّ فِى الأُولَى، وَلَا يَصِحُّ فِى ـــــــــــــــــــــــــــــ له فيه نَفْعٌ، كالإِقْرارِ بِنَسَبِ وارِثٍ (¬1) مُوسِرٍ، قُبِلَ. ولو أقَرَّ بشئٍ يَتَضَمَّنُ دَعوَى على غيرِهِ، قُبِلَ فيما عليه دون ما له، كما لو قال لِامرَأتِه: خَلَعتُكِ على أَلْفٍ. بانت بإقْرارِه، والقولُ قولُها في نَفْى العِوَضِ. وكذلك إن قال لِعَبْدِه: اشْتَرَيْتَ نَفْسَكَ مِنى بأَلْفٍ. 5109 - مسألة: (وإن أقَرَّ لِوارِثٍ، فصار عندَ المَوْتِ غيرَ وارِثٍ، لم يَصِحَّ. وإن أقَرَّ لغيرِ وارِثٍ، صحَّ وإن صارَ وارِثًا. نَصَّ عليه. وقيل (¬2): إنَّ الاعتِبارَ بحالِ المَوْتِ، فيَصِحُّ في الأُولَى، ولا يَصِحُّ في ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «قال».

الثَّانِيَةِ، كَالْوَصِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثّانِيةِ، كالوَصيةِ) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا أقَرَّ لِوارِثٍ فصارَ غيرَ وارثٍ، كرجلٍ (¬1) أقَرَّ لأخِيه ولا وَلَدَ له، ثم وُلِدَ له ابْنٌ، لم يَصِحَّ إقْرارُه له. وإن أقَرَّ لغيرِ وارِثٍ ثم صار وارِثًا، صَحَّ إقْرارُه له. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا أقَرَّ لِامْرأةٍ بِدَيْنٍ في المَرَضِ، ثم تَزَوَّجَها، جازَ إقْرارُه؛ لأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ. وحُكِىَ له قولُ سُفْيانَ في رَجُلٍ له ابْنانِ، فأقَرَّ لأحَدِهما بِدَيْنٍ في مَرَضِه، ثم ماتَ الابنُ، وتَرَك ابْنًا، والأبُ حىٌّ، ثم ماتَ بعدَ ذلك، جاز إقرارُه (¬2)، فقال أحمدُ: لا يَجوزُ. وبهذا قال ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «قراره».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عثمانُ البَتِّىُّ. وذكَر أبو الخَطّابِ رِوايَةً أُخْرى في الصُّورَتَيْنِ مُخالِفةً لِما قُلْنا. وهو قولُ سُفْيانَ الثَّوْرِىِّ، والشّافِعِىِّ؛ لأنَّه مَعْنًى يُعْتَبرُ فيه عَدَمُ المِيراثِ، فكان الاعْتِبارُ فيه بحالَةِ المَوْتِ، كالوَصيَّةِ. ولَنا، أنَّه قولٌ يُعتَبَرُ

5110 - مسألة: (وإن أقر لامرأته بدين، ثم أبانها، ثم تزوجها، لم يصح إقراره)

وَإِنْ أَقَرَّ لِامرأَتِهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ أَبَانَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَها، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ. وَإِنْ أقَرَّ المَرِيضُ بِوَارِثٍ، صَحَّ. وَعَنْهُ، لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه التُّهْمَةُ، فاعتُبِرتْ حالَ وُجُودِه دونَ غيرِه، كالشَّهادَةِ، ولأنَّه إذا أقَرَّ لغيرِ وارثٍ، ثَبَتَ الإِقْرارُ، وصَح؛ لوُجُودِه مِن أهْلِه خالِيًا عن تُهْمَةٍ، فثَبَتَ الحَقُّ به، ولم يُوجَد مُسْقِط له، فلا يَسْقُطُ، وأذا أقَرَّ لِوارِثٍ، وَقَعَ باطِلًا؛ لِاقْتِرانِ التُّهْمةِ به، فلا يَصِحُّ بعدَ ذلك، ولأنَّه إقْرارٌ (¬1) لوارِثٍ، فلم (¬2) يَصِحَّ، كما لو اسْتَمَرَّ المِيراثُ. وإن أقَرَّ لغيرِ وارِثٍ، صَحَّ، واسْتَمَرَّ، كما لو اسْتَمَرَّ عَدَمُ الإِرثِ. أمّا الوَصِيَّةُ، فإنَّها عَطِيَّة بعدَ المَوْتِ، فاعتُبِرَتْ فيها حالَةُ المَوْتِ، بخِلافِ مَسْأَلَتِنا. 5110 - مسألة: (وإن أقَرَّ لامرأتِه بِدَيْنٍ، ثم أبَانَها، ثم تَزَوَّجَها، لم يَصحَّ إقْرارُه) لها، إذا مات مِن مَرَضِه؛ لأنَّه إقْرار لِوارِثٍ في مَرَضِ المَوْتِ، أشْبَهَ ما لو لم يُبِنْها. 5111 - مسألة: (وإن أقَرَّ المَرِيضُ بوارِثٍ (¬3)، صَحَّ. وعنه، لا يَصِحُّ) [إقرارُ المَرِيضِ بوارِثٍ صَحِيحٌ] (¬4) في إحدى الرِّوايتَيْنِ. ¬

(¬1) في م: «إذا أقر». (¬2) في م: «فلا». (¬3) بعده في م: «صحيح». (¬4) في م: «يصح إقرار المريض بوارث».

5112 - مسألة: (وإن أقر بطلاق امرأته فى صحته، لم يسقط ميراثها)

وَإِنْ أقَرَّ بِطَلَاقِ امرَأتِه فِى صِحَّتِهِ، لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأُخْرَى، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه إقْرارٌ (¬1) لوارِثٍ، فأَشْبَهَ الإِقْرارَ له بمالٍ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّه عندَ الإِقْرارِ غيرُ وارِثٍ، فصَحَّ، كما لو لم يَصِر وارِثًا، ويُمكِنُ بِناءُ هذه المَسْأَلَةِ على ما إذا أقَرَّ لغيرِ وارِثٍ فصارَ وارِثًا، فمَن صَحَّحَ الإِقْرارَ ثَمَّ، صَحَّحَه ههُنا، ومَن أبْطَلَه، أبْطَلَه. 5112 - مسألة: (وإن أقَرَّ بطَلاقِ امرَأتِه في صِحَّتِه، لم يَسْقُطْ مِيرَاثُها) إذا كان الإِقْرارُ في مَرَضِه؛ لأنَّه مُتَّهمٌ بِقَصدِ حِرمانِها المِيراثَ، فلم يَبْطُلْ، كما لو طَلَّقَها في مَرَضِه. فصل: ويَصِحُّ إقْرارُ المَرِيضِ بإحبالِ الأمَةِ؛ لأنَّه يَمْلِكُ (¬2) ذلك، ¬

(¬1) في م: «أقر». (¬2) في م: «ملك».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ أقَرَّ الْعَبْدُ بِحَدٍّ، أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ طَلَاقٍ، صَحَّ، وَأُخِذَ بِهِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِقِصَاصٍ فِى النَّفْسِ، فنَصَّ أَحْمَدُ أنَّهُ يُتْبَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فمَلَكَ الإِقْرارَ به. وكذلك كلُّ ما مَلَكَه مَلَكَ الإِقْرارَ به. فإذا أقَرَّ بذلك، ثم ماتَ، فإن بَيَّنَ أنَّه اسْتَوْلَدَها في (¬1) مِلْكِه، فوَلَدُهُ حُرُّ الأصْلِ، وأُمُّه أُمُّ وَلَدٍ تَعتِقُ مِن رَأسِ المالِ. وإن قال: مِن نِكَاحٍ. أو: مِن (¬2) وَطْءِ شُبْهةٍ. عَتَق الوَلَدُ، ولم تَصِرِ الأمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، فإن كان مِن نِكاحٍ، فعليه الوَلَاءُ؛ لأنَّه مَسَّهُ رِقٌّ، وإن كان مِن وَطْء شُبْهةٍ، لم تَصِرِ الأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. وإن لم يَتَبَيَّنِ السَّبَبُ، فالأمَةُ مَمْلُوكةٌ؛ لأَنَّ الأصْلَ الرِّقُّ، ولم يَثْبُت سَبَبُ الحُرِّيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِيلادُها في مِلْكِه مِن قِبَلِ أنَّها مَمْلُوكَتُه، والوِلادَةُ مَوْجودَة، ولا وَلَاءَ على الوَلَدِ؛ لأَنَّ الأصْلَ عَدَمُه، فلا يَثْبُتُ إِلَّا بدَلِيلٍ. فصل: قال الشيخ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإن أقَرَّ العَبْدُ بِحَدٍّ، أو قِصَاصٍ، أو طَلَاقٍ، صَحَّ، وأخِذَ به، إلَّا أن يُقِرَّ بقِصَاصٍ في النَّفْسِ، فنَصَّ أحمدُ ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) سقط من: ق، م.

بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَقَالَ أبو الْخَطَّابِ: يُؤْخَذُ بِهِ فِى الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ. وقال أبو الخَطّابِ: يُؤْخَذُ به في الحالِ) وجُملةُ ذلك، أنَّ العَبْدَ يَصِحُّ إقْرارُه بالحَدِّ والقِصَاصِ فيما دُونَ النَّفْسِ؛ لأَنَّ

وَإِنْ أَقرَّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَيُقْبَلُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ مِنَ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَقَّ له دُونَ مَوْلاهُ، ولا يَصِحُّ إقْرارُ المَوْلَى عليه؛ [لأَنَّ المَوْلَى لا يَملِكُ مِن العَبدِ إلا المَالَ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ إقْرارُ المَوْلَى عليه] (¬1) بما يُوجِبُ القِصَاصَ، ويَجبُ المالُ دونَ القِصَاصِ؛ لأَنَّ المالَ يتَعَلَّقُ برَقَبَتِه، وهى مالُ السَّيِّدِ، فصَحَّ إقْرارُه [به، كجِنايَةِ] (¬2) الخَطَأ. وهو الذى ذكَره شيخُنا في كِتابِ «الكافِى» (¬3). وأمَّا إقْرارُه بما يُوجِبُ القِصَاصَ في النَّفْسِ، فالمَنْصوصُ عن أحمدَ أنَّه لا يُقْبَلُ، ويُتْبَعُ به بعدَ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «بجناية». (¬3) 4/ 569.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العِتْقِ. وبه قال زُفرُ، والمُزَنِىُّ، وداودُ، وابنُ جَرِيرٍ الطَّبرِىُّ؛ لأنَّه يُسْقِطُ حَقَّ سَيِّدِه بإقْرارِه، فأَشْبَهَ الإِقْرارَ بقَتْلِ الخَطَأ، ولأنَّه مُتَّهَمٌ (¬1) في أنَّه يُقِرُّ لِرَجُلٍ لِيعفُوَ عنه، ويَسْتَحِقَّ أَخْذَه، فيَتَخلَّصَ بذلك مِن سَيِّدِه. واختارَ أبو الخَطَّابِ أنَّه يَصِحُّ إقْرِارُه به (¬2). وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشّافعىِّ؛ لأنَّه (¬3) أحَدُ نوْعَىِ القِصَاصِ، فَصَحَّ إقْرارُه به، كما دُونَ النَّفْسِ. وبهذا الأصْلِ يَنْتَقِضُ دَلِيلُ الأَوَّلِ. ويَنْبَغِى على هذا القَوْلِ أن لا يَصِحَّ عَفْوُ وَلِىِّ الجِنَايةِ على مالٍ إلَّا باخْتِيارِ سَيدِه؛ لِئَلَّا يُفْضِىَ إلى إيجاب المالِ على سَيِّدِه بإقْرارِ غيرِه. و (¬4) لا يُقْبَلُ إقْرارُ العَبْدِ بجِنَايَةِ الخَطَأَ، ولا شِبْهِ العمدِ، ولا بجِنايةِ عمدٍ مُوجَبُها المالُ، كالجائِفَةِ، والمَأْمُومَةِ؛ لأنَّه إيجابُ حَقٍّ في رَقَبَتِه، وذلك يَتَعَلَّقُ [بحَقِّ المَوْلَىْ] (¬5). ¬

(¬1) في م: «يتهم». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «ولأنه». (¬4) سقط من: الأصل. (¬5) في م: «بالمولى».

5113 - مسألة: (وإن أقر العبد غير المأذون له بمال، لم يقبل فى الحال، ويتبع به بعد العتق)

وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ غَيْرُ الْمَأْذُونِ لَهُ بِمَالٍ، لَمْ يُقْبَلْ فِى الْحَالِ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعدَ الْعِتْقِ. وَعَنْهُ، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5113 - مسألة: (وإن أقَرَّ العَبْدُ غيرُ المَأْذُونِ له بمالٍ، لم يُقْبَلْ في الحالِ، ويُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ) لأنَّه تَصَرَّفَ فيما هو حَق للسَّيِّدِ. فعلى هذا، يُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ، عَمَلًا بإقْرارِه على نَفْسِه (وعنه، يتَعَلَّقُ برَقَبتِه) كجِنَايَتِه.

5114 - مسألة: (وإن أقر السيد عليه بمال، أو بما

وَإِنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِمَالٍ، أَوْ بِمَا يُوجِبُهُ، كَجنَايَةِ الْخَطَأ، قُبِلَ. وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فِى يَدِهِ، وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ، قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِى الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5114 - مسألة: (وإن أقَرَّ السَّيِّدُ عليه بمالٍ، أو بما (¬1) يُوجِبُه، كجِنَايةِ الخَطَأ، قُبِلَ) لأنَّه إيجابُ حَقٍّ في مالِه. 5115 - مسألة: (وإن أقَرَّ العَبْدُ بسَرِقَةِ مالٍ في يدِه، وكَذَّبَه السَّيِّدُ، قُبِلَ إقْرارُه في القَطْعِ دونَ المالِ) وجملةُ ذلك، أنَّ العَبْدَ إذا أقَرَّ بِسَرِقةٍ مُوجَبُها [المالُ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه، ويُقْبَلُ إِقْرارُ المَوْلَى عليه؛ لِما ذكرنا. وإن كان مُوجَبُها] (¬2) القَطْعَ [والمالَ] (¬3)، فأقَرَّ بها العَبْدُ، وَجَبَ قَطْعُه، ولم يَجِبِ المالُ، سواء كان ما أقَرَّ بِسَرِقَتِه باقِيًا أو تالِفًا، في يَدِ السَّيِّدِ أو يَدِ العَبْدِ. قال أحمدُ، في عبدٍ أقَرَّ بِسَرِقةِ دَراهِمَ في يَدِه، أنَّه سَرَقَها ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن رَجُلٍ، والرَّجُلُ يَدَّعِى ذلك، والسَّيِّدُ يُكَذِّبُه: فالدَّراهِمُ لِسَيِّدِه، ويُقْطَعُ العَبْدُ، ويُتْبَعُ بذلك بعدَ العِتْقِ. وللشّافِعِىِّ في وُجُوبِ المال في هذه الصُّورَةِ وَجْهان. ويحتَمِلُ أن لا يَجِبَ القَطْعُ؛ لأَنَّ ذلك شُبْهةٌ، فيُدْرَأُ بها القَطْعُ؛ لكَوْنِه حَدًّا يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ. وهذا قولُ أبى حنيفةَ؛ وذلك لأَنَّ العَيْنَ التى أَقَرَّ بِسَرِقَتِها لم يَثْبُتْ حُكْمُ السَّرِقةِ فيها، فلا يَثْبُتُ حُكْمُ القَطْعِ بها. فصل: وإن أقَرَّ العَبْدُ بِرِقِّه لغيرِ مَن هو في يَدِه، لم يُقْبَلْ إقْرارُه؛ لأَنَّ إقْرارَه بالرِّقِّ إقْرار بالمِلْكِ، والعَبْدُ لا يُقْبَلُ إقْرارُه بمالٍ؛ لأنَّا لو قَبِلْنَا إقْرارَه، أضَرَّ بالسَّيِّدِ؛ لأنَّه (¬1) إذا شاء أقَرَّ لغيرِ سَيِّدِه، فأبْطَلَ مِلْكَه. فإن أقرَّ به (¬2) السَّيِّدُ لِرَجُلٍ، وأقَرَّ هو لآخَرَ، فهو للذى أقَرَّ له السَّيِّدُ؛ لأنَّه في يَدِ السَّيِّدِ، لا في يَدِ نَفْسِه، ولأنَّه لو قُبِلَ إقْرارُ العَبْدِ، لَما قُبِلَ إقْرارُ السَّيِّدِ، كالحَدِّ ¬

(¬1) في م: «ولأنه». (¬2) سقط من: ق، م.

5116 - مسألة: (وإن أقر السيد لعبده بمال، لم يصح)

وَإِنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ، أَوِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ بِمَالٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجنَايةِ العَمدِ. فصل: ويَصِحُّ الإِقْرارُ لكلِّ مَن يَثْبُتُ له الحَقُّ. فإذا أُقِرَّ لِعَبْدٍ بنِكاحٍ أو قِصَاصٍ أو تَعزِيرِ القَذْفِ، صَحَّ الإِقْرارُ له، صَدَّقَه المَوْلَى أو كَذَّبَه؛ لأَنَّ الحَقَّ له دُونَ سَيِّدِه. وله المُطالَبةُ بذلك والعَفْوُ عنه، وليس لِسَيِّدِه مُطالَبَةٌ (¬1) به ولا عَفْوٌ. وإن كَذَّبَه العَبْدُ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه. وإن أُقِرَّ له بمال، صَحَّ، ويكونُ لِسَيِّدِه؛ لأَنَّ يدَ العَبْدِ كيَدِ سَيِّدِه. وقال أصحابُ الشَّافعىِّ: إن قُلْنا: يَملِكُ المالَ. صَحَّ الإِقْرارُ له. وإن قلنا: لا يَملِكُ. كان الإِقْرارُ لمَوْلَاه، يَلْزَمُ بِتَصْديقِه، ويَبْطُلُ بِرَدِّه. 5116 - مسألة: (وإن أقَرَّ السَّيِّدُ لِعَبْدِه بمالٍ، لم يَصِحَّ) لأَنَّ العَبْدَ لِسَيِّدِه، فلا يَصِحُّ إقْرارُه لنَفْسِه (وإِن أقرَّ العَبْدُ لِسَيِّدِه، لم يَصِحَّ) لأنَّه أقَرَّ له بمالِه، فلم يُفِدْهُ (¬2) الإِقْرارُ شيئًا. ¬

(¬1) في الأصل، م: «مطالبته». (¬2) في الأصل: «يفد».

5117 - مسألة: (وإن أقر أنه باع عبده من نفسه بألف، وأقر العبد به، ثبت)

وإنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بأَلْفٍ، وَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِهِ، ثَبَتَ، وَإِنْ أنْكَرَ، عَتَقَ، وَلَم تَلْزَمْهُ الأَلْفُ. وَإِنْ أقرَّ لِعَبْدِ غَيْرِهِ بِمَالٍ، صَحَّ، وَكَانَ لِمَالِكِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5117 - مسألة: (وإن أقَرَّ أنَّه باعَ عَبْدَه مِن نَفْسِه بأَلْفٍ، وأقَرَّ العَبْدُ به، ثَبَتَ) ويكونُ كالكِتَابةِ (وإن أنكرَ، عَتَقَ، ولم تَلزَمهُ الأَلْفُ) لأنَّه أقَرَّ لعَبْدِه بسَبَب العِتْق فعَتَقَ، وتَبْقَى دَعواه عليه لا تَلْزَمُه كما لا (¬1) تَلْزَمُ غيرَه. 5118 - مسألة: (وإن أقَرَّ لعَبْدِ غيرِه بمالٍ، صَحَّ، وكان لمالِكِه) ¬

(¬1) في م: «لم»

5119 - مسألة: (وإن أقر لبهيمة، لم يصح)

وَإِنْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ، لَمْ يَصِحَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأَنَّ مالَ العَبْدِ لِسَيِّدِه. 5119 - مسألة: (وإن أقَرَّ لبَهِيمة، لم يَصِحَّ) لأنَّها لا تَملِكُ، ولا لها أَهْلِيَّةُ المِلْكِ. وقيل: يَصِحُّ، ويكونُ لمالِكِها، كالإِقْرارِ (¬1) للعبدِ. وإن قال: عَلَىَّ بِسَبَبِ هذه البَهِيمةِ. لم يَكُنْ إقْرارًا لأحَدٍ؛ لأنَّه لم يَذْكر لمَن هى، ومِن شَرطِ صِحَّةِ الإِقْرارِ ذِكْرُ المُقَرِّ له. فإن قال: لِمالِكِها، أو (¬2): لزَيْدٍ عَلَىَّ بسَبَبِها ألْفٌ. صَحَّ الإِقْرارُ. وإن قال (¬3): ¬

(¬1) في الأصل: «كإقرار». (¬2) في ق، م: «و». (¬3) بعده في الأصل: «لم يذكر لمن هى ومن».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِسَبَبِ حَمْلِ هذه البَهِيمةِ. لم يَصِحَّ، إذ لا يُمْكِنُ إيجابُ شئٍ بِسَبَبِ

5120 - مسألة: (وإن تزوج مجهولة النسب، فأقرت بالرق، لم يقبل إقرارها)

وإنْ تَزَوَّجَ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ، فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُها وَعَنْهُ، يُقْبَلُ فِى نَفْسِها، وَلَا يُقْبَلُ فِى فَسْخِ النِّكَاحِ، وَرِقِّ الأَوْلَادِ. وَإِنْ أَوْلَدَها بَعدَ الإقْرَارِ وَلَدًا، كَانَ رَقِيقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَمْلِ. 5120 - مسألة: (وإن تَزَوَّجَ مَجْهُولةَ النَّسَبِ، فأقَرَّتْ بالرِّقِّ، لم يُقْبَلْ إقْرارُها) لأنَّها تُقِرُّ على حَقِّ الزَّوْجِ (وعنه، يُقْبَلُ في نَفْسِها) لأنَّها عاقِلَةٌ مُكَلَّفةٌ، فقُبِلَ (¬1) إقْرارُها على نَفْسِها، كما لو أقَرَّت بمالٍ (ولا يُقْبَلُ) إقْرارُها (بِفَسْخِ النِّكاحِ، ورِقِّ الأوْلادٍ) لأَنَّ ذلك حَقُّ الزَّوْجِ (وإن أَوْلَدَها بعدَ الإِقْرارِ وَلَدًا، كان رَقِيقًا) لأنَّه حَدَثَ بعدَ ثُبُوتِ رِقِّها ¬

(¬1) في م: «فيقبل».

وَإِذَا أقَرَّ بِوَلَدِ أَمَتِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، ثُمَّ مَاتَ، وَلَم يَتَبَيَّنْ هَلْ أَتَتْ بِهِ فِى مِلْكِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَهلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؟ عَلَى وَجْهيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (وإن أقَرَّ بوَلَدِ أَمَتِه أنَّه ابْنُه، ثم مات، ولم يَتَبَيَّنْ هل أَتَتْ به في مِلْكِه أو غيرِه، فهل تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؟ على وَجْهينِ) أحَدُهما، لا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لاحْتِمالِ أنَّها أتتْ به في [غيرِ مِلْكِه] (¬1). والثانى، تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له (¬2)؛ لأنَّه أقَرَّ بوَلَدِها وهى في مِلْكِه، فالظّاهِرُ أنَّه اسْتَوْلَدَها في مِلْكِه. ¬

(¬1) في م.: «ملك غير». (¬2) زيادة من: م

فصل

فَصْلٌ: وَإذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِنَسَبِ صَغِيرٍ، أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، أَنَّهُ ابْنُه، ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإذا أقَرَّ الرَّجُلُ بنَسَبِ صَغِيرٍ، أو مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، أنَّه ابنُه، ثَبَتَ نَسَبُه منه) وجملةُ ذلك، أنَّ للإِقْرارِ بالنَّسَبِ شَرْطًا (¬1)، وهو على ضَرْبَيْنِ؛ أحدُهما، أن يُقِرَّ على نَفْسِه خاصّةً. والثانى، أن يُقِرَّ عليه وعلى غيرِه، فإن أَقَرَّ على نَفْسِه خاصّةً، مثلَ أن يُقِرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ، فيُعتَبَرُ في ثُبُوتِ (¬2) نَسَبِه أَرْبعةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، أن يكونَ المُقَرُّ به مَجْهُولَ النَّسَبِ، فإن كان مَعرُوفَ النَّسَبِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه يَقْطَعُ نَسَبَه الثّابتَ مِن غيره، وقد لَعَنَ النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَن انْتَسَبَ إلى غيرِ أبِيه، أو تَوَلى غيرَ مَوَالِيه (¬3). الثانى، أن (2) لا يُنازِعَه فيه مُنازِعٌ؛ لأنَّه إذا ¬

(¬1) في م: «شروطا». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) تقدم تخريجه في 16/ 351.

5121 - مسألة: (فإن كان)

وإنْ كَانَ مَيِّتًا، وَرِثَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نازَعَه فيه غيرُه تَعارَضَا، فلم يَكُنْ إلْحاقُه بأحَدِهما أَوْلَى مِن الآخَرِ. الثالثُ، أن يُمكِنَ صدقُه، بأن يكونَ المُقَرُّ به يَحتَمِلُ أن يُولَدَ لمِثْلِ المُقِرِّ. الرابعُ، أن يكونَ مِمَّن لا قَوْلَ له، كالصَّغِير والمَجْنُونِ، أو يُصَدِّقَ المُقِرَّ إن كان ذا قَوْلٍ، وهو المُكَلَّفُ؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ أقَرَّ بِحَقٍّ ليس فيه (¬1) نَفْعٌ، فَلزِمَ، كما لو أقَرَّ بمالٍ. فإن كان غيرَ مُكَلَّفٍ، لم يُعتَبَرْ تَصْدِيقُه، فإن كَبِرَ وعَقَلَ، فأَنْكَرَ، لم يُسْمَع إنْكارُه؛ لأَنَّ نَسَبَه ثابِتٌ، وجَرَى ذلك مَجْرَى مَن ادَّعَى مِلْكَ عَبْدٍ صَغِيرٍ في يَدِه، وثَبَتَ بذلك مِلْكُه، فلَمَّا كَبِرَ جَحَدَ ذلك. ولو طَلَبَ إحْلافَه على ذلك، لم يُسْتَحْلَفْ؛ لأَنَّ الأبَ لو عاد فجَحَدَ النَّسَبَ، لم يُقْبَل منه. ويَحتَمِلُ أن يَبْطُلَ نَسَبُ المُكَلَّفِ باتِّفاقِهما على الرُّجُوعِ عنه؛ لأنَّه يَثْبُتُ باتِّفاقِهما، فزَالَ برُجُوعِهما، كالمالِ. والأَوَّلُ: أصَحُّ؛ لأنَّه نَسَبٌ ثَبَتَ بالإِقْرارِ، فأشْبَهَ نَسَبَ الصَّغِيرِ والمَجْنُونِ، وفارَق المالَ؛ لأَنَّ النَّسبَ يُحْتاطُ لإِثْباتِه. وإنِ اعتَرفَ إنْسانٌ أنَّ هذا أَبُوه، فهو كاعتِرافِه بأنَّه ابْنُه. الضربُ الثانى، أن يُقِرَّ عليه وعلى غيرِه، كإقْرارِه بأَخٍ، فسَنَذْكُرُه إن شاءَ اللَّه تعالى. 5121 - مسألة: (فإن كان) الصَّغِيرُ المُقَرُّ بِنَسَبِه (مَيِّتًا، وَرِثَه) ¬

(¬1) في الأصل: «له».

وإنْ كَانَ كَبِيرًا عَاقِلًا، لَمْ يَثْبُتْ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّه ثَبَت نَسَبُه. وبهذا قال الشافعىُّ. ويَحتَمِلُ أن يَثْبُتَ نَسَبُه دُونَ مِيراثِه؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ في قَصْدِ أخْذِ مِيراثِه. وقال أبو حنيفةَ: لا يَثْبُتُ نَسَبُه ولا إرثُه؛ لذلك. ولَنا، أنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ نَسَبِه في حَياتِه الإِقْرارُ به، وهو مَوْجُودٌ بعدَ المَوْتِ، فيَثْبُتُ، كحَالَةِ الحياةِ، وما ذَكَرُوه يبطُلُ بما إذا كان المُقرُّ به حَيًّا مُوسِرًا، والمُقِرُّ فَقِيرًا، فإنَّه يَثْبُتُ نَسَبُه، ويَمْلِكُ المُقِرُّ التَّصرُّفَ في مالِه وإنْفاقَه على نَفْسِه (وإن كان) المُقَرُّ به (كَبِيرًا عاقِلًا) فكذلك في قولِ القاضِى، وظاهِرِ مَذْهبِ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه (¬1) لا قَوْلَ له، أشْبَهَ الصَّغيرَ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، لا يَثْبُتُ نَسَبُه؛ لأنَّ نَسَبَ المُكَلَّفِ لا يَثْبُتُ ¬

(¬1) في النسخ: «أنه»، والمثبت كما في المغنى 7/ 323.

وإنْ كَانَ مَيِّتًا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلَّا بِتَصْدِيقِه، ولم يُوجَد. ويُجَابُ عن هذا بأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ. فإنِ ادَّعَى نَسَبَ المُكَلَّفِ في حَياتِه فلم يُصَدِّقْه حتى ماتَ المُقِرُّ، ثم صَدَّقَه، ثَبَتَ نَسَبُه؛ لأنَّه وُجِدَ الإِقْرارُ والتَّصْدِيقُ. فصل: فإن أقَرَّتِ امرأة بوَلَدٍ ولم تَكُنْ ذاتَ زَوْجٍ ولا نسَبٍ، قُبِلَ إقْرارُها. وإن كانت ذاتَ زَوْج، فهل يُقْبَلُ إقرارُها؛ على رِوايتين؛ إحداهما، لا يُقْبَلُ؛ لأَنَّ فيه حَمْلًا لِنسَبِ الوَلَدِ على زَوْجِها، ولم يُقِرَّ به، أو إلحاقًا [للعارِ به بوِلادَةِ] (¬1) امرأتِه مِن غيرِه. والثانى، يُقْبَل؛ لأنَّها شَخْصٌ أقَرَّ بوَلَدٍ يَحْتَمِلُ أن يكونَ منه، فَقُبِلَ، كالرَّجُلِ. وقال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ، في امرأةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: فإن كان لها إخْوَةٌ أو نَسَبٌ مَعرُوفٌ، فلابُدَّ أن يَثْبُتَ أنَّه ابْنُها، كان لم يَكُنْ لها دافِعٌ فمَن يَحُولُ بَيْنَها وبينَه؟ وهذا لأنَّها إذا كانت ذاتَ أهْلٍ، فالظاهِرُ أنَّه لا يَخْفَى عليهم وِلادَتُها، فمتى ادَّعَتْ ولَدًا لا يَعْرِفُونَه، فالظاهِرُ كَذِبُها. ويَحْتَمِلُ أن تُقْبلَ دعواها مُطْلَقًا؛ لأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ له، فأشْبَهتِ الرَّجُلَ. وقد ذَكَرْنا نحوَ ذلك في اللَّقِيطِ (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «للعارية لولاده». (¬2) في 16/ 331 - 333.

5122 - مسألة: (ومن ثبت نسبه، فجاءت أمه بعد موت المقر فادعت الزوجية، لم يثبت بذلك)

وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ بَعدَ مَوْتِ المُقِرِّ فَادَّعَتِ الزَّوْجِيَّةَ، لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قَدِمَتِ امْرأةٌ مِن بَلَدِ الرُّومِ معها طِفْلٌ، فأقَرَّ به رَجُلٌ، لَحِقَه؛ لوُجُودِ الإِمْكانِ وعَدَمِ المُنازِعِ، لأنَّه يَحتَمِلُ أن يكونَ دَخَلَ أرْضَهُم أو دَخَلَتْ هى دارَ الإِسْلامِ فوَطِئَها، والنَّسَبُ يُحْتاطُ لإثْباتِه، ولهذا لو وَلَدَتِ امرأةُ رَجُلٍ وهو غائِبٌ عنها، بعدَ عَشْرِ سنِينَ أو أكْثَرَ مِن غَيْبَتِه، لَحِقَه، وإِن لم يُعرَفْ له قُدُوم إليها ولا عُرِفَ لها خُروجٌ مِن بَلَدِها. 5122 - مسألة: (ومَن ثَبَتَ نَسَبُه، فجاءَت أُمُّه بعدَ مَوْتِ المُقِرِّ فادَّعَتِ الزَّوْجِيَّةَ، لم يَثْبُتْ بذلك) لأنَّها مُجَرَّدُ دَعوَى، فلم تَثْبُتْ بها زَوْجِيَّةٌ، كما لو كان حَيًّا، ولأنَّه يَحتَمِلُ أن يكونَ مِن وَطْءِ شُبْهةٍ أو نِكاحٍ فاسدٍ. فصل: وإن أقَرَّ رَجُل (¬1) بنَسَبِ صَغِير، لم يَكُنْ مُقِرًّا بزَوْجِيَّةِ أُمِّه. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبهذا قال الشّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: إذا كانت مَشْهُورةً بالحُرِّيَّةِ، كان مُقِرًّا بزَوْجِيَّتِها؛ لأَنَّ أنْسابَ المُسْلِمينَ وأحوالَهُم يَجِبُ حَمْلُها على الصِّحَّةِ، وهو أن يكونَ وَلَدَتْه منه في نِكَاحٍ صَحِيحٍ. ولنا، أن الزَّوْجِيةَ (¬1) لَيْسَت مُقْتَضَى لَفْظِه ولا مَضْمُونَه، فلم يَكُنْ مُقِرًّا بها، كما لو لم تَكُنْ مَعرُوفةً بالحُرِّيَّةِ. وما ذكَرُوه لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النَّسَبَ مَحْمُولٌ على الصِّحَّةِ، وقد يُلْحقُ بالوَطْءِ والنِّكاحِ الفاسِدِ والشُّبْهةِ، [فلا يَلْزَمُ بحُكْمِ إقْرارِه، ما لم يُوجِبْه لَفْظٌ، ولا يَتَضَمَّنُه] (¬2). فصل: إذا كان له أمَةٌ لها ثَلاثةُ أَوْلادٍ، ولا زَوْجَ لها، ولا أقَرَّ بوَطْئِها، فقال: أحَدُ هؤلاء وَلَدِى. فإقْرارُه صَحِيحٌ، ويُطالَبُ بالبَيانِ، فإن عَيَّنَ أحَدَهُم، ثَبَتَ نَسَبُه وحُرِّيته، ثم يُسْأَلُ عن كَيْفِيَّةِ الاسْتِيلادِ، فإن قال: بنِكاحٍ. فعلى الوَلَدِ الوَلَاءُ، والأمُّ والآخَرانِ مِن أَوْلادِها رَقِيقٌ. فإن قال: اسْتَوْلدتُها في مِلْكِى. فالمُقَرُّ به حُرُّ الأَصْلِ، لا وَلَاءَ عليه، والأمَةُ أُمُّ وَلَدٍ. ثم إن كان المُقَرُّ به الأكْبَرَ، فأخَواهُ ابْنَا أُمِّ وَلدٍ، حُكْمُهما حُكْمُها في العِتْقِ بمَوْتِ سَيِّدِها. وإن كان الأوْسَطَ، فالأكْبَرُ قِنٌّ، والأصْغَرُ له حُكْمُ أُمِّه. وإن عَيَّنَ الأصْغَرَ، فأخَوَاه رَقِيقٌ قِنُّ؛ لأنَّها وَلَدَتْهُما قبلَ ¬

(¬1) في م: «الزوجة». (¬2) كذا في ق، م، والعبارة غير واضحة في الأصل، وفى المغنى 7/ 325: «فلا يلزمه بحكم إقراره، ما يتضمنه لفظه، ولم يوجبه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحُكْمِ بكَوْنِها أُمَّ وَلدٍ. وإن قال: هى مِن وَطْء شُبْهةٍ. فالوَلَدُ حُرُّ الأصْلِ وأخَوَاه مَمْلُوكانِ، وإن مات قبلَ أن يُبَيِّنَ، أُخِذَ وَرَثته بالبَيانِ، ويَقُومُ بَيَانُهم مَقامَ بَيانِه، فإن بَيَّنُوا النَّسَبَ ولم يُبَيِّنُوا الاسْتِيلادَ، ثَبَتَ النَّسَبُ وحُرِّيَّةُ الوَلَدِ، ولم يَثْبُتْ للأُمِّ ولا لِوَلَدَيْها حُكْمُ الاسْتِيلادِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ مِن نِكاحٍ أو وَطْءِ شُبْهةٍ، وإن لم يُبَيِّنُوا النَّسَبَ، وقالوا: لا نَعْرِفُ ذلك، ولا الاسْتِيلادَ. فإنّا نُرِيه القافَةَ، فإن أَلحَقُوا به واحِدًا منهم، أَلْحَقْناه، ولا يَثْبُتُ حُكْمُ الاسْتِيلادِ لغيرِه، فإن لم يَكُنْ قافَةٌ أُقْرِعَ بينهم، فمن وَقَعَتْ له القُرعةُ، عَتَقَ وَوَرِثَ. وبهذا قال الشّافعىُّ، [إلَّا أنَّه] (¬1) لا يُوَرِّثُه بالقُرْعةِ. ولنا، أنَّه حُرٌّ اسْتَندَتْ حُرِّيَّتُه إلى إقْرارِ أبيه به (¬2)، فَوَرِثَ، كما لو عَيَّنَه في إقْرارِه. فصل: إذا كان له أمَتانِ، لكلِّ واحدةٍ منهما وَلَدٌ، فقال: أحَدُ هذَين وَلَدِى مِن أَمَتِى. نَظَرْتَ؛ فان كان لكلِّ واحدةٍ منهما زَوْجٌ يمكِنُ إلحاقُ الوَلَدِ به، لم يَصِحَّ إقْرارُه، وأُلْحِقَ الوَلَدانِ بالزَّوْجَيْن. وإن كان لإِحْداهما زَوْجٌ دون الأُخْرَى، انْصَرفَ الإِقْرارُ إلى وَلَدِ الأُخْرَى؛ لأنَّه الذى يُمْكِنُ إلْحاقُه به، وإن لم يكُنْ لكلِّ واحدةٍ منهما زَوْجٌ، ولكنْ أقَرَّ السَّيِّدُ بوَطْئِهما، صارَتَا فِراشًا، ولَحِقَ وَلَداهُما به، إذا أمْكَنَ أن يُولَدَا بعدَ وَطْئِه، وإن أمْكَنَ في إحداهما دُونَ الأُخْرَى، انْصَرفَ الإِقْرارُ إلى مَن ¬

(¬1) في م: «لأنه». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمْكن؛ لأنَّه وَلَدُه حكْمًا. وإن لم يكُنْ أقَرَّ بوَطْءِ واحدةٍ منهما، صَحَّ إقْرارُه وثَبَتتْ حُرِّيَّةُ المُقَرِّ به؛ لأنَّه أقَرَّ بِنَسَبٍ صَغيرٍ مَجْهُولِ النَّسبِ مع الإِمْكانِ، لا مُنازِعَ له فيه، فلَحِقَه نَسَبُه، ثم يُكَلَّفُ البَيَانَ، كما لو طَلقَ إحْدَى نِسائِه، فإذا بَيَّنَ قُبِلَ بَيانُه؛ لأنَّ المَرْجِعَ في ذلك إليه، ثم يطالَبُ ببيانِ كَيْفِيَّةِ الوِلَادَةِ، فإن قال: استولَدتُها في مِلْكِى. فالوَلَدُ حُرُّ الأْصلِ، لا وَلَاءَ عليه، وأمُّه أُمُّ وَلَدٍ. وإن قال: في نِكَاحٍ. فعَلَى الوَلَدِ الوَلاءُ؛ لأنَّه مَسَّهُ رِقٌّ، والأمَةُ قِنٌّ؛ لأنَّها عَلِقَتْ بمَمْلُوكٍ. وإن قال: بِوَطْءِ شُبْهةٍ. فالوَلَدُ حُرُّ الأَصْلِ، والأمَةُ قِنٌّ؛ لأنَّها عَلِقَتْ به في غيرِ مِلْكٍ. وإنِ ادَّعَتِ الأُخْرَى أنَّها التى اسْتَوْلَدَها، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه؛ لأَنَّ الأصلَ عَدَمُ الاسْتِيلادِ، فأَشْبَهَ ما لو ادَّعَتْ ذلك مِن غيرِ إقْرارٍ بشئٍ، فإذا حَلَفَ رَقَّتْ (¬1) ورَقَّ وَلَدُها، فإذا مات، وَرِثَه وَلَدُه المُقَرُّ به. وإن كانت أمَةً قد صارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، عَتَقتْ، وإن لم تَصِرْ أَمَّ وَلَدٍ، عَتَقتْ على وَلَدِها إن كان (¬2) هو الوارِثَ وَحْدَه، وإن كان معه غيرُه، عَتَقَ منها بِقَدْرِ ما مَلَك. وإن مات (¬3) قبلَ أن يُبَيِّنَ، قام وارِثُه مَقامَه في البَيانِ؛ لأنَّه يَقُومُ مَقامَه في إلْحاقِ النَّسَبِ وغيرِه، فإذا بَيَّن، كان كما لو بَيَّن المَوْرُوثُ. وإن لم يَعْلَمِ الوارِثُ كَيْفِيَّةَ الاسْتِيلادِ، فَفِى الأَمَةِ وَجْهانِ؛ أحدُهما، يكونُ رَقِيقًا؛ لأَنَّ الرِّقَّ الأصْلُ، فلا يَزُول بالاحْتِمالِ. والثانى، يَعْتِقٌ؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّها ¬

(¬1) بعده في م: «له». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «عادت».

5123 - مسألة: (وإن أقر بنسب أخ أو عم، فى حياة أبيه أو جده، لم يقبل، وإن كان بعد موتهما وهو الوارث وحده، صح إقراره، وثبت

وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ، فِى حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَهُوَ الْوَارثُ وَحْدَهُ، صَحَّ إقْرَارُهُ، وَثَبَتَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَدَتْه في مِلْكِه، لأنَّه أقَرَّ لوَلَدِها وهى في مِلْكِه. وهذا مَنْصُوصُ الشّافِعِىِّ. فإن لم يَكُنْ وارِث، [أو كان وارِثٌ] (¬1) لم يُعَيِّنْ، عُرِضَ على القافَةِ، فإن [ألْحَقَتْ به أحَدَهُما] (¬2)، ثَبَتَ نَسَبُه، وكان حُكْمُه كما لو عَيَّنَ الوارِثُ، فإن لم تَكُنْ قافَةٌ، أو كانت فلم تَعْرِفْ، أُقْرِعَ بين الوَلَدَيْنِ، فيَعتِقُ أحَدُهما بالقُرْعةِ؛ لأَنَّ للقُرْعةِ مدْخَلًا في إثْباتِ الحُرِّيَّةِ. وقِياسُ المَذْهبِ ثُبُوتُ نَسَبِه ومِيراثِه، على ما ذَكَرنا في التى قبلَها. وقال الشافِعِىُّ: لا يَثْبُت نسَبٌ ولا مِيراثٌ. واخْتَلفُوا في المِيراثِ، فقال المُزَنِىُّ: يُوقَفُ نَصِيبُ الابْنِ؛ لأنَّا تَيَقَّنَّا ابْنًا وارِثًا. ولهم وَجْهٌ آخَرُ: لا يُوقَفُ شئٌ؛ لأنَّه لا يُرْجَى انْكِشافُه. وقال أبو حنيفةَ: يَعْتِقُ مِن كلِّ واحدٍ نِصْفُه، ويُسْتَسْعَى في باقِيه، ولا يَرِثَانِ. وقال ابنُ أبى لَيْلَى مثلَ ذلك، إلا أنَّه (¬3) يَجْعَلُ المِيراثَ بينَهما نِصْفَيْنِ، ويَدْفعانِه في سِعَايَتهما. والكلامُ في قِسْمةِ الحُرِّيَّةِ والسِّعايةِ قد ذُكِرَ في بابِ العِتْقِ. 5123 - مسألة: (وإن أقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أو عَمٍ، في حَياةِ أَبِيه أو جَدِّه، لم يُقْبَلْ، وإن كان بعدَ مَوْتِهِما وهو الوارِثُ وحدَه، صحَّ إقْرارُه، وثَبَتَ ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «ألحقته بأحدهما». (¬3) في النسخ: «أن»، وانظر المغنى 7/ 327.

النَّسَبُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَلِلْمُقَرِّ لَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا فَضَلَ فِى يَدِ المُقِرِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ النَّسَبُ، وإن كان معه غيرُه، لم يَثْبُتِ النَّسَبُ، وللمُقَرِّ له مِن المِيراثِ ما فَضَلَ في يدِ المُقِرِّ) إنَّما لم يُقْبَلْ إقرارُه في حَياتِهِما؛ لأنَّه على غيرِه فلا يُقْبَلُ، فأمَّا إن كان بعدَ المَوْتِ وهو الوارِثُ وحدَه، قُبلَ إقْرارُه وثَبَتَ النَّسَبُ، سواء كان المُقِرُّ واحدًا أو جماعةً، ذَكَرًا أو أُنْثَى. وبهذا قال الشّافعىُّ، وأبو يوسُفَ، وحَكَاه عن أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ الوارِثَ يَقُومُ مَقامَ المَوْرُوثِ في دُيُونِه، والدُّيُونِ التى عليه، وفى دعاوِيه، كذلك في النَّسَبِ، إلَّا أن يكونَ المَيِّتُ قد نَفَاهُ، فلا يَثْبُتُ؛ لأنَّه يحمِلُ على غيرِه نَسَبًا حُكِمَ بِنَفيِه. فإن كان وارِثًا ومعه شرِيكٌ في المِيراثِ، لم يَثْبُتِ النَّسَبُ؛ لأنَّه لا يَثْبُتُ في حَقِّ شَرِيكِه، فوَجب أن لا يَثْبُتَ في حَقِّه، وقد دَلَّ على ثُبُوتِ النَّسَبِ بإقْرارِ الواحدِ إذا كان وارِثًا حَدِيثُ عاثشةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنها، أنَّ سَعدَ بنَ أبى وَقّاصٍ اخْتَصَم هو وعَبْدُ بنُ زمعةَ في ابنِ أمَةِ زَمعةَ، فقال سعد: أوْصانِى أخِى عُتْبَةُ إذا قَدِمتُ أن أنْظُرَ إلى ابْنِ أمةِ زَمْعةَ، وأقْبِضَه، فإنَّه ابْنُه. فقال عَبْدُ بنُ زمعةَ: أخِى، وابنُ وَلِيدَةِ أبِى، وُلِدَ على فِرَاشِه. فقال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الوَلَدُ للفرَاشِ ولِلْعَاهِرِ

5124 - مسألة: (وإن أقر من عليه الولاء بنسب وارث، لم يقبل

وَإِنْ أقَر مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ بِنَسَبِ وَارِثٍ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَجَرُ». فقَضَى به لِعَبْدِ بنِ زَمْعةَ. وقال: «احتَجِبِى مِنْهُ يا سَوْدَةُ» (¬1). والمَشْهُورُ عن أبى حنيفةَ أنه لا يَثْبُتُ إلا بإقْرارِ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وامرأَتَيْنِ. وقال مالِكٌ: لا يَثْبُتُ إلا بإقْرارِ اثْنَيْن؛ لأنَّه يَحْمِلُ النَّسَبَ على غيرِه، فاعتُبِرَ فيه العَدَدُ، كالشَّهادَةِ. ولَنا، أنَّه حَقٌّ ثَبَتَ بالإِقْرارِ، فلم يُعتَبر فيه العَدَدُ، كالدَّيْنِ، ولأنَّه قولٌ لا تُعْتَبرُ فيه العَدالةُ، فلم يُعْتَبَرُ فيه العَدَدُ، كإقْرارِ المَوْرُوثِ، واعْتِبارُه بالشَّهادَةِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يُعْتَبرُ فيه اللَّفْظُ ولا العَدالَةُ، ويَيْطُلُ بالإِقْرارِ بالدَّيْنِ. وللمُقَرِّ له مِن المِيراثِ ما فَضَلَ في يَدِ المُقِرِّ، وقد ذَكَرْنا ذلك فيما مَضَى. 5124 - مسألة: (وإن أقَرَّ مَن عليه الوَلَاءُ بِنَسَبِ وارِثٍ، لم يُقْبَلْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في 16/ 338.

5125 - مسألة: (وإن أقرت امرأة بنكاح على نفسها، فهل يقبل؟ على روايتين)

مَوْلَاهُ. وإنْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِنِكَاحٍ عَلَى نَفْسِهَا، فَهَلْ يُقْبَلُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إقرارُه إلَّا أن يُصَدِّقَه مَوْلاهُ) لأنَّ الحَقَّ لمَوْلاه، فلا يُقْبَلُ إقرارُه بما يُسْقِطُه. ويتَخَرَّجُ أن يُقْبَلَ بدُونِه. ذكَرَه في «المحرَّرِ». 5125 - مسألة: (وإن أقَرَّتِ امْرأةٌ بنِكاحٍ على نَفْسِها، فهل يُقْبَلُ؟ على رِوَايَتَيْنِ) إحداهما، يُقْبَلُ؛ لأنَّه حَقٌّ عليها، فيُقْبَلُ، كما لو أقرَّتْ بمالٍ (¬1). والأخْرَى، لا يُقْبَلُ؛ لأنَّها تَدَّعِى النَّفقَةَ والكُسوةَ ¬

(¬1) في الأصل: «بملك».

5126 - مسألة: (فإن أقر الولى عليها به، قبل إن كانت مجبرة)

وَإِنْ أَقَرَّ الْوَلِىُّ عَلَيْهَا بِهِ، قُبِلَ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَإلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والسُّكْنى، فلا يُقْبَلُ. 5126 - مسألة: (فإن أقَرَّ الوَلِىُّ عليها به، قُبِلَ إن كانت مُجْبَرةً)

5127 - مسألة: (وإن أقر أن فلانة امرأته، أو أقرت أن فلانا زوجها، فلم يصدق المقر له المقر إلا بعد موت المقر، صح وورثه)

وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ فُلانَةَ امْرَأَتُهُ، أو أقَرَّتْ أَنَّ فُلانًا زَوْجُهَا، فَلَمْ يُصَدِّقِ المُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، صَحَّ وَوَرِثَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ المَرْأةَ لا قوْلَ لها في حالِ الإِجْبارِ. وكذلك إن كانت مُقِرَّةً بالإِذْنِ. نَصَّ عليه. وقيل: لا يُقْبَلُ إلا على المُجْبَرةِ. [مِن «المُحَرَّرِ»] (¬1). وإن لم تَكُنْ مُجْبَرةً، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه إقْرارٌ على الغيرِ، فلم يَلْزَمْها, كما لو أقَرَّ عليها بمالٍ. 5127 - مسألة: (وإن أقَرَّ أنَّ فُلانةَ امْرَأَتُه، أو أَقَرَّتْ أنَّ فُلانًا زَوْجُها، فلم يُصَدِّق المُقَرُّ له المُقِرَّ إلَّا بعدَ مَوْتِ المُقِرِّ، صَحَّ وَوَرِثَه) كما لو صَدَّقَه في حَياتِه. وقد ذَكَرْنا فيما إذا أقَرَّ بِنَسَبِ كبيرٍ عاقِلٍ بعدَ مَوْتِه، هل يَرِثُه؟ على وَجْهينِ، بِناءً على ثُبُوتِ نَسَبِه، فيُخَرَّجُ ههُنا مثلُه. وإن كان قد كَذَّبَه في حَياتِه، ففيه وَجْهانِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

5128 - مسألة: (وإن أقر الورثة على موروثهم بدين، لزمهم قضاؤه من التركة، فإن أقر بعضهم، لزمه بقدر ميراثه، فإن لم تكن له تركة، لم يلزمهم شئ)

وَإِنْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ عَلَى مَوْرُوثِهِمْ بِدَيْن، لَزمَهُمْ قَضَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ، لَزِمَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَىْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5128 - مسألة: (وإن أَقَرَّ الوَرَثَةُ على مَوْرُوثِهِم بِدَيْنٍ، لَزِمَهم قَضاؤُه مِن التَّرِكةِ، فإن أَقَرَّ بعضُهم، لَزِمَه بِقَدْرِ مِيراثِه، فإن لم تَكُنْ له تَركةٌ، لم يَلْزَمْهُم شئٌ) إذا أقَرَّ الوارِثُ بِدَيْنٍ على مَوْرُوثِه، قُبِلَ إقْرارُه بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه. ويتَعلَّقُ ذلك بتَرِكةِ المَيِّتِ, كما لو أقَرَّ به المَيِّتُ في حَياتِه. فإن لم يُخَلِّفْ تَرِكةً، لم يَلْزَم الوارِثَ شئٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُه أدَاءُ دَيْنِه إذا كان حَيًّا مُفْلِسًا، فكذلك إذا كَان مَيِّتًا. وإن خَلَّفَ تَرِكةً، تعَلَّقَ الدَّيْنُ بها، وإن أحَبَّ الوارِثُ تَسْلِيمَها في الديْنِ، فله ذلك، وإن أحَبَّ استِخْلاصَها وَوَفاءَ الدَّيْنِ مِن مالِه، فله ذلك. ويَلْزَمُه أقَلُّ الأمْرَيْنِ مِن قِيمَتِها أو قَدْرِ الدَّيْنِ، بمَنْزِلةِ الجانِى. فإن كان الوارِثُ واحدًا، فحُكْمُه ما ذكَرْنا، وإن كانا اثْنَيْن أو أكْثَرَ، وثَبَتَ الدَّيْنُ بإِقْرارِ المَيِّتِ، أو بِبَيِّنَةٍ، أو إقْرارِ جَميعِ الوَرَثةِ، فكذلك. وإذا اخْتارَ الوَرَثةُ أخْذَ التَّرِكةِ وقَضاءَ الدَّيْنِ مِن أموالِهم، فعلى كلِّ واحدٍ منهم مِن الدَّيْنِ بقَدْرِ مِيراثِه. وإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَقَرَّ أحَدُهم، لَزِمَه مِن الدَّيْنِ بقَدْرِ مِيراثِه، والخِيَرَةُ إليه في تَسْلِيمِ نَصِيبِه في الدَّيْنِ أو (¬1) استِخْلاصِه. وإذا قَدَّرَه مِن الدَّيْنِ، فإن كانا اثْنَيْنِ، لَزِمَه النِّصفُ، وإن كانوا ثَلاثةً، فعليه الثُّلُثُ. وبهذا قال النَّخَعِىُّ، والحَسَنُ، والحَكَمُ، وإسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ، وأبو ثَوْرٍ، والشّافعىُّ في أحَدِ قوْلَيْه. وقال أصحابُ الرَّأْى: يَلْزَمُه جميعُ الدَّيْنِ أو جميعُ مِيراثِه. وهو آخِرُ (¬2) قوْلَىِ الشّافِعِىِّ، رَجَع إليه بعدَ قَوْلِه كَقوْلِنا؛ لأَنَّ الدَّيْنَ يتَعلَّقُ بتَرِكَتِه، فلا يَسْتَحِقُّ الوارِثُ منها إلَّا ما فَضَلَ مِن الدَّيْنِ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬3). ولأنَّه يقولُ: ما (¬4) ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في م: «أحد». (¬3) سورة النساء 12. (¬4) في الأصل: «إنما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخَذَه المُنْكِرُ أخَذَه بغيرِ اسْتِحقاقٍ. فكان غاصِبًا، فيتعَلَّقُ الدَّيْنُ بما بَقِىَ مِن التَّرِكةِ, كما لو غَصَبَه أجْنَبِىٌّ. ولَنا، أنَّه لا يَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِن نِصْفِ المِيراثِ، فلا يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن نِصْفِ الدَّيْنِ, كما لو أَقَرَّ أَخُوه، ولأنَّه إقْرارٌ يتعَلَّقُ بحِصَّتِه أو حِصَّةِ أخِيه، فلا يَجِبُ عليه إلَّا ما يَخُصُّه، كالإِقْرارِ بالوَصِيةِ، وإِقْرارِ أحَدِ الشَّرِيكَيْنِ على مالِ الشَّرِكةِ، ولأنَّه حَقٌّ لو ثَبَتَ بِبَيِّنةٍ، أو قَوْلِ المَيِّتِ، أو إقْرارِ الوارِثين، لم يَلْزَمْه إلَّا نِصْفُه، فلم يَلْزَمْه بإِقْراره أكْثَرُ مِن نِصْفِه، كالوَصِيَّةِ، ولأَنَّ شَهادَتَه بالدَّيْنِ مع غيرِه تُقْبَلُ، ولو لَزِمَه أكْثَرُ مِن حِصَّتِه، لم تُقْبَلْ شَهادَتُه؛ لأنَّه يَجُرُّ بها إلى نَفْسِه نَفْعًا. فإن كان عليه دَيْن بِبَيِّنةٍ، أو إقْرارِ المَيِّتِ، قُدِّمَ على ما أقَرَّ به الوَرَثَةُ. مِن «المُحرَّرِ».

فصل

فَصْلٌ: وإذَا أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرأةٍ، صَحَّ، فَإنْ أَلقَتْهُ مَيِّتًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ، بَطَلَ، وَإِنْ وَلَدَت حَيًّا ومَيِّتًا، فَهُوَ لِلْحَىِّ. وَإن وَلَدَتْهُمَا حَيَّيْنِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، الذَّكَرُ وَالأُنْثَى. ذَكَرَهُ ابنُ حَامِدٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال [الشيح، رَحِمَه اللَّهُ] (¬1): (وإن أقَرَّ لحَمْلِ (¬2) امْرأةٍ، صَحَّ، فإنْ ألْقَتْه مَيِّتًا، أو لم يكُنْ حَمْل، بَطَلَ، وإن وَلَدَتْ حَيًّا ومَيِّتًا، فهو للحَىِّ. وإن وَلَدَتهُما حَيَّيْنِ، فهو بَيْنَهُما سواءٌ، الذَّكَرُ والأُنْثى. ذكَرَه ابنُ حامدٍ) إذا أقَرَّ لِحَمْلِ (¬3) امْرأةٍ بمالٍ، وعَزاه إلى إرْثٍ أو وَصِيَّةٍ، صَحَّ، وكان للحَمْلِ. وإن أطْلَقَ، فقال أبو عبدِ اللَّه اِبنُ حامِدٍ: يَصِحُّ. وهو أصَحُّ قَوْلَى الشّافعىِّ، لأنَّه يجوزُ أن يَمْلِكَ بوَجْهٍ صَحِيحٍ، فصَحَّ له الإِقْرارُ المُطْلَقُ، كالطِّفْلِ. فعلى هذا، إن ¬

(¬1) في م: «قال، رضى اللَّه عنه». (¬2) في النسخ: «بحمل». (¬3) في الأصل، ق: «بحمل».

وَقَالَ أبو الْحَسَنِ التَّمِيمِىُّ: لَا يَصِحُّ الإِقرَارُ إلَّا أن يَعْزِيَهُ إلَى سَبَبٍ، مِنْ إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَلَدتْ ذَكَرًا وأنْثَى، كان بينهما نِصْفَيْنِ، وإن عَزاهُ إلى إرْثٍ أو وَصِيَّةٍ، كان بينَهما على حَسَبِ اسْتِحْقاقِهما لذلك، وإن وَلَدَت حَيًّا ومَيتًا، فالكُلُّ للحَىِّ؛ لأنَّه لا يَخْلُو؛ إمَّا أن يكونَ الإِقرارُ له عن إرْثٍ أو وَصِيّةٍ، وكِلَاهُما لا يَصِحُّ للمَيِّتِ (وقال أبو الحَسَنِ التَّمِيمِىُّ: لا يَصِحُّ الإِقْرارُ إلا أن يَعْزِيَه إلى إرْثٍ أو وَصِيّةٍ) وهو قولُ أبى ثَوْرٍ، والقولُ الثانى للشّافِعِىِّ؛ لأنَّه لا يَمْلِكُ بغيرِهما. فإن وَضَعتِ الوَلَدَ مَيِّتًا و (¬1) كان قد عَزا الإِقْرارَ إلى إرْثٍ أو وَصِيَّةٍ، عادَتْ إلى وَرَثةِ المُوصِى ومَوْرُوثِ الطِّفْلِ، وإن أطْلَقَ الإِقْرارَ، كُلِّفَ ذِكْرَ السبَب، فيُعْمَلُ بقَوْلِه، فإن تَعذَّرَ التَّفْسِيرُ بمَوْتِه أو غيرِه، بَطَلَ إقْرارُه، كمَنْ أقَرَّ لِرَجُلٍ لا يُعْرَفُ مَن أراد بإقْرارِه، وإن عَزَا ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِقْرارَ إلى جِهَةٍ غيرِ صَحِيحةٍ، فقال: لهذا الحَمْلِ عَلَىَّ ألْفٌ أقْرَضَنِيهَا (¬1)، أو وَدِيعةٌ أخَذْتُها منه. فعَلَى قولِ التَّمِيمِىِّ، الإِقْرارُ باطلٌ. وعلى قولِ ابنِ حامدٍ، يَنْبَغِى أن يَصِحَّ إقْرارُه؛ لأنَّه وَصَلَ بإقْرارِه ما يُسْقِطُه، فيَسْقُطُ ما وَصَلَه به, كما لو قال: له ألْفٌ لا يَلْزَمُنِى. وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ جَعَلْتُها له. أو نحوَ ذلك، فهى عِدَةٌ لا يُؤْخَذُ بها. ولا يَصِحُّ الإِقْرارُ لِحَمْلٍ (¬2) إلَّا إذا تُيُقِّنَ أنَّه كان مَوْجُودًا حالَ الإِقْرارِ، على ما بُيِّنَ في الوَصِيَّةِ له. وإن أَقَرَّ لِمَسْجِدٍ أو مَصْنَعٍ أو طَرِيقٍ، وعَزاهُ إلى سَبَبٍ صَحِيحٍ، مثلَ أن يقولَ: مِن غَلَّةِ وَقْفِه. صَحَّ، وإن أَطْلَقَ، خُرِّجَ على الوَجْهَيْنِ. وإن لم يَكُنْ ثَمَّ حَمْلٌ، بَطَلَ الإِقْرارُ؛ لأنَّه أقَرَّ لغيرِ شئٍ. ¬

(¬1) في ق، م: «أقرضتها». (¬2) في الأصل، ق: «بحمل».

5129 - مسألة: (وإن أقر لكبير عاقل، فلم يصدقه، بطل إقراره، فى أحد الوجهين)

وَمَنْ أَقَرَّ لِكَبِيرٍ عَاقِلٍ بِمَالٍ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، بَطَلَ إقْرَارُهُ، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِى الآخَرِ، يُؤْخَذُ الْمَالُ إلى بَيْتِ الْمَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5129 - مسألة: (وإن أَقَرَّ لكَبِيرٍ عاقلٍ، فلم يُصَدِّقْه، بَطَلَ إقْرارُه، في أحَدِ الوَجْهَيْن) لأنَّه إقْرارٌ بِحَقٍّ، أشْبَهَ النَّسَبَ. فعلى هذا، يُقَرُّ المالُ في يَدِ المُقِرِّ؛ لأنَّه كان في يَدِه، فإذا بَطَلَ إقْرارُه بَقِىَ كأنَّه لم يُقِرَّ به (والوَجْهُ الثانى، يُؤْخَذُ المالُ إلى بَيتِ المالِ) فيَحْفَظُه حتى يَظْهَرَ مالِكُه؛ لأنَّه بإقْرارِه خَرَجَ عن مِلْكِه ولم يَدْخُلْ في مِلْكِ المُقَرِّ له، وكلُّ واحدٍ منهما يُنْكِرُ مِلْكَه، فهو كالمالِ الضائعِ يُتْرَكُ في بَيْتِ المالِ. صاحب «المُحَرَّرِ»: فعلى هذا الوَجْهِ، أيُّهما غَيَّرَ قَوْلَه لم يُقْبَلْ منه، وعلى الأوَّلِ، إن عاد المُقِرُّ فادَّعاه لِنَفْسِه أو لثالثٍ، قُبِلَ منه، ولم يُقبَلْ بعدَها عَوْدُ المُقَرِّ له أوَّلًا إلى دَعْواه، ولو كان عَوْدُه إلى دَعْواه قبلَ ذلك، ففيه وَجْهان. ولو كان المُقَرُّ به عَبْدًا، أو نَفْسَ المُقِرِّ، بأن أَقَرَّ بِرِقِّها للغيرِ، فهو كغَيْرِه مِن الأمْوالِ على الأوَّلِ، وعلى الثانى، يُحْكَمُ بحُرِّيَّتِها (¬1). ¬

(¬1) في م: «بحريتهما».

باب ما يحصل به الإقرار

بَابُ مَا يَحْصُلُ بهِ الْإِقْرَارُ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا، فَقَالَ: نَعَمْ. أَوْ: أَجَلْ. أَوْ: صَدَقْتَ. أَوْ: أنَا مُقِرٌّ بِهَا. أَوْ: بِدَعْوَاكَ. كَانَ مُقِرًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ ما يَحْصُلُ به الإِقْرارُ (إذا ادَّعَى عليه ألْفًا، فقال: نعم. أو: أجَلْ. أو: صَدَقْتَ. أو: أنا مُقِرٌّ بها. أو بِدَعْواكَ. كان مُقِرًّا) ومثلُه: أنا مُقِرٌّ بما ادَّعَيْتَ. لأنَّ هذه الألفاظَ وُضِعَتْ للتَّصْدِيقِ، قال اللَّه تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (¬1). وإن قال: ألَيْسَ لى عِنْدَك ألْف؟ قال: بَلَى. كان إقْرارًا صَحِيحًا؛ لأَنَّ «بَلَى» جَواب للسُّؤَالِ بحَرْفِ النَّفىِ، قال اللَّه تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأعراف 44. (¬2) سورة الأعراف 172.

5130 - مسألة: (وإن قال: أنا أقر. أو: لا أنكر. أو: يجوز أن تكون محقا. أو: عسى. أو: لعل. أو: أحسب. أو: أظن. أو: أقدر. أو: خذ. أو: اتزن. أو: افتح كمك. لم يكن مقرا)

وإنْ قَالَ: أَنَا أُقِرُّ. أَوْ: لَا أُنْكِرُ. أَوْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُحِقًّا. أَوْ: عَسَى. أَوْ: لَعَلَّ. أَوْ: أظُنُّ. أَوْ: أَحْسَبُ. أَوْ: أُقَدِّرُ. أَوْ: خُذْ. أو: اتَّزِنْ. أَوْ: أحْرِزْ. أو: افْتَحْ كُمَّكَ. لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5130 - مسألة: (وإن قال: أنا أُقِرُّ. أو: لا أُنْكِرُ. أو: يجُوزُ أن تكونَ مُحِقًّا. أو: عسى. أو: لَعَلَّ. أو: أَحْسَبُ. أو: أَظُنُّ. أو: أُقَدِّرُ. أو: خُذْ. أو: اتَّزِنْ. أو: افْتَحْ كُمَّكَ. لم يكنْ مُقِرًّا) إذا قال: أنا مُقِرٌّ. لم يكُنْ إقرارًا، لأنَّه وَعْدٌ بالإِقْرارِ في المُسْتَقْبلِ، وكذلك إن قال: لا أُنْكِرُ. لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ الإِنْكارِ الإِقْرارُ، فإنَّ بينَهما قِسْمًا

5131 - مسألة: (وإن قال: أنا مقر. أو: خذها. أو: اتزنها. أو: اقبضها. أو: أحرزها. أو: هى صحاح. فهل يكون مقرا؟ يحتمل وجهين)

وإنْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ. أَوْ: خُذْهَا. أَو: اتَّزِنْهَا. أَو: اقْبِضْهَا. أَوْ: أحْرِزْهَا. أَوْ: هِىَ صِحَاحٌ. فَهَلْ يَكُونُ مُقِرًّا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ آخَرَ، وهو السُّكُوتُ عنهما. وإن قال: يجُوزُ أن تكونَ مُحِقًّا. لم يكُنْ إقْرارًا. وكذلك إن قال: لَعَلَّ. أو: عسى. لم يكُنْ مُقِرًّا؛ لأنَّهما للتَّرَجِّى. وإن قال: أظُنُّ. أو: أَحْسَبُ. أو: أُقَدِّرُ. لم يكُنْ مُقِرًّا؛ لأنَّ هذه الألفاظَ تُسْتَعْملُ للشَّكِّ. وكذلك إن قال: خُذْ. أو: اتَّزِن. أو: افْتَحْ كُمَّكَ. لأنَّه يَحْتَمِلُ: خُذِ الجَوابَ. أو: اتَّزِنْ، أو: افْتَحْ كُمَّكَ لشئٍ آخَرَ. 5131 - مسألة: (وإن قال: أنا مُقِرٌّ. أو: خُذْها. أو: اتَّزِنْها. أو: اقْبِضْها. أو: أحْرِزْها. أو: هى صِحاحٌ. فهل يكونُ مُقِرًّا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ) إذا قال: أنا مُقِرٌّ. ولم يَزِدْ، احْتَمَلَ أن يكونَ مُقِرًّا؛ لأَنَّ ذلك عَقِيبُ الدَّعْوَى، فيَنْصَرِفُ إليها. وكذلك إن قال: أقْرَرْتُ. قال اللَّهُ تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} (¬1). ¬

(¬1) سورة آل عمران 81.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يَقُولُوا: أقْرَرْنَا بذلك. ولا زادُوا عليه، فكان منهم إقْرارًا. ويَحْتمِلُ أن لا يكونَ مُقِرًّا؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يُرِيدَ غيرَ ذلك، مثلَ أن يريدَ: إنِّى (¬1) مُقِر بالشَّهادةِ. أو: بِبُطْلانِ دَعْواكَ. وإن قال: خُذْها. أو: اتَّزِنْها. أو: اقْبِضْها. أو: أحْرِزْها لى. أو: هى صِحاحٌ (¬2). ففيه وجهان؛ أحدُهما، ليس بإقْرارٍ؛ لأَنَّ الصِّفَةَ تَرْجِعُ إلى المُدَّعِى، ولم يُقِرَّ بوُجُوبِه، ولا يجوزُ أن يُعْطِيه ما يَدَّعِيه مِن غيرِ أن يكونَ واجِبًا عليه، فأمْرُه بأخْذِها أوْلَى أن لا يَلْزَمَ منه الوُجُوبُ. والثانى، يكونُ إقْرارًا؛ لأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلى ما تَقَدَّمَ. ¬

(¬1) في م: «أنا». (¬2) بعده في م: «فهل يكون مقرا؟ يحتمل وجهين».

5132 - مسألة: (وإن قال: له على ألف إن شاء الله. أو: فى علمى. أو: فيما أعلم. أو قال: اقضنى دينى عليك ألفا. أو: أسلم إلى ثوبى هذا. أو: فرسى هذه. فقال: نعم. فقد أقر بها)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أو: فِى عِلْمِى. أَوْ: فِيمَا أَعْلَمُ. أَوْ قَالَ: اقْضِنِى دَيْنِى عَلَيْكَ ألفًا. أَوْ: أَسْلِمْ إِلَىَّ ثَوْبِى هَذَا. أَوْ: فَرَسِى هَذِهِ. فقال: نَعَمْ. فَقَدْ أَقَرَّ بِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5132 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ إن شاءَ اللَّهُ. أو: في عِلْمِى. أو: فيما أَعْلِمُ. أو قال: اقْضِنِى دَيْنى عليك ألْفًا. أو: أسْلِمْ إلَىَّ ثَوْبِى هذا. أو: فرَسِى هذه. فقال: نعم. فقد أقَرَّ بها) إذا قال: لَكَ عَلَىَّ ألْفٌ إن شاءَ اللَّه. كان مُقِرًّا. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال أصحابُ الشّافِعِىِّ: ليس بإقْرارٍ؛ لأنَّه عَلَّقَ إقرارَه على شَرْطٍ، فلم يَصِحَّ، كما لو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلَّقه على مَشِيئةِ زَيْدٍ، ولأَنَّ ما عُلِّقَ على مَشيئةِ اللَّه لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِه. ولَنا، أنَّه وَصَلَ إقْرارَه بما يَرْفَعُه كلَّه ولا يَصْرِفُه إلى غيرِ الإِقْرارِ، فلَزِمَه ما أقَرَّ به، وبَطَلَ ما وَصَلَه به, كما لو قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إلا ألْفًا. ولأنَّه عَقَّبَ الإِقْرارَ بما لا يُفِيدُ حُكْمًا آخَرَ، ولا يَقْتَضِى رَفْعَ الحُكْمِ، أشْبَهَ ما لو قال: له علىَّ أَلْفٌ (¬1) في مَشِيئةِ اللَّهِ. وإن قال: له علىَّ أَلْفٌ إلَّا أن يَشاءَ اللَّه. صَحَّ الإِقْرارُ؛ لأنَّه أقَرَّ ثم عَلَّقَ رَفْعَ الإِقْرارِ على أمْرٍ لا يُعْلَمُ، فلم يَرْتَفِعْ. وإن قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إن شِئْتَ. أوِ (¬2): إن شاءَ زَيْدٌ. لم يَصِحَّ الإِقْرارُ. وِقال القاضِى: يَصِحُّ؛ لأنَّه عَقبَه بما (¬3) يَرْفَعُه، فصَحَّ الإِقْرارُ دُونَ ما يَرْفعُه، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ، وكما لو قال: إن شاءَ اللَّه. ولنا، أنَّه عَلَّقَه على شَرْطٍ يُمْكِنُ عِلْمُه، فلم يَصِحَّ, كما لو قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إن شَهِدَ به فُلان. وذلك لأَنَّ الإِقْرارَ إِخْبارٌ بِحَقٍّ سابِقٍ، فلا يَتَعَلَّقُ على شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ. ويُفارِقُ التَّعْلِيقَ على مَشِيئةِ اللَّهِ تعالى، فإنَّ مَشِيئةَ اللَّه تُذْكَرُ في الكَلامِ تَبَرُّكًا وصِلَةً وتَفْوِيضًا إلى اللَّه تعالى، [كَقَوْلِ اللَّه] (¬4) تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬5). وقد ¬

(¬1) بعده في م: «إن شئت، وإن شاء». (¬2) في م: «و». (¬3) في م: «ما». (¬4) في الأصل: «كقوله». (¬5) سورة الفتح 27.

5133 - مسألة: (وإن قال)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحانَه أنَّهم سَيَدْخُلُونَه بغيرِ شَكٍّ. ويقولُ الناسُ: صَلَّيْنا إن شاءَ اللَّهُ. مع تَيَقُّنِهم (¬1) صلاتَهم، بخِلافِ مَشِيئةِ الآدَمِىِّ. والثانى، أنَّ مَشِيئةَ اللَّهِ تعالى لا تُعْلَمُ إلَّا بوُقُوعِ [الأمْرِ، فلا يُمكِنُ وُقُوفُ] (¬2) الأمْرِ على وُجُودِها، ومَشِيئةُ الآدَمِى يُمْكِنُ العِلْمُ بها، فيُمْكِنُ جَعْلُها شَرْطًا بتَوَقُّفِ الأمْرِ على وجُودِها، والماضِى لا يُمْكِنُ وَقْفُه، فتَعَيَّنَ حَمْلُ الأمْرِ ههُنا على المُسْتَقْبَلِ، فيكونُ [وَعدًا لا إقْرارًا] (¬3). فصل: ولو قال: بِعْتُكَ إن شاءَ اللَّهُ. أو: زَوَّجْتُكَ إن شاءَ اللَّه. فقال أبو إسحاقَ ابنُ شَاقْلَا: لا أعْلَمُ خِلافًا عنه في أنَّه إذا قِيلَ له: قَبِلْتَ هذا النِّكاحَ؟ [فقال: نَعَمْ إن شاءَ اللَّهُ. أنَّ النِّكاحَ] (2) واقِعٌ. وبه قال أبو حنيفةَ. ولو قال: بِعْتُكَ بأَلْفٍ إن شِئْتَ. فقال: قد شِئْتُ وقَبِلْتُ (¬4). صَحَّ؛ لأَنَّ هذا الشَّرْطَ مِن مُوجب العَقْدِ ومُقْتَضاه، فإنَّ الإِيجابَ إذا وُجِدَ مِن البائعِ، كان القَبُولُ إلى مَشِيئةِ المُشْتَرِى واخْتِيارِه. 5133 - مسألة: (وإن قال): له عَلَىَّ أَلْفٌ (في عِلْمِى. أو: فيما أعْلَمُ) كان مُقِرًّا به؛ لأن ما في عِلْمِه لا يَحْتَمِلُ إلَّا الوُجُوبَ. ولو ¬

(¬1) في م: «يقين». (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «لا إقرارًا وعدًا». (¬4) في م: «قبل».

5134 - مسألة: (وإن قال: إن قدم فلان فله على ألف. لم يكن مقرا)

وإنْ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ. لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا. وَإِنْ قَالَ: لَه عَلَىَّ أَلْفٌ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: اقْضِنى (¬1) الأَلْفَ (¬2) الذى [لى عليك] (¬3). قال: نَعَمْ. كان مُقِرًّا به؛ لأنَّه تَصْدِيقٌ لِما ادَّعاهُ (وإن قال: سَلِّمْ إلَى ثَوْبِى هذا. أو: فَرَسِى هذه. فقال: نعم. فقد أَقَرَّ بها) لِما ذكَرْنا. وإن قال: اشْتَرِ عَبْدِى هذا. أو قال: أعْطِنى عَبْدِى هذا. فقال: نَعَمْ. كان إقْرارًا؛ لِما ذكَرْنا. 5134 - مسألة: (وإن قال: إن قَدِمَ فلانٌ فله عَلَى أَلْفٌ. لم يكُنْ مُقِرًّا) لأنَّه ليس بمُقِرٍّ في الحالِ، وما لا يَلْزَمُه في الحالِ لا يَصِيرُ واجِبًا عندَ وُجُودِ الشَّرْطِ (وإن قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إن قَدِمَ فلانٌ. فعلى وَجْهَيْنِ) ¬

(¬1) في م: «أقضيتنى». (¬2) في م: «إلا ألف». (¬3) في الأصل: «لك عليه».

5135 - مسألة: (وإن قال: له على ألف إذا جاء رأس الشهر. كان إقرارا. وإن قال: إذا جاء رأس الشهر فله على ألف. فعلى وجهين)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. كَانَ إقْرَارًا. وإنْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأسُ الشَّهْرِ فَلَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، لا يكونُ إقْرارًا، كالمسألةِ قبلَها. والثانى، يكونُ مُقِرًّا؛ لأنَّه قَدَّمَ الإِقْرارَ، فثَبَتَ حُكْمُه وبَطَلَ الشَّرطُ، لأنَّه لا يَصْلُحُ أن يكونَ آجِلًا (¬1). 5135 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إذا جاء رَأْسُ الشَّهْرِ. كان إِقْرارًا. وإن قال: إذا جاء رَأسُ الشَّهْرِ فلَه عَلَىَّ أَلْفٌ. فعلى وجْهَينِ) قال أصحابُنا في المسألةِ الأُولَى: هو إقْرارٌ. وفى الثَّانيةِ: ليس بإقْرارٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «أصلا».

5136 - مسألة: (وإن قال: له على ألف إن شهد به فلان. أو

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَى أَلْفٌ إنْ شَهِدَ بِهِ فُلان. أَوْ: إنْ شَهِدَ به فُلَانٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مَنْصوصُ الشّافعىِّ؛ لأنَّه في الأَوَّلِ بَدَأ بالإقْرارِ ثم عَقَّبَه بما لا يَقْتَضِى رَفْعَه؛ لأَنَّ قَوْلَه: إذا جاء رَأسُ الشَّهْرِ. يَحْتَمِلُ أنَّه أراد المَحِلَّ، فلا يَبْطُلُ الإِقْرارُ بأمْر مُحْتَمِل. وفى الثَّانيةِ بَدَأ بالشَّرْطِ فعَلَّقَ عليه لَفْظًا يَصْلُحُ للإقْرارِ ويَصْلُحُ للوَعْدِ، فلا يكونُ إقرارًا مع الاحْتِمالِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه لا فَرْقَ بينَهما؛ لأَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ وتأْخيرَه سواءٌ، فيكونُ فيهما جَمِيعًا وَجْهانِ. 5136 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ إن شَهِدَ به فُلانٌ. أو:

5137 - مسألة: (وإن قال: إن شهد به فلان فهو صادق. احتمل وجهين)

صَدَّقْتُهُ. لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ شَهِد بِهِ فُلَان فَهُوَ صَادِقٌ. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــ إن شَهِدَ به فلانٌ صَدَّقْتُه. لم يكُنْ مُقِرًّا) لأنَّه يجوزُ أن يُصَدِّقَ الكاذِبَ. 5137 - مسألة: (وإن قال: إن شَهِدَ به فلانٌ فهو صادِقٌ. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ) أحدُهما، لا يكونُ إقْرارًا؛ لأنَّه عَلَّقَه على شَرْطٍ، فهى كالتى قَبْلَها. والثانى، يكونُ إقْرارًا في الحالِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ صِدْقُه إلَّا أن يكونَ ثابِتًا في الحالِ، وقد أقَرَّ بصِدْقِه.

5138 - مسألة: (وإن أقر العربى بالعجمية، أو العجمى بالعربية، وقال: لم أدر

وإنْ أَقَرَّ الْعَرَبِىُّ بِالأَعْجَمِيَّةِ، أوِ الْعَجَمِىُّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ: لَمْ أَدْرِ مَعْنَى مَا قُلْتُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5138 - مسألة: (وإن أقَرَّ العَرَبِىُّ بالعَجَمِيَّةِ، أو العَجَمِىُّ بالعرَبِيَّةِ، وقال: لم أدْرِ (¬1) ما قُلْتُ. فالقولُ قولُه مع يَمِينِه) لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ صادِقًا، فلا يكونُ مُقِرًّا. [واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ] (¬2). ¬

(¬1) في م: «أرد». (¬2) زيادة من الأصل.

باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

بَابُ الْحُكْمِ فِيمَا إذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُغيِّرُهُ إذَا وَصَلَ بِهِ مَا يُسْقِطُهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ لَا تَلْزَمُنِى. أَوْ: قَدْ قَبَضَهُ. أو: استوْفاهُ. أَوْ: أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ. أَوْ: تَكَفَّلْتُ بِهِ عَلَى أنِّى بِالْخِيَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الحُكْمِ فيما إذا وَصَلَ بإقْرارِه ما يُغيِّرُه (إذا وَصَلَ به ما يُسْقِطُه، مثلَ أن يَقُولَ: له عَلَىَّ ألْفٌ لا تَلزَمُنِى. أو: قد قَبَضَه. أو: اسْتَوْفاه. أو: أَلْفٌ مِن ثَمَنِ خَمْر. أو: تَكَفَّلْتُ به على أنِّى بالخِيارِ. لَزِمَتْه الألْفُ) ولا يُقْبَلُ قولُه. ذكَرَه أبو الخَطّابِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشّافِعِىِّ. وذكَر القاضِى أنَّه (¬1) إذا قال: ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له علىَّ أَلْفٌ زُيُوفٌ. وفَسَّرَه بِرَصَاصٍ أو نُحاسٍ، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه رَفعَ كلَّ ما اعْتَرفَ به. وقال في سائرِ الصُّوَرِ التى ذكَرْناها: يُقْبَلُ قولُه؛ لأنَّه عَزَا إقْرارَه إلى سَبَبه، فَقُبِلَ, كما لو عَزَاه إلى سَبَبٍ صَحِيحٍ، إلَّا في قوْلِه: له (¬1) علىَّ ألْفٌ لا تَلْزَمُنِى. ولَنا، أنَّ هذا يُناقِضُ ما أَقَرّ به، فلم يُقْبَلْ، كالصُّورةِ التى قبلَها، وكما لو قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ لا تَلْزَمُنِى. أو نقولُ (¬2): رَفَعَ جَمِيعَ ما أقَرَّ به. فلم يُقْبَلْ، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ. وتَناقُضُ كَلامِه غيرُ خافٍ، فإنَّ ثبوتَ الألْفِ (¬3) عليه في هذه المَواضِعِ لا يُتَصَوَّرُ، وإقْرارُه إخْبارٌ بثُبُوتِه، فتَنافَيا، وإن سَلَّمَ ثُبُوتَ الأَلْفِ عليه، فهو ما قلنا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «يقول». (¬3) في م: «ألف».

5139 - مسألة: (وإن قال)

أَوْ: أَلْفٌ إلا أَلْفًا. أَوْ: إلَّا سِتَّمِائَةٍ. لَزِمَهُ الْأَلْفُ. وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ. أَوْ: قَضَيْتُ مِنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5139 - مسألة: (وإن قال): له عَلَىَّ (ألْفٌ إلَّا ألْفًا) لم يَصِحَّ؛ لأنَّه اسْتَثْنَى الكُلَّ، ولا يَصِحُّ بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّه رُجُوعٌ عن الإِقْرارِ (وإن قال: إلَّا سِتَّمائةٍ) لم يَصِحَّ، وسَنَذكُرُه إن شاءَ اللَّه تعالى. فصل: ولا يُقْبَلُ رُجُوعُ المُقِرِّ عن إقْرارِه، إلَّا فيما (¬1) كان حَدًّا للَّهِ تعالى، يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، ويُحْتاطُ لإِسْقاطِه. فأمَّا حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ، وحُقُوقُ اللَّهِ تعالى التى لا تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، كالزَّكاةِ والكَفَّاراتِ (¬2)، فلا يُقْبَلُ رُجُوعُه عنها. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلَافًا. 5140 - مسألة: (وإن قال: كان له عِنْدِى ألْفٌ وقَضَيْتُه. أو: ¬

(¬1) في م: «ما». (¬2) في الأصل: «الكفالات».

خَمْسَمِائَةٍ. فَقَالَ الْخِرَقِىُّ: لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَكونُ مُقِرًّا مُدَّعِيًا لِلْقَضَاءِ، فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةَ، حَلَفَ المُدَّعِى أنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــ قَضَيْتُ منه خَمْسَمائةٍ. فقال الخِرَقِىُّ: ليس بإقْرارٍ، والقولُ قولُه مع يَمِينِه) وحَكَى ابنُ أبى مُوسَى في هذه المسألةِ رِوَايَتَيْن؛ إحداهما، أنَّ هذا ليس بإقْرارٍ. اختارَه القاضِى، وقال: لم أجِدْ عن أحمدَ رِوايةً بغيرِ هذا. وِالثانيةُ، أنَّه مُقِرٌّ بالحَقِّ مُدَّعٍ لقَضائِه، فعليه البَيِّنةُ بالقَضاءِ، وإلَّا حَلَفَ غرِيمُه وأخَذَه (¬1) اخْتاره أبو الخَطّابِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه أقَرَّ ¬

(¬1) في الأصل: «أخذ».

يَبْرَأْ، وَاسْتَحَقَّ، وَقَالَ: هَذَا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِى مُوسَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالدَّينِ وادَّعَى القَضاءَ بكَلامٍ مُنْفَصِلٍ، ولأنَّه (¬1) رفَع جَمِيعَ ما أَثْبَتَه، فلم يُقْبَلْ، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ. وللشّافعىِّ قَوْلانِ كالمَذْهَبَيْنِ. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِىِّ، أنَّه قَوْلٌ مُتَّصِلٌ تُمْكِنُ صِحَّتُه، ولا تَناقُضَ فيه، فوَجَبَ أن يُقْبَلَ (¬2)، كاسْتِثناءِ البعضِ، وفارَقَ المُنْفَصِلَ؛ لأنَّ حُكْمَ الأوَّلِ قد اسْتَقرَّ بسُكوتِه عليه (¬3)، فلا يُمْكِنُ رَفْعُه بعدَ اسْتِقْرارِه، ولذلك لا يُرْفَعُ بعضُه باسْتِثْناءٍ ولا غيرِه، فما يَأْتِى بعدَه مِن دَعْوَى القَضاءِ يكونُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً، لا تُقْبَلُ إلا بِبَيِّنةٍ، وأمّا اسْتِثْناءُ الكُلِّ فمُتَناقِضٌ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ أن يكونَ عليه أَلْفٌ وليس عليه شئٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في م: «لا يقبل». (¬3) في م: «عنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: كان له عَلَىَّ ألْفٌ وقَضَيْتُه منه خَمْسَمائةٍ. فالكَلَامُ فيه كالكَلامِ فيما إذا قال: وقَضَيْتُه. وإن قال له إنْسانٌ: عليك مائةٌ لى. فقال: قد قَضَيْتُكَ منها خمسينَ. فقال القاضِى: لا يكونُ مُقِرًّا بشئٍ؛ لأَنَّ الخمسينَ التى ذَكَرَ أنَّه قَضَاهَا، في كَلامِه ما يَمْنَعُ بَقاءَها، وهو دَعْوَى القَضاءِ، وباقِى المائةِ لم يَذْكُرْها. وقولُه: منها. يَحْتَمِلُ أن (¬1) يُرِيدَ بها ممّا (¬2) يَدَّعِيه، ويَحْتَمِلُ ممّا عَلَىَّ، فلا يَثْبُتُ عليه شئٌ بكَلامٍ مُحْتَمِلٍ. ويَجِئُ على قَوْلِ مَن قال بالرِّوايةِ الأُخرى أنَّه يَلْزَمُه الخَمْسُونَ التى ادَّعَى قَضاءَها، لأنَّ في ضِمْن دَعْوَى (¬3) القَضاءِ إقْرارًا بأنَّها كانت ¬

(¬1) في م: «أنه». (¬2) في الأصل: «ما». (¬3) في الأصل: «معنى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، فلا تُقْبَلُ دَعْوَى القَضاءِ بغيرِ بَيِّنَةٍ. فصل: فإن قال: كان له عَلَى ألْفٌ. وسَكَتَ، لَزِمَه الألْفُ، في ظاهِرِ قولِ أصحابِنا. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأحَدُ قَوْلَى الشّافِعِىِّ، وقال في الآخَرِ: لا يَلْزَمُه شئٌ، وليس هذا بإقْرارٍ؛ لأنَّه لم يَذْكُرْ عليه شيئًا في الحالِ، إنَّما أخْبَرَ بذلك في زَمَنٍ ماضٍ، فلا يَثْبُتُ في الحالِ، ولذلك لو شَهِدَتِ البَيِّنةُ، لم يَثْبُتْ. ولنا، أنَّه أقَرَّ بالوُجُوبِ، ولم يَذْكُرْ ما يَرْفَعُه، فبَقِىَ على ما كان عليه، ولهذا لو تَنازَعا دارًا، فأقَرَّ أحَدُهما للآخَرِ أنَّها كانت مِلْكَه، حُكِمَ بها له، إلَّا أنَّه ههُنا إن عادَ فادَّعَى القَضاءَ أو الإبْراءَ، سُمِعَتْ دَعْواهُ؛ لأنَّه لا تَنافِىَ بينَ الإِقْرارِ وبينَ ما يَدَّعِيه. وهذا على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ. فصل: وإن قال: له علىَّ ألْفٌ قَضَيْتُه إيّاه. لَزِمَه الألْفُ، ولم تُقْبَلْ دَعْوَى القَضاءِ. وقال القاضى: تُقْبَلُ؛ لأنَّه رَفَعَ ما أثْبَتَه بدَعْوَى القَضاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مُتَّصِلًا، فأَشْبَهَ ما لو قال: كان له علىَّ (¬1) وقَضَيْتُه (¬2). وقال ابنُ أبى مُوسَى: إن قال: قَضَيْتُ جَمِيعَه. لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنةٍ، ولَزِمَه الألْفُ الذى أقَرَّ به، وله اليَمِينُ على المُقَرِّ له. وأمّا لو قال: قَضَيْتُ بعضَه. قُبِلَ منه، في إحْدَى الرِّوايتينِ؛ لأنَّه رَفَعَ بعضَ ما أقَرَّ به بكلامٍ مُتَّصِلٍ، فأشْبَهَ ما لو اسْتَثْناه، بخِلافِ ما إذا قال: قَضَيْتُ جَمِيعَه. لكَوْنِه رَفع جَمِيعَ ما هو ثابتٌ، فأشْبَهَ اسْتِثْناءَ الكُلِّ. ولَنا، أنَّ هذا قولٌ مُتناقِضٌ، إذ لا يُمْكِنُ أن يكَونَ عليه ألْفٌ و (¬3) قد قَضاه، فإنَّ كَوْنَه عليه يَقْتَضِى بَقاءَه في ذِمَّتِه، واسْتِحْقاقَ مُطالَبَتِه به، [وقَضاؤُه يَقْتَضِى] (¬4) بَراءَة ذِمَّتِه منه، وتَحْرِيمَ مُطالَبَتِه به، وهذان ضِدَّانِ لا يُتَصَوَّرُ اجْتِماعُهُما في زَمَنٍ واحدٍ، بخِلافِ ما إذا قال له: كان عَلَىَّ وقَضَيْتُه. فإنَّه أَخْبَرَ بهما في زَمانَيْنِ، ويُمْكِنُ أن يَرْتَفِعَ (¬5) ما كان ثابِتًا، ويَقْضِىَ ما كان دَيْنًا، وإذا لم يَصِحَّ هذا في الجميعِ، لم يَصِحَّ في البَعْضِ؛ لاسْتِحالةِ بَقاءِ أَلْفٍ (¬6) عليه قد قَضى بعضَه، ¬

(¬1) بعده في الأصل: «ألف». (¬2) بعده في م: «له». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في م: «وقضاءه بمقتضى». (¬5) في م: «يرفع». (¬6) في الأصل: «الألف».

فصل

فَصْلٌ: وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا دُونَ النِّصْفِ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويُفارِقُ الاسْتِثْناءَ، فإنَّ الاسْتِثْناءَ مع المُسْتَثْنَى منه عِبارَةٌ عن الباقِى مِن المُسْتَثْنَى منه، فقولُ اللَّهِ تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬1). عبارةٌ عن تِسْعِمائةٍ وخمْسِينَ عامًا. أمّا القَضاءُ فإنَّما يَرْفَعُ جُزْءًا كان ثابِتًا، فإذا ارْتَفَعَ بالقَضاءِ لا يجوزُ التَّعْبِيرُ عنه بما يَدُلُّ على البَقَاءِ (¬2). فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمه اللَّهُ: (ويَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما دُونَ النِّصْفِ، ولا يَصِحُّ فيما زادَ عليه. وفى النِّصْفِ وجهان) الاسْتِثْناءُ مِن الجِنْسِ -وهو ما دَخَل في المُسْتَثْنَى منه- جائزٌ بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، فإنَّ ذلك كلامُ العَرَبِ وقد جاء في الكِتَابِ. والسُّنَّةِ، قال اللَّهُ تعالى: ¬

(¬1) سورة العنكبوت 14. (¬2) في ق، م: «القضاء».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}. وقال النبىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-[في الشَّهِيدِ] (¬1): «يُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كُلُّهَا إلَّا الدَّيْنَ» (¬2). وذلك في كلامِ العَرَبِ كثيرٌ. فإذا أقَرَّ بشئٍ واسْتَثْنَى منه، كان مُقِرًّا بالباقِى بعدَ الاسْتِثْناءِ، فإذا قال: له عَلَىَّ مائةٌ إلَّا عَشَرَةً. كان مُقِرًّا بِتِسْعِينَ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ يَمْنَعُ أن يَدْخُلَ في اللَّفْظِ ما لَوْلَاهُ لدَخَلَ، فإنَّه لو دَخَل ما أمْكَنَ إخْراجُه، ولو أقَرَّ بالعَشَرَةِ المُسْتَثناةِ لَما قُبِلَ منه إنْكارُها، وقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}. إخبارٌ بتِسْعِمائةٍ وخَمْسِينَ، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) أخرجه مسلم، في: باب من قتل في سبيل اللَّهُ كفرت خطاياه إلا الدين، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1501، 1502. والترمذى، في: باب ما جاء في ثواب الشهداء، وباب ما جاء في من يستشهد وعليه دين، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 138، 204. والنسائى، في: باب من قاتل في سبيل اللَّه تعالى وعليه دين، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 28 - 30. والإمام مالك، في: باب الشهداء في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 308، 330، 3/ 352، 373، 5/ 297، 304، 308، 330.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالاسْتِثْناءُ بَيَّنَ أنَّ الخَمْسِينَ المُسْتَثْناةَ غيرُ مُرَادَةٍ، كما أنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أنَّ المَخْصُوصَ غيرُ مُرَادٍ باللَّفْظِ العامِّ. إذا ثَبَتَ ذلك، فلا نَعْلَمُ خِلافًا في جَوازِ اسْتِثْناءِ ما دُونَ النِّصْفِ (¬1)، وقد دَلَّ عليه ما ذَكَرْنا مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ. فصل: فأمّا اسْتِثْناءُ ما زادَ على النِّصْفِ، فلا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه لا يَصِحُّ، وهو كاسْتِثْناءِ الكُلِّ، يُؤْخَذُ بالجميعِ. ويُحْكَى ذلك عن ابنِ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِىِّ (¬2). وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، [والشّافعىُّ] (¬3)، وأصحابُهم: يَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما دونَ الكُلِّ، فلو قال: له عَلَىَّ مائةٌ إلَّا تِسْعةً وتِسْعِينَ. لم يَلْزَمْه إلَّا واحدٌ، بدَلِيلِ قولِ اللَّهِ تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬4). وقولِه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬5). ¬

(¬1) بعده في الأصل: «فلا يختلف». (¬2) عبد اللَّه بن جعفر: درستويه بن المَرْزُبان أبو محمد الفارسى، الإِمام العلامة شيخ النحو، أخذ عن ثعلب والمبرد، وله تصانيف كثيرة، كان ثقة، حدث عنه الدارقطنى، وابن شاهين، مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتوفى في صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 351، 352. وقد ضبطه السمعانى بضم الدال والراء وسكون السين وضم التاء، وسكون الواو وفتح الياء (دُرُسْتُويَه). الأنساب 5/ 299، 300. (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) سورة ص 82، 83. (¬5) سورة الحجر 42.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [فاسْتَثْنى في مَوْضِعٍ الغاوينَ مِن العبادِ، وفى مَوْضِعٍ العبادَ مِن الغاوينَ] (¬1)، وأيُّهما كان الأكْثَرَ فقد دَلَّ على اسْتِثْناءِ الأكْثَرِ، وأنْشَدُوا (¬2): أدُّوا التى نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مائةٍ … ثم ابْعَثُوا حَكَمًا بالحَقِّ قَوَّامَا فاسْتَثْنَى تِسْعِينَ مِن مائةٍ؛ لأنَّه (¬3) في مَعْنَى الاسْتِثْناءِ، ومُشَبَّهٌ به، ولأنَّه اسْتَثْنَى البعضَ، فجازَ، كاسْتِثْناءِ الأقَلِّ، ولأنه رَفَع بعضَ ما تَناوَلَهُ اللَّفْظُ، فجاز، كالتَّخْصِيص والبَدَلِ. ولَنا، أنَّه لم يَرِدْ في لِسانِ العَرَبِ الاسْتِثْناءُ إلَّا في الأقَلِّ، وقد أَنْكَرُوا اسْتِثْناءَ الأَكْثَرِ، فقال أبو إسحاقَ الزَّجّاجُ: لم يَأْتِ الاسْتِثْناءُ إلَّا في القَلِيلِ مِن الكَثِيرِ، ولو قال قائِلٌ: مائةٌ إلَّا تِسْعةً وتِسْعِينَ. لم يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بالعَرَبِيَّةِ، وكان عِيًّا مِن الكَلامِ ولُكْنةً. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) سيأتى قول ابن فضال: هو بيت مصنوع. (¬3) في م: «ولأنه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القُتَيْبِىُّ: يُقالُ: صُمْتُ الشَّهْرَ إلَّا يَوْمًا. ولا يُقالُ: صُمْتُ الشَّهْرَ إلا تِسْعةً وعِشْرِينَ يومًا. ويُقالُ: لَقِيتُ القَوْمَ جَمِيعَهُم إلَّا واحِدًا أو اثْنَيْنِ. ولا يجوزُ أن يُقالَ: لَقِيتُ القَوْمَ إلَّا أكْثَرَهُم. وإن لم يَكُنْ صَحِيحًا في الكَلامِ، لم يَرْتَفِعْ به ما أقَرَّ به، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ، وكما لو قال: له عَلَىَّ عَشَرَةٌ، بل خَمْسةٌ. وأمّا ما احْتَجُّوا به مِن التَّنْزِيلِ، فإنّه في الآيةِ الأُولَى اسْتَثْنَى المُخْلَصِينَ مِن بَنِى آدَمَ، وهم الأقَلُّ، كما قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (¬1). وفى الآيةِ الأُخْرَى اسْتَثْنَى الغاوِينَ مِن العِبَادِ وهم الأَقَلُّ، فإنَّ المَلائكَةَ مِن العِبادِ، وهم غيرُ غاوِينَ، قال اللَّهُ تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (¬2). وقيل: الاسْتِثْناءُ في هذه الآيةِ مُنْقَطِعٌ بمعنى الاسْتِدْراكِ، فيكونُ قولُه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. مُبْقًى (¬3) على عُمُومِه لم يُسْتَثْنَ منه شَئٌ، فيكونُ قَوْلُه: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}. أى لكنْ مَن اتَّبَعَكَ مِن الغَاوِينَ فإنَّهم غَوَوْا باتِّباعِكَ. وقد دَلَّ على صِحَّةِ هذا قولُه في الآيةِ الأُخْرى لأَتْباعِه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (¬4). وعلى هذا، لا يكونُ لهم فيها حُجَّةٌ. وأمّا البَيْتُ، ¬

(¬1) سورة ص 24. (¬2) سورة الأنبياء 26. (¬3) في م: «يبقى». (¬4) سورة إبراهيم 22.

وَفِى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ وَجْهَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال ابنُ فَضَّالٍ النَّحْوِىُّ (¬1): هو بَيْتٌ مَصْنُوعٌ لم يَثْبُتْ عن العَرَبِ. على أنَّ هذا ليس باسْتِثْناءٍ، فإنَّ الاسْتِثْناءَ له كَلِماتٌ مَخْصُوصةٌ ليس هذا منها، والقِياسُ لا يَجوزُ في اللُّغةِ. ثم نُعارِضُه بأنَّه اسْتَثْنَى أكْثَرَ مِن النِّصْفِ، فلم يَجُزْ، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ. والفَرْقُ بينَ اسْتِثْناءِ الأكْثَرِ (¬2) والأقَلِّ، أنَّ العَرَبَ اسْتَحْسَنَتْه في الأقَلِّ واسْتَعْمَلَتْه، ونَفَتْه في الأَكْثَرِ وقَبَّحَتْه، فلم يَجُزْ قِياسُ ما قَبَّحُوه على ما حَسَّنُوه. فصل: (وفى اسْتِثْناءِ النِّصْفِ وَجْهانِ) أحَدُهما، يجُوزُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه ليس بالأكْثَرِ (¬3)، فجازَ، كالأقَلِّ (¬4). والثانِى، لا يجوزُ. ذكَره أبو بكرٍ؛ لأنَّه لم يَرِدْ في كَلامِهم إلَّا في القَلِيلِ مِن الكَثِيرِ، والنِّصْفُ ليس بقَلِيلٍ. وهو أَوْلَى، [إن شاء اللَّهُ] (¬5). ¬

(¬1) على بن فضال بن على بن غالب أبو الحسن، المجاشعى، القيروانى، التميمى، الفرزدقى، المفسر، إمام النحو، طوف الدنيا، وصنف «الإكسير في التفسير» و «البرهان»، وله مؤلفات غير ذلك، وله نظم جيد، توفى في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 528، 529. (¬2) في الأصل: «الأكبر». (¬3) في الأصل: «بأكثر». (¬4) في الأصل: «كالأول». (¬5) سقط من: ق، م.

5141 - مسألة: (فإذا قال: له على هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدا. لزمه تسليم تسعة)

فَإذَا قَالَ: لَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ الْعَشَرَةُ إلَّا وَاحِدًا. لَزِمَهُ تَسْلِيمُ تِسْعَةٍ. فَإِنْ مَاتُوا إلَّا وَاحِدًا، فَقَالَ: هُوَ المُسْتَثْنَى. فَهَلْ يُقْبَلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5141 - مسألة: (فإذا قال: له عَلَىَّ هَؤلاءِ العَبيدُ العَشَرَةُ إلَّا واحِدًا. لَزِمَه تَسْلِيمُ تِسْعةٍ) فإن عَيَّنَه فقال: إلَّا هذا. صَحَّ، وكان مُقِرًّا بمَن (¬1) سِوَاه. وإن قال: إلَّا واحِدًا. ولم يُعَيِّنْه، صَحَّ؛ لأَنَّ الإِقْرارَ يَصِحُّ مَجْهُولًا، فكذلك الاسْتِثْناءُ منه، ويُرْجَعُ في تَعْيِينِ المُسَمَّى إليه؛ لأَنَّ الحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بقَوْلِه، وهو أعْلَمُ بمُرَادِه به. وإن عَيَّنَ مَن عَدَا المُسْتَثْنَى، صَحَّ، وكان الباقِى له. 5142 - مسألة: (فإن ماتُوا إلَّا واحِدًا، فقال: هو المُسْتَثْنَى. فهل يُقْبَل؟ على وَجْهَيْنِ) أحَدُهما، يُقْبَلُ. ذكَرَه القاضِى. وهو أحَدُ ¬

(¬1) في الأصل: «بما».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوَجْهينِ لأصحابِ الشّافِعِىِّ. والوجهُ الثانى، لا يُقْبَلُ. ذكَره أبو الخَطَّابِ. وهو الوَجْهُ الثانى لأصحابِ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه يُرْفَعُ به الإِقْرارُ كُلُّه. والصَّحِيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّه يُقْبَلُ تَفْسِيرُه به في حَياتِهم لمَعْنًى هو مَوْجُودٌ بعدَ مَوْتِهم، فقُبِلَ، كحَالةِ حَياتِهم، وليس هذا رَفْعًا للإقْرارِ، وإنَّما تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ المُقَرِّ به لِتَلَفِه، لا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلى التَّفْسِيرِ، فأشْبَهَ ما لو عَيَّنَه في حَياتِه فتَلِفَ بعدَ تَعْيينِه. فإن قُتِلَ الجَمِيعُ إلَّا واحِدًا، قُبِلَ تَفْسِيرُه بالباقِى، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ، لأنَّ المُقَرَّ له يَحْصُلُ له قِيمةُ المَقْتُولِينَ، بخِلافِ المَوْتِ، فإنَّه لا يَحْصُلُ للمُقَرِّ له شئٌ. وإن قُتِلُوا كُلُّهُم، فله قِيمةُ أحَدِهم، ويُرْجَعُ في التَّفْسِيرِ إليه. وإن قال: غَصَبْتُكَ هؤلاءِ العَبيدَ إلَّا واحِدًا. [فهَلَكُوا إلَّا واحدًا] (¬1)، قُبِلَ تَفْسِيرُه به، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ المُقَرَّ له يَسْتَحِقُّ قِيمةَ الهالِكينَ، ولا (¬2) يُفْضِى (¬3) التَّفْسِيرُ بالباقِى إلى سُقُوطِ الإِقْرارِ، بخِلافِ ما إذا ماتُوا. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «فلا». (¬3) في الأصل: «يقتضى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وحُكْمُ الاسْتِثْناءِ بسائرِ أَدَواتِه حُكْمُ الاسْتِثْناءِ بإلَّا، فإذا قال: له عَلَىَّ عَشَرَةٌ سِوَى دِرْهَمٍ، أو: ليس دِرْهَمًا، أو: خَلَا دِرْهَمًا، أو: عَدَا دِرْهَمًا، أو: لا يكونُ دِرْهَمًا، أو: غيرَ دِرْهَمٍ. بفَتْحِ الرّاءِ، كان مُقِرًّا بتِسْعَةٍ (¬1). وإن قال: غيرُ دِرْهَمٍ. بضَمِّ الراءِ، وهو مِن أَهْلِ العَرَبيّةِ، كان مُقِرًّا (¬2) بعشَرَةٍ؛ لأنَّها تكونُ صِفَةً للعَشَرَةِ المُقرِّ بها، ولا تكونُ اسْتِثْناءً، فإنَّها لو كانتِ اسْتِثْناءً كانت مَنْصُوبةً. وإن لم يَكُنْ مِن أَهْلِ العَرَبِيَّةِ، لَزِمَه تِسْعةٌ؛ لأَنَّ الظاهِرَ أنَّه (¬3) يُرِيدُ الاسْتِثْناءَ، وإنَّما ضَمَّها جَهْلًا منه بالعَرَبِيَّةِ، لا قَصْدًا للصِّفَةِ. فصل: ولا يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ إلَّا أن يكونَ مُتَّصِلًا بالكَلامِ، فإن سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُه الكَلامُ فيه، أو فَصَلَ بينَ المُسْتَثْنَى والمُسْتَثْنَى منه بكَلامٍ أجْنَبِىٍّ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إذا سَكَتَ وعَدَل عن إقْرارِه إلى شئٍ آخَرَ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ ما أقَرَّ به، فلم يَرْتَفِعْ، بخِلافِ ما إذا كان في كَلامِه، فإنَّه لا يَثْبُتُ حُكْمُه، [وينْتَظرُ] (¬4) ما يَتِمُّ به كَلامُه، ويَتعلَّقُ به حُكْمُ ¬

(¬1) في م: «بدرهم». (¬2) في م: «مفسرًا». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) في م: «أو ينظر».

5143 - مسألة: (وإن قال: له هذه الدار إلا هذا البيت. أو: هذه الدار له وهذا البيت لى. قبل منه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ. أَوْ: هَذِهِ الدَّارُ لَهُ وَهَذَا الْبَيْتُ لِى. قُبِلَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسْتِثْناءِ والشَّرْطِ والبَدَلِ ونحوِه. 5143 - مسألة: (وإن قال: له هذه الدّارُ إلَّا هذا البَيْتَ. أو: هذه الدّارُ له وهذا البيتُ لى. قُبِلَ منه) لأَنَّ الأوَّلَ اسْتِثْناءٌ، فلا يَدْخُلُ البيتُ في إقْرارِه، والثانى في مَعْنَى الاسْتِثْناءِ؛ لكَوْنِه أخْرَجَ بعضَ ما تَناوَلَه (¬1) اللَّفْظُ بكلَامٍ مُتَّصِلٍ، وسواءٌ كان البَيْتُ أكْثَرَ مِن نِصْفِ الدّارِ أو أَقَلَّ. ¬

(¬1) في م: «يتناوله».

5144 - مسألة: (وإن قال: له على درهمان وثلاثة إلا درهمين. فهل يصح؟ على وجهين)

وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ دِرْهَمَانِ وَثَلَاَثةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ. أَوْ: لَهُ عَلَىَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا. فَهَلْ يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ؟ عَلَى وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5144 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ درْهَمانِ وثَلاثةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ. فهل يَصِحُّ؟ على وَجْهَيْن) أحدُهما، يَصِحُّ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ يَعُودُ إلى الجُمْلَتَيْنِ، وهو أقَلُّ مِن النِّصْفِ. والثانى، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يَعُودُ إلى أقْرَبِ المَذْكُورَيْنِ، فيكونُ اسْتِثْناءَ أكْثَرَ مِن النِّصْفِ. 5145 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ درْهَمٌ ودِرْهَمٌ إلَّا درْهَمًا) أو ثَلاثةٌ ودِرْهَمانِ إلَّا دِرْهَمَيْنِ، أو: ثَلاثةٌ ونِصْفٌ إلَّا نِصْفًا، أو: إلّا دِرْهَمًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو خَمْسةٌ وتِسْعُونَ إلَّا خَمْسةً. لم يَصِحَّ الاسْتِثْناءُ، ولَزِمَه جميعُ ما أقَرَّ به قبلَ الاسْتِثْناءِ. وهذا قولُ الشّافِعِىِّ. وهو الذى يَقْتَضِيه مذهبُ أبى حنيفةَ. وفيه وجهٌ آخَرُ، أنَّه يَصِحُّ؛ لأَنَّ الواوَ العاطِفةَ تَجْمَعُ بينَ العَدَدَيْنِ، وتَجْعَلُ الجُمْلَتَينِ كالجُمْلَةِ الواحدةِ. وعندنا أنَّ الاستِثناءَ إذا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفًا بعضُها على بعض بالواوِ، عادَ إلى جَميعِها، كقَوْلِنا في قولِه تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬1): إنَّ الاسْتِثْناءَ عادَ إلى الجُمْلَتَينِ، فإذا تابَ القاذِفُ قُبِلَتْ شَهادَتُه. ومِن ذلك قولُ النبىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا يَؤُّمَّنَّ الرَّجُلُ الرجُلَ (¬2) في سُلْطَانِه، ولا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِه إلَّا بِإذْنِه» (¬3). قال شيخُنا (¬4): والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأن الواوَ لم تُخْرِجِ الكَلامَ مِن أن يكونَ جُمْلَتينِ، ¬

(¬1) سورة النور 4، 5. (¬2) سقط من: م. (¬3) تقدم تخريجه في 4/ 278. (¬4) في: المغنى 7/ 273.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاسْتِثناءُ يَرْفَعُ إحداهما جَمِيعًا (¬1)، ولا نَظِيرَ لهذا في كَلامِهم، ولأَنَّ صِحَّةَ الاسْتِثناءِ تَجْعَلُ إحْدَى الجُمْلتينِ مع الاسْتِثْناءِ لَغْوًا؛ لأنَّه أثْبَتَ شيئًا بلَفْظٍ مُفْرَدٍ، ثم رَفَعَه كلَّه، فلا يَصِحُّ، كما لو اسْتَثْنَى منها هى غيرُ مَعْطُوفةٍ على غيرِها. فأمّا الآيةُ والخَبَرُ، فإنَّ الاسْتِثْناءَ لم يَرْفَعْ إحْدَى الجُملتينِ، إنَّما أخْرَجَ مِن الجُمْلتينِ معًا مَن اتَّصَفَ بصِفَةٍ، فنَظِيرُه قولُه للبَوّابِ: مَن جاءَ يَسْتَأْذِنُ فأْذنْ له، وأعْطِه دِرْهمًا إلَّا فُلانًا. ونَظِيرُ مسألَتِنا ما لو ¬

(¬1) في م: «جميعها».

5146 - مسألة: (وإن قال: له على خمسة إلا درهمين ودرهما. لزمته الخمسة، فى أحد الوجهين)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ خَمْسَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَدِرْهَمًا. لَزِمَتْهُ الْخَمْسَةُ، فِى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، تَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: أكْرِمْ زَيْدًا وعَمْرًا إلَّا عَمْرًا. 5146 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ خَمْسةٌ إلَّا درْهَمَيْنِ ودِرْهَمًا. لَزِمَتْه الخَمْسةُ، في أحَدِ الوَجْهينِ) لأنَّه اسْتَثْنَى أكْثَرَ مِن النِّصْفِ (وفى الآخَرِ، تَلْزَمُه ثلاثةٌ) ويَبْطُلُ الاسْتِثْناءُ الثانى.

5147 - مسألة: (ويصح الاستثناء من الاستثناء)

وَيَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ مِنَ الاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَى سَبْعَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا. لَزِمَهُ خَمْسَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5147 - مسألة: (ويَصِحُّ الاسْتِثْناءُ مِن الاسْتِثْناءِ) فإذا اسْتَثْنَى اسْتِثْناءً بعدَ اسْتِثْناءٍ، وعَطَفَ الثانىَ على الأوّلِ، كان مُضافًا إليه، فإذا قال: له عَلَىَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلاثةً وإلَّا دِرْهَمَيْنِ. كان مُسْتَثْنِيًا الخَمْسةَ مُقِرًّا بخَمْسةٍ، فإن كان الثانى غيرَ مَعْطُوفٍ على الأَوَّلِ، كان استِثْناءً مِن الاستثناءِ، وهو جائِزٌ في اللُّغةِ، قال اللَّهُ تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (¬1). فإذا كان صَدْرُ الكلامِ إثباتًا، كان الاسْتِثْناءُ الأَوَّلُ نَفْيًا والثانى إثْباتًا. فإنِ اسْتَثْنَى استِثْناءً ثالثًا كان نَفْيًا يَعُودُ كلُّ اسْتِثْناءٍ إلى ما يَلِيه مِن الكَلامِ (فإذا قال: له عَلَىَّ سَبْعة إلَّا ثلاثةً إلَّا دِرْهَمًا. لَزِمَتْه خَمْسةٌ) لأنَّه أثْبتَ سَبْعةً، ثم نَفَى منها ثلاثةً، ثم أثْبَتَ دِرْهَمًا، وبَقِىَ مِن الثَّلاثةِ المَنْفِيَّةِ دِرْهمانِ مُسْتَثْنيانِ مِن السَّبْعةِ، فيكونُ مُقِرًّا بخَمْسةٍ. ¬

(¬1) سورة الحجر 58 - 60.

5148 - مسألة: (وإن قال: له على عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما، لزمه عشرة)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً إلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَمًا. لَزِمَتْهُ عَشَرَةٌ، فِى أَحَدِ الْوُجُوهِ. وَفِى الآخَرِ، تَلْزَمُهُ سِتَّةٌ، وَفِى الآخَرِ سَبْعَةٌ، وَفِى الآخَرِ ثَمَانِيَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5148 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ عَشَرةٌ إلَّا خَمْسةً إِلَّا ثلاثةً إلَّا درْهَمَيْنِ إلَّا دِرْهمًا، لَزِمَه عَشَرَةٌ) على قولِ أبى بكرٍ؛ لأنَّه مَنَعَ اسْتِثْناءَ النِّصْفِ (وفى) الوَجْهِ (الآخَرِ، تَلْزَمُه سِتَّةٌ) لأنَّ الاسْتِثْناءَ إذا رَفَعَ الكُلَّ أو (¬1) الأكْثَرَ، سَقَطَ إن وَقَف عليه، وإن وَصَله باسْتِثناءٍ آخَرَ اسْتَعْمَلْناه، فاسْتَعْمَلْنا الاسْتِثْناءَ الأوَّلَ لِوَصْلِه بالثانى؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ مع المُسْتَثْنى عِبارةٌ عمّا بَقِى، فإنَّ عَشرَةً إلَّا دِرْهمًا، عِبارَةٌ عن تِسْعةٍ، فإذا قال: له عَلَىَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسةً إلَّا ثلاثةً. صَحَّ اسْتِثْناءُ الخَمْسةِ؛ لأنَّه وَصَلَها باسْتِثْناءٍ آخَرَ، ولذلك (¬2) صَحَّ اسْتِثْناءُ الثَّلاثةِ والدِّرْهَمَيْنِ؛ لأنَّه وَصَلَ ذلك باسْتِثْناءٍ آخَرَ، والاسْتِثْناءُ مِن الإِثْباتِ نَفْىٌ، ومِن النَّفْى إثْباتٌ، فصَحَّ اسْتِثْناءُ الخَمْسةِ، وهى (¬3) نَفْىٌ، فنَفَى خَمْسةً، وصَحَّ اسْتِثْناءُ الثَّلاثةِ، وهى إثْباتٌ، فعادَتْ ثمانِيةً، وصَحَّ اسْتِثْناءُ الدِّرْهَمَيْنِ، ¬

(¬1) في الأصل: «و». (¬2) في م: «كذلك». (¬3) في م: «هو».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهى نَفْىٌ، فبَقِيَتْ (¬1) سِتّةٌ، ولم يَصِحَّ اسْتِثْناءُ الدِّرْهَمِ؛ لأنَّه مَسْكُوتٌ عليه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ وَجْهُ السِّتَّةِ أن يَصِحَّ اسْتِثْناءُ النِّصْفِ ويَبْطُلَ الزّائِدُ، فيَصِحُّ اسْتِثْناءُ الخَمْسةِ والدِّرْهَم، ولا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الثَّلاثةِ والاثْنَيْنِ. والوجهُ الثالثُ، يَلْزَمُه سَبْعةٌ إذا صَحَّحْنا الاسْتِثْناءاتِ كُلَّها، فإذا قال: عَشَرَةٌ إلَّا (¬2) خَمْسةً. بَقِىَ خَمْسةٌ، فإذا ¬

(¬1) في الأصل: «فبقى». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إلَّا ثَلاثةً. عادَتْ ثَمانِيةً؛ لأنَّها إثْباتٌ، فإذا قال: إلَّا دِرْهَمَيْنِ. كانت نَفْيًا، فبَقِىَ سِتّةٌ، فإذا اسْتَثْنَى دِرْهَمًا، كان مُثْبِتًا، فصارَتْ سَبْعةً. والوجهُ الرابعُ، تَلْزَمُه ثمانِيةٌ؛ لأنَّه يُلْغِى الاسْتِثْناءَ الأوَّلَ، لكَوْنِه النِّصْفَ، فإذا قال: إلَّا ثَلاثةً. كانت مُثْبتةً، وهى مُسْتَثْناةٌ مِن الخَمْسةِ، وقد بَطَلَتْ، فتَبْطُلُ الثَّلاثةُ أيضًا؛ لِبُطْلانِ الخَمْسةِ، ويَبْقَى الاثْنانِ (¬1)، لأنَّهما نَفْىٌ، والنَّفْىُ يكونُ مِن إثْباتٍ، وقد بَطَلَ الإثْباتُ الذى قَبلَها، فتكونُ مَنْفِيّةً مِن العَشَرةِ، تَبْقَى ثمانِيةٌ. ولا يَصِحُّ اسْتِثْناءُ الواحدِ مِن الاثْنَيْنِ؛ لأنَّه نِصْفٌ. ¬

(¬1) في الأصل: «الإثبات».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن قال: له عَلَىَّ ثلاثةٌ إلَّا ثَلاثةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ. بَطَلَ الاسْتِثْناءُ كلُّه؛ لأَنَّ [اسْتِثْنَاءَ الدِّرْهَمَيْنِ] (¬1) مِن الثلاثةِ اسْتِثْناءُ الأَكْثَرِ، وهو مَوْقُوفٌ عليه، فبَطَلَ، فإذا بَطَلَ الثانى، بَطَلَ الأَوَّلُ؛ لأنَّه اسْتَثْنَى الكُلَّ. ولأصحابِ الشّافعىِّ في هذا ثَلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحدُها، يَبْطُلُ الاسْتِثْناءُ؛ لأَنَّ الأوَّلَ بَطَل، لِكَوْنِه اسْتِثناءَ الكُلِّ، فبَطَلَ الثانى مِن (¬2) الإِقْرارِ، لأنَّه ¬

(¬1) في م: «الاستثناء لدرهمين». (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَرْعُه. والثانى، يَصِحُّ، ويَلْزَمُه دِرْهَمٌ (¬1)؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ الأوَّلَ لمّا بَطَل، جَعَلْنا الاسْتِثْناءَ الثانىَ مِن الإِقْرارِ؛ لأنَّه وَلِيَه لِبُطْلانِ ما بينَهما. والثّالثُ، يَصِحُّ، ويكونُ مُقِرًّا بدِرْهَمَيْن؛ لأنَّه استَثْنى (¬2) الأكثرَ، واستثناءُ الأكْثَر عندَهم يَصِحُّ. ووَافَقَهُم القاضِى في هذا الوَجْهِ. وإن قال: ثَلاثةٌ إِلَّا ثلاثةً إِلَّا دِرْهَمًا. بَطَلَ الاسْتِثْناءُ كلُّه. ويَجِئُ على قولِ أصحابِ الشّافِعِىِّ فيه مثلُ ما قُلْنا في التى قَبْلَها. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «استثناء».

5149 - مسألة: (ولا يصح الاستثناء من غير الجنس. نص عليه)

وَلَا يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ. نَصَّ عَلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5149 - مسألة: (ولا يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ مِن غيرِ الجِنْسِ. نَصَّ عليه) وبهذا قال زُفَرُ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ. وقال أبو حنيفةَ: إنِ اسْتَثْنَى مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، جازَ، وإنِ اسْتَثْنَى عَبْدًا أو ثَوْبًا مِن (¬1) مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ، لم يَجُزْ. وقال مالِكٌ، والشّافِعِىُّ: يَصِحُّ الاسْتِثْناءُ مِن غيرِ الجنْسِ مُطْلَقًا؛ لأنَّه وَرَدَ في الكِتابِ العَزِيزِ ولُغةِ العَرَبِ، قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} (¬2). وقال سُبحانَه: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا ¬

(¬1) بعده في ق، م: «غير». (¬2) سورة الكهف 50.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سَلَامًا} (¬1). وقال الشاعرُ (¬2): وبَلْدَةٍ ليس بها أَنِيسُ … إلَّا اليَعافِيرُ، وإلَّا العِيسُ وقال آخَرُ (¬3): أعْيَتْ جَوابًا وَمَا بالرَّبْعِ مِن أحدِ إلَّا أوارىُّ لأْيًا ما أُبَيِّنُها ولنا، أنَّ الاسْتِثْناءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الاسْتِثناءِ عمّا كان يَقْتَضِيه لَوْلَاه. وقيل: إخْراجُ بعضِ ما تَنَاوَلَه المُسْتثْنَى منه، مُشْتَقٌّ مِن قَوْلِه: ثَنَيْتُ فُلانًا عن رَأْيِه. إذا صَرَفْتَه عن رَأْىٍ كان عازِمًا عليه. وثَنَيْتُ عِنَانَ ¬

(¬1) سورة مريم 62. (¬2) البيت من أرجوزة لعامر بن الحارث المعروف بجران العود، وهو هكذا في الكتاب 2/ 322، وانظر روايات البيت في خزانة الأدب 10/ 15 - 18. وعلق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد عليه بقوله: وهكذا يرويه النحاة من سيبويه إلى اليوم، ولكن الرواية في ديوانه هكذا: الذئب أو ذو لبد هموس … بسابسا، ليس به أنيس إلا اليعافير وإلا العيس … وبقر ملمع كنوس انظر: حاشية شرح شذور الذهب 265، 266. والبيت من الشواهد النحوية، انظر: معجم شواهد العربية 481. واليعافير: جمع يعفور، وهو ولد الظبية وولد البقرة الوحشية أيضًا. والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة. (¬3) هو النابغة الذبيانى. ديوانه 2، 3. وصدر الأول: * وقفت فيها أُصيْلالا أسائلُها * وعجز الثانى: * والنُّوْئ كالحوضِ بالمظلومة الجَلَدِ *

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ دابَّتِى (¬1). إذا صَرَفْتُها به عن وِجْهَتِها التى كانَتْ تَذْهَبُ إليها. وغيرُ الجِنْسِ المَذْكُورِ ليس بِدَاخِلٍ في الكَلامِ، فإذا ذَكَرَه، فما صَرَفَ الكَلَامَ عن صَوْبِه، ولا ثَنَاه عن وَجْهِ اسْتِرْسالِه، فلا يكونُ اسْتِثْناءً، وإنَّما يُسَمَّى اسْتِثْناءً تَجَوُّزًا، وإنَّما هو في الحَقِيقَةِ اسْتِدْراكٌ. وإلَّا ههُنا بمَعْنَى «لكن». هكذا قال أهْلُ العَرَبِيَّةِ؛ منهم ابنُ قُتَيْبةَ، وحَكَاه عن سِيبَوَيْهِ. والاسْتِدْراكُ لا يَأْتِى إلَّا بعدَ الجَحْدِ، ولذلك لم يَأْتِ الاستثناءُ في الكِتابِ العَزِيزِ مِن غيرِ الجِنْسِ إِلَّا بعدَ النَّفْى، ولا يأتِى بعدَ الإِثْباتِ إلَّا أن يُوجَدَ بعدَه (¬2) جُملةٌ. إذا تَقَرَّرَ هذا فلا مدْخَلَ للاسْتِدْراكِ في الإِقْرارِ؛ لأنَّه إثْباتٌ للمُقَرِّ به، فإذا ذَكَر الاسْتِدْراكَ بعدَه كان باطِلًا، وإن [ذكَرَه بعدَ] (¬3) جُمْلةٍ كأنَّه قال: له عِنْدِى مائةُ دِرْهمٍ إلَّا ثَوْبًا لِى عليه. فيكونُ مُقِرًّا لشئٍ مُدَّعِيًا لشئٍ سِواه، فيُقْبَلُ إقْرارُه، وتَبْطُلُ دَعْواه، كما لو صَرَّحَ بذلك بغيرِ لَفْظِ الاسْتِثْناءِ. وأمّا قولُه تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}. فإنَّ إبْلِيسَ كان مِن الملائكةِ، بدَلِيلِ أنَّ اللَّهَ تعالى لم يَأْمُرْ بالسُّجُودِ غيرَهُم، فلو لم يَكُنْ منهم، لَما (¬4) كان مَأْمُورًا بالسُّجُودِ، ولا عاصِيًا، بتَرْكِه، ولا قال اللَّهُ تعالى في حَقِّه: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (¬5). ولا ¬

(¬1) في الأصل: «ابنى». (¬2) في ق، م: «بعد». (¬3) في ق، م: «ذكر بعده». (¬4) في الأصل: «ما». (¬5) سورة الكهف 50.

5150 - مسألة: فعلى هذا (متى قال: له على مائة درهم إلا ثوبا. لزمته المائة)

فَإذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا، لَزِمَتْهُ المِائَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬1). وإذا لم يكُنْ مَأْمُورًا فَلِمَ أبْلَسَه اللَّهُ وأهْبَطَه ودَحَرَه؟ ولم (¬2) يأْمُرِ اللَّهُ بالسُّجُودِ إلَّا المَلائكةَ (¬3). فإن قالوا: بل قد تَناوَلَ الأمْرُ المَلائكةَ ومَن كان معهم، فدَخَلَ إبْلِيسُ في الأَمْرِ؛ لكَوْنِه معهم. قلنا: فقد سَقَطَ اسْتِدْلالُكُم، فإنَّه متى كان إبْلِيسُ داخِلًا في المُسْتَثْنَى منه مأْمُورًا بالسُّجُودِ، فاسْتِثْناؤُه مِن الجِنْسِ، وهو ظاهِرٌ لمَن أَنْصَفَ، إن شاء اللَّهُ تعالى. 5150 - مسألة: فعَلَى هذا (متى قال: له عَلَىَّ مائةُ دِرْهمٍ إلَّا ثَوْبًا. لَزِمَتْه المائةُ) لأَنَّ الاسْتِثْناءَ باطِلٌ على ما بَيَّنًا. ¬

(¬1) سورة الأعراف 12. (¬2) في م: «ولا». (¬3) في الأصل: «للملائكة».

5151 - مسألة: (إلا أن يستثنى عينا من ورق، أو ورقا من عين، فيصح. ذكره الخرقى. وقال أبو بكر: لا يصح. فإذا قال: له على مائة درهم إلا دينارا. فهل يصح؟ على وجهين)

إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِىَ عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ، فَيَصِحُّ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِىُّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصِحُّ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا. فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5151 - مسألة: (إلَّا أن يَسْتَثْنِىَ عَيْنًا مِن وَرِقٍ، أو وَرِقًا مِن عَيْنٍ، فيَصِحُّ. ذكَره الخِرَقِىُّ. وقال أبو بكرٍ: لا يَصِحُّ. فإذا قال: له عَلَىَّ مائةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينارًا. فهل يَصِحُّ؟ على وجهينِ) اخْتَلَفَ أصحابُنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في صِحَّةِ اسْتِثْناءِ أحَدِ النَّقْدَيْنِ (¬1) مِن الآخَرِ، فذَهَبَ أبو بكرٍ إلى أنَّه لا يَصِحُّ؛ لِما ذكَرْنا. وهو قولُ محمدِ بنِ الحَسَنِ. وقال ابنُ أبى مُوسى: فيه رِوايتان. واخْتارَ الخِرَقِىُّ صِحَّتَه؛ لأَنَّ قَدْرَ أحَدِهما مَعْلُومٌ مِن الآخَرِ، ويُعَبَّرُ بأحَدِهما عن الآخَرِ، فإنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ تِسْعةَ (¬2) دَراهِمَ دِينارًا، وآخَرُون يُسَمُّونَ ثمانِيةَ دَراهِمَ دينارًا، فإذا اسْتَثْنَى أحَدَهما مِن الآخَرِ، عُلِمَ أنَّه أرادَ التَّعْبِيرَ بأحَدِهما عن الآخَرِ، فإذا قال: له عَلَىَّ دِينارٌ إلَّا ثَلاثةَ دَرَاهِمَ. في مَوْضِعٍ يُعَبَّرُ فيه بالدِّينارِ عن تِسْعةٍ، كان معناه: له عَلَىَّ تِسْعةُ دَراهِمَ إلَّا ثَلاثةً. ومتى أمْكَنَ حَمْلُ الكَلامِ على وَجْهٍ صَحِيحٍ، لم يَجُزْ إلغاؤُه، وتد أمكنَ بهذا الطَّرِيقِ، فوَجَبَ تَصحِيحُه. وقال أبو الخَطّابِ: لا فَرْقَ بينَ العَيْنِ والوَرِقِ وبينَ غيرِهما، فيَلْزَمُ مِن صِحَّةِ اسْتِثْناءِ أحَدِهما مِن الآخَرِ صِحّةُ اسْتِثْناءِ الثِّيابِ وغيرِها. وقد ذَكَرْنا الفَرْقَ، [ويمكنُ الجَمْعُ] (¬3) بينَ الرِّوايَتَيْنِ بِحَمْلِ رِوايةِ الصِّحَّةِ على ما إذا كان ¬

(¬1) في الأصل: «العبدين». (¬2) في الأصل: «بتسعة». (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحَدُهما يُعَبَّرُ به عن الآخَرِ، أو يُعْلَمُ قَدْرُه منه، ورِوايةِ البُطْلانِ على ما إذا انْتَفَى ذلك. واللَّهُ أعْلَمُ. فصل: ولو ذَكَرَ نَوْعًا مِن جِنْسٍ، واسْتَثْنَى نَوْعًا آخَرَ مِن (¬1) ذلك الجِنْسِ، مثلَ أن يقولَ: له عَلَىَّ عَشَرَةُ آصُعٍ تَمْرًا بَرْنِيًّا، إلَّا ثلاثةً تَمْرًا مَعْقِليًّا. لم يَجُزْ؛ لِما ذَكَرْنا في الفَصْلِ الأَوَّلِ. ويُخالِفُ العَيْنَ والوَرِقَ؛ لأَنَّ قِيمةَ أحَدِ النَّوْعينِ غيرُ مَعْلُومةٍ مِن الآخَرِ، ولا يُعَبَّرُ بأحَدِهما عن الآخَرِ. ويَحْتَمِلُ على قولِ الخِرَقِىِّ جَوازُه؛ لِتَقارُبِ المَقاصِدِ مِن النَّوْعَيْنِ، فهما كالعَيْنِ والوَرِقِ. والأَوَّلُ أصَحُّ؛ لأَنَّ العِلَّةَ الصَّحِيحةَ في العَيْنِ والوَرِقِ غيرُ ذلك. ¬

(¬1) بعده في م: «غير».

فصل

فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ. ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا. أَوْ: صِغَارًا. أَوْ: إِلَى شَهْرٍ. لَزِمَهُ أَلْفٌ جِيَادٌ وَافِيَةٌ حَالَّةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قال، [رَحِمَه اللَّهُ] (¬1): (إذا قال: له عَلَىَّ ألْفُ درْهَمٍ. ثم سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُه الكَلَامُ فيه، ثم قال: زُيُوفًا. أو: صِغَارًا. أو: إلى شَهْرٍ. لَزِمَه ألْفٌ جِيَادٌ وافِيَةٌ حالَّةٌ) وجملةُ ذلك، أنَّ مَن أقَرَّ بدَرَاهِمَ وأطْلَقَ، اقْتَضَمى إقْرارُه الدَّرَاهِمَ الوافِيةَ، وهى دَرَاهِمُ الإِسْلامِ، كلُّ عَشَرَةٍ منها وَزْنُ (¬2) سَبْعةِ مَثاقِيلَ، واقْتَضَى أن تكونَ جِيادًا حالَّةً، كما لو باعَه بعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وأطْلَقَ، فإنَّها تَلْزَمُه كذلك، فإذا سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُه الكَلَامُ فيه، أو أخَذَ في كَلامٍ آخَرَ غيرِ ما كان فيه، اسْتَقَرَّتْ عليه كذلك، فإن عادَ فقال: زُيُوفًا. أو: صِغَارًا. وهى الدَّراهِمُ النّاقِصَةُ، وهى دَرَاهِمُ ¬

(¬1) في م: «الشيخ، رضى اللَّه عنه». (¬2) سقط من: م.

5152 - مسألة: (إلا أن يكون فى بلد أوزانهم ناقصة، أو مغشوشة، فهل يلزمه من دراهم البلد، أو من غيرها؟ على وجهين)

إلَّا أَنْ يَكُونَ فِى بَلَدٍ أَوْزانُهُمْ نَاقِصَةٌ، أَوْ مَغْشُوشَةٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طَبَرِيَّةَ، كان كلُّ دِرْهَمٍ منها أرْبَعةَ دَوَانِيقَ، وذلك ثُلُثَا دِرْهَمٍ. أو: إلى شَهْرٍ. يَعْنِى مُؤَجَّلةً، لم يُقْبَلْ منه؛ لأنَّه يَرْجِعُ عن بعضِ ما أقَرَّ به، ويَرْفَعُه بكلامٍ مُنْفَصِلٍ، فلم يُقْبَلْ، كالاسْتِثْناءِ المُنْفَصِلِ. وهذا مذهبُ الشّافعىِّ. ولا فَرْقَ بينَ الإِقْرارِ بها دَيْنًا، أو وَدِيعةً، أو غَصْبًا. وقال أبو حنيفةَ: يُقْبَلُ قولُه في الغَصْبِ والوَدِيعةِ؛ لأنَّه إقْرارٌ بِفِعْلٍ في عَيْنٍ، وذلك لا يَقْتَضِى سَلامَتَها، فأَشْبَهَ ما لو أقَرَّ بِغَصْبِ عَبْدٍ، ثم جاءَ به (¬1) مَعِيبًا. ولَنا، أنَّ إطْلاقَ الاسْمِ يَقْتَضِى الوازِنةَ الجِيَادَ، فلم يُقْبَلْ تَفْسِيرُه بما يُخالِفُ ذلك، كالدَّيْنِ، ويُفارِقُ العَبْدَ، فإنَّ العَيْبَ لا يَمْنَعُ إطْلاقَ اسْمِ العَبْدِ عليه. 5152 - مسألة: (إلَّا أن يكونَ في بَلَدٍ أَوْزانُهم ناقِصَةٌ، أو مَغْشُوشةٌ، فهل يَلْزَمُه مِن دَرَاهِمِ البَلَدِ، أو مِن غَيْرِها؟ على وَجْهَيْن) ¬

(¬1) في م: «له».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أولُهما، أنَّه يَلْزَمُه مِن دَراهِمِ البَلَدِ؛ لأَنَّ مُطْلَقَ كَلامِهِم يُحْمَلُ على عُرْفِ بَلَدِهِم،؛ في البَيْعِ والصَّداقِ وغيرِ ذلك. والثانى، يَلْزَمُه (¬1) الوازِنةُ الخالِصَةُ مِن الغِشِّ؛ لأنَّ إطْلاقَ الدَّراهِمِ في الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إليها، بدَلِيلِ أنَّ بها تُقَدَّرُ نُصُبُ الزَّكَواتِ ومَقادِيرُ الدِّيَاتِ، فكذلك إطْلاقُ الشَّخْصِ. وفارَقَ البَيْعَ، فإنَّه إيجابٌ في الحالِ، فاخْتَصَّ بدَرَاهِمِ المَوْضِعِ الذى هما فيه، والإِقْرارُ إخْبارٌ عن حَقٍّ سابِقٍ، فانْصَرَفَ إلى دَرَاهِمِ (¬2) الإِسْلامِ. فصل: فإن أقَرَّ بدَرَاهِمَ وأَطْلَقَ، ثم فَسَّرَها بسَكَّةِ البَلَدِ الذى أَقَرَّ بها فيه، قُبِلَ؛ لأَنَّ إطْلاقَه (¬3) يَنْصَرِفُ إليه، وإن فَسَّرَها (¬4) بسَكَّةٍ غيرِ سَكّةِ (¬5) البَلَدِ أجْوَدَ منها، قُبِلَ؛ لأنَّه يُقِرُّ على نَفْسِه بما هو أغْلَظُ، وكذلك إن كانت مِثْلَها؛ لأنَّه لا يُتَّهَمُ في ذلك، وإن كانت أدْنَى ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «درهم». (¬3) في الأصل: «إقراره». (¬4) في م: «فسر». (¬5) بعده في الأصل: «غير».

5153 - مسألة: (وإن قال: له على ألف إلى شهر. لزمه مؤجلا. ويحتمل أن يلزمه حالا)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ إِلَى شَهْرٍ. فَأنْكَرَ المُقَرُّ لَهُ الْأَجَلَ، لَزِمَهُ مُؤَجَّلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ حَالًّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِن سَكَّةِ البَلَدِ، لكنّها مُساوِيةٌ في الوَزْنِ، احْتَملَ أن لا يُقْبَلَ؛ لأَنَّ إطْلاقَها يَقْتَضِى دَرَاهِمَ البَلَدِ ونَقْدَه، فلا يُقْبَلُ منه دُونَها، كما لا يُقْبَلُ في البَيْعِ، ولأنَّها ناقِصَةُ القِيمةِ، أشْبَهتِ النّاقِصَةَ في الوَزْنِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ منه. وهو قولُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما فَسَّرَه به. وفارَقَ النّاقِصَةَ (¬1)؛ [فإنَّ في الشَّرْعِ الدَّراهِمَ] (¬2) لا يَتَنَاوَلُها، بخِلافِ هذه، ولهذا يتعَلَّقُ بهذه مِقْدارُ النِّصابِ في الزَّكَاةِ وغيرِه، وفارَقَ الثَّمَنَ، فإنَّه إيجابٌ في الحالِ، وهذا إخْبارٌ عن حَقٍّ سابِقٍ. 5153 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ إلى شَهْرٍ. لَزِمَه مُؤَجَّلًا. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَه حالًّا) إذا أقَرَّ بها مُؤَجَّلةً بكلامٍ مُتَّصِلٍ، قُبِلَ ¬

(¬1) في م: «النقصة». (¬2) في المغنى 7/ 284: «لأن إطلاق الشرع الدراهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منه، وكذلك إن سَكَتَ للتَّنَفُّسِ، أو اعْتَرَضَه (¬1) سُعْلةٌ (¬2) ونحو ذلك. ويَحْتَمِلُ أن [يَلْزَمَه حالًّا] (¬3). ذَكَره أبو الخَطّابِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وبعضِ الشّافِعِيَّةِ؛ لأَنَّ التَّأْجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفاءَ الحَقِّ في الحالِ، فلم يُقْبَلْ، كما لو قال: له عَلَىَّ دَرَاهِمُ قَضَيْتُه (¬4) إيّاها. ¬

(¬1) في الأصل: «اعتراضه». (¬2) في الأصل، م: «سلعة». (¬3) في م: «تلزمه حالة». (¬4) في م: «قبضته».

5154 - مسألة: (وإن قال: له على ألف زيوف. وفسره بما لا فضة فيه، لم يقبل. وإن فسره بمغشوشة، قبل)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ زُيُوفٌ. وَفَسَّرَهُ بِمَا لَا فِضَّةَ فِيهِ، لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَغْشُوشَةٍ، قُبِلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5154 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ زُيُوفٌ. وفَسَّرَه بما لا فِضَّةَ فيه، لم يُقْبَلْ. وإن فَسَّرَه بمَغْشُوشةٍ، قُبِلَ) وكذلك إن فَسَّرَها بمَعِيبةٍ عَيْبًا يَنْقُصُها، قُبِلَ؛ لأنَّه صادِقٌ، وإن فَسَّرَها برَصَاصٍ أو نُحاسٍ أو ما لا قِيمةَ له، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّ تلك لَيْسَتْ دَرَاهِمَ على الحَقِيقةِ، فيكونُ تَفْسِيرُه بها (¬1) رُجُوعًا عمّا أقَرَّ به، فلم يُقْبَلْ، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ. ¬

(¬1) في الأصل: «به».

5155 - مسألة: (وإن قال: له على دراهم ناقصة. لزمته ناقصة)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5155 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ دَراهِمُ ناقِصَةٌ. لَزِمَتْه ناقِصةً) وقال بعضُ (¬1) أصحابِ الشّافعىِّ: لا يُقْبَلُ تَفسِيرُه بالناقصةِ. وقال القاضى: إذا قال: له عَلَىَّ دَراهِمُ ناقصةٌ. قُبِلَ قَوْلُه، وإن قال: صِغَارٌ. وِللناسِ دَرَاهِمُ صِغَارٌ، قُبِلَ قولُه، وإن لم يكُنْ لهم دَراهِمُ صِغَارٌ، لَزِمَه وازِنةٌ، كما لو قال: دُرَيْهِمٌ. فإنَّه يَلْزَمُه درْهَمٌ وازِنٌ. وهذا قولُ ابنِ القَاصِّ مِن أصْحابِ الشّافعىِّ. ولَنا، أنَّه فَسَّرَ كَلامَه بما يَحْتَمِلُه بكلامٍ مُتَّصِلٍ، فَقُبِلَ منه، كاسْتِثْناءِ البعضِ، وذلك لأَنَّ الدَّراهِمَ يُعَبَّرُ بها عن الوازِنةِ والناقِصَةِ والزُّيُوفِ والجَيِّدةِ، وكَوْنُها عليه يَحْتَمِلُ الحُلُولَ ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والتأَجِيلَ، فإذا وَصَفَها بذلك، تَقَيَّدَتْ به (¬1)، كما لو وَصَفَ الثَّمنَ به، فقال: بِعْتُكَ بعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُؤَجَّلةٍ، أو: ناقِصَةٍ. وثُبُوتُها على غيرِ هذه الصِّفَةِ حالَةَ الإِطْلاقِ، لا يَمْنَعُ مِن صِحَّةِ تَقْيِيدِها به، كالثمنِ. وقولُهم: إنَّ التأجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفاءَها. لا يَصِحُّ، وإنَّما يُؤَخِّرُه، فأشْبَهَ الثَّمنَ المُؤَجَّلَ، يُحَقِّقُه أنَّ الدَّراهِمَ ثَبَتَتْ في الذِّمَّةِ على هذه الصِّفاتِ، فإذا كانت ثابِتةً بهذه الصِّفَةِ، لم تَقْتَضِ الشَّرِيعةُ المُطَهَّرةُ سَدَّ بابِ الإِقْرارِ بها على صِفَتِها، وعلى ما ذَكَرُوه، لا سَبِيلَ إلى الإِقْرارِ بها إلَّا على وَجْهٍ يُؤاخَذُ بغيرِ ما هو الواجِبُ عليه، فيَفْسُدُ بابُ الإِقْرارِ. وقولُ مَن قال: إنَّ قَوْلَه: صِغَارًا. يَنْصَرِفُ إلى مِقْدارِها. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مِسَاحةَ الدَّرَاهِمِ (¬2) لا تُعْتَبرُ في الشَّرْعِ، ولا تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ بمِساحَةٍ مُقَدَّرةٍ، وإنَّما يُعْتَبَرُ الصِّغَرُ والكِبَرُ في الوَزْنِ، فيُرْجَعُ إلى تَفْسِيرِ المُقِرِّ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في م: «الدرهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ كبيرٌ. لزِمَه دِرْهَمٌ مِن دَراهِمِ الإِسْلامِ؛ لأنَّه كَبِيرٌ في العُرْفِ. وَإن قال: له عَلَىَّ دُرَيْهِمٌ (¬1). فهو كما لو قال: دِرْهَمٌ. لأَنَّ التَّصْغِيرَ (¬2) قد يكونُ لِصِغَرِه في ذاتِه، أو لقِلَّةِ قَدْرِه عندَه وتَحْقِيرِه، وقد يكونُ لمَحَبَّتِه، كما قال الشاعرُ (¬3): بِذَيَّالِكَ الوادِى أَهِيمُ ولم أَقُلْ … بِذَيّالِكَ الوادِى وذَيَّاكَ مِن زُهْدِ ولكنْ إذا ما حُبَّ شَئٌ تَوَلَّعَتْ … به أَحْرُفُ التَّصْغِيرِ مِنْ شِدَّةِ الوَجْدِ وإن قال: له عَلَىَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَدَدًا. لَزِمَتْه عَشَرَةٌ مَعْدُودةٌ وازَنِةٌ؛ لأَنَّ إطْلاقَ الدِّرْهَمِ (¬4) يَقْتَضِى الوازِنَ (¬5)، وذِكْرُ العَدَدِ لا يُنافِيها، ¬

(¬1) في م: «درهم». (¬2) في م: «الصغير». (¬3) لم نهتد إلى نسبة البيتين. (¬4) في الأصل: «الدراهم». (¬5) في الأصل: «الوزن».

5156 - مسألة: (وإن قال: له عندى رهن. وقال المالك)

وَإِنْ قَالَ. لَهُ عِنْدِى رَهْنٌ. وَقَالَ الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يَمِينِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فوَجَبَ الجَمْعُ بينَهما. فإن كان في بَلَدٍ [يَتَعامَلُون بها عَدَدًا مِن غيرِ وَزْنٍ، فحُكْمُه حُكْمُ ما لو أَقَرَّ بها في بلدٍ] (¬1) أَوْزانُهم ناقِصةٌ، أو دَرَاهِمُهم مَغْشُوشةٌ (¬2)، على ما فُصِّلَ فيه. 5156 - مسألة: (وإن قال: له عندِى رَهْنٌ. وقال المالِكُ) بل (وَدِيعةٌ. فالقولُ قولُ المالِكِ) لأنَّ العَيْنَ ثَبَتتْ بالإِقْرارِ له. و (¬3) ادَّعَى المُقِرُّ دَيْنًا لا يَعْتَرِفُ له (¬4) به المُقَرُّ له، [والقولُ] (¬5) قولُ المُنْكِرِ، ولأنَّه أقَرَّ بمالٍ لغيرِه وادَّعَى أنَّ له به تَعَلُّقًا، فلم يُقْبَلْ، كما لو ادَّعاه بكَلامٍ مُنْفَصِلٍ، ولذلك لو أقَرَّ له بدارٍ، وقال: اسْتَأْجَرْتُها. أو أقَرَّ له بثَوْبٍ وادَّعَى أنَّه قَصَّرَه أو خاطَه بأجْرٍ يلزمُ المُقَرَّ له، لم يُقْبَلْ، لأنَّه مُدَّعٍ على غيرِه حَقًّا، فلا يُقْبَلُ قولُه إلَّا بِبَيِّنةٍ، ومِن ذلك (¬6) لو قال: هذه الدارُ له، ولِى سُكْناهَا سَنَةً (¬7). ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «فهو». (¬3) في م: «وإن». (¬4) سقط من: م. (¬5) في م: «فالقول». (¬6) بعده في م: «ما». (¬7) في ق، م: «ببينة».

5157 - مسألة: (وإن قال: له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه. وقال المقر له: بل هو دين فى ذمتك. فعلى وجهين)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ. وَقَالَ المُقَرُّ لَهُ: بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِى ذِمَّتِكَ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5157 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ مِن ثَمَنِ مَبِيعٍ لم أقْبِضه. وقال المُقَرُّ له: بل هو دَيْنٌ في ذِمَّتِكَ. فعلى وَجْهَيْن) أحَدُهما، القولُ قولُ المُقَرِّ له (¬1)؛ لأنَّه اعْتَرفَ له بالألْفِ، وادَّعَى عليه مَبِيعًا، فأشْبَهَ المسألةَ التى قبلَها، أو كما لو قال: له عَلَىَّ ألْفٌ، [ولى عندَه مَبِيعٌ لم أَقْبِضه. والثانى، القولُ قولُ المُقِرِّ. قال القاضى: هو قياس المذهَبِ. وهو قولُ الشّافعىِّ، وألى يوسفَ؛ لأنَّه أَقَرَّ بحقٍّ في مُقابَلَةِ حقٍّ له، لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخَرِ، فإذا لم يُسَلِّمْ له ما قال، لم يُسَلِّمْ للمقَرِّ له ما عليه، كما لو قال لرجُلٍ: بعتُك هذا العبدَ بألفٍ. فقال: بل ملَّكْتَنِيه بغيرِ شئٍ. وفارقَ ما لو قال: له عندى رهنٌ. فقال المالِكُ: بل وديعةٌ. لأَنَّ الدَّيْنَ يَنْفَكُّ عن الرَّهنِ، فلو قال السيَّدُ لعبدِه: بعتُكَ نفسَكَ بألفٍ. فأنكرَ العبدُ، عَتَقَ، ولا شئَ للسيِّدِ؛ لأَنَّ العتْقَ ينفَكُّ عن الثَّمنِ. إذا ثبت هذا] (¬2) ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: م.

5158 - مسألة: (ولو قال: له عندى ألف. وفسره بدين أو وديعة، قبل منه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِى أَلْفٌ. وَفَسَّرَهُ بدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، قُبِلَ مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ [فلا فرقَ بينَ أن يقولَ: لم أَقْبِضْه. مُنفصلًا أو مُتَّصِلًا، فلو قال: له عَلَىَّ ألفٌ مِن ثَمنِ مَبيعٍ. ثم سَكَت، ثم قال: لم أقبِضْه. قُبِل قولُه، كما لو كان مُتَّصِلًا؛ لأَنَّ إقرارَه تَعلَّقَ بالمبِيعِ، والأصلُ عدمُ القبضِ، فقُبِلَ قولُه فيه. فأمّا إن قال: له عَلَىَّ ألفٌ. ثم سَكَت، ثم قالْ: مِن ثمنِ مَبيعٍ. لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه فَسَّر إقرارَه بما يُسْقِطُ وُجُوبَ تسليمِه بكلام مُنفَصلٍ، فلم يُقْبَلْ، كما لو قال: له عَلَىَّ ألفٌ] (¬1). [ثم سَكَت] (¬2)، ثم قال: مُؤَجَّلٌ. 5158 - مسألة: (ولو قال: له عندى أَلْفٌ. وفَسَّرَه بدَيْنٍ أو وَدِيعةٍ، قُبِلَ منه) لا نَعْلَمُ فيه بينَ أَهْلِ العلمِ خِلافًا (¬3)، سواءٌ فَسَّرَه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «اختلافا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بكلامٍ مُتَّصِلٍ أو مُنْفَصِلٍ؛ لأنَّه فَسَّرَ لَفْظَه بما يَقْتَضِيه، فَقُبِلَ، كما لو قال: له عَلَىَّ دَراهِمُ. وفَسَّرها بِدَيْنٍ عليه، فعندَ ذلك تَثْبُتُ فيه أحكامُ الوَدِيعةِ، بحيث لو ادَّعَى تَلَفَها بعدَ ذلك أو رَدَّها، قُبِلَ قولُه، وإن فَسَّرَه بدَيْنٍ عليه، قُبِلَ أيضًا؛ لأنَّه يُقِرُّ على نَفْسِه بما هو أَغْلَظُ. وإن قال: له عِنْدِى وَدِيعةٌ رَدَدْتُها إليه. أو: تَلِفَتْ. لَزِمَه ضَمانُها، ولم يُقْبَلْ قولُه. وبهذا قال الشّافعىُّ؛ لِما فيه مِن مُناقَضةِ الإِقْرارِ، والرُّجُوعِ عمَّا أقَرَّ به، فإنَّ الألْفَ المَرْدُودَ والتالِفَ ليس (¬1) عندَه أصْلًا، ولا هى وَدِيعةً، وكلُّ كلامٍ يُناقِضُ الإِقْرارَ (¬2) ويُحِيلُه، يَجِبُ أن يكونَ مَرْدُودًا. وقال القاضى: يُقْبَلُ قولُه؛ لأَنَّ (¬3) أحمدَ قال في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ: إذا قال: لَكَ عِنْدِى وَدِيعةٌ دَفَعْتُها إليك. صُدِّقَ؛ لأنَّه ادَّعَى تَلَفَ الوَدِيعةِ أو رَدَّها، فَقُبِلَ، كما لو ادَّعَى ذلك بكَلامٍ مُنْفَصِلٍ. فإن قال: كانت عنْدِى وظَنَنْتُ أنَّها باقِيةٌ، ثم عَرَفْتُ أنَّها كانت قد هَلَكَتْ. فالحُكْمُ فيها كالتى قَبلَها. ¬

(¬1) في م: «ليسا». (¬2) بعده في الأصل: «والرجوع عما أقر به». (¬3) في م: «إلا أن».

5159 - مسألة: (وإن قال: له على ألف. وفسره بوديعة، لم يقبل)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ. وَفَسَّرَهُ بِوَدِيعَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5159 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ أَلْفٌ. وفَسَّره بوَدِيعةٍ، لم يُقْبَلْ) قولُه، فإنِ ادَّعَى بعدَ هذا تَلَفَه، لم يُقْبَلْ قَوْلُه. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشّافعىُّ. وقِيلَ عن الشّافعىِّ: يُقْبَلُ قولُه: إنَّها وَدِيعةٌ. وإذا ادَّعَى بعدَ هذا تَلَفَها قُبِلَ منه. وقال القاضى ما يَدُلُّ على هذا أيضًا؛ لأنَّ الوَدِيعةَ عليه حِفْظُها ورَدُّها، فإذا قال: له عَلَىَّ (¬1). وفَسَّرَها بذلك، احْتَمَلَ صِدْقُه، فَقُبِلَ منه، كما لو وَصَلَه بكَلامِه، فقال: له (¬2) عَلَىَّ أَلْفٌ وَدِيعةً. لأَنَّ حُرُوفَ الصِّفاتِ يَخْلُفُ بعضُها بعضًا، فيجُوزُ أن تُسْتَعْمَلَ «عَلَىَّ» بمعنى عِنْدِى، كما قال تعالى إخْبارًا عن مُوسَى عليه السلامُ أنَّه قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} (¬3). أى عِنْدِى. ولنا، أنَّ «عَلَىَّ» للإِيجابِ، وذلك يَقْتَضِى كَوْنَها في ذِمَّتِه، ولذلك (¬4) لو قال: ما عَلَى فُلانٍ عَلَىَّ. كان ضامِنًا له، والوَدِيعةُ ليست في ذِمَّتِه، ولا هى عليه، إنَّما هى عنده. وما ¬

(¬1) في م: «له على ألف». (¬2) زيادة من: م. (¬3) سورة الشعراء 14. (¬4) في م: «كذلك».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذَكَرُوه مَجازٌ، طَرِيقُه حَذْفُ المُضافِ وإقامةُ المُضافِ إليه مُقامَه، أو إقامةُ حَرْفٍ مُقَامَ حَرْفٍ، والإِقْرارُ يُؤْخَذُ فيه بظاهِرِ اللَّفْظِ، بدَلِيلِ أنَّه لو قال: له عَلَىَّ دَراهِمُ. لَزِمَتْه ثلاثةٌ، وإن جازَ التَّعْبِيرُ عن اثْنَيْنِ وعن واحدٍ بِلَفْظِ الجَمْعِ، كقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬1). ومواضِعَ كثيرةٍ في القرآنِ. ولو قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ. وقال: أرَدْتُ نِصْفَ دِرْهَمٍ، فأقَمتُ المُضافَ إليه مُقامَه. لم يُقْبَلْ منه. ولو قال: لَكَ مِن مالِى ألْفٌ. قال: صَدَقْتَ. ثم قال: أرَدْتُ أنَّ عَلَيْكَ مِن مالِى ألْفًا. وأقَمْتُ اللَّامَ مُقَامَ عَلَىَّ، كَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬2). لم يُقْبَلْ منه، ولو قُبِلَ في الإِقْرارِ مُطْلَقُ الاحْتِمالِ، لَسَقَط، ولَقُبِلَ تَفْسِيرُ الدَّراهِمِ بالناقِصَةِ والزّائِفةِ والمُؤَجَّلةِ. وأمّا إذا قال: لَكَ عَلَىَّ ألْفٌ. ثم قال: كان (¬3) وَدِيعةً فتَلِفَ. لم يُقْبَلْ قَوْلُه، فإنَّه مُتَناقِضٌ، ¬

(¬1) سورة النساء 11. (¬2) سورة الإسراء 7. (¬3) في م: «كانت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد سَبَقَ [الكلامُ نحوٌ مِن] (¬1) هذا. فصل: فإن قال: لك عَلَىَّ مائةُ دِرْهَمٍ. ثم أَحْضَرَها، وقال: هذه التى أقْرَرْتُ بها، وهى وَدِيعةٌ كانت لك عندى. فقال المُقَرُّ له: هذه وَدِيعةٌ، والتى أقْرَرْتَ بها غيرُها، وهى دَيْنٌ عليك. فالقولُ قولُ المُقَرِّ له على مُقْتَضَى قولِ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ أبى حنيفةَ. وقال القاضى: القولُ قَولُ المُقِرِّ مع يَمِينِه. وللشّافعىِّ قَوْلان كالوَجْهَيْنِ. وتَعْلِيلُهما ما تَقَدَّم. فإن كان قال في إقْرارِه: لك عَلَىَّ مائةٌ في ذِمَّتِى فقد وافَقَ القاضِى ههُنا في أنَّه لا يُقْبَلُ قولُ المُقِرِّ؛ لأَنَّ الوَدِيعةَ عَيْنٌ لا تكونُ في الذِّمَّةِ، قال: وقد قِيلَ: يُقْبَلُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ: في ذِمَّتِى أداؤُها. ولأنَّه يجوزُ أن تكونَ عندَه وَدِيعة تَعَدَّى فيها، فكان ضَمانُها عليه في ذِمَّتِه. ولأصحابِ الشّافعىِّ في هذه وَجْهانِ. فأمّا إن وَصَلَ ذلك بكَلامِه، فقال: لك عَلَىَّ مائَةٌ وَدِيعةً. قُبِلَ؛ لأنَّه فَسّرَ كلامَه بما يَحْتَمِلُه، فصَحَّ، كما لو قال: له عَلَىَّ (¬2) دَرَاهِمُ ناقِصةٌ. وإن قال: له عَلَىَّ مائةٌ وَدِيعةً دَيْنًا. أو: مُضارَبَةً دَيْنًا. صَحَّ، ولَزِمَه ضَمانُها؛ لأنَّه قد يتَعَدَّى فيها فتكونُ دَيْنًا. ¬

(¬1) في م: «نحو». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قال: أرَدْتُ أنَّه شَرَطَ عَلَىَّ ضَمانَها. [لم يُقْبَلْ؛ لأنَّها لا تَصيرُ بذلك دَيْنًا. وإن قال: عندِى مائةٌ ودِيعةً، شَرَطَ عَلَىَّ ضَمانَها] (¬1). لم يَلْزَمْه ضَمانُها؛ لأَنَّ الوَدِيعةَ لا تَصِيرُ بالشَّرْطِ مَضْمُونةً. وإن قال: عَلَىَّ، أو: عِنْدِى مائةُ دِرْهَمٍ عارِيَّةً. لَزِمَتْه، وكانت مَضْمُونةً عليه، سواءٌ حَكَمْنا بصِحَّةِ العارِيَّةِ في الدَّراهِمِ أو بِفَسادِها؛ لأَنَّ ما ضُمِنَ في العَقْدِ الصَّحِيحِ ضُمِنَ في الفاسِدِ. وإن قال: أَوْدَعَنِى مائةً فلم أقْبِضْها. أو: أقْرَضَنِى مائةً فلم آخُذْها. قُبِلَ قولُه مُتَّصِلًا، ولم يُقْبَلْ مُنْفَصِلًا. وهكذا إذا قال: نَقَدَنِى مائةً فلم أقْبِضْها. وهذا قولُ الشّافِعِىِّ. فصل: وإن قال: له في هذا العَبْدِ ألْفٌ. أو: له مِن هذا العَبْدِ ألْفٌ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5160 - مسألة: (وإن قال: له فى هذا المال ألف. لزمه تسليمه)

وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِى هَذَا الْمَالِ أَلْفٌ. لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ طُولِبَ بالبَيانِ، فإن قال: نَقَدَ عَنِّى ألفًا في ثَمَنِه. كان قَرْضًا، وإن قال: نَقَدَ في ثَمَنِه ألْفًا. قُلنا: بَيِّنْ كَمْ ثَمَنُ العَبْدِ، وكيف كان الشِّراءُ. فإن قال: بإيجابٍ واحدٍ، وَزَن ألْفًا وَوَزَنْتُ ألْفًا. كان مُقِرًّا بنِصْفِ العَبْدِ، وإن قال: وَزَنْتُ أنا ألْفَيْنِ. كان مُقِرًّا بثُلُثِه، والقولُ قولُه مع يَمينِه، سواءٌ كانتِ القِيمةُ قَدْرَ ما ذَكَره أو أقَلَّ؛ لأنَّه قد يَغْبِنُ وقد يُغْبَنُ. وإن قال: اشْتَرَيْناه بإيجابَيْنِ. قِيلَ له (¬1): فكم. اشْتَرَى منه؟ فإن قال: نِصْفًا، أو ثُلُثًا، أو أقَلَّ أو أكْثَرَ. قُبِلَ منه مع يَمينِه، وافَقَ القِيمةَ أو خالَفَها. وإن قال: وَصَّى لى (¬2) بأَلْفٍ مِن ثَمَنِه. بِيعَ، وصُرِفَ إليه مِن ثَمَنِه ألْفٌ. فإن أرادَ أن يُعْطِيَه ألْفًا مِن مالِه، مِن غيرِ ثَمَنِ العَبْدِ، لم يَلْزَمْه قَبُولُه؛ لأَنَّ المُوصَى له يتَعَيَّنُ حَقُّه في ثَمَنِه. وإن فَسَّرَ ذلك بجنايةٍ جَنَاهَا العَبْدُ، فتَعلَّقتْ بِرَقَبَتِه، قُبِلَ ذلك، وله بَيْعُ العَبْدِ، ودَفْعُ الأَلْفِ مِن ثَمَنِه. وإن قال: أردْتُ أنَّه رَهْنٌ عندَه بأَلْفٍ. فعلى وَجْهَيْنِ؛ أحدُهما، لا يُقْبَلُ؛ لأَنَّ حَقَّ المُرْتَهِنِ في الذِّمَّةِ. والثانى، يُقْبَلُ؛ لأَنَّ الدَّيْنَ يتَعلَّقُ بالرَّهْنِ، فصَحَّ تَفْسِيرُه به، كالجِنَايةِ. ومَذْهَبُ الشّافعىِّ في هذا الفَصْلِ كما ذَكَرْنا. 5160 - مسألة: (وإن قال: له في هذا المالِ ألْفٌ. لَزِمَه تَسْلِيمُه) إليه؛ لأنَّه أقَرَّ له بالمِلْكِ. ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) في م: «له».

5161 - مسألة: (وإن قال: له من مالى. أو: فى مالى. أو: فى ميراثى من أبى ألف. أو: نصف دارى هذه. وفسره بالهبة، وقال: بدا لى من تقبيضه. قبل)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ مِنْ مَالِى. أَوْ: فِى مَالِى. أَوْ: فِى مِيرَاثِى مِنْ أَبِى أَلْفٌ. أَوْ: نِصْفُ دَارِى هَذِهِ. وَفَسَّرَهُ بِالْهِبَةِ، وَقَالَ: بَدَا لِى مِنْ تَقْبِيضِهِ. قُبِلَ منه. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5161 - مسألة: (وإن قال: له مِن مالِى. أو: في مالِى. أو: في مِيراثِى مِن أبِى ألْفٌ. أو: نِصْفُ دارِى هذه. وفَسَّرَه بالهِبَةِ، وقال: بدا لى مِن تَقْبِيضِه. قُبِلَ) إذا قال: له في مالِى. أو: مِن مالِى ألْفٌ. وفَسَّرَه بِدَيْنٍ أو وَدِيعةٍ أو وَصِيّةٍ، قُبِلَ. وقال بعضُ أصحابِ الشّافعىِّ: لا يُقْبَلُ إقْرارُه [إذا قال: له مِن مالى ألفٌ؛ لأَنَّ مالَه] (¬1) ليس هو لغيرِه. ولنا، أنَّه أقَرَّ بأَلْفٍ، فقُبِلَ، كما لو قال: له في مالِى. ويجوزُ أن يُضِيفَ إليه مالًا بعضُه لغيرِه، ويجوزُ أن يُضِيفَ مالَ غيرِه إليه؛ لِاخْتِصاص له ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ به، بأن يكونَ له (¬1) عليه يَدٌ أو وِلايةٌ، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (¬2). وقال سُبحانه في النِّساءِ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} (¬3). وقال لأزْواجِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} (¬4). فلا يَبْطُلُ إقْرارُه مع احْتِمالِ صِحَّتِه. فإن قال: أرَدْتُ هِبَةً. قُبِلَ منه؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ. وإنِ امْتَنَعَ مِن تَقْبِيضِها، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأَنَّ الهِبَةَ فيها لا تَلْزَمُ قَبلَ القَبْضِ. وكذلك يُخَرَّجُ فيما (¬5) إذا قال: له نِصْفُ دارِى هذه. أو: له مِن دارِى نِصْفُها. وقد نُقِلَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على رِوايَتَيْنِ، قال في رِوَايةِ مُهَنَّا في مَن قال: نِصْفُ عَبْدِى هذا لفلانٍ. لم يَجُزْ، إلَّا أن يقولَ: وَهَبْتُه. وإن قال: نِصْفُ مالِى هذا لفلانٍ. لا أعْرِفُ هذا. ونَقَلَ ابنُ مَنْصُورٍ: إذا قال: فَرَسِى هذه لفلانٍ. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سورة النساء 5. (¬3) سورة الطلاق 1. (¬4) سورة الأحزاب 33. (¬5) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإقْرارُه جائِزٌ. فظاهِرُ هذا صِحَّةُ الإِقْرارِ. [فإن قال: له في هذا المالِ نِصْفُه. فإقْرارُه جائزٌ] (¬1). وإن قال: له في هذا المالِ نِصْفُه. أو: له نِصْفُ هذه الدارِ. فهو إقْرارٌ صَحِيحٌ. وإن قال: له في هذا المالِ ألْفٌ. صَحَّ، وإن قال: في مِيراثِى مِن أبِى ألْفٌ. وقال: أرَدْتُ هِبَةً. قُبِلَ منه؛ لأنَّه إذا أَضافَ المِيراثَ إلى أَبِيه، فمُقْتَضاه ما خَلَّفَه، فيَقْتَضى وُجُوبَ المُقَرِّ به فيه، وإذا أَضافَ المِيراثَ إلى نَفْسِه، فمعناه: ما وَرِثْتُه وانْتَقَلَ إلَىَّ، فلا يُحْمَلُ إلَّا على الوُجُوبِ (¬2)، وإذا أضافَ إليه جُزءًا، فالظاهِرُ أنَّه جَعَلَ له جُزْءًا في مالِه. ¬

(¬1) لم يرد ما بينهما في المغنى، وفى العبارة تكرار. انظر: المغنى 7/ 302، 303. (¬2) بعده في الأصل: «فهو دين على التركة».

5162 - مسألة: (وإن قال: له فى ميراث أبى ألف. فهو دين على التركة)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِى مِيرَاثِ أَبِى أَلْفٌ. فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى التَّرِكَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5162 - مسألة: (وإن قال: له في مِيراثِ أبِى ألْفٌ. فهو دَيْنٌ على التَّرِكةِ) لأنَّ لَفْظَه يَقْتَضِى ذلك.

5163 - مسألة: (وإن قال: له

وَإِنْ قَالَ: لَهُ نِصْفُ هَذِهِ الدَّارِ. فَهُوَ مُقِرٌ بِنِصْفِهَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ عَارِيَّةً. ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْعَارِيَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5163 - مسألة: (وإن قال: له (¬1) نِصْفُ هذه الدّارِ. فهو مُقِرٌّ بنِصْفِها) لِما ذكَرْنا. 5164 - مسألة: (وإن قال: له هذه الدارُ عارِيَّةً. ثَبَتَ لها حُكْمُ العارِيّةِ) لإِقْرارِه بذلك. ¬

(¬1) سقط من: م.

5165 - مسألة: (وإن أقر أنه وهب، أو رهن [وأقبض]

وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ، أَوْ رَهَنَ وَأَقبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ، وَقَالَ: مَا قَبَضْتُ وَلَا أَقْبَضْتُ. وَسَأَلَ إِحْلَافَ خَصْمِهِ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5165 - مسألة: (وإن أقَرَّ أنَّه وَهَب، أو رَهَن [وأقْبَضَ] (¬1)، أو أقَرَّ بقَبْضٍ ثَمَنٍ أو غيرِه، ثم أنْكَرَ، وقال: ما قَبَضْت ولا أقْبضْتُ. وسَأَلَ إحْلافَ خصْمِه، فهل تَلْزَمُه اليَمِينُ؟ على وَجْهَيْنِ) وذكَر شيخُنا في كِتابِ «المُغْنِى» (¬2) رِوَايَتَيْنِ؛ إحداهما، لا يُسْتَحْلَفُ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، ومحمدٍ؛ لأَنَّ دَعْواه تَكْذِيبٌ لإِقْرارِه، فلا تُسْمَعُ، كما لو أقَرَّ المُضارِبُ أنَّه رَبِحَ ألفًا، ثم قال: غَلِطْتُ. ولأَنَّ الإِقْرارَ أقْوَى مِن البَيِّنَةِ، ولو شَهِدَتِ البَيِّنةُ ثم قال: أحْلِفُوه لى مع بيِّنَتِه (¬3). لم يُسْتَحْلَفْ، كذا ههنا. والثانيةُ، يُسْتَحْلَفُ. وهو قولُ الشّافعىِّ، وأبى يوسفَ؛ لأَنَّ العادَةَ جارِيةٌ بالإِقْرارِ (¬4) بالقَبْضِ قبله، فيَحْتَمِلُ صِحَّةَ ما قاله، فيَنْبَغِى أن يُسْتَحْلَفَ خَصْمُه لِنَفْىِ الاحْتِمالِ، ويُفارِقُ الإِقْرارُ البَيِّنةَ مِن وَجْهَيْنِ؛ ¬

(¬1) في م: «أو قبض». (¬2) في 7/ 330. (¬3) في م: «بينة». (¬4) في م: «في الإقرار».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُهما، أنَّ العادَةَ جارِيةٌ بالإِقْرارِ بالقَبْضِ قبلَه، ولم تَجْرِ العادَةُ بالشَّهادَةِ على القَبْضِ قَبْلَه (¬1)؛ لأنَّها تكونُ شَهادَةَ زُورٍ. والثانى، أنَّ (¬2) إنْكارَه مع الشَّهادةِ طَعْنٌ في البَيِّنةِ وتَكْذِيبٌ لها، وفى الإِقْرارِ بخِلافِه. ولم يَذْكُرِ القاضِى في «المُجَرَّدِ» غيرَ هذا الوَجْهِ. وكذلك لو أقَرَّ أنَّه اقْتَرضَ منه ألْفًا وقَبَضَها، أو قال: له عَلَىَّ ألْفٌ. ثم قال: ما كنتُ قَبَضْتُها، وإنَّما ¬

(¬1) في م: «قبلها». (¬2) سقط من: م.

5166 - مسألة: (وإن باع شيئا ثم أقر أن المبيع لغيره، لم يقبل قوله على المشترى)

وِإنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ أقَرَّ أنَّ المَبِيعَ لِغَيْرِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِى، وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، وَلَزِمَهُ غَرامَتُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ أقَرَّ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِلْكِى ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ. لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَقْرَرْتُ لأَقْبِضَها. فالحُكْمُ كذلك، ولأنَّه يُمْكِنُ أن يكونَ قد أَقَرَّ بذلك بِنَاءً على قولِ وَكِيلِه وظَنِّه، والشَّهادَةُ لا تجوزُ إلَّا على اليَقِينِ. 5166 - مسألة: (وإن باعَ شيئًا ثم أقَرَّ أنَّ المَبِيعَ لغيرِه، لم يُقْبَلْ قولُه على المُشْتَرِى) لأنَّه يُقِرُّ على غيرِه (ولا يَنْفَسِخُ البَيْعُ) لذلك (ويَلْزَمُه غَرامَتُه للمُقَرِّ له) لأنَّه فَوَّتَه عليه بالبَيْعِ (وكذلك إن وَهَبَه أو أعْتَقَه ثم أقَرَّ به) 5167 - مسألة: (وإن قال: لم يَكُنْ مِلْكِى ثم مَلَكْتُه بعدُ. لم

وَإِنْ كَانَ قَدْ أقَرَّ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَوْ قَالَ: قَبَضْتُ ثَمَنَ مِلْكِى. وَنَحْوَهُ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُقْبَلْ قَوْلُه) لأَنَّ الأَصْلَ أنَّ (¬1) الإنسانَ إنَّما يتَصرَّفُ فيما له التَّصرُّفُ فيه، إلَّا أن يُقِيمَ بَيِّنةً، فيُقْبَلُ ذلك (فإن كان قد أقَرَّ أنَّه مِلْكُه، أو قال: قَبَضْتُ ثمنَ مِلْكِى. أو نحوه، لم تُسْمَعْ بَيِّنتُه أيضًا) لأنَّها تَشْهَدُ بخِلافِ ما أقَرَّ به. فصل: إذا قال: له هذه الدارُ هِبَةً، أو: سُكْنَى، أو: عارِيَّةً. كان إقرارًا بما أَبْدَلَ به كَلامَه، ولم يكُنْ إقْرارًا بالدارِ؛ لأنَّه رَفَعَ بآخِرِ كلامِه بعضَ ما دَخَلَ في أَوَّلِه، فصَحَّ، كما لو أَقَرَّ بجُمْلةٍ واسْتَثْنَى بعضَها. وذكَر القاضِى في هذا وَجْهًا أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه اسْتِثْناءٌ مِن غيرِ الجِنْسِ. وليس هذا اسْتِثْناءً إنَّما هو [بدَلٌ شائِعٌ في اللغةِ، ويُسمَّى] (¬2) بَدَلَ الاشْتِمالِ، ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو أن يُبْدِلَ مِن الشئِ بعضَ ما يَشْتَمِلُ عليه ذلك الشئُ، كقَوْلِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (¬1). فإنَّه أَبدَلَ القِتالَ مِن الشَّهْرِ المُشْتَمِلِ عليه. وقال تعالَى إخبارًا عن فَتَى مُوسَى عليه السلامُ أنَّه قال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (¬2). أى أنْسانِى ذِكْرَه. وإن قال: [له هذه الدارُ] (¬3)، ثُلُثُها، أو: رُبْعُها. صَحَّ، ويكونُ مُقِرًّا بالجُزْءِ الذى أبْدَلَه، وهذا بَدَلُ البَعْضِ، وليس ذلك اسْتِثْناءً، ومنه قولُه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬4). ولكنَّه في مَعْنَى الاسْتِثْناءِ، في كَوْنِه يُخْرِجُ مِن الكَلامِ بعضَ ما يَدْخُلُ فيه لَوْلَاه، ويُفارِقُه في أنَّه يجوزُ أن يَخْرُجَ أكْثَرُ مِن النصْفِ، وأنَّه يجوزُ إبْدالُ الشئِ مِن غيرِه إذا كان مُشْتَمِلًا عليه، ألا تَرَى أنَّ اللَّهَ تعالى أبْدَلَ المُسْتَطِيعَ للحَجِّ مِن الناسِ، وهو أقَلُّ مِن نِصْفِهم (¬5)، وأَبْدَلَ القِتَالَ مِن الشَّهْرِ الحَرامِ، وهو غيرُه؟ ومتى قال: له هذه (¬6) الدارُ سُكْنَى، أو: عارِيّةً. ثَبَت فيها حُكْمُ ذلك، وله أن لا (¬7) يُسْكِنَه إيّاها، ¬

(¬1) سورة البقرة 217. (¬2) سورة الكهف 63. (¬3) في الأصل: «هذه الدار له». (¬4) سورة آل عمران 97. (¬5) في الأصل: «بعضهم». (¬6) في الأصل: «في هذه». (¬7) سقط من النسخ، والمثبت من المغنى 7/ 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن يَعُودَ فيما أعَارَه. واللَّهُ أعْلَمُ. فصل: إذا قال: بِعْتُكَ جارِيَتِى. هذه. قال: بل زَوَّجْتَنِيها. فلا يَخْلُو؛ إمّا أن يكونَ اخْتِلافُهُما قبلَ نَقْدِ الثمنِ أو بعدَه، وقبلَ الاسْتِيلادِ أو بعدَه، فإن كان بعدَ اعْتِرافِ البائعِ بقَبْضِ الثَّمَنِ، فهو مُقِرٌّ بها لمُدَّعِى الزَّوْجِيَّةِ؛ لأنَّه (¬1) يَدَّعِى عليه شيئًا، والزَّوْجُ يُنْكِرُ أنَّها مِلْكُه، ويَدَّعِى حِلَّها بالزَّوْجيَّةِ، فيَثْبُتُ الحِلُّ؛ لِاتِّفاقِهما عليه، ولا تُرَدُّ إلى البائعِ، لاتِّفاقِهما أنَّه لا يَستَحِقُّ أخْذَها. وإن كان قبلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وبعدَ الاسْتِيلادِ، فالبائِعُ يُقِرُّ أنَّها صارت أُمَّ وَلَدٍ، ووَلَدَها حُرٌّ، وأنَّه لا مَهْرَ له (¬2)، ويَدَّعِى الثمنَ، والمُشْتَرِى يُنْكِرُ ذلك كلَّه، فيُحْكَمُ بحُرِّيَّةِ الوَلَدِ؛ لإِقْرارِ مَن يُنْسَبُ إليه مِلْكُه بحُرِّ. ليه، ولا وَلَاءَ عليه؛ لِاعْتِرافِه بأنَّه حُرُّ الأَصْلِ، ولا تُرَدُّ الأمَةُ إلى البائعِ؛ لِاعْتِرافِه بأنَّها أُمُّ وَلَدٍ، لا يجوزُ نَقْلُ المِلْكِ فيها. ويَحْلِفُ المُشْتَرِى أنَّه ما اشْتَراها، ويَسْقُطُ عنه الثَّمنُ إلَّا قَدْرَ المَهْرِ، فإنَّه يَجِبُ؛ لِاتِّفاقِهِما على وُجُوبِه، وإنِ اخْتُلِفَ في سَبَبِه. وهذا قولُ بعضِ أصحابِ الشّافعىِّ. وقال بعضُهم: يَتَحالَفَانِ (¬3)، ولا يَجبُ مَهْرٌ ولا ثَمَنٌ. وهو قولُ القاضِى، إلَّا أنَّه لا يَجْعَلُ على البائعِ يَمِينًا؛ لأَنَّه لا يَرَى اليَمِينَ في إنْكارِ النِّكاحِ. ونَفَقةُ الوَلَدِ على أبِيه؛ لأنَّه حُرٌّ، ¬

(¬1) في الأصل: «لا». (¬2) في م: «لها». (¬3) في الأصل: «هم يتحالفون».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونَفَقةُ الأمَةِ على زَوْجِها؛ لأنَّه إمَّا زَوْجٌ وإمّا سَيِّدٌ، وكِلاهُما سَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقةِ. وقال القاضِى: نَفَقَتُها في كَسْبِها، فإن كان فيه فَضْلٌ، فهى مَوْقُوفةٌ؛ لأنَّنا أزَلْنا عنها مِلْكَ السَّيِّدِ، وأثْبَتْنا لها حُكْمَ الاسْتِيلادِ، فإن ماتَت وتَرَكَتْ مالًا، فلِلبائعِ قَدْرُ ثَمَنِها؛ لأنَّه إمّا أن يكون صادِقًا، فهو يَسْتَحِقُّ على المُشْتَرِى ثَمَنَها، وتَرِكَتُها للمُشْتَرِى، والمُشْتَرِى مُقِرٌّ للبائعِ بها، فيَأْخُذُ منها قَدْرَ ما يَدَّعِيه، وإن كان كاذِبًا، فهى مِلْكُه، وتَرِكَتُها كلُّها له، فيَأْخُذُ منها قَدْرَ ما يَدَّعِيه، وبَقيَّتُه مَوْقُوفةٌ (¬1). وإن ماتَتْ بعدَ الواطِئِ (¬2)، فقد ماتَتْ حُرَّةً، ومِيراثُها لوَلَدِها وَوَرَثَتِها (¬3). فإن لم يكُنْ لها وارِثٌ، فمِيراثُها مَوْقوفٌ؛ لأَنَّ أحَدًا لا يَدَّعِيه، وليس للسَّيِّدِ أن يَأْخُذَ منه قَدْرَ الثَّمَنِ؛ لأنَّه يَدَّعِى الثمنَ على الواطِئِ، ومِيراثُها ليس له؛ لأنَّه قد مات قَبْلَها. وإن كان اخْتِلافُهُما قبلَ الاسْتِيلادِ، فقال شيخُنا (¬4): عندى أنَّها تُقَرُّ في يَدِ الزَّوْجِ؛ لِاتِّفاقِهما على حِلها له، واسْتِحْقاقِه إمْساكَها، وإنَّما اخْتَلَفا في السَّبَبِ، ولا تُرَدُّ إلى السَّيِّدِ؛ لِاتِّفاقِهِما على تَحْرِيمِها عليه. وللبائِعِ أقَلُّ الأمْرَيْنِ مِن الثَّمَنِ أو المَهْرِ؛ لِاتِّفاقِهِما (¬5) على اسْتِحْقاقِه لذلك. والأمْرُ في الباطِنِ على ذلك، فإنَّ ¬

(¬1) في الأصل: «موقوف». (¬2) في م: «الوطء». (¬3) في الأصل: «وورثها». (¬4) في: المغنى 7/ 312. (¬5) في الأصل: «لاتفاقه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السَّيِّدَ إن كان صادِقًا، فالأمَةُ حَلَالٌ لِزَوْجِها بالبَيْعِ، وإن كان كاذِبًا، فهى حَلَالٌ له بالزَّوْجِيَّةِ. والقَدْرُ الذى اتَّفَقا عليه، إن كان السيدُ صادِقًا، فهو يَسْتَحِقُّه ثَمَنًا، وإن كان كاذِبًا، فهو يَسْتَحِقه مَهْرًا. وقال القاضى: يَحْلِفُ الزَّوْجُ أنَّه ما اشْتَراها؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، ويَسْقُطُ عنه الثمنُ، ولا يَحْتاجُ السَّيِّدُ إلى اليَمِينِ على نَفْى الزَّوْجِيَّةِ؛ لأنَّه لا يُسْتَحْلَفُ فيه. وعندَ الشّافعىِّ، يَتَحالَفانِ معًا، ويَسْقُطُ الثمنُ عن الزَّوْجِ؛ لأَنَّ البَيْعَ ما ثَبَتَ، ولا يَجِبُ المَهْرُ؛ لأَنَّ السَّيِّدَ لا يَدَّعِيه، وتُرَدُّ الجارِيةُ إلى سَيِّدِها. وفى كَيْفِيّةِ رُجُوعِها وجهان؛ أحدُهما، تَرْجِعُ إليه، فيَمْلِكُها ظاهِرًا وباطِنًا، كما يَرْجِعُ البائعُ في السِّلْعةِ عند فَلَسِ المُشْتَرِى بالثَّمنِ؛ لأَنَّ الثَّمَنَ ههُنا قد تَعَذَّرَ، فيَحْتاجُ السَّيِّدُ أن يقولَ: فَسَخْتُ البَيْعَ. وتَعُودُ إليه مِلْكًا. والثانى، تَرْجعُ إليه في الظاهِرِ دونَ الباطِنِ؛ لأنَ المُشْتَرِىَ امْتَنَعَ مِن أدَاءِ الثَّمَنِ مع إمكانِه. فعلى هذا، يَبِيعُها الحاكِمُ ويُوَفِّيه ثَمَنَها، فإن كان وَفْقَ (¬1) حَقِّه أو دُونَه، أخَذَه (¬2)، وإن زادَ، فالزِّيادَةُ لا يَدَّعِيها أحَدٌ؛ لأَنَّ المُشْتَرِىَ يُقِرُّ بها للبائعِ، والبائِعُ لا يَدَّعِى أكْثَرَ مِن الثَّمَنِ الأَوَّلِ، فهل تُقَرُّ في يَدِ المُشْتَرِى أو تَرْجِعُ إلى بَيْتِ المالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. فإن رَجَعَ البائعُ فقال: صَدَقَ خَصْمِى، ما بِعْتُه إيّاها، بل زَوَّجْتُه. لم يُقْبَلْ في إسْقاطِ حُرِّيَّةِ الوَلَدِ، ولا في اسْتِرْجاعِها إن صارت أُمَّ وَلَدٍ، وقُبِلَ في إسْقاطِ ¬

(¬1) في الأصل: «فوق». (¬2) في م: «أخذها».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّمَنِ، واسْتِحْقاقِ [المهرِ، وأخذِ زيادةِ الثمنِ، واستحقاقِ] (¬1) مِيراثِها ومِيراثِ وَلَدِها. وإن رَجَعَ الزَّوْجُ، ثَبَتَتِ الحُرِّيَّةُ، ووَجَبَ عليه الثَّمنُ. فصل: ولو أقَرَّ رَجُلٌ بحُرِّيَّةِ عَبْدٍ، ثم اشْتَراه، أو شَهِدَ رَجُلانِ بحُرِّيَّةِ عَبْدٍ لغَيْرِهما (¬2)، ثم اشْتَراه أحَدُهُما مِن سَيِّدِه، عَتَق في الحالِ، لِاعْتِرافِه بأنَّ الذى اشْتَراه حُرٌّ، ويكونُ البَيْعُ صَحِيحًا بالنِّسْبةِ إلى البائعِ؛ لأنَّه مَحْكومٌ له بِرِقِّه، وفى حَقِّ المُشْتَرِى اسْتِنْقَاذًا، فإذا صار في يَدَيْهِ، حُكِمَ بحُرِّيَّته، لإِقْرارِه السابِقِ، ويَصِيرُ كما لو شَهِدَ رَجُلانِ على رَجُلٍ أنَّه طَلَّقَ زَوْجَتَه ثَلاثًا، فَردَّ الحاكِمُ شَهادَتَهما، فدَفَعا إلى الزَّوْجِ عِوَضًا لِيَخْلَعَها، صَحَّ، وكان في حَقِّهِ خُلْعًا صَحِيحًا، وفى حَقِّهِما اسْتِخْلاصًا، ويكونُ وَلاؤُه مَوْقُوفًا، لأَنَّ أحدًا لا يَدَّعِيه، فإنَّ البائعَ يقولُ: ما أعْتَقْتُه (¬3). والمُشْتَرِى يقولُ: ما أعْتَقَه إلَّا البائعُ، وأنا اسْتَخْلَصْتُه. فإن ماتَ وخَلَّفَ مالًا، فرَجَعَ أحَدُهما عن قولِه، فالمالُ له؛ لأَنَّ أحَدًا لا يَدَّعِيه سِوَاه، لأَنَّ الرَّاجِعَ إن كان البائعَ، فقال: صَدَقَ المُشْتَرِى، كنتُ أعْتَقْتُه. فالوَلاءُ له، ويَلْزَمُه رَدُّ الثَّمنِ إلى المُشْتَرِى، لإِقْرارِه بِبُطْلانِ البَيْعِ. وإن كان الراجعُ المُشْتَرِىَ، قُبلَ في المالِ، لأَنَّ أحدًا لا يَدَّعِيه سِوَاه، ولا يُقْبَلُ قولُه في نَفْى الحُرِّيَّةِ؛ لأَنَّها حَقٌّ لغيرِه. وإن رَجَعا معًا، ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في المغنى 7/ 313: «فرُدت شهادتهما». (¬3) في الأصل: «عتقته».

فصل

فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ، لَا بَلْ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فيَحْتَمِلُ أن يُوقَفَ حتى يَصْطَلِحا عليه؛ لأنَّه لأَحَدِهما، ولا نَعْرِفُ عَيْنَه. ويَحْتَمِلُ أنّ مَن هو في يَدِه [يَأْخُذُه، ويَحْلِفُ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ. وإن لم يَرْجِعْ واحدٌ منهما، فَفِيه وَجْهانِ؛ أحدُهما، يُقَرُّ في يَدِ مَن هو في يَدِه] (¬1). فإن لم يكُنْ في يَدِ أحَدِهما، فهو لِبَيْتِ المالِ؛ لأَنَّ أحدًا لا يَدَّعِيه. ويَحْتَمِلُ أن يكونَ لِبَيْتِ المالِ على كل حالٍ؛ لذلك (¬2). فصل: ولو أقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ أو غيرِه، ثم جاءه (¬3) به، وقال: هذا الذى أقْرَرْتُ لك به. قال: بل هو غيرُه. لم يَلْزَمْه (¬4) تَسْلِيمُه إلى المُقَرِّ له؛ لأنَّه لا يَدَّعِيه، ويَحْلِفُ المُقِرُّ أنَّه ليس له عندَه عَبْدٌ سِوَاهُ. فإن رَجَعَ المُقَرُّ له فادَّعاه، لَزِمَه دَفْعُه إليه؛ لأنَّه لا مُنازِعَ له فيه. وإن قال المُقَرُّ له: صَدَقْتَ، والذى أقْرَرْتَ به آخَرُ لى عِنْدَكَ. لَزِمَه تَسْلِيمُ هذا، ويَحْلِفُ على نَفْىَ الآخَرِ. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (وإذا قال: غَصبْتُ هذا العَبْدَ مِن ¬

(¬1) سقط من: الأصل. (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) في م: «جاء». (¬4) في الأصل: «يلزم».

عَمْرٍو. أَوْ: مَلَّكْتُهُ لِعَمْرٍو وَغَصَبْتُهُ مِنْ زَيْدٍ. لَزِمَهُ دَفْعُهُ إِلَى زَيْدٍ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو. ـــــــــــــــــــــــــــــ زَيْدٍ، لا بل مِن عَمْرٍو. أو: [مَلَّكْتُه لعَمرٍو وغَصَبْتُه مِن زَيْدٍ] (¬1). لَزِمَه دَفْعُه إلى زَيْدٍ، ويَغْرَمُ قِيمَتَه لعَمْرٍو) إذا قال: غَصَبْتُ هذا العَبْدَ مِن زَيْدٍ، لا بَلْ مِن عَمْرٍو. حُكِمَ به لِزَيْدٍ، ولَزِمَه تَسْلِيمُه إليه، ويَغْرَمُه (¬2) لِعَمْرٍو. وبهذا قال أبو حنيفةَ. وهو ظاهِرُ مَذْهبِ الشّافعىِّ. وقال في الآخرِ: لا يَضْمَنُ لِعَمْرٍو شيئًا. ولَنا، أنَّه أقَرَّ بالغَصْبِ المُوجِبِ للضَّمانِ والرَّدِّ إلى المَغْصُوبِ منه، ثم لم يَرُدَّ ما أقَرَّ بغَصْبِه (¬3)، فلَزِمَه ضَمانُه، كما لو تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تعالى. قال أحمدُ في رِوايةِ ابنِ مَنْصُورٍ، في رَجُلٍ قال لِرَجُلٍ: اسْتَوْدَعْتُكَ هذا الثَّوْبَ. قال: صَدَقتَ. ثم قال: اسْتَوْدَعَنِيهِ (¬4) رَجُلٌ آخَرُ. فالثَّوْبُ للأوَّلِ، ويَغْرَمُ قِيمَتَه للآخرِ. ولا فَرْقَ [في ذلك] (¬5) بينَ أن يكونَ إقْرارُه بكَلامٍ مُتَّصِلٍ أو مُنْفَصِلٍ. ¬

(¬1) في م: «غصبته من زيد وملكه لعمرو». (¬2) في م: «يغرم». (¬3) في م: «بعضه». (¬4) في الأصل: «استودعته». (¬5) سقط من: م.

5168 - مسألة: وإن قال: ملكته

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5168 - مسألة: وإن قال: مَلَّكْتُه (¬1) لِعَمْرٍو وغَصَبْتُه مِن زَيْدٍ. فهى كالمسألةِ التى قَبلَها، لا (¬2) فَرْقَ بينَ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والمُتَّصِلِ والمُنْفَصِلِ. وقيل: يَلْزَمُه دَفْعُه إلى عَمْرٍو، ويَغْرَمُه لِزَيْدٍ، لأنَّه لَمَّا أقَرَّ به لِعَمْرو أَوَّلًا، لم يُقْبَلْ إقْرارُه باليَدِ لِزَيْدٍ. قال شيخُنا (¬3): وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ. ولأصْحابِ الشّافعىِّ وَجْهانِ كَهذَيْنِ. ¬

(¬1) في م: «ملكه». (¬2) في م: «ولا». (¬3) في: المغنى 7/ 280.

5169 - مسألة: (وإن قال: غصبته من أحدهما)

وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. أُخِذَ بِالتَّعْيِينِ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: ولو قال: هذا الألْفُ دَفَعَه إلَىَّ زَيْدٌ وهو لِعَمْرٍو. أو قال: هو لِعَمْرٍو ودَفَعَه إلَىَّ زَيْدٌ. فكذلك، على ما مَضَى مِن القَوْلِ فيه. 5169 - مسألة: (وإن قال: غَصَبْتُه مِن أحَدِهما) أو: هو لأحَدِهما. صَحَّ الإِقْرارُ؛ لأنَّه يَصِحُّ بالمَجْهُولِ، فصَحَّ للمَجْهُولِ، ثم

عَيَّنَهُ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ. وَإِنْ قَالَ: لَا اعْرِفُ عَيْنَهُ. فَصَدَّقَاهُ، انتُزِعَ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَا خَصْمَيْنِ فِيهِ. وَإِنْ كَذَّبَاهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِيِنِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ يُطالَبُ بالبَيانِ، فإن عَيَّنَ أحَدَهُما، دُفِع إليه (ويَحْلِفُ للآخَرِ) إنِ ادَّعاه، ولا يَغْرَمُ له شيئًا؛ لأنَّه لم يُقِرَّ له بشئٍ (وإن قال: لا أعْرِفُ عَيْنَه. فصَدَّقَاه، نُزِعَ مِن يَدِه، وكانا خصْمَيْنِ فيه. وإن كَذَّباهُ، فعليه اليَمِينُ) أنَّه لا يَعْلَمُ، ويُنْتَزَعُ (¬1) مِن يَدِه. فإن كان لأحَدِهما بَيِّنةٌ، حُكِمَ له بها، وإن لم تَكُنْ بَيِّنةٌ، أَقْرَعْنا بينَهما، فمَن قَرَعَ صاحِبَه حَلَف، وسُلِّمَتْ إليه. وإن بَيَّنَ الغاصِبُ بعدَ ذلك مالِكَها، قُبِل منه، كما لو بَيَّنَه ابْتِداءً. ويَحْتَمِلُ أنَّه إذا ادَّعَى كلُّ (¬2) واحدٍ أنَّه المَغْصوبُ منه، تَوَجَّهَتْ عليه اليَمِينُ لكلِّ واحدٍ منهما أنَّه لم يَغْصِبْه، فإن حَلَف لأحَدِهما، لَزِمَه دَفْعُها إلى الآخَرِ؛ لأَنَّ ذلك يَجْرِى مَجْرَى تَعْيِينِه. وإن نَكَلَ عن اليَمِينِ لهما جَمِيعًا، فسُلِّمَتْ إلى أحَدِهما بِقُرْعةٍ أو غيرِها، لَزِمَه غُرْمُها للآخَرِ؛ لأنَّه نَكَلَ عن يَمينٍ تَوَجَّهَتْ عليه، فَقُضِىَ عليه، كما لو ادَّعاها وَحْدَه. فصل: وإن كان في يَدِه عَبْدانِ، فقال: أحَدُ هذَيْنِ لزَيْدٍ. طُولِبَ ¬

(¬1) في م: «ينزع». (¬2) سقط من: الأصل.

5170 - مسألة: (وإن أقر بألف فى وقتين، لزمه ألف واحد)

وَإِنْ أقَرَّ بِأَلْفٍ فِى وَقْتَيْنِ، لَزِمَهُ أَلْفٌ وَاحِدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالبَيانِ، فإذا عَيَّنَ أحَدَهما فصَدَّقَه زَيْدٌ، أخَذَه. وإن قال: هذا لى، والعَبْدُ الآخَرُ لزيدٍ (¬1). فعليه اليَمِينُ في الذى يُنْكِرُه. وإن قال زَيْدٌ: إنَّما لىَ العَبْدُ الآخَرُ. فالقولُ قولُ المُقِرِّ مع يَمِينِه في العَبْدِ الذى يُنْكِره، ولا يَدْفَعُ إلى زَيْدٍ العَبْدَ الذى يُقِرُّ به له، ولكن يُقَرُّ في يَدِ المُقِرِّ؛ لأنَّه لم يَصِحَّ إقْراره به، في أحَدِ الوَجْهينِ. وفى الآخَرِ، يُنْزَعُ مِن يَدِه؛ لِاعْتِرافِه أنَّه لا يَمْلِكُه، ويكونُ في بَيْتِ المالِ؛ لأنَّه لا مالِكَ له مَعْرُوفٌ، فأشبَهَ مِيراثَ مَن لا يُعْلَمُ وارِثُه. فإن أبَى التَّعْيينَ، فعَينَّهَ المُقَرُّ له، وقال: هذا عَبْدِى. طُولِبَ بالجَوابِ، فإن أنْكَرَ، حَلَفَ، وكان بمَنزِلةِ تَعْينِه للآخَرِ، وإن نَكَلَ عن اليَمينِ، قُضِىَ عليه، وإن أقَرَّ له، فهو كتَعْيينِه. فصل: إذا قال: هذه الدّارُ لِزَيْدٍ، لا بَلْ لِعَمْرٍو. أو ادَّعَى زَيْدٌ على مَيِّتٍ شيئًا مُعَينًا مِن تَرِكَتِه، فصَدَّقَه ابْنُه، ثم ادَّعَاه عَمْرٌو، فصَدَّقَه، حُكِمَ به لِزَيْدٍ، وَوَجَبَ عليه غَرَامَتُه لِعَمْرٍو. وسَنَذْكُرُ ذلك فيما بعدُ، إن شاءَ اللَّهُ تعالى. 5170 - مسألة: (وإن أقَرَّ بأَلْفٍ في وَقْتَيْنَ، لَزِمَه ألْفٌ واحدٌ) وبهذا قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حنيفةَ: يَلْزَمُه ألْفانِ، كما لو قال: له عَلَىَّ ¬

(¬1) تكملة من المغنى 7/ 280.

5171 - مسألة: (وإن أقر بألف من ثمن عبد، ثم أقر بألف من ثمن فرس، أو قرض، لزمه ألفان)

وَإِنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ فَرَسِ، أَوْ قَرْضٍ، لَزِمَهُ أَلْفَانِ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا فِى يَدِ غَيْرِهِمَا شَرِكَةً بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا، فَالمُقَرُّ بِهِ بَيْنَهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ ألْفٌ وأَلْفٌ، ولا فَرْقَ بينَ أن يكُونَ في وَقْتٍ واحدٍ أو أوْقاتٍ، أو مَجْلِسٍ واحدٍ أو مَجالِسَ. ولَنا، أنَّه يجوزُ أن يكونَ قد كَرَّرَ الخَبَرَ عن الأَوَّلِ، كما كَرَّرَ اللَّهُ الخَبَرَ عن إرْسالِه نُوحًا وهُودًا وصالحًا وشُعَيْبًا وإبراهيمَ ومُوسَى وعِيسَى، عليهم السلامُ، ولم يَكُنِ المَذْكورُ في قِصّةٍ غيرَ المَذْكُورِ في الأُخْرَى، كذا ههنا. [فإن وَصَف أَحدَهما وأَطْلَق الآخَرَ، فكذلك] (¬1)؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ المُطْلَقُ هو المَوْصُوفَ، أطْلَقَه في حالٍ، وَوَصَفَه في حالٍ، وإن وَصَفَه بصِفَةٍ واحدةٍ في المَرَّتَيْنِ، كان تَأْكيدًا؛ لِما ذكَرْنا. 5171 - مسألة: (وإن أقَرَّ بأَلْفٍ مِن ثمَنَ عَبْدٍ، ثم أقَرَّ بأَلْفٍ مِن ثَمَنِ فَرَسٍ، أو قَرْضٍ، لَزِمَه ألْفانِ) وكذلك إن قال: ألفُ درهمٍ سودٌ، وألفُ درهمٍ بيضٌ. لأَنَّ الصِّفَةَ اختلفت، فهما متغايران. 5172 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى رَجُلانِ دارًا في يَدِ غيرِهما شَرِكةً ¬

(¬1) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بينَهما بالسَّوِيَّةِ، فأَقرَّ لأحَدِهما بنصفِها، فالمُقَرُّ به بينَهما) نِصْفانِ (¬1). وجملةُ ذلك، أنَّهما إذا ادَّعَيا أنَّهما مَلَكَاها بِسَببٍ يُوجِبُ الاشْتِراكَ، مثلَ أن يَقُولَا: وَرِثْناها. أو (¬2): ابْتَعْناها معًا. فأقَرَّ المُدَّعَى عليه لأحدِهما (¬3) بنِصْفِها، فذلك (¬4) لهما جميعًا؛ لأنَّهما اعْتَرفَا أنَّ الدّارَ لهما مُشَاعةً، فإذا غَصَب غاصِبٌ نِصْفَها، كان منهما، والباقى بينَهما، وإن لم يكونا ادَّعيا شيئًا يَقْتَضِى الاشتراكَ، بل ادَّعىِ كلُّ واحدٍ منهما نِصْفَها (¬5)، فأقَرَّ لأحَدِهَما بما ادَّعَاه، لم يُشَارِكْه الآخرُ، وكان على خُصُومَتِه؛ لأنَّهما لم يَعْتَرِفا بالاشْتِراكِ، فإن أقَرَّ لأَحدِهما بالكُلِّ، وكان المُقَرُّ له يَعْتَرِفُ للآخَرِ بالنِّصْفِ، سَلَّمَه إليه، وكذلك إن كان قد تَقَدَّمَ إقْرارُه بالنِّصْفِ، وجَبَ تَسْلِيمُه إليه؛ لأَنَّ الذى هى في يَدِه قد اعْتَرفَ له بها، فصار بمَنْزِلَتِه، فَيَثْبُتُ (¬6) لمَن يُقِرُّ له، وإن لم يكُنِ اعْتَرفَ للآخَرِ، وادَّعَى جَمِيعَها، أو ادَّعَى أكْثَرَ مِن النِّصْفِ، فهو له. فإن قِيلَ: فكَيْفَ يَمْلِكُ جَمِيعَها ولم يَدَّعِ إلَّا نِصْفَها؟ قلنا: ليس مِن شَرْطِ (¬7) صِحّةِ ¬

(¬1) زيادة من: م. (¬2) في م: «و». (¬3) سقط من: م. (¬4) في الأصل: «فكذلك». (¬5) سقط من: م. (¬6) في م: «فثبتت». (¬7) سقط من: الأصل.

5173 - مسألة: (وإن قال فى مرض موته: هذا الألف لقطة، فتصدقوا به. لزم الورثة الصدقة بثلثه)

وَإِنْ قَالَ فِى مَرَضِ مَوْتِهِ: هَذَا الْمَالُ لُقَطَةٌ، فَتَصَدَّقُوا بِهِ. وَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الإِقْرارِ تَقَدُّمُ الدَّعْوَى، بل متى أقَرَّ بشئٍ لإِنْسانٍ فصَدَّقَه المُقَرُّ له، ثَبَتَ، وقد وُجِدَ التَّصْدِيقُ ههُنا في النِّصْفِ الذى لم يَسْبِقْ دَعْواه، ويجوزُ أن يكونَ اقْتَصرَ على دَعْوَى النِّصْفِ؛ لأَنَّ له حُجَّةً به، أو لأَنَّ النِّصْفَ الآخَرَ قد اعْتَرَفَ له به، فادَّعَى (¬1) النِّصْفَ الذى لم يَعْتَرِفْ له به. فإن لم يُصَدِّقْه في إقْرارِه بالنِّصْفِ الذى لم يَدَّعِه، ولم يَعْتَرِفْ به للآخَرِ (¬2)، ففيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ؛ أحدُها، يَبْطُلُ الإقرارُ؛ لأنَّه أقَرَّ لمَن لا يَدَّعِيه. الثانى، يَنْزِعُه الحاكِمُ حتى يَثْبُتَ لِمُدَّعِيه، ويُؤْجِرُه، ويَحْفَظُ أُجْرَتَه لِمَالِكِه. والثالثُ، يُدْفَعُ إلى مُدَّعِيه؛ لِعَدَمِ المُنازِعِ (¬3) فيه. ومَذْهَبُ الشّافِعِىِّ في هذا الفَصْلَ على نحوِ ما ذَكَرْنا. 5173 - مسألة: (وإن قال في مَرَضِ مَوْتِه: هذا الألْفُ لُقَطَةٌ، فتَصَدَّقُوا به. لَزِمَ الوَرَثَةَ الصَّدَقَةُ بثُلُثِه) قال أبو الخَطّابِ: إذا لم يَكُنْ له ¬

(¬1) في الأصل: «فادعوى». (¬2) في م: «الآخر». (¬3) في م: «التنازع».

فصل

مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، لَزِمَ الْوَرَثَةَ الصَّدَقَةُ بِثُلُثِهِ. وَحُكِىَ عَنِ الْقَاضِى، أَنَّهُ تلزَمُهُمُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ. فَصْلٌ: اذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ مِائَةً، فَادَّعَاهَا رَجُلٌ، فَأَقَرَّ ابْنُهُ لَهُ بِهَا، ثُمَّ ادَّعَاهَا آخَرُ، فَأقَرَّ لَهُ، فَهِىَ لِلأَوَّلِ، وَيَغْرَمُهَا لِلثَّانِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالٌ غيرُه؛ لأنَّه جَمِيعُ مالِه، والأمْرُ بالصَّدَقَةِ وَصِيَّةٌ بجَمِيع المالِ، فلا يَلْزَمُ منه إلَّا الثُّلُثُ (وحُكِىَ عن القاضِى، أنَّه تَلْزَمُهم الصَّدَقة بجَمِيعِه) لأَنَّ أمْرَه بالصَّدَقَةِ به يَدُلُّ على تَعَدِّيه فيه على وَجْهٍ يَلْزَمُهم الصَّدَقَةُ بجَمِيعِه، فيكونُ ذلك إقْرارًا منه لغيرِ وارِثٍ، فيَجِبُ امْتِثالُه. فصل: قال الشَّيْخُ، رَحِمَه اللَّهُ: (إذا ماتَ رَجُل وخَلَّفَ مائةً، فادَّعاها رَجُلٌ، فأقَرَّ ابْنُه له بها، ثم ادَّعَاها آخَرُ، فأقَرَّ له، فهى للأَوَّلِ، ويَغْرَمُها للثانِى) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا ادَّعَى زَيْدٌ على مَيِّتٍ شيئًا مُعَيَّنًا مِن

5174 - مسألة: (وإن أقر بها لهما معا، فهى بينهما)

وَإِنْ أقَرَّ بِهَا لَهُمَا جَمِيعًا، فَهِىَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ أَقَرّ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، فَهىَ لَهُ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تَرِكَتِه، فصَدَّقَه ابْنُه، ثم ادَّعَاه عَمْرٌو، فصَدَّقَه، أو قال: هذه الدارُ لزَيْدٍ، لا بَلْ لِعَمْرٍو. حُكِمَ بها لِزَيْدٍ، وعليه غَرامَتُها لِعَمْرٍو. وهذا أحَدُ قَوْلَى الشّافِعِىِّ. وقال في الآخَرِ: لا يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شيئًا. وهو قولُ أبى حنيفةَ؛ لأنَّه أقَرَّ له بما وَجَبَ عليه الإِقْرارُ به، وإنَّما مَنَعه الحُكْمُ مِن قَبُولِه، وذلك لا يُوجِبُ الضَّمانَ. ولَنا، أنَّه حالَ بينَ عَمْرٍو وبينَ مِلْكِه الذى أقَرَّ له به بإقْرارِه لغيرِه، فلَزِمَه غُرْمُه، كما لو شَهِدَ رَجُلانِ على آخَرَ بإعْتاقِ عَبْدِه، ثم رَجَعَا عن الشَّهادة، أو كما لو رَمَى به في البَحْرِ، ثم أقَرَّ به. 5174 - مسألَة: (وإن أقَرَّ بها لهما معًا، فهى بَيْنَهما) لتَساوِيهما في الدَّعْوَى والإقْرارِ لهما. 5175 - مسألة: (وإن أقَرَّ لأحَدِهما وحدَه، فهى له، ويَحْلِفُ للآخَرِ) أنَّه (¬1) لا يَعْلَمُ أنَّها له، وإن نَكَلَ قضِىَ عليه بالنُّكُولِ؛ لأَنَّ النُّكُولَ كالإِقْرارِ، ولو أقَرَّ لَزِمَه الغُرْمُ، فكذلك إذا نَكَلَ عن اليَمِينِ. ¬

(¬1) في الأصل: «لأنه».

5176 - مسألة: (وإن ادعى رجل على الميت مائة دينا، فأقر له، ثم ادعى آخر مثل ذلك، فأقر له؛ فإن كان فى مجلس واحد، فهى بينهما، وإن كان فى مجلسين، فهى للأول، ولا شئ للثاني)

وَإِنِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ مِائَةً دَيْنًا، فَأَقَرَّ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقرَّ لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ فِى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَهِىَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِى مَجْلِسَيْنِ، فَهِىَ لِلأَوَّلِ، وَلَا شَىْءَ لِلثَّانِى. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5176 - مسألة: (وإنِ ادَّعَى رَجُلٌ على المَيِّتِ مائةً دَيْنًا، فأقَرَّ له، ثم ادَّعَى آخَرُ مثلَ ذلك، فأقَرَّ له؛ فإن كان في مَجْلِسٍ واحدٍ، فهى بَيْنَهُما، وإن كان في مَجْلِسَيْنِ، فهى للأوَّلِ، ولا شئَ للثاني) وجملةُ ذلك، أنَّ المَيِّتَ إذا خَلَّفَ وارِثًا وتَرِكةً، فأقَرَّ الوارثُ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ على المَيِّتِ يَسْتَغْرِقُ المِيراثَ، فقد أقَرَّ بتَعَلّقِ دَيْنِه بجَمِيعِ التَّركةِ واسْتِحْقاقِه لها، فإذا أقَرَّ بعدَ ذلك لآخَرَ وكان في المَجْلِسِ، صَحَّ الإِقْرارُ واشْتَرَكا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في التَّرِكةِ؛ لأَنَّ (¬1) حالةَ المَجْلِسِ كُلَّها (¬2) كحالةٍ واحدةٍ، بدَلِيلِ صِحَّةِ القَبْضِ بها (¬3) فيما يُعْتَبَرُ القَبْضُ فيه، وإمْكانِ الفَسْخِ فيه، ولُحُوقِ الشَّهادَةِ (¬4) في العَقْدِ، فكذلك في الإِقْرارِ. وإن كان في مَجْلِسٍ آخَرَ، لم يُقْبَلْ إقْرارُه؛ لأنَّه يُقِرُّ بحَقٍّ على غيرِه، فإنَّه يُقِرُّ بما يَقْتَضِى مُشارَكةَ الأَوَّلِ في التَّرِكةِ، ويَنْقُصُ حَقَّه منها، ولا يُقْبَلُ إقْرارُ الإنْسانِ على غيرِه. وقال الشّافعىُّ: يُقْبَلُ إقْرارُه، ويَشْتَرِكانِ فيها؛ لأَنَّ الوارِثَ يَقُومُ مَقامَ المَوْرُوثِ، ولو أقَرَّ المَوْرُوثُ لهما لَقُبِلَ، فكذلك الوارِثُ، ولأَنَّ مَنْعَه مِن الإِقْرارِ يُفْضِى إلى إسْقاطِ حَقِّ الغُرَماءِ؛ لأنَّه قد لا يَتَّفِقُ حُضُورُهُم في مَجْلِس واحدٍ، فيَبْطُلُ حَقُّه بغَيْبَتِه (¬5)، ولأَنَّ مَن قُبِلَ إقْرارُه أوَّلًا، قبِلَ إقْرارُه ثانيًا إذا لم تَتَغَيَّرْ حالُه، كالمَوْروثِ. ولَنا، أنَّه إقْرارٌ بما يتَعَلّقُ بمَحَلٍّ تَعَلَّقَ به حَقُّ غيرِه، تَعَلُّقًا يَمْنَعُ تَصَرُّفَه فيه على وَجْهٍ [يَضُرُّ به] (¬6)، فلم يُقْبَلْ، كإقْرارِ الرّاهِنِ بجِنايةِ (¬7) الرَّهْنِ أو الجانِى. وأمّا المَوْرُوثُ، ¬

(¬1) بعده في م: «التركة». (¬2) سقط من: م. (¬3) زيادة من: م. (¬4) في م: «الزيادة». (¬5) في م: «بتعيينه». (¬6) في الأصل: «بصرفه». (¬7) بعده في م: «على».

5177 - مسألة: (وإن خلف ابنين ومائتين فادعى رجل مائة دينا على الميت، فصدقه أحد الابنين، وأنكر الآخر، لزم المقر نصفها)

وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، فَادَّعَىِ رَجُلٌ مِائَةً دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُ الابْنَيْنِ، وَأنْكَرَ الآخرُ، لَزِمَ المُقِرَّ نِصْفُهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أقَرَّ في صِحَّتِه، صَحَّ؛ لأَنَّ الدَّيْنَ لا يتَعَلَّقُ بمالِه، وإن أقَرَّ في مَرَضِه، لم يُحاصَّ المُقَرُّ له غُرَماءَ الصِّحَّةِ؛ لذلك. وإن أقَرَّ في مَرَضِه لغَرِيمٍ تَسْتَغْرِقُ تَرِكَتُه دَيْنَه، ثم أقَرَّ لآخَرَ في مَجْلِسٍ آخَرَ، فالفَرْقُ بينَهما، أنَّ إقْرارَه الأوَّلَ لم يَمْنَعْه التَّصرُّفَ في مالِه، ولا أن يُعَلِّقَ به دَيْنًا آخَرَ، بأن يَسْتَدِينَ دَيْنًا آخَرَ، فلم يَمْنَع ذلك تَعْلِيقَ الدَّيْنِ بتَرِكَتِه بالإقْرارِ، بخِلافِ الوارِثِ، فإنَّه لا يَمْلِكُ أن يُعَلقَ بالتَّرِكةِ دَيْنًا آخَرَ بفِعْلِه، فلا يَمْلِكُه بقَوْلِه، ولا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في التَّركةِ، ما لم يَلْتَزِمْ قَضاءَ الدَّيْنِ. 5177 - مسألة: (وإن خَلَّفَ ابْنَيْنِ ومائتَيْن فادَّعَى رَجُلٌ مائةً دَيْنًا على المَيِّتِ، فصدَّقَه أحَدُ الابنين، وأنْكَرَ الآخَرُ، لَزِمَ المُقِرَّ نِصْفُها) لأنَّه مُقِرٌّ على أبِيه بدَيْنٍ، ولا يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن نِصْفِ دَيْنٍ أبِيه، ولأنَّه يُقِرُّ على نَفْسِه وأخيه، فلا يُقْبَلُ إقْرارُه على أخِيه، ويُقْبَلُ على نَفْسِه، وفى ذلك اخْتِلافٌ ذَكَرْناه في أواخِرِ كتابِ الإِقْرارِ (¬1). ¬

(¬1) انظر من صفحة 195 - 197.

5178 - مسألة: (إلا أن يكون عدلا، فيحلف الغريم مع شهادته، ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين)

إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَيَحْلِفُ الْغَرِيمُ مَعَ شَهَادَتِهِ، وَيَأْخُذُ مِائَةً، وَتَكُونُ المِائَةُ الْبَاقِيَةُ بَيْنَ الابْنَيْنِ. وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَى الْقِيمَةِ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُ الابنَيْنِ: أَبِى أَعْتَقَ هَذَا. وَقَالَ الآخَرُ: بَلْ اعْتَقَ هَذَا الآخَرَ. عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ، وَصَارَ لِكُلِّ ابْنٍ سُدْسُ الَّذِى ـــــــــــــــــــــــــــــ 5178 - مسألة: (إلَّا أن يكونَ عَدْلًا، فَيَحْلِفُ الغَرِيمُ مع شَهادَتِه، ويَأْخُذُ مائةً، وتكونُ المائةُ الباقيةُ بينَ الابنيْنِ) وإنَّما لَزِمَ المُقِرَّ نِصْفُ المائةِ؛ لأنَّه يَرِثُ نِصْفَ التَّرِكةِ، فيَلْزَمُه نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لأنَّه بقَدْرِ مِيراثِه، ولو لزِمَه جَمِيعُ الدَّيْنِ، لم تُقْبَلْ شَهادَتُه على أخيه (¬1)، لكَوْنِه يَدْفَعُ عن نَفْسِه ضَرَرًا، ولأنَّه يَرِثُ نِصْفَ التَّرِكَةِ، فلزِمَه نِصْفُ الدَّيْنِ، كما لو ثَبَتَ بِبَيِّنةٍ أو بإِقْرارِ المَيِّتِ. 5179 - مسألة: (وإن خَلَّفَ ابْنَيْن وعَبْدَيْنِ مُتَساوِيَى القِيمةِ، لا يَمْلِكُ غيرَهما، فقال أحَدُ الابْنَيْن: أبى أَعتَقَ هذا. وقال الآخَرُ: بل أعْتَقَ هذا الآخَرَ. عَتَقَ مِن كلِّ واحدٍ ثُلُثُه، وصار لكلِّ ابْنٍ سُدْسُ) العَبْدِ ¬

(¬1) في ق، م: «أحد».

أقَرَّ بِعِتْقِهِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ الآخَرِ. وَإِنْ قَالَ أحَدُهُمَا: أبِى أَعْتَقَ هَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ: أبِى أعْتَقَ أَحَدَهُمَا، لَا أَدْرِى مَنْ مِنْهُمَا. أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَإنْ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الَّذِى اعْتَرَفَ الابنُ بِعِتْقِهِ، عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، إِنْ لَمْ يُجِيزَا عِتْقَهُ كَامِلًا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْآخَرِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ عَيَّنَ الْعِتْقَ فِى الْعَبْدِ الثَّانِى سَوَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الذى أقرَّ بعِتْقِه ونِصْفُ الآخَرِ. وإن قال أحَدُهما: أبِى أَعْتَقَ هذا. وقال الآخَرُ: أبى أعْتَقَ أحَدَهُما، لا أدْرِى مَن مِنهما. أُقْرِعَ بينَهما، فإن وَقَعَتْ على الذى اعْتَرفِ الابْنُ بعِتْقِه، عَتَقَ ثُلُثاه، إن لم يُجِيزَا عِتْقَه كامِلًا، وإنْ وَقَعَتْ على الآخرِ، كان حُكْمُه حُكْمَ ما لو عَيَّنَ العِتْقَ في العَبْدِ الثّانِى سواءً) هذه المسألةُ مَحْمُولةٌ على أنَّ العِتْقَ كان في مَرَضِ المَوْتِ المَخُوفِ، أو بالوَصِيَّةِ، لأنَّه لو أعْتَقَه في صِحَّتِه عتَقَ كلُّه، ولم يَقِفْ على إجَازةِ الوَرَثَةِ، فإذا اعْتَرَفا أنَّه أعْتَقَ (¬1) أحَدَهُما في مَرَضِه، لم يَخْلُ مِن أرْبعةِ أحْوالٍ، ¬

(¬1) في م: «عتق».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدُها، أن يُعَيِّنا العِتْقَ في أحَدِهما، فيَعْتِقُ منه ثُلُثاه؛ لأَنَّ ذلك ثُلُثُ جَمِيعِ مالِه، إلَّا أن يُجِيزَا عِتْقَ جَمِيعِه، فيَعْتِقُ. الثانى، أن يُعَيِّنَ كلُّ واحدٍ (¬1) منهما العِتْقَ في واحدٍ غير الذى عَيَّنَهَ أَخُوه، فيَعْتِقُ مِن كلِّ واحدٍ ثُلُثُه، لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما حَقُّه نِصْفُ العَبْدَيْنِ، فيُقْبَلُ قَوْلُه في عِتْقِ حَقِّه مِن الذى عَيَّنَهَ، وهو ثُلُثَا النِّصْفِ الذى له، وذلك الثُّلُثُ، ولأنَّه يَعْتَرِفُ بحُرِّيَّةِ ثُلُثَيْه، فيُقْبَلُ قولُه في حَقِّه منهما، وهو الثُّلُثُ، ويَبْقَى الرِّقُّ في ثُلُثِه (¬2)، فله النِّصْفُ، وهو السُّدْسُ ونِصْفُ العَبْدِ الذى (¬3) يُنْكِرُ عِتْقَه. الثالثُ، أن يقولَ أحَدُهُما: أبِى أَعْتَقَ هذا. ويقولَ الآخَرُ: أبى أَعتَقَ أحَدَهما، لا أَدرِى مَن منهما. فتَقُومُ القُرْعةُ مَقامَ تَعْيينِ الذى لم يُعَيَّنْ، فإن وَقَعتْ على الذى عَيَّنَهَ أخُوه، عتقَ ثُلُثاه، كما لو عَيَّناه بقولِهما، وإن وَقَعَتْ على الآخرِ، كان (¬4) كما لو عَيَّنَ كلُّ واحدٍ منهما عَبْدًا، يكونُ لكلِّ واحدٍ منهما سُدْسُ العَبْدِ الذى عَيَّنَهَ ونِصْفُ العَبْدِ الذى يُنْكِرُ عتْقَه، ويَصِيرُ ثُلُثُ كلِّ واحدٍ مِن العَبْدَيْنِ حُرًّا. الرابعُ، أن يَقُولَا: أعْتَقَ أحَدَهُما ولا ندرِى مَن منهما. فإنَّه يُقْرَعُ بينَ العَبْدَيْنِ، فمَن وَقَعت له القُرْعَةُ عَتَقَ ثُلُثاه، إن لم يُجيزَا عِتْق جَمِيعِه، وكان الآخَرُ رَقِيقًا. ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «ثلثيه». (¬3) بعده في الأصل: «لا». (¬4) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: فإن رَجَعَ الابْنُ الذى جَهِلَ عينَ العِتْقِ، فقال: قد عَرَفْتُه. قَبْلَ القُرْعَةِ، فهو كما لو عَيَّنَهَ ابْتِداءً مِن غيرِ جَهْلٍ، وإذا كان بعدَ القُرْعةِ فوافَقَها تَعْيِينُه، لم يتَغَيَّرِ الحُكْمُ، وإن خالَفَها، عَتَقَ مِن الذى عَيَّنَهَ ثُلُثُه بتَعْيِينِه، فإن عَيَّنَ الذى عَيَّنَهَ أَخُوه، عَتَقَ ثُلُثاه، وإن عَيَّنَ الآخَرَ عَتَقَ منه ثُلُثُه. وهل يَبْطُلُ العِتْقُ في الذى عَتَقَ بالقُرْعةِ؟ على وَجْهَيْنِ.

باب الإقرار بالمجمل

بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْمُجْمَل إذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ شَىْءٌ. أَوْ: كَذَا. قِيلَ لَهُ: فَسِّرْ. فَإنْ أَبَى، حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، فَإِنْ مَاتَ، أُخِذَ وَارِثُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِنْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ شَيْئًا يُقْضَى مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ بابُ الإِقْرارِ بالمُجْمَلِ [الإِقْرارُ بالمجْهولِ صَحيحٌ. 5180 - مسألة] (¬1): (إذا قال: له عَلَىَّ شئٌ. أو: كذا. قيل له: فَسِّرْ. فإن أبَى، حُبِسَ حتى يُفَسِّرَ، فإن ماتَ، أُخِذَ وارِثُه بمثلِ ذلك، إن خَلَّفَ المَيِّتُ شيئًا يُقْضَى منه، وإلَّا فلا) وجملةُ ذلك، أنَّه إذا (¬2) قال: لِفُلانٍ عَلَىَّ شئٌ. أو: كذا. صَحَّ إقْرارُه، ولَزِمَه تَفْسِيرُه، ¬

(¬1) زيادة من: الأصل. (¬2) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيرِ خلافٍ، ويُفارِقُ الدَّعْوَى، حيث لا تَصِحُّ بالمَجْهُولِ؛ لكَوْنِ الدَّعْوَى له والإِقْرارِ عليه، فلَزِمَه ما عليه معِ الجهالةِ دُونَ ما لَه، ولأَنَّ المُدَّعِىَ إذا لم يُصَحِّح دَعْواه، فله داعٍ إلى تحْرِيرِها، والمُقِرُّ لا داعِىَ له إلى التَّحْرِيرِ، ولا يُؤْمَنُ (¬1) رُجُوعُه عن إقْرارِه، فيَضِيعُ حَقُّ المُقَرِّ له، فأَلْزَمْناه إيّاه مع الجَهالةِ. فإنِ امْتَنَعَ مِن تَفْسِيرِه، حُبِسَ حتى يُفَسِّرَ (¬2). ¬

(¬1) في ق، م: «يمكن». (¬2) في الأصل: «يقر».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضى: يُجْعَلُ ناكِلًا، ويُؤْمَرُ المُقَرُّ له بالبَيَانِ، فإن بَيَّنَ شيئًا، فصَدَّقَه المُقِرُّ، ثَبَتَ، وإن كَذَّبَه، وامْتَنَعَ مِن البَيانِ، قِيل له: إن بَيَّنْتَ، وإلَّا جَعَلْناك ناكِلًا، وقَضَيْنا عليك. وهذا قولُ أصحابِ (¬1) الشافعىِّ، إلَّا أنَّهم قالوا: إن بَيَّنتَ (¬2) وإلَّا أحْلَفْنا المُقَرَّ له على ما يَدَّعِيه، وأوْجَبْناه عليك، فإن فَعَل، وإلَّا أحْلَفْنا المُقَرَّ له، وأوْجَبْناه على المُقِرِّ. وَوَجْهُ الأَوَّلِ، أنَّه مُمْتَنِعٌ مِن حَقٍّ عليه، فيُحبَسُ به، كما لو عَيَّنَهَ وامْتَنَعَ مِن أدائِه. ومع ذلك فمتى عَيَّنَه المُدَّعِى وادَّعَاه، فنَكَل المُقِرُّ، فهو على ما ذكَرُوه، فإن ماتَ مَن عليه الحَقُّ، أُخِذَ وارِثُه بمثلِ ذلك؛ لأَنَّ الحَقَّ ثَبَتَ على مَوْرُوثِهم، فتَعَلَّق بتَرِكَتِه، وقد صارتْ إلى الوَرَثةِ، فلَزِمَهُم ما لَزِمَ مَوْرُوثَهم، كما لو كان الحَقُّ مُعَيَّنًا. وإن لم يُخَلِّفِ المَيِّتُ تَرِكَةً، فلا ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في الأصل: «بنت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شئَ على الوَرَثةِ؛ لأنَّهم ليس عليهم وَفاءُ دَيْنِ المَيِّتِ إذا لم يُخَلِّفْ تَرِكةً، كما لا يَلْزَمُهم في حَياتِه. وذكر صاحبُ «المُحَرَّرِ» رِوايةً أنَّ الوارِثَ إن صَدَّقَ مَوْرُوثَه في إقرارِه، أُخِذَ به، وإلَّا فلا، والصَّحِيحُ الأَوَّلُ، قال: وعِنْدى إن أبَى الوارِثُ أن يُفَسِّرَ، وقال: لا عِلْمَ لى بذلِك. حَلَفَ، ولَزِمَه مِن التَّرِكةِ ما يَقَعُ عليه الاسْمُ، كما (¬1) فيما إذا وَصَّى لفلانٍ بشئٍ. ويَحْتَمِلُ أن يكون حُكْمُ المُقِرِّ كذلك، إذا حَلَفَ أن لا يَعْلَمُ، كالوارِثِ. ¬

(¬1) سقط من: م.

5181 - مسألة: (فإن فسره بحق شفعة أو مال، قبل وإن قل، وإن فسره بما ليس بمال، كقشر جوزة، أو ميتة، أو خمر، لم يقبل، وإن فسره بكلب، أو حد قذف، فعلى وجهين)

فَإنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ أَوْ مَالٍ، قُبلَ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ كَقِشْرِ جَوْزَةٍ، أَوْ مَيْتَةٍ، أَوْ خَمْرٍ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5181 - مسألة: (فإن فَسَّرَه بِحَقِّ شُفْعةٍ أو مالٍ، قُبِلَ وإن قَلَّ، وإن فَسَّرَه بما ليس بمالٍ، كقِشْرِ جَوْزَةٍ، أو مَيْتةٍ، أو خَمْرٍ، لم يُقْبَلْ، وإن فَسَّرَه بكَلْبٍ، أو حَدِّ قَذْفٍ، فعلى وَجْهَيْنِ) متى فَسَّرَ المُقِرُّ إقْرارَه بما يُتَمَوَّلُ عادَةً، قُبِلَ تفسيرُه وثَبَت (¬1)، إلَّا أن يُكَذِّبَه المُقَرُّ له ويَدَّعِىَ جِنْسًا آخَرَ، أو لا يَدَّعِىَ شيئًا، فيَبْطُلُ إقْرارُه. وإن فَسَّرَه بما لا يُتَمَوَّلُ عادةً، كقِشْرِ جَوْزَةٍ أو قِشْرِ باذِنْجانةٍ، لم يُقْبَلْ تَفْسِيرُه؛ لأَنَّ إقْرارَه اعْتِرافٌ بحَقٍّ عليه ثابتٍ في ذِمَّتِه، وهذا لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ. وكذلك إن فَسَّرَه بما ليس بمالٍ في الشَّرْعِ، كالخَمْرِ والمَيْتَةِ، وإن فَسَّرَه بكَلْبٍ لا يَجُوزُ اقْتِناؤُه، فكذلك، وإن فَسَّرَه بكَلْبٍ يجوزُ اقْتِناؤُه أو جِلْدِ مَيْتَةٍ غيرِ ¬

(¬1) في م: «يثبت».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَدْبُوغٍ، ففيه وَجْهانِ، أحَدُهما، يُقْبَلُ؛ لأنَّه شئٌ يَجِبُ رَدُّه وتَسْلِيمُه إليه، فالإِيجابُ يَتَناوَلُه. والثانى، لا يُقْبَلُ؛ لأَنَّ الإِقْرارَ إخْبارٌ عمّا يَجِبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضَمانُه، وهذا لا يجبُ ضَمانُه. وإن فَسَّرَه بِحَبَّةِ (¬1) حِنْطةٍ أو شَعِيرٍ ونحوِها، لم يُقْبَلْ، لأَنَّ هذا لا يُتَمَوَّلُ عادَةً على انْفِرادِه. وإن فَسَّره بحدِّ قَذْفٍ، قُبِلَ، لأنَّه حَقٌّ يَجِبُ عليه. وفيه وَجْهٌ آخَرُ أنَّه لا يُقْبَلُ؛ لأنَّه لا يَئُولُ إلى مالٍ. والأَوَّلُ أصَحُّ، لأَنَّ ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ يَصِحُّ أن يُقالَ: هُوَ عَلَىَّ. ويَصِحُّ تَفْسِيرُه بِحَقِّ شُفْعةٍ، لأنَّه (¬2) حَقٌّ واجِبٌ، ويَئُولُ إلى المالِ. وإن فَسَّرَه بِرَدِّ السَّلامِ أو تَشْمِيتِ العاطِسِ ونحوه، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه يَسْقُطُ [بفَواتِه، ولا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ. وهذا الإِقْرارُ يَدُل على ثُبُوتِ الحَقِّ في الذِّمَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ تَفْسِيرُه] (¬3) إذا أرادَ، أنَّ (¬4) حَقًّا عَلَىَّ رَدُّ سَلَامِه ¬

(¬1) في الأصل: «بخبز». (¬2) بعده في الأصل: «لا». (¬3) سقط من: الأصل. (¬4) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا سَلَّمَ، وتَشْمِيتُه إذا عَطَسَ؛ لِما رُوِى في الخَبَرِ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ ثَلَاثُونَ حَقًّا؛ يَرُدُّ سَلَامَه، ويُشَمِّتُ (¬1) عَطْسَتَه، ويُجِيبُ دَعْوَتَه» (¬2). ¬

(¬1) في الأصل: «تسميت». والتشميت والتسميت بمعنى. (¬2) لم نجده بهذا اللفظ، وبلفظ: «أربع خلال». أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في عيادة المريض، من كتاب الجنائز. سنن ابن ماجه 1/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 272، 273. والطبرانى، في: الكبير 17/ 267. والحاكم، في: المستدرك 4/ 264. كلهم من حديث أبى مسعود. وبلفظ: «ست خصال». أخرجه الطبرانى، في: الكبير 4/ 216. والطحاوى، في: مشكل الآثار 1/ 223، 4/ 149. كلاهما من حديث أبى أيوب. وانظر: الجامع الكبير 1/ 654.

5182 - مسألة: (وإن قال: غصبت منه شيئا. ثم فسره بنفسه أو ولده، لم يقبل)

وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ، لَمْ يُقْبَلْ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5182 - مسألة: (وإن قال: غَصَبْتُ منه شيئًا. ثم فَسَّرَه بِنَفْسِه أو وَلَدِه، لم يُقْبَلْ) لأَنَّ الغَصْبَ لا يَثْبُتُ عليه. وإن أرادَ أَنِّى حَبَسْتُكَ وسَجَنْتُكَ، قُبِلَ. [ذكَرَه في] (¬1) «المُحَرَّرِ». وإن فَسَّرَه بما لَيْسَ بمالٍ مما يُنْتَفَعُ به، قُبِلَ؛ لأَنَّ الغَصْبَ يَشْتَمِلُ عليه، كالكَلْبِ وجِلْدِ المَيْتةِ؛ لأنَّه قد يَقْهَرُه عليه. وإن فَسَّره بما لا نَفْعَ فيه، أو ما لا يُباحُ الانْتِفاعُ به، لم يُقْبَلْ؛ لأَنَّ أخْذَ ذلك ليس بغَصْبٍ (¬2). وهذا الذى ذكَرْناه في هذا البابِ ¬

(¬1) في الأصل: «من». (¬2) بعده في الأصل: «لأن اسم الغصب يقع عليه». ولعلها: «لا يقع عليه».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أكْثَرُه مَذْهبُ الشَّافعىِّ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ أنَّه لا يُقْبَلُ تَفْسِيرُ إقْرارِه بغيرِ المَكِيلِ والمَوْزُونِ؛ لأَنَّ غَيْرَهما لا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ بِنَفْسِه. ولَنا، أنَّه مَمْلُوكٌ يَدْخُلُ تحتَ العَقْدِ، فجازَ أن يُفَسَّرَ به الشئُ في الإِقْرارِ، كالمَكِيلِ والمَوْزُونِ، ولأنَّه يَثْبُتُ في الذمةِ في الجُمْلَةِ، فصَحَّ التَّفْسِيرُ به، كالمَكِيلِ [والمَوزُونِ] (¬1)، ولا عِبْرَةَ بِسَبَبِ ثُبُوتِه في الإِخْبارِ به والإِخْبارِ عنه. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5183 - مسألة: (وإن قال: له على مال عظيم، أو: خطير، أو: كثير، أو: جليل. قبل تفسيره بالكثير والقليل)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ مَالٌ عَظِيمٌ، أَوْ: خَطِيرٌ، أَوْ: كَثِيرٌ، أَوْ: جَلِيلٌ. قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: وتُقبلُ الشَّهادةُ على الإقرارِ بالمجهولِ؛ لأَنَّ الإقرارَ به صَحِيحٌ، وما كان صحيحًا في نفسِه صَحَّتِ الشهادةُ به، كالمعلومِ. 5183 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ مالٌ عَظِيمٌ، أو: خَطِيرٌ، أو: كَثِيرٌ، أو: جَلِيلٌ. قُبِلَ تَفْسِيرُه بالكَثِيرِ والقَلِيلِ) كما لو قال: له عَلَىَّ مالٌ. ولم يَصِفْه. وهذا قولُ الشّافعىِّ. وحُكِىَ عن أبى حنيفةَ: لا يُقْبَلُ تَفْسِيرُه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأقَلَّ مِن عَشَرَةٍ؛ لأنَّه يُقْطَعُ به السّارِقُ، ويكونُ صَدَاقًا عندَه. وعنه، لا يُقْبَلُ بأقَلَّ (¬1) مِن مائَتَىْ دِرْهمٍ. وبه قال صاحِباه؛ لأنَّه الذى تَجِبُ فيه الزَّكاةُ. وقال بعضُ أصحابِ مالِكٍ كَقوْلِهم في المالِ. ومنهم مَن قال: يَزِيدُ على ذلك أقَلَّ زِيادَةٍ. ومنهم مَن قال: قَدْرُ الدِّيَةِ. وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: أثْنانِ وسَبْعُونَ؛ لأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} (¬2). وكانت غَزَواتُه وسَرَاياه اثنَتَيْنِ وسَبْعِينَ. قالوا: ولأَنَّ الحَبَّةَ لا تُسَمَّى مالًا عَظِيمًا ولا كَثِيرًا. ولنا، أنَّ العَظِيمَ والكَثِيرَ لا حَدَّ له في الشَّرْعِ، ولا اللُّغَةِ، ولا العُرْفِ، ويَخْتَلِفُ الناسُ (¬3) فيه، ¬

(¬1) في م: «أقل». (¬2) سورة التوبة 25. (¬3) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فمنهم مَن يَسْتَعْظِمُ القَلِيلَ، ومنهم مَن يَسْتَعْظِمُ الكَثِيرَ، ومنهم مَن يَحْتَقِرُ الكَثِيرَ، فلم يَثْبُتْ (¬1) في ذلك حَدٌّ يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه، ولأنَّه ما مِن مالٍ إلَّا وهو عَظِيمٌ كثيرٌ بالنِّسْبَةِ إلى ما دُونَه، ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد عَظِيمًا عندَه (¬2) لفَقْرِ نَفْسِه ودَناءَتِها، وأمّا ما ذَكَرُوه، فليس فيه تَحْدِيدُ الكَثِيرِ، وكَوْنُ ما ذَكَرُوه كَثِيرًا لا يَمْنَعُ الكَثْرَةَ فيما دُونَه، وقد قال اللَّهُ تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (¬3). فلم يَنْصَرِفْ إلى ذلك، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (¬4). فلم يُحْمَلْ على ذلك. والحُكْمُ فيما إذا قال: عَظِيمٌ جِدًّا. أو: عَظِيمٌ عَظِيمٌ (2). كما لو لم يَقُلْه؛ لِما قَرَّرْنَاه. فصل: وإن أقَرَّ بمالٍ، قُبِلَ تَفسِيرُه بالقَلِيلِ والكَثِيرِ، كالمسألةِ قبلَ ¬

(¬1) في م: «يلبث». (¬2) سقط من: ق، م. (¬3) سورة الأنفال 45. (¬4) سورة البقرة 249.

5184 - مسألة: (وإن قال: له على دراهم كثيرة. قبل تفسيره بثلاثة فصاعدا)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ. قُبِلَ تَفْسِيرُهَا بِثَلَاثةٍ فَصَاعِدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا. وبهذا قال الشّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْبَلُ تَفْسِيرُه بغيرِ المالِ الزَّكَوِىِّ؛ لقولِ اللَّهِ سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1). وقولِه: {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} (¬2). وحَكَى بعضُ أصحاب مالِكٍ عنه ثلاثةَ أوْجُهٍ؛ أحدُها، كَقَوْلِنا. والثانى، لا يُقْبَلُ إلَّا (¬3) أوَّلُ نِصَابٍ مِن نُصُبِ الزَّكاةِ مِن نَوْعِ أمْوالِهِمْ. والثالثُ، ما يُقْطَعُ به السّارِقُ، ويَصِحُّ مَهْرًا؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬4). ولَنا، أنَّ غَيْرَ ما ذَكَرُوه يَقَعُ عليه اسْمُ المالِ حَقِيقَةً وعُرْفًا، ويُتَمَوَّلُ عادَةً، فيُقْبَلُ تَفْسِيرُه به، كالذى وافَقُوا عليه. وأمّا آيةُ الزَّكَاةِ فقد دَخَلَها التَّخْصِيصُ، وقولُه تعالى: {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}. لم يُرِدْ بها الزَّكاةَ؛ لأنَّها نَزَلَتْ بمكةَ قَبلَ فَرْضِ الزَّكاةِ، فلا حُجَّةَ لهمِ فيها، ثم يَرُدُّه قولُه تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}. والتَّزْوِيجُ جائِرٌ بِأىِّ نوْعٍ كان مِن المالِ وبما دُونَ النِّصَابِ. 5184 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ دَرَاهِمُ كَثِيرةٌ. قُبِلَ تَفْسِيرُه بثَلاثةٍ فصَاعِدًا) أمّا إذا قال: له عَلَىَّ دَرَاهِمُ. لَزِمَه ثَلاثةٌ؛ لأنَّها أقَلُّ ¬

(¬1) سورة التوبة 103. (¬2) سورة الذاريات 19. (¬3) بعده في م: «في». (¬4) سورة النساء 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجَمْعِ. وإن قال: له عَلَىَّ (¬1) دَرَاهِمُ كَثيرةٌ، أو: وافِرَةٌ، أو: عَظِيمةٌ. لَزِمَتْه ثلاثةٌ أيضًا. وبهذا قال الشّافِعِىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهِ. بأَقَلَّ مِن عَشَرَةٍ؛ لأنَّها أقَلُّ جَمْعِ الكَثْرةِ. وقال أبو يُوسف: لا يُقْبَلُ أقَلُّ مِن مائَتَيْنِ؛ لأَنَّ بها يَحْصُلُ الغِنَى وتَجِبُ الزَّكاةُ. ولَنا، أنَّ الكَثْرةَ والعَظَمةَ لا حَدَّ لها شَرْعًا، ولا لُغَةً، ولا عُرْفًا، وتَخْتَلِفُ بالأَوْصافِ وأَحْوالِ النّاسِ، فالثَّلاثةُ أكْثَرُ ممّا دُونَها، وأَقَلُّ ممّا فَوْقَها، ومِن الناسِ مَن يَسْتَعْظِمُ اليَسِيرَ، ومنهم مَن (¬2) يَسْتَعْظِمُ الكَثِيرَ. ويَحْتَمِلُ أنَّ المُقِرَّ أراد كَثِيرةً بالنِّسْبةِ إلى ما دونَها، أو كَثيرَةً (¬3) في نَفْسِه، فلا تَجِبُ الزِّيادَةُ بالاحْتِمالِ. ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) بعده في م: «لا». (¬3) في م: «كبيرة».

5185 - مسألة: (وإن قال: له على كذا درهم. أو: كذا وكذا)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ كَذَا دِرْهَمٌ. أَوْ: كَذَا وَكَذَا. أَوْ: كَذَا كَذَا دِرْهَمٌ. بِالرَّفْعِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ بِالْخَفْضِ، لَزِمَهُ بَعْضُ دِرْهَمٍ، يُرْجَعُ فِى تَفْسِيرِه إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5185 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ كذا دِرْهَمٌ. أو: كَذا وكَذا) درْهمٌ (¬1) (أو: كَذَا كَذا درْهَمٌ. بالرَّفْعِ، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ) لأَنَّ تَقْدِيرَه شىَءٌ هو دِرْهَمٌ (وإن قال باَلخَفْضِ، لَزِمَه بعضُ دِرْهَمٍ) لأَنَّ «كَذَا» يَحْتَمِلُ أن يكونَ جُزْءًا مُضافًا إلى دِرْهَمٍ، و (يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه) إذا فَسَّرَه بذلك؛ لأنَّه مُحْتَمِلٌ. ¬

(¬1) زيادة من: ق، م.

5186 - مسألة: (وإن قال: كذا درهما. بالنصب، لزمه درهم)

وَإِنْ قَالَ: كَذَا درْهَمًا. بِالنَّصْبِ، لَزِمَهُ درْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. بِالنَّصْبِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِىُّ: يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5186 - مسألة: (وإن قال: كذا درهَمًا. بالنَّصْبِ، لَزِمَه درْهَمٌ) ويكونُ مَنْصُوبًا على التَّمْيِيزِ. 5187 - مسألة: (وإن قال: كَذَا وكَذا دِرْهَمًا. بالنَّصْب، فقال ابنُ حامِدٍ) والقاضى: (يَلْزَمُه دِرْهَمٌ) لأَنَّ الدِّرْهَمَ الواحدَ يجوزُ أنَّ يكونَ تَفْسِيرًا لِشَيْئَيْنِ، كلُّ واحدٍ بعضُ دِرْهَمٍ (وقال أبو الحَسَنِ التَّميمِىُّ: يَلْزَمُه دِرْهَمانِ) لأنَّه ذكَرَ جُمْلَتَيْن فَسَّرَهما بدِرْهَمٍ، فيَعُودُ التَّفْسِيرُ إلى كلِّ واحدةٍ (¬1) منهما، كَقَوْلِه: عِشرُونَ دِرْهَمًا. إذا قال: كذا. ففيه ثلاثُ مسائِلَ؛ أحدُها، أن يقولَ: كذا. بغَيْرِ تَكْرِيرٍ ولا عَطْفٍ. ¬

(¬1) في الأصل: «واحد».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثَّانيةُ، أن يُكَرِّرَ بغيرِ عَطْفٍ. الثَّالثةُ، أن يَعْطِفَ فيقولَ: كَذا وكَذا. فأمّا الأُولَى: فإذا قال: له عَلَىَّ كذا دِرْهَم. لم يَخْلُ مِن أرْبعةِ أحْوالٍ؛ أحدُها، أن يقولَ: له عَلَىَّ كذا دِرْهَمٌ. بالرَّفعِ، فيَلْزَمُه دِرْهَمٌ. وتَقْدِيرُه شئٌ هو دِرْهَمٌ، فجَعَل الدِّرْهَمَ بَدَلًا مِن كذا. الثانى، أن يقولَ: دِرْهَمٍ. بالجَرِّ، فيَلْزَمُه جُزْءُ دِرْهَمٍ، يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه، والتَّقْدِيرُ جُزْءُ دِرْهَمٍ، أو بعضُ دِرْهَمٍ، ويكونُ كذا كِنايَةً عنه. الثالثُ، أن يقولَ: دِرْهَمًا. بالنَّصْبِ، فيَلْزَمُه دِرْهَمٌ، ويكونُ مَنْصُوبًا على التَّفْسِيرِ، وهو التَّمْييزُ. وقال بعضُ النَّحْوِيِّينَ: هو مَنْصُوبٌ على القَطْعِ، كأنَّه قَطَعَ ما ابْتَدأَ به، وأقَرَّ بدِرْهَمٍ. وهذا على قَوْلِ الكُوفِيِّينَ. الرابعُ، أن يَذْكُرَه بالوَقْفِ، فيُقْبَلُ تَفْسِيرُه بجُزْءِ دِرْهَمٍ أيضًا؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ أَسْقَطَ حَرَكَةَ الجَرِّ للوَقْفِ. وهذا مذهبُ الشّافعىِّ. وقال القاضى: يَلْزَمُه دِرْهَمٌ في الحالاتِ كُلِّها. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشّافعىِّ. ولنا، أنَّ «كذا» اسْمٌ مُبْهَمٌ، فصَحَّ تَفْسِيرُه بجُزْءِ دِرْهَمٍ في حالِ الجَرِّ والوَقْفِ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المسألةُ الثَّانيةُ: إذا قال: كَذا كَذا. بغيرِ عَطْفٍ، فالحُكْمُ فيها كالحُكْمِ في كَذا بغيرِ تَكْرِيرٍ سَواءً، لا يتَغَيَّرُ الحُكْمُ (¬1)، ولا يَقْتَضِى تَكْرِيرُه الزِّيادَةَ، كأنَّه قال: شئٌ شئٌ. ولأنَّه إذا قاله بالجَرِّ، احْتَمَلَ أن يكونَ قد أضَاف جُزْءًا إلى جُزْءٍ، ثم أضافَ الجُزْءَ الأَخيرَ إلى الدِّرْهَمِ، فقال: نِصْفُ تُسْعِ (¬2) دِرْهَمٍ. وهكذا لو قال: كذا كذا كذا (¬3). لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يُرِيدَ ثُلُثَ خُمْسِ سُبْعِ (¬4) دِرْهَمٍ، ونحوَه. المسألةُ الثَّالثةُ: إذا عَطَفَ، فقال: كذا وكذا دِرْهَمٌ. بالرَّفْعِ، لَزِمَه دِرْهَمٌ واحدٌ؛ لأنَّه ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، ثم أبْدَلَ منهما دِرْهَمًا، فصارَ كأنَّه قال: هما دِرْهَمٌ. وإن قال: درْهَمًا. بالنَّصْبِ، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ أحَدُها، يَلْزَمُه دِرْهَمٌ واحدٌ، وهوَ قولُ [أبى عبدِ اللَّه] (¬5) ابنِ حامِدٍ، والقاضِى؛ لأَنَّ «كذا» يَحْتَمِلُ أقَلَّ مِن دِرْهَمٍ، فإذا عَطَفَ عليه مِثْلَه، ثم فَسَّرَهُما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) في ق، م: «سبع». (¬3) سقط من: ق، م. (¬4) في ق، م: «تسع». (¬5) سقط من: الأصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بدِرْهمٍ واحدٍ، جازَ، وكَان كلامًا صَحِيحًا. وهذا يُحْكَى قَوْلًا للشّافِعِىِّ. الثانى، يَلْزَمُه دِرْهَمانِ. وهو اخْتِيارُ أبى الحَسَنِ التَّميمِىِّ؛ لأنَّه ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ، فإذا فَسَّرَ ذلك بدِرْهَمٍ، عاد التَّفْسِيرُ إلى كلٌ واحدٍ منهما (¬1)، كقَوْلِه: عِشْرُونَ دِرْهَمًا. يعودُ التَّفْسِيرُ إلى العِشْرِينَ، كذا ههُنا. وهذا يُحْكَى قولًا ثانِيًا للشّافِعِىٌ. الثالثُ، يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن دِرْهَمٍ. ولَعَلَّه ذَهَبَ إلى أنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ للجُمْلةِ التى تَلِيه، فيَلْزَمُه بها دِرْهَمٌ، والأُولَى باقِيَة على إبْهامِها، فيُرْجَعُ في تَفْسِيرِها إليه. وهذا يُشْبِهُ قولَ التَّمِيمِىٌ. وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ: إذا قال: كذا دِرْهَمًا. لَزِمه عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لأنَّه أقَلُّ عَدَدٍ يُفَسَّرُ بالواحِدِ المَنْصُوبِ، وإن قال: كَذا كَذا دِرْهَمًا. لَزِمَه أحَدَ عَشرَ دِرْهَمًا؛ لأنَّه أقَلُّ عَدَدٍ مُرَكَّبٍ يُفَسَّرُ بالواحدِ المَنْصُوبِ (¬2)، وإن قال: كَذا وكَذا دِرْهَمًا. لَزِمَه أحَدٌ وعِشرُونَ دِرْهَمًا؛ لأنَّه أقَلُّ عَدَدٍ عُطِفَ بعضُه على بعض يُفَسَّرُ بذلك، وإن قال: كَذَا دِرْهَمٍ. بالجَرِّ، لَزِمَه مائةُ دِرْهم (1)؛ لأنَّه أقَلُّ عَدَدٍ يُضافُ إلى الواحدِ. وحُكِىَ عن أبى يُوسُفَ أنَّه قال: كَذا كَذا، أو كَذا وكَذا. يَلْزَمُه ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

5188 - مسألة: (وإن قال: له على ألف. رجع فى تفسيره إليه، فإن فسره بأجناس، قبل منه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ. رُجِعَ فِى تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَجْنَاسٍ، قبِلَ مِنْهُ. وَإِن قَالَ: لَهُ عَلىَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ. أَوْ: أَلْفٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ بهما أحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا. ولَنا، أنَّه يَحْتَمِلُ ما قُلْنا، ويَحْتَمِلُ ما قالُوا، فوَجَبَ المَصِيرُ إلى ما قُلْنَا، لأنَّه اليَقِينُ، وما زادَ مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَجِبُ بالشَّكِّ، كما لو قال (¬1): علَىَّ دَرَاهِمُ. لم يَلْزَمْه إلَّا أقَلُّ الجَمْعِ، ولا يَلْزَمُ كَثْرَةُ الاسْتعْمالِ، فإنَّ اللَّفْظَ إذا كان حَقِيقةً في الأَمْرَيْنِ، جازَ التَّفْسِيرُ بكلِّ واحدٍ منهما. وعلى ما ذكَرَه محمدٌ يكونُ اللَّفْظُ المُفْرَدُ يُوجِبُ أكْثَرَ مِن المُكَرَّرِ، فإنَّه يَجِبُ بالمُفْرَدِ عِشْرُونَ، وبالمُرَكَّبِ أحَدَ عَشَرَ، ولا نَعْرِفُ لَفْظًا مُفْرَدًا مُتَناوِلًا لِعَدَدٍ صَحِيحٍ يَلْزَمُ به أكْثَرُ ممّا يَلْزَمُ بمُكَرَّرِه. 5188 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ. رُجِعَ في تَفْسِيرِه إليه، فإن فَسَّرَه بأجْناسٍ، قُبِلَ منه) لأنَّه يَحْتَمِلُ ذلك. 5189 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ ودِرْهَمٌ. أو: ألْفٌ ¬

(¬1) في الأصل: «قاله له».

وَدِينَارٌ. أَوْ: أَلْفٌ وَثَوْبٌ، أَوْ فَرَسٌ. أَوْ: دِرْهَمٌ وَأَلْفٌ. أَوْ: دِينَارٌ وَأَلْفٌ. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِى: الْأَلْفُ مِن جِنْسِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَالَ التَّمِيمِىُّ، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُرْجَعُ فِى تَفسِيرِ الأَلْفِ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ودِينارٌ. أو: ألْف وثَوْبٌ، أو: فَرَسٌ. أو: درْهَمٌ وأَلْفٌ. أو: دِينارٌ وألْفٌ. فقال ابنُ حامدٍ، والقاضِى: الألْفُ مِنَ جِنْسِ ما عُطِفَ عليه) وبه قال أبو ثَوْرٍ (وقال التَّمِيمِىُّ، وأبو الخَطَّابِ: يُرْجَعُ في تَفْسِيرِ الألْفِ إليه) لأَنَّ الشئَ (¬1) يُعْطَفُ على غيرِ جِنْسِه، قال اللَّهُ تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ ¬

(¬1) في الأصل: «النفى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). ولأَنَّ الأَلْفَ مُبْهَمٌ، فيُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إلى المُقِرِّ، كما لو لم يَعْطِفْ عليه. وقال أبو حنيفةَ: إن عَطَفَ على المُبْهَمِ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا، كان تَفْسِيرًا له، وإن عَطَفَ مَذْرُوعًا أو مَعْدُودًا، لم يكُنْ تَفْسِيرًا؛ لأَنَّ «عَلَىَّ» للإِيجابِ في الذِّمَّةِ، فإذا عَطَفَ عليه ما يَثْبُتُ في ذِمَّتِه بنَفْسِه، كان تَفْسِيرًا له، كقَوْلِه: مائةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا. ولَنا، أنَّ العَرَبَ تَكْتَفِى بتَفْسِيرِ إحْدَى الجُمْلَتَينِ عن الأُخْرَى، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (¬2). وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (¬3). ولأنَّه ذَكَرَ مُبْهَمًا مع مُفَسَّرِ (¬4) لم يَقمِ الدَّلِيلُ على أنَّه مِن غيرِ جِنْسِه، فكان المُبْهَمُ مِن جِنْسِ المُفَسَّرِ، كما لو قال: مائةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أو: ثَلاثُمائةٍ وثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. يُحَقِّقُه أنَّ المُبْهَمَ يَحْتاجُ إلى التَّفْسِيرِ، وذِكْرُ التَّفْسِيرِ في الجملةِ المُقَارنَةِ له يَصْلُحُ أن يُفَسِّرَه، فوَجَب حَمْلُ الأمْرِ على ذلك. وأمَّا قولُه: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. فإنَّه امْتَنَعَ أن تكونَ العَشْرُ أَشْهُرًا لِوَجْهَيْنِ؛ أحدُهما، أنَّ العَشْرَ بغيرِ هاءٍ عَدَدٌ للمُؤنَّثِ، والأشْهُرُ مُذَكَّرةٌ، ¬

(¬1) سورة البقرة 234. (¬2) سورة الكهف 25. (¬3) سورة ق 17. (¬4) في م: «تفسير».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يجوزُ أن تُعَدَّ بغيرِ هاءٍ. والثانى، أنَّها لو كانت أَشْهُرًا، لقال: أرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. بالتَّرْكِيبِ لا بالعَطْفِ، كما قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1). وقولُهم: إنَّ الألْفَ مُبْهَمٌ. قلنا: قُرِنَ به ما يَدُلُّ على تَفْسِيرِه، فأشْبَهَ ما لو قال: مائةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أو: مائةٌ و (¬2) دِرْهَمٌ. عندَ أبى حنيفةَ. فإن قيل: إذا قال: مائةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا. فالدِّرْهَمُ ذُكِرَ للتَّفْسِيرِ، ولهذا لا يَزْدادُ (¬3) به العَدَدُ، فصَلَحَ تَفْسِيرًا لجَميعِ ما قَبْلَه، بخِلافِ قَوْلِه: مائةٌ ودِرْهَمٌ. فإنَّه ذَكَرَ الدِّرْهَمَ للإِيجابِ لا للتَّفسِيرِ، بدَلِيلِ أنَّه زادَ به العَدَدُ. قلنا: هو صالِحٌ للإِيجابِ والتَّفْسِيرٍ معًا، والحاجَةُ داعِيَةٌ إلى التَّفْسِيرِ، فوَجَبَ حَمْلُ الأمْرِ على ذلك، صِيانَةً لكَلامِ المُقِرِّ عن الالتِباسِ والإِلهامِ، وصَرْفًا له إلى البَيَانِ والإِفْهامِ. وقولُ أبى حنيفةَ: إنَّ «عَلَىَّ» للإِيجابِ. قلنا: فمتى عُطِفَ ما يَجِبُ بها على ما لا يَجبُ، وكان أحَدُهما مُبْهَمًا والآخَرُ مُفَسَّرًا، وأمْكَنَ تَفْسِيرُه به، وَجَبَ أَن يكونَ المُبْهَمُ مِن جنْسِ المُفَسَّرِ. فأمّا إن لم يُمْكِنْ (¬4)، مثلَ أن يُعْطَفَ عَدَدُ المُذَكَّرِ عِلى المُؤنَّثِ، أو بالعَكْسِ، ونحو ذلك، فلا يكون أحَدُهُما مِن جِنْسِ الآخرِ، ويَبْقَى المُبْهَمُ على إبْهامِه، كما لو قال: له ¬

(¬1) سورة المدثر 30. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) في م: «يراد». (¬4) في م: «يكن من جنس المفسر».

5190 - مسألة: (وإن قال: له على ألف وخمسون درهما. أو: خمسون وألف درهم. فالجميع دراهم. ويحتمل على قول التميمى أن يرجع فى تفسير الألف إليه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. أَو: خَمْسُونَ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ. فَالْجَمِيعُ دَرَاهِمُ. وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ التَّمِيمِىِّ أَنْ يُرْجَعَ فِى تَفْسِيرِ الْأَلْفِ إِلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ علىَّ (¬1) أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وعَشْرٌ. 5190 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا. أو: خَمْسُونَ وألْفُ دِرْهَمٍ. فالجَمِيعُ دَراهِمُ. ويَحْتَمِلُ على قولِ التَّمِيمِىِّ أن يُرْجَعَ في تَفْسِيرِ الألْفِ إليه) وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشّافِعِىِّ. وكذلك إن قال: ألْفٌ وثَلاثةُ دَرَاهِمَ. أو: مائةٌ و (¬2) ألْفُ درْهَمٍ. والصَّحِيحُ الأوّلُ، فإنَّ الدِّرْهَمَ المُفَسَّرَ يكونُ تَفْسِيرًا لجميعِ ماَ قَبْلَه مِن الجُمَلِ المُبْهَمةِ وجِنْسِ العَدَدِ، قال اللَّهُ تعالى مُخْبِرًا عن أحَدِ الخَصمَيْنِ أنَّه قال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} (¬3). وفى الحَدِيثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُوُفِّىَ وهو ابنُ ثَلاثٍ وسِتِّينَ سَنَةً (¬4). وقال عَنْتَرةُ (¬5): ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل. (¬3) سورة ص 23. (¬4) أخرجه البخارى، في: باب خاتم النبيين، من كتاب المناقب، وفى: باب وفاة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 226، 6/ 19. ومسلم، في: باب كم سن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم قبض، وباب كم أقام النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة والمدينة، من كتاب الفضائل. صحيح مسلم 4/ 1825، 1826. والترمذى، في: باب مبعث النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-، من أبواب المناقب. عارضة الأحوذى 13/ 109. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 370، 371، 4/ 96، 97. (¬5) ديوانه 99.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها اثْنَتَانِ وأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً … سُودًا كَخَافِيَةِ الغُرَابِ الأَسْحَمِ ولأَنَّ الدِّرْهَمَ ذُكِرَ تَفْسِيرًا، ولهذا لا يَجبُ به زِيادَةٌ على العَدَدِ المَذْكُورِ، فكان تَفْسِيرًا لجميعِ ما قبْلَه؛ لأنَّها (¬1) تَحْتاجُ إلى تَفسِيرٍ، وهو صالِحٌ لتَفْسِيرِها، فوَجَبَ حَمْلُه على ذلك، وهذا المَعْنَى مَوْجُودٌ في قولِه: ألْفٌ وثَلاثةُ دَراهِمَ. وسائِرِ الصُّوَرِ المَذْكُورةِ. فعلى قَوْلِ مَن لا يَجْعَلُ المُجْمَلَ مِن جِنْسِ المُفَسَّرِ، لو قال: بِعْتُكَ هذا بمائةٍ وخَمْسِينَ دِرْهَمًا. أو: بخَمْسَةٍ (¬2) وعِشْرِينَ دِرْهَمًا. لا يَصحُّ. وهو قولٌ شاذٌّ ضَعِيفٌ لا يُعَوَّلُ عليه. وإن قال: له عَلَىَّ ألْفُ دِرْهَم إلَّا خَمْسِينَ. فالمُسْتَثْنَى دَرَاهِمُ؛ لأَنَّ العَرَبَ لا تَسْتَثْنِى في الإِثْباتِ إلَّا مِن الجِنْسِ. ¬

(¬1) في م: «ولأنها». (¬2) في الأصل: «خمسة».

5191 - مسألة: [وإن قال: له على ألف إلا درهما. فالجميع دراهم) لأن العرب لا تستثنى فى الإثبات إلا من الجنس]

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَلْفٌ إلَّا دِرْهَمًا. فَالْجَمِيعُ دَرَاهِمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5191 - مسألة: [وإن قال: له عَلَىَّ ألْفٌ إلَّا دِرْهَمًا. فالجميعُ دَراهِمُ) لأَنَّ العربَ لا تَستَثْنِى في الإثْباتِ إلَّا مِن الجنسِ] (¬1). وهذا اخْتِيارُ ابنِ حامدٍ، والقاضِى. وقال أبو الحَسَنِ التَّمِيمِىُّ، وأبو الخَطَّابِ: يكونُ الألْفُ مُبْهَمًا، يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه. وهو قولُ مالكٍ، والشَّافعىِّ؛ لأَنَّ الاسْتِثْناءَ عندَهما يَصِحُّ مِن غيرِ الجِنْسِ، ولأَنَّ لَفْظَه في الأَلْفِ مُبْهَمٌ، والدِّرْهَمُ لم يُذْكَرْ تَفْسِيرًا له، فيَبْقَى (¬2) على إبْهامِه. ولَنا، أنَّه لم يَرِدْ عن العَرَبِ الاسْتِثْناءُ في الإثْباتِ إلَّا مِن الجِنْسِ، فمتى عُلِمَ أحَدُ الطرًّفيْنِ عُلِمَ أنَّ الآخَرَ مِن جِنْسِه، كما لو عُلِمَ المُسْتَثْنَى منه، وقد سَلَّمُوه، وعِلَّتُه تَلازُمُ المُسْتَثْنَى والمُسْتَثْنَى منه في الجِنْسِ، فما ثَبَتَ في أحَدِهما ثَبَتَ في الآخرِ. فعلى قولِ أبى الحَسَنِ التَّمِيمِىِّ، وأبى الخَطَّابِ، يُسألُ عن المُسْتَثْنَى، فإن فَسَّرَه بغيرِ الجِنْسِ، بَطَلَ الاسْتِثْناءُ. وعلى قولِ غيرِهما، يُنْظَرُ في المُسْتَثْنَى، إن كان مِثلَ المُسْتَثْنَى منه أو أكْثَرَ، ¬

(¬1) سقط من: ق، م. (¬2) في م: «فبقى».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بَطَل (¬1)، [وإلا صَحَّ] (¬2). فصل: وإن قال: له تِسْعةٌ وتِسْعُونَ دِرْهَمًا. فالجميعُ دَرَاهِمُ. ولا أعْلَمُ فيه خِلافًا. وكذلك إن قال: مائةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا (3). وخَرَّجَ بعضُ أصحابنا وجهًا أنَّه لا يكونُ تَفْسِيرًا إلَّا لِما يَلِيه. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشَّافعىِّ. ¬

(¬1) في ق، م: «فيبطل». (¬2) في النسخ: «في الأصح»، والمثبت كما في المغنى 7/ 295.

5192 - مسألة: (وإن قال: له فى هذا العبد شرك. أو: هو شريكى فيه. أو: هو شركة بيننا. رجع فى تفسير نصيب الشريك إليه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ فِى هَذَا الْعَبْدِ شِرْكٌ. أَوْ: هُوَ شَرِيكِى فِيهِ. أَوْ: هُوَ شَرِكَةٌ بَيْنَنَا. رُجِعَ فِى تَفْسِيرِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5192 - مسألة: (وإن قال: له في هذا العَبْدِ شِرْكٌ. أو: هو شَرِيكِى فيه. أو: هو شَرِكَةٌ بينَنا. رُجِعَ في تَفْسِيرِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إليه) وقال أبو يُوسفَ: يكونُ مُقِرًّا بنِصْفه؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِى الثُّلُثِ} (¬1). فاقْتَضَى ذلك التَّسْوِيةَ بينَهم، كذا ههُنا. ولَنا، أنَّ أىَّ جُزْءٍ كان له منه، فلَه فيه شَرِكَةٌ، فكان له تَفْسِيرُه بما شاءَ، كالنِّصْفِ، ¬

(¬1) سورة النساء 12.

5193 - مسألة: (وإن قال: له على أكثر من مال فلان. قيل له: فسر. فإن فسره بأكثر منه قدرا، قبل. وإن قال: أردت أكثر بقاء ونفعا؛ لأن الحلال أنفع من الحرام. قبل)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ. قِيلَ لَهُ: فَسِّرْ. فَإنْ فَسَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ قَدْرًا، قُبِلَ وَإِنْ قَلَّ. وَإِنْ قَالَ: أرَدْتُ أكْثَرَ بَقَاءً وَنَفْعًا؛ لأَنَّ الْحَلَالَ أَنْفَعُ مِنَ الْحَرَامِ. قُبِلَ مَعَ يَمِينِه، سَوَاءٌ عَلِمَ مَالَ فُلَانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس إطْلاقُ لَفْظِ الشَّرِكَةِ على ما دُونَ النِّصْفِ مَجازًا، ولا مُخالِفًا للظاهرِ، والآيةُ ثَبَتَتِ التَّسْوِيةُ فيها بدَلِيلٍ آخَرَ. وكذلك الحُكْمُ إذا قال: هذا العَبْدُ شَرِكَةٌ بينَنا. وإن قال: له فيه سَهْمٌ. فكذلك. وقال القاضِى: يُحْمَلُ على السُّدْسِ، كالوَصِيَّةِ. 5193 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ أكْثَرُ مِن مالِ فُلانٍ. قيل له: فَسِّرْ. فإن فَسَّرَه بأكْثَرَ منه قَدْرًا، قُبِلَ. وإن قال: أرَدْتُ أكْثَرَ بَقاءً ونَفْعًا؛ لأَنَّ الحَلَالَ أنْفَعُ مِن الحَرَامِ. قُبِلَ) قولُه (مع يَمِينِه، سواءٌ عَلِمَ

أَوْ جَهِلَهُ، أَوْ ذَكَرَ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ قَدْرًا بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ مالَ فلانٍ أو جَهِلَه، أو ذَكَرَ قَدْرَه أو لم يَذْكُرْه) أمّا إذا فَسَّرَه بأكْثَرَ منه قَدْرًا، فإنَّه يُقْبَلُ تَفْسِيرُه، ويَلْزَمُه أكْثَرُ منه. وتُفَسَّرُ الزِّيادَةُ بما يُرِيدُ مِن قَلِيلٍ أو كَثِيرٍ، ولو حَبّةَ حِنْطةٍ. ولو قال: ما عَلِمْتُ لفلانٍ أكْثَرَ مِن كذا. وقامتِ البَيِّنةُ بأكْثَرَ منه، لم يَلْزَمْه أكْثَرُ مما اعْتَرفَ به؛ لأَنَّ مَبْلَغَ المالِ حَقِيقةٌ لا تُعْرَفُ في الأكْثَرِ، وقد يكونُ ظاهرًا وباطِنًا، فيَمْلِكُ ما لا (¬1) يَعْرِفُه المُقِرُّ، فكان المَرْجعُ إلى ما اعْتَقَدَه المُقِرُّ مع يَمِينِه إذا ادَّعَى عليه أكْثَرَ منه. وإن فَسَّرَه بأقَلَّ مِن مالِه مع عِلْمِه بمالِه، لم يُقْبَلْ. وقال أصحابُنا: يُقْبَل تَفْسِيرُه بالكَثِيرِ والقَلِيلِ. وهو مذهبُ الشّافِعِىِّ، سواءٌ عَلِمَ مالَ فلانٍ أو جَهِلَه، أو ذَكَر قَدْرَه أو لم يَذْكُرْه، أو قاله عَقِيبَ الشَّهادَةِ بقَدْرِه أو لا؛ لأنَّه (¬2) يَحْتَمِلُ أنَّه أكْثَرُ منه بَقاءً أو مَنْفَعةً أو بَرَكةً؛ لكَوْنِه مِن ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) بعده في م: «لا».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحَلَالِ، أو لأنَّه في الذِّمَّةِ. قال القاضِى: ولو قال: لى عليك ألْفُ دِينارٍ. فقال: لك عَلَىَّ أكْثَرُ مِن ذلك. لم يَلْزَمْه أكْثَرُ منها؛ لأَنَّ لَفْظَةَ «أكْثَرَ» مُبْهَمةٌ؛ لِاحْتِمالِها ما ذكَرْنا، ويَحْتَمِلُ أنَّه أراد أكْثَرَ منه فُلُوسًا، أو حَبَّ حِنْطةٍ أو شَعِيرٍ أو دُخْنٍ، فيُرْجَعُ في تَفْسِيرِها إليه. قال شَيْخُنا (¬1): وهذا بَعِيدٌ. فإنَّ لَفْظةَ «أكْثَرَ» إنَّما تُسْتَعْمَلُ حَقِيقةً في العَدَدِ أو في القَدْرِ، وتَنْصَرِفُ إلى جِنْسِ ما أُضِيفَ «أكْثَرُ» إليه، لا يُفْهَمُ في الإطْلاقِ غيرُ ذلك، قال اللَّهُ تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} (¬2). وأخْبَرَ عن الذى قال: {أنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا} (¬3). {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} (¬4). والإِقْرارُ يُؤْخَذُ فيه بالظّاهِرِ دون مُطْلَقِ الاحْتِمالِ، ولهذا لو أقَرَّ بدَراهِمَ، لَزِمَه أقَلُّ الجمعِ (¬5)، جِيَادًا صِحَاحًا وازِنةً حالَّةً. ولو قال: له عَلَىَّ دَرَاهِمُ. لم يُقْبَلْ تَفسِيرُها بالوَدِيعةِ. ولو رُجِع إلى مُطْلَقِ الاحْتِمالِ، سَقَط الإِقْرارُ، واحْتِمالُ ما ذَكَرُوه أبعَدُ مِن هذه الاحْتِمالاتِ ¬

(¬1) في: المغنى 7/ 307. (¬2) سورة غافر 82. (¬3) سورة الكهف 34. (¬4) سورة سبأ 35. (¬5) في الأصل: «الجميع».

5194 - مسألة: (ولو ادعى عليه دينا، فقال: لفلان على أكثر مما لك. وقال: أردت التهزؤ. لزمه حق لهما، يرجع فى تفسيره إليه، فى أحد الوجهين. وفى الآخر، لا يلزمه شئ)

وَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا، فَقَالَ: لِفُلَانٍ عَلَىَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ. وَقَالَ: أَرَدْتُ التَّهَزُّؤَ. لَزِمَهُ حَق لَهُمَا، يُرْجَعُ فِى تَفْسِيرِه إِلَيْهِ، فِى أحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَفِى الْآخَرِ، لَا يَلْزَمُهُ شَىْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ التى لم يَقْبَلُوا تَفْسِيرَه بها، فلا يُعَوَّلُ على هذا. 5194 - مسألة: (ولو ادَّعَى عليه دَيْنًا، فقال: لفُلانٍ عَلَىَّ أكْثَرُ ممّا لَكَ. وقال: أَردْتُ التَّهَزُّؤَ. لَزِمَهُ حقٌّ لهما، يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه، في أحَدِ الوَجْهَيْن. وفى الآخرِ، لا يَلْزَمُه شئٌ) لأنَّه أقَرَّ لفلانٍ بحَقٍّ مَوْصُوفٍ بالزِّيادَةِ على [ما للمُدَّعِى] (¬1)، فيَجبُ عليه ما أَقَرَّ به لفلانٍ، ويَجِبُ للمُدَّعِى حَقٌّ؛ لأَنَّ لَفْظَه يَقْتَضِى أن يَكونَ له شئٌ. وفى الآخَرِ، لا يَلْزَمُه شئٌ؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ أرادَ: حَقُّكَ عَلَىَّ أكْثَرُ مِن حَقِّه. والحَقُّ لا يَخْتَصُّ بالمالِ. ¬

(¬1) في ق، م: «مال المدعى».

فصل

فَصْلٌ: إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَىَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ. لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ. وَإِنْ قَال: مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ. لَزِمَهُ تِسْعَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ عَشَرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: إذا قال: له عَلَىَّ ألْفٌ إلا شيئًا. قُبِلَ تَفْسِيرُه بأكْثَرَ مِن خَمْسِمائةٍ؛ لأَنَّ الشئَ يَحْتَمِلُ الكَثِيرَ والقَلِيلَ، لكنْ لا يجوزُ اسْتِثْناءُ الأكْثَرِ، فتَعَيَّنَ (¬1) حَمْلُه على ما دون النِّصْفِ. وكذلك إن قال: إلَّا قَلِيلًا. لأنَّه مُبْهَمٌ، فأشْبَهَ قولَه: إلا شيئًا. وإن قال: له عَلَىَّ مُعْظَمُ ألْفٍ. أو: جُلُّ أَلْفٍ. أو: قَرِيبٌ مِن أَلْفٍ. لَزِمَه أكْثَرُ مِن نِصْفِ الألْفٍ، ويَحْلِفُ على الزِّيادَة، إنِ ادُّعِيَتْ عليه. فصل: (وإذا قَال: له عَلَىَّ ما بَيْنَ دِرْهَمٍ وعَشَرَةٍ. لَزِمَه ثَمانِيةٌ) لأَنَّ ذلك ما بينَهما (وإن قال: مِن درْهَم إلى عَشَرَةٍ) ففيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ؛ أحدُها (يَلْزَمُه تِسْعةٌ) وهذا يُحْكَىَ عن أبى حنيفةَ؛ لأَنَّ «مِنْ» لِابْتِداءِ ¬

(¬1) في م: «فيتعين».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغَايةِ، وأَوَّلُ الغايةِ منها، [و «إلى» لِانْتِهاءِ الغايةِ] (¬1)، فلا تَدْخُلُ فيها، كَقَولِه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2). والثانى، يَلْزَمُه ثمانِيةٌ؛ لأَنَّ الأوَّلَ والعاشِرَ حَدَّانِ، فلا يَدْخُلانِ في الإِقْرارِ، ويَلْزِمُه ما بينَهما، كالتى قبلَها. والثالثُ، يَلْزَمُه عَشَرَةٌ؛ لأَنَّ العاشِرَ أحَدُ الطَّرَفيْنِ، فيَدْخُلُ فيها كالأوَّلِ، وكما لو قال: قَرَأْتُ القُرْآنَ مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه. وإن قال: أَرَدْت بقَوْلِى مِن واحدٍ إلى عَشَرَةٍ مَجْمُوعَ الأعْدادِ كُلِّها. أى الواحِدُ ¬

(¬1) في الأصل: «وأولى لانتهائها». (¬2) سورة البقرة 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والاثْنانِ كذلك إلى العَشَرَةِ، لَزِمَه خَمْسَةٌ وخَمْسُونَ دِرْهَمًا، واخْتِصارُ حِسَابِه أن تَزِيدَ أوَّلَ العَدَدِ وهو واحِدٌ على العَشَرةِ، فيَصِيرُ أحَدَ عَشَرَ، ثم اضْرِبْها في نِصْفِ العَشَرَةِ، فما بَلَغَ فهو الجَوابُ.

5195 - مسألة: (وإن قال: له على درهم فوق درهم. أو: تحت درهم. أو: فوقه. أو: تحته. أو: قبله. أو: بعده. أو: معه درهم. أو: درهم ودرهم. أو: درهم، بل درهمان. أو

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ. أَوْ: تَحْتَ دِرْهَمٍ. أَوْ: فَوْقَهُ. أَوْ: تَحْتَهُ. أَوْ: قَبْلَهُ. أَوْ: بَعْدَهُ. أَوْ: مَعَهُ دِرْهَمٌ. أَوْ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ. أَوْ: دِرْهَمٍ، بَلْ دِرْهَمَانِ. أَوْ: دِرْهَمَانِ، بَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــ 5195 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ فوقَ دِرْهَمٍ. أو: تَحْتَ دِرْهَمٍ. أو: فَوْقَه. أو: تحتَه. أو: قَبْلَه. أو: بعدَه. أو: معه دِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ، بل دِرْهَمانِ. أو:

دِرْهَمٌ. لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ دِرْهمانِ، بل دِرْهَمٌ. لَزِمَه دِرْهَمانِ) إذا قال: له عَلَىَّ درْهَمٌ فَوْقَ درْهَمٍ. أو: تَحْتَ درْهَمٍ. أو: معه دِرْهَمٌ. أو: مِعَ درْهَمٍ. فقال القاضى: يَلْزَمُه دِرْهَمٌ. وهو أحَدُ قَوْلَى الشّافعىِّ؛ لأنَّه يَحتَمِلُ؛ فَوْقَ درْهَمٍ في الجَوْدَةِ، أو فَوْقَ درْهَمٍ لِى، [وكذلك تَحْتَ] (¬1) دِرْهَمٍ. وَقولهُ: معه دِرْهَمٌ. [أو: معَ درْهَمٍ] (¬2). يَحْتَمِلُ معه دِرْهَمٌ، [أو مع دِرْهَمٍ لِى] (¬3)، فلم يَجِبِ الزَّائِدُ بالاحْتِمالِ. وقال أبو الخَطّابِ: يَلْزَمُه دِرْهَمانِ. وهو القولُ الثانى للشّافِعِىِّ؛ لأَنَّ هذا اللَّفْظَ يَجْرِى مَجْرَى العَطْفِ، لكَوْنِه يَقْتَضِى ضَمَّ دِرْهَمٍ آخَرَ إليه، وقد ذكَر ذلك في سِيَاقِ الإِقْرارِ. فالظاهِرُ أنَّه إقْرارٌ، ولأَنَّ قولَه: عَلَىَّ. يَقْتَضِى ¬

(¬1) في الأصل: «ولذلك يجب». (¬2) سقط من: م. (¬3) في م: «لى، وكذلك مع درهم».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ في ذِمَّتِى، وليس للمُقِرِّ في ذِمّةِ نَفْسِه دِرْهَمٌ مِع دِرْهَمِ المُقَرِّ (¬1) له، ولا فَوْقَه ولا تَحْتَه، فإنَّه لا يَثْبُتُ للإنْسانِ في ذِمَّةِ نفْسِه شئٌ. وِقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: إن قال: فَوْقَ دِرْهَمٍ. لَزِمَه دِرْهَمانِ؛ لأَنَّ «فوْقَ» تَقْتَضِى في الظاهرِ الزِّيادَةَ، وإن قال: تَحْتَ درْهَمٍ. لَزِمَه درْهَمٌ؛ لأَنَّ «تَحْتَ» تَقْتَضِى النَّقْصَ. ولَنا، أنَّه (¬2) إن حُمِلَ كَلامُه على مَعْنَى العَطْفِ، فلا فَرْقَ بينَهما، وإن حُمِلَ على الصِّفَةِ للدِّرْهَمِ المُقَرِّ به، وَجَبَ أن يكونَ المُقَرُّ به دِرْهَمًا واحِدًا، سواءٌ ذكَره بما يَقْتَضى زيادَةً أو نَقْصًا. وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ قبلَه دِينارٌ. أو: بعدَه. أو: قَفِيزُ حِنطَةٍ. أو: معه. أو: تَحْتَه. أو: فوقَه. أو: مع ذلك. فالقولُ في ذلك كالقولِ في الدراهمِ سواءً. ¬

(¬1) في الأصل: «للمقر». (¬2) سقط من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قال: [قبلَه دِرْهَمٌ. أو: بعدَه دِرْهَمٌ. لَزِمَه دِرْهَمان. فإن قال] (¬1): قَبْلَه دِرْهَمٌ وبَعْدَه دِرْهَمٌ. لَزِمَه ثَلاثةٌ؛ لأَنَّ «قَبْلَ» و «بَعْدَ» تُسْتَعْمَلُ للتَّقْدِيمَ والتَّأْخِيرِ. ¬

(¬1) في الأصل: «على درهم».

5196 - مسألة: وإن قال: له على درهم ودرهم. أو: درهم فدرهم. أو: درهم ثم درهم. لزمه درهمان. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه. وذكر القاضى وجها، فيما إذا قال: درهم فدرهم. وقال: أردت: درهم فدرهم لازم لى. أنه يقبل منه. وهو قول الشافعى؛ لأنه يحتمل الصفة. ولنا، أن «الفاء» أحد حروف العطف الثلاثة، فأشبهت «الواو» و

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 5196 - مسألة: وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَم ودِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ. لَزِمَه دِرْهَمانِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ وأصحابُه. وذكَر القاضِى وَجْهًا، فيما إذا قال: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. وقال: أرَدْتُ: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ لازِمٌ لى. أنَّه يُقْبَلُ منه. وهو قولُ الشّافعىِّ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ الصِّفَةَ. ولنا، أنَّ «الفاءَ» أحَدُ حُرُوفِ العَطْفِ الثلاثةِ، فأشْبَهتِ «الواوَ» و (¬1) «ثُمَّ»، ولأنَّه عَطَف شيئًا على شئٍ بالفاءِ، فاقْتَضَى ثُبُوتَهما، كما لو قال: أنْتِ طالِقٌ فَطالِقٌ. وقد سَلَّمَه الشّافِعِىُّ. وما ذكَرُوه مِن احْتِمالِ الصِّفَةِ بَعِيدٌ لا يُفْهَمُ حالةَ الإطْلاقِ، فلا يُقْبَلُ تَفْسِيرُه به، ¬

(¬1) سقط من: الأصل.

5197 - مسألة: فإن قال: له على درهم بل درهمان. أو: درهم لكن درهمان. لزمه درهمان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كما لو فَسَّرَ الدَّراهِمَ المُطْلَقةَ بأنَّها زُيُوفٌ أو صِغَارٌ أو مُؤَجَّلَةٌ. وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ. لَزِمَتْه ثَلاثةٌ. وحَكَى ابنُ أبى مُوسَى عن بعضِ أصحابِنا، أنَّه إذا قال: أرَدْت بالثالثِ تَأْكيدَ الثانى وبَيانَه. أنَّه يُقْبَلُ. وهو قولُ بعضِ أصحاب الشّافِعِىِّ؛ لأَنَّ الثالثَ في لَفْظِ الثانى. وظاهِرُ مَذْهَبِه أنَّه تَلْزَمُه الثلاثةُ؛ لأَنَّ «الواوَ» للعَطْفِ، وهو يَقْتَضِى المُغَايَرَةَ، فوَجبَ أن يكونَ الثالثُ غيرَ الثانى، كما كان الثانى غيرَ الأوّلِ، والإِقْرارُ لا يَقْتَضِى تأكيدًا، فوَجبَ حَمْلُه على العَدَدِ. وكذلك الحُكْمُ إذا قال: له (¬1) عَلَىَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ فدِرْهَمٌ (¬2). أو: دِرْهَمٌ ثم دِرْهَمٌ ثم دِرْهَمٌ. فإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ ثم دِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ ثم دِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ ثم دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ. لَزِمَتْه الثلاثةُ وَجْهًا واحدًا؛ لأَنَّ الثالِثَ مُغايِرٌ للثانِى؛ لاخْتِلافِ حَرْفَىِ العَطْفِ الدّاخِلَيْنِ عليهما (1)، فلم يَحْتَمِل التَّأْكِيدَ. 5197 - مسألة: فإن قال: له عَلَىَّ درْهَمٌ بل دِرْهَمانِ. أو: درْهَمٌ لكنْ دِرْهَمانِ. لَزِمَه دِرْهَمانِ. وبه قال الشَّافعىُّ. وقال زُفَرُ، ودَاوُدُ: تَلْزَمُه ثَلاثةٌ؛ لأَنَّ «بَلْ» للإضْرابِ، فلما أقَرَّ بدِرْهَمٍ وأضْرَبَ عنه، لَزِمَه؛ لأنَّه لا يُقْبَلُ رُجُوعُه عمّا أقَرَّ به، ولَزِمَه الدِّرْهمانِ اللَّذانِ أقَرَّ بهما. ولنا، أنَّه إنَّما نَفَى الاقْتِصارَ على واحدٍ، وأثْبَتَ الزِّيادَةَ عليه، فأشْبَهَ ما ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: ق، م.

5198 - مسألة

وَإِنْ قَالَ: لَهُ دِرْهَمٌ، بَلْ دِرْهَمٌ. أَوْ: دِرْهَمٌ، لَكِنْ دِرْهَمٌ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو قال: له عَلَىَّ درْهَمٌ، بل أكْثَرُ. فإنَّه لا يَلْزَمُه أكْثَرُ مِن اثْنَيْنَ. 5198 - مسَألة (¬1): وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهمانِ، بل درهمٌ. أو: عَشَرَةٌ، بل تِسْعَةٌ. لزِمَه الأكثرُ؛ لأنَّه أَضْرَبَ عن واحدٍ، ونفاه بعدَ إقرارِه به، فلم يُقْبَلْ نفيُه، بخلافِ الاستِثْناءِ، فإنَّه لا ينْفِى شيئًا أقرَّ به، وإنَّما هو عبارةٌ عن الباقى بعدَ الاستِثْناءِ، فإذا قال: عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا. كان معناه تِسْعَةً. 5199 - مسألة: (وإن قال: له) عَلَىَّ (دِرْهَمٌ، بَلْ دِرْهَمٌ. أو: دِرْهَمٌ، لكنْ دِرْهَمٌ. فهل يَلْزَمُه دِرْهَمٌ أو دِرْهَمانِ؟ عَلَى وَجْهَيْن، ذكَرَهُما أبو بكرٍ) أحدُهما، يَلْزَمُه دِرْهَمٌ واحدٌ؛ لأن أحمدَ قال في من قال لِامْرَأتِه: أنْتِ طالِقٌ بل أنتِ طالِقٌ: إنَّها لا تَطْلُقُ إلا واحِدَةً. وهذا ¬

(¬1) هذه المسألة ساقطة من: م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَذْهَبُ الشّافِعِىِّ؛ لأنَّه أقَرَّ بدِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، فلم يَلْزَمْه أكْثَرُ مِن دِرْهَمٍ، كما لو أقَرَّ بدِرْهَمٍ ثم أنْكَرَه، ثم قال: بَلْ عَلَىَّ دِرْهَمٌ. و «لكنْ» للاسْتِدْراكِ، فهى في مَعْنَى «بَلْ»، إلَّا أنَّ الصَّحِيحَ أنَّها لا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بعدَ الجَحْدِ، إلَّا أن يُذْكَرَ بعدَها الجُمْلةُ. والوجهُ الثانى، يَلْزَمُه دِرْهَمانِ. ذكَرُه ابنُ أبِى مُوسَى، وأبو بكرٍ عبدُ العَزِيزِ. ويَقْتَضِيه قولُ زُفَرَ، ودَاوُدَ؛ لأَنَّ ما بعدَ الإضْرَابِ يُغايِرُ ما قَبْلَه، فيَجِبُ أن يكونَ الدِّرْهَمُ الذى أضْرَبَ عنه غيرَ الدِّرْهَمِ الذى أقَرَّ به بعدَه، فيَجِبُ الإثْباتُ، كما لو قال: له عَلَىَّ درْهَمٌ، بل دينارٌ. ولأَنَّ «بَلْ» مِن حُرُوفِ العَطْفِ، والمَعْطُوفُ غيرُ المَعْطوفِ عليَه، فوَجَبَا جَميعًا، كما لو قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ. ولأنّا لو لم نُوجِبْ عليه إلَّا دِرْهَمًا، جَعَلْنا كَلامَه لَغْوًا، وإضْرابَه غيرَ مُفِيدٍ، والأَصْلُ في كَلامِ العاقِلِ أن يكونَ مُفِيدًا.

5200 - مسألة: (ولو قال: له على هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان. لزمته الثلاثة)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ هَذَا الدِّرْهَمُ، بَلْ هَذَانِ الدِّرْهَمَانِ. لَزِمَتْهُ الثَّلَاثَةُ. وَإِنْ قَالَ: قَفِيزُ حِنْطَةٍ، بَل قَفِيزُ شَعِيرٍ. أَوْ: دِرْهَمٌ، بَلْ دِينَارٌ. لَزِمَاهُ مَعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5200 - مسألة: (ولو قال: له عَلَىَّ هذا الدِّرْهَمُ، بَلْ هَذانِ الدِّرْهَمانِ. لَزِمَتْهُ الثَّلاثةُ) لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا؛ لأنَّه متى كان الذى أضْرَبَ عنه لا يُمْكِنُ أن يكونَ المَذْكُورَ بعدَه، ولا بعضَه، مثلَ أن يقولَ: له عَلَىَّ (درْهَمٌ، بل دينارٌ. أو: قَفِيزُ حِنْطَةٍ، بل قَفِيزُ شَعِيرٍ) لَزِمَه الجميعُ؛ لأَنَّ الأوّلَ لا يُمكنُ أن يكونَ الثانىَ ولا بعضَه، فكان مُقِرًّا بهما، ولا يُقْبَلُ رُجُوعُه عن شئٍ منهما. وكذلك كلُّ جُمْلَتَيْنِ أقَرَّ بإحْداهما ثم رَجَعَ إلى الأُخْرَى، لَزِمَاهُ.

5201 - مسألة: (وإن قال: درهم فى دينار. لزمه درهم. وإن قال)

وَإِنْ قَالَ: دِرْهَمٌ فِى دِينَارٍ. لَزِمَهُ دِرْهَمٌ. وَإِنْ قَالَ: دِرْهَمٌ فِى عَشَرَةٍ. لَزِمَهُ دِرْهَمٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْحِسَابَ، فَتَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5201 - مسألة: (وإن قال: دِرْهَمٌ فِى دِينارٍ. لَزِمَه دِرْهَمٌ. وإن قال): له عَلَىَّ (درْهَمٌ في عَشَرَةٍ. لَزِمَه دِرْهَمٌ، إلَّا أن يُرِيدَ الحِسَابَ، فيَلْزَمُه عَشَرَةٌ) أمّا إِذا قال: له عِنْدِى دِرْهَمٌ في دِينارٍ. فإنَّه يُسألُ عن مُرادَه، فإن قال: أرَدْتُ العَطْفَ. أو: مَعْنَى «مَعَ». لَزِمَه الدِّرْهَمُ والدِّينارُ. وإن قال: أسْلَمْتُه في دِينارٍ. فصَدَّقَه المُقَرُّ له، بَطَلَ إقْرارُه؛ لأَنَّ سَلَمَ أحَدِ النَّقْدَيْنِ في الآخَرِ لا يَصِحُّ. وإن كَذَّبَه، فالقولُ قولُ المُقَرِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له؛ لأَنَّ المُقِرَّ وَصَلَ إقْرارَه بما (¬1) يُسْقِطُه، فلَزِمَه دِرْهَمٌ، وبَطَلَ قولُه: في دِينارٍ. وكذلك إن قال: له دِرْهَمٌ في ثَوْبٍ. وفَسَّرَه بالسَّلَمَ، أو قال: في ثَوْبٍ اشْتَرَيْتُه منه إلى سَنَةٍ. فصَدَّقَه، بَطَلَ إقْرارُه؛ لأنَّه إن كان بعدَ التَّفَرُّقِ، بَطَل السَّلَمُ وسَقَطَ الثَّمَنُ، وإن كان قبلَ التَّفَرُّقِ، فالمُقِرُّ بالخِيارِ بينَ الفَسْخِ والإِمْضاءِ. وإن كَذَّبَه المُقَرُّ له، فالقولُ قولُه مع يَمِينِه، وله الدِّرْهمان. وأمّا إذا قال: درْهَمٌ في عَشَرةٍ. وقال: أرَدْتُ في عَشَرةٍ لِى. لَزِمَه دِرْهَمٌ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ مَا يقولُ. وإن قال: أرَدْتُ الحِسَابَ. لَزِمَه عَشَرَةٌ. وإن قال: أرَدْت مَعَ عَشَرَةٍ. لَزِمَه أحَدَ عَشَرَ؛ لأَنَّ كثيرًا مِن العَوَامِّ يُرِيدُونَ بهذا اللَّفْظِ هذا المعنى. فإن كان (¬2) مِن أَهْلِ ¬

(¬1) سقط من: م. (¬2) سقط من: الأصل.

5202 - مسألة: (وإن قال: له عندى تمر فى جراب. أو: سكين فى قراب. أو: ثوب فى منديل. أو: عبد عليه عمامة. أو: دابة عليها سرج. فهل يكون مقرا بالظرف والعمامة والسرج؟ يحتمل وجهين)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِى تَمْرٌ فِى جِرَابٍ. أَوْ: سِكِّينٌ فِى قِرَابٍ. أَوْ: ثَوْبٌ فِى مِنْدِيلٍ. أَوْ: عَبْدٌ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ. أَوْ: دَابَّةٌ عَلَيْهَا سَرْجٌ. فَهَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِالظَّرْفِ وَالعِمَامَةِ وَالسَّرْجِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنَ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحِسَابِ، احْتَمَلَ أن لا يُقْبَلَ؛ لأَنَّ الظاهرَ مِن الحِسَابِ اسْتِعمالُ ألْفاظِه في مَعانِيها في اصْطِلاحِهم. ويَحْتَمِلُ أن يُقْبَلَ، فإنَّه لا يَمْتَنِعُ أن يَسْتَعْمِلَ اصْطلاحَ العّامَّةِ. 5202 - مسألة: (وإن قال: له عِنْدِى تَمْرٌ في جِرابٍ. أو: سِكِّينٌ في قِرَابٍ. أو: ثَوْبٌ في مِنْدِيلٍ. أو: عَبْدٌ عليه عِمَامَةٌ. أو: دابّةٌ عليها سَرْجٌ. فهل يكونُ مُقِرًّا بالظرفِ والعِمامةِ والسَّرْجِ؟ يحتملُ وجهين) أحدُهما، يكونُ مُقِرًّا بالمَظْرُوفِ دُونَ الظَّرفِ. وهذا اخْتِيارُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابنِ حامِدٍ، ومَذْهَبُ مالِكٍ، والشَّافِعِىِّ؛ لأَنَّ إقْرارَه لم (¬1) يَتَناوَلِ الظَّرْفَ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ في ظَرْفٍ للمُقِرِّ، فلم يَلْزَمْه. والثانى، يَلْزَمُه الجميعُ؛ لأنَّه ذَكَرَ ذلك في سِيَاقِ الإِقْرارِ، فلَزِمَه، كما لو قال: لى عَلَىَّ خاتَمٌ فيه فَصٌّ. وكذلك إن قال: غَصَبْت منه ثَوْبًا في مِنْدِيلٍ. أو: زَيْتًا في زِقٍّ. واخْتارَ شيخُنا فيما إذا قال: عَبْدٌ عليه عِمامةٌ. أن يكونَ مُقِرًّا بهما. وهو قولُ أصحابِ الشّافِعِىِّ. وقال أبو حنيفةَ في الغَصْبِ: يَلْزَمُه، ولا يَلْزَمُه في بَقِيَّةِ الصُّوَرِ؛ لأَنَّ المِنْدِيلَ يكونُ ظَرْفًا للثَّوْبِ، فالظاهِرُ أنَّه ظَرْفٌ له في حالِ الغَصْبِ، فصارَ كأنَّه قال: غَصَبْتُ ثَوْبًا ومِنْدِيلًا. ولَنا، ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ المِنْدِيلُ للغاصِبِ، وهو ظَرْفٌ للثَّوْبِ، فيقولُ: غَصَبْتُ ثَوْبًا في مِنْدِيلٍ لى (¬1). ولو قال هذا لم يَكُنْ مُقِرًّا بغَصْبِه، فإذا أطْلَقَ، كان مُحْتَمِلًا له، فلم يَكُنْ مُقِرًّا بغَصْبِه، كما لو قال: غَصَبْتُ دابَّةً في إصْطَبْلِها. ¬

(¬1) سقط من: ق، م.

5203 - مسألة: (وإن قال: له عندى خاتم فيه فص. فهو مقر بهما)

فَإنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِى خَاتَمٌ فِيهِ فَصٌّ. كَانَ مُقِرًّا بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ: فَصٌّ فِى خَاتَمٍ. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5203 - مسألة: (وإن قال: له عِنْدِى خَاتَمٌ فيه فَصٌّ. فهو مُقِرٌّ بهما) لأَنَّ الفَصَّ جُزْءٌ مِن الخَاتَمِ، فأشْبَهَ ما لو قال: له عَلَىَّ ثَوْبٌ فيه عَلَمٌ. ويَحْتَمِلُ أن يُخَرَّجَ على الوَجْهَيْنِ، فيكونُ مُقِرًّا بالخَاتَمِ وحدَه (وإن قال: فَصٌّ في خَاتَمٍ. احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ) فإن قال: له عِنْدِى خَاتَمٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأَطْلَقَ، لَزِمَه الخَاتَمُ بِفَصِّه؛ لأَنَّ اسْمَ الخَاتَمِ يَجْمَعُهما. وكذلك إن قال: له عَلَىَّ ثَوْبٌ مُطَرَّزٌ. لَزِمه الثَّوْبُ بطِرَازِه؛ لِما ذَكَرْنا. فصل: وإن قال: له عِنْدِى دارٌ مَفْرُوشةٌ. أو: دابَّةٌ مُسْرَجَةٌ. أو: عَبْدٌ عليه عِمَامَةٌ. ففيه أيضًا وَجْهانِ ذكَرْناهما. وقال أصحابُ الشّافِعِىِّ: تَلْزَمُه عِمَامَةُ العَبْدِ دون السَّرْجِ؛ لأَنَّ العَبْدَ يَدُه على عِمَامَتِه، ويَدُه كَيَدِ سَيِّدِه، ولا يَدَ للدَّابَّةِ والدّارِ. ولَنا، أنَّ الظاهِرَ أنَّ سَرْجَ الدّابَّةِ لِصَاحِبِها، وكذلك لو تَنازَعَ رَجُلانِ سَرْجًا على دابَّةِ أحَدِهما، كان لِصَاحِبِهِا، فهو كعِمَامَةِ العَبْدِ. فأمّا إن قال: له عِنْدِى دابّةٌ بِسَرْجِها. أو: دارٌ بِفرْشِها. أو: سَفِينةٌ بطَعَامِها. كان مُقِرًّا بهما بغيرِ خِلَافٍ؛ لأَنَّ «الباءَ» تُعَلِّقُ الثانِىَ بالأوَّلِ.

5204 - مسألة: (وإن قال: له على درهم أو دينار. لزمه أحدهما، يرجع فى تفسيره إليه)

وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَىَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ. لَزِمَهُ أحَدُهُمَا، يُرْجَعُ إلَيْهِ فِى تَعْيِيِنهِ. تَمَّ (الْمُقْنِعُ) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ 5204 - مسألة: (وإن قال: له عَلَىَّ دِرْهَمٌ أو دِينارٌ. لَزِمَه أحَدُهما، يُرْجَعُ في تَفْسِيرِه إليه) لأَنَّ «أَوْ» و «إمّا» في الخَبَرِ للشَّكِّ، وتَقْتَضِى أحَدَ المَذْكُورَيْنِ، لا هما. فإن قال: له عَلَىَّ إمّا دِرْهَمٌ وإمّا دِرْهَمانِ. كان مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ، والثانى مَشْكُوكٌ فيه، فلا يَلْزَمُ بالشَّكِّ. واللَّهُ تعالى أعلمُ.

§1/1